الكتاب: روضة الطالبين
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ٦
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ، الشيخ علي محمد معوض
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

روضة الطالبين
للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي
المتوفى سنة 676
ومعه
المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي
منتقى الينبوع
فيما زاد على الروضة من الفروع
للحافظ جلال الدين السيوطي
تحقيق
الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ على محمد معرض
الجزء السادس
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
1

جميع الحقوق محفوظة
الدار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
يطلب من: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
صرب: 9424 / 11 تلكس: 41245
هائف: 366135 - 810073
2

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الطلاق
فيه ستة أبواب.
الأول: في الطلاق السني والبدعي وغيرهما، وفيه طرفان.
الأول: في بيان البدعي والسني.
لم يزل العلماء قديما وحديثا يصفون الطلاق بالبدعة والسنة.
وفي معناهما اصطلاحان.
3

أحدهما: السني ما لا يحرم إيقاعه، والبدعي: ما يحرم. وعلى هذا فلا قسم سواهما.
والثاني: وهو المتداول، أن السني طلاق مدخول بها ليست بحامل، ولا صغيرة ولا آيسة.
والبدعي: طلاق مدخول بها في حيض أو نفاس، أو طهر جامعها فيه ولم يبن
حملها، وعلى هذا يستمر ما اشتهر في المذهب: أن غير الممسوسة لا سنة ولا بدعة
في طلاقها، وكذا من في معناها. وعلى هذا، الطلاق سني وبدعي وغيرهما.
ثم ذكر الأصحاب أن ما لا يحرم من الطلاق: واجب ومستحب ومكروه.
فالواجب في حق المؤلي، إذا مضت المدة، يؤمر أن يفي أو يطلق، وعند الشقاق
إذا رأى الحكمان التفريق وجب.
وأما المستحب، فهو إذا كان يقصر في حقها لبغض أو غيره، أو كانت غير عفيفة.
وأما المكروه، فهو الطلاق عند سلامة الحال.
وأما المحرم، فلتحريمه سببان.
أحدهما: إيقاعه في الحيض إذا كانت ممسوسة، تعتد بالأقراء فطلقها بلا
عوض. فإن خالع الحائض، أو طلقها بعوض، فليس بحرام.
ولو سألت الطلاق ورضيت به بلا عوض في الحيض، أو اختلعها أجنبي في
4

الحيض، فحرام على الأصح.
ولو طولب المؤلي بالطلاق، فطلق في الحيض، فقال الامام والغزالي
وغيرهما: ليس بحرام لأنها طالبة راضية، وكان يمكن أن يقال: حرام لأنه أحوجها
بالايذاء إلى الطلب وهو غير ملجأ إلى الطلاق لتمكنه من الفيئة.
ولو طلق القاضي عليه، إذا قلنا به، فلا شك أنه ليس بحرام في الحيض.
ولو رأى الحكمان في صورة الشقاق الطلاق، فطلقا في الحيض، ففي شرح مختصر
الجويني أنه ليس بحرام، للحاجة إلى قطع الشر (1).
5

فرع إذا طلق في الحيض طلاقا محرما، استحب له أن يراجعها، فإن راجع،
فهل له تطليقها في الطهر التالي لتلك الحيضة؟ وجهان. أصحهما: المنع، وبه
قطع المتولي لحديث ابن عمر رضي الله عنهما وكأن الوجهين في أنه: هل يتأدى به
الاستحباب بتمامه.
فأما أصل الإباحة والاستحباب، فينبغي أن يحصل بلا خلاف لاندفاع ضرر
تطويل العدة.
قلت: قد صرح الامام وغيره، بأن الوجهين في الاستحباب. قال الامام:
قال الجمهور: يستحب أن لا يطلقها فيه، وقال بعضهم لا بأس به. وأما قول
الغزالي في الوسيط: هل يجوز أن يطلق في هذا الطهر؟ فيه وجهان، فشاذ أو
مؤول، فلا يعتبر بطاهره. والله أعلم.
وهل يستحب أن يجامعها في ذلك الطهر؟ وجهان. أحدهما: نعم ليظهر
مقصود الرجعة. وأصحهما: الاكتفاء بإمكان الاستمتاع. قال الامام: والمراجعة
وإن كانت مستحبة، فلا نقول تركها مكروه.
قلت: في هذا نظر، وينبغي أن يقال: تركها مكروه للحديث الصحيح
الوارد فيها، ولدفع الايذاء. والله أعلم.
فرع طلقها في الطهر، ثم طلقها أخرى في الحيض، بني على أن الرجعية
تستأنف العدة إذا طلقت، أم تبني؟ إن قلنا: تستأنف، فبدعي وإلا فوجهان لعدم
التطويل ولو طلقها في الحيض بدعيا، ثم طلقها أخرى في تلك الحيضة أو في
أخرى، ففي كون الثانية بدعية الوجهان.
فرع الطلاق في النفاس بدعي كالحيض، لأن المعنى المحرم شامل.
فرع قال: أنت طالق مع آخر حيضك، أو آخر جزء من أجزاء حيضك، فالأصح
6

أنه سني لاستعقابه الشروع في العدة. ولو قال: أنت طالق مع آخر جزء من الطهر
ولم يطأها، فالمذهب والمنصوص أنه بدعي.
ولو قال في الصورتين بدل مع: في آخر جزء من كذا، فقال الجمهور في
ك " مع " على ما تقدم. وقال المتولي: إن قال في آخر جزء من الحيض، فبدعي
قطعا، أو في آخر جزء من الطهر، فسني قطعا.
فرع تعليق الطلاق بالدخول وسائر الصفات، ليس ببدعي، وإن كان في الحيض
ولكن إن وجدت الصفة في الطهر، نفذ سنيا، وإن وجدت في الحيض، نفذ بدعيا
فتستحب المراجعة، ويمكن أن يقال: إن وجدت الصفة باختياره، أثم بايقاعه في
الحيض. وعن القفال، أن نفس التعليق بدعة، لأنه لا يدري الحال وقت الوقوع،
فلتحترز عما قد يضرها ولا ضرورة إليه.
قلت: قوله أولا: وإن وجدت في الحيض نفذ بدعيا، معناه يسمى بدعيا
وترتب عليه أحكام البدعي، إلا أنه لا إثم فيه باتفاق الأصحاب في كل الطرق، إلا
ما حكاه عن القفال: وقد أطنب الامام في تغليط القفال في هذا وقال: هذا في حكم
الهجوم على ما اتفق عليه الأولون، فلم يحرم أحد تعليق الطلاق. والله أعلم.
ولو قال لذات الأقراء: أنت طالق إن دخلت الدار، أو إن قدم فلان للسنة، أو
إذا جاء رأس الشهر، فأنت طالق للسنة، فإن وجد الشرط وهي في حال السنة،
طلقت. وإن وجد وهي في حال البدعة، لم تطلق حتى ينتهي إلى حال السنة،
فحينئذ تطلق، لأن الطلاق معلق بأمرين، فاشترط حصولهما، وكذا لو قال: إن
دخلت الدار فأنت طالق للبدعة، فإن دخلت في حال البدعة طلقت، وإن دخلت في
حال السنة، لم تطلق حتى ينتهي إلى البدعة.
ولو قال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعة كغير الممسوسة: أنت طالق إن دخلت ا
لدار، وإن قدم فلان للسنة، فصارت ذات سنة وبدعة، ثم وجد الشرط المعلق
عليه، فإن وجد في حال السنة، طلقت، وإن وجد في حال البدعة، لم
تطلق حتى ينتهي إلى حال السنة. ولو وجد الشرط قبل أن يتغير حالها. طلقت لأنه
7

لا سنة في طلاقها.
فرع إذا علق طلاقها بما يتعلق باختيارها، ففعلته مختارة، يحتمل أن
يقال: هو كما لو طلقها بسؤالها.
السبب الثاني: أن يجامعها في طهر وهي ممن تحبل ولم يظهر حملها، فيحرم
طلاقها في ذلك الطهر، واستدخالها ماءه كالوطئ، وكذا وطؤها في الدبر على
الأصح. ولو وطئها في الحيض فطهرت، ثم طلقها في ذلك الطهر، حرم على
الأصح لاحتمال العلوق.
وأما إذا ظهر بها الحمل، فلا يحرم طلاقها بحال.
ولو خالعها أو طلقها على مال في الطهر الذي جامعها فيه، قبل ظهور الحبل،
لم يحرم على الصحيح، كمخالعتها في الحيض. وقيل: يحرم، لأن التحريم هنا
رعاية لحق الولد، فلا يؤثر فيه رضاها، وهناك لضررها بطول العدة، وتستحب
المراجعة هنا كما في السبب الأول.
ثم إن راجعها ووطئها في بقية الطهر، ثم حاضت وطهرت، فله أن يطلقها،
وإن لم يراجعها حتى انقضى ذلك الطهر، ثم راجعها، أو راجعها ولم يطأها،
استحب أن لا يطلق في الطهر الثاني، لئلا تكون الرجعة للطلاق. وحكى الحناطي
وجها أنه لا تستحب الرجعة هنا، ولا يتأكد استحبابها تأكده في طلاق الحائض.
فصل الآيسة والصغيرة، والتي ظهر حملها وغير الممسوسة، لا بدعة في
طلاقهن، ولا سنة إذ ليس فيه تطويل عدة، ولا ندم بسبب ولد. فلو كانت الحامل
ترى الدم وقلنا: هو حيض، فطلقها فيه، لم يحرم على الصحيح. وقال أبو
إسحاق: يحرم. وقد اشتهر في كلام الأصحاب أن الأربع المذكورات لا بدعة في
طلاقهن، ولا سنة، وذلك للعبارات السابقة في تفسير السني والبدعي.
وربما أفهم كلامهم، أنهم يعنون بذلك أنهن لا يجتمع لهن حالتا سنة وبدعة، بل لا يكون طلاقهن إلا سنيا، وهذا يستمر على تفسير السني بالجائز، والبدعي
بالمحرم، وقد يغني عن التفاسير الطويلة.
فرع نكح حاملا من الزنى ووطئها ثم طلقها، قال ابن الحداد وغيره: يكون
8

الطلاق بدعيا، لأن العدة تكون بعد وضع الحمل وانقضاء النفاس. ولو وطئت
منكوحة بشبهة فحبلت، فطلقها زوجها وهي طاهر، فهو حرام لأنها لا تشرع عقبه في
العدة، وكذا لو لم تحبل، فشرعت في عدة الشبهة فطلقها، وقدمنا عدة الشبهة.
وقيل: لا يحرم لأنه لم يوجد منه إضرار.
ورجح المتولي التحريم، إذا حبلت، وعدمه إذا لم تحبل، والأصح،
التحريم مطلقا.
فرع طلقها في طهر لم يجامعها فيه ثم راجعها، فله أن يطلقها، وحكى
القاضي حسين وجها ضعيفا: أنه يحرم طلاقها كيلا تكون الرجعة للطلاق، وهذا
سبب ثالث للطلاق على هذا الوجه.
فرع لا تنقسم الفسوخ إلى سنة وبدعة، لأنها شرعت لدفع مضار نادرة،
فلا يليق بها تكليف مراقبة الأوقات.
قلت: ومما يتعلق بهذا، لو أعتق أم ولده، أو أمته الموطوءة في الحيض، لا
يكون بدعيا، وإن طال زمن الاستبراء، لأن مصلحة تنجيز العتق أعظم، ذكره
9

إبراهيم المروزي. ولو قسم لإحدى زوجتيه، ثم طلق الأخرى قبل قسمها، أثم
وهذا سبب آخر لتحريم الطلاق، وسبقت المسألة في كتاب القسم. والله أعلم.
فصل لا بدعة في جمع الطلقات الثلاث، لكن الأفضل تفريقهن على الأقراء، أو
الأشهر إن لم تكن ذات أقراء، لتتمكن من الرجعة أو التجديد إن ندم، فإن أراد أن
يزيد في قرء على طلقة، فرق على الأيام. وقيل: التفريق سنة، وإن لم يكن
الجمع بدعة، والصحيح المنع.
قلت: ولو كانت حاملا وأراد تطليقها ثلاثا، فوجهان حكاهما في البيان
أحدهما: يطلقها في كل شهر طلقة. والثاني، وبه قال الشيخ أبو علي: يطلقها في
الحال طلقة ويراجع، فإذا طهرت من النفاس، طلقها ثانية، ثم إذا طهرت من
الحيض طلقها ثالثة. والله أعلم.
الطرف الثاني: في إضافة الطلاق إلى السنة والبدعة، تنجيزا أو تعليقا، وفيه
مسائل.
الأولى: قال لحائض أو نفساء: أنت طالق للبدعة طلقت في الحال، وإن قال
للسنة، لم تطلق حتى تشرع في الطهر، ولا يتوقف على الاغتسال، ولو وطئها في
آخر الحيض واستدام حتى انقطع الحيض، لم تطلق لاقتران الطهر بالجماع، وكذا
لو لم يستدم إذا قلنا بالأصح أنه إذا وطئ في الحيض ثم طلق في الطهر يكون
بدعيا.
الثانية: قال لطاهر: أنت طالق للسنة، فإن لم يكن جامعها في ذلك الطهر،
طلقت في الحال، وإن جامعها فيه، لم يقع حتى تحيض ثم تطهر. وإن قال لها:
أنت طالق للبدعة، فإن كان جامعها في ذلك الطهر، طلقت في الحال، وإلا فعند
الحيض. قال المتولي: ويحكم بوقوع الطلاق بظهور أول الدم. فإن انقطع لدون
يوم وليلة، بان أنها لم تطلق ويشبه أن يجئ فيه الخلاف المذكور، فيما إذا قال:
إن حضت فأنت طالق، أنها هل تطلق برؤية الدم أم بمضي يوم وليلة؟ ولو جامعها
قبل الحيض، فبتغييب الحشفة تطلق، فعليه النزع، فإن نزع وعاد، فهو كابتداء
الوطئ بعد الطلاق، وإن استدام، فإن كان الطلاق رجعيا، فلا حد وإن كان ثلاثا،
فلا حد أيضا، لأن أوله مباح. وقيل: إن كان عالما بالتحريم، حد، وهل يجب
10

المهر؟ حكمه حكم من قال: إن وطئتك فأنت طالق فغيب الحشفة ثم استدام، وقد
ذكرنا هذه الصورة في كتاب الصوم، وبينا أن المذهب فيها أنه لا مهر، لأن النكاح
تناول جميع الوطئات، وادعى صاحب العدة أن المذهب هنا الوجوب.
فرع اللام في قوله: أنت طالق للسنة أو للبدعة، تحمل على التوقيت، فلا تطلق
إلا في حال السنة أو البدعة، لأنهما حالتان منتظرتان تتعاقبان تعاقب الأيام والليالي
وتتكرران تكرر الشهور، فأشبه قوله: أنت طالق لرمضان معناه: إذا جاء رمضان،
أنت طالق، وأما اللام الداخلة على ما لا يتكرر مجيئه وذهابه، فللتعليل، كقوله:
أنت طالق لفلان، أو لرضى فلان، فتطلق في الحال، رضي أم سخط.
والمعنى: فعلت هذا لترضى، وقال ابن خيران: إنما يقع في الحال إذا نوى
التعليل، فإن لم تكن له نية، لم تطلق حتى يرضى، والأول هو الصحيح
المنصوص، ونزل ذلك منزلة قول السيد: أنت حر لوجه الله تعالى. وحيث يحمل
على التعليل، فلو قال: أردت التوقيت، قبل باطنا، ولا يقبل ظاهرا على الأصح.
ولو قال: أنت طالق بقدوم زيد أو برضاه، فهو تعليق، كقوله: إن قدم أو
رضي، وحيث حملنا قوله للسنة أو للبدعة على الحالة المنتظرة، فقال: أردت
الايقاع في الحال، قبل، لأنه غير متهم.
11

فرع قوله: أنت طالق لا للسنة، كقوله: للبدعة، وقوله: لا للبدعة، كقوله
للسنة، وقوله: سنة الطلاق، أو طلقة سنية، كقوله للسنة، وقوله: بدعة الطلاق،
أو طلقة بدعية، كقوله للبدعة.
فرع قال: إن كان يقع عليك في هذا الوقت طلاق السنة، فأنت طالق، فإن
كانت في حال السنة، طلقت، وإلا فلا تطلق، لا في الحال، ولا إذا صارت في
حال السنة، لعدم الشرط، وكذا لو قال: أنت طالق للسنة إن قدم فلان وأنت
طاهر، فإن قدم وهي طاهر، طلقت للسنة، وإلا فلا تطلق لا في الحال، ولا إذا
طهرت.
فرع جميع ما ذكرنا، إن كانت المخاطبة بالسنة والبدعة، ذات سنة وبدعة، فأما
إذا قال لصغيرة ممسوسة، أو لصغيرة أو كبيرة غير ممسوسة: أنت طالق للسنة، فيقع
في الحال، واللام هنا للتعليل، لعدم تعاقب الحال كقوله: لرضى زيد. ولو قال:
للبدعة، وقع في الحال على الصحيح، لما ذكرنا. وحكى الشيخ أبو علي وجها أنه
يحمل على التوقيت، وينتظر زمن البدعة، بأن تحيض الصغيرة، ويدخل بالكبيرة أو
تحيض. وعن ابن الوكيل، أن الطلاق لا يقع مطلقا لتعليقه بما لا يتصور، كقوله:
إن صعدت السماء، وهذا يطرد في قوله: للسنة.
ولو صرح بالوقت فقال: أنت طالق لوقت السنة، أو لوقت البدعة، قال في
البسيط: إن لم ينو شيئا، فالظاهر وقوع الطلاق في الحال، وإن قال: أردت
التوقيت بمنتظر، فيحتمل أن يقبل لتصريحه بالوقت ولا نقل فيه.
فرع قال: أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة، وقع في الحال، سواء كانت ذات سنة
وبدعة، أم لا، لأنها إن لم تكن، فحالها ما ذكر، وإن كانت، فالوصفان
12

متنافيان فسقطا، وكذا لو قال: طلقة سنية بدعية.
فرع قال لذات سنة وبدعة في حال البدعة: أنت طالق طلاقا سنيا، أو في حال
السنة أنت طالق طلاقا بدعيا، ونوى الوقوع في
الحال، قال المتولي: لا يقع في الحال، لأن النية إنما تعمل فيما يحتمله اللفظ، لا فيما يخالف صريحا، وإذا
تنافيا، لغت النية، وعمل باللفظ لأنه أقوى.
ولو قال: أنت طالق الآن سنيا وهو في زمن بدعة، طلقت في الحال عملا
بالإشارة إلى الوقت، ويلغو اللفظ.
المسألة الثالثة: قال لذات الأقراء: أنت طالق ثلاثا، بعضهن للسنة وبعضهن
للبدعة، فإن لم ينو شيئا، فالصحيح المنصوص، أنه يقع في الحال طلقتان، فإذا
صارت في الحالة الأخرى، وقعت الثالثة، لأن التبعيض يقتضي التشطير، ثم يسري
كما لو قال: هذه الدار بعضها لزيد وبعضها لعمرو، يحمل على التشطير إذا لم تكن
بينة. وقيل: تقع في الحال طلقة، واختاره المزني ومن قال به لا يكاد يسلم مسألة
الاقرار، ويقول: هو مجمل يرجع إليه فيه. ونقل الحناطي وجها ثالثا أنه يقع في ا
لحال الثلاث. أما إذا قال: أردت إيقاع بعض من كل طلقة في الحال، فتقع
الثلاث في الحال، وإن قال: أردت في الحال طلقتين أو طلقة ونصفا، وقع طلقتان
في الحال قطعا، وتقع الثالثة في الحالة الأخرى. وإن قال: أردت في الحال
13

طلقة، وفي المستقبل طلقتين، دين فيه قطعا، وتقبل أيضا في الظاهر على الصحيح
المنصوص، وقال ابن أبي هريرة: لا تقبل.
وفائدة هذا الخلاف، أنه لو ندم فأراد أن يخالعها حتى تصير إلى الحالة
الأخرى وهي بائن، فتنحل اليمين، ثم يتزوجها. وقلنا: الخلع طلاق، فإن قلنا:
الواقع في الحال طلقة، أمكنه ذلك، وإلا فلا.
ولو قال: أنت طالق ثلاثا، بعضهن للسنة واقتصر عليه، وكانت في حال
السنة، قال ابن الصباغ: تجئ على الصحيح المنصوص، أنه لا يقع في الحال إلا
طلقة، لأن البعض ليس عبارة عن النصف، وإنما حملناه في الصورة الأولى على
التشطير لإضافته البعضين في الحالين. ولو قال: أنت طالق خمسا، بعضهن
للسنة، وبعضهن للبدعة، ولم ينو شيئا، بنى على الخلاف المعروف، في أن
الزيادة الملفوظ بها تلغى أم تعتبر؟ إن قلنا بالأول، وقع في الحال طلقتان، وفي
الثاني، طلقة تفريعا على المنصوص، وإن قلنا بالثاني وهو الأصح، وقع الثلاث في
الحال بالتشطير والتكميل.
ولو قال: أنت طالق طلقتين: طلقة للسنة وطلقة للبدعة، أو أنت طالق طلقة
للسنة وطلقة للبدعة، وقع في الحال طلقة، وفي الاستقبال الأخرى. ولو قال:
طلقتين للسنة والبدعة، فهل يقع في الحال طلقة، وفي الاستقبال الأخرى، أم يقعان
في الحال؟. أصحهما. الثاني كما لو قال: ثلاثا للسنة وللبدعة، فإنه
يقع الثلاث في الحال.
فرع قال لمن لا سنة لها ولا بدعة: أنت طالق ثلاثا بعضهن للسنة
لبعضهن للبدعة، أو طلقة للسنة، وطلقة للبدعة، وقع الجميع في الحال.
المسألة الرابعة: إذا وصف الطلاق بصفة مدح، كقوله: أنت طالق أجمل
الطلاق أو أفضله، أو أحسنه، أو أعدله، أو أكمله، أو أتمه، أو أجوده، أو خير
الطلاق، وأنت طالق للطاعة ولم ينو شيئا، فهو كقوله: طالق للسنة، فلا يقع إن
كان الحال بدعة حتى ينتهي إلى حال السنة. وإن نوى شيئا، نظر إن نوى ما يقتضيه
14

الاطلاق، فذاك. وإن قال: أردت طلاق البدعة، لأنه في حقها أحسن من جهة
سوء خلقها، فأن كانت في حال بدعة، قبل لأنه غلظ على نفسه. وإن كانت في
حال سنة، دين ولا يقبل ظاهرا، وقد يجئ خلاف في الظاهر.
وإن وصف الطلاق بصفة ذم كقوله: أقبح الطلاق، أو أسمجه، أو أفضحه،
أو أفظعه، أو أردأه، أو أفحشه، أو أنتنه، أو شر الطلاق ونحو ذلك، فهو كقوله:
للبدعة، فلا يقع إن كانت في حال سنة حتى ينتهي إلى البدعة. وإن قال: أردت
قبحه لحسن عشرتها، أو أردت أن أقبح أحوالها أن تبين مني، وقع في الحال، لأنه
غلظ على نفسه. وإن قال: أردت أن طلاق مثل هذه السنة أقبح، فقصدت الطلاق
في حال السنة دين، ولم يقبل ظاهرا. ولو قال: أنت طالق للجرح، أو طلاق
الجرح فهو كقوله للبدعة. ولو خاطب بهذه الألفاظ من لا سنة لها ولا بدعة فهو
كما لو قال لها: للسنة أو للبدعة، كما سبق. ولو جمع صفتي الذم والمدح،
فقال: أنت طالق طلقة حسنة قبيحة أو جميلة فاحشة، أو سنية بدعية، أو للجرح
والعدل، والمخاطبة ذات أقراء، وقعت في الحال. قال السرخسي في
الأمالي: فإن فسر كل صفة بمعنى، فقال: أردت كونها حسنة من حيث الوقت،
15

وقبيحة من حيث العدد حتى تقع الثلاث أو بالعكس، قبل منه. وإن تأخر الوقوع،
لأن ضرر وقوع العدد أكثر من فائدة تأخير الوقوع.
المسألة الخامسة: قال: أنت طالق ثلاثا في كل قرء طلقة، أو أنت طالق في
كل قرء طلقة، فلها ثلاثة أحوال. أحدها:
أن تكون حائلا من ذوات الأقراء، وهي إما غير
ممسوسة، وإما ممسوسة، فإن كانت غير ممسوسة، نظر إن كانت حائضا، لم تطلق على
الصحيح وقال الشيخ أو حامد: تقع طلقة في الحال، لأنها مخاطبة بالعدة،
فحيضها كطهرها، وإن كانت طاهرا طلقت في الحال واحدة وبانت، فلا تلحقها
الثانية والثالثة فإن جدد نكاحها قبل الطهر الثاني، ففي وقوع الثانية والثالثة قولا عود
اليمين والحنث. وإن جدد النكاح بعد الطهرين، لم يقع شئ لانحلال اليمين،
وإن كانت ممسوسة، وقع في كل قرء طلقة، سواء جامعها فيه أم لا، وتكون الطلقة
سنية إن لم يجامعها فيه، وبدعية إن جامعها، وتشرع في العدة بالطلقة الأولى.
وهل يجب استئناف العدة للثانية والثالثة؟ قولان مذكوران في العدة أظهرهما
الوجوب.
الحال الثاني: أن تكون حاملا فإن كانت لا ترى الدم، وقعت في الحال
طلقة. قال المتولي: فلو لم تحض قط وبلغت بالحمل مثلا، ففي وقوع الطلاق
عليها وجهان، أو قولان بناء على أن القرء هو الطهر بين دمين أو الانتقال من نقاء
إلى دم، إن قلنا بالأول، لم تطلق حتى تضع وتطهر من نفاسها، وإن قلنا بالثاني
وهو الأظهر، وقع. وإذا وقعت الطلقة، فإن راجعها قبل الوضع، وقعت أخرى إذا
16

طهرت من النفاس، وعليها استئناف العدة سواء وطئها بعد الرجعة أم لا، بلا
خلاف. وإن لم يراجعها، انقضت عدتها بالوضع بأن جدد نكاحها قبل تمام
الأقراء، عاد قولا عود الحنث. وإن كانت ترى الدم على الحمل، فإن قلنا: إنه
ليس بحيض، فهو كما لو لم تره، فتطلق في الحال. وحكى الحناطي وجها، أنها
لا تطلق. إن وافق قوله وقت الدم حتى تطهر، وإن جعلناه حيضا ووافق قوله النقاء،
طلقت في الحال طلقة، وإن وافق الدم، فوجهان. أحدهما، وهو قول الشيخ أبي
حامد، وصححه العراقيون: تطلق أيضا، لأن مدة الحمل كالقرء الواحد. والثاني
وهو الأصح وبه قطع القاضي أبو الطيب والحناطي، ورجحه المتولي وغيره: لا تطلق
حتى تطهر. وإذا وقعت طلقة في الحيض أو الطهر، فهل يتكرر في الطهر الثاني
والثالث؟ وجهان: أصحهما: لا، وبه قطع بعضهم، لأن القرء ما دل على
البراءة.
الحال الثالث: أن تكون صغيرة، فيبنى على القرء طهر يحتوشه دمان، أم
هو الانتقال من نقاء إلى حيض؟ إن قلنا بالأول، لم تطلق حتى تحيض وتطهر، ولا
يؤمر الزوج باجتنابها في الحال، وإن قلنا بالثاني، فالذي أطلقه العراقيون والبغوي
وغيرهم، أنه يقع في الحال طلقة. وقال المتولي والسرخسي: يؤمر باجتنابها لأن الظاهر
أنها ترى الدم، فأن رأته، تبينا وقوع الطلاق يوم اللفظ، وإن ماتت قبل رؤية
الدم، ماتت على النكاح فعلى الأول، لو لم تحض ولم يراجعها حتى مضت ثلاثة
أشهر، حصلت البينونة، فإن نكحها بعد ذلك، ورأت الدم، عاد الخلاف في عود
الحنث، وإن رأت الدم قبل مضي ثلاثة أشهر، تكرر الطلاق بتكرر الأطهار. وعن
صاحب التقريب وجه غريب، أن الأقراء في الصغيرة تحمل على الأشهر،
والآيسة التي انقطع حيضها كالصغيرة، ففي وقوع الطلاق عليها، الخلاف. قال
السرخسي: إن قلنا: القرء: هو الانتقال، وقع في الحال وإلا، فلا، فإن حاضت
بعد، تبينا الوقوع، والأصح عند الأصحاب، الوقوع في الصغيرة والآيسة.
فرع قال: أنت طالق في كل قرء طلقة للسنة، فهو كما لو لم يقل للسنة في أكثر
17

الاحكام والأحوال، لكن ذات الأقرباء إذا كانت طاهرا، أو كان جامعها في ذلك
الطهر، يتأخر وقوع الطلاق إلى أن تحيض ثم تطهر.
فرع: قال: أنت طالق في كل طهر طلقة وكانت حاملا لا ترى دما، أو تراه ولم
نجعله حيضا، وقع في الحال طلقة سواء كانت ترى الذي في ذلك الحال أم لا،
ولا يتكرر بتكرر الانقطاعات، وإن كانت ترى الدم وجعلناه حيضا، فإن كانت في
حال رؤية الدم، لم تطلق حتى تطهر، وإلا وقع في الحال وتكرر بتكرر الأطهار.
المسألة السادسة: قال: أنت طالق ثلاثا للسنة، ثم قال: نويت تفريقها على الأقراء
لم يقبل في الظاهر. قال المتولي: إلا أن يكون ممن يعتقد بتحريم جمع
الثلاث في قرء، فيقبل في الظاهر. وحكى الحناطي وجها في القبول مطلقا،
والصحيح المنصوص، وهو الأول. ولو قال: أنت طالق ثلاثا ولم يقل للسنة، ثم
فسر بالتفريق على الأقراء، لم يقبل ظاهرا، وهل يدين في الصورتين؟ وجهان،
الصحيح المنصوص، نعم. ومعنى التديين مع نفي القبول ظاهرا، أن يقال
للمرأة: أنت بائن منه بثلاث في ظاهر الحكم، وليس له تمكينه إلا إذا غلب على
ظنك صدقة بقرينة، ويقال للزوج: لا نمكنك من تتبعها، ولك أن تتبعها، والطلب
فيما بينك وبين الله تعالى إن كنت صادقا، وتحل لك إذا راجعتها. وعلى هذا
القياس حكم بالقبول ظاهرا وباطنا، فيما إذا قال لصغيرة: أنت طالق للسنة، ثم قال: أردت إذا حاضت وطهرت، وفيما إذا قال: أنت طالق، ثم قال: أردت أن
دخلت الدار، أو إذا جاء رأس الشهر. وألحق القفال والغزالي بهذه الصورة ما إذا
قال: أنت طالق، ثم قال: أردت إن شاء الله تعالى.
18

قال وكذلك كلما أحوج إلى تقييد الملفوظ به بقيد زائد. والصحيح الموجود
في كتب الأصحاب، أنه لا يدين في قوله: أردت إن شاء الله تعالى، ويدين في
قوله: أردت عن وثاق، أو أن دخلت الدار أو إن شاء زيد. وفرقوا بين قوله: أردت
إن شاء الله تعالى، وبين سائر الصور بأن التعليق بمشيئة الله تعالى يرفع حكم الطلاق
جملة، فلا بد فيه من اللفظ والتعليق بالدخول، ومشيئة زيد، لا يرفعه، لكن
يخصصه بحال دون حال. وقوله: من وثاق، تأويل وصرف للفظ من معنى إلى
معنى، فكيف فيه النية، وإن كانت ضعيفة، وشبهوه بالنسخ، لما كان رفعا
للحكم، لم يجز إلا باللفظ، والتخصيص يجوز بالقياس.
وأما إذا أتى بلفظ عام، وقال: أردت بعض الافراد الداخلة تحته، ففيه
تفصيل، فإن قلنا: كل امرأة لي، فهي طالق، وعزل بعضهن بالنية، لم يقبل ظاهرا
عند الأكثرين، وقال ابن الوكيل وغيره: يقبل ظاهرا سواء كانت قرينة تصدقه - بأن
خاصمته، وقالت: تزوجت علي، فقال: كل امرأة لي طالق، ثم قال: أردت غير
المخاصمة -. أم لم تكن قرينة. والأصح عند القفال والمعتبرين، أنه لا يقبل ظاهرا
بغير قرينة ويقبل بها، واختاره الروياني، وعن القاضي حسين، أنه إن قال: كل
امرأة لي طالق، عزل بعضهن بالنية، لا يقبل، وإن قال: نسائي طوالق،
وقال: عزلت واحدة، قبل. وعلى هذا، لو عزل اثنتين، ففي القبول وجهان،
ويجري الخلاف في القبول ظاهرا فيما لو قال: إن أكلت خبزا أو تمرا، فأنت
طالق، ثم فسر بنوع خاص، وطردهما الغزالي وغيره فيما إذا كان يحل وثاقا عنها،
فقال: أنت طالق، ثم قال: أردت الاطلاق عن الوثاق، وقال: الأصح بالقبول.
ولو قال: إن كلمت زيدا، فأنت طالق، ثم قال: أردت التكليم شهرا،
فيقبل. كذا حكي عن نص الشافعي رحمه الله، والمراد على ما نقل الغزالي،
القبول باطنا فلا تطلق إذا كلم بعد شهر.
19

فرع في ضبط ما يدين فيه، وما يقبل ظاهرا قال القاضي حسين:
لما يدعيه الشخص من النية مع ما أطلقه من اللفظ، أربع مراتب.
إحداها: أن يرفع ما صرح به، بأن قال: أنت طالق، ثم قال: أردت طلاقا
لا يقع عليك، أو لم أرد إيقاع الطلاق، فلا تؤثر دعواه ظاهرا، ولا يدين باطنا.
الثانية: أن يكون ما يدعيه مقيدا لما تلفظ به مطلقا، بأن قال: أنت طالق،
ثم قال: أردت عند دخول الدار، فلا يقبل ظاهرا، وفي التديين الخلاف.
الثالثة: أن يرجع ما يدعيه إلى تخصيص عموم، فيدين، وفي القبول، ظاهر
الخلاف.
الرابعة: أن يكون اللفظ محتملا للطلاق من غير شيوع وظهور، وفي هذه
المرتبة تقع الكنايات ويعمل فيها بالنية.
وضبط لأصحاب بضبط آخر، فقالوا: ينظر في التفسير بخلاف ظاهر اللفظ،
إن كان لو وصل باللفظ، لا ينظم، لم يقبل ولم يدين، وإلا فلا يقبل ظاهرا ويدين.
مثال الأول، قال: أردت طلاقا لا يقع.
مثال الثاني: أردت طلاقا عن وثاق، أو إن دخلت الدار، واستثنوا من هذا نية
التعليق بمشيئة الله تعالى، فقالوا: لا يدين فيه على المذهب.
فرع قال: أنت طالق ثلاثا ثم قال: أردت إلا واحدة، أو قال: أربعكن طوالق،
ثم قال: نويت بقلبي إلا فلانة، لم يدين على الأصح، لأنه نص في العدد. ولو
20

قال: فلانة وفلانة وفلانة طوالق، ثم قال: استثنيت بقلبي فلانة، لم يدين قطعا لأنه
رفع لما نص عليه، لا تخصيص عموم، ذكره القاضي أبو الطيب.
المسألة السابعة: قال لممسوسة: كلما ولدت فأنت طالق للسنة، فولدت
ولدا وبقي آخر في بطنها، وقع بولادة الأول طلقة، لأن الأصل في هذا أن الموصوف
بالسنة والبدعة إذا علق بأمر اعتبرت الصفة عند ذلك الامر، فإن وجدت وقع وإلا
فلا حتى يوجد كما سبق في قوله: أنت طالق للسنة إذا قدم زيد أنه إن قدم في حال
سنة طلقت، وإلا فلا تطلق حتى يجئ قال السنة، وكأنه يخاطبها عند وجود المعلق عليه بقوله:
أنت طالق للسنة، وإذا كان كذلك، فكأنه عند ولادة أحد الولدين:
قال: أنت طالق للسنة وهي في هذه الحال حامل بآخر. ولو قال لحامل: أنت طالق
للسنة، وقع في الحال، ثم إذا ولدت الثاني انقضت عدتها. وهل يقع طلقة أخرى،
لأنه يقارن انقضاء العدة؟ فيه خلاف يأتي في نظائره إن شاء الله تعالى،
الأصح: المنع. ولو ولدت ولدا ولم يكن في بطنها آخر، فإنما تطلق إذا طهرت من
النفاس، طلقتين لأنها ولدت ولدين، و كلما تقتضي التكرار. ولو قال: كلما
ولدت ولدين، فأنت طالق، فولدت ولدين معا أو متعاقبين وفي بطنها ثالث،
طلقت. ولو ولدت ولدا فطلقها، ثم ولدت آخر، فإن كان رجعيا وقعت أخرى بولادة
الثاني، راجعها أم لا هكذا ذكروه. ويشبه أن يقال: إن راجعها فكذلك الحكم،
وإلا فهذا طلاق يقارن انقضاء العدة، وإن كان الطلاق بائنا فنكحها، ثم ولدت
آخر، ففي وقوع أخرى قولا عود الحنث.
المسألة الثامنة: نجح كاملا من الزنى، وقال: أنت طالق للسنة، فإن كان
دخل بها، لم تطلق حتى تصنع، وتطهر من النفاس، لأن الحمل كالعدم وإلا طلقت
في الحال كما لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق للسنة، هذا إذا كانت لا ترى دما
أو تراه ولم نجعله حيضا، فإن رأته وجعلناه حيضا، فإن قال لها ذلك في حال
رؤية الدم، لم تطلق حتى تطهر كالحامل إذا قال لها: أنت طالق للسنة وهي حائض
بخلاف الحامل من الزوج حيث يقع طلاقها في الحال، وإن كانت ترى الدم،
وجعلناه أيضا حيضا على الصحيح، لأن الحامل من الزوج لا سنة ولا بدعة في طلاقها،
21

وهذه كالحامل إذ لا حرمة لحملها.
المسألة التاسعة: قال: أنت طالق للسنة أو للبدعة لا تطلق حتى تنتقل من
الحالة التي هي فيها إلى الحالة الأخرى، لأن اليقين حينئذ يحصل كما لو قال: أنت
طالق اليوم أو غدا لا تطلق حتى يجئ الغد.
المسألة العاشرة: قال: أنت طالق طلقة حسنة في دخول الدار أو طلقة سنية
قال إسماعيل البوشنجي: مقتضى المذهب أن تطلق إن دخلت الدار طلقة سنية حتى
لو كانت حائضا لم تطلق. ولو كانت طاهرا لم يجامعها في ذلك الطهر،
طلقت في الحال، وإن كان جامعها فيه، لم تطلق حتى تحيض وتطهر.
المسألة الحادية عشرة: قال لها وهي طاهر: أنت طالق للسنة، ثم اختلفا
فقال: جامعتك في هذا الطهر، فلم يقع طلاق في الحال، وقالت: لم تجامعني وقد
وقع، قال إسماعيل البوشنجي: مقتضى المذهب، أن القول قوله، لأن الأصل بقاء
النكاح، وكما لو قال المؤلي والعنين: وطئت.
فرع قال: أنت طالق كالثلج، أو كالنار، طلقت في الحال، ولغا التشبيه، وقال
أبو حنيفة: إن قصد التشبيه بالثلج في البياض، والنار بالإضاءة، طلقت سنيا، وإن
قصد التشبيه بالثلج في البرودة، وبالنار في الحرارة والاحراق، طلقت في زمن
البدعة وبالله التوفيق.
الباب الثاني في أركان الطلاق
هي خمسة:
(الأول): المطلق وشرطه التكليف، فلا يقع طلاق صبي ولا مجنون، لا
تنجيزا ولا تعليقا. فلو قال مراهق: إذا بلغت، فأنت طالق، فبلغ، أو قال مجنون:
إذا أفقت، فأنت طالق، ثم أفاق، أو قالا: أنت طالق غدا فبلغ وأفاق قبل الغد فلا
طلاق.
قلت: هكذا اقتصر الغزالي وغيره في شرط المطلق على كونه مكلفا، وقد يورد
22

عليه السكران، فإنه يقع طلاقه على المذهب، وليس مكلفا كما قاله أصحابنا
وغيرهم في كتب الأصول، ولكن مراد أهل الأصول، إنه غير مخاطب حال
السكر، ومرادنا هنا أنه مكلف بقضاء العبادات بأمر جديد. والله أعلم.
الركن الثاني: اللفظ وفيه ثلاثة أطراف: أحدها في اللفظ الذي يقع به
الطلاق، والثاني، في الأفعال القائمة مقامه. والثالث في تفويض الطلاق إلى
الزوجة وأحكام تفويضه.
أما الأول، فاللفظ صريح، وهو ما لا يتوقف وقوع الطلاق
به على نية، وكناية وهو ما توقف على نية، أما الصريح، فلفظ الطلاق والسراح
23

والفراق وحكى أبو الحسن العبادي، أن أبا عبد الرحمن القزاز نقل قولا قديما أن
السراح والفراق كنايتان، والمشهور الأول، فقوله: أنت طالق، أو مطلقة، أو يا
طالق أو يا مطلقة، صريح. وقيل: يا مطلقة وأنت مطلقة كناية، والصحيح الأول.
وأما المشتق من الاطلاق كقوله: أنت مطلقة بإسكان الطاء أو يا مطلقة، فليس
بصريح على الصحيح لعدم اشتهاره، وإن الاطلاق كان والتطليق متقاربين.
وفي قوله: أنت طلاق، أو الطلاق، أو طلقة وجهان: أصحهما أنه كناية.
ولو قال: أنت نصف طلقة، فكناية. قال البغوي: ولو قال: أنت كل طلقة أو
نصف طالق، فصريح، كقوله: نصفك طالق.
ونقل العبادي خلافا في قوله: أنت نصف طلقة، ويجوز أن يجئ هذا
الخلاف في قوله نصف طالق. ولو قال: أنت والطلاق أو أنت وطلقة، فكناية،
أي: قرنت بينك وبينها. وإذا قلنا بالمشهور في لفظي السراح والفراق، فقوله:
فارقتك وسرحتك صريحان، وفي الاسم منهما وهو مفارقة ومسرحة وجهان، سواء
الوصف، كقوله أنت مسرحة أو مفارقة، والنداء كقوله: يا مسرحة أو يا مفارقة،
أصحهما صريحان أيضا، وقوله: أنت السراح، أو أنت الفراق على الوجهين في:
أنت الطلاق.
24

فرع قال: أردت بقولي: طالق، إطلاقها من الوثاق، وبالفراق المفارقة في
المنزل، وبالسراح إلى منزل أهلها، أو قال: أردت خطاب غيرها فسبق لساني
إليها، دين ولم يقبل ظاهرا، فلو صرح، فقال: أنت طالق من وثاق، أو سرحتك
إلى موضع كذا، أو فارقتك في المنزل، خرج عن كونه صريحا وصار كناية. قال
المتولي: وهذا في ظاهر الحكم، وأما بينه وبين الله تعالى، فإنما لا يقع الطلاق إذا
كان على عزم أن يأتي بهذه الزيادة من أول كلامه، فأما إذا قال: أنت طالق، ثم بدا
له فوصل به هذه الزيادة، فالطلاق واقع في الباطن. ولو لم يكن عازما على هذه
الزيادة أولا ثم نواها في أثناء الكلام، فوجهان سيأتي نظيرهما إن شاء الله تعالى في
الاستثناء وغيره، وكذلك التديين إذا لم يتلفظ بالزيادة، وقال: نويتها، إنما يدين إذا
كان ناويا من أول الكلام، فإن حدثت بعد الفراغ من الكلام، فلا، وإن حدثت في
أثنائه، فعلى الوجهين.
فرع قوله: أوقعت عليك طلاقي، صريح ذكره الروياني. ولو قال: لك
طلقة، أو وضعت عليك طلقة، فوجهان.
فرع ذكر الأصحاب أن صريح الطلاق ثلاثة: الطلاق، والسراح، والفراق،
وأهملوا ذكر شيئين هنا أحدهما: لفظ الخلع، وفي كونه صريحا في الطلاق خلاف
سبق، والثاني: قوله الحلال علي حرام، وفي كونه صريحا خلاف نذكره إن شاء
الله تعالى قريبا.
فرع ترجمة لفظ الطلاق بالعجمية وسائر اللغات، صريح على المذهب لشهرة
استعمالها في معناها عند أهل تلك اللغات، كشهرة العربية عند أهلها، وقيل:
وجهان. ثانيهما: أنها كناية، وترجمة السراح والفراق فيها الخلاف، لكن
25

الأصح هنا أنها كناية قاله الامام والروياني، لأن ترجمتهما بعيدة عن الاستعمال.
فرع إذا اشتهر في الطلاق لفظ سوى الألفاظ الثلاثة الصريحة، كحلال الله علي
حرام، أو أنت علي حرام، أو الحلال أو الحل علي حرام، ففي التحاقه بالصريح
أوجه، أصحها: نعم لحصول التفاهم، وغلبة الاستعمال، وبهذا قطع البغوي،
وعليه تنطبق فتاوى القفال، والقاضي حسين والمتأخرين. والثاني: لا، ورجحه
المتولي. والثالث، حكاه الامام عن القفال: أنه إن نوى شيئا آخر من طعام أو
غيره، فلا طلاق. وإذا ادعاه، صدق، وإن لم ينو شيئا، فإن كان فقيها يعلم أن
الكناية لا تعمل إلا بالنية، لم يقع، وإن كان عاميا سألناه عما يفهم إذا سمعه من
غيره، فإن قال: يسبق إلى فهمي منه الطلاق، حمل على ما يفهم، والذي حكاه
المتولي عن القفال، أنه إن نوى غير الزوجة، فذاك، وإلا فيقع الطلاق للعرف.
قلت: الأرجح الذي قطع به العراقيون والمتقدمون، أنه كناية مطلقا 2 (212). والله
أعلم.
وأما البلاد التي لا يشتهر فيها هذا اللفظ للطلاق، فهو كناية في حق أهلها بلا
خلاف. وفي فتاوى القاضي حسين، أنه لو كان له امرأتان، فقال: حلال الله علي
حرام إن دخلت الدار فدخل، تطلق كل واحدة منهما طلقة، ويوافقه ما ذكره البغوي
في الفتاوى أنه لو قال: حلال الله علي حرام وله أربع نسوة، طلقن كلهن إلا أن
يريد بعضهن، لكن ذكر بعده أنه لو قال: إن فعلت كذا، فحلال الله علي حرام وله
امرأتان ففعل، طلقت إحداهما، لأنه اليقين، ويؤمر بالتعيين قال: ويحتمل غيره
فحصل تردد.
قلت: الظاهر المختار الجاري على القواعد، أنه إذا لم ينوهما، لا تطلق إلا
إحداهما، أو إحداهن، لأن الاسم يصدق عليه، فلا يلزمه زيادة، وقد صرح بهذا
جماعة من المتأخرين، وهذا إذا نوى ب‍: حلال الله علي حرام الطلاق، وجعلناه
صريحا فيه. والله أعلم.
26

فصل وأما الكناية، فيقع بها الطلاق مع النية بالاجماع، ولا يقع بلا نية وهي
كثيرة، كقوله: أنت خلية وبرية، وبتة وبتلة، وبائن وحرام، وحرة،
وأنت واحدة، واعتدي واستبرئي رحمك، والحقي بأهلك، وحبلك على
غاربك، ولا أنده سربك، أي: لا أزجر إبلك، ومعناه: لا أهتم بشأنك،
واغربي واعزبي، واخرجي واذهبي، وسافري وتجنبي، وتجردي وتقنعي، وتستري،
والزمي الطريق، وبيني وأبعدي وودعيني ودعيني، وبرئت منك، ولا
حاجة لي فيك، وأنت وشأنك، وأنت مطلقة ومنطلقة، وتجرعي وذوقي، وتزودي
وما أشبه ذلك. وفي قوله: اشربي، وجهان: الأصح المنصوص، كناية. وقال أبو
27

إسحاق: ليس كناية، بل هو لغو، وكلي، كاشربي كناية على المذهب، وقيل:
ليس كناية قطعا. وفي قوله: أغناك الله، وقوله: قومي، وجهان، أصحهما: ليس
كناية.
أما الألفاظ التي لا تحتمل الطلاق إلا على تقدير متعسف، فلا أثر لها، فلا
يقع بها طلاق وإن نوى، وذلك كقوله: بارك الله فيك، وأحسن الله جزاءك، وما
أحسن وجهك، وتعالي واقربي واغزلي واسقيني، وأطعميني وزوديني، واقعدي وما
أشبه ذلك، وحكي وجه في: اقعدي وأحسن الله جزاءك، وزوديني ونحوها، أنها
كناية وهو ضعيف.
فرع قال لزوجته: أنت حرة أو معتقة، أو أعتقتك ونوى الطلاق، طلقت. ولو
قال لعبده: طلقتك ونوى العتق، عتق. وللمناسبة والمشاركة بين الملكين يصلح
كل واحدة منهما كناية في الآخر، وكما أن صريح كل واحد منهما كناية في الآخر،
فكناياتها مشتركة مؤثرة في العقدين جميعا بالنية، لكن لو قال للعبد: اعتد أو
استبرئ رحمك ونوى العتق، لم ينفذ لاستحالته في حقه، ولو قال ذلك لامته ونوى
العتق، أو لزوجته قبل الدخول ونوى العتق، نفذ على الأصح، والظهار والطلاق
ليس أحدهما كناية في الآخر.
ولو قال لامته: أنت علي كظهر أمي ونوى العتق عتقت على الصحيح،
وقيل: لا لأنه لا يزيل الملك، بخلاف الطلاق.
فصل قال لزوجته: أنت علي حرام، أو محرمة، أو حرمتك، بأن نوى الطلاق،
نفذ رجعيا، فإن نوى عددا وقع ما نوى. وحكى الحناطي وجها أنه لا يكون طلاقا إذا
قلنا: إنه صريح في اقتضاء الكفارة، كما سنذكره إن شاء الله تعالى قريبا وهذا وإن
كان غريبا، ففيه وفاء بالقاعدة المعروفة: أن اللفظ الصريح إذا وجد نفاذا في
موضوعه، لا ينصرف إلى غيره بالنية، وإن نوى الظهار، فهو. ظهار وإن نواهما
معا، فهل يكون ظهارا أم طلاقا أم تخير فما اختاره منهما ثبت؟ فيه أوجه، أصحها
الثالث، وبه قال ابن الحداد، وأكثر الأصحاب، ولا ينعقد الاثنان معا قطعا. ولو
نوى أحدهما قبل الآخر، قال ابن الحداد: إن أراد الظهار ثم أراد الطلاق، صحا
جميعا، وإن أراد الطلاق أولا، فإذا كان بائنا، فلا معنى للظهار بعده وإن كان رجعيا
28

كان الظهار موقوفا، فإن راجعها، فهو صحيح والرجعة عود وإلا فهو لغو، قال
الشيخ أبو علي هذا التفصيل فاسد عندي، لأن اللفظ الواحد إذا لم يجز أن يراد به
التصرفان لم يختلف الحكم بإرادتهما معا، أو متعاقبين، وإن نوى تحريم عينها أو
فرجها أو وطئها، لم تحرم عليه، ويلزمه كفارة يمين، كما لو قال ذلك لامته.
وفي وقت وجوب الكفارة وجهان، أحدهما: لا يجب إلا عند الوطئ، ويكون هذا اللفظ
مع نية التحريم، كاليمين على ترك الوطئ، وعلى هذا الوجه يكون مؤليا بقوله: أنت
علي حرام لوجوب الكفارة بالوطئ كقوله: والله لا أطؤك. والثاني وهو الصحيح: أن
الكفارة تجب في الحال وإن لم يطأ، وهي ككفارة اليمين وليست كفارة يمين، لان
اليمين لا تنعقد إلا بأسماء الله تعالى وصفاته فعلى هذا لو قال: أردت الحلف على
ترك الوطئ لم يقبل على الصحيح لما ذكرناه، وقيل: يقبل وينعقد يمينا، فعلى هذا
هل يصير لفظ التحريم يمينا بالنية في غير الزوجات، والإماء كالطعام واللباس
وغيرهما، أم يختص بالابضاع؟ وجهان.
قلت: أصحهما يختص. والله أعلم.
وإن أطلق قوله: أنت علي حرام ولم ينو شيئا، فقولان أظهرهما: وجوب
الكفارة وقوله: أنت علي حرام، صريح في لزوم الكفارة، والثاني: لا شئ عليه
وهذا اللفظ كناية في لزوم الكفارة، وهذا التفصيل مستمر فيمن قال: أنت علي حرام
في بلاد لم يشتهر فيها لفظ الحرام في الطلاق، وفيمن قاله في بلاد اشتهر فيها
للطلاق إذا قلنا: إن الشيوع والاشتهار لا يجعله صريحا، فأما إذا قلنا: إنه يصير به
صريحا فمقتضى ما في التهذيب، أنه يتعين للطلاق ولا تفصيل، وقال الامام:
لا يمنع ذلك صرف النية إلى التحريم الموجب للكفارة، كما أنا وإن جعلناه صريحا
في الكفارة عند الاطلاق يجوز صرفه بالنية إلى الطلاق قال: وإذا أطلق وجعلناه
29

صريحا في الكفارة، بني على أن الصرائح تؤخذ من الشيوع فقط، أم منه ومن ورود
الشرع به؟ إن قلنا بالأول حمل على الغالب في الاستعمال وإن قلنا بالثاني
فهل يثبت الطلاق لقوته، أم يتدافعان؟ فيه رأيان
. فرع قول الغزالي في الوسيط: إن نوى التحريم كان يمينا، هذا غلط، بل
الصواب ما اتفق عليه جميع الأصحاب أنه ليس بيمين، لكن فيه كفارة يمين.
فرع قال لامته: أنت علي حرام، أو حرمتك، فإن نوى العتق عتقت، وإن نوى
طلاقا أو ظهارا، فهو لغو، قال ابن الصباغ: وعندي أن نية الظهار كنية التحريم.
وإن نوى تحريم عينها، لم تحرم ويلزمه كفارة يمين، وإن أطلق ولم ينو شيئا لزمته
الكفارة على الأظهر. وقيل: قطعا. ولو قال ذلك لامته التي هي أخته ونوى تحريم
عينها، أو لم ينو شيئا، لم تلزمه الكفارة، لأنه صدق في وصفها، وإنما تجب
الكفارة لوصفه الحلال بالحرمة.
ولو كانت الأمة معتدة، أو مرتدة، أو مجوسية، أو مزوجة، أو كانت الزوجة
محرمة، أو معتدة عن شبهة، ففي وجوب الكفارة وجهان، لأنها محل لاستباحة في
الجملة.
ولو كانت حائضا أو نفساء أو صائمة، وجبت على المذهب، لأنها عوارض.
ولو خاطب به الرجعية، فلا كفارة على المذهب، ونقل الحناطي فيه خلافا.
فرع قال: هذا الثوب، أو العبد، أو الطعام حرام علي، فهو لغو لا
يتعلق به كفارة ولا غيرها.
فرع قال: كل ما أملكه حرام علي وله زوجات وإماء، ونوى تحريمهن، أو أطلق
وجعلناه صريحا، أو قال لأربع زوجات أنتن علي حرام، فهل تتعدد الكفارة، أم
تكفي كفارة واحدة عن جميع ذلك؟ فيه خلاف المذهب الاكتفاء في الجميع وقيل:
تتعدد بالأشخاص، وقيل: للزوجات كفارة والإماء أخرى، وقيل: وللمال أخرى
حكاه الحناطي.
30

فرع: قال لزوجته: أنت علي حرام، أنت علي حرام ونوى التحريم، أو جعلناه
صريحا فإن قال ذلك في مجلس، أو قاله في مجالس ونوى التأكيد، فعليه كفارة
واحدة وإن قاله في مجالس ونوى الاستئناف، تعددت الكفارة على الأصح. وقيل:
عليه كفارة فقط، وإن أطلق، فقولان.
فرع قال: أنت حرام ولم يقل: علي، قال البغوي: هو كناية بلا خلاف، ولو
قال: أنت علي كالميتة، والدم، والخمر، أو الخنزير وقال: أردت الطلاق، أو
الظهار نفذ، وإن نوى التحريم، لزمته الكفارة. وإن أطلق، فظاهر النص أنه
كالحرام فيكون على الخلاف. وعلى هذا جرى الامام، والذي ذكره البغوي وغيره
أنه لا شئ عليه، قال الحناطي: الخلاف هنا مرتب على لفظ الحرام، وهنا أولى
بأن لا يكون صريحا، وحكى قولا شاذا أنه لا كفارة وإن نوى التحريم. قال الشيخ
أبو حامد: ولو قال أردت أنها حرام علي، فإن جعلناه صريحا، وجبت الكفارة وإلا
فلا لأنه ليس للكناية كناية، وتبعه على هذا جماعة، ولا يكاد يتحقق هذا التصوير،
ولو قال: أردت أنها كالميتة في الاستقذار، صدق ولا شئ عليه.
فرع قال إسماعيل البوشنجي: إنما يقع الطلاق بقوله: أنت حرام علي إذا نوى
حقيقة الطلاق، وقصد إيقاعه بهذا اللفظ، أما إذا لم ينو كذلك، فلا يقع وإن اعتقد
قوله: أنت علي حرام موقعا، وظن أنه قد وقع طلاقه.
فرع قال: متى قلت لامرأتي: أنت علي حرام، فإني أريد به الطلاق ثم قال لها
بعد مدة: أنت علي حرام، فهل يحمل على الطلاق، أم يكون كما لو ابتدأ به؟
وجهان خرجهما أبو العباس الروياني.
قلت: أصحهما الثاني. والله أعلم.
فرع تكرر في كلام الأصحاب في المسألة، أن قوله: أنت علي حرام صريح في
الكفارة، أم كناية، وفي الحقيقة ليس لزوم الكفارة معنى اللفظة حتى يقال: صريح
فيه، أم كناية، وإنما هو حكم رتبه الشرع على التلفظ به.
واختلفوا في أنه يتوقف على نية التحريم أم لا؟ فتوسعوا باطلاق لفظ الصريح
والكناية.
31

فصل الكناية لا تعمل بنفسها، بل لابد فيها من نية الطلاق، وتقترن النية باللفظ
فلو تقدمت، ثم تلفظ بلا نية، أو فرغ من اللفظ ثم نوى، لم تطلق، فلو اقترنت
بأول اللفظ دون آخره، أو عكسه، طلقت على الأصح، ولا تلتحق الكناية
بالصريح بسؤال المرأة الطلاق، ولا بقرينة الغضب واللجاج، ومتى تلفظ بكناية
وقال: ما نويت صدق بيمينه، فإن نكل، حلفت، وحكم بوقوع الطلاق، وربما
اعتمدت قرائن يجوز الحلف بمثلها.
فصل في مسائل منثورة متعلقة بالصريح والكناية في الزيادات
لأبي عاصم العبادي، أنه لو قال: بعتك طلاقك، فقالت: اشتريت ولم يذكرا
عوضا، لا يحصل فرقة إذا لم يكن نية، وقيل: تقع طلقة بمهر المثل، وأنه لو
قال: لم يبق بيني وبينك شئ ونوى الطلاق، لم تطلق، وفي هذا توقف.
قلت: الصواب الجزم بالطلاق، لأنه لفظ صالح ومعه نية. والله أعلم.
وأنه لو قال: برئت من نكاحك ونوى، طلقت، وأنه لو قال: برئت من
طلاقك ونوى، لم تطلق، ولو قال: برئت إليك من طلاقك، قال إسماعيل
البوشنجي: هو كناية، أي: تبرأت منك بوساطة إيقاع الطلاق عليك. ولو قال:
أبرأتك، أو عفوت عنك، فكناية، لاشعاره بالاسقاط، وله عليها حقوق النكاح،
وتسقط بالطلاق وأنه لو قال: طلقك الله، أو قال لامته: أعتقك الله، طلقت
وعتقت، وهذا يشعر بأنهما صريحان، ورأي البوشنجي أنهما كنايتان لاحتماله
الانشاء والدعاء. وقول مستحق الدين للغريم: أبرأك الله، كقول الزوج: طلقك
الله. ولو قال: أنت طال وترك القاف، طلقت حملا على الترخيم. قال
32

البوشنجي: ينبغي أن لا يقع وإن نوى، فإن قال: يا طال، ونوى، وقع، لان
الترخيم إنما يكون في النداء، فأما في غير النداء، فلا يقع إلا نادرا في الشعر، وانه
إذا قال: الطلاق لازم لي، أو واجب علي، طلقت للعرف. ولو قال: فرض
علي، لم تطلق لعدم العرف فيه. ورأي البوشنجي أن جميع هذه الألفاظ كناية، لأنه
لو قال: طلاقك علي، واقتصر عليه ونوى، وقع، فوصفه بواجب أو فرض يزيده
تأكيدا. وحكى صاحب العدة الخلاف فقال: لو قال طلاقك لازم لي،
فوجهان. قال أكثر الأصحاب: هو صريح. ولو قال: لست بزوجة لي، فالصحيح
أنه كناية. وقيل: لغو. وفي فتاوى القفال أنه لو قال: اذهبي إلى بيت أبوي ونوى
الطلاق، إن نواه بقوله: اذهبي، وقع، وإن نواه بمجموع اللفظين، لم يقع، لان
قوله: إلى بيت أبوي لا يحتمل الطلاق، بل هو لاستدراك مقتضى قوله: اذهبي.
وأنه لو قال لها: أنت طالقان أو طوالق، لم يقع إلا طلقة. وانه لو قال: كل امرأة لي
طالق إلا عمرة، ولا امرأة له سواها، طلقت، لأن الاستثناء مستغرق فبطل. ولو
قال: النساء طوالق إلا عمرة، ولا زوجة له سواها، لم تطلق. وإن كانت امرأته في
نسوة، فقال: طلقت هؤلاء إلا هذه، وأشار إلى زوجته، لم تطلق. وأنه لو قال
33

لامرأته يا بنتي، وقعت الفرقة بينهما عند احتمال السن، كما لو قاله لعبده أو
أمته.
قلت: المختار في هذا أنه لا يقع به فرقة إذا لم يكن له نية، لأنه إنما يستعمل
في العادة للملاطفة وحسن المعاشرة. والله أعلم.
وأنه لو كانت له زوجة تنسب إلى زوج أمها، فقال: بنت فلان طالق، لم
تطلق، لأنها ليست بنته حقيقة، ولغيره في هذا احتمال.
قلت: ينبغي أن يقال: إن نواها طلقت، ولا يضر الغلط في نسبها،
كنظيره في النكاح وإلا فلا، ومراد القفال بقوله: لم تطلق، أي: في الظاهر، وأما
الباطن، فيتعين أن يكون كما ذكرته. والله أعلم.
وأنه لو قال: نساء المسلمين طوالق، لم تطلق امرأته. وعن غيره: أنها
تطلق، وبنى الخلاف على أن المخاطب هل يدخل في الخطاب؟
قلت: الأصح عند أصحابنا في الأصول: أنه لا يدخل، وكذا هنا: الأصح
أنها لا تطلق. والله أعلم.
34

وأنه لو قال: بانت مني امرأتي، أو حرمت علي، لم يكن إقرارا بالطلاق،
لأنه كناية، وأنه لو قال: أنت بائن ثم قال بعد مدة: أنت طالق، ثلاثا، وقال:
أردت بالبائن الطلاق، فلم يقع على الثلاث لمصادفتها البينونة، لم يقبل منه، لأنه
متهم، وأنه لو قال: بطلاقك لا أكلم فلانا فكلمه، لم تطلق، لأن الطلاق لا يحلف به.
وأنه لو قالت له زوجته واسمها فاطمة: طلقني، فقال: طلقت فاطمة، ثم
قال: نويت فاطمة أخرى، طلقت، ولا يقبل قوله لدلالة الحال، بخلاف ما لو قال
ابتداء: طلقت فاطمة، ثم قال: نويت أخرى. وقد يشكل هذا بما سبق، أن
السؤال لا يلحق الكناية بالصريح. وأنه لو قال: طلقت ولم يزد عليه، لا يقع
35

الطلاق، وإن نوى، لأنه لم يجر للمرأة ذكر ولا دلالة، فهو كما لو قال: امرأتي
ونوى الطلاق، وأنه لو قال لولي امرأته: زوجها، كان إقرارا بالفراق. ولو قال لها:
انكحي، لم يكن إقرارا، لأنها لا تقدر أن تنكح، ولكن المفهوم منه ما يفهم من قول
الله تعالى: * (حتى تنكح زوجا غيره) *.
قلت: الصواب أنه كناية إذا خاطبها به، بخلاف الولي، لأنه صريح فيه.
والله أعلم.
ومما نقل من معلقات القاضي شريح الروياني من أصحابنا المتأخرين، ما
حكاه عن جده أبي العباس الروياني وغيره، أنه لو قال: أحللتك ونوى طلاقها، هل
هو كناية؟ وجهان.
قلت: الأصح أنه كناية. والله أعلم.
وأنه لو قال: أنت بائن وطالق، يرجع إلى نيته في بائن، ولا يجعل قوله:
وطالق تفسيرا له. وأنه لو كرر كناية، كقوله: اعتدي اعتدي اعتدي، ونوى الطلاق، فإن نوى
التأكيد وقعت واحدة، وإن نوى الاستئناف، فثلاث، وإن لم ينو، فقولان. ولو
كانت الألفاظ مختلفة، ونوى بها الطلاق، وقع بكل لفظة طلقة.
وأن القفال قطع بأنه لو قال: طلقت، ونوى امرأته، لم تطلق لعدم الإشارة
والاسم.
ولو قيل له: ما تصنع بهذه الزوجة؟ طلقها، فقال: طلقت، أو قال لامرأته:
طلقي نفسك، فقالت: طلقت، وقع الطلاق، لأنه يترتب على السؤال والتقويض،
وأنه لو قال: أنت بطلقة، ونوى، لم تطلق. وأنه لو كان له زوجتان، إحداهما
فاطمة بنت محمد، والأخرى فاطمة بنت رجل سماه أبواه أيضا محمدا، إلا أنه
36

اشتهر في الناس بزيد، وبه يدعونه، فقال الزوج: زوجتي فاطمة بنت محمد
طالق، وقال: أردت بنت الذي يدعونه زيدا، قال جدي: يقبل لأن الاعتبار بتسمية
أبويه، وقد يكون للرجل اسمان، وأكثر، وقيل: الاعتبار بالاسم المشهور في
الناس، لأنه أبلغ في التعريف. وأنه لو قال: امرأتي هذه محرمة علي لا تحل لي
أبدا، قال جدي: لا تطلق، لأن التحريم قد يكون بغير الطلاق، وقد يظن التحريم
المؤبد باليمين على ترك الجماع، وقيل: يحكم عليه بالبينونة لمقتضى هذا اللفظ،
وأنه لو قيل لرجل اسمه زيد: يا زيد، فقال: امرأة زيد طالق، قال جدي: تطلق
امرأته.
وقال غيره: لا تطلق حتى يريد نفسه لجواز إرادة زيد اخر. وليجئ هذا
الوجه، فيما إذا قال: فاطمة طالق واسم زوجته فاطمة، ويشبه أن يكون هو الأصح
ليكون قاصدا تطليق زوجته، وأنه لو قيل: طلقت امرأتك، فقال: اعلم أن الامر
على ما تقوله، فهل يكون هذا إقرارا بالطلاق؟ وجهان حكاهما جدي، أصحهما
ليس باقرار لأنه أمره أن يعلم، ولم يحصل هذا العلم، وأنها لو ادعت أنه طلقها
ثلاثا، فأنكر، ثم قال لفقيه: اكتب لها ثلاثا، قال جدي: يحتمل كونه كناية،
ويحتمل أن لا يكون، وأنه لو قال: امرأتي التي في هذه الدار طالق، ولم تكن
امرأته فيها، لا يقع الطلاق، وأنه لو قال: رددت عليك الطلقات الثلاث، ونوى،
37

وقع الثلاث. وأنه لو قال: امرأته طالق، وعنى نفسه، قال جدي: يحتمل وقوع
الطلاق، ويحتمل عدمه.
قلت: الوقوع أرجح. والله أعلم.
وأنه لو قال لابنه: قل لأمك أنت طالق، قال جدي: إن أراد التوكيل، فإذا
قاله لها الابن، طلقت، ويحتمل أن يقع ويكون الابن مخبرا لها بالحال.
وأنه لو قال: كل امرأة في السكة طالق، وزوجته في السكة، طلقت على
الأصح. وأنه لو وكل في طلاقها، فقال الوكيل: طلقت من يقع الطلاق عليها
بلفظي، هل تطلق التي وكله في طلاقها؟ أو طلقها ولم ينو عند الطلاق أن يطلق
لموكله، ففي الوقوع وجهان.
في فتاوي القاضي حسين، أنه لو قيل له: فعلت كذا، فأنكر، فقيل له: إن
كنت فعلته فامرأتك طالق، قال نعم، لم تطلق، لأنه لم يوقعه. قال البغوي:
ينبغي أن يكون على القولين، فيمن قيل له: طلقتها؟ قال: نعم.
وفي المستدرك للامام إسماعيل البوشنجي، أنه لو قال لزوجته: وهبتك
لأهلك، أو لأبيك أو للأزواج أو للأجانب، ونوى الطلاق، طلقت، كقوله:
الحقي بأهلك.
وأنه لو قال لامرأته: أنت كذا ونوى الطلاق، لم تطلق. وكذا لو علق بصفة،
فقال: إن لم أدخل الدار، فأنت كذا، ونوى، لم تطلق لأنه لا إشعار له بالفرقة،
فأشبه إذا قال: إن لم أدخل الدار فأنت كما أضمر، ونوى الطلاق، فإنها لا تطلق،
وأنه لو قال: أربع طرق عليك مفتوحة، فخذي أيها شئت، أو لم يقل: خذي أيها
شئت، أو قال: فتحت عليك طريقك، فكناية. وقال أبو بكر الشاشي: إذا لم
يقل: خذي أيها شئت، فليس كناية، ووافق في قوله: فتحت عليك طريقك أنه
كناية. وأنه لو قال: خذي طلاقك، فقالت: أخذت، لم تطلق ما لم توجد نية
الايقاع من الزوج بقوله: خذي أو من المرأة إن حمل قوله على تفويض الطلاق
إليها.
38

وفي الاقناع لأقضي القضاة الماوردي، أن قوله: لعل الله يسوق إليك خيرا
كناية، وذكر هو وغيره أن قوله: بارك الله لك، كناية، بخلاف قوله: بارك الله
فيك.
وفي فتاوى الغزالي: إذا كتب الشروطي إقرار رجل بالطلاق، فقال له
الشهود: نشهد عليك بما في هذا الكتاب؟ فقال: اشهدوا، لا يقع الطلاق بينه
وبين الله تعالى، بل لو قال: اشهدوا على أني طلقتها أمس وهو كاذب، لم يقع فيما
بينه وبين الله تعالى.
وفي التتمة أنه لو قال لواحدة من نسائه: أنت طالق مائة طلقة، فقالت:
تكفيني ثلاث، فقال: الباقي على صواحبك، لا يقع على صواحبها طلاق، لأنه لم
يخاطبهن، وإنما رد عليها شيئا لاغيا، فإن نوى به الطلاق، كان طلاقا وكان
التقدير: أنت طالق بثلاث، وهن طوالق بالباقي وأنه لو قال: كل امرأة أتزوجها فهي
طالق، وأنت يا أم أولادي، قال أبو عاصم العبادي: لا تطلق، وهو كما قال غيره: لو قال
لزوجته: نساء العالمين طوالق وأنت يا فاطمة، لا تطلق، لأنه عطف على نسوة لم
يطلقن، وأنه لو قال له رجل: فعلت كذا فأنكر، فقال الرجل: الحل عليك
حرام، والنية نيتي أنك ما فعلت، فقال: الحل علي حرام، والنية نيتك ما فعلته،
لغا قوله: النية نيتك، ويكون الحكم كما لو تلفظ بهذا اللفظ ابتداء ولو قال له لما
أنكر: امرأتك طالق إن كنت كاذبا، فقال: طالق وقال: ما أردت طلاق امرأتي
يقبل، لأنه لم توجد إشارة إليها ولا تسمية، وإن لم يدع إرادة غيرها، حكم بوقوع
الطلاق وبالله التوفيق.
39

فرع قال: أنت طالق ثلاثا أو لا، باسكان الواو، لا يقع شئ. قال
المتولي: كما لو قال: هل أنت طالق؟ ولو قال: أنت طالق أولا بتشديد الواو وهو
يعرف العربية، طلقت.
الطرف الثاني في الأفعال القائمة مقام اللفظ: الإشارة والكتب يدلان على
الطلاق، فأما الإشارة، فمعتبرة من الأخرس في وقوع الطلاق، وتقوم إشارته مقام
عبارة الناطق في جميع العقود والحلول والأقارير والدعاوي، لكن في شهادته
خلاف. وإذا أشار في صلاته بطلاق أو بيع أو غيرهما، صح العقد قطعا ولا تبطل
صلاته على الصحيح، ثم منهم من أدار الحكم على إشارته المفهومة، وأوقع ا
لطلاق بها، نوى أم لم ينو، وكذا فصل البغوي.
وقال الامام وآخرون: إشارته منقسمة إلى صريحة مغنية عن النية، وهي التي
يفهم منها الطلاق كل واقف عليها، وإلى كناية مفتقرة إلى النية، وهي التي يفهم الطلاق بها المخصوص بالفطنة والذكاء. ولو بالغ في الإشارة، ثم ادعى أنه لم يرد
الطلاق وأفهم هذه الدعوى. قال الامام: هو كما لو فسر اللفظة الشائعة في الطلاق
بغيره.
فرع سواء في اعتبار إشارة الأخرس، قدر على الكتابة أم لا، هكذا قاله الامام
ويوافقه إطلاق الجمهور. وقال المتولي: إنما تعتبر إشارته إذا لم يقدر على كتابة
مفهمة. فالكتابة هي المعتبرة، لأنها أضبط، وينبغي أن يكتب مع ذلك: إني
قصدت الطلاق.
فرع إذا كتب الأخرس الطلاق، فثلاثة أوجه. الصحيح أنه كناية، فيقع
الطلاق إذا نوى، وإن لم يشر معها، والثاني: لا بد من الإشارة، والثالث: هو
صريح، قاله الشيخ أبو محمد.
فصل القادر على النطق، إشارته بالطلاق ليست صريحة، وإن أفهم بها كل
أحد، وليست كناية أيضا على الأصح. ولو قال لإحدى زوجتيه: أنت طالق وهذه،
ففي افتقار طلاق الثانية إلى نية، وجهان. ولو قال: امرأتي طالق، وأشار إلى
إحداهما، ثم قال: أردت الأخرى، فوجهان. أحداهما: يقبل. والثاني: لا
يقبل، بل تطلقان جميعا.
40

فصل إذا كتب القادر بطلاق زوجته، نظر، إن قرأ ما كتبه وتلفظ به في حال
الكتابة، أو بعدها، طلقت، وإن لم يتلفظ، نظر، إن لم ينو إيقاع الطلاق، لم
تطلق على الصحيح، وقيل: تطلق وتكون الكتابة صريحا، وليس بشئ. وإن نوى،
ففيه أقوال وأوجه وطرق، مختصرها ثلاثة أقوال. أظهرها: تطلق مطلقا، والثاني:
لا، والثالث: تطلق إن كانت غائبة عن المجلس، وإلا فلا. وهذا الخلاف جار في
سائر التصرفات التي لا تفتقر إلى قبول كالاعتاق والابراء، والعفو عن القصاص
وغيرها بلا فرق.
وأما ما يحتاج إلى قبول، فهو نكاح وغيره، أما غيره كالبيع والهبة والإجارة،
ففي انعقادها بالكتب خلاف مرتب على الطلاق، وما في معناه، إن لم يعتبر الكتب
هناك، فهنا أولى، وإلا فوجهان، للخلاف في انعقاد هذه التصرفات بالكنايات،
ولأن القبول فيها شرط فيتأخر عن الايجاب، والأشبه الانعقاد. ومن قال به، جعل
تمام الايجاب بوصول الكتاب، حتى يشترط اتصال القبول به. وفي وجه: لا
يشترط ذلك، بل يراعى التواصل اللائق بين الكتابين، وقد أشرنا إلى هذا كله في
أول البيع، وذكرنا عن بعضهم، أن المشتري لو قبل بالقول، كان أقوى من أن
يكتب، وكذا ذكره الامام.
وأما النكاح، ففيه خلاف مرتب، والمذهب منعه بسبب الشهادة، فلا اطلاع
للشهود على النية. ولو قالا بعد المكاتبة: نوينا، كان شهادة على إقرارهما لا على
نفس العقد، ومن جوز اعتمد الحاجة.
وإذا قلنا: ينعقد البيع والنكاح بالمكاتبة، فذلك في حال الغيبة، فأما عند
الحضور، فخلاف مرتب.
وحيث حكمنا بانعقاد النكاح بالمكاتبة يكتب: زوجتك بنتي، ويحضر الكتاب
عدلان، ولا يشترط أن يحضرهما، ولا أن يقول: اشهدا. فإذا بلغه، فيقبل لفظا.
أو يكتب القبول، ويحضر القبول شاهدا الايجاب، فإن شهده آخران، فوجهان.
أصحهما: المنع، ومن جوزه، احتمله كما احتمل الفصل بين الايجاب والقبول.
ثم إذا قبل لفظا أو كتابة، يشترط كونه على الفور، وفيه وجه ضعيف سبق.
فرع كتب إليه: وكلتك في بيع كذا من مالي، أو إعتاق عبدي، فإن قلنا:
41

الوكالة لا تفتقر إلى القبول، فهو ككتب الطلاق، وإلا فكالبيع ونحوه.
فرع كتب: زوجتي طالق، أو يا فلانة أنت طالق. أو كل زوجة لي فهي طالق،
فإن قرأ ما كتبه، فقد ذكرنا أنها تطلق. فلو قال: لم أنو الطلاق، وإنما قصدت قراءة
ما كتبته وحكايته، ففي قبوله ظاهرا وجهان مشبهان بالوجهين فيما لو حل الوثاق،
وقال: أنت طالق.
وفائدة الخلاف، إنما تظهر إذا لم يجعل الكتب صريحا ولا كناية، أو قلنا:
كناية، وأنكر اقتران النية.
فرع إذا أوقعنا الطلاق بالمكاتبة، نظر في صورة المكتوب، إن كتب: أما
بعد، فأنت طالق، طلقت في الحال، سواء وصلها الكتاب أم ضاع.
وإن كتب: إذا قرأت كتابي، فأنت طالق، لم يقع بمجرد البلوغ، بل عند
القراءة. فإن كانت تحسن القراءة، طلقت إذا قرأته، قال الامام: والمعتبر أن تطلع
على ما فيه. واتفق علماؤنا على أنها إذا طالعته وفهمت ما فيه، طلقت، وإن لم
تتلفظ بشئ. فلو قرأه غيرها عليها، فهل يقع الطلاق لأن المقصود اطلاعها، أم لا
لعدم قراءتها مع الامكان؟ وجهان. أصحهما: الثاني، وبه قطع البغوي.
وإن كانت لا تحسن القراءة، طلقت إذا قرأه عليها شخص على الصحيح.
وقيل: لا تطلق أصلا. ولو كان الزوج لا يعلم، أهي قارئة أم لا، فيجوز أن ينعقد
التعليق على قراءتها بنفسها، نظرا إلى حقيقته، ويجوز أن ينعقد على الفهم
والاطلاع، لأنه القدر المشترك بين الناس، والأول أقرب. أما إذا كتب: إذا أتاك
كتابي، أو بلغك، أو وصل إليك كتابي فأنت طالق، فلا يقع الطلاق قبل أن يأتيها
فإن انمحى جميع المكتوب، فبلغها القرطاس بحيث لا يمكن قراءته، لم تطلق كما
لو ضاع. وقيل: تطلق، إذ يقال: أتى كتابه وقد انمحى، والصحيح الأول. وإن
بقي أثر، وأمكنت قراءته، طلقت، كما لو وصل بحاله، وإن وصلها بعض الكتاب
دون بعضه، فخرم الكتاب أربعة أقسام.
أحدها: موضع الطلاق، فإن كان هو الضائع، أو انمحى ما فيه، فثلاثة
أوجه. أصحها: لا تطلق، والثاني: تطلق، والثالث: إن قال: إذا جاءك كتابي،
42

وقع وإن قال: إذا جاءك كتابي هذا أو الكتاب، فلا.
الثاني: موضع سائر مقاصد الكتاب، ومنه ما يعتذر به عن الطلاق ويوبخها
عليه من الأفعال الملجئة إلى الطلاق، فإن كان الخلل فيه بالتخرق والانمحاء،
وبقي موضع الطلاق وغيره، ففيه الأوجه الثلاثة، والوقوع هنا أولى، وبه قال أبو
إسحاق، لوصول المقصود، ويحسن الاعتماد على الوجه الثالث في الصورتين.
الثالث: موضع السوابق واللواحق، كالتسمية، وصدر الكتاب، والحمد والصلاة.
فإذا كان الخلل فيه والمقاصد باقية، ففيه الأوجه، لكن الأصح هنا،
الوقوع. قال الامام: وكنت أود أن يفرق في هذه الصور الثلاث بين أن يبقى معظم
الكتاب، أم يختل؟ فإن للمعظم أثرا في بقاء الاسم وعدمه.
قلت: هذا الذي أشار إليه الامام، هو وجه ذكره في المستظهري لكنه لم
يطرده فيما إذا انمحى موضع الطلاق، لم يقع عنده. وعند سائر العراقيين قطعا،
ولفظه: وقيل: إن وجد أكثر الكتاب، طلقت. والله أعلم.
الرابع: البياض في أول الكتاب وآخره. المذهب: أنه لا عبرة. بزواله
وقيل: يطرد الخلاف.
أما إذا كتب: إذا بلغك كتابي فأنت طالق، فإن بلغ موضع الطلاق وقع بلا
تفصيل ولا خلاف، وإن بلغ ما سواه وبطل موضع الطلاق، لم تطلق.
فرع كتب: إذا بلغك كتابي، فأنت طالق، وكتب أيضا: إذا وصل إليك
طلاقي فأنت طالق فبلغها، وقعت طلقتان للصفتين.
ولو كان التعليق بقراءتها، فقرأت بعضه دون بعض، فعلى ما ذكرناه في
وصول بعضه دون بعض.
فرع كتب كتابه ونوى، فككتب الصريح.
ولو أمر الزوج أجنبيا، فكتب ونوى الزوج، لم تطلق كما لو قال للأجنبي: قل
لزوجتي: أنت بائن ونوى الزوج، لا تطلق.
فرع كتب: إذا بلغك نصف كتابي هذا فأنت طالق، فبلغها كله، فهل يقع
43

لاشتمال الكل على النصف، أم لا لأن النصف في مثل هذا يراد به المنفرد؟
وجهان. قلت: الأصح الوقوع. والله أعلم.
فرع الكتب على الكاغد، والرق، واللوح، والنقر في الحجر والخشب، سواء
في الحكم، ولا عبرة برسم الحروف على الماء والهواء، لأنها لا تثبت. قال
الامام: ولا يمتنع أن يلحق هذا بالإشارة المفهمة، ولك أن تمنعه، لأن هذا إشارة
إلى الحروف لا إلى معنى الطلاق وهو الابعاد.
قلت: ولو خط على الأرض وأفهم، فكالخط على الورق، ذكره الامام
والمتولي وغيرهما، وقد سبق في كتاب البيع. والله أعلم.
فرع قالت: أتاني كتاب الطلاق، فأنكر أنه كتبه، أو أنه نوى، صدق،
فلو شهد شهود أنه خطه، لم تطلق بمجرد ذلك، بل يحتاج مع ذلك إلى إثبات قراءته
أو نيته.
فرع كتب: أنت طالق ثم استمد فكتب: إذا أتاك كتابي، فإن احتاج إلى
الاستمداد، لم تطلق حتى يبلغها الكتاب، وإلا طلقت في الحال. فرع حرك لسانه بكلمة الطلاق، ولم يرفع صوته قدرا يسمع نفسه. قال
المتولي: حكى الزجاجي، أن المزني نقل فيه قولين. أحدهما: تطلق، لأنه أقوى
من الكتب مع النية. والثاني: لا لأنه ليس بكلام، ولهذا يشترط في قراءة الصلاة أن
يسمع نفسه.
قلت: الأظهر: الثاني، لأنه في حكم النية المجردة، بخلاف الكتب، فإن
المعتمد في وقوع الطلاق به حصول الافهام ولم يحصل هنا. والله أعلم.
الطرف الثالث في التفويض: يجوز أن يفوض إلى زوجته طلاق نفسها،
44

فإذا فوض فقال: طلقي نفسك إن شئت، فهل هو تمليك للطلاق، أم توكيل به؟
قولان. أظهرهما: تمليك وهو الجديد، فعلى هذا، تطليقها يتضمن
القبول، ولا يجوز لها تأخيره، فلو أخرت بقدر ما ينقطع القبول عن الايجاب ثم
طلقت، لم يقع.
وقال ابن القاص وغيره: لا يضر التأخير ما داما في المجلس، وقال ابن
المنذر: لها أن تطلق متى شاءت، ولا يختص بالمجلس، والصحيح الأول، وبه
قال الأكثرون. ولو قال: طلقي نفسك بألف، أو على ألف إن شئت فطلقت، وقع
بائنا، وهذا تمليك بعوض. وإذا لم يجر عوض، فهو كالهبة. قال القفال: ولو
قال: طلقي نفسك، فقالت: كيف يكون تطليقي لنفسي، ثم قال: طلقت، وقع
الطلاق ولم يكن هذا القدر قاطعا، وهذا تفريع على أن الكلام اليسير لا يضر
تخلله.
أما إذا قلنا: التفويض توكيل، ففي اشتراط قبولها الخلاف المذكور في
سائر الوكالات، ويجئ الوجه الفارق بين صيغة الامر بأن يقول: طلقي نفسك.
وصيغة العقد، كقوله: وكلتك في طلاق نفسك. وهل يجوز تأخير التطليق على هذا
القول؟ وجهان. أصحهما: نعم، فتطلق متى شاءت كتوكيل الأجنبي. والثاني وبه
قال القاضي حسين البغوي: لا، وطرده القاضي فيما لو قال: وكلتك في طلاق
نفسك.
أما إذا قال: طلقي نفسك متى شئت، فيجوز التأخير قطعا، وللزوج أن يرجع
فيه قبل أن تطلق نفسها إن جعلناه توكيلا، وكذا إن جعلناه تمليكا على الصحيح،
ومنعه ابن خيران.
ولو قال: إذا جاء رأس الشهر، فطلقي نفسك، فإن قلنا: تمليك، لغا،
وليس لها التطليق إذا جاء رأس الشهر.. وإن قلنا: توكيل، جاز كتوكيل،
45

الأجنبي. وعلى هذا لو قال: إذا جاء رأس الشهر، فطلقي نفسك، إن ضمنت
لي ألفا، أو قال: طلقي نفسك ان ضمنت لي ألفا بعد شهر، فإذا طلقت نفسها على
ألف بعد مضي الشهر، طلقت ولزمها الألف.
قال إسماعيل البوشنجي: لو قال لأجنبي: إذا جاء رأس الشهر، فأمر امرأتي
بيدك، فإن كان قصده بذلك إطلاق الطلاق له بعد انقضاء الشهر، فله التطليق بعد
أي وقت شاء، إلا أن يطرأ منع، وإن أراد تقييد الامر برأس الشهر، تقيد الطلاق
به، وليس له التطليق بعده، ولو قال: إذا مضى هذا الشهر فأمرها بيدك، فمقتضاه
إطلاق الاذن بعده، فيطلقها بعده متى شاء ولو قال: أمرها بيدك إلى شهر أو
شهرا، فله أن يطلقها إلى شهر، وليس له تطليقها بعده.
هذه الأحكام في حق الزوجة، كهي في حق الأجنبي إذا جعلنا التفويض إليها
توكيلا.
فرع قال: طلقي نفسك، فقالت: طلقت نفسي أو أنا طالق إذا قدم
زيد، لم يقع الطلاق إذا قدم، لأنه لم يملكها التعليق، وكذا حكم الأجنبي، وفيها
وجه حكاه الحناطي.
ولو قال لها: علقي طلاقك، ففعلت، أو قاله لأجنبي، ففعل، لم يصح،
لأن تعليق الطلاق يجري مجرى الايمان، فلا يدخله نيابة، وقيل: يصح، وقيل:
إن علق على صفة توجد لا محالة، كطلوع الشمس، ورأس الشهر، صح لأن مثل
هذا التعليق ليس بيمين، وإن كانت محتملة الوجود كدخول الدار، لم يصح، لأنه
يمين، والصحيح هو الأول، وبه قطع البغوي.
فرع تفويض الاعتاق إلى العبد، كتفويض التطليق إلى الزوجة في
الأحكام المذكورة.
فصل كما يجوز التفويض بصريح الطلاق، ويعتد من المفوض إليها
بالصريح، كذلك يجوز التفويض بالكنايات مع النية، ويعتد منها بالكناية مع النية،
ولا يشترط توافق لفظيهما، إلا أن يقيد التفويض.
فإذا قال: أبيني نفسك، أو بتي، فقالت: أبنت، أو بتت، ونويا، طلقت.
46

وإن لم ينو أحدهما، لم تطلق.
ولو قال: طلقي نفسك، فقالت: أبنت نفسي، أو أنا خلية أو برية، ونوت،
طلقت على الصحيح. وقال ابن خيران، وأبو عبيد بن خربويه: لا تطلق. ولو
قال: طلقي نفسك، فقالت للزوج: طلقتك، ففيه هذا الخلاف، ويجري الخلاف
في عكسه بأن يقول: أبيني نفسك، أو فوضت إليك أمرك، أو ملكتك نفسك، أو
أمرك بيدك وينوي، فتقول: طلقت نفسي، قال القاضي حسين وغيره: ويجري
فيما لو قال لأجنبي: طلقها، فقال: أبنتها، ونوى، أو قال: أبنها ونوى، فقال:
طلقتها.
ولو قال لها: أبيني نفسك ونوى، فقالت: أنا خلية ونوت، فإن قلنا
بالصحيح، طلقت، وعلى قول ابن خيران، وجهان. أصحهما: تطلق، لان
الاعتماد هنا على النية، واللفظ غير مستقل، بخلاف اختلاف الصريح والكناية.
ولو قال: طلقي نفسك بصريح الطلاق، أو قال: بكناية الطلاق، فعدل عن
المأذون فيه إلى غيره، لم تطلق بلا خلاف. ولو قال: طلقي نفسك، فقالت:
سرحت نفسي، طلقت بلا خلاف لاشتراكهما في الصراحة.
فرع قال لها: اختاري نفسك ونوى تفويض الطلاق، فقالت: اخترت نفسي، أو
اخترت ونوت، وقعت طلقة. ولو قال: اختاري ولم يقل: نفسك، ونوى تفويض
الطلاق، فقالت: اخترت، ففي التهذيب أنه لا يقع الطلاق حتى تقول: اخترت
نفسي، وأشعر كلامه بأنه لا يقع وإن نوت، لأنه ليس في كلامه ولا كلامها ما يشعر
بالفراق، بخلاف قوله: اختاري نفسك، فإنه يشعر، فانصرف كلامها إليه وقال
إسماعيل البوشنجي: إذا قالت: اخترت، ثم قالت بعد ذلك: أردت: اخترت
نفسي وكذبها الزوج، فالقول قولها، ويقع الطلاق.
ولو قالت: اخترت نفسي ونوت، وقعت طلقة، وتكون رجعية إن كانت محلا
للرجعة. ولو قالت: اخترت زوجي أو النكاح لم تطلق.
ولو قالت: اخترت الأزواج، أو اخترت أبوي، أو أخي، أو عمي، طلقت على
الأصح سواء قال: اختاري نفسك أو اختاري فقط.
فرع متى كان التفويض وتطليقها أو أحدهما بكناية فتنازعا في النية، فالقول قول
47

الناوي، سواء أثبتها أم نفاها. وقال الإصطخري: إذا ادعت أنها نوت فأنكر صدق،
لأن الأصل بقاء النكاح، والصحيح الأول، لأن النية لا تعرف إلا من الناوي.
ولو اختلفا في أصل التخيير، فأنكره الزوج، أو قال: خيرتك فلم تختاري في
وقت الاختيار، وقالت: اخترت، فالقول قوله للأصل.
قال ابن كج: ولو جعل أمرها إلى وكيل، فقال لها الوكيل: أمرك بيدك وزعم
أنه نوى الطلاق، وصدقته المرأة، وكذبه الزوج، فالقول قول الوكيل على
الصحيح، لأنه أمينه. وقيل: القول قول الزوج للأصل.
ولو توافق الزوجان على تكذيبه، لم يقبل قول الوكيل. فرع القول في اشتراط الفور في قبولها إذا فوض بكناية، على ما ذكرناه إذا فوض
بصريح.
فرع قال: اختاري من ثلاث طلقات ما شئت، أو طلقي نفسك من ثلاث
ما شئت، فلها أن تطلق نفسها واحدة أو اثنتين، ولا تملك الثلاث.
فرع خير صبية، فاختارت، لم تطلق.
فرع قال المتولي: لو قال ثلاث مرات: اختاري وقال: أردت واحدة،
لم يقع إلا واحدة.
فرع ذكر إسماعيل البوشنجي أنه إذا قال: اختاري نفسك، أو طلقي
نفسك، فقالت: أختار أو أطلق، فمطلقة للاستقبال، فلا يقع في الحال شئ.
فإن قال: أردت الانشاء، وقع في الحال.
قلت: هذا كما قال، ولا يخالف هذا قول النحويين، أن الفعل المضارع إذا
تجرد، فالحال أولى به، لأنه ليس صريحا في الحال، وعارضه أصل بقاء النكاح.
والله أعلم.
فرع ذكر إسماعيل البوشنجي أنه لو خيرها وهي لا تعلم، فاختارت اتفاقا، خرج
48

على الخلاف فيما لو باع مال أبيه على أنه حي فكان ميتا، والطلاق أولى بالنفوذ.
وأنه لو قال لرجل: أمر امرأتي بيد الله تعالى وبيدك، يسأل، فإن قال: أردت
أنه لا يستقل بالطلاق، قبل قوله ولم يكن له أن يطلق، وإن قال: أردت أن الأمور
كلها بيد الله تعالى، والذي أثبته الله لي جعلته في يدك، قبل واستقل ذلك الرجل.
وأنه لو قال: كل أمر لي عليك قد جعلته بيدك، فعندي أن هذا ليس بتفويض
صريح، وأنه ليس لها أن تطلق نفسها ثلاثا ما لم ينو هو الثلاث. وأنه لو قال لها:
اختاري اليوم وغدا وبعد غد، فالمضاف إلى الزمن المستقبل ينبغي أن يكون على
الخلاف، في أن التفويض عليك أم توكيل؟ إن قلنا: تمليك، لم يحتمل التراخي
كالبيع، وإلا فهو كتوكيله بالبيع اليوم وغدا وبعد غد، فعلى هذا، له الرد في بعض
الأيام دون بعض.
فصل قال: طلقي نفسك ونوى الثلاث، فقالت: طلقت نفسي ونوت الثلاث،
وقع الثلاث. وإن لم تنو هي العدد، فهل يقع واحدة أم الثلاث؟ وجهان.
أصحهما: واحدة. ولو قال: طلقي نفسك ثلاثا، فقالت: طلقت أو طلقت نفسي
ولم تلفظ بالعدد ولا نوته، وقع الثلاث، لأن قولها هنا جواب لكلامه، فهو كالمعاد
في الجواب، بخلاف ما إذا لم يتلفظ هو بالثلاث ونوتها، لأن المنوي لا يمكن تقدير
عوده في الجواب، فإن التخاطب باللفظ لا بالنية. وفيه احتمال للامام، أنه لا يقع
إلا واحدة. ولو فوض بكناية ونوى عددا وطلقت هي بالكناية ونوت العدد، وقع ما
نوياه.
فلو نوى أحدهما عددا، والآخر عددا آخر، وقع الأقل. ولو قال: طلقي نفسك
ثلاثا، فطلقت واحدة أو ثنتين، وقع ما أوقعته. ثم إن أوقعت واحدة فراجعها في
الحال. قال البغوي في الفتاوى: لها أن تطلق ثانية وثالثة، لأنه لا فرق بين أن تطلق
الثلاث دفعة، وبين قولها: طلقت نفسي واحدة وواحدة وواحدة، فلا يقدح تخلل الرجعة
بين الطلقتين. ولو قال: طلقي واحدة، فقالت: طلقت ثلاثا أو ثنتين،
وقعت واحدة، والحكم في الطرفين في توكيل الأجنبي كما ذكرنا.
قلت: وحكى صاحب المهذب وغيره وجها في الوكيل: إذا زاد أو نقص،
لا يقع شئ لأنه متصرف بالاذن ولم يؤذن في هذا. والله أعلم.
49

ولو قال: طلقي نفسك ثلاثا إن شئت، فطلقت واحدة، أو قال: واحدة إن
شئت، فطلقت ثلاثا، وقعت واحدة كما لو لم يقل: إن شئت. ولو قدم ذكر المشيئة
على العدد فقال: طلقي نفسك إن شئت ثلاثا، فطلقت واحدة، أو قال: طلقي إن
شئت واحدة، فطلقت ثلاثا. قال صاحب التلخيص وسائر الأصحاب: لا يقع،
لأن مشيئة ذلك العدد صارت شرطا في أصل الطلاق، وبالله التوفيق.
الركن الثالث: القصد إلى الطلاق: فيشترط أن يكون قاصدا لحروف الطلاق
بمعنى الطلاق، ولا يكفي القصد إلى حروف الطلاق من غير قصد معناه، ويختل
القصد بثلاثة أسباب.
الأول: أن لا يقصد اللفظ، كالنائم تجري كلمة الطلاق على لسانه. ولو
استيقظ نائم، وقد جرى على لسانه لفظ الطلاق فقال: أجزت ذلك الطلاق أو
أوقعته، فهو لغو.
فرع من سبق لسانه إلى لفظ الطلاق في محاورته، وكان يريد أن يتكلم بكلمة
أخرى، لم يقع طلاقه، لكن لا تقبل دعواه سبق اللسان في الظاهر إلا إذا وجدت
قرينة تدل عليه. فإذا قال: طلقتك، ثم قال: سبق لساني وإنما أردت:
طلبتك، فنص الشافعي رحمه الله تعالى، أنه لا يسع امرأته أن تقبل منه. وحكى
الروياني عن صاحب الحاوي وغيره: أن هذا فيما إذا كان الزوج متهما. فأما إن
ظنت صدقه بأمارة، فلها أن تقبل قوله ولا تخاصمه. وأن من سمع ذلك منه إذا عرف
الحال، يجوز أن يقبل قوله ولا يشهد عليه. قال الروياني: وهذا هو الاختيار. ولو
كانت زوجته تسمى طالقا، وعبده يسمى حرا، فقال لها: يا طالق، وله: يا
حر، فإن قصد النداء، فلا طلاق ولا عتق. وإن قصد الطلاق والعتق، حصلا.
وإن أطلق ولم ينو شيئا، فعلى أيهما يحمل؟ وجهان. أصحهما: على النداء وبه
50

قطع البغوي. ولو كان حروف اسم امرأته تقارب حروف طالق، كطالع وطالب،
وطارق، فقال: يا طالق، ثم قال: أردت أن أقول: يا طارق، أو يا طالع فالتف
الحرف بلساني، قبل قوله في الظاهر لظهور القرينة.
ومن صور سبق اللسان، ما إذا طهرت من الحيض أو ظن طهرها، فأراد أن
يقول: أنت الآن طاهرة، فسبق لسانه، فقال: أنت الآن طالقة.
فرع المبرسم والمغمى عليه كالنائم.
فرع الحاكي لطلاق غيره، كقوله: قال فلان: زوجتي طالق. والفقيه إذا
كرر لفظ الطلاق في تصويره وتدريسه وتكراره، لا طلاق عليه.
فرع قال: أنت طالق عن العمل. قال البوشنجي: لا يقع الطلاق لا
ظاهرا ولا باطنا.
فصل الطلاق والعتق ينفذان من الهازل ظاهرا وباطنا، فلا تديين
فيهما، وينفذ أيضا النكاح والبيع وسائر التصرفات مع الهزل على الأصح.
وصورة الهزل أن يلاعبها بالطلاق بأن تقول في معرض الدلال والاستهزاء:
طلقني، فقال: طلقتك، فتطلق، لأنه خاطبها قاصدا مختارا، ولم يصرف اللفظ
إلى تأويل، فلم تدين، بخلاف من قال: أردت طالق من وثاق.
فصل خاطب زوجته بالطلاق في ظلمة أو حجاب ونحوهما وهو يظنها
أجنبية، تطلق عند الأصحاب، وفيه احتمال للامام.
وحكى الغزالي في البسيط أن بعض الوعاظ طلب من الحاضرين شيئا فلم
51

يعطوه، فقال متضجرا منهم: طلقتكم ثلاثا، وكانت زوجته فيهم وهو لا يعلم،
فأفتى إمام الحرمين بوقوع الطلاق. قال: وفي القلب منه شئ.
ولك أن تقول: ينبغي أن لا تطلق، لأن قوله: طلقتكم لفظ عام وهو يقبل
الاستثناء بالنية، كما لو حلف لا يسلم على زيد، فسلم على قوم هو فيهم واستثناه
بقلبه، لم يحنث. وإذا لم يعلم أن زوجته في القوم، كان مقصوده غيرها.
قلت: هذا الذي قاله إمام الحرمين والرافعي، كلاهما عجب منهما، أما
العجب من الرافعي، فلان هذه المسألة ليست كمسألة السلام على زيد، لأنه هناك
علم به واستثناه، وهنا لم يعلم بها ولم يستثنها، واللفظ يقتضي الجميع إلا ما
52

أخرجه ولم يخرجها. وأما العجب من الامام، فلأنه تقدم في أول الركن أنه يشترط
قصد لفظ الطلاق بمعنى الطلاق، ولا يكفي قصد لفظه من غير قصد معناه، ومعلوم
أن هذا الواعظ لم يقصد معنى الطلاق، وأيضا فقد علم أن مذهب أصحابنا أو
جمهورهم، أن النساء لا يدخلن في خطاب الرجال إلا بدليل. وقوله: طلقتكم
خطاب رجال، فلا تدخل امرأته فيه بغير دليل، فينبغي أن لا تطلق لما ذكرته، لا لما
ذكره الرافعي، فهذا ما تقتضيه الأدلة. والله أعلم.
فرع نسي أن له زوجة، أو زوجه أبوه في صغره، أو وكيله في كبره وهو لا يدري
فقال: زوجتي طالق، أو خاطبها بالطلاق، طلقت، نص عليه الشافعي رحمة الله عليه.
وهذا في الظاهر. وفي نفوذه باطنا وجهان بناهما المتولي على الابراء عن المجهول.
إن قلنا: لا يصح، لم تطلق باطنا.
فرع إذا لقن كلمة الطلاق بلغة لا يعرفها، فقالها وهو لا يعرفها، لم يقع طلاقه.
قال المتولي: هذا إذا لم يكن له مع أهل ذلك اللسان اختلاط. فإن كان لم يصدق
في الحكم ويدين باطنا. وإذا لم يقع الطلاق فقال: أردت بهذه اللفظة معناها
بالعربية، لم يقع على الأصح.
ولو قال: لم أعلم أن معناها قطع النكاح، ولكن نويت بها الطلاق، وقصدت
قطع النكاح، لم يقع الطلاق، كما لو خاطبها بكلمة لا معنى لها، وقال: أردت
الطلاق.
السبب الثاني: الاكراه. التصرفات القولية المحمول عليها بالاكراه بغير حق،
باطلة سواء الردة والبيع، وسائر المعاملات والنكاح، والطلاق والاعتاق وغيرها،
وأما ما حمل عليه بحق، فهو صحيح، فيحصل من هذا أن إسلام المرتد
53

والحربي مع الاكراه، صحيح، لأنه بحق، ولا يصح إسلام الذمي مكرها على
الأصح، والمؤلي بعد مضي المدة إذا أطلق بإكراه القاضي، نفذ لأنه بحق، أو لأنه
ليس بحقيقة إكراه، فإنه لا يتعين الطلاق. قال المتولي: هذا في الطلقة الواحدة،
وأما إذا أكرهه الامام على ثلاث طلقات فتلفظ بها، فإن قلنا: لا ينعزل بالفسق،
وقعت واحدة ولغت الزيادة. وإن قلنا: ينعزل، لم يقع شئ كما لو أكرهه غيره،
وثبت التحريم بالرضاع مع الاكراه، وفي امتناع القصاص وحد الزنا في حق الرجل
بالاكراه خلاف في موضعه.
فصل إنما يندفع الطلاق بالاكراه، إذا لم يظهر ما يدل على اختياره. فإن ظهر بأن
خالف المكره، وأتى بغير ما حمله عليه، حكم بوقوع الطلاق، ولذلك صور منها أن
يكرهه على طلقة فيطلق ثلاثا، أو على ثلاث، فيطلق واحدة، أو على طلاق
زوجتين، فيطلق إحداهما، أو على أن يطلق بصريح، فطلق بكناية أو بصريح
آخر، أو بالعكس، أو على تنجيز الطلاق فعلقه، أو بالعكس، فلا عبرة بالاكراه في
كل هذه الصور، ويقع ما أتى به.
ولو أكرهه على طلاق إحدى زوجتيه، فطلق واحدة بعينها، وقع على المذهب
لأنه مختار في تعيينها وحكى المتولي فيه خلافا، ولو أكرهه على طلاق زوجة فطلق
زوجتين، نظر إن قال له: طلق زوجتك حفصة، فقال لها ولضرتها عمرة:
طلقتكما، طلقتا، لأنه عدل عن كلمة الاكراه. وإن قال: طلقت حفصة وعمرة،
أو: وطلقت عمرة، أو حفصة طالق وعمرة طالق، طلقت عمرة ولم تطلق حفصة،
هكذا فصله البغوي والمتولي وغيرهما، ولم يفصل الامام بين العبارتين، بل أطلق
عن الأصحاب الحكم بوقوع الطلاق على الضرتين. قال: وفيه احتمال، إذ لا يبعد
أن يكون مختارا في طلاق عمرة.
فرع الاكراه على تعليق الطلاق، يمنع انعقاده، كما يمنع نفوذ التنجيز.
54

فرع إن ورى المكره بأن قال: أردت بقولي: طلقت فاطمة غير زوجتي، أو نوى
الطلاق من وثاق، أو قال في نفسه: إن شاء الله تعالى، لم يقع الطلاق. وإذا ادعى
التورية، صدق ظاهرا في كل ما كان يدين فيه عند الطواعية.
وإن ترك التورية، نظر إن كان غبيا لا يحسن التورية، لم يقع طلاقه أيضا،
وإن كان عالما وأصابته دهشة بالاكراه وسل السيف، فكذلك. وإن لم تصبه دهشة،
فوجهان. أحدهما: يقع طلاقه، وهو اختيار القفال والغزالي، لاشعاره بالاختيار،
وأصحهما: لا، لأنه مجبر على اللفظ. ولا نية تشعر بالاختيار.
ولو قصد المكره إيقاع الطلاق، فوجهان. أحدهما: لا يقع، لأن اللفظ
ساقط بالاكراه، والنية لا تعمل وحدها. وأصحهما: يقع لقصده بلفظه. وعلى
هذا، فصريح لفظ الطلاق عند الاكراه، كناية، إن نوى وقع، وإلا فلا.
فرع قال: طلق زوجتي وإلا قتلتك، فطلقها وقع على الصحيح، لأنه
أبلغ في الاذن، وقيل: لا يقع لسقوط حكم اللفظ بالاكراه. كما لو قال لمجنون:
طلقها فطلق.
فرع الوكيل في الطلاق إذا أكره على الطلاق. قال أبو العباس الروياني:
يحتمل أن يقال: يقع لحصول اختيار المالك، ويحتمل أن لا يقع، لأنه المباشر.
قال: وهذا أصح.
فصل في بيان الاكراه يشترط فيه كون المكره غالبا قادرا على تحقيق ما هدده به،
بولاية، أو تغلب، وفرط هجوم، وكون المكره مغلوبا عاجزا عن الدفع بفرار أو
مقاومة، أو استعانة بغيره، ويشترط أن يغلب على ظنه أنه إن امتنع مما أكرهه عليه،
أوقع به المكروه. وقال أبو إسحاق المروزي: لا إكراه إلا بأن ينال بالضرب.
والصحيح الذي قطع به الجمهور، عدم اشتراط تنجيز الضرب وغيره بل يكفي
التوعد.
وفيما يكون التخويف به إكراها، سبعة أوجه.
أحدها: القتل فقط. حكاه الحناطي والامام.
55

والثاني: القتل، أو قطع طرف، أو ضرب يخاف منه الهلاك، قاله أبو
إسحاق.
والثالث: قاله ابن أبي هريرة وكثيرون: أنه يلحق بما سبق أيضا الضرب
الشديد، والحبس، وأخذ المال، وإتلافه، وبهذا قال أبو علي في الافصاح
وزاد عليه فقال: لو توعده بنوع استخفاف، وكان الرجل وجيها يغض ذلك منه، فهو
إكراه. قال هؤلاء: فالضرب والحبس والاستخفاف، يختلف باختلاف طبقات
الناس وأحوالهم. والتخويف بالقتل والقطع وأخذ المال، لا يختلف. وقال
الماسرجسي: يختلف بأخذ المال، فلا يكون تخويف الموسر بأخذ خمسة دراهم
منه إكراها قال الروياني: هذا هو الاختيار، فهذه الأوجه هي الموجودة للمتقدمين
من العراقيين وغيرهم. وأصحها: الثالث، وصححه الشيخ أبو حامد وابن الصباغ
وغيرهما.
والرابع: أن الاكراه لا يحصل إلا إذا خوفه بما يسلب الاختيار، ويجعله
كالهارب من الأسد الذي يتخطى النار والشوك، ولا يبالي، فعلى هذا الحبس ليس
بإكراه. وكذا التخويف بالايلام الشديد. قال الامام: لكن لو فوتح به، احتمل
جعله إكراها.
والخامس: لا يشترط سقوط الاختيار، بل إذا أكرهه على فعل يؤثر العاقل
الاقدام عليه حذرا مما تهدده به، حصل الاكراه. فعلى هذا، ينظر فيما طلبه منه وما
هدده به، فقد يكون الشئ إكراها في مطلوب دون مطلوب، وفي شخص دون
شخص. فإن كان الاكراه على الطلاق، حصل بالقطع وبالتخويف بالحبس
الطويل، وبتخويف ذوي المروءة بالصفع في الملا، وتسويد الوجه والطوف به في
السوق. وقيل: لا يكون التخويف بالحبس وما بعده إكراها، وطرد هذا الخلاف في
التخويف بقتل الولد والوالد، والصحيح في الجميع، أنه إكراه. والأصح أن
التخويف بإتلاف المال ليس إكراها على هذا الوجه، وإن كان الاكراه على قتل
فالتخويف بالحبس، وقتل الولد، وإتلاف المال ليس إكراها. وإن كان الاكراه على
56

إتلاف مال، فالتخويف بجميع ذلك إكراها. وقيل: لا يكون التخويف بإتلاف المال
إكراه في إتلاف المال.
الوجه السادس: أن الاكراه إنما يحصل بالتخويف بعقوبة تتعلق ببدن
المكره، بحيث لو حققها تعلق به قصاص، فيخرج عنه ما لا يتعلق ببدنه، كأخذ
المال وقتل الوالد والولد، والزوجة، والضرب الخفيف، والحبس المؤبد، إلا أن
يخوفه بحبس في قعر بئر يغلب منه الموت. واختار القاضي حسين هذا.
الوجه السابع: لا يحصل الاكراه إلا بعقوبة شديدة تتعلق ببدنه، فيدخل فيه
القتل والقطع، والضرب الشديد، والتجويع والتعطيش، والحبس الطويل، ويخرج
ما خرج عن الوجه السادس، ويخرج عنه التخويف بالاستخفاف بإلقاء العمامة
والصفع، وما يخل بالجاه. واستبعد الامام من هذا الوجه، دخول الحبس وخروج
قتل الولد، وأما التخويف بالنفي عن البلد، فإن كان فيه تفريق بينه وبين أهله،
فكالحبس الدائم، وإلا فوجهان. أصحهما: إكراه، لأن مفارقة الوطن شديدة،
ولهذا جعلت عقوبة للزاني، وجعل البغوي التخويف باللواط، كالتخويف بإتلاف
المال، وتسويد الوجه. وقال: لا يكون ذلك إكراها على القتل والقطع. وفي كونه
إكراها في الطلاق والعتاق وإتلاف المال، وجهان.
قلت: الأصح من هذا الخلاف المنتشر، هو الوجه الخامس، لكن في بعض
تفصيله المذكور نظر. فالاختيار أن يقال: الاكراه. والله أعلم.
فرع لا يحصل الاكراه بالتخويف بعقوبة أجلة كقوله: لأقتلنك غدا، ولا
بأن يقول: طلق امرأتك وإلا قتلت نفسي، أو كفرت، أو أبطلت صومي أو
صلاتي.
ولا بأن يقول مستحق القصاص: طلق امرأتك، وإلا اقتصصت منك.
فرع لو أخذه السلطان الظالم بسبب غيره وطالبه به فقال: لا أعرف موضعه، أو
طالبه بماله فقال: لا شئ له عندي، فلم يخله حتى يحلف بالطلاق فحلف به
كاذبا، وقع طلاقه ذكره القفال وغيره، لأنه لم يكرهه على الطلاق، وإنما توصل
بالحلف إلى ترك المطالبة، بخلاف ما إذا قال له اللصوص: لا نخليك حتى تحلف
أن لا تذكر ما جرى، فحلف، لا يقع طلاقه إذا ذكره، لأنهم أكرهوه على الحلف
بالطلاق هنا.
57

فرع تلفظ بطلاق ثم قال: كنت مكرها وأنكرت، لم يقبل قوله إلا أن
يكون محبوسا، أو كان هناك قرينة أخرى.
ولو قال: طلقت وأنا صبي، أو نائم، فقال أبو العباس الروياني: يصدق
بيمينه.
قال: ولو طلق في المرض، وقال: كنت مغشيا علي، لم يقبل إلا ببينة على
أنه كان زائل العقل في ذلك الوقت.
قلت: هذا الذي قاله في النائم، فيه نظر. والله أعلم.
58

السبب الثالث: اختلال العقل: فمن طلق وهو زائل العقل بسبب غير متعد فيه،
كجنون أو إغماء، أو أوجر خمرا، أو أكره على شربها، أو لم يعلم أن المشروب من
جنس ما يسكر، أو شرب دواء يزيل العقل بقصد التداوي ونحو ذلك، لم يقع
طلاقه. ولو تعدى بشرب الخمر فسكر، أو بشرب دواء يجنن لغير غرض صحيح
فزال عقله فطلق، وقع طلاقه على المذهب المنصوص في كتب الشافعي رحمه
الله. وحكي قول قديم، فأثبته الأكثرون، ومنعه الشيخ أبو حامد. وممن قال: لا
يقع: المزني، وابن سريج، وأبو سهل الصعلوكي، وابنه سهل، وأبو طاهر
الزيادي وقيل: لا يقع في شرب الدواء المذكور. وإن وقع في السكر.
واختلفوا في محل الخلاف، فالصحيح أن القولين جاريان في أقواله وأفعاله
كلها، ما له وما عليه. وقيل: إنهما في أقواله كلها، كالطلاق والعتاق، والاسلام
والردة، والبيع والشراء وغيرها.
وأما أفعاله، كالقتل والقطع وغيرهما، فكأفعال الصاحي قطعا لقوة الأفعال.
وقيل: هما في الطلاق والعتاق والجنايات، ولا يصح بيعه وشراؤه قطعا، لأن العلم
شرط في المعاملات. وقيل: هما فيما هو له كالنكاح والاسلام، أما ما عليه
كالطلاق والاقرار والضمان، أو له وعليه، كالبيع والإجارة، فيصح قطعا تغليظا
عليه.
فرع اختلفت العبارات في حد السكران، فعن الشافعي رحمه الله: أنه الذي
اختل كلامه المنظوم. وانكشف سره المكتوم. وعن المزني: أنه الذي لا يفرق بين
الأرض والسماء، وبين أمه وامرأته. وقيل: الذي يفصح بما كان يحتشم منه.
وقيل: الذي يتمايل في مشيته ويهذي في كلامه. وقيل: الذي لا يعلم ما يقول.
وعن ابن سريج وهو الأقرب: أن الرجوع فيه إلى العادة. فإذا انتهى تغيره إلى حاله
يقع عليه اسم السكر، فهو المراد بالسكران. ولم يرض الامام هذه العبارات.
قال: ولكن شارب الخمر تعتريه ثلاثة أحوال.
إحداها: هزة ونشاط يأخذه إذا دبت الخمرة فيه ولم تستول بعد عليه، ولا
يزول العقل في هذه الحالة، وربما احتد.
59

والثانية: نهاية السكر، وهو أن يصير طافحا، ويسقط كالمغشي عليه، لا
يتكلم ولا يكاد يتحرك.
والثالثة: حالة متوسطة بينهما. وهي أن تختلط أحواله، فلا تنتظم أقواله
وأفعاله، ويبقى تمييز وفهم كلام، فهذه الثالثة سكر. وفي نفود الطلاق فيها الخلاف
المذكور. وأما الحالة الأولى، فينفذ طلاقه فيها بلا خلاف، لبقاء العقل وانتظام
القصد والكلام. وأما الحالة الثانية، فالأصح عند الامام والغزالي، أنه لا ينفذ
طلاقه إذ لا قصد له، ولفظه كلفظ النائم، ومن الأصحاب من جعله على الخلاف،
لتعديه بالتسبب إلى هذه الحالة، وهذا أوفق لاطلاق الأكثرين.
الركن الرابع: المحل وهو المرأة. فإن أضاف إلى كلها فقال: طلقتك،
فذاك. وكذا لو قال: جسمك، أو جسدك، أو شخصك، أو نفسك، أو جثتك،
أو ذاتك طالق، طلقت.
ولو أضاف إلى بعضها شائعا، طلقت أيضا، سواء أبهم فقال: بعضك أو
جزءك طالق، أو نص على جزء معلوم كالنصف والربع، واحتجوا لذلك بالاجماع
وبالقياس على العتق، فقد ورد فيه من أعتق شقصا...
ولو أضاف إلى عوض معين، طلقت سواء كان عضوا باطنا كالكبد والقلب
والطحال، أو ظاهرا كاليد، سواء كان مما يفصل في الحياة كالشعر والظفر، أم لا
كالإصبع، والإصبع الزائدة كالأصلية. وحكى الحناطي قولا ضعيفا في الشعر، كما
لا ينقض الوضوء، ولا شك في اطراده في السن والظفر.
قلت: بينهما فرق ظاهر، فإن اتصال السن آكد من الشعر. وأما اشتراكهما
في نقض الوضوء وعدمه، فلعدم الاحساس، ولأنهما جزءان، فأشبها اليد. والله
أعلم.
وإن أضاف إلى فضلات البدن كالريق، والعرق، والمخاط، والبول، أو إلى
الأخلاط كالبلغم، والمرتين لم تطلق على الصحيح. وحكى الحناطي والامام
وجها: وإن أضاف إلى اللبن والمني، لم تطلق على الأصح، لأنهما متهيئان
للخروج كالبول.
60

ولو قال: جنينك طالق، لم تطلق على المذهب. ونقل الامام فيه الاتفاق،
وحكى أبو الفرج الزاز فيه وجهين، وأبعد منه وجهان حكاهما الحناطي في قوله:
الماء أو الطعام الذي في جوفك طالق.
ولو أضاف إلى الشحم، طلقت على الأصح، وإلى الدم، تطلق على
المذهب.
ولو أضاف إلى معنى قائم بالذات، كالسمن والحسن، والقبح والملاحة،
والسمع والبصر، والكلام والضحك، والبكاء والغم، والفرح، والحركة
والسكون، لم تطلق. وحكى الحناطي وجها في الحسن والحركة، والسكون
والسمع والبصر والكلام، وهذا شاذ ضعيف، ثم الوجه التسوية بينهما وبين سائر
الصفات. ولو قال: ظلك، أو طريقك، أو صحبتك، أو نفسك بفتح الفاء، أو
اسمك طالق، لم تطلق. قال المتولي: إلا أن يريد بالاسم ذاتها ووجودها،
فتطلق. ولو قال: روحك طالق، طلقت على المذهب. وحكى أبو الفرج الزاز فيه
خلافا مبنيا على أن الروح جسم أو عرض. ولو قال: حياتك طالق، فقال جماعة،
منهم الامام والغزالي: تطلق. وقال البغوي: إن أراد الروح، طلقت، وهذا فيه
إشعار بأنه (إن) أراد المعنى القائم بالحي، لا تطلق كسائر المعاني، وبهذا قطع أبو
الفرج الزاز، ويشبه أن يكون الأصح عدم الوقوع.
فرع إذا أضاف الطلاق إلى جزء أو عضو معين، ففي كيفية وقوع الطلاق وجهان.
أحدهما: يقع على المضاف إليه، ثم يسري إلى باقي البدن، كما يسري العتق.
والثاني: يجعل المضاف إليه عبارة عن الجملة، لأنه لا يتصور الطلاق في المضاف
إليه وحده، بخلاف العتق، ولأنه لو قال: أنت طالق نصف طلقة، جعل ذلك عبارة
61

عن طلقة. ولا يقال: يقع نصف طلقة ثم يسري، ويشبه أن يكون الأول هو
الأصح.
وتظهر فائدة الخلاف في صور.
منها: إذا قال: إن دخلت الدار فيمينك طالق، فقطعت يمينها، ثم دخلت،
إن قلنا بالثاني، طلقت، وإلا، فلا.
ولو قال لمن لا يمين لها: يمينك طالق، فطريقان. أحدهما: التخريج على
هذا الخلاف. وأصحهما: القطع بعدم الطلاق. وبه قال القاضي حسين،
والامام، لأنه وإن جعل البعض عبارة عن الكل، فلا بد من وجود المضاف إليه
لتنتظم الإضافة. فإذا لم يكن، لغت الإضافة، كما لو قال لها: لحيتك أو ذكرك
طالق. قال الامام: وهذا يجب أن يكون متفقا عليه.
ومنها: قال المتولي: القول بعدم الطلاق في قوله: حسنك أو بياضك طالق
مبني على القول بالسراية، لأنه لا يمكن وقوع الطلاق على الصفات.
أما إذا جعلنا البعض عبارة عن الجملة، فيجعل الصفة عبارة عن الموصوف.
قلت: هذا الذي قاله ضعيف، مخالف للدليل ولاطلاق الأصحاب. والله
أعلم.
ومنها: لو قال لامته: يدك أم ولدي، أو قال لطفل التقطه: يدك ابني، قال
المتولي: إن جعلنا البعض عبارة عن الجملة، كان إقرارا بالاستيلاد أو النسب، وإلا
فلا.
فرع لو أضاف العتق إلى يد عبده أو رأسه، ففيه الوجهان. وإن أضافه إلى جزء
شائع، قال الامام: المذهب تقدم السراية، لأن العبد يمكن تبعيض العتق فيه،
ووقوعه عليه بخلاف الطلاق. وقيل: فيه الوجهان، لأن إعتاقه بعض عبده غير
متصور.
62

: يتصور فيما إذا أعتق عبده المرهون وهو موسر بقيمة بعضه وقلنا
بالأظهر: إنه ينفذ، عتق الموسر. والله أعلم.
فرع لو أشار إلى عضو مبان، ووصفه بالطلاق، لم تطلق. ولو فصلت
أذنها ثم ألصقت فالتحمت، أو سقطت شعرة ثم ثبتت في موضع آخر ونمت،
فأضاف الطلاق إليها، لم تطلق المرأة على الأصح.
قلت: قوله: في موضع آخر اتبع فيه الغزالي وليس هو شرطا، فلو ثبتت في
موضعها، كان كذلك، ثم إن مسألة الشعرة قل أن توجد في غير الوسيط بخلاف
مسألة الاذن، فإنها مشهورة بالوجهين، لكن أنكر إمام الحرمين تصورها في العادة،
ولا امتناع في ذلك. والله أعلم.
فصل قال لزوجته: أنا منك طالق، ونوى إيقاع الطلاق عليها، طلقت. وإن لم
ينو إيقاعه عليها، فالصحيح الذي قطع به الجمهور: أنها لا تطلق، وقيل: تطلق
قاله أبو إسحاق، واختاره القاضي حسين. فعلى هذا، لا بد من نية أصل الطلاق
لأن اللفظ كناية لكونه أضيف إلى غير محله. وأما على الأول، فمتى نوى إيقاعه
63

عليها، كان ناويا أصل الطلاق.
ولو جرد القصد إلى تطليق نفسه ولم يقتصر على نية أصل الطلاق، فالمذهب
أنه لا يقع قطعا. وقيل: على الوجهين. ولو قال: أنا منك بائن، فلا بد من نية
أصل الطلاق. وفي نية الإضافة إليها، الوجهان. وإذا نواها، وقع، وهكذا حكم
سائر الكنايات، كقوله: أنا منك خلي أو بري.
ولو قال: استبرئ رحمي منك، أو أنا معتد منك، أو مستبرئ رحمي ونوى
تطليقها، لم تطلق على الأصح.
فرع قال لعبده: أنا منك حر، أو أعتقت نفسي منك ونوى إعتاق العبد،
لم يعتق على الأصح، بخلاف الزوجية، فإنها تشمل الجانبين، والرق مختص بالعبد.
فرع قال لزوجته: طلقي نفسك، فقالت: طلقتك أو أنت طالق، فهو
كقوله لها: أنا منك طالق، وكذا إذا قال لعبده: أعتق نفسك، فقال: أعتقتك أو
أنت حر، فهو كقول السيد: أنا منك حر.
الركن الخامس الولاية على المحل: فلو قال لمطلقته الرجعية في عدتها:
أنت طالق: طلقت.
والمختلعة لا يلحقها طلاقه، لا في عدتها ولا بعدها، ولو قال لأجنبية: إذا
نكحتك فأنت طالق، أو قال: كل امرأة أنكحها فهي طالق، فنكح، لم يقع الطلاق
على المذهب، وبه قطع الجمهور، وهو الموجود في كتب الشافعي رحمه الله
تعالى. وقيل: في الوقوع قولان، حكاهما الحناطي والسرخسي وغيرهما، وتعليق
العتق بالملك، كتعليق الطلاق بالنكاح بلا فرق. ولو قال: لله علي أن أعتق هذا
العبد وهو لأجنبي، فهو لغو. ولو قال: لله علي أن أعتقه إن ملكته، فوجهان لأنه
التزام في الذمة، لكن متعلق بملك غيره. وأجرى الوجهان في قوله: إذا ملكت عبد
فلان، فقد أوصيت به لزيد. ولو أرسل الوصية وهو لا يملك شيئا، صحت على
الصحيح كالنذر. وحكى الشيخ أبو علي وجها، أنها لا تصح.
64

فرع لو علق العبد الطلقة الثالثة إما مطلقا بأن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق
ثلاثا فعتق، ثم دخلت الدار، وإما مقيد بحالة ملك الثالثة بأن قال: إذا عتقت فأنت
طالق ثلاثا، ففي صحة تعليق الثالثة وجهان. أصحهما: الصحة وبه قطع البغوي،
ويحكم بموجبه لأنه يملك أصل النكاح، وهو يفيد الطلقات الثلاث بشرط الحرية،
وقد وجد كما أنه لا يملك في حال البدعة طلاق السنة، ويملك تعليقه. ويجري
الوجهان في قوله لامته: إذا ولدت فولدك حر وكانت حائلا عند التعليق. فإن كانت
حاملا حينئذ، عتق قطعا.
فصل علق طلاقها بصفة كدخول الدار، ثم أبانها قبل الدخول أو بعده بعوض أو
بالثلاث، ووجدت الصفة في حال البينونة ثم نكحها، ثم وجدت الصفة ثانيا، أو
ارتد قبل الدخول، ثم وجدت الصفة، ثم أسلم ونكحها، فوجدت الصفة ثانيا، لم
تطلق على المذهب وبه قطع الأصحاب. وقال الإصطخري: فيه قولان. كما لو لم
توجد الصفة حال البينونة، ولو علق عتق عبده بصفة، ثم أزال ملكه ثم وجدت
الصفة، ثم اشتراه، لم يؤثر وجود الصفة بعد ذلك على المذهب، هذا إذا لم يكن
التعليق بصيغة كلما فإن كان بها كقوله: كلما دخلت فأنت طالق: فإذا وجدت
الصفة في البينونة، ثم جدد نكاحها، ففي عود الصفة القولان.
أما إذا لم توجد الصفة حال البينونة، ثم وجدت بعدما جدد نكاحها، ففي
وقوع الطلاق ثلاثة أقوال. أظهرها: لا يقع. والثاني: يقع والثالث: إن كانت
البينونة بما دون الثلاث، وقع وإلا فلا. وتجري الأقوال في عود الايلاء والظهار.
فإذا قلنا بالأول وكانت الصفة مما لا يمكن إيقاعه في البينونة كقوله: إن وطئتك
فأنت طالق ثلاثا، تخلص منها إذا أبانها ثم نكحها، ولا يقع الطلاق بالوطئ في
النكاح الثاني، وبه أجاب القاضي الروياني، ويوضحه أنه لو قال: إذا بنت مني
ونكحتك، ودخلت الدار فأنت طالق، أو قال: إن دخلت الدار بعدما بنت مني
ونكحتك فأنت طالق، فالمذهب وبه قال القفال والمعتبرون: لا تطلق بالدخول بعد
البينونة، وغلطوا من خرجه على الخلاف، وعلى هذا القياس. فلو قال: إن دخلت
الدار قبل أن أبينك فأنت طالق، وإن دخلتها بعدما أبنتك ونكحتك، فأنت طالق،
صح التعليق الأول، وبطل الثاني. ولو علق على صفة ثم طلقها رجعية فراجعها،
65

ثم وجدت الصفة، طلقت بلا خلاف لأنه ليس نكاحا مجددا ولم تحدث حالة تمنع
وقوع الطلاق. ولو علق عتق عبد بصفة، ثم أزال ملكه ببيع أو غيره، ثم ملكه، ثم
وجدت الصفة، ففي نفوذ العتق الخلاف في عود اليمين. ثم قيل: هو كالإبانة
بالثلاث، لأن العائد ملك جديد من كل وجه لا تعلق له بالأول، كالنكاح بعد
الثلاث. وقيل: هو كالإبانة بما دون الثلاث وبه قطع البغوي، لأنه لم يتخلل بين
التعليق والصفة حالة تمنع ملكه كما لو لم يتخلل هناك حالة تمنع نكاحه، وإنما يكون
كالإبانة بالثلاث إذا علق ذمي عتق عبده الذمي، ثم أعتقه فنقض العهد، والتحق
بدار الحرب، ثم سبي واسترق، فملكه سيده الأول، لأنه تخلل حالة يمتنع فيها
الملك وهي حالة الحرب.
فرع الخلاف في وقوع الطلاق في النكاح الثاني، يعبر عنه بالخلاف في عود الحنث
وبالخلاف في عود اليمين، لأن على قول لا يتناول اليمين النكاح
الثاني، ولا يحصل الحنث فيه. وعلى قول يتناوله ويحصل الحنث.
فرع لا يقع الطلاق في النكاح الفاسد.
فصل إذا راجع الرجعية أو بانت منه هي أو غيرها بطلقة أو طلقتين، ثم
جدد نكاحها قبل أن تنكح غيره، أو بعد نكاح ووطئ الزوج الثاني، عادت إليه بما
بقي من الطلقات الثلاث.
ولو بانت بالثلاث فنكحها آخر ووطئها وفارقها، فنكحها الأول، عادت إليه
بالثلاث، لأنه لا يمكن بناء الثاني على الأول، لاستغراق الأول.
فرع الحر يملك ثلاث طلقات على زوجته الحرة والأمة، والعبد لا يملك
إلا طلقتين على الحرة والأمة، والمدبر والمكاتب ومن بعضه حر، كالقن. ومتى
طلق الحر أو العبد جميع ما يملك، لم تحل له المطلقة حتى ينكح زوجا آخر،
ويطأها ويفارقها كما سبق.
فرع طلق ذمي زوجته طلقة، ثم نقض العهد فسبي واسترق، ونكح بإذن
سيده تلك المرأة المطلقة، ملك عليها طلقة فقط. ولو كان طلقها طلقتين وأراد
نكاحها بعد الاسترقاق، فوجهان. أصحهما وبه قال ابن الحداد: تحل له ويملك
66

عليها طلقة، لأنها لم تحرم عليه بالطلقتين، فطريان الرق لا يرفع الحل الثابت.
وقيل: لا تحل له لأنه رقيق وقد طلق طلقتين.
ولو طلق العبد طلقة ثم عتق فراجعها، أو جدد نكاحها بعد البينونة، ملك
عليها طلقتين أخريين، لأنه عتق قبل استيفاء عدد الرقيق. ولو طلقها طلقتين، ثم
عتق، لم تحل له على الصحيح.
طلق العبد زوجته طلقتين، وأعتقه سيده، فقد ذكرنا أنه إن عتق
أولا، فله رجعتها وتجديد نكاحها. وإن طلق أولا، فلا تحل له إلا بمحلل.
فلو أشكل السابق واعترف الزوجان بالاشكال، قال ابن الحداد والأكثرون:
ليس له رجعتها ولا نكاحها إلا بمحلل. وقيل: تحل رجعتها والتجديد إن بانت، ولا
يفتقر إلى محلل لأن الأصل أن لا تحريم.
ولو اختلفا في السابق، نظر إن اتفقا على وقت الطلاق كيوم الجمعة، وقال:
عتقت يوم الخميس، وقالت: بل يوم السبت، فالقول قولها. وإن اتفقا أن العتق
يوم الجمعة وقالت: طلقت يوم السبت فقال: بل يوم الخميس، فالقول قوله.
وإن لم يتفقا على وقت أحدهما وقال: طلقتك بعد العتق، وقالت: قبله
واقتصر عليه، فالقول قوله لأنه أعرف بوقت الطلاق.
فرع سبق في التحليل لو قالت المطلقة ثلاثا: نكحني زوج وأصابني
وانقضت عدتي منه ولم يظن، صدقها لأن الأولى أن لا ينكحها. وهل يجب عليه
البحث عن الحال؟ قال أبو إسحاق: لا يجب لكن يستحب. وقال الروياني: أنا
أقول: يجب في هذا الزمان.
فصل طلاق المريض في الوقوع، كطلاق الصحيح. ثم إن كان رجعيا،
بقي التوارث بينهما ما لم تنقض عدتها. فإن مات أحدهما قبل انقضاء عدتها ورثه
الآخر، وبعد انقضائها، لا يرثه. ولو طلقها في مرض موته طلاقا بائنا، ففي كونه
قاطعا للميراث قولان. الجديد: يقطع وهو الأظهر. والقديم، لا يقطع، وحجة
الجديد انقطاع الزوجية، ولأنها لو ماتت لم يرثها بالاتفاق. فإن قلنا بالجديد، فلا
إشكال ولا تفريع لوضوح أحكامه. وأما القديم، فيتفرع عليه مسائل. منها: هل
67

ترث ما لم تنقض عدتها، أم ما لم تتزوج، أم أبدا؟ فيه أقوال. فإن طلق قبل
الدخول سقط القول الأول، وجرى الآخران.
ولو أبان في مرضه أربع نسوة، ونكح أربعا، ثم مات، فهل يكون الإرث
للأوليات لسبقهن، أم للأخريات لأنهن الزوجات، أم يشترك الثمان؟ فيه أوجه.
أصحها: الثالث.
وقال الامام: وسبب الخلاف ما في توريث الزيادة على الأربع من الاستبعاد.
فلو أبان امرأته ونكح أخرى، فلا وجه إلا توريثهما. ولو أبان واحدة ونكح أربعا أو
بالعكس، جرى الخلاف، وإنما ترث المبتوتة على القديم إذا طلقها لا بسؤالها،
فإن طلقها بسؤالها، أو اختلعت، أو قال: أنت طالق إن شئت، فشاءت، لم ترث
على الصحيح. وقال ابن أبي هريرة: ترث وإن طلق بسؤالها. ولو سألته فلم تطلق
في الحال، ثم طلقها أو سألته رجعيا فأبانها، ورثت لأنه فار.
ولو علق طلاقها في المرض بمضي مدة، أو فعل نفسه، أو أجنبي، فهو فار
وفي الأجنبي وجه.
وإن علق بفعلها، فإن لم يكن لها منه بد، كالنوم والقيام والقعود والاكل ولشرب
والطهارة، والصلاة والصوم المفروضين، ففار.
قلت: وهذا في الاكل الذي يحتاج إليه. فإن أكلت متلذذة، أكلا يضرها
فليس بفار. قاله الامام. والله أعلم.
وإن كان لها منه بد، ففار إن لم تعلم التعليق، وإلا فلا. ولو علمت ثم
نسيت، ففيه احتمالان للامام، والأشبه أنه فار.
وإن علق طلاقها في الصحة بصفة لا توجد إلا في المرض كقوله: إذا مرضت
مرض الموت، أو وقعت في النزع فأنت طالق، ففار: وإن احتمل وجودها في
المرض وقبله، كقوله: إذا جاء غد، أو قدم زيد، فأنت طالق، فجاء أو قدم وهو
مريض، فليس بفار على الأظهر.
ولو فسخ النكاح بعينها أو لاعنها، فليس بفار. وقيل: إن كان القذف في
المرض، ففار.
68

قلت: وقيل: إن الفاسخ فار. والله أعلم.
ولو طلق العبد امرأته، أو الحر زوجته الأمة، أو المسلم ذمية، ثم عتق العبد
أو الأمة، أو أسلمت الذمية في العدة، فلا إرث لأنها لم تكن وارثة يوم الطلاق، فلا
تهمة. وكذا لو أبانها في مرضه بعدما ارتد، أو ارتدت ثم جمعهما الاسلام في العدة،
لأنها لم تكن وارثة يومئذ. ولو ارتدت بعدما أبانها في المرض، ثم عادت إلى
الاسلام، فهو فار للتهمة.
ولو قال لزوجته الأمة: أنت طالق غدا، فعتقت قبل الغد، أو طلقها وهو لا
يعلم أنها عتقت، فليس بفار، وكذا لو ارتد في المرض قبل الدخول أو بعده وأصر
إلى انقضاء العدة، ثم عاد إلى الاسلام ومات، لم يكن فارا على الصحيح، لأنه لا
يقصد بتبديل الدين حرمانها الإرث، وفيه وجه ضعيف. وقيل بطرده فيما لو ارتدت
هي حتى تجعل فارة، فيرثها الزوج.
ولو أبان مسلمة في المرض، وارتدت وعادت إلى الاسلام في العدة، ورثت
لأنها بصفة الوارثين يومي الطلاق والموت، وكذا لو عادت بعد العدة، إن قلنا:
المبتوتة ترث بعد انقضاء العدة.
ولو طلق الأمة في المرض، وعتقت واختلفا فقالت: طلقني بعد العتق فإرث
وقال الوارث: بل قبله فلا إرث، فالقول قول الوارث بيمينه، لأن الأصل بقاء
الرق.
ولو أرضعت زوجها الصغير في المرض موتها، فقيل: تجعل فارة فيرثها
الزوج، والصحيح خلافه.
ولو أقر في مرض، بأنه أبانها في الصحة، لم يجعل فارا ويصدق فيما قاله،
وتحسب العدة من يومئذ، وفيه وجه للتهمة، والصحيح الأول. ولو طلق إحدى
امرأتيه، ثم مرض مرض الموت فقال: عنيت هذه، قبل قوله، ولم ترث. وإن كان
قد أبهم، فعين في المرض واحدة، قال إسماعيل البوشنجي: يخرج على أن
التعيين إيقاع للطلاق في المعينة، أم بيان لمحل الطلاق الواقع؟ إن قلنا: بالثاني،
لم ترث. وإلا فعلى قولي توريث المبتوتة.
69

قلت: إنما ترث المبتوتة على القديم إذا أنشأ تنجيز طلاق زوجته الوارثة بغير
رضاها في مرض مخوف، واتصل به الموت ومات بسببه. فإن برأ من ذلك
المرض، ثم مات، لم ترث قطعا. ولو مات بسبب آخر، أو قتل: في ذلك
المرض، فقطع صاحب المهذب وغيره، بأنها لا ترث على القديم. وقال
صاحب الشامل: والتتمة: ترث. والله أعلم.
الباب الثالث في تعدد الطلاق
فيه أطراف.
الأول: في نية العدد. فإذا قال: طلقتك، أو أنت طالق ونوى طلقتين، أو ثلاثا،
وقع ما نوى وكذا حكم الكناية.
قلت: وسواء في هذا المدخول بها وغيرها. والله أعلم.
ولو قال: أنت طالق واحدة بالنصب، ونوى طلقتين، أو ثلاثا، فثلاثة أوجه.
أصحها: يقع ما نوى صححه البغوي وغيره. والثاني: لا يقع إلا واحدة وصححه
الغزالي. والثالث قاله القفال: إن بسط نية الثلاث على جميع اللفظ، لم تقع
الثلاث. وإن نوى الثلاث بقوله: أنت طالق، وقع الثلاث ولغا ذكر واحدة.
وإن قال: أردت طلقة ملفقة من أجزاء ثلاث طلقات: وقع الثلاث قطعا.
وحكى الامام طرد وجه فيه، لبعد اللفظ والفهم، والمذهب الأول.
ولو قال: أنت طالق واحدة بالرفع، فهو مبني على ما إذا قال: أنت واحدة،
بحذف لفظ الطلاق، ونوى الثلاث، وفيه وجهان. أصحهما: وقوع ما نواه.
والثاني: تقع واحدة فقط.
فرع قال البغوي: ولو قال: أنت بائن باثنتين أو ثلاث، ونوى الطلاق،
وقع. ثم إن نوى طلقتين أو ثلاثا فذاك، وإن لم ينو شيئا، وقع الملفوظ به لأن ما أتى
به صريح في العدد كناية في الطلاق. فإذا نوى أصل الطلاق، وقع العدد المصرح
به. وإن نوى واحدة، فوجهان. أحدهما: يقع ما صرح به من طلقتين أو ثلاث.
70

والثاني: لا يقع إلا واحدة.
فرع أراد أن يقول لها: أنت طالق ثلاثا فماتت قبل تمام قوله: أنت
طالق، لم يقع الطلاق، وإن ماتت بعد تمامه قبل قوله: ثلاثا، فهل يقع الثلاث أم
واحدة، أم لا يقع شئ؟ ثلاثة أوجه: قال البغوي: أصحها الأول وهو اختيار
المزني. وقال إسماعيل البوشنجي: الذي تقتضيه الفتوى، أنه إن نوى الثلاث
بقوله: أنت طالق وكان قصده أن يحققه باللفظ، وقع الثلاث وإلا فواحدة، وهكذا
قال المتولي في تعبيره عن الوجه الأول.
وردتها وإسلامها، إذا لم تكن مدخولا بها قبل قوله: ثلاثا، كموتها، وكذا لو
أخذ شخص على فمه ومنعه أن يقول: ثلاثا.
ولو قال: أنت طالق على عزم الاقتصار عليه، فماتت فقال: ثلاثا، قال
الامام: لا شك أن الثلاث لا تقع، وتقع الواحدة على الصحيح.
فرع اختلفوا في قوله: أنت طالق ثلاثا، كيف سبيله؟ فقيل: قوله: ثلاثا
منصوب بالتفسير والتمييز. قال الامام: هذا جهل بالعربية، وإنما هو صفة لمصدر
محذوف، أي: طالق طلاقا ثلاثا. كقوله: ضربت زيدا شديدا، أي: ضربا
شديدا.
71

فصل قال: أنت طالق ملء البيت أو البلد أو السماء أو الأرض، أو مثل
الجبل، أو أعظم من الجبل، أو أكبر الطلاق بالباء الموحدة، أو أعظمه، أو أشده،
أو أطوله، أو أعرضه، أو طلقة كبيرة، أو عظيمة، لم يقع باللفظ إلا طلقة رجعية.
ولو قال: أنت طالق كل الطلاق أو أكثره، وقع الثلاث. ولو قال: عدد
التراب، قال الامام: تقع واحدة. وقال البغوي: عندي يقع الثلاث كما لو قال:
عدد أنواع التراب. ولو قال: أنت طالق وزن درهم، أو درهمين، أو ثلاثة، أو أحد
عشر درهما. ولم ينو عددا لم يقع إلا طلقة. ولو قال: يا مائة طالق، أو أنت مائة
طالق، نقل البغوي، والمتولي: أنه يقع الثلاث لأنه في العرف كقوله: أنت طالق
مائة. ولو قال: أنت كمائة طالق فهل تقع واحدة أم ثلاث؟ وجهان. ولو قال:
أنت طالق طلقة واحدة ألف مرة ولم ينو عددا، لم يقع إلا واحدة كما قاله
المتولي.
فرع قال: أنت طالق إن لم، أو أنت طالق إن، قال إسماعيل
البوشنجي: ينظر إن قصد الاستثناء أو التعليق، فلم يتمه، فلا أرى أن يقع طلاقه،
ويصدق إذا فسر به للقرينة الظاهرة، وإن لم يقصد الاستثناء ولا التعليق، وقع لأنه لو
أتى بالاستثناء بلا نية، لم يقع، فهنا أولى.
الطرف الثاني في التكرار: فيه مسائل:
إحداها: قال لمدخول بها: أنت طالق أنت طالق، نظر إن سكت بينهما
سكتة فوق سكتة التنفس ونحوه، وقع طلقتان، فإن قال: أردت التأكيد، لم يقبل
ظاهرا ويدين، وإن لم يسكت وقصد التأكيد قبل ولم يقع إلا طلقة، وإن قصد
الاستئناف، وقع طلقتان، وكذا إن أطلق على الأظهر. ولو قال: أنت طالق طالق،
فقال القاضي حسين: يقع عند الاطلاق طلقة قطعا وقال الجمهور: لا فرق بين
72

اللفظين. ولو كرر اللفظة ثلاثا، وأراد بالآخرتين تأكيد الأولى لم يقع إلا واحدة
وإن أراد الاستئناف، وقع الثلاث وإن أطلق فكذا على الأظهر. ولو قال: قصدت
بالثالثة تأكيد الثانية، وبالثانية تأكيد الأولى، وبالثالثة الاستئناف، وقع طلقتان.
ولو قصد بالثالثة تأكيد الأولى، وقع الثلاث على الأصح، وقيل: طلقتان،
ولا يقدح هذا الفصل اليسير. وإن قصد بالثانية الاستئناف، ولم يقصد بالثالثة شيئا أو
بالثالثة الاستئناف ولم يقصد بالثانية شيئا، وقع الثلاث على الأظهر، وفي قول
طلقتان.
ولو قال: أنت مطلقة، أنت مسرحة، أنت مفارقة، فهو كقوله: أنت طالق، أنت طالق،
أنت طالق على الأصح. وقيل: تقع هنا الثلاث قطعا، حكاه
الحناطي. ولو قال: أنت طالق، وطالق، وطالق، وقال: قصدت بالثاني تأكيد الأول، لم
يقبل في الظاهر، ويجوز أن يقصد بالثالث تأكيد الثاني لتساويهما، ويجوز أن يقصد
به الاستئناف، وإن أطلق، فعلى القولين. ولو قال: قصدت بالثالث تأكيد الأول،
لم يقبل. ولو قال: أنت طالق وأنت طالق، أو أنت طالق بل طالق، أو أنت طالق
ثم طالق، أو أنت طالق بل طالق بل طالق. فهو كقوله: طالق وطالق وطالق. ولو
قال: أنت طالق، فطالق، فطالق، أو أنت طالق، ثم طالق ثم طالق، فهو كقوله:
طالق وطالق وطالق. ولو قال: أنت طالق وطالق فطالق، أو أنت طالق، ثم طالق،
بل طالق، أو أنت طالق، فطالق ثم طالق، تعين الثلاث ولا مدخل للتأكيد لاختلاف
الألفاظ. ونص في الاملاء، أنه لو قال: طالق وطالق، لا بل طالق. وقال:
شككت في الثانية، فاستدركت بقولي: لا بل طالق لأحقق إيقاع الثانية قبل ولم يقع
إلا طلقتان، فجعل الأصحاب المسألة على قولين: أحدهما هذا، والثاني وهو
المشهور وظاهر نصه في المختصر: لا يقبل ويقع الثلاث كسائر الألفاظ المتغايرة.
ولو قال: أنت طالق وطالق، بل طالق من غير لفظ لا، فالمذهب وقوع
الثلاث قطعا كما سبق وقيل بطرد القولين.
73

فرع قال لها قبل الدخول: أنت طالق طالق، أو أنت طالق وطالق، أو
طالق فطالق، أو أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، أو أنت طالق بل طالق
وطالق.. لم يقع إلا طلقة لأنها تبين بها، فلا يقع ما بعدها. وحكي وجه وقول قديم
أنه كما لو قال ذلك لمدخول بها على ما سبق، لأنه كلام واحد فأشبه قوله لها: أنت
طالق ثلاثا، والمذهب الأول، لأن قوله: ثلاثا، بيان للأول بخلاف هذه الألفاظ.
فرع قال لمدخول بها: إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق، أو
قال: أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار، فدخلت، وقع الثلاث، وإن قاله
لغير المدخول بها، فثلاثة أوجه، أصحها: تقع الثلاث أيضا إذا دخلت. والثاني:
لا يقع إلا واحدة. والثالث: إن قدم الجزاء فقال: أنت طالق وطالق وطالق إن
دخلت الدار. وقع الثلاث. وإن عكس فواحدة. وإن قال: إن دخلت الدار فأنت
طالق إن دخلت الدار، فأنت طالق إن دخلت الدار، فأنت طالق، فدخلت، فإن
قصد التأكيد، وقع طلقة. وإن قصد الاستئناف، وقع الثلاث. وإن أطلق، فعلى
أيهما يحمل؟ قال البغوي: فيه قولان بناء على ما لو حنث في أيمان بفعل واحد،
هل تتعدد الكفارة؟ وقال المتولي: يحمل على التأكيد إذا لم يحصل فصل، أو
حصل واتحد المجلس. فإن اختلف فعلى أيهما يحمل؟ وجهان. وإذا حمل
على التأكيد، فيقع عند الدخول طلقة أم يتعدد؟ وجهان بناء على تعدد الكفارة
وعدمه. ولو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق طلقة، وإن دخلت الدار فأنت طالق
طلقتين، قال ابن الحداد والأصحاب: تطلق بالدخول ثلاثا سواء كان مدخولا بها أم
غيرها لأن الجميع يقع دفعة. قال البغوي: وكذا في الصور المتقدمة لا فرق بين
المدخول بها وغيرها، لأن على تقدير التعدد يقع الجميع حال الدخول.
ولو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم طالق، لم يقع بالدخول في غير
المدخول بها إلا طلقة لأن ثم للتراخي. قال المتولي: وكذا لو أخر الشرط
فقال: أنت طالق، ثم طالق إن دخلت الدار.
المسألة الثانية: قال: أنت طالق طلقة فطلقة، أو طالق فطالق، وقع طلقتان
74

على المذهب. وقيل: قولان. ولو قال: طلقة بل طلقتين، وقع الثلاث فإن كانت
غير مدخول بها، بانت بالأولى ولم تقع الزيادة في الصورتين.
المسألة الثالثة: قال لمدخول بها: أنت طالق طلقة معها طلقة، أو مع طلقة،
وقع طلقتان. وهل يقعان معا بتمام الكلام، أم متعاقبين؟ وجهان. أصحهما:
الأول. فإن قال ذلك لغير المدخول بها، طلقت على الأول طلقتين، وعلى الثاني
طلقة.
ولو قال: طلقة تحت طلقة، أو تحتها طلقة، أو فوق طلقة، أو فوقها طلقة،
فقال الامام والغزالي: حكمها حكم مع، وقال المتولي كلاما يقتضي الجزم
بأن غير المدخول بها لا يقع عليها إلا طلقة، لأن وصف الطلاق بالفوقية والتحتية
محال، فيلغو ويصير كقوله: طالق طالق، وفي المدخول بها وجه أنه لا يقع إلا
واحدة، كما لا يلزم في الاقرار إلا درهم، واختاره ابن كج والحناطي. ولو قال
لمدخول بها: أنت طالق طلقة قبل طلقة، أو بعدها طلقة، وقع طلقتان. إحداهما
بعد الأخرى. ولو كانت غير مدخول بها، وقعت واحدة وبانت.
ولو قال لمدخول بها: أنت طالق طلقة بعد طلقة، أو قبلها طلقة، وقع طلقتان
متعاقبتان على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي كتاب ابن كج وجه أنه لا يقع
إلا واحدة، لاحتمال أن يكون المعنى: قبلها طلقة مملوكة أو ثابتة، قال: وهذا عند
الاطلاق، ولو قال: أردت ذلك، صدق بيمينه لا محالة. فإذا قلنا بالصحيح، ففي
كيفية تعاقبهما وجهان. أحدهما: تقع أولا المنجزة، ثم المضمنة، ويلغو قوله:
قبلها، كما لو قال: أنت طالق أمس، يقع في الحال، ويلغو قوله: أمس.
وأصحهما: تقع أولا المضمنة، ثم المنجزة، لأن المعنى يقتضي ذلك، وليس
المراد أن المضمنة تقع قبل تمام اللفظ، بل يقعان بعد تمام اللفظ، فتقع المضمنة
عقب اللفظ، ثم المنجزة في لحظة عقبها. فإن قال ذلك لغير المدخول بها،
فأوجه. أصحها: يقع واحدة. والثاني: لا يقع شئ، والثالث: يقع طلقتان،
ويلغو قوله: قبلها، ويصير كأنه قال: طلقتين وهو ضعيف، ولو قال للمدخول بها:
أنت طالق طلقة، قبلها طلقة وبعدها طلقة، طلقت ثلاثا. ولو قال: قبلها وبعدها
طلقة، وقع الثلاث على الصحيح. وقيل: طلقتان، ويلغو قوله: قبلها.
75

ولو خاطب غير المدخول بها بأحد هذين اللفظين، فهل يقع واحدة أم لا يقع
شئ؟ وجهان. أصحهما: الأول. ومتى قال: أردت بقولي: بعدها طلقة، أي
سأطلقها بعد هذا طلقة، لم يقبل ظاهرا ويدين، ولو قال: أردت بقولي: قبلها أن
زوجا آخر طلقها في نكاح اخر، فعلى ما سيأتي إن شاء الله تعالى، فيما إذا قال:
أنت طالق في الشهر الماضي، وفسر بهذا.
المسألة الرابعة: قال لمدخول بها: أنت طالق وطالق، وقع طلقتان على
الترتيب.
ولو قال: أنت طالق ثلاثا، فالصحيح وقوع ثلاث عند فراغه من قوله: ثلاثا.
وقيل: ثنتين بالفراغ (من) وقوع الثلاث بقوله: أنت طالق. قال الامام: وقياس من
قال: يقع طلقة، إذا أراد بقوله: أنت طالق ثلاثا، فماتت قبل قوله: ثلاثا: أن يقع
هنا طلقة بقوله: أنت طالق، ويتم الثلاث بقوله: ثلاثا، لكنه ضعيف، لأنه لا
خلاف أنه لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق ثلاثا وقع الثلاث، وذلك يدل على
أنها لا تقع مرتبة.
المسألة الخامسة: قال لغير المدخول بها: أنت طالق خمسا، أو قال:
إحدى عشرة، وقع الثلاث، ولو قال لها: واحدة ومائة، لم يقع إلا واحدة. ولو
قال: إحدى وعشرين، فهل يقع الثلاث أم واحدة؟ وجهان لترددها بين الصورتين.
قلت: الأصح، أنه تقع واحدة لأنه معطوف كقوله: واحدة ومائة، بخلاف
إحدى عشرة، فإنه مركب فهو بمعنى المفرد. والله أعلم.
ولو قال: طلقة ونصفا، لم يقع إلا واحدة.
فرع قال: أنت طالق واحدة، بل ثنتين أو ثلاثا، فإن كانت مدخولا بها،
وقع ثلاث، وإلا فواحدة.
ولو قال: ثنتين بل واحدة، طلقت المدخول بها ثلاثا، وغيرها طلقتين. ولو
قال: أنت طالق واحدة بل ثلاثا إن دخلت الدار، فوجهان. أصحهما وبه قال ابن
الحداد: يقع واحدة بقوله: أنت طالق، ويتعلق طلقتان بدخول الدار. والثاني:
يتعلق الثلاث بالدخول إلا أن يقول: أردت تخصيص الشرط بقولي: بل ثلاثا. فإن
76

قاله لغير مدخول بها، فعلى الوجه الأول تبين بالواحدة الواقعة في الحال، فإن
نكحها بعد ذلك ودخلت، فقيل فيه قولا عود الحنث، والمذهب، أنه لا يقع قطعا،
لأنها إذا بانت كان التعليق بالدخول واقعا في حال البينونة، فيلغو. وعلى الوجه
الثاني يتعلق الثلاث بالدخول، فإذا دخلت، فعلى الوجهين السابقين، فيما إذا قال
لغير المدخول بها: إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق، فعلى وجه: لا يقع إلا
واحدة، وعلى الأصح: يقع الثلاث. ولو قال لغير المدخول بها: أنت طالق
طلقتين، بل ثلاثا إن دخلت الدار، فعلى قول ابن الحداد: يقع طلقتان في الحال،
ولا يصح تعليق الثالثة. وعلى الثاني تتعلق الثلاث بالدخول، فإذا دخلت، ففي
وجه يقع طلقة، وعلى الأصح ثلاث.
فرع قال: أنت طالق تطليقة، قبلها كل تطليقة، أو بعدها كل تطليقة،
قال إسماعيل البوشنجي: قياس المذهب أن يقال: إن كانت مدخولا بها، وقع
الثلاث مع ترتيب بين الواحدة وباقي الثلاث، وإلا، فوجهان. أصحهما:
يقع واحدة. والثاني: لا شئ.
فرع عن أبي العباس الروياني لو قال: أنت طالق كألف، فإن نوى
عددا، وقع، وإلا فواحدة، وأنه لو قال: أنت طالق حتى تتم ثلاث، فهل تقع
ثلاث، أم تعتبر نيته، فإن لم ينو، فواحدة؟ فيه وجهان، ويقرب منه ما إذا قال:
أنت طالق حتى أكمل ثلاثا، أو أوقع عليك ثلاثا، وأنه لو قال: أنت طالق ألوانا من
الطلاق، تعتبر نيته، فإن لم ينو، فواحدة.
وأنه لو قال: يا مطلقة: أنت طالق، وكان طلقها قبل ذلك، فقال: أردت
تلك الطلقة، فهل يقبل أم يقع أخرى؟ وجهان. ذكر إسماعيل البوشنجي: أنه لو
قالت له: طلقني وطلقني وطلقني، أو طلقني طلقني طلقني، أو قالت: طلقني
ثلاثا، فقال: طلقتك، أو قد طلقتك، أو أنت طالق. فإن نوى عددا، وقع، وإلا
فواحدة، وأنه لو طلقها واحدة رجعية ثم قال: جعلتها ثلاثا، فهو لغو لا يقع به
شئ.
الطرف الثالث في الحساب، وهو ثلاثة أنواع.
الأول: في حساب الضرب، فإذا قال لها: أنت طالق واحدة في واحدة، أو
77

طلقة في طلقة، سئل عن مراده، فإن قال: أردت طلقة مع طلقة، وقع طلقتان
، وإن قال: أردت به الظرف أو الحساب، أو لم أرد شيئا، وقعت واحدة. وإن قال:
أنت طالق طلقة في طلقتين، أو واحدة في اثنتين، وأراد مع اثنتين، وقع الثلاث،
وإن أراد الحساب وهو يعلمه، وقع طلقتان، وإن جهله وقال: أردت ما يزيده
الحساب، فطلقة على الأصح، وقال الصيرفي: طلقتان.
وأجرى الوجهان في قوله: طلقتك مثل ما طلق زيد وهو لا يدري كم طلق
زيد. وكذا لو نوى عدد طلاق زيد ولم يتلفظ، وإن أطلق ولم ينو الحساب، فإن لم
يعرفه، فطلقة، وكذا إن عرفه على الأظهر. وفي قول: طلقتان. وفي قول غريب
ضعيف حكاه الشيخ أبو محمد وغيره: يقع ثلاث طلقات لتلفظه بهن، ويجئ هذا
القول فيمن لا يعرف الحساب ولم ينو شيئا، ولو قال: أنت طالق واحدة في ثلاث،
فإن قصد الحساب، وقع الثلاث إن عرفه، وإلا فعلى الوجهين، وإن لم يقصد
شيئا، فعلى التفصيل والخلاف المذكورين.
وإن قال: أنت طالق ثنتين في ثنتين، فإن قصد الحساب وهو يعرفه، وقع
الثلاث، وإن لم يقصد شيئا، فهل يقع ثنتان، أم ثلاث؟ فيه الخلاف. ولو قال:
أنت طالق نصف طلقة في نصف طلقة، وقعت طلقة، سواء أراد الحساب أم الظرف
أم المعية، أم لم يقصد شيئا. ولو قال: واحدة في نصف، فكذلك إلا أن يريد
المعية، فيقع طلقتان، ولو قال: واحدة وربعا، أو نصفا في واحدة وربع، وقع
طلقتان إلا أن يريد المعية، فتقع ثلاث.
فرع قال: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث، فهل يقع الثلاث، أم ثنتان،
أم واحدة؟ فيه أوجه، أصحها عند البغوي: الأول، ولو قال: ما بين الواحدة
والثلاث، وقعت طلقة على المذهب، ويجئ فيه خلاف سبق في نظيره من
الاقرار.
النوع الثاني: في تجزئة الطلاق اعلم أن الطلاق لا يتبعض، بل ذكر بعضه
كذكر كله لقوته، سواء أبهم بأن قال: أنت طالق بعض طلقة، أو جزءا، أو سهما
من طلقة، أو بين فقال: نصف طلقة أو ربع طلقة، قال الامام: وقوع الطلاق هنا
78

على سبيل التعبير بالبعض عن الكل، ولا يتخيل هنا السراية المذكورة في قوله:
بعضك طالق، لكن لا يظهر بينهما فرق محقق. وفي كلام الشيخ أبي حامد وغيره،
أنه يجوز أن يكون ذلك بطريق السراية، ويجوز أن يلغى قوله: نصف طلقة، ويعمل
قوله: أنت طالق.
فرع إذا زاد في الاجزاء فقال: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقة، أو أربعة
أثلاث طلقة، وقع طلقتان على الأصح، وقيل: طلقة. وقيل: ثلاث طلقات،
حكاه الحناطي. وعلى هذا القياس، قوله: خمسة أرباع طلقة، أو نصف وثلثي
طلقة.
قلت: هذا الخلاف فيما إذا زادت الاجزاء على طلقة، ولم يجاوز طلقتين،
فإن جاوزت كقوله: خمسة أنصاف طلقة، أو سبعة أثلاث طلقة وأشباهه، كان
الخلاف في أنه يقع طلقة أم ثلاث. والله أعلم.
فرع ولو قال: لفلان علي ثلاثة أنصاف درهم، فهل يلزمه درهم أو درهم ونصف؟
وجهان. أصحهما: الثاني.
قال: أنت طالق نصفي طلقة، لم يقع إلا طلقة، إلا أن يريد نصفا
من طلقة، ونصفا من أخرى وكذا لو قال: ربعي طلقة، أو ثلثي طلقة، وأشار في
الوسيط إلى الخلاف في هذه الصورة فقال: الصحيح أنه يقع طلقة، والكتب
ساكتة عن الخلاف، لكنه جار على ما نقله الحناطي.
قلت: قد حكى الوجه الذي أشار إليه في الوسيط عن شرح المفتاح.
والله أعلم.
ولو قال: نصف طلقتين، أو ثلث طلقتين، وقع طلقة على الأصح، وقيل:
طلقتان، فعلى هذا لو قال: أردت طلقة، دين، وفي قبوله ظاهرا وجهان. ولو
قال: علي نصف درهمين، قال الشيخ أبو علي: لا يلزم إلا درهم بإجماع الأصحاب لعدم التكميل.
ولو قال: ثلث درهمين، فعليه ثلثا درهم بالاتفاق. ولو قال: نصفي طلقتين
79

أو ثلثي طلقتين. وقع طلقتان. ولو قال: ثلاثة أنصاف طلقتين، فهل يقع طلقتان أم
ثلاث؟ وجهان. أصحهما: الثاني، وبه قال ابن الحداد، ونقله الشيخ أبو علي عن
الأكثرين.
ولو قال: له علي ثلاثة أنصاف درهمين، ففيما يلزمه الوجهان. ولو قال: ثلاثة
أنصاف الطلاق، قال المتولي: يقع ثلاث طلقات، وينصرف الألف واللام إلى
الجنس، وحكى الحناطي وجهين، أحدهما: يقع ثلاث، والثاني: طلقة.
فرع قال: أنت طالق نصف طلقة، أو ثلث وربع وسدس طلقة، لا يقع إلا
طلقة، ولو كرر لفظة الطلقة فقال: ثلث طلقة، وربع طلقة، وسدس طلقة، طلقت
ثلاثا على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقال الغزالي: فيه وجهان. أحدهما:
هذا، والثاني: لا يقع إلا واحدة، هكذا أطلقه الغزالي، وإنما نقل الامام هذا
الوجه، فيما إذا نوى صرف هذه الاجزاء إلى طلقة وفسر كلامه به.
ولو لم يدخل الواو، فقال: أنت طالق ثلث طلقة، ربع طلقة، سدس
طلقة، لم يقع إلا طلقة لأنه إذا لم يدخل الواو، كان الجميع بمنزلة كلمة واحدة،
ولهذا لو قال: أنت طالق طالق، لم تقع إلا واحدة، ولو قال: طالق وطالق، وقع
طلقتان.
لو زادت الاجزاء ولم يدخل الواو، فقال: أنت طالق نصف طلقة، ثلث
طلقة، ربع طلقة، ففي أمالي أبي الفرج: أنه على الوجهين في قوله: ثلاثة
أنصاف طلقة. ولو لم تتغاير الاجزاء وتكررت الواو فقال: أنت طالق نصف طلقة،
ونصف طلقة، ونصف طلقة، وقع طلقتان، ويرجع في اللفظ الثالث إليه، أقصد
التأكيد أم الاستئناف كما لو قال: طالق وطالق وطالق.
ولو قال: أنت نصف طلقة، أو ثلث طلقة، فهو كقوله: أنت الطلاق.
ولو قال: أنت طالق نصف ثلث سدس، ولم يقل: طلقة، وقع طلقة بقوله:
أنت طالق.
فرع في فتاوى القفال، لو قال: طلقتك واحدة أو ثنتين على سبيل
80

الانشاء، فيختار ما شاء من واحدة، أو اثنتين كما لو قال: أعتقت هذا أو هذين.
النوع الثالث: في التشريك، فإذا قال لأربع نسوة: أوقعت عليكن طلقة،
وقع على كل واحدة طلقة (فقط) ولو قال: طلقتين أو ثلاثا أو أربعا، وقع على كل
واحدة طلقة فقط، إلا أن يريد توزيع كل طلقة عليهن، فيقع في طلقتين، على كل
واحدة طلقتان، وفي ثلاث وأربع، ثلاث.
قلت: هذا الذي ذكره هو المنصوص في الام، وبه قطع الجمهور، وقال
أبو علي الطبري: يحمل على التوزيع وإن لم ينوه. والله أعلم.
ولو قال: أوقعت عليكن خمس طلقات، طلقت كل واحدة طلقتين، إلا أن
يريد التوزيع، وكذلك في الست، والسبع، والثمان. وإن أوقع تسعا، طلقت كل
واحدة ثلاثا. وإن قال: أوقعت بينكن طلقة، طلقت كل واحدة طلقة. فإن قال:
أردت بعضهن دون بعض، دين ولا يقبل ظاهرا على الأصح، وقطع به جماعة. قال
الامام والبغوي وغيرهما: الوجهان مخصوصان بقوله: أوقعت بينكن. أما قوله:
عليكن، فلا يقبل تفسيره هذا قطعا، بل يعمهن الطلاق.
وأعلم أنا قدمنا في قوله: نسائي طوالق عن ابن الوكيل وغيره، أنه يقبل
تخصيصه بعضهن، وذلك الوجه يجئ هنا لا محالة، فكان قول الإمام وغيره تفريعا
على الصحيح هناك. وإذا قلنا: لا يقبل في قوله: بينكن، فذلك إذا أخرج بعضهن
عن الطلاق، وعطل بعض الطلاق، فأما إذا فضل بعضهن كقوله: أوقعت بينكن
ثلاث طلقات، ثم قال: أردت طلقتين على هذه، وتوزيع الثالثة على الباقيات،
فيقبل على الأصح المنصوص، وبه قطع الشيخ أبو علي. والثاني حكاه ابن
القطان: يشترط استواؤهن، وحكي وجه، أنه يقبل تفسيره وإن تعطل بعض الطلاق
حتى لو قال: أوقعت بينكن أربع طلقات، ثم خصصها بامرأة قبل، وهذا ضعيف.
وحيث قلنا: لا يقبل، فذلك في نفي الطلاق عمن نفاه عنها أما إثباته على من أثبته
عليها، فيثبت قطعا مؤاخذة له.
ولو قال: أوقعت بينكن خمس طلقات، لبعضكن أكثر مما لبعض، فيصدق
81

في التفصيل بلا خلاف، وفي تصديقه في إخراج بعضهن الخلاف.
ولو قال: أوقعت عليكن نصف طلقة، أو ثلثها، وقع على كل واحدة طلقة.
ولو قال: أوقعت بينكن ثلث طلقة، وخمس طلقة، وسدس طلقة، بني على
الخلاف السابق فيما إذا خاطب به واحدة. فإن قلنا: لا يقع به إلا واحدة، فكذا
هنا، فتطلق كل واحدة طلقة، وإن قلنا بالمذهب: وهو وقوع الثلاث، طلقت كل
واحدة ثلاثا، لأن تغاير الاجزاء وعطفها، يشعر بقسمة كل جزء بينهن. وقال
الامام: ويحتمل أن تجعل كما لو قال: أوقعت بينكن ثلاث طلقات، فتطلق كل
واحدة طلقة. ولو قال: أوقعت بينكن طلقة وطلقة وطلقة، فيجوز أن يقال: هو
كقوله: ثلاث طلقات، تطلق كل واحدة طلقة، ويجوز أن يقال: تطلق كل واحدة
ثلاثا لاشعاره بقسمة كل طلقة.
فرع طلق إحدى امرأتيه ثم قال للأخرى: أشركتك معها، أو جعلتك
شريكتها، أو أنت كهي، أو مثلها، ونوى طلاقها، طلقت وإلا فلا، وكذا لو طلق
رجل امرأته فقال آخر لامرأته: أشركتك معها، أو أنت كهي، ونوى، طلقت. ولو
كان تحته أربع، فقال لثلاث منهن: أوقعت عليكن أو بينكن طلقة، فطلقن واحدة
واحدة، ثم قال للرابعة: أشركتك معهن ونوى الطلاق، نظر إن أراد طلقة واحدة
لتكون كواحدة منهن، طلقت طلقة، وإن أراد أنها تشارك كل واحدة طلقتها، طلقت
ثلاثا. وإن أطلق نية الطلاق ولم ينو واحدة ولا عددا، فوجهان: أصحهما وبه قال
الشيخ أبو علي: تطلق واحدة، وقال القفال: طلقتين، لأن التشريك يقتضي أن
يكون عليها نصف ما عليهن وهو طلقة ونصف، فتكمل. ولو قيل على هذا التوجيه:
تطلق ثلاثا مثلهن، لم يكن بأبعد منه، ولو طلق اثنتين ثم قال للأخريين: أشركتكما
معهما ونوى الطلاق، فإن نوى كون كل منهما كواحدة من الأوليين، طلقت كل
واحدة منهما طلقة، وإن نوى كون كل واحدة كالأوليين معا في الطلاق أو أن تشارك
كل واحدة منهما كل واحدة من الأوليين في طلقتيهما، طلقتا طلقتين طلقتين. وإن
أطلق، طلقت كل واحدة طلقة على قولي القفال وأبي علي جميعا، لأن القفال
يشركهما فيجعل لهما نصف ما للأوليين، وهو طلقة فتقسم وتكمل.
فرع قال: أنت طالق عشرا، فقالت: تكفيني ثلاث، فقال: الباقي
82

لضرتك، لا يقع على الضرة شئ، لأن الزيادة على الثلاث لغو. ولو قالت:
تكفيني واحدة فقال: الباقي لضرتك، وقع عليها ثلاث، وعلى الضرة طلقتان إذا
نوى، ذكره البغوي، ولو طلق إحدى امرأتيه ثلاثا ثم قال للثانية: أشركتك معها،
قال الشاشي: يقع على الثانية طلقة، وتردد البوشنجي في طلقة أم ثلاث.
الباب الرابع في الاستثناء
الاستثناء صحيح معهود، وفي القرآن والسنة موجود، فإذا قال: أنت طالق
ثلاثا إلا اثنتين، طلقت طلقة. ويشترط لصحته شيئان، أحدهما: أن يكون متصلا
باللفظ، فإن انفصل، فهو لغو، وسكتة التنفس والعي لا تمنع الاتصال. قال
الامام: والاتصال المشروط هنا أبلغ مما يشترط بين الايجاب والقبول، لأنه
83

يحتمل بين كلام الشخصين ما لا يحتمل بين كلام شخص واحد، ولذلك لا ينقطع
الايجاب والقبول بتخلل كلام يسير على الأصح، وينقطع الاستثناء بذلك على
الصحيح. وهل يشترط اقتران الاستثناء بأول اللفظ؟ وجهان. أحدهما: لا، بل لو
بدا له الاستثناء بعد تمام المستثنى منه فاستثنى، حكم بصحة الاستثناء، وحكى
الشيخ أبو محمد هذا الوجه عن الأستاذ أبي إسحاق، وأصحهما وادعى أبو بكر
الفارسي الاجماع عليه: أنه لا يعمل بالاستثناء حتى يتصل بأول الكلام.
قلت: الأصح، وجه ثالث، وهو صحة الاستثناء بشرط وجود النية قبل فراغ
اليمين وإن لم يقارن أولها. والله أعلم.
ثم ما ذكرناه من اتصال اللفظ واقتران القصد بأول الكلام، يجري في الاستثناء
ب‍ إلا وأخواتها، وفي التعليق بمشيئة الله تعالى، وفي سائر التعليقات الشرط
الثاني، أن لا يكون الاستثناء مستغرقا، فإن استغرق، فهو باطل ويقع الجميع.
فصل الاستثناء ضربان. أحدهما: استثناء ب‍ إلا وأخواتها، والثاني:
تعليق الطلاق والعتاق، وغيرهما بمشيئة الله تعالى، قال الامام: ولا يبعد عن اللغة
تسمية كل تعليق استثناء، لأن قول القائل: أنت طالق، يقتضي وقوع الطلاق بغير
84

قيد، فإذا علقه بشرط، فقد ثناه عن مقتضى اطلاقه، كما أن قوله: أنت طالق ثلاثا
إلا طلقة، يثني اللفظ عن مقتضاه، إلا أنه اشتهر في عرف أهل الشرع تسمية التعليق
بمشيئة الله تعالى خاصة استثناء.
الضرب الأول: فيه مسائل.
إحداها: قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا، فالاستثناء باطل لاستغراقه.
الثانية: إذا عطف بعض العدد على بعض في المستثنى أو المستثنى منه أو
فيهما، فهل يجمع بينهما، أم لا؟ وجهان، أصحهما: لا يجمع، وبه قال ابن
الحداد، ولهذا لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق وطالق، لا يقع إلا واحدة، ولا
ينزل منزلة: أنت طالق طلقتين، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين وواحدة، أو
إلا اثنتين وإلا واحدة، فعلى الجمع يكون الاستثناء مستغرقا فيقع الثلاث، وعلى
الفصل، يختص البطلان بالواحدة التي وقع بها الاستغراق، فتقع طلقة.
ولو قال: إلا واحدة واثنتين، فعلى الجمع يقع ثلاث، وعلى الفصل يختص
البطلان بالثنتين، فيقع طلقتان.
ولو قال: أنت طالق طلقتين وواحدة إلا واحدة، فعلى الجمع تكون الواحدة
مستثناة، فيقع طلقتان، وعلى الفصل، لا يجمع فتكون الواحدة مستثناة من واحدة، فيقع ا
لثلاث. وقيل: تقع الثلاث هنا قطعا.
ولو قال: أنت طالق واحدة واثنتين إلا واحدة، صح الاستثناء على الوجهين.
ولو قال: ثلاثا إلا واحدة وواحدة وواحدة، فعلى الجمع، يقع الثلاث، وعلى
الفصل، يقع استثناء اثنتين دون الثالثة. ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة،
وواحدة إلا واحدة، أو أنت طالق طلقة، وطلقة، وطلقة إلا طلقة، فعلى الجمع
يقع طلقتان. كأنه قال: ثلاثا إلا واحدة، وعلى الفصل، يقع ثلاث، لأنه استثنى
واحدة من واحدة، ولو قال: واحدة، وواحدة، وواحدة، إلا واحدة وواحدة
وواحدة وقع الثلاث على الوجهين.
ولو قال: واحدة، بل واحدة، ثم واحدة إلا واحدة، فالاستثناء باطل، ولا
85

جمع لتغاير الألفاظ. وقيل: يصح حكاه الحناطي، والصحيح المنع. ولو قال:
أنت طالق ثلاثا إلا واحدة وواحدة، قال الشيخ أبو علي: اتفق الأصحاب أنه يجمع
بينهما، ويصحان ولا يقع إلا ما بقي بعد الاستثنائين وهو طلقة، وحكى ابن كج فيه
وجهين، ثانيهما: يقع ثلاث، ويجعل قوله: وواحدة عطفا على قوله: ثلاثا كأنه
قال: اثنتين وواحدة.
قلت: هذا الوجه خطأ ظاهر، وتعليله أفسد منه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: سبق في الاقرار أن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الاثبات
نفي، فإذا قال: أنت طالق ثلاثا، إلا اثنتين إلا واحدة، وقع طلقتان، وعن
الحناطي، احتمال أنه كقوله: إلا ثنتين وواحدة، والصواب الأول.
ولو قال: ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة، فهل يقع واحدة، أم اثنتان، أم ثلاث؟
فيه أوجه، أصحها: الأول، ولو قال: ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين، ففيه الأوجه، لكن
الأصح هنا: يقع طلقتان. ولو قال: ثلاثا إلا اثنتين، إلا اثنتين وقعت واحدة قطعا،
ولغا الاستثناء الثاني.
ولو قال: ثلاثا إلا واحدة إلا واحدة، فهل يقع اثنتان أم ثلاث؟ وجهان
حكاهما الحناطي، ولو قال: اثنتين إلا واحدة إلا واحدة، فقيل: اثنتان، وقيل:
واحدة.
ولو قال: ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة، فقيل اثنتان. وقيل: واحدة،
قال الحناطي: ويحتمل وقوع الثلاث.
المسألة الرابعة: إذا زاد على العدد الشرعي، فهل ينصرف الاستثناء إلى
الملفوظ به، أم إلى المملوك وهو الثلاث؟ وجهان. أصحهما: إلى الملفوظ به،
وبه قال ابن الحداد، وابن القاص، وقال أبو علي بن أبي هريرة والطبري: إلى
المملوك. فإذا قال: أنت طالق خمسا إلا ثلاثا، وقع طلقتان على الأول، وثلاث
على الثاني.
ولو قال: خمسا إلا اثنتين، وقع ثلاث على الأول، وواحدة على الثاني. ولو
86

قال: أربعا إلا اثنتين، وقع اثنتان على الأول، وواحدة على الثاني، ولو قال: أربعا
إلا واحدة، وقع ثلاث على الأول، واثنتان على الثاني، ولو قال: أربعا إلا ثلاث،
وقع على الأول واحدة، وعلى الثاني ثلاث، ولو قال: ستا أو سبعا أو أكثر من ذلك
إلا ثلاثا، وقع الثلاث على الوجهين، ولو قال: ستا إلا أربعا، فعلى الأول: يقع
طلقتان، وعلى الثاني: ثلاث. ولو قال: أربعا إلا ثلاثا إلا اثنتين، فعلى الأول:
يقع ثلاث، وعلى الثاني: هو كقوله: ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين. ولو قال: خمسا إلا
اثنتين إلا واحدة، فعلى الأول يقع ثلاث، وعلى الثاني طلقتان كقوله: ثلاثا إلا
اثنتين إلا واحدة، ولو قال: ثلاثا وثلاثا إلا أربعا، فإن جمعنا بين الجمل المعطوفة
واعتبرنا الملفوظ، فكقوله: ستا إلا أربعا، وإلا طلقت ثلاثا.
فرع قال: أنت بائن إلا بائنا ونوى بقوله: أنت بائن الثلاث، قال إسماعيل
البوشنجي: يبنى على أنه لو قال: أنت واحدة ونوى الثلاث، هل يقع الثلاث
اعتبارا بالنية أم واحدة اعتبارا باللفظ؟ فإن غلبنا اللفظ، بطل الاستثناء كما لو قال:
أنت طالق واحدة إلا واحدة. وإن غلبنا النية، صح الاستثناء ووقع طلقتان، وهذا هو
الذي رجحه ونصره.
قلت: الأول غلط ظاهر، فإنه لا خلاف أنه إذا قال: أنت بائن ونوى
الثلاث، وقع الثلاث، فكيف يبنى على الخلاف في قوله: أنت واحدة؟!. والله
أعلم.
وفي معنى هذه الصورة قوله: أنت بائن إلا طالقا ونوى بقوله: بائن الثلاث.
ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا طالقا، صح الاستثناء كقوله: ثلاثا إلا طلقة، وكذا لو
قال: طالق وطالق وطالق إلا طالقا ونوى التكرار فيه احتمال.
المسألة الخامسة: لو قدم الاستثناء على المستثنى منه، فقال: أنت إلا
واحدة طالق ثلاثا، حكى صاحب المهذب عن بعض الأصحاب، أنه لا يصح
الاستثناء ويقع الثلاثة، قال: وعندي أنه يصح فيقع طلقتان.
87

المسألة السادسة: قال: أنت طالق ثلاثا إلا نصف طلقة، وقع الثلاث على
الصحيح، وقيل: طلقتان. ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا طلقة ونصفا، فعلى
الصحيح طلقتان، وعلى الثاني طلقة. ولو قال: إلا نصفا وقع طلقة قطعا،
ولو قال: ثلاثة إلا طلقتين ونصفا، فإن قلنا بالثاني، فهو كقوله: ثلاث إلا اثنتين
وواحدة، وإن قلنا بالصحيح، فهل يقع ثلاث أم واحدة، فيه احتمالان للامام. ولو
قال: أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين إلا نصف طلقة، وقع طلقتان. ولو قال: واحدة
ونصفا إلا واحدة، نقل الحناطي وقوع طلقة. قال: ويحتمل وقوع طلقتين. ولو
قال: أنت طالق ثلاثا إلا نصفا، قال البوشنجي: يراجع، فإن قال: أردت: إلا
نصفها، وقع طلقتان. وإن قال: أردت إلا نصف طلقة، طلقت ثلاثا، ويجئ فيه
الوجه الضعيف، وإن لم تكن نية فطلقتان.
الضرب الثاني، التعليق بالمشيئة: فإذا قال: أنت طالق إن شاء الله، نظر إن
سبقت الكلمة إلى لسانه لتعوده لها كما هو الأدب، أو قصد التبرك بذكر الله تعالى،
أو الإشارة إلى أن الأمور كلها بمشيئة الله تعالى ولم يقصد تعليقا محققا، لم يؤثر ذلك
ووقع الطلاق. وإن قصد التعليق حقيقة، لم تطلق على المذهب، ومنهم من حكى
قولا آخر، والتفريع على المذهب. وكذا يمنع الاستثناء انعقاد التعليق، كقوله:
أنت طالق إن دخلت الدار، إن شاء الله، أو إذا شاء الله، ويمنع أيضا العتق في
قوله: أنت حر إن شاء الله، ويمنع انعقاد النذر واليمين، وصحة العفو عن
القصاص، والبيع وسائر التصرفات. وسواء قال: أنت طالق إن شاء الله، أو إن شاء
الله أنت طالق، أو متى شاء الله، أو إذا شاء الله، قال ابن الصباغ: وكذا قوله: إن
شاء الله أنت طالق، وفي هذه الصيغة وجه حكاه الحناطي. ولو قال: أنت طالق إذا شاء
الله [أو إن شاء الله] بفتح الهمزة، وقع الطلاق في الحال، وكذا لو قال: إذا
88

شاء زيد، أو أن شاء زيد، ونقل الحناطي وجها، في أن شاء الله، أنه لا يقع،
وثالثها أنه يفرق بين عارف النحو وغيره. واختار الروياني هذا. ولو قال: أنت طالق
ما شاء الله، قال المتولي وغيره: وقعت طلقة لأنها اليقين. ولو قال: أنت طالق
ثلاثا وثلاثا إن شاء الله، أو ثلاثا وواحدة إن شاء الله، أو واحدة وثلاثا إن شاء
الله، قال ابن الصباغ والمتولي: الذي يقتضيه المذهب: أنه لا يقع شئ، والوجه
بناؤه على الخلاف السابق، أن الاستثناء بعد الجملتين ينصرف إليهما، أم إلى
الأخيرة فقط؟ وكذا ذكره الامام، وقد ذكرنا أن الأصح عوده إلى الأخيرة، ويوافق
هذا البناء ما ذكره البغوي أنه لو قال: حفصة وعمرة طالقتان إن شاء الله، فهل يرجع
الاستثناء إلى عمرة فقط أم إليهما؟ وجهان، أصحهما: الأول. ولو قال: أنت
89

طالق واحدة واثنتين إن شاء الله، قال الامام: هو على الوجهين، إن جمعنا
المفرق، لم يقع شئ. ولو قال: أنت طالق واحدة ثلاثا إن شاء الله، أو أنت طالق
ثلاثا ثلاثا إن شاء الله، لم تطلق، وفي معناه: أنت طالق أنت طالق إن شاء الله،
وقصد التأكيد.
فرع قال: يا طالق إن شاء الله، يقع الطلاق على الأصح، ولو قال: يا
طالق، أنت طالق ثلاثا إن شاء الله، وقعت طلقة بقوله: يا طالق فقط، ولو قال:
أنت طالق ثلاثا يا طالق إن شاء الله، فهل يقع طلقة بقوله: يا طالق، أم ثلاث أم لا
يقع شئ؟ فيه أوجه، وبالأول قطع المتولي، ويشبه أن يكون هو الأظهر. وحكى
الامام عن القاضي والأصحاب الثالث، ويؤيد الأول، أن البغوي وغيره: ذكروا أنه
لو قال: أنت طالق ثلاثا يا زانية إن شاء الله، رجع الاستثناء إلى الطلاق، ووجب
حد القذف.
قلت: هذا الذي ذكره من ترجيح الأول هو الأصح، وقد قطع به جماعة غير
المتولي. والله أعلم.
فرع إذا قال: أنت طالق إن لم يشأ الله، أو إذا لم يشأ الله، أو ما لم يشأ
الله، لم تطلق على الصحيح باتفاق الجمهور، وقال صاحب التلخيص:
تطلق، ولو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله، فوجهان. أحدهما: لا تطلق،
والثاني: تطلق، وبالثاني قال العراقيون، وهو محكي عن ابن سريج، ورجحه
البغوي، والأول هو الأصح، صححه الامام وغيره، واختاره القفال، ونقله عن نص
الشافعي رحمه الله.
فرع إذا قال: أنت طالق إن لم يشأ زيد، أو إن لم يدخل الدار، أو إن لم
يفعل كذا، نظر، إن وجد منه المشيئة أو غيرها مما علق عليه في حياته، لم يقع
الطلاق، وإن لم توجد حتى مات، وقع الطلاق قبيل الموت إن لم يحصل قبل ذلك مانع،
فإن حصل مانع تتعذر معه المشيئة، كجنون ونحوه، تبينا وقوع الطلاق قبيل
90

حدوث المانع، وإن مات وشككنا في أنه هل وجد منه الصفة المعلق عليها، ففي
وقوع الطلاق وجهان، سواء كانت الصيغة: أنت طالق إن لم يدخل زيد، أو إلا أن
يدخل، والوقوع في الثانية أظهر منه في الأولى.
ولو قال: أنت طالق اليوم إلا أن يشاء زيد، أو إلا أن تدخل الدار، فاليوم هنا
كالعمر.
واعلم أن الأكثرين قالوا بالوقوع فيما إذا شككنا في الفعل المعلق عليه، واختار
الامام عدم الوقوع في الصورتين، وهو أوجه وأقوى.
قلت: الأصح عدم الوقوع، للشك في الصفة الموجبة للطلاق. والله أعلم.
فرع: قوله: أنت طالق إلا أن يشاء الله، أو إلا أن يشاء زيد، معناه: إلا
أن يشاء وقوع الطلاق. كما أن قوله: أنت طالق إن شاء الله، معناه: إن شاء وقوع
الطلاق، فالطلاق معلق بعدم مشيئة الطلاق، لا بمشيئة عدم الطلاق، وعدم مشيئة
الطلاق تحصل بأن يشاء عدم الطلاق، أو بأن لا يشاء شيئا أصلا، فعلى التقديرين
يقع، وإنما لا يقع إذا شاء زيد أن يقع، وقال بعضهم: معناه: أنت طالق إلا أن
يشاء زيد أن لا تطلقي، وعلى هذا، إن شاء أن تطلق، طلقت، وكذا ذكره
البغوي، والصحيح الأول.
91

الباب الخامس في الشك في الطلاق
إذا شك، هل طلق؟ لم يحكم بوقوعه، وكذا لو علق الطلاق على صفة
وشك في حصولها، كقوله: إن كان هذا الطائر غرابا، فأنت طالق، وشك في كونه
غرابا، أو قال: إن كان غرابا فزينب طالق، وإن كان حمامة، فعمرة طالق، وشك
هل كان غرابا أم حمامة أم غيرهما فلا يحكم بالطلاق. ولو تيقن أصل الطلاق،
وشك في عدده، أخذ بالأقل، ويستحب الاخذ بالاحتياط، فإن شك في أصل
الطلاق، راجعها ليتيقن الحل، وإن زهد فيها، طلقها لتحل لغيره يقينا، وإن شك
في أنه طلق ثلاثا أم اثنتين؟ لم ينكحها حتى تنكح زوجا غيره، وإن شك هل طلق
ثلاثا أم لم يطلق شيئا؟ طلقها ثلاثا.
فصل: تحته زينب وعمرة، فقال: إن كان هذا الطائر غرابا، فزينب
طالق، وإلا فعمرة طالق، وأشكل حاله، طلقت إحداهما، وعليه اعتزالهما جميعا
حتى يتبين الحال، وعليه البحث والبيان. ولو قال: إن كان غرابا فامرأتي طالق،
فقال رجل آخر: إن لم يكن غرابا فامرأتي طالق، لم يحكم بوقوع الطلاق على واحد
منهما.
فرع قال: إن كان هذا الطائر غرابا، فعبدي حر، وقال آخر: إن لم يكن
92

غرابا، فعبدي حر، وأشكل، فلكل واحد منهما التصرف في عبده، فإن ملك
أحدهما عبد الآخر بشراء أو غيره، واجتمع عنده العبدان، منع التصرف فيهما ويؤمر
بتعيين العتق في أحدهما، كما لو كانا في ملكه وعلق التعليقين، وعليه البحث عن
طريق البيان، وفي وجه: إنما يمتنع التصرف في الذي اشتراه، فلا يتصرف فيه حتى
يحصل البيان، ولا يمتنع التصرف في الأول.
قلت: هذان الوجهان نقلهما الامام وآخرون، ورجحوا الأول، وبه قطع
المتولي، لكن قطع الشيخ أبو حامد وسائر العراقيين، أو جماهيرهم، بأن العتق
يتعين في العبد المشترى، ويحكم بعتقه إذا تم تملكه ظاهرا، ولكن الأول أفقه.
والله أعلم.
ولو باع أحدهما عبده، ثم اشترى عبد صاحبه، قال في البسيط: لم أره
مسطورا، والقياس أن ينفذ تصرفه فيه، لأن بيع الأول لواقعة انقضت، وتصرفه في
الثاني واقعة أخرى، كما لو صلى إلى جهتين باجتهادين.
قلت: أما على طريقة العراقيين التي نقلتها، فيعتق عليه الثاني بلا شك، وأما
على الطريقة الأخرى، فيحتمل ما قاله في البسيط، ويحتمل بقاء الحجر في
الثاني حتى يتبين الحال، وهو قريب من الخلاف فيما إذا اشتبه إناءان فانصب
أحدهما، هل يجتهد في الثاني، أم يأخذ بطهارته، أم يعرض عنه، والأقيس بقاء
الحجر احتياطا للعتق، ولأن الأموال وغراماتها أشد من القبلة وسائر العبادات، ولهذا
لا يعذر الناسي والجاهل في الغرامات، ويعذر في كثير من العبادات، ويؤيد ما
ذكرته أن إقدامه على بيع عبده كالمصرح بأنه لم يعتق، وأن الذي عتق هو عبد
الآخر، وقد سبق أنه لو صرح بذلك، عتق عليه عبد صاحبه إذا ملكه قطعا، وقد ذكر
الغزالي في الوسيط: احتمالين، أحدهما: ما ذكره في البسيط. والثاني:
خلافه وهو يؤيد ما قلته. والله أعلم.
هذا كله إذا لم يصدر منه غير التعليق السابق، فإن قال للآخر: حنثت في
يمينك، فقال: لم أحنث، ثم ملك عبده، حكم عليه بعتقه قطعا لاقراره بحريته،
ولا رجوع له بالثمن إن كان اشتراه. ولو صدر هذان التعليقان من شريكين في عبد،
فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى في كتاب العتق.
93

فرع قال: أنت طالق بعدد كل شعرة على جسد إبليس، قال إسماعيل
البوشنجي: قياس مذهبنا: أنه لا يقع طلاق أصلا، لأنا لا ندري أعليه شعر أم لا؟
والأصل العدم، وعن بعض أصحاب أبي حنيفة وقوع طلقة.
قلت: القياس وقوع طلقة، وليس هذا تعليقا على صفة، فيقال: شككنا فيها
بل هو تنجيز طلاق، وربط لعدده بشئ شككنا فيه، فنوقع أصل الطلاق، ونلغي
العدد، فإن الواحدة ليست بعدد، لأن أقل العدد اثنان، فالمختار وقوع طلقة. والله
أعلم.
فصل طلق إحدى امرأتيه بعينها ثم نسيها، حرم عليه الاستمتاع بكل منهما
حتى يتذكر، فإن صدقناه في النسيان، فلا مطالبة بالبيان، وإن كذبناه وبادرت واحدة
وقالت: أنا المطلقة، لم يقنع منه في الجواب بقوله: نسيت، أو لا أدري، وإن
كان قوله محتملا، بل يطالب بيمين جازمة أنه لم يطلقها، فإن نكل، حلفت وقضي
باليمين المردودة.
فصل قال لزوجته وأجنبية: إحداكما طالق، وقال: نويت الأجنبية، قبل
قوله بيمينه على الصحيح المنصوص في الاملاء، وبه قطع الجمهور، وقيل:
تطلق زوجته، قال البغوي في الفتاوى: لو قال: لم أنو بقلبي واحدة، طلقت
امرأته، وإنما ينصرف عنها بالنية، ولو حضرتا، فقالت زوجته: طلقني، فقال:
94

طلقتك، ثم قال: أردت الأجنبية، لم يقبل، ذكره البغوي، وأمته مع زوجته،
كالأجنبية مع الزوجة.
ولو كان معها رجل أو دابة، فقال: أردت الرجل، أو الدابة، لم يقبل. ولو
كان اسم زوجته زينب، فقال: زينب طالق، ثم قال: أردت جارتي زينب، فثلاثة
أوجه، الصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا يقبل، فتطلق زوجته ظاهرا ويدين،
وقيل: يصدق بيمينه كالصورة السابقة، وهذا اختيار القاضي أبي الطيب الطبري
وغيره، والثالث، قاله إسماعيل البوشنجي: إن قال: زينب طالق، ثم قال: أردت
الأجنبية، قبل، وإن قال: طلقت زينب، لم يقبل، وهذا ضعيف. ولو نكح امرأة
نكاحا صحيحا، وأخرى نكاحا فاسدا، فقال لهما: إحداكما طالق، وقال: أردت
فاسدة النكاح، فيمكن أن يقال: إن قبلنا التفسير بالأجنبية، فهذه أولى، وإلا
فوجهان.
فصل قال لزوجته: إحداكما طالق، فإن قصد واحدة بعينها، فهي
المطلقة، فعليه بيانها. وإن أرسل اللفظ ولم يقصد معينة، طلقت إحداهما مبهما
ويعينها الزوج، وهذان القسمان يشتركان في أحكام، ويفترقان في أحكام، ثم تارة
يفصل حكمهما في الحياة، وتارة بعد الموت.
الحالة الأولى: حالة الحياة، وفيها مسائل:
الأولى: يلزم الزوج بالتبيين إذا نوى واحدة بعينها، وبالتعيين إذا لم ينو،
ويمنع من قربانهما حتى يبين، أو يعين، وذلك بالحيلولة بينه وبينهما، ويلزمه
التبيين والتعيين على الفور، فإن أخر، عصى، فإن امتنع، حبس وعزر، ولا يقنع
بقوله: نسيت المعينة، وإذا بين في الصورة الأولى، فللأخرى أن تدعي عليه أنك
نويتني وتحلفه، فإن نكل حلفت وطلقتا، وإذا عين في الصورة الثانية، فلا دعوى
لها، لأنه اختيار ينشئه، هذا كله في الطلاق البائن، فلو أبهم طلقة رجعية بينهما،
فهل يلزمه أن يبين أو يعين في الحال؟ وجهان حكاهما الامام، أحدهما: نعم،
لحصول التحريم، وأصحهما: لا، لأن الرجعية زوجة.
المسألة الثانية: يلزمه نفقتهما إلى البيان والتعيين، وإذا بين أو عين، لا يسترد
المصروف إلى المطلقة، لأنها محبوسة عنده حبس الزوجة.
95

الثالثة: وقوع الطلاق فيما إذا نوى معينة يحصل بقوله: إحداكما طالق،
ويحتسب عدة من ببين الطلاق فيها من حين اللفظ على المذهب المنصوص. وحكي
قول مخرج: أنها من وقت البيان، قال الامام: وهذا غير سديد.
أما إذا لم ينو معينة، ثم عين، فهل يقع الطلاق من حين قال: إحداكما
طالق، أم من حين التعيين؟ وجهان، رجحت طائفة الثاني، منهم الشيخ أبو علي،
ورجح الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والروياني وآخرون الأول. قالوا: ولولا
وقوع الطلاق، لما منع منهما، وهذا أقرب.
قلت: هذا الذي قاله أبو حامد وموافقوه، هو الصواب. والله أعلم.
فإن قلنا: يقع الطلاق بالتعيين، فمنه العدة، وإن قلنا: باللفظ، فهل العدة
منه، أم من التعيين؟ فيه الخلاف السابق، فيما إذا نوى معينة. والأكثرون على أن
الراجح، احتساب العدة من التعيين كيف قدر البناء، هذا كله في حياة الزوجين،
وسنذكر إن شاء الله أنهما إذا ماتتا أو إحداهما تبقى المطالبة بالتعيين لبيان
حكم الميراث، وحينئذ فإن أوقعنا الطلاق باللفظ، فذاك، وإن أوقعناه بالتعيين،
فلا
سبيل إلى إيقاع طلاق بعد الموت، ولا بد من إسناده للضرورة، وإلى ما يسند؟
وجهان، أصحهما عند الامام: إلى وقت اللفظ فيرتفع الخلاف، وأرجحهما عند
الغزالي: إلى قبيل الموت.
المسألة الرابعة: لو وطئ إحداهما، نظر، إن كان نوى معينة، فهي
المطلقة، ولا يكون الوطئ بيانا، بل تبقى المطالبة بالبيان، فإن بين الطلاق في
الموطوءة، فعليه الحد إن كان الطلاق بائنا، ويلزمه المهر لجهلها كونها المطلقة،
وإن بين في غير الموطوءة، قبل، فإن ادعت الموطوءة أنه أرادها، حلف، فإن نكل
وحلفت، طلقتا وعليه المهر، ولا حد للشبهة.
وإن لم يكن نوى معينة، فهل يكون الوطئ تعيينا؟ وجهان، ويقال: قولان،
أحدهما: نعم، وبه قال المزني وأبو إسحاق وأبو الحسن الماسرجسي، ورجحه ابن
96

كج، والثاني: لا، وبه قال ابن أبي هريرة، ورجحه صاحبا الشامل
والتتمة.
قلت: هذا الثاني، هو الأصح عند الرافعي في المحرر، وهو المختار.
قال في الشامل: وهو ظاهر نص الشافعي رحمه الله، فإنه قال: إذا قال:
إحداكما طالق، منع منهما، ومن يقول: الوطئ تعيين، لا يمنعه وطئ أيهما شاء.
والله أعلم.
فإن جعلنا الوطئ تعيينا للطلاق، ففي كون سائر الاستمتاعات تعيينا وجهان بناء
على الخلاف في تحريم الربيبة بذلك، وإذا جعلنا الوطئ تعيينا للطلاق في الأخرى،
فلا مهر للموطوءة ولا مطالبة، وإلا فتطالب بالتعيين، فإن عين الطلاق في
الموطوءة، فلها المهر إن قلنا: يقع الطلاق باللفظ، وإن قلنا بالتعيين، فحكى
الفوراني أنه لا مهر، وذكر فيه احتمالا، وذكر ابن الصباغ وغيره تفريعا على أن الوطئ
تعيين: أن الزوج لا يمنع من وطئ أيهما شاء، وإنما يمنع منهما إذا لم يجعل الوطئ
تعيينا، ولما أطلق الجمهور المنع منهما جميعا، أشعر ذلك بأن الأصح عندهم، أنه
ليس بتعيين.
الخامسة: في ألفاظ البيان والتعيين، فإن نوى معينة، حصل البيان بأن يقول
مشيرا إلى واحدة: المطلقة هذه، ولو قال: الزوجة هذه، بان الطلاق في
الأخرى، وكذا لو قال: لم أطلق هذه.
ولو قال: أردت هذه بل هذه، أو قال: هذه وهذه، أو هذه هذه، وأشار
إليهما، أو هذه مع هذه، طلقتا، قال الامام: وهذا فيما يتعلق بظاهر الحكم، فأما
في الباطن، فالمطلقة هي المنوية فقط، حتى لو قال: إحداكما طالق ونواهما،
فالوجه عندنا أنهما لا تطلقان، ولا يجئ فيه الخلاف في قوله: أنت طالق واحدة، ونوى
ثلاثا، لأن حمل إحدى المرأتين عليهما لا وجه له، وهناك يتطرق إلى الكلام
تأويل.
ولو قال: أردت هذه ثم هذه، أو هذه فهذه، قال القاضي حسين وصاحباه
المتولي والبغوي: تطلق الأولى دون الثانية لاقتضاء الحرفين الترتيب. وحكى الامام
97

هذا عن القاضي، واعترض بأنه اعترف بطلاق الثانية أيضا، فليكن كقوله: هذه
وهذه، والحق هو الاعتراض.
قلت: قول القاضي أظهر. والله أعلم.
ولو قال: أردت هذه بعد هذه، فقياس الأول أن تطلق المشار إليها بائنا
وحدها. ولو قال: هذه قبل هذه، أو بعدها هذه، فقياس الأول أن تطلق المشار
إليها أولا وحدها، وقياس الاعتراض، الحكم بطلاقهما في الصورة، ولو قال:
أردت هذه أو هذه، استمر الابهام والمطالبة بالبيان.
ولو كان تحته أربع، فقال: إحداكن طالق، ونوى واحدة بعينها، ثم قال:
أردت هذه بل هذه بل هذه، طلقن جميعا، وكذا لو عطف (بالواو فلو عطف) بالفاء أو
بثم، عاد قول القاضي والاعتراض.
ولو قال وهن ثلاث: أردت أو طلقت هذه، بل هذه أو هذه، طلقت الأولى
وإحدى الأخريين، ويؤمر بالبيان. وإن قال: هذه أو، هذه بل هذه، أو هذه، طلقت الأخيرة
وإحدى الأوليين، ويؤمر بالبيان. ولو قال: هذه وهذه أو هذه، نظر إن فصل الثالثة
عن الأوليين بوقفة أو بنغمة، أو أداء، فالطلاق مردد بين الأوليين وبين الثالثة
وحدها، وعليه البيان، فإن بين في الثالثة، طلقت وحدها، وإن بين في الأوليين أو
إحداهما، طلقتا، لأنه جمع بينهما بالواو العاطفة، فلا يفترقان.
وإن فصل الثانية عن الأولى، تردد الطلاق بين الأولى وإحدى الأخريين، فإن بين في الأولى، طلقت وحدها. وإن بين في الأخريين أو إحداهما، طلقتا جميعا،
وإن سرد الكلام ولم يفصل، احتمل كون الثالثة مفصولة عنهما، واحتمل كونها
مضمومة إلى الثانية مفصولة عن الأولى، فيسأل ويعمل بما أظهر إرادته. ولو
98

قال: هذه أو هذه وهذه، فإن فصل الثالثة عن الأوليين، تردد الطلاق بين إحدى
الأوليين، والأخرى مطلقة وحدها. وإن فصل الأخريين عن الأولى، فالتردد بين
الأولى وحدها، وبين الأخريين معا، وإن سرد الكلام ولم يفصل، فهما محتملان
ولو قال وهن أربع وقد طلق واحدة: أردت هذه أو هذه (لا)، بل هذه وهذه، طلقت
الاخريان وإحدى الأوليين. ولو قال: هذه وهذه، بل هذه أو هذه، طلقت الأوليان
وإحدى الأخريين. ولو قال: هذه وهذه وهذه أو هذه، فإن فصل الأخيرة عن
الثلاث، تردد الطلاق بين الثلاث والرابعة. وإن فصل الثالثة عما قبلها، طلقت
الأوليان وإحدى الأخريين، وإن فصل الثانية عن الأولى، فينبغي أن يقال: تطلق
الأولى، ويتردد الطلاق بين الثانية والثالثة معا، وبين الرابعة وحدها، فعليه البيان.
وإن سرد الكلام، قال البغوي: تطلق الثلاث أو الرابعة، ويؤمر بالبيان. فإن بين في
الثلاث أو بعضهن، طلقن جميعا، وإن بين في الرابعة، طلقت وحدها. والوجه أن
يقال: صورة السرد تحتمل احتمالات الثلاث، فيراجع ويعمل بمقتضى قوله كما
سبق. ولو قال: هذه وهذه، أو هذه وهذه، فقد يفصل الأولى عن الثلاث الأخيرة،
ويضم بعضهن إلى بعض، فتطلق الأولى ويتردد بين الثانية وحدها، وبين الأخريين
معا. وقد يفرض الفصل بين الأوليين والأخريين، والضم فيهما، فتطلق الأوليان
والأخريان. وقد يفرض فصل الرابعة عما قبلها فتطلق الرابعة، ويتردد الطلاق بين
الثالثة وحدها وبين الأوليين معا. ومتى قال: هذه المطلقة، ثم قال: لا أدري أهي
99

هذه أم غيرها؟ فتلك طالق بكل حال وتوقف الباقيات، فإن قال بعد ذلك: تحققت
أن المطلقة الأولى، قبل منه، ولم تطلق غيرها. وإن عين أخرى، حكم بطلاقها،
ولم يقبل رجوعه عن الأولى. والوقفة التي جعلناها فاصلة بين اللفظين مع إعمال
اللفظين، هي الوقفة اليسيرة، فأما إذا طالت، فقطعت نظم الكلام بأن قال: أردت
هذه ثم قال بعد طول المدة: أو هذه وهذه، فهذا الكلام الثاني لغو إذ لا يستقل
بالإفادة، هذا كله إذا نوى عند اللفظ المبهم واحدة معينة. أما إذا لم ينو فطولب
بالتعيين، فقال مشيرا إلى واحدة: هذه المطلقة، تعينت ولغا ذكر غيرها، سواء
عطف غيرها بالفاء وثم، أو بالواو أو ببل، لأن التعيين هنا ليس إخبارا عن
سابق، بل هو إنشاء اختيار، وليس له إلا اختيار واحدة، وسواء قلنا: يقع الطلاق
بالتعيين أو باللفظ.
المسألة السادسة: لو ادعت التي علق طلاقها بكون الطائر غرابا أنها مطلقة،
لزمه أن يحلف جزما على نفي الطلاق، كما لو ادعى نسيان المطلقة. ولو ادعت أنه
كان غرابا وأنها طلقت، لزمه أن يحلف على الجزم أنه لم يكن غرابا، ولا يكتفى
بقوله: لا أعلم أنه كان غرابا أو نسيت الحال، كذا ذكره الامام، وفرق بينه وبين ما
إذا علق طلاقها بدخول الدار ونحوه وأنكر حصوله، فإنه يحلف على نفي العلم
بالدخول، لأن الحلف هناك على نفي فعل الغير. وأما نفي الغرابية، فهو نفي صفة في
الغير، ونفي الصفة كثبوتها في إمكان الاطلاع عليها. قال الغزالي في البسيط:
في القلب من هذا الفرق شئ، فليتأمل، ويشبه أن يقال: إنما يلزمه الحلف على
نفي الغرابية إذا تعرض لها في الجواب.
أما إذا اقتصر على قوله: لست بمطلقة، فينبغي أن يكتفى منه بذلك كنظائره.
الحالة الثانية: إذا طرأ الموت قبل البيان أو التعيين، ففيه صورتان.
إحداهما: أن تموت الزوجتان أو إحداهما، ويبقى الزوج، فتبقى المطالبة بالبيان أو
التعيين. وقيل: إذا ماتتا، سقط التعيين، وإن ماتت إحداهما، تعين الطلاق في
الأخرى، ونسب هذا إلى الشيخ أبي محمد وهو بعيد، والصواب: الأول، ويوقف
له من تركة كل واحدة ميراث زوج، حتى يبين أو يعين، فإذا بين أو عين، لم يرث
من المطلقة إن كان الطلاق بائنا، سواء قلنا: يقع الطلاق عند اللفظ أو عند التعيين،
ويرث من الأخرى، ثم إن نوى معينة، فبين، وقال ورثة الأخرى: هي التي
100

أردتها، فلهم تحليفه، فإن حلف فذاك، وإن نكل، ومنع ميراثها أيضا. وإن
لم ينو معينة، وعين، لم يتوجه لورثة الأخرى دعوى، لأن التعيين إلى اختياره.
وقال الشيخ أبو محمد تفريعا على ما اختاره: يرث من كل واحدة ميراث زوج وهو
ضعيف.
قال ابن كج: وإذا حلفه ورثة الأخرى التي عينها للنكاح، أخذوا جميع المهر
إن كان بعد الدخول، وإلا أخذوا نصفه وفي النصف الثاني، وجهان، أحدهما:
يأخذونه أيضا عملا بتصديقه، والثاني: لا، لأنها مطلقة قبل الدخول بزعمهم، ولو
كذبه ورثة التي عينها للطلاق وغرضهم استقرار جميع المهر إذا كان قبل الدخول،
فلهم تحليفه وهم مقرون له بإرث لا يدعيه.
الصورة الثانية: أن يموت الزوج قبل البيان أو التعيين، ففي قيام الوارث مقامه
في البيان والتعيين قولان، وقيل: يقوم في البيان قطعا، والقولان في التعيين،
وقيل: لا يقوم في التعيين والقولان في البيان، لأنه إخبار يمكن الاطلاع عليه،
بخلاف التعيين، فإنه اختيار شهوة، فلا يحلفه الوارث، كما لو أسلم على أكثر من
أربع نسوة ومات، وقال القفال: إن مات والزوجتان حيتان، لم يقم الوارث قطعا لا
في البيان ولا في التعيين، إذ لا غرض له في ذلك، فإن الإرث لا يختلف بزوجة
وزوجتين، وإن ماتت إحداهما، ثم الزوج، ثم الأخرى، وعين الوارث الأولى
للطلاق، قبل قوله قطعا، لأنه يضر نفسه، وإن عين الأولى للنكاح، أو مات الزوج
وقد ماتتا، ففيه القولان، ثم يعود الترتيب المذكور في البيان والتعيين، والأظهر
حيث ثبت قولان: أنه يقوم، وحيث اختلف في إثبات القولين، المنع.
فإذا قلنا: لا يقوم، أو قلنا: يقوم فقال: لا أعلم، فإن مات الزوج
قبلهما، وقف ميراث زوجة بينهما حتى يصطلحا، أو يصطلح ورثتهما بعد موتهما،
وإن ماتتا قبل موت الزوج، وقف من تركتهما ميراث زوج، وإن توسط موته بينهم
، وقف من تركة الأولى ميراث زوج، ومن تركة الزوج ميراث زوجة، حتى يحصل
الاصطلاح.
101

وإن قلنا: لا يقوم، أو قلنا: يقوم الوارث مقامه، فإن مات الزوج قبلهما،
فتعين الوارث كتعينه وإن مات بعدهما، فإذا بين الوارث واحدة، فلورثة الأخرى
تحليفه أنه لا يعلم أن الزوج طلق مورثتهم، وإن توسط موته بينهما، فبين الوارث
الطلاق في الأولى قبلناه، ولم نحلفه لأنه ضر نفسه، وإن بين في المتأخرة، فلورثة
الأولى تحليفه أنه لا يعلم أن مورثه طلقها، ولورثة الثانية تحليفه على البت أنه
طلقها.
فرع شهد اثنان من ورثة الزوج، أن المطلقة فلانة، فيقبل شهادتهما إن
مات الزوج قبل الزوجتين لعدم التهمة، ولا يقبل إن ماتتا قبله، وإن توسط موته،
نظر إن شهدا بالطلاق للأولى قبل وإلا فلا.
فصل قال: إن كان هذا الطائر غرابا، فعبدي حر، وإن لم يكن،
فزوجتي طالق، أو دخل جماعة، فقال: إن كان أول من دخل زيد، فعبدي حر،
وإلا فزوجتي طالق، وأشكل الحال، ففي وجه حكاه ابن القطان: يقرع بين العبد
والزوجة، كما إذا مات الحالف، فإن خرجت قرعة العبد، ثم قال: تبينت أن
الحنث كان في الزوجة، لم ينقض العتق، وحكم بالطلاق أيضا، والصحيح الذي
قطع به الجمهور، أنه لا يقرع ما دام الحلف حيا لتوقع البيان، لكن يمنع من
الاستمتاع بالزوجة، واستخدام العبد، والتصرف فيه، وعليه نفقة الزوجة إلى
البيان، وكذا نفقة العبد على الأصح. وقيل: يؤجره الحاكم، وينفق عليه من
أجرته. فإن فضل شئ، حفظه حتى يبين الحال. وإذا قال الزوج: حنثت في
الطلاق، طلقت. فإن صدقه العبد، فذاك ولا يمين عليه على الصحيح، وحكى
الحناطي وجها، أنه يحلف لما فيه من حق الله تعالى، وإن كذبه وادعى العتق،
صدق السيد بيمينه، فإن نكل، حلف العبد، وحكم بعتقه، وإن قال: حنثت في
العتق، عتق العبد، ثم إن صدقته المرأة، فلا يمين، وفيه الوجه المذكور، وإن
كذبته، حلف، فإن نكل، حلفت وحكم بطلاقها. وقوله: لم أحنث في يمين
العبد، في جواب دعواه، وفي غير الجواب كقوله: حنثت في يمين العبد، ولو
قال: لا أعلم في أيهما حنثت، ففي الشامل وغيره، أنهما إن صدقاه، بقي
الامر موقوفا، وإن كذباه، حلف على نفي العلم، فإن حلف، فالامر موقوف، وإن
نكل، حلف المدعي منهما وقضى بما ادعاه.
102

وإن ادعى أحدهما أنه حنث في يمينه، فقال في جوابه: لا أدري، لم يكن
إقرارا بالحنث في الآخر، فإن عرضت عليه اليمين فحلف على نفي ما يدعيه، كان
مقرا بالحنث في الآخر. وإن كان التعليق لطلاق نسوة، وادعين الحنث ونكل عن
اليمين، فحلف بعضهن دون بعض، حكم بطلاق من حلف دون من لم يحلف.
ولو ادعت واحدة، ونكل عن اليمين، فحلفت، حكم بطلاقها، وله أن يحلف إذا
ادعت أخرى، ولا يجعل نكوله في واحدة نكولا في غيرها.
وأعلم أن ما سبق من الامر بالبيان أو التعيين، والحبس والتعزير عند الامتناع،
قد أشاروا إلى مثله هنا، لكن إذا قلنا: إنه إذا قال: لا أدري، يحلف عليه ويقنع
منه بذلك، يكون التضييق إلى أن يبين أو يقول: لا أدري، ويحلف عليه، وهكذا
ينبغي أن يكون الحكم في إبهام الطلاق بين الزوجتين.
فرع إذا مات الزوج قبل البيان، ففي قيام الوارث مقامه طريقان،
أحدهما: على الخلاف السابق في الطلاق المبهم بين الزوجتين، والثاني: القطع
بأنه لا يقوم، للتهمة في إخباره بالحنث في الطلاق ليرق العبد ويسقط إرث الزوجة
، ولأن للقرعة مدخلا في العتق، وسواء ثبت الخلاف أم لا، فالمذهب أنه لا يقوم.
قال السرخسي في الأمالي: هذا الخلاف إذا قال الوارث: حنثت في الزوجة،
فإن عكس، قبل قطعا لاضراره بنفسه وهذا حسن.
قلت: قد قاله أيضا غير السرخسي، وهو متعين. والله أعلم.
فإن لم يعتبر قول الوارث، أو قال: لا أعلم، أقرعنا بين العبد والمرأة، فإن
خرجت على العبد، عتق ويكون عتقه من الثلث إن كان التعليق في مرض الموت،
وترث المرأة إلا إذا كانت قد ادعت الحنث في يمينها وكان الطلاق بائنا. وإن خرجت
القرعة على المرأة، لم تطلق، لكن الورع أن تترك الميراث، وهل يرق العبد؟
وجهان: أحدهما: نعم، فيتصرف فيه الوارث كيف شاء. وأصحهما: لا، لان
القرعة لم تؤثر فيما خرجت عليه، فغيره كذلك، وعلى هذا، يبقى الابهام كما
كان. وقال ابن أبي هريرة: لا نزال نعيد القرعة حتى تخرج على العبد، قال
الامام: هذا القول غلط يجب إخراج قائله من أحزاب الفقهاء، وينبغي لقائله أن
يقطع بعتق العبد، ويترك تضييع الزمان بالقرعة. فالصواب بقاء الابهام، وإن اعتبرنا
103

قول الوارث فقال: الحنث في العبد، عتق وورثت الزوجة، وإن عكس، فللمرأة
تحليفه على البت، وللعبد أن يدعي العتق، ويحلفه أنه لا يعلم حنث مورثه فيه.
ونقل الحناطي وجها عن ابن سريج، أنه إذا لم يبين الورثة وقف حتى يموتوا،
ويخلفهم آخرون، وهكذا إلى أن يحصل بيان، ووجها، أن الوارث إذا لم يبين
حكم عليه بالعتق والطلاق، وهذان ضعيفان، والصواب الذي عليه الأصحاب، ما
تقدم وهو الاقراع إذا لم يبين، وبالله التوفيق.
فصل: ذكر الامام الرافعي رحمه الله هنا مسائل منثورة تتعلق بكتاب
الطلاق، نقلتها إلى موضعها اللائقة بها، ومما لم أنقله مسائل، منها عن أبي
العباس الروياني: لو كان له امرأتان، فقال مشيرا إلى إحداهما: امرأتي طالق،
وقال: أردت الأخرى، فهل تطلق الأخرى، وتبطل الإشارة، أم تطلقان معا؟
وجهان.
قلت: الأرجح الأول. والله أعلم.
وذكر إسماعيل البوشنجي، أنه لو قال لإحدى نسائه: أنت طالق، وفلانة أو
فلانة، فإن أراد ضم الثانية إلى الأولى، فهما حزب، والثالثة حزب، والطلاق تردد
بين الأوليين والثالثة، فإن عين الثالثة، طلقت وحدها، وإن عين الأوليين أو
إحداهما، طلقتا، وإن ضم الثانية إلى الثالثة وجعلهما حزبا والأولى حزبا، طلقت
الأولى وإحدى الأخريين، والتعيين إليه، وهذا الضم والتحزيب يعرف من قرينة
الوقفة، والنغمة كما ذكرناه قريبا في صيغ التعيين، فإن لم تكن قرينة، قال: فالذي
أراه أنه إن كان عارفا بالعربية، فمقتضى الواو الجمع بين الأولى والثانية في الحكم،
فيجعلان حزبا، والثالثة حزبا، وإن كان جاهلا بها، طلقت الأولى بيقين، ويخير
بين الأخريين. وأنه لو جلست نسوته الأربع صفا، فقال: الوسطى منكن طالق،
فوجهان، أحدهما: لا يقع شئ إذ لا وسطى، والثاني: يقع على الوسطيين، لان
الاتحاد ليس بشرط في وقوع اسم الوسطى.
104

قلت: كلا الوجهين ضعيف، والمختار ثالث، وهو أن يطلق واحدة من
الوسطيين، يعينها الزوج، لأن موضوع الوسطى لواحدة. فلا يزاد. والله أعلم.
وأنه لو قال لامرأتيه المدخول بهما: أنتما طالقان، ثم قال قبل المراجعة:
إحداكما طالق ثلاثا ولم ينو معينة، ثم انقضت عدة إحداهما، فإن عين في الباقية،
فذاك، وإن عين في الثانية، بني على أن التعيين بيان للواقع، أم إيقاع؟ إن قلنا
بالأول صح، وإلا فلا. قال: والأول أشبه بالمذهب. ولو انقضت عدتها، لم يجز له
التزوج بواحدة منهما قبل التعيين، وإلا إذا نكحت زوجا آخر، وبالله التوفيق.
الباب السادس في تعليق الطلاق
وهو جائز قياسا على العتق، وقد ورد الشرع بتعليقه في التدبير.
وإن علقه، لم يجز له الرجوع فيه، وسواء علقه بشرط معلوم الحصول، أو
محتمله، لا يقع الطلاق إلا بوجود الشرط في النوعين.
ولا يحرم الوطئ قبل وجود الشرط ووقوع الطلاق.
وإذا علق بصفة، ثم قال: عجلت تلك الطلقة المعلقة، لم تتعجل على
الصحيح. وحكى الشيخ أبو علي وغيره وجها، أنها تعجل. فإذا قلنا بالصحيح
فأطلق وقال: عجلت لك الطلاق، سألناه، فإن قال: أردت تلك الطلقة، صدقناه
بيمينه ولم يتعجل شئ، وإن أراد طلاقا مبتدءا، وقع طلقة في الحال.
قلت: وإن لم يكن له نية، لم يقع في الحال شئ. والله أعلم.
ولو عقب لفظ الطلاق بحرف شرط، فقال: أنت طالق إن، فمنعه غيره من الكلام
بأن وضع يده على فيه، ثم قال: أردت أن أعلق على شرط كذا، صدق
بيمينه، وإنما حلفناه لاحتمال أنه أراد التعليق على شئ حاصل، كقوله: إن كنت
فعلت كذا وقد فعله. ولو قطع الكلام مختارا حكم بوقوع الطلاق.
ولو ذكر حرف الجزاء، ولم يذكر شرطا، بأن قال: فأنت طالق، ثم قال:
أردت ذكر صفة فسبق لساني إلى الجزاء، قال القاضي حسين: لا يقبل في الظاهر،
105

لأنه متهم، وقد خاطبها بصريح الطلاق، وحرف الفاء، قد يحتمل غير الشرط،
ربما كان قصده أن يقول: أما بعد، فأنت طالق.
ولو قال: إن دخلت الدار أنت طالق بحذف الفاء، فقد أطلق البغوي
وغيره، أنه تعليق، وقال البوشنجي: يسأل، فإن قال: أردت التنجيز، حكم به،
وإن قال: أردت التعليق، أو تعذرت المراجعة، حمل على التعليق.
ولو قال: إن دخلت الدار. وأنت طالق بالواو، قال البغوي: إن قال: أردت
التعليق، قبل، أو التنجيز، وقع، وإن قال: أردت جعل الدخول، وطلاقها شرطين
لعتق أو طلاق، قبل قال البوشنجي: فإن لم يقصد شيئا طلقت في الحال،
وألغيت الواو، كما لو قال ابتداءا: وأنت طالق.
قلت: هذا الذي قاله البوشنجي فاسد حكما ودليلا، وليس كالمقيس عليه،
والمختار، أنه عند الاطلاق تعليق بدخول الدار، إن كان قائله لا يعرف العربية،
وإن عرفها، فلا يكون تعليقا ولا غيره إلا بنية، لأنه غير مقيد عنده، وأما العامي،
فيطلقه للتعليق، ويفهم منه التعليق. والله أعلم.
ولو قال: أنت طالق وإن دخلت الدار، طلقت في الحال، وكذا لو قال: وإن
دخلت الدار أنت طالق، ولم يذكر الواو في أنت.
فرع إذا علق الطلاق بشرط، ثم قال: أردت الايقاع في الحال، فسبق
لساني إلى الشرط، وقع في الحال لأنه غلط على نفسه.
فصل أعلم أن هذا الباب واسع جدا ويتلخص لمقصوده في أطراف.
الأول: في التعليق بالأوقات، وفيه مسائل.
الأولى: قال: أنت طالق في شهر كذا، أو غرة شهر كذا، أو أوله، أو رأس
الشهر، أو ابتداءه، أو دخوله، أو استقباله، أو إذا جاء شهر كذا، طلقت عند أول
جزء منه، فلو رأوا الهلال قبل غروب الشمس، لم تطلق حتى تغرب.
ولو قال: في نهار شهر كذا أو في أول يوم منه، طلقت عند طلوع الفجر من
اليوم الأول. ولو قال: أنت طالق في يوم كذا، طلقت عند طلوع الفجر من ذلك
اليوم، وحكى الحناطي قولا، أنها تطلق عند غروب الشمس من ذلك اليوم، وطرده
106

في الشهر أيضا، وهو شاذ ضعيف جدا. وعلى قياس هذا ما لو قال: في وقت الظهر
أو العصر، ولو قال: أردت بقولي: في شهر كذا أو في يوم كذا وسطه أو آخره، لم
يقبل ظاهرا على الصحيح، وحكى ابن كج وغيره في قبوله وجها، ويدين قطعا. ولو
قال: أردت بقولي: في غرته اليوم الثاني أو الثالث، فكذلك، لأن الثلاثة الأولى
تسمى غررا، فلو قال: أردت به المنتصف، لم يدين، لأنه لا يطلق على غير
الثلاثة الأولى، وكذا لو قال: في رأس الشهر، ثم قال: أردت السادس عشر.
الثانية: قال في رمضان: أنت طالق في رمضان، طلقت في الحال، ولو
قال: في أول رمضان، وإذا جاء رمضان، وقع في أول رمضان القابل.
الثالثة: قال: أنت طالق في آخر رمضان، فهل يقع في جزء من الشهر، أم
أول جزء من ليلة السادس عشر، أم أول اليوم الأخير منه؟ فيه أوجه، أصحها
الأول، ولو قال: أنت طالق في آخر السنة، فعلى الأول يقع في آخر جزء من
السنة، وعلى الثاني في أول الشهر السابع.
ولو قال: في آخر طهرك، فعلى الأول يقع في آخر جزء من الطهر، وعلى
الثاني، في أول النصف الثاني من الطهر. ولو قال: أنت طالق في أول آخر
الشهر، قال الجمهور: يقع في أول اليوم الأخير.
وقال ابن سريج: في أول النصف الأخير، وقال الصيرفي أو غيره: في أول
اليوم السادس عشر.
ولو قال: أنت طالق في آخر أول الشهر، قال الجمهور: يقع عند غروب
الشمس في اليوم الأول. وعن ابن سريج، يقع في آخر جزء من الخامس عشر.
وقيل: عند طلوع الفجر في اليوم الأول، وبهذا قطع المتولي بدلا عن الأول.
فقال: لو قال: أنت طالق أخر أول آخر الشهر، فمن جعل آخر الشهر اليوم الأخير،
قال: تطلق بغروب الشمس في اليوم الأخير، لأن ذلك اليوم هو آخر الشهر، وأوله
طلوع الفجر، وآخر أوله غروب الشمس، ومن جعل الآخر على النصف الثاني،
فأوله ليلة السادس عشر، فتطلق عند انقضاء الشهر على الوجهين.
107

الرابعة: قال: أنت طالق في سلخ الشهر، فأوجه.
أحدها: وبه قطع الشيخ أبو حامد ورجحه الغزالي: يقع في آخر جزء من
الشهر.
والثاني: وبه قطع المتولي والبغوي: يقع في أول اليوم الأخير.
والثالث: في أول جزء من الشهر، فإن الانسلاخ يأخذ من حينئذ. وقال
الامام: اسم السلخ يقع على الثلاثة الأخيرة من الشهر، فتحتمل أن يقع في أول
جزء من الثلاثة.
قلت: الصواب الأول، وما سواه ضعيف. والله أعلم.
الخامسة: قال أنت طالق عند انتصاف الشهر، يقع عند غروب الشمس في
اليوم الخامس عشر، وإن كان الشهر ناقصا، لأنه المفهوم من مطلقه، ذكره
المتولي.
ولو قال: نصف النصف الأول من الشهر، طلقت عند طلوع الفجر يوم
الثامن. ولو قال: نصف يوم كذا، طلقت عند الزوال لأنه المفهوم منه. وإن كان
اليوم يحسب من طلوع الفجر شرعا، ويكون نصفه الأول أطول.
السادسة: إذا قال: إذا مضى يوم فأنت طالق، نظر إن قاله بالليل، طلقت
عند غروب الشمس من الغد، وإن قاله بالنهار، طلقت إذا جاء مثل ذلك الوقت من
اليوم الثاني، هكذا أطلقوه.
ولو فرض انطباق التعليق على أول نهار، طلقت
عند غروب شمس يومه. ولو
قال: أنت طالق إذا مضى اليوم، نظر، إن قاله نهارا، طلقت عند غروب شمسه،
وإن كان الباقي منه يسيرا، وإن قاله ليلا، كان لغوا، إذ لا نهار، ولا يمكن الحمل
على الجنس. ولو قال: أنت طالق اليوم، طلقت في الحال نهارا كان أو ليلا، قاله
المتولي، ويلغو قوله: اليوم لأنه لم يعلق، وإنما أوقع وسمى الوقت بغير اسمه.
ولو قال: أنت طالق الشهر، أو السنة، وقع في الحال.
السابعة: قال: إذا مضى شهر فأنت طالق، لم تطلق حتى يمضي شهر
كامل. فإن اتفق قوله في ابتداء الهلال، طلقت بمضيه تاما أو ناقصا، وإلا فإن قاله
108

ليلا، طلقت إذا مضى ثلاثون يوما، ومن ليلة الحادي والثلاثين تقدر ما كان سبق من
ليلة التعليق، وإن قاله: نهارا كمل من اليوم الحادي والثلاثين بعد التعليق. ولو
قال: إذا مضى الشهر، طلقت إذا انقضى الشهر الهلالي، وكذا لو قال: إذا مضت
السنة، طلقت بمضي بقية السنة العربية، وإن كانت قليلة، وإن قال: إذا مضت
سنة بالتنكير، لم تطلق حتى يمضي اثنا عشر شهرا، ثم إن لم ينكسر الشهر الأول،
طلقت بمضي اثني عشر شهرا بالأهلة، وإن انكسر به الأول، حسب أحد عشر شهرا
بعده بالأهلة، وكملت بقية الأول ثلاثين يوما من الثالث عشر. وفي وجه: أنه إذا
انكسر شهر، انكسر جميع الشهور، واعتبرت سنة بالعدد، وقد سبق مثله في السلم
وهو ضعيف. ولو شك فيما كان مضى من شهر التعليق، لم يقع الطلاق إلا
باليقين، وذكر الحناطي في حل الوطئ في حال التردد وجهين.
قلت: أصحهما الحل. والله أعلم.
ولو قال: أردت بالسنة، السنة الفارسية أو الرومية، دين ولم يقبل
ظاهرا على الصحيح. ولو قال: أردت بقولي: السنة سنة كاملة، دين ولم يقبل ظاهرا.
ولو قال: أردت بقولي سنة بقية السنة، فقد غلط على نفسه.
الثامنة: إذا علق الطلاق بصفة مستحيلة عرفا، كقوله: إن طرت أو صعدت
السماء، أو إن
حملت الجبل، فأنت طالق، أو عقلا كقوله: إن أحييت ميتا، أو إن اجتمع السواد والبياض، فهل يقع الطلاق أم لا، أم يقع في العقلي دون العرفي؟
فيه أوجه، أصحها: لا يقع، أما في العرفي، فباتفاق الأصحاب وهو المنصوص،
وأما في العقلي، فعند الامام وجماعة خلافا للمتولي، والمستحيل شرعا كالمستحيل
عقلا، كقوله: إن نسخ صوم رمضان.
أما إذا قال: أنت طالق أمس أو الشهر الماضي، أو في الشهر الماضي، فله
أحوال.
أحدها: أن يقول: أردت، أن يقع في الحال طلاق، يستند إلى أمس أو إلى
109

الشهر الماضي، فلا شك أنه لا يستند، لكن يقع في الحال على الصحيح. وقيل:
لا يقع أصلا.
الحال الثاني: أن يقول: لم أوقع في الحال، بل أردت إيقاعه في الماضي،
فالمذهب والمنصوص، وقوع الطلاق في الحال وبه قطع الأكثرون، وقيل: قولان
ثانيهما: لا يقع.
الحال الثالث: أن يقول: لم أرد إيقاعه في الحال ولا في الماضي، بل أردت
أني طلقتها في الشهر الماضي في هذا النكاح وهي في عدة الرجعية أو بائن الآن،
فيصدق بيمينه، وتكون عدتها من الوقت الذي ذكره إن صدقته، ويبقى النظر في أنه
كان يخالطها أم لا؟ وإن كذبته، فالعدة من وقت الاقرار. وعن القاضي حسين:
أنها إن صدقته، قبل، وإلا فالقول قولها في أنه أنشأ الطلاق، وحينئذ يحكم عليه
بطلاقين، والصحيح الأول.
الحال الرابع: قال: أردت أني طلقتها في الشهر الماضي وبانت، ثم جددت
نكاحها، أو أن زوجا آخر طلقها في نكاح سابق، قال الأصحاب: ينظر، إن عرف
نكاح سابق، فطلاق فيه، أو أقام بذلك بينة وصدقته المرأة في إرادته، فذاك،
110

وإن كذبته وقالت: إنما أردت إنشاء طلاق الآن، حلف.
وإن لم يعرف نكاح سابق، وطلاق في ذلك النكاح، وكان محتملا، فينبغي
أن يقبل التفسير به وإن لم يقم بينة، وإلا يقع الطلاق وإن كان كاذبا، ولهذا لو قال
ابتداءا: طلقك في الشهر الماضي زوج غيري، لا يحكم بالطلاق عليه وإن كذب.
الحال الخامس: أن يقول: لم أرد شيئا أو مات ولم يفسر، أو جن، أو
خرس وهو عاجز عن التفهيم بالإشارة، فالصحيح وقوع الطلاق، ولو قال: أنت طالق
للشهر الماضي، ففي المجرد للقاضي أبي الطيب: أنه يقع الطلاق في
الحال بلا خلاف، كما لو قال: لرضى فلان، لكن الكلام في مثل ذلك يستعمل
للتاريخ، واللفظ محتمل للمعاني المذكورة في قوله.
المسألة التاسعة: قال: إذا مات أو إذا قدم فلان، فأنت طالق قبله
بشهر، أو قال: أنت طالق قبل أن أضربك بشهر، نظر إن مات فلان أو قدم، أو
ضربها قبل مضي شهر من وقت التعليق، لم يقع الطلاق. وقيل: يقع عند
الضرب، والصحيح الأول، وبه قطع الجمهور، وتنحل اليمين. حتى لو ضربها
بعد ذلك وقد مضى شهرا أو أكثر، لم تطلق، وللامام احتمال أنه لا تنحل لكون
الضرب الأول ليس هو المحلوف عليه.
وإن مات أو قدم أو ضرب بعد مضي شهر من وقت التعليق، تبينا وقوع الطلاق
قبله بشهر، وتحسب العدة من يومئذ.
ولو ماتت وبينها وبين القدوم (دون) شهر. لا يرثها الزوج، ولو خالعها قبل
القدوم أو الموت، فإن كان بين الخلع وقدوم فلان أكثر من شهر، وقع الخلع
صحيحا، ولم يقع الطلاق المعلق. وإن كان بينهما دون شهر والطلاق المعلق
ثلاث، فالخلع فاسد والمال مردود.
ولو علق عتق عبده كذلك ثم باعه، وبين البيع وموت فلان، أو قدومه أكثر من
شهر، صح البيع، ولم يحصل العتق.
111

المسألة العاشرة: قال: أنت طالق غد أمس، أو أمس غد على الإضافة،
وقع الطلاق في اليوم لأنه غد أمس وأمس غد.
ولو قال: أمس غدا، أو غدا أمس لا بالإضافة، طلقت إذا طلع الفجر من
الغد، ويلغو ذكر الأمس. هكذا أطلقه البغوي، ونقل الامام مثله في قوله: أنت
طالق أمس غدا، وأبدى فيه توقفا، لأنه يشبه: أنت طالق الشهر الماضي. ولو
قال: أنت طالق اليوم غدا، وقع في الحال طلقة، ولا يقع في الغد شئ. ولو
قال: أردت اليوم طلقة وغدا أخرى، طلقت كذلك إلا أن يبين. وإن قال: أردت
إيقاع نصف طلقة اليوم ونصف طلقة غدا، فكذلك تطلق طلقتين. ولو قال: أردت
نصف طلقة اليوم ونصفها الآخر غدا، فوجهان، أحدهما: يقع طلقتان أيضا،
وأصحهما: لا يقع إلا واحدة، لأن النصف الذي أخره تعجل، وبهذا قطع
المتولي.
ولو قال: أنت طالق غد اليوم، فوجهان، أحدهما: يقع في الحال طلقة،
ولا يقع في غد شئ، كما سبق في قوله: اليوم غدا، والثاني وهو الصحيح، وبه
قال القاضي أبو حامد وصححه أبو عاصم: لا يقع في الحال شئ، ويقع في غد
طلقة، لأن الطلاق تعلق بالغد، وقوله: بعده اليوم، كتعجيل الطلاق المعلق، فلا
يتعجل. ولو قال: أنت طالق اليوم وغدا، وبعد غد، يقع في الحال طلقة، ولا
يقع في الغد ولا بعده شئ آخر، لأن المطلقة في وقت مطلقة فيما بعده، كذا ذكره
المتولي.
ولو قال: أنت طالق اليوم، وإذا جاء الغد، قال إسماعيل البوشنجي:
يسأل. فإن قال: أردت طلقة اليوم وتبقى بها مطلقة غدا، أو لم يكن له نية، لم يقع
إلا طلقة، وإن قال: أردت طلقة اليوم وطلقة غدا، أوقعناه كذلك إن كانت مدخولا
بها.
ولو قال: أنت طالق اليوم ورأس الشهر، فهو كقوله: اليوم وغدا.
ولو قال: أنت طالق اليوم وفي الغد، وفيما بعد غد، قال المتولي: يقع في
كل يوم طلقة. قال: وكذلك لو قال: في الليل وفي النهار، لأن المظروف يتعدد
بتعدد الظرف، وليس هذا الدليل بواضح فقد يتحد المظروف، ويختلف الظرف.
112

ولو قال: أنت طالق بالليل والنهار، لم تطلق إلا واحدة. ولو قال: أنت طالق
اليوم أو غدا، فوجهان، الصحيح: لا يقع إلا في الغد لأنه اليقين. والثاني: يقع
في الحال تغليبا للايقاع، ولو قال: أنت طالق غدا أو بعد غد، أو إذا جاء الغد أو
بعد غد، قال البوشنجي: لا تطلق في الغد، قال: وعلى هذا استقر رأي أبي بكر
الشاشي وابن عقيل ببغداد، وهذا يوافق الصحيح من هذين الوجهين السابقين. ولو
قال: أنت طالق اليوم إذا جاء الغد، فوجهان. أحدهما عن ابن سريج وصاحب
التقريب: لا تطلق أصلا، لأنه علقه بمجئ الغد، فلا يقع قبله، وإذا جاء
الغد، فقد مضى اليوم الذي جعله محلا للايقاع. والثاني: إذا جاء الغد، وقع
الطلاق مستندا إلى اليوم، ويكون كقوله: إذا قدم زيد، فأنت طالق اليوم.
قلت: الأصح لا تطلق، وبه قطع صاحب التنبيه وهو الأشبه بالتعليق
بمحال. والله أعلم.
ولو قال: أنت طالق الساعة إذا دخلت الدار، قال البوشنجي: هو كقوله:
أنت طالق اليوم إذا جاء الغد.
المسألة الحادية عشرة: إذا قال لمدخول بها: أنت طالق ثلاثا، في كل سنة
طلقة، وقع في الحال طلقة، ثم إن أراد السنين العربية، وقعت أخرى في أول
المحرم المستقبل، وأخرى في أول المحرم الذي بعده. وإن أراد أن بين كل طلقتين
سنة، وقعت الثانية عند انقضاءه سنة كاملة من وقت التعليق، والثالثة بعد انقضاء سنة
كاملة بعد ذلك، وهذا مفروض فيما إذا امتدت العدة أو راجعها فلو بانت وجدد
نكاحها وهذه المدة باقية، ففي وقوع الطلاق قولا عود الحنث فإن قلنا: يعود وكان
التجديد في خلال السنة، تطلق في الحال، وإن أطلق السنين، فهل ينزل على
العربية أم على الاحتمال الثاني؟ فيه وجهان. أصحهما: الثاني، وإن قال: أنت
طالق ثلاثا في ثلاثة أيام، أو في كل يوم طلقة، فإن قالها بالنهار، وقع في الحال
طلقة، وبطلوع الفجر في اليوم الثاني أخرى، وبطلوعه في الثالث أخرى. فلو
قال: أردت أن يكون بين كل طلقتين يوم دين، وفي قبوله ظاهرا وجهان، أقيسهما:
القبول، وإن قاله بالليل، وقع ثلاث طلقات بطلوع الفجر في الأيام الثلاثة التالية
للتعليق.
113

الثانية عشرة: قال: أنت طالق اليوم إن لم أطلقك اليوم، فمضى اليوم ولم
يطلقها، فوجهان. قال ابن سريج وغيره: لا طلاق، وقال الشيخ أبو حامد: تقع
في آخر لحظة من اليوم، وهو إذا بقي من اليوم زمن لا يسع التطليق.
قلت: هذا الثاني: أفقه، وهو المختار. والله أعلم.
الثالثة عشرة: قال: أنت طالق في أفضل الأوقات، طلقت ليلة القدر، ولو
قال: أفضل الأيام، طلقت يوم عرفة، وفي وجه: يوم الجمعة عند غروب
الشمس، ذكره القفال في الفتاوى.
قلت: تخصيصه ب‍ عند غروب الشمس ضعيف أو غلط، لأن اليوم يتحقق
بطلوع الفجر، فإن تخيل متخيل أن ساعة الإجابة، قد قيل: إنها آخر النهار، فهو
وهم ظاهر لوجهين، أحدهما: أن الصواب أن ساعة الإجابة، من حين يجلس
الامام عند المنبر، إلى أن تقضي الصلاة، كذا صرح به رسول الله (ص) في صحيح
مسلم: والثاني: أنه لم يعلق بأفضل أوقات اليوم، بل اليوم الأفضل، واسم اليوم
الأفضل يحصل بطلوع الفجر. والله أعلم.
الرابعة عشرة: في فتاوى القفال. لو قال: أنت طالق بين الليل
والنهار، لا تطلق ما لم تغرب الشمس.
قلت: هذا إذا كان نهارا، فإن علق ليلا، طلقت بطلوع الفجر. والله أعلم.
الخامسة عشرة: في فتاوى القفال. لو قال: أنت طالق قبل موتي، طلقت
في الحال، وإن قال: قبيل بضم القاف وفتح الياء أو قبيل بزيادة ياء، لا تطلق إلا
في آخر جزء من أجزاء حياته. ولو قال: بعد قبل موتي، طلقت في الحال، لأنه
بعد قبل موته، ويحتمل أن لا يقع، لأن جميع عمره قبل الموت. ولو قال: أنت
114

طالق قبل أن تدخلي الدار، أو قبل أن أضربك ونحو ذلك مما لا يقع بوجوده، قال
إسماعيل البوشنجي: يحتمل وجهين، أحدهما: وقوع الطلاق في الحال، كقوله:
قبل موتي أو موت فلان. وأصحهما: لا يقع حتى يوجد ذلك الفعل، فحينئذ يقع
الطلاق مستندا إلى حال اللفظ، لأن الصيغة تقتضي وجود ذلك الفعل، وربما لا
يوجد، ولو قال: أنت طالق تطليقة قبلها يوم الأضحى، سألناه، فإن أراد الأضحى
الذي بين يديه، لم تطلق حتى يجئ ذلك الأضحى وينقرض، ليكون قبل
التطليقة، وإن أراد الأضحى الماضي طلقت في الحال كما لو قال: يوم السبت أنت
طالق طلقة قبلها يوم الجمعة.
قلت: فإن لم يكن له نية، لم يقع حتى ينقضي الأضحى الذي بين يديه.
والله أعلم.
ولو قال: أنت طالق قبل موت فلان وفلان بشهر، فمات أحدهما قبل شهر،
لم تطلق، وإن مات أحدهما بعد مضي شهر، فوجهان، أحدهما: تطلق قبل موته
بشهر، لأنه وإن تأخر موت الآخر، فيصدق عليه أنه وقع قبل موتهما بشهر،
والثاني: لا تطلق أصلا، لأنه في العرف لا يقال: طلقت قبل موته بشهر، إلا إذا لم
يزد ولم ينقص، وهذا الثاني خرجه البوشنجي، ونظير المسألة، قوله: أنت طالق
قبل عيدي الفطر والأضحى بشهر، فعلى الأول تطلق أول رمضان، وعلى الثاني،
لا تطلق.
قلت: الصواب الأول، والثاني غلط، ولا أطلق عليه اسم الضعيف،
وعجب ممن يخرج مثل هذا أو يحكيه ويسكت عليه. والله أعلم.
فرع في فتاوى القاضي حسين: أنه لو قال: أنت طالق قبل ما بعده
رمضان، وأراد الشهر، طلقت في آخر جزء من رجب، وإن أراد اليوم بليلته، ففي
آخر جزء من التاسع والعشرين من شعبان، وإن أراد مجرد اليوم، فقبيل فجر يوم
الثلاثين من شعبان، وإن قال: بعد ما قبله رمضان وأراد الشهر، طلقت عند
استهلال ذي القعدة، وإن أراد الأيام، ففي اليوم الثاني من شوال.
السادسة عشرة: قال: أنت طالق كل يوم، فوجهان حكاهما أبو العباس
115

الروياني، أحدهما: تطلق كل يوم طلقة، حتى يكمل الثلاث، وهو مذهب أبي
حنيفة، والثاني: لا يقع إلا واحدة، والمعنى: أنت طالق أبدا.
قلت: الأول أصح، لأنه السابق إلى الفهم. والله أعلم.
ولو قال: أنت طالق يوما ويوما لا، ولم ينو شيئا، وقع واحدة، وقال
البوشنجي: المفهوم منه وقوع ثلاث طلقات آخرهن في اليوم الخامس. وإن قال:
أردت طلقة، يثبت حكمها في يوم دون يوم، أو تقع في يوم دون يوم، وقعت
طلقة.
السابعة عشرة: قال: أنت طالق إلى شهر، قال المتولي وغيره: يقع الطلاق
بعد مضي شهر، ويتأبد إلا أن يريد تنجيز الطلاق وتوقيته، فيقع في الحال مؤبدا،
قال البوشنجي: ويحتمل أن يقع في الحال عند الاطلاق.
قلت: هذا الاحتمال ضعيف. والله أعلم.
الثامنة عشرة: قال: أنت طالق غدا، أو عبدي حر بعد غد، قال
البوشنجي: يؤمر بالتعيين، فإذا عين الطلاق أو العتق، يعين في اليوم الذي ذكره.
قال: ولو قال: أنت طالق أمس وقد تزوجها اليوم، كان الحكم كما لو تزوجها
قبل الأمس.
قال: ولو قال: أنت طالق طلقة، لا تقع عليك إلا غدا، طلقت بمجئ
الغد، كما لو قال: طلقة تقع عليك غدا. قال: ولو قال: أنت طالق اليوم، وإن
جاء رأس الشهر، طلقت في الحال، كقوله: أنت طالق اليوم وإن دخلت الدار.
الطرف الثاني: في التعليق بالتطليق، ونفيه ونحوهما. قال الأصحاب:
الألفاظ التي يعلق بها الطلاق بالشرط والصفات من وإن وإذا ومتى،
ومتى ما، ومهما، وكلما، وأي.
116

كقوله: من دخلت منكن، أو إن دخلت، أو إذا دخلت، أو متى، أو متى
ما، أو مهما، أو كلما، أو أي وقت، أي زمان دخلت، فأنت طالق. ثم إن كان
التعليق بإثبات فعل، لم يقتض شئ منها الفور، ولم يشترط وجود المعلق عليه في
المجلس، إلا إذا كان التعليق بتحصيل مال، بأن يقول: إن ضمنت لي، أو إن
أعطيتني ألفا، فإنه يشترط الفور في الضمان والاعطاء في بعض الصيغ المذكورة،
كما سبق في كتاب الخلع، وإلا إذا علق الطلاق على مشيئتها فإنه تعتبر مشيئتها على
الفور كما سبق، وسيأتي إن شاء الله تعالى، ولا يقتضي شئ من هذه الصيغ تعدد
الطلاق بتكرر الفعل، بل إذا وجد الفعل المعلق عليه مرة، انحلت اليمين ولم يؤثر
وجوده ثانيا إلا كلما فإنها تقتضي التكرار بالوضع والاستعمال، وحكى الحناطي
وجها، أن متى، ومتى ما يقتضيان التكرار، ووجها أن متى ما تقتضيه
دون متى، وهما شاذان ضعيفان.
فصل إذا قال: إن طلقتك، أو إذا طلقتك، أو متى طلقتك فأنت طالق،
ثم طلقها، نظر إن كان مدخولا بها، وقع طلقتان، إحداهما: المنجزة، والأخرى
المعلقة سواء طلق بصريح أو كناية مع النية، ولو طلقها طلقتين وقع ثلاث، الثالثة
بالتعليق، ولو قال: لم أرد التعليق، إنما أردت أني إذا طلقتها تكون مطلقة بتلك
الطلقة، دين ولم يقبل ظاهرا.
ولو وكل فطلقها وكيله، وقعت المنجزة فقط، لأنه لم يطلقها هو، وأما إذا لم
يكن مدخولا بها، فيقع ما نجزه وتحصل البينونة، فلا يقع شئ آخر، وتنحل
اليمين، فلو نكحها بعد ذلك وطلقها، لم يجئ الخلاف في عود الحنث.
ولو خالعها وهي مدخول بها، أو غيرها، لم يقع الطلاق المعلق لحصول
البينونة بالخلع، ثم إن جعلنا الخلع طلاقا، انحلت اليمين، وإن جعلناه فسخا، لم
تنحل، وحكى الحناطي وجها، أنه يقع في غير المدخول بها وفي الخلع طلقتان وهو
غريب ضعيف.
117

فرع الطلقة المعلقة بصفة، هل تقع مع الصفة مقترنة بها، أم تقع
مترتبة على الصفة؟ وجهان، أصحهما والمرضي عند الامام وقول المحققين: أنها
معها، لأن الشرط علة وضعية، والطلاق معلولها فيتقاربان في الوجود، كالعلة
الحقيقية مع معلولها. فمن قال بالترتيب قال: إنما لم يقع على غير المدخول بها
الطلقة الثانية في المسألة السابقة، لكونها بانت بالمنجزة. ومن قال بالأصح وهو
المقارنة، قال: إنما لم تقع في الثانية، لأن قوله: إن طلقتك، فأنت طالق،
معناه: إن صرت مطلقة، وبمجرد مصيرها مطلقة، بانت.
فرع كما أن تنجيز الطلاق تطليق يقع به الطلقة المعلقة بالتطليق في
المدخول بها، فكذا تعليق الطلاق مع وجود الصفة تطليق. فإذا قال: إذا طلقتك
فأنت طالق، ثم قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت، وقع طلقتان، وكما
أن التعليق بالصفة مع الصفة تطليق، فالتعليق مع الصفة إيقاع للطلاق. فإذا قال:
إذا أوقعت عليك الطلاق، فأنت طالق، ثم قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق،
فدخلت، وقع طلقتان. وقال الشيخ أبو حامد: لا يقع إلا طلقة، وحكاه صاحبا
المهذب والتهذيب، وزعم قائله أن لفظ الايقاع يقتضي طلاقا يباشره بخلاف
التطليق، والصحيح الأول.
وأما مجرد الصفة، فليس بتطليق ولا إيقاع، لكنه وقوع، فإذا قال: إن
دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال: إن طلقتك، أو إذا أوقعت عليك الطلاق فأنت
طالق، ثم دخلت الدار، لا يقع المعلق بالتطليق أو الايقاع، بل يقع طلقة
بالدخول. ولو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال: إن وقع عليك طلاقي،
فأنت طالق، ثم دخلت الدار، وقع طلقتان، وتطليق الوكيل وقوع على الصحيح.
وأما مجرد التعليق، فليس بتطليق ولا إيقاع ولا وقوع.
وإذا قال: كلما وقع عليك طلاقي، فأنت طالق، ثم طلقها، وقع ثلاث
طلقات، فيقع بوقوع الأولى ثانية، وبوقوع الثانية ثالثة.
ولو قال: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم طلقها، وقع طلقتان على الصحيح
118

والمشهور، وحكى ابن كج عن القاضي أبي حامد وغيره وقوع ثلاث، وجعله
الحناطي قولا منسوبا إلى كتاب البويطي. فإذا قلنا بالصحيح: لا تنحل اليمين
لاقتضاء اللفظ التكرار. قال البغوي: لكن لا تظهر فائدة هنا، لأنه إذا طلقها
أخرى، كان بالمنجزة مستوفيا للثلاث، ولا تعود اليمين بعد استيفاء الثلاث على
المذهب، ولو قال: كلما طلقتك، فأنت طالق، ثم قال: إذا أوقعت عليك
طلاقي، فأنت طالق، ثم طلقها، طلقت ثلاثا.
فرع قال لها: إذا أعتقت عبدي، فأنت طالق، ثم قال للعبد: إن دخلت
الدار، فأنت حر، ثم دخل، عتق وطلقت، لأن التعليق مع الدخول اعتاق كما أنه
تطليق، ولو قدم تعليق، العتق فقال: إن دخلت الدار، فأنت حر، ثم قال
لامرأته: إن أعتقت عبدي، فأنت طالق، ثم دخل العبد، عتق ولم تطلق المرأة
، فلو قال: إن دخلت الدار، فأنت حر، ثم قال لها: إذا عتق أو وقع عليه العتق،
فأنت طالق، ثم دخل، عتق وطلقت.
فرع تحته حفصة وعمرة، فقال لحفصة: إذ أطلقت عمرة، فأنت طالق،
ثم قال لعمرة: إذا دخلت الدار، فأنت طالق، فدخلت، طلقتا جميعا.
ولو قال لعمرة: إن دخلت الدار، فأنت طالق، ثم قال لحفصة: إن طلقت
عمرة، فأنت طالق، ثم دخلت عمرة، طلقت ولم تطلق حفصة.
ولو قال لحفصة: متى وقع طلاقي على عمرة، فأنت طالق، وعلق طلاق
عمرة بدخول الدار قبل تعليق حفصة أو بعده، ثم دخلت عمرة، طلقتا.
ولو قال لحفصة: إن طلقت عمرة، فأنت طالق، ثم قال لعمرة: إن طلقت
حفصة، فأنت طالق، ثم طلق حفصة، طلقت حفصة طلقتين، وعمرة طلقة.
ولو طلق عمرة بدل حفصة، طلقتا طلقة طلقة فقط.
ولو كان تعليق الطلاقين بصيغة إذا أو متى أو مهما أو كلما
فكذلك الجواب، لأن التطليق لم يتكرر، ولا مزية لكلما.
ولو قال لحفصة: إن وقع طلاقي على عمرة، فأنت طالق، ثم قال لعمرة: إن
وقع طلاقي على حفصة، فأنت طالق، ثم طلق إحداهما، طلقت طلقة منجزة وتقع
119

على صاحبتها طلقة بالصفة، ثم يعود إلى المنجز طلاقها طلقة أخرى بالوقوع على
صاحبتها، ولو علق هكذا بصيغة كلما، ثم طلق إحداهما، طلقتا ثلاثا ثلاثا.
ولو قال لحفصة: إذا طلقتك، فعمرة طالق، ثم قال لعمرة: إذا طلقتك،
فحفصة طالق، فقد بطلاق المخاطبة طلاق صاحبتها بخلاف الصورة السابقة
وحكم هذه، أنه إن طلق بعد ذلك حفصة، طلقت طلقة فقط، وطلقت عمرة
بالصفة، ولم تعد إلى حفصة طلقة أخرى، لأن طلاقها معلق بتطليق عمرة، ولم
يطلق عمرة بعد ما علق طلاق حفصة تنجزا، ولا أحدث تعليقا.
ولو طلق عمرة أولا، طلقت طلقة منجزة، وطلقت حفصة طلقة بالصفة، وعاد
بطلاقها إلى عمرة طلقة أخرى.
فرع تحته أربع، فقالت: كلما طلقت واحدة منكن، فالأخريات طوالق،
ثم طلق واحدة، طلقن طلقة طلقة، فإن طلق أخرى، فإن
طلق ثالثة، طلقن ثلاثا ثلاثا، ولو قال: كلما طلقت واحدة منكن، فأنتن طوالق،
ثم طلق إحداهن، طلقت هي طلقتين، والباقيات طلقة طلقة، فإن طلق ثانية، تم
لها وللأولى ثلاث ثلاث، وللثالثة والربعة، طلقتان طلقتان، فإن طلق إحداهما،
تم لهما أيضا الثلاث.
فرع له نسوة نكحهن مرتبا، فقال: إن طلقت الأولى، فالثانية طالق،
وإن طلقت الثانية، فالثالثة، طلق، وإن طلقت الثالثة فالأولى طالق، فان طلق
الأولى طلق هي والثانية، دون الثالثة، وإن طلق الثانية، طلقت هي والثالثة،
دون الأولى، وإن طلقت هي والأولى والثانية، وإن طلق واحدة لا
بعينها ومات فبل البيان، فإن كان الطلاق قاطعا للإرث، لكونه ثلاثا، أو قبل
الدخول، فليس للثانية المخاصمة للميراث لأنها مطلقة على كل تقدير والأولى
والثالثة المخاصمة، لأن احتمال عدم الطلاق قائم في حق كل منهما، فيوقف الامر
إلى الاصطلاح.
فصل له أربع نسوة وعبيد، فقال: إن طلقت واحدة من نسائي، فعبد من
عبيدي حر، وإن طلقت ثنتين، فعبدان حران، وإن طلقت ثلاثا، فثلاثة أعبد
120

أحرار، وإن طلقت أربعا، فأربعة أعبد أحرار، ثم طلقهن معا، أو على الترتيب،
عتق عشرة أعبد، وهكذا الحكم إذا علق بصيغة إذا أو متى أو مهما، وما
لا يقتضي شئ، أما إذا علق هذه التعليقات بلفظ كلما ثم طلقهن معا، أو على
الترتيب، فيعتق خمسة عشر عبدا، وقيل: عشرة، وقيل: سبعة عشر، وقيل:
عشرون، وقيل: ثلاثة عشر، حكاه القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد،
والصحيح الأول، واتفق الأصحاب على تضعيف ما سواه، والرجوع في تعيين العبيد
إليه.
فصل في التعليق بنفي التطليق وفي معناه التعليق بنفي دخول الدار
والضرب، وسائر الأفعال، فإذا قال: إن لم أطلقك، فأنت طالق، لم يقع الطلاق
حتى يحصل اليأس من التطليق.
ولو قال: إذا لم أطلقك، فأنت طالق، فإذا مضى زمن يمكنه أن يطلق فيه،
فلم يطلق، طلقت، هذا هو المنصوص في الصورتين، وهو المذهب، وقيل:
قولان فيهما بالنقل والتخريج، ولو قال: متى لم أطلقك، أو مهما، أو أي
حين، أو كلما لم أفعل، أو تفعلي كذا، فأنت طالق، فمضى زمن يسع الفعل ولم
يفعل، طلقت على المذهب، كلفظ إذا، وأشار الحناطي إلى خلاف، وضبط
الأصحاب هذا تفريعا على المذهب، بأن أدوات التعليق كلها تقتضي الفور في طرف
النفي، إلا لفظة إن، فإنها للتراخي، وفي تسمية هذا فورا وتراخيا، نوع
توسع، ولكن المعنى مفهوم، ولو علق النفي بلفظة إن، وقيد بزمان، فقال: إن
لم أطلقك اليوم، فأنت طالق، وقلنا بالمذهب، فإذا مضى اليوم ولم يطلق، حكم
بوقوع الطلاق قبيل غروب الشمس لحصول اليأس حينئذ، ولو قال: إن تركت
طلاقك، فأنت طالق، فإذا مضى زمن زمن يمكنه أن يطلق فيه فلم يطلق، طلقت،
بخلاف طرف النفي، ولو طلقها في الحال واحدة ثم سكت، لم يقع أخرى لأنه لم
يترك طلاقها. قال البغوي: ولو قال: إن سكت، عن طلاقك، فأنت طالق فلم
يطلقها في الحال، وقع طلقة، وإن طلقها في الحال ثم سكت، وقعت أخرى
بالسكوت، ولا تطلق بعد ذلك لانحلال اليمين.
121

فرع قال: كلما سكت عن طلاقك، أو كلما لم أطلقك، فأنت طالق،
ومضت ثلاثة أوقات تسع ثلاث طلقات بلا تطليق، طلقت ثلاثا، وهذه الصور في
المدخول بها، فلو قال لغير المدخول بها: كلما لم أطلقك فأنت طالق، ومضت
لحظة لم يطلقها، بانت ولا تلحقها الثانية، فلو جدد نكاحها وقلنا: يعود الحنث،
فمضت لحظة، وقعت طلقة أخرى، ولو قال للمدخول بها عقب هذا التعليق
بكلما: أنت طالق على ألف، فقبلت، بانت ولم تقع الثانية، فإن جدد نكاحها،
عاد قولا عود الحنث.
فرع إذا قلنا بالمذهب وهو الفرق بين إن وإذا فقال: أردت بإذا
معنى إن، دين، ويقبل أيضا ظاهرا على الأصح، وحيث قلنا: في إن أو إذا
إنه إذا مضى زمن يسع التطليق فلم يطلق يقع، فأمسك رجل فمه، أو أكرهه على
الامتناع من التطليق، قال الحناطي: يخرج على الخلاف في حنث الناسي
والمكره، وحيث قلنا: لا يقع الطلاق حتى يتحقق اليأس من التطليق. ولليأس
طرق، أحدها: أن يموت أحد الزوجين قبل التطليق، فيحكم بوقوع الطلاق قبيل
الموت. والثاني: إذا جن الزوج، لا يحصل اليأس لاحتمال الإفاقة، فإن اتصل
بالموت، تبينا حصول اليأس من وقت الجنون، فيحكم بوقوع الطلاق قبيل
الجنون.
الثالث: إذا فسخ النكاح بسبب، لم يحصل اليأس، لاحتمال التجديد، لان
البر والحنث لا يختص بحال النكاح، ولذلك تنحل اليمين بوجود الصفة في
122

البينونة، فإن مات أحدهما قبل التجديد والتطليق، حكم بوقوع الطلاق قبيل
الانفساخ، هكذا قاله الامام، وتابعه الغزالي وغيره. قالوا: وإنما يتصور ذلك في
الطلاق الرجعي، ليمكن اجتماعه هو والانفساخ، فلو كان الطلاق بائنا لكونه ثلاثا،
أو قبل الدخول، لم يمكن إيقاعه قبل الانفساخ، لما فيه من الدور، فإنه لو وقع لما
حصل الانفساخ، ولو لم يحصل الانفساخ لم يحصل اليأس، وإذا لم يحصل
اليأس، لم يقع الطلاق، فيلزم من وقوعه عدم وقوعه، وهذا من قبيل الدور
الحكمي، وأما إذا جدد نكاحها بعد الانفساخ، فإن طلقها في النكاح الثاني، لم
يفت التطليق، بل قد حصل، وإن لم يطلقها حتى مات أحدهما، بني على قولي
عود الحنث، إن قلنا: يعود، طلقت في النكاح الثاني قبل الموت، وبنينا النكاح
على النكاح، وإن قلنا: لا يعود الحنث، لم يمكن إيقاع الطلاق قبيل الموت،
فيحكم بوقوع الطلاق قبيل الانفساخ كما سبق. وأعلم أن هذه الطرق الثلاثة، هي
فيما إذا كان التعليق بنفي التطليق، أما إذا علق بنفي الضرب وسائر الأفعال،
فالجنون لا يوجب اليأس، وإن اتصل به الموت، قال الغزالي: لأن ضرب المجنون
في تحقيق الصفة ونفيها، كضرب العاقل على الصحيح، ولو أبانها ودامت البينونة
إلى الموت، ولم يتفق الضرب، لم يقع الطلاق ولا يحكم بوقوعه قبيل البينونة،
بخلاف قوله: إن لم أطلقك، لأن الضرب بعد البينونة ممكن، والطلاق بعد البينونة
غير ممكن، وإذا كان التعليق بنفي الضرب ونحوه من الأفعال، فعروض الطلاق
كعروض الفسخ والانفساخ، لكن ينبغي أن يبقى من الطلاق عدد يمكن فرضه،
مستندا إلى قبيل الطلاق، فأما في التعليق بنفي التطليق، فإنما تفرض البينونة
بالانفساخ، لأنه لو طلقها بطلت الصفة المعلق عليها، ويمكن أن تفرض في طلاق
الوكيل، فإنه لا تفوت الصفة.
فصل إن الشرطية هي بكسر الهمزة، فإن فتحت، صارت للتعليل،
فإذا قال: أنت طالق أن لم أطلقك بفتح الهمزة، طلقت في الحال، ثم الذي قاله
الشيخ أبو حامد، والامام، والغزالي، والبغوي، إن هذا في حق من يعرف اللغة،
123

ويفرق بين أن وإن، فإن لم يعرف، فهو للتعليق. وقال القاضي أبو الطيب: يحكم
بوقوع الطلاق في الحال، إلا أن يكون الرجل ممن لا يعرف اللغة ولا يميز، وقال:
قصدت التعليق، فيصدق، وهذا أشبه، وإلى ترجيحه ذهب ابن الصباغ، وبه قطع
المتولي.
قلت: الأول أصح، وبه قطع الأكثرون. والله أعلم.
وعلى هذا القياس طرق الاثبات، فإذا قال: أنت طالق إن دخلت الدار، وإن
دخلت الدار فأنت طالق، طلقت في الحال وإن لم تكن دخلت الدار، ولو قال:
أنت طالق إن طلقتك، حكم بوقوع طلقتين، واحدة بإقراره، وأخرى بإيقاعه في
الحال، لأن المعنى: أنت طالق لأني طلقتك، ولو قال: أنت طالق إذ دخلت
الدار، طلقت في الحال، لأن إذ للتعليل أيضا. فإن كان القائل لا يميز بين
إذ وإذا، فيمكن أن يكون الحكم كما لو لم يميز بين إن وأن.
فرع قال: أنت طالق طالقا، قال الشيخ أبو عاصم: لا يقع في الحال
شئ، لكن إذا طلقها وقع طلقتان، والتقدير: إذا صرت مطلقة فأنت طالق، وهذا
في المدخول بها، ولو قال: أنت طالق إن دخلت الدار طالقا، فإن طلقها قبل
الدخول، فدخلت الدار طالقا، وقعت المعلقة إذا لم تحصل البينونة بذلك الطلاق،
وإن دخلت غير طالق، لم تقع تلك المعلقة، ولو قال: أنت طالق فطالق إن دخلت
الدار طالقا، فهذا تعليق طلقتين بدخولها الدار طالقا، فإن دخلت طالقا، وقع
طلقتان بالتعليق، ولو قال: أنت إن دخلت الدار طالقا، واقتصر عليه، قال
البغوي: إن قال: نصبت على الحال، ولم أتم الكلام، قبل منه، ولم يقع شئ،
وإن أراد ما يراد عند الرفع، ولحن، وقع الطلاق إذا دخلت الدار.
فرع قال إسماعيل البوشنجي: لو قال: أنت طالق حين لا أطلقك، أو
حيث لا أطلقك، ولم يطلقها عقبه، طلقت في الحال على قياس مذهبنا، وكذا لو
124

قال: حين لم أطلقك، أو حيث لم أطلق، أو ما لم أطلقك، ولو قال: أنت طالق
إن لم أضربك، أو إن لم أضربك فأنت طالق، وقال: أردت وقتا، دين، سواء
عين الساعة أو وقتا قريبا أو بعيدا، وهكذا يكون الحكم في التعليق بنفي الطلاق
وسائر الأفعال، وبالله التوفيق.
الطرف الثالث: في التعليق بالحمل والولادة، وفيه مسائل:
الأولى: إذا قال: إن كنت حاملا فأنت طالق، فإن كان الحمل بها ظاهرا،
طلقت في الحال، وإلا فلا يحكم بوقوع الطلاق مع الشك، ثم ينظر، إن ولدت
قبل ستة أشهر من حين التعليق، تبينا وقوع الطلاق وكونها كانت حاملا حينئذ، وإن
ولدت لأكثر من أربع سنين، تحققنا أنها كانت حائلا يومئذ، فلا طلاق، وإن ولدت
لستة أشهر فأكثر، ولأربع سنين فأقل، نظر، إن كان الزوج يطؤها، وكان بين
الوضع والوطئ ستة أشهر فأكثر، لم يقع الطلاق، وإن لم يطأها بعد التعليق أو وطئها
وكان بين الوطئ والوضع دون ستة أشهر، فقولان أو وجهان. أظهرهما: وقوع
الطلاق لتبين الحمل ظاهرا، ولهذا حكمنا بثبوت النسب. والثاني: لا يقع، لان
الأصل بقاء النكاح، والاحتمال قائم، ثم إذا لم يكن الحمل ظاهرا عند التعليق،
فينبغي أن يفرق بين الزوجين إلى أن يستبرئها، وليمتنع الزوج من وطئها، وهل
التفريق واجب والاستمتاع حرام أم لا؟ وجهان. أحدهما: نعم، تغليبا للتحريم في
موضع التردد، وبهذا قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، وجماعة.
وأصحهما: لا، ولكنهما مستحبان، لأن الأصل عدم الحمل وبقاء النكاح، وكما لو
قال: إن كان الطائر غرابا، وهذا هو نصه في الاملاء وبه قال أبو إسحاق وغيره،
وقطع به الحناطي. وبماذا يستبرئها؟ فيه أوجه، أصحهما: بحيضة، والثاني:
بطهر، والثالث: بثلاثة أطهار، وتفصيله يأتي إن شاء الله تعالى في كتاب
الاستبراء. ولو جرى هذا التعليق في مراهقة لم تحض بعد، وأمكن كونها حاملا،
فيشبه أن يقال: إن قلنا: الاستبراء بثلاثة أقراء، ففي حقها بثلاثة أشهر، وإن قلنا:
بقرء، فهل يكفي في حقها شهر، أم يشترط ثلاثة أشهر، فيه خلاف كاستبراء
الأمة، والأصح هناك الاكتفاء بشهر، والذي ذكره البغوي هنا عن القفال ثلاثة أشهر
حرة كانت أو أمة، لأن الحمل لا يظهر في أقل من هذه المدة.
وأما الآيسة، فهل يعتبر فيها مضي مدة كالعدة، أم يكتفي بدلالة اليأس؟
125

وجهان، أصحهما: الثاني، لأن المقصود ظهور الحال. ولو كان قد استبرأ زوجته
قبل التعليق، فوجهان. أحدهما: لا يكتفى به كما لا يكتفى بمدة العدة واستبراء
الرقيقة قبل الطلاق والملك، وأصحهما: يكتفى به، لأن المقصود معرفة حالها في
الحمل، فلا فرق بين التقدم والتأخر، بخلاف العدة واستبراء المملوكة، ثم إذا
جرى الاستبراء، لا يمنع من الوطئ بعده، فلو ولدت بعد الوطئ واقتضى الحال وقوع
الطلاق، أوقعناه، وكان ذلك الوطئ وطئ شبهة، يجب به المهر دون الحد.
فرع: قال: إن أحبلتك فأنت طالق وكانت حاملا لم تطلق، بل
يقتضي ذلك حملا حادثا منه، فإن وضعت، أو كانت حائلا لم يمنع من الوطئ،
فإذا وطئها مرة، منع حتى تحيض.
فرع نص في الاملاء أنه لو قال لامرأته: إن كنت حاملا فأنت طالق
على مائة دينار وهي حامل في غالب الظن، طلقت إذا أعطته مائة دينار، وله عليها
مهر المثل لفساد المسمى. ووجه فساط المسمى، بأن الحمل مجهول لا يمكن
التوصل إليه في الحال، فأشبه إذا جعله عوضا.
المسألة الثانية: قال: إن كنت حائلا فأنت طالق، وإن لم تكوني حائلا،
فينظر، إن علم أنها حائل بأن كانت في سن لا يحتمل الحمل، طلقت في الحال،
وإلا فلا يحكم في الحال بالطلاق، بل ينظر، إن ولدت قبل ستة أشهر من التعليق،
لم تطلق، وإن ولدت لأكثر من أربع سنين، حكمنا بوقوع الطلاق عند التعليق وإن
ولدت لستة أشهر، فأكثر، ولأربع سنين، فأقل، فإن وطئها الزوج وكان بين الوطئ
والولادة ستة أشهر فأكثر، طلقت على الأصح، وإن كان بينهما دون ستة أو لم
يطأ، لم تطلق، لأنها كانت حاملا عند التعليق، ويحرم وطؤها قبل الاستبراء على
الأصح. وقال القفال: لا يحرم، لكن يستحب أن لا يطأ والقول فيما يجب به
الاستبراء وفي الاكتفاء بالاستبراء السابق، على ذكرنا في المسألة الأولى، وقيل
الاستبراء هنا بثلاثة أطهار قطعا والمذهب الأول: وإذا استبراء حكمنا بوقوع الطلاق
الظاهر الحال، فإن كان الاستبراء بثلاثة أطهار، فقد انقضت العدة، وإن كان بقرء
تممت العدة، فإن ظهر بعد الاستبراء حمل ووضع، فحكمه ما سبق. وأبدى الامام
وشيخه احتمالا، أنها لا تطلق بالاستبراء لأنه لا يفيد إلا الظن، والصفات المعلق
126

بها، يعتبر فيها اليقين. ولو قال: استيقنت براءة رحمك، فأنت طالق، لم تطلق
بمضي مدة الاستبراء، فكذا هنا.
المسألة الثالثة: قال: إن كنت حاملا بذكر، أو إن كان في بطنك ذكر فأنت
طالق طلقة، وإن كنت حاملا بأنثى، أو كان في بطنك أنثى، فأنت طالق طلقتين،
فإن ولدت أحدهما، وقع ما علقه، وإن ولدت خنثى، وقعت طلقة، ونوقف
الأخرى، حتى يبين حاله، وإن ولدت ذكرا وأنثى، طلقت ثلاثا لوجود الصفتين،
وتنقضي العدة في جميع هذه الصور بالولادة، ويكون الوقوع عند اللفظ. وإن قال:
إن كان حملك، أو إن كان ما في بطنك ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن كان أنثى
فطلقتين، فإن ولدت ذكرا فقط أو أنثى فقط، وقع ما علق، وإن ولدت ذكرا وأنثى،
لم يقع شئ، وإن ولدت ذكرين أو أنثيين، فوجهان. أصحهما: يقع، وبه قال
الحناطي والقاضي حسين، لأن معناه: ما في البطن من هذا الجنس. والثاني: لا
يقع، وبه قال الشيخ أبو محمد، وإليه ميل الامام، لأن مقتضى التنكير التوحيد،
هذا عند اطلاق اللفظ، فلو قال: أردت الحصر في الجنس، قبل وحكم بالطلاق
قطعا، ولو ولدت ذكرا وخنثى، أو أنثى وخنثى، فعلى الوجه الثاني: لا طلاق،
وعلى الأول: إن بان الخنثى المولود مع الذكر ذكرا، وقع طلقة، وإن بان أنثى، لا
يقع شئ، وإن بان الخنثى المولود مع الأنثى ذكرا، لم يقع شئ، وإن بان أنثى،
وقع طلقتان.
المسألة الرابعة: قال: إذا ولدت أو إن ولدت فأنت طالق، فولدت حيا أو
ميتا، ذكرا أو أنثى، طلقت إذا انفصل الولد بكماله. قال ابن كج: ولو أسقطت ما
بان فيه خلق آدمي، طلقت، وإن لم يبن فيه خلق الآدمي بتمامه لم تطلق. ولو
قال: إن ولدت ولدا فأنت طالق، فولدت ولدين متعاقبين، طلقت بالأول. ثم إن
كانا في بطن واحد، بأن كان بينهما دون ستة أشهر، انقضت عدتها بالثاني، ولا
يتكرر الطلاق، وإن كانا من بطنين، فانقضاء العدة بالثاني يبنى على لحوقه بالزوج،
وهو لاحق إن ولدته لأقل من أربع سنين، وهل تحسب هذه المدة من وقت الطلاق،
أم من وقت انقضاء العدة؟ قولان مذكوران في العدة فإن ألحق انقضت به العدة،
127

وإن قال: كلما ولدت ولدا فأنت طالق، فهذا يقتضي التكرار، فإن ولدت أولادا في
بطن واحد، نظر، إن كانوا أربعة وانفصلوا متعاقبين، طلقت ثلاثا بولادة ثلاثة،
وانقضت عدتها بولادة الرابع، وإن كانوا ثلاثة، طلقت بالأوليين طلقتين، وانقضت
عدتها بالثالث، ولا تطلق بولادته طلقة ثالثة، هذا هو المنصوص في الام وعامة
كتب الشافعي رحمه الله، وقال في الاملاء: يقع بالثالث طلقة ثالثة، وتعتد بعد
ذلك بالأقراء، والمذهب عند الأصحاب هو الأول، لأن المرأة في عدة الطلقتين،
ووقت انفصال الثالث هو وقت انقضاء العدة، وبراءة الرحم. ولو وقع الطلاق لوقع
في تلك الحال، لما سبق أن الطلاق المعلق بالولادة يقع عند الانفصال، ولا يجوز
أن يقع الطلاق في حال انقضاء العدة والبينونة، ولهذا لو قال: أنت طالق مع موتي،
لم يقع الطلاق إذا مات، لأنه وقت انتهاء النكاح. ولو قال لغير المدخول بها: إذا
طلقتك فأنت طالق، فطلقها، لم يقع أخرى لمصادفتها البينونة، وأما نصه في
الاملاء، ففيه طريقان، أحدهما: تسليمه قولا واحدا، ووجهوه بشيئين،
أحدهما: أن هذا الطلاق لا يتأخر عن العدة، بل يقارن آخرها، وإذا تقارن الوقوع
وانقضاء العدة كفى، وحكم بالوقوع تغليبا للطلاق ولقوته، وهؤلاء قالوا: لو قال
للرجعية: أنت طالق مع انقضاء عدتك، ففي الوقوع القولان، بخلاف ما لو قال:
بعد انقضاء عدتك. وعن الخضري وغيره تخريج قول فيما إذا قال: مع موتي: أنها
تطلق في آخر جزء من حياته. الشئ الثاني عن الخضري والقفال، بناء القولين
على القولين، في أن الرجعية إذا طلقت، هل تستأنف العدة؟ إن قلنا: لا، لم
تطلق هنا ولم تلزم العدة، وإن قلنا نعم، فبوقوع الطلاق ارتفعت العدة، ولزمت عدة
أخرى هناك، فكذا هنا. وعلى هذا حكى الامام عن القفال، أنه لا يحكم بوقوع
الطلاق، وهي في بقية من العدة الماضية، ولا بوقوعه في مفتتح العدة المستقبلة،
لكن يقع على منفصل الانقطاع والاستقبال، وهو كقوله: أنت طالق بين الليل
والنهار، يقع لا في جزء من الليل، ولا من النهار. قال الامام: ولا معنى
للمنفصل، وليس بين انقضاء العدة الأولى وافتتاح الثانية لو قدرناها زمان، والحكم
128

بوقوع الطلاق في غير زمان محال. قال: وقوله: بين الليل والنهار يقع الطلاق في
آخر جزء من النهار، لتكون متصفة بالطلاق في منقطع النهار، ومبتدأ الليل.
والطريق الثاني: وهو الصحيح عند المعتبرين: القطع بما نص عليه في كتبه
المشهورة، والامتناع من إثبات نص الاملاء قولا، وأولوه من وجهين،
أحدهما: حمله على ما إذا ولدتهم دفعة في مشيمة، وفي هذه الحالة يقع بكل واحد
طلقة، وتعتد بالأقراء لأنها ليست حاملا وقت وقوع الطلاق، والثاني: حمله على ما
إذا كان الحمل من زنا، ووطئها الزوج، يقع بكل واحد طلقة، ولا تنقضي العدة
بولادتهم. أما إذا أتت بولدين متعاقبين في بطن، والتعليق بصيغة كلما فهل
تنقضي عدتها بالثاني ولا يقع به طلقة أخرى، أم تقع أخرى؟ فيه هذا الخلاف
السابق.
المسألة الخامسة: قال: إن ولدت ولدا، فأنت طالق طلقة، وإن ولدت ذكرا
فأنت طالق طلقتين، فولدت ذكرا، طلقت ثلاثا لوجود الصفتين، وإن قال: إن
ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين، فولدت ذكرا، طلقت
طلقة وشرعت في العدة بالأقراء، وإن ولدت أنثى طلقت طلقتين واعتدت بالأقراء،
وإن ولدت ذكرا وأنثى، نظر، إن ولدتهما معا، طلقت ثلاثا لوجود الصفتين معا وهي
زوجة، وتعتد بالأقراء، وإن ولدت الذكر ثم الأنثى، طلقت طلقة بالذكر، ولا يقع
بالأنثى شئ على المذهب، وتنقضي بها العدة. وعلى نصه في الاملاء، تطلق
بالأنثى طلقتين أخريين، وتعتد بالأقراء، وإن ولدت الأنثى أولا طلقت بها طلقتين،
وهل يقع بالذكر شئ؟ فيه الخلاف فإن أشكل الحال، فلم يدر كيف ولدتهما، أو
علم الترتيب ولم يعلم المتقدم، فعلى المذهب: يؤخذ باليقين وهو وقوع طلقة،
والورع تركها عند احتمال المعية حتى تنكح زجا غيره. وعلى نصه في الاملاء:
تطلق ثلاثا كيف كان، وتعتد بالأقراء. ولو ولدت ذكرين وأنثى، نظر، إن ولدتهم
معا، طلقت ثلاثا، وإن ولدت الذكرين معا أو متعاقبين، ثم ولدت الأنثى، طلقت
بالولدين أو بأولهما طلقة، وتنقضي العدة بولادة الأنثى على المذهب، ولا يقع بها شئ
آخر. وإن ولدت الأنثى ثم الذكرين متعاقبين، طلقت بالأنثى طلقتين، وبالذكر
الأول طلقة أخرى، وتنقضي العدة بولادة الثاني، وإن ولدتها ثم ولدتهما معا،
طلقت بها طلقتين، وتنقضي العدة بالذكرين، ولا يقع شئ آخر على المذهب.
129

ولو ولدت ذكرا، ثم أنثى، ثم ذكرا، طلقت طلقة ثم طلقتين، وانقضت عدتها
بالذكر الأخير.
فرع قال: إن كنت حاملا بذكر، فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى،
فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا، تبين وقوع طلقة عند اللفظ، وانقضت العدة
بالولادة، وإن ولدت أنثى، وقع بالولادة طلقتان، وتعتد بالأقراء، وإن ولدت ذكرا
وأنثى، نظر، إن ولدت الأنثى أولا، وقع بولادتها طلقتان، وبولادته نتبين وقوع
طلقة أولا لكونها كانت حاملا بذكر، وتنقضي عدتها عن الثلاث بولادة الذكر،
وإن ولدت الذكر أولا، تبين وقوع طلقة، وتنقضي العدة بولادة الأنثى، ولا يقع
شئ آخر على المذهب، وإن ولدتهما معا، فكذلك يتبين وقوع طلقة، ولا يقع
بالولادة شئ على المذهب.
المسألة السادسة: قال لأربع نسوة حوامل: كلما ولدت واحدة منكن،
فصاحباتها طوالق، فولدن جميعا. فلهن أحوال، إحداها: أن يلدن معا، فتطلق
كل واحدة ثلاثا وعدة جميعهن بالأقراء.
الحالة الثانية: أن يلدن مرتبا، فوجهان، أصحهما وبه قال ابن الحداد: أنه
إذا ولدت الأولى، طلقت كل واحدة من الباقيات طلقة، فإذا ولدت الثانية، انقضت
عدتها وبانت، وتقع على الأولى بولادة هذه طلقة، وعلى كل واحدة من الأخريين
طلقة أخرى إن بقيت عدتهما، فإذا ولدت الثالثة انقضت عدتها عن طلقتين، ووقع
على الأولى طلقة ثانية إن بقيت في العدة، وعلى الرابعة طلقة ثالثة، فإذا ولدت
الرابعة، انقضت عدتها عن ثلاث طلقات، ووقعت ثالثة على الأولى، وعدة الأولى
بالأقراء، وفي استئنافها العدة للطلقة الثانية والثالثة، الخلاف في طلاق الرجعية،
والوجه الثاني وبه قال ابن القاص، واختاره القاضي أبو الطيب، أن الأولى لا تطلق
أصلا، وتطلق كل واحدة من الأخريات طلقة واحدة، وتنقضي عددهن بولادتهن،
لأن الثلاث في وقت ولادة الأولى صواحبها، لأن الجميع زوجاته، فيطلقن طلقة
طلقة، فإذا طلقن، خرجن عن كونهن صواحب للأولى، وكون الأولى صاحبة
لهن، فلا تؤثر بعد ذلك ولادتهن في حقها، ولا في حق بعضهن، ومن قال بالأول،
قال: ما دمن في العدة فهن زوجات وصواحب، ولهذا لو حلف بطلاق زوجاته،
130

دخلت الرجعية فيه.
الحالة الثالثة: أن تلد ثنتان معا (ثم ثنتان معا). فعلى قول ابن الحداد: تطلق كل
واحدة من الأوليين بولادة الأخرى طلقة، وكل واحدة من الأخريين بولادة الأوليين
طلقتين، فإذا ولدت الاخريان، طلقت كل واحدة من الأوليين طلقتين أخريين، ولا
يقع على الأخريين شئ آخر، وتنقضي عدتهما بولادتهما على المذهب، وعلى
نصه في الاملاء: يقع على كل واحدة منهما طلقة ثالثة وتعتدان بالأقراء، وعلى
قول ابن القاص: تطلق كل واحدة من الأوليين طلقة، وكل واحدة من الأخريين
طلقتين فقط، وتنقضي عدة الأخريين بالولادة، وتعتد الأوليان بالاقرار على
الوجهين.
الحالة الرابعة: أن تلد ثلاثا منهن معا، ثم الرابعة، فيقع على الرابعة ثلاث
طلقات بلا خلاف، وتطلق كل واحدة من الأوليات على قول ابن الحداد ثلاثا، منها
طلقتان بولادة اللتين ولدتا معها، وثالثة بولادة الرابعة إن بقين في العدة، وعلى قول
ابن القاص: لا تطلق كل واحدة من الثلاث إلا طلقتين، ولو كان الامر بالعكس،
ولدت واحدة، ثم ولدت الثلاث معا، فعلى قول ابن الحداد: تطلق كل واحدة من
الثلاث طلقة بولادة الأولى، ثم تنقضي عدتهن بولادتهن، فلا يقع عليهن شئ آخر
على المذهب، وعلى نصه في الاملاء: يقع على كل واحدة طلقتان أخريان،
ويعتددن بالأقراء، والأولى تطلق بولادتهن ثلاثا. وعلى قول ابن القاص: لا يقع
على الأولى شئ، ويقع على كل واحدة من الباقيات طلقة فقط.
الحالة الخامسة: أن تلد ثنتان على الترتيب، ثم ثنتان معا فيقع على الأولى
ثلاث بولادتهن، وعلى كل واحدة من الباقيات طلقة بولادة الأولى. فإذا ولدت
الثانية، انقضت عدتها، ووقعت على كل واحدة من الأخريين طلقة أخرى، فإذا
ولدت الاخريان، انقضت عدتهما بولادتهما، ولا يقع على واحدة منهما شئ بولادة
صاحبتها على المذهب، هذا قياس ابن الحداد، وعلى قول ابن القاص: لا يقع
على الأولى شئ، ولا على كل واحدة من الباقيات إلا طلقة، ولو ولدت ثنتان معا،
ثم ثنتان مرتبا، فعلى قياس ابن الحداد: تطلق كل واحدة من الأوليين بولادتهما
طلقة، وكل واحدة من الأخريين طلقتين. فإذا ولدت الثالثة انقضت عدتها، وطلقت
131

كل واحدة من الأوليين طلقة أخرى إن بقيتا في العدة، وطلقت الرابعة طلقة ثالثة،
فإذا ولدت، انقضت عدتها، وطلقت كل واحدة من الأوليين طلقة ثالثة إن بقيتا في
العدة، وعلى قياس ابن القاص: لا تطلق كل واحدة من الأوليين إلا طلقة، ولا كل
واحدة من الأخريين إلا طلقتين.
فرع قال ابن الحداد: ولو قال للأربع: كلما ولدت كل واحدة منكن
فصواحبها طوالق، ثم طلق كل واحدة منهن طلقة منجزة، ثم ولدن على الترتيب،
فالأولى مطلقة بالتنجيز، وتنقضي عدتها بولادتها، ويقع على الثانية بولادة الأولى طلقة،
وهي مطلقة بالتنجيز، وتنقضي عدتها عن طلقتين بولادتها، وتطلق كل واحدة
من الثالثة والرابعة ثلاثا، واحدة بالتنجيز، واثنتان بولادة الأوليين، وعلى
قياس ابن القاضي: لا يقع على الجميع إلا المنجزة.
فرع قال للأربع: كلما ولدت واحدة منكن فأنتن طوالق، فقد علق بولادة
كل منهن طلاق الوالدة وغيرها، فإن ولدن معا طلقن ثلاثا ثلاثا، وإن ولدن مرتبا،
طلقت الأولى ثلاثا، طلقة بولادة نفسها، وثانية بولادة الثانية، وثالثة بولادة الثالثة إن
بقيت في العدة، وتعتد بالأقراء وتطلق الثانية بولادة الأولى، ولا تطلق بولادة نفسها
على المذهب، وتنقضي عدتها، وعلى نصه في الاملاء: تطلق أخرى وتعتد
بالأقراء، وتطلق الثالثة بولادة الأوليين، وهل تطلق بولادة نفسها ثالثة؟ فيه
الخلاف، والرابعة تطلق بولادة الأوليات ثلاثا، وتنقضي عدتها بولادتها، ولا يقع
بولادتها شئ على الأوليات لبينونتهن.
فرع: قال للأربع: كلما ولدت ثنتان منكن، فالأخريان طالقان، فولدن
مرتبا، لم تطلق واحدة بولادة الأولى، لأنه علق بولادة ثنتين، فإذا ولدت الثانية،
طلقت الثالثة والرابعة طلقة طلقة، ولا يقع على الأوليين شئ، لأن المعلق به طلاق
ثنتين بولادة أخريين. وإذا ولدت الثالثة، فوجهان، أصحهما: لا تضم الثالثة إلى
الثانية، ولا يقع بولادتها طلاق حتى تلد الرابعة، فإذا ولدت، فعلى قياس ابن
الحداد: تطلق الأوليان طلقة طلقة، ويعتدان بالأقراء، وتنقضي عدة الأخريين
بولادتهما، وعلى قياس ابن القاص: لا تطلق الأوليان بولادة الأخريين،
132

والوجه الثاني، أن الثالثة تضم إلى الثانية، وتطلق بولادتهما الأولى طلقة، والرابعة
طلقة ثانية، ثم إذا ولدت الرابعة، طلقت الثانية، وطلقت الأولى طلقة ثانية.
فرع تحته امرأتان فقال: كلما ولدت واحدة منكما فأنتما طالقان، فولدتا
مرتبا، وقع بولادة الأولى عليها طلقة، وعلى الأخرى طلقة، فإذا ولدت الثانية، وقع
على الأولى طلقة أخرى إن بقيت في العدة، وتنقضي عدة الثانية، ولا يقع عليها
طلاق آخر على المذهب، ولو ولدت منهما زينب يوم الخميس، وعمرة يوم
الجمعة، ثم زينب يوم السبت، وعمرة يوم الأحد، وقع بولادة يومي الخميس
والجمعة على كل واحدة طلقتان، وتنقضي عدة زينب بولادتها يوم السبت، ولا يقع
عليها شئ آخر على المذهب، ويقع على عمرة طلقة ثالثة، وتنقضي عدتها بولادتها
يوم الأحد، ولو قال: كلما ولدتما فأنتما طالقان، فولدت إحداهما ثلاثة أولاد في
بطن، ثم الثانية كذلك، لم تطلق واحدة منهما بولادة الأولى، لأن التعليق بولادتهما
جميعا، فإذا ولدت الثانية ولدا، طلقت كل واحدة طلقة، فإذا ولدت الثاني،
طلقت كل واحدة طلقة ثانية، فإذا ولدت الثالث، طلقت الأولى طلقة ثالثة، ولا تطلق
الثانية، وتنقضي عدتها عن طلقتين على المذهب، وفيه نصه في الاملاء. ولو
ولدت أحدهما ولدا، ثم الأخرى ولدا ثم الأولى ولدا، وهكذا إلى أن ولدت كل
واحدة ثلاثة في بطن، فبولادة الثانية ولدها الأول، يقع على كل واحدة طلقة،
وبولادتها الثاني، يقع على كل واحدة طلقة ثانية، ثم إذا ولدت الأولى الولد
الثالث، انقضت عدتها، وإذا ولدت الثانية الولد الثالث، هل يقع عليها طلقة
ثالثة، أم لا وتنقضي عدتها؟ فيه خلاف المذهب والاملاء، ولو ولدت إحداهما
ولدا، ثم الثانية ثلاثة على الترتيب، ثم الأولى ولدين، فبولادة الثانية الولد الأول،
يقع على كل واحدة طلقة، ولا يقع بولادتها الولد الثاني والثالث شئ، وتنقضي
بالثالث عدتها، فإذا ولدت الأولى الولد الثاني، انضمت ولادتها إلى ولادة الثانية
الولد الثاني، فيقع على الأولى طلقة ثانية، فإذا ولدت الثالث انقضت عدتها،
ولم يقع عليها شئ آخر على المذهب. وعلى نصه في الاملاء: يقع ثالثة بضم هذه
الولادة إلى ولادة الثانية الولد الثالث.
المسألة السابعة: قد سبق أن الطلاق المعلق بالولادة، إنما يقع إذا انفصل
الولد بتمامه، فلو خرج بعضه ومات الزوج أو المرأة، لم يقع الطلاق، وورث الباقي
133

منهما الميت، ولو قال: إن ولدت، فعبدي حر، فخرج بعض الولد، وباع العبد
حينئذ وتخايرا، ثم ولدت، لم يعتق العبد، ولو انفصل الولد قبل انقضاء الخيار،
عتق العبد، لأنه له العتق في زمن الخيار.
الثامنة: في فتاوى القفال: أنه إذا قال: إن كنت حاملا، فأنت طالق،
فقالت: أنا حامل، فإن صدقها الزوج، حكم بوقوع الطلاق في الحال، وإن
كذبها، لم تطلق حتى تلد، فإن لمسها النساء، فقال أربع منهن فصاعدا: إنها
حامل، لم تطلق، لأن الطلاق لا يقع بقول النسوة. ولو علق الطلاق بالولادة،
فشهد بها أربع نسوة، لم يقع الطلاق وإن ثبت النسب والميراث، لأنهما من توابع
الولادة وضروراتها، بخلاف الطلاق.
التاسعة: قال: إن كان أول ولد تلدينه من هذا الحمل ذكرا فأنت طالق،
فولدت ذكرا ولم يكن غيره، قال الشيخ أبو علي: اتفق أصحابنا على أنه يقع
الطلاق، وليس من شرط كونه أولا أن تلد بعده آخر، وإنما الشرط أن لا يتقدم عليه
غيره، وفي التتمة: وجه ضعيف: أنه لا يقع شئ، والأول يقتضي آخر، كما
يقتضي الآخر أولا.
قلت: الصواب ما نقله الشيخ أبو علي. قال الله تعالى: * (إن هؤلاء
ليقولون إن هي إلا موتتنا الأول) *. وهؤلاء المذكورون كانوا يقولون: ليس لهم
إلا موتة. وقال الإمام أبو إسحاق الزجاج: معنى الأولى في اللغة: ابتداء الشئ،
قال: ثم يجوز أن يكون له ثان، ويجوز أن لا يكون، وقد بسطت أنا الكلام في
إيضاح، هذا بدلائله في تهذيب اللغات. والله أعلم.
ولو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا، فأنت طالق واحدة، وإن كان أنثى
134

فطالق ثلاثا، فولدت ذكرا وأنثى، نظر، إن ولدت الذكر أولا، طلقت واحدة
وانقضت عدتها بولادة الأنثى، وإن ولدت الأنثى أولا، طلقت ثلاثا وانقضت عدتها
بالذكر، وإن ولدتهما معا، لم يقع شئ، لأنه لا يوصف واحد منهما بالأولية،
ولهذا لو أخرج رجل دينارا بين المتسابقين، وقال: من جاء منكما أولا، فهو له،
فجاءا معا، لم يستحقا شيئا. قال الشيخ أبو علي: ويحتمل أن تطلق ثلاثا، لان
كلا منهما يوصف بأنه أول ولد إذا لم تلد قبله غيره، ولأنه لو قال: أول من رد
آبقي، فله دينار، (فرده اثنان) استحقا الدينار. قال: وعرضته على الشيخ يعني
القفال، فلم يستبعده، ولو لم يعلم، أولدتهما معا، أو مرتبا، لم تطلق لاحتمال
المعية، ولو علم الترتيب ولم يعلم السابق، وقعت طلقة لأنه اليقين، ولو قال: إن
كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق، وإن كانت أنثى فضرتك طالق، فولدتهما مرتبا،
ولم يعلم السابق، فقد طلقت إحداهما، فيوقف عنهما، ويؤخذ بنفقتهما حتى تبين
المطلقة منهما.
ولو قال: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق، وإن كان أنثى، فعبدي
حر، فولدتهما مرتبا، ولم يعلم السابق، قال الشيخ أبو علي: يقرع بين المرأة
والعبد، فإذا خرجت القرعة على العبد، عتق، وإن خرجت على المرأة، لم
تطلق.
فرع: قال: إن ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن ولدت أنثى فطلقتين،
فولدت ميتا ودفن ولم يعرف حاله، فهل ينبش ليعرف؟ يحتمل وجهين، قاله أبو
العباس الروياني.
قلت: الراجح النبش. والله أعلم.
الطرف الرابع: في التعليق بالحيض.
قال: إذا حضت حيضة فأنت طالق، لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر، وحينئذ
يقع سنيا. ولو قال: إن حضت فأنت طالق، ولم يبين ولم يزد عليه، لم يعتبر تمام
الحيضة، ومتى يحكم بالطلاق؟ فيه طريقان، المذهب وبه قطع الجمهور: يقع
برؤية الدم، فإن انقطع قبل يوم وليلة ولم يعد إلى خمسة عشر، تبينا أنه لم يقع.
والطريق الثاني، على وجهين. أحدهما: هذا، والثاني، وهو الراجح عند الامام
135

والغزالي: لا يحكم بوقوع الطلاق حتى يمضي يوم وليلة، فحينئذ تبين وقوعه من
حين رأت الدم. قال الامام: وعلى هذا هل يحرم الاستمتاع بها ناجزا؟ حكمه كما
لو قال: إن كنت حاملا فأنت طالق وقد سبق. ولو قال: إن طهرت، أو إذا طهرت
فأنت طالق، طلقت في أول الطهر. ولو قال: إذا طهرت طهرا واحدا، فأنت
طالق، قال الحناطي: تطلق إذا انقضى الطهر ودخلت في الدم، وحكى وجها:
أنها تطلق إذا مضى جزء من الطهر، والصحيح الأول، ثم قوله: إن حضت، أو إذا
حضت، يقتضي حيضا مستقبلا، فلو كانت في الحال حائضا، لم تطلق حتى تطهر
ثم تحيض. ولو قال والثمار مدركة: إذا أدركت الثمار، فأنت طالق، فهو تعليق
بالادراك المستأنف في العام المستقبل، وعلى هذا قياس سائر الأوصاف، إلا أنه
سيأتي في كتاب الايمان إن شاء الله تعالى. إن استدامة الركوب واللبس لبس
وركوب، فليكن الحكم كذلك في الطلاق. وفي الشامل والتتمة وجه: أنه
إذا استمر الحيض بعد التعليق بساعة، طلقت، ويكون دوام الحيض حيضا،
والصحيح ما سبق.
فرع قال: كلما حضت فأنت طالق، طلقت ثلاثا في أول ثلاث حيض
مستقبلة، ويكون الطلاق بدعيا. ولو قال: كلما حضت حيضة فأنت طالق، طلقت
ثلاثا في انتهاء ثلاث حيض مستقبلة، ويكون طلاق سنة.
فرع قال: إن حضت حيضة، فأنت طالق، وإن حضت حيضتان، فأنت
طالق، فإذا حاضت حيضة، وقع طلقة، فإذا حاضت أخرى، طلقت ثانية، ولو
قال: إن حضت حيضة فأنت طالق، ثم إن حضت حيضتين، فأنت طالق، فإنما
تقع الثانية إذا حاضت بعد الأولى حيضتين، ولو قال: كلما حضت حيضة، فأنت
طالق، وكلما حضت حيضتين، فأنت طالق، فحاضت مرة، طلقت طلقة، وإذا
حاضت أخرى، طلقت ثانية وثالثة.
فرع قال لامرأتيه: إن حضتما حيضة فأنتما طالقان، فثلاثة أوجه:
أصحها: يلغى قوله: حيضة، فإذا ابتدأ بهما الدم، طلقتا. والثاني: إذا تمت
الحيضتان، طلقتا، وهذا احتمال رآه الامام. والثالث: أنه لغو ولا تطلقان وإن
حاضتا، ويجري الخلاف في قوله: إن ولدتما ولدا، فعن ابن القاص: أنه لغو،
136

وعن غيره، أنه كقوله: إذا ولدتما. قال الحناطي: فإن قال: إن ولدتما ولدا
واحدا، فأنتما طالقان، فإنه محال، ولا يقع الطلاق، وعلى الوجه الذي يقول:
يقع بالتعليق على محال، يقع هنا في الحال وإن لم تلدا.
فصل علق طلاقها على حيضها، فقالت: حضت، فأنكر الزوج،
صدقت بيمينها، وكذلك الحكم في كل ما لا يعرف إلا منها، كقوله: إن أضمرت
بغضي فأنت طالق، فقالت: أضمرته، تصدق بيمينها، ويحكم بوقوع الطلاق.
ولو علق بزناها، فوجهان، أحدهما: تصدق فيه، لأنه خفي تندر معرفته، فأشبه
الحيض، وأصحهما عند الامام وآخرين: لا تصدق كالتعليق ونحوه، لأن معرفته
ممكنة، والأصل النكاح، وطرد الخلاف في الأفعال الخفية التي لا يكاد يطلع
عليهما. ولو علق بالولادة، فادعتها، فأنكر وقال: هذا الولد مستعار، لم يصدق
على الأصح، وتطالبه بالبينة كسائر الصفات.
ولو علق طلاق غيرها بحيضها، لم يقبل قولها فيه إلا بتصديق الزوج.
ولو قال: إذا حضت، فأنت وضرتك طالقان، فقالت: حضت وكذبها
فحلفت، طلقت ولم تطلق الضرة على الصحيح. وعن صاحب التقريب: طلاق
الضرة أيضا. ولو قال لهما: إن حضتما فأنتما طالقان، فهو تعليق لطلاقهما على
حيضهما جميعا، فإن حاضتا معا أو مرتبا، طلقتا، فإن كذبهما، صدق بيمينه، ولم
تطلقا، وإن صدق إحداهما فقط، طلقت المكذبة بيمينها على حيضها، ولا تطلق
المصدقة. وعلى قول صاحب التقريب: تطلقان. ولو قال لحفصة: إن حضت
فعمرة طالق، وقال لعمرة: إن حضت فحفصة طالق، فقالتا: حضنا، فإن صدقهما،
طلقتا، وإن كذبهما، لم تطلقا، وإن كذب إحداهما، طلقت المكذبة دون المصدقة.
فرع: تحته ثلاث نسوة، فقال: إذا حضتن فأنتن طوالق، فقلن: حضنا،
وصدقهن، طلقن، وإن كذبهن أو كذب ثنتين، لم تطلق واحدة منهن، وإن كذب
واحدة فقط، طلقت فقط.
فرع: قال لأربع نسوة: إن حضتن، فأنتن طوالق، فقلن: حضنا،
وصدقهن، طلقن، وإن كذبهن، أو كذب ثنتين أو ثلاثا وحلف، لم تطلق واحدة
137

منهن، وإن كذب واحدة فقط، طلقت فقط، وعلى قياس صاحب التقريب:
تطلقن، وكذا في صورة الثلاث.
فرع قال لأربع: كلما حاضت واحدة منكن فأنتن طوالق، فإذا حاض
ثلاث منهن، طلقن كلهن ثلاثا (ثلاثا) وإن قلن: حضنا، فكذبهن وحلف، طلقت
كل واحدة طلقة، لأن يمينه تكفي في حيضها. ولو صدق واحدة فقط، طلقت
طلقة، وطلقت المكذبات طلقتين طلقتين. ولو صدق ثنتين، طلقتا طلقتين
طلقتين، وطلقت المكذبتان ثلاثا ثلاثا، ولو صدق ثلاثا، طلق الجميع ثلاثا ثلاثا.
فرع: قال: كلما حاضت واحدة منكن فصواحبها طوالق، فقلن: حضنا،
وصدقهن، طلقن ثلاثا ثلاثا، وإن كذبهن، لم يقع شئ، وإن صدق واحدة، لم
يقع عليها شئ، وطلقت الباقيات طلقة طلقة، وإن صدق ثنتين، طلقتا طلقة
طلقة، وطلقت المكذبات طلقتين طلقتين، وإن صدق ثلاثا، طلقن طلقتين
طلقتين، وطلقت المكذبة ثلاثا.
فرع: قال: إذا رأيت الدم، فأنت طالق، فعن أبي العباس الروياني،
وجهان، أصحهما: حمله على دم الحيض، لأنه المعتاد. والثاني: على كل دم،
فعلى الأولى: لا تعتبر رؤيتها حقيقة، بل المعتبر العلم كرؤية الهلال.
فرع: ذكر إسماعيل البوشنجي، أنه لو قال: أنت طالق ثلاثا، في كل
حيض طلقة، وهي حائض في الحال، فالذي يقتضيه اللفظ، وقوع طلقة في
الحال، وثانية في أول الحيض الثاني، وثالثة في أول الثالث. وأنه لو قال: إذا
حضت نصف حيضة، فأنت طالق، وعادتها ستة أيام مثلا، فإذا مضت ثلاثة أيام،
حكم بالطلاق.
فرع: ذكر الامام إشكالا على وقوع الطلاق، بتصديق الزوج لها، وقال:
بم يعرف الزوج صدقها؟ وكيف يقع الطلاق بقوله: صدقت وليس هو إقرارا،
فيؤاخذ به؟ وغايته أن يظن صدقها بقرائن، ومعلوم أنه لو قال: سمعتها تقول:
حضت وأنا أجوز كذبها وأظن صدقها، لا يحكم بوقوع الطلاق، فليكن كذلك إذا
أطلق التصديق، إذ لا سند له إلا هذا. قال: وسمعت بعض أكابر العراق يحكي عن
القاضي أبي الطيب، عن الشيخ أبي حامد، ترددا في وقوع الطلاق، ولهذا
138

الاشكال قال: وسبيل الجواب عما أطبق عليه الأصحاب، أن الاقرار حجة شرعية
كاليمين، واليمين يستند إلى قرائن يفيد الظن القوي، كما تحلف المرأة على نية
الزوج في الكنايات، فلا يبعد أن يستند الاقرار إليها، فليحكم به.
فرع: إذا صدقناها في الولادة، فإنما يقبل قولها في حقها دون غيرها كما
قلنا في الحيض. فلو قال: إن ولدت فأنت طالق وعبدي حر، فقالت: ولدت
وحلفت، طلقت على هذا الوجه، ولم يعتق العبد قطعا، ولو قال لامته: إذا ولدت
فأنت حرة وامرأتي طالق، فقالت: ولدت، عتقت ولم تطلق الزوجة. ولو قال: إذا
ولدت فامرأتي طالق وولدك حر، وكانت حاملا بمملوك له، لم تطلق الزوجة ولم
يعتق الولد بقولها: ولدت، لأنه ليس في حقها.
فرع: ذكر القفال تفريعا على أنه لا يقبل قولها: زنيت، إذا علق الطلاق
بزناها، وبه أجاب أنه ليس لها تحليفه على أنه لا يعلم أنها زنت، ولكن إن ادعت
وقوع الفرقة، حلف أنه لم تقع فرقة، وكذا في التعليق بالدخول وسائر الأفعال.
الطرف الخامس: في التعليق بالمشيئة.
أما تعليقه بمشيئة الله تعالى، فسبق بيانه، وأما التعليق بمشيئة غيره، فينظر،
إن علق بمشيئة الزوجة مخاطبة، فقال: أنت طالق إن شئت، اشترط مشيئتها في
مجلس التواجب، كما سبق في كتاب الخلع، فإن أخرت، لم تقع، وفيه قول
شاذ ذكرناه في كتاب الخلع. ولو قال لأجنبي: إن شئت فزوجتي طالق،
فالأصح أنه لا يشترط مشيئته على الفور، وقيل: كالزوجة، ورجحه المتولي. ولو
علق بمشيئتها لا مخاطبة، فقال: زوجتي طالق إن شاءت، لم تشترط المشيئة على
الفور على الأصح، وقيل: يشترط قولها: شئت في الحال إن كانت حاضرة، وإن
كانت غائبة، فتبادر بها إذا بلغها الخبر. ولو قال: امرأتي طالق إذا شاء زيد، لم
يشترط الفور بالاتفاق. ولو قال: إن شئت وشاء فلان، فأنت طالق، اشترط مشيئتها
على الفور وفي مشيئة فلان الوجهان، أصحهما: لا يشترط الفور.
فصل علق بمشيئتها أو مشيئة غيرها، فقال المعلق بمشيئة الزوج: شئت
إن شئت، أو إن شاء فلان، فقال الزوج أو فلان: شئت، أو قال: شئت غدا، لم
يقع الطلاق، لأنه علق على مشيئة مجزوم بها، ولم تحصل. وحكى الحناطي
139

وجها: أنه يصح تعليق المشيئة، ويقع الطلاق إذا قال الزوج: شئت، وهذا غريب
ضعيف. ولو شاء المعلق بمشيئته بلسانه وهو كاره بقلبه، طلقت في الظاهر، وفي
الباطن وجهان، قال أبو يعقوب الأبيوردي: لا يقع، كما لو أخبرت بالحيض كاذبة،
وإلى هذا مال القاضي حسين، وقال القفال: يقع، قال البغوي: وهو الأصح، لان
التعليق في الحقيقة بلفظ المشيئة.
قلت: قال الرافعي في المحرر: الأصح الوقوع باطنا. والله أعلم.
ولو وجدت الإرادة دون اللفظ، لم تطلق على قول القفال، وعلى قول
الأبيوردي وجهان.
فرع علق بمشيئتها وهي صبية، أو بمشيئة صبي، فقالت: شئت، أو
قال: شئت، لم تطلق على الأصح، وقيل: تطلق إن شاءت وهي مميزة، كما لو
قال لها: أنت طالق إن قلت: شئت، أما لو علق بمشيئتها وهي مجنونة أو صغيرة لا
تميز، أو بمشيئة غيرها، وهو بهذه الصفة، فقالت: شئت، فلا تقع بلا خلاف.
ولو قال المعلق بمشيئته: شئت وهو سكران، خرج على الخلاف في أنه كالصاحي
أو المجنون، ولو علق بمشيئة أخرس، فقال بالإشارة: شئت، طلقت، وإن علق
بمشيئة ناطق، فخرس، وأشار بالمشيئة، طلقت على الأصح.
فرع قال: أنت طالق إذا شئت، فهو كقوله: إن شئت، وإن قال: متى
شئت، طلقت متى شاءت، وإن فارقت المجلس.
فرع إذا علق بمشيئتها، فإن أراد أن يرجع قبل مشيئتها، لم يكن له كسائر
التعليقات.
فرع قال: أنت طالق إن شاءت الملائكة، لم تطلق، لأن لهم مشيئة،
وحصولها غير معلوم، ولو قال: إن شاء الحمار، فكقوله: إن صعدت السماء، ولو
قال: إن شئت أنا، فمتى شاء وقع.
فرع قال لامرأتيه: إن شئتما فأنتما طالقان، فشاءت كل واحدة طلاق
نفسها دون ضرتها، قال إسماعيل البوشنجي: القياس وقوع الطلاق، لأن المفهوم
140

منه تعليق كل واحدة بمشيئتها، وفي التتمة ما يقتضي تعليق طلاق كل واحدة
بالمشيئتين.
فرع ذكر البغوي، أنه لو قال: أنت طالق كيف شئت، قال أبو زيد
والقفال: تطلق شاءت أم لم تشأ، وقال الشيخ أبو علي: لا تطلق حتى توجد مشيئة
في المجلس، إما مشيئة أن تطلق، وإما مشيئة أن لا تطلق، قال البغوي: وكذا
الحكم في قوله: أنت طالق على أي وجه شئت. ولو قال: أنت طالق إن شئت أو
أبيت، فمقتضى اللفظ وقوع الطلاق بأحد الامرين: المشيئة أو الإباء، كما لو قال:
أنت طالق إن قمت أو قعدت، ولو قال: أنت طالق، شئت أو أبيت، طلقت في
الحال، إذ لا تعليق في هذا.
فصل قال: أنت طالق ثلاثا، إلا أن يشاء أبوك أو فلان واحدة، فشاء
واحدة، فثلاثة أوجه، أصحها: لا يقع شئ، كما لو قال: أنت طالق إلا أن يدخل
أبوك الدار، فدخل. وعلى هذا لو شاء اثنتين أو ثلاثا، لم يقع شئ أيضا، لأنه شاء
واحدة وزاد، والثاني: أنه إذا شاء واحدة وقعت، والثالث، يقع طلقتان،
وتقديره: أنت طالق ثلاثا إلا أن يشاء أبوك أن لا يقع واحدة منها، فلا يقع، فإذا قلنا
بالأول، فقال: أردت المراد بالثاني، قبل، وإن قلنا: بالثاني، فقال: أردت
معنى الأول، قبل أيضا على الأصح فلا يقع شئ، ولو قال: أنت طالق واحدة إلا
أن يشاء أبوك، أو إلا أن تشائي ثلاثا، فإن شاء أو شاءت ثلاثا، لم يقع شئ تفريعا
على الأصح. وإن لم يشأ شيئا، أو شاءت واحدة أو ثنتين، وقعت واحدة. ولو
قال: أنت طالق ثلاثا إن شئت فقالت: شئت واحدة أو ثنتين، لم يقع شئ، ولو
قال: أنت طالق واحدة إن شئت، فقالت: شئت ثنتين أو ثلاثا، وقعت الواحدة.
فرع قال: أنت طالق لولا أبوك، لم تطلق على الصحيح. وفيه وجه
ضعيف حكاه المتولي. ولو قال: أنت طالق لولا أبواك لطلقتك. قال الأصحاب:
لا تطلق، لأنه أخبر أنه لولا حرمة أبيها لطلقها، وأكد هذا الخبر بالحلف بطلاقها،
كقوله: والله لولا أبوك لطلقتك. قال المتولي: إنما لا تطلق إذا كان صادقا في
خبره، فإن كان كاذبا، طلقت في الباطن، وإن أقر أنه كان كاذبا، طلقت في الظاهر أيضا.
141

فرع قال: أنت طالق إلا أن يشاء أو يبدو لي، قال البغوي: يقع
في الحال. فرع قال البغوي: لو قال لها: أحبي الطلاق، أو اهوي، أو أريدي، أو
أرضي، وأراد تمليكها الطلاق، فهو كقوله: شائي أو اختاري، فإذا رضيت أو
أحبت، أو أرادت، وقع الطلاق، هذا لفظه. وقال البوشنجي: إذا قال: شائي
الطلاق، ونوى وقوع الطلاق بمشيئتها فقالت: شئت، لا تطلق، وكذا لو قال:
أحبي أو أريدي، لأنه استدعى منها المشيئة ولم يطلقها، ولا علق طلاقها، ولا
فوضه إليها، ولو قدر أنه تفويض، فقولها: شئت ليس بتطليق، وهذا أقوى.
ولو قال: إذا رضيت أو أحببت أو أردت الطلاق، فأنت طالق، فقالت:
رضيت أو أحببت أو أردت، طلقت. ولو قالت: شئت، قال البوشنجي: ينبغي أن
لا يقع، وكذا لو قال: إن شئت، فقالت: أحببت أو هويت، لأن كلا من لفظي
المشيئة والمحبة يقتضي ما لا يقتضيه الآخر. ولهذا يقال: الانسان يشاء دخول
الدار، ولا يقال: يحبه، ويحب ولده، ولا يسوغ لفظ المشيئة فيه.
فرع قال: أنت طالق إلا أن يرى فلان غير ذلك، أو إلا إن يشاء أو يريد
غير ذلك، أو إلا أن يبدو لفلان غير ذلك، فلا يقع الطلاق في الحال، بل يقف الامر
على ما يبدو من فلان، ولا يختص ما يبدو منه بالمجلس.
ولو مات فلان وفات ما جعله مانعا من الوقوع، تبين وقوع الطلاق قبيل موته.
فرع ذكر البوشنجي. أنه لو قال: أنت طالق إن لم يشأ فلان، فقال
فلان: لم أشأ، وقع الطلاق. وكذا لو قال: إن لم يشأ فلان طلاقك اليوم، فقال
فلان في اليوم: لا أشاء، وقع الطلاق، وقياس التعليق ينفي الدخول وسائر الصفات
أن يقال: إنه وإن لم يشأ في الحال، فقد يشاء بعد، فلا يقع الطلاق إلا إذا حصل
اليأس، وفاتت المشيئة. وفي صورة التقييد باليوم، لا يقع إلا إذا مضى اليوم خاليا
عن المشيئة، ويجوز أن يوجه ما ذكره البوشنجي بأن كلام المعلق محمول على تلفظه
بعدم المشيئة، فإذا قال: لم أشأ، فقد تحقق الوصف.
142

الطرف السادس: في مسائل الدور:
فإذا قال لها: إذا طلقتك، أو إن طلقتك، أو متى طلقتك، أو مهما طلقتك،
فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم طلقها، فثلاثة أوجه أحدها: لا يقع عليها طلاق أصلا،
عملا بالدور وتصحيحا له، لأنه لو وقع المنجز لوقع قبله ثلاث، وحينئذ فلا يقع
المنجز للبينونة، وحينئذ لا يقع الثلاث، لعدم شرطه وهو التطليق. والوجه
الثاني: يقع المنجز فقط. والثالث: يقع ثلاث تطليقات، المنجزة، وطلقتان من
المعلق. وقيل على هذا: يقع المعلقات دون المنجزة، قال الامام: وهو بعيد، ثم
الوجهان الأولان يجريان في المدخول بها وغيرها، وأما الثالث، فمختص بالمدخول
143

بها، فإن غيرها لا يتعاقب عليها طلاقان.
ولو قال لرقيق: إن أعتقك، فأنت حر قبله، ثم أعتقه، عتق على الوجه الثاني دون
الأول، ولو قال: إذا طلقتك، فأنت طالق ثلاثا قبله بيوم، وأمهل يوما ثم طلقها،
ففيه الخلاف، ولو طلق قبل تمام يوم من وقت التعليق، وقع المنجز بلا خلاف، ولا
يقع شئ من المعلق، لأن الوقوع لا يسبق اللفظ. ولو قال: متى طلقتك، فأنت
طالق قبله بشهرين أو بسنة، فإن طلقها قبل مضي تلك المدة، وقع المنجز فقط بلا
خلاف، وإن مضت تلك المدة، فعلى الوجه الأول، وإن كانت غير مدخول بها،
لم يقع شئ، وإن كانت مدخولا بها، فإن كانت عدتها منقضية في تلك المدة لو
أوقعنا طلقة من الوقت الذي ذكره، لم يقع شئ أيضا، وإن لم تكن منقضية، وقع
عليها طلقتان، وعلى الوجه الثاني: إن لم يكن مدخولا بها، وقع ما نجزه، وإن
كانت مدخولا بها، وكانت عدتها منقضية في تلك المدة، فكذلك، وإن كانت غير
منقضية، وقع طلقتان.
ولو قال: أنت طالق اليوم ثلاثا إن طلقتك غدا واحدة، ثم طلقها غدا واحدة،
ففيه الأوجه، وإذا كان التعليق بالتطليق كما صورناه في هذه المسائل، فلو كان قد
علق طلاقها بدخول الدار ونحوه قبل التعليق بالتطليق، ثم دخلت الدار، يقع المعلق
بالدخول بلا خلاف، لأنه ليس بتطليق، وكذا لو وكل وكيلا بتطليقها، لأنه لم
يطلقها الزوج، إنما وقع عليها طلاقه.
أما إذا قال: إن وقع عليك طلاقي، فأنت طالق قبله ثلاثا، فسواء طلق بنفسه
أو بوكيله، هكذا ذكره الامام والمتولي، ولو علق طلاقها بدخول الدار، ثم قال:
متى وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا، أو قال: إن حنثت في يميني فأنت طالق
قبله ثلاثا ثم دخل الدار، فهل يقع المعلق بالدخول إذا فرعنا على الوجه الأول؟
وجهان. أحدهما: نعم لأنها يمين منعقدة قبل الدور، فلا يملك إبطالها،
وأصحهما: لا، وبه قال القاضيان، أبو الطيب والروياني للدور، ويتصور حل
اليمين، ولهذا لو قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ثلاثا، كان له إسقاطه، بأن
يقول: أنت طالق قبل انقضاء الشهر بيوم، وعلى هذا الوجه، هذا الطريق أسهل في
دفع الطلقات الثلاث من الخلع وإيقاع الصفة في حال البينونة. ولو قال: أنت طالق
144

ثلاثا قبل أن أطلقك واحدة، ثم طلقها واحدة، فعلى الوجه الأول: لا يقع شئ،
وكذا لو طلق ثلاثا أو اثنتين لاشتمال العدد على واحدة، وإذا مات أحدهما، يحكم
بوقوع الطلاق قبل الموت، كما لو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق، قاله المتولي،
وعلى الوجه الثاني: يقع المنجز. ولو قال: إذا طلقتك ثلاثا، فأنت طالق قبلها
طلقة، فطلقها ثلاثا، فعلى الوجه الأول: لا يقع شئ، وعلى الثاني: يقع
الثلاث.
ولو طلقها واحدة أو ثنتين، وقع المنجز بلا خلاف، ولو قال: إذا طلقتك
فأنت طالق قبله طلقتين، وهي غير مدخول بها، فطلقها، لم يقع على الأول
شئ، وعلى الثاني: يقع المنجز، وإن كانت مدخولا بها، وقع طلقتان على
الوجهين.
فرع قال: إن آليت منك، أو ظاهرت منك، فأنت طالق قبله ثلاثا، فإذا
آلى أو ظاهر منها، لم تقع الثلاث قبله، وفي صحة الظهار والايلاء الوجهان، إن
صححنا الدور، لم يصحا، وإن أوقعنا الطلاق المنجز صحا، واختاره الغزالي في
كتابه غاية الغور في دراية الدور القطع بالصحة، وكذا الحكم لو قال: إن
لاعنتك، أو حلفت بطلاقك، فأنت طالق قبله ثلاثا، أو قال للرجعية: إن راجعتك
فأنت طالق قبله طلقتين أو ثلاثا، أو قال: إن فسخت النكاح بعيبك فأنت طالق قبله
ثلاثا، وإذا وجد منه التصرف المعلق عليه، ففي نفوذه الوجهان. قاله الشيخ أبو
علي والقاضي حسين والأصحاب، ولو قال: إن فسخت النكاح بعيبي أو بعيبك،
فأنت طالق قبله ثلاثا، أو قال: إن استحققت الفسخ بذلك أو بالاعسار، أو إن استقر
مهرك بالوطئ، أو إن استحققت النفقة، أو القسم، أو طلب الطلاق في الايلاء فأنت
طالق قبله ثلاثا، ثم فسخت، أو وجدت الأسباب المثبتة لهذه الاستحقاقات، نفذ
الفسخ وتبين الاستحقاق، ولا نقول بابطالها للدور، وإن ألغينا الطلاق المنجز،
والفرق أن هذه فسوخ وحقوق، ثبتت عليه قهرا، ولا تتعلق بمباشرته واختياره، فلا
يصلح تصرفه دافعا لها ومبطلا لحق غيره، بخلاف الطلاق، ولو قال: إن انفسخ
نكاحك، فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم ارتد أو اشتراها، انفسخ النكاح قطعا، ولا يقع
الطلاق.
145

فرع قال: إن وطئت وطأ مباحا، فأنت طالق قبله، ثم وطئها، لم تطلق
قبله، إذ لو طلقت لم يكن الوطئ مباحا، وسواء ذكر الثلاث في هذه الصورة أم لا.
قال الامام وغيره: ولا خلاف في هذه الصورة، بل موضع الخلاف إذا انحسم
بتصحيح اليمين الدائرة باب الطلاق أو غيره من التصرفات الشرعية، وهنا لا تنحسم
ولو قال: إن طلقتك طلقة رجعية، فأنت طالق قبلها ثلاثا أو طلقتين، فطلقها، ففيه
الخلاف. ولو طلقها ثلاثا أو خالعها، أو كانت غير مدخول بها، فطلقها واحدة، أو
ثنتين، وقع المنجز، لأنه إنما علق الثلاث بالطلقة الرجعية. وفي هذه الصور ما
نجزه ليس برجعي. ولو قال: إن طلقتك طلقة رجعية، فأنت طالق قبله واحدة وهي
مدخول بها، فلا دور، فإذا طلقها، طلقت طلقتين. ولو قال للمدخول بها: متى
طلقتك طلاقا رجعيا، فأنت طالق ثلاثا، ولم يقل: قبله، ثم طلقها، وقع الثلاث
ولا دور. وحكي عن ابن سريج: أنه لا يقع شئ، قال الشيخ أبو علي: هذا غلط
من ناقل أو ناسخ، وابن سريج أجل من أن يقول هذا، قال الامام: والمحكي عن
ابن سريج، متجه عندي. ولو قال: إذا طلقتك طلقة رجعية، فأنت طالق معها
ثلاثا، فإذا طلقها، فوجهان بناء على الوجهين في قوله لغير المدخول بها: أنت
طالق طلقة معها طلقة، هل يقع طلقتان أم طلقة؟ إن قلنا: طلقتان معا، فهنا لا يقع
شئ، بناء على تصحيح الدور، وإن قلنا هناك: لا يقع إلا واحدة، وقع هنا
الثلاث كما لو لم يقل: معها.
فرع: اختلف الأصحاب في الراجح من الأوجه الثلاثة في الدور،
فالمعروف عن ابن سريج الوجه الأول، وهو أنه لا يقع الطلاق، وبه اشتهرت المسألة
بالسريجية وبه قال ابن الحداد والقفالان، والشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب،
واختاره الشيخ أبو علي وصاحب المهذب، والغزالي، وعن المزني أنه قال في
كتاب المنثور، ورأيت في بعض التعاليق، أن صاحب الافصاح حكاه عن
نص الشافعي رضي الله عنه، أنه مذهب زيد بن ثابت رضي الله عنه، واختاره الإمام أبو
بكر الإسماعيلي، وأبو عبد الله الحسين. الوجه الثالث، وهو وقوع الثلاث إذا
نجز واحدة، وذهب إلى وقوع المنجزة فقط: ابن القاص، وأبو زيد، وهو مذهب
أبي حنيفة، واختاره ابن الصباغ والمتولي، والشريف ناصر العمري، وللغزالي
تصنيفان في المسألة، مطول في تصحيح الدور، سماه غاية الغور في دراية
146

الدور، ومختصر في إبطاله سماه الغور في الدور، رجع فيه عن تصحيحه،
واعتذر فيه عما سبق منه، ويشبه أن تكون الفتوى به أولى. وذكر الروياني بعد
اختياره تصحيح الدور، أنه لا وجه لتعليم العوام المسألة لفساد الزمان.
قلت: قد جزم الرافعي في المجرد بترجيح وقوع المنجزة فقط، كما أشار
هنا إلى اختياره. والله أعلم.
فصل: إذا صححنا الدور، فقال: متى وقع طلاقي على حفصة، فعمرة
طالق قبله ثلاثا، ومتى وقع طلاقي على عمرة، فحفصة طالق قبله ثلاثا، ثم طلق
إحداهما، لم تطلق هي ولا صاحبتها، فلو ماتت عمرة ثم طلقت حفصة، طلقت،
لأنه لا يلزم والحالة هذه من إثبات الطلاق نفيه، ولو قال زيد لعمرو: متى وقع
طلاقك على زوجتك، فزوجتي طالق قبله ثلاثا، وقال عمرو ليد مثل ذلك، لم يقع
طلاق واحد منهما على زوجته، ما دامت زوجة الآخر في نكاحه، ولو قال لزوجته:
متى دخلت الدار وأنت زوجتي، فعبدي حر قبله، وقال لعبده: متى دخلت الدار
وأنت عبدي، فامرأتي طالق قبله ثلاثا، ثم دخلا الدار معا، لم يعتق العبد، ولا
تطلق هي، قال الامام: ولا يخالف أبو زيد في هذه الصورة، لأنه ليس فيها سد باب
التصرف، فلو دخلت المرأة أولا، ثم العبد، عتق ولم تطلق هي لأنه حين دخلت لم
يكن عبدا له، فلم تحصل صفة طلاقها. ولو دخل العبد أولا ثم دخلت، طلقت ولم
يعتق. ولو قال لها: متى دخلت الدار وأنت زوجتي، فعبدي حر. وقال له: متى
دخلت الدار وأنت عبدي، فزوجتي طالق، ولم يقل في الطرفين: قبله، فدخلا
معا، عتق وطلقت، لأن كلا منهما عند الدخول بالصفة المشروطة. ولو دخل ثم
دخلت أو عكسه، فالحكم كما في الصورة السابقة بلا فرق.
فرع قال لها: متى أعتقت أمتي هذه وأنت زوجتي، فهي حرة، ثم قال:
متى أعتقتها، فأنت طالق قبل إعتاقك إياها بثلاثة أيام، ثم أعتقتها المرأة قبل ثلاثة
أيام، عتقت الأمة لأنها أعتقتها وهي زوجة، ولا تطلق المرأة، لأنها لو طلقت،
لطلقت قبل الاعتاق بثلاثة أيام، وحينئذ يكون الطلاق متقدما على اللفظ، وذلك
ممتنع. فلو أمهلت ثلاثة أيام ثم أعتقها، لم تعتق، لأنه إنما أذن لها في الاعتاق
بشرط أن تكون زوجة له، ولا تطلق أيضا لأنه معلق بالعتق، وبالله التوفيق.
147

الطرف السابع: في أنواع (من) التعليق ونحوه:
فمن ذلك التعليق بالحلف، قال ابن سريج وتابعه جمهور الأصحاب: الحلف
ما تعلق به منع من الفعل، أو حث عليه، أو تحقيق خير وجلب تصديق، فإذا قال:
إذا حلفت، أو إن حلفت بطلاقك، فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشمس، أو
إذا جاء رأس الشهر، فأنت طالق، لم يقع الطلاق المعلق بالحلف بالطلاق، لأنه
ليس في هذا التعليق منع، ولا حث، ولا غرض تحقيق، وكذا لو قال: إذا
حضت، أو إذا طهرت، أو إذا شئت فأنت طالق، فكذلك حكمه، وحكى الفوراني
وجها أن هذا كله يسمى حلفا، وهذا شاذ، والصواب الأول.
ولو قال بعد التعليق بالحلف: إن ضربتك، أو إن كلمت فلانا، أو إن خرجت
من الدار، أو إن لم تخرجي، أو إن لم أفعل كذا، أو إن لم يكن هذا كما قلت فأنت
طالق، وقع في الحال الطلاق المعلق بالحلف، لأن هذا حلف، ثم إذا وجد
الضرب أو غيره مما علق عليه، وقعت طلقة أخرى إن بقيت في العدة، ولو قال: إن
قدم فلان فأنت طالق، وقصد منعه وهو ممن يمتنع تخلفه، فهو كقوله: إن دخلت
الدار. وكذا لو قال الزوج: طلعت الشمس، فكذبته، فقال: إن لم تطلع فأنت
طالق، فهو حلف، لأن غرضه التحقيق، وحملها على التصديق، وإن قصد بقوله:
إن قدم فلان، التوقيت، أو كان فلان ممن لا يمتنع تخلفه كالسلطان، أو قال: إذا
قدم الحجيج فأنت طالق، فليس هذا حلفا، وما جعلنا التعليق به حلفا، فلا فرق بين
148

أن يعلقه بصيغة إن أو صيغة إذا، اعتبارا بأنه موضع منع وحث وتصديق
وقيل: إن كان بصيغة إذا فهو توقيت وليس بحلف، والصحيح الأول، وما لم
يجعل التعليق به حلفا كطلوع الشمس وقدوم الحجيج، فلا فرق فيه بين صيغة إن
وإذا. وقيل: إن علقه بصيغة إن كان حلفا لأنه صرفه عن التوقيت بالعدول
عن كلمة التوقيت، وهي إذا، فإنها ظرف زمان، والصحيح الأول.
فرع: قال: إن أقسمت بطلاقك، أو عقدت يميني بطلاقك، [فأنت
طالق] فهو كقوله: إن حلفت بطلاقك. ولو قال: إن لم أحلف بطلاقك، أو إذا
لم أحلف بطلاقك، فأنت طالق، فحكمه كما سبق في طرف الاثبات، والمذهب
أن لفظة إن لا تقتضي الفور والبدار إلى الحلف، ولفظه إذا تقتضيه. فإذا
قال: إذا لم أحلف بطلاقك فأنت طالق، ثم أعاد ذلك مرة ثانية وثالثة، نظر، إن
فصل بين المرات بقدر ما يمكن فيه الحلف بطلاقها وسكت فيه، ولم يحلف عقيب
المرة الثالثة، وقع الطلقات الثلاث، وإن وصل الكلمات، لم يقع بالأولى ولا
بالثانية شئ، ويقع بالثالثة طلقة، إذا لم يحلف بطلاقها. ولو قال: كلما لم
أحلف بطلاقك فأنت طالق، ومضى زمان يمكنه أن يحلف فيه فلم يحلف، طلقت
طلقة،. فإذا مضى مثل ذلك ولم يحلف، وقعت ثانية، وكذلك الثالثة. ولو قال: إن
حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم أعاد هذا القول مرة ثانية وثالثة ورابعة، فإن كانت
المرأة مدخولا بها، وقع بالمرة الثانية طلقة، وتنحل اليمين الأولى، ثم يقع بالثالثة
طلقة بحكم اليمين الثانية وتنحل، ويقع بالرابعة طلقة ثالثة بحكم اليمين الثالثة
وتنحل الثالثة، وتكون الرابعة يمينا منعقدة، حتى يقع بها الطلاق إذا حلف بطلاقها
في نكاح آخر، إن قلنا: يعود الحنث بعد الطلقات الثلاث وإن لم يكن مدخولا
بها، وقع طلقة بالمرة الثانية، وبانت بها، تنحل اليمين الأولى، وتبقى الثانية
منعقدة، وفي ظهور أثرها في النكاح المجدد، الخلاف في عود الحنث، والثالثة
والرابعة واقعتان في حال البينونة، فلا تنعقدان، ولا ينحل بهما شئ. ولو قال لغير
المدخول بها: إذا كلمتك فأنت طالق، وأعاد ذلك مرارا، وقع بالمرة الثانية طلقة،
وهي يمين منعقدة، وتنحل بالثالثة، لأن التعليق هنا بالكلام، والكلام قد يكون في
149

البينونة، وهناك التعليق بالحلف بالطلاق، وذلك لا يكون في حال البينونة وقال سهل
الصعلوكي: لا تنعقد اليمين الثانية في مسألة الكلام، لأنها تبين بقوله: إن
كلمتك، فيقع قوله: فأنت طالق في حال البينونة، وتلغو الثالثة والرابعة، والصحيح
الأول، لأن قوله: إن كلمتك فأنت طالق، كلام واحد.
فرع: قال لامرأتيه: إذا حلفت بطلاقكما، فأنتما طالقان، وأعاد هذا القول
مرارا، فإن كان دخل بهما، طلقتا ثلاثا ثلاثا، وإن لم يدخل بواحدة منهما، طلقتا
طلقة، وبانتا، وفي عود الحنث باليمين الثانية الخلاف، وإن دخل بإحداهما،
طلقتا جميعا بالمرة الثانية، وبانت غير المدخول بها، وبالمرة الثالثة لا تطلق واحدة
منهما، لأن شرط الطلاق الحلف بهما، ولا يصح الحلف بالبائن. فإن نكح التي
بانت، وحلف بطلاقها وحدها، طلقت المدخول بها إن راجعها، أو كانت بعد في
العدة، لأنه حصل الشرط وهو الحلف بطلاقها. وفي طلاق هذه المجددة الخلاف
في عود الحنث.
فرع قال لامرأتيه: إن حلفت بطلاقكما، فعمرة منكما طالق، وأعاد هذا
مرارا، لم تطلق عمرة، لأن طلاقها معلق بالحلف بطلاقهما معا، وهذا حلف
بطلاقها وحدها، وكذا لو قال بعد التعليق الأول: إذا دخلتما الدار فعمرة طالق،
وإنما تطلق عمرة إذا حلف بطلاقهما جميعا، إما في يمين أو يمينين. ولو قال: إن
حلفت بطلاقكما، فإحداكما طالق، وأعاد ذلك مرارا، لم تطلق واحدة منهما. فلو
قال بعد ذلك: إن حلفت بطلاقها فأنتما طالقان، طلقت إحداهما بالتعليق الأول،
وعليه البيان، ولو قال: إن حلفت بطلاق إحداكما فأنتما طالقان، وأعاد مرة ثانية،
طلقتا جميعا.
فرع قال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها منكما، فصاحبتها طالق. قال
صاحب التلخيص: إذا سكت ساعة يمكنه أن يحلف فيها بطلاقهما، طلقتا.
قال الشيخ أبو علي: عرضت قوله على القفال وشارحي التلخيص فصوبوه
والقياس أن هذه الصيغة لا تقتضي الفور، ولا يقع الطلاق على واحدة منهما بالسكوت،
إلى أن يتحقق اليأس عن الحلف بموته أو موتها، إذ ليس في عبارته
تعرض للوقت، بخلاف قوله: متى لم أحلف. وتابعه الامام وغيره على قوله،
150

واستبعدوا كلام صاحب التلخيص.
فصل:: قال: إن أكلت رمانة فأنت طالق، وإن أكلت نصف رمانة، فأنت
طالق، فأكلت رمانة، طلقت طلقتين. ولو كان التعليق بصيغة كلما طلقت
ثلاثا، لأنها أكلت رمانة، ونصف رمانة مرتين.
فصل: تحته أربع نسوة، فقال: من بشرتني منكن بكذا، فهي طالق،
فبشرته واحدة بعد أخرى، طلقت الأولى فقط، لأن البشارة الخبر الأول.
ولو شاهد هو الحال قبل أن تخبره، فاتت البشارة، ولو بشره أجنبي ثم ذكرته
له إحداهن، لم تطلق. وحكى الفوراني وجها، أن البشارة لا تختص بالخبر
الأول، بل هي كقوله: من أخبرتني بكذا، وسنذكره إن شاء الله تعالى، والصحيح
الأول، ولو بشرته امرأتان معا، فالمنقول أنهما تطلقان، وفيه نظر، فإنه لو قال: من
أكل منكما هذا الرغيف، فهي طالق فأكلتاه، لم تطلقا.
قلت: الصواب، أنهما تطلقان، وليس كمسألة الرغيف، لأنه لم تأكله واحدة
منهما، وأما البشارة، فلفظ من ألفاظ العموم، لا ينحصر في واحدة، فإذا بشرتاه
معا، صدق اسم البشارة من كل واحدة، فطلقتا. والله أعلم.
ويشترط في البشارة الصدق، فلو قالت واحدة: كان كذا، وهي كاذبة، ثم
ذكرته الثانية وهي صادقة، طلقت الثانية دون الأولى، وتحصل البشارة بالمكاتبة،
كما تحصل باللفظ، ولو أرسلت رسولا، لم تطلق، لأن المبشر هو الرسول، ذكره
البغوي.
151

فرع قال: من أخبرتني منكما بكذا، فهي طالق، فلفظ الخبر يقع على
الكذب والصدق، ولا يختص بالخبر الأول، فإذا أخبرتاه صادقتين أو كاذبتين معا،
أو على الترتيب، طلقتا جميعا، وسواء قال: من أخبرتني منكما بقدوم زيد، أو من
أخبرتني أن زيدا قدم، أو بأن زيدا قدم، وحكي وجه، فيما إذا قال: من أخبرني
بقدوم زيد، أنه لا يقع إذا أخبرته كاذبة، لأن الباء للالصاق، فصار في معنى شرط
القدوم في الاخبار، وبهذا قال الفوراني، والصحيح الأول.
فصل تحته حفصة وعمرة، فقال: يا عمرة، فأجابته حفصة، فقال:
أنت طالق، فإن قال: ظننت المجيبة عمرة، تطلق عمرة، لم تطلق عمرة، لأنه لم يخاطبها
بالطلاق، بل ظن ذلك، وظن الخطاب بالطلاق لا يقتضي وقوعه. ولهذا لو قال
لزوجته: أنت طالق وهو يظنها زوجته الأخرى، طلقت المخاطبة دون المظنونة، ولو
قال لأجنبية: أنت طالق وهو يظنها زوجته، لم يقع الطلاق على زوجته، وأما حفصة
المخاطبة، فيقع عليها الطلاق على الأصح. وأشار بعضهم إلى أن الخلاف في
الوقوع باطنا، وأنها تطلق ظاهرا بلا خلاف، هذا ترتيب الأصحاب. وقال الامام:
لو قيل: تطلق حفصة ظاهرا قطعا، وفي عمرة وجهان، لكان محتملا، ولو قال:
علمت أن التي أجابتني حفصة، سئل، فإن قال: قصدت طلاق حفصة، طلقت
حفصة دون عمرة، لأن قوله محتمل، وإن قال: قصدت طلاق عمرة دون حفصة
المجيبة، طلقت عمرة ظاهرا وباطنا، ويدين في حفصة، ويقع طلاقها ظاهرا على
الصحيح، ولو كان النداء والجواب كما سبق، لكن قال بعد جواب حفصة: زينب
طالق لامرأة له ثالثة، طلقت زينب دون حفصة وعمرة. ولو قال: أنت وزينب
طالقان، طلقت زينب، ثم يسأل؟ فإن قال: ظننت المجيبة عمرة، لم تطلق
عمرة، وتطلق حفصة على الأصح. وإن قال: علمت أن المجيبة حفصة، وقصدت طلاقها، طلقت دون عمرة، وإن قال: قصدت طلاق عمرة، طلقت عمرة ظاهرا
وباطنا، وطلقت حفصة ظاهرا على الصحيح، وهذه المسألة ليست من التعليق في
شئ، لكن التزام ترتيب الكتاب اقتضى جعلها هنا.
فصل قال العبد لزوجته: إذا مات سيدي، فأنت طالق طلقتين، وقال
السيد للعبد: إذا مت فأنت حر، فمات، نظر إن لم يحتمل الثلث جميع العبد رق
ما زاد على الثلث، ومن بعضه رقيق كالقن في عدد الطلاق، فتقع الطلقتان، وليس
152

له رجعتها ولا نكاحها إلا بمحلل، وإن احتمله الثلث عتق، وفي تحريمها عليه
وجهان، أحدهما: لا تحل إلا بمحلل، وأصحهما وبه قال ابن الحداد: لا تحرم،
فله رجعتها، وله تجديد نكاحها بلا محلل، لأن العتق والطلاق وقعا معا، فلم يكن
رقيقا حال الطلاق حتى يفتقر إلى محلل، ولا تختص المسألة بموت السيد، بل
يجري الخلاف في كل صورة تعلق عتق العبد، ووقوع طلقتين على زوجته بصفة
واحدة، كما لو قال العبد: إذا جاء الغد، فأنت طالق طلقتين، وقال السيد: إذا
جاء الغد فأنت حر، ولو قال العبد، إذا عتقت فأنت طالق طلقتين، وقال السيد: إذا
جاء الغد فأنت حر، قال الشيخ أبو علي: إذا جاء الغد، عتق وطلقت طلقتين،
ولا تحرم عليه بلا خلاف، لأن العتق سبق وقوع الطلاق، ولو علق السيد عتقه
بموته، وعلق العبد الطلقتين بآخر جزء من حياة السيد، انقطعت الرجعة، واشترط
المحلل بلا خلاف، لأن الطلاق صادف الرق.
فرع من له نكاح الأمة، نكح أمة مورثه، ثم قال لها: إذا مات سيدك؟
فأنت طالق، فمات السيد وورثه الزوج، انفسخ النكاح، ولم يقع الطلاق على
الأصح، وقيل: يقع سواء كان على السيد دين مستغرق أم لا، وقيل: إن كان دين
مستغرق، نفذ الطلاق تفريعا على أن الدين يمنع انتقال الملك إلى الوارث، فعلى
هذا، إذا قضي الدين، بان انتقال الملك إليه، وصار الدين كالمعدوم، والصحيح
الأول. ولو علق الزوج طلاقها كما ذكرنا، وقال السيد: إذا مت، فأنت حرة، فإن
خرجت من الثلث، عتقت وطلقت، وإلا عاد الخلاف في نفوذ الطلاق، فلو أجاز
الزوج عتقها وكان حائزا للإرث، أو أجاز معه باقي الورثة، فإن قلنا: الإجازة تنفيذ،
طلقت، لأنها لم تدخل في ملك الوارث، وإن قلنا: عطية من الوارث، فقد دخلت
في ملكه، ويكون وقوع الطلاق على الخلاف، ولو كاتبها السيد ومات، قال الشيخ
أبو علي: في وقوع الطلاق الخلاف، لأن المكاتب يورث، ولهذا لو مات وبنته
تحت مكاتبه، انفسخ النكاح، لأنها ورثت بعض زوجها، وإذا لم يكن الزوج وارثا
لسبب، وقع الطلاق والانفساخ قطعا.
فرع قال الحر لزوجته الأمة: إن اشتريتك، فأنت طالق، وقال سيدها:
إن بعتك، فأنت حرة، فباعها لزوجها، عتقت في الحال، لأنا إن قلنا: الملك في
زمن الخيار للبائع أو موقوف، فالجارية ملكه، وقد وجدت الصفة، وإن قلنا:
153

الملك للمشتري، فللبائع الفسخ، وإعتاقه فسخ، فتعود الجارية بالاعتاق إلى
ملكه، وأما الطلاق، فقد أطلق ابن الحداد: أنه يقع، قال الأصحاب: هذا تفريع
على أن الملك في زمن الخيار للبائع، فإن النكاح على هذا القول باق، وقد وجد
شرط الطلاق، فيقع، وكذا الحكم على قولنا: موقوف، لأنه لم يتم البيع، وأما إذا
قلنا: الملك للمشتري، فلا يقع الطلاق على الأصح، كالمسألة السابقة في الفرع
السابق، ولو قال: إن ملكتك بدل اشتريتك، لم يجئ فيه إلا هذا الخلاف
الأخير، ولو اشترى زوجته الأمة وطلقها في زمن الخيار، فإن قلنا: الملك للبائع،
نفذ الطلاق، وإن قلنا: للمشتري، فلا، وإن قلنا: موقوف، فإن لم يتم البيع،
طلقت، وإلا فلا، قال الشيخ أبو علي: ومتى وقع الطلاق ثم تم البيع، فإن كان
الطلاق رجعيا، فله الوطئ بملك اليمين، ولا يلزم الصبر إلى انقضاء العدة، لأنها
عدته، كما له نكاح مختلعته في العدة، وإن كان الطلاق بالثلاث، فليس له وطؤها
بملك اليمين قبل محلل على الأصح.
فصل قال: أنت طالق يوم يقدم زيد، فقدم نهارا، طلقت، وهل يقع
الطلاق عقب القدوم، أم نتبين وقوعه من طلوع الفجر؟ وجهان. أصحهما الثاني،
وبه قال ابن الحداد، لأن الطلاق مضاف إلى يوم القدوم، فأشبه قوله: يوم
الجمعة، فلو ماتت، ثم قدم زيد ذلك اليوم، فعلى الوجه الثاني، ماتت مطلقة،
فلا يرثها الزوج إن كان الطلاق بائنا، وكذلك لو مات الزوج بعد الفجر، فقدم زيد
في يومه، لم ترث هي منه، وعلى الوجه الأول ثبت الإرث، ولو خالعها في أول
النهار ثم قدم، فعلى الوجه الأول الخلع صحيح، ولا تطلق بالقدوم، وعلى
الثاني، الخلع باطل إن كان الطلاق المعلق بائنا، وإن كان رجعيا، فعلى الخلاف
في خلع الرجعية، ولو كانت طاهرا في أول النهار فحاضت، ثم قدم، فعلى الوجه
الثاني، تحسب بقية ذلك الطهر قرءا، وعلى الأول بخلافه، ويجري الخلاف فيما
لو قال: عبدي حر يوم يقدم زيد، فباعه، ثم قدم زيد في يوم البيع، هل يصح البيع
أم لا؟
ولو قدم زيد ليلا، لم تطلق على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل:
وجهان، لأن اليوم قد يستعمل في مطلق الوقت.
154

فصل قال: أنت طالق هكذا، وأشار بإصبع، طلقت طلقة، وإن أشار
بإصبعين، فطلقتين، أو بثلاث فثلاثا، قال الامام: هذا إذا أشار إشارة مفهمة
للطلقتين أو الثلاث، وإذا حصلت الإشارة المعتبرة، فقال: أردت الإشارة
بالإصبعين المقبوضتين، صدق بيمينه للاحتمال، وإن قال: أردت واحدة، لم يقبل
على الأصح. وقال صاحب التقريب: يقبل، وإن قال: أنت طالق، وأشار
بالأصابع ولم يقل: هكذا، لم يحكم بوقوع العدد إلا بالنية، ولو قال: أنت
هكذا، وأشار بأصبعه الثلاث، ففي فتاوى القفال: أنه إن نوى الطلاق، طلقت
ثلاثا، وإلا فلا، كما لو قال: أنت ثلاثا ولم ينو بقلبه. وقال غيره: ينبغي أن لا
تطلق وإن نوى، لأن اللفظ لا يشعر بطلاق.
قلت: هذا الثاني أصح، ويوافقه ما قطع به صاحب المهذب فقال: لو
قال: أنت، وأشار بأصابعه الثلاث، ونوى الطلاق، لا يقع، لأنه ليس فيه لفظ
طلاق، والنية لا يقع بها طلاق من غير لفظ. والله أعلم.
فرع قال: إن دخلت الدار، أو كلمت زيدا، فأنت طالق، أو أنت
طالق إن دخلت الدار، أو كلمت زيدا، طلقت بأيهما وجد، وتنحل اليمين، فلا
يقع بالصفة الأخرى شئ، ولو قال: إن دخلت الدار، وإن كلمت زيدا، فأنت
طالق، أو أنت طالق إن دخلت الدار، وإن كلمت زيدا، أو قال: إن دخلت هذه
الدار، وإن دخلت الأخرى، فأنت طالق، أو قال: إن دخلت هذه الدار، فأنت
طالق، وإن دخلت الأخرى، وقع بالصفتين طلقتان، وبإحداهما طلقة. ولو قال:
إن دخلت وكلمت زيدا، فأنت طالق، فلا بد من وجودهما، وتقع طلقة واحدة،
وسواء تقدم الكلام على الدخول أو تأخر، وأشار في التتمة، إلى وجه في
اشتراط تقدم الدخول، تفريعا على أن الواو تقتضي الترتيب.
ولو قال: إن دخلت الدار، فكلمت زيدا، أو ثم كلمت زيدا، فلا بد
منهما، ويشترط تقدم الدخول، ولو قال: إن دخلت الدار، إن كلمت زيدا، فأنت
155

طالق، أو قال: أنت طالق إن دخلت، إن كلمت، فلا بد منهما، ويشترط تقدم
المذكور آخرا على المذكور أولا، ويسمى هذا: اعتراض الشرط على الشرط، لأنه
جعل الكلام شرطا لتعليق الطلاق بالدخول، والتعليق يقبل التعليق، كما أن التنجيز
يقبله، ولهذا يصح أن يقول لعبده: إن دخلت الدار فأنت مدبر، ومن هذا الباب قوله
تعالى: * (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن
يغويكم) *. وفي فتاوى القفال: أنه يشترط تقدم المذكور أولا، فإن قدمت
الثاني، لم تطلق، وهذا غريب ضعيف. ومال إمام الحرمين إلى أنه لا يشترط
بالترتيب، ويتعلق الطلاق بحصولهما كيف كان، والصحيح الذي عليه الجماهير،
هو الأول، قالوا: فإذا كلمته في المثال المذكور ثم دخلت، طلقت، وإن دخلت
ثم كلمته، لم تطلق. قال المتولي: وتنحل اليمين، فلو كلمته بعد ذلك ثم
دخلت، لم تطلق، لأن اليمين تنعقد على المرة الأولى، وسواء كانت صيغة الشرط
في الصفتين إن أو غيرها، وسواء اتحدت الصيغة أم لا، حتى لو قال: أنت
طالق إذا دخلت، إذا كلمت، أو قال: إن دخلت إن كلمت، أو بالعكس، أو
قال: متى كلمت، فالحكم كما سبق، ولو قال: إن أعطيتك، إن وعدتك، إن
سألتني فأنت طالق، اشترط وجود السؤال، ثم الوعد، ثم العطية، والمعنى:
إن سألتني فوعدتك فأعطيتك فأنت طالق، (وذكر صاحب المهذب أنه لو قال: إن
سألتني إن أعطيتك إن وعدتك فأنت طالق) اشترط السؤال، ثم الوعد، ثم العطية،
لكن مقتضى ما تمهل أنه يشترط وجود الوعد، ثم العطية، ثم السؤال، والمعنى:
إن سألتني وأعطيتك إن وعدتك، فأنت طالق، وكأنه صور رجوع الكل إلى مطلوب
واحد، ولم ير للوعد معنى بعد العطية، ولا للسؤال معنى بعد الوعد والعطية،
فحمله على ما ذكرناه.
فرع قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، إن كلمت زيدا، فقد يريد إذا
دخلت الدار تعلق طلاقها بالكلام، وقد يريد إذا كلمته تعلق طلاقها بالدخول،
فيراجع، ويعمل بتفسيره.
فرع قال: إن كلمت زيدا وعمرا، أو بكرا مع عمرو، فأنت طالق، فإنما
156

تطلق إذا كلمت زيدا وعمرا، والأصح اشتراط كون بكر مع عمرو وقت تكليمه، كما
لو قال: إن كلمت فلانا وهو راكب.
فرع قال المتولي: عادة البغداديين إذا أراد أحدهم تعليقا بالدخول يقول:
أنت طالق لا دخلت، كما يقول الحالف، والله لا أدخل، والمعنى: إن دخلت
فأنت طالق، وعلى هذه العادة قال ابن الصباغ: لو قال: أنت طالق لا كلمت زيدا
وعمرا وبكرا، فكلمتهم، طلقت وإن كلمت بعضهم، لم تطلق. ولو قال: لا
كلمت زيدا
وعمرا ولا بكرا، فأيهم كلمته طلقت.
فرع ذكر ابن سريج، أنه لو قال: أنت طالق إن كلمت زيدا حتى يدخل
عمرو الدار، أو إلى أن يدخل، فالغاية تتعلق بالشرط، لا بنفس الطلاق،
والمعنى: أنت طالق إن كلمت زيدا قبل دخول عمرو الدار.
فصل قال لنسوته الأربع: أربعكن طوالق إلا فلانة، أو إلا واحدة، قال
القاضي حسين والمتولي: لا يصح هذا الاستثناء، ويطلقن جميعا، لأن الأربع
ليست صيغة عموم، وإنما هي اسم خاص لعدد معلوم خاص، فقوله: إلا فلانة،
رفع للطلاق عنها بعد التنصيص عليها، فهو كقوله: طالق طلاقا لا يقع. ومقتضى
هذا التعليل، أنه لا يصح الاستثناء من الاعداد في الأقراء، ومعلوم أنه ليس كذلك.
ومنهم من وجهه، بأن الاستثناء في المعين غير معتاد، وهذا يضعف بأن الامام حكى
عن القاضي، أنه قال: أربعكن إلا فلانة طوالق، صح الاستثناء، وادعى أن هذا
معهود دون ذلك، وهذا كلام كما تراه. وقد حكينا في الاقرار أن الاستثناء صحيح
من المعينات على الصحيح، ويستوي في الوجهين الاقرار والطلاق.
فصل قيل له على وجه الاستخبار: أطلقت امرأتك، أو فارقتها، أو
زوجتك طالق؟ فقال: نعم، فهذا إقرار بالطلاق، فإن كان كاذبا فهي زوجته في
الباطن. فلو قال: أردت الاقرار بطلاق سابق وقد راجعتها، صدق. وإن قال:
أبنتها وجددت النكاح، فعلى ما ذكرناه فيما إذا قال: أنت طالق في الشهر الماضي،
وفسر بذلك. ولو قيل له ذلك على وجه التماس الانشاء، فإن قال في الجواب:
نعم، طلقت، ولا إشكال، وإن اقتصر على قوله: نعم، فهل هو صريح أم كناية؟
قولان. قال ابن الصباغ والروياني وغيرهما: أظهرهما: أنه صريح، وقطع به
157

بعضهم، وهو اختيار المزني، وفي كلام بعضهم إطلاق الخلاف بلا فرق بين
الالتماس والاستخبار والانشاء. والصحيح التفصيل الذي ذكرناه. ولو قيل له:
طلقت زوجتك، فقال: طلقت، فقد قيل: هو كقوله: نعم. وقيل: ليس بصريح
قطعا، لأن نعم متعين للجواب، وقوله: طلقت، مستقل بنفسه، فكأنه قال
ابتداء: طلقت واقتصر عليه، وقد سبق أنه لو اقتصر عليه فلا طلاق.
فرع قيل له: ألك زوجة؟ فقال: لا، فقد نص في الاملاء أنه لا يقع
به طلاق وإن نوى، لأنه كذب محض، وبهذا قطع كثير من الأصحاب، ولم يجعلوه
إنشاء، ولا بأس لو فرق بين كون السائل مستخبرا أو ملتمسا الانشاء، كما قد سبق
في الفصل قبله، لأنا ذكرنا في كنايات الطلاق، أنه لو قال مبتدئا: لست بزوجة
لي، كان كناية على الأصح، وذكروا وجهين، في أنه صريح في الاقرار، أم
كناية؟ قال القاضي حسين: هو صريح، والأصح أنه كناية، لاحتمال أنه يريد
نفي فائدة الزوجات، وبهذا قطع البغوي، ولها تحليفه أنه لم يرد طلاقها. ولو قال
قائل: هذه زوجتك مشيرا إليها؟ فقال: لا، فهذا أظهر في كونه إقرارا بالطلاق.
فرع قيل: أطلقت زوجتك؟ فقال: قد كان بعض ذلك، لم يكن إقرارا
بالطلاق، لاحتمال التعليق، أو الوعد بالطلاق،، أو خصومة تؤول إليه، ولو فسر
بشئ من ذلك، قبل. وإن كان السؤال عن ثلاث، ففسر بواحدة قبل، وإن لم
يفسر بشئ، قال المتولي: إن كان السؤال عن ثلاث، لزمه الطلاق، وإن كان عن
واحدة، فلا، لأنها لا تتبعض والأصل أن لا طلاق، وفي كل واحد من الطرفين
نظر.
قلت: الصواب أنه لا يقع شئ، إلا أن يعرف به، سواء سئل عن ثلاث أو
مطلقا، للاحتمالات المذكورة مع الأصل. والله أعلم.
فصل أكل الزوجان تمرا، وخلطا النوى، فقال: إن لم تميزي نوى ما أكلت عن
نواي فأنت طالق، أو اختلطت دراهمها بدراهمه ونحو ذلك، فقال الأصحاب:
تخلص من الحنث بأن يفرقها، بحيث لا يلتقي منها نواتان، فإن أراد التمييز الذي
158

يحصل به التعيين، لم يتخلص بذلك. وفي صورة الاطلاق، احتمال للامام، ولو
قال: إن لم تعدي الجوز الذي في هذا البيت اليوم، فأنت طالق، فقال الامام: في
طريق البر، وجهان. أحدهما: تأخذ من عدد تستيقنه، وتزيد واحدا حتى تستيقن
أنه لا يزيد عليه، كما لو قال: إن لم تخبريني بعدده، والثاني: يلزم أن تبتدئ من
الواحد، وتزيد حتى تنتهي إلى الاستيقان، قال الامام: واكتفوا على الوجهين بذكر
اللسان، ولم يعتبروا تولي العد فعلا، قال: ولست أرى الامر كذلك.
فرع في فمها تمرة، فقال: إن ابتلعتها، فأنت
طالق، وإن قذفتها، فأنت طالق، وإن أمسكتها، فأنت طالق، فتخلص من الحنث أن تأكل بعضها، وتقذف
بعضها، هذا إذا وقع التعليق بالامساك، آخرا كما ذكرنا، ثم اتصل أكل البعض بآخر
التعليق، فلو وجد مكث، فقد حصل الامساك، ولو علق بالامساك أولا، وأكلت
البعض بعد تمام الايمان، كان حانثا في يمين الامساك، ولو قال: إن أكلتها، فأنت
طالق، وإن لم تأكليها (فأنت طالق) فلا خلاص بأكل البعض، فإن فعلته، حنث في
يمين عدم الاكل، ولو علق على الاكل، فابتلعت، لم يحنث على الأصح، لأنه
يقال: ابتلع، ولم يأكل، ذكره المتولي.
فرع كانت تصعد سلما، فقال: إن نزلت، فأنت طالق، وإن صعدت، فأنت
طالق، وإن مكثت، فأنت طالق، فيحصل الخلاص بالطفرة إن أمكنتها، وبأن
تحمل فيصعد بها أو تنزل، وينبغي أن يكون الحمل بغير أمرها، وتتخلص أيضا بأن
تضجع السلم على الأرض وهي عليه، وتقوم من موضعها، وبأن يكون بجنبه سلم
آخر فينتقل إليه، فإن مضى في نصب سلم آخر زمان، حنث في يمين الوقوف.
فرع قال: إن أكلت هذه الرمانة، أو إن أكلت رمانة، فأنت طالق، فأكلتها إلا حبة، لم
يحنث، لأنه وإن كان يقال في العرف: أكل رمانة، فيقال أيضا: لم يأكل كل
الرمانة، ولو علق بأكل رغيف، فأكلته إلا فتاتا، قال القاضي حسين: لا يحنث
كحبة الرمان. وقال الامام: إن بقي قطعة تحس، ويجعل لها موقع، لم يحنث،
وربما ضبط ذلك بأن يسمى قطعة خبز، وإن دق مدركه، لم يظهر له أثر في بر ولا
حنث، قال: وهذا مقطوع به عندي في حكم العرف، والوجه: تنزيل إطلاق
القاضي على هذا التفصيل.
159

فرع قال: إن لم تخبريني بعدد حبات هذه الرمانة قبل كسرها، فأنت طالق، أو
إن لم تخبريني بعدد ما في هذا البيت من الجوز اليوم، أو إن لم تذكري لي ذلك،
فأنت طالق، قال الأصحاب: يتخلص بأن تبتدئ من عدد تستيقن أن الحبات أو
الجوز لا تنقص عنه، وتذكر الاعداد بعد متوالية بأن تقول: مائة، مائة وواحد، مائة
واثنان، وهكذا (إلى أن) تنتهي إلى عدد تستيقن أنه لا يزيد عليه، فتكون مخبرة عن
ذلك العدد وذاكرة له، وهذا إذا لم تقصد التعيين والتعريف، وإلا فلا يحصل كما
سبق.
وفي معنى هذه الصورة، ما إذا أكل تمرا، وقال: إن لم تخبريني بعدد ما
أكلت، فأنت طالق.
وما إذا اتهمها بسرقة، وقال: إن لم تصدقيني أسرقت أم لا، فأنت طالق،
فتقول: سرقت وما سرقت.
فرع وقع حجر من سطح، فقال: إن لم تخبريني الساعة من رماه، فأنت طالق،
ففي فتاوى القاضي حسين: أنها إن قالت: رماه مخلوق، لم تطلق، وإن قالت:
رماه آدمي، طلقت الجواز أن يكون رماه كلب أو الريح، لأنه وجد سبب الحنث،
وشككنا في المانع، وشبهه بما إذا قال: أنت طالق إلا أن يشاء زيد اليوم، فمضى
اليوم ولم يعرف مشيئته، فإنه يقع الطلاق على خلاف فيه سبق.
فرع قال لثلاث نسوة: من لم تخبرني منكن بعدد ركعات الصلاة المفروضة،
فهي طالق، فقالت واحدة: سبع عشرة، وقالت أخرى: خمس عشرة، وثالثة:
إحدى عشرة، لم تطلق واحدة منهن، فالأول معروف، والثاني يوم الجمعة،
والثالث في السفر، قاله القاضي والمتولي.
160

فرع قال: كل كلمة كلمتيني بها إن لم أقل مثلها، فأنت طالق، فقالت المرأة:
أنت طالق ثلاثا، فطريقه أن يقول: أنت تقولين: أنت طالق ثلاثا، أو تقول: أنت
طالق ثلاثا من وثاق، أو أنت طالق إن شاء الله، ولو قالت له: إذا قلت لك: طلقني
ما تقول؟ فقال: أقول: طلقتك، لا يقع الطلاق، لأنه إخبار عما يفعل في
المستقبل.
فرع في يدها كوز ماء، فقال: إن قلبت هذا الماء، فأنت طالق، وإن
تركتيه، فأنت طالق، وإن شربتيه أنت أو غيرك، فأنت طالق، فخلاصها بأن تضع
فيه خرقة فتبلها به.
فرع قال لها وهي في ماء جار: إن خرجت منه فأنت طالق، وإن مكثت فيه فأنت
طالق. قال الأصحاب: لا تطلق خرجت أم مكثت، لأن ذلك الماء فارقها بجريانه،
وفيه وفي نظائره احتمال للامام بسبب العرف، وإن كان الماء راكدا، فالطريق أن
يحملها إنسان في الحال.
فرع لا بد من النظر في مثل هذه التعليقات إلى وضع اللسان، وإلى ما يسبق إلى
الفهم في العرف الغالب، فإن تطابق العرف والوضع، فذاك، وإن اختلفا، فكلام
الأصحاب يميل إلى اعتبار الوضع، والامام والغزالي يريان اتباع العرف، وقد سبق
في هذه الفروع أمثلة هذا.
فصل في مسائل تجري في مخاصمة الزوجين ومشاتمتهما وأغلب ما
تقع إذا واجهت زوجها بمكروه، فيقول على سبيل المكافأة: إن كنت كذلك فأنت
طالق، يريد أن يغيظها بالطلاق كما غاظته بالشتم، فكأنه يقول: تزعمين أني كذا
فأنت طالق، فإذا قالت له: يا خسيس فقال: إن كنت كذلك فأنت طالق، نظر، إن
أراد المكافأة كما ذكرنا، طلقت، سواء كان خسيسا أو لم يكن، وإن قصد التعليق،
لم تطلق إلا بوجود الخسة، قال أبو الحسن العبادي: الخسيس: من باع دينه
بدنياه، وأخس الأخساء، من باع آخرته بدنيا غيره، ويشبه أن يقال: الخسيس:
من يتعاطى في العرف ما لا يليق بحاله لشدة بخله، فإن شك في وجود الصفة -
ويتصور ذلك كثيرا في مسائل الشتم والإيذاء - فالأصل أن لا طلاق، وإن أطلق اللفظ
ولم يقصد المكافأة، ولا حقيقة اللفظ، فهو للتعليق. فإن عم العرف بالمكافأة،
161

كان على الخلاف السابق في أنه يراعي الوضع أو العرف، والأصح وبه قطع المتولي
مراعاة اللفظ، فإن العرف لا يكاد ينضبط في مثل هذا، وأجاب القاضي حسين
بمقتضى الوجه الآخر، ولو قالت: يا سفيه فقال: إن كنت كذلك، فأنت طالق،
فإن قصد المكافأة، طلقت في الحال، وإن قصد التعليق، طلقت إن كان سفيها،
وإن أطلق، فعلى الخلاف، ويمكن أن يحمل السفه على ما يوجب الحجر، وعلى
هذا نظائر ما يقع به الشتم والإيذاء.
وتكلموا في كلمات يدخل بعضها في حد الافحاش، ففي التتمة أن
القواد: من يحمل الرجال إلى أهله ويخلي بينهم وبين الأهل، ويشبه أن لا يختص
بالأهل، بل هو الذي يجمع بين الرجال والنساء بالحرام، وأن القرطبان الذي
يعرف من يزني بزوجته ويسكت عليه، وأن قليل الحمية: من لا يغار على أهله
ومحارمه، وأن القلاش: الذواق، وهو من يوهم أنه يشتري الطعام ليذوقه وهو لا
يريد الشراء، وأن الديوث: من لا يمنع الناس الدخول على زوجته. وفي الرقم
للعبادي: أنه الذي يشتري جارية تغني للناس، وأن البخيل: من لا يؤدي الزكاة،
ولا يقري الضيف فيما قيل، وأنه لو قيل له: يا زوج القحبة، فقال: إن كانت
زوجتي بهذه الصفة فهي طالق، فإن قصد التخلص من عارها، وقع الطلاق، كما
لو قصد المكافأة، وإلا فهو تعليق، فينظر: هل هي بالصفة المذكورة أم لا؟
قلت: القحبة: هي البغي، وهي كلمة مولدة ليست عربية. والله أعلم.
وأنه لو قال لها في الخصومة: إيش تكونين أنت، فقالت: وإيش تكون
أنت، فقال: إن لم أكن منك بسبيل فأنت طالق، قال القاضي حسين: إن قصد
162

التعليق لم تطلق، لأنها زوجته فهو منها بسبيل، وإن قصد المغايظة والمكافأة،
طلقت. والمقصود إيقاع الفرقة وقطع ما بينهما، وأنها لو قالت لزوجها: أنت من
أهل النار، فقال: إن كنت من أهل النار فأنت طالق، لم يحكم بوقوع الطلاق إن
كان الزوج مسلما، لأنه من أهل الجنة ظاهرا، وإن كان كافرا طلقت فإن أسلم بعد
ذلك، تبينا أنها لم تطلق. ولو قالت: يا سفلة، فقال: إن كنت كذلك فأنت
طالق، قال إسماعيل البوشنجي: الأولى أنه الذي يتعاطى الأفعال الدنيئة ويعتادها،
ولا يقع ذلك على من يتفق منه نادرا، كاسم الكريم، والسيد في نقيضه. ولا يخفى
أن النظر في تحقيق هذه الأوصاف، إنما يحتاج إليه عند حمل اللفظ على التعليق،
فأما إذا حمل على المكافأة، فيقع الطلاق في الحال.
فرع الكوسج: من قل شعر وجهه مع انحسار الشعر عن عارضيه، وعن
أبي حنيفة رحمه الله: أنه الذي عدد أسنانه ثمانية وعشرون.
فرع قال أبو العباس الروياني: الغوغاء: من يخالط المفسدين
والمنحرفين، ويخاصم الناس بلا حاجة. قال: والأحمق: من نقصت مرتبة أموره
وأحواله عن مراتب أمثاله نقصا بينا بلا مرض ولا سبب.
قلت: قال صاحب المهذب والتهذيب في باب كفارة الظهار:
الأحمق: من يفعل الشئ في غير موضعه مع علمه بقبحه. وفي التتمة
والبيان أنه من يعمل ما يضره مع علمه بقبحه. وفي الحاوي: أنه من يضع
كلامه في غير موضعه، فيأتي بالحسن في موضع القبيح، وعكسه.
قال أبو العباس ثعلب: الأحمق: من لا ينتفع بعقله. والله أعلم.
فرع قالت: يا جهودروي فقال: إن كنت كذلك فأنت طالق، وقصد التعليق،
قال الامام: وقعت المسألة في الفتاوى، وأكثروا في التعبير عن هذه الصفة، فقيل:
هي صفرة الوجه، وقيل: الذلة والخساسة، وكان جوابنا فيه أن المسلم لا يكون
بهذه الصفة، فلا يقع الطلاق. قال في الوسيط: وفيه نظر.
فرع لو تخاصم الزوجان، فقال أبوها للزوج: لم تحرك لحيتك فقد رأيت مثلها
كثيرا، فقال: إن كنت رأيت مثل هذه اللحية كثيرا، فابنتك طالق، فهذه كناية عن
163

الرجولية والفتوة ونحوهما فإن حمل اللفظ على المكافأة، طلقت، وإلا فلا لكثرة
الأمثال.
فرع قال المتولي: لو نسب إلى فعل سئ كالزنا واللواط، فقال: من فعل مثل
هذا فامرأته طالق، وكان ذلك فعله، لم يقع طلاقه، لأنه لم يوقع طلاقا، وإنما
غرضه ذم من يفعله، ولو قال لزوجته: سرقت أو زنيت، فقالت: لم أفعل، فقال:
إن كنت سرقت أو زنيت فأنت طالق، حكم بوقوع الطلاق في الحال بإقراره السابق.
فصل قال: إن خالفت أمري، فأنت طالق، ثم قال: لا تكلمي زيدا،
فكلمته، قالوا: لا تطلق لأنها خالفت النهي دون الامر، ولو قال: إن خالفت نهيي
فأنت طالق، ثم قال: قومي، فقعدت، وقع لأن الامر بالشئ نهي (عن) أضداده
وهذا فاسد، إذ ليس الامر بالشئ نهيا عن ضده فيما يختاره. وإن كان، فاليمين لا
ينبني عليه، بل على اللغة أو العرف، لكن في المسألة الأولى نظر بسبب
العرف.
164

فصل قال: أنت طالق إلى حين أو زمان، أو بعد حين، طلقت بمضي
لحظة؟ ولو قال: إذا مضى حقب أو عصر فأنت طالق، قال الأصحاب: يقع بمضي
لحظة، وهو بعيد لا وجه له.
فصل لو علق الطلاق بالضرب، طلقت إذا حصل الضرب بالسوط أو الوكز أو
اللكز، ولا يشترط أن لا يكون حائل، ويشترط الايلام على الأصح، وقيل: لا
يشترط، بل تكفي الصدمة، وإلى هذا مال الإمام، وقال: الايلام وحده لا يكفي،
فإنه لو وضع عليه حجرا ثقيلا، فانصدم تحته، لم يكن ضربا وإن آلم. قال:
والصدم وحده لا يكفي، فإنه لو ضربه بأنملة، لا يقال: ضربه، وكان المعتبر في
إطلاق اسم الضرب الصدم بما يؤلم، أو يتوقع منه إيلام. واتفق الأصحاب، على
أنه لا يقع الطلاق إذا كان المضروب ميتا، وشذ الروياني فحكى فيه خلافا، والعض
وقطع الشعر لا يسمى ضربا، فلا يقع به الطلاق، وتوقف المزني في العض.
فصل علق بالمس، طلقت بمس شئ من بدنه حيا أو ميتا بلا حائل، ولا يقع
165

بمس الظفر والشعر. قال الامام: الوجه القطع بهذا وإن أثبتنا خلافا في نقض
الوضوء به، والأشبه مجئ الخلاف.
فصل علق بقدوم زيد، طلقت إذا قدم راكبا أو ماشيا، وإن قدم به ميتا لم
تطلق، وإن حمل وقدم به حيا، إن كان باختياره، طلقت، وإلا فلا على
المذهب.
فصل علق بقذف زيد، طلقت بقذفه حيا أو ميتا، فلو قال: إن قذفت فلانا في
المسجد فأنت طالق، فالمعتبر كون القاذف في المسجد. ولو قال: إن قتلته في
المسجد، اشترط كون المقتول في المسجد، والفرق أن قرينة الحال تشعر بأن
المقصود الامتناع مما يهتك (حرمة) المسجد، وهتك الحرمة إنما تحصل إذا كان
القاذف والمقتول فيه دون عكسه، فإن قال: أردت العكس، قبل منه في الظاهر
على الأصح. ولو قال: إن قذفت أو قتلت فلانا في الدار، سئل عما أراد.
فصل قال: إن رأيت زيدا فأنت طالق، فرأته حيا أو ميتا أو نائما، طلقت وإن كان
الرائي أو المرئي مجنونا أو سكران، ثم يكفي رؤية شئ من بدنه وإن قل، وقيل:
يعتبر الوجه. ولو كان كله مستورا بثوب، أو رأته في المنام لم تطلق، ولو رأته وهو
في ماء صاف لا يمنع الرؤية أو من وراء زجاج شفاف، طلقت على الصحيح. ولو
نظرت في المرآة أو في الماء فرأت صورته، لم تطلق، وفيه احتمال ضعيف
للامام. ولو قال للعمياء: إن رأيت زيدا فأنت طالق، قال الامام: الصحيح أن
الطلاق معلق بمستحيل، فلا يقع، وفي وجه: يحمل على اجتماعهما في مجلس،
لأن الأعمى يقول: رأيت اليوم زيدا، ويريد الحضور عنده.
فرع علق برؤيته أو رؤيتها الهلال، فهو محمول على العلم، فرؤية غير
المعلق برؤيته (كرؤيته) وتمام العدد كرؤيته، فيقع الطلاق به وإن لم ير الهلال.
ولو قال: أردت بالرؤية المعاينة، دين ويقبل أيضا ظاهرا على الأصح. ولو
166

كان المعلق برؤيته أعمى، لم يقبل التفسير بالمعاينة في الظاهر على الأصح.
وحكى الحناطي فيما إذا أطلق ولم ينو شيئا قولين في وقوع الطلاق برؤية الغير، هذا
كله فيمن علق برؤية الهلال باللغة العربية، فلو علق بالعجمية، فعن القفال: أنه
يحمل على المعاينة، سواء فيه البصير والأعمى، وادعى أن العرف الشرعي في
حمل الرؤية على العلم، لم يثبت إلا في العربية، ومنع الامام الفرق بين اللغتين.
وفي التهذيب وجه: أنه يحمل في حق الأعمى على العلم. وإذا أطلق التعليق
برؤية الهلال، حمل على أول شهر يستقبله، حتى لو لم ير في الشهر الأول،
انحلت اليمين، قاله البغوي، وهو محمول على ما إذا صرح بالمعاينة أو فسر بها
وقبلناه. قال البغوي: والرؤية في الليلة الثانية والثالثة، كهي في الأولى، ولا أثر لها
بعد الثلاث، لأنه لا يسمى هلالا بعد ثلاث. وفي المهذب: أنه لو لم يره حتى
صار قمرا، لم تطلق، وحكى خلافا فيما يصير به قمرا، هل هو باستدارته، أم بأن
يبهر ضوؤه؟
قلت: هذا المنقول عن المهذب، مذكور في الحاوي، وفيما تفرع
عنه، والمختار ما ذكره البغوي. والله أعلم.
والمعتبر الرؤية بعد غروب الشمس، ولا أثر للرؤية قبله.
فصل قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق، فكلمته وهو سكران أو مجنون طلقت،
قال ابن الصباغ: يشترط أن يكون السكران بحيث يسمع ويكلم، وإن كلمته وهو
نائم أو مغمى عليه، أو هذت بكلامه في نومها وإغمائها لم تطلق. ولو كلمته وهي
مجنونة، قال ابن الصباغ: لا تطلق. وعن القاضي حسين، أنها تطلق. والظاهر
تخريجه على حنث الناسي وأما كلامها في سكرها، فتطلق به على الأصح، إلا إذا
انتهت إلى السكران الطافح. ولو خفضت صوتها بحيث لا يسمع وهو الهمس، لم
تطلق وإن وقع في سمعه شئ وفهم المقصود اتفاقا، لأنه لا يقال: كلمته، ولو نادته
من مسافة بعيدة لا يسمع منها الصوت، لم تطلق، ولو حملت الريح كلامها ووقع
في سمعه، فقد أشار الامام إلى تردد فيه، والمذهب أنها لا تطلق. وإن كانت
المسافة بحيث يسمع فيها الصوت، فلم يسمع لذهول أو شغل طلقت، فإن لم يسمع
لعارض لغط أو ريح، أو لصمم به، فوجهان، أحدهما: تطلق، وبه أجاب
167

الروياني، وكذا الامام والغزالي في صورة اللغط، وأصحهما عند البغوي: لا طلاق
حتى يرتفع الصوت بقدر ما يسمع في مثل تلك المسافة مع ذلك العارض، فحينئذ
يقع وإن لم يسمع، ورأي الامام القطع بالوقوع إذا كان اللغط بحيث لو فرض معه
الاصغاء لأمكن السماع، وكذا في تكليم الأصم إذا كان وجهه إليه وعلم أنه
يكلمه، وقطع الحناطي بعدم الوقوع إذا كان الصم بحيث يمنع السماع، وحكي
قولين فيما إذا قال: إن كلمت نائما أو غائبا عن البلد، هل يقع الطلاق في الحال بناء
على الخلاف في التعليق بالمستحيل. ويحتمل أن يقال: لا تطلق حتى تخاطبه
مخاطبة المكلمين، وبنحو منه أجاب القاضي أبو الطيب فيما إذا قال: إن كلمت ميتا
أو حمارا.
فصل إذا علق الطلاق بفعل شئ، ففعله وهو مكره، أو ناس للتعليق، أو جاهل
به، ففي وقوع الطلاق قولان، وذكر صاحب المهذب والروياني وغيرهما، أن
الأظهر في الايمان، أنه لا يحنث الناسي والمكره، ويشبه أن يكون الطلاق مثله.
وقطع القفال بأنه يقع الطلاق. ولا يخرج على القولين في الايمان، لأن التعويل في
الايمان على تعظيم اسم الله تعالى، والحنث هتك حرمة، والناسي والمكروه غير
منتهك، والطلاق تعليق بصفة، وقد وجدت، والمذهب الأول، وعليه الجمهور.
قلت: قد رجح الرافعي في كتابه المحرر أيضا، عدم الحنث في الطلاق
واليمين جميعا، وهو المختار للحديث الحسن رفع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما
استكرهوا عليه، والمختار، أنه عام فيعمل بعمومه، إلا فيما دل دليل على
تخصيصه، كغرامة المتلفات. والله أعلم.
ولو علق بفعل الزوجة، أو أجنبي، فإن لم يكن للمعلق بفعله شعور
بالتعليق، ولم يقصد الزوج إعلامه، أو كان ممن لا يبالي بتعليقه، بأن علق بقدوم
الحجيج أو السلطان، طلقت بفعله في حالتي النسيان والاكراه على المذهب،
168

وقيل: إن فعلة مكرها، ففيه القولان، فكأنه لا فعل له، وإن كان المعلق بفعله
عالما بالتعليق، وهو ممن يبالي بتعليقه، وقصد المعلق بالتعليق منعه، ففعله ناسيا
أو مكرها أو جاهلا، ففيه القولان. ولو قصد منعها من المخالفة فنسيت، قال
الغزالي: لا تطلق قطعا لعدم المخالفة، ويشبه أن يراعى معنى التعليق ويطرد
الخلاف.
قلت: الصحيح قول الغزالي، ويقرب منه عكسه، وهو أنه لو حلف لا يدخل
عمدا ولا ناسيا، فدخل ناسيا، فنقل القاضي حسين: أنه يحنث بلا خلاف. والله
أعلم.
ولو علق بدخول طفل أو بهيمة أو سنور، فدخل، طلقت، قال الحناطي:
ويحتمل المنع، وإن حصل دخولهم كرها، لم تطلق، قال: ويحتمل الوقوع، إذ
لا قصد لهم، فلا أثر لاكراههم.
قلت: ذكر الامام الرافعي رحمه الله هنا مسائل منثورة كثيرة جدا، متعلقة
بتعليق الطلاق وغيره، فقدمت منها جملا وفرقتها على مواضع تليق بها مما سبق،
169

وأذكر هنا باقيها إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
قال لأربع نسوة: إن لم أطأ واحدة منكن اليوم، فصواحبها طوالق، فإن وطئ
واحدة منهن ذلك اليوم، انحلت اليمين، وإن لم يطأ واحدة، طلقت كل واحدة
طلقة. وإن قال: أيتكن لم أطأها اليوم، فإن الأخريات طوالق، فمضى اليوم، ولم
يطأ واحدة، طلقن ثلاثا ثلاثا، وإن وطئ واحدة فقط، طلقت هي ثلاثا، لأن لها
ثلاث صواحب لم يطأهن، وطلقت الباقيات طلقتين طلقتين، لأن لها صاحبتين لم
يطأهما، ولو وطئ امرأتين، طلقتا طلقتين، وطلقت الاخريان طلقة طلقة. ولو
وطئ ثلاثا طلقن طلقة طلقة، ولم تطلق الرابعة، لأنه ليس لها صاحبة غير موطوءة.
ولو قال: أيتكن لم أطأها فالأخريات طوالق، ولم يقيد بوقت، فجميع العمر وقت
له، فإن مات أو متن قبل الوطئ، طلقت كل واحدة ثلاثا قبيل الموت، وإن ماتت
واحدة والزوج حي، لم يحكم بطلاق الميتة، لأنه قد يطأ الباقيات ويطلق الباقيات
طلقة طلقة. فلو ماتت ثانية قبل الوطئ، تبينا وقوع طلقة على الأولى قبيل موتها،
وطلقت كل واحدة من الباقيتين طلقة أخرى إن بقيتا في العدة. فإن ماتت الثالثة قبل
الوطئ، تبينا وقوع طلقتين على الأوليين قبيل موتهما، وطلقت الباقية طلقة ثالثة،
فإن ماتت الرابعة قبل الوطئ، تبينا وقوع الثلاث على الجميع.
فصل قال: إن سرقت مني شيئا فأنت طالق، فدفع إليها كيسا، فأخذت
منه شيئا، لا تطلق، لأنه خيانة لا سرقة.
فرع قال: إن كلمتك فأنت طالق، ثم أعاد مرة أخرى، طلقت. وإن قال: إن
كلمتك فأنت طالق فاعلمي، طلقت بقوله: فاعلمي وقيل: إن وصله بالكلام
الأول، لم تطلق، لأنه تتمته. وإن قال: إن كلمتك فأنت طالق، إن دخل الدار
فأنت طالق، فالتعليق الثاني تكليم، فتطلق. ولو قال: إن بدأتك بالكلام فأنت
طالق، فقالت: إن بدأتك بالكلام فعبدي حر، ثم كلمها، ثم كلمته، فلا طلاق،
ولا عتق.
ولو قال لرجل: إن بدأتك بالسلام فعبدي حر، فقال الآخر: إن بدأتك
بالسلام فعبدي حر، فسلم كل منهما على الآخر دفعة واحدة، لم يعتق عبد واحد
منهما لعدم ابتداء كل واحدة منهما على الآخر، وتنحل اليمين، فإذا سلم أحدهما
170

على الآخر بعد ذلك، لم يعتق واحدة من عبديهما، ذكره الامام.
فرع قال المدين لصاحب الدين: إن أخذت مالك علي، فامرأتي طالق، فأخذه
مختارا، طلقت امرأة المدين، سواء كان مختارا في الاعطاء أو مكرها، وسواء
أعطى بنفسه أو بوكيله، أو استلبه صاحب الدين قال البغوي: وكذا لو أخذه
السلطان ودفعه إليه.
وفي كتب العراقيين أنه لا يقع الطلاق إذا أخذه السلطان ودفعه إليه، لأنه إذا
أخذه السلطان برئت ذمة المدين، وصار المأخوذ حقا لصاحب الدين، ولا يبقى له
حق عليه، فلا يصير بأخذه من السلطان آخذا حقه من المدين، ولو قضى عنه
أجنبي.
قال الداركي: لا تطلق، لأنه بدل حقه لاحقه بنفسه. ولو قال: إن أخذت
حقك مني، لم تطلق بإعطاء وكيله، ولا بإعطاء السلطان من ماله. فإن أكرهه
السلطان حتى أعطى بنفسه، فعلى القولين في المكره. ولو قال: إن أعطيتك
حقك، فأعطاه باختياره، طلقت، سواء كان الآخذ مختارا في الاخذ أم لا، ولا
تطلق بإعطاء الوكيل والسلطان.
فرع قال: أنت طالق مريضة، بالنصب، لم تطلق إلا في حال المرض. ولو
قال: أنت طالق مريضة، بالرفع، فقيل: تطلق في الحال. وقوله: مريضة،
صفة، واختيار ابن الصباغ الحمل على اشتراط المرض حملا على الحال، وإن كان
لحنا في الاعراب.
171

فرع قال لامرأتيه: إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان، فدخلت كل واحدة
إحدى الدارين، فهل تطلقان، أم لا تطلقان؟ وجهان (وإن قال): إن أكلتما هذين
الرغيفين، وأكلت كل واحدة منهما رغيفا، تطلقان، لأنهما أكلتاهما، ولا
يمكن أكل واحدة من الرغيفين، بخلاف دخول الدارين.
قلت: الأصح في مسألة الدارين عدم الطلاق، صححه صاحب المهذب
وغيره، والمذهب في الرغيفين الوقوع، وطرد صاحب المهذب فيه الوجهين.
والله أعلم.
فرع لو قالت لزوجها: أنت تملك أكثر من مائة، فقال: إن كنت أملك أكثر من
مائة فأنت طالق، وكان يملك خمسين، فإن قال: أردت: لا أملك زيادة على
مائة، لم تطلق، وإن قال: أردت أني أملك مائة بلا زيادة، طلقت، وإن أطلق،
فعلى أيهما يحمل؟ وجهان.
قلت: الصحيح لا تطلق. والله أعلم.
وإن قال: إن كنت أملك إلا مائة، وكان يملك خمسين، فقد قيل: تطلق
172

على الوجهين.
فرع قال: إن خرجت إلا بإذني، فأنت طالق، فالمسألة تأتي بفروعها في كتاب
الايمان إن شاء الله تعالى. فإن قال: إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت
طالق، فخرجت إلى الحمام، ثم قضت حاجة أخرى، لم تطلق، وإن خرجت
لحاجة أخرى، ثم عدلت إلى الحمام، طلقت، وإن خرجت إلى الحمام وغيره،
ففي وقوع الطلاق وجهان.
قلت: الأصح الوقوع، وممن صححه الشاشي. والله أعلم.
فرع خرجت إلى دار أبيها، فقال: إن رددتها إلى داري أو ردها أحد فهي طالق، فاكترت بهيمة وعادت إلى داره مع المكاري، لم تطلق، لأن المكاري لم يردها،
بل صحبها. ولو عادت ثم خرجت فردها الزوج، لم تطلق، إذ ليس في اللفظ ما
يقتضي التكرار.
فصل في فتاوى القفال أنه لو قال: المرأة التي تدخل الدار من نسائي طالق، لم
يقع طلاق قبل الدخول. فلو أشار إلى واحدة وقال: هذه التي تدخل الدار طالق،
طلقت في الحال وإن لم تدخل، وأنه لو ادعت عليه أنه نكحها فأنكر، فالأصح أنه
ليس لها أن تنكح غيره، ولا يجعل إنكاره طلاقا، بخلاف ما لو قال: نكحتها وأنا
أجد طول حرة، يجعل ذلك فرقة بطلقة، لأن هناك أقر بالنكاح وادعى مفسدا.
173

وقيل: يتلطف به الحاكم حتى يقول: إن كنت نكحتها فقد طلقتها، وأنه لو قال:
حلال الله علي حرام لا أدخل هذه الدار، كان ذلك تعليقا وإن لم يكن فيه أداة
تعليق. وأنه لو قال: حلفت بطلاقك أن لا تخرجي، ثم قال: ما حلفت، بل
قصدت تفريعها، لا تقبل ظاهرا ويدين، وأنها لو قالت: اجعل أمر طلاقي بيدي،
فقال: إن خرجت من هذه القرية أجعل أمر طلاقك إليك، فقالت: أخرج. فقال:
جعلت أمرك بيدك، فقالت: طلقت نفسي، فإن ادعى أنه أراد بعد خروجها من
القرية، صدق، وإلا طلقت في الحال، وأنه لو قال: إن أبرأتني من دينك فأنت
طالق، فأبرأته، وقع الطلاق بائنا. ولو قال: إن أبرأت فلانا فأبرأته، وقع رجعيا.
وأنه لو قال لام امرأته: بنتك طالق، ثم قال: أردت البنت التي ليست زوجتي،
صدق.
وأنه لو قال: إن فعلت ما ليس لله تعالى فيه رضى فأنت طالق، فتركت صوما
أو صلاة، ينبغي أن لا تطلق، لأنه ترك وليس بفعل، فلو سرقت أو زنت،
طلقت.
فصل عن الشيخ أبي عاصم العبادي أنه لو قال: أنت طالق، يا طالق،
لا طلقتك، وقع طلقتان. وأنه لو قال: إن وطئت أمتي بغير إذنك فأنت طالق،
فاستأذنها، فقالت: طأها في عينها، لا يكون إذنا.
وأنه لو كان له أمة وزوجة حرة، فدعا الأمة إلى فراشه، فحضرت الحرة،
فوطئها، فقال: إن لم تكوني أحلى من الحرة فهي طالق وهو يظنها الأمة، فقال أبو
حامد المروزي: تطلق، لأنها هي الحرة، فلا تكون أحلى من الحرة، وحكى أبو
العباس الروياني وجها أنها لا تطلق لأن عنده أنه يخاطب غيرها، وهذا أصح، وبه
أفتى الحناطي.
فصل سئل القاضي حسين عمن حلف بالطلاق ليقرأن عشرا من أول سورة البقرة
174

بلا زيادة، ويقف، وللقراء اختلاف في رأس العشر، فقال: ما أدى إليه اجتهاد
المفتي أخذ به المستفتي.
وعن امرأة صعدت بالمفتاح السطح، فقال: إن لم تلقي المفتاح فأنت طالق،
فلم تلقه ونزلت، قال: لا يقع الطلاق، ويحمل قوله: إن لم تلقه على التأبيد،
كما قال أصحابنا فيمن دخل عليه صديقه فقال: تغد معي، فامتنع فقال: إن لم
تتغد معي فامرأتي طالق، فلم يفعل، لا يقع الطلاق ولو تغدى بعد ذلك معه، وإن
طال الزمان، انحلت اليمين. فإن نوى أن يتغدى معه في الحال، فامتنع، وقع
الطلاق، ورأي البغوي حمل المطلق على الحال للعادة.
وأنه لو قال: إن لم تبيعي هذه الدجاجات فأنت طالق، فقتلت واحدة منهن،
طلقت لتعذر البيع، وإن جرحتها ثم باعتها، فإن كانت بحيث لو ذبحت لم تحل،
لم يصح البيع، ووقع الطلاق، وإلا فتنحل اليمين.
وأنه لو قال: إن قرأت سورة البقرة في صلاة الصبح فأنت طالق، فقرأها، ثم
فسدت صلاته في الركعة الثانية، لم تطلق على الصحيح، لأن الصلاة عبادة واحدة
يفسد أولها بفساد آخرها.
وأنه لو قال: مهما قبلتك فضرتك طالق، فقبلها بعد موتها، لم تطلق الضرة،
ولو قال لوالدته: متى قبلتك فامرأتي طالق، فقبلها بعد موتها، طلقت امرأته.
والفرق أن قبلة المرأة قبلة بشهوة، ولا شهوة بعد الموت، وقبلة الام قبلة كرامة،
فيستوي فيها الحياة والموت. وأنه لو قال: إن غسلت ثوبي فأنت طالق، فغسلته
أجنبية، ثم غمسته المحلوف بطلاقها في الماء تنظيفا له، لم تطلق لأن العرف في
مثل هذا يغلب. والمراد في العرف، الغسل بالصابون والإشنان ونحوهما، وإزالة
الوسخ. وقال غير القاضي: إن أراد الغسل من الوسخ، لم تطلق، وإن أراد
التنظيف، فلا، فإن أطلق قال: لا أجيب فيه.
175

بفصل في فتاوى البغوي أنه لو طلقها ثلاثا ثم قال: كنت حرمتها على
نفسي قبل الطلاق، لم يقبل قوله.
وأنه لو قال: إن ابتلعت شيئا فأنت طالق، فابتلعت ريقها، طلقت. فإن
قال: أردت غير الريق، صدق في الحكم، وإن قال: إن ابتلعت الريق، طلقت
بابتلاع ريقها وبريق غيرها. فإن قال: أردت ريقك خاصة، قبل في الحكم. وإن
قال: أردت ريق غيرك، دين ولم يقبل في الحكم. وأنه لو قال: إن ضربتك فأنت
طالق، فقصد بالضرب غيرها، فأصابها، طلقت، ولم يقبل قوله، لأن الضرب
يقين ويحتمل.
وأنه لو نادى أمه فقال: إن لم تجبني أمي فامرأتي طالق، فإن رفعت الام
صوتها في الجواب (بحيث) يسمع في تلك المسافة، لم تطلق، وإلا فتطلق، وأنه لو
قال: إن دخلت على فلان داره، فامرأتي طالق، فجاء فلان وأخذ بيده وأدخله
الدار، فإن دخلا معا، لم تطلق. وإن دخلت فلان أولا، طلقت. وأنه لو حلف
أنه لا يخرج من البلد حتى يقضي دين فلان بالعمل، فعمل له ببعض دينه
وقضى الباقي من موضع آخر ثم خرج، طلقت. فإن قال: أردت أني لا أخرج حتى
أخرج إليه من دينه وأقضي حقه، قبل قوله في الحكم.
فصل عن أبي العباس الروياني أنه إذا طلق امرأته، فقيل له: طلقت امرأتك؟
فقال: طلقة واحدة، يقبل قوله، لأن قوله: طلقتها، صالح للابتداء، غير متعين
للجواب. وأنه لو قال: إن سرقت ذهبا فأنت طالق، فسرقت ذهبا مغشوشا، طلقت
على الصحيح. وأنه لو قال: إن أجبتني عن خطابي فأنت طالق، ثم خاطبها،
176

فقرأت آية تتضمن جوابه، فإن قالت قصدت بقراءتها جوابه، طلقت. وإن قالت:
قصدت القراءة أو لم تبين قصدها، فلا طلاق. وأنه لو قال: إن لم تستوفي حقك
من تركة أبيك تاما فأنت طالق، وكان إخوتها قد أتلفوا بعض التركة، فلا بد من
استيفاء حصتها من الباقي وضمان التالف، ولا يكفي الابراء، لأن الطلاق معلق
بالاستيفاء، إلا أن الطلاق إنما يقع عند اليأس من الاستيفاء. وأنه لو أشار إلى ذهب
وحلف بالطلاق أنه الذي أخذه من فلان، وشهد عدلان أنه ليس ذلك الذهب،
طلقت على الصحيح، لأنها وإن كانت شهادة على النفي، إلا أنه نفي يحيط العلم
به. وأنه لو حلف بالطلاق أنه لا يفعل كذا، فشهد عدلان عنده أنه فعله، وظن
صدقهما، لزمه الاخذ بالطلاق، وأنه لو كان له نسوة ففتحت إحداهن بابا،
فقال: من فتحته منكن فهي طالق. فقالت كل واحدة: أنا فتحته، لم يقبل قولهن
لامكان البينة. فإن اعترف الزوج أنه لا يعرف الفاتحة، لم يكن له التعيين، وإنما
يرجع إلى تعيينه إذا كان الطلاق مبهما. وأنه لو حلف بالطلاق أنه بعث فلانا إلى بيت
فلان، وعلم أن المبعوث لم يمض، فقيل: يقع الطلاق لأنه لا يقتضي حصوله
177

هناك، والصحيح أنه لا طلاق لأنه يصدق أن يقال: بعثته، فلم يمتثل، وأنه لو
قال: إن لم تطيعيني فأنت طالق، فقالت: لا أطيعك. فقيل: تطلق في الحال،
والصحيح أنها لا تطلق حتى يأمرها بشئ فتمتنع، أو ينهاها عنه فتفعله، وأنه لو
قال: امرأتي طالق إن دخلت دارها (ولا دار لها) وقت الحلف، ثم ملكت دارا،
فدخلها، طلقت. وأنه لو قال: إن لم تكوني الليلة في داري فأنت طالق، ولا دار
له، ففي وقوع الطلاق وجهان، بناء على التعليق بالمحال. وأنه لو قال: امرأتي
هذه محرمة علي، لا تحل لي أبدا، فلا طلاق، لأنه قد يظن تحريمها باليمين على
ترك الجماع، وليس اللفظ صريحا في الطلاق. وقيل: يحكم بالبينونة بهذا اللفظ،
والأول أصح. وأنه لو قيل لمن يسمى زيدا: يا زيد، فقال: امرأة زيد طالق،
طلقت امرأته. وقيل: لا تطلق إلا أن يريد نفسه. وأنه لو قال: إن أجبت كلامي
فأنت طالق، ثم خاطب الزوج غيرها، فأجابته، فالصحيح أنها لا تطلق. وأنه
لو قال: إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق، فأخرجها هو، هل يكون إذنا؟
وجهان، القياس المنع. وأنه لو عزل عن القضاء، فقال: امرأة القاضي طالق،
ففي وقوع طلاقه وجهان. وأنه لو قيل: طلقت امرأتك، فقال: اعلم أن الامر على
ما تقوله، لم يكن إقرارا بالطلاق على الأصح. وأنه جلس مع جماعة فقام
ولبس خف غيره، فقالت له: استبدلت بخفك ولبست خف غيرك، فحلف بالطلاق
أنه لم يفعل ذلك، فإن كان خرج بعد خروج الجماعة، ولم يبق هناك إلا ما لبسه،
لم تطلق، لأنه لم يستبدل، بل استبدل الخارجون قبله، وإن بقي غيره، طلقت.
قلت: هذا الكلام ضعيف في الطرفين جميعا، بل صواب المسألة أنه إن
خرج بعد خروج الجميع، نظر، إن قصد أني لم أجد بدله، كان كاذبا، فإن كان
عالما بأنه أخذ بدله، طلقت، وإن كان ساهيا، فعلى قولي طلاق الناسي، وإن لم
يكن قصد، خرج على الخلاف السابق، في أن اللفظ الذي تختلف دلالته بالوضع
والعرف، على أيهما يحمل لأن هذا يسمى استبدالا في العرف. وأما إن خرج وقد
بقي بعض الجماعة، فإن علم أن خفه مع الخارجين قبله، فحكمه ما ذكرنا، وإن
178

علم أنه كان باقيا، أو شك، ففيه الخلاف في تعارض الوضع والعرف. والله أعلم.
وأنه لو رأى امرأته تنحت خشبة، فقال: إن عدت إلى مثل هذا الفعل فأنت
طالق، فنحتت خشبة من شجرة أخرى، ففي وقوع الطلاق (وجهان) لأن النحت
كالنحت، لكن المنحوت غيره.
قلت: الأصح الوقوع. والله أعلم.
وأنه لو قال: إن لم تخرجي الليلة من داري فأنت طالق، فخلعها مع أجنبي
في الليل وجدد نكاحها ولم تخرج، لم تطلق.
وأنه لو حلف لا يخرج من البلد إلا معها، فخرجا، وتقدم معها بخطوات،
فوجهان. أحدهما: لا يحنث للعرف. والثاني: يحنث، ولا يحصل البر إلا
بخروجهما معا بلا تقدم، وأنه لو حلف أن لا يضربها إلا بالواجب، فشتمته، فضربها
بالخشب، طلقت لأن الشتم لا يوجب الضرب بالخشب، وإنما تستحق به التعزير،
وقيل خلافه.
قلت: الأصح، لا تطلق هنا، ولا مسألة التقدم بخطوات يسيرة. والله
أعلم.
وأنه لو قال لزوجته: إن علمت من أختي شيئا فلم تقوليه لي فأنت طالق،
انصرف ذلك إلى ما يوجب ريبة ويوهم فاحشة، دون ما لا يقصد العلم به، كالأكل
والشرب، ثم لا يخفى أنه لا يشترط أن تقوله على الفور، وأنها لو سرقت منه دينارا
فحلف بالطلاق لتردينه عليه، وكانت قد أنفقته، لا تطلق حتى يحصل اليأس من رده
بالموت، فإن تلف الدينار وهما حيان، فوقوع الطلاق على الخلاف في الحنث بفعل
المكره.
قلت: إن تلف بعد التمكن من الرد، طلقت على المذهب. والله أعلم.
وأنه لو سمع لفظ رجل بالطلاق، وتحقق أنه سبق لسانه إليه، لم يكن له أن
يشهد عليه بمطلق الطلاق. وأنه لو قال: إن رأيت الدم فأنت طالق، فالظاهر حمله
على دم الحيض. وقيل: يتناول كل دم. وأنه لو قال: إن دخلت هذه الدار، فأنت
179

طالق، وأشار إلى موضع من الدار، فدخلت غير ذلك الموضع من الدار، ففي
وقوع الطلاق وجهان.
قلت: أصحهما الوقوع ظاهرا، لكنه إن أراد ذلك الموضع، دين. والله
أعلم.
وأنه لو قال: إن كانت امرأتي في المأتم، فأمتي حرة، وإن كانت أمتي
في الحمام، فامرأتي طالق، وكانتا عند التعليقين كما ذكر، عتقت الأمة، ولم تطلق
الزوجة، لأن الأمة عتقت عند تمام التعليق الأول، وخرجت عن كونها أمته، فلا
يحصل شرط الطلاق.
ولو قدم ذكر الأمة فقال: إن كانت أمتي في المأتم فامرأتي طالق، وإن كانت
امرأتي في الحمام، فأمتي حرة، فكانتا كما ذكر، طلقت الزوجة. ثم إن كانت
رجعية، عتقت الأمة أيضا، وإلا فلا.
ولو قال: إن كانت هذه في المأتم، وهذه في الحمام، فهذه حرة، وهذه
طالق، وكانتا، حصل العتق والطلاق. وأنه لو قال: إن كان هذا ملكي فأنت
طالق، ثم وكل من يبيعه، هل يكون إقرارا (بأنه ملكه؟) وجهان، وكذا لو تقدم
التوكيل على التعليق.
قلت: إذا تقدم التوكيل، يبعد، وقوع الطلاق، إذ لم يوجد حال التعليق ولا
بعده ما يقتضي الاقرار، والمختار في الحالتين أنه لا طلاق، إذ يحتمل أن يكون
وكيلا في التوكيل ببيعه، أو كان لغيره وله عليه دين، وقد تعذر استيفاؤه، فيبيعه
ليتملك ثمنه، أو باعه غصبا، أو باعه بولاية كالوالد والوصي والناظر. والله أعلم.
وأنه لو كان بين يديه تفاحتان، فقال لزوجته: إن لم تأكلي هذه التفاحة اليوم
فأنت طالق، وقال لامته: إن لم تأكلي الأخرى اليوم فأنت حرة، واشتبهت التفاحتان، فوجهان. أحدهما: أن الطريق أن تأكل كل واحدة تفاحة، فلا يقع عتق
ولا طلاق للشك، والثاني: تأكل كل واحدة ما ظنت هي والزوج أنها تفاحتها.
ولو خالع الزوج وباع الأمة في يومه، ثم جدد النكاح والشراء، تخلص من
الحنث. وقيل: يبيع الأمة للمرأة في يومه، وتأكل المرأة التفاحتين، وأنه لو قال
لامرأتيه: كلما كلمت رجلا فأنتما طالقان، ثم قال لرجلين: اخرجا، طلقتا.
180

ولو قال: كلما كلمت رجلا فأنت طالق، فكلم رجلين بكلمة، طلقت طلقتين
على الصحيح، وقيل: طلقة.
وأنه لو قال: أنت طالق إن تزوجت النساء، أو اشتريت العبيد، لم تطلق إلا
إذا تزوج ثلاث نسوة، أو اشترى ثلاثة أعبد.
وأنه لو حلف لا يخرج من الدار، فتعلق بغصن شجرة في الدار، والغصن
خارج، حنث على الأصح. وأنه لو قال: إن لم تصومي غدا فأنت طالق،
فحاضت، فوقوع الطلاق على الخلاف في المكره. وأن لو قال لنسوته الأربع: من
حمل منكن هذه الخشبة فهي طالق، فحملها ثلاث منهن، فإن كانت خشبة ثقيلة لا
تستقل بحملها واحدة، طلقن. وإن استقلت، لم تطلق واحدة منهن. وقيل:
يطلقن.
وأنه لو قال: أنت طالق إن لم أطأك الليلة، فوجدها حائضا أو محرمة، فعن
المزني أنه حكى عن الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة أنه لا طلاق، فاعترض وقال:
يقع، لأن المعصية لا تعلق لها باليمين، ولهذا لو حلف أن يعصي الله تعالى، فلم
يعص، حنث. وقيل ما قاله المزني هو المذهب، واختيار القفال. وقيل: على
القولين، كفوات البر بالاكراه.
وأنه لو قال: إن لم أشبعك من الجماع الليلة فأنت طالق، فقيل: يحصل البر
إذا جامعها وأقرت أنها أنزلت. وقيل: يعتبر مع ذلك أن تقول: لا أريد الجماع
ثانيا، فإن كانت لا تنزل، فيجامعها إلى أن تسكن لذاتها، وإن لم تشته الجماع
فيحتمل أن يبنى على الخلاف في التعليق بالمحال. وأن الوكيل بالطلاق إذا طلق لا
يحتاج إلى نية إيقاع الطلاق عن موكله في الأصح. وأنه إن قال: إن بت عندك
181

الليلة فأنت طالق، فبات في مسكنها وهي غائبة، لم تطلق. وأنه لو قال: إن لم
أصطد ذلك الطائر اليوم فأنت طالق، فاصطاد طائرا، وادعى أنه ذلك الطائر، قبل،
للاحتمال، والأصل النكاح. فإن قال الحالف: لا أعرف الحال واحتمل الامرين،
فيحتمل وقوع الطلاق وعدمه.
قلت: الأصح عدمه كما سبق في آخر الباب الرابع في المسألة: أنت طالق إن
لم يدخل زيد اليوم الدار وجهل دخوله. والله أعلم.
ولو قال: أنت طالق الطلقة الرابعة، فهل تطلق؟ وجهان يقربان من الخلاف
في التعليق بالمحال.
فصل ذكر إسماعيل البوشنجي أنه لو حلف بالطلاق لا تساكنه شهر
رمضان، تعلق الحنث بمساكنة جميع الشهر، ولا يحنث ببعضه، وبهذا قال إمام
العراقيين، يعني أبا بكر الشاشي، وعن محمد بن يحيى: يحنث بمساكنة ساعة
منه، كما لو حلف لا يكلمه شهر رمضان، يحنث بتكليمه مرة. وأنه لو قال: امرأتي
طالق إن أفطرت بالكوفة، وكان يوم الفطر بالكوفة، فلم يأكل ولم يشرب، فمقتضى
المذهب أنه لا تطلق، لأن الافطار محمول على تناول مأكول أو مشروب، وأنه لو
حلف أنه لا يعيد بالكوفة، فأقام معها يوم العيد، ولم يخرج إلى العيد، حنث
ويحتمل المنع. ولو قال: إن أكلت اليوم إلا رغيفا فأنت طالق، فأكلت رغيفا ثم
فاكهة، طلقت. ولو قال: إن أكلت أكثر من رغيف، فأكلت خبزا بأدام، طلقت
أيضا. وأنه لو قال: إن أدركت الظهر مع الامام فأنت طالق، فأدركته فيما بعد الركعة
الأولى، لم تطلق على قياس مذهبنا، لأن الظهر عبارة عن الركعات الأربع، ولم
يدركها.
قلت: هذا فيه نظر، فإنه يقال: أدرك الجماعة، وأدرك صلاة الامام،
ولكن الظاهر أنه لا يقع، لأن حقيقته إدراك الجميع، ومنه الحديث ما أدركتم فصلوا،
182

وما فاتكم فاقضوا. والله أعلم.
وأنه لو طلق نسوته طلاقا رجعيا، ثم قال: كل واحدة أراجعها فهي طالق كلما
كلمت فلانا، فراجع امرأة، ثم كلم فلانا، ثم راجع أخرى،
طلقت الأولى دون
الثانية، لأن شرط الحنث المراجعة قبل الكلام، فإن كلمه مرة أخرى، طلقت الثانية
أيضا. وأنه لو قال: آخر امرأة أراجعها فهي طالق، فراجع نسوة، ومات، يقع
الطلاق على آخرهن مراجعة باليقين. حتى لو انقضت عدتها من ذلك الوقت، لم
ترثه. وإن كان وطئها، فعليه مهر مثلها. وأنه إذا علق الطلاق على النكاح، فهو
محمول على العقد دون الوطئ، إلا إذا نوى. وأنه لو تخاصم الزوجان في المراودة،
فقال: إن لم تجيئي إلى الفراش الساعة فأنت طالق، ثم طالت الخصومة حتى
مضت الساعة، ثم جاءت إلى الفراش، فالقياس أنها طلقت. وأنه لو قال: إن
كلمت بني آدم فأنت طالق، فالقياس أنها لا تطلق بكلام واحد ولا اثنين، إلا إذا
أعطيناهما حكم الجمع. وأنه لو قال: إن دخلت الدار فعبدي حر، أو كلمت فلانا
فامرأتي طالق، سألناه لنتبين أي اليمينين أراد منهما، فما أراد تقرر.
وأنه لو قال: أنت طالق في الدار، فمطلق هذا يقتضي وقوع الطلاق إذا دخلت
هي الدار.
وأنه لو قال: إن ملكتما عبدا فأنت طالق، فشرط الحنث على ما يقتضيه
القياس، أن يملكاه معا، حتى لو ملك أحدهما عبدا ثم باعه لصاحبه، لا يحنث.
ولو قال: إن لبست قميصين فأنت طالق، فلبستهما متواليين، طلقت على قياس
المذهب. وأنه لو قال: إن اغتسلت في هذه الليلة فأنت طالق، فاغتسل فيها من غير
جنابة، وقال: قصدت بيميني غسل الجنابة، فالقياس أنه يدين ولا يقبل ظاهرا،
183

وأنه لو حلف في جنح الليل أنه لا يكلم فلانا يوما، ولا نية له، فعليه أن يمتنع من
كلامه في اليوم الذي يليه، ولا بأس بأن يكلمه في بقية الليل، وأنه لو قال: أنت
طالق إن دخلت الدار ثنتين أو ثلاثا أو عشرا، فهو مجمل، فإن قال: أردت أنها
تطلق واحدة إن دخلت الدار مرتين، أو ثلاثا، صدق، فإن اتهم، حلف، وإن أراد
وقوع الطلاق بالعدد المذكور، وقع الثلاث، ولغت الزيادة، وأنه لو قال: إن
خرجت من الدار فأنت طالق، وللدار بستان بابه مفتوح إليها، فخرجت إلى
البستان، فالذي يقتضيه المذهب أنه إن كان بحيث يعد من جملة الدار ومرافقها لا
تطلق، وإلا فتطلق.
وأنه لو قال لأبويه: إن تزوجت ما دمتما حيين، فامرأتي هذه طالق، فمات
أحدهما، فتزوج، ينبغي أن لا يقع طلاقه. وأنه لو حلف لا يطعنه بنصل هذا الرمح
أو السهم، فنزع النصل، وجعله في رمح آخر وطعنه به، حنث. وأنه لو قال: إن
شتمتني ولعنتني فأنت طالق، فلعنته، لم تطلق، لأنه علق على الامرين. وأنها لو
خرجت إلى قرية للضيافة، فقال: إن مكثت هناك أكثر من ثلاثة أيام فأنت طالق،
فخرجت من تلك القرية بعد الثلاثة أو قبل، ثم رجعت إليها، فينبغي أن لا تطلق.
وأنه لو قال نصف الليل، إن بت مع فلان، فأنت طالق، فبات معه بقية الليل، طلقت
على مقتضى القياس، ولا يشترط أن يبيت جميع الليل ولا أكثره.
قلت: المختار، أن المبيت يحمل مطلقه على أكثر الليل إذا لم يكن قرينة
كما سبق في المبيت بمنى، لكن الظاهر الحنث هنا لوجود القرينة. والله أعلم.
ولو حلف أنه ما يعرف فلانا، وقد عرفه بوجهه، وطالت صحبته له، إلا أنه لا
يعرف اسمه، حنث على قياس المذهب، وبه قال سعد الاسترآبادي. وأنه لو قال:
آخر امرأة أراجعها فهي طالق، فراجع حفصة ثم عمرة، ثم طلق حفصة ثم راجعها،
فالذي أراه أن حفصة تطلق لأنها صارت آخرا بعدما كانت أولا. وأنه لو قال: إن
نمت على ثوب لك فأنت طالق، فوضع رأسه على مرفقة لها، لا تطلق، كما لو
وضع عليها يديه أو رجليه. وأنه لو حلف لا يأكل من مال فلان، فنثر مأكولا فالتقطه
وأكله، حنث، وكذا لو تناهدا فأكل من طعامه.
قلت: الصورتان مشكلتان، والمختار في مسألة النثار، بناؤه على الخلاف،
184

في أنه يملكه الآخذ أم لا؟ فإن قلنا بالأصح: إنه يملكه، لم يحنث، وإلا فيخرج
على الخلاف السابق في الضيف ونحوه، أنه هل يملك الطعام المقدم إليه ومتى
يملكه؟ وأما مسألة المناهدة وهي خلط المسافرين نفقتهم واشتراكهم في الاكل من
المختلط، ففيها نظر، لأنها في معنى المعاوضة، وإلا فيخرج على مسألة الضيف.
والله أعلم.
وأنه لو قال: إن دخلت دار فلان ما دام فيها فأنت طالق، فتحول فلان منها ثم
عاد إليها، فدخلتها، لا تطلق، وأنه لو قال: إن قتلته يوم الجمعة فأنت طالق،
فضربه يوم الخميس ومات يوم الجمعة بسبب ذلك الضرب، لم تطلق، لأن القتل هو
الفعل المفوت للروح، ولم يوجد ذلك يوم الجمعة. وأنه لو قال: إن أغضبتك
فأنت طالق، فضرب ابنها، طلقت وإن كان ضرب تأديب. وأنه لو حلف ليصومن
(زمانا، أنه يحنث بصوم بعض يوم إن قلنا: إن من حلف ليصومن، أنه يحنث
بالشروع فيه، وأنه لو حلف ليصومن) أزمنة، بر بصوم يوم لاشتماله على أزمنة.
ولو حلف ليصومن الأيام، فيحمل على أيام العمر، أو على ثلاثة أيام، وهو
الأولى. وأنه لو قال: إن كان الله سبحانه وتعالى يعذب الموجودين، فأنت طالق،
طلقت.
قلت: هذا إذا قصد إن كان يعذب أحدا منهم، فإن قصد إن كان يعذبهم
كلهم، أو لم يقصد شيئا، لم تطلق لأن التعذيب مختص ببعضهم. والله أعلم.
وأنه لو اتهمته امرأته بالغلمان، فحلف بالطلاق لا يأتي حراما، ثم قبل
غلاما، أو لمسه، يحنث لعموم اللفظ. وأنه لو قال: أنت طالق إن خرجت من
الدار، ثم قال: لا تخرجين من الصفة أيضا، فخرجت من الصفة، لم تطلق، لان
قوله: ولا تخرجين كلام مبتدأ ليس فيه صيغة تعليق ولا عطف.
فصل عن البويطي أنه لو قال: أنت طالق بمكة، أو في مكة، أو في البحر،
طلقت في الحال، إلا أن يريد إذا حصلت هناك. وكذا لو قال: في الظل وهما
185

في الشمس، بخلاف ما إذا كان الشئ منتظرا غير حاصل، كقوله: في الشتاء وهما
في الصيف، لا يقع حتى يجئ الشتاء.
فصل في الزيادات لأبي عاصم العبادي أنه لو قال: إن أكلت من الذي طبخته
هي فهي طالق، فوضعت القدر على الكانون، وأوقدت غيرها، لم تطلق، وكذا لو
سجر التنور غيرها ووضعت القدر فيه. وأنه لو قال: إن كان في بيتي نار فأنت
طالق، وفيه سراج، طلقت وأنه لو حلف لا يأكل من طعامه، ودفع إليه دقيقا
ليخبزه له فخبزه بخميرة من عنده، لم يحنث لأنه مستهلك. وأنها لو قالت: لا طاقة
لي بالجوع معك، فقال: إن جعت يوما في بيتي فأنت طالق، ولم ينو المجازاة،
تعتبر حقيقة الصفة، ولا تطلق بالجوع في أيام الصوم، وأنه لو قال: إن دخلت دارك
فأنت طالق، فباعتها ودخلها، لم تطلق على الأصح.
فصل قال: إن لم تكوني أحسن من القمر، أو إن لم يكن وجهك أحسن من
القمر فأنت طالق، قال القاضي أبو علي الزجاجي والقفال وغيرهما: لا تطلق،
واستدلوا بقول الله تعالى: * (لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم) *.
قلت: هذا الحكم والاستشهاد، متفق عليه، وقد نص عليه الشافعي رحمه
الله، وقد ذكرت النص في ترجمة الشافعي من كتاب الطبقات. قال الشيخ
إبراهيم المروذي: لو قال: إن لم أكن أحسن من القمر فأنت طالق، لا تطلق، وإن
كان زنجيا أسود. والله أعلم.
فصل في فتاوى الحناطي أنه لو قال: إن قصدتك بالجماع فأنت طالق، فقصدته
المرأة، فجامعها، لم تطلق، وإن قال: إن قصدت جماعك، طلقت في هذه
الصورة.
فصل حكى أبو العباس الروياني، أن امرأة قالت لزوجها: اصنع لي ثوبا ليكن
لك فيه أجر، فقال: إن كان لي فيه أجر فأنت طالق، فقالت: استفتيت فيه
إبراهيم بن يوسف العالم، فقال: إن كان إبراهيم بن يوسف عالما فأنت طالق،
186

فاستفتى إبراهيم بن يوسف فقال: لا يحنث في اليمين الأولى، لأنه مباح، والمباح
لا أجر له فيه، ويحنث في الثانية، لأن الناس يسمونني عالما. وقيل: يحنث في
الأولى أيضا، لأن الانسان يؤجر في ذلك إذا قصد البر، وحكى الوجهين القاضي
الروياني في كتابه التجزئة وقال: الصحيح الثاني.
قلت: لا معنى للخلاف في مثل هذا، لأنه إن قصد الطاعة كان فيه أجر
ويحنث، وإلا فلا، ومقتضى الصورة المذكورة، أن لا يحنث، لأنه لم يقع فعل نية
الطاعة. والله أعلم.
فصل قال شافعي: إن لم يكن الشافعي أفضل من أبي حنيفة، فامرأتي طالق،
وقال حنفي: إن لم يكن أبو حنيفة أفضل من الشافعي، فامرأتي طالق، لا يحكم
بالطلاق على أحدهما، وشبهوه بمسألة الغراب. وعن القفال: لا يفتى في هذه
المسألة وفي تعليق الشيخ إبراهيم المروذي في هذه المسألة، أنه لو قال السني:
إن لم يكن الخير والشر من الله تعالى فامرأتي طالق، وقال المعتزلي: إن كانا من الله
تعالى فامرأتي طالق، أو قال السني: إن لم يكن أبو بكر أفضل من علي رضي الله
عنهما فامرأتي طالق، فقال الرافضي: إن لم يكن علي أفضل من أبي بكر، وقع طلاق
المعتزلي والرافضي، وأنه لو قال لها: أفرغي البيت من قماشك، فإن دخلت
ووجدت فيه شيئا من قماشك ولم أكسره على رأسك فأنت طالق، فدخل فوجد في
البيت هاونا لها، فوجهان. أحدهما: لا تطلق، للاستحالة، والثاني: تطلق عند
اليأس قبيل موتها أو موته. وأنه لو تخاصم الزوجان فخرجت مكشوفة الوجه، فعدا
خلفها وقال: كل امرأة لي خرجت من الدار مكشوفة ليقع نظر الأجانب عليها فهي
طالق، فسمعت قوله فرجعت ولم يبصرها أجنبي، طلقت، ولو قال: كل امرأة لي
خرجت مكشوفة ويقع نظر الأجانب عليها فهي طالق، فخرجت ولم يبصرها أجنبي،
لم تطلق. والفرق أن الطلاق في الصورة الثانية معلق على صفتين، ولم يوجد إلا
187

إحداهما، وفي الأولى على صفة فقط وقد وجدت.
قلت: هكذا صواب صورة هذه المسألة، وكذا حقيقتها من كتاب إبراهيم
المروذي، ووقعت في نسخ من كتاب الرافعي مغيرة. والله أعلم.
188

كتاب الرجعة
هي بفتح الراء وكسرها، والفتح فيه أفصح، وفيه بابان.
189

الأول: في أركانها، وهي أربعة.
الأول: سببها، والمطلقات قسمان.
الأول: من لم يستوف زوجها عدد طلاقها، وهي نوعان، بائن ورجعية،
فالبائن هي المطلقة قبل الدخول أو بعوض، فلا يحل له إلا بنكاح جديد،
والرجعية، هي المطلقة بعد الدخول بلا عوض.
القسم الثاني: مطلقة استوفى عدد طلاقها، فلا تحل له برجعة ولا بنكاح إلا
بعد محلل، وإن شئت اختصرت، فقلت: الرجعية مطلقة بعد الدخول (بلا عوض)
ولا استيفاء عدد.
فرع سواء في ثبوت الرجعة طلق بصريح أو كناية، ولو طلق ثم قال:
أسقطت حق الرجعة، أو طلق بشرط أن لا رجعة، لم يسقط ولا مدخل للرجعة في
الفسوخ.
الركن الثاني: الزوج المرتجع، ويشترط فيه أهلية النكاح، والاستحلال،
والبلوغ، والعقل، فلا رجعة لمرتد، ولو طلق رجل فجن، فينبغي أن يجوز لوليه
190

المراجعة حيث يجوز ابتداء النكاح، هذا إذا جوزنا التوكيل في الرجعة وهو
الصحيح، وللعبد المراجعة بغير إذن سيده على الصحيح.
الركن الثالث: الصيغة، فتحصل الرجعة بقوله: رجعتك أو راجعتك أو
ارتجعتك، وهذه الثلاثة صريحة، ويستحب أن يضيف إلى النكاح أو الزوجية، أو
نفسه، فيقول: رجعتك إلى نكاحي أو زوجيتي أو إلي، ولا يشترط ذلك، ولا بد
من إضافة هذه الألفاظ إلى مظهر أو مضمر، كقوله: راجعت فلانة أو راجعتك، فأما
مجرد راجعت وارتجعت، فلا ينفع. ولو قال: راجعتك للمحبة أو للإهانة أو
للأذى، وقال: أردت لمحبتي إياك، أو لأهينك، أو أوذيك، قبل وحصلت
الرجعة، وإن قال: أردت أني كنت أحبها أو أهينها قبل النكاح، فردتها إلى ذلك،
قبل ولم تحصل الرجعة، وإن تعذر سؤاله بموته، أو أطلق، حصلت الرجعة، لان
اللفظ صريح وظاهره إرادة المعنى الأول، وأشير فيه إلى احتمال، ولو قال:
رددتها، فالأصح أنه صريح، فعلى هذا، في اشتراطه قوله: إلي أو إلى نكاحي،
وجهان. أصحهما: يشترط، ولو قال: أمسكتك، فهل هو كناية أم صريح أم لغو؟
فيه أوجه، أصحها عند الشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب والروياني وغيرهم:
كناية، وصحح البغوي كونه صريحا، وهو قول ابن سلمة والاصطخري، وابن
القاص.
قلت: صحح الرافعي في المحرر أنه صريح. والله أعلم.
فإن قلنا: صريح، فيشبه أن يجئ في اشتراط الإضافة وجهان، كالرد.
وجزم البغوي بعدم الاشتراط، وأنه مستحب. ولو قال: تزوجتك أو نكحتك، فهل هو
كناية أم صريح، أم لغو؟ أوجه. أصحها: الأول، وبه قال القاضي ويجري
191

الخلاف فيما لو جرى العقد على صور الايجاب والقبول، قال الروياني: الأصح هنا
الصحة، لأنه آكد في الإباحة.
قلت: ولو قال: اخترت رجعتك ونوى الرجعة، ففي حصولها وجهان
حكاهما الشاشي، الأصح الحصول. والله أعلم.
فرع تصح الرجعة بالعجمية، سواء أحسن العربية أم لا،
وقيل: لا، وقيل: بالفرق، والصحيح الأول.
فرع هل صرائح الرجعة منحصرة، أم كل لفظ يؤدي معنى الصريح صريح،
كقوله: رفعت تحريمك وأعدت حلك ونحوهما؟ فيه وجهان، أصحهما:
الانحصار، لأن الطلاق صرائحه محصورة، فالرجعة التي هي تحصيل إباحة أولى.
فرع لا يشترط الاشهاد على الرجعة على الأظهر، فعلى هذا، تصح
بالكتابة مع القدرة على النطق، وإلا فلا.
فرع لا تقبل الرجعة التعليق، فلو قال: راجعتك إن شئت، فقالت: شئت،
لم يصح، ولو قال: إذ شئت، أو أن شئت بفتح الهمزة، صح. ولو طلق إحدى
زوجتيه مبهما، ثم قال: راجعت المطلقة، لم يصح على الأصح. ولو قال
لرجعية: متى راجعتك فأنت طالق، أو قال لمن في صلب النكاح: متى طلقتك
وراجعتك فأنت طالق، فراجعها فهل تصح الرجعة وتطلق، أم لا تصح أصلا، أم
تصح ولا تطلق ويلغو الشرط؟ فيه أوجه، الصحيح الأول.
فرع لا تحصل الرجعة بالوطئ والتقبيل وشبههما.
الركن الرابع: المحل، وهي الزوجة، ولا يشترط رضاها، ولا رضا سيد
192

الأمة، ويستحب إعلامه، ويشترط فيها بقاؤها في العدة، وكونها قابلة للحل، فلو
ارتد الزوجان أو أحدهما في العدة، فراجعها في حال الردة، لم يصح، وإذا أسلما
قبل انقضاء العدة، فلا بد من استئناف الرجعة، نص عليه، وبه قال الأصحاب.
وقال المزني: الرجعة موقوفة. فإذا أسلما في العدة، تبينا صحتها. قال الامام:
وهذا له وجه، ولكن لم أر من الأصحاب من جعله قولا مخرجا، فعلى النص، لو
ارتد الزوجان أو أحدهما بعد الدخول، ثم طلقها في العدة، أو راجعها، فالطلاق
موقوف، إن جمعهما الاسلام في العدة، تبينا نفوذه، والرجعة باطلة، ولو كانا
ذميين فأسلمت فراجعها وتخلف، لم يصح، ولو أسلم في العدة، احتاج إلى
الاستئناف.
فرع إذا أثبتنا العدة بالوطئ في الدبر، أو بالخلوة، ثبتت الرجعة على
الأصح.
قلت: مما يتعلق بالركن، قال إبراهيم المروذي: لو كان تحته حرة وأمة،
فطلق الأمة رجعية، فله رجعتها. والله أعلم.
فصل العدة تكون بالحمل أو الأقراء أو الأشهر، فلو ادعت المعتدة بالأشهر
انقضاءها، وأنكر الزوج، صدق بيمينه، لأنه اختلاف في وقت طلاقه. ولو قال:
طلقتك في رمضان. فقالت: بل في شوال، فقد غلطت على نفسها فتؤاخذ
بقولها. وأما عدة الحامل، فتنقضي بوضع الحمل التام المدة، حيا كان أو ميتا أو
ناقص الأعضاء، وبإسقاط ما ظهر فيه صورة الآدمي، فإن لم يظهر، فقولان
مشروحان في كتاب العدة. ومتى ادعت وضع حمل أو سقط أو مضغة، إذا
اكتفينا بها، صدقت بيمينها. وقيل: لا تصدق مطلقا، ولا بد من بينة، وقيل: لا
تصدق في الولد الميت إذا لم يظهر. وقيل: ولا في الولد الكامل. وقيل: ولا في
السقط، والمذهب الأول، قال الأئمة: وإنما يصدقها فيما يرجع في العدة
بشرطين. أحدهما: أن تكون ممن تحيض. فلو كانت صغيرة أو آيسة، لم تصدق
. والثاني: أن تدعي الوضع لمدة الامكان، ويختلف الامكان بحسب دعواها. فإن
ادعت ولادة ولد تام، فأقل مدة تصدق فيها ستة أشهر ولحظتان من حين إمكان
اجتماع الزوجين بعد النكاح لحظة لامكان الوطئ، ولحظة للولادة، فإن ادعت لأقل
من ذلك، لم تصدق، وكان للزوج رجعتها. وإن ادعت إسقاط سقط ظهرت فيه
193

الصورة، فأقل مدة إمكانه أربعة أشهر ولحظتان من يوم إمكان الاجتماع، وإن
ادعت إلقاء مضغة لا صورة فيها، فأقل مدة إمكانها ثمانون يوما، ولحظتان من يوم
إمكان الاجتماع.
وأما المعتدة بالأقراء، فإن طلقت في الطهر حسب بقية الطهر قرءا، وإن
طلقت في الحيض، اشترط مضي ثلاثة أطهار كاملة، كما سيأتي في العدد إن شاء
الله تعالى. فأقل مدة تمكن انقضاء العدة فيها إذا طلقت في الطهر اثنان وثلاثون يوما
ولحظتان، وذلك بأن تطلق وقد بقي من الطهر لحظة، ثم تحيض يوما وليلة، ثم
تطهر خمسة عشر، ثم تحيض يوما وليلة، وتطهر خمسة عشر، ثم تطعن في
الحيض، هذا هو المذهب. ولنا وجه أنه لا تعتبر اللحظة الأولى تفريعا على أن القرء
هو الانتقال من الطهر إلى الحيض، فإذا صادف الطلاق آخر جزء من الطهر، حسب
ذلك قرءا، ويظهر تصوير ذلك فيما إذا علق الطلاق بآخر. وفي قول: لا يحكم
بانقضاء العدة بمجرد الطعن في الدم آخرا، بل يشترط مضي يوم وليلة، ثم هل اليوم
والليلة على هذا، أو اللحظة على المذهب من نفس العدة، أم ليس منها وإنما هو
لاستيقان انقضاء الأقراء؟ فيه وجهان، أصحهما: الثاني، وتظهر فائدتهما في ثبوت
الرجعة في ذلك الوقت، هذا كله تفريع على المذهب أن أقل الحيض يوم وليلة،
فإن جعلناه أقل من ذلك، نقص زمن الامكان عن المدة المذكورة، هذا كله في طهر
غير المبتدأة، أما إذا طلقت المرأة قبل أن تحيض، ثم حاضت، فيبنى أمرها على
أن القرء طهر محتوش بدمين، أم لا يشترط فيه الاحتواش؟ فإن لم يشترط، فحكمها
في مدة الامكان حكم غيرها، وإن شرطناه، فأقل مدة إمكانها ثمانية وأربعون يوما
ولحظة، هذا كله إذا طلقت في طهر. أما المطلقة في حيض، فأقل مدة إمكانها
سبعة وأربعون يوما ولحظة، بأن تطلق في اخر جزء من الحيض، ويظهر تصويره فيما
إذا علق طلاقها بآخر جزء من حيضها، ثم تطهر خمسة عشر يوما، ثم تحيض يوما
194

وليلة، وتطهر خمسة عشر، ثم تحيض يوما وليلة، وتطهر خمسة عشر، وتطعن
في الحيض، وفي لحظة الطعن ما ذكرناه في المطلقة في الطهر، ولا تحتاج هنا إلى
تقدير لحظة في الأول، لأن اللحظة هناك تحسب قرءا، هذا حكم الحرة، وأما
الأمة، فإن طلقت في طهر، فأقل مدة إمكانها ستة عشر يوما ولحظتان، وإن طلقت
ولم تحض قط، ثم ظهر الدم وشرطنا في القرء الاحتواش، فأقل مدة الامكان اثنان
وثلاثون يوما ولحظة، وإن طلقت في الحيض، فالأقل أحد وثلاثون يوما ولحظة.
إذا عرف هذا، فإن لم يكن للمطلقة عادة في الحيض والطهر مستقيمة، بأن لم تكن
حاضت ثم طرأ حيضها، وكان لها عادات مضطربة، أو كانت لها عادة مستقيمة دائرة
على الأقل حيضا وطهرا، صدقت بيمينها إذا ادعت انقضاء الأقراء لمدة الامكان،
فإن نكلت عن اليمين، حلف الزوج وكان له الرجعة، فإن كان لها عادة مستقيمة
دائرة على ما فوق الأقل، صدقت في دعوى انقضائها على وفق العادة، وهل تصدق
فيما دونها مع الامكان؟ وجهان. أصحهما عند الأكثرين: تصدق بيمينها، لان
العادة قد تغير، والثاني: لا للتهمة، قال الشيخ أبو محمد: هذا هو المذهب. قال
الروياني: هو الاختيار في هذا الزمان. قال: وإذا قالت لنا امرأة انقضت عدتي،
وجب أن نسألها عن حالها، كيف الطهر والحيض؟ ونحلفها عند التهمة لكثرة
الفساد، هذا لفظه.
فرع ادعت انقضاء العدة لدون الامكان، ورددنا قولها، فجاء زمن الامكان، فإن
كذبت نفسها، أو قالت: غلطت وابتدأت الآن دعوى الانقضاء، صدقت بيمينها،
وإن أصرت على الدعوى الأولى، صدقناها الآن أيضا على الأصح، لأن إصرارها
يتضمن دعوى الانقضاء الآن.
فرع قال: إن ولدت فأنت طالق، وطلقت بالولادة، فأقل زمن يمكن انقضاء
أقرائها فيه، مبني على أن الدم تراه في الستين، هل يجعل حيضا، فيه خلاف
سبق. فإن جعلناه حيضا وهو الأصح، فأقل زمن تصدق فيه سبعة وأربعون يوما
ولحظة، كما لو طلقت في الحيض، فتقدر أنها ولدت ولم تر دما، ويعتبر مضي
ثلاثة أطهار وثلاث حيض، والطعن في الحيضة الرابعة، وإن لم نجعله حيضا لم
195

تصدق فيما دون اثنين وتسعين يوما ولحظة، منها ستون للنفاس، ويحسب ذلك
قرءا، وبعدها مدة حيضتين وطهرين، واللحظة للطعن في الحيضة الثالثة، هكذا
ذكره البغوي، ولم يعتد المتولي بالنفاس قرءا، واعتبر مضي مائة وسبعة أيام
ولحظة، وهي مدة النفاس، ومدة ثلاثة أطهار وحيضتين، واللحظة للطعن.
فصل الرجعة مختصة بعدة الطلاق، فلو وطئ الزوج الرجعية في العدة، فعليها
أن تستأنف ثلاثة أقراء من وقت الوطئ، ويدخل فيها ما بقي من عدة الطلاق، ولا
تثبت الرجعة إلا فيما بقي من عدة الطلاق، وله تجديد النكاح فيما زاد بسبب الوطئ،
ولا يجوز ذلك لغيره. ولو أحبلها بالوطئ، اعتد ت بالوضع عن الوطئ. وفي دخول ما
بقي من عدة الطلاق في عدة الوطئ وجهان. أصحهما: يدخل، فعلى هذا، له
الرجعة في عدة الحمل على الأصح، وحكى البغوي وجها، أن الرجعة تنقطع على
هذا بالحمل. فإن قلنا: لا تدخل، فإذا وضعت، رجعت إلى بقية الأقراء، وللزوج
الرجعة في البقية التي تعود إليها بعد الوضع، وله الرجعة أيضا قبل الوضع على
الأصح.
الباب الثاني في أحكام الرجعية والرجعة
وفيه مسائل.
إحداها: يحرم وطئ الرجعية ولمسها، والنظر إليها، وسائر الاستمتاعات.
فإن وطئ، فلا حد وإن كان عالما بالتحريم لاختلاف العلماء في إباحته، وفي
العالم وجه ضعيف، ولا تعزير أيضا إن كان جاهلا أو يعتقد الإباحة، وإلا فيجب.
وإذا وطئ ولم يراجع، لزمه مهر المثل، وإن راجعها، فالنص وجوب المهر
أيضا، ونص فيما لو ارتدت فوطئها الزوج في العدة ثم أسلمت فيها، فلا مهر. وكذا
لو أسلم أحد المجوسيين أو الوثنيين ووطئها، ثم أسلم المتخلف في العدة، فقال
196

الإصطخري: في الجميع قولان، وحكى ابن كج عن ابن القطان، أنه وجدهما
منصوصين، والمذهب تقرير النصين الأولين، لأن أثر الطلاق لا يرتفع بالرجعة، بل
يبقى نقصان العدة فيكون ما بعد الرجعة وما قبل الطلاق كعقدين، وأما أثر الردة
وتبديل الدين، فيرتفع بالاسلام، فيكون الوطئ مصادفا للعقد الأول.
الثانية: يصح خلع الرجعية على الأظهر، ويصح الايلاء والظهار عنها،
واللعان، ويلحقها الطلاق. وإذا مات أحدهما في العدة، ورثه الآخر، ويجب
نفقتها، هذه الأحكام مذكورة في أبوابها، ولو قال: نسائي أو زوجاتي طوالق،
دخلت الرجعية فيهن على الأصح المنصوص.
الثالثة: طلق زوجته الرقيقة رجعية، ثم اشتراها، وجب استبراؤها، لأنها
كانت محرمة بالطلاق. فإن بقيت في العدة حيضة كاملة، كفت، وإن بقيت بقية
الطهر، فقيل: يكفي، وقيل: يشترط حيضة كاملة على القياس، هذا إذا قلنا:
الاستبراء بالحيض وهو المذهب، فإن قلنا: بالطهر، قلنا: بقية الطهر كافية
للاستبراء، حصل الغرض بها.
فرع لما نظر الأصحاب في الأحكام المذكورة في هذه المسائل، استنبطوا منها
أقوالا في أن الطلاق الرجعي يقطع النكاح ويزيل الملك، أم لا؟ أحدها: نعم،
بدليل تحريم الوطئ ووجوب المهر ومنع الخلع على قول. والثاني: لا، لوقوع
الطلاق وعدم الحد، وصحة الايلاء والظهار واللعان، وثبوت الإرث وصحة الخلع،
وعدم الاشهاد على الأظهر فيهما. واشتهر عن لفظ الشافعي رضي الله عنه، أن
الرجعية زوجة في خمس آيات من كتاب الله تعالى، وأراد الآيات المشتملة على هذه الأحكام
. والثالث: أنه موقوف، فإن لم يراجعها حتى انقضت العدة، تبينا زوال
197

الملك بالطلاق. وإن راجع، تبينا أنه لم يزل، ورجح الغزالي القول الأول،
والامام الثاني. والتحقيق أنه لا يطلق ترجيح واحد منهما لما ذكرناه من اختلاف
الترجيح في الصور المذكورة.
قلت: المختار ما اختاره الرافعي، أنه لا يطلق ترجيح، ونظيره القولان في أن
النذر يسلك به مسلك واجب الشرع، أم جائزة، وأن الابراء إسقاط أم تمليك؟
ويختلف الراجح بحسب المسائل، لظهور دليل الطرفين في بعضها، وعكسه
في بعض. والله أعلم.
فصل في الاختلاف فإذا ادعى أنه راجع في العدة، وأنكرت، فإما أن
يختلفا قبل أن تنكح زوجا، وإما بعده.
القسم الأول: قبله، فإما إن تكون العدة منقضية، وإما باقية.
الضرب الأول: منقضية وادعى سبق الرجعة، وادعت سبق انقضاء العدة،
فلهذا الاختلاف صور.
إحداها: أن يتفقا على وقت انقضاء العدة، كيوم الجمعة. وقال: راجعت
يوم الخميس، وقالت: بل يوم السبت، فثلاثة أوجه. الصحيح الذي عليه الجمهور
القول قولها بيمينها أنها لا تعلمه راجع يوم الخميس. والثاني: القول قوله بيمينه.
والثالث: قالت: أولا انقضت يوم الجمعة فصدقها، وقال: راجعت يوم الخميس،
198

فهي المصدقة. وإن قال هو أولا: راجعتك يوم الخميس فهو مصدق لاستقلاله
بالرجعة، والرجعة تقطع العدة. فإن اقترن دعواهما، سقط هذا الوجه، وبقي
الوجه الآخر، وبقي الأولان.
الصورة الثانية: أن يتفقا على الرجعة يوم الجمعة، وقالت: انقضت يوم
الخميس، وقال: بل يوم السبت، فهل يصدق بيمينه أم هي، أم السابق بالدعوى؟
أوجه، الصحيح الأول.
الثالثة: أن لا يتفقا، بل يقتصر على تقدم الرجعة، وهي على تأخرها، ففيه
طرق ذكرناها في اخر نكاح المشرك، وهنا خلاف اخر حاصله أوجه. أصحها:
تصديق من سبق بالدعوى، فلو وقع كلامهما معا، فالقول قولها، والثاني: تصديقها
مطلقا، والثالث: تصديقه، والرابع: يقرع ويقدم قول من خرجت قرعته، حكاه
القاضي أبو الطيب، والخامس: يسأل الزوج عن وقت الرجعة، فإذا تبين وصدقته،
وإلا ثبت بيمينه، وتسأل عن وقت انقضاء العدة، فإن صدقها وإلا ثبت بيمينها، ثم
ينظر فيما ثبت من وقتيهما، ويحكم للسابق منهما، ولو قال: لا نعلم حصول
الامرين مرتبا، ولا نعلم السابق، فالأصل بقاء العدة وولاية الرجعة.
الضرب الثاني: أن تكون العدة باقية، واختلفا في الرجعة، فالقول قوله على
الصحيح. وقيل: قولها، لأن الأصل عدم الرجعة، فإن أرادها، فلينشئها. فإذا
قلنا بالصحيح، فقد أطلق جماعة، منهم البغوي، أن إقراره ودعواه، يكون إنشاء،
وحكى ذلك عن القفال، قال الشيخ أبو محمد: ومن قال به، يجعل الاقرار بالطلاق
إنشاء أيضا، قال الامام: هذا لا وجه له، فإن الاقرار والانشاء يتنافيان، فذلك إخبار
عن ماض، وهذا إحداث في الحال، وذلك يدخله الصدق والكذب، وهذا
بخلافه.
فرع قال: راجعتك اليوم، فقالت: انقضت عدتي قبل رجعتك، صدقت هي،
نص عليه، قال الأصحاب: المراد إذا اتصل كلامها بكلامه، قالوا: وقوله
راجعت، إنشاء، وقولها: انقضت عدتي إخبار، فيكون الانقضاء سابقا على
قولها.
199

القسم الثاني: إذا نكحت زوجا بعد العدة، فجاء الأول وادعى الرجعة في
العدة، فإن أقام بينة، فهي زوجته، سواء دخل بها الثاني أم لا، فإن دخل، فلها
عليه مهر المثل، وإن لم تكن بينة، وأراد تحليفها، سمعت دعواه على
الصحيح، فلو ادعى على الزوج، ففي سماع دعواه وجهان، أصحهما عند الامام: لا، لان
الزوجة ليست في يده. والثاني: نعم، لأنها في حبالته وفراشه، وبهذا قطع
المحاملي وغيره من العراقيين. فإذا ادعى عليها، فإن أقرت بالرجعة، لم يقبل
إقرارها على الثاني، بخلاف ما لو ادعى على امرأة في حبال رجل أنها زوجته،
فقالت: كنت زوجتك فطلقتني، فإنه يكون إقرارا له، وتجعل زوجة له، والقول قوله
في أنه لم يطلقها، لأن هناك لم يحصل الاتفاق على الطلاق، وهنا حصل،
والأصل عدم الرجعة، وتغرم المرأة للأول مهر مثلها، لأنها فوتت البضع عليه
بالنكاح الثاني. وقال أبو إسحاق: لا غرم عليها، كما لو قتلت نفسها أو ارتدت،
وإن أنكرت، فهل تحلف؟ فيه خلاف مبني على أنها لو أقرت هل تغرم؟ إن قلنا:
لا، فإقرارها بالرجعة غير مقبول ولا مؤثر في الغرم، فلا تحلف، والأصح
التحليف، فإن حلفت، سقطت دعواه، وإن نكلت، حلف وغرمها مهر المثل، ولا
يحكم ببطلان نكاح الثاني وإن جعلنا اليمين المردودة كالبينة على قول، لأنها لا
تكون كالبينة في حق المتداعيين. وحكى الامام وجها أنه يحكم ببطلان نكاح الثاني
إذا قلنا: كالبينة، وإذا قبلنا الدعوى على الزوج الثاني، نظر، إن بدأ بالدعوى على
الزوجة، فالحكم كما سبق، لكن إذا انقضت خصومتهما، بقيت دعواه على
الثاني، وإن بدأ بالدعوى على الثاني، فإن أنكر، صدق بيمينه، وإن نكل، ردت
اليمين على المدعي، فإن حلف، حكم بارتفاع نكاح الثاني، ولا تصير المرأة
200

للأول بيمينه، ثم إن قلنا: اليمين المردودة كالبينة، فكأنه لم يكن بينها وبين الثاني
نكاح، ولا شئ لها عليه، إلا أن يكون دخل بها، فعليه مهر المثل،
وإن قلنا: كالاقرار، فإقراره عليها غير مقبول، فلها عليه كمال المسمى إن كان بعد الدخول،
ونصفه إن كان قبله. قال البغوي: والصحيح عندي، أنها وإن جعلت كالبينة لا تؤثر
في سقوط حقها من المسمى، بل يختص أثر اليمين المردودة بالمتداعيين، فإذا
انقضت الخصومة بينهما، فله الدعوى على المرأة، ثم ينظر، فإن بقي النكاح
الثاني، بأن حلف، فالحكم كما ذكرنا فيما إذا بدأ بها، وإن لم يبق، بأن أقر الثاني
للأول بالرجعة، أو نكل وحلف الأول، فإن أقرت المرأة سلمت إليه، وإلا فهي
المصدقة باليمين، فإن نكلت فحلف الأول، سلمت إليه، ولها على الثاني مهر
المثل إن جرى دخول، وإلا فلا شئ عليه، كما لو أقرت بالرجعة، وكل موضع
قلنا: لا تسلم إلى الأول، لحق الثاني، وذلك عند إقرارها، أو نكولها، ويمين
الأول، فإذا زال حق الثاني بموت وغيره، سلمت إلى الأول، كما لو أقر بحرية عبد
في يد غيره، ثم اشتراه، حكم عليه بحريته.
فرع إذا أنكرت الرجعة، واقتضى الحال تصديقها، ثم رجعت، صدقت في
الرجوع، وقبل إقرارها نص عليه، بخلاف ما لو أقرت أنها بنت زيد من
النسب، أو الرضاع، ثم رجعت وكذبت نفسها، لا يقبل رجوعها، ولو زوجت وهي
ممن يعتبر رضاها، فقالت: لم أرض بعقد النكاح، ثم رجعت فقالت: رضيت
وكنت نسيته، فهل يقبل رجوعها أم لا ولا تحل إلا بعقد جديد؟ وجهان: المنصوص
الثاني، نقله القاضي أبو الطيب، ورجح الغزالي الأول.
201

فرع طلقها طلقة أو طلقتين، وقال: طلقتها بعد الدخول، فلي الرجعة،
فأنكرت الدخول، فالقول قولها بيمينها. فإذا حلفت، فلا رجعة، ولا سكنى، ولا
نفقة، ولا عدة، ولها أن تتزوج في الحال، وليس له أن ينكح أختها، ولا أربعا
سواها، حتى يمضي زمن عدتها، ثم هو مقر لها بكمال المهر، وهي لا تدعي إلا
نصفه، فإن كانت قبضت الجميع، فليس له مطالبتها بشئ، وإن لم تقبضه، فليس
لها إلا أخذ النصف، فإذا أخذته ثم عادت واعترفت بالدخول، فهل لها أخذ النصف
الآخر، أم لا بد من إقرار مستأنف من الزوج؟ فيه وجهان حكاهما إبراهيم
المروذي. وفي شرح المفتاح لأبي منصور البغدادي: أنه لو كانت قبضت المهر
وهو عين، وامتنع الزوج من قبول النصف، فيقال له: إما أن تقبل النصف، وإما أن
تبرئها منه. ولو كانت العين المصدقة في يده، وامتنعت من أخذ الجميع، أخذه
الحاكم، وإن كان دينا في ذمته، قال لها: إما أن تبرئيه، وإما أن تقبليه.
فرع ادعت الدخول، فأنكر، فالقول قوله، فإذا حلف، فلا رجعة ولا نفقة، ولا
سكنى، وعليها العدة، فإن كذبت نفسها، لم تسقط العدة، وسواء
اختلفا في الدخول قبل الخلوة أم بعدها على المشهور، وحكينا في آخر فصل التعيين
قولا أن الخلوة ترجح جانب مدعي الدخول، فيكون القول قوله بيمينه.
فرع نص في الام أنه لو قال: أخبرتني بانقضاء العدة، ثم راجعها
مكذبا، لها ثم قالت: ما كانت عدتي انقضت وكذبت نفسها، فالرجعة صحيحة،
لأنه لم يقر بانقضاء العدة بل حكى عنها.
فرع قال المتولي: لو طلق زوجته الأمة، واختلفا في الرجعة، فحيث
قلنا: القول قوله إذا كانت حرة، فكذا هنا، وحيث قلنا: قول الزوجة، فهنا القول
قول السيد، وقال البغوي: القول قولها، ولا أثر لقول السيد.
قلت: واختار الشاشي ما ذكره المتولي، وهو قوي. والله أعلم.
202

كتاب الايلاء
فيه بابان.
الأول: في أركانه، وهي أربعة.
203

الأول: الحالف وله شروط.
الأول: كونه زوجا، فلو قال لأجنبية: والله لا أطؤك تمحض يمينا فلو
وطئها قبل النكاح أو بعده، لزمه كفارة يمين، ولا ينعقد الايلاء، حتى لو نكحها لا
تضرب المدة. وفي التتمة وجه أنه إذا نكحها، صار مؤليا، لأن اليمين باقية،
والضرر حاصل، والصحيح الأول. ولو قال: إن تزوجتك فوالله لا وطئتك، فهو
كتعليق الطلاق بالملك، ويصح الايلاء من الرجعية، ولا تحسب المدة عن الايلاء،
فإذا رجع، ضربت المدة.
الشرط الثاني: تصور الجماع، فمن جب ذكره، لا يصح إيلاؤه على
المذهب. ومن آلى ثم جب، لا يبطل إيلاؤه على المذهب. ولو شل ذكره، أو قطع
بعضه، وبقي دون قدر الحشفة، فهو كجب جميعه، والايلاء في الرتقاء،
والقرناء، كإيلاء المجبوب. قال ابن الصباغ: لكن إذا صححناه، لا تضرب مدة
الايلاء، لأن الامتناع تسبب من جهتها، كما لو آلى من صغيرة، لا تضرب المدة
حتى تدرك، وحكي قول قديم: أنه لا يصح الايلاء من الصغيرة والمريضة
المضناة.
الشرط الثالث: البلوغ والعقل.
فرع سواء في صحة الايلاء، العبد والأمة، والكافر وأضدادهم، ولا
ينحل الايلاء بإسلام الكافر، وإذا ترافع إلينا ذميان وقد آلى، فإن أوجبنا الحكم
بينهم، حكم بشرعنا، وإن لم نوجبه، لم يجبر الحاكم الزوج على الفيئة، ولا
الطلاق، ولم تطلق عليه، بل لا بد من رضاه، لأن الحكم على هذا القول إنما
يجوز برضاهما، فإذا لم يرضيا، رددناهما إلى حاكمهم.
فرع يصح إيلاء المريض والخصي، ومن بقي من ذكره قدر الحشفة،
205

والعربي بالعجمية، وعكسه، إذا عرف معنى اللفظ.
الركن الثاني: المحلوف به الامتناع من الوطئ بلا يمين، لا يثبت حكم
الايلاء، وسواء كان هناك عذر أم لا، وإذا حلف لا يطؤها أكثر من أربعة أشهر، ثم
طالبته بالوطئ بعد أربعة أشهر، فوطئ، لزمه كفارة اليمين على المذهب وهو
الجديد وأحد قولي القديم. والثاني: لا كفارة، لقول الله تعالى: * (فإن فاؤوا فإن
الله غفور رحيم) *. فإن وطئها قبل مضي المدة، فقيل: تجب الكفارة قطعا،
لأنه حنث باختياره من غير إلزام. وقيل: بطرد الخلاف، لأنه بادر إلى ما يطالب به.
ولو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر فما دونها، ثم وطئ، لزمه الكفارة قطعا، لأنه
ليس بمؤل، وقيل: بطرد الخلاف، وهو بعيد.
فصل هل يختص الايلاء باليمين بالله تعالى وصفاته؟ فيه قولان.
القديم: نعم. والجديد الأظهر: لا، بل إذا قال: إن وطئتك، فعلي صوم أو
صلاة أو حج، أو فعبدي حر، أو فأنت طالق، أو فضرتك طالق، أو نحو ذلك،
كان مؤليا، وشرط انعقاده بهذه الالتزامات أن يلزمه شئ لو وطئ بعد أربعة أشهر،
فلو كانت اليمين تنحل قبل مجاوزة أربعة أشهر، لم تنعقد. فلو قال: إن وطئتك،
فعلي أن أصلي هذا الشهر أو أصومه أو أصوم الشهر الفلاني، وهو ينقضي قبل
مجاوزة أربعة أشهر من حين اليمين، لم ينعقد الايلاء، فلو قال: إن وطئتك، فعلي
صوم شهر، أو الشهر الفلاني، وهو يتأخر عن أربعة أشهر، فهو مؤل، وكذا لو
قال: إن وطئتك، فعلي صوم الشهر الذي أطأ فيه، ويلزمه صوم بقية ذلك الشهر إن
أوجبنا في نذر اللجاج الوفاء بالملتزم. وفي قضاء اليوم الذي وطئ فيه، وجهان
مأخوذان من الخلاف، فيمن نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه زيد. ولو قال: فعلي
صوم هذه السنة، فهو مؤل إن بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، وإلا فلا. ولو
قال: إن وطئتك، فكل عبد يدخل في ملكي حر، فهو لغو، لأن تعليق العتق
بالملك لغو، وكذا لو قال: فعلي أن أطلقك، لأنه لا يلزمه بالوطئ شئ. ولو قال:
إن وطئتك، فأنت طالق إن دخلت الدار، أو فعبدي حر بعد سنة، فقال القاضي
حسين والبغوي: هو مؤل، وقال الشيخ أبو محمد والامام: هو على الخلاف فيما
206

إذا قال: إن أصبتك، فوالله لا أصبتك، فيكون الراجح أنه لا يكون مؤليا في
الحال، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهذا أوجه.
فرع في مسائل تتفرع على الجديد إحداها: قال: إن وطئتك،
فعبدي حر، فمات العبد أو أعتقه، انحل الايلاء، فإن زال ملكه ببيع أو هبة
ونحوهما، فكذلك، فإن ملكه بعد ذلك، ففي عود الايلاء قولا عود الحنث، ولو
دبره أو كاتبه، لم ينحل الايلاء، لأنه يعتق لو وطئها، وكذا لو علق بالوطئ عتق
جارية ثم استولدها.
الثانية: قال: إن وطئتك، فعبدي حر قبله بشهر، فإنما يصير مؤليا إذا مضى
شهر من وقت تلفظه، لأنه لو وطئها قبل تمام شهر، لم يعتق، وينحل الايلاء بذلك
الوطئ، فإذا مضى شهر ولم يطأ، ضربت مدة الايلاء، ويطالب في الشهر
الخامس، هكذا قالوه، ويجئ فيه وجه: أنه لو وطئ قبل الشهر، عتق كما سبق
في نظيره من الطلاق، فعلى هذا يصير مؤليا في الحال. فإذا قلنا بالصحيح، فوطئ
في مدة الايلاء أو بعد توجه المطالبة بالفيئة أو الطلاق، حكم بعتق العبد قبله بشهر،
وإن طلقها حين طولب، ثم راجعها، ضربت المدة مرة أخرى. وإن جدد نكاحها
بعد العدة، ففي عود الايلاء قولا عود الحنث، وإذا وطئها، حكم بعتق العبد قبله
بشهر بلا خلاف، وإن وقع الوطئ على صورة الزنا، ولو باع العبد في الشهر الرابع،
فإن وطئ قبل تمام شهر من وقت البيع، تبينا حصول العتق قبل البيع، وإن تم من
وقت البيع شهر ولم يطأ، ارتفع الايلاء، لأنه لو وطئ بعد ذلك، لم يحصل العتق
قبله بشهر لتقدم البيع على شهر، هكذا ذكره الجمهور. وحكى الفوراني والمتولي
وجها أنه يطالب بعد تمام أربعة أشهر من وقت اللفظ، لأنه ربما يطلقها، والطلاق لا
يستند.
الثالثة: قال: أو وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري، فإن كان قد ظاهر، صار
مؤليا، لأنه وإن لزمته كفارة الظهار، فعتق ذلك العبد بعينه، وتعجيل الاعتاق عن
الظهار زيادة التزمها بالوطئ، ثم إذا وطئ في مدة الايلاء أو بعدها، فهل يعتق العبد
عن الظهار؟ وجهان. أصحهما: نعم، وطرد الخلاف في سائر التعليقات،
كقوله: إن دخلت الدار، فأنت حر عن ظهاري، وأما إذا لم يكن ظاهر، فلا إيلاء
207

ولا ظهار فيما بينه وبين الله تعالى، ولكنه مقر على نفسه بالظهار، فيحكم في الظاهر
بأنه مظاهر ومؤل، ولا يقبل قوله: إن لم يكن مظاهرا، وإذا وطئ عاد في وقوع
العتق عن الظهار في الظاهر الوجهان. ولو قال: إن وطئتك، فعبدي حر عن ظهاري
إن ظاهرت، لم يكن مؤليا في الحال، فإن ظاهر، صار مؤليا، لأن العتق يحصل
حينئذ لو وطئ. وقيل: في كونه مؤليا في الحال قولان، لقربه من الحنث، كما لو
قال لنسوة: والله لا جامعتكن، والمذهب الأول. قال المتولي: ولو قال: إن
وطئتك، فعبدي حر إن ظاهرت، ولم يقل: عن ظهاري، كان مؤليا في الحال، فإذا
قلنا بالمذهب، وهو أنه لا يصير مؤليا إلا إذا ظاهر، فوطئ في مدة الايلاء أو
بعدها، حصل العتق لوجود الظهار، والوطئ متأخر عنه، ولا يقع هذا العتق عن
الظهار باتفاق الأصحاب، ولم لا يقع؟ قال أبو إسحاق: لأن تعليق العتق سبق
الظهار، والعتق لا يقع عن الظهار إلا بلفظ يوجد بعده. وقال ابن أبي هريرة: لأنه لا
يقع خالصا عن الظهار، لتأدي حق الحنث به، فأشبه عتق القريب بنية الكفارة،
والأول أصح عند الأصحاب، وبنوا على التعليلين ما لو قال: إن وطئتك، فعبدي
حر عن ظهاري إن ظاهرت، وكان ظاهر ونسي، فيكون مؤليا في الحال، وإذا
وطئ، عتق العبد عن الظهار على التعليل الأول دون الثاني.
فرع قال: إن وطئتك، فلله علي أن أعتق عبدي هذا عن ظهاري، وكان
ظاهر منها أو من غيرها ووجد العود، فهل يكون مؤليا؟ يبنى على أن من في ذمته
إعتاق رقبة فنذر على وجه التبرر أن يعتق العبد الفلاني عما هو عليه، هل يتعين ذلك
العبد أم لا؟ النص وقول الجمهور: يتعين، واختار المزني: أنه لا يتعين، وخرجه
على أصل الشافعي رحمه الله، وعد الامام هذا قولا في المذهب وقال: تخريجه
أولى من تخريج غيره. ونقل الامام أن القاضي حسينا قال: لو نذر صرف زكاته
208

إلى معينين من الأصناف، تعينوا، وأن الأكثرين قالوا: لا يتعينون، وفرقوا بقوة
العتق، فإن قلنا: يتعين العبد المعين للاعتاق، صار مؤليا في الحال، وإلا فلا
يكون مؤليا، فإن صححنا الايلاء، فطلق بعد المطالبة خرج عن موجب الايلاء،
وكفارة الظهار في ذمته، فيعتق عنها ذلك العبد أو غيره. وإن وطئ في مدة الايلاء أو
بعدها، لزمه ما يلزم في نذر اللجاج، فإن قلنا: كفارة يمين، نظر، إن أطعم أو
كسا، فعليه الاعتاق عن الظهار، وإن أعتقه أو عبدا اخر عن اليمين، فعليه أيضا
الاعتاق عن الظهار. وإن قلنا: عليه الوفاء بما سمى، أو خيرناه فاختار الوفاء وأعتق
ذلك العبد عن ظهاره، خرج عن عهدة اليمين. وفي إجزائه عن الظهار وجهان.
أصحهما: الاجزاء.
المسألة الرابعة: قال: إن وطئتك، فأنت طالق أو فأنت ثلاثا، فيطالب بعد
مضي المدة. وفيما يطالب به؟ وجهان، أحدهما وبه قال ابن خيران:
يطالب بالطلاق على التعيين، ويمنع الوطئ، والثاني وهو الصحيح المنصوص: يطالب
بالفيئة، أو الطلاق، ولا يمنع من الوطئ بتعليق الطلاق، ويقال له: عليك النزع
بمجرد تغييب الحشفة، فإن وطئ قبل المدة أو بعدها، ونزع بمجرد تغيب
الحشفة، فذاك، وإن مكث، فلا حد على الصحيح، لأن أول الوطئ مباح.
وحكى ابن القطان وغيره وجها، أنه يجب الحد إذا علم تحريمه، ولا يجب المهر
على المذهب، وفيه خلاف سبق في كتاب الصوم. وإن نزع ثم أولج، فلا حد إن
كانت رجعية، وحكم المهر كما سبق في الرجعية. وإن كان علق به الطلاق
الثلاث، فإن كانا جاهلين بالتحريم، بأن اعتقد أن الطلاق لا يقع إلا باستيعاب
209

الوطئ في المجلس، فلا حد للشبهة، ويجب المهر، ويثبت النسب والعدة. وإن
كانا عالمين بالتحريم، فوجهان. أصحهما: يجب الحد، ولا مهر ولا
نسب ولا عدة. والثاني: عكسه. وإن علم التحريم، وجهلته، فلا حد عليها ولها المهر،
وكذا لو علمت ولم تقدر على دفع الزوج، وفي وجوب الحد عليه الوجهان، وإن
جهل هو التحريم وعلمته وقدرت على الدفع، فالأصح أنه يلزمها الحد ولا مهر لها.
فرع قال لغير المدخول بها: إن وطئتك، فأنت طالق، وقع بالوطئ طلقة
رجعية، سواء قلنا: الطلاق المعلق بالصفة يقع بعدها أم معها.
المسألة الخامسة: قال: إن وطئتك، فضرتك طالق، فهو مؤل عن
المخاطب، ومعلق طلاق الضرة، فإن وطئ المخاطبة قبل مضي المدة أو بعدها،
طلقت الضرة، وانحل الايلاء، وإن طلقها بعد المطالبة ولم يطأها، سقطت
المطالبة ولم يطأها، وخرج عن موجب الايلاء، فإن راجعها بعد ذلك عاد حكم
الايلاء، وهذا حكم كل إيلاء كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وإن بانت فجدد
نكاحها، ففي عود الايلاء أقوال عود الحنث، وهذا يشمل كل إيلاء، فإن قلنا:
يعود، استؤنفت المدة من يوم النكاح، نص عليه القاضي أبو الطيب وغيره. وسواء
قلنا: يعود الايلاء أم لا، فطلاق الضرة يبقى معلقا بوطئ المخاطبة، حتى لو وطئ
المخاطبة بعد الرجعة أو التجديد، وقع بلا خلاف. وكذا لو وطئها وهي بائن
زانيا، ولا يعود الايلاء لو نكحها بعد ذلك لانحلال اليمين بوطئ الزنا.
ولو ماتت الضرة، انحل الايلاء، ولو طلقها، لم يرتفع الايلاء ولا المطالبة
ما دامت في عدة الرجعية، لأنه لو وطئ المخاطبة لطلقت، فإذا انقضت أو أبان
الضرة، ابتدأ بخلع أو استيفاء عدد أو طلاق قبل الدخول، ارتفع الايلاء وسقطت
المطالبة وإن كان ذلك بعد مضي مدة الايلاء، لأنه لو وطئها بعد ذلك، لم يقع عليه
طلاق. ثم إن وطئ المخاطبة، انحلت اليمين، ولا يعود إيلاؤها لو نكح الضرة،
وإن نكح الضرة قبل أن يطأها، فعلى الخلاف في عود الحنث، فإن قلنا: لا يعود،
لم يعد الايلاء، وإلا فيعود، وإذا أعدناه، فهل يستأنف المدة، أم يبني؟ وجهان،
210

اختار الامام والغزالي البناء، وقطع البغوي وغيره بالاستئناف، وهو أصح.
المسألة السادسة: قال لامرأتيه: إن وطئت إحداكما، فالأخرى طالق، فإما
أن يعين بقلبه واحدة، وإما لا، فإن عين، فهو مؤل منها وحدها، لكن الامر في
الظاهر مبهم، فيقال له بعد المدة: بين التي أردتها، فإن بين، فلها مطالبته بالفيئة
أو الطلاق، والقول قوله بيمينه، أنه لم يرد الأخرى، وإن لم يبين وطالبتاه
جميعا، قال له القاضي: فئ إلى التي آليت منها، أو طلقها، فإن امتنع، طلق
القاضي إحداهما على الابهام، تفريعا على أن القاضي يطلق على المؤلي إذا
امتنع، هكذا قاله ابن الحداد، واعترض عليه القفال، قال: لا يطلق القاضي
إحداهما مبهمة، لأنهما معترفتان بالاشكال، فدعواهما غير مسموعة، كما لو حضر
رجلان عند القاضي، وقال: لأحدنا على هذا ألف درهم، وزاد المتولي فقال: هذا
إذا جاءتا معا وادعتا كذلك، فلو انفردت كل واحدة، وقالت: آلى مني، فإن أقر بما
قالتا، أخذ بموجب إقراره، وإن كذب الأولى، تعين الايلاء في الثانية. وقال كثير
من الأصحاب: قول ابن الحداد صحيح، لحصول الضرر، فلا سبيل إلى إهمال
الواقعة، ولا إلى طلاق معينة، فعلى هذا، إذا طلق القاضي، فقال الزوج:
راجعت التي وقع عليها الطلاق، ففي صحة الرجعة وجهان سبقا في الرجعة،
وبالصحة أجاب ابن الحداد، فعلى هذا تضرب المدة مرة أخرى، ويطلق القاضي
211

مرة أخرى على الابهام، وهكذا إلى أن يستوفي الثلاث، والأصح أن الرجعة لا تصح
على الابهام، بل تبين المطلقة، ثم يراجعها إن شاء. فلو وطئ إحداهما قبل
البيان، قال الشيخ أبو علي: لا يحكم بطلاق الأخرى، لأنا لا ندري أن التي نواها
هي الموطوءة أم الأخرى، ويبقى الامر بالبيان كما كان. فإن قال: أردت الأخرى،
لم تطلق واحدة منهما، وتطالبه الأخرى بالفيئة أو الطلاق. فإن وطئها، طلقت
الموطوءة الأولى، وإن قال: أردت الايلاء من الموطوءة، طلقت الأخرى، وخرج
عن موجب الايلاء، هذا إذا عين بقلبه إحداهما، فإن لم ينو معينة، فالذي ذكره
الشيخ أبو علي والبغوي، أنه يكون مؤليا منهما جميعا، لأن أية واحدة وطئها طلقت
الأخرى، ولحقه الضرر. ويشبه أن يقال: تكون مؤليا من واحدة، ويؤمر بالتعيين.
كما في الطلاق، وسيأتي مثله إن شاء الله تعالى فيما لو قال لنسوة: لا جامعت
واحدة منكن، ولم ينو، ثم ذكر الشيخ أبو علي بناء على جوابه، أنه إذا طولب بالفيئة
أو الطلاق، فوطئ إحداهما، طلقت الأخرى وتخلص من الإيلائين، ولو طلق
إحداهما، لم يسقط حكم الايلاء في الثانية، لأن بالوطئ تنحل اليمين، ولا تنحل
بالطلاق. حتى لو وطئ التي لم يطلقها، وقعت طلقة أخرى على التي طلقها إذا
كانت في عدة الرجعة. ولو قال: كلما وطئت إحداكما، فالأخرى طالق، ووطئ
212

بعد المطالبة إحداهما، طلقت الأخرى وتخلص عن الايلاء في حق الموطوءة، ولا
يتخلص بالكلية في حق الأخرى وإن سقطت المطالبة في الحال بوقوع الطلاق، لان
اللفظ يقتضي التكرار، فإذا راجعها، عاد فيها الايلاء. وحكى ابن الصباغ كلام ابن
الحداد ثم قال: ومن الأصحاب من قال: يكون مؤليا منهما جميعا، قال: وهذا
أصح. ولم يفرق بين ما إذا عين واحدة بقلبه، وما إذا لم يعين، ولا وجه لكونه مؤليا
منهما مع تعيين واحدة بقلبه بحال.
المسألة السابعة: سبق أن المؤلي من علق بالوطئ مانعا منه، من حنث في
يمين، أو عتق أو طلاق ونحوها، فلو لم يتعلق الحنث بالوطئ، بل كان مقربا منه،
فقولان، المشهور وهو الجديد، وأخرى قولي القديم: لا يكون مؤليا. والثاني من
قولي القديم: يكون مؤليا، فإذا قال لأربع نسوة: والله لا أجامعكن، لم يحنث إلا
بجماعهن كلهن، وإذا وطئهن، لزمه كفارة واحدة، لأن اليمين واحدة. ولو مات
بعضهن قبل الوطئ، انحلت اليمين، لأنه تحقق امتناع الحنث، ولا نظر إلى تصور
الايلاج بعد الموت، فإن اسم الوطئ يقع مطلقة على ما في الحياة. وقيل: إن البر
والحنث، يتعلقان بوطئ الميتة. وأشار بعضهم إلى وجه فارق بين ما قبل الدفن
وبعده، ولا أثر لموت بعضهن بعد الوطئ، قال الامام: والذي أراه أن الوطئ في
الدبر كهو في القبل في حصول الحنث.
قلت: هذا الذي قاله الامام متفق عليه، صرح به جماعات من أصحابنا، وقد
نقله صاحب الحاوي والبيان عن الأصحاب في القاعدة التي قدمتها، أن
الأصحاب قالوا: الوطئ في الدبر كهو في القبل، إلا في سبعة أحكام أو خمسة،
ليست اليمين منها. والله أعلم.
213

ولو طلقهن أو بعضهن قبل الوطئ، لم تنحل اليمين، بل تجب الكفارة بالوطئ
بعد البينونة وإن كان زنا، هذا حكم اليمين، وأما الايلاء، ففيه طرق، المذهب
منها: لا يكون مؤليا في الحال، فإن وطئ ثلاثا منهن، صار مؤليا من الرابعة. وفي
قول: يكون مؤليا من الجميع في الحال. فعلى المذهب: لو مات بعضهن قبل
الوطئ، ارتفع حكم الايلاء على الصحيح، لحصول اليأس من الحنث. ولو مات
بعضهن بعد الوطئ، لم يرتفع، ولو طلق بعضهن قبل الوطئ أو بعده، فكذلك،
حتى لو أبان ثلاثا منهن ووطئهن في البينونة زانيا، صار مؤليا من الباقية. ولو أبان
واحدة قبل الوطئ، ووطئ الثلاث في النكاح، ثم نكح المطلقة، ففي عود الايلاء
قولا عود الحنث، وحكم اليمين باق قطعا، حتى لو وطئها، لزمه الكفارة. وإذا قلنا
بالضعيف: إنه مؤل في الحال، ضربنا المدة، ولجميعهن المطالبة بعد المدة. فإن
وطئهن أو طلقهن، تخلص من الايلاء، وإن وطئ بعضهن، ارتفع الايلاء في حق
من وطئها، ولا يرتفع في حق المطلقة، بل إذا راجعها ضربت المدة ثانيا.
فرع قال للنسوة الأربع: والله لا أجامع كل واحدة منكن، قال
الأصحاب: يكون مؤليا من كل واحدة، ويتعلق بوطئ كل واحدة الحنث ولزوم
الكفارة، قالوا: تضرب المدة في الحال، فإذا مضت، فلكل واحدة المطالبة
بالفيئة أو الطلاق، فإن طلقهن، سقطت المطالبة، فإن راجعهن، ضربت المدة
ثانيا، وإن طلق بعضهن، فالباقيات على مطالبتهن. وإن وطئ إحداهن، انحلت
اليمين في حق الباقيات، وارتفع الايلاء فيهن على الأصح عند الأكثرين. وقيل: لا
تنحل ولا ترتفع، وجعلوا على هذا الخلاف ما لو قال: والله لا كلمت واحدا من
214

هذين الرجلين ونظائره، هذا كلام الأصحاب، ولك أن تقول: إن أراد بقوله: لا
أجامع كل واحدة تخصيص كل واحدة بالإيلاء على وجه لا يتعلق بصواحبها، فالوجه
بقاء الايلاء في الباقيات، وإلا فينبغي أن يكون حكم هذه الصورة حكم قوله: والله
لا أجامعكن على ما سبق.
فرع قال: والله لا أجامع واحدة منكن، فله ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يريد الامتناع عن كل واحدة، فيكون مؤليا منهن كلهن، ولهن
المطالبة بعد المدة، فإن طلق بعضهن، بقي الايلاء في حق الباقيات، وإن وطئ
بعضهن، حصل الحنث، لأنه خالف قوله: لا أطأ واحدة منكن، وتنحل اليمين،
ويرتفع الايلاء في حق الباقيات.
الحال الثاني: أن يقول: أردت الامتناع عن واحدة منهن لا غير، فيقبل
قوله، لاحتمال اللفظ. وقال الشيخ أبو حامد: لا يقبل، للتهمة، والصحيح
الأول، ثم قد يريد معينة، وقد يريد مبهمة، فإن أراد معينة، فهو مؤل منها، ويؤمر
بالبيان كما في الطلاق، فإذا بين، وصدقه الباقيات، فذاك، فإن ادعت غير المعينة
أنه أرادها، وأنكر، صدق بيمينه، فإن نكل، حلفت المدعية، وحكم بأنه مؤل
منها أيضا، فلو أقر في جواب الثانية أنه نواها، وأخذناه بموجب الاقرارين، وطالبناه
بالفيئة أو الطلاق، ولا يقبل رجوعه عن الأولى، وإذا وطئهما في صورة إقراره،
تعددت الكفارة، وإن وطئهما في صورة نكوله ويمين المدعية لم تتعدد الكفارة، لان
يمينها لا تصلح لالزامه الكفارة.
ولو ادعت واحدة أولا، أنك أردتني، فقال: ما أردتك أو ما آليت منك،
وأجاب بمثله الثانية والثالثة، تعينت الرابعة للايلاء، وإن أراد واحدة مبهمة، أمر
بالتعيين.
وقال السرخسي: ويكون مؤليا من إحداهن لا على التعيين، فإذا عين
واحدة، لم يكن لغيرها المنازعة، ويكون ابتداء المدة من وقت اليمين، أم من وقت
التعيين؟ وجهان بناء على الخلاف في الطلاق المبهم إذا عينه، هل يقع من اللفظ أم
من التعيين؟ وإن لم يعين، ومضت أربعة أشهر فقالوا: تطالب إذا طلبن بالفيئة أو
الطلاق، وإنما يعتبر طلبهن كلهن ليكون طلب المؤلي منها حاصلا، فإن امتنع،
215

طلق القاضي واحدة على الابهام، ومنع منهن إلى أن يعين المطلقة، وإن فاء إلى
واحدة أو ثنتين، أو ثلاث، أو طلق، لم يخرج عن موجب الايلاء. وإن قال:
طلقت التي آليت منها، خرج عن موجب الايلاء، لكن المطلقة مبهمة، فعليه
التعيين، هذا هو المذهب في الحال الذي نحن فيه، ووراءه شيئان. أحدهما: قال
المتولي: إذا قال: أردت مبهمة، قال عامة الأصحاب: تضرب المدة في حق
الجميع، فإذا مضت، ضيق الامر عليه في حق من طالب منهن، لأنه ما من امرأة إلا
ويجوز أن يعين الايلاء فيها، وظاهر هذا أنه مؤل من جميعهن، وهو بعيد. الثاني:
حكى الغزالي وجها، أنه لا يكون مؤليا من واحدة منهن، حتى يبين إن أراد معينة،
أو يعين إن أراد مبهمة، لأن قصد الاضرار حينئذ يتحقق. وحكى الامام هذا الوجه
عن الشيخ أبي علي على غير هذه الصورة، فقال: روى وجها: أنه إذا قال: أردت
واحدة، لا يؤمر بالبيان، ولا بالتعيين، بخلاف إبهام الطلاق، لأن المطلقة خارجة
عن النكاح، فإمساكها منكر، بخلاف الايلاء.
الحال الثالث: أن يطلق اللفظ، فلا ينوي تعميما ولا تخصيصا، فهل يحمل
على التعميم، أم على التخصيص بواحدة؟ وجهان. أصحهما: الأول، وبه قطع
البغوي وغيره.
المسألة الثامنة: قال: والله لا أجامعك سنة إلا مرة، فقولان، أظهرهما وهو
الجديد، وأحد قولي القديم: لا يكون مؤليا في الحال، لأنه لا يلزمه بالوطئ الأول
شئ، فإن وطئها، نظر، إن بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر، فهو مؤل من
يومئذ، وإن بقي أربعة فأقل، فهو حالف وليس بمؤل، والقول الثاني: يكون مؤليا
في الحال، فيطالب به بعد مضي المدة. فإن وطئ، فلا شئ عليه، لأن الوطأة
الأولى مستثناة، وتضرب المدة ثانيا إن بقي من السنة مدة الايلاء، وعلى هذا القياس
لو قال: لا أجامعك إلا عشر مرات، أو عددا آخر، فعلى الأظهر: لا يكون مؤليا في
الحال، وإنما يكون مؤليا إذا وطئ ذلك العدد وبقي من السنة مدة الايلاء، وعلى
الضعيف: يكون مؤليا في الحال، ولو قال: إن أصبتك، فوالله لا أصبتك، فقيل:
بإجراء القولين في كونه مؤليا في الحال، والمذهب: القطع بالمنع.
والفرق أن هناك عقد اليمين في الحال، واستثنى وطأة، وهنا اليمين غير
216

منعقد في الحال، وإنما ينعقد إذا أصابها، وإثبات الايلاء قبل اليمين ممتنع، ويجري
الخلاف فيما لو قال: إن وطئتك، فوالله لا دخلت الدار. ولو قال: والله لا أجامعك
سنة إلا يوما، فهو كقوله: إلا مرة. ولو قال: لا أجامعك في السنة إلا مرة،
فتعريف السنة بالألف واللام يقتضي السنة العربية التي هو فيها، فإن بقي منها مدة
الايلاء، ففيه القولان، كما لو قال: سنة، وإلا فلا إيلاء قطعا.
فرع قال: لا أجامعك سنة إلا مرة، فمضت سنة ولم يطأ، فهل تلزمه
كفارة لاقتضاء اللفظ الوطئ، أم لا، لأن المقصود منع الزيادة؟ وجهان
حكاهما ابن كج. قلت: أصحهما: لا كفارة. والله أعلم.
فلو وطئ في هذه الصورة، ونزع، ثم أولج ثانيا، لزمه كفارة بالايلاج
الثاني، لأنه وطئ جديد، هذا هو الصحيح، وفي وجه: لا كفارة، لأنه وطئ واحد
عند أهل العرف.
فصل قال: والله لا جامعتك، ثم قال لضرتها: أشركتك معها، أو أنت
شريكتها أو مثلها، ونوى الايلاء، لم يصر مؤليا من الثانية، لأن اليمين إنما تكون
باسم الله تعالى أو صفته، حتى لو قال به: لأفعلن كذا، وقال: أردت بالله تعالى،
لم ينعقد يمينه، ولو ظاهر منها ثم قال للضرة: أشركتك معها، صار مظاهرا من
الثانية أيضا على الأصح. وإن آلى منها بالتزام طلاق أو عتاق، وقال للضرة:
أشركتك معها، سألناه، فإن قال: أردت أن الأولى لا تطلق إلا إذا أصبت الثانية مع
إصابة الأولى وجعلتها شريكتها في كون إصابتها شرطا لطلاق الأولى، لم يقبل. وإذا
وطئ الأولى، طلقت، وإن قال: أردت أني إذا أصبت الأولى طلقت الثانية أيضا،
قبل، لأن الطلاق يقع بالكناية، فإذا وطئ الأولى، طلقتا، وفي الحالتين لا يكون
217

مؤليا من الثانية. وإن قال: أردت تعليق طلاق الثانية بوطئها بنفسها، كما علقت
طلاق الأولى بوطئها، ففي صحة هذا التشريك وجهان. أصحهما: الصحة، وبه
قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب وغيرهما، فعلى هذا، يكون مؤليا من
الثانية، إذا قلنا: ينعقد الايلاء بغير اسم الله تعالى، ويجري هذا التفصيل، فيما لو
علق طلاق امرأة بدخول الدار وسائر الصفات، ثم قال لأخرى: أشركتك معها، ولو
قال: إن دخلت الدار، فأنت طالق، لا بل هذه، وأشار إلى امرأة أخرى، فإن قصد
أن يطلق الثانية إذا دخلت الأولى الدار، طلقتا جميعا بدخول الأولى، سواء قصد
ضم الثانية إلى الأولى، أو قصد طلاق الثانية عند دخول الأولى. وإن قال: أردت
تعليق طلاق الثانية بدخول نفسها، ففي قبوله وجهان، كما ذكرنا في لفظ الاشراك
في اليمين. واختار القفال منهما: أنه لا يقبل، ويحمل على تعليق طلاقها بدخول
الأولى، حتى إذا دخلت، طلقتا جميعا. قال: ولو علق طلاق واحدة بدخول
الدار، وقال لأخرى: أشركتك معها، وقلنا: لا يصح التشريك، لم تطلق بدخول
الدار.
فرع قال رجل لآخر: يميني في يمينك، قال البغوي وغيره: إن أراد أنه
إذا حلف الآخر صرت حالفا، لم يصر حالفا بحلف الآخر، سواء حلف بالله تعالى
أم بالطلاق. وإن كان الآخر قد طلق زوجته، أو حنث في يمين الطلاق، فقال:
أردت أن امرأتي طالق كامرأته، طلقت: وإن أراد متى طلق امرأته طلقت امرأتي،
فإذا طلق الآخر، طلقت هذه.
فصل ذكرنا في كتاب الطلاق، أنه إذا قال: أنت علي حرام، ونوى
الطلاق، أو الظهار، وقع ما نوى، وأنه لو نوى تحريم عينها، لزمه كفارة يمين. وأن
الصحيح وجوب تلك الكفارة في الحال. وفي وجه: إنما يجب إذا وطئها، وأنه
على هذا الوجه يكون مؤليا، وأنه لو قال: أردت به الامتناع من الوطئ، ففي قبوله
وجهان. أحدهما: يكون مؤليا في الحال، وأصحهما: لا يكون مؤليا، لأن اليمين
بالله تعالى لا تنعقد إلا باسم معظم، فعلى هذا يلزمه الكفارة في الحال إذا قلنا: إن
مطلق هذه اللفظة يوجبها. ولو قال: أردت بقولي: أنت علي حرام إن وطئتك،
فأنت علي حرام، لم يقبل منه على المذهب، وبه قطع الجمهور، لأنه يريد تأخير
الكفارة، وهذا اللفظ يقتضي وجوبها في الحال. وفي التتمة أنه مبني على أن
218

للامام أن يأمره بإخراج الكفارة، فأما إن قلنا: ليس له الامر بإخراج الكفارة، فلا
يتعرض له. ورأي صاحب الشامل والتتمة، أن يؤاخذ بموجب الايلاء لاقراره
بأنه مؤل.
فرع قال: إن جامعتك، فأنت علي حرام، فإن أراد الطلاق أو الظهار،
كان مؤليا إذا فرعنا على الجديد، وإن أراد تحريم عينها، أو طلق وقلنا: مطلقه
يوجب الكفارة، فمؤل، وإن قلنا: لا يوجبها، فلا.
فصل الايلاء يقبل التعليق، فإذا قال: إن دخلت الدار، فوالله لا
أجامعك، صار مؤليا عند دخول الدار. ولو قال: والله لا أجامعك إن شئت، وأراد
تعليق الايلاء بمشيئتها، اشترط في كونه مؤليا مشيئتها، وتعتبر مشيئتها على الفور
على الأصح، كما يعتبر في الطلاق على الفور على المذهب، وإنما اختلف
الترجيح، لأن الطلاق في معنى التمليك، فتأكد اشتراط الفور كالبيع، ولو علق
لا على سبيل خطابها، بأن قال: والله لا أجامع زوجتي إن شاءت، أو قال لأجنبي:
والله لا أجامع زوجتي إن شئت، لم يعتبر الفور على الأصح. ولو قال: إن شاء
فلان، أو قال لها: متى شئت، لم يعتبر الفور قطعا، وكل هذا كما سبق في
الطلاق. فأما إذا أراد تعليق فعل الوطئ بمشيئتها، كأنه قال: لا أجامعك إن شئت
أن لا أجامعك، فلا يكون مؤليا، كما لو قال: لا أجامعك إلا برضاك، لأنها متى
رغبت فوطئها لا يلزمه شئ.
قال الامام: ولو قال: لا أجامعك متى شئت، وأراد أني أجامعك إذا أردت
أنا، لم يكن مؤليا، لأنه تصريح بمقتضى الشرع، قال: فإن أطلق، ففي تنزيله
على تعليق الايلاء وجهان. ولو قال: لا أجامعك إلا أن تشائي، أو ما لم تشائي،
وأراد الاستثناء عن اليمين، أو تعليقها، ففي التهذيب وغيره، أنه يكون مؤليا،
لأنه حلف وعلق رفع اليمين بالمشيئة. فإن شاءت أن يجامعها على الفور، ارتفع
الايلاء، وإن لم تشأ أو شاءت بعد وقت المشيئة، فالايلاء بحاله، وكذا الحكم لو
قال: لا أجامعك حتى يشاء زيد، فإن شاء أن يجامعها قبل مدة الايلاء أو بعدها،
ارتفعت اليمين، وإن لم يشأ المجامعة حتى مضت مدة الايلاء، سواء شاء أن لا
يجامعها، أم لم يشأ شيئا، فهل يكون مؤليا لحصول الاضرار في المدة؟ فيه وجهان
219

سيأتيان إن شاء الله تعالى في نظائرها. وإن مات زيد قبل المشيئة، صار مؤليا، ثم
إن قلنا: في حال حياته إذا مضت المدة بلا مشيئة يجعل مؤليا، فهنا تحسب المدة
من وقت اللفظ، فإن مات زيد بعد تمامها، توجهت المطالبة في الحلال. وإن قلنا
هناك: لا يجعل مؤليا، ضربت المدة من وقت الموت. ولو قال: لا أجامعك إن
شئت أن أجامعك، فإنما يصير مؤليا إذا شاءت أن يجامعها. وفي اعتبار الفور، ما
سبق، وإذا أطلق قوله: إن شئت، حملناه على عدم مشيئته المجامعة، كما
سبق، لأنه السابق إلى الفهم.
فصل سواء في الايلاء حالة الرضى والغضب.
فصل قال: إن وطئتك فأنا زان، أو فأنت زانية، لم يكن مؤليا، ولا يصير
بوطئها قاذفا. قال السرخسي: ويلزمه التعزير، كما لو قال: المسلمون كلهم زناة،
ولزوم التعزير لا يجعله مؤليا، لأنه يتعلق بنفس اللفظ.
الركن الثالث: المدة، فإن حلف على الامتناع أبدا، أو أطلق، فهو مؤل،
وإن قيد بزمان، فهو قسمان.
أحدهما: أن يقدر الزمان، فإن كان أربعة أشهر فما دونها، فليس بمؤل،
والذي جرى منه يمين أو تعليق كما يجري في سائر الأفعال، وإن كان أكثر من أربعة
أشهر، كان مؤليا. قال الامام: ويكفي في كونه مؤليا أن يزيد على أربعة أشهر أقل
قليل، ولا يعتبر أن تكون الزيادة بحيث تتأتى بالمطالبة في مثلها. فإذا كانت الزيادة
لحظة لطيفة، لم تتأت المطالبة لأنها إذا مضت تنحل اليمين، ولا مطالبة بعد انحلال
اليمين. وفائدة كونه مؤليا في هذه الصورة، أنه يأثم لايذائها، وقطع طمعها في
الوطئ في المدة المذكورة. ولو حلف لا يجامعها أربعة أشهر، ثم أعاد اليمين بعد
مضي تلك المدة، وهكذا مرات، فلا يكون مؤليا قطعا. ولو وصل اليمين فقال:
والله لا أجامعك أربعة أشهر، فإذا مضت فوالله لا أجامعك أربعة أشهر، وهكذا
مرارا، فليس بمؤل على الأصح. قال الامام: وهل يأثم الموالي بين هذه الايمان
كما ذكرنا، فيما إذا زادت اليمين على أربعة أشهر بلحظة لطيفة، يحتمل أن لا يأثم
لعدم الايلاء، ويحتمل أن يأثم إثم الايذاء والاضرار، لا إثم المؤلين.
قلت: الراجح تأثيمه. والله أعلم.
220

فرع قال: والله لا أجامعك خمسة أشهر، فإذا مضت، فوالله لا أجامعك
سنة، فلها المطالبة بعد مضي أربعة أشهر بموجب اليمين الأولى، فإن أخرت
المطالبة حتى يمضي الشهر الخامس، فلا مطالبة بموجب تلك اليمين، لانحلالها،
وإن طالبته في الخامس، ففاء إليها، خرج عن موجب الايلاء الأول، فإذا مضى
الخامس، استحقت مدة الايلاء الثاني. وإن طلق، سقطت عنه المطالبة في
الحال، فإن راجعها في الشهر الخامس، لم تضرب المدة في الحال، لأن الباقي
من مدة اليمين الأولى قليل، فإذا انقضى الخامس، ضربت المدة للايلاء الثاني.
ولو وطئها بعد الرجعة في باقي الشهر، انحلت اليمين وتلزمه الكفارة على المذهب،
وإن قلنا: إن المؤلي إذا فاء لا كفارة عليه. وإن راجعها بعد الشهر الخامس، نظر،
إن راجع بعد سنة من مضي الخامس، فلا إيلاء، لانقضاء المدتين وانحلال
اليمين، وإن راجع قبل تمام السنة، فإن بقي أربعة أشهر فأقل، فلا إيلاء، وإن بقي
أكثر، عاد الايلاء، وضربت المدة في الحال. ولو جدد نكاحها بعد البينونة، ففي
عود الايلاء حنث يعود لو راجعها، خلاف عود الحنث، وتبقى اليمين ما بقي شئ
من المدة، وإن لم يعد الايلاء، حتى لو راجع، وقد بقي من السنة أقل من أربعة
أشهر، فوطئها في تلك البقية، لزمه الكفارة، ولو عقد اليمين على مدتين تدخل
إحداهما في الأخرى بأن قال: والله لا أجامعك خمسة أشهر، ثم قال: والله لا
أجامعك سنة، فإذا مضت أربعة أشهر، فلها المطالبة، فإن فاء انحلت اليمينان،
وإذا أوجبنا الكفارة، فالواجب كفارة، أم كفارتان؟ فيه خلاف يجري في كل يمينين
يحنث الحالف فيهما بفعل واحد، بأن حلف لا يأكل خبزا، وحلف لا يأكل طعام
زيد، فأكل خبزه، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وإن طلقها ثم راجعها، أو جدد
نكاحها، فإن بقي من السنة أربعة أشهر أو أقل، لم يعد الايلاء، وتبقى اليمين.
وإن بقي أكثر من أربعة أشهر، عاد الايلاء في الرجعية، وفي التجديد خلاف عود
الحنث، هذا هو الصحيح المعروف في المذهب. وفي التتمة أن السنة تحسب
بعد انقضاء الأشهر الخمسة، فيكون كالصورة السابقة، ولو قال: إذا مضت خمسة
أشهر، فوالله لا أجامعك، كان مؤليا بعد مضي الخمسة.
القسم الثاني: أن يقيد الامتناع عن الوطئ بمستقبل لا يتعين وقته، فينظر، إن
كان المعلق به مستحيلا، كقوله: حتى تصعدي السماء، أو تطيري، أو كان أمرا
221

يستبعد في الاعتقادات حصوله في أربعة أشهر، وإن كان محتملا كقوله: حتى ينزل
عيسى ابن مريم (ص). أو حتى يخرج الدجال، أو يأجوج ومأجوج، أو تطلع
الشمس من مغربها، أو بأمر يعلم تأخره عن أربعة أشهر، كقوله: حتى يقدم فلان،
أو أدخل مكة والمسافة بعيدة لا تقطع، في أربعة أشهر، فهو مؤل. فلو قال في
مسألة القدوم: ظننت المسافة قريبة، فهل يصدق بيمينه؟ ذكر فيه الامام احتمالين،
والأقرب تصديقه. وفي شرح مختصر الجويني للموفق بن طاهر، أن في التعليق
بنزول عيسى ابن مريم (ص)، وما في معناه، لا يقطع بكونه مؤليا في الحال، ولكن
ينتظر، فإذا مضت أربعة أشهر، ولم يوجد المعلق به تبينا أنه كان مؤليا ومكناها من
المطالبة، والصحيح المعروف الأول، وإن كان المعلق به مما يتحقق وجوده قبل
أربعة أشهر، كذبول البقل وجفاف الثوب، وتمام الشهر، أو يظن، كمجئ المطر
في وقت غلبة الأمطار، ومجئ زيد من القرية، وعادته المجئ للجمعة، أو مجئ
القافلة وعادتها غالبا المجئ كل شهر، فليس بإيلاء، وإنما هو عقد يمين، فإن كان
المعلق به مما لا يستبعد حصوله في أربعة أشهر، ولا يظن، كقوله: حتى يدخل زيد
الدار، أو أمرض، أو يمرض فلان، أو يقدم وهو على مسافة قريبة، وقد تقدم،
وقد لا يحكم بكونه مؤليا في الحال، فإن مضت أربعة أشهر، ولم يوجد المعلق به، فوجهان، أحدهما: ثبت الايلاء، وتطالبه، لحصول الضرر، وتبين طول المدة،
وأصحهما: لا، لأنه لم يتحقق قصد المضارة أولا، وأحكام الايلاء منوطة به لا
بمجرد الضرر بالامتناع من الوطئ، ولهذا لو امتنع بلا يمين، لم يكن مؤليا. ولو
وطئ قبل وجود المعلق به، وجبت الكفارة بلا خلاف، ولو وجد المعلق به قبل الوطئ، ارتفعت اليمين بلا خلاف.
فرع قال: لا أجامعك حتى أموت، أو تموتي، أو قال: عمري أو
عمرك، فهو مؤل لحصول اليأس مدة العمر. ولو قال: حتى يموت فلان، فمؤل
222

على الأصح عند الأكثرين.
فرع قال: لا أجامعك حتى تفطمي ولدك، نقل المزني أن الشافعي رحمه
الله قال: يكون مؤليا، قال: وقال في موضع آخر: لا يكون مؤليا، واختاره،
فأوهم أن في المسألة قولين، وبه قال ابن القطان. وقال الجمهور: لا خلاف في
المسألة، ولكن ينظر إن أراد وقت الفطام، فإن بقي أكثر من أربعة أشهر إلى تمام
الحولين، فمؤل، وإلا فلا، وإن أراد فعل الفطام، فإن كان الصبي لا يحتمله إلا
بعد أربعة أشهر لصغر أو ضعف بنية، فمؤل، وإن كان يحتمله لأربعة أشهر فما
دونها، فهو كالتعليق بدخول الدار ونحوه، والنصان محمولان على الحالين.
فرع قال: لا أجامعك حتى تحبلي، فإن كانت صغيرة أو آيسة، فهو
مؤل، وإلا فكالتعليق بالقدوم من مسافة قريبة ودخول الدار.
فرع إذا علق بالقدوم أو الفطام، ولم يحكم بكونه مؤليا، فمات المعلق
بقدومه قبل القدوم، أو الصبي قبل الفطام، فهو كقوله: حتى يشاء فلان فمات قبل
المشيئة، وقد ذكرناه.
فرع قال: والله لا أجامعك، ثم قال: أرد ت شهرا، دين، ولم يقبل
ظاهرا.
الركن الرابع: المحلوف عليه، وهو ترك الجماع، فالحلف بالامتناع عن
سائر الاستمتاعات، ليس بإيلاء، والألفاظ المستعملة في الجماع ضربان،
صريح، وكناية، فمن الصريح لفظ النيك، وقوله: لا أغيب في فرجك ذكري، أو
حشفتي، أو لا أدخل، أو أولج ذكري في فرجك، أو أجامعك بذكري،
وللبكر: لا أفتضك بذكري. فلو قال في شئ من هذا أردت غير الجماع، لم
223

يدين، لأنه لا يحتمل غيره، ولفظ الجماع والوطئ أيضا صريحان، لكن لو قال:
أردت بالجماع الاجتماع، وبالوطئ الوطئ بالقدم، دين، وقيل: إنهما كنايتان،
وهو شاذ مردود. ولو قال للبكر: لا أفتضك ولم يقل: بذكري، فهو صريح،
فإن قال: لم أرد الجماع، لم يقبل ظاهرا وهل يدين؟ وجهان. الأصح: نعم.
قال الامام: ولو قال: أردت به الضم والالتزام، لم يدين على الأصح
والمباشرة، والمضاجعة، والملامسة، والمس، والافضاء، والمباعلة،
والافتراش، والدخول بها، والمضي إليها، كنايات على الجديد، وصرائح في
القديم، والغشيان، والقربان، والآتيان عند الجمهور على القولين. وقيل: كنايات
قطعا. والإصابة صريح عند الجمهور. وقيل: على القولين. وقوله: لا يجمع
رأسي ورأسك وساد، أو لا يجتمعان تحت سقف كناية قطعا. وقوله: لأبعدن
عنك، كناية، ويشترط فيه نية الجماع والمدة جميعا، ومثله قوله: لأسوءنك،
ولأغيظنك، أو لتطولن غيبتي عنك، فهو كناية في الجماع والمدة. ولو قال:
ليطولن تركي لجماعك، أو لأسوءنك في الجماع، فهو صريح في الجماع كناية في
المدة. ولو قال: لا أغتسل عنك، سألناه؟ فإن قال: أردت لا أجامعها، فمؤل،
وإن قال: أردت الامتناع من الغسل، أو أردت أني لا أمكث حتى أنزل، واعتقد أن
الجماع بلا إنزال لا يوجب الغسل. أو أني أقدم على وطئها وطئ غيرها فيكون الغسل
عن الأولى لحصول الجنابة بها، قبلناه، ولم يكن مؤليا. ولو قال: لا أجامعك في
الحيض أو النفاس، أو الدبر، فليس بمؤل، بل هو محسن. ولو قال: لا أجامعك
إلا في الدبر، فمؤل، ولو قال: لا أجامعك إلا في الحيض أو النفاس، قال
السرخسي: لا يكون مؤليا، لأنه لو جامع فيه حصلت الفتنة. وقال البغوي في
الفتاوي: هو مؤل، وكذا لو قال: إلا في نهار رمضان، أو إلا في المسجد. ولو
224

قال: لا جامعتك جماع سوء، فليس بمؤل، كما لو قال: لا جامعتك في هذا
البيت، أو لا جامعتك من القبل. ولو قال: لا أجامعك إلا جماع سوء، فإن أراد:
لا أجامعها إلا في الدبر، أو فيما دون الفرج، أو لا أغيب جميع الحشفة، فمؤل،
وإن أراد الجماع الضعيف، فليس بمؤل، ولو حلف لا يجامع بعضها، فكما سيأتي
في الظهار إن شاء الله تعالى.
الباب الثاني في أحكام الايلاء
وفيه أربعة أطراف.
الأول: في ضرب المدة، فالايلاء يقتضي ضرب المدة وهي أربعة أشهر بنص
القرآن الكريم، وهي حق للزوج، كالأجل حق للمدين، وتحسب من وقت
الايلاء، ولا يحتاج إلى ضرب القاضي، وسواء كان الزوجان حرين، أو رقيقين، أو
حرا ورقيقا.
فصل فيما يمنع احتساب المدة ابتداء أو دواما قد سبق أنه إذا آلى من
رجعية، صح، وتحسب المدة من وقت الرجعة، لا من وقت اليمين، ولو آلى من
زوجته ثم طلقها رجعيا، انقضت المدة لجريانها إلى البينونة، فلو راجعها استؤنفت
المدة، لأن الاضرار إنما يحصل بالامتناع المتوالي في نكاح سليم، وحكى المتولي
وجها أنه يبنى عليها تخريجا مما إذا راجع المطلقة ثم طلقها قبل وطئ، فإنها تبنى
على قول. ولو ارتد أحدهما بعد الدخول في المدة، انقطعت المدة، ولا يحتسب
زمان الردة منها، لأنها تؤثر في قطع النكاح كالطلاق، فإذا أسلم المرتد منهما،
استؤنفت المدة، هذا هو المذهب، وبه قطع الجماهير.
وفي ردة الزوج وجه أنه إذا أسلم، يبني، وفي وجه حكاه السرخسي، أن ردته
لا تمنع الاحتساب، كمرضه وسائر الاعذار.
ولو وجد النكاح بعد أن بانت الرجعية، أو كان الطلاق بائنا، أو بعد البينونة
بالردة والاضرار، أو بردة قبل الدخول، وقلنا: يعود الايلاء، استؤنفت المدة.
ولو طلقها بعد مدة الايلاء طلقة رجعية بمطالبتها، أو ابتداء ثم راجعها، عاد
الايلاء، وتستأنف المدة إن كانت اليمين على التأبيد، أو كانت مؤقتة وقد بقي من
225

وقت اليمين مدة الايلاء.
ولو ارتد أحد الزوجين بعد مضي المدة، ثم أسلم قبل انقضاء العدة، عاد
الايلاء، وتستأنف المدة أيضا، وألحق البغوي العدة عن وطئ الشبهة بالطلاق
226

بالرجعي، وبالردة في منع الاحتساب ووجوب الاستئناف عند انقضائها.
فرع ما يمنع الوطئ من غيره، أن يحل بملك النكاح، إن وجد في
الزوج، لم يمنع احتساب المدة، بل تضرب المدة مع اقتران المانع بالايلاء.
ولو طرأ في المدة، لم يقطعها، بل تطالب بالفيئة بعد أربعة أشهر إذا كان العذر إيلاء
يوم المطالبة، وسواء في ذلك المانع الشرعي، كالصوم، والاعتكاف، والاحرام،
والحسي، كالمرض، والحبس، والجنون، وإن كان المانع فيها، فقد يكون حسيا
وشرعيا، فالحسي، كالنشوز والصغر الذي لا يحتمل معه الوطئ، والمرض المضني
المانع من الوطئ، فإن قارن ابتداء الايلاء، لم تبتدئ المدة حتى تزول، وإن طرأ
في المدة، قطعها، هذا هو المذهب في الطرفين، وحكى المزني قولا في حبسه:
أنه يمنع احتساب المدة، فغلطه جمهور الأصحاب في النقل، وصدقه بعضهم،
وحمله على ما إذا حبسته هي. وقيل: هو محمول على ما إذا حبس ظلما، وحق
هذا القائل، أن يطرده في المرض، وما لا يتعلق باختياره من الموانع، وقد مال الإمام
إلى هذا فقال: كان يحتمل أن يصدق المزني في النقل، ويقال فيه وفي نص
المرض: إنهما على قولين بالنقل والتخريج. وعن صاحب التقريب أن البويطي
حكى قولا أن الموانع الطارئة فيها لا تمنع الاحتساب لحصول قصد المضارة ابتداء.
فإذا قلنا بالمذهب، فطرأ فيها مانع في المدة، ثم زال، استأنفت المدة على
الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور. وقيل: تبني. ولو طرأت هذه الموانع
بعد تمام المدة، وقبل المطالبة، وزالت بعد، فلها المطالبة، ولا تفتقر إلى
227

استئناف المدة، لأنه وجدت المضارة في المدة على التوالي، وقيل: تستأنف وهو
غلط، نسبه الامام إلى بعض الضعفة، وجنونها يمنع احتساب المدة إن كانت تمنع
التمكين، وإلا فلا.
أما المانع الشرعي فيها، فإن كان صوما أو اعتكافا مفروضين، يمنع
الاحتساب، ويجب الاستئناف إذا زال، وإن كانا تطوعين، لم يمنعا الاحتساب،
لأنه متمكن من وطئها، هذا هو الصحيح الذي قطع به الأصحاب في الطرق، وعن
الشيخ أبي محمد، أن العذر الشرعي لا يمنع الاحتساب، ولا يقطع المدة، وهو
ضعيف، والحيض لا يمنع الاحتساب قطعا، وكذا النفاس على الأصح.
الطرف الثاني: في كيفية المطالبة، فلها المطالبة بأن يفئ أو يطلق، وما لم
تطلب، لا يؤمر الزوج بشئ، ولا يسقط حقها بالتأخير. ولو تركت حقها ورضيت،
ثم بدا لها، فلها العود إلى المطالبة ما لم تنقض مدة اليمين، لأن الضرر متجدد
وتختص المطالبة بالزوجة، فليس لولي المراهقة والمجنونة المطالبة، وحسن أن
يقول الحاكم للزوج: اتق الله بالفيئة أو الطلاق، وإنما يضيق عليه إذا بلغت أو أفاقت
وطلبت، وليس لسيد الأمة أيضا مطالبة، لأن الاستمتاع حقها.
فرع إذا وجد مانع من الجماع بعد مضي المدة المحسوبة، نظر أهو فيها،
أم في الزوج؟ فإن كان فيها، بأن كانت مريضة لا يمكن وطؤها، أو محبوسة لا
يمكنه الوصول إليها، أو حائضا أو نفساء، أو محرمة، أو صائمة، أو معتكفة عن
فرض، لم يثبت لها المطالبة بالفيئة لا فعلا ولا قولا، لأنه معذور. وإن كان المانع
فيه، فهو طبعي وشرعي، فالطبعي، بأن يكون مريضا لا يقدر على الوطئ، أو
يخاف منه زيادة العلة، أو بطء البرء، فيطالب بالفيئة باللسان، أو بالطلاق إن لم
يفئ، والفيئة باللسان أن يقول: إذا قدرت فئت. واعتبر الشيخ أبو حامد أن يقول
مع ذلك: ندمت على ما فعلت، وإذا استمهل الفيأة باللسان، لم يمهله بحال، فإن
الوعد هين متيسر، ثم إذا زال المانع، يطالب (بالفيئة) بالوطئ أو بالطلاق، تحقيقا
لفيئة اللسان، ولا يحتاج هذا الطلب إلى استئناف مدة، وإن كان محبوسا ظلما،
فكالمريض، وإن حبس في دين يقدر على أدائه، أمر بالأداء أو الفيئة بالوطئ، أو
الطلاق، وأما الشرعي، فكالصوم والاحرام والظهار قبل التكفير، ففيه طريقان.
228

المذهب منهما، أنه مبني على أن الزوج لو أراد وطأها وهناك مانع شرعي، هل
يلزمها التمكين؟ وفيه تفصيل حاصله (أنه) إن كان المانع يتعلق بهما كالطلاق
الرجعي، أو يختص بها كالحيض والصوم والاحرام، لم يلزمها، بل يحرم عليها
التمكين، وإن اختص به كصومه وإحرامه، فوجهان. أحدهما: يلزمها التمكين،
لأنه لا مانع فيها، وليس لها منع ما عليها من الحق. وأصحهما: المنع، لأنه موافقة
على الحرام وإعانة عليه. وإن كان التحريم بسبب الظهار، فهل هو كالطلاق
الرجعي، أم كصومه؟ وجهان. فإذا قلنا: يجوز التمكين، فلها المطالبة بالوطئ أو
الطلاق. فإن أراد الوطئ فامتنعت، سقط حقها من الطلب، وإن قلنا: بالمنع،
فوجهان، أحدهما: يقنع منه بفيئة اللسان، وأصحهما وبه قطع ابن الصباغ: يطالب
بالطلاق إزالة للضرر عنها، بخلاف المانع الطبعي، لأن الوطئ هناك متعذر، وهنا
ممكن، وهو المضيق على نفسه. والطريق الثاني: أن يقال له: ورطت نفسك
بالايلاء، فإن وطئت عصيت وفسدت عبادتك، وإن لم تطأ، ولم تطلق، طلقناها
عليك، كمن غصب دجاجة ولؤلؤة فابتلعتها، يقال له: إن ذبحتها غرمتها، وإلا
غرمت اللؤلؤة. ولو قال في صورة الظهار: أمهلوني حتى أكفر، نظر إن كان يكفر
بالصوم، لم يمهل، وإن كان بالعتق والطعام، فعن أبي إسحاق: يمهل ثلاثة أيام.
وفي التهذيب: يوما أو نصف يوم، ويمكن أن يكون بحسب تيسر المقصود،
وهذا إذا لم تطل مدة الامهال. فإن طالت لفقد الرقبة أو مصرف الطعام، لم يمهل،
كذا قاله المتولي. وعلى كل حال، لو وطئ مع التحريم، خرج عن موجب
الايلاء، واندفعت المطالبة.
الطرف الثالث: ما به المطالبة. قد تكرر أن المؤلي بعد المدة، يطالب بالفيئة
أو الطلاق، والمقصود الفيأة، لكنه يطالب بالطلاق إن لم يفئ. قال الامام: وليس
لها أن توجه الطلب نحو الفيأة وحدها، بل يجب أن تكون المطالبة مترددة، فإن لم
يفئ وأبى أن يطلق، فقولان، أظهرهما وهو الجديد وأحد قولي القديم واختيار
المزني: أنه يطلقها القاضي طلقة. والثاني، لا يطلق عليه، بل يحبسه ويعزره
حتى يفئ أو يطلق. ولو لم يصرح بالامتناع، بل استمهل ليفئ، أمهل بلا خلاف
قدر ما يتهيأ لذلك الشغل، فإن كان صائما، أمهل حتى يفطر، أو جائعا، فحتى
يشبع، أو ثقيلا من الشبع، فحتى يخف، أو غلبه النعاس، فحتى يزول. ويحصل
229

التهيؤ والاستعداد في مثل هذه الأحوال بقدر يوم فما دونه. وهل يمهل ثلاثة أيام؟
قولان، ويقال: وجهان. أظهرهما عند الجمهور: لا. وإذا أمهل، فطلق القاضي
عليه في مدة الامهال، لم يقع طلاقه إن وجدت الفيأة في مدة المهلة، وإن مضت
المدة بلا فيئة، لم يقع أيضا على الصحيح.
فرع ذكر ابن كج، أنه لو طلق القاضي عليه، فبان أنه وطئ أو طلق قبل
تطليق القاضي، لم ينفذ طلاق القاضي. ولو وقع طلاق الزوج والقاضي معا، نفذ
الطلاقان، لأن كل واحد فعل ماله فعله. وقيل: لا يقع تطليق القاضي.
فرع آلى ثم غاب، أو آلى وهو غائب، تحسب المدة، ولها أن توكل من
يطالبه. فإذا مضت المدة، رفعه وكيلها إلى قاضي البلد الذي فيه الزوج وطالبه
ويأمره القاضي بالفيئة باللسان في الحال، لأن المانع حسي وبالمسير، أو يحملها
إليه، أو الطلاق إن لم يفعل ذلك، فإن لم يفئ باللسان، أو فاء به ولم يرجع
إليها، ولا حملها إليه حتى مضت مدة الامكان، ثم قال: أرجع الآن، لم يمكن،
ويطلق عليه القاضي إذا طلب وكيلها على الأظهر، وعلى القول القديم: يحبسه
ليطلق، ويعذر في التأخير لتهيئة أهبة السفر، ولخوف الطريق إلى أن يزول الخوف.
ولو غاب عنها بعد مطالبته بالفيئة أو الطلاق، لم يرض منه بفيئة اللسان، ولا يمهل.
ذكره أبو الفرج السرخسي.
فرع لو طولب فادعى التعيين والعجز عن الفيأة، نظر، إن لم يدخل بها
في ذلك النكاح، سواء كانت ثيبا أو بكرا، أو ادعى العجز عن الافتضاض،
فوجهان. أحدهما وهو ظاهر النص، وبه قطع في الوجيز: إذا صدقته أو كذبته
فحلف على العجز، لا يطالب بالوطئ، بل يطالب بفيئة اللسان، فإن فاء، ضربت
مدة التعنين إن طلبتها. فإن وطئ في المدة، فذاك، وإلا أمضى حكم التعنين.
والثاني: يتعين عليه الطلاق، لأنه متهم في تأخير حقها وضررها، وإن كان دخل بها
في ذلك النكاح، لم تسقط المطالبة، لأن التعنين بعد الوطئ لا يعتبر، فتظهر
تهمته.
الطرف الرابع: فيما تحصل به الفيئة، وهو تغيب الحشفة في القبل خاصة،
230

فلو استدخلت ذكره، لم تنحل يمينه. فلو وطئ بعده، لزمته الكفارة. وهل
تحصل به الفيأة ويرتفع حكم الايلاء؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه قطع
كثيرون، ولو وطئها مكرها، ففي وجوب الكفارة القولان فيمن فعل المحلوف عليه
ناسيا أو مكرها. فإن أوجبناها، انحلت اليمين وارتفع الايلاء، وإلا ففي انحلال
اليمين وجهان يجريان في كل يمين وجد المحلوف عليه بإكراه أو نسيان، أصحهما:
عدم الانحلال، وهو الأوفق لكلام الأئمة، وبه قطع الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو
الطيب، لاختلال الفعل. فإن حكمنا بالانحلال، حصلت الفيأة وارتفع الايلاء،
وإلا فوجهان، أصحهما: كذلك، وبه أجاب البغوي وغيره. والمسألة مفرعة على
أنه يتصور إكراهه على الوطئ وهو الراجح.
فرع لو وطئها المؤلي في المدة أو بعدها وهو مجنون، فطريقان. قطع
العراقيون بأنه لا يحنث، ولا تنحل اليمين، ولا كفارة، والثاني، وبه قطع المتولي
والبغوي: أن في وجوب الكفارة قولين كالناسي، لأن المجنون ملحق بالمخطئ في
كفارة القتل، فكذا كفارة اليمين، فعلى هذا إن أوجبنا الكفارة، انحلت اليمين،
وإلا فعلى الوجهين في المكره، فكيف كان، فالمذهب أنه لا يحنث، ولا تجب
الكفارة، ولا تنحل اليمن، وهل يسقط حقها من الفيأة بالوطئ في الجنون؟
وجهان. أحدهما: لا، بل تطالبه بعد الإفاقة من غير استئناف مدة، وقيل: لا بد
من استئنافها بعد الإفاقة، وأصحهما: نعم، لأنها وصلت إلى حقها، كما لو رد
المجنون الوديعة إلى صاحبها، ولأن وطئ المجنون كوطئ العاقل في تقرير المهر
والتحليل، وتحريم الربيبة وسائر الأحكام.
فرع لو آلى من إحدى امرأتيه بعينها، ووطئها وهو يظنها الأخرى، قال
البغوي: يخرج عن الايلاء، وفي الكفارة القولان في الناسي.
فصل سبق في فصل التعنين، أن الزوجين إذا اختلفا في الوطئ، فالقول
قول النافي إلا في مواضع. أحدها: إذا ادعى العنين الوطئ بعد المدة أو فيها.
الثاني: إذا ادعى مثل ذلك في الايلاء، فالقول قوله في الموضعين، فإذا حلف ثم
طلقها وقال: هذا طلاق رجعي (فلي الرجعة) وهي على إنكار الوطئ والعدة، قال ابن
231

الحداد والجمهور: القول قولها، ولا يمكن من الرجعة عملا بقياس الخصومات،
وإنما قبلنا قوله في الوطئ للضرورة، وتعذر البينة. وقيل: له الرجعة. الموضع
الثالث: طلق زوجته وولدت ولدا يلحقه ظاهرا، وقالت: وطئتني فلي كل المهر،
فقال: لم أطأ، فلك نصفه، فالمذهب والمنصوص في رواية المزني وغيره، أن
القول قولها بيمينها. ونقل الربيع قولا آخر، أن القول قوله بيمينه، فقيل:
232

قولان، وقيل: بالأول قطعا، ورواية الربيع من كيسه، وقيل: إن اختلفا قبل ظهور
الولد وحكمنا بالنصف، لم يعتبر الحكم بالولد، وإن اختلفا بعد ظهوره وما
الزوج، أوجبنا جميع المهر ولا يقبل قول الورثة.
فرع اختلفا في أصل الايلاء وفي انقضاء مدته، فهو المصدق بيمينه، ولو
اعترفت بالوطئ بعد المدة وأنكر، فلا مطالبة لها، فلو رجعت وقالت: لم يطأني،
لم يسمع قولها، لأنها أقرت بوصول حقها إليها، فلا يقبل رجوعها، ذكره المتولي.
فصل قال: والله لا أجامعك، ثم أعاد ذلك مرتين فأكثر، نظر، إن أطلق
في المرتين، أو قيد بمدة واحدة كسنة وسنة، فإن قال: أردت بالثاني تأكيد الأول،
قبل، وكانت اليمن واحدة، سواء اتحد المجلس أم تعدد، طال الفصل أم لا،
وفي وجه ضعيف: إذا طال الفصل، لا يقبل، ويكون يمينا أخرى، ويجري هذا
الخلاف فيما لو كرر تعليق الطلاق بصفة، والصحيح قبول التأكيد أيضا. وإن قال:
أردت الاستئناف، فهما يمينان، وإن أطلق، فهل يحمل على التأكيد، أم
الاستئناف؟ قولان. قال المتولي: إن اتحد المجلس، فالأظهر يحمل على
التأكيد، وإن تعدد، فعلى الاستئناف لبعد التأكيد مع اختلاف المجلس. وإن
اختلفت المدة المقيد بها، كقوله: والله لا أجامعك خمسة أشهر، ثم قال: والله لا
أجامعك سنة، فالأصح أنه كاتحادها. وقيل: يمينان بكل حال، فإذا لم نحكم
233

بالتعدد، لم يجب الوطئ إلا كفارة، وإذا حكمنا بالتعدد، تخلص بالطلاق عن
الايمان كلها، وتنحل اليمين بوطأة واحدة، وفي تعدد الكفارة قولان. أظهرهما عند
الجمهور: لا يجب إلا كفارة واحدة، والثاني، تتعدد بتعدد الايمان، وقيل: تتحد
قطعا، وقيل: تتعدد قطعا.
فصل آلى من زوجته الرقيقة، ثم ملكها، ثم باعها أو أعتقها، ثم
نكحها، ففي عود الايلاء الخلاف في عود الحنث، وكذا لو آلى عبد من زوجته ثم
ملكته وأعتقته ونكحته، فعلى الخلاف. وهل الخلاف العائد كالبينونة بالثلاث أم بما
دونها؟ وجهان.
فصل في فتاوى البغوي، أن القاضي إذا طالب المؤلي بالفيئة أو الطلاق
فامتنع منهما، وطلبت المرأة من القاضي أن يطلق عليه، لم يشترط حضوره في
تطليق القاضي. ولو شهد عدلان أن زيدا آلى، ومضت المدة وهو ممتنع من الفيئة أو
الطلاق، لم يطلق عليه، بل لا بد من الامتناع بين يديه، كما في العضل، فلو تعذر
إحضاره بتمرد أو توار أو غيبة، حكم عليه بالعضل بشهادة الشهود، وبالله التوفيق.
234

كتاب الظهار
صورته الأصلية: أنت علي كظهر أمي. قال الأصحاب: الظهار حرام،
235

قالوا: وقوله: أنت علي حرام، ليس بحرام، بل هو مكروه، لأن الظهار علق به
الكفارة العظمى، وإنما علق بقوله: أنت علي حرام كفارة اليمين، واليمين والحنث
ليسا بمحرمين، ولأن التحريم مع الزوجية قد يجتمعان في التحريم، كتحريم الام
مع الزوجية لا يجتمعان.
فصل هذا الكتاب مشتمل على بابين.
أحدهما في أركانه، وهي ثلاثة:
أحدها: الزوجان، فيصح الظهار من كل زوج مكلف، حرا كان أو عبدا،
مسلما أو ذميا، خصيا أو مجبوبا أو سليما.
وظهار الصبي والمجنون باطل، وظهار السكران كطلاقه.
ومن لحقها الطلاق، صح الظهار منها، سواء فيه الحرة والأمة، والصغيرة
236

والمجنونة، والذمية والرتقاء، والحائض والنفساء، والمعتدة عن شبهة، والمطلقة
الرجعية وغيرهن.
ولو قال لأجنبية: إذا نكحتك، فأنت علي كظهر أمي، لم يصح، ويجئ فيه
القول الشاذ في مثله في الطلاق، ولا يصح الظهار من الأمة وأم الولد.
فرع يتصور من الذمي الاعتاق عن الكفارة، بأن يرث عبدا مسلما، أو
يكون له عبد كافر فيسلم، أو يقول لمسلم: أعتق عبدك المسلم عن كفارتي،
فيجيبه، أو يشتري عبدا مسلما إن جوزناهما، فإن لم نجوز الشراء وتعذر
تحصيله، فما دام موسرا لا يباح له الوطئ. ويقال له: إن أردت الوطئ، فأسلم
وأعتق، لأن الرقبة موجودة والتعذر منه، وكذا لو كان معسرا وهو قادر على الصوم،
لا يجوز له العدول إلى الاطعام، لأنه يمكنه أن يسلم ويصوم، فإن عجز عنه لمرض
أو هرم، فحينئذ يطعم في كفره، هكذا ذكره صاحبا التهذيب والتتمة،
وحكاه الامام عن القاضي، وتردد فيه، من حيث إن الذمي مقر على دينه، فحمله
على الاسلام بعيد، وجوابه، أنا لا نحمله على الاسلام، بل نقول: لا نمكنك من
الوطئ إلا هكذا، فإما أن تتركه، وإما أن تسلك طريق الحل.
الركن الثاني: الصيغة، فصريح الظهار: أنت علي كظهر أمي، وفي معناه
سائر الصلات، كقوله: أنت معي أو عندي، أو مني أو لي كظهر أمي. وكذا لو ترك
الصلة فقال: أنت كظهر أمي، وعن الداركي: أنه إذا ترك الصلة، كان كناية،
لاحتمال أنه يريد: أنت محرمة على غيري، والصحيح الأول، كما أن قوله: أنت
طالق، صريح وإن لم يقل: مني، ومتى أتى بصريح الظهار، وقال: أردت غيره،
لم يقبل على الصحيح، كما لو أتى بصريح الطلاق وادعى غيره، وقيل: يقبل لأنه
حق الله تعالى.
فرع قوله: جملتك، أو نفسك، أو ذاتك، أو جسمك، أو بدنك علي
كظهر أمي، كقوله: أنت علي كظهر أمي، وكذا قوله: أنت علي كبدن أمي أو
237

جسمها، أو ذاتها، لدخول الظهر فيها.
فرع إذا شبهها ببعض أجزاء الام غير الظهر نظر، إن كان ذلك مما لا
يذكر في معرض الكرامة والاعزاز، كاليد والرجل، والصدر والبطن، والفرج
والشعر، فقولان. أظهرهما وهو الجديد وأحد قولي القديم: أنه ظهار. وقيل:
ظهار قطعا، وقيل: التشبيه بالفرج ظهار قطعا، والباقي على القولين. وإن كان مما
يذكر في معرض الاعزاز والاكرام، كقوله: أنت علي كعين أمي، فإن أراد
الكرامة، فليس بظهار، وإن أراد الظهار، فظهار (قطعا) تفريعا على الجديد في قوله:
كصدر أمي، وإن أطلق، فعلى أيهما يحمل؟ وجهان. اختار القفال الاكرام،
والقاضي حسين، أنه ظهار، وأشار البغوي إلى ترجيحه، والأول أرجح. ولو
قال: كروح أمي، فكقوله: كعين أمي، قاله جماعة، وعن ابن أبي هريرة، أنه
ليس بظهار ولا كناية، والتشبيه برأس الام كهو باليد والرجل، وكذا قطع به
العراقيون، وقيل: كالعين، وبه أجاب السرخسي، وهو أقرب. ولو قال: أنت
238

علي كأمي، أو مثل أمي، فإن أراد الظهار، فظهار، وإن أراد الكرامة، فلا، وإن
أطلق، فليس بظهار على الأصح، وبه قطع كثيرون.
فرع لو شبه بعض الزوجة فقال: رأسك أو يدك، أو ظهرك، أو فرجك،
أو جلدك، أو شعرك علي كظهر أمي، أو نصفك، أم ربعك علي كظهر أمي، فهو
ظهار، ويجئ فيه القول القديم، ولو شبه بعضها ببعضها فقال: رأسك علي كيد
أمي، فهو ظهار، ويجئ فيه القديم.
فرع قال الأصحاب: ما يقبل التعليق من التصرفات، يصح إضافته إلى
بعض محل ذلك التصرف، كالطلاق، والعتاق، وما لا يقبله، لا تصح إضافته إلى
بعض المحل، كالنكاح والرجعة. وأما الايلاء، فإن أضافه إلى الفرج فقال: لا
أجامع فرجك، كان مؤليا، وإن أضاف إلى اليد والرجل وسائر الأعضاء غير الفرج،
لم يكن مؤليا، وإن قال: لا أجامع بعضك، لم يكن مؤليا، إلا أن يريد بالبعض
الفرج، وإن قال: لا أجامع نصفك، فقد أطلق الشيخ أبو علي، أنه ليس بمؤل قال
الامام: إن أراد أنه ليس بصريح، فظاهر، أما إذا نوى، ففيه احتمال، لأن من
ضرورة ترك الجماع في النصف، تركه في الجميع، ويجوز أن يجاب عنه.
قلت: ولو قال: لا أجامع نصفك الأسفل، فهو صريح في الايلاء، ذكره في
الوسيط. والمراد بالفرج المذكور، القبل. والله أعلم.
239

الركن الثالث: المشبه به أصل الظهار، تشبيه الزوجة بظهر الام، ولو شبهها
بجدة من جهة الأب أو الام، فهو ظهار قطعا، هكذا قطع به الجمهور. وقيل: فيه
خلاف كالتشبيه بالبنت.
وأما غير الام والجدة من المحارم، فقسمان.
أحدهما: محرمات بالنسب، كالبنات، والأخوات، والعمات، والخالات،
وبنات الأخت. فإذا شبه زوجته بظهر واحدة منهن، فقولان، الجديد وأحد قولي
القديم: أنه ظهار، والثاني: لا، للعدول عن المعهود.
القسم الثاني: المحرمات بالسبب، وهن ضربان، محرمات بالرضاع،
ومحرمات بالمصاهرة، وفيهن خلاف مشتمل على أقوال، وطرق، وأوجه،
والمذهب منها عند الأصحاب: أن التشبيه بمن لم تزل منهن محرمة عليه ظهار،
وبما كانت حلالا له ثم حرمت، ليس بظهار، وإذا اختصرت الخلاف في الجميع،
جاء سبعة أقوال وأوجه. أحدها: اقتصار الظهار على التشبيه بالأم. والثاني:
إلحاق الجدات بها فقط. والثالث: إلحاق محارم النسب. والرابع: إلحاق محارم
الرضاع أيضا إذا لم يعهدن محللات. الخامس: إلحاقهن بحذف هذا الشرط.
والسادس: إلحاق محارم المصاهرة بالشرط المذكور. السابع: إلحاقهن بحذف
الشرط. والمذهب: إلحاق كل من لم تزل محرمة من الجميع فقط. ولو شبه بمن
لا تحرم مؤبدا كأجنبية، ومطلقة، ومعتدة، ومجوسية، ومرتدة، وأخت امرأته،
فليس بظهار قطعا، سواء طرأ ما يؤيد التحريم، بأن نكح بنت الأجنبية، أو وطئ
أمها وطءا محرما، أم لم يطرأ. ولو شبه بملاعنته، فليس بظهار، لأن تحريمها ليس
للمحرمية والوصلة، ولو شبهها بأزواج النبي (ص)، أو قالت: أنت علي كظهر ابني،
أو أبي، أو غلامي، فليس بظهار.
فرع قالت لزوجها: أنت علي كظهر أمي، أو أنا عليك كظهر أمك، فلا
يلزم به شئ، بل يختص بالرجال (كالطلاق).
240

فصل تعليق الظهار صحيح، فإذا قال: إن دخلت الدار، وإذا جاء رأس
الشهر، فأنت علي كظهر أمي، فوجدت الصفة، صار مظاهرا منها. ولو قال: إن
ظاهرت من حفصة، فعمرة علي كظهر أمي وهما في نكاحه، ثم ظاهر من حفصة صار مظاهرا
منهما جميعا. ولو قال: إن ظاهرت من إحداكما، أو أيكما ظاهرت
منها، فالأخرى علي كظهر أمي، ثم ظاهر من إحداهما، صار مظاهرا من الأخرى
أيضا. ولو قال: إن ظاهرت من فلانة، فأنت علي كظهر أمي، وكانت فلانة
أجنبية، فخاطبها بلفظ الظهار، لم يصر مظاهرا من زوجته، لأن الظهار من الأجنبية
لا ينعقد، إلا أن يريد التلفظ بلفظ الظهار، فيصير بالتلفظ مظاهرا من زوجته. ولو
نكح فلانة ثم ظاهر منها، صار مظاهرا من زوجته الأولى.
ولو قال: إن ظاهرت من فلانة الأجنبية، فأنت علي كظهر أمي، فإن خاطبها
بلفظ الظهار قبل أن ينكحها، فحكمه ما سبق. فإن نكحها ثم ظاهر منها، فهل
يصير مظاهرا من الزوجة الأولى؟ وجهان. أصحهما: نعم، ويكون لفظ الأجنبية
تعريفا لا شرطا، كما لو قال: لا أدخل دار زيد هذه، فباعها، ثم دخلها، حنث،
ولو قال: إن ظاهرت من فلانة أجنبية، أو وهي أجنبية، فأنت علي كظهر أمي،
فسواء خاطبها بلفظ الظهار قبل أن ينكحها، أو نكحها، وظاهر منها، لا يصير
مظاهرا من المعلق ظهارها، لأنه شرط المظاهرة منها وهي أجنبية، ولم يوجد
الشرط، وهو كقوله: إن بعت الخمر، فأنت طالق، أو كظهر أمي، فأتى بلفظ
البيع، لا يقع الطلاق ولا الظهار، تنزيلا للفظ العقود على الصحة. وعند المزني،
ينزل في مثل هذا على صورة العقد، ومن الأصحاب من وافقه، فصحح الظهار
هنا.
فرع قال: إن دخلت الدار، فأنت علي كظهر أمي، فدخلت الدار وهو
مجنون، أو ناس، فعن ابن القطان: أن في حصول العود ولزوم الكفارة قولين.
قال ابن كج: وعندي أنها تلزم بلا خلاف، كما لو علق طلاقها بالدخول، فدخلت
وهو مجنون، وإنما يؤثر النسيان والاكراه، في فعل المحلوف على فعله، وهذا هو
الصواب.
241

فصل سبق أن كل واحد من لفظي الطلاق والظهار، لا يجوز أن
يجعل كناية عن الآخر، وأن قوله لزوجته: أنت علي حرام، يصح كناية عن
الطلاق والظهار. فإذا قال: أنت طالق كظهر أمي، فله أحوال.
أحدها: أن لا ينوي شيئا، فتطلق، ولا يصح الظهار.
الثاني: أن يقصد بكل كلامه الطلاق وحده وأكده بلفظ الظهار، فيقع الطلاق
ولا ظهار.
الثالث: أن يقصد بالجمع الظهار، فتطلق، ولا ظهار على الصحيح، لان
لفظ الطلاق ليس بظهار، والباقي ليس بصريح في الظهار، لعدم استقلاله، ولم ينو
به الظهار، وإنما نواه بالمجموع.
الرابع: أن يقصد الطلاق والظهار، فينظر، إن قصدهما بمجموع كلامه، حصل
الطلاق ولا يحصل الظهار على الصحيح. وقيل: يحصل لاقراره به، وإن قصد
الطلاق بقوله: أنت طالق، والظهار بقوله: كظهر أمي، طلقت، فإن كانت تبين
بالطلاق، لم يصح الظهار، وإلا فيصح الظهار مع الطلاق، وقيل: لا يصح، وهو
ضعيف. وإن قال: أردت بقولي: أنت طالق الظهار، وبقولي: كظهر أمي
الطلاق، وقع الطلاق وحده. وإن قال: أنت علي كظهر أمي طالق، قال ابن كج:
إن أراد الظهار والطلاق، حصلا، ولا يكون عائدا، لأنه عقب الظهار بالطلاق، فإن
راجع، كان عائدا، وإن لم يرد شيئا، صح الظهار. وفي وقوع الطلاق وجهان.
فرع قال: أنت علي حرام كظهر أمي، فإن نوى بكلامه الطلاق فقط،
فهو طلاق على الأظهر الأشهر، وفي قول: ظهار، وقيل: طلاق قطعا، وقيل:
طلاق وظهار، حكاه ابن كج. وإن نوى بكلامه الظهار، فظهار، وإن نوى الطلاق
والظهار جميعا، نظر، إن أرادهما بمجموع الكلام، أو بقوله: أنت علي حرام،
لم يثبتا معا، وأيهما يثبت؟ فيه أوجه. أحدها: الطلاق، والثاني: الظهار،
242

والثالث وبه قال ابن الحداد والجمهور: يخير فيثبت ما اختاره منهما، وإن أراد
بقوله: أنت علي حرام الطلاق، وبقوله: كظهر أمي الظهار، وقع الطلاق وحصل
الظهار إن كان الطلاق رجعيا على الصحيح، وإن كان بائنا، فلا. وإن أراد بقوله:
أنت علي حرام الظهار، وبقوله: كظهر أمي الطلاق، حصل الظهار قطعا، ولا يقع
الطلاق على الصحيح، وإن قال: أردت بقولي: أنت علي حرام تحريم ذاتها الذي
مقتضاه كفارة يمين، قبل منه على الأصح، وقيل: لا يقبل ويكون مظاهرا، لأنه
وصف التحريم بما يقتضي الكفارة العظمى، فلا يقبل رده إلى الصغرى، فعلى الأول،
إن لم ينو بقوله: كظهر أمي الظهار، لم يلزمه شئ سوى كفارة اليمين،
ويكون قوله: كظهر أمي تأكيدا للتحريم، وإن نوى الظهار، لزمه كفارة اليمين،
وكان مظاهرا. وأما إذا أطلق ولم ينو شيئا يحتمله كلامه، فلا طلاق لعدم الصريح
والنية، وفي كونه ظهارا وجهان. المنصوص في الام أنه ظهار.
فرع قال: أنت علي كظهر أمي حرام، كان مظاهرا، قاله المتولي: فإن
لم ينو بقوله: حرام شيئا، كان تأكيدا، وإن نوى تحريم عينها، فكذلك، ويدخل
مقتضى التحريم وهو الكفارة الصغرى، في مقتضى الظهار وهو الكفارة العظمى،
وإن نوى به الطلاق، فقد عقب الظهار بالطلاق، فلا عود.
فرع قال: أنت مثل أمي ونوى الطلاق، كان طلاقا، وكذا قوله: كروح
أمي وعينها، وبالله التوفيق.
الباب الثاني في حكم الظهار
له حكمان.
243

أحدهما: تحريم الوطئ إذا وجبت الكفارة إلى أن يكفر، فلو وطئ
قبل التكفير، عصى، ويحرم عليه الوطئ ثانيا، سواء كفر بالاطعام وغيره. وفي
تحريم القبلة واللمس بشهوة، وسائر الاستمتاعات، قولان، ويقال: وجهان،
أظهرهما عند الجمهور: الجواز، وهو منسوب إلى الجديد، وحكى ابن كج طريقا
قاطعا به، وقال: وهو الأصح. وقول الله تعالى: * (من قبل أن يتماسا) * محمول
على الجماع كقوله تعالى: * (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) *.
فرع عد الامام الصور التي تحرم فيها القبلة وسائر الاستمتاعات مع
الوطئ، والتي تختص بالتحريم بالوطئ، فقال: ما حرم الوطئ لتأثيره في الملك،
كالطلاق الرجعي وغيره، والردة أو لحلها لغيره كالأمة المزوجة، أو حرمها لاستبراء
الرحم عن غيره، كزوجته المعتدة عن وطئ شبهة في صلب النكاح، وكالمستبرأة
بملك اليمين بشراء ونحوه، فكل هذا يحرم فيه الاستمتاعات كلها، وما حرم الوطئ
بسبب الأذى، لا يحرم الاستمتاع.
وأما العبادات المحرمة للوطئ، فالاحرام يحرم كل استمتاع تعبدا، والصوم
والاعتكاف يحرمان كل ما يخشى منه الانزال لتأثرهما بالانزال. وإذا قلنا في الظهار:
لا تحرم القبلة واللمس، ففيما بين السرة والركبة احتمالان، لأنه يحوم حول
الحمى، هذا كلام الامام، وحكى البغوي وجها، أنه يجوز الاستمتاع بزوجته
المعتدة عن شبهة وغيره ويشبه أن يجئ في الاستمتاع بالمرهونة خلاف.
244

قلت: الوجه الجزم بجوازه في مرهونته، وقد جزم به الرافعي في باب
الاستبراء. قال الامام: وإذا لم يحرم الاستمتاع، فلا بأس بالتلذذ وإن أفضى إلى
الانزال، وقول الإمام: الاحرام يحرم كل استمتاع، الصواب، حمله على المباشرة
بشهوة، فأما اللمس ونحوه بغير شهوة، فليس بحرام كما سبق في الحج. والأمة
الوثنية والمجوسية والمرتدة، يحرم فيها كل استمتاع، وكذا المشركة والمكاتبة ومن
بعضها حر. والله أعلم.
الحكم الثاني: وجوب الكفارة بالعود، والعود هو أن يمسكها في النكاح زمنا
يمكنه مفارقتها فيه. وحكى الشيخ أبو حاتم القزويني عن القديم قولا: أن العود هو
الوطئ، والمشهور الأول. واتفق الأصحاب على أن الكفارة تجب إذا ظاهر وعاد،
لكن هل سبب الوجوب العود فقط، أم الظهار والعود معا، أم الظهار فقط والعود
شرط؟ فيه أوجه.
ولو مات أحد الزوجين عقيب الظهار، أو فسخ أحدهما النكاح بسبب يقتضيه،
أو جن الزوج، أو طلقها بائنا أو رجعيا ولم يراجع، فلا عود ولا كفارة، فلو كانت أمة
فاشتراها متصلا بالظهار، فليس بعائد على الأصح، لأنه قطع النكاح.
ولو اشتغل بأسباب الشراء كالمساومة وتقرير الثمن، كان عائدا على الأصح،
وبه قال ابن الحداد، ورجحه المتولي وغيره. قال الامام: وهذا الخلاف إذا كان
الشراء متيسرا، فإن كان متعذرا، فالاشتغال بتسهيله لا ينافي العود عندي.
فرع لاعنها عقب الظهار، نص الشافعي رضي الله عنه أنه ليس عائدا،
واختلفوا في النص على ثلاثة أوجه.
أحدها: وبه قال ابن الحداد: والمراد به ما إذا سبق القذف والمرافعة إلى
الحاكم، أو أتى بما قبل الخامسة من كلمات اللعان، ثم ظاهر وعقبه بالكلمة
الخامسة، وإلا فعائد، وأصحها، وبه قال أبو إسحاق، وابن أبي هريرة، وابن
الوكيل: يشترط سبق القذف والمرافعة، ولا يشترط تقدم شئ من كلمات اللعان،
245

بل إذا وصلها بالظهار، لم يكن عائدا. والثالث، وبه قال ابن سلمة، وحكي عن
المزني في الجامع الكبير: لا يشترط سبق القذف أيضا، فلو ظاهر وقذف
متصلا، واشتغل بالمرافعة وأسباب اللعان، لم يكن عائدا وإن بقي أياما فيه، وشبه
ذلك بما لو قال عقب الظهار: أنت طالق على ألف درهم، فلم تقبل، فقال عقبه:
أنت طالق بلا عوض، لا يكون عائدا لاشتغاله بسبب الفراق.
فرع قال: أنت كظهر أمي، يا زانية أنت طالق، فوجهان، قال
ابن الحداد: هو عائد، لأنه أمسكها حالة القذف. قال الشيخ أبو علي: هذا
صحيح إن لم يلاعن بعده، أو لاعن وشرطنا سبق القذف، فإن لم نشرطه، فليس
بعائد. والثاني، لا يكون عائدا، ويكون قوله: يا زانية أنت طالق كقوله: يا زنيت
أنت طالق في منع العود، وتردد الامام، في أن ابن الحداد يسلم في هذه الصورة.
قلت: تردد الامام ثم قال: والأصح التسليم. والله أعلم.
فرع لو علق طلاقها عقب الظهار. كان عائدا. ولو علق بدخوله الدار،
ثم ظاهر وبادر بالدخول عقب الظهار، فلا عود.
فصل إذا ظاهر ثم طلقها رجعيا عقبه، ثم راجعها، فلا خلاف أنه يعود
الظهار وأحكامه. ولو طلقها بائنا أو رجعيا وتركها حتى بانت، ثم نكحها، ففي
عود الظهار الخلاف في عود الحنث، ويجري الخلاف فيما لو كانت رقيقة فاشتراها
عقب الظهار، ثم أعتقها أو باعها، ثم نكحها. وهل عود النكاح بعد الانفساخ
246

بالملك كعوده بعد البينونة بالثلاث، أم كالبينونة بدون الثلاثة؟ وجهان سبق
نظيرهما. ولو ارتد عقب الظهار، ثم أسلم في العدة، عاد الظهار بلا خلاف، ثم
هل تكون الرجعة وتجديد النكاح والاسلام بمجردها عودا، أم لا يكون إلا أن يمسكها
بعد هذه الأمور زمنا يمكنه فيه الفرقة؟ فيه طرق. المذهب: أن الرجعة عود،
بخلاف التجديد والاسلام، ويجري الخلاف فيما لو ظاهر من رجعية ثم راجعها، ولا
يكون عائدا قبل الرجعة بحال، ولو ارتد أحدهما عقب الظهار قبل الدخول، فلا
عود، وكذا لو كان بعد الدخول، وأصر المرتد حتى انقضت العدة. ولو ظاهر كافر
من كافرة، فأسلما معا في الحال، أو أسلم وهي كتابية، فالنكاح دائم، وهو عائد،
وإن أسلم وهي وثنية، أو أسلمت وتخلف، فإن كان قبل الدخول، فلا عود لارتفاع
النكاح، وإن كان بعده، فلا عود في الحال، ولا إذا أصر، فإن جدد النكاح بعد
البينونة، ففي عود الظهار خلاف عود الحنث. وإن أسلم المتخلف في العدة، فإن
كان هو، فهل يكون نفس الاسلام عودا، أم لا بد من الامساك بعده؟ فيه الخلاف
السابق، وإن كانت هي، فنفس إسلامها ليس بعود في حقه، وإنما يصير عائدا إذا
أمسكها بعد علمه بإسلامها زمنا يمكنه مفارقتها.
فرع لو جن عقب الظهار ثم أفاق، قال الشيخ أبو علي: جعل بعضهم
كون الإفاقة عودا على الخلاف في الرجعة، وهذا غلط ظاهر.
قلت: نقل الامام عن الأصحاب، أنهم قالوا: لو جن عقب الظهار، فليس
بعائد، لأنه لم يمسكها مختارا، وقال صاحب الحاوي: لو تعقب الظهار جنون أو
إغماء، صار عائدا، لأن الجنون لا يحرمها، بخلاف الردة، والقصد في العود ليس
بشرط، وهذا الذي قاله، وإن كان قويا، فالصحيح ما نقله الامام. والله أعلم.
فصل سبق أن تعليق الظهار صحيح، فلو علقه ووجد المعلق عليه
وأمسكها جاهلا، نظر، إن علق على فعل غيره، فليس بعائد حتى يمسكها بعد
علمه، وإن علق على فعل نفسه ونسي، فالمعروف في المذهب: أنه عائد،
ورأي البغوي وغيره تخريج المسألة في الطرفين على حنث الناسي والجاهل، وهذا
أحسن، وبه قال المتولي.
247

قلت: هذا الذي قال المتولي، أنه إن علق بفعل نفسه، ففي مصيره عائدا
الخلاف في حنث الناسي، وإن علق بفعل غيره، لم يصر عائدا على المذهب.
وقيل: يخرج على الناسي، قال: والفرق أنه يشتبه عليه فعل غيره، وقلما يشتبه
عليه حال نفسه، ثم إذا علق على فعل نفسه أو غيره وفعل، صار عند علمه بالفعل،
كأنه الآن تلفظ بالظهار، فإن أمسكها بعده، فعائد، وإلا فلا. والله أعلم.
فصل متى عاد، ووجبت الكفارة، ثم طلقها بائنا أو رجعيا، أو مات
أحدهما، أو فسخ النكاح، لم تسقط الكفارة. وإذا جدد النكاح، استمر التحريم
إلى أن يكفر، سواء حكمنا بعود الحنث، أم لا، لأن التحريم حصل في النكاح
الأول، وقد قال الله تعالى: * (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) * ولو كانت رقيقة
وحصل العود ثم اشتراها، فهل تحل بملك اليمين قبل التكفير؟ وجهان.
أصحهما: لا.
فصل إذا وقت الظهار، فقال: أنت علي كظهر أمي يوما أو شهرا أو إلى
شهر، أو إلى سنة، فثلاثة أقوال، أظهرها: صحته مؤقتا عملا بلفظه، وتغليبا لشبه
اليمين، والثاني: يصح مؤبدا، تغليبا لشبه الطلاق. والثالث: أنه لغو، فإن
صححناه مؤبدا، فالعود فيه كالعود في الظهار المطلق. وإن صححناه مؤقتا،
فوجهان، أحدهما: العود فيه كالعود في المطلق، وبه قال المزني، وأصحهما وهو
ظاهر النص: أنه لا يكون بالامساك عائدا، ولا يحصل العود إلا بالوطئ في المدة.
فعلى هذا لو قال: أنت علي كظهر أمي خمسة أشهر، فهو مؤل على الأصح، وقال
الشيخ أبو محمد: لا، لأنه ليس حالفا. وإذا وطئ فمتى يصير عائدا؟ وجهان،
أصحهما: عند الوطئ، فعلى هذا لا يحرم الوطئ، لكن إذا غابت الحشفة، لزمه
النزع كما سبق في قوله: إن وطئتك، فأنت طالق ثلاثا، وذكرنا هناك وجها أنه
يحرم الوطئ. قال الامام: ولا شك في جريانه هنا. والثاني، قاله الصيدلاني
248

وغيره: نتبين بالوطئ كونه عائدا بالامساك عقب الظهار، فعلى هذا يحرم ابتداء
الوطئ، كما لو قال: إن وطئتك، فأنت طالق قبله، يحرم عليه الوطئ. وعلى
الوجهين يحرم عليه الوطئ بعد ذلك الوطئ حتى يكفر أو تمضي مدة الظهار، فإذا
مضت، حل الوطئ لارتفاع الظهار، وبقيت الكفارة في ذمته، ولو لم يطأ حتى
مضت المدة، فلا شئ عليه، وتردد الامام في أنه لو ظاهر ظهارا مطلقا وعاد، هل
يحصل التحريم بالظهار فقط، أم به وبالعود؟ قال: والظاهر الثاني، لأن الكفارة
مرتبة عليهما، والتحريم مرتب على وجوب الكفارة، وتظهر فائدة التردد في لمسه
وقبلته بغرض عقب الظهار إلى أن يتم زمن لفظ الطلاق، وإذا حصل العود في
الظهار المؤقت على اختلاف الوجهين، فالواجب كفارة الظهار على الصحيح، وعليه
تتفرع الأحكام المذكورة، وفي وجه: الواجب كفارة يمين، وينزل لفظ الظهار منزلة
لفظ التحريم. وذكر ابن كج تفريعا عليه أنه يجوز الوطئ قبل التكفير.
فرع قال: أنت علي حرام شهرا أو سنة ونوى تحريم عينها، أو أطلق،
وقلنا: مطلقه يوجب كفارة اليمين، فهل يصح ويوجب كفارة اليمين، أم يلغو؟
وجهان حكاهما الامام، كالظهار المؤقت، أصحهما الأول.
فصل قال لأربع نسوة: أنتن علي كظهر أمي، صار مظاهرا منهن، فإن
طلقهن، فلا كفارة، وإن أمسكهن، فالجديد: وجوب أربع كفارات، والقديم:
كفارة فقط، فعلى الجديد: لو امتنع العود في بعضهن بموت أو طلاق، وجبت
249

الكفارة بعدد من عاد فيهن، وعلى القديم: تجب الكفارة لو عاد في بعضهن. وفي
التتمة، أنها لا تجب في بعضهن، كما لو حلف لا يكلم جماعة، فكلم
بعضهم. ولو ظاهر منهن بأربع كلمات، فإن لم يوالها، لم يخف حكمه، وإن
والاها، صار بظهار الثانية عائدا في الأولى، وبظهار الثالثة عائدا في الثانية، وبظهار
الرابعة عائدا في الثالثة، فإن فارق الرابعة عقب ظهارها، فعليه ثلاث كفارات، وإلا
فأربع.
فرع قال لأربع نسوة: أنتن علي حرام ونوى تحريم أعيانهن، فالقول في
تعدد الكفارة واتحادها كما في الظهار، ذكره الامام.
فرع كرر لفظ الظهار في امرأة واحدة، فإن أتى بالألفاظ متوالية، نظر،
إن أراد بالمرة الثانية وما بعدها التأكيد، فالجميع ظهار واحد، فإن أمسكها بعد
المرات، فعليه كفارة، وإن فارقها، فوجهان. أحدهما: تلزمه الكفارة لتمكنه من
الفراق بدلا من التأكيد، وأصحهما: لا كفارة، لأن الكلمات المؤكد بها كالكلمة
الواحدة، وإن أراد بالمرة الثانية ظهارا آخر، تعذرت الكفارة على الجديد،
واتحدت على القديم. وقيل: تتعدد قطعا، فإن عددنا، ففارق عقب المرة
الأخيرة، فهل يلزمه كفارة الظهار الأول؟ وجهان. أصحهما: نعم، لأنه كلام آخر،
بخلاف التأكيد، وإن أطلق ولم ينو شيئا، فهل تتحد، أم تتعدد؟ قولان،
أظهرهما: الاتحاد، وقطع به صاحبا الشامل والتتمة.
وأما إذا تفاصلت المرات، وقصد بكل مرة، ظهارا، أو أطلق، فكل مرة
ظهار مستقل له كفارة، وفي قول ضعيف: لا يكون الثاني ظهارا ما لم يكفر عن
الأول، وإن قال: أردت بالمرة الثانية إعادة الظهار الأول، فعن القفال: اختلاف
جواب في قبوله. قال الامام: هو مبني على أن المغلب في الظهار شبه اليمين، أم
الطلاق؟ إن غلبنا الطلاق، لم يقبل، وإلا فالظاهر قبوله كما ذكرنا في الايلاء،
والأصح تغليب شبه الطلاق فيكون الأصح أنه لا يقبل إرادته التأكيد، وكذا ذكره
البغوي وغيره.
250

قلت: نقل صاحب البيان عن البغداديين، يعني بهم العراقيين، القطع
بأنه لا يقبل، وجزم صاحب الحاوي بالقبول، والصحيح المنع. والله أعلم.
فرع قال: إن دخلت الدار، فأنت علي كظهر أمي، وكرر هذا اللفظ
ثلاثا، فإذا دخلت الدار، صار مظاهرا، فإن قصد التأكيد، لم يجب إلا كفارة وإن
قالها في مجالس، وإن قصد الاستئناف، تعددت الكفارة، ويجب الجميع بعود
واحد بعد الدخول، فإن طلقها عقب الدخول، لم يجب شئ، وإن أطلق فهل
يحمل على التأكيد، أم الاستئناف؟ قولان.
فصل قال: إن لم أتزوج عليك، فأنت علي كظهر أمي، فإن تزوج، أو
لم يتمكن منه بأن مات، أو ماتت عقب الظهار، فلا عود ولا ظهار، وإنما يصير
مظاهرا إذ فات التزويج عليها مع إمكانه، وحصل اليأس منه بموت أحدهما، وحينئذ
يحكم بكونه كان مظاهرا قبيل الموت، وفي لزوم الكفارة وحصول العود وجهان،
قال ابن الحداد: يلزم، وقال الجمهور: لا يلزم ولا ضرورة إلى تقدير حصول العود
عقب الظهار، وهذا هو الصحيح.
ولو لم يتزوج عليها مع الامكان حتى جن، فإن أفاق ثم مات قبل التزويج،
فحكمه ما سبق، وإن اتصل الموت بالجنون، تبينا مصيره ظاهرا قبيل الجنون.
وحكى الشيخ أبو علي وجها أنه لا يحكم بمصيره مظاهرا إلا قبيل الموت، ويجئ
مثله في تعليق الطلاق. قال الشيخ: ولا تظهر فائدة هذا الخلاف في الظهار إذا قلنا
بالصحيح وقول الجمهور: إنه لا كفارة، وعلى قول ابن الحداد تظهر فائدته إن
اختلف حاله في اليسار والاعسار. ولو قال: إذا لم أتزوج عليك، فأنت علي كظهر
أمي، فإذا مضى عقب التعليق زمان إمكان التزوج ولم يتزوج، صار مظاهرا،
والفرق بين إن وإذا سبق بيانه في كتاب الطلاق، وذكرنا هناك أن من
الأصحاب من خرج من كل واحدة إلى الأخرى، وهو جار هنا.
251

فصل قال: إن دخلت فأنت علي كظهر أمي، ثم أعتق عن كفارة
الظهار، ثم دخلت، فهل يجزئه إعتاقه عن الكفارة؟ وجهان، قال ابن الحداد:
نعم، كتقديم الزكاة وكفارة اليمين، وقال الجمهور: لا، لأنه تقديم على السببين
جميعا، فلم يصح كتقديم الزكاة على الحول والنصاب، وكفارة اليمين على
اليمين، ويجري الخلاف، لو أطعم عن الظهار وهو من أهل الاطعام قبل دخول الدار،
ولا يجري في الصوم على المذهب، والوجهان جاريان في تعليق الايلاء. فإذا
قال: إن دخلت الدار فوالله لا أطؤك، ثم أعتق عن كفارة اليمين قبل دخول الدار،
جوزه ابن الحداد، وخالفه الجمهور. ولو قال: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر
أمي، وقال: متى دخلت، فعبدي فلان حر عن ظهاري، فدخلت، فعلى رأي ابن
الحداد يصير مظاهرا، ويعتق العبد عن الظهار، وعلى الصحيح وقول الجمهور: لا
يصح تعليق إعتاقه عن الظهار، وأما إذا أعتق عن الظهار بعد الظهار وقبل العود،
فيجزئه قطعا، وسنوضحه في كتاب الايمان إن شاء الله تعالى. ولو قال: أنت
علي كظهر أمي، أعتقت هذا عن كفارتي، أو أنت علي كظهر أمي، وسالم حر عن
ظهاري، فهذا إعتاق مع العود، ويجزئه عن الكفارة التأخر عن الظهار.
فرع ظاهر من زوجته الأمة، وعاد ثم قال لمالكها: أعتقتها عن ظهاري،
ففعل، وقع عتقها عن كفارته، وانفسخ النكاح. وكذا لو أعتقها عنه باستدعائه عن
كفارة أخرى، ولو ملكها بعدما ظاهر، وعاد فانفسخ النكاح، ثم أعتقها عن ظهاره
منها، أجزأه. ولو آلى من زوجته الأمة، ووطئها ولزمته الكفارة فقال لسيدها:
أعتقها عن كفارة يميني، ففعل، أجزأه وانفسخ النكاح، ولو آلى من زوجته
الذمية، ثم وطئها، أو ظاهر منها وعاد، ثم نقضت العهد، فاسترقت، فملكها الزوج
فأسلمت، فأعتقها عن كفارة ظهاره، أجزأه، وبالله التوفيق.
252

كتاب الكفارات
هي قسمان.
أحدهما: لا يدخله الاعتاق، كالواجبات في محظورات الاحرام، وسبق
بيانها في الحج.
والثاني: يدخله الاعتاق، وهو نوعان.
أحدهما: تترتب فيه خصال الكفارة، وهو الظهار والجماع في نهار شهر
رمضان، والقتل.
والثاني: للتخيير، وهي كفارة اليمين، ومعظم المقصود هنا كفارة الظهار،
ويدخل فيها أشياء من غيرها، والباقي موضحة في أبوابها.
فصل تشترط النية في الكفارات، ويكفيه نية الكفارة، ولا يشترط التقييد
بالوجوب، لأن الكفارة لا تكون إلا واجبة، كذا ذكره صاحب الشامل وغيره،
253

ولا تكفيه نية العتق الواجب من غير تعرض للكفارة، لأن العتق قد يجب بالنذر فإن
نوى العتق الواجب بالظهار، أو القتل مثلا، كفى، ويشترط أن تكون النية مقارنة
للاعتاق والاطعام، وأما الصوم، فينوي من الليل كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وقيل: يجوز تقديمها على الاعتاق والاطعام، كما ذكرنا في الزكاة، والصحيح
الأول. وإذا علق العتق عن الكفارة على شرط، لم يجز تأخر النية عن التعليق،
بل يشترط المقارنة للتعليق إن شرطناها في التنجيز، وعلى الوجه الآخر: يجوز
تقديمها عليه، ذكره البغوي.
فرع لا يجب في النية تعيين الكفارة، فلو كان عليه كفارتا ظهار وقتل،
فأعتق عبدين بنية الكفارة، أجزاه عنهما. ولو اجتمع عليه كفارات، فأعتق رقبة بنية
254

الكفارة، وقعت عن واحدة منها، سواء اتفق جنسها أو اختلف، وكذا الصوم
والاطعام، ولو كان عليه كفارة ونسي سببها فأعتق ونوى عليه، أجزأه، ولو كان عليه
ثلاث كفارات، فأعتق رقبة عن واحدة، ثم أعسر وصام شهرين عن واحدة، ثم
عجز فأطعم عن الثالثة، ولم يعين شيئا، أجزأه، ولو كانت عليه كفارة ظهار، فنوى
كفارة القتل عمدا أو خطأ، لم يجزه عن الظهار.
ولو كان عليه كفارتان، فأعتق عبدا بنية الكفارة المطلقة، ثم صرفه إلى واحدة
معينة، تعين العتق لها، ولم يتمكن بعده من صرفه إلى الأخرى، كما لو عين في
الابتداء.
فرع إذا ظاهر الذمي وعاد، يكفر بالاعتاق أو الاطعام دون الصيام، ولو
ارتد من لزمته كفارة، لم يصح تكفيره بالصوم.
وهل يكفر بالاعتاق أو بالاطعام إذا عجز عن الاعتاق والصوم؟ فيه طريقان.
منهم من جزم بالاجزاء، ومنهم من خرجه على زوال ملكه، والمذهب: أنه يكفر،
لأنه مستحق قبل الردة، فكان كالديون. وعن الإصطخري: أن الدين لا يقضى
أيضا إن قلنا بزوال الملك، ولكن المذهب الذي عليه الجمهور: القطع بأنه
يقضى، ويشترط أن ينوي الكفارة بالاعتاق والاطعام نية التمييز دون نية التقرب،
وإذا أخرج الكفارة من ماله في الردة، لم يتعين في الكفارة المخيرة أدنى الدرجات
على الصحيح، وإذا كفر فيها ثم أسلم، حل له الوطئ.
فصل خصال الكفارة ثلاث.
الأولى: العتق. ويشترط في الرقبة لتجزئ
عن الكفارة، أربعة شروط: الاسلام، والسلامة، وكمال الرق، والخلو عن
العوض.
الأول: الاسلام، فلا تجزئ كافرة في شئ من الكفارات، ويجزئ إعتاق
الصغير إذا كان أحد أبويه مسلما أصليا، أو أسلم قبل انعقاده، ولا يجزئ إذا كان
255

أبواه كافرين، لأنه محكوم بكفره، ولو أسلم الصغير بنفسه، فقد سبق فيه في كتاب
اللقيط ثلاثة أوجه، أصحهما: لا يصح، وقال الإصطخري: يصح إسلام
المميز، وقال غيره: موقوف، إن بلغ وثبت عليه، تبينا صحة إسلامه، وإلا فلا،
فعلى قول الإصطخري، يجزئ إعتاقه عن الكفارة، وعلى الوقف: إن بلغ وثبت
ففي إجزائه وجهان. ولو أسلم أحد أبويه وهو صغير أو جنين، أجزأه عن الكفارة إن
مات في صغره، أو بعد بلوغه قبل تمكنه من اللفظ بالاسلام. ولو صرح بالكفر بعد
البلوغ، فقد ذكرنا في اللقيط، أن الأظهر أنه مرتد، والثاني: أنه كافر أصلي، وبينا
هناك حكم الكفارة على القولين، وبهذا يقاس من أسلم بتبعية السابي، على ما بيناه
في اللقيط.
وفي التهذيب أنه لو سبا الصغير ساب، وسبا أحد أبويه آخر، فإن كانا في
عسكر واحد، لم يحكم بإسلامه، بل هو تبع لأبويه، وإن كانا في عسكرين، كانا
تبعا للسابي، وأن حكم المجنون في تبعية الوالدين والدار حكم الصبي، وإذا
أفاق وصرح بالكفر، فهل هو مرتد، أم كافر أصلي؟ فيه الخلاف المذكور في
الصبي إذا بلغ وصرح بالكفر، وأنه هل يجب التلفظ بكلمة الاسلام بعد البلوغ
والإفاقة؟ إن قلنا: لو صرح بالكفر كان مرتدا، لم يجب، لأنه محكوم بإسلامه،
وإن قلنا: لا يجعل مرتدا، وجب، حتى لو مات قبل التلفظ، مات كافرا.
فرع يصح إسلام الكافر بجميع اللغات، ذكره صاحب الشامل وغيره،
ويشترط أن يعرف معنى الكلمة. فلو لقن العجمي الشهادة بالعربية، فتلفظ بها وهو
لا يعرف معناها، لم يحكم بإسلامه، وإذا تلفظ العبد بالاسلام بلغته، وسيده لا
يعرف لغته، فلا بد ممن يعرفه بلغته ليعتقه عن الكفارة.
قلت: إسلامه بالعجمية صحيح، إن لم يحسن العربية قطعا، وكذا إن
أحسنها على الصحيح. والوجه بالمنع مشهور في صفة الصلاة من التتمة وغيره،
ويكفي السيد في معرفة لغة العبد قول ثقة، لأنه خبر، كما يكفي في معرفة قول
256

المفتي والمستفتي. والله أعلم.
فرع يصح إسلام الأخرس بالإشارة المفهمة. وقيل: لا يحكم بإسلامه إلا
إذا صلى بعد الإشارة، وهو ظاهر نصه في الام والصحيح المعروف الأول،
وحمل النص على ما إذا لم تكن الإشارة مفهمة.
فرع ذكر الشافعي رضي الله عنه في المختصر في هذا الباب أن
الاسلام أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويبرأ من كل دين خالف
الاسلام، واقتصر في مواضع على الشهادتين، ولم يشترط البراءة، فقال الجمهور:
ليس فيه خلاف، بل إن كان الكافر ممن يعترف بأصل رسالة نبينا محمد (ص) كقوم من
اليهود يقولون: مرسل إلى العرب فقط، فلا بد من البراءة، وإن كان ينكر أصل
الرسالة كالوثني، كفى في إسلامه الشهادتان. قال الشيخ أبو حامد: وقد رأيت هذا
التفصيل منصوصا عليه في كتاب قتال المشركين، ونقل الامام خلافا
للأصحاب، وفي اشتراط البراءة قال: والأصح عدم الاشتراط.
قلت: في المسألة ثلاثة أوجه، حكاها صاحب الحاوي. والصحيح
التفصيل المذكور، والثاني: أن التبرؤ شرط مطلقا، والثالث: أنه يستحب مطلقا.
والله أعلم.
والمذهب الذي قطع به الجمهور، أن كلمتي الشهادتين لا بد منهما، ولا
257

يحصل الاسلام إلا بهما، وحكى الامام مع ذلك طريقة أخرى منسوبة إلى
المحققين، أن من أتى من الشهادتين بكلمة تخالف معتقده، حكم بإسلامه، وإن
أتى منهما بما يوافقه، لم يحكم، فإذا وحد الثنوي، أو قال المعطل: لا إله إلا
الله، جعل مسلما، وعرض عليه شهادة الرسالة، فإن أنكر، صار مرتدا.
واليهودي إذا قال: محمد رسول الله، حكم بإسلامه، وحكى عن هذه الطريقة
خلافا في أن اليهودي أو النصراني إذا اعترف بصلاة توافق ملتنا، أو حكم يختص
بشريعتنا، هل يكون ذلك إسلاما؟ وقال: ميل معظم المحققين إلى كونه إسلاما،
وعن القاضي حسين في ضبطه، أنه قال: كلما كفر المسلم بجحده، صار الكافر
المخالف له مسلما بعقده. ثم إن كذب غير ما صدق به، كان مرتدا، والمذهب
المعروف ما قدمناه.
فرع استحب الشافعي رضي الله عنه أن يمتحن الكافر عند إسلامه بإقراره
بالبعث بعد الموت.
الشرط الثاني: السلامة من كل عيب يضر بالعمل إضرارا بينا، فلا يجزئ
الزمن، ولا من يجن أكثر الأوقات، فإن كانت إفاقته أكثر، أجزأ، وكذا إن استويا
على الأصح.
قلت: هذا الذي ذكره فيمن يجن ويفيق، هو المذهب. وفي المستظهري
وجه أنه لا يجزئ وإن كانت إفاقته أكثر، وهو غلط مخالف نص الشافعي والأصحاب
والدليل.
258

واختار صاحب الحاوي طريقة حسنة فقال: إن كان زمن الجنون أكثر، لم
يجزئه، وإن كانت الإفاقة أكثر، فإن كان يقدر على العمل في الحال، أجزأ، وإن
كان لا يقدر على العمل إلا بعد حين، لم يجزئ. قال: ويجزئ المغمى عليه،
لأن زواله مرجو. والله أعلم.
ولا يجزئ مريض لا يرجى زوال مرضه، كصاحب السل، فإن رجي،
أجزأ، فلو أعتق من لا يرجى، فزال مرضه، أو من يرجى فمات ولم يزل، أجزأه
على الأصح فيهما، ولو أعتق من وجب عليه قتل، قال القفال: إن أعتقه قبل أن
يقدم للقتل، أجزأه، وإلا فلا، كمريض لا يرجى، ولا يجزئ مقطوع إحدى
الرجلين، ولا مقطوع أنملة من إبهام اليد، ويجزئ مقطوع أنملة من غيرها، حتى
لو قطع أنامله العليا من أصابعه الأربع، أجزأه، ولا يجزئ مقطوع أنملتين من
السبابة، أو الوسطى، ويجزئ مقطوع جميع الخنصر من يد، والبنصر من اليد
الأخرى، ولا يجزئ مقطوعهما من يد واحدة، ويجزئ مقطوع جميع أصابع
الرجلين على الصحيح. وقال ابن أبي هريرة: هو كقطع أصابع اليدين، والأشل
كالأقطع.
قلت: الذي قاله الرافعي في أصابع الرجلين، هو المعروف في طريقة
الخراسانيين، وخالفهم صاحب الحاوي، فجزم بأنه إذا قطع إصبعان من رجل
واحدة، أو الابهام وحدها من رجل، لم يجزئ، وإلا فيجزئ. والله أعلم.
فرع يجزئ نضو الخلق الذي يقدر على العمل، والأحمق، وهو من
يضع الشئ في غير موضعه مع علمه بقبحه، ويجزئ الشيخ الكبير، إلا أن يعجز
عن العمل والكسب. وفي التجربة للروياني، أن الأصحاب قالوا: يجزئ
الشيخ الكبير، ومنعه القفال إذا عجز عن العمل، وهو الأصح، وفي هذا إثبات
خلاف في الشيخ العاجز، ويجزئ الأعرج، إلا أن يكون العرج شديدا يمنع متابعة
259

المشي، ويجزئ الأعور دون الأعمى.
قلت: المراد أعور لم يضعف نظر عينه السليمة. قال الشافعي رحمه الله في
الام: فإن ضعف بصرها، فأضر بالعمل إضرارا بينا، لم يجزئه، قال صاحب
الحاوي: إن كان ضعف البصر يمنع معرفة الخط وإثبات الوجوه القريبة منع،
وإلا فلا. والله أعلم.
ويجزئ الأصم، وحكي فيه قول، ومنهم من لم يثبته، وحمل ما نقل على ما
إذا كان لا يسمع مع المبالغة في رفع الصوت، ويجزئ الأخرس الذي يفهم
الإشارة. وعن القديم منعه، فقيل: قولان، والصحيح أنهما على حالين،
فالاجزاء فيمن يفهم الإشارة، والمنع فيمن لا يفهمها. وقيل: الاجزاء إذا لم ينضم
إلى الخرس صمم، والمنع إذا انضم، وحكى ابن كج عن ابن الوكيل، القطع
بالمنع إذا انضم، وقولين إذا تجرد الخرس.
ويجزئ الأقرع، ومقطوع الاذنين، والأخشم، ومقطوع الانف، والأبرص،
والمجذوم، والخصي، والمجبوب، والأمة، والرتقاء، والقرناء، ومفقود
الأسنان، وولد الزنا، وضعيف البطش، والصغير، ولا يجزئ الجنين وإن انفصل
لدون ستة أشهر من حين الاعتاق، وقيل: إن انفصل لذلك، تبينا الاجزاء، ولا
يحكم في الحال بالاجزاء، والصحيح الأول.
260

قلت: قال صاحب الحاوي: يجزئ عتق من لا يحسن صنعة،
قال الامام: ولا يؤثر ضعيف الرأي والخرق، والكوع والوكع، ويجزئ الفاسق.
قال صاحب الحاوي: وأما شجاج الرأس والبدن، فإن كانت مندملة مع
سلامة الأعضاء، لم تضر وإن شانته، وإن كانت غير مندملة، أجزأ منها ما كان دون
مأمومة الرأس وجائفة البدن، لأنها غير مخوفة، ولا يجزئان لأنهما مخوفتان. والله
أعلم.
الشرط الثالث: كمال الرق.
وفيه مسائل:
إحداها: لا يجزئ إعتاق المستولدة ولا المكاتب، سواء أدى شيئا من
النجوم، أم لا، فإن كانت الكتابة فاسدة، أجزأ إعتاقه عن الكفارة على المذهب،
ولو قال للمكاتب: إذا عجزت عن النجوم فأنت حر عن كفارتي، فعجز، عتق،
ولم يجزئ عن الكفارة، لأنه حين علق لم يكن بصفة الاجزاء.
كذا ولو قال لعبده الكافر: إذا أسلمت، فأنت حر عن كفارتي، فأسلم، أو
قال: إن خرج الجنين سليما، فهو حر عن كفارتي، فخرج سليما. ولو علق العتق
عن الكفارة بدخول الدار، ثم كاتب العبد، ثم دخل، فهل يجزئ عن الكفارة
اعتبارا بوقت التعليق، أم لا، لأنه مستحق العتق عن الكتابة وقت الحصول؟ فيه
وجهان.
قلت: قال الامام وغيره: إذا قلنا بالقديم في جواز بيع أم الولد، أجزأ إعتاقها
عن الكفارة، وإذا قلنا بالمشهور: إنه لا يجوز بيعها فأعتقها عن الكفارة، لا
يجزئه، ويقع العتق تطوعا، ولا يريد عتقها، وكذا المكاتب إذا أعتقه عن الكفارة،
عتق ولا يجزئه عنها، سواء جوزنا بيعه أم لا، بخلاف أم الولد على القول الشاذ،
لأن أمية الولد ينقطع أثرها بالبيع، بخلاف الكتابة، فإنه إذا أدى النجوم إلى المشتري
261

عتق، ثم إذا عتق المكاتب، تبعه أولاده وأكسابه وأم الولد لا تستتبع ذلك، لأنهم
إنما يتبعونها في العتق بموت السيد، ولم يحصل، وأولاد المكاتب يتبعونه إذا عتق
بأداء النجوم أو البراءة منها، وهذا في معنى الابراء. والله أعلم.
المسألة الثانية: إذا اشترى من يعتق عليه، ونوى كون العتق عن الكفارة،
فعن الأودني أنه يجزئه، والصحيح أنه لا يجزئه، وكذا لو وهب له، فقبله، أو
أوصى له به، فقبل وقلنا: تملك الوصية بالقبول، ونوى العتق عن الكفارة، وكذا لو
ورثه أو ملك المكاتب من يعتق على سيده، ثم عجزه السيد، ونوى عتق قريبه عن
الكفارة لأن العتق مستحق بجهة القرابة في كل هذه الصور.
الثالثة: لو اشترى عبدا بشرط العتق، فقد سبق في كتاب البيع أن المذهب أنه
لا يجزئ إعتاقه عن الكفارة.
الرابعة: إذا أعتق عن الكفارة مرهونا، بني على الخلاف في نفوذ عتقه، إن
نفذناه، أجزأ عن الكفارة إذا نواها، وكذا إن لم ننفذه في الحال ونفذناه بعد الانفكاك
باللفظ السابق، ويكون كما لو علق عتق عبده عن الكفارة بشرط.
وإعتاق الجاني عن الكفارة يبنى على نفوذ إعتاقه، وقد ذكرناه في البيع.
وقيل: لا يجزئ المرهون والجاني عن الكفارة وإن قلنا بنفوذ العتق، لتعلق حق
الغير بهما، ونقصان التصرفات، والمذهب الأول، لأن الاعتاق إذا نفذناه رفع حق
تعلق الغير، ورجع إلى الفداء، والموصى بمنفعته لا يجزئ على الأصح، وقد
ذكرناه في الوصية، والمستأجر إن قلنا: يرجع على السيد بأجرة منافعه، أجزأه،
وإلا فلا، لنقصان منافعه.
262

قلت: ولو أعتق عن الكفارة من تحتم قتله في المحاربة، أجزأه، ذكره
القاضي حسين في تعليقه. والله أعلم.
الخامسة: يجزئ المدبر والمعلق عتقه بصفة، ولو أراد بعد التعليق أن يجعل
العتق المعلق عند حصوله عن الكفارة، لم يجزئه.
مثاله: قال: إن دخلت الدار، فأنت حر، ثم قال: إن دخلتها فأنت حر عن
كفارتي، فيعتق بالدخول ولا يجزئه عن الكفارة، لأنه مستحق بالتعليق الأول.
السادسة: أعتق عن الكفارة حاملا، أجزأه، وعتق الحمل تبعا، ولو استثنى
الحمل، عتقا، وبطل الاستثناء، وأجزأه عتقها عن الكفارة على المشهور، وحكى
المتولي قولا أنه لا يجزئه، لأن العتق عن الكفارة غير مبني على التغليب، فبطل
الاستثناء كما يبطل به البيع، بخلاف مطلق العتق.
السابعة: ملك نصف عبد، فأعتقه عن كفارة وهو معسر، ثم ملك باقيه فأعتقه
عن تلك الكفارة، أجزاه كما لو أطعم في أوقات، فلو لم ينو الكفارة عند إعتاق
باقيه، لم يجزئه عن الكفارة على الصحيح. وقيل: يجزئه كما لو فرق وضوءه،
وجوزناه، فإنه لا يجب تجديد النية على الأصح، حكاه الفوراني.
ولو ملك نصفا من عبد، ونصفا من آخر، فأعتق النصفين عن الكفارة وهو
معسر، فثلاثة أوجه. أحدها: لا يجزئه، قاله ابن سريج وابن خيران، لأنه لا
يسمى عتق رقبة، وكما لا يجزئ شقصان في الأضحية.
والثاني: يجزئه، وأصحهما: يجزئه إن كان باقيهما حرا، وإلا فلا.
263

وتجري الأوجه في ثلث أحدهما، وثلثي الآخر ونظائرهما.
ولو كان عليه كفارتان عن ظهارين، أو ظهار وقتل، فأعتق عبدين عن كل
واحدة، نصفا من هذا، ونصفا من هذا، أجزأه على المنصوص وهو المذهب.
وقيل: فيه خلاف، فعلى المذهب، اختلف في كيفيته، فعن أبي إسحاق أنه يعتق
نصف كل عبد عن كفارة كما أوقعه، وعن ابن سريج وابن خيران: يقع عبد عن هذه
الكفارة، وعبد عن هذه، ويلغو تعرضه للتنصيف.
ويجري الخلاف فيما لو أعتق عبدا عن كفارتين، ففيه وجه: يعتد به وعليه
إتمام كل واحدة، قال الامام: ولا حاجة إلى هذا التقدير.
فرع إذا أعتق موسر نصيبه من عبد مشترك، سرى إلى نصيب صاحبه،
وهل تحصل السراية بنفس اللفظ، أم عند أداء القيمة، أم موقوف؟ فإذا أدى تبينا
حصول العتق باللفظ فيه ثلاثة أقوال.
ولو أعتق جميع العبد المشترك، فمتى يعتق نصيب الشريك؟ فيه الأقوال،
فإن قلنا: يعتق باللفظ، فهل نقول: عتق الجميع دفعة، أم يعتق نصيبه ثم يسري؟
وجهان. وكل هذا يأتي إن شاء الله تعالى (في كتاب العتق) مبسوطا. وغرضنا هنا أن
إعتاق المشرك عن الكفارة جائز، سواء وجه العتق إلى جملته، أم إلى نصيبه فقط
لحصول العتق بالسراية في الحالين. وقال القفال: لا يجزئ عن جميع الكفارة إذا
وجه العتق إلى نصيبه فقط، لأن نصيب الشريك عتق بالشرع، لا بإعتاقه،
والصحيح الأول، ثم ينظر، فإن أعتق نصيبه ونوى عتق الجميع عن الكفارة، أجزاه
عنها إن قلنا: يسري عند اللفظ، أو موقوف.
وإن قلنا: يسري عند أداء القيمة، فهل تكفيه هذه النية لنصيب الشريك، أم
يحتاج إلى تجديد النية عند الأداء؟ وجهان. أصحهما: تكفي لاقترانها بالعتق، إلا
أنه وقع مرتبا.
264

ولو نوى في الحال صرف العتق في نصيبه إلى الكفارة، ونوى عند أداء ا
لقيمة، صرف العتق في نصيب الشريك إليها، أجزأه على الصحيح. وقيل:
يشترط أن ينوي الجميع في الابتداء، لأن سبب عتق الجميع لفظه، كما لو علق
العتق بدخول الدار، يشترط في الاجزاء عن الكفارة نيتها عند التعليق، ولا يكفي اقترانها
بالدخول، فحصل أن الراجح أنه مخير في نصيب الشريك بين تقديم النية
عند اللفظ وتأخيرها إلى الأداء، هذا كله إذا نوى عتق الجميع عن الكفارة ووجه
العتق إلى نصيبه.
أما إذا وجه العتق إلى (نصيبه بنية الكفارة، ولم ينو الباقي، فلا ينصرف الباقي
إليها وإن حكمنا بعتقه في الحال، ويجئ في وقوع نصيبه عن الكفارة الخلاف
السابق في إعتاق بعض رقبة، وحكى صاحب الشامل وغيره وجها أن الباقي
ينصرف إلى الكفارة (تبعا لنصيبه كما تبعه في صل العتق، ولو أعتق الجميع بنية
الكفارة وقلنا: يسري عند اللفظ أو موقوف، أجزأه، وإن قلنا بحصوله عند أداء
القيمة، ففي التهذيب القطع بالاجزاء، وأنه لا يحتاج إلى تجديد النية عند
الأداء، ويشبه أن يعود فيه الوجهان السابقان فيما إذا وجه العتق إلى نصيبه.
المسألة الثامنة: العبد الغائب، إن علم حياته، أجزأه عن الكفارة، وإن
انقطع خبره، لم يجزئه على المنصوص، وهو المذهب، فلو أعتقه عنها، ثم
تواصلت أخبار حياته، تبينا إجزاءه عن الكفارة لحصول العتق في ملك تام بنية
الكفارة. والآبق والمغصوب يجزئان إذا علم حياتهما على الصحيح لكمال الرق.
قلت: الصواب ما قطع به الماوردي والفوراني وغيرهما، أن الآبق يجزئ
قطعا لاستقلاله بمنافعه كالغائب.
وأما المغصوب، فأكثر العراقيين، على أنه لا يجزئ قطعا، لعدم استقلاله
كالزمن، وجمهور الخراسانيين على الاجزاء لتمام الملك والمنفعة، وفيه وجه ثالث
قاله صاحب الحاوي: إن قدر العبد على الخلاص من غاصبه بهرب إلى سيده،
أجزأه عن الكفارة لقدرته على منافع نفسه، وإن لم يقدر على الخلاص، فالاجزاء
موقوف، وإن لم يكن عتقه موقوفا كالغائب إذا علمت حياته بعد موته، وهذا الذي
قاله قوي جدا، وحيث صححنا عتق الغائب، والآبق، والمغصوب، أجزأه عن
265

الكفارة، سواء علم العبد بالعتق أم لا، لأن علمه ليس بشرط في نفوذ العتق، فكذا
في الاجزاء، ذكره صاحب الحاوي. والله أعلم.
الشرط الرابع: خلو الاعتاق عن شوب العوض، فلو أعتق عن كفارة على أن
يرد عليه دينارا مثلا، لم يجزئه عن الكفارة على الصحيح، وحكى ابن القطان وجها
أنه يجزئه لأن العتق حاصل، ويسقط العوض، كما لو قال: أصل الظهر لنفسك ولك
دينار، فصلى، أجزأته صلاته ولو شرط عوضا على غير العبد، فلو قال الانسان:
أعتقت عبدي هذا عن كفارتي بألف عليك، فقبل، أو قال له إنسان: أعتقه عن
كفارتك، وعلي كذا، ففعل، لم يجزئه عن الكفارة، وسواء قدم في الجواب ذكر
الكفارة، فقال: أعتقته عن كفارتي بألف عليك، أو عكس، فقال: أعتقته على أن
لي عليك ألفا عن كفارتي.
وعن أبي إسحاق وجه أنه إذا قدم ذكر الكفارة، أجزأه وسقط العوض،
والصحيح الأول، وسواء قال في الجواب: أعتقته عن كفارتي، على أن لي
عليك كذا
، أو اقتصر على قوله: أعتقته عن كفارتي، فإنه يبنى على الخطاب
والالتماس، وفي استحقاقه العوض على الملتمس وجهان سنذكرهما إن شاء الله
تعالى، ولا يختصان بما إذا قال: أعتقته عن كفارتك، بل يجزئان فيما إذا التمس
منه أن يعتق عبده عن نفسه مطلقا بعوض، فإن قلنا: لا يستحق عوضا وقع العتق،
وله الولاء، وإن قلنا: يستحق عوضا، فعمن يقع العتق؟ وجهان، أحدهما: عن
باذل العوض، وبه قال العراقيون، والشيخ أبو محمد. وأصحهما: عن المعتق،
وبه قطع صاحبا المهذب والتتمة، لأنه لم يعتقه عن الباذل، ولا هو استدعاه
لنفسه.
ولو قال المعتق: أرد العوض ليكون العتق مجزئا عن كفارتي، لم ينقلب
مجزئا، فلو قال في الابتداء عقب الالتماس: أعتقته عن كفارتي لا على الألف،
كان ردا لكلامه، وأجزأه عن الكفارة.
فصل العتق على مال كالطلاق على مال، فهو من جانب المالك معاوضة
266

فيها شبه التعليق، ومن جانب المستدعي معاوضة فيها شبه الجعالة، كما سبق في
الخلع. فإذا قال: أعتق مستولدتك على ألف، فأعتقها، نفذ العتق، وثبت
الألف، وكان ذلك افتداء من المستدعي، كاختلاع الأجنبي.
ولو قال: أعتقتها عني على ألف، أو وعلي ألف، فقال: أعتقتها عنك، نفذ
العتق، ولغا قوله: عني، وقول المعتق: عنك، لأن المستولدة لا تنتقل من شخص
إلى شخص، ثم الصحيح أنه لا يستحق عوضا، لأنه التزم العوض على أن يحصل
العتق عنه، ولم يحصل. وقيل: يستحق ويلغى قوله: عني، ويجعل باقي الكلام
افتداء.
ولو قال: طلق زوجتك عني على ألف، فطلق، قال الامام: الوجه إثبات
العوض.
ولو قال: أعتق عبدك عن نفسك ولك علي كذا، أو وعلي كذا، ففعل، فهل
يستحق العوض عليه؟ وجهان. أصحهما: نعم كالمستولدة ومسألة الطلاق.
والثاني وهو اختيار الخضري، لا لامكان تملكه بالشراء، بخلافهما، ولو قال:
أعتقه عني، ففعل، نظر، إن قال: مجانا، فلا شئ على المستدعي، وإن ذكر
عوضا، لزمه العوض، وإن أطلق، فهل يستحق عليه قيمة العبد؟ وجهان بناء على
الخلاف في قوله: اقض ديني ولم يشترط الرجوع، وخص الامام والسرخسي هذا
البناء بما إذا قال: أعتقه عن كفارتي، فإن العتق حق ثابت عليه كالدين، فأما إذا
قال: أعتقه عني ولا عتق عليه، أو لم يقصد وقوعه عنه، فقد أطلق السرخسي أنه لا
شئ عليه، ورأي الامام تخريجه على أن الهبة هل تقتضي الثواب؟ ثم سواء نفى
267

العوض أم أثبته، يقع العتق على المستدعي. وقال المزني: إذا قال: أعتقه عني
مجانا، ففعل، لا يقع على المستدعي، واحتج الأصحاب بأنه أعتقه عنه، فصار
كذكر العوض. وقالوا: العتق بعوض صار كالمبيع المقبوض حتى استقر عوضه،
فكذلك يجعل عند عدم العوض، كالموهوب المقبوض، ويجعل القبض مندرجا
تحت العتق لقوته، وذكروا بناء على هذا، أن إعتاق الموهوب قبل القبض بإذن
الواهب جائز.
ولو قال: أعتقه عن كفارتي، أو عني، ونوى الكفارة، فأجابه، أجزأه عن
كفارته، ولو قال: أعتق عبدك ولك علي كذا، ولم يقل: عن نفسك، ولا عني،
فهل هو كقوله: عني لقرينته العوض، أم كقوله: عنك؟ وجهان: أصحهما:
الثاني، وهو المذكور في التهذيب.
ولو قال: أعتق عبدك عني ولك ألف بشرط أن يكون الولاء لك، ففعل، قال
المتولي في باب الخلع: المشهور من المذهب، أن هذا الشرط يفسد، ويقع
العتق عن المستدعي، وعليه القيمة. وفيه وجه أنه يعتق عن المالك، وله الولاء.
وعن القفال أنه لو قال: أعتق عبدك عني على ألف، والعبد مستأجر أو مغصوب،
فأعتقه، جاز، ولا يضر كونه مغصوبا. وإن كان المعتق عنه لا يقدر على انتزاعه،
ولا يخرج في المستأجر وليس على الخلاف في بيعه، لأن البيع يحصل في ضمن
الاعتاق، ولا يعتبر في الضمنيات ما يعتبر في المقاصد، وأنه لو قال: أعتق عبدك
عن ابني الصغير، ففعل، جاز، وكان اكتساب ولاء له بغير ضرر يلحقه، وليس كما
لو كان له رقيق فأراد الأب إعتاقه.
وأنه لو وهب عبدا له لانسان، فقبله الموهوب له، ثم قال للواهب: أعتقه عن
ابني وهو صغير، فأعتقه عنه، جاز وكأنه أمره بتسليمه إلى ابنه، وناب عنه في
الاعتاق للابن. واعلم أن الاعتاق في صور الاستدعاء، إنما يقع على المستدعي،
والعوض إنما يجب إذا اتصل الجواب بالخطاب، فإن طال الفصل وقع العتق عن
المالك، ولا شئ على المستدعي.
فرع قال: إذا جاء الغد، فأعتق عبدك عني بألف، فصبر حتى جاء
الغد، فأعتقه عنه، حكى صاحب التقريب عن الأصحاب أنه ينفذ العتق عنه،
268

ويثبت المسمى عليه، وأنه لو قال المالك لغيره: عبدي عنك حر بألف إذا جاء
الغد، فقال المخاطب: قبلت، فهو كتعليق الخلع في قوله: طلقتك على ألف إذا
جاء الغد، فقالت: قبلت، وقد سبق ذكر وجهين في وقوع الطلاق عند مجئ الغد،
أصحهما: الوقوع، ووجهين إذا وقع، أن الواجب مهر المثل أم المسمى؟
أصحهما: الثاني، فكذا يجئ هنا الخلاف في وقوع العتق عن المخاطب، وإذا
وقع، ففي صحة المسمى وفساده، وفرقوا بين الصورتين بأنه لم يوجد في الأولى
تعليق العتق، ويحتمل مجئ وجه في الأولى أنه يستحق قيمة المثل لا المسمى،
وأشار إليه صاحب التقريب، واستصوبه الامام وغيره.
فرع قال: أعتق عبدك عني على خمر، أو مغصوب، ففعل، نفذ العتق
عن المستدعي، ولزمه قيمة العبد، كما في الخلع.
فرع لا خلاف أن العبد المعتق عن المستدعي يدخل في ملكه إذ لا عتق
في غير ملك، ومتى يدخل؟ فيه أوجه. أحدها يملكه بالاستدعاء، ويعتق عليه إذا
تلفظ المالك بالاعتاق، والثاني: يملك بالشروع في لفظ الاعتاق، ويعتق إذا تم
اللفظ. والثالث: يحصل الملك والعتق معا عند تمام اللفظ. وأصحها: أن العتق
يترتب على الملك في لحظة لطيفة، وأن حصول الملك لا يتقدم على آخر لفظ
الاعتاق. ثم قال الشيخ أبو حامد: وأكثر الذين اختاروا هذا الوجه: إن الملك
يحصل عقب الفراغ من لفظ الاعتاق على الاتصال، وعن الشيخ أبي محمد أن
الملك يحصل مع آخر جزء من أجزاء اللفظ. وجعل الامام اختلاف عبارة الشيخين
راجعا إلى اختلاف الأصحاب، في أن حكم الطلاق والعتاق، وسائر الألفاظ، يثبت
مع آخر جزء من اللفظ، أم بعد تمام أجزائه على الاتصال؟ فعبارة الشيخ أبي محمد
269

على الوجه الأول، وأبي حامد، على الثاني، وليس في هذا الوجه الرابع إشكال
سوى تأخر العتق عن الاعتاق بقدر توسط الملك. قال الامام: وسبب تأخره، أنه
إعتاق عن الغير، ومعنى الاعتاق عن الغير، انتقال الملك إليه، وإيقاع العتق بعده،
وقد يتأخر العتق عن الاعتاق بأسباب، ألا ترى أنه لو قال: أعتقت عبدي عنك
بكذا، لا يعتق حتى يوجد القبول.
فرع قال: أعتق عبدك عني على كذا، ففعل، ثم ظهر بالعبد عيب، لم
يبطل العتق، بل يرجع المستدعي بأرش العيب، ثم إن كان عيبا يمنع الاجزاء عن
الكفارة، لم تسقط به الكفارة.
فرع في فتاوى البغوي أنه لو قال: أعتق عبدك عني على ألف، فقال:
أعتقته عنك مجانا، عتق عن المعتق دون المستدعي.
الخصلة الثانية: الصيام كفارة الظهار مرتبة، كما قال الله تعالى: * (فتحرير رقبة من
قبل أن يتماسا، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) * الآية. فإن كان في
ملكه عبد فاضل عن حاجته، فواجبه الاعتاق، فإن احتاج إلى خدمته، لزمانته، أو
مرضه، أو كبره، أو ضخامته المانعة من خدمته نفسه، فهو كالمعدوم، وكذا لو كان
من أهل المروءات ومنصبه يأبى أن يخدم نفسه وأن يباشر الأعمال التي يستخدم فيها
المماليك، لم يكلف صرفه إلى الكفارة. وإن كان من أوساط الناس، لزمه الاعتاق
على الأصح، ولو لم يكن في ملكه عبد ووجد ثمنه، لزمه تحصيله والاعتاق، بشرط
كونه فاضلا عن حاجته، لنفقته وكسوته، ونفقة عياله وكسوتهم، وعن المسكن وما
270

لا بد منه من الأثاث، ولم يقدر الأصحاب للنفقة والكسوة مدة، ويجوز أن تعتبر
كفاية العمر، ويجوز أن تعتبر سنة، لأن المؤنات تتكرر فيها، ويؤيده أن البغوي
قال: يترك له ثوب الشتاء، وثوب الصيف.
قلت: هذا الثاني، هو الصواب. والله أعلم.
ولو ملك دارا واسعة يفضل بعضها عن حاجته، وأمكن بيع الفاضل، لزمه بيعه
وتحصيل رقبة. ولو كانت دارا نفيسة يجد بثمنها مسكنا يكفيه ويفضل ثمن رقبة، أو
كان له عبد نفيس يجد بثمنه عبدا يخدمه، وآخر يعتقه، لزمه البيع والاعتاق إن لم
يكونا مألوفين، وإلا أجزأه الصوم على الأصح، ولو كان له ثوب نفيس يجد بثمنه ثوبا
يليق به، وعبدا يعتقه، لزمه الاعتاق على المذهب، وقيل بطرد الخلاف.
قلت: قطع العراقيون أو جمهورهم، بأنه يلزمه الاعتاق في العبد النفيس،
ونقله صاحب الشامل عن الأصحاب، وصححه المتولي. والله أعلم.
فرع لو كان له ضيعة أو رأس مال يتجر فيه، وكان يحصل منهما كفايته بلا
مزيد، ولو باعهما لتحصيل رقبة لصار في حد المساكين، لم يكلف بيعهما على
المذهب، وبه قطع الجمهور.
قلت: ولو كان له ماشية تحلب، فهي كالضيعة إن كان لا تزيد غلتها على
كفايته، لم يكلف بيعها، وإن زادت، لزمه بيع الزائد، ذكره صاحب الحاوي
قال: فلو كان له كسب بصناعة، فإن كان قدر الكفاية، فله الصوم، وإن كان أكثر،
271

نظر، فإن قلت: الزيادة بحيث لا تجتمع فتبلغ قيمة الرقبة إلا في زمان طويل ينسب
فيه إلى تأخير التكفير، لم يلزمه جمعها للعتق، فجاز له الصوم. وإن كانت إذا
جمعت في زمن قليل، لا ينسب فيه إلى تأخير التكفير، بلغت قيمة الرقبة كثلاثة أيام
وما قاربها، ففي وجوب جمعها للتكفير بالعتق، وجهان. أشبههما: لا يلزمه، بل
له التكفير بالصوم، فعلى هذا، لو لم يدخل في الصوم حتى اجتمع منها قيمة
الرقبة، فهل يلزمه العتق اعتبارا بحال الأداء، أم له الصوم اعتبارا بالوجوب؟ فيه
القولان. والله أعلم.
فرع كان ماله غائبا أو حاضرا، لكن لم يجد الرقبة، فلا يجوز له العدول
إلى الصوم في كفارة القتل واليمين والجماع في نهار رمضان، بل يصبر حتى يجد
الرقبة، أو يصل المال، لأن الكفارة على التراخي، وبتقدير أن يموت، لا يفوت،
بل تؤدى من تركته، بخلاف العاجز عن ثمن الماء، فإنه يتيمم، لأنه لا يمكن قضاء
الصلاة لو مات. وفي كفارة الظهار وجهان لتضرره بفوات الاستمتاع، وأشار الغزالي
والمتولي إلى ترجيح وجوب الصبر.
فرع لو كانت الرقبة لا تحصل إلا بثمن غال، لم يلزمه شراؤها. وقال
البغوي: يلزمه إذا وجد الثمن الغالي.
272

قلت: إنما قال البغوي هذا اختيارا لنفسه، فقال حكاية للمذهب: لا يلزمه،
ورأيت أن يلزمه، وقطع الجمهور بأنه لا يلزمه، وهو الصواب. والله أعلم.
فرع لو بيعت نسيئة وماله غائب، فعلى ما ذكرناه في شراء الماء في
التيمم. ولو وهب له عبدا وثمنه، لم يلزمه قبوله، لكن يستحب.
فرع ذكر ابن كج بعد أن ذكر حكم المسكن والعبد المحتاج إليهما في
الكفارة والحج وجهين في أنه هل يجوز لمن يملكهما نكاح الأمة، أم بيعهما لطول
الحرة، ووجهين في أنهما يباعان عليه، كما إذا أعتق شركاء له في عبد، وإن ابن
القطان قال: لا يلزم العريان بيعهما؟ قال: وعندي يلزمه، والذي قاله غلط.
فصل الموسر المتمكن من الاعتاق، يعتق، ومن تعسر عليه الاعتاق،
كفر بالصوم، وهل الاعتبار في اليسار والاعسار بوقت الأداء، أم بوقت الوجوب، أم
بأغلظ الحالين؟ فيه أقوال. أظهرها الأول، فعلى هذا قال الامام: في العبارة عن
الواجب قبل الأداء غموض، ولا يتجه إلا أن يقال: الواجب أصل الكفارة، ولا يعين
خصلة، أو يقال: يجب ما يقتضيه حالة الوجوب، ثم إذا تبدل الحال، تبدل
الواجب، كما يلزم القادر صلاة القادرين، ثم إذا عجز، تبدلت صفة الصلاة،
وعلى القول الثالث وجهان، قال الأكثرون: يعتبر أغلظ أحواله من وقت الوجوب،
إلى وقت الأداء في حال ما، لزمه الاعتاق. والثاني: يعتبر الأغلظ من حالتي
الوجوب والأداء دون ما بينهما، صرح به الامام، وأشار إلى دعوى اتفاق الأصحاب
273

عليه. فإذا قلنا: الاعتبار بحال الوجوب، فكان موسرا وقت الوجوب، ففرضه
الاعتاق وإن أعسر بعده.
واستحب الشافعي رحمه الله إذا أعسر قبل التكفير، أن يصوم ليكون آتيا ببعض
أنواع الكفارة إن مات.
وإن كان معسرا يومئذ، ففرضه الصيام، ولا يلزمه الاعتاق وإن أيسر بعده،
لكن يجزئه على الصحيح، لأنه أعلى من الصوم، وقيل: لا يجزئه لتعين الصوم
في ذمته. وإذا قلنا: الاعتبار بحال الأداء، فكان موسرا يومئذ، ففرضه الاعتاق،
وإن كان معسرا، فالصوم.
ولو تكلف المعسر الاعتاق باستقراض وغيره، أجزأه على الصحيح.
ولو وجبت الكفارة على عبد، فعتق، وأيسر قبل التكفير، فإن قلنا: الاعتبار
بحال الوجوب، ففرضه الصوم، ويجزئه الاعتاق على الأصح أو الأظهر، لأنه
أعلى. وقيل: لا، لعدم أهليته بناء على أن العبد لا يملك، وإن قلنا: الاعتبار
بحال الأداء، لزمه الاعتاق على الأصح أو الأظهر.
فرع لو شرع المعسر في الصوم ثم أيسر، كان له المضي في الصوم، ولا
يلزمه الاعتاق. فإن أعتق، كان أفضل، ووقع ما مضى من صومه تطوعا، وحكى
الشيخ أبو محمد وجها، أنه يلزمه الاعتاق، وهو مذهب المزني، والصحيح الذي
عليه الجماهير، الأول، وكذا لو كان فرضه الاطعام فأطعم بعض المساكين ثم قدر
على الصوم، لا يلزمه العدول إليه.
ولو أيسر بعد ما فرغ من الصوم، لم يلزمه الرجوع إلى الاعتاق قطعا. ولو كان
وقت الوجوب عاجزا عن الاعتاق والصوم، فأيسر قبل التكفير، فإن اعتبرنا حالة
الوجوب، ففرضه الاطعام، وإلا فالاعتاق.
274

فصل العبد لا يملك بغير تمليك سيده قطعا، ولا بتمليكه على الجديد
الأظهر، فعلى هذا لا يتصور منه التكفير بالاعتاق والاطعام. وإن قلنا: يملك،
فملكه طعاما ليكفر كفارة اليمين، جاز، وعليه التكفير بما ملكه، وإن ملكه عبدا
ليعتقه عنها، لم يصح، لأنه يستعقب الولاء، وليس العبد من أهل إثبات الولاء.
وعن صاحب التقريب أنه يصح إعتاقه، ويثبت له الولاء. وعن القفال تخريج
قول: أنه يصح إعتاقه عن الكفارة، والولاء موقوف، إن عتق، فهو له، وإن دام
رقه، فلسيده، والصحيح الأول، وبه قطع الجمهور.
وأما تكفيره بالصوم، فإن جرى ما يتعلق به الكفارة بغير إذن سيده، بأن حلف
وحنث بغير إذنه، لم يصم إلا بإذنه، لأن حق السيد على الفور، والكفارة على
التراخي، بخلاف صوم رمضان، فإن شرع فيه بغير إذنه، كان له تحليله، وإن
جرى بإذنه بأن حلف بإذنه وحنث بإذنه، صام ولا حاجة إلى إذنه. وإن حلف بإذنه
وحنث بغير إذنه، لم يستقل بالصوم على الأصح. وفي عكسه يستقل على
المذهب، وحيث قلنا: يستقل، فسواء طويل النهار وقصيره، والحر الشديد
وغيره، وحيث قلنا: يحتاج إلى الاذن، فذلك في صوم يوجب ضعفا لشدة حر
وطول نهار. فإن لم يكن كذلك، ففيه خلاف نذكره في كتاب الايمان إن شاء الله
تعالى، والأصح، أنه ليس للسيد المنع، هذا حكم كفارة اليمين. قال في
الوسيط: ومنعه من صوم كفارة الظهار غير ممكن، لأنه يضر بالعبد بدوام
التحريم.
قلت: وحيث قلنا: لا يصوم بغير إذنه فخالف وصام، أثم وأجزأه.
ولو أراد العبد صوم تطوع في وقت يضر بالسيد، فله منعه، وفي غيره، ليس
275

له المنع، حكاه المحاملي عن أبي إسحاق المروزي، بخلاف الزوجة، فإن للزوج
منعها من صوم التطوع، لأنه يمنعه الوطئ، وحكى في البيان، أنه ليس للسيد
منعه من صلاة النفل في غير وقت الخدمة، إذ لا ضرر. والله أعلم.
فرع من بعضه حر، كالحر في التكفير بالمال على المذهب، وفيه كلام
آخر، وتفصيل نذكره في كفارة اليمين إن شاء الله تعالى.
فصل في بيان حكم صوم الكفارة المرتبة فيه مسائل:
إحداها: يجب أن ينوي صوم الكفارة في الليل لكل يوم، ولا يجب تعيين
جهة الكفارة، ولا يجب نية التتابع على الأصح، وقيل:
تجب في أول ليلة فقط، ولو نوى الصوم بالليل قبل طلب الرقبة، ثم طلب فلم
يجدها، لم يجزئه صومه إلا أن يجدد النية في الليل بعد الفقد، لأن تلك النية
تقدمت على وقت جواز الصوم، ذكره الروياني في التجربة.
المسألة الثانية: لو مات وعليه صوم كفارة، فهل يصوم عنه وليه؟ فيه قولان،
سبقا في كتاب الصيام.
الثالثة: إن ابتدأ بالصوم لأول شهر هلالي، صام شهرين بالأهلة، ولا يضر
نقصهما، وإن ابتدأ في خلال شهر، صام بقيته، ثم صام الذي يليه بالهلال، ولا
يضر نقصه، ثم يتم الأول من الثالث ثلاثين يوما، وفي وجه شاذ، إذا ابتدأ في خلال
شهر، لزمه ستون يوما.
الرابعة: التتابع في الصوم واجب بنص القرآن، فلو وطئ المظاهر بالليل قبل
تمام الشهرين، عصى بتقديم التكفير، ولكن لا يقطع التتابع.
276

ولو أفسد صوم اليوم الآخر أو غيره، لزمه استئناف الشهرين. وهل يحكم
بفساد ما مضى، أم ينقلب نفلا؟ فيه قولان فيما إذا نوى الظهر قبل الزوال ونظائره.
والحيض لا يقطع التتابع في صوم كفارة القتل والوقاع في رمضان إن لزمتها
كفارة، فتبني إذا طهرت، والنفاس لا يقطع التتابع على الصحيح، كالحيض.
وقيل: يقطعه لندرته، حكاه أبو الفرج السرخسي. والفطر بعذر المرض، يقطع
التتابع على الأظهر، وهو الجديد، لأنه لا ينافي الصوم، وإنما قطعه بفعله،
بخلاف الحيض والجنون، كالحيض على المذهب. وقيل: كالمرض، والاغماء
كالجنون. وقيل: كالمرض. وأما الفطر بالسفر، وفطر الحامل والمرضع خوفا على
الولد، فقيل: كالمرض. وقيل: يقطع قطعا، لأنه باختياره.
قلت: أطلق الجمهور أن الحيض لا يقطع التتابع، وذكر المتولي، أنها لو
كانت لها عادة في الطهر تمتد شهرين، فشرعت في الصوم في وقت يتخلله
الحيض، انقطع، ولو أفطرت الحامل والمرضع خوفا في نفسيهما، فقال
المحاملي في المجموع، وصاحبا الحاوي والشامل والأكثرون: هو
كالمرض. وفي تجريد المحاملي: أنه لا ينقطع قطعا، ولو غلبه الجوع فأفطر،
بطل التتابع. وقيل: كالمرض، ذكره البغوي. والله أعلم.
فرع نسيان النية في بعض الليالي، يقطع التتابع كتركها عمدا، ولا يجعل
النسيان عذرا في ترك المأمور به.
قلت: لو صام أياما من الشهرين، ثم شك بعد فراغه من صوم يوم، هل نوى
فيه، أم لا؟ لم يلزمه الاستئناف على الصحيح، ولا أثر للشك بعد الفراغ من
اليوم، ذكره الروياني في كتاب الحيض في مسائل المتحيرة. والله أعلم.
ولو أكره على الاكل فأكل، وقلنا: يبطل صومه، انقطع تتابعه، لأنه سبب
277

نادر، هذا هو المذهب في الصورتين، وبه قطع الجمهور، وجعلهما ابن كج
كالمرض، قال: ولو استنشق، فوصل الماء إلى دماغه، وقلنا: يفطر، ففي انقطاع
التتابع الخلاف.
قلت: لو أوجر الطعام مكرها، لم يفطر، ولم ينقطع تتابعه، هكذا قطع به
الأصحاب في كل الطرق، وشذ المحاملي فحكى في التجريد وجها أنه يفطر
وينقطع تتابعه، وهذا غلط. والله أعلم.
فرع لو ابتدأ بالصوم في وقت يدخل عليه رمضان قبل تمام الشهرين، أو
يدخل يوم النحر، لم يجزئه عن الكفارة. قال الامام: ويعود القولان في أنه يبطل أم
يقع نفلا.
فرع لو صام رمضان بنية الكفارة، لم يجزئه عن واحد منهما، ولو
نواهما، لم يجزئه عن واحد منهما أيضا. وحكى القاضي أبو الطيب عن أبي عبيد بن
حربويه، أنه يجزئه عنهما جميعا، وغلطه فيه. وفي كتاب ابن كج، أن الأسير إذا
صام عن الكفارة بالاجتهاد، فغلط فجاء رمضان أو يوم النحر قبل تمام الشهرين،
ففي انقطاع التتابع الخلاف في انقطاعه بإفطار المريض.
فرع إذا أوجبنا التتابع في كفارة اليمين، فحاضت في خلال الأيام
الثلاثة، فقيل: فيه قولان، كالفطر بالمرض في الشهرين، ويشبه أن يكون فيه
طريق جازم، بانقطاع التتابع.
قلت: صرح بالطريقة الجازمة، الدارمي وصاحب التتمة فقالا: المذهب
انقطاعه، ذكره الدارمي في كتاب الصيام، وفيه طريق ثالث، أنه لا ينقطع قطعا،
لأن وجوب التتابع في كفارة اليمين هو القول القديم، والمرض لا يقطع على
278

القديم، ذكر ذلك صاحبا الإبانة والعدة وغيرهما. قال صاحب التتمة:
هذا غلط، لأنه يمكنها الاحتراز بالثلاثة عن الحيض دون المرض. والله أعلم.
المسألة الخامسة: لو شرع في صوم الشهرين، ثم أراد أن يقطع ويستأنف بعد
ذلك، فقد ذكروا في جوازه احتمالين. أحدهما: يجوز كما يجوز تأخير الابتداء،
لأنه ليس فيه إبطال عبادة، فكل يوم عبادة مستقلة. والثاني: لا يجوز، لأنه يبطل
صفة الفرضية، ويجري الاحتمالان في الحائض وغيرها، فيمن شرع في الشهرين،
ثم عرض فطر لا يقطع التتابع، ثم زال فأراد الفطر بلا عذر، ثم يستأنف، ثم
الاحتمال الأول أرجح عند الغزالي. وقال الروياني: الذي يقتضيه قياس المذهب،
أنه لا يجوز، لأن الشهرين عبادة واحدة، كصوم يوم، فيكون قطعه كقطع فريضة
شرع فيها، وذلك لا يجوز، وهذا حسن. قال الامام: والمسألة فيما إذا لم ينو صوم
الغد، وقال: الافطار في اليوم الذي شرع فيه لبعد التسليط عليه وبالله التوفيق.
الخصلة الثالثة: الاطعام، فيها مسائل.
إحداها: في قدر الطعام، وهو في كفارة الظهار والجماع في رمضان، والقتل
إن أوجبناه، فيها ستون مدا لستين مسكينا، والمد: رطل وثلث بالبغدادي، وهو مد
رسول الله (ص). واعلم أن في قدر الفطرة والكفارة ونحوهما ونوع إشكال، لان
الصيدلاني وغيره ذكروا أن المعتبر فيه الكيل دون الوزن، لاختلاف جنس المكيل في
الخفة والثقل، فالبر أثقل من الشعير، وأنواع البر تختلف، فالواجب ما حواه
المكيال بالغا وزنه ما بلغ. وقال بعضهم: التقدير المذكور في وزن المد، اعتبر فيه
البر أو التمر، ومقتضى هذا، أن يجزئ من الشعير ملء الصاع والمد، وإن نقص
وزنه، لكن اشتهر عن أبي عبيد القاسم بن سلام، ثم عن ابن سريج، أن درهم
الشريعة خمسون حبة وخمسا حبة، ويسمى ذلك: درهم الكيل، لأن الرطل
الشرعي منه يركب، ويركب من الرطل المد والصاع. وذكر الفقيه أبو محمد
عبد الحق بن أبي بكر بن عطية، أن الحبة التي يتركب منها الدرهم، هي حبة
الشعير المتوسطة التي لم تقشر وقطع من طرفيها ما امتد. ومقتضى هذا، أن يحوي
الصاع هذا القدر من الشعير، وحينئذ إن اعتبرنا الوزن لم يملأ البر بهذا الوزن
الصاع، وإن اعتبرنا الكيل، كان المجزئ من البر أكثر من الشعير وزنا.
279

قلت: هذا الاشكال وجوابه، قد أوضحته في باب زكاة المعشرات. والله
أعلم.
المسألة الثانية: يجب الصرف إلى ستين مسكينا، فلو صرف إلى واحد ستين
مدا في ستين يوما، لم يجزئه، ولو جمع ستين، ووضع بين أيديهم ستين مدا،
وقال: ملكتكم هذا وأطلق، أو قال: بالسوية فقبلوه، أجزأه على الصحيح. وقال
الإصطخري: لا يجزئه، ولو قال: خذوا ونوى الكفارة، فأخذوا بالسوية،
أجزأه، وإن تفاوتوا، لم يجزئه إلا واحد، لأنا نتيقن أن أحدهم أخذ مدا، فإن
تيقنا أن عشرة أو عشرين أو غيرهم أخذ كل واحد منهم مدا فأكثر، أجزأه ذلك
العدد، ولزمه الباقي، ولو صرف الستين إلى ثلاثين مسكينا، أجزأه ثلاثون مدا،
ويصرف إلى ثلاثين غيرهم ثلاثين مدا، ويسترد الامداد الزائدة من الأولين إن شرط
كونها كفارة، وإلا فلا يسترد.
ولو صرف ستين مدا إلى مائة وعشرين مسكينا، أجزأه من ذلك ثلاثون مدا،
ويصرف ثلاثين مدا إلى ستين منهم، والاسترداد من الباقين على التفصيل المذكور.
ويجوز صرف الكفارة إلى الفقراء، ولا يجوز صرفها إلى كافر، ولا إلى هاشمي
ومطلبي، ولا إلى من يلزمه نفقته كزوجة وقريب، ولا إلى عبد، ولا إلى مكاتب.
ولو صرف إلى عبد بإذن سيده، والسيد بصفة الاستحقاق، جاز، لأنه صرف إلى
السيد.
ولو صرف إليه بغير إذنه، بني على قبوله الوصية بغير إذنه، ويجوز أن يصرف
للمجنون والصغير إلى وليهما. وقيل: إن كان الصغير رضيعا، لم يصح الصرف
له، لأن طعامه اللبن، والصحيح الأول. وحكى ابن كج فيما لو دفعه إلى الصغير
فبلغه الصغير وليه.
فرع يجوز أن يصرف إلى مسكين واحد مدين عن كفارتين، ولو دفع مدا
إلى مسكين، ثم اشتراه منه ودفعه إلى آخر، ولم يزل يفعل به هكذا حتى استوعب
280

ستين مسكينا، أجزأه، لكنه مكروه.
فرع لو وطئ المظاهر منها في خلال الاطعام، لم يجب الاستئناف، كما
لو وطئ في خلال الصوم بالليل.
فرع أطعم بعض المساكين، ثم قدر على الصوم، لا يلزمه العود إليه.
فرع ذكر الروياني في التجربة، أنه لو دفع الطعام إلى الامام، فتلف في يده
قبل تفرقته على المساكين، لا يجزئه على ظاهر المذهب، بخلاف الزكاة، لان
الامام لا يد له على الكفارة.
المسألة الثالثة: جنس طعام الكفارة، كالفطرة،
وقيل: لا يجزئ الأرز، وقيل: لا يجزئ إذا نحيت عنه القشرة العليا، لأن ادخاره فيها، والصحيح
الاجزاء، ثم إن كان في القشرة العليا، أخرج قدرا يعلم اشتماله على مد من
الحب، ولم يجر هذا الخلاف في الفطرة. وجرى ذكر قول في العدس والحمص،
ويشبه أن يجئ في كل باب ما نقل في الآخر، وفي الأقط الخلاف المذكور هناك.
فإن قلنا بالاجزاء، فيخص أهل البادية، أم يعم الحاضر والبادي؟ حكى ابن كج فيه
وجهين. وفي اللحم واللبن خلاف مرتب على الأقط، وأولى بالمنع، ثم الاعتبار
بغالب قوت البلد من الأقوات المجزئة، أم بغالب قوته، أم يتخير؟ فيه أوجه،
الصحيح: الأول: فإن كان الغالب مما لا يجزئ كاللحم، اعتبر الغالب من قوت
أقرب البلاد، ولا يجزئ الدقيق ولا السويق، ولا الخبز على الصحيح في الثلاثة،
ولا تجزئ القيمة قطعا.
281

المسألة الرابعة: يشترط تمليك المستحقين وتسليطهم التام، فلا تكفي
التغذية والتعشية بالتمر ونحوه.
المسألة الخامسة: في بيان ما يجوز العدول إلى الاطعام، فمن عجز عن
الصوم بهرم أو مرض، أو لحقه من الصوم مشقة شديدة، أو خاف زيادة في
المرض، فله العدول إلى الاطعام، ثم قال الامام والغزالي: لو كان
المرض يدوم شهرين في غالب الظن المستفاد من العادة في مثله، أو من قول الأطباء، فله العدول
إلى الاطعام، ولا ينتظر زواله ليصوم، بخلاف ما لو كان ماله غائبا، فإنه ينتظره
للعتق، لأنه لا يقال فيه: لم يجد رقبة، ويقال للعاجز بالمرض الناجز لا يستطيع
الصوم، ومقتضى كلام الأكثرين أنه لا يجوز العدول إلى الاطعام بهذا المرض،
بل يعتبر أن يكون بحيث لا يرجى زواله، وصرح المتولي (بأن المرض) المرجو
الزوال، كالمال الغالب، فلا يعدل بسببه إلى الاطعام في غير كفارة الظهار، وفيها
الخلاف السابق، فإن جوزنا الاطعام مع رجاء الزوال، فأطعم ثم زال، لم يلزمه
العود إلى الصيام. وإن اعتبرنا كونه غير مرجو الزوال، فكان كذلك، ثم أتفق زواله
نادرا، فيشبه أن يلتحق بما إذا أعتق عبدا لا يرجى زوال مرضه فزال.
قلت: صرح كثيرون باشتراط كون المرض لا يرجى زواله، والأصح ما قاله الامام،
وقد وافقه عليه آخرون. وقال صاحب الحاوي: إن كان عجزه بهرم ونحوه، فهو
متأبد، فله الاطعام، والأولى تقديمه، وإن كان يرجى زواله كالعجز بالمرض، فهو
بالخيار بين تعجيل الاطعام وبين انتظار البر للتكفير بالصيام، وسواء كان عجزه بحيث
لا يقدر على الصيام أو يلحقه مشقة غالبة مع قدرته عليه، فله في الحالين الاطعام،
وكذا الفطر في رمضان، قال: ولو قدر على صوم شهر فقط، أو على صوم شهرين
بلا تتابع، فله العدول إلى الاطعام. قال إمام الحرمين في باب زكاة الفطر: لو
282

عجز عن العتق والصوم ولم يملك من الطعام إلا ثلاثين مدا، أو مدا واحدا، لزمه
إخراجه بلا خلاف، إذ لا بد له، وإن وجد بعض مد، ففيه احتمال، هذا كلامه،
وينبغي أن يجزم بوجوب بعض المد للعلة المذكورة في المد. قال الدارمي في
كتاب الصيام: إذا قدر على بعض الاطعام، وقلنا: يسقط عن العاجز، ففي
سقوطها عن هذا وجهان، فإن قلنا: لا تسقط، أخرج الموجود، وفي ثبوت الباقي
في ذمته وجهان. والله أعلم.
فرع السفر الذي يجوز الفطر في رمضان، لا يجوز العدول إلى الاطعام
على الصحيح، وعن القاضي حسين وغيره جوازه.
فرع في جواز العدول إلى الاطعام بعذر الشبق وغلبة الشهوة وجهان.
أصحهما عند الامام والغزالي: المنع، ومال الأكثرون إلى التجويز، وبه قال أبو
إسحاق، ولم يذكر القاضي حسين غيره، بخلاف صوم رمضان، فإنه لا يجوز تركه
بهذا، لأنه لا بدل له.
قلت: ولأن في صوم رمضان يمكن الجماع ليلا، بخلاف كفارة الظهار، ولو
كان يغلبه الجوع ويعجز عن الصوم، قال القفال والقاضي حسين والبغوي: لا يجوز
له ترك الشروع في الصوم، بل يشرع، فإذا عجز، أفطر، بخلاف الشبق، فإن له
ترك الشروع على الأصح، لأن الخروج من الصوم يباح بفرط الجوع دون فرط
الشبق. والله أعلم.
فصل لو عجز عن جميع خصال الكفارة، استقرت في ذمته على الأظهر،
وفي قول: لا شئ عليه أصلا، وقد سبق في كتاب الصيام، وقد بني الخلاف
على أن الاعتبار بحال الوجوب، أم الأداء؟ إن اعتبرنا حال الوجوب، لم يستقر عليه
شئ، وكان للمظاهر أن يطأ، ويستحب أن يأتي بما يقدر عليه من الخصال،
283

وإن اعتبرنا الأداء، لزمه أن يأتي بالمقدور عليه، ولا يطأ المظاهر حتى يكفر،
ومن وجد بعض رقبة فقط، فكعادمها، فيصوم، فإن عجز - والحالة هذه - عن
الصيام والاطعام، فعن ابن القطان تخريج أوجه. أحدها: يخرج المقدور عليه،
ولا شئ عليه غيره. والثاني: يخرجه وباقي الكفارة في ذمته. والثالث: لا يخرجه
أيضا.
فصل لا يجوز تبعيض كفارة، بأن يعتق نصف رقبة، ويصوم شهرا، أو
يصوم شهرا، ويطعم ثلاثين، وبالله التوفيق.
284

كتاب اللعان والقذف
فيه أبواب.
285

الأول: في ألفاظ القذف وأحكامه العامة، وفيه طرفان.
الأول: في ألفاظه وهي، صريح، وكناية، وتعريض.
الأول: الصريح، وفيه مسائل.
إحداها: لفظ الزنا صريح كقوله: زنيت، أو يا زان، أو يقول للمرأة:
زنيت، أو يا زانية.
والنيك وإيلاج الحشفة أو الذكر صريحان مع الوصف بالحرام، لان
مطلقهما يقع على الحلال والحرام. والخلاف المذكور في باب الايلاء في
الجماع وسائر الألفاظ، هل هي صريحة يعود هنا؟ فما كان صريحا وانضم إليه
الوصف بالتحريم، كان قذفا. ولو قال: علوت على رجل حتى دخل ذكره في
فرجك، فهو قذف.
الثانية: إذا رمى بالإصابة في الدبر، كقوله: لطت أو لاط بك فلان، فهو
قذف، سواء خوطب به رجل أو امرأة. ولو قال: يا لوطي، فهو كناية.
قلت: قد غلب استعماله في العرف، لإرادة الوطئ في الدبر، بل لا يفهم منه
إلا هذا، فينبغي أن يقطع بأنه صريح، وإلا فيخرج على الخلاف، فيما إذا شاع
لفظ في العرف، كقوله: الحلال علي حرام وشبهه، هل هو صريح، أم كناية؟
286

وأما احتمال كونه أراد على دين قوم لوط (ص)، فلا يفهمه العوام أصلا، ولا
يسبق إلى فهم غيرهم، فالصواب الجزم بأنه صريح، وبه جزم صاحب التنبيه،
ولو كان المعروف في المذهب أنه كناية. والله أعلم.
الثالثة: قال: أتيت بهيمة، وقلنا: يوجب الحد، فهو قذف.
أما الكناية، فكقوله للقرشي: يا نبطي، وللرجل: يا فاجر، يا فاسق، يا
خبيث، وللمرأة: يا خبيثة، يا شبقة، وأنت تحبين الخلوة، وفلانة لا ترد يد لامس
وشبهها، فإن أراد النسبة إلى الزنا، فقذف، وإلا فلا، وإذا أنكر الإرادة، صدق
بيمينه، وإذا عرضت عليه اليمين، فليس له الحلف كاذبا دفعا للحد، أو تحرزا عن
تمام الايذاء.
ولو خلى ولم يحلف، فالمحكي عن الأصحاب، أنه يلزمه الاظهار ليستوفى منه
الحد، وتبرأ ذمته، كمن قتل رجلا في خفية، يجب عليه إظهاره ليقتص منه، أو
يعفى عنه. وعلى هذا يجب عليه الحد فيما بينه وبين الله تعالى، وفيه احتمال
للامام، ومال إليه الغزالي أنه لا يجب الاظهار، لأنه إيذاء، فيبعد إيجابه، وعلى
هذا لا يحكم بوجوب الحد ما لم يوجد الايذاء التام، والأول أصح.
ولو قال لزوجته: لم أجدك عذراء، أو وجدت معك رجلا، فليس بصريح
على المشهور. وحكي عن القديم أنه صريح، ولو قاله لأجنبية، فليس بصريح
قطعا، لأنه قد يريد زوجها. ولو قال: زنيت مع فلان، فصريح في حقها دونه.
وأما التعريض، فكقوله: يا ابن الحلال، وأما أنا فلست بزان، وأمي ليست
بزانية، وما أحسن اسمك في الجيران وشبهها، فهذا كله ليس بقذف وإن نواه، لأن النية
إنما تؤثر إذا احتمل اللفظ المنوي، ولا دلالة له هنا في اللفظ، ولا احتمال،
287

وما يفهم منه مستنده قرائن الأحوال، هذا هو الأصح. وقيل: هو كناية لحصول
الفهم والإيذاء، وبه قال الشيخ أبو حامد، وجماعة، وسواء عندنا حالة الغضب
وغيرها.
فرع النسبة إلى سائر الكبائر، غير الزنى والإيذاء، وبسائر الوجوه لا يتعلق
به حد، ويجب فيه التعزير. وكذا لو قرطبه أو ديثه، أو قال لها: زنيت بفلانة، أو
زنت بك، أو أصابتك فلانة، ونسبها إلى إتيان المرأة المرأة.
فصل قال لزوجته، أو أجنبية: زنيت بك، فهو مقر على نفسه بالزنا،
وقاذف لها، فعليه حد الزنا والقذف، ويقدم حد القذف، فإن رجع، سقط حد الزنا
دون القذف. ولو قالت امرأة لزوجها، أو أجنبي: زنيت بك، فكذلك عليها حد
الزنا، وحد قذفه، هذا هو المعروف في المذهب. ورأي الامام أن لا يجعل هذا
صريحا، لاحتمال كون المخاطب مكرها، وهذا أقوى ويؤيده أنه لو قال لها: زنيت
مع فلان، كان قذفا لها دون فلان.
فرع قال لزوجته: زنيت، فقالت: زنيت بك، أو بك زنيت، فهو قاذف
لها وهي ليست مصرحة بقذف، فإن أرادت حقيقة الزنا، وأنهما زنيا قبل النكاح،
فهي مقرة بالزنا وقاذفة له، ويسقط حق القذف عنه لاقرارها، ولكن يعزر، كذا حكاه
الصيدلاني عن القفال، وإن أرادت أنها هي التي زنت وهو لم يزن، كأنها قالت:
زنيت به قبل النكاح وهو مجنون أو نائم، أو وطئني بشبهة وأنا عالمة، سقط عنه حد
القذف، وثبت عليها حد الزنا لاقرارها، ولا تكون قاذفة له، فإن كذبها وقال: بل
288

أردت قذفي، صدقت بيمينها، فإن نكلت فحلفت، فله حد القذف، فإن قالت:
أردت أني لم أزن لأنه لم يجامعني غيره، ولا جامعني هو إلا في النكاح، فإن كان
ذلك زنا، فهو زان أيضا، أو قالت: أردت أني لم أزن، كما لم يزن هو، فليست
قاذفة فتصدق بيمينها، فإذا حلفت، فلا حد عليها، وعليه حد القذف، وإن
نكلت، حلف واستحق حد القذف، ولو قالت لزوجها: يا زاني، فقال:
زنيت
بك، ففي جوابه مثل هذا التفصيل، ولو قال لأجنبية: يا زانية، أو أنت زانية،
فقالت: زنيت بك، فقد أطلق البغوي أن ذلك إقرار منها بالزنا، وقذف له.
ومقتضى ما ذكرناه من إرادة نفي الزنا عنه وعنها، أن تكون الأجنبية كالزوجة.
فرع قال: يا زانية، فقالت: أنت أزنى مني، لم تكن قاذفة له، إلا أن
تريد القذف، فلو قالت: زنيت وأنت أزنى مني، أو قالت ابتداء: أنا زانية، وأنت
أزنى مني، فهي قاذفة له ومقرة بالزنا، ويسقط حد القذف عن الرجل. ولو قالت
ابتداء: أنت أزنى مني، ففي كونها قاذفة وجهان حكاهما ابن كج.
فرع قال له: أنت أزنى مني، أو أزنى من الناس، أو يا أزنى
الناس، فليس بقذف إلا أن يريده.
289

قلت: هكذا نص عليه الشافعي والأصحاب، وخالفهم صاحب الحاوي
فقال بعد حكايته نص الشافعي والأصحاب: الصحيح عندي أنه قذف صريح، ثم
استدل له. وأما الجمهور فقالوا: هذا ظاهره نسبة الناس كلهم إلى الزنا،، وأنه أكثر
زنا منهم، وهذا متيقن بطلانه، قالوا: ولو فسر وقال: أردت أن الناس كلهم زناة،
وهو أزنى منهم، فليس بقذف لتحقق كذبه. ولو قال: أردت أنه أزنى من زناتهم،
فهو قذف له. والله أعلم.
ولو قال: أنت أزنى من فلان، فالصحيح أنه ليس بقذف إلا أن يريده. وعن
الداركي أنه قذف لهما جميعا. ولو قال: زنا فلان وأنت أزنى منه، فهو صريح في
قذفهما. وعن ابن سلمة وابن القطان، أنه ليس بقذف للمخاطب، والصحيح
الأول. وكذا لو قال: في الناس زناة وأنت أزنى منهم، أو أنت أزنى زناة الناس.
ولو قال: الناس كلهم زناة وأنت أزنى منهم، قال الأئمة: لا يكون قاذفا له لعلمنا
بكذبه. قالوا: وكذا لو قال: أنت أزنى من أهل بغداد إلا أن يريد، أنت أزنى من
زناة أهل بغداد. ولو قال: أنت أزنى من فلان، ولم يصرح في لفظه بزنا فلان،
لكنه كان ثبت زناه بالبينة أو الاقرار، فإن كان القائل جاهلا به، فليس بقاذف،
ويصدق بيمينه في كونه جاهلا، ويجئ فيه وجه الداركي. وإن كان عالما به، فهو
قاذف لهما جميعا، فيحد للمخاطب، ويعزر لفلان، ويجئ في قذف المخاطب
وجه ابن سلمة وابن القطان.
فرع قال لزوجته: يا زانية، فقالت: بل أنت زان، فكل واحد قاذف
لصاحبه، ويسقط حد القذف عنه باللعان، ولا يسقط عنها إلا بإقراره أو ببينة.
290

وإذا تقاذف شخصان، حد كل واحد منهما لصاحبه، ولا يتقاصان، لان
التقاص إنما يكون إذا اتحدت الصفات، وألم الضربات يختلف.
فرع قال لرجل: زنيت بكسر التاء، أو للمرأة: زنيت بفتحها، فهو
قذف. ولو قال له: يا زانية، أو لها: يا زان، أو يا زاني، فهو قذف على
المشهور، وحكي قول قديم.
فرع قال: زنأت في الجبل بالهمز، فليس بقذف إلا أن يريده، لأن معناه
الصعود، ويصدق بيمينه في أنه لم يرد القذف، فإن نكل، حلف المدعي،
واستحق حد القذف. ولو قال: زنأت في البيت، فالصحيح أنه قذف، لأنه لا
يستعمل بمعنى الصعود في البيت ونحوه.
قلت: هذه عبارة البغوي. وقال غيره: إن لم يكن للبيت درج يصعد إليه
فيها، فقذف قطعا، وإن كان، فوجهان. والله أعلم.
ولو قال: زنأت، أو يا زانئ بالهمز، واقتصر عليه، ففيه أوجه. أصحها:
ليس بقذف إلا أن يريده، وبه قال القفال والقاضي أبو الطيب. والثاني: أنه قذف.
وعن الداركي أن أبا أحمد الجرجاني نسبة إلى نصه في الجامع الكبير. والثالث:
إن أحسن العربية، فليس بقذف بلا نية، وإلا فقذف. ولو قال: زنيت في الجبل
وصرح بالياء، فالأصح أنه قذف. وقيل: لا، وقيل: قذف من عارف اللغة دون
غيره.
قلت: ولو قال لها: يا زانية في الجبل بالياء، فقد نص الشافعي رحمه الله في
كتاب اللعان من الام، أنه كناية، وبهذا جزم ابن القاص في التلخيص
ونقل الفوراني أن الشافعي رضي الله عنه نص أنه قذف، وتابعه عليه الغزالي في
الوسيط وصاحب العدة، ولم أر هذا النقل لغير الفوراني ومتابعيه، ولم ينقله
إمام الحرمين، فليعتمد ما رأيته في الام، فإن ثبت هذا، كان قولا آخر، ونقل
صاحب الحاوي، أن قوله: زنأت في الجبل، صريح من جاهل العربية،
والصحيح أنه كناية منه ومن غيره كما سبق. والله أعلم.
291

فصل من صرائح القذف أن يقول: زنا فرجك، أو ذكرك، أو قبلك، أو
دبرك. ولو قال لها: زنيت في قبلك، فقذف. وإن قاله لرجل، فكناية، لأن زناه
بقبله لا فيه، ذكره البغوي. ولو قال: زنى يدك، أو رجلك، أو عينك، أو يداك،
أو عيناك، فكناية على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. ثانيهما: أنه
صريح. وقيل: إن قال: يداك أو عيناك، فكناية قطعا لمطابقة لفظ الحديث، وإلا
فوجهان. ولو قال: زنا بدنك، فصريح على الأصح، كقوله: زنيت.
قلت: قال في البيان: لو قال للخنثى: زنا ذكرك وفرجك، فصريح،
وإن ذكر أحدهما، فالذي يقتضي المذهب أنه كإضافته إلى اليد. ولو قال لامرأة:
وطئك رجلان في حالة واحدة، قال صاحب الحاوي: يعزر، ولا حد لاستحالته
وخروجه من القذف إلى الكذب الصريح، فيعزر للأذى ولا يلاعن. والله أعلم.
فصل قال لابنه اللاحق به ظاهرا: لست ابني، أو لست مني، فالنص أنه
ليس قاذفا لامه، إلا أن يريد القذف. ولو قال لأجنبي: لست ابن فلان، فالنص أنه
قاذف لامه، وفيه طرق، المذهب تقرير النصين، لأن الأب يحتاج إلى تأديبه، وهذا
ضرب منه، بخلاف الأجنبي. والثاني: فيهما قولان. أحدهما: صريح فيهما.
والثاني وأقيسهما: كناية. والثالث قاله أبو إسحاق: ليس بصريح فيهما قطعا،
وتأويل النص على ما إذا نواه. والرابع قاله ابن الوكيل: صريح فيهما قطعا، وتأول ما
ذكره في حق الولد، فعلى المذهب، إذ قال: لست ابني، نستفسره، فإن قال:
أردت أنه من زنا، فقاذف، وإن قال: لا يشبهني خلقا وخلقا، صدق بيمينه إن
طلبتها، فإن نكل، حلفت واستحقت حد القذف، وله أن يلاعن لاسقاطه على الصحيح.
292

وقيل: لا يلاعن لانكاره القذف.
وإن قال: أردت أنه من وطئ شبهة، فلا قذف، فإن ادعت إرادته القذف،
حلف على ما سبق، والولد لاحق به إن لم يعين الوطئ بالشبهة، أو عينه ولم تصدقه
ولم يقبل الولد، وإن صدق وادعى الولد، عرض على القائف، فإن ألحقه به
لحقه، وإلا لحق بالزوج.
وإن قال: أردت أنه من زوج كان قبلي، فليس بقاذف، سواء عرف لها زوج
أم لا، كذا قاله السرخسي.
وأما الولد، فإن لم يعرف لها زوج قبله، لم يقبل قوله، بل يلحقه، وإن
عرف، فسنذكر إن شاء الله تعالى في كتاب العدة، أن الولد بمن يلحق؟ فإذا
لحقه، فإنما ينفى عنه باللعان، وإذا لم يعرف وقت نكاح الأول والثاني، لم يلحق
به، لأن الولادة على فراشه، والامكان لم يتحقق، إلا أن يقيم بنية أنها ولدته في
نكاحه لزمان الامكان، وتقبل فيه شهادة النساء المتمحضات، فإن لم تكن بنية،
فلها تحليفه، فإن نكل، فعلى ما سنذكره في الصورة الأخرى إن شاء الله تعالى.
وإن قال: أردت أنها لم تلده، بل هو لقيط أو مستعار، فلا قذف، والقول
قوله في نفي الولادة، وعليها البينة، فإن لم يكن بينة، فهل يعرض معها على
القائف؟ وجهان مذكوران في موضعهما، فإن قلنا: نعم، فألحقه القائف بها،
لحق بالزوج واحتاج في النفي إلى اللعان. وإن قلنا: لا يعرض، أو لم يلحقه بها،
أو لم يكن قائف، أو أشكل عليه، حلف الزوج أنه لا يعلم أنها ولدته. فإن
حلف، انتفى، وفي لحوقه بها الوجهان المذكوران في كتاب اللقيط، في أن ذات
293

الزوج، هل يلحقها الولد بالاستلحاق؟
وإن نكل الزوج، فالنص أنه ترد اليمين عليها، ونص فيما إذا أتت بولد لأكثر من
أربع سنين، وادعت أن الزوج كان راجعها أو وطئها بالشبهة، وأن الولد منه وأنكر
ونكل عن اليمين، أنه لا ترد اليمين على المرأة، فمن الأصحاب من جعلهما على
قولين، ومنهم من قرر النصين، وفرق بأن الفراش قائم في الصورة الأولى،
فيقوى به جانبها، والمذهب هنا، ثبوت الرد، فإذا قلنا به فحلفت، لحقه الولد،
وإن نكلت، فهل توقف اليمين حتى يبلغ الصبي ويحلف؟ وجهان. فإن قلنا:
توقف فحلف بعد بلوغه، لحق به، وإن نكل أو قلنا: لا توقف، انتفى عنه، وفي
لحوقه بها الخلاف السابق.
فرع قال لمنفي باللعان: لست ابن فلان، يعني الملاعن، فليس بصريح
في قذف أمه، لأنه محتمل، فيسأل، فإن قال: أردت تصديق الملاعن في أن أمه
زانية، فهو قاذف، وإن أراد أن الملاعن نفاه، أو أنه منفي شرعا، أو لا يشبهه خلقا
وخلقا، صدق بيمينه، فإذا حلف، قال القفال: يعزر للايذاء، وإن نكل، حلفت
الام أنه أراد قذفها، واستحقت الحد عليه.
قلت: قد قاله أيضا جماعة غير القفال. والله أعلم.
ولو استلحقه النافي، ثم قال له رجل: لست ابن فلان، فهو كما لو قاله لغير
المنفي، والمذهب أنه قذف صريح كما سبق. وقد يقال: إذا كان أحد التفاسير
المقبولة أن الملاعن نفاه، فالاستلحاق بعد النفي لا ينافي كونه نفاه، فلا يبعد أن لا
يجعل صريحا، ويقبل التفسير به.
قلت: هذا الذي أورده الرافعي، حسن من وجه، ضعيف من وجه، فحسنه
294

في قبول التفسير، وضعفه في قوله: ليس بصريح، والراجح فيه ما قاله صاحب
الحاوي فقال: هو قذف عند الاطلاق، فنحده من غير أن نسأله ما أراد. فإن
ادعى احتمالا ممكنا، كقوله: لم يكن ابنه حين نفاه، قبل قوله بيمينه، ولا حد.
قال: والفرق بين هذا وبين ما قبل الاستلحاق، فإنا لا نحده هناك حتى نسأله، لان
لفظه كناية، فلا يتعلق به حد إلا بالنية، وهنا ظاهر لفظه القذف، فحد بالظاهر إلا
أن يذكر محتملا. والله أعلم.
فرع قال لقرشي: لست من قريش، أو يا نبطي، أو قال لتركي: يا
هندي، أو بالعكس، وقال: أردت أنه لا يشبه من ينتسب إليه في الأخلاق، أو أنه
تركي الدار واللسان، صدق بيمينه، فإن ادعت أم المقول له أنه أراد قذفها، ونكل القاذف، وحلفت هي، وجب لها الحد أو التعزير، وإن أراد القذف، فمطلقه
محمول على أم المقول له. فإن قال: أردت أن واحدة من جداته زنت، نظر، إن
عينها، فعليه الحد أو التعزير، وإن قال: أردت جدة لا بعينها في الجاهلية أو
الاسلام، فلا حد عليه، كما لو قال: أحد أبويك زان، أو في السكة زان ولم
يعين، ولكن يعزر للأذى، فإن كذبته أم المقول له، فلها تحليفه، هكذا أطلقه
الغزالي والبغوي والأئمة، وفي التجربة للروياني، أنه لو قال لعلوي: لست ابن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقال: أردت لست من صلبه، بل بينك وبينه
آباء، لم يصدق، بل القول قول من يتعلق به القذف، أنك أردت قذفي، فإن
نكل، حلف القائل ويعزر.
ومقتضى هذا، أن لا يصدق القائل: أردت جدة من جدات المقول له، مهما
نازعته أمه، بل تصدق هي، لأن المطلق محمول عليها، والسابق إلى الفهم
قذفها، فإن نكلت، حلف القائل وبرئ.
قلت: وإذا قال: لم أرد شيئا، فلا حد، فإن اتهمه الخصم، حلفه كما
سبق. والله أعلم.
الطرف الثاني: في أحكام القذف.
فإن كان المقذوف محصنا، فعلى القاذف الحد، وإلا فالتعزير. وشروط
295

الاحصان: العقل، والبلوغ، والحرية، والاسلام، والعفة عن الزنا. فلو قذف
مجنونا أو صبيا أو عبدا أو كافرا، لم يحد لكن يعزر للايذاء.
وتبطل العفة بكل وطئ يوجب الحد، ومنه ما إذا وطئ جارية زوجته، أو
جارية أحد أبويه، أو نكح محرما له، أو وطئ المرتهن المرهونة عالما بالتحريم،
وكذا لو أولج في دبر، ثم نقل البغوي، أنه تبطل حصانة الفاعل دون المفعول به،
لأن الاحصان لا يحصل بالتمكين في الدبر، فكذا لا تبطل به الحصانة، ورأي هو أن
تبطل حصانتهما جميعا، لوجوب الحد عليهما.
قلت: إبطال حصانتهما، هو الراجح، وأي عفة وحرمة لمن مكن من دبره
مختارا عالما بالتحريم. والله أعلم.
وأما الوطئ الذي لا حد فيه، فللأصحاب في ترتيب صوره وضبطه طرق
أشهرها: أنه ينظر، أجرى ذلك في ملك نكاح، أو يمين، أم في غير ملك؟
القسم الأول: المملوك، وهو ضربان. أحدهما: محرم حرمة مؤبدة، كمن
وطئ مملوكته التي هي أخته، أو عمته برضاع أو نسب عالما بالتحريم. فإن قلنا:
يوجب الحد، بطلت حصانته، وإلا فتبطل أيضا على الأصح، لدلالته على عدم
عفته، بل هذا أفحش من الزنا بأجنبية، ولو وطئ زوجته في دبرها، بطلت حصانته
على الأصح.
الضرب الثاني: ما يحرم غير مؤبد، وهو نوعان. أحدهما: ما له حظ من
الدوام، كوطئ زوجته المعتدة عن شبهة غيره وأمته المعتدة أو المزوجة، أو المرتدة،
أو المجوسية، وأمته في مدة الاستبراء، فلا تبطل حصانتها على الأصح، لقيام
الملك وعدم تأبد الحرمة، وعدم دلالته الظاهرة على قلة المبالاة بالزنا.
النوع الثاني: ما حرم لعارض سريع الزوال، كوطئ زوجته وأمته في
الحيض، أو النفاس، أو الاحرام، أو الاعتكاف، أو المظاهر منها قبل التكفير،
فلا تبطل الحصانة على المذهب. وقيل: على الوجهين.
القسم الثاني: الوطئ الجاري في غير ملك، كوطئ الشبهة، وجارية الابن.
296

وفي النكاح الفاسد، كالنكاح بلا ولي ولا شهود. وفي الاحرام ونكاح المتعة
والشغار ووطئ المكاتبة والرجعية في العدة، ففي بطلان حصانته وجهان.
قال الشيخ أبو حامد: أصحهما لا تبطل، واختار أبو إسحاق البطلان. قال
الروياني: هو أقرب.
وأما وطئ المشتركة، فقال الداركي: هو على الوجهين، وأشار صاحب
الشامل وجماعة إلى القطع بأنه كوطئ الزوجة في الحيض، هذا أحد الطرق.
والطريق الثاني: أن في سقوط الحصانة بوطئ المملوكة المحرمة برضاع أو
نسب وجهين. وفي المشتركة وجارية الابن وجهان، وأولى ببقاء الحصانة. وفي
المنكوحة بلا ولي وجهان، وأولى بالبقاء للاختلاف في إباحته، وفي الوطئ بالشبهة
وجهان، وأولى بالبقاء، لأنه ليس بحرام، ووجه إسقاطها، إشعاره بترك التحفظ.
وفي الوطئ الجاري في الجنون والصبي على صورة الزنا وجهان، وأولى بالبقاء
لعدم التكليف، وهو الأصح.
والطريق الثالث: لا تبطل الحصانة بالوطئ في ملك أو مع عذر كالشبهة،
وتبطل بما خلا عن المعنيين، كوطئ جارية الابن وأحد الشريكين.
والرابع: تبطل الحصانة بكل وطئ حرام، كالحائض، دون ما لا يحرم،
كالوطئ بشبهة، فإنه لا يوصف بالحرمة.
والخامس: كل وطئ تعلق به حد مع العلم بحاله يسقط الحصانة، وما لا حد
فيه مع العلم لا يسقطها، كوطئ جارية الابن والمشتركة.
297

قلت: قد جمع إمام الحرمين هذا الخلاف المنتشر مختصرا فقال: ينتظم منه
ستة أوجه.
أحدها: لا تسقط الحصانة إلا ما يوجب الحد.
والثاني: يسقطها هذا، ووطئ ذوات المحارم بالملك، وهذا هو الأصح عند
الرافعي في المحرر، وهو المختار.
والثالث: يسقطها هذا، ووطئ الأب والشريك.
والرابع: هذا، والوطئ في نكاح فاسد.
والخامس: هذا، ووطئ الشبهة من مكلف.
والسادس: هذا، ووطئ الصبي والمجنون، ويجئ فيه سابع، وهو
هذا، والوطئ المحرم في الحيض وغيره، ولا فرق في النكاح الفاسد بين العالم
بتحريمه والجاهل، قاله البغوي، وينبغي أن يكون الجاهل كالواطئ بشبهة. والله
أعلم.
فرع قال البغوي: الكافر إذا كان قريب عهد بالاسلام، فغصب امرأة
ووطئها ظانا حلها، لا تبطل حصانته، ويشبه أن يجئ فيه الخلاف في وطئ
الشبهة.
298

قلت: لا بد من مجئ الخلاف. والله أعلم.
فرع مقدمات الزنا كالقبلة واللمس وغيرهما لا تؤثر في الحصانة بحال،
وللشيخ أبي محمد فيها احتمال.
قلت: ومما يتعلق بهذا، لو اشترى جارية فوطئها فخرجت مستحقة، ففي
بطلان حصانته وجهان في الإبانة والمهذب، وهو من أقسام الشبهة، فيكون
الراجح بقاء الحصانة. ولو نكح مجوسي أمة ووطئها ثم أسلم، قال البغوي: لا
تبطل حصانته، وقال الفوراني: تبطل، والأول أفقه، لأنه لا يعتقد تحريمه. ولو
أكره على الوطئ، ففي بطلان حصانته وجهان حكاهما الفوراني، والمختار أنها لا
تبطل، لأنه لا يعد تاركا للاحتياط. والله أعلم.
فرع قذف عفيفا في الظاهر، فزنا المقذوف قبل أن يحد القاذف، سقط
الحد عن القاذف على المشهور، وفيه قول قديم، وهو مذهب المزني، ولو ارتد
المقذوف قبل الحد، لم يسقط على الصحيح، فعلى المشهور، لو قذف زوجته ثم
زنت، سقط الحد عنه واللعان، فإن كان هناك ولد وأراد نفيه، فله اللعان، ولو
سرق المقذوف أو قتل قبل استيفائه الحد، لم يسقط على المذهب، وعن ابن
القطان حكاية وجهين فيه.
فرع من زنا مرة وهو عبد أو كافر، أو عدل عفيف، أو غيرهم من
المكلفين، ثم أعتق العبد، وأسلم الكافر، وتاب الآخر، وحسنت أحوالهم، لم
299

تعد حصانتهم، ولم يحد قاذفهم، سواء قذفهم بذلك الزنا أو بزنا بعده، وفيما
بعده. احتمال. ولو جرت صورة الزنا من صبي أو مجنون، لم تسقط حصانته،
فمن قذفه بعد الكمال، حد، لأن فعلهما ليس زنا لعدم التكليف.
فرع قذف زوجته أو غيرها وعجز عن إقامة البينة على زنا المقذوف، فهل
له تحليفه أنه لم يزن؟ فيه قولان، ويقال: وجهان. الموافق لجواب الأكثرين: له
تحليفه، قالوا: ولا تسمع الدعوى بالزنا والتحليف على نفيه إلا في هذه
المسألة.
قلت: العجز عن البينة ليس بشرط، بل متى طلب يمينه، جاء الخلاف،
قال البغوي: ولو قذف ميتا، وطلب وارثه الحد، وطلب القاذف يمينه: انه لا يعلم
مورثه زنى، نص الشافعي رحمه الله أنه يحلفه، قال: وفيه الخلاف المذكور.
والله أعلم.
فرع هل على الحاكم البحث عن إحصان المقذوف ليقيم الحد على
القاذف، كما عليه البحث عن عدالة الشهود ليحكم بشهادتهم؟ وجهان. قال أبو
إسحاق: نعم، وأصحهما عند الأصحاب: لا، لأن القاذف عاص فغلظ عليه بإقامة
الحد بظاهر الاحصان، والمشهود عليه لم يوجد منه ما يقتضي التغليظ.
300

فصل حد القذف وتعزيره حق آدمي، يورث عنه، ويسقط بعفوه. ولو قال
لغيره: اقذفني، فقذفه، فوجهان. قال الأكثرون: لا يجب، كما لو قال: اقطع
يدي فقطعه، لا شئ عليه. والثاني: يجب، لأن القطع مباح في الجملة، فقد
يكون مستحق القطع. وأما القذف، فلا يباح وإن كان المقذوف زانيا. وفيمن يرث
حد القذف؟ أوجه. أصحها: جميع الورثة، كالمال والقصاص. والثاني:
جميعهم غير الزوجين. والثالث: رجال العصبات فقط، لأنه لدفع العار كولاية
التزويج. والرابع: رجال العصبة سوى البنين كالتزويج. فإن قلنا: يرث
الزوجان، فأنشأ قذف ميت، ففي إرثهما وجهان، لانقطاع الوصلة حالة القذف، و
إذا ورثنا الابن، قدم على سائر العصبات، ولو لم يكن للمقذوف وارث خاص، فهل
يقيم السلطان الحد؟ قولان كما في القصاص، وكما لو قذف ميتا لا وارث له،
أظهرهما: يقيمه.
فرع لو عفا بعض مستحقي حد القذف الموروث عن حقه وهو من أهل
العفو، فثلاثة أوجه. أصحها: يجوز لمن بقي استيفاء جميع الحد، لأن الحد يثبت
لهم ولكل واحد منهم، كولاية التزويج وحق الشفعة. والثاني: يسقط جميع الحد
كالقصاص، وهو ضعيف، إذ لا بدل هنا، بخلاف القصاص، والثالث: يسقط
نصيب العافي ويستوفي الباقي، لأنه متوزع، بخلاف القصاص فعلى هذا،
301

يسقط السوط الذي يقع فيه شركة.
فرع قذف رجل مورثه، ومات المقذوف، سقط عنه الحد إن كان حائز
الإرث، لأن القذف لا يمنع الإرث، بخلاف القتل. ولو قذف أباه، فمات الأب
وترك القاذف وابنا آخر. فإن قلنا: إذا عفا بعض المستحقين كان للآخر استيفاء
الجميع، فللابن الآخر استيفاء الحد بتمامه، وإن قلنا: يسقط الجميع، فكذا
هنا، وإن قلنا: يسقط نصيب العافي، فللابن الآخر استيفاء نصف الحد.
فرع لو جن المقذوف بعد ثبوت حقه، لم يكن لوليه استيفاء الحد، بل
يصبر حتى يفيق، فيستوفي، أو يموت فيورث. وكذا لو قذف المجنون أو الصغير،
ووجب التعزير، لم يكن لوليهما التعزير، بل يجب الصبر.
فرع إذا قذف العبد ووجب التعزير، فالطلب والعفو له لا للسيد، لان
عرضه له لا للسيد، حتى لو قذف السيد عبده، كان له رفعه إلى الحاكم ليعزره،
هذا هو الصحيح. وقيل: ليس له طلب التعزير من سيده، بل يقال له: لا تعد،
فإن عاد، عزر كما يعزر لو كلفه مرة بعد مرة من الخدمة ما لا يحتمله حاله.
فلو مات العبد وقد استحق تعزيرا على غير سيده، فأوجه. أصحها: يستوفيه
سيده، لأنها عقوبة وجبت بالقذف، فلم تسقط بالموت كالحد. قال الأصحاب:
وليس ذلك على سبيل الإرث، ولكنه أخص الناس به، فما ثبت له في حياته، يكون
لسيده بعد موته بحق الملك كمال المكاتب. والثاني: يستوفيه أقاربه، لأن العار
إنما يعود عليهم. والثالث: يستوفيه السلطان كحر لا وارث له. والرابع: يسقط
التعزير، وبالله التوفيق.
302

الباب الثاني في قذف الزوجة خاصة الزوج كالأجنبي في صريح القذف وكنايته، وفي أنه يلزمه بقذفها الحد إن
كانت محصنة، والتعزير إن كانت غير محصنة، إلا أن الزوج يختص بأنه قد يباح له
القذف، وقد يجب عليه، وبأن الأجنبي لا يتخلص من العقوبة إلا ببينة على زنا
المقذوف، أو بإقرار المقذوف. وللزوج طريق ثالث إلى الخلاص، وهو اللعان.
وكما تندفع عنه عقوبة القذف باللعان، يجب عليها به حد الزنا، ولها دفعه بلعانها.
فصل متى تيقن الزوج أنها زنت، بأن رآها تزني، جاز له قذفها،
وكذا إن ظن زناها ظنا مؤكدا، بأن أقرت به ووقع في قلبه صدقها، أو سمعه ممن يثق
به. قال ابن كج والامام: سواء كان القائل من أهل الشهادة، أم لا، واستفاض
بين الناس أن فلانا يزني بها ولم يخبره أحد عن عيان، لكن انضمت إلى الاستفاضة
قرينة الفاحشة، بأن رآه معها في خلوة، أو رآه يخرج من عندها، فيجوز له القذف،
وإنما يجوز في صورة الاستفاضة. إذا انضمت إليها القرنية. وعن الداركي: أنه
يجوز بمجرد الاستفاضة. وعن ابن أبي هريرة: يجوز بمجرد القرينة، والصحيح
الأول، لكن قال الامام: الذي أراه، أنه لو رآها معه مرات كثيرة في محل الريبة،
303

كان ذلك كالاستفاضة مع الرؤية مرة، وكذا لو رآها معه تحت شعار على هيئة
منكرة، وتابعه على هذا الغزالي وغيره. ثم ما لم يكن هناك ولد، لا يجب على
الزوج القذف، بل يجوز أن يستر عليها ويفارقها بغير اللعان إن شاء، ولو أمسكها لم
يحرم.
قلت: قال أصحابنا: إذا لم يكن ولد، فالأولى أن لا يلاعن، بل يطلقها إن
كرهها. والله أعلم.
وإن كان هناك ولد يتيقن أنه ليس منه، وجب عليه نفيه باللعان، هكذا قطع به
الأصحاب، وفيه وجه حكاه الروياني عن جماعة أنه لا يجب النفي، والصحيح
الأول. قال البغوي وغيره: فإن تيقن مع ذلك أنها زنت، قذفها ولاعن، وإلا فلا
يقذفها، لجواز أن يكون الولد من زوج قبله، أو من وطئ شبهة. قال الأئمة: وإنما
يحصل اليقين إذا لم يطأها أصلا، أو وطئها وأتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت
الوطئ، أو لأقل من ستة أشهر. ولو وطئها وأتت بولد لأكثر من ستة أشهر، ولدون
أربع سنين، فإن لم يستبرئها بحيضة، أو استبرأها فأتت بولد لدون ستة أشهر من
وقت الاستبراء، لم يحل له النفي، ولا اعتبار بريبة يجدها في نفسه، أو شبهة تخيل
له فسادا، وإن استبرأها وأتت به لأكثر من ستة أشهر من الاستبراء، فثلاثة أوجه.
أحدها: يجوز النفي، لأن الاستبراء أمارة ظاهرة على أنه ليس منه، والمستحب أن
لا ينفيه، لأن الحامل قد ترى الدم. والثاني: إن رأى بعد الاستبراء القرينة المبيحة
للقذف، جاز النفي، بل لزمه، وإن لم ير شيئا، لم يجز. والثالث: يجوز النفي،
سواء وجدت قرينة وأمارة، أم لا، ولا يجب بحال للاحتمال. وأصح هذه الأوجه
الثاني، صححه الغزالي، وبه قطع العراقيون، وبالأول قطع البغوي.
قلت: جعل الرافعي الأوجه فيما إذا أتت بالولد لأكثر من ستة أشهر من وقت
الاستبراء، وكذا فعل القاضي حسين، والامام، والبغوي، والمتولي. والصحيح
ما قاله المحاملي وصاحبا المهذب والعدة وآخرون أن الاعتبار في ستة الأشهر
304

من حين زنى الزاني بها، لأن مستند اللعان زناه، فإذا ولدت لدون ستة أشهر من
زنا، ولأكثر من سنة من الاستبراء، تيقنا أنه ليس من ذلك الزنا، فيصير وجوده
كعدمه، ولا يجوز النفي، وهذا أوضح. والله أعلم.
ولو كان الزوج يطأ ويعزل، فالصحيح الذي قطع به صاحبا المهذب
والتهذيب وغيرهما أنه لا يجوز النفي بذلك، فقد سبق الماء، وجعله الغزالي مجوزا للنفي. ولو جامع في الدبر أو فيما دون الفرج، فله النفي على الأصح.
فرع لو أتت بولد لا يشبهه، نظر، إن خالفه في نقص وكمال خلقة، أو
حسن وقبح ونحوها، حرم النفي، وإن ولدت أسود وهما أبيضان أو عكسه، فإن لم
ينضم إليه قرينة الزنا، حرم النفي، وإن انضمت أو كان يتهمها برجل، فأتت بولد
على لون ذلك الرجل، جاز النفي على الأصح عند البندنيجي والروياني وغيرهما.
وصحح الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب المنع.
قلت: المنع أصح، وممن صححه غير المذكورين، صاحبا الحاوي
والعدة. والله أعلم.
قال الامام: ولا يؤثر الاختلاف في الألوان المتقاربة، كالأدمة والسمرة
والشقرة، والقرينة من البياض.
فرع متى نفى الولد ولاعن، حكم بنفوذه في الظاهر، ولا يكلف بيان
السبب الذي بنى النفي عليه، لكن يجب عليه فيما بينه وبين الله تعالى رعاية الأسباب
المذكورة، وبناء النفي على ما يجوز البناء عليه، كما سبق.
305

فصل لا يلحق الولد بالزوج إذا لم يتحقق إمكان الوطئ، فإذا نكح وطلقها
في المجلس، أو غاب عنها غيبة بعيدة لا يحتمل وصول أحدهما إلى الآخر، وأتت
بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الغيبة، أو جرى العقد والزوجان متباعدان،
أحدهما بالمشرق، والآخر بالمغرب، وأتت بولد لستة أشهر من حين العقد، ففي
كل هذه الصور ينتفي الولد بغير لعان.
فرع إذا أتت بولد يمكن أن يكون منه، لكنه رآها تزني واحتمل كونه من
الزنا، فليس له نفيه. وهل له القذف واللعان؟ حكى الامام عن العراقيين
والقاضي، أنه ليس له ذلك قال: والقياس جوازه لجواز القذف إذا تيقن الزنا ولا
ولد، انتقاما منها، فحصل وجهان، الصحيح: المنع، لأن اللعان حجة ضرورية،
إنما يصار إليها لدفع النسب، أو قطع النكاح حيث لا ولد، خوفا من أن
يحدث ولد على الفراش الملطخ، وقد حصل الولد هنا، فلم يبق فائدة، ولأن في
إثبات زناها تعيير الولد، وإطلاق الألسنة فيه، ولا يحتمل ذلك لغرض الانتقام مع
إمكان الفراق بالطلاق.
قلت: هذا النقل عن العراقيين مطلقا غير مقبول على الاطلاق، فقد قال
صاحب المهذب: إن غلب على ظنه أنه ليس منه، بأن علم أنه كان يعزل عنها،
أو رأى فيه شبه الزاني، لزمه نفيه باللعان، يعني بعد قذفها، وإن لم يغلب على
ظنه، لم ينفه. وقال صاحب الحاوي: إذا وطئها ولم يستبرئها ورآها تزني، فهو
بالخيار بين اللعان بعد القذف، أو بالامساك. فأما نفي الولد، فإن غلب على ظنه
أنه ليس منه، نفاه، وإن غلب على ظنه أنه منه، لم يجز نفيه، وإن لم يظن أحد
الامرين، جاز أن يغلب حكم الشبه، وهذا هو القياس الجاري على قاعدة الباب.
والله أعلم.
306

الباب الثالث في ثمرة اللعان، وشروطه، وصفته، وأحكامه
فيه أطراف.
الأول: في ثمرات اللعان، وهي نفي النسب وقطع النكاح، وتحريمها
مؤبدا، ودفع المحذور الذي يلحقه بالقذف، وإثبات حد الزنا عليها.
قلت: ومن الثمرات: سقوط حد قذف الزاني بها عن الزوج إن سماه في
لعانه، وكذا إن لم يسمه على خلاف فيه. ومنها: سقوط حصانتها في حق الزوج إن
لم تلاعن هي كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
ومنها: تشطير الصداق قبل الدخول. ومنها: استباحة نكاح أختها وأربع سواها
في عدتها. والله أعلم.
ولا يشترط لجواز اللعان، تعلق جميع ثمراته به، بل منها ما يستقل بإفادة حق
جوازه، ومنها خلافه، فنفي النسب، هو المقصود الأصلي، فيجوز اللعان له
وحده. وإن كان لا ينقطع به نكاح، ولا يسقط به عقوبة، بأن كان أبانها، أو عفت
عن العقوبة، أو أقام بينة بزناها.
وأما دفع عقوبة القذف، فيجوز اللعان لمجرد دفع الحد، وإن لم يكن نكاح
ولا نسب، فإن كان الواجب التعزير، فالتعزير المشروع عند القذف نوعان. تعزير
تكذيب، وهو المشروع في حق القاذف الكاذب ظاهرا، بأن قذف زوجته الذمية أو
الرقيقة، أو الصغيرة التي يوطأ مثلها، وتعزير تأديب، وهو أن يكون كذبه معلوما، أو
صدقه ظاهرا، فيعزر لا تكذيبا له، بل تأديبا لئلا يعود إلى السب والإيذاء، بأن قذف
زوجته الصغيرة التي لا يوطأ مثلها، أو قذف الكبيرة بزنا ثبت بالبينة، أو بإقرارها،
فلا يحد لسقوط حصانتها، ويعزر تأديبا للايذاء بتحديد ذكر الفاحشة.
فأما النوع الأول، فيستوفى بطلبها، وله إسقاطه باللعان على الصحيح.
وأما النوع الثاني، فلا يلاعن لدفع تعزير التي لا يوطأ مثلها وإن كبرت
وطالبت، لأنه لا يعزر للقذف. فإنه أتى بمحال لا يلحقها به عار، وإنما يعزر منعا له
من الايذاء، والخوض في الباطل. وفيه وجه سيعود إن شاء الله تعالى. وإن قذف
الكبيرة بزنا ثبت ببينة أو إقرارها، قال الشافعي رضي الله عنه في رواية المزني: عزر
307

إن طلبت ذلك، ولم يلتعن، وفي رواية الربيع: يعزر إن طلبت ذلك إن لم يلتعن.
وللأصحاب طرق، أشهرها قولان. أظهرهما: لا يلاعن، والطريق الثاني وهو
الأصح، وبه قال أبو إسحاق والقاضي أبو حامد: لا يلاعن قطعا، ورد رواية
الربيع. والثالث: يلاعن قطعا، وتأول رواية المزني. والرابع: إن قذفها بزنا
أضافه إلى ما قبل الزوجية وأثبته ببينة ثم قذفها به، لم يلاعن، وإن قذفها بزنا في
الزوجية، وأثبته ببينة، ثم قذفها به، لاعن، وحمل النصين عليهما، ثم ظاهر نصه
في الروايتين أنه لا يعزر إلا بطلبها. وحكى الامام وجها: أنه يعزره السلطان سياسة
وإن لم تطلب، كما يعزر من يقول: الناس زناة، والصحيح الأول. قال الامام:
وليس هذا موضع الخلاف، إنما موضعه ما إذا أضاف الزنى إلى حالة لا تحتمل
الوطئ، بأن قال: زنيت وأنت بنت شهر، لأن المحال لا يتأدى منه.
قلت: وفي المسألة طريق خامس اختاره صاحب الحاوي، وحكاه
الشاشي: إن كان ثم ولد، لاعن، وإلا فلا، وحمل النصين عليهما. والله أعلم.
فرع قد سبق أن حد القذف يستوفى بطلب المقذوف، وفي التعزير هذا
التفصيل السابق قبل الفرع، ثم ما كان من حد أو تعزير معلقا بطلب شخص، سقط
بعفوه إذا كان أهلا للعفو. فلو قذف زوجته، فعفت عن الحد ولا ولد، فليس له
اللعان على الصحيح، لعدم الضرورة، ويجري الخلاف فيما لو ثبت زناها ببينة، أو
صدقته ولا ولد، فلو سكت فلم تطلب الحد ولم تعف، فليس له اللعان على
الأصح عند الجمهور لما ذكرنا. ولو قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة، فقيل: له
اللعان في الحال ليسقط التعزير، والأصح انتظار بلوغها وعقلها وطلبها التعزير. ولو
308

قذفها عاقلة فجنت، أو في جنونها بزنا أضافه إلى حالة الإفاقة، فعليه الحد. وهل له
اللعان في الحال، أم ينتظر الإفاقة؟ فيه الوجهان.
وفي كل هذه الصور لو كان هناك ولد، وأراد نفيه باللعان، كان له ذلك قطعا.
قلت: وكل موضع لاعن لنفي النسب أو غيره وهي مجنونة، فقد حقق زناها
ولزمها الحد، لكن لا تحد في جنونها، فإذا أفاقت حدت إن لم تلاعن، ذكره
المحاملي في المجموع. والله أعلم.
فرع زنا بك ممسوح، أو صبي ابن شهر، أو قال لرتقاء أو قرناء:
زنيت، فلا حد ويعزر للايذاء، ولا يلاعن على الصحيح، وكذا لو قال لممسوح:
زنيت، أو لبالغ: زنيت وأنت رضيع في المهد، فلا حد ويعزر.
الطرف الثاني: في صفة الملاعن، وله شرطان.
الأول: أهلية اليمين، لان
المعروف عند أصحابنا أن اللعان يمين مؤكدة بلفظ الشهادة. وقيل: هو يمين فيها
شوب الشهادة، فلا يصح لعان الصبي ولا المجنون، ولا يقتضي قذفهما لعانا
309

بعد كمالهما، ولا عقوبة، لكن يعزر المميز على القذف. فإن لم يتفق تعزيره حتى
بلغ، قال القفال: يسقط لأنه كان للزجر عن سوء الأدب، وقد حدث زاجر أقوى منه
وهو التكليف، ويصح لعان الذمي، والرقيق، والمحدود في القذف، ويصح اللعان
عن الذمية، والرقيقة، والمحدودة في القذف.
فرع قذف زوجته الذمية، وترافعا إلينا، ولاعن الزوج، نص الشافعي
رحمه الله، أنها لا تجبر على اللعان، ولا تحد إن امتنعت منه حتى ترضى بحكمنا.
فإن رضيت، حكمنا في حقها بما نحكم به في حق المسلمة. وللأصحاب
طريقان، الصحيح منهما أن المسألة على القولين في الذميين إذا ترافعا إلينا، هل
يجب الحكم بينهما؟ وقد سبقا في نكاح المشرك، إن أوجبنا الحكم، حددناها إن
لم تلاعن، ولا يعتبر رضاها، وإن لم نوجبه، لم نحدها حتى ترضى بحكمنا،
وعلى هذا الطريق، سواء كان الزوج مسلما أو ذميا، والطريق الثاني: لا يجري
عليها الحكم حتى ترضى قطعا.
ولو قذفها زوجها الذمي، وترافعا، ولم يرض الزوج بحكمنا، وطلبته المرأة،
فهل يجبر الزوج على اللعان ويعزر إن لم يلاعن، أم يتوقف ذلك على رضاه؟ فيه
القولان في وجوب الحكم بينهم، ولا يجئ الطريق الثاني. ولو قذفها زوجها
المسلم، ولاعن، فذاك، وإن امتنع، وطلبت التعزير، استوفاه الحاكم.
ثم الواجب على الذمي في قذف الذمية، التعزير إن كان مثلها، كما أن
الواجب بقذف الرقيقة، التعزير وإن قذفها رقيق.
الشرط الثاني: الزوجية، فلا لعان لأجنبي، فلو طلقها رجعية بعد أن قذفها،
أو قذفها في عدة الرجعة، فله أن يلاعنها كما يطلقها، ويظاهر ويؤلي. ويصح لعانه
في الحال، وتترتب أحكامه.
310

ولو ارتد بعد الدخول ثم قذفها وأسلم في العدة، فله اللعان، ولو لاعن في
الردة، ثم أسلم في العدة، وقع اللعان في النكاح، فيصح ويقع موقعه، لأن الكافر
يصح لعانه، وإن أصر حتى مضت العدة، تبينا وقوعه في حال البينونة، فإن كان ولد
ونفاه باللعان، نفذ، وإلا تبينا فساده، ولا يندفع حد القذف عنه على الأصح، وبه
أجاب ابن الحداد.
فرع وطئ امرأة في نكاح فاسد أو شبهة، بأن ظنها زوجته أو أمته، ثم
قذفها وأراد اللعان، فإن كان هناك ولد منفصل، فله اللعان، فينتفي به النسب بلا
خلاف، ويسقط به حد القذف على الصحيح تبعا، وقيل: لا يسقط لعدم الزوجية
وانتفاء الضرورة، إذ كان يمكنه أن يقول: ليس الولد مني، ولا يقذفها، وتتأبد
الحرمة بهذا اللعان على الأصح.
قلت: فإذا قلنا بالضعيف: إنه لا تتأبد الحرمة، فهل يستبيحها بلا محلل، أم
يفتقر إلى محلل كالطلاق الثلاث؟ وجهان، في الحاوي الصحيح: لا يفتقر.
والله أعلم.
ولا يلزمها حد الزنا، ولا يلاعن معارضة للعانة على الأصح. وقيل: يلزمها
وتلاعن لاسقاطه، وإن كان هناك حمل، فهل هو كالمنفصل في اللعان؟ فيه خلاف
نذكره قريبا إن شاء الله تعالى فيما إذا أبان زوجته ثم قذفها، وإن لم يكن ولد ولا
حمل، فلا لعان كالأجنبي. ولو قذف في نكاح يعتقد صحته، ولاعن على ذلك
الاعتقاد، ثم بان فساده، ولا ولد، لم يسقط عنه الحد على الأصح، فعلى هذا:
لا يثبت شئ من أحكام اللعان.
فرع قذف زوجته ثم أبانها، فله أن يلاعن لنفي الولد، ولاسقاط عقوبة
القذف، وإن لم يكن ولد إذا طلبتها، لأن القذف وجد في الزوجية، فإن عفت،
311

فلا لعان، وكذا إن لم تطلب على الأصح، وإذا لاعن، لزمها الحد، ولها إسقاطه
باللعان. وفي تأبد الحرمة بلعانه الوجهان كالنكاح الفاسد، لوقوعه خارج النكاح.
فرع أبانها بخلع أو بالطلاق الثلاث، أو بفسخ، أو كانت رجعية فبانت
بانقضاء العدة، ثم قذفها بزنا مطلق، أو مضاف إلى حال النكاح، فإن كان ولد
يلحقه بحكم النكاح السابق، فله اللعان، ويسقط به عنه الحد. قال البغوي:
ويلزمها حد الزنا إن أضاف الزنا إلى حالة النكاح، ولها إسقاطه باللعان، فإن لم
يضف، لم يلزمها. وفي تأبد الحرمة ومعارضتها باللعان الخلاف السابق، والخلاف
في المعارضة جار في كل لعان بمجرد نفي الولد، كما لو أقام بينة بزناها أو أقرت.
وإن كان حمل، فهل له اللعان قبل انفصاله؟ فيه نصان رواهما
المزني في المختصر والجامع فقال أبو إسحاق: لا يلاعن قطعا، إذ قد لا
يكون ولد، وتأول النص الآخر. والصحيح أن المسألة على قولين. أحدهما:
هذا، وأظهرهما عند الأكثرين: يلاعن، كما لو كان في صلب النكاح. فعلى هذا
لو لاعن فبان أن لا حمل، تبينا فساد اللعان، وإن لم يكن ولد ولا حمل لم يلاعن
على الصحيح، وقيل: له اللعان إن أضاف الزنا إلى حالة النكاح.
فرع قذف زوجته بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح، فإن لم يكن ولد، لم
يلاعن، وإن كان، فوجهان. أحدهما: لا يلاعن، لأنه مقصر بالتاريخ، وكان حقه
أن يطلق القذف. فعلى هذا، له أن ينشئ قذفا ويلاعن لنفي النسب، فإن لم
يفعل، حد، وبهذا قال أبو إسحاق، وصححه الشيخ أبو حامد وجماعة. والثاني،
وبه قال أبو علي بن أبي هريرة والطبري، وصححه القاضي أبو الطيب، والامام،
والروياني وغيرهم: له اللعان، فعلى هذا، يسقط الحد بلعانه، وهل عليها حد
الزنا بلعانه؟ وجهان. وهل لها معارضته باللعان؟ فيه الوجهان السابقان.
قلت: صحح في المحرر قول أبي إسحاق، وهو أقوى. والله أعلم.
فصل قذفها ولاعنها، ثم قذفت، فلها حالان. أحدهما: أن لا يلاعن
312

معارضة للعانة، وحدت حد الزنا، فالقذف الثاني، إن كان من الزوج، نظر، إن
قذفها بذلك الزنا أو أطلق، لم يلزمه إلا التعزير، لأنا صدقناه في ذلك الزنا،
وإنما يعزر للايذاء. وإن قذفها بزنا آخر، فوجهان. أحدهما: يحد كما لم يلاعن.
وأصحهما: يعزر فقط، لأن لعانه في حقه كالبينة، وليس له أن يلاعن لدفع
التعزير، لأنه قذف بعد البينونة، وإن قذفها أجنبي بذلك الزنا، حد على الأصح.
وقيل: يعزر، وإن قذفها بغيره، حد على المذهب. وقيل: فيه الوجهان.
الحال الثاني: أن يلاعن، فإن قذفها الزوج بذلك الزنا، أو أطلق، عزر
فقط، وإن قذفها بزنا آخر، فالمذهب أنه يحد، وقيل: يعزر على قول قديم،
وقيل: هو وجه، وهذا الخلاف جار سواء قذفها بزنا آخر بعد اللعان أو قبله، وسواء
قلنا: يحد أو يعزر، فليس له اللعان، لأنها بائن ولا ولد. وإن قذفها أجنبي، حد
سواء قذفها بذاك الزنا أو غيره. وقيل: إن قذفها بذاك الزنا، عزر، والصحيح
الأول.
وسواء في الزوج والأجنبي، كان ولد فنفاه باللعان وبقي أو مات أو لم يكن،
هذا كله إذا قذفها ولاعن ثم قذف، أما إذا قذفها ولم يلاعن، فحد للقذف، ثم
قذفها بذلك الزنا، فلا يحد لأنه ظهر كذبه بالحد الأول، ويعزر تأديبا للايذاء. وقد
سبق أنه لا يلاعن، لاسقاط مثل هذا التعزير على الصحيح. وإن قذفها بزنا آخر،
فوجهان. قال البغوي: أصحهما: يعزر. وقال أبو الفرج الزاز: أصحهما: يحد
لأن كذبه في الأول لا يوجب كذبه في الثاني، فوجب الحد لدفع العار. وهل يلاعن
313

لاسقاط الحد أو التعزير؟ وجهان. أصحهما: لا، لظهور كذبه بالحد. وإن قذفها
أجنبي بذلك الزنا أو غيره، حد.
فرع قذف زوجته أو غيرها مرتين فصاعدا، فإن أراد زنا واحدا، فعليه حد
واحد، لأنه لم يقذف إلا بفاحشة واحدة، فإن حد مرة، فأعاد، عزر للايذاء، ولا
يحد لظهور كذبه. وإن قذف بزنا آخر، كقوله: زنيت بفلان، ثم قال: زنيت
بآخر، فقولان. الجديد وأحد قولي القديم: يجب حد واحد. والقديم الآخر:
يتعدد الحد. ورأي ابن كج القطع بحد واحد، فإذا قلنا: حد واحد، فقذف فحد،
ثم قذف ثانيا، فهل يحد ثانيا أم يعزر لظهور كذبه بالحد الأول؟ وجهان أو قولان.
قال ابن كج: الصحيح منهما التعزير.
ولو قذف زوجته مرتين فصاعدا بزنيتين، ففي التعداد والاتحاد هذا الخلاف،
فإن قلنا بالاتحاد، كفى لعان واحد، وإن قلنا بالتعدد، فوجهان. أحدهما: يتعدد
اللعان بحسب تعدد الحد، وأصحهما: يكفي لعان واحد، لأنه يمين، وإذا كان
الحقان لواحد، كفى يمين، إلا أنه يقول في اللعان: أشهد بالله أني لمن الصادقين
فيما رميتها به من الزنيتين. وإن سمى الزانيين، ذكرهما في اللعان، فلو وقع أحد
القذفين في الزوجية، والآخر خارجها، فله صورتان. إحداهما: أن يقذف
أجنبية، ثم يتزوجها قبل أن يحد، ثم يقذفها. فينظر إن قذفها بالزنا الأول، لم
يجب إلا حد، وليس له إسقاطه باللعان، وإن قذفها بزنا آخر، ففي تعدد الحد
واتحاده طريقان. أحدهما: على القولين فيما إذا قذف زوجته أو أجنبيا بزنيتين.
والثاني: القطع بالتعدد، لاختلاف موجبهما، لأن الثاني يسقط باللعان، بخلاف
الأول فصارا كحدين مختلفين، ولا تداخل مع الاختلاف، وهذا الطريق أرجح عند
القاضي أبي الطيب، وبه قطع الشيخ أبو حامد ومتابعوه. ورجح آخرون طريقة
القولين، قالوا: وموجب القذفين الحد، ولا اختلاف فيه، وإنما الاختلاف في
طريق الخلاص منه، فإن قلنا بالاتحاد، فإن لم يلاعن، حد لهما حدا واحدا، وإن
لاعن الثاني حد للأول، وإن حد للأول قبل أن يلاعن، سقط اللعان للثاني، إلا أن
يكون هناك ولد فيلاعن لنفيه، فإن لم يكن، فعلى الخلاف في أنه هل يجوز اللعان
لمجرد غرض قطع النكاح وإلصاق العار بها، وقد سبق أن قلنا بالتعدد، فإن طالبت
314

أولا للقذف الأول، فأقام بينة بزناها، سقط الحدان، لأنه ثبت أنها غير محصنة،
وإن لم يقم حد. ثم إذا طالبت للثاني، فأقام بينة أو لاعن، سقط عنه الحد الثاني،
وإلا حد ثانيا، وإن طالبت أولا بالثاني، فأقام بينة، سقط الحدان، وإلا فإن
لاعن، سقط الحد الثاني دون الأول، وإن لم يلاعن، حد للثاني، ثم يجد
للأول. وإن طالبت بهما جميعا، حد للأول لسبق وجوبه، ثم للثاني إن لم يلاعن.
وإن حد في القذف الأول، ثم قذفها في النكاح ولم يلاعن، حد ثانيا على
الصحيح، وقال ابن الحداد: لا يحد للثاني. قال الشيخ أبو علي: لم يرض هذا
أحد من أصحابنا، وقالوا: يحد ثانيا إذا لم يلتعن تفريعا على قول التعدد، قالوا:
ولا فرق بين أن يقذف في النكاح بعد أن يحد للأول أو قبله، في أنه يحد الثاني إذا
لم يلتعن، لكن إذا كان قبله، حد لكل واحد منهما.
فرع قذف زوجته ثم أبانها بلا لعان، ثم قذفها بزنا آخر، فإن حد للأول،
ثم نكحها، ففي حده للثاني قولان، كما لو قذف أجنبية فحد، ثم قذفها ثانيا، وإن
لم تطلب حد القذف الأول حتى أبانها، فإن لاعن للأول، فقيل: يحد للأول.
وقيل: قولان، وإن لم يلاعن، فقيل: يحد حدين، وبه قال ابن الحداد. وقيل:
قولان. أحدهما: هذا. والثاني: حد واحد.
فرع قذف زوجته البكر فلم تطالبه حتى فارقها، ونكحت غيره ووطئها
وصارت محصنة، وقذفها الثاني، ثم طالبتهما، فلاعن كل واحد منهما، وامتنعت
هي من اللعان، فقد ثبت عليها بلعان الأول زنا بكر، وبلعان الثاني زنا محصنة،
وفيما عليها؟ وجهان. أحدهما: الرجم فقط، لأن شأن الحدود التداخل.
وأصحهما وبه قال ابن الحداد: يلزمها الجلد ثم الرجم. قال الشيخ أبو علي: هذا
ظاهر المذهب، لأن التداخل إنما يكون عند الاتفاق، وقال: وعلى هذا، لو زنا
العبد، ثم عتق، فزنى قبل الاحصان، فقيل: عليه خمسون جلدة لزناه في الرق،
315

ومائة لزناه في الحرية، لاختلاف الحدين، والأصح أنه يجلد مائة فقط، ويدخل
الأقل في الأكثر لاتحاد الجنس، وعلى هذا لو زنا وهو حر بكر، فجلد خمسين،
وترك لعذر، فزنا مرة أخرى، جلد مائة، وتدخل الخمسون الباقية فيها.
ولو قذف شخصين محصنا وغيره بكلمة، وقلنا باتحاد الحد، دخل التعزير في
الحد. وفي هذا نظر، لاختلاف جنس الحد والتعزير.
ولو كانت في المسألة الأولى بكر في لعان الزوجين، فالصحيح أن عليها حدا
واحدا، كما لو ثبت زنيان، أحدهما: ببينة، والآخر بإقرار أو كلاهما بالبينة. قال
ابن الحداد: عليها حدان، لأن لعان كل واحد حجة في حقه، فصارا كجنسين.
فصل إذا لحقه نسب بملك يمين في مستولدة، أو أمة موطوءة، لم ينتف
عنه باللعان على الأظهر، وقيل: لا ينتفي قطعا لامكان نفيه بدعوى الاستبراء،
وسيأتي في آخر الاستبراء بيانه مع بيان أن الأمة متى تصير فراشا لسيدها، حتى يلحقه
ولدها إن شاء الله تعالى.
ولو اشترى زوجته، فانفسخ النكاح، ثم ولدت، فإن كان لدون ستة أشهر من
يوم الشراء، فهو لاحق به بحكم النكاح، وله نفيه باللعان ويكون اللعان بعد
الانفساخ كهو بعد البينونة بالطلاق، وإن ولدته لستة أشهر فصاعدا من يوم الشراء،
فإن لم يطأها بعد الشراء، أو وطئها وولدته لدون ستة أشهر من يوم الوطئ، نظر، إن
كان لأربع سنين فأقل من وقت الشراء، فالحكم كذلك، وإن كان لأكثر من أربع
سنين، فهو منفي عنه بغير لعان. فإن وطئها بعد الشراء وأتت به لستة أشهر فصاعدا
من وقت الوطئ، ولدون أربع سنين من وقت الشراء، فإن لم يدع الاستبراء بعد
الوطئ، لحقه الولد بملك اليمين، وهل له نفيه باللعان، فيه الطريقان. وإن ادعى
الاستبراء بعده، فإن أتت به لأقل من ستة أشهر من وقت الاستبراء، فالحكم كذلك
وتلغو دعوى الاستبراء، وإن كان لستة أشهر فأكثر من وقت الاستبراء، لم يلحقه
الولد بحكم الملك على الأصح، وسنعيده في آخر باب الاستبراء إن شاء الله
316

تعالى، ولا يلحقه أيضا بملك النكاح لانقطاع فراش النكاح بفراش الملك،
وقيل: يلحقه بملك النكاح، ولا ينتفي إلا بلعان لوجود الامكان، وامتناع الالحاق
بالملك، وهذا شاذ، وقد يعبر عن هذه الأحوال، فيقال: إن احتمل كونه من النكاح
فقط، لحق به النكاح، وإن احتمل بالملك فقط، لحق به، وكذا إن احتملها على
الصحيح. وإن لم يحتمل واحد منهما، فلا إلحاق، ومتى وقع اللعان بعد الشراء،
فهل يؤيد التحريم؟ وجهان كما لو وقع بعد البينونة. وإن قلنا: لا يؤبده، فهي
حلال له بملك اليمين، وإن قلنا: يؤبده، ففي حلها (له) بملك اليمين خلاف مبني
على أنه لو لاعن زوجته الأمة، ثم اشتراها، هل له وطؤها بملك اليمين؟ فيه طريقان
أحدهما: على وجهين كالمطلقة ثلاثا إذا اشتراها. والثاني: لا تحل قطعا لغلظ
تحريمه.
الطرف الثالث، في سبب اللعان: وهو القذف أو نفي الولد، فمتى نسبها إلى
وطئ حرام من جانبها، أو جانب الزاني، فقد قذفها. وإن نسبها إلى زنا هي عليه
مكرهة، أو جاهلة، أو نائمة، فلا حد لها، ويجب لها التعزير على الأصح لأن فيه
عارا وإيذاء، فإن كان ولد لاعن لنفيه، وإلا فيلاعن أيضا على المذهب. ولو عين
الزاني فقال: زنا بك فلان وأنت مكرهة، أو قال: قهرك فلان فزنا بك، لزمه الحد
لقذفه، وله إسقاطه باللعان، بخلاف ما لو قذف زوجته، وأجنبية بكلمة، فإنه لا
يتمكن من إسقاط حد الأجنبية باللعان، لأن فعلها ينفك عن فعل الأجنبية، ولا ينفك
عن فعل الزاني بها.
ولو قال لزوجته: وطئت بشبهة، ففي وجوب التعزير عليه لها الوجهان فيما لو
نسبها إلى الزنا مكرهة، وإن لم يكن ولد، فله اللعان لنفي التعزير إن أوجبناه، وإلا
فلا، وإن كان ولد، فطريقان.
أحدهما: في جواز اللعان وجهان. أصحها: الجواز، إلا أنه إذا لم
يلاعن، لحقه الولد ولم يلاعن للقذف.
والطريق الثاني: وهو المذهب، وبه قال الأكثرون: أنه إن لم يعين الواطئ
بالشبهة، أو عين فلم يصدقه، لحق الولد بالنكاح، وله نفيه باللعان، وإن صدقه
317

وادعى الولد، عرض على القافة. فإن ألحقه بذلك المعين، لحقه ولا لعان، وإلا
فيلحق الزوج، وليس له نفيه باللعان، لأنه كان له طريق آخر ينتفي به، وهو أن
يلحقه القافة بذلك المعين، وإنما ينفى باللعان من لا يمكن نفيه بطريق آخر، فإن لم
يكن قائف، ترك حتى يبلغ الصبي فينتسب إلى أحدهما، فإن انتسب إلى ذلك
المعين، انقطع نسبه عن الزوج بلا لعان، وإن انتسب إلى الزوج، فله نفيه
باللعان، لأنه لا يمكن نفيه بغير اللعان، هكذا ذكره البغوي وغيره. ولو قال: زنيت
بفلان وهو غير زان، بل ظنك زوجته، فهو قاذف لها، فله إسقاط الحد باللعان،
والولد المنسوب إلى ذلك الواطئ منسوب إلى وطئ شبهة، فإن صدقه فلان، عرض
على القائف كما ذكرناه، ولو اقتصر على قوله: ليس هذا الولد مني، فعن صاحب
التقريب حكاية تردد في جواز اللعان، وقطع الجمهور بأنه لا يلتفت إلى ذلك،
ويلحق الولد بالفراش، إلا أن يسند النفي إلى سبب معين ويلاعن.
فرع لا يشترط لجواز اللعان أن يقول عن القذف: رأيتها تزني، بل لو
قال: زنيت أو يا زانية، أو قال وهي غائبة: فلانة زانية، جاز اللعان، ولا يشترط
أيضا أن يدعي استبراءها بعد الوطئ. قال الأصحاب: ولو أقر بوطئها في الطهر الذي
قذفها بالزنا فيه، جاز له أن يلاعن وينفي النسب، قال في البسيط: ولعل هذا
في الحكم الظاهر، فأما بينه وبين الله تعالى، فلا يحل له النفي مع تعارض
الاحتمال، ويجوز أن يعول الزوج فيه على أمر يختص بمعرفته كعزل أو قرينة حال.
فصل إذا قذف زوجته برجل معين، فسيأتي الكلام في أنه يلزمه حد أم
حدان إن شاء الله تعالى، فإن ذكر الرجل في لعانه، بأن قال: أشهد بالله اني لمن
الصادقين فيما رميتها به من الزنا بفلان، سقط حقه، كما سقط حقها، سواء أوجبنا
حدا أم حدين، حتى لو قذفها بجماعة وذكرهم، سقط حق الجميع، وإن لم يذكر
الرجل في لعانه، لم يسقط حقه على الأظهر، فعلى هذا إن أراد إسقاطه، فطريقه
أن يعيد اللعان ويذكره، ولو امتنع الزوج من اللعان ولا بينة، فحد بطلبها ثم جاء
الرجل يطلب الحد، فإن قلنا: الواجب حد واحد، فقد استوفى، وإن قلنا: حدان
استوفي منه حد آخر، وله إسقاطه باللعان، ولو ابتدأ رجل بطلب حقه، فهل له أن
يلاعن؟ له وجهان وقد يبنيان على خلاف في أن حقه يثبت أصلا، أم تابعا لحقها؟
318

وإن عفا الرجل عن حقه، أو عفت هي، فللآخر منهما المطالبة، سواء قلنا:
الواجب حد أم حدان، وله إسقاطه باللعان. وعن ابن القطان: إذا قلنا: حقه
تابع، فلا حد ولا لعان، والصحيح الأول، وبمثله أجاب ابن الصباغ، فيما لو لم
يذكر الرجل في لعانها، وقلنا: لا يسقط حقه فطالب بحقه، وامتنع الزوج عن إعادة
اللعان، فلا يجد سواء قلنا: يجب لهما حد أم حدان، لأن الحد لا يتبعض، ولا
يجب باللعان حد الزنا على الرجل المرمي به بحال.
وإذا لاعن لاسقاط حد المرمي به، قال البغوي: قيل: يتأبد التحريم،
ويحتمل خلافه.
فرع قذف امرأته عند الحاكم بزيد، أو قذف أجنبي أجنبيا والمقذوف
غائب ففيه ثلاث طرق. أحدها: يستحب للحاكم أن يبعث إلى المقذوف فيخبره
بالحال، ليطالب بحقه إن شاء، وبهذا قال الشيخ أبو حامد. والطريق الثاني وبه قال
الأكثرون: يجب ذلك على الحاكم. والثالث: نقل أبو الفرج السرخسي، أن
الشافعي رحمه الله نص على أنه يجب ذلك على الحاكم، ونص أنه لو أقر عنده رجل
بدين لزيد، لا يجب عليه إعلامه. وأن للأصحاب في النصين: ثلاث طرق.
أحدها: تنزيل النصين على حالين إن كان من له الحق حاضرا عالما بالحال، فلا
حاجة إلى إخباره في النوعين، وإن كان غائبا أو غافلا عما جرى، وجب إعلامه لئلا
يضيع حقه. والثاني: تقرير النصين على ظاهرهما، لأن الامام يتعلق به استيفاء
الحد بخلاف المال. والثالث: جعلهما على قولين بالنفل والتخريج، وكيفما كان،
فالمذهب وجوب إخبار المقذوف.
وأما قوله في مختصر المزني: وليس للامام إذا رمي رجل بزنى أن يبعث
إليه يسأله عن ذلك، فمتأول. قيل: المراد: لا يسأله، هل زنيت؟ وقيل:
المراد: إذا لم يكن الرامي أو المرمي معينا، بأن قال رجل عند الحاكم: الناس
يقولون: زنا فلان، أو قال: زنا في هذه المحلة رجل، أو رمى بحجر، فقال: من
رماني به فهو زان، وهو لا يدري من رماه به. قال ابن سلمة: المراد: إذا رماه
تعريضا لا تصريحا، وعن ابن سريج، المراد: إذا قذف زوجته بمعين ولاعن، فلا
حاجة إلى إعلامه سواء ذكره في اللعان، أم لا، وقلنا: يسقط حده له، أو لا
319

يسقط، وقال أبو إسحاق: لا يخبره وإن لم يلاعن، لأن الزوجة ستطالب،
ومطالبتها تكفي عن مطالبته، بخلاف ما لو قذف أجنبيا.
فصل إذا قذف جماعة، فهم ضربان. أحدهما: أن يتمحضوا أجانب أو
زوجات، والثاني: أن يكونوا من الصنفين، الأول: المتمحضون، فإما أن يقذفهم
بكلمات، وإما بكلمة، فهما حالان.
الأول: أن يقذف كل واحد بكلمة، فعليه لكل واحد حد، وإن كن
زوجات، أفرد كل واحد بلعان، ويكون اللعان على ترتيب قذفهن، فلو لاعن عنهن
لعانا واحدا، لم يكف عن الجميع، لكن، إن سماهن، حسب عن التي سماها
أولا، وإن أشار إليهن فقط، لم يعتد به عن واحدة منهن.
الحال الثاني: أن يقذفهم بكلمة، كقوله: زنيتم، أو أنتم زناة، فقولان.
الجديد: أن لكل واحد حدا، والقديم: لا يجب إلا حد واحد، فعلى هذا، إن
حضر واحد وطلب الحد، حد له، وسقط حق الباقين.
ولو قال: يا ابن الزانيين، فهو قذف لأبوي المخاطب بكلمة، ففيه القولان،
وإن قال لنسوته الأربع: زنيتن، فالحد على القولين، فإن أراد اللعان، فإن قلنا:
يتعدد الحد، تعدد اللعان، وإن قلنا: يتحد الحد، ففي اللعان وجهان،
أصحهما: يتعدد، لأن اللعان يمين، والايمان المتعلقة بحقوق جماعة لا تتداخل.
والثاني: يكفي لعان يجمعهن فيه، بالاسم أو بالإشارة إن اكتفينا بها، وإذا قلنا
بالتعدد، فرضين بلعان واحد، لم ينفع كما لو رضي المدعون بيمين واحدة، ثم
يلاعن عنهن على الترتيب الذي يتفقن عليه، فإن تنازعن في الابتداء، أقرع بينهن،
فإن قدم الحاكم واحدة، قال الشافعي رضي الله عنه: رجوت أن لا يأثم. ونقل
القاضي أبو الطيب أن ذلك فيما إذا لم يقصد تفضيل بعضهن ويجنب الميل، وإن
قلنا بالاتحاد، فذلك إذا توافقن على الطلب، أو لم نشترط طلبهن، أما إذا
شرطناه وانفرد بعضهن بالطلب، فلاعن، ثم طلب الباقيات، احتاج إلى اللعان، وحصل
التعدد. وإذا لاعن عنهن، لزمهن الحد، فمن لاعنت، سقط عنها الحد، ومن
320

امتنعت حدت، وإذا امتنع من اللعان، كفاه حد واحد على قولنا بالاتحاد، وجميع
ما ذكرناه هو فيمن قذف جماعة بكلمة ولم يقيد بزنا واحد. فإن قيد، بأن قال لزوجته
أو أجنبية: زنيت بفلان، فطريقان. أصحهما: طرد القولين في تعدد الحد
واتحاده. والثاني: القطع بالاتحاد لأنه رماهما بفاحشة واحدة.
الضرب الثاني: أن يكونوا من الصنفين، بأن قذف زوجته وأجنبية، نظر إن
كان بكلمتين، فعليه حدان، فإن لاعن عن زوجته، سقط حدها، وبقي حد
الأجنبية. ولو قال لزوجته: يا زانية بنت الزانية، أو زنيت وزنت أمك، فعليه حدان
لهما، فإن حضرتا معا وطلبتا الحدين، فثلاثة أوجه. أصحهما وهو المنصوص: يبدأ
بحد الام، لأن حقها أقوى، فإنه لا يسقط باللعان. والثاني: يبدأ بالبنت لسبقها.
والثالث: يقرع. ولو قال لأجنبية: يا زانية بنت الزانية، قدمت البنت على الأصح.
وقيل: يقرع. ولو قال لام زوجته: يا زانية أم الزانية، قدمت الام على الأصح.
وقيل: يقرع. ولو قذف زوجته وأجنبية بكلمة، كقوله: زنيتما، أو أنتما زانيتان،
ولم يلاعن للزوجة، ففي تعدد الحد واتحاده طريقان. أصحهما: فيه القولان
السابقان. والثاني: القطع بالتعدد لاختلافهما في الحكم، فإن حد الزوجة يسقط
باللعان دون الآخر، فإن قلنا بالاتحاد، فجاءت الأجنبية مطالبة، فحد لها، سقط
الحد واللعان في الزوجة، إلا أن يكون ولد يريد نفيه. وإن لاعن للزوجة، حد
للأجنبية، وإن عفت إحداهما، حد للأخرى إذا طلبت بلا خلاف، ذكره البغوي
وغيره. وحكي وجه شاذ، أن قوله: يا زانية بنت الزانية، كقوله: أنتما زانيتان،
ومتى وجد حدان لواحد أو جماعة وأقيم أحدهما، أمهل إلى أن يبرأ جلده، ثم يقام
الثاني.
فصل ادعت أن زوجها قذفها، فله في الجواب أحوال.
أحدها: أن تسكت فيقيم عليه بينة، فله أن يلاعن ويقول في لعانه: أشهد
321

بالله إني لمن الصادقين فيما أثبتت علي من رميي إياها بالزنا.
الحال الثاني: أن يقول في الجواب: لا يلزمني الحد، فيقيم عليه بالبينة،
فله اللعان أيضا.
الثالث: أن ينكر القذف، فيقيم عليه بينة، ثم يريد اللعان، فإن أول
إنكاره، وقال: أردت أن ما رميتها به ليس بقذف باطل، بل هو صدق، أو أنشأ في
الحال قذفا آخر، فله اللعان، لأن من كرر القذف كفاه لعان واحد. وإن لم يذكر
تأويلا ولا أنشأ، فله اللعان أيضا على الصحيح، وبه قال الأكثرون وهو ظاهر النص
لاحتمال التأويل المذكور.
الرابع: أن يقول: ما قذفتك وما زنيت، فإذا قامت بينة، حد ولا لعان، لأنه
شهد بعفتها، فكيف يحقق زناها بلعانه؟! وليس له إقامة البينة على زناها والحالة
هذه، لأنه يكذب الشهود بقوله: وما زنيت. ولو أنشأ والحالة هذه قذفا، فعن
القاضي حسين إطلاق القول بجواز اللعان. قال الامام والغزالي: هذا محمول على
ما إذا مضى بعد الدعوى والجواب زمن يمكن تقدير الزنا فيه، وإلا فيؤاخذ بإقراره
ببراءتها، ولا يمكن من اللعان. وإذا لاعن، ففي سقوط حد القذف الذي قامت به
البينة وجهان، ومقتضى كلام الغزالي في الوجيز: القطع بسقوطه.
فرع لو امتنع الزوج من اللعان فعرض الحد، أو استوفى منه بعض
الجلدات، ثم بدا له أن يلاعن، مكن، وإذا لاعن، سقط عنه ما بقي من الحد كما
لو بدا له أن يقيم فيه البينة، وكذا المرأة إذا امتنعت من اللعان ثم عادت إليه، مكنت
منه، وسقط عنها ما بقي من الحد. ولو أقيم عليه الحد بتمامه ثم أراد اللعان،
فالمذهب أنه إن كان ولد منه، لاعن لنفيه، وإلا فلا.
322

فصل قال لزوجته: زنيت وأنت صغيرة، فقد أطلق الغزالي والبغوي، أن عليه التعزير، وله إسقاطه باللعان على الصحيح، وفصل الجمهور، فقالوا: يؤمر
ببيان الصغر، فإن ذكر سنا لا يحتمل الوطئ كثلاث سنين أو أربع، فليس بقذف
ويعزر للسب والإيذاء، ولا لعان، كما سبق أن مثل هذا لا لعان فيه. وإن ذكر سنا
يحتمله، كعشر سنين، فهو قذف، وعليه التعزير، وله إسقاطه باللعان. ولو قال:
زنيت وأنت مجنونة، أو مشركة، أو أمة، فإن عرفت لها هذه الأحوال، أو ثبتت ببينة
أو إقرار، فلا حد، وعليه التعزير، وله إسقاطه باللعان، وإن عرف ولادتها على
الاسلام والحرية وسلامة عقلها، وجب الحد على الصحيح وقيل: التعزير، لأنها
إذا لم يكن لها تلك الحالة، كان قوله كذبا ومحالا، كقوله: زنيت وأنت رتقاء، وإن
لم يعلن حالها واختلفا، فأيهما يصدق بيمينه، قولان. أظهرهما: هي، فإن
نكلت، حلف، ووجب التعزير. والثاني: هو، فإن نكل، حلفت وحد، ويجئ
القولان فيما لو قال الزوج: أنت أمة في الحال، فقالت: بل حرة، ولا يجيئان فيما لو قال: أنت كافرة في الحال، فقالت: بل مسلمة، لأنها إذا قالت: أنا مسلمة
حكم بإسلامها. ولو قالت: أردت بقولك لي: زنيت وأنت صغيرة قذفي في
الحال، ووصفي بالصغر في الحال، ولم ترد القذف بزنا في الصغر، أو قال: زنيت
وأنت مجنونة أو كافرة، فأقرت بتلك الحال، وقالت: أردت القذف في الحال،
فعن الشيخ أبي حامد، أن القول قولها، واستبعده ابن الصباغ وغيره. ولو أطلق
النسبة إلى الزنا، ثم قال: أردت في الصغر أو الجنون، أو الكفر، أو الرق، لم
يقبل منه على المذهب، وبه قطع الجمهور، سواء عهد لها ذلك الحال أم لا. فإن
323

قال: هي تعلم أني أردت هذا، حلفت على نفي العلم، وحد لها. وقال
السرخسي: إن عهد تلك الحال، قبل وعزر، وإلا فقولان.
الطرف الرابع: في كيفية اللعان: وفيه فصول.
الأول: في كلمات اللعان وهي خمس: أن يقول الزوج أربع مرات: أشهد
بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي من الزنا، ويسميها ويرفع في نسبها
بحيث تتميز إن كانت غائبة عن المجلس. وفي تعليق الشيخ أبي حامد، أنه يرفع في
نسبها بحيث تتميز عن سائر زوجاته إن كان في نكاحه غيرها، فقد يشعر هذا
بالاستغناء بقوله: فيما رميت به زوجتي عن الاسم والنسب، إذا لم يكن تحته
غيرها. فإن كانت المرأة حاضرة عنده أشار إليها، وهل يحتاج مع الإشارة إلى
التسمية؟ وجهان. أصحهما: لا، كسائر العقود والفسوخ. والثاني: نعم، لان
اللعان مبني على الاحتياط والتغليظ، وقد يقال في هذا التوجيه: لا يكتفي في
الحاضرة بالتسمية، ورفع النسب حتى تضم إليهما الإشارة، ثم يقول في الخامسة:
إن علي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا، ويعرفها في الغيبة
والحضور كما في الكلمات الأربع، وإن كان ولد ينفيه ذكره في الكلمات الخمس،
فيقول: وإن الولد الذي ولدته، أو هذا الولد من الزنا وليس هو مني. وإن قال: هو
من زنا واقتصر عليه، كفى على الأصح، ولو اقتصر على قوله: ليس مني، لم
يكف على الصحيح لاحتمال إرادة عدم الشبه، ولو أغفل ذكر الولد في بعض
الكلمات، احتاج إلى إعادة اللعان لنفيه، ولا تحتاج المرأة إلى إعادة لعانها على
لعانها على المذهب. وحكى السرخسي تخريج قول فيه.
324

وصفة لعان المرأة أن تقول أربع مرات: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماني
به من الزنا، وتقول في الخامسة: علي غضب الله إن كان من الصادقين فيما رماني
به، والقول في تعريفه غائبا وحاضرا، كما ذكرنا في جانبها، ولا تحتاج هي إلى ذكر
الولد، لأن لعانها لا يؤثر فيه. ولو تعرضت له، لم يضر، وفي جمع الجوامع
للقاضي الروياني أن القفال حكى وجها ضعيفا أنها تذكره، فتقول: هذا الولد ولده
ليستوي اللعانان.
فرع لا يثبت شئ من أحكام اللعان إلا إذا تمت الكلمات الخمس، ولو
حكم حاكم بالفرقة بأكثر كلمات اللعان، لم ينفذ حكمه، لأن حكمه غير جائز
بالاجماع، فلا ينفذ كسائر الاحكام الباطلة.
فرع لو قال بدل كلمة الشهادة: أحلف بالله، أو أقسم، أو أؤلي بالله إني
لمن الصادقين، أو قال: بالله إني لمن الصادقين من غير زيادة، أو أبدل لفظ اللعن
بالابعاد، أو لفظ الغضب بالسخط، أو الغضب باللعن أو عكسه، لم يصح على
الأصح في جميع ذلك. وقيل: لا يصح قطعا في إبدال الغضب باللعن، ولا في
الاقتصار على: بالله إني لمن الصادقين. ويشترط تأخير لفظتي اللعن والغضب عن
الكلمات الأربع على الأصح، ويشترط الموالاة بين الكلمات الخمس على الأصح،
فيؤثر الفصل الطويل.
فرع يشترط في لعان الرجل والمرأة أن يأمر الحاكم به، فيقول للملاعن:
قل: أشهد بالله إني لمن الصادقين... إلى آخرها.
فرع يشترط كون لعانها بعد لعان الرجل.
فرع إن لم يكن للأخرس إشارة مفهومة، ولا كتابة، لم يصح قذفه ولا
لعانه، ولا سائر تصرفاته. وإن كان له إشارة مفهومة، أو كتابة، صح قذفه ولعانه،
325

كالبيع والنكاح والطلاق وغيرها، ثم المفهوم من كلام الأكثرين، وفي الشامل
وغيره، التصريح به أنه يصح لعانه بالإشارة وحدها، وبالكناية وحدها، وذكر
المتولي، أنه إذا لاعن بالإشارة، أشار بكلمة الشهادة أربع مرات، ثم بكلمة
اللعن، وإن لاعن بالكتابة، كتب كلمة الشهادة وكلمة اللعن، ويشير إلى كلمة
الشهادة أربع مرات، ولا يكلف أن يكتب أربع مرات، وهذا الطريق الآخر جمع بين
الإشارة والكتابة، وهو جائز، ولكن مقتضى التصحيح بالكتابة المجردة تكرير كتابة
كلمة الشهادة. وأما قول الغزالي في الوجيز: عليه أن يكتب مع الإشارة أو
يورد اللفظ عليه ناطق فيشير بالإجابة، فلم يقله أحد من الأصحاب، وإنما قال
الامام: لو قال به قائل، لكان قريبا، وحكاه في البسيط عن بعض الأصحاب،
ولا يعرف عن غيره. ولو لاعن الأخرس بالإشارة، ثم عاد نطقه وقال: لم أرد
اللعان بإشارتي، قبل قوله فيما عليه، فيلحقه النسب والحد، ولا يقبل فيما له، فلا
ترتفع الفرقة والتحريم المؤبد، وله أن يلاعن في الحال لاسقاط الحد، وله اللعان
لنفي الولد إن لم يفت زمن النفي. ولو قال: لم أرد القذف أصلا، لم يقبل قوله،
ولو قذف ناطق، ثم عجز عن الكلام لمرض أو غيره، فإن لم يرج زوال ما به، فهو
كالأخرس، وإن رجي، فثلاثة أوجه. أحدها: لا ينتظر، بل يلاعن بالإشارة
لحصول العجز، وربما مات فلحقه نسب باطل. والثاني: ينتظر وإن طالت مدته.
وأصحهما: ينتظر ثلاثة أيام فقط. ونقل الامام أن الأئمة صححوه. وعلى هذا،
فالوجه أن يقال: إن كان يرجى زواله إلى ثلاثة أيام ينتظر، وإلا فلا ينتظر أصلا.
326

فرع من لا يحسن العربية، يلاعن بلسانه، ويراعي ترجمة الشهادة واللعن
والغضب، فإن أحسن العربية، فهل يتعين اللعان بها، أم له أن يلاعن بأي لسان
شاء؟ فيه وجهان. أصحهما: الثاني. وإذا لاعن بغير العربية، فإن كان القاضي
يحسن تلك اللغة، فلا حاجة إلى مترجم، ويستحب أن يحضره أربعة ممن
يحسنها، وإن لم يحسنها، فلا بد من مترجمين، ويكفيان في جانب المرأة، فإنها
تلاعن لنفي الزنا لا لاثباته. وفي جانب الرجل طريقان. أصحهما: القطع بالاكتفاء
باثنين، وبه قال أبو إسحاق وابن سلمة. والثاني: على قولين بناء على الاقرار بالزنا
يثبت بشاهدين، أم يشترط أربعة؟ والأظهر ثبوته بشاهدين.
الفصل الثاني: في التغليظات.
فمنها: التغليظ بالزمان، بأن يكون بعد صلاة العصر، فإن لم يكن طلب
أكيد، فليؤخر إلى عصر يوم الجمعة، ذكره القفال وغيره.
ومنها: التغليظ بالمكان، بأن يلاعن في أشرف مواضع البلد، فإن كان بمكة
فبين الركن الأسود والمقام. وقد يقال: بين البيت والمقام، وهما متقاربان، وقال
القفال: في الحجر.
وفي المدينة عند منبر رسول الله (ص)، وفي بيت المقدس عند الصخرة،
وفي سائر البلاد في الجامع عند المنبر. وقيل: لا يعتبر كونه عند المنبر، ويلاعن
بين أهل الذمة في الموضع الذي يعظمونه، وهو الكنيسة لليهود، والبيعة للنصارى،
327

وهل يأتي الحاكم بيت النار في لعان المجوس؟ وجهان. أصحهما: نعم. وقال
القفال: لا، بل يلاعن بينهما في المسجد، أو مجلس الحكم، ولا يأتي بيت
الأصنام في لعان الوثنيين، لأنه لا أصل له في الحرمة، واعتقادهم غير معتبر،
بخلاف المجوس، بل يلاعن بينهم في مجلس الحكم.
وصورته أن يدخلوا دارنا بأمان أو هدنة، وإذا كان الزوج مسلما وهي ذمية،
لاعن هو في المسجد، وهي في الموضع الذي تعظمه. فإن قالت: ألاعن في
المسجد، ورضي به الزوج، جاز، وكذا يجوز أن يتلاعن الذميان في المسجد إلا
المسجد الحرام.
ومنها التغليظ بحضور جماعة من أعيان البلد وصلحائه، فإن ذلك أعظم،
وأقلهم أربعة. ومنها التغليظ باللفظ، وسيأتي بيانه في الدعوى والبينات إن شاء
الله تعالى. ثم في وجوب التغليظ في هذه الأمور واستحبابه، طرق، والمذهب
الاستحباب في الجميع.
فرع من لا ينتحل دينا، كالدهري، والزنديق، هل يغلظ عليه بهذه
الأمور؟ وجهان. أصحهما: لا، وبه قال الأكثرون، وهو المنصوص، ويلاعن
في مجلس الحكم، لأنه لا يعظم بقعة ولا زمانا، فلا ينزجر. ويستحسن أن يقال له
في التحليف: قل بالله الذي خلقك ورزقك، لأنه وإن غلا في كفره، فيجد نفسه
مذعنة لخالق ومدبر.
فرع الحائض تلاعن بباب المسجد، ويخرج الحاكم إليها أو يبعث نائبا.
والمشرك والمشركة يمكنان من اللعان في المسجد مع الحيض والجنابة على
328

الأصح.
فرع اللعان يحتاج فيه إلى حضور الحاكم، فلو حكم الزوجان فيه رجلا،
فإن قلنا: لا يجوز التحكيم في المال، لم يجز في اللعان، وإلا فوجهان. وقطع
المتولي بأنه لا يصح التحكيم إذا كان هناك ولد، إلا أن يكون بالغا ويرضى
بحكمه.
قال: ولو قذف العبد زوجته، وطلبت الحد، ففي تولي السيد اللعان خلاف
بناء على إقامته الحد على عبده وسماع البينة إن جوزناها تولى اللعان، وزوج الأمة
إذا قذفها ولاعن، هل يتولى سيدها لعانها؟ فيه هذا الخلاف.
329

الفصل الثالث: في السنن. منها: أن يخوفهما القاضي بالله تعالى،
ويعظهما ويقول: عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، ويقرأ عليهما: * (إن الذين
يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * الآية. ويقول: قال رسول الله (ص)
للمتلاعنين: حسابكما على الله، أحدكما كاذب، فهل منكما من تائب؟.
وإذا فرغ من الكلمات الأربع، بالغ في تخويفه وتحذيره، وأمر رجلا أن يضع
يده على فيه لعله ينزجر، وتضع امرأة يدها على فم المرأة إذا بلغت كلمة الغضب،
فإن أبيا إلا المضي، لقنهما الخامسة.
ومنها: أن يتلاعنا من قيام، ومنها: إذا كان بالمدينة، فقد ذكرنا أنه يلاعن
عند منبر رسول الله (ص)، هذا لفظ الشافعي في المختصر وقال في موضع:
يلاعن على المنبر، وللأصحاب في صعود الملاعن المنبر أوجه. أصحها:
يصعد، والثاني: لا، والثالث: إن كثر القوم، صعده ليروه، وإلا فعنده. وطرد
المتولي الخلاف في صعود المنبر في غير المدينة.
الطرف الخامس: في أحكام اللعان. قد سبق أكثرها في ضمن ما تقدم.
واعلم أن الزوج لا يجبر على اللعان بعد القذف، بل له الامتناع، وعليه حد القذف
كالأجنبي، وكذا المرأة لا تجبر على اللعان بعد لعانه، ويتعلق بلعان الزوج خمسة
أحكام. أحدها: حصول الفرقة ظاهرا وباطنا، سواء صدقت أم صدق. وقيل: إن
صدقت لم تحصل باطنا، والصحيح الأول، وهي فرقة فسخ. الثاني: تأبد
التحريم. الثالث: سقوط حد القذف عنه. الرابع: وجوب الزنا عليها. الخامس:
انتفاء النسب إذا نفاه باللعان.
قلت: وقد سبقت أحكام أخر في أول الباب. والله أعلم.
ثم هذه الأحكام تتعلق بمجرد لعان الزوج، ولا يتوقف شئ منها على لعانها،
ولا قضاء القاضي، ولا يتعلق من هذه الأحكام بإقامة البينة على زناها إلا دفع حد
330

القذف عنه، وثبوت حد الزنا عليها، ولا يتعلق بلعان المرأة إلا سقوط حد الزنا
عنها. ولو أقام بينة بزناها، لم تلاعن لدفع الحد، لأن اللعان حجة ضعيفة، فلا
تقاوم البينة.
فصل في نفي الولد فيه مسائل.
إحداها: إنما تحتاج إلى نفي الولد إذا لحقه، وذلك عند الامكان، فإن لم
يمكن كونه منه، انتفى بلا لعان، ولعدم الامكان صور. منها: أن تلد لستة أشهر أو
أقل من وقت العقد. ومنها: أن تطول المسافة كالمشرقي مع المغربية، وقد سبق
بيانه مع صور أخرى، ووراءها صورتان.
إحداها: أول زمان إمكان إحبال الصبي، هل هو نصف السنة التاسعة، أم
كمالها، أم نصف العاشرة، أم كمالها؟ فيه أربعة أوجه. أصحها: الثاني. فإذا
ولدت زوجته لستة أشهر وساعة تسع الوطئ بعد زمن الامكان، لحقه الولد، وإلا
فينتفي بلا لعان، وإذا حكمنا بثبوت النسب بالامكان، لم نحكم بالبلوغ بذلك، لان
النسب ثبت بالاحتمال، بخلاف البلوغ، لكن لو قال: أنا بالغ بالاحتلام، فله
اللعان. ولو قال: أنا صبي، لم يصح. فإن قال بعد ذلك: أنا بالغ، قبل قوله،
ويمكن من اللعان. وفي وجه: لا يقبل قوله: أنا بالغ بعد قوله: أنا صبي،
للتهمة.
الصورة الثانية: من لم يسلم ذكره وأنثياه، له أحوال. أحدها: أن يكون
ممسوحا فاقد الذكر والأنثيين، فينتفي عنه الولد بلا لعان، لأنه لا ينزل، وفي قول:
يلحقه. وحكي هذا عن الإصطخري، والقاضي حسين، والصيدلاني. والصحيح
المشهور الأول. الثاني: أن يكون باقي الأنثيين دون الذكر، فيلحقه قطعا.
الثالث: عكسه، فيلحقه أيضا على الأصح. وقيل: لا، وقيل: إن قال أهل
الخبرة: لا يولد له، لم يلحقه، وإلا فيلحقه. ومتى بقي قدر الحشفة من الذكر،
فهو كالذكر السليم.
المسألة الثانية: ذكرنا فيما لو أبان زوجته ثم قذفها وهناك حمل وأراد اللعان
331

لنفيه، أنه يجوز على الأظهر، وأنه قيل: لا يجوز قطعا. فلو لاعن لنفي الحمل في
صلب النكاح، جاز على المذهب. وقيل: على القولين، ولو استلحق الحمل،
لحقه ولم يكن له نفيه بعد ذلك.
الثالثة: ولدت زوجته توأمين، فنفى أحدهما، أو نفاهما، ثم استلحق
أحدهما، لحقه الولدان.
ولو أتت بولد، فنفاه بعد الولادة باللعان، ثم ولدت آخر، فقد يكون بينهما
دون ستة أشهر، وقد يكون ستة فأكثر. فإن كان دونها، فهما حمل واحد، فإن نفى
الثاني بلعان آخر، انتفى أيضا، والأصح أنه لا يحتاج في اللعان الثاني إلى ذكر الولد
الأول، وأن المرأة لا تحتاج إلى إعادة لعانها، وإن لم تنف الثاني، بل استلحقه أو
سكت عن نفيه مع إمكانه، لحقاه جميعا. فإن استلحقه، لزمه لها حد القذف، كما
لو كذب نفسه. وإن سكت فلحقه، لم يلزمه الحد، لأنه لم يناقض قوله الأول،
واللحوق حكم الشرع. ولو قذفها ثم لاعن في البينونة، وأتت بولد آخر قبل ستة
أشهر، فسواء استلحق الثاني صريحا أو سكت عن نفيه فلحقاه، لزمه الحد.
والفرق أن اللعان بعد البينونة لا يكون إلا لنفي النسب. فإذا لحق النسب، لم يبق
للعان حكم فحد.
وفي صلب النكاح له أحكام. فإذا لحق النسب، لا يرتفع فلم يحد. فأما إذا
كان بينهما ستة أشهر فصاعدا، فالثاني حمل آخر. فإن نفاه باللعان، انتفى أيضا.
وإن استلحقه، أو سكت عن نفيه، لحقه، ولا يمنع من ذلك كونها بانت باللعان،
لاحتمال أنه وطئها بعد وضع الأول فعلقت قبل اللعان، فتكون حاملا حال البينونة،
فتصير كالمطلقة ثلاثا. إذا ولد ت لدون أربع سنين من وقت الطلاق، ثبت نسبه
للمطلق، لاحتمال كونها حاملا وقت الطلاق، ولا يلزم من لحوق الثاني لحوق
الأول، لأنهما حملان، فلا يلحقه الأول، وهذا الذي ذكرناه من لحوق الثاني إذا لم
ينفه، هو الصواب، وبه قطع الأصحاب. وقال في المهذب: ينتفي الثاني بلا
لعان لحدوثه بعد الفراش، وهذا ليس وجها، بل الظاهر أنه سهو وتوجيهه ممنوع.
وجميع ما ذكرناه إذا لاعن عن الولد المنفصل ثم أتت بآخر، فلو لاعن عن حمل في
نكاح أو بعد البينونة إذا جوزناه، فولدت ولدا، ثم ولدت آخر، فإن لم يكن بينهما
332

ستة أشهر، فالثاني منفي أيضا، لأنه لاعن عن الحمل، والحمل اسم لجميع ما في
البطن. وإن كان بينهما ستة أشهر فصاعدا، فالأول منفي باللعان، وينتفي الثاني بلا
لعان، لأن النكاح ارتفع باللعان، وانقضت العدة بوضع الأول، وتحققنا براءة الرحم
قطعا. قال الشيخ أبو حامد: وكذا الحكم لو طلقها أو مات عنها فانقضت عدتها
بوضع الحمل، ثم ولدت لستة أشهر من وقت الوضع، لا يلحقه الولد الثاني.
قال ابن الصباغ: ولا ينظر إلى احتمال حدوثه من وطئه بشبهة، لأن ذلك لا
يكفي للحوق، لأنه بعد البينونة كسائر الأجانب، فلا بد من اعترافه بوطئ الشبهة
وادعائه الولد. وعن القفال، أنه إذا لم يلاعن لنفي الولد الثاني يلحقه كما قلنا في
الولد المنفصل. قال الروياني: هذا غلط لم يذكره غيره.
المسألة الرابعة: كما يجوز نفي الولد في حياته يجوز بعد موته، سواء خلف
الولد ولدا، بأن كان الزوج غائبا فكبر المولود وتزوج وولد له أو لم يخلفه. ولو مات
أحد التوأمين قبل اللعان، فله أن يلاعن وينفي الحي والميت جميعا.
ولو نفى ولدا باللعان، ثم مات الولد فاستلحقه بعد موته، لحقه وورث ماله
وديته إن قتل، سواء خلف ولدا أم لا احتياطا للنسب.
ولو نفاه بعد الموت ثم استلحقه، لحقه على الأصح احتياطا للنسب، وثبت الإرث، فإن قسمت تركته، نقصت القسمة.
الخامسة: إذا أتت زوجته بولد، فأقر بنسبه، لم يكن له نفيه بعد ذلك، وإن
لم يقر بنسبه وأراد نفيه، فهل يكون نفيه على الفور، أم يتمادى ثلاثة أيام، أم أبدا،
ولا يسقط إلا بالاسقاط؟ فيه ثلاثة أقوال. أظهرها: الأول وهو الجديد، وقال
الشافعي رحمه الله في بعض كتبه: له نفيه بعد يوم أو يومين فعن ابن سلمة، أن
التقدير بيومين قول آخر، ولم يجعله سائر الأصحاب قولا آخر، بل قالوا: المراد:
أو ثلاثا، فإن قلنا بالفور فأخر بلا عذر، لحقه وسقط حقه من النفي، وإن كان
معذورا بأن لم يجد القاضي لغيبة، أو تعذر الوصول إليه، أو بلغه الخبر في الليل
فأخر حتى يصبح، أو حضرته الصلاة فقدمها، أو كان جائعا، أو عاريا فأكل أو
333

لبس أولا، أو كان محبوسا، أو مريضا، أو ممرضا، لم يبطل حقه، لكن إن أمكنه
الاشهاد فلم يشهد أنه على النفي، بطل حقه، وذكر ابن الصباغ وغيره، أن المريض
إذا قدر أن يبعث إلى الحاكم ليرسل إليه نائبا يلاعن عنده فلم يفعل، بطل حقه، وإن
لم يقدر، فيشهد حينئذ، وليطرد هذا في المحبوس ومن يطول عذره. قال الشيخ
أبو حامد وجماعة: المريض والممرض ومن يلازمه غريمه لخوف ضياع ماله، يبعث
إلى الحاكم ويعلمه أنه على النفي، فإن لم يقدر، أشهد، ويمكن أن يجمع بينهما
فيقال: يبعث إلى القاضي، ويطلعه على ما هو عليه ليبعث إليه نائبا، أو ليكون
عالما بالحال إن أخر بعث النائب، وأما الغائب، فإن كان في موضعه قاض، ونفى
الولد عنده، فكذلك، وإن أراد تأخيره حتى يرجع، ففي أمالي السرخسي المنع
منه. وفي التهذيب والتتمة جوازه. فعلى هذا، إن لم يمكنه السير في
الحال لخوف الطريق أو غيره فليشهد. وإن أمكنه، فليسر وليشهد، فإن أخر السير،
بطل حقه أشهد أم لا، وإن أخذ في السير ولم يشهد، بطل حقه أيضا على
الأصح. وإن لم يكن هناك قاض، فالحكم كما لو كان وأراد التأخير إلى بلده
وجوزناه.
فرع إذا قلنا: النفي على الفور، فله تأخير نفي الحمل إلى الوضع
لاحتمال كونه ريحا، فإن أخر ووضعت وقال: أخرت لأتحقق الحمل، فله النفي،
وإن قال: علمته ولدا ولكن رجوت أن يموت، فأكفى اللعان، بطل حقه على
الأصح المنصوص في المختصر لتفريطه مع علمه.
فرع أخر النفي وقال: لم أعلم الولادة، فإن كان غائبا، صدق بيمينه.
قال في الشامل: إلا أن يستفيض وينتشر، وإن كان حاضرا، صدق في المدة
334

التي يحتمل جهله به، ولا يقبل في التي يحتمل، ويختلف ذلك بكونهما في محلة
أو محلتين، أو دار أو دارين، أو بيت أو بيتين.
ولو قال: أخبرت بالولادة ولم أصدق المخبر، نظر، إن أخبره صبي أو
فاسق، صدق بيمينه، وإن أخبره عدلان، فلا. وكذا إن أخبره عدل أو امرأة أو رقيق
على الأصح، لأن روايته مقبولة، ولو قال: علمت الولادة، ولم أعلم أن لي
النفي، فإن كان فقيها، لم يقبل قوله، وإن كان حديث عهد بالاسلام، أو نشأ في
بادية بعيدة، قبل، وإن كان من العوام الناشئين في بلاد الاسلام، فوجهان كنظيره
في خيار المعتقة.
فرع إذا هنئ بالولد، فقيل له: متعك الله بولدك، أو جعله له ولدا
صالحا ونحوه، فأجاب بما يتضمن الاقرار والاستلحاق، كقوله: آمين، أو نعم، أو
استجاب الله منك، فليس له النفي بعده، وإن أجاب بما لا يتضمن الاقرار،
كقوله: جزاك الله خيرا، أو بارك الله عليك، أو أسمعك خيرا أو زودك مثله، لم
يبطل حقه من النفي.
فصل في مسائل منثورة من اللعان إحداها: قال الزوج: قذفتك بعد
النكاح، فلي اللعان، فقالت: قبله، فلا لعان، فهو المصدق بيمينه، ولو اختلفا
بعد حصول الفرقة، فقال: قذفتك في زمن النكاح، وقالت: بعده، فهو المصدق
أيضا، ولو قال: قذفتك وأنت زوجتي، فقالت: ما تزوجتك قط فهي المصدقة
بيمينها.
الثانية: قال لزوجته أو أجنبية: قذفتك وأنت أمة أو مشركة أو مجنونة فقالت:
بل وأنا حرة مسلمة عاقلة. فإن علم لها حال رق أو كفر أو جنون، صدق بيمينه،
335

وليس عليه إلا التعزير. وإن لم يعلم ذلك، فأيهما يصدق؟ قولان. أظهرهما:
المرأة. ولو قال: وأنت صغيرة، فهو المصدق بيمينه.
ولو قال لمن قذفه من زوجته أو أجنبي: قذفتك وأنا مجنون، فهل يصدق
القاذف بيمينه، أم المقذوف، أم يفرق؟ فإن عهد له جنون، صدق القاذف،
وإلا، فالمقذوف فيه ثلاثة أقوال. أظهرها: الفرق. ولو قال: قذفتك وأنا صبي،
فهو كالمجنون المعهود، ولو قال: جرى القذف على لساني وأنا نائم، لم يقبل
لبعده. ولو أقام القاذف بينة أن القذف كان في الصغر أو الجنون، وأقام المقذوف
بينة أنه كان في حال الكمال، فإن كانت البينتان مطلقتين، أو مختلفي التاريخ، أو
إحداهما مطلقة، والأخرى مؤرخة، فهما قذفان، وعليه الحد لما وقع في حالة
الكمال. وإن اتحد تاريخهما، تعارضتا. وفي التعارض أقوال معروفة. قال
الامام: ولا يجئ هنا القسمة ولا الوقف، وحكي عن القاضي حسين قول القرعة،
واستبعده وقال: الوجه القطع بالتهاتر، فيكون كما لو تكن بينة، وبهذا قطع
البغوي. وحيث صدقنا القاذف بيمينه، فلو نكل وحلف المقذوف، وجب الحد
على القاذف، ويجوز اللعان في الزوجة.
الثالثة: إذا صدقته في القذف، واعترفت بالزنا بعد لعان الزوج، تأكد لعانه،
فإن كانت لاعنت، فعليها حد الزنا لاعترافها، إلا أن يرجع عن الاقرار، وإن صدقته
قبل لعانه، أو في أثنائه، سقط عنه الحد، ووجب عليها حد الزنا، والصحيح أنه لا
يلاعن بعد ذلك، ولا تتم اللعان إن صدقته في أثنائه إلا أن يكون ولد فينفيه.
الرابعة: إذا مات أحد الزوجين قبل أن يتم لعان الزوج، ورثه الآخر، ثم إن
كان الميت الزوج، استقر نسب الولد، وليس للوارث نفيه، وإن ماتت هي، جاز له
إتمام اللعان إن كان هناك ولد، فإن لم يكن، نظر، إن لم يكن لها وارث غير
الزوج، بأن كان ابن عمها أو معتقها، ورث الحد وسقط، وكذا لو لم يرثها إلا
الزوج وأولاده منها، لأن الولد لا يجوز أن يستوفي حد القذف من أبيه، وإذا سقط
الحد ولم يكن هناك ولد، فقد سبق أنه لا يجوز اللعان لسائر الأغراض، فلو كان
يرثها غير الزوج وأولاده، فما ورثه الزوج وأولاده يسقط، ويجئ الخلاف فيما إذا
سقط بعض الحد بعفو بعض الورثة، إن قلنا: يسقط الجميع، فكذلك يسقط الكل هنا،
336

ويمتنع اللعان. وإن قلنا: للباقين المطالبة بجميع الحد أو بقسطهم وطلبوا، فله
اللعان للدفع، وفي جواز اللعان قبل المطالبة الخلاف السابق.
الخامسة: عبد قذف زوجته، ثم عتق وطالبته، فله اللعان. فإن نكل حد حد
العبيد، لأنه وجب في الرق، وكذا لو زنا في الرق ثم عتق، حد حد العبيد. ولو
قذف الذمي أو زنا، ثم نقض العهد فسبي واسترق، حد حد الأحرار، ولو كانت
الزوجة أمة فنكل عن اللعان، فعليه التعزير. وإن لاعن حدت حد الإماء وإن عتقت
بعد القذف.
وإن قذف مسلم زوجته الذمية أو الصغيرة أو المجنونة، ثم طلبت الذمية، أو
طلبتا بعد البلوغ والإفاقة، فإن نكل، فعليه التعزير، وإن لاعن ونكلت الذمية،
فعليها حد الزنا، وإن نكل الاخريان، فلا شئ عليهما.
السادسة: في التتمة أن الملاعن لو قبل من نفاه، وقلنا: يلزمه القصاص
فاستلحقه، حكم بثبوت النسب وسقوط القصاص.
وأن الذمي لو نفى ولدا ثم أسلم، لم يتبعه المنفي في الاسلام. ولو مات
وقسم ميراثه بين أقاربه الكفار، ثم استلحقه الذمي الذي أسلم، ثبت نسبه
وإسلامه، واسترد المال وصرف إليه، وأن المنفي باللعان إذا كان قد ولد على فراش
صحيح، لو استلحقه غيره، لم يصح، كما لو استلحقه قبل أن ينفيه صاحب
الفراش، لأنه وإن نفاه، فحق الاستلحاق باق له، فلا يجوز تفويته، ولو كان يلحقه
نسبه بشبهة أو نكاح فاسد، فنفاه فاستلحقه غيره، لحقه، لأنه لو نازعه فيه قبل
النفي، سمعت دعواه.
السابعة: فيما جمع من فتاوى القفال وغيره، أن سقوط حد القذف عن
القاذف وعدم حد الزنا على المقذوف لا يجتمعان إلا في مسألتين.
إحداهما: إذا أقام القاذف بينة على زنا المقذوفة، وأقامت بينة على أنها
عذراء.
الثانية: إذا أقام شاهدين على إقرار المقذوف بالزنا، وقلنا الاقرار: بالزنا لا
يثبت بشاهدين، فإنه يسقط حد القذف على الأصح. ومراده ما سوى صورة
337

التلاعن، فإن الزوجين إذا تلاعنا، اندفع الحدان. وهنا صورة رابعة يسقط فيها
الحدان، وهي إذا أقام القاذف بينة بإقرار المقذوف بالزنا، ثم رجع المقذوف عن
الاقرار، سقط عنه حد الزنا، ولا يقبل رجوعه في حق القاذف، فلا يلزمه حد
القذف.
338

قلت: مراد القفال: لا يسقط حد القذف مع أنه لا يحكم بوجوب حد الزنا
(ولا يقبل رجوعه) إلا في المسألتين الأوليين، فلا يرد عليه الاخريان، لأنه وجب
فيهما حد الزنا، ثم سقط بلعانها أو بالرجوع. ولهذا قال: وعدم حد الزنا عن
المقذوف، ولم يقل: وسقوط حد الزنا، كما قال: سقوط حد القذف. فالحاصل
أنه لا يسقط حد القذف ويمتنع وجوب حد الزنا، إلا في المسألتين الأوليين، ولا
يسقط حد القذف وحد الزنا إلا في أربع مسائل. والمراد: السقوط بحكم الشرع،
لا بعفو ونحوه. والله أعلم.
339

كتاب العدد
فيه أبواب.
الأول: في عدة الطلاق وسائر أنواع الفرقة الواقعة في الحياة.
والثاني: في تداخل العدتين وعدمه.
والثالث: في عدة الوفاة.
والرابع: في السكنى.
والخامس: في الاستبراء.
الأول: في عدة الطلاق وما في معناه من اللعان، وسائر الفسوخ، ووطئ
الشبهة، وإنما تجب هذه العدة إذا فارقها بعد الدخول، فإن فارق قبله، فلا عدة.
واستدخال المرأة مني الرجل، يقام مقام الوطئ في وجوب العدة، وثبوت
النسب، وكذا استدخال ماء من تظنه زوجها يقوم مقام وطئ الشبهة، ولا اعتبار
340

بقول الأطباء أن المني إذ ضربه الهواء، لم ينعقد منه الولد، لأنه قول بالظن، لا
ينافي الامكان.
وفي التتمة وجه أن استدخال المني لا يوجب عدة، لعدم صورة الوطئ،
وهو شاذ ضعيف، ولا تقام الخلوة مقام الوطئ على الجديد، كما سبق في كتاب
الصداق ولو وطئ الخصي زوجته ثم طلق، وجبت العدة والخصي: من قطعت
أنثياه وبقي ذكره.
وأما من قطع ذكره وبقي أنثياه، فلا عدة على زوجته بالطلاق إن كانت حائلا،
فإن ظهر بهما حمل، فقد ذكرنا في اللعان، أنه يلحقه الولد فعليها العدة بوضع
الحمل.
وأما الممسوح الذي لم يبق له شئ أصلا، فلا يتصور منه دخول. ولو ولدت
زوجته، لم يلحقه على المذهب، ولا تجب عدة الطلاق ووطئ الصبي، وإن كان
في سن لا يولد له، يوجب عدة الطلاق، لأن الوطئ شاغل في الجملة. ولذلك لو
علق الطلاق على براءة الرحم يقينا وحصلت الصفة، طلقت ووجبت العدة إذا كانت
مدخولا بها.
فصل عدة الطلاق ونحوه، ثلاثة أنواع: الأقراء، والأشهر، والحمل،
ولا مدخل للأقراء في عدة الوفاة، ويدخل النوعان الاخريان.
النوع الأول: الأقراء، وواحدها قرء بفتح القاف، ويقال بضمها، وزعم
بعضهم، أنه بالفتح الطهر، وبالضم الحيض. والصحيح أنهما يقعان على الحيض
والطهر لغة، ثم فيه وجهان للأصحاب. أحدهما: أنه حقيقة في الطهر، مجاز في
الحيض. وأصحهما: أنه حقيقة فيهما، هذا أصله في اللغة، والمراد بالأقراء في
العدة: الأطهار. وفي المراد بالطهر هنا، قولان. أحدهما: الانتقال إلى الحيض
دون عكسه. وأظهرهما: أنه الطهر المحتوش بدمين، لا مجرد الانتقال إلى
الحيض، ممن نص على ترجيح هذا القول، البغوي والروياني وغيرهما، وفيه
مخالفة لما سبق في الطلاق، أن الأكثرين أوقعوا الطلاق في الحال وإذا قال للتي لم
تحض: أنت طالق في كل قرء، ويجوز أن يجعل ترجيحهم لوقوع الطلاق لمعنى
341

يختص بتلك الصورة، لا لرجحان القول، بأن الطهر الانتقال، ثم إذا طلقها وقد
بقي من الطهر بقية، حسبت تلك البقية قرءا، سواء كان جامعها في تلك البقية أم
لا، فإذا طلقها وهي طاهر فحاضت، ثم طهرت، ثم حاضت، ثم طهرت، ثم
شرعت في الحيض، انقضت عدتها، وإن طلقها في الحيض، فإذا شرعت في
الحيضة الرابعة، انقضت عدتها. وهل تنقضي العدة برؤية الدم للحيضة الثالثة أو
الرابعة، أم يعتبر مضي يوم وليلة بعد رؤية الدم ليعلم أنه حيض؟ فيه قولان.
أظهرهما: الأول، لأن الظاهر أنه دم حيض، ولئلا تزيد العدة على ثلاثة أقراء.
وقيل: إن رأت الدم لعادتها، انقضت برؤيته، وإن رأته على خلافها، اعتبر يوم
وليلة. وإذا حكمنا بانقضائها بالرؤية، فانقطع الدم لدون يوم وليلة، ولم يعد حتى
مضت خمسة عشر يوما، تبينا أن العدة لم تنقض ثم لحظة رؤية الدم أو اليوم
والليلة، إذا اعتبرناهما، هل هما من نفس العدة، أم يتبين بهما انقضاؤها وليسا
منها؟ وجهان. أصحهما: الثاني.
قلت: قال أصحابنا: إن جعلناه من العدة، صحت فيه الرجعة، ولا يصح
نكاحها لأجنبي فيه، وإلا فينعكس. وقد سبق هذا، ولكن لا يليق إخلاء هذا
الموضع منه. والله أعلم.
فرع قال: أنت طالق في آخر طهرك، أو في آخر جزء من أجزاء طهرك.
فإن قلنا: القرء الانتقال، اعتد بذلك الجزء، وإلا فلا.
ولو طلق من لم تحض أصلا، إن قلنا: الطهر الانتقال، حسب طهرها،
قرءا، وإلا فلا.
342

واعلم أن قولهم: القرء هو الطهر المحتوش، أو الانتقال، ليس مرادهم الطهر
بتمامه، لأنه لا خلاف أن بقية الطهر تحسب قرءا، وإنما مرادهم أنه هل يعتبر من
الطهر المحتوش شئ، أم يكفي الانتقال؟ والمكتفون بالانتقال قالوا: الانتقال
وحده قرء، فإن وجد قبله شئ من الطهر، أدخلوه في اسم القرء. ولهذا قالوا: لو
قال للتي لم تحض: أنت طالق في كل قرء طلقة، طلقت في الحال تفريعا على هذا
القول، ولم يؤخروا الوقوع إلى الحيض للانتقال.
فصل الحرة التي تحيض، عدة طلاقها ثلاثة أقراء، والأمة قرآن،
والمكاتبة، والمدبرة، وأم الولد، ومن بعضها رقيق، كالقنة في العدة. ولو وطئت
أمة بنكاح فاسد، أو بشبهة نكاح، اعتدت بقرءين كتطليقها، وإن وطئت بشبهة ملك
اليمين، استبرأت بقرء واحد.
فرع لو عتقت الأمة المطلقة في العدة، فهل يتم عدة حرة، أم أمة، أم
يفرق، فإن كانت بائنة، فعدة الأمة، وإلا فعدة حرة؟ فيه أقوال. أظهرها:
الثالث، وهو الجديد. ولو طلق العبد الأمة رجعيا فعتقت في العدة، ثم فسخت في
الحال، فهل تبني أم تستأنف العدة؟ فيه خلاف كما لو طلق الرجعية طلقة أخرى،
وعن أبي إسحاق وغيره القطع بالبناء.
ولو أخرت الفسخ حتى راجعها ثم فسخت قبل الوطئ، ففيه الطريقان.
والمذهب الاستئناف، لأنها فسخت وهي زوجة، والفسخ يوجب العدة. وحيث
قلنا: تستأنف، فتستأنف عدة حرة. وحيث قلنا: تبني، فهل تبني على عدة حرة،
أم أمة؟ فيه الخلاف فيما إذا عتقت المعتدة بلا فسخ.
فرع وطئ أمة أجنبي يظنها أمته، لم يلزمها إلا قرء.
ولو ظنها زوجته المملوكة، فهل يلزمها قرء أم قرآن اعتبارا باعتقاده [فيه]
وجهان. أصحهما: قرآن، وإن ظنها زوجته الحرة، فهل يلزمها قرء أم قرآن أم
ثلاثة؟ فيه أوجه. أصحها: الثالث.
343

ولو وطئ حرة يظنها أمته، فقطع جماعة بثلاثة أقراء، لأن الظن يؤثر في
الاحتياط دون المساهلة، وأجرى المتولي الوجهين، إن اعتبرنا حالها، فثلاثة
أقراء، أو ظنه فقرء. ولو ظنها زوجته المملوكة، فطرد فيه الوجهين، هل يجب
قرآن لظنه، أم ثلاثة؟ والأشبه النظر إلى ظنه لأن العدة لحقه.
فصل المعتدات أصناف.
الأول: من لها حيض وطهر صحيحان، فتعتد بالأقراء وإن تباعد حيضها وطال
طهرها.
الصنف الثاني: المستحاضة، فإن كان لها مرد، اعتدت بالأقراء المردود إليها
من تمييز أو عادة، أو الأقل، أو الغالب إن كانت مبتدأة كما سبق في الحيض،
والأظهر: رد المبتدأة إلى الأقل. وعلى القولين: إذا مضت ثلاثة أشهر، انقضت
عدتها، لاشتمال كل شهر على حيض وطهر غالبا، وشهرها ثلاثون يوما، والحساب
من أول رؤية الدم، هكذا أطلق، ويمكن أن يعتبر بالأهلة، كما سنذكره إن شاء الله
تعالى في الناسية، وقد أشار إليه مشيرون، فإن لم يكن لها مرد وهي المتحيرة،
فقد سبق في كتاب الحيض أنها على قول ترد إلى مرد المبتدأة، وأن المذهب أن
عليها الاحتياط. فإن قلنا: كالمبتدأة، انقضت عدتها بثلاثة أشهر، وإن قلنا
بالاحتياط، فالأصح أنها كالمبتدأة أيضا لعظم المشقة في الانتظار. والثاني: يلزمها
الاحتياط كمن تباعد حيضها، فتؤمر بالتربص إلى سن اليأس، أو أربع سنين، أو
344

تسعة أشهر، على الخلاف الآتي، ولا نقول: تمتد الرجعة وحق السكنى جميع هذه
المدة، لأن الزوج يتضرر به، بل لا يزيد ذلك على ثلاثة أشهر، ويختص الاحتياط
بما يتعلق بها، وهو تحريم النكاح. وإذا قلنا: تنقضي عدتها بثلاثة أشهر في
الحال، فالاعتبار بالأهلة، فإن انطبق الطلاق على أول الهلال، فذا ك، وإن وقع
في أثناء الشهر الهلالي، فإن كان الباقي أكثر من خمسة عشر يوما، حسب قرءا،
وتعتد بعده بهلالين. وإن كان خمسة عشر فما دونها، فهل يحسب قرءا؟ وجهان.
أصحهما: لا. وعلى هذا، فقد ذكر أكثرهم أن ذلك الباقي لا اعتبار به، وأنها
تدخل في العدة لاستقبال الهلال. والمفهوم مما قالوا تصريحا وتلويحا أن الأشهر
ليست متأصلة في حق الناسية، ولكن يحسب كل شهر قرءا لاشتماله على حيض
وطهر غالبا.
وأشار بعضهم إلى أن الأشهر أصل في حقها، كما في حق الصغيرة
والمجنونة، ومقتضى هذا أن تدخل في العدة من وقت الطلاق، ويكون كما لو
طلق ذات الأشهر في أثناء الشهر، كما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولو كانت
المتحيرة المنقطعة الدم، ترى يوما دما، ويوما نقاء، لم تنقض عدتها إلا بثلاثة أشهر
345

سواء قلنا بالتلفيق أم بالسحب.
والأطهار الناقصة المتخللة لا تنقضي بها العدة بحال.
الصنف الثالث: من لم تر دما ليأس، وصغر، أو بلغت سن الحيض أو
جاوزته ولم تحض، فعدتها ثلاثة أشهر بنص القرآن، ولو ولدت ولم تر حيضا قط ولا
نفاسا، فهل تعتد بالأشهر، أم هي كمن انقطع حيضها بلا سبب؟ وجهان. وبالأول
قال الشيخ أبو حامد.
قلت: الصحيح الاعتداد بالأشهر، لدخولها في قول الله تعالى:
(واللائي لم يحضن) * وذكر الرافعي في آخر العدد عن فتاوى البغوي: أن التي
لم تحض قط، إذا ولدت ونفست، تعتد بثلاثة أشهر، ولا يجعلها النفاس من ذوات
الأقراء فجزم البغوي بهذا، ولم يذكر الرافعي هناك خلافا. والله أعلم.
ثم إن الأشهر معتبرة بالهلال، وعليه المواقيت الشرعية، وإن انطبق الطلاق
على أول الهلال، فذاك، وإن انكسر، اعتبر شهران بالهلال، ويكمل المنكسر
ثلاثين من الشهر الرابع. فقال ابن بنت الشافعي: إذا انكسر شهر، انكسر
الجميع، والصحيح الأول. وإذا وقع الطلاق في أثناء الليل أو النهار، ابتدئ
حساب الشهر من حينئذ. وإذا اعتدت صغيرة بالأشهر ثم حاضت بعد فراغها، فقد
انقضت العدة، ولا يلزمها الأقراء، ولو حاضت في أثناء الأشهر، انتقلت إلى
346

الأقراء وهل يحسب ما مضى قرءا؟ وجهان. أقربهما إلى ظاهر النص المنع.
فإن كانت الآيسة، والتي لم تحض أمة، فهل عدتها ثلاثة أشهر، أم شهران،
أم شهر ونصف؟ فيه أقوال. قال المحاملي: أظهرها: الأول، واختاره الروياني،
قال: ولكن القياس، وظاهر المذهب، شهر ونصف، وعليه جمهور أصحابنا
الخراسانيين.
الصنف الرابع: من انقطع دمها، ينظر، إن انقطع لعارض يعرف، لرضاع،
أو نفاس، أو مرض، أو داء باطن، صبرت حتى تحيض، فتعتد بالأقراء، أو
تبلغ سن اليأس، فتعتد بالأشهر، ولا تبالي بطول مدة الانتظار، وإن انقطع لا لعلة
تعرف، فالقول الجديد: أنه كالانقطاع لعارض، والقديم: أنها تتربص تسعة
أشهر. وفي قول أربع سنين، وفي قول مخرج ستة أشهر، ثم بعد التربص، تعتد
بثلاثة أشهر. فإذا قلنا بالقديم فحاضت بعد التربص والعدة وبعدما تزوجت، استمر
النكاح للثاني على الصحيح، وقيل: يتبين بطلانه، لتبيننا أنها ليست من ذوات
الأشهر، وإن حاضت قبل تمام التربص، بطل التربص وانتقلت إلى الأقراء،
ويحسب ما مضى قرءا بلا خلاف، فإن لم يعاودها الدم، ولم تتم الأقراء، استأنفت
التربص لتعتد بعده بالأشهر، لأن التربص الأول بطل بظهور الدم. قال المتولي: لا
نأمرها باستئناف التربص، لأنا على هذا القول، لا نعتبر اليأس، وإنما نعتبر ظهور
براءة الرحم وقد ظهرت البراءة، ورؤية الدم تؤكد البراءة. والصحيح المعروف، هو
الأول، وإن حاضت بعد التربص، وفي مدة العدة انتقلت إلى الأقراء، فإن لم
يعاودها الدم، عاد الصحيح، وقول المتولي. وإذا تربصت، فتبني الأشهر على ما
مضى من الأشهر الثلاثة، أم تستأنف الأشهر؟ وجهان. أحدهما: تستأنف كما
تستأنف التربص، وأصحهما: تبني، لأن ما مضى من الأشهر كان من صلب
347

العدة، فلا معنى لابطاله، بخلاف التربص، فعلى هذا في كيفية البناء وجهان.
أحدهما: تعد ما مضى قرءا، ويبقى عليها قرآن، فتعتد بدلهما بشهرين. وعلى
هذا، لو حاضت مرتين، بقي عليها قرء، فتعتد بدله بشهر. وأصحهما: يحسب ما
مضى من الأيام، وتتمة ثلاثة أشهر، ولا تضم بعض الأشهر إلى بعض الأقراء، لئلا
يجمع بين البدل والمبدل، هكذا أطلقوا ذكر عدم المعاودة في الصورتين، ولم
يقولوا: إذا لم تعد إلى مدة كذا. ويشبه أن يضبط بعادتها القديمة، أو بغالب عادات
النساء. وإن حاضت بعد التربص والأشهر، وقبل النكاح، فأوجه. أصحها وينسب
إلى النص: تنتقل إلى الأقراء. والثاني: لا، بل انقضت العدة. والثالث: عن
أبي هريرة: إن اعتدت بالأشهر بحكم قاض، لم ينقض حكمه، ولم تنتقل إلى
الأقراء، وإن اعتدت بها بمجرد فتوى، انتقلت، وسواء في هذه الصور والاحكام،
جعلنا التربص ستة أشهر أو تسعة، أو أربع سنين، هذا كله تفريع القديم.
أما إذا قلنا بالجديد وهو انتظار سن اليأس، ففي النسوة المعتبرات قولان.
أظهرهما وإليه ميل الأكثرين: يعتبر أقصى يأس نساء العالم. قال الامام: ولا يمكن
طوف العالم، وإنما المراد ما يبلغ خبره ويعرف. وعلى هذا، فالأشهر أن سن
اليأس، اثنان وستون سنة، وقيل: ستون، وقيل: خمسون، حكاهما أبو
الحسن بن خيران في كتابه اللطيف، وحكاهما غيره. وقال السرخسي: تسعون
سنة.
وحكي أن امرأة حاضت لتسعين سنة، وعن أبي علي الطبري تخريج وجه أنه
يعتبر سن اليأس غالبا، ولا يعتبر الأقصى. والقول الثاني، أنه يعتبر يأس عشيرتها
من الأبوين، نص عليه في الام. وقيل: يعتبر نساء العصبات، وقيل: نساء
البلد. فإذا رأت الدم بعد سن اليأس، نظر، إن رأته في أثناء الأشهر، انتقلت إلى
الأقراء، وحسب ما مضى قرءا بلا خلاف، فتضم إليه قرءين.
واعلم أنا إذا اعتبرنا أقصى اليأس في العالم، فبلغته، ثم رأت الدم، صار
348

أقصى اليأس ما رأته، ويعتبر بعد ذلك غيرها بها، ثم إن لم يعاودها الدم، رجعت
إلى الأشهر. وهل تؤمر بالتربص قبلها تسعة أشهر، أو أربع سنين؟ وجهان.
أحدهما: نعم، استظهارا، وأصحهما: لا، لأنها بلغت اليأس. ثم في
التتمة، أنها تعتد بشهرين، بدلا عن قرءين، والذي صححه الأئمة وحكوه عن
القفال وغيره، أنها تعتد بثلاثة أشهر تستأنفها. ولا يجئ في البناء الخلاف السابق في
تفريع القديم، لأنه في القديم تكفي غلبة الظن، وهنا يطلب اليقين أو القرب منه.
فإذا رأت الدم، بطل ما ظنناه يأسا، وبطل ما ترتب عليه من العدة، فوجب
الاستئناف.
وأما إذا رأت الدم بعد تمام الأشهر، فثلاثة أقوال. أحدها: لا يلزمها العود
إلى الأقراء، بل انقضت عدتها، كما لو حاضت الصغيرة بعد الأشهر. والثاني:
يلزمها، لأنه بان أنها ليست آيسة، بخلاف الصغيرة، فإنها برؤية الحيض لا تخرج
عن كونها وقت الاعتداد من اللائي لم يحضن، وهذا أصح عند البغوي. والثالث
وهو الأظهر فيما يدل عليه كلام الأكثرين: إن كانت نكحت بعد الأشهر، فقد تمت
العدة، والنكاح صحيح، وإلا لزمها الأقراء، وقطع صاحبا التتمة والشامل
بصحة النكاح.
النوع الثالث: الحمل.
قد سبق أن عدة الطلاق ثلاثة أنواع: الأقراء، والأشهر، وقد مضيا، والتف
أحدهما بالآخر، والثالث: هو الحمل، ويشترط في انقضاء العدة به شرطان،
أحدهما: كونه منسوبا إلى من العدة منه. إما ظاهرا، وإما احتمالا، كالمنفي
باللعان. فإذا لاعن حاملا ونفى الحمل، انقضت عدتها بوضعه لامكان كونها
منه، والقول قولها في العدة إذا تحقق الامكان.
349

أما إذا لم يمكن أن يكون منه، بأن مات صبي لا ينزل وامرأته حامل، فلا
تنقضي عدتها بوضع الحمل، بل تعتد بالأشهر.
ولو مات من قطع ذكره وأنثياه، وامرأته حامل، لم تنقض عدتها بوضعه على
المذهب، بناء على أنه لا يلحقه الولد. وعن الإصطخري والصيرفي والقفال: أنه
يلحقه. وحكي هذا قول للشافعي، وقد سبق في اللعان. فعلى هذا، تنقضي
عدتها بوضعه. ومن سل خصياه وبقي ذكره، كالفحل في لحوق الولد على
المذهب، فتنقضي العدة منه بوضعه، سواء فيه عدة الوفاة والطلاق. وفي وجه: لا
يلحقه فلا تنقضي به العدة، وحكى القاضي أبو الطيب وجها أنه إن كان مسلول
الخصية اليمنى لم يلحقه وإن بقيت اليسرى، لأنه يقال: إن الماء من الخصية
اليمنى، والشعر من اليسرى. ونقل الروياني في جمع الجوامع، أن أبا بكر بن
الحداد، كان فقيد الخصية اليمنى، فكان لا ينزل، وكانت لحيته طويلة، وهذا
شئ يعتمده الجمهور.
وأما مجبوب الذكر باقي الأنثيين، فيلحقه الولد، فتعتد امرأته عن
الوفاة بوضع الحمل، ولا يلزمها عدة الطلاق لعدم الدخول.
فرع من مات عن زوجته، أو طلقها وهي حامل بولد، لا يمكن أن يكون
350

منه، بأن وضعته لدون ستة أشهر من حين العقد، أو لأكثر، ولكن كان بين الزوجين
مسافة لا تقطع في تلك المدة، لم تنقض به عدته، هذا هو المذهب، وبه قطع
الأصحاب. وحكى الغزالي في الوجيز وجهين آخرين. أحدهما: تنقضي،
لاحتمال أنه وطئها بشبهة قبل النكاح، ويكفي الاحتمال، كالولد المنفي باللعان.
والثاني: إن ادعت وطئ شبهة، حكم بانقضاء العدة، لأن القول في العدة قولها مع
الامكان، ولم يذكر هذه الأوجه في الوسيط والبسيط في هذه الصورة، بل
ذكرها فيمن قال: إن ولدت فأنت طالق، فولدت وشرعت في العدة، ثم ولدت بعد
ستة أشهر ولدا آخر. والثالث: الفرق بين أن تدعي وطءا محترما من الزوج بعد
الولادة الأولى فتنقضي العدة، أو لا فلا.
فإذا قلنا بالمذهب، فإن كان المولود لاحقا بغيره بوطئ شبهة، أو في عقد
فاسد، انقضت عدة الوطئ بوضعه، ثم تعتد عن الزوج بعده، وإن كان من زنا،
اعتدت عدة الوفاة من يوم الموت، أو عدة الطلاق من يوم الطلاق، وتنقضي العدة
مع الحمل في عدة الوفاة. وفي عدة الطلاق، إذا كانت من ذوات الأشهر، أو كانت
من ذوات الأقراء، ولم تر دما أو رأته، وقلنا: إن الحامل لا تحيض وإن رأته،
وقلنا: إنه حيض، ففي انقضاء العدة بأطهارها وهي حامل وجهان. أصحهما:
الانقضاء، لأن حمل الزنا كالمعدوم. فعلى هذا، لو زنت في عدة الوفاة أو
الطلاق، وحبلت من الزنا، لم يمنع ذلك انقضاء العدة، ولو كان الحمل مجهول
الحال، حمل على أنه من زنا، قاله الروياني في جمع الجوامع.
فرع لو نكح حاملا من الزنا، صح نكاحه بلا خلاف. وهل له وطؤها قبل
351

الوضع؟ وجهان. أصحهما: نعم، إذ لا حرمة له، ومنعه ابن الحداد.
الشرط الثاني: أن تضع الحمل بتمامه، فلو كانت حاملا بتوأمين، لم تنقض
العدة حتى تضعهما، حتى لو كانت رجعية، ووضعت أحدهما، فله الرجعة قبل أن
تضع الثاني، وإنما يكونان توأمين إذا وضعتهما معا، أو كان بينهما دون ستة أشهر،
فإن كان بينهما ستة أشهر فصاعدا، فالثاني حمل آخر.
فرع لا تنقضي العدة بخروج بعض الولد، ولو خرج بعضه منفصلا أو غير
منفصل ولم يخرج الباقي، بقيت الرجعة. ولو طلقها، وقع الطلاق. ولو مات
أحدهما ورثه الآخر، وكذا تبقى سائر أحكام الجنين في الذي خرج بعضه دون
بعض، كمنع توريثه، وكسراية عتق الام إليه، وعدم إجزائه عن الكفارة، ووجوب
الغرة عند الجناية على الام، وتبعية الام في البيع والهبة وغيرهما. وفي وجه ضعيف:
إذا خرج كان حكمه حكم المنفصل كله في جميع ما ذكرنا، إلا في العدة، فإنها لا
تنقضي إلا بفراغ الرحم، وينسب إلى القفال وهو منقاس، ولكنه بعيد في
المذهب.
فرع تنقضي العدة بانفصال الولد حيا، أو ميتا، ولا تنقضي بإسقاط العلقة
والدم.
ولو أسقطت مضغة، فلها أحوال.
أحدها: أن يظهر فيها شئ من صورة الآدمي، كيد، أو أصبع، أو ظفر
وغيرها، فتنقضي بها العدة.
والثاني: أن لا يظهر شئ من صورة الآدمي لكل أحد، لكن قال أهل الخبرة
من النساء: فيه صورة خفية، وهي بينة لنا وإن خفيت على غيرها، فتقبل
شهادتهن، ويحكم بانقضاء العدة وسائر الأحكام.
الثالث: أن لا يكون صورة ظاهرة ولا خفية يعرفها القوابل، لكنهن قلن: إنه
أصل آدمي، ولو بقي لتصور ولتخلق، فالنص أن العدة تنقضي به. ونص أنه لا
352

يجب فيه الغرة، وأشعر نصه أنه لا يثبت به الاستيلاد، فقيل في الجميع قولان.
. وقيل: بتقرير النصوص، لأن المراد بالعدة براءة الرحم وقد حصلت. والأصل براءة
الذمة في الغرة. وأمومة الولد إنما تثبت تبعا للولد. وقيل: تثبت هذه الأحكام
قطعا، وحمل نص المنع على ما إذا يعلمن أنه مبتدأ خلق. وقيل: لا تثبت
قطعا، وحمل نص العدة على ما إذا كانت صورة خفية، والمذهب على الجملة
انقضاء العدة ومنع الآخرين.
ولو شك القوابل في أنه لحم آدمي، أم لا، لم يثبت شئ من هذه الأحكام،
بلا خلاف. ولو اختلف الزوجان، فقالت: كان السقط الذي وضعته مما تنقضي به
العدة، وأنكر الزوج، وضاع السقط، فالقول قولها بيمينها، لأنها مأمونة في العدة.
فصل إذا كانت تعتد بالأقراء أو بالأشهر، فظهر بها حمل من الزوج،
اعتدت بوضعه، ولا اعتبار بما مضى من الأقراء والأشهر، فإن لم يظهر الحمل
بأمارة، ولكنها ارتابت لثقل وحركة تجدها، نظر، إن ارتابت قبل تمام الأشهر، أو
الأقراء، فليس لها أن تتزوج بعد تمامها حتى تزول الريبة. فإن تزوجت، فالنكاح
باطل. وإن ارتابت بعد أن انقضت الأقراء أو الأشهر وتزوجت، لم يحكم ببطلان
النكاح، لكن لو تحققنا كونها حاملا وقت النكاح، بأن ولدت لدون ستة أشهر من
وقت النكاح، تبينا بطلان النكاح، وإن ولدت لستة أشهر فصاعدا، فالولد للثاني،
ونكاحه مستمر على صحته. وإن ارتابت بعد الأقراء والأشهر، وقبل أن تتزوج،
فالأولى أن تصبر إلى زوال الريبة، فإن لم تفعل وتزوجت، فالمذهب القطع بأن
النكاح لا يبطل في الحال، بل هو كما لو تزوجت، وهو نصه في المختصر
والأم، وبه قال ابن خيران، وأبو إسحاق، والاصطخري، لأنا حكمنا بانقضاء
353

العدة، فلا نبطله بالشك، وقيل: يحكم ببطلانه، حكي عن ابن سريج. وقيل:
قولان.
فصل أكثر مدة الحمل أربع سنين، فلو أبانها بخلع أو بالثلاث، أو
بفسخ، أو لعان ولم ينف الحمل، فولدت لأربع سنين فأقل من وقت الفراق، لحق
الولد بالزوج، هكذا أطلقوه. وقال أبو منصور التميمي: ينبغي أن يقال: لأربع
سنين من وقت إمكان العلوق، وقبيل الطلاق، وهذا قويم، وفي إطلاقهم تساهل،
وسواء أقرت بانقضاء عدتها ثم ولدت، أم لم تقر، لأن النسب حق الولد، فلا ينقطع
بإقرارها. وقال ابن سريج: إذا أقرت بانقضائها ثم ولدت، لم يلحقه إلا أن تأتي به
لدون ستة أشهر من الأقراء، كما إذا صارت الأمة فراشا لسيدها بالوطئ ثم استبرأها
فأتت بولد بعد الاستبراء لستة أشهر فصاعدا، لا يلحقه، نص عليه. فمن الأصحاب
من جعل المسألتين على قولين، وقطع الجمهور بتقرير النصين، وفرقوا بأن فراش
النكاح أقوى وأسرع ثبوتا، فإنه يثبت بمجرد الامكان. أما إذا ولدت لأكثر من أربع
سنين، فالولد منفي عنه بلا لعان. ولو طلقها رجعيا ثم ولدت، فالحكم على
التفصيل المذكور، إلا أن السنين الأربع، هل تحسب من وقت الطلاق، أم من
وقت انصرام العدة؟ قولان. أظهرهما: الأول، لأنها كالبائن في تحريم الوطئ،
فلا يؤثر كونها زوجة في معظم الاحكام. فإن قلنا: من وقت الانصرام، فقد أطلق
الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وغيرهما حكاية وجهين. أحدهما: أنه يلحقه متى أتت
به من غير تقدير، لأن الفراش على هذا القول، إنما يزول بانقضاء العدة. والثاني:
354

أنه إذا مضت العدة بالأقراء أو الأشهر، ثم ولدت لأكثر من أربع سنين من انقضائها،
لم يلحقه، لأنا تحققنا أنه لم يكن موجودا في الأقراء والأشهر، فتبين بانقضائها،
وتصير كما لو بانت بالطلاق، ثم ولدت لأكثر من أربع سنين. وهذا الثاني هو الأصح
عند الأكثرين، وحكوه عن نص الشافعي رحمه الله. ولك أن تقول هذا، وإن استمر
في الأقراء، لا يستمر في الأشهر، فإن التي لا تحمل، لا تعتد بالأشهر، فإذا
حبلت، بان أن عدتها لم تنقض بالأشهر، وسيأتي نظير هذا إن شاء الله تعالى،
ثم هذا الخلاف، على ما ذكره الروياني وغيره، فيما إذا أقرت بانقضاء العدة، فإن
لم تقر، فالولد الذي تأتي به، يلحقه وإن طال الزمان، لأن العدة قد تمتد لطول
الطهر. وحكى القفال فيما إذا لم تقر وجها ضعيفا، أنه إذا مضت ثلاثة أشهر ثم
ولدت لأكثر من أربع سنين، لم يلحقه، لأن الغالب انقضاء العدة في ثلاثة أشهر،
ومتى حكمنا بثبوت النسب، كانت المرأة معتدة إلى الوضع، فيثبت للزوج الرجعة
1 إن كانت رجعية، ولها السكنى والنفقة.
فرع ولدت لأكثر من أربع سنين، وادعت في الطلاق الرجعي أن الزوج
راجعها، أو أنه جدد نكاحها، أو وطئها بشبهة، وأنها ولدته على الفراش المجدد،
نظر، إن صدقها الزوج، لزمه مقتضى إقراره، فعليه المهر في صورة التجديد،
والنفقة والسكنى في الرجعة، والتجديد جميعا، ويلحقه الولد للفراش، وإن أنكر
إحداث فراش، فهو المصدق بيمينه، وعليها البينة، فإن نكل، حلفت، وثبت
النسب، إلا أن ينفيه باللعان. وحكى أبو الفرج الزاز قولا، أنه إذا نكل، لا ترد
اليمين عليها، لأنها إذا حلفت، ثبت نسب الولد، ويبعد أن يحلف الشخص لفائدة
غيره، والمشهور الأول، فإن لم يحلفها، أو نكلت، ففي حلف الولد إذا بلغ
خلاف سبق في نظائره. وإن اعترف بفراش جديد، وأنكر ولادتها، وادعى أنها
355

التقطته واستعارته، صدق بيمينه، وعليها البينة على الولادة. فإن نكل، حلفت
وثبتت الولادة والنسب بالفراش، إلا أن ينفيه باللعان، ويعود في تحليفها الخلاف
السابق. ثم قال الأئمة: العدة تنقضي بوضعه وإن حلف الرجل على النفي ولم يثبت
ما ادعته، لأنها تزعم أنه منه، فكان كما لو نفي حملها باللعان، فإنه وإن انتفى الولد
تنقضي العدة بوضعه لزعمها أنه منه.
ولو ادعت على الوارث بعد موت الزوج أن الزوج كان راجعها، أو جدد
نكاحها، فإن كان الوارث ممن لا يحجب، نظر، إن كان ابنا واحدا، فالحكم كما
لو ادعت على الزوج، إلا أن الوارث يحلف على نفي العلم، وإلا أنه إذا ثبت
النسب، لا يمكنه نفيه باللعان. وإن كان له ابنان، وادعت عليهما، فكذباها
وحلفا، أو نكلا أو صدقها أحدهما وكذب الآخر وحلفت، ثبت المهر والنفقة بحصة
المصدق، ولا يثبت النسب، لأن جميع الورثة لم يتفقوا. وفي ثبوت ميراث الزوجة
في حصة المصدق خلاف مذكور في موضعه.
وإن كان الوارث ممن يحجب كالأخ، فإن صدقها فذاك، ولا يرث الولد وإن
ثبت نسبه، وإن كذبها، فعلى ما ذكرنا.
فرع علق طلاقها بالولادة، فولدت ولدين، فإن كان بينهما دون ستة
أشهر، لحقاه، وطلقت بالأول، وانقضت عدتها بالثاني، وإن كان بينهما ستة أشهر
فأكثر، طلقت بولادة الأول، ثم إن كان الطلاق بائنا، لم يلحقه الثاني، لأن العلوق به
لم يكن في نكاح، وإن كان رجعيا، بني على أن السنين الأربع تعتبر من وقت
الطلاق، أم من انصرام العدة؟ إن قلنا بالأول، لم يلحقه. وإن قلنا بالثاني، لحقه
إذا أتت به لدون أربع سنين من ولادة الأول، وتنقضي العدة بوضعه، سواء لحقه أم
356

لا، لاحتمال وطئ الشبهة بعد البينونة، كذا قاله ابن الصباغ.
ولو ولدت ثلاثة أولاد، فإن كانوا حملا واحدا، بأن كان بين الأول والثالث
دون ستة أشهر، طلقت بالأول، وانقضت عدتها بالثالث، ولحقه الجميع. وإن كان
بين الأولين أقل من ستة أشهر، وبين الثاني والثالث أكثر منها، لحقه الأولان
وانقضت عدتها بالثاني، ولا يلحقه الثالث. وإن كان
بين الأول والثاني أكثر من ستة
أشهر، وبين الثاني والثالث، دون الستة، طلقت بالأول ولم يلحقه الآخران إن كان
الطلاق بائنا، وإن كان رجعيا، ففيه الخلاف. وإن زاد ما بين الأولين على ستة
أشهر، وكذا ما بين الثاني والثالث، فالثالث غير لاحق به، وكذا الثاني إن كان
الطلاق بائنا. وإن كان رجعيا، فعلى الخلاف، ولو كان ما بين الأولين دون الستة،
وكذا ما بين الثاني والثالث، وكان بين الثالث والأول أكثر من الستة، فالأولان
لاحقان دون الثالث.
فرع هذا الكلام السابق، إذا لم تصر بعد الطلاق فراشا لغيره حتى
ولدت، فلو صارت بأن نكحت بعد العدة، ثم ولدت، نظر، أن ولدت لدون ستة
أشهر من النكاح الثاني، فكأنها لم تنكح، والحكم على ما سبق، وإن أتت به لستة
357

أشهر فأكثر، فالولد للثاني وإن أمكن كونه من الأول، لأن الفراش للثاني ناجز،
فهو أقوى، ولأن النكاح الثاني قد صح ظاهرا. فلو ألحقنا الولد بالأول، لبطل
النكاح لوقوعه في العدة، ولا سبيل إلى إبطال ما صح بالاحتمال، ولو نكحت نكاحا
فاسدا، بأن نكحت في العدة، لم يقطع العقد العدة، لكن تسقط نفقتها وسكناها
لنشوزها.
ثم إن وطئها الزوج عالما بالتحريم، فهو زان لا يؤثر وطؤه في العدة، وإن
جهل التحريم لظنه انقضاء العدة، أو أن المعتدة لا يحرم نكاحها، انقطعت به العدة
لمصيرها فراشا للثاني.
قال الروياني: ودعوى الجهل بتحريم المعتدة، لا يقبل إلا من قريب عهد
بالاسلام، ودعوى الجهل بكونها معتدة يقبل من كل أحد، ثم إذا فرق بينهما،
تكمل عدة الأول، ثم تعتد للثاني، فلو ولدت لزمان الامكان من الأول دون الثاني،
لحق بالأول وانقضت عدته بوضعه، ثم تعتد للثاني، وإن أتت به لزمان الامكان من
الثاني دون الأول، بأن أتت به لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، فإن كان
الطلاق بائنا، فهو ملحق بالثاني، وإن كان رجعيا، فهل يلحق بالثاني، أم يقال:
فراش الأول باق فيعرض الولد على القائف؟ فيه قولان، وإن ولدته لزمن الامكان
منهما، عرض على القائف، فإن ألحقه بهما، أو نفاه عنهما، أو أشكل عليه، أو
لم يكن قائف، انتظر بلوغه وانتسابه بنفسه، وإذا وضعته ومضت ثلاثة أقراء،
حلت للزواج، وإن ولدته لزمان لا يمكن أن يكون من واحد منهما، بأن كان لدون
ستة أشهر من نكاح الثاني، ولأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، لم يلحق واحد
منهما إن كان الطلاق بائنا، فإن كان رجعيا عاد الخلاف في أنها هل هي فراش. وإذا
نفيناه عنهما، فعن الشيخ أبي حامد: أنه لا تنقضي العدة بوضعه عن واحد منهما،
بل بعد الوضع تكمل العدة عن الأول، ثم تعتد عن الثاني. قال ابن الصباغ:
358

وقياس ما ذكرنا، فيما إذا علق طلاقها بالولادة فولدت ولدين بينهما ستة أشهر، أن
الثاني لا يلحقه، وتنقضي العدة بوضعه أن نقول هنا: تنقضي العدة عن
أحدهما.
ثم مدة الامكان من الزوج الثاني، هل تحسب من وقت النكاح الفاسد، أم
من وقت الوطئ؟ وجهان. أصحهما: الثاني، وبالأول قال القفال الشاشي. ويقرب
من هذا الخلاف الخلاف في أن العدة في نكاح الفاسد، هل تحسب من آخر وطئ
فيه، أم من وقت التفريق؟ والأصح من التفريق، لأن الفراش حينئذ يزول،
والتفريق بأن يفرق القاضي بينهما.
وفي معناه: ما إذا اتفق الزوجان على المفارقة، وما إذا مات الزوج عنها أو
طلقها وهو يظن الصحة، ولو غاب عنها على عزم أن يعود إليها، لم تحسب مدة
الغيبة من العدة، ولو عزم أن لا يعود، حسبت.
وخرج على الخلاف المذكور، أن لحوق الولد في النكاح الفاسد، هل يتوقف
على إقراره بالوطئ كما في ملك اليمين، أم يكفي فيه مجرد العقد كالنكاح
الصحيح؟ وأما إذا أحوجناه إلى الاقرار بالوطئ، فهل ينتفي الولد بدعوى الاستبراء
كملك اليمين، أم لا ينتفي باللعان؟ والأصح الثاني. ولو وطئت بالشبهة في العدة
359

فولدت للامكان من الزواج والواطئ، عرض الولد على القائف، كما ذكرنا في
النكاح الفاسد. ولو وطئت بعد انقضاء العدة، فهل هو كالنكاح الثاني في قطع فراش
الأول؟ وجهان. أحدهما: لا، بل يعرض الولد على القائف، وأصحهما: (نعم
لانقطاع النكاح الأول والعدة عنه في الظاهر، فعلى هذا، لو ولدت للامكان منهما،
لحق بالواطئ كما يلحق بالزوج الثاني.
فرع ولدت وطلقها، ثم اختلفا، فقال: طلقتك بعد الولادة فلي
الرجعة، وقالت: بل قبلها وانقضت عدتي بالوضع، فإن اتفقا على وقت الولادة،
كيوم الجمعة وقال: طلقتك يوم السبت، وقالت: يوم الخميس، فهو المصدق
بيمينه، لأن الطلاق بيده، فصدق فيه كأصله. وإن اتفقا على (وقت) الطلاق كيوم
الجمعة، وقال: ولدت يوم الخميس، وقالت: يوم السبت، صدقت بيمينها. وإن
لم يتفقا على وقت، وادعى تقدم الولادة، وهي تقدم الطلاق، فهو المصدق. ولو
ادعت تقدم الطلاق، فقال: لا أدري، لم يقنع منه، بل إما أن يحلف يمينا جازمة
أن الطلاق لم يتقدم، وإما أن ينكل فتحلف هي، ويجعل بقوله: لا أدري منكرا،
فتعرض اليمين عليه، فإن أعاد كلامه الأول، جعل ناكلا فتحلف هي ولا عدة عليها
ولا رجعة له، وإن نكلت، فعليها العدة. قال الأصحاب: وليس هذا قضاء
بالنكول، بل الأصل بقاء النكاح وآثاره، فيعمل بهذا الأصل ما لم يظهر دافع.
ولو جزم الزوج بتقدم الولادة، وقالت هي: لا أدري، فله الرجعة، والورع
أن لا يراجع، وكذا الحكم لو قال: لا ندري السابق منهما، وليس لها النكاح حتى
تمضي ثلاثة أقراء.
الباب الثاني في اجتماع عدتين
قد يجتمعان عليها لشخص، وقد يكونان لشخصين.
القسم الأول: إذا كانتا لشخص، فينظر، إن كانتا من جنس، بأن طلقها
وشرعت في العدة بالأقراء أو الأشهر، ثم وطئها في العدة جاهلا إن كان الطلاق بائنا
وجاهلا، أو عالما إن كان رجعيا، تداخلت العدتان، ومعنى التداخل، أنها تعتد
360

بثلاثة أقراء، أو ثلاثة أشهر من وقت الوطئ، ويندرج فيها بقية عدة الطلاق. وقدر
تلك البقية، يكون مشتركا واقعا عن الجهتين، وله الرجعة في قدر البقية إن كان
الطلاق رجعيا، ولا رجعة بعدها، ويجوز تجديد النكاح في تلك البقية وبعدها إذا لم
يكن عدد الطلاق مستوفى، هذا هو الصحيح. وحكى أبو الحسن العبادي عن
الحليمي، أن عدة الطلاق تنقطع بالوطئ، ويسقط باقيها، وتتمحض العدة الواجبة
عن الوطئ. قال: وقياسه أن لا تثبت الرجعة في البقية، ولكن منعنا منه
بالاجماع. وقد ينقطع أثر النكاح في حكم دون حكم. وفي وجه ثالث: أن ما
بقي من عدة الطلاق يقع متمحضا عن الطلاق، ولا يوجب الوطئ إلا ما وراء ذلك إلى
تمام ثلاثة أقراء، وهذا ضعيف.
وإن كانت العدتان من جنسين، بأن كانت إحداهما بالحمل، والأخرى
بالأقراء سواء طلقها حاملا، ثم وطئها، أو حائلا ثم أحبلها، ففي دخول الأخرى في
الحمل وجهان، أصحهما: الدخول كالجنس. فعلى هذا، تنقضيان بالوضع، وله
الرجعة في الطلاق الرجعي إلى أن تضع إن كانت عدة الطلاق بالحمل، وكذا إن
كانت بالأقراء على الأصح. وقيل: لا رجعة بناء على أن عدة الطلاق سقطت، وهي
الآن معتدة للوطئ. وإن قلنا: لا يتداخلان، فإن كان الحمل لعدة الطلاق، اعتدت
بعد وضعه بثلاثة أقراء، ولا رجعة إلا في مدة الحمل، وإن كان الحمل لعدة
الوطئ، أتمت بعد وضعه بقية عدة الطلاق، وله الرجعة في تلك البقية، وله الرجعة
قبل الوضع أيضا على الأصح، وله تجديد نكاحها قبل الوضع وبعده إذا لم يكن
الطلاق رجعيا. فإن لم يعلم هذا الحمل من عدة الطلاق، أم حدث بالوطئ، قال
المتولي: يلزمها الاعتداد بثلاثة أقراء كاملة بعد الوضع، لجواز أن تكون عدة الطلاق
بالوضع. وحيث أثبتنا الرجعة، فلو مات أحدهما، ورثه الآخر، ولو طلقها، لحقها
الطلاق، ويصح الظهار والايلاء منها. ولو مات الزوج، انتقلت إلى عدة الوفاة.
وحيث قلنا: لا تثبت الرجعة، لا يثبت شئ من هذه الأحكام.
361

فرع جميع ما ذكرناه، فيما إذا كانت لا ترى الدم على الحمل، أو تراه
وقلنا: ليس هو بحيض. فأما إن جعلناه حيضا، فهل تنقضي مع الحمل العدة
الأخرى بالأقراء؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه قال الشيخ أبو حامد، والقاضي
حسين. فعلى هذا، لو كان الحمل حادثا من الوطئ، فمضت الأقراء قبل
الوضع، فقد انقضت عدة الطلاق، وليس للزوج الرجعة بعد ذلك، وإن وضعت
الحمل قبل تمام الأقراء، فقد انقضت عدة الوطئ، وعليها بقية عدة الطلاق،
وللزوج الرجعة قبل الوضع وبعده إلى تمام الأقراء بلا خلاف 2 (232). وإن كان الحمل
لعدة الطلاق، فله الرجعة إلى الوضع. فإذا وضعت، أكملت لعدة الوطئ ما بقي من
الأقراء.
القسم الثاني: إذا كانت العدتان لشخصين، بأن كانت معتدة لزيد عن طلاق
أو وفاة أو شبهة، أو نكحها جاهلا ووطئها، أو كانت المنكوحة معتدة عن وطئ
شبهة، فطلقها زوجها، فلا تداخل، بل تعتد عن كل واحد عدة كاملة، ثم قد لا
يكون هناك حمل، وقد يكون.
الحال الأول: أن لا يكون، فإن سبق الطلاق وطئ الشبهة، أتمت عدة
الطلاق، لتقدمها وقوتها. فإذا أتمتها، استأنفت عدة الشبهة، ثم إن لم يكن من
الثاني إلا وطئ شبهة، ابتدأت عدته عقب عدة الطلاق، فإن نكح الثاني ووطئ،
فزمن كونها فراشا له لا يحسب عن واحدة من العدتين. وبماذا تنقطع عدة الطلاق؟
فيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى. ومتى تعود إليها؟ وجهان، أحدهما: من آخر
362

وطئ وقع في النكاح الثاني، حكي عن القفال الشاشي. والثاني وهو الصحيح: من
حين التفريق بينهما، وللزوج الرجعة في عدته، فإذا راجعها، شرعت في عدة وطئ
الشبهة، وليس للزوج الاستمتاع بها إلى أن تنقضي.
وهل له تجديد نكاحها إن كان الطلاق بائنا؟ وجهان، أصحهما عند
الأكثرين: نعم. ولو وطئت منكوحة بشبهة، ثم طلقت وهي في عدة الشبهة،
فوجهان. أحدهما: تتم عدة الشبهة، ثم تبتدئ عدة الطلاق مراعاة للسابق،
وأصحهما عند الأكثرين: تقدم عدة الطلاق، لقوتها. فإن قدمنا عدة الشبهة، فله
الرجعة إذا اشتغلت بعد الطلاق. وهل له الرجعة قبل ذلك؟ وجهان، ولا يجوز
تجديد نكاحها في عدة الشبهة إذا كان الطلاق بائنا، لأنها في عدة الغير. وإذا قلنا:
تقدم عدة الطلاق، شرعت فيها بنفس الطلاق، فإذا تمت، عادت إلى بقية عدة
الشبهة، وللزوج الرجعة إن كان الطلاق رجعيا.
وهل له تجديد النكاح إن كان بائنا؟ فيه الوجهان السابقان. ولو طرأ وطئ شبهة
في عدة وطئ شبهة، أتمت عدة الواطئ الأول بلا خلاف. ولو نكح امرأة نكاحا
فاسدا، ووطئها غيره بشبهة، ثم فرق بينهما لظهور فساد النكاح، قال البغوي: تقدم
عدة الواطئ بشبهة بلا خلاف، لأن عدته من وقت الوطئ، وعدة الناكح من
التفريق، ومعناه: أن عدة الواطئ سبق وجوبها، وليس للفاسد قوة الصحيح
ليترجح بها، وقد تكون إحدى العدتين بالأقراء، والأخرى بالأشهر، بأن طلقها
فمضى قرآن، ثم نكحت فاسدا ودام فراشه حتى أيست، ثم فرق بينهما، فتكمل
عدة الأول بشهر، بدلا عن القرء الباقي، ثم تعتد للفاسد بثلاثة أشهر.
الحال الثاني: أن يكون هناك حمل، فيقدم عدة من الحمل منه سابقا كان أو
متأخرا، فإن كان الحمل للمطلق، ثم وطئت بشبهة، فإذا وضعت انقضت عدة
الطلاق، ثم تعتد بالأقراء للشبهة بعد طهرها من النفاس، وللزوج رجعتها قبل
363

الوضع. قال الروياني: لكن لا يراجعها في مدة اجتماع الواطئ بها، لأنها حينئذ
خارجة عن عدة الأول، وفراش لغيره، فلا تصح الرجعة في تلك الحالة. وهل له
تجديد نكاحها قبل الوضع إن كان الطلاق بائنا؟ فيه الوجهان السابقان، ويجريان
فيما لو وطئ امرأة بشبهة وأحبلها، ثم وطئها آخر، هل للأول أن ينكحها قبل
الوضع، وليس له أن ينكحها في عدة الثاني بحال، وللثاني أن ينكحها في عدة
نفسه؟.
وإن كان الحمل من وطئ الشبهة، فإذا وضعت، انقضت عدة الوطئ وعادت
إلى بقية عدة الطلاق، وللزوج الرجعة في تلك البقية، إن كان طلاقه رجعيا، سواء
في ذلك مدة النفاس وغيرها، لأنها من جملة العدة، كالحيض الذي يقع فيه
الطلاق. وقيل: لا رجعة في مدة النفاس، والصحيح الأول. وإذا ثبتت الرجعة،
فلو طلق، لحقها الطلاق، ولو مات أحدهما، ورثه الآخر وانتقلت إلى عدة الوفاة
بوفاة الزوج، وهل له الرجعة قبل الوضع إن كان الطلاق رجعيا، أو تجديد النكاح إن
كان بائنا؟ وجهان. أصحهما عند الشيخ أبي حامد: نعم، لأنه لم تنقض عدته،
وكما في العدتين المختلفتين من شخص. وأصحهما عند الماوردي والبغوي: لا،
لأنها في عدة غيره. ثم قال البغوي: لو طلقها قبل الوضع، لحقها الطلاق ولو مات
أحدهما، ورثه الآخر، فإن مات الزوج، انتقلت إلى عدة الوفاة، حتى إذا
وضعت، تعتد عن الزوج عدة الوفاة وإن كان لا تصح رجعته، لأنا نجعل زمان
الرجعة كزمان صلب النكاح، هذا لفظه، وإذا راجعها وهي حامل من الأجنبي،
وجوزناه، فليس له الوطئ حتى تضع، كما إذا وطئت منكوحة بشبهة، فاشتغلت
بالعدة، وإن كانت حاملا منه، وفي ذمتها عدة الشبهة، فراجعها، انقضت عدته في
الحال، وبقيت عدة الشبهة مؤخرة حتى تضع وتعود إلى أقرائها. وهل له وطؤها في
الحال؟ فيه وجهان. أحدهما: نعم، لأنها زوجة ليست في عدة. والثاني: لا،
لأنها متعرضة للعدة، ومال المتولي إلى ترجيح هذا، ورجح بعضهم الأول.
364

قلت: الراجح الجواز. والله أعلم.
ويجري الوجهان فيما لو وطئت المنكوحة في صلب النكاح بشبهة وهي حامل
من الزوج. ولو كانت ترى الدم على الحمل، وجعلناه حيضا، فعن القاضي
حسين: أن العدة الأخرى تنقضي بالأقراء، كالعدتين من شخص، وهذا ضعيف،
وضعفه الامام والغزالي، لأن فيه مصيرا إلى تداخل عدتي شخصين.
وجميع ما ذكرنا، فيما إذا علم أن الولد من هذا أو ذاك، لانحصار الامكان
فيه، فلو لم يمكن كونه من واحد منهما، بأن ولدته لأكثر من أربع سنين من طلاق
الأول وهو بائن أو رجعي على قول، ولدون ستة أشهر من وطئ الثاني، فالولد منفي
عنهما، ولا تنقضي بوضعه عدة واحد منهما على الأصح، بل إذا وضعته تممت
عدة الأول، ثم استأنفت عدة الثاني. وقيل: تعتد بوضعه من أحدهما لا بعينه، لامكان
كونه من أحدهما بوطئ شبهة، ثم تعتد عن الآخر بثلاثة أقراء.
فرع ويتفرع على الوجهين فرعان. أحدهما: لو كانت ترى الدم والحالة
هذه وجعلناه حيضا، قال الروياني: إن قلنا: تنقضي عدة أحدهما بالوضع، لم
تعتد بأقرائها، لئلا تتداخل عدة شخصين، وإلا ففي الاحتساب بأقرائها وجهان:
أصحهما: الاحتساب، لأنها إذا لم تعتد بالحمل، كانت كالحائل، وبهذا قطع
صاحب الشامل.
الثاني: إن قلنا تنقضي بالوضع عدة أحدهما، لم تصح رجعة الزوج في مدة
الحمل ولا في الأقراء بعد الوضع، للشك في أن عدته هذه أم هذه؟ فلو راجع مرة
في الحمل، ومرة في الأقراء، ففي صحة الرجعة وجهان سيأتي نظيرهما إن شاء الله
تعالى. وإن قلنا: لا تنقضي، أتمت بعد الوضع عدة الأول وهو الزوج، وله
الرجعة فيه. وهل له الرجعة قبله في مدة الحمل؟ فيه الوجهان السابقان.
365

فرع إذا احتمل كون الولد من الزوج، ومن الواطئ بالشبهة، عرض بعد
الوضع على القائف، فإن ألحقه بالزوج أو بالواطئ، فحكمه ما ذكرنا فيما إذا
اختص الاحتمال به، فإن لم يكن قائف أو أشكل عليه، أو ألحقه بهما، أو نفاه
عنهما، أو مات الولد وتعذر عرضه، انقضت عدة أحدهما بوضعه، لأنه من
أحدهما، ثم تعتد بعد الوضع للآخر بثلاثة أقراء. قال الروياني: وقول الشافعي
رحمه الله تعالى: فإن لم يكن قائف، ليس المراد به إن لا يوجد في الدنيا، بل
المراد أن لا يوجد في موضع الولد وما يقرب منه، وهو المسافة التي تقطع في أقل من
يوم وليلة. وسواء في وجوب العرض على القائف، ادعياه جميعا، أو ادعاه
أحدهما فقط. وقيل: إذا ادعاه أحدهما فقط، اختص به، كالأموال، والصحيح
الأول، لحق الولد وحق الشرع في النسب. قال المتولي: إن كان الطلاق بائنا،
عرض على القائف كما ذكرنا. وإن كان رجعيا، بني على أن الرجعة هل هي
فراش، أم لا؟ إن قلنا: لا، عرض أيضا، وإن قلنا: فراش، وأن السنين الأربع
في حقها تعتبر من انقضاء العدة، فالولد ملحق (بالزوج) ولا يعرض على القائف.
ثم في هذا الفرع مسألتان.
إحداهما: إذا رجع الزوج في مدة الحمل، بني على ما إذا تأخرت عدة
الزوج لاحبال الواطئ، هل له الرجعة في مدة الحمل؟ إن قلنا: نعم، صحت
رجعته، وهو الأصح، وإلا فلا. فلو بان بعد الوضع أن الحمل منه بإلحاق القائف،
فهل يحكم الآن بأن الرجعة وقعت صحيحة؟ وجهان. أصحهما: نعم. ولو راجع
بعد الوضع، لم يحكم بصحة الرجعة أيضا، لاحتمال كون الحمل منه، وأن عدته
انقضت بوضعه. فلو بان بإلحاق القائف أن الحمل من وطئ الشبهة، ففي الحكم
الآن بصحة الرجعة الوجهان، هذا إذا راجع في القدر المتيقن بعد الوضع أنه من
الأقراء دون ما أوجبناه احتياطا.
بيانه: وطئها الأجنبي بعد مضي قرء من وقت الطلاق، فالقدر الذي يتيقن
لزومه بعد الوضع قرآن، وإنما نوجب القرء الثالث احتياطا، لاحتمال كون الحمل
من الزوج. ولو راجع مرتين، مرة قبل الوضع، ومرة بعده في القرءين، ففي صحة
366

رجعته وجهان. أصحهما: الصحة، وبه قال القفال، لوجود رجعة في عدته يقينا،
والثاني: المنع، للتردد. ولو جدد النكاح، إذا كان الطلاق بائنا، نظر، إن نكحها
مرة واحدة قبل الوضع أو بعده، لم يحكم بصحته، لاحتمال كونه في عدة الشبهة.
فإن بان بعد ذلك كون العدة كانت منه بإلحاق القائف، قال المتولي: فهو على
الخلاف في الرجعة. قال: وليس هو من وقف العقود، وإنما هو وقف على ظهور
أمر كان عند العقد.
وإن نكحها مرتين قبل الوضع وبعده، ففي صحته وجهان، كالرجعة. قال
الامام: الأصح هنا المنع، لأن الرجعة تحتمل ما لا يحتمله النكاح، ولهذا تصح في
الاحرام، والوجهان مفرعان على صحة تجديد الزوج في عدته، مع أن في ذمتها
عدة شبهة، وإلا فلا يصح قطعا، لاحتمال تأخر عدة الشبهة، فلا تصح المرة الأولى
للعدة التي في ذمتها، ولا الثانية، لكونها في عدة شبهة. فلو نكحها الواطئ بشبهة
قبل الوضع أو بعده في القرءين، لم يصح، لاحتمال كونها في عدة الزوج. ولو
نكحها بعد الوضع في القرءين، ثم بان بالقائف أن الحمل من الزوج، ففي تبين
الصحة الخلاف السابق. ولو نكحها في القرء الثالث، صح قطعا، لأنها في عدته
إن كان الحمل من الزوج، وإلا فغير معتدة.
المسألة الثانية: سنذكر إن شاء الله تعالى أن الرجعية تستحق النفقة في العدة،
وأن البائن لا تستحقها إلا إذا كانت حاملا، ونذكر قولين في أن تلك النفقة للحمل،
أم للحامل؟ وقولين في أن تلك النفقة تصرف إليها يوما بيوم، أم يصرف الجميع إليها
عند الوضع؟ وأن المعتدة عن وطئ شبهة لا نفقة لها على الواطئ إذا قلنا: النفقة
للحامل.
إذا عرفت هذه الجمل، فإن قلنا: النفقة للحامل وهو الأظهر، لم تطالب
المرأة الزوج، ولا الواطئ بالنفقة مدة الحمل المحتمل. فإذا وضعت، نظر، إن
ألحقه القائف بالزوج، طالبته بنفقة مدة الحمل الماضية، وهذا إذا لم تصر فراشا
للثاني، بأن لم يوجد إلا وطئ شبهة، وينبغي أن يستثنى زمن اجتماعها بالثاني، فإن
صارت فراشا له، بأن نكحها جاهلا وبقيت في فراشه حتى وضعت، فلا نفقة لها
على الزوج، لكونها ناشزة بالنكاح، فإن فرق الحاكم بينهما قبل الوضع، طالبته
367

بالنفقة من يوم التفريق إلى الوضع، ثم لا نفقة لها على الواطئ في عدتها عنه
بالأقراء. وإن ألحقه القائف بالواطئ، لم يلزم واحدا منهما نفقة مدة الحمل،
ويلزم الزوج نفقة مدة القرءين بعد الوضع إذا كان الطلاق رجعيا، ويلزمه أيضا نفقة
مدة النفاس على الأصح، كما أن له الرجعة فيها، ولا يمنع ذلك كونه لا يحسب من
العدة كمدة الحيض، وإن لم نلحقه بواحد منهما، أو لم يكن قائف، فلا نفقة على
الواطئ، ولا على الزوج وإن كان الطلاق بائنا، لأنا لا نعلم حال الحمل، ولا نفقة
إذا لم يكن حمل. وإن كان رجعيا، فلا نفقة لمدة كونها فراشا، ولها عليه الأقل من
نفقتها من يوم التفريق إلى الوضع، ونفقتها في القدر الذي تكمل به عدة الطلاق بعد
الوضع وهو قرآن في المثال السابق. هذا إذا قلنا: النفقة للحامل، فإن قلنا: إنها
للحمل، فعلى أحدهما نفقة مدة الحمل بيقين، فإذا أشكل الحال، أنفقا عليه
بالسوية، فإن قلنا: نصرف الجميع إليها بعد الوضع، أخذت من كل واحد منهما
نصف نفقتهما، هكذا رتب ابن الصباغ والروياني في جمع الجوامع، وهو
المذهب. ومنهم من أطلق أنها لا تطالب واحدا منهما في مدة الحمل، ولم يفرق
هؤلاء بين قولنا: النفقة للحمل أو للحامل، فعلى هذا، إذا وضعت فألحقه القائف
بالواطئ، قال الامام والغزالي: لا تطالب بالنفقة الماضية، بناء على أن نفقة
القريب تسقط بمضي الزمان، والذي ذكره البغوي وجماعة، أنه يطالب بتلك
النفقة، وقالوا: هذه النفقة تصير دينا في الذمة وليست كنفقة الأقارب. قال الامام:
ولم يقل أحد من الأصحاب، أنه إذا ألحقه القائف بالزوج، لا يطالب بالنفقة
الماضية، تفريعا على أنها للحمل، وأنها تسقط بمضي الزمان، قال: والقياس
يقتضي المصير إليه. أما نفقة الولد بعد الوضع وحضانته، فعلى ما ألحقه القائف
به منهما، فإن لم يكن قائف، أو أشكل عليه، فهي عليهما مناصفة إلى أن يوجد
القائف، أو يبلغ الصبي، فينتسب إلى أحدهما. وقيل: لا يطالبان بالنفقة في مدة
الاشكال، وهو ضعيف. ثم إذا أنفقا (عليه)، ثم لحق الولد بأحدهما بإلحاق
368

القائف، أو بانتسابه، رجع الآخر عليه بما أنفق بشرطين، أحدهما: أن يكون
الانفاق بإذن الحاكم، وإلا فهو متبرع. والثاني: أن لا يكون مدعيا للولد، فإن كان
يدعيه، فلا رجوع لأنه أنفق على ولده بزعمه.
ولو مات الولد في زمن الاشكال، فكفنه عليهما، وللأم ثلث ماله، ويوقف
الباقي بين الزوج والواطئ حتى يصطلحا. فإن كان لها ولدان آخران، أو كان لكل
واحد من الزوج والواطئ ولدان، فلها السدس. فإن كان لأحدهما ولدان دون
الآخر، فهل لها الثلث للشك في كونهما أخوين للميت، أم السدس لأنه اليقين؟
وجهان.
قلت: الأصح أو الصحيح أنه السدس. والله أعلم.
ولو أوصى إنسان لهذا الحمل بشئ، فانفصل حيا، ثم مات، فإن مات بعد
قبول الزوج والواطئ الوصية، فالوصية مستقرة، لأن أحدهما أبوه، والمال لورثته
كما ذكرنا، وإن مات قبل أن يقبلا، فحق القبول للورثة.
ولو سمى الموصي أحدهما، فقال: أوصيت لحمل فلان هذا، فإن ألحقه
القائف بغير المسمى، بطلت الوصية، وإن ألحقه به، صحت، وإن نفاه
باللعان، ففي بطلانها وجهان.
فرع ما ذكرناه من كون العدتين من شخصين، لا يتداخلان إذا كان في
شخصين محترمين. فأما إذا طلق حربي زوجته، فوطئها في عدته حربي آخر
بشبهة، أو نكحها ووطئها، ثم أسلمت مع الثاني، أو دخلا بأمان، وترافعا إلينا،
فحكي عن النص أنه لا يجمع عليها عدتان، بل يكفيها واحدة من يوم وطئها الثاني).
وللأصحاب طرق. أحدها: الاكتفاء بعده عملا بهذا النص، لأن حقوقهم ضعيفة،
وماؤهم غير محترم، فيراعى أصل العدة، ويجعل جميعهم كشخص. والثاني:
القطع بأنه لا بد من عدتين كالمسلمين، ورد هذا النص. والثالث: على قولين.
369

ونقل السرخسي والروياني، أن بعضهم خرج من هذا النص، فيما إذا كانت العدتان
لمسلمين، وجعل الصورتين على قولين نقلا وتخريجا، وهذا غريب ضعيف
جدا. فإذا قلنا في الكافرين: يكفي عدة، فهل نقول: هي للوطئ الثاني فقط
وتسقط بقية عدة الأول لضعف حقوق الحربي وبطلانها بالاستيلاء عليه، أو على
زوجته، أم نقول: تدخل بقية العدة الأولى في الثانية؟ وجهان.
قلت: أرجحهما الأول. والله أعلم.
قال المتولي: ولو أسلمت المرأة، ولم يسلم الثاني، وجب أن تكمل العدة
الأولى، ثم تعتد عن الثاني قطعا، لأن العدة الثانية ليست هنا أقوى حتى تسقط بقية
الأولى أو تدخل فيها. قال: ولو كان الأول طلقها رجعية، وأسلمت مع الثاني، ثم
أسلم الأول، فله الرجعة في بقية عدته، إن قلنا بدخولها في العدة الثانية. وإن قلنا
بسقوطها، فلا. قال: ولو أراد الثاني أن ينكحها، فله ذلك إن قلنا: بسقوط بقية
العدة الأولى، لأنها في عدته فقط، وإن قلنا بدخولها في الثانية، فلا حتى تنقضي
تلك البقية، قال: ولو كانت حاملا من الأول، لم تكفها عدة واحدة، بل تستأنف
بعد الوضع عدة الثاني. وإن أحبلها الثاني، فإن قلنا: تسقط بقية الأولى، فكذا
هنا، ويكفيها وضع الحمل. وإن قلنا بالتداخل، عادت بعد الوضع إلى بقية
العدة الأولى، لأن الحمل ليس من الأول، فلا تنقضي به عدته. ولو طلق حربي
370

زوجته، فوطئها في العدة حربي بنكاح وطلقها حربي، فيها الخلاف، وفيه صور
الامام المسألة.
فصل طلق زوجته وهجرها، أو غاب عنها، انقضت عدتها بمضي الأقراء
أو الأشهر. فلو لم يهجرها، بل كان يطؤها، فإن كان الطلاق بائنا، لم يمنع ذلك
انقضاء العدة، لأنه وطئ زنا لا حرمة له، وإن كان رجعيا، قال المتولي: لا تشرع
في العدة ما دام يطؤها، لأن العدة لبراءة الرحم وهي مشغولة.
وإن كان لا يطؤها، ولكن يخالطها ويعاشرها معاشرة الأزواج، فثلاثة أوجه.
أحدها: لا تحسب تلك المدة من العدة، لأنها شبيهة بالزوجات دون المطلقات
المهجورات. والثاني: تحسب، لأن هذه المخالطة لا توجب عدة، فلا تمنعها،
حكاه الغزالي عن المحققين. والثالث وهو الأصح، وبه أخذ الأئمة، منهم القفال
والقاضي حسين، والبغوي في التهذيب والفتاوى، والروياني في
الحلية: إن كان الطلاق بائنا، حسبت مدة المعاشرة من العدة. وإن كان
رجعيا، فلا، لأن مخالطة البائن محرمة بلا شبهة، فأشبهت الزنا بها. وفي الرجعية
الشبهة قائمة، وهو بالمخالطة مستفرش لها، فلا يحسب زمن الاستفراش من
العدة، كما لو نكحت في العدة زوجا جاهلا بالحال، لا يحسب زمن استفراشه. ثم
يتعلق بالمسألة فرعان. أحدهما: قال البغوي في الفتاوى: الذي عندي، أنه لا
رجعة للزوج بعد انقضاء الأقراء، وإن لم تنقض العدة عملا بالاحتياط في الجانبين.
وفي فتاوى القفال ما يوافق هذا، وأما لحوق الطلقة الثانية والثالثة، فيستمر إلى
371

انقضاء العدة عملا بالاحتياط أيضا، وقد صرح به الروياني في الحلية. الثاني:
قال في البسيط: يكفي في الحكم بالمعاشرة الخلوة، ولا يكفي دخول دار هي
فيها، ولا يشترط تواصل الخلوة، بل يكفي أن يخلو بها الليالي، ويفارقها الأيام كما
هو المعتاد بين الزوجين. فلو طالبت المفارقة، ثم جرت خلوة، ففي البناء على ما
مضى احتمالان. أشبههما: البناء، وأجرى الخلاف المذكور في الأصل فيما لو
372

طلق زوجته الأمة فعاشرها السيد، هل تمنع من الاحتساب بالعدة؟ قال البغوي في
الفتاوى: ولو طلق زوجته ثلاثا ونكحها في العدة على ظن أن عدتها انقضت
وحلت، فينبغي أن يقال: زمن استفراشها لا يحسب من العدة كالرجعية، وأما إذا
خالط المعتدة أجنبي عالما، فلا يؤثر، كما لا يؤثر وطؤه. وإن خالط بشبهة، فيجوز
أن يمنع من الاحتساب، كما سبق أنها في زمن الوطئ بالشبهة خارجة عن العدة.
وجميع ما ذكرناه، فيما إذا كانت حائلا، فأما المعتدة بالحمل، فلا شك أن
معاشرتها لا تمنع انقضاء العدة بالوضع.
فرع سبق أنه إذا نكح معتدة على ظن الصحة، ووطئها، لم يحسب زمن
استفراشه إياها عن عدة الطلاق. ومن أي وقت يحكم بانقضاء العدة؟ فيه أربعة
أوجه. أصحها: من وقت الوطئ، لأن النكاح الفاسد لا حرمة له. والثاني: من
حين يخلو بها ويعاشرها، وإن لم يطأ. والثالث: من وقت العقد إن اتصل به
زفاف، وإلا فلا. والرابع: من وقت العقد وإن لم يتصل به زفاف، وبه قال القفال
الشاشي، لأنها بالعقد معرضة عن العدة.
فرع من نكح معتدة من غيره جاهلا ووطئها، لم تحرم عليه على التأبيد،
هذا هو المذهب ونصه في الجديد. وعن القديم: أنها تحرم أبدا، ومنهم من أنكر
القديم. وذكر الذين أثبتوه وجهين في أن التحريم المؤبد يشترط فيه تفريط الحاكم
كاللعان، أم لا، كالارضاع؟ ونقل الروياني إجراء القديم في كل وطئ يفسد
النسب، كوطئ زوجة الغير، أو أمته بالشبهة.
فصل طلق رجعيا ثم راجعها، انقضت العدة، فإن طلقها بعده، فلها
حالان. أحدهما: أن تكون حائلا، فإن وطئها بعد الرجعة، لزمها استئناف العدة،
وإلا لزمها الاستئناف أيضا على الجديد الأظهر. وفي القديم: تبني على العدة
373

السابقة. فعلى هذا، لو راجعها في خلال الطهر، فهل يحسب ما مضى من
الطهر قرءا؟ وجهان. أحدهما: نعم، لأن بعض القرء كالقرء. فعلى هذا إذا كانت
الرجعة في خلال الطهر الثالث، ثم طلقها، فلا شئ عليها على قول البناء، لتمام
الأقراء بما مضى، وأصحهما: لا، بل عليها في هذه الصورة قرء ثالث، وإنما
يجعل بعض الطهر من آخره قرءا لاتصاله بالحيض، ودلالته على البراءة، بخلاف
بعض الأول.
الحال الثاني: أن تكون حاملا، فإن طلقها ثانية قبل الولادة، انقضت عدتها
بالولادة، وطئها أم لا. وإن ولدت ثم طلقها، فإن وطئها قبل الولادة أو بعدها،
لزمها استئناف العدة بالأقراء، وإن لم يطأ، استأنفت أيضا على المذهب. وقيل:
وجهان، أصحهما: هذا، والثاني: لا عدة عليها، وتنقضي عدتها بالوضع،
هذا كله إذا طلقها ثم راجعها ثم طلقها. فلو طلقها ولم يراجعها، ثم طلقها أخرى،
فالمذهب أنها تبني على العدة الأولى، لأنهما طلاقان لم يتخللهما وطئ ولا رجعة،
فصار كما لو طلقها طلقتين معا. وقال ابن خيران والاصطخري والقفال: في وجوب
الاستئناف قولان، كما في الحال الأول. ولو راجعها ثم خالعها، فإن جعلنا الخلع
طلاقا، فهو كما لو طلقها بعد الرجعة، وإن جعلناه فسخا، فطريقان. أحدهما: أن
وجوب الاستئناف على القولين. والثاني: القطع بالاستئناف، لأن الفسخ ليس من
جنس الطلاق، فلا تبنى عدة أحدهما على الآخر، وهذا الطريق أظهر عند
الروياني، ويجري الطريقان في سائر الفسوخ، مثل أن ينكح عبد أمة ثم يطلقها
رجعيا، ثم تعتق هي ويفسخ النكاح.
374

فرع إذا طلق المدخول بها على عوض، أو خالعها، فله أن ينكحها في
العدة، ونقل في المهذب عن المزني: أنه لا يجوز، كما لا يجوز لغيره، وهذا
غريب. فإذا نكحها، فعن ابن سريج: أنه لا تنقطع عدتها ما لم يطأها، كما لو
تزوجها أجنبي في العدة جاهلا، والصحيح: أنها تنقطع بنفس النكاح، لأن نكاحه
صحيح، وزوجته المباحة لا يجوز أن تكون معتدة منه، فعلى هذا لو طلقها بعد
التجديد، نظر إن كانت حاملا، انقضت عدتها بوضع الحمل، وإن كانت حائلا ولم
يدخل بها، بنت على العدة السابقة، ولم يلزمه إلا نصف المهر، لأن هذا النكاح
جديد طلقها فيه قبل المسيس، فلا يتعلق به العدة، ولا كمال المهر، بخلاف ما
سبق في الرجعية، فإنها تعود بالرجعة إلى ذلك النكاح.
وإن دخل بها، لزمها استئناف العدة، وتدخل في العدة المستأنفة بقية العدة
السابقة، ولو مات عنها بعد التجديد، فالمذهب وبه قطع البغوي وغيره: أنه يكفيها
عدة الوفاة، وتسقط بقية العدة السابقة، كما لو مات عن رجعية. وذكر الغزالي في
اندراج تلك البقية في عدة الوفاة وجهين لاختلاف الجنس.
فصل في مسائل تتعلق بالباب إحداها: نكح معتدة عن وفاة، ووطئها
جاهلا، فأتت بولد يمكن كونه من كل منهما، ولا قائف، انقضت بوضعه عدة
أحدهما، وعليها بعده أكثر الامرين من بقية عدة الوفاة بالأشهر، وثلاثة أقراء.
الثانية: وطئ الشريكان المشتركة، لزمها استبراءان على الصحيح، كما لا
تتداخل العدتان، وقيل: يكفي استبراء.
375

الثالثة: أحبل امرأة بشبهة ثم نكحها ومات قبل ولادتها، فهل تنقضي عدتها
بوضع الحمل، أم بأكثر الأجلين من وضع الحمل ومدة عدة الوفاة؟ وجهان. ولو
طلقها بعد الدخول، ففي انقضاء العدتين بالوضع الوجهان، وبالله التوفيق.
الباب الثالث في عدة الوفاة والمفقود
إذا مات زوجها، لزمها عدة الوفاة بالنصوص والاجماع، فإن كانت حائلا،
فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام بلياليها، ويستوي فيها الصغيرة والكبيرة، وذات
الأقراء وغيرها، والمدخول بها وغيرها، وزوجة الصبي والممسوح وغيرهما، وتعتبر
الأشهر بالأهلة ما أمكن. فإن مات في خلال شهر، وكان الباقي منه أكثر من عشرة
أيام، عدت ما بقي، وحسبت بعدة ثلاثة أشهر بالأهلة، وتكمل ما بقي من شهر
الوفاة ثلاثين من الشهر الواقع بعد الثلاثة، وتضم إليه عشرة أيام، وإن كان الباقي من
شهر الوفاة أقل من عشرة أيام، حسبت بعد أربعة أشهر بالأهلة، ثم تكمل بقية
العشرة من الشهر السادس. وإن كان الباقي عشرة أيام بلا زيادة ولا نقص، اعتدت
بها وبأربعة أهلة بعدها. ولنا وجه شاذ: أنه إن انكسر شهر، انكسر الجميع
واعتبرت كلها بالعدد، والصواب الأول. وإن انطبق الموت على أول الهلال،
حسبت أربعة أشهر بالأهلة، وضمت إليها عشرة أيام من الشهر الخامس.
ولو كانت محبوسة لا تعرف الاستهلال، اعتدت بمائة وثلاثين يوما، والأمة
تعتد بنصف عدة الحرة وهو شهران وخمسة أيام. وسواء رأت في المدة دم حيض أم
لم تره، ولو مات الزوج والمرأة في عدة طلاقه، فإن كانت رجعية، سقطت عنها
عدة الطلاق، وانتقلت إلى عدة الوفاة، حتى يلزمها الاحداد ولا تستحق النفقة، وإن
كانت بائنا أكملت عدة الطلاق، ولها النفقة إذا كانت حاملا، ولا تنتقل إلى عدة
الوفاة حاملا كانت أو حائلا.
376

أما إذا كانت المتوفى عنها حاملا، فعدتها بوضع الحمل بشرطه السابق في عدة
الطلاق، وسواء تعجل الوضع أو تأخر.
فرع عدة الوفاة تختص بالنكاح الصحيح، فلو نكح فاسدا ومات قبل
الدخول، فلا عدة، وإن دخل ثم مات أو فرق بينهما، اعتدت للدخول كما تعتد عن
الشبهة.
فرع طلق إحدى امرأتيه، ومات قبل أن تبين التي أرادها، أو تعين
إحداهما إن أبهم، نظر، إن لم تكونا ممسوستين، أو كانتا من ذوات الأشهر، فعلى
كل منهما عدة الوفاة، وإن كانتا حاملتين، فعدتهما بالحمل، وإن كانتا من ذوات
الأقراء، نظر، إن أراد واحدة معينة، لزم كل واحدة الاعتداد بأقصى
الأجلين من عدة الوفاة، وثلاثة أقراء، وتحسب عدة الوفاة من حين
الموت، وتحسب الأقراء من وقت الطلاق على الصحيح، وقيل: من حين الموت،
هذا في الطلاق البائن، فإن كان رجعيا، فالرجعة تنتقل إلى عدة الوفاة، فعلى كل
واحدة عدة الوفاة. وإن أبهم الطلاق، بني على أنه لو عين، هل يقع الطلاق من
حين اللفظ، أم من وقت التعيين. إن قلنا: من اللفظ، فهو كما لو أراد معينة، وإن
قلنا: من التعيين، فوجهان. أصحهما: أن عليهما الاعتداد بأقصى الأجلين أيضا،
لكن الأقراء هنا تحسب من يوم الموت. والثاني: أن كل واحدة تعتد بعدة الوفاة،
لأنه كمن لم يطلق، ولو اختلف حال المرأتين، فكانت إحداهما ممسوسة أو حاملا
أو ذات أقراء، والأخرى بخلافها، عملت كل واحدة بمقتضى الاحتياط في حقها كما
سبق.
فصل الغائب عن زوجته، إن لم ينقطع خبره، فنكاحه مستمر، وينفق
عليها الحاكم من ماله إن كان في بلد الزوجة مال، فإن لم يكن كتب إلى حاكم بلده
ليطالبه بحقها، وإن انقطع خبره ولم يوقف على حاله حتى يتوهم موته، فقولان.
الجديد الأظهر: أنه لا يجوز لها أن تنكح غيره حتى يتحقق موته أو طلاقه، ثم
377

تعتد. والقديم: أنها تتربص أربع سنين، ثم تعتد عدة الوفاة، ثم تنكح، ومما
احتجوا به للجديد: أن أم ولده لا تعتق، ولا يقسم ماله، والأصل الحياة والنكاح،
وأنكر بعضهم القديم.
وسواء فيما ذكرناه المفقود في جوف البلد أو في السفر وفي القتال، ومن
انكسرت سفينته ولم يعلم حاله.
وإن أمكن حمل انقطاع الخبر على شدة البعد والايغال في الاسفار، فقد حكى
الامام في إجراء القول القديم تردد، والأصح إجراؤه.
ويتفرع على القولين صور.
إحداها: إذا قلنا بالقديم، تربصت أربع سنين، ثم يحكم الحاكم بالوفاة
وحصول الفرقة، فتعتد عدة الوفاة، ثم تنكح، وهل تفتقر مدة التربص إلى ضرب
القاضي، أم لا ويحسب من وقت انقطاع الخبر؟ فيه وجهان، ويقال: قولان،
أصحهما عند كثير من الأئمة: يفتقر، ولا تحسب ما مضى قبله، فإذا ضرب
القاضي المدة فمضت، فهل يكون حكما بوفاته، أم لا بد من استئناف حكم؟
وجهان. أصحهما: الثاني. وإذا حكم الحاكم بالفرقة، فهل ينفذ ظاهرا وباطنا،
أم ظاهرا فقط؟ وجهان أو قولان.
قلت: أصحهما الثاني. والله أعلم.
الثانية: إذا حكم القاضي بمقتضى القديم، فهل ينقض حكمه تفريعا على
378

الجديد؟ وجهان. أصحهما: نعم.
الثالثة: إذا نكحت على مقتضى القديم، ثم بان الزوج ميتا وقت الحكم
بالفرقة، ففي صحة النكاح على الجديد وجهان، بناء على بيع مال أبيه مع ظن
الحياة إذا بان ميتا.
الرابعة: طلقها المفقود، أو آلى منها، أو ظاهر، أو قذفها، فإن كان قبل
الحكم بالفرقة، فلهذه التصرفات أحكامها من الزوج قطعا، وإن كان بعده، فقال
الأصحاب: على الجديد: تلزم أحكامها، وليكن هذا تفريعا على أنه ينقض على
الجديد حكم من حكم بالقديم.
وأما إذا قلنا بالقديم، فإن قلنا: ينفذ الحكم ظاهرا فقط، ثبت أحكام هذه
التصرفات، وإن قلنا: ينفذ ظاهرا وباطنا، فهو كالأجنبي يباشرها.
الخامسة: نفقتها واجبة على المفقود، لأنها مسلمة نفسها، فإن رفعت الامر
إلى القاضي، وطلبت الفرقة، فنفقة مدة التربص عليه، لأنها محبوسة عليه بعد،
فإن انقضت وحكم القاضي بالفرقة والاعتداد. فإن قلنا بالقديم، فلا نفقة لها في مدة
العدة، لأنها عدة الوفاة. وفي السكنى قولان، وإن قلنا بالجديد، فالنفقة على
المفقود، لأنها زوجته، ويستمر ذلك حتى تنكح. فحينئذ تسقط لأنها ناشزة بالنكاح
وإن كان فاسدا. وعن القاضي أبي الطيب القطع بالنفقة في مدة العدة على القولين، كمدة
التربص، والمذهب الأول، وإذا فرق بينهما وقد عاد المفقود وسلمت إليه، عادت
نفقتها عليه، فإن كان الثاني دخل بها، لم يلزم المفقود نفقة زمان العدة، وإن لم
بعد المفقود وعادت هي بعد التفريق إلى بيته، ففي عود النفقة قولان. وقيل: إن
نكحت بنفسها بغير حكم حاكم، عادت النفقة، وإلا فلا.
قال الروياني: الأظهر أنها لا تعود، وينبغي أن يقطع به إذا لم يعلم الزوج
عودها إلى الطاعة. قال: وهو الذي ذكره القفال، وأما النفقة على الزوج الثاني،
379

فلا يخفى حكمها على القديم، وأما على الجديد، فلا نفقة لزمن الاستفراش، إذ
لا زوجية، فإن أنفق، لم يرجع عليها لأنه متطوع إلا أن يلزمه الحاكم، فيرجع عليها
على الصحيح، وقيل: على الزوج الأول. وإذا شرعت في عدة الثاني، فلا نفقة
إلا أن تكون حاملا، فقولان بناء على أن النفقة للحمل، أم للحامل.
السادسة: إذا ظهر المفقود، فإن قلنا بالجديد، فهي زوجته بكل حال، فإن
نكحت، لم يطأها المفقود حتى تنقضي عدة الناكح، وإن قلنا بالقديم، ففيه
طرق. أحدها: عن أبوي علي: ابن أبي هريرة، والطبري، أن الحكم كذلك،
لأنا تيقنا الخطأ في الحكم بموته، فصار كمن حكم بالاجتهاد، ثم وجد النص
بخلافه، وهذا أصحهما عند الروياني. والثاني: إن قلنا ينفذ الحكم بالفرقة ظاهرا
فقط، فالحكم كما ذكرنا. وإن قلنا: ينفذ ظاهرا وباطنا، فقد ارتفع نكاح الأول
كالفسخ بالاعسار. فإن نكحت، فهي زوجة الثاني. قاله أبو إسحاق. والثالث عن
أبي إسحاق أيضا: إن ظهر وقد نكحت، لم ترد إلى المفقود، وإن لم تنكح، ردت
إليه وإن حكم الحاكم بالفرقة. والرابع: لا ترد إلى الأول قطعا. والخامس عن
الكرابيسي، عن الشافعي رحمهما الله تعالى: أن المفقود بالخيار بين أن ينزعها من
الثاني، وبين أن يتركها ويأخذ منه مهر المثل. ومستنده، أن عمر رضي الله عنه
قضى به. وعن القاضي حسين زيادة فيه، وهي أنه إن فسخ غرم الثاني مهر مثلها.
والسادس: أن نكاح الأول كان ارتفع بلا خلاف، لكن إذا ظهر المفقود، هل يحكم
ببطلان نكاح الثاني؟ وجهان. أصحهما: لا، لكن للمفقود الخيار كما ذكرنا. وإذا
قلنا: نكاح الثاني باطل، فهل نقول: وقع صحيحا ثم إذا ظهر المفقود بطل؟ أم
نقول: نتبين بظهور المفقود أنه وقع باطلا؟ وجهان. فعلى الثاني: يجب مهر المثل
إن جرى دخول، وإلا فلا شئ، وعلى الأول: الواجب المسمى أو نصفه، ولو
ظهر المفقود وقد نكحت وماتت، فهل يرثها الأول أم الثاني؟ يخرج على هذه
الطرق.
السابعة: إذا نكحت على مقتضى القديم وأتت بولد يمكن كونه من الثاني،
380

وجاء المفقود ولم يدع الولد، فهو للثاني، لأن بمضي أربع سنين يتحقق براءة الرحم
من المفقود، وإن ادعاه فوجهان. أصحهما: يسأل عن جهة ادعائه، فإن قال: هو
ولدي ولدته زوجتي على فراشي، قلنا له: هذه دعوى باطلة، لأن الولد لا يبقى في
الرحم هذه المدة، وإن قال: قدمت عليها في أثناء هذه المدة فوطئتها وكان قوله
محتملا، عرض الولد على القائف، والوجه الثاني: يعرض على القائف من غير
بحت واستقصاء. وذكر الروياني أن الوجهين أخذا من وجهين نقلا في أن هذه المرأة
لو أتت بولد من غير أن تتزوج، هل يلحق المفقود؟ إن قلنا: نعم، فلا حاجة إلى
السؤال وإن قلنا: لا وهو الأصح، فلا بد منه، وحيث قلنا: الولد للثاني، وحكمنا
ببقاء النكاح الأول، فله منعها من إرضاع الولد إلا اللبأ الذي لا يعيش إلا به، وكذا
إذا لم يوجد مرضعة غيرها، ثم إن لم تخرج من بيت الزوج وأرضعته فيه ولم يقع
خلل في التمكين، فعلى الزوج نفقتها، سواء وجب الارضاع، أم لا، وإن خرجت
للارضاع بغير إذنه، سقطت نفقتها، وإن خرجت له بإذنه، فوجهان بناء على ما لو
سافرت بإذنه لحاجتها، وإن كان الارضاع واجبا، فعليه أن يأذن.
الثامنة: نكحت على مقتضى القديم، ووطئها الثاني، ثم علم أن الأول كان
حيا وقت نكاحه، وأنه مات بعد ذلك، فإن قلنا: تقع الفرقة ظاهرا وباطنا، فهي
زوجة الثاني، ولا يلزمها بموت الأول عدة، وإن قلنا: لا فرقة باطنا، فعليها عدة
الوفاة عن الأول، لكن لا تشرع فيها حتى يموت الثاني، أو يفرق بينها وبينه،
وحينئذ تعتد للأول عدة الوفاة، ثم للثاني بثلاثة أقراء أو ثلاثة أشهر. وإن مات الثاني
أولا، أو فرق بينهما، شرعت في الأقراء. فإن تمت الأقراء، ثم مات الأول،
اعتدت عن الأول عدة الوفاة، وإن مات الأول قبل تمام الأقراء، فوجهان.
أصحهما: تنقطع الأقراء، فتعتد عن الأول للوفاة، ثم تعود إلى بقية الأقراء.
والثاني: تقدم ما شرعت فيه، وإن ماتا معا أو لم يعلم السابق منهما، اعتدت بأربعة
أشهر، وعشرة أيام، وبعدها بثلاثة أقراء لتبرأ من العدتين بيقين. ولو لم يعلم موتهما
حتى مضت أربعة أشهر وعشرة أيام وثلاثة أقراء بعدها، فقد انقضت العدتان، ولو
كانت حاملا من الثاني، اعتدت منه بالوضع، ثم تعتد عن الأول عدة الوفاة،
والأصح: أنه يحسب منها زمن النفاس، لأنه ليس من عدة الثاني، وقيل: لا
يحسب لتعلقه بالحمل.
381

فرع زوجة الغائب إذا أخبرها عدل بوفاة زوجها، جاز لها فيما بينها وبين
الله تعالى، أن تتزوج، لأن ذلك خبر لا شهادة، ذكره القفال.
فصل يجب على المعتدة الاحداد في عدة الوفاة، ولا يجب في عدة
الرجعية، لكن روى أبو ثور عن الشافعي رحمهما الله تعالى، أنه يستحب لها
الاحداد، ومن الأصحاب من قال: الأولى أن تتزين بما يدعو الزوج إلى رجعتها.
وفي عدة البائن بخلع أو استيفاء الطلقات قولان، القديم: وجوب الاحداد،
والجديد: الأظهر: لا يجب، بل يستحب. والمفسوخ نكاحها لعيب ونحوه، على
القولين. وقيل: لا يجب قطعا، والمعتدة عن وطئ شبهة أو نكاح فاسد، وأم
الولد، لا إحداد عليهن قطعا لعدم الزوجية. وقوله (ص): لا يحل لامرأة تؤمن بالله
واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا قد
يحتج به على تحريم الاحداد على أم الولد، والمعتدة عن شبهة.
فرع الذمية، والصبية، والمجنونة، والرقيقة، كغيرهن في الاحداد،
وولي الصبية والمجنونة، يمنعهما مما تمتنع منه الكبيرة العاقلة.
فرع في كيفية الاحداد وهو ترك التزين بالثياب، والحلي والطيب.
النوع الأول: الثياب، ولا يحرم جنس القطن والصوف، والوبر والشعر،
والكتان والقصب والدبيقي، بل يجوز لبس المنسوج منها على أنواع اختلاف ألوانها
الخلقية وإن كانت نفيسة ناعمة، لأن نفاستها من أصل الخلقة، لا من زينة دخلت
382

عليها.
وأما الإبريسم، فقال الجمهور: هو كالكتان فلا يحرم ما لم تحدث فيه زينة.
وقال القفال: يحرم، واختاره الامام والغزالي والمتولي، فعلى هذا، لا تلبس
العتابي الذي غلب فيه الإبريسم، ولها لبس الخز قطعا. ولو صبغ ما لا يحرم في
جنسه، نظر في صبغه، إن كان مما يقصد منه الزينة غالبا، كالأحمر والأصفر، حرم
لبسه إن كان لينا، وكذا إن كان خشنا على المشهور، وهو نصه في الام
ويدخل في هذا القسم، الديباج المنقش، والحرير الملون، فيحرمان. والمصبوغ
غزله قبل النسج كالبرود حرام على الأصح، كالمصبوغ بعد النسج، وإن كان الصبغ
مما لا يقصد به الزينة، بل يعمل للمصيبة، واحتمال الوسخ كالأسود والكحلي،
فلها لبسه وهو أبلغ في الحداد، بل في الحاوي وجه أنه يلزمها السواد في
الحداد. وإن كان الصبغ مترددا بين الزينة وغيرها، كالأخضر والأزرق، فإن كان
براقا صافي اللون فحرام، وإن كان كدرا أو مشبعا، أو أكهب وهو الذي يضرب إلى
الغبرة، جاز، وأما الطراز على الثوب، فإن كان كبيرا فحرام، وإلا فثلاثة أوجه،
ثالثها: إن نسج مع الثوب، جاز، وإن ركب عليه، حرم، لأنه محض زينة.
النوع الثاني: الحلي، فيحرم عليها لبسه، سواء فيه الخلخال والسوار
والخاتم وغيرها، والذهب والفضة، وقال الامام: يجوز لها التختم بخاتم الفضة
كالرجل، وبالأول قطع الجمهور. وفي اللآلي تردد للامام، وبالتحريم قطع
الغزالي وهو الأصح. قال الروياني قال بعض الأصحاب: لو كانت تلبس الحلي
ليلا وتنزعه نهارا، جاز، لكنه يكره لغير حاجة، فلو فعلته لاحراز المال، لم يكره.
قال: ولو تحلت بنحاس أو رصاص، فإن كان مموها بذهب أو فضة أو مشابها لهما،
بحيث لا يعرف إلا بتأمل، أو لم يكن كذلك، ولكنها من قوم يتزينون بذلك،
فحرام، وإلا فحلال.
النوع الثالث: الطيب فيحرم عليها الطيب في بدنها وثيابها، وتفصيل الطيب
383

سبق في كتاب الحج، ويحرم دهن رأسها بكل دهن. ولو كان لها لحية، حرم
دهنها وإن لم يكن في الدهن طيب، لأنه زينة، ويجوز لها دهن البدن بما لا طيب
فيه، كالزيت والشيرج والسمن، ولا بما فيه طيب كدهن البان والبنفسج، ويحرم
عليها أكل طعام فيه طيب، ويحرم أن تكتحل بما فيه طيب.
وأما ما لا طيب فيه، فإن كان أسود وهو الأثمد، فحرام على البيضاء قطعا،
وكذا على السوداء على المشهور والصحيح، لاطلاق الأحاديث فيه، فإن احتاجت
إلى الاكتحال به لرمد وغيره، اكتحلت به ليلا ومسحته نهارا، فإن دعت ضرورة إلى
الاستعمال نهارا أيضا جاز، ويجوز استعماله في غير العين، إلا الحاجب، فإنه
تتزين به فيه. وأما الكحل الأصفر وهو الصبر، فحرام على السوداء، وكذا على
البيضاء على الأصح، لأنه يحسن العين. ويحرم أيضا أن تطلي به وجهها، لأنه
يصفر الوجه، فهو كالخضاب. وأما الكحل الأبيض كالتوتياء ونحوه، فلا يحرم، إذ
لا زينة فيه. وقيل: يحرم على البيضاء حيث تتزين به، والصحيح الأول، ويحرم
الدمام، وهو ما يطلى به الوجه للتحسين. وقيل: هو الكلكون الذي يحمر الوجه،
ويحرم الاسفيداج، ويحرم أن تخضب بحناء ونحوه فيما ظهر من البدن كالوجه
واليدين والرجلين، ولا يحرم فيما تحت الثياب، ذكره الروياني. والغالية وإن ذهبت
384

ريحها كالخضاب. قال الامام: وتجعيد الأصداغ، وتصفيف الطرة، لا نقل فيه،
ولا يمنع أن يكون كالحلي.
فرع يجوز للمحدة التزيين في الفرش والبسط والستور وأثاث البيت، لان
الحداد في البدن، لا في الفرش، ويجوز التنظيف بغسل الرأس، والامتشاط،
ودخول الحمام، وقلم الأظفار، والاستحداد وإزالة الأوساخ، فإنها ليست من
الزينة.
فرع إذا لم نوجب الاحداد على المبتوتة، ففي تحريم التطيب وجهان،
لأنه يحرك الشهوة.
فرع يجوز لها الاحداد على غير الزوج ثلاثة أيام فما دونها، صرح به
المتولي، والغزالي في البسيط للحديث الصحيح الذي ذكرناه.
فرع لو تركت الاحداد الواجب عليها في كل المدة أو بعضها، عصت
وانقضت عدتها. وكذا لو تركت ملازمة المسكن وخرجت من غير حاجة، عصت
وانقضت عدتها بمضي المدة، كما لو بلغها وفاة الزوج بعد مضي أربعة أشهر
وعشر، كانت العدة منقضية وبالله التوفيق.
الباب الرابع في السكنى
المعتدة عن طلاق رجعي أو بائن بخلع، أو باستيفاء الطلقات، تستحق
السكنى حاملا كانت أو حائلا، وكذا المعتدة عن وفاة على الأظهر. وأما المعتدة عن
النكاح بفرقة غير الطلاق في الحياة، كالفسخ بردة أو إسلام أو رضاع أو عيب
ونحوه، ففيها خمسة طرق.
أحدها: على قولين كالمعتدة عن وفاة.
والثاني: إن كان لها مدخل في ارتفاع النكاح، بأن فسخت بخيار العتق، أو
385

بعيب الزوج، أو فسخ بعيبها، فلا سكنى قطعا، وإن لم يكن، بأن انفسخ بإسلامه
أو ردته، أو إرضاع أجنبي، ففي استحقاقها السكنى القولان.
والثالث: إن كان لها مدخل، فلا سكنى، وإلا فلها السكنى قطعا.
والرابع: ذكره البغوي: إن كانت الفرقة بعيب أو غرور، فلا سكنى، وإن
كانت برضاع أو مصاهرة أو خيار عتق، فلها السكنى على الأصح، لأن السبب لم
يكن موجودا يوم العقد، ولا استند إليه. قال: والملاعنة تستحق قطعا كالمطلقة
ثلاثا.
والخامس: القطع بأنها تستحق السكنى، لأنها معتدة عن نكاح بفرقة في
الحياة كالمطلقة. قال المتولي: هذا هو المذهب. وأما المعتدة عن وطئ شبهة أو
نكاح فاسد، وأم الولد إذا أعتقها سيدها، فلا سكنى لهن، هذا بيان السكنى، وأما
النفقة والكسوة، فمؤخرتان إلى كتاب النفقات.
فرع الصغيرة التي لا تحتمل الجماع، هل تستحق النفقة؟ فيه خلاف
يأتي في النفقات إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: تستحقها، استحقت السكنى في
العدة، وإلا فلا، والأمة المزوجة ذكرنا أنه ليس على السيد أن يسلمها ليلا ونهارا،
بل له استخدامها نهارا، وكذا الحكم في زمن العدة، فإن سلمها ليلا ونهارا، أو رفع
اليد عنها، استحقت السكنى. وإن كان يستخدمها نهارا، فقد ذكرنا خلافا في
استحقاقها، النفقة في صلب النكاح. فإن استحقتها، استحقت السكنى في
العدة، وإلا فلا، لكن للزوج أن يسكنها حالة فراغها من خدمة السيد لتحصينها.
فرع إذا طلقها وهي ناشزة، فلا سكنى لها في العدة، لأنها لا تستحق
النفقة والسكنى في صلب النكاح، فبعد البينونة أولى، كذا قاله القاضي حسين
386

والمتولي، وزاد المتولي فقال: وكذا لو نشزت في العدة، سقطت سكناها. فلو
عادت إلى الطاعة، عاد حق السكنى. قال الامام: إذا طلقت في مسكن النكاح،
فعليها ملازمته لحق الشرع، فإن أطاعت، استحقت السكنى، وعبر بعضهم عن
كلام الامام، بأنها إن نشزت على الزوج في بيته، فلها السكنى في العدة، وإن
خرجت من بيته واستعصت عليه، فلا سكنى.
فصل من استحقت السكنى من المعتدات، تسكن في المسكن الذي
كانت فيه عند الفراق، إلا أن يمنع منه مانع، كما سيأتي إن شاء الله تعالى،
فليس للزوج ولا لأهله إخراجها منه، ولا يجوز لها الخروج. فلو اتفق الزوجان على
أن تنتقل إلى مسكن آخر من غير حاجة، لم يجز، وكان على الحاكم المنع منه.
ولو انتقلت في صلب النكاح من مسكن إلى آخر بغير إذن الزوج، ثم طلقها أو
مات، لزمها أن (تعود إلى الأول وتعتد فيه، ولو أذن لها بعد الانتقال أن) تقيم فيه،
كان كما لو انتقلت بإذنه. وإذا انتقلت بالاذن، ثم طلق أو مات، اعتدت في المنتقل
إليه، لأنه المسكن عند الفراق، وإن خرجت فطلقها قبل وصولها إلى الثاني المأذون
فيه، فهل تعتد في الثاني أم في الأول، أم في أقربهما إليها، أم تتخير فيهما؟ فيه
أوجه، أصحها: أولها، وهو نصه في الام لأنها مأمورة بالمقام فيه، ممنوعة من
الأول، والاعتبار بالانتقال ببدنها، لا بالأمتعة والخدم والزوج، ولو أذن في الانتقال
إلى الثاني، فانتقلت ثم عادت إلى الأول لنقل متاع وغيره فطلقها، فالمسكن هو
الثاني، فتعتد فيه، كما لو خرجت لحاجة فطلقها وهي خارجة. ولو أذن لها في
الانتقال إلى بلد آخر، ثم طلقها، أو مات، فحكمه كما ذكرنا فيما لو أذن في
الانتقال من مسكن إلى مسكن، فإن وجد سبب الفراق بعد الانتقال إلى البلد
الثاني، اعتدت فيه، وإن وجد قبل مفارقة عمران الأول، لم تخرج، بل تعود إلى
387

المسكن وتعتد فيه، وإن كان في الطريق، فعلى الأوجه. وإن أذن في السفر لغير
النقلة، نظر، إن تعلق بغرض مهم، كتجارة وحج وعمرة واستحلال عن مظلمة
ونحوها، ثم حدث سبب الفرقة، نظر، إن كان حدث قبل خروجها من المسكن،
لم تخرج بلا خلاف. وإن خرجت منه على قصد السفر ولم تفارق عمران البلد،
فالأصح عند الجمهور أنه يلزمها العود إلى المسكن، لأنها لم تشرع في السفر.
والثاني: تتخير بين العود والمضي في السفر، لأن عليها ضررا في إبطال سفرها،
وفوات غرضها. والثالث: إن كان سفر حج، تخيرت، وإلا فيلزم العود، وإن
حدث سبب الفرقة في الطريق، تخيرت بين العود والمضي. وقيل: إن حدث بعد
مسيرة يوم وليلة تخيرت، وإن حدث قبله، تعين العود، وليس بشئ، وإذا
خيرناها، فاختارت العود إلى المسكن والاعتداد، فذاك، وفي تعليق الشيخ أبي
حامد أنه الأفضل، وإن اختارت المضي إلى المقصد، فلها أن تقيم فيه إلى انقضاء
حاجتها، فلو انقضت قبل تمام مدة إقامة المسافرين، فالمذكور في التهذيب
والوسيط وغيرهما، أن لها أن تقيم تمام مدة المسافرين، وحكى الروياني هذا
388

عن بعضهم، ثم غلط قائله وقال: نهاية سفرها قضاء الحاجة لا غير.
قلت: الأصح أنه لا يجوز أن تقيم بعد قضاء الحاجة، وبه قطع صاحب
المهذب والجرجاني، والرافعي في المحرر وآخرون. والله أعلم.
وإن كان أذن لها في سفر نزهة فبلغت المقصد، ثم حدث ما يوجب العدة،
فإن لم يقدر الزوج مدة، لم تقم أكثر من مدة المسافرين، وإن قدر، فهل الحكم
كذلك، أم لها استيفاء المدة المقدرة؟ قولان. أظهرهما: الثاني، ويجريان فيما لو
قدر في الحاجة مدة تزيد على قدر الحاجة، لأن الزائد كالنزهة. ففي
قول: يجب الانصراف إذا انقضت الحاجة. وفي قول: تقيم المأذون فيه،
ويجريان فيما لو أذن في الانتقال إلى مسكن آخر في البلد مدة قدرها ثم طلقها، أو
مات، كذا حكاه الروياني عن نصه في الام وفي الوسيط أن الطلاق يبطل تلك
المدة، ويجريان فيما لو أذن لها في الاعتكاف مدة ولزمتها العدة قبل مضي المدة،
هل لها إدامة الاعتكاف إلى تمام المدة، أم يلزمها الخروج لتعتد في المسكن؟ فإن
لم يلزمها الخروج فخرجت، بطل اعتكافها ولم يكن لها البناء عليه إذا كان منذورا،
وإن ألزمناها، فهل يبطل بالخروج، أم يجوز البناء؟ وجهان. أصحهما: الثاني.
وإن حدث سبب العدة في سفر النزهة قبل بلوغها المقصد، فحيث قلنا في سفر
الحاجة: يجب الانصراف، فهنا أولى. وحيث قلنا: لا يجب، فهنا وجهان.
وقطع صاحب الشامل، بأنه كسفر الحاجة. وأما سفر الزيارة، فكسفر النزهة
على ظاهر النص، وقيل: كسفر الحاجة، ثم إذا انتهت مدة جواز الإقامة في هذه
الأحوال، فعليها الانصراف في الحال إن لم تكن انقضت مدة العدة بتمامها لتعتد
بقية العدة في المسكن. فإن كان الطريق مخوفا، أو لم تجد رفقة، عذرت في
التأخير.
فلو علمت أن البقية تنقضي في الطريق، ففي لزوم العود وجهان. أصحهما:
يلزمها، وهو نصه في الام ليكون أقرب إلى موضع العدة، ولأن تلك الإقامة غير
389

مأذون فيها، والعود مأذون فيه، هذا كله إذا أذن لها في السفر. فأما إذا خرجت مع
الزوج ثم طلقها، أو مات، فعليها الانصراف، ولا تقيم أكثر من مدة
المسافرين، إلا إذا كان الطريق مخوفا، أو لم تجد رفقة. وهذا إذا كان سفره
لغرضه واستصحبها ليستمتع بها. فأما إذا كان السفر لغرضها وخرج بها، فليكن
الحكم كما لو أذن لها فخرجت. وفي لفظ المختصر ما يشعر بهذا.
فرع أذن لها في الاحرام بحج وعمرة، ثم طلقها قبل الاحرام، فلا
تحرم، ولا تنشئ السفر بعد لزوم العدة، فلو أحرمت، فهو كما لو أحرمت بعد
الطلاق بغير إذن، وحكمه أن لا يجوز لها الخروج في الحال وإن كان الحج فرضا،
بل يلزمها أن تقيم وتعتد، لأن لزوم العدة سبق الاحرام، فإذا انقضت العدة، أتمت
عمرتها إن كانت معتمرة، وكذا الحج إن بقي وقته، فإن فات، تحللت بأفعال
العمرة، ولزمها القضاء ودم الفوات.
ولو أحرمت أولا بإذن الزوج، أو بغير إذنه ثم طلقها، فإن كانت تخشى فوات
الحج لضيق الوقت، خرجت إلى الحج معتدة، لأن الاحرام سبق العدة، مع أنه في
خروجها يحصل الحج والعدة، وإن كانت لا تخشى فوات الحج أو أقامت للعدة، أو
كان الاحرام بعمرة، فوجهان. أحدهما وهو مذكور في المهذب: يلزمها أن تقيم
للعدة، ثم تخرج جمعا بين الحقين. وأصحهما وبه قطع الشيخ أبو حامد
والأكثرون: تتخير بين أن تقيم وبين أن تخرج في الحال، لأن مصابرة الاحرام
مشقة.
فرع منزل البدوية وبيتها من صوف ووبر وشعر، كمنزل الحضرية من طين
وحجر، فإذا لزمتها العدة فيه، لزمها ملازمته، فإن كان أهلها نازلين على ما لا
ينتقلون عنه، ولا يظعنون إلا لحاجة، فهي كالحضرية من كل وجه. وإن كانوا من
390

قوم ينتقلون شتاء أو صيفا، فإن ارتحلوا جميعا ارتحلت معهم للضرورة، وإن
ارتحل بعضهم، نظر، إن كان أهلها ممن لم يرتحل وفي المقيمين قوة وعدد، فليس
لها الارتحال. وإن ارتحل أهلها وفي الباقين قوة وعدد، فوجهان، أحدهما: ليس
لها الارتحال، بل تعتد هناك لتيسره، وأصحهما: تتخير بين أن تقيم وبين أن
ترتحل، لأن مفارقة الأهل عسرة موحشة. ولو هرب أهلها خوفا من عدو ولم
ينتقلوا، ولم تخف هي، لم يجز لها الارتحال، لأن المرتحلين يعودون إذا أمنوا،
ولو ارتحلت حيث يجوز الارتحال، ثم أرادت الإقامة في قرية في الطريق والاعتداد
فيها، جاز، لأنه أليق بحال المعتدة من السير.
فرع طلقها أو ماتت وهي في سفينة، فإن ركبتها مسافرة، فحكم السفر ما
سبق، وإن كان الزوج ملاحا ولا منزل له سوى السفينة، فإن كانت سفينة كبيرة فيها
بيوت متميزة المرافق، اعتدت في بيت منها معتزلة عن الزوج، وسكن الزوج بيتا
آخر، وإن كانت صغيرة، نظر، إن كان معها محرم لها يمكن أن يعالج السفينة،
خرج الزوج، واعتدت هي فيها، وإلا فتخرج هي وتعتد في أقرب المواضع إلى
الشط، وإذا تعذر خروجه وخروجها، فعليها أن تستتر وتبعد منه بقدر الامكان،
هكذا ذكره صاحب الشامل والتهذيب وغيرهما، وفيه إشعار بأنه لا يجوز لها
الخروج من السفينة إذا أمكن الاعتداد فيها، وقد صرح به آخرون، ونقل الروياني
في كتبه، أنها تتخير بين أن تعتد في السفينة، وبين أن تخرج فتعتد خارجها. فإن
اختارت السفينة، نظرنا حينئذ، هل هي صغيرة أم كبيرة؟ وراعينا التفصيل
المذكور، وذكر فيما إذا اختارت الخروج، وجهين أصحهما وبه قال الماسرجسي:
تعتد في أقرب القرى إلى الشط. والثاني وبه قال أبو إسحاق: تعتد حيث شاءت.
فرع إذا خرجت الزوجة إلى غير الدار المألوفة، أو غير البلد المألوف، ثم
طلقها واختلفا، فقالت: أذنت لي في الانتقال فاعتد في المنزل الثاني، وقال: إنما
391

أذنت لك في النزهة أو في غرض كذا فعودي إلى المنزل الأول فاعتدي فيه، في من
يصدق منهما اختلاف نص وطرق منتشرة انتشارا كثيرا، وحاصلها: أن المذهب
تصديق الزوج وإذا اختلف الزوجان، وتصديقها إذا اختلفت هي ووارث الزوج.
وقيل: قولان. أحدهما: تصديق الزوج والوارث. والثاني: تصديقها لأن الظاهر
معها. وقيل: إن اتفقا على إذن في الخروج مطلقا، وقال الزوج: أردت النزهة،
أو قال ذلك وارثه، وقالت: بل أردت النقلة، فالقول قولها، وإن قال: قلت:
أخرجي للنزهة، أو قال ذلك وارثه. وقالت: بل قلت: أخرجي للنقلة، فالقول
قول الزوج ووارثه. وقيل: إن تحول الزوج معها إلى المنزل الثاني فهي المصدقة
عليه وعلى وارثه. وإن انفردت بالتحول، صدقا عليها. أما إذا اتفقا على جريان
لفظ الانتقال، أو الإقامة، بأن قال: انتقلي إلى موضع كذا، أو أخرجي إليه وأقيمي
به، قال الزوج: ضممت إليه: للنزهة، أو شهرا، أو نحوهما، وأنكرت الزوجة
هذه الضميمة، أو قال ذلك وارثه، فالقول قولها، لأن الأصل عدم هذه الضميمة.
فصل يجب على المعتدة ملازمة مسكن العدة، فلا تخرج إلا لضرورة أو
عذر، فإن خرجت، أثمت، وللزوج منعها، وكذا لوارثه عند موته، وتعذر في
الخروج في مواضع.
منها: إذا خافت على نفسها أو مالها من هدم أو حريق، أو غرق، فلها
الخروج، سواء فيه عدة الوفاة والطلاق، وكذا لو لم تكن الدار حصينة وخافت
لصوصا، أو كانت بين فسقة تخاف على نفسها، أو تتأذى من الجيران أو الأحماء
تأذيا شديدا، أو تبذو أو تستطيل بلسانها عليهم، يجوز إخراجها من المسكن، ثم
في التهذيب أنها إذا بذت على أحمائها، سقطت سكناها، وعليها أن تعتد في
392

بيت أهلها، والذي ذكره العراقيون والروياني والجمهور: أنه ينقلها الزوج إلى
مسكن آخر، ويتحرى القرب من مسكن العدة. ثم موضع النقل بالبذاء ما إذا كانت
الأحماء معها في دار تسع جميعهم، وإن كانت ضيقة لا تسع جميعهم، نقل الزوج
الأحماء وترك الدار لها، وإن كان الأحماء في دار أخرى، لم ينقل المعتدة بالبذاء
عن دارها، ونقل المتولي أنها تنقل لايذاء الجيران كما تنقل لايذاء الأحماء. فعلى
هذا، إذا كانت في دار والأحماء في القرى، فإنها لا تنتقل بالبذاء إذا لم تكن الداران
متجاورتين، ولو كان البذاء من الأحماء دونها، نقلوا دونها، ولو كانت في دار أبويها
لكون الزوج كان يسكن دارهما، فبذت على الأبوين، أو بذا الأبوان عليها، لم ينقل
واحد منهم، لأن الشر والوحشة لا تطول بينهم، فلو كان أحماؤها في دار أبويها
أيضا، وبذت عليهم، نقلوا دونها، لأنها أحق بدار أبويها.
ومنها: إذا احتاجت إلى شراء طعام، أو قطن، أو بيع غزل ونحو ذلك،
نظر، إن كانت رجعية، فهي زوجته، فعليه القيام بكفايتها، فلا تخرج إلا بإذنه.
قال المتولي: وكذا الحكم في الجارية المشتراة، والمسبية في مدة الاستبراء.
وأما سائر المعتدات: فيجوز المعتدة عن وفاة الخروج لهذه الحاجات نهارا،
وكذا لها أن تخرج بالليل إلى دار بعض الجيران للغزل والحديث، لكن لا تبيت
عندهم، بل تعود إلى مسكنها للنوم. وحكم العدة عن شبهة أو نكاح فاسد حكم عدة
الوفاة. قال المتولي: إلا أن تكون حاملا. وقلنا: إنها تستحق النفقة، فلا يباح لها
الخروج. وفي البائن بطلاق أو فسخ، قولان. القديم: ليس لها الخروج،
والجديد: جوازه كالمتوفى عنها، قال المتولي: هذا في الحائل، أما الحامل: إذا
قلنا: تعجل نفقتها، فهي مكفية فلا تخرج إلا لضرورة.
393

ومنها: لو لزمها عدة وهي في دار الحرب، لزمها أن تهاجر إلى دار الاسلام.
قال المتولي: إلا أن تكون في موضع لا تخاف على نفسها، ولا على دينها، فلا
تخرج حتى تعتد.
ومنها: إذا لزمها حق، واحتيج إلى استيفائه، فإن أمكن استيفاؤه في
مسكنها، كالدين والوديعة، فعل، وإن لم يمكن، واحتيج فيه إلى الحاكم، بأن
توجه عليها حد أو يمين في دعوى، فإن كانت برزة خرجت وحدت، أو حلفت، ثم
تعود إلى المسكن، وإن كانت مخدرة، بعث الحاكم إليها نائبا، أو أحضرها
بنفسه.
ومنها: إذا كان المسكن مستعارا، أو مستأجرا، فرجع المعير، أو مضت
المدة، أو طلبه المالك، فلا بد من الخروج.
ومنها: البدوية تفارق المنزل وترتحل مع القوم إذا ارتحلوا.
فرع لا تعذر في الخروج لأغراض تعد من الزيادات دون المهمات،
كالزيارة والعمارة واستنماء المال بالتجارة، وتعجيل حجة الاسلام وأشباهها.
فرع زنت المعتدة عن وفاة في عدتها وهي بكر، فعلى السلطان تغريبها،
ولا يؤخره إلى انقضاء عدتها، وقيل: لا تغريب، والصحيح الأول.
فصل على الزوج أن يسكن مستحقة السكنى من المعتدات مسكنا يصلح
لمثلها، فإن كان مسكن النكاح كذلك، فلا معدل عنه. وحيث قلنا: تجب ملازمة
مسكن النكاح، فهذا مرادنا به، فإن أسكنها في النكاح دارا فوق سكنى مثلها،
فطلقها وهي فيها، فله أن لا يرضى الآن، وينقلها إلى دار بصفة استحقاقها، ولو
رضيت بدار خسيسة، فطلقها وهي فيها، فلها أن تطلب النقل إلى ما يليق بها،
ويلزمه الابدال. وفي الصورتين احتمال ذكره في البسيط، والمعروف للأصحاب
394

ما سبق، وينبغي أن ينقلها إلى مسكن قريب من موضعها الأول، ولا تنقل إلى الأبعد
مع وجود الأقرب. وظاهر كلام الأصحاب أن رعاية هذا القريب واجبة، واستبعد
الغزالي الوجوب، وتردد في الاستحباب.
فصل يحرم على الزوج مساكنة المعتدة في الدار التي تعتد فيها
ومداخلتها، لأنه يؤدي إلى الخلوة بها، وخلوته بها كخلوته بالأجنبية، ويستثنى من
ذلك موضعان.
أحدهما: أن يكون في الدار محرم لها من الرجال، أو محرم له من
النساء، أو من في معنى المحرم، كزوجة أخرى وجارية، ولا بد في المحرم ومن
في معناه من التمييز، فلا عبرة بالمجنون، والصغير الذي لا يميز، واشترط الشافعي
رضي الله عنه البلوغ، قال القاضي أبو الطيب: لأن من لم يبلغ، لا تكليف عليه،
فلا ينكر الفاحشة. وقال الشيخ أبو حامد: يكفي عندي حضور المراهق، والنسوة
الثقات كالمحرم على الصحيح، ويكفي حضور المرأة الواحدة الثقة على
الأصح، وبه قطع صاحب الشامل وغيره، والحكاية عن الأصحاب، أنه لا
يجوز أن يخلو رجلان بامرأة واحدة، ويجوز أن يخلو الرجل بامرأتين ثقتين، لان
استحياء المرأة من المرأة أكثر من استحياء الرجل من الرجل، ثم لا يخفى أن
مساكنة الزوج والمحرم ومن في معناه، إنما يفرض فيما إذا كان في الدار زيادة على
395

سكنى مثلها، فإن لم يكن كذلك، فعلى الزوج تخليتها للمعتدة، والانتقال عنها ثم
المساكنة، وإن جازت بسبب المحرم، فالكراهة باقية، لأنه لا يؤمن النظر.
الموضع الثاني: إذا كان في الدار حجرة، فأراد أن يسكن أحدهما ويسكنها
الأخرى، فإن كانت مرافق الحجرة كالمطبخ والمستراح، والبئر، والمصعد إلى
السطح في الدار، لم يجز إلا بشرط المحرم، وإن كانت المرافق في الحجرة،
جاز، كالحجرتين والدارين المتجاورتين وحكم السفلي والعلوي، حكم الدار
والحجرة، ثم ذكر البغوي والمتولي وغيرهما، أنه يشترط أن لا يكون ممر إحداهما
على الأخرى، ويغلق الباب بينهما أو يسد، وهذا حسن. ويؤيده ما ذكره الأئمة أنه
لو كانت الدار واسعة ولم يكن فيها إلا بيت والباقي صفف، لم يجز أن يساكنها و
إن كان معها محرم، لأنها لا تتميز من المسكن بموضع، فإن قال: أنا أبني بيني وبينها
حائلا، وكان الذي يبقى لها سكنى مثلها، فله ذلك، ثم إن جعل باب ما يسكنه
خارجا عن مسكنها، فلا حاجة إلى محرم، وإن جعله في مسكنها، لم يجز أن
يسكنه إلا بشرط المحرم أو من في معناه، وقيل: لا يشترط اختلاف الممر، بل
يكفي أن يغلق على الحجرة باب. ولو كانا في بيتين من دار كبيرة، وانفرد كل بباب
يغلق، جاز على الأصح كبيتين من خان.
فصل إذا كانت معتدة بالأقراء أو الحمل، لم يصح بيع المسكن الذي
يستحق فيه السكنى، سواء كان لها عادة مستقيمة في الأقراء والحمل، أم لا.
وإن كانت تعتد بالأشهر، ففي صحة بيعه قولان، كالدار المستأجرة، وقيل:
لا يصح قطعا، ويجري الطريقان سواء كانت تتوقع مجئ الحيض في أثناء الشهر،
بأن كانت بنت تسع سنين فصاعدا ولم تحض، أو لا تتوقعه كالآيسة، وبنت سبع
سنين. وقيل: لا يصح البيع في الصورة الأولى قطعا، فإن جوزنا البيع، فحاضت
وانتقلت إلى الأقراء، خرج ذلك على اختلاط الثمار المبيعة بالحادثة بعد البيع فيما لا
396

يغلب فيه التلاحق، وفيه قولان سبقا. أظهرهما: لا ينفسخ البيع، بل يثبت الخيار
للمشتري.
فرع لو كان المنزل مستعارا، لازمته ما لم يرجع المعير، وليس للزوج
نقلها، وقيل: له نقلها في البلد الذي لا يعتاد فيه إعادة المنزل، كيلا يلحقه منة،
والصحيح الأول. وإذا رجع، قال المتولي وغيره: على الزوج أن يطلبه منه بأجرة،
فإن امتنع أو طلب أكثر من أجرة المثل، نقلها، وإن نقلها ثم بذل المنزل الأول
مالكه، قال الروياني: إن بذله بإعارة، لم يلزم ردها إليه، وإن بذل بأجرة، فإن
كان المنقول إليه مستعارا، وجب ردها إلى الأول، وإن كان بأجرة، فوجهان.
فرع كان المنزل الذي تعتد فيه مستأجرا، فانقضت مدة الإجارة ولم يجدد
المالك إجارة، فلا بد من نقلها، وإذا وجب النقل في هذه الصور، فالقول في
تحري أقرب المواضع على ما سبق.
فرع إذا كانت تسكن منزل نفسها، ففي المهذب والتهذيب أنه
يلزمها أن تعتد فيه، ولها طلب الأجرة، والأصح ما ذكره صاحب الشامل وغيره
أنها إن رضيت بالإقامة فيه بإعارة أو إجارة، جاز وهو الأولى، وإن طلبت نقلها، فلها
ذلك، إذ ليس عليها بذل منزلها بإعارة ولا إجارة.
فرع لو طلقها وهي في منزل مملوك للزوج، ثم أفلس وحجر عليه، بقي
لها حق السكنى، وتقدم به على الغرماء، وكذا لو مات وعليه ديون، تقدم به على
حق الغرماء والورثة، وهل للحاكم بيع رقبة المسكن؟ فيه الطريقان السابقان، ولو
أفلس وحجر عليه، ثم طلقها، ضاربت الغرماء بالسكنى، وليس ذلك كدين
397

حادث، لأن حقها مستند إلى سبب متقدم على الحجر وهو النكاح والوطئ فيه، ولو
طلقها وليست في منزل له، ضاربتهم بالأجرة، سواء تقدم الطلاق أو تأخر، لان
حقها هنا مرسل غير متعلق بعين.
ومتى ضاربت، فإن كانت عدتها بالأشهر، ضاربت بأجرة المثل للأشهر،
وإن كانت بالأقراء أو الحمل، نظر، إن لم تكن لها عادة فيهما، فوجهان.
أصحهما: تضارب بأقل مدة يمكن انقضاء الأقراء فيها، والحامل بأجرة ما بقي من
أقل مدة الحمل وهي ستة أشهر من حين العلوق، لأن استحقاق الزيادة مشكوك فيه.
والثاني: تؤخذ بالعادة الغالبة، فتضارب ذات الأقراء بأجرة ثلاثة أشهر، والحامل بما
بقي من تسعة أشهر، وهذا اختيار صاحب الحاوي.
وإن كانت لها عادة مستقيمة فيهما، ضاربت بأجرة مدة العادة على الصحيح،
وقيل بالأقل، وإن كان لها عادات مختلفة، وراعينا العادة، فالمعتبر أقل عاداتها.
وإذا ضاربت بأجرة مدة، وانقضت العدة على وفق تلك المضاربة، فهل ترجع
على المفلس بالباقي من الأجرة عند يساره؟ حكى الشيخ أبو علي فيه طريقين،
أحدهما: على وجهين بناء على أن الزوجة إذا لم تطالب بالسكنى في النكاح أو في
العدة مدة، هل تصير سكنى المدة الماضية دينا لها عليه، وتطالبه بها؟ وفيه خلاف
يأتي إن شاء الله تعالى. وأصحهما: القطع بالرجوع، كما في الباقي من ديون
الغرماء، بخلاف مسألة الوجهين، لأنها هنا طلبت الجميع، ولكن زحمة الغرماء
منعتها، ولو انقضت العدة قبل تمام المدة التي ضاربت لها، ردت الفضل على
الغرماء، وفي رجوعها على المفلس بما تقتضيه المحاصة للمدة المنقضية
الطريقان.
ولو امتدت العدة وزادت على مدة المضاربة، ففي رجوعها بحصة المدة
الزائدة على الغرماء ثلاثة أوجه. أصحها: الرجوع، لأنا تبينا استحقاقها، كما لو
ظهر غريم، ولها أن ترجع على المفلس إذا أيسر، والثاني: لا ترجع على الغرماء،
لئلا تغير ما حكمنا به، وينسب هذا إلى النص، وصححه الروياني في التجربة،
والثالث: ترجع الحامل لأنه حسي دون ذات الأقراء، فإنها متهمة بتأخيرها، وإذا
قلنا: لا ترجع على الغرماء، رجعت على الزوج على الأصح إذا أيسر، قال
398

الامام: والخلاف في رجوعها على الغرماء، إذا لم يصدقوها، فإن صدقوها رجعت
عليهم بلا خلاف، قال: وفي غير صورة الافلاس إذا مضى زمن العادة، فادعت
مزيدا، وتغيرا في العادة، فالذي يدل عليه كلام الأصحاب، أنها تصدق بلا
خلاف، وعلى الزوج الاسكان، قال: وفيه احتمال، لأنا إذا صدقناها ربما تمادت
في دعواها إلى سن اليأس.
فرع إذا ضاربت في صورة الافلاس بالأجرة، استؤجر بحصتها المنزل
الذي وجبت فيه العدة، فإن تعذر، فأقرب الممكن كما سبق. قال ابن الصباغ:
فإذا جاوزت مدة ما أخذت أجرته، سكنت حيث شاءت.
فرع لو كانت المطلقة رجعية، أو حاملا، استحقت مع السكنى النفقة،
وتضارب الغرماء عند إفلاس الزوج بالنفقة والسكنى، والقول في كيفية المضاربة
والرجوع كما سبق، ولكن إذا قلنا: إن نفقة الحامل لا تعجل، لم يدفع إليها حصة
النفقة في الحال.
فصل إذا طلقها وهو غائب، وهي في دار له بملك أو إجارة، اعتدت فيها،
وإن لم يكن له مسكن وله مال، اكترى الحاكم من ماله مسكنا تعتد فيه إن لم يجد
متطوعا به، فإن لم يكن له مال، اقترض عليه، واكترى، فإذا رجع، قضاه، فإن
أذن لها أن تعترض عليه، أو تكتري المسكن من مالها، ففعلت، جاز، وترجع،
ولو اكترت من مالها، أو اقترضت بقصد الرجوع، ولم تستأذن الحاكم، نظر، إن
قدرت على الاستئذان أو لم تقدر ولم تشهد، لم ترجع، وإن لم تقدر أو أشهدت،
رجعت على الأصح، وكل هذا على ما سبق في مسألة هروب الجمال ونظائرها.
فرع إذا مضت مدة العدة، أو بعضها، ولم تطلب حق السكنى، سقط،
ولم يصر دينا في الذمة، نص عليه، ونص أن نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، بل
تصير دينا في الذمة، فقيل: قولان فيهما لترددهما بين الديون ونفقة القريب،
والمذهب تقرير النصين، والفرق بأن النفقة بالتمكين، وقد وجد، والسكنى لصيانة
مائه على موجب نظره، ولم يتحقق، وحكم السكنى في صلب النكاح كما ذكرنا في
العدة.
399

فصل إذا مات الزوج في خلال العدة، لم يسقط ما استحقته المبتوتة من
السكنى، وإذا استحقت السكنى، أو مات عنها وهي زوجة وقلنا: تستحق
السكنى، فإن كانت في مسكن مملوك للزوج، لم يقسمه الورثة حتى تنقضي
العدة، ولو أرادوا التمييز بخطوط ترسم من غير نقض وبناء، جاز إن قلنا: القسمة
إفراز، وإن قلنا: بيع، فحكم بيع مسكن العدة كما سبق، وقيل: إن قلنا: إفراز،
فلهم القسمة كيف شاؤوا، والصحيح الأول. وإن كان في مسكن مستأجرا أو
مستعارا، واحتيج إلى نقلها، فعلى الوارث أن يستأجر لها من التركة، فإن لم يكن
تركة، فليس على الوارث إسكانها. فلو تبرع به، لزمها الإجابة، وإذا لم يتبرع،
ففي التهذيب أنه يستحب للسلطان أن يسكنها من بيت المال، لا سيما إن كانت
تتهم بريبة، ولفظ الروياني في البحر أن السلطان لا يلزمه أن يكتري لها، إلا عند
الريبة فيلزمه.
وإذا قلنا: لا تجب السكنى في عدة الوفاة، فالمذهب أن للورثة إسكانها حيث
أرادوا، وبهذا قطع الأصحاب. وحكى الغزالي وجهين، أصحهما هذا، والثاني:
أنه إنما تلزمها الإجابة، وإذا توقع شغل الرحم بالماء، فإن لم يتبرع الوارث
بإسكانها، فللسلطان أن يحصنها بالاسكان. وفي الوسيط والبسيط، أنه
ليس للسلطان تعيين المسكن، بخلاف الوارث، والأول هو المذهب والمنصوص،
وبه قطع الجماهير، وإذا لم يسكنها الوارث والسلطان، سكنت حيث شاءت، فلو
أسكنها أجنبي متبرع، قال الروياني: إن لم يكن المتبرع ذا ريبة، فهو كالوارث،
فعليها أن تسكن حيث يسكنها.
قلت: وفي هذا نظر. والله أعلم.
400

فرع للواطئ بشبهة أو في نكاح فاسد إسكان المعتدة.
فصل في مسائل تتعلق بالعدد إحداها: إذا طلق الغائب، أو مات،
فالعدة من حين الطلاق أو الموت، لا من بلوغ الخبر.
الثانية: لو نكحت المعتدة بعد مضي قرء، ووطئها الزوج الثاني، ثم جاء
الأول ووطئها بشبهة، ثم فرق بينهما وبين الثاني، فتشتغل بالباقي من عدة الطلاق
وهو قرءان، ويدخل فيه قرءان من عدة وطئ الشبهة، ثم تعتد عن الثاني بثلاثة
أقراء، ثم تعتد عن الأول بقرء لما بقي من عدة الشبهة، ذكره القفال في
الفتاوى.
الثالثة: مات زوج المعتدة، فقالت: انقضت عدتي قبل موته، لا يقبل قولها
في ترك العدة، ولا ترث لاقرارها.
الرابعة: في فتاوى القفال: أن المعتدة لو أسقطت مؤنة السكنى عن الزوج،
لم يصح الاسقاط، لأن السكنى تجب يوما فيوما، ولا يصح إسقاط ما لم يجب.
الخامسة: في فتاوى القفال: أن المنكوحة لو وطئت بشبهة، وصارت في
العدة، فوطئها الزوج، لم يقطع وطؤه عدة الشبهة، لأن وطئ الزوج لا يوجب عدة،
فلا يقطعها كما لو زنت المعتدة.
الباب الخامس في الاستبراء
فيه ثلاثة أطراف.
الأول: فيما يتعلق بنفس الاستبراء، فإن كانت المستبرأة من ذوات الأقراء،
401

استبرأت بقرء، وهو حيض على الجديد الأظهر، وفي قول: هو طهر. وفي وجه:
أن استبراء أم الولد لموت السيد أو إعتاقه بطهر، والأمة التي يحدث ملكها بحيض،
فإن قلنا: القرء هو الطهر، فصادف وجوب الاستبراء آخر الحيض، كان الطهر
الكامل بعده استبراء. وهل يكفي ظهور الدم بعده، أم يعتبر يوم وليلة؟ فيه الخلاف
السابق في العدة. وفي وجه: لا بد من مضي حيضة كاملة بعد ذلك الطهر، وهو
ضعيف عند الغزالي وغيره، وصححه الروياني، وإن وجد سبب الاستبراء وهي
طاهر، فهل يكفي بقية الطهر؟ وجهان. أحدهما: يكفي كما في العدة، وهذا هو
الراجح في البسيط، وحكاه الماوردي عن البغداديين. والثاني: لا يكفي، ولا
ينقضي الاستبراء حتى تحيض بعده ثم تطهر، وبه قطع البغوي، وحكاه الماوردي
عن البصريين. وإذا قلنا: القرء الحيض، لم يكف بقية الحيض، بل يعتبر
حيضة كاملة. فلو كانت حائضا عند وجوب الاستبراء، لم ينقض الاستبراء حتى
تطهر، ثم تحيض حيضة، ثم تطهر، وإذا تباعد حيض ذا ت الأقراء، فحكمها في
التربص إلى سن اليأس حكم المعتدة. فإن كانت المستبرأة من ذوات الأشهر، فهل
تستبرئ بشهر، أم بثلاثة؟ قولان. أظهرهما عند الجمهور: بشهر، لأنه بدل قرء،
ورجح صاحب المهذب وجماعة، الثلاثة، وإن كانت حاملا، نظر، إن زال
فراشه عن مستولدته، أو أمته الحامل، فاستبراؤها بوضع الحمل. فإن ملك أمة،
فقد أطلق المتولي، أن الحكم كذلك إن كان الحمل ثابت النسب من زوج، أو وطئ
بشبهة، والأصح التفصيل. فإن ملكها بسبي حصل الاستبراء بالوضع، وإن ملك
بالشراء، فإن كانت حاملا من زوج وهي في نكاحه أو عدته، أو من وطئ شبهة وهي
معتدة من ذلك الوطئ، فسيأتي إن شاء الله تعالى أنه لا استبراء في الحال على
المذهب. وفي وجوبه بعد العدة خلاف، وإذا كان كذلك، فليس الاستبراء
بالوضع، لأنه إما غير واجب، وإما مؤخر عن الوضع. وذكر البغوي في حصول
402

الاستبراء في الوضع قولين. ولو كان الحمل من زنا، ففي حصول الاستبراء بوضعه
حيث يحصل في ثابت النسب، وجهان. أصحهما: الحصول، لاطلاق
الحديث، ولحصول البراءة بخلاف العدة، فإنها مخصوصة بالتأكيد، ولهذا اشترط
فيها التكرار. فإن قلنا: لا يحصل، ورأت دما على الحمل، وقلنا: هو حيض،
حصل الاستبراء بحيضة على الحمل على الأصح. وإن قلنا: ليس بحيض، أو لم
تر دما، فاستبراؤها بحيضة بعد الوضع. ولو ارتابت المستبرأة بالحمل في مدة
الاستبراء أو بعدها، فعلى ما ذكرناه في العدة.
الطرف الثاني: في سبب الاستبراء، وهو سببان.
السبب الأول: حصول الملك، فمن ملك جارية بإرث أو هبة، أو شراء أو
وصية، أو سبي، أو عاد ملكه فيها بالرد بالعيب، أو التحالف، أو الإقالة، أو خيار
الرؤية، أو الرجوع في الهبة، لزمه استبراؤها، سواء في الإقالة ونحوها، ما قبل
القبض وبعده، وسواء كان الانتقال إليه ممن يتصور اشتغال الرحم بمائه أو ممن لا
يتصور، كامرأة وصبي ونحوهما، وسواء كانت الأمة صغيرة، أو آيسة، أو غيرهما،
بكرا، أو ثيبا، وسواء استبرأها البائع قبل البيع، أم لا. وعن ابن سريج تخريج في
البكر: أنه لا يجب. وعن المزني: أنه إنما يجب استبراء الحامل والموطوءة.
قال الروياني: وأنا أميل إلى هذا، واحتج الشافعي رحمه الله بإطلاق الأحاديث في
403

سبايا أوطاس، مع العلم بأن فيهن الصغار، والابكار، والآيسات. ولا يجب
على بائع الأمة استبراؤها قبل البيع، سواء وطئها أم لا، لكنه يستحب إن كان وطئها
ليكون على بصيرة منها. ولو أقرض جارية لمن لا تحل له، ثم استردها قبل تصرف
المقترض فيها، لزم المقرض استبراؤها إن قلنا: إن القرض يملك بالقبض، وإن
قلنا: بالتصرف، لم يلزمه.
فرع كاتب جاريته، ثم فسخت الكتابة، أو عجزها السيد، لزمها
الاستبراء.
فرع لو حرمت على السيد بصلاة أو صوم، أو اعتكاف أو رهن، أو حيض
أو نفاس، ثم زالت هذه الأشياء، حلت بغير استبراء.
فرع ارتدت أمته ثم أسلمت، لزمه استبراؤها على الأصح، لأنه زال ملك
الاستمتاع ثم عاد. قال البغوي: الوجهان مبنيان على الوجهين فيما لو اشترى مرتدة
ثم أسلمت، هل يحسب حيضها في زمن الردة من الاستبراء؟ فإن قلنا: يحسب،
لم يجب الاستبراء، وإلا وجب. ولو ارتد السيد ثم أسلم، فإن قلنا: يزول ملكه
بالردة، لزمه الاستبراء قطعا، وإلا فعلى الأصح كردة الأمة.
فرع أحرمت ثم تحللت، فالمذهب وبه قطع الجمهور: أنه لا استبراء
كما لو صامت ثم أفطرت. وقيل: وجهان كالردة.
فرع زوج أمته، فطلقت قبل الدخول، فهل على السيد استبراؤها؟ قولان
يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.
فرع باعها بشرط الخيار، فعادت إليه بالفسخ في مدة الخيار، ففي وجوب
الاستبراء خلاف، المذهب منه أنه يجب إن قلنا: يزول ملك البائع بنفس العقد،
وإلا فلا.
404

فرع اشترى زوجته، فوجهان. الأصح المنصوص، أنه يدوم حل
وطئها، ولا يجب الاستبراء، لكن يستحب، أما أنه لا يجب، فلأنه لم يتجدد
حل، ولأنه لا يؤدي إلى اختلاط ماء، وأما استحبابه، فلتمييز ولد النكاح عن ولد
ملك اليمين، فإنه في النكاح ينعقد مملوكا، ثم يعتق ولا تصير به أم ولد. وفي ملك
اليمين ينعقد حرا وتصير أم ولد. والثاني: يجب الاستبراء لتجدد الملك. ولو
اشتراها بشرط الخيار، فهل له وطؤها في مدة الخيار لأنها منكوحة أو مملوكة، أم لا
للتردد في حالها؟ وجهان، قال البغوي: المنصوص أنه لا يحل. ولو طلقها ثم
اشتراها في العدة، وجب الاستبراء قطعا، لأنه ملكها وهي محرمة عليه. ولو اشترى
زوجته ثم أراد تزويجها لغيره، لم يجز إن كان دخل بها قبل الشراء إلا بعد قرءين،
لأنه إذا انفسخ النكاح وجب أن تعتد منه، فلا تنكح غيره حتى تنقضي عدتها
بقرءين. فلو مات عقب الشراء، لم يلزمها عدة الوفاة، بل تكمل عدة الانفساخ،
كذا ذكره ابن الحداد، وحكى عن نصه في الاملاء.
فرع اشترى مزوجة أو معتدة عن زوج، أو وطئ شبهة، والمشتري عالم
بالحال أو جاهل، وأجاز البيع، فلا استبراء في الحال، لأنها مشغولة بحق غيره.
فإن طلقت قبل الدخول أو بعده، وانقضت عدة الشبهة، فهل يلزم للمشتري
الاستبراء؟ قولان. أظهرهما: نعم. وقد يقال: يجب الاستبراء، ويرد الخلاف
إلى أنه هل تدخل في العدة؟ واستنبط القاضي حسين من القولين عبارتين يتخرج
عليهما مسائل.
إحداهما: أن الموجب للاستبراء حدو ث ملك الرقبة مع فراغ محل
الاستمتاع.
والثانية: أن الموجب حدوث حل الاستمتاع في المملوكة بملك اليمين،
405

فعلى العبارة الأولى: لا يجب الاستبراء عند انقضاء العدة، لأنه لم يحدث حينئذ
ملك، وعند حدوثه لم يكن محل الاستمتاع فارغا، وعلى الثانية: يجب. وخرج
بعضهم عليهما الخلاف فيما لو اشترى مجوسية فحاضت ثم أسلمت، هل يلزم
الاستبراء بعد الاسلام، أم يكفي ما سبق؟ وكذا الخلاف فيما لو زوج وطلقت قبل
الدخول، هل على السيد استبراء؟ فعلى الأولى، لا. وعلى الثانية، نعم.
ويجري الخلاف فيما لو زوجها وطلقت بعد الدخول وانقضت عدتها، أو وطئت
بشبهة وانقضت عدتها.
وإذا قلنا: فيما إذا اشترى مزوجة وطلقت، لا يجب الاستبراء، فلمن يريد
تعجيل الاستمتاع أن يتخذ ذلك حيلة في اندفاع الاستبراء، فيسأل البائع أن يزوجها
ثم يشتريها، ثم يسأل الزوج أن يطلقها، فتحل في الحال، لكن لا يجوز تزويج
الموطوءة إلا بعد الاستبراء، فإنما يحصل الغرض إذا لم تكن موطوءة، أو كان البائع
قد استبرأها.
وإذا كانت الجارية كذلك، فلو أعتقها المشتري في الحال، وأراد أن يزوجها
البائع أو غيره، أو يتزوجها بنفسه، جاز على الأصح، ذكره البغوي وغيره. فعلى
هذا، من يريد تعجيل الاستمتاع يمكنه أن يعتقها في الحال ويتزوجها، ولا يحتاج
إلى سؤال البائع أن يزوجها أولا إذا كان يسمح بفوات ماليتها.
فرع إذا تم ملكه على جميع جارية كانت مشتركة بينه وبين غيره، لزمه
الاستبراء، ولو أسلم في جارية وقبضها، فوجدها بغير الصفة المشروطة فردها، لزم
المسلم إليه الاستبراء.
فرع إذا كانت الجارية المشتراة محرما للمشتري، أو اشترتها امرأة أو
رجلان، فلا معنى للاستبراء إلا فيما يرجع إلى التزويج.
فرع ظهر بالمشتراة حمل فقال البائع: هو مني، نظر، إن صدقه
المشتري، فالبيع باطل باتفاقهما، والجارية مستولدة للبائع. وإن كذبه، نظر، إن
لم يقر البائع بوطئها عند البيع ولا قبله، لم يقبل قوله، كما لو قال بعد البيع: كنت
أعتقته، لكن يحلف المشتري، أنه لا يعلم كون الحمل منه. وفي ثبوت نسبه من
406

البائع خلاف، لأنه يقطع إرث المشتري بالولاء، وإن كان أقر بوطئها، نظر، إن
كان استبرأها ثم باعها، ثم ولدت لدون ستة أشهر من وقت استبراء المشتري، فالولد
لاحق بالبائع، والجارية مستولدة له، والبيع باطل، وإن ولدت لستة أشهر فأكثر،
لم يقبل قوله، ولم يلحقه الولد، لأنه لو كان ملكه، لم يلحقه، ثم ينظر، إن لم
يطأها المشتري، أو وطئها وولدت لدون ستة أشهر من وقت وطئه، فالولد مملوكه.
وإن ولدته لستة أشهر فأكثر من وطئه، فالولد لاحق بالمشتري، والجارية مستولدة
له. وإن لم يستبرئها البائع قبل البيع، نظر، إن ولدت لأقل من ستة أشهر من وقت
استبراء المشتري، أو لأكثر ولم يطأها المشتري، فالولد للبائع، والبيع باطل. وإن
وطئها المشتري وأمكن أن يكون من هذا، وأن يكون من ذاك، عرض على القائف.
فرع لا يجب في شراء الأمة التي كان البائع يطؤها إلا استبراء واحد،
لحصول البراءة، فلو اشتراها من شريكين وطئاها في طهر واحد، فهل يكفي استبراء
لحصول البراءة، أم يجب استبراءان كالعدتين من شخصين؟ وجهان. ويجريان فيما
لو وطئاها وأرادا تزويجها، فهل يكفي استبراء، أم يجب استبراءان. ولو وطئ
أجنبيان أمة كل يظنها أمته، قال المتولي: وطئ كل واحد يقتضي استبراء بقرء. وفي
تداخلهما وجهان. أصحهما: المنع.
فصل من ملك أمة، لم يجز له وطؤها حتى ينقضي الاستبراء. وأما
الاستمتاع بالقبلة واللمس والنظر بشهوة ونحوها، فحرام إن ملكها بغير السبي،
وإن ملكها بالسبي، فحلال على الأصح.
وإذا طهرت من الحيض وتم الاستبراء، بقي تحريم الوطئ حتى تغتسل،
ويحل الاستمتاع قبل الغسل على الصحيح.
407

فصل وجب الاستبراء لا يمنع المالك من إثبات اليد على الجارية، بل
هو مؤتمن فيه شرعا، لأن سبايا أوطاس لم ينزعن من أيدي أصحابهن، وسواء كانت
حسناء أم قبيحة.
فصل لو مضى زمن الاستبراء بعد الملك وقبل القبض، هل يعتد به؟
نظر، إن ملك بالإرث، اعتد به، وإن ملك بالهبة، فلا. وإن ملك بالشراء، اعتد
به على الأصح، وفي الوصية، لا يعتد بما قبل القبول، ويعتد بما بعده على
المذهب.
ولو وقع الحمل أو الحيض في زمن خيار الشرط في الشراء، فإن قلنا: الملك
للبائع، لم يحصل الاستبراء. وإن قلنا: للمشتري، لم يحصل أيضا على
الأصح، لضعف الملك. وقيل: يحصل، وقيل: يحصل في صورة الحمل دون
الحيض، لقوة الحمل.
فرع لو اشترى مجوسية أو مرتدة، فمضت عليها حيضة، أو ولدت ثم
أسلمت، فهل تعتد بالاستبراء في الكفر لوجود الملك، أم يجب بعد الاسلام
ليستعقب حل الاستمتاع؟ وجهان، أصحهما الثاني.
فرع إذا اشترى العبد المأذون له جارية، فللسيد وطؤها إن لم يكن على
العبد دين، فإن كان، لم يجز، لئلا يحبلها. فإن انفكت عن الديون بقضاء أو
إبراء، وقد جرى قبل الانفكاك ما يحصل به الاستبراء، فهل يعتد به، أم يشترط
وقوع الاستبراء بعد الانفكاك؟ وجهان كالمجوسية، أصحهما الثاني، وبه قطع
العراقيون.
408

ولو رهنها قبل الاستبراء، ثم انفك الرهن، قال في الشامل: يجب
استبراؤها، ولا يعتد بما جرى، وهي مرهونة، وغلطه الروياني.
فرع لو وطئها قبل الاستبراء، أو استمتع بها، وقلنا بتحريمه، أثم، ولا
ينقطع الاستبراء، لأن الملك لا يمنع الاحتساب، فكذا المعاشرة بخلاف العدة.
فلو أحبلها بالوطئ في الحيض، فإن انقطع الدم، حلت له لتمام الحيضة،
وإن كانت طاهرا عند الاحبال، لم ينقض الاستبراء حتى تضع الحمل، هذا لفظه
في الوسيط وبالله التوفيق.
السبب الثاني: زوال الفراش عن موطوءة بملك يمين، فإذا أعتق أمته التي
وطئها، أو مستولدته، أو مات عنها، وليست في زوجية ولا عدة نكاح، لزمها
الاستبراء، لأنه زال عنها الفراش، فأشبهت الحرة، ويكون استبراؤها بقرء،
كالممتلكة.
ولو مضت مدة الاستبراء على أم الولد، ثم أعتقها سيدها، أو مات عنها،
فهل يكفي ذلك، أم يلزمها الاستبراء بعد العتق؟ وجهان، وقيل: قولان.
أصحهما: الثاني، كما لا تعتد المنكوحة بما تقدم من الأقراء على ارتفاع النكاح،
والخلاف مبني على أن أم الولد، هل تخرج عن كونها فراشا بالاستبراء أو الولادة،
وهل تعود فراشا للسيد إذا مات زوجها أو طلقها وانقضت عدتها، أم لا تعود ولا تحل
له إلا بالاستبراء؟ ولو استبرأ الأمة الموطوءة، ثم أعتقها، قال الأصحاب: لا
استبراء عليها، ولها أن تتزوج في الحال، ولم يطردوا فيها الخلاف الذي في
المستولدة، لأن المستولدة يشبه فراشها فراش النكاح، ولو لم تكن الأمة موطوءة،
لم تكن فراشا، ولم يجب الاستبراء بإعتاقها.
409

فرع لا يجوز تزويج الأمة الموطوءة قبل الاستبراء، بخلاف بيعها، لان
مقصود النكاح الوطئ، فينبغي أن يستعقب الحل. وفي جواز تزويج أم الولد خلاف
مذكور في باب أمهات الأولاد الأصح الصحة. فعلى هذا، لا تزوج حتى
تستبرأ. ولو استبرأها، ثم أعتقها، فهل يجوز تزويجها في الحال، أم تحتاج إلى
استبراء جديد؟ وجهان.
قلت: أصحهما. والله أعلم.
ولو اشترى أمة وأراد تزويجها قبل الاستبراء، فإن كان البائع وطئها، لم يجز
إلا أن يزوجها به. وإن لم يكن وطئها البائع، أو وطئها واستبرأها قبل البيع، أو كان
الانتقال من امرأة أو صبي، جاز تزويجها في الحال على الأصح، كما كان للبائع
تزويجها بعد الاستبراء.
فرع إذا أعتق مستولدته، أو مات عنها وهي في نكاح أو عدة زوج، فلا
استبراء عليها، لأنها ليست فراشا للسيد. وخرج ابن سريج قولا أنه يلزمها الاستبراء
بعد فراغ عدة الزوج. وحكى السرخسي هذا قولا قديما، وحكي أيضا عن
الإصطخري، والمذهب الأول، وهو المنصوص، وبه قطع الجمهور. وقال الشيخ
أبو علي: فعلى المذهب متى انقضت عدة الزوج، وكان السيد حيا، عادت فراشا
له، وعلى التخريج لا تعود فراشا حتى يستبرئها. ولو أعتقها، أو مات عقب انقضاء
عدة الزوج، فقيل: لا استبراء عليها، والصحيح المنصوص وجوبه. لكن هل
يشترط لوجوبه أن يقع إعتاق السيد أو موته بعد انقضاء العدة بلحظة لتعود فيها فراشا
للسيد، أم لا لكون مصيرها فراشا أمرا حكميا لا يحتاج إلى زمن حسي؟ وجهان.
أرجحهما الثاني.
ولو انقضت عدتها ولم يمت السيد ولم يعتقها، فالمذهب والمنصوص في
410

الجديد: أنها تعود فراشا للسيد، وتحل له بلا استبراء. وحكي قول قديم: أنها لا
تحل له بلا استبراء، فعلى المذهب، لو مات السيد بعد ذلك، لزمها الاستبراء،
وعلى القديم: لا استبراء. والخلاف في حل أم الولد إذا زال حق الزوج،
كالخلاف فيما إذا زال حق الزوج عن الأمة المزوجة، هل يحتاج السيد إلى
استبرائها؟ لكن الراجح في الأمة الاحتياج. ونقله البندنيجي عن النص، لأن فراش
أم الولد أشبه بالنكاح، ولهذا ولد أم الولد يلحقه إذا ولدته بعد ستة أشهر من حين
استبرائها، وولد الأمة لا يلحقه، كذا قاله الروياني.
ولو أعتق مستولدته، أو مات عنها وهي في عدة وطئ شبهة، فهل يلزمها
الاستبراء تفريعا على المنصوص فيما إذا كانت في عدة زوج؟ وجهان. أصحهما
الوجوب.
فرع أعتق مستولدته، وأراد أن يتزوجها قبل تمام الاستبراء، جاز على
الأصح، كما يتزوج المعتدة منه بنكاح أو وطئ شبهة.
فرع المستولدة المزوجة، إذا مات عنها سيدها وزوجها جميعا، فلها
أحوال.
أحدها: أن يموت السيد أولا، فقد مات وهي مزوجة، وقد ذكرنا أنه لا
استبراء عليها على المذهب، فإذا مات الزوج بعده، اعتدت عدة حرة، وكذا لو
طلقها.
الحال الثاني: أن يموت الزوج أولا، فتعتد عدة أمة شهرين وخمسة أيام،
فإن مات السيد وهي في عدة الزوج، فقد عتقت في أثناء العدة، وقد سبق في أول
كتاب العدد الخلاف، في أنها هل تكمل عدة حرة أم عدة أمة؟ والمذهب أنه لا
استبراء عليها كما ذكرناه قريبا. وإن أوجبناه، فإن كانت ذوات الأشهر، استبرأت
بشهر بعد العدة، وإن كانت من ذوات الأقراء، استبرأت بحيضة بعد العدة إن لم
تحض في العدة، فإن حاضت في العدة بعد ما عتقت، كفاها ذلك.
وإن مات السيد بعد خروجها من العدة، لزمه الاستبراء على الأصح تفريعا
على عودها فراشا.
411

الحال الثالث: أن يموت السيد والزوج معا، فلا استبراء، لأنها لم تعد إلى
فراشه. ويجئ فيه الخلاف المذكور، فيما إذا عتقت وهي معتدة، وهل تعتد عدة
أمة، أم عدة حرة؟ وجهان. أصحهما عند الغزالي: عدة أمة، وقطع البغوي بعدة
حرة احتياطا.
الحال الرابع: أن يتقدم أحدهما ويشكل السابق، فله صور.
إحداها: أن يعلم أنه لم يتخلل بين موتهما شهران وخمسة أيام، فعليها أربعة
أشهر وعشر من موت آخرهما موتا، لاحتمال أن السيد مات أولا، ثم مات الزوج
وهي حرة، ولا استبراء عليها على الصحيح، لأنها عند موت السيد زوجة أو معتدة.
وإن أوجبنا الاستبراء، فحكمه كما نذكره إن شاء الله تعالى في الصورة الثانية.
ولو تخلل شهران وخمسة أيام بلا مزيد، فهل هو كما لو كان المتخلل أقل من
هذه المدة، أم كما لو كان أكثر منها؟ فيه الوجهان السابقان.
الصورة الثانية: أن يعلم أنه تخلل بين الموتين أكثر من شهرين وخمسة أيام،
فعليها الاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيام من موت آخرهما موتا، ثم إن لم تحض في
هذه المدة، فعليها أن تتربص بعدها بحيضة لاحتمال أن الزوج مات أولا، وانقضت
عدتها، وعادت فراشا للسيد، وإن حاضت في هذه المدة، فلا شئ عليها، وسواء
كان الحيض في أول المدة أو آخرها. وقيل: يشترط كونه بعد شهرين وخمسة أيام
من هذه المدة لئلا يقع الاستبراء وعدة الوفاة في وقت واحد. قال الأصحاب: هذا
غلط، لأن الاستبراء إنما يجب على تقدير تأخر موت السيد، وحينئذ تكون عدة الوفاة
منقضية بالمدة المتخللة، ولا يتصور الاجتماع سواء كان الحيض في أول هذه المدة
أو آخرها. ولو كانت المستولدة ممن لا تحيض، كفاها أربعة أشهر وعشرة أيام.
412

الصورة الثالثة: أن لا يعلم كم المدة المتخللة، فعليها التربص كما ذكرناه
في الصورة الثانية، أخذا بالأحوط، ولا نورثها من الزوج إذا شككنا في أسبقهما
موتا، فإن ادعت علم الورثة أنها كانت حرة يوم موت الزوج، فعليهم الحلف على
نفي العلم.
فصل متى قالت المستبرأة: حضت، صدقت بلا يمين.
ولو امتنعت على السيد فقال: قد أخبرتني بانقضاء الاستبراء، صدق السيد
على الأصح، لأن الاستبراء مفوض إلى أمانة السيد، ولهذا لا يحال بينه وبينها،
بخلاف المعتدة من وطئ بشبهة، فإنه يحال بين الزوج وبينها. وهل لها تحليف
السيد؟ وجهان. حقيقتهما: أنه هل للأمة المخاصمة؟ ويقرب منه ما إذا ورث
جارية فادعت أن مورثها وطئها، وأنها حرمت عليه بوطئه، فلا يلزمه تصديقها.
وطريق الورع لا يخفى. وهل لها تحليفه؟ فيه هذان الوجهان.
قلت: الأصح أن لها التحليف في الصورتين، وعليها الامتناع من التمكين إذا
تحققت بقاء شئ من زمن الاستبراء وإن أبحناها له في الظاهر. والله أعلم.
فصل وطئ السيد أمته في عدتها عن وفاة زوج، ثم مات السيد، فعليها
إكمال عدة الوفاة، ثم تتربص بحيضة لموت السيد. فلو مرت بها حيضة في بقية عدة
الوفاة، لم يعتد بها، لأنهما واجبان لشخصين، فلا يتداخلان. ولو لم يمت
السيد، لكن أراد تزويجها، فكذلك تكمل عدة الوفاة، ثم تتربص بحيضة، ثم
يتزوجها، ولو أراد أن يطأها بعد عدة الوفاة، فالصحيح جوازه، ولا حاجة إلى
الاستبراء، ولو كانت في عدة طلاق، فوطئها السيد، ثم مات، أكملت عدة
الطلاق، ثم تربصت بحيضة لموت السيد، ولا تحسب المدة من وقت وطئ السيد
إلى موته إن كان يستفرشها، كما لو نكحت في العدة وكان الزوج الثاني يستفرشها
جاهلا، هذا كله إذا وطئها ولم يظهر بها حمل. أما إذا وطئها السيد في عدة الوفاة
ومات، فظهر بها حمل وولدت لزمن يمكن أن يكون من الزوج، وأن يكون من
السيد، عرض على القائف، فإن ألحقه بالزوج، انقضت عدتها بالوضع، وعليها
حيضة بعد طهرها من النفاس، وإن ألحقه بالسيد، حصل الاستبراء بوضعه، وعليها
بعد إتمام عدة الوفاة. فإن لم يكن قائف، فعليها إتمام بقية العدة بعد الوضع على
413

تقدير كون الولد من السيد، وعلى تقدير كونه من الزوج، فعليها التربص بحيضة بعد
الوضع، فيلزمها أطول المدتين، فإن وقعت الحيضة في بقية عدة الوفاة، كفاها
ذلك.
ولو ظهر بها حمل والصورة في عدة الطلاق، فولدت لزمان يحتملها، فإن
ألحق بالزوج، فعليها بعد الوضع حيضة، وإن ألحق بالسيد، فعليها بعده بقية
العدة، وإن أشكل، فعليها بقية العدة، أو حيضة فتأخذ بأكثرهما.
فرع اشترى مزوجة، فوطئها قبل العلم بأنها مزوجة، وظهر بها حمل،
ومات الزوج، فإن ولدت لزمن يحتمل كونه منهما، بأن ولدت لستة أشهر فصاعدا
من وطئ السيد، ولا ربع سنين فأقل من وطئ الزوج، عرض على القائف. فإن ألحقه
بالزوج، انقضت العدة بالوضع، وإن ألحقه بالسيد، لم تنقض بالوضع، وكذا لو
لم يكن قائف، أو أشكل عليه، لم تنقض العدة بالوضع، لاحتمال كونه من السيد،
وعليها إتمام عدة الوفاة شهرين وخمسة أيام، ولا تحسب مدة افتراش السيد من
العدة.
وإن احتمل أن يكون الولد من السيد دون الزوج، فكذا الحكم، وإن احتمل
كونه من الزوج دون السيد، انقضت العدة بوضعه، وهل على السيد الاستبراء بعد
العدة؟ فيه الخلاف السابق، ولو لم يظهر بها حمل والتصوير كما ذكرنا، فإما أن
يموت الزوج عقب الوطئ، وإما بعده بمدة، فإن مات عقبه، اعتدت عدة الوفاة.
وهل تحل بعدها للسيد، أم تحتاج إلى استبراء؟ فيه الخلاف. ولا يجوز تزويجها
إلا بعد الاستبراء بلا خلاف. وإن عاش بعد الوطئ مدة، لزمه اعتزالها إذا علم الحال
حتى تنقضي مدة الاستبراء، كالمنكوحة توطأ بالشبهة. وإذا مات بعد انقضائها،
فليس عليها إلا عدة الوفاة، وتحل للسيد بعدها، وله تزويجها بلا استبراء جديد.
ولو استفرشها الزوج بعد وطئ السيد جاهلا ثم مات، فإذا قضت عدته، فهل تحل
للسيد بغير استبراء؟ فيه الخلاف السابق. ولا يجوز تزويجها إلا بعد الاستبراء.
فرع رجل له زوجة وأمة مزوجة، حنث في طلاق الزوجة، أو عتق الأمة
ومات قبل البيان، ثم مات زوج الأمة، لزمها أن تعتد بأربعة أشهر وعشرة أيام من يوم
مات الزوج، لاحتمال أن السيد حنث في عتقها، ويلزم امرأته الأكثر من أربعة أشهر
414

وعشر، وثلاثة أقراء. فلو كان لزوج الأمة أمة أيضا، وحنث أيضا هو في عتقها، أو
طلاق زوجته الأمة وماتا قبل البيان، فعلى كل واحدة الأكثر من أربعة أشهر وعشر،
وثلاثة أقراء.
الطرف الثالث: فيما تصير به الأمة فراشا، فيه مسائل.
الأولى: لا تصير الأمة فراشا بمجرد الملك، فلو كانت تحل له وخلا بها،
فولدت ولدا يمكن كونه منه، لم يلحقه، بخلاف الزوجة، لأن مقصود النكاح
الاستمتاع والولد، وإنما تصير الأمة فراشا إذا وطئها، فإذا أتت بعد الوطئ بولد لزمان
يمكن أن يكون منه، لحقه ويعرف الوطئ بإقراره أو بالبينة. فلو نفى الولد مع
الاعتراف بالوطئ، فإن ادعى الاستبراء بحيضة بعد الوطئ، نظر، إن ولدته لدون
ستة أشهر من وقت الاستبراء، فالاستبراء لغو فيلحقه الولد. فلو أراد نفيه باللعان،
فقد سبق في كتاب اللعان، أن الصحيح جواز اللعان في هذه الصورة، وإن
ولدته لستة أشهر إلى أربع سنين، فالمذهب والمنصوص أنه لا يلحقه، وقد سبق فيه
خلاف وتخريج.
فلو أنكرت الاستبراء، فهل يحلف السيد، أم يصدق بغير يمين؟ وجهان.
الصحيح الذي عليه الجمهور، أنه يحلف. فعلى هذا، هل يكفي الحلف على
الاستبراء، أم يضم إليه أن الولد ليس منه، أم يكفي الحلف أن الولد ليس منه من
غير تعرض للاستبراء كما في نفي ولد الزوجة؟ فيه أوجه. أصحها الثالث، ويفهم
منه، أنه لو علم أن الولد من غيره ولم يستبرئها، جاز له نفيه والحلف عليه، لا على
سبيل اللعان. وإذا حلف على الاستبراء، فهل يقول: استبرأتها قبل ستة أشهر من
415

ولادتها هذا الولد، أم يقول: ولدته بعد ستة أشهر بعد استبرائي؟ فيه وجهان.
ولو نكل، فوجهان. أحدهما: يلحقه بنكوله. والثاني: تحلف الأمة، فإن نكلت
توقفنا إلى بلوغ الصبي، فإن حلف بعد البلوغ، لحق به.
المسألة الثانية: ادعت الوطئ وأمية الولد، وأنكر السيد أصل الوطئ،
فالصحيح أنه لا يحلف، وإنما حلف في الصورة السابقة، لأنه سبق منه الاقرار بما
يقتضي ثبوت النسب، وقيل: يحلف، لأنه لو اعترف به ثبت النسب. وإذا لم يكن
ولد، لم يحلف بلا خلاف.
الثالثة: أقر بالوطئ فأتت بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الوطئ، لم يلحقه
على الصحيح، وقيل: يلحقه كولد الزوجة، وهذا تفريع على أنه يلحقه بعد
الاستبراء، ويقرب منه الخلاف فيما لو أتت بولد يلحق السيد، ثم ولدت آخر لستة
أشهر فصاعدا، هل يلحقه الثاني، لأنها صارت فراشه فيلحقه أولادها كالزوجة، أم
لا يلحقه؟ إلا أن يقر بوطئ جديد، لأن هذا الفراش يبطل بالاستبراء، فبالولادة
أولى.
أما لو أتت بالولد الثاني لدون ستة أشهر، فهما حمل واحد، فإذا لحقه
الأول، لحقه الثاني بلا خلاف. وأصل الخلاف أن أم الولد، هل تعود فراشا للسيد
إذا انقطعت علقة الزوج عنها نكاحا وعدة؟ وفيه قولان. أحدهما: تعود حتى لو مات
السيد، أو أعتقها بعد ذلك لزمها الاستبراء. ولو أتت بولد لستة أشهر فصاعدا من
انقطاع علقة الزوج، لحق السيد. والثاني: لا تعود فراشا ما لم يطأها، فلو ولدت
لدون أربع سنين من الطلاق، لحق بالزوج. لكن الأظهر، أن أم الولد تعود فراشا،
والأصح أنه لا يلحقه الولد الثاني إلا أن يقر بوطئ جديد، لأن الولادة أقوى من
الاستبراء.
الرابعة: قال: كنت أطأ وأعزل، لحقه الولد على الأصح، لأن الماء قد
يسبق، ولأن أحكام الوطئ لا يشترط فيها الانزال. وقيل: ينتفي عنه كدعوى
الاستبراء، ولو قال: كنت أطأ في الدبر، لم يلحقه الولد على الصحيح، ولو
416

قال: كنت أصيبها فيما دون الفرج، لم يلحقه على الأصح.
فصل لو اشترى زوجته، فولدت بعد الشراء، فقد سبق في كتاب
اللعان بيان أنه متى يلحقه هذا الولد بالنكاح، ومتى يلحقه بملك اليمين، ومتى لا
يلحقه؟ ولا يحكم بكونها أم ولد إذا احتمل كونه من النكاح فلم يقر بالوطئ بعد
الشراء. وقيل: يلحق إذا أمكن كونه من وطئ ملك اليمين وهو ضعيف، ولو أقر
بالوطئ بعد الشراء، ولحق الولد بملك اليمين، ولكن احتمل كونه من النكاح، ثبتت
أمومة الولد على الأصح، وأجري الوجهان فيما لو زوج أمته وطلقت قبل الدخول،
وأقر السيد بوطئها فولدت لزمن يحتمل كونه منهما، وبالله التوفيق.
417

كتاب الرضاع
الرضاع يؤثر في تحريم النكاح، وثبوت المحرمية المفيدة لجواز النظر والخلوة
418

دون سائر أحكام النسب، كالميراث، والنفقة، والعتق بالملك، وسقوط
القصاص، ورد الشهادة وغيرها، وهذا كله متفق عليه.
ثم في كتاب الرضاع أربعة أبواب:
الأول: في أركانه وشروطه، أما الأركان فثلاثة:
الأول: المرضع، وله ثلاثة شروط،
الأول: كونه امرأة، فلبن البهيمة لا
يتعلق به تحريم، فلو شربه صغيران لم يثبت بينهما أخوة، ولا يحرم لبن الرجل أيضا
على الصحيح، وقال الكرابيسي: يحرم، ولبن الخنثى لا يقتضي أنوثته على
المذهب، فلو ارتضعه صغير، توقف في التحريم، فإن بان أنثى، حرم، وإلا،
فلا.
الشرط الثاني: كونها حية، فلو ارتضع ميتة، أو حلب لبنها، وهي ميتة، لم
يتعلق به تحريم، كما لا تثبت حرمة المصاهرة بوطئ الميتة. ولو حلب لبن حية،
وأوجر الصبي بعد موتها، حرم على الصحيح المنصوص.
الشرط الثالث: كونها محتملة للولادة، فلو ظهر لصغيرة دون تسع سنين لبن،
419

لم يحرم، وإن كانت بنت تسع وإن لم يحكم ببلوغها، لأن احتمال البلوغ قائم،
والرضاع كالنسب فكفى فيه الاحتمال.
فرع سواء كانت المرضعة مزوجة، أم بكرا، أم بخلافهما، وقيل: لا
يحرم لبن البكر، والصحيح الأول، ونص عليه في البويطي.
فرع نص في البويطي أنه إذا نزل لرجل لبن، فارتضعته صبية، كره له
نكاحها.
الركن الثاني: اللبن، ولا يشترط لثبوت التحريم بقاء اللبن على هيئته حالة
انفصاله عن الثدي، فلو تغير بحموضة، أو انعقاد، أو إغلاء أو صار جبنا، أو
أقطا، أو زبدا، أو مخيضا، وأطعم الصبي، حرم لوصول اللبن إلى الجوف، وحصول
التغذية. ولو ثرد فيه طعام ثبت التحريم. ولو عجن به دقيق، وخبز، تعلقت به
الحرمة على الصحيح. ولو خلط بمائع إما دواء، وإما غيره، حلال كالماء ولبن
الشاة، أو حرام كالخمر، نظر إن كان اللبن غالبا تعلقت الحرمة بالمخلوط، فلو
شرب الصبي منه خمس مرات ثبت التحريم، وإن كان اللبن مغلوبا فقولان،
أحدهما: لا يتعلق به تحريم كالنجاسة المستهلكة في الماء الكثير لا أثر لها،
وكالخمر المستهلكة في غيرها لا يتعلق بها حد، وكالمحرم يأكل طعاما استهلك فيه
طيب، لا فدية عليه. وأظهرهما: يتعلق به التحريم لوصول عين اللبن في الجوف،
وذلك هو المعتبر، ولهذا يؤثر كثير اللبن وقليله، وليس كالنجاسة، فإنها تجنيب
للاستقذار، وهو مندفع بالكثرة، ولا كالخمر، فإن الحد منوط بالشدة المزيلة
للعقل، ولا كالمحرم، فإنه ممنوع من التطيب، وليس هذا بتطيب، فعلى هذا إن شرب
جميع المخلوط، تعلق به التحريم، وإن شرب بعضه فوجهان، أحدهما:
يثبت التحريم أيضا إن شربه خمس دفعات، أو شرب منه دفعة بعد أن شرب اللبن
420

الصرف أربعا، وهذا اختيار الصيمري، والقاضي أبي الطيب، وأصحهما، وبه قال
ابن سريج وأبو إسحاق والماوردي -: لا يتعلق به تحريم، لأنا لم نتحقق وصول
اللبن، وهذا الخلاف فيما إذا لم يتحقق وصول اللبن مثل أن وقعت قطرة في جب ماء
وشرب بعضه، فإن تحققنا انتشاره في الخليط، وحصول بعضه في المشروب، أو
كان الباقي من المخلوط أقل من قدر اللبن، ثبت التحريم قطعا، ذكره الامام
وغيره. وهل يشترط أن يكون اللبن قدرا يمكن أن يسقى منه خمس دفعات لو انفرد
عن الخليط؟ وجهان حكاهما السرخسي وقال: أصحهما الاشتراط، هذا هو
المذهب في بيان حكم اختلاط اللبن بالمائعات، وسواء فيه اختلاط اللبن بالماء
وبغيره، وحكى الامام طريقا آخر أنه إن كان الخليط غير الماء، فعلى ما ذكرناه،
وإن كان ماء واللبن مغلوب، فإن امتزج بما دون القلتين، وشرب الصبي كله، ففي
ثبوت التحريم قولان، وإن شرب بعضه، فقولان مرتبان وأولى بأن لا يثبت. وإن
امتزج بقلتين، فصاعدا، فإن لم يثبت التحريم بدون القلتين فهنا أولى، وإن أثبتنا،
وتناول بعضه، لم يؤثر، وإن شربه كله، فقولان مرتبان، وأولى بأن لا يؤثر. وهذه
الطريقة ضعيفة، وفي المراد بمصير اللبن مغلوبا وجهان، أحدهما: خروجه عن
كونه مغذيا، والصحيح الذي قطع به الأكثرون أن الاعتبار بصفات اللبن الطعم
واللون والرائحة، فإن ظهر منها شئ في المخلوط، فاللبن غالب، وإلا فمغلوب.
ونقل أبو الحسن العبادي في الرقم تفريعا على هذا عن الحليمي ما يفهم منه أنه لو
زايلته الأوصاف الثلاثة، اعتبر قدر اللبن بما له لون قوي يستولي على الخليط، فإن
كان ذلك القدر منه يظهر في الخليط ثبت التحريم، وإلا فلا، قال الحليمي: وهذا
شئ استنبطته أنا وكان في قلبي منه شئ، فعرضته على القفال الشاشي وابنه
القاسم، فارتضياه، فسكنت، ثم وجدته لابن سريج، فسكن قلبي إليه كل
السكون، وقد سبق نظير هذا في اختلاط المائع بالماء.
فرع لو وقعت قطرة في فمه، واختلطت بريقه، ثم وصل جوفه،
فطريقان، أحدهما: يعتبر كونه غالبا أو مغلوبا على ما ذكرناه. والثاني: القطع
بالتحريم.
421

إذا اختلط لبن امرأة بلبن أخرى، وغلب أحدهما، فإن علقنا التحريم
بالمغلوب، ثبتت الحرمة منهما، وإلا فيختص بغالبة اللبن.
الركن الثالث: المحل وهو معدة الصبي الحي، أو ما في معنى المعدة، فهذه
ثلاثة قيود:
الأول: المعدة، فالوصول إليها يثبت التحريم، سواء ارتضع الصبي، أو
حلب اللبن، وأوجر في حلقه حتى وصلها، ولو حقن باللبن، أو قطر في إحليله،
فوصل مثانته، أو كان على بطنه جراحة، فصب اللبن فيها حتى وصل الجوف لم
يثبت التحريم على الأظهر. ولو صب في أنفه فوصل دماغه ثبت التحريم على
المذهب، وقيل: فيه القولان، قال البغوي: ولو صب في جراحة في بطنه فوصل
المعدة لخرق الأمعاء، أو وصل الدماغ بالصب في مأمومة ثبت التحريم بلا خلاف.
ولو صب في أذنه، ففي البحر أنه يثبت التحريم، وفي التهذيب لا يثبت، إذ
لا منفذ منها إلى الدماغ، ويشبه أن يكون كالحقنة. وأما الصب في العين، فلا
يؤثر بحال، ولو ارتضع، وتقيأ في الحال، حصل التحريم على الصحيح. وقيل:
لا يحصل.
وقيل: إن تقيأ وقد تغير اللبن، ثبت التحريم وإلا فلا.
القيد الثاني: الصبي والمراد به من لم يبلغ حولين، فمن بلغ سنتين، فلا أثر
لارتضاعه ويعتبر الحولان بالأهلة، فإن انكسر الشهر الأول، اعتبر ثلاثة وعشرون
شهرا بعده بالأهلة ويكمل المنكسر ثلاثين من الشهر الخامس والعشرين، ويحسب
ابتداء الحولين من وقت انفصال الولد بتمامه، وقال الروياني: لو خرج نصف
422

الولد، ثم بعد مدة، خرج باقيه، فابتداء الحولين في الرضاع عند ابتداء خروجه.
وحكى ابن كج فيه وجهين، وحكى وجهين فيما لو ارتضع قبل انفصال جميعه هل
يتعلق به تحريم؟
القيد الثالث: الحي فلا أثر للوصول إلى معدة الميت.
فصل في شرط الرضاع لا تثبت حرمته إلا بخمس رضعات هذا هو
الصحيح المنصوص. وقيل: تثبت برضعة واحدة، وقيل: بثلاث رضعات، وبه
قال ابن المنذر، واختاره جماعة. فعلى المنصوص لو حكم حاكم بالتحريم
برضعة، لم ينقض حكمه على الصحيح، وقال الإصطخري: ينقض. والرجوع
في الرضعة والرضعات إلى العرف، وما تنزل عليه الايمان في ذلك، ومتى تخلل
فصل طويل تعدد. ولو ارتضع، ثم قطع إعراضا، واشتغل بشئ آخر، ثم عاد
وارتضع، فهما رضعتان، ولو قطعت المرضعة، ثم عادت إلى الارضاع، فهما
رضعتان على الأصح، كما لو قطع الصبي، ولا يحصل التعدد بأن يلفظ الثدي،
ثم يعود إلى التقامه في الحال، ولا بأن يتحول من ثدي إلى ثدي، أو تحوله لنفاذ ما
في الأول، ولا بأن يلهو عن الامتصاص والثدي في فمه، ولا بأن يقطع التنفس، ولا
بأن يتخلل النومة الخفيفة، ولا بأن تقوم وتشتغل بشغل خفيف، ثم تعود إلى
الارضاع، فكل ذلك رضعة واحدة.
قلت: قال إبراهيم المروذي: إن نام الصبي في حجرها وهو يرتضع نومة
خفيفة، ثم انتبه ورضع ثانيا، فالجميع رضعة، وإن نام طويلا، ثم انتبه وامتص،
423

فإن كان الثدي في فمه فهي رضعة، وإلا فرضعتان. والله أعلم.
قال الأصحاب: يعتبر ما نحن فيه بمرات الاكل، فإذا حلف لا يأكل في اليوم
إلا مرة واحدة فأكل لقمة، ثم أعرض واشتغل بشغل طويل، ثم عاد وأكل، حنث،
ولو أطال الاكل على المائدة وكان ينتقل من لون إلى لون ويتحدث في خلال الاكل،
ويقوم، ويأتي بالخبز عند نفاذه، لم يحنث، لأن ذلك كله يعد في العرف أكلة
واحدة، ولو ارتضع من ثدي امرأة ثم انتقل في الحال إلى ثدي آخر، ففيه خلاف
سنذكره إن شاء الله تعالى في الفصل الذي يليه.
فرع لا يشترط وصول اللبن في المرات على صفة واحدة، بل لو ارتضع
في بعضها، وأوجر في بعضها، وأسعط في بعضها حتى تم العدد، ثبت التحريم،
وكذا الصب في الجراحة والحقنة إذا جعلناهما مؤثرين.
فرع لو حلب لبن امرأة دفعة، وأوجره الصبي في خمس دفعات، فهل
يحسب رضعة أم خمسا؟ قولان، أظهرهما: رضعة، وقيل: رضعة قطعا. ولو
حلب خمس دفعات، وأوجره دفعة، فالمذهب أنه رضعة، وقيل: على الطريقين.
ولو حلب خمس دفعات، وأوجر في خمس دفعات من غير خلط، فهو خمس
رضعات قطعا. وإن حلب خمس دفعات، وخلط، ثم فرق، وأوجر في خمس
دفعات، فالمذهب أنه خمس رضعات، وبه قطع الجمهور، وقيل على قولين، لأنه
بالخلط صار كالمحلوب دفعة. ولو حلب خمس نسوة في إناء، وأوجره الصبي دفعة
واحدة حسب من كل واحدة رضعة، وإن أوجره في خمس دفعات، حسب من كل
واحدة رضعة، وإن أوجره في خمس دفعات، حسب من كل واحدة رضعة على
الأصح، وقيل: خمس رضعات.
فرع لو شك هل أرضعته خمس رضعات، أم أقل، أو هل وصل اللبن
جوفه أم لا؟ فلا تحريم ولا يخفى الورع. ولو شك هل أرضعته الخمس في
الحولين، أم بعضها، أو كلها بعد الحولين، فلا تحريم على الأظهر أو الأصح،
والتحريم محكي عن الصيمري، لأن الأصل بقاء المدة.
424

فصل إذا كان لبن المرأة لرجل، فسيأتي إن شاء الله تعالى أن المرتضع
يصير ابنا للرجل كما يصير ابنا للمرأة، واختار ابن بنت الشافعي أنه لا يصير،
والصواب الأول. فإذا كان للرجل خمس مستولدات، أو أربع زوجات ومستولدة،
فأرضعت كل واحدة طفلا رضعة لم يصرن أمهاته، وهل يصير الرجل أباه؟ وجهان،
قال الأنماطي وابن سريج وابن الحداد: لا، وأصحهما - وبه قال أبو إسحاق وابن
القاص -: نعم، لأنه لبنه، وهن كالظروف له، فعلى هذا تحرم المرضعات على
الطفل لا بالرضاع، بل لأنهن موطوءات أبيه، ولو كان تحته صغيرة وله خمس
مستولدات، فأرضعتها كل واحدة رضعة بلبنه لم ينفسخ نكاح الصغيرة على الوجه
الأول، وينفسخ على الثاني، وهو الأصح، ولا غرم عليهن، لأنه لا يثبت له دين
على مملوكه، ولو أرضع نسوته الثلاث ومستولدتاه زوجته الصغيرة فانفساخ نكاح
الصغيرة على الوجهين، وأما غرامة مهرها، فإن أرضعن مرتبا، فالانفساخ يتعلق
بإرضاع الأخيرة فإن كانت مستولدة، فلا شئ عليها، وإن كانت زوجة، فعليها
الغرم، وإن أرضعته معا بأن أخذت كل واحدة لبنها في مسعط، وأوجرته معا، فلا
شئ على المستولدتين وعلى النسوة ثلاثة أخماس الغرم، ولا ينفسخ نكاح النسوة
لأنهن لم يصرن أمهات الصغيرة. ولو كان له أربع، فأرضعت إحداهن طفلا
رضعتين، وأرضعته الباقيات رضعة رضعة، أو كان له ثلاث مستولدات، فأرضعت
إحداهن الطفل بلبنه ثلاث رضعات، والباقيتان رضعة رضعة، جرى الخلاف في
مصيره أبا ولا يصرن أمهات، وعلى هذا قياس سائر نظائرها. ولو كان لرجل أو امرأة
خمس بنات أو أخوات، فأرضعت كل واحدة طفلا رضعة، لم يصرن أمهاته، ولا
أزواجهن آباءه، وكذا لا تثبت الحرمة بين الرضيع والرجل على المذهب، وقيل:
بطرد الوجهين، فإن أثبتنا الحرمة، قال البغوي: تحرم المرضعات على الرضيع لا
لكونهن أمهات، بل لكون البنات أخواته وكون الأخوات عماته، ولك أن تقول إنما
يصح كون البنات أخواته والأخوات عماته لو كان الرجل أبا، والحرمة هنا إذا ثبتت
إنما هي لكونه جدا لام أو خالا، وفيه وضع بعضهم الخلاف، فقال: في مصيره
جدا لام أو خالا وجهان، فينبغي أن يقال: يحرمن لكونهن كالخالات، وذلك لان
بنت الجد للام إذا لم تكن أما، كانت خالة، وكذلك أخت الخال. ولو كان لرجل
أم وبنت وأخت وبنت أخ لأب، وبنت أخت لأب، فارتضع طفل من كل واحدة
425

رضعة، فإن قلنا: لا يثبت التحريم في الصورة الثانية، فهنا أولى، وإلا فالأصح
أيضا أن لا تحريم لأن هناك يمكن نسبة الرضيع إليه بكونه ابن ابن، ونسبته إلى
الرضيع بكونه جدا، وهنا لا يمكن لاختلاف الجهات، ولا يجوز أن يكون بعضه أخا
وبعضه ولد بنت، وعن ابن القاص: إثبات الحرمة، فعلى هذا تحرم المرضعات
على الرضيع لا بالأمومة بل بجهات، فأم الرجل كأنها زوجة أبيه، لأن لبنها من أبي
الرجل، والرضيع كولده، وبنت الرجل بنت ابن أبيه، فتكون بنت أخيه، وأخت
الرجل بنت أبيه، فتكون أخته، وبنت أخي الرجل بنت ابن أبيه، فتكون بنت
أخيه، وبنت أخت الرجل بنت أخته أيضا.
ولو كان بدل إحدى هؤلاء المرضعات زوجة أو جدة كان الحكم كما ذكرنا.
ولو أرضعت كل واحدة من هؤلاء زوجة الرجل رضعة، فانفساخ نكاحه على
الوجهين، فإن قلنا: ينفسخ، فإن أرضعن مرتبا، غرمت الأخيرة للزوج، وإن
أرضعن معا، اشتركن فيه، فإن اختلف عدد الرضعات بأن كن ثلاثا فأرضعت واحدة
رضعتين، وأخرى كذلك، والثالثة رضعة، فهل يغرمن أثلاثا على عدد الرؤوس،
أم أخماسا على عدد الرضعات؟ وجهان، وجميع ما ذكرناه هو فيما إذا أرضعت
النسوة الخمس في أوقات متفاصلة، فإن أرضعن متواليا، وحكمنا بالحرمة في
المتفاصل فهنا وجهان، قال ابن القاص: لا يثبت، لأنهن كالمرأة الواحدة بالنسبة
إلى الرجل وإرضاع المرأة إنما يحرم إذا تفرقت أوقاته، وأصحهما: التحريم لتعدد
المرضعات، فعلى الأول لو أرضعن متواليا، ثم أرضعته إحداهن أربع رضعات،
صارت أما له على الأصح، لأنه ارتضع منها خمسا متفاصلة، وقيل: لا، لأن تلك
الرضعة لم تكن تامة، ويجري هذا الخلاف في انتقال الرضيع من ثدي امرأة إلى
ثدي أخرى، فعلى وجه لا يحسب لواحدة منهما رضعة، وعلى الأصح: يحسب
لكل واحدة رضعة، لأن الاشتغال بالارتضاع من الأخرى قطع الارتضاع من الأولى،
فصار كالاشتغال بشئ آخر، ويقرب منه خلاف فيما لو ارتضع في الحولين أربع
رضعات، وتم الحولان في خلال الرضعة الخامسة، ففي وجه لا يثبت التحريم،
لأنها لم تتم في الحولين، والأصح: ثبوته لأن ما يصل إلى الجوف في كل رضعة
426

غير مقدر، وذكر ابن كج أنه لو كان يرتضع الرضعة الخامسة، فمات: أو ماتت
المرضعة قبل أن يتمها، وجهين في ثبوت التحريم كالوجهين فيما لو قطعت
المرضعة.
فرع لزيد ابن وابن ابن وأب وجد وأخ ارتضعت صغيرة من زوجة كل واحد
منهم رضعة، فلا تحرم على زيد على الأصح، وحرمها ابن القاص على زيد، فعلى
هذا تحرم على أبيه دون الابن وابن الابن، لأنها بارتضاع لبن أخي زيد تكون بنت
عم لابن، وبنت العم لا تحرم، ومتى كان في الخمسة من لا يقتضي لبنه تحريما،
فلا تحريم.
خمسة إخوة ارتضعت صغيرة من لبن زوجة كل واحد رضعة، ففي تحريم
الصغيرة على الإخوة الوجهان، الأصح: المنع. امرأة لها بنت ابن، وبنت ابن
ابن، وبنت ابن ابن ابن، أرضعت العليا طفلا ثلاث رضعات، والأخريان رضعة
رضعة، ففي مصير المرأة جدة للرضيع الوجهان، فإن قلنا: نعم، ففي تحريم
المرضعات على الطفل وجهان، أحدهما: لا لعدم العدد، والثاني: أن الرضعات
من الجهات تجمع، إن كانت كل واحدة منها بحيث لو تم العدد منها ثبت التحريم،
فعلى هذا ينظر إن كانت الوسطى بنت أخي العليا، والسفلى بنت أخي الوسطى،
حرمت العليا عليه، لأن إرضاعها لو تم لكان الطفل ابنها، وإرضاع الوسطى لو تم،
لكان الرضيع ابن بنت أخي العليا، وإرضاع السفلى لو تم لكان للعليا ابن بنت ابن
أخ. وهذه الجهات محرمة فتجمع ما فيها من عدد الرضعات. وإن كانت الوسطى
بنت ابن عم العليا، والسفلى بنت ابن ابن عمها، لم تحرم العليا، لأن إرضاع
الوسطى لو تم، لكان الرضيع للعليا ابن بنت ابن عم، وإرضاع السفلى لو تم،
لكان لها ابن بنت ابن ابن العم، وذلك لا يقتضي التحريم، وأما الوسطى
والسفلى، فلا تحرمان عليه بحال، لأن إرضاع العليا لو تم، لكان للوسطى ابن
العمة، وللسفلى ابن عمة الأب. ولو أرضعته إحداهن خمس رضعات، حرمت هي
عليه، وحرمت التي فوقها إذا كانت المرضعة بنت أخي التي فوقها، لأنها تكون عمة
أمه.
فرع له زوجتان حلبت كل واحدة من لبنها دفعة، ثم خلطا، وشربه طفل
دفعة، ثبت لكل واحدة رضعة، ولو شربه مرتين، فهل يحسب لكل واحدة رضعتان
427

اعتبارا بوصول اللبن، أم رضعة اعتبارا بالحلب؟ وجهان، وهو كما سبق فيما لو
حلب لبن نسوة، وخلط، وشربه الطفل دفعة أو دفعات. وأما بين الرضيع والزوج،
فإن لم نجمع في حق الزوج رضعات زوجاته، ثبت له رضعة واحدة، وإن جمعنا
ونظرنا إلى الحلب، ثبت له رضعتان، وإن نظرنا إلى وصول اللبن ثبت أربع
رضعات.
فرع كان له أربع نسوة وأمة موطوءات، أرضعت كل واحدة طفلة بلبن غيره
رضعة، قال ابن القاص تفريعا على ثبوت الأبوة: لو أرضعته بلبنه تحرم الطفلة
عليه، لأنها ربيبته، وإن كان فيهن من لم يدخل بها، لم تحرم عليه، لما سبق أنه
متى كان فيهن من لو انفردت بالرضعات الخمس، لم تثبت الحرمة، لا يثبت
التحريم.
الباب الثاني فيمن يحرم بالرضاع
تحريم الرضاع يتعلق بالمرضعة، والفحل الذي له اللبن، والطفل الرضيع،
فهم الأصول في الباب، ثم تنتشر الحرمة منهم إلى غيرهم.
أما المرضعة فتنتشر الحرمة منها إلى آبائها من النسب والرضاع، فهم أجداد
الرضيع، فإن كان الرضيع أنثى، حرم عليهم نكاحها. وإلى أمهاتها من النسب
والرضاع، فهن جدات للرضيع، فيحرم عليه نكاحهن إن كان ذكرا، وإلى أولادها
من النسب والرضاع، فهم إخوته وأخواته، وإلى إخوتها وأخواتها من النسب
والرضاع، فهم أخواله وخالاته، ويكون أولاد أولادها أولاد إخوة وأولاد أخوات
للرضيع، ولا تثبت الحرمة بين الرضيع، وأولاد إخوة المرضعة، وأولاد أخواتها،
لأنهم أولاد أخواله وخالاته.
وأما الفحل، فكذلك تنتشر الحرمة منه إلى آبائه وأمهاته، فهم أجداد الرضيع
وجداته، وإلى أولاده، فهم إخوة الرضيع وأخواته، وإلى إخوته وأخواته، فهم
أعمام الرضيع وعماته.
وأما المرتضع فتنتشر الحرمة منه إلى أولاده من الرضاع، أو النسب، فهم
أحفاد المرضعة أو الفحل، ولا تنتشر إلى آبائه وأمهاته وإخوته وأخواته، فيجوز لأبيه
وأخيه أن ينكحا المرضعة وبناتها وقد سبق في النكاح أن أربع نسوة يحرمن من النسب
428

ومثلهن قد لا يحرمن من الرضاع، وجعلت تلك الصور مستثناة من قولنا: يحرم من
الرضاع ما يحرم من النسب وقد يقال: الحرمة في تلك الصور من جهة المصاهرة،
لا من جهة النسب.
فرع إنما تثبت الحرمة بين الرضيع والفحل إذا كان منسوبا إلى الفحل بأن
ينتسب إليه الولد الذي نزل عليه اللبن، أما اللبن النازل على ولد الزنا، فلا حرمة
له، فلا يحرم على الزاني أن ينكح الصغيرة المرتضعة من ذلك اللبن، لكنه يكره وقد
حكينا في النكاح وجها أنه لا يجوز له نكاح بنت زناه التي تعلم أنها من مائه،
فيشبه أن يجئ ذلك الوجه هنا، ولو نفى الزوج ولدا باللعان، وارتضعت صغيرة
بلبنه، لم تثبت الحرمة. ولو أرضعت به ثم لاعن، انتفى الرضيع عنه، كما ينتفي
الولد. فلو استلحق الولد بعد ذلك، لحق الرضيع، ولم يذكروا هنا الوجهين
المذكورين في نكاحه التي نفاها باللعان، ولا يبعد أن يسوى بينهما. ولو كان
الولد من وطئ شبهة، فاللبن النازل عليه ينسب إلى الواطئ، كما ينسب إليه
الولد،
هذا هو المشهور، وفي قول: لا تثبت الحرمة من جهة الفحل بلبن وطئ الشبهة لأنه
لا ضرورة إلى إثبات حرمة الرضاع بخلاف النسب.
فرع إذا وطئت منكوحة بشبهة، أو وطئ رجلان امرأة بشبهة، أو نكح
رجل امرأة في العدة جاهلا، وأتت بولد، وأرضعت باللبن النازل عليه طفلا، فهو
تبع للولد، فإن لحق الولد أحدهما لانحصار الامكان فيه، فالرضيع ولده من
429

الرضاع، وإن لم يلحق واحدا منهما لامتناع الامكان، فالرضيع مقطوع عنهما، وإن
تحقق الامكان فيهما، عرض الولد على القائف، فبأيهما ألحقه، تبعه الرضيع،
فإن لم يكن قائف، أو نفاه عنهما، أو أشكل، توقفنا حتى يبلغ المولود، فينتسب
إلى أحدهما، فإن بلغ مجنونا، صبرنا حتى يفيق، فإذا انتسب، تبعه الرضيع، فإن
مات قبل الانتساب وكان له ولد قام مقامه في الانتساب، فإن كان له أولاد فانتسب
بعضهم إلى هذا، وبعضهم إلى هذا، استمر الاشكال، فإن لم يكن له ولد، وبقي
الاشتباه، ففي الرضيع قولان، أحدهما: أنه ابنهما جميعا، ويجوز أن يكون لواحد
آباء من الرضاع بخلاف النسب، وأظهرهما: لا يكون ابنهما، لأنه تابع للولد فعلى
الأول هل يكفي خمس رضعات، أم يحتاج إلى عشر؟ وجهان خرجهما الداركي،
وذكر في البسيط أن معنى هذا القول على ضعفه إثبات أبوتهما ظاهرا دون
الباطن، وهذا خلاف ما قاله الأصحاب، وإن كان القول ضعيفا بالاتفاق. وإذا
قلنا بالأظهر، فهل للرضيع أن ينتسب بنفسه؟ قولان نص عليهما في الام
أحدهما: لا كما لا يعرض على القائف، وأظهرهما: نعم كما للمولود. والرضاع
يؤثر في الأخلاق بخلاف العرض على القائف، فإن معظم اعتماده على الأشباه
الظاهرة دون الأخلاق مع أن ابن كج نقل عن ابن القطان والقاضي أبي حامد وجهين
في العرض على القائف وهو غريب، فإن قلنا: له الانتساب، فهل يجبر عليه كما
يجبر المولود؟ وجهان، وقيل: قولان، أصحهما: لا، والفرق أن النسب تتعلق به
حقوق له وعليه، كالميراث والعتق والشهادة وغيرها، فلا بد من رفع الاشكال،
والذي يتعلق بالرضاع حرمة النكاح والامتناع منه سهل. وإذا انتسب إلى أحدهما،
كان ابنه، وانقطع عن الآخر، فله نكاح بنته، ولا يخفى الورع، وإن لم ينتسب، أو قلنا: ليس له الانتساب، فليس له أن ينكح بنتيهما جميعا، لأن إحداهما أخته،
وفي الحاوي وجه أنه يجوز، ويحكم بانقطاع الأبوة عنهما، وهذا غلط. وهل
له أن ينكح بنت أحدهما؟ وجهان، أصحهما: لا لأن إحداهما أخته، فأشبه ما إذا
430

اختلطت أخته بأجنبية. والثاني: يجوز وهو ظاهر ما نقله المزني، لأن الأصل الحل
في كل واحدة، فصار كما لو اشتبه ماء طاهر بنجس بخلاف الأخت والأجنبية، فإن
الأصل في الأخت التحريم، فصار كاشتباه الماء بالبول، فإنه يعرض عنهما، فإن
جوزنا نكاح إحداهما فالصحيح الذي قطع به الجمهور أنه لا يحتاج إلى اجتهاد
بخلاف الأواني المشتبهة، فإن فيها علامات ظاهرة، وذكر الفوراني أنه يجتهد في
الرجلين أيهما الأب، ثم ينكح بنت من لا يراه أبا، وإذا نكح واحدة، ثم فارقها،
فهل له نكاح الأخرى؟ وجهان، قال أبو إسحاق: نعم، لأن التحريم غير متعين،
فصار كمن صلى بالاجتهاد إلى جهة يجوز أن يصلي إلى جهة أخرى باجتهاد آخر.
وقال ابن أبي هريرة: لا يجوز، واختاره القاضي أبو الطيب كالأواني.
فصل طلق زوجته، أو مات عنها، ولها لبن منه، فأرضعت به طفلا قبل
أن تنكح، فالرضيع ابن المطلق والميت، ولا تنقطع نسبة اللبن بموته وطلاقه، سواء
ارتضع في العدة أو بعدها، وسواء قصرت المدة أم طالت كعشر سنين وأكثر، وسواء
انقطع اللبن ثم عاد، أم لم ينقطع لأنه لم يحدث ما يحال اللبن عليه، فهو على
استمراره منسوب إليه، وقيل: إن انقطع وعاد بعد مضي أربع سنين من وقت الطلاق
لم يكن منسوبا إليه كما لو أتت بولد بعد هذه المدة لا يلحقه، هكذا خصص البغوي
هذا الوجه بما إذا انقطع وعاد، ومنهم من يشعر كلامه بطرده في صورة استمرار
اللبن، وكيف كان، فالصحيح ما سبق. فلو نكحت بعد العدة زوجا، وولدت
منه، فاللبن بعد الولادة للثاني، سواء انقطع وعاد، أم لم ينقطع لأن اللبن تبع
للولد، والولد للثاني. وأما قبل الولادة من الزوج الثاني، فإن لم يصبها أو أصابها
ولم تحبل، أو حبلت ولم يدخل وقت حدوث اللبن لهذا الحمل، فاللبن للأول،
سواء زاد على ما كان أم لا، وسواء انقطع، ثم عاد أم لا، ويقال: أقل مدة يحدث
فيها اللبن للحمل أربعون يوما. وإن دخل وقت حدوث اللبن للحمل، فإما أن
431

ينقطع اللبن مدة طويلة، وإما أن لا يكون كذلك بأن لم ينقطع، أو انقطع مدة
يسيرة، ففي الحالة الأولى ثلاثة أقوال، أظهرها: أنه لبن الأول، والثاني: أنه
للثاني، والثالث: لهما. وفي الحالة الثانية ثلاثة أقوال أيضا، المشهور أنه للأول،
والثاني لهما، والثالث إن زاد اللبن فلهما، وإلا فللأول. ولو نزل للبكر لبن،
فنكحت، ولها لبن ثم حبلت من الزوج، فحيث قلنا فيما سبق: إن اللبن للثاني أو
لهما، فهنا يكون للزوج، وحيث قلنا: هو للأول، فهو هنا للمرأة وحدها ولا أب
للرضيع. ولو حبلت امرأة من الزنا وهي ذات لبن من زوج، فحيث قلنا هناك: اللبن
للأول، أولهما فهو للزوج. وحيث قلنا: هو للثاني، فلا أب للرضيع. ولو نكحت
امرأة لا لبن لها، فحبلت ونزل لها لبن، قال المتولي في ثبوت الحرمة بين الرضيع
والزوج وجهان بناء على الخلاف، إن جعلنا اللبن للأول لم يجعل الحمل مؤثرا ولا
تثبت الحرمة حتى ينفصل الولد، وإن جعلناه للثاني أولهما، ثبتت.
الباب الثالث في الرضاع القاطع للنكاح وحكم الغرم
فيه طرفان:
الأول: في الغرم عند انقطاع النكاح. الرضاع الطارئ قد يقطع النكاح وإن
لم يقتض حرمة مؤبدة، وستأتي أمثلته إن شاء الله تعالى، وقد يقطعه لاقتضائه حرمة
مؤبدة، فكل امرأة يحرم عليه أن ينكح بنتها إذا أرضعت تلك المرأة زوجته الصغيرة
خمس رضعات، ثبتت الحرمة المؤبدة، وانقطع النكاح. فإذا كان تحته صغيرة،
فأرضعتها أمه من النسب أو الرضاع، أو جدته أو بنته أو حافدته منهما، أو زوجة
أبيه، أو ابنه، أو أخيه بلبانهم خمس رضعات، انفسخ النكاح. فإن كان اللبن من
غير الأب والابن والأخ لم يؤثر، لأن غايته أن تصير ربيبة أبيه أو ابنه أو أخيه، وليست
بحرام. ولو أرضعتها زوجة أخرى له بلبنه، انفسخ النكاح، وثبتت الحرمة
المؤبدة، لأنها بنته، وإن كان اللبن لغيره فسنذكره إن شاء الله تعالى، ثم الصغيرة
التي ينفسخ نكاحها بالرضاع تستحق نصف المسمى إن كان صحيحا، أو نصف مهر
المثل إن كان فاسدا إلا أن يكون الانفساخ من جهتها بأن دبت، فرضعت من نائمة،
432

فإنه لا شئ لها على المذهب، كما سنذكره إن شاء الله تعالى، ويجب على
المرضعة الغرم للزوج، سواء قصدت بالارضاع فسخ النكاح أم لا، وسواء وجب
عليها الارضاع بأن لا يكون هناك مرضعة غيرها أم لا، لأن غرامة الاتلاف لا تختلف
بهذه الأسباب، وفيما إذا لزمها الارضاع احتمال للشيخ أبي حامد، ثم نص هنا أن
على المرضعة نصف مهر المثل، ونص أن شهود الطلاق قبل الدخول إذا رجعوا
يلزمهم جميع مهر المثل، فقيل: فيهما قولان نقلا وتخريجا، وقيل: بتقرير
النصين، لأن فرقة الرضاع حقيقية، فلا توجب إلا النصف. وفي الشهادة النكاح باق
في الحقيقة بزعم الزوج والشهود، لكنهما حالا بينه وبين البضع، فغرما قيمته،
كالغاصب الحائل بين المالك والمغصوب. فإن قلنا بالقولين، فهل هما في كل
المسمى ونصفه، أم في مهر المثل ونصفه؟ قولان، فحصل في الرضاع أربعة
أقوال، أظهرها عند الجمهور: نصف مهر المثل. والثاني: جميعه، والثالث:
نصف المسمى، والرابع جميعه.
فرع نكح العبد صغيرة، فأرضعتها إسحاق، وانفسخ النكاح، فللصغيرة
نصف المسمى في كسبه، ولسيده الرجوع على أم العبد بالغرم، لأنه بدل البضع،
فكان للسيد كعوض الخلع.
فرع صغيرة مفوضة أرضعتها أم الزوج، فلها على الزوج المتعة، قال ابن
الحداد: ويرجع الزوج على المرضعة بالمتعة، قال الأصحاب: هذا تفريع على
القول الذاهب لأنه يرجع بنصف المسمى والأظهر: أنه يرجع بنصف مهر المثل هناك
وكذا هنا، والصورة إذا كانت الصغيرة أمة، فزوجها السيد بلا مهر، لأن الصغيرة
الحرة لا يتصور في حقها التفويض.
فرع حلب أجنبي لبن أم الزوج، أو كان محلوبا، فأخذه، وأوجره
الصغيرة فالغرم على الأجنبي، وفي قدره الأقوال الأربعة. ولو أوجرها خمسة
أنفس، فعلى كل واحد خمس الغرم، ولو أوجرها واحد مرة، وآخران مرتين
مرتين، فهل يوزع عليهم أثلاثا أم على عدد الرضعات؟ وجهان، أصحهما
433

الثاني.
فرع أكرهت على الارضاع، فهل الغرم عليها، أم على المكره؟
وجهان، أصحهما: عليها، قاله الروياني.
فرع تحته صغيرة وكبيرة، فأرضعت أم الكبيرة الصغيرة انفسخ نكاح
الصغيرة قطعا والكبيرة أيضا على الأظهر. ولو أرضعتها جدة الكبيرة أو أختها أو بنت
أختها فكذلك. ويجوز في الصور أن ينكح واحدة منهما بعد ذلك ولا يجمعهما.
ولو أرضعتها بنت الكبيرة، فحكم الانفساخ كما ذكرنا، وتحرم الكبيرة على التأبيد
وكذا الصغيرة إن كانت الكبيرة مدخولا بها لكونها ربيبته، وحكم مهر الصغيرة على
الزوج، والغرم على المرضعة كما سبق، وكذا القول في الكبيرة إذا قلنا بانفساخ
نكاحها ولم تكن ممسوسة، فإن كانت، فعلى الزوج مهرها المسمى، وهل تغرم
المرضعة له؟ قولان، أحدهما: لا، لأن البضع بعد الدخول لا يتقوم للزوج،
ولهذا لو انفسخ النكاح بردتها بعد المسيس لا غرم عليها، وأظهرهما: تغرم له مهر
المثل، كما لو شهدوا بالطلاق بعد الدخول، ثم رجعوا يغرمون مهر المثل. وكما لو
ادعى الزوج أنه راجعها قبل انقضاء العدة، فأنكرت، وصدقناها بيمينها، فنكحت
ثم أقرت بالرجعة للأول لا يقبل إقرارها على الثاني، وتغرم للأول مهر مثلها، لأنها
أتلفت بضعها عليه.
فرع إنما يجب الغرم في الصور السابقة على أم الزوج ومن في معناها إذا
أرضعت أو مكنت الصغيرة من الارتضاع، ولا يؤثر مع إرضاعها ارتضاع الصغيرة،
فلا يحال الانفساخ عليه، فلو كانت ذات اللبن نائمة، فدبت إليها الصغيرة،
434

فارتضعت، وانفسخ النكاح، أحلنا الانفساخ على فعل الصغيرة، فلا غرم على
صاحبة اللبن، لأنها لا فعل لها. وقال الداركي: عليها الغرم، والصحيح الأول،
ولا مهر للصغيرة على الأصح، وقيل: لها نصف المسمى ولا أثر لفعلها، فعلى
الأصح يرجع الزوج في مالها حيث ينفسخ نكاح الكبيرة، بنسبة ما يغرم لها من مهر مثلها،
لأنها أتلفت عليه بضع الكبيرة، ولا فرق في غرامة المتلفات بين الكبيرة
والصغيرة. ولو وصلت قطرة بتطيير الريح إلى جوف الصغيرة، فلها نصف المهر ولا
غرم على صاحبة اللبن، ويجئ فيه وجه الداركي، ولو ارتضعت منها وهي مستيقظة
ساكتة، فهل يحال الرضاع على الكبيرة لرضاها به أم لا لعدم فعلها كالنائمة؟ وجهان
حكاهما ابن كج.
قلت: الأصح: الثاني. والله أعلم.
ولو ارتضعت الصغيرة من أم الزوج رضعتين وهي نائمة، ثم أرضعتها الام
ثلاث رضعات ففيه الوجهان السابقان في أن الغرم يوزع على المرضعات، أو على
الرضعات، إن قلنا بالأول، سقط من نصف المسمى نصفه، ويجب على الزوج
نصفه وهو الربع، وإن قلنا بالثاني، سقط من نصف المسمى خمساه، ويلزم الزوج
ثلاثة أخماسه، هكذا قاله صاحبا المهذب والتهذيب وهذا تفريع على الأظهر
من الأقوال السابقة في أن الرجوع بنصف مهر المثل ولو أرضعتها الام أربع رضعات،
ثم ارتضعت الصغيرة منها وهي نائمة المرة الخامسة، قال المتولي: في نظيره
لأصحابنا وجهان، وهو إذا طلقها ثلاثا متعاقبات هل يتعلق التحريم بالثالثة وحدها،
أم بالثلاث؟ إن علقنا بالثالثة يحال التحريم على الرضعة الأخيرة، وتكون كما لو
ارتضعت الخمس وصاحبة اللبن نائمة، ولا غرم على الكبيرة، ويسقط مهر
الصغيرة. وإن علقنا بالثلاث، تعلق التحريم هنا بالرضعات، وعلى هذا فقياس
التوزيع على الرضعات أن يسقط من نصف المهر خمسه، ويجب على الزوج أربعة
أخماسه، ويرجع على المرضعة بأربعة أخماس مهر المثل تفريعا على الأظهر.
435

الطرف الثاني في المصاهرة المتعلقة بالرضاع:
فمن نكح صغيرة، أو كبيرة، حرمت عليه مرضعتها، لأنها أم زوجته من
الرضاع.
ولو نكح صغيرة ثم طلقها، فأرضعتها امرأة، حرمت المرضعة على المطلق،
لأنها صارت أم من كانت زوجته ولا نظر إلى التاريخ في ذلك.
ولو كانت تحته كبيرة فطلقها، فنكحت صغيرا وأرضعته بلبن المطلق، حرمت
على المطلق أبدا كما تحرم على الصغير، لأنها زوجة أبيه. ولو نكحت صغيرا
ففسخت نكاحه بغيبة، ثم نكحت آخر، فأرضعت الأول بلبن الثاني، انفسخ
نكاحها، وحرمت عليهما أبدا، لأن الأول صار ابنا للثاني، فهي زوجة ابن الثاني،
وزوجة أبي الأول. ولو جاءت زوجة أخرى للثاني، وأرضعت الأول بلبن الثاني،
انفسخ نكاح التي كانت زوجة الصغير. ولو زوج مستولدته بعبده الصغير، فأرضعته
بلبن السيد، حرمت على السيد والصغير معا أبدا، وحكى ابن الحداد أن المزني
نقل عن الشافعي أنها لا تحرم على السيد، وأن المزني أنكره على الشافعي، وعلى
ذلك جرى ابن الحداد والأصحاب فجعلوا نقل المزني غلطا، قال الشيخ أبو علي:
لكن يمكن تخريج ما نقل على قول في العبد الصغير أنه لا يجوز إجباره على
النكاح، أو على قول في أن أم الولد لا يجوز تزويجها بحال، أو على وجه ذكر أنه لا
يجوز للسيد تزويج أمته بعبده بحال، فإنا إذا لم نصحح النكاح على أحد هذه الآراء
لم تكن زوجة الابن، فلا تحرم على السيد. ولو أرضعته بلبن غير السيد، انفسخ
نكاحه، لأنها أمة، ولا تحرم على السيد، لأنه لم يصر ابنا له، وكذا لو أرضعت
المطلقة الصغير الذي نكحته بغير لبن الزوج، انفسخ النكاح، ولا تحرم هي على
المطلق. ولو كان تحته صغيرة، فأرضعتها أمة له قد وطئها بلبن غيره، بطل نكاح
الصغيرة، وحرمتا أبدا. ولو كان تحت زيد كبيرة، وتحت عمرو صغيرة، فطلق كل
واحد زوجته ونكح زوجة الآخر، ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة واللبن لغيرهما،
حرمت الكبيرة عليهما أبدا، لأنها أم زوجتهما، فإن كانا دخلا بالكبيرة، حرمت
الصغيرة عليهما أبدا وإلا، فلا تحرم عليهما، ولا ينفسخ نكاحها، وكذا لو لم يدخل
زيد بها حين كانت في نكاحه لا تحرم عليه الصغيرة، ولا ينفسخ نكاحها، وإذا
انفسخ نكاحها، فعلى زوجها نصف المسمى، ويرجع بالغرم على الكبيرة، ولا
436

يجب للكبيرة شئ على زوجها إن لم يدخل بها، لأن الانفساخ منها. ولو كان تحت
زيد كبيرة وصغيرة، فطلقهما، فنكحهما عمرو، ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة فحكم
تحريمهما عليهما على ما فصلنا، وينفسخ نكاحهما وإن لم يدخل عمرو بالكبيرة
لاجتماع الام والبنت في نكاحه.
فصل تحته صغيرة وكبيرة أرضعتها الكبيرة، انفسخ نكاحهما، وحرمت
الكبيرة مؤبدا، وكذا الصغيرة إن كانت الكبيرة أرضعتها بلبنه، أو كانت مدخولا بها
وإلا فلا، لأنها ربيبة لم يدخل بأمها، وعلى الزوج للصغيرة نصف المسمى، وفيما
يرجع به على الكبيرة الأقوال الأربعة، ولا مهر للكبيرة إن لم يكن مدخولا بها، فإن
كانت فلها المهر، قال الأصحاب: ولا نقول: يرجع عليها بمهرها، لكونها أتلفت
عليه بضعها، لأنه يؤدي إلى إخلاء نكاحها عن المهر. فلو كانت الكبيرة نائمة،
فارتضعت منها الصغيرة، فلا مهر للصغيرة، وللكبيرة نصف المسمى إن لم يدخل
بها، وجميعه إن دخل، ويرجع بالغرم في مال الصغيرة كما سبق.
ولو أرضعتها الكبيرة أربع رضعات، ثم ارتضعت الصغيرة منها الخامسة وهي
نائمة قال المتولي: إن قلنا التحريم يتعلق بالرضعات ولم نحله على الرضعة
الخامسة، سقط خمس مهر الصغيرة بفعلها، ونصفه بالفرقة قبل الدخول، ويجب
على الزوج خمس ونصف، ويرجع على الكبيرة بثلاثة أعشار مهر المثل على الأظهر
، وفي قول بأربعة أخماسه، وأما الكبيرة، فيسقط أربعة أخماس مهرها
بفعلها، والباقي بالفرقة قبل الدخول، لأن مقتضاها سقوط النصف والباقي دون
النصف فيسقط، وقياس ما قدمناه عن المهذب والتهذيب أن يقال: يسقط
الخمس من نصف مهر الصغيرة، ويجب أربعة أخماسه وهما خمسا الجملة،
ويسقط أربعة أخماس نصف مهر الكبيرة ويجب خمسه. ولو كانت الكبيرة أمة
نكحها، تعلق الغرم برقبتها، وإن أرضعت الصغيرة أمته، أو أم ولده، فلا غرم
عليها للزوج، لأن السيد لا يستحق على مملوكه مالا. ولو كانت أمته، أو أم ولده،
فأرضعت الصغيرة، فعليها الغرم له، فإن عجزها سقطت المطالبة بالغرم. ولو كانت
437

مستولداته الخمس فأرضعن زوجته الصغيرة رضعة رضعة، صارت بنتا له على
الأصح، فينفسخ النكاح، ويرجع عليهن بالغرم إن أرضعن، وإلا فجميع الغرم على
الخامسة، ويمكن أن يجئ فيه خلاف في حوالة التحريم على الرضعات، فتكون
كما لو أرضعن معا.
فرع تحته كبيرة وثلاث صغائر، فأرضعتهن بلبنه أو بغيره، وهي مدخول
بها، حرم الأربع مؤبدا، سواء أرضعتهن معا أو متعاقبا، وعليه المسمى للكبيرة،
ونصف المسمى لكل صغيرة، وعلى الكبيرة الغرم. فإن لم يكن مدخولا بها، وليس
اللبن له، نظر إن أرضعتهن معا الرضعة الخامسة من لبنها المحلوب، أو ألقمت
ثنتين ثديها، وأوجرت الثالثة من لبنها المحلوب انفسخ نكاح جميعهن، وحرمت
الكبيرة مؤبدا، ولا تحرم الصغائر مؤبدا، بل له تجديد نكاح إحداهن، ولا يجمع
ثنتين، لأنهن أخوات. وإن أرضعتهن مرتبا، حرمت الكبيرة مؤبدا ولا تحرم الصغائر
مؤبدا، ثم للترتيب أحوال، أحدها: أن ترضع ثنتين معا، ثم الثالثة، فينفسخ نكاح
الأوليين، ولا ينفسخ نكاح الثالثة لانفرادها ووقوع إرضاعها بعد اندفاع نكاح أمها
وأختها.
الحال الثاني: أن ترضع واحدة أولا، ثم ثنتين، فينفسخ نكاح الأربع، أما
الأولى والكبيرة فلاجتماع الام والبنت، وأما الاخريان، فلأنهما صارتا أختين.
الثالث: أن ترضعهن متعاقبا، فينفسخ نكاح الأولى مع الكبيرة لما ذكرنا، ولا
تنفسخ الثانية بمجرد ارتضاعها، لأنها ليست محرمة، ولم تجتمع هي وأم ولا
أخت، فإذا ارتضعت الثالثة، انفسخ نكاحها، لأنها صارت أختا للثانية التي هي في
نكاحه، وهل ينفسخ معها نكاح الثانية، أم يختص الانفساخ بالثالثة؟ قولان،
وينسب الثاني إلى الجديد، ورجحه الشيخ أبو حامد، والأول إلى القديم، وهو
الأظهر عند أكثر الأصحاب وبه قال أبو حنيفة وأحمد، واختاره المزني، فعلى هذا
المسألة من المسائل التي رجح فيها القديم. ولو كان تحته كبيرة وصغيرة، فأرضعت
أم الكبيرة الصغيرة، فقيل: ينفسخ نكاحهما قطعا، والأصح انفساخ الصغيرة، وأن
الكبيرة على القولين، وبه قال القاضي أبو الطيب. ولو كانت تحته صغيرتان
أرضعتهما أجنبية، نظر إن أرضعتهما معا انفسخ نكاحهما، لأنهما صارتا أختين
معا، وحرمت الأجنبية مؤبدا، لأنها أم زوجتيه، وله نكاح إحدى الصغيرتين. وإن
438

أرضعتهما متعاقبا، لم تنفسخ الأولى بإرضاعها، فإذا أرضعت الثانية، انفسخت
قطعا، وفي انفساخ الأولى القولان، الأظهر الانفساخ.
فرع تحته صغيرة وثلاث كبائر، أرضعتها كل كبيرة خمسا، انفسخ نكاح
الجميع، لأن الكبائر أمهات زوجته، والصغيرة بنت زوجاته، وحرمت الكبائر
مؤبدا، وكذا الصغيرة إن كان دخل بكبيرة، وإلا فله نكاحها.
فرع تحته أربع صغائر أرضعتهن أجنبية واحدة بعد واحدة، فلا أثر لرضاع
الأولى في نكاح واحدة منهن، فإذا ارتضعت الثانية أختا للأولى، فينفسخ نكاح
الثانية، وفي الأولى القولان، فإن فسخناها، فإذا أرضعت الثالثة، لم ينفسخ
نكاحها، فإذا أرضعت الرابعة انفسخ نكاحهما، وإن قلنا: لا ينفسخ نكاح الأولى،
فإذا أرضعت الثالثة، انفسخ نكاحها، لأنها صارت أختا للأولى وكذا الرابعة.
ولو أرضعتهن معا، أو أرضعت ثنتين معا، ثم ثنتين معا، انفسخ الجميع.
فرع تحته صغيرتان وكبيرتان أرضعت كل واحدة من الكبيرتين واحدة من
الصغيرتين، حرمن كلهن مؤبدا إن دخل بالكبيرتين، أو لم يدخل بهما، حرمت
الكبيرتان مؤبدا، وانفسخ نكاح الصغيرتين في الحال، وله تجديد نكاحهما،
والجمع بينهما لعدم الإخوة. ولو أرضعتهما إحدى الكبيرتين مرتبا، انفسخ نكاح
الأولى والمرضعة، لاجتماع الام والبنت، ولم تنفسخ الصغيرة الثانية، فإذا
أرضعتهما الكبيرة الثانية بعد إرضاع الأولى على ترتيب الثانية الأولى، انفسخ نكاحها
بإرضاع الصغيرة الأولى، ولم ينفسخ نكاح الصغيرة الثانية لأنه لم يحصل في حقها
اجتماع أم وبنت في النكاح. وإن أرضعتهما على عكس ترتيب المرضعة الأولى
انفسخ نكاح الجميع، وله تجديد نكاح كل صغيرة إن لم يدخل بالكبيرتين، ولا
يجوز الجمع بينهما.
فرع تحته كبيرتان وصغيرة، فأرضعتاها دفعة بأن أوجرتاها لبنهما المحلوب
المخلوط، انفسخ نكاح الثلاث، وحرمت الكبيرتان مؤبدا، وكذا الصغيرة إن دخل
بكبيرة وإلا فلا تحرم مؤبدا، وعلى الزوج للصغيرة نصف المسمى، ويرجع على
الكبيرتين بالغرم. وأما الكبيرتان، فإن كان دخل بهما، فعليه لكل واحدة منهما
جميع المسمى، ويرجع على كل واحدة منهما بنصف مهر مثل صاحبتها تفريعا على
439

الأظهر، وهو إثبات الرجوع في غرم مهر الكبيرة الممسوسة، وذلك لأن انفساخ نكاح
كل واحدة حصل بفعلها وفعل صاحبتها، فسقط النصف لفعلها، ووجب النصف
على صاحبتها. وإن لم يدخل بواحدة منهما، فلكل واحدة منهما ربع المسمى،
لأن الانفساخ حصل بفعلهما، فسقط بفعل كل واحدة نصف الشطر الواجب قبل
الدخول، ووجب النصف الآخر، ويرجع الزوج على كل واحدة منهما بربع مهر مثل
الأخرى تفريعا على الأظهر، وهو أن التغريم في حق غير الممسوسة يكون بنصف
مهر المثل. وإن كانت إحداهما مدخولا بها دون الأخرى، فللمدخول بها تمام
المسمى وللأخرى ربع مسماها، ويرجع الزوج على التي لم يدخل بها بنصف مهر
مثل المدخول بها وعلى المدخول بها بربع مهر مثل التي لم يدخل بها. ولو كانت
المسألة بحالها لكن أوجرتها اللبن المخلوط في المرة الخامسة إحدى الكبيرتين
وحدها فحكم التحريم كما سبق، ويرجع الزوج بمهر الصغيرة على المرضعة في
الخامسة وحدها، وفيما يرجع به الأقوال. وأما الكبيرتان فالتي لم توجر، إن كانت
مدخولا بها، فلها على الزوج تمام المسمى، ويرجع الزوج بمهر مثلها على المؤجرة
على الأظهر، وإن لم يكن مدخولا بها، فلها على الزوج نصف المسمى، ويرجع
بالغرم على المؤجرة كما في الصغيرة، وأما المؤجرة، فإن كانت مدخولا بها، فلها
جميع المهر، وإلا فلا شئ لها، لأنها سبب الفرقة، هذا كله إذا كان من غير
الزوج، فإن كان لبنه - والتصوير كما سبق - صارت الصغيرة بنته، وحرمت مؤبدا،
ولو تم التحريم في حق الزوج دون الكبيرتين بأن أرضعت هذه بعض الخمس وهذه
بعضها، حصل التحريم في حقه على الأصح كما سبق وحرمت الصغيرة مؤبدا، لأنها
بنته، ولا ينفسخ نكاح الكبيرتين، لأنه لم تصر واحدة منهن أما، ثم إن حصلت
الرضعات متفرقات بأن أرضعت هذه ثلاثا، وتلك مرتين، فالغرم على التي أرضعت
الخامسة كذا ذكره الشيخ أبو علي، وقد سبق ما يقتضي خلافا فيه. وإن اشتركتا في
الخامسة بأن أرضعت كل واحدة رضعتين، ثم أوجرتاها لبنهما المخلوط دفعة،
فالغرم عليهما بالسوية. ولو حلبت إحداهما لبنها ثلاث دفعات في ثلاثة أوعية،
والأخرى دفعتين في إنائين، ثم جمع الجميع، وأوجرته الصغيرة، فإن أوجرتها
إحداهما، فالغرم عليها، وإن أوجرتاها، فهل تغرمان بالسوية، أم أخماسا؟
440

وجهان، أصحهما بالسوية. ولو حلبت إحداهما أربعا في أربعة أوعية، والأخرى
ثلاثا في ثلاثة، ثم خلط، وأوجرتاها معا، فتغرمان بالسوية أم أسباعا؟ فيه
الوجهان.
فرع تحته ثلاثة صغائر، فجاءت ثلاث خالات للزوج من الأبوين
وأرضعت كل واحدة صغيرة، لم يؤثر ذلك في نكاحهن، لأنه يجوز الجمع بين بنات
الخالات. فلو جاءت أم أم الزوج بعد ذلك، وأرضعت زوجة صغيرة رابعة للزوج،
حرمت الرابعة مؤبدا، لأنها صارت خالته وخالة الصغائر الثلاث، واجتمعت هي
وهن في النكاح، وفي انفساخ نكاح الثلاث القولان السابقان. وكذا الحكم لو
أرضعت الرابعة امرأة أبي أم الزوج بلبنه. ولو كانت الخالات متفرقات، وأرضعن
الثلاث، ثم أرضعت الرابعة أم أم الزوج، انفسخ نكاحها، ولا ينفسخ نكاح
الصغيرة التي أرضعتها الخالة للأب، وفي الأخريين القولان. ولو كن متفرقات
وأرضعت الرابعة امرأة أبي الزوج، انفسخ نكاح الرابعة، ولا ينفسخ نكاح التي
أرضعتها الخالة للام، وفي الأخريين القولان. ولو أرضعت الصغائر ثلاث عمات
للزوج من الأبوين، أو من الأب، ثم أرضعت الرابعة أم أبيه أو امرأة أبي أبيه بلبنه،
فالحكم كما ذكرنا في الخالات.
فرع تحته كبيرة وثلاث صغائر وللكبيرة ثلاث بنات، فأرضعت كل واحد
منهن صغيرة، فإن كانت الكبيرة مدخولا بها حرمن مؤبدا، سواء أرضعهن معا أو
مرتبا، وعلى الزوج مهر الكبيرة بتمامه، ويرجع بغرمه على الأظهر عليهن إن أرضعن
معا، وعلى الأولى إن أرضعن مرتبا، ولكل صغيرة على الزوج نصف المسمى،
ويرجع بالغرم لكل صغيرة على مرضعتها. وإن لم تكن الكبيرة مدخولا بها، فإن
أرضعن معا المرة الخامسة، انفسخ نكاحهن، لاجتماع الجدة والحفدة، وتحرم
الكبيرة مؤبدا دون الصغائر، وعلى الزوج نصف المسمى للكبيرة ولكل صغيرة،
ويرجع بغرم كل صغيرة على مرضعتها، وبنصف مهر مثل الكبيرة، وعلى الثلاث
على كل واحدة سدس، وإن أرضعن مرتبا، فبإرضاع الأولى تنفسخ الكبيرة وتلك
441

الصغيرة، ولكل واحدة منهما نصف المسمى على الزوج، ويرجع بالغرم، ولا
ينفسخ نكاح الأخريين، سواء أرضعتا معا أو مرتبا، لأنهما لم تصيرا أختين، ولا
اجتمعت الجدة وهما. ولو أرضعت اثنتان صغيرتين معا، ثم أرضعت الثالثة، لم
ينفسخ نكاح الثالثة وانفسخ نكاح الكبيرة والصغيرتين الأوليين وعلى الزوج نصف
المسمى لكل واحدة منهن ويرجع بغرم كل صغيرة على مرضعتها وبغرم الكبيرة على
المرضعتين جميعا.
فرع نكح صغير صغيرة هي بنت عمه، فأرضعت جدتهما أم أبي كل واحد
منهما أحدهما، ثبتت الحرمة بينهما، وانفسخ النكاح، وكذا الحكم لو كانت أم أبي
الصغير غير أم أبي الصغيرة بأن كان أبواهما أخوين لأب، فأرضعت إحدى الجدتين
أحد الصغيرين بلبن جدهما، انفسخ النكاح. ولو نكح صغير بنت عمته الصغيرة،
فجاءت الجدة التي هي أم أبي الصغير، وأم أم الصغيرة، فأرضعت أحدهما،
انفسخ النكاح، وكذا لو كانت أم أبي الصغير غير أم أم الصغيرة، وأرضعت جدتهما
أم أم كل واحد منهما أحدهما، انفسخ. ولو نكح صغير بنت خاله، فأرضعت
جدتهما أم أم الصغير وأم أبي الصغيرة أحدهما، انفسخ، وتنزيلاتها ظاهرة، وبالله
التوفيق.
الباب الرابع في الاختلاف
فيه ثلاثة أطراف:
الأول في دعوى الرضاع وحكمها: فإذا قال: فلانة أختي أو بنتي من الرضاع، أو قال: فلان أخي أو ابني من
الرضاع، واتفقا على ذلك، لم يحل النكاح بينهما بشرط الامكان، فإن لم يمكن
442

بأن قال: فلانة بنتي وهي أكبر سنا منه، فهو لغو. وإذا صح الاقرار، ثم رجعا، أو
رجع المقر، لم يقبل رجوعه، ولا يصح النكاح. ولو اتفق الزوجان على أن بينهما
رضاعا محرما، فرق بينهما، وسقط المسمى، ويجب مهر المثل إن دخل بها، وإلا
فلا شئ. وإن اختلف الزوجان في الرضاع ولا بينة، فإن ادعاه الزوج وأنكرته،
قبل في حقه فقط، فيحكم ببطلان النكاح، ويفرق بينهما، ويجب لها نصف
المسمى إن كان قبل الدخول، وجميعه إن كان بعده، وله تحليفها قبل الدخول وكذا
بعده إن كان مهر المثل أقل من المسمى، فإن نكلت، حلف الزوج، ولا شئ لها
قبل الدخول، ولا يجب أكثر من مهر المثل بعد الدخول. وإن ادعت الرضاع
وأنكر، فقد سبق في كتاب النكاح أنه إن جرى التزويج برضاها، لم يقبل قولها،
بل يصدق الزوج بيمينه. وإن جرى بغير رضاها فأيهما المصدق بيمينه؟ وجهان،
ظاهر كلام الشافعي وبه أجاب العراقيون، وصححه الغزالي أنه المصدق، وذكرنا
هناك أن الأصح عند الشيخ أبي علي وجماعة أنها المصدقة، وبه أجاب المتولي
والبغوي، ونقله القفال عن النص. وإذا مكنت الزوج وقد زوجت بغير رضاها،
فتمكينها كرضاها، والورع للزوج إذا ادعت الرضاع أن يدع نكاحها بتطليقة لتحل
لغيره إن كانت كاذبة، نص عليه الشافعي رضي الله عنه، وليس لها المطالبة
بالمسمى إذا ادعت الرضاع، لأنها لا تستحقه بزعمها، ولها المطالبة بمهر المثل إن
جرى دخول، فإن كان ذلك بعد دفع الزوج الصداق، لم يتمكن من الاسترداد
لزعمه، ويشبه أن يكون فيما يفعل بذلك المال الخلاف المذكور فيما إذا أقر لغيره
بمال فأنكره المقر له.
فرع أقرت أمة بأخوة الرضاع لغير سيدها، يقبل، فإذا اشتراها ذلك
الغير، لم يحل له وطؤها، وإن أقرت لسيدها، لم يقبل بعد التمكين، وقبله
وجهان.
الطرف الثاني: في كيفية الحلف في الرضاع.
من الأصول الممهدة أن الحالف على فعل غيره يحلف على البت إن كان
443

إثباتا، وعلى نفي العلم إن كان نفيا، والغرض هنا أن منكر الرضاع يحلف على نفي
العلم، ومدعيه يحلف على البت يستوي فيه الرجل والمرأة، فلو نكلت عن
اليمين، ورددناها على الزوج، أو نقل الزوج ورددناها عليها، فاليمين المردودة
تكون على البت، لأنها مثبتة، وقال القفال على نفي العلم، وقيل: إن غير المنكر
منهما على البت، وقيل: يمينه إذا أنكر على البت، ويمينها على نفي العلم،
والمذهب الأول. ولو ادعت الرضاع فشك الزوج، فلم يقع في نفسه صدقها ولا
كذبها، فإن قلنا: الحلف على نفي العلم، فله أن يحلف، وإن قلنا: على البت،
فلا.
الطرف الثالث: في الشهادة على الرضاع فيه مسائل:
إحداها: يثبت الرضاع بشهادة رجلين، وبرجل وامرأتين، وبأربع نسوة
كالولادة، ولا يثبت بدون أربع نسوة، ولا يثبت الاقرار بالرضاع إلا برجلين، وفي
التتمة أنه لو كان النزاع في شرب اللبن من ظرف، لم تقبل فيه شهادة النسوة
المتمحضات، لأنه لا يختص باطلاع النساء، وإنما تقبل شهادتهن إذا كان النزاع
في الارتضاع من الثدي، وأنه تقبل شهادتهن على أن اللبن الحاصل في الظرف لبن
فلانة، لأن الرجال لا يطلعون على الحلب غالبا.
الثانية: لو كان فيمن يشهد بالرضاع، أم المرأة، أو بنتها على حرمة الرضاع
بينها وبين الزوج فإن كان الزوج مدعيا، والمرأة منكرة، قبلت شهادتها، وإن
انعكس، فلا، قال الأصحاب: ولا يتصور أن تشهد على أمها أنها ارتضعت
من أم الزوج، لأن الشهادة على الرضاع تعتبر فيها المشاهدة، لكن
444

يتصور أن تشهد أنها أرضعت الزوج أو أرضعته أمها أو أختها، ولو شهدت الام أو
البنت من غير تقدم دعوى على سبيل الحسبة، قبلت وإن احتمل كون الزوجة
مدعية، لأن الرضاع تقبل فيه شهادة الحسبة، وهذا كما لو شهد أبو الزوجة وابنها أو
ابناها ابتداء أن زوجها طلقها، قبلت. ولو ادعت الطلاق، فشهدا، لم تقبل.
الثالثة: لا تقبل شهادة المرضعة وحدها، وهل تقبل شهادتها فيمن يشهد إن
ادعت أجرة الرضاع، لم تقبل، وفي وجه حكاه الماوردي عن أبي إسحاق: تقبل في ثبوت
الحرمة دون الأجرة، والصحيح المنع فيهما، وإن لم تدع أجرة، نظر
إن لم تتعرض لفعلها بأن شهدت بأخوة الرضاع بينهما، أو على أنهما ارتضعا منها،
قبلت شهادتها، ولا نظر إلى ما يتعلق به من ثبوت المحرمية، وجواز الخلوة
والمسافرة، فإن الشهادة لا ترد بمثل هذه الأغراض. ولهذا لو شهد رجلان أن زيدا
طلق زوجته، أو أعتق أمته، قبل بلا خلاف، وإن استفادا حل مناكحتها. وإن
شهدت على فعل نفسها، فقالت: أرضعتهما، فوجهان، أحدهما: لا تقبل، كما
لا تقبل شهادتها على ولادتها، ولا شهادة الحاكم على حكم نفسه بعد العزل، ولا
القسام على القسمة. وأصحهما: تقبل، وبه قطع الأكثرون، لأنها لا تجر بها نفعا
ولا تدفع ضررا بخلاف الولادة، فإنه يتعلق بها حق النفقة والإرث، وسقوط
القصاص وغيرها، وتخالف شهادة الحاكم والقسام، فإن فعلهما مقصود، وفعل
المرضعة غير مقصود، وإنما المعتبر وصول اللبن إلى الجوف، ولأن الشهادة بالحكم
والقسمة تتضمن تزكية النفس.
445

فرع إذا لم يتم نصاب الشهادة بأن شهدت المرضعة وحدها، أو امرأة
أجنبية، أو امرأتان، أو ثلاث، فالورع أن يترك نكاحها، وأن يطلقها إن كان ذلك
بعد النكاح.
فرع لو شهد اثنان بالرضاع، وقالا: تعمدنا النظر إلى الثدي لا لتحمل
الشهادة، لم تقبل شهادتهما لأنهما فاسقان بقولهما، وفي النظر إلى الثدي لتحمل
الشهادة خلاف سبق في أول النكاح الأصح الجواز.
قلت: مجرد النظر معصية صغيرة لا ترد به الشهادة ما لم يصر عليه فاعله،
ويشترط أيضا أن لا تكون ظهرت توبته بعد ذلك. والله أعلم.
المسألة الرابعة: أطلق جماعة منهم الامام أن الشهادة المطلقة أن بينهما
رضاعا محرما، أو حرمة الرضاع، أو أخوته، أو بنوته مقبولة، وقال الأكثرون: لا
تقبل مطلقة، بل يشترط التفصيل والتعريض للشرائط، وهو ظاهر النص، قال
البغوي: وهو الصحيح لاختلاف المذاهب في شروط الرضاع، فاشترط التفصيل
ليعمل القاضي باجتهاده، ويحسن أن يتوسط فيقال: إن أطلق فقيه يوثق بمعرفته قبل
وإلا فلا، وينزل الكلامان عليه، أو يخص الخلاف بغير الفقيه، وقد سبق مثله في
الاخبار بنجاسة الماء. والمانعون من قبول المطلقة ذكروا وجهين في قبول الشهادة
المطلقة على الاقرار بالرضاع. ولو قال: هي أختي من الرضاع، ففي البحر
وغيره أنه لا يفتقر إلى ذكر الشروط إن كان فقيها، وإلا فوجهان، وفرقوا بين الشهادة
والاقرار بأن المقر يحتاط لنفسه، فلا يقر إلا عن تحقيق.
الخامسة: إذا شهد الشاهد على فعل الرضاع والارتضاع، لم يكف، وكذلك
في الاقرار، بل لا بد من التعرض للوقت والعدد بأن يشهد أنها أرضعته، أو ارتضع
446

منها في الحولين خمس رضعات متفرقات، وفي اشتراط ذكر وصول اللبن إلى
الجوف وجهان، أصحهما: نعم وبه قطع المتولي وغيره، كما يشترط ذكر الايلاج
في شهادة الزنى. والثاني: لا، لأنه لا يشاهد قال في البسيط: ولا شك أن
للقاضي أن يستفصله، ولو مات الشاهد قبل الاستفصال، هل للقاضي التوقف؟
وجهان.
فرع الشاهد قد يستيقن وصول اللبن إلى الجوف بأن يعاين الحلب،
وإيجار الصغير المحلوب وازدراده، وحينئذ يشهد به، ولا إشكال. وقد يشاهد
القرائن الدالة عليه وهي التقام الثدي وامتصاصه، وحركة الحلق بالتجرع والازدراد
بعد العلم بأنها ذات لبن، وهذا يسلطه على الشهادة، ولا يجوز أن يشهد على
الرضاع بأن يراها أخذت الطفل تحت ثيابها، وأدته منها كهيئة المرضعة، لأنها قد
توجره لبن غيرها في شئ كهيئة الثدي، ولا بأن يسمع صوت الامتصاص فقد يمتص
أصبعه أو أصبعها. ولو شاهد التقام الثدي والامتصاص وهيئة الازدراد، ولم يعلم
كونها ذات لبن، فهل له الشهادة لظاهر الحال أم لا، لأن الأصل عدم اللبن؟
وجهان، أصحهما الثاني، ولا يكفي في أداء الشهادة حكاية القرائن بأن يشهد برؤية
447

الالتقام والامتصاص والتجرع من غير تعرض لوصول اللبن إلى الجوف ولا للرضاع
المحرم، وإن كان مستند علمه تلك القرائن، لأن معاينتها تطلع على ما لا تطلع عليه
الحكاية، فإن أطلعته على وصول اللبن، فليجزم به على قاعدة
الشهادات، وبالله
التوفيق.
448

كتاب النفقات
لوجوب النفقة ثلاثة أسباب: ملك النكاح، وملك اليمين، وقرابة البعضية
فالأولان يوجبان النفقة للمملوك على المالك ولا عكس، والثالث يوجبها لكل واحد
من القريبين على الآخر لشمول البعضية والشفقة، ويشتمل الكتاب على ستة
أبواب، أما نفقة الزوجة، فواجبة بالنصوص، والاجماع،
وفيها ثلاثة أبواب:
الأول في قدر الواجب وكيفيته وفيه طرفان:
الأول فيما يجب وهو ستة
449

أنواع: الأول الطعام، أما قدره، فيختلف باختلاف حال الزوج باليسار والاعسار،
ولا تعتبر فيه الكفاية، ولا ينظر إلى حال المرأة في الزهادة والرغبة، ولا إلى منصبها
وشرفها، وتستوي فيه المسلمة والذمية، الحرة والأمة، فعلى الموسر مدان،
والمعسر مد والمتوسط مد ونصف، والاعتبار بمد النبي (ص) وهو مائة وثلاثة وسبعون
درهما وثلث درهم.
قلت: هذا تفريع منه على أن رطل بغداد مائة وثلاثون درهما، والمختار أنه
مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم، كما ذكرته في باب زكاة النبات.
والله أعلم.
وحكى الشيخ أبو محمد قولا أن نفقة الزوجة يعتبر فيها الكفاية كنفقة القريب،
وحكى صاحب التقريب قولا أن المعتبر ما يفرضه القاضي، وعليه أن يجتهد
ويقدر، وهذان القولان شاذان. وحكى ابن كج عن ابن خيران وغيره أن المعتبر
عرف الناس في البلد. والمذهب: التقدير كما سبق.
وفيما يضبط به اليسار والاعسار والتوسط أوجه، أحدها: العادة وتختلف
باختلاف الأحوال والبلاد، وبه قطع المتولي وغيره. والثاني: أن الموسر من يزيد
دخله على خرجه، والمعسر عكسه، والمتوسط من تساوى خرجه ودخله، وبه قال
القاضي حسين وحكاه البغوي. والثالث عن الماوردي أن الاعتبار بالكسب فمن قدر
على نفقة الموسرين في حق نفسه ومن في نفقته من كسبه لا من أصل ماله، فهو
موسر، ومن لا يقدر على أن ينفق من كسبه، فمعسر، ومن قدر أن ينفق من كسبه
450

نفقة المتوسطين فمتوسط. والرابع وهو أحسنها وهو الذي ذكره الامام والغزالي:
أن من لا يملك شيئا يخرجه عن استحقاق سهم المساكين فهو معسر، ومن يملكه ولا
يتأثر بتكليف المدين موسر، ومن يملكه ويتأثر بتكليف المدين، ويرجع إلى حد
المسكنة متوسط، ولا بد في ذلك من النظر الرخص والغلاء.
فرع القدرة على الكسب الواسع لا تخرجه عن الاعسار في النفقة، وإن
كانت تخرجه عن استحقاق سهم المساكين.
فرع يعتبر في اليسار والاعسار طلوع الفجر، فإن كان موسرا حينئذ، فعليه
نفقة الموسرين، وإن أعسر في أثناء النهار، وإن كان معسرا، لم تلزمه إلا نفقة
المعسرين، وإن أيسر في أثناء النهار.
فرع ليس على العبد إلا نفقة المعسر، وكذا المكاتب وإن أكثر ماله
لضعف ملكه، وفيمن بعضه حر وجهان، الأصح: معسر وإن كثر ماله لنقص
حاله. والثاني: أن عليه ببعضه الحر نفقة الموسر إذا كثر ماله، فعلى هذا إن كان
نصفه حرا ونصفه رقيقا فعليه مد ونصف.
فصل وأما جنس الطعام فغالب قوت البلد من الحنطة أو الشعير أو الأرز أو
التمر أو غيرها، حتى يجب الأقط في حق أهل البادية الذين يقتاتونه. وعن ابن
451

سريج أن المعتبر ما يليق بحال الزوج إلحاقا للجنس بالقدر، والصحيح: الأول:
فإن اختلف قوت البلد، ولم يكن غالبا وجب ما يليق بحال الزوج.
الواجب الثاني: الأدم وجنسه غالب أدم البلد من الزيت والشيرج والسمن
والتمر والخل والجبن وغيرها، ويختلف باختلاف الفصول، وقد تغلب الفواكه في
أوقاتها فتجب، ويعود الوجه السابق في الطعام أن الاعتبار بما يليق بالزوج، وأما
قدره، فقال الأصحاب: لا يتقدر بل هو إلى اجتهاد القاضي، فينظر في جنس
الأدم، ويقدر باجتهاده ما يحتاج إليه المد، فيفرضه على المعسر، وعلى الموسر
مثليه، والمتوسط بينهما، ويجب عليه أن يطعمها اللحم وفي كلام الشافعي رحمه
الله أنه يطعمها في كل أسبوع رطل لحم، وهو محمول على المعسر، وعلى الموسر
رطلان والمتوسط رطل ونصف، واستحب أن يكون يوم الاعطاء يوم الجمعة، فإنه
أولى بالتوسيع فيه. ثم قال الأكثرون: إنما قال الشافعي رحمه الله هذا على عادة
أهل مصر لعزة اللحم عندهم يومئذ، وأما حيث يكثر اللحم، فيزاد بحسب عادة
البلد: وقال البغوي: يجب في وقت الرخص على الموسر في كل يوم رطل، وعلى
المتوسط في كل يومين أو ثلاثة، وعلى المعسر في كل أسبوع، وفي وقت الغلاء
يجب في أيام مرة على ما يراه الحاكم. وقال آخرون منهم القفال: لا مزيد على ما
ذكره الشافعي في جميع البلاد لأن فيه كفاية لمن قنع، ويشبه أن يقال: لا يجب
الأدم في اليوم الذي يعطيها اللحم ولم يتعرضوا له، ويحتمل أن يقال: إذا أوجبنا
على الموسر اللحم كل يوم يلزمه الأدم أيضا ليكون أحدهما غداء، والآخر عشاء على
العادة.
فرع لو تبرمت بالجنس الواحد من الأدم فوجهان، أحدهما: يلزم الزوج
452

إبداله، إذ لا مشقة عليه، وأصحهما: لا يلزمه وتبدل هي إن شاءت.
فرع في أمالي السرخسي أنها لو صرفت شيئا من الأدم إلى القوت أو
بالعكس، أو أبدلت الجنس الذي قبضته من الأدم بجنس آخر، جاز، ولا اعتراض
للزوج، وقيل: له المنع من إبدال الأشرف بالأخس.
فرع لو كانت تقنع بالخبز، ولا تأكل الأدم، لم يسقط حقها منه، كما لا
يسقط حقها من الطعام بأن لا تأكل بعضه، وعلى الوجه المجوز للزوج منعها من
إبدال الأشرف له منعها من ترك التأدم.
فرع لها على الزوج آلات الطبخ والأكل والشرب، كالكوز والجرة والقدر
والمغرفة والقصعة ونحوها، ويكفي كونها من خشب، أو حجر، أو خزف. قال
الامام وغيره: يحتمل أن لا يزاد في الجنس على ذلك، ويقال: الزيادة من رعونات
الأنفس، ويجب أن يجب للشريفة الظروف النحاسية للعادة.
الواجب الثالث: الخادم. النساء صنفان، صنف لا يخدمهن أنفسهن في عادة
البلد، بل لهن من يخدمن، فمن كانت منهن، فعلى الزوج إخدامها على المذهب
وبه قطع الجمهور. وقيل في وجوب الخادم قولان، وسواء في وجوب الاخدام
كان الزوج معسرا أو موسرا أو مكاتبا أو عبدا، والاعتبار بالمرأة في بيت أبيها. فلو
ارتفعت بالانتقال إلى الزوج الخادم، لم يجب، صرح به في تعليق الشيخ أبي
حامد. والواجب خادم واحد وإن ارتفعت مرتبتها، ولا يلزمه تمليكها جارية، بل
الواجب إخدامها بحرة أو أمة مستأجرة أو مملوكة، أو بالاتفاق على من صحبتها من
453

حرة أو أمة، ويشترط كون الخادم امرأة أو صبيا، أو محرما لها، وفي مملوكها
والشيخ الهم اختلاف، وفي الذمية وجهان، لأن النفس تعاف استخدامها، ثم إن
أخدمها بمستأجرة، فليس عليه إلا الأجرة، وإن أخدمها مملوكته، فعليه نفقتها
بالملك، وإن أخدمها بكفاية من صحبتها من حرة أو أمة فهذا موضع نفقة الخادم.
والقول في جنس طعامها كهو في جنس طعام المخدومة، وأما قدره، فقيل: لا
يختلف باختلاف حال الزوج، بل يجب مد مطلقا. والصحيح أنه يختلف، فعلى
المعسر مد، والموسر مد وثلث، والمتوسط مد على الصحيح، وقيل: مد وثلث،
وقيل: مد وسدس. وفي استحقاق الخادم الأدم وجهان، أحدهما: لا ويكتفى
بفضل المخدومة. والصحيح: نعم. فعلى هذا جنسه جنس أدم المخدومة، وفي
نوعه وجهان، أحدهما كالمخدومة، وأصحهما وهو نصه دون نوع أدم المخدومة،
وطرد الوجهان في نوع الطعام، وفي استحقاق الخادم اللحم وجهان، ثم قدر أدمها
بحسب الطعام.
فرع قالت: أنا أخدم نفسي، وطلبت الأجرة، أو نفقة الخادم، لا يلزمه،
وأشار الغزالي إلى خلاف فيه، فعلى المذهب، لو اتفقا على ذلك، قال المتولي:
هو على الخلاف في الاعتياض عن النفقة، ولو قال الزوج: أنا أخدمها لتسقط
مؤنة الخادم، فليس له ذلك على الأصح، لأنها تستحي منه، وتعير به، وقيل: له
ذلك، وبه قال أبو إسحاق، واختاره الشيخ أبو حامد، وقال القفال وغيره: له ذلك
فيما لا يستحى منه كغسل الثوب، واستقاء الماء، وكنس البيت والطبخ، دون ما
يرجع إلى خدمة نفسها كصب الماء على يدها، وحمله إلى المستحم ونحوهما وفي
هذا تصريح بأن هذين النوعين من وظيفة الخادم. وعلى هذا إذا تولى بنفسه ما لا
يستحى منه، فقد تولى عمل الخادم، فهل تستحق تمام النفقة، أم شطرها، أم
454

توزع على الأفعال؟ فيه أوجه، وهذا فيه كلامان، أحدهما: ذكر أبو الفرج الزاز أن
الذي يجب على الزوج كفايته في حق المخدومة الشريفة الطبخ والغسل ونحوهما
دون حمل الماء إليها للشرب وحمله إلى المستحم، لأن الترفع عن ذلك رعونة لا
عبرة بها. الثاني: قال البغوي يعني بالخدمة ما هو حاجتها، كحمل الماء إلى
المستحم، وصبه على يدها، وغسل خرق الحيض ونحوها، فأما الطبخ والكنس
والغسل، فلا يجب شئ منها على المرأة، ولا على خادمها، بل هو على الزوج إن شاء،
فعله بنفسه، وإن شاء بغيره، فالكلامان متفقان على أنه لا يتوظف النوعان
على خادم المرأة، والاعتماد من الكلام على ما ذكره البغوي.
قلت: الذي أثبته الزاز من الطبخ والغسل ونحوهما هو فيما يختص
بالمخدومة، والذي نفاه البغوي منهما هو فيما يختص بالزوج كغسل ثيابه، والطبخ
لاكله ونحوه، والطرفان متفق عليهما، فلا خلاف بين الجميع في ذلك. والله
أعلم.
فرع تنازعا في تعيين الخادم التي تخدمها من جواريه أو من يستأجرها فهل
المتبع اختيار المخدومة لأن الخدمة لها، وقد تكون التي عينتها أرفق بها وأسرع
موافقة، أم المتبع اختيار الزوج لأن الواجب كفايتها؟ فيه وجهان، الصحيح الثاني
هذا في الابتداء، أما إذا أخدمها خادما وألفتها، أو كانت حملت معها خادما، فأراد
إبدالها، فلا يجوز، لأنها تتضرر بقطع المألوف إلا إذا ظهرت ريبة أو خيانة، فله
الابدال.
فرع لو أرادت استخدام ثانية وثالثة من مالها، فللزوج منعهن دخول داره،
وكذا لو حملت معها أكثر من واحدة، فله أن يخرج من داره من زاد على واحدة، وله
أن يمنع أبويها من الدخول عليها، وله أن يخرج ولدها من غيره إذا استصحبته.
فرع إذا كانت المنكوحة رقيقة، لكنها جميلة تخدم في العادة، لم يجب
إخدامها على المذهب، وبه قطع الأكثرون لنقصها، وقيل: وجهان، ثانيهما يجب
455

للعادة.
فرع المبتوتة الحامل هل تستحق نفقة الخادم؟ وجهان بناهما ابن المرزبان
على أن نفقتها للحمل أم للحامل، إن قلنا: للحامل، وجبت وإلا فلا. الصنف
الثاني من تخدم نفسها في العادة فينظر إن احتاجت إلى الخدمة لزمانة أو مرض، لزم
الزوج إقامة من يخدمها ويمرضها، وإذا لم تحصل الكفاية بواحدة، لزمه الزيادة
بحسب الحاجة، وسواء هنا كانت الزوجة حرة أو أمة، هذا ما أطلقه الشافعي
وجمهور الأصحاب رحمهم الله في المرض، ومنهم من فصل فقال: إن كان المرض
دائما، وجب الاخدام، وإلا فلا، وعلى هذا جرى الآخذون عن الامام، وإن لم
يكن عذر محوج إلى الخدمة، فليس عليه الاخدام، ولو أرادت أن تتخذ خادما من
مالها فله منعه من دخول داره، قال المتولي: وعلى الزوج أن يكفيها حمل الطعام
إليها، والماء إلى المنزل، وشبه ذلك.
الواجب الرابع: الكسوة، فتجب كسوتها على قدر الكفاية، وتختلف بطول
المرأة وقصرها وهزالها وسمنها، وباختلاف البلاد في الحر والبرد، ولا يختلف عدد
الكسوة بيسار الزوج وإعساره، ولكنهما يؤثران في الجودة والرداءة، وفي كلام
السرخسي وإبراهيم المروذي أنه يعتبر في الكسوة حال الزوجين جميعا، فيجب عليه
ما يلبس مثله مثلها.
وأما عدد الكسوة، فيجب في الصيف قميص وسراويل وخمار وما تلبسه في
الرجل من مكعب أو نعل، وفي الشتاء تزاد جبة محشوة، وقد يقام الإزار مقام
السراويل، والفرو مقام الجبة إذا كانت العادة لبسهما، كذا قاله المتولي، وعن
456

المنهاج للجويني أن السراويل لا تجب في الصيف، وإنما تجب في الشتاء،
وفي الحاوي أن نساء أهل القرى إذا جرت عادتهن أن لا يلبسن في أرجلهن شيئا
في البيوت، لم يجب لأرجلهن شئ.
وأما جنس الكسوة، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: يكسوها الموسر جميع
ذلك من لين البصرة أو الكوفة، أو وسط بغداد، والمعسر من غليظها، والمتوسط
ما بينهما، وأراد المتخذ من القطن، فإن جرت عادة البلد بالكتان أو الخز أو الحرير
فوجهان، أحدهما عن الشيخ أبي محمد لا يلزم ذلك، وأصحهما اللزوم، وتفاوت
بين الموسر والمعسر في مراتب ذلك الجنس، قال الأصحاب: وإنما ذكر الشافعي
ما ذكر على عادة ذلك الوقت، لكن لو كان عادة البلد لبس الثياب الرقيقة كالقصب
الذي لا يصلح ساترا، ولا تصح فيها الصلاة، لم يعطها منه، لكن من الصفيق
الذي يقرب منه في الجودة كالدبيقي والكتان المرتفع، قال السرخسي: وإذا لم
تستغن في البلاد الباردة بالثياب عن الوقود يجب من الحطب أو الفحم بقدر الحاجة.
فرع هذا المذكور حكم لباس البدن، وأما الفرش، فعلى الزوج أن
يعطيها ما تفرشه للقعود عليه، ويختلف ذلك باختلاف حال الزوج، قال المتولي:
فعلى الموسر طنفسة في الشتاء، ونطع في الصيف، وعلى المتوسط زلية، وعلى
الفقير حصير في الصيف ولبد في الشتاء، وتشبه أن تكون الطنفسة والنطع بعد بسط
زلية أو حصير فإن الطنفسة والنطع لا يبسطان وحدهما، وهل عليه فراش تنام
457

عليه؟ وجهان، أحدهما: لا وتنام على ما يفرشه نهارا، وأصحهما: نعم
للعادة، فعلى هذا يلزمه مضربة وثيرة أو قطيفة، ويجب لها مخدة ولحاف أو كساء
في الشتاء، وفي البلاد الباردة بلا خلاف، ويكون كل ذلك لامرأة الموسر من
المرتفع، ولامرأة المعسر من النازل، والمتوسط، وذكر الغزالي يجب أيضا
شعار، ولم يتعرض له الجمهور، والحكم في جميع ذلك مبني على العادة نوعا
وكيفية حتى قال الروياني في البحر: لو كانوا لا يعتادون في الصيف لنومهم غطاء
غير لباسهم، لم يلزم شئ آخر.
فرع تجب للخادم الكسوة كالنفقة، فلا بد من قميص، وفي السراويل
وجهان، أصحهما عند البغوي والروياني تجب، وكلام الجمهور يميل إلى عدم
الوجوب، وأما المقنعة، فأطلق جماعة وجوبها، وقال المتولي: تجب في الشتاء
وكذا في الصيف إن كانت حرة، فإن كانت أمة، لم تجب إن كانت عادة إماء البلد
كشف الرأس.
قلت: الصحيح القطع بالوجوب مطلقا. والله أعلم.
ويجب للخادم في الشتاء جبة أو فرو، ويجب الخف للخادم دون
المخدومة، ويجب لها ما تلتحف به عند الخروج، وأما ما يفرش وتنام فيه، فقد
قال المتولي: لا بد من شئ تجلس عليه كبارية في الصيف، وقطعة لبد في
458

الشتاء، ولا بد من مخدة وشئ تتغطى به في الليل من كساء ونحوه، قال في
البحر: ولا يجب لها الفراش، بل يكتفى بالوسادة والكساء، وما وجب يجب
مما يليق بالخادم جنسا ونوعا، ويكون دون كسوة المخدومة.
فرع قياس مسائل الباب أنه يجب زيادة على الجبة الواحدة حيث يشتد
البرد ولا تكفي الواحدة.
الواجب الخامس: آلات التنظف، فعلى الزوج للزوجة ما تتنظف به، وتزيل
الأوساخ التي تؤذيها وتؤذي بها كالمشط والدهن، وما تغسل به الرأس من سدر أو
خطمي أو طين على عادة البقعة، والرجوع في قدرها إلى العادة، ويجب من الدهن
ما يعتاد استعماله غالبا كالزيت والشيرج وغيرهما، وإذا اعتادوا التطيب بالورد، أو
البنفسج، وجب المطيب، وأبدى الامام وغيره احتمالا في الدهن إذا قال
الزوج:
هو للتجمل وأنا لا أريده. والذي عليه الأصحاب القطع بالوجوب، وأما ما يقصد
للتلذذ والاستمتاع كالكحل والخضاب، فلا يلزم الزوج، بل ذلك إلى اختياره،
فإن شاء هيأه لها، وإذا هيأ لها أسباب الخضاب، لزمها الاختضاب، ومن هذا
القبيل الطيب، ولا يجب إلا ما يقصد به قطع السهوكة ويجب المرتك، أو ما
459

في معناه لدفع الصنان إذا لم ينقطع بالماء والتراب وفيه وجه ضعيف.
فرع للزوج منعها من تعاطي الثوم، وما له رائحة مؤذية على الأظهر، وقد
ذكرناه في كتاب النكاح، وله منعها من تناول السموم بلا خلاف، ولكل أحد المنع،
وهل له منعها من أكل ما يخاف منه حدوث مرض؟ وجهان، أصحهما: نعم.
فرع لا تستحق الزوجة الدواء للمرض، ولا أجرة الطبيب والفصاد
والحجام والختان، لأن هذه الأمور لحفظ الأصل، فكانت عليها كما يكون على
المكري ما يحفظ العين المكراة، ويلزم الزوج الطعام والأدم في أيام المرض، ولها
صرف ما تأخذه إلى الدواء ونحوه.
فرع هل على الزوج أجرة الحمام لها؟ وجهان، أحدهما: لا تجب إلا
إذا اشتد البرد، وعسر الغسل إلا في الحمام، واختاره الغزالي، وأصحهما - وبه
قطع البغوي والروياني وغيرهما - الوجوب إلا إذا كانت من قوم لا يعتادون دخوله،
فإن أوجبناها، قال الماوردي: إنما تجب في كل شهر مرة.
فرع إذا احتاجت إلى شراء الماء للغسل إن كانت تغتسل من الاحتلام، لم
يلزم الزوج قطعا وكذا إن اغتسلت عن الحيض على الأصح، وإن اغتسلت عن
الجماع والنفاس، لزمه على الأصح، لأنه بسببه، وينظر على هذا القياس في ماء
الوضوء إلى أن السبب منه كاللمس أم لا؟
فرع لا يلزمه أن يضحي عن زوجته، نذرت التضحية أم لا.
فرع لا يجب للخادمة آلات التنظف، لأنها لا تتنظف له
بخلاف المخدومة، بل اللائق بالخادمة أن تكون شعثة لئلا تمتد إليها العين، لكن لو كثر
460

الوسخ، وتأذت بالهوام، لزمه أن يعطيها ما تترفه به، كذا استدركه القفال
واستحسنوه، وأطلق صاحب العدة وجهين في أنه هل يعطي الخادمة الدهن
والمشط.
فرع في وجوب تجهيز الزوجة الميتة وجهان سبقا في الجنائز، ويجريان
في تجهيز الخادمة، ورأي المتولي ترتيبهما على الزوجة، لأن علقة النكاح تبقى في
الغسل والإرث، وكذا في التجهيز.
الواجب السادس: الاسكان، فيجب لها مسكن يليق بها في العادة، وقال
المتولي: يليق بالزوجين جميعا، وله إسكانها في المملوك والمستأجر والمستعار بلا
خلاف.
الطرف الثاني: في كيفية الانفاق، في هذه الواجبات هي ضربان:
الأول: ما ينتفع به باستهلاكه كالطعام وفيه مسائل: إحداها: يجب التمليك
في الطعام والأدم، وما يستهلك من آلة التنظف كالدهن والطين، وإذا أخذت
نفقتها فلها التصرف فيها بالابدال والبيع والهبة وغيرها، لكن لو قترت على نفسها بما
يضرها فله منعها. ونفقة الخادم يجب فيها التمليك أيضا، قاله الأصحاب،
وقد سبق أن موضع وجوب نفقة الخادم إذا أخدمها بمملوكتها أو بحرة غير مستأجرة،
فإن كانت مملوكتها، فيملكها نفقتها كما يملكها نفقة نفسها، وإن كانت حرة فيجوز
أن يقال: يملكها نفقتها كما يملك الزوجة، وتستحق المرأة المطالبة بذلك لتوفر حق الخدمة، ويجوز أن يقال: يملك الزوجة لتدفعها إلى الخادمة وعلى هذا لها أن
تتصرف في المأخوذ، وتكفي مؤنة الخادمة من مالها.
المسألة الثانية: لو قبضت الزوجة النفقة، فتلفت أو سرقت، لا يلزمه
إبدالها.
461

الثالثة: الذي يجب تمليكه من الطعام الحب كما في الكفارة لا الخبز
والدقيق، فلو طلبت غير الحب، لم يلزمه، ولو بذل غيره، لم يلزمها قبوله، وهل
عليه مع الحب مؤنة طحنه وخبزه؟ أوجه، أحدها: لا كالكفارة، وبه قطع ابن كج.
والثاني: إن كانت من أهل القرى الذين عادتهم الطحن والخبز بأنفسهم، فلا، وإلا
فنعم، وبه قال الماوردي، وأصحها: الوجوب مطلقا، لأنها في حبسه بخلاف
الكفارة، وعلى هذا تجب مؤنة طبخ اللحم وما يطبخ به. ولو باعت الحب، أو أكلته
حبا، ففي استحقاقها مؤنة إصلاحه احتمالان للامام.
الرابعة: ليس له تكليفها الاكل معه لا مع التمليك ولا دونه.
الخامسة: لو كانت تأكل معه على العادة، ففي سقوط نفقتها وجهان،
أقيسهما وهو الذي ذكره الروياني في البحر: لا تسقط وإن جريا على ذلك
سنين، لأنه لم يؤد الواجب وتطوع بغيره. والثاني: تسقط فإنه اللائق بالباب. قال
الغزالي: وهذا أحسنهما لجريان الناس عليه في الأعصار، واكتفاء الزوجات به،
ولأنها لو طلبت النفقة للزمن الماضي والحالة هذه لاستنكر، وبنى بعضهم هذا على
المعاطاة، إن جعلناها بيعا برئت ذمته عن النفقة، وإلا فلا، وعليها غرامة ما أكلت،
ثم الوجهان في الزوجة البالغة، أو صغيرة أكلت معه بإذن القيم، فأما إذا لم يأذن
القيم، فالزوج متطوع، ولا تسقط نفقتها بلا خلاف.
462

قلت: الصحيح من الوجهين سقوط نفقتها إذا أكلت معه برضاها وهو الذي
رجحه الرافعي في المحرر وعليه جرى الناس من رسول الله (ص) وبعده من
غير نزاع ولا إنكار ولا خلاف ولم ينقل أن امرأة طالبت بنفقة بعده، ولو كانت لا
تسقط مع علم النبي (ص) بإطباقهم عليه لأعلمهم بذلك، واقتصه من تركة من مات
ولم يوفه وهذا مما لا شك فيه. والله أعلم.
السادسة: لو تراضيا باعتياضها عن النفقة دراهم أو دنانير أو ثيابا ونحوها، جاز
على الأصح. ولو اعتاضت خبزا أو دقيقا أو سويقا فالمذهب أنه لا يجوز، وهو
الذي رجحه العراقيون والروياني وغيره لأنه ربا، وقطع البغوي بالجواز لأنها تستحق
الحب وإصلاحه وقد فعله، ولا يجوز الاعتياض عن نفقة زمن مستقبل، ولا بيع نفقة
حالة لغير الزوج قبل قبضها قطعا.
السابعة: النفقة تستحق يوما فيوما ولها المطالبة بها إذا طلع الفجر كل يوم كذا
قاله الجمهور وفي المهذب إذا طلعت الشمس. ولو قبضت نفقة يوم، ثم
ماتت، أو أبانها في أثناء النهار لم يكن له الاسترداد، بل المدفوع لورثتها لوجوبه
بأول النهار. ولو ماتت أو أبانها في أثناء النهار ولم تكن قبضت نفقة يومها كانت دينا
463

عليه. وفي كتاب ابن كج له الاسترداد، والصحيح الأول وبه قطع الجمهور. ولو
نشزت في النهار، فله الاسترداد قطعا، ولو قبضت نفقة أيام أو شهر فهل تملك
الزيادة على نفقة اليوم؟ وجهان، أحدهما: لا للشك في استمرار الاستحقاق.
وأصحهما: نعم كالأجرة والزكاة المعجلة، فعلى هذا لو نشزت، استرد نفقة المدة
الباقية، وإن ماتت، أو أبانها، استرد أيضا على الأصح كالزكاة المعجلة، وقيل:
لا، لأنها صلة مقبوضة. وإذا قلنا: لا تملك إلا نفقة يوم، فكلما دخل يوم ملكت
نفقته.
الثامنة: نفقة الخادم في وقت وجوب التسليم، وفي استرداد المدفوع إليها
كنفقة المخدومة بلا فرق.
الضرب الثاني: ما تنتفع به مع بقاء عينه كالكسوة وفيها وجهان، أحدهما: لا
يجب تمليكها، وبه قال ابن الحداد، واختاره القفال، بل يكون إمتاعا كالمسكن
والخادم. وأصحهما وينسب إلى النص: يجب تمليكها كالنفقة والأدم وكسوة
الكفارة، ويجري الخلاف في كسوة الخادم وطرده البغوي في كل ما ينتفع به مع بقاء
عينه كالفرش وظروف الطعام والشراب والمشط، وألحق الغزالي في البسيط
الفرش والظروف بالمسكن. واعلم أن الكسوة تدفع إليها في كل ستة أشهر، ثم
تجدد كسوة الصيف للصيف، والشتاء للشتاء، وأما ما يبقى سنة أو أكثر كالفرش
والبسط والمشط، فإنما تجدد في وقت تجديده، وكذلك جبة الخز والإبريسم لا
يجدد في كل شتوة، وعليه تطريتها على العادة، ويتفرع على الوجهين في وجوب
تمليك الكسوة صور.
464

منها: لو سلم إليها كسوة الصيف، فتلفت في يدها قبل مضي الصيف فلا
تقصير، لزمه الابدال إن قلنا: الكسوة إمتاع، وإلا فلا على الصحيح. ولو
أتلفتها، أو تمزقت قبل أوان التمزق لكثرة ترددها فيها، وتحاملها عليها، فإن قلنا:
الكسوة تمليك، لم يلزم الابدال، وإن قلنا: إمتاع، لزمها قيمة ما أتلفت، ولزمه
الابدال.
ومنها: لو سلم إليها كسوة الصيف، فماتت في أثنائه، أو مات الزوج، أو
أبانها، فله استردادها إن قلنا: إمتاع، وإلا فلا على الصحيح.
ومنها: إذا لم يكسها مدة، صارت الكسوة دينا عليه إن قلنا بالتمليك، وإلا،
فلا.
ومنها: إن قلنا: إمتاع، لم يجز الاعتياض عنها، كما لا يجوز للقريب أن
يعتاض عن نفقته، وإن قلنا: تمليك، ففي الاعتياض الخلاف السابق في
الاعتياض عن النفقة.
ومنها: لو أعطاها كسوة الصيف فمضى الصيف، وهي باقية لرفقها بها، فعليه
كسوة الشتاء، إن قلنا بالتمليك، وعلى الامتاع لا يلزمه إلا ما يزاد للشتاء حتى يبلى
ما عندها.
465

ومنها: له أن يأخذ المدفوع منها، ويعطيها غيره إن قلنا بالامتاع، وإلا فلا إلا
برضاها.
ومنها: لو ألبسها ثيابا مستعارة، أو مستأجرة، لم يجز على قولنا تمليك،
ويجوز على الامتاع، فإن تلف المستعار، فالضمان على الزوج.
ومنها: ليس بيع المقبوض إن قلنا إمتاع، ويجوز على التمليك
كالقوت، فعلى هذا وجهان، أحدهما: ليس لها أن تلبس دون المقبوض كما في
النفقة، وأصحهما: المنع، لأن للزوج غرضا في تجملها.
فرع ليس للزوج أن يدفع إليها ثمن الكسوة، بل يجب تسليم الثياب،
وعليه مؤنة الخياطة.
الباب الثاني في مسقطات النفقة
للباب مقدمة وأصل،
أما المقدمة، فلا خلاف أن وقت وجوب تسليم النفقة
صبيحة كل يوم، والكسوة أول كل صيف وشتاء كما سبق، وذلك بعد حصول
التمكين، وأما وقت ثبوتها في الذمة، فللنفقة تعلق بالعقد والتمكين، فإنها لا تجب
قبل العقد، ولكن تسقط بالنشوز، وفيما تجب به قولان، القديم: تجب بالعقد
كالمهر، ولا تتوقف على التمكين بدليل وجوبها للمريضة والرتقاء، لكن لو نشزت
سقطت فالعقد موجب، والنشوز مسقط، وإذا حصل التمكين، استقر الواجب يوما
فيوما كالأجرة المعجلة، إلا أن الأجرة يجب تسليمها بالعقد جملة للعلم بها، والنفقة
غير معلومة الجملة، والجديد الأظهر: أنها لا تجب بالعقد، بل بالتمكين يوما
فيوما، فلو اختلفا، فقالت: مكنت من وقت كذا. وأنكر الزوج ولا بينة، فإن
466

قلنا بالجديد، فالقول قول الزوج، وإلا فقولها، لأن الأصل بقاء ما وجب بالعقد،
وقيل: القول قوله قطعا. ولو اتفقا على التمكين، وقال: أديت نفقة المدة
الماضية، وأنكرت، فالقول قولها، سواء كان الزوج حاضرا عندها أم غائبا، ولو لم
يطالبها الزوج بالزفاف، ولم تمتنع هي منه، ولا عرضت نفسها عليه، ومضت على
ذلك مدة، فإن قلنا بالقديم، وجبت نفقة تلك المدة، وإن قلنا بالجديد، فلا. ولو
توافقا على التمكين، وادعى أنها بعده نشزت، وأنكرت، فالصحيح أن القول
قولها، لأن الأصل البراءة، قال الأصحاب: إذا سلمت نفسها إلى الزوج، فعليه
النفقة من وقت التسليم. ولو بعثت إليه: إني مسلمة نفسي، فعليه النفقة من حين
بلغه الخبر، فإن كان غائبا، رفعت الامر إلى الحاكم، وأظهرت له التسليم
والطاعة، ليكتب إلى حاكم بلد الزوج، فيحضره، ويعلمه الحال، فإن سار إليها
عند إعلامه، أو بعث إليها وكيله فتسلمها، وجبت النفقة من حين التسليم، وإن
لم يفعل ومضى زمن الوصول إليها، فرض القاضي نفقتها في ماله، وجعل
كالمتسلم، لأن الامتناع منه. قال المتولي: فإن لم يعرف موضعه، كتب الحاكم
إلى حكام البلاد التي تردها القوافل من تلك البلدة في العادة ليطلب وينادى باسمه،
فإن لم يظهر، فرض القاضي نفقتها في ماله الحاضر، وأخذ منها كفيلا بما يصرف
467

إليها لاحتمال وفاته وطلاقه، ومن الأصحاب من لم يتعرض للرفع إلى القاضي ولا
لكتابه، وقال: تجب النفقة من حين تصله، ويمضي زمن إمكان القدوم عليها،
وكذا ذكره البغوي. أما إذا لم تعرض نفسها على الزوج الحاضر، أو الغائب، ولا
بعثت إليه، فلا نفقة لها وإن طالت المدة تفريعا على الجديد، ولا تؤثر غيبة الزوج
بعد التسليم ما دامت مقيمة على الطاعة. وإن طالت المدة، هذا كله إذا كانت عاقلة
بالغة، فأما المراهقة والمجنونة، فلا اعتبار بعرضهما، وبذلهما الطاعة، وإنما
الاعتبار فيهما بعرض الولي. ولو سلمت المراهقة نفسها، فتسلمها الزوج،
ونقلها إلى داره، وجبت النفقة، وكذا لو سلمت الزوجة نفسها إلى الزوج المراهق
بغير إذن الولي، وجبت النفقة بخلاف تسليم المبيع إلى المراهق، لأن المقصود
هناك أن تصير اليد للمشتري، واليد في عقد المراهق للولي لا له.
فصل وأما الأصل فبيان موانع النفقة وهي أربعة:
الأول: النشوز، فلا نفقة لناشزة، وإن قدر الزوج على ردها إلى الطاعة
قهرا، فلو نشزت بعض النهار فوجهان، أحدهما: لا شئ لها. والثاني: لها
بقسط زمن الطاعة إلا أن تسلم ليلا وتنشز نهارا، أو بالعكس، فلها نصف النفقة،
ولا ينظر إلى طول الليل وقصره، وبالوجه الثاني قطع السرخسي، ومنهم من رجح
الأول وهو أوفق لما سبق فيما إذا سلم السيد الأمة المزوجة ليلا فقط، ونشوز
المراهقة والمجنونة كالبالغة العاقلة.
فرع امتناعها عن الوطئ والاستمتاع والزفاف بغير عذر نشوز، فلو قالت:
سلم المهر لأسلم نفسي، فإن جرى دخول، أو كان المهر مؤجلا، فهي ناشزة، إذ
ليس لها الامتناع والحالة هذه، وإذا لم يجر دخول والمهر حال، فلها النفقة من
حينئذ، هذا هو المذهب، وفيه خلاف سبق في كتاب الصداق. ولو حل المؤجل،
فهل هو كالمؤجل أم كالحال؟ وجهان وبالأول قطع البغوي، لأن العقد لم يثبت هذا
الامتناع. ولو كانت مريضة، أو كان بها قرح يضرها الوطئ، فهي معذورة في
468

الامتناع عن الوطئ، وعليه النفقة إذا كانت عنده. وكذا لو كان الرجل عبلا، وهو
كبير الذكر بحيث لا تحتمله، فإن أنكر القرح المانع من الوطئ، فلها إثباته بقول
النسوة، وهل يشترط أربع نسوة، لأنه شهادة يسقط بها حق الزوج، أم تكفي امرأة
ويجعل إخبارا؟ وجهان، أصحهما الأول، وبالثاني قال أبو إسحاق، وكذا لو أنكر
الضرر بسبب العبالة يرجع فيه إلى النسوة ولا بأس بنظرهن إليه عند اجتماعهما
ليشهدن، وليس لها الامتناع من الزفاف بعذر عبالته كما سبق في أول كتاب
الصداق، ولها الامتناع بعذر المرض، لأنه متوقع الزوال.
فرع لو قالت: لا أمكن إلا في بيتي، أو في موضع كذا، أو بلد كذا،
فهي ناشزة.
فرع هربها وخروجها من بيت الزوج وسفرها بغير إذنه نشوز، ويستثنى
عن الخروج ما إذا أشرف المنزل على الانهدام، أو كان المنزل لغير الزوج،
فأخرجت، فإن سافرت بإذنه، فإن كان معه أو وحدها في حاجته، وجبت نفقتها،
فإن كانت وحدها لحاجتها، فلا نفقة على الأظهر، وقيل: لا نفقة قطعا، وعن ابن
الوكيل طرد القولين فيما إذا كانت معه لحاجة نفسها، وقطع الجمهور في هذه الصورة
بالوجوب.
فرع تجب النفقة للمريضة والرتقاء والمضناة التي لا تحتمل الجماع،
سواء حدثت هذه الأحوال بعد التسليم، أم قارنته، لأنها أعذار دائمة، وقد سلمت
التسليم الممكن، وتمكن من الاستمتاع بها من بعض الوجوه، وكذا حكم أيام
الحيض والنفاس، قال البغوي: ولو غصبت، فلا نفقة، وإن كانت معذورة
469

لخروجها عن قبضته وفوات الاستمتاع بخلاف المريضة.
قلت: ولو حبست ظلما أو بحق، فلا نفقة كما لو وطئت بشبهة،
فاعتدت. والله أعلم.
فرع نشزت، فغاب الزوج، فعادت إلى الطاعة، فهل يعود استحقاق
النفقة؟ وجهان، وفي التتمة قولان، أصحهما: لا، فعلى هذا يرفع الامر
إلى القاضي، ليقضي بطاعتها ويخبر الزوج بذلك، فإذا عاد إليها، أو بعث وكيله،
فاستأنف تسلمها، عادت النفقة، وإن مضى زمن إمكان العود ولم يعد، ولا بعث
وكيله، عادت النفقة أيضا.
فرع خرجت في غيبة الزوج إلى بيت أبيها لزيارة أو عيادة، لا على وجه
النشوز، لا تسقط نفقتها ذكره البغوي.
470

المانع الثاني: الصغر، فإذا كانت صغيرة وهو كبير أو صغير، فلا نفقة لها
على الأظهر، وإن كانت كبيرة وهو صغير، وجبت النفقة على الأظهر، وقيل: قطعا، وقيل:
إن علمت صغره، فقولان، وإلا فتجب قطعا. ثم موضع الخلاف ما
إذا سلمت إلى الزوج، أو عرضت عليه، فإن لم يوجد تسليم ولا عرض، فالحكم
كما سبق في الكبيرة، وفي الوسيط ما يقتضي خلافه، والمذهب الأول، وإذا
كان الزوج صغيرا، كان العرض على وليه لا عليه، والمراد بالصغيرة والصغير من
لا يتأتى جماعه، وبالكبير من يتأتى منه الجماع، ويدخل فيه المراهق.
المانع الثالث: العبادات، وفيه مسائل إحداها: إذا أحرمت بحج أو عمرة،
فلها حالان، أحدهما: أن تحرم بإذنه، فإذا خرجت، فقد سافرت في غرض
نفسها، فإن كان الزوج معها لم تسقط على المذهب كما سبق، وإلا فتسقط على الأظهر
، وسواء خرجت بإذنه أم بغيرها، ولا أثر لنهيه عن الخروج لوجود الاذن في
الاحرام، وعن القفال: أنه إذا نهاها عن الخروج فلا نفقة قطعا، أما قبل الخروج،
فوجهان، أحدهما: لا نفقة لفوات الاستمتاع، وأصحهما: وجوبها، لأنها في
قبضته، وتفويت الاستمتاع بسبب إذن فيه.
الحال الثاني: أن تحرم بغير إذنه فقد سبق في الحج أن له أن يحللها من حج
التطوع، وكذا من الفرض على الأظهر، فإن جوزنا له التحليل، فلم يحلل، فلها
النفقة ما لم تخرج، لأنها في قبضته وهو قادر على تحليلها والاستمتاع، وقيل: لا
نفقة، لأنها ناشزة بالاحرام، والناشزة لا تستحق نفقة وإن قدر الزوج على ردها إلى
الطاعة قهرا، والصحيح الأول. فإذا خرجت بغير إذنه، فلا نفقة، فإن خرج معها،
فعلى ما سبق، وإن أذن في الخروج، فعلى القولين في السفر بإذنه، وإن قلنا:
ليس له التحليل، فهي ناشزة من وقت الاحرام، وقيل: لها النفقة ما دامت مقيمة،
471

والصحيح الأول، وحكي وجه شاذ أن الاحرام لا يسقط النفقة مطلقا، لأنها تسقط به
فرضا عليها.
المسألة الثانية في الصوم، أما صوم رمضان، فلا تمنع منه، ولا تسقط
النفقة بحال، وأما قضاء رمضان، فإن تعجل لتعديها بالافطار لم تمنع منه، ولم
تسقط به النفقة على الأصح، وإن فات الأداء بعذر، وضاق وقت القضاء، بأن لم
يبق من شعبان إلا قدر القضاء، فهو كأداء رمضان، وإن كان الوقت واسعا، فقطع
الأكثرون بأن له منعها من المبادرة إليه كصوم التطوع، وقيل في جواز منعها
وجهان، وفي جواز إلزامها الافطار إذا شرعت فيه وجهان مخرجان من القولين في
التحليل من الحج، فإن قلنا: لا يجوز، ففي سقوط النفقة وجهان، أحدها: تسقط
كالحج، والثاني: لا لقصر الزمان، وقدرته على الاستمتاع ليلا.
قلت: الأصح السقوط. والله أعلم.
وأما صوم التطوع، فلا تشرع فيه بغير إذن الزوج، فإن أذن، لم تسقط به
نفقتها، وإن شرعت فيه بلا إذن، فله منعها وقطعه، فإن أفطرت، فلها النفقة، وإن
أبت، فلا نفقة على الأصح، وقيل: تجب، لأنها في داره وقبضته، وحاصل هذا
الوجه أن صوم التطوع لا يؤثر في النفقة، وقيل: إن دعاها إلى الاكل، فأبت، لم
تسقط نفقتها، وإن دعاها إلى الوطئ، فأبت سقطت لمنعها حقه، وإذا قلنا بسقوط
النفقة بامتناعها فعن الحاوي أن ذلك فيما إذا أمرها بالافطار في صدر النهار، فلو
اتفق في آخره لم تسقط لفوت الزمان، واستحسنه الروياني، ولم يتعرض الجمهور
472

لهذا التفصيل. ولو نكحها وهي صائمة قال إبراهيم المروذي: لا يجبرها على
الافطار، وفي النفقة وجهان.
وأما صوم النذر، فإن كان نذرا مطلقا، فللزوج منعها منه على الصحيح، لأنه
موسع، وإن كانت أياما معينة، نظر إن نذر بها قبل النكاح، أو بعده بإذنه، فليس له
منعها، وإلا فله ذلك، وحيث قلنا: له المنع، فشرعت فيه، وأبت أن تفطر،
فعلى ما ذكرنا في صوم التطوع. وأما صوم الكفارة، فهو على التراخي، فللزوج
منعها منه، وعن الماوردي أنه إذا لم يمنعها حتى شرعت فيه، فهل له إجبارها
على الخروج منه؟ وجهان، وحيث قلنا: تسقط النفقة بالصوم، فهل تسقط جميعها، أم
نصفها للتمكن من الاستمتاع ليلا؟ وجهان في التهذيب.
قلت: أرجحهما سقوط الجميع وقد سبق قريبا نظيره فيمن سلمت ليلا فقط،
أو عكسه. والله أعلم.
المسألة الثالثة: فرائض الصلوات الخمس لا منع منها، ولا تؤثر في النفقة
بحال، وهل له منعها من المبادرة بها في أول الوقت؟ وجهان، الأصح المنصوص
ليس له، لأن زمنها لا يمتد بخلاف الحج، والتطوعات المطلقة كصوم التطوع،
وفي السنن الراتبة وجهان، أصحهما: ليس له منعها لتأكدها، وله منعها من
تطويلها، وصوم يوم عرفة وعاشوراء كرواتب الصلاة، وصوم الاثنين والخميس
كالتطوع المطلق، فله منعها قطعا، وله منعها من الخروج لصلاة العيدين
والكسوفين، وليس له المنع من فعلها في المنزل، وقضاء الصلاة وفعل المنذورة
كمثلهما في الصوم.
473

المسألة الرابعة: الاعتكاف، إن خرجت له إلى المسجد بإذنه وهو معها لم
تسقط نفقتها، وإن لم يكن معها، فعلى الخلاف في الخروج للحج، وقيل: إن لم
تزد على يوم لم يؤثر قطعا، فإن كان بغير إذنه، نظر إن كان تطوعا، أو نذرا مطلقا أو
معينا نذرته بعد النكاح، سقطت نفقتها، وإن كان معينا نذرته قبل النكاح، فلا منع
منه، ولا تسقط به النفقة.
فصل أجرت نفسها قبل النكاح إجارة عين، قال المتولي: ليس للزوج
منعها من العمل، ولا نفقة عليه، وعن الحاوي أن له الخيار إن كان جاهلا
بالحال لفوات الاستمتاع عليه بالنهار، وأنه لا يسقط خياره بأن يرضى المستأجر
بالاستمتاع نهارا، لأنه تبرع قد يرجع فيه.
المانع الرابع: العدة، المعتدة الرجعية تستحق النفقة والكسوة وسائر المؤن
إلا آلة التنظف، سواء كانت أمة أو حرة، حاملا أو حائلا، ولا تسقط نفقتها إلا بما
تسقط به نفقة الزوجة، وتستمر إلى انقضاء العدة بوضع الحمل أو غيره. ولو ظهر
بها أمارات الحمل بعد الطلاق، لزم الزوج الانفاق عليها، فإذا أنفق، ثم بان أنه لم
يكن حمل، فله استرداد المدفوع إليها بعد انقضاء العدة، وتسأل عن قدر الأقراء،
فإن عينت قدرها، صدقناها باليمين إن كذبها الزوج، ولا يمين إن صدقها، وإن
قالت: لا أعلم متى انقضت عدتي، سألناها عن عادة حيضها وطهرها، فإن ذكرت
عادة مضبوطة، عملنا على قولها، وإن قالت: عادتي مختلفة، أخذنا بأقل
عاداتها، ورجع الزوج فيما زاد، لأنه المستيقن، وهي لا تدعي زيادة عليه، وإن
قالت: نسيت عادتي، فعن نص الشافعي رحمه الله أنه يرجع في نفقة ما زاد على
ثلاثة أشهر أخذا بغالب العادات، وقال الشيخ أبو حامد: يرجع فيما زاد على أقل ما
يمكن انقضاء العدة فيه، وبهذا قطع أبو الفرج، وإن انقطع الولد الذي أتت به عن
الزوج بأن ولدته لأكثر من أربع سنين، إما من وقت الطلاق، وإما من وقت انقضاء
العدة على الخلاف السابق، سئلت عن حال الولد، فإن قالت: هو من زوج
474

نكحته، أو وطئ شبهة حصل بعد ثلاثة أقراء، فعليها رد المأخوذ بعد الثلاثة. وإن
قالت: حصل ذلك في أثناء الأقراء، فقد انقطعت عدتها بوطئ الثاني وإحباله فتعود
بعد الوضع إلى ما بقي منها، وعليه النفقة في البقية، وأما في مدة الحمل، فتبنى
على أنه هل للزوج الرجعة فيها؟ وفيه وجهان سبقا في الرجعة والعدة، إن قلنا: لا
رجعة فلا نفقة، وإلا فوجهان، وقيل: إن قلنا له الرجعة، فلها النفقة، وإلا
فوجهان. وكيف كان، فالمذهب أنه لا نفقة في مدة الحمل وبه قطع الأكثرون،
فيسترجع ما أخذت لها. ولو قالت: وطئني الزوج، وأنكر، فهو المصدق بيمينه،
وتسأل عن وقت وطئه، فإن قالت: بعد انقضاء الأقراء، ردت ما زاد، وإن قالت،
عقب الطلاق، فقد بان أنها لم تقض عدته، فترد ما أخذت وتعتد بعد الوضع ثلاثة
أقراء، ولها النفقة فيها، هكذا ذكره ابن الصباغ وغيره، وإنما يستمر ذلك على
قولنا: إن العدتين المختلفتي الجنس من شخص لا تتداخلان.
فرع ادعت الرجعية تباعد الحيض، وامتداد الطهر، فالصحيح أنها تصدق
في استمرار النفقة إلى أن تقر بمضي العدة، كما تصدق في ثبوت الرجعة، وقيل:
لا تصدق في النفقة، فإنها حقها بخلاف الرجعة.
فرع وضعت حملا، وطلقها، فقال: طلقتك قبل وضعه، وانقضت
عدتك، فلا نفقة الآن، وقالت: بل طلقتني بعد الوضع، فلي النفقة، فعليها
العدة، ولها النفقة، لأن الأصل بقاء النكاح ولا رجعة له، لأنها بائن بزعمه، ولو
وطئها قبل الوضع في الزمن الذي يزعم هو أنها مطلقة فيه لم يلزمه مهر المثل، لأنها
تزعم أن الوطئ في النكاح. ولو اختلفا بالعكس، فقال: طلقتك بعد الولادة، فلي
الرجعة، وقالت: بل قبلها، وقد انقضت عدتي، فالقول قوله في بقاء العدة،
وثبوت الرجعة، ولا نفقة لها لزعمها.
فصل البائن بخلع، أو طلاق الثلاث لا نفقة لها ولا كسوة إن كانت
475

حائلا، وإن كانت حاملا، فعلى الزوج نفقتها وكسوتها، وهل هي للحمل أم
للحامل؟ قولان، أظهرهما للحامل بسبب الحمل، ويتفرع على القولين مسائل،
إحداها: المعتدة عن فرقة فسخ، في استحقاقها النفقة إذا كانت حاملا طرق،
أحدها: إن حصلت الفرقة بما لا مدخل لها فيه كردة الزوج، استحقت النفقة
كالمطلقة، وإن كان لها مدخل كفسخها بالعتق، أو بعيبه، أو فسخه بعيبها،
فقولان. والثاني: في المعتدات عن جميع الفسوخ قولان، والثالث وهو الأصح
وبه قال الجمهور: إن كان الفرقة بسبب عارض، كالرضاع والردة، فلها النفقة
كالطلاق وإن استند إلى سبب قارن العقد كالعيب والغرور فقولان. والرابع وبه قطع
المتولي: تستحق النفقة حيث تستحق السكنى وإلا فقولان، وقد سبق بيان
السكنى. وأما المفارقة باللعان إذا كانت حاملا ولم ينف حملها، ففيه الطرق، ولا
يخفى على الطريق الثالث أن اللعان سبب عارض، وأما على الأول فقيل: هو مما
لها فيه مدخل، لأنها أحوجته إليه، والأصح أنه كالطلاق، وإن نفى حملها لم تجب
النفقة، سواء قلنا: هي للحمل أم للحامل، وتستحق السكنى على الأصح في هذه
الحالة. ولو أبان زوجته بالطلاق، ثم ظهر بها حمل، وقلنا: له أن يلاعن لنفيه،
فلاعن، سقطت النفقة، قال القاضي أبو الطيب: فإن أثبتنا للملاعنة السكنى،
فهذه أولى، لأنها معتدة عن طلاق، وإلا فتحمل وجهين، وإذا لاعن وهي حامل
ونفاه ثم أكذب نفسه، واستلحق الولد، طولب بنفقة ما مضى، نص عليه فقيل: هو
تفريع على أن النفقة للحامل. أما إذا قلنا: للحمل: فلا مطالبة، لأن نفقة القريب
تسقط بمضي المدة، وقال الجمهور: تثبت المطالبة على القولين، وهو المذهب،
لأنها وإن كانت للحمل، فهي مصروفة إلى الحامل وهي صاحبة حق فيها فتصير دينا
كنفقة الزوجة. ولو أكذب نفسه بعدما أرضعت الولد، رجعت عليه بأجرة الرضاع
على الصحيح المنصوص في الام ولو أنفقت على الولد مدة، ثم رجع، رجعت
عليه بما أنفقت على الصحيح المنصوص، لأنها أنفقت على ظن وجوبه عليها، فإذا
بان خلافه، ثبت الرجوع، كما لو ظن أن عليه دينا فقضاه، فبان خلافه يرجع،
وكما لو أنفق على أبيه على ظن إعساره، فبان موسرا، يرجع عليه بخلاف المتبرع.
476

المسألة الثانية في وجوب نفقة الحامل المعتدة عن نكاح فاسد، أو وطئ
شبهة، وجهان، إن قلنا: للحمل وجبت، وإلا فلا. هذا إذا كانت الموطوءة بشبهة
غير منكوحة، فإن كانت منكوحة وأوجبنا نفقتها على الواطئ، سقطت عن الزوج
قطعا، وإلا فعلى الأصح واستحسن في الوسيط أنها إن وطئت نائمة أو مكرهة،
فلها النفقة، وإن مكنت على ظن أنه زوجها، فلا نفقة، لأن الظن لا يؤثر في
الغرامات.
المسألة الثالثة: المعتدة عن الوفاة لا نفقة لها، وإن كانت حاملا، سواء قلنا
للحامل أو للحمل، لأن نفقة القريب تسقط بالموت.
الرابعة: هل تتقدر النفقة الواجبة كنفقة صلب النكاح، أم تعتبر كفايتها،
سواء زادت أم نقصت؟ فيه طريقان، المذهب، وبه قطع الجمهور أنها مقدرة،
وشذ الامام ومتابعوه فحكوا خلافا.
الخامسة: إذا مات زوج البائن الحامل قبل الوضع، إن قلنا: النفقة
للحمل، سقطت، لأن نفقة القريب تسقط بالموت، وإن قلنا: للحامل فوجهان،
أصحهما عند الامام وبه قال ابن الحداد: تسقط أيضا لأنها كالحاضنة للولد، ولا
تجب نفقة الحاضنة بعد الموت، وقال الشيخ أبو علي: لا تسقط، لأنها لا تنتقل
إلى عدة الوفاة، بل تتم عدة الطلاق، والطلاق موجب.
477

قلت: قال المتولي: وكما تستحق البائن الحامل النفقة، تستحق الأدم
والكسوة سواء قلنا النفقة للحامل أو للحمل. والله أعلم.
فرع لا يجب تسليم النفقة قبل ظهور الحمل، سواء قلنا: هي للحمل أم
للحامل، فإذا ظهر هل يجب تسليمها يوما بيوم، أم تؤخر إلى أن تضع، فتسلم
الجميع دفعة واحدة؟ قولان، أظهرهما الأول لقول الله تعالى: * (وإن كن أولات
حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) * فإن قلنا: تؤخر، فقالت: وضعت،
فكذبها، فعليها البينة. وإن قلنا بالتعجيل، فادعت ظهور الحمل، وأنكر فكذلك
وتقبل فيهما شهادة النساء، وقيل: لا يعتمد قولهن إلا بعد مضي ستة أشهر،
والصحيح الذي عليه الجمهور أن ذلك ليس بشرط. ولو كان ينفق على ظن الحمل،
فبان أن لا حمل، فإن أوجبنا التعجيل، أو أمره به الحاكم، رجع عليها، وإلا فإن
لم يذكر أن المدفوع نفقة معجلة لم يرجع، ويكون متطوعا، وإن ذكره وشرط
الرجوع رجع، وإلا فوجهان، أصحهما: يرجع، وخرج القفال من هذه المسألة أن
الدلال إذا باع متاعا لانسان، فأعطاه المشتري شيئا وقال: وهبته لك، أو قال له
الدلال: وهبته لي، فقال: نعم، فإن علم المشتري أنه ليس عليه أن يعطيه شيئا،
فله قبوله، وإن ظن أنه يلزمه أن يعطيه، فلا، وللمشتري الرجوع فيه وأجرة الدلال
على البائع الذي أمره بالبيع.
فرع لو لم ينفق عليها حتى وضعت، أو لم ينفق في بعض المدة،
فالمذهب أنه لا تسقط نفقة المدة الماضية، بل يلزمه دفعها إليها، وبهذا قطع
الجمهور، وقيل: في سقوطها خلاف مبني على أنها للحمل أم للحامل.
478

فرع لو كان زوج البائن الحامل رقيقا، إن قلنا: النفقة للحامل لزمته،
وإلا فلا، لأنه لا يلزمه نفقة القريب. ولو كان الحمل رقيقا ففي وجوب النفقة على
الزوج حرا كان أو عبدا قولان، إن قلنا: للحمل لم تجب، بل هي على المالك
وإلا فتجب.
فرع ذكر ابن كج أنه لو كان الحمل موسرا، وقلنا: النفقة للحمل وأنها
تؤخر إلى أن تضع، فإذا وضعت سلمت النفقة من مال الولد إلى الام، كما تنفق عليه
في المستقبل من ماله، قال: ويحتمل عندي أن يكون ذلك على الأب، وإن قلنا:
يجب التعجيل، لم تؤخذ من مال الحمل، بل ينفق الأب عليها، فإذا وضعت،
ففي رجوعه في مال الولد وجهان.
فرع اختلفا فقالت: وضعت اليوم، وطالبت بنفقة شهر قبله، وقال: بل
وضعت من شهر قبله، فالقول قولها، لأن الأصل عدم الوضع وبقاء النفقة. ولو وقع
هذا الاختلاف والزوجة رقيقة، فإن قلنا النفقة للحمل، فلا معنى لهذا الاختلاف،
ولا شئ عليه قبل الوضع ولا بعده، وإن قلنا: للحامل، فهي كالحرة. ولو وقع
هذا الاختلاف بين موطوءة بشبهة، أو نكاح فاسد، وبين الواطئ، فإن أوجبنا نفقتها
بناء على أن النفقة للحمل، فالقول قولها بيمينها، وإن لم نوجبها، فلا معنى
للاختلاف، لكن لو اختلفا على العكس لنفقة الولد، فقالت: ولدت من شهر،
فعليك نفقة الولد لشهر، وقال: بل ولدت أمس، بني على أن الام إذا أنفقت على
الولد أو استدانت للنفقة عليه، هل ترجع على الأب؟ وسيأتي بيانه إن شاء الله
تعالى.
فرع أبرأت الزوج من النفقة، قال المتولي: إن قلنا النفقة للحامل،
سقطت، وإن قلنا: للحمل، فلا، ولها المطالبة بعد الابراء، ولك أن تقول: إن
كان الابراء عن نفقة الزمن المستقبل، فقد سبق حكمه، وإن كان عما مضى،
فالنفقة مصروفة إليها على القولين، وقد سبق أن الراجح أنها تصير دينا لها حتى
تصرف إليها بعد الوضع، فينبغي أن يصح إبراؤها على القولين.
479

فرع ذكر المتولي أنه لو أعتق أم ولده وهي حامل منه، لزمه نفقتها إن
قلنا: النفقة للحمل، وإن قلنا: للحامل فلا، وأنه لو مات، وترك أباه وامرأته
حبلى، لها مطالبة الجد بالنفقة إن قلنا: النفقة للحمل، وإن قلنا: للحامل فلا،
وقطع البغوي بأنها لا تطالب الجد، ويقرب منه كلام الشيخ أبي علي.
فرع نشزت الزوجة وهي حامل، حكى ابن كج تخريج سقوط النفقة على
أنها للحمل أو للحامل، والمذهب القطع بسقوطها، وإنما الخلاف في البائن لا في
الزوجة.
فرع لو أنفق على من نكحها نكاحا فاسدا مدة، ثم بان فساد النكاح وفرق
بينهما، قال الأصحاب: لا يسترد ما أنفق عليها، بل يجعل ذلك في مقابلة
استمتاعه، وسواء كانت حاملا أو حائلا. وبالله التوفيق.
الباب الثالث في الاعسار بنفقة الزوجة
فيه أربعة أطراف:
الأول: في ثبوت الفسخ به، فإذا عجز الزوج عن القيام بمؤن الزوجة الموظفة
عليه، فالذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في كتبه قديما وجديدا أنها بالخيار إن
شاءت صبرت، وأنفقت من مالها، أو اقترضت، وأنفقت على نفسها، ونفقتها في
ذمته إلى أن يوسر، وإن شاءت طلبت فسخ النكاح، وقال في بعض كتبه بعد ذكر
هذا: وقد قيل: لا خيار لها. وللأصحاب طريقان، أحدهما: القطع بأن لها حق
الفسخ، وهذا أرجح عند ابن كج والروياني، وأصحهما: إثبات قولين المشهور
منهما أن لها الفسخ، والثاني: لا. فالمذهب ثبوت الفسخ، فأما إذا امتنع من دفع
النفقة مع قدرته فوجهان، أحدهما: لها الفسخ لتضررها، وأصحهما: لا فسخ
لتمكنها من تحصيل حقها بالسلطان، وكذا لو قدرت على شئ من ماله، أو غاب
وهو موسر في غيبته، ولا يوفيها حقها، ففيه الوجهان، أصحهما: لا فسخ وكان
المؤثر تغيبه لخراب ذمته، ولكن يبعث الحاكم إلى حاكم بلده، ليطالبه إن كان
480

موضعه معلوما، وعلى الوجه الآخر: يجوز الفسخ إذا تعذر تحصيلها، وهو اختيار
القاضي الطبري وإليه مال ابن الصباغ، وذكر الروياني وابن أخته صاحب العدة
أن المصلحة الفتوى به، وإذا لم نجوز الفسخ، والغائب موسر، فجهلنا يساره
وإعساره، فكذلك الحكم، لأن السبب لم يتحقق، ومتى ثبت إعسار الغائب عند
حاكم بلدها، فهل يجوز الفسخ، أم لا يفسخ حتى يبعث إليه فإن لم يحضر، ولم
يبعث النفقة، فحينئذ يفسخ؟ فيه وجهان، أصحهما الأول، وبه قطع المتولي. ولو
كان الرجل حاضرا، وماله غائب، فإن كان على دون مسافة القصر، فلا فسخ،
ويؤمر بتعجيل الاحضار، وإن كان على مسافة القصر، فلها الفسخ ولا يلزمها
الصبر. ولو كان له دين مؤجل، فلها الفسخ إلا أن يكون الاجل قريبا، وينبغي أن
يضبط القرب بمدة إحضار المال الغائب فيما دون مسافة القصر. وإن كان الدين
حالا وهو على معسر، فلها الخيار، وإن كان على موسر حاضر، فلا خيار، وإن
كان غائبا فوجهان. ولو كان له دين على زوجته، فأمرها بالانفاق منه، فإن كانت
موسرة، فلا خيار لها، وإن كانت معسرة، فلها الفسخ، لأنها لا تصل إلى حقها،
والمعسر منظر، وعلى قياس هذه الصور لو كان له عقار ونحوه لا يرغب في شرائه
ينبغي أن يكون لها الخيار، ومن عليه ديون تستغرق ماله لا خيار لزوجته حتى يصرف
ماله إلى الديون.
لو تبرع رجل بأداء النفقة عن المعسر، لم يلزمها القبول، ولها الفسخ
كما لو كان له دين على إنسان فتبرع غيره بقضائه، لا يلزمه القبول، لأن فيه منة
للمتبرع، وحكى ابن كج وجها أنه لا خيار لها، لعدم تضررها بفوات النفقة،
والصحيح الأول. قال المتولي: ولو كان بالنفقة ضامن، ولم نصحح ضمان النفقة
فالضامن كالمتبرع، وإن صححناه، فإن ضمن بإذن الزوج، فلا خيار، وبغير إذنه
وجهان.
فرع لو لم يعطها الموسر إلا نفقة المعسر، فلا فسخ، ويصير الباقي دينا
481

فصل القدرة بالكسب كالقدرة بالمال، فلو كان يكسب كل يوم قدر النفقة
فلا خيار، ولو كان يكسب في يوم ما يكفي لثلاثة أيام، ثم لا يكسب يومين أو ثلاثة،
ثم يكسب في يوم ما يكفي للأيام الماضية فلا خيار، لأنه غير معسر، ولا تشق
الاستدانة لما يقع من التأخير اليسير. وكذا الحكم في النساج الذي ينسج في
الأسبوع ثوبا تفي أجرته بنفقة الأسبوع، كذا قاله أبو إسحاق والماوردي وصاحبا
المهذب والتهذيب وقد ذكرنا في المال الغائب على مسافة القصر أن لها
الخيار، وقد يمكن إحضاره فيما دون أسبوع، والوجه التسوية.
قلت: المختار هنا أنه لا خيار كما ذكره هؤلاء الأئمة. والله أعلم.
وإذا عجز العامل عن العمل لمرض، فلا فسخ إن رجي زواله في نحو ثلاثة
أيام، وإن كان يطول، فلها الفسخ، قال المتولي: ولو كان يكسب في بعض
الأسبوع نفقة جميعه، فتعذر العمل في أسبوع لعارض فلها الخيار على الأصح،
وإذا لم يستعمل البناء والنجار، وتعذرت النفقة كذلك، قال الماوردي: لا خيار إن
كان ذلك نادرا، وإن كان يقع غالبا، فلها الخيار.
فرع القادر على الكسب إذا امتنع كالموسر الممتنع إن أوجبنا الاكتساب
لنفقة الزوجة، وفيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى.
فصل إنما يثبت الفسخ بالعجز عن نفقة المعسر، فلو عجز عن نفقة
المتوسط، فلا خيار. ولو قدر كل يوم على دون نصف مد، أو يوما مدا، ويوما لا
يجد شيئا، فلها الخيار على الصحيح. ولو وجد بالغداة ما يغديها، وبالعشي ما
482

يعشيها، فلا خيار على الأصح.
فصل لو أعسر بالأدم، فلا خيار على الأصح عند الأكثرين، وقال
الداركي: يثبت. وقال الماوردي: إن كان القوت مما ينساغ دائما للفقراء بلا أدم
فلا خيار، وإلا فيثبت.
فصل يثبت الخيار بالاعسار بالكسوة على المذهب، وبالمسكن على
الأصح، ولا يثبت بالاعسار بنفقة الخادم على الصحيح المنصوص، لأنه ليس
ضروريا.
فصل الاعسار بالمهر فيه طرق منتشرة، المذهب منها عند الجمهور يثبت
الفسخ إن كان قبل الدخول، ولا يثبت بعده، وقيل: يثبت فيهما قطعا ورجحه
البغوي وغيره، وقيل بالمنع قطعا، وقيل قولان، وقيل: يثبت قبله وفي بعده
قولان، وقيل: لا يثبت بعده، وفي قبله قولان، ولا خيار للمفوضة لأنها لا تستحق
المهر بالعقد على الأظهر، لكن لها المطالبة بالفرض، فإذا فرض صار كالمسمى.
فصل إذا لم ينفق على زوجته مدة، وعجز عن أدائها لم يكن لها الفسخ
بسبب ما مضى حتى لو لم يفسخ في يوم جواز الفسخ، فوجد نفقة بعده، فلا فسخ
لها بنفقة الأمس، وما قبله كسائر ديونها، وقيل: هو كالاعسار بالمهر بعد الدخول،
وليس بشئ، ثم نفقة الماضي لا تسقط، بل تبقى دينا في ذمته، سواء ترك الانفاق
بعذر أم لا، وسواء فرض القاضي نفقتها، أم لا، ويثبت الأدم في الذمة كالنفقة،
وكذا نفقة الخادم على المشهور، وتثبت الكسوة إن قلنا: يجب فيها التمليك. وإن
قلنا: إمتاع فلا، ولا تثبت مؤنة السكنى على المذهب.
الطرف الثاني: في حقيقة هذه الفرقة، فإذا ثبت حق التفريق بسبب الاعسار،
فلا بد من الرفع إلى القاضي، لأنه مجتهد فيه، وحكى المتولي وغيره وجها أن
483

للمرأة أن تتولى الفسخ بنفسها من غير رفع إلى القاضي، كفسخ البيع بالعيب،
والصحيح المنصوص الأول، وبه قطع الجمهور، وعلى هذا يتولى القاضي الفسخ
بنفسه، أو يأذن لها فيه، وهو مخير فيهما. وقيل: إنما يستقل بالفسخ بعد ثبوت
الاعسار عنده، والصحيح الأول. وتكون هذه الفرقة فسخا على الصحيح
المنصوص، وفي قول مخرج هي طلاق، فعلى هذا يأمره الحاكم بالتحمل في
الانفاق، فإن أبى، فهل يطلق الحاكم بنفسه، أم يحبسه ليطلق؟ فيه القولان في
المولى، فإن طلق، طلق طلقة رجعية، فإن راجع، طلق ثانية وثالثة، أما إذا لم
ترفع إلى القاضي، بل فسخت بنفسها لعلمها بعجزه، فلا ينفذ ظاهرا، وهل ينفذ
باطنا حتى إذا ثبت إعساره متقدما على الفسخ إما باعتراف الزوج، وإما ببينة يكتفى
به وتحسب العدة منه؟ فيه وجهان، قال في البسيط: ولعل هذا فيما إذا قدرت
على الرفع إلى القاضي، فإن لم يكن في الناحية قاض ولا محكم، فالوجه إثبات
الاستقلال بالفسخ.
الطرف الثالث: في وقت الفسخ قد سبق أنها تستحق تسلم النفقة كل يوم
بطلوع الفجر، فإذا عجز، فهل ينجز الفسخ، أم يمهل ثلاثة أيام؟ قولان،
أظهرهما: الامهال، وقطع به جماعة وادعى ابن كج أنه طريقة الجمهور، فإن قلنا:
لا يمهل ثلاثا فوجهان، أحدهما: لها المبادرة إلى الفسخ في أول النهار، وأقربهما
ليس لها المبادرة، فعلى هذا هل يؤخر الفسخ إلى نصف النهار، أم إلى آخره، أم
إلى آخر الليلة بعده؟ فيه احتمالات، أرجحها عند الغزالي الثالث، ثم هذا إذا لم
يتخذ ذلك عادة، فأما إن اعتاد إحضار الطعام ليلا، فلها الفسخ، ويقرب من هذا ما
ذكره صاحب العدة أنه لو لم يجد النفقة في أول النهار، وكان يجدها في آخره،
فلها الفسخ على الأصح. فإذا قلنا: لا فسخ في أول النهار، فلو قال صبيحة اليوم:
أنا عاجز لا أتوقع شيئا، فهل لها الفسخ في الحال لتصريحه بالعجز، أم يلزم
التأخير، فقد يرزق من حيث لا يحتسب؟ فيه احتمالان، أرجحهما: الثاني. أما
المذهب وهو الامهال ثلاثة أيام، فيتفرع عليه مسألتان، إحداهما: إذا مضت الثلاثة
فلها الفسخ صبيحة الرابع إن لم يسلم نفقته، وإن سلمها، لم يجز الفسخ لما
484

مضى، وليس لها أن تقول: آخذ هذا عن نفقة بعض الأيام الثلاثة، وأفسخ بتعذر
نفقة اليوم، لأن الاعتبار في الأداء بقصد المؤدي، فلو توافقا على جعلها عما
مضى، فيحتمل أن يقال: لها الفسخ، ويحتمل أن تجعل القدرة عليها مبطلة
للمهلة، ولو مضى يومان بلا نفقة، ووجد نفقة الثالث، وعجز في الرابع، فهل
تستأنف المدة، أم يبنى فتصير يوما آخر فقط؟ وجهان، أصحهما البناء، ولو لم
يجد نفقة يوم ووجد نفقة الثاني، وعجز في الثالث، وقدر في الرابع، لفقت أيام
العجز فإذا تمت مدة المهلة، فلها الفسخ، ولو مضت ثلاثة أيام في العجز، ووجد
نفقة الرابع، وعجز في الخامس، فالأصح وبه قال الداركي: أن لها الفسخ،
ويكفي الامهال السابق، قال الروياني: وقيل: يمهل مرة أخرى إن لم تتكرر.
المسألة الثانية: يجوز لها الخروج في مدة الامهال لتحصيل النفقة بكسب أو
تجارة أو سؤال، وليس له منعها من الخروج، وقيل: له منعها، وقيل: إن قدرت
على الانفاق بمالها، أو كسب في بيتها كالخياطة والغزل، فله منعها، وإلا فلا،
والصحيح المنصوص أنه ليس له منعها مطلقا، لأنه إذا لم يوف ما عليه لا يملك
الحجر. قال الروياني: وعليها أن تعود إلى منزله بالليل. ولو أراد الاستمتاع بها قال
الروياني: ليس لها المنع، وقال البغوي: لها المنع وهو أقرب، ولا شك أنها إذا
منعت نفسها منه لا تستحق نفقة مدة الامتناع، فلا تثبت دينا عليه.
فرع إذا قلنا بالامهال، فمضت المدة، فرضيت بإعساره والمقام معه، أو
لم نقل بالامهال، فرضيت ثم أرادت الفسخ، فلها الفسخ، لأن الضرر متجدد ولا
أثر لقولها: رضيت بإعساره أبدا، لأنه وعد لا يلزم الوفاء به، ولو نكحته عالمة
بإعساره، فلها الفسخ أيضا، وإذا عادت إلى طلب الفسخ بعد الرضى، جدد
485

الامهال على قولنا: يمهل، ولا يعتد بالماضي، وفيه احتمال للامام
والروياني
وهو ضعيف، وإذا اختارت المقام معه، لم يلزمها التمكين من الاستمتاع، ولها
الخروج من المنزل ذكره البغوي وغيره، فإن لم تمنع نفسها منه، ثبت في ذمته ما
يجب على المعسر من الطعام والأدم وغيرهما، وخروجها بالنهار للاكتساب لا يوجب
نقصان ما يثبت في ذمته.
فرع إذا أعسر بالمهر، ومكنها الحاكم من الفسخ، فرضيت بالمقام معه،
ثم أرادت الفسخ، فليس لها، لأن الضرر لا يتجدد هكذا أطلقه الجمهور، وهو
المذهب، وقال الماوردي: إن كانت المحاكمتان معا قبل الدخول، أو بعده،
فكذلك، وإن كانت المحاكمة الأولى قبل الدخول، والأخرى بعده، فوجهان.
وجه تجويز الفسخ أن بالدخول استقر ما لم يكن مستقرا، فالاعسار به يجدد خيارا،
ولو نكحته عالمة بإعساره بالصداق، فليس لها الفسخ على الأصح، كما لو
رضيت به في النكاح، ثم بدا لها، بخلاف النفقة، وليس لها الامتناع بعد الدخول
إذا مكناها من الفسخ، واختارت المقام، ولا بد في الاعسار بالمهر من حكم
القاضي كالنفقة، والخيار فيه بعد المرافعة على الفور، فلو أخرت الفسخ،
سقط، ولو علمت إعساره، وأمسكت عن المحاكمة، فإن كان كذلك بعد طلبها
المهر، كان رضى بالاعسار، وسقط خيارها، وإن كان قبل المطالبة، لم يسقط،
فقد تؤخر المطالبة لتوقع اليسار ذكره الروياني.
الطرف الرابع: فيمن له حق الفسخ، وهو للزوجة إن شاءت، فسخت، وإن
شاءت صبرت، ولا اعتراض للولي عليها، وليس له الفسخ بغير توكيلها، وليس
لولي الصغيرة والمجنونة الفسخ، وإن كان فيه مصلحتهما، وينفق عليهما من
مالهما، فإن لم يكن لهما مال فنفقتهما على من عليه نفقتهما لو كانتا خليتين، وتصير
486

نفقة الزوجة دينا عليه يطالب به إذا أيسر، وكذا لا يفسخ الولي بإعسار الزوج بالمهر
إن جعلناه مثبتا للخيار، ولو أعسر زوج الأمة بالنفقة فلها الفسخ كما تفسخ بجبه،
ولأنها صاحبة حق في تناول النفقة، فإن أرادت الفسخ، لم يكن للسيد منعها، فإن
ضمن النفقة، فهو كالأجنبي يضمنها، ولو رضيت بالمقام، أو كانت صغيرة أو
مجنونة، فهل للسيد الفسخ؟ فيه أوجه، الأصح: ليس له، وبه قطع ابن الحداد
والبغوي وجماعة، وعلى هذا لا يلزم السيد نفقة الكبيرة العاقلة، بل يقول: افسخي
أو اصبري على الجوع، والثاني: له، والثالث: له في الصغيرة والمجنونة. وأما
إذا أعسر زوجها بالمهر، وقلنا: يثبت به الفسخ، فالفسخ للسيد، لأنه محض حقه
لا تعلق للأمة به، ولا ضرر عليها في فواته، وقيل: ليس له الفسخ، وهو غلط.
فرع قال الامام والغزالي: تتعلق نفقة الأمة المزوجة بالأمة وبالسيد، أما
السيد، فلأنها تدخل في ملكه، لأن الأمة لا تملك، لكنها بحكم النكاح مأذون لها
في القبض، وبالعرف في تناول المقبوض.
وأما الأمة فلها مطالبة الزوج، كما كانت تطالب السيد، وإذا أخذتها، فلها أن
تتعلق بالمأخوذ ولا تسلم إلى السيد حتى تأخذ بدله، وله الابدال لحق الملك.
والحاصل أن له حق الملك ولها حق التوثق، ولا يجوز للسيد الابراء من نفقتها، ولا
بيع المأخوذ قبل تسليم البدل إليها، وفي التتمة ما يخالف بعض هذه الجملة،
فإنه قال: حق الاستيفاء للسيد، فلو سلمها الزوج إليها بغير إذن السيد لم يبرأ،
ولهذا لو قبض النفقة، وأنفق عليها من ماله، جاز، والأول أصح، وذكر البغوي أنها
لو أبرأت الزوج عن نفقة اليوم، جاز، وليس لها الابراء عما صار دينا في ذمته، كما
في الصداق، وقد تنازع قياس الملك في الابراء من نفقة اليوم، لكن نفقة اليوم
للحاجة الناجزة، وكانا لا يثبت الملك للسيد إلا بعد الاخذ، وأما قبله فتمحض الحق
لها، ولو اختلفت الأمة وزوجها في تسليم نفقة اليوم، أو أيام مستقبلة، فالقول قولها
بيمينها، ولا أثر لتصديق السيد الزوج، ولو اختلفا في النفقة الماضية، وصدق
487

السيد الزوج، فوجهان، أحدهما: كان السيد شاهدا له، ولا يثبت المدعى
بتصديقه، وأصحهما: يثبت، وتكون الخصومة في النفقة الماضية للسيد، لا لها
كالمهر، وبهذا قطع المتولي، كما لو أقر السيد بأن العبد جنى خطأ، وأنكر
العبد، لا يلتفت إلى إنكاره. ولو أقرت الأمة بالقبض، وأنكر السيد، فالصحيح
المنصوص: أن القول قولها، لأن القبض إليها بحكم النكاح، أو صريح الاذن،
وقيل: قول السيد، لأنه المالك.
فصل جميع ما ذكرناه تفريع على المذهب، وهو ثبوت الفسخ بالاعسار
بالنفقة، فإذا قلنا: لا يثبت، فلها الخروج من المسكن لطلب النفقة إن احتاجت إليه
لتحصيلها، وكذا لو أمكنها أن تنفق من مالها في المسكن، أو أن تكسب بغزل ونحوه
في المسكن على الأصح، ولها منعه من الوطئ على الأصح، وشرط الغزالي فيه
كونها لم تمكن من قبل، ولم يشترطه الأكثرون.
فصل إذا مضت مدة لم ينفق فيها على الزوجة، فاختلفا، فقالت: كنت
موسرا في تلك المدة، وقال: كنت معسرا، فإن عرف له مال، فالقول قولها، وإلا
فقوله.
فصل قد سبق أن نفقة زوجة العبد من أين تكون؟ وإذا لم يكن العبد مأذونا
له في التجارة، ولا كسوبا فقد حكينا قولا قديما أن المهر على سيده، ويكون بالاذن
في النكاح ضامنا. قال الخضري وغيره: وذلك القول يجئ في النفقة بطريق
الأولى، لأن الحاجة إليها أمس. فلو كان العبد ينفق من كسبه، فعجز بزمانة
وغيرها، فعلى القديم للزوجة مطالبة السيد، وعلى الأظهر لها أن تفسخ، أو تصير
نفقتها دينا في ذمة العبد.
فصل إذا عجز عن نفقة أم ولده، فعن الشيخ أبي زيد أنه يجبر على
عتقها، أو تزويجها إن وجد راغب فيها، وقال غيره: لا يجبر عليه بل يخليها
488

لتكسب وتنفق على نفسها.
قلت: هذا الثاني أصح، فإن تعذرت نفقتها بالكسب، فهي في بيت
المال. والله أعلم.
فصل قد سبق في كتاب الضمان، ضمان النفقة، وبالله التوفيق.
الباب الرابع في نفقة الأقارب
سبق أن أحد أسباب وجوب النفقة والمؤن: القرابة، وفيه طرفان:
الأول: في مناط هذه النفقة، وشرائط وجوبها وكيفيتها، وفيه مسائل:
إحداها: إنما تجب النفقة بقرابة البعضية، فتجب للولد على الوالد
وبالعكس، وسواء فيه الأب والأم والأجداد والجدات وإن علوا، والبنون والبنات
والأحفاد وإن نزلوا، الذكر والأنثى والوارث وغيره والمسلم والكافر من الطرفين،
وفي وجه: لا تجب على المسلم نفقة كافر، وفي وجه: لا تجب على الام نفقة
بحال، حكاهما ابن كج، وهما شاذان ضعيفان، ولا يلحق بالأصول والفروع سائر
الأقارب كالأخ والأخت، والعم والخال، والعمة والخالة وغيرهم.
الثانية: لا تجب نفقة القريب إلا على موسر، وهو من فضل عن قوته وقوت
عياله في يوم وليلة ما يصرفه إلى القريب، فإن لم يفضل شئ، فلا شئ عليه،
489

وفي التهذيب وغيره وجه: أنه لا يشترط يسار الوالد في نفقة الولد الصغير، فعلى
هذا يستقرض عليه، ويؤمر بقضائه إذا أيسر، والصحيح: الأول. ويباع في نفقة
القريب ما يباع في الدين من العقار وغيره، لأنها حق مالي لا بدل له، فأشبه الدين،
وفي كيفية بيع العقار وجهان، حكاهما ابن كج، أحدهما: يباع كل يوم جزء بقدر
الحاجة. والثاني: أن ذلك يسبق، فيقترض عليه إلى أن يجمع ما يسهل بيع العقار
له.
الثالثة: إذا لم يكن مال، لكنه كان ذا كسب يمكنه أن يكسب ما يفضل عنه، فهل
يكلف الكسب لنفقة القريب؟ فيه أوجه، أحدهما: لا كما لا يكلف الكسب لقضاء
الديون. والثاني وهو الصحيح وبه قطع الأكثرون، لأنه يلزمه إحياء نفسه بالكسب
فكذا أصله وفرعه، ويخالف الدين، فإنه لا ينضبط والنفقة يسيرة. والثالث: يكلف
للولد دون الوالد.
فرع يجب الاكتساب لنفقة الزوجة على المذهب، ونقل الامام وغيره فيه
وجهين لالتحاقها بالديون.
الرابعة: من له مال يكفيه لنفقته، أو هو مكتسب لا تجب نفقته على
القريب، سواء كان مجنونا صغيرا زمنا أو بخلافه، ومن لا مال له ولا هو مكتسب،
ينظر، إن كان به نقص في الحكم كالصغير والمجنون، أو في الخلقة كالزمن
والمريض والأعمى، لزم القريب نفقته، فإذا بلغ الصغير والمجنون حدا يمكن أن
يعلم حرفة، أو يحمل على الكسب، فللولي أن يحمله عليه، وينفق عليه من
كسبه، لكن لو هرب عن الحرفة، أو ترك الاكتساب في بعض الأيام، فعلى القريب
نفقته، وكذا لو كان لا تليق به الحرفة، وإن لم يكن به نقص في الحكم ولا في
490

الخلقة، لكنه كان لا يكتسب مع القدرة على الكسب، فإن كان من الفروع
لم تجب
نفقته على المذهب، سواء فيه الابن والبنت، وإن كان من الأصول وجبت على الأظهر
، لأن الله تعالى أمر بمصاحبتهم بالمعروف، وليس من المعروف تكليفهم
الكسب مع كبر السن، وكما يجب الاعفاف، ويمتنع القصاص، ولحرمة
الوالدين. هذه طريقة الجمهور، ولم يفرقوا بين اكتساب واكتساب، ومنهم من
جعل الخلاف أولا في اشتراط العجز عن كسب يليق به، ثم قالوا: إن شرط ذلك
ففي اشتراط العجز عن كل كسب يليق به بالزمانة، وجهان، ورأوا الأعدل الأقرب
الاكتفاء بعجزه عما يليق به من الأكساب، وأوجبوا النفقة مع القدرة على الكنس
وحمل القاذورات، وسائر ما لا يليق به، وهذا حسن.
الخامسة: نفقة القريب لا تتقدر، بل هي قدر الكفاية، وعن ابن خيران أنها
تتقدر بقدر نفقة الزوجة، والصحيح الأول، لأنها تجب لتزجية الوقت ودفع حاجته
الناجزة، فتعتبر الحاجة وقدرها، حتى لو استغنى في بعض الأيام بضيافة وغيرها،
لم تجب، وتعتبر حاله في سنه وزهادته ورغبته، فالرضيع تكفي حاجته بمؤنة
الارضاع في الحولين، والفطيم والشيخ ما يليق بهما، ولا يشترط انتهاء المتفق عليه
إلى حد الضرورة، ولا يكفي ما يسد الرمق، بل يعطيه ما يستقل به، ويتمكن معه
من التردد والتصرف، ويجب الأدم كما يجب القوت، وفي التهذيب نزاع في
الأدم، وتجب الكسوة والسكنى على ما يليق بالحال، وإذا احتاج إلى الخدمة،
وجبت مؤنة الخادم.
السادسة: تسقط نفقة القريب بمضي الزمان، ولا يصير دينا في الذمة، سواء
491

تعدى بالامتناع من الانفاق أم لا، وفي الصغير وجه، أنها تصير دينا تبعا لنفقة
الزوجة، والصحيح الأول، لأنها مواساة، ولهذا قال الأصحاب: لا يجب فيها
التمليك، وإنما يجب الامتناع، ولو سلم النفقة إلى القريب، فتلفت في يده أو
أتلفها، وجب الابدال، لكن إذا أتلفها، لزمه ضمانها إذا أيسر، ويستثنى ما إذا
أقرضها القاضي، أو أذن في الاقتراض لغيبة أو امتناع، فيصير ذلك دينا في
الذمة.
السابعة: قد سبق في النكاح أن الابن يلزمه إعفاف أبيه على المشهور، وأنه
إذا أعفه بزوجة، أو ملكه جارية، لزمه نفقتها ومؤنتها حيث تلزمه نفقة الأب، فلو
كان للأب أم ولد لزم الولد أيضا نفقتها، ولو كان تحته زوجتان فأكثر، لم يلزمه إلا
نفقة واحدة، ويدفع تلك النفقة إلى الأب وهو يوزعها عليهما، ولكل واحدة
الفسخ لفوات بعض حقها، فإن فسخت واحدة تمت النفقة للأخرى، وحكى الشيخ
أبو علي وجها أنه إذا كان تحت الأب زوجتان فأكثر، لم يلزم الولد لهما شيئا، لان
المستحقة لا تتعين، وهو شاذ ضعيف. ولو كان للأب أولاد فوجهان، قال المتولي:
يلزم الابن الانفاق عليهم، لأن نفقتهم على الأب، فيتحملها الابن عنه كنفقة
492

الزوجة، والصحيح: أنه لا يجب، وبه قطع الشيخ أبو علي، ويخالف الزوجة،
فإنها إن لم ينفق فسخت، فيتضرر الأب، ولأن نفقتها تجب على الأب وإن كان
معسرا.
فرع إذا كان الابن في نفقة أبيه، وله زوجة، فوجهان، حكاهما القاضي
أبو حامد وغيره، أحدهما: يلزم الأب نفقتها ونفقة كل قريب وجبت نفقته، لأنه من
تمام الكفاية، وبهذا قطع صاحب المهذب وأصحهما: لا تلزمه لأنه لا يلزم الأب
إعفاف الابن.
فرع كما تجب على الابن نفقة زوجة الأب، تجب عليه كسوتها، قال
البغوي: ولا يلزم الأدم، ولا نفقة الخادم لأن فقدهما لا يثبت الخيار، لكن قياس ما
ذكرنا أن الابن يتحمل ما لزم الأب وجوبهما لأنهما واجبان على الأب مع إعساره.
الثامنة: إذا امتنع الأب من الانفاق على الولد الصغير، أو كان غائبا، أذن
القاضي لامه في الاخذ من ماله، أو الاستقراض عليه، والانفاق على الصغير بشرط
أهليتها لذلك، وهل تستقل بالأخذ من ماله؟ وجهان، أصحهما: نعم لقصة هند.
والثاني: المنع، لأنها لا تتصرف في ماله، وتحمل قصة هند على أنه كان قضاء،
أو إذنا لها لا إفتاء وحكما عاما، وفي استقلالها بالاقتراض عليه إذا لم تجد له
مالا، وجهان مرتبان وأولى بالمنع لخروجه عن صورة الحديث، ومخالفته
493

القياس، وعن القفال تجويزه، فإن أثبتنا استقلالها، أو لم يكن في البلد قاض،
وأشهدت، لزمه قضاء ما اقترضته، وإن لم تشهد، فوجهان، ولو أنفقت على الطفل
الموسر من مال نفسه بغير إذن الأب والقاضي، فوجهان، وأولى بالجواز، لأنها لا
تتعدى مصلحة الطفل، ولا تتصرف في غير ماله. ولو أنفقت عليه من مالها بقصد
الرجوع وأشهدت، رجعت، وإلا فوجهان.
التاسعة: إذا امتنع القريب من نفقة قريبه، فللمستحق أخذ الواجب من ماله
إن وجد جنسه، وفي غير الجنس خلاف يأتي في الدعاوي إن شاء الله تعالى، وإن
كان غائبا ولا مال له هناك، راجع القاضي ليقترض عليه، فإن لم يكن هناك قاض
واقترض، نظر هل أشهد أم لا؟ على ما ذكرناه في اقتراض الام للطفل.
العاشرة: إذا كان الأب الذي عليه الانفاق غائبا، والجد حاضر، فإن تبرع
بالانفاق فذاك، وإلا فبقرض القاضي، أو يأذن للجد في الانفاق، ليرجع على
الأب، وفي البحر وجه ضعيف، أنه لا يرجع. ولو استقل الجد بالاقتراض،
فإن أمكنه مراجعة القاضي فليس على الأب قضاؤه على الصحيح، وإلا فينظر في
الاشهاد وعدمه.
الحادية عشرة: إذا وجبت نفقة الأب أو الجد على الصغير أو المجنون،
أخذاها من ماله بحكم الولاية، ولهما أن يؤاجراه لما يطيقه من الأعمال، ويأخذا من
أجرته نفقة أنفسهما، والأم لا تأخذ إلا بإذن الحاكم، وكذا الابن إذا وجبت نفقته
على الأب المجنون، فلو كان يصلح لصنعة، فللحاكم أن يولي ابنه إجارته، وأخذ
نفقة نفسه من أجرته.
فصل يجب على الام أن ترضع ولدها اللبأ، ولها أن تأخذ عليه الأجرة
494

إن كان لمثله أجرة، وفي وجه ذكره الماوردي: لا أجرة لها، لأنه متعين عليها،
والصحيح الأول، كما يلزم بذل الطعام للمضطر ببدله، ثم إن لم يوجد بعد سقي
اللبأ مرضعة غيرها، لزمها الارضاع، وكذا لو لم يوجد إلا أجنبية، لزمها الارضاع،
وإن وجد غيرها وامتنعت الام من الارضاع، لم تجبر، سواء كانت في نكاح الأب
أم بائنة، وسواء كانت ممن يرضع مثلها الولد في العادة أم لا.
وإن رغبت الام في الارضاع، فلها حالان.
أحدهما: أن تكون في نكاح أبي الرضيع، فهل له منعها من إرضاعه؟
وجهان، أحدهما: لا، لأن فيه إضرارا بالولد، وأصحهما: نعم، لأنه يستحق
الاستمتاع بها في أوقات الارضاع لكن يكره له المنع.
قلت: الأول أصح، وممن صححه البغوي والروياني في الحلية وقطع به
الدارمي والقاضي أبو الطيب في المجرد والمحاملي والفوراني وصاحب التنبيه
والجرجاني. والله أعلم.
فإن قلنا: ليس له المنع، أو توافقا على الارضاع، فإن كانت متبرعة فذاك،
وهل تزاد نفقتها للارضاع؟ وجهان، أحدهما قاله أبو إسحاق والاصطخري: نعم،
ويجتهد الحاكم في قدر الزيادة، لأنها تحتاج في الارضاع إلى زيادة الغذاء.
وأصحهما: لا، لأن قدر النفقة لا يختلف بحال المرأة وحاجتها، وإن طلبت أجرة،
بني على أن الزوج هل له استئجار زوجته لارضاع ولده؟ فيه وجهان ذكرناهما في
الإجارة، قال العراقيون: لا يجوز، وأصحهما: الجواز، فعلى هذا حكمها إذا
طلبت الأجرة حكم البائن إذا طلبت الارضاع بأجرة، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
وإذا أرضعت بالأجرة، فإن كان الارضاع لا يمنع من الاستمتاع ولا ينقصه، فلها مع
الأجرة النفقة، وإن كان يمنع، أو ينقص، فلا نفقة لها، كذا ذكره البغوي وغيره،
495

ويشبه أن يجئ فيه الخلاف فيما لو سافرت لحاجتها بإذنه، وإن قلنا: لا يجوز
الاستئجار، وأرضعت على طمع الأجرة، ففي استحقاقها أجرة المثل وجهان، قال
ابن خيران: تستحق، لأنها لم تبذل منفعتها مجانا، وقال الجمهور: لا
تستحق.
الحال الثاني: أن تكون مفارقة، فإن تبرعت بالارضاع، لم يكن للأب
المنع، وإن طلبت أجرة، نظر، إن طلبت أكثر من أجرة المثل، لم يلزمه الإجابة،
وكان له استرضاع أجنبية بأجرة المثل، وإن طلبت أجرة المثل، فهي أولى من
الأجنبية بأجرة المثل، فإن وجد أجنبية تتبرع، أو ترضى بدون أجرة المثل، فهل
للأب انتزاع الولد منها؟ فيه طريقان، أشهرهما على قولين، أظهرهما: له
الانتزاع. والطريق الثاني: له الانتزاع قطعا، وبه قال ابن سريج، وأبو إسحاق،
وابن أبي هريرة، والاصطخري، فعلى المذهب لو اختلفا، فقال الأب: أجد
متبرعة، وأنكرت، فهو المصدق بيمينه، لأنها تدعي عليه أجرة، الأصل عدمها،
ولأنه تشق عليه البينة، وحيث أوجبنا الأجرة فهي في مال الطفل، فإن لم يكن له
مال، فعلى الأب كالنفقة.
الطرف الثاني: في اجتماع أقارب المحتاج والأقارب المحتاجين، وفيه أربعة
فصول:
الأول: في اجتماع الفروع الذين تلزمهم النفقة للأصل المحتاج، فإذا اجتمع
اثنان من الأولاد، نظر إن استويا في القرب والوراثة أو عدمها، والذكورة والأنوثة،
فالنفقة عليهما بالسوية، سواء استويا في اليسار، أم تفاوتا، وسواء أيسرا بالمال، أو
الكسب، أو أحدهما بمال، والآخر بكسب، فإن كان أحدهما غائبا، أخذ قسطه
من ماله، فإن لم يكن له مال، اقترض عليه. وإن اختلفا في شئ من ذلك،
496

ففيه طريقان، أحدهما: النظر إلى القرب، فإن كان أحدهما أقرب، فالنفقة عليه
سواء كان وارثا أو غيره، ذكرا أو أنثى، فإن استويا في القرب، ففي التقديم بالإرث
وجهان، فإن قدمنا بالإرث، فكانا وارثين، فهل يستويان في قدر النفقة، أم تتوزع
بحسب الإرث؟ وجهان، الطريق الثاني: النظر إلى الإرث، فإن كان أحدهما
وارثا دون الآخر، فالنفقة على الوارث، وإن كان الآخر أقرب، فإن تساويا في
الإرث، قدم الأقرب، فإن تساويا في القرب، فالنفقة عليهما، ثم هل تستوي أم
توزع بحسب الإرث؟ فيه الوجهان. وإذا استويا في المنظور إليه على اختلاف
الطريقين، فهل يختص الذكر بالوجوب، أم يستويان؟ وجهان، وأصح الطريقين
عند الامام والغزالي والبغوي وغيرهم: الأول، دون اعتبار الإرث والذكورة، واختيار
العراقيين يخالفهم في بعض الصور كما نذكره في الأمثلة إن شاء الله تعالى.
أمثلة: ابن وبنت، النفقة عليهما سواء، إن اعتبرنا
القرب، أو أصل الإرث،
وإن اعتبرنا الذكورة، فعلى الابن فقط، وهو اختيار العراقيين.
بنت وابن ابن، هي على البنت إن اعتبرنا القرب، وعليهما بالسوية إن اعتبرنا
الإرث، وعلى ابن الابن إن اعتبرنا الذكورة، وهذا اختيار العراقيين.
بنت وبنت ابن، هي على البنت إن اعتبرنا القرب، وعليهما إن اعتبرنا
الإرث.
497

بنت وابن بنت، هي على البنت إن اعتبرنا القرب، أو الإرث، وعلى ابن
البنت إن اعتبرنا الذكورة.
ابن ابن وابن بنت، عليهما إن اكتفينا بالقرب، وعلى الأول إن رجحنا
الإرث.
بنت ابن وابن بنت، هي على بنت الابن، إن اعتبرنا الإرث، وعلى ابن
البنت إن اعتبرنا الذكورة، وعليهما إن اكتفينا بالاستواء في الدرجة.
بنت بنت وبنت ابن ابن، هي على الأولى إن اعتبرنا القرب، وعلى الثانية إن
اعتبرنا الإرث.
بنت بنت وبنت ابن، عليهما إن اكتفينا بالاستواء في الدرجة، وعلى الثانية إن
اعتبرنا الإرث.
ابن وولد خنثى، إن قلنا في اجتماع الابن والبنت، تكون عليهما، فكذا
هنا، وإن قلنا: تكون على الابن، فهنا وجهان، أحدهما: على الابن نصفها،
لأنه المستيقن، والنصف الآخر يقترضه الحاكم، فإن بان ذكرا، فالرجوع عليه،
وإلا فعلى الابن، وأصحهما: يؤخذ الجميع من الابن، فإن بان الخنثى ذكرا،
رجع عليه بالنصف.
بنت وولد خنثى، إن قلنا في اجتماع الابن والبنت: النفقة عليهما، فكذا
هنا، وإن قلنا: على الابن، فوجهان، أحدهما: هي على الخنثى، فإن بانت
أنوثته، رجعت على أختها بالنصف. والثاني: لا يؤخذ منه إلا النصف، لأنه
اليقين، ويؤخذ النصف الآخر من البنت، فإن بانت ذكورته، رجعت عليه.
قلت: كان ينبغي أن يجئ وجه الاقتراض، ولا يؤخذ من البنت شئ. والله
أعلم.
الفصل الثاني: إذا اجتمع للمحتاج قريبان من أصوله، نظر، إن اجتمع أبوه
498

وأمه، فإن كان الولد صغيرا، فالنفقة على الأب قطعا، وإن كان كبيرا، فأوجه،
الصحيح: أنها على الأب، والثاني: عليهما أثلاثا كالإرث، والثالث: عليهما
نصفين. وإن اجتمعت الام وواحد من آباء الأب، فأوجه، الصحيح: أنها على
الجد، والثاني: على الام، والثالث: عليهما أثلاثا، والرابع: عليهما نصفين.
وإن اجتمع اثنان من الأجداد والجدات، نظر، إن كان أحدهما يدلي بالآخر،
فالنفقة على القريب، وإلا ففيه خمسة أوجه أرجحها: اعتبار القرب، والثاني:
الإرث، والثالث وهو اختيار المسعودي: الاعتبار بولاية المال، فإن لم تكن لواحد
منهما ولاية، وأحدهما يدلي بالولي، أو هو أقرب إدلاء بالولي، فالنفقة عليه، فإن
استويا في الادلاء به وجودا وعدما، اعتبر فيه القرب، والمراد بالولاية على هذا
الوجه: الجهة التي تفيدها، لا نفس الولاية التي قد يمنع منها مانع مع وجود
الجهة. والرابع: الاعتبار بالذكورة، فالنفقة على الذكر، وإلا فعلى المدلي بذكر،
فإن استويا، اعتبر القرب. والخامس: يعتبر الإرث والذكورة معا، فإن اختص
بهما أحدهما، فالنفقة عليه، وإن وجدا فيهما، أو لم يوجدا، أو وجد أحدهما في
أحدهما، والآخر في الآخر، اعتبر القرب، وعلى هذا الوجه، يجبر فقد كل واحد
من المعنيين بالآخر.
الأمثلة: أبو الأب، وأبو الأم، إن اكتفينا بالقرب، سوينا بينهما، وإن
اعتبرنا الإرث، أو الولاية، فالنفقة على أبي الأب.
أم أب وأم أم، إن اعتبرنا القرب أو الإرث، سوينا بينهما، وإن اعتبرنا الادلاء
بالولي أو بذكر، فهي على أم الأب.
أبو الأم، وأم الأب، إن اعتبرنا القرب، سوينا، وإن اعتبرنا الإرث، أو
الادلاء بالولي فهي على أم الأب، وعلى الوجه الخامس: يجبر فقدان الإرث فيه
بالذكورة، وفقدان الذكورة فيها بالوراثة، فيستويان.
499

الفصل الثالث: إذا اجتمع للمحتاج واحد من أصوله، وآخر من فروعه، ففيه
الأوجه الخمسة، فيقدم الأقرب في وجه، والوارث في وجه، والولي في وجه،
والذكر في وجه، ويستوي الذكر والأنثى في وجه، وإذا وجبت النفقة على وارثين،
جاء الخلاف في أن التوزيع بالسوية، أم بحسب الإرث؟ فلو كان له أب وابن، فهل
النفقة على الابن أم الأب أم عليهما؟ فيه أوجه، أصحها: الأول لأن عصوبته
أقوى، ولأنه أولى بالقيام بشأن الوالد، وتجري هذه الأوجه في أب وبنت، وفي جد
وابن ابن، وتجري أيضا في أم وبنت على المذهب، وقيل: يقطع بأنها على
البنت، قاله القاضي أبو حامد وغيره. وفي أم وابن طريقان، أحدهما: طرد الأوجه
الثلاثة، والثاني: القطع بتقديم الابن، لضعف الإناث عن تحمل المؤن، ويجري
الطريقان في جد وابن، وفي أب وابن ابن، وقال البغوي: الأصح أنه لا نفقة على
الأصول ما دام يوجد واحد من الفروع، قريبا كان أو بعيدا، ذكرا أو أنثى.
الفصل الرابع: في ازدحام الآخذين، فإذا اجتمع على الشخص الواحد
محتاجون ممن تلزمه نفقتهم، نظر، إن وفى ماله أو كسبه بنفقتهم، فعليه نفقة
الجميع، قريبهم وبعيدهم، وإن لم يفضل عن كفاية نفسه إلا نفقة واحد، قدم نفقة
الزوجة على نفقة الأقارب، هذا أطبق عليه الأصحاب لأن نفقتها آكد، فإنها لا
تسقط بمضي الزمان، ولا بالاعسار، ولأنها وجبت عوضا، واعترض الامام بأن
نفقتها إذا كانت كذلك، كانت كالديون، ونفقة القريب في مال المفلس تقدم على
الديون، وخرج لذلك احتمالا في تقديم القريب، وأيده بالحديث أن رجلا قال
للنبي (ص): معي دينار؟ فقال: أنفقه على نفسك فقال: معي آخر؟ فقال:
أنفقه على ولدك، فقال: معي آخر؟ فقال: أنفقه على أهلك. فقدم
نفقة الولد على الأهل، وفي التتمة وجه أن نفقة الولد الطفل تقدم على نفقة
الزوجة، وأما الذين ينفق عليهم بالقرابة، فتعود فيهم الأوجه في أنه يصرف الفاضل
إلى الأقرب، أو الوارث، أو الولي، وعلى الوجه الرابع القائل هناك أنها على
الذكر، يصرف الفاضل هنا إلى الأنثى لعجزها، ويسوى في الوجه الخامس بين
500

الذكر والأنثى، وإذا صرف إلى وارثين، فهل يوزع بالسوية، أم بحسب الإرث؟
وجهان، قال الأكثرون بالسوية، ونوضح ذلك بصور:
ابنان أو بنتان، يصرف الموجود إليهما، فإن اختص أحدهما بمزيد عجز، بأن
كان مريضا، أو رضيعا، قدم، ذكره الروياني.
ابن وبنت، الصحيح أنها كالابنين، وقيل: تقدم البنت لضعفها.
ابن بنت، وبنت ابن، ذكر الروياني أن بنت الابن تقدم لضعفها، ويشبه أن
يجعلا كالابن والبنت.
أب وجد، أو ابن وابن ابن، قيل: هما سواء، والأصح: تقديم الأب
والابن، فإن كان الأبعد زمنا، ففي التهذيب أنه يقدم، وذكر أنه لو اجتمع جدان
في درجة، وأحدهما عصبة، كأبي الأب مع أبي الام، فالعصبة أولى، وأنه لو
اختلفت الدرجة، واستويا في العصوبة أو عدمها، فالأقرب مقدم، وإن كان
الأبعد عصبة، تعارض القرب والعصوبة، فيستويان.
أب وابن، إن كان الابن صغيرا، قدم، وإلا فهل يقدم الابن أم الأب، أم
يستويان؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: اختيار القفال، وتجري الأوجه في الابن والأم،
وفي الأب والبنت، وفي الجد وابن الابن. وابن الابن.
أب وأم، تقدم الام على الأصح، وقيل: الأب، وقيل: يستويان.
جد وابن، قيل بطرد الأوجه، وقيل: يقدم الابن قطعا، وعن - القاضي أبي
حامد إذا اجتمع جدتان لإحداهما ولادتان، وللأخرى ولادة، فإن كانتا في درجة،
فذات الولادتين أولى، وإن كانت أبعد، فالأخرى أولى، وأنه لو اجتمعت بنت بنت
بنت أبوها ابن ابن بنته وبنت بنت بنت ليس أبوها من أولاده، فإن كانتا في درجة،
501

فصاحبة القرابتين أولى، وإن كانت هي أبعد، فالأخرى أولى.
فرع متى استوى اثنان، وزع الموجود عليهما، فلو كثروا بحيث لو وزع،
لم يسد قسط كل واحد مسدا، أقرع بينهم.
فرع إذا أوجبنا النفقة على أقرب القريبين، فمات أو أعسر، وجبت على
الأبعد، فإن أيسر الأقرب بعد ذلك، لم يرجع الأبعد عليه بما أنفق.
ذكر الروياني أنه لو كان له ولدان، ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما، وله أب
موسر، لزم الأب نفقة الآخر، فإن اتفقا على الانفاق بالشركة، أو على أن يختص
كل واحد بواحد، فذاك، وإن اختلفا، عمل بقول من يدعو إلى الاشتراك. وأنه لو
كان للأبوين المحتاجين ابن لا يقدر إلا على نفقة أحدهما، وللابن ابن موسر، فعلى
ابن الابن باقي نفقتهما، فإن اتفقا على أن ينفقا عليهما بالشركة، أو يخص كل واحد
بواحد، فذاك، وإن اختلفا، رجعنا إلى اختيار الأبوين إن استوت نفقتهما، وإن
اختلفت، اختص أكثرهما نفقة بمن هو أكثر يسارا، وهذان الجوابان في الصورتين
مختلفان، والقياس أن يسوى بينهما، بل ينبغي في الصورة الثانية أن يقال: تختص
الام بالابن تفريعا على الأصح، وهو تقديم الام على الأب، وإذا اختصت به، تعين
الأب لانفاق ابن الابن.
فصل لا تلزم العبد نفقة ولده، بل إن كانت الام حرة، فالولد حر وعليها
نفقته، وإن كانت رقيقة، فهو رقيق نفقته على مالكه، وإن كان الولد حرا، وأبواه
رقيقان، فنفقته في بيت المال، إلا أن يكون في فروعه من تلزمه نفقته، ولا يلزم
المكاتب نفقة ولده من زوجته، سواء كانت حرة أو أمة أو مكاتبة، بل لا يجوز له أن
ينفق عليه صيانة لحق السيد، فإن كانت زوجته الأمة لسيده أيضا، جاز أن ينفق على
ولده منها، وإن لم يجب، لأنه ملك السيد، وكذا لو كانت زوجته مكاتبة السيد، إن
جعلنا الولد ملكا للسيد، وإن قلنا: إنه يتكاتب عليها، لم يجز له أن ينفق عليه،
لجواز أن تعتق المكاتبة والولد، ويعجز المكاتب، فيكون قد فوت مال سيده، هكذا
أطلقوه، ولا يصح إطلاق بتجويز الانفاق على ملكه بغير إذنه، ولو استولد المكاتب
502

جارية نفسه، أو كنا لا نجوز له ذلك، فيتكاتب الولد عليه، وينفق المكاتب عليه
من أكسابه، لأنه إن عتق، فقد أنفق ماله على ولده، وإن رق، رق الولد أيضا،
فيكون قد أنفق مال السيد على عبده.
فرع هل تجب نفقة المكاتب على ولده الحر؟ عن الحاوي أنه يحتمل
وجهين، أحدهما: لا، لبقاء أحكام الرق. والثاني: نعم، لانقطاع النفقة عن
سيده.
قلت: الأول أصح، لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، فينفق من كسبه،
فإن تعذر، عجز نفسه، والنفقة على سيده. والله أعلم.
من نصفه حر، ونصفه رقيق، قال في البسيط: الظاهر أنه تلزمه نفقة
القريب، لأنها كالغرامات، وهل تلزمه نفقة تامة أم نصفها؟ وجهان، حكاهما ابن
كج.
قلت: الأصح نفقة كاملة، لأنه كالحر كما في الكفارة. والله أعلم.
ولو كان من نصفه حر ونصفه رقيق محتاجا، هل يلزمه قريبه الحر نفقته بقدر ما
فيه من الحرية؟ وجهان حكاهما ابن كج.
قلت: الراجح الوجوب، ويمكن بناؤهما على أنه هل يورث؟ والأظهر أنه
يورث كالاحرار. والله أعلم.
503

الباب الخامس في الحضانة
هي القيام بحفظ من لا يميز ولا يستقل بأمره، وتربيته بما يصلحه، ووقايته
عما يؤذيه، وهي نوع من ولاية وسلطنة، لكنها بالإناث أليق، لأنهن أشفق، وأهدى
إلى التربية، وأصبر على القيام بها، وأشد ملازمة للأطفال. ومؤنة الحضانة على
الأب، لأنها من أسباب الكفاية، كالنفقة، وحكى السرخسي وجها أنه ليس للام
طلب الأجرة بعد الفطام، والصحيح: الأول، وأما أجرة الرضاع فقد سبق
بيانها، وفي الباب طرفان:
الأول: في صفات الحاضن والمجنون، فإن كان أبو الطفل على النكاح،
فالطفل معهما يقومان بكفايته، الأب بالانفاق، والأم بالحضانة والتربية، وإن تفرقا
بفسخ أو طلاق،
فالحضانة للام إن رغبت فيها، لكن لاستحقاقها شروط:
أحدها: كونها مسلمة، إن كان الطفل مسلما بإسلام أبيه، فلا حضانة لكافرة
على مسلم، وقال الإصطخري: لها الحضانة، وقيل: الام الذمية أحق بالحضانة
من الأب المسلم إلى أن يبلغ الولد سبع سنين، ثم الأب بعد ذلك. قال
الأصحاب: والصحيح الأول، فعلى هذا حضانته لأقاربه المسلمين على ما يقتضيه
الترتيب، فإن لم يوجد أحد منهم، فحضانته على المسلمين، والمؤنة في ماله،
فإن لم يكن له مال، فعلى أمه إن كانت موسرة، وإلا فهو من محاويج المسلمين،
504

وولد الذميين في الحضانة كولد المسلمين، فالأم أحق بها، ولو وصف صبي منهم
الاسلام، نزع من أهل الذمة، سواء صححنا إسلامه أم لا، ولا يمكنون من
كفالته، والطفل الكافر والمجنون تثبت لقريبه المسلم حضانته وكفالته على
الصحيح، لأن فيه مصلحة له.
الشرط الثاني: كونها عاقلة، فلا حضانة لمجنونة، سواء كان جنونها مطبقا،
أو منقطعا، إلا إذا كان لا يقع إلا نادرا، ولا تطول مدته، كيوم في سنين، فلا يبطل
الحق به، كمرض يطرأ ويزول، والمرض الذي لا يرجى زواله، كالسل والفالج
إن كان بحيث يؤلم أو يشغل الألم عن كفالته وتدبير أمره، سقط حق الحضان، وإن
كان تأثيره يعسر الحركة والتصرف، سقطت الحضانة في حق من يباشرها بنفسه دون
من يشير بالأمور ويباشرها غيره.
الشرط الثالث: كونها حرة، فلا حضانة لرقيقة وإن أذن السيد، ثم إن كان
الولد حرا، فحضانته لمن له الحضانة بعد الام من الأب وغيره، وإن كان رقيقا،
505

فحضانته على السيد، وهل له نزعه من الأب وتسليمه إلى غيره؟ وجهان بناء على
القولين في جواز التفريق، ولو كانت الام حرة والولد رقيق، بأن سبي طفل ثم
أسلمت أمه، أو قبلت الذمة، فحضانته للسيد، وفي الانتزاع منها الوجهان،
والمدبرة، والمكاتبة، والمعتق بعضها، لا حضانة لهن، لكن ولد المكاتبة، إذا
قلنا: إنه لها تستعين به في الكتابة، سلم إليها، لا لأن لها حضانة، بل لأن الحق
لها. وولد أم الولد من زوج أو زنى له حكمها، يعتق بموت السيد وحضانته لسيده
مدة حياته، وهل لها حق الحضانة في ولدها من السيد؟ وجهان، الصحيح: لا
حضانة لها لنقصها، وقال الشيخ أبو حامد: لها الحضانة إلى سبع سنين، ثم السيد
أولى بالولد بعد السبع، ولو كان ولد نصفه حر، ونصفه رقيق، فنصف حضانته
لسيده، ونصفها لمن يلي حضانته من أقاربه الأحرار، فإن اتفقا على المهايأة، أو
على استئجار حاضنة، أو رضي أحدهما بالآخر، فذاك، وإن تمانعا، استأجر
الحاكم حاضنة، وأوجب المؤنة على السيد وعلى من يقتضي الحال الايجاب عليه.
الشرط الرابع: كونها أمينة، فلا حضانة لفاسقة.
الشرط الخامس: كونها فارغة خلية، فلو نكحت أجنبيا، سقطت حضانتها
لاشتغالها بحقوق الزوج، فلو رضي الزوج، لم يؤثر، كما لا يؤثر رضى السيد
بحضانة الأمة، فقد يرجعان فيتضرر الولد، فلو نكحت عم الطفل، فوجهان،
أصحهما: لا تبطل حضانتها لأن العم صاحب حق الحضانة، وشفقته تحمله على
رعاية الطفل، فيتعاونان على كفالته بخلاف الأجنبي، وبهذا قطع القفال والغزالي
والمتولي، ويقال: إن صاحب التلخيص خرجه من نص الشافعي رحمه الله، أن
الجدة إذا نكحت جد الطفل لا يبطل حقها من الحضانة، وكذا لو كانت في
506

نكاحه، ثبت لها حق الحضانة بخلاف ما لو كانت في نكاح أجنبي، والثاني: يبطل
حق الام، وليس العم كالجد لأن الجد ولي تام الشفقة قائم مقام الأب، وهذان
الوجهان في نكاح الام العم، يطردان في كل من لها حضانته، نكحت قريبا للطفل
له حق في الحضانة، بأن نكحت أمه ابن عم الطفل، أو عم أبيه، أو نكحت خالته
التي لها حضانة عم الطفل، أو نكحت عمته خاله، هكذا ذكره الشيخ أبو علي
وغيره، ثم إنما يبقى الحق إذا نكحت الجدة جد الطفل، أو الام عمه على الأصح
إذا رضي الذي نكحته بحضانتها، فإن أبى، فله المنع، وعليها الامتناع.
فرع إذا اجتمعت هذه الشروط فإنما تثبت لها الحضانة إذا كان الأبوان
مقيمين في بلد، فإن سافر أحدهما، فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى، وهل يشرط
استحقاقها أن ترضع الولد إن كان رضيعا؟ وجهان، أحدهما: لا، بل لها الحضانة
وإن لم يكن لها لبن، أو امتنعت من الارضاع، وعلى الأب أن يستأجر مرضعة
ترضعه عند الامام، وهذا أصح عند البغوي، والثاني وهو الصحيح وبه قطع
الأكثرون: يشترط لعسر استئجار مرضعة تخلي بيتها، وتنتقل إلى مسكن الام،
وعلى هذا لا تمنع الام من زيارته.
فرع لو أسلمت الكافرة، أو أفاقت المجنونة، أو عتقت الأمة، أو رشدت
507

الفاسقة، أو طلقت التي سقط حقها بالنكاح، تثبت لها الحضانة لزوال المانع،
وسواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا، هذا هو نص المذهب، وخرج ابن سريج قولا أنه
لا حضانة للرجعية حتى تنقضي العدة، وبه قال المزني لأن الرجعية زوجة، فعلى
المذهب: إن اعتدت في بيت الزوج فإنما تثبت لها الحضانة إذا رضي الزوج بأن
يدخل الولد بيته، فإن لم يرض، لم يكن لها أن تدخله بيته، وكذا في البائن، وإذا
رضي، ثبت حقها بخلاف رضاه في صلب النكاح، لأن المنع هناك لاستحقاقه
الاستمتاع، واستهلاك منافعها فيه، وهنا للمسكن، فإذا أذن صار معيرا.
فرع إذا امتنعت الام من الحضانة، أو غابت، فثلاثة أوجه، الصحيح:
أنها تنتقل إلى الجدة، كما لو ماتت، أو جنت، والثاني: تنتقل إلى الأب،
والثالث: إلى السلطان لبقاء أهلية الام كما لو غاب الولي في النكاح، أو عضل،
يزوج السلطان لا الأبعد، فعلى الصحيح متى امتنع الأقرب من الحضانة، كانت
لمن يليه، لا للسلطان، لأنها للحفظ والقريب الأبعد أشفق من السلطان.
فصل أما المجنون، فهو من لا يستقل بمراعاة نفسه، ولا يهتدي إلى
مصالحه لصغر أو جنون، أو خبل وقلة تمييز، ومتى بلغ الغلام رشيدا، ولي أمر
نفسه ولا يجبر على كونه عند الأبوين أو أحدهما، ولكن الأولى أن لا يفارقهما
ليخدمهما ويصلهما بره، وإن بلغ عاقلا غير رشيد، فقد أطلق جماعة أنه كالصبي،
لا يفارق الأبوين، وتدام حضانته، وقال ابن كج: إن لم يحسن تدبير نفسه،
فالحكم كذلك، وأما إن كان اختلال الرشيد لعدم الصلاح في الدين، فالصحيح أنه
يسكن حيث يشاء، ولا يجبر أن يكون عند الأبوين، أو أحدهما، وقيل: تدام
حضانته إلى ارتفاع الحجر عنه، وهذا التفصيل حسن. وأما الأنثى إذا بلغت، فإن
كانت مزوجة، فهي عند زوجها، وإلا، فإن كانت بكرا، فعند أبويها أو أحدهما إن
افترقا، وتختار من شاءت منهما، وهل تجبر على ذلك؟ وجهان، أحدهما: نعم،
وليس لها الاستقلال، والثاني: لا، بل لها السكنى حيث شاءت، لكن يكره لها
مفارقتهما، وبهذا قطع العراقيون، وصحح ابن كج والامام والغزالي الأول، ثم
508

صرح الغزالي باختصاص هذه الولاية بالأب والجد، كولاية الاجبار في النكاح،
وذكر البغوي في ثبوتها أيضا للأخ والعم وجهين.
قلت: أرجحهما ثبوتها. والله أعلم.
وإن كانت ثيبا، فالأولى أن تكون عند الأبوين، أو أحدهما، ولا تجبر على
ذلك باتفاق الأصحاب، لأنها صاحبة اختيار وممارسة، وبعيدة عن الخديعة، وهذا
إذا لم تكن تهمة، ولم تذكر بريبة، فإن كان شئ من ذلك، فللأب والجد ومن يلي
تزويجها من العصبات منعها من الانفراد، ثم المحرم منهم يضمها إلى نفسه إن رأى
ذلك، وغير المحرم يسكنها موضعا يليق بها، ويلاحظها دفعا للعار عن النسب، كما
يمنعونها نكاح غير الكفء، وأثبت البغوي للام ضمها إليها عند الريبة، كما أثبتها
للعصبة، ولو فرضت التهمة في حق البكر، فهي أولى بالاحتياط، فتمنع من الانفراد
بلا خلاف، ونقل في العدة عن الأصحاب أن الأمرد إذا خيف من انفراده فتنة،
وانقدحت تهمة، منع من مفارقة الأبوين.
قلت: الجد كالأبوين في حق الأمرد، وكذا ينبغي أن يكون الأخ والعم
ونحوهما لاشتراك الجميع في المعنى. والله أعلم.
فرع إذا ادعى الولي ريبة، وأنكرت، فقد ذكر احتمالان، أحدهما: لا
يقبل قوله لأن الحكم على الحرة العاقلة بمجرد الدعوى بعيد، وأصحهما: يقبل
ويحتاط بلا بينة، لأن إسكانها في موضع البراءة أهون من الفضيحة لو أقام بينة.
فصل إنما يحكم بأن الام أحق بالحضانة من الأب في حق من لا تمييز له
أصلا، وهو الصغير في أول أمره، والمجنون، فأما إذا صار الصغير مميزا، فيخير
بين الأبوين إذا افترقا، ويكون عند من اختار منهما، وسواء في التخيير الابن
والبنت، وسن التمييز غالبا سبع سنين، أو ثمان تقريبا، قال الأصحاب: وقد يتقدم
التمييز عن السبع وقد يتأخر عن الثمان، ومدار الحكم على نفس التمييز، لا على
سنه، وإنما يخير بين الأبوين إذا اجتمع فيهما شروط الحضانة، بأن يكونا مسلمين
حرين عاقلين عدلين مقيمين في وطن واحد على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، وأن
509

تكون الام خلية، فإن اختل في أحدهما بعض الشروط، فلا تخيير، والحضانة
للآخر، فإن زال الخلل، أنشئ التخيير، ولو وجدت الشروط فيهما، واختص
أحدهما بزيادة في الدين أو المال أو محبة الولد، فهل يختص به أم يجري التخيير؟
وجهان، أصحهما: الثاني، ويجري التخيير بين الام والجد عند عدم الأب،
ويجري أيضا بينها وبين من على حاشية النسب، كالأخ والعم، على الأصح،
وقيل: تختص به الام، وفي ابن العم مع الام هذان الوجهان، إن كان الولد ذكرا،
فإن كان أنثى، فالأم أحق قطعا، ويجري الخلاف أيضا بين الأب والأخت والخالة
إذا قدمناها عليه قبل التمييز كما سنذكره إن شاء الله تعالى، وإذا اختار أحد الأبوين،
ثم اختار الآخر، حولناه إليه، فإن عاد واختار الأول، أعدناه إلى الأول، فإن أكثر
التنقل بحيث يظن أن سببه نقصانه وقلة تمييزه، جعل عند الام كما قبل التمييز، وكذا
لو بلغ على نقصانه وخبله.
فرع إذا اختار الأب وسلم إليه، فإن كان ذكرا، لم يمنعه الأب من زيارة
أمه ولا يحوجها إلى الخروج لزيارته، وإن زارته، لم يمنعها من الدخول عليه، وله
منع الأنثى من زيارة الام، فإن شاءت الام، خرجت إليها للزيارة، لأنها أولى
بالخروج لسنها وخبرتها، ثم الزيارة تكون في الأيام على العادة، لا في كل يوم،
وإذا دخلت، لا تطيل المكث، ولو مرض الولد ذكرا كان أو أنثى، فالأم أولى
بتمريضه، فإنها أشفق وأهدى إليه، فإن رضي بأن تمرض في بيته، فذاك، وإلا
فينقل الولد إلى بيت الام، ويجب الاحتراز عن الخلوة إذا كانت تمرضه في بيت
الأب، وكذا إذا زارت الولد، فإن لم يكن هناك ثالث، خرج حتى تدخل، وإذا
مات، لم تمنع من حضور غسله وتجهيزه إلى أن يدفن، وإن مرضت الام، لم يكن
للأب منع الولد من عيادتها، ذكرا كان أو أنثى، ولا يمرضها، قال الروياني: إلا إذا
510

أحسنت الأنثى التمريض.
فرع إذا اختار الام، فإن كان ابنا، أوى إليها ليلا، وكان عند الأب نهارا
يؤدبه ويعلمه أمور الدين والمعاش والحرفة، وإن كانت بنتا، كانت عند الام ليلا
ونهارا، ويزورها الأب على العادة، ولا يطلب إحضارها عنده، وهكذا الحكم إذا
كان الولد عند الام قبل سن التخيير.
فرع: إذا اختار الام، فليس للأب إهماله بمجرد ذلك، بل يلزمه القيام
بتأديبه وتعليمه، إما بنفسه وإما بغيره ويتحمل مؤنته، وكذا المجنون الذي لا تستقل
الام بضبطه يلزم الأب رعايته، وإنما تقدم الام فيما يتأتى منها وما هو شأنها.
قلت: تأديبه وتعليمه واجب على وليه أبا كان أو جدا أو وصيا أو قيما، وتكون
أجرة ذلك في مال الصبي، فإن لم يكن له مال، فعلى من تلزمه نفقته، وقيل: إن
أجرة مالا يلزمه تعلمه بعد البلوغ تكون في مال الولي مع يسار الولد، والأول أصح،
وقد سبق بعض هذا في أول كتاب الصلاة. والله أعلم.
فرع لو خيرناه فاختارهما، أقرع بينهما، وإن لم يختر واحدا منهما،
فوجهان، أحدهما: يقرع وبه قطع البغوي، وأصحهما: الام أحق، لأنه لم يختر
غيرها، وكانت الحضانة لها فيستصحب، وبه قطع في البسيط.
قال الروياني: لو ترك أحد الأبوين في وقت التخيير كفالته للآخر، كان الآخر
أحق به، ولا اعتراض للولد، فإن عاد وطلب الكفالة، عدنا إلى التخيير، قال: ولو
تدافع الأبوان كفالته، وامتنعا منها، فإن كان بعدهما من يستحق الحضانة، كالجد
والجدة، خير بينهما، وإلا فوجهان، أحدهما: يخير الولد، ويجبر من اختاره على
كفالته، فعلى هذا لو امتنعا من الحضانة قبل سن التمييز، يقرع بينهما، ويجبر من
511

خرجت قرعته على حضانته، والثاني: يجبر عليها من تلزمه نفقته.
قلت: أصحهما الثاني. والله أعلم.
فصل ما سبق من أن الام أولى من الأب قبل التمييز، وأنه يخير بينهما بعد
تمييزه، هو فيما إذا كان الأبوان مقيمين في بلد واحد، فأما إذا أراد أحدهما سفرا،
أو أرادا سفرا يختلف فيه بلدهما، فينظر، إن كان سفر حاجة، كحج وغزو وتجارة،
لم يسافر بالولد، لما في السفر من الخطر والمشقة، بل يكون مع المقيم إلى أن يعود
المسافر، سواء طالت مدة السفر أم قصرت، وعن الشيخ أبي محمد وجه أن
للأب
أن يسافر به إذا طال سفره، وإن كان سفر نقلة، نظر، إن كان ينتقل إلى مسافة
القصر، فللأب أن ينتزعه من الام ويستصحبه معه، سواء كان المنتقل الأب أو
الام، أو أحدهما إلى بلد والآخر إلى آخر، احتياطا للنسب، فإن النسب يتحفظ
بالآباء، ولمصلحة التأديب والتعليم، وسهولة القيام بنفقته ومؤنته، وسواء نكحها في
بلدها أو في الغربة، فلو رافقته الام في طريقه، دام حقها، وكذا في المقصد، ولو
عاد من سفر النقلة إلى بلدها، عاد حقها، ولو كان الطريق الذي يسلكه مخوفا، أو
البلد الذي يقصده غير مأمون لغارة ونحوها، لم يكن له انتزاع الولد، وإن كان
الانتقال إلى دون مسافة القصر، فوجهان، أحدهما: لا يؤثر، ويكونان كالمقيمين
في محلتين من بلد، وأصحهما: أنه كمسافة القصر، ولو اختلفا، فقال: أريد
الانتقال، فقالت: بل التجارة، فهو المصدق بيمينه، وقال القفال: يصدق بلا
يمين، والأول أصح، فإن نكل، حلفت، وأمسكت الولد، وسائر العصبات من
المحارم، كالجد والأخ والعم، بمنزلة الأب في انتزاع الولد ونقله إذا أرادوا
الانتقال، احتياطا للنسب، وكذا غير المحارم، كابن العم، إن كان الولد ذكرا،
وإن كان أنثى، لم تسلم إليه، قال المتولي: إلا إذا لم تبلغ حدا يشتهى مثلها،
وفي الشامل أنه لو كان له بنت ترافقه، سلمت إلى بنته، وأما المحرم الذي لا
512

عصوبة له، كالخال والعم للام، فليس له نقل الولد إذا انتقل، لأنه لاحق له في
النسب.
فرع إنما يثبت حق النقل للأب وغيره، إذا استجمع الصفات المعتبرة في
الحضانة، قال المتولي: ولو كان للولد جد مقيم، وأراد الأب الانتقال، كان له أن
ينقل الولد، ولم تمنع منه إقامة الجد، وكذا حكم الجد عند عدم الأب، ولا تمنعه
إقامة الأخ أو العم، لكن لو لم يكن أب ولا جد، وأراد الأخ الانتقال، وهناك ابن أخ
أو عم يقيمان، فليس للأخ انتزاعه من الام لنقله، بخلاف الأب والجد، لكمال
عنايتهما وتقارب عناية غيرهما من العصبات.
فرع لو كان كل واحد من الأبوين يسافر لحاجة، واختلف طريقهما
ومقصدهما، فيشبه أن يدام حق الام، ويحتمل أن يكون مع الذي مقصده أقرب، أو
مدة سفره أقصر.
قلت: المختار أنه يدام مع الام، وهو مقتضى كلام الأصحاب. والله أعلم.
الطرف الثاني: في ترتيب المستحقين للحضانة، فمتى اجتمع اثنان فصاعدا
من مستحقي الحضانة، نظر، إن تراضوا بواحد، فذاك، وإن تدافعوا، وجبت
على من عليه النفقة، وقيل: يقرع، وتجب على من خرجت قرعته، والصحيح
الأول، وإن الضرب الأول: محض الإناث، طلبها كل واحدة ممن فيه شروطها، فهم ثلاثة أضرب:
الضرب الأول: محض الإناث، فأولاهن الام، ثم أمهاتها المدليات
بالإناث، تقدم أقربهن، وتقدم البعدى منهن على القربى من أمهات الأب، ثم بعد
أمهات الام، قولان، الجديد: تقدم أم الأب، ثم أمهاتها المدليات بالإناث، ثم
أم أبي الأب، ثم أمهاتها المدليات بالإناث، ثم أم أبي الجد، ثم أمهاتها كذلك،
513

وتقدم الأقرب منهن فالأقرب، ويتأخر عنهن الأخوات والخالات، ودليل هذا القول،
أنهن جدات وارثات فقدمن على الأخوات والخالات، وعلى أن الخالات
يقدمن على بنات الأخوات، وبنات الأخوة، والعمات، لأنهن يشاركنهن في
المحرمية والدرجة وعدم الإرث، ويتميزون بالادلاء بقرابة الام، وعن ابن سريج
تقديم الخالة على الأخت للأب، وهو شاذ ضعيف، ثم الحضانة بعد الخالات
لبنات الأخوات، وبنات الأخوة يقدمن على العمات، هكذا رتب الامام والغزالي
والبغوي، وحكى الروياني هذا وجها، وادعى أن الأصح تقديم العمات على بنات
الأخوة وبنات الأخوات، ثم حكى وجهين فيمن يقدم بعد العمات، أحدهما: بنات
الأخوات والأخوة، ثم بنات سائر العصبات بعد الأخوة، ثم بنات الخالات، ثم بنات العمات، ثم
خالات الام، ثم خالات الأب، ثم عماته. والثاني: تقدم بعد العمات خالات
الام، ثم خالات الأب، ثم عماته، ولا حضانة لعمات الام لادلائهن بذكر غير
وارث، ثم خالات الجد، ثم عماته، وهكذا، فإن فقدن جميعا، فالحضانة لبنات
الأخوات والأخوة، وفي أي رتبة وقعن، تقدم بنات الأخوات على بنات الأخوة،
كما تقدم الأخت على الأخ.
فرع الأخت من الأبوين، تقدم على الأخت من الأب، وعلى الأخت من
الام، وأما الأخت من الأب، والأخت من الام، فأيهما تقدم على صاحبتها؟
وجهان، الصحيح المنصوص في الجديد والقديم: تقديم الأخت من الأب، وقال
المزني وابن سريج: تقدم الأخت من الام، وأما الخالة من الأب مع الخالة من الام
والعمة، فإن قدمنا الأخت للأم على الأخت للأب، فكذا هنا، وإن قدمنا الأخت
للأب، فوجهان، أحدهما: تقدم الخالة للام والعمة للام، وأصحهما: يقدم
التي هي لأب، وفي الخالة لأب وجه، أنها لا تستحق حضانة أصلا، لأنها تدلي
بأبي أم.
فرع المنصوص أنه لا حضانة لكل جدة تسقط في الميراث، وهي من
تدلي بذكر بين أنثيين، وقيل: لهن الحضانة، لكن يتأخرن عن جميع المذكورات
514

أولا، وقيل: يتقدمن على الأخوات والخالات، لأنهن أصول، ويتأخرن عن
الجدات الوارثات، وفي معنى الجدة الساقطة، كل محرم يدلي بذكر لا يرث،
كبنت ابن البنت وبنت العم للام.
الأنثى التي ليست بمحرم، كبني الخالة والعمة، وبنتي الخال والعم، لهن
الحضانة على الأصح، فإن كان الولد ذكرا، استمرت حضانتهن حتى يبلغ حدا
يشتهى مثله، وتقدم بنات الخالات على بنات الأخوات، وبنات العمات على بنات
الأعمام، وتقدم بنات الخؤولة على بنات العمومة.
فرع لبنت المجنون حضانته إذا لم يكن له أبوان، ذكره ابن كج، قال
الروياني: ولو كان للمحضون زوجة كبيرة، وكان له بها استمتاع، أو لها به
استمتاع، فهي أولى بكفالته من جميع الأقارب، وإن لم يكن استمتاع، فالأقارب
أولى، وكذا لو كان للمحضونة زوج كبير، وهناك استمتاع، فهو أولى، وإلا
فالأقارب، فإن كان لها قرابة أيضا، فهل يرجح بالزوجية؟ وجهان.
الضرب الثاني: محض الذكور، وهم أربعة أصناف، الأول: محرم وارث،
كالأب والجد والأخ وابن الأخ والعم، فلهم الحضانة، وحكى البغوي وغيره وجها،
أنه لا حضانة لغير الأب والجد من الرجال، وقيل: لا حضانة للأخ من الام خاصة
لعدم العصوبة والولاية، والصحيح الأول، فيقدم الأب، ثم الجد وإن علا، يقدم
515

منهم الأقرب فالأقرب، ثم الأخ للأبوين، ثم الأخ للأب، ثم الأخ للام، ثم بنو
الأخوة على هذا الترتيب، ثم العم للأبوين، ثم العم للأب، ثم عم الأب، ثم عم
الجد، هذا هو المذهب، وفي وجه، يقدم الأخ للام على الأخ للأب، وفي وجه،
يتقدم العم على الأخ للام لعصوبته، وفي وجه، يتقدم الأعمام على بني الأخوة من
الام.
الصنف الثاني: وارث غير محرم، كابن العم وابنه، وابن عم الأب والجد،
فلهم الحضانة على الصحيح، وفيهم الوجه الذي حكاه البغوي، ثم إن كان الولد
ذكرا أو أنثى لا تشتهى، سلمت إليه، وإن بلغت حدا تشتهى، لم تسلم إليه، لكن
له أن يطلب تسليمها إلى امرأة ثقة، وتعطى أجرتها، فإن كانت له بنت، سلمت
إليه، وفي ثبوت الحضانة للمعتق، وجهان، أحدهما: نعم، كالإرث، وولاية
النكاح، وتحمل الدية، وأصحهما: لا، لعدم القرابة التي هي مظنة الشفقة،
فعلى هذا لو كانت له قرابة وهناك من هو أقرب منه، فهل يرجح لانضمام عصوبة
القرابة إلى عصوبة الولاء؟ وجهان، حكاهما الروياني، مثاله: عم وعم أب معتق.
قلت: الأصح لا يرجح. والله أعلم.
516

الصنف الثالث: محرم غير وارث، كأبي الام، والخال، والعم للام، وابن
الأخت، وابن الأخ للام، فلا حضانة لهم على الأصح، لضعف قرابتهم، فإن
قلنا: لهم حضانة، تأخروا عن المحارم الوارثين، وعن الوارثين الذين لا محرمية
لهم.
الصنف الرابع: من ليس بمحرم ولا وارث من الأقارب، كابن الخال والخالة
والعمة، فلا حضانة لهم على المذهب، وقيل: وجهان، وإذا أثبتنا الحضانة
لجميع المذكورين من الأصناف الأربعة، تفريعا على المذهب في بعضهم، وعلى
الضعيف في بعضهم، وتركنا التقسيم، قلنا: يقدم الأب، ثم أب الأب وإن علا،
ثم الأخوة، ثم بنوهم، ثم الأعمام، ثم بنوهم، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم، ثم
أعمام الجد، ثم بنوهم، ثم الجد أبو الأم، وكل جد يدلي بذكر بين أنثيين، يقدم
الأقرب منهم فالأقرب، ثم الخال، ثم العم للام، ثم ابن الخال، ثم ابن العم
للام، ثم المعتق، ثم عصباته، ومنهم من يقتضي كلامه تأخر بني العم عن أعمام
الأب والجد، لأن لهم محرمية مع الإرث.
الضرب الثالث: في اجتماع الذكور والإناث، فتقدم الام على جميعهم،
حتى على الأب، ثم أم الام وإن علت، تقدم على الأب وغيره، فلو نكحت الام
ورضي أبو الولد وزوجها بكونه عندها، سقط حق الجدة على الأصح، وإذا
اجتمع الأب والجدات من جهته، قدم عليهن على الصحيح المنصوص، لأنهن
يدلين به، وقيل: يتقدمنه، لولادتهن وصلاحيتهن، وطرد هذا الخلاف في
الأخت للأب مع الأب وإن كانت فرعا له، لصلاحيتها، وأما الأخت من الأبوين، أو
من الام والخالة، فإن قلنا بالقديم وقدمناهن على أمهات الأب، قدمناهن على
517

الأب، وإن قدمنا أمهات الأب على الأخت والخالة، يقدم الأب هنا على الأصح
المنصوص، وقيل: يتقدمان عليه لأنوثتهما وإدلائهما بالأم، فعلى هذا لو كانت مع
الأب أو الأخت للأب، والخالة أم الأب، فوجهان، قال الإصطخري: الحضانة
للأب، لأن الأخت تسقط بأم الأب، وهي تسقط بالأب، وقال الأكثرون: الحضانة
للأخت، لأنها مقدمة على الأب على الوجه الذي تفرع عليه، وتسقط أم الأب
بالأب. ولو اجتمع الأب والأخت للأب والأخت للام، وقلنا بالصحيح: إن الأخت للأم
مقدمة على الأخت للأب، فهل الحضانة للأب، أم للأخت للام؟ فيه هذان
الوجهان، فإذا قلنا بالصحيح في تقديم الأب على أمهاته، وبالأصح في تقديمه على
الأخت للأم والخالة، فالمقدم بعد أمهات الام الأب، ثم أمهاته المدليات بالإناث،
ثم الجد أبو الأب، وفيه مع أمهاته ما في الأب، ثم أبو الجد وأمهاته كذلك،
ويتقدمون جميعا على الأقارب الواقعين على حواشي النسب، وأما الجدات
الساقطات، فقد سبق الكلام في استحقاقهن، وفي زينتهن، وإذا لم يوجد مستحق
للحضانة من الأجداد والجدات، فثلاثة أوجه، أحدها: نساء القرابة وإن بعدن أولى
من الذكور، وإن كانوا عصبات، لصلاحيتهن، فعلى هذا تقدم الأخوات والعمات
والخالات وبناتهن على الأخوة والأعمام وبنيهم، والثاني: العصبات أولى، لقوة
نسبهم وقيامهم بالتأديب، والثالث - وهو الأصح: لا يرجح واحد من الفريقين على
الآخر، بل يقدم منهم الأقرب، فالأقرب، فإن استوى اثنان، قدم بالأنوثة، فعلى
هذا تقدم بعد الآباء والأمهات، الأخوة والأخوات، وتقدم الأخوات على الأخوة،
ثم بعد الأخوة بنات الأخوات، ثم بنو الأخوة، وتقدم بنت الأخ على ابن الأخت
اعتبارا من يحضن لا بمن يدلي به، فإن فقدوا كلهم، فالحضانة للخؤولة، ثم
العمومة، وتقدم الخالات على الأخوال، والعمات على الأعمام، فإن فقدوا،
فالحضانة لأولادهم على ما ذكرنا في أصولهم ثم لخؤولة الأبوين ثم لعمومتهما، على
هذا الترتيب، وإذا استوى اثنان، كأخوين أو خالتين، وتنازعا، أقرعنا، وإذا لم
يوجد أحد من نساء القرابة ولا من العصبات، وهناك رجال من ذوي الأرحام،
فحكمهم ما ذكرنا في الصنف الرابع.
518

فرع الأخت مع الجد كهي مع الأب.
فرع لو كان في أهل الحضانة خنثى، هل يتقدم على الذكر في موضع لو
كان أنثى لتقدم لاحتمال الأنوثة، أم لا لعدم الحكم بها؟ وجهان.
قلت: الأصح: الثاني. والله أعلم.
وإذا أخبر عن ذكورته أو أنوثته، عمل بقوله في سقوط الحضانة، وهل يعمل
بها في استحقاقها، أم لا يعمل للتهمة؟ وجهان، حكاهما الروياني.
قلت: أصحهما: يعمل وهو الجاري على قواعد المذهب في نظائره. والله
أعلم.
الباب السادس في نفقة المملوك
تجب على السيد نفقة رقيقه، قوتا وأدما، وكسوته، وسائر مؤوناته، قنا كان أو
519

مدبرا، أو أم ولد، سواء الصغير والكبير، والزمن والأعمى والسليم، والمرهون
والمستأجر وغيرهم، فإن كان كسوبا، فكسبه لسيده، فإن شاء أخذه وأنفق عليه من
سائر أمواله، وإن شاء، أنفق عليه من كسبه، فإن لم يف بها، فالباقي على السيد،
وإن زاد، فالزيادة للسيد، ولو اشترك جماعة في رقيق، فالنفقة عليهم بحسب
أنصبائهم، ولا تجب نفقة المكاتب على سيده.
قلت: وهل يلزم السيد شراء الماء لطهارة رقيقه؟ وجهان، أصحهما: نعم،
كفطرته، والثاني: لا، لأن له بدلا وهو التيمم، كما لا يلزمه دم بتمتعه بل يصوم.
والله أعلم.
فصل لا تتقدر نفقة الرقيق، بل تعتبر الكفاية، وفيما تعتبر به الكفاية؟
أوجه، أصحها: تعتبر كفايته في نفسه، وتراعى رغبته وزهادته، وإن زاد ذلك على
كفاية مثله غالبا، والثاني: يعتبر ما يكفي مثله في الغالب، ولا يعتبر نفسه، وعن
صاحب الحاوي إن كان يؤثر فقد الزيادة في قوته وبدنه، لزمت السيد، وإلا
فلا، وينبغي أن تجئ هذه الأوجه في نفقة القريب.
فصل وأما جنس نفقة الرقيق، فغالب القوت الذي يطعم منه المماليك في
البلد، من الحنطة والشعير وغيرهما، وكذا الأدم الغالب، والكسوة من القطن
والكتان والصوف وغيرها، وتراعى حال السيد في اليسار والاعسار، فيجب ما يليق
بحاله من رفيع الجنس الغالب وخسيسه، ولا يجوز الاقتصار في الكسوة على ستر
العورة، وإن كان لا يتأذى بحر ولا برد، ولو تنعم السيد في الطعام والأدم والكسوة،
استحب أن يدفع إليه مثله، ولا يلزمه، بل له الاقتصار على الغالب، ولو كان السيد
يأكل ويلبس دون المعتاد غالبا، إما بخلا وإما رياضة، لزمه رعاية الغالب للرقيق
على الصحيح، وقيل: له الاقتصار على ما اقتصر عليه لنفسه.
فصل إذا كان له عبيد، يستحب أن يسوي بينهم في الطعام والكسوة،
520

ويفضل النفيس على الخسيس، والصحيح: الأول، وفي الجواري وجهان،
أحدهما: يسوي بينهن كالعبيد، وأصحهما: يفضل ذوات الجمال والفراهة للعادة،
وهذا هو المنصوص، وسواء فيه السرية وغيرها، والمراد بالتسوية أنه يكره
التفضيل، وبالتفضيل أنه مستحب لا واجب.
فصل إذا ولي رقيقه معالجة طعامه، فجاءه به، فينبغي أن يجلسه معه
ليتناول منه، فإن لم يفعل السيد، أو امتنع الرقيق توقيرا للسيد، فينبغي أن يروغ له
السيد لقمة أو لقمتين، ثم يناوله، والترويغ: أن يرويها دسما، وأشار الشافعي
رضي الله عنه في ذلك إلى ثلاثة أقوال، أحدها: أنه يجب الترويغ والمناولة، فإن
أجلسه معه، فهو أفضل، والثاني: يجب أحدهما لا بعينه، وأظهرهما: لا يجب
واحد منهما، والامر بهما على الاستحباب ندبا إلى التواضع ومكارم الأخلاق،
ومنهم من قطع بنفي الوجوب، وذكر قولين في أن الاجلاس أفضل، أم هما
متساويان، والمذهب الأول، وأصل هذا الاستحباب في مناولة الطعام اللذيذ،
يشمل من عالجه وغيره، لكنه فيمن عالجه آكد، ورعايته في حق الحاضرين أهم،
والخلاف في الوجوب مختص بمن عالجه، وليكن ما يناوله لقمة كبيرة تسد مسدا،
لا صغيرة تهيج الشهوة، ولا تقضي النهمة.
فصل نفقة الرقيق لا تصير دينا، بل تسقط بمضي الزمان، ولو دفع إليه
طعاما، ثم أراد إبداله، قال الروياني: ليس له ذلك عند الاكل، ويجوز قبله، وعن
الماوردي: أنه إن تضمن الابدال تأخر الاكل، لم يجز.
فصل إذا ولدت أمته، أو أم ولده منه، فله أن يجبرها على إرضاعه، لان
521

لبنها ومنافعها له، ولو أراد تسليم الولد إلى غيرها، وأرادت هي إرضاعه، فوجهان،
أحدهما: له ذلك لأنها ملكه، وقد يريد الاستمتاع بها واستخدامها، وأصحهما:
ليس له، وبه قطع في الوجيز لأن فيه تفريقا بين الوالدة وولدها، لكن له أن يضمه
في أوقات الاستمتاع إلى غيرها، وليس له أن يكلفها إرضاع غير ولدها معه بأجرة ولا
بغيرها، إلا أن يفضل لبنها عن ري ولدها، لقلة شربه، أو لكثرة اللبن، أو لاجتزائه
بغير اللبن في أكثر الأوقات، ولو مات ولدها، أو استغنى عن اللبن، فله ذلك، وله
إجبارها على فطامه قبل الحولين إذا اجتزأ الولد بغير اللبن، وعلى الارضاع بعد
الحولين، وإن كان يجتزئ بغير اللبن، إلا إذا تضررت به، وليس لها الاستقلال
بالفطام قبل تمام الحولين، وعلى الأب الأجرة إذا امتنعت الام من الفطام، إما لها
وإما لغيرها، وذكر فيه احتمال إذا لم يتضرر به الولد، وإن اتفقا عليه، جاز، إذا لم
يتضرر الولد، وأما بعد الحولين فيجوز لكل واحد منهما الفطام إذا اجتزأ بالطعام،
ويجوز أن يزاد في الارضاع على الحولين إذا اتفقا.
فرع لو لم يكن ولد الأمة من السيد، بل مملوك له من زوج أو زنى،
فحضانته على السيد، وحكم الارضاع على ما ذكرنا، وإن كان الولد حرا، فله
طلب الأجرة على الارضاع، ولا يلزمه التبرع به كما لا يلزم الحرة التبرع، ولو
رضي بأن ترضعه مجانا، لم يكن لها الامتناع.
فصل تجوز المخارجة وهي ضرب خراج معلوم على الرقيق يؤديه كل يوم
أو أسبوع مما يكتسبه، وليس للسيد إجبار العبد عليها، ولا للعبد إجبار السيد،
كالكتابة، وحكي قول مخرج أن للسيد إجباره كما ينقل منافعه قهرا إلى غيره، وليس
بشئ، وإذا تراضينا على خراج، فليكن له كسب دائم يفي بذلك الخراج، فاضلا
عن نفقته وكسوته، إن جعلهما في كسبه، وإذا وفى وزاد كسبه، فالزيادة بر من
السيد لعبده، وتوسيع للنفقة عليه، وإذا ضرب عليه خراجا أكثر مما يليق، وألزمه
522

تأديته، منعه السلطان، ويجبر النقص في بعض الأيام بالزيادة في بعضها،
والمخارجة غير لازمة.
فصل لا يجوز للسيد أن يكلف رقيقه من العمل إلا ما يطيق الدوام عليه،
فلا يجوز أن يكلفه عملا يقدر عليه يوما ويومين، ثم يعجز عنه، وإذا استعمله
نهارا، أراحه ليلا، وكذا بالعكس، ويريحه في الصيف في وقت القيلولة،
ويستعمله في الشتاء، النهار مع طرفي الليل، ويتبع في جميع ذلك العادة الغالبة،
وعلى العبد بذل المجهود، وترك الكسل.
فصل إذا امتنع من النفقة على مملوكه، باع الحاكم ماله في نفقته، وهل
يبيع شيئا فشيئا، أم يستدين عليه، فإذا اجتمع عليه شئ صالح، باع؟ فيه
وجهان.
قلت: الثاني أصح. والله أعلم.
فإن لم يجد له مالا، أمره بأن يبيعه، أو يؤجره، أو يعتقه، فإن لم يفعل،
باعه الحاكم أو أجره، فإن لم يشتره أحد، أنفق عليه من بيت المال، فإن لم يكن
فيه مال، فهو من محاويج المسلمين، فعليهم القيام بكفايته.
فصل من ملك دابة، لزمه علفها، وسقيها، ويقوم مقام العلف والسقي
تخليتها لترعى، وترد الماء إن كانت مما يرعى ويكتفى به لخصب الأرض ونحوه، ولم
يكن مانع ثلج وغيره، فإن أجدبت الأرض ولم يكفها الرعي، لزمه أن يضيف إليه من
العلف ما يكفيها، ويطرد هذا في كل حيوان محترم، وإذا امتنع المالك من ذلك،
523

أجبره السلطان في المأكولة على بيعها أو صيانتها عن الهلاك بالعلف أو التخلية للرعي
أو ذبحها، وفي غير المأكولة على البيع أو الصيانة، فإن لم يفعل، ناب الحاكم عنه
في ذلك على ما يراه ويقتضيه الحال، وعن ابن القطان أنه لا يخليها لخوف الذئب
وغيره، فإن لم يكن له مال، باع الحاكم الدابة، أو جزءا منها، أو اكراها، فإن لم
يرغب فيها لعمى أو زمانة، أنفق عليها بيت المال كالرقيق.
فرع يجوز غصب العلف للدابة إذا لم يجد غيره، ولم يبعه صاحبه، وكذا
غصب الخيط لجراحتها، وفيهما وجه ضعيف.
فرع يحرم تكليف الدابة ما لا تطيقه، من تثقيل الحمل، وإدامة السير
وغيرهما.
قلت: يحرم تحميلها ما لا تطيق الدوام عليه، وإن كانت تطيقه يوما ونحوه،
كما سبق في الرقيق. والله أعلم.
فرع لا يجوز نزف لبن الدابة بحيث يضر ولدها، وإنما يحلب ما فضل عن
ري ولدها، قال الروياني: ويعني بالري: ما يقيمه حتى لا يموت، وقد يتوقف في
الاكتفاء بهذا، قال المتولي: ولا يجوز الحلب إذا كان يضر البهيمة لقلة العلف،
قال: ويكره ترك الحلب إذا لم يكن فيه إضرار بها، لأنه تضييع للمال، قال:
والمستحب أن لا يستقصي في الحلب، ويدع في الضرع شيئا، وأن يقص الحالب
أظفاره لئلا يؤذيها.
فرع يبقى للنحل شيئا من العسل في الكوارة، فإن كان أخذه العسل في
الشتاء، وزمن تعذر خروج النحل، كان المتبقي أكثر، وإن أقام شيئا مقام العسل
لغذائها، لم يتعين إبقاء العسل.
فرع دود القز يعيش بورق التوت، فعلى مالكه تخليته لاكله، فإن عز
الورق، ولم يعتن المالك به، بيع ماله في تحصيل الورق لئلا يهلك من غير فائدة،
فإذا جاء الوقت، جاز تجفيفه بالشمس، وإن كان يهلك لتحصل فائدته.
524

فرع ما لا روح فيه كالعقار والقنى والزرع والثمار، لا يجب القيام
بعمارتها، ولا يكره ترك زراعة الأرض، لكن يكره ترك سقي الزرع والأشجار عند
الامكان لما فيه من إضاعة المال، قال المتولي: ويكره أيضا ترك عمارة الدار إلى أن
تخرب، ولا يكره عمارات الدور وسائر العقار للحاجة، والأولى ترك الزيادة،
وربما قيل: تكره الزيادة وبالله التوفيق.
تم الجزء السادس
ويليه الجزء السابع وأوله:
(كتاب الجنايات)
525