الكتاب: روضة الطالبين
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ٧
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ، الشيخ علي محمد معوض
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

روضة الطالبين
للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي
المتوفى سنة 676
ومعه
المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي
ومنتقى الينبوع
فيما زاد على الروضة من الفروع
للحافظ جلال الدين السيوطي
تحقيق
الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض
الجزء السابع
دار الكتب العلمية
بيروت لبنان
1

جميع الحقوق محفوظة
لدار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
يطلب من دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
ص ب: 9424 / 11 تلكس: Le nasher 41245
هاتف: 366135 - 815573
2

كتاب الجنايات
وهي القتل والقطع والجرح الذي لا يزهق ولا يبين، وقتل النفس بغير حق
من أكبر الكبائر.
قلت: قال البغوي: هو أكبر الكبائر بعد الكفر، وكذا نص عليه الشافعي في
كتاب الشهادات من المختصر وتقبل التوبة منه. ولو قتل مسلم، ثم مات قبل
التوبة، لا يتحتم دخوله النار، بل هو في خطر المشيئة كسائر أصحاب الكبائر، فإن
3

دخلها، لم يخلد فيها خلافا للمعتزلة والخوارج. والله أعلم.
ويتعلق بالقتل الذي هو ليس مباحا سوى عذاب الآخرة مؤاخذات في الدنيا:
القصاص والدية والكفارة، لكن لا يجتمع القصاص والدية، لا وجوبا ولا استيفاء،
وأما الكفارة فأعم منهما، فتجب مع كل واحد منهما، وقد تنفرد عنهما.
قلت: ويتعلق به أيضا التعزير في صور منها: إذا قتل من نساء أهل الحرب أو
صبيانهم. والله أعلم.
ثم القصاص لا يختص بالنفس، بل يجري في غير النفس من الأطراف
وغيرها، والكلام فيه قسمان، أحدهما: في موجب القصاص، والثاني: في
حكمه، استيفاء وعفوا، والأول نوعان، قصاص نفس وقصاص طرف وجراحات،
فنذكر موجب القصاص وواجبه في النفس ثم في الطرف، أما موجب القصاص في
النفس فله ثلاثة أركان: القتل والقتيل والقاتل. الركن الأول: القتل وهو كل فعل
عمد محض مزهق للروح عدوان من حيث كونه مزهقا، فهذا هو القتل الذي يتعلق به
القصاص، وقولنا: كل فعل، ليشمل الجرح وغيره، وقولنا: عدوان، احتراز من
القتل الجائز، وقولنا: من حيث كونه مزهقا، احتراز عما إذا استحق حز رقبته
قصاصا فقده نصفين، فإنه لا يتعلق به قصاص، وإن كان عدوانا، لأنه ليس بعدوان
من حيث كونه مزهقا، وإنما هو عدوان من حيث إنه عدل عن الطريق المستحق
4

فيحتاج إلى بيان العمدية والمزهق، وتعلق القصاص بالمباشرة والسبب، وحكم
اجتماع السبب والمباشرة، وبيان حكم اجتماع المباشرتين، وبيان اجتماع السببين،
فأما اجتماع السببين، فمؤخر إلى كتاب الديات، وأما الأربعة الباقية، فنعقد فيها
أطرافا:
الطرف الأول: في بيان العمدية، وتمييز العمد من الخطأ وشبه العمد، فإذا
صدر منه فعل قتل غيره، نظر، إن لم يقصد أصل الفعل بأن زلق، فسقط على
غيره، فمات به، أو تولد الهلاك من اضطراب يد المرتعش، أو لم يقصد الشخص
وإن قصد الفعل، بأن رمى صيدا، فأصاب رجلا، أو قصد رجلا، فأصاب غيره،
فهذا خطأ محض لا يتعلق به قصاص، وإن قصد الفعل والشخص معا، فهذا قد
يكون عمدا محضا، وقد يكون شبه عمد، وفي التمييز بينهما عبارات للأصحاب
يجمعها أربعة أوجه، أحدها: أنه إذا وجد القصدان وعلمنا حصول الموت بفعله،
فهو عمد محض، سواء قصد الاهلاك، أم لا، وسواء كان الفعل مهلكا غالبا، أم
نادرا، كقطع الأنملة، وإن شككنا في حصول الموت به، فهو شبه عمد، والثاني:
إن ضربه بجارح، فالحكم على ما ذكرنا، وإن ضربه بمثقل، اعتبر مع ذلك في
كونه عمدا أن يكون مهلكا غالبا، فإن لم يكن مهلكا غالبا، فهو شبه عمد، واعترض
الغزالي على الأول، بأنه لو ضرب كوعه بعصا، فتورم الموضع، ودام الألم حتى
مات، فقد علمنا حصول الموت به ولا قصاص فيه، بل تجب الدية، وعلى الثاني
بأن العمدية أمر حسي لا يختلف بالجارح والمثقل، وكما يؤثر الجارح في الظاهر
بالشق يؤثر المثقل في الباطن بالترضيض، وفي كلام الامام نحو هذا، والوجه الثالث
واختاره الغزالي: أن لافضاء الفعل إلى الهلاك ثلاث مراتب: غالب وكثير ونادر،
والكثير: هو المتوسط بين الغالب والنادر، ومثاله، الصحة والمرض والجذام،
فالصحة هي الغالبة في الناس، والمرض كثير ليس بغالب، والجذام نادر، فإن
ضربه بما يقتل غالبا، جارحا كان أو مثقلا، فعمد، وإن كان يقتل كثيرا فهو عمد إن
كان جارحا كالسكين الصغير، وإن كان مثقلا، كالسوط والعصا، فشبه عمد، وإن
كان يقتل نادرا، فلا قصاص، مثقلا كان أو جارحا، كغرز إبرة لا يعقبه ألم ولا
ورم، والفرق بين الجارح والمثقل على هذا الوجه أن الجراحة لها أثر في الباطن قد
يخفى، ولان الجرح وهو طريق الاهلاك غالبا بخلاف المثقل، والوجه الرابع وهو
5

الذي اقتصر عليه الجمهور، أنه إن ضربه بما يقتل غالبا، فعمد محض، وإن لم
يقتل غالبا، فشبه عمد، فهذه عبارات الأصحاب في التمييز، والقصاص مختص
بالعمد المحض دون الخطأ وشبه العمد.
فرع جرحه بمحدد من حديد أو خشب أو حجر أو قصب أو زجاج أو نحاس
أو غيرها، فمات في الحال أو بعد مدة بسراية تلك الجراحة وجب القصاص.
والطعن بالسنان، وغرز المسلة كالضرب بالسيف، وهذا في الجراحات التي لها
تأثير، فأما إبانة فلقة من اللحم خفيفة فهو كغرز الإبرة كذا ذكره الامام، وإذا غرز إبرة
فمات، نظر، إن غرزها في مقتل، كالدماغ والعين وأصل الاذن والحلق وثغرة النحر
والأخدع، وهو عرق العنق، والخاصرة والإحليل والأنثيين والمثانة والعجان، وهو ما
بين الخصية والدبر، وجب القصاص، وإن غرزها في غير مقتل، نظر، إن ظهر أثر
الغرز بأن تورم الموضع، للامعان في الغرز، والتوغل في اللحم، وبقي متألما إلى
أن مات، وجب القصاص على المذهب، وحكى ابن كج وابن الصباغ فيه
6

وجهين وإن لم يظهر أثر، ومات في الحال، فثلاثة أوجه، أصحها: لا يجب
القصاص، ولكنه شبه عمد، فيجب الدية، والثاني: يجب القصاص، والثالث:
لا يجب قصاص ولا دية، وفي الرقم للعبادي أن الغرز في بدن الصغير والشيخ
الهم ونضو الخلق، يوجب القصاص بكل حال، ولو غرز إبرة في جلدة العقب
ونحوها، ولم يتألم به، فمات، فلا قصاص ولا دية، لعلمنا بأنه لم يمت به،
والموت عقبه موافقة قدر، فهو كما لو ضربه بقلم، أو ألقى عليه خرقة، فمات في
الحال.
في فرع لو ضربه بمثقل كبير يقتل غالبا كحجر، أو دبوس كبيرين، أو
أحرقه، أو صلبه، أو هدم عليه حائطا، أو سقفا، أو أوطأه دابة، أو دفنه حيا، أو
عصر خصيته عصرا شديدا، فمات، وجب القصاص، وإن ضربه بسوط، أو عصا
خفيفة، أو رماه بحجر صغير، نظر، إن والى به الضرب حتى مات، أو اشتد
الألم، وبقي متألما حتى مات، وجب القصاص، وإن لم يوال واقتصر على سوط
أو سوطين، فإن كان في مقتل، أو في شدة الحر أو البرد المعينين على الهلاك، أو
كان المضروب صغيرا أو ضعيفا بأصل الخلقة أو بعارض، وجب القصاص، لأنه
مهلك غالبا، وإن لم يكن شئ من ذلك، فهو شبه عمد، وإن خنقه، أو وضع على
فمه يده، أو مخدة ونحوها حتى مات بانقطاع النفس، وجب القصاص، وإن خلاه
وهو حي، وجب القصاص أيضا إن انتهى إلى حركة المذبوح، أو ضعف وبقي
متألما حتى مات، وإن زال الضعف والألم، ثم مات، فقد انقطع أثر ذلك الفعل،
7

فإن كانت مدة الامساك على الفم قصيرة لا يموت مثله في مثلها غالبا، فهو شبه
عمد.
فرع لو ضربه اليوم ضربة، وغدا ضربة، وهكذا فرق الضربات حتى
مات، فوجهان حكاهما ابن كج، لأن الغالب السلامة عند تفريق الضربات، وقال
المسعودي: لو ضربه ضربة وقصد أن لا يزيد، فشتمه، فضربه ثانية، ثم شتمه،
فضربه ثالثة حتى قتله، فلا قصاص لعدم الموالاة، وينبغي أن لا ينظر إلى صورة
الموالاة ولا تقدر مدة التفريق، بل يعتبر أثر الضربة السابقة والآلام الحاصلة بها،
فإن بقيت ثم ضربه أخرى، فهو كما لو والى.
فرع الضرب بجمع الكف، كالضرب بالعصا الخفيفة.
فرع لو سقاه دواء أو سما لا يقتل غالبا، لكنه يقتل كثيرا، فهو كغرز الإبرة
في غير مقتل، لأن في الباطن أغشية رقيقة تنقطع به، وفي إلحاقه بالمثقل
احتمال.
فرع إذا حبسه في بيت فمات جوعا، أو عطشا، نظر، إن كان عنده طعام
وشراب فلم يتناوله خوفا أو حزنا، أو أمكنه طلبه ولو بالسؤال، فلم يفعل، لم يجب
على حابسه قصاص ولا ضمان، لأن المحبوس قتل نفسه، وإن منعه الطعام
والشراب، ومنعه الطلب حتى مات، نظر، إن مضت مدة يموت مثله فيها غالبا
بالجوع أو العطش، وجب القصاص، وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوة
وضعفا، والزمان حرا وبردا، وإن لم تمض هذه المدة، ومات، فإن لم يكن به
جوع أو عطش سابق، فهو شبه عمد، وإن كان به بعض جوع أو عطش، ففي
وجوب القصاص ثلاثة أقوال، أظهرها: أنه إن علم الحابس جوعه السابق، لزمه
القصاص، وإلا فلا، والثاني: يجب القصاص في الحالين، والثالث: عكسه،
وشبهوا الجاهل بمن دفع رجلا دفعا خفيفا، فسقط على سكين وراءه، والدافع جاهل
بها، لا قصاص عليه، فإن أوجبنا القصاص، وجبت دية عمد بكمالها إن كان
عالما، ودية شبه عمد إن كان جاهلا، وإن لم نوجب القصاص، فقولان،
8

أحدهما: تجب الدية بكمالها، وإنما سقط القصاص للشبهة، وأظهرهما وبه قطع
الأكثرون: تجب نصف دية العمد، أو شبه العمد. ولو منعه الشراب دون الطعام،
فلم يأكل المحبوس خوفا من العطش، فمات، فلا قصاص قطعا، ولا ضمان أيضا
على الأصح، وبه قطع البغوي، لأنه المهلك نفسه، وقال القفال: يجب، ولو
حبسه، وراعاه بالطعام والشراب، فمات في الحبس، فإن كان عبدا، ضمنه
باليد، وإن كان حرا، فلا ضمان أصلا، سواء مات حتف أنفه، أو بانهدام سقف،
أو جدار عليه، أو بلسع حية ونحوها. ولو حبسه وعراه حتى مات بالبرد، فهو كما لو
حبسه، ومنعه الطعام والشراب، ذكره القاضي حسين. ولو أخذ طعامه، أو
شرابه، أو ثيابه في مفازة، فمات جوعا، أو عطشا، أو بردا، فلا ضمان، لأنه لم
يحدث فيه صنعا.
فرع لو سحر رجلا، فمات، سألناه، فإن قال: قتلته بسحري،
وسحري يقتل غالبا، لزمه القصاص، وإن قال: قد يقتل، والغالب أنه لا يقتل،
فهو إقرار بشبهة العمد، وإن قال: قصدت غيره، فتأثر به لموافقة الاسم الاسم،
فهو إقرار بالخطإ، وفي الحالين دية شبه العمد، والخطأ يكون في ماله، ولا يلزم
العاقلة إلا أن يصدقوه، وسيعود ذكر السحر إن شاء الله تعالى في كتاب الديات، ثم
في كتاب دعوى الدم، ولنا وجه ضعيف مذكور هناك، أن السحر لا حقيقة له، فلا
قصاص فيه.
الطرف الثاني في بيان المزهق. فالفعل الذي له مدخل في الزهوق، إما أن لا
يؤثر في حصول الزهوق، ولا في حصول ما يؤثر في الزهوق، وإما أن يؤثر في
الزهوق ويحصله، وإما أن يؤثر في حصول ما يؤثر في الزهوق، فأما الأول، فكحفر
البئر مع التردي أو التردية، وكالامساك مع القتل، وأما الثاني فكالقد، وحز الرقبة،
والجراحات السارية، وأما الثالث، فكالاكراه المؤثر في القد، فالأول شرط،
والثاني علة، والثالث سبب، ولا يتعلق القصاص بالشرط، ويتعلق بالعلة، وكذا
بالسبب على تفصيل وخلاف سنراه إن شاء الله تعالى.
ثم السبب ثلاثة أضرب:
9

الأول: ما يولد المباشرة توليدا حسيا، وهو الاكراه، فإذا أكرهه على قتل بغير
حق، وجب القصاص على الآمر على الصحيح المنصوص، وبه قطع الجمهور،
وعن ابن سريج أنه لا قصاص، لأنه متسبب، والمأمور مباشر آثم بفعله، والمباشرة
مقدمة، وقد سبق بيان حقيقة الاكراه في كتاب الطلاق، والذي مال إليه المعتبرون
هنا ورجحوه، أن الاكراه على القتل لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل، أو ما يخاف منه
التلف، كالقطع والجرح والضرب الشديد بخلاف الطلاق، وحكم الاكراه الصادر
من الامام أو نائبه أو المتغلب سواء فيما ذكرناه.
الضرب الثاني: ما يولدها شرعا وهو الشهادة، فإذا شهدوا على رجل بما
يوجب قتله قصاصا، أو بردة، أو زنى وهو محصن، فحكم القاضي بشهادتهم وقتله
بمقتضاها، ثم رجعوا وقالوا: تعمدنا وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا، لزمهم
القصاص، ولو شهدوا بما يوجب القطع قصاصا، أو في سرقة، فقطع، ثم
رجعوا وقالوا: تعمدنا، لزمهم القطع، وإن سرى فعليهم القصاص في النفس، وإن
رجع الشهود وقالوا: لم نعلم أنه يقتل بقولنا، أو رجع المزكي أو القاضي أو الوالي
وحده أو مع الشهود، فسيأتي بيان كل ذلك في كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى.
وإنما يجب القصاص على الشهود بالرجوع واعترافهم بالتعمد، لا بكذبهم، حتى لو
تيقنا كذبهم بأن شاهدنا المشهود بقتله حيا، فلا قصاص عليهم لاحتمال أنهم لم
10

يتعمدوا، ولا يلزمهم القصاص بالرجوع إلا إذا أخرجت شهادتهم مباشرة الولي عن
كونها عدوانا، أما إذا اعترف الولي بكونه عالما بكذبهم، فلا قصاص عليهم، وعلى
الولي القصاص، رجعوا أم لم يرجعوا.
الضرب الثالث: ما يولدها توليدا عرفيا، كتقديم الطعام المسموم، فإذا
أوجروه سما صرفا، أو مخلوطا وهو مما يقتل غالبا، سواء كان موحيا أو غير موح،
فمات، لزمه القصاص، وإن كان لا يقتل غالبا وقد يقتل فهو شبه عمد، فلا قصاص
على المشهور، وحكى ابن كج قولا: إنه يجب القصاص، لأن للسم نكاية في
الباطن كالجرح، فعلى المشهور لو كان السم لا يقتل غالبا، لكن أوجره ضعيفا
بمرض أو غيره ومثله يقتل مثله غالبا، وجب القصاص، ولو قال المؤجر: كان مما لا
يقتل غالبا، ونازعه الولي، فالقول قول المؤجر بيمينه، فإن ساعدته بينة، فلا يمين
عليه، وإن أقام الولي بينة على ما يقوله، وجب القصاص، ولو اتفقا على أنه كان
من هذا السم الحاضر، وشهد عدلان أنه يقتل غالبا، وجب القصاص، ولو قال:
لم أعلم أنه سم، أو لم أعلم أنه يقتل غالبا، ونازعه الولي، فهل يصدق المؤجر؟
قولان، قال الروياني: فيما إذا قال: لم أعلم كونه قاتلا، أظهرهما: لا يصدق،
فيجب القصاص، ولو لم يوجره السم القاتل، لكن أكرهه على شربه، فشربه،
قال الداركي وغيره: في وجوب القصاص قولان، أظهرهما: الوجوب، والوجه أن
يكون هذا كإكراهه على قتل نفسه، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
فرع لو ناوله الطعام المسموم وقال: كله، أو قدمه إليه وضيفه به،
فأكله، ومات به، فإن كان صبيا أو مجنونا، لزمه القصاص، سواء قال لهما: هو
11

مسموم أم لا، وذكروا مثله في الأعجمي الذي يعتقد أنه لا بد من الطاعة في كل ما
يشار عليه به، ولم يفرقوا بين الصبي المميز وغيره، ولا نظروا إلى أن عمد الصبي
عمد أم خطأ، وللنظرين محال، وإن كان بالغا عاقلا، فإن علم حال الطعام،
فلا شئ على المناول والمقدم، بل الآكل هو المهلك نفسه، وإلا ففي القصاص
قولان، وهما جاريان فيما لو غطى رأس بئر في دهليزه، ودعا إلى داره ضيفا، وكان
الغالب أنه يمر على ذلك الموضع إذا أتاه، فأتاه وهلك بها، أظهرهما: لا
قصاص، وطرد البغوي القولين فيما لو قال: كل، وفيه شئ من السم، لكنه لا
يضرك، وفيما إذا جعل السم في جرة ماء على الطريق فشرب منه، ومات، ولتكن
الصورة فيما إذا كان على طريق شخص معين، إما مطلقا، وإما في ذلك الوقت،
وإلا فلا تتحقق العمدية، فإذا قلنا: لا قصاص، وجبت الدية على الأظهر، فإن
هذا أقوى من حفر البئر، وفي قول: لا تجب تغليبا للمباشرة، ولو دس السم في
طعام رجل، فأكله صاحبه جاهلا بالحال، ومات، فطريقان، أصحهما: أنه على
القولين، إذا كان الغالب أنه يأكل منه، والثاني: القطع بالمنع، لأنه لم يوجد منه
تغرير، ولا حمل على الاكل، وإنما وجد منه إتلاف طعامه، فعليه ضمانه، ولو
دسه في طعام نفسه فدخل شخص داره بغير إذنه وأكله، فلا ضمان، فإن كان الرجل
ممن يدخل داره، ويأكل انبساطا، فهل يجري القولان في القصاص، أم يقطع
بنفيه؟ طريقان.
12

فصل فيما إذا جرى سبب وقدر المقصود على دفعه وفيه مسائل:
إحداها: جرحه جراحة مهلكة، فلم يعالجها المجروح حتى مات، وجب القصاص
على الجارح، لأن مجرد الجراحة مهلك، بخلاف ما لو حبسه والطعام عنده فلم
يأكل حتى مات، لأن الحبس بمجرده ليس مهلكا.
الثانية: غرقه في ماء، فإن أمسكه فيه حتى مات، أو تركه وفيه حياة، ولكن
تألم به، وبقي متألما حتى مات، فعليه القصاص، وإن ألقاه في الماء، فمات به،
نظر إن كان الماء بحيث لا يتوقع الخلاص منه كلجة البحر التي لا تنفع فيها
السباحة، وجب القصاص، سواء كان الملقى يحسن السباحة أم لا، وإن كان يتوقع
الخلاص منه، فإن كان قليلا لا يعد مثله مغرقا، بأن كان راكدا في موضع منبسط،
فمكث الملقى فيه مضطجعا، أو مستلقيا حتى هلك، فلا قصاص ولا دية، فإنه
المهلك نفسه، ومثله لو فصده فلم يعصب نفسه حتى مات، لأن الدفع موثوق به،
لكن لو كتفه وألقاه على هيئة لا يمكنه الخلاص، فعليه القصاص، وإن كان يعد
مغرقا كالأنهار الكبار التي لا يخلص منها إلا بالسباحة، فإن كان الملقى مكتوفا، أو
صبيا، أو زمنا، أو ضعيفا، أو قويا لا يحسن السباحة، وجب القصاص، وإن كان
يحسنها، فمنعه منها عارض موج، أو ريح، فلا قصاص، ولكنه شبه عمد، وإن
ترك السباحة بلا عذر، حزنا أو لجاجا، ففي وجوب الدية وجهان، أو قولان،
أصحهما: لا تجب، وقيل: لا تجب قطعا، وقيل: عكسه، ولا قصاص على
المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: يجب إن أوجبنا الدية.
المسألة الثالثة: لو ألقاه في نار لا يمكنه الخلاص منها، لعظمها أو كونها في
وهدة، أو كونه مكتوفا، أو زمنا، أو صغيرا، فمات فيها، أو خرج منها متأثرا
متألما، وبقي متألما إلى أن مات، فعليه القصاص، وإن أمكنه التخلص، فلم
يفعل حتى هلك، فلا تجب الدية على الأظهر، ولا قصاص على الصحيح،
13

ولكن يجب ضمان ما تأثر بالنار بأول الملاقاة قبل تقصيره في الخروج، سواء كان
أرش عضو أو حكومة قطعا.
فرع قال الملقي: كان يمكنه الخروج مما ألقيته فيه من ماء أو نار،
فقصر، وقال الولي: لم يمكنه، فأيهما يصدق بيمينه؟ وجهان، ويقال: قولان،
لتعارض براءة الذمة، مع أن الظاهر أنه لو تمكن لخرج.
قلت: الراجح تصديق الولي. والله أعلم.
فرع كتفه وطرحه على الساحل، فزاد الماء وهلك به، إن كان في موضع
يعلم زيادة الماء فيه، كالمد بالبصرة، وجب القصاص، وإن كان قد يزيد، وقد لا
يزيد، فهو شبه عمد، وإن كان بحيث لا يتوقع زيادته، فاتفق سيل نادر، فخطأ
محض.
الطرف الثالث: في اجتماع السبب والمباشرة، أو الشرط. أما الشرط
والمباشرة إذا اجتمعا، فالقصاص والدية يتعلقان بالمباشرة فقط، فلو حفر بئرا في
محل عدوان أو غيره، فردي رجل فيها شخصا، فالضمان على المردي دون الحافر،
ولو أمسك رجلا، فقتله آخر، فالضمان على القاتل، ولا شئ على الممسك، إلا
أنه يأثم إذا أمسكه للقتل، ويعزر. هذا في الحر، أما لو كان المقتول عبدا،
فيطالب الممسك بالضمان باليد والقرار على القاتل، ولو أمسك محرم صيدا، فقتله
محرم آخر، فقرار الضمان على القاتل، وتتوجه المطالبة على الممسك، هذا هو
المذهب، وفيه خلاف سبق في الحج. ولو قدم صبيا إلى هدف، فأصابه سهم كان
أرسله الرامي قبل تقديم الصبي، فقتله، فالرامي كالحافر، والمقدم كالمردي،
فعليه القصاص،
أما إذا اجتمع السبب والمباشرة فهو ثلاثة أضرب:
14

أحدها: أن يغلب السبب المباشرة، بأن أخرجها عن كونها عدوانا مع توليده
لها، مثل أن شهدوا عليه بما يوجب الحد، فقتله القاضي، أو جلاده، أو بما يوجب
القصاص، فقتله الولي أو وكيله، فالقصاص على الشهود، دون القاضي والولي
ونائبهما.
الضرب الثاني: أن يصير السبب مغلوبا، بأن رماه من شاهق، فتلقاه
رجل بسيف، فقده نصفين، أو ضرب رقبته قبل وصوله الأرض، فالقصاص على القاد،
ولا شئ على الملقي، سواء عرف الحال أم لا، وفي وجه: يجب عليه الضمان
بالمال، لا بالقصاص، والصحيح: الأول. ولو ألقاه في ماء مغرق، كلجة
بحر، فالتقمه حوت، فعلى الملقي القصاص على الصحيح المنصوص، وخرج
الربيع قولا: إنه لا قصاص، لكن تجب دية مغلظة، وقيل: إن التقمه الحوت قبل
الوصول إلى الماء، فلا قصاص، كمسألة القاد، وإلا فيجب، والصحيح أنه لا
فرق، وفي كلام الشيخ أبي حامد وغيره من العراقيين، ما يشعر بأن القولين في
الالتقام قبل وصوله الماء، والقطع بوجوب القصاص إذا كان بعده، وفرق الامام بين
مسألة القد والالتقام، بأن القد قتل صدر من فاعل مختار بفعل وروية، فيقطع أثر
السبب الأول، والحوت يلتقم بطبعه كالسبع الضاري، فلم يقطع أثر السبب الأول،
ولذلك قلنا: لو أمسكه، فقتله آخر، فالقصاص على القاتل دون الممسك، ولو
أمسكه وهدفه لوثبة سبع ضار، فافترسه، فالقصاص على الممسك، لأن الحيوان
الضاري يفعل بطبعه عند التمكن، وكأنه آلة لصاحب السبب الأول نازل منزلة ما لو
ألقاه في بئر وكان في سفلها نصل منصوب فمات به، فالقصاص على الملقي،
بخلاف ما إذا كان الطارئ فعل صاحب رأي، فإنه يبعد تنزيله منزلة الآلة، وبني
على هذا أنه لو كان في سفل البئر حية عادية بطبعها، أو نمر ضار، فقتله، وجب
القصاص على المردي، ولو كان هناك مجنون ضار على طبع السباع، فكذلك،
وإن لم يكن ضاريا، كان كالعاقل في إسقاط الضمان عن المردي، فلم يجعل
الهلاك الحاصل بالسبع الضاري كالتلقي بالسيف، وأطلق البغوي نفي الضمان إذا
15

افترسه السبع قبل أن يصل إلى الأرض، ولا فرق في مسألة القد، بين أن يكون القاد
ممن يضمن أو ممن لا يضمن، كالحربي، ولو رفع الحوت رأسه، فألقمه فاه، لزمه
القصاص بلا خلاف، ولو ألقاه في ماء غير مغرق، فالتقمه حوت، فلا قصاص
قطعا، لأنه لم يقصد إهلاكه، ولم يشعر بسبب الهلاك، فأشبه ما لو دفع رجلا
دفعا خفيفا، فألقاه، فجرحه بسكين كان هناك لم يعلم به الدافع، فلا قصاص،
ولكن تجب في الصورتين دية شبه العمد، كذا ذكره ابن الصباغ والبغوي وغيرهما،
وحكاه ابن كج عن الأصحاب، ثم قال: ينبغي أن لا تتعلق به دية كما لا يتعلق به
قصاص.
الضرب الثالث: أن يعتدل السبب والمباشرة، كالاكراه، فإذا أكره على
القتل، وجب القصاص على الآمر، كما سبق، وفي المأمور قولان، أظهرهما:
وجوب القصاص أيضا، لأنه آثم بالاتفاق بخلاف قتل الصائل، وسواء في جريان
القولين كان المكره سلطانا أو متغلبا، وقيل: هما في السلطان، فإن كان متغلبا،
وجب القصاص قطعا، فإن أوجبنا القصاص، فآل الامر إلى الدية، فهي عليهما
كالشريكين، وللولي أن يقتص من أحدهما، ويأخذ نصف الدية من الآخر، وإن لم
نوجب القصاص على المأمور، ففي وجوب نصف الدية، وجهان، أحدهما: لا
يجب، تنزيلا له منزلة الآلة، وأصحهما: يجب وهو المنصوص، وبه قطع
الأكثرون، فإن أوجبناه، وجبت الكفارة، وحرم الميراث، وهل تكون نصف الدية
في ماله أم على عاقلته؟ فيه تردد للامام.
قلت: الأرجح أنه في ماله. والله أعلم.
وإن قلنا: لا دية، وجبت الكفارة على الأصح، لأنه آثم، فإن أوجبنا
الكفارة، حرم الإرث، وإلا فوجهان، أصحهما: الحرمان.
16

فرع إذا أوجبنا القصاص على المكره والمكره جميعا، وكان أحدهما
مكافئا للمقتول دون الآخر، وجب القصاص على المكافئ دون الآخر، كشريك
الأب، فإذا أكره عبد حرا على قتل عبد، أو ذمي مسلما على قتل ذمي، وجب
القصاص على الآمر دون المأمور، ولو أكره حر عبدا على قتل عبد، أو مسلم ذميا
على قتل ذمي، فالقصاص على المأمور، ولو أكره الأب أجنبيا على قتل الولد، أو
الأجنبي الأب، فالقصاص على الأجنبي.
فرع إذا أكره بالغ صبيا مراهقا على قتل، فلا قصاص على الصبي، وأما
المكره، فيبنى على أن عمد الصبي عمد أم خطأ؟ فإن قلنا: عمد وهو الأظهر،
فعليه القصاص، وإن قلنا: خطأ، فلا، لأنه شريك مخطئ، قال الامام: هذا
إذا قلنا: يجب القصاص على المكره والمكره، وجعلناهما كالشريكين، فأما إن
قلنا: لا قصاص على المكره، ففي وجوب القصاص على المكره مع قولنا عمد
الصبي خطأ، وجهان، وأما الدية، فجميعها على المكره إن لم نوجب على المكره
شيئا، وإن أوجبنا عليه نصفها، فنصفها على المكره، ونصفها في مال الصبي إن
قلنا: عمده عمد، وإن قلنا: خطأ، فعلى عاقلته، ولو أكره مراهق بالغا، فلا
قصاص على المراهق، وفي البالغ: القولان، إن قلنا: عمد الصبي عمد، وإن
قلنا: خطأ، فلا قصاص قطعا، لأنه شريك مخطئ.
فرع أكره رجل رجلا على أن يرمي إلى طلل علم الآمر أنه إنسان، وظنه
المأمور حجرا أو صيدا، أو على أن يرمي سترة وراءها إنسان، وعلمه الآمر دون
المأمور، فلا قصاص على المأمور، ويجب على الآمر على الصحيح، فإنه آلة له،
ووجه المنع أنه شريك مخطئ، فإن آل الامر إلى الدية، فوجهان، أحدهما:
تجب كلها على الآمر واختاره البغوي، والثاني: عليه نصفها وعلى عاقلة المأمور
نصفها، ولو أكرهه على أن يرمي إلى صيد، فرمى، وأصاب رجلا فقتله، فلا
قصاص على واحد منهما، لأنهما لم يتعمدا، وأما الدية فجميعها على عاقلة الآمر
إن لم نضمن المكره، وإلا فعلى عاقلة كل واحد منهما نصفها، ولو أكرهه على
17

صعود شجرة، أو نزول بئر، ففعل، فزلق وهلك، فالصحيح أنه شبه عمد، فلا
قصاص، لأنه لا يقصد به القتل غالبا، وهذا هو الذي ذكره الفوراني والبغوي
والروياني، وقال الغزالي: يجب القصاص.
فرع لو قال: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فقتل نفسه، ففي وجوب
القصاص، قولان، أظهرهما: لا يجب، فإن أوجبناه، فعفي عنه على مال، وجب
جميع الدية، وإن لم نوجبه، فعليه نصف الدية إن أوجبنا الضمان على المكره،
وجميعها إن لم نوجبه، ويجري القولان، فيما لو أكرهه على شرب سم، فشربه
وهو عالم به، وإن كان جاهلا، فعلى المكره القصاص قطعا، ولو قال: اقطع يدك
وإلا قتلتك، فهو إكراه قطعا، ذكره أبو الحسن العبادي.
فرع قال: اقتلني وإلا قتلتك، فهذا إذن منه في القتل وإكراه، ولو تجرد
الاذن، فقتله المأذون له، ففي وجوب الدية قولان مبنيان على أن الدية تجب للورثة
ابتداء عقب هلاك المقتول، أم تجب للمقتول في آخر جزء من حياته ثم تنتقل
إليهم؟ إن قلنا بالأول، وجبت ولم يؤثر إذنه، وإلا فلا، وهذا الثاني أظهر، كذا
ذكره البغوي والغزالي وغيرهما، لأنه ينفذ منها ديونه ووصاياه، ولو كانت للورثة لم
18

يكن كذلك، وأما القصاص، فلا يجب على المذهب، وبه قطع الجمهور، وعن
سهل الصعلوكي طرد الخلاف فيه، ولو قال: اقطع يدي، فقطعها، فلا قصاص ولا
دية قطعا، لأنه إتلاف مأذون فيه، فصار كإتلاف ماله بإذنه، ولو أذن عبد في
القتل، أو القطع، لم يسقط الضمان، وفي وجوب القصاص إذا كان المأذون له
عبدا، وجهان، أما إذا انضم الاكراه إلى الاذن، فسقوط القصاص أقوى، وأما
الدية، فإن لم نوجبها عند تجرد الاذن فمع الاكراه أولى، وإن أوجبناها، بني على
أن المكره هل عليه نصف الدية؟ إن قلنا: نعم، فعليه نصفها، وإلا فلا.
واعلم أن الأئمة نقلوا أن المكره على قتله، يجوز له دفع الآمر والمأمور
جميعا، وأنه لا شئ عليه إذا قتلهما، وأن للمأمور دفع الآمر، ولا شئ عليه إذا
أتى الدفع على نفسه، فعلى هذا إذا قتله دفعا ينبغي أن يحكم بأنه لا قصاص ولا
دية بلا تفصيل ولا خلاف، وقد أشار إلى هذا أبو الحسن العبادي فقال: إذا قال:
اقتلني وإلا قتلتك، فإن لم يقتله، فهو استسلام، وإن قتله، فهو دفع، ويمكن أن
يقال: موضع التفصيل والخلاف ما إذا أمكنه الدفع بغير القتل، وإنما لا يلزمه شئ
إذا لم يمكنه الدفع بغيره، ولو قال: اقذفني وإلا قتلتك، فقذفه، فقيل: لا حد،
كما لو قال: اقطعني، قال البغوي: والصحيح وجوبه، لأنه قد يستعين بالغير في
قتل نفسه وقطعه، ولا يستعان به في القذف، فجعل القاذف مبتدئا.
قلت: هذا الذي قاله البغوي عجب، والصواب: أنه لا حد. والله أعلم.
فرع لو قال: اقتل زيدا أو عمرا وإلا قتلتك، فهذا ليس بإكراه، بل
تخيير، فمن قتله منهما كان مختارا لقتله، وإنما المكره من حمل على قتل معين لا
يجد عنه محيصا، وفي الرقم وجه أنه إكراه، ونقله المتولي عن اختيار القاضي
حسين، وليجئ مثله في الطلاق، والصحيح الأول، فعلى هذا من قتله منهما،
19

لزمه القصاص، ولا شئ على الآمر غير الاثم.
فرع لو أكره رجلا على أن يكره ثالثا على قتل رابع، ففعلا، وجب
القصاص على الآمر، وفي الثاني والثالث: القولان، لأنهما مكرهان.
فصل إذا أمره السلطان بقتل رجل ظلما، فقتله المأمور، نظر إن ظن
المأمور أنه يقتله بحق، فلا شئ على المأمور، لأن الظاهر أنه لا يأمر إلا بحق،
ولان طاعة السلطان واجبة فيما لا يعلم أنه معصية، واستحب الشافعي رحمه الله أن
يكفر لمباشرته القتل، وأما الآمر، فعليه القصاص، أو الدية والكفارة، وإن علم
المأمور أنه يقتله ظلما، فهل ينزل أمره منزلة الاكراه؟ وجهان، ويقال: قولان،
أحدهما: لا، وإنما الاكراه بالتهديد صريحا كما في غير السلطان، فعلى هذا لا
شئ على الآمر سوى الاثم، ويلزم المأمور القصاص، أو الدية والكفارة،
والثاني: ينزل منزلة الاكراه لعلتين، إحداهما: أن الغالب من حالة السطوة عند
المخالفة، والثاني: أن طاعته واجبة في الجملة، فينتهض ذلك شبهة، فإذا نزلناه
منزلة الاكراه، فعلى الآمر القصاص، وفي المأمور، القولان في المكره، ولو أمره
صاحب الشوكة من البغاة، كان كأمر إمام العدل، لأن أحكامه نافذة، ولو أمره
غير السلطان بالقتل بغير الحق، كالزعيم والمتغلب، فقيل: نظر، إن لم يخف من
مخالفته المحذور، فعلى المأمور القصاص أو الدية والكفارة، وليس على الآمر إلا
الاثم، ولا فرق بين أن يعتقده حقا، أو يعرف كونه ظلما، لأنه ليس بواجب
الطاعة، وإن كان يخاف من مخالفته المحذور، بأن اعتيد منه ذلك، ففيه الخلاف
المذكور في الامام أن المعلوم هل يجعل كالملفوظ به، والقياس جعله كالملفوظ،
وإلى ترجيحه مال الغزالي وغيره، وفي أمر السلطان مقتضى ما ذكره الجمهور
تصريحا ودلالة لا ينزل منزلة الاكراه، فحصل من هذا أن أمر السلطان من حيث هو
سلطان لا أثر له، وإنما النظر إلى خوف المحذور.
فرع لو أمر السيد عبده بقتل رجل ظلما فقتله، فإن كان العبد مميزا لا يرى
طاعة السيد واجبة في كل ما يأمره به، فالقصاص على العبد، ولا شئ على السيد
20

سوى الاثم، فإن عفا، أو كان مراهقا، تعلق الضمان برقبته، وكذا لو أمره بإتلاف
مال، فأتلفه، وإن كان صغيرا لا يميز، أو مجنونا ضاريا، أو أعجميا يرى طاعة
السيد واجبة في كل شئ، فهو كالآلة، والقصاص أو الدية على السيد. وفي تعلق
المال برقبة مثل هذا العبد، وجهان، أحدهما: نعم، لأنه متلف، وأصحهما:
لا، لأنه كالآلة، فأشبه ما لو أغرى بهيمته على إنسان فقتلته، لا يتعلق بها
ضمان، ولو أمر عبد غيره، فكذلك الحكم إن كان العبد بحيث لا يفرق بين أمر
سيده وغيره، ويسارع إلى ما يؤمر به، فإن قلنا: يتعلق الضمان برقبته، فبيع فيه،
فعلى الآمر قيمته للسيد، وإذا لم تف قيمته بالواجب، فعلى الآمر الباقي، وكذا لو
كان الآمر السيد، وليس هذا التعلق كتعلق الأرش برقبة سائر العبيد، ولو أمر أجنبي
هذا العبد بقتل نفسه، ففعل، فعلى الآمر الضمان إن كان صغيرا أو مجنونا، ولا
يجب إن كان أعجميا، لأنه لا يعتقد وجوب الطاعة في قتل نفسه بحال، لكن لو أمره
ببط جراحة أو فتح عرق على مقتل، وجب الضمان، لأنه لا يظنه قاتلا، فيجوز أن
يعتقد وجوب الطاعة، هكذا حكي عن النص، فإن كان الأجنبي الآمر عبدا، فليكن
القصاص على هذا التفصيل، كما سيأتي نظيره إن شاء الله تعالى.
فرع لو أمر رجل صبيا أو مجنونا حرا بقتل شخص، فقتله، قال البغوي:
إن كان لهما تمييز، فلا شئ على الآمر سوى الاثم، وتجب الدية في مال المأمور
مغلظة، إن قلنا: عمده عمد، وإن قلنا: خطأ، فعلى عاقلته مخففة، وإن لم يكن
لهما تمييز، وكانا يسارعان إلى ما أغريا به، أو كان المجنون ضاريا، فالقصاص أو
كمال الدية على الآمر، وليا كان، أو أجنبيا، ولو أمر أحدهما بقتل نفسه، ففعل،
فعلى الآمر القصاص، ولو أن مثل هذا الصبي أو المجنون قتل، أو أتلف مالا من
غير أمر أحد، ففي تعلق الضمان بهما الخلاف السابق في التعلق برقبة العبد، لأنه
يشبه إتلاف البهيمة العادية، ذكره الشيخ أبو محمد.
قلت: قال أصحابنا: لو أمر صبيا لا يميز بصعود شجرة، أو نزول بئر،
21

ففعل، فسقط فهلك، فعلى عاقلة الآمر الدية. والله أعلم.
فرع لو أكره رجل عبدا صغيرا مميزا على قتل، فقتل، فهل تتعلق الدية
برقبته؟ قال الامام: يبنى على أن المكره الحر هل تلزمه الدية؟ إن قلنا: نعم،
فنعم، وإلا ففي التعلق برقبته الخلاف السابق في التعليق برقبة العبد الأعجمي،
لنزوله منزلة الآلة.
فرع لو أمره الامام بصعود شجرة، أو نزول بئر، فامتثل، فهلك به، فإن
قلنا: أمره ليس بإكراه، فلا ضمان، كما لو أمره أحد الرعية، وإن قلنا: إكراه،
فإن كان يتعلق بمصلحة المسلمين، فالضمان على عاقلة الامام، أو في بيت المال؟
فيه القولان المعروفان في نظائره، وإن تعلق به خاصة، فالضمان على عاقلته.
فصل فيما يباح بالاكراه الاكراه على القتل المحرم لا يبيحه، بل يأثم
بالاتفاق إذا قتل، وكذا لا يباح الزنى بالاكراه، ويباح بالاكراه شرب الخمر
والافطار في رمضان، والخروج من صلاة الفرض، وإتلاف مال الغير، ويباح
أيضا كلمة الكفر، وفي وجوب التلفظ بهما وجهان، أحدهما: نعم حفظا لنفسه،
كما يجب أكل الميتة للضرورة، والثاني - وهو الصحيح: لا يجب للأحاديث
الصحيحة في الحث على الصبر على الدين، واقتداء بالسلف، فعلى هذا الأفضل
أن يثبت ولا يتلفظ، وإن قتل، وقيل: إن كان ممن يتوقع منه النكاية في العدو، أو
القيام بأحكام الشرع، فالأفضل أن يتلفظ، وإلا، فالأفضل الامتناع، ولا يجب
شرب الخمر عند الاكراه على الصحيح، ويمكن أن يجئ مثله في الافطار في
22

رمضان، ولا يكاد يجئ في الاكراه على إتلاف المال، ثم إذا أتلف مال غيره
بالاكراه، فللمالك مطالبة المكره الآمر بالضمان، وفي مطالبة المأمور وجهان،
أحدهما: لا يطالب، لأنه إتلاف مباح له بالاكراه، وأصحهما: يطالب، لكنه
يرجع بالمغروم على الآمر، هذا هو المذهب، وقيل: إن الضمان على المأمور،
ولا رجوع له، وقيل: يتقرر الضمان عليهما بالسوية، كالشريكين، والقول في جزاء
الصيد إذا قتله المحرم مكرها، كالقول في ضمان المال.
فرع ذكره الرافعي في مسائل منثورة قبل كتاب الديات. يجوز للمكره على
إتلاف مال، ولصاحب المال دفع المكره بما أمكنهما، وليس لصاحب المال دفع
المكره، بل يلزمه أن يقي روحه بماله، كما يناول المضطر طعامه.
فصل إذا أنهشه حية، أو ألدغه عقربا يقتل غالبا، فقتلته، وجب
القصاص، وإن لم يقتل غالبا، فهل هو عمد، أم شبه عمد؟ قولان، أظهرهما:
الثاني، وإن لم ينهشها، ولكن ألقى الحية عليه، أو ألقاه عليها، أو قيده وطرحه في
موضع فيه حياة وعقارب، فقتلته، فلا قصاص ولا ضمان، سواء كان الموضع
واسعا أو ضيقا، لأنه لم يلجئها إلى قتله، بل هي قتلته باختيارها، فهو كالممسك
مع القاتل. ولو عرضه لافتراس سبع يقتل غالبا، كالأسد والنمر والذئب، وهدفه له
حتى صار السبع كالمضطر إلى قتله، لزمه القصاص، نص عليه، فإن كان السبع
مما لا يقتل غالبا، فهو كالحية التي لا تقتل غالبا، وإن أرسل عليه السبع، أو أغرى
به كلبا عقورا في موضع واسع كالصحراء، فقتله، أو طرحه في مسبعة أو بين يدي
سبع في الصحراء مكتوفا، أو غير مكتوف، فقتله، فلا قصاص ولا ضمان، سواء
كان المطروح صغيرا أو كبيرا، لأنه لم يلجئه إلى قتله، والذي وجد منه ليس
بمهلك، وهو كالممسك مع القاتل، وفي الصبي وجه، أنه يجب الضمان، ولو
23

أغراه به في موضع ضيق، أو حبسه معه في بئر، أو بيت، فقتله، وجب
القصاص، مكتوفا كان أو غير مكتوف، لأنه إلجاء السبع إلى قتله، وليس السبع
كالحية، حيث لم يفرق فيها بين الموضع الواسع والضيق، لأن الحية تنفر من
الآدمي، والسبع يقصده في المضيق ويتوثب، وفي الموضع الواسع لا يقصده قصده
في المضيق، إنما يقصده دفعه ويمكن التحرز منه والفرار، فهذا هو المنصوص،
والمذهب، وبه قطع الجمهور، وعن القاضي حسين أن الحية إن كانت تقصد ولا
تنفر، فهي كالسبع، وأنها أنواع مختلفة الطباع، وأن السبع إذا كان ضاريا شديد
العدو ولا يتأتى الهرب منه في الصحراء، وجب القصاص، وجعل الامام هذا بيانا
لما أطلقه الأصحاب واستدراكا، وأما البغوي وغيره فجعلوا المسألة مختلفا فيها،
وحكى ابن كج قولا أنه لو جمع بينه وبين حية في بيت، وجب القصاص كالسبع،
وقولا أنه لا يجب في السبع، وهما غريبان، وحيث أوجبنا القصاص في الحية
والسبع فذلك إذا قتل في الحال، أو جرح جراحة تقتل غالبا، أما إذا جرحه جرحا لا يقتل
مثله غالبا، فهو شبه عمد، وكأن تلك الجراحة صدرت من المغري، وإذا أمكن
المغرى عليه الفرار، فلم يفر، قال الامام: هو كترك السباحة، والمجنون الضاري
في ذلك كالسبع، ولو ربط في داره كلبا عقورا، ودعا إليها رجلا، فافترسه
الكلب، فلا قصاص ولا ضمان، ولم يجعل على الخلاف السابق في حفر البئر في
الدهليز وتغطية رأسها، لأن الكلب يفترس باختياره، ولأنه ظاهر يمكن دفعه بعصا
وسلاح.
الطرف الرابع: في اجتماع مباشرتين: فإذا صدر فعلان مزهقان من شخصين،
24

نظر، إن وجدا معا، فهما قاتلان، سواء كانا مذففين بأن حز أحدهما رقبته، وقده
الآخر نصفين، أو لم يكونا، بأن أجاف كل منهما، أو قطعا عضوين، ومات
منهما، وإن كان أحدهما مذففا دون الآخر، فقياس ما سنذكره إن شاء الله تعالى أن
يكون المذفف هو القاتل، وإن طرأ فعل أحدهما على الآخر فله حالان.
أحدهما: أن يوجد فعل الثاني بعد انتهاء المجني عليه إلى حركة المذبوح،
إما عقب الفعل الأول لكونه مذففا، وإما لسرايته وتأثيره، فالقاتل هو الأول، ولا
شئ على الثاني سوى التعزير، لأنه هتك حرمة ميت، فعزر، كما لو قطع عضو
ميت، والمراد بحركة المذبوح الحالة التي لا يبقى معها الابصار والادراك، والنطق
والحركة الاختياريان، وقد يقد الشخص، وتترك أحشاؤه في النصف الأعلى فيتحرك
ويتكلم بكلمات لكنها لا تنتظم، وإن انتظمت، فليست صادرة عن روية واختيار،
والحالة المذكورة وهي التي تسمى حالة اليأس، لا يصح فيها الاسلام، ولا شئ من
التصرفات، ويصير فيها المال للورثة، ولو مات قريب لمن انتهى إليها، لم يورث
منه، ولو أسلم كافر، أو عتق رقيق فيها، لم يزاحم سائر الورثة، وكما لا يصح فيها
الاسلام، لا تصح فيها الردة، هذا هو الصحيح، وبه قطع الأصحاب، وفي كتاب
ابن كج: أنها تصح، لأن الكافر يوقن حينئذ، فإعراض المسلم قبيح، وهذا ليس
بشئ، ومن قطع حلقومه ومريه، أو أبينت حشوته من جوفه، فقد انتهى إلى حركة
المذبوح، ولو أصاب الحشوة حرق، أو قطع، وتيقن موته بعد يوم أو يومين،
وجب القصاص على قاتله في ذلك الحال.
الحال الثاني: أن يوجد فعل الثاني قبل انتهائه إلى حركة المذبوح، فينظر،
إن كان الثاني مذففا بأن جرحه الأول، وحز الثاني رقبته، أو قده، فالقاتل هو
الثاني، وأما الأول فليس عليه إلا القصاص في العضو المقطوع، أو المال على ما
25

يقتضيه الحال، ولا فرق بين أن يتوقع البرء من الجرح السابق لو لم يطرأ الحز، وبين
أن يستيقن الهلاك بعد يومين أو نحو ذلك، لأن حياته في الحال مستقرة، وتصرفاته
نافذة، وإن لم يكن الثاني مذففا أيضا، ومات بسرايتهما، بأن أجافاه، أو قطع
الأول يده من الكوع، والثاني من المرفق، فمات، فهما قاتلان، لأن القطع الأول
قد انتشرت سرايته وألمه ولو شك في الانتهاء إلى حركة المذبوحين، عمل فيه بقول
أهل الخبرة.
فرع المريض المشرف على الموت يجب القصاص على قاتله، قال
القاضي وغيره: سواء انتهى إلى حالة النزع أم لا، ولفظ الامام: أن المريض لو
انتهى إلى سكرات الموت، وبدت اماراته، وتعثرت الأنفاس في الشراسيف، لا
يحكم له بالموت، بل يلزم قاتله القصاص، وإن كان يظن أنه في مثل حال
المقدود، وفرقوا بينهما بأن إنهاء المريض إلى تلك الحالة غير مقطوع به، وقد يظن
به ذلك، ثم يشفى، بخلاف المقدود، ولان المريض لم يسبق فعل بحال القتل
وأحكامه عليه حتى يهدر الفعل الثاني والقد ونحوه بخلافه.
فصل فيما إذا قتل إنسانا يظنه على حال وكان بخلافه وفيه
مسائل: الأولى: قتل من ظنه كافرا، بأن كان عليه زي الكفار، أو رآه يعظم
آلهتهم، فبان مسلما، نظر، إن كان ذلك في دار الحرب، فلا قصاص قطعا، ولا
دية على الأظهر، وتجب الكفارة قطعا، وإن كان في دار الاسلام، وجبت الدية
والكفارة قطعا، وكذا القصاص على الأظهر، فإن لم نوجبه، فهل الدية مغلظة أم
مخففة على العاقلة؟ قولان.
الثانية: قتل من ظنه مرتدا أو حربيا، فلم يكن، فعليه القصاص، فإن عهده
مرتدا، أو ظن أنه لم يسلم وكان أسلم، فالنص وجوب القصاص، ونص فيما لو
عهده ذميا أو عبدا، فقتله ظانا أنه لم يسلم، ولم يعتق، فبان خلافه، أنه لا
قصاص، فقيل: في الجميع قولان، وقيل: بظاهر النصين، لأن المرتد يحبس فلا
26

يخلى، فقاتله مقصر بخلاف الذمي والعبد، وقيل: يجب القصاص في الجميع،
لأنه ظن لا يبيح القتل، والمذهب وجوب القصاص في الجميع، وإن أثبتنا
الخلاف، كما لو علم تحريم القتل، وجهل وجوب القصاص، ولو عهده حربيا فظن
أنه لم يسلم، فقيل: كالمرتد، وقيل: لا قصاص قطعا، لأن المرتد لا يخلى،
والحربي يخلى بالمهادنة، ويخالف العبد والذمي، فإنه ظن لا يفيد الحل
والاهدار، بخلاف الحربي، ولو ظنه قاتل أبيه، فقتله، فبان غيره، وجب
القصاص على الأظهر، لأنه يلزمه التثبت، ولم يعهده قاتلا حتى يستصحبه، ولو
قال: تبينت أن أبي كان حيا حين قتلته، وجب القصاص قطعا، وحيث قلنا: لا
قصاص في هذه الصور، فقال: ظننته كافرا أو رقيقا، فقال الولي: بل علمته مسلما
حرا، فالقول قول القاتل، لأنه أعرف، ونقل الغزالي في موضع القولين فيما إذا
قال: ظننته قاتل أبي، طريقين، أحدهما: موضعهما إذا تنازعا، أما إذا صدقه
الولي، فلا قصاص قطعا، والثاني: طرد القولين في الحالين، لأنه ظن من غير
مستند شرعي.
الثالثة: ضرب مريضا ضربا يقتل المريض دون الصحيح، فمات منه، فإن
علم مرضه، فعليه القصاص قطعا، وكذا إن جهله على الصحيح، لأن جهله لا
يبيح الضرب.
الركن الثاني: القتيل. وشرط وجوب القصاص كونه معصوم الدم بالاسلام،
أو الجزية، أو الأمان، فالحربي مهدر، والمرتد مهدر في حق المسلم، وأما في
حق ذمي ومرتد آخر، ففيه خلاف يأتي قريبا إن شاء الله تعالى، ومن عليه قصاص
إذا قتله غير مستحقه، لزمه القصاص، والزاني المحصن إن قتله ذمي، فعليه
27

القصاص، وإن قتله مسلم، فلا على الأصح المنصوص.
قلت: قال القاضي أبو الطيب في تعليقه: الخلاف إذا قتل قبل أن يأمر الامام
بقتله، فإن قتل بعد أمر الامام بقتله، فلا قصاص قطعا. والله أعلم.
فرع في فتاوى القفال: أن من ترك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها، وكان
يؤمر بفعلها، فلا يفعلها، فقتله إنسان، فلا قصاص، وليكن هذا جوابا على الأصح
المنصوص في الزاني المحصن، قال: فلو جن قبل فعلها، لم يقتل في حال
الجنون، فلو قتله حينئذ رجل، لزمه القصاص، وكذا لو سكر، ولو جن المرتد، أو
سكر، فقتله رجل، فلا قصاص لقيام الكفر.
الركن الثالث: القاتل. وشرطه أن يكون ملتزما للأحكام، فلا قصاص على صبي
ولا مجنون، كما لا قصاص على النائم إذا انقلب على شخص، لأنه ليس لهما
أهلية الالتزام، ومن يقطع جنونه له حكم المجنون في حال جنونه، وحكم العاقل في
حال عقله، ومن لزمه قصاص بإقرار، أو بينة، ثم جن، استوفي منه حال جنونه،
لأنه لا يقبل الرجوع بخلاف ما لو أقر بحد، ثم جن، لا يستوفى منه، والمذهب
وجوب القصاص على السكران، ومن تعدى بشرب دواء مزيل للعقل، وفيه خلاف
سبق في الطلاق.
فرع لو قال القاتل: كنت يوم القتل صغيرا، وقال الولي: بل بالغا،
صدق القاتل بيمينه، لأن الأصل الصغر، وهذا بشرط الامكان، ولو قال: أنا الآن
28

صغير، صدق، ولا قصاص ولا يمين عليه، لأن اليمين لاثبات المحلوف عليه،
ولو ثبت صباه، لبطلت يمينه، ولو قال: كنت مجنونا عند القتل، وكان عهد له
جنون، صدق، وإلا فلا، لأن الأصل السلامة، ولو اتفقا على أنه كان زائل
العقل، وقال القاتل: كنت مجنونا، وقال الوارث: بل سكران، صدق القاتل،
ولو أقام القاتل بينة أنه كان يوم القتل مجنونا، وأقام الوارث بينة أنه كان حينئذ عاقلا
تعارضتا.
فرع يجب القصاص على المرتد، والمعصوم، لالتزامه الاحكام، ولا
يجب على الحربي، كما لا يضمن المال لعدم التزامه، هذا هو الصحيح، وبه قطع
الجمهور، وقال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني: يلزم الحربي ضمان النفس
والمال، لأنه مخاطب بفروع الشرع، قال أبو الحسن العبادي: ويعزى هذا إلى
المزني في المنثور.
باب ما يشترط مساواة القتيل القاتل فيه لوجوب القصاص وما لا يؤثر
اختلافهما فيه
الخصال التي يفضل القاتل القتيل بها كثيرة، ولا يؤثر منها في منع القصاص
إلا ثلاث وهي: الاسلام والحرية والولادة، فإن استوى القاتل والمقتول في عدم
الثلاثة، أو وجود ما يمكن وجوده، جرى القصاص بينهما، وإلا قتل المفضول
بالفاضل ولا عكس.
الخصلة الأولى: الاسلام، فلا يقتل مسلم بكافر، حربيا كان أو ذميا، أو
29

معاهدا، ويقتل الذمي والمعاهد بالمسلم، ويقتل الذمي بالذمي وإن اختلفت
ملتهما، كيهودي ونصراني، ولو قتل ذمي ذميا، ثم أسلم القاتل، اقتص منه، ولو
جرح ذمي ذميا، أو معاهدا، وأسلم الجارح، ثم مات المجروح بالسراية، وجب
القصاص على الأصح عند الجمهور، وقطع به جماعة، وهذا الخلاف في قصاص
النفس، فإن جرح جرحا يوجب قصاصا، كقطع طرف، ثم أسلم القاطع، ثم
سرى، وجب القصاص في الطرف قطعا، ثم إذا طرأ إسلام القاتل بعد القتل، أو
بعد قطع الطرف، استوفى الامام القصاص بطلب الوارث، ولا يفوضه إليه حذارا من
تسليط الكافر على المسلم، إلا أن يسلم، فيفوضه إليه، ولو قتل مسلم ذميا، ثم
ارتد، أو جرحه، ثم ارتد، ثم مات المجروح، فلا قصاص، لعدم المكافأة حالة
الجناية، ولو قتل ذمي مسلما، ثم أسلم، لم يسقط عنه القصاص، ولو قتل عبد
مسلم عبدا مسلما لكافر، فهل يثبت القصاص، وجهان: أحدهما: وجوب
القصاص، وبه قال الشيخ أبو حامد والماوردي، وأصحهما عند المتأخرين، وهو
اختيار القاضي أبي الطيب والقفال: لا قصاص، لأنه لا يقتل بجزء الحرية جزء
الحرية، وبجزء الرق جزء الرق، بل يقتل جميعه بجميعه، ولهذا لو كان القتل
خطأ، أو آل الامر إلى المال، وأوجبنا نصف الدية ونصف القيمة مثلا، لا نقول:
نصف الدية في مال القاتل، ونصف القيمة في رقبته، بل يجب ربع الدية، وربع
القيمة في ماله، وربع الدية وربع القيمة في رقبته، وهذا متفق عليه، ولو وقع
الاستيفاء شائعا، لزم قتل البعض الحر بالبعض الحر والرقيق معا.
فرع قتل عبد مسلم حرا ذميا، أو حر ذمي عبدا مسلما، أو قتل كافر ابنه
المسلم، أو الابن المسلم أباه الكافر، لا قصاص، لأن الحر والمسلم والأب لا
يقتل بمفضوله.
فرع قتل المكاتب أباه وهو يملكه، فلا قصاص على الأصح، ولو قتل
30

عبدا له غير أبيه، فلا قصاص على المذهب، وقيل: وجهان، لأن المكاتب عبد ما
بقي عليه درهم.
قلت: إذا أوجبنا القصاص، استوفاه سيد المكاتب، لأنهما عبدان للسيد،
قتل أحدهما الآخر، فهو كما لو قتله أجنبي. والله أعلم.
الخصلة الثانية: الولادة، فلا قصاص على والد يقتل ولده، والأم كالأب
وكذلك الأجداد والجدات وإن علوا من قبل الأب والأم جميعا، وحكى ابن القاص
وابن سلمة قولا في الأجداد والجدات، وهو شاذ منكر، قال الامام: هذا لا يقبله
الأصحاب منصوصا ولا مخرجا، ولو حكم قاض بقتل الوالد بولده، قال ابن كج:
ينقض حكمه، وليكن هذا فيما يوافقنا فيه مالك رحمه الله، فإنه روي عنه أنه إن
أضجعه وذبحه، فعليه القصاص، وإن حذفه بالسيف، فلا، لاحتمال قصده
التأديب، وعندنا: لا فرق.
فرع يقتل الولد بالوالد، وكذا سائر المحارم بعضهم ببعض.
فرع قتل الأب الرقيق عبد ابنه، فلا قصاص، لأن قصاصه لابنه، ولو قتل
الابن الرقيق عبد أبيه، فللأب القصاص.
فرع لو قتل من يرثه ولد القاتل، لم يجب القصاص، مثاله: قتل زوجة
ابنه، أو زوجته وله منها ولد، أو قتلت أم الولد سيدها وله منها ولد، ولو ثبت عليه
قصاص، فورث ولده القصاص، أو بعضه، بأن قتل أبا زوجته، ثم ماتت الزوجة،
ولها منه ولد، أو قتل ابن عتيق ولده ثم مات العتيق وورثه الولد، فلا قصاص، وكذا
31

لو ورث القاتل القصاص، بأن قتل أحد الابنين أباه، ثم مات الابن الآخر، فورثه
القاتل.
فرع تداعى رجلان مولودا مجهولا، ثم قتله أحدهما، أو قتلاه، فلا
قصاص في الحال، فإن ألحقه القائف بأحدهما، وكانا مشتركين في القتل، فلا
قصاص على الذي ألحق به، ويقتص من الآخر، وحكى ابن كج وجها شاذا أنه لا
يقتص من الآخر، لأن إلحاق القائف مبني على الأشباه، وهو ضعيف، فلا يرتب
عليه القصاص الذي يسقط بالشبهات وإن كان القاتل أحدهما، فألحقه بالآخر،
اقتص منه، وكذا لو ألحقه بغيرهما، ويعود فيه وجه ابن كج، وإن رجعا عن
الدعوة، لم يقبل رجوعهما، لأنه صار ابنا لأحدهما، وفي رجوعه إبطال حق الولد،
وإن رجع أحدهما، وأصر الآخر، فهو ابن الآخر، فيقتص من الراجع إن اشتركا في
قتله، أو إن انفرد هو بقتله، هذا إذا لحق المولود أحدهما بالدعوة، أما إذا لحق
بالفراش، بأن نكحت معتدة وأتت بولد يمكن كونه من الأول ومن الثاني، أو فرض
وطئ شبهة، فإنما يتعين أحدهما بإلحاق القائف، أو بانتساب المولود بعد بلوغه،
فلو نفاه أحدهما، فهل يتعين للثاني، أم يبقى الابهام حتى يعرض على القائف، أو
ينتسب؟ قولان، أظهرهما: ثانيهما، فإذا ألحقه القائف بأحدهما، اقتص من الآخر
إن انفرد بقتله، أو شارك فيه، وإن ألحقه بأحدهما، أو انتسب بعد البلوغ، فقتله
الذي لحقه، لم يقتص منه، فإن أقام الآخر بينة بنسبه، لحقه واقتص من الأول.
فرع أخوان لأب وأم، قتل أحدهما الأب والآخر الام، فلهما حالان،
أحدهما: أن يقتلاهما معا، والثاني: على التعاقب، والاعتبار في المعية والتعاقب
بزهوق الروح لا بالجرح.
الحال الأول: أن يقتلاهما معا، فكل واحد يستحق القصاص على الآخر،
32

فإن عفا أحدهما، فللمعفو عنه أن يقتص من العافي، وإن لم يعف، قدم للقصاص
من خرجت قرعته، وإذا استوفى أحدهما بقرعة، أو بالمبادرة بلا قرعة، فإن قلنا:
القاتل بحق لا يحرم الميراث، ولم يكن المقتص محجوبا، سقط القصاص عنه،
لأنه ورث القصاص المستحق على نفسه، أو بعضه، وإن قلنا: يحرم الميراث وهو
المذهب، أو كان هناك من يحجبه، فلوارث المقتص منه أن يقتص من المبادر.
الحال الثاني: أن يتعاقب القتلان، فإن كانت الزوجية باقية بين الأب والأم،
فلا قصاص على القاتل أولا، ويجب على القاتل الثاني، فإذا اقتص القاتل الأول
من الثاني، وقلنا: القاتل بحق يحرم الميراث، أو كان المقتص محجوبا، فلورثة
المقتص منه نصيبه من دية القتيل الأول يطالبون به القاتل الأول، وإن لم تكن
الزوجية باقية بين الأب والأم، فلكل واحد منهما حق القصاص على الآخر، وهل
يقدم بالقرعة، أم يقتص من المبتدئ بالقتل؟ وجهان، ميل القاضي حسين والامام
إلى الأول، وبالثاني أجاب الروياني وغيره.
قلت: لم يعبر عن ترجيح الوجهين بما ينبغي، فقد قطع بالاقراع الشيخ أبو
حامد والمحاملي وابن الصباغ وغيرهم، وقطع بالثاني القاضي أبو الطيب والبغوي
وغيرهما، ونقله الامام عن الأصحاب، مع أنه رجح الاقراع، والأرجح ما نقله عن
الأصحاب. والله أعلم.
ولو بادر من أردنا الاقتصاص منه بالقرعة أو لابتدائه بالقتل، عاد النظر في أن
القاتل هل يحرم الميراث وأنه هل خلف المقتول من يحجبه كما سبق، وحكى
الروياني عن الأصحاب فيما إذا وقع القتلان معا، وأقرعنا للابتداء، فخرجت القرعة
لأحدهما، أنه لو وكل من خرجت قرعته وكيلا، جاز، لأنه يقتص له في حياته، ولو
وكل الآخر، لم يجز، لأنه يقتص له بعد قتله، ولا تبقى الوكالة حينئذ، قال:
وعندي أن توكيله صحيح أيضا، ولهذا لو بادر وكيله، فقتل، لم يلزمه شئ، لكن
إذا قتل موكله، بطلت الوكالة.
قلت: ولو وكل كل واحد من الأخوين وكيلا قبل الاقراع، صح، ثم يقرع بين
الوكيلين، فإذا اقتص أحدهما، انعزل الآخر. والله أعلم.
33

فرع أربعة إخوة، قتل الثاني أكبرهم، ثم الثالث أصغرهم، ولم يخلف
القتيلان غير القاتلين، فللثاني أن يقتص من الثالث، ويسقط عن الثاني القصاص،
لأنه ورث ما كان الصغير يستحقه عليه.
فرع قتل زيد ابنا لعمرو، وعمرو ابنا لزيد، وكل واحد من الأبوين متفرد
بالإرث، فلكل واحد منهما القصاص على الآخر، وحكى ابن كج عن ابن أبي
هريرة وابن القطان، أنه لا قصاص بينهما، بل يقع التقاص، والصحيح الأول،
ولا بد من مجئ هذا الوجه في الأخوين.
قلت: قد صرح صاحب البيان بنقل الوجه في الأخوين عن ابن اللبان. والله
أعلم.
فرع لو شهد الابن على أبيه بما يوجب القتل، قبلت شهادته على
الصحيح، ونقل ابن كج عن ابن أبي هريرة أنها لا تقبل.
فرع يكره للجلاد قتل والده حدا وقصاصا.
فصل فيما لا يؤثر اختلاف القاتل والمقتول فيه وفيه مسائل
إحداها: يقتل الذمي بالمعاهد وبالعكس، كما يستويان في الدية، وفي الأول
احتمال للامام، ولو أسر الامام حربيا بالغا، فقتله ذمي قبل أن يرى الامام إرقاقه أو
غيره، فلا قصاص، لأنه على حكمه الذي كان حتى يرقه الامام.
الثانية: يقتل الرجل بالمرأة، وبالخنثى، وبالعكس، كما يقتل العالم
بالجاهل، والشريف بالخسيس، والشيخ بالصبي، والشاب وبالعكس.
فرع فيما لو قطع ذكر خنثى مشكل وأنثياه وشفراه. وهو مبني على
أصلين، أحدهما: أنه هل يجب القصاص في شفري المرأة؟ فيه خلاف،
والثاني: أن العضو الأصلي لا يقطع بزائد، ويقطع الزائد بالزائد إذا اتحد المحل،
وسنذكر الأصلين إن شاء الله تعالى، فإذا قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه
وشفريه، فلا قصاص في الحال، لاحتمال أنه امرأة، ثم إن صبر المقطوع إلى
التبين، فذاك، فإن بان ذكرا اقتص في الذكر والأنثيين، وأخذ حكومة الشفرين،
34

وإن بان أنثى، فلا قصاص، وله دية الشفرين، وحكومة الذكر والأنثيين، وإن لم
يصبر، نظر، إن قال: عفوت عن القصاص، وطلب حقه من المال، أعطي
المستيقن، وهو دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين، ثم إن بان أنثى، فمعه حقه،
وإن بان ذكرا، فله مائتان من الإبل عن الذكر والأنثيين، وله حكومة الشفرين،
فيحسب ما كان معه ويعطى الباقي، وحكى الامام وجها أنه إنما يعطى في الابتداء
حكومة كل عضو، لأنه المتيقن في ذلك العضو، فلا نوجب دية الشفرين، قال:
وهذا ضعيف، لأن استحقاق القدر المذكور متيقن، وإن لم تتحقق جهته، وإنما
يصح ذلك إذا تعدد الجاني، فقطع قاطع ذكره وأنثييه، وآخر شفريه، وعفا عن
القصاص، فلا نوجب على كل واحد إلا حكومة ما قطعه، وأما إذا لم يعف عن
القصاص وطلب ما يجب له من المال مع القصاص، فوجهان، أحدهما: لا نعطي
شيئا، قاله ابن أبي هريرة والقفال، لأنا لا ندري ما الواجب، وأصحها: يعطى
المستيقن مع القصاص، وفي قدره ثلاثة أوجه، أحدها: أقل الحكومتين من حكومة
الشفرين على تقدير الذكورة، وحكومة الذكر والأنثيين على تقدير الأنوثة، والثاني:
حكومة العضو المقطوع آخرا، لأنه قطعه والدم سائل من الأول، فحكومته أقل،
وأصحهما: يعطى أقل الأمرين من حكومة الشفرين بتقدير الذكورة، وحكومة الذكر
والأنثيين مع دية الشفرين، أما إذا قطعت امرأة ذكر الخنثى وأنثييه وشفريه، فإن صبر
إلى التبين، توقفنا كما في الرجل، فإن بان ذكرا، فله ديتان للذكر والأنثيين وحكومة
الشفرين، وإن بان أنثى، فلها حكومة الذكر والأنثيين والقصاص في الشفرين، إن
أجرينا فيهما القصاص، وإلا فلها ديتهما أيضا، وإن لم يصبر، بني على أن
القصاص هل يجري في الشفرين؟ إن قلنا: نعم، قيست الصورة بما ذكرنا في
الرجل، فإن عفا عن القصاص، سلم إليه دية الشفرين وحكومة الذكر والأنثيين،
وإن لم يعف، ففي وجه، لا يعطى شيئا، وفي وجه، يعطى أقل الحكومتين، وفي
وجه، حكومة المقطوع آخرا، وفي وجه، حكومة الذكر والأنثيين ليوقع القصاص
في الشفرين، وإن قلنا: لا يجري القصاص فيهما، فالحكم كما لو أجريناه،
فعفا، ولو قطع رجل ذكره وأنثييه، وامرأة شفريه، ولم يعف، لم يطالب واحد منهما
بمال لتوقع القصاص في حق كل واحد بناء على جريان القصاص في الشفرين، فإن
منع، فلا يوقع فيهما، فتجب حكومتهما على المرأة، وإن قطع رجل شفريه،
35

وامرأة ذكره وأنثييه، فلا مجال للقصاص، فيطالب كل واحد بحكومة ما قطع، ولو
قطع مشكل جميع ذلك من مشكل، فلا قصاص في الحال، فإن بانا ذكرين، أو
أنثيين، قطع الأصلي بالأصلي، والزائد بالزائد إن تساوى الزائدان، وإلا ففي الزائد
الحكومة، وإن بان أحدهما ذكرا والآخر أنثى، فقد سبق حكمه، ولو عفا المقطوع
قبل التبين، دفع إليه المتيقن، وهو دية الشفرين، وحكومة الذكر والأنثيين، وإن لم
يعف، فقد نقل الامام وأبو الحسن العبادي: أنه يدفع إليه أقل الحكومتين،
والصحيح أنه لا يدفع إليه شئ في الحال، لأن القصاص متوقع في الجميع، وبيان
حال الخنثى قد يكون بشئ من العلامات الحسية، كالبول والمني ونحوهما،
فحكمه كما ذكرنا، وقد يكون بالرجوع إلى قوله وإخباره عن ميله إلى الرجال أو
النساء، فإن أخبر عن حاله، ثم جني عليه، اعتمدنا قوله، فإذا قال: أنا رجل، ثم
قطعه رجل، أوجبنا القصاص، وإن جني عليه، ثم قال: أنا رجل، فهل يقبل قوله
لايجاب القصاص ولايجاب دية الذكر والأنثيين؟ فيه وجهان، أحدهما: نعم، كما
قبل الجناية، وأصحهما على ما ذكره القفال والامام: المنع، لأنه متهم، وشبهوا
بما إذا شهد برؤية هلال شوال، فردت شهادته، ثم أكل، لا يعزر، ولو أكل ثم
شهد، عزر للتهمة، وبما لو ثبت بشهادة رجل وامرأتين أنه غصب، ثم قال: إن
كنت غصبت فامرأتي طالق، يقع الطلاق، ولو قال أولا: إن غصبت فهي طالق،
فشهد رجل وامرأتان بغصبه، لا تطلق على الأصح، ولو اختلف الجاني والمقطوع،
فقال الجاني: أقررت بأنك امرأة، فلا قصاص لك، وقال: بل قلت: إني رجل،
فقولان وأظهرهما: القول قول الجاني، لأن الأصل براءته من القصاص، وهذا نصه
في مواضع، والثاني: قول المقطوع، لأنه أعرف بحاله.
فرع لو قطع الخنثى المشكل ذكر رجل وأنثييه، وقف، فإن بان ذكرا،
اقتص منه، وإن بان أنثى، فعليه ديتان ولا قصاص، فإن طلب منه مالا قبل التبين
ولم يعف، لم يعط، لأن القصاص متوقع.
فرع لو قطعت يد الخنثى، وجب القصاص، سواء قطعها رجل أو امرأة،
فلو آل الامر إلى المال، لم يؤخذ إلا اليقين، وهو نصف دية المرأة، وكذا لو قتل لا
تؤخذ إلا دية امرأة.
36

المسألة الثالثة: إذا قتلت الجماعة واحدا، قتلوا به، سواء قتلوه بمحدد أو
مثقل، أو ألقوه من شاهق، أو في بحر، أو جرحوه جراحات مجتمعة أو متفرقة،
وأثبت ابن الوكيل قولا أن الجماعة لا يقتلون بالواحد، ونقل الماسرجسي عن القفال
قولا قديما أن الولي يقتل واحدا من الجماعة أيهم شاء، ويأخذ حصة الآخرين من
الدية، ولا يقتل الجميع، ويكفي للزجر كون كل واحد منهم خائفا من القتل،
وهذان القولان شاذان واهيان، والمشهور قتل الجماعة بالواحد، ثم للولي أن يقتل
جميعهم، وله أن يقتل بعضهم، ويأخذ حصة الباقين من الدية، وله أن يقتصر على
الدية، فتكون على جميعهم دية واحدة موزعة على عددهم، سواء كانت جراحة
بعضهم أفحش أو عدد جراحات بعضهم أكثر، أم لم يكن شئ من ذلك، وسواء
كان لجراحة بعضهم أرش مقدر، أم لم يكن، ثم إذا كانت الجماعة عشرة مثلا،
37

فالولي يستحق دم كل واحد بكماله، وعن الحليمي أنه إنما يستحق عشر دم كل
واحد، لكنه يجوز قتله، لأنه لا يمكن استيفاؤه إلا باستيفاء الباقي، والصواب
الأول، وبه قطع الجمهور، قال الامام: قول الحليمي بعيد، وكيف يريق تسعة
أعشار دم غير مستحقة لتحصيل عشر.
المسألة الرابعة: إذا قتل واحد جماعة، يقتل بأحدهم ووجبت دية الباقين في
ماله، وسيأتي القول فيمن يقتل به في بابه إن شاء الله تعالى، ولو قطع أيدي
جماعة، قطع بواحد، وللباقين الدية، وحكى الروياني وجها أنه إذا وقعت الجنايات
معا، قتل، أو قطع بهم جميعا، ويرجع كل واحد من المستحقين إلى حصته من
الدية، وهذا شاذ ضعيف، هذا إذا كان القاتل حرا وقتل الجماعة في غير المحاربة،
فإن كان عبدا، أو قتل في المحاربة، فسيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل في اجتماع سببين مختلفين في اقتضاء القصاص الجنايات
الصادرة من جماعة الواردة على واحد المستعقبة موته إن كانت بحيث يجب القصاص
38

لو انفردت كل واحدة، وجب القصاص على الشركاء كما سبق، وإلا فإما أن لا
يجب القصاص بواحدة منها لتقاعد الفعل عن إيجاب القصاص بأن قتلوه خطأ، أو
لعدم الكفاءة بأن قتل حران عبدا، فلا قصاص، وإما أن يجب القصاص ببعضها
دون بعض، ولعدم الوجوب في حق البعض أسباب، أحدها: أن تكون جناية
بعضهم ضعيفة لا تؤثر في الزهوق كالخدشة الخفيفة فلا اعتبار بها، وكأنه لم توجد
سوى الجنايات الباقية. الثاني: أن يغلب بعضها بقوته بحيث يقطع نسبة الزهوق إلى
سائر الجنايات، بأن جرحه جماعة، ثم حز رقبته آخر، فقصاص النفس على
الحاز، وأما الأولون، فجارحون، يتعلق بفعلهم مقتضاه من قصاص أو دية مغلظة أو
مخففة، وقد سبق بيانه في الطرف الرابع من الركن الأول، وعد من نظائره أن يصعد
به على كرسي، ويربط في عنقه حبلا، ويشده إلى فوق، فيجئ آخر فينحي ما
تحت قدميه، فالقاتل هو المنحي. الثالث: أن تندمل بعض الجراحات، ثم يوجد
الباقي، فعلى من اندملت جراحته ما تقتضيه جراحته ولا يلزمه قصاص النفس، لان
القتل هو الجراحة السارية، وإذا جرحه اثنان متعاقبان، وادعى الأول الاندمال،
وأنكر الولي، فلا قصاص على الأول، وإذا عفا عن الثاني، لم يأخذ منه إلا نصف
الدية، وإنما يأخذ منه كمال الدية إذا قامت بينة بالاندمال، الرابع: أن يكون فعل
أحدهما خطأ، بأن جرحه أحدهما عمدا، والآخر خطأ، فلا قصاص على واحد
منهما، وعلى عاقلة المخطئ نصف دية الخطأ، وفي مال العامد نصف دية العمد
إن كانت جناية لا توجب قصاصا، أو آل الامر إلى الدية، فإن قطع طرفا، فعليه
قصاصه، وكذا لو جرح أحدهما عمدا، والآخر شبه عمد، لا قصاص على واحد
منهما، وتجب نصف دية شبه العمد على عاقلة صاحبه، وحكى الروياني في جمع
الجوامع أنه قيل: إن للشافعي رحمه الله قولا أنه يجب القصاص على شريك
المخطئ، ذكره المزني في العقارب وتمنى الامام أن يكون هذا قولا في المذهب،
والمشهور المنصوص في كتب] الشافعي وقطع به الأصحاب، أنه لا قصاص.
الخامس: أن يمتنع القصاص من بعضهم لمعنى فيه، فله حالان، أحدهما: أن
يكون فعل من لا قصاص عليه مضمونا، بأن شارك الأب أجنبيا في قتل الولد، فعلى
الأجنبي القصاص، وعلى الأب نصف الدية المغلظة، ومثله لو شارك حر عبدا في
قتل عبد أو مسلم ذميا في قتل ذمي، لا قصاص على الحر والمسلم، ويجب على
39

العبد والذمي، ولو جرح ذمي ذميا، ثم أسلم المجروح، فجرحه مسلم، أو جرح
عبد عبدا، ثم عتق المجروح، فجرحه حر ومات منهما، فعليهما القصاص، لان
كل واحد لو انفرد بجنايته لزمه القصاص.
الحال الثاني: أن لا يكون مضمونا، بأن جرح حربي ومسلم مسلما، ومات
منهما، أو قطعت يد إنسان في سرقة أو قصاص، ثم جرحه رجل عدوانا، أو جرح
مسلم مرتدا أو حربيا، ثم أسلم، فجرحه غيره، أو جرح ذمي حربيا، ثم عقدت
الذمة للمجروح، فجرحه ذمي آخر، أو جرح صائلا، ثم جرحه غيره، ففي وجوب
القصاص في الصور، قولان، أظهرهما: الوجوب كشريك الأب، والثاني: لا،
بل عليه نصف الدية، ولو جرحه سبع، أو لدغته عقرب أو حية، وجرحه مع ذلك
رجل، فطريقان، أشهرهما: طرد القولين، والثاني: القطع بأن لا قصاص، وهذا
أصح عند القاضي حسين، والامام والغزالي، وموضع الطريقين فيما يقتضيه كلام
الامام أن يقصد السبع الجراحة، فأما إذا وقع السبع عليه بلا قصد، فلا قصاص
قطعا، وقال البغوي: لا فرق بين أن يقصده السبع بالجرح أم لا، ففيه الطريقان،
ثم الخلاف فيما إذا كان جرح السبع بحيث يحصل منه الموت غالبا، وإلا فشريكه
شريك الجارح شبه عمد، ولو جرح رجل عبده، وجرحه عبد، أو عتق، فجرحه
عبد، أو حر ثم مات منهما، ففي وجوب القصاص على شريك السيد طريقان،
أشهرهما، طرد القولين، والثاني: القطع بالوجوب، لأن فعل السيد مضمون
بالكفارة، فشريكه شريك عامد ضامن، كشريك الأب، ولو جرح نفسه، وجرحه
غيره، بني على أن قاتل نفسه هل عليه كفارة؟ إن قلنا: نعم، فكشريك السيد،
وإلا فكشريك الحربي، وكيف كان فالمذهب الوجوب، ولو رمى اثنان سهمين إلى
مسلم في صف الكفار، وقد علم أحدهما أنه مسلم، ولم يعلم الآخر أن هناك
مسلما، فوجوب القصاص على العالم مبني على الخلاف في شريك السيد، لان
40

فعل الجاهل مضمون بالكفارة.
فرع وجوب القصاص على شريك الصبي والمجنون العامدين، يبنى على
أن عمدها عمد أم خطأ؟ إن قلنا: عمد وهو الأظهر، وجب، وإلا فلا، كذا أطلقه
مطلقون، وعن القفال وغيره أن الخلاف في صبي يعقل عقل مثله، وفي مجنون له
نوع تمييز، فأما من لا تمييز له بحال، فعمده خطأ، وشريكه شريك مخطئ قطعا،
وعلى هذا جرى الأئمة، منهم البغوي.
فرع إذا جرح شخص شخصا جراحتين إحداهما: عمد، والأخرى:
خطأ، فمات بهما، فلا قصاص في النفس، لأن الزهوق لم يحصل بعمد محض،
وتجب نصف الدية المغلظة في ماله، ونصف المخففة على عاقلته، وقد يتعلق
القصاص بجراحة العمد، بأن تكون قطع طرف، وكذا لو جرح حربيا أو مرتدا،
فأسلم، فجرحه ثانيا، أو قطع يد إنسان قصاصا، أو بسرقة، ثم جرحه، أو قطع
يده الأخرى ظلما، أو قطع الصائل دفعا، فلما ولى، جرحه، أو قطع يده الأخرى،
فلا قصاص في النفس، ويثبت موجب الجراحة الواقعة في حال العصمة من
قصاص، أو دية مغلظة، وكذا لو جرح العادل الباغي في القتال، ثم جرحه بعده،
أو السيد عبده ثم جرحه بعد عتق، أو جرح حربي مسلما، ثم أسلم الجارح،
وجرحه ثانيا، ولو قطع مسلم يد ذمي، فأسلم، فقطع يده الأخرى، أو حر يد عبد،
فعتق، فقطع يده الأخرى، ومات بالسراية، فلا قصاص في النفس، ويجب
قصاص الطرف المقطوع بعد الاسلام والحرية، فإن اقتص في الطرف، أخذ نصف
الدية، وإن عفا، أخذ دية حر مسلم، ولو قطع ذمي يد ذمي، فأسلم القاطع، ثم
قطع يده الأخرى، ومات بالسراية، فلا قصاص في النفس، ويجب قصاص الطرف
المقطوع أولا، فإن عفا المستحق، أخذ دية ذمي.
فرع إذا داوى المجروح نفسه بسم قاتل، بأن شربه، أو وضعه على
الجرح، فإن كان السم مذففا، فالمجروح قاتل نفسه، وليس على الجارح قصاص
في النفس، وإنما عليه أرش جراحته أو القصاص إن تعلق بها قصاص طرف، وإن
كان السم مما لا يقتل غالبا، فالجارح شريك لصاحب شبه عمد، فلا قصاص عليه
في النفس، بل عليه نصف الدية المغلظة، أو القصاص في الطرف إن اقتضته، وإن
41

كان السم قاتلا غالبا فإن لم يعلم المجروح ذلك، فهو كالحالة الثانية، وإن علمه،
ففي وجوب القصاص على الجارح طريقان، أصحهما: أنه كشريك جارح نفسه،
والثاني: لا يجب قطعا، لأنه شريك مخطئ، لكونه قصد التداوي لا الاهلاك.
فرع لو خاط جرحه في لحم ميت، لم يؤثر، لأنه لا يؤلم، وعلى الجارح
القصاص، أو كمال الدية، وإن خاطه تداويا في لحم حي، وكان ذلك مما يقتل
غالبا، ففي وجوب القصاص على الجارح الطريقان في التداوي بالسم القاتل
غالبا، وفي الصورتين لا فرق بين أن يفعل المجروح ذلك بنفسه، أو يأمر به، ولا
شئ على المأمور، ولو استقل به غيره، فهو والأول جارحان متعديان، ولو تولاه
الامام في مجروح، فإن كان بالغا رشيدا، فكذلك، لأنه لا ولاية له عليه، وإن كان
صغيرا أو مجنونا، فداواه لمصلحته، فمات، ففي وجوب القصاص على الامام
قولان، كما لو قطع سلعة من صغير، أو مجنون، فمات منه، فإن قلنا: لا
قصاص، وجب نصف دية مغلظة، وهل هي على عاقلة الامام أم في بيت المال؟
فيه القولان المعروفان، وحكم الجارح يبنى على الخلاف فيما إذا تولاه المجروح
بنفسه، فإن جعلنا وجوب القصاص عليه على الخلاف في مشاركة العامد الذي لا
يضمن، لم يجب هنا القصاص، لأنه شارك من فعله مضمون بالقصاص، أو
الدية، وإن نزلنا المجروح منزلة المخطئ لقصده التداوي، ولم نوجب القصاص
على شريكه، فكذا هنا، ولو قصد الخياطة في لحم ميت، فغلط وخاط في حي،
فالجارح شريك مخطئ قطعا، قال القفال: وكذا لو قصد الخياطة في الجلد فغلط
وأصابت الإبرة اللحم، وأما الكي فكالخياطة، فينظر أكوى لحما ميتا أو حيا يؤلم وله
سراية، ولا اعتبار بالمداواة بما لا يضر، ولا يخشى منه هلاك، ولا بما على
المجروح من قروح، ولا بما به من مرض وضنى.
فرع قطع أصبع رجل، فتأكل موضع القطع، فقطع المقطوع كفه خوفا
من السراية، نظر، إن لم يتآكل إلا موضع القطع، فليس على الجاني إلا القصاص
في الإصبع، أو أرشها إن لم يسر إلى النفس، فإن سرى، ففي وجوب القصاص
42

على الجاني في النفس، الخلاف المذكور في الخياطة، ولو جرح عضوا، فداواه
المجروح فتأكل العضو، فسقط، فإن كان ما داواه به لا يورث التآكل، فعلى
الجارح ضمان العضو، وإن كان يورث التآكل فليس عليه إلا أرش الجراحة، فلو
قال الجاني: داويت بما يحدث منه التآكل، وأنكر المجني عليه، صدق المجني
عليه بيمينه، لأن الجناية معلومة، وغيرها من الأسباب غير معلوم، قال البغوي:
ويحتمل أن يقال: المصدق الجاني بيمينه، لأن الأصل براءته، ولو قطع يد إنسان
ومات المقطوع، فقال الوارث: مات بالسراية، وقال الجاني: بل قتل نفسه،
فأيهما المصدق بيمينه؟ وجهان، أصحهما: الوارث، وهو نصه في الام.
فرع ضرب جماعة رجلا بسياط، أو عصى خفيفة حتى قتلوه، نظر، إن
كانت ضربات كل واحد منهم قاتلة لو انفردت، فعليهم القصاص، وإن آل الامر
إلى الدية، فهل توزع عليهم على عدد الضربات، أم على عدد الرؤوس؟ قولان،
أرجحهما الأول، لأن الضربات تلاقي ظاهر البدن، فلا يعظم فيها التفاوت بخلاف
الجراحات، وإن لم يكن ضرب كل واحد قاتلا، بأن ضربه كل واحد من العدد
الكثير ضربة، فمات، فثلاثة أوجه، أحدها: لا قصاص على واحد، والثاني:
يجب على الجميع القصاص، لئلا يصير ذريعة إلى القتل، وأصحها: أنهم إن
تواطؤوا على أن يضربوه تلك الضربات، فعليهم القصاص، وإن وقعت اتفاقا،
فلا، وإذا لم نوجب القصاص، وجبت الدية قطعا، كذا قاله الامام، وذكر البغوي
أنه لو ضربه واحد سوطين، أو ثلاثة، وآخر خمسين سوطا، أو مائة قبل زوال ألم
الأول، ولا تواطؤ، فلا قصاص على واحد منهما، لأن ضرب الأول شبه عمد،
والثاني شريك له، ويجب بضرب الأول نصف دية شبه العمد، وبضرب الثاني
نصف دية العمد، وأنه لو ضربه واحد خمسين، ثم ضربه الآخر سوطين قبل زوال
ألم الأول، فإن كان الثاني عالما بضرب الأول، فعليهما القصاص لظهور قصد
43

الاهلاك فيهما، وإن كان جاهلا، فلا قصاص على واحد منهما، لأنه لم يظهر
قصد الاهلاك من الثاني، والأول شريكه، ويجب بضرب الأول نصف دية العمد،
وبضرب الثاني نصف دية شبه العمد، وفرق بينه وبين ما إذا ضرب مريضا سوطين،
جاهلا مرضه، حيث يجب القصاص، بأن هناك لم يجد من يحيل عليه القتل سوى
الضارب، وليكن الحكم بتنصيف الدية في الصورتين تفريعا على أن التوزيع على
الرؤوس دون الضربات.
فرع جرحه رجل، ونهشته حية، ومات منهما، فالجارح شريك الحية وقد
سبق بيان القصاص، وإذا آل الامر إلى المال، فعليه نصف الدية، ولو جرحه مع
ذلك سبع، فوجهان، أصحهما: عليه ثلث الدية، والثاني: نصفها، ويجعل غير
الآدمي جنسا.
باب تغير حال المجروح بين الجرح والموت
للتغير أحوال:
أحدها: أن يطرأ المضمن وفيه مسائل: إحداها: إذا جرح مرتدا أو حربيا
بقطع يد أو غيره، ثم أسلم، أو عقدت للحربي ذمة، ثم مات من تلك الجراحة،
فلا قصاص قطعا، ولا دية على الصحيح المنصوص، وقيل: لا دية قطعا، لأنه
قطع غير مضمون، فلم تضمن سرايته، كسراية القصاص والسرقة.
الثانية: جرح حربي مسلما، ثم أسلم، أو عقدت له ذمة، ثم مات
المجروح، قطع البغوي بأنه لا ضمان، ونقل بعضهم لزوم الضمان، لأنه مضمون
في الحالين.
قلت: الصحيح: لا ضمان. والله أعلم.
الثالثة: جرح عبد نفسه، ثم أعتقه، فمات بالسراية، فلا ضمان على السيد
على المذهب والمنصوص، وقيل: قولان، ثانيهما: وجوب الدية.
44

الرابعة: رمى مرتدا أو حربيا، فأسلم، ثم أصابه السهم، فلا قصاص لعدم
الكفاءة في أول أجزاء الجناية، وتجب الدية على المذهب وهو المنصوص، وقيل:
لا تجب، وقيل: تجب في المرتد دون الحربي، لأن المرتد لا يجوز لغير الامام
قتله، ولان المرتد يقتل بالسيف ولا يرشق بالنشاب، فرشقه ممنوع، ويجري
الخلاف فيما إذا رمى إلى قاتل أبيه، ثم عفا عنه قبل الإصابة، وهو أولى بالوجوب
من المرتد، وفيما إذا رمى إلى عبد نفسه، ثم أعتقه قبل الإصابة، وهو أولى
بالوجوب، لأن العبد معصوم مضمون بالكفارة.
الخامسة: حفر بئرا في محل عدوان، فتردى فيها مسلم كان مرتدا وقت
الحفر، أو حر كان عبدا، وجبت الدية بلا خلاف، لأن الحفر ليس سببا ظاهرا
للاهلاك، ولا يتوجه نحو معين فلا يؤثر وجوده في زمن الاهدار بخلاف الرمي.
فرع لو تغير حال الرامي، بأن رمى حربي إلى مسلم، ثم أسلم قبل
الإصابة، ففي وجوب الضمان وجهان.
فرع إذا قلنا بوجوب الضمان فيما إذا جرح حربيا، فأسلم ثم مات، وفيما
إذا جرح عبد نفسه، ثم أعتقه فمات، فالواجب دية حر مسلم، وكذلك في مثلهما
من صور الرمي. ثم الذي رأى الامام القطع به وتابعه عليه الغزالي أن الدية في
طريان الاسلام والعتق بعد الجرح تكون مخففة، وعلى العاقلة، كما لو رمى إلى
صيد، فأصاب آدميا، وأما في طريانهما بعد الرمي، ففي الدية الواجبة خلاف
مذكور في الديات.
الحال الثاني: أن يطرأ المهدر، فإذا جرح مسلما، ثم ارتد، ثم مات
بالسراية، أو ذميا، فنقض العهد، ثم مات، فلا يجب قصاص النفس، ولا ديتها،
ولا الكفارة، لأنها تلفت وهي مهدرة، وأما ما يتعلق بالجراحة، ففيه صورتان،
45

إحداهما: أن تكون الجراحة مما يوجب القصاص، كالموضحة وقطع اليد، ففي
وجوب القصاص في الموضحة والطرف، قولان، أظهرهما: الوجوب، فعلى هذا
قال الشافعي رحمه الله في المختصر: لوليه المسلم أن يقتص، فقيل: أراد
بالولي، السلطان، لأنه وارث للمرتد، وقال الجمهور: يستوفيه قريبه الذي كان
يرثه لولا الردة، لأن القصاص للتشفي، وذلك يتعلق بالقريب دون السلطان، فعلى
هذا لو كان القريب صغيرا أو مجنونا انتظر بلوغه وإفاقته ليستوفي. الصورة الثانية:
أن تكون الجراحة موجبة للمال دون القصاص، كالجائفة والهاشمة، أو من جنس ما
يوجب القصاص، وقلنا: لا قصاص، أو عفي عنه، فهل يجب المال؟ وجهان،
ويقال: قولان، أصحهما: الوجوب، فعلى هذا فيما يجب وجهان، أصحهما
ويحكى عن النص: أنه يجب أقل الأمرين من الأرش الذي تقتضيه الجراحة ودية
النفس، والثاني، وبه قال الإصطخري: يجب أرش الجراحات بالغا ما بلغ،
فيجب فيما إذا قطع يديه ورجليه ديتان، وعلى كل حال فالواجب فئ لا يأخذ
القريب منه شيئا، هذا إذا طرأت الردة بعد الجرح، فلو طرأت بعد الرمي وقبل
الإصابة، فلا ضمان باتفاقهم.
فرع قطع يده، ثم ارتد المقطوع، واندمل جرحه، فله قصاص اليد،
فإن مات قبل أن يقتص، اقتص وليه، ومن الولي؟ فيه الخلاف السابق، فإن كانت
الجناية توجب المال، قال البغوي: إن قلنا: ملكه باق، أخذه، وإن قلنا:
زائل، وقف، فإن عاد إلى الاسلام، أخذه، وإلا، أخذه الامام.
الحال الثالث: أن يتخلل المهدر بين الجرح والموت، فإذا جرح مسلم
مسلما، ثم ارتد المجروح، ثم أسلم ومات بالسراية، وجبت الكفارة قطعا، وأما
القصاص، فنص أنه لا يجب، ونص فيما إذا جرح ذمي ذميا، أو مستأمنا فنقض
العهد، والتحق بدار الحرب، ثم جدد العهد، ومات بالسراية، أن في وجوب
القصاص قولين، وللأصحاب طريقان، أصحهما في المسألتين، قولان،
أحدهما: وجوب القصاص، لأنه مضمون بالقصاص في حالتي الجرح والموت،
والثاني: لا، لتخلل حالة الاهدار، والطريق الثاني: تنزيل النصين على حالين،
فحيث قال: لا قصاص، أراد إذا طالت مدة الاهدار، بحيث يظهر أثر السراية،
46

وحيث قال: يجب، فذلك إذا قصرت المدة بحيث لا يظهر للسراية أثر، وإذا قلنا
بطريقة القولين، ففي موضعهما طريقان، أحدهما: تخصيصهما بما إذا قصرت
المدة، فإن طالت، لم يجب القصاص قطعا، والثاني: طردهما في الحالين قاله
ابن سريج وابن سلمة وابن الوكيل، والأصح عند الجمهور: تخصيص القولين بقصر
المدة، والأظهر منها عند الجمهور، أنه لا قصاص، وأما الدية، ففيها أقوال،
أظهرها عند الجمهور: يجب كمال الدية، والثاني: نصفها، والثالث: ثلثاها،
والرابع: أقل الأمرين من كل الدية وأرش الجراحة، وهذان الأخيران مخرجان، ثم
قال الجمهور: تختص الأقوال بما إذا طالت مدة الاهدار، فإن قصرت، وجب كل
الدية قطعا، وقيل بطردها في الحالين، قال الامام: وإذا أوجبنا القصاص، فآل
الامر إلى المال، ففيه هذا الخلاف، وقال البغوي: إذا أوجبنا القصاص، فعفي،
وجب كمال الدية بلا خلاف، وإنما الخلاف إذا لم نوجب قصاصا، وهذا أرجح.
فرع رمى إلى مسلم فارتد وعاد إلى الاسلام، ثم أصابه السهم، فلا
قصاص على المذهب، وبه قطع الجمهور، قال الامام: ويجئ فيه قول.
الحال الرابع: أن يطرأ ما يغير قدر الدية، فيجب ما يقتضيه يوم الموت،
لأن الضمان بدل التالف، فيعتبر وقت التلف، وقد يكون التغير من الأكثر إلى
الأقل، وقد ينعكس، مثال الأول: جنى على نصراني، فتمجس ثم مات، فإن
قلنا: يقر النصراني إذا تمجس على التمجس، فعلى الجاني دية مجوسي، وإن
قلنا: لا يقر، فهو كما لو ارتد المجروح ومات، فعلى الأصح: يجب الأقل من
أرش الجناية على نصراني ودية نفسه، وعلى قول الإصطخري: يجب الأرش بالغا
ما بلغ، ولو جرح نصرانيا، فنقض المجروح العهد، والتحق بالحرب، ثم سبي
واسترق، ومات بالسراية، فلا قصاص في النفس، ويجب قصاص الطرف إن كانت
الجناية بقطع طرف، وإن أراد المستحق المال، ففيما يجب، قولان، أحدهما:
أقل الأمرين من أرش جنايته حرا، وكمال قيمته عبدا، وعلى هذا هو لورثته
47

النصارى، سواء كانوا عندنا أم في دار الحرب، كذا حكاه ابن كج والروياني، وفي
قول غريب، يكون لبيت المال.
قلت: قد جزم البغوي على هذا القول بأنه لسيده، لأنه بدل روحه وكانت
ملكه. والله أعلم.
وأظهرهما: أن الواجب للوارث، والباقي للسيد، ولو أن الذي ملكه أعتقه،
فمات حرا فقولان في أن الواجب أقل الأمرين من الأرش، ودية حر ذمي، وعلى
القولين فالواجب لورثته، ولو أسلم وعتق ومات، ففي القصاص قولان، وفي المال
الواجب قولان، هل هو دية حر مسلم، أم أقل الأمرين من الأرش ودية حر مسلم؟
وعلى القولين، فهو لورثته المسلمين. مثال العكس: جرح ذميا، فأسلم، أو عبدا
لغيره، فعتق، ثم مات، نظر، إن مات بعد الاندمال، وجب أرش الجناية،
ويكون الواجب في العبد لسيده، فلو قطع يديه، أو فقأ عينيه، لزمه كمال قيمته،
سواء كان العتق قبل الاندمال أم بعده، وقيل: إن كان الاندمال بعد العتق، فعليه
دية حر، والصحيح الأول، وإن مات بالسراية، لم يجب قصاص النفس إذا كان
جارح الذمي مسلما، وجارح العبد حرا، وتجب فيه دية حر مسلم، لأنه كان
مضمونا أولا، وهو في الانتهاء حر مسلم، ولا فرق بين أن تكون القيمة أقل من
الدية، أو أكثر، حتى لو فقأ عيني عبد قيمته تساوي مائتين من الإبل، أو قطع يديه،
لم يجب إلا مائة، ثم إن كانت الدية مثل القيمة أو أقل، فالجميع للسيد، وإن
كانت أكثر، فالزيادة على القيمة للورثة، لأنها وجبت بالحرية، وقال المزني: إذا
كانت القيمة أكثر، وجبت بكمالها للسيد، ولو قطع إحدى يدي عبد، فعتق ومات
بالسراية، أوجبنا كمال الدية، وفيما للسيد منها قولان، أحدهما: أقل الأمرين من
48

كل الدية، وكل القيمة، وأظهرهما: أقل الأمرين من كل الدية، ونصف القيمة،
وهو أرش الطرف المقطوع في ملكه.
فصل قطع يد عبد، فعتق، ثم جاء آخر، فقطع يده الأخرى، أو رجله،
نظر، إن اندملت الجراحتان، فلا قصاص على الأول إن كان حرا، وعليه نصف
القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص، أو نصف الدية، وإن مات منهما، فلا
قصاص على الأول في النفس، ولا في الطرف إن كان حرا، وأما الثاني، فللوارث
أن يقتص منه في الطرف، وكذا في النفس على المذهب، وبه قطع الجمهور،
وقيل: لا قصاص، وقيل: قولان كشريك المبيع، وإذا أوجبنا القصاص، فعفا
المستحق، فعليهما كل الدية للسيد، أقل من نصف الدية ونصف القيمة، ويكون
حقه فيما يجب على الأول دون الثاني، وإن اقتص الوارث من الثاني، بقي على
الأول نصف الدية، فإن كان قدر نصف القيمة أو أقل، أخذه السيد، وإن كان
أكثر، فالزيادة للوارث ولو قطع حر يد عبد، فعتق، ثم قطع يده الأخرى، فمات
منهما، فللوارث القصاص في الطرف الثاني ولا يجب قصاص النفس على
الصحيح، فلو عفا المستحق عن قصاص الطرف، ففيهما الدية، وإن استوفاه،
بقي نصف الدية، وحكم ما للسيد في الحالين على ما ذكرنا فيما إذا كان القاطع
غيره، ولو قطع إصبع عبد، فعتق، ثم قطع آخر يده، ومات منهما، فعليهما
الدية، وللسيد على أحد القولين: الأقل من نصف الدية، ونصف القيمة، وعلى الأظهر
: الأقل من نصف الدية، وعشر القيمة.
فرع قطع إحدى يدي عبد، فعتق، ثم جرحه رجلان، بأن قطع أحدهما
يده الأخرى، والآخر رجله، ومات، فلا قصاص على الأول، لا في النفس ولا في
الطرف إن كان حرا، وعلى الآخرين القصاص في الطرف، ويجب أيضا في النفس
على المذهب، وأما الدية، فتجب على الثلاثة أثلاثا، ولا حق للسيد فيما يجب
على الآخرين، وإنما يتعلق حقه بما على الأول، وفيما يستحقه القولان، فعلى
القول الأول: أقل الأمرين من ثلث الدية، وثلث القيمة، وعلى الثاني: الأقل من
ثلث الدية، وأرش الجناية في ملكه وهو نصف القيمة، فلو كانت الصورة بحالها،
فعاد الأول وجرح بعد العتق جراحة أخرى ومات بسراية الجميع، فالدية عليهم أثلاثا
لما سبق أنا ننظر إلى عدد الجارحين، لا إلى الجراحات، ثم الثلث الواجب على
49

الجاني الأول واجب عن جنايتيه، فتقابل الجناية الواقعة في الرق سدس الدية،
فللسيد على القول الأول الأقل من سدس الدية الواجب بالجناية في ملكه، أو سدس
القيمة، وعلى الثاني الأقل من سدس الدية أو نصف القيمة وهو أرش الجناية في
ملكه. ولو قطع يد عبد، فعتق، فجرحه آخر جراحة، فعاد الأول، فجرحه
أخرى، فعليهما الدية نصفين، والنصف الواجب على الأول وجب بجنايتي الرق
والحرية، فحصة الجناية الأولى ربع الدية، فللسيد في القول الأول الأقل من ربع
الدية وربع القيمة، وعلى الثاني الأقل من ربع الدية، ونصف القيمة، وبه أجاب
ابن الحداد في هذه الصورة، وذكر القاضي أبو الطيب أنه الأظهر، ولو جنى اثنان
على عبد معتق، ثم جنى عليه ثالث، ومات بالسراية، فعليهم الدية أثلاثا، وللسيد
في القول الأول الأقل من ثلثي الدية وثلثي القيمة، وفي الثاني الأقل من ثلثي الدية
وأرش جنايتي الرق، ولو جنى عليه ثلاثة في الرق، فعتق، ثم جنى رابع ومات،
فعليهم الدية أرباعا، للسيد في القول الأول الأقل من ثلاثة أرباع الدية وثلاثة أرباع
القيمة، وفي الثاني الأقل من ثلاثة أرباع الدية وأرش جنايات الرق، ولو جنى اثنان
في الرق، وثلاثة بعد ما عتق، فالدية عليهم أخماسا، للسيد في القول الأول الأقل
من خمسي الدية وخمسي القيمة، وفي الثاني الأقل من خمسي الدية وأرش جنايتي
الرق، ولو أوضح عبدا، فعتق، فقطع آخر يده، ومات منهما، فعليهما الدية،
وللسيد على القول الأول أقل الأمرين من نصف الدية، ونصف القيمة، وعلى الثاني
الأقل من نصف الدية ونصف عشر القيمة، وهو أرش الموضحة، ولو أوضحه،
فعتق، فجاء تسعة فجرحوه ومات، فعليهم الدية أعشارا، وللسيد على القول الأول
الأقل من عشر الدية وعشر القيمة، وعلى الثاني الأقل من عشر الدية، ونصف عشر
القيمة، وهو أرش الموضحة ولو جرحه الأول جرحا آخر مع التسعة، فالدية عليهم
كذلك للسيد، الأقل من نصف عشر الدية ونصف عشر القيمة على القولين، لأنه لم
يجب بالجناية واقفة وسارية إلا نصف عشر الضمان، وهكذا يتفق القولان إذا اتفق
قدر الضمان على التقديرين، كما إذا جنى خمسة في الرق، وأرش جناياتهم نصف
القيمة، وخمسة بعد العتق، فللسيد على القولين الأقل من نصف الدية ونصف
القيمة.
فرع قطع حر يد عبد، فعتق، فحز آخر رقبته، فقد أبطل الحز السراية،
50

فعلى الأول نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص، أو كمال الدية للوارث،
ولو قطع حر يد عبد، فعتق، ثم قطع آخر يده الأخرى، ثم حزت رقبته،
فإن حزه ثالث، فقد بطلت سراية القطعين، فعلى الأول نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني
القصاص في الطرف، أو نصف الدية للوارث، وعلى الثالث القصاص في النفس،
أو كمال الدية، وإن حزه الأول، نظر، إن حزه بعد اندمال قطعه، فعليه نصف
القيمة للسيد، والقصاص في النفس، أو كمال الدية للوارث، وعلى الثاني نصف
الدية، وإن حزه قبل الاندمال، فعليه القصاص في النفس، ثم إن قلنا بالصحيح:
إن بدل الطرف يدخل في النفس، فإن اقتص الوارث، سقط حق السيد، وإن عفا،
وجب كمال الدية للسيد منه الأقل من نصف الدية، ونصف القيمة على أحد القولين
كما سبق، هذا هو الصحيح، وقال القاضي أبو الطيب: عندي يسقط حق السيد
وإن عفا الوارث، لأنه إذا سقط حكم الطرف، صار الحكم للنفس، وكان المأخوذ
بدل النفس المفوتة بعد زوال ملك السيد، وعلى قول ابن سريج والاصطخري: أن
بدل الطرف لا يدخل في النفس، يكون للسيد عليه نصف القيمة، وللوارث
القصاص في النفس، أو كمال الدية، وإن حز الثاني، بطلت سراية الأول، فعلى
الأول نصف القيمة للسيد، والثاني قطع طرف حز ثم قتله، فإن قتله بعد الاندمال،
فللوارث أن يقتص منه في الطرف والنفس، وله أن يأخذ نصف الدية لليد، ودية
كاملة للنفس، فإن شاء، اقتص فيهما، وإن شاء، أخذ بدلهما، وإن شاء، بدل
أحدهما وقصاص الآخر، وإن قتله قبل الاندمال، فللوارث القصاص في النفس
بقطع اليد، وله أخذ دية النفس فقط.
فرع قد عرفت أن الواجب فيما إذا جنى على عبد، فعتق، وسرت الجناية
إلى نفسه، إنما هو الدية، والدية الإبل، قال الأصحاب: تؤخذ الدية، وتصرف
إلى السيد حصته على التفصيل السابق من الإبل، وليس للوارث أن يقول: أستوفي
الإبل، وأدفع إليه ما يستحقه من الدراهم، أو الدنانير، زاعما أنه إنما يستحق
القيمة، والقيمة دراهم أو دنانير، لأن ما يستحقه يستحقه من عين الدية التي هي
الواجبة وليست مرهونة بحقه، بخلاف الدين مع التركة، وليس للسيد أن يكلف
الجاني تسليم الدراهم، ولو أتى الجاني بالدراهم، ففي إجبار السيد على قبولها
وجهان، أرجحهما عند الامام والغزالي: نعم، وحاصله تخيير الجاني بين تسليم
51

الدية والدراهم، ولو أبرأ السيد الجاني عما يستحقه من الدية، برئ، وليس للورثة
المطالبة به.
فرع رمى إلى ذمي، فأسلم، أو عبد، فعتق قبل الإصابة، وجب دية حر
مسلم، ولا قصاص إذا كان الرامي حرا مسلما، وكذا لو رمى ذمي إلى ذمي، أو إلى
عبد، ثم أسلم الرامي، أو عتق قبل الإصابة، لا قصاص، لأنه لا كفارة عند
الإصابة.
فرع قد يعبر عن مسائل الباب في تغير الحال بين الجرح والموت، وبين
الرمي والإصابة، فيقال: كل جرح أوله غير مضمون لا ينقلب مضمونا بتغير الحال
في الانتهاء، وإن كان مضمونا في الحالين، اعتبر في قدر الضمان الانتهاء، وفي
القصاص تعتبر الكفاءة في الطرفين والوسط، وكذا إذا تبدل الحال بين الرمي
والإصابة، اعتبر في القصاص الكفاءة في الطرفين والوسط، وكذا يعتبر الطرفان
والوسط في تحمل العاقلة وبالله التوفيق.
باب القصاص في الأطراف
فيه فصول أربعة:
الأول في أركانه وهي ثلاثة: القطع والقاطع والمقطوع، وكما يعتبر في القتل
أن يكون عمدا محضا عدوانا يعتبر ذلك في الطرف، فلا يجب القصاص
بالجراحات، وإبانة الأطراف إذا كانت خطأ، أو شبه عمد، ومن صور شبه العمد: أن
يضرب رأسه بلطمة أو حجر لا يشج غالبا لصغره، فيتورم الموضع، ويتضح
العظم، وقد يكون الضرب بالعصا الخفيفة، والحجر المحدد عمدا في الشجاج،
لأنه يوضح غالبا، ويكون شبه عمد في النفس، لأنه لا يقتل غالبا، ولو أوضحه
بما يوضح غالبا، ولا يقتل غالبا، فمات من تلك الموضحة، فعن الشيخ أبي حامد
أنه يجب القصاص في الموضحة، ولا يجب في النفس، واستبعده ابن الصباغ
52

وغيره، لأنه إذا كانت هذه الآلة توضح في الغالب كانت كالحديدة، وفق ء العين
بالإصبع عمد، لأنها في العين تعمل عمل السلاح ويعتبر في القاطع كونه مكلفا
ملتزما للأحكام، وفي المقطوع كونه معصوما كما ذكرنا في النفس، ومن قتل به
الشخص، قطع به، ومن لا، فلا. ولا يشترط في قصاص الطرف التساوي في
البدل، فيقطع العبد بالعبد، والمرأة بالرجل وبالعكس، والذمي بالمسلم، والعبد
بالحر، ولا عكس فيهما، وتقطع الجماعة بالواحد إذا اشتركوا بأن وضعوا السكين
على اليد، وتحاملوا عليها دفعة واحدة حتى أبانوها، أو ضربوه ضربة اجتمعوا
عليها، ولو تميز فعل الشركاء، بأن قطع هذا من جانب، وهذا من جانب حتى
التقت الحديدتان، أو قطع أحدهما بعض اليد، وأبانها الآخر، فلا قصاص على
واحد منهما، ويلزم كل واحد منهما حكومة تليق بجنايته، وينبغي أن يبلغ مجموع
الحكومتين دية اليد، وعن صاحب التقريب حكاية قول: إنه يقطع من كل واحد
منهما بقدر ما قطع إن أمكن ضبطه، والمشهور الأول، ولو جزا حديدة جز
المنشار، فقال الجمهور: هما فعلان متميزان، وقال ابن كج: هو اشتراك موجب
للقصاص، قال الامام: هذا يصور صورتين، إحداهما: إن يتعاونا في كل جذبة
وإرساله، فتكون من صور الاشتراك، والثانية: أن يجذب كل واحد إلى جهة
53

نفسه، ويفتر عن الارسال في جهة صاحبه، فيكون البعض
مقطوع هذا، والبعض مقطوع ذاك، ويكون الحكم ما قاله الجمهور.
الفصل الثاني فيما يوجب قصاص الطرف
الجنايات فيما دون النفس ثلاثة
أنواع: جرح يشق، وقطع يبين، وإزالة منفعة بلا شق ولا إبانة.
النوع الأول: الجرح، ويتعلق به القصاص في الجملة، قال الله تعالى
* (والجروح قصاص) * ثم تنقسم إلى واقعة على الرأس والوجه، وإلى غيرها.
الضرب الأول: الواقعة على الرأس والوجه، وتسمى الشجاج، وهي عشر،
إحداها: الحارصة وهي التي تشق الجلد قليلا نحو الخدش، وتسمى
الحرصة أيضا،
الثانية: الدامية: وهي التي تدمي موضعها من الشق والخدش، ولا يقطر منها
دم، هكذا نص عليه الشافعي وأهل اللغة، قال أهل اللغة: فإن سال منها دم، فهي
الدامعة بالعين المهملة، وذكر الامام والغزالي في تفسيرها: سيلان الدم وهو خلاف
الصواب،
الثالثة: الباضعة وهي التي تبضع اللحم بعد الجلد، أي: تقطعه،
الرابعة: المتلاحمة وهي التي تغوص في اللحم، ولا تبلغ الجلدة بين اللحم
والعظم، وتسمى اللاحمة أيضا،
الخامسة: السمحاق وهي التي تبلغ تلك الجلدة، وتسمى تلك الجلدة
السمحاق، وقد تسمى هذه الشجة: الملطي والملطاة واللاطئة،
السادسة: الموضحة وهي التي تخرق السمحاق، وتوضح العظم،
54

السابعة: الهاشمة وهي التي تهشم العظم، أي: تكسره،
الثامنة: المنقلة وهي التي تنقل العظم من موضع إلى موضع، ويقال: هي التي تكسر وتنقل، ويقال: هي
التي تكسر العظم حتى يخرج منها فراش العظام،
والفراشة: كل عظم رقيق، وفراش الرأس: عظام رقاق تلي القحف،
التاسعة: المأمومة وهي التي تبلغ أم الرأس، وهي خريطة الدماغ المحيطة
به، ويقال لها: الأمة أيضا،
العاشرة: الدامغة وهي التي تخرق الخريطة وتصل الدماغ وهي مذففة. فهذه
العشرة هي المشهورة، وذكر فيها ألفاظ أخر تؤول إلى هذه، وجميع هذه الشجاج
تتصور في الجبهة كما تتصور في الرأس، وكذلك تتصور ما عدا المأمومة والدامغة في
الخد، وفي قصبة الانف، واللحي الأسفل، إذا عرفت هذا، فالقصاص واجب في
الموضحة، لتيسر ضبطها، واستيفاء مثلها، ولا قصاص فيما بعدها من الهاشمة
والمنقلة وغيرهما، وأما ما قبلها، فلا قصاص في الحارصة قطعا، ولا في
الباضعة والمتلاحقة والسمحاق على المذهب، والدامية كالحارصة، وقيل:
كالباضعة، فإن أوجبنا القصاص في المتلاحمة والباضعة، فإن كان على رأس كل
واحد من الشاج والمشجوج موضحة، تيسرت معرفة النسبة بهما، وإن لم تكن،
راجعنا أهل الخبرة لينظروا في المقطوع والباقي، ويحكموا بأنه نصف، أو ثلث
بالاجتهاد بعد غمر رأس الشاج والمشجوج، ويحكمون أيضا عند القصاص، ويعمل
باجتهادهم، فإن شكوا في أن المقطوع نصف أو ثلث أخذ باليقين.
الضرب الثاني: الجراحات في سائر البدن، فما لا قصاص فيه إذا كان على
الرأس والوجه لا قصاص فيه إذا كان على غيرهما، وأما الموضحة التي توضح عظم
الصدر، أو العنق، أو الساعد أو الأصابع، ففي وجوب القصاص فيها وجهان،
55

أحدهما: لا، كما لا يجب فيها أرش مقدر، وأصحهما: نعم، وهو ظاهر النص
لتيسر استيفاء المثل، وإذا اختصرت، وأجبت في الجراحات في جميع البدن
بالمختار، قلت: يجب القصاص في الجراحة على أي موضع كانت بشرط أن تنتهي
إلى عظم ولا تكسره.
النوع الثاني: قطع الطرف، فيجب القصاص بقطع الطرف بشرط إمكان
المماثلة، وأمن استيفاء الزيادة، ويحصل ذلك بطريقين: أحدهما: أن يكون
للعضو مفصل توضع عليه الحديدة وتبان، والمفصل موضع اتصال عضو بعضو
على منقطع عظمين، وقد يكون ذلك بمجاورة محضة، وقد يكون مع دخول عضو
في عضو، كالمرفق والركبة، فمن المفاصل الأنامل والكوع والمرفق ومفصل القدم
والركبة، فإذا وقع القطع على بعضها، اقتص من الجاني، قال الامام: وفي بعض
التعاليق عن شيخي حكاية وجه بعيد في المرفق والركبة، قال: وأظنه غلطا من
المعلق، ومن المفاصل أصل الفخذ والمنكب، فإن أمكن القصاص بلا إجافة،
اقتص، وإلا فلا، سواء كان الجاني أجاف أم لا، لأن الجوائف لا تنضبط،
وحكى الامام وجها شاذا أنه يجري القصاص إذا كان الجاني أجاف، وقال أهل
البصر: يمكن أن يقطع، ويجاف مثل تلك الجائفة. الطريق الثاني: أن يكون
للعضو حد مضبوط ينقاد لآلة الإبانة، فيجب القصاص في فق ء العين، وفي الاذن،
والجفن، والمارن، والذكر والأنثيين قطعا، وفي الشفة واللسان على الصحيح،
وفي الشفرين والأليتين على الأصح عند الأكثرين، ولا قصاص في إطار الشفة بكسر
الهمزة وتخفيف الطاء المهملة، وهو المحيط بها، لأنه ليس له حد مقدر، والكلام
56

في قدر الشفتين والشفرين والأليتين يأتي في الديات إن شاء الله تعالى.
فرع لو قطع بعض الاذن، أو بعض المارن من غير إبانة، وجب القصاص
على الأظهر، لإحاطة الهواء بهما، وإمكان الاطلاع عليهما من الجانبين، ويقدر
المقطوع بالجزئية، كالثلث والربع، لا بالمساحة، ولو قطع بعض الكوع، أو
مفصل الساق والقدم، ولم يبن، فلا قصاص على الأظهر، لأنها تجمع العروق
والأعصاب، وهي مختلفة الوضع تسفلا وتصعدا، فلا يوثق بالمماثلة فيها بخلاف
المارن، ولو قطع فلقة من الاذن، أو المارن، أو اللسان، أو الحشفة، أو الشفة،
وأبانها، وجب القصاص على الصحيح، وتضبط بالجزئية، ولو أبان قطعة من
الفخذ، فلا قصاص، كذا جزم به الغزالي، ويشبه أن يجئ فيه خلاف كالباضعة.
فرع قطع يدا أو عضوا، وبقي المقطوع متعلقا بجلده، وجب القصاص،
أو كمال الدية، لأنه أبطل فائدة العضو، ثم إذا انتهى العضو في الاقتصاص إلى تلك
الجلدة، فقد فصل القصاص، ويراجع الجاني أهل الخبرة في تلك الجلدة،
ويفعل مصلحته من القطع والترك.
فرع لا قصاص في كسر العظام، لعدم الوثوق بالمماثلة، لكن
للمجني عليه أن يقطع أقرب مفصل إلى موضع الكسر، ويأخذ الحكومة للباقي، وله
أن يعفو، ويعدل إلى المال، ولو أوضح رأسه مع الهشم، فللمجني عليه أن يقتص
في الموضحة، ويأخذ الهشم ما بين أرش الهاشمة والموضحة، وهو خمس من
الإبل، ولو أوضح ونقل، فللمجني عليه أن يقتص في الموضحة، ويأخذ ما بين
الموضحة والمنقلة، وهو عشر من الإبل، ولو أوضح وأم، فله أن يوضح، ويأخذ ما
بين الموضحة والمأمومة، وهو ثمانية وعشرون بعيرا وثلث بعير، لأن في المأمومة
ثلث الدية.
57

فرع قطعه من الكوع، فأراد المجني عليه أن يلقط أصابعه، فليس له
ذلك، فلو بادر وفعله، عزر، ولا غرم عليه، لأنه يستحق إتلاف الجملة، فلا يلزمه
بإتلاف البعض غرم، كما أن مستحق قتل النفس لو قطع طرف الجاني، لا غرم
عليه، قال البغوي: وهل له أن يعود ويقطع الكف؟ وجهان، أصحهما: نعم،
كما أن مستحق النفس لو قطع يد الجاني له أن يعود ويحز رقبته، ولو طلب حكومة
الكف تدخل في دية الأصابع وقد استوفى الأصابع المقابلة بالدية، ولو قطع يده من
المرفق، فأراد أن يقطع من الكوع، أو يقطع أصبعا، ويرضى بها قصاصا ومالا، لم
يكن له ذلك، لأنه عدول عن محل الجناية مع القدرة عليه، وقيل: إن رضي بذلك
بلا مال، جاز، والصحيح الأول، فلو خالفنا فقطع من الكوع، عزر ولا غرم لما
سبق، ولو أراد بعد ذلك أن يقطع من المرفق، قال الامام: لا يمكنه، وجعله
البغوي على وجهين، ولو طلب حكومة الساعد لم نثبتها له، كذا نقله الامام عن
الأصحاب، ونقله البغوي أيضا، ثم قال: وعندي أنها تثبت.
فرع لو كسر عظم العضد، وأبان اليد منه، فللمجني عليه أن يقطع من
المرفق، ويأخذ الحكومة لما بقي، وإن عفا، فله دية الكف، وحكومة للساعد،
وحكومة للمقطوع من العضد، فلو أراد أن يترك المرفق، ويقطع من الكوع، فهل له
ذلك؟ وجهان، أرجحهما عند البغوي: يجوز، لعجزه عن محل الجناية،
ومسامحته، وأرجحهما عند الروياني وغيره لا، لأنه عدول عما هو أقرب إلى محل
الجناية ولو أراد التقاط الأصابع، لم يمكن قطعا، ولو أراد أخذ أصبع واحدة،
فالقياس أنه على الوجهين في قطع الكوع، فإذا قلنا: ليس له القطع من الكوع،
فقطع، ثم أراد القطع من المرفق، لم يكن وليس له حكومة الساعد، وإن قلنا: له
القطع من الكوع، فقطع، فله حكومة الساعد على الأصح، وتجب له حكومة
المقطوع من العضد، هكذا جزم به الأصحاب، وحكى الغزالي فيه وجهين،
والصواب الأول، لأن استيفاء تلك البقية متعذر شرعا، ولم يوجد من المجني عليه
فيها تقصير وعدول، ولم أجد هذين الوجهين لغير الغزالي.
58

فرع لو قطعه من نصف الساعد، قطع من الكوع وأخذت حكومة نصف
الساعد، فلو عفا، فله دية الكف، وحكومة لنصف الساعد، ولو أراد أن يلتقط
أصابعه، لم يكن، فلو فعل، لم يمكن من القطع من الكوع، قال البغوي:
وليس له حكومة الكف، وله حكومة نصف الساعد، ويجئ في حكومة نصف
الساعد الخلاف.
فرع لو قطع يده من نصف الكف، لم يقتص في الكف، وله التقاط
الأصابع. وإن تعددت
الجراحة، لأنه لا سبيل إلى إهماله، وليس بعد موضع
الجراحة إلا مفاصل متعددة، وهل تجب مع قطعها حكومة نصف الكف، أم تدخل
الحكومة في فرع من الام: لو قطعها، كدخولها في استيفاء الدية؟ وجهان، أصحهما: الوجوب
فرع: من " الام ": لو شق كفه حتى انتهى إلى مفصل، ثم قطع من
المفصل أو لم يقطع، اقتص منه إن قال أهل الخبرة: يمكن أن يفعل به مثله.
النوع الثالث: إبطال المنافع وهي لا تباشر بالتفويت، وإنما تفوت تبعا
لمحلها، وقد ترد الجناية على غير محلها، وتفوت هي بالسراية لارتباط بينها وبين
محل الجناية، فلو أوضح رأسه، فذهب ضوء عينيه، فالنص أنه يجب القصاص في
الضوء كما يجب في الموضحة، ونص فيما إذا قطع أصبعه فسرى إلى الكف، أو
إلى أصبع أخرى بتآكل أو شلل، أنه لا يجب القصاص في محل السراية، فقيل:
فيهما قولان، والمذهب تقرير النصين، والفرق أن الضوء ونحوه من اللطائف لا
تباشر بالجناية، وإنما تقصد بالجناية على محلها، أو محل آخره، وإذا أوجبنا
القصاص في الضوء بالسراية، فالذي صححه الامام نقلا ومعنى أن السمع
كالبصر، وحكى فيما إذا أبطل بطش عضو بالسراية تردد الأصحاب، منهم من
ألحقه بالضوء، وبه قال صاحب التقريب ومنهم من رأى البطش عسر الإزالة،
59

كالأجسام، وإليه ميل الشيخ أبي محمد، وفي العقل أيضا تردد لبعده عن التناول
بالسراية، قال: ولا يبعد إلحاق الكلام بالبصر، ورتبها فجعل البصر والسمع في
درجة، ويليهما الكلام، ويليه البطش، ويليه العقل، وذكر صاحب المهذب أنه
لو جنى على رأسه، فذهب عقله، أو على أنفه، فذهب شمه، أو على أذنه،
فذهب سمعه، فلا قصاص في العقل والشم والسمع، والأقرب منع القصاص في
العقل، ووجوبه في الشم والبطش والذوق، لأن لها محال مضبوطة، ولأهل
الخبرة طرق في إبطالها، وإذا ذهب الضوء بالموضحة، واقتصصنا في الموضحة،
فلم يذهب ضوء الجاني، أذهب بأخف ما يمكن، كتقريب حديدة محماة من
عينيه، أو طرح كافور فيها ونحوهما، وإن ذهب ضوء الجاني، حصل القصاص،
وفيه شئ يأتي إن شاء الله تعالى. ولو هشم رأسه، فذهب ضوؤه، عولج بما يزيل
الضوء ولا يقابل الهشم بالهشم، ولو لطمه، فذهب ضوؤه واللطمة بحيث تذهب
الضوء غالبا، فالمنقول عن نصه في الام أنه يلطم مثل لطمته، فإن ذهب الضوء
فعلى ما ذكرنا في الموضحة، وإلا أزيل بالمعالجة، وإن ابيضت الحدقة، أو
شخصت، فعل به ما يفضي إليه إن أمكن، ونسب صاحب المهذب هذا المنقول
عن النص إلى بعض الأصحاب، ثم قال: ويحتمل أن لا يقتص في اللطمة كما لا
يقتص بالهاشمة، لأنه لا قصاص في اللطمة لو انفردت، وهذا حسن، وجعله
صاحب التهذيب وجها، وقال: هو الأصح.
فرع إذا قلنا: لا يجب القصاص في الأجسام بالسراية، فقطع أصبعه،
فسرى القطع إلى الكف وسقطت، فلا يجب القصاص إلا في تلك الإصبع، وإذا
اقتص في الإصبع، فسرى إلى الكف فالنص أن السراية لا تقع قصاصا، بل يجب
على الجاني دية باقي اليد، ونص فيما إذا أوضحه فذهب ضوؤه وشعر رأسه، فاقتص
في الموضحة، فذهب ضوء الجاني وشعر رأسه أيضا، أنه يكون مستوفيا حقه، ولو
لم يذهب ضوء الجاني، ونبت شعره، فعليه دية البصر وحكومة الشعر. وفي هذا
60

النص إيقاع الشعر مقابلا للشعر وهو من الأجسام، فاقتضى وقوع السراية في الأجسام
قصاصا، فقيل: قولان في أن السراية في الضوء والكف هل تقع قصاصا؟ وقيل:
في الكف قولان، ويقع الضوء قطعا، والمذهب أن السراية لا تقع قصاصا في الكف
ولا في الشعر، ولو عفا المجني عليه عن قصاص الإصبع، فله دية اليد، وإن
اقتص، فلم يسر القطع إلى غير تلك الإصبع، أو سرى وقلنا: لا يقع قصاصا، فله
أربعة أخماس دية الكف للأصابع الأربع، ولا تجب لمنابتها من الكف حكومة، بل
تدخل في ديتها، وفي دخول حكومة خمس الكف في قصاص الإصبع، وجهان
سيعودان إن شاء الله تعالى، وما يجب من الدية يجب مغلظا في مال الجاني، لأنه
وجب بجناية عمد موجبة للقود، وقيل: على العاقلة، والصحيح الأول، وله
المطالبة به عقب قطع الإصبع، وفي صورة الموضحة المذهبة للبصر، لو أوضحه،
فلم يذهب ضوؤه في الحال، لا يطالب بالدية، بل ينتظر، فلعله يسري إلى البصر
فيحصل الاقتصاص، وكذا في النفس، لو قطع أصبعه فسرى إلى نفسه، فقطع
الولي أصبع الجاني، ينتظر السراية ولا يطالب بالدية في الحال.
فرع له تعلق بالسراية. لو قتل مستحق القصاص الجاني خطأ، أو ضربه
بسوط خفيف، فهل يصير مستوفيا؟ فيه خلاف، ومثله: لو وثب الصبي، أو
المجنون على قاتل مورثه فقتله، هل يصير مستوفيا؟ وجهان، أصحهما: لا، فعلى
هذا ينتقل حقه إلى الدية، وتجب الدية بقتل الجاني، وهل تكون عليه أم على
عاقلته؟ يبنى على الخلاف في أن عمدهما عمد أم خطأ، ويجري فيما إذا ثبت
قصاص لصبي أو مجنون، فوثب على القاطع فقطع طرفه، هل يكون مستوفيا
لحقه؟ ثم موضع الخلاف إذا لم يكن من الجاني تمكين، فأما إذا أخرج يده إلى
الصبي أو المجنون فقطعه، فلا يكون مستوفيا لحقه بلا خلاف، ويكون قطعه
هدرا.
الفصل الثالث في المماثلة وهي معتبرة في وجوب القصاص في الطرف،
كالكفاءة في النفس، فلا يقابل طرف بغير جنسه، كاليد بالرجل، وإذا اتحد
61

الجنس، لم يؤثر التفاوت في الصغر والكبر، والطول والقصر، والقوة والضعف،
والضخامة والنحافة، كما لا تعتبر مماثلة النفسين في هذه الأمور، وكذلك تقطع
يد الصانع بيد الأخرق، كما يقتل العالم بالجاهل، وإنما يؤثر التفاوت في أمور:
أحدها: تفاوت المحل والقدر، أما المحل، فلا تقطع اليد اليمنى باليسرى،
ولا اليسرى باليمنى، وكذا الرجل والعين والاذن، ولا يقطع من الجنس الأعلى
بالأسفل، وكذا العكس، وكذا في الشفة، ولا أصبع ولا أنملة بغيرها، ولا أصبع
زائدة بزائدة أخرى، إذا اختلف محلهما، بأن كانت زائدة بجنب الخنصر، وزائدة
الجاني بجنب الابهام.
وأما القدر، فالتفاوت في الحجم صغرا وكبرا، وطولا وقصرا لا يؤثر في
الأعضاء الأصلية قطعا، وكذا في الزائدة على الأصح، فإن قلنا: تؤثر، وكانت
زائدة الجاني أكبر، لم يقتص منه، وإن كانت زائدة المجني عليه أكبر، اقتص،
وأخذ حكومة قدر النقصان، ثم الخلاف فيما رأى الامام فيما إذا لم يؤثر تفاوت
الحجم في الحكومة، فإن أثر، فلا قصاص، قال: والاختلاف في الكون وسائر
الصفات لا يؤثر بعد التساوي في الحكومة، وتقطع الزائدة بالأصلية إذا اتفق
محلهما، ولا شئ له لنقصان الزائدة، كما لو رضي بالشلاء عن السليمة.
فرع نقلوا عن النص أنه لو كانت زائدة الجاني أتم، بأن كان لإصبعه
الزائدة ثلاث مفاصل، ولزائدة المجني عليه مفصلان، لم تقطع بها، لأن هذا أعظم
من تفاوت المحل.
فرع الكلام في قصاص الموضحة يتعلق بالمساحة والمحل، أما
المساحة، فمعتبرة طولا وعرضا، فلا تقابل ضيقة بواسعة، ولا يقنع بضيقة عن
واسعة، فتذرع موضحة المشجوج بخشبة أو خيط، ويحلق ذلك الموضع من رأس
الشاج، إن كان عليه شعر، ويخط عليه بسواد أو حمرة، ويضبط الشاج حتى لا
يضطرب، ويوضح بحديدة حادة كالموسى، ولا يوضح بالسيف، وإن كان
62

أو صح به، لأنه لا تؤمن الزيادة، وكذا لو أوضح بحجر، أو خشب، يقتص منه
بالحديدة، كذا ذكره القفال وغيره، وتردد فيه الروياني، ثم يفعل ما هو أسهل
عليه من الشق دفعه واحدة، أو شيئا فشيئا، ويرفق في موضع العلامة، ولا عبرة
بتفاوت الشاج والمشجوج في غلظ الجلد واللحم، وأما المحل، فإن أوضح جميع
رأسه، ورأساهما متساويان في المساحة، أوضح جميع رأسه، وإن كان رأس الشاج
أصغر، استوعبناه إيضاحا، ولا يكفي به ولا ينزل لاتمام المساحة إلى الوجه، ولا
إلى القفا، بل يؤخذ قسط ما بقي من الأرش إذا وزع على جميع الموضحة، وإن
كان رأس الشاج أكبر، لم يوضح جميعه، بل بقدره بالمساحة والاختيار في موضعه
إلى الجاني، وقيل: إلى المجني عليه، وقيل: يبتدئ من حيث بدأ الجاني،
ويذهب به في الجهة التي ذهب إليها إلى أن يتم القدر، والصحيح الأول وبه قطع
الأكثرون، فإن كان في رأس الجاني موضحة، والباقي بقدر ما فيه القصاص،
تعين، وصار كأنه كل الرأس، ولو أراد أن يستوفي بعض حقه من مقدم الرأس،
وبعضه من مؤخره، لم يكن له ذلك على الصحيح، لأنه يأخذ موضحتين بدل
موضحة، ولو أراد أن يستوفي البعض ويأخذ للباقي قسطه من الأرش مع تمكنه من
استيفاء الباقي، لم يكن له ذلك على الأصح، بخلاف ما لو أوضح في موضعين،
فإن له أن يقتص في أحدهما، ويأخذ أرش الآخر، لأنهما جنايتان، ولو أوضح
الجاني بعض الرأس، كالقذال والناصية، أوضحنا ذلك القدر وتممناه من الرأس إن
بقي من حقه شئ، وقيل: لا يجوز مجاوزة ذلك الموضع، والأول هو الصحيح
المنصوص، ولو أوضح جبهته، وجبهة الجاني أصغر، لم يرتق إلى الرأس،
63

وليجئ في مجاوزة موضع من الوجه إلى موضع يلاصقه الوجهان، وإذا أوجبنا
القصاص في موضحة سائر البدن، فأوضح ساعده وساعد الجاني أصغر، لم يجاوزه
إلى العضد ولا إلى الكتف، كما في الوجه والرأس.
فرع لو زاد المقتص في الموضحة على قدر حقه، نظر، إن زاد باضطراب
الجاني، فلا غرم، وإن زاد عمدا، اقتص منه في الزيادة ولكن بعد اندمال
الموضحة التي في رأسه، وإن آل الامر إلى المال، أو أخطأ باضطراب يده، وجب
الضمان، وفي قدره وجهان، أحدهما: يوزع الأرش عليهما، فيجب قسط
الزيادة، وأصحهما: يجب أرش كامل، ولو قال المقتص: أخطأت بالزيادة، فقال
المقتص منه: بل تعمدتها، صدق المقتص بيمينه، ولو قال: تولدت الزيادة
باضطرابك، وأنكر، فأيهما يصدق؟ وجهان، لأن الأصل براءة الذمة وعدم
الاضطراب.
فرع اشترك جماعة في موضحة، بأن تحاملوا على الآلة وحزوها معا،
ففيه احتمالان للامام، أحدهما: يوزع عليهم، ويوضح من كل واحد قدر حصته
لامكان التجزئة، بخلاف القتل، والثاني: يوضح من كل واحد مثل تلك
الموضحة، كالشركاء في القطع، وبهذا قطع البغوي، ويجري الاحتمالان فيما
لو آل الامر إلى المال، هل يجب على كل واحد أرش كامل أم يوزع عليهم؟ قال
الامام: وهذا الثاني أقرب، وبالأول قطع البغوي.
فرع ما ذكرنا أنه يحلق شعر رأس الشاج عند الاقتصاص، مفروض فيما
64

إذا كان لكل منهما شعر، فإن لم يكن للشاج شعر، فلا حلق، وإن لم يكن
على رأس المشجوج شعر، وكان على رأس الشاج شعر، لم يمكن من
القصاص لما فيه من إتلاف شعر لم يتلفه، نص عليه في الام ولا يضر التفاوت في خفة
الشعر وكثافته.
فرع لو شك هل أوضح بالشجة أم لا، لم يقتص مع الشك، ويبحث عن
الحال بمسمار حتى يعرف، ويشهد به شاهدان، أو يعترف به الجاني، لأن حكم
الايضاح يتعلق بالانتهاء إلى العظم حتى لو غرز إبرة فانتهت إلى العظم، كان ذلك
موضحة، وإن كان لا يظهر العظم للناظر.
التفاوت الثاني في الصفات التي يؤثر التفاوت فيها وفيه مسائل:
إحداها: مطلق التفاوت لا يؤثر، بل تقطع اليد البيضاء بالسوداء، والسليمة
بالبرصاء، ويد الصانع بيد الأخرق.
الثانية: لا تقطع يد أو رجل صحيحة بشلاء وإن رضي به الجاني، وإنما
الواجب في الطرف الأشل الحكومة، كما لا يقتل الحر بالعبد، والمسلم بالذمي وإن
رضي الجاني، فلو خالف المجني عليه، وقطع الصحيحة، لم تقع قصاصا، بل
عليه نصف الدية، ولو سرى فعليه القصاص في النفس، فإن كان قطع بإذن
الجاني، فلا قصاص عند السراية، لأنه بإذنه، ثم ينظر، إن قال الجاني: اقطع
يدي، وأطلق، جعل المجني عليه مستوفيا لحقه، ولم يلزمه شئ، وإن قال:
اقطعها عوضا عن يدك، أو قصاصا، فوجهان، أحدهما وبه قطع البغوي: أن على
المجني عليه نصف الدية، وعلى الجاني الحكومة، لأنه لم يبذلها مجانا، والثاني:
لا شئ على المجني عليه، وكأن الجاني أدى الجيد عن الردئ، وقبضه
المستحق.
الثالثة: اليد الشلاء، والرجل الشلاء، هل تقطعان بالصحيحتين؟ وجهان،
65

أحدهما: لا، لأن الشرع لم يرد بالقصاص فيها، والثاني وهو الصحيح الذي عليه
الأصحاب: أنه يراجع أهل البصر، فإن قالوا: لو قطعت لم ينسد فم العروق
بالحسم، ولم ينقطع الدم، لم تقطع بها، وتجب دية يده، وإن قالوا: تنقطع، فله
قطعها، وتقع قصاصا، كقتل الذمي بالمسلم، وليس له أن يطلب بسبب الشلل
أرشا.
الرابعة: هل تقطع الشلاء بالشلاء؟ وجهان، أحدهما: لا، لأن الشلل
علة، والعلل يختلف تأثيرها في البدن، والثاني وهو الصحيح الذي قطع به
الجمهور: أنهما إن استويا في الشلل، أو كان شلل يد القاطع أكثر، قطعت بها،
والشرط أن لا يخاف نزف الدم كما ذكرنا، وإن كان الشلل في يد المقطوع أكثر،
لم يقطع بها.
فرع قال الشيخ أبو محمد: المراد بالشلل في اليد والرجل زوال الحس
والحركة، وقال الامام: لا يشترط زوال الحس بالكلية، وإنما الشلل بطلان
العمل.
الخامسة: لا أثر لتفاوت البطش، بل تقطع يد القوي بيد الشيخ الذي ضعف
بطشه، لكن لو كان النقص بجناية، بأن ضرب رجل يده فنقص بطشها، وألزمناه
الحكومة، ثم قطع تلك اليد كاملة البطش، فقد حكى الامام أنه لا قصاص، وأنه لا
تجب دية كاملة على الأصح، وهذا كما سبق أن من صار إلى حالة المحتضر بلا
جناية، لو حز إنسان رقبته، لزمه القصاص، ولو انتهى إلى تلك الحالة بجناية، فلا
قصاص على حازه.
السادسة: تقطع يد السليم ورجله بيد الأعسم ورجل الأعرج، لأنه لا خلل في
اليد والرجل، والعسم: تشنج في المرفق، أو قصر في الساعد أو العضد.
66

السابعة: لا اعتبار باخضرار الأظفار واسودادها وزوال نضارتها، فإنها علة
ومرض في الأظفار، والطرف السليم يستوفى بالعليل، وأما التي لا أظفار لها،
فالصحيح الذي ذكره العراقيون وغيرهم: أنه لا تقطع بها سليمة الأظفار، وأنها تقطع
بالسليمة، وكذا حكاه الامام عنهم ونسبه إلى النص، لكن عن الشيخ أبي حامد
وغيره، أنه تكمل فيها الدية، وللامام احتمال في جريان القصاص وإن عدمت
الأظفار، لأنها زوائد، ولو لم يجر القصاص لما تمت دية اليد والإصبع الساقط
ظفرها، وقال البغوي: ينقص من الدية شئ.
الثامنة: لا تقطع يد صحيحة بيد فيها أصبع شلاء، ولا تقطع من الكوع يد
مسبحتها شلاء بيد وسطاها شلاء، فإن استويا في الشلل، فهما كالشلاوين.
التاسعة: إذا قطع سليم اليد يدا شلاء، ثم شلت يده، فعن القفال أنه خرج
في الاقتصاص منه قولين، ثم رجع وقطع بالمنع، وهو الذي رآه الامام مذهبا،
والمذكور في التهذيب أنه يقتص منه، وكذا لو قطع يدا ناقصة أصبعا، ثم سقطت
تلك الإصبع من القاطع، بخلاف ما لو قطع حر ذمي يد عبد، ثم نقض العهد،
وسبي واسترق لا يقطع، ولو قتله لا يقتل، وفرق بأن القصاص هناك سقط لعدم
الكفاءة، والكفاءة تراعى حال الجناية، والامتناع هنا لزيادة حسية في يد القاطع
والاعتبار فيها بحال الاستيفاء، فإذا زالت، قطع، ولهذا لو قطع الأشل يدا شلاء،
ثم صحت يد القاطع، لا يقتص منه لوجود الزيادة عند الاستيفاء، قال: وكذا اليد
ذات الأظفار لا تقطع بما لا أظفار لها، فلو سقطت أظفار القاطع، قطعت بها،
والتي لا أظفار لها تقطع بمثلها، فلو نبتت أظفار القاطع لم تقطع لحدوث الزيادة.
العاشرة: يجب في قطع الذكر، وفي قطع الأنثيين وإشلالها القصاص، سواء
قطع الذكر والأنثيين معا، أو قدم الذكر، أو الأنثيين، ولو دق خصييه، ففي
67

التهذيب أنه يقتص بمثله إن أمكن، وإلا وجبت الدية، ويشبه أن يكون الدق
ككسر العظام، ولو قطع، أو أشل إحدى الأنثيين وقال أهل البصر: يمكن
القصاص من غير إتلاف الأخرى، اقتص، وذكر الروياني أن الماسرجسي قال: إنه
ممكن وإنه وقع في عهده لرجل من أهل فراوة. والقول في قطع الذكر الصحيح
بالأشل وبالعكس، والأشل بالأشل على ما ذكرنا في اليد والرجل، وشلل الذكر أن
يكون منقبضا لا ينبسط، أو منبسطا لا ينقبض، هذه عبارة الجمهور وقيل: هو الذي
لا يتقلص في البرد ولا يسترسل في الحر، وهو بمعنى العبارة الأولى، ولا اعتبار
بالانتشار وعدمه، ولا بالتفاوت في القوة والضعف، بل يقطع ذكر الفحل الشاب
بذكر الخصي والشيخ والصبي والعنين، لأنه لا خلل في نفس العضو وإنما تعذر
الانتشار لضعف في القلب أو الدماغ وسواء الأقلف والمختون.
الحادية عشرة: تقطع أذن السميع بأذن الأصم وبالعكس، وهل تقطع الاذن
الصحيحة بالمستحشفة؟ قولان، أظهرهما: نعم، لبقاء الجمال والمنفعة من جمع
الصوت ورد الهوام بخلاف اليد الشلاء، وبيان الاستحشاف يأتي في الديات إن
شاء الله تعالى، وسواء المثقوبة وغيرها إذا كان الثقب للزينة ولم يورث شينا ونقصا،
فإن أورث نقصا فلتكن المثقوبة كالمخرومة، ولا تقطع صحيحة بمخرومة، وهي
التي قطع بعضها، ولكن يقطع منها بقدر ما كان بقي من المخرومة، وهذا إذا قلنا:
يجب القصاص في بعض الاذن كما سبق، فإن شقت ولم يبن منها شئ، فنقل
الامام عن العراقيين أنه لا تقطع الصحيحة بها أيضا، لفوات الجمال، قال: ولست
أرى الامر كذلك لبقاء الجرم بصفة الصحة.
68

قلت: هذا الذي قاله الامام ضعيف. والله أعلم.
وتقطع المخرومة بالصحيحة ويؤخذ من الدية بقدر ما ذهب من المخرومة،
وسواء في المثقوبة والمخرومة المرأة والرجل.
الثانية عشرة: يقطع أنف الصحيح بأنف الأخشم، لأن الشم ليس في جرم
الانف، وهل يقطع الانف السليم بالمجذوم؟ قال البغوي: إن كان في حال
الاحمرار، قطع به، وإن اسود، فلا قصاص، لأنه دخل في حد البلى، وإنما
تجب فيه الحكومة، ولم يفرق الجمهور بين الاحمرار والاسوداد، وقالوا: يجب
القصاص ما لم يسقط منه شئ، فإن سقط، لم يقطع به الصحيح، لكن يقطع منه
ما كان بقي من المجني عليه إن أمكن، وإن كان بأنف الجاني نقص كنقص المجذوم
جرى القصاص وفيه وجه، قال الامام: هو غلط.
الثالثة عشرة: لا تؤخذ العين السليمة بالحدقة العمياء، والصورة القائمة من
الحدقة كاليد الشلاء، وتؤخذ القائمة بالصحيحة إذا رضي المجني عليه، ويقطع جفن
البصير بجفن الأعمى لتساوي الجرمين، وفقد البصر ليس في الجفن.
الرابعة عشرة: لا يقطع لسان ناطق بأخرس ويجوز العكس برضى المجني
عليه، ويقطع لسان المتكلم بلسان الرضيع إن ظهر فيه أثر النطق بالتحريك عند
البكاء وغيره، وإلا فلا، فإن بلغ أوان التكلم ولم يتكلم، لم يقطع به المتكلم.
فرع قطع أذن شخص، فألصقها المجني عليه في حرارة الدم فالتصقت،
لم يسقط القصاص ولا الدية عن الجاني، لأن الحكم يتعلق بالإبانة وقد وجدت، ثم
ذكر الشافعي والأصحاب رحمهم الله أنه لا بد من قطع الملصق لتصح صلاته وسببه
نجاسة الاذن إن قلنا: ما يبان من الآدمي نجس، وإلا فسببه الدم الذي ظهر في محل
القطع فقد ثبت له حكم النجاسة فلا تزول بالاستبطان ويجيئ فيه ما سبق في كتاب
الصلاة في الوصل بعظم نجس والتفصيل بين أن ينبت اللحم على موضع النجاسة،
69

أو لا ينبت، وبين أن يخاف التلف من القطع أو لا يخاف، ولو قطعها قاطع، فلا
قصاص عليه، لأنها مستحقة الإزالة، وإن لم يوجب إزالتها لخوف التلف مثلا، فلو
سرى قطع القاطع إلى النفس، حكى الامام عن المحققين أن عليه القصاص،
قال: ولا يبعد خلافه، ثم هي وإن كانت مستحقة الإزالة فليس للجاني أن يقول:
أزيلوها ثم اقطعوا أذني، لأن إزالتها من باب الأمر بالمعروف لا اختصاص له به،
والنظر في مثله إلى الامام، ولو اقتص المجني عليه فألصق الجاني أذنه، فالقصاص
حاصل بالإبانة، وأما قطع ما ألصق فلا يختص به المجني عليه، ولو قطع بعض أذنه
ولم يبنه، ففي القصاص في ذلك القدر خلاف سبق، وذلك إذا بقي غير ملتصق،
فأما إذا ألصقه المجني عليه، فالتصق، فيسقط القصاص والدية عن الجاني، ويرجع
المجني عليه إلى الحكومة، كالافضاء إذا اندمل يسقط الدية، ولذلك نقول: لو جاء
رجل وقطع الاذن بعد الالتصاق، لزمه القصاص، أو الدية الكاملة، هذا هو
الصحيح المنصوص، وقيل: لا يسقط القصاص في القدر المقطوع، كما لا يسقط
قصاص الموضحة بالاندمال، ولا يجب قطع الملصق قبل تمام الإبانة، وهكذا
أطلقوه، وفيه نظر إن عللنا بظهور الدم، ولو استأصل أذنه، وبقيت معلقة بجلدة،
وجب القصاص بلا خلاف، فلو ألصقها المجني عليه، لم يجب قطعها، وفي
سقوط القصاص عن الجاني هذا الخلاف، ولو أبان أذنه، فقطع المجني عليه بعض
أذنه مقتصا، فألصقه الجاني، فللمجني عليه أن يعود، ويقطعه لاستحقاقه الإبانة.
فرع ربط السن المقلوعة في مكانها، وثبوتها، كإلصاق الاذن المقطوعة فيما
ذكرناه.
فصل في السن القصاص، وإنما يجب إذا قلعها، فلو كسرها، فلا
قصاص، كذا ذكره البغوي وغيره، وحكى ابن كج عن نصه في الام أنه إذا كسر
بعض سنه يراجع أهل الخبرة، فإن قالوا: يمكن استيفاؤه بلا زيادة ولا صدع في
الباقي، اقتص منه، وبهذا قطع صاحب المهذب ولا تؤخذ السن الصحيحة
70

بالمكسورة، وتؤخذ المكسورة بالصحيحة مع قسط الذاهب من الأرش، وتؤخذ
الزائدة بالزائدة بالشرط السابق، ولو قلع سن رجل، وليس للجاني تلك السن، فلا
قصاص، وتؤخذ الدية، فلو نبت بعد ذلك، فلا قصاص أيضا، لأنها لم تكن
موجودة حال الجناية.
فرع إذا قلع مثغور وهو الذي سقطت رواضعه سن صبي لم يثغر، فلا
قصاص في الحال ولا دية، لأنها تعود غالبا، فإن نبتت، فلا قصاص ولا دية،
ولكن عليه الحكومة إن نبتت سوداء، أو معوجة، أو خارجة عن سمت الأسنان، أو
بقي شين بعد النبات، وإن نبتت أطول مما كانت، أو نبت معها سن شاغية،
فكذلك على الأصح، وإن نبتت أقصر مما كانت، وجب بقدر النقص من الأرش،
وإن جاء وقت نباتها، بأن سقط سائر الأسنان، وعادت، ولم تنبت المقلوعة، أريناه
أهل الخبرة، فإن قالوا: يتوقع نباتها إلى وقت كذا، توقفنا تلك المدة، فإن مضت
ولم تنبت، أو قالوا: فسد المنبت ولا يتوقع النبات، وجب القصاص على
المذهب، وبه قطع الأصحاب، وحكى الغزالي فيه قولين، لأن سن الصغير
ناقصة، ولم يذكر الخلاف غير الغزالي، ثم إذا أوجبنا القصاص، فالاستيفاء إنما
يكون بعد البلوغ، فإن مات الصبي قبل بلوغه، اقتص وارثه في الحال، أو أخذ
الأرش، وإن مات قبل حصول اليأس، وقبل تبين الحال، فلا قصاص، وفي الأرش
وجهان يأتيان في الديات إن شاء الله تعالى.
فرع قلع مثغور سن مثغور، وجب القصاص، فلو نبت سن المجني
عليه، ففي سقوط القصاص قولان، أحدهما: يسقط، لأن العائد قائم مقام
الأول، كما في غير المثغور، وأظهرهما: لا يسقط، لأن هذا هبة جديدة من الله
تعالى، وعلى القولين لا ننتظر العود، بل للمجني عليه أن يقتص، أو يأخذ الدية في
الحال، وقيل: يراجع أهل الخبرة، فإن قالوا: قد يعود إلى مدة كذا، انتظر تلك
المدة، ويكون الحكم كما ذكرنا في غير المثغور، ولو التأمت الموضحة والتحمت،
71

لم تسقط الدية ولا القصاص، لأن العادة فيها الالتحام، وكذا حكم الجائفة، وعن
صاحب التقريب وجه أنها إذا التحمت، زال حكمها، ورأي الامام تخصيص هذا
الوجه على ضعفه بما إذا نفذت الحديدة إلى الجوف، وحصل خرق من غير زوال
لحم دون ما إذا زال شئ، ونبت لحم جديد، ورأي طرده في مثلها في الموضحة،
ولو قطع لسانا فنبت، ففي سقوط القصاص طريقان، أحدهما: قولان كالسن،
والمذهب القطع بالمنع، لأن عوده بعيد جدا، فهو هبة محضة، وجنس السن معتاد
العود، التفريع على القولين في عود السن، فإذا اقتص المجني عليه، أو أخذ
الأرش، ثم نبتت سنه، فليس للجاني قلعها، وهل يسترد الأرش إن كان المجني
عليه أخذه؟ وجهان أو قولان، إن قلنا: العائد كالأول، استرد، وإن قلنا: هبة،
فلا، وإن كان المجني عليه اقتص، فهل يطالبه الجاني بأرش السن؟ يبنى على
الخلاف، وقال ابن سلمة: لا يطالب هنا قطعا لتعذر استرداد القصاص، وهذا
ضعيف، ولو تعدى الجاني، فقلع العائد وقد اقتص منه، فإن قلنا: العائد
كالأول، لزمه الأرش بهذا القلع لتعذر القصاص وقد وجب له على المجني عليه
الأرش بالعود ففيه الكلام في التقاص، وإن جعلناه هبة، لزمه الأرش بالقلع الثاني،
وعلى هذا القول لو لم يقتص منه أولا وأخذ الأرش، فللمجني عليه أن يقتص للقلع
الثاني، فلو لم يكن اقتص للأول ولا أخذ الأرش، لزمه قصاص وأرش، أو أرشان
بلا قصاص، أما إذا اقتصصنا من الجاني فعاد سنه دون المجني عليه، فإن قلنا:
العائد كالأول، فهل للمجني عليه القلع ثانيا؟ وجهان، أحدهما: لا، لأنه قابل
قلعا بقلع فلا تثنى عليه العقوبة، لكن له الأرش لخروج القلع الأول عن كونه
قصاصا، وكأنه تعذر القصاص بسبب، والثاني: نعم، لأن الجاني أفسد منبته،
فيكرر عليه حتى يفسد منبته، وإن قلنا: هبة، فلا شئ للمجني عليه وقد استوفى
حقه بما سبق، وهذا هو الأظهر، ولو اقتص، فعاد سن الجاني والمجني عليه
معا، فلا شئ لواحد منهما على الآخر باتفاق القولين.
فرع قلع غير مثغور سن مثغور، قال ابن كج: للمجني عليه أن يأخذ
الأرش إن شاء، ويقتص إن شاء، وليس له مع القصاص شئ آخر كما في أخذ
72

الشلاء بالصحيحة، هذا إذا كان غير المثغور بالغا، وإلا فلا قصاص، وفي أمالي
أبي الفرج أنه يقال له: إن قلعت سنه الآن، فالظاهر منها العود، فاصبر إلى أن
يصير مثغورا، فإن استعجل، أجيب وشرط عليه أن لا حق له فيما يعود.
فرع قلع غير مثغور سن غير مثغور، فلا قصاص في الحال، فإن نبتت،
فلا قصاص ولا دية، وإن لم تنبت وقد دخل وقته، فالمجني عليه يأخذ الأرش أو يقتص، فإن
اقتص ولم يعد سن الجاني فذاك، وإن عادت، فهل يقلع ثانيا؟
وجهان، أصحهما: نعم، قاله الامام.
التفاوت الثالث في العدد وفيه مسائل:
إحداها: قطع يدا كاملة الأصابع، ويد الجاني ناقصة أصبعا، فللمجني عليه
أن يأخذ دية اليد، وله أن يقطع اليد الناقصة، ويأخذ الأرش للإصبع، ولو كانت
ناقصة إصبعين، فله قطع يده وأرش إصبعين، ولو قطع إصبعين وله أصبع واحدة،
فللمجني عليه قطع الموجودة، وأرش المفقودة، ولو قطع أصبعا صحيحة، وتلك
الإصبع منه شلاء، فأراد المجني عليه قطع الشلاء وأخذ شئ للشلل، لم يكن له.
الثانية: إذا كان النقص في يد المجني عليه، بأن قطع السليم ناقصة بأصبع،
فليس للمجني عليه قطع اليد الكاملة، لكن له أن يلتقط الأصابع الأربع، وله أخذ
ديتها، فإن التقطها فقد ترك كف الجاني مع قطعه كفه، فله حكومة خمس الكف،
وهو ما يقابل منبت أصبعه الباقية، وهل له حكومة أربعة أخماسها؟ وجهان،
أحدهما: لا، بل تدخل تحت قصاص الأصابع، كما تدخل تحت ديتها،
وأصحهما: نعم، لأن القصاص ليس من جنسها، ويجري الوجهان فيما إذا كانت
يد الجاني زائدة بأصبع، ويد المجني عليه معتدلة، فلقط الخمس لتعذر القطع من
الكوع بسبب الزائدة، وهل تدخل حكومة الكف تحت قصاص الخمس ولو أخذ دية
73

الأصابع الأربع في الصورة الأولى، دخلت حكومة منابتها فيها على الصحيح،
وقيل: لا تدخل، بل تختص قوة الاستتباع بالكل، وأما حكومة الخمس الباقي من
الكف، فتجب على الصحيح، وحكي وجه أن كل أصبع تستتبع الكف كما تستتبعها
كل الأصابع.
الثالثة: إذا قطع كفا لا أصابع لها، فلا قصاص إلا أن تكون كف القاطع
مثلها، ولو قطع صاحب هذه الكف يد سليم، فله قطع كفه ودية الأصابع، حكاه
ابن كج عن النص.
الرابعة: إذا كان على يد الجاني إصبعان شلاوان، ويد المجني عليه سليمة،
فإن شاء قطع يده وقنع بها، وإن شاء لقط الثلاث السليمة وأخذ دية إصبعين، وفي
استتباع الثلاث حكومة منابتها واستتباع دية الإصبعين حكومة منبتهما الخلافان
السابقان، ولو كانت يد الجاني سليمة، ويد المعني عليه فيها إصبعان شلاوان، لم
يجب القصاص من الكوع، ولكن للمجني عليه قطع الثلاث السليمة وحكومة
الشلاوين، ويعود الخلاف في استتباع القصاص في الثلاث حكومة منابتها، وفي
استتباع حكومة الشلاوين حكومة منبتهما وجهان، أصحهما عند الامام والغزالي
والبغوي: المنع، وهو ظاهر نصه في المختصر والثاني: أنه يستتبع، وبه قطع
العراقيون.
الخامسة: قطع كفا لها أصبع فقط خطأ، وجبت دية تلك الإصبع، والصحيح
أنه تدخل حكومة منبتها فيها، وأنه يجب حكومة باقي الكف، وعلى الوجه المحكي
في آخر المسألة الثانية: لا حكومة أصلا.
فرع في التهذيب أنه لو كانت أصابع إحدى يديه وكفها أقصر من
الأخرى، فلا قصاص في القصيرة، لأنها ناقصة، وفيها دية ناقصة بحكومة.
السادسة: سبق أن الزائد من الأعضاء يقطع بالزائد إذا اتحد المحل، وذكرنا
خلافا في اشتراط التساوي في الحجم، فلو فرض شخصان لكل منهما أصبع زائدة،
74

قطع أحدهما زائدة الآخر، اقتص منه إذا حصل شرطه، وكذا لو قطع أحدهما يد
الآخر، ولو قطع المعتدل يدا لها أصبع زائدة، قطع، وأخذ منه حكومة للزائدة،
سواء كانت معلومة بعينها أم لا، وإن شاء المجني عليه أخذ دية اليد وحكومة
الزائدة، ولو قطع صاحب الأصابع الست يد معتدل، لم تقطع يده من الكوع إلا أن
تكون الزائدة نابتة في الأصابع وللمجني عليه لقط الخمس الأصليات، ويعود
الوجهان في استتباع قصاصها حكومة الكف، فإن كانت الزائدة بجنب أصلية بحيث
لو قطعت الأصلية سقطت الزائدة، لم تقطع، بل يقتصر على قطع الأربع ويأخذ دية
الخامسة، ولو كانت نابتة على أصبع وأمكن قطع بعضها مع الأربع بأن كانت نابتة
على الأنملة الوسطى من أنمله، قطعت الأنملة العليا مع الأربع، وأخذ ثلثا دية
أصبع، هذا إذا كانت في الست زائدة معلومة بعينها، أما إذا كانت الست كلها
أصلية، بأن انقسمت القوة في الست على ستة أجزاء متساوية في القوة والعمل بدلا
عن القسمة على خمسة أجزاء، فللمجني عليه أن يلتقط منها خمسا على الولاء من
أي جانب شاء، هكذا أطلق، ولك أن تقول: إن لم تكن الست على تقطيع
الخمس المعهودة فهذا قريب، وإن كانت على تقطيعها، فمعلوم أن صورة الابهام
من الخمس تباين صورة باقيها، فإن كانت التي تشبه الابهام على طرف، فينبغي أن
يلقط الخمس من ذلك الجانب، وإن وقعت ثانية وكانت التي تليها على الطرف
كالملحقة بها، فينبغي أن يلقط الخمس من الجانب الآخر، قال الامام: ويختلج
في النفس أن يقال: ليس له لقط الخمس لوقوع الست على نظم يخالف نظم
الخمسة المعتدلة، ثم إنه لا يستكمل حقه بقطع الخمس، لأنها خمسة أسداس
اليد، فله مع ذلك سدس الدية، لكن يحط من السدس شئ لأن الخمس الملقوطة
وإن كانت خمسة أسداس، فهي في الصورة كالخمس المعتدلة، وتقدير المحطوط
إلى رأي المجتهد، ولو بادر المقطوع فقطع الست، قال البغوي: يعزر ولا شئ
عليه، ولو قيل: يلزمه شئ لزيادة الصورة، لم يبعد، ولو قطع صاحب الست
أصبعا لمعتدل، قطعت أصبعه، وأخذ ما بين خمس دية اليد وسدسها، وهو بعير
وثلثا بعير، لأن خمسها عشرة، وسدسها ثمانية وثلث، وقياس ما سبق أن يقال:
يحط من قدر التفاوت شئ، ولو قطع معتدل اليد اليد الموصوفة، قطعت يده، وأخذ
منه شئ للزيادة المشاهدة، كذا حكاه الامام وغيره، ولو قطع أصبعا، لم يقتص،
75

لما فيه من استيفاء خمس سدس، ولكن يأخذ منه سدس دية اليد، ولو قطع
إصبعين، قطع منه أصبع، وأخذ ما بين ثلث دية اليد وخمسها، وهو ستة أبعرة
وثلثان، ولو قطع ثلاثا، قطع منه إصبعان وأخذ ما بين نصف دية لا يد وخمسيها،
وهو خمسة أبعرة، ولو بادر المجني عليه، وقطع بأصبعه المقطوعة أصبعا منها، قال
الامام: هو كمن قطع يدا شلاء فابتدر المجني عليه، وقطع بها الصحيحة.
المسألة السابعة: إذا قطع صاحب الست يد معتدل، وقال أهل البصر: نعلم
أن واحدة من الست زائدة، وهي ملتبسة، فليس للمجني عليه قطع الخمس، لان
الزائدة لا تقطع بالأصلية عند اختلاف المحل، ولا يؤمن أن تكون الزائدة هي إحدى
المستوفيات، ولو بادر وقطع خمسا، عزر، ولا شئ له، ولا شئ عليه، لاحتمال
أن المقطوعات أصليات، وإن بادر وقطع الكل، فعليه حكومة للزائدة، وإن قال
أهل البصر: لا ندري أهي كلها أصليات، أم خمس منها أصلية، وواحدة زائدة،
فلا قصاص أيضا، فلو قطع جميعها أو خمسا منها، عزر، ولا شئ له، ولا عليه،
لأنه إن قطع الكل، احتمل أنهن أصليات، وإن قطع خمسا احتمل أن الباقية زائدة.
الثامنة: في الزائدة من الأنامل قد أجرى الله سبحانه وتعالى العادة أن كل
أصبع سوى الابهام منقسمة ثلاثة أقسام وهي الأنامل الثلاث، فلو انقسمت على
خلاف العادة أصبع بأربع أنامل، فلها حالان، أحدهما: أن تكون الأربع أصلية عند
أهل البصر، وقد يستدل عليه بأن تكون غير مفرطة الطول، وتناسب باقي الأصابع،
فإذا قطع صاحبها أنملة لمعتدل، قطعت منه أنملة، لكن لا يتم بها حق المجني
عليه، لأن أنملته ثلث الإصبع، وهذه ربعها، فيطالب بما بين الربع والثلث من دية
أصبع، وهو خمس أسداس بعير، وإن قطع أنملتين، قطعنا منه أنملتين، وطالبناه
بما بين نصف دية الإصبع وثلثها، وهو بعير وثلثا بعير، وإن قطع أصبع معتدل
بتمامها، فهل يقطع أصبعه بها؟ وجهان، أحدهما: نعم، وبه قطع الغزالي
والروياني، وصححه الامام، وأصحهما عند البغوي: المنع، فعلى هذا يقطع
ثلاث أنامل هي ثلاثة أرباع حصته، ويطالب بالتفاوت بين جميع الدية، وثلاثة
أرباعها، وهو بعيران ونصف، ولو بادر المجني عليه، وقطع أصبعه، عزر ولا شئ
عليه، ولو قطع معتدل أنملة من له هذه الإصبع، لم تقطع أنملته، لكن يؤخذ منه
76

ربع دية أصبع، ولو قطع أنملتين، فللمجني عليه أن يقطع منه أنملة ويأخذ بعيرا
وثلثين، ولو قطع ثلاث أنامل، فله أن يقطع أنملتين ويأخذ خمسة أسداس بعير،
ولو قطع الإصبع بتمامها، قطعت أصبعه، ولم يلزمه شئ آخر، هكذا ذكره الامام
والروياني.
الحال الثاني: أن تكون الأنملة العليا زائدة خارجة عن أصل الخلقة، فإن
قطع صاحبها أصبع معتدل، لم يقطع أصبعه، لما فيها من الزيادة، وتؤخذ منه
الدية، ولو قطعها معتدل، قطعت أصبعه، وأخذت منه حكومة للزائدة، وتختلف
الحكومة بكون الزائدة عاملة أم لا، ولو قطع المعتدل أنملة منها، فلا قصاص،
وعليه الحكومة، ولو قطع أنملتين، قطع منه أنملة وأخذت الحكومة للزائدة، ولو
قطع ثلاثا، قطعت منه أنملتان وأخذت الحكومة.
فرع لو كان لأنملة طرفان، أحدهما أصلي عامل، والآخر زائد غير
عامل، ففي الأصل القصاص والأرش الكامل، وفي الآخر الحكومة، ولو قطع
صاحبها أنملة معتدل، قطع منه الأصلي إن أمكن إفراده، وإن كانا عاملين مشتدين،
قال الامام: القول فيهما قريب من القول في الأصابع الست الأصليات، وإن قطع
المعتدل أحد الطرفين، لم تقطع أنملته، وإن قطعهما معا، قطعت أنملته، ولزمه
لزيادة الخلقة شئ، وإن قطع صاحبها أنملة معتدل، لم يقطع طرفا أنملته، بل
يختار المقطوع أحدهما فيقطعه، ويأخذ معه نصف الأرش، ويحط منه شئ، هذا
كله إذا نبت طرفا تلك الأنملة على رأس الأنملة الوسطى، فلو لقي رأسها عظم، ثم
انشعب الطرفان من ذلك العظم، فإن لم يكن مفصل بين العظم وبينها، فليس ذلك
موضع القصاص، وإن كان لكل طرف مفصل هناك، فالعظم الحائل بين الشعبتين
والأنملة الوسطى أنملة أخرى، وهي أصبع لها أربع أنامل، والعليا منها ذات
طرفين، ولو كان على الساعد كفان، أو على الساق قدمان، فحكمه كالأنملتين على
رأس أصبع.
المسألة التاسعة: لو كانت أصبع ليس لها إلا أنملتان، وهي تناسب سائر
77

الأصابع في الطول، فللامام فيه احتمالان، أحدهما: ليست أصبعا تامة، وإنما
هي أنملتان، وأصحهما: أنها أصبع تامة، لكنها ذات قسمين، كما لو كان لها أربع
أنامل كانت أصبعا ذات أربع أقسام، ولو وجدت أصبع لا مفصل لها، قال الامام:
الأرجح عندي نقصان شئ من الدية، لأن الانثناء إذا زال، سقط معظم منافع
الإصبع، وقد ينجر هذا إلى أن لا تقطع أصبع السليم بها.
العاشرة: سليم اليد قطع الأنملة الوسطى من فاقد العليا، فلا سبيل إلى
الاقتصاص مع بقاء العليا، فإن سقطت بآفة أو جناية، اقتص من الوسطى، وللقفال
احتمال أنه لا يقتص، ومثله لو قطع السليم كفا لا أصابع لها، فحكمه ما ذكرنا،
فلو بادر المجني عليه فقطع الوسطى مع العليا، فقد تعدى، وعليه أرش العليا، ولو
أراد طلب أرش الوسطى في الحال للحيلولة، فليس له ذلك على الصحيح إلا أن
يعفو، ولو كانت العليا مستحقة القطع قصاصا، فليس له أيضا طلب أرش الوسطى
من غير عفو على الأصح، وقيل: له، لأن استيفاء القصاص مرتقب، ومن صور
استحقاق العليا بالقصاص ما نص عليه في المختصر وهو أن تقطع الأنملة العليا
من رجل، والوسطى من آخر فاقد للعليا، فلصاحب العليا القصاص فيها أولا، وإن
كان قطعه متأخرا، فإن طلب القصاص، اقتص، ويمكن مستحق الوسطى من
استيفائها، قال أبو بكر الطوسي: ولو اتفقا على وضع الحديدة على مفصل الوسطى
واستوفيا الأنملتين بقطعة واحدة، جاز، وقد هونا الامر عليه، وإن لم يطلب صاحب
العليا القصاص، صبر صاحب الوسطى أو عفا.
فرع قطع الأنملة العليا لرجل، والعليا والوسطى لغيره، نظر، إن سبق
قطع الأنملة، فلصاحبها الاقتصاص فيها، ويتخير الآخر بين أن تقطع الوسطى،
ويأخذ دية العليا، وبين أن يعفو ويأخذ ديتهما، ولو بادر صاحب الأنملتين
فقطعهما، كان مستوفيا لحقه، ويأخذ الآخر دية العليا من الجاني.
الفصل الرابع في وقت الاقتصاص في الجروح المستحب في قصاص
الجروح والأطراف التأخير إلى الاندمال، فلو طلب المستحق الاقتصاص في
78

الحال، مكن منه على المذهب والمنصوص، لأن القصاص في تلك الجراحة ثابت
وإن سرت إلى النفس، أو شاركه غيره في الجرح، وأما المال، فلا يتقدر، فقد
تعود الديتان في اليدين والرجلين إلى واحدة بالسراية إلى النفس، وقد يشاركه
جماعة، فيقل واجبه، وقيل: في التعجيل في المال والقصاص قولان، فإن قلنا:
يعجل المال، ففي قدر المعجل وجهان، أحدهما: تعجل أروش الجراحات وديات
الأطراف وإن كثرت، فإن حصلت سراية، استرد، والثاني: لا يعجل إلا دية
نفس، لاحتمال السراية.
قلت: الثاني الأصح. والله أعلم.
باب اختلاف الجاني ومستحق الدم
فيه مسائل:
إحداها: قد ملفوفا في ثوب نصفين وقال: كان ميتا، وقال الولي: كان حيا،
فأيهما يصدق؟ قولان، أظهرهما: الولي، وقيل: يفرق بين أن يكون ملفوفا
على هيئة التكفين، أو في ثياب الاحياء، قال الامام: وهذا لا أصل له، ويجري
القولان فيما لو هدم عليه بيتا وادعى أنه كان ميتا، وأنكر الولي، وسواء قلنا:
المصدق الولي، أو الجاني، فللولي أن يقيم بينة بحياته ويعمل بها، وللشهود أن
يشهدوا بالحياة إذا كانوا رأوه يتلفف في الثوب، ويدخل البيت، وإن لم يتيقنوا حياته
حالة القد والانهدام استصحابا لما كان، ولكن لا يجوز أن يقتصروا على أنهم رأوه
يدخل البيت ويتلفف في الثوب، ذكره البغوي وغيره.
قلت: وإذا صدقنا الولي بلا بينة، فالواجب الدية دون القصاص، ذكره
المحاملي والبغوي، وقال المتولي: هو على الخلاف في استحقاق القود
بالقسامة. والله أعلم.
79

الثانية: قتل شخصا، وادعى رقه، وقال قريبه: كان حرا، فالنص أن القول
قول القريب، ونص أنه لو ادعى رق المقذوف، فقيل بظاهر النصين، والأصح أن
فيهما قولين، أظهرهما: تصديق القريب، لأن الغالب الثالثة: قطع طرفه، وادعى والظاهر الحرية، ولهذا
حكمنا بحرية اللقيط المجهول.
الثالثة: قطع طرفه، نقصه بشلل في اليد أو الرجل أو الذكر، أو فقد
أصبع أو بخرس أو عمى، وأنكره المجني عليه، ففيه نصوص وطرق مختصرها أربعة
أقوال، أحدها: يصدق المجني عليه، والثاني: الجاني، والثالث: يصدق
المجني عليه إلا في العضو الظاهر عند إنكار أصل السلامة، لأنه يمكن إقامة البينة،
والمراد بالعضو الباطن ما يعتاد ستره مروءة، وقيل: ما يجب وهو العورة، وبالظاهر
ما سواه، وإذا صدقنا الجاني، احتاج المجني عليه إلى بينة بالسلامة، ثم الأصح أنه
يكفي قول الشهود: كان صحيحا، ولا يشترط تعرضهم لوقت الجناية، وقيل: إن
شهدوا بالسلامة عند الجناية، كفى ولا يحتاج معها إلى يمين، وإن شهدوا أنه كان
سليما، احتاج معها إلى اليمين لجواز حدوث النقص، ثم تجوز الشهادة بسلامة
العين إذا رأوه يتبع بصره الشئ زمنا طويلا ويتوقى المهالك، ولا يجوز بأن يروه يتبعه
بصره زمنا يسيرا، لأنه قد يوجد من الأعمى، وكذلك تجوز الشهادة بسلامة اليد
والذكر برؤية الانقباض والانبساط.
فرع إذا اختلفا في أصل العضو، فقيل بإطلاق الخلاف في أن المصدق
أيهما؟ وأنكر الامام هذا، وقال: من أنكر أصل العضو، أنكر الجناية عليه، فيقطع
بتصديقه، وإنما الخلاف إذا اختلفا في صحته، ومنه ما إذا قطع كفه، واختلفا في
نقص أصبع، وليس منه ما إذا ادعى المقطوع قطع الذكر والأنثيين، وقال الجاني:
لم أقطع إلا أحدهما.
80

الرابعة: قطع يديه ورجليه ومات، فقال الجاني: مات بالسراية، فعلي
دية، وقال الولي: بل مات بعد الاندمال، فعليك ديتان، نظر، إن لم يمكن
الاندمال في تلك المدة لقصرها كيوم ويومين، فالقول قول الجاني بلا يمين،
وقيل: بيمين، قاله الشيخ أبو حامد، لاحتمال الموت بعارض، كحية وسم مذفف،
والصحيح الأول، لأن الاختلاف في الاندمال فقط، فلا ينظر إلى غيره، وإن أمكن
الاندمال في تلك المدة، ففيه أوجه، أصحها: أن القول قول الولي بيمينه، وبهذا
قطع الأكثرون، والثاني: إن مضت مدة طويلة لا يمكن أن تبقى الجراحة فيها غير
مندملة، صدق الولي بلا يمين، وإلا فيمين، قطع به ابن الصباغ والروياني،
والثالث: إن كان احتمال الاندمال مع إمكانه بعيدا، صدق الجاني بيمينه، وإلا
فالولي، وادعى الامام اتفاق الأصحاب عليه، وليس كما ادعى، ولو اختلفا في
مضي زمن الاندمال، صدق الجاني، لأن الأصل أنه لم يمض. ولو قال الجاني:
مات بالسراية، أو قتلته أنا قبل الاندمال، وقال الولي: بل مات بسبب آخر، بأن
قال: قتل نفسه، أو قتله آخر، أو شرب سما موحيا، فأيهما يصدق؟ وجهان،
أصحهما: الولي، لأن الأصل بقاء الديتين بالجنايتين، والأصل عدم السبب
الآخر، ولو اقتصر الولي على أنه مات بسبب آخر ولم يعينه، قال الصيدلاني: لا
يلتفت إلى قوله إن قصر الزمان ولم يمكن فيه الاندمال، فإن أمكن، فإن صدقناه
بيمينه ولم نحوجه إلى بينة، قبل قوله، وحلف أنه مات بسبب آخر، وإن لم نصدقه
وأحوجناه إلى البينة، فلا بد من التعيين لتصور إقامة البينة، قال الامام: ولا يبعد
طرد الوجهين، وإن لم يمكن الاندمال، ولو اتفقا على أن الجاني قتله، لكن قال:
قتلته قبل الاندمال، فعلى دية، وقال الولي: بل بعده، فعليك ثلاث ديات، والزمان
محتمل للاندمال، صدق الولي في بقاء الديتين، والجاني في نفي الثالثة، ويجئ
وجه أنه يصدق الجاني مطلقا.
فرع لو قطع إحدى يديه ومات، فقال الجاني: مات بسبب آخر، فعلي
نصف الدية، وقال الولي: مات بالسراية، فعليك دية، فأيهما يصدق؟ وجهان،
أصحهما: الولي، ولو قال الجاني: مات بعد الاندمال فعلي نصف دية، وقال
الولي: مات بالسراية، والزمن محتمل للاندمال، فالمصدق الجاني على الأصح،
ولو اختلفا في مضي زمن الامكان، فالمصدق الولي، لأن الأصل عدم المضي، ولو
81

قتله الجاني بعد القطع، وقال: قتلته قبل الاندمال، فعلي دية، وقال الولي:
بعده، فعليك دية ونصف، فالمصدق الجاني.
فرع جرحه بقطع يد أو غيره، فمات، فقال الجاني: حز آخر رقبته، فليس
علي قصاص النفس، وقال الولي: بل مات بسراية جرحك، فأيهما يصدق؟
وجهان، أصحهما: الولي، وبه قطع الداركي. ولو قال الولي: مات بالسراية،
وقال الجاني: مات بعد الاندمال، قال الامام: إن طالت المدة، وكان الظاهر
الاندمال، صدق الجاني بيمينه، وإن قصرت المدة، وبعد احتمال الاندمال،
فالمصدق الولي، وقيل: في المصدق قولان مطلقا متى كانت المدة محتملة، وإن
لم تحتمل المدة الاندمال، صدق الولي بلا يمين، وإن لم تحتمل بقاء الجرح،
صدق الجاني بلا يمين.
فرع حيث صدقنا مدعي الاندمال، فأقام الآخر بينة بأن المجروح لم يزل
متألما من الجراحة حتى مات، رجعنا إلى تصديقه.
الخامسة: أوضحه موضحتين، ثم رفع الحاجز بينهما وقال: رفعته قبل
الاندمال، فليس علي إلا أرش واحد، وقال المجني عليه: بل بعده، فعليك أرش
ثلاث موضحات، قال الأصحاب: إن قصر الزمان، صدق الجاني بيمينه، وإن
طال، صدق المجني عليه، وإذا حلف المجني عليه، ثبت الأرشان، ولا يثبت
الثالث على الأصح، ولو وجدنا الحاجز مرتفعا، وقال الجاني: رفعته أنا، أو
ارتفع بالسراية، وقال المجني عليه: بل رفعه آخر، أو رفعته أنا، فالظاهر تصديق
المجني عليه، ولو كان الموجود موضحة واحدة، فقال الجاني: هكذا أوضحت،
وقال المجني عليه: بل أوضحت موضحتين، وأنا رفعت الحاجز بينهما، صدق
الجاني.
قلت: باب الاختلاف واسع، وإنما أشار هنا إلى مسائل منه، وباقيها مفرق
82

في مواضعه، ومنها: لو قطع أصبعه، فداوى جرحه وسقطت الكف، فقال
الجاني: تآكل بالدواء، وقال المجني عليه: بل تآكل بسبب القطع، قال المتولي:
نسأل أهل الخبرة، فإن قالوا: هذا الدواء يأكل اللحم الحي والميت، صدق
الجاني، وإن قالوا: لا يأكل الحي، صدق المجني عليه، وإن اشتبه الحال،
صدق المجني عليه، لأنه أعرف به، ولا يتداوى في العادة بما يأكل. والله أعلم.
باب استيفاء القصاص
فيه أطراف:
الأول: فيمن له ولاية الاستيفاء، أما القصاص، فيستحقه جميع الورثة على
فرائض الله تعالى، وفي وجه تستحقه العصبة خاصة، وفي وجه يستحقه الوارثون
بالنسب دون السبب، حكاهما ابن الصباغ، وهما شاذان، والصحيح الأول وبه قطع
الجمهور، ولو قيل: من ليس له وارث خاص، فهل للسلطان أن يقتص من
قاتله، أم يتعين، أخذ الدية؟ فيه قولان سبقا في كتاب اللقيط، وإن خلف بنتا، أو
جدة، أو أخا لام، فإن قلنا: للسلطان الاستيفاء إذا لم يكن وارث، استوفاه مع
صاحب الفرض، وإلا فالرجوع إلى الدية.
فرع لو كان في الورثة غائب، أو صبي، أو مجنون، انتظر حضور الغائب
أو إذنه، وبلوغ الصبي، وإفاقة المجنون، وليس للآخرين الانفراد بالاستيفاء.
فرع إذا انفرد صبي، أو مجنون باستحقاق القصاص، لم يستوفه وليه
سواء فيه قصاص النفس والطرف، وأما أخذ الولي له الدية، وجواز رد المستحق
لها إذا كمل واقتصاصه، فقد ذكرناه في كتابي الحجر واللقيط، ويحبس القاتل إلى
أن يبلغ الصبي ويفيق المجنون، ولا يخلى بالكفيل، فقد يهرب، ويفوت الحق،
83

وكذلك يحبس إلى أن يقدم الغائب، كما لو وجد الحاكم مال ميت مغصوبا،
والوارث غائب، فإنه يأخذه حفظا لحق الميت، وذكر ابن الصباغ أنه لا يحبس في
قصاص الطرف إلى قدوم الغائب، لأن الحاكم لا ولاية له على الغائب المكلف،
كما لا يأخذ ماله المغصوب، وفي كلام الامام وغيره ما ينازع فيه ويشعر بأنه يأخذ مال
الغائب ويحفظه له، وأنه يحبس لقصاص الطرف، وفي أمالي السرخسي أن الشيخ
أبا علي قال: لا يحبس القاتل، لأنه عقوبة زائدة، وحمل الحبس في كلام الشافعي
رحمه الله على التوقف للانتظار، والصحيح الأول، وبه قطع الجماهير قال
الأصحاب: وحبسه أهون عليه من تعجيل القتل، ولا طريق إلى حفظ الحق سواه.
فصل إذا كان القصاص لجماعة حضور كاملين، فليس لهم أن يجتمعوا
على مباشرة قتله، لأن فيه تعذيبا، ولكن يتفقون على واحد يستوفيه، أو يوكلون
أجنبيا، فإن طلب كل واحد أن يستوفيه بنفسه، أقرع، فمن خرجت قرعته، تولاه
بإذن الباقين، فلو أخروا لم يكن له الاستيفاء بخلاف ما إذا تنازعوا في التزويج،
فخرجت قرعة واحد، فإنه يزوج، ولا يحتاج إلى إذن الباقين، لأن القصاص مبني
على الاسقاط ولجميعهم ولبعضهم تأخيره كإسقاطه، والنكاح لا يجوز تأخيره، هذا
هو الصحيح، وعن القفال تفريعا أنه لا يفرع بينهم إلا بإذنهم بخلاف القرعة في
القسمة وبين الأولياء، وحكى الامام وغيره وجها أنه لا حاجة بعد خروج القرعة إلى
إذن الباقين، لتظهر فائدة القرعة، وإلا فاتفاقهم على واحد مغن عن القرعة، ولا
شك أنه لو منع بعضهم من خرجت له القرعة من الاستيفاء، لم يكن له الاستيفاء،
وهل يدخل في القرعة العاجز عن الاستيفاء، كالشيخ والمرأة؟ وجهان، وقيل:
قولان، أصحهما عند الأكثرين: لا، لأنه ليس أهلا للاستيفاء، والقرعة إنما
تكون بين المستوين في الأهلية، والثاني: نعم، فإن خرجت القرعة له، وكل،
84

فإن قلنا: لا يدخل، فخرجت القرعة لقادر، فعجز، أعيدت بين الباقين، وإن
قلنا: يدخل، لا تعاد، لكن يستنيب، هذا كله إذا كان المستحق القصاص في
النفس لحز الرقبة، فأما قصاص الطرف، وقصاص النفس المستحق بقطع الطرف
ونحوه، فسيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل من عليه قصاص إذا قتله أجنبي، لزمه القصاص كما سبق، ويكون
هذا القصاص لورثته، لا لمن كان يستحق القصاص عليه، قال البغوي: فلو عفا
ورثته عن القصاص على الدية، فالدية للورثة على الصحيح، وقيل: لمن له
القصاص، كما إذا قتل المرهون تكون قيمته مرهونة، وهو ضعيف، وأما إذا بادر
أحد ابني المقتول الحائزين، فقتل الجاني بغير إذن الآخر، فينظر أوقع ذلك قبل عفو
أخيه أم بعده؟ الحالة الأولى: إذا قتله قبل العفو، ففي وجوب القصاص عليه،
قولان، أظهرهما: لا يجب، لأن له حقا في قتله، فصار شبهة، والقولان فيما إذا
قتله عالما بالتحريم، فإن جهل، فلا قصاص بلا خلاف، الحالة الثانية: أن يقتله
بعد العفو، فإن علم العفو، وحكم الحاكم بسقوط القصاص عن الجاني، لزمه
القصاص قطعا، وإن لم يحكم به، لزمه أيضا على المذهب، وقيل: لا، لشبهة
اختلاف العلماء، وإن جهله، فإن قلنا: لا قصاص إذا علمه، فهنا أولى، وإلا
فوجهان، ولو قتله العافي، أو عفوا، ثم قتله أحدهما، لزمه القصاص قطعا.
التفريع على الحالة الأولى، فإذا أوجبنا القصاص على الابن المبادر، وجبت دية
الأب في تركة الجاني، وكانت بينهما نصفين، وإن عفا مجانا، أو أطلق العفو،
وقلنا: العفو المطلق لا يوجب الدية، أخذها الاخوان، وإن عفا على الدية، أو
أطلق وجعلنا المطلق موجبا للدية، فللأخ الذي لم يقتل نصف الدية في تركة
الجاني، وللمبادر النصف وعليه دية الجاني بتمامها، ويقع الكلام في التقاص، وقد
يصير النصف بالنصف قصاصا، ويأخذ وارث الجاني النصف الآخر، وقد يختلف
85

القدر بأن يكون المقتول أولا رجلا، والجاني امرأة، وإذا قلنا بالأظهر، ولم نوجب
القصاص على المبادر، فلأخيه نصف الدية، وممن يأخذها؟ قولان، أحدهما:
من أخيه المبادر، وأظهرهما: من تركة الجاني، فإذا قلنا: يأخذ من أخيه، فأبرأ
أخاه، برئ، وإن أبرأ وارث الجاني، لم يصح، لأنه لا حق له عليه، ولو أبرأ
وارث الجاني المبادر عن الدية، لم يسقط النصف الثابت عليه لأخيه، وأما النصف
الثابت للوارث، فيبنى على التقاص في الدينين، هل يحصل بنفس الوجوب؟ إن
قلنا: نعم، فالعفو لغو، وبمجرد وجوبهما، سقطا، وإن قلنا: لا يحصل حتى
يتراضيا، صح الابراء، وسقط ما ثبت للوارث على المبادر، ويبقى للمبادر النصف
في تركة الجاني، وإن قلنا: حق الذي لم يقتل في تركة الجاني لا على أخيه،
فلوارث الجاني على المبادر دية تامة، وللمبادر نصف الدية في تركة الجاني، فيقع
النصف تقاصا، ويأخذ وارث الجاني منه النصف الآخر، فلو أبرأ الذي لم يقتل
أخاه، فإبراؤه لغو إذ لا شئ له عليه، ولو أبرأ وارث الجاني، صح، ولو أسقط
وارث الجاني الدية عن المبادر، فإن قلنا: يقع التقاص بنفس الوجوب، فقد سقط
النصف بالنصف، ويؤثر الاسقاط في النصف الآخر، فلا يبقى لأحدهما على الآخر
شئ، وإن قلنا: لا يقع التقاص إلا بالتراضي، سقط حق الوارث بإسقاطه، وبقي
للمبادر نصف الدية في تركة الجاني، وإذا كان المبادر جاهلا بالتحريم، وجبت
الدية بقتله، وهل يكون في ماله لقصده القتل، أم على عاقلته، لأن الجهل
كالخطأ؟ قولان، فإن قلنا: في ماله، فالابن الذي لم يقتل يأخذ نصف الدية من
أخيه، أو من تركة الجاني، فيه القولان، وإن قلنا: على العاقلة، أخذ الابنان
الدية من تركة الجاني في الحال، ووارث الجاني يأخذ ديته من عاقلة المبادر، كما
تؤخذ الدية من العواقل، هذا تفريع الحالة الأولى، أما إذا قتله بعد عفو أخيه، فإن
أوجبنا القصاص، واقتص وارث الجاني، فلورثة المقتص منه نصف الدية في تركة
الجاني، وأما العافي، فلا شئ له إن عفا مجانا، وإن عفا على نصف الدية، عاد
الخلاف في أنه ممن يأخذه، وإن لم يقتص منه الوارث، بل عفا، نظر في حال
العفوين وما يقتضيانه من وجوب المال وعدمه، وإن لم نوجب القصاص، فإن كان
الآخر عفا على الدية، أو مطلقا، وقلنا: المطلق يقتضي الدية، فللابنين دية
أبيهما، وعلى المبادر دية الجاني، فيقع ما له وما عليه في التقاص، ويأخذ الآخر
86

النصف من أخيه، أو من تركة الجاني على الخلاف، وإن عفا مجانا أو مطلقا وقلنا:
لا يوجب المال، فلا شئ للعافي، وللمبادر نصف دية أبيه، وعليه جميع دية
الجاني، وما ذكرناه في المسألة من صور مجئ الخلاف في التقاص كذا أطلقه
الأصحاب وفيه نظر، لأن شرط التقاص استواء الديتين في الجنس والصفة حتى لا
يجري إذا كان أحدهما مؤجلا والآخر حالا واختلف أجلهما، وهنا أحد الديتين في
ذمة الابن المبادر لورثة الجاني، والآخر يتعلق بتركة الجاني ولا يثبت في ذمة أحد،
وهذا الاختلاف أشد من اختلاف قدر الاجل.
فصل الواحد إذا قتل جماعة، قتل بأحدهم وللباقين الديات، وكذا لو
قطع أطراف جماعة كما سبق، وفي البيان وجه أنه يقتل بالجميع وليس بشئ، فلو
رضي الأولياء بأن يقتل بهم جميعا ويرجع كل واحد إلى ما يبقى له من الدية عند
توزيع القصاص عليهم، لم يجابوا إليه بلا خلاف، قاله الامام، ثم ينظر إن قتلهم
مرتبا، قتل بالأول، فإن عفا ولي الأول، قتل بالثاني وهكذا يراعى الترتيب، وإن لم
يعف ولي الأول ولا اقتص، فلا اعتراض عليه، وليس لولي الثاني المبادرة بقتله،
فلو فعل، عزر ولا غرم، بل يقع قتله عن القصاص المستحق له، وينتقل الأول إلى
الدية، وفي وجه يغرم للأول دية قتله، ويأخذ من تركة الجاني دية قتيل نفسه، وليس
بشئ، ولو كان ولي القتيل الأول غائبا أو صبيا أو مجنونا، حبس القاتل حتى يحضر
الولي، أو تكمل حاله، وحكى الفوراني قولا عن رواية حرملة أن للثاني
الاقتصاص، ويصير الحضور والكمال مرجحا، والمشهور الأول، وأما إذا قتلهم
معا، بأن هدم عليهم جدارا أو جرحهم وماتوا معا، فيقرع بينهم، فمن خرجت
قرعته.، قتل به، فإن خرجت لواحد، فعفا وليه، أعيدت القرعة بين الباقين، وكذا
لو عفا، بأن خرجت قرعته، وهذا الاقراع واجب على مقتضى كلام الجمهور،
وحكى أبو الفياض وغيره أنه مستحب وللامام أن يقتله بمن شاء منهم، قال
الروياني: وهو الأصح، وعليه جرى ابن كج وغيره، وحكوا عن نص الشافعي
87

رحمه الله أنه قال: أحببت أن يقرع بينهم، ولو رضوا بتقديم واحد بلا قرعة، جاز،
فإن بدا لهم، ردوا إلى القرعة، ذكره الامام، ولو كان ولي بعض القتلى غائبا أو
صبيا أو مجنونا، فالمذهب الانتظار إذا أوجبنا الاقراع، وفي الوسيط عن رواية
حرملة أن للحاضر والكامل الاقتصاص، وإذا أشكل الحال، فلم يدر أقتلهم دفعة
أو مرتبا، أقرع بينهم، فإن أقر بسبق قتل بعضهم، اقتص منه وليه، ولولي غيره
تحليفه إن كذبه.
فرع إذا قتل مرتبا، فجاء ولي الثاني يطلب القصاص، ولم يجئ الأول،
فعن نص الشافعي رضي الله عنه قال: أحببت أن يبعث الامام إلى ولي الأول،
ليعرف أهو طالب أو عاف، فإن لم يبعث وقتله بالثاني، كرهته ولا شئ عليه، لان
لكلهم عليه حق القود، ويشبه أن تكون الكراهة كراهة تحريم، ويؤيده أنه قال في
الام: فقد أساء.
فرع قتل جماعة جماعة، فالقاتلون كشخص، فإن قتلوهم مرتبا، قتلوا
بالأول، وإلا فيقرع، فمن خرجت قرعته، قتلوا به، وللباقين الديات في تركات
القاتلين.
فرع إذا قتل عبد جماعة أحرارا أو عبيدا، فوجهان، أحدهما: يقتل
بجميعهم، لأن في تخصيص بعضهم تضييع حق الآخرين، ولان العبد لو قتلهم
خطأ، تضاربوا في رقبته، فكذا في قصاصه بخلاف الحر، وأصحهما عند
الأكثرين: لا يقتل بجميعهم، بل يكون كالحر المعسر، يقتل بواحد، وللباقين
88

الديات في ذمته يلقى الله تعالى بها، فعلى هذا إن قتلهم مرتبا، قتل بالأول، وإن
قتلهم معا، أقرع، وقتل بمن خرجت قرعته، ولو عفا ولي الأول، أو ولي من
خرجت قرعته على مال، تعلق المال برقبته، وللثاني قتله وإن بطل حق الأول، لان
تعلق المال لا يمنع القصاص، كجناية المرهون، وإن عفا الثاني أيضا على مال،
تعلق المالان برقبته ولا يرجح بالتقدم، كما لو أتلف أموالا لجماعة في أزمنة.
فرع إذا تمالا على الجاني أولياء القتيل، فقتلوه جميعا، فثلاثة أوجه،
أصحها: يقع القتل موزعا على جميعهم، ويرجع كل واحد بقسط ما بقي من ديته،
والثاني: يقرع ويجعل القتل واقعا عمن خرجت قرعته، وللباقين الديات، والثالث
قاله الحليمي: يكتفى به عن جميعهم، ولا رجوع إلى شئ من الدية.
فرع قتل رجلا، وقطع طرف آخر، وحضر المستحقان، يقطع طرفه، ثم
يقتل، سواء تقدم قتله، أم قطعه ليجمع بين الحقين، وإن قطع يمين زيد، ثم
أصبعا من يمين عمرو، وحضرا، قطعت يمينه لزيد ويأخذ عمرو دية الإصبع، فإن
عفا زيد، قطعت أصبعه لعمرو، وإن كان قطع الإصبع أولا، قطعت أصبعه للأول،
ويأخذ الثاني دية اليد، وإن شاء، قطع ما بقي من يد الجاني، وأخذ دية الإصبع،
وإن وقع القطعان معا، أقرع، فمن خرجت قرعته مكانه يقدم قطعه.
فصل ليس لمستحق القصاص استيفاؤه إلا بإذن الإمام أو نائبه، وعن أبي
إسحاق ومنصور التميمي أن المستحق يستقل بالاستيفاء كالأخذ بالشفعة وسائر
الحقوق، والصحيح المنصوص الأول، وسواء فيه قصاص النفس والطرف، وإذا
استقل به عزر، لكنه لا غرم عليه، ويقع عن القصاص، ولو استقل المقذوف
باستيفاء حد القذف بإذن القاذف، أو بغير إذنه، ففي الاعتداد به وجهان، فإن
قلنا: لا يعتد به، ترك حتى يبرأ ثم يحد، ولو مات منه، وجب القصاص إن جلده
بغير إذنه، وإن كان بإذنه، فلا قصاص، وفي الدية خلاف، كما لو قتله بإذنه، ثم
إذا طلب المستحق أن يستوفي القصاص بنفسه، فإن لم يره أهلا له كالشيخ والزمن
89

والمرأة، لم يجبه، وأمره أن يستنيب، وإن رآه أهلا له، فإن كان المطلوب قصاص
النفس، والطالب الولي، فوضه إليه بخلاف الجلد في القذف لا يفوض إلى
المقذوف، لأن تفويت النفس مضبوط، والجلدات يختلف موقعها، والتعزير كحد
القذف، وإن كان المطلوب قصاص الطرف، والطالب المجني عليه، فوجهان،
أحدهما: يفوضه إليه كالنفس، لأن إبانة الطرف مضبوطة، وأصحهما: المنع،
لأنه لا يؤمن أن يردد الحديدة، ويزيد في الايلام.
فرع يستحب للامام أن يحضر الاقتصاص عدلين متيقظين، ليشهدا إن
أنكر المقتص، ولا يحتاج إلى القضاء بعلمه إن كان الترافع إليه.
فرع يتفقد الامام السيف، ويقتص بصارم لا كال، فلو كان الجاني قتل
بكال، فهل يقتص بكال أم يتعين الصارم؟ وجهان، أصحهما: الأول، وإذا لم
نجوز بالكال، فبان بعد الاستيفاء كلاله، عزر المستوفي.
فرع يضبط الجاني في قصاص الطرف، لئلا يضطرب، فيؤدي إلى
استيفاء زيادة.
فرع إذا أذن للولي في ضرب الرقبة، فأصاب غيرها، واعترف بأنه
تعمد، عزر، وكذا لو ادعى الخطأ فيما لا يقع الخطأ بمثله، بأن ضرب رجله أو
وسطه، لكن لا يمنع من الاستيفاء، ولا يعزل، لأنه أهل له، وإن تعدى بفعله،
كما لو جرحه قبل الارتفاع إلى الحاكم، لا يمنع من الاستيفاء، وفيه وجه، أو قول
ضعيف: أنه يعزل، ويؤمر بالاستنابة، لأنه لا يؤمن أن يتعدى ثانيا، ولو ادعى
90

الخطأ فيما يمكن فيه الخطأ، بأن ضرب كتفه، أو رأسه مما يلي الرقبة، حلف، ولا
يعزر إذا حلف، لكن يعزل، لأن حاله يشعر بعجزه وخرقه، وحكي قول، أو وجه:
انه يعذر بالخطأ ولا يعزل، قال الامام: وهذا الوجه ينبغي أن يكون مخصوصا بما إذا
لم يتكرر الخطأ منه، ولم يظهر خرقه، فإن ظهر فليمنع بلا خلاف، قال: وعزله
على الصحيح ينبغي أن يكون مخصوصا بمن لم تعرف مهارته في ضرب الرقاب،
فأما الماهر فينبغي أن لا يعزل بخطأ اتفق له بلا خلاف.
فرع هل يمنع من الاستيفاء بالسيف المسموم، وجهان، الصحيح:
المنع، هكذا أطلقهما مطلقون، وخصهما الامام بما إذا كان تأثير السم في التقطع،
واكتفيت بتأخر عن الدفن، فإن كان يؤثر قبل الدفن، منع بلا خلاف لما فيه من هتك
الحرمة وعسر الغسل والدفن، وحيث يمنع، فلو بان بعد القطع أنه كان مسموما،
عزر، وأما في قصاص الطرف، فيمنع من المسموم بلا خلاف، فلو استوفاه
بمسموم، فمات المقتص منه، فلا قصاص، لأنه مات من مستحق وغيره، وتجب
نصف الدية، وهل تكون على المستوفي، أم على عاقلته؟ وجهان، أصحهما:
الأول، وحكى ابن كج وجها غريبا أنه يجب القصاص، قال: ولو كان السم
موحيا، وجب القصاص بلا خلاف.
فرع لينصب الامام من يقيم الحدود ويستوفي القصاص بإذن
المستحقين له، ويرزقه من خمس خمس الفئ والغنيمة المرصد للمصالح، فإن لم
يكن عنده من سهم المصالح شئ، أو كان واحتاج إليه لأهم منه، فأجرة الاقتصاص
على المقتص منه، لأنها مؤنة حق لزمه أداؤه، وقيل: على المقتص، والصحيح
المنصوص الأول، وبه قطع الجمهور، وفي أجرة الجلاء في الحدود، والقاطع في
السرقة، وجهان، أصحهما: على المجلود والسارق، لأنها تتمة الحد الواجب
عليه، والثاني: في بيت المال، ومنهم من خص الايجاب في بيت المال بما إذا لم
يكن للجاني مال، وأجرة الجلاد في القذف كأجرة الاقتصاص، وإذا قلنا: تجب في
91

بيت المال، فلم يكن فيه ما يمكن صرفه إليه، اقترض الامام على بيت المال إلى أن
يجد سعة، قال الروياني: أو يستأجر بأجرة مؤجلة، أو يسخر من يقوم به على ما
يراه، والاستئجار قريب والتسخير بعيد، وبتقدير جوازه يجوز أن يأخذ الأجرة ممن
يراه من الأغنياء ويستأجر بها، ولو قال الجاني: أنا أقتص من نفسي، ولا أؤدي
الأجرة، فهل يقبل منه؟ وجهان، قال الداركي: نعم، وأصحهما: لا، فعلى
هذا لو قتل نفسه، أو قطع طرفه بإذن المستحق، ففي الاعتداد به عن القصاص
وجهان، أحدهما: لا، كما لو جلد نفسه في الزنى بإذن الإمام، وفي القذف بإذن
المقذوف، لا يسقط الحد عنه، وكما لو قبض المبيع من نفسه بإذن المشتري، لا
يعتد به، والثاني: نعم، لحصول الزهوق، وإزالة الطرف، بخلاف الجلد فإنه قد
لا يؤلم نفسه، ويوهم الايلام، فلا يتحقق حصول المقصود، وفي البيع المقصود
إزالة يد البائع، ولم تزل، قال البغوي: ولو قطع السارق يد نفسه بإذن الإمام
اعتد به عن الحد، وهل يمكنه إذا قال: أقطع بنفسي؟ وجهان، أقربهما: نعم،
لأن الغرض التنكيل، ويحصل بذلك.
الطرف الثاني: في وقت الاقتصاص لمستحق القصاص استيفاؤه على الفور
إذا أمكن، فلو التجأ الجاني إلى الحرم، جاز استيفاؤه منه في الحرم، سواء فيه
قصاص النفس والطرف، ولو التجأ إلى المسجد الحرام، قال الامام: أو غيره من
المساجد، أخرج منه وقتل، لأن هذا تأخير يسير، وفيه صيانة للمسجد، وفيه وجه
ضعيف أنه تبسط الأنطاع، ويقتل في المسجد تعجيلا لتوفية الحق وإقامة الهيبة.
92

قلت: ولو التجأ إلى الكعبة، أو إلى ملك إنسان، أخرج قطعا. والله أعلم.
فصل لو قطع طرفه، فمات بالسراية، فسيأتي إن شاء الله تعالى أن
القصاص يستوفى بمثله، فإذا قطع طرف الجاني، فله أن يحز رقبته في الحال، وله
أن يؤخر، فإن مات بالسراية، فذاك، وإلا حز رقبته، لأنه استحق إزهاق روحه،
فإن شاء عجل، وإن شاء أخر.
فصل لا يؤخر قصاص الطرف لشدة الحر والبرد، ولا بسبب المرض وإن
كان مخطرا، وكذا لا يؤخر الجلد في القذف بخلاف قطع السرقة والجلد في حدود
الله تعالى، لأن حقوق الله تعالى مبنية على التخفيف، هكذا قطع به الغزالي
والبغوي وغيرهما، وفي جمع الجوامع للروياني أنه نص في الام على أنه
يؤخر قصاص الطرف بهذه الأسباب، ولو قطع أطراف رجل، فللمجني عليه أن
يقتص في الجميع متواليا سواء قطعها الجاني متوالية أم متفرقة، وقيل: يفرق
مطلقا، وقيل: يفرق إن فرق، ويوالي إن والى، والصحيح الأول، لأنها حقوق
واجبة في الحال.
فصل المرأة الحامل لا يقتص منها في نفس ولا طرف، ولا تحد للقذف،
ولا في حدود الله تعالى قبل الوضع، سواء الحامل من زنى أو غيره، وسواء وجبت
العقوبة قبل الحمل أم بعده، حتى إن المرتدة لو حبلت من زنى بعد الردة، لا تقتل
حتى تضع، وإذا وضعت لا تستوفى العقوبة حتى تسقي الولد اللبأ، ومال القاضي
أبو الطيب إلى أنها لا تمهل لارضاعه اللبأ، لأنه قد يعيش دونه، والصحيح الأول،
وبه قطع الجمهور، لأن الغالب أنه لا يعيش بدونه مع أنه تأخير يسير، ثم إذا أرضعته
اللبأ، فإن لم يكن هناك من يرضعه، ولا ما يعيش به الولد من لبن بهيمة وغيره،
93

فوجهان، قال ابن خيران: يقتص منها، ولا يبالي بالطفل، والصحيح الذي عليه
الجمهور: أنه يجب التأخير إلى أن توجد مرضعة أو ما يعيش به، أو ترضعه هي
حولين وتفطمه، لأنه إذا وجب تأخير العقوبة احتياطا للحمل، فوجوبه بعد وجود
الولد، وتيقن حياته أولى، فلو بادر مستحق القصاص والحالة هذه فقتلها، فمات
الطفل، فالصحيح أنه قاتل للطفل عمدا، فيلزمه قوده، كما لو حبس رجلا في بيت
ومنعه الطعام، وبهذا قطع الشيخ أبو حامد، ونقله ابن كج عن النص، وعن
الماسرجسي قال: سمعت ابن أبي هريرة يقول: عليه دية الولد، فقلت له:
أليس لو غصب طعام رجل في البادية أو كسوته، فمات جوعا أو بردا، لا ضمان
عليه، فتوقف، فلما عاد إلى الدرس قال: لا ضمان فيهما، أما إذا أمكن تربية الولد
بمراضع يتناوبن عليه، أو بلبن شاة ونحوه، ولم توجد مرضعة راتبة، فيستحب
للمستحق أن يصبر لترضعه هي لئلا يفسد خلقه ونشوؤه بالألبان المختلفة ولبن
البهيمة، فإن لم يصبر وطلب القصاص، أجيب إليه، ولو وجدت مرضعة راتبة، فله
الاقتصاص في الحال، ولو وجد مراضع وامتنعن، أجبر الحاكم من يرى منهن
بالأجرة. والجلد في القذف كالقصاص، وأما الرجم وسائر حدود الله تعالى، فلا
تستوفى وإن وجدت مرضعة، بل ترضعه هي، وإذا انقضى الارضاع لم يستوف أيضا
حتى يوجد للطفل كافل، والفرق بين الحدود والقصاص أنها على المساهلة كما
سبق.
فرع تحبس الحامل في القصاص إلى أن يمكن الاستيفاء كما ذكرنا فيما إذا
كان في المستحقين صبي، ولو كان عليها رجم، أو غيره من حدود الله تعالى، لم
تحبس على الصحيح، لأنه على التخفيف، وقيل: تحبس، كالقصاص، قال
الامام: وإطلاق هذا الوجه بعيد، والأقرب أنه مخصوص بما إذا ثبت بالبينة، فإن
ثبت بالاقرار، فلا معنى للحبس مع أنه بعرض السقوط بالرجوع.
فرع جميع ما ذكرناه إذا ثبت الحمل بإقرار المستحق، أو شهادة النسوة،
فلو ادعت الجانية الحمل، هل يمتنع عنها بمجرد دعواها؟ وجهان، قال
94

الإصطخري: لا، وقال الجمهور: نعم وهو الصحيح، قال الامام: ولا أدري
أيقول هؤلاء بالصبر إلى انقضاء مدة الحمل أم إلى ظهور المخايل، والأرجح الثاني،
فإن التأخير أربع سنين من غير ثبت بعيد، قال الغزالي: فعلى قول الإصطخري: لا
يمكن الاقتصاص من منكوحة يخالطها زوجها، وهذا إن أراد به إذا ادعت الحمل،
فهو كذلك، وإن أراد الامتناع بمجرد المخالطة والوطئ بغير دعواها، فليس كذلك،
لأن الأصل عدم الحمل.
فرع إذا قتلت الحامل على خلاف ما أمرنا به، نظر، إن بادر إليه الولي
مستقلا، أثم ووجبت غرة الجنين إن انفصل ميتا، وتكون على عاقلة الولي، وإن
انفصل حيا متألما فمات، وجبت الدية، وإن أذن له الامام في قتلها، فقتلها،
فنتكلم في ثلاثة أشياء، أحدها: الاثم وهو تبع للعلم فإن علم الولي والامام
بالحمل، أثما، وإن جهلا، فلا، وإن علم أحدهما، اختص بالاثم. الثاني:
الضمان، فإن لم ينفصل الجنين، فلا ضمان، وإن انفصل ميتا، ففيه الغرة
والكفارة، وإن انفصل حيا متألما فمات به، ففيه دية وكفارة، وإن انفصل سليما،
ثم مات، لم يجب فيه شئ. الثالث: فيمن عليه الضمان، فإن كان الامام والولي
عالمين أو جاهلين، فالصحيح المنصوص أن الضمان على الامام، لأن البحث
عليه، وهو الامر به، وقيل: على الولي، لأنه المباشر، وقيل: عليهما بالسوية،
وإن كان الامام عالما، والولي جاهلا، فإن أوجبنا الضمان إذا علما على الامام،
فهنا أولى، وإلا فوجهان، وإن كان الولي عالما والامام جاهلا، فالصحيح أن
الضمان على الولي، وقيل: على الامام لتقصيره، وحيث ضمنا الولي، فالغرة على
عاقلته، والكفارة في ماله، وحيث ضمنا الامام، فإن كان عالما ففي ماله، وإن كان
جاهلا، فعلى القولين في أن ما يجب بخطأ الامام في الاجتهاد، هل هو على عاقلته
أم في بيت المال؟ أظهرهما وهو المنصوص هنا: أنه على عاقلته، وبه قطع ابن
95

سلمة وأبو علي الطبري، وإذا قلنا: الدية والغرة في بيت المال، ففي الكفارة
وجهان، لقربها من القربات، وبعدها من التحمل، ولو باشر القتل نائب الامام،
أو جلاده دون الولي، فإن كان جاهلا، فلا ضمان عليه بحال، لأنه سيف الامام،
وإن كان عالما، فخلاف مرتب على ما إذا أذن الامام للولي وعلم الولي، وأولى بأن
لا ضمان، لأنه آلة الامام، ولهذا لا كفارة عليه إذا جرى على يده قتل بغير حق،
وهل يؤثر علم الولي مع الجلاد؟ وجهان، أصحهما: نعم، حتى إذا كانوا
عالمين، ضمنوا أثلاثا، هذا كله في ضمان الجنين، أما الام فلا يجب ضمانها،
لأنها تلفت في حد أو عقوبة عليها، قال البغوي: هذا إذا ماتت بألم الضرب، فإن
ماتت بألم الولادة، وجبت ديتها، وإن ماتت منهما، وجب نصف ديتها والمراد إذا
ضربها في الحد، فأفضى إلى الاجهاض وماتت.
فرع إذا لم يعلم الإمام الحمل فأذن للولي في القتل، ثم علم، فرجع عن
الاذن، ولم يعلم الولي رجوعه، فقتل، فعلى من الضمان؟ يبنى ذلك على ما إذا
عفا الموكل عن القصاص ولم يعلم الوكيل، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.
فرع ليس المراد مما أطلقناه من العلم بالحمل وعدمه، حقيقة العلم، بل
المراد ظن مؤكد بمخايله وبالله التوفيق.
الطرف الثالث في كيفية المماثلة: وهي مشترطة في استيفاء القصاص، فإذا
قتله قتلا موحيا بمحدد، كسيف وغيره، أو بمثقل، أو خنقه، أو غرقه في ماء، أو
ألقاه في نار، أو جوعه حتى مات، أو رماه من شاهق، فللولي أن يقتله بمثل ما قتل
به، ويستثنى عن هذه القاعدة ثلاث صور، إحداها: إذا قتله بسحر، اقتص منه
بالسيف، لأن عمل السحر حرام ولا ينضبط، الثانية: إذا قتله باللواط، وهو مما
يقتل غالبا، بأن لاط بصغير، فالصحيح أنه يقتل بالسيف كمسألة السحر، والثاني:
تدس في دبره خشبة قريبة من آلته ويقتل بها، قاله أبو إسحاق والاصطخري، قال
96

المتولي: هذا إن توقع موته بالخشبة، وإلا فالسيف، والثالث: لا يجب به
القصاص، لأنه لا يقصد به الاهلاك، فيكون القتل به خطأ، أو شبه عمد، وهو
غريب ضعيف، الثالثة: إذا أوجره خمرا حتى مات، فثلاثة أوجه، الصحيح: أنه
يقتل بالسيف، والثاني: يوجر مائعا، كخل أو ماء أو شئ مر، والثالث: لا
قصاص، لأنه لا يقصد به القتل وهو غريب ضعيف، ولو سقاه بولا، فكالخمر،
وقيل: يسقى بولا، لأنه يباح عند الضرورة بخلاف الخمر، ولو أوجره ماء
نجسا، أو جر ماء طاهرا.
فرع كما ترعى المماثلة في طريق القتل، ترعى في الكيفية والمقدار،
ففي التجويع يحبس مثل تلك المدة ويمنع الطعام، وفي الالقاء في الماء والنار يلقى
في ماء ونار مثلهما، ويترك تلك المدة، وتشد قوائمه عند الالقاء في الماء إن كان
يحسن السباحة، وفي التخنيق يخنق بمثل ما خنق مثل تلك المدة، وفي الالقاء من
الشاهق يلقى من مثله وتراعى صلابة الموضع، وفي الضرب بالمثقل يراعى الحجم
وعدد الضربات، وإذا تعذر الوقوف على قدر الحجر، أو قدر النار، أو عدد
الضربات فعن القفال أنه يقتل بالسيف، وعن بعضهم يؤخذ باليقين.
قلت: هذا الثاني أصح. والله أعلم.
فرع متى عدل المستحق من غير السيف إلى السيف، مكن منه، لأنه
أوحى وأسهل، قال البغوي: وهو الأولى، وأشار الامام إلى وجه أنه لا يعدل من
الخنق إلى السيف، والمذهب: الأول.
فرع إذا جوع الجاني مدة تجويعه، أو ألقي في النار مثل مدته، أو ضرب
بالسوط والحجر كضربه، فلم يمت، فقولان، أحدهما: يزاد في ذلك الجنس حتى
يموت، والثاني: يقتل بالسيف، وفرق جماعة فقالوا: يفعل الأهون منهما، وهذا
97

أقرب، والأول: أظهر عند البغوي، وقيل: يعدل في السوط والحجر إلى السيف،
قال الامام: ولو قتل نحيفا بضربات تقتل مثله غالبا، وعلمنا أو ظننا طنا مؤكدا أن
الجاني لا يموت بتلك الضربات لقوة جثته، فالوجه القطع بأنه لا يضرب، ثم قال:
وفيه احتمال.
فرع هذا الذي ذكرناه في الاقتصاص بالقتل الموحي، فأما غير الموحي
من القتل، كالجروح وقطع الأطراف إذا سرت إلى النفس، فله حالان،
أحدهما: أن تكون الجراحة بحيث يقتص فيها لو وقفت، كالموضحة وقطع الكف،
فللمستحق أن يحز رقبته، وله أن يوضحه أو يقطع كفه، ثم إن شاء حز رقبته في الحال، وليس
للجاني أن يقول: أمهلوني مدة بقاء المجني عليه بعد جنايتي، لأن القصاص ثابت
في الحال، وعن ابن القطان أن له ذلك، والصحيح الأول، وإن شاء أمهله إلى
السراية كما سبق، وليس للجاني أن يقول: أريحوني بالقتل أو العفو، بل الخيرة
للمستحق، وإذا اقتص في موضحة الجناية، أو قطع العضو المقطوع مثله، لم يكن
له أن يوضح موضعا آخر، ولا أن يقطع عضوا آخر بلا خلاف، بل ليس له إلا حز
الرقبة.
الحال الثاني: أن تكون الجراحة بحيث لا يقتص فيها لو وقفت،
كالجائفة وقطع اليد من نصف الساعد، فهل يجوز استيفاء القصاص بهذا الطريق تحقيقا
للمماثلة، أم يجب العدول إلى حز الرقبة؟ قولان، أظهرهما عند الأكثرين: الأول،
فعلى هذا لو أجافه كجائفته، فلم يمت، فهل يزاد في الجوائف، وجهان،
أصحهما: لا، قال البغوي: وإذا قلنا: يجوز الاقتصاص بطريق الجائفة، فقال:
أجيفه، ثم أعفو قال: ولو أجافه ثم عفا عنه، عزر على ما فعل، ولم يجبر على
قتله، فإن مات، بان بطلان العفو، والقولان في أنه هل يستوفى القصاص
بالجائفة ونحوها؟ يجريان فيما قطع يدا شلاء، ويد القاطع صحيحة، أو ساعدا
ممن لا كف له، والقاطع سليم، هل يستوفى القصاص بقطع اليد والساعد؟
فرع المماثلة مرعية في قصاص
98

الطرف، كما هي مرعية في قصاص النفس بشرط إمكان رعايتها، فلو أبان طرفا من أطرافه بمثقل، لم يقتص إلا
بالسيف، ولو أوضح رأسه بالسيف، لم يوضح بالسيف، بل يوضح بحديدة
خفيفة، فإن كان الطريق موثوقا به مضبوطا، قوبل بمثله، كفقء العين بالإصبع.
فرع قطعه رجل من الكوع، ثم قطع آخر ساعده من المرفق قبل اندمال
القطع الأول، فمات بالسراية، فالقصاص عليهما، وطريق استيفائه من الأول أن
تقطع يده من الكوع، فإن لم يمت، حزت رقبته، وأما الثاني، فإن كان له ساعد بلا
كف، اقتص منه بقطع مرفقه، ثم يقتل، وإن كانت يده سليمة، فهل تقطع من
المرفق ثم تحز رقبته، أم يقتصر على الحز؟ قولان، ويقال: وجهان، أظهرهما:
الأول، وهو نصه في المختصر لترد الحديدة على موردها في الجناية، ولا عبرة
بزيادة الكف الهالكة بهلاك النفس، ولو أراد الولي العفو عن الأول بعد أن أقطعه من
الكوع، قال الأصحاب: لا يجوز أن يعفو على مال، لأن الواجب عليه نصف
الدية، فإنه أحد القاتلين، وقد استوفى النصف باليد التي قطعها، وإن أراد أن يعفو
عن الثاني على مال، فله نصف الدية إلا قدر أرش الساعد، فإنه لم يستوف منه إلا
الساعد.
فرع إذا اقتص من قاطع اليد، ثم مات المجني عليه بالسراية، فللولي أن
يحز رقبته، وله أن يعفو ويأخذ نصف الدية، واليد المستوفاة مقابلة بالنصف، فإن
مات الجاني، أو قتل ظلما، أو في قصاص آخر، تعين أخذ نصف الدية من تركته،
ولو قطع يدي رجل، فقطعت يداه قصاصا، ثم مات المجني عليه بالسراية، فللولي
حز رقبة الجاني، فلو عفا، فلا مال له، لأنه استوفى ما يقابل الدية، وهذه صورة
يستحق فيها القصاص ولا تستحق الدية بالعفو عليها، ولو اقتص من قاطع اليد،
فمات بالسراية، فلا شئ على المقتص، ولو ماتا جميعا بالسراية بعد الاقتصاص في
اليد، نظر، إن مات المجني عليه أولا، أو ماتا معا، فوجهان، الصحيح الذي عليه
الجمهور: أنه لا شئ على الجاني، والثاني: أن في تركته نصف الدية، نقله ابن
كج عن عامة الأصحاب، وإن مات الجاني أولا، فهل يجب في تركته نصف الدية،
أم لا شئ؟ وجهان، أصحهما: الأول، فلو كان ذلك في الموضحة، وجب تسعة
أعشار الدية ونصف عشرها، وقد أخذ بقصاص الموضحة نصف العشر.
99

فرع قطعه، فحز المقطوع رقبة الجاني، فإن مات المقطوع بالسراية،
صار قصاصا، وإن اندمل، قتل قصاصا، وفي تركة الجاني نصف الدية
لقطعه اليد، هكذا ذكره البغوي.
فرع قطع يد رجل وقتل آخر ثم مات المقطوع بالسراية فقد قتل شخصين،
نقل صاحب الشامل عن الأصحاب أنه يقتل بالمقتول دون المقطوع، لأن قصاص
المقطوع وجب بالسراية وهي متأخرة عن وجوبه للمقتول، لكن لولي المقطوع أن
يقطع يده، فإذا قتله الآخر، أخذ نصف الدية من تركته، وتوقف في تخصيص
الاقتصاص في النفس بالمقتول، ولو أنه بعد ما قطع واحدا، وقتل آخر قطعت يده
قصاصا، ومات بالسراية، فلولي المقتول الدية في تركته، وإن قطع قصاصا ثم قتل
قصاصا، ثم مات المقطوع الأول، فلوليه نصف الدية في تركة الجاني.
فصل سبق أنه لا تقطع يمين بيسار ولا عكسه، ولو وجب القصاص في
يمين واتفقا على قطع يسار بدلها، لم يكن بدلا، كما لو قتل غير القاتل برضاه
بدلا، لا يقع بدلا، ولكن لا قصاص في اليسار لشبهة البذل وتجب ديتها، ومن علم
منهما فساد هذه المصالحة، أثم بقطع اليسار، وهل يسقط قصاص اليمين بما
جرى؟ وجهان، أصحهما: نعم، ولو قال مستحق قصاص اليمين للجاني: أخرج
يمينك، فأخرج يساره، فقطعها المستحق، فللمخرج أحوال، أحدهما: أن يعلم
أن اليسار لا تجزئ عن اليمين، وأنه يخرج اليسار ويقصد بإخراجها الإباحة
للمقتص، فلا قصاص في اليسار ولا دية، نص عليه الشافعي، واتفق عليه
الأصحاب، وقالوا: قد بذلها صاحبها مجانا، وإن لم يتلفظ بإباحة قالوا: والفعل
بعد السؤال كالاذن في المسؤول، حتى لو قال لأجنبي: أخرج يدك لأقطعها، أو
قال: ملكني قطعها، فأخرجها، كان ذلك إباحة، ولو قال: ناولني متاعك لألقيه
في البحر، فناوله كان كما لو نطق بالاذن فيه، فلا يجب ضمانه إذا ألقاه في البحر،
ولو قدم طعاما إلى من استدعاه، كان كما لو قال له: كل، وحكى ابن القطان وجها
أنه يجب ضمان اليسار إذا لم يتلفظ المخرج بالاذن في القطع، وحمل نص الشافعي
100

على ما إذا أذن لفظا، والصحيح الأول، وبه قطع الأصحاب، وسواء علم القاطع
أنها اليسار، وأنها لا تجزئ أم لا، لكن إذا علم، عزر، وعن ابن سلمة احتمال
في وجوب القصاص إذا كان عالما، ولو قصد شخص قطع يد رجل ظلما، فلم
يدفعه المقصود وسكت حتى قطع، فهل يكون سكوته إهدارا؟ وجهان، الصحيح:
لا، لأنه لم يوجد منه لفظ ولا فعل، فصار كسكوته عن إتلاف ماله، والثاني:
نعم، لأنه سكوت محرم، فدل على الرضى، ولو سرى قطع اليسار إلى نفس
المخرج، ففي وجوب الدية الخلاف السابق فيما إذا قال: اقتلني، فقتله، وبني
وجوب الكفارة على المقطوع يساره على الخلاف في أن قاتل نفسه هل تلزمه
الكفارة؟ هذا حكم قطع اليسار في هذه الحالة، وأما قصاص اليمين، فيبقى كما
كان، لكن إذا سرى قطع اليسار إلى النفس، فات القصاص، فيعدل إلى دية اليد،
فلو قال القاطع: قطعت اليسار على ظن أنها تجزئ عن اليمين فوجهان، أحدهما:
لا يسقط قصاصه في اليمين، لأنه لم يسقطه ولا اعتاض عنه، وأصحهما وبه قطع
البغوي واختاره الشيخ أبو حامد والقاضي حسين: يسقط، لأنه رضي بسقوطه اكتفاء
باليسار، فعلى هذا يعدل إلى دية اليمين، لأن اليسار وقعت هدرا، وطرد الوجهان
فيما لو جاء الجاني بالدية وطلب من مستحق القطع متضرعا إليه أن يأخذها ويترك
القصاص، فأخذها، فهل يجعل الاخذ عفوا، ولو قال القاطع: علمت أن اليسار لا
تجزئ عن اليمين شرعا، لكن جعلتها عوضا عنها، اطرد الخلاف، وجعل الامام
هذه الصورة أولى بالسقوط، الحال الثاني: أن يقول: قصدت بإخراج اليسار
إيقاعها عن اليمين لظني أنها تقوم مقامها، فنسأل المقتص لم قطع؟ وله في جوابه
ألفاظ أحدها أن يقول: ظننت أنه أباحها بالاخراج، فلا قصاص عليه في اليسار،
وفيه احتمال للامام، ويبقى قصاص اليمين كما كان قطعا، الثاني: أن يقول:
علمت أنها اليسار، وأنها لا تجزئ ولا تجعل بدلا، ففي وجوب القصاص وجهان،
أصحهما: لا يجب، لكن تجب الدية، وعلى الوجهين يبقى قصاص اليمين،
الثالث: أن يقول: قطعتها عوضا عن اليمين، وظننتها تجزئ كما ظنه المخرج،
فالصحيح أنه لا قصاص في اليسار، وأنه يسقط قصاص اليمين، ولكل واحد منهما
دية ما قطعه الآخر، الرابع: أن يقول: ظننت المخرجة اليمين، فلا قصاص في
اليسار على المذهب، وفي التهذيب فيه وجهان، كما لو قتل رجلا وقال: ظننته
101

قاتل أبي فلم يكن، فإن لم نوجب القصاص، وجبت الدية علي الأصح، لأنه لم
يبذلها مجانا ويبقى قصاص اليمين على المذهب، ويجئ فيه الخلاف السابق.
الحال الثالث: أن يقول المخرج: دهشت فأخرجت اليسار، وظني أني أخرج
اليمين، فيسأل المقتص عن قصده في قطعه اليسار، وله في جوابه صيغ، إحداها:
أن يقول: ظننت أن المخرج قصد الإباحة، فقياس مثله في الحال الثاني أن لا يجب
القصاص في اليسار، والذي ذكره البغوي أنه يجب القصاص كمن قتل رجلا وقال:
ظننت أنه أذن لي في القتل، وهذا يوافق الاحتمال المذكور هناك وهو المتوجه في
الموضعين. الثانية: أن يقول: علمت أنها اليسار وأنها لا تجزئ، قال
الأصحاب: لا قصاص فيه، وفيه احتمال للامام. الرابعة: أن يقول: ظننتها
اليمين، فلا قصاص على المذهب، وفي جميع هذه الصيغ يبقى قصاص اليمين إلا
إذا قال: ظننت أن اليسار تجزئ، فإن الأصح سقوطه، وإذا سقط القصاص من
الطرفين، فلكل واحد منهما الدية على الآخر، ولو قال القاطع: دهشت فلم أدر ما
قطعت، قال الامام: لا يقبل منه ويلزمه القصاص في اليسار، لأن الدهشة لا تليق
بحال القاطع، وفي كتب الأصحاب لا سيما العراقيين، أن المخرج لو قال: لم
أسمع من المقتص: أخرج يمينك، وإنما وقع في سمعي: أخرج يسارك،
فأخرجتها، فالحكم فيه كقوله: دهشت، فأخرجت وأنا أظنها اليمين.
فرع جميع ما ذكرناه في القصاص، فأما إذا وجب قطع يمينه في السرقة،
فقال الجلاد للسارق: أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها، فقولان، أحدهما
ويقال: إنه قديم، ويقال: مخرج: إن الحكم كما ذكرنا في القصاص، والثاني
وهو المشهور: أنه يقع قطع اليسار عن الحد، فيسقط قطع اليمين، لأن المقصود
التنكيل وقد حصل، ولان الحد مبني على التخفيف، واستدرك القاضي حسين،
فحمل ما أطلقه الأصحاب على الحالين الأخيرين من الأحوال الثلاثة، وقال في
الحال الأول وهو الاخراج بقصد الإباحة: ينبغي أن لا يسقط قطع اليمين، كما لو
قطع السارق يسار نفسه، أو قطعها غيره بعد وجوب قطع اليمين.
فرع لو كان المقتص منه مجنونا، فهو كما لو أخرج اليسار مدهوشا، ولا
يتحقق منه البدل، ولو كان المقتص منه عاقلا، والمستحق مجنونا، فقطع يمين
المقتص منه مكرها له، فهل يكون مستوفيا لحقه؟ فيه خلاف سبق، فإن قلنا: لا
102

يصير مستوفيا وهو الصحيح، انتقل حقه إلى الدية، ويجب للجاني دية يده، فإن
جعلنا عمده عمدا، فالدية في ماله، والصورة من صور التقاص، وإن جعلناه خطأ،
فدية اليسار على عاقلته ولا تقاص، ولو قال لمن عليه القصاص: أخرج يمينك،
فأخرجها، فقطعها المجنون، قال الأصحاب: لا يصح استيفاؤه، وينتقل حقه إلى
الدية، ولا ضمان عليه، لأنه أتلفها ببذله وتسليطه، وإن أخرج يساره، فقطعها،
فهي مهدرة ويبقى حقه في قصاص اليمين.
فرع حيث أوجبنا دية اليسار في الصور السابقة، فهي في ماله، لأنه قطع
متعمدا، وعن نصه في الام أنها تجب على العاقلة.
فرع حيث قلنا: يبقى القصاص في اليمين، لا يستوفى حتى يندمل قطع
اليسار لما في توالي القطعين من خطر الهلاك، نص عليه، ولو قطع طرفي رجل
معا، اقتص فيهما معا، ولا يلزمه التفريق، نص عليه، فقيل: فيهما قولان،
والمذهب تقرير النصين، والفرق أن خطر الموالاة في الصورة الأولى يحصل من قطع
مستحق وغير مستحق.
فرع قال المخرج: قصدت بالاخراج إيقاعها عن اليمين، وقال القاطع:
أخرجتها بقصد الإباحة، فالمصدق المخرج لأنه أعرف بقصده.
فرع ثبت له القصاص في أنملة، فقطع من الجاني أنملتين، سئل، فإن
اعترف بالتعمد، قطعت منه الأنملة الثانية، وإن قال: أخطأت وتوهمت أني أقطع
أنملة واحدة، صدق بيمينه، ووجب أرش الأنملة الزائدة، وهل هي في ماله أم على
عاقلته؟ قولان، أو وجهان، أصحهما: في ماله. وبالله التوفيق (2).
باب العفو عن القصاص
هو مستحب، فإن عفا بعض المستحقين، سقط القصاص وإن كره الباقون،
103

ولو عفا عن عضو من الجاني، سقط القصاص كله، ولو أقت العفو، تأبد،
ويشتمل الباب على طرفين:
أحدهما: في حكم العفو، وهو مبني على أن موجب العمد في النفس
والطرف ماذا؟ وفيه قولان، أظهرهما عند الأكثرين: أنه القود المحض، وإنما الدية
بدل منه عند سقوطه، والثاني: أنه القصاص أو الدية، أحدهما لا بعينه، وعلى
القولين للولي أن يعفو على الدية بغير رضى الجاني، ولو مات أو سقط الطرف
المستحق، وجبت الدية، وحكي قول قديم أنه لا يعدل إلى المال إلا برضى
الجاني، وأنه لو مات الجاني، سقطت الدية وليس بشئ، فإذا قلنا: الواجب
أحدهما لا بعينه، فعفا عن القصاص والدية جميعا، فلا مطالبة بواحد منهما، ولو
قال: عفوت عما وجب لي بهذه الجناية، أو عن حقي الثابت عليك وما أشبهه، فلا
مطالبة أيضا بشئ، نقله ابن كج عن النص، ولو قال: عفوت على أن لا مال لي،
فوجهان، أحدهما: أنه كعفوه عنهما، والثاني: لا تسقط المطالبة بالمال،
لأنه لم يسقطه، وإنما شرط انتفاءه، وإلى هذا مال الصيدلاني، ولو عفا عن
104

القصاص، تعينت الدية، ولو عفا عن الدية، فله أن يقتص، فلو مات الجاني بعد
ذلك، فله الدية لفوات القصاص بغير اختياره، ونقل ابن كج قولا أنه لا مال له،
والمشهور الأول، وهل له أن يعفو بعد هذا عن القصاص ويرجع إلى الدية؟ فيه ثلاثة
أوجه، أصحهما وهو محكي عن النص: لا، فعلى هذا لو عفا مطلقا، لم يجب
شئ، والثاني: نعم، وحاصل هذا الوجه أن العفو عن الدية لغو، والولي على
خيرته كما كان، والثالث: إن عفا على الدية، وجبت، وإن عفا مطلقا، فلا، فإن
قلنا: لا رجوع إلى الدية استقلالا، فلو تراضيا بمال من جنس الدية أو غيره بقدرها،
أو أقل، أو أكثر، فوجهان، أحدهما: لا يجوز كما لا تجوز المصالحة عن حد
القذف على عوض، والصحيح الجواز، لأن الدم متقوم شرعا، كالبضع بخلاف
العرض، ولو جرى الصلح مع أجنبي، جاز أيضا على الأصح، كاختلاع الأجنبي
وأولى، لأن حقن الدم مرغب فيه، ولو عفا، أو صالح عن القصاص على مال قبل
أن يعفو عن الدية، فإن كان المصالح عليه من غير جنس الدية، جاز، سواء كانت
قيمته بقدر الدية، أم أقل، أو أكثر، وإن كان من جنسه، فسيأتي إن شاء الله
تعالى، ويجري الخلاف فيما لو ثبت القصاص بلا دية، وصورته ما إذا قطع
يديه، فسرى إلى النفس، فقطعت يد الجاني قصاصا، أو قطعت يداه قصاصا، ثم
سرت الجناية إلى نفس المجني عليه، فإنه يجوز حز رقبته، ولا يجوز العفو على
الدية كما سبق، ولو قال: عفوت عنك ولم يذكر القصاص ولا الدية، أو قال:
عفوت عن أحدهما، ولم يعين، فوجهان، أحدهما: يحمل على القصاص ويحكم
بسقوطه، وأصحهما: يقال له: اصرف الآن إلى ما شئت منهما، ولو قال: اخترت
الدية، سقط القصاص ووجبت الدية، ويكون كقوله: عفوت عن القصاص، هذا
105

هو الصحيح، وبه قطع الجمهور، وعن القفال أن اختياره أحدهما لا يسقط حقه من
الثاني، بل يبقى خياره كما كان، ولو قال: اخترت القصاص، فقياس القفال
ظاهر، وأما على الصحيح، فهل له الرجوع إلى الدية لأنها أخف، أم لا كعكسه؟
وجهان، أصحهما: الثاني، قاله البغوي، هذا كله تفريع على قولنا: الواجب
أحدهما، أما إذا قلنا: الواجب القصاص بعينه، فلو عفا عنه على الدية، وجبت،
وإن عفا عنه على مال آخر، فإن كان من جنس الدية، فسيأتي إن شاء الله تعالى،
وإن عفا، أو صالح على غير جنسها، وقبل الجاني، ثبت المال، وسقط القود،
وإن لم يقبل الجاني، لم يثبت المال قطعا، ولم يسقط القصاص على الأصح، فإن
قلنا: يسقط القصاص، فهل تثبت الدية؟ قال البغوي: هو كما لو عفا مطلقا، ولو
عفا عن القود على نصف الدية، قال القاضي حسين: هذه معضلة أسهرت الجلة،
قال غيره: هو كعفوه عن القود ونصف الدية، فيسقط القود، ونصف الدية، ولو
عفا عن القود مطلقا ولم يتعرض للدية، لم تجب دية على المذهب، لأن القتل لم
يوجبها على هذا القول، والعفو إسقاط ثابت لا إثبات معدوم، فإن قلنا: لا تثبت
الدية بنفس العفو، فاختارها بعد العفو، قال ابن كج: تثبت الدية، ويكون اختيارها
بعد العفو كالعفو عليها، وحكي عن النص أن هذا الاختيار يكون عقب العفو، وعن
بعض الأصحاب أنه يجوز فيه التراخي، ولو عفا عن الدية، فهو لغو على هذا
القول، فله بعد ذلك العفو عن القود على الدية، فلو عفا مطلقا، عاد الخلاف في
وجوب الدية.
فصل لو كان مستحق القصاص محجورا عليه، نظر، إن كان مسلوب
العبارة، كالصبي والمجنون، فعفوه لغو، وإلا فإن كان الحجر عليه لحق غيره،
كالحجر بالفلس، فله أن يقتص، ولو عفا عن القصاص، سقط، وأما الدية، فإن
قلنا: موجب القتل أحد الامرين، فليس له العفو عن المال، وإذا تعين المال بالعفو
عن القصاص، دفع إلى غرمائه، ولا يكلفه تعجيل القصاص، أو العفو ليصرف
المال إليهم، وإن قلنا: موجب القتل القصاص، فعفا على مال، ثبت المال، وإن
عفا مطلقا، ثبتت الدية إن قلنا: المطلق يوجب الدية، وإن قلنا: لا يوجبها، لم
106

تثبت، وإن قال: عفوت على أن لا مال، فإن لم يوجب مطلق عفوه المال، فالمعتد
بالنفي أولى، وإلا فوجهان، أصحهما: لا يوجبه، لئلا يكلف المفلس الاكتساب،
وعفو المريض مرض الموت، وعفو الورثة عن القصاص مع نفي المال إذا كان على
التركة دين أو وصية، كعفو المفلس، وأما الحجور عليه لسفه، فيصح منه إسقاط
القصاص واستيفاؤه، وفيما يرجع إلى الدية حكمه حكم المفلس على الأصح، وبه
قطع الجمهور، وقيل: لا يصح عفوه عن المال بحال، كالصبي، وعفو المكاتب
عن الدية تبرع، فلا يصح بغير إذن سيده، وبإذنه قولان.
فصل لو صالح من القصاص على أكثر من الدية من جنسها، بأن صالح
على مائتين من الإبل، فإن قلنا: الواجب أحد الامرين، لم يصح، كالصلح من
ألف على ألفين، وإن قلنا: الواجب القود بعينه، صح على الأصح، وثبت المال
المصالح عليه.
فصل إذا سقط القصاص بعفو بعض المستحقين، فللباقين الدية
بالحصة، وأما العافي، فإن عفا على حصته من الدية، ثبتت، وإن نفى المال، لم
تثبت، وإن أطلق، فإن قلنا: موجب القتل أحد الامرين: ثبتت، وإلا فعلى
الخلاف في أن مطلق العفو، هل يوجب الدية؟
الطرف الثاني في العفو الصحيح والفاسد وألفاظه وفيه مسائل:
إحداها: إذا قال لغيره: اقطع يدي، والقاتل مالك لأمره، فقطع المأذون له
يده، فلا قصاص ولا دية، كما لو أذن في إتلاف ماله، فلا ضمان بإتلافه، فلو سرى
القطع، أو قال: اقتلني، فقتله، فقد سبق في فصل الاكراه أنه لا قصاص على
المذهب، ولا دية على الأظهر، فإن قلنا: لا دية، وجبت الكفارة على الأصح
ولا تؤثر فيها الإباحة، وقيل: تسقط تبعا.
107

الثانية: قطع عضو زيد، كيده أو أصبعه، فعفا عن موجب الجناية قودا أو
أرشا، فللجناية أحوال، أحدها: أن تندمل، فلا قصاص ولا أرش، وقال المزني:
يجب أرشه، وسواء اقتصر على قوله: عفوت عن موجبها، أو قال: وعما يحدث
منها، لأنه لم يحدث شئ، ولو قال: عفوت عن هذه الجناية، ولم يزد، نص في
الام أنه عفو عن القصاص، وعن الأصحاب أنه تفريع على قولنا: موجب العمد
القود فإن قلنا: أحد الامرين، ففي بقاء الدية احتمالان للروياني، الثاني: أن
يسري القطع إلى النفس، فلا قصاص في النفس، كما لا قصاص في الطرف،
وعن ابن سريج وابن سلمة وجوب قصاص النفس، لأنه لم يدخل في العفو، فعلى
هذا إن عفا عن القصاص، فله نصف الدية فقط، لسقوط نصفها بالعفو عن اليد،
والصحيح الأول، وأما المال، فهو قسمان، أرش اليد والزيادة عليه إلى تمام
الدية، فأما أرش اليد، فينظر، إن جرى لفظ الوصية بأن قال: أوصيت له بأرش
هذه الجناية، فهي وصية للقاتل، وفيها القولان، فإن أبطلناها، لزمه أرش اليد،
وإن صححناها، سقط الأرش إن خرج من الثلث، وإلا سقط منه قدر الثلث، وإن
جرى لفظ العفو أو الابراء أو الاسقاط، بأن قال: عفوت عن أرش هذه الجناية، أو
أبرأته، أو أسقطته، فقيل: هو كالوصية للاتفاق على أنه يعتبر من الثلث، فيكون
على القولين، والمذهب أنه يسقط قطعا، لأنه إسقاط ناجز، والوصية ما تعلق
بالموت، وأما الزيادة فهي واجبة إن اقتصر على العفو عن موجب الجناية ولم يقل:
وما يحدث منها، فإن قال: وما يحدث، نظر، إن قاله بلفظ الوصية، كقوله:
أوصيت له بأرش هذه الجناية وأرش ما يحدث منها، أو يتولد، أو يسري إليه، بني
على القولين في الوصية للقاتل، ويجئ في جميع الدية ما ذكرناه في أرش اليد،
وإن قال: عفوت عنه، أو أبرأته من ضمان ما يحدث، أو أسقطته، لم يؤثر فيما
يحدث على الأظهر، فيلزمه ضمانه، لأنه إسقاط قبل الثبوت، والثاني: يؤثر، فلا
يلزمه شئ، هذا كله إذا كان الأرش دون الدية، فأما إذا قطع يديه، فعفا عن أرش
الجناية وما يحدث منها، فإن لم نصحح الوصية، وجبت الدية بكمالها، وإن
صححناها، سقطت بكمالها إن وفى بها الثلث، سواء صححنا الابراء عما لم
يجب، أم لم نصححه. الثالث: أن يسري إلى عضو آخر، بأن قطع أصبعه فتأكل
باقي الكف بها، ثم اندمل، فلا قصاص، ويمكن أن يجئ فيه خلاف، وأما
108

الدية، فتسقط دية العضو المقطوع بالعفو، ولا يسقط ضمان السراية على
الأصح، فإن قال: عفوت عن هذه الجناية وما يحدث منها، فإن لم نوجب الضمان
إذا أطلق، فهنا أولى، وإلا فعلى الخلاف في الابراء عما لم يجب وجرى سبب
وجوبه.
المسألة الثالثة: جنى عبد جناية توجب المال، وعفا المجني عليه عن
أرشها، ثم مات بالسراية، أو اندمل الجرح، وعفا في مرض الموت، فإما أن يطلق
العفو، وإما أن يضيفه إلى السيد، أو إلى العبد، فإن أطلقه، انبنت صحته على أن
أرش جناية العبد يتعلق برقبته فقط أم بها وبالذمة حتى يطالب بما فضل بعد العتق؟
وفيه قولان مذكوران في الديات، فإن قلنا: يتعلق بالرقبة فقط، صح العفو، لأنه
تبرع على غير القاتل وهو السيد، وإن قلنا: يتعلق بالذمة أيضا، ففائدة العفو تعود
إلى العبد، فيبنى على الوصية للقاتل، إن صححناها، صح العفو، وإلا فلا،
وحكى الامام وجهين إذا قلنا بالتعلق بالذمة في أن المجني عليه هل يملك فك الرقبة
عن التعلق، وجعل الحق في الذمة خاصة كما يملك فك المرهون؟ قال: وعلى
الوجهين يبقى تعلق الأرش بالرقبة إذا أبطلنا العفو، وأما إذا أضاف العفو إلى السيد،
فقال: عفوت عنك، فيصح إن علقنا الأرش بالرقبة فقط، وإلا فلا، وإن أضافه إلى
العبد، فإن قلنا: يتعلق بالرقبة فقط، لم يصح، وإلا فعلى القولين في الوصية
للقاتل، أما إذا كانت الجناية موجبة للقصاص، فالعفو عن العبد صحيح، فإنه عليه
بكل حال.
المسألة الرابعة: جرح حر رجلا خطأ، فعفا عنه، ثم سرت الجناية إلى
النفس، بني على أن الدية في قتل الخطأ تجب على العاقلة ابتداء، أم على
القاتل، ثم تتحملها العاقلة، وفيه خلاف مذكور في بابه، فإن قال: عفوت عن
العاقلة، أو أسقطت الدية عنهم، أو قال: عفوت عن الدية، فهذا تبرع على غير
القاتل، فينفذ إذا وفى الثلث به، ويبرؤون، سواء جعلناهم متأصلين أم متحملين،
وإن قال للجاني: عفوت عنك، لم يصح، وقيل: إن قلنا: يلاقيه الوجوب ثم
109

يحمل عنه، صح، والمذهب الأول، لأنه بمجرد الوجوب ينتقل عنه، فيصادفه
العفو، ولا شئ عليه، هذا إذا ثبتت الجناية بالبينة، أو باعتراف العاقلة، فأما إذا أقر
القاتل، وأنكرت العاقلة، فالدية على القاتل، ويكون العفو تبرعا على القاتل، ففيه
الخلاف، ولو عفا الوارث بعد موت المجني عليه عن العاقلة، أو مطلقا، صح،
ولو عفا عن الجاني، لم يصح، لأنه لا شئ عليه، فإن ثبت بإقراره، صح.
فرع لو كان الجاني ذميا وعاقلته مسلمين أو حربيين، فالدية في ماله، فإن
عفا عنها، فهي وصية للقاتل، وفيها القولان.
الخامسة: جنى عليه جناية توجب القصاص لو اندملت، كقطع يد، فعفا
على الدية، ثم سرت إلى النفس، لم يجب القصاص في النفس، وفيه الوجه
المنسوب إلى ابن سريج وابن سلمة، ولو جنى بما لا قصاص فيه، كالجائفة وكسر
الذراع، فأخذ المجني عليه الأرش، ثم سرت إلى النفس، وجب القصاص، وفيه
احتمال للامام، ولو كان المجني عليه قد قال والحالة هذه: عفوت عن القصاص،
فهو لغو، لأن هذه الجناية لا قصاص فيها، ولو عفا المجني عليه عن قطع اليد
ونحوها على الدية، ثم عاد الجاني فحز رقبته، نظر، إن حز بعد الاندمال،
فعليه القصاص في النفس ودية اليد، وإن حز قبل الاندمال، فوجهان، أحدهما: لا
قصاص، لأنه عفا عن بعض النفس، لكن له الباقي من الدية، وأصحهما: يجب
القصاص، فعلى هذا لو عفا عن القصاص، فهل له دية كاملة، أم الباقي من
الدية؟ وجهان، أصحهما: الثاني.
السادسة: عفا الوارث بعد موت المجني عليه، صح، ولو وجب على الجاني
قصاص طرف إنسان ونفسه، نظر، إن كان مستحق هذا غير مستحق ذاك، فلا شك
أن عفو أحدهما لا يسقط حق الآخر، ومن صوره أن يقطع عبد يد عبد، فيعتق
110

المجني عليه، ثم يسري إلى نفسه، فالقصاص في اليد للسيد، وفي النفس لورثة
العتيق، وإن استحقهما واحد، فعفا عن النفس، وأراد القصاص في الطرف، فله
ذلك على المذهب، وانفرد الغزالي بحكاية وجه فيه، وإن عفا عن الطرف، لم
يسقط قصاص النفس على الأصح، ولو استحق قصاص النفس بقطع الطرف، بأن
كان الجاني قد قطع المجني عليه، ومات بالسراية، ثم عفا الولي عن قصاص
النفس، فليس له قطع الطرف، لأن المستحق هو القتل، والقطع طريقه، وقد عفا
عن المستحق، وإن عفا عن القطع، فله حز رقبته على الأصح، ولو قطع يد رجل
ثم حز رقبته قبل الاندمال، فعفو الولي عن القطع لا يسقط حز الرقبة، وكذا عفوه عن
النفس لا يسقط القطع.
السابعة: إذا قتل رجلا بالقطع الساري، فقطعه الولي، ثم عفا عن النفس
مجانا، فإن سرى القطع، بان بطلان العفو، وإن وقف، صح العفو، ولم يلزمه
لقطع اليد شئ، وكذا لو كان قتله بغير القطع، وقطع الولي يده متعديا، ثم عفا
عنه، لا ضمان عليه، ولو رمى الولي إلى الجاني ثم عفا عنه قبل الإصابة، ففي
نفوذه وجهان، أحدهما: لا ينفذ لخروج الامر عن اختياره، وأصحهما: أنه كقطع
اليد، فإن لم يصب السهم، فالعفو صحيح مفيد، وإن أصابه وقتله، تبينا بطلان
العفو، وفي وجوب الدية على العافي وجهان سبقا في باب تغير الحال بين الجرح
والموت، أصحهما: الوجوب، لأنه محقون الدم عند الإصابة.
الثامنة: قطع ذمي يد مسلم، فاقتص منه، أو يد ذمي، فاقتص منه، ثم
أسلم المقطوع، ثم مات بالسراية، فللولي القصاص في النفس، فإن عفا على
مال، فهل له نصف الدية، أم خمسة أسداس دية مسلم؟ وجهان، أصحهما:
الثاني، لأنه يستحق دية مسلم سقط منها ما استوفاه وهو يد ذمي بسدس دية مسلم،
ولو قطع ذمي يد مسلم، فاقتص منه، ومات المسلم بالسراية، فعفا الولي، فعلى
الوجه الأول لا شئ له، وعلى الأصح له ثلثا دية المسلم، لأنه استوفى ما يقابل ثلث
دية المسلم، ولو قطعت امرأة يد رجل، فاقتص منها، ثم مات الرجل بالسراية،
111

وعفا الولي فعلى الوجه الأول، له نصف الدية، وعلى الأصح، ثلاثة أرباعها، ولو
قطعت المرأة يدي رجل، فاقتص منها، ثم مات المجني عليه بالسراية، وعفا
الولي، فلا شئ له على الوجه الأول، وعلى الأصح، له نصف الدية، ولو قطع يد
حر، فاقتص منه، ثم عتق العبد، ومات المجني عليه بالسراية، ففي وجه يسقط
نصف الدية، وعلى السيد أقل الأمرين من نصف دية الحر وكمال قيمة العبد، لأنه
صار مختارا للفداء، وفي وجه يسقط من دية الحر بقدر نصف قيمة العبد، وعلى
السيد الأقل من باقي الدية، وكمال قيمة العبد.
التاسعة: سبق في كتاب الوكالة أن التوكيل في استيفاء القصاص جائز في
حضرة الموكل، وكذا في غيبته على المذهب، وحد القذف كالقصاص، وسواء
جوزناه أم لا، فإذا استوفاه الوكيل، صار حق الموكل مستوفى، كما لو وكله في بيع
سلعة توكيلا فاسدا، فباع الوكيل، صح البيع. إذا عرفت هذا، فإذا وكل وغاب،
أو تنحى الوكيل بالجاني ليقتص منه، فعفا الموكل، نظر، إن لم يعلم أكان العفو
قبل القتل أم بعده، فلا شئ على الوكيل، وإن عفا بعد قتله، فهو لغو، وإن عفا،
ثم قتل الوكيل، فإن كان عالما بالعفو، فعلى الوكيل القصاص، وإن كان جاهلا
به، فلا قصاص على المذهب والمنصوص وبه قطع الأصحاب، وحكى الشيخ أبو
محمد في السلسلة قولا مخرجا: أنه يجب القصاص، وليس بشئ، فإن ادعى
على الوكيل العلم بالعفو، فأنكر، صدق بيمينه، فإن نكل، حلف الوارث واستحق
القصاص، وفي وجوب الدية إذا قتله جاهلا قولان: أظهرهما: تجب، لأنه بان أنه
قتله بغير حق، ولو عزله، فقتله الوكيل جاهلا العزل، ففي وجوب الدية القولان،
فإن لم نوجب الدية، وجبت الكفارة على الأصح، وإذا أوجبنا الدية، فهي مغلظة
على المشهور، وفي قول مخففة، فإن قلنا: مخففة، فهي على العاقلة، وإن
قلنا: مغلظة، فهي على الوكيل على الأصح، لأنه متعمد، وإنما سقط القصاص
للشبهة، وقيل: على العاقلة، لأنه جاهل بالحال، فأشبه المخطئ، فإن قلنا:
على الوكيل، فهل هي حالة أم مؤجلة؟ وجهان، حكاهما الامام.
قلت: أصحهما: حالة. والله أعلم.
ثم الدية هنا تكون لورثة الجاني لا تعلق للموكل بها بخلاف ما إذا ثبت
112

القصاص لابنين، وبادر أحدهما، وقتل الجاني، يجب عليه نصف الدية للآخر
على أحد القولين والفرق أن القاتل هناك أتلف حق أخيه، فتعلق الأخ ببدله،
والوكيل هنا قتل بعد سقوط حق الموكل، ونقل ابن كج عن بعضهم جعله على
الخلاف، ثم إذا غرم الوكيل، أو عاقلته الدية، فهل يرجع الغارم على العافي؟ فيه
أوجه، أصحها: لا، لأن العافي محسن بالعفو غير مغرر بخلاف الغاصب إذا قدم
الطعام المغصوب إلى الضيف، والثاني: نعم، والثالث: يرجع بها على الأصح،
كما لا تضرب على العاقلة، وهل للموكل العافي دية قتيله؟ ينظر، إن عفا مجانا أو
مطلقا، وقلنا: المطلق لا يوجب الدية، فلا شئ له، وإن عفا على مال، أو
مطلقا، وقلنا: يوجب المال، فله الدية في تركة الجاني مغلظة إن أوجبنا بقتل
الوكيل، الدية، وإن لم نوجبها به، فلا دية للموكل لخروج العفو على هذا التقدير
عن الفائدة. وبالله التوفيق.
باب في مسائل منثورة
إذا جنى عبد على حر جناية، تعلق الأرش برقبته، فاشتراه بالأرش، فإن جهل
أحد المتبايعين عدد الإبل الواجبة أو سنها، لم يصح البيع، وإن علما ذلك، ولم
يبق إلا الجهل بأوصافها، ففي صحة البيع الوجهان، أو القولان في صحة الصلح من
إبل الدية على مال، وقد سبق في كتاب الصلح، وإن كانت الجناية موجبة
للقصاص، فاشتراه بالأرش، فهو اختيار للمال، وإسقاط للقصاص، وحيث
صححنا البيع، فوجد المشتري بالعبد عيبا، فله الرد، فإذا رد، بقي الأرش متعلقا
بالرقبة، ولا يكون السيد ملتزما للفداء، بل له الخيار بين الفداء، وتسليمه للبيع،
ولو اشتراه المجني عليه بمال غير الأرش، صح ولم يسقط القصاص، فلو صالح
عن القود على مال، جاز وإن كانت الدية مجهولة، فإن تلفت عين المال المصالح
عليه، أو استحقت، أو ردها بعيب، فلا رجوع إلى القصاص، فهل يرجع بقيمة
113

العين، أم بضمان الجناية؟ قولان بناء على أن بدل الصلح عن الدم مضمون ضمان
العقد أم ضمان اليد، وقد ذكرناه في كتاب البيع، فإن قلنا: يرجع بضمان الجناية،
فهو على السيد لاختياره الفداء ببذل المال، وهل عليه أرش الجناية بالغا ما بلغ، أم
الأقل من الأرش وقيمة العبد؟ قولان يذكران في موضعهما إن شاء الله تعالى، ولو
كانت الجناية موجبة للمال، وصالح من الإبل على مال، ففي صحته الخلاف، فإن
صححناه، فهلك المصالح عليه قبل القبض، أو خرج مستحقا، أو رده بعيب،
فالرجوع إلى الأرش بلا خلاف، لأن الصلح هنا عن المال، ويكون السيد مختارا
للفداء، وهل يلزمه الأرش أم الأقل؟ فيه القولان.
فرع جنى حر على حر جناية توجب القصاص، فصالحه على عين، كعبد
وثوب، جاز وإن لم تكن الدية معلومة لهما، فإن تلفت العين قبل القبض، أو
خرجت مستحقة، أو ردها بعيب، فلا رجوع إلى القصاص، فهل يرجع بقيمة العين
أم بأرش الجناية؟ يبنى على أن بدل الصلح عن الدم مضمون ضمان العقد أم ضمان
اليد؟ وإن كانت الجناية موجبة للدية، فصالح عنها على عين، أو اشترى بها عينا،
إما من العاقلة في الخطأ، وإما من الجاني في العمد، نظر، أعلما عدد الإبل
وأسنانها أم لا، وحكمه ما بينا، وإذا صح، فتلف المصالح عليه، أو رده بعيب،
رجع إلى الأرش بلا خلاف، لأنه يمكن الرجوع إلى المصالح عنه، لأنه مال بخلاف
القصاص.
فرع جنت حرة على رجل، فتزوجها على القصاص، أو تزوجها وارثه
على القصاص، جاز، وسقط القصاص، وإن طلقها قبل الدخول، فهل يرجع
بنصف أرش الجناية، أم بنصف مهر المثل؟ قولان، أظهرهما: الأول، وإن كانت
الجناية موجبة للدية، فنكحها عليها، صح النكاح، وفي صحة الصداق ما سبق في
الاعتياض عن إبل الدية.
فرع إذا أوجبت الجناية مالا معلوم القدر والوصف، بأن أتلف مالا أو قتل
عبدا، ووجبت قيمته، فصالحه المستحق على عين وهما يعلمان، صح الصلح بلا
خلاف، فإن تلفت قبل القبض، أو ردت بعيب، فالرجوع بالأرش بلا خلاف، وإن
كان الجاني والحالة هذه عبدا، كان السيد مختارا للفداء، فإن صالح على رقبته،
114

ثم رده بعيب، لم يكن مختارا، بل الأرش في رقبته كما كان حتى لو مات سقط حق
المجني عليه.
فصل قطع يدي رجل ورجليه، فمات، فقطع الولي يدي الجاني وعفا
عن الباقي على الدية، لم تكن له الدية، لأنه استوفى ما يقابلها، ولو عفا على غير
جنسها، فوجهان، أحدهما: لا يجب كالدية، والثاني: يجب ويكون عوضا عن
القصاص الذي تركه، ولو قطع إحدى يديه، وعفا عن الباقي على الدية، فله نصف
الدية فقط.
فصل قتل مسلم ذميا، فقتل ولي الذمي القاتل بغير حكم حاكم، فعليه
القصاص، نقله الروياني عن والده.
فصل أكره رجلا على أن يرمي صيدا، فرماه، فأصاب آدميا فقتله، فهما
قاتلان خطأ، فعلى كل منهما كفارة، وعلى عاقلة كل واحد نصف الدية، وهل
لعاقلة المكره الرجوع بما يغرمون على المكره؟ نقل الروياني عن والده أنه يحتمل
أن لا يرجعوا وإن كان متعديا، كما لا يرجعون في شبه العمد على القاتل، قال:
ويحتمل أن لا يجب شئ على المكره وعاقلته، لأنه لم يتلف ما أكرهه عليه.
فصل قطع يديه عمدا، فمات بالسراية، فقطع الوارث إحدى يدي
الجاني، فمات قبل قطعه الأخرى، فلا شئ للوارث في تركة الجاني، لأنه إذا
سرت الجراحة إلى النفس سقط حكم الأطراف وصارت النفس بالنفس، وقد قتله
فصار كحز الرقبة، ولو قطع يدي رجل، فاندملتا، فقطع إحدى يدي الجاني،
فمات، فله دية اليد الأخرى من تركته، لأنه استحق قصاصها وقد فات بما لا ضمان
عليه فأشبه سقوطها بآفة، ولو قطع إحدى يدي الجاني، وعفا عن الأخرى على ديتها
وقبضها، ثم انتقضت جراحة المجني عليه، ومات بها، فلا قصاص لورثته، لأنه
مات من جراحتين إحداهما معفو عنها، ولا شئ لهم من الدية، لأنه استوفى نصف
الدية، واليد المقابلة بالنصف.
فصل في فتاوى البغوي: أنه لو قتل أحد عبدي الرجل الآخر، فللسيد
القصاص، ولا يثبت له مال على عبده، فلو أعتقه، لم يسقط القصاص، ولو عفا بعد
العتق مطلقا، لم يثبت المال، لأن القتل لم يقتضه، وإن عفا بعد العتق على
115

مال، ثبت المال، وأنه لو قطع يدي رجل، إحداهما عمدا، والأخرى خطأ، فمات
منهما، فلا قصاص في النفس وتجب الدية، نصفها في مال الجاني ونصفها على
عاقلته، فإن استوفى الولي قصاص اليد المقطوعة عمدا، فمات الجاني منه، كان
مستوفيا لحقه ولا يبقى له شئ على العاقلة، كما لو قتل من له عليه القصاص خطأ،
فإنه يكون مستوفيا حقه، وأنه إذا وجب القصاص على مرتد، فقتله الولي عن جهة
الردة، نظر، إن كان ولي القصاص هو الامام، فله الدية في تركة المرتد، لان
للامام قتله عن الجهتين، وإن كان غير الامام، وقع قتله عن القصاص ولا دية له،
لأن غير الامام لا يملك قتله عن الردة، قال: وكذا لو اشترى عبدا مرتدا، وقتله
المشتري قبل القبض عن جهة الردة، ينفسخ العقد إن كان المشتري هو الامام، وإن
كان غيره صار قابضا، كما لو قتله ظلما محضا، وأنه لو ضرب زوجته بالسوط عشر
ضربات فصاعدا متوالية، فماتت، فإن قصد في الابتداء العدد المهلك، وجب
القصاص، وإن قصد تأديبها بسوطين أو ثلاثة، ثم بدا له فجاوز، لم يجب
القصاص، لأنه اختلط العمد بشبه العمد، وأن الوكيل باستيفاء القصاص إذا قال:
قتلته بشهوة نفسي لا عن جهة الموكل، لزمه القصاص وينتقل حق الموكل إلى
التركة، وأنه لو ضرب سنه، فزلزلها، ثم سقطت بعد ذلك، وجب القصاص وكذا
لو ضرب يده، فاضطربت أو تورمت، ثم سقطت بعد أيام، وأنه لو أشكلت الحادثة
على القاضي، فتوقف، فروى شخص خبرا عن النبي (ص) فيها، وقتل القاضي بها
رجلا، ثم رجع الراوي وقال: كذبت وتعمدت، ينبغي أن يجب القصاص كالشاهد
إذا رجع والذي ذكره القفال في الفتاوى، والامام أنه لا قصاص بخلاف الشهادة فإنها
تتعلق بالحادثة، والخبر لا يختص بها.
فصل في فتاوى الغزالي: لو افتصد فمنعه رجل من أن يعصب العرق حتى
116

مات، أو عصبه فحله رجل ومنعه من إعادة العصابة حتى مات، وجب القصاص.
فصل في التتمة أنه لو قتله بالدخان، بأن حبسه في بيت وسد منافذ
البيت، فاجتمع فيه الدخان وضاق نفسه، فمات، وجب القصاص، وأنه لو رمى
إلى شخصين أو جماعة وقصد إصابة أي واحد منهم كان، فأصاب واحدا، ففي
القصاص وجهان، لأنه لم يقصد عينه.
قلت: الأرجح وجوبه. والله أعلم.
وأن حلمة الرجل تقطع بحلمة الرجل، وحلمة المرأة تقطع بحلمة المرأة،
والثدي بالثدي، وفيما إذا لم يتدل وجه ضعيف، لأنه لا يتميز عن لحم الصدر،
وفي قطع حلمة المرأة بحلمة الرجل وجهان بناء على وجوب الدية في حلمة الرجل،
وتقطع حلمة الرجل بحلمة المرأة بلا خلاف وبالله التوفيق.
117

كتاب الديات
فيه ستة أبواب:
الأول في دية النفس:
فيجب بقتل الحر المسلم مائة من الإبل، فإن كان القتل خطأ، وجبت
118

مخمسة: عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون،
وعشرون حقة، وعشرون جذعة، وأبدل ابن المنذر بني اللبون ببني مخاض. ثم قد
يعرض ما تغلظ به الدية وما تنقص به، أما المغلظات فأربعة أسباب.
أحدها: أن يقع القتل في حرم مكة، فتغلظ به دية الخطأ، سواء كان القاتل
والمقتول في الحرم، أو كان فيه أحدهما، كجزاء الصيد، ولا تغلظ بحرم المدينة
ولا بالقتل في الاحرام على الأصح فيهما.
الثاني: أن يقتل في الأشهر الحرم وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم
ورجب، ولا يلحق بها رمضان قطعا.
الثالث: أن يقتل قريبا له محرما، فإن كان قريبا غير محرم، فلا تغليظ على
الصحيح وبه قال الأكثرون، ولا أثر لمحرمية الرضاع والمصاهرة قطعا.
الرابع: أن يكون القتل عمدا أو شبه عمد.
فرع إذا قتل في دار الحرب مسلما وجده على زي الكفار، فظنه كافرا،
فقد سبق أن الأظهر أنه لا دية فيه، فإن أوجبناها، فهل هي دية عمد، أم شبه عمد
أم خطأ؟ فيه أوجه، ولو رمى إلى مرتد أو حربي، فأسلم، ثم أصابه السهم ومات،
فقد سبق أن الأصح وجوب الدية، وفي كيفيتها هذه الأوجه، وهذا أولى بأن تكون
119

دية خطأ، وهو الأرجح، ورجح ابن كج كون الدية في ماله، ولو رمى إلى شئ يظنه
شجرة أو صيدا، فكان إنسانا، فالصحيح أنه خطأ محض، كما لو رمى إلى صيد،
فعرض في الطريق رجل، أو مرق منه السهم، فأصاب رجلا، قال الغزالي:
وتجري هذه الأوجه في كل قتل عمد محض صدر عن ظن في حال القتيل.
فصل الدية تتغلظ في قتل العمد من ثلاثة أوجه، فتجب على الجاني،
ولا تحملها العاقلة، وتجب حالة، ومثلثة، ثلثهن حقة، وثلثهن جذعة، وأربعون
خلفة، والخلفة: الحامل، ويسمى هذا الثالث تغليظا بالسن، وسواء كان العمد
موجبا للقصاص، فعفي على الدية، أو لم يوجبه، كقتل الوالد ولده، وتتخفف دية
الخطأ من ثلاثة أوجه، فتجب على العاقلة مخمسة مؤجلة في ثلاث سنين، ودية شبه
العمد تتخفف من وجهين، فتجب على العاقلة مؤجلة، وتتغلظ من وجه، فتجب
مثلثة، وحكي وجه وقول مخرج أن شبه العمد لا تحمله العاقلة، وليس بشئ،
وقتل الخطأ في الحرم، أو الأشهر الحرم، أو المصادف لذي الرحم المحرم، ديته
كدية شبه العمد، فتجب على العاقلة مؤجلة مثلثة، والدية المخمسة إنما تتفاوت
أقسامها بالسن إلا في بنات اللبون وبني اللبون، فإن تفاوتهما في الذكورة، ثم
التخميس حاصل في هذه الدية بأقسام متعادلة، والتثليث في الدية المثلثة غير حاصل
على التعديل، بل نسبتها المخففة بالأعشار، ثلاثة أعشار حقاق، وثلاثة أعشار
جذاع، وأربعة أعشار خلفات، ثم هذه النسبة في المخففة والمغلظة تعتبر في دية
المرأة والأطراف والجروح، ودية اليهودي والنصراني والمجوسي وأطرافهم
وجروحهم، فتجب في قتل المرأة خطأ، عشر بنات مخاض وعشر بنات لبون وهكذا
إلى آخر الأقسام، وفي قتلها عمدا وشبه عمد خمس عشرة حقة، وخمس عشرة
جذعة، وعشرون خلفة، وكذا حكم دية اليد، وفي الموضحة إذا كانت خطأ بنت
مخاض، وبنت لبون، وابن لبون، وحقة وجذعة، إذا كانت عمدا أو شبه عمد حقة
ونصف، وجذعة ونصف، وخلفتان، وفي قطع الإصبع خطأ بنتا مخاض، وبنتا لبون، وابنا
لبون، وحقتان وجذعتان، وإذا كانت عمدا أو شبه عمد ثلاث حقاق،
120

وثلاث جذاع، وأربع خلفات، وعلى هذا القياس.
فرع بدل العبد الدراهم والدنانير، فلا مدخل للتغليظ فيه كسائر الأموال.
فصل وأما المنقصات فأربعة
أحدها: الأنوثة، فدية المرأة نصف دية الرجل، ودية الخنثى كذلك، لأنه
اليقين، ودية أطرافها أو جروحها نصف ذلك من الرجل، وفي القديم قول، إنها
تساوي الرجل في الأطراف إلى ثلث الدية، فإذا زاد الواجب على الثلث، صارت
على النصف، فعلى هذا في أصبعها عشر من الإبل، وفي إصبعين عشرون، وفي
ثلاث ثلاثون، وفي أربع عشرون، وهو نصف ما في أصابع الرجل الأربع،
والمشهور الأول وهو نصه في الجديد.
الثاني: الاجتنان، ففي الجنين غرة، وسيأتي إيضاحه في بابه إن شاء الله
تعالى.
الثالث: الرق، ففي قتل العبد قيمته، سواء زادت على الدية، أم نقصت،
سواء قتله عمدا أم خطأ، وأما جروح العبد وأطرافه، فسيأتي بيانها في بابها إن شاء
الله تعالى.
الرابع: الكفر، والكفار أصناف، أحدها: اليهودي والنصراني، فديته ثلث
دية المسلم، وأما السامرة من اليهود، والصابئون من النصارى، فإن كانوا ملاحدة
في دينهم، كفرة عندهم، فحكمهم حكم من لا كتاب له من الكفار، وإن كانوا لا
يكفرونهم فهم كسائر فرقهم وقد سبق في مناكحتهم طريق ضعيف بإطلاق قولين،
ولا بد من مجيئه هنا، الثاني: المجوسي، وديته ثلثا عشر دية المسلم، ودية
المجوسية نصف دية المجوسي، وقيل: كديته، وطرد هذا الوجه في سائر الكفار
الذين تجب فيهم دية مجوسي، والصحيح الأول، ويراعى في ديات هؤلاء التغليظ
والتخفيف، فإن قتل يهودي عمدا أو شبه عمد، وجب فيه عشر حقاق وعشر جذاع
وثلاث عشرة خلفة وثلث، وإذا لم يوجد مغلظ، وجب ست بنات مخاض وثلثا
السابعة، وكذا من بنات اللبون وسائر الأخماس، وفي المجوسي عند التغليظ حقتان
وجذعتان وخلفتان وثلثا خلفة، وعند التخفيف بنت مخاض وثلث وبنت لبون وثلث
وكذا من الباقي، ولا يخفى أن الدية إنما تجب في الصنفين إذا كان لهم عصمة بذمة،
121

أو عهد أو أمان. الصنف الثالث: كافر لا كتاب له، ولا شبهة كتاب، كعابد الوثن
والشمس والقمر والزنديق والمرتد، فهؤلاء لا يتصور لهم عقد ذمة، لكن قد يكون
لهم أمان، بأن دخل بعضهم رسولا، فقتل، ففيه دية مجوسي، إلا المرتد فلا شئ
فيه، فإنه مقتول بكل حال، وليس من أهل الأمان، قال الامام: ولو تحزبت طائفة
من المرتدين ومست الحاجة إلى سماع رسالتهم، فجاء رسولهم فقد قيل: لا
يتعرض لهم، لكن لو قتل، فلا ضمان، وتردد الشيخ أبو محمد في إلحاق الزنديق
بالمرتد، والصحيح إلحاقه بالوثني، وأما من لا عهد له ولا أمان من الكفار، فلا
ضمان في قتله على أي دين كان.
قلت: قد سبق خلاف في الذمي والمرتد إذا قتلا مرتدا هل تجب الدية؟ فإن
أوجبناها فهي دية مجوسي، ذكره البغوي. والله أعلم.
وجميع ما ذكرناه في كافر بلغته دعوتنا وخبر نبينا (ص)، أما من لم تبلغه دعوتنا،
فلا يجوز قتله قبل الاعلام والدعاء إلى الاسلام، فلو قتل، كان مضمونا قطعا،
وكيف يضمن. أما الكفارة فتجب بلا تفصيل، ثم له ثلاثة أحوال، أحدها: أن لا
تكون بلغته دعوة نبي أصلا، فلا قصاص على الصحيح، وأوجبه القفال، وأما
الدية، فهل تجب دية مجوسي أم مسلم؟ وجهان، أو قولان، أصحهما: الأول وبه
قطع جماعة، الثاني: أن يكون متمسكا بدين ولم يبدل ولم يبلغه ما يخالفه، فلا
قصاص على الأصح، فعلى هذا هل تجب دية مسلم أم دية أهل ذلك الدين؟
وجهان، أصحهما: الثاني، الثالث: أن يكون متمسكا بدين لحقه التبديل لكن لم
يبلغه ما يخالفه، فلا قصاص قطعا، وهل تجب دية مجوسي أم دية أهل دينه أم لا
يجب شئ؟ فيه أوجه، أصحها: الأول.
فرع من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر مع التمكن أو دون، إذا قتله
مسلم، تعلق بقتله القصاص والدية، لأن العصمة بالاسلام.
فصل لا يجزئ في الدية مريض ولا معيب بعيب يثبت الرد في البيع إلا
برضى المستحق، سواء كانت إبل من عليه سليمة أم معيبة.
122

فرع الغالب أن الناقة لا تحمل حتى يكون لها خمس سنين وهي الثنية،
فلو حملت قبل ذلك، فهل يلزمه قبولها في الخلفات؟ قولان، أظهرهما: نعم،
وإذا تنازعا في كونها خلفات، عمل بقول عدلين من أهل الخبرة، وإذا أخذت بقول
العدلين، أو بتصديق المستحق، فماتت عند المستحق وتنازعا في الحمل، شق
جوفها لتعرف، فإن بان أنها لم تكن حاملا، غرمها المستحق وأخذ بدلها خلفة،
وفي وجه يأخذ أرش النقص فقط، والصحيح الأول، ولو صادفنا الناقة المأخوذة
حائلا، فقال المستحق: لم يكن بها حمل، وقال الدافع: أسقطت عندك، فإن لم
يحتمل الزمان الاسقاط، ردت، وطولب بخلفة، وإن احتمل، نظر، إن أخذت
بقول الجاني فقط، صدق المستحق بيمينه، وإن أخذت بقول أهل الخبرة، فأيهما
يصدق؟ وجهان، أصحهما: الدافع.
فرع من لزمته الدية من الجاني أو العاقلة له حالان، الأولى: أن لا يملك
إبلا، فيلزمه تحصيل الواجب من غالب إبل البلدة أو القبيلة إن كانوا أهل بادية
ينتقلون، فإن تفرقت العاقلة في البلدان أو في القبائل، أخذت حصة كل واحد من
غالب إبل بلده أو قبيلته، فإن لم يكن في البلد أو القبيلة إبل، أو كانت بعيدة عن
البلد، اعتبر إبل أقرب البلاد، ويلزمه النقل إن قربت المسافة، فإن بعدت وعظمت
المؤنة والمشقة، لم يلزمه، وسقطت المطالبة بالإبل، وأشار بعضهم إلى ضبط
البعيد بمسافة القصر، وقال الامام: لو زادت مؤنة إحضارها على قيمتها في موضع
العزة، لم يلزمه تحصيلها، وإلا فيلزم. الحالة الثانية: أن يملك إبلا، فإن كانت
من غالب إبل البلدة أو القبيلة، فذاك، وإن كانت من صنف آخر، أخذت أيضا من
أي صنف كانت، هذا هو الصحيح، وبه قطع الأكثرون من العراقيين وغيرهم،
وهو ظاهر نصه في المختصر وفي وجه حكاه الامام عن محققي المراوزة واختاره
أنه يجب غالب إبل البلد، ومتى تعين نوع، فلا عدول إلى ما فوقه أو دونه إلا
بالتراضي، وإذا كان الاعتبار بإبل البلد، أو القبيلة، فكانت نوعين فأكثر، ولا غالب
فيها، فالخيرة إلى الدافع، وإذا اعتبرنا إبل من عليه، فتنوعت، فوجهان،
أحدهما: تؤخذ من الأكثر، فإن استويا، دفع ما شاء، والثاني: تؤخذ من كل
123

بقسطه إلا أن يتبرع، فيعطي الجميع من الأشرف، ولو دفع نوعا غير ما في بيده،
أجبر المستحق على قبوله إذا كان من غالب إبل البلد والقبيلة كذلك، وإذا كانت
الإبل تباع بأكثر من ثمن المثل فهي كالمعدومة فلا يلزم تحصيلها.
فرع إذا كانت الإبل موجودة وعدل من عليه الدية ومستحقها إلى القيمة أو
غيرها بالتراضي، جاز، كما لو أتلف مثليا وتراضيا على أخذ القيمة مع وجود
المثل، جاز، قال صاحب البيان: هكذا أطلقوه، وليكن ذلك مبنيا على جواز
الصلح عن إبل الدية، ولو أراد أحدهما العدول عن الإبل، لم يجبر الآخر عليه،
وحكي وجه عن ابن سلمة وغيره أن الجاني يتخير بين الإبل والدراهم والدنانير
المقدرة على القول القديم تفريعا على القديم، والمذهب الأول، فإن لم توجد
الإبل في الموضع الذي يجب تحصيلها منه، أو وجدت بأكثر من ثمن المثل،
فقولان، الجديد الأظهر: أن الواجب قيمة الإبل بالغة ما بلغت، والقديم: يجب
ألف دينار، أو اثنا عشر ألف درهم، وفي وجه مخرج على القديم عشرة آلاف
درهم، والاعتبار بالدراهم والدنانير المضروبة الخالصة، وذكر الامام أن الدافع
يتخير بين الدراهم والدنانير، وقال الجمهور: على أهل الذهب ذهب، وعلى أهل
الورق ورق، فإن كان الواجب دية مغلظة، فهل يزاد للتغليظ شئ؟ وجهان،
أصحهما: لا، والثاني: يزاد ثلث المقدر، فعلى هذا لو تعدد سبب التغليظ بأن
قتل محرما في الحرم، فهل يتكرر التغليظ؟ وجهان، أصحهما: لا فلا يزاد على
124

الثلث، كما لو قتل المحرم صيدا حرميا، يلزمه جزاء فقط، والثاني: يزاد لكل
سبب ثلث دية، فعلى هذا لو قتل ذا رحم محرما في الحرم والأشهر الحرم عمدا،
وجب ثمانية وعشرون ألف درهم، وأما إذا قلنا بالجديد، فتقوم الإبل بغالب نقد
البلد وتراعى صفتها في التغليظ إن كانت مغلظة، قال الامام: فإن غلب نقدان في
البلد، يخير الجاني منهما، وتقوم الإبل التي لو كانت موجودة وجب تسليمها، فإن
لم يكن هناك إبل، قومت من صنف أقرب البلاد إليهم، وهل تعتبر قيمة موضع
الوجود، أم موضع الاعواز لو كانت فيه إبل؟ وجهان، أصحهما: الثاني، وتعتبر
قيمتها يوم وجوب التسليم، هذا هو المفهوم من كلام الأصحاب، وقال الروياني:
إن وجبت الدية والإبل مفقودة، اعتبرت قيمتها يوم الوجوب، وإن وجبت وهي
موجودة فلم تؤد حتى أعوزت وجبت قيمتها يوم الاعواز، وإن وجد بعض الإبل
الواجبة، أخذ الموجود وقيمة الباقي.
فرع قال الامام: لو قال المستحق عند إعواز الإبل: لا أطالب الآن
بشئ، وأصبر إلى أن يوجد، فالظاهر أن الامر إليه، لأن الأصل هو الإبل،
ويحتمل أن يقال لمن عليه أن يكلفه قبض ما عليه لتبرأ ذمته، قال: ولم يصر أحد من
الأصحاب إلى أنه لو أخذ الدراهم، ثم وجدت الإبل يرد الدراهم، ويرجع إلى
الإبل، بخلاف ما إذا غرم قيمة المثلي لاعواز المثل، ثم وجد، ففي الرجوع إلى
المثل خلاف. وبالله التوفيق.
الباب الثاني في دية ما دون النفس
هي ثلاثة أقسام: جرح، وإبانة طرف، وإزالة منفعة.
القسم الأول: الجروح، وهي نوعان، جائفة وغيرها،
الأول: غير
الجائفة، وهي ضربان: جراحات الرأس والوجه، وجراحات سائر البدن.
125

الضرب الأول: جراحات الرأس والوجه، ففي الموضحة: خمس من
الإبل، سواء كانت على الهامة والناصية أو القذال، وهو جماع مؤخر الرأس، أو
الخشاء، وهي العظم الذي خلف الاذن، أو منحدر القمحدوة إلى الرقبة، وهي
ما خلف الرأس، وذكر في العظم الواصل بين عمود الرقبة وكرة الرأس وجه أنه ليس
محلا للموضحة، كالرقبة، ويشبه أن تكون هي المنحدر المذكور، أو تكون منه.
وأما الوجه، فالجبهة منه والجبينان، والخدان، وقصبة الانف، واللحيان،
كلها محل الايضاح، سواء المقبل من اللحيين الذي تقع به المواجهة، وما تحت
المقبل خارجا عن حد المغسول في الوضوء، لأن اسم الموضحة يشمل جميعها،
وإنما يجب في الموضحة خمس من الإبل في حق من تجب الدية الكاملة بقتله، وهو
الحر المسلم الذكر، وهذا المبلغ نصف عشر ديته، فتراعى هذه النسبة في حق
غيره، فتجب في موضحة اليهودي نصف عشر ديته، وهو بعير وثلثان، وفي موضحة
المرأة بعيران ونصف، وفي موضحة المجوسي ثلثا بعير، وعن الإصطخري وأبي
محمد الفارسي أن في موضحة الوجه أكثر الامرين من خمس من الإبل والحكومة،
وهذا شاذ مردود ولا تفريع عليه.
فرع إذا هشم العظم مع الايضاح، وجب عشر من الإبل، وإن نقل مع
ذلك وجب خمسة عشر بعيرا، وحكى السرخسي قولا قديما أن في الهاشمة خمسا
من الإبل وحكومة، وليس بشئ.
فرع في المأمومة ثلث الدية، وفي الدامغة أيضا ثلث الدية على الصحيح
المنصوص، وقال الماوردي: ثلث الدية وحكومة، وحكى الفوراني وجماعة أن فيها
الدية بكمالها، لأنها تذفف، وبهذا قال الامام، وكأن الأولين يمنعون تذفيفها.
فرع هشم العظم ولم يوضح، وجب خمس من الإبل على الأصح
المنصوص، وقال ابن أبي هريرة: تجب حكومة ككسر سائر العظام، ولو نقل العظم
من غير إيضاح، فهل يجب عشر من الإبل م حكومة؟ فيه هذان الوجهان، وفي
الرقم وغيره أن موضع الوجهين ما إذا لم يحوج الهشم إلى بط وشق لاخراج العظم
126

أو تقويمه، فإن أحوج إليه، فالذي أتى به هاشمة تجب فيها عشر من الإبل.
فرع أوضح واحد، وهشم آخر، ونقل ثالث، وأم رابع، فعلى الأول
القصاص، أو خمس من الإبل، وعلى الثاني خمس، وعلى الثالث خمس، وعلى
الرابع ما بين المنقلة والمأمومة، وهو ثمانية عشر بعيرا وثلث بعير، وقيل: يجب
على الجميع ثلث الدية أرباعا، والصحيح الأول، فلو خرق خامس خريطة الدماغ، ففي
التهذيب أن عليه تمام دية النفس، كمن حز رقبة إنسان بعدما قطعت أطرافه،
وهذا على طريقة من قال: الدامغة مذففة.
فرع ما قبل الموضحة من الشجاج كالدامية والحارصة والباضعة
والمتلاحمة ليس فيها أرش مقدر وفي واجبها وجهان، أحدهما: الحكومة، ولا يبلغ
بحكومتها أرش موضحة، والثاني وبه قال الأكثرون: إن لم يمكن معرفة قدرها من
الموضحة فكذلك، وإن أمكن بأن كان على رأسه موضحة إذا قيس بها الباضعة
مثلا، عرف أن المقطوع ثلث أو نصف في عمق اللحم وجب قسطه من أرش
الموضحة، فإن شككنا في قدرها من الموضحة، أوجبنا التعين، قال الأصحاب:
وتعتبر مع ذلك الحكومة، فيجب أكثر الامرين من الحكومة، وما يقتضيه التقسيط،
لأنه وجد سبب كل واحد منهما.
الضرب الثاني: جراحات سائر البدن، فليس في إيضاح عظامه ولا هشمها
ولا تنقيلها، أرش مقدر النوع.
النوع الثاني: الجائفة، وفيها ثلث الدية، وهي الجراحة الواصلة إلى الجوف
الأعظم من البطن أو الصدر، أو ثغرة النحر، أو الجنبين، أو الخاصرة، أو الورك،
أو العجان إلى الشرج وقد سبق أن العجان ما بين الفقحة والخصية، وكذا الجراحة
النافذة إلى الحلق من القفا، أو الجانب المقبل من الرقبة، والنافذة من العانة إلى
127

المثانة، وفي النافذة من الذكر إلى ممر البول وجهان، أصحهما: ليست
بجائفة، ولو نفذت إلى داخل الفم بهشم الخد أو اللحي، أو بخرق الشفة، أو
الشدق، أو إلى داخل الانف بهشم القصبة، أو بخرق المارن، فليست بجائفة على الأظهر
، ويقال: الأصح، لأنهما ليسا من الأجواف الباطنة ولهذا لا ينظر بالواصل
إليهما، ولأنه لا يعظم فيهما الخطر بخلاف ما يصل إلى جوف الرأس والبطن، فعلى
هذا يجب في صورة الهشم أرش هاشمة أو منقلة، وتجب معه حكومة للنفوذ إلى الفم
والأنف، لأنها جناية أخرى، ولو نفذت الجراحة من الجفن إلى بيضة العين، فهل
هي جائفة أم لا تجب إلا حكومة؟ وجهان، أصحهما: الثاني، ولو وضع السكين
على الكتف أو الفخذ وجرها حتى بلغ البطن، فأجاف، لزمه أرش الجائفة وحكومة
لجراحة الكتف والفخذ، لأنها في غير محل الجائفة بخلاف ما لو وضعها على
صدره، وجرها حتى أجاف في البطن أو في ثغرة النحر، فإنه يجب أرش الجائفة بلا
حكومة، لأن جميعه محل الجائفة.
فرع لا فرق بين أن يجيف بحديدة أو خشبة محددة، ولا بين أن تكون
الجائفة واسعة أو ضيقة، حتى لو غرز فيه إبرة فوصلت إلى الجوف فهي جائفة،
وقيل: إنما تكون جائفة إذا قال أهل الخبرة: إنه يخاف منه الهلاك، وليس بشئ.
فصل لا فرق في الموضحة بين الصغيرة والكبيرة، والبارزة والمستورة
بالشعر، والتي يتولد منها شين فاحش والتي لا يتولد، فلا يجب في الجميع إلا
خمس من الإبل، فإن تعددت الموضحة، تعدد الأرش، وتعددها يكون بأسباب.
الأول: اختلاف الصورة، بأن أوضحه في موضعين من رأسه، وبقي اللحم
والجلد بينهما، فيجب أرشان، سواء رفع الحديدة عن موضحة ثم وضعها على
موضع آخر فأوضحه، أو جرها على الرأس من موضع الايضاح إلى أن تحامل عليها
في موضع آخر فأوضحه، وبقي اللحم والجلد بينهما سليمين، وحكى الامام في
128

الصورة الثانية وجها ضعيفا أن الحاصل موضحة واحدة لاتحاد الفعل، ولو كثرت
الموضحات، تعدد الأرش بحسبها ولا ضبط، وقيل: إذا كثرت وصارت بحيث لو
أوجبنا لكل موضحة خمسا من الإبل، لزاد المبلغ على دية نفس، لم يوجب أكثر من
دية نفس، والصحيح الأول، ولو لم يبق الحاجز بين موضعي الايضاح بكماله، بل
بقي جلد دون اللحم أو عكسه، فأربعة أوجه، أصحها: أن الحاصل موضحة،
والثاني: موضحتان، والثالث: إن بقي الجلد، فموضحة، وإن بقي اللحم،
فموضحتان، والرابع: عكسه، فعلى الأول، لو أوضح في موضعين ثم أوغل
الحديدة، ونفذها من إحداهما إلى الأخرى في الداخل ثم سلها، فهل يتحدان؟
وجهان، ولو عاد الجاني، فرفع الحاجز بين موضحتيه قبل الاندمال، فالصحيح أنه
لا يلزمه إلا أرش واحد، وقيل: أرشان، وقيل: ثلاثة، ولو تآكل الحاجز بينهما،
كان كما لو رفعه الجاني، لأن الحاصل بسراية فعله منسوب إليه، ولو رفع الجلد
أو اللحم، أو تآكل أحدهما دون الآخر، ففيه الأوجه الأربعة، ولو رفع الحاجز غير
الجاني، فعليه أرش موضحة، وعلى الأول: أرشان، ولو رفعه المجني عليه،
ففعله هدر، ولا يسقط به شئ مما وجب على الجاني، ولو أوضحه رجلان، فتأكل
الحاجز بين موضحتيهما، عادتا إلى واحدة، فعلى كل واحد نصف الأرش، ولو
اشتركا في موضحتين، ثم رفع أحدهما الحاجز بينهما، فعلى الرافع نصف أرش
وعلى الآخر أرش كامل.
فرع شجه شجة، بعضها موضحة، وبعضها متلاحمة، أو سمحاق،
فالواجب في الجميع أرش موضحة ويدخل فيها حكومة المتلاحمة والسمحاق، لأنها
129

لو كانت كلها موضحة لم يجب إلا أرش، فهنا أولى، فلو اقتص فيما فيها من
الموضحة، فهل له الحكومة لما حولها من المتلاحمة والسمحاق؟ قال البغوي:
يحتمل أن يكون فيه وجهان، كما لو قطع يده من نصف الكف، فاقتص من
الأصابع، هل له حكومة نصف الكف؟ وجهان.
السبب الثاني: اختلاف المحل، فلو نزل في الايضاح من الرأس إلى الجبهة
إما لشمول الايضاح، وإما بأن أوضح شيئا من الرأس وشيئا من الوجه، وجرح بينهما
جراحة دون الموضحة، فوجهان، أحدهما: الحاصل موضحة، لأن الجبهة
والرأس محل الايضاح، وأصحهما: موضحتان لاختلاف المحل، ولو شملت
الموضحة الجبهة والوجنة، قال الامام: في التعدد تردد، والمذهب الاتحاد تنزيلا
لاجزاء الوجه منزلة أجزاء الرأس، ولو جر السكين من موضحة الرأس إلى القفا،
وجرح القفا مع إيضاحه أو بغير إيضاحه، لزمه مع أرش الموضحة حكومة لجرح
القفا، لأنه ليس محل الايضاح، فلم تدخل حكومته في الأرش، ولو جر السكين
من موضحة الرأس إلى الجبهة، وجرحها جراحة متلاحمة، فإن قلنا: لو أوضح في
الجبهة أيضا، كان الحاصل موضحة، دخلت حكومة جراحة الجبهة في أرش
الموضحة، وإن قلنا: الحاصل موضحتان، وجب مع الأرش حكومة.
السبب الثالث: تعدد الفاعل، بأن أوضح رجلا، فوسع آخر تلك
الموضحة، أو أوضح قطعة متصلة بموضحة الأول، فعلى كل واحد منهما أرش
كامل، ولو وسع الأول موضحته، لزمه أرش واحد على الصحيح، وقيل: أرشان.
السبب الرابع: اختلاف الحكم، بأن أوضحه موضحة واحدة هو في بعضها
مخطئ، وفي بعضها متعمد، أو في بعضها مقتص وفي بعضها متعد، فهل
الحاصل موضحة لاتحاد الصورة والجاني والمحل، أم موضحتان لاختلافهما؟
وجهان، أصحهما: موضحتان، فإن قلنا: موضحة، وزع الأرش على البعضين،
وإن قلنا: موضحتان، وجب أرش كامل لما تعدى به، ولو أوضح موضحتين عمدا
ورفع الحاجز بينهما خطأ، وقلنا بالصحيح: أنه لو رفعه عمدا تداخل الأرشان، فهل
يلزمه أرش ثالث أم لا يلزمه إلا أرش واحد؟ وجهان.
130

قلت: أرجحهما: أرش فقط. والله أعلم.
فرع يتعدد أرش الجائفة بتعددها، فلو أجاف جائفتين، ثم رفع الحاجز
بينهما، أو تآكل ما بينهما، أو رفعه غير الجاني، فعلى ما ذكرناه في الموضحة. وتتعدد
الجائفة بتعدد الصورة، بأن يجرحه جراحتين نافذتين إلى الجوف، فإن بقي بينهما
الجلدة الظاهرة، أو انخرق ما تحتها، أو بالعكس، فيشبه أن يكون حكمه كما ذكرنا
في الموضحة، وتتعدد بتعدد المحل، بأن ينفذ جراحتين إلى جوفين ويتعدد
الفاعل، بأن يوسع جائفة غيره، وفصله الأصحاب فقالوا: إن أدخل السكين في
جائفة غيره ولم يقطع شيئا، فلا ضمان عليه ويعزر، وإن قطع شيئا من الظاهر دون ومن
جانب بعض الباطن، قال المتولي: ينظر في ثخانة اللحم والجلد ويسقط أرش
الجائفة على المقطوع من الجائفتين، وقد يقتضي التقسيط تمام الأرش، بأن يقطع
نصف الظاهر من جانب، ونصف الباطن من جانب، ولو لم يقطع من أطراف
الجائفة شيئا، ولكن زاد في غورها، أو كان قد ظهر عضو باطن، كالكبد، فغرز
السكين فيه، فعليه الحكومة، ولو عاد الجاني فوسع الجائفة، أو زاد في غورها، لم
يزد الواجب وكان كما لو أجاف ابتداء كذلك. ويمكن أن يعود فيه الوجه السابق في
توسيع الموضحة، ويجئ في اختلاف حكم الجائفة وانقسامها إلى عمد وخطأ ما
سبق في الموضحة، ولو ضربه بسنان، أو مشقص له رأسان، فنفذ إلى جوفه
والحاجز بينهما سليم، فهما جائفتان، ولو طعنه بسنان في بطنه، فأنفذه من ظهره،
أو من أحد الجنبين إلى الآخر، فهل هما جائفتان أم جائفة؟ وجهان، ويقال:
قولان، أصحهما: جائفتان، فإن قلنا: جائفة، وجب معها حكومة على الأصح،
وقيل: لا حكومة.
فصل إذا أوضحه، فاندملت أطراف الجراحة، وبقي شئ من العظم
بارزا، لم يسقط شئ من الأرش قطعا، وإن التحم الموضع ولم يبق شئ من
131

العظم بارزا، فكذلك على الصحيح، وقيل: إن لم يبق شين، سقط الأرش ولا
حكومة، وإن بقي، سقط الأرش، ووجبت حكومة، وليس بشئ، وإذا اندملت
الجائفة، لم يسقط شئ من الأرش على المذهب، وقيل: يعود إلى الحكومة،
وقيل: في سقوطه قولان، كعود السن.
فرع إذا التحمت الجائفة، أو الموضحة، فجاء جان إما الأول وإما غيره،
فأوضح في ذلك الموضع، أو أجاف، فعليه أرش آخر إن كان الالتحام قد تم سواء
نبت عليه الشعر أم لا، وسواء كان متغير اللون مشينا أم لا، وإن لم يتم الالتحام،
ففتقه، فعليه الحكومة فقط، ولو نزع الخيط الذي خيطت الجائفة به قبل أن يلتحم،
فعليه التعزير، وأجرة مثل الخياط، وضمان الخيط إن تلف، ولا أرش ولا حكومة،
وإن التحمت ظاهرا وباطنا فانفتحت، فهي جائفة جديدة، وكذا لو انفتح جانب منها
بعد تمام التحامه، فإن التحم ظاهرها دون باطنها، أو بالعكس، فعليه الحكومة دون
الأرش، ولا يجب مع الأرش أو الحكومة أجرة الخياط، لكن يجب ضمان الخيط إن
تلف.
فرع في مسائل منثورة تتعلق بما سبق إحداهما: غرز إبرة في رأس
رجل حتى انتهت إلى العظم وسلها، فهي موضحة على المذهب وبه قطع
الجمهور، وخرجه الامام على وجهين.
الثانية: موضحة هشم في بعضها فقط، ليس فيها إلا أرش هاشمة.
الثالثة: أوضح وهشم في موضعين واتصل الهشم بينهما في الباطن،
فالصحيح أنهما هاشمتان، وقيل: هاشمة.
الرابعة: أوضح في مواضع متفرقة، وهشم في كل واحد منها، فهي هاشمتان
على الصحيح، وقيل: موضحتان وهاشمة واحدة.
132

الخامسة: أدخل في دبره شيئا خرق به حاجزا في الباطن، هل عليه أرش
جائفة؟ وجهان.
السادسة: شجه متلاحمة، فأوضحه آخر في ذلك الموضع بقطع اللحم
الباقي، فعلى كل منهما حكومة.
السابعة: أجافه ونكأ في بعض الأعضاء الباطنة، كالأمعاء، فعليه مع أرش
الجائفة حكومة.
القسم الثاني: إبانة الأطراف.
والمقدر بدله من الأعضاء ستة عشر عضوا،
العضو الأول: الأذنان وفي استئصالهما قطعا أو قلعا كمال الدية، وحكي قول أو وجه
مخرج أن فيهما الحكومة، والمذهب الأول، وفي إحداهما نصف الدية، وفي
بعضها بقسطه، وتقدر بالمساحة، وسواء أذن السميع والأصم، لأن السمع ليس في
نفس الاذن، ولو ضرب أذنه، فاستحشفت، أي: يبست كشلل اليد، فقولان،
أظهرهما: تجب ديتها، كما لو ضرب يده، فشلت، والثاني: لا تجب إلا
الحكومة، لأن منفعتها لا تبطل بالاستحشاف بخلاف الشلل. ولو قطع أذنا
مستحشفة، بني على هذا الخلاف، إن قلنا هناك: تجب الدية، وجب هنا
حكومة، كمن قطع يدا شلاء، وإن قلنا: تجب الحكومة، وجب هنا الدية،
وعن الشيخ أبي حامد: هذه الحكومة مع الحكومة الواجبة بالجناية التي حصل بها
الاستحشاف عن كمال الدية وجهان.
فرع لو لم يقتصر على استئصال الشاخص، بل أوضح معه العظم، وجب
دية الأذن، وأرش الموضحة ولا تتبعها، لأنه لا يتبع مقدر مقدرا.
133

العضو الثاني: العينان، ففي فقئهما كمال الدية، وفي إحداهما: نصفها،
وعين الأعور السليمة لا يجب فيها إلا نصف الدية، ولو فقأ الأعور مثل عينه
المبصرة، اقتص منه، وتكمل الدية في عين الأحول والأعمش، والعمش: ضعف
الرؤية مع سيلان الدمع في أكثر الأوقات، ويقال: إن خلل الأعمش في الأجفان،
وفي عين الأعشى، وهو الذي لا يبصر ليلا، ويبصر نهارا، والأخفش، وهو صغير
العين ضعيف البصر، وقيل: هو من يبصر بالليل دون النهار، لأن المنفعة باقية في
أعين هؤلاء، ومقدار المنفعة لا ينظر إليه، ولو كان في العين بياض لا ينقص الضوء
لم يمنع القصاص ولا كمال الدية، سواء كان على بياض الحدقة أو سوادها، وكذا
لو كان على الناظر إلا أنه رقيق لا يمنع الابصار ولا ينقص
الضوء، وإن كان ينقص الضوء، نظر، إن أمكن ضبط النقص بالاعتبار
بالصحيحة التي لا بياض فيها، سقط من الدية قسط ما نقص، وإلا فالواجب
الحكومة.
العضو الثالث: الأجفان الأربعة، وفيها كمال الدية، وفي كل جفن ربعها،
وفي بعض الجفن قسطه من الربع، وسواء الجفن الأعلى والأسفل، وجفن الأعمى
والأعمش وغيرهما، ولا دية في الجفن المستحشف، وإنما فيه الحكومة، ولو
ضرب الجفن، فاستحشف، لزمه الدية قطعا، ولو قلع الأجفان والعينان، لزمه
ديتان.
فرع إزالة الأهداب وسائر الشعور، كشعر الرأس واللحية، بالحلق وغيره
من غير إفساد المنبت لا يوجب إلا التعزير، فإن أفسد المنبت، لزمه الحكومة
فإذا لم يكن على الأجفان أهداب فالواجب بقطعها الدية، فإن قطعت وعليها
أهداب، فهل تجب مع الدية حكومة الأهداب، أم تدخل في الدية؟ وجهان،
أصحهما: الدخول، وتدخل حكومة الشعر على محل الموضحة في أرش
الموضحة على المذهب، وقيل: فيه وجهان.
العضو الرابع: الانف، ففي قطع المارن، وهو مالان من الانف وخلا من
134

العظم كمال الدية، والمارن: ثلاث طبقات، الطرفان، والوترة الحاجزة بينهما،
وفي كيفية توزيع الدية، وجهان، أحدهما - وبه قال أبو علي الطبري، ورجحه
القاضيان الطبري والروياني -، توزع على الثلاث، فعلى هذا إن رفع الحاجز
وحده، وجب ثلث الدية، ولو قطع أحد الطرفين، فكذلك، ولو قطعهما دون
الحاجز، أو أحدهما مع الحاجز، وجب ثلثا الدية، ولو قطع أحدهما، ونصف
الحاجز وجب نصف الدية، والوجه الثاني، وهو المنصوص، ويحكى عن ابن
سريج، وأبي إسحاق، وصححه البغوي: أن الدية تتعلق بالطرفين، وليس في
الحاجز إلا الحكومة، فعلى هذا في الحاجز وحده الحكومة، وفي أحد الطرفين،
نصف الدية، وفي قطعهما دون الحاجز كمال الدية، وفي أحدهما مع الحاجز أو
بعضه نصف الدية وحكومة، ولو سقط بعض أنف المجذوم، فقطع رجل الباقي،
وجب قسطه من الدية، وأنف الأخشم كأنف الأشم، ولو ضرب أنفه فاستحشف، أو
قطع أنفا مستحشفا، فعلى الخلاف المذكور في الاذن، ولو شق مارنه، فذهب
بعضه ولم يلتئم، فعليه من الدية قسط الذاهب، وإن لم يذهب منه شئ، فعليه
الحكومة، سواء التأم أم لا، ولو انجبرت القصبة بعد الكسر، فعليه الحكومة، فإن
بقي معوجا، كانت الحكومة أكثر.
العضو الخامس: الشفتان، ففي استيعابهما كمال الدية، سواء كانتا غليظتين
أم دقيقتين، كبيرتين أم صغيرتين، وفي إحداهما نصفها، سواء التأم أم لا، ولو
انجبرت القصبة بعد الكسر، فعليه الحكومة، إلى الشدقين، وفي ضبطه في الطول
أربعة أوجه، أصحها وهو المنصوص وبه قطع الأكثرون: أن الشفة من جوف الفم
إلى الموضع الذي يستر اللثة، والثاني: أنها المتجافي إلى محل الارتتاق،
والثالث: الذي ينتأ عند إطباق الفم، والرابع: الذي لو قطع لم تنطبق الشفة الأخرى
على الباقي، ولو ضرب شفته، فأشلها فصارت منقبضة لا تسترسل، أو مسترسلة
لا تنقبض، فعليه كمال الدية، وفي الشفة الشلاء الحكومة، ولو شق شفتيه ولم
يبق منهما شئ، لزمه حكومة، ولو قطع شفة مشقوقة، فعليه دية ناقصة بقدر حكومة
135

الشق، ولو قطع بعض الشفة، وتقلص الباقي حتى بقيت كالمقطوع جميعها، فهل
يجب كمال الدية، أو تتوزع على المقطوع والباقي؟ وجهان، وهل تتبع حكومة
الشارب دية الشفة؟ وجهان.
العضو السادس: اللسان، ففيه دية، ولسان الألكن، والمبرسم الذي ثقل
كلامه، والألثغ كغيره، وفي لسان الأخرس حكومة، سواء كان خرسه أصليا أم
عارضا، وفي وجوب الدية فيه احتمال لابن سلمة، والمذهب الأول، وهذا إذا لم
يذهب الذوق بقطع الأخرس، أو كان قد ذهب ذوقه قبله، فأما إذا قطع لسانه،
فذهب ذوقه، ففيه الدية، ولو تعذر النطق لا لخلل في اللسان، ولكنه ولد أصم،
فلم يحسن الكلام، لأنه لم يسمع شيئا، فهل تجب فيه الدية أم الحكومة، وجهان
يجئ ذكرهما إن شاء الله تعالى، ولو قطع لسان طفل، نظر، إن نطق ببابا ودادا
ونحوهما، أو كان يحركه عند البكاء والضحك والامتصاص تحريكا صحيحا،
وجبت الدية لظهور آثار الكلام فيه، وإن لم يوجد نطق وتحريك، فإن كان بلغ وقت
النطق والتحريك، فالواجب حكومة، وإلا فالمذهب وجوب الدية أخذا بظاهر
السلامة، كما تجب الدية في رجله ويده، وإن لم يكن في الحال بطش، وبهذا
قطع جماهير الأصحاب في طرقهم، ونقل الامام عن الأصحاب، أن الواجب
الحكومة، ونقل ابن القطان فيه قولين، وإذا قطع بعض لسانه طفل واقتضى الحال
إيجاب الحكومة، فأخذناها، ثم نطق ببعض الحروف وعرفنا سلامة لسانه أوجبنا
تمام القدر الذي يقتضيه القطع من الدية، ولو كان للسانه طرفان، نظر، إن استويا
136

في الخلقة، فهو لسان مشقوق، فيجب بقطعهما الدية، وبقطع أحدهما قسطه من
الدية، وإن كان أحدهما تام الخلقة أصليا، والآخر ناقص الخلقة زائدا، ففي
قطعهما دية وحكومة، وفي الأصلي دية، وفي الزائد حكومة، ولا يبلغ بحكومته دية
قدره من اللسان من ثلث وربع ونحوهما، وفي قطع اللهاة الحكومة.
السابع: الأسنان، فيجب في كل سن من الذكر الحر المسلم، خمس من
الإبل، سواء قلعها، أو قطعها، أو كسرها ولو اقتلعها، فبقيت معلقة بعروق، ثم
عادت إلى ما كانت فليس عليه إلا حكومة، ذكره الروياني، وتستوي الأسنان في
الدية وإن اختلفت منافعها، وتكمل دية السن بقلع كل سن أصلية تامة مثغورة غير
متقلقلة، فهذه أربعة قيود، الأول: كونها أصلية، ففي الشاغية الحكومة لا
الدية، ولو سقطت سنه فاتخذ سنا من ذهب أو حديد أو عظم طاهر، فلا دية في
قلعها، وأما الحكومة، فإن قلعت قبل الالتحام، لم تجب، لكن يعزر القالع، وإن
قلعت بعد تشبث اللحم بها، واستعدادها للمضغ والقطع، فلا حكومة أيضا على الأظهر
. الثاني: كونها تامة، وتكمل دية السن بكسر ما ظهر من السن، وإن بقي
السنخ بحاله، ولو قلع السن من السنخ، وجب أرش السن فقط على المذهب،
وقيل في وجوب الحكومة معه وجهان، ولو كسر الظاهر رجل، وقلع السنخ آخر،
فعلى الأول دية سن، وعلى الثاني حكومة قطعا، ولو عاد ا لأول وقلعه بعد
الاندمال، فعليه حكومة مع الدية، وإن قلعه قبل الاندمال، فكذلك على الأصح،
وقيل: لا حكومة، وطرد مثل هذا في قطع الكف بعد قطع الأصابع من القاطع أو
غيره، ولو قطع بعض الظاهر، فعليه قسطه من الأرش وينسب المقطوع إلى الباقي
من الظاهر، ولا يعتبر السنخ على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: وجهان،
ثانيهما يوزع عليه وعلى السنخ، وفي معنى هذا صور منها: أن الدية تكمل في قطع
الحشفة.
ومنها: حلمة الثدي فيها كمال الدية، فلو استؤصل الثدي ففيه الطريقان،
والمذهب فيهما الاندراج.
137

ومنها: في المارن الدية، فلو قطعه مع القصبة، فهل تندرج حكومة القصبة
في دية المارن؟ وجهان، الصحيح الاندراج.
واعلم أنا قدمنا أن قصبة الانف محل الموضحة في الوجه، وكذا هي محل
الهاشمة والمنقلة، وإبانة القصبة أعظم من المنقلة، فيجب أن تجب فيها مع دية
المارن أرش المنقلة، وقد حكى ابن كج هذا عن النص، لكن لم أجد لغيره تعرضا
له.
وإذا قلنا بالاندراج في هذه الصور، فقطع بعض الحشفة أو الحلمة أو
المارن، فهل ينسب المقطوع إلى الحشفة أم جميع الذكر، وإلى الحلمة أم جميع
الثدي، وإلى المارن أم إليه مع القصبة؟ فيه الطريقان اللذان في بعض ظاهر
السن، والمذهب التوزيع على الحشفة والحلمة والمارن فقط، فإذا اختلفا في قدر
المكسور من ظاهر السن، فالمصدق الجاني، لأن الأصل براءته.
فرع كسر واحد بعض ظاهر السن، ثم كسر غيره الباقي من الظاهر، فعلى
كل منهما قسط ما كسره من الأرش، ولو قلع الثاني الباقي مع السنخ، فطريقان،
أحدهما على وجهين، أحدهما: عليه أرش الباقي وحكومة السنخ، والثاني: عليه
الأرش فقط، والطريق الثاني - وهو الأصح وبه قطع الأكثرون - ينظر في جناية
الأول، فإن كسر بعض السن في العرض، وبقي الأسفل بحاله، فليس على الثاني
حكومة السنخ، بل يدخل في أرش الباقي، وإن كسر بعضها في الطول، فحكومة
السنخ بقدر ما يجب الباقي من السن يدخل في أرشه، وما لا شئ فوقه تلزمه
حكومته.
فرع لو ظهر بعض السنخ بخلل أصاب اللثة، لم يلحق ذلك بالظاهر، بل
138

تكمل الدية فيما كان ظاهرا في الأصل.
فرع لو تناثر بعض السن، أو تآكل، ففي قلعها قسط ما بقي من الدية،
فإن اختلفا في قدر المتناثر والمتآكل، صدق المجني عليه بيمينه.
فرع لو كانت أسنانه من الأعلى طويلة، ومن الأسفل قصيرة، أو
بالعكس، لم يؤثر ذلك، ووجب لكل واحدة كمال الأرش، والغالب أن الثنايا من
الأسنان تكون أطول من الرباعيات بقليل، فلو كانت ثناياه كرباعياته أو أقصر منها،
فوجهان، أحدهما حكاه الامام عن الأكثرين: لا يجب فيها تمام الأرش بل ينقص
منه بحسب نقصانها، وبهذا قطع الروياني، والثاني: يجب كمال الأرش، وبه قطع
البغوي، ولو كانت إحدى الثنيتين من الأعلى أو الأسفل أقصر من أختها، فقلعت
الصغيرة، نقص من ديتها بقدر نقصانها، لأن الغالب أنهما لا تختلفان، فإذا
اختلفتا، كانت القصيرة ناقصة، ولو أنهى صغر السن إلى أن بطلت منفعته ولم
يصلح للمضغ، ففي قلعها الحكومة دون الدية، كاليد الشلاء.
القيد الثالث: كونها مثغورة، فلو قلع سن صغير لم يثغر، فقد سبق في كتاب
الجنايات أنه لا يستوفى في الحال قصاص ولا دية، لأن الغالب عودها، فهي
كالشعر يحلق، لكن ينتظر عودها فإن عادت، فلا قصاص ولا دية، وتجب الحكومة
إن بقي شين، وإلا فهل يعتبر حال الجناية وقيام الألم أم لا يجب شئ؟ فيه خلاف
يأتي في باب الحكومات إن شاء الله تعالى، وإن مضت المدة التي يتوقع فيها العود
ولم تعد، وفسد المنبت، استوفي القصاص أو الدية، فإن مات الصبي قبل بيان
الحال، ففي وجوب الأرش وجهان، وقيل: قولان، أحدهما: يجب لتحقق
الجناية والأصل عدم العود، وأصحهما: لا، لأن الأصل البراءة، والظاهر العود لو
عاش، فعلى هذا تجب الحكومة، قال المتولي: هذا على طريقة من يعتبر حال
139

الجناية والألم، ولو قلع رجل سن الصغير، وجنى آخر على منبته جناية أبطلت
النبات، قال الامام: لا وجه لايجاب الأرش على الثاني ولا عليهما، أما الأول
فيجوز أن يقال بوجوبه عليه، ويجوز أن يقتصر على الحكومة، ولو سقطت سنة
بنفسها، ثم جنى جان وأفسد المنبت، فيجوز أن يقال بوجوب الأرش على الثاني،
لأنه أفسد المنبت، ولم تسبقه جناية بحال عليها.
فرع لو قلع سن مثغور، فأخذ منه الأرش، فعادت السن على الندور، لم
يسترد الأرش على الأظهر، ولو التحمت الموضحة أو الجائفة بعد أخذ أرشها، لم
يسترد على الصحيح، ولو جنى على يده فذهب بطشها، أو على عينه فذهب
بصرها، فأخذنا ديتهما لظن زوال البطش والبصر، ثم قويت اليد والعين فصار يبطش
ويبصر، استردت الدية قطعا، لأن الشلل والعمى المحققين لا يزولان، وكذا
الحكم في السمع وسائر المعاني.
فرع قلع سن صغير، فطلع بعضها ومات الصغير قبل أن يتم نباتها، فعليه
من الدية، نص عليه الشافعي رحمه الله، ولو قلعها قبل تمام الطلوع آخر، فعن
النص انتظار نباتها، فإن لم تنبت، فعليه حكومة هي أكثر من حكومة المرة الأولى.
القيد الرابع: كونها ثابتة غير متقلقلة، فإن كانت متحركة حركة يسيرة لا تنقص
المنافع، لم يؤثر تحركها في قصاص ولا دية، وإن كان بها اضطراب شديد بهرم أو
مرض ونحوهما، نظر، إن بطلت منفعتها، ففيها الحكومة، وإن نقصت، فهل
يجب الأرش أم الحكومة؟ قولان، أظهرهما: الأرش، وقال الامام: إن كان
الغالب على الظن نباتها، وجب الأرش قطعا، وإن كان الغالب على الظن سقوطها،
فهو موضع القولين، ولو ضرب سن رجل فتزلزلت وتحركت، نظر، إن سقطت
140

بعد ذلك، لزمه الأرش، وإن عادت كما كانت، فلا أرش، وفي وجوب الحكومة
وجهان، كما إذا لم يبق في الجراحة نقص ولا شين، وإن بقيت كذلك ناقصة
المنفعة، فهل يجب الأرش أم الحكومة؟ فيه القولان، فإن قلعها آخر، فعليه
الأرش إن أوجبنا على الأول الحكومة، والحكومة إن أوجبنا على الأول الأرش، قال
الشيخ أبو حامد: إن قلنا: تجب الحكومة، فهي دون حكومة السن المتحركة بهرم
ومرض، لأن النقص الذي فيها قد غرمه الجاني الأول بخلاف الهرم، وقطع المتولي
بأنه ليس على الثاني إلا حكومة بخلاف ما لو كان الاضطراب بهرم ومرض، لأن خلل
الجناية يخالفهما، ولهذا لو قتل مشرفا على الموت في آخر رمق بالمرض، وجب
القصاص، ولو كان في هذا الحال بجناية، فلا قصاص، ولو جنى على سن،
فاضطربت ونقصت منفعتها، وقلنا: الواجب عليه الحكومة، فعاد وقلعها قبل أن
يضمن الحكومة، فعليه الأرش بكماله.
فرع قلع سنا سوداء كاملة المنفعة، نظر، إن كانت سوداء قبل أن يثغر
وبعده، لزمه كمال الأرش، وإن كانت في الأصل بيضاء، فلما ثغر نبتت سوداء، أو
نبتت بيضاء ثم اسودت، فعن نص الشافعي رحمه الله أنه يراجع أهل الخبرة، فإن
قالوا: لا يكون ذلك إلا لعلة حادثة، ففي قلعها الحكومة، وإن قالوا: لم يحدث
ذلك لعلة، أو قالوا: مثل هذا قد يكون لعلة ومرض، وقد يكون لغيره، وجب كمال
الأرش، والرد إلى الحكومة للمرض مع كمال المنفعة خلاف القياس، وإن ضرب
سنا فاسودت، فهل يجب الأرش أم الحكومة؟ نقل المزني اختلاف نص فيه،
فقيل: قولان والمذهب وما قطع به الجمهور تنزيل النصين على حالين، إن فاتت
المنفعة مع الاسوداد، وجب الأرش، وإلا فالحكومة، ولو اخضرت السن بجناية أو
اصفرت، وجبت الحكومة، وحكومة الاخضرار أقل من الاسوداد، وحكومة
الاصفرار أقل من الاخضرار.
141

فصل الأسنان في غالب الفطرة اثنتان وثلاثون، منها أربع ثنايا وهي الواقعة
في مقدم الفم، ثنتان من أعلى وثنتان من أسفل، ويليهما أربع من أعلى وأسفل يقال
لها: الرباعيات بفتح الراء وتخفيف الباء، ثم أربع ضواحك، ثم أربعة أنياب وأربعة
نواجذ، واثنا عشر ضرسا، ويقال لها: الطواحن، ففي كل سن منها خمس من
الإبل كما سبق ما لم يجاوز عشرين سنا، فإن جاوزها، فقولان، أحدهما: لا يجب
إلا مائة من الإبل، وأظهرهما وقطع به جماعة: يجب لكل سن خمس، فلو كانت
ثنتين وثلاثين، فقلعها، وجب مائة وستون بعيرا، وهذا الخلاف إذا اتحد الجاني
والجناية، فإن تعدد الجاني، بأن قلع عشرين سنا، وقلع غيره الباقي، فعلى الأول
مائة بعير، وعلى الثاني ستون قطعا، وإن اتحد الجاني، وتعددت الجناية، نظر،
إن تخلل الاندمال بأن قلع سنا وتركه حتى برأت اللثة، وزال الألم، ثم قلع أخرى
وهكذا إلى استيعاب الأسنان، لزمه لكل سن خمس قطعا، وإن لم يتخلل
الاندمال، فعلى القولين، وقيل: يتعدد قطعا، وصورة الجناية الواحدة أن يسقطها
كلها بضربة أو يسقيه دواء يسقطها.
فرع قد تزيد الأسنان على ثنتين وثلاثين، فإن زادت، فهل يجب لكل
سن خمس، أم لا يجب في الزائد على ذلك إلا الحكومة كالإصبع الزائد؟ وجهان.
العضو الثامن: اللحيان، وهما العظمان اللذان عليهما منبت الأسنان السفلى
وملتقاهما الذقن، وفيهما كمال الدية، وفي أحدهما إن ثبت الآخر نصفها، فلو كان
على اللحيين أسنان كما هو الغالب، فوجهان، أحدهما: لا يجب إلا دية اللحيين
ويدخل فيها أروش الأسنان، وأصحهما: تجب دية اللحيين وأروش الأسنان.
التاسع: اليدان، وفيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها، وتكمل الدية
142

بلقط الأصابع، ولو قطع من الكوع، فالواجب ما يجب في الأصابع وتدخل حكومة
الكف في ديتها، ولو قطع من بعض الساعد، أو المرفق، أو المنكب، وجبت
حكومتها مع الدية بخلاف الكف، لأن الكف مع الأصابع كالعضو الواحد، وقال ابن
حربويه من أصحابنا: نهاية اليد التي يجب فيها الدية: الإبط والمنكب، ويجب
فيما دون ذلك قسطه من الدية، والصحيح الأول، وبه قطع الجمهور، وفي كل
أصبع عشر من الإبل، تستوي فيه جميع الأصابع، وفي كل أنملة من الابهام خمس
من الإبل، وفي كل أنملة من غيرها ثلاثة أبعرة وثلث، ولو انقسمت أصبع بأربع
أنامل متساوية، ففي كل واحدة بعيران ونصف.
فرع ما ذكرناه من اندراج حكومة الكف تحت دية الأصابع هو فيما إذا قطع
من الكوع، وأبان الكف والأصابع بجناية واحدة، فأما إذا قطع واحد الأصابع،
وآخر الكف، أو قطع واحد الأصابع ثم الكف قبل الاندمال أو بعده، فعلى ما ذكرناه
في الأسنان.
فرع إذا كان على معصم إنسان كفان مع الأصابع، أو على العضد ذراعان
وكفان، أو على المنكب عضدان وذراعان وكفان مع الأصابع، نظر إن لم يبطش
بواحد منهما، فليس فيهما قصاص ولا دية، وإنما يجب فيهما الحكومة كاليد
الشلاء، وإن كان فيهما بطش، نظر، إن كانت إحداهما أصلية والأخرى زائدة،
ففي الأصلية القصاص والدية، وفي الزائدة الحكومة، وطريق معرفة الزائدة أن
ينظر، فإن اختصت إحداهما ببطش أو قوة بطش، فهي الأصلية، وسواء كانت
الباطشة أو التي هي أقوى بطشا على استواء الذراع، أو منحرفة عنه، فإن كانت
إحداهما مستوية، والأخرى منحرفة، فالمستوية هي الأصلية، وإن كانت إحداهما
معتدلة الأصابع والأخرى زائدة، فوجهان، قال القاضي حسين: المعتدلة هي
الأصلية، لأن الزيادة على الكمال نقصان، وقال الأكثرون: لا يؤثر ذلك في
التمييز، لأن اليد الأصلية كثيرا ما تشتمل على الإصبع الزائدة، ولو كانت
143

إحداهما ناقصة بأصبع، ولكنها مستوية، والأخرى كاملة الأصابع منحرفة، فأيتهما
الأصلية؟ فيه احتمال للامام، وأما إذا لم تتميز الأصلية عن الزائدة بشئ، فهما كيد
واحدة، فيجب في قطعهما القصاص أو كمال الدية، ويجب مع القصاص أو الدية
حكومة لزيادة الصورة، وعن المزني أنه لا قصاص لنقصهما بتشوه الخلقة، ولو
قطعت إحداهما لم يجب القصاص، ويجب فيها نصف دية وزيادة حكومة، وقيل:
لا تجب الحكومة، وهو غريب، والصحيح الأول، فعلى هذا في الإصبع منها
نصف دية إصبع وحكومة، وفي الأنملة نصف دية أنملة وحكومة، ولو عاد الجاني
بعد أخذ الأرش والحكومة منه، فقطع اليد الأخرى، وأراد المجني عليه القصاص
ورد ما أخذه غير قدر الحكومة، هل له ذلك، وجهان، أحدهما: لا، لأنه أسقط
بعض القصاص فلا عود إليه، والثاني: نعم، لأن القصاص لم يكن ممكنا، وإنما
أخذ الأرش لتعذره لا لاسقاطه.
فرع لو قطع صاحب اليدين الباطشتين يد معتدل لم تقطع يداه للزيادة،
وللمجني عليه أن يقطع إحداهما، ويأخذ نصف دية اليد ناقصا بشئ، فلو بادر
وقطعهما، عزر، وأخذت منه حكومة للزيادة، وإن كانت إحدى يدي القاطع زائدة،
وأمكن إفراد الأصلية بالقطع، قطعت ولم يلزم شئ آخر، وإن علم أن إحداهما
زائدة ولم تعلم عينها، لم تقطع واحدة منهما.
فرع كانت إحدى يمينيه باطشة دون الأخرى، فقطعت الباطشة، فاستوفى
ديتها، فصارت الأخرى باطشة، أو كانت ناقصة البطش، فقوي، فقد تبينا أن الثانية
أصلية حتى لو قطعها قاطع لزمه القصاص، أو كمال الدية، وهل يسترد القاطع أولا
الأرش ويرد إلى مقدار الحكومة؟ وجهان، أصحهما: لا، فلا يغير ما مضى،
وهذه نعمة من الله تعالى، ولو كانتا باطشتين على السواء، فغرمنا قاطع إحداهما
نصف دية اليد وزيادة حكومة، فازدادت قوة الباقية، واشتد بطشها، فهل يسترد من
144

أرش الأولى ما يرده إلى قدر الحكومة؟ فيه الوجهان، وإن ضعفت الثانية لما قطعت
الأولى، وبطل بطشها، عرفنا أن الأصلية هي المقطوعة، فعلى قاطعها القصاص أو
كمال الدية، قال ابن كج: ويحتمل أن لا قصاص.
العضو العاشر: الرجلان، ففيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها،
ورجل الأعرج كرجل الصحيح، لأنه لا خلل في العضو، ولو قطع رجلا تعطل مشيها
بكسر الفقار، فوجهان، أحدهما: الواجب الحكومة، كاليد الشلاء، وأصحهما:
الدية، لأن الرجل صحيحة، والخلل في غيرها، وتكمل دية الرجلين بالتقاط
أصابعهما، والقدم كالكف، والساق كالساعد، والفخذ كالعضد، وأنامل أصابع
الرجل كأنامل أصابع اليد، وقدمان على ساق، وساقان على ركبة ككفين على
معصم، وساعدين على عضد، وقد سبق بيان الجميع، وكذا يقاس بما تقدم حكم
الرجل الشلاء، وحصول الشلل بالجناية عليها.
العضو الحادي عشر: حلمتا المرأة، وفيهما كمال ديتها، وفي إحداهما
نصفها، والحلمة: المجتمع نابتا على رأس الثدي، قال الامام: ولون الحلمة
يخالف لون الثدي غالبا، وحواليها دارة على لونها، وهي من الثدي لا من الحلمة،
ولو قطع الثدي مع الحلمة، لم يجب إلا الدية، وتدخل فيها حكومة الثدي، وفيه
وجه قدمناه، وعن الماسرجسي نقله قولا، ولو قطع مع الثدي جلدة الصدر،
وجبت حكومة الجلدة مع الدية قطعا، وإن وصلت الجراحة إلى الباطن، وجب مع
دية الحلمة أرش الجائفة، وهل يجب في قطع حلمة الرجل دية أم حكومة؟ قولان،
أظهرهما: حكومة، وقيل: حكومة قطعا، ولو قطع مع حلمة الرجل الثندوة،
أفردت الثندوة بحكومة على المذهب، وقيل: إذا أوجبنا في حلمته دية، دخلت فيها
حكومة الثندوة، والثندوة: لحمة تحت الحلمة إذا لم يكن الرجل مهزولا.
فرع تقطع حلمة المرأة بحلمة المرأة، وفي التتمة وجه أنه إذا لم يتدل
الثدي، فلا قصاص، لاتصالها بلحم الصدر، وتعذر التمييز، والصحيح الأول،
قال البغوي: ولا قصاص في الثدي، لأنه لا يمكن المماثلة، وللمجني عليها أن
145

تقتص في الحلمة، وتأخذ حكومة الثدي، ولك أن تقول: المماثلة ممكنة، فإن
الثدي هذا الشاخص، وهو أقرب إلى الضبط من الشفتين والأليتين ونحوهما، وتقطع
حلمة الرجل بحلمة الرجل إن أوجبنا فيها الحكومة أو الدية، وتقطع حلمة الرجل
بحلمة المرأة وبالعكس، إن أوجبنا في حلمة الرجل الدية، فإن أوجبنا الحكومة، لم
تقطع حلمتها بحلمته وإن رضيت، كما لا تقطع صحيحة بشلاء، وتقطع حلمته
بحلمتها إن رضيت، كما تقطع الشلاء بالصحيحة إذا رضي المستحق.
فرع هل يستدل بنهود الثدي وتدليها على أنوثة الخنثى؟ وجهان سبقا في
الطهارة، قال أبو علي الطبري: نعم، والجمهور: لا، فإن قطعا، فعلى قول
الطبري: تجب دية امرأة، وعلى قول الجمهور، إن قلنا: في حلمة الرجل الدية،
وجب هنا دية امرأة أخذا باليقين، وإن قلنا: الحكومة، وجب هنا حكومة.
فرع ضرب ثدي المرأة، فشل، فعليه الدية، ولو كانت ناهدا، فاسترسل
ثديها، لم تجب إلا الحكومة، لأن الفائت مجرد الجمال، ولو استرسل بالضرب
ثدي الخنثى ولم يجعل الثدي أمارة الأنوثة، فلا حكومة في الحال، لجواز كونه
رجلا، فلا يلحقه نقص بالاسترسال، ولا يفوت جماله، فإن بانت امرأة، وجبت
الحكومة.
العضو الثاني عشر: الذكر، وفيه كمال الدية، سواء ذكر الشيخ والشاب
والصغير والعنين والخصي وغيرهم، وفي الأشل حكومة، ولو ضرب ذكرا فشل،
فعليه كمال الدية، ولو خرج عن أن يمكن به الجماع من غير شلل ولا تعذر انقباض
وانبساط، فعليه الحكومة، لأن العضو ومنفعته باقيان، والخلل في غيرهما، فلو
قطعه قاطع بعد ذلك، فعليه القصاص أو الدية، هكذا ذكره ابن الصباغ والبغوي
وغيرهما، وفيه نظر، وتكمل الدية بقطع الحشفة وفي بعض الحشفة قسطه من
146

الدية، وهل يكون التقسيط على الحشفة فقط أم على جملة الذكر؟ فيه خلاف سبق
في فصل الأسنان، والمذهب أولهما، قال المتولي: هذا إذا لم يختل مجرى
البول، بأن قطع بعض الذكر طولا، فإن اختل، فعليه أكثر الامرين من قسطه من
الدية، وحكومة فساد المجرى، قال: ولو قطع جزءا من الذكر مما تحت الحشفة،
فإن انتهت الجراحة إلى مجرى البول، فقد سبق خلاف في كونها جائفة، وإن لم
ينته، فإن قلنا: في قطع بعض الحشفة يقسط على الحشفة فقط، فعليه هنا
حكومة، وإن قسطنا على الذكر، فعليه قسط المقطوع من الدية، وإن لم يبن شيئا
من الذكر، لكن شقه طولا، وزالت منفعته بذلك، وجبت الدية كالشلل، وتجب
في بقية الذكر وحدها الحكومة، وإذا استأصل الذكر، وجبت الدية بلا حكومة على
المذهب، وقيل: تجب مع الدية حكومة.
العضو الثالث عشر: الأنثيان، وفيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها.
العضو الرابع عشر: الأليان، وفيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها،
والألية الناتئ المشرف على استواء الظهر والفخذ، ولا يشترط في وجوب الدية قرع
العظم، واتصال الحديدة إليه، ولو قطع بعض إحداهما، وجب قسط المقطوع إن
عرف قدره وضبطه، وإلا فالحكومة، وسواء في هذا العضو الرجل والمرأة، ولا نظر
إلى اختلاف القدر الناتئ، واختلاف الناس فيه كاختلافهم في سائر الأعضاء. ولو
قطع أليته، فنبتت، والتحم الموضع، قال البغوي: لا تسقط الدية على المذهب.
الخامس عشر: الشفران للمرأة: هما اللحمان المشرفان على المنفذ،
وفيهما كمال الدية، وفي إحداهما نصفها، سواء فيه السمينة والمهزولة، والبكر
والثيب، والرتقاء والقرناء، إذ لا خلل في نفس شفرهما، وسواء المختونة وغيرها،
ولو ضرب شفريها فشلا، وجب كمال الدية، ولو قطع مع الشفرين الركب بفتح الراء
والكاف وهو عانة المرأة، وجب حكومة مع الدية، وكذا لو قطع شيئا من عانة الرجل
مع الذكر، ولو قطع شفري بكر، وأزال بالجناية بكارتها، وجب مع دية الشفرين
147

أرش البكارة، ولو قطع شفريها، فجرح موضعهما آخر بقطع لحم وغيره، لزم الثاني
حكومة.
السادس عشر: الجلد، فإذا سلخ جلده، وجب كمال الدية، قال الأئمة:
وسلخ جميعه قاتل، لكن قد يفرض حياة مستقرة بعد، فتظهر فائدة إيجاب الدية فيه
لو حز غيره رقبته، وحكى الامام عن الشيخ أبي علي أنه لو قطعت يداه بعد سلخ
الجلد، توزع مساحة الجلد على جميع البدن، فما يخص اليدين يحط من دية
اليدين ويجب الباقي، وعلى هذا القياس لو قطع يد رجل، ثم جاء آخر، فسلخ
جلده، لزم السالخ دية الجلد إلا قسط اليدين.
فصل الترقوة: هي العظم المتصل بين المنكب وتغرة النحر، ولكل
شخص ترقوتان، فالمشهور من نصوص الشافعي رحمه الله في الام وغيره أن في
الترقوتين حكومة، ونص في اختلاف الحديث وغيره أن فيه جملا، فقيل:
قولان، القديم جمل، والجديد حكومة، وقطع الجمهور بالحكومة وهو المذهب،
كالضلع وسائر العظام.
القسم الثالث: إزالة المنافع وهي ثلاثة عشر شيئا.
الأول: العقل، فتجب بإزالته كمال الدية، ولا يجب فيه قصاص لعدم
الامكان، ولو نقص عقله ولم تستقم أحواله، نظر، إن أمكن الضبط، وجب قسط
الزائل، والضبط قد يتأتى بالزمان بأن يجن يوما، ويفيق يوما، فتجب نصف الدية،
أو يوما ويفيق يومين، فيجب الثلث، وقد يتأتى بغير الزمان، بأن يقابل صواب
قوله، ومنظوم فعله بالخطأ المطروح منهما، وتعرف النسبة بينهما، فيجب قسط
الزائل، وإن لم يمكن الضبط، بأن كان يفزع أحيانا مما يفزع، أو يستوحش إذا
خلا، وجبت حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، وذكر المتولي أن الدية إنما تجب عند
تحقق الزوال بأن يقول أهل الخبرة: لا يزول العارض الحادث، أما إذا توقعوا
زواله، فيتوقف في الدية، فإن مات قبل الاستقامة، ففي الدية وجهان، كما لو قلع
148

سن مثغور، فمات قبل عودها.
فرع ينظر في الجناية التي ذهب بها العقل، فإن لم يكن لها أرش، بأن
ضرب رأسه، أو لطمه، فذهب عقله، وجبت دية العقل، وإن كان لها أرش مقدر،
كالموضحة واليد والرجل أو غير مقدر كالجراحة الموجبة للحكومة، فقولان،
القديم: أنه يدخل الأقل في الأكثر، فإن كانت دية العقل أكثر بأن أوضحه فزال
عقله، دخل فيها أرش الموضحة، وإن كان أرش الجناية أكثر، بأن قطع يديه
ورجليه، أو يديه مع بعض الذراع فزال عقله، دخل فيه دية العقل، والجديد
الأظهر: لا تداخل، بل يجب دية العقل وأرش الجناية، فعلى هذا لو قطع يديه
ورجليه فزال عقله، وجب ثلاث ديات، وعلى القديم تجب ديتان، وقيل: إن كان
أرش الجناية بقدر الدية أو أكثر، وجب دية العقل معها قطعا، وإلا فعلى القولين،
وقيل: إن لم يكن أرش الجناية مقدرا، لم يدخل في دية العقل قطعا.
فرع أنكر الجاني زوال العقل ونسبه إلى التجانن، راقبناه في الخلوات
والغفلات، فإن لم تنتظم أفعاله وأقواله، أوجبنا الدية ولا نحلفه، لأنه يتجانن في
الجواب، ولان يمينه تثبت جنونه، والمجنون لا يحلف، وإن وجدناها منظومة،
صدق الجاني بيمينه، وإنما حلفناه، لاحتمال صدورها منه اتفاقا وجريا على
العادة.
الثاني: السمع، وفي إبطاله كمال الدية، ولو أبطله من إحدى الاذنين،
وجب نصف الدية على الصحيح وبه قطع الجمهور، وقيل: يجب بقسط ما نقص
149

من السمع من الدية، ولو قطع الاذن، وبطل السمع، وجب ديتان، لأن السمع
ليس في الاذن، ولو جنى عليه، فصار لا يسمع في الحال، لكن قال أهل الخبرة:
يتوقع عوده، نظر، إن قدروا مدة، انتظرناها، فإن لم يعد، أخذت الدية،
واستثنى الامام ما إذا قدروا مدة يغلب على الظن انقراض العمر قبل فراغها، وقال:
الوجه أن تؤخذ الدية ولا ينتظر هذه المدة، وإن لم يقدروا مدة: أخذت الدية في
الحال، فإن عاد، ردت، لأنه بان أنه لم يزل، وإن قال أهل الخبرة: لطيفة السمع
باقية في مقرها، ولكن ارتتق داخل الاذن بالجناية وامتنع نفوذ الصوت، ولم يتوقعوا
زوال الارتتاق، فالواجب الحكومة على الأصح، وقيل: الدية، ويجري الوجهان
فيما لو أذهب سمع صبي فتعطل لذلك نطقه، فإن الطفل يتدرج إلى النطق تلقيا مما
يسمع أنه هل تجب دية للنطق مضمومة إلى دية السمع؟
فرع أنكر الجاني زوال السمع، امتحن المجني عليه، بأن يصاح به في
نومه وحال غفلته صياحا منكرا، وبأن يتأمل حاله عند صوت الرعد الشديد، فإن ظهر
منه انزعاج واضطراب، علمنا كذبه، ومع ذلك يحلف الجاني لاحتمال أن الانزعاج
بسبب آخر اتفاقي، وإن لم يظهر عليه أثر، علمنا صدقه ومع ذلك يحلف
لاحتمال أنه يتجلد، وإن ادعى ذهاب سمع إحدى الاذنين، حشيت السليمة وامتحن
في الأخرى على ما ذكرناه.
فرع نقص سمعه من الاذنين، نظر، إن عرف قدر ما نقص، بأن علم أنه
كان يسمع من موضع فصار يسمع من دونه، ضبط ما نقص، ووجب قسطه من
الدية، وإن لم يعلم ولكن نقص سمعه، وثقلت أذنه، قال الأكثرون: تجب فيه
حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، وذكر الامام وغيره، أنه يقدر بالاعتبار بسليم السمع
في مثل سنه وصحته، بأن يجلس بجنب المجني عليه، ويؤمر من يرفع صوته،
ويناديهما من مسافة بعيدة لا يسمعه واحد منهما، ثم يقرب المنادي شيئا فشيئا إلى أن
يقول السليم: سمعت، فيعرف الموضع، ثم يديم المنادي ذلك الحد من رفع
الصوت ويقرب إلى أن يقول المجني عليه: سمعت، فيضبط ما بينهما من
150

التفاوت، وإن نقص سمعه من إحدى الاذنين، صممت العليلة، وضبط منتهى
سماع الصحيحة، ثم تصمم الصحيحة، ويضبط منتهى سماع العليلة، ويجب من
الدية بقسط التفاوت، وإن كذبه الجاني في دعوى انتقاص السمع، فالمصدق
المجني عليه بيمينه، سواء ادعى نقصه من الاذنين أو إحداهما، لأنه لأي يعرف إلا من
جهته.
الثالث: البصر. ففي إذهابه من العينين كمال الدية، ومن إحداهما نصفها،
سواء ضعيف البصر بالعمش وغيره، والأحول والأخفش وغيرهم، ولو فقأ عينيه، لم
تجب إلا دية، كقطع يديه بخلاف ما لو قطع أذنيه، وذهب سمعه، لما سبق أنه ليس
السمع في الاذنين، ولو قال عدلان: إن البصر يعود، فرق بين أن يقدروا مدة، أو
لا يقدروا، ويكون حكمه ما سبق في الاذنين، ولو مات المجني عليه قبل مضي تلك
المدة، فلا قصاص للشبهة، وفي الدية طريقان، أحدهما: على الوجهين فيمن
قلع سن غير مثغور، ومات قبل أوان النبات، والمذهب القطع بوجوبها، لأن الظاهر
في السن العود لو عاش بخلاف البصر، ولو قال الجاني: مات بعد عود السمع أو
البصر، وقال الوارث: قبله، صدق الوارث.
فرع ادعى المجني عليه زوال البصر، وأنكر الجاني، فوجهان، أحدهما
وهو نصه في الام: يراجع أهل الخبرة، فإنهم إذا وقفوا الشخص في مقابلة عين
الشمس، ونظروا في عينيه، عرفوا أن الضوء ذاهب أم موجود، بخلاف السمع لا
يراجعون فيه إذ لا طريق لهم إليه، والثاني: يمتحن بتقريب حية، أو عقرب منه، أو
حديدة من حدقته مغافصة، فإن انزعج، فالقول قول الجاني بيمينه، وإلا فقول
المجني عليه بيمينه، قال المتولي: الامر إلى خبرة الحاكم، إن أراد مراجعتهم،
151

فعل، وإن أراد امتحانه فعل، وإذا روجع أهل الخبرة، فشهدوا بذهاب البصر،
فلا حاجة إلى التحليف، وتؤخذ الدية بخلاف الامتحان، فإنه لا بد من التحليف
بعده، ولا يقبل في ذهاب البصر إن كانت الجناية عمدا إلا شهادة رجلين، وإن كانت
خطأ، قبل رجل وامرأتان، وإذا ادعى ذهاب بصر إحدى العينين، روجع أهل
الخبرة، أو امتحن كما ذكرنا في العينين.
فرع إذا نقص ضوء العينين ولم يذهب، فإن عرف قدره، بأن كان يرى
الشخص من مسافة، فصار لا يراه إلا من بعضها، وجب من الدية قسط الذاهب،
وإن لم يعرف، فعلى الخلاف في السمع، قال الأكثرون: تجب حكومة يقدرها
الحاكم باجتهاده، ولا يعتبر تغيره لاختلاف الناس في الادراك. عن الماسرجسي
قال: رأيت صيادا يرى الصيد على فرسخين. وإن نقص ضوء إحدى العينين،
عصبت العليلة، وأطلقت الصحيحة، ووقف شخص في موضع يراه، ويؤمر أن
يتباعد حتى يقول: لا أراه، فتعرف المسافة، ثم تعصب الصحيحة وتطلق العليلة،
ويؤمر الشخص بأن يقرب راجعا إلى أن يراه، فيضبط ما بين المسافتين، ويجب
قسطه من الدية، ثم إنه متهم في هذا الضبط بالزيادة في الصحيحة، وبالنقص في
العليلة، فلا يؤمن كذبه، فيمتحن في قوله أبصر في الصحيحة، بأن تغير ثياب
الشخص الذي يبعد ويقرب، ويسأل عنها، فينظر، أيصيب أم لا، وأما في العليلة
فقيل: يحلف أنه لا يبصر فوق ذلك، وقال الأكثرون: يمتحن بأن تضبط تلك الغاية
ويؤمر الشخص بأن ينتقل إلى سائر الجهات والمجني عليه بأن يدور، فإن توافقت
الغاية من الجهات صدقناه، وإلا كذبناه، ويجري مثل هذا الامتحان في نقصان
سمع إحدى الاذنين، فيمتحن في قوله: أسمع بالصحيحة، بأن يغير المنادي نداءه
وكلامه، وينظر، هل يقف عليه المجني عليه، وفي قوله: لا أسمع بالعليلة، بأن
152

ينتقل المنادي إلى سائر الجهات، وإذا عرف تفاوت مسافتي الابصار، فالواجب
القسط، فإن أبصر بالصحيحة من مائتي ذراع، وبالعليلة من مائة ذراع، فموجبه
التنصيف، لكن لو قال أهل الخبرة: إن المائة الثانية تحتاج إلى مثلي ما تحتاج إليه
المائة الأولى لقرب الأولى وبعد الثانية، وجب ثلثا دية العليلة، قال الشافعي رحمه
الله: وما أرى ذلك يضبط.
فرع الأعشى الذي يبصر بالنهار دون الليل فيه كمال الدية، وفي
التهذيب أنه لو جني عليه، فصار أعشى، لزمه نصف الدية، ولو عشيت إحدى
عينيه بالجناية، لزمه ربع الدية، ومقتضى هذا إيجاب نصف الدية إذا جنى على
الأعشى، فأذهب بصره، وكذا من يبصر بالليل دون النهار.
فرع شخصت عينه بجناية، أو صار أعمش أو أحول، وجبت حكومة.
فرع ذهب ضوء عينه بجناية، وقلع آخر الحدقة، فقال: قلعت قبل عود
الضوء، وقال الأول: بل بعده، صدق الثاني، فلو صدق المجني عليه الأول،
برئ الأول، ويحلف الثاني وعليه حكومة.
الرابع: الشم، وفي إزالته بالجناية على الرأس وغيره كمال الدية على
الصحيح المشهور، وحكي وجه وقول أن واجبه الحكومة، وهو ضعيف، فلو
أذهب شم أحد المنخرين، فنصف الدية، ولو سد المنفذ فلم يدرك الروائح، وقال
أهل الخبرة: القوة باقية: فليكن كما سبق في السمع، وإذا أنكر الجاني ذهاب
الشم، امتحن المجني عليه بتقريب ماله رائحة حادة منه، طيبة وخبيثة، فإن هش
للطيبة وعبس للمنتن، صدق الجاني بيمينه، وإن لم يظهر عليه أثر، صدق المجني
عليه بيمينه، وإن نقص الشم، نظر، إن علم قدر الذاهب، وجب قسطه من
الدية، وإن لم يعلم، وجبت حكومة يقدرها الحاكم بالاجتهاد، ولم يذكروا هنا
الامتحان بمن هو في مثل شمه، ولا يبعد طرده هنا، وإن نقص شم أحد المنخرين،
فيمكن أن يعتبر بالجانب الآخر، ولم يذكروه، ولعلهم اكتفوا بالمذكور في السمع
153

والبصر، وإذا ادعى النقص وأنكر الجاني، صدق المجني عليه بيمينه، لأنه لا
يعرف إلا منه. قال الامام: وينبغي أن يعين المجني عليه قدرا يطالب به، وإلا فهو
مدع مجهولا، وطريقه في نفسه أن يطلب الأقل المتيقن، ولو أخذ دية الشم وعاد،
وجب ردها، ولو وضع يده على أنفه عند رائحة منكرة، فقال الجاني: فعلت ذلك
لعود شمك، وأنكر المجني عليه، صدق المجني عليه بيمينه، لأنه قد يفعله اتفاقا،
ولا متخاط، وبفكر ورعاف وغيرها.
الخامس: النطق، فإذا جنى على لسانه فأبطل كلامه، وجب كمال الدية،
وإنما تؤخذ الدية إذا قال أهل الخبرة: لا يعود نطقه، فإن أخذت فعاد، استردت،
ولو ادعى ذهاب النطق، وأنكر الجاني، قال المتولي: يفزع في أوقات الخلوة،
وينظر، هل يصدر منه ما يعرف به كذبه، فإن لم يظهر شئ، حلف كما يحلف
الأخرس، ووجبت الدية، ولو بطل بالجناية بعض الحروف، وزعت الدية عليها،
سواء ما خف منها على اللسان وما ثقل، والحروف مختلفة في اللغات، فكل من
تكلم بلغة، فالنظر عند التوزيع إلى حروف تلك اللغة، فلو تكلم بلغتين، فبطل
بالجناية حروف من هذه وحروف من تلك، فهل توزع على أكثرهما حروفا أم على
أقلهما؟ وجهان، ثم في الحروف الموزع عليها وجهان، أصحهما وبه قال
الأكثرون، وهو ظاهر النص: أن التوزيع يكون على جميعها، وهي ثمانية وعشرون
حرفا في اللغة العربية، فإن ذهب نصفها، وجب نصف الدية، وإن ذهب حرف
فأكثر، وجب لكل حرف سبع ربع الدية، والثاني قاله الإصطخري: لا يدخل في
التوزيع الحروف الشفهية، وهي الباء والفاء والميم والواو، ولا الحلقية وهي الهاء
والهمزة، والعين والحاء، والغين والخاء، وإنما التوزيع على الحروف الخارجة من
اللسان وهي ما عدا المذكورات، هذا إذا ذهب بعض الحروف، وبقي في البقية
154

كلام مفهوم، فأما إذا لم يبق في البقية كلام مفهوم، فوجهان، أحدهما: يجب كمال
الدية، قاله أبو إسحاق والقفال، وجزم به البغوي، وذكر الروياني أنه المذهب،
والثاني: لا يلزمه إلا قسط الحروف الفائتة، قال المتولي: وهو المشهور، ونصه في
الام: ولو ضرب شفتيه، فأذهب الحروف الشفهية، أو رقبته، فأذهب
الحروف الحلقية، قال المتولي: إن قلنا بقول الإصطخري، وجبت الحكومة فقط،
وإن قلنا بقول الأكثرين، وجب قسط الذاهب من جميع الحروف، وذكر ابن كج أنه
لو قطع شفتيه، فأذهب الباء والميم، فقال الإصطخري: يجب مع دية الشفتين أرش
الحرفين، وقال ابن الوكيل: لا يجب غير الدية، كما لو قطع لسانه فذهب كلامه،
لا يجب إلا الدية.
فرع جنى على لسانه فصار يبدل حرفا بحرف، وجب قسط الحرف الذي
أبطله، ولو ثقل لسانه بالجناية، أو حدثت في كلامه عجلة، أو تمتمة، أو فأفأة، أو
كان ألثغ، فزادت لثغته، فالواجب الحكومة لبقاء المنفعة.
فرع من لا يحسن بعض الحروف كالأرت والألثغ الذي لا يتكلم إلا
بعشرين حرفا مثلا، إذا أذهب كلامه وجهان، أصحهما: يجب كمال الدية، فعلى
هذا لو أذهب بعض الحروف، وزع على ما يحسنه، لا على الجميع، والثاني: لا
يجب إلا قسطها من جميع الحروف، وفي بعضها بقسطه من الجميع، فعلى هذا لو
كان يقدر على التعبير عن جميع مقاصده لفطنته واستمداده من اللغة، لم تكمل الدية
أيضا على الأصح، لأن قدرته لحذقه لا بالكلام، هذا إذا كان نقص حروفه خلقة،
أو حدث بآفة سماوية، فلو حدث بجناية، فالمذهب أنه لا تكمل الدية، لئلا
يتضاعف الغرم في القدر الذي أبطله الجاني الأول.
فرع في الجناية على محل ناقص المنفعة أو الجرم، أما المنافع التي لا
155

تتقدر تقدر النطق بالحروف كالبطش والبصر، فإن كان النقص فيها بآفة، فلا اعتبار
به، ويجب على من أبطلها الدية الكاملة، وكذا من قطع العضو الذي هو محل تلك ا
لمنفعة، لأنه لا ينضبط ضعفها وقوتها، وإن كان النقص بجناية، فأوجه، أصحها:
لا تكمل الدية بل يحط منها قدر الحكومة التي غرمها الأول عن مبطل المنفعة الناقصة
لتجانس جنايته وجناية الأول، وأما الإجرام، فإن كان لما نقص أرش مقدر لزم
الثاني دية يحط منها أرش ما نقص، سواء حصل النقص بآفة أم بجناية، فلو سقطت
أصبعه، أو أنملته بآفة، ثم قطعت يده، حط من دية اليد أرش الإصبع أو الأنملة،
ولو جرح رأسه متلاحمة، فجعلها آخر موضحة، لزم الثاني أرش موضحة يحط منه
واجب المتلاحمة، سواء قدرنا واجبها، أم أوجبنا فيها الحكومة، ولو التأمت
المتلاحمة، واكتسى موضعها بالجلد لكن بقي غائرا، فأوضح فيه آخر، فالصحيح
أن حكم ذلك الجرح قد سقط، وعلى من أوضح أرش كامل، أما إذا لم يكن لما
نقص أرش مقدر، كفلقة تنفصل من لحم الأنملة، فإن لم تؤثر في المنفعة، لم
تنقص به الدية، وإن وجب فيه حكومة للشين، وسواء حصل ذلك بآفة أم بجناية وإن
أثر في المنفعة، فإن حصل بآفة لم تنقص الدية، وإن حصل بجناية، ففيه احتمالان
للامام، أقربهما: يحط عن الثاني قدر حكومة الأول.
فصل نزل العلماء النطق في اللسان منزلة البطش في اليد والرجل،
فقالوا: إذا استأصل لسانه بالقطع وأبطل كلامه، لم يلزمه إلا دية واحدة، ولو قطع
عذبة اللسان، وبطل الكلام، فكذلك، كما لو قطع أصبعا من اليد فشلت، ولو
قطع بعض اللسان، فذهب بعض الكلام، نظر، إن تساوت نسبة جرم اللسان
والكلام، بأن قطع نصف لسانه، فذهب نصف كلامه، وجب نصف الدية، وإن
اختلفت بأن قطع الربع فذهب نصف الكلام أو عكسه، وجب نصف الدية قطعا،
واختلفوا في علته، فقال الجمهور: اللسان مضمون بالدية ومنفعته أيضا كذلك،
فوجب أكثرهما، وقال أبو إسحاق: الاعتبار بالجرم، لأنه الأصل وفيه تقع الجناية،
قال: وإنما وجب نصف الدية في قطع ربعه إذا ذهب نصف الكلام، لأنه قطع ربعا، وأشل
ربعا، وتظهر فائدة الخلاف في صور، إحداها: قطع نصفه، فذهب
156

ربع الكلام، واستأصل آخر الباقي، فعلى قول الأكثرين يلزم الثاني ثلاثة أرباع
الدية، وعلى قول أبي إسحاق نصفها، الثانية: قطع ربعه، فذهب نصف الكلام،
واستأصله آخر، فعند الأكثرين يلزم الثاني ثلاثة أرباع الدية، وعند أبي إسحاق
نصف الدية وحكومة، لأنه قطع نصفا صحيحا وربعا أشل، الثالثة: ذهب نصف
الكلام بجناية على اللسان من غير قطع منه، ثم قطعه آخر، فيلزم الثاني عند
الأكثرين دية كاملة، وعنده نصفها وحكومة، لأن نصف اللسان صحيح ونصفه أشل
لذهاب نصف الكلام.
فرع رجلان قطع من أحدهما نصف لسانه وذهب ربع كلامه، ومن الآخر
نصف لسانه وذهب نصف كلامه، فقطع الأول النصف الباقي من الثاني، لا يقتص
منه، وإن أجرينا القصاص في بعض اللسان لنقص المجني عليه.
فرع قطع نصف لسانه، فذهب نصف كلامه، فاقتص من الجاني، فلم
يذهب إلا ربع كلامه، فللمجني عليه ربع الدية ليتم حقه، وإن ذهب من المقتص
منه ثلاثة أرباع كلامه، فلا شئ على المجني عليه، لأن سراية القود مهدرة.
فرع عود الكلام بعد أخذ الدية، كعود السمع.
فرع من لا يتكلم بحرف إذا ضرب لسانه فنطق بذلك الحرف وفات حرف
آخر، يجب قسط الفائت ولا ينجبر، وهل يوزع على الحروف وفيها الحرف
المستفاد أم عليها قبل الجناية؟ قال الامام: هذا موضع نظر، ولك أن تقول: ليبن
على الخلاف فيمن يحسن بعض الحروف وله كلام مفهوم إذا أبطل بالجناية بعض ما
يحسنه، هل التوزيع على ما يحسنه أم على الجميع؟ فإن قلنا بالثاني، دخل
المستفاد، وإلا فلا.
فرع في لسانه عجلة واضطراب، فضرب فاستقام، فلا شئ على
الضارب.
157

فرع قطع بعض لسانه، ولم يبطل به شئ من كلامه، هل تجب الحكومة
أم قسط المقطوع من الدية؟ وجهان، أصحهما: الحكومة، القسط للزم
إيجاب الدية الكاملة في لسان الأخرس.
السادس: الصوت، فإذا جنى على شخص، فأبطل صوته، وبقي اللسان
على اعتداله، ويمكنه من التقطيع والترديد، لزمه لابطال الصوت كمال الدية، فإن
أبطل معه حركة اللسان حتى عجز عن التقطيع والترديد، فوجهان، أرجحهما:
يجب ديتان، لأنهما منفعتان في كل واحدة إذا أفردت كمال الدية، والثاني:
يجب دية فقط، فإن قلنا: ديتان، وكانت حركة اللسان باقية فقد تعطل النطق بسبب
فوات الصوت، فيجئ الخلاف السابق في أن تعطل المنفعة هل هو كزوالها؟ فإن
قلنا: نعم، وجب ديتان، وإلا فدية.
السابع: الذوق، وفي إبطاله كمال الدية، وقد يبطل بجناية على اللسان أو
الرقبة أو غيرهما، والمدرك بالذوق خمسة أشياء: الحلاوة والحموضة والمرارة
والملوحة والعذوبة، والدية تتوزع عليها، فإذا أبطل إدراك واحد، وجب خمس
الدية، ولو نقص الاحساس فلم يدرك الطعوم على كمالها، فالواجب الحكومة،
وإذا اختلفا في ذهاب الذوق، جرب بالأشياء المرة أو الحامضة الحادة، فإن ظهر منه
تعبس وكراهة، صدقنا الجاني بيمينه، وإلا فالمجني عليه، ولو ضربه ضربة زال بها
ذوقه ونطقه، وجب ديتان.
158

الثامن: المضغ، وفي إبطاله كمال الدية، ولابطاله طريقان، أحدهما: أن
يصلب مغرس اللحيين حتى تمتنع حركتهما مجيئا وذهابا، والثاني: أن يجني على
الأسنان، فيصيبهما خدر، وتبطل صلاحيتهما للمضغ.
التاسع والعاشر والحادي عشر: الامناء والاحبال والجماع، فإذا كسر
صلبه، فأبطل قوة إمنائه، وجب كمال الدية، ولو قطع أنثييه، فذهب ماؤه، لزمه
ديتان، وكذا لو أبطل من المرأة قوة الاحبال، لزمه ديتها، ولو جنى على ثديها،
فانقطع لبنها، لزمه حكومة، فإن نقص، وجبت حكومة تليق به، وإن لم يكن لها
لبن عند الجناية، ثم ولدت ولم يدر لها لبن، وامتنع به الارضاع، وجبت حكومة إذا
قال أهل الخبرة: إن الانقطاع بجنايته، أو جوزوا أن يكون هو سببها، وللامام
احتمال أنه تجب الدية بإبطال الارضاع، ولو جنى على صلبه، فذهب جماعه،
وجبت الدية، لأن المجامعة من المنافع المقصودة، ولو ادعى ذهابه، فأنكر
الجاني، صدق المجني عليه بيمينه، لأنه لا يعرف إلا منه، ثم إنهم صوروا ذهاب
الجماع فيما إذا لم ينقطع ماؤه وبقي ذكره سليما، وذكروا أنه لو كسر صلبه، وأشل
159

ذكره، فعليه دية الذكر وحكومة لكسر الصلب، وإذا كان الذكر سليما، كان
الشخص قادرا على الجماع حسا، فأشعر ذلك بأنهم أرادوا بذهاب الجماع بطلان
الالتذاذ به والرغبة فيه، ولذلك صور الامام والغزالي المسألة في إبطال شهوة الجماع
مع أن الامام استبعد ذهاب الشهوة مع بقاء المني.
فرع لو جنى على عنقه، فلم يمكنه ابتلاع الطعام إلا بمشقة لالتواء العنق
أو غيره، لزمه حكومة، فلو لم ينفذ الطعام والشراب أصلا لانسداد المنفذ، فلا
يعيش المجني عليه والحالة هذه ولم تزد طائفة من الأصحاب على أنه إن ساغ الطعام
والشراب، فحكومة، وإن مات، فالدية، ونقل الامام والغزالي أن نفس الجناية
المفضية إلى الانسداد توجب الدية حتى لو حز غيره رقبته وفيه حياة مستقرة، لزم
الأول دية، ولو مات بامتناع نفوذ الطعام والشراب، قال الامام: إن قلنا: من قطع
يدي رجل ورجليه ثم حز رقبته، تلزمه دية فقط، فكذا هنا، وإن قلنا: هناك ديتان،
فيحتمل هنا دية ويحتمل ديتان.
الثاني عشر: إفضاء المرأة، وفيه كمال دية، وهو رفع الحاجز بين مسلك
الجماع والدبر على الأصح، وقيل: رفع الحاجز بين مسلك الجماع ومخرج البول،
قال المتولي: الصحيح أن كل واحد منهما إفضاء موجب للدية، لأن الاستمتاع يختل
بكل واحد منهما، ولان كل واحد منهما يمنع إمساك الخارج من أحد السبيلين،
فعلى هذا لو أزال الحاجزين، لزمه ديتان، وتختلف الدية الواجبة بالافضاء خفة
وغلظا باختلاف حال الافضاء، فقد يكون عمدا محضا، بأن تكون المرأة ضعيفة أو
نحيفة، والغالب إفضاء وطئها إلى الافضاء، وقد يكون عمد خطأ، بأن لا يتضمن
وطؤها الافضاء غالبا، وقد يكون خطأ محضا، بأن يجد امرأة على فراشه، فيظنها
امرأته التي عهدها، فيطؤها فيفضيها، هذا إذا حصل الافضاء بالوطئ، ولا فرق في
الدية بينه وبين أن يحصل بأصبع أو خشبة أو شئ محدد، وإذا أفضاها، فصار بولها
يسترسل ولا يستمسك، لزمه مع الدية حكومة الشين، وقيل: لا حكومة وهو
160

ضعيف، وسواء في وجوب الدية بالافضاء الحاصل بالوطئ، الزوج والواطئ بشبهة
والزاني، ويستقر المهر على الزوج بالوطئ المتضمن للافضاء، ويجب به مهر المثل
على الواطئ بشبهة، وكذا على الزاني إن كانت مكرهة وعليه الحد.
فصل لبكارة المرأة حالان، أحدهما: أن يزيلها من لا يستحق
افتضاضها، فإن أزالها بغير آلة الجماع، كالإصبع والخشبة، لزمه أرش البكارة،
والمراد الحكومة المأخوذة من تقدير الرق كما سيأتي في بيان الحكومة إن شاء الله
تعالى، وهل يكون جنس الواجب من الإبل، أم من نقد البلد؟ وجهان،
أصحهما: الإبل على قاعدة الجناية على الأحرار، ولو أزالت بكر بكارة أخرى،
اقتصت منها، وإن أزالها بآلة الجماع، فإن طاوعته المرأة فلا أرش كما لا مهر،
وإن كانت مكرهة أو كان هناك شبهة نكاح فاسد أو غيره فوجهان، أصحهما وهو
المنصوص: أنه يجب مهر مثلها ثيبا وأرش البكارة، والثاني: يجب مهر مثلها
بكرا، فإن أفردنا الأرش عاد الوجهان في أن جنسه الإبل أم النقد.
الحال الثاني: أن يزيلها مستحق الافتضاض، وهو الزوج، فإن أزالها بآلة
الجماع، فقد استوفى حقه، وإن أزالها بغيره، فوجهان، أصحهما: لا شئ
عليه، لأنه حقه وإن أخطأ في طريقه، والثاني: يلزمه الأرش، ثم من افتض،
وألزمناه أرش البكارة، فلو أفضاها مع الافتضاض، ففي دخول أرش البكارة في دية
الافضاء وجهان، أصحهما: الدخول، لأن الدية والأرش تجبان للاتلاف،
فدخل أقلهما في أكثرهما بخلاف المهر، فإنه يجب للاستمتاع، فلا يدخل في بدل
الاتلاف، كما لو تحامل على الموطوءة، فكسر رجلها، لا يدخل المهر في دية
الرجل.
فصل إذا كانت الزوجة لا تحتمل الوطئ إلا بالافضاء، لم يجز للزوج
161

وطؤها، ولا يلزمها تمكينه، ثم قال الغزالي: إن كان سببه ضيق المنفذ بحيث
يخالف العادة، فللزوج خيار الفسخ، كالرتق، وإن كان سببه كبر آلته بحيث يخالف
العادة، فلها الخيار، كما في الجب، والذي قاله الأصحاب: إنه لا فسخ بذلك
مطلقا بخلاف الجب والرتق، فإنهما يمنعان الوطئ مطلقا، ويشبه أن يفصل فيقال:
إن كانت نحيفة لو وطئها الزوج لافضاها، لكن لو وطئها نحيف احتملته، فلا فسخ،
وإن كان ضيق المنفذ بحيث يفضيها أي شخص وطئها، فهذا كالرتق، وينزل ما قاله
الأصحاب على الأول، وما قاله الغزالي على الثاني.
فرع إذا التأم الجرح بعد الافضاء، سقطت الدية وعليه الحكومة إن بقي
أثر، كما لو عاد ضوء العين، وفي وجه لا تسقط، كما لو التحمت الجائفة.
فرع لو أفضى الخنثى المشكل، قال في البيان: إن قلنا: الافضاء
رفع الحاجز بين منفذ البول ومدخل الذكر، لم تجب الدية، وإن قلنا: رفع الحاجز
بين القبل والدبر، فوجهان، ولو أزيلت البكارة من فرج المشكل وجبت حكومة
جراحة، ولا تعتبر البكارة، لأنا لا نتحقق كونه فرجا.
الثالث عشر: البطش والمشي، ففي كل واحد منهما كمال الدية، فإذا ضرب
يديه فشلتا، لزمه الدية، ولو ضرب أصبعه فشلت، لزمه دية أصبع، ولو ضرب
صلبه فبطل مشيه ورجله سليمة، وجبت الدية، ولا تؤخذ الدية حتى تندمل، فإن
انجبر وعاد مشيه كما كان، فلا دية وتجب الحكومة إن بقي أثر، وكذا إن نقص
مشيه، بأن احتاج إلى عصا، أو صار يمشي محدودبا، ولو كسر صلبه، وشلت
رجله، قال المتولي: يلزمه دية لفوات المشي، وحكومة لكسر الظهر، بخلاف ما
إذا كانت الرجل سليمة لا يجب مع الدية حكومة، لأن المشي منفعة في الرجل، فإذا
شلت الرجل ففوات المنفعة لشلل الرجل، فأفرد كسر الصلب بحكومة، أما إذا
كانت سليمة، ففوات المشي لخلل الصلب، فلا يفرد بحكومة، ويوافق هذا ما ذكره
ابن الصباغ، أنه لو كسر صلبه فشل ذكره، تجب حكومة الكسر ودية الشلل
162

الذكر، وفي هذا تصريح بأن مجرد الكسر لا يوجب الدية، وإنما تجب الدية إذا فات
به المشي، أو الماء أو الجماع كما سبق، وإذا ادعى ذهاب المشي، فكذبه
الجاني، امتحن، بأن يقصد بالسيف في غفلته، فإن تحرك ومشى، علمنا كذبه،
وإلا فيحلف ويأخذ الدية، ولو أذهب كسر الصلب مشيه ومنيه، أو مشيه وجماعه،
وجبت ديتان على الأصح، وقيل: دية.
فصل قد ذكرنا الديات في الجروح والأعضاء والمنافع مفصلة، فيجوز أن
تجتمع في شخص ديات كثيرة، بأن تزال منه أعضاء ومنافع، ولا يسري إلى
النفس، بل تندمل، وهذا بيان الديات. الأذنان، أو إبطال إحساسهما، العينان أو
البصر، الأجفان، المارن، الشفتان، اللسان أو النطق، الأسنان، اللحيان،
اليدان، الرجلان، الذكر، الأنثيان أو الحلمتان والشفران، الأليان، العقل،
السمع، الشم، الصوت، الذوق، المضغ، الامناء أو الاحبال، إبطال لذة
الجماع، إبطال لذة الطعام، الافضاء في المرأة، البطش، المشي، وقد يضاف
إليها المواضح وسائر الشجات، والجوائف والحكومات، فيجتمع شئ كثير لا
ينحصر، فإذا اندملت هذه الجراحات، وجب جميع هذه الديات، وإن سرت
فمات منها، وجب دية واحدة بلا خلاف، ولو عاد الجاني، فحز رقبة المجروح. أو
قده نصفين، فإن كان ذلك بعد الاندمال، وجبت دية الأطراف ودية النفس لاستقرار
دية الأطراف بالاندمال، وإن كان قبل الاندمال، فوجهان، الأصح المنصوص: أنه
لا يجب إلا دية النفس، كالسراية، والثاني خرجه ابن سريج، وبه قال
الإصطخري، واختاره الامام: تجب ديات الأطراف مع دية النفس، هذا إذا
163

اتفقت الجناية على النفس والأطراف في العمد أو الخطأ، فأما إذا كانت إحداهما
عمدا، والأخرى خطأ، وقلنا بالتداخل عند الاتفاق، فهنا وجهان، أحدهما:
التداخل أيضا، وأصحهما: لا، لاختلافهما واختلاف من يجنيان عليه، فلو قطع
يده خطأ، ثم حز رقبته قبل الاندمال عمدا، فللولي قتله قصاصا وليس له قطع يده،
فإن قتله قصاصا، فإن قلنا بالتداخل، وجعلنا الحكم للنفس، فلا شئ له من
الدية، وإن قلنا: لا تداخل، أخذ نصف الدية من العاقلة لليد، وإن عفا عن
القصاص، فإن قلنا بالتداخل، فوجهان، أحدهما: يجب دية نصفها مخففة على
العاقلة، ونصفها مغلظة على الجاني، وينسب هذا إلى النص، وأصحهما وبه قطع
البغوي: يجب دية مغلظة على الجاني، لأن معنى التداخل إسقاط بدل الطرف
والاقتصار على بدل النفس لمصير الجناية نفسا، وإن قلنا: لا تداخل، وجب نصف
دية مخففة على العاقلة، ودية مغلظة عليه، وإن قطع يده عمدا، ثم حز رقبته خطأ
قبل الاندمال، فللولي قطع يده، وإذا قطعها إن قلنا بالتداخل، فله نصف الدية
المخففة، لأنه أخذ بالقطع نصف بدل النفس، وإن قلنا: لا تداخل، فله كمال
الدية المخففة، وإن عفا عن القطع، فإن قلنا بالتداخل، فعلى الوجهين، على
النص يجب نصف دية مخففة، ونصف مغلظة لليد، وعلى الآخر دية مخففة
للنفس، قال الامام: ولو قطع يديه ورجليه أو أصبعه عمدا، ثم حز رقبته قبل
الاندمال خطأ أو بالعكس، وقلنا: تراعى صفة الجنايتين على القول بالتداخل،
تنصفت تخفيفا وتغليظا، ولا نظر إلى أقدار أروش الأطراف، لأن الحكم بالتداخل
مبني على أن الحز بعد قطع الأطراف كسراية الأطراف، فكان الحز مع الجراحات
السابقة، كجراحات مؤثرة في الزهوق انقسمت عمدا وخطأ، وحينئذ تتنصف الدية
تخفيفا وتغليظا ولا نظر إلى أقدار الأروش.
الباب الثالث في بيان الحكومات والجناية على الرقيق
فيه طرفان:
الأول في الحكومة: وهي جزء من الدية نسبته إليها نسبة ما تقتضيه الجناية من
قيمة المجني عليه على تقدير تقويمه رقيقا، فيقوم المجني عليه بصفاته التي هو
164

عليها لو كان عبدا، وينظر كم نقصت الجناية من قيمته، فإن قوم بعشرة دون
الجناية، وبتسعة بعد الجناية، فالتفاوت العشر، فيجب عشر دية النفس، وقيل:
عشر دية العضو الذي جني عليه، والصواب الأول وبه قطع الجمهور، وتكون
الحكومة من جنس الإبل، ثم إن كانت الجناية على عضو له أرش مقدر، نظر، إن
لم تبلغ الحكومة أرش ذلك العضو، وجبت بكمالها، وإن بلغته، نقص الحاكم
شيئا منه بالاجتهاد، قال الامام: ولا يكفي حط أقل ما يتمول فحكومة الأنملة العليا
بجرحها، أو قلع ظفرها ينقص عن أرش الأنملة، والجناية على الإصبع إذا أتت على
طولها لا تبلغ حكومتها أرش الإصبع، وعلى الرأس لا تبلغ حكومتها أرش
الموضحة، وعلى البطن لا تبلغ أرش الجائفة، وحكومة جرح الكف لا تبلغ دية
الأصابع الخمس، وكذا حكومة قطع الكف التي لا أصبع عليها، وكذا حكم
القدم، وهل يجوز أن تبلغ دية اليد، الصحيحة ويجوز أن تبلغ دية أصبع، وأن نزيد
عليها؟ وجهان: أصحهما: نعم، لأن منفعتها دفعا واحتواء تزيد على منفعة
أصبع، وكما أن دية اليد الشلاء لا تبلغ دية اليد، ويجوز أن تبلغ دية أصبع، وأن
تزيد عليها، أما إذا كانت الجراحة على عضو ليس له أرش مقدر، كالظهر والكتف
والفخذ، فيجوز أن تبلغ حكومتها دية عضو مقدر، كاليد والرجل، وأن تزاد عليه،
وإنما تنقص عن دية النفس، وعد المتولي والبغوي من هذا القبيل الساعد والعضد،
فيجوز أن تبلغ حكومة جرح أحدهما دية الأصابع الخمس، وأن يزاد عليها، وسوى
الغزالي بينهما وبين الكف، والأول أصح، فإن الكف هي التي تتبع الأصابع دون
الساعد والعضد.
165

فصل إنما يقوم لمعرفة الحكومة بعد اندمال الجراحة، ونقصان القيمة
حينئذ قد يكون لضعف ونقص في المنفعة، وقد يكون لنقص الجمال باعوجاج، أو
أثر قبيح، أو شين من سواد وغيره، فلو اندملت الجراحة ولم يبق نقص في منفعة ولا
في جمال ولم تنقص القيمة، فوجهان أحدهما وينسب إلى ابن سريج: لا شئ عليه
سوى التعزير، كما لو لطمه، أو ضربه بمثقل، فزال الألم، ولم ينقص منفعة ولا
جمال، وأصحهما عند الأكثرين، وبه قال أبو إسحاق، وهو ظاهر النص: أنه لا بد
من وجوب شئ، فعلى هذا وجهان، أحدهما: يقدر الحاكم شيئا باجتهاده بأن ينظر
إلى خفة الجناية وفحشها في المنظر سعة أو غوصا وقدر الآلام المتولدة، وأصحهما:
أنه ينظر إلى ما قبل الاندمال من الأحوال التي تؤثر في نقص القيمة ويعتبر أقربها إلى
الاندمال، فإن لم يظهر نقص إلا في حال سيلان الدم، ترقبنا واعتبرنا القيمة
والجراحة السائلة، فإن فرضت الجراحة خفيفة لا تؤثر في تلك الحالة أيضا، ففي
الوسيط أنا نلحقها باللطم والضرب للضرورة، وفي التتمة أن الحاكم يوجب
شيئا بالاجتهاد، ولو قطع أصبعا أو سنا زائدة أو أتلف لحية امرأة، وأفسد منبتها، ولم
تنقص القيمة بذلك، وربما زادت لزوال الشين، فهل يجب شئ؟ فيه الوجهان
في أصل المسألة، فإن أوجبنا، فهو الأصح، فقيل: يجتهد الحاكم فيه،
والأصح: أنه يعتبر في قطع الإصبع الزائدة أقرب أحوال النقص من الاندمال كما
سبق، وفي السن يقوم وله سن زائدة نابتة فوق الأسنان ولا أصلية خلفها، ثم يقوم
مقلوع تلك الزائدة، ويظهر التفاوت، لأن الزائدة تسد الفرجة ويحصل بها نوع
جمال، وفي لحية المرأة تقدر كونها لحية عبد كبير يتزين باللحية، ولو قطع أنملة لها
شعبتان، أصلية وزائدة، قدر الحاكم للزائدة شيئا بالاجتهاد، ولو ضربه بسوط أو
غيره أو لطمه ولم يظهر أثر، لم يتعلق به ضمان، فإن اسود أو اخضر وبقي الأثر بعد
الاندمال، وجبت الحكومة، فإن زال الأثر بعد أخذ الحكومة، وجب ردها وضبطت
166

هذه الصور بأن قيل: إذا بقي أثر الجناية من ضعف أو شين، وجبت الحكومة، وإن
لم يبق أثر والجناية ضرب ونحوه، فلا شئ، وإن كانت جرحا، فوجهان.
فرع كسر عظما في غير الرأس والوجه، وعاد بعد الكسر مستقيما، فإن
بقي فيه ضعف وخلل وهو الغالب، وجبت الحكومة، وإلا فعلى الوجهين، وإذا كان
مع الضعف اعوجاج، كانت الحكومة أكثر، وليس للجاني كسره ثانيا ليجبر
مستقيما، ولو فعل، لم تسقط الحكومة الأولى، وتجب للكسر الثاني حكومة
أخرى، لأنها جناية جديدة.
فرع إزالة الشعور من الرأس وغيره، بحلق أو غيره، من غير إفساد
المنبت، لا يجب بها حكومة أصلا بلا خلاف، لأن الشعر يعود.
فصل إذا كان للجراحة أرش مقدر، كالموضحة، فالشين حواليها يتبعها
ولا يفرد بحكومة، هذا إذا كان الشين في محل الايضاح، فلو أوضح رأسه،
واتسع الشين حتى انتهى إلى القفا، فوجهان لتعديه محل الايضاح وهل المتلاحمة
كالموضحة في استتباع الشين، إذا قدرنا أرشها بالنسبة إلى الموضحة؟ وجهان،
أصحهما: نعم، وإن لم يكن للجراحة أرش مقدر، فقد سبق أن ما دون الموضحة
من جراحات الرأس إذا أمكن تقديرها موضحة على الرأس يجب فيها أكثر الامرين من
قسط أرش الموضحة والحكومة على قول الأكثرين، والجراحات على البدن إن أمكن
تقديرها بالجائفة، بأن كان بقربها جائفة، هل تقدر بها كالتقدير بالموضحة أم
الواجب فيها الحكومة لا غير؟ وجهان، أرجحهما: الأول، وإذا عرف ذلك، فإن
قدرت الجراحة بالنسبة إلى جراحة مقدرة الأرش، وأوجبنا ما يقتضيه التقسيط لكونه
أكثر من الحكومة، فالشين تابع له لا يفرد بحكومة كالموضحة، وإن كانت الحكومة
أكثر فأوجبناها فقد وفينا حق الشين.
167

فرع أوضح جبينه، وأزال حاجبه، فعليه الأكثر من أرش الموضحة
وحكومة الشين وإزالة الحاجب، قاله المتولي.
الطرف الثاني: في الجناية على الرقيق: قد سبق أن الواجب بقتل الرقيق قيمته
بالغة ما بلغت، يستوي فيه القن والمدبر والمكاتب وأم الولد، وأما الجناية عليه فيما
دون النفس، فينظر، إن كانت مما يوجب في الحر بدلا مقدرا، كالموضحة وقطع
الأطراف، فقولان، أظهرهما: أن الواجب فيها جزء من القيمة، نسبته إلى القيمة
كنسبة الواجب في الحر إلى الدية، والثاني: الواجب ما نقص من
قيمته، ومن الأصحاب من أنكر القول الثاني وقطع بالأول، والجمهور على
إثباتهما، ثم منهم من يقول: الأول منصوص، والثاني خرجه ابن سريج من قوله:
لا تحمل العاقلة عبدا، فإنه جعله كالبهيمة، ومنهم من يقول: هما منصوصان، الأول
جديد، والثاني قديم، وإن كانت الجناية لا توجب مقدرا في الحر، فواجبها في
العبد ما نقص من القيمة بلا خلاف. إذا عرف هذا فعلى الأظهر في يد العبد نصف
قيمته، وفي يديه قيمته، وفي أصبعه عشرها، وفي أنملته ثلث عشرها، وفي
موضحته نصف عشرها، وعلى هذا القياس. ولو قطع ذكره وأنثييه، فعليه قيمتان،
وعلى القول الآخر الواجب فيها كلها ما نقص، فإن لم تنقص القيمة بقطع الذكر
والأنثيين، أو زادت، فوجهان، أصحهما: لا يجب شئ، والثاني: تجب حكومة
يقدرها الحاكم بالاجتهاد، أو يعتبر بما قبل الاندمال، كالوجهين فيما إذا اندملت
الجراحة ولم يبق شين ولا أثر، ومنهم من قطع بالوجه الأول، ولو قطع يد عبد
قيمته ألف، فعادت إلى مائتين، فعلى الأظهر يجب خمسمائة، وعلى القديم
ثمانمائة، ولو عادت إلى ثمانمائة وجب على الأظهر خمسمائة، وعلى القديم
168

مائتان، ولو جنى على العبد اثنان، فقطع أحدهما يده، والآخر يده الأخرى، نظر،
إن وقعت الجنايتان معا، فعليهما قيمته، وإن تعاقبتا وكانت القيمة عند قطع الثاني
ناقصة بسبب القطع الأول، فإن مات منهما، ففي الواجب عليهما أوجه سبقت في
كتاب الصيد والذبائح، وإن وقف القطعان، نظر، إن كان قطع الثاني بعد اندمال
الأول، لزم كل واحد منهما نصف قيمته قبل جنايته، فإن كانت قيمته ألفا، فصارت
بالقطع الأول ثمانمائة، وبالثاني ستمائة، لزم الأول خمسمائة، والثاني أربعمائة،
وإن قطع الثاني قبل الاندمال الأول، لزم الثاني نصف ما أوجبنا على الأول وهو
مائتان وخمسون، لأن الجناية الأولى لم تستقر وقد أوجبنا نصف القيمة فكأنه انتقص
نصف القيمة، فلو قطع الواحد يدي العبد ولم يسر، فالحكم كما لو قطعه اثنان،
هذا كله تفريع على الأظهر، وعلى الثاني يلزم كل قاطع ما نقص بجنايته، وإذا
قطعت أطراف عبد، ثم حز رقبته، لزمه قيمة العبد ذاهب الأطراف، وبالله التوفيق.
الباب الرابع في موجب الدية وحكم السحر
فيه خمسة أطراف:
الأول: السبب، والواجب في إهلاك النفس وما دونها، كما يجب بالمباشرة
يجب بالتسبب، وقد سبق أن مراتب الشئ الذي له أثر في الهلاك ثلاث، وهي:
العلة والسبب والشرط، وضابطه أن يقال: ما يحصل الهلاك عنده أو عقبه إن كان هو
المؤثر في الهلاك، فهو علة للهلاك، وتتعلق به الدية لا محالة، وإن لم يكن هو
المؤثر، فإن توقف تأثير المؤثر عليه، كالحفر مع التردي تعلقت به الدية أيضا، وإن
لم يتوقف، لم تتعلق به الدية، بل الموت عنده اتفاقي، ثم فيه مسائل: إحداها:
صفعه صفعة خفيفة، فمات، فلا ضمان للعلم بأنه لا أثر لها في الهلاك، الثانية:
صاح على صبي غير مميز على طرف سطح أو بئر أو نهر، فارتعد وسقط ومات منه،
وجبت الدية قطعا، ولا قصاص على الأصح، وقيل: الأظهر، ومن أوجب يدعي
أن التأثر به غالب، ولو كان الصبي على وجه الأرض، فمات من الصيحة، فقيل:
هو كالسقوط من سطح، والأصح أنه لا ضمان، لأن الموت به في غاية البعد، ولو
صاح على بالغ على طرف سطح ونحوه، فسقط ومات فلا قصاص، وفي الضمان
أوجه، أصحها: لا يجب، والثاني: يجب، والثالث: إن غافصه من ورائه،
169

وجب، وإن صاح به من وجهه، فلا، ولو صاح على صغير فزال عقله، وجب
الضمان، وإن كان بالغا، فعلى الأوجه الثلاثة، والمجنون والمعتوه، والذي تعتريه
الوساوس والنائم والمرأة الضعيفة، كالصبي الذي لا يميز، والمراهق المتيقظ
كالبالغ، وشهر السلاح والتهديد الشديد كالصياح، ولو صاح على صيد، فاضطرب
منه الصبي على طرف السطح، وسقط، وجب الضمان، لكن الدية والحالة هذه
تكون مخففة على العاقلة، وفيما إذا قصد الصبي نفسه تكون مغلظة على العاقلة،
وقياس من يوجب القصاص أن تجب مغلظة على الجاني، وعن صاحب
التلخيص أن الصائح إن كان محرما أو في الحرم تعلق بصيحته الضمان لتعديه،
وإلا فلا، وذكر على قياسه أنه لو صاح على صبي في ملكه، لم يجب الضمان
تشبيها بما لو حفر بئرا في ملكه، فسقط فيها رجل، والأصح أنه لا فرق.
فرع إذا بعث السلطان إلى امرأة ذكرت عنده بسوء، وأمر بإحضارها،
فأجهضت جنينا فزعا منه، وجب ضمان الجنين، ولو كذب رجل، فأمرها على لسان
الامام بالحضور، فأجهضت، فالضمان على عاقلة الرجل، ولو هددها غير الامام
حاملا، وأجهضت فزعا، فليكن كالامام، لأن إكراهه كإكراه الامام، ولو ماتت
الحامل المبعوث إليها، أو بعث الامام إلى رجل ذكر بسوء وهدده ومات، فلا ضمان
على الصحيح، لأنه لا يفضي إلى الموت، وفي النهاية أنه يجب.
فرع لو فزع إنسانا، فأحدث في ثيابه فأفسدها، فلا ضمان.
170

الطرف الثاني: فيما يغلب إذا اجتمعت العلة والسبب أو الشرط، فحفر البئر
شرط أو سبب، والتردي علة، فإذا اجتمعا، نظر، إن كانت العلة عدوانا، بأن حفر
بئرا، فردي فيها غيره إنسانا، فالقصاص والضمان يتعلقان بالتردية، ولا اعتبار
بالحفر معها، وإن لم تكن العلة عدوانا، بأن تخطى شخص الموضع جاهلا،
فتردى فيها وهلك، فإن كان الحفر عدوانا، تعلق الضمان به، وإلا فلا ضمان.
فرع وضع صبيا في مسبعة، فافترسه سبع، نظر، إن كان يقدر على
الحركة والانتقال عن موضع الهلاك فلم يفعل، فلا ضمان على الواضع، كما لو فتح
عرقه فلم يعصبه حتى مات، وإن كان لا يقدر على الانتقال، فلا ضمان أيضا على
الأصح، وبه قطع الأكثرون، لأن الوضع ليس بإهلاك ولم يوجد منه ما يلجئ السبع
إليه، فإن كان الموضوع بالغا، فلا ضمان قطعا، ويشبه أن يقال: الحكم منوط
بالقوة والضعف، لا بالصغر والكبر.
فرع لو اتبع إنسانا بسيف، فولى المطلوب هاربا، فألقى نفسه في نار أو
ماء، أو من شاهق، أو من سطح عال أو في بئر، فهلك، فلا ضمان، لأنه باشر
إهلاك نفسه قصدا، والمباشرة مقدمة على السبب، فلو لم يعلم بالمهلك، فوقع من
غير قصد في النار أو الماء، أو من الشاهق والسطح بأن كان أعمى، أو في ظلمة
الليل، أو في موضع مظلم، أو في بئر مغطاة، وجب على المتبع الضمان، ولو
استقبله سبع في طريقه، فافترسه، أو لص فقتله، فلا ضمان على المتبع، بصيرا
كان المطلوب أو أعمى، لأنه لم يوجد من المتبع إهلاك، ومباشرة السبع العارضة
كعروض القتل على إمساك الممسك، لكن لو ألجأه إليه في مضيق، وجب الضمان
على المتبع، ولو انخسف به سقف في هربه، وجب الضمان على الأصح
المنصوص، وهو الذي أورده العراقيون، ولو ألقى نفسه على السقف من علو،
فانخسف به لثقله، فهو كما لو ألقى نفسه في ماء أو نار وما ذكرناه من سقوط
الضمان عن التبع إذا ألقى المطلوب نفسه في ماء، أو نار أو من سطح قصدا،
أردنا به العاقل البالغ، أما إذا كان المطلوب صبيا أو مجنونا، فيبنى على أن عمدهما
171

عمد أم خطأ؟ إن قلنا: خطأ، ضمن، وإلا فلا.
فرع سلم صبي إلى سباح ليعلمه السباحة، فغرق، وجبت فيه دية شبه
العمد على الصحيح، كما لو ضرب المعلم الصبي للتأديب، فهلك، وقيل: لا
ضمان، كما لو وضعه في مسبعة، ويجري الخلاف فيما لو كان الولي يعلمه السباحة
بنفسه فغرق، ولو أدخله الماء ليعبره به، فالحكم كما لو ختنه أو قطع يده من أكلة،
فمات منه، كذا ذكره المتولي، ولو سلم بالغ نفسه، ليعلمه السباحة، ففي
الوسيط أنه إن خاض معه اعتمادا على يده، فأهمله، احتمل أن يجب الضمان،
والذي ذكره العراقيون والبغوي أنه لا ضمان، لأنه مستقل وعليه أن يحتاط لنفسه،
ولا يغتر بقول السباح.
فصل في بيان الحفر الذي هو في محل عدوان وغيره، والحفر يقع في
مواضع، أحدها: إذا حفر في ملك نفسه، فلا عدوان، فلو دخل ملكه داخل
بإذنه، وتردى فيه، لم يجب ضمانه إذا عرفه المالك أن هناك بئرا، أو كانت مكشوفة
والداخل متمكن من التحرز، فأما إذا لم يعرفه، والداخل أعمى، أو الموضع
مظلم، ففي التتمة أنه كما لو دعاه لطعام مسموم، فأكله، ولو حفر بئرا في
دهليز داره، ودعا إليها رجلا، فتردى فيها، ففي الضمان قولان سبقا في أول
الجنايات، أظهرهما: الوجوب، وقيل: إن كان الطريق واسعا وعن البئر معدل،
فقولان، وإن كان ضيقا، فقولان مرتبان، وأولى الوجوب، وعلى هذا قياس تقديم
الطعام المسموم وأطعمة فيها طعام مسموم. الموضوع الثاني: إذا حفر في موات
للتملك أو للارتفاق بالاستقاء منها، فلا ضمان، لأنه جائز كالحفر في ملكه. وعلى
هذا يحمل قوله (ص) في الحديث الصحيح البئر جبار.
الثالث: إذا حفر في ملك غيره، نظر إن حفر بإذن المالك فهو كحفره في
ملكه، وإن حفر بغير إذنه، تعلق به الضمان، لكونه عدوانا، وتكون الدية على
172

العاقلة، ولو هلك به دابة، أو مال آخر، وجب الضمان في ماله، وهل يجعل رضى
المالك ببقاء البئر المحفورة كرضاه بالحفر؟ وجهان سبقا في الغصب، أصحهما:
نعم، ولو كان الحافر عبدا، فالضمان يتعلق برقبته، فلو أعتقه السيد، فضمان من
يتردى بعد العتق يتعلق بالعتيق، ولو حفر في ملك مشترك بينه وبين غيره بغير إذن
الشريك، تعلق به الضمان أيضا، لأنه لا يجوز الحفر في المشترك، وإذا حفر في
ملك الغير متعديا، ودخله رجل بغير إذن، فتردى فيها، ففي تعلق الضمان بالحافر
وجهان، قال في البيان: لو قال المالك: حفر بإذني، لم يصدق.
الرابع: إذا حفر في شارع، نظر، إن كان ضيقا يتضرر الناس بالبئر فيه،
وجب ضمان ما هلك بها، سواء أذن الامام أم لا، وليس للامام الاذن فيما يضر،
وإن كان لا يتضرر بها لسعة الشارع، أو انعطاف موضع البئر، نظر، إن كان الحفر
لمصلحة عامة، كالحفر للاستقاء، أو لاجتماع ماء المطر، فإن أذن فيه الوالي، فلا
ضمان، وإلا فالأظهر الجديد أنه لا ضمان، وأشار في القديم إلى وجوبه، وإن حفر
لغرض نفسه، فإن كان بغير إذن الإمام، ضمن، وإلا فلا على الأصح، وبه قطع
العراقيون والمتولي والروياني، وهذا جار على ما سبق في إحياء الموات أن الأصح
الذي عليه الأكثرون أنه يجوز أن يقطع الامام من الشوارع ما لا ضرر فيه، وأن
للمقطع أن يبني فيه.
فرع الحفر في المسجد كالحفر في الشارع، فلو بنى مسجدا في شارع لا
يتضرر به المارون، جاز، فلو تعثر به إنسان أو بهيمة، أو سقط جداره على
إنسان، أو مال، فأهلكه، فلا ضمان إن كان بإذن الإمام، وكذا إن لم يكن بإذنه
على الأظهر الجديد، ولو بنى سقف مسجد أو نصب فيه عمادا، أو طين جداره أو
علق فيه قنديلا، فسقط على إنسان أو مال، فأهلكه، أو فرش فيه حصيرا، أو
173

حشيشا، فزلق به إنسان، فهلك، أو دخلت شوكة منه في عينه، فذهب بها بصره،
فإن جرى ذلك بإذن الإمام أو متولي أمر المسجد، فلا ضمان، وإلا فلا ضمان أيضا
على الجديد الأظهر ونقل البغوي عن أبي إسحاق أنه إن لم يأذن أهل المحلة
ضمن.
قلت: قال البغوي: ومثل هذا لو وضع دنا على بابه ليشرب الناس منه، فإن
وضعه بإذن الإمام، لم يضمن ما تلف به، وإلا فوجهان، يعني أصحهما لا ضمان
بخلاف ما لو بنى دكة على باب داره فهلك بها شئ، فإنه يضمن، لأنه فعله
لمصلحة نفسه. والله أعلم.
فصل في مسائل تتعلق بالتصرف في الشارع، وفي ملك نفسه، والقول
في التصرف في الشارع سبق بعضه في الصلح وفي إحياء الموات، ويذكر هنا بقيته
إن شاء الله تعالى.
المسألة الأولى: لا يجوز إشراع الأجنحة التي تضر بالمارة إلى الشارع، فلو
فعل، منع وما يتولد منه من هلاك يكون مضمونا، فإن كان الجناح عاليا غير مضر،
فلا منع من إشراعه، وكذا بناء الساباط العالي، لكن لو تولد منه هلاك إنسان، فهو
مضمون بالدية على العاقلة، وإن هلك به مال، وجب الضمان في ماله، ولم يفرقوا
بين أن يأذن الامام أم لا، ولو أشرع جناحا إلى درب منسد بغير إذن أهله، ضمن
المتولد منه، وبإذن أهله لا ضمان، كالحفر في دار الغير بإذنه.
الثانية: يتصرف كل واحد في ملكه بالمعروف، ولا ضمان فيما يتولد منه
بشرط جريانه على العادة واجتناب الاسراف، فلو وضع حجرا في ملكه أو نصب
شبكة، أو سكينا، وتعثر به إنسان فهلك، أو على طرف سطحه، فوقع على
شخص، أو على مال، أو وضع عليه جرة ماء، فألقتها الريح، أو ابتل موضعها،
فسقطت، فلا ضمان، وكذا لو وقف دابة في ملكه فرفست إنسانا أو بالت فأفسدت
174

به ثوبا أو غيره مما هو خارج الملك، أو كان يكسر الحطب في ملكه، فأصاب شئ منه
عين إنسان فأبطل ضوءها، فلا ضمان، وكذا لو حفر بئرا في ملكه فتندى جدار جاره
فانهدم، أو غار ماء بئره أو حفر بالوعة فتغير ماء بئر الجار، فلا شئ عليه، لان
الملاك لا يستغنون عن مثل هذا بخلاف الاشراع إلى الشارع فإنه يستغنى عنه، ولو
قصر فخالف العادة في سعة البئر، ضمن، فإنه إهلاك، وليكن كذلك إذا قرب
الحفر من الجدار على خلاف العادة، ويمنع من وضع السرجين في أصل حائط
الجار، ولو أوقد نارا في ملكه، أو على سطحه، فطار الشرر إلى ملك الغير، فلا
ضمان إلا أن يخالف العادة في قدر النار الموقدة، أو يوقد في يوم ريح عاصفة،
فيكون ذلك كطرح النار في دار غيره، فيضمن، فإن عصفت الريح بغتة بعدما
أوقد، فهو معذور، ولو سقى أرضه، فخرج الماء من جحر فأرة، أو شق، فدخل
أرض غيره، فأفسده زرعه، فلا ضمان إلا أن يخالف العادة في قدر الماء، أو كان
عالما بالجحر أو الشق، فلم يحتط. ولو حفر البئر في أرض خوارة ولم يطوها،
ومثلها تنهار إذا لم تطو، كان مقصرا، كما ذكرنا في سعة البئر، ولا بد من هذا
الاحتياط حيث جوزنا حفر البئر في الشارع.
الثالثة: يجوز إخراج الميزاب إلى الشارع، وليكن عاليا، كالجناح، فلو
سقط منه شئ، فهلك به إنسان أو مال، فقولان، القديم: لا ضمان، والجديد
الأظهر: يضمن، فعلى هذا إن كان الميزاب كله خارجا بأن سمر عليه، تعلق به
جميع الضمان، وإن كان بعضه في الجدار، وبعضه خارجا، فإن انكسر،
فسقط الخارج، أو بعضه، تعلق به جميع الضمان أيضا، وإن انقلع من أصله،
فوجهان أو قولان، أصحهما: يجب نصف الضمان، والثاني: يجب بقسط
الخارج، ويكون التقسيط بالوزن، وقيل: بالمساحة، وسواء أصابه الطرف الداخل
175

أو الخارج، لأن الهلاك يحصل بثقل الجميع، والحكم في كيفية التضمين إذا حصل
الهلاك بجناح مشروع، إما بالخارج منه، وإما بالخارج والداخل جميعا كما ذكرنا
في الميزاب بلا فرق.
فرع ذكر البغوي أنه لو رش ماء الميزاب على ثوب إنسان، ضمن ما
ينقص.
الرابعة: الجدار الملاصق للشارع إن بناه صاحبه مستويا، فسقط من غير ميل
ولا استهدام وتولد منه هلاك، فلا ضمان، ولو بناه مائلا إلى ملكه، أو مال إليه بعد
البناء وسقط، فلا ضمان أيضا، وإن بناه مائلا إلى الشارع، وجب ضمان ما تولد من
سقوطه، وإن بناه مستويا ثم مال إلى الشارع وسقط، فإن لم يتمكن من هدمه
وإصلاحه، فلا ضمان قطعا، وكذا إن تمكن على الأصح عند الجمهور، ويجري
الوجهان فيما لو سقط إلى الشارع، فلم يرفعه حتى هلك به إنسان، أو مال. ولا
فرق بين أن يطالبه الوالي، أو غيره بالنقض، وبين أن لا يطالب، لأنه بنى في ملكه
بلا ميل، والهلاك حصل بغير فعله، وإذا وجب ضمان في البناء المائل ابتداء أو
دواما، فلو مال بعضه، نظر، هل حصل التلف برأسه المائل، أم بالباقي على
الاستواء، أم بالجميع، ويكون حكمه كما ذكرنا في الميزاب.
فرع إذا باع ناصب الميزاب، أو باني الجدار المائل الدار، لم يبرأ من
الضمان، حتى لو سقط على إنسان فهلك به، يجب الضمان على عاقلة البائع،
هكذا ذكره البغوي.
فرع لو أراد الجار أن يبني جداره الخالص أو المشترك مائلا إلى ملك
الجار، فله المنع، وإن مال فله المطالبة بالنقص، كما إذا انتشرت أغصان شجرته
إلى هواء غيره، فله المطالبة بإزالتها، فلو تولد منه هلاك، فالضمان على ما ذكرنا
فيما إذا مال إلى الشارع.
176

فرع لو استهدم الجدار ولم يمل، قال الإصطخري: لا يطالب بنقضه،
لأنه لم يجاوز ملكه، وفي التتمة وجه آخر أن للجار وللمارة المطالبة به لما يخاف
من ضرره، وأورد ابن الصباغ هذا احتمالا على الأول لا ضمان فيما تولد منه،
وعلى الثاني هو كما لو مال، فلم ينقضه.
الخامسة: قمامة البيت، وقشور البطيخ، والرمان، والباقلاء إذا طرحها في
ملكه أو في موات، فزلق بها إنسان، فهلك، أو تلف بها مال، فلا ضمان، وإن
طرحها في الطريق فحصل بها تلف، وجب الضمان على الصحيح وبه قطع
الجمهور، وقيل: لا ضمان لاطراد العرف بالمسامحة به مع الحاجة، وقيل: إن
ألقاها في متن الطريق، ضمن، وإن ألقاها في منعطف وطرف لا ينتهي إليه المارة
غالبا، فلا. قال الامام: والوجه القطع بالضمان بالالقاء في متن الطريق،
وتخصيص الخلاف بالالقاء على الطرف ولك أن تقول: قد يوجد بين العمارات
مواضع معدة للالقاء فيها تسمى تلك المواضع السباطات والمزابل، وتعد من المرافق
المشتركة بين سكان البقعة، فيشبه أن يقطع بنفي الضمان إذا كان الالقاء فيها، فإنه
استيفاء منفعة مستحقة ويخص الخلاف بغيرها وإذا أوجبنا الضمان، فذلك إذا كان
المتعثر بها جاهلا، أما إذا مشى عليها قصدا، فلا ضمان كما لو نزل البئر فسقط.
فرع لو رش الماء في الطريق، فزلق به إنسان أو بهيمة، فإن رش
لمصلحة عامة، كدفع الغبار عن المارة فليكن كحفر البئر
للمصلحة العامة، وإن كان لمصلحة نفسه، وجب الضمان، ويمكن أن يجئ فيه الوجه
المذكور في طرح القشور، ولو جاوز القدر المعتاد في الرش، قال المتولي: وجب الضمان قطعا،
كما لو بل الطين في الطريق، فإنه يضمن ما تلف به.
177

فرع لو بنى على باب داره دكة فتلف بها إنسان أو دابة، وجب
الضمان، وكذا الطواف إذا وضع متاعه في الطريق، فتلف به شئ، لزمه
الضمان بخلاف ما لو وضع على طرف حانوته.
فرع لو بالت دابته، أو راثت، فزلق به رجل أو دابة، أو تطاير منه شئ
إلى طعام إنسان فنجسه، نظر، إن كانت الدابة في ملكه، فلا ضمان، وإن كانت
في الطريق، أو ربطها في الطريق فأتلفت، فحكمه سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر
كتاب موجبات الضمان، ولو مشى قصدا على موضع الرش أو البول، فلا ضمان.
السادسة: أسند خشبه إلى جدار، فسقط الجدار على شئ فأتلفه، إن كان
الجدار لغير المسند ولم يأذن له فعليه ضمان الجدار وما سقط عليه، سواء سقط عقب
الاسناد أم متأخرا عنه، وإن كان الجدار للمسند أو لغيره، وقد أذن له في الاسناد،
لم يجب ضمان الجدار، وفي ضمان ما سقط عليه وجهان، قال ابن القاص وأبو
زيد، إن سقط في الحال، ضمن، كما لو أسقط جدارا على مال رجل، وإن سقط بعد
زمان، لم يضمن، كما لو حفر بئرا في ملكه، وعن القفال أنه لا يضمن في
الحالين، كما لا يضمن ما سقط في البئر في الحالين، فإن ضمناه إذا سقط في
الحال، فلم يسقط، لكنه مال في الحال إلى الشارع، ثم سقط بعد مدة، وجب
الضمان، كما لو بنى الجدار مائلا، لأنه مال بفعله بخلاف ما لو مال في الدوام
بنفسه.
السابعة: نخس دابة أو ضربها مغافصة فقفزت ورمت راكبها، فمات أو
أتلفت مالا، وجب الضمان، قال البغوي: فإن كان النخس بإذن المالك فالضمان
عليه، ولو غلبته دابته، فاستقبلها رجل، وردها، فأتلفت في انصرافها،
178

فالضمان على الراد.
فرع رجل حمل رجلا، فجاء فقرص الحامل، أو ضربه، فتحرك،
فسقط المحمول عن ظهره، قال المتولي: هو كما لو أكره الحامل على إلقائه عن
ظهره.
الطرف الثالث في اجتماع سببين. فمتى اجتمع سببا هلاك، قدم الأول
منهما، لأنه المهلك، إما بنفسه، وإما بوساطة الثاني، فأشبه التردية مع الحفر،
فإذا حفر بئرا في محل عدوان، أو نصب سكينا، ووضع آخر حجرا، فتعثر
بالحجر، فوقع على مؤخر السكين، أو في مقدم البئر، فمات فالضمان يتعلق
بواضع الحجر، وقال أبو الفياض من أصحابنا: يتعلق بناصب السكين إذا كانت
قاطعة موحية، والصحيح الأول، وبه قطع الجمهور، لأن التعثر بالحجر هو الذي
ألجأه إلى الوقوع في البئر، أو على السكين، وكأنه أخذه فرداه، وصار كما لو كان
في يده سكين، فألقى عليه رجل إنسانا، وجب القصاص والضمان على الملقي،
ولو أهوى إليه من في يده سكين ووجهه نحوه حين ألقاه الملقي كان القصاص على
صاحب السكين، هذا إذا كانا متعديين، فلو حفر بئرا، أو نصب سكينا في ملكه،
ووضع متعد حجرا فعثر رجل بالحجر، ووقع في البئر، أو على السكين، فالضمان
أيضا على واضع الحجر، ولو وضع حجرا في ملكه، وحفر متعد هناك بئرا، أو
نصب سكينا، فعثر رجل بالحجر، ووقع في البئر أو على السكين، فالمنقول أنه
يتعلق الضمان بالحافر وناصب السكين، فإنه المتعدي، وينبغي أن يقال: لا يتعلق
بالحافر والناصب ضمان، كما سنذكره قريبا في مسألة السيل إن شاء الله تعالى،
ويدل عليه أن المتولي قال: لو حفر بئرا في ملكه، ونصب غيره فيها حديدة، فوقع
رجل في البئر فجرحته الحديدة ومات، فلا ضمان على واحد منهما.
فرع حفر بئرا في محل عدوان، وحصل حجر على طرف البئر بحمل
السيل، أو بوضع حربي أو سبع، فعثر رجل بالحجر، فوقع في البئر، فهلك، فلا
ضمان على أحد، كما لو ألقاه الحربي، أو السبع في البئر، وقيل: يجب الضمان
179

على عاقلة الحافر وهو ضعيف، ولو حفر بئر عدوان، ونصب آخر في أسفلها سكينا
فالضمان على عاقلة الحافر على الصحيح، وقيل: على ناصب السكين.
فرع حفر بئرا قريبة العمق، فعمقها غيره، فوجهان، أحدهما: يختص
الأول بضمان التالف فيها، وأصحهما: يتعلق بهما، وعلى هذا هل يتنصف، أم
يوزع على الأذرع التي حفراها؟ وجهان.
قلت: الأصح: التنصيف، كالجراحات. والله أعلم.
ولو حفر بئرا وطمها، فأخرج غيره ما طمت به، فهل يتعلق ضمان التالف فيها
بالأول، لأنه المبتدئ، أم بالثاني لانقطاع أثر الأول بالطم؟ وجهان.
قلت: أصحهما الثاني. والله أعلم.
فرع وضع زيد حجرا في طريق، وآخران حجرا بجنبه، فتعثر بهما إنسان
ومات، فالأصح تعلق الضمان بهم أثلاثا، كالجراحات المختلفة، وقيل: يتعلق
بزيد نصفه، وبالآخرين نصفه.
فصل وضع الحجر كحفر البئر يتعلق الضمان به إذا عثر به من لم يره كما
سبق، فلو وضع حجرا في طريق، فعثر به رجل ودحرجه، ثم عثر به ثان، فهلك،
فضمان الثاني يتعلق بالمدحرج، لأن الحجر إنما حصل هناك بفعله.
فرع من قعد في موضع، أو نام، أو وقف، فعثر به ماش، وماتا أو مات
أحدهما، نظر، إن كان قعوده في ملكه، ودخله الماشي بلا إذن، فالماشي مهدر،
وعلى عاقلته دية القاعد والواقف، وكذا لو قعد، أو وقف في موات أو طريق واسع لا
يتضرر به المارة، وسواء كان القاعد أو الواقف بصيرا أو أعمى، كما لو قتل شخصا
أمكنه الدفع عن نفسه، وإن قعد أو نام في طريق ضيق يتضرر به المارة فعثر به
الماشي وماتا، ففيه طرق: المذهب منها وهو المنصوص: أن دم القاعد والنائم
180

مهدر، وعلى عاقلتهما دية الماشي، وأنه إذا عثر بالواقف، كان دم الماشي مهدرا
وعلى عاقلته دية الواقف، لأن الانسان قد يحتاج إلى الوقوف لكلال، أو انتظار
رفيق، أو سماع كلام، فالوقوف من مرافق الطريق كالمشي، لكن الهلاك حصل
بحركة الماشي، فخص بالضمان، والقعود والنوم ليسا من مرافق الطريق، فمن
فعلهما فقد تعدى وعرض نفسه للهلاك، والثاني: وجوب دية كل واحد منهما على
عاقلة الآخر مطلقا، والثالث: يهدر دم القاعد والنائم والواقف، وتجب دية الماشي
على عاقلتهم، والرابع: يهدر دم الماشي، وتجب دية هؤلاء على عاقلته، لان
القتل حصل بحركته، كما لو تردد الأعمى في الطريق بلا قائد فأتلف يلزمه الضمان،
هذا كله إذا لم يوجد من الواقف فعل، فإن وجدنا بأن انحرف إلى الماشي لما قرب
منه، فأصابه في انحرافه، فماتا، فهما كماشيين اصطدما، وسيأتي حكمه إن شاء
الله تعالى. ولو انحرف عنه، فأصابه في انحرافه، أو انصرف إليه، فأصابه بعد تمام
انحرافه، فالحكم كما لو كان واقفا لا يتحرك، ولو جلس في مسجد، فعثر به إنسان
وماتا، فعلى عاقلة الماشي دية الجالس، ويهدر دم الماشي، كما لو جلس في
ملكه، فعثر به ماش، ولو نام في المسجد معتكفا، فكذلك، ولو جلس لأمر ينزه
المسجد عنه، أو نام غير معتكف، فهو كما لو نام في الطريق، هكذا ذكره
البغوي.
فرع حيث أطلق الضمان في هذه الصور وما قبلها، وقيل: إنه على
الحافر، أو واضع الحجر، أو القاعد، وناصب الميزاب والجناح، وملقي القمامة،
وقشر البطيخ ونحوهم، فالمراد أنه يتعلق الضمان بهم، ومعناه أنه يجب على
عاقلتهم.
181

فصل وقع في البئر واحد خلف واحد، فهلكوا، أو هلك بعضهم، فله
حالان.
الأولى: أن يقع الثاني بغير جذب الأول، فإن مات الأول، فالثاني ضامن،
فإن تعمد إلقاء نفسه عليه، ومثله يقتل مثله غالبا لضخامته وعمق البئر وضيقها، لزمه
القصاص، وإن تعمده، لكنه لا يقتل غالبا، فهو شبه عمد، وإن لم يتعمد ووقع في
البئر بغير اختياره، أو لم يعلم وقوع الأول، فهو خطأ محض، ثم أطلق مطلقون أنه
إذا آل الامر إلى المال، وجبت دية كاملة، وقال آخرون: إنما على الثاني نصف
الدية، لأن الأول مات بوقوعه في البئر وبوقوع الثاني عليه، ويكون النصف الآخر
على الحافر، إن كان الحفر عدوانا، وإلا فمهدر وهذا أصح عند المتولي وغيره،
لكن لو نزل الأول إلى البئر ولم ينصدم، فوقع عليه الثاني، تعلق بوقوعه كل الدية،
أما إذا مات الثاني، فإن تعمد إلقاء النفس فيها، أو لم يكن الحفر عدوانا، فهو
هدر، وإلا تعلق الضمان بعاقلة الحافر، وإن ماتا معا، فالحكم في حق كل واحد ما
ذكرنا، ولو تردى في البئر ثلاثة، واحد بعد واحد فوجهان، أحدهما: تجب دية
الأول على عاقلة الثاني والثالث، قاله الشيخ أبو حامد، والثاني: يجب على
عاقلتهما ثلثا الدية، والثلث الباقي على عاقلة الحافر إن كان متعديا، وإلا فهو هدر،
قاله القاضي أبو الطيب واختاره ابن الصباغ.
الحالة الثانية: أن يقع الثاني في البئر بجذب الأول، فإذا تزلق على طرف
بئر، فجذب غيره، ووقع في البئر، ووقع الثاني فوقه فماتا، فالثاني هلك بجذب
182

الأول، فكأنه أخذه وألقاه في البئر إلا أنه قصد الاستمساك والتحرز عن الوقوع،
فكان مخطئا، فيجب ضمان الثاني على عاقلة الأول، وأما الأول، فإن كان الحفر
عدوانا، فوجهان، أحدهما يحكى عن الخضري: أنه مهدر، وأصحهما: تجب
نصف ديته على عاقلة الحافر ويهدر النصف، لأنه مات بسببين: صدمة البئر وثقل
الثاني منسوب إليه، وإن لم يكن الحفر عدوانا، فالأول مهدر بلا خلاف، وليحمل
على هذه الحالة إطلاق من أطلق إهدار الأول، وقد أطلقه كثيرون.
ولو كانت الصورة كما ذكرنا، وجذب الثاني ثالثا، وماتوا جميعا فأما الأول ففيه
وجهان، أحدهما: تهدر نصف ديته لجذبه الثاني، ويجب نصفها على عاقلة الثاني
لجذبه الثالث، وهذا تفريع على أنه لا أثر للحفر مع الجذب، وأصحهما: أنه مات
بثلاثة أسباب: صدمة البئر وثقل الثاني والثالث، فهدر ثلث الدية لجذبه الثاني، ثم
ينظر إن كان الحفر عدوانا، وجب ثلثها على عاقلة الحافر، وثلثها على عاقلة الثاني
بجذبه الثالث، وإن لم يكن الحفر عدوانا، أهدر ثلث آخر ووجب ثلث على عاقلة
الثاني، وقال ابن الحداد: مات بالوقوع في البئر وبجذبة الثاني، فيهدر نصف دية،
ويجب نصفها على عاقلة الحافر، وأعرض عن تأثره بثقل الثالث، وهذا ضعيف عند
الأصحاب، وأما الثاني، فمات بجذب الأول، وبثقل الثالث، وثقل الثالث حصل
بفعله، فيهدر نصف ويجب نصف على عاقلة الأول، وأما الثالث فتجب جميع ديته
على الثاني على الأصح، وقيل: على الأول والثاني، والمراد عاقلتهما، ولو كانت
الصورة بحالها وجذب الثالث رابعا وماتوا، وجب جميع دية الرابع بلا خلاف، وهل
تتعلق بالثالث وحده أم بالثلاثة؟ وجهان، أصحهما: الأول.
وأما ديات الثلاثة ففيها أوجه، أصحها: أن الأول مات بأربعة أسباب: صدمة
البئر، وثقل الثلاثة، فيهدر ربع ديته لجذبه الثاني، ويجب الربع على عاقلة الحافر
إن كان الحفر عدوانا، وإن لم يكن عدوانا، أهدر أيضا، ويجب ربع على عاقلة
الثاني، وربع على عاقلة الثالث، وأما الثاني، فلا أثر للحفر في حقه وقد مات
183

بجذب الأول، وثقل الثالث والرابع، فيهدر ثلث ديته، ويجب ثلثها على عاقلة
الأول وثلثها على عاقلة الثالث، وأما الثالث فمات بجذب الثاني وثقل الرابع، فيهدر
نصف ديته، ويجب نصفها على عاقلة الثاني، والوجه الثاني لا يجب للأول شئ
لأنه باشر قتل نفسه بجذب الثاني وما تولد منه، وأما الثاني فيهدر نصف ديته ويجب
نصفها على عاقلة الأول، وأما الثالث، فيهدر نصف ديته، ويجب نصفها على عاقلة
الثاني، ومقتضى هذا الوجه أن لا يجب للأول في صورة الثلاثة شئ أصلا وإن لم
يذكروه هناك، والوجه الثالث أنه تجعل دية الثلاثة أثلاثا، فيهدر ثلث دية كل واحد
ويجب الثلثان من دية الأول على عاقلتي الثاني والثالث، والثلثان من دية الثاني على
عاقلتي الأول والثالث، والثلثان من دية الثالث على عاقلتي الأول والثاني، والوجه
الرابع حكاه المتولي: يجب للأول ربع الدية إن كان الحافر متعديا، وللثاني
الثلث، وللثالث النصف للقصة المروية من قضاء علي رضي الله عنه بهذا وإمضاء
النبي (ص) لذلك، لكنه حديث ضعيف وجميع ما ذكرناه إذا وقع الثلاثة أو الأربعة
بعضهم فوق بعض، أما إذا كانت البئر واسعة وجذب بعضهم بعضا لكن وقع كل
واحد في ناحية، فدية كل مجذوب على عاقلة جاذبه ودية الأول على عاقلة الحافر إن
كان متعديا، ومن وجبت في هذه الصور دية بعضهم أو بعضها على عاقلته، لزمه
الكفارة في ماله، ويقع النظر في أنها هل تتجزأ؟ ومن أهدر دمه أو شئ منه لفعله،
ففي وجوب الكفارة عليه الخلاف في أن قاتل نفسه هل عليه كفارة؟
الطرف الرابع في اجتماع سببين متقاومين وفيه مسائل:
إحداها: إذا اصطدم حران ماشيان، فوقعا وماتا، فكل واحد مات بفعله وفعل
صاحبه، فهو شريك في القتلين، ففعله هدر في حق نفسه مضمون في حق
صاحبه، فالصحيح أن في تركة كل واحد منهما كفارتين بناء على أن الكفارة لا
تتجزأ، وأن قاتل نفسه عليه كفارة، وأما الدية، فتسقط نصف دية كل واحد،
ويجب نصفها، ثم إن لم يقصدا الاصطدام بأن كانا أعميين، أو في ظلمة، أو
مدبرين، أو غافلين، فهو خطأ محض، فعلى عاقلة كل واحد نصف دية الآخر،
وإن تعمدا الاصطدام، فوجهان، أحدهما: أن الحاصل عمد محض، ويجب في
مال كل واحد نصف دية الآخر، قاله أبو إسحاق، واختاره الامام والغزالي،
وأصحهما عند الأكثرين وهو نصه في الام: أن الحاصل شبه عمد، لأن الغالب
184

أن الاصطدام لا يفضي إلى الموت، فلا يتحقق فيه العمد المحض، ولذلك لا
يتعلق القصاص إذا مات أحدهما دون الآخر، فيجب على عاقلة كل واحد نصف دية
الآخر مغلظة.
الثانية: إذا كان المصطدمان راكبين، فحكم الدية والكفارة كما ذكرنا، فلو
تلفت الدابتان، ففي تركة كل واحد نصف قيمة دابة صاحبه، ولو غلبتهما الدابتان،
فجرى الاصطدام والراكبان مغلوبان، فالمذهب أن المغلوب كغير المغلوب كما
سبق، وفي قول أنكره جماعه أن هلاكهما وهلاك الدابتين هدر، إذ لا صنع لهما،
ولا اختيار، فصار كالهلاك بآفة سماوية، ويجري الخلاف فيما لو غلبت الدابة راكبها
أو سائقها، وأتلفت مالا، هل يسقط الضمان عنه؟
فرع سواء في اصطدام الراكبين اتفق جنس المركوبين وقوتهما، أم
اختلف، كراكب فرس، أو بعير مع راكب بغل أو حمار، وسواء في اصطدام
الرجلين اتفق سيرهما، أو اختلف، بأن كان أحدهما يمشي والآخر يعدو، وسواء
كانا مقبلين، أم مدبرين، أو أحدهما مقبلا والآخر مدبرا، قال الامام: لكن لو كانت
إحدى الدابتين ضعيفة بحيث يقطع بأنه لا أثر لحركتها مع قوة الدابة الأخرى، لم
يتعلق بحركتها حكم، كغرز الإبرة في جلدة العقب مع الجراحات العظيمة،
وسواء وقع المصطدمان مقبلين أو مستلقيين، أو أحدهما مستلقيا والآخر مكبا، وعن
المزني أنه إذا وقع أحدهما مكبا والآخر مستلقيا، فالمكب مهدر وعلى عاقلته ضمان
المستلقي، وعن ابن القاص مثله تخريجا، وعنه أن المكبين مهدران، والمذهب
الأول، وبه قطع الجمهور، ولو اصطدم ماش وراكب لطول الماشي وهلكا،
فالحكم ما سبق.
فرع تجاذب رجلان حبلا، فانقطع، فسقطا وماتا، وجب على عاقلة كل
واحد نصف دية الآخر ويهدر النصف، سواء وقعا مكبين أو مستلقيين، أو أحدهما
هكذا والآخر كذاك، لكن قال البغوي: إن أكب أحدهما، واستلقى الآخر، فعلى
عاقلة المستلقي نصف دية المكب مغلظة، وعلى عاقلة المكب نصف دية المستلقي
185

مخففة، وهذا إن صح اقتضى أن يقال مثله في الاصطدام، هذا إذا كان الحبل
لهما أو مغصوبا، فإن كان لأحدهما والآخر ظالم، فدم الظالم هدر، وعلى عاقلته
نصف دية المالك، ولو أرخى أحد المتجاذبين، فسقط الآخر، ومات فنصف ديته
على عاقلة المرخي ويهدر نصفها، ولو قطع الحبل قاطع، فسقطا وماتا، فديتاهما
جميعا على عاقلة القاطع.
فرع ما ذكرنا أنه يهدر نصف قيمة الدابة ويجب النصف الآخر هو فيما إذا
كانت الدابة للراكب، فإن كانت مستعارة أو مستأجرة لم يهدر منها شئ، لأن العارية
مضمونة، وكذا المستأجر إذا أتلفه المستأجر.
الثالثة: إذا اصطدم صبيان أو مجنونان، نظر، إن كانا ماشيين، أو راكبين
ركبا بأنفسهما، فهما كالبالغين إلا أنا إذا أوجبنا هناك دية مغلظة، فهي هنا مخففة إلا
إذا قلنا: عمد الصبي والمجنون عمد، وإن أركبهما من لا ولاية له عليهما، لم يهدر
شئ من ديتهما، ولا من قيمة الدابتين، ولا شئ على الصبيين، ولا على
عاقلتهما، بل إن كان المركب واحدا، فعليه قيمة الدابتين، وعلى عاقلته دية
الصبيين، وإن أركب هذا واحدا وذاك آخر، فعلى كل واحد نصف قيمة كل دابة،
وكذا يضمن ما أتلفته دابة من أركبه بيدها أو رجلها، وعلى عاقلة كل واحد نصف
ديتي الصبيين، هذا هو الصحيح المعروف الذي قطع به الأصحاب، وقال الداركي
وابن المرزبان: يلزم عاقلة كل مركب دية من أركبه، قال الشيخ أبو حامد: هذا
غلط، قال في الوسيط: فلو تعمد الصبي والحالة هذه، احتمل أن يحال الهلاك
عليه إذا قلنا: عمده عمد، لأن المباشرة مقدمة على التسبب، وهذا احتمال
حسن، فإن قيل به، فحكمه كما لو ركبا بأنفسهما، والاعتذار عنه تكلف، ولو وقع
الصبي، فمات، فقد أطلق الشيخ أبو حامد أنه يتعلق بالمركب الضمان، وقال
المتولي: إن كان مثله لا يستمسك على الدابة ولم يشده، وجب الضمان، وإن كان
يستمسك، فإن كان ينقله من موضع إلى موضع، فلا ضمان، سواء أركبه الولي أو
غيره، لأنه لا يخاف منه الهلاك غالبا، وإن أركبه ليتعلم الفروسية، فهو كما لو تلف
186

في يد السباح، وفي كل واحد من الاطلاق والتفصيل نظر، أما إذا أركبهما ولياهما
لمصلحتهما فوجهان، أصحهما: لا ضمان على الولي، كما لو ركبا بأنفسهما إذ لا
تقصير، والثاني قاله القفال: يجب الضمان، لأن في الا ركاب خطرا، هكذا أطلق
جماعة الوجهين، وخصهما الامام بالاركاب لزينة أو حاجة غير مهمة، قال: فأما إذا
مست حاجة أرهقت إلى إركابه للانتقال إلى مكان، فلا ضمان قطعا، ثم الوجهان
مخصوصان بما إذا ظهر ظن السلامة، فأما إذا أركبه الولي دابة شرسة جموحا،
فلا شك في أنه يتعلق به الضمان.
الرابعة: اصطدام المرأتين كالرجلين، فإن اصطدم حاملان فماتتا ومات
جنيناهما، وجب في تركة كل واحدة منهما أربع كفارات على الصحيح، وهو إيجاب
الكفارة على قاتل نفسه، وعدم تجزئة الكفارة، فإن لم نوجبها على قاتل نفسه،
وجب ثلاث كفارات، وإن قلنا بالتجزئة، وجب ثلاثة أنصاف كفارة وعلى عاقلة كل
واحدة نصف دية صاحبتها ونصف غرة كل جنين.
الخامسة: اصطدم عبدان، فمات أحدهما، وجب نصف قيمته متعلقا برقبة
الحي، وإن ماتا فمهدران، لأن ضمان جناية العبد تتعلق برقبته، سواء اتفقت
قيمتهما، أم اختلفت، وإن اصطدم حر وعبد ومات العبد، فنصفه هدر، وتجب
نصف قيمته، وهل تكون على الحر أم على عاقلته؟ فيه الخلاف في تحمل العاقلة
قيمة العبد، وإن مات الحر، وجب نصف ديته متعلقا برقبة العبد، وإن ماتا معا،
فإن قلنا: قيمة العبد لا تحملها العاقلة، وجب نصفها في تركة الحر، ويتعلق به
نصف دية الحر، لأنه بدل رقبته، وإن قلنا: تحمل العاقلة القيمة، فنصف قيمة
العبد على عاقلة الحر، ويتعلق به نصف دية الحر، فيأخذ السيد من العاقلة نصف
القيمة، ويدفع نصف الدية إلى ورثة الحر، إما من عين المأخوذ وإما من غيره، قال
الامام: والوجه أن يثبت لورثة الحر مطالبة عاقلته بنصف القيمة، وإن كان ملكه
187

السيد ليتوثقوا به وكذا إذا تعلق أرش برقبة عبد، فقتله أجنبي، ثبت للمجني عليه
مطالبة قاتل الجاني بالقيمة، ويثبت للمرتهن مطالبة قاتل المرهون بالقيمة ليتوثق
بها، وليكن هذا مبنيا على أن المرتهن هل له أن يخاصم الجاني؟ وفيه خلاف
سبق، الأصح: المنع وبتقدير أن يخاصم ويأخذ، فإن لم يصر المأخوذ ملكا
للراهن، لم يصح التوثق، وإن صار، فجعل المرتهن نائبا عنه قهرا بعيد.
السادس: اصطدم مستولدتان لرجلين فماتتا، أهدر نصف قيمة كل منهما
ووجب نصف قيمة كل واحدة على سيد الأخرى، لأن ضمان جناية المستولدة على
سيدها، كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، والمذهب أنه يضمن أقل الأمرين من
أرش الجناية وقيمة مستولدته، وإن كانتا حاملين، فماتتا، وأجهضتا جنينهما،
فحكم القيمة ما ذكرنا، وأما ضمان الجنينين، فإن كانا رقيقين، فعلى سيد كل
واحدة مع نصف قيمة الأخرى نصف عشر قيمتها لنصف جنينها، وإن كانتا حاملين
بحرين من شبهة، فعلى كل سيد مع نصف قيمة الأخرى نصف غرة لجنين
مستولدته، ونصف غرة لجنين الأخرى، وإن كانتا حاملين بحرين من السيدين،
فنصف كل جنين هدر، لأن المستولدة إذا جنت على نفسها، وألقت جنينا، كان
هدرا، وعلى كل واحد من السيدين نصف غرة جنين الأخرى، وتصير الصورة من
صور التقاص، وإذا فضل لأحدهما شئ أخذه، وإن كانت إحداهما حاملا،
فألقت جنينها ميتا، فنصف الغرة على سيد الحامل، فإن كان للجنين أم أم وارثة،
فلها نصف سدس الغرة، والباقي لسيد الحامل، وعليه للجدة نصف سدس أيضا ل
يكمل لها سدس الغرة.
السابعة: إذا اصطدم سفينتان، وغرقتا بما فيهما، فإما أن يحصل الاصطدام
بفعلهما، وإما لا، فهما حالان.
الأول بفعلهما، فينظر إن كانت السفينتان وما فيهما ملكا للملاحين
المجريين لهما، فنصف قيمة كل سفينة وما فيهما مهدر، ونصف قيمتها ونصف قيمة
ما فيها على صاحب الأخرى، فإن هلك الملاحان أيضا، فهما كالفارسين يموتان
بالاصطدام، وإن كانت السفينتان لهما وحملا الأموال والأنفس تبرعا أو بأجرة،
188

نظر إن تعمدا الاصطدام بما يعده أهل الخبرة مفضيا إلى الهلاك، تعلق بفعلهما
القصاص حتى إذا كان في كل سفينة عشرة أنفس مثلا يقرع بينهم لموتهم معا، فمن
خرجت قرعته، قتل به الملاحان، وفي مال كل واحد منهما نصف ديات الباقين،
فيكون على كل واحد تسع ديات ونصف مع القصاص، وفي مال كل واحد من
الكفارات بعدد من في السفينتين من الأحرار والعبيد، وعلى كل واحد منهما نصف
قيمة ما في السفينتين لا يهدر منه شئ، ونصف قيمة سفينة صاحبه، ويهدر
نصفها، ويجري التقاص في القدر الذي يشتركان فيه، وإن تعمدا الاصطدام بما لا
يفضي إلى الهلاك غالبا وقد يفضي إليه، فهو شبه عمد، والحكم كما ذكرنا، إلا أنه
لا يتعلق به قصاص، وتكون الدية على العاقلة مغلظة، وإن لم يتعمدا الاصطدام بل
ظنا أنهما يجريان على الريح فأخطأ أو لم يعلم واحد منهما أن بقرب سفينته سفينة
الآخر، فالدية على العاقلة، وإن كانت السفينتان لغير الملاحين، وكانا أجيرين
للمالك، أو أمينين، لم يسقط شئ من ضمان السفينتين بل على كل واحد منهما
نصف قيمة كل سفينة، وكل واحد من المالكين مخير بين أن يأخذ جميع قيمة سفينته
من أمينه، ثم هو يرجع بنصفها على أمين الآخر، وبين أن يأخذ نصفها منه ونصفها
من أمين الآخر، وإن كان المجريان عبدين، فالضمان يتعلق برقبتهما.
الحال الثاني: أن يحصل الاصطدام لا بفعلهما، فإن وجد منهما تقصير بأن
توانيا في الضبط، فلم يعدلاهما عن صوب الاصطدام مع إمكانه، أو سيرا في ريح
شديدة لا تسير في مثلها السفن، أو لم يكملا عدتهما من الرجال والآلات، وجب
الضمان على ما ذكرنا، وإن لم يوجد منهما تقصير، وحصل الهلاك بغلبة
الرياح وهيجان الأمواج، ففي وجوب الضمان قولان، أحدهما: نعم كالفارسين إذا
غلبتهما دابتاهما، وأصحهما: لا، لعدم تقصيرهما، كما لو حصل الهلاك بصاعقة
بخلاف غلبة الدابة، فإن ضبطها ممكن باللجام، وقيل: القولان إذا لم يكن منهما
فعل، بأن كانت السفينة مربوطة بالشط أو مرساة في موضع، فهاجت ريح فسيرتها
فأما إذا سيراهما، ثم غلبت الريح، وعجزا عن ضبطهما، فيجب الضمان قطعا،
والمذهب طرد القولين في الحالين، فإن قلنا: يجب الضمان، فهو كما لو فرطا،
189

ولكن لم يقصدا الاصطدام، وإن قلنا بالأظهر: لم يجب ضمان الأحرار، ولا ضمان
الودائع والأمانات فيهما ولا ضمان الأموال المحمولة بالأجرة إن كان مالكها أو عبده
معها يحفظها، وإن استقل المجريان باليد، فعلى القولين في أن يد الأجير المشترك
هل هي يد ضمان؟ وإن كان فيهما عبيد، فإن كانوا أعوانا أو حفاظا للمال لم يجب
ضمانهم، وإلا فهم كسائر الأموال، وعلى هذا لو اختلف صاحب المال
والملاحان، فقال صاحب المال: كان الاصطدام بفعلكما، وقالا: بل بغلبة
الريح، صدقا بيمينهما، ومتى كان أحدهما مفرطا أو عامدا دون الآخر، خص كل
واحد منهما بالحكم الذي يقتضيه حاله على ما ذكرنا، ولو صدمت سفينة السفينة
المربوطة بالشط فكسرتها، فالضمان على مجري السفينة الصادمة.
فرع إذا خرق واحد سفينة، فغرق ما فيها من نفس ومال، وجب ضمانه،
ثم إن تعمد الخرق بما يفضي إلى الهلاك غالبا كالخرق الواسع الذي لا مدفع،
وجب القصاص والدية المغلظة في ماله، وإن تعمده بما لا يحصل به الهلاك غالبا،
فهو شبه عمد، وكذا لو قصد إصلاح السفينة، فنفذت الآلة في موضع الاصلاح
فغرقت به السفينة، وإن أصابت الآلة غير موضع الاصلاح، أو سقط من يده حجر،
أو غيره، فخرقت السفينة، فهو خطأ محض.
فرع لو كانت السفينة مثقلة بتسعة أعدال، فوضع آخر فيها عدلا آخر
عدوانا، فغرقت، فهل يغرم جميع الأعدال التسعة أم بعضها؟ وجهان، أحدهما:
جميعها، لأن الهلاك ترتب على فعله، وأصحهما: البعض، وفيه وجهان،
أحدهما: النصف، والثاني: قسطه إذا وزع على جميع الأعدال، وهو كالخلاف
في الجلاد إذا زاد على الحد المشروع، وله نظائر متقدمة.
فصل إذا أشرفت السفينة على الغرق، جاز إلقاء بعض أمتعتها في البحر،
ويجب الالقاء رجاء نجاة الراكبين إذا خيف الهلاك، ويجب إلقاء ما لا روح فيه
190

لتخليص ذي الروح، ولا يجوز إلقاء الدواب إذا أمكن دفع الغرق بغير الحيوان،
وإذا مست الحاجة إلى إلقاء الدواب، ألقيت لابقاء الآدميين، والعبيد كالأحرار،
وإذا قصر من عليه الالقاء حتى غرقت السفينة، فعليه الاثم ولا ضمان كما لو لم يطعم
صاحب الطعام المضطر حتى مات، يعصي ولا يضمنه، ولا يجوز إلقاء المال في
البحر من غير خوف، لأنه إضاعة للمال، وإذا ألقى متاع نفسه أو متاع غيره بإذنه
رجاء السلامة، فلا ضمان على أحد، ولو ألقى متاع غيره بغير إذنه، وجب
الضمان، وقيل: إذا ألقى من لا خوف عليه متاع نفسه لانقاذ غيره، ففي رجوعه
عليه وجهان، كمن أطعم المضطر قهرا والمذهب الأول، ولو قال لغيره: ألق متاعك
في البحر وعلي ضمانه أو على أني ضامن، أو على أني أضمن قيمته، فألقاه فعلى
الملتمس ضمانه، وقال أبو ثور وبعض الأصحاب: لا يجب ضمانه، لأنه ضمان
ما لم يجب، والصحيح الأول وبه قطع الجمهور، لأنه التماس إتلاف بعوض له فيه
191

غرض صحيح، فصار كقوله: أعتق عبدك على كذا، فأعتق، قال الأصحاب:
وليس هذا على حقيقة الضمان وإن سمي ضمانا، ولكنه بذل مال للتخليص عن
الهلاك، فهو كما لو قال: أطلق هذا الأسير ولك علي كذا، فأطلقه، يجب
الضمان، وبنى القاضي حسين عليه أنه لو قال لمن له القصاص: اعف ولك
كذا، أو قال لرجل: أطعم هذا الجائع ولك علي كذا، فأجاب، يستحق
المسمى، أما إذا اقتصر على قوله: ألق متاعك في البحر، ولم يقل: وعلي
ضمانه، فألقاه فقيل في وجوب الضمان خلاف، كقوله: أد ديني، وقطع الجمهور
بأنه لا ضمان، لأن قضاء الدين ينفعه قطعا وهذا قد لا ينفعه، قال البغوي: وتعتبر
قيمة الملقى قبل هيجان الأمواج، فإنه لا قيمة للمال في تلك الحال، فلا تجعل قيمة
المال في البحر وهو على خطر الهلاك كقيمة البر، ثم إنما يجب الضمان على
الملتمس بشرطين، أحدهما: أن يكون الالتماس عند خوف الغرق، فأما في غير
حال الخوف فلا يقتضي الالتماس ضمانا، سواء قال: على أني ضامن، أو لم
يقل، كما لو قال: اهدم دارك، ففعل.
الشرط الثاني: أن لا تختص فائدة الالقاء بصاحب المتاع، واعلم أن فائدة
التخليص بإلقاء المتاع تتصور في صور:
إحداها: أن يختص بصاحب المتاع، فإذا كان في السفينة المشرفة راكب
ومتاعه، فقال له رجل من الشط، أو من زورق بقربها: ألق متاعك في البحر وعلي
ضمانه، فألقى، لا يجب الضمان، ولا يحل له أخذ الضمان، لأنه فعل ما هو
واجب عليه لغرض نفسه، فلا يستحق عوضا، كما لو قال للمضطر: كل طعامك
وأنا ضامنه لك، فأكله، لا شئ على الملتمس.
الثانية: أن يختص بالملتمس، بأن أشرفت سفينة على الغرق وفيها متاع رجل
وهو خارج عنها، فقال للخارج: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه، فألقى،
وجب الضمان كما ذكرنا سواء حصلت السلامة أم لا، حتى لو هلك الملتمس وجب
الضمان في تركته.
192

الثالثة: أن يختص بغيرهما، بأن كان الملتمس وصاحب المتاع خارجين عن
السفينة وفيها جماعة مشرفون على الغرق، وجب الضمان على الملتمس أيضا، لأنه
غرض صحيح.
الرابعة: أن تعود المصلحة إلى ملقي المتاع وغيره دون الملتمس، فوجهان،
أصحهما: يجب ضمان جميع المتاع، والثاني: بقسط الملقى على مالكه وسائر من
فيها، فيسقط قسط المالك ويجب الباقي، فإن كان معه واحد، وجب نصف
الضمان، وإن كان معه تسعة، وجب تسعة أعشاره.
الخامسة: أن يكون في الالقاء تخليص الملتمس وغيره، بأن التمس بعض
ركاب السفينة من بعض، فيجب الضمان على الملتمس، قال الامام: ويجئ
الوجهان في أنه هل تسقط حصة المالك؟
فرع إذا قال: ألق متاعك في البحر وأنا وركاب السفينة ضامنون، كل
واحد منا على الكمال، أو على أني ضامن وكل واحد منهم ضامن، فعليه ضمان
الجميع، ولو قال: أنا وهم ضامنون كل واحد منا بالحصة، لزمه ما يخصه، وكذا
لو قال: أنا وهم ضامنون، واقتصر عليه، ولو قال: وأنا ضامن وركاب السفينة، أو على
أن أضمنه أنا والركاب، أو قال: وأنا ضامن وهم ضامنون، لزمه ضمان الجميع على
الأصح، وقيل: على القسط، ثم قوله: هم ضامنون، إما للجميع، وإما
للحصة، إن أراد به الاخبار عن ضمان سبق منهم، واعترفوا به، لزمهم، وإن
أنكروا، فهم المصدقون، وإن قال: أردت إنشاء الضمان عنهم، فقيل: إن رضوا
به، ثبت المال عليهم، والصحيح أنه لا يثبت، لأن العقود لا توقف، وإن قال:
وأنا وهم ضمناء وضمنت عنهم بإذنهم، طولب هو بالجميع بقوله، وإذا أنكروا
الاذن، فهم المصدقون حتى لا يرجع عليهم، ولو قال: أنا وهم ضمناء، وأصححه
من مالهم، فقد نقل الأئمة لا سيما العراقيون، أنه يطالب بالجميع أيضا، وكذا لو
قال: أنا أحصله من مالهم كما لو قال: اخلعها على ألف أصححها لك من مالها،
أو أضمنها لك من مالها، يلزمه الألف، ولو قال: ألقي متاعك في البحر على أني
وهم ضمناء، فأذن له في الالقاء، فألقاه، فهل تلزمه الحصة أم الجميع، لأنه باشر
الاتلاف؟ وجهان.
193

فرع قال: ألق متاعك وعلي نصف الضمان، وعلى فلان الثلث، وعلى
فلان السدس، لزمه النصف.
فرع قال لرجل: ألق متاع زيد وعلي ضمانه إن طالبك، فالضمان على
الملقي دون الآمر.
فرع قال الامام: المتاع الملقى لا يخرج عن ملك مالكه حتى لو لفظه
البحر على الساحل، وظفرنا به، فهو لمالكه، ويسترد الضامن المبذول، وهل
للمالك أن يمسك ما أخذه، ويرد بدله؟ فيه خلاف كالخلاف في العين المقرضة إذا
كانت باقية، فهل للمقترض إمساكها ورد بدلها؟
المسألة الثامنة: إذا عاد حجر المنجنيق على الرامين، فقتل أحدهم، فقد
مات بفعله وفعل شركائه، وحكمه كالاصطدام، فإن كانوا عشرة، سقط عشر ديته،
ووجب على عاقلة كل واحد من التسعة عشرها، ولو قتل اثنين منهم، فصاعدا
فكذلك، فلو قتل العشرة، أهدر من دية كل واحد عشرها، ووجب على عاقلة كل
194

واحد من الباقين عشرها، ولو أصاب الحجر غيرهم، نظر، إن لم يقصدوا واحدا أو
أصاب غير من قصدوه، بأن عاد فقتل بعض النظارة، فهذا خطأ يوجب الدية المخففة
على العاقلة، وإن قصدوا شخصا أو جماعة بأعيانهم فأصابوا من قصدوه، فوجهان،
قطع العراقيون بأنه شبه عمد، لأنه لا يتحقق قصد معين بالمنجنيق، والثاني وبه قطع
الصيدلاني، والامام والغزالي والمتولي، ورجحه البغوي والروياني: أنه عمد إذا
كانوا حاذقين تتأتى لهم الإصابة، والغالب الإصابة.
قلت: هذا الثاني هو الذي صححه في المحرر. والله أعلم.
وإن قصدوا واحدا أو جماعة، والغالب أنه لا يصيب من قصدوه وقد يصيب،
فهو شبه عمد، والعلم بأنه يصيب أحدهم لا بعينه، أو جماعة منهم لا بأعيانهم، لا
يحقق العمدية، ولا يوجب القصاص، لأن العمدية تعتمد قصد عين الشخص ولهذا
لو قال: اقتل أحد هؤلاء وإلا قتلتك، فقتل أحدهم، لا قصاص على الآمر، لأنه لم
يقصد عين أحدهم، ثم قال الغزالي: يكون هذا خطأ في حق ذلك الواحد، وقال
البغوي: يكون شبه عمد تجب به دية مغلظة على العاقلة وهذا هو الصحيح إذا
قصدوا واحدا أو جماعة لا بأعيانهم، وكذا لو رمى سهما إلى جماعة، ولم يعين
أحدهم، ثم استدرك الامام فقال: قولنا لا يجب القصاص مفروض فيمن قصد
إصابة واحد لا بعينه، أو جماعة لا بأعيانهم وأصاب الحجر بعضهم، فأما إذا كان
القوم محصورين في موضع وعلم الحاذق أنه إذا سدد عليهم الحجر أصاب جميعهم
وحقق قصده، فأتى عليهم، فالذي أراه وجوب القصاص.
التاسعة: جرح مرتدا بقطع يده أو غيرها، فأسلم، ثم جرحه الأول، ثم
جرحه ثلاثة آخرون فمات، نظر، إن وقعت الجراحات الأربع بعد اندمال الأولى،
لزمهم الدية أرباعا، وإن وقعت قبل اندمالها ومات من الجراحات الخمس، ففيما
عليهم وجهان، أصحهما وبه قال ابن الحداد: توزع الدية على عدد الجارحين وهم
195

أربعة، فيجب على كل واحد ربعها، ثم يعود ما على الجارح في الردة إلى الثمن،
لأن جراحة الردة مهدرة، والثاني: توزع الدية على الجراحات، فيسقط خمسها
للردة، ويجب على كل واحد من الأربعة خمسها، كما لو جرحه واحد في الردة
وأربعة بعد الاسلام، فإنه يلزم كل واحد من الأربعة خمس الدية، ولو جرحه ثلاثة
في الردة، ثم جرحوه مع رابع في الاسلام، ومات بالجراحات، فعلى قول ابن
الحداد توزع الدية على الأربعة وقد جرح ثلاثة منهم جراحتين، إحداهما في الردة،
فيعود ما على كل منهم إلى الثمن، ويبقى على الرابع الربع، وعلى الوجه الآخر:
الجراحات سبع، فيسقط ثلاثة أسباع الدية بجراحات الردة، ويجب على كل واحد
سبعها، ولو جرحه في الردة أربعة، ثم جرحه أحدهم مع ثلاثة في الاسلام، فعلى
قول ابن الحداد: الجارحون سبعة فعلى كل واحد من الذين لم يجرحوا إلا في
الاسلام سبع الدية، ولا شئ على الجارحين في الردة فقط، وعلى الجارح في
الحالين نصف سبع، وعلى الوجه الآخر مات بثمان جراحات، أربع في الاهدار،
فعلى كل واحد من الجارحين في الاسلام ثمن الدية. ولو جرحه أربعة في الردة، ثم
جرحه أحدهم وحده في الاسلام، فعلى قول ابن الحداد: الجارحون أربعة، يلزم
الجارح في الاسلام الثمن، لأن حصته الربع، فيسقط نصفه بجراحة الردة، ولا
شئ على الباقين، وعلى الوجه الآخر يلزمه خمس الدية، ويسقط أربعة أخماسها،
ولو جرحه ثلاثة في الردة، ثم جرحه أحدهم في الاسلام، فهل عليه سدس الدية أم
ربعها؟ فيه الوجهان، ولو جرحه اثنان في الردة، ثم جرحه أحدهما مع ثالث في
الاسلام، فعلى قول ابن الحداد، لا شئ على الذين لم يجرح إلا في الردة، وعلى
الجارح في الحالين سدس، وعلى الآخر ثلث، وعلى الوجه الآخر، يلزم الجارح
في الحالين ربع الدية، وكذا الجارح في الاسلام. ولو جرحه اثنان في الردة، ثم
في الاسلام، لزم كل واحد منهما ربع الدية باتفاق الوجهين، ولو جرحه ثلاثة في
الردة ثم في الاسلام، لزم كل واحد سدس الدية باتفاق الوجهين، وكذا يتفقان متى
لم يختلف عدد الجراحات ولا الجارحين في الحالين.
فرع إذا اختلف جنايات رجل عمدا وخطأ، وشاركه غيره بأن جرح خطأ،
ثم عاد مع آخر، فجرحا عمدا، فالتوزيع لمعرفة ما يؤخذ منه وما يضرب على عاقلته
196

كما سبق فيما إذا جنى في الردة والاسلام.
العاشرة: جنى عبد على زيد بإيضاح، أو قطع يد، أو أصبع أو غيرها، ثم
قطع عمرو يد العبد، ثم جنى العبد على بكر، ومات زيد وبكر بالجراحة أو لم
يموتا، ومات العبد بالقطع، لزم عمرا قيمة العبد، فحصة اليد منها يخص بها زيد،
ويتضارب زيد وبكر أو ورثتهما في الباقي: زيد بما بقي بعد أخذ حصة اليد، وبكر
بالجميع، لأنه جنى على زيد بتمام بدنه، وجنى على بكر ولا يد له، ولا حق له في
بدلها، وأما حصة اليد، فالصحيح أنها ما نقص من قيمته بقطع اليد، قال الشيخ أبو
علي: ومن الأصحاب من يغلط، فيعتبر أرشها وهو نصف القيمة، قال: وهذا فاسد
من وجهين، أحدهما: أنه لو قطع يدي زيد ينبغي أن يختص بجميع القيمة، ولا
يجوز أن يجني على اثنين، ثم تكون قيمته لأحدهما، والثاني: أن الجراحة إذا
صارت نفسا، سقط اعتبار بدل الطرف.
فرع في مسائل من فتاوى البغوي ذكرها الرافعي في آخر باب العاقلة،
منها: حفر بئرا عدوانا، ثم أحكم رأسها، ثم جاء آخر وفتحه، فوقع فيها شخص،
فمات فالضمان على فاتح الرأس، ولو أحكم رأسها آخر ففتحه ثالث، تعلق الضمان
بالثالث، ولو وقعت بهيمة في بئر عدوان فلم تتأثر بالصدمة وبقيت فيها أياما، فماتت
جوعا أو عطشا، فلا ضمان على الحافر لحدوث سبب آخر، كما لو افترسها سبع في
البئر، ولو تقاتل رجلان فرمى أحدهما صاحبه، فسقط بصولته، وتلف، فلا
197

ضمان، وإن سقط بصولته، وضربة صاحبه، وجب نصف الضمان، ولو شد عنق
أحد بعيريه بالآخر، وتركهما بالمسرح، فدخل بعير رجل بينهما فتلف من جذبة
الحبل أحد البعيرين، فلا ضمان إلا أن يكون ذلك البعير معروفا بالافساد.
الطرف الخامس في حكم السحر: اعلم أن حكم السحر وقع بعضه في أول
الجنايات، وبعضه هنا، ومعظمه في آخر كتاب دعوى الدم وقد رأيت تقديم هذا
الأخير إلى هنا، فالساحر قد يأتي بفعل أو قول يتغير به حال المسحور، فيمرض
ويموت منه، وقد يكون ذلك بوصول شئ إلى بدنه من دخان وغيره، وقد يكون
دونه. وقال أبو جعفر الاسترآبادي من أصحابنا: لا حقيقة للسحر وإنما هو تخييل،
والصحيح أن له حقيقة كما قدمناه، وبه قطع الجمهور، وعليه عامة العلماء ويدل
عليه الكتاب والسنة الصحيحة المشهورة. ويحرم فعل السحر بالاجماع، ومن اعتقد
إباحته، فهو كافر، وإذا قال إنسان: تعلمت السحر، أو أحسنه، استوصف، فإن
وصفه بما هو كفر فهو كافر، بأن يعتقد التقرب إلى الكواكب السبعة، قال القفال:
ولو قال: أفعل بالسحر بقدرتي دون قدرة الله تعالى، فهو كافر، وإن وصفه بما ليس
بكفر، فليس بكافر.
وأما تعلم السحر وتعليمه ففيه ثلاثة أوجه، الصحيح الذي قطع به الجمهور:
أنهما حرامان، والثاني: مكروهان، والثالث: مباحان، وهذان إذا لم يحتج في
تعليمه إلى تقديم اعتقاد هو كفر.
قلت: قال إمام الحرمين في كتابه الارشاد: لا يظهر السحر إلا على فاسق،
ولا تظهر الكرامة على فاسق، وليس ذلك بمقتضى العقل، ولكنه مستفاد من إجماع
الأمة، وذكر المتولي في كتابه الغنية نحو هذا. والله أعلم.
واعلم أن التكهن، وإتيان الكهان، وتعلم الكهانة والتنجيم والضرب بالرمل
وبالشعير والحصى، وتعليم هذه كلها حرام، وأخذ العوض عليها حرام بالنص
الصحيح في حلوان الكاهن، والباقي بمعناه، وقد أوضحت هذا الفصل في
تهذيب الأسماء واللغات عند ذكر الحلوان والكهانة، ونبهت فيه على النصوص،
وأقوال العلماء في تحريمه، ولا يغتر بجهالة من يتعاطى الرمل وإن نسب نفسه، أو
نسبه الناس إلى علم، كما لا يفتر به فيما يعرفه من حاله من تساهله في الشبهات،
198

وبعض المحرمات وأما الحديث الصحيح: كان نبي من الأنبياء يخط، فمن وافق
خطه، فذاك فمعناه: من علمتم موافقته له، فلا بأس، ونحن لا نعلم الموافقة،
فلا يجوز، لأن الجواز معلق بمعرفة الموافقة. والله أعلم.
فصل القتل بالسحر لا يثبت بالبينة، لأن الشاهد لا يعلم قصد الساحر، ولا
يشاهد تأثير السحر، وإنما يثبت ذلك بإقرار الساحر، وقد سبق في الجنايات أنه إذا
قال: قتلته بسحري، وسحري يقتل غالبا، فقد أقر بقتل العمد، وإن قال: وهو
يقتل نادرا، فهو إقرار بشبه العمد، وإن قال: أخطأت من اسم غيره إلى اسمه، فهو
إقرار بالخطإ، ثم دية شبه العمد، ودية الخطأ المخففة كلاهما في مال الساحر، ولا
تطالب العاقلة بشئ إلا أن يصدقوه، لأن إقراره عليهم لا يقبل، كما سيأتي في باب
العاقلة إن شاء الله تعالى، وقوله في الوجيز هي على العاقلة خطأ وسبق قلم، لم
يذكره غيره، ولا هو في الوسيط.
فرع قال الشافعي رحمه الله في الام: لو قال: أمرض بسحري ولا
أقتل، وأنا سحرت فلانا فأمرضته، عزر، قال: ولو قال: لا أمرض به، ولكن
أوذي، نهي عنه، فإن عاد، عزر، لأن السحر كله حرام.
فرع إذا قال: أمرضته بسحري ولم يمت به، بل بسبب آخر، نص
الشافعي رحمه الله في المختصر أنه لوث يقسم به الولي، ويأخذ الدية، قال
الامام: وفيه قول مخرج: إنه ليس بلوث، والمذهب والمنصوص في الام وما
عليه الجمهور، أنه إن بقي متألما إلى أن مات، حلف الولي، وأخذ الدية، وذلك
قد يثبت بالبينة، وقد يثبت باعتراف الساحر، وإن ادعى الساحر البرء من ذلك المرض
وقد مضت مدة يحتمل البرء فيها، فالقول قوله بيمينه، وعلى هذا يحمل نص
المختصر.
فرع قال: قتلت بسحري جماعة، ولم يعين أحدا، فلا قصاص ولا يقتل
حدا، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله.
فرع إذا أصاب غيره بالعين، واعترف بأنه قتله بالعين، فلا قصاص، وإن
كانت العين حقا، لأنه لا يفضي إلى القتل غالبا، ولا يعد مهلكا.
199

قلت: ولا دية فيه أيضا ولا كفارة، ويستحب للعائن أن يدعو للمعين بالبركة،
فيقول: اللهم بارك فيه ولا تضره، وأن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، وفي
صحيح مسلم: أن رسول الله (ص) قال: العين حق، وإذا استغسلتم فاغسلوا قال
العلماء: الاستغسال أن يقال للعائن: اغسل داخلة إزارك مما يلي الجلد بماء،
ثم يصب عل المعين، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يؤمر العائن أن
يتوضأ، ثم يغتسل منه المعين. وقد جاء في هذه المسألة أحاديث في الصحيح وغيره
وغيرها أوضحتها في أواخر كتاب الأذكار. والله أعلم.
الباب الخامس في العاقلة ومن عليه الدية، وفي جناية الرقيق
قد سبق عند ذكر جهات تخفيف الدية وتغليظها، أن الدية في العمد على
الجاني، وفي شبه العمد والخطأ على العاقلة، وسواء في العمد كان موجبا للدية
ابتداء كقتل الأب الابن، أم كان موجبا للقصاص، ثم عفي على الدية، ولا تحمل
العاقلة أيضا دية الأطراف في جناية العمد، ثم بدل العمد يجب حالا على قياس
ابدال المتلفات، وبدل شبه العمد والخطأ، يجب مؤجلا، وفي الباب أطراف:
الأول في بيان العاقلة، والثاني: في صفتهم، والثالث: في كيفية الضرب
عليهم، وهذه الأطراف مختصة بجناية الحر، والرابع: في جناية الرقيق.
أما العاقلة فجهات التحمل ثلاث: القرابة والولاء وبيت المال، وليست
المحالفة والموالاة من جهات التحمل، ولا يتحمل الحليف ولا العديد الذي لا
عشيرة له، فيدخل نفسه في قبيلة ليعد منها، ولا يتحمل أيضا عندنا أهل الديوان
بعضهم عن بعض بمجرد ذلك، أما جهة القرابة فإنما يتحمل منها من كان على
حاشية النسب وهم الأخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم، وأما أبو الجاني وأجداده وبنوه
وبنو بنيه، فلا يتحملون، لأنهم أبعاضه وأصوله، فلم يتحملوه، كما لا يتحمل
الجاني، وفي الحديث الصحيح أن النبي (ص) قضى بدية مقتولة على عاقلة القاتلة،
وبرأ زوجها والولد، وفي الحديث الآخر قال لرجل معه ابنه: لا يجني عليك ولا
تجني عليه أي: لا يلزمك موجب جنايته، ولا يلزمه موجب جنايتك، فلو جنت
امرأة ولها ابن هو ابن ابن عمها، لم يتحمل على الأصح، لأن البنوة مانعة.
فرع يقدم أقرب العصبات فأقربهم، ومعنى التقديم: أن ينظر في الواجب
200

عند آخر الحول، وفي الأقربين فإن كان فيهم وفاء إذا وزع الواجب عليهم لقلة
الواجب أو لكثرتهم، وزع عليهم ولا يشاركهم من بعدهم وإلا فيشاركهم في التحمل
من بعدهم ثم الذين يلونهم. والمقدم من العاقلة الأخوة ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم
الأعمام ثم بنوهم، ثم أعمام الأب ثم بنوهم، ثم أعمام الجد ثم بنوهم على ما سبق
في الميراث، وهل يقدم من يدلي من هؤلاء بالأبوين على المدلي بالأب كالأخ من
الأبوين مع الأخ من الأب أم يستويان؟ قولان، الجديد الأظهر تقديمه.
فرع ذوو الأرحام لا يتحملون، قال المتولي: إلا إذا قلنا بتوريثهم
فيتحملون عند عدم العصبات كما يرثون عند عدمهم، ولا تحمل بالزوجية بحال.
الجهة الثانية: الولاء، فإذا لم يكن للجاني عصبة نسب، أو كانوا ولم يف
التوزيع عليهم يحمل معتقه، فإن لم يكن، أو فضل عنه شئ، تحمل عصبته من
النسب، فإن لم يكونوا، أو فضل شئ، تحمل معتق المعتق، ثم عصباته، ولا
يدخل في عصبة المعتق ابنه وأبوه على الأصح، وقيل: يدخل لفقد البعضية بينه
وبين الجاني، ويجري الوجهان في ابن معتق المعتق وأبيه، فإن لم يوجد من له
نعمة الولاء على الأب الجاني ولا أحد من عصباته، تحمل معتق الأب ثم عصباته،
ثم معتق معتق الأب ثم عصباته، فإن لم يوجد من له نعمة الولاء على الأب، تحمل معتق
الحد ثم عصباته كذلك إلى حيث ينتهي، واللقيط الذي لا يعرف نسبه لو ادعاه
رجل، أو بلغ وانتسب إلى ميت واعترف به ورثته، يثبت نسبه، وتؤخذ دية جنايته من
عصباته، فإن قامت بينة بأنه من قبيلة أخرى، فالحكم للبينة.
فصل سيأتي إن شاء الله تعالى أن المرأة لا تتحمل العقل بحال، فلو
أعتقت عبدا لم تحمل عقله، وإنما يحمله من يحمل دية جنايتها، كما يزوج عتيقها
من يزوجها.
فرع أعتق جماعة عبدا، فجنى خطأ، حملوا عنه حمل شخص واحد،
لأن الولاء لجميعهم لا لكل واحد، فإن كانوا أغنياء فالمضروب على جميعهم نصف
دينار، وإن كانوا متوسطين، فربع، وإن كانوا بعضا وبعضا، فعلى الغنى حصته من
النصف وعلى المتوسط حصته من الربع، ولو كان المعتق واحدا ومات عن إخوة
مثلا، ضرب على كل واحد حصته تامة من نصف دينار أو ربعه، ولا يقال: يوزع
201

عليهم ما كان الميت يحمله، لأن الولاء لا يتوزع عليهم توزعه على الشركاء، ولا
يرثون الولاء من الميت، بل يرثون به، ولو مات واحد من الشركاء المعتقين، أو
جميعهم، حمل كل واحد من عصباته مثل ما كان يحمله الميت وهو حصته من نصف
أو ربع، لأن غايته نزوله منزلة ذلك الشريك.
فرع إذا ضربنا على المعتق، فبقي شئ من الواجب، فهل يضرب على
عصباته في حياته؟ نقل الامام والغزالي المنع إذ لا حق لهم في الولاء ولا بالولاء في
حياته، وتردد الامام فيما لو لم يبق المعتق وضربنا على عصبته، فهل يخص
بالأقربين، لأنهم أهل الولاء والإرث، أم يتعدى إلى الأباعد كعصبة الجاني؟ ورجح
الاحتمال الثاني، وجزم به الغزالي، وصرح صاحبا الشامل والتتمة وغيرهما
بالضرب عليهم.
فصل في تحمل العتيق عن المعتق قولان، أظهرهما: المنع إذ لا
إرث، والثاني: نعم، ويتأخر عن المعتق، ولا يضرب على عصبته بحال، قال في
البيان: مقتضى المذهب أن يكون في عتيق العتيق القولان، لأن الجاني يتحمل
عنه.
فصل سيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب العتق أن من لم يمسه رق قد يثبت
عليه ولاء لمعتق أبيه أو جده أو أمه، وإن أمه إذا كانت عتيقة والأب رقيق، فعليه
الولاء لمعتقها، فإن أعتق الأب، انجر ولاء الولد إلى مولى الأب، وتحمل عقله
202

مفرع على الولاء، فيتحمله من له الولاء، فلو جنى متولد من عتيقة ورقيق، فالدية
على مولى الام، ولو جرح رجلا، فأعتق أبوه، ثم مات المجروح فأرش الجراحة
على مولى الام، والباقي على الجاني، لأنه لا يمكن إيجابه على معتق الام، لزوال
استحقاقه الولاء، ولا على معتق الأب، لأنه وجب بسراية وجدت قبل انجرار الولاء
إليه، ولا على بيت المال لوجود جهة الولاء، هكذا قاله ابن الحداد والأصحاب،
وللامام والغزالي احتمال في بيت المال، لأن تعذر الولاء كعدمه، وللمسألة نظائر
منها: متولد من عتيقة ورقيق حفر بئرا عدوانا، أو أشرع جناحا أو ميزابا، فمات به
رجل، فالدية على مولى الام، فإن أعتق أبوه، ثم حصل الهلاك، فالدية في ماله،
ثم لو حفر العبد بئرا، ثم عتق، ثم تردى فيها شخص، أو رمى إلى صيد، فعتق،
ثم أصاب السهم شخصا، فالدية في ماله، ولو قطع يد إنسان خطأ، فأعتقه سيده،
ثم سرت إلى النفس، صار السيد بإعتاقه مختارا للفداء، فعليه الأقل من نصف الدية
وكمال قيمة العبد، ويجب في مال الجاني نصف الدية، قال البغوي: ويجئ
وجهان السيد يفديه بالأقل من كل الدية وكل القيمة، لأن الجناية وجدت في الرق.
ومنها: رمى ذمي صيدا، فأسلم، ثم أصاب إنسانا، فالدية في ماله لا على
عاقلة الذمي ولا المسلم، لأن الدية إنما يحملها من كان عاقلة في حالتي الرمي
والإصابة، ولو رمى يهودي صيدا، ثم تنصر، ثم أصاب شخصا، قال الأصحاب:
إن قلنا: لا يقر عليه، فهو مرتد لا عاقلة له، فالدية في ماله، وإن قلنا: يقر،
فالدية على عاقلته، على أي دين كانوا، وليكن تحملهم على خلاف نذكره إن شاء
الله تعالى متصلا به، ولو جرح ذمي رجلا خطأ، وأسلم، ثم مات المجروح،
فأرش الجرح على عاقلته الذميين، والباقي في ماله، فإن زاد أرش الجرح على دية
بأن قطع يديه ورجليه، فالواجب دية النفس على عاقلته الذميين، قاله ابن الحداد،
ووافقه الجمهور، وفيه وجه قطع به في المهذب أن الأرش والزائد على العاقلة
الذميين اعتبارا بحال الجرح، ولو عاد بعد الاسلام وجنى على المجني عليه جناية
أخرى خطأ، ومات منهما، فنصف الدية على عاقلته المسلمين، وأما الذميون،
فإن كان أرش الجرح نصف الدية أو أكثر، فعليهم النصف أيضا، وإن كان أقل
203

كأرش موضحة، فهو على الذميين، وما زاد إلى تمام النصف، فعلى الجاني، وإن
كان الجرح بعد الاسلام مذففا قال الشيخ أبو علي وغيره: أرش الجرح الواقع في
الكفر على الذميين، والباقي إلى تمام الدية على المسلمين، وفي النهاية
والبيان إن هذا تفريع على قول ابن سريج فيمن جرح ثم قتل أنه لا يدخل أرش
جرحه في الدية، وأما على الصحيح وهو الدخول، فجميع الدية على
المسلمين، ولو عاد بعد الاسلام، فجرحه مع آخر خطأ، بني على الخلاف السابق
أن الدية توزع على الجارحين أم على الجراحات؟ إن قلنا: على الجارحين وهو
الأصح، فعليه نصف الدية وهو واجب بالجرحين، فحصة جرح الاسلام وهي الربع
على عاقلته المسلمين، وأما جرح الكفر، فإن كان أرشه كربع الدية أو أكثر، فعلى
الذميين الربع أيضا، وإن كان دون الربع، فعليهم قدر الأرش، والزيادة إلى تمام
الربع في مال الجاني، وإن وزعنا على الجراحات، فثلث الدية وهو حصة جرح
الاسلام على عاقلته المسلمين، وجرح الكفر إن كان أرشه كثلث الدية أو أكثر،
فعلى الذميين الثلث، وإن كان أقل، فعليهم الأرش، والباقي إلى تمام الثلث في
مال الجاني.
ومنها: لو جرح شخصا خطأ، ثم ارتد، ثم مات المجروح بالسراية، فأرش
الجرح على عاقلته المسلمين، والباقي إلى تمام الدية في مال الجاني، فإن كان
الأرش كالدية، أو أكثر بأن قطع يديه ورجليه، فقدر الدية وهو الواجب يلزم العاقلة،
ولو جرح وهو مرتد، ثم أسلم، ثم مات المجروح، فالدية في ماله إذ لا عاقلة
للمرتد، ولو جرحه وهو مسلم، فارتد الجارح، ثم أسلم، ثم مات المجروح،
فهل على عاقلته جميع الدية اعتبارا بالطرفين، أم عليهم أرش الجرح وما زاد في مال
الجاني؟ قال الشيخ أبو علي: فيه قولان، وجزم آخرون بوجوب الجميع عليهم إن
قصر زمان الردة المتخللة، وخصوا القولين بطول زمانها، قال البغوي: ويجئ وجه
أن على العاقلة ثلثي الدية لوجود الاسلام في حالين، ولو رمى سهما إلى صيد
204

وارتد، فأصاب شخصا، أو رمى المرتد صيدا فأسلم، فأصاب السهم، فالدية في
ماله، لأنه تبدل حاله رميا وإصابة، ولو تخللت الردة بين الرمي والإصابة، فكذا
الجواب في التهذيب وذكر أبو علي أنهم خرجوها على قولين، أحدهما: تجب
الدية على عاقلته المسلمين، والثاني: في ماله.
الجهة الثالثة: بيت المال، فيتحمل جناية من لا عصبة له بنسب ولا ولاء،
أو له عصبة معسرون، أو فضل عنهم شئ من الواجب، فيجب الباقي في بيت المال
إن كان الجاني مسلما، فإن كان مستأمنا أو ذميا، فلا، بل الدية في ماله على
المذهب، وقيل: قولان، كمسلم لا عاقلة له ولا بيت مال، وهل يتحمل أبوه
وابنه؟ وجهان كالوجهين في المسلم إذا لم يكن له عاقلة ولا بيت مال، وقلنا: تجب
عليه الدية، هل يلزم أباه وابنه؟ وأما المرتد، فلا عاقلة له، فدية قتله خطأ في ماله
مؤجلة، فإن مات، سقط الاجل.
الطرف الثاني: في صفات العاقلة وهي خمس: الأولى: التكليف، فلا
يعقل صبي ولا معتوه، الثانية: الذكورة، فلا تعقل امرأة ولا خنثى، فإن بان ذكرا،
فهل يغرم حصته التي أداها غيره؟ وجهان.
قلت: لعل أصحهما: نعم. والله أعلم.
الثالثة: اتفاق الدين، فلا يعقل مسلم عن ذمي وعكسه، وفي عقل يهودي
عن نصراني وعكسه قولان.
قلت: أظهرهما: نعم. والله أعلم.
ولو كان لذمي أقارب حربيون، فلا قدرة عليهم، فهم كالعدم، قال المتولي:
فإن قدر الامام على الضرب عليهم، بني على أن اختلاف الدار يمنع التوارث، إن
قلنا: نعم، فلا ضرب، وإلا فوجهان، والمعاهد كالذمي، فيعقل عنه الذمي،
ويعقل هو عن الذمي إن زادت مدة العهد على أجل الدية ولم ينقطع قبل مضي
205

الاجل، الرابعة: الحرية، فلا يعقل مكاتب، الخامسة: أن يكون غنيا أو متوسطا
لا فقيرا معتملا، ولا يمنع العقل مطلق المرض والكبر والزمانة والعمى والهرم، وفي
الزمن والأعمى والهرم وجه، لضعفهم عن النصرة.
فصل يضرب على الغني نصف دينار، وعلى المتوسط ربع دينار، وهل
النصف والربع حصة كل سنة أم لا يجب في السنين الثلاث إلا النصف أو الربع؟
وجهان، أصحهما: الأول، قال البغوي: يضبط الغنى والتوسط بالعادة، ويختلف
باختلاف البلدان والأزمان، ورأي الامام أن الأقرب اعتبار ذلك بالزكاة، فإن ملك
عشرين دينارا آخر الحول، فغني، وإن ملك دون ذلك فاضلا عن حاجاته،
فمتوسط، ويشترط أن يملك شيئا فوق المأخوذ منه وهو الربع لئلا يصير فقيرا،
وشرطهما أن يكون ما يملكانه فاضلا عن مسكن وثياب وسائر ما لا يكلف بيعه في
الكفارة.
فرع الاعتبار فيما يؤخذ كل حول بآخر ذلك الحول في أمور، أحدها: إذا
تم حول وهناك إبل، جمعت العاقلة ما عليهم من نصف وربع، فاشتروا به إبلا،
فإن لم توجد الإبل، فعلى القولين في أن الواجب حينئذ القيمة أم بدل مقدر، فلو
تأخر الأداء بعد الحول فوجدت، لزمهم الإبل، وإن وجدت بعد أخذ البدل، لم
يؤثر، الثاني: إذا لم يف التوزيع على العاقلة بواجب الحول، أخذ الباقي من بيت
المال ولا ينتظر مضي الأحوال الثلاثة، الثالث: يعتبر غناه وتوسطه في آخر الحول،
فلو كان معسرا آخر الحول، لم يلزمه شئ من واجب ذلك الحول، وإن كان موسرا
من قبل، أو أيسر بعد، ولو كان موسرا آخر الحول، لزمه، فلو أعسر بعده، فهو
دين عليه، ولو كان بعضهم في أول الحول كافرا أو رقيقا أو صبيا أو مجنونا، وصار
في آخره بصفة الكمال، فهل تؤخذ منه حصته من واجب تلك السنة وما بعدها؟ فيه
أوجه، أصحها: لا، والثاني: نعم، والثالث: لا تؤخذ حصة تلك السنة ويؤخذ ما
بعدها.
206

فرع يشبه أن يكون المرعي في وجوب النصف والربع قدرهما، لا أنه يلزم
العاقلة بذل الدنانير بأعيانهما، لأن الإبل هي الواجب في الدية، وما يؤخذ يصرف
إلى الإبل، وللمستحق أن لا يقبل غيرها، يوضحه أن المتولي قال: عليه نصف
دينار، أو ستة دراهم.
الطرف الثالث: في كيفية الضرب على العاقلة، قد سبق بيان ترتيب العصبات
والجهات، وقدر الواجب، فإذا انتهى التحمل إلى بيت المال، فلم يكن فيه مال،
فهل يؤخذ الواجب من الجاني؟ وجهان بناء على أن الدية تجب على العاقلة أولا،
أم على الجاني، ثم تحملها العاقلة؟ وفيه وجهان، ويقال: قولان، أصحهما:
تؤخذ من الجاني، فإن قلنا: لا تؤخذ، ففي وجه تجب الدية على جماعة المسلمين
كنفقة الفقراء، ولم يذكر الجمهور هذا، لكن لو حدث في بيت المال مال، هل
يؤخذ منه الواجب؟ وجهان، حكاهما القاضي حسين وغيره، أحدهما: لا، كما لا
يطالب فقير العاقلة لغناه بعد الحول، وإن قلنا: تؤخذ من الجاني، فهي مؤجلة عليه
كالعاقلة، وهل تجب علي أبيه وابنه؟ وجهان، أصحهما: لا، والثاني: نعم،
ويقدمان على القاتل.
فرع إذا اعترف الجاني بالخطأ أو شبه العمد، وصدقته العاقلة، فعليهم
الدية، وإن كذبوه، لم يقبل إقراره عليهم ولا على بيت المال، لكن يحلفون على
نفي العلم، فإذا حلفوا، فالدية على المقر قطعا، وعن المزني: أنه لا شئ عليه
إن قلنا: تجب الدية أولا على العاقلة، قال الامام: ولا يبعد هذا عن القياس،
والذي قطع به الأصحاب هو الأول، وتتأجل الدية عليه كالعاقلة، لكنه يؤخذ منه
في آخر كل حول ثلث الدية بخلاف الواحد من العاقلة، فلو مات، فهل تحل
الدية؟ وجهان، أحدهما: لا، لأن الاجل يلازم دية الخطأ، وأصحهما: نعم،
كسائر الديون المؤجلة بخلاف ما لو مات أحد العاقلة في أثناء الحول، لا تؤخذ من
207

تركته، لأن سبيله المواساة، والوجوب على الجاني سبيله صيانة الحق عن الضياع،
فلا يسقط، فلو مات معسرا، قال البغوي: يحتمل أن تؤخذ الدية من بيت المال،
كمن لا عاقلة له، ويحتمل المنع كما لو كان حيا معسرا.
الثاني أرجح. والله أعلم.
ولو غرم الجاني ثم اعترفت العاقلة، فإن قلنا: الوجوب يلاقيه، لم يرد الولي
ما قبض، بل يرجع الجاني على العاقلة، وإن قلنا: هي على العاقلة أولا، رد
الولي ما أخذ، وابتدأ بمطالبة العاقلة، وفي التهذيب أنه لو ادعى عليه قتل
خطأ، أو شبه عمد ولا بينة ونكل المدعى عليه عن اليمين، فحلف المدعي، فإن
قلنا: اليمين المردودة كإقرار المدعى عليه، وجبت الدية على المدعى عليه إن
كذبت العاقلة المدعي، وإن قلنا: كالبينة، فهل الدية على العاقلة، أم على
المدعى عليه ذهابا إلى أنها لا تكون كالبينة إلا في حق المتداعيين؟ فيه وجهان.
فصل بدل الأطراف وأروش الجراحات والحكومات قليلها وكثيرها يضرب
على العاقلة على المشهور كدية النفس، وحكي عن القديم قول أنها لا تضرب
عليهم، لأن الضرب على خلاف القياس لكن ورد الشرع به في النفس، فيقتصر
عليها، ولهذا لا كفارة ولا قسامة في الطرف، وقول آخر: إن ما دون ثلث الدية لا
يضرب، لأنه لا يعظم اجحافه بالجاني.
فرع لو كان الأرش نصف دينار مثلا، والعاقلة جماعات، فوجهان،
أصحهما: يوزع النصف عليهم، والثاني يعين له القاضي واحدا، أو جماعة
باجتهاده كي لا يعسر التوزيع، وهذا كالخلاف فيما لو كثرت العاقلة في درجة بحيث
208

لو وزع الواجب، لأصاب كل غني دون نصف، وكل متوسط دون ربع، فقولان،
المشهور: ضربه على الجميع، والثاني: يخص الامام جماعة يضرب على
أغنيائهم النصف، ومتوسطهم الربع، وعلى هذا وجهان، الصحيح: أنه يخص
جماعة باجتهاده، والثاني: يجعلهم فريقين أو ثلاثة كما يقتضيه الحال ويقرع.
فصل لا خلاف أن ما يضرب على العاقلة يضرب مؤجلا وأن الاجل لا
ينقص عن سنة، وأن دية النفس الكاملة تؤجل إلى ثلاث سنين، يؤخذ في كل سنة
ثلثها، واختلف الأصحاب في علته، فراعت طائفة كونها بدل نفس محترمة، وراعى
آخرون قدر الواجب واعتبروا التأجيل به، وهذا أصح، وتظهر فائدة الخلاف في
صور:
إحداها: بدل العبد أو طرفه إذا جني عليه خطأ، أو شبه عمد، هل تحمله
العاقلة أم هو في مال الجاني؟ قولان، أظهرهما: الأول وهو الجديد، لأنه بدل
آدمي ويتعلق به قصاص وكفارة، فعلى هذا لو اختلف السيد والعاقلة في قيمته،
صدقوا بأيمانهم، فلو صدقه الجاني لم يقبل عليهم بل الزيادة على ما اعترفت به
العاقلة في ماله، وعلى هذا القول لو كانت قيمة العبد قدر دية حر ضربت في ثلاث
سنين، ولو كانت قدر ديتين، فهل تضرب في ثلاث سنين لكونها بدل نفس، أم في
ست سنين في كل سنة قدر ثلث دية نظرا إلى القدر؟ وجهان، أصحهما: الثاني.
الثانية: في دية النفس الناقصة، كامرأة وذمي وغرة جنين، وجهان،
أحدهما: في ثلاث سنين، لأنها نفس، وأصحهما: ينظر إلى القدر، فدية
اليهودي والنصراني والمجوسي والجنين في سنة، فإنها لا تزيد على الثلث، ودية
المرأة في سنتين، في آخر الأولى ثلث دية الرجل، وفي آخر الثانية الباقي.
الثالثة: قتل جماعة كثلاثة رجال مثلا، فهل تضرب دياتهم على عاقلته في
ثلاث سنين أم في تسع؟ وجهان أصحهما: الأول، ولو قتل ثلاثة واحدا، فعلى
عاقلة كل واحد ثلث ديته، مؤجل عليهم في ثلاث سنين على الصحيح، وقيل: في
سنة.
الرابعة: دية الأطراف وأروش الجراح والحكومات، قيل: تضرب في سنة
209

قلت أم كثرت، والصحيح: التفضيل، فإن لم يزد الواجب على ثلث الدية، ضرب
في سنة، وإن زاد عليه ولم يجاوز الثلثين، ففي سنتين في آخر الأولى ثلث دية وفي
آخر الثانية الباقي، وإن زاد على الثلثين ولم يجاوز الدية، ففي ثلاث سنين، وإن
زاد كقطع يديه ورجليه، فالمذهب أنه في ست سنين، وقيل: في ثلاث، ويد
المرأة في سنة ويداها كنفسها.
فصل مات بعض العاقلة في أثناء السنة لا يؤخذ شئ من تركته،
كالزكاة، ولو مات بعد الحول والوجوب عليه، وجب في تركته.
فصل إن كانت العاقلة حاضرين في بلد الجناية، فالدية عليهم، وإن
كانوا غائبين، لم يستحضروا ولا ينتظر حضورهم بل إن كان لهم هناك مال أخذ منه،
وإلا فيحكم القاضي عليهم بالدية على ترتيبهم، ويكتب بذلك إلى قاضي بلدهم
ليأخذها، وإن شاء حكم بالقتل وكتب إلى قاضي بلدهم ليحكم عليهم بالدية،
ويأخذها منهم، وإن غاب بعضهم وحضر بعضهم، نظر، إن استووا في الدرجة،
فقولان، أحدهما: يقدم من حضر لقرب داره وإمكان النصرة منه، وأظهرهما:
تضرب على الجميع، ويكون كما لو حضروا كلهم أو غابوا، وعلى الأول إن لم يكن
في الحاضرين وفاء، ضرب الباقي على الغائبين، وطريقه كتاب القاضي كما سبق،
وإن اختلفت دارهم، قدم الأقرب دارا فالأقرب، هكذا ذكر القولين الجمهور،
وجعلهما المتولي في أنه هل يجوز تخصيص الحاضرين وإن اختلفت درجتهم، فإن
كان الحاضرون أقرب، وزع عليهم، فإن لم يفوا بالواجب كتب القاضي لما بقي،
وإن كانوا أبعد ففي تخصيص الحاضرين طريقان، أصحهما: طرد الخلاف،
والثاني: القطع بالضرب على الأقربين وإن بعدت دارهم، وبه قطع الشيخ أبو حامد
والعراقيون.
فصل ابتداء المدة في دية النفس من وقت الزهوق، سواء قتله بجرح
مذفف أو بسراية جرح ولا خلاف فيما ذكرناه في كتب الأصحاب في جميع الطرق،
وأما قول الغزالي: إن ابتداء المدة من وقت الرفع إلى القاضي، فلا يعرف لغيره،
وقد نقله صاحب البيان عن الخراسانيين، ويمكن أنه أراد به الغزالي، وأما
210

أرش ما دون لنفس، فإن لم يسر واندملت، فابتداء مدتها من وقت الجناية على
الصحيح، وقال أبو الفياض: من الاندمال، فعلى الأول، لو مضت سنة ولم
تندمل، ففي مطالبة العاقلة بالأرش الخلاف السابق في مطالبة الجاني العامد قبل
الاندمال، وإن سرت من عضو إلى عضو، بأن قطع أصبعه، فسرت إلى كفه، فهل
ابتداء المدة من سقوط الكف أم من الاندمال، أم أرش الإصبع من يوم القطع،
وأرش الكف من يوم سقوطها؟ فيه ثلاثة أوجه، وبالأول قطع البغوي، وبالثاني
الشيخ أبو حامد وأصحابه، والثالث اختاره القفال والامام والغزالي والروياني.
فصل في مسائل منثورة: القاتل خطأ لا يحمل شيئا من الدية، ومن قتل
نفسه أو قطع طرفه خطأ أو عمدا فهدر. جناية الصبي والمجنون محمولة إن كانت
خطأ أو شبه عمد أو عمدا، وقلنا: عمدهما خطأ. لو حل نجم ولا إبل في البلد،
قومت يومئذ، وأخذت قيمتها، ولا تعتبر بعض النجوم ببعض، وفي فتاوي البغوي
أن من نصفه حر، ونصفه رقيق إذا قتل خطأ تجب نصف الدية على عاقلته.
الطرف الرابع: في جناية العبد وأم الولد، فإذا جنى عبد جناية توجب مالا أو
قصاصا، وعفي على مال، تعلق برقبته فتؤدى منها، وهل تتعلق مع ذلك بذمته؟
211

فيه قولان مستنبطان من قواعد الشافعي رحمه الله تعالى، ويقال: وجهان،
أحدهما: نعم، فتكون الرقبة مرهونة به، وأظهرهما عند الجمهور: لا، وينسب
إلى الجديد، فإن قلنا بالذمة، فبقي شئ بعد صرف ثمنه إلى الأرش، اتبع به بعد
معتق، وكذا لو ضاع الثمن قبل صرفه إلى المجني عليه يطالب بالجميع، وهل يجوز
ضمانه؟ وجهان، أحدهما: لا، لعدم استقراره في الحال، وأصحهما: نعم،
كضمان المعسر وأولى لتوقع يساره، وضمان ما يلزم ذمته بدين المعاملة أولى
بالصحة. ولا خلاف أنه يصح ضمان ما تعلق بكسبه، كالمهر في نكاح صحيح،
ولو ضمنه السيد فمرتب على ضمان الأجنبي وأولى بالصحة لتعلقه بملكه، ثم العبد
المتعلق برقبته مال لا يصير ملكا للمجني عليه، بل سيده بالخيار بين أن يبيعه
بنفسه، أو يسلمه للبيع، وبين أن يبقيه لنفسه ويفديها، ويكون المال الذي بذله فداء
كالثمن الذي يشتريه به أجنبي، وإذا سلمه للبيع، فإن كان الأرش يستغرق قيمته،
بيع كله، وإلا فقدر الحاجة إلا أن يأذن سيده في بيع الجميع، فيؤدي الأرش ويكون
الباقي له، وكذا الحكم لو لم يوجد من يشتري بعضه، وإن أراد سيده فداءه، فبكم
يفديه؟ قولان، أظهرهما باتفاق الأصحاب وهو الجديد: بأقل الامرين من قيمته
وأرش الجناية، والقديم: بالأرش بالغا ما بلغ، فعلى الجديد قال البغوي: النص
أنه تعتبر قيمته يوم الجناية، وقال القفال: ينبغي أن تعتبر قيمته يوم الجناية، وقال
القفال: ينبغي أن تعتبر قيمته يوم الفداء، لأن ما نقص قبل ذلك لا يؤاخذ السيد
به، وحمل النص على ما إذا سبق من السيد منع من بيعه حالة الجناية، ثم نقصت
قيمته، ولو جنى، ففداه، ثم جنى، فإما أن يسلمه ليباع، وإما أن يفديه ثانيا، فإن
كانت الجناية الثانية قبل الفداء، فإن سلمه للبيع، بيع ووزع الثمن على أرش
212

الجنايتين، وإن اختار الفداء، فداه على الجديد: بأقل الامرين من القيمة
والأرشين، وعلى القديم: بالأرشين، وكذا الحكم لو كان سلمه للبيع، فجنى ثانيا
قبل البيع، ولو قتل السيد عبده الجاني أو أعتقه أو باعه، وقلنا بنفوذهما، أو استولد
الجانية، لزمه الفداء، وفي قدره طريقان، أحدهما: طرد القولين، وأصحهما:
القطع بأقل الامرين لتعذر البيع وبطلان توقع زيادة راغب. ولو مات الجاني أو هرب
قبل أن يطالب السيد بتسليمه، فلا شئ على السيد، وكذا لو طولب ولم يمنعه،
فلو منعه، صار مختارا للفداء، قال البغوي: ولو قتل الجاني، فللسيد أن يقتص،
وعليه الفداء للمجني عليه، ويجوز أن ينظر في وجوب الفداء عليه إلى أن موجب
العمد القصاص، أو أحد الامرين، فإن كان القتل موجبا للمال، تعلق حق المجني
عليه بقيمته، وإذا أخذت، يخير السيد في تسليم عينها أو بدلها من سائر أمواله،
وإذا لزم الفداء بعد موت العبد أو قبله، ففيما يفديه به؟ الطريقان فيمن قتل العبد أو
أعتقه لحصول اليأس من بيعه بما يزيد على قيمته، ولو قال السيد: اخترت الفداء،
أو قال: أنا أفديه، فوجهان، أحدهما: يلزمه الفداء ولا يقبل رجوعه، والصحيح:
أنه لا يلزمه بل يبقى خياره كما كان، وموضع الخلاف ما إذا كان العبد حيا، فإن
مات فلا رجوع له بحال.
فصل إذا جنت مستولدة على نفس أو مال، وجب على سيدها الفداء،
وفيما يفديه به طريقان، المذهب أنه بأقل الامرين من قيمتها والأرش، والثاني:
213

على قولين، كالقن، والفرق أنها غير قابلة للبيع، وهل تعتبر قيمة يوم الجناية، أم
يوم الاستيلاد، وجهان، أصحهما: الأول، ولو جنت جنايتين، وقلنا: يفدي
بالأرش، لزم السيد الأروش بالغة ما بلغت، وإن قلنا بالمذهب: إن الواجب أقل الأمرين
، فإن كان أرش الجناية الأولى دون القيمة وفداها به وكان الباقي من قيمتها
يفي بأرش الجناية الثانية، فداها بأرشها أيضا، وإن كان أرش الأولى كالقيمة أو أكثر
أو أقل، والباقي من القيمة لا يفي بأرش الجناية الثانية، فثلاثة أقوال، أظهرها: أن
الجنايات كلها كواحدة، فيلزمه البيع فداء واحد، والثاني: يلزمه لكل جناية فداء،
والثالث: إن فدى الأولى قبل جنايتها الثانية، لزمه فداء آخر، وإلا فواحد، وإذا
ألزمناه فداء واحدا، اشترك فيه المجني عليهما أو عليهم على قدر جناياتهم، فلو
كانت قيمة المستولدة ألفا وأرش كل واحدة من الجنايتين ألفا، فلكل منهما
خمسمائة، فإن كان الأول قبض الألف، استرد الثاني منه خمسمائة، فإن كانت
قيمتها ألفا وأرش الأولى ألف والثانية خمسمائة، يرجع الثاني على الأول بثلث الألف
ولو كانت الأولى خمسمائة والثانية ألفا، أخذ الثاني من السيد خمسمائة تمام القيمة،
ورجع على الأول بثلث خمس المائة التي قبضها ليصير معه ثلثا الألف، ومع الأول
ثلثه، ثم قيل: الخلاف عند تخلل الفداء فيما إذا دفع السيد الفداء إلى المجني عليه
الأول باختياره، أما إذا دفعه بقضاء القاضي فلا يلزمه شئ آخر قطعا، وعن ابن أبي
هريرة أنه لا فرق، وتجري الأقوال في الجناية الثالثة والرابعة وإلى ما لا نهاية له،
214

ومهما زادت الجناية، زاد الاسترداد، وشبه ذلك بما إذا قسمت تركة إنسان على
غرمائه أو ورثته وكان حفر بئر عدوان، فهلك بها شئ، زاحم المستحق الغرماء
والورثة، واسترد منهم حصته، فلو هلك آخر، زاد الاسترداد.
فرع جنى القن، فمنع السيد بيعه، واختار الفداء، ثم جنى، ففعل مثل
ذلك، لزمه لكل جناية الأقل من أرشها وقيمته، ولو جنى جنايات ثم قتله السيد أو
أعتقه، لا يلزمه إلا فداء واحد.
فرع وطئ الجانية، فوجهان، أحدهما: أنه اختيار للفداء، كما أن وطئ
البائع في زمن الخيار فسخ، ووطئ المشتري إجازة، والصحيح: المنع، لأن الوطئ
لا دلالة له على الالتزام، مع أنه لو التزم لم يلزمه على الأصح كما سبق ويخالف
الخيار، فإنه ثبت بفعله فسقط به، وخيار السيد هنا ثبت بالشرع، فلا يسقط بفعله.
فرع جنت جارية لها ولد، أو ولدت بعد الجناية، من كان موجودا حال
الجناية، أو حدث بعدها لا يتعلق به الأرش، فإن لم يجوز التفريق، بيع معها
وصرفت حصة الام إلى الأرش، وحصة الولد للسيد، وهل تباع حاملا بحمل كان
يوم الجناية أو حدث؟ إن قلنا: الحمل لا يعرف، بيعت، كما لو زيدت زيادة
متصلة، وإلا، فلا تباع حتى تضع، لأنه لا يمكن إجبار السيد على بيع الحمل،
ولا يمكن استثناؤه.
فرع لو لم يفد السيد الجاني ولا سلمه للبيع، باعه القاضي، وصرف
الثمن إلى المجني عليه، ولو باعه بالأرش، جاز إن كان نقدا، وكذا إن كان إبلا
وقلنا: يجوز الصلح عنها.
الباب السادس في الجنين
فيه أطراف:
الأول: الموجب وهو جناية توجب انفصال الجنين ميتا، فهذه قيود، الأول:
الجناية وهي ما يؤثر في الجنين من ضرب، وإيجار دواء ونحوهما، ولا أثر للطمة
215

خفيفة ونحوها، كما لا يؤثر في الدية. الثاني: الانفصال، فلو ماتت الام ولم
ينفصل جنين، لم يجب على الضارب شئ، وكذا لو كانت منتفخة البطن، فضربها
شخص فزال الانتفاخ، أو كانت تجد حركة في بطنها فزالت، لجواز أنه كان ريحا
فانفشت، ثم هل يعتبر انكشاف الجنين بظهور شئ منه أم الانفصال التام؟
وجهان، أصحهما: الأول لتحقق وجوده، ويتفرع عليهما ما لو ضرب بطنها،
فخرج رأس الجنين مثلا، وماتت الام كذلك، ولم ينفصل، أو خرج رأسه ثم جنى
عليها فماتت، فعلى الأصح تجب الغرة لتيقن وجوده، وعلى الثاني لا، ولو قدت
نصفين، وشوهد الجنين في بطنها ولم ينفصل، ففيه الوجهان، ولو خرج رأسه
وصاح فحز رجل رقبته، فعلى الأصح يجب القصاص والدية، لأنا تيقنا بالصياح
حياته، وإن اعتبرنا الانفصال، فلا قصاص ولا دية، ولو صاح ومات، فوجوب
الدية على الخلاف. الثالث: كون المنفصل ميتا، فلو انفصل حيا، نظر، إن
بقي زمانا سالما غير متألم ثم مات، فلا ضمان على الضارب لأن الظاهر أنه مات
بسبب آخر، وإن مات عند خروجه أو بقي متألما حتى مات، وجبت فيه دية كاملة،
لأنا تيقنا حياته، فأشبه سائر الاحياء، وسواء استهل، أو وجد ما يدل على حياته،
كتنفس وامتصاص لبن وحركة قوية، كقبض يد وبسطها، ولا عبرة بمجرد الاختلاج
على المشهور، وإذا علمت الحياة، فسواء كان انتهى إلى حركة المذبوح أم لم
ينته، وبقي يوما ويومين ثم مات، لأنا تيقنا الحياة في الحالين، والجناية عليه،
216

والظاهر موته بها، وسواء انفصل لوقت يعيش فيه، أو لوقت لا يتوقع أن يعيش، بأن
ينفصل لدون ستة أشهر، وقال المزني: إن لم يتوقع أن يعيش أو كان انتهى إلى
حركة المذبوح، ففيه الغرة دون الدية، ولو قتل شخص هذا الجنين بعد انفصاله،
فإن انفصل لا بجناية، فعلى القاتل القصاص، كما لو قتل مريضا مشرفا على
الموت، وإن انفصل بجناية، فإن كان فيه حياة مستقرة فكذلك، وإلا فلا شئ على
الثاني، والقاتل هو الأول، ولو انفصل ميتا بعد موت الام من الضرب، وجبت
الغرة كما لو انفصل في حياتها، لأنه شخص مستقل، فلا يدخل في ضمانها.
فرع سواء في وجوب الغرة كان الجنين ذكرا أو أنثى، ثابت النسب أو
غيره، تام الأعضاء أو ناقصها، ولو اشترك اثنان في الضرب، فالغرة عليهما، ولو
ألقت جنينين، وجب غرتان، ولو ألقت حيا وميتا، ومات الحي، وجب دية وغرة،
ولو ضرب بطن ميتة فانفصل منها جنين ميت، فلا غرة، كذا قاله البغوي قال
القاضي الطبري: يجب لأن الجنين قد يبقى في جوفها حيا، والأصل بقاء
الحياة.
فرع ألقت المضروبة يدا أو رجلا وماتت، ولم ينفصل الجنين بتمامه،
فالصحيح وجوب الغرة، وهو نصه في المختصر وفي وجه يجب نصف غرة، لان
اليد تضمن بنصف الجملة، وهو تفريع على أن الجنين لا يضمن حتى ينفصل كله،
ولو ألقت يدين أو رجلين، أو يدا ورجلا، وجبت غرة قطعا، ولو ألقت من الأيدي
والأرجل ثلاثا، أو أربعا، أو رأسين، فغرة على الصحيح، وقيل: غرتان، ولو
ألقت بدنين، فغرتان، لأن الشخص الواحد لا يكون له بدنان بحال، كذا ذكره
الامام والغزالي والبغوي وغيرهم، وحكى الروياني من نص الشافعي رحمه الله
خلافه وجوز بدنين لرأس، كرأسين لبدن، ولو ألقت عضوا، كيد أو رجل، ثم
217

ألقت جنينا، فله حالان، أحدهما: أن يكون الجنين فقيد ذلك العضو، فينظر، إن
ألقته قبل الاندمال، وزوال ألم الضرب، فإن كان ميتا، لم تجب إلا غرة، وبقدر
العضو مبانا منه بالجناية، وإن انفصل حيا، ثم مات من الجناية، وجب دية ودخل
فيها أرش اليد، وإن عاش، فقد أطلق البغوي وجوب نصف الدية على عاقلة
الضارب، ونقل ابن الصباغ وغيره أنه تراجع القوابل، فإن قلن: إنها يد من خلق فيه
حياة، وجب نصف الدية، وكذا إن علمنا انفصال اليد منه بعد خلق الحياة، بأن
ألقتها ثم انفصل الجنين عقب الضرب، وإن شككنا في حاله، وجب نصف الغرة
عملا باليقين، وليكن اطلاق البغوي محمولا على ذا التفصيل، وإن ألقته بعد
الاندمال، لم يضمن الجنين، حيا كان أو ميتا، لزوال الألم الحاصل بفعله، وأما
اليد، فإن خرج ميتا، فعليه نصف غرة لها، وإن خرج حيا ومات أو عاش، فقيل:
يجب نصف غرة، كما لو قطع يد شخص فاندمل ثم مات، وقيل: تراجع القوابل
كما سبق، ولو ضرب بطنها فألقت يدا، ثم ضربها آخر فألقت جنينا لا يد له،
فإن ضرب الثاني قبل الاندمال وانفصل الجنين ميتا، فالغرة عليهما، وإن انفصل
حيا، فإن عاش، فعلى الأول نصف الدية، وليس على الثاني سوى التعزير، وإن
مات فعليهما الدية، وإن ضرب الثاني بعد الاندمال، فإن انفصل ميتا، فعلى الأول
نصف الغرة، وعلى الثاني غرة كاملة، كما لو قطع يد رجل فاندمل، ثم قتله آخر،
فعلى الأول نصف دية، وعلى الثاني دية، وإن خرج حيا، فعلى الأول نصف
الدية، ثم إن عاش فليس على الثاني إلا التعزير، وإن مات، فعليه دية كاملة.
الحال الثاني: أن ينفصل الجنين كامل الأطراف، فينظر، إن انفصل قبل
الاندمال، فمقتضى ما سبق فيمن ألقت ثلاث أيد، أن يقال: إن انفصل ميتا، لم
يجب إلا غرة واحدة، لاحتمال أن التي ألقتها كانت يدا زائدة، وإن انفصل حيا
218

ومات، فالواجب غرة، وإن عاش، لم يجب إلا حكومة، وبهذا التفصيل جزم
الغزالي، وفي التتمة والتهذيب أنه إن انفصل ميتا وجب غرتان، إحداهما
لليد، والأخرى للجنين، وإن خرج حيا ومات، وجب دية وغرة، ولو ألقت أولا
جنينا كاملا، ثم يدا، فالحكم كذلك، وإن انفصل الجنين بعد الاندمال، لم يجب
بسبب الجنين شئ، ولو ضربها رجل، فألقت اليد، ثم ضربها آخر، فألقت
الجنين، ففي التهذيب أن ضمان الجنين على الثاني، سواء ضرب بعد اندمال
الأول، أو قبله، فإن خرج ميتا، وجب فيه غرة، وإن خرج حيا فمات، فدية،
وقياس ما سبق أن يقال: إن ضرب الثاني قبل الاندمال وانفصل ميتا، وجبت الغرة
عليهما، وإن انفصل حيا وعاش، فعلى الأول حكومة، وليس على الثاني إلا
التعزير، وإن مات، فعليهما الدية.
الطرف الثاني في الجنين الذي تجب فيه الغرة: قد سبق في كتاب العدة أن
الغرة تجب إذا سقطت بالجناية ما ظهر فيه صورة آدمي، كعين أو أذن أو يد ونحوها،
ويكفي الظهور في طرف ولا يشترط في كلها، ولو لم يظهر شئ من ذلك، فشهد
القوابل أن فيه صورة خفية يختص بمعرفتها أهل الخبرة، وجبت الغرة أيضا، وإن
قلن: ليس فيه صورة خفية، لكنه أصل آدمي ولو بقي لتصور، لم تجب الغرة على
المذهب، وإن شككن هل هو أصل آدمي، لم تجب قطعا.
فصل إنما تجب الغرة الكاملة في جنين محكوم بإسلامه تبعا لأبويه أو
أحدهما، وبحريته، فأما الجنين المحكوم بأنه يهودي أو نصراني تبعا لأبويه، ففيه
أوجه، أحدها: لا يجب فيه شئ أصلا، والثاني: تجب غرة كالمسلم، وأصحها
وبه قطع الجمهور: يجب ثلث غرة المسلم، فعلى هذا في الجنين المجوسي ثلثا
عشر غرة المسلم، وهو ثلث بعير، ثم قيل: يؤخذ هذا القدر من الدية ويدفع إلى
المستحق، ولا يصرف في غرة، وقيل: يدفع هذا القدر، أو غرة بقيمته، والأصح
المنصوص: أنه يشتري به غرة إلا أن لا توجد فيعدل حينئذ إلى الإبل أو الدراهم،
219

ولو كان أحد أبوي الجنين يهوديا أو نصرانيا، والآخر مجوسيا، فهل يجب فيه ما
يجب في الجنين النصراني أم المجوسي، أم يعتبر بالأب؟ فيه أوجه، الأصح
المنصوص هو الأول، ولو كان أحد أبويه ذميا، والآخر وثنيا لا أمان له، فعلى
الأصح يجب ما يجب فيمن أبواه ذميان، وعلى الثاني: لا شئ فيه، وعلى
الثالث: يعتبر جانب الأب، والجنين المتولد من مستأمنين كجنين الذميين، ولو
اشترك مسلم وذمي في وطئ ذمية بشبهة فحبلت وأجهضت جنينا بجناية، يعرض
الجنين على القائف وله حكم من ألحقه به، وإن أشكل الامر أخذ الأقل ووقف إلى
أن ينكشف الحال أو يصطلحوا، قال في البيان: ولا يجوز أن يصطلح الذمي
والذمية في قدر الثلث منه لجواز أن يكون الجميع للمسلم لا حق لهما فيه، ويجوز
أن يصطلح في الثلث المسلم والذمية، لأنه لا حق للذمي فيه، ولا يخرج استحقاقه
عنهما، والمسألة مفرعة على أن الميت يعرض على القائف وهو الصحيح، ولو جنى
على مرتدة حبلى، فأجهضت، نظر، إن ارتدت بعد الحبل، وجبت غرة، لان
الجنين محكوم بإسلامه، وإن حبلت بعد الردة من مرتد، بني على المتولد من
مرتدين مسلم أم كافر؟ إن قلنا: مسلم، وجب غرة، وإلا فلا شئ فيه على
الصحيح، كجنين الحربيين، وبه قطع الشيخ أبو علي وغيره، وفي التهذيب أن
فيه دية جنين مجوسي لعلقة الاسلام.
فرع جنى على ذمية حبلى من ذمي، فأسلم أحدهما، ثم أجهضت،
وجبت غرة كاملة، لأن الاعتبار في الضمان بآخر الامر، وكذا حكم من جنى على
أمة حبلى، فعتقت ثم ماتت، وفيما يستحقه سيدها من ذلك وجهان، أو قولان،
الصحيح: الأقل من عشر قيمة الأمة ومن الغرة، والثاني: لا يستحق السيد بحكم
الملك شيئا، قاله القاضي أبو الطيب والقفال، لأن الاجهاض حصل حال
220

الحرية، فصار كحر تردى في بئر كان عند حفرها رقيقا، لا شئ لسيده من
الضمان.
فرع جنى على حربية، فأسلمت ثم أجهضت، فالأصح وبه قال ابن
الحداد: لا يجب شئ، وقيل: يجب غرة.
قلت: قال البغوي: يجري الوجهان فيما لو جنى السيد على أمته الحامل من
غيره، فعتقت، ثم ألقت الجنين. والله أعلم.
فرع الجنين الرقيق فيه عشر قيمة الام، ذكرا كان أو أنثى، قنة كانت أمه أو
مدبرة ومكاتبة ومستولدة، ولو ألقت جنينا ميتا، فعتقت، ثم ألقت آخر ميتا، فالواجب في الأول عشر قيمة الام،
وفي الثاني الغرة، وفي القيمة المعتبرة وجهان، أحدهما: قيمة يوم الاجهاض،
والأصح المنصوص تعتبر القيمة أكثر ما كانت من الجناية إلى الاجهاض، فلو كان
الجنين سليما والأم مقطوعة الأطراف أو بالعكس، فوجهان، أحدهما: تقوم
مقطوعة، وأصحهما: سليمة، كما لو كانت كافرة والجنين مسلم، يقدر فيها
الاسلام وتقوم مسلمة، وكما لو كان الجنين رقيقا وهي حرة، بأن كانت لرجل
والجنين لآخر فأعتقها صاحبها، وبقي الجنين رقيقا لصاحبه، تقدر الام رقيقة،
ويجب في الجنين عشر قيمتها.
فرع جارية مشتركة بينهما نصفين، حبلت من زوج أو زنى، وجنى عليها
رجل فألقت جنينا ميتا، لزمه عشر قيمة الام للسيدين، فلو جنى عليها أحدهما،
221

فألقت ميتا، لزمه نصف عشر قيمة الام لشريكه، ولو أعتقها بعدما جنى، ثم ألقته،
نظر، إن كان معسرا عتق نصيبه من الام والجنين وعليه نصف عشر قيمة الام
لشريكه، وهل يلزمه نصف الغرة للنصف الحر؟ وجهان، قال ابن الحداد: لا، لأنه
وقت الجناية كان ملكه، وقال آخرون: نعم، وهو نصه في الام لأن الجناية على
الجنين إنما تتحقق عند الالقاء، وهو حر حينئذ، والخلاف مبني على أن الموجب
للغرة الضرب أو الاجهاض، وفيه وجهان، وأكثر الناقلين يميلون إلى ترجيح وجوب
نصف الغرة، والأصح ما رجحه الشيخ أبو علي وجماعة أنه لا يجب، وأن الموجب
الضرب لتأثيره، فإن أوجبنا، بني على أن من بعضه رقيق هل يورث، إن قلنا:
نعم، فهو لورثته غير سيده وأمه، لأنه قاتل وبعضها رقيق، وإن قلنا: لا، فهل هو
لبيت المال أم للمالك نصفه؟ فيه الخلاف السابق في الفرائض، أما إذا كان المعتق
موسرا، فإن قلنا: تحصل السراية بنفس الاعتاق أو بأداء القيمة وأداها قبل
الاجهاض، فعلى الجاني الغرة وتصرف إلى ورثة الجنين، وإن قلنا: تحصل بأداء
القيمة ولم يؤدها حتى أجهضت، فحكمه كما ذكرنا فيما لو كان معسرا، وإن قلنا:
العتق موقوف، فإن أدى القيمة تبين حصول العتق من وقت اللفظ، ويكون حكمه
كما إذا قلنا: تحصل بنفس الاعتاق، وإن لم يؤد، فكما ذكرنا لو كان معسرا، ولو
كانت المسألة بحالها لكن أعتق أحدهما نصيبه ثم جنى عليها جان، فألقت جنينا
ميتا، فالجاني المعتق أو شريكه أو أجنبي، فإن كان المعتق، نظر، إن كان
معسرا، بقي نصيب الشريك ملكا له، فعليه له نصف عشر قيمة الام، وعليه
للنصف الذي عتق نصف الغرة بلا خلاف، ولمن يكون ذلك؟ يبنى على الخلاف
فيمن بعضه حر، هل يورث كما سبق، وإن كان موسرا، فإن قلنا: تحصل السراية
بأداء القيمة، أو قلنا: بالوقف، وأدى القيمة، غرم لشريكه نصف قيمة الأمة حاملا
ولا يفرد الجنين بقيمته، بل يتبع الام في التقويم، كما يتبعها في البيع، ويلزمه
بالجناية الغرة، لأن الجنين حر، وترث الام منها، لأنها حرة، والباقي منها لعصبته
ولا شئ للمعتق، لأنه قاتل، وإن جنى الشريك الآخر، فإن كان المعتق معسرا،
222

فنصف الجنين مملوك للجاني، فيلزمه نصف غرة للنصف الحر، ويعود الخلاف في
أنه لمن هو، وإن كان موسرا، فإن قلنا: لا تحصل السراية إلا بأداء القيمة، أو
قلنا: بالوقف، ولم يؤد القيمة، فالحكم كما لو كان معسرا، وإن قلنا: يعتق باللفظ
أو بالتوقف، وأدى القيمة، فللجاني على المعتق نصف قيمتها حاملا وعلى الجاني
الغرة، وترثها الام والعصبة، وإن كان الجاني أجنبيا، فإن كان المعتق معسرا، فقد
أتلف الأجنبي جنينا نصفه حر، ونصفه رقيق، فعليه نصف غرة، ونصف عشر قيمة
الام، وإن كان المعتق موسرا، وعتق كله، فقد أتلف الأجنبي جنينا حرا ففيه
غرة، ولو جنى عليها الشريكان معا، فأجهضت جنينا، فعلى كل واحد منهما للآخر
ربع عشر قيمة الام، لأن كل واحد منهما جنى على ملك نفسه وملك صاحبه،
ونصيب كل واحد تلف بفعليهما، فهدر جنايته على ملكه والحقان من جنس واحد،
فيكون على خلاف التقاص. وإن أعتقاها معا بعدما جنيا، أو وكلا رجلا، فأعتقها
بكلمة، ثم أجهضت، فقد عتق الجنين مع الام قبل الاجهاض، فيضمن بالغرة،
وفيما يجب على كل واحد منهما وجهان، قال ابن الحداد: ربع الغرة اعتبارا بحال
الجناية، وقال غيره: نصفها اعتبارا بحال الاجهاض، وللأم ثلث الواجب والباقي
للعصبة، ولا يرث السيدان منها شيئا، لأنهما قاتلان، ولو جنى عليها أحدهما، ثم
أعتقاها، ثم أجهضت، فعلى قول ابن الحداد: على الجاني نصف الغرة،
ولشريكه الأقل من نصفها ونصف عشر قيمة الام، وعلى قول غيره: عليه غرة كاملة
اعتبارا بيوم الاجهاض.
فرع وطئ شريكان مشتركة، فحبلت، فجنى، فألقت ميتا، فإن كانا
موسرين، فالجنين حر وعلى الجاني غرة، وهي لمن يلحقه الجنين، وإن كانا
معسرين، فهل كل الولد حر أم نصفه؟ قولان، أظهرهما: الثاني، فعلى هذا على
الجاني نصف الغرة، ونصف عشر قيمة الام، فنصف الغرة لمن يلحقه،
ونصف عشر القيمة للآخر.
فرع جنت مستولدة حامل من سيدها على نفسها، فألقت جنينا ميتا، فلا
ضمان إن لم يكن للجنين وارث سوى السيد، وإن كان له أم أم حرة، غرم السيد لها
223

الأقل من قيمة المستولدة وسدس الغرة، قال الشيخ أبو علي: ويجئ قول: إن عليه
سدس الغرة بالغا ما بلغ على أن أرش جناية المستولدة يلزم السيد بالغا ما بلغ.
فرع مات عن زوجة حامل وأخ لأب، وفي التركة عبد، فضرب بطنها،
فألقت الجنين ميتا، تعلقت الغرة برقبة العبد وللأم ثلثها، وللعم ثلثاها، والعبد
ملكهما، والمالك لا يستحق على ملكه شيئا فيقابل ما يرثه كل واحد بما يملكه،
فالأخ يملك ثلاثة أرباع العبد، فيتعلق به ثلاثة أرباع الغرة، وله ثلثا الغرة، يذهب
الثلثان بالثلثين يبقى نصف سدس الغرة متعلقا بحصته من العبد، والزوجة تملك ربع
العبد، فيتعلق به ربع الغرة، ولها ثلث الغرة، يذهب ربع بربع، يبقى لها نصف
سدس الغرة متعلقا بنصيب الأخ، وهو ثلاثة أرباع العبد، فيفديه بأن يدفع نصف
سدس الغرة إلى الزوجة.
فرع جنى حر أبوه رقيق وأمه عتيقة على امرأة حامل، ثم أعتق أبوه، انجر
ولاؤه من معتق أمه إلى معتق أبيه، ثم أجهضت الحامل، قال ابن الصباغ: على
قياس ابن الحداد يتحمل بدل الجنين مولى الام اعتبارا بحال فرع أحبل الجناية، وعلى قياس
غيره، يتحمل مولى الأب اعتبارا بحال الاجهاض
224

فرع أحبل مكاتب أمته، فجنى عليها، فأجهضت، وجب في الجنين
عشر قيمة الام، لأنها رقيقة بعد.
الطرف الثالث: في صفة الغرة هي رقيق سليم من عيب، يثبت رد المبيع،
له سن مخصوص، فيجبر المستحق على قبولها من أي نوع كانت، وسواء الذكر
والأنثى، ولا يجبر على قبول خصي وخنثى وكافر، ولو رضي بقبول المعيب، جاز،
ولا يجبر على قبول من لم يبلغ سبع سنين، وفي لفظ الشافعي رحمه الله، لا يقبل
دون سبع أو ثمان، فقيل: معناه ما ذكرنا، ويمكن أن المراد لا يقبل دون سن التمييز
وهو سبع أو ثمان، ويختلف باختلاف الصبيان، ولا يقبل من ضعف بالهرم، وخرج
عن الاستقلال، ويقبل دونه، وقيل: لا يقبل بعد عشرين سنة، غلاما كان أو
جارية، وقيل: لا تقبل الجارية بعد عشرين، ولا الغلام بعد خمس عشرة، وصحح
جماعة هذا، والأول أصح، وحكوه عن النص.
قلت: كذا ضبطوه على الوجه الثالث بخمس عشرة سنة وعللوه بأنه لا يدخل
على النساء، وكان ينبغي أن يضبط بالبلوغ، فلا يقبل من بلغ لدون هذا السن.
والله أعلم.
وهل تتقدر قيمة الغرة؟ وجهان، أحدهما: الإبل إذا وجدت السلامة والسن،
وجب القبول وإن قلت قيمتها، وأصحهما وبه قطع الجمهور: يشترط أن تبلغ قيمتها
نصف عشر الدية، وهو خمس من الإبل، ومتى وجدت الغرة بصفاتها لم يجبر على
قبول غيرها، والاعتياض عنها كالاعتياض عن إبل الدية، وإن لم توجد الغرة،
فطريقان، أصحهما: على قولين، أظهرهما: يجب خمس من الإبل، والثاني:
قيمة الغرة، والطريق الثاني: خمس من الإبل قطعا، فإذا أوجبنا الإبل، ففقدت،
فهو كفقدها في الدية، فعلى الجديد: تجب قيمتها، وعلى القديم: يجب خمسون
دينارا، أو ستمائة درهم.
225

الطرف الرابع في مستحق الغرة ومن تجب عليه أما المستحق، فورثة
الجنين، فلو جنت الحامل على نفسها بشرب دواء أو غيره، فلا شئ لها من الغرة
المأخوذة من عاقلتها، لأنها قاتلة، وهي لسائر ورثة الجنين.
وأما من تجب عليه الغرة، فالجناية على الجنين قد تكون خطأ محضا، بأن
يقصد غير الحامل فيصيبها، وقد تكون شبه عمد، بأن يقصد ضربها بما يؤدي إلى
الاجهاض غالبا، فتجهض، ولا تكون عمدا محضا، لأنه لا يتحقق وجوده وحياته
حتى يقصد، هذا هو الصحيح، وبه قطع الجمهور، وفي المهذب أنه يكون
عمدا محضا إذا قصد الاجهاض، وقال ابن الصباغ: قال أبو إسحاق: وإن قصدها
بالضرب يكون خطأ محضا في حق الجنين، فعلى الصحيح، سواء كانت خطأ، أو
شبه عمد، فالغرة على العاقلة، قال ابن الصباغ: والغرة بدل نفس، فلا يجئ فيها
القول القديم في أن العاقلة لا تحمل ما دون النفس، وفي جمع الجوامع للروياني
أن بعضهم أثبت فيها القديم، وليس بشئ، وإذا فقدت الغرة وقلنا: تنتقل إلى
خمس من الإبل، غلظنا إن كانت الجناية شبه عمد، بأن تؤخذ حقة ونصف،
وجذعة ونصف، وخلفتان، قاله الأصحاب، ولم يتكلموا في التغليظ عند وجود
الغرة، لكن قال الروياني: ينبغي أن يقال: تجب غرة قيمتها نصف عشر الدية
المغلظة، وهذا حسن، أما بدل الجنين الرقيق فلسيده، وهل تحمله العاقلة؟ فيه
القولان في بدل العبد.
فرع قطع طرف حامل أو جرحها، فألقت جنينا ميتا، يجب مع ضمان
الجنين ضمان الجناية، حكومة كان أو أرشا مقدرا، ويكون ضمان الجناية لها، ولو
تألمت بالضرب، وألقت جنينا، فإن لم يبق شين، لم يجب للألم شئ، وإن
بقي، وجبت له حكومة في الأصح.
فصل سقط جنين ميت، وادعى وارثه على رجل أنه سقط بجنايته، فأنكر
أصل الجناية، صدق بيمينه، ولا يقبل قول المدعي إلا بشهادة رجلين، فإن أقر
بالجناية، وأنكر الاسقاط وقال: السقط ملتقط، فهو المصدق أيضا، وعلى المدعي
226

البينة، وتقبل شهادة النساء، لأن الاسقاط ولادة، وإن أقر بالجناية والاسقاط،
وأنكر كون الاسقاط بسبب جنايته، نظر، إن أسقطت عقب الجناية، فهي المصدقة
باليمين، سواء قال: إنها شربت دواء، أو ضرب بطنها آخر، أو قال: انفصل
الجنين لوقت الولادة، لأن الجناية سبب ظاهر، وإن أسقطت بعد مدة من وقت
الجناية، صدق بيمينه، لأن الظاهر معه إلا أن تقوم بينة على أنها لم تزل متألمة حتى
أسقطت، ولا تقبل هذه الشهادة إلا من رجلين، وضبط المتولي المدة المتخللة بما
يزول فيه ألم الجناية وأثرها غالبا، وإن اتفقا على سقوطه بجنايته، فقال الجاني:
سقط ميتا، فالواجب الغرة، وقال الوارث: بل حيا، ثم مات، والواجب الدية،
فعلى الوارث البينة لما يدعيه من استهلال وغيره، وتقبل فيه شهادة النساء، لان
الاستهلال حينئذ لا يطلع عليه غالبا إلا النساء، وعن رواية الربيع أنه يشترط رجلان،
ولو أقام كل بينة لما يقوله، فبينة الوارث أولى، لأن معها زيادة علم، ولو اتفقا على
أنه انفصل حيا بجنايته، وقال الوارث: مات بالجناية، وقال الجاني: بل مات
بسبب آخر، فإن لم يمتد الزمان، فالمصدق الوارث بيمينه، وإن امتد، وإن امتد، صدق
الجاني بيمينه، إلا أن يقيم الوارث بينة أنه لم يزل متألما إلى أن مات، ولو ألقت
جنينين، وادعى الوارث حياتهما، وأنكر الجاني حياتهما، فأقام الوارث بينة
باستهلال أحدهما، قال المتولي: الشهادة مسموعة، ثم إن كانا ذكرين، وجب دية
رجل وغرة، وإن كانا أنثيين، فدية امرأة وغرة، وإن كانا ذكرا وأنثى، وجب اليقين
وهو دية امرأة وغرة، ولو صدق الوارث في حياة أحدهما، وكانا ذكرا وأنثى، فقال
الوارث: الحي هو الذكر، وقال الجاني: بل الأنثى، صدق الجاني بيمينه،
ويحلف على نفي العلم بحياة الذكر، وتجب دية امرأة وغرة، ولو صدقه الجاني في
حياة الذكر، وكذبته العاقلة، فعلى العاقلة دية أنثى وحكومة، والباقي في مال
الجاني، ولو ألقت جنينين حيين وماتا، وماتت الام بينهما، ورثت الام من الأول،
وورث الثاني من الام، ولو قال وارث الجنين: ماتت الام أولا فورثها الجنين، ثم
مات، فورثته أنا، وقال وارث الام: بل مات الجنين أولا، فورثته الام، ثم ماتت،
فورثها، فإن كان بينة، حكم بها، وإلا فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، قضي
للحالف، وإن حلفا أو نكلا، لم يورث أحدهما من الآخر، لأنه عمي موتهما
كالغرقى، وما تركه كل واحد لورثته الاحياء.
227

باب كفارة القتل
هي عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد، فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع،
فهل عليه إطعام ستين مسكينا؟ قولان، وقال القفال: وجهان، وأنكر على صاحب
التلخيص رواية القولين، أظهرهما: لا، فعلى هذا لو مات قبل الصوم أخرج من
تركته لكل يوم مد طعام، كفوات صوم رمضان، والقول في صفة الرقبة والصيام
والاطعام إن أوجبناه، وما يجوز النزول من درجة إلى درجة، على ما سبق في
الكفارات.
فصل قتل العمد، وشبه العمد والخطأ يوجب الكفارة، وقال ابن المنذر:
لا تجب في العمد، وحكى الروياني وجها ضعيفا عن رواية أبوي علي بن أبي هريرة
والطبري أنه إذا اقتص من المتعمد، فلا كفارة في ماله، فعلى هذا إنما يجب إخراج
الكفارة إذا لم يقتص منه، بأن مات أو عفي عنه، وتجب الكفارة في القتل بالسبب
كما في المباشرة، فتجب على حافر البئر عدوانا، ومن نصب شبكة، فهلك بهما
شخص، وعلى المكره وشاهد الزور، ولا تجب في القتل المباح، كقتل مستحق
القصاص الجاني، وكقتل الصائل والباغي، ونعني بالمباح ما أذن فيه، والخطأ لا
يوصف بكونه مباحا ولا حراما، بل المخطئ غير مكلف فيما هو مخطئ فيه.
فصل تجب الكفارة على الذمي والعبد وفي مال الصبي والمجنون إذا
قتلا، ولا تجب بوطئه في صوم رمضان لأنه غير متعد، والتعدي شرط في وجوب
تلك الكفارة، وإذا وجبت الكفارة بقتل الصبي والمجنون، أعتق الولي من مالهما،
كما يخرج الزكاة والفطرة منه، ولا يصوم عنهما بحال، ولو صام الصبي في صغر،
فهل يجزئه؟ وجهان، كما لو قضى في صغره حجة أفسدها، وإذا أدخلنا الاطعام
في هذه الكفارة، أطعم الولي إن كانا من أهله، وينبغي أن يقال: إن اكتفينا بصوم
228

الصبي لم يجز العدول إلى الاطعام، وإلا فيجوز كالمجنون، ولو أعتق الولي من مال
نفسه عنهما، أو أطعم، قال البغوي: إن كان أبا أو جدا، جاز، وكأنه ملكهما،
ثم ناب عنهما في الاعتاق والاطعام، وإن كان وصيا أو قيما، لم يجز، حتى يقبل القاضي لهما التمليك، ولا كفارة على حربي، لأنه غير ملتزم، وهل تجب على من
قتل نفسه؟ وجهان، أصحهما: نعم، لأنه قتل محرم، فتخرج من تركته، ويجري
الخلاف فيمن حفر بئرا عدوانا فهلك بها رجل بعد موته، ووجه المنع أن في الكفارة
معنى العبادة، فيبعد وجوبها على ميت ابتداء، ولو اشترك جماعة في قتل، فهل
على كل واحد كفارة، أم على الجميع كفارة واحد؟ وجهان، أصحهما: الأول.
فصل شرط القتيل الذي تجب بقتله الكفارة أن يكون آدميا معصوما بإيمان
أو أمان، فتجب على من قتل عاقلا أو مجنونا أو صبيا أو جنينا أو ذميا أو معاهدا أو
عبدا، وعلى السيد في قتل عبده، ولا تجب بقتل حربي ومرتد، وقاطع طريق،
وزان محصن، ولا بقتل نساء أهل الحرب وأولادهم وإن كان قتلهم محرما، لان
تحريمه ليس لحرمتهم، بل لمصلحة المسلمين، لئلا يفوتهم الارتفاق بهم.
فرع إذا قتل مسلما في دار الحرب، وجبت الكفارة بكل حال، قال الله
تعالى: * (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) * معناه عند
الشافعي وغيره رحمهم الله: وإن كان من قوم عدوكم. وأما القصاص والدية، فإن
ظنه القاتل كافرا، لكونه بزي الكفار، فلا قصاص، وفي الدية قولان، أظهرهما:
لا تجب، وإلا فإن عرف مكانه، فهو كما لو قتله في دار الاسلام، حتى إذا قصد
قتله، يجب القصاص أو الدية المغلظة في ماله مع الكفارة، وإن لم يعرف مكانه،
ورمى سهما إلى صف الكفار في دار الحرب، سواء علم في الدار مسلما أم لا،
نظر، إن لم يعين شخصا أو عين كافرا فأخطأ، وأصاب مسلما، فلا قصاص ولا
دية، وكذا لو قتله في بيات أو غارة ولم يعرفه، وإن عين شخصا فأصابه وكان
مسلما، فلا قصاص، وفي الدية قولان، ويشبه أن يكونا هما القولين فيمن ظنه
كافرا، ولو دخل الكفار دار الاسلام، فرمى إلى صفهم، فأصاب مسلما، فهو كما
لو رمى إلى صفهم في دار الحرب.
وبالله التوفيق.
229

كتاب دعوى الدم والقسامة والشهادة على الدم
فيه ثلاثة أبواب:
الأول: في الدعوى ولها خمسة شروط،
أحدها: تعيين المدعى عليه، بأن ادعى القتل على شخص أو جماعة
معينين، فهي مسموعة، وإذا ذكرهم للقاضي، وطلب إحضارهم، أجابه، إلا إذا
ذكر جماعة لا يتصور اجتماعهم على القتل، فلا يحضرهم، ولا يبالي بقوله، فإنه
دعوى محال، ولو قال: قتل أبي أحد هذين، أو واحد من هؤلاء العشرة، وطلب
من القاضي أن يسألهم، ويحلف كل واحد منهم، فهل يجيبه؟ وجهان،
أصحهما: لا، وبه قطع جماعة للابهام، كمن ادعى دينا على أحد رجلين،
والثاني: نعم، للحاجة ولا ضرر عليهم في يمين صادقة، ويجري الخلاف في
230

دعوى الغصب والاتلاف والسرقة، وأخذ الضالة على أحد رجلين أو رجال، ولا
يجري في دعوى قرض وبيع سائر المعاملات، لأنها تنشأ باختيار المتعاقدين،
وشأنها أن يضبط كل واحد منهما صاحبه، هذا هو المذهب في الصورتين، وقيل
بطرد الخلاف في المعاملات، وقيل بقصره على دعوى الدم لعظم خطرها، فلو لم
يكن الجماعة التي ادعى عليهم القتل حاضرين، وطلب إحضارهم، ففي إجابته
الوجهان، ولو قال: قتله أحدهم، ولم يطلب إحضارهم، ليسألوا، ويعرض عليهم
اليمين، لم يحضرهم القاضي، ولم يبال بكلامه، هكذا ذكره المتولي، وذكر أن
الوجهين فيما إذا تعلقت الدعوى بواحد من جماعة محصورين، فأما إذا قال: قتله
واحد من أهل القرية، أو المحلة وهم لا ينحصرون، وطلب إحضارهم، فلا يجاب،
لأنه يطول فيه العناء على القاضي، ويتعطل زمانه في خصومة واحدة، وتتأخر حقوق
الناس.
الشرط الثاني: أن تكون الدعوى مفصلة، أقتله عمدا أم خطأ، أم شبه
عمد، منفردا أم مشارك غيره، لأن الاحكام تختلف بهذه الأحوال، ويتوجه الواجب
تارة على العاقلة، وتارة على القاتل، فلا يعرف من يطالب إلا بالتفصيل، وفيه وجه
سنذكره إن شاء الله تعالى، أنه يجوز كون الدعوى مجهولة، فعلى الصحيح لو أجمل
الولي فوجهان، أحدهما: يعرض القاضي عنه، ولا يستفصل، لأنه ضرب من
التلقين، والثاني وهو الصحيح المنصوص، وبه قطع الجمهور: يستفصل، وربما
وجد في كلام الأئمة ما يشعر بوجوب الاستفصال، وإليه أشار الروياني، وقال
الماسرجسي: لا يلزم الحاكم أن يصحح دعواه، ولا يلزمه أن يستمع إلا إلى دعوى
محررة، وهذا أصح، ثم إذا قال: قتله منفردا أو عمدا ووصف العمد أو خطأ،
وطالب المدعى عليه بالجواب، وإن قال: قتله بشركة، سئل عمن شاركه، فإن ذكر
جماعة لا يمكن اجتماعهم على القتل، لغا قوله ودعواه، وإن ذكر جماعة يتصور
اجتماعهم، ولم يحضرهم، أو قال: لا أعرف عددهم، فإن ادعى قتلا يوجب الدية
بأن قال: قتله خطأ، أو شبه عمد، أو تعمد وفي شركائه مخطئ، لم تسمع دعواه
231

لأن حصة المدعى عليه من الدية لا تعلم إلا بحصر الشركاء، فلو قال: لا أعلم
عددهم تحقيقا، ولكن أعلم أنهم لا يزيدون على عشرة، سمعت دعواه، وطالب
بعشر الدية، وإن ادعى ما يوجب القود بأن قال: قتل عمدا مع شركاء عامدين،
فوجهان، أصحهما: تسمع دعواه، ويطالب بالقصاص، لأنه لا يختلف بعدد
الشركاء، والثاني: لا، لأنه قد يختار الدية فلا يعلم حقه منها، وأشير إلى وجه
ثالث: أنا إن قلنا: موجب العمد القود، سمعت، وإن قلنا: أحدهما، فلا.
الشرط الثالث: أن يكون المدعي مكلفا ملتزما، فلا تسمع دعوى صبي
ومجنون وحربي، ولا يضر كون المدعي صبيا أو مجنونا، أو جنينا حالة القتل إذا
كان بصفة الكمال عند الدعوى، لأنه قد يعلم الحال بالتسامع، ويمكنه أن يحلف
في مظنة الحلف إذا عرف ما يحلف عليه بإقرار الجاني، أو سماع ممن يثق به،
كما لو اشترى عينا وقبضها، فادعى رجل ملكها، فله أن يحلف أنه لا يلزمه التسليم
إليه اعتمادا على قول البائع، وأما المحجور عليه بسفه، فتسمع دعواه الدم، وله أن
يحلف ويحلف، ويستوفي القصاص، وإذا آل الامر إلى المال أخذه الولي، كما في
دعوى المال، يدعي السفيه ويحلف، والولي يأخذ المال.
الشرط الرابع: أن يكون المدعى عليه مكلفا، فلا يدعي على صبي ومجنون، فلو
ادعى على محجور عليه بسفه، نظر، إن كان هناك لوث، سمعت الدعوى، سواء
ادعى عمدا، أو خطأ، أو شبه عمد، ويقسم المدعي، ويكون الحكم كما في غير
السفيه، وإذا كان اللوث قول عدل واحد، حلف المدعي معه، ويثبت المال
بالشاهد واليمين، وإن لم يكن لوث، فإن ادعى قتلا يوجب القصاص، سمعت
الدعوى لأن إقراره بما يوجب القصاص مقبول، فإن أقر، أمضى حكمه عليه،
وإن نكل، حلف المدعي، وكان له أن يقتص، وإن ادعى خطأ، أو شبه عمد،
فهذا مبني على أن إقرار المحجور عليه بالاتلاف هل يقبل؟ وفيه وجهان سبقا في
232

الحجر، وسواء قبلناه، أم لا، فتسمع أصل الدعوى، أما إذا قبلنا إقراره، فليمض
عليه الحكم إن أقر، وليقم البينة عليه إن أنكر، وأما إذا لم نقبل وهو الأصح، فليقم
البينة عليه إن أنكر، ثم إذا أنكر هل يحلف؟ يبنى على أن يكون المدعى عليه
مع يمين المدعي كبينة يقيمها المدعي أم كإقرار المدعى عليه إن قلنا: كالبينة،
حلف، فربما نكل، وإن قلنا: كالاقرار، لم يحلف على الأصح، وقيل: يحلف
لتنقطع الخصومة في الحال.
فرع تسمع دعوى القتل على المحجور عليه بفلس، فإن كان بينة، أو
لوث، وأقسم المدعي، فهو كغيره، ويزاحم المستحق الغرماء بالمال، وإن لم تكن
بينة ولا لوث، حلف المفلس، فإن نكل، حلف المدعي، واستحق القصاص إن
ادعى قتلا يوجب القصاص، قال الروياني: فإن عفا عن القصاص على مال ثبت،
وهل يشارك به الغرماء؟ يبنى على أن اليمين المردودة كالبينة أم كالاقرار، إن قلنا
: كالبينة، فنعم، وإلا فقولان، كما لو أقر بعين في يده، أو بمال نسبه إلى ما قبل
الحجر، وإن كان المدعي قتل خطأ، أو شبه عمد، ثبت باليمين المردودة الدية،
وتكون على العاقلة إن قلنا: كالبينة، وإن قلنا: كالاقرار كانت على الجاني،
وفي مزاحمة المدعي الغرماء بها القولان.
فرع ادعى مثلا على عبد إن كان لوث، سمعت، وأقسم المدعي واقتص
إن ادعى عمدا وأوجبنا القصاص بالقسامة، وإلا فتتعلق الدية برقبة العبد، وإن لم
يكن لوث، فدعوى القتل الموجب للقصاص تكون على العبد، ودعوى الموجب
233

للمال على السيد، وتمام المسألة يأتي في الدعوى والبينات إن شاء الله تعالى.
الشرط الخامس: أن لا تتناقض دعواه، فلو ادعى على شخص تفرده بالقتل،
ثم على آخر تفرده بالقتل أو مشاركته، لم تسمع الثانية، ولو لم يقسم على الأول،
ولم يمض حكم، فلا يمكن من العود إليه، لأن الثانية تكذبها، ولو صدقه الثاني في
دعواه الثانية فوجهان، أحدهما، ليس له مؤاخذته، لأن في الدعوى على الأول
اعترافا ببراءة غيره، وأصحهما: له مؤاخذته، لأن الحق لا يعدوهما، ويحتمل كذبه
في الأولى وصدقه في الثانية، ولو ادعى قتلا عمدا فاستفصل، فوصفه بما ليس
بعمد، نقل المزني أنه لا يقسم، والربيع أنه يقسم، قال الأكثرون: في المسألة
قولان، أحدهما: تبطل الدعوى ولا يقسم لأن في دعوى العمد اعترافا ببراءة
العاقلة، فلا يمكن من مطالبتهم بعدة ولان فيه اعترافا بأنه ليس بمخطئ فلا يقبل
رجوعه عنه، وأظهرهما: لا تبطل، لأنه قد يظن الخطأ عمدا، فعلى هذا يعتمد
تفسيره ويمضي حكمه، ومنهم من قطع بهذا وتأول نقل المزني على أنه لا يقسم
على العمد. ويجري الطريقان فيمن ادعى خطأ، وفسر بعمد، وكذا فيمن ادعى
شبه عمد، وفسر بخطأ، وقيل: يقبل تفسيره قطعا، لأن فيه تخفيفا عن العاقلة
ورجوعا عن زيادة ادعاها عليهم.
فرع ادعى قتلا، فأخذ المال، ثم قال: ظلمته بالأخذ، وأخذته باطلا،
أو ما أخذته حرام علي، سئل، فإن قال: كذبت في الدعوى وليس هو قاتلا، استرد
المال منه، وإن قال: أردت أني حنفي لا أعتقد أخذ المال بيمين المدعي، لم
يسترد، لأن النظر إلى رأي الحاكم واجتهاده، لا إلى مذهب الخصمين، وذكروا
للمسألة نظائر.
منها: مات شخص، فقال ابنه: لست أرثه، لأنه كان كافرا، فسئل عن
كفره، فقال: كان معتزليا أو رافضيا، فيقال له: لك ميراثه وأنت مخطئ في
اعتقادك، لأن الاعتزال والرفض ليس بكفر، هكذا قاله القفال والبغوي والروياني
وغيرهم.
قال الفوراني: ومن شيوخنا من يكفر أهل الأهواء، فعلى هذا يحرم
الميراث.
234

قلت: هذا الوجه خطأ، والصواب المنصوص والذي قطع به الجمهور: أنا
لا نكفرهم. [والله أعلم].
ومنها: قضى حنفي لشافعي بشفعة الجوار، فأخذ الشقص، ثم قال: أخذته
باطلا، لأنني لا أرى شفعة الجوار، لا يسترد منه.
ومنها: مات عن جارية أولدها بنكاح، فقال وارثه: لا أتملكها، لأنها صارت
أم ولد له بذلك، وعتقت بموته، فيقال له: هي مملوكتك ولا تصير أم ولد بالنكاح.
واعلم أن جميع هذا فيما يتعلق بظاهر الحكم، أما الحل باطنا إذا حكم
القاضي في مواضع الخلاف لشخص على خلاف اعتقاده، كحكم حنفي لشافعي
بشفعة جوار، ففي ثبوته خلاف، وميل الأئمة هنا إلى ثبوته، وسنذكره إن شاء الله
تعالى في كتاب الأقضية.
ولو قال: أردت بقولي، حرام أنه مغصوب، فإن عين المغصوب منه، لزمه
تسليمه إليه، ولا رجوع له على المأخوذ منه، لأن قوله لا يقبل عليه، وإن لم يعين
أحدا، فهو مال ضائع، وفي مثله خلاف مشهور، والجواب في الشامل أنه
لا يلزمه رفع يده عنه، ولو قال بعد ما أقسم: ندمت على الايمان، لم يلزمه بهذا
شئ.
فرع ادعى القتل على رجل، وحلف وأخذ المال، فجاء رجل وقال: أنا
قتلت مورثك، ولم يقتله الذي حلف عليه، فإن لم يصدقه الوارث، لم يؤثر قوله
فيما جرى، وإن صدقه، لزمه رد ما أخذ، وهل له الدعوى على الثاني ومطالبته؟
فيه قولان، وهما نظير الوجهين السابقين في أول هذا الشرط.
الباب الثاني في القسامة
هي الايمان في الدماء.
وصورتها: أن يوجد قتيل بموضع لا يعرف من قتله، ولا بينة، ويدعي وليه
قتله على شخص أو جماعة، وتوجد قرينة تشعر بصدقه، ويقال له: اللوث،
فيحلف على ما يدعيه، ويحكم له بما سنذكره إن شاء الله تعالى.
235

وفي الباب أربعة أطراف:
الأول: في محل القسامة، وهو قتل الحر في محل اللوث، فهذه ثلاثة قيود،
الأول: القتل، فلا قسامة في إتلاف المال، ولا فيما دون النفس من الجروح والأطراف،
بل القول فيها قول المدعى عليه بيمينه، وإن كان هناك لوث، لأن النص ورد في
النفس، وهي أعظم من الأطراف، ولهذا اختصت بالكفارة، فلا تلحق بها
الأطراف، وحكى الروياني وجها في الأطراف، وغلط قائله، فعلى الصحيح
لو جرح مسلم، فارتد، ثم مات بالسراية، فلا قسامة، فلو عاد إلى الاسلام، جرت
القسامة، سواء أوجبنا كمال الدية أم لا، لأن الواجب هنا بدل النفس، وكذا الحكم
فيما لو جرح ذمي، فنقض عهده، ثم مات، أو جدد العهد ثم مات.
القيد الثاني: كون القتيل حرا، فلو قتل العبد، وهناك لوث، فادعى السيد
على عبد، أو حر أنه قتله، فهل يقسم السيد؟ فيه طريقان، أشهرهما: على
القولين في أن بدل العبد هل تحمله العاقلة؟ إن قلنا: لا، فقد ألحقناه بالبهيمة،
فلا قسامة، وإن قلنا: نعم وهو الأظهر، أقسم السيد وهو المنصوص، والثاني:
يقسم قطعا، لأن القسامة تحفظ الدماء، وهذه الحاجة تشمل العبد، كالقصاص
والكفارة، والمدبر والمكاتب وأم الولد في هذا كالقن، فإذا أقسم السيد، فإن كانت
الدعوى على حر، أخذ الدية من ماله في الحال إن ادعى عمدا محضا، وإن ادعى
خطأ، أو شبه عمد، أخذها من عاقلته في ثلاث سنين، وإن كانت الدعوى على
عبد، فإن ادعى العمد، ففي القصاص القولان في ثبوته بالقسامة، فإن منعناه وهو
الأظهر، أو ادعى خطأ، أو شبه عمد، تعلقت القيمة برقبته.
الثالث: كونه في محل اللوث، فإن لم يكن لوث، لم يبدأ بيمين المدعي،
واللوث قرينة تثير الظن وتوقع في القلب صدق المدعي وله طرق:
منها: أن يوجد قتيل في قبيلة، أو حصن، أو قرية صغيرة، أو محلة منفصلة
عن البلد الكبير، وبين القتيل وبين أهلها عداوة ظاهرة فهو لوث في حقهم، فإذا
ادعى وليه القتل عليهم، أو على بعضهم، كان له أن يقسم، ويشترط أن لا يساكنهم
غيرهم، وقيل: يشترط أن لا يخالطهم غيرهم، حتى لو كانت القرية بقارعة طريق
يطرقها التجار والمجتازون وغيرهم، فلا لوث، والصحيح أن هذا ليس بشرط.
236

ومنها: لو تفرق جماعة عن قتيل في دار دخلها عليهم ضيفا، أو دخل معهم
لحاجة، أو في مسجد أو بستان أو طريق أو صحراء، فهو لوث، وكذا لو ازدحم قوم
على بئر، أو باب الكعبة، أو في الطواف، أو في مضيق، ثم تفرقوا عن قتيل،
ولا يشترط في هذا أن تكون بينه وبينهم عداوة.
ومنها: لو تقابل صفان، فتقاتلا، وانكشفا عن قتيل من أحدهما، فإن
اختلطوا، أو وصل سلاح أحدهما إلى الآخرين رميا أو طعنا أو ضربا، فهو لوث في
حق الصف الآخر، وإن لم يصل سلاح، فهو لوث في حق أهل صفه.
ومنها: إذا وجد قتيل في صحراء، وعنده رجل معه سلاح متلطخ بدم، أو
على ثوبه أثر دم، فهو لوث، وإن كان بقربه سبع، أو رجل آخر مول ظهره، أو وجد
أثر قدم، أو ترشيش وأم في غير الجهة التي فيها صاحب السلاح، (فليس بلوث) في
حقه، ولو رأينا من بعد رجلا يحرك يده كما يفعل من يضرب بسيف أو سكين ثم
وجدنا في الموضع قتيلا، فهو لوث في حق ذلك الرجل.
ومنها: لو شهد عدل بأن زيدا قتل فلانا، فلوث على المذهب، سواء تقدمت
شهادته على الدعوى أو تأخرت، ولو شهد جماعة تقبل روايتهم، كعبيد ونسوة،
فإن جاؤوا متفرقين، فلوث، وكذا لو جاؤوا دفعة على الأصح، وفي التهذيب
237

أن شهادة عبدين، أو امرأتين كشهادة الجمع، وفي الوجيز أن القياس أن قول
واحد منهم لوث، وفيمن لا تقبل روايتهم، كصبيان أو فسقة أو ذميين، أوجه،
أصحها: قولهم لوث، والثاني: لا، والثالث: لوث من غير الكفار، ولو قال
المجروح: جرحني فلان، أو قتلني، أو دمي عنده، فليس بلوث، لأنه مدع، ولو
تفرق عنه جماعة لا يتصور اجتماعهم على القتل، لم تسمع الدعوى عليهم ولا
قسامة كما سبق، ولو ازدحم قوم لا يتصور اجتماعهم على القتل في مضيق، وتفرقوا
عن قتيل، فادعى الولي القتل على عدد منهم يتصور اجتماعهم، فينبغي أن تقبل
ويمكن من القسامة، كما لو ثبت اللوث في جماعة محصورين فادعى الولي القتل
على بعضهم.
فرع قال البغوي: لو وقع في ألسنة العام والخاص أن زيدا قتل فلانا، فهو
لوث في حقه، وسواء في القسامة ادعى كافر على مسلم، أو مسلم على كافر، قال
الامام: لو عاين القاضي ما هو لوث، فله اعتماده ولا يخرج على الخلاف في قضائه
بعلمه، لأنه يقضي بالايمان، قال المتولي: إذا وجد قتيل قريب من قرية، وليس
هناك عمارة أخرى، ولا من يقيم بالصحراء، ثبت اللوث في حقهم، يعني إذا
وجدت العداوة، وكنا نحكم باللوث لو وجد فيها، قال: ولو وجد بين قريتين، أو
قبيلتين، ولم يعرف بينه وبين إحداهما عداوة، لم يجعل قربه من إحداهما لوثا.
فصل قد يعارض القرينة ما يمنع كونها لوثا، ويعارض اللوث ما يسقط
أثره، ويبطل الظن الحاصل به، وذلك خمسة أنواع:
أحدها: أن يتعذر إثباته، وإذا ظهر لوث في حق جماعة، فللولي أن يعين
واحدا أو أكثر ويدعي عليه ويقسم، فلو قال: القاتل أحدهم ولا أعرفه، فلا قسامة،
وله تحليفهم، فإن حلفوا إلا واحدا، فنكوله يشعر بأنه القاتل، ويكون لوثا في
حقه، فإذا طلب المدعي أن يقسم عليه، مكن منه، ولو نكل الجميع، ثم عين
الولي أحدهم وقال: قد بان لي أنه القاتل، وأراد أن يقسم عليه، مكن منه على
الأصح.
238

الثاني: إذا ظهر لوث في أصل القتل دون كونه خطأ أو عمدا، فهل يتمكن
الولي من القسامة على أصل القتل؟ وجهان، أصحهما: لا، قال البغوي: لو
ادعى على رجل أنه قتل أباه، ولم يقل عمدا ولا خطأ، وشهد له شاهد، لم يكن
ذلك لوثا، لأنه لا يمكنه أن يحلف مع شاهده، ولو حلف، لا يمكن الحكم به،
لأنه لا يعلم صفة القتل حتى يستوفي موجبه.
واعلم أن هذا المذكور يدل على أن القسامة على قتل موصوف يستدعي ظهور
اللوث في قتل موصوف، وقد يفهم من إطلاق الأصحاب أنه إذا ظهر اللوث في أصل
القتل، كفى ذلك في تمكن الولي من القسامة على القتل الموصوف، وليس هذا
ببعيد، ألا ترى أنه لو ثبت اللوث في حق جماعة وادعى الولي على بعضهم، جاز،
ويمكن من القسامة، فكما لا يعتبر ظهور اللوث فيما يرجع إلى الانفراد والاشتراك
لا يعتبر في صفة العمد والخطأ.
الثالث: أن ينكر المدعى عليه اللوث في حقه، بأن قال: لم أكن مع القوم
المتفرقين عن القتيل، أو قال: لست أنا الذي رئي معه السكين المتلطخ على
رأسه، أو لست أنا المرئي من بعيد، فعلى المدعي البينة على الامارة التي ادعاها،
فإن لم يكن بينة، حلف المدعى عليه على نفيها، وسقط اللوث، وبقي مجرد الدعوى، ولو قال: كنت غائبا يوم القتل، أو ادعى على جمع، فقال أحدهم:
كنت غائبا، صدق بيمينه، لأن الأصل براءته، وعلى المدعي البينة على حضوره
يومئذ، أو إقراره بالحضور، فإن أقام بينة بحضوره، وأقام المدعى عليه بينة بغيبته،
ففي الوسيط: أنهما تتساقطان، وفي التهذيب: تقدم بينة الغيبة، لأن معها
زيادة علم، هذا إذا اتفقا أنه كان حاضرا من قبل، ويعتبر في بينة الغيبة أن يقولوا:
كان غائبا في موضع كذا، فلو اقتصروا على أنه لم يكن هنا، فهذا نفي محض
لا تسمع الشهادة عليه، ولو أقسم المدعي، وحكم القاضي بموجب القسامة، ثم
أقام المدعى عليه بينة على غيبته يوم القتل، أو أقر بها المدعي، نقض الحكم
واسترد المال، وكذا لو قامت بينة على أن القاتل غيره، ولو قال الشهود: لم يقتله
هذا، واقتصروا عليه، لم تقبل شهادتهم، ولو كان محبوسا أو مريضا يوم القتل،
فهل هما كالغيبة حتى يسقط اللوث إذا ثبت الحال بإقرار المدعي، أو بينة؟ وجهان،
239

وموضعها إذا أمكن كونه قاتلا بحيلة ولو في صورة بعيدة، أصحهما: هما كالغيبة.
الرابع: شهد عدل أو عدلان أن زيدا قتل أحد هذين القبيلين، فليس بلوث،
ولو شهد أو شهدا أن زيدا قتله أحد هذين، ثبت اللوث في حقهما على الصحيح،
فإذا عين الولي أحدهما وادعى عليه، فله أن يقسم، كما لو تفرق جماعة عن قتيل،
وقيل: لا لوث، كالصورة الأولى.
الخامس: تكذيب بعض الورثة، فإذا كان للميت ابنان، فقال أحدهما: قتل
زيد أبانا، وقد ظهر عليه اللوث، وقال الآخر: لم يقتله، بل كان غائبا يوم القتل،
وإنما قتله فلان، أو اقتصر على نفي القتل عنه، أو قال: برأ من الجراحة، أو مات
حتف أنفه، فهل يبطل تكذيبه اللوث، ويمنع الأول القسامة؟ فيه قولان،
أظهرهما: نعم، وسواء كان المكذب عدلا أو فاسقا، وقيل: لا تبطل بالفاسق
قطعا، والمنصوص الأصح: أنه لا فرق، فإن قلنا: لا تبطل، حلف المدعي
خمسين يمينا، وأخذ حقه من الدية، ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيد، وقال
الآخر: بل قتله عمرو، وقلنا: لا يبطل اللوث بالتكاذب، أقسم كل واحد على من
عينه، وأخذ نصف الدية، وإن قلنا: يبطل، فلا قسامة، ويحلف كل واحد من
عينه، ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيد ورجل لا أعرفه، وقال الآخر: قتله عمرو،
ورجل لا أعرفه، فلا تكاذب، فيقسم كل واحد على من عينه، ويأخذ منه ربع
الدية، فإن عادا، وقال كل واحد منهما: قد بان لي أن المبهم هو الذي عينه أخي،
فلكل واحد أن يقسم على الآخر، ويأخذ منه ربع الدية، وهل يحلف كل واحد
خمسين يمينا، أم خمسا وعشرين؟ فيه خلاف يأتي في نظائره إن شاء الله تعالى،
وإن قال كل واحد: المبهم غير الذي عينه أخي، حصل التكاذب، فإن قلنا: تبطل
القسامة، رد كل واحد ما أخذ بها، وإلا فيقسم كل واحد على من عينه ثانيا، ويأخذ
منه ربع الدية، ولو قال الذي عين زيدا: تبينت أن الذي أبهمت ذكره عمر الذي
عينه أخي، وقال الذي عين عمرا: تبينت أن الذي أبهمت ذكره غير زيد، فالذي
عين عمرا لا يكذبه أخوه، فله أن يقسم على عمرو، ويأخذ منه ربع الدية، والذي
عين زيدا، كذبه أخوه، فإن قلنا: تبطل القسامة، رد ما أخذ، وحلف المدعى
عليه، وإلا أقسم على من عينه، وأخذ منه ربع الدية، ولو قال أحدهما: قتل أبانا
240

زيد وحده، وقال الآخر: قتله زيد وعمرو، فإن قلنا: التكاذب لا يبطل القسامة،
أقسم الأول على زيد، وأخذ منه نصف الدية، ويقسم الثاني عليهما، ويأخذ من
كل واحد ربع الدية، وإن قلنا: يبطل، فالتكاذب هنا في النصف، وفي بطلان
القسامة في كل وجهان، أصحهما: لا تبطل، فيقسم الأول على زيد، ويأخذ منه
ربع الدية، وكذا يقسم الثاني عليه ويأخذ ربعها، ولا يقسم الثاني على عمرو، لان
أخاه كذبه في الشركة، وللأول تحليف زيد، لما بطلت فيه القسامة، وللثاني
تحليف عمرو، ولو قال أحدهما: قتل أبانا زيد وعمرو، وقال الآخر: قتله بكر
وخالد، فإن أبطلنا القسامة بالتكذيب، لم يقسم واحد منهما، ولكل واحد تحليف
اللذين عينهما، وإن لم يبطلها، أقسم كل واحد على اللذين عينهما، وأخذا من كل
منهما ربع الدية.
فرع لا يشترط في اللوث والقسام ظهور دم ولا جرح، لأن القتل يحصل
بالخنق، وعصر الخصية، وغيرهما، فإذا ظهر أثره، قام مقام الدم، فلو لم يوجد
أثر أصلا، فلا قسامة على الصحيح، وبه قطع الصيدلاني والمتولي، فلا بد أن يعلم
أنه قتيل، ليبحث عن القاتل، ولو وجد بعضه في محلة وتحقق موته، ثبتت
القسامة، سواء وجد رأسه أو بدنه، أقله أو أكثره، وإذا وجد بعضه في محلة وبعضه
في أخرى، فللولي أن يعين ويقسم.
الطرف الثاني: في كيفية القسامة وفيه مسائل:
إحداها: أيمانها خمسون يمينا، وكيفية اليمين كسائر الدعاوي، ويقول في
يمينه: لقد قتل هذا، ويشير إليه، أو لقد قتل فلان ابن فلان، ويرفع في نسبه، أو
يعرفه بما يمتاز به من قبيلة أو صنعة، أو لقب فلان ابن فلان، ويعرفه كذلك منفردا
بقتله، وإن ادعى على اثنين، قال: قتلاه منفردين بقتله، نص الشافعي رحمه الله على
ذكر الانفراد، فقيل: هو تأكيد، لأن قوله: قتله، يقتضي الانفراد، وقيل: شرط،
لاحتمال الانفراد صورة والاشتراك حكما، كالمكره مع المكره، ويتعرض لكونه
عمدا أو خطأ، وذكر الشافعي رحمه الله أن الجاني لو ادعى أنه برئ من الجرح،
زاد في اليمين: وما برئ من جرحه حتى مات منه.
241

الثانية: يستحب للقاضي أن يحذر المدعي إذا أراد أن يحلف، ويعظه
ويقول: اتق الله، ولا تحلف إلا عن تحقق، ويقرأ عليه * (إن الذين يشترون بعهد
الله وأيمانهم ثمنا قليلا) *، والقول في التغليظ في اليمين زمانا ومكانا ولفظا
منه ما سبق في اللعان، ومنه ما هو مؤخر إلى الدعوى والبينات.
الثالثة: لا تشترط موالاة الايمان على المذهب، وقيل: وجهان، فعلى
المذهب: لو حلف الخمسين في خمسين يوما، جاز.
الرابعة: جن المدعي في خلال الايمان، أو أغمي عليه، ثم أفاق، يبنى
عليها، ولو عزل القاضي، أو مات في خلالها، فالأصح أن القاضي الثاني يستأنف
منه الايمان، وحكي عن نصه في الام أنه يكفيه البناء، قال الروياني: وهو
الأصح، لكن المتولي حمل النص على ما إذا حلف المدعى عليه بعض الايمان
تفريعا على تعدد يمينه، فمات القاضي، أو عزل وولي غيره، يعتد بالايمان
السابقة، وفرق بأن يمين المدعى عليه على النفي فتنفذ بنفسها، ويمين المدعي
للاثبات فتوقف على حكم القاضي، والقاضي لا يحكم بحجة أقيمت عند الأول،
قال: وعزل القاضي وموته بعد تمام الايمان، كالعزل في أثنائها في الطرفين، قال:
ولو عزل القاضي في أثناء الايمان من جانب المدعي أو المدعى عليه، ثم تولى
ثانيا، فيبنى على أن الحاكم هل يحكم بعلمه؟ إن قلنا: لا، استأنف، وإلا بنى،
ولو مات الولي المقسم في أثنائها، نص في المختصر أن وارثه يستأنف الايمان،
وقال الخضري: يبنى عليها، والصحيح الأول، ولو مات بعد تمامها، حكم
لوارثه، كما لو أقام بينة ثم مات ولو مات المدعى عليه في أثناء الايمان، إذا حلفناه
في غير صورة اللوث، أو فيها، لنكول المدعي، بنى وارثه على أيمانه.
الخامسة: في جواز القسامة في غيبة المدعى عليه وجهان، أصحهما: نعم،
كالبينة، والثاني: لا، لضعف القسامة، ولا يمنع من القسامة كون المدعي كان
242

غائبا عن موضع القتل، كما لا يمنع كونه صبيا أو جنينا، لأنه قد يعرف الحال بإقرار
المدعى عليه، أو بسماع ممن يثق به.
السادسة: ما يستحق بالقسامة يستحق بخمسين يمينا، فإن كان الوارث واحدا
وهو جائز، حلف خمسين وأخذ الدية، وإن لم يكن جائزا، حلف أيضا خمسين،
لأنه لا يمكنه أخذ شئ إلا بعد تمام الحجة، فإذا حلف أخذ قدر حقه ولا يثبت
الباقي بيمينه، بل حكمه حكم من مات ولا وارث له وسيأتي إن شاء الله تعالى،
وإن كان للقتيل وارثان فأكثر، فقولان، أحدهما: يحلف كل واحد خمسين
يمينا، وأظهرهما: يوزع الخمسون عليهم على قدر مواريثهم، ومنهم من قطع بهذا،
فعلى هذا إن وقع كسر، تممنا المنكسر، فإذا كان ثلاثة بنين، حلف كل ابن سبع
عشرة، وإن خلف أما وابنا، حلفت تسعا وحلف اثنتين وأربعين، وإن خلف
زوجة وبنتا جعلت الايمان بينهما أخماسا، فتحلف الزوجة عشرا، والبنت
أربعين، وفي زوج وبنت، تجعل أثلاثا، وإذا خلف أكثر من خمسين ابنا أو أخا،
حلف كل واحد يمينا، وإن كانوا تسعة وأربعين، حلف كل واحد يمينين، وفي
صورة الجد والأخوة تقسم الايمان، كقسم المال، وفي المعادة لا يحلف ولد الأب
إن لم يأخذ شيئا، فإن أخذ، حلف بقدر حقه، فإذا خلف جدا وأخا لأبوين وأخا
لأب، حلف الجد سبع عشرة والأخ للأبوين أربعا وثلاثين، ولا يحلف الأخ للأب
وعلى التوزيع لو نكل بعضهم عن جميع حصته، أو بعضها، فلا يستحق الآخر شيئا
حتى يحلف خمسين ولو غاب بعضهم، فالحاضر بالخيار بين أن يصبر حتى يحضر
الغائب، فيحلف كل واحد قدر حصته، وبين أن يحلف في الحال خمسين، ويأخذ
قدر حقه، فلو كان الورثة ثلاثة بنين أحدهم حاضر، فأراد أن يحلف، حلف
خمسين يمينا، وأخذ ثلث الدية، فإذا قدم ثان، حلف نصف الخمسين، وأخذ
243

الثلث فإذا قدم الثالث، حلف سبع عشرة، وأخذ ثلث الدية، ولو كانوا أربعة،
حلف الحاضر خمسين، وأخذ ربع الدية، فإذا قدم ثان، حلف خمسا وعشرين،
وأخذ ربعها، وثالث يحلف سبع عشرة والرابع ثلاث عشرة، ولو قال الحاضر:
لا أحلف إلا بقدر حصتي لا يبطل حقه من القسامة حتى إذا قدم الغائب حلف معه
بخلاف ما إذا قال الشفيع الحاضر: لا آخذ إلا قدر حصتي، فإنه يبطل حقه، لان
الشفعة إذا أمكن أخذها، فالتأخير تقصير مفوت، والمين في القسامة لا تبطل
بالتأخير، ولو كان في الورثة صغير، أو مجنون، فالبالغ العاقل كالحاضر، والصبي
والمجنون كالغائب في جميع ما ذكرناه، ولو حلف الحاضر، أو البالغ خمسين، ثم
مات الغائب أو الصبي، وورث الحالف، لم يأخذ نصيبه إلا بعد أن يحلف حصته
ولا يحسب ما مضى، لأنه لم يكن مستحقا له يومئذ.
فرع كان في الورثة خنثى مشكل، أخذ بالاحتياط واليقين في الايمان
والميراث، فإن خلف ولدا خنثى، حلف خمسين لاحتمال أنه ذكر، ولا يأخذ إلا
نصف المال، ثم إن لم يكن معه عصبة، لم يأخذ القاضي الباقي من المدعى عليه
بل يوقف حتى يبين الخنثى، فإن بان ذكرا أخذه، وإن بان أنثى حلف القاضي
المدعى عليه للباقي، وإن كان معه عصبة كأخ، فإن شاء صبر إلى وضوح الخنثى،
وإن شاء حلف، فإن صبر توقفنا، وإن حلف حلف خمسا وعشرين، وأخذ القاضي
النصف الآخر، ووقفه بين الأخ والخنثى، فإذا بان المستحق منهما، دفعه إليه
باليمين السابقة، ولو خلف ولدين خنثيين، حلف كل واحد منهما ثلثي الايمان مع
الجبر وهي أربع وثلاثون يمينا، لاحتمال أنه ذكر، والآخر أنثى، ولا يأخذان إلا
الثلثين لاحتمال أنهما أنثيان، ولو خلف ابنا وخنثى، حلف الابن ثلثي الايمان،
وأخذ نصف الدية، وحلف الخنثى نصفها، وأخذ ثلث الدية، ووقف السدس
بينهما، ولو خلف بنتا وخنثى، حلفت نصف الايمان، والخنثى ثلثيها، وأخذ ثلثي
الدية، ولا يؤخذ الباقي من المدعى عليه حتى يظهر الخنثى.
وهنا صور أخر في الخناثى تعلم من الضابط والمثال المذكور حذفتها اختصارا
ولعدم الفائدة فيها وتعذر وقوعها.
فرع مات بعض الورثة المدعين الدم، قام وارثه مقامه في الايمان، فإن
244

تعددوا، عاد القولان، فإن قلنا: يحلف كل وارث خمسين، فكذا ورثة الورثة،
وإن قلنا: بالتوزيع، وزعت حصة ذلك الوارث على ورثته، فلو كان للقتيل ابنان، مات
أحدهما عن ابنين، حلف كل منهما ثلاث عشرة، فلو حلف أحدهما ثلاث عشرة،
فمات أخوه قبل أن يحلف، ولم يترك سوى هذا الحالف، حلف أيضا ثلاث عشرة
بقدر ما كان يحلف الميت، ولا يكفيه إتمام خمس وعشرين، ولو مات وارث القتيل
بعد حلفه، أخذ وارثه ما كان له من الدية، وإن مات بعد نكوله، لم يكن لوارثه أن
يحلف، لأنه بطل حقه من القسامة بنكوله، لكن لوارثه تحليف المدعى عليه.
فرع للقتيل ابنان، حلف أحدهما، ومات الآخر قبل أن يحلف عن
ابنين، فحلف أحدهما حصته، وهي ثلاث عشرة ونكل الآخر، وزع الربع الذي
نكل عنه على أخيه وعمه على نسبة ما يأخذان من الدية، فيخص الأخ أربع وسدس
يضم ذلك إلى حصته في الأصل، وهي اثنتا عشرة ونصف، فتبلغ ست عشرة وثلثين
فتكمل، وقد حلف ثلاث عشرة، فيحلف الآن أربعا، ويخص العم ثمان وثلث،
فيحلف تسعا فيكمل له أربع وثلاثون.
فرع جميع ما سبق في أيمان القسامة من جهة المدعي، أما إذا ادعى
القتل بغير لوث وتوجهت اليمين على المدعى عليه، فهل يغلظ عليه بالعدد؟
قولان، أظهرهما: نعم، لأنها يمين دم، فإن نكل المدعى عليه رد على المدعي ما
توجه على المدعى عليه على اختلاف القولين.
ويجري القولان في يمين المدعي مع الشاهد الواحد، ولو كانت الدعوى في
محل اللوث، ونكل المدعي عن القسامة، غلظت اليمين على المدعى عليه بالعدد
قطعا، وقيل: بطرد القولين، فإن قلنا: بالتعدد، وكانت الدعوى على جماعة مع
لوث أو مع عدمه، فهل يقسط الخمسون عليهم بعدد الرؤوس، أم يحلف كل واحد
خمسين؟ قولان، أظهرهما: الثاني، فإن قسطنا فكانت الدعوى على اثنين،
حاضر وغائب، حلف الحاضر خمسين، فإذا حضر الغائب وأنكر، حلف خمسا
وعشرين، وإن كانا حاضرين، فنكل أحدهما، حلف الآخر خمسين، لأن البراءة
عن الدم لا تحصل بدونها على قول التعدد، ويحلف المدعي على الناكل خمسين،
ولو نكل المدعى عليه عن اليمين والمدعون جماعة وقلنا: بالتعدد، فهل توزع
245

الايمان على قدر مواريثهم أم يحلف كل واحد خمسين؟ فيه القولان السابقان.
فرع هذا الذي سبق حكم الايمان في دعوى النفس، فأما دعوى الطرف
والجرح، فقد سبق أنه لا قسامة فيها، ولا اعتبار باللوث، ولكن يحلف المدعى
عليه، وهل تتعدد اليمين؟ يبنى على أن يمين المدعى عليه في دعوى النفس هل
تتعدد؟ إن قلنا: لا، فهنا أولى، وإلا فقولان أو وجهان، أشبههما بالترجيح
التعدد، قال ابن الصباغ: هذا الخلاف في دعوى العمد المحض، أما في الخطأ
وشبه العمد فتتحد فيه اليمين بلا خلاف، ولم يفرق الأكثرون كما في النفس، وإذا
قلنا: بالتعدد، فذلك إذا كان الواجب فيما يدعيه قدر الدية، فإن نقص كبدل اليد
والحكومة، فقولان، أظهرهما: يحلف المدعى عليه خمسين يمينا أيضا،
والثاني: توزع الخمسون على الابدال، ففي اليد خمس وعشرون، وفي الموضحة
ثلاث، ولو زاد الواجب على دية نفس، فهل يزاد في قدر الايمان بزيادة قدر
الأروش؟ طرد الامام حكاية الخلاف فيه، ولو كانت الدعوى في الطرف على
جماعة، فهل يحلف كل واحد منهم بقدر ما يحلف المنفرد، أم يوزع على
رؤوسهم؟ فيه قولان كما سبق، ومتى نكل المدعى عليه عن اليمين المعروضة
عليه، ردت على المدعي، وحلف بقدر ما كان يحلف المدعى عليه، فإن تعدد
المدعون، فهل توزع عليهم بقدر الإرث، أم يحلف كل واحد كما يحلف المنفرد؟
فيه القولان السابقان.
فرع كان مع المدعي شاهد، فأراد أن يحلف معه، فإن قلنا: تتحد
اليمين مع الشاهد في دعوى الدم، نظر، إن جاء بصيغة الاخبار أو شهد على
اللوث، حلف معه خمسين يمينا، وإن جاء بلفظ الشهادة وحافظ على شرطها،
حلف معه يمينا واحدة، قال الامام: ويثبت المال إن كان القتل خطأ، وإن كان
المدعى قتل عمد، فلا قصاص قطعا، وفي المال خلاف يأتي نظيره إن شاء الله
تعالى، وإذا قلنا: تعدد اليمين مع الشاهد، فلا بد من خمسين يمينا بكل حال.
الطرف الثالث في حكم القسامة:
فإذا أقسم الولي في محل اللوث، فإن كان ادعى قتل خطأ أو شبه عمد،
246

وجبت الدية على عاقلة المحلوف عليه، مخففة في الخطأ، ومغلظة في شبه العمد،
وإن ادعى قتلا عمدا والمدعى عليه ممن يقتل بذلك القتيل، فهل يجب القصاص
بالقسامة؟ قولان، القديم: نعم، والجديد الأظهر: لا، فعلى الجديد تجب
الدية فق مال القاتل حالة، وعلى القديم لا فرق بين أن تكون الدعوى على واحد،
أو جماعة كالبينة، وخرب ابن سريج على القديم أن الولي يختار واحدا منهم، فيقتله
قصاصا، ولا يقتل الجميع، وقيل: على هذا يأخذ من الباقين حصتهم من الدية،
وهو ضعيف، وإذا ادعى القتل على ثلاثة في محل اللوث. والحاضر منهم واحد،
فإن قال: تعمدوا جميعا، أقسم علق الحاضر خمسين يمينا، وأخذ ثلث الدية من
ماله على الجديد، وعلى القديم له القصاص، فإذا قدم أحد الغائبين، فإن أقر،
اقتص منه، وإن أنكر، أقسم عليه المدعي، وهل يقسم خمسين أم خمسا
وعشرين؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: الأول، هكذا أطلقوه، وينبغي أن
يكون هذا على الخلاف السابق في جواز القسامة في غيبة المدعى عليه، فإن
جوزناها وذكره في الايمان السابقة اكتفى بها، ثم إذا حلف عليه، عاد القولان،
الجديد والقديم، فإذا قدم الثالث وأنكر فكم يحلف عليه؟ فيه الخلاف السابق،
وإن قال: تعمد هذا الحاضر، وكان الغائبان مخطئين، أقسم على الحاضر ولا
يقتص منه قطعا، فإذا حضر الغائبان وأنكرا، فكم يحلف عليهما؟ فيه الخلاف،
وإن أقرا وصدقتهما العاقلة، فالدية على العاقلة، وإلا ففي مالهما مخففة، وإن
قال: تعمد الحاضر ولا أدري أتعمد الغائبان أم أخطأ، أقسم على الحاضر خمسين
وأخذ منه ثلث الدية على الجديد، وعلى القديم يوقف الامر حتى يحضرا، فإن
حضرا واعترافا بالتعمد، اقتص منهما ويقتص من الأول أيضا في القديم، وإن اعترفا
بالخطإ، وجبت الدية المخففة عليهما إن كذبتهما العاقلة، وإلا فعلى العاقلة، وإن
أنكرا أصل القتل، فهل يقسم المدعي؟ فيه الوجهان السابقان فيما إذا ادعى القتل
وظهر اللوث فيه ولم يذكر أنه عمد أم خطأ، الأصح: لا يقسم، فإن قلنا: يقسم،
247

فأقسم، حبسا حتى يصفا القتل، وكم يقسم؟ فيه الخلاف،
ولو ادعى القتل على شخصين، وعلى أحدهما لوث دون الآخر، أقسم
المدعي على الذي عليه لوث خمسين، وفي الاقتصاص منه القولان، وحلف الذي
لا لوث عليه.
فرع إذا نكل المدعي عن القسامة في محل اللوث، حلف المدعى عليه
كما سبق، فإن نكل، فهل ترد اليمين على المدعي؟ ينظر إن ادعى قتلا يوجب
القصاص، وقلنا: القسامة لا توجب القصاص، ردت اليمين قطعا، لأنه يستفيد بها
ما لا يستفيد بالقسامة، وهو القصاص، وإن كان قتلا لا يوجب القصاص، أو يوجبه
وقلنا: القسامة توجبه، فقولان، أحدهما: لا ترد، لأنه نكل عن اليمين في هذه
الخصومة، وأظهرهما: الرد، لأنه إنما نكل عن يمين القسامة، وهذه غيرها،
والسبب الممكن من تلك هو اللوث، ومن هذه نكول المدعى عليه، ولو كانت الدعوى
في غير صورة اللوث، ونكل المدعى عليه عن اليمين، والمدعي عن اليمين
المردودة، ثم ظهر لوث وأراد المدعي أن يقسم فقد أجروا القولين في تمكينه منه،
ولو أقام المدعي شاهدا في دعوى بمال، ونكل عن الحلف معه، ونكل المدعى
عليه عن اليمين المعروضة عليه، فأراد المدعي أن يحلف اليمين المردودة، عاد
القولان هكذا أطلقوه، ومقتضى ما ذكرنا في أول المسألة أن يقال: إن جرى ذلك في
دعوى قتل يوجب قصاصا، حلف اليمين المردودة قطعا، لأنه لا يستفيد باليمين مع
الشاهد القصاص، ويستفيد باليمين المردودة.
فرع إذا حلف المدعى عليه تخلص عن المطالبة، ولا يطالب أهل
الموضع الذي وجد فيه القتيل، ولا يأتي ذلك الموضع ولا عاقلته ولا عاقلة الحالف
ولا غيرهم سواء كان المدعى قتلا عمدا أم خطأ، وإذا حلف المدعي عند نكول
المدعى عليه، فإن كان المدعى قتلا عمدا، ثبت القصاص، لأن اليمين المردودة
كالاقرار، أو كالبينة، والقصاص يثبت بكل منهما، وإن كان المدعى خطأ، أو شبه
عمد، وجبت الدية، ثم قيل: إن قلنا: اليمين المردودة كالبينة، فهي على
عاقلته، وإن قلنا: كالاقرار، ففي ماله، وقيل: في ماله مطلقا، لأنها إنما تكون
كالبينة في حق المتداعيين.
248

الطرف الرابع فيمن يحلف في القسامة:
وهو كل من يستحق بدل الدم، فيدخل فيه السيد، فإنه إذا قتل عبده، أقسم
على المذهب كما سبق، وعلى هذا يقسم المكاتب إذا قتل عبده، ولا يقسم سيده،
بخلاف ما إذا قتل عبد المأذون له فإن السيد يقسم دون المأذون له، لأنه لا حق له،
بخلاف المكاتب، فإن عجز قبل أن يقسم، وتعرض عليه اليمين، أقسم السيد،
وإن عجز بعد عرض اليمين ونكوله، لم يقسم السيد، لبطلان الحق بنكوله، كما
لا يقسم الوارث إذا نكل المورث، ولكن يحلف المدعى عليه، وإن عجز بعد ما
أقسم، أخذ السيد القيمة، كما لو مات الولي بعد ما أقسم.
فرع ملك عبده عبدا، فقتل وهناك لوث، فإن قلنا: العبد لا يملك
بتمليك السيد، أقسم السيد، لأن المقتول عبده، فإن أقسم، كانت القيمة له
ولورثته بعده، وإن قلنا: يملك بالتمليك، بني ذلك على أن من ملك عبده شيئا
فأتلف، هل ينقطع حق العبد منه وتكون القيمة للسيد، أم ينتقل حقه إلى القيمة؟
وفيه وجهان، أصحهما: الانقطاع، لضعف ملكه ولأنه لو أعتق أو انتقل من ملك
السيد، انقلب ما ملكه إلى ملك سيده، فإن قلنا: ينقطع، أقسم السيد، وإلا
فوجهان، أحدهما: يقسم العبد كالمكاتب، والثاني: لا، لضعف ملكه، فعلى
هذا لا يقسم السيد أيضا، لأنه لا ملك له، ولو استرجع السيد الملك، وأعاد القيمة
إلى ملكه، لم يقسم السيد أيضا، لأنها لم تثبت للعبد، فكيف يخلفه السيد فيها،
وإن قلنا: يقسم العبد، فقد قيل: لا يقسم السيد أيضا، لأن العبد لم يكن له حين
قتل، ولا صارت القيمة له حينئذ، وإنما يملك بالاسترجاع، قال الامام: ويجوز أن
يجعل السيد خلفا عن العبد كالوارث مع مورثه، ولو ملك مستولدته عبدا كان كما لو
ملك عبده القن في جميع ما ذكرنا، وإن عتقت بموت السيد، ولو أوصى لمستولدته
بعبد، فقتل وهناك لوث، أقسم السيد وأخذ القيمة وبطلت الوصية، ولو أوصى لها
بقيمة عبده بعدما قتل، أو أوصى لها بقيمة عبده فلان إن قتل، صحت الوصية، لان
القيمة له ولا يقدح فيها الخطر، لأن الوصية تحتمل الاخطار، وليست الوصية
للمستولدة كالوصية للقن، لأنها تعتق بالموت وهو وقت استحقاق الوصية، والقن
ينتقل إلى الوارث، فلا يمكن تصحيح الوصية له، قال الروياني: وعلى هذا لو
أوصى لعبد نفسه، ثم أعتقه قبل موته، صحت الوصية، وعن القاضي أبي الطيب،
249

أنه لو باعه بعد الوصية، صحت الوصية، ويثبت الاستحقاق للمشتري، وإذا صحت
الوصية لها، فإن أقسم السيد، ثم مات، فالقيمة لها، وإن لم يقسم حتى مات ولم
يوجد منه نكول، أقسم الورثة، وتكون القيمة لها بالوصية، وإنما أقسم الورثة، وإن
كانت القيمة للمستولدة، لأن العبد يوم القتل كان للسيد، والقسامة من الحقوق
المعلقة بالقتل، فيرثونها كسائر الحقوق، وتثبت القيمة له، ثم يصرفونها إلى
المستولدة بموجب وصيته، ولهم غرض ظاهر في تنفيذ وصيته، وتحقيق مراده،
وهذا كما أنهم يقضون دينه، وليس سبيلهم فيه سبيل سائر الناس، حتى لو مات من
عليه دين ولا تركة له، فقضاه الورثة من مالهم، لزم المستحق قبوله بخلاف ما لو
تبرع به أجنبي، قال الامام: وغالب ظني أني رأيت فيه خلافا، قال: ولو أوصى
لانسان بمال ومات، فجاء من ادعى استحقاقه هل يحلف الوارث لتنفيذ الوصية؟ فيه
احتمالان،
والفرق أن القسامة تثبت على خلاف القياس احتياطا للدماء.
ولو نكل الورثة عن القسامة، فهل للمستولدة أن تقسم وتأخذ القيمة؟ قولان،
أحدهما: نعم، لأن الحق لها، وأظهرهما: لا، لأن القسامة لاثبات القيمة، وهي
تثبت للسيد ثم تنتقل بالوصية إليها، ولا يقوم مقام السيد إلا وارثه، ويجري القولان
في المديون إذا لم يقسم ورثته، هل يقسم غرماؤه؟ ولا خلاف أن للورثة الدعوى،
وطلب اليمين من المدعى عليه إذا لم يقسموا، وأما المستولدة، فهل لها الدعوى
وطلب اليمين؟ قيل: إن قلنا: لها أن تقسم، فلها ذلك، وإلا فلا، والمذهب
والمنصوص أن لها ذلك، وإن قلنا: لا تقسم، لأنها صاحبة القيمة، وأما القسامة
250

فللورثة، فلو نكل الخصم ردت اليمين عليها، قال الامام: وعلى هذا لا يفتقر
طلبها ودعواها إلى إعراض الورثة عن الطلب.
واعلم أن الورثة وإن كان لهم القسامة، لا تجب عليهم وإن كانوا متيقنين،
فالأيمان لا تجب قط.
فرع لو قطعت يد عبد، فعتق ومات بالسراية، فقد سبق أن الواجب فيه
الدية، وذكرا قولين، أظهرهما: للسيد أقل الأمرين من نصف قيمة العبد وكمال
الدية، والثاني: أنه أقل الأمرين من كمال القيمة وكمال الدية، فلو وقعت هذه
الجناية في محل لوث وكان الواجب قدر ما يأخذه السيد ولا يفضل شئ للورثة، فهل
يقسم؟ يبنى على ما لو مات رقيقا، إن قلنا: يقسم، فهنا أولى، وإلا فوجهان،
أصحهما: يقسم أيضا، لأن القتيل حر، والواجب دية، وإن كان يفضل عن
الواجب شئ للورثة، أقسم الورثة قطعا، وفي قسامة السيد الخلاف، إن قلنا: لا
يقسم، أقسم الورثة خمسين يمينا، وإلا فالسيد مع الوارث كالوارثين، فيعود
القولان في أن كل واحد يحلف خمسين يمينا، أم توزع الايمان عليهما بحسب ما
يأخذان.
فرع إذا ارتد ولي القتيل بعد ما أقسم، فالدية ثابتة، ولها حكم سائر أمواله
التي ارتد عليها، وإن ارتد قبل أن يقسم، قال الأصحاب: الأولى أن لا يعرض
الحاكم القسامة عليه، لأنه لا يتورع عن اليمين الكاذبة، فإذا عاد إلى الاسلام،
أقسم، ولو أقسم في الردة، فالمذهب صحة القسامة، واستحقاق الدية بها، وهي
كمال كسبه بعد الردة باحتطاب واصطياد ونحوهما، ولو ارتد الولي قبل موت
المجروح، ومات المجروح والولي مرتد، لم يقسم، لأنه لا يرث بخلاف ما إذا قتل
العبد، وارتد السيد، لا يفرق بين أن يرتد قبل موت العبد أم بعده، بل يقسم إذا قلنا
بالقسامة في بدل العبد، لأن استحقاقه بالملك لا بالإرث.
فرع قتل من لا وارث له بجهة خاصة وهناك لوث، فلا قسامة لعدم
المستحق المعين، لكن ينصب القاضي من يدعي عليه ويحلفه، فإن نكل، فهل
يقضي عليه بنكوله؟ فيه خلاف يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
251

فصل في مسائل منثورة:
ينبغي للقاضي أن لا يحلف السكران مدعيا كان ولا مدعى عليه، حتى يعلم
ما يقول، وما يقال له، وينزجر عن اليمين الكاذبة، فإن حلفه في السكر، فعلى
الخلاف في أن السكران كالصاحي أم كالمجنون. والأصح: الأول، ولو قتل رجل
وكان اللوث على عبده، فأراد وارثه أن يقسم عليه، فله ذلك إن أوجبنا القصاص
بالقسامة ليقتص منه، وإلا فلا يقسم، لأنه لا يثبت له في رقبة عبده مال إلا أن يكون
مرهونا، فيستفيد بالقسامة فك الرهن وبيعه، وقسمة ثمنه على الغرماء، ولو ادعى
على رجل أنه قتل أباه عمدا، فقال المدعى عليه: قتلته ولكن خطأ، أو شبه عمد،
فإن لم يكن لوث، صدق المدعى عليه بيمينه، وإن كان بأن شهد عبيد أو نسوة على
إقراره بالعمدية، فأيهما يصدق؟ وجهان، أصحهما: المدعي، وبه قطع الامام
والمتولي، فإن حلف المدعى عليه، فلم يحلف؟ يبنى على ما لو أنكر أصل القتل
إن قلنا: يمينا واحدة، فكذا هنا وإن قلنا: خمسين، فكذا هنا على الأصح،
وقيل: يمينا، لأن إنكار الصفة أخف من إنكار الأصل، وإذا حلف المدعى عليه،
فهل للمدعي طلب الدية؟ فيه وجهان بناء على أن الدية في الخطأ تجب على العاقلة
ابتداء أم تجب على الجاني وهم يحملون، إن قلنا بالأول، ليس له الطلب، لأنه
ادعى حقا على المدعى عليه، وهو اعترف بوجوبه على غيره، وإن قلنا بالثاني،
بني على أن الخلف في الصفة هل هو كالخلف في الموصوف؟ وفيه قولان سبقا في
مسائل خيار النكاح، إن قلنا: نعم، فكأنه ادعى مالا فاعترف بمال آخر لا يدعيه،
وإن قلنا: لا، طالب بالدية وهو المذهب وعليه اقتصر الأكثرون، وتكون الدية على
المدعى عليه مخففة مؤجلة إلا أن تصدقه العاقلة، فتكون عليهم، ولو ادعى أنه قتل
أباه خطأ، فقال: قتلته عمدا، فلا قصاص، وهل له المطالبة بدية مخففة؟ قال
المتولي: فيه الوجهان، ولو نكل المدعى عليه في الصورة الأولى، حلف المدعي
أنه كان عمدا ويكون عدد يمينه بعدد يمين المدعى عليه، ويثبت له بيمينه القصاص
أو الدية المغلظة في ماله.
فرع ادعى جرحا لا يوجب قصاصا كجائفة، وأقام بها شاهدا، وحلف معه
يمينا واحدة ليستحق المال، ثم مات المجروح بالسراية، قال ابن الحداد: لا يعطى
252

الورثة شيئا إلا بخمسين يمينا، لأنها صارت نفسا، قال القاضي أبو الطيب: تصوير
ابن الحداد مبني على أن دعوى الجرح والبينة به تسمعان قبل اندماله، وفيه خلاف،
ومفرع على أن الايمان لا تتعدد في الجراحات،
فإن قلنا: تتعدد، وحلف مع شاهده خمسين، وإن قلنا: بالتوزيع على قدر
الدية، حلف للجائفة مع الشاهد ثلث الخمسين، ثم إذا مات المجروح، وصارت
الجراحة نفسا، أقسم الورثة واللوث حاصل بشهادة الشاهد الذي أقامه مورثهم،
ولا تحسب يمينه لهم، وقال الخضري: تحسب حتى لو حلف خمسين على قولنا
بالتكميل، فلا يمين على الورثة، والصحيح: الأول.
الباب الثالث في الشهادة على الدم
صفات الشهود، ونصب الشهادات، وشروطها تستوفى في كتاب الشهادات،
لكن ذكر الشافعي رضي الله عنه مسائل تتعلق بالشهادة على الجناية، فراعى معظم
الأصحاب ترتيبه، فكل قتل أو جرح يوجب القصاص، لا يثبت إلا بشهادة رجلين
يشهدان على نفس القتل أو الجرح، أو إقرار الجاني به، وما لا يوجب إلا الدية،
كالخطأ وشبه العمد، وجناية الصبي والمجنون، ومسلم على ذمي، وحر على
عبد، وأب على ابن، يثبت بشهادة رجل وامرأتين، وبرجل ويمين، ولو كانت
الجناية المدعاة بحيث توجب القصاص، وقال المدعي: عفوت عن القصاص
فاقبلوا مني رجلا وامرأتين، أو شاهدا ويمينا لاخذ المال، فهل يقبل ويثبت المال؟
وجهان، الأصح المنصوص: المنع، لأنها في نفسها موجبة للقصاص، ومنهم من
قطع بهذا، ومن القسم الأول، موضحة توجب القصاص، ومن الثاني، هاشمة
ومأمومة وجائفة تجردت عن الايضاح، فلو كانت هاشمة مسبوقة بإيضاح، فهل يثبت
أرش الهاشمة برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين؟ النص أنه لا يثبت، ونص فيما لو
رمى سهما إلى زيد، فمرق منه إلى غيره، أنه يثبت الخطأ الوارد على الثاني برجل
وامرأتين، وبشاهد ويمين، وفيهما طريقان، أحدهما: على قولين، ثبوت الهشم
والجناية على الثاني برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين، والثاني: المنع، والمذهب
تقرير النصين، والفرق أن الهشم المشتمل على الايضاح جناية واحدة، وإذا
اشتملت الجناية على ما يوجب القصاص، احتيط لها، ولم يثبت إلا بحجة كاملة،
253

وفي صورة مروق السهم حصل جنايتان لا تتعلق إحداهما بالأخرى، قال الامام: ولو
قال المدعي: أصاب سهمه الرجل الذي قصده، ونفذ منه إلى أبي فقتله، ولم تكن
الجناية الأولى متعلق حق المدعي، وجب القطع بثبوت الخطأ بالبينة الناقصة،
ومحل الخلاف ما إذا كانت الجناية الأولى متعلق حق المدعي، قال: وفيه احتمال،
قال: ولو ادعى أنه أوضح رأسه، ثم عاد وهشمه، ينبغي أن يثبت أرش الهاشمة
برجل وامرأتين، لأنها لم تتصل بالموضحة، ولم تتحد الجناية، قال: ولو ادعى
القصاص مالا من جهة لا تتعلق بالقصاص، وأقام على الدعويين رجلا وامرأتين،
فالمذهب ثبوت المال، وبه قطع الجمهور، وأبعد بعضهم فخالف فيه، وفي
الوسيط أنه لا خلاف أنه لو ادعى قتل عمرو خطأ، فشهدوا، وذكروا مروق السهم
إليه من زيد لا يقدح في الشهادة، لأن زيدا ليس مقصودا بها، فإذا أثبتنا الهاشمة
المسبوقة بإيضاح، وأوجبنا أرشها، قال صاحب التقريب: في وجوب القصاص
في الموضحة وجهان، وجه الوجوب التبعية للهاشمة، وقال الشيخ أبو علي والأئمة:
لا قصاص في الموضحة، وفي أرشها وجهان، لأنا وجدنا متعلقا لثبوت المال، فلا
يبعد أن يستتبع مال مالا.
فصل لتكن الشهادة على الجناية مفسرة مصرحة بالغرض، فيشترط
أن يضيف الهلاك إلى فعل المشهود عليه، فلو قال: ضربه بالسيف، لم يثبت به
شئ، ولو قال: ضربه فأنهر الدم، أو قال: جرحه أو ضربه بالسيف فأنهر الدم، أو
فمات، لم يثبت به شئ أيضا لاحتمال الموت بسبب آخر، ولو قال: جرحه،
فقتله، أو فمات من جراحته، أو أنهر دمه فمات بسبب ذلك، ثبت القتل، وفي
معناه قوله: جرحه أو ضربه بالسيف فأنهر دمه ومات مكانه، نص عليه في
المحتصر وجعل قوله: ومات مكانه، كقوله: ومات من جراحته، وفي لفظ
الامام ما يشعر بنزاع فيه، ثم الشاهد يعرف حصول القتل بقرائن يشاهدها، فإن
لم ير إلا الجرح وإنهار الدم، وحصول الموت، فللامام تردد في جواز تحمل
الشهادة به، قال: والوجه: المنع، ولو قال: ضرب رأسه فأدماه، أو أسال دمه،
ثبتت الدامية فمال دمه، لم يثبت، لاحتمال حصول السيلان بغيره،
254

ولو قال: ضربه بسيف، فأوضح رأسه، أو فاتضح من ضربه أو بجرحه، ثبتت
الموضحة، ولو قال: ضربه، فوجدنا رأسه موضحا، أو فاتضح، لم تثبت،
وحكى الامام والغزالي أنه يشترط التعرض لوضوح العظم، ولا يكفي إطلاق
الموضحة، فإنها من الايضاح، وليست مخصوصة بإيضاح العظم، وتنزيل لفظ
الشاهد على ألقاب اصطلح الفقهاء عليها لا وجه له، فلو كان الشاهد فقيها، وعلم
القاضي أنه لا يطلق الموضحة إلا على ما يوضح العظم، ففيه تردد للامام، قال:
يجوز أن يكتفى به، لفهم المقصود، ويجوز أن يعتبر الكشف لفظا، لأن للشرع
تعبدا في لفظ الشهادات وإن أفهم غيرها المقصود، ولا بد من تعيين محل الموضحة
وبيان مساحتها ليجب القصاص، فلو كان على رأسه مواضح، وعجزوا
عن تعيين موضحة المشهود عليه، فلا قصاص، ولو لم يكن على رأسه إلا
موضحة، وشهدوا أنه أوضح رأسه، فلا قصاص أيضا، لجواز أنها كانت موضحة
صغيرة فوسعها، وإنما يجب القصاص إذا قالوا: أوضح هذه الموضحة، وهل يجب
الأرش إذا أطلقوا أنه أوضح موضحة، وعجزوا عن تعيينها؟ وجهان، أصحهما:
نعم، لأن الأرش لا يختلف باختلاف محلها وقدرها، وإنما تعذر القصاص لتعذر
المماثلة، ويدل عليه نصه في الام أنهما لو شهدا أنه قطع يد فلان، ولم يعينها،
والمشهود له مقطوع اليدين، لا يجب القصاص، وتجب الدية، ولو كان مقطوع يد
واحدة والصورة هذه، فهل تنزل شهادتهم هذه على ما نشاهدها مقطوعة أم يشترط
تنصيصهم؟ يجوز أن يقدر فيه خلاف.
قلت: الصواب الجزم هنا بالتنزيل على المقطوعة. والله أعلم.
ولو شهدا بموضحة شهادة صحيحة، ورأينا رأس المشجوج سليما لا أثر
عليه، والعهد قريب بالشهادة، فالشهادة مردودة.
فصل سيأتي في الشهادات إن شاء الله تعالى أنه من شرط الشاهد أن ينفك
عن التهمة، ومن التهمة أن يجر إلى نفسه نفعا، أو يدفع ضرا، ومن صور الجر أن
يشهد على جرح مورثه، فإذا ادعى على شخص أنه جرحه، وشهد للمدعي وارثه،
نظر، إن كان من الأصول أو الفروع، لم تقبل شهادته للبعضية، وإن كان من غيرهم
255

وشهد بعد الاندمال، قبلت شهادته، وإن شهد قبله، فلا، وإن شهد بمال آخر
لمورثه المريض مرض الموت، قبلت شهادته على الأصح عند الجمهور، ولو شهد
بالجرح محجوبان، ثم صاروا وارثين، فالشهادة في الأصل مقبولة، فإن صارا
وارثين قبل قضاء القاضي بشهادتهما، لم يقض، وإن كان بعد قضائه، لم ينقض
القضاء، كما لو شهد الشاهد ثم فسق، وقيل: في المسألة قولان، حدهما:
هذا، والثاني: الاعتبار بحال الشهادة، ولو شهد وارثان ظاهرا، ثم ولد ابن
يحجبهما، فالشهادة مردودة للتهمة عند أدائها، وقيل بطرد القولين، ولو شهد بجرحه
وارثاه فبرأ، فالصحيح أنه لا تثبت الجراحة للتهمة عند الأداء. ومن صور دفع
الضرر: أن تقوم بينة بقتل خطأ، فيشهد اثنان من العاقلة الذين يتحملون الدية على
فسق بينة القتل، فلا تقبل شهادتهما، لأنهما يدفعان عنهما، فلو كان الشاهدان من
فقراء العاقلة، فالنص أنه لا تقبل شهادتهما، وإن كانا من الأباعد، وفي عدد
الأقربين وفاء بالواجب، فالنص قبول شهادتهما، فقيل: قولان، والمذهب عند
الجمهور تقرير النصين، والفرق أن المال غاد ورائح، فالغنى غير مستبعد، فتحصل
التهمة، وموت القريب كالمستبعد في الاعتقاد، فلا تتحقق فيه تهمة، وتقبل شهادة
العاقلة على فسق بينة قتل العمد وبينة الاقرار بالخطإ، لأن الدية لا تلزمهم،
فلا تهمة.
فرع شهد رجلان على رجلين أنهما قتلا زيدا، فشهد المشهود عليهما
على الأولين أنهما قتلاه، قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله: يسأل الولي، فإن
صدق الأولين دون الآخرين، ثبت القتل على الآخرين، وإن صدق الآخرين دون
الأولين، أو صدق الجميع، أو كذب الجميع، بطلت شهادة الجميع، لأن الآخرين
يدفعان عن أنفسهما ضررا، ولأنهما عدوان للأولين، واعترض على تصوير المسألة
بأن الشهادة لا تسمع إلا بعد تقدم دعوى على معين، وأجيب بأوجه،
أحدها عن أبي إسحاق: إن تقدم الدعوى إنما يشترط إذا كان المدعي يعبر
عن نفسه، وتجوز الشهادة قبل الدعوى لمن لا يعبر، كصبي ومجنون، والشهادة هنا
للقتيل، ولهذا تقضى منها ديونه ووصاياه، وهذا ذهاب إلى قبول شهادة الحسبة في
الدماء، وهو وجه ضعيف.
الثاني عن الماسرجسي والأستاذ أبي طاهر: أن صورتها إذا لم يعلم الولي
256

القاتل، وتسمع الشهادة قبل الدعوى والحالة هذه، وهذا وجه ضعيف أن شهادة
الحسبة تقبل إن لم يعلم بها المستحق.
الثالث قاله الجمهور تفريعا على أن الشهادة لا تقبل إلا بعد تقديم الدعوى،
وهو المذهب،
وصورتها أن يدعي الولي القتل على رجلين، ويشهد له شاهدان، فيبادر
المشهود عليهما، ويشهدان على الشاهدين بأنهما القاتلان، وذلك يورث ريبة
للحاكم، فيراجع الولي، ويسأله احتياطا، ولو كان المدعي وكيل الولي، نظر، إن
كان عين الآخرين وأمره بالدعوى عليهما، ففعل، وأقام بها شاهدين، فشهد
المشهود عليهما على الشاهدين، فإن استمر الوكيل على تصديق الأولين، ثبت القتل
على الآخرين، وإن صدقهم جميعا، أو صدق الآخرين، انعزل عن الوكالة،
ولا تبطل دعوى الموكل على الآخرين، وإن لم يعين الوكيل أحدا، بل قال: ثأري
عند اثنين من هؤلاء الجماعة، فادع عليهما واطلب ثأري منهما، ففي صحة التوكيل
هكذا وجهان، قال البغوي: وعلى تصحيحه عمل الحكام، وعلى الصحيح ينطبق
ما ذكره صاحب التقريب وأبو يعقوب الأبيوردي أن المسألة من أصلها فيمن وكل
اثنين في الدم فادعى أحدهما على رجلين، والآخر على آخرين، وشهد كل اثنين
على الآخرين، ولو عين الوكيل شخصين، والتوكيل منهم كما صورنا، وأقام عليهما
شاهدين، فشهد المشهود عليهما على الشاهدين، واستمر الوكيل على تصديق
الأولين، ثبت القتل على الآخرين، وإن صدق الآخرين، جاز، أو صدق الجميع،
انعزل عن الوكالة، ثم إن صدق الموكل الأولين، ثبت القتل على الآخرين، وإن
صدق الآخرين، جاز، وله الدعوى على الأولين إذا لم يتقدم منه ما يناقض ذلك،
لكن لا تقبل شهادة الآخرين، وإذا قلنا: تقبل الشهادة قبل الدعوى، فابتدر أربعة
إلى مجلس القاضي، فشهد اثنان منهم على الآخرين أنهما قتلا فلانا، وشهد
الآخران على الأولين أنهما القاتلان، فوجهان، أحدهما: تبطل الشهادتان
لتضادهما، والثاني: يسأل الولي، فإن لم يصدقهم، بطلت شهادتهم، وإن صدق
اثنين، تأيدت شهادتهما بالتصديق، فيقضي بها، وقيل: يعمل بشهادة الأولين،
وترد شهادة الآخرين، لأنهما عدوان ودافعان.
فرع شهد رجلان على رجلين بالقتل، فشهد المشهود عليهما بذلك القتل
257

على أجنبي أو أجانب فالنظر في كون الشهادة واقعة بعد الدعوى أو قبلها، وفي
تصديق الولي الصنفين أو أحدهما على ما سبق، ولو كان المدعي وكيل الولي، ولم
يكن الولي عين أحدا، ثم إنه صدق الآخرين، كان له أن يدعي على الأولين، لأنه
لم يسبق منه ما يناقضه، ولا تقبل شهادة الآخرين، لأنهما متهمان بالدفع، وعن
الصيدلاني أنه يحتمل أن لا يجعلا متهمين.
فرع شهد رجلان على رجلين على التصوير المتقدم، فشهد أجنبيان على
الشاهدين أنهما القاتلان، عاد التفصيل، فإن كان الولي ادعى بنفسه وكذب
الأجنبيين، بطلت شهادتهما، ولو صدقهما، أو صدق الجميع، بطلت الشهادات
للتناقض، وإن كان المدعي الوكيل، ولم يعين الموكل أحدا، فللموكل الدعوى
على الأولين، والأجنبيان ليسا دافعين، ولكنهما مبادران إلى الشهادة قبل
الاستشهاد، فإن ادعى عليهما، وشهد الأجنبيان، فعلى الخلاف في قبول الشهادة
المعادة من المبادر، وقال البغوي: إن ادعى، وأعاد الشهادة في مجلس آخر،
قبلت قطعا، وإن ادعى، وشهدا في ذلك المجلس، فوجهان.
فرع ادعى على اثنين ألفا، وشهد به شاهدان، ثم شهد المشهود
عليهما، أو أجنبيان بأن للمدعي على الشاهدين ألفا، وصدق المدعي الآخرين
أيضا، لم تبطل دعواه الأولى ولا شهادة الأولين على الآخرين، وله أن يدعي على
الآخرين أيضا، لامكان اجتماع الألفين، وشهادة الآخرين على الأولين شهادة قبل
الدعوى والاستشهاد، قال البغوي: فلو ادعى، وشهدا في مجلس آخر، قبلت،
وإن جرى في ذلك المجلس، فوجهان.
فصل أقر بعض الورثة بعفو أحدهم عن القصاص، وعينه أو لم يعينه،
سقط القصاص، وأما الدية، فإن لم يعين العافي، فللورثة كلهم الدية، وإن عينه،
وأنكر، فكذلك، ويصدق بيمينه في كونه لم يعف، وإن أقر بالعفو، فلغير العافي
حقهم من الدية، والعافي وإن عفا على الدية، فكذلك، وإن أطلق العفو، فعلى
القولين في وجوب الدية بالعفو المطلق، ولو شهد بعض الورثة بعفو أحدهم، فإن
كان فاسقا أو لم يعين العافي، فحكمه حكم الاقرار، وإن كان عدلا وعين العافي،
وشهد بأنه عفا عن القصاص والدية جميعا، فللجاني أن يحلف معه، ويسقط
258

القصاص والدية، أما القصاص، فبالاقرار الذي تضمنته الشهادة، وأما الدية، فلان
العفو عن المال يثبت بشاهد ويمين، وكذا الحكم لو شهد رجل وامرأتان من الورثة.
وإذا حلف الجاني، فيحلف: لقد عفا عن الدية، وقيل: يحلف: لقد عفا عن
القصاص والدية، وهو ظاهر النص، وهو ضعيف، والنص مؤول، لأن القصاص
سقط بالاقرار، وإذا ادعى الجاني على الورثة أو بعضهم العفو عن القصاص على
الدية، فأنكروه، فهم المصدقون باليمين، فإن نكلوا، حلف، وثبت العفو بيمين
الرد، وإن أقام بينة على العفو، لم يقبل إلا رجلان، ولو آل الامر إلى المال، فادعى
على بعضهم عفوه عن حصته من الدية فله اثباته برجل وامرأتين، وشاهد ويمين.
فصل إذا اختلف شاهدا القتل في زمان، بأن قال أحدهما: قتله بكرة،
وقال الآخر: عشية، أو مكان، فقال أحدهما: في البيت، والآخر: في السوق،
أو آلة، فقال أحدهما: قتله بسيف، والآخر: برمح أو عصا، أو هيئة، فقال
أحدهما: حزه، والآخر: قده، لم يثبت القتل، وهكذا حكم ما يشهدان به،
ويختلفان فيه من الأفعال والألفاظ المنشأة، ولا يكون ذلك لوثا على المذهب، ولو
شهد أحدهما أنه أقر بالقتل عمدا، أو خطأ يوم السبت، والآخر أنه أقر به يوم الأحد
، ثبت القتل، لأنه لا اختلاف في القتل وصفته، ولو قال أحدهما: أقر أنه
قتله بمكة يوم كذا، وقال الآخر: أقر أنه قتله بمصر ذلك اليوم، سقط قولهما، ولو
شهد أحدهما أنه قتله، والآخر أنه أقر بقتله، لم يثبت القتل، ولكنه لوث، فإن كان
المدعى قتل عمد، وأقسم الولي، ترتب على القسامة حكمها، وإن كان قتل
خطأ، حلف مع أي الشاهدين شاء، وتعدد اليمين واتحادها على ما سبق، فإن
حلف مع شاهد القتل، فالدية على العاقلة، وإن حلف مع شاهد الاقرار، ففي مال
الجاني، وإن ادعى قتل عمد، فشهد أحدهما على إقراره بقتل عمد، والآخر على
إقراره بقتل مطلق أو أحدهما بقتل عمد، والآخر بقتل مطلق، ثبت أصل القتل،
لاتفاقهما عليه، حتى لا يقبل من المدعى عليه إنكاره، ويسأل عن صفة القتل، فإن
أصر على إنكار أصله، قال له الحاكم: إن لم تبين صفته، جعلتك ناكلا، ورددت
اليمين على المدعي أنك قتلت عمدا، وحكمت عليك بالقصاص، فإن بين صفته،
فقال: قتلته عمدا، أجري عليه حكمه، وإن قال: قتلته خطأ، وكذبه الولي،
فأطلق مطلقون أنه يصدق في نفي العمدية، فيحلف وتجب دية خطأ في ماله، لأنها
259

تثبت بإقراره، وإن نكل، حلف، ووجب القصاص، واستدرك الامام والغزالي،
فقالا: يصدق في نفي العمدية إن لم يكن هناك لوث، فإن كان، أقسم المدعي
ويشبه أن يكون المراد لوث العمدية، وإلا فأصل اللوث حاصل بأصل القتل لاتفاق
الشاهدين، وقد سبق خلاف في أنه لو ظهر لوث بأصل القتل دون كونه خطأ أو
عمدا، هل تثبت القسامة؟ وهذا نازع إليه.
فرع شهد أحدهما أنه قتله عمدا، والآخر أنه قتله خطأ، والدعوى بقتل
عمد، ففي ثبوت أصل القتل وجهان، أصحهما: يثبت، فإن قلنا: لا يثبت،
فحكمه كما سبق في صور التكاذب، وإن قلنا: يثبت، سئل الجاني، فإن أقر
بالعمد، ثبت، أو بخطأ وصدقه الولي، ثبت، وإن كذبه، فللولي أن يقسم، لان
معه شاهدا، وذلك لوث هنا قطعا، فإن أقسم الولي، حكم بمقتضى القسامة، وإلا
فيحلف الجاني، فإن حلف، فالدية مخففة في ماله، وإن نكل، ففي رد اليمين
على المدعي قولان سبقا، فإن ردت، وحلف، ثبت موجب العمد، فإن لم ترد،
أوردت، وامتنع من الحلف، تثبت دية الخطأ في ماله، وقال البغوي: إن كان
المدعى قتل عمد، فشهادة الخطأ لغو، ويحلف الولي مع شاهد العمد خمسين
يمينا، ويثبت مقتضى القسامة، وإن كان قتل خطأ، فشهادة العمد لغو، ويحلف مع
شاهد الخطأ، وتجب دية على العاقلة، قال: ولو شهد أحدهما أنه أقر بقتله عمدا،
والآخر أنه أقر بقتله خطأ، فالحكم كذلك إلا أنه إذا حلف مع شاهد الخطأ، فالدية
على الجاني إلا أن تصدقه العاقلة.
فرع شهدا أنه ضرب ملفوفا في ثوب، فقده نصفين، ولم يتعرضا لحياته
وقت الضرب، لم يثبت القتل بشهادتهما، فلو اختلف الولي والجاني في حياته
حينئذ، فأيهما يصدق؟ فيه قولان سبقا، أظهرهما: الولي، وفي موضع القولين
ثلاث طرق، أصحهما: إطلاقهما، والثاني قاله أبو إسحاق: ينظر إلى الدم
السائل، فإن قال أهل الخبرة: هو دم حي، صدق الولي، وإن قالوا: دم ميت،
صدق الجاني، وإن اشتبه، ففيه القولان، والثالث قاله أبو الحسن الطيبي، بكسر
الطاء وبالباء الموحدة: أنه إن كان ملفوفا في ثياب الاحياء، صدق الولي، وإن كان
في الكفن، صدق الجاني، وإن اشتبه، ففيه القولان، فإن صدقنا الجاني،
260

فحلف، برئ، وإن صدقنا الولي، فله الدية، وفي القصاص وجهان، قال الشيخ
أبو حامد: لا، للشبهة وقال الماسرجسي والقاضي أبو الطيب وغيرهما: يجب
القصاص، لأنه مقتضى تصديقه.
فرع شهد رجل على رجل أنه قتل زيدا، وشهد آخر أنه قتل عمرا، حصل
اللوث في حقهما جميعا، فيقسم الوليان، نص عليه في الام رضي الله عنه وبالله
التوفيق.
261

كتاب الإمامة وقتال البغاة
فيه بابان:
الأول في الإمامة، وفيه فصول:
الأول: في شروط الإمامة وهي كونه مكلفا مسلما عدلا، حرا ذكرا
عالما، مجتهدا شجاعا، ذا رأي وكفاية، سميعا بعيدا، ناطقا قرشيا،
في اشتراط سلامة سائر الأعضاء، كاليد والرجل والاذن خلاف، جزم المتولي بأنه
262

لا يشترط، وجزم الماوردي باشتراط سلامته من نقص يمنع استيفاء الحركة وسرعة
النهوض، وهذا أصح.
قلت: قال الماوردي: عشا العين لا يمنع من انعقاد الإمامة، لأنه مرض في
زمن الاستراحة، ويرجى زواله، وضعف البصر إن كان يمنع معرفه الأشخاص،
منع انعقاد الإمامة واستدامتها، وإلا فلا، وفقد الشم والذوق وقطع الذكر والأنثيين،
لا يؤثر قطعا. والله أعلم.
فإن لم يوجد قرشي مستجمع الشروط، فكناني، فإن لم يوجد، فرجل من
ولد إسماعيل (ص)، فإن لم يكن فيهم مستجمع الشرائط، ففي التهذيب أنه يولى
رجل من العجم، وفي التتمة أنه يولى جرهمي، وجرهم أصل العرب، فإن لم
يوجد جرهمي، فرجل من ولد إسحاق (ص)، ولا يشترط كونه هاشميا، ولا كونه
معصوما، وفي جواز تولية المفضول خلاف مذكور في أدب القضاء، فإن لم تتفق
الكلمة إلا عليه، جازت توليته بلا خلاف، لتندفع الفتنة، ولو نشأ من هو أفضل من
المفضول، لم يعدل إلى الناشئ بلا خلاف.
الفصل الثاني: في وجوب الإمامة وبيان طرقها، لا بد للأمة من إمام يقيم
الدين، وينصر السنة، وينتصف للمظلومين، ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها.
قلت: تولي الإمامة فرض كفاية، فإن لم يكن من يصلح إلا واحدا، تعين
عليه ولزمه طلبها إن لم يبتدئوه. والله أعلم.
وتنعقد الإمامة بثلاثة طرق، أحدها: البيعة، كما بايعت الصحابة أبا بكر
رضي الله عنهم، وفي العدد الذي تنعقد الإمامة ببيعتهم ستة أوجه،
أحدها: أربعون، والثاني: أربعة، والثالث: ثلاثة، والرابع: اثنان،
والخامس: واحد، فعلى هذا يشترط كون الواحد مجتهدا. وعلى الأوجه الأربعة
يشترط أن يكون في العدد المعتبر مجتهد لينظر في الشروط المعتبرة، ولا يشترط أن
263

يكون الجميع مجتهدين، والسادس وهو الأصح: أن المعتبر بيعة أهل الحل والعقد
من العلماء والرؤساء وسائر وجوه الناس الذين يتيسر حضورهم، ولا يشترط اتفاق
أهل الحل والعقد في سائر البلاد والأصقاع، بل إذا وصلهم خبر أهل البلاد البعيدة،
لزمهم الموافقة والمتابعة، وعلى هذا لا يتعين للاعتبار عدد، بل لا يعتبر العدد،
حتى لو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع، كفت بيعته لانعقاد الإمامة، ويشترط أن
يكون الذين يبايعون بصفة الشهود، وذكر في البيان في اشتراط حضور شاهدين
البيعة، وجهين.
قلت: الأصح: لا يشترط إن كان العاقدون جمعا، وإن كان واحدا، اشترط
الاشهاد، وقد قال إمام الحرمين في كتابه الارشاد: قال أصحابنا: يشترط
حضور الشهود لئلا يدعى عقد سابق، ولان الإمامة ليست دون النكاح، لكن اختيار الإمام
انعقادها بواحد، وذكر الماوردي أنه يشترط في العاقدين: العدالة والعلم
والرأي، وهو كما قال. والله أعلم.
ويشترط لانعقاد الإمامة أن يجيب المبايع، فإن امتنع، لم تنعقد إمامته، ولم
يجبر عليها.
قلت: إلا أن لا يكون من يصلح إلا واحد، فيجبر بلا خوف. والله
أعلم.
الطريق الثاني: استخلاف الامام من قبل، وعهده إليه، كما عهد أبو بكر إلى
عمر رضي الله عنهما، وانعقد الاجماع على جوازه، والاستخلاف أن يعقد له في
حياته الخلافة بعده، فإن أوصى له بالإمامة، فوجهان حكاهما البغوي، ولو جعل
الامر شورى بين اثنين فصاعدا بعده، كان كالاستخلاف، إلا أن المستخلف غير
264

متعين، فيتشاورون، ويتفقون على أحدهم، كما جعل عمر رضي الله عنه الامر
شورى بين ستة، فاتفقوا على عثمان رضي الله عنه، وذكر الماوردي أنه يشترط في
المعهود إليه شروط الإمامة من وقت العهد إليه حتى لو كان صغيرا أو فاسقا عند
العقد، بالغا عدلا عند موت العاهد، لم يكن إماما، إلا أن يبايعه أهل الحل
والعقد، وقد يتوقف في هذا.
قلت: لا توقف فيه، فالصواب الجزم بما ذكره الماوردي، والفرق بينه وبين
الوصي ظاهر. والله أعلم.
وذكر الماوردي أنه إذا عهد إلى غائب مجهول الحياة، لم يصح، وإن كان
معلوم الحياة، صح، فإن مات المستخلف وهو بعد غائب، استقدمه أهل
الاختيار، فإن بعدت غيبته وتضرر المسلمون بتأخير النظر في أمورهم، اختار أهل
الحل والعقد نائبا له يبايعونه بالنيابة دون الخلافة، فإذا قدم انعزل النائب، وأنه إذا
عزل الخليفة نفسه، كان كما لو مات، فتنتقل الخلافة إلى ولي العهد، ويجوز أن
يفرق بين أن يقول: الخلافة بعد موتي لفلان، أو بعد خلافتي.
قلت: توقف إمام الحرمين في كتابه الارشاد في انعزال الامام بعزله نفسه.
والله أعلم
وذكر الماوردي أنه يجوز العهد إلى الوالد والولد، وفيه مذهبان آخران،
أحدهما: المنع، كالتزكية والحكم لهما، والثاني: يجوز للوالد دون الولد، لشدة
الميل إليه، وأن ولي العهد لو أراد أن ينقل ما إليه من العهد إلى غيره، لم يجز،
وأنه لو عهد إلى جماعة مرتبين، فقال الخليفة: بعد موتي فلان، وبعد موته فلان،
وبعد موته فلان، جاز، وانتقلت الخلافة إليهم على ما رتب، كما رتب
رسول الله صلى الله عليه وسلم أمراء جيش مؤتة، وأنه لو مات الأول في حياة الخليفة، فالخلافة
للثاني، ولو مات الأول والثاني في حياته، فهي للثالث، وأنه لو مات الخليفة وبقي
الثلاثة أحياء، فانتصب الأول للخلافة، ثم إن أراد أن يعهد بها إلى غير الآخرين،
فالظاهر من مذهب الشافعي رحمه الله جوازه، لأنها لما انتهت إليه صار أملك بها
بخلاف ما إذا مات ولم يعهد إلى أحد، فليس لأهل البيعة أن يبايعوا غير الثاني،
ويقدم عهد الأول على اختيارهم وأنه ليس لأهل الشورى أن يعينوا واحدا منهم في
265

حياة الخليفة إلا أن يأذن لهم في ذلك، فإن خافوا انتشار الامر بعده استأذنوه، فإن
أذن، فعلوه، وأنه يجوز للخليفة أن ينص على من يختار خليفة بعده، كما يجوز أن
يعهد إلى غيره، ثم لا يصح إلا اختيار من نص على أنه يختار، كما لا يصح إلا تقليد
من عهد إليه، وأنه إذا عهد إلى غيره بالخلافة، فالعهد موقوف على قبول المعهود
إليه، واختلف في وقت قبوله، فقيل: بعد موت الخليفة، والأصح أن وقته ما بين
عهد الخليفة وموته، قال صاحب التتمة: وإذا امتنع المعهود إليه من القبول بويع
غيره، وكأنه لا عهد، وكذا إذا جعل الامر شورى، فترك القوم الاختيار لا يجبرون
عليه، وكأنه لم يجعل الامر إليهم.
قلت: ومما ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية من هذا، أنه لو جمع
شروط الإمامة اثنان، استحب لأهل العقد أن يعقدوها لأسنهما، فإن عقدوها
للآخر، جاز، فإن كان أحدهما أعلم، والآخر أشجع، روعي في الاختيار ما يوجبه
حكم الوقت، فإن دعت الحاجة إلى زيادة الشجاعة لظهور البغاة وأهل الفساد، كان
الأشجع أحق، وإن دعت إلى زيادة العلم لسكون الفتن، وظهور البدع، كان الأعلم
أحق، وأنه لو تنازعها اثنان، فقد قال بعض الفقهاء: يقدح ذلك فيهما فيعدل إلى
غيرهما، والذي عليه الجمهور: أنه لا يقدح، لأن طلب الخلافة ليس مكروها، ثم
هل يقرع بينهما عند التساوي، أم يقدم أهل الاختيار من شاؤوا بلا قرعة؟ فيه
خلاف، وأن الخليفة إذا أراد العهد، لزمه أن يجتهد في الأصلح، فإذا ظهر له
واحد، جاز أن ينفرد بعقد بيعته من غير حضور غيره، ولا مشاورة أحد، وأن المعهود
إليه إذا استعفى، لم يبطل عهده حتى يعفى، فإن وجد غيره، جاز استعفاؤه،
وخرج من العهد باجتماعهما، وإن لم يوجد غيره، لم يجز إعفاؤه ولا استعفاؤه،
ويبقى العقد لازما. والله أعلم
فصل وأما الطريق الثالث، فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الامام،
فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته
وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعا للشرائط بأن
كان فاسقا، أو جاهلا، فوجهان، أصحهما: انعقادها لما ذكرناه، وإن كان عاصيا
بفعله.
266

فرع لو تفرد شخص بشروط الإمامة في وقته، لم يصر إماما بمجرد ذلك،
بل لا بد من أحد الطرق.
الفصل الثالث في أحكام الامام وفيه مسائل:
إحداها: تجب طاعة الامام في أمره ونهيه ما لم يخالف حكم الشرع، سواء
كان عادلا أو جائرا.
الثانية: لا يجوز نصب إمامين في وقت واحد وإن تباعد اقليماهما، وقال
الأستاذ أبو إسحاق: يجوز نصب إمامين في إقليمين، لأنه قد يحتاج إليه، وهذا
اختيار الإمام، والصحيح الذي عليه الجمهور هو الأول، فإن عقدت البيعة لرجلين
معا، فالبيعتان باطلتان، وإن ترتبتا فالثانية باطلة، ثم إن جهل الثاني ومبايعوه بيعة
الأول، لم يعزروا، وإلا فيعزرون، ولو عرف سبق أحدهما ولم يتعين، أو شككنا
في معيتهما وتعاقبهما، فليكن كما سبق في الجمعتين، ولو سبق أحدهما: وتعين،
واشتبه، وقف الامر حتى يظهر، فإن طالت المدة، ولم يكن الانتظار، فقد ذكر
الماوردي أنه تبطل البيعتان، وتستأنف بيعة لأحدهما، وفي جواز العدول إلى غيرهما
خلاف.
قلت: الأصح المنع. والله أعلم قال الماوردي: ولو ادعى كل واحد أنه الأسبق، لم تسمع دعواه، ولم يحلف
الآخر، لأن الحق للمسلمين، ولو قطعا التنازع، وسلم أحدهما الامر للآخر، لم
تثبت الإمامة له، بل لا بد من بينة بسبقه، قال: ولو أقر أحدهما بسبق صاحبه،
خرج منها المقر، ولا تثبت للآخر إلا ببينة، فإن شهد له المقر مع آخر، قبلت
شهادته إن كان يدعي اشتباه الامر قبل الاقرار، وإن كان يدعي التقديم، لم تسمع
للتكاذب في قوليه.
المسألة الثالثة: إذا ثبتت الإمامة بالقهر والغلبة، فجاء آخر، فقهره، انعزل
الأول، وصار القاهر الثاني إماما.
الرابعة: لا يجوز خلع الامام بلا سبب، فلو خلعوه، لم ينخلع، ولو خلع
الامام نفسه، نظر، إن خلع لعجزه عن القيام بأمور المسلمين لهرم أو مرض
267

ونحوهما، انعزل، ثم إن ولى غيره قبل عزل نفسه، انعقدت ولايته، وإلا فيبايع
الناس غيره، وإن عزل نفسه بلا عذر، ففيه أوجه: أصحها: لا ينعزل، وبه قطع
صاحب البيان وغيره، والثاني: ينعزل، لأن إلزامه الاستمرار قد يضر به في
آخرته ودنياه، والثالث وبه قطع البغوي: إن لم يظهر عذر، فعزل نفسه ولم يول
غيره، أو ولى من هو دونه، لم ينعزل، وإن ولى مثله، أو أفضل، ففي الانعزال
وجهان، وهل للامام عزل ولي العهد؟ قال المتولي: نعم، والماوردي: لا، لأنه
ليس نائبا له بل للمسلمين.
قلت: قول الماوردي أصح، قال الماوردي: فلو عزله الامام، وعهد إلى
ثان، ثم عزل المعهود إليه أولا نفسه، فعهد الثاني باطل، ولا بد من استئنافه. والله
أعلم
الخامسة: سبق في باب الأوصياء أن الامام لا ينعزل بالفسق على الصحيح،
ولا ينعزل بالاغماء لأنه متوقع الزوال، وينعزل بالمرض الذي ينسيه العلوم،
وبالجنون، قال الماوردي: فلو كان يجن ويفيق، وزمن الإفاقة أكثر، ويمكن فيه من
القيام بالأمور، لم ينعزل، وينعزل بالعمى والصمم والخرس، ولا ينعزل بثقل
السمع، وتمتمة اللسان، وفي منعهما ابتداء الولاية خلاف، والأصح أن قطع
إحدى اليدين أو الرجلين، لا يؤثر في الدوام وبالله التوفيق.
قلت: ومما يتعلق بالباب مسائل، إحداها: قال الماوردي: لو أسر الامام،
لزم الأمة استنقاذه، وهو على إمامته ما دام مرجو الخلاص بقتال أو فداء، فإن أيس
منه، نظر، ان أسره كفار، خرج من الإمامة، وعقدوها لغيره، فإن عهد بالإمامة
وهو أسير، نظر إن كان بعد اليأس من خلاصه، لم يصح عهده لأنه عهد بعد
انعزاله، وإن عهد قبل اليأس، صح عهده لبقاء ولايته، وتستقر إمامة المعهود إليه
باليأس خلاص من العاهد لانعزاله، ولو خلص من أسره، نظر إن خلص بعد
اليأس، لم تعد إمامته، بل تستقر لولي عهده، وإن خلص قبل اليأس، فهو على
إمامته، وأما إذا أسره بغاة من المسلمين، فإن كان مرجو الخلاص، فهو على
إمامته، وإن لم يرج وكانت البغاة لا إمام لهم، فالأسير على إمامته، وعلى أهل
الاختيار أن يستنيبوا عنه إن لم يقدر هو على الاستنابة، فإن قدر، فهو أحق
268

بالاستنابة، فإن خلع الأسير نفسه، أو مات، لم يصر المستناب إماما، وإن كان
للبغاة الذين أسروه إمام نصبوه، خرج الأسير من الإمامة إن أيس من خلاصه، وعلى
أهل الاختيار في دار العدل عقد الإمامة لمن يصلح لها، فإن خلص الأسير، لم يعد
إلى الإمامة لخروجه منها.
المسألة الثانية: تجب نصيحة الامام بحسب القدرة.
الثالثة: يجوز أن يقال للامام: الخليفة والامام وأمير المؤمنين، قال
الماوردي: ويقال أيضا: خليفة رسول الله (ص)، قال البغوي في شرح السنة:
ويقال له أمير المؤمنين وإن كان فاسقا، وقد أوضحت ذلك وما يتعلق به في أواخر
كتاب الأذكار. والله أعلم
269

الباب الثاني في قتال البغاة
وفيه أطراف:
الأول في صفتهم. الباغي في اصطلاح العلماء: هو المخالف لإمام العدل،
الخارج عن طاعته بامتناعه من أداء واجب عليه أو غيره بشرطه الذي سنذكره إن شاء
الله تعالى،
قال العلماء: ويجب قتال البغاة، ولا يكفرون بالبغي، وإذا رجع الباغي إلى
الطاعة قبلت توبته، وترك قتاله، وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم على قتال
البغاة، ثم أطلق الأصحاب القول بأن البغي ليس باسم ذم، وبأن الباغين ليسوا
270

بفسقة، كما أنهم ليسوا بكفرة، لكنهم مخطئون فيما يفعلون ويذهبون إليه من
التأويل، ومنهم من يسميهم عصاة، ولا يسميهم فسقة ويقول: ليس كل معصية
بفسق، والتشديدات الواردة في الخروج عن طاعة الامام وفي مخالفته كحديث من
حمل علينا السلاح فليس منا وحديث من فارق الجماعة فقد خلع ربقة الاسلام
من عنقه وحديث من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية كلها
محمولة على من خرج عن الطاعة وخالف الامام بلا عذر ولا تأويل.
فصل الذين يخالفون الامام بالخروج عليه وترك الانقياد، والامتناع من
أداء الحقوق ينقسمون إلى بغاة وغيرهم، ولكل واحد من الصنفين أحكام خاصة،
فنصف البغاة بما يتميزون به، ونذكر في ضمنهم غيرهم من المخالفين. أما البغاة،
فتعتبر فيهم خصلتان، إحداهما: أن يكون لهم تأويل يعتقدون بسببه جواز الخروج
على الامام، أو منع الحق المتوجه عليهم، فلو خرج قوم عن الطاعة، ومنعوا الحق
بلا تأويل، سواء كان حدا أو قصاصا أو مالا لله تعالى أو للآدميين، عنادا أو مكابرة،
ولم يتعلقوا بتأويل، فليس لهم أحكام البغاة، وكذا المرتدون، ثم التأويل للبغاة إن
271

كان بطلانه مظنونا، فهو معتبر، وإن كان بطلانه مقطوعا به، فوجهان، أوفقهما
لاطلاق الأكثرين: أنه لا يعتبر، كتأويل المرتدين وشبهتهم، والثاني: يعتبر،
ويكفي تغليطهم فيه، وقد يغلط الانسان في القطعيات.
فرع الخوارج صنف من المبتدعة يعتقدون أن من فعل كبيرة، كفر وخلد
في النار، ويطعنون لذلك في الأئمة، ولا يحضرون معهم الجمعات والجماعات،
قال الشافعي وجماهير الأصحاب رضي الله عنهم: لو أظهر قوم رأي الخوارج،
وتجنبوا الجماعات، وكفروا الامام ومن معه، فإن لم يقاتلوا وكانوا في قبضة الامام،
لم يقتلوا ولم يقاتلوا، ثم إن صرحوا بسب الامام أو غيره من أهل العدل، عزروا،
وإن عرضوا، ففي تعزيرهم وجهان. قلت:
أصحهما: لا يعزرون، قاله الجرجاني، وقطع به صاحب
التنبيه. والله أعلم.
ولو بعث الامام إليهم واليا فقتلوه، فعليهم القصاص، وهل يتحتم قتل قاتله،
كقاطع الطريق، لأنه شهر السلاح أم لا لأنه لم يقصد إخافة الطريق؟ وجهان.
قلت: أصحهما: لا يتحتم. والله أعلم.
وأطلق البغوي أنهم إن قاتلوا، فهم فسقة وأصحاب بهت، فحكمهم حكم
قطاع الطريق، فهذا ترتيب المذهب والمنصوص وما قاله الجمهور، وحكى الامام
في تكفير الخوارج وجهين، قال: فإن لم نكفرهم، فلهم حكم المرتدين، وقيل:
حكم البغاة، فإن قلنا: كالمرتدين، لم تنفذ أحكامهم.
الخصلة الثانية: أن يكون لهم شوكة وعدد بحيث يحتاج الامام في ردهم إلى
الطاعة إلى كلفة، ببذل مال، أو إعداد رجال، ونصب قتال، فإن كانوا أفرادا يسهل
ضبطهم، فليسوا بغاة، وشرط جماعة من الأصحاب في الشوكة أن ينفردوا ببلدة، أو
قرية، أو موضع من الصحراء، وربما قيل: يشترط كونهم في طرف من أطراف
ولاية الامام بحيث لا يحيط بهم أجناده، والأصح الذي قاله المحققون: أنه لا يعتبر
272

ذلك، وإنما يعتبر استعصاؤهم وخروجهم عن قبضة الامام حتى لو تمكنوا من
المقاومة وهم محفوفون بجند الاسلام، حصلت الشوكة، وتتعلق بالشوكة صور
ذكرها الامام:
إحداها: حكى في قوم قليلي العدد تقووا بحصن وجهين، ورأي أن الأولى أن
يفصل، فيقال: إن كان الحصن على حافة الطريق، وكانوا يستولون بسببه على
ناحية وراء الحصن، فالشوكة حاصلة وحكم البغاة ثابت، لئلا تتعطل أقضية أهل
تلك الناحية، وإلا فليسوا بغاة، ولا نبالي بما وقع من التعطل في العدد القليل.
الثانية: قال: لو تجرب من الشجعان عدد يسير يقوون بفضل قوتهم على
مصارمة الجموع الكثيرة، حصلت الشوكة بلا خلاف.
الثالثة: قال: يجب القطع بأن الشوكة لا تحصل إذا لم يكن لهم متبوع
مطاع، إذ لا قوة لمن لا يجمع كلمتهم مطاع، وهل يشترط أن يكون فيهم إمام
منصوب لهم أو منتصب؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما عند الأكثرين:
لا يشترط، وبه قال العراقيون والامام، وفي المنهاج للشيخ أبي محمد: أنه
يشترط فيهم أن يمتنعوا من حكم الامام، وأن يظهروا لأنفسهم حكما، ويشبه أن
يقال: هذا طريق مخالفة الامام، ولا بد فيهم منها، ثم تعتبر الخصلتان فليس فيه
مخالفة ما سقناه. وبالله التوفيق.
الطرف الثاني في حكم البغاة وفيه مسألتان:
إحداها: شهادة البغاة مقبولة بناء على أنهم ليسوا فسقة، ولفظ الشافعي رحمه
الله: ولو شهد منهم عدل، قبلت شهادته ما لم يكن يرى الشهادة لموافقته بتصديقه،
فأثبت العدالة مع البغي، فإن كان لهم قاض في بلد، قال المعتبرون من
الأصحاب: إن كان يستحل دماء أهل العدل، لم ينفذ حكمه، لأنه ليس بعدل،
ومن شرط القاضي العدالة، وكذا يقول هؤلاء فيما لو كان الشاهد يستحل دماء أهل العدل
وأموالهم، ومنهم من يطلق نفوذ قضاء البغاة لمصلحة الرعية، وإن لم يكن قاضيهم
ممن يستحل دماء أهل العدل وأموالهم، ونفذ حكمه فيما ينفذ فيه حكم قاضي أهل
العدل، فلو حكم بما يخالف النص أو الاجماع أو القياس الجلي، فهو باطل، حتى
لو قضى على رجل من أهل العدل بضمان ما أتلف في الحرب عليهم، لم ينفذ
273

قضاؤه، وكذا لو حكم بسقوط ضمان ما أتلفوه هم على أهل العدل في غير القتال،
لم ينفذ، ولو حكم بسقوط ضمان ما أتلفوه في القتال، نفذ حكمه، ولا تجوز
مطالبتهم بعد ذلك، لأنه مجتهد فيه، ولا ينفذ قضاء الباغي إذا كان من الخطابية
الذين يقضون لموافقتهم بتصديقهم إذا قضى لموافقه، كما ترد شهادته له.
فرع إذا كتب قاضيهم حيث ينفذ قضاؤه بما حكم به إلى حاكم أهل
العدل، جاز قبوله وتنفيذه، ويستحب أن لا يقبل استخفافا بهم، وإن كتب بما
ثبت عنده ولم يحكم به، فهل يحكم قاضينا به؟ فيه قولان، أظهرهما: نعم،
وحكى الامام طرد القولين فيما حكم به، واستعان فيه بالاستيفاء، قال: وكنت أود
لو فصل فاصل بين حكم يتعلق بأهل النجدة، وحكم يتعلق بالرعايا.
فرع لو ورد من قاضي البغاة كتاب على قاضينا، ولم يعلم أنه ممن يستحل
دماء أهل العدل أم لا، ففي قبوله والعمل به قولان، حكاهما ابن كج، قال:
واختيار الشافعي منهما: المنع.
المسألة الثانية: إذا أقام البغاة الحدود على جناة البلد الذي استولوا عليه،
وأخذوا الزكاة من أهله وخراج أرضه، وجزية الذميين فيه، اعتد بما فعلوه، وإذا عاد
البلد إلى أهل العدل، لم يطالبوا أهله بشئ من ذلك، وفي الجزية وجه شاذ لبعدها
عن المسافة، ولو فرقوا سهم المرتزقة من الفئ على جندهم، ففي وقوعه موقعه
وجهان، أحدهما: لا، لئلا يكون عونا لهم، وأصحهما: نعم، لأنهم من جند
الاسلام، وإرعاب الكفار حاصل بهم.
274

فرع إذا عاد البلد إلى أهل العدل، فادعى من عليه حق أن البغاة
استوفوه، ولا يعلم الإمام ذلك ولا بينة، فإن كان زكاة، صدق بيمينه، وهل اليمين
واجبة أم مستحبة؟ فيه خلاف سبق في الزكاة، وإن كان جزية، لم يصدق على
الصحيح، وكذا إن كان خراجا على الأصح، لأنه أجرة أو ثمن بخلاف الزكاة، فإنها
عبادة ومواساة ومبناها على الرفق، وإن كان حدا فقال المتولي: يصدق إن كان أثره
باقيا على بدنه، وإلا فإن ثبت بالاقرار، صدق، لأنه يقبل رجوعه، وإن ثبت
بالبينة، فلا.
فصل الذين لهم تأويل بلا شوكة، أو شوكة بلا تأويل، ليس لهم حكم
البغاة، ولا ينفذ قضاء حاكمهم، ولا يعتد باستيفائهم الحقوق والحدود، وفي
أصحاب الشوكة احتمال للامام لئلا يتضرر أهل الناحية التي استولوا عليها
والمعروف للأصحاب ما سبق، والتحكيم فيهم على الخلاف المعروف في غيرهم.
الطرف الثالث في حكم ضمان المتلف من نفس أو مال بين الفريقين.
فإذا أتلف باغ على عادل أو عكسه في غير القتال، ضمن قطعا على ما تقرر من
القصاص والقيمة، وأما في حال القتال، فما يتلفه العادل على الباغي لا يضمنه،
وما يتلفه الباغي على العادل من نفس أو مال هل يضمنه؟ قولان، أظهرهما: لا،
فإن كان القتل عمدا، ففي القصاص طريقان، أصحهما: طرد القولين، والثاني:
القطع بالمنع لشبهة تأويلهم، فإن أوجبنا القصاص، فال الامر إلى الدية، فهي في
مال القاتل، وإن لم نوجبه، فهل يكون له حكم العمد، فتتعجل الدبة في مال
القاتل، أم حكم نسبه شبه العمد، فتتأجل على العاقلة؟ فيه خلاف، كمن قتل مسلما
على زي الكفار، وأما الكفارة، فتجب حيث أوجبنا قصاصا أو دية، وإلا فوجهان،
أصحهما: المنع طردا للاهدار، ولأنها أولى بالمسامحة من حق الآدمي.
275

فرع القولان فيما أتلف بسبب القتال، وتولد منه هلاكه، فلو أتلف في
القتال ما ليس من ضرورة القتال، وجب ضمانه قطعا كالمتلف قبل القتال ذكره
الامام.
فرع الأموال المأخوذة في القتال يجب ردها بعد انقضاء الحرب إلى
أصحابها، يستوي فيه الفريقان، فإن أتلفت بعد انقضاء الحرب، وجب الضمان.
فرع لو استولى باغ على أمة أو مستولدة لأهل العدل، فوطئها، ألزمه
الحد، فإن أولدها، فالولد رقيق غير نسيب، فإن كانت مكرهة، فهل يجب المهر؟
قيل: فيه القولان في ضمان المال، وقال البغوي: ينبغي أن يجب قطعا، كما لو
أتلف المأخوذ بعد الانهزام، ولو استولى حربي على أمة مسلمة وأولدها، فالولد
رقيق وغير نسيب، ولا حد ولا مهر، لأنه لم يلتزم الاحكام.
فرع هذا الذي سبق من حكم الاتلاف هو في قتال البغاة، فأما المخالفون
للامام بتأويل بلا شوكة، فيلزمهم ضمان ما أتلفوه من نفس ومال، وإن كان في حال
القتال كقطاع الطريق، وأما الذين لهم شوكة بلا تأويل، ففي ضمان ما أتلفوه في
القتال طريقان، أحدهما: يجب قطعا كعكسه، وأصحهما: طرد القولين كالباغي،
لأن سقوط الضمان عن الباغي لقطع الفتنة واجتماع الكلمة، وهذا موجود هنا، ولو
ارتدت طائفة لهم شوكة، فأتلفوا مالا أو نفسا في القتال، ثم تابوا وأسلموا، ففي
ضمانهم القولان كالبغاة، أظهرهما عند بعضهم: لا ضمان، وخالفه البغوي، ولا
ينفذ قضاء قاضي المرتدين قطعا.
الطرف الرابع في كيفية قتال البغاة:
طريقها طريق دفع الصائل، والمقصود ردهم إلى الطاعة، ودفع شرهم، لا
276

النفي والقتل، فإذا أمكن الأسر، لا يقتل، وإذا أمكن الاثخان، لا يذفف، فإن
التحم القتال، واشتدت الحرب، خرج الامر عن الضبط، قال الامام: وقد يتخيل
من هذا أنا لا نسير إليهم، ولا نفاتحهم بالقتال، وأنهم إذا ساروا إلينا لا نبدأ
بقتالهم، بل نصطف قبالتهم، فإن قصدونا، دفعناهم، قال: وقد رأيت هذا لطائفة
من الأصحاب وهو خطأ، بل إذا أذنهم الامام بالحرب، ولم يرجعوا إلى الطاعة،
سار إليهم، ومنعهم من القطر الذي استولوا عليه، فإن انهزموا وكلمتهم واحدة،
اتبعناهم إلى أن يتوبوا ويطيعوا، وليس قتال الفريقين كصيال الواحد ودفعه
بكيفية قتالهم مسائل:
الأولى: لا يغتالون ولا يبدؤون بالقتال حتى ينذروا، فيبعث الامام إليهم أمينا
فطنا ناصحا، فإذا جاءهم سألهم ما ينقمون؟ فإن ذكروا مظلمة، وعللوا
مخالفتهم بها، أزالها، وإن ذكروا شبة، كشفها لهم، وإن لم يذكروا شيئا، أو
أصروا بعد إزالة العلة، نصحهم ووعظهم، وأمرهم بالعود إلى الطاعة، فإن
أصروا، دعاهم إلى المناظرة، فإن لم يجيبوا، أو أجابوا فغلبوا، وأصروا
مكابرين، آذنهم بالقتال، فإن استنظروا، بحث الامام عن حالهم واجتهد، فإن
ظهر له أنهم عازمون على الطاعة، وأنهم يستنظرون لكشف الشبهة، أو التأمل
والمشاورة، أنظرهم، وإن ظهر له أنهم يقصدون الاجتماع، أو يستلحقون مددا
لهم، لم ينظرهم، وإن سألوا ترك القتال أبدا، لم يجبهم، وحيث لا يجوز
الإنظار، فلو بذلوا مالا، ورهنوا أولادهم والنساء، لم يقبله، لأنهم قد يقوون في
المدة، ويظهرون على أهل العدل ويستردون ما بذلوه، وإذا كان بأهل العدل
277

ضعف، أخر القتال، ونص في الام أنه لو كان عندهم أسارى من أهل العدل
فسألوا - والحرب قائمة - أن يمسك ليطلقوهم، وأعطوا بذلك رهائن، قبلنا، فإن
أطلقوا الأسارى، أطلقنا الرهائن، وإن قتلوهم، لم يجز قتل الرهائن، بل لا بد من
إطلاقهم بعد انقضاء الحرب.
الثانية: من أدبر منهم وانهزم، لم يتبع، وكذا من ألقى سلاحه وترك القتال،
لم يقاتل، وانهزام الجند بأن يتبدد، وتبطل شوكتهم واتفاقهم، فلو ولوا ظهورهم
وهم مجتمعون تحت راية زعيمهم، لم ينكف عنهم، بل يطلبهم حتى يرجعوا إلى
الطاعة، ولو بطلت قوة واحد واعتضاده بالجمع لتخلفه عنهم مختارا، أو غير
مختار، لا يقتل ولا يتبع، ومن ولى متحرفا لقتال، أتبع وقوتل، وإن ولى متحيزا
إلى فئة، فإن كانت قريبة، أتبع، وإلا فلا على الأصح، وربما أطلق وجهان من
غير فرق بين قريبة وبعيدة، وأجري الوجهان فيما لو بطلت شوكة الجند في الحال ولم
يؤمن اجتماعهم في المآل، وموضع الاتفاق أن يؤمن اجتماعهم.
الثالثة: لا يقتل مثخنهم ولا أسيرهم، وجوز أبو حنيفة قتلهما صبرا، فلو
قتل عادل أسيرهم، ففي وجوب القصاص عليه وجهان لشبهة خلاف أبي حنيفة.
قلت: أصحهما: لا قصاص. والله أعلم.
ولا يطلق الأسير قبل انقضاء الحرب إلا أن يبايع الامام، ويرجع إلى الطاعة
باختياره، ولو انقضت الحرب وجموعهم باقية، لم يطلق إلا أن يبايع، وإن بذلوا
الطاعة، أو تفرقت جموعهم، أطلق، فإن توقع عودهم، ففي الاطلاق الوجهان
السابقان، وينبغي أن يعرض على أسراهم بيعة الامام، هذا في أسير هو أهل
للقتال، فأما إذا أسر نساءهم وأطفالهم، فيحبسون إلى انقضاء القتال ثم يطلقون،
278

هذا هو الأصح، وفي وجه لأبي إسحاق: إن رأى الامام في إطلاقهم قوة أهل
البغي، وأن حبسهم يردهم إلى الطاعة، ويدعوهم إلى مراجعة الحق، حبسهم حتى
يطيعوا، وفي وجه له حبسهم مطلقا كسرا لقلوب البغاة، وعلى هذا وقت تخليتهم
وقت تخلية الرجال، وأما العبيد والمراهقون، فأطلق جماعة أنهم كالنساء وإن كانوا
يقاتلون، وقال الامام والمتولي: إن كان يجئ منهم قتال، فهم كالرجال في الحبس
والاطلاق، وهذا حسن، ولا شك أن العبيد والمراهقين والنساء إذا قاتلوا فهم
كالرجال في أنهم يقتلون مقبلين، ويتركون مدبرين، ويجوز أسر كل هؤلاء
المذكورين ابتداء.
فرع إذا ظفرنا بخيلهم وأسلحتهم، لم نردها حتى ينقضي القتال، ونأمن
غائلتهم بعودهم إلى الطاعة، أو تفرقهم، ولا يجوز استعمالها في القتال، فلو وقعت
ضرورة ولم يجد أحدنا ما يدفع عن نفسه إلا سلاحهم، أو ما يركبه وقد وقعت هزيمة
إلا خيولهم، جاز الاستعمال والركوب، كما يجوز أكل مال الغير للضرورة،
وما ليس من آلات الحرب من أموالهم يرد إليهم عند انقضاء الحرب.
الرابعة: لا يقاتلهم بما يعم ويعظم أثره، كالمنجنيق والنار، وإرسال السيول
الجارفة، لكن لو قاتلونا بهذه الأوجه، واحتجنا إلى المقابلة بمثلها دفعا، أو أحاطوا
بنا، واضطررنا إلى الرمي بالنار ونحوها، فعلناه للضرورة، وإن تحصنوا ببلدة أو
قلعة، ولم يتأت الاستيلاء عليها إلا بهذه الأسباب، فإن كان فيها رعايا لا بغي
فيهم، لم يجز قتالهم بهذه الأسباب، وإن لم يكن فيها إلا البغاة المقاتلون، فكذلك
في الأصح، لأن ترك بلدة في أيدي طائفة من المسلمين قد يمكن الاحتيال في
محاصرتهم والتضييق علهم أقرب إلى الاصلاح من اصطلام أمم.
الخامسة: لا يجوز أن يستعان عليهم بكفار، لأنه لا يجوز تسليط كافر على
مسلم، ولهذا لا يجوز لمستحق قصاص أن يوكل كافرا باستيفائه، ولا للامام أن
يتخذ جلادا كافرا لإقامة الحدود على المسلمين، ولا يجوز أن يستعان بمن يرى
279

قتلهم مدبرين إما لعداوة وإما لاعتقاده، كالحنفي، إلا أن يحتاج إلى الاستعانة
بهم، فيجوز بشرطين، أحدهما: أن تكونه فيهم جرأة وحسن إقدام، والثاني: أن
يتمكن من منعهم لو ابتغوا أهل البغي بعد هزيمتهم، ولا بد من اجتماع الشرطين
لجواز الاستعانة، كذا حكاه ابن الصباغ والروياني وغيرهما عن اتفاق الأصحاب
ولفظ البغوي يقتضي جوازها بأحدهما. السادسة:
لو استعان البغاة علينا بأهل الحرب، وعقدوا لهم ذمة وأمانا ليقاتلوا
معهم، لم ينفذ أمانهم علينا، فلنا أن نغنم أموالهم، ونسترقهم، ونقتلهم إذا
وقعوا في الأسر، ونقتلهم مدبرين، ونذفف على جريحهم، وقال القاضي حسين:
لا يتبع مدبرهم، ولا يذفف على جريحهم، والصحيح الأول، وهل ينعقد الأمان
في حق البغاة؟ وجهان، أصحهما: نعم، فإن قلنا: لا، فقال البغوي: لأهل
البغي أن يكروا عليهم بالقتل والاسترقاق، والذي ذكره الامام على هذا، أنه أمان
فاسد، وليس لأهل البغي اغتيالهم، بل يبلغونهم المأمن، فلو قالوا: ظننا أنه يجوز
لنا أن نعين بعض المسلمين على بعض أو ظننا أنهم المحقون، أو ظننا أنهم
استعانوا بنا في قتال الكفار، فوجهان، أحدهما: لا اعتبار بظنهم الفاسد، ولنا
قتلهم واسترقاقهم، وأصحهما: أنا نبلغهم المأمن، ونقاتلهم مقاتلة البغاة،
فلا يتعرض لهم مدبرين، وما أتلفه أهل الحرب على أهل العدل غير مضمون
عليهم، وما يتلفون على أهل البغي مضمون إن نفذنا أمانهم لهم، وإلا فلا، ولو
استعان البغاة بأهل الذمة في قتالنا، نظر، إن علموا أنه لا يجوز لهم قتالنا ولم
يكرهوا، انتقض عهدهم، وحكمهم حكم أهل الحرب، فيقتلون مقبلين ومدبرين،
ولو أتلفوا بعد القتال شيئا، لم يضمنوه، وقيل: في انتقاض عهدهم قولان، وإن
قالوا: كنا مكرهين، لم ينتقض على المذهب، ويقاتلون مقاتلة البغاة، وإن قالوا:
ظننا أنه يجوز لنا إعانة بعض المسلمين على بعض، أو أنهم يستعينون بنا على
280

كفار، أو أنهم المحقون، لم ينتقض على المذهب، وقيل: قولان، وإن لم
يذكروا عذرا، انتقض على المذهب، وقيل: قولان، ثم قيل: القولان إذا لم
نشترط عليهم ترك القتال في عقد الذمة، فإن شرط، انتقض قطعا، وقيل: قولان
مطلقا، وحيث قلنا: ينتقض، فهل يبلغون المأمن أم يجوز قتلهم واسترقاقهم؟ فيه
خلاف مذكور في الجزية، فإن قلنا: يبلغون المأمن، فهل لنا قتلهم منهزمين؟
وجهان، وجه الجواز أنه من بقية العقوبة على القتال، ثم الذي ذكره البغوي وغيره،
أنه كما ينتقض عهدهم في حق أهل العدل ينتقض في حق أهل البغي، وفي
البيان أنه ينبغي أن يكون في انتقاضه في حق البغاة الخلاف في المسألة السابقة،
وإن قلنا: لا ينتقض، فهم كالبغاة في أنه لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم،
ولو أتلفوا شيئا على أهل العدل، لزمهم الضمان بخلاف البغاة، فإنهم لا يضمنون
في قول، لأنا أسقطنا الضمان عنهم استمالة لقلوبهم إلى الطاعة لئلا ينفرهم
الضمان، وأهل الذمة في قبضة الامام، ولو أتلفوا نفسا، قال الامام: إن أوجبنا
القصاص على البغاة، فأهل الذمة وإلا فوجهان، أحدهما: يجب، كالضمان،
والثاني: لا، للشبهة المقترنة بأحوالهم، وإذا قلنا: لا ينتقض الأمان فجاءنا ذمي
تائبا، ففي ضمان ما أتلف طريقان، أحدهما: نعم، والثاني: على قولين،
كالبغاة.
فرع قاتل أهل الذمة أهل البغي، لا ينتقض عهدهم على الصحيح،
لأنهم حاربوا من يلزم الامام محاربتهم.
فرع استعان البغاة بمن لهم أمان إلى مدة، انتقض أمانهم، فإن قالوا:
كنا مكرهين، وأقاموا بينة على الاكراه فهم على العهد، وإلا انتقض أيضا.
فصل اقتتل طائفتان باغيتان، فإن قدر الامام على قهرهما، وهزمهما، لم
يعن إحداهما على الأخرى إلا إذا أطاعت، فيعينها على الأخرى، وإن لم يقدر على
قهرهما، ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق، واستعان بهم على الأخرى، وإن استويا
اجتهد فيهما، ولا يقصد بضم المضمومة إليه معاونتها، بل يقصد دفع الأخرى، فإن
اندفع شر الأخرى، لم يقاتل المضمومة إلا بعد أن يدعوها إلى الطاعة، لأنها
بالاستعانة صارت في أمانه، ولو أمن عادل باغيا، نفذ أمانة وإن كان عبدا أو امرأة.
281

فرع حكم دار البغي حكم دار الاسلام، وإذا جرى فيها ما يوجب الحد،
أقامه الامام.
فرع يتحرز العادل عن قتال قريبه الباغي ما أمكنه.
فرع قال المتولي: يلزم الواحد من أهل العدل مصابرة اثنين من البغاة،
فلا يولي عنهما إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة.
فرع نص في المبسوط أنه إذا غزا أهل العدل والبغاة مشركين،
واجتمعوا في دار الشرك، فهم في الغنيمة سواء، والقاتل منهم يستحق السلب، وأما
الخمس، فيفرقه الامام، وأنه لو وادع أهل البغي مشركين، لم يقصدهم أحد من
المسلمين، ولو غزا أهل البغي قوما من المشركين قد وادعهم الامام، فسبوا منهم،
فإذا ظهر الامام عليهم، رد السبي على المشركين، وأنه لو أمن أهل العدل رجلا من
البغاة، فقتله رجل جاهل بأمانه، وقال: علمته باغيا، وظننت أنه جاءنا لينال غرتنا،
حلف وألزم الدية، وإن قتله عامدا، اقتص منه، وأنه لو قتل عادل عادلا في القتال
وقال: ظننته باغيا، حلف وضمن الدية، وأنه لو سبى الكفار من أهل البغي، وقدرنا
على استنقاذهم، وجب الاستنقاذ، وبالله التوفيق.
282

كتاب الردة
هي من أفحش أنواع الكفر، وأغلظها حكما،
وفيه بابان:
الأول: في حقيقة الردة، ومن تصح منه، وفيه طرفان.
الأول: في حقيقتها، وهي قطع الاسلام، ويحصل ذلك تارة بالقول الذي هو
كفر، وتارة بالفعل، والأفعال الموجبة للكفر هي التي تصدر عن تعمد واستهزاء
بالدين صريح، كالسجود للصنم أو للشمس، وإلقاء المصحف في القاذورات،
283

والسحر الذي فيه عبادة الشمس ونحوها، قال الامام: في بعض التعاليق عن شيخي
أن الفعل بمجرده لا يكون كفرا، قال: وهذا زلل عظيم من المعلق ذكرته للتنبيه على
غلطه، وتحصل الردة بالقول الذي هو كفر، سواء صدر عن اعتقاد أو عناء أو
استهزاء، هذا قول جملي، وأما التفصيل فقال المتولي: من اعتقد قدم العالم، أو
حدوث الصانع، أو نفى ما هو ثابت للقديم بالاجماع، ككونه عالما قادرا، أو أثبت
ما هو منفي عنه بالاجماع، كالألوان، أو أثبت له الاتصال والانفصال، كان كافرا،
وكذا من جحد جواز بعثة الرسل، أو أنكر نبوة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه
عليهم، أو كذبه، أو جحد آية من القرآن مجمعا عليها، أو زاد في القرآن كلمة
واعتقد أنها منه، أو سب نبيا، أو استخف به، أو استحل محرما بالاجماع
كالخمر واللواط، أو حرم حلالا بالاجماع، أو نفى وجوب مجمع على
وجوبه، كركعة من الصلوات الخمس، أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالاجماع،
كصلاة سادسة وصوم شوال، أو نسب عائشة رضي الله عنها إلى الفاحشة، أو ادعى
النبوة بعد نبينا (ص) أو صدق مدعيا لها، أو عظم صنما بالسجود له، أو التقرب إليه
بالذبح باسمه، فكل هذا كفر.
قلت: قوله: إن جاحد المجمع عليه يكفر، ليس على إطلاقه، بل الصواب
فيه تفصيل سبق بيانه في باب تارك الصلاة عقب كتاب الجنائز، ومختصره أنه إن
جحد مجمعا عليه يعلم من دين الاسلام ضرورة، كفر إن كان فيه نص، وكذا إن لم
يكن فيه نص في الأصح، وإن لم يعلم من دين الاسلام ضرورة بحيث لا يعرفه كل
المسلمين، لم يكفر. والله أعلم.
قال المتولي: ولو قال المسلم: يا كافر بلا تأويل، كفر، لأنه سمى الاسلام
284

كفرا، والعزم على الكفر في المستقبل كفر في الحال، وكذا التردد في أنه يكفر أم
لا، فهو كفر في الحال، وكذا التعليق بأمر مستقبل، كقوله: إن هلك مالي أو ولدي
تهودت، أو تنصرت، قال: والرضى بالكفر كفر، حتى لو سأله كافر يريد الاسلام
أن يلقنه كلمة التوحيد، فلم يفعل، أو أشار عليه بأن لا يسلم، أو على مسلم بأن
يرتد، فهو كافر بخلاف ما لو قال لمسلم: سلبه الله الايمان، أو لكافر: لا رزقه الله
الايمان، فليس بكفر، لأنه ليس رضى بالكفر، لكنه دعا عليه بتشديد الامر والعقوبة
عليه.
قلت: وذكر القاضي حسين في الفتاوى وجها عيفا، أن من قال
لمسلم: سلبه الله الايمان، كفر. والله أعلم.
ولو أكره مسلما على الكفر، صار المكره كافرا، والاكراه على الاسلام،
والرضى به، والعزم عليه في المستقبل ليس بإسلام، ومن دخل دار الحرب،
وشرب معهم الخمر، وأكل لحم الخنزير، لا يحكم بكفره، وارتكاب كبائر
المحرمات ليس بكفر، ولا ينسلب به اسم الايمان، والفاسق إذا مات ولم يتب
لا يخلد في النار.
فرع في كتب أصحاب أبي حنيفة رحمه الله اعتناء تام بتفصيل الأقوال
والأفعال المقتضية للكفر، وأكثرهما مما يقتضي إطلاق أصحابنا الموافقة عليه،
فنذكر ما يحضرنا مما في كتبهم.
منها: إذا سخر باسم من أسماء الله تعالى، أو بأمره، أو بوعده أو وعيده،
285

كفر، وكذا لو قال: لو أمرني الله تعالى بكذا لم أفعل، أو لو صارت القبلة في هذه
الجهة ما صليت إليها، أو لو أعطاني الجنة ما دخلتها.
قلت: مقتضى مذهبنا والجاري على القواعد أنه لا يكفر في قوله لو أعطاني
الجنة ما دخلتها، وهو الصواب. والله أعلم.
ولو قال لغيره: لا تترك الصلاة، فإن الله تعالى يؤاخذك، فقال: لو واخذني
الله بها مع ما بي من المرض والشدة، ظلمني، أو قال المظلوم: هذا بتقدير الله
تعالى، فقال الظالم: أنا أفعل بغير تقدير الله تعالى، كفر، ولو قال: لو شهد عندي
الأنبياء والملائكة بكذا ما صدقتهم، كفر، ولو قيل له: قلم أظفارك، فإنه سنة
رسول الله (ص) فقال: لا أفعل وإن كان سنة، كفر.
قلت: المختار أنه لا يكفر بهذا إلا أن يقصد استهزاء. والله أعلم.
واختلفوا فيما لو قال: فلان في عيني كاليهودي، والنصراني في عين الله
تعالى، أو بين يدي الله تعالى، فمنهم من قال: هو كفر، ومنهم من قال: إن أراد
الجارحة، كفر، وإلا فلا، قالوا: ولو قال: إن الله تعالى جلس للانصاف، كفر،
أو قام للانصاف، فهو كفر، واختلفوا فيما إذا قال الطالب ليمين خصمه، وقد أراد
الخصم أن يحلف بالله تعالى: لا أريد الحلف بالله تعالى، إنما أريد الحلف
بالطلاق والعتاق، والصحيح أنه لا يكفر، واختلفوا فيمن نادى رجلا اسمه عبد الله،
وأدخل في آخره حرف الكاف الذي يدخل للتصغير بالعجمية، فقيل: يكفر،
وقيل: إن تعمد التصغير كفر، وإن كان جاهلا لا يدري ما يقول، أو لم يكن له
قصد، لا يكفر، واختلفوا فيمن قال: رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت، وأكثرهم
على أنه لا يكفر، قالوا: ولو قرأ القرآن على ضرب الدف أو القضيب، أو قيل له:
تعلم الغيب، فقال: نعم، فهو كفر، واختلفوا فيمن خرج لسفر، فصاح العقعق،
فرجع هل يكفر؟
قلت: الصواب أنه لا يكفر في المسائل الثلاث. والله أعلم.
ولو قال: لو كان فلان نبيا، آمنت به، كفر، وكذا لو قال: إن كان ما قاله
الأنبياء صدقا نجونا، أو قال: لا أدري أكان النبي (ص) انسيا أم جنيا، أو قال: إنه
جن، أو صغر عضوا من أعضائه على طريق الإهانة، واختلفوا فيما لو قال: كان
286

طويل الظفر، واختلفوا فيمن صلى بغير وضوء متعمدا، أو مع ثوب نجس، أو إلى
غير القبلة.
قلت: مذهبنا ومذهب الجمهور، لا يكفر إن لم يستحله. والله أعلم.
ولو تنازع رجلان، فقال أحدهما: لا حول ولا قوة إلا بالله، فقال الآخر:
لا حول لا تغني من جوع، كفر، ولو سمع أذان المؤذن فقال: إنه يكذب، أو قال
وهو يتعاطى قدح الخمر، أو يقدم على الزنى: باسم الله تعالى، واستخفافا باسم الله
تعالى، كفر، ولو قال: لا أخاف القيامة، كفر، واختلفوا فيما لو وضع متاعه في موضع
وقال: سلمته إلى الله تعالى، فقال له رجل: سلمته إلى من لا يتبع السارق إذا
سرق، ولو حضر جماعة، وجلس أحدهم على فكان رفيع تشبها بالمذكرين،
فسألوه المسائل وهم يضحكون، ثم يضربونه بالمخراق، أو تشبه بالمعلمين، فأخذ
خشبة، وجلس القوم حوله كالصبيان، وضحكوا واستهزؤوا، وقال: قصعة ثريد
خير من العلم، كفر.
قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألتي التشبه. والله أعلم.
ولو دام مرضه واشتد فقال: إن شئت توفني مسلما، وإن شئت توفني كافرا،
صار كافرا، وكذا لو ابتلي بمصائب، فقال: أخذت مالي، وأخذت ولدي، وكذا
وكذا، وماذا تفعل أيضا، أو ماذا بقي ولم تفعله، كفر، ولو غضب على ولده أو
غلامه، فضربه ضربا شديدا، فقال رجل: لست بمسلم، فقال: لا، متعمدا
كفر، ولو قيل له: يا يهودي، يا مجوسي، فقال: لبيك، كفر،
قلت: في هذا نظر إذا لم ينو شيئا. والله أعلم.
ولو أسلم كافر، فأعطاه الناس أموالا، فقال مسلم: ليتني كنت كافرا فأسلم،
فأعطى، قال بعض المشائخ: يكفر.
قلت: في هذا نظر، لأن جازم بالاسلام في الحال والاستقبال، وثبت في
الأحاديث الصحيحة في قصة أسامة رضي الله عنه حين قتل من نطق بالشهادة،
287

فقال له النبي (ص): كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: حتى
تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل يومئذ، ويمكن الفرق بينهما. والله أعلم.
ولو تمنى أن لا يحرم الله تعالى الخمر، أو لا يحرم المناكحة بين الأخ
والأخت، لا يكفر، ولو تمنى أن لا يحرم الله تعالى الظلم أو الزنى، وقتل النفس
بغير حق، كفر،
والضابط أن ما كان حلالا في زمان فتمنى حله لا يكفر، ولو شد الزنار على
وسطه، كفر، واختلفوا فيمن وضع قلنسوة المجوس على رأسه، والصحيح أنه
يكفر، ولو شد على وسطه حبلا، فسئل عنه، فقال: هذا زنار، فالأكثرون على أنه
يكفر، ولو شد على وسطه زنارا، ودخل دار الحرب للتجارة، كفر، وإن دخل
لتخليص الأسارى، لم يكفر،
قلت: الصواب أنه لا يكفر في مسألة التمني وما بعدها إذا لم تكن نيه. والله
أعلم.
ولو قال معلم الصبيان: اليهود خير من المسلمين بكثير، لأنهم يقضون حقوق
معلمي صبيانهم، كفروا، قالوا: ولو قال: النصرانية خير من المجوسية، كفر، ولو
قال: المجوسية شر من النصرانية، لا يكفر.
قلت: الصواب أنه لا يكفر بقوله: النصرانية خير من المجوسية إلا أن يريد
أنها دين حق اليوم. والله أعلم.
قالوا: ولو عطس السلطان، فقال له رجل: يرحمك الله، فقال آخر: لا تقل
للسلطان هذا، كفر الآخر.
قلت: الصواب أنه لا يكفر بمجرد هذا. والله أعلم.
288

قالوا: ولو سقى فاسق ولده خمرا، فنثر أقرباؤه الدراهم والسكر، كفروا.
قلت: الصواب أنهم. لا يكفرون. والله أعلم.
قالوا: ولو قال كافر لمسلم: اعرض علي الاسلام، فقال: حتى أرى، أو
اصبر إلى الغد، أو طلب عرض الاسلام من واعظ، فقال: اجلس إلى آخر
المجلس، كفر، وقد حكينا نظيره عن المتولي، قالوا: ولو قال لعدوه: لو كان بينا
لم أؤمن به، أو قال: لم يكن أبو بكر الصديق رضي الله عنه من الصحابة، كفر،
قالوا: ولو قيل لرجل: ما الايمان، فقال: لا أدري، كفر، أو قال لزوجته: أنت
أحب إلى من الله تعالى، كفر، وهذه الصور تتبعوا فيها الألفاظ الواقعة في كلام
الناس وأجابوا فيها اتفاقا أو اختلافا بما ذكر، ومذهبنا يقتضي موافقتهم في بعضها،
وفي بعضها يشترط وقوع اللفظ في معرض الاستهزاء.
قلت: قد ذكر القاضي الامام الحافظ أو الفضل عياض رحمه الله في آخر
كتابه الشفاء بتعريف حقوق نبينا المصطفى صلوات الله وسلامه عليه جملة في
الألفاظ المكفرة غير ما سبق، نقلها عن الأئمة، أكثرهم مجمع عليه، وصرح بنقل
الاجماع فيه. والله أعلم.
فمنها: أن مريضا شفي ثم قال: لقيت في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر وعمر
رضي الله عنهما لم استوجبه، فقال بعض العلماء: يكفر ويقتل، لأنه يتضمن النسبة
إلى الجور، وقال آخرون: لا يتحتم قتله ويستتاب ويعزر، وأنه لو قال: كان
النبي (ص) أسود، أو توفي قبل أن يلتحي، أو قال: ليس هو بقرشي، فهو كفر، لان
وصفه بغير صفته نفي له وتكذيب به، وأن من ادعى أن النبوة مكتسبة، أو أنه يبلغ
بصفاء القلب إلى مرتبتها، أو ادعى أنه يوحى إليه وإن لم يدع النبوة، أو ادعى أنه
يدخل الجنة ويأكل من ثمارها، ويعانق الحور، فهو كافر بالاجماع قطعا، وأن من
289

دافع نص الكتاب أو السنة المقطوع بها المحمول على ظاهره، فهو كافر بالاجماع،
وأن من لم يكفر من دان بغير الاسلام كالنصارى، أو شك في تكفيرهم، أو صحح
مذهبهم، فهو كافر وإن أظهر مع ذلك الاسلام وأعتقده، وكذا يقطع بتكفير كل قائل
قولا يتوصل به إلى تضليل الأمة، أو تكفير الصحابة، وكذا من فعل فعلا أجمع
المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر، وإن كان صاحبه مصرحا بالاسلام مع فعله،
كالسجود للصليب، أو النار والمشي إلى الكنائس مع أهلها بزيهم من الزنانير
وغيرها، وكذا من أنكر مكة، أو البيت، أو المسجد الحرام، أو صفة الحج، وأنه
ليس على هذه الهيئة المعروفة، أو قال: لا أدري أن هذه المسماة بمكة هي مكة أم
غيرها، فكل هذا أو شبهه لا شك في تكفير قائله إن كان ممن يظن به علم ذلك،
ومن طالت صحبته المسلمين، فإن كان قريب عهد بإسلام، أو بمخالطة
المسلمين، عرفناه ذلك، ولا يعذر بعد العريف، وكذا من غير شيئا من القرآن، أو
قال: ليس بمعجز، أو قال: ليس في خلق السماوات والأرض دلالة على الله
تعالى، أو أنكر الجنة أو النار، أو البعث أو الحساب، أو اعترف بذلك، ولكن
قال: المراد بالجنة والنار والبعث والنشور، والثواب والعقاب غير معانيها، أو قال:
الأئمة أفضل من الأنبياء.
الطرف الثاني فيمن تصح ردته وشرطها التكليف.
فلا تصح ردة صبي ولا مجنون، ومن ارتد ثم جن لا يقتل في جنونه،
وكذا من أقر بالزنى ثم جن، لا يقام عليه الحد، لأنه قد يرجع عن الاقرار بخلاف
ما لو أقر بقصاص، أو حد قذف ثم جن، فإنه يستوفى في جنونه، لأنه لا يسقط
برجوعه، وبخلاف ما لو قامت بينة بزناه، ثم جن، قال البغوي: هذا كله على
سبيل الاحتياط، فلو قتل في حال الجنون، أو أقيم عليه الحد، فمات لم يجب
شئ، وتصح ردة السكران على المذهب كما سبق في طلاقه، فإن
290

صححناها، فارتد في سكره، أو أقر بالردة، وجب القتل، لكن لا يقتل حتى يفيق
فيعرض عليه السلام، وفي صحة استتابته في السكر وجهان حكاهما البغوي،
أحدهما: نعم، لكن يستحب أن تؤخر إلى الإفاقة، والثاني: المنع، وبه قطع ابن
الصباغ، لأن الشبهة لا تزول في ذلك الحال، ولو عاد إلى الاسلام في السكر،
صح إسلامه، وارتفع حكم الردة، وسبق ذكر طريق أنه يصح تصرف السكران فيما
عليه دون ماله، فعلى هذا لا يصح إسلامه وإن صحت ردته، وقيل: لا يصح
قطعا، والمذهب الأول، فإن صححنا إسلامه، فقتله رجل، لزمه القصاص
والضمان على المشهور، وحكي قول في إهداره، وإن قلنا: لا تصح ردة
السكران، فقتل تعلق بقتله القصاص والضمان، وعن ابن القطان: تجب الدية دون
القصاص للشبهة، والصحيح الأول، ولو ارتد صاحيا، ثم سكر فأسلم، حكى ابن
كج القطع بأنه لا يكون إسلاما، والقياس جعله على الخلاف.
فصل المؤمن إذا أكره على أن يتكلم بكلمة الكفر فتكلم بها، لا يحكم
بردته، فلا تبين زوجته، ولو مات ورثه ورثته المسلمون، وسبق في أول الجنايات أنه
يباح له التكلم بكلمة الكفر بالاكراه، وأن الأصح أنه لا يجب، وأن الأفضل أن يثبت
ولا يتكلم بها، وهل تقبل الشهادة على الردة مطلقا، أم لا تقبل حتى يفصل
لاختلاف الناس فيما يوجبها؟ فيه قولان، أظهرهما: الأول، وعلى هذا لو شهد
291

عدلان بردته فقال: كذبا، أو ما ارتددت، قبلت شهادتهما، ولا يغنيه التكذيب،
بل يلزمه أن يأتي بما يصير به الكافر مسلما، ولا ينفعه ذلك في بينونة زوجته، وكذا
الحكم لو شرطنا التفصيل، ففصلا، وكذبهما، فلو قال: كنت مكرها فيما فعلته،
نظر إن كانت قرائن الأحوال شهد له، بأن كان في أسر الكفار، أو كان محفوفا
بجماعة منهم وهو مستشعر، صدق بيمينه، قال صاحب البيان وغيره: وكذا
الحكم لو قامت بينة بإقراره بالبيع وغيره وكان مقيدا أو محبوسا، فقال: كنت
مكرها، وإن لم تشهد القرائن بصدقه، بأن كان في دار الاسلام، لم يقبل قوله،
وأجريت عليه أحكام المرتدين، وكذا لو كان في دار الحراب وهو مخلى آمن، ولو لم
292

يقل الشاهدان: ارتد، بل قالا: تلفظ بكلمة الكفر، فقال: صدقا، ولكنني كنت
مكرها، قال الشيخ أبو محمد وتابعوه عليه: يقبل قوله، لأنه ليس فيه تكذيب الشاهد
بخلاف ما إذا شهد بالردة، فإن الاكراه ينافي الردة ولا ينافي التلفظ بكلمتها، قال
الشيخ: والجزم أن يجدد كلمة الاسلام، فلو قتل قبل التجديد، فهل يكون قتله
مضمونا، لأن الردة لم لم تثبت أم لا، لأن لفظ الردة وجد والأصل الاختيار؟ فيه قولان
قال الامام: والقولان إذا لم يدع الاكراه، أو لم يحلف عليه، فأما إذا ادعاه وحلف
عليه، فقد ثبت الاكراه بالحجة، فنقطع بأنه مضمون، وفيما ذكرناه دلالة بينة على
أنهما لو شهدا بردة الأسير، ولم يدع إكراها، حكم بردته، ويؤيده ما حكي عن
القفال، أنه لو ارتد أسير مع الكفار، ثم أحاط بهم المسلمون، فاطلع من الحصن
وقال: أنا مسلم وإنما تشبهت بهم خوفا، قبل قوله وحكم بإسلامه، وإن لم يدع
ذلك حتى مات، فالظاهر أنه ارتد طائعا، وإن مات أسيرا، وعن نص الشافعي
رحمه الله أنهما لو شهدا بتلفظ رجل بالكفر وهو محبوس أو مقيد، لم يحكم بكفره،
وإن لم يتعرض الشاهدان للاكراه، وفي التهذيب أن من دخل دار الحرب وكان
يسجد للصنم، ويتكلم بالكفر، ثم قال: كنت مكرها، فإن فعله في مكان خال،
لم يقبل قوله كما لو فعله في دار الاسلام، وإن فعله بين أيديهم، قبل قوله إن كان
أسيرا، وإن كان تاجرا، فلا.
فرع مات معروف بالاسلام عن ابنين مسلمين، فقال أحدهما: مات
مسلما، وقال الآخر: كفر بعد إسلامه ومات كافرا، فإن بين سببه، فقال: سجد
لصنم، أو تكلم بكلام كفر به، فلا إرث له، ويصرف نصيبه إلى بيت المال، وإن
أطلق، فثلاثة أقوال، أحدها: يصرف إليه نصيبه ولا أثر لاقراره، لأنه قد يتوهم
ما ليس بكفر كفرا، والثاني: يجعل فيئا، والثالث وهو الأظهر: يستفصل، فإن ذكر
ما هو كفر، كان فيئا، وإن ذكر ما ليس بكفر، صرف إليه، ولو قال: مات كافرا،
لأنه كان يشرب الخمر ويأكل الخنزير، فهل يرثه؟ قولان، أظهرهما: نعم.
فرع تلفظ أسير بكلمة كفر مكرها، لا يحكم بكفره، فإن مات هناك،
مات مسلما وورثه ورثته المسلمون، فإن رجع إلى دار الاسلام، عرض عليه الدين
لاحتمال أنه كان مختارا فيما أتى به، وهنا ثلاثة أشياء، أحدها: أطلق الجمهور
293

العرض، وشرط له ابن كج أن لا يؤم الجماعات ولا يقبل على الطاعات بعد العود
إلينا، فإن فعل ذلك فلا عرض. الثاني: سكت الجمهور عن كون هذا العرض
مستحبا أم واجبا، وقال ابن كج: مستحب، لأنه لو أكره على الكفر في دار الاسلام
لا يعرض الاسلام عليه بعد زوال الاكراه باتفاق الأصحاب. الثالث: إذا امتنع بعد
العرض، فالمنقول أنه يحكم بكفره، ويستدل بامتناعه على أنه كان كافرا عند
التلفظ، ومقتضى هذا أن الحكم بكفره من يومئذ، قال الامام: وفي الحكم بكفره
احتمال، ولو مات قبل العرض والتلفظ بالاسلام، فالصحيح أنه كما لو مات قبل أن
يعود إلينا، وقيل: يموت كافرا وكان من حقه إذا جاء أن يتكلم بكلمة الاسلام.
فرع ارتد الأسير مختارا ثم رأيناه يصلي صلاة المسلمين في دار الحرب،
فالصحيح المنصوص أنه يحكم بإسلامه بخلاف ما لو صلى في دار الاسلام لا يحكم
بإسلامه، لأنها في دار الحرب لا تكون إلا عن اعتقاد، وفي دار الاسلام قد تكون
للتقية، وقال الامام: قال العراقيون: هي إسلام، ثم استبعده وقال: الوجه في
قياس المراوزة القطع بأنه ليس إسلاما، كما لو رأينا الكافر الأصلي يصلي في دار
الحرب، وسوى صاحب البيان بين الأصلي والمرتد، فقال: إذا صلى الكافر
الأصلي بدار الحرب، حكم بإسلامه، ولو صلى في دار الاسلام، لم يحكم به.
قلت: هذا المنقول عن صاحب البيان هو قول القاضي أبي الطيب، وقد
سبقت حكاية الرافعي له في صلاة الجماعة، وشذ المتولي، فحكاه هناك عن نص
الشافعي رحمه الله، والصحيح الذي عليه الأصحاب أنه لا يكون إسلاما من الأصلي
بخلاف المرتد، لأن علقة الاسلام باقية في المرتد، فصلاته عود منه إلى ما كان،
ثم سواء في كل ما ذكرنا الصلاة منفردا وإماما ومقتديا، وهذا إذا لم يسمع منه لشهد
فيها، فإن سمعناه، فهو مسلم حيث ما كان، وأي كافر كان، وفيه وجه شاذ سبق في
باب الاذان. والله أعلم.
الباب الثاني في حكم الردة
أحكامها كثيرة متفرقة في الأبواب، والمقصود هنا نفسه وولده وماله،
أما نفسه، فمهدرة، فيجب قتله إن لم يتب، سواء انتقل إلى دين أهل
294

كتاب أم لا، حرا كان أو عبدا، أو امرأة، فإن تاب وعاد إلى الاسلام، قبلت
295

توبته وإسلامه، سواء كان مسلما أصليا، فارتد، أو كافرا أسلم ثم ارتد، وسواء كان
الكفر الذي ارتد إليه كفرا ظاهرا، أو غيره، ككفر الباطنية، وسواء كان ظاهر
الكفر، أو زنديقا يظهر الاسلام، ويبطن الكفر، وسواء تكررت منه الردة والاسلام،
أم لا، فيقبل إسلام الزنديق ومن تكررت ردته وغيره، هذا هو الصحيح المنصوص
في المختصر وبه قطع العراقيون، والوجه الثاني: لا يقبل إسلام الزنديق، قال
الروياني في الحلية: والعمل على هذا، والثالث عن القفال الشاشي: أن
المتناهين في الخبث، كدعاة الباطنية، لا تقبل توبتهم ورجوعهم إلى الاسلام ويقبل
من عوامهم، والرابع عن الأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني: أنه إن أخذ ليقتل،
فتاب، لم تقبل، وإن جاء تائبا ابتداء، وظهرت أمارات الصدق، قبلت، والخامس
عن أبي إسحاق المروزي: لا يقبل إسلام من تكررت ردته، وعلى الصحيح إذا
تكررت ردته، وعزر. ويقتل المرتد بضرب الرقبة دون الاحراق وغيره، ويتولاه الامام
أو من ولاه، فإن قتله غيره، عزر، ويستتاب المرتد قبل قتله، وهل الاستتابة واجبة
أم مستحبة؟ قولان، ويقال: وجهان، أظهرهما: واجبة، وعلى التقديرين في
قدرها قولان، أحدهما: ثلاثة أيام، وأظهرهما: في الحال، فإن تاب وإلا قتل ولم
يمهل، وقيل: لا يجب الامهال ثلاثا قطعا، وإنما الخلاف في استحبابه، ولا خلاف
أنه لا يخلى في مدة الامهال، بل يحبس، ولا خلاف أنه لو قتل قبل الاستتابة، أو
قبل مضي مدة الامهال، لم يجب بقتله شئ، وإن كان القاتل مسيئا بفعله.
فرع إذا وجب قتل المرتد إما في الحال، وإما بعد الاستتابة، فقال:
عرضت لي شبهة فأزيلوها، لأعود إلى ما كنت عليه، فهل نناظره لازالتها وجهان،
أحدهما: نعم، لأن الحجة مقدمة على السيف، والثاني: لا، لأن الشبه
لا تنحصر، فيورد بعضها بأثر بعض فتطول المدة، فحقه أن يسلم، ثم يستكشفها
من العلماء، والأول أصح عند الغزالي، وحكى الروياني الثاني عن النص،
296

واستبعد الخلاف، وعن أبي إسحاق أنه لو قال: أنا جائع فأطعموني، ثم
ناظروني، أو كان الامام مشغولا بما هو أهم منه، أخرناه، ولا يجوز استرقاق المرتد
بحال، سواء فيه الرجل والمرأة.
فصل أما ولد المرتد، فإن كان منفصلا، أو انعقد قبل الردة،
فمسلم، حتى لو ارتدت حامل، لم يحكم بردة الولد، فإن بلغ وأعرب بالكفر، كان
مرتدا بنفسه، وإن حدث الولد بعد الردة، فإن كان أحد أبويه مسلما، فهو مسلم
بلا خلاف، وإن كانا مرتدين، فهل هو مسلم، أم مرتد، أم كافر أصلي؟ فيه ثلاثة
أقوال، أظهرها: مسلم.
قلت: كذا صححه البغوي، فتابعه الرافعي، والصحيح أنه كافر، وبه قطع
جميع العراقيين، نقل القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد أنه لا خلاف فيه في
المذهب، وإنما الخلاف في أنه كافر أصلي أم مرتد، والأظهر: مرتد. والله
أعلم.
297

فإذا قلنا: إنه مسلم، لا يسترق بحال، وإن مات صغيرا ورثه قرابته
المسلمون، ويجزئ عتقه عن الكفارة إن كان رقيقا، وإن بلغ وأعرب بالكفر،
فمرتد، وإن قلنا: كافر أصلي، جاز استرقاقه، قال الامام: ويجوز عقد الجزية
معه إذا بلغ وهو كالكافر الأصلي في كل معنى، والذي قطع به البغوي وغيره،
وحكاه الروياني عن المجموع أنه لا يجوز عقد جزية له، لأنه ليس كتابيا، وإن
قلنا: إنه مرتد، لم يسترق بحال، ولا يقتل حتى يبلغ فيستتاب، فإن أصر، قتل،
وأولاده أولاد المرتدين، حكمهم حكم أولاد المرتدين.
قلت: قال البغوي: لو كان أحد الأبوين مرتدا والآخر كافرا أصليا، فإن
قلنا: إذا كانا مرتدين يكون الولد مسلما، كان هنا مسلما أيضا، وإن قلنا: يكون هناك
مرتدا أو كافرا أصليا، كان هنا كافرا أصليا، يقر بالجزية إن كان الأصلي ممن
يقربها، كما لو كان أحد أبويه مجوسيا والآخر وثنيا، وإن كان الأصلي كتابيا، كان
الولد كتابيا. والله أعلم.
فرع الذمي والمستأمن إذا نقض العهد، ولحق بدار الحرب، وترك ولده
عندنا، لا يجوز استرقاقه، فإذا بلغ وقبل الجزية فذاك، وإلا فلا يجبر ويلحق
بالمأمن، وفي وجه: يسترق ولده بلحوقه بدار الحرب، وفي وجه: إن هلك
هناك، أو استرق، استرق ولده.
فصل وأما ماله، فهل يزول ملكه عنه بنفس الردة؟ فيه أقوال، أحدها:
نعم لزوال عصمة الاسلام، وقياسا على النكاح، والثاني: لا، كالزاني المحصن،
وأظهرها: موقوف، فإن مات مرتدا، بان زواله بالردة، وإن أسلم، بان أنه لم
يزل، لأن بطلان أعماله يتوقف على موته مرتدا، فكذا ملكه، ومنهم من قطع
باستمرار ملكه، وجعل الخلاف في أنه هل يصير بالردة محجورا عليه في التصرف،
والخلاف في زوال الملك يجري في ابتداء التملك إذا اصطاد، أو احتطب، فإن
قلنا: يزول، قال الامام: ظاهر القياس أنه يثبت الملك لأهل الفئ فيما اصطاد
واحتطب، كما يحصل ملك السيد فيما احتطب العبد، قال: وليكن شراؤه واتهابه،
كشراء العبد واتهابه بغير إذن السيد، حتى يجئ الخلاف، والذي ذكره المتولي أنه
298

يبقى على الإباحة كما إذا اصطاد المحرم لا يملكه، ويبقى الصيد على الإباحة،
وإن قلنا: يبقى ملك المرتب فيما احتطبه، أو اصطاده ملكه كالحربي، وإن قلنا:
موقوف، فموقوف، فإن عاد إلى الاسلام، بان أنه ملكه من يوم الاخذ، وإن مات
مرتدا، قال المتولي: حكم بأن المأخوذ باق على الإباحة، وعلى قياس ما ذكره
الامام يبين أنه لأهل الفئ، وعلى الأقوال كلها، تقضى من ماله ديونه التي لزمته قبل
الردة، لأنها لا تزيد على الموت، وقد تكون نفقة الزوجة من الدين اللازم قبل
الردة، ولا تكون نفقة القريب منه لسقوطها بمضي الزمان، وقال الإصطخري:
لا تقضى ديونه على قول زوال الملك، ويجعل المال كالتالف، والمذهب الأول،
وأما في مدة الردة، فينفق عليه من ماله، وتكون نفقته كحاجة الميت إلى الكفن بعد
زوال ملكه، ونقل ابن كج عن ابن الوكيل، أنه لا ينفق عليه على قول زوال الملك،
بل ينفق عليه مدة الاستتابة من بيت المال، وهذا شاذ ضعيف، وهل تلزمه نفقة
زوجاته الموقوف نكاحهن، ونفقة قريبة، وغرامة ما يتلفه من الردة على قول زوال
الملك؟ وجهان، قال ابن سلمة والاصطخري: لا، واختاره المتولي، إذ لا ملك
له وأصحهما عند الجمهور: نعم، كما أن من حفر بئر عدوان، ومات، وحصل بها
إتلاف، يؤخذ الضمان من تركته، وإن زال ملكه بالموت.
فرع إذا قلنا بزوال ملكه، فأسلم، عاد ملكه بلا خلاف، لأن إزالة ملكه
عقوبة، فعاد بالتوبة.
فرع إذا قلنا بزوال ملكه لا يصح تصرفه ببيع وشراء وإعتاق ووصية
وغيرها، لأنه لا مال له، وفي الشراء ما سبق عن الامام، وإن قلنا: يبقى ملكه منع
من التصرف، نظرا لأهل الفئ، وهل يصير بنفس الردة محجورا عليه، أم لا بد من
ضرب القاضي؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما: الثاني، ومنهم من قطع به،
وخص الخلاف بقولنا: ملكه موقوف، ثم على الوجهين، هل هو كحجر السفيه،
لأنه أشد من تضييع المال أم كحجر المفلس، لأنه لصيانة حق غيره؟ وجهان،
أصحهما: الثاني، فإن قلنا: لا بد من ضرب القاض، ولم يضرب نفذت
تصرفاته، وإن قلنا: يحصل الحجر بلا ضرب أو بالضرب فضرب، فإن جعلناه
كحجر السفه، لم ينفذ تصرفه في الحال في المال، وإذا أقر بدين، لم يقبل
299

إقراره، وإن جعلناه كمفلس، فهل تبطل تصرفاته أم توقف؟ قولان كما في
المفلس، وإقراره بالدين وبالعين كما سبق في المفلس، وإن قلنا بالوقف، فكل
تصرف يحتمل الوقف، كالعتق والتدبير والوصية، موقوف أيضا، وأما البيع والهبة
والكتابة ونحوها، فهي على قولي وقف العقود، فعلى الجديد هي باطلة، وعلى
القديم توقف، إن أسلم حكم بصحتها، وإلا فلا، ولا يصح نكاحه ولا إنكاحه،
لسقوط ولايته، وحكى البغوي على قولنا: لا يزول ملكه وجها أنه يجوز تزويج أمته
إذا لم يحجر الحاكم عليه، كسائر تصرفه المالي، قال: وهذا غير قوي، وقطع
المتولي وغيره بهذا.
فرع على الأقوال كلها لا يعتق بالردة مدبر المرتد، ولا أم ولده، فإن مات
مرتدا، عتقت المستولدة، وفي المدبر كلام يأتي إن شاء الله تعالى.
فرع سواء في جميع ما ذكرناه التحق المرتد بدار الحرب، أم كان في
قبضة الامام، وعلى الأقوال يوضع مال مرتد عند عدل، وأمته عند امرأة ثقة، لأنا
وإن قلنا ببقاء ملكه، فقد تعلق به حق المسلمين، فيحتاط، ويؤجر عقاره ورقيقه
وأم ولده ومدبره، ويؤدي مكاتبه النجوم إلى الحاكم، وإذا لحق بدار الحرب ورأي
الحاكم الحظ في بيع الحيوان، فعل، وإذا ارتد وعليه دين مؤجل، فإن قلنا بزوال
ملكه، حل الدين كما لو مات، وإن قلنا: لا يزول، لم يحل، وإن قلنا بالوقف،
فعاد إلى الاسلام، بان أنه لم يحل، وإذا استولد جاريته، نفذ الاستيلاء إن أبقينا
ملكه، وإن أزلناه فلا، فإن أسلم، فقولان، كما لو استولد المشتري الجارية
المبيعة في زمن الخيار، وقلنا: الملك للبائع، فتم البيع.
فصل إذا ارتد جماعة، وامتنعوا بحصن وغيره، وجب قتالهم، ويقدم
على قتال غيرهم، لأن كفرهم أغلظ، ولأنهم أعرف بعورات المسلمين، ويتبع في
القتال مدبرهم، ويذفف على جريحهم، ومن ظفرنا به، استتبناه، وهل عليهم
ضمان ما أتلفوه من نفس ومال في القتال؟ فيه خلاف سبق في قتال البغاة، وإذا أتلف
المرتد في غير القتال، فعليه الضمان والقصاص، ويقدم القصاص على قتل الردة،
فإن بادر الامام بقتله عن الردة، أو عفا المستحق، أو مات المرتد، أخذت الدية من
ماله، ولو جنى خطأ ومات، أو قتل مرتدا، أخذت الدية من ماله عاجلا، ولو وطئت
300

مرتدة بشبهة أو مكرهة، فإن قلنا: الردة لا تزيل الملك، فلها مهر المثل، كما لو
وطئت زانية محصنة بشبهة بخلاف ما لو وطئت حربية بشبهة، فلا مهر، لأن مالها غير
مضمون، فكذا منفعة بضعها، ومال المرتدة مضمون، وإن قلنا: يزول ملكها، لم
يجب، كما لو وطئ ميتة على ظن أنها حية بشبهة، وإن قلنا: الملك موقوف،
فالمهر موقوف، ولو أكره مرتد على عمل، فالقول في أجرة مثله كما في المهر، ولو
استأجره وسمى أجرة، بني على صحة عقوده، وحكم المسمى إن صححنا عقوده،
وأجرة المثل إن لم نصححها حكم المهر، ولو زنى في ردته، أو شرب، فهل يكفي
قتله، أم يحد ثم يقتل؟ وجهان، أصحهما: الثاني.
فصل فيما تحصل به توبة المرتد وفي معناها إسلام الكافر الأصلي
وقد وصف الشافعي رضي الله عنه توبته فقال: أن يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا
رسول الله، ويبرأ من كل دين خالف الاسلام، وقال في موضع: إذا أتى
بالشهادتين، صار مسلما، وليس هذا باختلاف قول عند جمهور الأصحاب كما ذكرنا
في كتاب الظهار، بل يختلف الحال باختلاف الكفار وعقائدهم، قال البغوي: إن
كان الكافر وثنيا أو ثنويا لا يقر بالوحدانية، فإذا قال: لا إله إلا الله، حكم بإسلامه،
ثم يجبر على قبول جميع الأحكام، وإن كان مقرا بالوحدانية، منكرا نبوة نبينا (ص)،
لم يحكم بإسلامه حتى يقول مع ذلك: محمد رسول الله، فإن كان يقول: الرسالة إلى
العرب خاصة، لم يحكم بإسلامه حتى يقول: محمد رسول الله إلى جميع الخلق،
أو يبرأ من كل دين خالف الاسلام، وإن كان كفره بجحود فرض أو استباحة محرم،
لم يصح إسلامه حتى يأتي بالشهادتين، ويرجع عما اعتقده، ويستحب أن يمتحن
كل كافر أسلم بالايمان بالبعث، ولو قال كافر: أنا ولي محمد، لم يصح إسلامه كذا
ولو قال: أنا مثلكم، أو مسلم أو آمنت، أو أسلمت، لم يصح إسلامه، ولو
قال: أنا من أمة محمد (ص)، أو دينكم حق، حكم بإسلامه ولو أقر بركن من أركان
الاسلام على خلاف عقيدته، كفرضية إحدى الصلوات، أو أقر بتحريم الخمر
والخنزير، حكم بإسلامه، وما يصير به المسلم كافرا إذا جحده، يصير به الكافر
301

مسلما إذا أقر به، ويجبر على قبول سائر الأحكام، فإن امتنع، قتل كالمرتد، ولو
أقر يهودي برسالة عيسى (ص)، ففي قول يجبر على الاسلام، لأن المسلم لو
جحد رسالته، كفر، نقل هذا كله البغوي وهو طريقة، ذكرنا في كتاب الكفارات أن
الامام نسبها إلى المحققين، والذي عليه الجمهور خلافها.
فرع في المنهاج للامام الحليمي أنه لا خلاف أن الايمان ينعقد بغير
القول المعروف، وهو كلمة لا إله إلا الله، حتى لو قال: لا إله غير الله، أو لا إله
سوى الله، أو ما عدا الله، أو ما من إله إلا الله، أو لا إله إلا الرحمن، أو لا رحمن
إلا الله، أو لا إله إلا البارئ، أو لا بارئ إلا الله، وان قوله: أحمد أو أبو القاسم
رسول الله، كقوله: محمد رسول الله، وأنه لو قال كافر: آمنت بالله، نظر، إن لم
يكن على دين قبل ذلك، صار مؤمنا بالله تعالى، وإن كان يشرك بالله تعالى غيره،
لم يكن مؤمنا حتى يقول: آمنت بالله وحده وكفرت بما كنت أشرك به، وان قوله
أسلمت لله، أو أسلمت وجهي لله، كقوله: آمنت بالله، وأنه لو قيل لكافر: أسلم
لله، أو آمن بالله، فقال: أسلمت أو آمنت، يحتمل أن يجعل مؤمنا، وأنه لو قال:
أؤمن بالله أو أسلم لله، فهو إيمان، كما أن قول القائل: أقسم بالله، يمين،
ولا يحمل على الوعد إلا أن يريده، وأنه لو قال: الله ربي، أو الله خالقي، فإن لم
يكن له دين قبل ذلك، فهو إيمان، وإن كان يقول بقدم شئ مع الله تعالى، لم يكن
مؤمنا حتى يقر بأنه لا قديم إلا الله، وكذا الحكم لو قال: لا خالق إلا الله، وأنه لو
قال اليهودي المشبه: لا إله إلا الله، لم يكن إسلاما حتى يتبرأ من التشبيه ويقر بأنه
ليس كمثله شئ، فإن قال مع ذلك: محمد رسول الله، فإن كان يعلم أن
محمدا (ص)، جاء بنفي التشبيه، كان مؤمنا، وإلا فلا بد أن يتبرأ من التشبيه، وطرد
هذا التفصيل فيما إذا قال من يزعم قدم أشياء مع الله: لا إله إلا الله محمد
رسول الله، حتى إذا كان يعلم أن محمدا (ص) جاء ينفي ذلك، كان مؤمنا، وأن
الثنوي إذا قال: لا إله إلا الله، لم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من القول بقدم الظلمة والنور
302

أن لا قديم إلا الله كان مؤمنا، وأن الوثني إذا قال: لا إله إلا الله، فإن كان يزعم أن
الوثن شريك لله تعالى، صار مؤمنا، وإن كان يرى أن الله تعالى هو الخالق ويعظم
الوثن لزعمه أنه يقربه إلى الله تعالى، لم يكن مؤمنا حتى يتبرأ من عبادة الوثن، وأنه
لو قال البرهمي وهو الموحد الجاحد للرسل: محمد رسول الله، صار مؤمنا، ولو أقر
برسالة نبي قبل محمد (ص)، لم يكن مؤمنا، ويجئ فيه القول الذي حكاه البغوي في
يهودي أقر بنبوة عيسى (ص)، وأن المعطل إذا قال: محمد رسول الله، فقد
قيل يكون مؤمنا لأنه أثبت المرسل وإن الكافر لو قال: لا إله إلا الذي
آمن به المسلمون، صار مؤمنا. ولو قال: آمنت بالذي لا إله غيره، أو بمن لا إله
غيره، لم يكن مؤمنا، لأنه قد يريد الوثن، وأنه لو قال: آمنت بالله وبمحمد، كان
مؤمنا بالله لاثباته الاله، ولا يكون مؤمنا بنبوة محمد (ص) حتى يقول: بمحمد النبي،
أو بمحمد رسول الله، وأن قوله: آمنت بمحمد النبي، إيمان برسول الله (ص)، وقوله:
آمنت بمحمد الرسول، ليس كذلك، لأن النبي لا يكون إلا لله تعالى، والرسول قد
يكون لغيره، وان الفلسفي إذا قال: أشهد أن الباري سبحانه وتعالى علة الموجودات
أو مبدؤها أو سببها، لم يكن ذلك إيمانا حتى يقر أنه مخترع لما سواه ومحدثه بعد أن لم
يكن، وأن الكافر إذا قال: لا إله إلا المحيي المميت، فإن لم يك من
الطبائعيين، كان مؤمنا، وإن كان منهم، فلا حتى يقول: إلا الله، أو إلا الباري،
أو اسما آخر لا تأويل لهم فيه، وأن الكافر إذا قال: لا إله إلا المالك، أو الرازق،
لم يكن مؤمنا، لأنه قد يريد السلطان الذي يملك أمر الجند ويرتب أرزاقهم، ولو
قال: لا مالك إلا الله، أو لا رازق إلا الله، كان مؤمنا، وبمثله أجاب فيما لو قال:
لا إله إلا الله العزيز، أو العظيم، أو الحكيم، أو الكريم، وبالعكوس، وانه لو
قال: لا إله إلا الله الملك الذي في السماء، أو إلا ملك السماء، كان مؤمنا، قال
الله تعالى: * (أأمنتم من في السماء) *. ولو قال: لا إله إلا ساكن السماء، لم يكن
مؤمنا، وكذا لو قال: لا إله إلا الله ساكن السماء، لأن السكون محال على الله تعالى،
وأنه لو قال: آمنت بالله إن شاء، أو إن كان شاء بنا، لم يكن مؤمنا، وأنه لو قال
اليهودي: أنا برئ من اليهودية، أو نصراني: أنا برئ من النصرانية، لم يكن
مؤمنا، لأنه ضد اليهودية غير منحصر في الاسلام، وكذا لو قال: برئ من كل ملة
303

تخالف الاسلام، فليس مؤمنا، لأنه لا ينفي التعطيل، لأنه مخالف وليس بملة،
فإن قال: من كل ما يخالف الاسلام من دين ورأي وهوى، كان مؤمنا، وأنه لو قال:
الاسلام حق، لم يكن مؤمنا، لأنه قد يقر بالحق ولا ينقاد له، وهذا يخالف ما حكينا
عن البغوي في قوله: دينكم حق، وأنه لو قال لمعتقد ملة: أسلم، فقال:
أسلمت، أو أنا مسلم، لم يكن مقرا بالاسلام، لأنه قد يسمي دينه الذي هو عليه
إسلاما، ولو قال في جوابه: أنا مسلم مثلكم، كان مقرا بالاسلام، ولو قيل
لمعطل: أسلم، فقال: أنا مسلم، أو من المسلمين، كان مقرا بالاسلام، لأنه
لا دين له يسميه إسلاما، وقد يتوقف في هذا. وبالله التوفيق.
304

كتاب حد الزنى
هو من المحرمات الكبائر، وموجب للحد، وفيه بابان
الأول: فيما يوجب الحد، ومعرفة الحد.
وضابط الموجب أن إيلاج قدر الحشفة من الذكر في فرج محرم يشتهى طبعا لا
شبهة فيه سبب لوجوب الحد، فإن كان الزاني محصنا، فحده الرجم ولا يجلد
معه، وقال ابن المنذر من أصحابنا: يجلد، ثم يرجم، وإن كان غير محصن،
فواجبه الجلد والتغريب، وسواء في هذين الرجل والمرأة، ويشترط في المحصن هنا
ثلاث صفات.
305

إحداها: التكليف، فلا حد على صبي ولا مجنون، لكن يؤدبان بما
يزجرهما.
الثانية: الحرية، فليس الرقيق والمكاتب وأم الولد ومن بعضه رقيق
محصنين.
الثالثة: الوطئ في نكاح صحيح، ويكفي تغييب الحشفة، ولا يشترط كونه
ممن ينزل، ويحصل بوطئ في الحيض والاحرام، وعدة الشبهة، ولا يحصل بالوطئ
بملك اليمين، وهل يحصل بالوطئ بشبهة أو في نكاح فاسد؟ قولان، المشهور وبه
قطع الجمهور: لا، وهل يحصل بوطئ زوجة قبل التكليف والحرية؟ وجهان،
أصحهما عند الجمهور، وهو ظاهر النص: لا، فلا يجب الرجم على من وطئ في نكاح صحيح
وهو صبي أو مجنون أو رقيق، ثم زنى بعد كماله، وحكي وجه ثالث أنه يحصل بوطئ
الصبي دون الرقيق، ووجه رابع عكسه، فإن شرطنا وقوعه في حال الكمال، فهل
يشترط كون الزاني الآخر كاملا حينئذ؟ فيه ثلاثة أقوال، أظهرها: لا، فلو كان
أحدهما كاملا دون الآخر، صار الكامل محصنا، لأنه حر مكلف وطئ في نكاح
صحيح، والثاني: نعم، فلو كان أحدهما غير كامل، لم يصر الكامل محصنا،
والثالث: إن كان نقص الناقص بالرق، صار الكامل محصنا، وإن كان بصغر أو
جنون، فلا، وقال الامام: هذا الخلاف في صغيرة أو صغير لا يشتهيه الجنس الآخر، فإن
كان مراهقا، حصل قطعا.
فرع إذا زنى البكر بمحصنة، أو المحصن ببكر، رجم المحصن منهما،
وجلد الآخر وغرب.
فرع الرقيق يجلد خمسين، سواء فيه القن والمكاتب وأم الولد، ومن
306

بعضه حر، وفيمن نصفه حر ونصفه رقيق وجه أنه يحد ثلاثة أرباع حد الحر، ووجه
ثالث أنه إن كان بينه وبين سيده مهايأة ووافق نوبة نفسه فعليه حد الحر، وإلا فحد
العبد، والصحيح الأول، وهل يغرب العبد نصف سنة أم سنة أم لا يغرب؟ أقوال،
أظهرها: الأول.
فصل في تغريب الحر وفيه مسائل:
إحداها: تغرب المرأة كما يغرب الرجل، لكن هل تغرب وحدها؟ وجهان،
أصحهما: لا، هكذا أطلق مطلقون الوجهين، وخصهما الامام والغزالي بما إذا كان
الطريق آمنا، فعلى هذا يشترط محرم أو زوج يسافر معها، وفي النسوة الثقات عند
أمن الطريق وجهان، وربما اكتفى بعضهم بواحدة ثقة، وشرط بعضهم أن يكون
معها زوج أو محرم، فإن قلنا بالأصح، فتطوع الزوج، أو محرم بالسفر، أو وجدت
نسوة ثقات يسافرن فذاك، وإن لم يخرج المحرم ولا الزوج إلا بأجرة، أعطي
أجرة، وهل هي في مالها أم في بيت المال؟ وجهان كأجرة الجلاد، أصحهما:
الأول، وإن امتنع من الخروج بأجرة، لم يجبر على الأصح كما في الحج، فعلى
هذا قياس اشتراط المحرم أن يؤخر التغريب حتى يتيسر، وذكر الروياني أنها تغرب،
ويحتاط الامام في ذلك، وإن قلنا بالاجبار وهو محكي عن ابن سريج فاجتمع
محرمان أو محرم وزوج فأيهما يقدم؟ لم يتعرض الأصحاب.
قلت: يحتمل وجهين كنظائره، أحدهما: الاقراع، والثاني: يقدم باجتهاده
من يراه، وهذا أرجح. والله أعلم.
الثانية: يغرب الزاني إلى مسافة القصر، وقيل: يجوز دونها، وقيل: يكفي
التغريب إلى موضع لو خرج المبكر إليه، لم يرجع بيومه، لاطلاق لفظ التغريب،
والصحيح الأول، ولو رأى الامام التغريب إلى فوق مسافة القصر، فعل، وقال
المتولي: إن كان على مسافة القصر موضع صالح لم يجز التغريب إلى ما فوقه،
والصحيح الأول، وبه قطع الجمهور، غرب عمر رضي الله عنه إلى الشام، وعثمان
رضي الله عنه إلى مصر، والبدوي يغرب عن حلته وقومه، ولا يمكن من الإقامة
307

بينهم، ولو عين السلطان جهة لتغريبه، فطلب الزاني جهة غيرها، فهل يجاب أم
يتعين ما عينه الامام؟ وجهان، أصحهما: الثاني، قال البغوي: لا يرسله الامام
إرسالا بل يغربه إلى بلد معين، وإذا غرب إلى بلد معين، فهل يمنع من الانتقال إلى
بلد آخر؟ وجهان، أصحهما: لا، وبه قطع المتولي واختاره الامام.
الثالثة: قال البغوي: لا يمكن المغرب من أن يحمل معه أهله وعشيرته، لأنه
لا يستوحش حينئذ، وله أن يحمل جارية يتسرى بها، وما يحتاج إليه للنفقة وقال
المتولي: لو خرج معه عشيرته، لم يمنعوا.
الرابعة: الغريب إذا زنى، يغرب من بلد الزنى تنكيلا وإبعادا عن موضع
الفاحشة، لا يغرب إلى بلده ولا إلى بلد بينه وبين بلده دون مسافة القصر، ولو رجع
هذا الغريب إلى بلده فهل يمنع؟ وجهان، أصحهما: نعم، ثم هذا في غريب له
وطن، فإن لم يكن، بأن هاجر حربي إلى دار الاسلام ولم يتوطن بلدا، قال
المتولي: يتوقف الامام حتى يتوطن بلدا ثم يغربه، ولو زنى مسافر في طريقه، غرب
إلى غير مقصده.
الخامسة: إذا رجع المغرب إلى البلد الذي غرب منه، رد إلى الموضع الذي
غرب إليه، وهل تستأنف المدة أم يبني؟ وجهان، أصحهما: تستأنف، وهما
راجعان إلى أنه هل يجوز تفريق سنة التغريب.
السادسة: لا يعتقل في الموضع الذي غرب إليه، لكن يحفظ بالمراقبة
والتوكيل به، فإن احتيج إلى الاعتقال خوفا من رجوعه، اعتقل.
السابعة: لو زنى ثانيا في البلد المغرب فيه، غرب إلى موضع آخر، قال ابن
كج: وتدخل بقية مدة الأول، لأن الحدين من جنس فيتداخلان.
الثامنة: لو أراد الحاكم تغريبه فخرج بنفسه، وغاب سنة، ثم عاد، قال
ابن كج قال بعض الأصحاب: يكفيه ذلك، والصحيح خلافه، لأن المقصود
التنكيل، ولا يحصل إلا بتغريب الامام.
التاسعة: قال ابن كج: مؤنة المغرب بقدر مؤنة الحضر في ماله، وما زاد في
بيت المال، وهذا غريب.
308

قلت: الصواب أن الجميع في ماله. والله أعلم.
العاشرة: يجوز تقديم التغريب على المجلد.
فرع ذكر الروياني أن الأصح أنه لا يلزم المغرب أن يقيم في بلد الغربة
حتى يكون كالحبس له، فلا يمكن من الضرب في الأرض، لأنه كالنزهة، ومما
يناسب التغريب النفي في قطع الطريق، وسيأتي إن شاء الله تعالى، وثبت في
الحديث نفي المخنثين وهو تعزيز.
فرع ليس من شرط الاحصان الاسلام، فإذا زنى ذمي مكلف حر وطئ
في نكاح صحيح، رجم، ولو ارتد محصن، لم يبطل إحصانه، فلو زنى في الردة أو
بعد الاسلام رجم.
فصل قولنا: إيلاج الفرج في الفرج، يدخل فيه اللواط، وهو من
الفواحش الكبائر، فإن لاط بذكر، ففي عقوبة الفاعل قولان، أظهرهما: أن حده
حد الزنى، فيرجم إن كان محصنا، ويجلد ويغرب إن لم يكن محصنا،
309

والثاني: يقتل محصنا كان أو غيره، وفي كيفية قتله أوجه، أحدها: بالسيف
كالمرتد، والثاني: يرجم تغليظا عليه، والثالث، يهدم عليه جدار، أو يرمى من
شاهق حتى يموت أخذا من عذاب قوم لوط (ص).
قلت: أصحهما بالسيف. والله أعلم.
وأما المفعول به، فإن كان صغيرا أو مجنونا أو مكرها، فلا حد عليه، ولا
مهر، لأن منفعة البضع غير متقومة، وإن كان مكلفا طائعا، فإن قلنا: إن الفاعل
يقتل، قتل المفعول به بما يقتل الفاعل، وإن قلنا: حده حد الزنى، جلد المفعول
به وغرب محصنا كان أو غيره، وإن وطئ امرأة أجنبية في دبرها، فطريقان،
أصحهما: أنه كاللواط بذكر، فيجئ في الفاعل القولان، وتكون عقوبة المرأة
الجلد والتغريب على الأصح، وقيل: هو زنى في حقها، فترجم المحصنة، وتجلد
وتغرب غيرها، ولو لاط بعبده، فهو كاللواط بأجنبي، ولو وطئ زوجته أو أمته في
دبرها، فالمذهب أن واجبه التعزيز، وقيل: في وجوب الحد قولان، كوطئ الأخت
المملوكة.
فرع المفاخذات ومقدمات الوطئ، وإتيان المرأة، لا حد فيها، ولو
وجدنا رجلا وامرأة أجنبيين تحت لحاف، ولم يعرف غير ذلك لم نحدهما،
ويجب تعزيز في هذه الصور، ولو وجدنا بامرأة خلية حبلا، أو ولدت وأنكرت
الزنى، فلا حد.
قلت: ولو لم تنكر، ولم تعترف، بل سكتت فلا حد، وإنما يجب الحد ببينة
أو اعتراف. والله أعلم.
والاستمناء حرام، وفيه التعزيز، ولو مكن امرأته أو جاريته من العبث بذكره،
فأنزل، قال القاضي حسين في أول فتاويه: يكره، لأنه في معنى العزل.
فصل أما قولنا: المشتهي طبعا، فيحترز عن صورتين إحداهما: إذا
أولج في فرج ميتة، فلا حد في الأصح، الثانية إتيان البهيمة حرام، وفي واجبه
أقوال، أظهرها: التعزيز، والثاني: القتل محصنا كان أو غيره، والثالث: حد
الزنى، فيفرق بين المحصن وغيره، وقيل: واجبه واجب اللواط، وقيل: التعزيز
310

قطعا، فإن قلنا: يقتل، ففي كيفيته الخلاف السابق في اللوط، وفي قتل البهيمة
ثلاثة أوجه، أصحهما: تقتل المأكولة دون غيرها، وسواء أتاها في دبرها أو قبلها،
وقيل: إن أتاها في دبرها، لم نقتلها، وهل يحل أكلها إذا كانت مأكولة فذبحت؟
وجهان، أصحهما: نعم، وقيل: يحل قطعا، فإن قلنا: لا يحل أكلها، أو كانت غير
مأكولة، فهل يجب ضمانها إذا كانت لغير الفاعل؟ وجهان. أصحهما: نعم،
فعلى هذا هل الضمان على الفاعل أم في بيت المال، أصحهما: الأول كالوجهين
في أجرة الجلاد، وإن قلنا: يحل أكلها، ففي التفاوت بين قيمتها حية ومذبوحة
الوجهان، ولو مكنت امرأة قردا من نفسها، كان الحكم كما لو أتى الرجل بهيمة،
حكاه البغوي وغيره، ولا يثبت اللواط وإتيان البهيمة إلا بأربعة عدول، وقيل: إن
قلنا: الواجب التعزيز، كفى عدلان، وهو ضعيف مخالف للنص.
فصل أما قولنا: لا شبهة فيه، فالشبهة ثلاثة أقسام في المحل والفاعل
والجهة.
أما الشبهة في المحل، فوطئ زوجته الحائض والصائمة والمحرمة، وأمته قبل
الاستبراء، وجارية ولده، لا حد فيه، ولو وطئ أمته المحرمة عليه بمحرمية رضاع
أو نسب أو مصاهرة، كأخته منهما وبنته وأمه من رضاع، وموطوءة أبيه وابنه، لم
يجب الحد على الأظهر، ولو وطئ جارية له فيها شرك، أو أمته المزوجة، أو
المعتدة من غيره، أو المجوسية والوثنية، أو أسلمت أمة ذمي فوطئها قبل أن تباع،
فلا حد على المذهب، وقيل: فيه القولان، فإن قلنا: لا حد، ثبت النسب
والمصاهرة، وإلا فلا، وقيل: يثبت النسب وتصير الجارية أم ولد بلا خلاف.
وأما الشبهة في الفاعل، فمثل أن يجد امرأة في فراشه، فيطأها ظانا أنها
زوجته أو أمته، فلا حد، وإذا ادعى أنه ظن ذلك، صدق بيمينه، نص عليه،
وسواء كان ذلك ليلة الزفاف أو غيرها، ولو ظنها جارية له فيها شرك فكانت غيرها،
وقلنا: لا يجب الحد بوطئ المشتركة، قال الامام فيه تردد، يجوز أن يقال:
لا حد، لأنه ظن ما يسقط الحد، ويجوز أن يقال: يحد، لأنه علم التحريم، وإنما
311

جهل وجوب الحد، وكان من حقه أن يمتنع.
قلت: هذا الثاني هو الظاهر الجاري على القواعد في نظائره. والله أعلم.
وأما الشبهة في الجهة، فقال الأصحاب: كل جهة صححها بعض العلماء،
وأباح الوطئ بها، لا حد فيها على المذهب، وإن كان الواطئ يعتقد التحريم،
وذلك كالوطئ في النكاح بلا ولي، كمذهب أبي حنيفة، وبلا شهود كمذهب مالك،
ونكاح المتعة، وقيل: يجب في النكاح بلا ولي على من يعتقد تحريمه دون غيره،
وقيل: يجب على من أعتقد الإباحة أيضا، كما نحد الحنفي على شرب النبيذ، ولو
وطئ المرهونة بإذن الراهن، وجب الحد على الصحيح.
فرع لو تزوج بنته أو غيرها من محارمه بنسب أو رضاع أو مصاهرة، أو من
طلقها ثلاثا، أو من لاعنها، أو نكح من تحته أبع خامسة، أو نكح أختا على
أخت، أو معتدة أو مرتدة، أو نكح ذات زوج، أو نكح كافر مسلمة ووطئ عالما
بالحال، وجب الحد، لأنه وطئ صادف محلا لا ملك له فيه ولا شبهة ملك، وهو
مقطوع بتحريمه، فتعلق به الحد، وحكى ابن كج فيمن نكح أخته من رضاع،
ووطئ وادعى جهل التحريم، قولين في تصديقه، ولا خلاف أنه لا يقتل في الأخت
من النسب، ولو نكح وثنية أو مجوسية، قال البغوي: وجب الحد، وقال الروياني
في جمع الجوامع: لا حد في المجوسية للخلاف، ولو ادعى الجهل بكونها
معتدة، أو مزوجة، حلف إن كان ما يدعيه ممكنا، ولا حد، نص عليه، وعن
القاضي أبي حامد أنه نقل أن اليمين مستحبة، ولو قالت المرأة: علمت أني معتدة أو
مزوجة، حدت، وإن لم يحد الواطئ، ولو استأجر امرأة، فزنى بها، لزمها
الحد ولو أباحت له الوطئ لزمهما الحد، ولو أباح وطئ جاريته لغيره، فعلى ما
ذكرنا في الرهن، ولو زنت خرساء بناطق، أو عكسه، أو زنى بامرأة له عليها
قصاص، لزمهما الحد، ويقبل إقرار الأخرس، ولو زنى مكلف بمجنونة، أو
مراهقة، أو نائمة، حد، ولو مكنت مكلفة مجنونا أو مراهقا، أو استدخلت ذكر
نائم، لزمها الحد، ولو قال: زنيت بها، فأنكرت، لزمه حد الزنى وحد القذف،
ولو زنى في دار الحرب، وجب عليه الحد، والمشهور أن للامام أن يقيمه هناك إن
لم يحف فتنة، وفي قول: لا يقيمه هناك.
312

فصل يشترط لوجوب الحد كون الفاعل مختارا مكلفا، فلو أكره رجل على
الزنى، فزنى لم يجب الحد على الأصح، ولا حد على صبي ولا مجنون، ومن
جهل تحريم الزنى لقرب عهده بالاسلام، أو لأنه نشأ ببادية بعيدة عن المسلمين،
لا حد عليه، ومن نشأ بين المسلمين وقال: لم أعلم التحريم، لم يقبل قوله،
ولو علم التحريم، ولم يعلم تعلق الحد به، فقد جعله الامام على التردد الذي ذكره
فيمن وطئ من يظنها مشتركة فكانت غيرها.
قلت: الصحيح الجزم بوجوب الحد، وهو المعروف في المذهب، والجاري
على القواعد. والله أعلم.
فصل يشترط للحد ثبوت الزنى عند القاضي ببينة أو إقراره، ويستحب لمن
ارتكب كبيرة توجب الحد الله تعالى أن يستر على نفسه، وهل يستحب للشهود ترك
الشهادة في حدود الله تعالى؟ وجهان، أصحهما: لا، لئلا تتعطل.
قلت: الأصح أن الشاهد إن رأى المصلحة في الشهادة، شهد، وإن رآها في
الستر، ستر. والله أعلم.
وإذا ثبت الحد، لم يجز العفو عنه ولا الشفاعة فيه، وإذا قرأ على نفسه
بزنى، ثم رجع عنه سقط الحد، وهل يستحب له الرجوع؟ وجهان، أحدهما:
نعم كالستر ابتداء، والثاني: لا، لأن الهتك قد حصل.
قلت: مقتضى الحديث الصحيح في قصة ماعز رضي الله عنه أنه يستحب
فهو الراجح والله أعلم.
ولو قال: زينت بفلانة، فهو مقر بالزنى قاذف لها، فإن أنكرت، أو قالت:
313

كان تزوجني، لزمه وحد القذف، فإن رجع، سقط حد الزنى وحده، ولو
قال: زنيت بها مكرهة، لم يجب حد القذف، ويجب مع حد الزنى المهر، ولا
يسقط المهر بالرجوع، ولو رجع بعد ما أقيم بعض الحد، ترك الباقي، ولو قتله
شخص بعد الرجوع، ففي وجوب القصاص وجهان نقلهما ابن كج، وقال: الأصح
لا يجب، وبه قال أبو إسحاق لاختلاف العلماء في سقوط الحد بالرجوع، ولو رجع
بعد ما جلد بعض الحد، فأتم الامام الحد، فمات منه، والامام يعتقد سقوط الحد
بالرجوع، فنقل ابن قطان في وجوب القصاص قولين، فإن قلنا: لا
يجب، نصف الدية، أم يوزع على السياط؟ قولان، وقال ابن كج: عندي
لا قصاص، والرجوع كقوله: كذبت، أو رجعت عما أقررت به، أو ما زنيت، أو
كنت فأخذت، أو لمست فظننته زنى، ولو شهدوا على إقراره بالزنى، فقال: ما
أقررت، أو قال بعد حكم الحاكم بإقراره: ما أقررت، فالصحيح أنه لا يلتفت إلى
قوله، لأنه تكذيب للشهود والقاضي، وعن أبي إسحاق والقاضي أبي الطيب:
يقبل، لأنه غير معترف في الحال، وإن قال: لا تقيموا علي الحد، أو هرب، أو
امتنع من الاستسلام، فهل هو رجوع؟ وجهان، أصحهما: لا، لكن يخلي في الحال
ولا يتبع، فإن رجع فذاك، وإلا أقيم عليه حد، ولو أتبع الهارب، فرجم،
فلا ضمان، لأن النبي (ص) لم يوجب عليهم في قضية ماعز رضي الله عنه شيئا،
والرجوع عن الاقرار بشرب الخمر، كالرجوع عن الاقرار بالزنى، وفي الرجوع عن
الاقرار بالسرقة وقطع الطريق خلاف يأتي في السرقة إن شاء الله تعالى.
فرع لو تاب من ثبت زناه، فهل يسقط الحد عنه بالتوبة؟ قولان،
أظهرهما وهو الجديد: لا يسقط، لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى إسقاط الحدود
والزواجر، ثم قيل: القولان فيمن تاب قبل الرفع إلى القاضي، فأما بعده، فلا
يسقط قطعا، وقيل: هما في الحالين.
فرع إذ ثبت زناه ببينة، لم يسقط الحد برجوع ولا بالتماس ترك الحد،
ولا بالهرب ولا غيرها، هذا هو المذهب، وفيه خلاف حكاه الامام، ولو أقر
بالزنى، ثم شهد عليه أربعة بالزنى، ثم رجع عن الاقرار، هل يحد؟ وجهان، قال
ابن القطان: نعم، وأبو إسحاق: لا، إذ لا أثر للبينة مع الاقرار وقد بطل
314

الاقرار.
فرع الكلام في عدد الشهود لزنى ورجوع بعضهم أو كلهم مذكور في كتاب
الشهادات، وهناك يذكر إن شاء الله تعالى كيفية الشهادة وأنه يشترط تفسير الزنى
بخلاف القذف، فإنه لو قال: زنيت، كان قاذفا لحصول العار، وهل يشترط في
الاقرار بالزنى التفسير كالشهادة أم لا كالقذف؟ وجهان.
قلت: الاشتراط أقوى، ويستأنس فيه بقصة ماعز رضي الله عنه. والله أعلم.
وسواء شهدوا بالزنى في مجلس، أو مجالس متفرقة، ولو شهدوا ثم غابوا، أو
ماتوا، فللحاكم أن يحكم بشهادتهم ويقيم الحد. وتقبل الشهادة بالزنى بعد تطاول
الزمن، ولو شهد أربعة على امرأة بالزنى، وشهد أربع نسوة أنها عذراء، فلا حد
للشبهة، ولو قذفها قاذف، لم يلزمه حد القذف لوجود الشهادة، واحتمال عود
البكارة، وكذا لا يجب حد القذف على الشهود، ولو أقامت هي أربعة على أنه
أكرهها على الزنى وطلبت المهر، وشهد أربع نسوة أنها عذراء، فلا حد عليه
للشبهة، وعليه المهر، لأنه يثبت مع الشبهة، ولا يجب عليها حد القذف لشهادة
الشهود، ولو شهد اثنان أنه وطئها بشبهة، وأربع نسوة أنها عذراء، فلا حد عليه
315

للشبهة ويجب المهر، ولو شهد أربعة عليها بالزنى، وشهد أربع نسوة أنها رتقاء،
فليس عليها حد الزنى، ولا عليهم حد القذف لأنهم رموا من لا يمكنه الجماع، ولو
شهد أربعة بالزنى وعين كل واحد منهم زاوية من زوايا بيت، فلا حد على المشهود
عليه، وفي وجوب حد القذف على الشهود خلاف يأتي إن شاء الله تعالى لأنه لم يتم
عددهم في زنية، ولو شهد اثنان أن فلانا أكره فلانة على الزنى، لم يثبت الزنى
وهل يثبت المهر؟ يبنى على أنه إذا شهد بالزنى أقل من أربعة هل عليهم حد
القذف، إن قلنا: لا، وجب المهر، وإلا فلا، ولو شهد اثنان أنه زنى بها مكرهة،
وآخر أنه زنى بها طائعة، لم يجب عليها حد الزنى، وهل يجب على الرجل؟ يبنى
على أن شاهدي الطواعية هل عليهما حد القذف للمرأة، قولان، إن قلنا: نعم،
وهو الأظهر، فلا، الشاهدين فاسقان، وإن قلنا: لا، وجب على الأصح،
لاتفاقهم على زناه، وكذلك يجب عليه المهر، ولا خلاف أنه لا يجب حد القذف
على شاهدي الاكراه ولا يجب حد القذف للرجل.
الباب الثاني في استيفاء الحد
فيه طرفان:
الأول: في كيفيته، وفيه مسائل:
إحداها: إقامة الحدود على الأحرار إلى الامام، أو من فوض إليه الامام،
وإذا أمر باستيفائه، جاز للمفوض إليه، ولا يجب حضور الامام، سواء ثبت بالبينة أو
الاقرار، ولا حضور الشهود إذا ثبت بالبينة، لكن يستحب حضورهم وابتداؤهم
بالرجم، ويستحب أن يستوفى بحضرة جماعة أقلهم أربعة.
الثانية: لا يقتل المحصن بالسيف، لأن المقصود التمثيل به وتنكيله بالرجم
فيرجم، وليس لما يرجم به تقدير، لا جنسا ولا عددا، فقد تصيب الأحجار مقاتله،
فيموت سريعا، وقد تبطئ موته، ولا يرمى بصخرة تذفف، ولا يطول تعذيبه
بالحصيات الخفيفة، بل يحيط الناس به فيرمونه من الجوانب بحجارة معتدلة ومدر
ونحوها حتى يموت، فإن كان رجلا لم يحفر له عند الرجم سواء ثبت زناه بالبينة أم
بالاقرار، وفي المرأة أوجه، أحدها: يستحب أن يحفر إلى صدرها ليكون أستر
لها، والثاني: لا يستحب، بل هو إلى خيرة الامام، وأصحها: إن ثبت زناها بالبينة
يستحب أن يحفر، وإن ثبت بالاقرار، فلا ليمكنها الهرب إن رجعت.
316

الثالثة: الصحيح الذي قطع به الجمهور أن الرجم لا يؤخر للمرض، لان
نفسه مستوفاة، فلا فرق بينه وبين الصحيح، وقيل: إن ثبت بالاقرار، أخر حتى
يبرأ، لأنه ربما رجع في أثناء الرمي فيعين ذلك على قتله، ومثل هذا الخلاف يعود
في أنه هل يرجم في شدة الحر والبرد؟ وإن كان الواجب الجلد، فإن كان المرض مما
يرجى، زواله، أخر حتى يبرأ، وكذا المحدود والمقطوع في حد وغيره لا يقام عليه
حد آخر حتى يبرأ، وفي وجه: لا يؤخر، بل يضرب في المرض بحسب ما يحتمله
من ضرب بعثكال وغيره، ولو ضرب كما يحتمله، ثم برأ هل يقام عليه حد
الأصحاء؟ وجهان حكاهما ابن كج وليكونا مبنيين على أنه هل تؤخر إقامة الجلد أم
تستوفى بحسب الامكان؟ إن قلنا بالأول، فالذي جرى ليس بحد، فلا يسقط كما لو
جلد المحصن لا يسقط الرجم، وإن قلنا بالثاني، لم يعد الحد، وإن كان المرض
مما لا يرجى زواله، كالسل والزمانة، أو كان مخدجا وهو الضعيف الخلقة الذي
لا يحتمل السياط، لم يؤخر إذ لا غاية تنتظر، ولا يضرب بالسياط، بل يضرب
بعثكال عليه مائة شمراخ، وهو الغصن ذو الفروع الخفيفة، ولا يتعين العثكال، بل
له الضرب بالنعال وأطراف الثياب، كذا حكاه ابن الصباغ والروياني وغيرهما، فلو
كان على الغصن مائة فرع، ضرب به دفعة واحدة، وإن كان عليه خمسون، ضرب
به مرتين، وعلى هذا القياس، ولا يكفي الوضع عليه، بل لا بد مما يسمى ضربا،
وينبغي أن تمسه الشماريخ، أو ينكبس بعضها على بعض لثقل الغصن، ويناله
الألم، فإن لم تمسه، ولا انكبس بعضها على بعض، أو شك فيه، لم يسقط
الحد، وفي النهاية وجه ضعيف أنه لا يشترط الايلام، ولا تفرق السياط على
الأيام، وإن احتمل التفريق، بل يقام عليه الممكن ويخلى سبيله، ولو كان
لا يحتمل السياط المعتبرة في جلد الزنى، وأمكن ضربه بقضبان وسياط خفيفة فقد
تردد فيه الامام وقال: ظاهر كلام الأصحاب أنه يضرب بالشماريخ، والذي أراه أنه
يضرب بالأسواط، لأنه أقرب إلى صور الحد، ولو برأ قبل أن يضرب بالشماريخ،
أقيم عليه حد الأصحاء، وإن برأ بعد، لم يعد عليه، وفي إقامة الضرب بالشماريخ
مقام الضربات والجلد بالسياط مزيد كلام نذكره في الايمان إن شاء الله تعالى.
فرع يؤخر قطع السرقة إلى البرء، ولو سرق من لا يرجى زوال مرضه،
قطع على الصحيح، لئلا يفوت الحد، ولو وجب حد القذف على مريض، قال ابن
317

كج: يقال للمستحق: اصبر إلى البرء، أو اقتصر على الضرب بالعثكال، وفي
التهذيب أنه يجلد بالسياط، سواء يرجى زوال مرضه أم لا، لأن حقوق الآدمي
مبنية على الضيق، وجلد الشرب كجلد الزنى.
فرع الرابعة: لا يقام الجلد في حر ولا برد شديدين، بل يؤخر إلى
اعتدال الوقت، وكذا القطع في السرقة بخلاف القصاص وحد القذف، وأما
الرجم، فإن ثبت بالبينة، لم يؤخر، لأنه مقتول، وكذا إن ثبت بالاقرار على
الصحيح.
فرع لو جلد الامام في مرض أو شدة حر، أو برد، فهلك المجلود
بالسراية، فالنص أنه لا يضمن، ونص أنه لو ختن أقلف في شدة حر أو برد،
فهلك، ضمن، فقيل في وجوب الضمان فيهما: قولان، وقيل: بظاهر النصيحة
وهو الأصح، لأن الجلد ثبت بالنص، والختان بالاجتهاد، فإن أوجبنا الضمان،
فهل يضمن جميعه أم نصفه؟ وجهان، وهل الضمان على عاقلة الامام أم في بيت
المال؟ قولان سبقا، قال الامام: إن لم نوجب الضمان فالتأخير مستحب قطعا،
وإن أوجبناه فوجهان، أحدهما: أن التأخير واجب، وضمناه لتركه الواجب،
والثاني: يجوز التعجيل ولكن بشرط سلامة العاقبة كما في التعزير، وفي عبارة
الغزالي ما يشعر بأن الراجح استحباب التأخير، وفي المهذب وغيره الجزم بأنه
لا يجوز التعجيل في شدة الحر والبرد، ويجوز أن يقال بوجوب التأخير مع الاختلاف
في وجوب الضمان، كما يجب على آحاد الناس تفويض رجم الزاني المحصن إلى
الامام مع الاختلاف في ضمانه لو بادر بقتله.
قلت: المذهب وجوب التأخير مطلقا. والله أعلم.
ولو عجل جلد المريض قبل برئه، فهلك، ففي ضمانه الخلاف في الجلد في
الحر والبرد بلا فرق.
318

الطرف الثاني في بيان مستوفيه.
فإن كان المحدود حرا، فالمستوفي الامام، أو من فوض إليه كما سبق، هذا
هو المذهب والمنصوص وبه قطع الأصحاب، وحكي عن القفال رواية قول: إنه
يجوز للآحاد استيفاؤه حسبة، كالأمر بالمعروف، وليس بشئ. وإن كان مملوكا،
فلسيده إقامة الحد عليه، وله تفويضه إلى غيره، ولا يحتاج إلى أذن الامام فيه،
وسواء العبد والأمة، وخرج ابن القاص قولا في العبد كأنه ألحقه بالاجبار على النكاح
ولم يوافق عليه، بل قطع الأصحاب بأن له إقامته عليهما، ويجوز للامام أيضا إقامته
على الرقيق، ومن بدر إليه منهما وقع الموقع، وهل الأولى للسيد أن يقيمه بنفسه
ليكون أستر، أم الأولى تفويضه إلى الامام، ليخرج من خلاف أبي حنيفة في إلحاقه
بالحر؟ وجهان نقلهما الشيخ أبو خلف الطبري.
قلت: أصحهما الأول لثبوت الحديث فيه، ولا يراعى الخروج من خلاف
يخالف السنة. والله أعلم.
ولو تنازع في إقامته الامام والسيد، فأيهما أولى؟ فيه احتمالات للامام
أظهرها: الامام لعموم ولايته، والثاني: السيد لغرض إصلاح ملكه، والثالث:
إن كان جلدا فالسيد، وإن كان قتلا أو قطعا، فالامام، لأن إعمال السلاح بصاحب
الامر أليق، والعبد المشترك يقيم حده ملاكه، وتوزع السياط على قدر الملك، فإن
حصل كسر، فوض المنكسر إلى أحدهم، وهل يغربه السيد إن قلنا بتغريب العبد؟
وجهان، أصحهما: نعم، لأنه بعض الحد، والمدبر وأم الولد والمعلق عتقه،
كالقن والمكاتب، كالحر على الصحيح، وعن ابن القطان، كالقن، ومن بعضه حر
لا يحده إلا الامام، وهل إقامة السيد الحد بالولاية على ملكه، كولاية التزويج، أم
تأديبا وإصلاحا، كمعالجته بالفصد والحجامة؟ وجهان.
فرع فيما يقيمه السيد على رقيقه من العقوبات، أما التعزير، فله ذلك في
حقوق الله تعالى، كما يؤدبه لحق نفسه، وفيه وجه ضعيف، لأن التعزير غير
مضبوط، فيفتقر إلى اجتهاده، وأما الحدود، فله الجلد في الزنى والقذف
والشرب، وفي الشرب وجه، لأن للسيد في بضع أمته وعبده حقا، فإنه لا يتزوج إلا
بإذنه بخلاف الشرب، وقياس هذا الفرق مجئ الوجه في جلد القذف، وهل له
319

قطعه في السرقة والمحاربة، وقتله في الردة؟ وجهان، الأصح المنصوص: نعم،
لاطلاق الخبر، ومنهم من جزم بجواز القطع، وأجرى ابن الصباغ وجماعة هذا
الخلاف في القطع والقتل قصاصا، وفي التهذيب أن الأصح أن القطع والقتل إلى
الامام.
فرع في أحوال السيد إن جمع شروط الولاية أقام الحد، وإن كان السيد
امرأة، فهل تقيمه هي أم السلطان أم وليها؟ فيه أوجه، أصحها الأول، وللفاسق
والمكاتب والكافر إقامته على رقيقهم على الأصح بناء على أن سبيله سبيل
الاصلاح، وفي كتاب ابن كج أن السيد لا يحد عبيد مكاتبه على المذهب، وإن
قلنا: يحدهم المكاتب إذ لا تصرف له فيهم، وفيه أنه ليس لكافر أن يحد عبده
المسلم بحال، وهل يقيم الأب والجد والوصي والقيم الحد على رقيق الطفل؟
وجهان، وقيل: لا يجوز لغير الأب والجد وفيهما الوجهان، ويشبه أن يقال: إن
قلنا: الحد إصلاح، فلهم قامته، وإن قلنا: ولاية، ففيه الخلاف، وهل يجوز
كون السيد جاهلا؟ وجهان بناء على أنه إصلاح أم ولاية؟ ويشترط كونه عالما بقدر
الحد وكيفيته.
فرع العقوبة التي يقيمها السيد على عبده، يقيمها إذا أقر العبد عنده
بموجبها، فلو شاهده السيد، فله إقامتها على الأصح، وله سماع البينة بذلك على
الأصح، لأنه يملك إقامة هذا الحد، فيسمع بينته كالامام، وعلى هذا ينظر تزكية
الشهود، ويشترط كونه عالما بصفاتهم، وأحكام الحدود، وقيل: ليس له سماعها،
وإنا يحده بعد ثبوته عند الامام.
فرع قذف رقيق زوجته الرقيقة، هل يلاعن بينهما السيد كما يقيم الحد؟
وجهان، ولو قذف العبد سيده، فله إقامة الحد عليه، ولو قذف السيد عبده، فله
رفع الامر إلى القاضي ليعزره، ولو زنى ذمي، ثم نقض العهد واسترق، لم يسقط
عنه الحد، ويقيمه الامام لا السيد، لأنه لم يكن مملوكا يومئذ، ولو زنى عبد،
فباعه سيده، فإقامة الحد إلى المشتري اعتبارا بحال الاستيفاء.
320

فرع من قتل حدا بالرجم وغيره، غسل وكفن، وصلي عليه، ودفن في
مقابر المسلمين.
321

كتاب حد القذف
القذف من الكبائر، ويتعلق به الحد بالنص والاجماع.
ويشترط لوجوب الحد على القاذف كونه مكلفا مختارا، فلا حد على صبي
ومجنون ومكره، ويعزر الصبي والمجنون الذي له نوع تمييز، وسواء في هذا المسلم
والذمي والمعاهد، فإن كان القاذف حرا، فحده ثمانون جلدة، وإن كان رقيقا، أو
مكاتبا، أو مدبرا، أو أم ولد، أو بعضه حر فأربعون جلدة، ويشترط كون المقذوف
محصنا، وقد سبق في كتاب اللعان بيان ما يحصل به إحصانه، ولا يحد الأب والجد
بقذف الولد وولد الولد، وقال ابن المنذر: يحد.
قلت: الام والجدات كالأب. والله أعلم.
ومن ورث من أمه حد قذف على أبيه، سقط، ومن قذف شخصا بزنيتين،
فالمذهب أن عليه حدا واحدا وقد سبق إيضاحه في اللعان، ولو قال لرجل:
يا زانية، أو لامرأة: يا زاني، فقد سبق في اللعان أنه قذف، وكذا لو خاطب خنثى
بأحد اللفظتين، ولو قال له: زنى فرجك وذكرك، فقذف صريح، ولو قال: زنى
فرجك، أو قال: زنى ذكرك، قال صاحب البيان الذي يقتضيه المذهب أن فيه
322

وجهين، أحدهما: قذف صريح، والثاني: كناية، كما لو أضاف الزنى إلى يد
رجل أو امرأة، وصرائح القذف وكناياته سبقت في اللعان.
فصل قال الأصحاب: حد القذف وإن كان حق آدمي، ففيه مشابهة حدود
الله تعالى في مسائل:،
إحداها: لو قال له: اقذفني، فقذفه، ففي وجوب الحد وجهان الأصح: لا،
وقول الأكثرين: لا يجب.
الثانية: لو استوفى المقذوف حد القذف، لم يقع الموقع، كحد الزنى لو
استوفاه أحد الرعية، وفي وجه ضعيف: يقع الموقع كما لو استقل المقتص بقتل
الجاني.
الثالثة: ينشطر بالرق كما سبق، وحقوق الآدمي لا تختلف، قالوا: لكن
المغلب فيه حق الآدمي لمسائل منها: أنه لا يستوفى إلا بطلبه بالاتفاق، ويسقط
بعفوه، ويورث عنه، ولو عفا عن الحد على مال، ففي صحته وجهان.
قلت: الصحيح أنه لا يستحق المال. والله أعلم.
فرع من التعريض في القذف أن يقول: ما أنا بابن اسكاف ولا خباز، ولو
قال: يا قواد، فليس صريحا في قذف زوجة المخاطب، لكنه كناية، ولو قال:
يا مؤاجر، فليس بصريح في قذف المخاطب على الصحيح الذي قاله الجمهور،
وقال ابن إبراهيم المروذي عن شيخه التيمي: هو صريح في قذفه بالتمكين
323

من نفسه، لاعتياد الناس القذف به، وقيل: هو صريح من العامي فقط، ولو رماه
بحجر، فقال: من رماني فأمه زانية، فإن كان يعرف الرامي، فقاذف، وإلا فلا.
فصل الرمي بالزنى لا في معرض الشهادة يوجب حد القذف، فأما في
معرض الشهادة، فينظر إن تم العدد وثبتوا، أقيم حد الزنى على المرمي، ولا شئ
عليهم، وإن لم يتم العدد، بأن شهد اثنان أو ثلاثة، فهل يلزمهم حد القذف؟
قولان، أظهرهما: نعم، وهو نصه قديما وجديدا، لأن عمر رضي الله عنه جلد
الثلاثة الذين شهدوا، ولئلا تتخذ صورة الشهادة ذريعة إلى الوقيعة في أعراض
الناس، ولو شهد على زنى امرأة زوجها مع ثلاثة، فالزوج قاذف، لأن شهادته عليها
بالزنى لا تقبل، وفي الثلاثة القولان، ولو شهد أربع نسوة أو ذميون، أو عبيد، أو
فيهم امرأة، أو عبد، أو ذمي، فالمذهب أنهم قذفة، فيحدون، لأنهم ليسوا من
أهل الشهادة، فلم يقصدوا إلا العار، وقيل: فيهم القولان، وصور الامام المسألة
فيما إذا كانوا في ظاهر الحال بصفة الشهود، ثم بانوا عبيدا أو كفارا، ومراده أن
القاضي إذا علم حالهم لا يصغي إليهم فيكون قولهم قذفا محضا لا في معرض
شهادة، ولو شهد أربعة فساق، أو فيهم فاسق، نظر إن كان فسقهم مقطوعا به،
كالزنى والشرب، فقيل: فيهم القولان، وقيل: لا يحدون قطعا وهو الأصح عند
القاضي أبي حامد لأن نقص العدد متيقن، وفسقهم إنما يعرف بالظن، والحد يسقط
بالشبهة، وإن كان فسقهم مجتهدا فيه، كشرب النبيذ، لم يحدوا قطعا، وفي معنى
الفسق المجتهد فيه، ما إذا كان فيهم عدو للمشهود عليه، لأن رد الشهادة بالعداوة
مجتهد فيه، ولو حددنا العبيد الذين شهدوا، فعتقوا وأعادوا الشهادة، قبلت، ولو لم
يتم العدد، فحددنا من شهد، ثم عاد من يتم به العدد فشهدوا، لم تقبل شهادتهم،
كالفاسق ترد شهادته ثم يتوب ويعيدها، لا تقبل، وهذا الخلاف المذكور هو فيمن
شهد في مجلس القاضي، أما من شهد في غير مجلسه، فقاذف بلا خلاف، وإن
كان بلفظ الشهادة.
فرع لو شهد أربعة بالشروط المعتبرة، ثم رجعوا، لزمهم حد القذف
324

لأنهم ألحقوا به العار سواء تعمدوا أو أخطؤوا، لأنهم فرطوا في ترك التثبت، وقيل:
في حدهم القولان، لأنهم شهود، والمذهب الأول، ولو رجع بعضهم، فعلى
الراجح الحد على المذهب، وقيل: بالقولين، وأما من أصر على الشهادة، فلا حد
عليه، وقيل: بالقولين، والمذهب الأول، وسواء الرجوع بعد حكم القاضي
بالشهادة وقبله، ولو شهد أكثر من أربعة، فرجع بعضهم، إن بقي أربعة فلا حد على
الراجعين، وإلا فعلى الراجعين الحد.
فرع شهد واحد على إقراره بالزنى، ولم يتم العدد، فطريقان، أحدهما:
في وجوب حد القذف عليه القولان، والمذهب: القطع بأن لا حد، لأنه لا حد
على من قال لغيره: أقررت بأنك زنيت، وإن ذكره في معرض القذف والتعيير.
فرع تقاذف شخصان، لا يتقاصان، لأن التقاص إنما يكون عند اتفاق
الجنس والصفة، وقد سبق معظم مسائل الكتاب في كتاب اللعان. وبالله التوفيق.
325

كتاب السرقة
هي موجبة للقطع بالنص والاجماع، وفيه ثلاثة أبواب:
الأول: فيما يوجب القطع، وهو السرقة ولها ثلاثة أركان:
أحدها: المسروق، وله ستة شروط:
أحدها: أن يكون نصابا، وهو ربع دينار من الذهب
الخالص، فلا قطع فيما دونه، ويقطع بربع دينار قراضة بلا خلاف، ولو سرق دينارا
326

مغشوشا، فإن بلغ خالصه ربعا، قطع، وإلا فلا، ولو سرق دراهم أو غيرها، قوم
بالذهب، وحكي أن ابن بنت الشافعي رحمهما الله اختار مذهب داود، وهو أنه يجب
القطع بسرقة القليل، ولا يعتبر نصاب.
قلت: هذا غلط مخالف للأحاديث الصحيحة الصريحة في اعتبار ربع دينار.
والله أعلم.
والاعتبار بالذهب المضروب، فبه يقع التقويم، حتى لو سرق شيئا يساوي
ربع مثقال من غير المضروب، كالسبيكة وحلي لا تبلغ ربعا مضروبا بالقيمة،
327

فلا قطع على الأصح، وبه قال الإصطخري وأبو علي ابن أبي هريرة والطبري،
وصححه الامام وغيره، وجزم به العبادي، ولو سرق خاتما وزنه دون ربع، وقيمته
بالصنعة تبلغ ربعا، فلا قطع على الصحيح، والخلاف في المسألتين راجع إلى أن
الاعتبار بالوزن أو بالقيمة، وأما التبر الذي إذا خلص نقص، فلا قطع في سرقة ربع
منه، بل يشترط أن يخلص منه ربع، ولا سرق فلوسا ظنها دنانير، قطع إن بلغت
قيمتها نصابا، وإلا فلا، ولو سرق دنانير ظنها فلوسا لا تبلغ قيمتها نصابا، قطع،
ولو سرق ثوبا خسيسا وفي جيبه ربع دينار، أو ما تبلغ قيمته نصابا ولم يعلم بالحال،
وجب القطع على الأصح، لأنه أخرج نصابا من حرزه بقصد السرقة.
فرع لو أخرج نصابا من حرز دفعتين فصاعدا، نظر إن تخلل اطلاع
المالك وإعادته الحرز بإصلاح النقب أو إغلاق الباب، فالاخراج الثاني سرقة
أخرى، فإن كان المخرج في كل دفعة دون النصاب، لم يجب القطع، وإن لم
يتخلل الاطلاع والإعادة، ففيه أوجه، أصحها: يجب القطع، والثاني: لا،
والثالث: إن عاد وسرق ثانيا بعد ما اشتهر خراب الحرز، وعلم به الناس أو
المالك، فلا قطع، وإن عاد قبله، قطع، والرابع: إن عاد تلك الليلة، قطع،
وإن عاد في ليلة أخرى، فلا، والخامس: إن لم يطل الفصل بين الاخراجين،
قطع، وإن طال، فلا، والسادس: إن كان يخرج شيئا فشيئا، ويضعه خارج
البيت أو خارج الباب، حتى تم نصابا ولم يفارق الحرز، قطع، وإن ذهب
بالمسروق أولا إلى بيته ونحوه مسرعا وعاد ولو مع قرب الفصل، فلا قطع.
فرع انثيال الحنطة ونحوها عند فتح أسفل وعائه أو نحوه، هل هو كإخراجه
باليد؟ وجهان، أحدهما: لا، لأنه خرج بسبب لا مباشرة، والسبب ضعيف
فلا يقطع به، وأصحهما: نعم، لأنه بفعله هتك الحرز، فعلى هذا لو أخرج بيده أو
انثال دفعة ما يساوي نصابا، قطع، وإن أخرجه شيئا فشيئا على التواصل، أو انثال
كذلك، قطع على المذهب، وقيل: وجهان، ولو طر جيبه أو كمه، فسقطت الدراهم
شيئا فشيئا فكانثيال الحبوب، ولو أخذ طرف منديل أو جذع، وأخرجه من الحرز
جرا، قطع، لأنه شئ واحد، ولو أخرج نصفه وترك النصف الآخر في الحرز
328

لخوف أو غيره، فلا قطع وإن كان حصة المخرج أكثر من نصاب، لأنه مال واحد،
ولم يتم إخراجه.
فرع لو جمع من البذر المبثوث في الأرض ما بلغ نصابا، فإن لم تكن
الأرض محرزة، فلا قطع، وإن كانت فوجهان، أصحهما: يقطع، لأن الأرض تعد
بقعة واحدة، والبذر المفرق فيها كأمتعة في زوايا بيت، وسيأتي إن شاء الله تعالى
بيان إحراز الأرض.
فرع لو أخرج اثنان من حرز نصابا أو أكثر ولم يبلغ نصابين، فلا قطع
عليهما وإن أخرجا ما يبلغ نصابين، قطعا جميعا، وإن انفرد كل واحد بإخراج،
قطع من بلغ ما أخرجه نصابا دون من لم يبلغ ما أخرجه نصابا.
فرع قال الامام: إذا كان المسروق عرضا تبلغ قيمته بالاجتهاد ربع دينار
فقد يوجد للأصحاب أنه يجب الحد، والذي أرى الجزم به أنه لا يجب ما لم يقطع
المقومون ببلوغها نصابا، وللمقومين قطع واجتهاد، والقطع من جماعة لا يزلون
معتبر، ومن جماعة لا يبعد الزلل منهم فيه احتمالان، أحدهما: يكفي، كما تقبل
الشهادة مع احتمال الغلط، والثاني: المنع، لأن الشهادة تستند إلى معاينة، وقال
الروياني في جمع الجوامع: لو شهد عدلان بسرقة، فقوم أحدهما المسروق
نصابا، والآخر دونه، فلا قطع، وأما المالك فإن رضي بأقل القيمتين فذاك وله أن
يحلف مع الذي شهد بالأكثر ويأخذه، ولو شهدا بأنه نصاب، وقومه آخران بدونه،
فلا قطع، ويؤخذ في الغرم بالأقل، وقال أبو حنيفة بالأكثر.
فرع القيمة تختلف بالبلاد والأزمان، فيعتبر في كل مكان وزمان قيمة ذلك
المكان والزمان.
فرع ادعى السارق نقص قيمة المسروق عن النصاب، لم يقطع، فإن قامت
بينة بأن قيمته نصاب، قطع.
فرع نقصت قيمة المسروق في الحرز عن نصاب، بأن أكل بعضه، أو
أحرقه، وأخرج دون نصاب، فلا قطع، وإن نقص بعد الاخراج، قطع، ولو شق
الثوب في الحرز، أو ذبح الشاة في الحرز، ثم أخرجه، فعليه ضمان النقص، وإن
329

كان المخرج نصابا، قطع، وإلا فلا.
فرع سواء كان النصاب المسروق لواحد أو لجماعة، فيجب القطع إذا
اتحد الحرز.
الشرط الثاني: أن يكون مملوكا لغير السارق، فلا قطع على من سرق مال
نفسه من يد غيره، كيد المرتهن والمستأجر والمستعير والمودع [وعامل القراض
والوكيل والشريك، فلو أخذ مع ماله نصابا آخر، لزمه القطع، ولو سرق ما اشتراه
من يد البائع في زمن الخيار أو بعده، فلا قطع، وإن سرق معه مالا آخر، فإن كان
قبل أداء الثمن، قطع، وإن كان بعده، فلا قطع على الأصح، كمن سرق من دار
اشتراها، ولو وهب له شئ، فسرقه بعد القبول وقبل القبض، فالصحيح أنه
لا قطع، بخلاف ما لو أوصى له بشئ فسرقه قبل موت الموصي، فإنه يقطع، وإن
سرق بعد موت الموصي وقبل القبول، بني على أن الملك في الوصية بماذا
يحصل؟ إن قلنا: بالموت، لم يقطع، وإلا قطع، ولو أوصى بمال للفقراء، فسرقه
فقير بعد موته، لم يقطع، كسرقة المال المشترك وإن سرقه غني، قطع.
فرع لو طرأ الملك في المسروق قبل إخراجه من الحرز، بأن ورثه
السارق، أو اشتراه، أو اتهبه وهو في الحرز، فلا قطع، وإن طرأ الملك بعد
إخراجه من الحرز، لم يسقط القطع، لكن لو وقع ذلك قبل الرفع إلى القاضي لم
يمكن استيفاء القطع بناء على أن استيفاء القطع يتوقف على دعوى المسروق منه
ومطالبته بالمال كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فرع إذا ادعى السارق أن ما أخذه على صورة السرقة ملكه، فقال: كان
قد غصبه مني، أو من مورثي، أو كان وديعة لي عنده، أو عارية، أو كنت اشتريته
منه، أو وهبه لي وأذن لي في قبضه، أو أذن لي في أخذه، لم يقبل قوله في المال،
بل يصدق المأخوذ منه بيمينه في نفي الغصب والبيع والهبة، وبلا يمين في قوله:
أذن لي في أخذ ماله، ويسقط القطع بدعوى الملك على الصحيح المنصوص الذي
قطع به الجمهور، وفيه وجه أو قول مخرج، ويجري الخلاف فيما لو ادعى أن
330

المسروق منه عبده، وهو مجهول النسب، أو أن الحرز ملكه غصبه منه المسروق
منه، وفيما إذا شهد عليه بزنى، فادعى أن المرأة زوجته، أو كانت أمة، فقال:
باعنيها مالكها، ورأي الامام الأصح في حد الزنى أنه لا يسقط بهذه الدعوى بناء على
المذهب فيما إذا قامت بينة أنه زنى بأمة فلان الغائب أنه يحد، ولا ينتظر حضور
الغائب بخلاف مثله في السرقة على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، ولا يجري فيمن
قطع يد إنسان وادعى أنه أذن له في قطعها، بل يقتص منه بلا خلاف، لأن القطع
حق آدمي، فهو كالمال، ولو أقر المسروق منه أن المال كان ملك السارق، فلا قطع
بلا خلاف، وإذا قلنا: بالمنصوص، فسرق شخصان، وادعيا أن المسروق
ملكهما، لم يقطعا، وإن ادعاه أحدهما لنفسه أولهما وأنكره الآخر، واعترف
بالسرقة، فلا قطع على المدعي، وفي المنكر وجهان، أصحهما: يقطع، ولو قال
أحدهما: هذا ملك شريكي وأخذت معه بإذنه، وأنكر الشريك، فالذي نقله
الأصحاب أنه كالصورة المتقدمة، لا قطع على من يدعي ملك الشريك، وفي الآخر
الوجهان، وقال البغوي: ينبغي أن يقال: يقطع المنكر، وفي المدعى الوجهان،
ولو سرق عبد وادعى أن المسروق ملك سيده، فإن صدقه السيد، فلا قطع، وكذا
إن كذبه على الأصح.
فرع قال الامام: يجري الخلاف في دعوى الملك إذا ظهرت صورة
السرقة، فإن سرق من حرز هو بما فيه في يد رجل، ولم تقم بينة مفصلة، فقال
السارق: هو ملكي، فعلى قولنا بسقوط القطع ببقاء النزاع بينهما في المال، فيصدق
المأخوذ منه بيمينه، وإن قلنا: لا يسقط القطع بالدعوى، فإن حلف المسروق منه،
ثبت القطع مع المال، ويجئ الخلاف في أن القطع يثبت باليمين المردودة،
والأصح ثبوته كما سنذكره إن شاء الله تعالى، ويجري أيضا فيما لو قامت بينة
مفصلة يثبت مثلها في السرقة، فقال السارق: كان أباحه، أو وهبه، أو باعه
لي، واعتمد الشهود ظاهر الحال، أما إذا قال: لم يزل ملكي وكان غصبنيه، أو
قال: ما سرقت أصلا، فهذا يناقض قول الشهود ويكذبهم، فهل يسقط به الحد
331

تفريعا على أن الدعوى التي لا تكذبهم مسقطة؟ فيه وجهان، أصحهما: نعم، قال
ابن كج: موضع الخلاف في أن القطع يسقط بدعوى السارق الملك ما إذا حلف
المسروق منه على نفي الملك الذي يدعيه، أما لو نكل حلف وحلف السارق،
فيستحق المال، ويسقط عنه القطع بلا خلاف، ولو نكل السارق أيضا، فيشبه أن
يجئ فيه الخلاف.
الشرط الثالث: أن يكون محترما، فلو سرق خمرا، أو كلبا، أو جلد ميتة
غير مدبوغ، فلا قطع، سواء سرقه مسلم أم ذمي، لأنه ليس بمال، فلو كان
الاناء الذي فيه الخمر يساوي نصابا، قطع على الأصح المنصوص، وإن كان فيه
بول، فالمذهب وجوب القطع، وطرد صاحب البيان فيه الوجهين، وطردهما
فيما يستهان به، كقشور الرمان، وهو بعيد، بل الصواب القطع بالوجوب، ولو
سرق آلات الملاهي، كالطنبور والمزمار، أو صنما، فإن كان لا يبلغ بعد الكسر
والتغيير نصابا، فلا قطع، وإن بلغه، قطع على الأصح عند الأكثرين منهم
العراقيون والروياني، لأنه سرق نصابا من حرز، واختار الامام وأبو الفرج الزاز أنه
لا قطع من الملاهي فأشبه الخمر، ولأنه غير محرز، لأن كل أحد مأمور
بإفساد الآت الملاهي، ويجوز الهجوم على الدور لكسرها وإبطالها، ولأنه لا يجوز
إمساكها، فهي كالمغصوب يسرق من حرز الغاصب، ثم الوجهان فيما إذا قصد
السرقة، أما إذا قصد بإخراجها أن يشهد تغييرها وإفسادها، فلا قطع بلا خلاف، ولو
كسر ما أخذه في الحرز، ثم أخرجه وهو يبلغ نصابا، قطع على المذهب، ولو سرق
آنية ذهب أو فضة، ففي المهذب والتهذيب إنه يقطع لأنها تتخذ للزينة،
والوجه ما قاله صاحب البيان أنه يبنى على اتخاذها، إن جوزناه قطع، وإلا فلا،
كالملاهي، وكذا ذكره الامام، لكنه رأى نفي القطع بعيدا.
332

الشرط الرابع: أن يكون الملك تاما قويا وفيه مسائل:
إحداها: إذا سرق أحد الشريكين من حرز الآخر مالهما المشترك، فهل
يقطع؟ قولان، أظهرهما: لا، لأن له في كل قدر جزءا وإن قل، فيصير شبهة،
كوطئ المشتركة، فعلى هذا لو سرق ألف دينار له منه قدر دينار شائعا، لم يقطع،
والثاني: نعم، إذ لا حق له في نصيب الشريك، فعلى هذا ثلاثة أوجه، قال
الأكثرون: إن كان المال بينهما بالسوية، فسرق نصف دينار فصاعدا، فقد سرق من
الشريك نصابا، وإن كان ثلثاه للسارق، فإذا سرق ثلاثة أرباع فقد سرق منه
نصابا، والثاني: إنما يجعل سارقا لنصاب من الشريك إذا زاد المأخوذ على قدر حقه
بنصاب، فلو كان بينهما مناصفة، فسرق نصف المال وزيادة ربع دينار، أو كان ثلثاه
للسارق، فسرق ثلثيه وزيادة لا تبلغ ربع دينار، فلا قطع، والثالث: إن كان
المشترك مما يجبر على قسمته، كالحبوب وسائر المثليات، فلا قطع حتى يزيد
المأخوذ على قدر حصته بنصاب، وإن كان مما لا يجبر فيه، كالثياب، فإذا سرق
نصف دينار إن اشتركا بالسوية أو ثلاثة أرباع دينار إن كان الثلثان للسارق، قطع.
الثانية: إذا سرق من مال بيت المال، نظر إن سرق مما أفرز لطائفة
مخصوصين وليس السارق منهم، قطع، قال الامام: وكذا الفئ المعد للمرتزقة
تفريعا على أنه ملكهم، وإن سرق من غيره، فأوجه، أحدها وهو مقتضى إطلاق
العراقيين: لا قطع، سواء كان غنيا أو فقيرا، وسواء سرق من الصدقات، أو مال
المصالح، والثاني: يقطع، وأصحها: التفصيل، فإن كان السارق صاحب حق
في المسروق، بأن سرق فقير من الصدقات، أو مال المصالح، فلا قطع، وإن لم
يكن صاحب حق فيه، كالغني، فإن سرق من الصدقات، قطع، وإن سرق من
المصالح، فلا قطع على الأصح، لأنه قد يصرف ذلك إلى عمارة المساجد
والرباطات والقناطير فينتفع بها الغني والفقير، أما إذا سرق ذمي مال المصالح،
فالصحيح أنه يقطع، لأنه مخصوص بالمسلمين، ولا ينظر إلى إنفاق الامام عليهم
عند الحاجة، لأنه إنما ينفق للضرورة، وبشرط الضمان، ولا ينظر إلى انتفاعه بالقناطر
والرباطات، لأنه إنما ينتفع تبعا، وفي وجه: لا قطع، واختاره البغوي وقال:
333

ينبغي أن لا يكون إنفاق الامام عليه بشرط الضمان، قال: وهذا في مال المصالح،
أما لو سرق من مال من مات ولم يخلف وارثا فعليه القطع، لأنه إرث للمسلمين
خاصة، ولو كفن مسلم من بيت المال، فسرق نباش كفنه، قطع إذا لم يبق لغير
الميت فيه حق، كما لو كساه حيا.
الثالثة: إذا سرق ستر الكعبة وهو محرز بالخياطة عليه، فالمذهب وجوب
القطع وبه قطع الجمهور ونقل ابن كج فيه قولين، والمعروف الأول، وألحقوا باب
المسجد وجذعه وتأزيره وسواريه، فأوجبوا القطع بسرقتها، قالوا: ولا قطع بسرقة ما
يفرش في المسجد من حصير وغيره، ولا في القناديل المسرجة، لأنها معدة لانتفاع
الناس، والقناديل التي لا تسرج، ولا يقصد منها إلا الزينة كالأبواب، هذه طريقة
الجمهور، ورأي الامام تخريج وجه في الأبواب والسقوف، لأنها من أجزاء
المسجد، والمسجد مشترك وذكر في الحصر والقناديل ونحوها ثلاثة أوجه، ثالثها:
الفرق بين ما يقصد به الاستضاءة أو الزينة، وكل هذا في المسلم، أما الذمي إذا
سرق الباب أو الحصير أو غيرهما، فيقطع بلا خلاف، وذكر الفوراني في سرقة بكرة
اليد المسبلة أنه يقطع، وكذا حكاه البغوي قال: والوجه عندي أنها كحصير
المسجد، لأنها لمنفعة الناس.
الرابعة: لو سرق مالا موقوفا، أو مستولدة وهي نائمة، أو مجنونة، وجب
القطع على الأصح بخلاف المكاتب، لأنه في يد نفسه، وكذا من بعضه حر، ولو
سرق من غلة الأرض الموقوفة أو ثمرة شجرة موقوفة، قطع بلا خلاف، فلو كان
للسارق استحقاق، أو شبهة استحقاق، بأن وقف على جماعة، فسرقه أحدهم، أو
سرق أبو بعض الموقوف عليهم، أو ابنه، أو وقف على الفقراء، فسرق فقير،
فلا قطع بلا خلاف.
فرع الصحيح وجوب الحد على من زنى بجارية بيت المال، وإن لم
يجب القطع بسرقة مال.
الشرط الخامس: أن لا يكون فيه شبهة استحقاق للسارق وفيه مسائل:
334

إحداها: سرق مستحق الدين مال المدين، نص أنه لا قطع، فقيل بإطلاقه،
والأصح: التفصيل، فإن أخذه لا بقصد استيفاء الحق، أو بقصده، والمدين غير
جاحد ولا مماطل، قطع، وإن قصده وهو جاحد أو مماطل، فلا قطع، ولا فرق بين
أن يأخذ من جنس حقه، أو من غيره، وقيل: يختص بمن أخذ جنس حقه،
والصحيح الأول، ولو أخذ زيادة على قدر حقه، فلا قطع على الصحيح، لأنه إذا
تمكن من الدخول والاخذ، لم يبق المال محرزا عنه، وقيل: إن بلغت الزيادة نصابا
وهي مستقلة، قطع.
الثانية: من يستحق النفقة بالبعضية على المسروق منه، لا يقطع بسرقة ماله،
ويقطع بسرقة مال الأخ وسائر الأقارب، ولو سرق أحد الزوجين مال الآخر، إن
لم يكن محرزا عنه، فلا قطع، وإلا فثلاثة أقوال، أظهرها: يقطع، والثاني: لا،
والثالث: يقطع الزوج دون الزوجة، وقيل: يقطعان بلا خلاف، قال الأصحاب:
ومن لا يقطع بسرقة مال شخص، لا يقطع عبده بسرقة مال ذلك الشخص، فلا يقطع
العبد بسرقة مال أبي سيده وابنه، وفي قطع عبد أحد الزوجين بسرقته مال الآخر
الخلاف، وفي وجه يقطع العبد وإن لم يقطع سيده، ورجحه الامام، والصحيح
المنصوص الذي قطع به الجمهور هو الأول، لأن يد العبد كيد السيد، ولو سرق
مكاتب أحد الزوجين مال الآخر وقلنا: لا قطع على العبد فوجهان، كما لو سرق
المكاتب مال سيده، ففيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى، وعن القاضي حسين أنا
إذا لم نقطع أحد الزوجين بسرقة مال الآخر، ينبغي أن لا يقطع ولد أحدهما بسرقة
مال الآخر، وغلط القاضي في ذلك، ولو كان لرجل زوجتان، سرقت إحداهما مال
الأخرى، أو سرق مال زوجة أبيه، أو ابنه، فالمذهب وجوب الحد، ولا يقطع
العبد بسرقة مال سيده بخلاف ما لو زنى بجاريته، والمدبر وأم الولد ومن بعضه حر
في كل ذلك كالقن، وكذا المكاتب في الأصح، ولا خلاف أن السيد لا يقطع بما
335

في يد مملوكه وإن قدرنا له ملكا، ولو سرق ممن بعضه مملوكه ما ملكه ببعضه
الحر، قال القفال: لا يقطع، وقال الشيخ أبو علي: يقطع.
الثالثة: لو أخذ المال على صورة السرقة على ظن أن المأخوذ ملكه، أو ملك
أبيه، أو ابنه أن الحرز ملكه، فلا قطع على الأصح للشبهة.
فرع في صور يتوهم أنها شبهة، وليست مؤثرة، فلا أثر لكون المسروق
مباح الأصل، كالحطب والحشيش والصيد ومال المعدن، ولا لكونه معرضا
للفساد، كالرطب والتين والرياحين والشواء والهريسة والجمد والشمع المشتعل، ولو
سرق عينا فقطع، ثم سرقها من المالك الأول أو غيره، قطع ثانيا، ولا يشترط كون
المسروق في يد المالك، بل السرق من يد المودع والمرتهن والوكيل وعامل القراض
والمستعير والمستأجر، يوجب القطع، والخصم فيها المالك، وإذا قلنا: الماء
لا يملك، فلا قطع بسرقته، وإن قلنا: يملك، قطع في الأصح، ووجه المنع أنه
تافه، ويجري الوجهان في سرقة التراب، لأنه لا تقصد سرقته لكثرته، ويجب
القطع بسرقة المصحف وكتب التفسير والحديث والفقه، وكذا الشعر الذي يحل
الانتفاع به، وما لا يحل الانتفاع به لا قطع فيه إلا أن يبلغ الجلد والقرطاس نصابا،
ويجب القطع بسرقة قرون الحيوان.
الشرط السادس: كونه محرزا، فلا قطع في سرقة ما ليس بمحرز، ويختلف
الحرز باختلاف الأحوال والأموال، والتعويل في صيانة المال وإحرازه على شيئين،
أحدهما: الملاحظة والمراقبة، والثاني: حصانة الموضع ووثاقته، فإن لم يكن
للموضع حصانة، كالموضوع في صحراء، أو مسجد، أو شارع، اشترط مداومة
اللحاظ، وإن كان له حصانة، وانضم إليها اللحاظ المعتاد، كفى، ولم تشترط
مداومته، ويحكم في ذلك العرف، وتفضيله بمسائل:
إحداها: الإصطبل حرز الدواب مع نفاستها وكثرة قيمتها، وليس حرزا للثياب
والنقود، والصفة في الدار وعرصتها حرزان للأواني وثياب البذلة دون الحلي
336

والنقود، لأن العادة فيها الاحراز في المخازن، وكذا الثياب النفيسة تحرز في
الدور، وفي بيوت الحانات وفي الأسواق المنيعة، والمتبن حرز للتبن دون الأواني
والفرش.
واعلم أن ما كان حرزا لنوع كان حرزا لما دونه، وإن لم يكن حرزا لما فوقه.
الثانية: إذا نام في صحراء، أو مسجد، أو شارع على ثوبه، أو توسد عيبته
أو متاعه، أو اتكأ عليه، فسرق الثوب من تحته، أو العيبة، أو أخذ المنديل من
رأسه، أو المداس من رجله، أو الخاتم من أصبعه، وجب القطع، لأنه محرز به،
ولو زال رأسه عما توسده، أو انقلب في النوم عن الثوب وخلاه، فلا قطع بسرقته،
ولو رفع السارق النائم عن الثوب أولا، ثم أخذه، فلا قطع، ولو وضع متاعه أو ثوبه
بقربه في الصحراء أو المسجد، فإن نام أو ولاه ظهره، أو ذهل عنه بشاغل، لم يكن
محرزا، وإن كان متيقظا يلاحظه فتغفله السارق، وأخذ المال، قطع على
الصحيح، وهل يشترط أن لا يكون في الموضع زحمة الطارقين؟ وجهان،
أحدهما: لا، وتكفي الملاحظة، لكن لا بد بسبب الزحمة من مزيد مراقبة
وتحفظ، وأصحهما: نعم، وتخرجه الزحمة عن كونه محرزا، وأجري الوجهان في
الخباز والبزاز وغيرهما إذا كثرت الزحمة على حانوته، قال الامام: ولو وضع المتاع
في شارع، ولاحظه جمع، صار عدد اللاحظين في معارضة عدد الطارقين، كلاحظ
في الصحراء في معارضة طارق، ويشترط كون الملاحظ بحيث يقدر على المنع لو
337

اطلع على سارق إما بنفسه، وإما بالاستغاثة، فإن كان ضعيفا لا يبالي به السارق،
والموضع بعيد عن الغوث، فليس بحرز، بل الشخص شائع مع ماله، وينبغي أن
لا يفرق بين كون الصحراء مواتا أو غيره.
واعلم أن الركن الأول في كونه محرزا الملاحظة، فلا تكفي حصانة الموضع
على أصل الملاحظة، حتى إن الدار المتفردة في طرف البلد لا تكون حرزا وإن
تناهت في الحصانة، وكذا القلعة المحكمة، لأنه إذا لم يكن الموضع على أصل
الملاحظة، حتى إن الدار المنفردة في طرف البلد لا تكون خطر، لكن لا يحتاج مع
الحصانة إلى دوام الملاحظة بخلاف ما ذكرنا في الصحراء.
فرع لو أدخل يده في جيب إنسان أو كمه، وأخذ المال، أو طر جيبه، أو
كمه، وأخذ المال، قطع، لأنه محرز به، وسواء ربطه من داخل الكم، أم من
خارجه أم لم يربطه؟ وإن أخذه من رأس منديل على رأس، قال البغوي: إن كان قد
شده عليه، قطع، وإلا فلا.
الثالثة: الدار إن كانت منفصلة عن العمارات، بأن كانت في بادية، أو في
الطرق الخراب من البلد، أو في بستان، فليست بحرز إن لم يكن فيها أحد، سواء
كان الباب مفتوحا أو مغلقا، فإن كان فيها صاحبها، أو حافظ آخر، نظر إن كان نائما
والباب مفتوح، فليست حرزا، وإن كان مغلقا فوجهان، الذي أجاب به الشيخ أبو
حامد ومن تابعه: أنه محرز، والذي يقتضيه إطلاق الامام والبغوي خلافه.
قلت: الذي قاله أبو حامد أقوى، وجزم الرافعي في المحرر بأنه غير
محرز. والله أعلم.
وإن كان من فيها متيقظا، فالأمتعة فيها محرزة، سواء كان الباب مفتوحا أو
مغلقا، لكن لو كان ممن لا يبالي به وهو بعيد عن الغوث، فالحكم على ما ذكرناه
في الملحوظ بعين الضعيف في الصحراء، وإن كانت الدار متصلة بدور أهله، نظر إن كان
الباب مغلقا وفيها صاحبها، أو حافظ آخر، فهي حرز لما فيها ليلا ونهارا متيقظا كان
الحافظ أو نائما، وإن كان الباب مفتوحا، فإن كان من فيها نائما لم يكن حرزا
ليلا قطعا، ولا نهارا في الأصح، وقيل: حرز نهارا في زمن الامن من النهب وغيره،
338

وإن كان من فيها متيقظا لكنه لا يتم الملاحظة بل يتردد في الدار، فتغفله إنسان
فسرق، لم يقطع على الأصح المنصوص للتقصير بإهمال المراقبة مع فتح الباب،
ولو كان يبالغ في الملاحظة بحيث يحصل الاحراز بمثله في الصحراء، فانتهز السارق
فرصة، قطع بلا خلاف، ولو فتح صاحب الدار بابها، وأذن للناس في الدخول
كشراء متاعه، كما يفعله من يخبز في داره فوجهان، لأن الزحمة تشغل، فأما إذا لم
يكن فيها أحد، فالمذهب وبه قطع البغوي: أنه إن كان الباب مغلقا، فهو حزر
بالنهار في وقت الامن، وليس حرزا في وقت الخوف ولا في الليل، وإن كانت
مفتوحا، لم يكن حرزا أصلا، ومن جعل الدار المنفصلة عن العمارات حرزا عند
إغلاق الباب فأولى أن يجعل المتصلة بها عند الاغلاق حرزا، وإذا ادعى السارق أن
صاحب الدار: نام، أو ضيع ما فيها وأعرض عن اللحاظ، فقال الغزالي: يسقط
القطع بمجرد دعواه، كما في دعوى الملك، ويجئ فيه الوجه المذكور هناك.
واعلم أن الامر في كل هذا مبني على العادة الغالبة في الاحراز، وعلى هذا
الأصل، قال الأصحاب: النقد والجوهر والثياب لا تكون محرزة إلا بإغلاق الباب
عليها، وأمتعة العطارين والبقالين والصيادلة إذا تركها على باب الحانوت ونام فيه،
أو غاب عنه، فإنه ضم بعضها إلى بعض وربطها بحبل، أو علق عليها شبكة، أو
وضع لوحين على باب الحانوت مخالفين، كفى ذلك إحرازا في النهار، لأن الجيران
والمارة ينظرونها، وإن تركها مفرقة ولم يفعل شيئا مما ذكرناه، لم تكن محرزة، وأما
بالليل، فلا تكون محرزة إلا بحارس، قال الروياني. والبقل والفجل قد يضم بعضه
إلى بعض، ويطرح عليه حصير، ويترك على باب الحانوت وهناك حارس ينام
ساعة، ويدور ساعة، فيكون محرزا، وقد يزين العامي حانوته أيام العيد بالأمتعة
النفيسة، ويشق عليه رفعها ليلا، فيتركها، ويلقى عليها نطعا، وينصب حارسا،
فتكون محرزة بخلاف سائر الأيام، لأن أهل السوق يعتادون ذلك، فيقوى بعضهم
ببعض، والثياب على باب حانوت القصار والصباغ، كأمتعة العطارين، هذا فيما
ينقل في العادة إلى داخل بناء ويغلق عليه باب، فأما الأمتعة الثقيلة التي يشق نقلها،
339

كالحطب، فهي محرزة بأن يشد بعضها إلى بعض، وكذلك الخزف والقدور تحرز
بالشرائح التي تنصب على وجه الحانوت، وإن تركت متفرقة لم تكن محرزة، وفي
وجه لا يكفي الشد، بل يشترط أن يكون عليها باب مغلق، أو يكون على سطح محوط،
والأول أصح حيث جرت العادة به، وكذا الطعام في الغرائر في موضع البيع محرزا
إذا شد بعضها إلى بعض بحيث لا يمكن أخذ شئ منه إلا بحل الرباط، أو فتق
بعض الغرائر، نص عليه الشافعي رحمه الله، والحطب والقصيل على السطح
المحوط محرزان، والأجذاع الثقال على أبواب المساكين محرزة، وقال البغوي:
متاع البقال في الحانوت في الليل محرز في وقت الامن إذا كان الباب، مغلقا، وفي
غير وقت الامن لا بد من حارس، ومتاع البياع والبزار، لا يكون محرزا إلا
بالحارس، وإن الكدس في الصحراء والبذر المستتر بالتراب، والزرع والقطن،
قصيلا كانا، أو اشتد الحرب وخرج الجوزق ليست محرزة إلا بحارس، وفي
جمع الجوامع للروياني أن الزرع في المزارع محرز وإن لم يكن حارس، وفي
تعليقه الشيخ إبراهيم المروذي أن الزرع إذا كان قصيلا لا يحتاج إلى حارس لأنه
يحفظ مثله في العادة، وهذا يجري في البذر المستتر، ولو كانت هذه الأشياء في
محوط فهي كالثمار في البساتين، والثمار على الأشجار إنك كانت في برية لا تكون
محرزة إلا بحارس، وفي الكرم والبساتين المحوطة كذلك إن كانت بعيدة عن الطرق
والمساكن، وإن كانت متصلة بها، والجيران يراقبونها في العادة، فهي محرزة،
وإلا فيحتاج إلى حارس والأشجار في أفنية الدور محرزة، وفي البرية تحتاج إلى
حارس، والحنطة في مطامير المفازة، والتبن في المتبن، والثلج في المثلجة،
والجمد في المجمدة في الصحراء غير محرزة إلا بحارس، وباب الدار والحانوت
والمغلاق والحلقة على الباب محرزة بالتركيب والتسمير، وكذا الآجر إذا سرق من
صحن الدار، أو استخرجه من الجدار داخلا أو خارجا، ليلا أو نهارا، وجب
القطع، والشرط في كونها محرزة أن تكون الدار بحيث تحرز ما فيها، ولو كان باب
الدار مفتوحا، فدخل داخل، وقلع باب بيت وأخرجه، فعن أبي إسحاق أنه
لا قطع، كما لو أخذ متاعا منها، وقال الأكثرون: يقطع، والباب محرز بالتركيب
كباب الدار، والقفل على الباب محرز كالباب والحلقة، وقال ابن سلمة: ليس
340

بمحرز، لأنه للاحراز به لا لاحرازه، والأول أصح.
المسألة الرابعة: الخيام بربطها وتنضيد الأمتعة فيها له تأثير في الاستغناء عن
دوام اللحاظ المعتبر في الأمتعة الموضوعة في الصحراء، لكنها ليست كالدور في
الحصانة، لأنها في نفسها قابلة للسرقة، فإذا ضرب في صحراء خيمة، وآوي إليها
متاعا، فسرق منها، أو سرقت هي، نظر إن لم يشد أطنابها، ولم يرسل أذيالها،
فهي وما فيها كالمتاع الموضوع في الصحراء، وإن شدها بالأوتاد وأرسل أذيالها، فإن
لم يكن صاحبها فيها، فلا قطع، وقيل: الخيمة محرزة دون ما فيها، والصحيح
الأول، وإن كان صاحبها في نفسها مستيقظا، أو نائما، أو نام بقربها، وجب القطع
بسرقتها أو سرقة ما فيها لحصول الاحراز في العادة، قال الأئمة: والشرط أن يكون
هناك من يتقوى به، فأما إذا كان في مفازة بعيدة عن الغوث وهو ممن لا يبالي به،
فليس بحرز، ولو ضرب خيمة بين العمارة، فهو كالمتاع الموضوع بين يديه في
السوق، وهل يشترط إسبال باب الخيمة إذا كان من فيها نائما؟ وجهان، أصحهما:
لا، ولو شدها بالأوتاد ولم يرسل أذيالها وكان يمكن دخولها من كل وجه، فهي
محرزة وما فيها كيس بمحرز، هكذا ذكروه، وقد يفهم منه أن الأمتعة والأحمال إذا
شد بعضها ببعض تكون محرزة بعض الاحراز، وإن لم يكن هناك خيمة، ولو أن
السارق يجئ النائم في الخيمة، ثم سرق، فلا قطع، لأنها لم تكن حرزا حين
سرق.
الخامسة: المواشي في الأبنية المغلقة الأبواب محرزة إن اتصلت بالعمارة،
سواء كان صاحبها فيها أم لم يكن، للعادة، وإن كانت في برية، لم تكن محرزة إلا
إذا كان صاحبها فيها مستقيظا، أو نائما، فإن كان الباب مفتوحا، اشترط كونه
مستيقظا، ويكفي أن يكون المراح من حطب أو حشيش، وأما في غير الأبنية فلها
أحوال.
أحدها: أن تكون الإبل ترعى في صحراء، فهي محرزة إذا كان معها حافظ
يراها جميعا، ويبلغها صوته، فإن لم ير بعضها، لكونه في وهدة أو خلف جبل أو
حائط، فذلك البعض غير محرز، ولو نام، أو تشاغل لم تكن محرزة، ولو لم يبلغ
صوته بعضها ففي المهذب وغيره أن ذلك البعض غير محرز، وسكت آخرون عن
اعتبار بلوغ الصوت اكتفاء بالنظر، لأنه إذا قصد ما يراه أمكنه العدو إليه، وحكم
341

الخيل والبغال والحمير وهي ترعى حكم الإبل، وكذا الغنم إذا كان الراعي على نشز
من الأرض يراها جميعا فهي محرزة إذا بلغها صوته، وإن كانت متفرقة.
الثاني: أن تكون سائرة، أما الإبل فإن كانت مقطورة يسوقها سائق، فمحرزة
إن انتهى نظره إليها، وإن كانت يقودها اشترط أن ينظر إليه كل ساعة، وينتهي نظره
إليها إذا التفت، فإن كان لا يرى البعض لحائل جبل أو بناء، فذلك البعض غير
محرز، وحكى ابن كج وجها أنه لا يشترط انتهاء النظر إلى آخرها، وليجئ هذا في
سوقها، ولو ركب الحافظ أولها فهو كقائدها، ولو ركب غير الأول، فهو لما بين يديه
كسائق، ولما خلفه كقائد، وحيث يشترط انتهاء نظره إليها ففي اشتراط بلوغ الصوت
ما سبق، وقد يستغنى بنظر المارة عن نظره إذا كان يسيرها في سوق مثلا، أما إذا لم
تكن مقطورة، بأن كانت تساق أو تقاد، فمنهم من أطلق أنها غير محرزة، لأنها
لا تسير هكذا غالبا، وبهذا قطع البغوي وقال صاحب الافصاح: المقطورة وهذه
سواء، وبهذا أخذ الروياني، المعتبر أن تقرب منه، ويقع نظره عليها، ولا تعتبر
صورة القطر، فإن اعتبرناه، فيشترط أن لا يزيد القطار الواحد على تسعة للعادة
الغالبة، فإن زاد فهي كغير المقطورة، ومنهم من أطلق ذكر القطر ولم يقيد بعدد،
والأصح توسط ذكره أبو الفرج السرخسي فقال: في الصحراء لا يتقيد بعدد، وفي
العمران يعتبر ما جرت العادة بأن يجعل قطارا، وهو ما بين سبعة إلى عشرة، فإن
زاد، لم تكن الزيادة محرزة، والخيل والبغال والحمير والغنم السائرة، كالإبل
السائرة إذا لم تكن مقطورة، ولم يشترطوا القطر فيها، لكنه معتاد في البغال،
ويختلف عدد الغنم المحرزة بالواحد بالبلد والصحراء.
الثالث: أن تكون الإبل مناخة، فإن لم يكن معها أحد، فليس محرزة،
وإن كان معها صاحبها، فإن كانت معقولة، لم يضر نومه ولا اشتغاله عنها، لأن في
حل المعقولة ما يوقظ النائم والمشتغل، وإن لم تكن معقولة اشترط أن ينظر إليها
ويلاحظها.
فرع الطعام على دابة محرزة محرز، فيقطع سارقه سواء من الوعاء، أو مع الوعاء،
أو مع الدابة، ولو ساق بقرة وتبعها عجلها، فإنما يكون العجل محرزا
إذا قرب منه بحيث يراه إذا التفت، وأن يلتفت كل ساعة كما سبق في قائد القطار،
342

وعن المسعودي أن الغنم المرسلة في سكة تشرع إليها أبواب الدور لا تكون محرزة
حتى تأوي إلى موضع، وليكن هذا فيما إذ كثرت، وتعذرت الملاحظة، ومن دخل
مراحا، وحلب الغنم، أو جز صوفها وأخرج منه نصابا، قطع.
السادسة: إذا نبش قبرا وسرق منه الكفن، فالمذهب وجوب القطع في
الجملة، وبه قطع الجمهور وحكى ابن خيران وابن الوكيل قولا آخر أنه
لا قطع فيه بحال، لأنه موضوع للبلى لا للاحراز، ويتفرع على المذهب صور.
إحداها: إن كان القبر في بيت محرز، قطع بسرقة الكفن منه، وكذا لو كانت
المقبرة محفوفة بالعمارة يندر تخلف الطارقين عنها في زمن يتأتى فيه النبش، أو كان
عليها حراس مرتبون، ولو كان القبر في مفازة وبقعة ضائعة، فوجهان، أحدهما:
ليس بحرز، وبه قطع صاحب المهذب والغزالي وعزاه إلى جماهير الأصحاب،
لأن السارق يأخذ من غير خطر، والثاني واختاره القفال والقاضي، ورجحه
العبادي: القبر حرز للكفن حيث كان، لأن النفوس تهاب الموتى، ولو كان القبر في
بيت محرز فسرق الكفن حافظ البيت، فعلى الوجه الأول لا قطع، وعلى الثاني:
يجب، ولو كان القبر في مقابر البلاد الواقعة على طرف العمارة، فإن كان لها
حارس، وجب القطع، وإلا فوجهان، أصحهما: يجب أيضا، لأنه حرز في العادة.
الثانية: لو وضع في القبر شئ سوى الكفن، قال الامام: إن كان القبر في
بيت، تعلق القطع بسرقته، وإن كان في المقابر فوجهان، أصحهما وبه قطع
الجمهور: لا قطع للعادة، بخلاف الكفن، لأن الشرع قطع فيه النباش، وجعله
محرزا لضرورة التكفين والدفن، وخص الامام الوجه الآخر بما إذا كان من جنس
الكفن، كثوب وضع فيه، وكما لو كفن في زيادة على خمسة أثواب، ففي الزيادة
على الخمسة التي تلي الميت الوجهان، وليس الوجه مختصا فقد حكاه الروياني
فيما لو وضع في القبر مضربة، أو وسادة للميت، وعن بعضهم أنه أجراه فيما لو
وضع معه دراهم أو دنانير، بل في الرقم للعبادي أن القفال أوجب القطع فيما لو
دفن معه مال في برية، والتابوت الذي يدفن فيه كالأكفان الزائدة، والزيادة على
ما استحب تطييب الميت به، كسائر الأموال، وعن الماسرجسي أنه يقطع بالقدر
343

المستحب كالكفن.
الثالثة: إذا كفن من تركته، فلمن الكفن؟ فيه أوجه، أصحها: للورثة،
لكن يقدم الميت فيه كقضاء دينه وإن كان الملك للورثة، وعلى هذا لو سرقه بعض
الورثة، أو ولد بعضهم، فلا قطع، والثاني: يبقى على ملك الميت لحاجته إليه
وإن كان لا يثبت له الملك ابتداء، كما يبقى الدين عليه وإن لم يثبت عليه ابتداء،
والثالث: أن الملك فيه لله عز وجل، فإن قلنا: الملك فيه للوارث، فهو الخصم
في السرقة، وإن قلنا: للميت، فهل الخصم الوارث أم الحاكم؟ وجهان، وإن
قلنا: لله عز وجل، فالخصم الحاكم، هذا ما ذكره الأصحاب، وقال الامام: إن
كان من يقول: الملك لله تعالى أو للميت، يقول: يتعين رده بعد ما أخذه النباش إلى
الميت، ولا يجوز للوارث إبداله، فالتفريع والخلاف في أن الخصم من هو
صحيح، لكن هذا قول عري عن التحصيل، والوجه عندي أن للوارث إبداله بعد
انفصاله عن الميت، وحينئذ يجب الجزم بأنه الخصم لا غير، ولو أكل الميت
سبع، أو ذهب به سيل، وبقي الكفن، فإن قلنا: إنه ملك الورثة، اقتسموه، وإن
قلنا: ملك الميت، فالأصح أنه يجعل في بيت المال لمصالح المسلمين، والثاني:
أنه للورثة، وإن قلنا: لله تعالى، جعل في بيت المال قطعا، هذا كله إذا كفن من
تركته، فإن كفنه أجنبي، أو كفن من بيت المال، فلمن الملك فيه؟ فيه طريقان:
أحدهما: على الأوجه، والثاني: للأجنبي، أو على حكم بيت المال،
ويكون كالعارية.
قلت: هذا أصح. والله أعلم.
والقول في أن الخصم في السرقة من هو، وفي أنه لو أكله سبع إلى من يرد
الكفن؟ مبني على الخلاف في الملك.
فرع كفن سيد عبده، فهل الكفن ملك السيد أم لا يملكه أحد؟ وجهان،
أصحهما: الأول، ولو سرق الكفن وضاع، كفن ثانيا من التركة، فإن لم يكن،
فهو كمن مات ولا تركة له.
قلت: هكذا جزم صاحب التتمة بأنه يجب تكفينه ثانيا من التركة، وقال
344

صاحب الحاوي: إذا كفن من ماله وقسمت التركة، ثم سرق الكفن، استحب
للورثة تكفينه ثانيا، ولا يلزمهم ذلك، وهذا قوي. والله أعلم.
وإنما يقطع النباش إذا أخرج الكفن من جميع القبر، أما إذا أخرجه من اللحد
إلى فضاء القبر، وتركه هناك لخوف أو غيره، فلا يقطع، هكذا نص عليه الشافعي
رحمه الله عنه، ويجوز أن يخرج على الخلاف في الاخراج من بيت إلى صحن الدار.
فصل إذا كان الحرز ملكا للسارق، نظر إن كان في يد المسروق منه
بإجارة، فسرق منه المؤجرة، قطع، لأن المنافع مستحقة للمستأجر، وفي هذا
الاستبدال إعلام بأن التصوير فيمن استحق بالإجارة إيواء المتاع دون من استأجر أرضا
للزراعة فآوى إليها ماشية، وإن كان الحرز في يده بإعارة وسرق المعير منه مال
المستعير، قطع على الأصح المنصوص، وقيل: لا، وقيل: إن دخل الحرز بنية
الرجوع عن العارية فلا قطع، وإن دخل بنية السرقة قطع، ولو أعار عبدا لحفظ
مال، أو رعي غنم، ثم سرق مما يحفظه عبده، فقيل: يقطع قطعا، وقيل: فيه
الأوجه، ولو أعار قميصا، فلبسه المستعير، وطر المعير جيبه، وأخذ ما فيه، قطع
ولو كان الحرز في يده بغصب، فسرق مالك الحرز منه، فلا قطع، لأن دخوله
جائز فليس محرزا عنه، وإن سرق منه أجنبي، لم يقطع على الأصح، ولو اشترى
الحرز، وسرق منه قبل القبض مال البائع، فإن لم يكن أدى الثمن، قطع، وإلا فلا
على الأصح، ولو غصب مالا، أو سرقة ووضعه في حرزه، فجاء مالك المال
وسرق من ذلك الحرز مالا للغاصب، فلا قطع على الأصح، لأن له دخول الحرز
وهتكه لاخذ ماله، وخصص جماعة الوجهين بما إذا كان مال الغاصب متميزا لا عن
ماله، سواء أخذه وحده أم مع مال نفسه، فأما إذا كان مخلوطا به بحيث لا يتميز
أحدهما، فلا قطع قطعا، وهذا تفريع على أن المال المشترك لا يقطع به الشريك،
345

ولو سرق أجنبي المال المغصوب أو المسروق، لم يقطع على الأصح.
فصل سرق طعاما في عام القحط والمجاعة، فإن كان يوجد عزيزا بثمن
غال، قطع، وإن كان لا يوجد ولا يقدر عليه، فلا قطع، وعلى هذا يحمل ما جاء
عن عمر رضي الله عنه: لا قطع في عام المجاعة.
الركن الثاني: نفس السرقة، وهي أخذ المال على وجه الخفية، فلا قطع
على من أخذ عيانا، كالمختلس والمنتهب، فالمختلس: هو من يعتمد الهرب،
والمنتهب: الذي يعتمد القوة والغلبة، ولا يقطع المودع إذا جحد، وفيه ثلاثة
أطراف:
الأول في إبطال الحرز، وقد يكون بالنقب وفتح الباب، وقد يكون بتغييبه
عن نظر الملاحظ، وفيه صور:
الأولى: إذا نقب، ثم عاد وأخرج نصابا في ليلة أخرى، فإن علم صاحب
الحرز بالنقب، أو كان ظاهرا يراه الطارقون، وبقي كذلك، فلا قطع، لانتهاك
الحرز، وإلا فيقطع على الأصح، وبه قال ابن سريج وغيره، كما لو نقب وأخرج
المال آخر، ولو نقب واحد، ودخل آخر الحرز وأخرج المال في الحال، أو بعده لم
يقطع واحد منهما، ويضمن الأول الجدار.
والثاني ما أخذه، وقيل: في وجوب القطع على الثاني قولان، والمذهب
الأول، فلو كان في الدار حافظ قريب من النقيب، وهو يلاحظ المتاع فهو محرز به،
فيقطع الآخذ. وإن كان الحافظ نائما، لم يقطع في الأصح كما سبق فيمن نام في
الدار وبابها مفتوح.
346

الثانية: تعاون شريكان على النقب، وأخرجا نصابين، بأن أخرج كل واحد
نصابا، أو حملا متاعا يساوي نصابين، لزمهما القطع، وإن تعاونا على النقب،
وانفرد أحدهما بالاخراج، فالقطع على المخرج خاصة، وحكى الامام في المخرج
وجها شاذا جدا، ولو نقب واحد، ودخل مع آخر، وأخرجا المال، قطع الجامع بين
النقب والاخراج دون الآخر، ولو اشتركا في النقب ولو يخرجا إلا نصابا، فقد
سبق أنه لا قطع على واحد منهما، ولو أخرج أحدهما بعد الاشتراك في النقب ثلثا،
والآخر سدسا، قطع صاحب الثلث دون الآخر، وفيما يحصل به الاشتراك في النقب
وجهان، أحدهما: لا يحصل بأخذ آلة واحدة ويستعملاها معا، كما لا يحصل
الاشتراك في قطع اليد إلا بأن يمرا حديدة واحدة، وأصحهما: تحصل الشركة وإن
أخذ هذا لبنات وهذا لبنات.
الثالثة: الشريكان في النقب، إذا دخل أحدهما ووضع المتاع قريبا من
النقب، أو دخل أحد السارقين ووضعه قريبا من باب الحرز، وأدخل الآخر يده
وأخذه، فالقطع على الثاني المخرج دون الأول، وكذا لو وقف أحدهما على طرف
السطح، ونزل الآخر وجمع الثياب وربطها بحبل، فرفعها الواقف، فالقطع عليه
لا على الأول، وعليهما الضمان، ولو وضع الداخل المتاع خارج الحرز أو الباب،
وأخذه الآخر، فالقطع على المخرج دون الآخذ، ولو وضع المتاع على وسط
النقب، فأخذه الآخر وأخرجه وهو يساوي نصابين فقولان، أحدهما: يقطعان،
وأظهرهما: لا قطع على واحد منهما، ولو ناول الداخل الخارج في فم النقب، قال
الروياني: لا يقطع واحد منهما، ذكره بعد حكايته القولين المذكورين، ويشبه أن
يكون هذا تفريعا على الأظهر، وإلا فلا فرق، ولو نقب اثنان ودخلا، وأخذ أحدهما
المال وشده على وسط الآخر، فخرج به الآخر، فالقطع على هذا الآخر دون
الأول، ولو أن الآخر أخذ المال فأخرجه والمتاع في يده، قطع المحمول، وفي
الحامل وجهان، أصحهما: لا يقطع، لأنه ليس بحامل للمال، ولهذا لو حلف
لا يحمل طبقا، فحمل رجلا حاملا طبقا، لا يحنث، ولو نقب زمن وأعمى،
وأدخل الأعمى الزمن فأخذ المال، وحمله الأعمى وأخرجه، قطع الزمن، وفي
الأعمى الوجهان، قال صاحب البيان: ولو أن الأعمى حمل الزمن وأدخله، فدل
الزمن الأعمى على المال، وأخذه، وخرج به قطع الأعمى، ولا يقطع الزمن
347

على الأصح، ولو نقب واحد ودخل، فوضع المتاع على وسط النقب، فأخذه
آخر، أو دخل غير الناقب ووضعه في الوسط، فأخذه الناقب، فلا قطع على واحد
منهما.
فرع لا فرق في هتك الحرز بين النقب، وكسر الباب، وقلعه، وفتح
المغلاق والقفل، وتسور الحائط، فيجب القطع بأخذ المال في جميع هذا
الأحوال.
الطرف الثاني في وجوه النقل وفيه مسائل:
إحداها: رمى المال إلى خارج الحرز من النقب أو الباب، أو من فوق
الجدار، لزمه القطع، سواء أخذه بعد الرمي، أو تركه فضاع أو أخذه غيره، وقيل:
إن لم يأخذه، فلا قطع، فعلى هذا لو أخذه معينة، ففيه تردد للامام، والصحيح
الأول، لو أدخل يده في النقب، أو أدخل فيه محجنا، وأخرج المتاع، قطع، ولو
أرسل محجنا أو حبلا في رأسه كلاب من السطح، وأخرج به ثوبا، أو إناء ونحوه،
قطع.
الثانية: لو أتلف المال في الحرز بأكل أو إحراق، فلا قطع، ولو ابتلع في
الحرز جوهرة أو دينارا فثلاثة أوجه، أصحها: أنها إن خرجت منه بعد ذلك، قطع،
وإلا فلا، والثاني: لا يقطع مطلقا، والثالث: يقطع، ونقل الغزالي وجها رابعا أنه
إن أخذها بعد الانفصال عنه، قطع، وإلا فلا، ولم أره لغيره، ولو أخذ الطيب،
فتطيب به في الحرز، ثم خرج، فإن لم يمكن أن يجمع منه ما يبلغ نصابا،
فلا قطع، وكذا إن أمكن على الأصح، لأن استعماله يعد إهلاكا، كأكل الطعام.
الثالثة: لو كان في الحرز ماء جار فوضع عليه حتى خرج، قطع على
الصحيح، وإن كان راكدا، وحركه حتى خرج به، فهو كالجاري، وإن حركه
غيره، فخرج، فالقطع على المحرك، وإن زاد الماء بانفجار أو مجئ سيل، فخرج
به، لم يقطع على الأصح، ولو كان في بستان أترج والماء يدخل من أحد طرفيه
ويخرج من الآخر، فجمع نارا ووقودا ووضعه على الماء حتى دخل وعلا الدخان،
فأسقط الأترج في الماء، وخرج من الطرف الآخر، فأخذه، أو رمى الأشجار
348

بحجارة من خارج البستان حتى تناثرت الثمار في الماء، وخرجت من الجانب
الآخر، لم يقطع على الصحيح، ولو كانت الريح تهب، فعرض المتاع حتى
خرجت به، أو وضعه على طرف النقب، فطارت به الريح، قطع، ولا أثر لمعاونة
الريح، كما أنها لا تمنع وجوب القصاص وحل الصيد والحالة هذه، ولو كانت الريح
راكدة، فوضعه على طرف النقب، فهبت وأخرجته، فلا قطع على الأصح.
الرابعة: لو وضع متاعا في حرز على ظهر دابة، وسيرها بسوق أو قود حتى
خرجت، أو عقد اللؤلؤة على جناح طائر وطيره، قطع على المذهب، وبه قطع
الأصحاب، وفي البيان وجه، ولو كانت الدابة في السير، فوضع المتاع عليها
فخرجت به، فلا قطع فهو كما لو سيرها، ولو لم تكن سائرة ولا سيرها، بل كانت
واقفة، فوضع المتاع عليها، فسارت وخرجت به، فلا قطع على الأصح، لأن لها
اختيارا في السير، وقيل: لا قطع بلا خلاف، وقيل: إن سارت في الحال، قطع،
وإلا فوجهان، وقيل: إن وقفت، ثم سارت، فلا قطع، وإن سارت في الحال
فوجهان، ولو أخرج شاة، فتبعها أخرى أو سخلتها، ولم تكن الأولى نصابا، ففيه
هذا الخلاف، والمذهب أنه لا قطع في الصورتين، وفي دخول السخلة في
ضمانه وجهان، ولو نقب الحرز، ثم أمر صبيا لا يميز بإخراج المال، فأخرجه
فقال الجمهور: يجب القطع على الآمر قطعا، وقيل: على الخلاف في خروج
البهيمة التي كانت واقفة، وإن كان مميزا وله اختيار صحيح ورؤية، فلا قطع، لأنه
ليس آلة له، والعبد الأعجمي كالصبي الذي لا يميز.
الخامسة: لو سرق عبدا صغيرا لا يميز، قطع إن كان محرزا، وإنما يكون
محرزا إذا كان في دار السيد، أو بفناء داره، فإن بعد عنها، ودخل سكة أخرى،
فليس بمحرز، وسواء في المحرز بفناء الدار كان وحده، أو كان يلعب مع الصبيان،
لأنه لا يعد مضيعا، وسواء حملة نائما أو مستقيظا، أو دعاه فتبعه، لأنه كالبهيمة
يساق أو يقاد، ويجئ فيه الخلاف في تسيير البهيمة والمجنون والأعجمي الذي
لا يميز كصغير لا يميز، وإن كان الصغير مميزا، فسرقه نائما أو سكران أو مضبوطا،
349

فعلى ما ذكرناه في غير المميز، ولو دعاه وخدها فتبعه باختياره، فليس بسرقة، بل
هو خيانة، لو أكرهه بالسيف حتى خرج من الحرز، قطع على الأصح، ولو حمل
عبدا قويا قادرا على الامتناع، فلم يمتنع، فلا قطع، ولو حمله نائما أو سكران، قال
الامام: الوجه عندي الجزم بثبوت يده عليه حتى لو تلف قبل التيقظ، ضمنه، لان
المنقول لا يتوقف ثبوت اليد عليه على الاستيلاء والتمكن من المقاومة عند طلب
الاسترداد، قال: وفي تحقيق السرقة نظر، لأن مثل هذا العبد محرز بيده وقوته،
هكذا ذكر المسألة الامام والغزالي في الوسيط على الترديد، وأطلق في الوجيز
أنه لا قطع، قال الامام: ولو جلس حيث لا مستغاث يصاح به، وهو يلاحظ
متاعه، فتغفله ضعيف، وأخذ المال، ولو شعر به صاحب المال لطرده، فهل
نقول: لا قطع، كما لو أخذه قوي لا يبالي بصاحب المال، أم نقول: يختلف
الحكم بحسب اختلاف الآخذين؟ الظاهر عندنا أنه يختلف.
السادسة: الحر لا يضمن باليد، فلا قطع بسرقته وإن كان طفلا، لأنه ليس
بمال، فلو كان مع الصبي مال، أو في عنقه قلادة تبلغ نصابا، فلا قطع أيضا على
الأصح، لأنه في يد الصبي ومحرز به فلم يخرجه من حرزه، هكذا أطلق الجمهور
الوجهين، وصورهما الامام فيما لو كان الصبي نائما أو مربوطا عند الحمل، قال:
ويجريان في أن من حمله على غير صورة السرقة هل تدخل الثياب التي عليه في
350

ضمانه؟ ولو حمل حرا مستقلا وأخرجه من الحرز وعليه ثيابه، أو معه مال آخر، قال
الامام: تقدم عليه مسألة وهي أنه لو نام على بعير عليه أمتعة. فجاء سارق فأخذ
بزمامه، وأخرجه عن القافلة، وجعله في مضيعة، وفيه أربعة أوجه، أحدها: يجب
القطع، لأنه أخرج نصابا من الحرز والمأمن إلى المضيعة، والثاني: لا قطع، لان
البعير وما عليه محرز بالراكب ولم يخرجه من يده، والثالث: إن كان الراكب قويا
لا يقاومه السارق لو انتبه فلا قطع، وإن كان ضعيفا لا يبالي به السارق، قطع ولا أثر
ليد الضعيف، والربع وهو الأصح، ولم يذكر كثيرون سواه: إن كان الراكب حرا،
فلا قطع، لأن المتاع والبعير في يده، وإن كان عبدا، قطع، لأن العبد في نفسه
مسروق يتعلق به القطع، ثم بنى الامام على هذا الخلاف خلافا حكاه في أن
المستقل إذا حمله حامل، هل يدخل ما عليه من الثياب تحت يد الحامل؟ قال
والقول بدخولها بعيد، وهو في الحر القوي أبعد منه في الضعيف وحيث
لا تثبت يد الحامل على الثياب فلا سرقة، وأن ما مع الحر لا يدخل في يد
الحامل، لأن يد المحمول ثابتة على ما معه، ولهذا نقول: ما يوجد مع اللقيط
يحكم بأنه في يده.
فرع لو سرق حليا من عنق صبي، أو سرق ثيابه، قطع، وفي الموضع
الذي يكون العبد الصغير محرزا، ولو سرق قلادة من عنق كلب، أو سرقها مع
الكلب، قطع، وحرز الكلب كحرز الدواب.
الطرف الثالث في المحل المنقول إليه:
فلا قطع بنقل المتاع من بعض زوايا الحرز إلى بعضها، ولو نقل من بيت إلى
صحن الدار، نظر إن كان باب البيت مغلقا وباب الدار مفتوحا، قطع، لأنه أخرجه
من حرزه، وجعله في محل الضياع، وإن كان باب البيت مفتوحا وباب الدار مغلقا،
فلا قطع، وإن كان البابان مغلقين، فلا قطع على الأصح المنصوص، وقيل:
يقطع، وقيل: إن كان الصحن حرزا، لم يقطع، وإلا فيقطع، وإن كان باب البيت
والدار مفتوحين فالمال ضائع إذا لم يكن محرزا باللحاظ، فلا قطع، وهذه الصور
الأربع ظاهرة التصوير إذا لم يوجد من السارق تصرف في باب الدار، بأن تسور
351

الجدار ودخل، أما إذا فتح باب الدار المغلق، ثم أخرج المتاع من البيت إلى
الصحن، فالحرز الذي يهتكه السارق في حكم الحرز الدائم بالنسبة إليه، فيكون
كما لو نقل إلى الصحن وباب الدار مغلق، هذا ما رآه الامام أصح، فإن أغلق الباب
بعد فتحه، فهو أظهر، وجميع ما ذكرنا في دار هي وبيوتها لواحد، فلو سكنها
جماعة، وانفرد كل واحد بحجرة أو بيت وفي معناها الخانات والمدارس
والرباط، فهو في حق من لا يسكن الخان كدار يختص بها واحد حتى إذا
سرق من حجرها أو صحنها ما يحرزه الصحن، وأخرج من الخان، قطع، وإن
أخرج من البيوت والحجر إلى صحن الخان فوجهان، أحدهما: يقطع بكل حال،
لأن الصحن ليس حرزا لصاحب البيت بل هو مشترك بين السكان، كالسكة المشتركة
بين أهلها، وبهذا قطع صاحب المهذب، وجماعة، والثاني وبه قطع الغزالي
والبغوي وغيرهما: أنه كالاخراج من بيوت الدار إلى صحنها، فيفرق بين أن
يكون باب الخان مفتوحا أو مغلقا، ويقرب من هذا ما حكي عن الشيخ أبي محمد أنه
إن كان نهارا، قطع، وإن كان ليلا، فلا، لأن الباب يكون مغلقا، وأما إذا سرق
أحد السكان، فإن سرق من العرصة، فلا قطع، لأنها مشتركة وما فيها غير محرز
عنهم، قال الامام: هذا إذا كان فتح الباب هينا على من يخرج منها، بأن كان موثقا
بسلاسل ونحوها، أما إذا كان موثقا بالمغاليق وله مفتاح بيد حارس وكان يحتاج
مخرج المتاع إلى معاناة وما يحتاج إليه من يحاول الدخول من خارج، ففيه تردد،
وإن أخرجه من بعض البيوت إلى الصحن، وكان باب البيت مغلقا، والصحن في
حق السكان كسكة منسدة بالإضافة إلى الدور، ولا فرق بين أن يكون باب الخان
مفتوحا أو مغلقا، كما لو كان على السكة باب لا فرق بين أن يكون مغلقا أو مفتوحا.
فرع سرق الضيف مال المضيف من موضع محرز عنه، قطع، وإن سرقه
من غير محرز عنه، لم يقطع، ولو سرق جار من طرف حانوت جاره حيث يحرز
بلحاظ الجيران، فلا قطع، لأنه محرز به لا عنه.
352

فرع دخل رجل الحمام مغتسلا، فسرق لم يقطع، فإن دخل سارقا
وهناك حافظ الحمامي أو غيره، قطع، فإن كان نائما أو معرضا، أو لم يكن أحد،
فلا قطع، قال البغوي وغيره: إنما يقطع بسرقة ثوب من دخل الحمام إذا استحفظ
الحمامي فحفظه، فإن لم يستحفظه، فلا ضمان على الحمامي بترك الحفظ،
ولا قطع على السارق، وإن استحفظه، فلم يحفظ، ضمن ولا قطع على السارق.
فرع أذن صاحب الدكان للناس في دخوله للشراء، فمن دخل مشتريا
وسرق، لم يقطع، ومن دخل سارقا، قطع، وإن لم يأذن في دخوله، قطع كل
داخل.
الركن الثالث: السارق، وشرطه التكليف والاختيار والالتزام، فلا قطع على
صبي ومجنون ومكره وحربي، وفي السكران الخلاف السابق في الطلاق وغيره،
ويقطع المسلم والذمي بسرقة مال المسلم والذمي، وكذا يحد الذمي إذا زنى، ثم في
التهذيب وغيره أنا إذا ألزمنا حاكمها الحكم بينهم أقام عليه الحد وقطعه، وإن لم
يرض وإن لم يلزمه الحكم، لم يحده ولم يقطعه إلا برضاه، سواء من مسلم أو
ذمي، وإن كان يجب الحكم بين المسلم والذمي بلا خلاف، لأن القطع حق الله
تعالى، لا حق المسروق منه، وأشار الامام إلى الجزم بأنه قطع إذا سرق مال مسلم
ولا يتوقف على رضاه، وذكر أنه إذا سرق مال ذمي، لم يقطع حتى يترافعوا إلينا،
ويجئ القولان في إجبار الممتنع إذا جاءنا الخصم، قال: ولو زنى بمسلمة، ففي
كلام بعض الأصحاب أن الحد على القولين، قال الامام: هذا غلط، والصواب
الجزم بإقامة الحد قهرا، وإن كان ذلك لله تعالى، لأنا لو فوضنا الامر إلى رضاه،
لجر ذلك فضيحة عظيمة، وغايتنا أن نحكم بنقض العهد، وإذا طلب تجديده،
وجب التجديد، وكيف قدر الخلاف، فالمذهب أنه لا يشترط رضاه على الاطلاق،
كما سبق في بابي الزنى والنكاح، وأما المعاهد ومن دخل بأمان، ففيه أقوال،
353

أظهرها عند الأصحاب، وهو نصه في أكثر كتبه: لا يقطع، لأنه لم يلتزم، فأشبه
الحربي، والثاني: يقطع كالذمي، وكحد القذف والقصاص، والثالث وهو حسن:
إن شرط عليه في العهد قطعه إن سرق، قطع، وإلا فلا، ومنهم من اكتفى على هذا
القول بأن يشرط عليه أن لا يسرق، ومنهم من قطع بالتفصيل، ومنهم من قطع بنفي
القطع، ولا خلاف أنه يسترد المسروق أو بدله إن تلف، ولو سرق مسلم مال
معاهد، قال الامام: التفصيل فيه كالتفصيل في معاهد سرق مال مسلم، ولو زنى
معاهد بمسلمة فطريقان، أحدهما: أن في حد الزنى الخلاف، كالقطع، والثاني:
الجزم بأن لا حد، لأنه محض حق الله تعالى لا يتعلق بخصومة آدمي وطلبه، وهذا
موافق لنقل العراقيين، والبغوي، وفي انتقاض عهد المعاهد بالسرقة أوجه، ثالثها:
إن شرط أن لا يسرق، انتقض، وإلا فلا.
فرع سواء في وجوب القطع الرجل والمرأة والعبد الآبق وغيره.
الباب الثاني فيما تثبت به السرقة
تثبت بثلاث حجج،
إحداها: اليمين المردودة، فإذا ادعى عليه سرقة توجب القطع، فأنكر
وحلف، فلا شئ عليه، وإن نكل، ردت اليمين على المدعي، فإذا حلف،
وجب المال والقطع، هكذا نقله الامام عن الأصحاب، وكذا ذكره الغزالي وإبراهيم
المروذي، لأن اليمين المردودة كالاقرار وكالبينة، وكلاهما يوجب القطع، والذي
ذكره صاحبا الشامل والبيان وغيرهما أنه لا يثبت بها القطع، لأنه حق الله
تعالى، فأشبه ما لو قال: أكره أمتي على الزنى، فحلف المدعي بعد نكول المدعي
عليه، يثبت المهر دون حد الزنى.
قلت: صحح الرافعي في المحرر الأول. والله أعلم.
354

الحجة الثانية: الاقرار، فإذا أقر بسرقة توجب القطع، أجري عليه حكمها،
ولا يشترط تكرير الاقرار، فلو أقر ثم رجع، فالمذهب أنه لا يقبل في المال، وأنه
يقبل في سقوط القطع، فلو رجع بعد قطع بعض اليد، سقط الباقي، فإن كان يرجى
برؤه، فذاك وإلا فللمقطوع قطع الباقي لئلا يتأذى به، ولا يلزم الامام ذلك. ولو أقر
اثنان بسرقة نصابين، ثم رجع أحدهما، سقط القطع دون الآخر، والرجوع عن
الاقرار بقطع الطريق، كالرجوع عن الاقرار بالسرقة، ولو أقر بإكراه أمة على الزنى،
ثم رجع، فالمذهب سقوط الحد دون المهر.
فرع إذا أقر ابتداء من غير تقدم دعوى بأنه سرق من زيد الغائب سرقة
توجب القطع، فهل يقطع في الحال، أم ينتظر حضور زيد ومطالبته؟ وجهان،
أصحهما: الثاني، لأنه ربما حضر، وأقر أنه كان أباحه المال، فيسقط الحد وإن
كذبه السارق، والحد يسقط بالشبهة، فتأخيره أولى، ولو بإكراه جارية غائب
على الزنى فوجهان، أصحهما: يحد للزنى ولا يؤخر، لأنه لا يتوقف على طلبه،
ولو حضر وقال: كنت أبحتها له، لم يسقط الحد، وقال ابن سريج: يؤخر لاحتمال
أنه يقر بأنه وقف عليه تلك الجارية، قال الامام: وعلى الأول لو قال المالك: كنت
بعتها، أو وهبتها، وأنكر المقر، ينبغي أن لا يسقط الحد، وعلى قياسه ينبغي أن
لا يسقط الحد إذا أقر بوقف الجارية، وكذبه المقر.
قلت: ليس الوقف كالبيع، فإنه يصح بلا قبول على المختار. والله أعلم.
وإذا قلنا: لا يقطع حتى يحضر الغائب، فهل يحبس؟ فيه أوجه، أحدها:
نعم، كمن أقر بقصاص لغائب أو صبي، والثاني: إن قصرت المسافة وتوقع قدومه
355

على قرب، حبس، وإلا فلا، والثالث: إن كانت العين تالفة، حبس للغرم، وإن
كانت باقية، أخذت منه، ثم يفرق بين طول المسافة وقصرها، ولو أقر بغصب مال
غائب، لم يحبس، لأن الحكام لا مطالبة له بمال الغائب.
فرع لو أقر عبد بسرقة موجبة للقطع، قطع وفي قبوله في المال أقوال،
أظهرها: لا يقبل، والثاني: يقبل، والثالث: إن كان المال في يده، قبل، وإن
تلف، فلا، والرابع: عكسه، هذا إذا كان المال في يده، أما إذا كان في يد
السيد، أو أجنبي، فلا يقبل إقراره فيه بلا خلاف، ولو أقر بسرقة دون النصاب،
لم يقبل بلا خلاف إلا أن يصدقه. سيده.
فرع متى رفع إلى مجلس القضاء، واتهم بما يوجب عقوبة لله تعالى،
فللقاضي أن يعرض له بالانكار، ويحمله عليه، فلو أقر بذلك ابتداء، أو بعد
الدعوى، فهل يعرض له بالرجوع؟ فيه أوجه، الصحيح الذي قطع به عامة
الأصحاب: نعم، للحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لماعز رضي الله عنه بعد
إقراره بالزنى: لعلك قبلت والثاني: لا، ونقله الامام عن الجمهور، وليس كما
قال، والثالث: إن لم يكن عالما بجواز الرجوع، عرض له، وإلا فلا، فعلى الأول
هل يستحب للقاضي التعريض؟ وجهان، أحدهما: نعم، للحديث، وأصحهما:
لا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك التعريض في أكثر الأوقات. والتعريض في الزنى: لعلك
فأخذت، أو لمست، أو قبلت. وفي شرب الخمر: لعلك لم تعلم أن ما شربته
مسكر. وفي السرقة: لعلك غصبت، أو أخذت بإذن المالك، أو من غير حرز
ونحوها، ولا يحمله القاضي على الرجوع تصريحا بأن يقول: ارجع عن الاقرار، أو
أجحده، وإذا ثبت الحد بالبينة لا يحمله على الانكار، وأما حقوق الآدمي،
فلا يعرض له بالرجوع عن الاقرار بها، حتى لا يعرض في السرقة بما يسقط الغرم،
356

إنما يسعى في دفع القطع، وهل للحاكم أن يعرض للشهود بالتوقف في حدود الله
تعالى؟ وجهان.
قلت: أصحهما: نعم إن رأى المصلحة في الستر، وإلا فلا. والله أعلم.
فرع قال الامام: في الحديث من أتى شيئا من هذه القاذورات
فليستتر بستر الله: هذا دليل على أنه لا يجب على من قارف موجب حد إظهاره
للامام، قال: وكان شيخي يقطع به، وفيه احتمال إذا قلنا: الحد لا يسقط بالتوبة.
قلت: الصواب: الجزم بأنه لا يجب الاظهار لقصة ماعز، وإنما لا يسقط
الحد بالتوبة على قول في ظاهر الحكم، وأما فيما بينه وبين الله تعالى، فالتوبة
تسقط أثر المعصية. والله أعلم.
الحجة الثالثة: الشهادة، فيثبت القطع بشهادة رجلين، ولا يثبت برجل
وامرأتين، فلو شهد رجل وامرأتان بالسرقة، أو شاهد وحلف المدعي معه، ثبت
المال ولا يثبت القطع كما لو علق الطلاق أو العتق على غصب أو سرقة، فشهد
رجل وامرأتان على الغصب أو السرقة، ثبت المال دون الطلاق والعتق، وقيل: في
ثبوت المال في السرقة قولان، والمذهب الأول، ولا تقبل في السرقة شهادة مطلقة
لاختلاف المذاهب فيها، فيشترط بيان السارق بالإشارة إليه إن كان حاضرا، أو ذكر
اسمه ونسبه بحيث يتميز إن كان غائبا، ويكفي عند حضوره أن يقول: سرق هذا،
وحكى ابن كج وجها أنه يشترط أن يقول، هذا بعينه، وليس بشئ، ويشترط أن
يبين المسروق والمسروق منه، وكون السرقة من حرز بتعيين الحرز أو صفته، وعن
القاضي أبي الطيب وغيره، أن الشاهد يقول أيضا، ولا أعلم له فيه شبهة، قال
صاحب الشامل: وليكن هذا تأكيدا، لأن الأصل عدم الشبهة، ويشترط أن تتفق
شهادة الشاهدين، فلو شهد أحدهما أنه سرق بكرة، والآخر أنه سرق عشية، أو
أحدهما بسرقة كبش أبيض، والآخر بكبش أسود، فهما شهادتان على سرقتين
357

مختلفتين، فلا قطع، وللمشهود له أن يحلف مع أحدهما، فيغرمه، ولو شهد اثنان
أنه سرق كذا غدوة، وشهد آخران أنه سرق عشية، فالبينتان متعارضتان، فلا يحكم
بواحدة منهما، وفي الصورة الأولى لا يقال: متعارضتان، لأن الحجة لم تتم، فلو
لم تتوارد الشهادتان على معين، بل قال بعضهم: سرق كبشا غداة، وقال بعضهم:
سرق كبشا عشية، فإن كان الذي شهد واحدا وواحدا، فلا قطع، وللمشهود له أن
يحلف مع أحدهما، ويأخذ الغرم، أو معهما ويأخذ غرم ما شهدا به جميعا، وإن
شهد اثنان واثنان، وجب القطع، وغرم ما شهد به هذان وهذان، لكمال الحجتين،
ولو شهد واحد بسرقة كبش، وآخر بسرقة كبشين، ثبت الواحد وتعلق به القطع إن
بلغ نصابا، ولو شهد واحد بسرقة ثوب قيمته ربع دينار، وشهد آخر بسرقة ذلك
الثوب، وقومه بثمن دينار، لم يقطع ويغرم ثمن دينار، وللمشهود له أن يحلف مع
شاهد الربع ويستحقه، ولو شهد اثنان بسرقته وقالا: قيمته ربع، وشهد آخران بسرقته
وقالا: قيمته ثمن، لم يقطع، وللمشهود له الثمن، ولو شهد أحدهما بسرقة ثوب
أبيض قيمته ربع، والآخر بسرقة ثوب أسود قيمته ثمن، فلا قطع، ولا يثبت بهما
شئ لاختلافهما، وله أن يحلف مع أحدهما، وإن شهد اثنان واثنان تمت
الشهادتان، فيقطع ويغرم الربع والثمن معا.
فرع كما يشترط التفصيل في الشهادة بالسرقة يشترط في الاقرار بها،
فلا قطع على من أقر بالسرقة مطلقا، لأنه قد يظن غير السرقة سرقة، واسم السرقة
يقع على ما يقطع به وعلى غيره، وفي الشهادة على الزنى يشترط التفصيل، وكذا في
الاقرار به على الأصح.
فرع الشهادة بالسرقة إن ترتبت على دعوى المسروق منه أو وكيله،
فذاك، وإن شهد الشهود على سبيل الحسبة، فهل تقبل شهادتهم؟ وجهان،
أصحهما: نعم، فعلى هذا إن كان المسروق منه غائبا، فالنص أنه لا يقطع حتى
يحضر الغائب، ونص فيما لو شهد أربعة بالزنى بجارية غائب أنه يحد، ولا ينتظر
حضور الغائب، فقيل: قولان فيهما، وقيل: ينتظر المالك في الصورتين، وغلطوا
ناقل نص الزنى أو تأولوه، والمذهب تقرير النصين، والفرق أن حد الزنى لا يسقط
بإباحة الوطئ، وحد السرقة يسقط بإباحة المال، فربما كان الغائب أباحه فانتظر
اعترافه، ولان القطع متعلق حق الآدمي، فإنه شرع حفظا لماله، فاشترط حضوره،
358

فإن قلنا: لا يقطع ولا يحد في الحال، فهل يحبس؟ فيه الخلاف السابق فيمن أقر
بسرقة مال غائب، أو بالزنى بجارية غائب، وأشار الامام إلى أن الظاهر عند
الأصحاب أنه يحبس لما يتعلق به من حق الله تعالى، وإذا لم يقطع حتى حضر
المالك، فإن لم يطلب المال، أو اعترف بما يسقط القطع، فلا قطع، وإن طلب
ولم تظهر شبهة، فإن قلنا: شهادة الحسبة مقبولة، قطع، وهل تجب إعادة الشهادة
لثبوت المال؟ وجهان، أصحهما: نعم، لأن شهادة الحسبة لا تقبل في الأموال،
والثاني: لا، ويثبت الغرم تبعا، وإن قلنا: غير مقبولة، فلا بد من إعادة البينة
للمال، والأصح أنها لا تعاد للقطع.
فرع سرق مال صبي أو مجنون، قال ابن كج: إن انتظرنا حضور الغائب
واعتبرنا طلبه، انتظر بلوغه وإفاقته، وإلا قطعناه في الحال.
فرع إذا قلنا: يسقط الحد بدعوى الملك، فهل يستفصله القاضي سعيا
في سقوط الحد؟ فيه تردد للامام.
قلت: الأصح لا يستفصله، لأنه إغراء له بادعاء الباطل. والله أعلم.
الباب الثالث في الواجب على السارق
وهو شيئان:
أحدهما: رد المال إن كان باقيا، وضمانه إن تلف، سواء في ذلك الغني
والفقير.
الثاني: القطع، فتقطع من السارق والسارقة يده اليمنى، فإن سرق ثانيا،
قطعت رجله اليسرى، فإن سرق ثالثا، قطعت يده اليسرى، فإن سرق رابعا،
قطعت رجله اليمنى، فإن سرق بعد ذلك، عزر، ونقل الامام عن القديم قولا، أنه
359

يقتل للحديث، والمشهور التعزير، والحديث منسوخ أو مؤول على أنه قتله
لاستحلاله، أو لسبب آخر، وتقطع اليد من الكوع، والرجل من المفصل بين الساق
والقدم، ويمد العضو مدا عنيفا حتى ينخلع، ثم يقطع بحديدة ماضية، ويمكن
المقطوع جالسا ويضبط لئلا يتحرك، ويحسم موضع القطع بأن يغمس في زيت أو
دهن مغلي، لتنسد أفواه العروق وينقطع الدم، وهل هذا حق لله تعالى وتتمة للحد،
أم هو حق للمقطوع ونظر له؟ وجهان، أصحهما: الثاني، فعلى الأول يتركه
الامام، ويكون ثمن الدهن ومؤنة الحسم على الخلاف في مؤنة الجلاد، وإن قلنا
بالأصح، فالمؤنة على المقطوع، ولو تركه السلطان، فلا شئ عليه، وحينئذ
يستحب للسارق أن يحسم ولا يجب، لأن في الحسم ألما شديدا وقد يهلك
الضعيف، والمداواة بمثل هذا لا تجب بحال، وقيل: للامام إجباره والصحيح
الأول، ويستحب للامام أن يأمر بالحسم عقب القطع، ولا يفعله إلا بإذن السارق إلا
على قول من أجبره، والسنة أن تعلق اليد المقطوعة في عنقه، ثم الذي يوجد في
كتب الجمهور أنها تعلق ساعة، وأطلقوا ولم يفوضوه إلى رأي الامام، وحكى الامام
وجها أنها لا تعلق، ووجها تعلق ثلاثا ووجها الامر فيه إلى رأي الامام، وهذه الأوجه
غريبة ضعيفة.
360

فرع لو كان على يمينه أصبع زائدة، فوجهان، أحدهما: لا تقطع، بل
تقطع رجله اليسرى، وأصحهما: تقطع ولا يبالي بالزيادة، لأن المراد التنكيل
بخلاف القصاص، فإن مقصوده المساواة، ولو كانت اليمين شلاء، فإن قال أهل
الخبرة: إن قطعت لا ينقطع الدم، لم تقطع، ويكون كمن لا يمين له، وإن قالوا:
ينقطع، قطعت واكتفي بها، ولو كانت ناقصة أربع أصابع، اكتفينا بها لحصول
الايلام والتنكيل، وإن لم يبق إلا الكف، أو بعض الكف بلا أصابع، ففي الاكتفاء
بذلك وجهان، أو قولان، أصحهما: الاكتفاء لما ذكرنا، وطرد القاضي أبو حامد
الوجهين فيما لو كانت يمينه بلا إبهام.
فرع من لا يمين له، تقطع رجله اليسرى كما ذكرنا، ولو سرق ويمينه
سليمة، فسقطت بآفة أو جناية، سقط عنه القطع، وقيل: يعدل إلى الرجل، كما
لو فات محل القصاص يعدل إلى بدله، وهو الدية، والصحيح الأول، لأن القطع
تعلق بها، ولو سرق مرارا ولم يقطع، اكتفي بقطع يمينه عن الجميع، كمن زنى،
أو شرب مرات يلزمه حد واحد.
فرع بدر أجنبي، فقطع يمين السارق بغير إذن الإمام، لا قصاص عليه،
لأنها مستحقة القطع، فلو سرى إلى النفس، فلا ضمان، لأنها متولدة من مستحق،
لكن يعزر المبادر لافتئاته على الامام، هكذا أطلقوه، ويشبه أن يجعل وجوب
القصاص على الخلاف في قتل الزاني المحصن ولو قطع يساره جان، أو قطعها
الجلاد عمدا، وجب القصاص على القاطع، ولا يسقط عن السارق قطع اليمين،
فلو قال القاطع: لم أعلم أنها يساره، حلف ولزمته الدية، ولو قال الجلاد للسارق:
أخرج يمينك، فأخرج يساره، فقطعها، فطريقان، قال القاضي أبو الطيب
وآخرون: إن قال المخرج: ظننتها اليمين، أو أن اليسار تجزئ، سقط بها القطع
على الأظهر، فإن قلنا: لا يسقط، فقال القاطع: علمت أنها اليسار، وأنها لا
تجزئ، لزمه القصاص، وإن قال: ظننتها اليمين، أو أنها تجزئ، لزمه الدية،
وقال الشيخ أبو حامد: يراجع القاطع أولا، فإن قال: علمتها اليسار وأنها لا
تجزئ، لزمه القصاص وبقي القطع واجبا في اليمين، وإن قال: ظننتها اليمين،
أو أن اليسار تجزئ، لزمه الدية، وفي سقوط قطع اليمين القولان، وكلام الامام
361

وغيره يوافق هذا الطريق، إلا أن القصاص إنما يلزم القاطع، وإن علم الحال إذا لم
يوجد من المخرج قصد بذل وإباحة، ولو سقطت يسار السارق بآفة بعد وجوب قطع
اليمين، فقال أبو إسحاق: يسقط قطع اليمين في قول كما في مسألة غلط الجلاد،
وغلطه الأصحاب وقالوا: لا يسقط.
فرع لو كان لمعصمه كفان نقل الامام عن الأصحاب أنهما تقطعان، ولا
يبالي بالزيادة، كالإصبع الزائدة، واختار هو أن يفصل، فإن تميزت الأصلية،
وأمكن الاقتصار على قطعها، لم تقطع الزائدة، وإلا فتقطع، فلو أشكل الحال،
قال الامام: فالذي رأيته للأصحاب أنهما يقطعان، ويوافقه ما في فتاوى القفال أن
الكفين الباطشتين تقطعان جميعا، لأنهما في حكم يد، ولهذا لا تجب فيهما
ديتان، لكن في التهذيب أنه تقطع في السرقة إحداهما، فإن سرق ثانيا، قطعت
الأخرى، ولا تقطعان بسرقة واحدة بخلاف الإصبع الزائدة، لأنه لا يقع عليها اسم
يد وهذا أحسن، قال: ولو كان يبطش بأحدهما، قطعت الباطشة دون الأخرى،
وإن سرق ثانيا، قطعت رجله، فلو صارت الأخرى باطشة، فسرق ثانيا، قطعت
هي لا الرجل، فإن سرق ثالثا، قطعت الرجل.
قلت: الصحيح المنصوص أنه لا يقطع إلا إحداهما كما ذكره في
التهذيب، وقد جزم به جماعة، منهم القاضي أبو الطيب وصاحب البحر
والشيخ نصر المقدسي وغيرهم، ونقله القاضي والمقدسي عن نص الشافعي
رحمه الله، وقد أوضحته في صفة الوضوء من شرح المهذب. والله أعلم.
فصل في مسائل منثورة في فتاوى القفال، إذا كان ثوبه بين يديه في
المسجد، فقال لرجل: احفظ ثوبي، فقال: نعم أحفظه، فرقد صاحب الثوب،
وذهب الرجل، وترك الثوب، فسرق، لزمه الضمان، ولو سرقه المستحفظ فلا قطع
عليه، ولو أغلق باب داره أو حانوته، وقال للحارس: انظر إليه أو احفظه، فأهمله
الحارس، فسرق ما فيه، لم يضمن، لأنه محرز في نفسه، ولم يدخل تحت يده،
ولو سرقه الحارس، قطع، وفي فتاوى الغزالي: إذا تغفل السارق الحمامي وسرق
الثياب، اعتبر في وجوب القطع أن يخرجها من الحمام، وأن الموضوع في الصحراء
لا يكفي لوجوب القطع أخذه، ولا النقل بخطوة ونحوها، بل ضبط مثل ذلك أن
362

يقال: إحراز مثله بالمعاينة، فإذا غيبه عن عينه بحيث لو تنبه له لم يره، بأن دفنه في
تراب، أو واراه تحت ثوبه، أو حال بينهما جدار، فقد أخرجه من حرزه، وأنه لو
علم قردا النزول إلى الدار، وإخراج المتاع، فنقب، وأرسل القرد وأخرج المتاع،
ينبغي أن لا يقطع، لأن للحيوان اختيارا بخلاف الاخذ بالمحجن، وفي فتاوى
البغوي: لو وضع ميت على وجه الأرض ونضدت الحجارة عليه، كان ذلك
كالدفن، حتى يجب القطع بسرقة الكفن لا سيما إذا كان لا يمكنهم الحفر.
قلت: ينبغي أن لا يقطع إلا إن تعذر الحفر، لأنه ليس بدفن. والله أعلم
وأنهم لو كانوا في بحر، فطرح الميت في الماء، فأخذ رجل كفنه، لم
يقطع، لأنه ظاهر، فهو كما لو وضع الميت على شفير القبر، فأخذ، ولو غيبه
الماء، فغاص سارق، وأخذ الكفن، لم يقطع أيضا، لأن طرحه لا يعد إحرازا،
وقد يتوقف في هذا وبالله التوفيق.
باب قطاع الطرق
فيه أطراف:
الأول: في صفتهم، وتعتبر فيهم الشوكة، والبعد عن الغوث، وأن يكونوا
مسلمين مكلفين، فالكفار ليس لهم حكم القطاع وإن أخافوا السبيل، وقيل:
363

والمراهقون لا عقوبة عليهم، ويضمنون المال والنفس، كما لو أتلفوا في غير هذا
الحال، وأما الشوكة، فقطاع الطريق طائفة يترصدون في المكامن للرفقة، فإذا
رأوهم، برزوا قاصدين الأموال معتمدين في ذلك على قوة وقدرة يتغلبون بها، وفيهم
شرعت العقوبات الغليظة التي سنصفها إن شاء الله تعالى، وأما الذين لا يعتمدون
قوة، ولكن ينتهزون ويختلسون، ويولون معتمدين على ركض الخيل، أو العدو
على الاقدام، كما يتعرض الواحد والنفر اليسير لاخذ القافلة فيسلبون شيئا، فليسوا
بقطاع، وحكمهم في الضمان والقصاص حكم غيرهم، ولو خرج واحد أو شرذمة
يسيرة، فقصدهم جماعة يغلبونهم بقوتهم، فهم قطاع وإن لم يكثر عددهم،
لاعتمادهم على الشوكة والنجدة بالإضافة إلى الواحد والشرذمة، كذا نقله الامام عن
طرق الأصحاب، ويقرب منه ما ذكره ابن كج أنه لو أقام خمسة أو عشرة في كهف،
أو شاهق جبل، فإن مر بهم قوم لهم شوكة وعدة، لم يتعرضوا لهم، وإن مر قوم
قليلو العدد، قصدوهم بالقتل وأخذ المال، فحكمهم حكم قطاع الطريق في حق
الطائفة اليسيرة، وإن تعرضوا للأقوياء وأخذوا شيئا، فهم مختلسون، ورأي الامام
أن يفصل القول في الرفقة اليسيرة والواحد، فيقال: إن كان خروجهم في مثل ذلك
الطريق يعد تضييعا وتغريرا بالنفس والمال، فالمتعرضون لهم ليسوا بقطاع، وينزل
خروجهم في هذه الحالة كترك المال في موضع لا يعد حرزا، وأقام الامام ما رآه
وجها، ولو كانت الرفقة يتأتى منهم دفع القاصدين ومقاومتهم، فاستسلموا حتى قتلوا
وأخذت أموالهم، فالقاصدون لهم ليسوا بقطاع، لأن ما فعلوه لم يصدر عن
شوكتهم، بل الرفقة ضيعوا، هكذا أطلقه الأصحاب، ويجوز أن يقال: ليست
الشوكة مجرد العدد والعدة، بل تحتاج مع ذلك إلى اتفاق كلمة ومتبوع مطاع وعزيمة
على القتال، والقاصدون للرفقة هكذا يكونون في الغالب،
والرفقة لا تجتمع كلمتهم، ولا يضبطهم مطاع، ولا عزم لهم على القتال، وخلوهم
عن هذه الأمور يوقعهم في التخاذل لا عن قصد منهم، فينبغي أن لا يجعلوا
مضيعين، ولا يخرج قاصدوهم عن كونهم قطاعا، ولو أن الرفقة قاتلوهم، ونالت
كل طائفة من الأخرى، فهل هم قطاع؟ فيه احتمالان للامام، أصحهما: نعم، وبه
جزم الغزالي، وأما البعد عن الغوث، فإنما اشترط ليمكنهم الاستيلاء والقهر مجاهرة
364

وذلك إنما يتحقق غالبا في المواضع البعيدة عن العمارة، ولو خرج جماعة في
المصر، فحاربوا، أو أغار عسكر على بلدة أو قرية، أو خرج أهل أحد طرفي الجلد
على الطرف الآخر وكان لا يلحق المقصودين غوث لو استغاثوا، فهم قطاع طريق،
وإن كان يلحقهم غوث، فهم منتهبون ليسوا قطاعا، وامتناع لحاق الغوث لضعف
السلطان أو لبعده وبعد أعوانه، وقد يغلب أهل الفساد في مثل هذه الحالة، فلا
يقاومهم أهل العفة، وتتعذر عليهم الاستغاثة، ولو دخل جماعة بالليل دارا وكابروا،
ومنعوا أصحاب الدار من الاستغاثة مع قوة السلطان وحضوره، فالأصح أنهم قطاع،
وبه قطع القفال والبغوي، والثاني: أنهم سراق، والثالث: مختلسون.
فرع لا يشترط في قطاع الطريق الذكورة، بل لو اجتمع نسوة لهن شوكة
وقوة، فهن قاطعات طريق، ولا يشترط أيضا شهر السلاح، بل الخارجون بالعصي
والحجارة قطاع، وذكر الامام أنه يكفي القهر وأخذ المال باللكز، والضرب بجمع
الكف، وفي التهذيب نحوه، وكلام جماعة يقتضي أنه لا بد من آلة، ولا يشترط
العدد، بل الواحد إذا كان له فضل قوة يغلب بها الجماعة، وتعرض للنفوس
والأموال مجاهرا، فهو قاطع طريق.
الطرف الثاني في عقوبتهم:
فإذا علم الإمام من رجل، أو من جماعة أنهم يترصدون للرفقة، ويخيفون
السبيل، ولم يأخذوا بعد مالا، ولا قتلوا نفسا، طلبهم، وعزرهم بالحبس وغيره،
قال ابن سريج: والحبس في هذه الحال في غير موضعهم أولى، لأنه أحوط وأبلغ
في الزجر والايحاش، وإن أخذ قاطع من المال قدر نصاب السرقة، قطعت يده
اليمنى ورجله اليسرى، فإن عاد مرة أخرى، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى،
وإنما يقطع من خلاف لئلا يفوت جنس المنفعة، وسواء كان النصاب لواحد أو
لجماعة الرفقة كما سبق في السرقة، وإن كان المأخوذ دون نصاب، فلا قطع، وقال
ابن خيران: فيه قولان، كالقولين في قتل قاطع الطريق، هل تعتبر فيه الكفاءة، لأنه
فارق السرقة في اشتراط الحرز فكذا في النصاب، والمذهب الأول، لقوله صلى الله عليه وسلم:
القطع في ربع دينار فصاعدا وما ادعاه في الحرز ممنوع، بل الذي قاله
الأصحاب: أنه لو كان المال ضائعا تسير به الدواب بلا حافظ، فلا قطع، ولو كانت
الجمال مقطورة ولم تتعهد كما شرطنا فيها، لم يجب القطع، وإن قتل قاطع
365

الطريق، قتل، وهو قتل متحتم ليس سبيله، سبيل القصاص، وإن جمع بين القتل
وأخذ المال، قتل وصلب، ويعتبر في المال كونه نصابا، ويجئ فيه خلاف ابن
خيران، هذا هو المذهب، وخرج ابن سلمة قولا: أنه تقطع يده ورجله ويقتل
ويصلب، وحكى صاحب التقريب قولا: أنه إن قتل وأخذ نصابا، قطع وقتل،
ولم يصلب، وإن قتل وأخذ دون نصاب، لم يقطع بل يقتل ويصلب، وفي كيفية
القتل والصلب ذا اجتمعا قولان، أظهرهما: يقتل ثم يصلب، وعلى هذا كم يترك
مصلوبا؟ وجهان، أصحهما وهو نصه: ثلاثا، فإذا مضى الثلاث، وسال صليبه،
وهو الودك، أنزل، وإلا فوجهان، أحدهما: لا ينزل بل يترك حتى يسيل صليبه،
وأصحهما: ينشل، ويكفي ما حصل من النكال، ولو خيف التغير قبل الثلاث هل
ينزل؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه قال الماسرجسي وغيره، والوجه الثاني من
الأصل يترك مصلوبا حتى يسيل صديده ويتهرأ ولا ينزل بحال، والوجهان متفقان على
أن يصلب على خشبة ونحوها، وهو الصحيح، وعن ابن أبي هريرة أنه يطرح على
الأرض حتى يسيل صديده، قال الامام وذكر الصيدلاني: أنه يترك حتى يتساقط،
وفي القلب منه شئ، فإني لم أره لغيره، وإذا قلنا: ينتظر سيلان الصليب، لم نبال
نتنه، ولفظ البغوي في حكاية وجه ابن أبي هريرة أنه يترك حتى يسيل صديده إلا أن
يتأذى به الاحياء، وما ذكره الامام أقرب إلى سياق ذلك الوجه.
والقول الثاني في كيفية القتل: أنه يصلب حيا، ثم يقتل، وعلى هذا كيف
يقتل، أيترك بلا طعام وشراب حتى يموت، أم يجرح حتى يموت، أم يترك مصلوبا
ثلاثا، ثم ينزل ويقتل، فيه أوجه، ويعرف بهذا أن الصلب على هذا القول يراد به
صلب لا يموت منه، وتقدم في كتاب الجنائز حكم الصلاة عليه، وأن الخلاف
السابق في إنزاله عن الخشبة بعد ثلاث وتركه جار تفريعا على القول الثاني، أما إذا
لم يأخذ مالا ولا قتل، ولكن كثر جمع القاطعين، وكان ردءا لهم، وأرغب الرفقة
عليه، كما لا حد في مقدمات الزنى، ولو أخذ بعضهم أقل من نصاب، فكذلك
الحكم إذا شرطنا النصاب، ولا يكمل نصابه بما أخذه غيره، وفيما يعاقب به الردء
وجهان، أصحهما: يعزره الامام باجتهاده بالحبس أو التغريب أو سائر وجوه
التأديب، كسائر المعاصي، والثاني: يغربه بنفيه إلى حيث يرى، وليختر جهة
يحف بها أهل النجدة من أصحاب الإمام، وإذا عين صوبا، منعه العدول إلى غيره،
366

وعلى هذا هل يعزر في البلد المنفي إليه بضرب وحبس وغيرهما، أم يكفي النفي؟
وجهان.
قلت: الأصح: أنه إلى رأي الامام وما اقتضته المصلحة. والله أعلم.
فرع من اجتمع عليه قتل وصلب، فمات، فهل يجب صلبه؟ وجهان،
أحدهما: نعم، لأن القتل والصلب مشروعان، تعذر أحدهما فوجب الآخر،
والثاني: لا، وبه قال الشيخ أبو حامد، وينسب إلى النص، لأنه تابع للقتل،
فسقط بسقوط المتبوع.
الطرف الثالث في حكم هذه العقوبة وهو أمران:
الأول: السقوط بالتوبة، وقد سبق أن قاطع الطريق إذا هرب، يطلب ويقام ما
يستوجبه من حد أو تعزير، فلو تاب قبل القدرة عليه، سقط ما يختص بقطع الطريق
من العقوبات على المذهب، وقيل: قولان، وإن تاب بعد القدرة، لم يسقط على
المذهب، وقيل: قولان، وهل تؤثر التوبة في إسقاط حد الزنى والسرقة والشرب في
حق غير قاطع الطريق، وفي حقه قبل القدرة وبعدها؟ فيه قولان سبقا، الأظهر: لا
يسقط، صححه الامام والبغوي وغيرهما، وهو منسوب إلى الجديد لاطلاق آية
الزنى، وقياسا على الكفارة، ورجح جماعة من العراقيين السقوط.
قلت: رجح الرافعي في المحرر منع السقوط، وهو أقوى. والله أعلم.
ثم ما يسقط بالتوبة في حق قاطع الطريق قبل القدرة يسقط بنفس التوبة، وأما
توبته بعد القدرة، وتوبة الزاني والسارق فوجهان، أحدهما: كذلك، ويكون إظهار
التوبة كإظهار الاسلام تحت السيف، والثاني: يشترط مع التوبة إصلاح العمل ليظهر
صدقه فيها، ونسب الامام هذا الوجه إلى القاضي حسين، والأول إلى سائر
الأصحاب، والذي ذكره جماعة من العراقيين والبغوي والروياني هو ما نسبه إلى
القاضي، واحتجوا بظاهر القرآن، قال الله تعالى في قطاع الطريق: * (إلا الذين
تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) * لم يذكر غير التوبة، وقال في الزنى: * (فإن تابا
367

وأصلحا فأعرضوا عنهما) * وفي السرقة: * (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح) *
قال الامام: معرفة إصلاح العمل بأن يمتحن سرا وعلنا، فإن بدا الصلاح، أسقطنا
الحد عنه، وإلا حكمنا بأنه لم يسقط، قال الامام: وهذا مشكل، لأنه لا سبيل إلى
حقيقته، وإن خلي، فكيف يعرف صلاحه، ويشبه أن يقال تفريعا على هذا: إذا
أظهر التوبة، امتنعنا من إقامة الحد، فإن لم يظهر ما يخالف الصلاح، فذاك، وإن
ظهر، أقمنا عليه الحد، وقد ذكرنا في باب حد الزنى في موضع القولين في سقوط
الحد بالتوبة طريقين، أحدهما: تخصيصهما بمن تاب قبل الرفع إلى القاضي، فإن
تاب بعد الرفع، لم يسقط قطعا، والثاني: طردهما في الحالين، وقد يرجع هذا
الخلاف إلى أن التوبة بمجردها تسقط الحد، أم يعتبر الاصلاح، إن اعتبرناه اشترط
مضي زمن يظهر به الصدق، فلا تكفي التوبة بعد الرفع.
فرع إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة، فإن كان قد قتل، سقط عنه انحتام
القتل، فللولي أن يقتص، وله العفو هذا هو المذهب، وفيه وجه شاذ يسقط
القصاص، فلا يبقى عليه شئ أصلا، وحكي وجه أنه يسقط بالتوبة القصاص وحد
القذف، لأنهما يسقطان بالشبهة، كحدود الله تعالى، ونقله ابن القطان في القذف
قولا قديما، وليس بشئ، وإن كان قد قتل وأخذ المال، سقط الصلب، وانحتام
القتل، وبقي القصاص، وضمان المال، وفي القصاص ما ذكرنا، وإن كان قد أخذ
المال، سقط قطع الرجل، وكذا قطع اليد على المذهب.
الأمر الثاني في حكم قتله، فإذا قتل قاطع الطريق خطأ، بأن رمى شخصا
فأصاب غيره، أو شبه عمد، لم يلزمه القتل، وتكون الدية على عاقلته، وإن قتل
عمدا، فقد سبق أنه يتحتم قتله، واختلفوا في حكم قتله، فقالت طائفة وهو
الأصح: هذا قتل فيه معنى القصاص ومعنى الحدود، لأنه في مقابلة قتل ولكن لا
يصح العفو عنه ويتعلق استيفاؤه بالسلطان، وما المغلب من المعنيين؟ فيه قولان،
وقال آخرون: هل يتمحض حقا لله تعالى أم فيه أيضا حق آدمي؟ قولان،
أظهرهما: الثاني، ويقال على هذا القول: أصل القتل في مقابلة القتل، والتحتم
368

حق لله تعالى، ويتفرع على هذا الخلاف صور.
منها: لو قتل قاطع الطريق من لا يكافئه، كابنه وعبد وذمي، فإن لم يراع
معنى القصاص وحق الآدمي، قتلناه حدا ولم نبال بعدم الكفاءة، وإن راعيناه، لم
نقتله به وأوجبنا الدية أو القيمة، ولو قتل عبد نفسه، فقال ابن أبي هريرة والقاضي
حسين: هو على الخلاف، وقال أبو إسحاق: لا يقتل قطعا، كما لا يقطع إذا أخذ
مال نفسه، واختاره الصيدلاني.
ومنها: لو مات، فإن راعينا القصاص أخذنا الدية من تركته، وإلا فلا شئ
فيها.
ومنها: لو قتل في قطع الطريق جماعة، فإن راعينا القصاص، قتل بواحد
وللباقين الديات، فإن قتلهم مرتبا، قتل بالأول، ولو عفا ولي الأول، لم يسقط ذكره
البغوي، وإن لم نراع القصاص، قتل بهم، ولا دية.
ومنها: لو عفا الولي على مال إن راعينا القصاص، سقط القصاص ووجب
المال، وقتل حدا كمرتد وجب عليه قصاص، وعفي عنه، وإن لم نراعه، فالعفو
لغو.
ومنها: لو تاب قبل القدرة، لم يسقط القصاص إن راعينا معناه ويسقط
الحد، وإلا فلا شئ عليه.
ومنها: لو قتل بمثقل، أو بقطع عضو، فإن راعينا القصاص، قتلناه بمثل ما
قتل، وإلا فيقتل بالسيف، كالمرتد.
ومنها: لو قتله شخص بغير إذن الإمام إن راعينا القصاص، لزمه الدية لورثته
ولا قصاص، لأن قتله متحتم، ويجئ فيه وجه، وإن لم نراعه، فليس عليه إلا
التعزير لافتئاته على الامام.
فرع إذا جرح قاطع الطريق جرحا ساريا، فهو قاتل، وقد سبق حكمه،
وإن جرح جرحا واقفا، نظر إن كان مما لا قصاص فيه كالجائفة، فواجبه المال ولا
قتل، وإن كان مما فيه قصاص، كقطع يد ورجل، قوبلت بمثله، وهل يتحتم
القصاص في الجراحة؟ فيه أقوال، أظهرها: لا، كما لا كفارة، والثاني: نعم،
369

والثالث: يتحتم في اليدين والرجلين دون الانف والاذن والعين وغيرها، قال ابن
الصباغ: لو قطع يد رجل ثم قتله، فإن قلنا: الجراحة لا تتحتم، فهو كما لو قطعه
في غير المحاربة ثم قتله فيها، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وإن قلنا: يتحتم، قطع
ثم قتل. ولو قطع في المحاربة وأخذ المال، نظر إن قطع يمينه، فإن قلنا: لا
يتحتم وعفا، أخذ دية اليد، وقطعنا يمين المحارب ورجله اليسرى حدا، وإن لم
يعف، أو قلنا: يتحتم، قطعت يمينه بالقصاص وقطعت رجله حدا، كما لو قطع
الطريق ولا يمين له، وإن قطع يساره، فإن قلنا: لا يتحتم وعفا، أخذ الدية،
وقطعت يده اليمنى ورجله اليسرى، وإن لم يعف، أو قلنا: بالتحتم، قطعت
يساره، وتؤخر قطع اليمين والرجل اليسرى حتى تندمل اليسار، ولا يوالي بين
عقوبتين.
فصل يوالي على قاطع الطريق بين قطع يده ورجله، لأن قطعهما عقوبة
واحدة، كالجلدات في الحد الواحد، وإن كان مقطوع اليمين، قطعت رجله
اليسرى ولا تجعل اليد اليسرى بدلا عن اليمنى، فإن كان مفقود اليد اليمنى والرجل
اليسرى، قطعت يده اليسرى ورجله اليمنى، ولو قطع يسار انسان وسرق، قطعت
يساره قصاصا وأمهل إلى الاندمال ثم تقطع يمينه عن السرقة ولا يوالي، لأنهما
عقوبتان مختلفتان، وقدم القصاص، لأن العقوبة التي هي حق آدمي آكد من التي
هي حق الله تعالى، لأنها تسقط بما لا تسقط به عقوبة الآدمي بخلاف الحقوق
المالية، فإن فيها ثلاثة أقوال في أنه يقدم حق الله تعالى أم الآدمي، أم يستويان
لاستوائهما في التأكد وعدم السقوط بالشبهة، ولو وجب قطع اليد اليمنى والرجل
اليسرى بقطع الطريق، وقطع اليد اليسرى بقصاص، قدم قطع اليسرى قصاصا، ثم
يمهل إلى الاندمال، ثم يقطع العضوان لقطع الطريق، ولو استحقت يمينه بقصاص
وقطع للطريق، فإن عفا مستحق القصاص، قطعت يمينه مع رجله اليسرى حدا،
وإلا فيقدم القصاص، وتقطع الرجل اليسرى عن الحد، وتقطع عقيب القصاص،
وقيل: يمهل بها إلى الاندمال، والأول أصح، ولو استحقت يده اليمنى ورجله
اليسرى بقصاص وقطع طريق، نظر إن عفا مستحق القصاص، قطع العضوان عن
الحد، وإن اقتص فيهما، سقط الحد لفوات محله الذي تعلق به، ولو قطع
العضوين في قطع الطريق وأخذ المال، فإن قلنا: الجراحة في قطع الطريق لا
370

تتحتم، فهو كما لو قطع العضوين في غير المحاربة وقطع أيضا الطريق، وإن قلنا:
تتحتم، قطعناهما قصاصا، وسقط الحد، كذا ذكره الشيخ أبو حامد وابن الصباغ
وغيرهما، وسووا بين قطع العضوين قبل أخذ المال وبعده، قال صاحب
المهذب: إن قلنا بالتحتم، فإن تقدم أخذ المال، واقتص في العضوين، سقط
الحد، وإن تقدم قطع العضوين، ثم أخذ المال، لم يسقط بالقصاص حد قطع
الطريق، بل تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى.
فصل اجتمع عليه عقوبات آدميين، كحد قذف وقصاص عضو وقصاص
نفس، فإن حضر المستحقون وطلبوا حقوقهم جميعا، جلد، ثم قطع، ثم قتل،
ويبادر بالقتل بعد القطع، ولا يبادر بالقطع بعد الجلد إن كان مستحق القتل غائبا،
لأنه قد يهلك بالموالاة فيفوت قصاصه، وإن كان حاضرا وقال: عجلوا القطع وأنا
أبادر بالقتل بعد القطع، فوجهان، أحدهما: يبادر، لأن التأخير كان حقه وقد رضي
بالتقديم. وأصحهما: المنع خوفا من هلاكه بالموالاة، ورأي الامام تخصيص
الوجهين بمن خيف موته بالموالاة بحيث يتعذر قصاص النفس لانتهائه إلى حركة
المذبوح، ورأي الجزم بالمبادرة إذا أمكن استيفاء القصاص بعد القطع، أما إذا لم
يجتمعوا على الطلب، فإن أخر مستحق النفس حقه، جلد، فإذا برأ، قطع، وإن
أخر مستحق الطرف حقه، جلد، ويتعذر القتل لحق مستحق الطرف، وعلى مستحق
النفس الصبر حتى يستوفي مستحق الطرف حقه، قال الغزالي: ولو مكن مستحق
النفس من القتل، وقيل لمستحق الطرف: بادر وإلا ضاع حقك لفوات محله، لم
يكن بعيدا، ولو بادر مستحق النفس فقتله، كان مستوفيا حقه، ورجع مستحق
الطرف إلى الدية، ولو أخر مستحق الجلد حقه، فقياس ما سبق أن يصبر الآخران،
وإذا اجتمع عليه حدود قذف لجماعة، حد لكل واحد حدا، ولا يوالي بل يمهل بعد
كل حد حتى يبرأ، هكذا ذكره البغوي وغيره، لكنه سبق في القصاص أنه يوالي بين
قطع الأطراف قصاصا، وقياسه أن يوالي بين الحدود، وذكروا تفريعا على الأول
الوجهين فيما لو وجب على عبد حدان لقذف شخصين، هل يوالي؟ أصحهما عند
البغوي: لا، لأنهما حدان، والثاني: نعم، لأنهما كحد حر، قال الروياني: هذا
أقرب إلى المذهب، وأما ترتيب حدود القذف فينبغي أن يقال: إن قذفهم مرتبا،
حد للأول فالأول، وإن قذفهم بكلمة وقلنا بالأظهر: إنه يتعدد الحد، أقرع.
371

فرع اجتمع عليه حدود لله تعالى، بأن شرب وزنى وهو بكر، وسرق،
ولزمه قتل بردة، قدم الأخف فالأخف، وتجب رعاية هذا الترتيب والامهال سعيا في
إقامة الجميع، وأخفها حد الشرب، ثم يمهل حتى يبرأ، ثم يجلد للزنى،
ويمهل، ثم يقطع، فإذا لم يبق إلا القتل، قتل ولم يمهل، وحكى أبو بكر الطوسي
وجها: أنه إذا كان فيها قتل يوالي بلا إمهال، والصحيح الأول، وبه قطع الجمهور،
ولو اجتمع معها أخذ مال في محاربة، قطعت يده ورجله بعد جلد الزنى، وهل
يوالي بين قطع اليد والرجل أم يؤخر قطع الرجل حتى تندمل اليد؟ وجهان،
أحدهما: يؤخر لأن اليد مقطوعة عن السرقة، والرجل عن المحاربة ولا يوالي بين
حدين، وأصحهما وهو المنصوص: يوالي، لأن اليد تقع عن المحاربة والسرقة،
فصار كما لو انفردت المحاربة، ولو اجتمعت عقوبات لله تعالى ولآدمي، بأن انضم
إلى هذه العقوبات حد قذف، قدم حد القذف على حد الزنى، نص عليه،
واختلفوا لم قدم؟ فقال أبو إسحاق وجماعة: لأنه حق آدمي، وقال ابن أبي هريرة:
لأنه أخف، والأول أصح عند الأصحاب، وفيما يقدم من حد الشرب والقذف وجهان
بناء على المعنيين، ويجريان في حد الزنى وقصاص الطرف والامهال بعد كل عقوبة
إلى الاندمال على ما ذكرنا، ولو كان الواجب بدل قتل الردة قتل قصاص، فالقول في
الترتيب والامهال كذلك، ولو اجتمع الرجم للزنى وقتل قصاص، فهل يقتل رجما
بإذن الولي ليتأدى الحقان، أم يسلم إلى الولي ليقتله قصاصا؟ وجهان، أصحهما:
الثاني. ولو كان الواجب قتل محاربة، فهل يجب التفريق بين الحدود
المقامة قبل القتل؟ وجهان، أحدهما: لا، لجنه متحتم القتل، فلا معنى للامهال
بخلاف قتل الردة والقصاص، فإنه يتوقع الاسلام والعفو، وأصحهما: نعم، لأنه
قد يموت بالموالاة، فتفوت سائر الحدود، ولو اجتمع قتل محاربة مع قصاص في
غير محاربة، نظر إن سبق قتل المحاربة، قتل حدا، ويعدل صاحب القصاص إلى
الدية، وإن سبق قتل القصاص، خير الولي فيه، فإن عفا، قتل وصلب للمحاربة،
وإن اقتص، عدل لقتل المحاربة إلى الدية، وهل يصلب؟ فيه الخلاف المذكور
فيما إذا مات المحارب قبل قتله، ولو سرق ثم قتل في المحاربة، فهل يقطع للسرقة
ويقتل للمحاربة، أم يقتصر على القتل والصلب، ويندرج حد السرقة في حد
المحاربة؟ وجهان.
372

فرع من زنى مرارا وهو بكر، حد لها حدا واحدا، وكذا لو سرق، أو
شرب مرارا، وهل يقال: تجب حدود ثم تعود إلى حد واحدة أم لا يجب إلا حد،
وتجعل الزنيات كالحركات في زنية واحدة؟ ذكروا فيه احتمالين، ولو زنى أو
شرب فأقيم عليه الحد، ثم زنى أو شرب، أقيم عليه حد آخر، فإن لم يبرأ من
الأول، أمهل حتى يبرأ، ولو أقيم عليه بعض الحد فارتكب الجريمة ثانيا، دخل
الباقي في الحد الثاني، وإذا زنى فجلد، ثم زنى قبل التغريب جلد ثانيا وكفاه
تغريب واحد، ولو جلد خمسين، فزنى ثانيا، جلد مائة وغرب ودخل في المائة
الخمسون الباقية، ولو زنى وهو بكر، ثم زنى قبل أن يحد وقد أحصن، فهل يكتفى
بالرجم ويدخل فيه الجلد أم يجمع بينهما؟ وجهان، أصحهما عند الامام والغزالي:
الأول، وأصحهما عند البغوي وغيره: الثاني، لاختلاف العقوبتين، وعلى هذا
فهل يجلد مائة ويغرب عاما ثم يرجم، أم يجلد ويرجم، ويدخل التغريب في
الرجم؟ وجهان، أصحهما: الثاني. ولو زنى عبد، فعتق قبل الحد، وزنى ثانيا،
فإن كان بكرا، جلد مائة وغرب عاما، وإن كان محصنا، جلد خمسين، ثم رجم،
373

هكذا أطلقه البغوي، ويشبه أن يكون على الخلاف فيمن زنى وهو بكر، ثم زنى وهو
محصن. ولو زنى ذمي محصن، ثم نقض العهد واسترق، فزنى ثانيا، ففي دخول
الجلد في الرجم الوجهان، قال البغوي: الأصح: المنع، فيجلد خمسين ثم
يرجم، وإن قلنا: بتغريب العبد، ففي اندراج التغريب في الرجم الوجهان.
فصل لا يثبت قطع الطريق إلا بشهادة رجلين ويشترط في الشهادة التفصيل
وتعيين قاطع الطريق ومن قتله أو أخذ ماله، وتقاس صوره بما سبق في الشهادة على
السرقة، ولو شهد اثنان من الرفقة، نظر إن لم يتعرضا لقصد المشهود عليه نفسا
ومالا، قبلت شهادتهما، وليس على القاضي أن يبحث عنهما هل هما من الرفقة أم
لا، فإن بحث، فلهما أن لا يجيبا، وإن لم يثبتا على الشهادة وإن قالا: قطع هذا
وهؤلاء علينا الطريق، فأخذوا مالنا ومال رفقتنا، لم تقبل شهادتهما في حق أنفسهما
ولا في حق غيرهما، وقيل: في حق غيرهما قولان، والمذهب الأول، لأنهما صارا
عدوين، قال الماسرجسي وغيره: لو شهد رجلان بوصية لهما فيها نصيب أو
إشراف، لم تقبل في شئ، وإن قالا: نشهد بها سوى ما يتعلق بنا من المال
والاشراف، قبلت شهادتهما.
فصل يحسم موضع القطع من قاطع الطريق كما سبق في السارق، ويجوز
أن تحسم اليد، ثم تقطع الرجل، وأن تقطعا جميعا، ثم تحسما، قال العبادي في
الرقم: إن قلنا: إن قتل قاطع الطريق يراعى فيه معنى القصاص، لزمه
الكفارة، وإن قلنا: حد محض، فلا كفارة.
باب حد شارب الخمر
شرب الخمر من كبائر المحرمات، قال الأصحاب: عصير العنب إذا اشتد
374

وقذف بالزبد حرام بالاجماع، وسواء قليله وكثيره، ويفسق شاربه ويلزمه الحد،
ومن استحله كفر، وعصير الرطب النيئ، كعصير العنب النيئ، كذا ذكره البغوي
وطائفة، وحكاه الروياني عن بعضهم واستغربه، واختار كونه كسائر الأشربة،
أما سائر الأشربة المسكرة، فهي في التحريم ووجوب الحد عندنا كعصير
العنب، لكن لا يكفر مستحلها، لاختلاف العلماء فيها، وذكر الأصحاب خلافا
في أن اسم الخمر هل يتناولها؟ والأكثرون على المنع، وكل شراب حكمنا
بتحريمه، فهو نجس، وبيعه باطل، وما لا يسكر من الأنبذة لا يحرم، لكن يكره
شرب المنصف والخليطين للحديث الناهي عنهما، والمنصف: ما عمل من تمر
ورطب، وشراب الخليطين ما عمل من بسر ورطب، وقيل: ما عمل من تمر
وزبيب، وسبب النهي أن الاسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يتغير طعمه،
فيظن الشارب أنه ليس بمسكر ويكون مسكرا، وهذا كالنهي عن الانتباذ في الأوعية
التي كانوا ينبذون فيها، كالدباء وهو القرع، والحنتم وهو جرار خضر، والنقير وهو
جذع ينقر ويتخذ منه إناء، والمزفت وهو المطلي بالزفت وهو القار، ويقال له:
المقير، لأن هذه الأوعية يشتد فيها ولا يعلم به بخلاف الأسقية من الأدم.
قلت: والنهي عن هذه الأوعية منسوخ، ثبت نسخه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم
في صحيح مسلم. والله أعلم.
375

وفي الباب طرفان:
الأول: في الشراب الموجب للحد، فكل ملتزم لتحريم المشروب شرب ما
يسكر جنسه مختارا بلا ضرورة ولا عذر، لزمه الحد، فهذه خمسة قيود.
الأول: الملتزم، فلا حد على صبي ومجنون وحربي، والمذهب أن الذمي لا
يحد بالخمر، وأن الحنفي يحد بشرب النبيذ وإن كان لا يعتقد تحريمه، ويأتي في
الشهادة إن شرب الحنفي النبيذ هل يفسق به وترد شهادته؟ إن شاء الله تعالى.
الثاني: قولنا: شرب ما يسكر جنسه يخرج بلفظ الشرب ما لو احتقن، أو
استعط بالخمر، فلا حد، لأن الحد للزجر، ولا حاجة فيه إلى الزجر، وقيل:
يحد، وقيل: يحد في السعوط دون الحقنة، والأول أصح، ويتعلق بكون
المشروب مسكرا في جنسه صور:
منها: أنه يدخل فيه النبيذ ودردي الخمر والثخين منها إذا أكله بخبز، أو ثرد
فيها وأكل الثريد، أو طبخ بها، وأكل المرق، فيحد بكل ذلك، ولا يحد بأكل
اللحم المطبوخ بها، ولا بأكل خبز أو معجون عجن بها على الصحيح فيهما، وعلى
هذا قال الامام: من شرب كوز ماء فيه قطرات خمر والماء غالب، لم يحد لاستهلاك
الخمر.
الثالث: كون الشارب مختارا، فلا حد على من أوجر قهرا، والمذهب أنه لا
يحد من أكره حتى شرب، وذكر ابن كج فيه وجهين.
الرابع: أن لا يكون مضطرا، فلو غص بلقمة، ولم يجد ما يسيغها غير
الخمر، وجب عليه إساغتها بالخمر ولا حد، وحكى إبراهيم المروذي في تحريم
الإساغة وجهين لعموم النهي، والمذهب الأول، وأما شربها للتداوي والعطش
والجوع إذا لم يجد غيرها ففيه أوجه، أصحها والمنصوص وقول الأكثرين: لا يجوز
لعموم النهي، ولان بعضها يدعو إلى بعض. والثاني: يجوز كما يجوز شرب
376

البول والدم لذلك وكما يتداوى بالنجاسات، كلحم الحية والسرطان والمعجون فيه
خمر. والثالث: يجوز للتداوي دون العطش والجوع، ورجحه الروياني.
والرابع: عكسه، لأن دفع العطش موثوق به في الحال، وهذا هو الصحيح عند
الامام، ونقل اتفاق الأصحاب على تحريم التداوي، قال: وبلغنا عن آحاد من
المتأخرين لبس بجوازه من غير تدوين في كتاب. والخامس: يجوز للعطش دون
الجوع لأنها تحرق كبد الجائع ثم الخلاف في التداوي مخصوص بالقليل الذي لا
يسكر، ويشترط خبر طبيب مسلم، أو معرفة المتداوي إن عرف، ويشترط أن لا
يجد ما يقوم مقامها، ويعتبر هذان الشرطان في تناول سائر الأعيان النجسة، ولو قال
الطبيب: يتعجل بها الشفاء، فالأصح أنه كرجاء الشفاء، ثم قال القاضي حسين
والغزالي: لا حد على المتداوي وإن حكمنا بالتحريم لشبهة الخلاف، وقال
الامام: أطلق الأئمة المعتبرون أقوالهم في طرقهم أن التداوي حرام موجب للحد،
وإذا جوزنا الشرب للعطش، لزمه الشرب، كتناول الميتة للمضطر ولا حد، وإذا
لم نجوزه، ففي الحد الخلاف كالتداوي.
الخامس: أن لا يكون له عذر في الشرب، فلو شرب قريب عهد بالاسلام
وادعى جهل التحريم، لم يحد، فلو قال: علمت التحريم وجهلت الحد، وجب
الحد، ولو شرب خمرا وهو يظن أنه يشرب غير مسكر في جنسه، فلا حد وإن سكر
منه لم يلزمه قضاء الصلوات، كالمغمى عليه، وإن علم أنه من جنس المسكر،
وظن أن ذلك القدر لا يسكر، حد، ولزمه قضاء الصلوات الفائتة في السكر.
فرع إنما يجب الحد إذا ثبت الشرب بإقراره أو شهادة رجلين، وفي تعليق
377

الشيخ أبي حامد أنه يجب أيضا إذا علمنا شربه المسكر، بأن رأيناه شرب من شراب
إناء شرب منه غيره فسكر، وليكن هذا مبنيا على أن القاضي يقضي بعلمه، ولا
تعويل على النكهة وظهور الرائحة منها، ولا على مشاهدة سكره وتقيئه الخمر،
لاحتمال غلط أو إكراه، ثم صيغة المقر والشاهد إن كانت مفصلة بأن قال: شربت
الخمر، أو شربت ما شرب منه غيري، فسكر منه، وأنا به عالم مختار، وفصل
الشاهد كذلك، فذاك، وإن قال: شربت الخمر، أو ما شربه غيري فشرب منه
فسكر منه، واقتصر عليه، أو شهد اثنان أنه شرب الخمر من غير تعرض للعلم
والاختيار، فوجهان، أحدهما: لا حد، لاحتمال الجهل والاكراه، كما لا بد من
التفصيل في الزنى، وبهذا قال القاضي أبو حامد واختاره الامام، وأصحهما
وأشهرهما وظاهر النص وبه قطع بعضهم: يجب الحد، لأن إضافة الشرب إليه
حاصلة، والأصل عدم الاكراه، والظاهر من حال الآكل والشارب العلم بما يشربه،
وصار كالاقرار بالبيع والطلاق وغيرهما، والشهادة عليها لا يشترط فيها تعرض
للاختيار والعلم بخلاف الزنى فإنه يطلق على مقدماته، وفي الحديث العينان
تزنيان.
فروع ما يزيل العقل من غير الأشربة، كالبنج، حرام لكن لا حد في
تناوله، ولو احتيج في قطع اليد المتآكلة إلى زوال عقله هل يجوز ذلك؟ يخرج على
الخلاف في التداوي بالخمر.
قلت: الأصح: الجواز، وقد سبق في مسائل طلاق السكران ومن زال عقله
ما يقتضي الجزم به، ولو احتاج إلى دواء يزيل العقل لغرض صحيح جاز تناوله قطعا
كما سبق هناك. والله أعلم.
الند المعجون بالخمر نجس، قال ابن الصباغ: ولا يجوز بيعه، وكان ينبغي
أن يجوز، كالثوب النجس، لامكان تطهيره بنقعه في الماء، ومن يتبخر به هل
يتنجس؟ فيه وجهان، كدخان النجاسة.
378

الطرف الثاني في الحد الواجب في الشرب
وهو أربعون جلدة على الحر، وعشرون على الرقيق، واختار ابن المنذر أنه
ثمانون، وهل يجوز أن يضرب بالأيدي والنعال وأطراف الثياب والسوط، أم يتعين ما
عدا السوط، أم يتعين السوط؟ فيه ثلاثة أوجه، الصحيح الأول، وهو جواز
الجميع، ولو رأى الامام أن يبلغ به ثمانين أو ما بينها وبين الأربعين، جاز على
الأصح، فعلى هذا هل الزيادة تعزير أم حد؟ وجهان، أصحهما عند الجمهور:
تعزير، لأنها لو كانت حدا لم يجز تركها، وتركها جائز، فعلى هذا هو تعزيرات على
أنواع من هذيان يصدر منه ونحوه، والثاني: أن الزيادة حد، لأن التعزير لا يكون إلا
على جناية مخففة، ثم كان ينبغي أن لا ينحصر في ثمانين وتجوز الزيادة عليها وهي
غير جائزة بالاتفاق، وعلى هذا حد الشرب مخصوص بأن يتحتم بعضه، ويتعلق
بعضه باجتهاد الامام.
فصل في كيفية الجلد في الزنى والقذف والشرب وهو بسوط معتدل
الحجم بين القضيب والعصا، وبه تعتبر الخشبات، ولا يكون رطبا ولا شديد
اليبوسة، خفيفا لا يؤلم، ويضرب ضربا بين ضربين، فلا يرفع الضارب يده فوق
رأسه بحيث يبدو بياض إبطه، لأنه يشتد ألمه، ولا يضع السوط عليه وضعا، فإنه لا
يؤلم، ولكن يرفع ذراعه ليكسب السوط ثقلا، فإن كان المجلود رقيق الجلد يدمى
بالضرب الخفيف، لم يبال به ويفرق السياط على الأعضاء، ويتقي الوجه
والمقاتل، كثغرة النحر والفرج ونحوهما، وهل يجتنب الرأس؟ وجهان، أصحهما
عند الجمهور: لا، لأنه مستور بالشعر بخلاف الوجه، ولا تشد يده بل تترك يداه
ليتقي بهما، ولا يلقى على وجهه، ولا يمد، ولا يجرد عن الثياب بل يترك عليه
قميص أو قميصان، ولا يترك عليه ما يمنع الألم من جبة محشوة وفروة، ويجلد
الرجل قائما، والمرأة جالسة وتلف، أو تربط عليها ثيابها، ويتولى لف ثيابها امرأة،
وأما الضرب، فليس من شأن النساء، فيتولاه رجل، ويوالي بين الضربات، ولا يجوز
أن يفرق، فيضرب في كل يوم سوطا أو سوطين، لأنه لا يحصل به إيلام وتنكيل
وزجر، ولو جلد في الزنى في يوم خمسين متوالية، وفي يوم يليه خمسين كذلك،
أجزأ، قال الامام في ضبط التفريق: إن كان بحيث لا يحصل من كل دفعة ألم له
وقع، كسوط أو سوطين في كل يوم، لم يجز، وإن كان يؤلم ويؤثر بماله وقع، فإن
379

لم يتخلل زمن يزول فيه الألم الأول، كفى وإن تخلل، لم يكف على الأصح.
فرع لا يقام حد الشرب في السكر، بل يؤخر حتى يفيق.
فرع لا تقام الحدود في المسجد ولا التعزير، فإن فعل، وقع الموقع،
كالصلاة في أرض معصوبة.
باب التعزير
هو مشروع في كل معصية ليس فيها حد ولا كفارة، سواء كانت من مقدمات ما
فيه حد، كمباشرة أجنبية بغير الوطئ، وسرقة ما لا قطع فيه، والسب والإيذاء بغير
380

قذف، أو لم يكن، كشهادة الزور والضرب بغير حق، والتزوير، وسائر المعاصي،
وسواء تعلقت المعصية بحق الله تعالى أم بحق آدمي، ثم جنس التعزير من الحبس أو
الضرب جلدا أو صفعا إلى رأي الامام، فيجتهد ويعمل ما يراه من الجمع بينهما
والاقتصار على أحدهما، وله الاقتصار على التوبيخ باللسان على تفصيل يأتي إن شاء
الله تعالى. قال الامام: قال الأصحاب: عليه أن يراعي الترتيب والتدريج، كما
يراعيه دافع الصائل، فلا يرقى إلى مرتبة وهو يرى ما دونها مؤثرا كافيا، وأما قدر
381

التعزير، فإن كان من غير جنس الحد، كالحبس، تعلق باجتهاد الامام، وإن رأى
الجلد فيجب أن ينقص عن الحد، وفي ضبطه أوجه، أحدها: أنه يفرق بين
المعاصي وتقاس كل معصية بما يناسبها من الجناية الموجبة للحد، فيعزر في الوطئ
المحرم الذي لا يوجب حدا، وفي مقدمات الزنى دون حد الزنى، وفي الايذاء
والسب بغير قذف دون حد القذف، وفي إدارة كأس الماء على الشرب تشبيها
بشاربي الخمر دون حد الخمر، وفي مقدمات السرقة دون حد السرقة، وعلى هذا
فتعزير الحر يعتبر بحده، والعبد بحده، والوجه الثاني: أن جميع المعاصي سواء
ولا يزاد تعزير على عشر جلدات للحديث الصحيح أن رسول الله (ص) قال: لا يجلد
أحد فوق عشرة أسواط إلا في حد والثالث وهو الأصح عند الجمهور وظاهر
النص: أنه تجوز الزيادة على عشرة بحيث ينقص عن أدنى حدود المعزر، فلا يزاد
تعزير حر على تسع وثلاثين جلدة، ولا العبد على تسع عشرة، والحديث قال
بعضهم: إنه منسوخ، واستدل بعمل الصحابة رضي الله عنهم بخلافه من غير
إنكار، والرابع: يعتبر أدنى الحدود على الاطلاق، فلا يزاد حر ولا عبد على تسع
عشرة، والخامس حكاه البغوي: الاعتبار بحد الحر، فيبلغ بالحر والعبد تسعا
وثلاثين.
فصل من الأصحاب من يخص لفظ التعزير بضرب الامام أو نائبه للتأديب
في غير حد، ويسمي ضرب الزوج زوجته، والمعلم الصبي، والأب ولده تأديبا لا
تعزيرا، ومنهم من يطلق التعزير على النوعين وهو الأشهر، فعلى هذا مستوفي
التعزير الامام والزوج والأب والمعلم والسيد، أما الامام فيتولى بالولاية العامة إقامة
العقوبات حدا وتعزيرا، والأب يؤدب الصغير تعليما وزجرا عن سئ الأخلاق، وكذا
يؤدب المعتوه بما يضبطه، ويشبه أن تكون الام في زمن الصبي في كفالته كذلك كما
382

ذكرنا في تعليم أحكام الطهارة والصلاة والامر بها والضرب عليها أن الأمهات
كالآباء، والمعلم يؤدب الصبي بإذن الولي ونيابة عنه، والزوج يعزر زوجته في
النشوز وما يتعلق به، ولا يعزرها فيما يتعلق بحق الله تعالى، والسيد يعزر في حق
نفسه وكذا في حق الله تعالى على الأصح، وإذا أفضى تعزير إلى هلاك، وجب
الضمان على عاقلة المعزر، ويكون قتله شبه عمد، فإن كان الاسراف في الضرب
ظاهرا وضربه بما يقصد به القتل غالبا، فهو عمد محض، وحكى الامام عن
المحققين تفريعا على هذه القاعدة أن المعزر إذا علم أن التأديب لا يحصل إلا
بالضرب المبرح، لم يكن له الضرب المبرح ولا غيره، أما المبرح، فلأنه مهلك،
وليس له الاهلاك، وأما غيره، فلا فائدة فيه.
فصل الجناية المتعلقة بحق الله تعالى خاصة، يجتهد الامام في تعزيرها
بما يراه من ضرب أو حبس، أو اقتصار على التوبيخ بالكلام، وإن رأى المصلحة في
العفو، فله ذلك، وإن تعلقت الجناية بحق آدمي فهل يجب التعزير إذا طلب؟
وجهان، أحدهما: يجب، وهو مقتضى كلام صاحب المهذب كالقصاص،
والثاني: لا يجب، كالتعزير لحق الله تعالى، وهذا هو الذي أطلقه الشيخ أبو حامد
وغيره، ومقتضى كلام البغوي ترجيحه، وقال الامام: قدر التعزير وما به التعزير إلى
رأي الامام، ولا تكاد تظهر جنايته عند الامام إلا ويوبخه، ويغلظ له القول، فيؤول
الخلاف إلى أنه هل يجوز الاقتصار على التوبيخ؟ ولو عفد مستحق العقوبة عن
القصاص أو الحد أو التعزير، فهل للامام التعزير؟ فيه أوجه، أحدها: لا، لأنه
أسقطها، والثاني: نعم، لأن فيه حقا لله تعالى ويحتاج إلى زجره وزجر غيره عن
مثل ذلك، وأصحها: إن عفا عن الحد، فلا تعزير، وإن عفا عن بعزير، عزر،
لأن الحد مقدر لا نظر للامام فيه، فإذا سقط، لم يعدل إلى غيره، والتعزير يتعلق
أصله بنظره، فلم يؤثر فيه إسقاط غيره وبالله التوفيق.
383

كتاب ضمان إتلاف الامام
وحكم الصيال وإتلاف البهائم
فيه ثلاثة أبواب. الأول: في ضمان يلزم الولاة بتصرفاتهم وفيه طرفان،
الأول في موجب الضمان، والثاني في محله.
أما الأول فما يفضي إلى الهلاك من التصرفات المتعلقة بالولاة أنواع:
أحدها: التعزير، فإذا مات منه المعزر، وجب ضمانه، لأنه تبين بالهلاك أنه
جاوز الحد المشروع، وحكي وجه أنه لا ضمان إذا عزر لحق الآدمي بناء على أنه
واجب إذا طلب المستحق فصار كالحد، والصحيح الأول، ويجب الضمان أيضا في
تعزير الزوج والمعلم إذا أفضى إلى الهلاك، سواء ضربه المعلم بإذن أبيه، أو دون
إذنه، لكن لو كان مملوكا، فضربه بإذن سيده، قال البغوي: لا ضمان، لأنه لو
أذن في قتله، فقتله، لم يضمنه، ثم الضمان الواجب الدية على عاقلة الزوج
والمعلم، وفي حق الامام هل هو على عاقلته أم في بيت المال؟ فيه خلاف سبق
ويعود أيضا إن شاء الله تعالى، لكن لو أسرف المعزر، وظهر منه قصد القتل، تعلق
به القصاص والدية المغلظة في ماله.
384

الثاني: الحد، والحدود في غير الشرب مقدرة بالنص، فمن مات منها،
فالحق قتله، فلا ضمان، لكن لو أقيم الحد في حر أو برد مفرطين، ففي الضمان
خلاف سبق والمذهب أنه لا ضمان أيضا، وأما حد الشرب، فإن ضرب بالنعال
وأطراف الثياب فمات منها، ففي وجوب الضمان وجهان بناء على أنه هل يجوز أن
يحد هكذا؟ إن قلنا: نعم، وهو الصحيح فلا ضمان، كسائر الحدود، وإلا فيجب
لأنه عدل عن الجنس الواجب، ولو ضرب أربعون جلدة، فمات، ففي الضمان
قولان، ويقال: وجهان، أحدهما: يضمن، لأن تقديره بأربعين كان بالاجتهاد،
والمشهور: لا ضمان، كسائر الحدود، لأن الصحابة رضي الله عنهم أجمعوا على
أن الشارب يضرب أربعين، وفي الصحيح أن رسول الله (ص) جلد في الخمر
أربعين، فإن قلنا بالضمان، فهل يجب كل الضمان أم نصفه، أم يوزع على
التفاوت بين ألم السياط، والضرب بالنعال، وأطراف الثياب؟ فيه أوجه، أصحها
الأول، وإن ضربه أحدا وأربعين، فهل يجب كل الضمان أم نصفه أم جزء من أحد
وأربعين جزءا؟ فيه أقوال، أظهرها: الثالث، وإن ضرب اثنين وأربعين وقلنا
بالثالث، وجب جزءان من اثنين وأربعين، وعلى هذا القياس، حتى إذا ضرب
ثمانين استوى القول الثاني والثالث، ووجب النصف، ولو جلد في القذف أحدا
وثمانين، فمات، فهل يجب نصف الدية، أم جزء من أحد وثمانين جزءا منها؟ فيه
القولان، ثم إن كانت الزيادة من الجلاد ولم يأمره الامام إلا بالثمانين، فالضمان
على اختلاف القولين على الجلاد، وإن أمر الامام بذلك، فالضمان متعلق بالامام،
وكذا لو قال الامام: اضرب وأنا أعد، فغلط في العد، فزاد على الثمانين، ولو أمر
الامام بثمانين في الشرب، فزاد الجلاد جلدة واحدة، ومات المجلود فأربعة أوجه،
أصحها: توزع الدية أحد وثمانون جزءا، يسقط منها أربعون ويجب أربعون على
الامام، وجزء على الجلاد، والثاني: يسقط ثلث الدية، ويجب على الامام ثلث،
وعلى الجلاد ثلث، والثالث: يسقط نصفها، ويجب على الامام ربع، وعلى
الجلاد ربع، والرابع: يسقط نصفها، ويوزع نصفها على أحد وأربعين جزءا:
أربعون على الامام، وجزء على الجلاد.
الثالث: الاستصلاح بقطع سلعة وبالختان وفيه مسائل:
إحداها: في حكم قطع السلعة من العاقل المستقل بأمر نفسه، والسلعة بكسر
385

السين وهي غدة تخرج بين اللحم والجلدة نحو الحمصة إلى الجوزة فما فوقها، وقد
يخاف منها، وقد لا يخاف، لكن تشين، فإن لم يكن في قطعها خطر، وأراد
المستقل قطعها لإزالة الشين، فله قطعها بنفسه، ولغيره بإذنه، وإن كان في
قطعها خطر، نظر إن لم يكن في قائها خطر، لم يجز القطع لإزالة الشين، فإن كان
في بقائها خوف أيضا، نظر إن كان الخطر في القطع أكثر، لم يجز القطع، وإن كان
في الابقاء أكثر، جاز القطع على الصحيح، وقيل: لا، لأنه فتح باب الروح
بخلاف الابقاء، وإن تساوى الخطر، جاز القطع على الأصح، إذ لا معنى للمنع
مما لا خطر فيه، وأما من عظمت آلامه ولم يطقها، فأراد أن يريح نفسه بمهلك
مذفف، فيحرم ذلك، فلو وقع في نار علم أنه لا ينجو منها، وأمكنه أن يلقي نفسه
في بحر، ورأي ذلك أهون عليه من الصبر على لفحات النار، فله ذلك على
الأصح، وهو قول الشيخ أبي محمد، ولو تآكل بعض الأعضاء، فهو كسلعة يخاف
منها، ولو قطع السلعة، أو العضو المتأكل من المستقل قاطع بغير إذنه، فمات،
لزمه القصاص، سواء فيه الامام وغيره، لأنه متعد.
الثانية: المولى عليه لصغر أو جنون، يجوز لوليه الخاص وهو الأب والجد أن
يقطع من السلعة واليد المتآكلة، وإن كان فيه خوف وخطر إذا كان الخطر في الترك
أكثر، وليس للسلطان ذلك، لأن القطع يحتاج إلى نظر دقيق، وفراغ تام، وشفقة
كاملة، كما أن للأب والجد تزويج البكر الصغيرة دون السلطان، قال الامام: وقد
ذكرنا عند استواء الطرفين في الخوف خلافا في أن المستقل هل له القطع من نفسه،
والأصح والحالة هذه أنه لا يقطع من طفله، وأما ما لا خطر فيه ولا خوف غالبا،
كالفصد والحجامة وقطع سلعة بلا خطر، فيجوز فعله للولي الخاص، وكذا
للسلطان، وفي التهذيب وجه أن القطع المخطر لا يجوز للولي الخاص، وفي
جمع الجوامع للروياني وجه أنه لا يجوز للسلطان الفصد والحجامة، والصحيح
ما سبق، وليس للأجنبي المعالجة ولا القطع المخطر بحال، ولو فعل، فسرى
ومات به، تعلق بفعله القصاص والضمان، وأما السلطان إذا فعل بالصبي ما منعناه،
386

فسرى إلى نفسه، فعليه الدية مغلظة في ماله، لتعديه، وقيل: في كونه في بيت
المال، أو على عاقلته القولان، كما لو أخطأ، لأنه قصد الاصلاح، والمذهب
الأول، وفي وجوب القصاص قولان، أظهرهما: لا يجب، لأنه قصد الاصلاح،
واستبعد الأئمة وجوب القصاص، وقال صاحب الافصاح: القولان إذا كان
للصبي أب أو جد، فإن لم يكونا فلا قود بلا خلاف، لأنه لا بد له ممن يقوم
بشأنه، وهذا راجع إلى أن للسلطان قطع السلعة، ولو قطع الأب والجد السلعة حيث
لا يجوز، فمات، فلا قصاص للبعضية، وتجب الدية في ماله، وقيل: لا ضمان
على الأب أصلا، لأن ولايته أتم وإنما يقطعها للشفقة، وأما ما يجوز للأب
والسلطان من فصد الصغير وحجامته وقطع سلعته للأب إذا أفضى إلى تلف، فلا
ضمان فيه على الأصح، وبه قال الجماهير، لئلا يمتنع من ذلك، فيتضرر الصغير
بخلاف التعزير.
الثالثة: الختان واجب في حق الرجال والنساء، وقيل: سنة، وقيل: واجب
في الرجل، سنة في المرأة، والصحيح المعروف هو الأول، وختان الرجل: قطع
الجلدة التي تغطي الحشفة حتى تنكشف جميع الحشفة، ويقال لتلك الجلدة:
القلفة، قال الامام: فلو بقي مقدار ينبسط على سطح الحشفة، وجب قطعه، حتى
لا يبقى جلد متجاف، هذا هو الصحيح المعروف للأصحاب، وقال ابن كج:
عندي يكفي قطع شئ من الحشفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها،
وأما من المرأة، فتقطع من اللحمة التي في أعلق الفرج فوق مخرج البول، وتشبه
تلك اللحمة عرف الديك، فإذا قطعت، بقي أصلها كالنواة، ويكفي أن يقطع ما
يقع عليه الاسم، قال الأصحاب: وإنما يجب الختان بعد البلوغ، ويستحب أن
يختن في السابع من ولادته إلا أن يكون ضعيفا لا يحتمله فيؤخر حتى يحتمله، قال
الامام: ولو كان الرجل ضعيف الخلقة بحيث لو ختن خيف عليه، لم يجز أن
يختن، بل ينتظر حتى يصير بحيث يغلب على الظن سلامته، وفي وجه في تعليق
القاضي حسين، وهو مقتضى كلام البغوي: لا يجوز ختان الصغير حتى يبلغ عشر
سنين.
387

قلت: ولنا وجه في البيان وغيره أنه يجب على الولي ختان الصغير قبل
بلوغه، لأنه أرفق، فعليه النظر له، والصحيح أنه لا يجب حتى يبلغ، وهل يحسب
يوم الولادة من السبعة المستحبة؟ وجهان في المستظهري أصحهما: لا، وحكاه
عن الأكثرين، وأما الخنثى، فلا يختن في صغره، فإذا بلغ فوجهان، أحدهما:
يجب ختان فرجه ليتوصل إلى المستحق، وبهذا قطع في البيان وأصحهما: لا
يجوز ختانه، لأن الجرح لا يجوز بالشك، وبه قطع البغوي، فعلى الأول: إن
أحسن الختان، ختن نفسه، وإلا اشترى جارية تختنه، فإن لم يمكن تولاه الرجال
والنساء للضرورة، كالتطبيب، ولو كان لرجل ذكران، إن كانا عاملين، ختنا، وإن
كان أحدهما، ختن وحده، وهل يعرف العمل بالجماع أو البول؟ وجهان. والله
أعلم.
فرع مؤنة الختان في مال المختون، وفي وجه: يجب على الوالد إذا ختن
صغيرا.
فرع إذا بلغ غير مختون، أمره به الامام، فإن امتنع، أجبره، فإن
ختن الممتنع، فمات، فلا ضمان، لأنه مات من واجب، لكن لو وقع ختانه في حر
أو برد شديدين، ففي الضمان خلاف سبق في الزنى، والمذهب وجوبه، وأجرى
الامام هذا الخلاف فيما لو ختنه الأب في حر أو برد شديدين، وجعل الأب أولى بنفي
الضمان، لأن الأب هو الذي يتولى الختان غالبا، فهو في حقه كالحد في حق
الامام، ومن ختن صبيا في سن لا يحتمله، فمات منه، لزمه القصاص، سواء
الولي وغيره، لكن لا قصاص على الأب والجد للبعضية، وعليهما الدية، وإن كان
في سن يحتمله، فمات، نظر إن ختنه أبوه أو جده، أو الامام إذا لم يكن له ولي
غيره، فلا ضمان على الأصح، وإن ختنه أجنبي، فقال البغوي: يحتمل أن يبنى
388

على ختن الامام في الحر الشديد، إن ضمناه، ضمن هنا، وإلا فلا، وقال
السرخسي: يبنى على أن الجرح اليسير هل فيه قصاص؟ وفيه وجهان، إن قلنا:
نعم، فهو عمد، وإلا فشبه عمد، وإذا أوجبنا الضمان في الختان في حر شديد،
فالواجب نصف الضمان على الأصح، وقيل: كله.
الطرف الثاني في محل ضمان إتلاف الامام
فما تعدى به من التصرفات، وقصر فيه، أو أخطأ لا يتعلق بالحكم، بأن رمى
صيدا، فقتل إنسانا، حكمه فيه حكم سائر الناس، فيجب في ماله، أو على
عاقلته، وأما الضمان الواجب بخطئه في الاحكام وإقامة الحدود، فهل هو على
عاقلته، أم في بيت المال؟ قولان، أظهرهما: على عاقلته وقد سبقا في باب
العاقلة، فإن قلنا: على العاقلة، فالكفارة في ماله، وإن قلنا: على بيت المال،
فهل الكفارة في بيت المال أم في ماله؟ وجهان، فلو ضرب الامام في الخمر
ثمانين، ومات المجلود، ففي محل الضمان القولان ولو جلد حاملا جدا، فألقت
جنينا ميتا، ففي محل الغرة القولان، إن جهل حملها، فإن علمه، فقيل: بالقولين،
والمذهب أنها على عاقلته، لأنه عدل عن الصواب عمدا، ولو انفصل حيا ومات،
وجب كل الدية ومحلها على ما ذكرنا، ولو ماتت الحامل، فقد أطلق في
المختصر أنه لا يضمنها، قال الشيخ أبو حامد وغيره: إن ماتت من الجلد
وحده، بأن ماتت قبل الاجهاض، فلا ضمان وهو موضع النص، وذكر ابن الصباغ
أن فيه والحالة هذه الخلاف فيما لو حده في حر مفرط، فمات، وإن ماتت من
الاجهاض وحده، بأن أجهضت، ثم ماتت، وأحيل الموت على الاجهاض، وجب
كمال ديتها، وإن قيل: ماتت بالحد والاجهاض جميعا، وجب نصف ديتها.
فرع سنذكر في الشهادات إن شاء الله تعالى أن القاضي إذا حكم بشهادة
اثنين، ثم بانا عبدين أو ذميين، نقض الحكم، وإن بانا فاسقين، نقضه على الأظهر
، فلو أقام الحد بشهادة اثنين، ثم بانا ذميين أو عبدين أو امرأتين أو مراهقين أو
فاسقين، ومات المحدود، فقد بان بطلان الحكم، فينظر إن قصر في البحث عن
حالهما، فالضمان عليه لا يتعلق ببيت المال ولا بالعاقلة أيضا إن تعمد، قال
الامام: وإنما يتردد في وجوب القصاص، والراجح الوجوب، لأن الهجوم على
القتل ممنوع منه بالاجماع، ويحتمل أن لا يجب بإسناده القتل إلى صورة البينة،
389

وإن لم يقصر في البحث، بل بذل وسعه، جرى القولان في أن الضمان على عاقلته
أم في بيت المال ثم إذا ضمنت العاملة أو بيت المال، فهل يثبت الرجوع على
الشاهدين؟ فيه أوجه، أحدها: نعم، لأنهما غرا القاضي، وأصحهما: لا،
لأنهما يزعمان أنهما صادقان، ولم يوجد منهما تعد، وقد ينسب القاضي إلى تقصير
في البحث، والثالث: يثبت الرجوع للعاقلة دون بيت المال، فإن أثبتنا الرجوع،
طولب الذميان في الحال، وفي العبدين يتعلق بذمتهما على الأصح، وقيل:
بالرقبة، وأما المراهقان، فإن قلنا: يتعلق برقبة العبدين نزلنا ما وجد منهما منزلة
الاتلاف، وإلا فقول الصبي لا يصلح للالتزام، فلا رجوع، وإن بانا فاسقين، فإن
قلنا: لا ينقض الحكم، فلا أثر له، وإن قلنا: ينقض، ففي الرجوع عليهما
أوجه، أحدها: نعم كالعبدين، والثاني: لا، لأن العبد مأمور بإظهار حاله بخلاف
الفاسق، وأصحها: إن كان مجاهرا بالفسق، ثبت الرجوع، لأن عليه أن يمتنع من
الشهادة، ولان قبول شهادته مع مجاهرته يشعر بتعزيره، وإن كان مكاتما، فلا.
فرع قتل الجلاد وضربه بأمر الإمام كمباشرة الامام إذا لم يعلم ظلمه
وخطأه، ويتعلق الضمان والقصاص بالامام دون الجلاد، لأنه آلته، ولو ضمناه لم
يتول الجلد أحد، وإن علم أن الامام ظالم أو مخطئ، ولم يكرهه الامام عليه
فالقصاص والضمان على الجلاد دون الامام، لأنه إذا علم الحال لزمه الامتناع
ويجئ على قولنا: أمر الامام إكراه، أن يكون هذا كما لو أكرهه، وإن أكرهه،
فالضمان عليهما، وإن اقتضى الحال القصاص، وجب على الامام، وفي الجلاد
قولان، ولو أمره بضربه وقال: أنا ظالم في ضربه، فضربه الجلاد ومات، قال
البغوي: إن قلنا: أمر السلطان ليس بإكراه، فالضمان على الجلاد، وإن قلنا:
إكراه، فإن قلنا: لا ضمان على المكره، فالضمان على الامام، ولو قال: افعل إن
شئت، فليس بإكراه قطعا، ولو قال: اضرب ما شئت، أو ما أحببت، لم تكن له
الزيادة على الحد، فإن زاد، ضمن، ولو أمره بقتل في محل الاجتهاد، كقتل مسلم
بذمي، وحر بعبد، والامام والجلاد يعتقدان أنه غير جائز، فقتله، قال البغوي القود
عليهما إن جعلنا أمر السلطان إكراها، وأوجبنا القود على المكره والمكره جميعا، ولو
اعتقد الجلاد منعه، والامام جوازه، أو ظن أن الامام اختار ذلك المذهب، ففي
وجوب القصاص والضمان على الجلاد وجهان، أصحهما عند الأصحاب:
390

الوجوب، وبه قطع ابن الصباغ والبغوي وغيرهما، لأن واجبه الامتناع، فإن أكره
فحكمه معروف، والثاني: لا اعتبار باعتقاد الامام ولو كان الامام لا يعتقد جواز قتل
حر بعبد، فأمره به تاركا للبحث، وكان الجلاد يعتقد جوازه، فقتله عملا باعتقاده،
فقد بني على الوجهين قتله، فإن اعتبرنا اعتقاد الامام، وجب القصاص، وإن
اعتبرنا اعتقاد الجلاد، فلا، قال الامام: وهذا ضعيف هنا، لأن الجلاد مختار عالم
بحال والامام لم يفوض إليه، النظر والاجتهاد بل القتل فقط، فالجلاد كالمستقل.
فصل لا ضمان على الحجام إذا حجم أو فصد بإذن من يعتبر إذنه،
فأفضى إلى تلف، وكذا لو قطع سلعة بالاذن للمعنى الذي ذكرناه في الجلاد بخلاف
من قطع يدا صحيحة بإذن صاحبها، فمات منه، حيث توجب الدية على قول، لان
الاذن هناك لا يبيح القتل، وهنا الفعل جائز لغرض صحيح، وأما إذا قطع بالاذن،
ووقف القطع فلم يسر، فلا ضمان بلا خلاف. وبالله التوفيق.
الباب الثاني في الصيال
هو متضمن لمعرفة الصائل وهو المدفوع، والمصول عليه وهو المدفوع عنه،
وكيفية الدفع وحكمه.
أما الصائل، فكل قاصد من مسلم وذمي وعبد وحر وصبي ومجنون وبهيمة،
يجوز دفعه فإن أبى الدفع على نفسه، فلا ضمان بقصاص ولا دية ولا كفارة ولا
قيمة، ولو سقطت جرة من علو، واستوت على رأس إنسان وخاف منها ولم يمكنه
دفعها إلا بإتلافها ففي الضمان وجهان، أصحهما: بجب لأنه قصد لها بخلاف
الآدمي والبهيمة، ولو حالت بهيمة بين جائع وطعامه في بيت، ولم يصله إلا
بقتلها، ففي الضمان وجهان، ويمكن أن يجعل الأصح هنا نفي الضمان كما ذكرنا
فيما لو عم الجراد المسالك فوطئه المحرم.
391

أما المصول عليه، فيجوز الدفع عن النفس والطرف ومنفعته، والبضع
ومقدماته، وعن المال وإن قل إذا كانت المذكورات معصومة، ويجوز لغير المصول
عليه الدفع، وله دفع مسلم صال على ذمي، وأب صال على ابنه، وسيد صال على
عبده، لأنهم معصومون مظلومون، وحكى الامام قولا قديما أنه لا يجوز الدفع عن
المال إذا لم يحصل الدفع إلا بقتل، أو قطع طرف، والمشهور الأول، وبه قطع
الجماهير، وفي الحديث الصحيح: من قتل دون ماله فهو شهيد فله الدفع في
كل هذه الصور، وإن أتى الدفع على الصائل، فلا ضمان فيه، ولو وجده ينال من
جاريته ما دون الفرج، فله دفعه، وإن أتى على نفسه وللأجنبي دفعه كذلك حسبة،
ويجوز أن يكون المدفوع عنه ملك القاصد، فمن رأى إنسانا يتلف مال نفسه، بأن
يحرق كدسه، ويغرق متاعه، جاز له دفعه، وإن كان حيوانا بأن رآه يشدخ رأس
حماره، وجب على الأجنبي دفعه على الأصح وبه قطع البغوي، لحرمة الحيوان،
أما كيفية الدفع، فيجب على المصول عليه رعاية التدريج والدفع بالأهون فالأهون،
فإن أمكنه الدفع بالكلام، أو الصياح، أو الاستغاثة بالناس، لم يكن
له الضرب، وكذا لو اندفع شره، بأن وقع في ماء أو نار، أو انكسرت رجله، لم
يضربه، وكذا لو حال بينهما جدار أو خندق أو نهر عظيم، فإن حال نهر صغير وغلب
على ظنه أنه إن عبر النهر عليه، قال ابن الصباغ: فله رميه ومنعه العبور، أما إذا لم
يندفع الصائل إلا بالضرب، فله الضرب، ويراعى فيه الترتيب، فإن أمكن باليد،
لم يضربه بسوط، وإن أمكن بسوط، لم يجز بالعصا، ولو أمكن بقطع عضو، لم
يجز إهلاكه، وإذا أمكن بدرجة، فدفعه بما فوقها، ضمن، وكذا لو هرب فتبعه
وضربه، ضمن، ولو ضربه ضربة، فولى هاربا أو سقط، وبطل صياله فضربه أخرى،
فالثانية مضمونة بالقصاص وغيره، فإن مات منهما، لم يجب قصاص النفس،
ويجب نصف الدية، لأنه هلك من مضمون وغيره، ولو عاد بعد الجرحين، فصال،
فضربه ثالثة فمات منها، لزمه ثلث الدية، ومتى غلب على ظنه أن الذي أقبل عليه
بالسيف يقصده، فله دفعه بما يمكنه، وإن لم يضربه المقبل، ولو كان الصائل
392

يندفع بالسوط والعصا، ولم يجد المصول عليه إلا سيفا أو سكينا، فالصحيح أن له
الضرب به، لأنه لا يمكنه الدفع إلا به ولا يمكن نسبته إلى التقصير بترك استصحاب
سوط، والمعتبر في حق كل شخص حاجته، ولذلك نقول: الحاذق الذي يحسن
الدفع بأطراف السيف من غير جرح يضمن إن جرح، ومن لا يحسن، لا يضمن
بالجرح، ولو قدر المصول عليه على الهرب، أو التحصن بموضع حصين، أو على
الالتجاء إلى فئة هل يلزمه ذلك، أم له أن يثبت ويقاتل؟ فيه اختلاف نص،
وللأصحاب طريقان، أصحهما: على قولين، أظهرهما: يجب الهرب، لأنه
مأمور بتخليص نفسه بالأهون، والطريق الثاني: حمل نص الهرب على من تيقن
النجاة بالهرب، والآخر على من لم يتيقن.
فرع عض شخص يده، أو عضوا آخر، فليخلصه بأيسر الممكن، فإن
أمكن رفع لحييه، وتخليص ما عضه، فعل، وإلا ضرب شدقه ليدعه، فإن لم يمكنه
وسل يده، فسقطت أسنانه، فلا ضمان، وسواء كان العاض ظالما أو مظلوما، لان
العض لا يجوز بحال، ومتى أمكنه التخلص بضرب فمه، لا يجوز العدول إلى
غيره، فإن لم يمكنه إلا بعضو آخر، بأن يبعج بطنه، أو يفقأ عينه، أو يعصر
خصييه، فله ذلك على الصحيح، وقيل: ليس له قصد عضو آخر.
فصل: أما حكم الدفع، فقد ذكرنا أنه جائز، وهل يجب أم يجوز
الاستسلام وترك الدفع، ينظر إن قصد أخذ المال، أو إتلافه ولم يكن ذا روح،
لم يجب الدفع، لأن إباحة المال جائزة، وإن قصد أهله، وجب عليه الدفع بما
أمكنه، لأنه لا مجال فيه، وشرط البغوي للوجوب أن لا يخاف على نفسه، وإن
قصد نفسه، نظر إن كان كافرا، وجب الدفع، وأشار الروياني إلى أنه لا يجب، بل
يستحب وهو غلط، والصواب الأول، وبه قطع الأصحاب، وإن كان بهيمة،
393

وجب، وإن كان مسلما فقولان، وقيل: وجهان، أظهرهما: لا يجب الدفع،
بل له الاستسلام، والثاني: يجب، وعن القاضي حسين أنه إن أمكنه دفعه بغير
قتله، وجب، وإلا فلا، والقائلون بجواز الاستسلام، منهم من يزيد ويصفه
بالاستحباب، وهو ظاهر الأحاديث، وإن كان الصائل مجنونا، أو مراهقا، فقيل:
لا يجوز الاستسلام قطعا، لأنهما لا إثم عليهما، كالبهيمة، والمذهب طرد القولين
لحرمة الآدمي، ورضى بالشهادة. وهل يجب الدفع عن الغير؟ فيه ثلاث طرق،
أصحها: أنه كالدفع عن نفسه، فيجب حيث يجب، ولا يجب حيث لا يجب،
والثاني: القطع بالوجوب، لأن له الايثار بحق نفسه دون غيره، والثالث ونسبه الامام
إلى معظم الأصوليين: القطع بالمنع، لأن شهر السلاح يحرك الفتن، وليس ذلك
من شأن آحاد الناس، وإنما هو وظيفة الامام، وعلى هذا هل يحرم أم يجوز؟ فيه
خلاف عنهم، فإن أوجبنا، فذلك إذا لم يخف على نفسه، ثم قال الامام: الخلاف
في أن آحاد الناس هل لهم شهر السلاح حسبة لا يختص بالصيال، بل من أقدم على
محرم، من شرب خمر أو غيره، هل لآحاد الناس منعه بما يجرح ويأتي على
النفس؟ فيه وجهان، أحدهما: نعم نهيا عن المنكر، ومنعا من المعصية،
والثاني: لا، خوفا من الفتن، ونسب الثاني إلى الأصوليين، والأول إلى
الفقهاء، وهو الموجود للأصحاب في كتب المذهب، حتى قال الفوراني والبغوي
والروياني وغيرهم: من علم خمرا في بيت رجل، أو طنبورا، وعلم شربه، أو
ضربه، فله أن يهجم على صاحب البيت، ويريق الخمر، ويفصل الطنبور، ويمنع
أهل الدار الشرب والضرب، فإن لم ينتهوا، فله قتالهم وإن أتى القتال عليهم، وهو
مثاب على ذلك، وفي تعليق الشيخ إبراهيم المروذي أن من رآه مكبا على معصية من
زنى أو شرب خمر، أو رآه يشدخ شاة أو عبدا، فله دفعه، وإن أتى الدفع عليه، فلا
ضمان.
394

فصل إذا وجد رجلا يزني بامرأته أو غيرها، لزمه منعه ودفعه، فإن هلك
في الدفع، فلا شئ عليه، وإن اندفع بضرب غيره ثم قتله، لزمه القصاص إن لم
يكن الزاني محصنا، فإن كان، فلا قصاص على الصحيح، وقد سبق في
الجنايات، وإذا قال: قتلته لذلك، وأنكر وليه، فعلى القاتل البينة، وينظر إن
ادعى أنه قصد امرأته، فدفعه فأتى الدفع على نفسه، ثبت ذلك بشاهدين، وإن ادعى
أنه زنى بها وهو محصن، لم يثبت الزنى إلا بأربعة، فإن لم يكن بينة، حلف ولي
القتيل على نفي العلم بما يقوله، ومكن من القصاص، ولو كان للقتيل وارثان،
فحلف أحدهما، ونكل الآخر، حلف القاتل للآخر، وعليه نصف الدية للحالف،
وإن كان أحدهما بالغا، والآخر صغيرا، وحلف البائع لم يقبض حتى يبلغ
الصغير، فيحلف، أو يموت، فيحلف وارثه، وإن أخذ البالغ نصف الدية حكى
الروياني أنه يؤخذ للصغير أيضا، فإذا بلغ، حلف، فإن نكل وحلف القاتل، رد
عليه ما أخذ، ولو أقر الورثة أن مورثهم كان معها تحت ثوب يتحرك تحرك المجامع
وأنزل، ولم يقروا بما يوجب الحد، لم يسقط القصاص، وإن أقروا بما يوجبه
وقالوا: كان بكرا، فالقول قولهم، وعلى القاتل البينة بالحصان، ولو أخرج سارق
المتاع من حرزه، ثم ألقاه وهرب، لم يكن له أن يتبعه فيضربه، فإن تبعه، فقطع
يده التي وجب قطعها بالسرقة، فلا قصاص، لأنها مستحقة الإزالة، وكذا في قطع
الطريق إذا قطع ما وجب قطعه منه لا قصاص، لكن يعزر لافتئاته، ويجئ في
وجوب القصاص الخلاف السابق في الزاني المحصن، ولو وجب الجلد على زان،
فجلده واحد من الناس، لم يقع حدا إلا بإذن الإمام بخلاف القطع، وفي تعليق
إبراهيم المروذي وجهان فيمن جلد رجلا ثمانين، وقال: كان قذفني، وأقام بينة
به، هل يحسب ذلك عن الحد؟ وبني على الوجهين أنه إن عاش هل يعاد الحد،
وإن مات هل يجب القصاص على الضارب؟.
فصل إذا نظر إلى حرمة إنسان في داره من كوة، أو ثقب، أو شق باب،
فنهاه صاحب الدار، فلم ينته، فرماه بحصاة ونحوها، فأصاب عينه فأعماه، أو
أصاب قريبا من عينه فجرحه، فلا ضمان، وإن سرى إلى النفس لم يضمن، قال
الشافعي رحمه الله: ولو ثبت المطلع، ولم يندفع بعد رميه بالشئ الخفيف،
استغاث عليه صاحب الدار، فإن لم يكن في موضع غوث، قال: أحببت أن ينشده
395

بالله تعالى، فإن لم يندفع، فله ضربه بالسلاح ويناله بما يردعه، فإن أتى على
نفسه، فلا ضمان، ولو لم ينل منه صاحب الدار، عاقبه السلطان، وسواء كان
وقوف الناظر في الشارع أو في سكة منسدة الأسفل، أو في ملك نفسه، إذ ليس
للواقف في ملكه مد النظر إلى حرم الناس، وعن القاضي حسين وجه ضعيف أنه
ليس له قصد عينه إذا وقف في الشارع، أو ملك نفسه، وإنما يقصده إذا وقف في
ملك المنظور إليه وليس بشئ، ثم إنما يرمي عينه إذا قصد النظر والتطلع، أما إذا
كان مخطئا، أو وقع بصره اتفاقا، وعلم صاحب الدار الحال، فلا يرميه، فلو رماه،
وقال الناظر: لم أكن قاصدا، أو لم أطلع على شئ، فلا شئ على الرامي، لان
الاطلاع حاصل، وقصده أمر باطن لا يطلع عليه، وهذا ذهاب إلى جواز الرمي من
غير تحقق قصده، وفي كلام الامام ما يدل على أنه لا يرمي حتى يتبين الحال، وهو
حسن.
فرع هل يجوز رميه قبل إنذاره؟ وجهان، أحدهما يحكى عن الشيخ أبي
حامد والقاضي حسين: لا، بل ينذره ويزجره ويأمره بالانصراف، فإن أصر، رماه،
جريا على قياس الدفع بالأهون، ولأنه قد يكون له عذر، وأصحهما وبه قال
الماسرجسي، والقاضي أبو الطيب، وجزم به الغزالي: يجوز رميه قبل الانذار،
واستدل صاحب التقريب بجواز الرمي هنا قبل الانذار على أنه لا يجب تقديم
الكلام في دفع كل صائل، وأنه يجوز للمصول عليه الابتداء بالفعل، قال الامام:
مجال التردد في كلامه هو موعظة قد تفيد وقد لا تفيد، فأما ما يوثق بكونه دافعا من
تخويف وزعقة مزعجة، فيجب قطعا، وهذا أحسن، وينبغي أن يقال: ما لا يوثق
بكونه دافعا، ويخاف من الابتداء به مبادرة الصائل لا يجب الابتداء به قطعا.
فرع ليكن الرمي بشئ خفيف تقصد العين بمثله، كبندقة وحصى
خفيفة، أما إذا رشقه بنشاب، أو رماه بحجر ثقيل، فيتعلق به القصاص والدية،
لكن لو لم يمكن قصد عينه، أو لم ينزجر، فيستغيث عليه ويدفعه بما أمكنه كما
سبق، ولا يقصد رمي غير العين إذا أمكنه إصابتها، فإن لم يمكن، فرمى عضوا
آخر، ففي التهذيب حكاية وجهين فيه، ونقل أنه لو أصاب موضعا بعيدا عن عينه
بلا قصد، فلا يضمن على الأصح، والأشبه ما ذكره الروياني أنه إن رماه، فأصاب
396

غير العين، فإن كان بعيدا لا يخطئ من العين إليه، ضمن، وإن كان قريبا يخطئ
إليه، لم يضمن.
فرع لو كان للناظر محرم في الدار، أو زوجة، أو متاع، لم يجز قصد
عينه، لأن له في النظر شبهة، وقيل: لا يكفي أن يكون له في الدار محرم، بل لا
يمنع قصد عينه إلا إذا لم يكن في الدار إلا محارمه، والصحيح الأول، ولو كان
الناظر محرما لحرم صاحب الدار، فلا يرمى إلا أن تكون متجردة، إذا ليس للمحرم
النظر إلى ما بين السرة والركبة.
فرع لو لم يكن في الدار حرم، بل كان فيها المالك وحده، فإن كان
مكشوف العورة، فله الرمي ولا ضمان، وإلا فوجهان، أصحهما: لا يجوز رميه،
والثاني: يجوز، لأن من الأحوال ما يكره الاطلاع عليه، ولو كان الحرم في الدار
مستترات بالثياب، أو في بيت، أو منعطف لا يمتد النظر إليهن، فهل يجوز قصد
عينه؟ وجهان، أصحهما: نعم، لعموم الأحاديث، ولأنه يريد سترهن عن الأعين
وإن كن مستورات بثياب، ولان الحرم في الدار لا يدرى متى يسترن وينكشفن،
فيحسم باب النظر.
فرع لو كان باب الدار مفتوحا، فنظر منه، أو من كوة واسعة، أو ثلمة في
الجدار، فإن كان مجتازا، لم يجز رميه، وإن وقف ونظر متعمدا، لم يجز رميه
أيضا في الأصح، لتفريط صاحب الدار، ولو نظر من سطح نفسه، أو نظر المؤذن
من المنارة، جاز رميه في الأصح، إذ لا تفريط من صاحب الدار، ولو وضع الأعمى
عينه على شق الباب، فرماه، ضمن، سواء علم عماه، أم لا، ولو نظرت المرأة أو
المراهق، جاز رميهما على الأصح، ولو قعد في طريق مكشوف العورة، فنظر إليه
ناظر، لم يجز له رميه، لأنه الهاتك حرمته، قال ابن المرزبان: لو دخل مسجدا،
وكشف عورته، وأغلق الباب أو لم يغلقه، فنظر إليه إنسان، لم يكن له رميه، لان
الموضع لا يختص به، ولو كانت الدار ملكا للناظر، قال السرخسي: إن كان من
فيها غاصبا، لم يكن له الرمي، وإن كان مستأجرا، فله ذلك، وفي المستعير
وجهان.
فرع لو انصرف الناظر قبل الرمي إليه، لم يجز أن يتبعه ويرميه، كالصائل
إذا أدبر.
397

فرع لو دخل دار رجل بغير إذنه، فله أمره بالخروج ودفعه، كما يدفعه عن
سائر أمواله، والأصح أنه لا يدفعه قبل الانذار، كسائر أنواع الدفع، وبه قال
الماسرجسي، ثم هل يتعين قصد رجله لكون الدخول بها كما يتعين قصد العين في
النظر، أم لا يتعين، لأنه دخل بجميع البدن؟ وجهان، أصحهما: الثاني، وهل
يجوز قصد العين؟ وجهان، قال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة والطبري:
يجوز، لأنه بأول الهجوم متطلع، ومنهم من منعه، والأصح: أن له دفعه بما
يتيسر، ولا يتعين قصد عضو بعينه، ولا يمتنع قصد عضو. ودخول الخيمة في
الصحراء، كالدار في البنيان، ولو أخذ المتاع وخرج، فله أن يتبعه ويقاتله إلى أن
يطرح متاعه، ولو قتله وقال: قتلته، لأنه كابر ولم يخرج، وأنكر الولي فهو
المصدق، وعلى القاتل البينة، وإن قال: قتلته، لأنه قصدني، فكذلك، وقد ذكر
أنه يحتاج إلى بينة بأنه دخل داره مقبلا شاهرا سلاحه، ولا تكفي بينة بأنه دخل داره
بسلاح من غير شهر.
فرع لو وضع أذنه على شق الباب، أو وقف على الباب يتسمع، لم يجز
رمي أذنه، إذ ليس السمع كالبصر في الاطلاع على العورات، وقال الامام: وفي
بعض التعاليق عن شيخي وجه، ولا أثق بالمعلق.
فصل في مسائل من الصيال قال ابن كج: لو صال عليه فحل، وأمكنه
الهرب، فلم يهرب وقتله دفعا، هل يلزمه الضمان؟ يبنى على أنه هل يجب الهرب
إذا صال عليه إنسان، إن قلنا: نعم، ضمن، وإلا فلا، وأبدى ترددا في حل أكل
لحم البهيمة التي تلفت بالدفع، قال إبراهيم المروذي: إن لم يصب المذبح، لم
تحل، وإن أصابه، فوجهان، لأنه لم يقصد الذبح والاكل، ولو صال العبد
المبيع على البائع، أو أجنبي قبل القبض، فقتله دفعا، انفسخ العقد، ولو صال
على المشتري فقتله، ففي مصيره قابضا وجهان. ولو صال العبد المغصوب أو
المستعار على مالكه، فقتله دفعا، لم يبرأ الغاصب والمستعير على الأصح، وفي
398

البيان أنه لو قطع يد الصائل دفعا، فلما ولى تبعه فقتله، لزمه القصاص في
النفس، ثم حكى عن بعض الأصحاب أن لورثة المصول عليه أن يرجعوا في تركة
الصائل بنصف الدية، قال: والذي يقتضيه المذهب، أنهم لا يرجون بشئ، لان
النفس لا تنقص بنقص اليد.
الباب الثالث في ضمان ما تتلفه البهائم
إذا أتلفت البهيمة، فإما أن لا يكون معها أحد من مالك وغيره، وإما أن
يكون.
الحال الأول:
أن لا يكون أحد، وأتلفت زرعا أو غيره، نظر إن أتلفته بالنهار، فلا ضمان
على صاحبها، وإن أتلفته بالليل، لزم صاحبها الضمان، للحديث الصحيح في
ذلك، ولان العادة أن أصحاب الزروع والبساتين يحفظونها نهارا، ولا بد من إرسال
المواشي للرعي، ثم العادة أنها لا تترك منتشرة ليلا، فإذا تركها ليلا، فقد قصر،
فضمن، ولو جرت العادة في ناحية بالعكس، فكانوا يرسلون المواشي ليلا للرعي،
ويحفظونها نهارا، وكانوا يحفظون الزرع ليلا، فوجهان، أصحهما: ينعكس
الحكم، فيضمن ما أتلفته بالنهار دون الليل اتباعا لمعنى الخبر والعادة، والثاني: لا
تأثير للعادة ويتعلق به فروع.
الأول: المزارع في الصحراء والبساتين التي لا جدار لها، حكمها ما ذكرنا،
أما إذا كان الزرع في محوط، وكان للبساتين باب يغلق، فتركه مفتوحا فوجهان،
أحدهما: الحكم كذلك لاطلاق الحديث ولان العادة حفظ البهائم وربطها ليلا،
فإرسالها تقصير، وأصحهما: لا ضمان وإن أتلفت بالليل، لأن التقصير من صاحب
الزرع بفتح الباب.
الثاني: إنما يعتاد إرسال المواشي إذا كان هناك مراع بعيدة عن المزارع،
وحينئذ إن فرض انتشارها إلى أطراف المزارع، لم يعد تقصيرا، فأما إذا كانت
المراعي متوسطة للمزارع، أو كانت البهائم ترعى في حريم السواقي، فلا يعتاد
إرسالها بلا راع، فإن أرسلها، فمقصر ضامن لما أفسدته وإن كان نهارا، هذا هو
المذهب، وبه قطع الجمهور.
399

الثالث: لو ربط بهيمته، وأغلق بابه، واحتاط على العادة، ففتح الباب
لص، أو انهدم الجدار، فخرجت ليلا، فلا ضمان، إذ لا تقصير، ولو قصر
صاحب البهيمة، وحضر صاحب الزرع، فإن قدر على تنفيرها، فليفعل، فإن
تهاون فهو المقصر المضيع لزرعه، فلا ضمان على الصحيح، وينبغي أن لا يبالغ
التنفير والابعاد، بل يقتصر على قدر الحاجة، فإن زاد، فضاعت، قال إبراهيم
المروذي: لزمه الضمان وتصير داخله في ضمانه بالتبعيد فيق قدر الحاجة، ولو
أخرجها من زرعه وأدخلها في زرع غيره، فأفسدته، لزمه الضمان. فإن كانت
محفوفة بمزارع الناس، ولم يمكن إخراجها إلا بإدخالها مزرعة غيره، لم يجز أن
يقي مال نفسه بمال غيره، بل يصبر ويغرم صاحبها.
الرابع: إذا أرسل دابة في البلد، فأتلفت شيئا، ضمن على الأصح،
وجميع ما ذكرنا فيما إذا تعلق إرسال الدابة وضبطها باختياره، فإن انفلتت، لم
يضمن ما أتلفته بحال، ولو ربط دابته في موات، أو ملك نفسه، وغاب عنها، لم
يضمن ما تتلفه، وإن ربطها في الطريق على باب داره، أو في موضع آخر، لزمه
الضمان، سواء كان الطريق ضيقا أو واسعا، لأن الارتفاق في الطريق إنما يجوز
بشرط سلامة العاقبة، كإشراع الجناح، وقيل: إن كان واسعا، فلا ضمان،
والصحيح المنصوص هو الأول، ولم يتعرضوا للفرق بين ربطه بإذن الإمام ودون
إذنه.
فرع إذا أرسل الحمام، أو غيرها من الطير، فكسرت شيئا، أو التقطت
حبا، فلا ضمان، لأن العادة إرسالها، ذكره ابن الصباغ.
الحال الثاني: إذا كان مع البهيمة شخص، ضمن ما أتلفته من نفس ومال،
سواء أتلفت ليلا أو نهارا، وسواء كان سائقها أو راكبها أو قائدها، وسواء أتلفت بيدها
أو رجلها أو عضها أو ذنبها، لأنها تحت يده وعليه تعهدها وحفظها، وسواء كان الذي
مع البهيمة مالكها أو أجيره، أو مستأجرا أو مستعيرا أو غاصبا، لشمول اليد، وسواء
البهيمة الواحدة والعدد، كالإبل المقطورة، وحكى ابن كج وجها أنه إن كانت
400

الماشية مما تساق، كالغنم، فساقها، لم يضمن، وإن كانت مما يقاد، فساقها،
ضمن، والصحيح أنه يضمن في الحالين وبه قطع الجماهير، ولو كان معها قائد
وسائق، فالضمان عليهما نصفين، وفي الراكب مع السائق أو القائد وجهان،
أحدهما: عليهما نصفين، والثاني: يخص الراكب بالضمان لقوة يده وتصرفه، ولو
اجتمع راكب وسائق وقائد، فهل يختص الراكب بالضمان أم يجب عليهم أثلاثا؟
وجهان، ولو كان يسير دابة، فنخسها إنسان، فرمحت وأتلفت شيئا، فالضمان على
الناخس على الصحيح، وقيل: عليهما، ولو انفلتت الدابة من يد صاحبها وأتلفت
شيئا، فلا ضمان عليه من يده، فلو أمسك على اللجام، وركبت رأسها فهل يضمن
ما تتلفه؟ قولان، وعن صاحب التلخيص طرد الخلاف، وإن لم يكن معها
الراكب، كما إذا غلبت السفينتان الملاحين، قال الامام: والدابة النزقة التي لا
تنضبط بالكبح، والترديد في معاطف اللجام، لا تركب في الأسواق، ومن ركبها،
فهو مقصر ضامن لما تتلفه، وإذا راثت الدابة، أو بالت في سيرها في الطريق، فزلق
به إنسان، وتلفت نفس أو مال، أو فسد شئ من رشاش الوحل بممشاها وقت
الوحول والانداء، أو مما يثور من الغبار، وقد يضر ذلك بثياب البزازين والفواكه،
فلا ضمان في كل ذلك، لأن الطريق لا يخلو عنه، والمنع من الطرق لا سبيل
إليه، لكن ينبغي أن يحترز مما لا يعتاد، كالركض المفرط في الوحل، والاجراء
في مجتمع الوحول، فإن خالف، ضمن ما يحدث منه، وكذا لو ساق الإبل في
الأسواق غير مقطورة، لأنه لا يمكن ضبطها حينئذ، وإذا بالت الدابة، أو راثت في
الطريق وقد وقفها فيه، فأفضى المرور في موضع البول إلى تلف، فعلى الخلاف
401

السابق فيما لو أتلفت الدابة الموقوفة هناك شيئا، والمذهب: أنه لا ضمان وقيل:
يفرق بين طريق واسع وضيق، وعن ابن الوكيل وجه أنه يجوز أن تقف الدابة في
الطريق مطلقا، كما يجوز أن يجريها، فإذا بالت أو راثت في وقوفها، وتلف به
إنسان، فلا ضمان، ولو كان يركض دابته، فأصاب شئ من موضع السنابك عين
إنسان، وأبطل ضوءها، فإن كان الموضع موضع ركض، فلا ضمان، وإلا
فيضمن، ولو كان يسوق دابة عليها حطب، أو حمله على ظهره، أو على عجلة،
فاحتك ببناء وأسقطه، لزمه ضمانه، وإن دخل السوق به، وتلف منه مال أو
نفس، ففي التهذيب وغيره أنه إن كان ذلك وقت الزحام، ضمن، وإن لم يكن
زحام، وتمزق ثوبه بخشبة تعلقت به مثلا، فإن كان صاحب الثوب مستقبلا للدابة،
فلا ضمان، لأن التقصير منه إلا أن يكون أعمى، فعلى صاحب الدابة اعلامه، وإن
كان يمشي قدام الدابة، لزم صاحبها الضمان إذا لم يعلمه، لأنه مقصر في العادة،
وإن كان من صاحب الثوب جذبه أيضا بأن تعلقت الخشبة بثوبه فجذبه وجذبتها
الدابة، فعلى صاحبها نصف الضمان، ولو كان يمشي، فوقع مقدم مداسه على مؤخر مداس
غيره وتمزق، لزمه نصف الضمان، لأنه تمزق بفعله وفعل صاحبه، هكذا ذكره إبراهيم
المروذي، وينبغي أن يقال: إن تمزق مؤخر مداس السابق، فالضمان على
اللاحق، وإن تمزق مقدم مداس اللاحق، فلا ضمان على السابق، وجميع ما ذكرنا
في وجوب الضمان على صاحب الدابة هو فيما إذا لم يوجد من صاحب المال
تقصير، فإن وجد بأن عرضه للدابة، أو وضعه في الطريق، فلا ضمان على صاحب
الدابة.
فرع إذا كانت له هرة تأخذ الطيور، وتقلب القدور، فأتلفت شيئا فهل
على صاحبها ضمان؟ وجهان، أصحهما: نعم، سواء أتلفت ليلا أو نهارا، لأن مثل
هذه الهرة ينبغي أن تربط ويكف شرها، وكذا الحكم في كل حيوان تولع
402

بالتعدي، والثاني: لا ضمان سواء أتلفت ليلا أو نهارا، لأن العادة لا تربط، أما
إذا لم يعهد منها ذلك فوجهان، أصحهما: لا ضمان، لأن العادة حفظ الطعام عنها
لا ربطها، والثاني: يفرق بين الليل والنهار كما سبق في البهيمة، وأطلق الامام في
ضمان ما تتلفه الهرة أربعة أوجه، أحدها: يضمن، والثاني: لا، والثالث:
يضمن ليلا لا نهارا، كالبهيمة، والرابع: عكسه، لأن الأشياء تحفظ عنها ليلا،
وإذا أخذت الهرة حمامة وهي حية، جاز فتل أذنها وضرب فمها لترسلها، وإذا
قصدت الحمام، فأهلكت في الدفع، فلا ضمان، فلو صارت ضارية مفسدة فهل
يجوز قتلها في حال سكونها؟ وجهان، أصحهما وبه قال القفال: لا يجوز، لان
ضراوتها عارضة والتحرز عنها سهل، وقال القاضي حسين: تلتحق بالفواسق
الخمس، فيجوز قتلها، ولا يختص بحال ظهور الشر، قال الامام: وقد انتظم
لي كلام الأصحاب أن الفواسق مقتولات لا يعصمها الاقتناء، ولا يجري
الملك عليها، ولا أثر لليد والاختصاص فيها.
فرع لو كان في داره كلب عقور، أو دابة رموح، فدخلها إنسان،
فرمحته، أو عضه الكلب، فلا ضمان إن دخل بغير إذن صاحب الدار، أو بإذنه
وأعلمه بحال الكلب والدابة، وإن لم يعلمه فقولان، كما لو وضع بين يديه طعاما
مسموما، ومنهم من خص الخلاف بمن كان أعمى، أو في ظلمة، وقطع بنفي
الضمان إذا كان بصيرا يرى.
فرع لو ابتلعت البهيمة في مرورها جوهرة، ضمنها صاحبها إن كان معها،
أو وجد منه تقصير، بأن طرح لؤلؤة غيره بين يدي دجاجة، وإلا فوجهان، أحدهما:
يفرق بين الليل والنهار، كالزرع، والثاني: يضمن ليلا ونهارا، وإذا أوجبنا
الضمان، فطلب صاحب الجوهرة ذبحها ورد الجوهرة، فقد سبق بيانه في الغصب.
فصل في مسائل منثورة من الباب وربما سبق بعضها فأعدناه، أو
صح في فتاوى البغوي أن الراعي كالمالك يضمن ما أتلفته الدابة في يده، ولو
403

كان عنده دابة وديعة، فأرسلها فأتلفت، لزمه الضمان ليلا كان أو نهارا، لأن عليه
حفظها ليلا ونهارا، وفي هذا توقف، ويشبه أن يقال: عليه حفظها بحسب ما يحفظ
الملاك، وأنه لو استأجر رجلا لحفظ دوابه، فأتلفت زرعا ليلا أو نهارا، فعلى الأجير
الضمان، لأن عليه حفظها في الوقتين، وذكر أنه رأى المسألة كذلك في طريقة
العراق.
قلت: ينبغي أن لا يضمن الأجير والمودع إذا أتلفت ليلا كان أو نهارا، لان
على صاحب الزرع حفظه نهارا، وتفريط الأجير إنما يؤثر في أن مالك الدابة
يضمنه. والله أعلم.
وأنه لو دخلت دابة ملك رجل فأخرجها، ضمن، كما لو هبت الريح بثوب في
حجره، فألقاه، ضمن، بل عليه ردها إلى المالك، فإن لم يجده سلمها إلى
الحاكم إلا أن تكون مسيبة من جهة المالك، كالإبل والبقر، وعلى هذا فالذي سبق
أنه يخرجها من زرعه إلا إذا كان زرعه محفوفا بزرع الغير يحمل على ما إذا كانت
مسيبة من جهة المالك، وأنها لو دخلت بهيمة أرضه، فتلف زرعه، دفعها كما
يدفعها لو صالت، فإن نحاها عن الزرع، واندفع ضررها، لم يجز إخراجها عن
الملك، لأن شغلها المكان وإن كان فيه ضرر بحيث لا يبيح إضاعة مال غيره، ولو
أن مالكها أدخلها في ملك صاحب الأرض بغير إذنه، فأخرجها بعد غيبة مالكها، أو
وضع إنسان متاعه في المفازة على دابة شخص بغير إذنه، وغاب، ألقاه صاحب
الدابة، فيحتمل وجهين في الضمان وعدمه، وأنه لو كان يقطع شجرة في ملكه،
فسقطت على رجل أحد النظارة، فانكسرت، فإن عرف القاطع أنها إذا سقطت
تصيب الناظر، ولم يعرف الناظر ذلك، ولا أعلمه القاطع، ضمن القاطع، سواء
دخل ملكه بإذنه أو بغير إذنه، وإن عرف الناظر ذلك، أو عرفاه جميعا، أو جهلاه،
فلا ضمان، وأنه لو دخلت بقرة ملكه، فأخرجها من ثلمة، فهلكت، ضمن إن لم
تكن الثلمة بحيث تخرج البقرة منها بسهولة، وأنه لو دخلت دابة ملكه، فرمحت
صاحب الملك، فمات، فحكم الضمان كما لو أتلفت زرعه، يفرق بين الليل
والنهار، وإذا أوجبنا الضمان، فالدية على العاقلة، كحفر البئر، وأنه لو ركب صبي
404

أو بالغ دابة رجل دون إذنه، فغلبته الدابة وأتلفت شيئا، فعلى الراكب الضمان
بخلاف ما لو ركب المالك، فغلبته، حيث لا يضمن في قول، لأنه غير متعد، وأنه
إذا أهاجت الرياح وأظلم النهار، فتفرقت غنم الراعي ووقعت في زرع، فأفسدته،
فالراعي مغلوب، وفي وجوب الضمان عليه قولان، أظهرهما: لا ضمان، وكذا
الحكم لو ند بعير من صاحبه، فأتلف شيئا، ولو نام وتفرقت الأغنام وأتلفت، ضمن
لتقصيره، وأن الرجل لو كان على دابة، فسقطت ميتة وأهلكت شيئا، أو مات
الراكب وسقط على شئ، لم يضمن، وكذا لو انتفخ ميت، وتكسر بسبب انتفاخه
قارورة، بخلاف الطفل يسقط على قارورة، يضمن، لأن للطفل فعلا بخلاف
الميت، وأنه لو استقبل دابة فردها، فأتلفت في انصرافها شيئا، ضمنه الراد، ولو
نخسها، فأسقطت الراكب، أو رمحت منه إنسانا، فأتلفته، فعلى الناخس
الضمان، فإن نخس بإذن الراكب، تعلق الضمان بالراكب، ولو حل قيدا عن دابة،
فخرجت وأتلفت شيئا، لا يضمن، كما لو أبطل الحرز فأخذ المال، وأنه لو سقطت
دابة في وهدة، فنفر من سقطها بعير وهلك، لا يجب ضمانه على صاحب الدابة،
وأنه إذا ابتاع بهيمة بثمن في ذمته، فأتلفت على المشتري مالا، ضمنه البائع، لأنها
في يده، كما لو أتلفت المستعارة شيئا على المعير، يضمنه المستعير، وأنه لو ألقى
نخاعته في الحمام، فزلق بها حر أو عبد وانكسر، لزمه الضمان إن ألقاها على الممر
وبالله التوفيق.
405

كتاب السير
هي جمع سيرة، وهي الطريقة، والمقصود: الكلام في الجهاد وأحكامه وفيه
ثلاثة أبواب:
الأول: في وجوب الجهاد، وبيان فروض الكفايات، وفيه أطراف.
الأول: في مختصر يتعلق بابتداء الامر بالجهاد وغيره، قال الشافعي
والأصحاب رحمهم الله: لما بعث رسول الله (ص) أمر بالتبليغ والانذار بلا قتال،
واتبعه قوم بعد قوم، وفرضت الصلاة بمكة، ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين،
واختلفوا في أن الزكاة فرضت بعد الصوم أم قبله، ثم فرض الحج سنة ست،
وقيل: سنة خمس، وكان القتال ممنوعا منه في أول الاسلام وأمروا بالصبر على أذى
الكفار، فلما هاجر رسول الله (ص) إلى المدينة، وجبت الهجرة على من قدر، فلما
فتحت مكة، ارتفعت الهجرة منها إلى المدينة، ونفي وجوب الهجرة من دار الحرب
على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، ثم أذن الله سبحانه وتعالى في القتال للمسلمين
إذا ابتدأهم الكفار بقتال، ثم أباح القتال ابتداء، لكن في غير الأشهر الحرم، ثم أمر
به من غير تقييد بشرط ولا زمان، ولم يعبد رسول الله (ص) صنما قط قال صاحب
406

البيان: كان متمسكا قبل النبوة بدين إبراهيم (ص).
قلت: تعرض الرافعي رحمه الله لهذه النبذ، ولم يذكر فيها ما يليق به ولا بهذا
الكتاب، وأنا أشير إلى أصول مقاصدها بألفاظ وجيزة إن شاء الله تعالى، اتفقوا أن
النبي (ص) لم يعبد صنما قط، والأنبياء قبل النبوة معصومون من الكفر، واختلفوا في
العصمة من المعاصي، وأما بعد النبوة فمعصومون من الكفر، ومن كل ما يخل
بالتبليغ، وما يزري بالمروءة، ومن الكبائر، واختلفوا في الصغائر فجوزها
الأكثرون، ومنعها المحققون وقطعوا بالعصمة منها، وتأولوا الظواهر الواردة فيها،
واختلفوا في أن نبينا (ص) هل كان قبل النبوة يتعبد على دين نوح وإبراهيم أم موسى
أم عيسى، أم يتعبد لا ملتزما دين واحد من المذكورين، والمختار أنه لا يجزم في
ذلك بشئ، إذ ليس فيه دلالة على عقل ولا ثبت فيه نص ولا إجماع، واختلف
أصحابنا في شرع من قبلنا، هل هو شرع لنا إذا لم يرد شرعنا بنسخ ذلك الحكم؟
والأصح أنه ليس بشرع لنا، وقيل: بلى، وقيل: شرع إبراهيم فقط، وبعث
رسول الله (ص) وله أربعون سنة، وقيل: أربعون ويوم، فأقام في مكة بعد النبوة ثلاث
عشرة سنة، وقيل: عشرا، وقيل: خمس عشرة، والصحيح الأول، ثم هاجر إلى
المدينة، فأقام بها عشرا بالاجماع، ودخلها رسول الله (ص) ضحى يوم الاثنين لاثنتي
عشرة خلت من شهر ربيع الأول، وتوفي (ص) ضحى يوم الاثنين لاثنتي عشرة خلت
من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة
407

ومنها ابتداء التاريخ، ودفن ليلة الأربعاء، وقيل: ليلة الثلاثاء، ومدة
مرضه (ص) الذي توفي فيه اثنا عشر يوما، وقيل: أربعة عشر، وغسله علي والعباس
والفضل وقثم وأسامة وشقران رضي الله عنهم، وكفن في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها
قميص ولا عمامة، وصلى عليه المسلمون أفرادا، بلا إمام، ودخل قبره علي
408

والعباس والفضل وقثم وشقران، ودفن في اللحد وجعل فيه تسع لبنات، ودفن في
الموضع الذي توفي فيه، وهو حجرة عائشة، ثم دفن عنده أبو بكر، ثم عمر
رضي الله عنهما، ولم يحج (ص) بعد الهجرة إلا حجة الوداع سنة عشر، وسميت
حجة الوداع لأنه ودع الناس فيها (ص)، واعتمر (ص) أربع عمر،
واختلفوا هل فرض الحج سنة ست أو خمس أو تسع،
وأول ما وجب الانذار والدعاء إلى التوحيد، ثم فرض الله تعالى من قيام الليل
ما ذكره في أول سورة المزمل، ثم نسخه بما في أواخرها، ثم نسخه بإيجاب
الصلوات الخمس ليلة الاسراء بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ليلة سبع
وعشرين من رجب، وكان (ص) مأمورا بالصلاة إلى بيت المقدس مدة مقامه بمكة وبعد
الهجرة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر، ثم أمره الله تعالى باستقبال الكعبة.
ذكر بعض الأمور المشهورة بعد الهجرة على ترتيب السنين:
السنة الأولى: فيها بنى (ص) مسجده ومساكنه، وآخى بين المهاجرين
والأنصار، وشرع الاذان وأسلم عبد الله بن سلام.
السنة الثانية: فيها حولت القبلة إلى الكعبة، قال محمد بن حبيب الهاشمي:
حولت في الظهر يوم الثلاثاء نصف شعبان، كان (ص) في أصحابه، فحانت صلاة
الظهر في منازل بني سلمة، فصلى بهم ركعتين من الظهر في مسجد القبلتين إلى
القدس، ثم أمر في الصلاة باستقبال الكعبة وهو راكع في الركعة الثانية، فاستدار
واستدارت الصفوف خلفه (ص)، فأتم الصلاة، فسمي مسجد القبلتين، وفي شعبان
منها فرض صوم رمضان، وفيها فرضت صدقة الفطر، وفيها كانت غزوة بدر في
رمضان، وفي شوال منها تزوج عائشة، وفيها تزوج علي فاطمة.
409

السنة الثالثة: فيها غزوات وأربع سرايا، منها غزوة أحد يوم السبت السابع من
شوال، ثم غزوة بدر الصغرى في هلال ذي القعدة، وفيها غزوة بني النضير،
وحرمت الخمر بعد غزوة أحد، وتزوج حفصة، وتزوج عثمان أم كلثوم، وولد
الحسن بن علي.
الرابعة: فيها غزوة الخندق وذكرها جماعة في الخامسة، والصحيح أنها في
الرابعة، ويقال لها: الأحزاب أيضا، وكان حصار الأحزاب المدينة خمسة عشر يوما
ثم هزمهم الله تعالى، وفيها قصرت الصلاة ونزل التيمم، وتزوج أم سلمة.
الخامسة: فيها غزوة ذات الرقاع في أول المحرم وبها صلى صلاة الخوف،
وهي أول صلوات الخوف، ثم غزوة دومة الجندل، وغزوة بني قريظة.
السادسة: غزوة الحديبية وبيعة الرضوان، وغزوة بني المصطلق، وكسفت
الشمس، ونزل الظهار.
السابعة: فيها غزوة خيبر، وتزوج أم حبيبة وميمونة وصفية، وجاءته مارية
وبغلته دلدل، وقدم جعفر وأصحابه من الحبشة، وأسلم أبو هريرة، وعمرة القضاء.
الثامنة: فيها غزوة مؤتة، وذات السلاسل، وفتح مكة في رمضان، وولد
إبراهيم، وتوفيت زينب، وغزوة حنين والطائف، وفيها غلاء السعر، فقالوا: سعر
لنا.
التاسعة: فيها غزا تبوك، وحج أبو بكر رضي الله عنه بالناس، وتوفيت أم
كلثوم والنجاشي، وتتابعت الوفود، ودخل الناس في دين الله أفواجا.
العاشرة: فيها حجة الوداع، ووفاة إبراهيم، وإسلام جرير، ونزل اليوم
أكملت لكم دينكم وغزواته (ص) بنفسه خمسة وعشرون غزوة، وقيل: سبع
وعشرون، وسراياه ست وخمسون، وقيل غير ذلك. والله أعلم.
الطرف الثاني في وجوب الجهاد
قد يكون فرض كفاية، وقد يتعين كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وهل كان
فرض كفاية في عهد رسول الله (ص)، أم فرض عين؟ فيه وجهان، أصحهما: فرض
كفاية لقوله تعالى * (لا يستوي القاعدون) * الآية
410

وأما اليوم فهو ضربان، أحدهما: أن يكون الكفار مستقرين في بلدانهم، فهو
فرض كفاية، فإن امتنع الجميع منه، أثموا، وهل يعمهم الاثم، أم يختص بالذين
يدنوا إليه؟ وجهان.
قلت: الأصح أنه يأثم كل من لا عذر له كما سيأتي بيان الاعذار إن شاء الله
تعالى. والله أعلم.
وإن قام من فيه كفاية، سقط عن الباقين. وتحصل الكفاية بشيئين.
أحدهما: أن يشحن الامام الثغور بجماعة يكافئون من بإزائهم من الكفار،
وينبغي أن يحتاط بإحكام الحصون وحفر الخنادق ونحوهما، ويرتب في كل ناحية
أميرا كافيا يقلده الجهاد وأمور المسلمين.
الثاني: أن يدخل الامام دار الكفر غازيا بنفسه، أو بجيش يؤمر عليهم من
يصلح لذلك، وأقله مرة واحدة في كل سنة، فإن زاد فهو أفضل، ويستحب أن يبدأ
بقتال من يلي دار الاسلام من الكفار، فإن كان الخوف من الأبعدين أكثر، بدأ بهم،
ولا يجوز إخلاء سنة عن جهاد إلا لضرورة، بأن يكون في المسلمين ضعف وفي
العدو كثرة، ويخاف من ابتدائهم الاستئصال، أو لعذر بأن يعز الزاد وعلف الدواب
في الطريق، فيؤخر إلى زوال ذلك، أو ينتظر لحاق مدد، أو يتوقع إسلام قوم،
فيستميلهم بترك القتال، هذا ما نصر عليه الشافعي، وجرى عليه الأصحاب رحمهم
الله، وقال الامام: المختار عندي في هذا مسلك الأصوليين، فإنهم قالوا: الجهاد
دعوة قهرية، فيجب إقامته بحسب الامكان حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم، ولا
يختص بمرة في السنة، ولا يعطل إذا أمكنت الزيادة، وما ذكره الفقهاء حملوه على
العادة الغالبة، وهي أن الأموال والعدد لا تتأتى لتجهيز الجنود في السنة أكثر من
مرة، ثم إن تمكن الامام من بث الأجناد للجهاد في جميع الأطراف، فعل، وإلا
فيبدأ بالأهم فالأهم، وينبغي له أن يرعى النصفة بالمناوبة بين الأجناد في الاغزاء،
ويسقط الوجوب في هذا الضرب بأعذار.
منها: الصغر والجنون والأنوثة، وللامام أن يأذن للمراهقين والنساء في
الخروج، وأن يستصحبهم لسقي الماء ومداواة المرضى ومعالجة الجرحى، ولا يأذن
للمجانين بحال، ولا جهاد على الخنثى.
411

ومنها: المرض، فلا جهاد على من به مرض يمنعه من القتال والركوب على
دابة، ولا على من لا يمكنه القتال إلا بمشقة شديدة، ولا اعتبار بالصداع ووجع
الضرس والحمى الخفيفة ونحوها.
ومنها: العرج، فلا جهاد على من به عرج بين وإن قدر على الركوب ووجد
دواب، وقيل: يلزمه الجهاد راكبا، والصحيح الأول، وسواء العرج في رجل أو
رجليه، ولا اعتبار بعرج يسير لا يمنع المشي، ولا جهاد على أشل اليد، ولا من
فقد معظم أصابعه بخلاف فاقد الأقل.
ومنها: العمى، فلا جهاد على أعمى، ويجب على الأعور والأعشى وعلى
ضعيف البصر إن كان يدرك الشخص، ويمكنه أن يتقي السلاح.
ومنها: الفقر، فلا جهاد على من عجز عن سلاح وأسباب القتال، ويشترط أن
يجد نفقة طريقه ذهابا ورجوعا، فإن لم يكن له أهل ولا عشيرة، ففي اشتراط نفقة
الرجوع وجهان سبقا في الحج، فإن كان القتال على باب البلد، أو حواليه، سقط
اشتراط نفقة الطريق، ويشترط وجدان راحلة إن كان سفره مسافة القصر، ويشترط
كون جميع ذلك فاضلا عن نفقة من يلزمه نفقته، وسائر ما ذكرناه في الحج، وكل
عذر يمنع وجوب الحج، يمنع وجوب الجهاد إلا أمن الطريق، فإنه شرط هناك ولا
يشترط هنا، لأن مبنى الغزو على ركوب المخاوف، هذا إن كان الخوف من طلائع
الكفار، وكذا لو كان من متلصصي المسلمين على الصحيح، ولو بذل للفاقد ما
يحتاج إليه، لم يلزمه قبوله، إلا أن يبذله الامام، فيلزمه أن يقبل ويجاهد، لأن ما
يعطيه الامام حقه، ولا يلزم الذمي الجهاد، والحاصل أن الجهاد لا يجب إلا
على مسلم بالغ عاقل ذكر حر مستطيع، ولا جهاد على رقيق وإن أمره سيده، إذ ليس
القتال من الاستخدام المستحق للسيد، ولا يلزمه الذب عن سيده عند خوفه على
روحه إذا لم نوجب الدفع عن الغير، بل السيد في ذلك كالأجنبي، وللسيد
استصحابه في سفر الجهاد وغيره ليخدمه ويسوس دوابه، والمدبر والمكاتب ومن
بعضه حر لا جهاد عليهم
412

فرع مما يمنع وجوب الجهاد الدين، فمن عليه دين حال لمسلم أو ذمي
ليس له أن يخرج في سفر جهاد أو غيره إلا بإذنه، وله أن يمنعه السفر لتوجه المطالبة
به، والحبس إن امتنع، وإن كان معسرا، فليس له منعه على الصحيح، إذ لا
مطالبة في الحال، ولو استناب الموسر من يقضي دينه من مال حاضر، فله
الخروج، وإن أمره بالقضاء من مال غائب، فلا، ومتى أذن صاحب الدين، فله الخروج، ويلتحق بأصحاب فرض الكفاية، وفيه احتمال للامام، وإن كان الدين
مؤجلا، فله أن يخرج في سفر لا يغلب فيه الخطر على ما سبق في التفليس، وهل
لصاحب الدين منعه من سفر الجهاد؟ فيه خمسة أوجه، أصحها: لا، والثاني:
نعم، إلا أن يقيم كفيلا بالدين، والثالث: له المنع إن لم يخلف وفاء، والرابع: له
المنع إن لم يكن من المرتزقة، والخامس: له ذلك إن كان الدين يحل قبل رجوعه،
وركوب البحر كسفر الجهاد على الأصح.
فرع من أحد أبويه حي، يحرم عليه الجهاد إلا بإذنه، أو بإذنهما إن كانا
حيين مسلمين، ولا يحتاج إلى إذن كافر، والأجداد والجدات كالوالدين، وقيل: لا
يشترط إذن الجد مع وجود الأب، ولا الجدة مع وجود الام، والأول أصح، وليس
للوالد منع الولد من حجة الاسلام على الصحيح، وله المنع من حج التطوع، وأما
سفره لطلب العلم، فإن كان لطلب ما هو متعين، فله الخروج بغير إذنهما، وليس
لهما المنع، وإن كان لطلب ما هو فرض كفاية، بأن خرج لطلب درجة الفتوى في
الناحية مستقل بالفتوى، فليس لهما المنع على الأصح، فإن لم يكن هناك مستقل،
ولكن خرج جماعة، فليس لهما على المذهب، لأنه لم يوجد في الحال من يقوم
بالمقصود، والخارجون، فلا يظفرون بالمقصود، وإن لم يخرج معه أحد، لم
يحتج إلى إذن، ولا منع لهما قطعا، لأنه يدفع الاثم عن نفسه، كالفرض المتعين
413

عليه، وقيد بعضهم هذه الصورة بما إذا لم يمكنه التعلم في بلده، ويجوز أن لا
يشترط ذلك، بل يكفي أن يتوقع في السفر زيادة فراغ أو إرشاد أستاذ أو غيرهما، كما
لم يقيد الحكم في سفر التجارة بمن لم يتمكن منها ببلده، بل اكتفي بتوقع زيادة
ربح، أو رواج، وأما سفر التجارة وغيره، فإن كان قصيرا، فلا منع منه بحال،
وإن كان طويلا، نظر إن كان فيه خوف ظاهر، كركوب بحر أو بادية مخطرة، وجب
الاستئذان على الصحيح، ولهما المنع، وإن كان الامن غالبا، فالأصح أنه لا منع
ولا يلزمه الاستئذان، والولد الكافر في هذه الاسفار كالمسلم، بخلاف سفر
الجهاد، فإنه متهم فيه، والرقيق كالحر على الصحيح لشمول معنى البر
والشفقة.
فرع من خرج للجهاد بإذن صاحب الدين أو الوالدين، ثم رجعوا عن
الاذن، أو كان الأبوان كافرين، فخرج ثم أسلما، ولم يأذنا، وعلم المجاهد
414

الحال، فإن لم يشرع في القتال، ولم يحضر الوقعة لزمه الانصراف إلا أن يخاف
على نفسه أو ماله أو يخاف انكسار قلوب المسلمين، فلا يلزمه، فإن لم يمكنه
الانصراف للخوف، وأمكنه أن يقيم في قرية في الطريق حتى يرجع الجيش، لزمه
أن يقيم، وأوهم في الوسيط خلافا في وجوب الإقامة هناك، وحكى ابن كج قولا
أنه لا يلزمه الانصراف، والمشهور الأول، وإن علم بعد الشروع في القتال، فأربعة
أوجه، أصحها: تجب المصابرة، ويحرم الانصراف، والثاني: يجب
الانصراف، والثالث: يتخير بين الانصراف والمصابرة، والرابع: يجب الانصراف
إن رجع صاحب الدين دون الأبوين إن رجع، لعظم شأن الدين ومن شرط عليه
الاستئذان، فخرج بلا إذن، لزمه الانصراف ما لم يشرع في القتال، لأن سفره سفر
معصية إلا أن يخاف على نفسه أو ماله، فإن شرع في القتال، فوجهان مرتبان،
وهذه الصورة أولى بوجوب الانصراف، لأن أول الخروج معصية، ولو خرج عبد بغير
إذن سيده، لزمه الانصراف ما لم يحضر الوقعة، فإن حضر، فلا، قال الروياني:
يستحب الرجوع.
فرع لو مرض من خرج للجهاد أو عرج، أو فني زاده، أو هلكت دابته،
فله أن ينصرف ما لم يحضر الوقعة، وكذا الحكم لو كان العذر حاصلا وقت
الخروج، فإن حضر الوقعة، فهل يلزمه الثبات أم له الرجوع؟ وجهان، أصحهما:
الثاني، قال الامام: والوجهان إذا لم يورث انصرافه فشلا في الجند، فإن أورثه،
حرم الرجوع قطعا، وفي التهذيب في صورة موت الدابة يلزمه القتال راجلا إن
أمكنه ذلك، وإلا فلا، وقيل: إذا انقطع عنه سلاحه، أو انكسر، لزمه القتال
بالحجارة إن أمكنه.
فرع حيث جوزنا الانصراف لرجوع الأبوين أو صاحب الدين عن الاذن،
أو لحدوث المرض ونحوه، فليس للسلطان حبسه، قال الشافعي رحمه الله: إلا أن
يتفق ذلك لجماعة، ويخشى من انصرافهم خلل في المسلمين، ولو انصرف لذهاب
نفقة، أو هلاك دابة، ثم قدر على النفقة والدابة في بلاد الكفار، لزمه الرجوع
للجهاد، وإن كان فارق بلاد الكفر، لم يلزمه الرجوع، وعن نصه أن من خرج
للجهاد، وبه عذر مرض وغيره، ثم زال عذره، وصار من أهل فرض الجهاد، لم
يكن له الرجوع عن الغزو، وكذا لو حدث العذر، وزال قبل أن ينصرف.
415

فرع من شرع في قتال ولا عذر له، لزمه المصابرة، وعبر الأصحاب عن
هذا بأن الجهاد يصير متعينا على من هو من أهل فرض الكفاية بالشروع، ولو اشتغل
شخص بالتعلم، وأنس الرشد فيه من نفسه، هل يحرم عليه قطعه؟ وجهان،
أحدهما: نعم، فيلزمه الاتمام، قاله القاضي حسين، وأصحهما: لا، لان
الشروع لا يغير حكم المشروع فيه بخلاف بالجهاد، فإن رجوعه يؤدي إلى التخذيل،
وهل يجب إتمام صلاة الجنازة إذا شرع فيها؟ وجهان، قال القفال: لا، وقال
الجمهور: نعم، وهو الأصح، قال الغزالي: الأصح أن العلم وسائر فروض
الكفاية تتعين بالشروع.
الضرب الثاني: الجهاد الذي هو فرض عين، فإذا وطئ الكفار بلدة
للمسلمين، أو أطلوا عليها، ونزلوا بابها قاصدين، ولم يدخلوا، صار الجهاد فرض
عين على التفصيل الذي نبينه إن شاء الله تعالى، وعن ابن أبي هريرة وغيره أنه يبقى
فرض كفاية، والصحيح الأول، فيتعين على أهل تلك البلدة الدفع بما أمكنهم،
وللدفع مرتبتان.
إحداهما: أن يحتمل الحال اجتماعهم وتأهبهم واستعدادهم للحرب، فعلى
كل واحد من الأغنياء والفقراء التأهب بما يقدر عليه، وإذا لم يمكنهم المقاومة إلا
بموافقة العبيد، وجب على العبيد الموافقة، فينحل الحجر عن العبيد حتى لا
يراجعوا السادات، وإن أمكنهم المقاومة من غير موافقة العبيد، فوجهان،
أصحهما: أن الحكم كذلك، لتقوى القلوب، وتعظم الشوكة، وتشتد النكاية،
والثاني: لا ينحل الحجر عنهم للاستغناء عنهم، والنسوة إن لم تكن فيهن قوة دفاع
لا يحضرن، وإن كان فعلى ما ذكرنا في العبيد، ويجوز أن لا يحوج المزوجة إلى
إذن الزوج، كما لا يحوج إلى إذن السيد، ولا يجب في هذا النوع استئذان الوالدين
وصاحب الدين.
المرتبة الثانية: أن يتغشاهم الكفار، ولا يتمكنوا من اجتماع وتأهب، فمن
وقف عليه كافر، أو كفار، وعلم أنه يقتل إن أخذ، فعليه أن يتحرك، ويدفع عن
نفسه بما أمكن، يستوي فيه الحر والعبد، والمرأة والأعمى، والأعرج،
والمريض، ولا تكليف على الصبيان والمجانين، وإن كان يجوز أن يقتل ويؤسر،
416

ولو امتنع لقتل، جاز أن يستسلم، فإن المكاوحة والحالة هذه استعجال
القتل، والأسر يحتمل الخلاص، ولو علمت المرأة أنها لو استسلمت امتدت الأيدي
إليها، لزمها الدفع وإن كانت تقتل، لأن من أكره على الزنى لا تحل له المطاوعة
لدفع القتل، فإن كانت لا تقصد بالفاحشة في الحال وإنما يظن ذلك بعد السبي،
فيحتمل أن يجوز لها الاستسلام في الحال، ثم تدفع حينئذ، ولو كان في أهل البقعة
كثرة، خرج بعضهم وفيهم كفاية، ففي تحتم المساعدة على الآخرين وجهان،
أصحهما: الوجوب، لأن الواقعة عظيمة، وأما غير أهل تلك الناحية، فمن كان
منهم على دون مسافة القصر، فهو كبعضهم، حتى إذا لم يكن في أهل البلدة
كفاية، وجب على هؤلاء أن يطيروا إليهم، وإن كان فيهم كفاية، ففي وجوب
المساعدة عليهم الوجهان، ومن كان على مسافة القصر، إن لم يكن في أهل البلدة
والذين يلونهم كفاية، وجب عليهم أن يطيروا إليهم، فإن طار إليهم من تحصل به
الكفاية، سقط الحرج عن الباقين، وهذا معنى قول البغوي: إذا دخل الكفار دار
الاسلام، فالجهاد فرض عين على من قرب، وفرض كفاية فيحق من بعد، وعلى
هذا فحكم أهل الاعذار على ما ذكرناه في الضرب الأول وفيه وجه، أنه يجب على
جميعهم المساعدة والمسارعة وليكن هذا في الأقربين ممن هو على مسافة القصر،
وإن كان في أهل البلدة والذين يلونهم كفاية، فالأصح أنه لا يجب على الذين فوق
مسافة القصر المساعدة، لأنه يؤدي إلى إيجاب على جميع الأمة، وفي ذلك حرج
من غير حاجة، والثاني: يجب على الأقربين فالأقربين بلا ضبط حتى يصل الخبر
بأنهم قد دفعوا وأخرجوا، وليس لأهل البلدة، ثم الأقربين فالأقربين إذا قدروا على
القتال أن يلبثوا إلى لحوق الآخرين، ولا يشترط وجود المركوب فيمن دون مسافة
القصر، وفيمن على مسافة القصر فما فوقها وجهان، أصحهما: الاشتراط،
كالحج، والثاني: لا، لشدة الخطب، ويشترط فيمن فوق مسافة القصر ودونها
وجود الزاد على الأصح، إذ لا استقلال بغير زاد، ولا معنى لالزامهم الخروج مع
العلم بأنهم سيهلكون، ولو نزل الكفار على خراب، أو جبل في دار الاسلام بعيد
417

عن الأوطان والبلدان، ففي نزوله منزلة دخول البلدة وجهان أطلقهما الغزالي،
والذي نقله الامام عن الأصحاب أنه ينزل منزلته، لأنه من دار الاسلام، واختار هو
المنع، لأن الدار تشرف بسكن المسلمين، فإذا لم يكن مسكنا لاحد، فتكليف
المسلمين التهاوي على المتالف بعيد.
قلت: هذا الذي اختاره الامام ليس بشئ، وكيف يجوز تمكين الكفار من
الاستيلاء على دار الاسلام مع إمكان الدفع. والله أعلم.
فرع لو أسروا مسلما، أو مسلمين، فهل هو كدخول دار الاسلام؟
وجهان، أحدهما: لا، لأن إزعاج الجنود لواحد بعيد، وأصحهما: نعم، لان
حرمته أعظم من حرمة الدار، فعلى هذا لا بد من رعاية النظر، فإن كانوا على قرب
دار الاسلام، وتوقعنا استخلاص من أسروه لو طرنا إليهم، فعلنا، وإن توغلوا في
بلاد الكفر ولا يمكن التسارع إليهم، وقد لا يتأتى خرقها بالجنود، اضطررنا إلى
الانتظار، كما لو دخل منهم ملك عظيم الشوكة طرف بلاد الاسلام، لا يتسارع إليه
آحاد الطوائف.
الطرف الثالث في بيان فروض الكفاية:
هي كثيرة مفرقة في أبوابها، كغسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه، وكذا
صلاة الجماعة والاذان والعيد إذا قلنا: إنهن فرض كفاية، وكذا التقاط المنبوذ وغير
ذلك، وفروض الكفاية أمور كلية تتعلق بها مصالح دينية أو دنيوية لا ينتظم الامر إلا
بحصولها، فيطلب الشارع تحصيلها، ولا يطلب تكليف واحد فواحد بها، بخلاف
فرض العين، فإن كل واحد مكلف بتحصيله،
وفروض الكفاية أقسام، منها ما يتعلق بأصل الدين، وهو إقامة الحجة
العلمية، ومعناها أنه كما تجب إقامة الحجة القهرية بالسيف، يجب أن يكون في
المسلمين من يقيم البراهين، ويظهر الحجج، ويدفع الشبهات، ويحل
المشكلات، ومنها ما يتعلق بالفروع، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمراد
منه: الامر بواجبات الشرع، والنهي عن محرماته، فهو فرض كفاية، فإن نصب
لذلك رجل، تعين عليه بحكم الولاية، وهو المحتسب، ولقد أحسن أقضى القضاة
الماوردي ترتيب الامر بالمعروف وتقسيمه، فجعله ثلاثة أضرب:
418

أحدها: ما يتعلق بحقوق الله تعالى، وهو نوعان، أحدهما: يؤمر به الجميع
دون الافراد، كإقامة الجمعة حيث تجتمع شروطها، فإن كانوا عددا يرون انعقاد
الجمعة بهم، والمحتسب لا يراه، فلا يأمرهم بما لا يجوزه، ولا ينهاهم عما يرونه
فرضا عليهم، ويأمرهم بصلاة العيد، وهل هو واجب أم مستحب؟ وجهان.
قلت: الصحيح وجوب الامر، وإن قلنا: صلاة العيد سنة، لأن الامر
بالمعروف هو الامر بالطاعة، لا سيما ما كان شعارا ظاهرا. والله أعلم.
النوع الثاني: يؤمر به الآحاد، مثل إن أخر بعض الناس الصلاة عن وقتها،
فإن قال: نسيتها، حثه على المراقبة، ولا يعترض على من أخرها والوقت باق
لاختلاف العلماء في فضل التأخير.
الضرب الثاني: ما يتعلق بحق آدمي، وينقسم إلى عام، كالبلد إذا تعطل
شربه، أو انهدم سوره، أو طرقه أبناء السبيل المحتاجون وتركوا معونتهم، فإن كان
في بيت المال مال، لم يؤمر الناس بذلك، وإن لم يكن، أمر أهل المكنة برعايتها.
وإلى خاص، كمطل المدين الموسر، فالمحتسب يأمره بالخروج عنه إذا استعداه
صاحب الدين، وليس له الضرب والحبس.
الثالث: الحقوق المشتركة، كأمر الأولياء بإنكاح الأكفاء، وإلزام النساء
أحكام العدد، وأخذ السادة بحقوق الأرقاء، وأصحاب البهائم بتعهدها، وأن لا
يستعملوها فيما لا تطيق، وذكر في المنكرات أن من يغير هيئة عبادة، كجهره في
صلاة سرية وعكسه، وزيادة في الاذان، يمنعه وينكر عليه، ومن تصدى للتدريس،
أو الوعظ وليس هو من أهله، ولا يؤمن اغترار الناس به في تأويل أو تحريف، أنكر
عليه المحتسب، وشهر أمره لئلا يغتر به، وإذا رأى رجلا واقفا مع امرأة في شارع
يطرقه الناس، لم ينكر عليه، وإن كان في طريق خال، فهو موضع ريبة، فينكر
ويقول: وإن كانت محرما لك، فصنها عن مواقف الريب، ولا ينكر في حقوق
الآدميين، كتعديه في جدار جاره إلا باستعداء صاحب الحق، وينكر على من يطيل
419

الصلاة من أئمة المساجد المطروقة، وعلى القضاة إذا حجبوا الخصوم، وقصروا في
النظر والخصومات، والسوقي الذي يختص بمعاملة النساء تختبر أمانته، فإن ظهرت
منه خيانة، منع من معاملتهن، وهذا باب لا تتناهى صوره.
قلت: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية بإجماع الأمة، وهو من
أعظم قواعد الاسلام، ولا يسقط عن المكلف لكونه يظن أنه لا يفيد، أو يعلم بالعادة
أنه لا يؤثر كلامه، بل يجب عليه الأمر والنهي، فإن الذكرى تنفع المؤمنين،
وليس الواجب عليه أن يقبل منه، بل واجبه أن يقول كما قال الله تعالى: * (ما على
الرسول إلا البلاغ) * قالوا: ومن أمثلته: أن يرى مكشوف بعض عورته في حمام
ونحو ذلك، ولا يشترط في الآمر والناهي كونه ممتثلا ما يأمر به، مجتنبا ما ينهى
عنه، بل عليه الأمر والنهي في حق نفسه، وفي حق غيره، فإن أخل بأحدهما، لم
يجز الاخلال بالآخر، ولا يختص الأمر والنهي بأصحاب الولايات والمراتب، بل
ذلك ثابت لآحاد المسلمين وواجب عليهم، قال إمام الحرمين: والدليل عليه
إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول كانوا يأمرون الولاة وينهونهم مع
تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بذلك بغير ولاية، ويدل عليه قول
النبي (ص) في صحيح مسلم: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم
420

يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه قال أصحابنا: وإنما يأمر وينهى من كان
عالما بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف بحسب الأشياء، فإن كان من الواجبات
الظاهرة، والمحرمات المشهورة، كالصلاة والصيام والزنى والخمر ونحوها، فكل
المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأقوال والأفعال، ومما يتعلق بالاجتهاد،
لم يكن للعوام الابتداء بإنكاره، بل ذلك للعلماء، ويلتحق بهم من أعلمه العلماء
بأن ذلك مجمع عليه، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع على إنكاره، أما المختلف
فيه فلا إنكار فيه، لأن كل مجتهد مصيب، أو المصيب واحد ولا نعلمه، ولا إثم
على المخطئ، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف، فهو
421

حسن محبوب، ويكون برفق، لأن العلماء متفقون على استحباب الخروج من
الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة ثابتة، أو وقوع في خلاف آخر، وذكر الماوردي
خلافا في أن من قلده السلطان الحسبة، هل له حمل الناس على مذهبه فيما اختلف
العلماء فيه إذا كان المحتسب مجتهدا أم ليس له تغيير ما كان على مذهب غيره؟
والأصح أنه ليس له تغييره لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف بين الصحابة والتابعين في
الفروع، ولا ينكر أحد على غيره مجتهدا فيه، وإنما ينكرون ما خالف نصا، أو
إجماعا، أو قياسا جليا.
وأما صفة النهي عن المنكر ومراتبه، فضابطه قوله (ص): فليغيره بيده، فإن
لم يستطع فبلسانه فعليه أن يغير بكل وجه أمكنه، ولا يكفي الوعظ لمن أمكنه إزالته
باليد، ولا تكفي كراهة القلب لمن قدر على النهي باللسان، وقد سبق في كتاب
الغصب صفة كسر الملاهي وجملة متعلقة بالمنكرات، وينبغي أن يرفق في التغيير
بالجاهل وبالظالم الذي يخاف شره، فإن ذلك أدعى إلى قبول قوله، وإزالة المنكر،
وإن قدر على من يستعين به ولم يمكنه الاستقلال، استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار
422

سلاح وحرب، فإن عجز، رفع ذلك إلى صاحب الشوكة، وقد تقدم هذا في كتاب
الصيال، فإن عجز عن كل ذلك، فعليه أن يكرهه بقلبه، قال أصحابنا وغيرهم:
وليس للآمر والناهي البحث والتنقيب والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن رأى
شيئا غيره، قال الماوردي: فإن غلب على ظن المحتسب أو غيره استسرار قوم
بالمنكر بأمارة وآثار ظهرت، فذلك ضربان، أحدهما: أن يكون فيه انتهاك حرمة
يفوت تداركها، بأن يخبره من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني
بها، فيجوز التجسس والاقدام على الكشف والانكار، والثاني: ما قصر عن هذه
الرتبة، فلا يجوز فيه الكشف والتجسس.
واعلم أنه لا يسقط الامر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بأن يخاف منه على
نفسه أو ماله، أو يخاف على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع. والله
أعلم.
فصل ومن فروض الكفاية إحياء الكعبة بالحج في كل سنة، هكذا
أطلقوه، وينبغي أن تكون العمرة كالحج، بل الاعتكاف والصلاة في المسجد
الحرام، فإن التعظيم وإحياء البقعة يحصل بكل ذلك.
قلت: لا يحصل مقصود الحج بما ذكر فإنه مشتمل على الوقوف والرمي
والمبيت بمزدلفة ومنى، وإحياء تلك البقاع بالطاعات وغير ذلك. والله أعلم.
ومنها: ما يتعلق بمصالح المعايش وانتظام أمور الناس، كدفع الضرر عن
423

المسلمين، وإزالة فاقتهم، كستر العورة، وإطعام الجائعين، وإغاثة المستغيثين
في النائبات، فكل ذلك فرض كفاية في حق أصحاب الثروة والقدرة إذا لم تف
الصدقات الواجبة بسد حاجاتهم، ولم يكن في بيت المال ما يصرف إليها، فلو
انسدت الضرورة، فهل يكفي ذلك أم تجب الزيادة إلى تمام الكفاية التي يقوم بها من
تلزمه النفقة؟ حكى الامام فيه وجهين.
قلت: قال الامام في كتابه الغياثي: يجب على الموسر المواساة بما زاد
على كفاية سنة.
وأما الحرف والصناعات وما به قوام المعايش، كالبيع والشراء والحراثة، وما
لا بد منه حتى الحجامة والكنس، فالنفوس مجبولة على القيام بها، فلا تحتاج إلى
حث عليها وترغيب فيها، لكن لو امتنع الخلق منها، أثموا وكانوا ساعين في إهلاك
أنفسهم، فهي إذن من فروض الكفاية.
فصل ومن فروض الكفاية ما يتعلق بالدين، وبصلاح المعيشة، كتحمل
الشهادة وأدائها، وإعانة القضاة على استيفاء الحقوق ونحو ذلك، وكتجهيز الموتى
غسلا وتكفينا وصلاة ودفنا ونحو ذلك.
فصل من العلوم ما يتعين طلبه وتعلمه، ومنها فرض كفاية.
فمن المتعين: ما يحتاج إليه لإقامة مفروضات الدين، كالوضوء والصلاة
والصيام وغيرها، فإن من لا يعلم أركان الصلاة وشروطها لا يمكنه إقامتها، وإنما
424

يتعين تعلم الاحكام الظاهرة دون الدقائق والمسائل التي لا تعم بها بلوى، وإن كان له
مال زكوي، لزمه تعلم ظواهر أحكام الزكاة، قال الروياني: هذا إذا لم يكن له ساع
يكفيه الامر.
قلت: الراجح أنه لا يسقط عنه التعلم بالساعي، إذ قد يجب عليه ما لا يعلمه
الساعي. والله أعلم.
ومن يبيع ويشتري ويتجر يتعين عليه معرفة أحكام التجارات، وكذا ما يحتاج
إليه صاحب كل حرفة يتعين عليه تعلمه، والمراد الاحكام الظاهرة الغالبة دون الفروع
النادرة والمسائل الدقيقة. وأما فرض الكفاية، فالقيام بعلوم الشرع فرض كفاية ويدخل في ذلك: التفسير والحديث على ما سبق في الوصية، ومنها: أن ينتهي في
معرفة الاحكام إلى حيث يصلح للفتوى والقضاء كما سنذكره في أدب القاضي إن شاء
الله تعالى، وهناك يتبين أن المجتهد في الشرع مطلقا يفتي، وأن المتبحر في مذهب
بعض الأئمة المجتهدين يفتي أيضا على الصحيح، ولا يكفي أن يكون في الإقليم
مفت واحد، لعسر مراجعته، واعتبر الأصحاب فيه مسافة القصر، وكأن المراد أن لا
يزيد ما بين كل مفتيين على مسافة القصر، وأما العلوم العقلية، فمنها ما هو فرض
كفاية، كالطب والحساب المحتاج إليه، وقسمة الوصايا
والمواريث، قال الغزالي: ولا يستبعد عد الطب والحساب من فروض الكفاية، فإن
الحرف والصناعات التي لا بد للناس منها في معايشهم، كالفلاحة فرض كفاية،
فالطب والحساب أولى، وأما أصول العقائد، فالاعتقاد المستقيم مع التصميم على
ما ورد به القرآن والسنة فرض عين، وأما العلم المسمى علم الكلام، فليس بفرض
عين، ولم يكن الصحابة رضي الله عنهم يشتغلون به، قال الامام: ولو بقي الناس
على ما كانوا عليه في صفوة الاسلام لما أوجبنا التشاغل به، وربما نهينا عنه، فأما
اليوم وقد ثارت البدع، فلا سبيل إلى تركها تلتطم، ولا بد من إعداد ما يدعى به إلى
المسلك الحق، وتزال به الشبه، فصار الاشتغال بأدلة العقول فرض كفاية، فأما من
425

استراب في أصل من أصول الاعتقاد، فيلزمه السعي في إزاحته حتى تستقيم
عقيدته.
قلت: ولا يتعين تعلم كيفية الوضوء والصلاة وشبههما إلا بعد وجوب ذلك،
فإن كان بحيث لو صبر إلى دخول الوقت لم يتمكن من إتمام تعلمها مع الفعل في
الوقت، فهل يلزمه التعلم قبل الوقت؟ تردد فيه الغزالي، والأصح: ما جزم به غيره
أنه يلزمه، كما يلزم السعي إلى الجمعة قبل الوقت لمن بعد منزله، وإذا كان ما تعلق
به الوجوب على الفور، كان تعلم كيفيته على الفور، وإن كان على التراخي،
كالحج، فتعلم الكيفية على التراخي، وأما علم القلب [وهو معرفة أمراض
القلب]، كالحسد والعجب والرياء وشبهها، فقد قال الغزالي: معرفة حدودها
وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين وقال غيره: فيه تفصيل، ضمن زرق قلبا سليما
من هذه الأمراض المحرمة كفاه ذلك، ومن لم يسلم وتمكن من تطهير قلبه بغير تعلم
العلم المذكور، وجب تطهره، وإن لم يتمكن إلا بتعلم، وحب، وقد سبق في
كتاب الصلاة وجوب تعليم الصغار على أوليائهم، ومن فرض الكفاية، معرفة أصول
الفقه والفقه، والنحو واللغة والتصريف، وأسماء الرواة، والجرح والتعديل،
واختلاف العلماء واتفاقهم، وقد يكون من العلم مستحب، كالتبحر في أصول الأدلة
بالزيادة على القدر الذي يحصل به فرض الكفاية، وكتعلم العامي نوافل العبادات
لغرض العمل، لا لما يقوم به المجتهدون من تمييز الفرض من النفل، فإن ذلك
فرض كفاية في حقهم، قال صاحب الحاوي: وإنما يتوجه فرض الكفاية في
العلم على من جمع أربعة شروط وهي: أن يكون مكلفا، وممن يتقلد القضاء، لا
عبدا ولا امرأة، وأن يكون بليدا، وأن يقدر على الانقطاع إليه بأن تكون له كفاية،
ويدخل الفاسق في الفرض ولا يسقط به، لأنه لا تقبل فتواه للمستفتين، وفي دخول
المرأة والعبد وجهان، لأنهما أهل للفتوى دون القضاء.
واعلم أن تعليم الطالبين، وإفتاء المستفتين فرض كفاية، فإن لم يكن من
يصلح إلا واحدا وكان هناك جماعة، ولا يحصل الغرض إلا بكلهم، تعين عليهم،
وإذا كان هناك غير المفتي، هل يأثم بالرد؟ وجهان، أصحهما: لا، وينبغي أن
426

يكون المعلم كذلك، ويستحب الرفق بالمتعلم والمستفتي، فهذه أنواع العلوم
الشرعية، ووراءها أشياء تسمى علوما، منها: محرم ومكروه ومباح، فالمحرم،
كالفلسفة والشعوذة والتنجيم والرمل وعلوم الطبائعيين، وكذا السحر على الصحيح،
فكل ذلك محرم، وتتفاوت دركات تحريمه. والمكروه: كأشعار المولدين المشتملة
على الغزل والبطالة. والمباح: كأشعار المولدين التي ليس فيها سخف، ولا شئ
مما يكره، ولا ينشط إلى الشر أو يثبط عن الخير ولا يحث عليه، أو يستعان به
عليه. والله أعلم.
فرع إذا تعطل فرض كفاية، أثم كل من علم به، وقدر على القيام به،
وكذا من لم يعلم، وكان قريبا من الموضع يليق به البحث والمراقبة، قال الامام:
ويختلف هذا بكبر البلد وصغره، وقد يبلغ التعطل مبلغا ينتهي خبره إلى سائر البلاد،
فيجب عليهم السعي في التدارك، وفي الصورة دليل على أنه لا يجوز الاعراض
والاهمال، ويجب البحث والمراقبة على ما يليق الحال.
فرع إذا قام بالفرض جمع لو قام به بعضهم يسقط الحرج عن الباقين،
كانوا كلهم مؤدين للفرض، ولا مزية للبعض على البعض، وإذا صلى على الجنازة
جمع، ثم آخرون، كانت صلاة الآخرين فرض كفاية كالأولين.
قلت: للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين من حيث إنه أسقط
الحرج عن نفسه وعن المسلمين، وقد قال إمام الحرمين في كتابه الغياثي: الذي
أراه أن القيام بفرض الكفاية أفضل من فرض العين، لأنه لو ترك المتعين، اختص
هو بالاثم، ولو فعله، اختص بسقوط الفرض، وفرض الكفاية لو تركه، أثم
الجميع، وفرض الكفاية لو فعله، سقط الحرج عن الجميع، وفاعله ساع في صيانة
الأمة عن المأثم، ولا يشك في رجحان من حل محل المسلمين أجمعين في القيام
بمهم من مهمات الدين. والله أعلم.
فصل في السلام فيه مسائل: الأولى: ابتداء السلام سنة مؤكدة،
427

فإن سلم على واحد، وجب عليه الرد، وإن سلم على جماعة، فالرد في حقهم
فرض كفاية، فإن رد أحدهم، سقط الحرج عن الباقين، وإن رد الجميع، كانوا
مؤدين للفرض، سواء ردوا معا أو متعاقبين، فإن امتنعوا كلهم، أثموا، ولو رد غير
من سلم عليه، لم يسقط الفرض عمن سلم عليه، ويكون ابتداء السلام أيضا سنة
على الكفاية، فإذا لقي جماعة آخرين، فسلم أحد هؤلاء على هؤلاء، كفى ذلك
في إقامة أصل السنة.
الثانية: لا بد من ابتداء السلام ورده من رفع الصوت بقدر ما يحصل به الاسماع،
ويجب أن يكون الرد متصلا بالسلام الاتصال المشترط بين الايجاب والقبول في العقود،
قال المتولي: لو ناداه من وراء حائط أو ستر، وقال: السلام عليك يا فلان، أو كتب
كتابا وسلم عليه فيه، أو أرسل رسولا فقال: سلم على فلان، فبلغه الكتاب
والرسالة، لزمه الرد، ولو سلم على أصم، أتى باللفظ لقدرته عليه، ويشير باليد
ليحصل الافهام، فإن لم يضم الإشارة إلى اللفظ، لم يستحق الجواب، وكذا في
جواب سلام الأصم، يجب الجمع بين اللفظ والإشارة، وسلام الأخرس بالإشارة
معتد به، وكذا رده.
الثالثة: صيغته، السلام عليكم، أو سلام عليكم، قال الامام: وكذا لو
قال: عليكم السلام، وقال المتولي: عليكم السلام ليس بتسليم.
قلت: الصحيح أنه تسليم يجب فيه الرد، كما قال الامام، وممن قال أيضا
إنه تسليم أبو الحسن الواحدي من أصحابنا، ولكن يكره الابتداء به، نص على
428

كراهته الغزالي في الاحياء ويدل عليه الحديث الصحيح في سنن أبي داود والترمذي
عن أبي جري بضم الجيم تصغير جرو رضي الله عنه، قال: قلت: عليك السلام يا
رسول الله، قال: لا تقل: عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الموتى.
والله أعلم.
ويستحب مراعاة صيغة الجمع، وإن كان المسلم عليه واحدا خطابا
ولملائكته، ولو قال: السلام عليك وترك صيغة الجمع، حصل أصل السنة،
وصيغة الجواب، وعليكم السلام، أو وعليك السلام للواحد، فلو ترك حرف
العطف فقال: عليكم السلام، قال الامام: يكفي ذلك، ويكون جوابا، والأفضل
أن يدخل الواو، وقال المتولي: ليس بجواب.
قلت: الصحيح المنصوص وقول الأكثرين أنه جواب. والله أعلم.
ولو قال المجيب: وعليكم، قال الامام: الرأي عندنا أنه لا يكون جوابا،
فإنه ليس فيه تعرض للسلام، ومنهم من جعله جوابا للعطف. ولو قال: عليكم بغير
واو، فليس بجواب قطعا، وكمال السلام أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله،
وكمال الرد: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
قلت: قد قال الماوردي وغيره: إن الأفضل في الابتداء: السلام عليكم
ورحمة الله وبركاته، وفيه حديث حسن، ولو قال المجيب: السلام عليكم، أو
سلام عليكم، كان جوابا، والألف واللام أفضل. والله أعلم.
429

ولو تلاقى رجلان فسلم كل واحد على صاحبه، وجب على كل واحد منهما
جواب الآخر، ولا يحصل الجواب بالسلام، وإن ترتب السلامان، قاله المتولي.
قلت: قد قاله أيضا شيخه القاضي حسين، لكن أنكره الشاشي فقال: هذا
يصلح للجواب، فإن كان أحدهما بعد الآخر كان جوابا، وإن كانا دفعة، لم يكن
جوابا، هذا كلام الشاشي، وتفصيله حسن وينبغي أن يجزم به. والله أعلم.
الرابعة: لو سلم عليه جماعة، فقال: وعليكم السلام، وقصد الرد عليهم
جميعا، جاز، وسقط الفرض في حق الجميع، كما لو صلى على جنائز صلاة
واحدة.
الخامسة: السنة أن يسلم الراكب على الماشي، والماشي على الجالس،
والطائفة القليلة على الكثيرة، ولا يكره ابتداء الماشي والجالس.
قلت: وكذا لا يكره ابتداء الكثيرين بالسلام على القليل، وإن كان خلاف
السنة، والسنة أن يسلم الصغير على الكبير، ثم هذا الأدب فيما إذا تلاقيا، أو تلاقوا
في الطريق، فأما إذا ورد على قاعد، أو قعود، فإن الوارد يبدأ، سواء كان صغيرا أو
كبيرا، قليلا أو كثيرا. والله أعلم.
السادسة: يكره أن يخص طائفة من الجمع بالسلام.
السابعة: لا يلزم الصبي جواب السلام، لأنه ليس مكلفا، ولو سلم على
جماعة فيهم صبي، لم يسقط الفرض عنهم بجوابه.
قلت: هذا هو الأصح وبه قطع القاضي والمتولي، وقال الشاشي: يسقط،
كما يصح أذانه للرجال ويتأدى به الشعار، وهذا كالخلاف في سقوط الفرض بصلاته
430

على الميت. والله أعلم. ولو سلم صبي على بالغ، ففي وجوب الرد عليه وجهان بناء على صحة
إسلامه.
قلت: كذا ذكره القاضي والمتولي، والصحيح وجوب الرد، قال الشاشي:
هذا البناء فاسد، وهو كما قال، واعلم أن السلام على الصبيان سنة. والله أعلم.
الثامنة: سلام النساء على النساء، كسلام الرجال على الرجال، ولو سلم
رجل على امرأة أو عكسه، فإن كان بينهما زوجية أو محرمية، جاز ووجب الرد، وإلا
فلا يجب إلا أن تكون عجوزا خارجة عن مظنة الفتنة.
قلت: وجاريته كزوجته، وقوله: جاز، ناقص، والصواب أنه سنة كسلام
الرجل على الرجل، قاله أصحابنا، قال المتولي: ولو سلم على شابة، لم يجز لها
الرد، ولو سلمت، كره له الرد عليها، ولو كان النساء جمعا، فسلم عليهن الرجل،
جاز، للحديث الصحيح في ذلك. والله أعلم.
التاسعة: في السلام بالعجمية ثلاثة أوجه، ثالثها: إن قدر على العربية، لم
يجزئه.
قلت: الصواب صحة سلامه بالعجمية إن كان المخاطب يفهمها، سواء قدر
على العربية أم لا، ويجب الرد، لأنه يسمى تحية وسلاما. والله أعلم.
ومن لا يستقيم نطقه بالسلام، يسلم كيف أمكنه.
العاشرة: في استحباب السلام على الفساق، ووجوب الرد على المجنون
والسكران إذا سلما، وجهان، ولا يجوز ابتداء أهل الذمة بالسلام، فلو سلم
431

على من لم يعرفه، فبان ذميا، استحب أن يسترد سلامه، بأن يقول: استرجعت
سلامي، تحقيرا له، وله أن يحيي الذمي بغير السلام، بأن يقول: هداك الله، أو
أنعم الله صباحك، ولو سلم عليه ذمي، لم يزد في الرد على قوله: وعليك.
قلت: ما ذكره من استحباب استرداد السلام من الذمي، ذكره المتولي، ونقله
عن ابن عمر رضي الله عنهما، وقوله: أن يحيي الذمي بغير السلام، ذكره
المتولي، وهذا إذا احتاج إليه لعذر، فأما من غير حاجة، فالاختيار أن لا يبتدئه
بشئ من الاكرام أصلا، فإن ذلك بسط له وإيناس وملاطفة وإظهار ود، وقد قال الله
تعالى: * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) *
وأما المبتدع، فالمختار أنه لا يبدأ بسلام إلا لعذر، أو خوفا من مفسدة، ولو مر على
جماعة فيهم مسلمون، أو مسلم وكفار، فالسنة أن يسلم ويقصد المسلمين أو
المسلم، ولو كتب كتابا إلى مشرك، وكتب فيه سلاما، فالسنة أن يكتب كما كتب
رسول الله (ص) إلى هرقل: سلام على من اتبع الهدى. والله أعلم.
الحادية عشرة: قال المتولي: ما يعتاده الناس من السلام عند القيام ومفارقة
القوم دعاء وليس بتحية، فيستحب الجواب عنه، ولا يجب.
قلت: هذا الذي قاله المتولي قاله شيخه القاضي حسين، وقد أنكره
الشاشي، فقال: هذا فاسد لأن السلام سنة عند الانصراف، كما هو سنة عند
القدوم، واستدل بالحديث الصحيح في سنن أبي داود والترمذي أن رسول الله (ص)
قال: إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم، فإذا أراد أن يقوم فليسلم، فليست
الأولى بأحق من الآخرة قال الترمذي: حديث حسن. والله أعلم.
432

الثانية عشرة: قال المتولي: يستحب لمن دخل دار نفسه أن يسلم على
أهله، ولمن دخل مسجدا أو بيتا ليس فيه أحد أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين.
قلت: يستحب أن يسمي الله تعالى قبل دخوله، ويدعو، ثم يسلم. والله
أعلم.
الثالثة عشرة: من سلم في حال لا يستحب فيها السلام، لم يستحق جوابا،
فمن تلك الأحوال، أنه لا يسلم على من يقضي حاجته، ولا على من في الحمام،
قال الشيخ أبو محمد والمتولي: لا يسلم على مشتغل بالاكل، ورأي الامام حمل
ذلك على ما إذا كانت اللقمة في فمه وكان يمضي زمان في المضغ والابتلاع، ويعسر
الجواب في الحال، أما إذا سلم بعد الابتلاع وقبل وضع لقمة أخرى، فلا يتوجه
المنع، وأما المصلي، فأطلق الغزالي أنه لا يسلم عليه ولم يمنعه المتولي لكن قال
إذا سلم عليه لم يرد عليه حتى يفرغ، ويجوز أن يجيب في الصلاة بالإشارة،
نص عليه في القديم، وقيل: يجب، وقيل: يجب الرد باللفظ بعد الفراغ،
والصحيح أنه لا يجب الرد مطلقا، فإن قال في الصلاة: عليكم السلام،
بطلت، وإن قال: عليهم السلام، لم تبطل وقد سبق هذا في كتاب الصلاة، ولا
منع من السلام على من هو في مساومة أو معاملة.
433

قلت: ومن الأحوال التي لا يسلم فيها حالة الأذان والإقامة والخطبة على
خلاف وتفصيل سبق فيها، وأما المشتغل بقراءة القرآن، فقال أبو الحسن الواحدي
المفسر من أصحابنا: الأولى ترك السلام عليه، قال: فإن سلم، كفاه الرد
بالإشارة، وإن رد باللفظ، استأنف الاستعاذة، ثم يقرأ، وفيما قاله نظر، والظاهر
أنه يسلم عليه ويجب الرد باللفظ، وأما الملبي في الاحرام فيكره السلام عليه،
فإن سلم، رد عليه لفظا، نص عليه، وقد سبق في الحج، ولو سلم في هذه
المواضع التي لا يستحق فيها جوابا، هل يشرع الرد؟ فيه تفصيل، أما المشتغل
بالبول والجماع ونحوهما، فيكره له الرد كما سبق في باب الاستطابة، وأما الاكل
ومن في الحمام، فيستحب له الرد، وأما المصلي، فيسن له الرد إشارة كما سبق.
والله أعلم.
الرابعة عشرة: التحية بالطلبقة وهي: أطال الله بقاك، وحني الظهر، وتقبيل
اليد لا أصل له في الشرع، لكن لا يمنع الذمي من تعظيم المسلم بها، ولا
يكره تقبيل اليد لزهد وعلم وكبر سن، وتسن المصافحة، ويكره للداخل أن يطمع
في قيام القوم، ويستحب لهم أن يكرموه، ويسن تشميت العاطس وهو سنة على
434

الكفاية كما سبق في ابتداء السلام، وإنما يسن إذا قال العاطس: الحمد لله،
والتشميت أن يقول: يرحمك الله، أو يرحمك ربك، ويكرر التشميت إذا تكرر
العطاس إلا أن يعلم أنه مزكوم، فيدعو له بالشفاء، ويسن للعاطس أن يجيب
المشمت، فيقول: يهديكم الله، أو يغفر الله لكم، ولا يجب ذلك، وتسن عيادة
المريض وزيارة القادم ومعانقته.
قلت: قد اختصر الامام الرافعي الكلام في السلام وما يتعلق به، وقد جمعت
فيه في كتاب الأذكار جملا نفيسة موضحة بدلائلها من الأحاديث الصحيحة مع
آيات من القرآن العزيز، وضممت إليها مهمات متعلقة بما لا يستغني راغب في الخير
عن معرفة مثلها، وقد خللت بعضها فيما سبق، وأنا أرمز إلى جملة من الباقي إن شاء
الله تعالى، فمن ذلك، السنة أن يرفع صوته بالسلام رفعا يسمعه المسلم عليهم
سماعا محققا، ولا يزيد رفعه على ذلك، وإذا شك في سماعهم، زاد في الرفع
واستظهر، وإن سلم على أيقاظ عندهم نيام، خفض صوته بحيث يسمع الايقاظ ولا
يوقظ النيام، ثبت ذلك في صحيح مسلم عن فعل رسول الله (ص)، والإشارة بالسلام
باليد ونحوها بلا لفظ خلاف الأولى، فإن جمع بين الإشارة واللفظ، فحسن وعليه
يحمل حديث الترمذي وهو حديث حسن أن النبي (ص) ألوى بيده بالتسليم، ويستحب
أن يرسل سلامه إلى من غاب عنه، ويلزم الرسول أن يبلغه، فإنه أمانة ويجب أداء
الأمانة، وقد سبق أنه يلزم المرسل إليه رد السلام على الفور، ويستحب أن يرد على
المبلغ أيضا، فيقول: وعليه وعليك السلام ورحمة الله وبركاته، ولو سلم على
إنسان، ثم لقيه على قرب، فالسنة أن يسلم عليه ثانيا وثالثا وأكثر، والسنة أن يبدأ
بالسلام قبل كل كلام، والأحاديث الصحيحة وعمل الأمة على وفق ذلك مشهور،
وأما حديث السلام قبل الكلام فضعيف، ويستحب لكل واحد من المتلاقين أن
435

يحرص على الابتداء بالسلام للحديث الحسن أولى الناس بالله تعالى من بدأهم
بالسلام ولو مشى في سوق، أو شارع يطرق كثيرا، ونحوه مما يكثر فيه
المتلاقون، قال صاحب الحاوي: إنما يسلم هنا على بعض الناس دون بعض،
لأنه لو سلم على الجميع، تعطل عن كل مهم، وخرج به عن العرف، قال: ولو
دخل على جماعة قليلة يعمهم سلام، اقتصر على سلام واحد عليهم، وما زاد من
تخصيص بعضهم، فهو أدب، ويكفي أن يرد أحدهم، فإن زادوا، فأفضل، فإن
كانوا جميعا لا ينتشر فيهم سلام واحد، كالجامع والمجلس الحفل، فسنة السلام أن
يبدأ به إذا شاهدهم، ويكون مؤديا سنة السلام في حق من سمعه، ويدخل في فرض
الكفاية في الرد كل من سمعه، فإن جلس فيهم، سقط عنه سنة السلام في حق من
لم يسمع، وإن أراد الجلوس فيمن بعدهم ممن لم يسمعه فوجهان، أحدهما: أن
سنة السلام حصلت بالسلام على أولهم، لأنه جمع واحد، فإن أعاد السلام
عليهم، كان أدبا، والثاني: أنها باقية لم تحصل، قال: فعلى الأول يسقط فرض
الرد عن الأولين برد واحد من الآخرين، وعلى الثاني لا يسقط، ولعل الثاني أصح،
ولا يترك السلام لكونه يغلب على ظنه أن المسلم عليه لا يرد.
قال المتولي: وأما التحية عند خروجه من الحمام بقول: طاب حمامك
ونحوه، فلا أصل له، وهو كما قال، فلم يصح في هذا شئ، لكن لو قال لصاحبه
حفظا لوده: أدام الله لك هذا النعيم، ونحو ذلك من الدعاء، فلا بأس به إن شاء الله
تعالى، وإذا ابتدأ المار فقال: صبحك الله بخير، أو بالسعادة، أو قواك الله، أو لا
أوحش الله منك، أو نحو ذلك من ألفاظ أهل العرف، لم يستحق جوابا، لكن لو
دعا له قبالته كان حسنا إلا أن يريد تأديبه وتأديب غيره لتخلفه وإهماله السلام.
وإذا قصد باب إنسان وهو مغلق، فالسنة أن يسلم، ثم يستأذن فيقول: السلام
عليكم، أأدخل، فإن لم يجبه أحد، أعاد ذلك ثانيا وثالثا، فإن لم يجبه أحد،
436

انصرف، وذكر صاحب الحاوي خلافا في تقديم السلام على الاستئذان
وعكسه، واختار مذهبا ثالثا، فقال: إن وقعت عين المستأذن على صاحب البيت
قبل دخوله، قدم السلام، وإن لم تقع عليه عينه، قدم الاستئذان، والصحيح
المختار تقديم السلام، فقد صحت فيه أحاديث صريحة، وإذا استأذن بدق الباب
ونحوه، فقيل: من أنت، فليقل: فلان ابن فلان، أو فلان الفلاني، أو المعروف
بكذا وما أشبهه بحيث يحصل تعريف تام، ويكره أن يقتصر على قوله: أنا، أو
الخادم، أو المحب، أو نحو ذلك مما لا يعرف به، والحديث الصحيح في ذلك
مشهور، ولا بأس أن يصف نفسه بما يعرف به وإن تضمن تبجيلا له إذا لم يعرفه
المخاطب إلا به، بأن يكني نفسه، أو يقول: القاضي فلان، أو الشيخ فلان أو
نحوه.
وأما قول الرافعي: إذا قال: أطال الله بقاءك إلى آخره، فيحتاج فيه إلى
تتمات، فأما أطال الله بقاءك، فقد نص جماعة من السلف على كراهته، وأما حني
الظهر فمكروه للحديث الصحيح في النهي عنه، ولا يغتر بكثرة من يفعله ممن
ينسب إلى علم وصلاح.
وأما القيام، فالذي نختاره أنه مستحب لمن فيه فضيلة ظاهرة من علم أو صلاح
أو ولادة أو ولاية مصحوبة بصيانة، ويكون على جهة البر والاكرام لا للرياء
والاعظام، وعلى هذا استمر عمل الجمهور من السلف والخلف، وقد جمعت جزءا
في ذلك ضمنته أحاديث صحيحة وآثارا وأفعال السلف وأقوالهم الدالة لما ذكرته،
وأجبت عما خالفها، وأما الداخل فيحرم عليه أن يحب قيامهم له، ففي الحديث
437

الحسن من أحب أن يمثل له الناس قياما، فليتبوأ مقعده من النار وهذا ظاهر في
التحريم، وقد روي بألفاظ أوضحتها مع معناه وما يتعلق به في جزء الترخيص في
القيام، وأما قوله: لا يمنع الذمي من تعظيم المسلم بها، فلا نوافق عليه.
وأما تقبيل اليد، فإن كان لزهد صاحب اليد وصلاحه، أو علمه أو شرفه
وصيانته ونحوه من الأمور الدينية، فمستحب، وإن كان لدنياه وثروته وشوكته
ووجاهته ونحو ذلك، فمكروه شديد الكراهة، وقال المتولي: لا يجوز، وظاهره
التحريم، وأما تقبيله خد ولده الصغير وبنته الصغيرة وسائر أطرافه على وجه الشفقة
والرحمة واللطف ومحبة القرابة، فسنة، والأحاديث الصحيحة فيه كثيرة مشهورة،
وكذا قبلة ولد صديقه وغيره من الأطفال الذين لا يشتهون على هذا الوجه، وأما التقبيل
بشهوة فحرام بالاتفاق، وسواء في ذلك الوالد وغيره، بل النظر إليه بالشهوة حرام
على الأجنبي والقريب بالاتفاق، ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرك.
وسن تقبيل وجه صاحبه إذا قدم من سفر ونحوه، ومعانقته للحديث الصحيح
فيهما، وأما المعانقة وتقبيل الوجه لغير القادم من سفر ونحوه، فمكروهان، صرح به
البغوي وغيره للحديث الصحيح في النهي عنهما، وأما المصافحة، فسنة عند
التلاقي، سواء فيه الحاضر والقادم من سفر، والأحاديث الصحيحة فيها كثيرة
جدا، وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر، فلا أصل
438

لتخصيصه، لكن لا بأس به، فإنه من جملة المصافحة، وقد حث الشرع على
المصافحة، وجعله الشيخ الإمام أبو محمد ابن عبد السلام من البدع المباحة،
ويستحب مع المصافحة البشاشة بالوجه والدعاء بالمغفرة وغيرها.
ويسن زيارة الصالحين والأخوان والجيران والأصدقاء والأقارب وإكرامهم
وبرهم وصلتهم، وضبط ذلك يختلف باختلاف أحوالهم ومراتبهم وفراغهم، وينبغي
أن تكون زيارته على وجه يرتضونه وفي وقت لا يكرهونه، ويستحب أن يطلب من
أخيه الصالح أن يزوره، وأن يكثر زيارته إذا لم يشق، وأما العاطس، فيسن له أن
يقول: الحمد لله، وإن كان في صلاة قاله وأسمع نفسه، ولو قال: الحمد لله على
كل حال، كان أفضل، ففيه حديث صحيح، ويسن بمن جاءه العطاس، أن يضع
يده أو ثوبه ونحوه على وجهه، ويخفض صوته وتشميته إلى ثلاث مرات، فإن زاد،
دعا له بالشفاء، ولا يشمته حتى يسمع تحميده، وأقل التشميت وجوابه أن يسمعه،
ولو قال لفظا آخر غير الحمد لله، لم يشمت، ففي صحيح مسلم أن النبي (ص)
قال: إذا عطس أحدكم فحمد الله تعالى، فشمتوه، فإن لم يحمد الله تعالى، فلا
تشمتوه وهذا الحديث مما ينبغي حفظه وإشاعته، فإن كثيرا من الناس يتساهلون
فيه، وإذا لم يحمد الله تعالى، يستحب لمن عنده أن يذكره الحمد، ولو سمع
حمده بعض القوم، يشمته السامعون فقط، ولو عطس يهودي، فليقل: يهديكم
الله، ولا يقل: يرحمكم الله، ففيه حديث صحيح، ولو تثاءب، فالسنة أن يرده
439

ما استطاع، وأن يضع يده على فمه، ثبت ذلك في صحيح مسلم، وسواء كان
في صلاة أو غيرها، ويستحب إجابة من ناداه، بلبيك، وأن يقول لمن ورد عليه:
مرحبا، وأن يقول لمن أحسن إليه: جزاك الله خيرا، أو حفظك الله ونحوهما،
ويسن لمن أحب أخا له في الله تعالى أن يخبره أنه يحبه، وهذا الباب واسع جدا،
وفيما ذكرته مقنع، وقد أوضحت جميع ذلك بدلائله الصحيحة المتظاهرة في كتاب
الأذكار وفيه ما لا يستغنى عن مثله من أشباهه، وإنما بسطت هذا الفصل على
خلاف العادة، لأنه أحكام وسنن تدعو الحاجة إليها، ويكثر العمل بها، فهي أولى
من نوادر المسائل التي لا تقع في العادة، وأسأل الله الكريم التوفيق للخيرات. والله
أعلم.
الباب الثاني في كيفية الجهاد وما يتعلق به، فيه أطراف
الأول: في قتال الكفار، وفيه مسائل:
إحداها: يكره الغزو بغير إذن الإمام أو الأمير المنصوب من جهته،
ولا يحرم، وإذا بعث سرية، أمر عليهم أميرا، ويأمرهم بطاعته، ويوصيه بهم،
ويسن أن يأخذ البيعة عليهم أن لا يفروا، وأن يبعث الطلائع، ويتجسس أخبار
الكفار، ويستحب خروجهم يوم الخميس أول النهار، وأن يعقد الرايات، ويجعل
كل فريق تحت راية، ويجعل لكل طائفة شعارا حتى لا يقتل بعضهم بعضا بياتا، وأن
يدخل دار الحرب بتعيينه الحرب، لأنه أحوط وأهيب، وأن يستنصر بالضعفاء، وأن
يدعو عند التقاء الصفي، وأن يكبر من غير إسراف في رفع الصوت، وأن يحرض
الناس على القتال وعلى الصبر والثبات.
الثانية: لا يقاتل من لم تبلغه الدعوة حتى يدعوه إلى الاسلام، وأما من بلغتهم
440

الدعوة، فيستحب أن يعرض عليهم الاسلام، ويدعوهم إليه، ويجوز بياتهم بغير
دعاء، ثم الذين لا يقرون بالجزية، يقاتلون، وتسبى نساؤهم، وتغنم أموالهم حتى
يسلموا، والذين تقبل منهم الجزية يقاتلون حتى يسلموا، أو يبذلوا الجزية.
الثالثة: تجوز الاستعانة بأهل الذمة وبالمشركين في الغزو، ويشترط أن يعرف
الامام حسن رأيهم في المسلمين، ويأمن خيانتهم، وشرط الامام والبغوي وآخرون
شرطا ثالثا، وهو أن يكثر المسلمون بحيث لو خان المستعان بهم، وانضموا إلى
الذين يغزوهم، لأمكننا مقاومتهم جميعا، وفي كتب العراقيين وجماعة أنه يشترط أن
يكون في المسلمين قلة، وتمس الحاجة إلى الاستعانة، وهذان الشرطان
كالمتنافيين، لأنهم إذا قلوا حتى احتاجوا لمقاومة فرقة إلى الاستعانة بالأخرى،
فكيف يقاومونهما؟
قلت: لا منافاة، فالمراد أن يكون المستعان بهم فرقة لا يكثر العدو بهم كثرة
ظاهرة، وشرط صاحب الحاوي أن يخالفوا معتقد العدو، كاليهود مع النصارى،
قال: وإذا خرجوا بشروطه، اجتهد الأمير فيهم، فإن رأى المصلحة في تميزهم
ليعلم نكايتهم، أفردهم في جانب الجيش بحيث يراه أصلح، وإن رآها في
اختلاطهم بالجيش لئلا تقوى شوكتهم، فرقهم بين المسلمين. والله أعلم.
ثم إن حضر الذمي بإذن الإمام، استحق الرضخ، إلا أن يكون استأجره،
فلا يستحق غير الأجرة، وإن نهاه عن الحضور، فحضر، فلا شئ له، وللامام
تعزيزه إذا رآه، وإن لم ينهه، ولم يأذن له، لم يرضخ له على الأصح.
الرابعة: يجوز الاستعانة بالعبد إذا أذن سيده، وأن يستصحب المراهقين
إذا كان فيهم جلادة وغناء في القتال، وكذا لمصلحة سقي الماء، ومداواة
الجرحى، ويستصحب النساء لمثل ذلك كما سبق، وفي جواز إحضار نساء أهل
الذمة وصبيانهم قولان، أحدهما: نعم، كالمسلمين، والثاني: لا، إذا كان لا قتال
فيهم ولا رأي ولا يتبرك بحضورهم.
441

الخامسة: يمنع المخذل من الخروج في الجيش، فإن خرج، رده،
فلو قاتل، لم يستحق شيئا، ولو قتل كافرا، لم يستحق سلبه، والمخذل من يخوف
الناس، بأن يقول: عدونا كثير، وخيولنا ضعيفة، ولا طاقة لنا بهم، ونحو ذلك،
وفي معناه المرجف والخائن، فالمرجف: من يكثر الأراجيف، بأن يقول: قتلت
سرية كذا، أو لحقهم مدد للعدو من جهة كذا، أو لهم كمين في موضع كذا،
والخائن: من يتجسس لهم، ويطلعهم على العورات بالمكاتبة والمراسلة، وحكى
الروياني وجها، أنه يسهم للمخذل إذا لم ينهه الامام، ووجها أنه يرضخ له،
والصحيح الذي قطع به الأصحاب، لا سهم ولا رضخ مطلقا.
السادسة: لا يجوز أن يستأجر الامام ولا أحد الرعية مسلما للجهاد، لأن إن
لم يكن متعينا عليه، فمتى حضر الصف، تعين، ولا يجوز أخذ أجرة عن فرض
العين، وعن الصيدلاني أنه يجوز للامام أن يستأجره، ويعطيه أجرة من سهم
المصالح، والصحيح الأول، لكن الامام يرغب في الجهاد ببذل الأهبة والسلاح من
بيت المال، أو من مال نفسه، فينال ثواب الإعانة، ويقع الجهاد عن المباشر، وكذا
إذا بذل أهبته واحد من الرعية من ماله، قال الأصحاب: وما يدفع إلى المرتزقة من
الفئ، وإلى المطوعة من الصدقات حقوقهم المرتبة، وليس أجرة، وجهادهم واقع
عنهم، ولو أكره الامام جماعة على الخروج والجهاد، لم يستحقوا أجرة لما ذكرنا من
وقوع الجهاد عنهم، وامتناع استئجارهم، هكذا أطلقوه، وقال البغوي: إن تعين
عليهم الجهاد، فالحكم كذلك، وإلا فلهم الأجرة من حين أخرجهم إلى أن حضروا
الوقعة، وأطلق مطلقون أنه لو عين الامام رجلا، وألزمه بغسل الميت ودفنه،
لم يكن له أجرة، واستدرك الامام فقال: هذا إذا لم يكن للميت تركة، ولا في بيت
المال اتساع، فإن كان له تركة، فمؤنة تجهيزه في تركته، وإلا ففي بيت المال إن
اتسع، فيستحق المكره الأجرة، والتفصيلان حسنان، فليحمل عليهما الاطلاقان.
وهل يجوز للامام استئجار عبيد المسلمين؟ قال الامام: إن جوزنا استئجار
الحر، فكذا العبد، وإلا فوجهان بناء على أنه لو وطئ الكفار دار المسلمين هل
442

يتعين على العبيد الجهاد؟ إن قلنا: نعم، فهم من أهل فرض الجهاد، فإذا وافوا
الصف، وقع الجهاد عنهم، فيكون استئجارهم كالأحرار، وإلا فيجوز
استئجارهم، وإن أخرج الامام العبيد قهرا، لزمت أجرتهم من يوم الاخراج إلى أن
يعود كل عبد إلى يد سيده، هكذا أطلقه البغوي وغيره، وينبغي أن يبنى ذلك على
الوجهين إن قلنا: إنهم من أهل فرض الجهاد، فكالأحرار، أما الذمي فللامام أن
يستعمله للجهاد بمال يبذله له، وهل طريقه الإجارة أم الجعالة؟ وجهان، أحدهما:
الجعالة، لجهالة العمل، وأصحهما: الإجارة، وتحتمل جهالة العمل، لأن ا
لمقصود القتال، ولو كان جعالة لجاز للذمي الانصراف متى شاء، وهو بعيد، وعلى
هذا وجهان، أحدهما: لا يجوز أن يبلغ بالأجرة سهم راجل، وكان حاصل هذا
الوجه الحكم بالانفساخ والرد إلى أجرة المثل إن بان زيادة الأجرة على سهم، وإلا
ففي الابتداء لا يعلم سهم الراجل من الغنيمة، والصحيح أنه لا حجر في قدر
الأجرة، كسائر الإجارات، وهل لآحاد المسلمين استئجار الذمي للجهاد؟ وجهان،
أصحهما: المنع، لأن الآحاد لا يتولون المصالح العامة، وقد يكون في حضوره
مفسدة يعلمها الامام دون الآحاد.
فرع لو أخرج الامام أهل الذمة، استحب أن يسمي لهم أجرة، فإن ذكر
شيئا مجهولا، بأن قال: نرضيكم، أو نعطيكم ما تستعينون به، وجبت أجرة
المثل، وإن أخرجهم وحملهم على الجهاد كرها، وجبت أجرة المثل، وإن خرجوا
راضين، ولم يسم لهم شيئا، فهذا موضع الرضخ، وفي محله أقوال سبقت في قسم
الغنيمة، وأما الأجرة الواجبة، مسماة كانت أو أجرة المثل، فهل تؤدى من خمس
الخمس سهم المصالح من هذه الغنيمة أو غيرها، أم من أصل الغنيمة، أم من أربعة
أخماسها؟ أوجه، أصحها: الأول، وهو نصه في المختصر وقطع به جماعة.
فرع لو أخرجهم قهرا، ثم خلى سبيلهم قبل وقوفهم في الصف، أو هربوا
ولم يقفوا، لم يجب لهم إلا أجرة الذهاب، وإن تعطلت منافعهم في الرجوع، لأنهم
يتصرفون حينئذ كيف شاؤوا، ولو وقف المقهورون ولم يقاتلوا، فهل لهم أجرة مدة
الوقوف؟ وجهان، أصحهما: لا، فعلى هذا إن لم يكن عليهم حبس وقهر،
فلا شئ لهم، وإلا ففيه الخلاف في أن منفعة الحر هل تضمن بالحبس والتعطيل
دون الاستيفاء؟ ولو استأجر الذمي فلم يقاتل، ففي استحقاقه الوجهان.
443

السابعة: فيمن يمتنع قتله من الكفار في الحرب، فيكره للغازي قتل قريبه،
فإن كان القريب محرما ازدادت الكراهة، فإن سمع أبا، أو قريبا آخر يذكر الله
تعالى، أو رسوله (ص) بسوء، لم يكره قتله، ويحرم قتل نساء الكفار وصبيانهم
والمجانين والخناثى، فإن قاتلوا، جاز قتلهم، ولو أسر منهم مراهق، وشككنا في
بلوغه، كشفت عانته، فإن كان أنبت، حكم ببلوغه، وإلا فهو صبي، وقد سبق في
كتاب الحجر قولان في أن الانبات بلوغ أم دليل بلوغ، فإن قال المأسور: استعجلت
الشعر بالدواء، فإن قلنا: هو بلوغ، لم يقبل قوله، بل يحكم ببلوغه، وإن قلنا:
دليل البلوغ وهو الأظهر، فيصدق بيمينه، ويحكم بالصغر، هكذا نص عليه وبه أخذ
الأصحاب وذكروا فيه إشكالين، أحدهما: أن اليمين تعمل في النفي وهذه لاثبات
الاستعجال، وأجيب بأنا فعلناه لحقن الدم، وقد يخالف القياس لذلك، ولهذا
قبلنا جزية المجوس دون نكاحهم، والثاني: كيف يحلف من يدعي الصبي، فقال
بعض الأصحاب: اليمين احتياط أو استظهار لا واجبة، وقال الجمهور: لا بد
منها، لأن الدليل الظاهر موجود، فلا يترك بمجرد قوله، وقد سبق في الحجر أن
المعتبر الشعر الخشن دون اللين، وأن في إلحاق شعر الإبط والوجه الخشن بالعانة
وجهين، ونبات الشارب كاللحية، ولا أثر لاخضراره.
الثامنة: في جواز قتل الراهب، شيخا كان أو شابا، والأجير والمحترف
المشغول بحرفته، والشيخ الضعيف والأعمى والزمن، ومقطوع اليد والرجل قولان،
أظهرهما: الجواز. وقيل: يقتل الأجير والمحترف قطعا، فإن كان فيهم من له رأي
يستعين الكفار برأيه وتدبير الحرب، قتل قطعا، ثم الذي يفهم من كلام الأصحاب
أنه لا فرق بين أن يحضر ذو الرأي في صف القتال، أو لا يحضر في أنه يجوز قتله،
ولا بين أن يقدر على الأخرق منهم في صف القتال، أو يدخل بعض بلادهم، فيجده
هناك في أن في قتله القولين، وفي السوقة طريقان، المذهب: القطع بقتلهم،
والثاني: على القولين، فإن جوزنا قتل هؤلاء، جاز استرقاقهم، وسبي نسائهم
وصبيانهم، واغتنام أموالهم، وإلا فالمذهب أنهم يرقون بنفس الأسر كالنساء،
وقيل: قولان، كأسير إذا أسلم قبل الاسترقاق، ففي قول: يتقين رقه، وفي قول:
للامام أن يرقه وأن يمن عليه، أو يفاديه، وقيل: لا يجوز استرقاقهم، بل يتركون ولا
يتعرض لهم، ويجوز سبي نسائهم وصبيانهم على الأصح، وقيل: لا يجوز،
444

وقيل: يجوز سبي نسائهم دون صبيانهم، لأنهم أبعاضهم، وأجرى بعضهم الخلاف في
اغتنام الأموال، قال الامام: من منع اغتنام أموال السوقة، فقد قرب من خرق
الاجماع، ولو ترهبت امرأة، ففي جواز سبيها وجهان بناء على قتل الراهب.
فرع لا يجوز قتل رسول الكفار.
التاسعة: يجوز للامام محاصرة الكفار في بلادهم، والحصون والقلاع،
وتشديد الامر عليهم بالمنع من الدخول والخروج، وإن كان فيهم النساء والصبيان،
واحتمل أن يصيبهم، ويجوز التحريق بإضرام النار ورمي النفط إليهم، والتغريق
بإرسال الماء، ويبيتهم وهم غافلون، ولو تترسوا بالنساء والصبيان، نظر إن دعت
445

ضرورة إلى الرمي والضرب، بأن كان ذلك في حال التحام القتال ولو تركوا لغلبوا
المسلمين، جاز الرمي والضرب، وإن لم تكن ضرورة، بأن كانوا يدفعون بهم عن
أنفسهم واحتمل الحال تركهم، فطريقان.
أصحهما: على قولين، أحدهما: يجوز رميهم، كما يجوز نصب المنجنيق
على القلعة وإن كان يصيبهم، ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطيل الجهاد،
والثاني: المنع، وهذا أصح عند القفال، ومال إلى ترجيح الأول مائلون.
والطريق الثاني: القطع بالجواز ورد المنع إلى الكراهة، وقيل: في الكراهة
على هذا قولان، ولو تترسوا بهم في القلعة، فقيل: هذه الصورة أولى بالجواز،
لئلا يتخذ ذلك حيلة إلى استبقاء القلاع لهم، وفي ذلك فساد عظيم، وقيل:
قولان، وإن عجزنا عن القلعة إلا به.
قلت: الراجح في الصورتين، الجواز. والله أعلم.
ولو كان في البلدة أو القلعة مسلم، أو أسير، أو تاجر، أو مستأمن، أو طائفة
من هؤلاء، فهل يجوز قصد أهلها بالنار والمنجنيق وما في معناهما؟ فيه طرق،
المذهب: أنه إن لم يكن ضرورة، كره ولا يحرم على الأظهر لئلا يعطلوا الجهاد
بحبس مسلم فيهم، وإن كانت ضرورة، كخوف ضررهم، أو لم يحصل فتح القلعة
إلا به، جاز قطعا، والطريق الثاني: لا اعتبار بالضرورة، بل إن كان ما يرمى به
يهلك المسلم، لم يجز، وإلا فقولان، والثالث وبه أجاب صاحب الشامل: إن
كان عدد المسلمين الذين فيهم مثل المشركين، لم يجز رميهم، وإن كان أقل،
جاز، لأن الغالب أنه لا يصيب المسلمين، والمذهب: الجواز، وإن علم أنه
يصيب مسلما وهو نصه في المختصر لأن حرمة من معنا أعظم حرمة ممن في
أيديهم، فإن هلك منهم هالك، فقد رزق الشهادة، قاله أبو إسحاق، ولو رمى
بشئ منها إلى القلعة، أو البلدة، فقتل مسلما، فإن لم يعلم أن فيها مسلما، لم
يجب إلا الكفارة، وإن علم، وجبت الدية والكفارة، حكاه الروياني.
446

فرع لو تترس الكفار بمسلمين من الأسارى وغيرهم، نظر إن لم تدع
ضرورة إلى رميهم واحتمل الحال الاعراض عنهم، لم يجز رميهم، فإن رمى رام،
فقتل مسلما قال البغوي: هو كما لو قتل مسلما في دار الحرب، إن علمه مسلما لزمه
القصاص، وإن ظنه كافرا فلا قصاص وتجب الكفارة، وفي الدية قولان، وإن دعت
ضرورة إلى رميهم، بأن تترسوا بهم في حال التحام القتال وكانوا بحيث لو كففنا عنهم
ظفروا بنا، وكثرت نكايتهم فوجهان، أحدهما: لا يجوز الرمي إذا لم يمكن ضرب
الكفار إلا بضرب مسلم، لأن غايته أن نخاف على أنفسنا، ودم المسلم لا يباح
بالخوف بدليل صورة الاكراه، والثاني وهو الصحيح المنصوص، وبه قطع
العراقيون: جواز الرمي على قصد قتال المشركين، ويتوقى المسلمين بحسب
الامكان، لأن مفسدة الاعراض أكثر من مفسدة الاقدام، ولا يبعد احتمال طائفة
للدفع عن بيضة الاسلام ومراعاة للأمور الكليات، فإن جوزنا الرمي، فرمى وقتل
مسلما، فلا قصاص، فتجب الكفارة، وفي الدية طرق، أصحها وظاهر النص،
وبه قال المزني وابن سلمة: إن علم أن المرمي مسلم، وجبت، وإلا فلا، والثاني
قاله أبو إسحاق: إن قصده بعينه، وجبت، سواء علمه مسلما أم لا، وإلا فلا،
والثالث: قولان مطلقا، والرابع قاله ابن الوكيل: إن علم أن هناك مسلما،
وجبت، وإلا فقولان، وإن لم نجوز الرمي، فرمى وقتل، ففي وجوب القصاص
طريقان، أحدهما قولان، كالمكره، والثاني: يجب قطعا، كالمضطر إذا قتل رجلا
ليأكله، بخلاف المكره، فإنه ملجأ، ولان هناك من يحال عليه وهو المكره.
ولو تترس الكفار بذمي أو مستأمن أو عبد، فالحكم في جواز الرمي والدية
والكفارة كما ذكرنا، لكن حيث تجب دية، يجب في العبد قيمته، وفي التهذيب
أنه لو تترس كافر بترس مسلم، أو ركب فرسه، فرماه مسلم فأتلفه، فإن كان في غير
التحام، أو في التحام وأمكنه أن يتوقى الترس والفرس، ضمن، وإن لم يمكنه في
الالتحام الدفع إلا بإصابته، فإن جعلناه كالمكره، لم يضمن، لأن المكره في المال
يكون طريقا في الضمان، وهنا لا ضمان على الحربي حتى يجعل المسلم طريقا،
وإن جعلناه مختارا، لزمه الضمان.
العاشرة: في حكم الهزيمة، إذا التقى الصفان، قد أطلق الغزالي أنه إن كان
447

في انهزامه كسر المسلمين، لم يجز الانهزام بحال، وإلا ففيه التفصيل الآتي إن شاء الله
تعالى، ولم يتعرض الجمهور لذلك بل قالوا: إذا التقى الصفان، فله حالان،
أحدهما: أن لا يزيد عدد الكفار على ضعف عدد المسلمين بل كانوا مثلي المسلمين
أو أقل، فتحرم الهزيمة والانصراف إلا متحرفا لقتال، أو متحيزا إلى فئة،
فالمتحرف: من ينصرف ليكمن في موضع، ويهجم، أو يكون في مضيق،
فينصرف ليتبعه العدو إلى متسع سهل للقتال، أو يرى المصلحة في التحول إلى
مضيق، أو يتحول من مقابلة الشمس والريح إلى موضع يسهل عليه القتال.
والمتحيز إلى فئة: من ينصرف على قصد أن يذهب إلى طائفة يستنجد بها في
القتال، وسواء كانت تلك الطائفة قليلة أو كثيرة، قريبة أو بعيدة، وقيل: يشترط
قربها، والصحيح الأول، وعلى هذا هل يلزمه تحقيق عزمه بالقتال مع الفئة المتحيز
إليها؟ وجهان، أصحهما: لا، لأن العزم مرخص، فلا حجر عليه بعد ذلك،
والجهاد لا يجب قضاؤه، وفي كلام الامام، أن التحيز إنما يجوز إذا استشعر المتحيز
عجزا محوجا إلى الاستنجاد لضعف المسلمين، ولعل ما حكيناه عن الغزالي أخذه
من هذا، ولم يشترط الأصحاب ما ذكراه وكأنهم رأوا ترك القتال والانهزام في الحال
مجبورا بعزمه، وكل واحد من التحرف والتحيز يتضمن العزم على العود إلى القتال،
والرخصة منوطة بعزمه، ولا يمكن مخادعة الله تعالى في العزم، هذا الذي ذكرناه من
تحريم الهزيمة إلا لمتحرف أو متحيز هو في حال القدرة، أما من عجز بمرض
ونحوه، أو لم يبق معه سلاح، فله الانصراف بكل حال، ويستحب أن يولي متحرفا
أو متحيزا، فإن أمكنه الرمي بالأحجار، فهل تقوم مقام السلاح؟ وجهان.
قلت: أصحهما: تقوم. والله أعلم.
ولو مات فرسه وهو لا يقدر على القتال راجلا، فله الانصراف، ومن غلب
على ظنه أنه إن ثبت قتل، هل له الانصراف؟ وجهان، الصحيح: المنع، ثم
المتحيز إلى فئة بعيدة لا يشارك الجيش فيما يغنمونه بعد مفارقته، ولا يبطل حقه مما
غنموه قبل مفارقته، هكذا نص عليه، وبمثله أجاب في المتحرف، ومنهم من أطلق
بأن المتحرف يشارك، ولعله فيمن لم يبعد، ولم يغب، والنص فيما إذا تحرف، ثم
انقطع عن القوم قبل أن يغنموا، وهل يشارك المتحيز إلى فئة قريبة فيما غنموه بعد
448

مفارقته؟ وجهان، أصحهما: نعم، لبقاء نصرته والاستنجاد به، فهو كالسرية
القريبة تشارك الجيش فيما غنمه.
الحالة الثانية: إذا زاد عدد الكفار على مثلي المسلمين، جاز الانهزام، وهل
يجوز انهزام مائة من أبطالنا من مائتين، وواحد من ضعفاء الكفار؟ وجهان،
أصحهما: لا، لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا، وإنما يراعى العدد عند تقارب الأوصاف،
والثاني: نعم، لأن اعتبار الأوصاف يعسر، فتعلق الحكم بالعدد، ويجري الوجهان
في عكسه، وهو فرار مائة من ضعفائنا من مائة وتسعة وتسعين من ضعفائهم، فإن
اعتبرنا العدد، لم يجز، وإن اعتبرنا المعنى، جاز، وإذا جاز الفرار، نظر إن غلب
على ظنهم أنهم إن ثبتوا ظفروا، استحب الثبات، وإن غلب على ظنهم الهلاك،
ففي وجوب الفرار وجهان، وقال الامام: إن كان في الثبات الهلاك المحض من غير
نكاية، وجب الفرار قطعا، وإن كان فيه نكاية فوجهان.
قلت: هذا الذي قاله الامام هو الحق، وأصح الوجهين، أنه لا يجب، لكن
يستحب. والله أعلم.
فرع لقي مسلم مشركين، إن طلباه، فله الفرار، وإن طلبهما ولم
يطلباه، فهل له أن يولي بعد ذلك؟ وجهان، أصحهما: نعم، لأن فرض الجهاد
والثبات إنما هو في الجماعة، ولو ولى النساء، لم يأثمن، فلسن من أهل فرض
الجهاد، نص عليه، كما لا إثم على صبي ومغلوب على عقله إذا وليا، ويأثم
السكران، ولو قصد الكفار بلدا، فتحصن أهله إلى أن يجدوا قوة ومددا، لم
يأثموا، إنما الاثم على من ولى بعد اللقاء.
قلت: قال صاحبا " الحاوي " والبحر: تجوز الهزيمة من أكثر من
المثلين، وإن كان المسلمون فرسانا والكفار رجالة، وتحرم الهزيمة من المثلين وإن
كان المسلمون رجالة والكفار فرسانا، وهذا الذي قالاه فيه نظر، ويمكن تخريجه
على الوجهين السابقين في أن الاعتبار بالمعنى أم بالعدد. والله أعلم.
449

فصل المبارزة جائزة، ولو خرج كافر وطلبها، استحب الخروج إليه،
وابتداء المبارزة، لا مستحب ولا مكروه، وقال ابن أبي هريرة: تكره، وأطلق ابن
كج استحبابها، والصحيح الأول، وإنما تحسن المبارزة ممن جرب نفسه وعرف قوته
وجرأته، فأما الضعيف الذي لا يثق بنفسه، فتكره له المبارزة ابتداء وإجابة، نص
عليه، وفيه وجه: أنه يحرم، والصحيح الأول، ويستحب أن لا يبارز إلا بإذن
الأمير، فلو بارز بغير إذنه، جاز على الصحيح، وبه قطع الجمهور، لأن التغرير
بالنفس في الجهاد جائز، والثاني: يحرم، لأن للامام نظرا في تعيين الابطال.
فصل نقل رؤوس الكفار إلى بلاد الاسلام، فيه وجهان، أحدهما:
لا يكره للإرعاب، والثاني وهو الصحيح، وبه قطع العراقيون والروياني: يكره،
ولم يتعرض الجمهور للفرق بين كافر فيه نكاية وغيره، وقال صاحب الحاوي:
لا يكره، إن كان فيه نكاية، بل يستحب.
الطرف الثاني في سبي الكفار واسترقاقهم، وفيه مسائل:
إحداها: نساء الكفار وصبيانهم إذا وقعوا في الأسر، رقوا، وكان حكمهم
حكم سائر أموال الغنيمة، فالخمس لأهل الخمس، والباقي للغانمين، والعبيد إذا
وقعوا في الأسر، كانوا كسائر أموال الغنيمة، لا يتخير الامام فيهم، لأن عبد الحربي
مال له، واحتج له الشيخ أبو علي بأن عبد الحربي لو أسلم في دار الحرب، ولم
يخرج، ولا قهر سيده، لا يزول ملك الحربي عنه، وإذا سباه المسلمون، كان عبدا
مسلما، ولا يجوز المن عليه، ويسترق، ولولا أنه مال يخلى سبيله، كالحر، ولما
جاز استرقاقه، هكذا ذكره ابن الحداد، وصرح بأنه ليس للامام قتل العبيد، ولا
المن عليهم، وتابعه الأصحاب على هذا، وفي المهذب أنه لو رأى الامام قتله
لشره وقوته، قتله وضمن قيمته للغانمين، وأما الرجال الأحرار الكاملون إذا أسروا،
فالامام مخير بين أن يقتلهم صبرا بضرب الرقبة، لا بتحريق وتغريق، ولا يمثل
450

بهم، أو يمن عليهم بتخلية سبيلهم، أو يفاديهم بالرجال، أو بالمال، أو يسترقهم،
ويكون مال الفداء ورقابهم إذا استرقوا، كسائر أموال الغنيمة، وليس هذا التخيير
للتشهي، بل يلزم الامام أن يجتهد ويفعل من هذه الأمور الأربعة ما هو الحظ
للمسلمين، فإن لم يظهر له وجه الصواب في الحال وتردد، حبسهم حتى يظهر،
وسواء في الاسترقاق كان الأسير كتابيا أو وثنيا، وقال الإصطخري: يحرم استرقاق
الوثني، لأنه لا يقر بالجزية، والصحيح الأول، وسواء كان الكافر من العرب، أو
غيرهم على الجديد المشهور، وفي القديم لا يجوز استرقاق العرب، وهل يجوز
استرقاق بعض شخص؟ وجهان، أصحهما: نعم، قال البغوي: فإن منعناه،
فضرب الرق على بعضه، رق كله، وكان يجوز أن يقال: لا يرق شئ، وإذا اختار
الفداء، جاز بالمال سلاحا كان أو غيره، ويجوز بأسارى المسلمين، فيرد مشركا
بمسلم، أو مسلمين، أو مشركين بمسلم، ويجوز أن يفديهم بأسلحتنا التي في
أيديهم، ولا يجوز أن يرد أسلحتهم التي في أيدينا بمال يبذلونه، كما لا يجوز أن
يبيعهم السلاح، وفي جواز ردها بأسارى المسلمين وجهان.
فرع لو قتل مسلم أو ذمي الأسير قبل أن يرى الامام رأيه فيه، عزر
ولا قصاص ولا دية، لأنه لا أمان له وهو حر إلى أن يسترق، ولذلك يجوز أن يخلى
سبيله، والأموال لا ترد إليهم بعد الاغتنام، ولو وقع في الأسر صبي أو امرأة،
فقيل: وجبت القيمة، لأنه صار مالا بنفس الأسر، ثم إن سبي الصبي وحده، فهو
محكوم بإسلامه تبعا للسابي، ففيه قيمة عبد مسلم، وإن كان قاتله عبدا، لزمه
القصاص.
فرع لو أسر بالغ له زوجة، لم ينفسخ عقد نكاحه بالأسر، فإن فأداه الامام،
أو من عليه، استمرت الزوجية، وإن استرقه، ارتفع النكاح حينئذ، وإن أسر صبي
له زوجة، انفسخ النكاح بنفس أسره.
فرع لو أسر كافر ومعه زوجته وصبيانه، يخير الامام فيه دونهم.
المسألة الثانية: إذا أسلم الأسير وهو رجل حر مكلف قبل أن يختار الامام فيه
451

شيئا، عصم دمه، وهل يصير رقيقا بنفس الاسلام؟ فيه طريقان، أصحهما: على
قولين، أحدهما: نعم، لأنه أسير محرم القتل فأشبه الصبي، وأظهرهما:
لا يرق، بل للامام أن يسترقه، أو يمن، أو يفادي، والطريق الثاني: القطع
بالتخيير، لأنه كان ثابتا، فلا يزول، فإن اختار الفداء، فشرطه أن يكون له فيهم عز
أو عشيرة يسلم بها ديته ونفسه، وسواء قلنا: يرق، أو يجوز إرقاقه، فأرقه، كان
غنيمة، وكذا لو فأداه بمال، كان غنيمة، ولو أسلم قبل أسره والظفر به، عصم دمه
وماله، سواء أسلم وهو محصور وقد قرب الفتح، أو أسلم في حال أمنه، وسواء أسلم في
دار الحرب، أو الاسلام، ويعصم أيضا أولاده الصغار عن السبي، ويحكم
بإسلامهم تبعا له، والحمل كالمنفصل، فلا يسترق تبعا لامه، وهل يعصم إسلام
الجد ولد ابنه الصغير؟ فيه أوجه، أصحها: نعم، والثاني: لا، والثالث: إن كان
الابن ميتا، عصم، وإلا فلا، والمجنون من أولاده، كالصغير، فلو كان بلغ
عاقلا، ثم جن، عصمه أيضا على الصحيح، ولو أسلمت المرأة قبل الظفر بها،
عصمت نفسها ومالها وأولادها الصغار، وحكى الفوراني في الأولاد قولا، وهو شاذ
مردود، وأما الأولاد البالغون العقلاء، فلا يعصمهم إسلام الأب لاستقلالهم
بالاسلام، وهل يعصم إسلامه قبل الأسر زوجته عن الاسترقاق؟ نص أنه يجوز
استرقاقها، ونص أن المسلم لو أعتق كافرا، فالتحق بدار الحرب، لا يجوز
استرقاقه، فقيل: فيهما قولان، أحدهما: لا تسترق زوجته ولا عتيقه لئلا يبطل
حقه، كما لا يغنم ماله، والثاني: يسترقان لاستقلالهما، والمذهب تقرير النصين،
لأن الولاء لا يرتفع وإن تراضيا بخلاف النكاح، ويجري الخلاف في استرقاق حربية
نكحها مسلم وهو في دار الحرب، فإن قلنا: لا يعصمها وكانت حاملا عند إسلامه،
ففي جواز استرقاقها وجهان، أحدهما: المنع، لأن الحمل محكوم بإسلامه،
فلا تملك دونه كما لا تباع دونه، وأصحهما: نعم، لأنها حربية، فأشبهت غيرها،
وإذا استرقت، فإن كان قبل الدخول، انقطع النكاح في الحال، لأنه زال ملكها عن
نفسها، فملك الزوج أولى، ولأنها صارت أمة كافرة، ولا يجوز إمساك أمة كافرة
للنكاح، وقيل: يستمر النكاح وإن استرقت، حكاه صاحب التقريب والصحيح
الأول، وإن كان بعد الدخول فوجهان، أصحهما: انقطاع النكاح، والثاني:
يتوقف مدة العدة، فإن أعتقت، وأسلمت قبل انقضاء العدة، استمر النكاح، وكذا
452

لو أعتقت ولم تسلم، لأن إمساك الحرة الكتابية للنكاح جائز، فلو أسلمت ولم
تعتق، فإن كان الزوج ممن يجوز له نكاح الأمة، فله إمساكها، وإلا ففي جواز
إمساكها وجهان، ولو أسلم بعد ما استرقت زوجته الحامل، حكم بإسلام الحمل،
ولم يبطل رقه، ولو أسلمت حامل تحت حربي، لم تسترق هي ولا
ولدها، لأنهما مسلمان.
فرع لو استأجر مسلم دار حربي في دار الحرب، ثم غنمها المسلمون، أو
استأجر حربيا رقيقا، أو حرا، فاسترق، لم تنقطع الإجارة، بل يبقى للمستأجر
استحقاق المنفعة، لأن منافع الأموال مملوكة ملكا تاما مضمونة، كأعيان الأموال
بخلاف منفعة البضع، فإنها تستباح، ولا تملك ملكا تاما، ولهذا لا تضمن باليد،
وقيل: في انقطاع الإجارة خلاف كانقطاع النكاح.
فرع يجوز سبي منكوحة الذمي إذا كانت حربية، وينقطع به نكاحه، وأما
سبي عتيقه واسترقاقه فيبنى على استرقاق عتيق المسلم، إن جوزناه، فهنا أولى،
وإلا فوجهان، أصحهما: يجوز، لأن الذمي لو التحق بدار الحرب، استرق، فعتيقه أولى،
ولو أعتق ذمي عبدا، ثم نقض السيد العهد وصار حربيا، فالصحيح أن ولاءه على
عتيقه لا يبطل، حتى لو عتق كان ولاؤه باقيا عليه، ولمعتقه أيضا الولاء على عتيقه،
ولو ملك عتيقه، كان لكل واحد منهما الولاء على الآخر، وفي وجه يبطل باسترقاقه
ولاؤه على عتيقه، كما يبطل ملكه على عبده.
فرع إذا سبي الزوجان معا، أو سبي أحدهما، انفسخ النكاح، صغيرين
كانا أو كبيرين، واسترق الزوج، وسواء كان قبل الدخول أو بعده، لقول الله تعالى:
* (والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم) * ولقوله (ص): لا توطأ حامل حتى
تضع ولم يفرق، ولان الرق يزيل ملكها عن نفسها، فعصمة النكاح أولى
453

بالزوال، وإن كان الزوجان رقيقين، فغنما، أو أحدهما، ففي انقطاع النكاح وجهان، سواء
أسلما أم لا، أصحهما: لا ينقطع إذا لم يحدث رق، وإنما انتقل من شخص إلى
شخص، فأشبه البيع وغيره، والثاني: ينقطع، لحدوث السبي، ولهذا لو سبيت
مستولدة، صارت قنة، ومنهم من قطع بالأول.
المسألة الثالثة: لو كان لمسلم على حربي دين، فاسترق، لم يسقط الدين،
فلو كان الدين للسابي، ففي سقوطه الوجهان فيمن كان له دين على عبد غيره
فملكه، وإذا لم يسقط، قضى من الغنيمة بعد استرقاقه ويقدم الدين على الغنيمة،
كما يقدم على الوصية، وإن زال ملكه بالرق، كما أن الدين على المرتد يقضى من
ماله، وإن أزلنا ملكه، ولان الرق كالموت والحجر، وكلاهما يعلق الدين بالمال،
فإن غنم المال قبل استرقاقه، ملكه الغانمون، ولم يقض منه الدين، كما لو انتقل
ملكه بوجه آخر، وإن غنم مع استرقاقه، فوجهان، أحدهما: يقدم الدين، كما
يقدم في التركة، وأصحهما: تقدم الغنيمة، لتعلقها بالعين، كما يقدم حق المجني
عليه على حق المرتهن، وليس من المعية أن يقع الاغتنام مع الأسر، لأن المال
يملك بنفس الاخذ، والرق لا يحصل بنفس الأسر في الرجال الكاملين، ولكن يظهر
ذلك في النسوة، وفيما إذا وقع الاغتنام مع إرقاق الامام بعد الأسر، وإذا لم يوجد
مال يقضي منه الدين، فهو في ذمته إلى أن يعتق، وهل يحل الدين المؤجل بالرق؟
وجهان مرتبان على الخلاف في الحلول بالافلاس، وأولى بالحلول، لأنه يشبه
الموت من حيث إنه يزيل الملك، ويقطع النكاح، هذا إن كان الدين لمسلم، فإن كان
لذمي، فمثله أجاب الامام، وقال: دين الذمي محترم، كعين ماله، وذكر البغوي فيه
وجهين، وإن كان الحربي، واسترق المدين، فالمحكي عن القاضي حسين وهو الظاهر:
سقوط الدين وفيه احتمال للامام، هذا إذا استرق من عليه الدين، أما إذا استرق من له
الدين، فلا تبرأ ذمة المدين، بل هو كودائع الحربي المسبي، هذا لفظه في
الوسيط ولم ينص والحالة هذه على حال من عليه الدين، وذكر الامام هذا
454

الجواب فيما إذا استقرض مسلم من حربي، أو اشترى منه شيئا والتزم الثمن ثم
استرق المستحق، قال: لا يسقط، وفي التهذيب أنه لو كان لحربي على حربي
دين، واسترق من أحدهما، سقط لزوال ملكه، قال: ولو قهر المدين رب الدين،
سقط، لأن الدار دار حرب، حتى إذا قهر العبد سيده يصير حرا ويصير السيد عبدا
له، ولو قهرت امرأة زوجها، ملكته، وانفسخ النكاح، وقد يفهم من هذه الجملة أنه إن كان
دين المسترق على مسلم، طولب به، كما يطالب بودائعه، لأنه ملتزم، وإن كان
على حربي، سقط، لأن المستحق زال ملكه، والحربي غير ملتزم حتى يطالب،
ولو اقترض من حربي، أو التزم بالشراء ثمنا، ثم أسلما، أو قبلا الجزية، أو
الأمان، فالاستحقاق مستمر، وكذا يبقى مهر الزوجة إذا أسلما إن لم يكن خمرا
ونحوه، ولو سبق المستقرض إلى الاسلام أو الأمان، فالنص أن الدين يستمر،
كما لو أسلما، ونص أنه لو ماتت زوجة حربي، فجاءنا مسلما، أو مستأمنا، فجاء
ورثتها يطلبون مهرها، لم يكن لهم شئ، وللأصحاب طريقان، أحدهما: فيهما
قولان، أظهرهما: يبقى الاستحقاق، وعلى هذا تبتنى قواعد نكاح المشركات،
والثاني: المنع، لأنه يبعد أن يمكن الحربي من مطالبة مسلم أو ذمي، والطريق
الثاني: القطع بالقول الأول، وحمل النص الثاني على من أصدقها خمرا، وقبضته
في الكفر، ولو أتلف حربي مالا على حربي، أو غصبه، ثم أسلما، أو أسلم
المتلف، فوجهان، أصحهما: لا يطالبه بالضمان، لأنه لم يلتزم شيئا، والاسلام
يجب ما قبله، والاتلاف ليس عقدا يستدام، ولان الحربي لو قهر حربيا على ماله
ملكه، والاتلاف نوع من القهر، ولان إتلاف مال الحربي لا يزيد على إتلاف مال
المسلم، وهو لا يوجب الضمان على الحربي، والثاني: يطالب، لأنه لازم
عندهم، فكأنهم تراضوا عليه، ويزيد على هذا ما نقل عن القاضي حسين أن
الحربي لو جنى على مسلم، فاسترق، فأرش الجناية في ذمته، قال الامام: هذا
إخلال من ناقل، أو هفوة من القاضي.
المسألة الرابعة: إذا سبيت امرأة وولدها الصغير، لم يفرق بينهما في
القسمة، بل يقومهما، فإن وافقت قيمتهما نصيب أحد الغانمين، جعلهما له، وإلا
اشترك فيهما اثنان، أو باعهما، وجعل ثمنهما في المغنم، فإن فرق بينهما في
القسمة، ففي صحتها قولان كما سبق في البيع، فإن صححنا، فعن صاحب
455

الحاوي أن المتبايعين لا يقران على التفريق، بل يقال لهما: إن تراضيتما ببيع
الآخر ليجتمعا في الملك، فذاك، وإلا فسخنا البيع، وقال ابن كج: يقال للبائع:
يتطوع بتسليم الآخر، أو يفسخ البيع، فإن تطوع، فامتنع المشتري من القبول،
فسخ البيع، ولو رضيت الام بالتفريق، لم يرتفع التحريم على الصحيح رعاية لحق
الولد، وأم الام عند عدم الام كالأم، فلو كان له أم وجدة، فبيع مع الام،
فلا تحريم، وإن بيع مع الجدة، وقطع عن الام، حرم على الأظهر، والأب كالأم
على الأظهر أو الأصح، وفي الأجداد والجدات من جهة الأب أوجه، ثالثها: يجوز
التفريق بينه وبين الأجداد دون الجدات، لأنهن أصلح للتربية، ولا يحرم التفريق
بينه وبين سائر المحارم، كالأخ والعم وغيرهما، على المذهب، وقيل: هم
كالأب، ولو كان له أبوان، حرم التفريق بينه وبين الأب، ويجوز التفريق للضرورة،
مثل أن تكون الام حرة، فيجوز بيع الولد، ولو كانت الام لواحد والولد لآخر، فلكل
منهما بيع ملكه منفردا، وقد سبق في كتاب البيع أن التحريم هل ينتهي لسن التمييز
أم يبقى إلى البلوغ؟ قولان، أظهرهما: الأول.
الطرف الثالث في إتلاف أموالهم
إن احتاج المسلمون إلى إتلاف أموال الكفار، كتخريب بناء، وقطع شجر،
ليكفوا عن القتال أو ليظفروا بهم، فلهم ذلك، وإن لم يحتاجوا، نظر إن لم يغلب
على ظنهم حصول ذلك المال للمسلمين، جاز إتلافه مغايظة لهم وتشديدا عليهم،
وإن غلب على الظن حصوله، كره الاتلاف، ولا يحرم على الأصح، هذا إذا دخل
الامام دارهم مغيرا ولم يمكنه الاستقرار فيها، فأما إذا فتحها قهرا، فيحرم التخريب
والقطع، لأنها صارت غنيمة، وكذا لو فتحها صلحا على أن تكون لنا، أو لهم، ولو
غنما أموالهم وانصرفنا، وخفنا الاسترداد، فإن كانت غير حيوان، جاز إتلافها، لئلا
يأخذوها فيتقووا بها، وأما الحيوان، فإن قاتلونا عليه واحتجنا في القتال إلى عقره
لدفعهم أو للظفر بهم، جاز، وإن غنمنا خيلهم وماشيتهم، ولحقونا وخفنا
الاسترداد، أو ضعف بعضها، وتعذر سوقها، لم يجز عقرها وإتلافها، لكن تذبح
للاكل، وإن خفنا أنهم يأخذون الخيل، ويقاتلوننا عليها، ويشتد الامر، جاز
إتلافها، ولو لحقونا ومعنا نساؤهم وصبيانهم، وخفنا استردادهم، لم يجز قتلهم
قطعا.
456

فرع لو ظفرنا بكتب لهم مما يحل الانتفاع به، كطب وشعر ولغة وحساب
وتواريخ، فلها حكم سائر الأموال، فتباع أو تقسم، وما حرم الانتفاع به، ككتب
الكفر والهجو والفحش المحض، لم يترك بحاله بل إن كان في رق أو كاغد ثخين
وأمكن غسله، غسل، ثم هو كسائر الأموال، فإن لم يمكن، أبطلت منفعته
بتمزيق، ثم الممزق كسائر الأموال، وعن القاضي أبي الطيب أنها تمزق أو تحرق،
وضعفوا الاحراق لما فيه من التضييع، لأن للمزق قيمة وإن قلت، وكتب التوراة
والإنجيل مما يحرم الانتفاع به، لأنهم بدلوا وغيروا، وإنما نقرها في أيديهم كما نقر
الخمر.
فرع إذا دخلنا دارهم غزاة، قتلنا الخنازير، وأرقنا الخمور، وتحمل
ظروفها إلا أن لا تزيد قيمتها على مؤنة حملها، فنتلفها، وإن وقع كلب ينتفع به
للاصطياد أو للماشية والزرع، فحكى الامام عن العراقيين أن للامام أن يسلمه إلى
واحد من المسلمين، لعلمه بحاجته إليه، ولا يحسب عليه، واعترض بأن الكلب
منتفع به، فليكن حق اليد فيه لجميعهم، كما أن من مات وله كلب لا يستبد به بعض
الورثة، والموجود في كتب العراقيين أنه إن أراده بعض الغانمين، أو أهل الخمس ولم
ينازعه غيره، سلم إليه، وإن تنازعوا، فإن وجدنا كلابا وأمكنت القسمة عددا،
قسم، وإلا أقرع بينهم، وهذا هو المذهب وقد سبق في الوصية أنه تعتبر قيمتها عند
من يرى لها قيمة، وتعتبر منافعها فيمكن أن يقال به هنا.
الطرف الرابع في الاغتنام
قد سبق في كتاب قسم الغنيمة أن الغنيمة: المال المأخوذ من الكفار بالقهر
وإيجاف خيل وركاب، والفئ: ما حصل منهم بلا قتال، وإذا دخل واحد أو شرذمة
دار الحرب مستخفين، وأخذوا مالا على صورة السرقة، فوجهان، أحدهما وبه قطع
الغزالي، وادعى الامام أنه المذهب المعروف: أنه ملك من أخذه خاصة، والأصح
الموافق لكلام الجمهور: أنه غنيمة مخمسة، وقد قال الأصحاب: لو غزت طائفة
بغير إذن الإمام متلصصين وأخذت مالا، فهو غنيمة مخمسة، وفي التهذيب أن
الواحد إذا دخل دار الحرب، وأخذ مال حربي بقتال، أخذ منه الخمس، والباقي
له، وإن أخذه على جهة السوم، ثم جحده، أو هرب، فهو له، ولا يخمس،
وهذه الصورة قريبة من السرقة، والمأخوذ على صورة اختلاس كالمأخوذ على صورة
457

السرقة، وقال صاحب الحاوي: هو غنيمة، وعن أبي إسحاق أنه فئ، لأنه
بغير إيجاف خيل، وليكن الوجه القائل باختصاص السارق والمختلس مخصوصا بما
إذا دخل واحد أو نفر يسير دار الحرب، وأخذوا، فأما إذا أخذ بعض الجيش بسرقة أو
اختلاس، فيشبه أن يكون غلولا، ويدل عليه أن الروياني نقل أن ما يهديه الكافر إلى
الامام، أو إلى واحد من المسلمين والحرب قائمة، لا يملكه المهدى إليه بكل
حال، وإذا لم يختص المهدى إليه بالهدية، فأولى أن لا يختص سارق بمسروق.
فرع المال الضائع الذي يؤخذ في دارهم على هيئة اللقيطة، إن كان مما
يعلم أنه للكفار، فالصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور: أنه غنيمة،
لا يختص به الآخذ، وقال الامام والغزالي: هو لمن أخذه بناء على أن المسروق
لمن أخذه، فإن أمكن كونه للمسلمين، بأن كان هناك مسلمون، أو أمكن أن يكون
ضالة بعض الجيش، وجب تعريفه، ثم بعده يعود خلاف الجمهور والامام في أنه
غنيمة أم للآخذ؟ وأما صفة التعريف، فقال الشيخ أبو حامد: يعرفه يوما أو يومين،
ويقرب منه قول الإمام: يكفي بلوغ التعريف إلى الأجناد إذا لم يكن هناك مسلم
سواهم، ولا ينظر إلى احتمال مرور التجار، وفي المهذب والتهذيب يعرفه
سنة، ولفظ التهذيب: أنه لو وجد ضالة في دار الحرب لحربي، فهي غنيمة،
فالخمس لأهله، والباقي له ولمن معه، ولو وجد ضالة لحربي في دار الاسلام، لم
يختص هو بها، بل تكون فيئا، وكذا لو دخل صبي، أو امرأة منهم بلادنا، فأخذه
رجل، يكون فيئا، وإن دخل منهم رجل، فأخذه مسلم، كان غنيمة، لأن لأخذه
مؤنة، وللامام الخيار فيه، فإن استرقه، كان الخمس لأهله، والباقي لمن أخذه
بخلاف الضالة، لأنها مال للكفار حصل في أيدينا بلا قتال.
فرع المباحات التي لم يملكها أحد، كالحطب والحشيش والحجر
والصيد البري والبحري، من أخذها، ملكها كدار الاسلام، قال الشافعي رضي الله
عنه في المختصر: إلا أن يكون مصنوعا أو صيدا مقرطا أو موسوما، فلا يكون لمن
أخذه، يعني إلا أن يكون حجرا مصنوعا بنقر أو نقش، أو منحوتا، والمقرط: في
أذنه قرط، ويروى مقرطق، وهو الذي جز صوفه، وجعل على هيئة القرطق، فهذه
الأحوال آثار للملك والدار للكفار، فالظاهر أنها كانت لهم، فتكون غنيمة، فإن
أمكن كونها لمسلم، فهي كسائر الضوال يجب تعريفها كما سبق.
458

فصل للغنيمة أحكام،
أحدها: يجوز التبسط بتناول أطعمتها، وبعلف
الدواب قبل القسمة بلا عوض، فيحتاج إلى بيان جنس المأخوذ، والمنفعة
المعتبرة، والاخذ ومكان الاخذ، أما جنسه، فهو القوت وما يصلح به القوت،
واللحم والشحم وكل طعام يعتاد أكله على العموم، ولعلف الدواب التبن والشعير وما
في معناهما، وذكر الامام فيما ليس بقوت، ولكن يؤكل غالبا، كالفواكه،
وجهين، وقطع الجمهور بجواز التبسط في الجميع، وأما الفانيد والسكر والأدوية
التي تندر الحاجة إليها، ففيها أوجه، الصحيح وبه قال الجمهور: لا تباح لندور
الحاجة، فإن احتاج إليها مريض منهم، أخذ قدر حاجته بقيمته، وينبغي أن يقال:
يراجع أمير الجيش فيه، والثاني: تباح للحاجة بلا عوض، والثالث: أن ما لا يؤكل
إلا تداويا، يحسب عليه، وما يكون للتداوي وغيره، لا يحسب عليه، وأما المنفعة
المعتبرة، فمنفعة الأكل والشرب والعلف، وفي جواز أخذ الشحم والدهن لتوقيح
الدواب، وهو مسحها بالمذاب، وهو المغلي ولجربها وجهان، أحدهما: الجواز،
كعلفها، والأصح المنصوص: المنع، كالمداواة، وعلى الأول ينبغي أن يجوز
الادهان بها، ولا يجوز إطعام البزاة والصقور منها بخلاف الدواب المحتاج إليها
للركوب والحمل.
ولا يجوز أخذ سائر الأموال ولا الانتفاع بها، كلبس ثوب وركوب دابة، فلو
خالف، لزمته الأجرة، كما تلزمه القيمة إذا أتلف بعض الأعيان، فإن احتاج ليرد
وغيره، قال الروياني: يستأذن الامام ويحسب عليه، ويجوز أن يأذن في لبسه
بالأجرة مدة الحاجة، ثم يرده إلى المغنم، ولا يجوز استعمال السلاح إلا أن يضطر
إليه في القتال، فإذا انقضت الحرب، رده إلى المغنم، ويجوز ذبح الحيوان
المأكول للحمه، كتناول الأطعمة، وقيل: لا يجوز، لندور الحاجة إليه،
والصحيح الأول، ثم قال الجماهير: لا فرق بين الغنم وسائر الحيوانات المأكولة،
وأشار الامام إلى تخصيص الذبح بالغنم، وصرح به الغزالي، والصواب الأول. ثم
ما يذبح يجب رد جلده إلى المغنم، إلا ما يؤكل مع اللحم، ويحرم على الذابح أن
يتخذ من جلده سقاء أو حذاء أو شراكا، فإن فعل، وجب رد المصنوع كذلك
ولا شئ له في الصنعة، بل إن نقص، لزمه الأرش، وإن استعمله، لزمه الأجرة
ومتى ذبح ما يجوز ذبحه، هل تلزمه قيمته لندور الحاجة؟ وجهان، الصحيح:
459

المنع، كالأطعمة، ودعوى الندور ممنوعة.
أما الاخذ وقدر المأخوذ، فيجوز أخذ العلف والطعام لمن يحتاج إليه، فلو كان
معه ما يغنيه عنهما، هل له الاخذ؟ وجهان، أحدهما: لا، لاستغنائه،
وأصحهما: نعم، لاطلاق الأحاديث، وكل من أخذ، فليأخذ كفايته، ولا بأس
باختلاف قدر ما يأخذون بحسب الحاجة، قال البغوي: ولهم التزود لقطع مسافة بين
أيديهم، ولو أكل فوق حاجته، لزمه قيمته، نص عليه، ولو كان معه دابتان فأكثر،
فله أخذ علفهن، وفي وجه لا يأخذ إلا علف واحدة، كما لا يسهم إلا لفرس،
والصحيح الأول، ولو أخذ غانم فوق حاجته، وضيف به غانما أو غانمين، جاز،
وليس فيه إلا أنه تولى إصلاح الطعام لهم وليس له أن يضيف به غير الغانمين، فإن
فعل، لزم الآكل الضمان، ويكون المضيف كمن قدم طعاما مغصوبا إلى ضيف
فأكله، فينظر أعلم الحال أم جهله، والحكم ما سبق في كتاب الغصب، ولو أتلف
بعض الغانمين من طعام الغنيمة شيئا، كان كإتلافه مالا آخر، فيلزمه رد القيمة إلى
المغنم، لأنه لم يستعمله في الوجه المسوغ شرعا، وما يأخذه لا يملكه بالأخذ،
لكن أبيح له الاخذ، كالضيف، ذكره الامام.
ولو لحق الجيش مدد بعد انقضاء القتال وحيازة المال، هل لهم التبسط في
الأطعمة؟ وجهان، أصحهما: المنع، وبه قطع البغوي، ووجه الجواز مظنة
الحاجة وعزة الطعام هناك، ومن دخل من الغانمين دار الاسلام وقد فضل مما أخذه
شئ، ففي وجوب رده إلى المغنم ثلاثة أقوال، أظهرها: يجب، لزوال الحاجة
والمأخوذ متعلق حق الجميع، والثاني: لا، لإباحة الاخذ، والثالث: إن كان قليلا
لا يبالي به، ككسر الخبز وبقية التبن في المخالي، لم يرد، وإلا فيرد، ومتى وجب
الرد، فإن لم تقسم الغنيمة، رده إلى المغنم، وإن قسمت، رده إلى الامام، فإن
أمكن قسمته كما قسمت الغنيمة، فعل، وإن لم يكن لنزارة ذلك القدر ولتفرق
الغانمين، قال الصيدلاني: يجعل في سهم المصالح، أما مكان الاخذ والتبسط،
فهو دار الحرب، فإذا انتهوا إلى عمران دار الاسلام، وتمكنوا من الشراء،
أمسكوا، ولو خرجوا عن دار الحرب، ولم ينتهوا إلى عمران دار الاسلام فوجهان،
460

أصحهما: جواز التبسط، لبقاء الحاجة، والثاني: المنع، لأن مظنة الحاجة دار
الحرب فنياط الحكم به وعكسه، ولو وجدوا سوقا في دار الحرب: وتمكنوا من
الشراء، فقد طرد الغزالي فيه الوجهين لانعكاس الدليلين، وقطع الامام بالجواز
وقال: لم أر أحدا منع التبسط بهذا السبب، ونزلوا دار الحرب في إباحة الطعام منزلة
السفر في الرخص، فإنها وإن ثبتت لمشقة السفر، فالمرفه الذي لا كلفة عليه يشارك
فيها، وذكر أنه لو كان لجماعة من الكفار معنا مهادنة، وكانوا لا يمتنعون من مبايعة
من يطرقهم من المسلمين، فالظاهر وجوب الكف عن أطعمة المغنم في دارهم،
لأنها وإن لم تكن مضافة إلى دار الاسلام، فهي في قبضة الامام بمثابة دار الاسلام
فيما نحن فيه للتمكن من الشراء منهم.
فرع ليس للغانم أن يقرض ما أخذه من الطعام والعلف لغير الغانمين ولا
أن يبيعه، فإن فعل، لزم الآخذ رده إلى المغنم، فلو أقرضه غانما آخر فوجهان،
الصحيح عند الجمهور وهو المنصوص: أن للمقرض مطالبة المقترض بعينه أو بمثله
من المغنم، لا من خالص ماله، لأنه إذا أخذه صار أحق به، ولم تزل يده عنه إلا
ببدل. والثاني وهو قول الشيخ أبي حامد، ورجحه الامام: أنه لا مطالبة، ولا يلزمه
الرد، لأن الآخذ من جملة المستحقين، وإذا حصل في يده، فكأنه أخذه بنفسه،
والوجهان متفقان أنه ليس قرضا محققا، لأن الآخذ لا يملك المأخوذ حتى يملكه
لغيره، فعلى الأول: لو رد عليه من خالص ملكه، لم يأخذه المقرض، لأن غير
المملوك لا يقابل بالمملوك حتى إذا لم يكن في المغنم طعام آخر، سقطت
المطالبة، وإذا رد من المغنم، الأول أحق به لحصوله في يده، وعلى هذا إذا
دخلوا دار الاسلام، انقطعت حقوق الغانمين عن أطعمة المغنم، فيرد المستقرض
على الامام، وإذا دخلوا دار الاسلام وقد بقي عين المستقرض في يد المقترض،
بني على أن الباقي من طعام المغنم هل يجب رده إلى المغنم؟ إن قلنا: نعم، رده
إلى المغنم، وإلا، فإن جعلنا للقرض اعتبارا، رده إلى المقرض، وإلا لم يلزمه
شئ.
فرع لو باع غانم ما أخذه لغانم آخر، فهذا إبدال مباح بمباح، وهو كإبدال
الضيفان لقمة بلقمة، وكل واحد منهما أولى بما صار إليه، ولو تبايعا صاعا
461

بصاعين، لم يكن ذلك ربا، لأنه ليس بمعاوضة محققة.
فرع مقتضى ما تكرر أن المأخوذ مباح للغانم غير مملوك أنه لا يجوز له أن
يأكل طعام نفسه، ويصرف المأخوذ إلى حاجة أخرى بدلا عن طعامه، كما لا يتصرف
الضيف فيما قدم إليه إلا بالاكل.
فرع قال الامام: لو قل الطعام، واستشعر الأمير الازدحام والتنازع فيه،
جعله تحت يده، وقسمه على المحتاجين على قدر حاجاتهم، وله أن يمنع من معه
كفايته مزاحمة المحتاجين.
الحكم الثاني: سقوط حق الغانمين بالاعراض وفيه مسائل:
إحداها: يسقط حق الغانم بالاعراض عن الغنيمة، وتركها قبل القسمة، لان
المقصود الأعظم من الجهاد إعلاء الدين، والذب عن الملة، والغنيمة تابعة، فمن
أعرض عنها، فقد محض عمله للمقصود الأعظم، ولو قال أحدهم: وهبت نصيبي
للغانمين، فإن أراد الاسقاط، سقط حقه، وإن أراد التمليك، فوجهان، أصحهما
عند صاحب الشامل: الصحة، وبه قال أبو إسحاق، وأقواهما: المنع وبه قال
ابن أبي هريرة، وأما بعد القسمة فيستقر الملك، ولا يسقط بالاعراض، كسائر
الاملاك، ولو أفرز الخمس، ولم يقسم الأخماس الأربعة فوجهان، ويقال: قولان،
الأصح المنصوص: يصح الاعراض، لأنه لم يتعين حقه، والثاني خرجه ابن
سريج: لا يصح، لأن حقهم تميز عن الجهات العامة، فصار كمال مشترك، ولو
قال: اخترت الغنيمة، هل يمنع ذلك من صحة الاعراض وجهان، أشبههما:
نعم، ولو أعرض جميع الغانمين فوجهان، أصحهما: يصح إعراضهم، فيصرف
الجميع إلى مصرف الخمس، لأن المعنى المصحح للاعراض يشمل للواحد
والجمع، وأما أصحاب الخمس فغير ذوي القربى جهات عامة لا يتصور فيها
462

إعراض، وفي صحة إعراض ذوي القربى وجهان، أحدهما: نعم، كالغانم،
وأصحهما: لا، لأنهم يستحقونه بلا عمل، فأشبه الإرث، ولو كان من الغانمين
محجور عليه بفلس، صح إعراضه، لأن اختيار التملك كالاكتساب، فلا يلزمه،
ولان الاعراض يمحض جهاده للآخرة، فلا يمنع منه، ولو أعرض محجور عليه
بسفه، قال الامام: ففي صحة إعراضه تردد، ولعل الظاهر: المنع، فلو فك حجره
قبل القسمة، صح إعراضه، ولا يصح إعراض صبي عن الرضخ، ولا إعراض
وليه، فإن بلغ قبل القسمة، صح إعراضه، ولا يصح إعراض العبد عن
رضخه، ويصح إعراض سيده، لأنه حقه، ولا يصح إعراض مستحق السلب عنه
على الأصح، لأنه متعين كالوارث، وكنصيبه بعد القسمة.
فرع من أعرض من الغانمين، قدر كأنه لم يحضر، وضم نصيبه إلى
المغنم، وقيل: يضم إلى الخمس خاصة، والصحيح الأول، ولو مات غانم ولم
يعرض، انتقل حقه إلى ورثته، فإن شاؤوا طلبوا، أو أعرضوا.
المسألة الثانية: في وقت ملك الغانمين الغنيمة ثلاثة أوجه، أصحها:
لا يملكون إلا بالقسمة، لكن لهم أن يتملكوا بين الحيازة والقسمة، لأنهم لو ملكوا
لم يصح إعراضهم، كمن احتطب، ولان للامام أن يخص كل طائفة بنوع من
المال، ولو ملكوا، لم يصح إبطال حقهم عن نوع بغير رضاهم، والثاني: يملكون
بالحيازة والاستيلاد التام، لأن الاستيلاد على ما ليس بمعصوم من المال سبب
للملك،. ولان ملك الكفار زال بالاستيلاد، ولو لم يملكوا، لزال الملك إلى غير
مالك، لكنه ملك ضعيف يسقط بالاعراض، والثالث: موقوف، فإن سلمت الغنيمة
حتى قسموها، بان أنهم ملكوا بالاستيلاد، وإلا فإن تلفت، أو أعرضوا، تبينا عدم
الملك، فعلى هذا قال الامام: لا نقول بان بالقسمة أن حصة كل واحد بعينها،
صارت ملكه بالاستيلاد، بل نقول: إذا اقتسموا، بان أنهم ملكوا الغنيمة ملكا
مشاعا، ثم بالقسمة تميزت الحصص، وقيل: يتعين بالقسمة أن كل واحد ملك
حصته على التعين، وهو ضعيف. واعلم أن في كلام الأصحاب تصريحا بأن
463

الغانمين وإن لم يملكوا الغنيمة، فمن قال منهم: اخترت ملك نصيبي، ملكه، وقد
ذكرنا هذا في كتاب الزكاة، فإذا الاعتبار باختيار التملك لا بالقسمة، وإنما تعتبر
القسمة لتضمنها اختيار التملك.
فرع ذكروا هنا وفي كتاب الزكاة أن للامام أن يقسم الغنيمة قسمة تحكم،
فيخص بعضهم ببعض الأنواع وببعض الأعيان، وحينئذ فقولنا: تملك بالقسمة،
معناه في غالب الامر، وهو إذا رضي الغانم بالقسمة، أو قبل ما عينه له الامام، فأما
إذا رد، فينبغي أن يصح رده، وذكر البغوي فيه خلافا، فقال: إذا أفرز الامام
الخمس، وأفرز نصيب كل واحد منهم، أو أفرز لكل طائفة شيئا معلوما،
فلا يملكونه قبل اختيار التملك على الأصح، حتى لو ترك بعضهم حقه، صرف إلى
الباقين.
فرع لو سرق بعض الغانمين من الغنيمة قبل إفراز الخمس، لم يقطع،
حرا كان أو عبدا، لأن له حقا في خمس الخمس وفي الأخماس الأربعة، وإن سرق
بعد إفراز الخمس، نظر إن سرق منه، فلا قطع، وإن سرق من الأخماس قدر نصيبه
أو أكثر ولم تبلغ الزيادة نصابا، فلا قطع، وكذا إن بلغته على الأصح، لأن حقه
متعلق بجميع الغنيمة لجواز إعراض الباقين، فيكون الجميع له، وعلى كل حال
يسترد المسروق، وإن تلف، فبدله، ويجعل في المغنم، ولو غل من الغنيمة بعض
الغانمين، عزر، وإن سرق غير الغانمين، نظر إن كان له في الغانمين ولد أو والد أو
عبد، فهو كسرقة الغانم، وإلا فإن سرق قبل إفراز الخمس، فهو كسرقته مال بيت
المال، لأن فيه مالا لبيت المال، وإن سرق بعد إفراز الخمس، فإن سرق من
الأخماس الأربعة، قطع، وإن سرق من الخمس قبل إخراج خمسه، أو سرق من
خمس المصالح بعد إفرازه، فهو سرقة مال بيت المال، وإن سرق من أربعة
أخماسه، لم يقطع إن كان من أهل استحقاقها، وإلا فيقطع على الأصح، ووجه
المنع أنه يجوز أن يصير منهم.
فرع لو وطئ أحد الغانمين جارية من الغنيمة قبل القسمة، فلا حد
عليه، وفي قول قديم، يحد، والمشهور الأول، لأن له شبهة، لكن يعزر إن كان
عالما، وإن كان جاهلا لقرب عهده بالاسلام نهي عنه، ويعرف حكمه، وإذا لم
يجب الحد، وجب المهر، ثم ينظر إن كان الغانمون محصورين يتيسر ضبطهم،
464

ففي قدره وجهان، أحدهما: كل المهر، والصحيح المنصوص: أنه يغرم منه حصة
الخمس وحصة غيره من الغانمين وتسقط حصته، وفي قول: إن وقعت الجارية في
حصة الواطئ، فلا شئ عليه، وخرج الامام وجها أنها إن وقعت في حصته غيره،
وجب له المهر، والمذهب ما سبق عن المنصوص، وإن كان الغانمون غير
محصورين، ومعناه أن يعسر ضبطهم لكثرتهم، نظر إن أفرز الامام الخمس، وعين
لكل طائفة شيئا، وكانت الجارية معينة لمخصوصين، فإن وطئ بعضهم بعد
اختيارهم تملكها، فهذا وطئ جارية مشتركة، فيغرم من المهر قسط شركائه، وإن
وطئ قبل اختيارهم التملك، فقيل: هو كما بعد الاختيار، والمذهب أنه كما لو
كانوا محصورين في الأصل، إلا أنه لا يخمس المهر هنا، بل يوزع عليهم، فيسقط
قسط الواطئ، ويلزمه قسط الباقين، وإن لم يفرز الامام، ولا عين شيئا، غرم
الواطئ كل المهر، وضم إلى المغنم، وقسم بين الجميع، فيعود إلى الواطئ
حصته، ولا يكلف الامام أن يضبطهم ويعرف حصته لما فيه من المشقة بخلاف ما لو
كانوا محصورين وسهل الضبط، قال الامام: وليكن هذا الذي ذكره الأصحاب
مخصوصا بما إذا طابت نفس الواطئ بغرم الجميع، فإن قال: أسقطوا حصتي،
فلا بد من إجابته.
قلت: ظاهر كلام الأصحاب خلاف قول الإمام، ويحتمل أخذ هذا القدر منه
وإن كان يستحقه للمصلحة العامة والمشقة الظاهرة، ولئلا يقدم بعض المستحقين
في الاعطاء على بعض. والله أعلم.
أما إذا أحبلها، فحكم الحد والمهر ما ذكرنا، ويزيد أمور.
منها: الاستيلاد، فإن كان موسرا، ففي نفوذه في نصيبه طريقان، المذهب
أنه لا ينفذ، وبه قطع العراقيون وكثير من غيرهم، فعلى هذا إن ملك الجارية
بسهمه، أو بسبب آخر في وقت، ففي نفوذ الاستيلاد قولان يطردان في نظائره،
الأظهر: النفوذ، وبه قطع البغوي، وقال صاحب الحاوي: إن كانوا
محصورين، ولم يغنموا غير تلك الجارية، نفذ الاستيلاد في حصته قطعا بخلاف ما
إذا كان في الغنيمة غيرها، فإنه يحتمل أن يجعل الامام الجارية لغيره، وإذا ثبت
465

استيلاد نصيبه، سرى ليساره إلى الباقي، وهل تحصل السراية بنفس العلوق، أم
بأداء قيمة نصيب الشريك؟ قولان موضعهما كتاب العتق، قال الامام والغزالي:
ويحصل اليسار بحصته من المغنم لغيرها، فإن لم تف حصته من غير تلك الجارية
بالقيمة، سرى بقدر الحصة، وكان يمكن أن يخرج ذلك على أن الملك في الغنيمة
هل يحصل قبل القسمة؟ إن قلنا: لا، لم يكن موسرا يدل عليه أن الامام ذكر أن
الحكم بغناه موقوف على أن لا يعرض ويستقر ملكه، فإن أعرض، تبينا أنه لم يكن
غنيا، ولا تقول: حق السراية يلزمه أن يتملك، لأن التملك كابتداء كسب، ومتى
حكمنا بالاستيلاد في الحال، أو بعد وقوعه في حصته، لزمه القيمة، ثم هو في
سقوط حصته، وأخذ الجميع بحسب انحصار القوم، وعدم انحصارهم على ما ذكرنا
في المهر، وإن لم نحكم بالاستيلاد، فإن تأخرت القسمة حتى وضعت، جعلت في
المغنم ودخلت في القسمة فإن دخلها نقص بالولادة لزمه الأرش، وأما قبل
الوضع، فهي حامل بحر وبيع الحامل بحر لا يصح على الأصح كما سبق في
البيع، وإذا جعلنا القسمة بيعا، لم يكن ادخالها في القسمة فهل تقوم عليه
وتؤخذ من قيمتها وتجعل في المغنم لأنه بالاحبال حال بين الغانمين وبينها بيعا
وقسمة أم تسلم إليه بحصته إن احتملتها أم يجوز ادخالها في القسمة للضرورة؟
فيه خلاف أم إذا كان معسرا، فإن كانوا محصورين أو غير محصورين وأفرز
الامام الجارية لطائفة ففي ثبوت الاستيلاد في حصته الخلاف المذكور في حصته
المسر فإن أثبتنا فلا سراية وإن كانوا غير محصورين ولم يفرزها فلا استيلاد
في الحال فإن وقعت في حصته، ثبت الاستيلاد حينئذ، وإن حصل له بعضها،
ثبت في ذلك البعض.
ومنها: الولد، وهو حر نسيب، وهل تلزمه قيمته؟ يبنى على أن الجارية هل
466

تقوم عليه؟ إن قلنا: نعم، فلا، لأنها ملكه حين الولادة، وإن قلنا: لا، فنعم،
لأنه منع رقه بوطئه، ثم حكم قيمة الولد حكم المهر، هذا إذا كان موسرا وثبت في حصته ولم يسر، فهل ينعقد الولد حرا
كله أم قدر حصته حر والباقي رقيق؟ قولان أو وجهان، أحدهما: كله حر، لان
الشبهة تعم الجارية، وحرية الولد تثبت بالشبهة وإن لم يثبت الاستيلاد، ولهذا لو
وطئ جارية غيره وهو يظنها أمته أو زوجته الحرة، انعقد الولد حرا وإن لم يثبت
الاستيلاد، ووجه الثاني أنه تبع للاستيلاد وهو متبعض بخلاف الشبهة فإنها ناشئة من
ظن لا يتبعض، فعلى هذا لو ملك باقي الجارية بعد ذلك بقي الرق فيه، لأنها علقت
في غير ملكه برقيق، وإن قلنا: جميعه حر، ففي ثبوت الاستيلاد في باقيها إذا ملكه
قولان، لأنه أولدها حرا في غير ملك، وهذا الخلاف في تبعيض حرية الولد يجري
فيما إذا أولد أحد الشريكين المشتركة وهو معسر، فإن قلنا: جميعه حر، لزم
المستولد قيمة حصة الشركاء من الولد، وهذا هو الأصح، وكذا قاله القاضي أبو
الطيب والروياني وغيرهما، وسواء في ترجيح حرية جميعه استيلاد أحد الغانمين
واستيلاد أحد الشريكين، وسئل القاضي حسين عمن أولد امرأة، نصفها حر،
ونصفها رقيق بنكاح أو زنى، كيف حال الولد؟ فقال: يمكن تخريجه على الوجهين
في ولد المشتركة من الشريك المعسر، ثم استقر جوابه على أنه كالأم حرية ورقا،
قال الامام: وهذا هو الوجه، لأنه لا سبب لحريته إلا حرية الام فيتقدر بها، ثم
ما ذكرناه من ثبوت الاستيلاد في حصة المعسر، والخلاف في حال الولد موضعه ما
إذا انحصر المستحقون، فإن لم ينحصروا، فقال البغوي: إن قلنا عند الانحصار:
كل الولد حر، أخذ منه قيمته، وجعلت في المغنم، وقسم على الجميع، وإن قلنا:
الحر بعضه، كان كله هنا رقيقا، ثم الامام يجتهد حتى تقع الام والولد في حصة
الواطئ، فإن وقعا فيها، فهي أم ولد والولد حر، وإن وقع البعض، ثبت الاستيلاد
بقدره، وعتق من الولد بقدر ما يملك، هذا كلام البغوي، ولك أن تقول: قد سبق
أن للامام أن يقسم الغنيمة قسمة تحكم، ولا يشترط رضى الغانمين ولا الاقراع،
وحينئذ فلا حاجة إلى سعي واجتهاد، بل ينبغي أن يقال: يوقعهما في حصته، أو
يوقع بعضهما. وقوله: وعتق من الولد بقدر ما ملك ينبغي أن يجئ فيه الخلاف في
أن الولد يعتق كله أو بالحصة، فلعله فرعه على وجه التبعيض أو أراد أن قدر الحصة
467

يعتق قطعا وفي الباقي الخلاف، وجميع ما ذكرنا إذا كان الاستيلاد قبل القسمة
واختيار التملك، وسواء كان قبل إفراز الخمس أم بعده، وقبل القسمة بين الغانمين
إذا كانت الجارية من الأخماس الأربعة، فلو كان بعد القسمة وبعد اختيار التملك،
فهو كوطئ جاريته أو جارية غيره أو مشتركة، ولا يخفى حكمه، ولو كان بعد القسمة
وقبل اختيار التملك، فهو كما قبل القسمة، وفيه وجه أنهم إن كانوا محصورين، أو
أفرزت الجارية لطائفة محصورين، فهو كما بعد القسمة واختيار التملك، وقد سبق
نظيره، ولو وطئ أحدهم بعد إفراز الخمس جارية من الخمس، فكوطئ الأجنبي،
ولو وطئ أجنبي جارية من الخمس، أو قبل إفراز الخمس، ففي وجوب الحد
وجهان، أصحهما: يجب، كوطئ جارية بيت المال بخلاف ما لو سرق مال بيت
المال، لأنه يستحق فيه النفقة دون الاعفاف، والثاني: لا، لأنه لمصالح
المسلمين، وإن وطئ الأجنبي جارية من الأخماس الأربعة، حد إلا أن يكون له في
الغانمين ولد.
المسألة الثالثة: إذا أسر من يعتق على بعض الغانمين، ورق بنفس الأسر أو
بإرقاقه، فالنص أنه لا يعتق قبل القسمة، واختيار التملك، ونص فيما لو استولد
بعض الغانمين جارية من المغنم أنه يثبت الاستيلاد كما سبق، فقيل: فيهما قولان
بناء على أن الغنيمة تملك بالحيازة أم لا؟ إن قلنا: نعم، نفذ، أو غرم القيمة
وجعلت في المغنم، وإلا فلا، وقيل: بتقرير النصين، لقوة الاستيلاد، ولهذا ينفذ
استيلاد المجنون واستيلاء جارية ابنه دون الاعتاق، وسواء ثبت الخلاف أم لا،
فالمذهب منع العتق في الحال، فإن وقع في نصيبه، واختار تملكه، أو وقع بعضه
واختاره، عتق عليه ونظر إلى يساره وإعساره في تقويم الباقي، وقال صاحب
الحاوي: إن انحصروا، أو لم يكن في الغنيمة غير قريبه، ملك حصته، وإن
لم يختر التملك، وعلى هذا لا يقوم عليه الباقي، لأنه دخل في ملكه بغير اختياره،
ولو أعتق بعض الغانمين عبدا منها، ففي ثبوت العتق في الحال ما ذكرنا من عتق
القريب، كذا نقله البغوي وغيره، وقال صاحب الحاوي: لا يعتق بحال بخلاف
عتق القريب، فإنه يثبت بلا اختيار وهو أقوى مما يثبت باختيار، ولهذا يعتق على
المحجور عليه قريبه إذا ملكه، ولو أعتق، لم ينفذ.
468

فرع لو كان الغانمون طائفة يسيرة، ووقع في الغنيمة من يعتق عليهم
جميعا، لم يتوقف العتق إلا على اختيارهم التملك، ويجئ وجه أنه لا حاجة إلى
الاختيار، وإذا اختاروا جميعا، لم يفرض فيه تقديم بعض على بعض.
فرع دخل مسلم دار الحرب منفردا، وأسر أباه، أو ابنه البالغ، لم يعتق
منه شئ في الحال، لأنه لا يصير رقيقا بنفس الأسر، فإن اختار الامام قتله أو المن
أو الفداء، فذاك، وإن اختار تملكه، نظر إن لم يختر الآسر التملك، لم يعتق على
الصحيح، وإن اختار، صار له أربعة أخماسه، فيعتق عليه، ويقوم الخمس لأهل
الخمس إن كان موسرا، ولو أسر أمه، أو بنته البالغة، رقت بنفس الأسر، فإذا اختار
الآسر التملك، كان الحكم ما ذكرنا، وألحق ابن الحداد الابن الصغير بالأم، وهو
هفوة عند الأصحاب، لأن المسلم يتبعه ولده الصغير في الاسلام، فلا يتصور منه
سبيه، ولو أسر أباه في القتال، زاد النظر في أن الأسير إذا رق هل يكون من السلب؟
وفيه خلاف سبق في الغنائم.
الحكم الثالث في حكم الأرض: أرض الكفار وعقارهم تملك بالاستيلاد، كما
تملك المنقولات، وأما مكة ففتحت صلحا، هذا مذهب الشافعي والأصحاب
رحمهم الله، وقال صاحب الحاوي: عندي أن أسفلها دخل خالد بن الوليد
رضي الله عنه عنوة، وأعلاها فتح صلحا، والصحيح الأول، فدورها وعراصها
المحياة مملوكة، كسائر البلاد، فيصح بيعها ولم يزل الناس يتبايعونها، وأما سواد
العراق، فقال أبو إسحاق: فتح صلحا، والصحيح المنصوص أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه فتحه عنوة، وقسمه بين الغانمين، ثم استطاب قلوبهم واسترده،
469

واختلف الأصحاب فيما فعله بأرضه على وجهين، الصحيح الذي قاله الأكثرون،
ونص عليه في كتاب الرهن، وفي سير الواقدي: أنه وقفها على المسلمين وآجره
لأهله، والخراج المضروب عليه أجرة منجمة تؤدى كل سنة، والثاني وبه قال ابن
سريج: أنه باعه لهم والخراج ثمن منجم، فعلى هذا يجوز رهنه وهبته وبيعه، وعلى
الصحيح: لا يجوز ذلك، ويجوز لأهله إجارته بالاتفاق مدة معلومة، ولا تجوز
إجارته مؤبدا على الأصح بخلاف إجارة عمر رضي الله عنه مؤبدا، فإنها احتملت
لمصلحة كلية، ولا يجوز لغير سكانه أن يزعج ساكنا ويقول: أنا استغله وأعطي
الخراج، لأنه ملك بالإرث المنفعة أو الرقبة، هذا حكم الأرض التي تزرع وتغرس،
فأما ما في حد السواد من المساكن والدور، فالمذهب جواز بيعها، لأن أحدا لم يمنع
شراءها، وهل يجوز لمن في يده الأرض تناول ثمر أشجارها؟ إن قلنا: الأرض
مبيعة، فكذا الشجر والثمر، وإن قلنا: مستأجرة، فوجهان، أحدهما: يجوز له
تناولها للحاجة، ويحتمل ذلك كما يحتمل التأييد، وأصحهما: المنع، بل الامام
يصرفها وأثمانها إلى مصالح المسلمين.
وأما حد السواد، فأطلق جماعة أنه من عبادان إلى حديثة الموصل طولا، ومن
عذيب القادسية إلى حلوان عرضا، وهو بالفراسخ مائة وستون فرسخا طولا، وثمانون
عرضا، وفي هذا الاطلاق تساهل لما قد علم أن أرض البصرة كانت سبخة أحياها
عثمان بن أبي العاصي وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما بعد فتح العراق، وهي
داخلة في هذا الحد ولا بد من استثنائها، وقد أطلق البغوي أن البصرة لا تدخل في
حكم السواد وإن كانت داخلة في حده، وقال صاحب الحاوي: حضرت الشيخ
أبا حامد وهو يدرس في تحديد السواد فأدخل فيه البصرة ثم أقبل علي وقال: هكذا
تقول؟ قلت: لا إنما كانت مواتا أحياها المسلمون، فأقبل على أصحابه وقال:
علقوا ما يقول، فإن أهل البصرة أعرف بها، ولكن في إطلاق استثناء البصرة تساهل
أيضا، والصحيح ما أورده صاحب المهذب وغيره أن البصرة ليس لها حكم السواد
470

إلا في موضع من شرقي دجلتها يسمى الفرات، وموضع من غربي دجلتها يسمى نهر
الصراة.
فرع ما يؤخذ من خراج هذه الأرض يصرفه الامام في مصالح المسلمين
الأهم فالأهم، ويجوز صرفه إلى الفقراء والأغنياء من أهل الفئ وغيرهم، وقدر
الخراج في كل سنة على كل جريب شعير درهمان، وجريب الحنطة أربعة دراهم،
وجريب الشجر وقصب السكر ستة، والنخل ثمانية، والكرم عشرة، وقيل:
النخل عشرة، والزيتون اثنا عشر درهما.
فرع لو رأى الامام اليوم أن يقف أرض الغنيمة كما فعل عمر رضي الله
عنه، جاز إذا استطاب قلوب الغانمين في النزول عنها بعوض أو بغير عوض، فإن
امتنع بعضهم، فهو أحق بماله، وكذا المنقولات والصبيان والنساء لا يجوز رد شئ
منها إلى الكفار إلا بطيب أنفس الغانمين، لأنهم ملكوها، قال الامام: وليس للامام
أن يأخذ الأرض قهرا وإن كان يعلم أنهم يتوانون بسببها في الجهاد، ولكن يقهرهم
على الخروج إلى الجهاد بحسب الحاجة.
الباب الثالث في ترك القتال والقتل بالأمان
قد تقتضي المصلحة الأمان لاستمالته إلى الاسلام، أو إراحة الجيش، أو
ترتيب أمرهم، أو للحاجة إلى دخول الكفار، أو لمكيدة وغيرها، وينقسم إلى عام
وهو ما تعلق بأهل إقليم أو بلد، وهو عقد الهدنة، ويختص بالامام وولاته، وسيأتي
في بابه إن شاء الله تعالى، وإلى خاص وهو ما تعلق بآحاد، ويصح من الولاة
والآحاد، والباب معقود لهذا وفيه مسائل:
إحداها: إنما يجوز لآحاد المسلمين أمان كافر، أو كفار محصورين، كعشرة
ومائة، ولا يجوز أمان ناحية وبلدة، وفي البيان أنه يجوز أن يؤمن واحد أهل
قلعة، ولا شك أن القرية الصغيرة في معناها، وعن الماسرجسي أنه لا يجوز أمان
واحد لأهل قرية وإن قل عدد من فيها، والأول أصح، وضابطه أن لا ينسد به باب
471

الجهاد في تلك الناحية، فإذا تأتى الجهاد بغير تعرض لمن أمن، نفذ الأمان، لان
الجهاد شعار الدين والدعوة القهرية، وهو من أعظم مكاسب المسلمين، ولا يجوز
أن يظهر بأمان الآحاد انسداده أو نقصان يحس، قال الامام: ولو أمن مائة ألف من
الكفار، فكل واحد لم يؤمن إلا واحدا، لكن إذا ظهر انسداد أو نقصان، فأمان
الجميع مردود، ولك أن تقول: إن أمنوهم معا فرد الجميع ظاهر، وإن أمنوهم
متعاقبين، فينبغي أن يصح أمان الأول فالأول إلى ظهور الخلل، على أن الروياني
ذكر أنه لو أمن كل واحد واحدا، جاز، وإن كثروا حتى زادوا على عدد أهل البلدة.
قلت: المختار أنه يصح أمان المتعاقبين إلى أن يظهر الخلل، وهو مراد
الامام. والله أعلم.
وسواء كان الكافر المؤمن في دار الحرب، أو في حال القتال أو الهزيمة، أو
عند مضيق، بل يصح الأمان ما دام الكافر ممتنعا، فأما بعد الأسر، فلا يجوز للآحاد
أمانه ولا المن عليه، ولو قال واحد من المسلمين: كنت أمنته قبل هذا، لم يقبل
بخلاف ما لو أقر بأمان من يجوز أمانه في الحال، فإنه يصح، ولو قال جماعة: كنا
أمناه، لم يقبل أيضا لأنهم يشهدون على فعلهم، ولو قال واحد: كنت أمنته،
وشهد به اثنان، قبلت شهادتهما.
فرع في جواز عقد المرأة استقلالا وجهان.
الثانية: يصح الأمان من كل مسلم مكلف مختار، فيصح أمان العبد المسلم
وإن كان سيده كافرا، والمرأة والخنثى، والفقير والمفلس، والمحجور عليه بسفه،
والمريض والشيخ الهرم، والفاسق وفي الفاسق وجه ضعيف، ولا يصح أمان كافر
وصبي ومجنون ومكره، وفي الصبي المميز وجه كتدبيره.
الثالثة: ينعقد الأمان بكل لفظ يفيد الغرض، صريح أو كناية، فالصريح:
أجرتك، أو أنت مجار، أو أمنتك، أو أنت آمن، أو في أماني، أو لا بأس عليك،
أو لا خوف عليك، أو لا تخف، أو لا تفزع، أو قال بالعجمية: مترس، وقال
472

صاحب الحاوي: لا تخف، لا تفزع. كناية. والكناية، كقوله: أنت على
ما تحب، أو كن كيف شئت، وتنعقد بالكتابة والرسالة، سواء كان الرسول مسلما أو
كافرا، وبالإشارة المفهمة من قادر على العبارة. وبناء الباب على التوسعة. فأما
الكافر المؤمن فلا بد من علمه وبلوغ خبر الأمان إليه، فإن لم يبلغه، فلا أمان، فلو
بدر مسلم فقتله، جاز وإذا خاطبه بالأمان، أو بلغه الخبر، فرده، بطل، وإن قبل،
أو كان قد استجار من قبل، تم الأمان، ولا يشترط قبوله لفظا، بل تكفي الإشارة
والامارة المشعرة بالقبول، فإن كان في القتال، فينبغي أن يترك القتال، فلو سكت،
فلم يقبل ولم يرد، قال الامام: فيه تردد، والظاهر: اشتراط قبوله، وبه قطع
الغزالي، واكتفى البغوي بالسكوت، ولو قال الكافر: قبلت أمانك، ولست أؤمنك
فخذ حذرك، قال الامام: هو رد للأمان، لأن الأمان لا يثبت في أحد الطرفين دون
الآخر، ويصح تعليق الأمان بالاعذار، ولو أشار مسلم إلى كافر في القتال، فانحاز
إلى صف المسلمين، وتفاهما الأمان، فهو أمان، وإن قال الكافر: ظننت أنه
يؤمنني، وقال المسلم: لم أرده، فالقول قول المسلم ولا أمان، ولكن لا يغتال،
بل يلحق بمأمنه، وكذا لو دخل بأمان صبي أو مجنون أو مكره، وقال: ظننت
صحته، أو ظننته بالغا، أو عاقلا، أو مختارا، ولو قال: علمت أنه لم يرد الأمان،
فقد دخل بلا أمان، وكذا لو قال: علمت أنه كان صبيا وأنه لا أمان للصبي، ولو
مات المسلم المشير قبل البيان، فلا أمان ولا اغتيال.
فرع ما ذكرناه من اعتبار صيغة الأمان هو فيما إذا دخل الكافر بلادنا
بلا سبب، فلو دخل رسولا، فقد سبق أن الرسول لا يتعرض له، ولو دخل ليسمع
الذكر، وينقاد للحق إذا ظهر له، فكذلك، وقصد التجارة لا يفيد الأمان، ولكن لو
رأى الامام مصلحة في دخول التجار، فقال: من دخل تاجرا، فهو آمن، جاز،
ومثل هذا الأمان لا يصح من الآحاد، ولو قال: ظننت أن قصد التجارة يفيد الأمان،
فلا أثر لظنه ويغتال إذ لا مستند له، ولو سمع مسلما يقول: من دخل تاجرا، فهو
آمن، فدخل وقال: ظننت صحته، فالأصح أنه لا يغتال.
الرابعة: شرط الأمان أن لا يزيد على أربعة أشهر، وفي قول: يجوز ما لم
يبلغ سنة، فلو زاد على الجائز، بطل الزائد، ولا يبطل في الباقي على الأصح
473

تخريجا من تفريق الصفقة، قال الروياني: وإذا أطلق حمل على أربعة أشهر،
ويبلغ بعدها المأمن، ويشترط أن لا يتضرر به المسلمون، فلو أمن جاسوسا، أو
طليعة لم ينعقد الأمان، قال الامام: وينبغي أن لا يستحق تبليغ المأمن، لأن دخول
مثله خيانة، فحقه أن يغتال، ولو أمن آحادا على مدارج الغزاة، وعسر بسببه مسير
العسكر واحتاجوا إلى نقل الزاد، فهو مردود للضرر، ولا يشترط لانعقاد الأمان ظهور
المصلحة، بل يكفي عدم المضرة.
الخامسة: إذا انعقد الأمان، صار المؤمن معصوما عن القتل والسبي، فلو
قتل، قال الامام: الوجه عندنا أنه يضمن بما يضمن به الذمي، وهو لازم من جهة
المسلمين، فليس للامام نبذه، فإن استشعر منه خيانة، نبذه، لأن المهادنة تنبذ
بذلك، فأمان الآحاد أولى وهو جائز من جهة الكافر ينبذه متى شاء، ولا يتعدى الأمان
إلى ما خلفه بدار الحرب من أهل ومال، وأما ما معه منهما، فإن تعرض له، اتبع
الشرط، وإلا فلا أمان فيه على الأصح، لقصور اللفظ.
السادسة: الأسير في أيدي الكفار إذا أمن بعضهم مكرها، لم يصح، وإن
أمنه مختارا، لم يصح أيضا على الأصح، لأنه مقهور في أيديهم، وقال الامام: إن
أمن من هو في أسره، لم يصح، لأنه كالمكره معه، وإن أمن غيره، ففيه الوجهان،
فإن أبطلنا، فهل يصح ويلزم في حق الآمن؟ وجهان، أصحهما: المنع.
فرع المسلم إن كان ضعيفا في دار الكفر لا يقدر على إظهار الدين، حرم
عليه الإقامة هناك، وتجب عليه الهجرة إلى دار الاسلام، فإن لم يقدر على
الهجرة، فهو معذور إلى أن يقدر، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر، سقط عنه الهجرة،
وإن كان يقدر على إظهار الدين، لكونه مطاعا في قومه، أو لأن له هناك عشيرة
يحمونه، ولم يخف فتنة في دينه، لم تجب الهجرة، لكن تستحب، لئلا يكثر
474

سوادهم، أو يميل إليهم، أو يكيدوا له، وقيل: تجب الهجرة، حكاه الامام،
والصحيح الأول.
قلت: قال صاحب الحاوي: فإن كان يرجو ظهور الاسلام هناك بمقامه،
فالأفضل أن يقيم، قال: وإن قدر على الامتناع في دار الحرب والاعتزال، وجب
عليه المقام بها، لأن موضعه دار إسلام، فلو هاجر، لصار دار حرب، فيحرم
ذلك، ثم إن قدر على قتال الكفار ودعائهم إلى الاسلام، لزمه، وإلا فلا. والله أعلم.
فرع الأسير المقهور متى قدر على الهرب، لزمه، ولو أطلقوا أسيرا
بلا شرط، فله أن يغتالهم قتلا وسبيا وأخذا للمال، وإن أطلقوه على أنه في أمان
منهم وهم في أمان منه، حرم عليه اغتيالهم، وإن أطلقوه على أنه في أمان منهم،
ولم يستأمنوه، فالصحيح المنصوص أن الحكم كذلك، وعن ابن أبي هريرة: أن له
اغتيالهم، ولو تبعه قوم بعد خروجه، فله قصدهم وقتلهم في الدفع بكل حال، ولو
أطلقوه وشرطوا عليه أن لا يخرج من دارهم، لزمه الخروج وحرم الوفاء بالشرط، فإن
حلفوه أن لا يخرج، فإن حلف مكرها، خرج ولا كفارة، لأنه لم تنعقد يمينه،
ولا طلاق عليه إن حلفوه بالطلاق، وإن حلف ابتداء بلا تحليف ليتوثقوا به ولا يتهموه
بالخروج، نظر إن حلف بعدما أطلقوه، لزمه الكفارة بالخروج، وإن حلف وهو
محبوس أن لا يخرج إذا أطلق، فالأصح أنه ليس يمين إكراه، قال البغوي: ولو
قالوا: لا نطلقك حتى تحلف أن لا تخرج، فحلف، فأطلقوه، لم يلزمه كفارة
بالخروج، ولو حلفوه بالطلاق، لم يقع، كما لو أخذ اللصوص رجلا وقالوا:
لا نتركك حتى تحلف أنك لا تخبر بمكاننا، فحلف، ثم أخبر بمكانهم، لا يلزمه
الكفارة، لأنه يمين إكراه، وليكن هذا تفريعا على أن التخويف بالحبس إكراه.
قلت: ليس هو كالتخويف بالحبس، فإنه يلزمه هنا الهجرة والتوصل إليها بما
أمكنه. والله أعلم.
475

وعلى الأحوال لا يغتالهم، لأنهم أمنوه، ولو كان عندهم عين مال لمسلم،
فأخذها عند خروجه ليردها على مالكها، جاز، فإن شرطوا الأمان في ذلك المال،
فهل يصير مضمونا عليه؟ فيه طريقان، أحدهما: أنه على القولين فيما إذا أخذ
المغصوب من الغاصب ليرده على مالكه، وعن القفال: القطع بالمنع، لأنه لم يكن
مضمونا على الحربي بخلاف المغصوب.
ولو شرطوا عليه أن يعود إليهم بعد الخروج إلى دار الاسلام، حرم عليه
العود، ولو شرطوا أن يعود، أو يبعث إليهم مالا فداء، فالعود حرام وأما المال، فإن
شارطهم عليه مكرها، فهو لغو، وإن صالحهم مختارا، لم يجب بعثه، لأنه التزام
بغير حق، لكن يستحب، وفي قول: يجب، لئلا يمتنعوا من إطلاق الأسارى،
وفي قول قديم: يجب بعث المال، أو العود إليهم، والمشهور الأول،
وبه قطع الجمهور، قال صاحب البيان: والذي يقتضي المذهب أن المبعوث
إليهم استحبابا أو وجوبا لا يملكونه، لأنه مأخوذ بغير حق، ولو اشترى منهم الأسير
شيئا ليبعث إليهم ثمنه، أو اقترض، فإن كان مختارا، لزمه الوفاء، وإن كان
مكرها، فثلاث طرق، المذهب والمنصوص: أن العقد باطل، ويجب رد العين،
كما لو أكره مسلم مسلما على الشراء، والثاني: الصحة ويلزم الثمن، لأن المعاملة
مع الكفار يتساهل فيها، والثالث: قولان، الجديد: البطلان، والقديم: أنه مخير
بين رد العين ورد الثمن، ولو لم يجر لفظ بيع، بل قالوا: خذ هذا، وابعث كذا من
المال، فقال: نعم، هو كالشراء مكرها، ولو أعطوه شيئا ليبيعه في دار الاسلام،
ويبعث إليهم ثمنه، فهو وكيل يجب عليه ما على الوكيل.
476

السابعة: إذا بارز مسلم كافرا بإذن الإمام، أو بغير إذنه وقلنا بالأصح: إنه
يجوز، وشرط المتبارزان أن لا يعين المسلمون المسلم، ولا الكفار الكافر إلى
انقضاء القتال وجب الوفاء بالشرط، ولم يجز لمن في الصف الإعانة، ثم إن هرب
أحدهما، أو قتل المسلم، جاز للمسلمين قصد الكافر، لأن الأمان كان إلى انقضاء
القتال وقد انقضى، فإن شرط الأمان إلى العود إلى الصف، وفى به، فإن ولى
المسلم عنه، فتبعه ليقتله، أو ترك قتال المسلم وقصد الصف، فلهم قتله لنقضه
الأمان، ولو أثخن، جاز قتله أيضا لانقطاع القتال، وإذا قصد قتل المثخن، منع،
وقيل: فإن شرط له التمكين منه، فهو شرط باطل، لما فيه من الضرر، وهل يفسد
به أصل الأمان؟ وجهان، ولو خرج المشركون لإعانة المشرك، خرج المسلمون
لإعانة المسلم، فإن كان الكافر استنجدهم، جاز قتله معهم، وكذا لو خرجوا بغير
استنجاده فلم يمنعهم، وإن خرجوا بغير إذنه، ومنعهم، فلم يمتنعوا، جاز قتلهم
ولم يجز التعرض له، هذا كله إذا شرطا الأمان، فإن لم يشرط، ولكن اطردت عادة
المتبارزين بالأمان، فهو كالمشروط على الأصح، فإن لم يشرط، ولم تجر عادة،
فللمسلمين قتله.
فرع لو أثخن المسلم الكافر، فهل يجوز قتله أم يترك؟ وجهان، نقلهما
ابن كج، وينبغي أن يقال: إن شرط الأمان إلى انقضاء القتال، جاز قتله، وإن
شرط أن لا يتعرض للمثخن، وجب الوفاء بالشرط.
الثامنة: مسألة العلج، وهو الكافر الغليظ الشديد، سمي به لأنه يدفع بقوته
عن نفسه، ومنه سمي العلاج لدفعه الداء وصورتها أن يقول كافر للامام: أدلك على
قلعة كذا على أن تعطيني منها جارية كذا، فيعاقده الامام، فيجوز وهي جعالة بجعل
مجهول غير مملوك احتملت للحاجة، ولو قال الامام ابتداء: إن دللتني على هذه
القلعة، فلك منها جارية كذا، فكذلك الحكم، وسواء كانت المعينة حرة أم أمة لان
الحرة ترق بالأسر، ولو شرط العلج أو الامام جارية مبهمة، جاز على الصحيح،
ويشترط كون الجعل مما يدل عليه العلج، فلو قال: أعطيك جارية مما عندي، أو
ثلث مالي، لم يصح كونه مجهولا كسائر الجعالات، ولو قال مسلم: أدلك على أن
تعطيني منها جارية كذا، أو ثلث ما فيها، فوجهان، أصحهما عند الامام:
477

لا يجوز، لأن فيه أنواع غرر، فلا تحتمل مع المسلم الملتزم للأحكام بخلاف
الكافر، فإن الحاجة تدعو إليه، لأنه أعرف بقلاعهم وطرقهم غالبا، والثاني:
يجوز، وبه قال العراقيون للحاجة، فقد يكون المسلم أعرف وهو أنصح، ولان
العقد متعلق بالكفار، قال الامام: والوجهان مفرعان على تجويز استئجار المسلم
للجهاد، وإلا فلا تصح هذه المعاملة مع مسلم، ولا يستحق أجرة المثل، ثم إذا
فتحنا القلعة بدلالة العلج، وظفرنا بالجارية، سلمناها إليه، ولا حق فيها لغيره،
وإن دلنا، وفتحناها بغير دلالته، لم يستحقها على الأصح، وإن لم نفتحها، فإن
علق الشرط بالفتح، فلا شئ له، وإلا فأوجه، أصحها: لا يستحق شيئا،
والثاني: يستحق أجرة المثل، والثالث: يرضخ له، والرابع: إن كان القتال ممكنا
والفتح متوقعا قريبا، استحق، وإن لم يتوقع إلا باحتمال نادر، فلا، أما إذا قاتلنا،
فلم نظفر، فلا شئ له على المذهب، ولو تركناها، ثم عدنا، ففتحناها بدلالته،
فله الجارية على الصحيح، وإن فتحناها بطريق آخر، فلا شئ له على الصحيح،
ولو فتحها طائفة أخرى بالطريق الذي دلنا عليه، فلا شئ له عليهم، لأنه لم يجر
معهم شرط.
فرع إذا لم يكن في القلعة تلك الجارية، فلا شئ له، وكذا لو كانت
وماتت قبل الشرط، وإن ماتت بعد الشرط، فالمذهب أنها إن ماتت بعد الظفر،
وجب بدلها، لأنها حصلت في يد الامام، فتلفت من ضمانه، وإن ماتت قبل
الظفر، فلا شئ له، وقيل: قولان في الحالين، فإن قلنا: يجب البدل، فما
البدل؟ بناه الامام على مقدمة في جعل الجعالة، فقال: إذا جعل الجعل عينا،
كثوب وعبد، وتمم العامل العمل والعين تالفة، فإن تلفت قبل إنشاء العمل، نظر إن
علم العامل تلفها، فلا شئ له، لأن المعاقدة كانت مقصورة على تلك العين، فإذا
عمل عالما بتلفها، كان كالمتبرع، وإن جهل، فله أجرة المثل لعدم التبرع، وإن
تلفت بعد العمل، نظر إن لم يطالبه العامل بتسليمها، فهل يرجع بقيمة العين أو أجرة
المثل؟ قولان بناء على أن الجعل المعين مضمون ضمان العقد، أم ضمان اليد؟
وفيه قولان، كالصداق، قال الامام: ولا يبعد عندي القطع بأن الجعل يضمن ضمان
العقد، لأنه ركن في الجعالة وليس الصداق ركنا في النكاح، وإن تلف بعد المطالبة
وامتناع الجاعل من التسليم، فإن قلنا بضمان اليد، فالحكم كما سبق، وإن قلنا:
478

ضمان العقد، فقال القاضي حسين: التلف بعد الامتناع كإتلاف الجاعل، فيكون
في قول: كتلفه بآفة فينفسخ العقد ويرجع العامل بأجرة المثل، وفي قول: كإتلاف
الأجنبي، فيتخير العامل بين الفسخ والإجارة إذا عرفت المقدمة، فبدل الجارية حيث
حكمنا به هو أجرة المثل إن قلنا بضمان العقد، وقيمتها إن قلنا بضمان اليد، هكذا
قال الامام، ولكن الأظهر من قولي الصداق وجوب مهر المثل، والموجود لجمهور
الأصحاب هنا قيمة الجارية، ثم محل الخلاف إذا كانت جارية معينة، فإن كانت
مبهمة ومات كل من فيها من الجواري، وأوجبنا البدل، فيجوز أن يقال: يرجع
بأجرة المثل قطعا، لتعذر تقويم المجهول، ويجوز أن يقال: تسلم إليه قيمة من
تسلم إليه قبل الموت، ثم البدل الواجب هل يجب في مال المصالح أم في أصل
الغنيمة؟ فيه الخلاف المذكور في الرضخ.
فرع إذا شرط جارية مبهمة ولم يوجد إلا جارية، سلمت إليه، وإن وجد
جوار، فللامام التعيين، ويجبر العلج على القبول، لأن المشروط جارية وهذه
جارية، كما أن للمسلم إليه أن يعين ما شاء بالصفة المشروطة، ويجبر المستحق
على القبول، ولو شرط جارية معينة، فلم يجد فيها شيئا سوى تلك الجارية، فهل
تسلم إليه؟ وجهان، أصحهما: نعم، وفاء بالشرط، والثاني: لا، لأن سعينا
حينئذ يكون للعلج خاصة، والخلاف فيما إذا لم يمكن أن يتملك القلعة، ويديم
اليد عليها، لكونها محفوفة ببلاد الكفر، فإن أمكن، وجب الوفاء قطعا.
فرع لو وجدنا الجارية مسلمة، نظر إن أسلمت قبل الظفر وهي حرة، لم
يجز استرقاقها، وعن ابن سريج أن قولا أنها تسلم إلى العلج، لأنه استحقها قبل
الاسلام، والمذهب الأول، وإن أسلمت بعد الظفر، فإن كان الدليل مسلما،
وصححنا هذه المعاقدة معه، أو كافرا وأسلم، سلمت إليه، وإلا فيبنى على شراء
الكافر عبدا مسلما، إن جوزناه، سلمناها إليه، ثم يؤمر بإزالة الملك، وإن لم
نجوزه، لم تسلم إليه، وإذا لم تسلم إليه بعد الاسلام، ففي وجوب بدلها طريقان،
أحدهما: طرد الخلاف في الموت، لاشتراكهما في تعذر التسليم، والثاني: القطع
بالوجوب، والمذهب وجوب البدل، وإن ثبت الخلاف وهو فيما إذا أسلمت بعد
الظفر أظهر منه فيما إذا أسلمت قبله، لأنها إذا أسلمت بعده تكون مملوكة.
479

فرع جميع ما ذكرناه فيما إذا فتحت عنوة، فإن فتحت صلحا، نظر إن
كانت الجارية المشروطة خارجة عن الأمان، بأن كان الصلح على أمان صاحب
القلعة وأهله ولم تكن الجارية من أهله، سلمت إلى العلج، وإن كانت داخلة في
الأمان، أعلمنا صاحب القلعة بشرطنا مع العلج وقلنا له: إن رضيت بتسليمها إليه،
غرمنا لك قيمتها وأمضينا الصلح، وتكون القيمة من بيت المال، قاله البغوي، وفي
الشامل أنها على الخلاف في الرضخ، وإن لم يرض، راجعنا العلج، فإن رضي
بقيمتها أو بجارية أخرى، فذاك، وإلا قلنا لصاحب القلعة: إن لم تسلمها، فسخنا
الصلح، ونبذنا عهدك، فإن امتنع، رددناه إلى القلعة، واستأنفنا القتال، هذا هو
الصحيح، وبه قطع الجمهور، وعن أبي إسحاق أن الصلح في الجارية فاسد، لأنها
مستحقة.
فرع لو كان الامام نازلا بجنب قلعة وهو لا يعرفها فقال: من دلني على
قلعة كذا، فله منها جارية، فقال له علج: هي هذه التي أنت عندها، قال ابن
كج: المذهب أنه يستحق تلك الجارية إذا فتحت، كما لو قال: من جاءني بعبدي
الآبق، فله كذا، فجاء به إنسان من البلد.
المسألة التاسعة: إذا دخل كافر دار الاسلام بأمان أو ذمة، كان ما معه من
المال والأولاد في أمان، فإن شرط الأمان في المال والأهل، فهو تأكيد ولا أمان لما
خلفه بدار الحرب، فيجوز اغتنام ماله وسبي أولاده هناك، وعن صاحب الحاوي
أنه إن قال: لك الأمان، ثبت الأمان في ذريته وماله، وإن قال:
لك الأمان في نفسك، لم يثبت في الذرية والمال، وأطلق الجمهور
قالوا: وقد يفترق المالك والمملوك في الدمان، ولهذا لو دخل مسلم دار
الحرب بأمان، فبعث معه حربي مالا لشراء متاع، كان ماله في أمان حتى يرده،
وإن لم يكن المالك في أمان، وكذا لو بعثه مع ذمي دخل دار الحرب بأمان، وفي
قول: لا يكون مع الذمي في أمان، لأن أمان الذمي باطل، والمشهور الأول، لان
الحربي اعتقد صحته، فوجب رده إليه، ولو دخل حربي دارنا بأمان أو ذمة أو لرسالة
فنقض العهد ولحق بدار الحرب، ومن أسباب النقض أن يعود ليتوطن هناك،
فلا يسبى أولاده عندنا، وإن مات فأبلغوا، فإذا بلغوا وقبلوا الجزية، تركوا، وإلا
480

بلغوا المأمن، وما خلفه عندنا من وديعة ودين من قرض أو غيره، فهو في أمان
لا يتعرض له ما دام حيا، هذا هو الصحيح، وفيه وجه أنه ينتقض الأمان في ماله
لانتقاضه في نفسه، لأنه يثبت في المال تبعا، ووجه ثالث: أنه إذا لم يتعرض
للأمان في ماله، حصل الأمان فيه تبعا، فينتقض فيه تبعا، وإن ذكره في الأمان لم
ينتقض، قال الامام: فإذا قلنا بالصحيح، فللكافر أن يدخل دار الاسلام من غير
تجديد أمان لتحصيل ذلك المال، والدخول له يؤمنه، كالدخول لرسالة وسماع كلام
الله تعالى، ولكن ينبغي أن يعجل في تحصيل غرضه، ولا يعرج على غيره، وكذا
لا يكرر العود لاخذ قطعة من المال في كل مرة، فإن خالف، تعرض للقتل والأسر،
وهذا الذي ذكره الامام محكي عن ابن الحداد، وقال غيره: ليس له الدخول،
وثبوت الأمان في المال لا يوجب ثبوته في النفس، وإن قلنا: لا يبقى الأمان في ماله
كان فيئا، قال الامام: والخلاف في ماله المخلف بعد التحاقه بدار الحرب فأما إذا
فارق المال ولم يلتحق بعد بدار الحرب، فالوجه الجزم ببقاء الأمان، ويحتمل طرد
الخلاف، وإذا نبذ المستأمن العهد، وجب تبليغه المأمن، ولا يتعرض لما معه
بلا خلاف، هذا حكم ما تركه في حياته، فلو مات هناك أو قتل وقلنا بالصحيح،
وهو بقاء الأمان فيه في حياته، فقولان، أحدهما: يكون فيئا، وأظهرهما: أنه
لوارثه، فإن لم يكن وارث، فهو فئ قطعا، ولو مات عندنا، فقيل بطرد القولين،
والمذهب: القطع برده إلى وارثه، لأنه مات والأمان باق في نفسه، فكذا في ماله،
وهناك انتقض في نفسه، فكذا في ماله، فإن كان وارثه حربيا، فعلى الخلاف في أن
الذمي والحربي هل يتوارثان؟ ولو خرج المستأمن إلى دار الحرب غير ناقض للعهد
بل لرسالة أو تجارة ومات هناك، فهو كموته في دار الاسلام، ولو التحق بدار الحرب
ناقضا للعهد، فسبي واسترق، بني على ما إذا مات، فإن قلنا: إذا مات يكون
لوارثه، وقف، فإن عتق، فهو له، وإن مات رقيقا فقولان، أحدهما: يصرف إلى
وارثه كما لو مات حرا، وأظهرهما: يكون فيئا، لأن الرقيق لا يورث، وإن قلنا: إذا
مات يكون فيئا، فهنا قولان، أحدهما: هذا، والثاني وبه قطع ابن الصباغ: يوقف
لاحتمال أن يعتق ويعود بخلاف الموت، فإن عتق، سلم إليه، وإلا فهو فئ على
الأصح، وقيل: للسيد، قال الامام: وإذا صرفناه إلى الورثة، احتمل أن يصرف
إليهم إرثا، ولا يلزم الكفار، تفضيل شرعنا في منع التوريث من رقيق، ويحتمل أن
481

لا يصرف إليهم إرثا، بل لأنهم أخص به، وإذا قلنا بالتوريث، فهل يرثون إذا مات
أم يستند استحقاق الورثة إلى ما قبل جريان الرق؟ فيه احتمالان للامام، وإذا قلنا:
الصرف إلى الورثة، فلهم دخول الاسلام لطلب ذلك المال بغير أمان، ويجئ فيه
الوجه السابق في صاحب المال.
فرع دخل مسلم دار الحرب بأمان، فاقترض منهم شيئا، أو سرق وعاد
إلى دار الاسلام، لزمه رده، لأنه ليس له التعرض له إذا دخل بأمان.
العاشرة: إذا حاصرنا قلعة أو بلدة، فنزلوا على حكم الامام، جاز، وكذا لو
نزلوا على حكم غيره، وشرطه كونه مسلما ذكرا حرا مكلفا عدلا، لأنه ولاية حكم،
كالقضاء، لكن يجوز أن يكون أعمى، لأن المقصود هنا الرأي، فهو كالشهادة
بالاستفاضة تصح من الأعمى، وأطلقوا أنه يشترط كونه عالما، وربما قالوا: فقيها،
وربما قالوا: مجتهدا، قال الامام: ولا أظنهم شرطوا أوصاف الاجتهاد المعتبرة في
المفتي، ولعلهم أرادوا التهدي إلى طلب الصلاح وما فيه النظر للمسلمين، ويكره
أن يكون الحكم حسن الرأي في الكفار، ويجوز أن ينزلوا على حكم اثنين، أو على
حكم من يختاره الامام، أو من يتفقون عليه مع الامام، ولا يجوز على حكم من
يختارونه إلا إذا شرطوا الأوصاف المشروطة، ولو استنزلهم على أن يحكم فيهم
بكتاب الله تعالى، كره ذلك، لأن هذا الحكم ليس منصوصا في كتاب الله تعالى
فيحصل منه اختلاف، هكذا ذكره الروياني، قال البغوي: ولو استنزلهم على أن
ما يقضي الله تعالى فيهم ينفذه، لم يجز، لأنهم لا يعرفون الحكم فيهم وإذا نزلوا
على حكم اثنين، فليتفقا على الحكم، فإن اختلفا، لم ينفذ إلا أن تتفق الطائفتان
على حكم، ولو مات أحد الحكمين، أو نزلوا على حكم واحد، فمات قبل
الحكم، أو نزلوا على حكم من لا يجوز حكمه، ردوا إلى القلعة إلى أن يرضوا
بحكم حاكم في الحال، ولا يجوز للحاكم أن يحكم إلا بما فيه الحظ للمسلمين من
القتل والاسترقاق والمن والفداء، وحكى الروياني وجها، أنه لا يجوز الحكم بالمن
على جميعهم، واستغربه، ولو حكم بما يخالف الشرع، كقتل النساء والصبيان،
لم ينفذ، ولو حكم بقتل المقاتلة وسبي الذرية وأخذ الأموال، جاز. وتكون الأموال
غنيمة، لأنها مأخوذة بالقهر، وإن حكم باسترقاق من أسلم منهم، وقتل من أقام منهم
482

على الكفر، أو باسترقاق من أسلم، ومن أقام على الكفر، جاز، وينفذ حكم
الحاكم على الامام، فلا يجوز أن يزيد على حكمه في التشديد، ويجوز أن ينقص
منه ويسامح، فإذا حكم بغير القتل، فليس له القتل، وإن حكم بالقتل، فله المن،
وليس له الاسترقاق على الأصح، لأنه ذل مؤبد، وإن حكم بالاسترقاق، فليس له
المن إلا برضى الغانمين، لأنه صار مالا لهم، وإن حكم بقبول الجزية، فهل
يجبرون عليه؟ وجهان، أصحهما: نعم، لأنه حكمه وقد التزموه، فإن قلنا:
لا يجبرون، بلغوا المأمن، وإن قلنا: يجبرون، فامتنعوا، فهم كأهل الذمة إذا
امتنعوا من بذل الجزية بعد قبولها، وسيأتي الخلاف فيه إن شاء الله تعالى، وطرد
الوجهان فيما لو حكم بالمفاداة، ومن أسلم منهم قبل الحكم، حقن دمه وماله، ولم
يجز استرقاقه بخلاف الأسير فإنه في قبضة الامام، ومن أسلم بعد الحكم بالقتل،
امتنع قتله، فإن كان قد حكم بقتل الرجال وسبي النساء والذرية، لم يندفع بإسلام
الرجال إلا قتلهم، وهل يجوز استرقاق المحكوم بقتله إذا أسلم؟ نقل الروياني
وغيره أنه لا يجوز، لأنهم لم ينزلوا على هذا الشرط فيطلقهم، ولا يفاديهم بمال،
ويجئ على تجويز استرقاقه لو لم يسلم أنه يجوز استرقاقه بعد الاسلام أيضا، ولو
حكم بالارقاق، فأسلم المحكوم عليه قبل الارقاق جاز إرقاقه، على الأصح.
فرع حاصرنا قلعة، فصالح زعيمها على أمان مائة شخص منهم، صح
للحاجة، ويعين الزعيم مائة، فإن عد مائة وأغفل نفسه، جاز قتله.
فصل في مسائل منثورة تتعلق بكتاب السير إذا أسلم كافر وقد لزمه
كفارة يمين أو ظهار أو قتل، ففي سقوطها عنه وجهان، نقلهما الشيخ أبو علي،
أصحهما: المنع، كالدين، والثاني: نعم، لأن الاسلام يجب ما قبله، قال
الامام: هذا ضعيف هادم للقواعد.
قلت: ولو وجب على ذمي حد زنى فأسلم، نقل ابن المنذر في الاشراف
عن نص الشافعي رحمه الله أنه يسقط عنه الحد، وحكاه عن مالك أيضا، ورواية عن
483

أبي حنيفة، وقال أبو ثور: لا يسقط. والله أعلم.
ولو استولى الكفار على أموال المسلمين، لم يملكوها سواء أحرزوها بدار
الحرب أم لا، وسواء العقار وغيره، وإذا أسلموا والمال في أيديهم، لزمهم رده إلى
أصحابه، وإن غنمه طائفة من المسلمين، لزمهم رده إلى صاحبه، فإن ظهر الحال
بعد القسمة، رده من وقع في سهمه، ويعوضه الامام من بيت المال، فإن لم يكن
في بيت المال شئ، أعاد القسمة، ونص أنه لو أحرز مشرك جارية مسلم وأولدها،
ثم ظفر المسلمون بهم، فالجارية والولد للمسلم، فإن أسلم الواطئ، أخذ مالكها
منه المهر وقيمة الولد، قال ابن سريج: هذا محمول على ما إذا وطئ وأولد بعد
إسلامه، فيلزمه المهر، والولد حر للشبهة، ولو أسرت مسلمة، فنكحها حربي، أو
أصابها بلا نكاح، فأولدها، ثم ظفرنا بهم، لم يسترق أولادها، لأنهم مسلمون
بإسلامها، ويلحقون الناكح للشبهة، ونص أن جارية المسلم لو استولى عليها كفار،
ثم عادت إلى مالكها، فلا استبراء عليه، لأن ملكه لم يزل، لكن يستحب، ولو
أسرنا قوما، فقالوا: نحن مسلمون أو أهل ذمة، صدقوا بأيمانهم إن وجدوا في دار
الاسلام، وإن وجدوا في دار الحرب، لم يصدقوا، ولو دخل حربي دارنا بأمان،
484

فاشترى عبدا مسلما، وخرج به إلى دار الحرب، فظفر به المسلمون، فإن قلنا:
يصح الشراء، فهو غنيمة، وإلا فهو لبائعه، ويلزمه رد الثمن على المستأمن.
فرع نص في حرملة، أنه لو أهدى مشرك إلى الأمير، أو إلى الامام هدية
والحرب قائمة، فهي غنيمة بخلاف ما لو أهدى قبل أن يرتحلوا عن دار الاسلام،
فإنه للمهدى إليه.
فرع فداء الأمير الأسير مستحب، فلو قال مسلم لكافر: أطلق أسيرك ولك
علي ألف، فأطلقه، لزمه الألف، ومتى فدى أسيرا بمال بغير سؤال الأسير،
لم يرجع عليه به، ولو قال الأسير: افدني بكذا على أن ترجع علي، ففعل، رجع
عليه، وكذا لو لم يشرط الرجوع على الأصح، ولو قال الأسير للكافر: أطلقني على
كذا، ففعل، أو قال له كافر: افتد نفسك بكذا، ففعل، لزمه ما التزم، والمال
الذي فدى الأسير به إذا استولى عليه المسلمون، هل يكون غنيمة أم يرد إلى
الفادي؟ وجهان:
قلت: قد سبق عن صاحب البيان أن مقتضى المذهب أنه يرد وهو أصح.
والله أعلم.
فرع دخل مسلم دار الحرب، فوجد مسلمة أسروها، لزمه إخراجها إن
أمكنه.
فرع سبق أنه إذا اقتصر في الأمان على قوله: أمنتك، هل يتعدى إلى
ما معه من أهل ومال؟ وجهان، وإن تعرض له، تعدى قطعا، وفي البحر تفصيل
حسن، حكاه أو بعضه عن الحاوي وهو أنه إن أطلق الأمان، دخل فيه ما يلبسه
من ثياب، وما يستعمله في حرفته من آلات، وما ينفقه في مدة الأمان للعرف
الجاري بذلك، ومركوبه إن كان لا يستغني عنه، ولا يدخل غير ذلك، وإن بذل له
الأمان على نفسه وماله، فالمال أيضا في أمان إن كان حاضرا، سواء أمنه الامام أو
غيره، وإن كان غائبا، لم يصح الأمان فيه إلا من الامام أو نائبه بالولاية العامة،
485

وكذلك الذراري يفرق فيهم بين الحاضرين والغائبين، قال: ولو قال: أمنتك في
جميع بلاد الاسلام، كان آمنا في جميعها، سواء أمنه الامام أو غيره، وإن قال:
أمنتك في بلد كذا، كان آمنا فيه، وفي الطريق إليه من دار الحرب لا غير، وإن
أطلق، نظر إن أمنه الامام، كان آمنا في جميع بلاد الاسلام، وإن أمنه والي
الإقليم، كان آمنا في محل ولايته، وإن أمنه أحد الرعية، اختص الأمان بالموضع
الذي يسكنه المؤمن، بلدة كانت أو قرية، وبالطريق إليه من دار الحرب، وإنما
يكون آمنا في الطريق إذا اجتاز بقدر الحاجة، قال: وإذا كان الأمان مقدرا بمدة،
فإن كان مخصوصا ببلد، فله استيفاء المدة بالإقامة فيه، وله الأمان بعدها إلى أن
يرجع إلى مأمنه، وإن كان عاما في جميع البلاد، انقضى أمانه بمضي تلك المدة،
ولا أمان له بعدها للعود، لأن ما يتصل من بلاد الاسلام بدار الحرب من محل أمانه،
فلا يحتاج إلى مدة الانتقال من موضع الأمان وبالله التوفيق.
486

كتاب عقد الجزية والهدنة
فيه بابان: الأول: في الجزية، وفيه طرفان:
الأول: في أركانها وهي خمسة:
الأول: نفس العقد، وكيفيته أن يقول الإمام أو نائبه: أقررتكم، أو أذنت
لكم في الإقامة في دار الاسلام على أن تبذلوا كذا، وتنقادوا لأحكام الاسلام.
487

وهل يشترط التعرض لقدر الجزية؟ وجهان، أحدهما: لا، ويجب الأقل،
وأصحهما: نعم، كالثمن والأجرة. وهل يشترط التعرض لكفهم اللسان عن الله
تعالى ورسوله (ص) ودينه؟ وجهان، أصحهما: لا، لأنه داخل في الانقياد، ويشترط
من الذمي لفظ، كقبلت، أو رضيت بذلك، ولو قال الذمي: قررني بكذا، فأجابه
الامام، تم العقد، ولا يصح عقد الذمة مؤقتا على المذهب، لأنه خلاف مقتضاه،
ومن صحح، قاسه على الهدنة، ولو قال: أقركم ما شئت، أو أقركم ما أقركم الله،
أو إلى أن يشاء الله، لم يصح على المذهب، وقيل: على الخلاف في المؤقت
بمعلوم وعكسه، وجعل هذا أولى بالصحة، وهو خلاف ما قاله الأصحاب. ولو
قال: أقركم ما شئتم، جاز، لأن لهم نبذ العقد متى شاؤوا، فليس فيه إلا التصريح
بمقتضاه، قال الأصحاب: ولو قال في الهدنة: هادنتكم ما شئتم، لم يصح، لأنه
يجعل الكفار محكمين على المسلمين.
فرع إذا طلبت طائفة تقر بالجزية عقد الذمة، وجبت إجابتهم، وفي
البيان وغيره وجه: أنها لا تجب إلا إذا رأى الامام فيها مصلحة كما في الهدنة،
وهذا شاذ متروك، فلو خاف غائلتهم، وأن ذلك مكيدة منهم، لم يجبهم.
فرع إذا عقدت الذمة مع إخلال بشرط، لم يلزم الوفاء، ولم تجب الجزية
المسماة، لكن لا يغتالون، بل يبلغون المأمن، ولو بقي بعضهم على ذلك العقد
عندنا سنة أو أكثر، وجب عليه لكل سنة دينار، ولو دخل حربي دارنا وبقي مدة،
فاطلعنا عليه فوجهان، الصحيح الذي حكاه الامام عن الأصحاب: أنا لا نأخذ منه
شيئا لما مضى بخلاف من سكن دارا غصبا، لأن عماد الجزية القبول، وهذا حربي
لم يلتزم شيئا، وخرج ابن القطان وجها آخر: أنه تؤخذ منه جزية ما مضى، وعلى
الوجهين: لنا قتله واسترقاقه، وأخذ ماله، ويكون فيئا، ولو رأى الامام أن يمن
عليه، ويترك أمواله وذريته له، جاز بخلاف سبايا الحرب وأموالها، لأن الغانمين
488

ملكوها، فاشترط استرضاؤهم، فإن كان الكافر كتابيا، وطلب عقد الذمة بالجزية،
فهل يجيبه ونعصمه؟ تقدم على هذا حكم الأسير إذا كان كتابيا، وطلب عقد الذمة
بعد الأسر، وفي تحريم قتله حينئذ قولان، أظهرهما: التحريم، لأن بذل الجزية
يقتضي حقن الدم، كما لو بذلها قبل الأسر، فعلى هذا في استرقاقه وجهان،
أحدهما: يحرم أيضا، ويجب تقريره بالجزية كما قبل الأسر، وأصحهما:
لا يحرم، لأن الاسلام أعظم من قبول الجزية، والاسلام بعد الأسر لا يمنع
الاسترقاق، وماله مغنوم سواء قلنا: يحرم، أم لا. إذا عرفت هذا فبدل الداخل
الذي أطلقنا عليه الجزية وجب قبولها على المذهب، وقيل: وجهان، كالأسير.
فرع اطلعنا على كافر في دارنا، فقال: دخلت لسماع كلام الله تعالى،
أو لرسالة، صدق ولا يتعرض له، سواء كان معه كتاب أم لا، وفيما إذا لم يكن معه
احتمال للامام، ثم نقل ابن كج عن النص أنه مدعي الرسالة إن اتهم، حلف، وفي
البحر أنه لا يلزم تحليفه، ويمكن الجمع بين الكلامين، ولو قال: دخلت بأمان
مسلم، فهل يطالب ببينة لامكانها غالبا أم يصدق بلا بينة كدعوى الرسالة، لأن الظاهر
أنه لا يدخل بغير أمان؟ فيه وجهان، أصحهما: الثاني، قال الروياني: وما
اشتهر أن الرسول آمن هو في رسالة فيها مصلحة للمسلمين من هدنة وغيرها، فإن
كان رسولا في وعيد وتهديد، فلا أمان له، ويتخير الامام فيه بين الخصال الأربع
كأسير.
قلت: ليس ما ادعاه الروياني بمقبول، والصواب أنه لا فرق، وهو آمن
مطلقا. والله أعلم.
الركن الثاني: العاقد، ولا يصح عقد الذمة إلا من الامام، أو من فوضه
إليه، وفي كتاب ابن كج وجه: أنه يصح عقدها من آحاد الرعية، كالأمان، وهذا
شاذ متروك، لكن لو عقدها أحد الرعية، لم يغتل المعقود له، بل يلحقه بمأمنه،
فإن أقام سنة فأكثر، فهل يلزمه لكل سنة دينار؟ وجهان، أحدهما: نعم، كما لو
فسد عقد الامام، وأصحهما: لا، لأنه لغو.
الركن الثالث: المعقود، له خمسة شروط.
489

أحدها: العقل، فلا جزية على مجنون، لأنها لحقن الدم، وهو محقون،
وفي البيان وجه: أن عليه الجزية، كالمريض والهرم، وليس بشئ، فإن كان
يجن ويفيق، نظر إن قل زمن جنونه، كساعة من شهر، أخذت منه الجزية، وإن
كثر بأن يقطع يوما ويوما، أو يومين، فأوجه، أصحها: تلفق أيام الإفاقة، فإذا تمت
سنة، أخذت الجزية، والثاني: لا شئ عليه، كمن بعضه رقيق، والثالث:
حكمه كالعاقل وما يطرأ ويزول كالاغماء، والرابع: يحكم بموجب الأغلب، فإن
استوى الزمان، وجبت الجزية، والخامس: إن كان في آخر السنة عاقلا، أخذت
الجزية وإلا فلا، أما إذا كان مفيقا، ثم جن بعد انتصاف السنة، فهو كموته في أثناء
السنة، وإن كان مجنونا فأفاق في أثناء السنة افتتح سنة، وسنذكرهما إن شاء الله
تعالى. ولو وقع في الأسر من يجن ويفيق، قال الامام: إن غلبنا حكم المجنون،
رق ولا يقتل، وإن غلبنا حكم الإفاقة، لم يرق بالأسر، والظاهر الحقن، ويتجه أن
تعتبر حالة الأسر، وهذا هو الأصح عند الغزالي.
الشرط الثاني: البلوغ، فلا جزية على صبي، وإذا بلغ ولد ذمي، فهو في
أمان، فلا يغتال، بل يقال له: لا نقرك في دار الاسلام إلا بجزية، فإن لم يبذل
الجزية، ألحقناه بمأمنه، وإن اختار بذلها، فهل يحتاج إلى استئناف عقد، أم
يكفي عقد أبيه؟ وجهان، أصحهما عند العراقيين وغيرهم: الأول، فإن اكتفينا بعقد
أبيه، لزمه مثل جزية أبيه، فإن كانت أكثر من دينار وقال: لا أبذل الزيادة،
فطريقان، أحدهما: هو كذمي عقد بأكثر من دينار، ثم امتنع من بذل الزيادة، وفيه
خلاف يأتي إن شاء الله تعالى، والثاني: القطع بالقبول، لأنه لم يعقد بنفسه حتى
يجعل بالامتناع ناقضا للعهد، وإن قلنا: يستأنف معه عقد، رفق به الامام ليلتزم ما
التزم أبوه، فإن امتنع من الزيادة، عقد له بالدينار، وسواء اكتفينا بعقد أبيه، أم
490

احتجنا إلى الاستئناف، فلا فرق بين أن يكون الأب قد قال: التزمت هذا عن نفسي
وفي حق ابني إذا بلغ، وبين أن لا يتعرض للابن، ولو بلغ الابن سفيها وبذل جزية
أبيه وهي فوق دينار، فهل تؤخذ منه؟ وجهان حكاهما البغوي، وليكونا بناء على أنه
يكتفي بعقد أبيه أم يستأنف؟ إن اكتفينا، أخذنا، وإلا فهو كسفيه جاء يطلب عقد
الذمة، ولا شك أنه يجاب ولا يشترط إذن وليه، لأن فيه مصلحة حقن الدم، لكن لو
التزم أكثر من دينار، قال القاضي حسين: تلزمه الزيادة وإن لم يأذن الولي بناء على
أن العهد لا يدخل تحت الولاية، حكاه الامام عنه، ولم يرتضه، وقال: الحقن
ممكن بدينار، فينبغي أن يمتنع من بذل الزيادة، وذكر الروياني نحوه، وفي
التهذيب الجزم بأنه لا تؤخذ الزيادة وإن أذن الولي، وقال الغزالي: يصح عقد
السفيه بالزيادة لحقن الدم تشبيها بما إذا كان على السفيه قصاص، وصالح المستحق
على أكثر من قدر الدية، لم يكن للولي منعه، وزاد فقال: للولي أن يعقد له
بالزيادة، وليس للسفيه المنع، كما يشتري له الطعام بثمن غال صيانة لروحه، وفرق
الامام بين هاتين المسألتين والجزية وقال: صيانة الروح لا تحصل في المسألتين إلا
بالزيادة، وهنا بخلافه، والمذهب أنه لا يصح عقد السفيه والولي بالزيادة، وإذا
اختار السفيه الالتحاق، واختار الولي عقد الذمة، فالمتبع اختيار السفيه، ذكره
الروياني وصاحب البيان.
الشرط الثالث: الحرية، فلا جزية على عبد ولا على سيده بسببه، ومن
بعضه رقيق كالعبد، وقيل: يجب من الجزية بقسط حريته، والصحيح الأول،
لأنه غير مقتول بالكفر، كمن تمحض رقه، وإذا أعتق العبد، فإن كان من أولاد من
لا يقر بالجزية، فليسلم، وإلا فليبلغ المأمن، وإن كان ممن يقر، فليسلم أو ليبذل
الجزية، وإلا فليبلغ المأمن، سواء أعتقه مسلم أو ذمي، فإن أعتقه ذمي، فهل
تؤخذ منه جزية سيده أم جزية عصبته، لأنهم أخص به، أم يستأنف له عقد؟ فيه
أوجه.
491

قلت: الأصح: الاستئناف. والله أعلم.
الشرط الرابع: الذكورة، فلا جزية على امرأة وخنثى، فإن بانت
ذكورته، فهل تؤخذ منه جزية السنين الماضية؟ وجهان.
قلت: ينبغي أن يكون الأصح الاخذ. والله أعلم.
ولو جاءتنا امرأة حربية، فطلبت عقد الذمة بجزية، أو بعثت بذلك من دار
الحرب، أعلمها الامام أنه لا جزية عليها، فإن رغبت مع ذلك في البذل، فهذه هبة
لا تلزم إلا بالقبض، وإن طلبت الذمة بلا جزية، أجابها الامام، وشرط عليها التزام
الاحكام. ولو حاصرنا قلعة، فأرادوا الصلح على أن يؤدوا الجزية عن النساء دون
الرجال، لم يجابوا، فإن صولحوا عليه، فالصلح باطل، وإن لم يكن فيها إلا
النساء فطلبن عقد الذمة بالجزية، فقولان نص عليهما في الام أحدهما: يعقد
لهن، لأنهن يحتجن إلى صيانة أنفسهن عن الرق، كما يحتاج الرجال للصيانة عن
القتل، فعلى هذا يشترط عليهن أن تجرى عليهن أحكام الاسلام، ولا يسترققن،
ولا يؤخذ منهن شئ، وإن أخذ الامام مالا، رده، لأنهن دفعنه على اعتقاد أنه
واجب، فإن دفعنه على علم، فهو هبة، والحكم على هذا القول كما ذكرنا في
حربية بعثت من دار الحرب تطلب الذمة، والقول الثاني: لا تعقد لهن، ويتوصل
الامام إلى الفتح بما أمكنه، وإن عقد لم يتعرض لهن حتى يرجعن إلى القلعة، فإذا
فتحها، سباهن، لأن الجزية تؤخذ لقطع الحرب، ولا حرب في النساء والصبيان،
492

ولأنهن قد قربن من مصيرهن غنيمة فلا يعرض عنهن بعد تحمل التعب والمؤنة،
والقولان متفقان على أنه لا يقبل منهن جزية، ولا يوجد أحد إلزام، هذا ما نقله
الأصحاب في جميع طرقهم، وشذ عنهم الامام فنقل في الخلاف وجهين وجعلهما
في أنه هل يلزم قبول الجزية وترك إرقاقهن؟ وضعف وجه اللزوم، وذكر الروياني
الطريقة المشهورة، ثم حكى ما ذكره الامام عن بعض الخراسانيين، ولعله أراد به
الامام، ثم قال: وهو غلط، ولو كان في القلعة رجل واحد، فبذل الجزية، جاز،
وصارت النساء تبعا له في العصمة، هكذا أطلقه مطلقون، وخصه الامام
والغزالي بما إذا كن من أهله، وهذا أحسن.
فرع عقد الذمة يفيد الأمان للكافر نفسا ومالا وعبيده من أمواله، قال
الامام: وليس له أن يستتبع من النساء والصبيان والمجانين من شاء، لأنه يخرج عن
الضبط، ولكن لا بد من تعلق واتصال، فيستتبع من نسوة الأقارب وصبيانهم
ومجانينهم من شاء، بأن يدرجهم في العقد شرطا، وسواء المحارم وغيرهم، فإن
أطلق، لم يتبعوه. ومن له مصاهرة من النساء والصبيان والمجانين لهم حكم الأقارب
على الأصح، وقيل: كالأجانب، وفي دخول الأولاد الصغار في العقد عند الاطلاق
وجهان، أصحهما: الدخول اعتمادا على القرينة، والزوجات كالأولاد الصغار،
وقيل: كنساء القرابة.
فرع إذا بلغ الصبي، أو أفاق المجنون، أو عتق العبد، زالت التبعية،
ولزمتهم الجزية وابتداء الحول من حين حدثت هذه الأحوال، فإن اتفق ذلك في
نصف حول أهلهم الذميين مثلا، فإذا تم حول أهلهم، ورغب هؤلاء في أن يؤدوا
نصف الجزية، فذاك، وإلا فإن شاء الامام أخذ جزيتهم عند تمام حولهم، وإن شاء
أخر حتى يتم حول ثان لأهلهم، فيأخذ منهم جزية سنة ونصف لئلا تختلف
الأحوال.
فرع لو دخلت حربية دارنا بغير تبعية ولا أمان ولا طلب أمان، جاز
استرقاقها، وكذا الحكم في الصبي، كما يجوز قتل الكافر إذا دخل، كذلك قال
الامام، وكل حكم بجزية في القتال بجزية فيمن يظفر به من غير ذمة ولا أمان.
فرع عن نصه إذا صالحنا قوم على أن يؤدوا الجزية عن صبيانهم ومجانينهم
493

ونسائهم سوى ما يؤدون عن أنفسهم، فإن شرطوا أن يؤدوا من مال أنفسهم، جاز،
وكأنهم قبلوا جزية كثيرة، وإن شرطوه من مال الصبيان والمجانين، لم يجز أخذه.
الشرط الخامس: كونه كتابيا، فالكفار ثلاثة أصناف.
أحدها: أهل كتاب، ومنهم: اليهود والنصارى، فيقرون بالجزية، فلو زعم
قوم أنهم متمسكون بصحف إبراهيم وزبور داود صلى الله عليهما وسلم، فهل يقرون بالجزية؟
وجهان، أصحهما: نعم، ومنهم من قطع به، ولا تحل مناكحتهم وذبيحتهم على
المذهب عملا بالاحتياط في المواضع الثلاثة، وقيل بطرد الخلاف في حل الذبيحة
والمناكحة إلحاقا لكتبهم بكتاب اليهود، وحكي ذلك عن القاضي أبي الطيب
وغيره، وإذا ألحقناهم باليهود، فإن تحققنا صدقهم، أو أسلم اثنان منهم، وشهدوا
بذلك، فذاك، وعن صاحب الحاوي أن المعتبر قول جماعة تحصل الاستفاضة
بقولهم، وإن شككنا في أمرهم، كالمجوس.
الصنف الثاني: المجوس، فيقرون بالجزية، وهل كان لهم كتاب أم شبهة
كتاب؟ قولان سبقا في النكاح، أظهرهما: الأول وقطع به بعضهم.
الثالث: من ليس له ولا شبهة، كعبدة الأوثان والملائكة والشمس، ومن في
معناهم، فلا يقرون بالجزية، سواء فيهم العربي والعجمي.
فرع اليهود والنصارى يقرون بالجزية، مهما دخل آباؤهم في اليهود أو
التنصر قبل تبدل ذلك الدين، ولا فرق بين أولاد المبدلين وغيرهم، ولو دخل وثني
494

في يهودية أو نصرانية بعد مبعث نبينا (ص)، لم يقروا، هم ولا أولادهم، لأنهم
تمسكوا بدين باطل، وقال المزني: يقرون، والتهود بعد بعثة عيسى (ص)
كالتهود والتنصر بعد بعثة نبينا (ص) على الأصح، وقد ذكرناه في النكاح، وإن دخلوا
فيه بعد التبديل وقبل النسخ، فطريقان، أحدهما: إن تمسك بما لم يحرف، قرر،
وإن تمسك بمحرف، لم يقرر هو ولا أولاده، وهل في الأولاد قولان، وبهذا الطريق
قال العراقيون والبغوي وآخرون، والثاني: يقرون بلا تفصيل ولا خلاف، وهذا
الطريق يدير الحكم على الدخول قبل النسخ وبعده، وهو اختيار ابن كج، والقاضي
أبي الطيب، والامام، والروياني، قال القاضي أبو الطيب: لا أحفظ الشرط
المذكور للشافعي، إنما فرق في كتبه بين ما قبل نزول القرآن وما بعده، وهذا
أصح، قال الامام: لأنهم وإن بدلوا فمعلوم أنه بقي فيه ما لم يبدل، فلا تنحط عن
شبهة كتاب المجوس، أو تغليبا لحقن الدم، ولو لم نعرف أدخلوا قبل النسخ أو
بعده، أو قبل التبديل أو بعده، قررناهم بالجزية كالمجوس.
فرع المذهب أن السامرة والصابئين إن خالفوا اليهود والنصارى في أصول
دينهم فليسوا منهم، وإلا فمنهم، وهكذا نص عليه، وعليه يحمل النصان
الآخران، وقيل: قولان مطلقا، وقيل: تؤخذ منهم الجزية قطعا، وهذا فيما إذا لم
يكفرهم اليهود والنصارى، فإن كفروهم، لم يقروا قطعا، فإن أشكل أمرهم، ففي
تقررهم احتمالان ذكرهما الامام، الأصح: الجواز.
فرع لو أحاط الامام بقوم، فزعموا أنهم أهل كتاب، أو أن آباءهم تمسكوا
بذلك الدين قبل التبديل، قررهم بالجزية، لأنه لا يعرف الامر إلا من جهتهم، قال
ابن الصباغ: ويشترط عليهم إن بان خلاف قولهم، نبذ عهدهم وقاتلهم، وإن ادعاه
بعضهم دون بعض، عامل كل طائفة بمقتضى قولها، ولا يقبل قول بعضهم على
بعض، فلو أسلم منهم اثنان، وظهرت عدالتهما، وشهدا بخلاف دعواهم، نبذ
عهدهم، هذا لفظ جماعة وقال الامام: يتبين أنه لا ذمة لهم، وهل يغتالهم لتلبيسهم
علينا أم يلحقهم بالمأمن؟ فيه تردد، والظاهر: اغتيالهم لتدليسهم، وكذا لو أسلم
من السامرة أو الصابئين اثنان، فشهدا بكفرهم.
فرع من أحد أبويه كتابي والآخر وثني، فيه طرق، والمذهب: تقريره،
495

سواء كان الكتابي الأب أو الام، وقيل: قولان، وقيل: لا يقرر، وقيل: يلحق
بالأب، وقيل: بالأم.
فرع توثن نصراني وله أولاد صغار، فإن كانت أمهم نصرانية، استمر لهم
حكم التنصر، فتقبل منهم الجزية بعد بلوغهم، وإن كانت وثنية، ففي تقريرهم
بالجزية قولان، أظهرهما: نعم، لأنه ثبت لهم علقة التنصر فلا تزول، وحقيقة
القولين ترجع إلى أن توثنه هل يستتبع أولاده؟ فإن أتبعناهم، لم يغتالوا، لأنهم كانوا
في أمان، ولم تؤخذ منهم جزية، وأما أبوهم، فيبنى حكمه على ما سبق في كتاب
النكاح أنه هل يقنع منه بالعود إلى دينه أم لا يقنع إلا بالاسلام، فإن أباهما، فيقتل أم
يلحق بالمأمن؟ قولان الأظهر: الثاني.
فرع الولد المنعقد من مرتدين، هل هو مسلم، أم مرتد، أم كافر
أصلي؟ فيه أقوال سبقت في الردة، فإن قلنا: مسلم، فبلغ وصرح بالكفر،
فمرتد، وإن قلنا: أصلي، فالصحيح أنه لا يقر بجزية.
فرع يهود خيبر كغيرهم في ضرب الجزية عليهم، وسئل ابن سريج رحمه
الله عما يدعونه أن عليا رضي الله عنه كتب لهم كتابا بإسقاطها، فقال: لم ينقل ذلك
أحد من المسلمين، وفي البحر أن ابن أبي هريرة أسقط الجزية عنهم، لان
النبي (ص) ساقاهم، وجعلهم بذلك خولا، قال: وهذا شئ تفرد به، والمساقاة
معاملة لا تقتضي إسقاط الجزية.
فصل الزمن والشيخ الفاني، والأجير والراهب والأعمى تضرب عليهم
الجزية كغيرهم على المذهب والمنصوص، لأن الجزية كأجرة الدار، وقيل: إن
قلنا: لا يقتلون، فلا جزية، كالنساء،
وأما الفقير العاجز عن الكسب، فالمشهور المنصوص في عامة كتبه، أن
عليه جزية، وفي قول: موسر، أخذناها منه، وإلا فهي في ذمته حتى يوسر، وكذا
496

حكم الحول الثاني وما بعده، وفي وجه: لا يمهل ولا يقر في دارنا، بل يقال: إما
أن تحصل الجزية بما أمكنك، وإما أن نبلغك المأمن، لأنه قادر على رفع الجزية
بالاسلام، وإذا قلنا: لا يجب، عقدنا له الذمة على شرط إجراء الاحكام عليه،
وبذل الجزية عند القدرة، فإذا أيسر، فهو أول حوله، هكذا قاله الأصحاب، وأشار
الامام إلى أن ابتداء الحول من وقت العقد.
فرع الجاسوس الذي يخاف شره، لا يقر بالجزية.
الركن الرابع: المكان القابل للتقرير بلاد الاسلام حجاز وغيره، فالحجاز مكة
والمدينة واليمامة ومخاليفها أي: قراها، قال الامام: قال الأصحاب: الطائف
ووج، وهو واد بالطائف، وما يضاف إليهما منسوبة إلى مكة معدودة من أعمالها،
وخيبر من مخاليف المدينة. ثم الحجاز ضربان: حرم مكة وغيره، أما غيره، فيمنع
الكفار من الإقامة به، وفي منعهم من الإقامة في الطرق الممتدة في بلاد الحجاز
وجهان حكاهما الامام، الصحيح وهو مقتضى إطلاق الجمهور: نعم، لأنها من
الحجاز، والثاني: لا، لأنها ليست مجتمع الناس، ولا موضع إقامة، ولا يمنعون
من ركوب بحر الحجاز، لأنه ليس موضع إقامة، ويمنعون من الإقامة في سواحله في
الجزائر المسكونة في البحر ومتى دخل كافر الحجاز بغير إذن الإمام، أخرجه
وعزره إن علم أنه ممنوع من دخوله، وإن استأذن في دخوله، أذن له إن كان في
دخوله مصلحة للمسلمين، كرسالة أو عقد هدنة أو ذمة، أو حمل متاع يحتاج إليه
المسلمون، وإن كان دخوله لتجارة ليس فيها كثير حاجة للمسلمين، لم يأذن له إلا
بشرط أن يأخذ من تجارته شيئا، هكذا أطلقه جماعة، وحكوه عن النص، وفي
التهذيب أنه يشرط عليه شيئا، وهو إلى رأي الامام، ولعله أراد أن قدر المشروط
إلى رأي الامام، لا أصل الشرط فلا يخالف ما أطلقه غيره.
497

قلت: هذا الاحتمال هو مراده من غير ترديد، وهو مقتضى عبارته. والله
أعلم.
ولا يمكن من دخل بالاذن أن يقيم أكثر من ثلاثة أيام، ويشرط عليه ذلك عند
الدخول، ولا يحسب من الثلاثة يوم الدخول والخروج، ولو كان له ديون، حصلت
بمعاملاته بعد الدخول، أو من وجه آخر ولم يمكن قبضها في الحال، أمر أن يوكل
مسلما بقبضها، وأخرج هو، ولو كان ينتقل من قرية إلى أخرى ويقيم في كل واحدة
ثلاثة أيام، لم يمنع وأما حرم مكة زاده الله شرفا، فيمنع الكافر من دخوله، ولو كان
مجتازا، فإن جاء برسالة والامام في الحرم، بعث إليه من يسمعه، ثم يخبر الامام،
أو خرج إليه الامام ويتعين عليه ذلك إذا قال الكافر: لا أؤدي الرسالة إلا مشافهة،
وإن جاء كافر ليناظره ليسلم، خرج إليه من يناظره، وإن حمل ميرة، خرج إليه
الراغبون في الشراء، وإن كان لذمي مال في الحرم، أو دين، وكل مسلما ليقبضه
ويسلمه إليه، وإن بذل الكافر على الدخول مالا، لم يجبه إليه، فإن فعل، فالصلح
فاسد، فإن دخل، أخرج وثبت العوض المسمى بخلاف الإجارة الفاسدة، فإنه إنما
تثبت فيها أجرة المثل، لأنه هنا استوفى المعوض وليس لمثله أجرة، وإن دخل ولم
ينته إلى الموضع المشروط، وجبت الحصة من المسمى، ولو دخل كافر بغير إذن الإمام
، أخرج وعزر إن كان علم، فلو مات فيه، لم يدفن فيه، فإن دفن، نبش
وأخرج، فإن تقطع، ترك، وفي البحر وجه أنه تجمع عظامه إن أمكن وتخرج،
وبهذا قطع الامام، وبالأول قال الجمهور، ولو مرض فيه، لم يرض فيه، بل ينقل
وإن خيف من النقل موته، ولو مرض كافر في الحجاز خارج الحرم، قال: إن أمكن
نقله بلا مشقة عظيمة عليه، كلف الانتقال، فإن خيف عليه الموت، ترك حتى
يبرأ، وإن لم يخف الموت، ولكن تناله مشقة عظيمة، فالأصح تكليفه الانتقال،
وجواب جمهور الأصحاب أنه لا ينقل مطلقا، فلو مات في الحجاز وتعذر نقله، دفن
فيه، ولفظ الامام أنا نواريه مواراة الجيف، وإن كان في طرف الحجاز، نقل
لسهولته، وأطلق أكثرهم أنه يدفن فيه، وقالوا: إذا جاز تركه في الحجاز للمرض،
فللموت أولى، وذكر البغوي تفصيلا جيدا وهو أنه إن أمكن نقله قبل أن يتغير، نقل
ولم يدفن فيه، وإن خيف عليه التغير، دفن للضرورة، وإذا دفن حيث لا يؤذن فيه،
هل ينبش ويخرج عند التمكن؟ وجهان حكاهما الامام، والصحيح: المنع، وبه
498

قطع الجمهور، فعلى هذا قال الامام: لا يبعد أن لا يرفع نعش قبره، وأما حرم
المدينة فلا يلحق بحرم مكة فيما ذكرنا، لكن استحسن الروياني أن يخرج منه إذا لم
يتعذر الاخراج ويدفن خارجه، أما غير الحجاز، فيجوز تقرير الكفار فيه بالجزية
ولكل كافر دخوله بالأمان، وإذا استأذن كافر في الدخول، لم يؤذن له إلا لحاجة،
لأنه لا يؤمن أن يجس، أو يطلع على عورة، ويتولد من اطلاعه فساد، أو يفتك
بمسلم، ويؤذن له إذا كان في دخوله مصلحة للمسلمين، كرسالة وعقد ذمة أو
هدنة، وإن كان يدخل لتجارة، فللامام أن يأذن له إذا رأى ذلك، ويأخذ من
تجارته شيئا كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وإذا دخل لبعض هذه الأغراض فليكن
مكثه بقدر الحاجة، وليس لكافر أن يدخل مساجد هذه البلاد بغير إذن، ولا يؤذن له
في دخولها لأكل ولا نوم، لكن يؤذن لسماع القرآن أو الحديث والعلم، قال
الروياني: وكذا لحاجته إلى مسلم، أو حاجة مسلم إليه، وإذا دخل بلا إذن إن كان
جاهلا فمعذور ويعرف، وإن كان عالما، عزر، وقيل: لا يعزر إلا أن يشرط عليه
أن لا يدخل بلا إذن، وجلوس القاضي في المسجد إذن للكافر في الدخول، وإذا
كان له خصومة. وهل يفرق بين كونه جنبا وغيره؟ وجهان سبقا في كتاب الصلاة،
والصحيح الأشهر أنه يكفي إذن آحاد المسلمين في دخول كل المساجد، وقال
الروياني: لا يكفي في الجامع إلا إذن السلطان، وفي مساجد القبائل والمحال
وجهان، أحدهما: يشترط إذن من له أهلية الجهاد، وأصحهما: يكفي إذن من
499

يصح أمانه، وإذا قدم وفد من الكفار، فالأولى أن ينزلهم الامام في دار مهيأة لذلك،
أو في فضول مساكن المسلمين، فإن لم يتيسر، فله انزالهم في المسجد، ويجوز
تعليمهم القرآن إذا رجي إسلامهم، ولا يجوز إذا خيف استخفافهم، وكذا القول في
تعليم أحاديث النبي (ص) والفقه والكلام، ولا يمنعون من الشعر والنحو، قال
الروياني: ومنعه بعض الفقهاء، لئلا يتطاولوا به على مسلم لا يحسنه.
قلت: قال أصحابنا: لا يمنع الكافر من سماع القرآن، ويمنع من مس
المصحف، ولا يجوز تعليمه القرآن إن لم يرج إسلامه ويمنعه التعليم على الأصح،
وإن رجي، جاز تعليمه على الأصح. والله أعلم.
فرع من دخل منهم لتجارة أو رسالة لم يمكن من إظهار خمر ولا خنزير،
ولا يأذن له الامام في حملها إلى دار الاسلام.
الركن الخامس: المال المعقود عليه، وفيه مسائل:
إحداها: أقل الجزية دينار لكل سنة، هذا هو المنصوص الموجود في كتب
الأصحاب، وذكر الامام أن الأقل دينار، أو اثنا عشر درهما نقرة خالصة
مسكوكة، يتخير الامام بينهما، ولا يلزم الامام أن يخيرهم بأقل الجزية، بل يستحب
أن يماكس حتى يأخذ من الغني أربعة دنانير، ومن المتوسط دينارين، وقال الامام:
موضع المماكسة ما إذا لم يعلم الكافر جواز الاقتصار على دينار، فإن علم، تطلب
الزيادة استماحة، فإن امتنعوا من بذل ما زاد على دينار، وجب تقريرهم بالدينار سواء
فيه الغني والفقير، ولو عقد بأكثر من دينار، ثم علم أن الزيادة غير لازمة، لزمه ما
التزم، كمن اشترى شيئا أكثر من ثمن مثله، فإن امتنع من الزيادة، فوجهان،
أحدهما: يقنع بالدينار، وأصحهما: أنه ناقض للعهد بذلك، كما لو امتنع من أداء
أصل الجزية، وحينئذ هل يبلغ المأمن أم يقتل؟ قولان سنذكرهما إن شاء الله
تعالى، فإن بلغ المأمن وعاد، فطلب العقد بدينار، أجبناه، هكذا ذكره البغوي،
وأطلق الامام أنه إذا قبل الزيادة، ثم نبذ العهد إلينا لا يغتال، وإذا طلب تجديد عقد
بالدينار، لزم إجابته، ثم إن كان النبذ بعد مضي سنة، لزمه ما التزم، وإن كان في
500

أثنائها، لزمه بقسطه تفريعا على المذهب فيما إذا مات الذمي في أثناء السنة.
فرع نص أنه لو شرط على قوم أن على فقيرهم دينارا، ومتوسطهم
دينارين، وغنيهم أربعة، جاز، والاعتبار في هذه الأحوال بوقت الاخذ لا بوقت
العقد، ولا بما يطرأ، وإن قال بعضهم: أنا متوسط أو فقير، قبل قوله إلا أن تقوم
بينة بخلافه.
المسألة الثانية: لو مات الذمي، أو أسلم بعد مضي السنة، لم تسقط الجزية
كسائر الديون، فتؤخذ من تركته ومنه إذا أسلم، ولو مضت سنون ولم يؤد الجزية،
أخذت منه ولم تتداخل كالديون، ولو مات أو أسلم في أثناء السنة، فهل يجب قسط
ما مضى كالأجرة أم لا يجب شئ كالزكاة؟ قولان أظهرهما: الأول، وقيل: تجب
قطعا، وقيل: عكسه، وقيل: لا تجب في الموت، وفي الاسلام القولان، فإن
أوجبنا، فهل للامام أن يطالب في أثناء السنة بقسط ما مضى؟ وجهان أصحهما:
لا، ويقرب منه ما ذكره البغوي هل للامام أن يشترط تعجيلها؟ وجهان، وجه الجواز
إلحاقها بالأجرة، ومتى مات وعليه جزية، أخذت من تركته مقدمة على الوصية،
كسائر الديون، فتؤخذ من تركته، ومنه إذا أسلم، فلو كان معها دين آدمي،
فالمذهب والمنصوص أنه يسوى بينها وبينه، وقيل: فيه الأقوال الثلاثة في اجتماع
دين الله تعالى ودين الآدمي هل يقدم ذا أم ذاك أم يستوي، وفي الوسيط طريقة
حازمة بتقديم الجزية، وهو غلط.
الثالثة: يستحب للامام إذا أمكنه أن يشرط على أهل الذمة إذا صولحوا في
بلدانهم ضيافة من يمر بهم من المسلمين، وشرط الضيافة يكون لجميع
501

الطارقين، ولا يختص بأهل الفئ، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل:
في اختصاصهم وجهان، وهل الضيافة زيادة مقصودة في نفسها أم محسوبة من
الجزية وجهان أصحهما وأشهرهما: أنها زيادة وراء أقل الجزية، فعلى هذا إن
قبلوها، لزم الوفاء، وجرت مجرى الزيادة على دينار، وإن قلنا: إنها من الجزية
فعلمنا في آخر السنة أن ما ضيفوا به لا ينقص عن دينار فذاك، وإن نقص، لزمهم
تتميمه، وإذا شرطنا الضيافة، ثم رأى الامام نقلها إلى الدنانير، فليس له ذلك على
الأصح إلا برضاهم، فإن ردت إلى الدنانير، فهل يبقى للمصالح العامة، أم يختص
بأهل الفئ؟ وجهان، أصحهما: الاختصاص، كالدنانير المضروبة، وتشترط
الضيافة على الغني والمتوسط، وفي الفقير أوجه، أصحها: لا تشترط عليه،
والثاني: بلى، والثالث: تشترط على المعتمل دون غيره ويتعرض الامام عند
اشتراط الضيافة لأمور منها: أن يبين عدد أيام الضيافة في الحول، كمائة يوم أو أقل
أو أكثر، وفي البحر أنه لو لم يذكر عدد الأيام في الحول وشرط ثلاثة أيام مثلا عند
قدوم كل قوم، فوجهان، إن جعلناها جزية، لم يجز، وإلا فيجوز.
ومنها: بيان عدد الضيفان من الفرسان والرجالة، وعن الحاوي أن
التعرض لعدد الضيفان إنما يشترط إذا جعلنا الضيافة من الجزية، فإن جعلناها
وراءها، جاز أن لا يبين العدد، ثم إن تساووا في الجزية، تساووا في الضيافة، وإن
تفاوتوا، فاوت بينهم، فيجعل على الغني ضيافة عشرين مثلا، وعلى المتوسط
عشرة، والفقير إن قلنا باشتراطها عليه خمسة، وفي وجه يسوي بينهم في الضيافة،
وإن تفاوتوا في الجزية، ولو شرط عدد الضيفان على جميعهم، وقال: تضيفون في
كل سنة ألف مسلم، قال الروياني: يكفي ذلك، ثم هم يوزعونها أو يتحمل بعضهم
عن بعض.
502

ومنها: بيان ذلك الطعام والأدام وجنسهما، فيقول: لكل واحد كذا من
الخبز، وكذا من السمن أو الزيت، ويتعرض لعلف الدواب من التبن أو الحشيش
أو ألقت، ولا يحتاج إلى ذكر قدر العلف، وإن ذكر الشعير، بين قدره، وإطلاق
العلف لا يقتضي الشعير، نص عليه.
ومنها: منزل الضيفان من فضول منازلهم أو كنائسهم، أو بيوت الفقراء الذين
لا يضيفون، وليكن الموضع بحيث يدفع الحر والبرد، ولا يخرجون أهل المنازل منها.
ومنها:
أن يبين مدة مقام الضيف، ولا يزيد على ثلاثة أيام، وقال ابن كج:
يشترط على المتوسط ثلاثة أيام، والغني ستة، قال الامام: وإذا حصل التوافق على
الزيادة، فلا منع، ولا يفرق بين الطبقات في جنس الطعام.
فرع لو أراد الضيف أن يأخذ منهم ثمن الطعام، لم يلزمهم، ولو أراد أن
يأخذ الطعام ويذهب به ولا يأكله، فله ذلك بخلاف طعام الوليمة، لأن هذه
معاوضة، وتلك مكرمة، ولا يطالبهم بطعام الأيام الثلاثة في اليوم الأول ولو لم يأتوا
بطعام اليوم، فهل للضيف المطالبة من الغد، إن جعلنا الضيافة محسوبة من
الدينار، فله ذلك، وإلا فلا. ولا تلزمهم أجرة الطبيب والحمام وثمن الدواء، ولو
تنازعوا في إنزال الضيف، فالخيار له، ولو تزاحم الضيفان على ذمي، فالخيار له،
ولو قل عددهم، وكثر الضيفان، فالسابق أحق، فإن تساووا، أقرع، وليكن
للضيفان عريف يرتب أمرهم.
فصل تؤخذ الجزية على سبيل الصغار والإهانة، بأن يكون الذمي قائما،
والمسلم الذي يأخذها جالسا، ويأمره بأن يخرج يده من جيبه، ويحني ظهره
ويطأطئ رأسه، ويصب ما معه في كفة الميزان، ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب
في لهزمته: وهي مجتمع اللحم بين الماضغ والاذن من اللحي، وهذا معنى الصغار
503

عند بعضهم، وهل هذه الهيئة واجبة أم مستحبة؟ وجهان، أصحهما:
مستحبة، ويبنى عليهما أنه هل يجوز أن يوكل الذمي مسلما بأداء الجزية، وأن
يضمنها مسلم عن ذمي، وأن يحيل ذمي بها على مسلم، فإن أوجبنا إقامة الصغار
عند أداء الجزية، لم يجز، وإن قلنا: المقصود تحصيل ذلك المال، ويحصل
الصغار بالتزامه المال والاحكام كرها، جاز، والضمان أولى بالصحة، لأنه لا يمنع
مطالبة الذمي وإقامة الصغار عليه، ولو وكل ذمي ذميا بالأداء، قال الامام: الوجه
طرد الخلاف، ولو وكل مسلما في عقد الذمة له، جاز، لأن الصغار يرعى عند الأداء
دون العقد.
قلت: هذه الهيئة المذكورة أولا، لا نعلم لها على هذا الوجه أصلا معتمدا،
وإنما ذكرها طائفة من أصحابنا الخراسانيين، وقال جمهور الأصحاب: تؤخذ الجزية
برفق، كأخذ الديون، فالصواب الجزم بأن هذه الهيئة باطلة مردودة على من
اخترعها، ولم ينقل أن النبي (ص)، ولا أحد من الخلفاء الراشدين فعل شيئا منها مع
أخذهم الجزية، وقد قال الرافعي رحمه الله في أول كتاب الجزية: الأصح عند
الأصحاب: تفسير الصغار بالتزام أحكام الاسلام وجريانها عليهم، وقالوا: أشد
الصغار على المرء أن يحكم عليه بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله. والله أعلم.
فصل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه طلب الجزية من نصارى
العرب وهم: تنوخ وبهراء وبنو تغلب، وهم قبائل من العرب تنصروا لا يعلم متى
تنصروا، وهم مقرون بالجزية، فقالوا: نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم، فخذ
منا ما يأخذ بعضكم من بعض، يعنون الزكاة، فقال عمر رضي الله عنه: هذا فرض
المسلمين، فقالوا: زد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم على أن
تضعف عليهم الزكاة،
504

قال الأصحاب: ولم يخالف عمر أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فصار
كالاجماع، وعقد الذمة لهم مؤبدا، فليس لأحد نقض ما فعله، قالوا: وفيه إشكال
من وجهين:
أحدهما: أنه ربما كان فيهم من يقل ماله الزكوي، فيكون المأخوذ منه أقل من
دينار، وربما قلت أموالهم الزكوية، فينقص المأخوذ عن دينار لكل رأس،
الثاني: أنه وإن وفى المأخوذ بدينار لكل رأس، فربما كان فيهم من لا يملك
مالا زكويا فيكون قد قرر بلا جزية، ولا يجوز ذلك، وإن بذل غيره أكثر من دينار،
كما لو قال واحد: خذوا مني عشرة دنانير على أن لا جزية على تسعة معي، ولم
ينقل أنه رضي الله عنه سأل عن هذه الأمور، وأجيب عن الأول بأن فعله رضي الله عنه
محمول على أن المأخوذ لا ينقص عن دينار لكل رأس، أو أنه شرط عليهم الاتمام إن
نقص، وقيل: احتمل ذلك، لأنه إن نقص في وقت فربما زاد في وقت فتجبر الزيادة
النقص، وعن الثاني، بأن المأخوذ من أصحاب أموال الزكوية مأخوذ عنهم وعن
الآخرين، ولبعضهم أن يلتزم عن نفسه وعن غيره، وغرضنا تحصيل دينار عن كل
رأس، هذا ما ذكره ابن أبي هريرة والأكثرون، وقال أبو إسحاق: لا يجوز، لأن فيه
تقرير بعضهم بلا مال،. وأجري الوجهان فيما لو التزم واحد عشر دنانير عنه وعن
تسعة، إذا تقرر هذا، فلو طلب قوم من أهل الكتاب أن يؤدوا الجزية باسم الصدقة،
ولا يؤدوها باسم الجزية، فللامام إجابتهم إذا رأى ذلك، ويسقط عنهم الإهانة واسم
الجزية، ويأخذ ضعف الصدقة، وسواء في هذا العرب والعجم، وقيل: يختص
الجواز بالعرب لشرفهم، والصحيح الأول، ويشترط عليهم بمال الزكاة وقدرها،
ويكفي أن يقول الإمام: جعلت عليكم ضعف الصدقة، أو صالحتكم على ضعف
الصدقة، والمأخوذ جزية تصرف مصرف الفئ، ولا يؤخذ شئ من الأموال الصبيان
والمجانين والنسوة وينظر في الحاصل هل يفي بدينار عن كل رأس؟ فإن لم يف،
زاد إلى ثلاثة أضعاف فأكثر، وهل يدخل الفقير في التوزيع؟ فيه الخلاف السابق في
أنه تؤخذ منه جزية أم لا، ولو كثروا وعسر عددهم لمعرفة الوفاء بالدينار، فهل يجوز
الاخذ بغلبة الظن؟ وجهان، أصحهما: لا، بل يشترط تحقق أخذ دينار عن كل
رأس، ويجوز الاقتصار على قدر الصدقة وعلى نصفها إذا حصل الوفاء بالدينار،
505

واستحب جماعة زيادة شئ على قدر الصدقة لاسقاط اسم الجزية، ولم يستبعد
الامام المنع لما فيه من تشبيههم بالمسلمين في المأخوذ، وحط الصغار بلا غرض
مالي، وإذا شرط ضعف الصدقة، وزاد على دينار، ثم سألوا إسقاط الزيادة وإعادة
اسم الجزية، أجيبوا على الصحيح.
فرع يأخذ من خمس من الإبل شاتين، ومن عشر أربعا، ومن خمس
وعشرين بنتي مخاض، ومن أربعين شاة شاتين، ومن ثلاثين بقرة تبيعتين، ومن
عشرين دينارا دينارا، ومن مائتي درهم عشرة دراهم، ومما سقت السماء الخمس،
ومما سقي بالنواضح العشر، ومن الركاز خمسين، وعلى هذا القياس، ومن مائتي
بعير ثمان حقاق أو عشر بنات لبون، ولا يفرق فيؤخذ أربع حقاق وخمس بنات
لبون، كما لا يفرق في الصدقة، ومن ستين بقرة أربعة أتبعة لا ثلاث مسنات، ومن
ست وأربعين بعيرا حقتين فإن لم يجدهما فبنتي لبون مع الجيران، ومن ست
وثلاثين بنتي لبون، فإن لم يجد فبنتي مخاض مع الجيران، وفي تضعيف الجبران
وجهان، أحدهما: تضعف، فيؤخذ مع كل بنت مخاض شاتان، أو عشرون
درهما، فإن لم نجد في مال صاحب الست والثلاثين بنت لبون وعنده حقاق، أخذنا
حقتين ورددنا جبرانين ولا يضعف الجبران هنا قطعا، ويخرج الامام الجبران من
الفئ كما يصرفه إذا أخذه إلى الفئ، وهل يؤخذ من بعض النصاب قسطه من
واجب النصاب، كشاة من عشرين ونصف شاة من عشر؟ فيه قولان، أظهرهما:
لا، والثاني: نعم، رواه البويطي، فعلى هذا يؤخذ من مائة شاة ونصف شاة ثلاث
شياه، ومن سبعة أبعرة ونصف ثلاث شياه، ومن خمس وثلاثين بقرة تبيع ومسنة،
وأجرى الخلاف في الأوقاص، هل يحط عنهم أم يجب قسط المأخوذ في حقهم،
وقيل: إن أدى الاخذ من الوقص إلى التشقيص مع التضعيف لم يؤخذ، وإلا
فيؤخذ.
فرع إذا ضرب الجزية على ما يحصل من أرضهم من ثمر وزرع باسم
الصدقة، فباع أرضهم، صح بيعه، فإن بقي مع البائع ما بقي الحاصل منه
بالمشروط عليه، فذاك، وإلا انقلبت الجزية إلى رقبة البائع، وأما المشتري، فإن
كان مسلما، فلا شئ عليه فيما اشتراه، وإن كان ذميا، فإن كانت الجزية على
رقبته، فكذلك، وإن كانت على حاصل أرضه، زاد الواجب بما اشتراه.
506

فصل إذا استأذن حربي في دخول دار الاسلام، أذن له الامام إن كان
يدخل لرسالة، أو حمل ميرة، أو متاع تشتد حاجة المسلمين إليه، قال الامام: ولا
يجوز توظيف مال على رسول، ولا على مستجير لسماع كلام الله تعالى، لأن لهما
الدخول بلا إذن، وإن كان يدخل لتجارة لا تشتد الحاجة إليها، جاز للامام أن يأذن
له ويشرط عليه عشر ما معه من مال التجارة، ولو دخل غير تاجر بأمان مسلم، لم
يطالب بشئ، وقيل: إن دخل الحجاز، وجب دينار، لعظم حرمته، ولو رأى
الامام أن يزيد المشروط على العشر، جاز على الأصح، ويجتهد فيه كما في زيادة
الجزية على دينار، ولو رأى أن يحط الضريبة عن العشر، ويردها إلى نصف العشر
فما دونه، فله ذلك، وله أن يشرط في نوع من تجارتهم نصف العشر، وفي غيره
العشر، ولو رأى أن يأذن لهم بغير شئ، جاز على الأصح، وبه قطع الجمهور،
لأن الحاجة تدعو إليه لاتساع المكاسب وغيره، ثم إن كان المشروط أن يأخذ من
تجارة الكافر، أخذ، سواء باع أم لا، وإن كان المشروط أن يأخذ من ثمن
تجارته، لم يأخذ حتى يبيع، وأما الذمي، فله أن يتجر فيما سوى الحجاز من بلاد
الاسلام، ولا يؤخذ من تجارته شئ، قال في البيان: إلا أن يشترط عليه مع
الجزية شئ من تجارته، فلو أراد أن يدخل الحجاز، ويتجر فيه، فقد ذكر الغزالي
في الوجيز خلافا في أنه هل يؤخذ منه شئ؟ ولا وجود لهذا الخلاف في شئ من
كتب الأصحاب، ولم يذكره الامام والغزالي في الوسيط بل الذي نقله الأصحاب
أن الذمي في الحجاز كالحربي في سائر بلاد الاسلام، وما يؤخذ من الذمي لا يؤخذ
في كل سنة إلا مرة، كالجزية، وكذا الحربي إذا أخذت منه الضريبة مرة لا تؤخذ
ثانيا حتى يمضي إذا كان يطوف في بلاد الاسلام بأجر أو يكتب له وللذمي براءة حتى
لا يطالب في بلد آخر قبل الحول، فإن رجع إلى دار الحرب، ثم عاد في الحول،
فهل تؤخذ كل مرة أم لا تؤخذ إلا مرة؟ وجهان، أصحهما: الثاني وهو ظاهر
نصه، والامام بالخيار فيما يضربه بين استيفائه دفعة أو دفعات، ثم ما ذكرنا من أخذ
المال من تجارة الحربي أو الذمي هو فيما إذا شرط الامام عليه، فأما إذا أذن لحربي
في دار الاسلام، أو لذمي في دخول الحجاز بلا شرط، فوجهان، أحدهما:
تؤخذ، حملا للمطلق على المعهود، وأصحهما: المنع، لأنهم لم يلتزموا.
فرع المرأة التابعة للزوج أو القريب في عقد الذمة إذا ترددت متجرة في
507

الحجاز، أو في غير الحجاز، حكمها حكم الذمي.
فصل إذا صالحنا طائفة من الكفار على أن تكون أرضهم لهم، ويؤدوا
خراجا عن كل جريب في كل سنة كذا، جاز ويستمر ملكهم ويكون المأخوذ جزية
تصرف مصرف الفئ، والتوكيل بإعطائه كالتوكيل بإعطاء الجزية، ويشترط أن يبلغ
قدرا يخص كل واحد من أهل الجزية منه دينارا إذا وزع على رؤوسهم، ويلزمهم
ذلك زرعوا أم لا، ولا يؤخذ من أرض صبي ولا مجنون ولا امرأة، ولهم بيع تلك
الأرض وهبتها وإجارتها، وإذا أجر بعضهم بعضها لمسلم بقي الخراج على
المكري، ويلزم المستأجر الأجرة، وإن باع لمسلم، انتقل الواجب إلى رقبة البائع
ولا خراج على المشتري، ولو أسلموا بعد الصلح، سقط الخراج، ويلزمهم أن
يؤدوا عن المدات الذي يمنعوننا منه دون ما لا يمنعون منه، ولو أحيوا منه شيئا بعد
الصلح، لم يلزمهم شئ لما أحيوا إلا إذا شرط عليهم أن يؤدوا عما يحيون، ولو
صالحناهم على أن الأرض لنا ويسكنونها ويؤدون عن كل جريب، فهو عقد إجازة،
والمأخوذ أجرة، فتجب معها الجزية ولا يشترط أن تبلغ دينارا عن كل رأس، وتؤخذ
من أرض النساء والصبيان والمجانين، ويجوز توكيل المسلم في أدائها، وليس لهم
بيع تلك الأرض ولا هبتها، ولهم إجارتها.
الطرف الثاني في أحكام عقد الذمة:
فإذا صح عقدها، لزمنا شئ، ولزمهم شئ،
أما ما يلزمنا فأمران،
أحدهما: الكف عنهم، بأن لا يتعرض لهم نفسا ومالا، ويضمنهما
المتلف، ولا يتعرض لكنائسهم على تفصيل سنذكره إن شاء الله تعالى، ولا تتلف
خمورهم وخنازيرهم إلا إذا أظهروها، فمن أراق أو قتل من غير إظهار، عصى،
ولكن لا ضمان، ولو باع ذمي لمسلم خمرا، أريقت على المسلم ولا ثمن للذمي،
508

وإن غصبها من ذمي، وجب ردها على الصحيح، وعليه مؤنة الرد، قال البغوي:
ولو كان لمسلم على ذمي دين، فقضاه، وجب القبول إذا لم يعلم أن المؤدى ثمن
محرم، فإن علم، بأن باع الخمر بين يديه وأخذ ثمنها، فهل يجبر على قبوله؟
وجهان، أصحهما: لا يجبر، وهو المنصوص، بل لا يجوز القبول، ولو كان لذمي
على ذمي دين، ورهن به خمرا، لم يتعرض لهما، كما لو باعه الخمر، فإن
وضعاها عند مسلم، لم يكن له إمساكها، ولو كان لمسلم على ذمي دين، فرهن به
خمرا، لم يجز.
الأمر الثاني: يلزم الامام دفع من قصدهم من أهل الحرب إن كانوا في دار
الاسلام، فإن كانوا مستوطنين دار الحرب وبذلوا الجزية، لم يجب الذب عنهم،
وإن كانوا منفردين ببلدة في جوار الدار، وجب الذب على الأصح، هذا إذا جرى
العقد مطلقا، فإن جرى بشرط أن يذب أهل الحرب، وجب الوفاء بالملتزم وفيه
احتمال للامام، وإن جرى بشرط أن لا يذب عنهم، فإن كانوا مع المسلمين، أو في
موضع إذا قصدهم أهل الحرب كان مرورهم على المسلمين، فسد الشرط، وكذا
العقد على الصحيح، وإن كانوا منفردين ولا يمر أهل الحرب بهم، صح الشرط،
وحكى الامام وجها أن شرط ترك الذب فاسد مطلقا، والصحيح الأول، وهل يكره؟
فيه نصان حملوهما على حالين، فإن طلب الامام الشرط، كره، لأن فيه إظهار
ضعف المسلمين، وإن طلب أهل الذمة، فلا، ويجب دفع المسلمين وأهل الذمة
عنهم، كما يجب دفع أهل الحرب، فإن لم يدفع عنهم حتى مضى حول، لم تجب
جزيته، كما لا تجب الأجرة إذا لم يوجد التمكن من الانتفاع، ولو أغار أهل الحرب
على أهل الذمة، وأخذوا أموالهم، ثم ظفر الامام بهم، فاسترجعها، لزمه ردها
على أهل الذمة، فإن أتلفوا، فلا ضمان عليهم، كما لو أتلفوا مال المسلمين، ومن
أغار من بيننا وبينه هدنة وأتلف أموال أهل الذمة، ضمن، فإن نقضوا العهد
وامتنعوا، ثم أغاروا وأتلفوا لهم مالا أو نفسا، ففي الضمان قولان، كأهل البغي.
فصل وأما ما يلزمهم: فخمسة أمور.
الأول: في الكنائس والبيع، فالبلاد التي في حكم المسلمين قسمان،
أحدهما: ما أحدثه المسلمون، كبغداد والكوفة والبصرة، فلا يمكن أهل الذمة من
إحداث بيعة وكنيسة وصومعة راهب فيها، ولو صالحهم على التمكن من إحداثها،
509

فالعقد باطل، والذي يوجد في هذه البلاد من البيع والكنائس وبيوت النار لا ينقض
لاحتمال أنها كانت في قرية أو برية فاتصل بها عمارة المسلمين، فإن عرف إحداث
شئ بعد بناء المسلمين، نقض.
الثاني: بلاد لم يحدثوها ودخلت تحت أيديهم، فإن أسلم أهلها، كالمدينة
واليمن، فحكمها كالقسم الأول، وإلا فإما أن تفتح عنوة أو صلحا، الضرب
الأول: ما فتح عنوة، فإن لم يكن فيها كنيسة، أو كانت وانهدمت، أو هدمها
المسلمون وقت الفتح أو بعده، فلا يجوز لهم بناؤها، وهل يجوز تقريرهم على
الكنيسة القائمة؟ وجهان، أصحهما: لا، وبه قطع جماعة، الثاني: ما فتح صلحا
وهو نوعان، أحدهما: فتح على أن رقبة الأرض للمسلمين، وهم يسكنونها
بخراج، فإن شرطوا إبقاء البيع والكنائس، جاز، وكأنهم صالحوا على أن الكنائس
لهم وما سواها لنا، وإن صالحوا على إحداثها أيضا، جاز، ذكره الروياني وغيره،
وإن أطلقوا، لم تبق الكنائس على الأصح، الثاني: ما فتح على أن البلد لهم يؤدون
خراجه، فيقرون على الكنائس ولا يمنعون من إحداثها فيه على الأصح، لأن الملك
والدار لهم، ويمكنون فيها من إظهار الخمر والخنزير والصليب، وإظهار ما لهم من
الأعياد، وضرب الناقوس، والجهر بالتوراة والإنجيل، ولا شك في أنهم لا يمنعون
من إيواء الجاسوس، وتبليغ الاخبار، وما يتضرر به المسلمون في ديارهم، وحيث
قلنا: لا يجوز الاحداث، وجوزنا إبقاء الكنيسة، فلا منع من عمارتها إذا استرمت،
وهل يجب إخفاء العمارة؟ وجهان، أحدهما: نعم، لأن إظهارها زينة تشبه
الاستحداث، وأصحهما: لا، فيجوز تطيينها من داخل وخارج، ويجوز إعادة
الجدار الساقط، وعلى الأول يمنعون من تطيين خارجها، وإذا أشرف الجدار على
الخراب، فلا وجه إلا أن يبنوا جدارا داخل الكنيسة، وقد تمس الحاجة إلى جدار
ثالث ورابع، فينتهي الامر إلى أنه لا يبقى من الكنيسة شئ، ويمكن أن يكتفي من
يوجب الاخفاء بإسبال ستر تقع العمارة وراءه، أو بإيقاعها في الليل، وإذا انهدمت
الكنيسة المبقاة، فلهم إعادتها على الأصح، ومنعها الإصطخري وابن أبي
هريرة، فإن جوزنا، فليس لهم توسيع خطتها على الصحيح، ويمنعون من ضرب
510

الناقوس في الكنيسة، كما يمنعون من إظهار الخمر، وقيل: لا يمنعون تبعا
للكنيسة، وهذا الخلاف في كنيسة بلد صالحناهم على أن أرضه لنا، فإن صالحناهم
على أن الأرض لهم، فلا منع قطعا كما سبق، قال الامام: وأما ناقوس المجوس،
فلست أرى فيه ما يوجب المنع، وإنما هو محوط وبيوت يجمع فيها المجوس
جيفهم، وليس كالبيع والكنائس، فإنها تتعلق بالشعار.
الأمر الثاني: في البناء، فيمنعون من إطالته ورفعه على بناء جيرانهم من
المسلمين، فإن فعلوا، هدم، هذا هو المذهب، وحكى ابن كج قولا آخر: أن
لهم الرفع، فعلى المذهب الاعتبار ببناء جاره على الصحيح، وفي وجه: لا يطيل
على بناء أحد من المسلمين في ذلك المصر، وسواء كان بناء الجار معتدلا أو في
غاية القصر، وللامام احتمال فيما هو في غاية القصر، ثم المنع لحق الدين لا
لمحض حق الجار، فيمنع ولو رضي الجار، وهذا المنع واجب، وقيل:
مستحب، ويمنعون من المساواة على الأصح، ولو كان أهل الذمة في موضع
منفرد، كطرف من البلد منقطع عن العمارة، فلا منع من رفع البناء على الصحيح،
ولو ملك ذمي دارا رفيعة البناء، لم يكلف هدمها، فإن انهدمت، فأعادها، منع من
الرفع، وفي المساواة الوجهان، ولو فتحت بلدة صلحا على أنها للمسلمين، لم
511

تهدم أبنيتهم الرفيعة فيها ويمنعون من الاحداث، ذكره البغوي.
الثالث: يمنعون من ركوب الخيل على الصحيح، لأن فيه عزا، وحكى ابن
كج أن لا منع، كما لا منع من ثياب نفيسة، واستثنى الشيخ أبو محمد البراذين،
512

وفي البغال وجهان، أحدهما: المنع، وبه قال الفوراني والامام والغزالي،
وأصحهما: لا منع، وبه قطع كثيرون، ولا منع من الحمر وإن كانت رفيعة القيمة،
وإذا ركبوا، لم يركبوا السروج بل الأكف، ويركبون عرضا، وهو أن يجعل الراكب
رجليه من جانب واحد وعن الشيخ أبي حامد أن لهم الركوب على استواء،
ويحسن أن يتوسط، فيفرق بين أن يركب إلى مسافة قريبة في البلد، أو إلى مسافة
بعيدة، فيمنع في الحضر ويكون ركابهم من خشب لا حديد، وجوز ابن أبي هريرة
الحديد، ويمنعون من تقلد السيوف وحمل السلاح، ومن لجم الذهب والفضة،
وذكر ابن كج أن هذا كله في الذكور البالغين، فأما النساء والصغار، فلا يلزمون
الصغار، كما لا جزية عليهم.
فرع لا يترك لذمي صدر الطريق، بل يلجأ إلى أضيقه إذا كان المسلمون
يطرقون، فإن خلت الطرق عن الزحمة، فلا حرج، وليكن الضيق بحيث لا يقع في
وهدة، ولا يصدمه جدار، ولا يوقر، ولا يصدر في مجلس إذا كان فيه
مسلمون، ولا يجوز لمسلم أن يوادهم، ولا أن يبدأ من لقيه منهم بسلام، وإن
بدأ الذمي به، فلا يجيبه، ذكره البغوي.
قلت: هذا الذي ذكره البغوي هو وجه حكاه الماوردي، والصحيح بل
الصواب: أن يجاب بما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وعليكم، وفي هذه المسألة
كلام كثير وتفصيل أوضحته في كتاب السلام من كتاب الأذكار. والله أعلم.
الرابع: يؤخذ أهل الذمة في دار الاسلام بالتميز في اللباس، بأن يلبسوا
الغيار، وهو أن يخيطوا على ثيابهم الظاهرة ما يخالف لونه لونها، وتكون الخياطة
على الكتف دون الذيل، هكذا أطلق، ويشبه أن يقال: لا يختص بالكتف،
والشرط الخياطة في موضع لا يعتاد، وإلقاء منديل ونحوه، كالخياطة، ثم الأولى
باليهود العسلي، وهو الأصفر، وبالنصارى الأزرق أو الأكهب، ويقال له:
الرمادي، وبالمجوس الأسود أو الأحمر، ويؤخذون أيضا بشد الزنار، وهو خيط
غليظ على أوساطهم خارج الثياب، وليس لهم إبداله بمنطقة ومنديل ونحوهما، وإن
513

لبسوا قلانس، ميزت عن قلانس المسلمين بذؤابة، أو علم في رأسها، وإذا دخلوا
حماما فيه مسلمون، أو تجردوا عن الثياب، فليكن عليهم جلاجل، أو في أعناقهم
خواتيم حديد، أو رصاص لا ذهب وفضة، هكذا ذكره الجمهور، وقال في
المهذب: يجعل في عنقه خاتم ليتميز في الحمام وفي الأحوال التي يتجرد فيها،
وبين العبارتين تفاوت ظاهر، وإذا كان لهم شعر، أمروا بجز النواصي، ومنعوا من
إرسال الضفائر، والجمع بين الغيار والزنار تأكيد ومبالغة في شهرهم، ويجوز أن
يقتصر الامام على اشتراط أحدهما، وهل تؤخذ النساء بالغيار، وشد الزنار، والتميز
في الحمام؟ وجهان، أصحهما نعم، والثاني: لا، لندور خروجهن، فلا حاجة
إلى التميز، فعلى الأصح قال الشيخ أبو حامد: يجعل الزنار فوق الإزار، وفي
التهذيب: وغيره تحته لئلا يصف بدنها، وأشار بعضهم إلى اشتراط ظهور شئ
منه.
قلت: هذا لا بد منه، وإلا فلا يحصل كبير فائدة. والله أعلم.
والتميز في الحمام يبنى على أنه هل يجوز لهن دخوله مع المسلمات؟ قال
البغوي: والأصح منعه، وقد يفهم من هذا السياق أن للمسلمات دخوله بلا حجر،
لكن نقل الروياني وغيره عن ابن أبي هريرة أنه قال: لا يجوز لهن دخوله إلا
لضرورة.
قلت: الأصح الأشهر أنه لا يحرم عليهن، لكن يكره إن لم يكن عذر، وبهذا
قطع الإمام أبو بكر السمعاني المروزي من أصحابنا، وقد أوضحت مسائل الحمام
وما يتعلق به في آخر صفة الغسل من شرح المهذب. والله أعلم.
وإذا خرجت ذمية بخف، فليكن أحد خفيها أسود والآخر أبيض أو أحمر، ولا
يشترط التميز بكل هذه الوجوه، بل يكفي بعضها.
فرع للذمي أن يتعمم ويتطلس على الصحيح، ويلبس الديباج على
الأصح، كرفيع القطن والكتان، وذكر الغزالي وجهين في أن أصل الغيار واجب أم
مستحب؟ والذي يوافق كلام الجمهور وإطلاقهم الوجوب.
الخامس: الانقياد للحكم، فيلزم أهل الذمة الانقياد لحكمنا، هكذا أطلقه
الأصحاب، وحكى الامام عن العراقيين أن المراد أنهم إذا فعلوا ما يعتقدون
514

تحريمه، يجري عليهم حكم الله تعالى فيه، ولا يعتبر رضاهم، وذلك كالزنى
والسرقة، فإنهما محرمان عندهم كشرعنا، وقد بينا حكمهما في البابين، وذكرنا
الفرق بين أن يزني بمسلمة، ويسرق مال مسلم، أو يزني بذمية، ويسرق مال
ذمي، وأما ما يعتقدون حله، فقد سبق أن حد الشرب لا يقام على ذمي على الأصح
وإن رضى بحكمنا، ولو نكح مجوسي محرما له، لم يتعرض له، فإن رفعوا إلينا
ورضوا بحكمنا، حكمنا، وهل يجب الحكم؟ فيه القولان المعروفان، ويلزمهم
كف اللسان، والامتناع من إظهار المنكرات، كإسماع المسلمين شركهم، وقولهم
ثالث ثلاثة، واعتقادهم في المسيح وعزير (ص)، وإظهار الخمر
والخنزير والناقوس وأعيادهم وقراءتهم التوراة والإنجيل، وإحداثهم الكنائس في
بلادنا، وإطالتهم البناء، وتركهم مخالفة لما شرط، فإن أظهروا شيئا من هذه،
منعوا وعزروا ولكن لا ينتقض به عهدهم، سواء شرط الامتناع منها في العقد أم لا،
فإن شرط عليهم الانتقاض بهذه الأسباب، فقال الامام: يبنى ذلك على الخلاف في
صحة عقد الذمة مؤقتا، إن صححناه، صح العقد، فينتقض إذ أظهروا، وإن لم
نصححه، فسد العقد من أصله، والحكاية عن الأصحاب أنه لا ينتقض، بل يفسد
الشرط، ويتأبد العقد، ويحمل ما جرى على تخويفهم، وينتقض عهدهم بقتالهم
المسلمين، سواء شرط عليهم الامتناع منه أم لا، هذا إذا لم تكن شبهة، فلو أعانوا
البغاة، وادعوا أنهم لم يعرفوا الحال، فقد سبق بيانه في قتال البغاة، ولو منعوا
الجزية، أو امتنعوا من إجراء أحكام الاسلام عليهم، انتقض عهدهم، هكذا قاله
الأصحاب، قال الامام: هذا إذا منع مع القدرة، فأما العاجز إذا استمهل فلا ينتقض
عهده، قال: ولا يبعد أن يقال: تؤخذ الجزية من الموسر الممتنع قهرا، ولا يجعل
الامتناع ناقضا كسائر الديون، ويخصص ما قاله الأصحاب بالمتغلب المقاتل،
قال: وأما الامتناع من إجراء الاحكام، فإن امتنع هاربا، فلا أراه ناقضا، وإن امتنع
راكبا إلى قوة وعدة، فينبغي أن يدعى إلى الانقياد، فإن نصب القتال، انتقض عهده
بالقتال، ثم أسند الامام ما ذكره من الاحتمال إلى من تقدمه، فحكى عن القاضي
حسين الانتقاض في القتال، ونقل ابن كج قولين في امتناعهم من إجراء
الاحكام، وعن الحاوي أن الامتناع من البدل نقض العهد من الواحد والجماعة،
والامتناع من الأداء مع الاستمرار على الالتزام نقض من الجماعة دون الواحد، لأنه
515

يسهل إجباره عليه، ولو زنى ذمي بمسلمة، أو أصابها باسم نكاح، أو تطلع على
عورة المسلمين ونقلها إلى دار الحرب، أو فتن مسلما عن دينه، ودعاه إلى دينهم،
ففي انتقاض عهده طرق، أصحها: أنه لم يجر ذكرها في العقد، لم ينتقض،
وإلا فوجهان، ويقال: قولان، أصحهما: لا ينتقض قطعا، والثالث: إن شرط،
انتقض، وإلا فوجهان، وهل المعتبر في الشرط الامتناع من هذه الأفعال، أم
انتقاض العهد إذا ارتكبها؟ صرح الامام والغزالي بالثاني، وكثيرون بالأول، ولا
يبعد أن يتوسط فيقال: إن شرط الانتقاض، فالأصح الانتقاض، وإلا، فالأصح
خلافه، وألحق بالخصال الثلاث إيواء عيون الكفار، وأما قطع الطريق والقتل
الموجب للقصاص، فالمذهب أنهما كالزنى بمسلمة، وقيل: كالقتال، ولا يلحق
بالمنابذة التوثب على رفقة، أو شخص معين، وليجر الطريقان فيما لو قذف
مسلما، وسواء قلنا: ينتقض العهد، أو لا ينتقض، فقد قال البغوي: يقام عليهم
موجب ما فعلوه من حد أو تعزيز، ثم يجري على مقتضى الانتقاض كما سيأتي إن
شاء الله تعالى، وإذا قتل الذمي لقتله مسلما، أو لزنى وهو محصن، فهل يصير ماله
فيئا تفريعا على الحكم بالانتقاض؟ وجهان.
قلت: أصحهما.
وأما ذكر رسول الله (ص) بالسوء إذا جهروا به، وطعنهم في الاسلام ونفيهم
القرآن، فالمذهب أنه كالزنى بمسلمة ونحوه، وقيل: ينتقض قطعا، كالقتال، وفي
محل الخلاف طريقان، أحدهما: أنه فيما إذا ذكر الذمي سواء يعتقده ويتدين به،
كتكذيب ونحوه، فأما ما لا يعتقده، ولا يتدين به، بأن طعن في نسب
رسول الله (ص)، أو نسبه إلى الزنى، فليلتحق بالقتال، وينتقض العهد به قطعا سواء
516

شرط عليه الكف عنه أم لا، وأصحهما: أن الخلاف فيما ذكر ما لا يتدين به،
فأما ما يتدين به، فلا ينتقض بإظهاره قطعا، ومن هذا نفيهم القرآن.
واعلم أن ذكرهم الله تعالى كذكرهم رسول الله (ص) بطريق الأولى، فيجري فيه
الخلاف، صرح به الروياني وغيره، ولكنهم جعلوا إظهار الشرك، وقولهم ثالث
ثلاثة، ومعتقدهم في المسيح وعزير، كإظهارهم الخمر، فلا ينتقض قطعا، مع أن
جميع هذا يتضمن ذكر الله تعالى بالسوء، ولا يستقيم هذا إلا على الطريق الثاني،
وهو أن السوء الذي يتدين به لا ينقض قطعا، ونقل صاحب الشامل وغيره عن أبي
بكر الفارسي أنه قال: من شتم منهم النبي (ص) قتل حدا، لأن النبي (ص) قتل ابن
خطل والقينتين، وزيفوه وقالوا: إنهم كانوا مشركين لا أمان لهم.
فرع حيث حكمنا بانتقاض العهد، هل يبلغهم المأمن؟ قولان،
أحدهما: نعم كمن دخل بأمان صبي، وأظهرهما: لا، بل يتخير الامام بين قتله
واسترقاته، والمن والفداء، لأنه كافر لا أمان له، والقولان في الانتقاض بغير قتال،
فأما إذا نصبوا القتال، وصار حربا لنا في دارنا، فلا بد من دفعهم، والسعي في
استئصالهم، ولو أسلم من انتقض عهده قبل أن يختار الامام شيئا، قال الأصحاب:
لا يجوز استرقاقه بخلاف الأسير، لأنه لم يحصل في يد الامام بالقهر، فخف أمره،
وهل يبطل أمان النساء والصبيان تبعا كما يثبت تبعا؟ وجهان، أصحهما: لا، إذا لم
توجد منهم خيانة ناقضة، فعلى هذا لا يجوز سبيهم، ويجوز تقريرهم في دارنا،
فإن طلبوا الرجوع إلى دار الحرب، أجيب النساء دون الصبيان، إذ لا حكم لقولهم
قبل البلوغ، فإن كان الطالب ممن يستحق الحضانة، أجيب إليه، وإلا فلا، ولو نبذ
ذمي إلينا العهد، واختار اللحوق بدار الحرب، بلغناه المأمن على المذهب،
وأجرى القاضي حسين فيه القولين، لأنه كافر لا أمان له.
فرع المسلم إذا ذكر الله تعالى بما يقتضي الكفر، أو كذب
رسول الله (ص)، فهو مرتد، فيدعى إلى الاسلام، فإن عاد وتاب، قبلت توبته، ولو
كذب على رسول الله (ص) عمدا، فعن الشيخ أبي محمد أنه يكفر ويراق دمه، قال
517

الامام: وهذه زلة، ولم أر ما قاله لاحد من الأصحاب، والصواب أنه يعزر، ولا
يكفر، ولا يقتل، وما روي أن رجلا أتى قوما، وزعم أنه رسول الله (ص)، فأكرموه،
فأمر رسول الله (ص)، بقتله، محمول على أن الرجل كان كافرا، ومن قذف النبي (ص)
وصرح بنسبته إلى الزنى، فهو كافر باتفاق الأصحاب، فإن عاد إلى الاسلام فثلاثة
أوجه، أحدها: قال الأستاذ أبو إسحاق: لا شئ عليه، لأنه مرتد أسلم، والثاني
قال أبو بكر الفارسي يقتل حدا، لأنه حد قذف، فلا يسقط بالتوبة، والثالث قال
الصيدلاني: يجلد ثمانين جلدة، ثم في كلام الامام والغزالي أنا إذا قلنا: يثبت
حد القذف، فعفا أحد بني أعمامه، فينبغي أن يسقط، أو يقول: هم لا
ينحصرون، فهو كقذف ميت ليس له ورثة خاصون، ولا يبعد تخريج وجوب الحد
على القولين في وجوب القصاص بقتل مثل هذا الشخص، وقد يقال: كل واحد من
بني الأعمام غير وارث، بل الإرث للأقرب، ولا يكاد يعرف الأقرب ممن في
الدنيا، ويقع النظر في أن عفو بعض الورثة هل يؤثر؟ ووراءه نظر آخر، وهو حد
قذفه هل يورث؟ فيجوز أن يقال: لا يورث، كما لا يورث المال، أما إذا لم يقذف
صريحا، لكن عرض، فقال الامام: الذي أراه أنه كالسب الصريح في اقتضاء الكفر
لما فيه من الاستهانة.
قلت: هذا الذي قاله الامام متعين، وقد قاله آخرون، ولا نعلم فيه خلافا.
والله أعلم.
ولو قذف نبيا غير نبينا، فهو كقذف نبينا (ص).
فصل في مسائل تتعلق بالباب يؤخذ على أهل الذمة أن يخفوا دفن
موتاهم، ولا يخرجوا جنائزهم ظاهرا، ولا يظهروا على موتاهم لطما ولا نوحا، ولا
يسقوا المسلمين خمرا، ولا يطعموهم خنزيرا، وإذا شرط ذلك عليهم فعرض
بعضهم خمرا على مسلم، فشربها اختيارا، حد المسلم وعزر الذمي، وكذا لو ابتدأ
المسلم بطلبها فأجابه، لكن تعزيره هنا أخف، وأن لا يعلوا أصواتهم على
518

المسلمين، وأن يعينوهم إذا استعانوا بهم فيما لا يتضررون به، وأن لا يستذلوا
المسلمين في مهن الأعمال بأجرة ولا بتبرع، حكي أكثر هذا عن الحاوي أنهم لو
انفردوا بقرية، هل يمنعون ركوب الخيل؟ وجهان، أحدهما: لا كإظهار الخمر،
والثاني: نعم، خوفا من أن يتقووا به على المسلمين، ولو بنى ذمي في دار الاسلام
بناء لأبناء السبيل،، مكن إن جعله للمسلمين وأهل الذمة، فإن خص أهل الذمة،
فوجهان، ويكتب الامام بعد عقد الذمة أسماءهم وأديانهم وحلاهم، فيتعرض
لسنه أهو شيخ أم شاب، ولكونه من سمرة وشقرة وغيرهما، ويصف وجهه ولحيته
وجبهته وحاجبيه وعينيه وشفتيه وأنفه وأسنانه، وآثار وجهه إن ان فيه آثار، ويجعل
على كل طائفة عريفا يضبطهم لمعرفة من أسلم منهم، ومن مات، ومن بلغ، ومن
قدم عليهم، وليحضرهم لأداء الجزية، والشكوى إليه ممن يتعدى عليهم من
المسلمين، ومن يتعدى منهم، ويجوز أن يكون العريف للعرض الثاني ذميا، ولا
يجوز للعرض الأول إلا مسلم وبالله التوفيق.
الباب الثاني في عقد الذمة
ويقال لها: الموادعة، والمعاهدة، وهي جائزة بنصوص الكتاب والسنة
والاجماع،
فيه طرفان:
الأول: في شروطها وهي أربعة:
الأول: أن يتولاه الامام أو نائبه فيه، هذا
في مهادنة الكفار مطلقا، أو أهل إقليم، كالهند والروم، ويجوز لوالي الإقليم
المهادنة مع أهل قرية أو بلدة في إقليمه للمصلحة، وكأنه مأذون فيه بتفويض مصلحة
الإقليم إليه.
ولو عقد الهدنة واحد من الرعية، فدخل قوم ممن هادنهم دار الاسلام، لم
519

يقروا، لكن يلحقون بمأمنهم، لأنهم دخلوا على اعتقاد أمانه.
الثاني: أن يكون للمسلمين إليه حاجة وفيه مصلحة، بأن يكون في المسلمين
ضعف لقلة عدد أو مال، أو بعد العدو، أو يطمع في إسلامهم لمخالطتهم
المسلمين، أو في قبولهم الجزية، أو في أن يعينوه على قتال غيرهم، وإذا طلب
الكفار الهدنة، فإن كان فيها ضرر على المسلمين فلا يخفى أنهم لا يجابون، وإلا
فوجهان، أحدهما: تجب إجابتهم، والصحيح: لا تجب، بل يجتهد الامام
ويفعل الأصلح، قال الامام: وما يتعلق باجتهاد الامام لا يعد واجبا، وإن كان يتعين
عليه رعاية الأصح.
الثالث: أن يخلو عن الشروط الفاسدة، فإن عقدها على أن لا ينتزع أسرى
المسلمين منهم، أو يرد إليهم المسلم الذي أسروه، وأفلت منهم، أو شرط ترك مال
مسلم في أيديهم، فهذه شروط فاسدة، وكذا لو شرط أن يعقد لهم الذمة على أقل
من دينار، أو على أن يقيموا بالحجاز، أو يدخلوا الحرم، أو يظهروا الخمور في
دارنا، أو شرط أن يرد عليهم إذا جئن مسلمات، وكذا ولو عقد بشرط التزام مال، فإن
دعت ضرورة إلى بذل مال، بأن كانوا يعذبون الأسرى في أيديهم ففديناهم، أو
أحاطوا بنا وخفنا الاصطدام، فيجوز بذل المال، ودفع أعظم الضررين بأخفهما،
وفي وجوب بذل المال عند الضرورة وجهان بناء على وجوب دفع الصائل.
قلت: ليس هذا البناء بصحيح، فقد سبق أن الصائل إذا كان كافرا، وجب
دفعه قطعا، ثم الخلاف هناك في وجوب الدفع بالقتال، وهنا بالمال، والأصح
وجوب البذل هنا للضرورة. والله أعلم.
ولا يملك الكفار ما يأخذونه، لأنه مأخوذ بغير حق، قاله في المهذب وإذا
520

جرى في المهادنة شرط فاسد، فسد به العقد على الصحيح، وبه قطع ابن الصباغ
وغيره.
الرابع: أن يقتصر على المدة المشروعة، ثم لا يخلو إما لا يكون
بالمسلمين ضعف، أو يكون، فإن لم يكن ورأي الامام المصلحة في الهدنة، هادن
أربعة أشهر فأقل، ولا يجوز أكثر من سنة قطعا، ولا سنة على المذهب ولا ما بينهما
وبين أشهر على الأظهر وإن كان بالمسلمين ضعف جازت الزيادة إلى عشر
سنين بحسب الحاجة، ولا تجوز زيادة على العشر، لكن إن انقضت المدة والحاجة
باقية، استؤنف العقد، وقيل: تجوز الزيادة على عشر بحسب الحاجة، وقيل: لا
يجوز أكثر من سنة، وقيل: لا يجوز أكثر من أربعة أشهر، وهذه أوجه شاذة مردودة،
فإذا قلنا لا تجوز الزيادة على عشر، فهادن مطلقا، فالعقد فاسد، وقيل: ينزل
عند ضعف المسلمين على عشر، وعند القوة قولان، أحدهما: ينزل على سنة،
والثاني: على أربعة أشهر، ويجوز أن لا يوقف الامام الهدنة، ويشرط انقضاءها
متى شاء، لأن النبي (ص) هادن يهود خيبر وقال: أقركم ما أقركم الله لكن لو اقتصر
الامام على هذه اللفظة، أو قال: هادنتكم إلى أن يشاء الله فسد العقد، لان
النبي (ص) يعلم ما عند الله بالوحي بخلاف غيره، ولو قال: هادنتكم ما شاء فلان،
وهو مسلم عدل ذو رأي، فإذا نقضها، انتقضت، ولو قال: ما شاء فلان منكم، لم
يجز، لأن الكافر لا يحكم على المسلمين.
فرع إذا زاد قدر مدة الهدنة على الجائز، بأن زاد عند الضعف على عشر
سنين، أو احتاج إلى أربع مثلا، فزاد، بطل العقد في الزائد، وفي الباقي قولا
تفريق الصفقة، وقيل: يصح فيه قطعا لعدم العوض ولأنه يتسامح في معاقدة
الكفار.
521

فرع إذا طلب الكافر الأمان ليسمع كلام الله تعالى، وجبت إجابته قطعا
كما سبق، قال الامام: وهل يمهل لذلك أربعة أشهر أم يقال: إذا لم يفصل الامر
بمجالس يحصل فيها البيان التام يقال له: الحق بمأمنك؟ فيه تردد أخذته من فحوى
كلام الأصحاب، والأصح: المنع.
الطرف الثاني في أحكامها
فمتى فسد العقد لزيادة المدة، أو لالتزام مال أو غيرهما، لا يمضى بل يجب
نقضه، لكن لا يجوز اغتيالهم، بل يجب إنذارهم وإعلامهم، وإذا قوع صحيحا،
وجب الوفاء بالكف عنهم إلى انقضاء المدة، أو صدور خيانة منهم تقتضي
الانتقاض، وإذا مات الامام الذي عقدها، أو عزل، وجب على الامام الذي بعده
إمضاؤه، فإن رآه فاسدا، قال الروياني: إن كان فساده من طريق الاجتهاد، لم
يفسخه، وإن ان بنص أو اجماع، فسخه، وينبغي للامام إذ هادن أن يكتب عقد
الهدنة ويشهد عليه ليعمل به من بعده، ولا بأس أن يقول فيه: لكم ذمة الله تعالى
وذمة رسوله (ص) وذمتي، ومتى صرحوا بنقض العقد، أو قاتلوا المسلمين، أو آووا
عينا عليهم، أو كاتبوا أهل الحرب، أو قتلوا مسلما، أو أخذوا مالا، أو سبوا
رسول الله (ص)، انتقض عهدهم، ولا يفتقر إلى أن يحكم الحاكم بنقضه، قال
الامام: والمضرات التي اختلف في انتقاض عقد الذمة بها تنقض الهدنة
بلا خلاف، لأن الهدنة ضعيفة غير متأكدة ببذل الجزية، وإذا انتقض عهدهم، جاز
قصد بلدهم وتبييتهم والإغارة عليهم إن علموا أن ما فعلوه ناقض، وكذا إن لم يعلموا
على الأصح، وقيل: لا يقاتلون إلا بعد إنذارهم، وينبغي أن يقال: إذا لم يعلموا
أنه خيانة لا ينتقض العهد إلا إذا كان المفعول مما لا يشك في مضادته للهدنة،
كالقتال، ثم ما ذكرنا من قصدهم والإغارة عليهم هو إذا كانوا في بلادهم، فأما من
دخل دارنا بأمان أو مهادنة، فلا يغتال وإن انتقض عهده، بل يبلغ المأمن، هذا إذا
نقض جميعهم العهد، فإن نقضه بعضهم، نظر إن لم ينكر الآخرون على الناقضين
بقول ولا فعل، بل ساكنوهم وسكتوا، انتقض عهدهم أيضا، وإن أنكر بقول أو
فعل، بأن اعتزلوهم أو بعثوا إلى الامام بأنا مقيمون على العهد، لم ينتقض، هكذا
أطلقه جماهير الأصحاب، ووراءه شيئان غريبان، أحدهما: قال الامام: لو بدت
خيانة بعضهم وسكت الآخرون، كان للامام أن ينبذ إليهم، والثاني في كتاب ابن
522

كج: أنه لو نقض السوقة العهد ولم يعلم الرئيس والاشراف بذلك ففي انتفاض العهد
في حق السوقة وجهان، وجه المنع: أنه لا اعتبار بعقدهم فكذا بنقضهم، وأنه لو
نقض الرئيس وامتنع الاتباع وأنكروا، ففي الانتقاض في حقهم قولان، وجه
النقض: أنه لم يبق العقد في حق المتبوع، فكذا التابع، والصحيح ما سبق، وإذا
انتقض في حق بعضهم، فإن تميزوا، فذاك، وإلا فلا يبيتهم الامام، ولا يغر
عليهم إلا بعد الانذار، ويبعث إلى الذين لم ينقضوا ليتميزوا أو يسلموهم، فإن لم
يفعلوا مع القدرة صاروا ناقضين أيضا، ومن أخذ منهم واعترف بأنه من الناقضين، أو
قامت عليه بينة، لم يخف حكمه، وإلا فيصدق بيمينه أنه لم ينقض، وأما عقد
الذمة فنقضه من البعض ليس نقضا من الباقين بحال.
فرع إذا استشعر الامام ممن هادنه خيانة وظهرت أمارة تدل على خيانتهم،
فقال الشيخ أبو حامد: ينتقض عهدهم، والصحيح المنصوص: أنه لا ينتقض، بل
للامام أن ينبذ إليهم عهدهم، وحكي قول أنه لا ينبذه كما لا ينبذ عقد الذمة بالتهمة،
وحكي وجه في نبذ الذمة بالتهمة، والمذهب الفرق، وإذا نبذه فلا بد من إنذارهم
وإبلاغهم المأمن، لكن من عليه حق آدمي من مال أو حد قذف أو قصاص، يستوفى
منه أولا، والمعتبر في إبلاغ الكافر المأمن أن يمنعه من المسلمين ومن أهل
عهدهم، ويلحقه بدار الحرب، واكتفى ابن كج بإلحاقه بأول بلاد الكفر وقال:
لا يلزم إلحاقه ببلده الذي يسكنه فوق ذلك إلا أن يكون بين أول بلاد الكفر
وبلده الذي يسكنه بلد للمسلمين يحتاج إلى المرور عليه، وفي لبحر أنه لو كان
له مأمنان، لزم الامام إلحاقه بمسكنه منهما، ولو كان يسكن بلدين، فالاختيار
للامام، وفي هذا ما ينازع في الاكتفاء بأول بلاد الكفر، ولو لم تظهر أمارة يخاف
بسببها منهم نبذ العهد، ولا اعتبار الوهم المحض، حكي ذلك عن نصه في
الام.
فرع إذا هادن الامام مدة لضعف وخوف اقتضاها، ثم زال الخوف وقوي
المسلمون، وجب الوفاء بما جرى.
فرع قال في الحاوي: يجب على الذين هادنهم الامام الكف عن قبيح
القول والعمل في حق المسلمين، وبذل الجميل منهما، فلو كانوا يكرمون
523

المسلمين، فصاروا يهينونهم، أو يضيفون النزيل ويصلونهم، فصاروا يقطعونهم، أو
يعظمون كتاب الامام، فصاروا يستخفون به، أو نقصوا عما كانوا يخاطبون به،
سألهم الامام عن سبب فعلهم، فإن اعتذروا بما يجوز قبول مثله، قبله، وإن لم
يذكروا عذرا، أمرهم بالرجوع إلى عادتهم، فإن امتنعوا، أعلمهم بنقض الهدنة
ونقضها.
فصل إذا شرط رد المرأة إذا جاءتنا منهم مسلمة، لم يجز بحال، وشرط
رد الرجل إذا هاجر مسلما جائز في الجملة، والفرق أنه لا يؤمن أن يصيبها زوجها
الكافر، أو أن تزوج كافرا، ولأنها عاجزة عن الهرب وأقرب إلى الافتتان، فإذا عقد
الامام هدنة، فإما أن يشرط أن لا يرد من جاء مسلما، أو يطلق، أو يشرط الرد، أو
شرط أن لا يرد، فلا رد ولا غرم، وكذا لو خص النساء، يمنع الرد، وإن أطلق فهل
يغرم الامام مهر من جاءت مسلمة؟ قولان، أظهرهما: لا، وقيل: إن كان قبل
الدخول وجب الغرم قطعا، قال ابن الصباغ: هذا سهو من قائله، وإن شرط الرد،
نظر إن أطلق فقال: بشرط أن نرد من جاءنا منهم، ففي وجوب الغرم القولان، وقد
يقال: إن أوجبنا عند الاطلاق، فهنا أولى، وإلا فقولان، ولو صرح بشرط رد
النساء، فهو فاسد، وفي فساد العقد به ما سبق، فإن لم يفسده، ففي الغرم
الخلاف السابق بالترتيب، ويتفرع على وجوب الغرم مسائل:
منها: المغروم، وهو المبذول من صداقها، وقال الماوردي: عندي أنه هو
الأقل من مهر المثل والمبذول، والصحيح الأول، وبه قال الجمهور، ولو لم يدفع
إليها شيئا، فلا شئ له، ولو لم يدفع إلا بعضه، لم يستحق إلا ذلك القدر، ولو
كان أعطاها أكثر من المسمى، لم يستحق الزيادة، كما لا يستحق ما أطعمها وكساها
وأنفقه في العرس، لأنه متبرع به، ولأنه ليس بدل البضع الذي حلنا بينه وبينه.
ومنها: لا يثبت الغرم بمجرد قوله: أعطيتها صداقها، بل ينظر إن أنكرت
النكاح، فهي المصدقة وعليه البينة، وإن صدقته وأنكرت القبض، ففي الشامل
وغيره: أنها تصدق باليمين، وعليه البينة، وقال الروياني: لا يمين عليها، لان
الصداق على غيرها، وقال الشيخ أبو حامد: يفحص الامام عن مهر مثلها، فقد
يعرفه من تجار المسلمين الذين دخلوا دار الحرب، ومن الأسارى، ثم يحلف الرجل
524

أنه أصدقها ذلك القدر وسلمه، ولو ادعى الدفع وصدقته، فقد نقل الامام عن
العراقيين أن إقرارها كالبينة، وقالوا: تعسر إقامة البينة على ما يجري بين الكفار،
ورأي الامام أن يعتمد قولها ولا يجعله حجة علينا.
ومنها: محل الغرم سهم المصالح، وحكى ابن كج وجها أنه إن كان للمرأة
مال، أخذ منها، والصحيح الأول، فإن هاجرت إلى بلد فيه الامام، غرم المهر،
وإن هاجرت إلى بلد فيه نائبه، فكذلك، وهل المعتبر نائبه في عقد الهدنة، أم في
بيت المال؟ وجهان، وإن هاجرت إلى بلد ليس فيه الامام ولا نائبه، فعلى أهل البلد
منعها حسبة ولا يغرمون المهر، قال ابن كج: وليس على الامام والحالة هذه رد
المهر، كما لو جاء رجل إلى غير بلد الامام لا يلزمه أن يخلي بينه وبين من يطلبه،
والأحسن ما حكاه البغوي وغيره: أنه إن قال عند المهادنة: من جاءني منكم مسلما
رددته، لم يلزمه شئ، لأنها ما جاءته، وإن قال: من جاء المسلمين، أو من
جاءنا، وجب.
ومنها: لو وهبته الصداق، أو أبرأته فعلى الخلاف في التشطر.
ومنها: إذا جاءت مسلمة، ثم أسلم الزوج، نظر إن أسلم قبل انقضاء عدتها، فالنكاح مستمر،
وليس لها طلب المهر، وإن أخذه قبل الاسلام، لزمه رده إذا زالت الحيلولة، وإن
لم يسلم حتى انقضت عدتها، نظر إن أخذ المهر قبل الاسلام، لم يسترجع منه،
وصار بالقبض كالمستهلك في الشرك، وإن لم يأخذه، فإن طالبت به قبل إسلامه،
استقر له المهر لحصول الحيلولة بإسلامها، ومنعنا إياها منه، وعن أبي إسحاق أنه
525

لا مهر له، والصحيح الأول، وإن لم يطالب بها قبل إسلامه، فلا شئ له، لان
الحيلولة حصلت بالبينونة باختلاف الدين، ولا مطالبة بالمهر بعد البينونة، فلو كانت
الصورة بحالها، ولم يكن أعطاها المهر، فلما أسلم بعد انقضاء العدة أخذت المهر
بسبب المسيس، فهل تغرم له ذلك؟ فيه احتمالان للامام، وجعلهما الغزالي
وجهين، أرجحهما: المنع، هذا إذا كان إسلامها بعد الدخول، فإن جاءت مسلمة
قبل الدخول وأسلم الزوج بعدها، لم يكن له طلب المهر، لأنه أسلم بعد البينونة.
ومنها: لو جاء في طلبها غير زوجها، كأبيها وعشيرتها، لم يغرم شيئا، لان
المعتبر طلب من كان له ملك البضع، أو طلب وكيله ورسوله، ولو جاءنا الزوج ولم
يطلبها، لم يغرم أيضا، وينبغي أن يكون الطلب في العدة، فأما إذا بانت بانقضاء
العدة، فلا أثر للطلب.
ومنها: إذا دخلت كافرة، رددناها سواء طلبها زوجها أو محارمها، فإن أسلمت
بعد دخولها، فهو كما لو جاءت مسلمة في أنا لا نردها وفي غرم المهر، وقيل: في
الغرم وجهان، ولو ارتدت بعد الاسلام، وجاء الزوج يطلبها، نظر إن طلبها بعد
قتلها، لم نغرم شيئا لحصول الحيلولة بالقتل، وإن طلبها قبل القتل، لم نردها
لوجوب قتلها، وفي الغرم وجهان، أصحهما: يجب لحصول الحيلولة بالاسلام.
ومنها: لو جاءتنا مسلمة، فجنت، أو جاءتنا مجنونة ثم أفاقت وأسلمت،
فحكمها في الرد والغرم حكم العواقل، وإن جاءت مجنونة تصف الاسلام أو
لا تصفه، وأخبر عنها أنها وصفته ولم نعلم، أو وصفته قبل الجنون أم فيه، أو لم
نخبر عنها بشئ، لم ترد لاحتمال الاسلام قبل الجنون، ولا غرم لاحتمال أنها لم
تسلم حينئذ، فلا نغرم بالشك، فإن أفاقت وأقرت بالاسلام، غرمنا، وإلا رددناها
ولا غرم، ولو علمنا أنها لم تزل مجنونة، فينبغي أن ترد.
ومنها: إذا جاءت صبية مميزة وهي تصف الاسلام لا نردها، لأنا وإن لم
نصحح إسلامها فنتوقعه، فيحتاط لحرمة الكلمة، وقيل: ترد، والصحيح الأول،
ولا غرم في الحال على الأصح، وقيل: الأظهر كالمجنونة، فإن بلغت ووصفت
الكفر، رددناها، وإن وصفت الاسلام غرمنا.
ومنها: لو جاءت رقيقة منهم مسلمة، فلا ترد على سيدها ولا زوجها، ويحكم
526

بعتقها إن فارقتهم ثم أسلمت، لأنها إذا جاءت مراغمة لهم، ملكت نفسها بالقهر
فتعتق، كعبد قهر سيده الحربي، فإنه يصير حرا، وهل يغرم لسيدها قيمتها من سهم
المصالح إذا جاء يطلبها؟ فيه طريقان، المذهب: أنه على القولين، والثاني:
لا غرم قطعا، لأن الحيلولة حصلت بالعتق والقهر قبل الاسلام، ومن قال بالمذهب،
قال: المانع هو الاسلام، فإنها لو كانت حرة كافرة لم يمنع زوجها، ولو أسلمت،
ثم فارقتهم، وهاجرت مسلمة، فقال البغوي: لا تصير حرة، لأنهم في أماننا،
وأموالهم محرمة علينا، فلا يزول الملك عنها بالهجرة بخلاف ما إذا هاجرت، ثم
أسلمت، لأن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض، فملكت نفسها بالقهر، ولم
يتعرض جماعة لهذا التفصيل، وأطلقوا الحكم بالعتق، ويجوز أن يؤخذ به، لان
الهدنة جرت معنا لا معها، كما سنذكره إن شاء الله تعالى في الرجل إذا جاءنا مسلما
ورددناه، أن له التعرض لهم، ثم قال الشيخ أبو إسحاق: لا ترد إلى سيدها
لاسلامها وشركه، ولكن نغرم له قيمتها، كما لو غصب منهم مال وتلف، واعترض
صاحب البيان وقال: الذي يقتضيه المذهب أنا لا نغرم القيمة ويأمره بإزالة الملك
عنها، كأمة كافر أسلمت، ونعود إلى هذا الكلام والتفصيل إن شاء الله تعالى، وإذا
كانت الأمة مزوجة، ففي غرم المهر القولان، فإن قلنا بغرامة المهر والقيمة، نظر إن
حضر الزوج والسيد معا، أخذ كل واحد حقه، وإن جاء أحدهما فقط فثلاثة أوجه،
أصحهما: نغرم حق الطالب، والثاني: لا نغرم شيئا، لأن حق الرد مشترك ولم يتم
الطلب، والثالث: نغرم للسيد إن انفرد بالطلب، ولا نغرم للزوج لأن حق الرد في
المزوجة للسيد آكد، ألا ترى أنه يسافر بها بخلاف الزوج، فإن كان زوج الأمة
عبدا، فلها خيار الفسخ إذا عتقت، فإن فسخت النكاح، لم نغرم المهر لأن الحيلولة
حصلت بالفسخ، وإن لم تفسخ وأوجبنا غرم المهر، فلا بد من حضور الزوج والسيد
جميعا، وطلب الزوج المرأة والسيد المهر، فإن انفرد أحدهما، لم نغرم لأن البضع
غير مملوك للسيد، والمهر غير مملوك للعبد.
527

ومنها: إنما نغرم إذا طلبها الزوج فمنعناها بسبب الاسلام، أما إذا مات قبل
الطلب، فلا غرم، وكذا لو مات الزوج قبل أن يطلبها منا وإن كان قد دخل دار
الاسلام، ولو مات أحدهما بعد الطلب والمنع، لم يسقط الغرم، فإن كان هو
الميت، صرف المهر إلى ورثته، وإن قتلت قبل الطلب، فلا غرم، كما لو ماتت،
وإن قتلت بعده، ثبت الغرم، ثم نقل الامام أنه يكون على القاتل، لأنه المانع
بالقتل، ورأي أن يفصل فيقال: إن قتلها على الاتصال بالطلب، فالحكم ما
ذكروه، وإن تأخر القتل، فقد استقر الغرم علينا بالمنع، فلا أثر للقتل بعده، وفي
الحالتين لا حق للزوج فيما على القاتل من قصاص ودية، لأنه لا يرثها، ولو جرحها
شخص قبل الطلب، ثم طلبها الزوج وقد انتهت إلى حركة المذبوحين، فهو كالطلب
بعد الموت، وإن بقيت فيها حياة مستقرة، فهل الغرم على الجارح، أم في بيت
المال لأن المنع في الحياة؟ وجهان، أصحهما: الثاني، ولا يسقط الغرم، بأن
يطلقها بعد طلبها، وأما قبله، فإن خالعها، أو طلقها طلاقا بائنا، فلا غرم، لأنه
ترك باختياره، قال الروياني: وكذا لو ملكها أن تطلق نفسها على الفور، وقد يلائم
هذه القاعدة أن يقال: يشترط كون الطلب على الفور، وإن طلقها رجعيا، أو
طلقها، فأسلمت وهي في عدة الرجعية، ثم جاء الزوج يطلبها، فالصحيح
المنصوص أنا إنما نغرم له إذا راجعها لظهور قصد الامساك بالرجعة، وإن كانت
رجعة الكافر المسلمة لا تصح، قال الامام: وخرج المحققون قولا أنه يستحق المهر
بمجرد الطلب بلا رجعة، لأنها فاسدة، فلا معنى لاشتراطها.
فرع جميع ما ذكرناه هو في رد النساء الحرائر، أما الإماء والصبيان
والمجانين، فلا يردون لضعفهم، ولا يجوز الصلح بشرط ردهم، ولا غرم في ترك
ردهم، كما في غير ذوات الأزواج، فإذا بلغ الصبي، وأفاق المجنون، فإن وصفا
الاسلام، فذاك، وإن وصفا كفرا لا يقر أهله عليه، فإما أن يسلما، وإما أن يردا إلى
مأمنهما، وإن وصفا كفرا يقر أهله، فإما أن يسلما وإما أن يقبلا الجزية، وإما أن يردا
إلى مأمنهما. وأما الذكور البالغون العقلاء، فنقل الامام في رد العبد وجهين،
الصحيح الذي ذكره الجمهور: لا يرد، لأنه جاء مسلما مراغما لهم، والظاهر أنهم
يسترقونه ويهينونه ولا عشيرة له تحميه، والثاني: يرد، والمنع في النساء لخوف
الفاحشة، وهل يعتق العبد الذي جاء مسلما؟ قال في الحاوي: إن غلبهم على
528

نفسه ثم أسلم وهاجر، عتق، لأن الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض، وإن
أسلم، ثم غلبهم على نفسه وجاءنا، نظر إن فعل ذلك قبل أن هادناهم، فكذلك،
لأنه غلب في حال الإباحة، وإن فعله بعد الهدنة، لم يعتق، لأن أموالهم محرمة
حينئذ لا يملكها بالقهر، ثم لا يرد إلى السيد، وإن لم يعتق، ولا يمكن من
استرقاقه، فإن أعتقه وإلا باعه الامام لمسلم، أو دفع قيمته من بيت المال، وأعتقه
عن المسلمين كافة، وولاؤه لهم. وأما الحر، فإن لم تكن له عشيرة وغلب على
الظن أنه يذل ويهان، ففي رده طريقان، الصحيح طرد الوجهين في رد العبد،
والثاني: يرد قطعا لأن الحرية في الجملة مظنة القدرة، فإن قلنا: يرد، قال الامام:
لا يبعد أن يقال: على الامام أن يشرط عليهم أن لا يهينوا المسلم المردود، فإن
أهانوه كانوا ناقضين للعهد، وإن كان للحر عشيرة وطلبته، رد كما رد النبي (ص) أبا
جندل رضي الله عنه على سهيل بن عمرو، لأن الظاهر أنهم يحمونه، وأما كون
عشيرته تؤذيه بالتقييد ونحوه، فلا اعتبار به، فإنهم يفعلونه تأديبا في زعمهم، وإن
طلبه عين عشيرته، لم يرد إلا إذا كان الطالب ممن يقدر المطلوب على قهره
والافلات منه، وعلى هذا حمل رد النبي (ص) أبا بصير رضي الله عنه، وإن لم يطلبه
أحد، فلا رد كما لا غرم إذا لم يطلب أحد المرأة، قال الأصحاب: ومعنى الرد أنه
لا منع من الرجوع، ويخلى بينه وبين من يطلبه، لا أنه يجبر على الرجوع، وهذا
معنى رد النبي (ص) أبا جندل وأبا بصير رضي الله عنهما ولا يبعد تسمية التخلية ردا كما
في رد الوديعة، ولو شرط الامام في الهدنة أن يبعث إليهم من جاءه مسلما، فمن
الأصحاب من قال: يجب الوفاء بشرطه، ومقتضى هذا أن لا يعتبر الطلب، ونقل
الروياني عن النص أنه يفسد العقد بهذا الشرط، وذكر أنهم لو طلبوا من جاء منهم
وهو مقيم على كفره، مكناهم منه، وأنهم لو كانوا شرطوا أن يقوم برده عليهم، وفينا
بالشرط، ولا يجب على المطلوب أن يرجع إليهم، ولذلك لم ينكر النبي (ص) على
أبي بصير رضي الله عنه امتناعه، فإن اختار الإقامة في دار الاسلام، لم يمنع،
ويقول الإمام للطالب: لا أمنعك منه إن قدرت عليه، ولا أعينك إن لم تقدر، وعن
النص أنه يستحب أن يقول للمطلوب سرا: لا ترجع، وإن رجعت فاهرب إذا
قدرت، وللمطلوب أن يقتل الطالب، ولنا أن نرشده إلى قتله تعريضا لا تصريحا،
لأن الامام إنما التزم بالهدنة أن يمتنع عنهم، ويمنع الذين يعادونهم وهم المسلمون
529

يومئذ، فأما من أسلم بعد، فلم يشترط على نفسه، ولا تناوله شرط الامام، لأنه
ليس في قبضته، وفيه احتمال للامام أنه ليس له التعرض لمن عصم الامام دمه
وماله، ولهذا من جاءنا مسلما ولم يطلب، يلزمه بعقد الهدنة ما لزمنا.
فرع عن البحر: كافر تحته عشر نسوة أسلمن، وهاجرن، وجاء
يطلبهن، يؤمر باختيار أربع، ويعطى مهورهن على قول غرامة المهر، والمستولدة
إذا جاءت مسلمة كالأمة والمكاتبة إن اقتضى الحال عتقها كذلك وتبطل الكتابة وإلا
فهي على كتابتها، فإن أدت، عتقت وللسيد الولاء، وإن عجزت ورقت حسب ما
أخذ من مال الكتابة بعد إسلامها من ضمانها ولا يحسب منه ما أخذ قبل الاسلام،
فإن بلغ المحسوب عليه قدر القيمة، فقد استوفى حقه وعتقت، وولاؤها
للمسلمين، وهل يرد عليها من بيت المال؟ قولان بناء على أنا هل نغرم للسيد قيمة
الأمة، وإن كان المؤدى أكثر من القيمة، لم يسترجع الفاضل من سيدها، وإن كان
أقل، فللسيد تمام القيمة، ويكون ذلك من بيت المال.
فصل إذا عقد الهدنة بشرط أن يردوا من جاءهم منا مرتدا، ويسلموه إلينا،
لزمهم الوفاء، فإن امتنعوا، كانوا ناقضين للعهد، فإن عقدت بشرط أن لا يردوا من
جاءهم، ففي جوازه قولان، أظهرهما وأشهرهما: الجواز، والثاني: المنع، بل لا بد من
استرداده لإقامة حكم المرتدين عليه، وقال الماوردي: الصحيح عندي صحة الشرط
في الرجال دون النساء، لأن الابضاع يحتاط لها، ويحرم على الكافر من المرتدة
ما يحرم من المسلمة، وربما حاول تنزيل القولين على الصنفين، فإن أبطلنا الشرط
وأوجبنا الرد، فالذي عليهم التمكين والتخلية دون التسليم، وكذا الحكم لو جرت
المهادنة مطلقا من غير تعرض لرد المرتد، وحيث لا يلزمهم التمكين والتسليم،
يلزمهم مهر من ارتد من نساء المسلمين، وقيمة من ارتد من رقيقهم، ولا يلزمهم
غرم من ارتد من الرجال الأحرار، ولو عاد المرتدون إلينا، لم نرد المهور، ونرد
القيم، لأن الرقيق بدفع القيمة يصير ملكا لهم، والنساء لا يصرن زوجات، وحيث
يجب التمكين دون التسليم تمكنوا، فلا غرم عليهم، سواء وصلنا إلى المطلوبين أم
530

لا، وحيث يجب التسليم يطالبهم به عند الامكان، فإن فات التسليم بالموت،
لزمهم الغرم، وإن هربوا، نظر إن هربوا قبل القدرة على التسليم، فلا غرم،
وبعدها يجب الغرم، وإذا قلنا: لا تسترد المرتدة، غرم الامام لزوجها ما أنفق من
صداقها، لأنا بعقد الهدنة حلنا بينه وبينها، ولولاه، لقاتلناهم حتى يردوها، وإن
قلنا: تسترد، فتعذر ذلك فقال الغزالي: نغرم له أيضا، ويشبه أن يكون الغرم لزوج
المرتدة مفرعا على الغرم لزوج المسلمة المهاجرة، ولم أره مصرحا به، وقد يشعر
كلام الغزالي بخلافه، ثم لو جاءتهم امرأة منا مرتدة، وهاجرت إلينا امرأة منهم
مسلمة، وطلبها زوجها، فلا نغرم له المهر، بل نقول: هذه بهذه، ويجعل
المهرين قصاصا، ويدفع الامام المهر إلى زوج المرتدة، ويكتب إلى زعيمهم ليدفع
مهرها إلى زوج المهاجرة، هذا إن تساوى القدران، فإن كان مهر المهاجرة أكثر،
صرفنا مقدار مهر المرتدة منه إلى زوجها والباقي إلى المهاجرة، وإن كان مهر المرتدة
أكثر، صرفنا مقدار مهر المهاجرة إلى زوجها، والباقي إلى زوج المرتدة، وبهذه
المقاصة فسر مفسرون قوله تعالى: * (وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار
فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا) *.
فصل على الامام منع من يقصد أهل الهدنة من المسلمين والذميين،
وليس عليه منع الحربيين، ولا منع بعضهم من بعض لأن الهدنة لمجرد الكف
لا للحفظ بخلاف الذمة.
ولو أتلف مسلم أو ذمي على مهادن نفسا أو مالا، ضمنه، وإن قذفه عزر،
وعليهم بإتلاف مال المسلم الضمان، وبقتله القصاص، وبالقذف الحد. ولو أغار
أهل الحرب عليهم، ثم ظفر الامام بأهل الحرب، فاستنقذ منهم أموال أهل الهدنة،
لزمه ردها إليهم، وفي إقامة حد السرقة، والزنى على المعاهد، وانتقاض عهده
بالسرقة خلاف سبق في آخر الباب الأول من كتاب السرقة، وبالله التوفيق.
كتاب الصيد والذبائح والضحايا والعقيقة والأطعمة. هذه الكتب تقدمت في
آخر العبادات.
531

كتاب السبق والرمي
وهو المناضلة، المسابقة والمناضلة جائزتان بل سنتان إذا قصد بهما التأهب
للجهاد.
قلت: يكره لمن علم الرمي تركه كراهة شديدة، ففي صحيح مسلم عن عقبة
رضي الله عنه أن رسول الله (ص) قال: من علم الرمي ثم تركه فليس منجا أو قد
عصى. والله أعلم.
ويجوز شرط المال في المسابقة والمناضلة، وفي الكتاب بابان، باب في
السبق، وباب في الرمي، وقد تدخل مسائل أحدهما في الآخر لتقاربهما.
الباب الأول في السبق
وفيه طرفان:
الأول: في شروطه، وهي عشرة.
الأول: أن يكون المعقود عليه عدة للقتال، لأن المقصود منه التأهب للقتال،
ولهذا قال الصيمري: لا يجوز السبق والرمي من النساء، لأنهن لسن أهلا للحرب،
ثم الأصل في السبق الخيل والإبل، لأنها التي يقاتل عليها غالبا، وتصلح للكر والفر
532

بصفة الكمال، وتجوز المسابقة على الفيل والبغل والحمار على المذهب، وقيل
بالمنع فيها، وقيل بالمنع في البغل والحمار، وقيل في الجميع خلاف.
وأما المناضلة فتجوز على السهام العربية والعجمية وهي النشاب، وعلى
جميع أنواع القسي، حتى تجوز على الرمي بالمسلات والإبر، وفي المزاريق
والرانات ورمي الحجارة باليد وبالمقلاع والمنجنيق طريقان، أحدهما: الجواز،
والثاني: وجهان، أصحهما: الجواز، ولا تجوز المسابقة بإشالة الحجر باليد على
المذهب وبه قطع الأكثرون، وقيل: وجهان، وأما مراماة الأحجار، وهي أن يرمي
كل واحد الحجر إلى صاحبه، فباطلة، وأما المسابقة على التردد بالسيوف والرماح،
فقيل بمنعها، لأنها لا تفارق صاحبها، وإلا يصح الجواز، لأنها من أعظم عدد
القتال، واستعمالها يحتاج إلى تعلم وتحذق، والمسابقة على الحمام وغيره من
الطيور، وعلى الاقدام والسباحة في الماء والطيارات والزوارق والصراع، فجائزة
بلا عوض، والأصح منها بالعوض، فإن جوزنا الصراع، ففي المشابكة باليد
وجهان، ولا تجوز على مناطحة الشياه، ومهارشة الديكة لا بعوض ولا بغيره.
فرع لا يجوز عقد المسابقة على ما لا ينتفع به في الحرب، كاللعب
بالشطرنج والخاتم والصولجان، ورمي البندق والجلاهق، والوقوف على رجل
واحدة، ومعرفة ما في اليد من شفع ووتر، وسائر أنواع اللعب، وأما المقل في الماء
فقال الشيخ المروزي: إن جرت العادة بالاستعانة به في الحرب، فهو كالسباحة،
533

وإلا فلا تجوز المسابقة عليه.
قلت: لا تجوز المسابقة على البقر على المذهب، وقيل: وجهان، حكاه
الدارمي قال: والذي تجوز المسابقة عليه من الخيل. قيل: ما يسهم له وهو الجذع
أو الثني، وقيل: وإن كان صغيرا قال: ولا تجوز على الكلب. والله أعلم.
الشرط الثاني: الاعلام، فيشترط إعلام الموقف الذي يبدآن بالجري منه،
والغاية التي يجريان إليها، ويشترط تساوي المتسابقين فيهما، ولو لم يعينا غاية
وشرطا المال لأسبقهما حيث سبق، لم يجز، ولو عينا غاية وشرطا أن السبق إن اتفق
في وسط الميدان لأحدهما كان فائزا، لم يجز على الأصح لأنا لو اعتبرنا السبق في
خلال الميدان لاعتبرناه بلا غاية معينة، ولو عينا غاية وقالا: إن اتفق السبق عندها
فذاك، وإلا عدينا إلى غاية أخرى اتفقا عليها، جاز على الأصح لحصول الاعلام
وكون كل واحدة من الغايتين معلومة.
فرع يشترط كون المال معلوم الجنس والقدر.
الشرط الثالث: أن يشترط للسابق كل المال أو أكثره، فإذا تسابق اثنان،
وبذل المال غيرهما، فإن شرطه للسابق منهما، فذاك، وإن شرطه للثاني، أو شرط
له مثل الأول، لم يجز، وإن شرط للثاني أقل مما شرط جاز على الأصح،
وإن تسابق ثلاثة، وشرط باذل المال المال للأول، جاز، وإن شرطه للثاني، أو
شرط له أكثر من الأول، لم يجز على الأصح، وقيل: يجوز، لأن ضبط الفرس في
شدة عدوة ليقف في مقام الثاني يحتاج إلى حذق ومعرفة، وإن شرط له مثل ما شرط ل
لأول، جاز على الأصح، لأن كل واحد يجتهد هنا أن يكون أولا وثانيا، وإن شرط
له دون ما شرط للأول، جاز على الصحيح، ويخرج من هذا الاختلاف في الثلاثة
أربعة أوجه، أحدها: يجوز أن يشرط الجميع للثاني، والثاني: لا يجوز شرط شئ
534

له، والثالث: يجوز له شرط بشرط تفضيل السابق، والأصح: يجوز أن يشرط له
بحيث لا يفضل على السابق، وأما الفسكل بكسر الفاء والكاف وإسكان السين
المهملة بينهما وهو الأخير، فلا يجوز أن يساوى بمن قبله، ويجوز أن يشرط له دون
ما شرط لمن قبله على الأصح كما سبق في الاثنين، ويقاس بها ما إذا تسابق أكثر من
ثلاثة حتى لو كانوا عشرة، وشرط لكل واحدة سوى الفسكل مثل المشروط لمن قبله،
جاز على الأصح، والأحب أن يكون المشروط لكل واحد دون المشروط لمن قبله،
وفي شرط شئ للفسكل الوجهان، ولو أهمل بعضهم، بأن شرط للأول عشرة،
وللثالث تسعة، وللرابع ثمانية، فهل يجوز؟ وجهان، أحدهما: لا، لأن الرابع
والثالث يفضلان من قبلهما، والثاني: نعم، ويقام الثالث مقام الثاني، والرابع مقام
الثالث، وكأن الثاني لم يكن، وإذا بطل المشروط في حق بعضهم، ففي بطلانه في
حق من بعده وجهان، وهذان الوجهان مع الوجهين في الاهمال مبنيان على أن من
بطل السبق في حقه هل يستحق على الباذل أجرة المثل؟ وفيه خلاف يأتي إن شاء الله
تعالى، فإن قلنا: لا، بطل العقد في حق من بعده لئلا يفضل من سبقه، وإن قلنا:
نعم، لم يبطل في حق من بعده ولا يضر كون المشروط له زائدا على أجرة المثل،
لأن الممتنع أن يفضل المسبوق السابق فيما يستحقانه بالعقد، وأجرة المثل غير
مستحقة بالعقد.
واعلم أن الصور المذكورة وضعوها فيما لو كان باذل المال غير المتسابقين،
ويمكن فرضها أو فرض، بعضها فيما لو بذله أحدهما، بأن يتسابق اثنان، ويبذل
أحدهما مالا على أنه إن سبق دفع إلى الآخر منه كذا، وإن سبقه الآخر أمسك لنفسه
منه كذا.
فرع قال: من سبق فله كذا فجاء المتسابقون معا فلا شئ لهم، ولو جاء
اثنان فصاعدا معا، وتأخر الباقون فالمشروط للأولين بالسوية، ولو قال: من سبق،
فله دينار، ومن جاء ثانيا، فله نصف دينار، فسبق واحد، ثم جاء ثلاثة معا، ثم
الباقون، فللسابق دينار، وللثلاثة نصف، وإن سبق واحد، ثم جاء الباقون، فله
دينار، ولهم نصف، وإن جاء الجميع معا، فلا شئ لهم، ولو قال: كل من سبق،
فله دينار، فسبق ثلاثة، قال الداركي: لكل واحد منهم دينار.
535

الشرط الرابع: أن يكون فيهم محلل، ومال المسابقة قد يخرجه
المتسابقان، أو أحدهما أو غيرهما.
الحالة الأولى: أن يخرجه غيرهما، فيجوز للامام أن يخرج المال من خاص
نفسه ومن بيت المال، لما فيه من التحريض على تعلم الفروسية، وإعداد أسباب
القتال، ويجوز للواحد من الرعية إخراجه من مال نفسه، لأنه بذل مال في طاعة،
ويثاب عليه إذا نوى، وسواء تسابق اثنان أو أكثر، ومن سبق، أخذ المال.
الحالة الثانية: أن يخرجه أحدهما، ويشرطانه إن سبق أحرزه ولا شئ له على
الآخر، وإن سبق الآخر، أخذه، فيجوز، ولو تسابق أكثر من اثنين، وأخرجه اثنان
فصاعدا، وشرطوا أن من سبق من المخرجين لم يحرز إلا ما أخرجه، ومن سبق من
غيرهم، أخذ ما أخرجه المخرجون، جاز أيضا.
الثالثة: أن يخرجه المتسابقان، فيقول كل واحد: إن سبقتك، فلي عليك
كذا، وإن سبقتني، فلك علي كذا، فهذا لا يجوز، لأنه صورة قمار إلا أن يدخلا
بينهما محللا وهو ثالث يشاركهما في المسابقة على أنه إن سبق أخذ ما شرطاه، وإن
سبق، فلا شئ عليه، فيجوز لأنه يخرج عن صورة القمار، ثم إن شرطا أن يختص
المحلل بالاستحقاق، وإن سبق أحدهما كل واحد منهما لا يأخذ إلا ما أخرج، فهذا
جائز بالاتفاق، وإن شرطا أن المحلل يأخذ السبقين وإن سبق أحدهما أحدهما، جاز
على الصحيح المنصوص، ومنعه ابن خيران، فإذا قلنا بالمنصوص وكان المتسابقون
مائة مثلا، وليس فيهم إلا محلل واحد، وشرط أن يأخذ جميع ما أخرجوه إن سبق
ولا يغرم إن سبق، وكل واحد من المتسابقين إن سبق، غنم، وإن سبق، غرم،
صح العقد والشرط، قال الامام: وهنا أصل آخر وهو أنهما إذا أطلقا شرط المال
للسابق، فهل اللفظ للسابق المطلق، أم يتناول من سبق غيره وإن كان مسبوقا لغيره؟
فيه وجهان، الصحيح: الأول، ويترتب على الأصلين الحكم في صور مجئ
المتسابقين، فإذا تسابق اثنان ومحلل، نظر إن جاء المحلل ثم أحدهما ثم
536

الفسكل، فللمحلل ما أخرجه الآتي بعده بلا خلاف، وفيما أخرجه الفسكل ثلاثة
أوجه، أصحها: أنه للمحلل أيضا لأنه السابق المطلق، والثاني: أنه له وللآتي
بعده، لأنهما سبقا الفسكل، والثالث: هو للآتي بعده وحده، ولو سبق المحلل ثم
جاءا معا، فله السبقان بلا خلاف، ولو سبق المحلل مع أحدهما، فالذي سبق مع
المحلل يحرز ما أخرجه وأما ما أخرجه الآخر، فهو له، وللمحلل على الصحيح
المنصوص، وعند ابن خيران للمحلل خاصة، ولو سبق أحدهما، ثم جاء الثاني مع
المحلل، أو جاء الثاني، ثم المحلل، أحرز السابق ما أخرجه وله أيضا ما أخرجه
الآخر على المنصوص، وعند ابن خيران لا يأخذه، ولا شئ للمحلل على
المذهبين، ولو سبق أحدهما، ثم جاء المحلل، ثم الآخر، أحرز السابق ما أخرجه
الآخر، فإن قلنا بالمنصوص، ففيه أوجه، أصحها: أنه للسابق أيضا، والثاني:
أنه له وللمحلل معا، لأنهما سبقا الآخر، والثالث: أنه للمحلل وليس بشئ، وإن
قلنا بقول ابن خيران، فهل هو للمحلل، أم يحرزه مخرجه، ولا يستحقه المحلل
ولا السابق؟ وجهان، ولو سبقا معا، ثم جاء المحلل، أو جاء الثلاثة معا، لم يأخذ
واحد منهم من غيره شيئا، ويجوز أن يدخلا بينهما محللين وأكثر، فإذا تسابق اثنان
ومحللان، فسبق أحد المحللين، ثم جاء أحد المتسابقين، ثم المحلل الثاني، ثم
المتسابق الثاني، فما أخرجه المتسابق الأول، فللمحلل الأول، وأما ما أخرجه
الآخر، فإن قلنا بالمنصوص، فهو للمحلل الأول أيضا على الصحيح، لأنه السابق
المطلق، وقيل: هو للمحللين والمتسابق الأول، لأنهم جميعا سبقوا الثاني،
وقياس الوجه الضعيف أنه للمحلل الثاني، وإن قلنا بقول ابن خيران، فهو للمحلل
الأول، وقيل: للمحللين، ولو جاء أولا أحد المتسابقين، ثم أحد المحللين ثم
المحلل الثاني، أحرز الأول ما أخرجه، وأما ما أخرجه الآخر، فإن قلنا
بالمنصوص، فهو للمتسابق الأول على الصحيح، وقيل: له وللمحلل الأول،
وعلى الوجه الضعيف: هو للمحلل الأول، وعلى قول ابن خيران: هو للمحلل
الأول لا غير.
الشرط الخامس: أن يكون سبق كل واحد منهما ممكنا، فإن كان فرس
أحدهما، أو فرس المحلل ضعيفا يقطع بتخلفه، أو فارها يقطع بتقدمه، لم يجز،
هكذا أطلق عامة الأصحاب، وقال الامام: إن أخرج أحدهما المال على أنه إن
537

فاز، أحرز ما أخرجه، وإلا فهو لصاحبه، وكان صاحبه بحيث يقطع بأنه لا يسبق،
فهذه مسابقة بلا مال، وإن كان يقطع بأنه يسبق، ففي صحة هذه المعاملة وجهان:
أصحهما: الصحة، وحاصلها إخراج مال لمن يقطع بأنه يسبقه، فأشبه ما لو قال
لرجل: ارم كذا، فإن أصبت منه كذا، فلك هذا المال، وإن أخرج كل واحد منهما
مالا، وأدخلا محللا يعلم تخلفه قطعا، فلا فائدة في إدخاله، ويبقى العقد على
صورة القمار، فيبطل، وإن تيقن سبقه، ففيه الوجهان، وإن أخرجا المال ولا محلل
وأحدهما بحيث يقطع بسبقه، فالذي يسبق كالمحلل، لأنه لا يستحق عليه شئ،
وشرط المال من جهته لغو، وهذا التفصيل الذي ذكره الامام حسن، ولو كان سبق
أحدهما ممكنا على الندور، ففي الاكتفاء به للصحة وجهان، أصحهما وأقربهما إلى
كلام الأصحاب: المنع، ولا اعتبار بالاحتمال النادر، ويتعلق بما نحن فيه اختلاف
المركوبين جنسا ونوعا، أما النوع فلا يضر، فتجوز المسابقة بين فرس عربي
وعجمي، وعربي وتركي، وقال أبو إسحاق: إذا تباعد نوعان، كالعتيق والهجين
من الخيل، والنجيب والبختي من الإبل، لم يجز، وينبغي أن يرجح هذا وإن كان
الأول أشهر، لأنه إذا تحقق التخلف فأي فرق بين أن يكون لضعف، أو لرداءة نوع.
قلت: قول الأكثرين تجوز بين العتيق والهجين، والنجيب والبختي، محمول
على ما إذا لم يقطع بسبق العتيق والنجيب كما ذكرناه، فقول أبي إسحاق ضعيف إن
لم يرد به هذا فإن أراده، ارتفع الخلاف. والله أعلم.
وأما إذا اختلف الجنس، فإن كان كبعير وفرس، أو فرس وحمار فالأصح:
المنع، وإن كان بغلا وحمارا وجوزنا المسابقة عليهما، فالأصح: الصحة، وبه
أجاب ابن الصباغ.
538

الشرط السادس: تعيين المركوبين، فإن أحضرت الأفراس، وعقد على
عينها، فذاك، وإن وصفت وعقد على الوصف، فهل تصح؟ وجهان، أصحهما:
نعم، وبه قال العراقيون، قال الامام: هو الأوجه، كما قام الوصف في السلم
والزنى مقام الاحضار، ونقل الامام عن العراقيين أنه إذا جرت المسابقة مطلقة، كان
كجريان المناضلة مطلقة، وسيأتي إن شاء الله تعالى أنها على ماذا تحمل، وإذا تعلق
العقد بعين فرس، لم يجز إبداله، فإن هلك، انفسخ العقد، وإذا عقد على
الوصف، ثم أحضر فرس، فينبغي إن لا ينفسخ العقد بهلاكه.
الشرط السابع: أن يسبق على الدابتين، فلو شرطا إرسالهما ليجريا
بأنفسهما، فالعقد باطل، لأنها تنفر، ولا تقصد الغاية بخلاف الطيور إذا جوزنا
المسابقة عليها، لأن لها هداية إلى الغاية.
الشرط الثامن: أن تكون المسافة بحيث يمكن للفرسين قطعها ولا ينقطعان،
فإن كانت بحيث لا يصلان غايتها إلا بانقطاع وتعب، فالعقد باطل.
الشرط التاسع: أن يكون المال المشروط معلوما، ويجوز أن يكون عينا
ودينا، وبعضه عينا وبعضه دينا، وحالا ومؤجلا، فلو شرطا مالا مجهولا بأن قال:
أعطيك ما شئت أو شئت، أو شرط دينارا أو ثوبا ولم يصف الثوب، أو دينارا إلا
ثوبا، فالعقد باطل، وكذا لو شرطا دينارا إلا درهما إلا أن يريد قدر الدرهم وعرفا
قيمة الدينار بالدراهم، ولو قال: إن سبقتني، فلك هذه العشرة وترد ثوبا، فالعقد
باطل، لأنه شرط عوض عن السابق، وهو خلاف مقتضاه، ولو تسابقا على عوض
كان في الذمة، فوجهان بناء على جواز الاعتياض عنه، ولو أخرج المال غيرهما،
جاز أن يشرط لأحدهما أكثر من الآخر، وإن أخرجاه جاز أن يخرج أحدهما أكثر،
وقال الصيمري والماوردي: إذا أخرجاه وجب التساوي جنسا ونوعا وقدرا.
الشرط العاشر: اجتناب الشروط المفسدة، فلو قال: إن سبقتني، فلك هذا
الدينار ولا أرمي بعد هذا أو لا أناضلك إلى شهر، بطل العقد، نص عليه. ولو شرط
على السابق أن يطعم السبق أصحابه، بطل العقد على الصحيح، وقال أبو
إسحاق: يصح، وقبوله الاطعام وعد إن شاء وفى به، وإن شاء لم يف.
قلت: وفي التنبيه وجهان آخران، أحدهما: يفسد المسمى، ويجب
539

عوض المثل، والثاني: يصح العقد ولا عوض. والله أعلم.
فصل الأشياء التي ذكر الأصحاب اعتبار السبق بها ثلاثة: أحدها: الكتد
بفتح التاء وكسرها، والفتح أشهر، وهو مجمع الكفين بين أصل العنق والظهر.
الثاني: الاقدام وهي القوائم. الثالث: الهادي وهو العنق، ونقل الامام اختلاف
وجه أو قول في أن الاعتبار بالهادي، أم بموضع الاقدام والكتد، ورأي الثاني
أقيس، والذي يوجد لعامة الأصحاب في كتبهم أن الاعتبار في الإبل بالكتد، وفي
الخيل بالهادي، لأن الإبل ترفع أعناقها في العدو، فلا يمكن اعتباره، والخيل
تمدها، قالوا: فإذا استوى الفرسان في خلقة العنق طولا وقصرا، فالذي تقدم
بالعنق، أو بعضه هو السابق، وإن اختلفا فإن تقدم أقصرهما عنقا، فهو السابق،
وإن تقدم الآخر، نظر إن تقدم بقدر زيادة الخلقة فما دونها، فليس بسابق، وإن
تقدم الآخر، نظر إن تقدم بقدر زيادة الخلقة فما دونها، فليس بسابق، وإن
تقدم بأكثر، فسابق، وحكيت أوجه أخر ضعيفة، أحدها: أن عند اختلاف خلقة
العنق يعتبر في الخيل الكتد، حكي عن أبي إسحاق ورجحه الروياني، والثاني: أن
عند اختلاف الخلقة إذا سبق أطولهما عنقا ببعض عنقه، وكتدهما سواء، كان
سابقا. والثالث: أنه إن كان في جنس الخيل ما يرفع الرأس عند العدو، اعتبر فيه
الكتد كما في الإبل. والرابع: أن التقدم بأيهما حصل، حصل السبق، وعلى هذا
لو تقدم أحدهما بأحدهما، والآخر بالآخر فلا سبق. والخامس: حكاه ابن القطان:
لا يعتبر هذا ولا ذاك، بل يعتبر عرف الناس وما يعدونه سبقا. والسادس: المعتبر
تقدم الاذن. والسابع: المعتبر ما شرطاه من الكتد أو الهادي.
قلت: هذا السابع ضعيف، لأن المسألة فيما إذا أطلقا. والله أعلم.
فهذا هو الكلام في الهادي والكتد، أما الكتد مع القدم، فقد قرن بينهم
قارنون، وأقام أحدهما مقام الآخر آخرون، وأشار الفريقان إلى أنه لا فرق في
الاعتبار بهما ولا خلاف، لأنهما قريبان من التحاذي، لكن بينهما مع التفاوت
تفاوت، ولا يبعد أن يجعل اعتبار القدم وراء اعتبار الكتد والهادي، وقال صاحب
الحاوي: لو اعتبر السبق بالقدم، فأيهما تقدمت يداه، فهو السابق، لأن السعي
بهما والجري عليهما، لكن الشافعي رحمه الله اعتبر الهادي والكتد، وأما قول
الغزالي: الاعتماد على القدم، فخلاف الجمهور، ثم قال الشيخ أبو محمد:
540

الخلاف في أن السبق بماذا يعتبر؟ مخصوص بآخر الميدان، فأما في أوله، فيعتبر
التساوي في الاقدام قطعا.
فروع تتعلق بالسبق لو سبق أحدهما في وسط الميدان، والآخر في
آخره، فالسابق الثاني. ولو عثر أحد الفرسين، أو ساخت قوائمه في الأرض فتقدم
الآخر، لم يكن سابقا، وكذا لو وقف بعد ما جرى لمرض ونحوه، فإن وقف
بلا علة، فهو مسبوق، ولو وقف قبل أن يجري، فليس بمسبوق، سواء وقف
لمرض أو لغيره، ولو تسابقا على أن من سبق منهما بأقدام معلمة على موضع كذا فله
السبق جاز على الصحيح، والغاية في الحقيقة نهاية الاقدام من ذلك الموضع لكنه
شرط في الاستحقاق تخلف الآخر عنها بالقدر المذكور.
فرع ليجريا في وقت واحد، ويستحب أن تكون في الغاية قصبة مغروزة
ليقطعها السابق، فيظهر لكل أحد بقدمه.
الطرف الثاني في أحكامه:
وفيه قاعدتان:
إحداهما: هل عقد المسابقة لازم كالإجارة أم جائز كالجعالة؟ قولان،
أظهرهما: الأول، ثم قيل: القولان فيما إذا أخرجا العوض جميعا، أما إذا أخرجه
أحدهما أو غيرهما، فجائز قطعا، والمذهب: طرد القولين في الحالين، قال الشيخ
أبو محمد والأئمة: القولان فيمن التزم المال، فأما من لم يلتزم شيئا، فجائز في
حقه قطعا، وقد يكون العقد جائزا من جانب لازما من جانب، كالرهن والكتابة،
وقيل بطردهما فيمن لم يلتزم لأنه قد يقصد بمعاقدته تعلم الفروسية والرمي فيكون
كالأجير، والمذهب يخصصهما بالملتزم، فإن قلنا بالجواز فلكل واحد ترك العمل
قبل الشروع فيه، وكذا بعده إن لم يكن لأحدهما فضل على الآخر، وكذا إن كان
على الأصح، لأنه عقد جائز، وعلى هذا القول تجوز الزيادة والنقص في العمل،
وفي المال بالتراضي، وإذا بذل أحدهما المال لا يشرط من صاحبه القبول على
الصحيح، قال الامام: وأجرى الأصحاب هذين الوجهين في الجعالة المتعلقة
بمعين، بأن يقول: إن أردت عبدي فلك كذا، وفي ضمان السبق قبل تمام العمل
541

والرهن به الخلاف السابق في ضمان الجعل والرهن به قبل تمام العلم، وقيل: إن
لم يصح الضمان، لم يصح الرهن وإلا فوجهان، لأن الضمان أوسع بابا، ولذلك
يجوز ضمان الدرك دون الرهن به، وأما إذا قلنا باللزوم، فليس لأحدهما فسخ العقد
دون الآخر، فإن ظهر بالعوض المعين عيب، ثبت حق الفسخ، وليس لأحدهما أن
يترك العمل إن كان مفضولا أو فاضلا وأمكن أن يدركه صاحبه ويسبقه، وإلا فله
الترك، لأنه ترك حق نفسه، ولا يجوز لهما الزيادة في العمل والمال ولا النقص منه
إلا أن يفسخا العقد الأول، ويستأنفا عقدا، وإذا سبق أحدهما اشترط قبول الآخر
بالقول، ولا يكلف المسبق البداءة بتسليم المال على المذهب بخلاف الأجرة، لان
في المسابقة خطرا، فيبدأ بالعمل، ويجوز ضمان السبق والرهن به على هذا القول
على المذهب، وقال القفال: قولان كضمان ما لم يجب، وجرى سبب وجوبه،
فأما بعد الفراغ من العمل فيجوز ضمان السبق والرهن به على القولين، وإن كان
السبق عينا، لزم المسبق تسلميها، فإن امتنع، أجبره الحاكم وحبسه عليه، ولو
تلفت في يده بعد الفراغ من العمل، لزمه الضمان كالمبيع إذا تلف في يده قبل
التسليم، ولو تلفت في يده قبل العمل، انفسخ العقد، ولو غاب لمرض ونحوه،
فلم ينفسخ العقد، بل ينتظر زواله.
فرع اشترى ثوبا وعقد المسابقة بعشرة، إن قلنا: المسابقة لازمة، فهو
جمع بيع وإجارة في صفقة وفي صحته قولان، وإن قلنا: جائزة، لم يصح قطعا لأنه
جمع بين جعالة لا تلزم، وبيع يلزم في صفقة، وذلك ممتنع.
القاعدة الثانية: إذا فسدت المسابقة، وركض المتسابقان، وسبق من لو
صحت، استحق السبق، فالمذهب أنه يستحق أجرة المثل، وبه قطع الأكثرون
كالإجارة والقراض الفاسدين، وقيل: لا يستحق شيئا، لأنه لم يعمل لغيره شيئا،
وفائدة عمله تعود إليه بخلاف الإجارة والجعالة الفاسدتين، وقيل: إن كان الفساد
لخلل في العوض وأمكن تقويمه بأن كان مغصوبا، وجبت قيمته، وإذا قلنا
بالمذهب، ففي كيفية اعتبار أجرة المثل وجهان، قال ابن سلمة: هي أجرة مثل
الزمن الذي اشتغل بالرمي فيه، وأصحهما: قول أبي إسحاق: يجب ما يتسابق
بمثله في مثل تلك المسابقة غالبا.
542

الباب الثاني في الرمي
فيه طرفان:
الأول: في شروطه، وهي ستة،
أحدها: المحلل، فمال المناضلة على نحو ما ذكرنا في المسابقة، وهو أن
يخرجه غير المتناضلين، أو أحدهما أو كلاهما، وصورة القسم الأول أن يقول الإمام
أو أجنبي: إرميا عشرة، فمن أصاب منها كذا، فله كذا، وصورة القسم الثاني أن
يقول أحدهما: نرمي كذا، فإن أصبت أنت منها كذا، فلك علي كذا، وإن أصبتها
أنا، فلا شئ لأحدنا على صاحبه، وصورة الثالث: أن يشرط كل واحد المال على
صاحبه إن أصاب، وهذا الثالث لا يجوز إلا بمحلل معهما كما سبق.
وكما تجوز المناضلة بين اثنين تجوز بين حزبين كما سيأتي إن شاء الله تعالى،
وحينئذ، فكل حزب كشخص، فإن أخرج المال أحد الحزبين أو أجنبي، جاز،
وإن أخرجاه اشترط محلل، إما واحد وإما حزب، ولو أخرجه الحزبان، وشرطوا
لواحد من أحد الحزبين إن كان الفوز لحزبه، شاركهم في أخذ المال، وإن كان
للحزب الآخر، فلا شئ على ذلك الواحد إنما يغرم أصحابه، أو اشتمل كل حزب
على محلل على هذه الصورة، فثلاثة أوجه، أصحها: لا يجوز، لأن المحلل من
إذا فاز، استبد بالمال، وهذا يشارك أصحابه، والثاني: الصحة، والثالث: يصح
في الصورة الثانية دون الأولى، ولو شرط كل حزب كل المال لمحللهم، بطل
قطعا، لأنه يكون فائزا لغيره.
الشرط الثاني: اتحاد الجنس، فإن اختلف، كالسهام مع المزاريق، لم
يصح على الأصح، ولو اختلفت أنواع القسي والسهام، جاز قطعا، كقسي عربية
مع فارسية، ودورانية، وتنسب إلى دوران قبيلة من بني أسد، مع هندية، وكالنبل،
وهو ما يرمى به عن القوس العربية، مع النشاب، وهو ما يرمى به عن الفارسية، ومن
أنواع القسي: الحسبان، وهي قوس تجمع سهامها الصغار في قصبة، ويرمى بها،
فتتفرق على الناس، ويعظم أثرها ونكايتها، وحكى صاحب التقريب وجها أنه لا
تجوز المناضلة بالنبل مع النشاب، كالخيل والبغال، والصحيح الأول، لأنا قدمنا أن
اختلاف أنواع الإبل والخيل لا يضر، فهذا أولى، ثم إن عينا في عقد المناضلة نوعا
543

من الطرفين أو أحدهما، وفيا به ولا يجوز العدول عن المعين إلى ما هو أجود منه،
بأن عينا القوس العربية، فلا يجوز العدول إلى الفارسية، ولو عدل إلى ما دونه، لم
يجز أيضا على الأصح إلا برضى صاحبه، لأنه ربما كان استعماله لأحدهما أكثر،
ورميه به أجود، ولو عينا سهما أو قوسا، لم يتعين، وجاز إبداله بمثله من ذلك
النوع، سواء حدث فيه خلل يمنع استعماله أم لا بخلاف الفرس، فلو شرط أن لا
يبدل، فسد الشرط على الأصح، لأن الرمي قد تعرض له أحوال خفية تحوجه إلى
الابدال، وفي منعه من الابدال تضييق لا فائدة فيه، وقيل: يصح الشرط، فإن
أفسدنا الشرط، فسد العقد على الأصح، ويجري الوجهان في كل ما لو طرح من
أصله، لاستقل العقد بإطلاقه، فأما ما لا يستقل العقد بإطلاقه لو طرح، كإهمال
ذكر الغاية في المسابقة، وصفة الإصابة في المناضلة، فإذا فسد، فسد العقد بلا
خلاف، فإن صححنا هذا الشرط، لزم الوفاء به ما لم ينكسر المعين، ويتعذر
استعماله، فإن انكسر جاز الابدال للضرورة، فإن شرط أن لا يبدل وإن انكسر،
فسد العقد قطعا، ولو أطلقا المناضلة ولم يتعرضا لنوع، فثلاثة أوجه، الصحيح
وقول الأكثرين: الصحة، لأن الاعتماد على الرامي، والثاني: المنع، لاختلاف
الأغراض وتفاوت الحذق في استعمالها، والثالث: إن غلب نوع في الموضع الذي
يترامون فيه، صح ونزل عليه، وإلا فباطل، فإن قلنا: يصح، فتراضيا على نوع،
فذاك، وإن تراضيا على نوع من جانب، ونوع آخر من الجانب الآخر، جاز أيضا
على الأصح كما في الابتداء، ولو اختار أحدهما نوعا، وقال الآخر: بل يرمي بنوع
آخر، وأصرا على المنازعة، فسخ العقد على الأصح، وقيل: ينفسخ.
فرع قال الامام: اختلاف السهام وإن اتحد نوع القوس كاختلاف نوع
الفرس، وبيانه أن الرمي بنبال الحسبان التي يقال لها: الناول إنما يكون بالقوس الفارسية،
لكنها مع الآلة المتصلة بها كنوع آخر من القوس، وكذا القوس الجرخ مع قوس
اليد، والجرخ والناول مختلفان.
الشرط الثالث: أن تكون الإصابة المشروطة ممكنة لا ممتنعة ولا متيقنة، فإن
شرط ما يتوقع إصابته، صح، وإن شرط ما هو ممتنع في العادة، بطل العقد،
والامتناع قد يكون لشدة صغر الغرض أو بعد المسافة أو كثرة الإصابة المشروطة،
كإصابة مائة أو عشرة متوالية، وفي العشرة وجه ضعيف، وإن شرط ما هو متيقن في
544

العادة، كإصابة الحاذق واحدا من مائة، ففي صحة العقد وجهان، وجه المنع، أن
هذا العقد ينبغي أن يكون فيه خطر ليتأنق الرامي في الإصابة.
قلت: أصحهما.
ولو شرط ما يمكن حصوله نادرا، فوجهان، ويقال: قولان، أحدهما:
الصحة، للامكان وحصول الحذق، وأصحهما: الفساد، لبعد حصول المقصود،
ويجري الخلاف في كل صورة تندر فيها الإصابة المشروطة، فمنها: التناضل إلى
مسافة تندر فيها الإصابة، والتناضل في الليلة المظلمة وإن كان الغرض قد يتراءى
لهما، ويقرب من هذا ما ذكره الأصحاب أن المتناضلين ينبغي أن يتقاربا في الحذق
بحيث يحتمل أن يكون كل واحد فاضلا ومفضولا، فإن تفاوتا وكان أحدهما مصيبا
في أكثر رميه، والآخر يخطئ في أكثره، فوجهان، ويتعلق بهذا الشرط أن المحلل
بين المتناضلين ينبغي أن يكون بحيث يمكن فوزه وقصوره، فإن علم قصوره،
فوجوده كعدمه، وإن علم فوزه فعلى الوجهين في إصابة واحد من مائة.
الشرط الرابع: الاعلام، فيشترط في المناضلة العلم بأمور لاختلاف الغرض
باختلافها، منها: المال المشروط على ما ذكرنا في المسابقة، ومنها: عدد
الإصابة، كخمسة من عشرين، وليبينا صفة الإصابة من القرع، وهو الإصابة
المجردة، والخرق، وهو أن يثقب الغرض، ولا يثبت فيه، والخسق وهو أن يثبت
فيه، والخرم وهو أن يصيب طرف الغرض فيخرمه، والمرق وهو أن يثقبه، ويخرج
من الجانب الآخر، ثم كتب كثير من الأصحاب منهم العراقيون مصرحة بأنه لا بد من
ذكر ما يريدان من هذه الصفات سوى الخرم والمرق، فإنهم لم يشرطوا التعرض
لهما، والأصح ما ذكره البغوي: أنه لا يشترط التعرض لشئ منها، كالخرم
والمرق، وكإصابة أعلى الشن وأسفله، قال: وإذا أطلقا العقد حمل على القرع،
لأنه المتعارف، وأحسن من هذه العبارة أن يقال: حقيقة اللفظ ما يشترك فيه جميع
ذلك، ومنها: إعلام المسافة التي يرميان فيها، وفي وجوبه قولان حكاهما الامام،
أحدهما: نعم، لاختلاف الغرض بها، والثاني: لا، وينزل على العادة الغالبة
للرماة هناك إن كانت، فإن لم تكن عادة وجب قطعا، وعلى هذا يحمل ما أطلقه
545

الأكثرون من اشتراط الاعلام، وليرجح من القولين: التنزيل على العادة الغالبة،
لأن الشرط العلم بها، وذلك تارة يكون بالأعلام، وتارة بقرينة الحال، كنظائره،
وبهذا قطع ابن كج، وفي المهذب والتهذيب أنه إذا كان هناك غرض معلوم
المدى، حمل مطلق العقد عليه، ولو ذكرا غاية لا تبلغها السهام، بطل العقد، وإن
كانت الإصابة فيها نادرة، ففيه الوجهان، أو القولان في الشروط النادرة، وقدر
الأصحاب المسافة التي يقرب توقع الإصابة فيها بمائتين وخمسين ذراعا، وما تتعذر
فيه بما فوق ثلاثمائة وخمسين، وما تندر فيه بما بينهما، وفي وجه لا تجوز الزيادة
على مائتين، وهو شاذ، ولو تناضلا على أن يكون السبق لأبعدهما رميا، ولم يقصدا
غرضا، صح العقد على الأصح، لأن الابعاد مقصود أيضا في مقاتلة القلاع
ونحوها، وحصول الارعاب، وامتحان شدة الساعد، قال الامام: والذي أراه على
هذا أنه يشترط استواء القوسين في الشدة، وتراعى خفة السهم ورزانته، لأنهما تؤثران
في القرب والبعد تأثيرا عظيما.
ومنها: إعلام قدر الغرض طولا وعرضا، والكلام فيه على ما ذكرنا في
المسافة.
ومنها: ارتفاعه عن الأرض وانخفاضه، وهل يشترط بيانه أم لا يشترط؟
ويحمل على الوسط فيه مثل الخلاف السابق. واعلم أن الهدف هو التراب الذي
يجتمع، أو الحائط الذي يبنى لينصب فيه الغرض، والغرض قد يكون من خشب أو
قرطاس أو جلد، أو شن وهو الجلد البالي، وقيل: كل ما نصب في الهدف، فهو
قرطاس، سواء كان من كاغد أو غيره، وما تعلق في الهواء، فهو الغرض والرقعة،
عظم ونحوه، يجعل في وسط الغرض وقد يجعل في الشن نقش كالقمر قبل استكماله
يقال لها: الدارة، وفي وسطها نقش يقال له: الخاتم، وينبغي أن يبينا موضع
الإصابة أهو الهدف، أم الغرض المنصوب فيه، أم الدارة في الشن، أم الخاتم في
الدارة؟ وقد يقال له: الحلقة والرقعة، وفي الصحة مع اشتراط إصابته الخلاف في
الشروط النادرة، وقد يجعل العرب بدل الهدف ترسا ويعلق فيه الشن.
ومنها: عدد الأرشاق وهو جمع رشق بالكسر، وهي النوبة من الرمي تجري
بين المتراميين، سهما سهما أو خمسة خمسة، أو ما يتفقان عليه، ويجوز أن يتفقا
على أن يرمي أحدهما جميع العدد، ثم الآخر كذلك، والاطلاق محمول على سهم سهم،
546

والمحاطة أن يشترط طرح ما يشتركان فيه من الإصابات، ويفضل لأحدهما
إصابات معلومة، فإذا شرطا عشرين رشقا وفضل خمس إصابات، فرميا عشرين،
وأصاب أحدهما عشرة والآخر خمسة، فالأول ناضل، وإن أصاب كل واحد خمسة
أو غيرها ولم يفضل لأحدهما خمسة، فلا ناضل، والمبادرة أن يشترط الاستحقاق
لمن بدر إلى إصابة خمسة من عشرين مثلا مع استوائهما في العدد المرمي به، فإذا
رميا عشرين وأصاب أحدهما خمسة، والآخر أربعة فالأول ناضل، فلو رمى
أحدهما عشرين وأصاب خمسة ورمى الآخر تسعة عشر، وأصاب أربعة، فالأول
ليس بناضل الآن، فيرمي الآخر سهمه، فإن أصاب، فقد استويا، وإلا فالأول
ناضل، وقولنا: مع استوائهما في العدد المرمي به احتراز من هذه الصورة، فإن
الأول بدر، لكن لم يستويا بعد، وهل يشترط التعرض في العقد للمحاطة
والمبادرة؟ وجهان، أحدهما: نعم، ويفسد العقد إن تركاه لتفاوت الأغراض،
وأصحهما: لا، فإن أطلقا، حمل على المبادرة، لأنها الغالب من المناضلة، وهل
يشترط ذكر الأرشاق وبيان عددها في العقد؟ فيه طريقان، المذهب وبه قطع عامة
الأصحاب: يشترط ذلك في المحاطة والمبادرة، ليكون للعمل ضبط، والأرشاق
في المناضلة كالميدان في المسابقة. والثاني: فيه ثلاثة أوجه ذكرها الامام، وجعلها
الغزالي أقوالا، أحدها: هذا، والثاني: لا يشترط، لأن الرامي لا يجري على نسق
واحد، وقد لا يستوفي الأرشاق لحصول الفوز في خلالها كما سيأتي إن شاء الله
تعالى، وليكن التعويل على الإصابات، والثالث: يشترط في المحاطة لينفصل
الامر، ويبين نهاية العقد، ولا يشترط في المبادرة لتعلق الاستحقاق بالبدار إلى العدد
المشروط.
فرع تناضلا على رمية واحدة، وشرطا المال للمصيب فيها، صح على
الأصح، وقيل: لا، فقد يتفق في المرة الواحدة إصابة الأخرى دون الحاذق، فلا
يظهر الحذق إلا برميات، ولو رمى أحد المتناضلين أكثر من النوبة المستحقة له، إما
باتفاقهما وإما بغيره، لم تحسب الزيادة له إن أصاب، ولا عليه إن أخطأ، ولو عقدا
على عدد كثير على أن يرميا كل يوم بكرة كذا وعشية كذا، جاز، ولا يتفرقان كل يوم
حتى يستوفيا المشروط فيه إلا لعذر، كمرض وريح عاصفة ونحوه، ثم يرميان على
ما مضى في ذلك اليوم أو بعده، ويجوز أن يشرطا الرمي جميع النهار، وحينئذ يفيان
547

به ولا يدعان إلا في وقت الطهارة والصلاة والاكل ونحوها، وتقع هذه الأحوال
مستثناة، كما في الإجارة، ولو أطلقا ولم يبينا وظيفة كل يوم، فكذلك الحكم، ولا
يتركان الرمي إلا بالتراضي أو لعارض، كمرض وريح ومطر ونحوها، والحر ليس
بعذر، وكذا الريح الخفيفة، وإذا غربت الشمس قبل فراغ وظيفة اليوم، لم يرميا
بالليل للعادة إلا أن يشرط له وحينئذ يحتاجان إلى مشمعة ونحوها، وقد يكفي ضوء
القمر كذا قاله الأصحاب.
ومنها: أنه يشترط رميهما مرتبا، لأنهما لو رميا معا، اشتبه المصيب
بالمخطئ، فإن ذكرا في العقد من يبدأ بالرمي، اتبع الشرط، وإن أطلقا،
فقولان، أظهرهما: بطلان العقد، والثاني: صحته، وكيف يمضي؟ وجهان،
ويقال: قولان، أحدهما: ينزل على عادة الرماة وهي تفويض الامر إلى المسبق
بكسر الباء وهو مخرج السبق، فإن أخرجه أحدهما، فهو أولى، وإن أخرجه
غيرهما، قدم من شاء، وإن أخرجاه، أقرع، والثاني: يقرع بكل حال، وقال
القفال: القولان في الأصل مبنيان على أنا نتبع القياس أم عادة الرماة؟ ويجري مثل
هذين القولين في صور من السبق والرمي، وهما متعلقان بالخلاف في أن سبيل هذا
العقد سبيل الإجارة أم الجعالة، إن قلنا بالأول، اتبعنا القياس، وإن قلنا بالثاني،
اتبعنا العادات، وقيل: في المسألة طريقان آخرا، أحدهما: القطع بالفساد،
والثاني: بالقرعة، ثم إذا شرط تقديم واحد، أو اعتمدنا القرعة فخرجت لواحد،
فهل يقدم في كل رشق، أم في الرشق الأول فقط؟ حكى الامام فيه وجهين قال:
ولو صرحوا بتقديم من قدموه في كل رشق، أو أخرجا القرعة للتقديم في كل رشق،
اتبع الشرط وما أخرجته القرعة، ولك أن تقول: إذا ابتدأ المقدم في النوبة الأولى،
فينبغي أن يبتدئ الثاني في الثانية بلا قرعة، ثم يبتدئ الأولى في الثالثة، ثم الثاني
وهذا لأمرين، أحدهما: أنهم نقلوا عن نصه في الام أنه لو شرط كون الابتداء
لأحدهما أبدا، لم يجز، لأن المناضلة مبنية على التساوي، والثاني: أنه يستحب
كون الرمي بين غرضين متقابلين يرمي المتناضلان، أو الجريان من عند أحدهما إلى
الآخر، ثم يأتيان الثاني، ويلتقطان السهام، ويرميان إلى الأول، ثم نص الشافعي
والأصحاب رحمهم الله أنه إذا بدأ أحدهما بالشرط، أو بالقرعة، أو بإخراج المال،
ثم انتهيا إلى الغرض الثاني، بدأ الثاني في النوبة الثانية، وإن كان الغرض واحدا
548

وحينئذ فيتصل رميه في النوبة الثانية برميه في النوبة الأولى.
فرع إذا قلنا: يقرع للابتداء، هل يدخل المحلل في القرعة إذا أخرجا
المال؟ وجهان، وإذا ثبت الابتداء لواحد، فرمى الآخر قبله، لم يحسب له إن
أصاب، ولا عليه إن أخطأ، ويرمي ثانيا عند انتهاء النوبة إليه.
الشرط الخامس: تعيين الرماة فلا يصح العقد إلا على راميين معينين، أو رماة
معينين، وتجوز المناضلة بين حزبين فصاعدا، ويكون كل حزب في الخطأ والإصابة
كالشخص الواحد، ومنع ابن أبي هريرة جواز الحزبين لئلا يأخذ بعضهم برمي
بعض، والصحيح الجواز، وليكن لكل حزب زعيم يعين أصحابه، فإذا تراضيا،
توكل عنهم في العقد، ولا يجوز أن يكون زعيم الحزبين واحدا، كما لا يجوز أن
يتوكل واحد في طرفي البيع، ولا يجوز أن يعقدا قبل تعيين الأعوان، وطريق التعيين
الاختيار بالتراضي، فيختار زعيم واحدا ثم الزعيم الآخر في مقابلته واحدا، ثم
الأول واحدا، ثم الثاني واحدا وهكذا حتى يستوعبوا، ولا يجوز أن يختار واحد
جميع الحزب أولا لأنه لا يؤمن أن يستوعب الحذاق، ولا يجوز أن يعينا الأعوان
بالقرعة لأنها قد تجمع الحذاق في جانب، فيفوق مقصود المناضلة، ولهذا لو قال
أحد الزعيمين: أنا أختار الحذاق، وأعطي السبق أو الخرق، وآخذ السبق، لا
يجوز، ولان القرعة لا مدخل لها في العقود، ولهذا لا تجوز المناضلة على تعين من
خرجت القرعة عليهم، وقال الامام: لا بأس به، لأن القرعة بعد تعديل الحصص
والأقساط معهودة، والذي قطع به صاحبا المهذب والتهذيب وغيرهما:
المنع، ونص في الام أنهما لو تناضلا على أن يختار كل واحد ثلاثة ولم يسمهم،
لم يجز، وأنه يشترط كل واحد من يرمي معه بأن يكون حاضرا أو غائبا يعرفه، واحتج
القاضي أبو الطيب بظاهره أنه تكفي معرفة الزعيمين، ولا يعتبر أن يعرف الأصحاب
بعضهم بعضا، وابتداء أحد الحزبين بالرمي كابتداء أحد الشخصين ولا يجوز أن
يشرطا أنه يتقدم من هذا الحزب فلان ويقابله من الحزب الآخر فلان ثم فلان، لان
تدبير كل حزب إلى زعيمهم، وليس للآخر مشاركته فيه.
فروع ثلاثة أحدها: حضرهم غريب، فاختاره أحد الزعيمين، وظنه
يجيد الرمي، فبان خلافه، نظر إن لم يحسن الرمي أصلا، بطل العقد فيه، وسقط
549

من الحزب الآخر واحد بإزائه، وهل يبطل العقد في الباقي؟ فيه قولا تفريق
الصفقة، وقيل: يبطل قطعا، فإن قلنا: لا يبطل، فللحزبين خيار الفسخ
للتبعيض، فإن أجازوا، وتنازعوا في تعيين من يجعل في مقابلته، فسخ العقد لتعذر
إمضائه، وإن بان أنه ضعيف الرمي أو قليل الإصابة، فلا فسخ لأصحابه، ولو بان
فوق ما ظنوه، فلا فسخ للحزب الآخر هكذا أطلقوه، وينبغي أن يكون فيه الخلاف
السابق في أنه هل يشترط كون المتناضلين متدانيين وقد يستدل بإطلاقهم على أن
الأصح: أنه لا بأس بهذا التفاوت، وذكر الشيخ أبو محمد أن من فوائد المسألة أن
المجهول الذي لم يختبر يجوز إدخاله في رجال المناضلة، قال: وكان لا يبعد منعه
للجهالة العظيمة، لكن نص الشافعي رحمه الله على جوازه، فلو تناضل غريبان لا
يعرف واحد منهما صاحبه، حكم بصحة العقد، فإن بان أنهما أو أحدهما لا يحسن
الرمي، بطل العقد، وإن بان أن أحدهما أخرق لا يقاوم الآخر، ففي تبين بطلان
العقد الوجهان السابقان فيما لو عاقد فاضل أخرق.
الفرع الثاني: يشترط استواء الحزبين في عدد الأرشاق والإصابات، وأما عدد
الحزبين والأحزاب فوجهان، أحدهما وبه قطع الامام والغرض: لا يشترط بل يجوز
أن يكون أحد الحزبين ثلاثة والثاني أربعة، والأرشاق مائة على كل حزب، وأن
يرامي رجل رجلين أو ثلاثة، فيرمي هو ثلاثة وكل واحد منهم واحدا، والثاني وبه
قطع صاحبا المهذب والتهذيب وغيرهما: يشترط، لأن به يحصل الحذق،
فعلى هذا يشترط كون عدد الأرشاق تنقسم صحيحا على الأحزاب، فإن كانوا ثلاثة
أحزاب، فليكن للأرشاق ثلث صحيح، وإن كانوا أربعة، فربع صحيح.
الثالث: من التزم السبق من الزعيمين، لزمه، ولا يلزم أصحابه إلا أن يلتزموا
معه، أو يأذنوا له أن يلتزم عنهم، وحينئذ يوزع على عدد الرؤوس، وإذا فضل أحد
الحزبين فهل يوزع المال على عدد رؤوسهم أم على عدد الإصابات؟ وجهان،
الصحيح: الأول، ومنهم من قطع به، فإن قلنا بالاصابات، فمن لم يصب، لا
شئ له، هذا إذا أطلقوا العقد، فإن شرطوا أن يقتسموا على الإصابة، فالشرط متبع
وفيه احتمال للامام.
الشرط السادس: تعيين الموقف، وتساوي المتناضلين فيه، فلو شرط كون
550

موقف أحدهما أقرب، لم يجز، ولو قدم أحدهما أحد قدميه عند الرمي، فلا بأس،
وإذا وقف الرماة صفا، فالواقف في الوسط أقرب إلى الغرض، لكن هذا التفاوت
محتمل بالاتفاق، ولم يشترط أحد تناوب الرماة على الموقف للمشقة في الانتقال،
وقد نص في الام أن عادة الرماة أن الرامي الثاني قد يتقدم على الأول بخطوة أو
خطوتين أو ثلاث، قال الأصحاب: إن لم تطرد هذه العادة، بل كانوا يفعلونها تارة
دون تارة لم تعتبر وإلا فوجهان، فإن اعتبرت ولم تختلف العادة في عدد الاقدام
روعي ذلك، وإن اختلفت، اعتبر الأقل.
فرع تنافسوا في الوقوف في وسط الصف، قال الامام والغزالي: هو
كالتنافس في الابتداء، والذي قطع به الجمهور: أن الاختيار لمن له الابتداء، فمن
استحق الابتداء بشرط أو غيره يختار المكان، فيقف في مقابلته، أو تيامنا، أو
متياسرا كيف شاء، وليحمل ما ذكره الامام عليه، وإذا وقف، وقف الآخر بجنبه يمينا
أو شمالا، فإن لم يرض إلا بأن يقف عند الرمي في موقف الأول، فهل له أن يزيله
عن موقفه؟ وجهان، ولو رميا بين غرضين، فانتهيا إلى الغرض الثاني، فالثاني
كالأول يقف حيث شاء، فإن كانوا ثلاثة، قال أبو إسحاق: يقرع بين الآخرين عند
الغرض الثاني، فمن خرجت له القرعة، وقف حيث شاء، ثم إذا عادوا إلى الغرض
الأول بدأ الثالث بلا قرعة، ويقف حيث شاء، وحكي قول آخر أنهما حيث تنازعا في
الموقف يحملان على عادة الرماة إن كان لهم في ذلك عادة مستمرة.
فرع لو رضوا بعد العقد بتقدم واحد، نظر إن تقدم بقدر يسير، جاز، وإن
كان أكثر، فلا، ولو تأخر واحد برضى الآخرين، لم يجز على الأصح، ولو اتفقوا
على تقدم الجميع أو تأخرهم، أو تعيين عدد الارشاق بالزيادة والنقص، بني على أن
المسابقة والمناضلة جائزتان، أم لازمتان.
فرع لو قال أحدهما: ينصب الغرض بحيث يستقبل الشمس، وقال
الآخر: بل يستدبرها، أجيب الثاني، لأنه أصلح للرمي.
الطرف الثاني في أحكام المناضلة
وفيه فصلان:
أحدهما: فيما يتعلق به استحقاق المال وفيه مسائل:
551

إحداها: إذا شرط في العقد الإصابة أو القرع لم يشترط التأثير بالخدش
والخرق ولا يضر، فيحسب ما أصاب وارتد بلا تأثير، وما أثر بخسق وغيره، ولو كان
الشن باليا، فأصاب موضع الخرق منه حسب، ذكره البغوي، وقد يجئ فيه وجه،
لأنه لم يصب الغرض. ثم يحتاج إلى معرفة ما يصاب وما يصيب به، أما الأول فإن
ذكر إصابة الغرض، حسب ما أصاب الجلد والجريد وهو الدائر على الشن، والعروة
وهي السير أو الخيط المشدود به الشن على الجريد، فكل ذلك الغرض وفيما يعلق
به الغرض قولان، أظهرهما وأشهرهما: أنه ليس من الغرض، فإن ذكر إصابة
الشن، لم تحسب إصابة الجريد والعروة، وإن ذكرا إصابة الخاصرة وهي يمين
الغرض أو يساره، لم تحسب إصابة غيرهما، وأما ما يصيب من السهم فالاعتبار
بالنصل فلا تحسب الإصابة بفوق السهم وعرضه، لأنها تدل على سوء الرمي،
وتحسب هذه الرمية عليه من العدد، وقيل: إذا أصاب بالفوق لا تحسب عليه وهو
شاذ، وإن كان الاستحقاق معلقا بإصابة مقيدة كالخسق وغيره، فالحكم فيما يصاب
ويصاب به كما ذكرنا لا يختلف، ولو اصطدم السهم بجدار أو شجرة ونحو ذلك،
ثم أصاب الغرض، أو اصطدم بالأرض، ثم ازدلف وأصاب الغرض، حسب له
على الأصح عند العراقيين والأكثرين، وقيل: لا يحسب، وقال أبو إسحاق: إن
أعانته الصدمة وزادته حدة، لم يحسب، وإلا فيحسب، وإن ازدلف ولم يصب
الغرض، حسب عليه على الأصح.
المسألة الثانية: إذا شرط الخسق، فأصاب السهم الغرض وثقبه، وتعلق
النصل به وثبت، فهو خسق، ولا يضر سقوطه بعد ما ثبت كما لو نزعه غيره، وإن
خدشه، ولم يثقبه فليس بخاسق وإن ثقبه ولم يثبت فقولان، ويقال: وجهان،
أظهرهما: ليس بخاسق لما سبق في تفسير الخسق، ولو ثقب ومرق فهو خاسق على
المذهب والمنصوص، وقيل: قولان، ولو أصاب السهم طرف الغرض فخرمه،
وثبت هناك، فهل يحسب خاسقا؟ قولان، أظهرهما: نعم، وفي موضع القولين
طرق، أصحها: أنهما فيما إذا كان بعض جرم النصل خارجا، فإن كان كله داخلا،
فهو خاسق قطعا، والثاني: أنه إن كان بعضه خارجا، فليس بخاسق قطعا، وإنما
القولان إذا بقيت طفية أو جليدة تحيط بالنصل، والطفية الواحدة من الخوص،
والثالث: أنه إن أبان من الطرف قطعة لو لم يبنها، لكان الغرض محيطا بالنصل،
552

فهو خاسق قطعا، والقولان فيما إذا خرم الطرف لا على هذا الوجه، والراجع: أنه إن
خرم الطرف، فليس بخاسق قطعا، وإنما القولان إذا خرم شيئا من الوسط، وثبت
مكانه، وهذا أضعفها، وقال القفال: إن كان بين النصل والطرف، لكنه تشقق،
فالخرم ليبوسة الشن ونحوها، فهو خاسق، ولو فرض ما ذكرنا من إصابة الطرف،
والمشروط القرع أو الإصابة دون الخسق فطريقان، أحدهما: طرد القولين، ولو
وقع السهم في ثقبة قديمة وثبت، فهل يحسب خاسقا؟ وجهان، أحدهما: لا، لان
النصل صادف الثقب فلم يخسق، وأصحهما: نعم، لأن السهم في قوته ما يخرق
لو أصاب موضعا صحيحا، ومقتضى هذا أن لا يجعل خاسقا إذا لم تعرف قوة
السهم، ويوضحه أن الشافعي رحمه الله قال: لو أصاب موضع خرق في الغرض،
وثبت في الهدف كان خاسقا، فقال الأصحاب: أراد إذا كان الهدف في قوة الغرض
أو أصلب منه، بأن كان من خشب أو آجر أو طين يابس، فإن لم يكن بل كان
ترابا، أو طينا لينا، لم يحسب له ولا عليه، لأنه لا يدري هل كان يثبت لو أصاب
موضعا صحيحا أم لا؟ وفي الحاوي وجه أنه لا يحسب خاسقا وإن كان الهدف
في قوة الغرض، أما إذا خدش النصل موضع الإصابة، وخرق بحيث يثبت فيه مثل
هذا السهم، لكنه رجع لغلظ لقيه من حصاة أو نواة، فيحسب خاسفا على الأظهر،
وبه قطع البغوي، وفي قول: لا يحسب له ولا عليه، ولو اختلفا فقال الرامي:
خسق، لكن لم يثبت لغلظ لقيه، وأنكر الآخر، فإن كان فيه خروق ولم يعلم موضع
الإصابة، فالقول قول الآخر، لأن الأصل عدم الخسق والخدش، وكذا الحكم لو
عين الرامي موضعا وقال: هذا الخرق حصل بسهمي، وأنكر صاحبه، ثم إن فتش
الغرض، فلم يوجد فيه حصاة ولا ما في معناها، لم يحلف، وإن وجد فيه مانع،
حلف، وإذا حلف، لم يحسب للرامي، وهل يحسب عليه؟ وجهان، أصحهما:
لا، وإن علم موضع الإصابة ولم يكن هناك مانع، أو كان ولم يؤثر السهم فيه بخدش
وخرق، صدق بلا يمين، وحسبت الرمية على الرامي، وإن قلنا: الخرق بلا ثبوت
خسق، حسب خاسقا بلا يمين، وإلا فلا يحسب له، ولا يحسب عليه أيضا على
الأصح، ولو مرق سهم، وثبت في الهدف وعلى النصل قطعة من الغرض، فقال
الرامي: هذه القطعة أبانها سهمي لقوته وذهب بها، فقال الآخر: بل كانت القطعة
مبانة قبله، فتعلقت بالسهم، فالقول قول الآخر، نص عليه في الام لأن الأصل
553

عدم الخسق، قال الشيخ أبو حامد: هذا إذا لم نجعل الثبوت في الهدف كالثبوت
في الغرض، فإن جعلناه، فلا معنى لهذا الاختلاف.
المسألة الثالثة: إذا تناضلا مبادرة، وشرطا المال لمن سبق إلى إصابة عشرة
من مائة مثلا، فسبق أحدهما إلى الإصابة المشروطة قبل كمال عدد الأرشاق، بأن
رمى كل واحد منهما خمسين، وأصاب أحدهما منها عشرة والآخر دونها، فالأول
ناضل وقد استحق المال، وهل يلزمه إتمام العمل؟ فيه طريقان، المذهب وبه قطع
الجمهور: لا يلزم، لأنه تم العمل الذي تعلق به الاستحقاق، فلا يلزمه عمل آخر،
والثاني: فيه وجهان حكاهما الامام والغزالي، ثانيهما: يلزمه لينتفع صاحبه
بمشاهدة رميه ويتعلم منه، ولو تناضلا محاطة وشرطا المال لمن خلص له عشرة من
مائة، فرمى كل واحد خمسين، وأصاب أحدهما في خمسة عشر، والآخر في
خمسة، فقد خلص للأول عشرة هل يستحق بها المال، أم يتوقف الاستحقاق على
استكمال الأرشاق؟ وجهان، أحدهما: يستحق بها كالمبادرة، والثاني وهو
الصحيح: لا يستحق، لأن الاستحقاق منوط بخلوص عشرة من مائة، وقد يصيب
الآخر فيما بقي ما يمنع خلوص عشرة للأول بخلاف المبادرة، فإن الإصابة بعدها لا
ترفع ابتدار الأول إلى ذلك العدد، فإن قلنا بهذا، وجب إتمام الأرشاق، وإن قلنا
بالأول وأنه لا حط بعد خلوص العدد المشروط، فهل للآخر أن يكلفه إتمام العمل؟
فيه الطريقان في المبادرة، ويجري الخلاف في كل صورة يتوقع الآخر منع الأول من
خلوص المشروط أو نصله، كما إذا شرطا خلوص خمسة من عشرين، فرمى كل
واحد خمسة عشر، وأصاب أحدهما عشرة والآخر ثلاثة، لأنهما إذا استكملا
الأرشاق، فقد يصيب الآخر في الخمسة الباقية، ولا يصيب الأول في شئ منها،
فلا يخلص له عشرة، فلو كانت الصورة بحالها، وأصاب الأول في عشرة من خمسة
عشر، ولم يصب الآخر في شئ منها، فلا يرجو الآخر منع الأول من الخلوص،
فيثبت له استحقاق المال في الحال قطعا، قال البغوي وغيره: ولا يلزمه إتمام
الأرشاق، ولا يشك أنه يجئ فيه الخلاف المذكور في المبادرة، ولو رمى أحدهما
والشرط المبادرة في المثال المذكور خمسين، وأصاب عشرة، ورمى الآخر تسعة
وأربعين، وأصاب تسعة، فالأول ليس بناضل، بل يرمي الآخر سهما آخر فإن أصاب، فقد تساويا وإلا فقد ثبت الاستحقاق للأول، ولو أصاب الأول من خمسين
554

عشرة، والآخر من تسعة وأربعين ثمانية، فالأول ناضل لأن الآخر وإن أصاب في
رميته الباقية لا يساوي الأول، ويظهر بالصورتين أن الاستحقاق لا يحصل بمجرد
المبادرة إلى العدد المذكور بل يشترط مع الابتدار مساواتهما في عدد الأرشاق، أو
عجز الثاني من المساواة في الإصابة، وإن ساواه في عدد الأرشاق، ولو خلص
لأحدهما في المحاطة عشرة من خمسين، ورمى الآخر تسعة وأربعين ولم يصب في
شئ منها فله أن يرمي سهما آخر فلعله يصيب فيه، فيمنع خلوص عشر إصابات
للأول.
فرع إذا قال رجل لرام: ارم خمسة عني، وخمسة عن نفسك، فإن
أصبت في خمستك، أو كان الصواب فيها أكثر، فلك كذا، أو قال: ارم عشرة،
واحدة عنك وواحدة عني، فإن كانت إصابتك فيما رميت عنك أكثر، فلك كذا، لم
يجز، نص عليه في الام لأن المناضلة عقد، فلا يكون إلا بين نفسين كالبيع
وغيره، ولأنه قد يجتهد في حق نفسه دون صاحبه ولو قال: ارم عشرة فإن كان
صوابك منها أكثر، فلك كذا، فظاهر ما نقله المزني: أنه لا يجوز، وأشار في
تعليله بأنه يناضل نفسه، فوافقه طائفة من الأصحاب، وخالفه الجمهور وقالوا: هو
جائز، وحكوه عن نصه في الام، وعللوه بأنه بذل المال على عوض معلوم، وله
فيه غرض ظاهر، وهو تحريضه على الرمي ومشاهدة رميه، قالوا: وليس هو
بنضال، بل هو جعالة، ثم من هؤلاء من غلط المزني في الحكم والتعليل، ومنهم
من تأوله على ما لو قال: ارم كذا، فإن كان صوابك أكثر، فقد نضلتني، فهذا لا
يجوز، لأن النضال إنما يكون بين اثنين، فإن قلنا بالجواز، فرمى ستة وأصابها
كلها، فقد ثبت استحقاقه، وللشارط أن يكلفه استكمال العشرة على المذهب، لأنه
علق الاستحقاق بعشرة إصابتها أكثر، ولو قال لمتراميين: إرميا عشرة، فمن أصاب
منكما خمسة، فله كذا، جاز، ولو قال رجل لآخر: نرمي عشرة، فإن أصبت في
خمستك، فلك كذا، وإن أصبت أنا، فلا شئ لي عليك، جاز أيضا، وإن قال:
وإن أصبت في خمستي، فلي عليك كذا، لم يجز إلا بمحلل، ولو قال: أرم
سهما، فإن أصبت، فلك كذا، وإن أخطأت، فعليك كذا، فهو قمار.
فرع لو كانوا يتناضلون، فمر بهم رجل، فقال لمن انتهت النوبة إليه وهو
يريد الرمي: ارم، فإن أصبت بهذا السهم، فلك دينار، نص الشافعي رحمه الله أنه
555

إذا أصاب، استحق الدينار، وتكون تلك الإصابة محسوبة من معاملته التي هو
فيها، قال الأصحاب: قياسا على هذا، لو كان يناضل رجلا والمشروط عشر
قرعات، فشرط أن يناضل بها ثانيا ثم ثالثا إلى غير ضبط، وإذا فاز بها، كان ناضلا
لهم جميعا، جاز، قال الامام: هذا دليل على انقطاع هذه المعاملة عن مضاهاة
الإجارة، لأنها لو كانت مثلها لما استحق بعمل واحد مالين عن جهتين، وسبب
استحقاق المال فيها الشرط لا رجوع العمل إلى الشارط.
المسألة الرابعة: اختلفوا في تفسير الحابي، فقيل: هو السهم الذي يقع بين
يدي الغرض، ثم يزحف إليه فيصيبه من قولهم: حبا الصبي، وهو كالمزدلف إلا أن
الحابي أضعف حركة منه، وقيل: هو الذي يصيب الهدف حوالي الغرض، وقيل:
هو القريب من الهدف، كأن صاحبه يحابي، ولا يريد إصابة الهدف، ويروى هذا
التفسير عن الربيع، ولم يجعل كثير من الأصحاب الحوابي صفة السهام، لكن
قالوا: الرمي ثلاثة: المبادرة والمحاطة والحوابي، وهو أن يرميا على أن يسقط
الأقرب والأسد الأبعد، إذا ثبت هذا، فلو شرطوا احتساب القريب من الغرض، نظر
إن ذكروا حد القرب من ذراع أو أقل أو أكثر، جاز وصار الحد المضبوط كالغرض،
وصار الشن في وسطه كالدارة، وإن لم يذكروا حد القرب، فإن كان هناك للرماة عادة
مطردة، حمل العقد عليها، كما تحمل الدراهم المطلقة على النقد الغالب، وإن لم
تكن عادة مطردة فوجهان، أصحهما: بطلان العقد للجهالة، والثاني: الصحة،
فعلى هذا وجهان، أحدهما: يحمل على أن الأقرب يسقط الأبعد كيف كان،
والثاني: يحمل على إسقاط البعيد أو الأقرب للأبعد، أما إذا قالا: يرمي عشرين
رشقا على أن يسقط الأقرب الأبعد، فمن فضل له خمسة، فهو ناضل، فهو صحيح
والشرط متبع، وعن الحاوي ما يشير إلى خلافه، والمذهب الأول، لأنه ضرب
من الرمي معتاد للرماة، وهو ضرب من المحاطة، وحينئذ فإن تساوت السهام في
القرب والبعد، فلا ناضل ولا منضول، وكذا لو تساوى سهمان في القرب، أحدهما
لهذا والآخر للآخر، وكان باقي السهام أبعد، ومهما كان بين سهم أحدهما وبين
الغرض قدر شبر، وبين سهم الآخر والغرض دون شبر، أسقط الثاني الأول، فإن
رمى الأول بعد ذلك، فوقع أقرب، أسقط ما رماه الثاني، ولو وقع سهم أحدهما
قريبا من الغرض، ورمى الآخر خمسة، فوقعت أبعد من ذلك السهم، ثم عاد
556

الأول، فرمى سهما، فوقع أبعد من الخمسة، سقط هذا السهم بالخمسة، وسقطت
الخمسة بالأول، ولو رمى أحدهما خمسة، فوقعت قريبة من الغرض وبعضها أقرب
من بعض، ثم رمى الثاني خمسة، فوقعت أبعد من خمسة الأول، سقطت خمسة
الثاني بخمسة الأول، ولا يسقط من خمسة الأول شئ وإن تفاوتت في القرب، لان
قريب كل واحد يسقط بعيد الآخر، ولا يسقط بعد نفسه، هذا هو الصحيح
المنصوص وبه قطع الجمهور، وقيل: يسقط بعيد نفسه، كما يسقط بعيد غيره،
ولو وقع سهم أحدهما بقرب الغرض، وأصاب سهم الآخر الغرض، فالمنقول أن
الثاني يسقط الأول كما يسقط الأقرب الأبعد، ولك أن تقول: وإن كان الشرط أن
الأسد أو الأصوب يسقط غيره، وأن الأقرب يسقط الأبعد على معنى الأقرب إلى
الصواب، فهذا صحيح، وإن كان الشرط الأول أن الأقرب إلى الغرض يسقط الأبعد
عنه، فينبغي أن يتساويا، ولو أصاب أحدهما الرقعة في وسط الغرض، والآخر
الغرض خارج الرقعة، أو أصابا خارج الرقعة وأحدهما أقرب إليها، فقد حكى
الشافعي رحمه الله عن بعض الرماة أن الذي أصاب الرقعة، أو كان أقرب إليها يسقط
الآخر، قال: والقياس عندي أنهما سواء، وإنما يسقط القريب البعيد إذا كانا
خارجين عن الشن، وفي هذا تأكيد لما استدركناه، وعد صاحب الحاوي
المذهبين وجهين، ونقل الشافعي رحمه الله عن بعض الرماة أنه قال: القريب الذي
يسقط البعيد هو الساقط، وهو السهم الذي يقع بين يدي الغرض، والعاضد، وهو
الذي يقع في اليمين أو اليسار دون الخارج، وهو الذي يتجاوزه ويقع فوقه، قال
الشافعي: والقياس أنه لا فرق لوقوع اسم القريب من الغرض، فالاعتبار بموضع
ثبوت السهم واستقراره لا بحالة المرور، حتى لو قرب مروره من الغرض، ووقع
بعيدا منه، لم يحتسب به إلا إذا شرط اعتبار حالة المرور، ولو شرطا أن ما أصاب
القرطاس أسقط ما وقع حواليه، فقد حكى الامام والغزالي في صحته قولين حكياهما
عن نقل العراقيين، ووجه المنع بأنه تعسر إصابة الوسط، وقد يصيبه الأخرق اتفاقا،
وهذا النقل لا يكاد يوجد في كتب الأصحاب، والمفهوم من كلامهم القطع باتباع
الشرط.
الخامسة: النكبات: هي التي تطرأ عند الرمي وتهوشه، وذلك يعم شرط
القرع والخسق وغيرهما، والأصل أن السهم متى وقع مباعدا تباعدا مفرطا إما مقصرا
557

عن الغرض، وإما مجاوزا له، نظر إن كان ذلك لسوء الرمي، حسب على الرامي،
ولا يرد إليه السهم ليرمي به، وإن كان لنكبة عرضت، أو خلل في آلة الرمي بغير
تقصير من الرامي، فذلك السهم غير محسوب عليه، ويوضح هذا الأصل بصور،
إحداها: إذا عرض في مرور السهم إنسان أو بهيمة فمنع السهم، أو القوس إن كان
لتقصيره وسوء رميه حسب عليه، وإن الرمية عليه، فيعيدها، لأنه معذور، ولو
انقطع الوتر، أو انكسر السهم، أو القوس إن كان تقصيره وسوء رميه حسب عليه،
وإن كان لضعف الآلة وغيره لا لتقصيره وإساءته، لم تحسب، كما لو حدث في يده
علة أو ريح، وقيل: إن وقع السهم عند هذه العوارض قريبا من الغرض، حسب
عليه، حكاه الامام عن أبي إسحاق، وقيل إن وقع السهم مجاوزا للغرض، حسب
عليه، لأن المجاوزة تدل على أن العارض لم يؤثر، وإنما هو لإساءته، والأول هو
الصحيح المنصوص، لأن الخلل يؤثر تارة في التقصير، وتارة في الاسراف، فإن
قلنا: تحسب عليه، فلو أصاب حسب له، وإن قلنا بالمنصوص: إنه لا يحسب
عليه، فأصاب، حسب له على الأصح، لأن الإصابة مع النكبة تدل على جودة
الرمي، ثم في كتاب ابن كج أن الانقطاع والانكسار إنما يؤثر حدوثهما قبل خروجه
من القوس، وأما بعده، فلا أثر له، وصور البغوي انكسار السهم فيها إذا كان بعد
خروجه من القوس، وجعله عذرا، ولو انكسر السهم نصفين بلا تقصير، وأصاب
أحد نصفيه الغرض إصابة شديدة، فثلاثة أوجه، أحدها: لا تحسب، والثاني:
تحسب الإصابة بالنصف الأعلى، وهو الذي فيه الفوق دون الذي فيه النصل،
والثالث وهو الصحيح، وبه قطع العراقيون والأكثرون وهو المنصوص: تحسب
الإصابة بالنصف الذي فيه النصل دون الأعلى، ولو أصاب بالنصفين، لم تحسب
إصابتين، وكذا لو رمى سهمين دفعة واحدة، ذكره ابن كج، ولو حاد السهم عن
سنن الهدف، وخرج عن السماطين، حسب عليه لسوء رميه، ولو رمى إلى غير
الجهة التي فيها الهدف، فهذا اشتغال بغير النضال الذي تعاقدا عليه، فلا يحسب
عليه.
الثانية: كان في الغرض سهم، فأصاب سهمه فوق ذلك السهم، نظر إن كان
ذلك السهم تعلق به، وبعضه خارج، لم يحسب له، لأنه لا يدري هل كان يبلغ
الغرض لولا هذا السهم، ولا يحسب عليه أيضا، لأنه عرض دون الغرض عارض،
558

فإن شقه، وأصاب الغرض، حسب، وقد يجئ فيه الخلاف السابق في البهيمة،
فإن كان ذلك السهم قد غرق فيه، حسب إصابة، وإن كان الشرط الخسق، لم
يحسب له ولا عليه، لأنه لا يدري هل كان بخسق أم لا؟ وينبغي أن ينظر إلى ثبوته
فيه، وتقاس صلابة ذلك السهم بصلابة الغرض كما سبق نظيره، ولو أغرق الرامي،
وبالغ في المد حتى دخل النصل مقبض القوس، ووقع السهم عنده، فالنص إلحاقه
بانكسار القوس وانقطاع الوتر ونحوهما، لأن سوء الرمي أن يصيب غير ما قصده،
ولم يوجد هذا هنا، وعن صاحب الحاوي أنه يحسب عليه، وقال ابن القطان:
إن بلغ مدى الغرض، حسب عليه وإلا فلا.
الثالثة: الريح اللينة لا تؤثر حتى لو رمى زائلا عن المسامتة، فردته الريح
اللينة، أو رميا ضعيفا، فقوته، فأصاب، حسب له وإن صرفته عن السمت بعض
الصرف، فأخطأ، حسب عليه، لأن الجو لا يخلو عن الريح اللينة غالبا، ويضعف
تأثيرها في السهم مع سرعة مروره، وقيل: يمنع الاحتساب له وعليه، وقيل: يمنع
الاحتساب عليه، والصحيح الأول، ولو كانت الريح عاصفة، واقترنت بابتداء
الرمي، فوجهان، أحدهما وهو ظاهر النص، وبه أجاب الامام والغزالي: لا يؤثر
لأن ابتداء الرمي والريح عاصفة تقصير، ولان للرماة حذقا في الرمي وقت هبوب
الريح ليصيبوا، فإذا أخطأ، فقد ترك ذلك، وظهر سوء رميه، وأصحهما وهو قول
ابن سلمة، وبه قطع العراقيون وغيرهم: لا يحسب له إن أصاب لقوة تأثيرها، ولهذا
يجوز لكل واحد ترك الرمي إلى أن تركد بخلاف اللينة، ولو هجم هبوب العاصفة بعد
خروج السهم من القوس، فمقتضى الترتيب أن يقال: إن قلنا: اقترانها مؤثر،
فهبوبها أولى، وإلا فوجهان، أحدهما: أنها كالنكبات العارضة، والثاني: المنع،
لأن الجو لا يخلو عن الريح، ولو فتح هذا الباب، لتعلق به المخطئون، وطال
النزاع، والمذهب: أنه إن أخطأ في الهجوم لا يحسب عليه، وإن أصاب، فهل
يحسب له؟ فيه الخلاف في السهم المزدلف، وقال الشيخ أبو إسحاق: عندي أنه لا
يحسب له قطعا، لأنا لا نعلم أنه أصاب برميه، ولو هبت ريح نقلت الغرض إلى
موضع آخر، فأصاب السهم الموضع المنتقل عنه، حسب له، إن كان الشرط
الإصابة على الصحيح، وإن كان الخسق، نسبت صلابة الموضع بصلابة الغرض،
ولو أصاب الغرض في الموضع المنتقل إليه، حسب عليه، لا له، ولو أزالت الريح
559

الغرض حتى استقل السهم، فأصابه السهم، قال ابن كج: لا يحسب له.
الفصل الثاني: في حكم المناضلة جوازا ولزوما
وفي كونها لازمة أو جائزة قولان كما سبق في المسابقة، فإن قلنا: تلزم،
انفسخت بموت أحدهما، كالأجير المعين، ولو مرض أحدهما، أو أصابه رمد
ونحوه، لم ينفسخ العقد، بل يؤخر الرمي، وفي المسابقة يحصل الانفساخ بموت
الفرس، لأن التعويل عليه، ولا يحصل بموت الفارس، بل يقوم الوارث مقامه،
وقيل: فيه احتمال، لأن للفارس أثرا ظاهرا، وإلزام الوارث على المسابقة
كالمستبعد، ولا يجوز لها إلحاق زيادة في عدد الأرشاق ولا عدد الإصابات،
وطريقهما إن أرادا ذلك أن يفسخا العقد، ويستأنفا عقدا، وليس للمناضل أن يترك
النضال ويجلس، بل يلزم به كمن استؤجر لخياطة ونحوها، ويحبس على ذلك
ويعزر، هذا إذا كان مفضولا أو كان له الفضل، ولكن توقع صاحبه أن يدركه،
فيساويه أو يفضله، أما إذا لم يتوقع الادراك بأن شرطا إصابة خمسة من
عشرين، فأصاب أحدهما خمسة، والآخر واحدا ولم يبق لكل واحد إلا
رميتان، فلصاحب الخمسة أن يجلس: ويترك الباقي، هذا تفريع قول اللزوم، أما
إذا قلنا بالجواز فتتفرع عليه مسألتان، إحداهما: تجوز الزيادة في عدد الأرشاق
والإصابات، وفي المال بالتراضي، وفي الجميع وجه ليس بشئ، وهل يستبد
أحدهما بالزيادة؟ ثلاثة أوجه، أصحها: نعم، لجواز العقد، فإن لم يرض صاحبه
فليفسخ، والثاني: لا، إذ لا بد في العقد من القبول، والثالث: يجوز الالحاق
للفاضل والمساوي دون المفضول لئلا يتخذ المفضول ذلك ذريعة إلى إبطال
النضال، ومتى يصير مفضولا؟ وجهان، أحدهما: متى زاد صاحبه بإصابة واحدة،
وأصحهما: لا تكفي إصابة وإصابتان، بل لا يصير مفضولا إلا إذا قرب صاحبه من
الفوز. واعلم أن الوجه المذكور في أنه لا يجوز إلحاق الزيادة والنقص بالتراضي،
والوجه الآخر في أنه ليس لأحدهما الاستبداد يطردان في المسابقة وإن لم يذكرهما
هناك، وفي الجعالة إذا زاد الجاعل في العمل كان متهما كالمفضول، ففي زيادته
الخلاف، فإن لم تلحق الزيادة بها، فذاك، وإن ألحقناها وقد عمل العامل بعض
العمل ولم يرض بالزيادة، فسخ العقد، قال الامام: والوجه أن تثبت له أجرة
560

المثل، لأن الترك بسبب الزيادة بخلاف ما إذا ترك في أثناء العمل بلا عذر، فإنه لا
يستحق شيئا.
المسألة الثانية: يجوز لكل منهما على هذا القول تأخير الرمي والاعراض عنه
من غير فسخ، وكذا الفسخ إذا لم يكن المعرض مفضولا متهما، فإن كان، فهل له
أن يجلس ويترك النضال؟ وجهان كما ذكرنا في المسابقة، قال الامام: وفي جواز
فسخه الخلاف المذكور في الزيادة، ويفضي الامر إذا فرقنا بين المفضول وغيره إلى
أن الحكم بأن العقد جائز مطلقا مقصور على ما إذا لم يصر أحدهما مفضولا، فإن
صار، لزم في حقه، وبقي الجواز في حق الآخر، وهذا الخلاف في نفوذ فسخ
المفضول طرد في فسخ الجاعل الجعالة بعدما عمل العامل بعض العمل، وكانت
حصة عمله من المسمى تزيد على أجرة المثل، ولو شرطا في العقد أن لكل واحد أن
يجلس ويترك الرمي إن شاء، فسد العقد إن قلنا بلزومه، وكذا إن قلنا بجوازه وقلنا:
ليس للمفضول الترك، وإن قلنا: له ذلك لم يضر شرطه، لأنه مقتضى العقد. ولو
شرطا أن المسبق إن جلس كان عليه السبق، فهو فاسد على القولين، لأن السبق إنما
يشرع في العمل، ولو تناضلا، ففضل أحدهما الآخر بإصابات، فقال المفضول:
حط فضلك، ولك علي كذا، لم يجز على القولين، سواء جوزنا إلحاق الزيادة أم
لا، لأن حط الفضل لا يقابل بمال.
فصل في مسائل منثورة تتعلق بالمناضلة والمسابقة لو كان أحد
الراميين إذا أصاب، أطال الكلام بالتبجح والافتخار وأضجر صاحبه، أو عنفه إذا
أخطأ، منع منه، ولو كلم أحدهما رجل، قيل له: أجب جوابا وسطا، ولا تطول،
ولا تحبس القوم، ولو تعلل بعدما رمى صاحبه بمسح القوس والوتر، وأخذ
النبل بعد النبل والنظر فيه، قيل له: ارم، لا مستعجلا ولا متباطئا، ولو شرطا أن تحسب
لأحدهما الإصابة الواحدة الإصابتين، أو يحط من إصاباته شئ، أو أنه إن أخطأ رد
عليه سهم أو سهمان ليعيد رميهما، أو أن يكون في يد أحدهما من النبل أكثر مما في
يد الآخر، لم يجز، لأن هذه المعاملة مبينة على التساوي، ولا يجوز أن يشرط
خاسق أحدهما خاسقين، ولو كان الشرط الحوابي، فشرطا أن يحسب الخاسق
حابيين، جاز، نص عليه في الام لأن الخاسق يختص بالإصابة والثبوت فجاز أن
تجعل تلك الزيادة مقام حاب، وقيل: فيهما جميعا قولان، ولو تناضلا، فرميا
561

بعض الأرشاق ثم ملا، فقال أحدهما للآخر: ارم، فإن أصبت فقد نضلتني، أو
قال: أرمي أنا فإن أصبت هذه الواحدة فقد نضلتك، لم يجز لأن الناضل من ساوى
صاحبه في عدد الأرشاق وفضله في الإصابة، ولو تناضلا، أو تسابقا، وأخرج السبق
أحدهما، فقال أجنبي: شاركني فيه، فإن غنمت أخذت معك ما أخرجته، وإن غرمت،
غرمت معك، لم يجز، وكذا لو أخرجاه، وبينهما محلل، فقال أجنبي
ذلك لأحدهما. ولو عقد المناضلة في الصحة، ودفع المال في مرض الموت، فهو
من رأس المال إن جعلناها إجارة، وإن قلنا: جعالة، فوجهان، ولو ابتدأ العقد في
المرض، فيحتمل أن يحسب من الثلث، ويحتمل أن يبنى على القولين ذكره في
البحر.
قلت: الأصح أو الصواب القطع بأنه من رأس المال في الصورتين، سواء قلنا
إجارة أو جعالة، لأنه ليس بتبرع ولا محاباة فيه، فإذا كان ما يصرفه في ملاذ شهواته
من طعام وشراب ونكاح وغيره مما لا ضرورة له إليه، ولا ندبه الشرع إليه محسوبا من
رأس المال، فالمسابقة التي ندب الشرع إليها، ويحتاج إلى تعلمها أولى، لكن هذا
فيما إذا سابق بعوض المثل في العادة، فإن زاد، فالزيادة تبرع من الثلث. والله
أعلم.
وفي البحر أن الولي ليس له صرف مال الصبي في المسابقة والمناضلة
ليتعلم، وأن السبق الذي يلتزمه المتناضلان يجوز أن يكون عندهما، ويجوز وضعه
عند عدل يثقان به وهو أحوط وأبعد عن النزاع، وأنهما لو تنازعا فقال أحدهما: يترك
السبق عندنا، وقال الآخر: بل عند عدل، فإن كان دينا، أجيب الأول، وإن كان
عينا، فالثاني، وأنه لو قال أحدهما: نضعه عند زيد، وقال الآخر: عند عمرو،
اختار الحاكم أمينا، وهل يتعين أحد الأمينين المتنازع فيهما أم له أن يختار غيرهما؟
وجهان وأنه لا أجرة للأمين إلا إذا اطرد العرف بأجرة له فوجهان، وفيه: أن المحلل
ينبغي أن يجري فرسه بين فرسي المتسابقين، فإن لم يتوسطهما، وأجرى بجنب
أحدهما، جاز إن تراضيا به، وأنه لو رضي أحدهما بعدوله عن الوسط، ولم يرض
الآخر، لزمه التوسط، وأنهما لو رضيا بترك توسطه وقال أحدهما: يكون عن
اليمين، وقال الآخر: عن اليسار، لزم التوسط، وأنه لو تنازع المتسابقان في اليمين
واليسار، أقرع، قال الشافعي رحمه الله في المختصر: لا بأس أن يصلي متنكبا
562

للقوس والقرن إلا أن يتحركا عليه حركة تشغله، فأكرهه ويجزئه، والتنكب:
التقلد، والقرن بفتح القاف والراء: هو الجعبة المشقوقة، ولا بد من طهارة ذلك،
ولا يجلب على الفرس في السباق، وهو أن يصيح به القوم ليزيد عدوه، ولكن
يركضان بتحريك اللجام والاستحثاث بالسوط، وإذا وقف المتناضلان في الموقف،
فهل يحتاج من يرمي إلى استئذان صاحبه؟ قال ابن كج عادة الرماة الاستئذان،
حتى إن من رمى بلا استئذان لا يحسب ما رماه، أصاب أم أخطأ، ويجب اتباع
عرفهم فيه، وقال ابن القطان: يحسب، ولا حاجة إلى الاستئذان. وبالله التوفيق.
تم الجزء السابع
ويليه الجزء الثامن والأخير وأوله:
(كتاب الايمان)
563