الكتاب: روضة الطالبين
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ٤
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ، الشيخ علي محمد معوض
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

روضة الطالبين
للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي
المتوفى سنة 676
ومعه
المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي
منتقى الينبوع
فيما زاد على الروضة من الفروع
للحافظ جلال الدين السيوطي
تحقيق
الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ على محمد معرض
الجزء الرابع
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
1

جميع الحقوق محفوظة
الدار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
يطلب من: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
ص ب: 9424 / 11 تلكس: 41245
هاتف: 366135 - 810073
2

كتاب الاقرار
هو إخبار عن حق سابق، وفيه أربعة أبواب.
الأول: في أركانه، وهي أربعة.
الأول: المقر، وهو مطلق، ومحجور عليه.
فالمطلق، يصح إقراره. قال الغزالي: يصح إقراره بكل ما يقدر
على إنشائه، وهذا الضبط تستثنى منه صور. منها: لو قال الوكيل: تصرفت كما
3

أذنت، فقال الموكل: لم تتصرف، لم يقبل إقرار الوكيل على أحد القولين مع قدرته
على الانشاء. وكذا لو قال: استوفيت ما أمرتني باستيفائه، ونازعه كما سبق.
ومنها: إنشاء نكاح الثيب إلى وليها، فاقراره غير مقبول، ويمكن أن يزاد في
الضبط فيقال: ينفذ إقراره في التصرفات المتعلقة به التي يستقل بانشائها. أو يقال:
ما يقدر على إنشائه، يؤاخذ المقر بموجب إقراره، ولا يلزمه نفوذه في حق الغير،
فتخرج عنه المسائل. وأما المحجور، فقد ذكرنا أقسامه في كتاب الحجر. فمنه الصبي، وإقراره
باطل، لكن يصح إقراره بالوصية والتدبير إذا صححناهما منه. ولو ادعى أنه بلغ
بالاحتلام، أو ادعت أنها بلغت بالحيض في وقت إمكانهما، صدقا. فإن فرض
ذلك في خصومة، لم يحلفا، لأنه لا يعرف إلا من جهتهما، فأشبه إذا علق العتق
بمشيئة غيره فقال: شئت، صدق بلا يمين، هكذا قاله الشيخ أبو زيد، والامام،
4

والغزالي. قال الامام: فلو بلغ مبلغا يتيقن بلوغه، فالظاهر أنه لا يحلف أيضا على
أنه كان بالغا، لأنا إذا حكمنا بمقتضى قوله، فقد أنهينا الخصومة منتهاها، فلا عود
إلى التحليف. وفي التهذيب وغيره: أنه إذا جاء واحد من الغزاة يطلب سهم
المقاتلة، وذكر أنه احتلم، حلف وأخذ السهم. فإن لم يحلف، ففي إعطائه،
وجهان.
ولو ادعى البلوغ بالسن، طولب بالبينة، لامكانها. فلو كان غريبا خامل
الذكر، فهل يطالب بالبينة لامكانها من جنس المدعي؟ أم يلحق بالاحتلام؟ أم ينظر
إلى الانبات لتعذر معرفة التاريخ كما في صبيان الكفار؟ فيه ثلاثة احتمالات للامام.
أصحها: أولها.
قلت: ولو أقر بعد بلوغه ورشده أنه أتلف في صباه مالا، لزمه الآن قطعا،
كما لو قامت به بينة، ذكره ابن كج. والله أعلم.
ومنه المجنون، وهو مسلوب العبارة إنشاءا وإقرارا في كل شئ بلا استثناء.
وفي السكران، خلاف وتفصيل مشهور، نذكره في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى.
قلت: والمغمى عليه، ومن زال عقله بسبب يعذر فيه، كشرب الدواء
ونحوه، أو أكره على شرب الخمر، لا يصح إقرارهم. والله أعلم.
ومنه: حجر المبذر والمفلس، وقد سبق حكمهما في بابيهما. ويقبل إقرار
المحجور عليه للفلس بالنكاح، دون المحجور عليه لسفه، اعتبارا للاقرار
بالانشاء. قال الامام: وإقرار السفيهة بأنها منكوحة فلان، كاقرار الرشيدة، إذ لا أثر
للسفه في النكاح من جانبها، وفيه احتمال بسبب ضعف قولها وعقلها.
فصل ومن المحجور عليه: الرقيق. والذي يقر به، ضربان.
5

أحدهما: يوجب العقوبة كالزنا، وشرب الخمر، والسرقة، والقذف، وما
يوجب القصاص في النفس، أو الطرف، فيقبل إقراره به، وتقام عليه عقوبته،
خلافا للمزني. وإذا أقر بسرقة توجب القطع، قبل في القطع. وأما المال، فإن
كان تالفا، فقولان. أحدهما: يقبل ويتعلق الضمان برقبته. وأظهرهما: لا يقبل
ويتعلق الضمان بذمته، إلا أن يصدقه السيد فيقبل. وإن كان باقيا،
نظر، إن كان في يد السيد، لم ينتزع منه إلا بتصديقه. وإن كان في يد العبد،
فطريقان. أحدهما: أن في انتزاعه القولين في التالف. فإن قلنا: لا ينتزع، ثبت
بدله في ذمته. والطريق الثاني: لا ينتزع قطعا، لان يده كيد سيده. وقيل: إن كان المال
في يد العبد، قبل إقراره، وإلا، فلا. وإذا اختصرت قلت: في قوله
أربعة أقوال. أظهرها: لا يقبل. والثاني: يقبل.
والثالث: يقبل إن كان المال باقيا. والرابع: عكسه.
وإذا أقر بسرقة توجب القطع، ثم رجع، كان كاقراره بسرقة لا توجب القطع،
وسنذكر في الضرب الثاني إن شاء الله تعالى. ولو أقر بالقصاص على نفسه، فعفا
المستحق على مال، أو عفا مطلقا، وقلنا: إنه يوجب المال، فوجهان. أصحهما
عند البغوي: أنه يتعلق برقبته. وإن كذبه السيد، لأنه إنما أقر بالعقوبة، وإنما
وجب المال بالعفو. والثاني: أن الحكم كذلك إن قلنا: موجب العمد القصاص،
قلنا: موجبه أحد الامرين، ففي ثبوت المال، قولان، كالاقرار بالسرقة الموجبة للقطع.
الضرب الثاني: ما لا يوجب عقوبة، فإذا أقر بدين جناية، كغصب، أو سرقة
لا توجب قطعا، أو إتلاف، وصدقه السيد، تعلق برقبته، فيباع فيه إلا أن يفديه
السيد، وإذا بيع فبقي شئ من الدين، فهل يتبع به إذا عتق؟ فيه قولان مذكوران
في كتاب الجنايات.
6

قلت: أظهرهما وهو الجديد: لا يتبع. والله أعلم.
وإن كذبه السيد، لم يتعلق برقبته، لكن يتعلق بذمته، يتبع به إذا عتق، و
يخرج عن القولين فيما إذا بيع في الدين وبقي شئ، لأنه إذا ثبت التعلق بالرقبة
فكأن الحق انحصر فيها. وقيل بطردهما، لان الزائد على القيمة لا يتعلق بالرقبة،
كما أن أصل الحق هنا، غير متعلق بها. ولو أقر بدين معاملة، فإن لم يكن مأذونا له
في التجارة، لم يقبل إقراره على السيد، بل يتعلق المقر به بذمته، يطالب به إذا
عتق، سواء صدقه السيد، أم لا. وإن كان مأذونا فيها، قبل وأدى من كسبه وما في
يده، إلا إذا كان مما لا يتعلق بالتجارة كالقرض. ولو أطلق المأذون الاقرار بالدين،
ولم يعين جهته، لم ينزل على دين المعاملة على الأصح،
لاحتمال أنه باتلاف، ولا
فرق في دين الاتلاف بين المأذون وغيره. ولو حجر عليه، فأقر بعد الحجر بدين
معاملة، إضافة إلى حال الاذن، لم تقبل إضافته على الأصح.
فرع من نصفه حر، لو أقر بدين جناية، لم يقبل فيما يتعلق بسيده، إلا
أن يصدقه، ويقبل في نصفه. وعليه قضاؤه مما في يده. ولو أقر بدين معاملة،
فمتى صححنا تصرفه، قبلنا اقراره عليه، وقضيناه مما في يده. ومتى لم نصححه،
فإقراره كإقرار العبد.
فرع إقرار السيد على عبده بما يوجب عقوبة، مردود، وبدين الجناية،
مقبول، إلا أنه إذا بيع فيه وبقي شئ، لم يطالب به بعد العتق إلا أن يصدقه. وكذا
إقراره بدين المعاملة، لا يقبل على العبد.
قلت: قال ابن كج: لو عتق، ثم أقر بأنه أتلف مالا لرجل قبل العتق، لم
يلزم السيد، ويطالب به العبد. ولو قامت بينة بأنه كان جنى، لزم السيد أقل الأمرين
من أرش جنايته وقيمته. قال البغوي: كل ما قبل إقرار العبد فيه كالعقوبات،
فالدعوى فيه تكون على العبد. وما لا يقبل المال المتعلق برقبته، إذا صدقه السيد،
فالدعوى على السيد. فإن ادعى في هذا على العبد، إن كان له بينة، سمعت،
وإلا، فإن قلنا: اليمين المردودة كالبينة، سمعت رجاء نكوله. وإن قلنا:
كالاقرار، فلا. ولو ادعى على العبد دين معاملة متعلق بالذمة، وله بينة، ففي
7

سماعها وجهان، كالدين المؤجل. والله أعلم.
فصل ومن المحجور عليهم، المريض مرض الموت، وفيه مسائل.
إحداها: يصح إقرار بالنكاح بموجبات العقوبات، وبالدين والعين
للأجنبي، وفي إقراره للوارث بالمال، طريقان. أحدهما: يقبل قطعا. وأصحهما
عند الجمهور: على قولين. أظهرهما: القبول. واختار الروياني مذهب مالك
رضي الله عنه، وهو أنه إن كان متهما، لم يقبل إقراره، وإلا، فيقبل، ويجتهد
الحاكم في ذلك. فإن قلنا: لا يقبل، فهل الاعتبار في كونه وارثا بحال الموت، أم
بحال الاقرار؟ فيه وجهان. وقيل: قولان. أظهرهما وأشهرهما وهو الجديد: بحال
الموت، كالوصية. ولو أقر في مرضه أنه كان وهب وارثه، وأقبضه في الصحة،
أشار الامام إلى طريقين. أحدهما: القطع بالمنع، لأنه عاجز عن انشائه.
والثاني: أنه على القولين في الإقرار للوارث، ورجح الغزالي: المنع، واختار
القاضي حسين: القبول.
قلت: القبول أرجح. والله أعلم.
ولو أقر لوارثه وأجنبي معا، وقلنا: لا يقبل للوارث، قبل في نصفه للأجنبي
على الأظهر.
الثانية: لو أقر في صحته بدين لرجل، وفي مرضه بدين لآخر، فهما سواء،
كما لو ثبتا بالبينة، وكما لو أقر بهما في الصحة أو المرض.
قلت: وحكى في البيان قولا شاذا: أن دين الصحة يقدم. والله أعلم.
ولو أقر في صحته أو مرضه بدين، ثم مات فأقر ورثته عليه بدين لآخر،
فوجهان. أصحهما يتساويان فيتضاربان في التركة، لان الوارث يقوم مقامه،
فصار كمن أقر بدينين. والثاني: يقدم ما أقر به المورث، لأنه بالموت تعلق
بالتركة ويجري الوجهان فيما لو ثبت الأول ببينة ثم أقر وارثه، وفيما لو أقر الوارث
8

بدين على الميت، ثم أقر لآخر بدين آخر، وسواء كان الدين الأول مستغرقا للتركة،
أم لا. ولو ثبت عليه دين في حياته أو موته، ثم تردت بهيمة في بئر كان حفرها بمحل
عدوان، ففي مزاحمة صاحب البهيمة رب الدين القديم، الخلاف السابق فيما إذا
جنى المفلس بعد الحجر عليه، قاله في التتمة.
الثالثة: مات وخلف ألف درهم، فادعى رجل أنه أوصى له بثلث ماله،
فصدقه الوارث، ثم جاء آخر فادعى عليه ألف درهم دينا، فصدقه الوارث،
قيل: يصرف الثلث إلى الوصية، لتقدمها. وقيل: يقدم الدين على الوصية كما هو
المعروف فيهما. ولو صدق مدعي دين، أولا، قدم قطعا. ولصدق المدعيين
معا، قال الأكثرون: يقسم الألف بينهما أرباعا، لأنا نحتاج إلى الألف للدين،
وإلى ثلث المال للوصية، فيخص الوصية ثلث عائل، وهو الربع. وقال
الصيدلاني: تسقط الوصية، ويقدم الدين كما لو ثبتا بالبينة، وهذا هو الصواب،
سواء قدمنا عند ترتب الاقرارين، الأول منهما، أو سوينا.
الرابعة: أقر المريض بعين مال لانسان، ثم أقر لآخر بدين مستغرق أو غير مستغرق،
سلمت العين للأول، ولا شئ للثاني، لان المقر مات ولا يعرف له
مال. ولو أقر بالدين أولا، ثم أقر بالعين، فوجهان. أصحهما: أنه كما لو أقر
بالعين أولا، لان الاقرار في الدين، لا يتضمن حجرا في العين، ألا ترى أنه ينفذ
تصرفه فيها. والثاني يتزاحمان، لتعارض القوة فيهما.
قلت: لو أقر المريض أنه أعتق عبدا في صحته، وعليه دين يستغرق تركته،
نفذ عتقه، لان الاقرار ليس تبرعا، بل إخبار عن حق سابق. ولو ملك أخاه، فأقر
في مرضه أنه أعتقه في صحته، وهو أقرب عصبته، نفذ عتقه. وهل يرث؟ يبنى
على الاقرار للوارث. إن صححناه، ورث، وإلا، فلا، لا توريثه يقتضي إبطال
حريته، فيذهب الإرث. والله أعلم.
فرع يشترط في صحة الاقرار الاختيار، فإقرار المكره، باطل كسائر
تصرفه.
9

قلت: ولو ضرب ليقر، فأقر في حال الضرب، لم يصح. وإن ضرب
ليصدق في القضية، قال الماوردي في الأحكام السلطانية: إن أقر في حال
الضرب، ترك ضربه واستعيد إقراره، فإن أقر بعد الضرب، عمل به، ولو لم
يستعده وعمل بالاقرار حال الضرب، جاز مع الكراهة، هذا كلام الماوردي.
وقبول إقراره حال الضرب مشكل، لأنه قريب من المكره ولكنه ليس مكرها، فإن
المكره هو من أكره على شئ واحد، وهنا إنما ضرب ليصدق، ولا ينحصر الصدق
في الاقرار. وقبول إقراره بعد الضرب، فيه نظر إن غلب على ظنه إعادة الضرب إن
لم يقر. والله أعلم.
10

الركن الثاني: المقر له، وله ثلاثة شروط.
أحدها: أهلية استحقاق الحق المقر به. فلو قال: لهذا الحمار أو لدابة فلان
علي ألف، فهو لغو، ولو قال: لفلان علي ألف بسببها، صح على الصحيح،
ولزمه حملا على أنه جنى عليها أو اكتراها. وقيل: لا يلزمه، لان الغالب لزوم المال
بالمعاملة، ولا يتصور ذلك. ولو قال: لعبد فلان علي أو عندي ألف، صح وكان
إقرارا لسيده، والإضافة فيه كالإضافة في الهبة وسائر الانشاءات.
فرع قال: لحمل فلانة علي أو عندي ألف، فله ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يسند إلى جهة صحيحة، كقوله: ورثه من أبيه، أو وصى به له
فلان، فيعتبر إقراره. ثم إن انفصل ميتا، فلا حق له، ويكون لورثة من قال: أنه
ورثه منه، أو للموصي، أو ورثته في صورة الوصية. وإن انفصل حيا، فإن كان
لدون ستة أشهر من حين الاقرار، استحقه. وإن انفصل لأكثر من أربع سنين،
فلا، لتيقن عدمه، وإن انفصل لستة أشهر فأكثر، ولدون أربع سنين، فإن كانت
مستفرشة، لم يستحق، وإلا فقولان.
قلت: أظهرهما: الاستحقاق. والله أعلم.
وإذا ثبت الاستحقاق، فإن ولدت ذكرا، فهو له. أو ذكرين فأكثر، فلهم
بالسوية، وإن ولدت أنثى، فهو لها إن أسنده إلى وصية. وإن أسنده إلى إرث من
أبيها، فلها نصفه. وإن ولدت ذكرا وأنثى، فهو بينهما بالسوية إن أسنده إلى وصية،
وأثلاثا إن أسنده إلى الإرث. هذا إذا اقتضت جهة الوراثة ما ذكرنا، فإن اقتضت
11

التسوية، كولدي أم، سوي بينهما في الثلث. قال الامام: ولو أطلق الإرث،
سألناه عن الجهة وحكمنا بمقتضاها.
قلت: وهذا المحكي عن الامام قاله أيضا ابن الصباغ. وقال الشيخ أبو
حامد: يكون بينهما بالسوية. وإن تعذرت مراجعة المقر، فينبغي القطع بالتسوية
بينهما. والله أعلم.
الحال الثاني: أن يطلق الاقرار، فيصح على الأظهر، ويحمل على الجهة
الممكنة في حقه.
الثالث: أن يسند إلى جهة باطلة، كقوله: أقرضنيه أو باعني به شيئا، فإن
أبطلنا المطلق، فذا أولى، وإلا، فطريقان. أصحهما: القطع بالصحة. والثاني:
على القولين في تعقيب الاقرار بما يرفعه.
قلت: الأصح في هذا الحال: البطلان، وبه قطع الرافعي في المحرر.
والله أعلم.
وإذا صححنا الاقرار في الحالين الآخرين، فانفصل ميتا، فلا شئ له،
ويسأل المقر عن جهة إقراره من الإرث والوصية، ويعمل بمقتضاها. قال الامام:
وليس لهذا السؤال والبحث طالب معين، وكان القاضي يسأل حسبة ليصل الحق
(إلى) مستحقه. فإن مات قبل البيان، فكمن أقر لانسان فرده. وفي تعليق
12

الشيخ أبي حامد: أنه يطالب ورثته كنفسه. وإن انفصل حيا للمدة المعتبرة، فالكل
له، ذكرا كان أو أنثى. وإن انفصل ذكر وأنثى، فهو لهما بالسوية. ومتى انفصل
حي وميت، فالميت كالمعدوم، وينظر في الحي كما ذكرنا.
فرع أقر لانسان بحمل جارية، أو بهيمة، ففيه التفصيل المذكور في
الاقرار للحمل. فإن قال: إنه أوصى له (به)، صح، وينظر، كم بين انفصاله وبين
يوم الاقرار من المدة، على ما سبق. وفي حمل البهيمة، يرجع إلى أهل الخبرة.
وإن أطلق، أو أسند إلى جهة باطلة، ففيه الخلاف المذكور. ولو أقر بالحمل
لرجل، وبالأم لآخر، فإن جوزنا الاقرار بالحمل، صح الاقراران، وإلا، فقال
البغوي: هما جميعا للآخر، وهذا بناء على أن الاقرار بالحامل، إقرار بالحمل،
وفيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى.
فرع أقر لمسجد أو مقبرة أو نحوهما بمال، وأسنده إلى جهة صحيحة،
13

كغلة وقف عليه، صح. وإن أطلق، فوجهان، تخريجا من القولين في الحمل،
وعلى قياسهما إذا أسند إلى جهة باطلة.
الشرط الثاني: عدم تكذيبه، فيشترط لصحة الاقرار، عدم تكذيب المقر له،
وإن كنا لا نشترط قبوله لفظا. فإن كذبه، نظر، إن كان المقر به مالا، ففيما يفعل به،
أوجه. أصحها: يترك في يد المقر. والثاني: ينتزعه الحاكم ويتولى حفظه إلى
أن يظهر مالكه. فإن رأى استحفاظ صاحب اليد، فهو كما لو استحفظ عدلا آخر.
والثالث: يجبر المقر له على القبول والقبض، وهو بعيد. قال الشيخ أبو محمد:
موضع الخلاف، ما إذا قال المقر: هذا المال لفلان فكذبه. فأما إذا قال
للقاضي: إن في يدي مالا لا أعرف مالكه، فالوجه: القطع بأن القاضي يتولى
حفظه. وأبعد بعضهم، فلم يجوز انتزاعه هنا أيضا. ولو رجع المقر له عن
الانكار، وصدق المقر، فقد حكى الامام، والغزالي: القطع بقبوله وتسليم المال
إليه. والأصح، ما ذكره المتولي وغيره: أنه مفرع على الخلاف. فإن قلنا: يترك
في يد المقر، فقد حكمنا ببطلان الاقرار، فلا يصرف إلى المقر له إلا بإقرار جديد.
14

وإن قلنا: ينتزعه الحاكم ويحفظه، لم يسلم إليه أيضا. بل لو أقام بينة بأنه ملكه،
لم تسمع، وإنما يسلم إليه إذا قلنا بالوجه الثالث البعيد، فحصل أن المذهب عدم
تسليمه إليه. ولو رجع المقر في حال إنكار المقر له، وقال: غلطت، أو تعمدت
الكذب، فإن قلنا: ينتزعه الحاكم، لم يقبل. وإن قلنا: يترك في يده، فوجهان.
أصحهما عند الجمهور: يقبل. وأصحهما عند الامام، والغزالي: لا يقبل.
وجميع ما ذكرناه في الاقرار، بثوب ونحوه. فلو أقر له بعبده، فأنكره، فوجهان.
أحدهما: يحكم يعتقه، لأنهما لا يدعيانه، كاللقيط إذا قال بعد بلوغه: أنا عبد
لزيد، فأنكر زيد، يحكم بحريته. وأصحهما: لا يعتق، لأنه محكوم برقه، فلا
يرفع إلا بيقين، بخلاف اللقيط، فإنه محكوم بحريته بالدار، فعلى هذا، حكمه
كالثوب ونحوه على ما مضى. أما إذا كان المقر به قصاصا، أو حد قذف،
فكذبه المقر له، فيسقط، وكذا لو أقر بسرقة توجب القطع، وأنكر رب المال
السرقة، فلا قطع. وفي المال، ما سبق. ولو أقرت بالنكاح، وأنكر، سقط حكم
الاقرار في حقه.
فرع في يده عبدان، فقال: أحدهما لزيد، ثم عين أحدهما، فقال
زيد: إنما عبدي الآخر، فهو مكذب للمقر في المعين، ومدع في الآخر.
فرع ادعى على رجل ألفا من ثمن مبيع، فقال: قد أقبضتك الألف،
وأقام بينة على إقراره بالقبض يوم كذا، فأقام المدعي بينة على إقرار المشتري بعد
بينته بأنه ما أقبضه الثمن، سمعت، وألزم المشتري الثمن، لأنه وإن قامت البينة
على إقرار البائع بالقبض، فقد قامت أيضا على أن صاحبه كذبه، فيبطل حكم
الاقرار، وبقي الثمن على المشتري.
الشرط الثالث: أن يكون معينا نوع تعيين، بحيث يتوقع منه الدعوى
والطلب. فلو قال لانسان أو واحد من بني آدم أو من أهل البلد: علي ألف، ففي
صحته وجهان بناء على ما لو أقر بمعين فكذبه، هل ينتزع من يده؟ إن قلنا: نعم، لأنه مال
ضائع، فكذا هنا، فيصح الاقرار، وإن قلنا: لا، لم يصح، وهو الصحيح. قال
المتولي: فلو جاء واحد فقال: أنا الذي أردتني ولي عليك ألف، فالقول قول المقر
15

بيمينه في نفي الإرادة ونفي الألف.
الركن الثالث: المقر به. ويجوز الاقرار بالمجهول، فإن كان ما يقر به عينا،
فشرطه أن لا يكون مملوكا للمقر حين يقر، لان الاقرار ليس إزالة ملك، وإنما هو
إخبار عن كونه مملوكا للمقر له. فلو قال: داري هذه، أو ثوبي الذي أملكه،
لزيد، فهو متناقض، وهو محمول على الوعد بالهبة، ولو قال: مسكني هذا
لزيد، كان إقرارا، لأنه قد يسكن ملك غيره. ولو شهدت بينة أن الدار الفلانية أقر
زيد بأنها ملك عمرو، وكانت ملك زيد إلى أن أقر، كانت الشهادة باطلة، نص
عليه. ولو قال: هي لزيد وكانت ملكي (إلى) وقت الاقرار، فاقراره نافذ. والذي
ذكره بعده مناقض لأوله، فيلغو كما لو قال: هي له، وليست له، وهذا في
الأعيان، وكذا في الديون إذا كان له على غيره في الظاهر دين، من قرض، أو
أجرة، أو ثمن، فقال: ديني الذي على زيد لعمرو، فهو باطل. ولو قال: الدين
الذي على زيد هو لعمرو، واسمي في الكتاب عارية، فهو إقرار صحيح، فلعله
16

كان وكيلا عنه في الاقراض والإجارة والبيع. ثم عمرو يدعي المال على زيد لنفسه،
فإن أنكر، فهو بالخيار بين أن يقيم البينة على دين المقر على زيد، ثم على إقراره له
بما على زيد، وبين أن يقيم البينة أولا على الاقرار، ثم على الدين، كذا ذكره
القفال.
فرع استثنى صاحب التلخيص ثلاثة ديون، ومنع الاقرار بها،
أحدها: الصداق في ذمة الزوج، لا تقر بالمرأة. والثاني: بدل الخلع في ذمة
الزوجة، لا يقر به الزوج. والثالث: أرش الجناية، لا يقر به المجني عليه.
فإن كانت الجناية على عبد أو مال آخر، جاز له أن يقر به للغير، لاحتمال كونه
له يوم الجناية. قال الأئمة: هذه الديون، وإن لم يتصور فيها الثبوت للغير ابتداءا
وتقديرا للوكالة، فيجوز انتقالها بالحوالة، وكذلك بالبيع على قول، فيصح الاقرار
بها عند احتمال جريان ناقل. وحملوا ما ذكره صاحب التلخيص على ما إذا أقر
17

بها عقيب ثبوتها، بحيث لا يحتمل جريان ناقل، لكن سائر الديون أيضا كذلك، فلا
يصح الاستثناء، بل الأعيان أيضا بهذه المثابة. حتى لو أعتق عبده، ثم أقر له السيد
أو غيره عقيب الاعتاق بدين أو غيره، لم يصح، لان أهلية الملك لم تثبت له إلا في
الحال، ولم يجر بينهما يوجب المال. وقال أبو العباس الجرجاني في الديون
الثلاثة: إن أسند الاقرار بها إلى جهة حوالة أو بيع، إن جوزناه، صح، وإلا،
فعلى قولين، كما لو أقر للحمل وأطلق.
فصل يشترط في الحكم بثبوت ملك المقر له، أن يكون المقر به تحت يد المقر
وتصرفه. فإن لم يكن، لم يحكم به في الحال، بل يكون ذلك دعوى أو شهادة،
ولا تلغيه من كل وجه بل لو حصل المقر به يوما في يد المقر، لزمه تسليمه إليه. ولو
قال: العبد الذي في يد زيد مرهون عند عمرو بكذا، ثم حصل العبد في يده، يؤمر
ببيعه في دين عمرو. ولو أقر بحرية عبد في يد رجل، أو شهد بحريته، فلم تقبل
شهادته، ثم اشتراه، صح، تنزيلا للعقد على قول من صدقه الشرع، وهو
البائع، ويحكم بحريته، وترفع يده عنه. ثم لاقراره صيغتان.
إحداهما: أن يقول: إنك أعتقته وتسترقه ظلما، قال الأصحاب: فيكون هذا
العقد من جانب البائع بيعا قطعا، وفي جانب المشتري، وجهان: أحدهما:
شراء. وأصحهما: افتداء، لاعترافه بحريته. وحكى الامام، والغزالي، فيه ثلاثة
أوجه. أصحها: بيع من البائع، وافتداء من المقر. والثاني: بيع منهما. والثالث:
فداء منهما. وهذا الثالث فاسد في جهة البائع. وكيف يصح أخذه المال ليفدي من
يسترقه؟! ولو قيل: فيه المعنيان، وأيهما أغلب؟ فيه الخلاف، لكان قريبا،
والمعتمد ما ذكرنا عن الأصحاب. ويثبت للبائع في هذا العقد خيار المجلس
والشرط، بناء على ظاهر المذهب، أنه بيع من جانبه. ولو كان البيع بثمن معين،
فخرج معيبا ورده، كان له استرداد العبد، بخلاف ما لو باع عبدا فأعتقه المشتري،
ثم خرج الثمن المعين معيبا ورده، حيث لا يسترد العبد، بل يعدل إلى القيمة
لاتفاقهما على العتق هناك. وأما المقر المشتري، فإن جعلناه شراء في حقه، فله
الخيار. وإن قلنا: فداء، فلا. وعلى الوجهين: لا رد له لو خرج العبد معيبا،
18

لكن له أخذ الأرش على قولنا: شراء، وليس له على الافتداء، وذكر الامام: أنه إذا
لم يثبت الخيار للمشتري، ففي ثبوته للبائع وجهان، لان هذا الخيار، لا يكاد
يتبعض. والمذهب على الجملة: ثبوته للبائع دون المشتري. وأما ولاؤه،
فموقوف. فإن مات وخلف مالا، ولا وارث له بغير الولاء، نظر، إن صدق البائع
المشتري، اخذه ورد الثمن. وإن كذبه وأصر على كلامه الأول، فظاهر النص: أن
الميراث يوقف كما وقف الولاء. واعترض عليه المزني فقال: للمشتري أخذ قدر
الثمن مما تركه. فإن فضل شئ، كان الفاضل موقوفا، لان المشتري، إما كاذب،
فالميت رقيق له وجميع أكسابه له، وإما صادق، فالأكساب للبائع إرثا بالولاء، وقد
ظلمه بأخذ الثمن، وتعذر استرداده، فإذا ظفر بماله، كان له أخذ قدر الثمن.
واختلف الأصحاب، فذهبت طائفة إلى ظاهر النص، وتخطئه المزني، قالوا: لأنه
لو أخذه لأنه كسب مملوكه، فقد نفاه بإقراره، أو بجهة الظفر بمال ظالمه، فقد بذله
تقربا إلى الله تعالى باستنقاذ حر، فلا يرجع فيه كالصدقة، ولأنه لا يدري بأي جهة
يأخذه، فيوقف إلى ظهور جهته. وذهب ابن سريج وأبو إسحاق والجمهور: إلى أن
المذهب ما قاله المزني. وقال ابن سريج وغيره: وقد نص عليه الشافعي رضي الله
عنه في غير هذا الموضع. وحملوا ما ذكره هنا، على أن ما يأخذه بجهة الولاء يكون
موقوفا وقف الولاء، وهو ما زاد على قدر الثمن. فأما المستحق بكل حال، فلا
معنى للوقف فيه. قالوا: ويجوز الرجوع في المبذول فدية وقربة، كمن فدى أسيرا
ثم استولى المسلمون على الكفار ووجد الفادي عين ماله، أخذه. وأما اختلاف
الجهة، فلا يمنع الاخذ بعد الاتفاق على أصل الاستحقاق.
الصيغة الثانية: يقول هو حر الأصل، أو أعتق قبل أن تشتريه، فإذا
اشتراه، فهو افتداء من جهته بلا خلاف. وأما إذا مات وخلف مالا، ولا وارث له
بغير الولاء، فماله لبيت المال، وليس للمشتري أخذ شئ منه، لان المال بزعمه
ليس للبائع حتى يأخذه عوضا عن الثمن. ولو مات العبد قبل ان يقبضه
المشتري، لم يكن للبائع أن يطالبه بالثمن، لأنه لا حرية في زعمه، وقد تلف
المبيع قبل القبض.
19

فرع لو أقر بحرية عبد، ثم استأجره، لم يحل له استخدامه، وللمكري
مطالبته بالأجرة. ولو أقر بحرية جارية لزيد، ثم قبل نكاحها (منه)، لم يحل (له)
وطؤها، ولزيد مطالبته بمهرها.
قلت: ينبغي أن يقال: إن أقر أن زيدا أعتقها، ولم يكن لها عصبة، صح
تزويجه، لأنه إما مالك، وإما مولى حرة. والله أعلم.
فرع قال: هذا العبد الذي في يدك غصبته من زيد، ثم اشتراه منه، ففي
صحة العقد، وجهان حكاهما الامام. أصحهما: الصحة، كما لو أقر بحريته ثم
اشتراه. والثاني: المنع، لان التصحيح هناك للافتداء والانقاذ من الرق، ولا يتجه
مثله في تخليص عبد الغير.
فرع أقر بعبد في يده لزيد، فقال العبد: بل أنا ملك عمرو، يسلم إلى
زيد، لأنه في يد من يسترقه، لا في نفسه. فلو أعتقه زيد، لم يكن لعمرو تسلم
رقبته، ولا التصرف فيها، لما فيه من إبطال ولاء زيد. وهل له أخذ أكسابه؟ وجهان.
وجه المنع: أن الأكساب، فرع الرق، ولم يثبت.
الركن الرابع: الصيغة، وفيه مسائل.
إحداها: قول القائل: لفلان كذا، صبغة إقرار. وقوله: لفلان علي، أو في
ذمتي، إقرار بالدين ظاهرا. وقوله: عندي أو معي، إقرار بالعين. وقوله: له قبلي
كذا، قال في التهذيب: هو دين، ويشبه أن يكون صالحا للدين والعين
20

جميعا.
قلت: قوله: إقرار بالعين، معناه: أنه يحمل عند الاطلاق على أن ذلك عين
مودعة له عنده، قاله البغوي. قال: حتى لو ادعى بعد الاقرار أنها كانت وديعة
تلفت، أو رددتها، قبل قوله بيمينه، بخلاف ما إذا قلنا: إنه دين، فإنه لو فسره
بالوديعة، لم يقبل. وإذا ادعى التلف، لم ينفعه، بل يلزمه الضمان. والله أعلم.
الثانية: إذا قال رجل: لك علي ألف، فقال في جوابه: زن، أو خذ، أو
استوف، أو اتزن، لم يكن إقرارا، لأنه ليس بالتزام، ولأنه قد يذكر للاستهزاء.
وفي وجه: اتزن، إقرار، وهو شاذ. ولو قال: خذه، أو زنه، أو اختم عليه، أو
شده في هميانك، أو اجعله في كيسك، أو اختم عليه، فليس بإقرار على
الصحيح، وقال الزبيري: إقرار.
قلت: ولو قال: وهي صحاح، فهو كقوله: زنه. والله أعلم.
ولو قال في الجواب: بلى، أو نعم، أو أجل، أو صدقت، فهو إقرار.
قالوا: ولو قال: لعمري، فإقرار. ولعل العرف يختلف فيه. ولو قال: أنا مقر به،
أو بما تدعيه، أو لست منكرا له فهو إقرار له. ولو قال: أنا مقر، ولم يقل: به،
أو لست منكرا، أو أنا أقر، فليس بإقرار. ولو قال: أنا أقر لك به، فوجهان. نسب
الامام كونه إقرارا إلى الأكثرين. وفيه نظر، لان العراقيين، والقاضي حسين،
والروياني، قطعوا بأنه ليس باقرار، ولا يحكى الوجه الآخر إلا نادرا. ويتأيد كونه
إقرارا، بأنهم اتفقوا على أنه لو قال: لا أنكر ما تدعيه، كان إقرارا، ولم يحملوه
على الوعد بالاقرار. ولو قال: لا أنكر أن يكون محقا، فليس باقرار، لجواز أن
يريد في شئ آخر. فلو قال: فيما يدعيه، فهو إقرار. ولو قال: لا أقر به ولا
أنكره، فهو كسكوته، فيجعل منكرا، وتعرض عليه اليمين. ولو قال: أبرأتني
منه، أو قضيته، فإقرار، وعليه بينة القضاء والابراء. وفي وجه: أبرأتني منه، ليس
بإقرار، وليس بشئ. ولو قال: أقررت بأنك أبرأتني واستوفيت مني فليس باقرار.
21

ولو قال في الجواب: لعل، أو عسى، أو أظن، أو أحسب، أو أقدر، فليس
بإقرار.
فرع اللفظ وإن كان صريحا في التصديق، فقد تنضم إليه قرائن تصرفه
عن موضوعه إلى الاستهزاء والتكذيب. ومن جملتها: الأداء، والابراء، وتحريك
الرأس الدال على شدة التعجب والانكار، فيشبه أن يحمل قول الأصحاب: إن
صدقت، وما في معناها، إقرار على غير هذه الحالة. فأما إذا اجتمعت القرائن،
فلا تجعل إقرارا. ويقال: فيه خلاف، لتعارض اللفظ والقرينة، كما لو قال: لي
عليك ألف، فقال فالجواب على سبيل الاستهزاء: لك علي ألف، فإن المتولي
حكى فيه وجهين.
المسألة الثالثة: إذا قال: أليس لي عليك ألف؟ فقال: بلى، كان إقرارا.
وإن قال: نعم، فوجهان. وقطع البغوي وغيره، بأنه ليس بإقرار كما هو مقتضاه في
اللغة. وقطع الشيخ أبو محمد والمتولي، بأنه إقرار، وصححه الامام، والغزالي،
لان الاقرار يحمل على مفهوم أهل العرف، لا على دقائق العربية.
قلت: هذا الثاني: هو الأصح، وصححه الرافعي في المحرر. والله
أعلم.
ولو قال: هل لي عليك ألف؟ فقال: نعم، فاقرار.
الرابعة: إذا قال: اشتر مني عبدي هذا، فقال: نعم، فهو إقرار منه
للقائل، كما لو قال: أعتق عبدي هذا، فقال: نعم. ويمكن أن يجئ فيه خلاف
مما سبق في الصلح، كقوله: بعنيه. ولو قال: اشتر مني هذا العبد، ولم يقل:
عبدي، فالتصديق بنعم يقتضي الاعتراف بأنه يملك بيعه، لا أنه يملك العبد.
ولو ادعى عليه عبدا، فقال: اشتريته من وكيلك فلان، فهو إقرار له، ويحلف
المدعي أنه ما وكل فلانا في بيع.
الخامسة: لو قال: له علي ألف في علمي، أو فيما أعلم، أو أشهد، فهي
إقرار.
السادسة: قال: كان علي ألف، أو كانت هذه الدار في السنة الماضية
22

له، فهل هو إقرار في الحال عملا بالاستصحاب، أم لا، لأنه غير معترف في
الحال؟ وجهان.
قلت: ينبغي أن يكون أصحهما: الثاني، وقد أشار إلى تصحيحه
الجرجاني. والله أعلم.
ويقرب منه الخلاف، فيما لو قال: هذه داري أسكنت فيها فلانا، ثم أخرجته
منها، فهو إقرار باليد على الأصح، لأنه اعترف بثبوتها وادعى زوالها. وقال أبو علي
الزجاجي: ليس باقرار، لأنه لم يعترف بيد فلان إلا من جهته. ولو قال: ملكتها من
زيد، فهو إقرار، بملكها لزيد، ودعوى انتقالها منه، فإن لم يصدقه زيد، لزمه ردها
إليه.
قلت: ولو قال: ملكتها على يد زيد، لم يكن إقرارا له بها، لان معناه: كان
زيد وكيلا، قاله البغوي. والله أعلم.
السابعة: قال: اقض الألف الذي لي عليك، فقال: نعم، فإقرار على
المذهب، وتردد فيه بعضهم. وإن قال: أعط غدا، أو ابعث من يأخذه، أو أمهلني
يوما، أو أمهلني حتى أصرف الدراهم أو أفتح الصندوق، أو اقعد حتى تأخذ، أو لا
أجد اليوم، أو لا تدم المطالبة، أو ما أكثر ما تتقاضى، أو والله لأقضينك، فجميع
هذه الصور إقرار عند أبي حنيفة رضي الله عنه. وأما أصحابنا، فمختلفون في
ذلك، والميل إلى موافقته في أكثر الصور أكثر. ومثله: أسرج دابة فلان هذه،
فقال: نعم. أو أخبرني زيد أن لي عليك ألفا فقال: نعم، أو متى تقضي حقي؟
فقال: غدا.
الثامنة: قال له رجل: غصت ثوبي. فقال: ما غصبت من أحد قبلك ولا
بعدك، فليس بإقرار. ولو قال: ما لزيد علي أكثر من مائة درهم، فليس بإقرار على
الأصح. وقيل: تلزم المائة. ولو قال معسر لزيد: علي ألف إن رزقني الله تعالى
23

مالا، فقيل: ليس بإقرار للتعليق، وقيل: إقرار، وذلك بيان لوقت الأداء. والأصح:
أنه يستفسر، فإن فسر بالتأجيل، صح، وإن فسر بالتعليق، لنا.
قلت: وإن تعذر استفساره، قال في العدة: الأصح: أنه إقرار. والله أعلم.
التاسعة: شهد عليه شاهد، فقال: هو صادق، أو عدل، فليس بإقرار. وإن
قال: صادق فيما شهد به، أو عدل فيه، كان إقرارا، قاله في التهذيب.
قلت: في لزومه بقوله: عدل، نظر. والله أعلم.
وإن قال: إن شهد علي فلان وفلان، أو شاهدان بكذا، فهما صادقان، فهو
إقرار على الأظهر وإن لم يشهدا. وإن قال: إن شهدا صدقتهما، فليس بإقرار
قطعا.
قلت: في البيان: أنه لو قال: لي عليك ألف درهم، فقال: لزيد علي
أكثر مما لك، لا شئ عليه لواحد منهما. ولو قال: لي مخرج من دعواك، فليس
بإقرار. قال: ولو قال: لي عليك ألف أقرضتكه، فقال: والله لا اقترضت
منك غيره، أو كم تمن به، قال الصيمري: هو إقرار. وإن قال: ما أعجب هذا،
أو نتحاسب، فليس بإقرار. وإن كتب: لزيد علي ألف درهم، ثم قال للشهود:
اشهدوا علي بما فيه، فليس بإقرار، كما لو كتب عليه غيره، فقال: اشهدوا بما
كتب. وقد وافقنا أبو حنيفة رضي الله عنه على الثانية دون الأولى. ووافق أيضا على
ما لو كتب ذلك على الأرض. ولو قال: له علي ألف إن مت، فليس بإقرار، كما لو
قال: إن قدم زيد. ووافق أبو حنيفة رضي الله عنه على الثانية دون الأولى. ولو
قال: له علي ألف إلا أن يبدو لي، فوجهان حكاهما في العدة والبيان، ولعل
الأصح: أنه إقرار. والله أعلم.
العاشرة: إقرار أهل كل لغة بلغتهم وغير لغتهم، إذا عرفوها، صحيح. ولو
أقر عجمي بالعربية وقال: لم أفهم معناه، بل لقنت فتلقنت، صدق بيمينه إن كان
ممن يجوز أن لا يعرفه، وكذا الحكم في جميع العقود والحلول.
24

الحادية عشرة: لو أقر ثم قال: كنت يوم الاقرار صغيرا، وهو محتمل، صدق
بيمينه، لان الأصل الصغر. وكذا لو قال: كنت مجنونا وقد عهد له جنون. ولو
قال: كنت مكرها، وهناك أمارة الاكراه، من حبس، أو موكل عليه، فكذلك. فإن
لم تكن أمارة، لم يقبل قوله. والامارة، إنما تثبت باعتراف المقر له، أو بالبينة،
وإنما يؤثر إذا كان الاقرار لمن ظهر منه الحبس والتوكيل. أما إذا كان في حبس زيد،
فلا يقدح ذلك في الاقرار لعمرو.
الثانية عشرة: إذا شهد الشهود، وتعرضوا لبلوغه، وصحة عقله، واختياره،
فادعى المقر خلافه، لم يقبل، لما فيه من تكذيب الشهود، ولا يشترط في الشهادة
التعرض للبلوغ والعقل، والطواعية، والحرية، والرشد. ويكتفى بأن الظاهر وقوع
الشهادة على الاقرار الصحيح. وفي قول: يشترط التعرض لحرية مجهول الحرية.
وخرج منه اشتراط التعرض لسائر الشروط، والمذهب الصحيح: الأول. قال
الأصحاب: وما يكتب في الوثائق أنه أقر طائعا في صحة عقله وبلوغه، احتياط. ولو
تقيدت شهادة الاقرار بكونه طائعا، وأقام (الشهود) عليه بينة بكونه كان مكرها، قدمت
بينة الاكراه، ولا تقبل الشهادة على الاكراه مطلقا، بل لابد من التفصيل.
الباب الثاني في الاقرار بالمجمل يصح الاقرار بالمجمل،
وهو المجهول للحاجة. وسواء أقر به ابتداء، أو
جوابا عن دعوى معلومة، بأن قال: لي عليك ألف، فقال: لك علي شئ.
والألفاظ التي تقع فيها الجهالة، لا تنحصر. وبين الشافعي والأصحاب رضي الله
عنهم ما كثر استعماله، ليعرف ويقاس عليه غيره،
وألفاظ الباب سبعة أضرب.
الضرب الأول: شئ. فإذا قال: له علي شئ، طلبنا تفسيره. فإن فسره
بما يتمول، قبل، كثر أم قل، كرغيف، وفلس، وتمرة حيث يكون لها قيمة. وإن
فسره بما لا يتمول، لكنه من جنس ما يتمول، كحبة حنطة، أو شعير، أو قمع
باذنجانة، فوجهان. أحدهما: لا يقبل تفسيره، لأنه لا يصح التزامه، كما لا تصح
الدعوى به. وأصحهما: القبول، لأنه شئ يحرم أخذه، ويجب على آخذه رده،
25

وقولهم: لا تصح الدعوى به، ممنوع. والتمرة أو الزبيبة حيث لا قيمة لها، على
الوجهين. وقيل: يقبل قطعا. وإن لم يكن من جنس ما يتمول، فإما أن يجوز
اقتناؤه لمنفعته، وإما، لا. فالأول: كالكلب المعلم، والسرجين، وجلد الميتة
القابل للدباغ، والكلب القابل للتعليم، والخمر المحترمة، فيقبل التفسير به على
الأصح. وأما الثاني: فكالخنزير، وجلد الكلب، والكلب الذي لا نفع فيه،
والخمر غير المحترمة، فلا يقبل تفسيره به على الأصح. ولو فسره بوديعة، قبل على
الصحيح، لان عليه ردها عند الطلب، وقد يتعدى فتصير مضمونة، وقيل: لا،
لأنها في يده، لا عليه. ولو فسر بحق الشفعة، قبل. ولو فسره برد السلام
والعيادة، لم يقبل. قال البغوي: ولو قال: له حق، قبل تفسيره بهما، وفيه
نظر.
قلت: ولو فسر الشئ بحد قذف، قبل على الأصح. والله أعلم.
فرع لو قال: غصبت منه شيئا، قبل تفسيره ما يقبل في الصور السابقة إذا
احتمله اللفظ، احترازا من الوديعة وحق الشفعة، ويقبل بالخمر والخنزير، نص
عليه في الام، لأن الغصب لا يشعر بالتزام وثبوت مال، وإنما يقتضي الاخذ،
بخلاف قوله: علي. ولو قال: له عندي شئ، وفسر بخمر أو خنزير، قبل على
الصحيح.
26

قلت: قال أصحابنا: لو قال: غصبتك، أو غصبتك ما تعلم، لم يلزمه
شئ، لأنه قد يغصبه نفسه، فيحبسه. ولو قال: غصبتك شيئا، ثم قال: أردت
نفسك، لم يقبل. والله أعلم.
فصل إذا أقر بمجمل، إما شئ، وإما غيره، مما سنذكره إن شاء الله
تعالى، وطالبناه بالتفسير، فامتنع، فأربعة أوجه. أصحها: نحبسه كحبسنا من
امتنع من أداء الحق، لان التفسير واجب عليه. والثاني: لا يحبس، بل ينظر،
إن وقع الاقرار المبهم في جواب دعوى، وامتنع من التفسير، جعل منكرا، وتعرض
اليمين عليه. فإن أصر، جعل ناكلا، وحلف المدعي. وإن أقر ابتداءا، قلنا للمقر
له: ادع عليه حقك، فإذا ادعى، وأقر بما ادعاه، أو أنكر، أجرينا عليه حكمه.
وإن قال: لا أدري، جعلناه منكرا، فإن أصر، جعلناه ناكلا، لأنه إذا أمكن حصول
الغرض بلا حبس، لا يحبس. والثالث: إن أقر بغصب، وامتنع من بيان
المغصوب، حبس. وإن أقر بدين مبهم، فالحكم كما ذكرنا في الوجه الثاني.
والرابع: إن قال: علي شئ، وامتنع من التفسير، لم يحبس. وإن قال: علي
ثوب، أو فضة، ولم يبين، حبس، قاله أبو عاصم العبادي، وأشار في شرح
كلامه، إلى أن الفرق مبني على قبول تفسير الشئ بالخمر ونحوه، فإنه لا يتوجه
بذلك مطالبة وحبس.
فرع إذا فسر المبهم بتفسير صحيح، وصدقه المقر له، فذاك، وإلا
فليبين جنس الحق وقدره، وليدعه، والقول قول المقر في نفيه. ثم إن كان من
جنسه، بأن فسر بمائة درهم، وقال المقر له: لي عليك مائتان، فإن صدقه على
إرادة المائة، فهي ثابتة باتفاقهما، ويحلف المقر على نفي الزيادة. وإن قال: أراد
به المائتين، حلف المقر أنه ما أراد المائتين، وأنه ليس عليه إلا مائة، ويجمع بينهما
بيمين واحدة على الصحيح. وقال ابن المرزبان: لا بد من يمينين. فلو نكل،
حلف المقر له على استحقاق المائتين، ولا يحلف على الإرادة، لأنه لا اطلاع له
عليها، بخلاف ما إذا مات المقر، وفسر الوارث، فادعى المقر له زيادة، فيحلف
الوارث على نفي إرادة المورث، لأنه قد يطلع من حال مورثه على ما لا يطلع عليه
غيره. قال البغوي: ومثله: لو أوصى بمجمل ومات، ففسره الوارث، وزعم
27

الموصى له أنه أكثر يحلف الوارث على نفي العلم باستحقاق الزيادة، ولا يتعرض
للإرادة. والفرق، أن الاقرار إخبار عن حق سابق، وقد يطلع عليه، والوصية إنشاء
أمر على الجهالة، وبيانه: إذا مات (الموصي) إلى الوارث. وأما إذا كان ما ادعاه
من غير جنس ما فسر به المقر، فينظر، إن صدقه في الإرادة، فقال: هو ثابت لي
عليه، ولي عليه مع ذلك كذا، ثبت المتفق عليه، والقول قول المقر في نفي غيره.
وإن صدقه في الإرادة، وقال: ليس لي عليه ما فسر (به)، إنما لي عليه كذا، بطل
حكم الاقرار برده، وكان مدعيا عليه في غيره. وإن كذبه في دعوى الإرادة، وقال:
إنما أراد ما ادعيته، حلف المقر على نفي الإرادة، وبقي ما يدعيه. ثم إن كذبه في
استحقاق المقر به، بطل الاقرار فيه، وإلا، فيثبت. ولو اقتصر المقر له على دعوى
الإرادة، وقال: ما أردت بكلامك ما فسرته به، وإنما أردت كذا، إما من جنس
المقر به، وإما من غيره، لم يسمع منه، لان الاقرار والإرادة لا يثبتان حقا له، بل
الاقرار إخبار عن سابق، فعليه أن يدعي الحق نفسه. قال الامام: وفيه وجه
ضعيف: أنه تقبل دعوى الإرادة المجردة، وهو كالخلاف في أن من ادعى على
خصمه أنه أقر له بألف درهم، هل تسمع؟ أم عليه أن يدعي نفس الألف؟ أما إذا
ضم إلى الإرادة دعوى الاستحقاق، فيحلف المقر على نفيهما على التفصيل
المذكور. واتفقت الطرق عليه.
فرع مات المبهم قبل التفسير، طولب به الوارث. فإن امتنع، فقولان.
أحدهما: يوقف مما ترك أقل ما يتمول. وأظهرهما: يوقف الجميع، لأنه مرتهن
بالدين.
الضرب الثاني: مال. فإذا قال: له علي مال، قبل تفسيره بأقل ما يتمول،
ولا يقبل بما ليس بمال، كالكلب وجلد الميتة، قال الامام: والوجه: القبول بالتمرة
الواحدة حيث يكثر، لأنه مال، وإن لم يتمول في ذلك الموضع، هكذا ذكره
العراقيون، وقالوا: كل متمول مال، ولا ينعكس. وتلتحق حبة الحنطة بالتمرة.
وفي قبول التفسير بالمستولدة، وجهان. أصحهما: القبول. وإن فسره بوقف
عليه، فيشبه أن يخرج على الخلاف في الملك في رقبة الوقف، هل هو للموقوف
عليه؟
28

فرع إذا قال: له علي مال عظيم، أو كثير، أو كبير، أو جليل، أو
نفيس، أو خطير، أو غير تافه، أو مال، وأي مال، قبل في تفسيره بأقل ما
يتمول، لأنه يحتمل أن يريد عظيم خطره بكفر مستحله، وإثم غاصبه وقد قال
الشافعي رضي الله عنه: أصل ما أبني عليه الاقرار، أن لا ألزم إلا اليقين، وأطرح
الشك، ولا أستعمل الغلبة.
وحكي وجه غريب: أنه يجب أن يزيد تفسير مال عظيم على تفسير مطلق
المال، ليكون لوصفه بالعظم فائدة. ولو قال: مال حقير، أو قليل، أو خسيس،
أو طفيف، أو تافه، أو نزر، أو يسير، فهو كقوله: مال. وتحمل هذه الصفات
على احتقار الناس إياه، أو على أنه فان.
فرع قال: لزيد علي مال أكثر من مال فلان، يقبل تفسيره بأقل متمول وإن
كثر مال فلان، لأنه يحتمل أنه أكثر لكونه حلالا، وذلك حرام أو نحوه.
قلت: وسواء علم مال فلان، أم لم يعلم. والله أعلم.
وكما أن القدر مبهم، فكذلك الجنس والنوع. ولو قال: له علي من الذهب أكثر من مال
29

فلان عددا والابهام في الجنس والنوع. ولو قال: له علي من الذهب أكثر من مال
فلان، فالابهام في القدر والنوع. ولو قال: من صحاح الذهب، فالابهام في القدر
وحده. ولو قال: لزيد علي (مال) أكثر مما شهد به الشهود على فلان، قبل في تفسيره
بأقل متمول، لاحتمال أن يعتقدهم شهود زور، ويقصد أن القليل الحلال أكثر بركة
من كثير يؤخذ بالباطل. ولو قال: أكثر مما قضى به القاضي على فلان، فوجهان.
أحدهما: يلزم القدر المقضي به، لان قضاء القاضي محمول على الحق.
وأصحهما: أنه كالشهادة، فيقبل أقل متمول، لأنه قد يقضي بشهادة كاذبين. ولو
قال: لزيد علي أكثر مما في يد فلان، قبل أقل متمول. ولو قال: له علي أكثر مما
في يد فلان من الدراهم، لم يلزمه التفسير بجنس الدراهم، لكن يلزم بذلك العد
من أي جنس فسر، وزيادة أقل متمول، كذا قاله في التهذيب، وهو مخالف ما
سبق من وجهين. أحدهما: إلزام ذلك العدد. والثاني: إلزام زيادة، لان التأويل
الذي ذكرناه للأكثرية، بنفيهما جميعا. ولو قال: له علي من الدراهم أكثر مما في
يد فلان من الدراهم، وكان في يد فلان ثلاثة دراهم، قال البغوي: يلزمه ثلاثة
دراهم، وزيادة أقل ما يتمول. والأصح: ما نقله الامام أنه لا يلزمه زيادة، حملا
للأكثر على ما سبق. وحكى عن شيخه: أنه لو فسره بما دون الثلاثة، قبل أيضا.
ولو كافي يده عشرة دراهم، وقال المقر: لم أعلم، وظننتها ثلاثة، قبل قوله
بيمينه.
الضرب الثالث: كذا. فإذا قال: لزيد علي كذا، فهو كقوله: له شئ. ولو
قال: كذا كذا، فهو كقوله: كذا، والتكرار للتأكيد. ولو قال: كذا وكذا، لزمه
التفسير بشيئين متفقين أو مختلفين، بحيث يقبل كل واحد منهما في تفسير كذا.
وهكذا الحكم فيما لو قال: علي شئ شئ، أو شئ وشئ. ولو قال: كذا
درهم، يلزمه درهم فقط، وكان الدرهم تفسير ما أبهمه. وفي وجه لأبي إسحاق:
يلزمه عشرون درهما إن كان يعرف العربية، لأنه أول اسم مفرد ينتصب الدرهم
المفسر بعده. والصحيح المعروف: هو الأول. وأجاب الأصحاب، بأن في تفسير
المبهم لا ينظر إلى الاعراب. ولهذا لو قال: علي كذا درهم صحيح، لا يلزمه مائة
30

درهم بالاتفاق، وإن كان ذلك مقتضاه بالعربية. ولو قال: كذا درهم من غير صفة
الصحة، لزمه أيضا درهم على الصحيح. وقيل: بعض درهم. ولو قال: كذا
درهم، بالرفع، لزمه درهم بلا خلاف.
ولو قال: كذا درهم، ووقف عليه ساكنا، فكالمخفوض.
ولو قال: كذا كذا درهما، لزمه درهم فقط على الصحيح. وقال أبو إسحاق:
يلزمه أحد عشر درهما إن عرف العربية. ولو قال: كذا كذا درهم، أو درهم لزمه
درهم فقط. ويجئ في المخفوض الوجه السابق ببعض درهم. ولو قال: كذا وكذا
درهما، لزمه درهمان على المذهب. وفي قول: درهم. وفي قول: درهم
وشئ. وفي وجه لأبي إسحاق: أحد وعشرون درهما إن عرف العربية. ولو قال:
كذا وكذا درهم، بالرفع، لزمه درهم فقط على المذهب. وقيل: قولان. ثانيهما:
درهمان. ولو قال: كذا وكذا درهم، بالخفض، لزمه درهم فقط. ويمكن أن
يخرج مما سبق أنه يلزمه شئ وبعض درهم، أو لا يلزمه إلا بعض درهم. ولو قال:
كذا وكذا وكذا درهما، فإن قلنا: إذا كرر مرتين يلزمه درهمان، لزمه هنا ثلاثة. وإن
قلنا: درهم، فكذا هنا.
31

فصل قال: له علي ألف ودرهم، أو ودراهم، أو ألف وثوب، أو ألف
وعبد، فله تفسيره بغير جنس ما عطف عليه. ولو قال: له خمسة عشر درهما،
فكلها دراهم. ولو قال: خمسة وعشر ودرهما، فكلها دراهم على الصحيح
وقال ابن خيران، والاصطخري: العشرون دراهم والخمسة مجملة تفسرها.
وعلى هذا الخلاف قوله: مائة وخمسة وعشرون درهما، وقوله: ألف ومائة وخمسة
وعشرون درهما، وكذا قوله: ألف وثلاثة أثواب، وقوله: مائة وأربعة دنانير،
وقوله: مائة ونصف درهم. ولو قال: درهم ونصف، أو عشرة دراهم ونصف،
فالكل دراهم على الصحيح الذي قاله الأكثرون، لأنه المعروف في الاستعمال.
وقال الإصطخري وجماعة: النصف مجملة.
ولو قال: نصف ودرهم، فالنصف مجمل. ولو قال: مائة وقفيز حنطة،
فالمائة مجملة، بخلاف قوله: مائة وثلاثة دراهم، لان الدراهم تصلح تفسيرا
للكل، والحنطة لا تصلح تفسيرا للمائة، لأنه لا يصح أن يقال: مائة حنطة. ولو
قال: علي ألف درهم، برفعهما وتنوينهما، فسر الألف بما لا ينقص قيمته عن
درهم، كأنه قال: الألف مما قيمة الألف منه درهم.
الضرب الرابع: درهم. قد ذكرنا في الزكاة، أن دراهم الاسلام المعتبر بها
نصب الزكاة والديات وغيرها، كل عشرة منها سبعة مثاقيل، وكل درهم ستة دوانيق.
ونزيد الآن، أن الدانق: ثمان حبات وخمسا حبة، فيكون الدرهم خمسين حبة
وخمسي حبة، والمراد: حبة الشعير المتوسطة التي لم تقشر، لكن قطع من طرفيها
ما دق وطال، والدينار: اثنان وسبعون حبة منها، هكذا نقل عن رواية أبي
القاسم بن سلام، وحكاه الخطابي عن ابن سريج. وفي الحلية للروياني، أن
الدانق ثمان حبا ت، فيكون الدرهم: ثمانية وأربعين حبة. فإذا قال: له علي
درهم، أو ألف درهم ثم قال: هي ناقصة، نظر، إن كان في بلد دراهمه تامة،
وذكره متصلا، قبل على المذهب، كما لو استثنى. وقال ابن خيران: في قبوله
قولان بناء على تبعيض الاقرار. وإن كان ذكره منفصلا، لم يقبل، ولزمه دراهم
32

الاسلام، إلا أن يصدقه المقر له، لان لفظ الدرهم صريح فيه وضعا وعرفا. واختار
الروياني أنه يقبل، لان اللفظ يحتمله، والأصل براءة ذمته، وحكاه عن جماعة من
الأصحاب، وهو شاذ. وإن كان في بلد دراهمه ناقصة، قبل إن ذكره متصلا قطعا،
وكذا إن ذكره منفصلا على الأصح المنصوص. ويجري هذا الخلاف، فيمن أقر في
بلد وزن دراهمه أكثر من دراهم الاسلام، مثل غزنة، هل يحمل على دراهم
البلد، أو الاسلام؟ فإن قلنا بالأول، فقال: عنيت دراهم الاسلام، منفصلا، لم
يقبل. وإن كان متصلا، فعلى الطريقين. والمذهب: القبول.
فرع الدرهم عند الاطلاق، إنما يستعمل في النقرة. فلو أقر بدراهم،
وفسرها بفلوس، لم يقبل، وإن فسرها بمغشوشة، فكالتفسير بالناقصة، لان نقرتها
تنقص عن التامة، فيعود فيه التفصيل في الناقصة. ولو فسر بجنس ردئ من
الفضة، أو قال: أردت من سكة كذا، وهي جارية في ذلك البلد، قبل، كما لو
قال: له علي ثوب، ثم فسره بردئ، أو بما لا يعتاد أهل البلد لبسه، بخلاف ما لو
فسر بناقصة، لأنه يرفع شيئا مما أقر به، ويخالف البيع، فإنه يحمل على سكة
البلد، لأنه إنشاء معاملة. والغالب، أن المعاملة في كل بلد بما يروج
فيه. والاقرار، إخبار عن حق سابق، وربما ثبت في ذمته ببلد آخر، فوجب قبول
تفسيره. وقال المزني: لا يقبل تفسيره بغير سكة البلد، ووافقه غيره من أصحابنا.
فرع إذا قال: له علي درهم أو دريهمات، أو درهم صغير، أو دراهم
صغار، ففيه اختلاف كثير. والأصح: أنه كقوله: درهم أو دراهم، فيعود في
تفسيره بالنقص التفصيل السابق، وليس التقييد بالصغير كالتقييد بالنقصان، لان لفظ
الدراهم صريح في الوزن، والوصف بالصغير يجوز أن يكون في الشكل، ويجوز
بالإضافة إلى غيرها. وقال الشيخ أبو حامد ومن تابعه: يلزمه من الدراهم الطبرية،
وهي أربعة دوانيق. ولم يفرقوا بين بلد وبلد، لان ذلك المتيقن. ولو قال: درهم
كبير، فالمذهب: أنه كقوله: درهم. وقال البغوي: إن كان في بلد أوزانهم ناقصة
أو تامة، لزمه درهم الاسلام. وإن كانت أوزانهم زائدة، لزمه من نقد البلد. وفي
33

إلزامه نقد البلد إشكال.
فرع إذا قال: علي دراهم، لزمه ثلاثة، ولا يقبل تفسيره بأقل منها. ولو
قال: دراهم عظيمة، أو كثيرة، فثلاثة، ويجئ فيه الوجه السابق في مال عظيم
ولو قال: علي أقل أعداد الدراهم، لزمه درهمان. ولو قال: مائة درهم عدد،
لزمه مائة درهم بوزن الاسلام صحاح. قال في التهذيب: ولا يشترط أن يكون
كل واحد ستة دوانيق، وكذلك في البيع. ولا يقبل مائة بالعدد ناقصة الوزن، إلا أن
يكون نقد البلد عددية ناقصة، فظاهر المذهب: القبول. ولو قال: علي مائة عدد
من الدراهم، اعتبر العدد دون الوزن.
فصل قال: علي من درهم إلى عشرة، لزمه تسعة على الأصح عند
العراقيين، والغزالي. وقيل: عشرة، وصححه البغوي. وقيل: ثمانية،
كما لو قال: بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار، لا يدخل الجداران في
البيع. واحتج الشيخ أبو حامد للأول، بأنه لو قال: لفلان من هذه النخلة إلى
هذه النخلة، تدخل الأولى في الاقرار دون الأخيرة. وفيما قاله نظر، وينبغي أن لا
تدخل الأولى أيضا، كقوله: بعتك من هذا الجدار إلى هذا الجدار. ولو قال: ما بين
درهم إلى عشرة، فالصحيح المشهور: أنه يلزمه ثمانية، وهو نصه. وقيل:
تسعة، ونقله في المفتاح عن نصه. وقيل: عشرة، حكاه أبو خلف السلمي عن
القفال. ولم يفرقوا بين قوله: ما بين درهم إلى عشرة، وقوله: ما بين درهم
وعشرة. وربما سووا بينهما. ويجوز أن يفرق، فيقطع بالثمانية في الصيغة الأخيرة.
قلت: القطع بالثمانية، هو الصواب، وقول الإمام الرافعي رحمه الله: لم
يفرقوا، غير مقبول، فقد فرق القاضي أبو الطيب في تعليقه، فقطع بالثمانية في
34

قوله: ما بين درهم وعشرة. وذكر الأوجه فيما بين درهم إلى عشرة. والله أعلم.
فصل قال: له علي درهم في عشرة، إن أراد الظرف، لزمه درهم فقط.
وإن أراد الحساب، فعشرة. وإن أراد بفي: مع، لزمه أحد عشر. وإن
أطلق، فدرهم. وحكي قول في مثله في الطلاق: أنه يحمل على الحساب، وهو
جار هنا.
الضرب الخامس: الظرف. الأصل في هذا، أن الاقرار بالظروف ليس إقرارا
بالمظروف. وكذا عكسه، ودليله، البناء على اليقين. أما إذا قال: له عندي زيت
في جرة، أو سيف في غمد، أو ثوب في منديل، أو تمر في جراب، أو لبن في
كوز، أو طعام في سفينة، أو غصبته زيتا في جرة، فهو مقر بالمظروف فقط. ولو
قال: له عندي غمد فيه سيف، وجرة فيها زيت، وجراب فيه تمر، وسفينة فيها
طعام، فاقرار بالظرف فقط. ولو قال: فرس في إصطبل، أو حمار على ظهره
إكاف، أو دابة عليها سرج أو زمام، وعبد على رأسه عمامة، أو في وسطه
منطقة، أو في رجله خف، أو عليه قميص، فاقرار بالدابة والعبد فقط. ولو قال:
عمامة على رأس عبد، أو سرج على ظهر دابة، فاقرار بالعمامة والسرج فقط.
وقال صاحب التلخيص: إذا قال: عبد على رأسه عمامة، أوفي رجله خف،
فاقرار بهما مع العبد. وجمهور الأصحاب، على ما سبق. ولو قال: دابة
مسروجة، أو دار مفروشة، لم يكن مقرا بالسرج والفرش، بخلاف ما لو قال:
بسرجها وبفرشها، وبخلاف ما لو قال: ثوب مطرز، لان الطراز، جزء من الثوب.
وقيل: إن ركب فيه بعد النسج، فعلى وجهين مذكورين في أخوات المسألة. ولو
قال: فص في خاتم، فإقرار بالفص فقط، ولو قال: خاتم فيه فص ففي كونه مقرا
أيضا بالفص وجهان. قال البغوي. أصحهما: المنع. ولو اقتصر على قوله:
عندي له خاتم. ثم قال بعد ذلك: ما أردت الفص، لم يقبل منه على المذهب،
بل يلزمه الخاتم بفصه، لان الخاتم تناولهما، فلا يقبل رجوعه عن بعض ما تناوله
35

الاقرار، وحكى الغزالي فيه وجهين. ولو قال: حمل في ببطن جارية، لم يكن مقرا
بالجارية. وكذا بطن نعل في حافر دابة، وعروة على قمقمة.
ولو قال: جارية في بطنها حمل، ودابة في حافرها نعل، وقمقمة عليها
عروة، فوجهان. كقوله: خاتم في فص. ولو قال: هذه الجارية لفلان، وكانت
حاملا، لم يدخل الحمل في الاقرار على الأصح، لأنه إخبار، فكان على حسب
إرادة المخبر، بخلاف البيع، فإن الحمل يدخل فيه. ولو قال: له هذه الجارية إلا
حملها، لم يدخل الحمل قطعا. ولو قال: ثمرة على شجر، لم يكن مقرا
بالشجرة. ولو قال: شجرة عليها ثمرة، بني على أن الثمرة هل تدخل في مطلق
الاقرار بالشجرة؟ وهي لا تدخل بعد التأبير على الصحيح، ولا قبله على الأصح،
وبه قطع البغوي، لان الاسم لا يتناولها لغة، بخلاف البيع، فإنه ينزل على
المعتاد، وذكر القفال وغيره في ضبط الباب: أن ما دخل تحت البيع المطلق، دخل
تحت الاقرار، وما لا، فلا، وما ذكرنا في المسائل يقتضي أن يقال في الضبط: ما
لا يتبع في البيع، ولا يتناوله الاسم، لم يدخل، وما يتبع ويتناوله الاسم، دخل،
وما يتبع ولم يتناوله الاسم، فوجهان.
فصل إذا قال: له علي ألف في هذا الكيس، لزمه، سواء كان فيه ألف،
أم لم يكن فيه شئ أصلا، لان قوله: علي، يقتضي اللزوم، ولا يكون مقرا
بالكيس كما سبق. فإن كان فيه دون الألف، فوجهان. قال أبو زيد: لا يلزمه إلا
ذلك القدر. وقال القفال: يلزمه الاتمام، وهذا أصح. ولو قال: علي الألف الذي
في هذا الكيس، وكان فيه دون الألف، لم يلزمه الاتمام على الصحيح. وإن لم
يكن فيه شئ، فوجهان. ويقال: قولان، بناء على ما لو حلف: ليشربن ماء هذا
الكوز، ولا ماء فيه، هل تنعقد يمينه ويحنث، أم لا؟
قلت: ينبغي أن يكون الراجح: أنه لا يلزمه، لأنه لم يعترف بشئ في
ذمته. والله أعلم.
فصل لو قال: لفلان في هذا العبد ألف درهم، فهذا لفظ مجمل،
36

فيسأل، فإن قال: أردت أنه جني عليه، أو على ماله جناية أرشها ألف، قبل ويعلق
الأرش برقبته. وإن قال: أردت أنه رهن عنده بألف علي، فوجهان. أحدهما: لا
يقبل، لان اللفظ يقتضي كون العبد محلا للألف، ومحل الدين الذمة، لا
المرهون. فعلى هذا، إذا نازعه المقر له، أخذناه بالألف الذي ذكره في التفسير،
وطالبناه للاقرار المجم بتفسير صالح. وأصحهما: القبول، لان الدين وإن كان في
الذمة، فله تعلق ظاهر بالمرهون. وإن قال: أردت أنه وزن في ثمنه ألفا، قيل له:
هل وزنت في ثمنه شيئا؟ فإن قال: لا، فالعبد كله للمقر له. وإن قال: نعم،
سئل عن كيفية الشراء، أكان دفعة واحدة، أم لا؟ فإن قال: دفعة، سئل ما قدر ما
وزن؟ فإن قال: وزنت ألفا أيضا، فالعبد بينهما نصفان. وإن قال: ألفين، فله ثلثا
العبد، وللمقر له ثلاثة. وعلى هذا، القياس، ولا نظر إلى قيمة العبد. وإن قال:
اشتريناه دفعتين ووزن هو في ثمن عشره مثلا ألفا، واشتريت أنا تسعة أعشاره بألف،
قبل قوله، لأنه محتمل. وإن قال: أردت أنه أوصي له من ثمنه بألف، قبل وبيع
ودفع إليه من ثمنه ألف، وليس له دفع الألف من ماله. ولو قال: دفع إلي الألف لأشتري له
العبد، ففعلت، فإن صدقه المقر له، فالعبد له. وإن كذبه، فقد رد إقراره بالعبد،
وعليه رد الألف الذي أخذ. وإن قال: أردت أنه أقرضني ألفا، فصرفته إلى ثمنه،
قبل ولزمه الألف. وتوجيه الخلاف إذا أقر برهنه يقتضي عوده هنا. ولو قال: له من
هذا العبد ألف درهم، فهو كقوله: في هذا العبد. ولو قال: من ثمن هذا العبد،
فكذلك، قاله في التهذيب. وجميع ما ذكرناه في هذا الفصل، هو فيما إذا
اقتصر على قوله: (له) في هذا العبد، ولم يقل: علي، فإن قال: علي، كان التزاما
بكل حال، كما سنذكره إن شاء الله تعالى في آخر الفصل الذي بعد هذا.
فرع قال: له علي درهم في دينار، فهو كقوله: له ألف في هذا العبد.
فإن نوى نفي مع، لزماه.
قلت: وإن لم ينو شيئا، لزمه درهم فقط. والله أعلم.
فصل قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: لو قال: له في ميراث
أبي ألف درهم، كان مقرا على أبيه بدين. ولو قال: له في ميراثي من أبي ألف
درهم، كان هبة، إلا أن يريد إقرارا. قال الأصحاب: النصان على ظاهرهما.
37

وعن صاحب التقريب إشارة إلى التسوية، كأنه نقل وخرج. والمذهب:
الفرق. ومثله، لو قال: له في هذه الدار نصفها، فهو إقرار. ولو قال: في داري
نصفها، فهو وعد هبة، نص عليهما. ولو قال: له في مالي ألف درهم، كان
إقرارا. ولو قال: له من مالي ألف درهم، كان وعد هبة، نص عليهما. واختلف
الأصحاب في قوله: له في مالي ألف، فقيل: قولان. أحدهما: هو وعد هبة.
والثاني: إقرار. وقيل: هبة قطعا. وحملوا النص على خطأ الناسخ، وربما أولوه
على ما لو أتى بصيغة التزام فقال: علي في مالي، فإنه إقرار، كما سنذكره إن شاء
الله تعالى. وإذا أثبتنا الخلاف، فعن الشيخ أبي علي، طرده فيما إذا قال: في
داري نصفها. وامتنع من طرده فيما إذا قال: في ميراثي من أبي. وعن صاحب
التقريب وغيره، طرده فيه بطريق الأولى، لان قوله: في ميراثي من أبي، أولى
بأن يجعل إقرارا من قوله: في مالي أو في داري، لان التركة مملوكة للورثة مع تعلق
الدين بها، فيحسن إضافة الميراث إلى نفسه مع الاقرار بالدين، بخلاف المال
والدار. وأما فرقه في النص الأخير، بين في ومن، فمن الأصحاب من
قال: لا فرق، ولم يثبت هذا النص، أو أولوه، ومنهم من فرق، بأن في
يقتضي كون مال المقر ظرفا لمال المقر له، وقوله: من ما لي، يقتضي التبعيض،
وهو ظاهر في الوعد بأنه يقطع له شيئا من ماله. وإذا فرقنا بينهما، لزمه مثله في
الميراث قطعا. والمذهب: أنه لا فرق بينهما، وأن الحكم في قوله: في مالي
كما ذكرنا أولا في ميراثي. واستبعد الامام تخريج الخلاف في قوله: له في داري
نصفها، لأنه إذا أضاف الكل إلى نفسه، لم ينتظم منه الاقرار ببعضه، كما لا ينتظم
الاقرار بكله في قوله: داري لفلان، وخصص طريقة الخلاف بما إذا لم يكن
المقر به جزءا من مسمى ما أضافه إلى نفسه، كقوله: في مالي ألف، أو في داري
ألف. وحيث قلنا في هذه الصور: إنه وعد هبة، لا إقرار، فذلك إذا لم يذكر كلمة
الالتزام فأما إذا ذكرها بأن قال: علي ألف درهم في هذا المال، أو في مالي، أو
في ميراثي من أبي، أو في ميراث أبي، أو في داري، أو في عبدي، أو هذا
العبد، فهو إقرار بكل حال. ولو قال: له في ميراث من أبي، أو في مالي بحق
لزمني. أو بحق ثابت، وما أشبهه، فهو إقرار بكل حال، كما لو قال: علي، ذكره
ابن القاص، والشيخ أبو حامد، وغيرهما. واعلم أن مقتضى قولنا في قوله: علي
38

في هذا المال، أو في هذا العبد ألف درهم، هو إقرار: أنه يلزمه الألف وإن لم يبلغ
ذلك المال ألفا، بخلاف ما إذا قال: له علي ألف في هذا الكيس، وكان فيه دون
الألف، فإن فيه خلافا سبق، فإن ظرفية العبد للدراهم، ليست كظرفية الكيس لها،
لكن لو قال: له في هذا العبد ألف، من غير كلمة علي، وفسره بأنه أوصى له
بألف من ثمنه، فلم يبلغ ثمنه ألفا، لم يجب عليه تتميم الألف بحال.
قلت:
الضرب السادس: التأكيد والعطف ونحوهما. وفيه مسائل.
إحداها: قال: علي درهم درهم درهم، لزمه درهم فقط، وكذا لو كرره
هكذا ألف مرة فأكثر. ولو قال: درهم ودرهم، أو درهم ثم درهم، لزمه درهمان
للمغايرة. ولو قال: درهم ودرهم ودرهم، لزمه بالأول والثاني درهمان. وأما
الثالث، فإن أراد به درهما آخر، لزمه، وإن قال: أردت به تأكيد الثاني، قبل،
ولزمه درهمان فقط. وإن قال: أردت به تأكيد الأول، لم يقبل على الأصح، فيلزمه
ثلاثة. وإن أطلق، لزمه ثلاثة على المذهب، وبه قطع الأكثرون. وقال ابن
خيران: فيه قولان كالطلاق، ثانيهما درهمان. فعلى المذهب، لو كرره عشر مرات
فأكثر، لزمه بعدد ما كرر. ولو قال: علي درهم، ثم درهم، ثم درهم، فهو
كقوله: درهم ودرهم ودرهم. ولو قال: درهم ودرهم، ثم درهم، لزمه ثلاثة بكل
حال.
الثانية: قال: علي درهم مع درهم، أو معه درهم، أو فوق درهم، أو فوقه
درهم، (أو تحت درهم)، أو تحته درهم، أو علي درهم، أو عليه درهم، فالمذهب
والمنصوص والذي قطع به الأكثرون: أنه يلزمه درهم. وقيل: قولان. ثانيهما:
درهم. وقال الداركي: مع الهاء، درهمان، وبحذفها، درهم. ولو قال: له علي
درهم قبل درهم، أو قبله درهم، أو بعده درهم، لزمه درهمان على المذهب
والمنصوص، وبه قطع الأكثرون. وقيل: قولان. ثانيهما: درهم. وقال ابن
خيران وغيره: مع الهاء درهمان. وبحذفها، درهم.
الثالثة: قال: له علي أو عندي درهم فدرهم، إن أراد العطف، لزمه
39

درهمان، وإلا، فالنص لزوم درهم (فقط). ونص في: أنت طالق، فطالق، أنه
طلقتان. وقال ابن خيران: فيهما قولان. أحدهما: درهمان وطلقتان. والثاني:
درهم وطلقة. والمذهب الذي قطع به الأكثرون: تقرير النصين. ولو قال: درهم
فقفيز حنطة، فهل يلزمه درهم فقط، أم يلزمانه جميعا؟ فيه هذا الخلاف. وذكر أبو
العباس الروياني، أن قياس ما ذكرنا في الطلاق: أنه إذا قال: بعتك بدرهم
فدرهم، يكون بائعا بدرهمين، لأنه إنشاء، لا إخبار.
الرابعة: إذا قال: علي درهم، بل درهم، لزمه درهم فقط. ولو قال:
درهم، لا بل درهم، ولكن درهم، فكذلك. ولو قال: درهم، لا بل درهمان، أو
قفيز حنطة، لا بل قفيزان، لزمه درهمان، أو قفيزان فقط. هذا إذا لم يعين. فأما
إن قال: له عندي هذا القفيز، بل هذان القفيزان، فيلزمه الثلاثة، لان المعين لا
يدخل في المعين. وكذا لو اختلف جنس الأول والثاني مع عدم التعيين، بأن قال:
درهم بل ديناران، أو قفيز حنطة، بل قفيزا شعير، لزمه الدرهم والديناران، وقفيز
الحنطة وقفيزا الشعير. ولو قال: درهمان بل درهم، أو عشرة، بل تسعة، لزمه
الدرهمان والعشرة، لان الرجوع عن الأكثر لا يقبل، ويدخل فيه الأقل. ولو قال:
دينار، بل ديناران، بل ثلاثة، لزمه ثلاثة. ولو قال: دينار، بل ديناران، بل قفيز،
بل قفيزان، لزمه ديناران وقفيزان. ولو قال: دينار وديناران، بل قفيز وقفيزان، لزمه
ثلاثة دنانير وثلاثة أقفزة، وقس عليه ما شئت.
الضرب السابع: التكرار. القول الجملي فيه أن تكرر الاقرار لا يقتضي تكرر
المقر به، لان الاقرار إخبار، وتعدد الخبر لا يقتضي تعدد المخبر عنه، فينزل على
واحد، إلا إذا عرض ما يمنع من ذلك، فيحكم بالمغايرة. فإذا أقر لزيد يوم السبت
بألف، ويوم الأحد بألف، لزمه ألف فقط، سواء وقع الاقراران في مجلس أو
مجلسين، وسواء كتب به صحا وأشهد عليه شهودا على التعاقب، أو كتب صحا بألف
وأشهد عليه، ثم كتب صكا (بألف) وأشهد عليه. ولو أقر في يوم بألف، وفي آخر
بخمسمائة، دخل الأقل في الأكثر. ولو أقر يوم السبت بألف من ثمن عبد، ويوم
الأحد بألف من ثمن جارية، أو قال مرة: صحاح، ومرة: مكسرة، لزمه
40

ألفان. وكذا لو قال: قبضت منه يوم السبت عشرة، ثم قال: قبضت منه يوم الأحد
عشرة، أو طلقها يوم السبت طلقة، ثم قال: طلقتها يوم الأحد طلقتين، تعدد. ولو
قال يوم السبت: طلقتها طلقة، ثم أقر يوم الأحد بطلقتين، لم يلزم إلا طلقتا ن. ولو
أضاف أحد الاقرارين إلى سبب، أو وصف الدراهم بصفة، وأطلق الاقرار الآخر،
نزل المطلق على المضاف، لامكانه.
فرع لو شهد عدل أنه أقر يوم السبت بألف، أو بغصب دار، وشهد آخر
أنه أقر يوم الأحد بألف، أو بغصب تلك الدار، لفقنا الشهادتين واعتبرنا الألف
والغصب، لان الاقرار لا يوجب حقا بنفسه، وإنما هو إخبار عن ثابت، فينظر إلى
المخبر عنه وإلى اتفاقهما على الاخبار عنه. وكذا لو شهد أحدهما على إقراره بألف
بالعربية، والآخر على إقراره بألف بالعجمية. ولو شهد عدل أنه طلقها يوم السبت،
وآخر أنه طلقها يوم الأحد، لم يثبت بشهادتهما شئ لأنهما لا يتفقان على شئ،
وليس هو إخبارا حتى ينظر إلى المقصود المخبر عنه. وقيل: في الاقرارين
والطلاقين، قولان بالنقل والتخريج. قال الامام: أما التخريج من الطلاق إلى
الاقرار، فقريب في المعنى وإن بعد في النقل، لان الشاهدين ليشهدا على شئ
واحد، بل شهد هذا على إقرار، وذاك على إقرار آخر. والمقصود من اشتراط العدد
في الشهادة، زيادة التوثق، وأما التخريج من الاقرار إلى الطلاق، فبعيد نقلا
ومعنى، لان من طلق اليوم، ثم طلق غدا، والمرأة رجعية، وزعم أنه أراد طلقة
واحدة، لم يقبل منه، فكيف يجمع بين شهادة شاهد على طلاق اليوم، وشاهد على
طلاق الغد؟! ويجري التخريج على ضعفه في سائر الانشاءات وفي الأفعال،
كالقتل، والقبض، وغيرهما. والمذهب: الأول، حتى لو شهد أحدهما أنه قذف
يوم السبت بالعربية، والآخر أنه قذف يوم الأحد بالعجمية، لم يثبت بشهادتهما
شئ. ولو شهد أحدهما على إقراره أنه يوم السبت قذفه، أو قذفه بالعربية، والآخر
على إقراره أنه يوم الأحد قذفه بالعجمية، لم يلفق أيضا، لان المقر به شيئان
مختلفان. ولو شهد عدل بألف من ثمن مبيع، وآخر بألف من قرض، أو شهد
أحدهما بألف اقترضه يوم السبت، وآخر بألف اقترضه يوم الأحد، لم يثبت
بشهادتهما شئ، لكن للمشهود له أن يعين أحدهما ويستأنف الدعوى به،
41

ويحلف مع الذي يشهد به، وله أن يدعيهما، ويحلف مع كل واحد من الشاهدين.
ولو كانت الشهادة على الاقرار، فشهد أحدهما أنه أقر بألف من ثمن مبيع، وشهد
الآخر أنه أقر بألف من قرض، لم يثبت الألف أيضا على الصحيح. ولو أدعى ألفا،
فشهد أحدهما أنه ضمن الألف، والآخر أنه ضمن خمسمائة، ففي ثبوت خمسمائة
قولان، وهذا قريب من التخريج في الانشاءات، أو هو هو. ولو شهد أحد شاهدي
المدعى عليه أن المدعي استوفى الدين، والآخر أنه أبرأه، لم يلفق على المذهب.
ولو شهد الثاني أنه برئ إليه منه، قال أبو عاصم العبادي: يلفق. وقيل: بخلافه.
فرع ادعى ألفين، وشهد له عدل بألفين، وآخر بألف، ثبت الألف، وله
أن يحلف مع الشاهد بألفين، ويأخذ ألفين. وكذا الحكم، لو كانت الشهادتان على
الاقرار. ولو شهد أحدهما بثلاثين، والآخر بعشرين، ثبتت العشرون كالألف مع
الألفين. وفي وجه ضعيف: لا تثبت، لان لفظ الثلاثين لا يشمل العشرين، ولفظ
الألفين، يشمل الألف، فربما سمع أحدهما الألف، وغفل عن آخره. ولو ادعى
ألفا، فشهد له عدل بألف، وآخر بألفين، فالثاني شهد بالزيادة قبل أن يستشهد.
وفي مصيره بذلك مجروحا، وجهان. إن لم يصر مجروحا، فشهادته بالزيادة
مردودة. وفي الباقي، قولا تبعيض الشهادة وقطع بعضهم بثبوت الألف، وخص
الخلاف في التبعيض بما إذا اشتملت الشهادة على ما يقتضي الرد، كما إذا شهد
لنفسه ولغيره. فأما إذا زاد على المدعى به، فقوله في الزيادة ليس شهادة، بل هو
كما لو أتى بالشهادة في غير مجلس الحكم. وإن قلنا: يصير مجروحا، قال البغوي:
يحلف مع شاهد الألف ويأخذه. وقال الامام: إنه على هذا الوجه: إنما يصير
مجروحا في الزيادة، فأما الألف المدعى به، فلا حرج في الشهادة عليه، لكن إذا
ردت الشهادة في الزائد، كانت الشهادة في المدعى به على قولي التبعيض. فإن
لم نبعضها، فأعاد الشهادة بالألف، قبلت، لموافقتها الدعوى، ولا يحتاج إلى
إعادة الدعوى على الأصح.
فصل في مسائل منثورة إحداها: أقر بجميع ما في يده وينسب إليه،
42

صح. فلو تنازعا في شئ، هل كان في يده حينئذ؟ فالقول قول المقر، وعلى
الآخر البينة. ولو قال: ليس لي مما في يدي إلا ألف، صح وعمل بمقتضاه. ولو
قال: لا حق لي في شئ مما في يد فلان، ثم ادعى شيئا وقال: لم أعلم كونه في
يده يوم الاقرار، صدق بيمينه.
الثانية: قال: لفلان علي درهم أو دينار، لزمه أحدهما، وطولب بتعيينه.
وقيل: لا يلزمه شئ، وهو ضعيف جدا.
الثالثة: قال: له علي ألف، أو على زيد أو على عمرو، لم يلزمه شئ.
وكذا لو قال على سبيل الاقرار: أنت طالق، أو، لا، وإن ذكره في معرض
الانشاء، طلقت، كما لو قال: أنت طالق طلاقا لا يقع عليك.
الرابعة: قال: لزيد علي ألف درهم، وإلا فلعمرو علي ألف دينار، لزمه
ألف درهم لزيد، وكلامه الآخر للتأكيد.
الخامسة: الاقرار المطلق، ملزم، ويؤاخذ به المقر على الصحيح
المعروف. وخرج وجه: أنه لا يلزم حتى يسأل المقر عن سبب اللزوم، لان الأصل
براءة الذمة، والاقرار ليس موجبا في نفسه، وأسباب الوجوب مختلف فيها.
وربما ظن ما ليس بموجب موجبا، وهذا كما أن الجرح المطلق لا يقبل، وكما
لو أقر بأن فلانا، وارثه، لا يقبل حتى يبين جهة الإرث.
السادسة: قال: وهبت لك كذا وخرجت منه إليك، فالأصح، أن لا يكون
مقرا بالاقباض، لجواز أن يريد الخروج منه بالهبة. وقال القفال والشاشي: هو إقرار
بالاقباض، لأنه نسب إلى نفسه ما يشعر بالاقباض بعد العقد المفروغ منه.
السابعة: أقر الأب بعين مال لابنه، فيمكن أن يكون مستند إقراره ما يمنع
الرجوع، ويمكن أن يكون مستنده ما لا يمنع وهو الهبة، فهل له الرجوع؟ وجهان.
أحدهما: نعم، وبه أفتى القاضيان: أبو الطيب، والماوردي، تنزيلا (للاقرار) على
أضعف الملكين، وأدنى السببين، كما ينزل على أقل المقدارين. والثاني: لا،
قاله أبو عاصم العبادي، لان الأصل بقاء الملك للمقر له. ويمكن أن يتوسط فيقال:
43

إن أقر بانتقال الملك منه إلى الابن، فالامر على ما قال القاضيان، وإن أقر بالملك
المطلق، فالامر كما قال العبادي.
الثامنة: أقر في صك بأنه لا دعوى له على زيد، ولا طلبة بوجه من الوجوه،
ولا بسبب من الأسباب، ثم قال: إنما أردت به: في عمامته وقميصه، لا في داره
وبستانه. قال القاضي أبو سعد بن أبي يوسف: هذا موضع تردد، والقياس قبوله،
لان غايته تخصيص عموم، وهو محتمل.
قلت: هذا ضعيف وفاسد. والصواب: أنه لا يقبل في ظاهر الحكم، لكن
المختار أن له تحليف المقر له، أنه لا يعلم أنه قصد ذلك، ولعل هذا مراد
القاضي. والله أعلم.
فصل المقر به المجهول، قد يعرف بغير تفسير المقر، بأن يحيله على
معرف، وهو ضربان.
أحدهما: أن يقول: له علي من الدراهم بوزن هذه الصنجة، أو بعدد
المكتوب في كتاب كذا، أو بقدر ما باع به زيد عبده، وما أشبه ذلك، فيرجع إلى ما
أحال عليه.
الضرب الثاني: أن يذكر ما يمكن استخراجه بالحساب، فمن أمثلته: لزيد
علي ألف إلا نصف ما لابنيه علي، ولابنيه علي ألف إلا ثلث ما لزيد علي. ولمعرفته
طرق.
أحدها: أن تجعل لزيد شيئا، وتقول: للابنين ألف إلا ثلث شئ، فيأخذ
نصفه وهو خمسمائة إلا سدس شئ، وتسقطه من الألف، يبقى خمسمائة، وسدس
شئ، وذلك يعدل الشئ المفروض لزيد، لأنه جعل له ألفا إلا نصف ما لابنيه،
فيسقط سدس شئ بسدس شئ، تبقى خمسة أسداس شئ في مقابلة خمسمائة،
فيكون الشئ التام ستمائة، وهي ما لزيد. فإذا أخذت ثلثها وهو مائتان، وأسقطته
من الألف، بقي ثمانمائة، وهي ما أقر به للابنين.
الثاني: أن تجعل لزيد ثلاثة أشياء لاستثناء الثلث منه، وتسقط ثلثها من الألف
المضاف إلى الابنين، فيكون لهما ألف ينقص شيئا، ثم يأخذ نصفه وهو خمسمائة
44

تنقص نصف شئ، وتزيده على ما فرضناه لزيد، وهو ثلاثة أشياء، يكون خمسمائة
وشيئين ونصف شئ، وذلك يعدل ألف درهم، يسقط خمسمائة بخمسمائة، تبقى
خمسمائة في مقابلة شيئين ونصف شئ، فيكون الشئ مائتين، وقد كان لزيد ثلاثة
أشياء، فهو إذا ستمائة.
الثالث: أن تقول: استثني من أحد الاقرارين النصف، ومن الآخر الثلث،
فتضرب مخرج أحدهما في مخرج الآخر فيكون ستة، ثم تضرب في الجزء المستثنى
من الاقرارين، وكلاهما واحد، فتضرب واحدا في واحد، يكون واحدا، ينقصه من
الستة، تبقى خمسة تحفظها وتسميها: المقسوم عليه، ثم تضرب ما تبقى من مخرج
كل واحد من الجزئين بعد إسقاطه في مخرج الثاني، وذلك بأن تضرب ما بقي من
مخرج النصف بعد النصف، وهو واحد، في مخرج الثلث، وهو ثلاثة، تحصل
ثلاثة، تضربها في الألف المذكور في الاقرار، يكون ثلاثة آلاف تقسمها على العدد
المقسوم عليه، وهو خمسة يخرج نصيب الواحد ستمائة، فهي ما لزيد، وتضرب
ما تبقى من مخرج الثلث بعد الثلث وهو اثنان، في مخرج النصف، وهو اثنان،
يكون أربعة، تضربها في الألف، يكون أربعة آلاف تقسمها على الخمسة، تخرج
ثمانمائة فهي ما للابنين. ولو قال لزيد علي عشرة إلا ثلثي ما لعمرو، ولعمرو
عشرة إلا ثلاثة أرباع ما لزيد، تضر ب المخرج في المخرج، تكون اثني عشر، ثم
تضرب أحد الجزئين في الآخر، وهو اثنان، في ثلاثة، تكون ستة، تسقطها من
اثني عشر، تبقى ستة، ثم تضرب الباقي من مخرج الثلث بعد إخراج الثلثين، وهو
واحد، في أربعة، ثم تضربها في العشرة المذكورة في الاقرار، تكون أربعين
تقسمها على الستة، فتكون ستة وثلثين، وذلك ما أقر به لزيد، ثم تضرب واحدا
وهو الباقي من مخرج الربع بعد إخراج الأرباع الثلاثة في ثلاثة، تكون ثلاثة تضربها
في العشرة يكون ثلثين تقسمها على الستة، تكون خمسة، وهو ما أقر به لعمرو.
ولعلم أن الطريقين الأولين، ضربان مجربان في أمثال هذه الصور بأسرها.
وأما الطريق الثالث، فإنه لا يطرد فيما إذا اختلف المبلغ المذكور في
الاقرارين. ولو قال: لزيد عشرة إلا نصف ما لعمرو، ولعمرو ستة إلا ربع ما لزيد،
كان مقرا لزيد بثمانية، ولعمرو بأربعة. ولو قال: لزيد عشرة إلا نصف ما لعمرو،
45

ولعمرو عشرة إلا ربع ما لزيد، كان مقرا لزيد بخمسة وخمسة أسباع، ولعمرو بثمانية
وأربعة أسباع. ويتصور صدور كل إقرار من شخص، بأن يدعي على زيد وعمرو
مالا، فيقول زيد: لك علي عشرة إلا نصف مالك على عمرو، ويقول عمرو: لك
علي عشرة إلا ثلث مالك على زيد، وطريق الحساب لا يختلف.
الباب الثالث في تعقيب الاقرار بما يغيره
هو استثناء وغيره. فالثاني ينقسم إلى ما يرفعه بالكلية، وإلى غيره، والأول
ينقسم إلى ما لا ينتظم لفظا، فيلغو، وإلى ما ينتظم، فإن كان مفصولا، لم يقبل،
وإن كان موصولا، ففيه خلاف. والثاني: إن كان مفصولا، لا يقبل أيضا، وإن
كان موصولا، ففيه خلاف بالترتيب، هذا حاصل الباب. وإذا مرت بك مسائله
عرفت من أي قبيل هي. وأما الاستثناء، فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى، وفيه
مسائل.
إحداها: قال: لفلان علي ألف من ثمن خمر أو كلب أو خنزير، فإن وقع
قوله: من ثمن خمر، مفصولا عن قوله: له ألف، لم يقبل، ولزمه الألف. وإن
كان موصولا، فقولان. أحدهما: يقبل ولا يلزمه شئ، لان الكل كلام واحد،
فيعتبر جملة ولا يبعض، فعلى هذا للمقر له تحليفه إن كان من ثم خمر. وأظهرهما
عند العراقيين وغيرهم: لا يقبل، ويلزمه الألف، ويبعض إقراره فيعتبر أوله
ويلغى آخره، لأنه وصل به ما يرفعه، فأشبه قوله: ألف لا يلزمني. فعلى هذا لو
قال المقر: كان من ثمن خمر، وظننته يلزمني، فله تحليف المقر له على نفيه.
ويجري القولان فيما إذا وصل بإقراره ما ينتظم لفظه في العادة، ولكنه يبطل حكمه
شرعا، بأن أضاف المقر به إلى بيع فاسد، كالبيع بثمن مجهول، وخيار مجهول.
أو قال: تكفلت ببدن فلان بشرط الخيار، أو ضمنت لفلان كذا بشرط الخيار، وما
أشبه ذلك، قال الامام: وكنت أود لو فصل فاصل بين أن يكون المقر جاهلا بأن ثمن
الخمر لا يلزم، وبين أن يكون عالما، فيعذر الجاهل دون العالم، لكن لم يصر إليه
46

أحد من الأصحاب. أما إذا قدم الخمر فقال: له من ثمن خمر علي الألف، لا
يلزمه شئ قطعا بكل حال.
الثانية: قال: علي ألف من ثمن عبد لم أقبضه، إذا سلمه سلمت الألف،
فطريقان. أحدهما: طرد القولين. ففي قول: يقبل ولا يطالب بالألف إلا بعد
تسليم العبد. وفي قول: يؤاخذ بأول الاقرار. والطريق الثاني وهو الأصح: القطع
بالقبول، لان المذكور آخرا هنا لا يرفع الأول، بخلاف ثمن الخمر. وعلى هذا،
لو قال: علي ألف من ثمن عبد فقط، ثم قال: مفصولا عنه لم أقبض ذلك العبد،
قبل أيضا، لأنه علق الاقرار بالعبد، والأصل عدم قبضه. ولو اقتصر على قوله:
لفلان علي ألف، ثم قال مفصولا: هو ثمن عبد لم أقبضه، لم يقبل. ولا فرق
عندنا، بين أن يقول: علي ألف من ثمن هذا العبد، أو من ثمن عبد.
الثالثة: قال: علي ألف قضيته، ففي قبوله القولان. وقيل: لا يقبل قطعا.
ولو قال: كان لفلان علي ألف قضيته، قبل عند الجمهور. وقيل: على
الطريقين.
الرابعة: قال: علي ألف لا يلزمني، أو علي ألف أو، لا، لزمه الألف،
لأنه غير منتظم.
قلت: هكذا رأيته في نسخ (من) كتاب الامام الرافعي علي الألف، أو،
لا، وهو غلط. وقد صرح به صرح به صاحبا التهذيب والبيان: بأنه لا يلزمه في
47

هذه الصورة شئ، كما لو قال: أنت طالق، أو، لا، فإنه لم يجزم بالالتزام، وما
يبعد أن يكون الذي في كتاب الرافعي تصحيفا من النساخ، أو تغييرا مما في
التهذيب، فقد قال في التهذيب: لو قال: علي ألف، لا، فهو إقرار،
وهذا صحيح، وقرنه في التهذيب بقوله: بألف لا يلزمني، وهو نظيره. ومعظم
نقل الرافعي من التهذيب والنهاية، وكيف كان، فالصواب الذي يقطع به:
أنه إذا قال: ألف أو، لا، فشئ عليه. والله أعلم.
الخامسة: قال: له علي (ألف) إن شاء الله، لم يلزمه شئ على المذهب،
وبه قطع الجمهور. وقيل: على القولين. ولو قال: علي ألف إن شئت، أو إن شاء
فلان، فلا شئ عليه على المذهب. قال الامام: والوجه: طرد القولين. ولو
قال: علي ألف إذا جاء رأس الشهر، أو إذا قدم زيد، أطلق جماعة أنه لا شئ
عليه، لان الشرط لا أثر له في إيجاب المال، والواقع لا يعلق بشرط. وذكر الامام
وغيره: أنه على القولين. وكيف كان، فالمذهب أنه لا شئ عليه وهذا إذا
أطلق، أو قال: قصدت التعليق. فإن قصد التأجيل، فسنذكره إن شاء الله تعالى.
ولو قدم التعليق فقال: إن جاء رأس الشهر فعلي ألف، لم يلزمه قطعا، لأنه لم
توجد صيغة التزام جازمة. فإن قال: أردت التأجيل برأس الشهر، قبل. وفي
التتمة وجه: أن مطلقه محمول على التأجيل برأس الشهر، وهو غريب، وبه
قطع فيما إذا قال: علي ألف إذا جاء رأس الشهر.
السادسة: قال: علي ألف مؤجل إلى وقت كذا، فإن ذكر الاجل مفصولا،
لم يقبل. وإن وصله، قبل على المذهب. وقيل: قولان. وإذا لم يقبل، فالقول
قول المقر له بيمينه في نفي الاجل. ثم موضع الخلاف، أن يقر مطلقا، أو مسندا
إلى سبب يقبل التعجيل والتأجيل. أما إذا أسند إلى ما لا يقبل الاجل، فقال:
أقرضنيه مؤجلا، فيلغو ذكر الاجل قطعا. وإن أسند إلى ما يلازمه الاجل، كالدية
على العاقلة، فإن ذكره في صدر إقراره بأن قال: قتل أخي زيدا خطأ، ولزمني من
ديته كذا مؤجلا إلى سنة انتهاؤها كذا، قبل قطعا. ولو قال: علي كذا من جهة
تحمل العقل مؤجلا إلى كذا، فقولان. وقيل: يقبل قطعا.
فرع قال: بعتك أمس كذا، فلم تقبل، فقال: بل قبلت، فعلى قولي
48

تبعيض الا قرار، إن بعضناه، صدق بيمينه في قوله: قبلت. وكذا لو قال لعبده:
أعتقتك على ألف، فلم تقبل، أو لامرأته: خالعتك على ألف، فلم تقبلي،
فقالا: قبلنا.
فرع إذا قال له: أريد أن أقر الآن بما ليس علي لفلان علي ألف. أو
قال: ما طلقت امرأتي وأريد أن أقر بطلاقها: قد طلقت امرأتي ثلاثا، قال الشيخ أبو
عاصم: لا يصح إقراره، ولا شئ عليه. وقال صاحب التتمة: الصحيح، أنه
يلزمه، كقوله: علي ألف لا يلزمني.
السابعة: قال: لزيد علي ألف وزعم أنه وديعة، فله حالان.
الأول: أن يذكره منفصلا، بأن أتى بألف بعد إقراره، وقال: أردت هذا وهو
وديعة عندي، وقال المقر له، هو وديعة ولي عليك ألف آخر دينا، وهو الذي
أردته بإقرارك، فهل القول قول المقر له، أو المقر؟ فيه قولان. أظهرهما: الثاني
وقيل به قطعا، لان قوله: علي، يحتمل أن يريد به: عندي، ويحتمل: إني
تعديت فيها فصارت مضمونة علي، أو علي حفظها. ولو قال: علي ألف في
ذمتي، أو دينا، ثم جاء بألف وفسر كما ذكرنا، لم يقبل على المذهب، والقول قول
المقر له بيمينه، لأن العين لا تثبت في الذمة. وقيل: في قبوله وجهان. ثم قال
الامام: إذا قبلنا التفسير بالوديعة، قال الأصحاب: الألف مضمونة، وليس بأمانة،
لان قوله: علي، تتضمن الالتزام. فإن ادعى تلف الألف الذي يزعم أنه
وديعة، لم يسقط عنه الضمان، وإن ادعى رده، لم يقبل، لأنه ضامن، وإنما
يصدق الأمين. وهذا الذي قاله الامام، مشكل دليلا ونقلا.
أما الدليل، فلان لفظه علي، كما يجوز أن يراد بها مصيرها مضمونة
لتعديه، فيجوز أن يريد: وجوب حفظها، ويجوز أن يريد عندي، كما سبق،
وهذان لا ينافيان الأمانة. وأما النقل، فمقتضى كلام غيره، أنه إذا ادعى تلفه بعد
الاقرار، صدق، وقد صرح به صاحب الشامل في موضعين من الباب.
49

الحال الثاني: أن يذكره متصلا، فيقول: لفلان علي ألف وديعة، فيقبل على
المذهب. وقال أبو إسحاق: على قولين، كقوله: ألف قضيته. وإذا قبلنا فأتى
بألف، وقال: هو هذا، قنع به، فإن لم يأت بشئ، وادعى التلف أو الرد، قبل
على الأصح. وأما إذا قال: له معي أو عندي ألف، فهو مشعر بالأمانة، فيصدق في
قوله: إنه كان وديعة، وفي دعوى التلف والرد. ولو قال: له عندي ألف درهم
مضاربة دينا أو وديعة دينا، فهو مضمون عليه، ولا يقبل قوله في دعوى الرد والتلف،
نص عليه. ووجهوه بأن كونه دينا عبارة عن كونه مضمونا. فإن قال: أردت أنه دفعة
إلي مضاربة أو وديعة بشرط الضمان، لم يقبل قوله، لان شرط الأمانة لا يوجب
الضمان، هذا إذا فسر منفصلا. فإن فسره متصلا، ففيه قولا تبعيض الاقرار. ولو
قال: له عندي ألف عارية، فهو مضمون عليه، صححنا إعارة الدراهم أو
أفسدناها، لان الفاسد كالصحيح في الضمان. ولو قال: دفع إلي ألفا، ثم فسره
بوديعة، وادعى تلفها في يده، صدق بيمينه. وكذا لو قال: أخذت منه ألفا. وقال
القفال في أخذت: لو ادعى المأخوذ منه أنه غصبه، صدق بيمينه في الغصب.
والصحيح: أنه كقوله: دفع إلي.
الثامنة: قال: هذه الدار لك عارية، فهو إقرار بالإعارة، وله الرجوع. وقال
صاحب التقريب: قوله: لك إقرار بالملك، فذكر العارية بعده ينافيه، فيكون
على قولي تبعيض الاقرار. والمذهب الأول. ولو قال: هذه الدار لك هبة عارية
بإضافة الهبة إلى العارية، أو هبة سكنى، فهو كما لو قال: لك عارية، بلا فرق.
التاسعة: الاقرار بالهبة لا يتضمن الاقرار بقبضها على المذهب، وبه قطع
الجمهور. وفي الشامل: فيه خلاف إذا كانت العين في يد الموهوب له، وقال:
أقبضتني. ولو قال: وهبته وخرجت إليه منه، فقد سبق أن الأصح أنه ليس بإقرار
بالقبض، وكذا لو قال: وهبت له وملكها، قاله البغوي. ولو أقر بالقبض، ثم ذكر
لاقراره تأويلا أو لم يذكر، فهو كما ذكرنا في الرهن إذا قال: رهنت وأقبضت ثم عاد
فأنكر. العاشرة: لو أقر ببيع أو هبة وقبض، ثم قال: كان ذلك فاسدا، أو أقررت
لظني الصحة، لم يصدق، لكن له تحليف المقر له، فإن نكل، حلف المقر وحكم
50

ببطلان البيع والهبة. ولو أقر باتلاف مال (على إنسان) وأشهد عليه، ثم قال: كنت
عازما على الاتلاف فقدمت الاشهاد على الاتلاف، لم يلتفت إليه، بخلاف ما لو
أشهد عليه بدين ثم قال: كنت عازما على أن استقرض منه، فقدمت الشهادة على
الاستقراض، قبل للتحليف، لان هذا معتاد، بخلاف ذاك.
الحادية عشرة: أقر عجمي بالعربية وقال: لم أفهم معناه، لكن لقنت،
صدق بيمينه إن كان ممن يجوز أن لا يعرفه. وكذا الحكم في جميع العقود
والحلول. ولو ادعى أنه أقر وهو صبي أو مجنون، أو مكره، فقد سبق بيانه مع ما
يتعلق به في آخر الباب الأول.
الثانية عشرة: قال: غصبت هذه الدار من زيد، بل من عمرو، أو قال:
غصبتها من زيد، وغصبها زيد من عمرو، أو قال: هذه الدار لزيد، بل لعمرو،
سلمت الدار إلى زيد. وفي غرمه لعمرو، قولان. أظهرهما عند الأكثرين: يغرم.
وفي الصورة الثالثة طريقة جازمة بأن لا غرم، لأنه لم يقر بجناية في ملك الغير،
بخلاف الأوليين. ثم قيل: القولان فيما إذا انتزعها الحاكم من يده وسلمها إلى
زيد. فأما إذا سلمها بنفسه، فيغرم قطعا. وقيل: القولان في الحالين.
قلت: الأصح طردهما في الحالين، قاله أصحابنا. ويجري الخلاف سواء
وإلى بين الاقرار لهما، أم فصل بفصل قصير أو طويل. والله أعلم.
فرع باع عينا وأقبضها واستوفى الثمن، ثم قال: كنت بعتها لفلان، أو
غصبتها منه، لم يقبل قوله على المشتري. وفي غرمه للمقر إليه طريقان.
أحدهما: طرد القولين. وأصحهما: القطع بالغرم، لأنه فوت بتصرفه وتسليمه.
ويبنى على هذا الخلاف، أن مدعي العين المبيعة، هل له دعوى القيمة على البائع
مع بقاء العين في يد المشتري؟ إن قلنا: لو أقر، غرم القيمة، فله دعواها، وإلا،
51

فلا. ولو كان في يد إنسان عين، فانتزعها مدع بيمينه بعد نكول صاحب اليد، ثم
جاء آخر يدعيها، هل له طلب القيمة من الأول؟ إن قلنا: النكول ورد اليمين
كالبينة، فلا، كما لو انتزع بالبينة. وإن قلنا: كالاقرار، ففي سماع دعوى الثاني
عليه بالقيمة، الخلاف.
فرع قال: غصبت هذه الدار من زيد، وملكها لعمرو، سلمت إلى زيد،
لأنه اعترف له باليد. والظاهر: أنه محق فيها، ثم تكون الخصومة في الدار بين زيد
وعمرو، ولا تقبل شهادة المقر لعمرو، لأنه غاصب. وفي غرامة المقر لعمرو،
طريقان. أحدهما: طرد القولين. وأصحهما: القطع بأن لا غرم، لأنه لا منافاة هنا
بين الاقرارين، لجواز أن يكون الملك لعمرو، ويكون في يد زيد بإجارة، أو
رهن، أو وصية بالمنافع، فيكون الآخذ غاصبا منه. وفي المسألة الأولى الاقراران
متنافيان. ولو أخر ذكر الغصب فقال: هذه الدار ملكها عمرو، وغصبتها من زيد،
فوجهان. أصحهما: كالصورة الأولى، لعدم التنافي، فتسلم إلى زيد، ولا يغرم
لعمرو. والثاني: لا يقبل إقراره باليد بعد الملك، فتسلم إلى عمرو. وفي غرمه
لزيد القولان، هكذا أطلقوه وفيه مباحثة، لأنا إذا غرمنا المقر في الصورة السابقة
للثاني، فإنما نغرمه القيمة، لأنه أقر له بالملك، وهنا جعلناه مقرا باليد دون
الملك، فلا وجه لتغريمه، بل القياس أن يسأل عن يده: أكانت بإجارة أو رهن أو
غيرهما؟ فإن كانت بإجارة، غرم قيمة المنفعة، وإن كانت رهنا، غرم قيمة المرهون
ليتوثق به زيد، وكأنه أتلف المرهون. ثم إن استوفى الدين من موضع آخر، ردت
القيمة عليه.
فرع قال: غصبت هذه العين من أحدكما، طولب بالتعيين، فإذا عين
أحدهما، سلمت إليه. وهل للثاني تحليفه؟ يبنى على أنه لو أقر للثاني هل يغرم
(له)؟ إن قلنا: لا، فلا، وإلا، فنعم، لأنه ربما يقر له إذا عرضت اليمين فيغرمه،
فعلى هذا، إذا نكل ردت اليمين على الثاني، فإذا حلف، فليس له إلا القيمة.
وقيل: إن قلنا: النكول ورد اليمين كالاقرار، فالجواب كذلك. وإن قلنا:
كالبينة، نزعت الدار من الأول وسلمت إلى الثاني، ولا غرم عليه للأول. وعلى
هذا، فله التحليف وإن قلنا: لا يغرم القيمة لو أقر للثاني طمعا في أن ينكل،
فيحلف المدعي ويأخذ العين. أما إذا قال المقر: لا أدري من أيكما غصبت،
52

وأصر عليه، فإن صدقاه، فالعين موقوفة بينهما حتى تبين المالك أو يصطلحا.
وكذا إن كذباه وحلف لهما على نفي العلم، هذا هو المذهب.
قلت: ولو أقر أن الدار التي في تركة مورثه لزيد، بل لعمرو، سلمت إلى
زيد، وفى غرمه لعمرو طريقان في الشامل والبيان وغيرهما. أحدهما:
القولان. والثاني: القطع بأن لا غرم. والفرق، أنه هنا معذور لعدم كمال
اطلاعه. والله أعلم.
فصل في الاستثناء وهو جائز في الاقرار والطلاق وغيرهما، بشرط أن
يكون متصلا، وأن لا يكون مستغرقا. فإن سكت بعد الاقرار، أو تكلم بكلام أجنبي
عما هو فيه، ثم استثنى، لم ينفعه.
قلت: هكذا قال أصحابنا، إن تخلل الكلام الأجنبي، يبطل الاستثناء. وقال
صاحبا العدة والبيان: إذا قال: علي ألف - أستغفر الله - الأمانة، صح
الاستثناء عندنا، خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه. ودليلنا، أنه فصل يسير، فصار
كقوله: علي ألف - يا فلان - الأمانة، وهذا الذي نقلاه، فيه نظر. والله أعلم.
ولو استغرق فقال: علي عشرة إلا عشرة، لم يصح، وعليه عشرة، ويجوز
استثناء الأكثر، فإذا قال: علي عشرة إلا تسعة، أو سوى تسعة، لزمه درهم.
فرع الاستثناء من الاثبات نفي، ومن النفي إثبات. فلو قال: علي عشرة
إلا تسعة، إلا ثمانية، لزمه تسعة. ولو قال: علي عشرة، إلا ثمانية،
إلا سبعة، إلا ستة، إلا خمسة، إلا أربعة، إلا ثلاثة، إلا درهمين، إلا درهم،
لزمه خمسة. وطريق هذا وما أشبهه، أن يجمع الاثبات ويجمع النفي، ويسقط
النفي من الاثبات، فما بقي فهو الواجب. فالأعداد المثبتة هنا ثلاثون، والمنفية
خمسة وعشرون. ثم معرفة المثبت، أن العدد المذكور أولا، إن كان شفعا،
53

فالأشفاع مثبتة، والأوتار منفية. وإن كان وترا، فبالعكس، وشرطه أن تكون الاعداد
المذكورة على التوالي المعتاد، إذ يتلو كل شفع وترا، وبالعكس.
فرع قال: ليس لفلان علي شئ إلا خمسة، لزمه خمسة. ولو قال:
ليس علي عشرة إلا خمسة، لم يلزمه شئ على الصحيح الذي قاله الأكثرون، لان
العشرة إلا خمسة، خمسة، فكأنه قال: ليس علي خمسة. وفي وجه: يلزمه
خمسة، حكاه في النهاية بناء على أن الاستثناء من النفي إثبات.
فرع إذا أتى باستثناء بعد استثناء، والثاني مستغرق، صح الأول، وبطل
الثاني.
مثاله: علي عشرة، إلا خمسة، إلا عشرة، أو (عشرة) إلا خمسة، إلا
خمسة، لزمه خمسة. وإن كان الأول مستغرقا دون الثاني، كقوله: عشرة، إلا
عشرة، إلا أربعة، فأوجه. أحدها: يلزمه عشرة ويبطل الاستثناء الأول،
لاستغراقه، ويبطل الثاني، لأنه من باطل، والثاني: يلزمه أربعة ويصح
الاستثناءان، لان الكلام إنما يتم بآخره. قال في الشامل: وهذا أقيس.
والثالث: يلزمه ستة، لان الاستثناء الأول باطل، والثاني يرجع إلى الكلام.
ولو قال: عشرة، إلا عشرة، إلا خمسة، لزمه على الوجه الأول عشرة، وعلى
الآخرين خمسة. هذا إذا لم يكن في الاستثنائين عطف، فإن كان، بأن قال:
عشرة إلا خمسة، وإلا ثلاثة، أو عشرة إلا خمسة وثلاثة، فهما جميعا مستثنيان من
العشرة، فلا يلزمه إلا درهمان قطعا، فإن كان العددان لو جمعا استغرقا، بأن قال:
عشرة إلا سبعة وثلاثة، فهل يلزمه عشرة لكون الواو تجمعهما فيقتضي الاستغراق؟
أم يختص الثاني بالبطلان فيلزمه ثلاثة لان الأول صح استثناؤه؟ وجهان. أصحهما:
الثاني. وفي وجه ثالث: يفرق بين قوله: عشرة إلا سبعة وثلاثة، وبين قوله: عشرة
إلا سبعة وإلا ثلاثة، ويقطع في الصورة الثانية بالبطلان. ومهما (كان) في المستثنى
أو المستثنى منه عددان معطوف أحدهما على الآخر، ففي الجمع بينهما وجهان،
كما في الصورة السابقة. أصحهما، وهو المنصوص في الطلاق، وبه قطع
الأكثرون: لا يجمع.
54

مثاله: علي درهمان ودرهم إلا درهما، إن لم نجمع، لزمه ثلاثة، وإلا
درهمان. ولو قال: ثلاثة إلا درهمين ودرهما، فإن لم نجمع، لزمه درهم، وصح
استثناء الدرهمين. وإن جمعنا، فثلاثة ويصير مستغرقا. ولو قال: ثلاثة إلا درهما
ودرهمين، فإن لم نجمع، لزمه درهمان وصح استثناء الدرهمين. وإن جمعنا،
فثلاثة. ولو قال: درهم ودرهم ودرهم إلا درهما ودرهما ودرهما، لزمه ثلاثة على
الوجهين. وحكم هذه الصورة في الطلاق، حكمها في الاقرار.
فرع قال: علي عشرة إلا خمسة، أو ستة، قال المتولي: يلزمه أربعة،
لان الدرهم الزائد مشكوك فيه، فصار كقوله: علي خمسة أو ستة، فإنه يلزمه
خمسة. ويمكن أن يقال: يلزمه خمسة، لأنه أثبت عشرة، واستثنى خمسة،
وشككنا في استثناء الدرهم السادس.
قلت: الصواب، قول المتولي، لان المختار أن الاستثناء بيان ما لم يرد بأول
الكلام، لأنه إبطال ما أثبت. والله أعلم.
فرع قال: علي درهم غير دانق، فمقتضى النحو وبه قال أصحابنا: أنه إن
نصب غير، فعليه خمسة دوانق، لأنه استثناء، وإلا، فعليه درهم تام، إذ
المعنى: درهم، لا دانق. وقال الأكثرون: السابق إلى فهم أهل العرف منه
الاستثناء، فيحمل عليه وإن أخطأ في الاعراب.
فرع الاستثناء من غير الجنس، صحيح، كقوله: ألف درهم إلا
ثوبا أو عبدا، ثم عليه أن يبين ثوبا لا يستغرق قيمته الألف. فإن استغرق، فالتفسير
لغو. وفي الاستثناء وجهان. أصحهما: يبطل ويلزمه الألف لأنه بين ما أراد
بالاستثناء، فكأنه يلفظ به وهو مستغرق. والثاني: لا يبطل، لأنه صحيح من حيث
اللفظ. وإنما الخلل في تفسيره، فيقال: فسره بتفسير صحيح.
55

فرع يصح استثناء المجمل من المجمل، والمجمل من المفصل،
وبالعكس. فالأول، كقوله: ألف إلا شيئا، فيبين آلاف جنس أولا، ثم يفسر
الشئ بما لا يستغرق الألف الذي بينه. والثاني: كقوله: عشرة دراهم إلا شيئا،
يفسر الشئ بما لا يستغرق العشرة. والثالث: كقوله: شئ إلا درهما، يفسر
الشئ بما يزيد على درهم وإن قل. وكذا لو قال: ألف إلا درهما، ولا يلزمه أن
يكون الألف دراهم. ومهما بطل التفسير في هذه الصور، ففي بطلان الاستثناء
الوجهان. وإن اتفق لفظ المستثنى والمستثنى منه. كقوله: شئ إلا شيئا، أو:
قال: مال إلا مالا، حكى الامام عن القاضي فيه وجهين. أحدهما: يبطل
الاستثناء، كقوله: عشرة إلا عشرة. والثاني: لا، لوقوعه (على) القليل والكثير، فلا
يمتنع حمل الثاني على أقل متمول، ويحمل الأول على الزائد على أقل متمول. قال
الامام: وفي هذا التردد غفلة، لأنا إن ألغينا الاستثناء، اكتفينا بأقل متمول. وإن
صححناه، ألزمناه أيضا أقل متمول، فيتفق الوجهان. ويمكن أن يقال: حاصل
الجواب، لا يختلف، لكن فيه فائدة، لأنا إن أبطلنا، طالبناه بتفسير الأول فقط.
وإن صححنا، طالبناه بتفسيرهما، وله آثار الامتناع من التفسير، وكون التفسير
الثاني غير صالح للاستثناء من الأول، وما أشبه ذلك.
فرع الاستثناء من المعين، صحيح، كقوله: هذه الدار لزيد إلا هذا البيت، أو هذا
القميص إلا كمه، أو هذه الدراهم إلا هذه الدراهم، أو هذا القطيع
إلا هذه الشاة، أو هذا الخاتم إلا هذا الفص، ونظائره. وفي وجه شاذ: لا
يصح، لان الاستثناء المعتاد إنما يكون من المطلق لا من المعين، والأول هو
الصحيح المنصوص، وعليه التفريع. ولو قال: هؤلاء العبيد لفلان إلا واحدا،
صح ورجع إليه في التعيين. فإن ماتوا إلا واحدا فقال: هو الذي أردت بالاستثناء،
قبل قوله بيمينه على الصحيح، لأنه محتمل. وقيل: لا يقبل، للتهمة، وهو شاذ
متفق على ضعفه. ولو قال: غصبتهم إلا واحدا، فماتوا إلا واحدا. فقال: هو
المستثنى، قبل بلا خلاف. وكذا لو قتلوا في الصورة الأولى إلا واحدا، لان حقه
56

ثبت في القيمة. ولو قال: هذه الدار لفلان، وهذا البيت منها لي، وهذا الخاتم
له، وفصه لي، قبل، لأنه إخراج بعض ما يتناوله اللفظ، فكان كالاستثناء.
فصل في مسائل تتعلق بالاقرار وإن كان بعضها أجنبيا إحداها: في
يده جارية، فقال رجل: بعتكها بكذا وسلمتها، فأد الثمن. فقال: بل زوجتنيها
بصداق كذا وهو علي، فله حالان.
أحدهما: أن يجري التنازع قبل أن يولدها صاحب اليد، فيحلف كل واحد
منهما على نفي ما يدعى عليه، فإن حلفا، سقطت دعوى الثمن والنكاح، ومهر
سواء دخل بها صاحب اليد، أم لا، لأنه وإن أقر بالمهر لمن كان مالكا، فهو منكر
له، وتعود الجارية إلى المالك. ثم أحد الوجهين، أنها تعود إليه كعود المبيع إلى
البائع، لافلاس المشتري بالثمن. والثاني: تعود بجهة أنها لصاحب اليد بزعمه،
وهو يستحق عليه الثمن، وقد ظفر بغير جنس حقه. فعلى هذا، يبيعه ويستوفي
حقه من ثمنها. فإن فضل شئ، فهو لصاحب اليد، ولا يحل له وطؤها. وعلى
الأول: يحل وطؤها والتصرف، ولا بد من التلفظ بالفسخ. وإن حلف أحدهما
فقط، نظر، إن حلف مدعي الثمن على نفي التزويج، ونكل صاحب اليد عن
اليمين على نفي الشراء، حلف المدعي اليمين المردودة على الشراء، ووجب
الثمن. وإن حلف صاحب اليد على نفي الشراء ونكل الآخر عن اليمين على نفي
التزويج، حلف صاحب اليد اليمين المردودة على النكاح، وحكم له بالنكاح، وبأن
رقبتها للآخر. ثم لو ارتفع النكاح بطلاق أو غيره، حلت للسيد في الظاهر. وكذا
في الباطن إن كان كاذبا. وعن القاضي حسين: أنه إذا نكل أحدهما عن اليمين
المعروضة عليه، اكتفى من الثاني بيمين واحدة يجمع فيها بين النفي والاثبات.
والصحيح الأول.
الحال الثاني: أن يولدها صاحب اليد، فالولد حر، والجارية أم ولد له
باعتراف المالك القديم، وهو يدعي الثمن، فيحلف صاحب اليد على نفيه. فإن
حلف على نفي الشراء، سقط عنه الثمن المدعى. وهل يرجع المالك عليه بشئ؟
وجهان. أحدهما: يرجع بأقل الامرين من الثمن والمهر، لأنه يدعي الثمن،
وصاحب اليد مقر له بالمهر، فالأقل منهما متفق عليه، والثاني: لا يرجع بشئ،
57

لان صاحب اليد أسقط الثمن عن نفسه بيمينه، والمهر الذي يقر به لا يدعيه الآخر،
فلا يمكن من المطالبة. وهل لصاحب اليد تحليف المالك على نفي الزوجية بعدما
حلف على نفي الشراء؟ وجهان. أحدهما: لا، لأنه لو ادعى ملكها وتزويجها بعد
اعترافه بأنها أم ولد للآخر، لم يقبل، فكيف يحلف على ما لو أقر به لم يقبل؟!
والثاني: نعم، طمعا في أن ينكل فيحلف ويثبت له النكاح. ولو نكل صاحب اليد
(عن اليمين) على نفي الشراء، حلف المالك القديم اليمين المردودة. وعلى كل
حال، فالجارية مقررة في يد صاحب اليد، فإنها أم ولده أو زوجته، وله وطؤها في
الباطن. وفي الحل ظاهرا، وجهان. أصحهما: تحل. ووجه المنع: أنه لا
يدري، أيطأ زوجته أم مملوكته؟ وإذا اختلفت الجهة، وجب الاحتياط للبضع،
ونفقتها على صاحب اليد إن جوزنا له الوطئ، وإلا، فقولان. أحدهما: على
المالك القديم، لأنها كانت عليه. وأظهرهما: أنها في كسب الجارية. فإن لم يكن
كسب، ففي بيت المال. ولو ماتت الجارية قبل موت المستولد، ماتت قنة،
وللمالك القديم أخذ القيمة مما تركته من أكسابها، وما فضل، فموقوف لا يدعيه
أحد. وإن ماتت بعد موت المستولد، ماتت حرة، ومالها لوارثها بالنسب. فإن لم
يكن، فهو موقوف، لان الولاء لا يدعيه واحد منهما، وليس للمالك القديم أخذ
الثمن من تركتها، لان الثمن بزعمه على المستولد وهي قد عتقت بموته، فلا يؤدي
دينه مما جمعته بعد الحرية. هذا كله فيما إذا أصر على كلاميهما. أما إذا رجع
المالك القديم، وصدق صاحب اليد، فلا يقبل في رد حرية الولد وثبوت الاستيلاد،
وتكون أكسابها له ما دام المستولد حيا. فإذا مات، عتقت وكانت أكسابها لها. ولو
رجع المستولد، وصدق المالك القديم، لزمه الثمن وكان ولاؤها له.
المسألة الثانية: إقرار الورثة على الميت بالدين والعين مقبول. فلو أقر
بعضهم بدين، وأنكر بعضهم، فقولان. القديم: أن على المقر قضاء جميع الدين
من حصته من التركة إن وفى به، وإلا، فيصرف جميع حصته إليه، لأنه إنما يستحق
بعد قضاء الدين. والجديد: أنه لا يلزمه إلا بقسط حصته من التركة. فعلى الجديد: لو
مات المنكر وورثه المقر، فهل يلزمه الآن جميع الدين المقر به؟ وجهان.
أصحهما: نعم، لحصول جميع التركة فيده. ويتفرع على القولين فرعان.
58

أحدهما: لو شهد بعض الورثة بدين على المور ث. إن قلنا: لا يلزمه بالاقرار إلا
حصته، قبلت شهادته، وإلا، فلا، لأنه متهم. وسواء كانت الشهادة بعد الاقرار أو
قبله. الثاني: كيس في يد رجلين فيه ألف. قال أحدهما لثالث: لك نصف ما في
هذا الكيس، فهل يحمل إقراره على النصف المضاف إليه، أم على نصف ما في
يده، وهو الربع؟ وجهان بناء على القولين.
قلت: أفقههما: الأول. والله أعلم.
المسألة الثالثة: مات عن ابنين، فأقر أحدهما بأن أباه أوصى لزيد بعشرة،
فهو كما (لو) أقر عليه بدين، فعلى القديم: تتعلق كل العشرة بثلث نصيبه. وعلى
الجديد: يتعلق نصف العشرة بثلث نصيبه. ولو أقر أحدهما أنه أوصى بربع ماله،
وأنكر الآخر، فعلى المقر أن يدفع إلى الموصى له ربع ما في يده. ولو أقر أنه أوصى
بعين من أعيان أمواله، نظر، إن لم يقسما التركة، فنصيب المقر من تلك العين
يصرف إلى الموصى له، والباقي، للمنكر. وإن اقتسماهما، نظر، إن كانت تلك
العين في يد المقر، لزمه دفعها إلى الموصى له، وإن كانت في يد المنكر،
فللموصى له أخذ نصف القيمة من المقر، لأنه فوته عليه بالقسمة. ولو شهد المقر
للموصى له، قبلت شهادته، ويغرم للمشهود عليه نصف قيمة العين، كما لو خرج
بعض أعيان التركة مستحقا.
الرابعة: قال لعبده: أعتقتك على ألف، فطالبه بالألف، فأنكر العبد
وحلف، سقطت دعوى المال، وحكم بعتق العبد، لاقراره، وكذا لو قال: بعتك
نفسك إذا صححنا هذا التصرف، وهو الصحيح. ولو قال لولد عبده: بعتك والدك
بكذا، فأنكر، فكذلك، لاعترافه بمصيره حرا بالملك.
الخامسة: قال: لفلان عندي خاتم، ثم جاء بخاتم، فقال: هو هذا الذي
أقررت به، فنص في موضع أنه يقبل منه ذلك وعليه تسليمه إلى المقر له. وقال في
موضع آخر: لا يلزم التسليم. قال الأصحاب: الأول محمول على ما إذا صدقه
المقر له. والثاني: على ما إذا قال: الذي أقررت به غيره وليس هذا لي، فلا يسلم
ما جاء به إليه. والقول قول المقر في نفي غيره.
السادسة: قال: لي عليك ألف ضمنته، فقال: ما ضمنت شيئا، ولكن لك
59

علي ألف من قيمة متلف، لزم الألف الأصح.
قلت: ومما يتعلق بالباب، ما ذكره القاضي أبو الطيب في آخر كتاب
الغصب: ولو أقر بدار مبهمة ولم يعينها حتى ما ت، قام وارثه مقامه في التعيين. فإن
عينها فذاك، وإن لم يعين، طولب بالتعيين، فإن امتنع، كان للمقر له أن يعين.
فإن عين وصدقه الوارث، فذاك، وإلا، فله أن يحلف أنها ليست المقر بها، فإن
حلف، طولب بالتعيين، فإن امتنع، حبس حتى يعين. قال القاضي أيضا في اخر
الغصب: لو باع دارا ثم ادعى أنها كانت لغيره باعها بغير إذنه، وهي ملكه إلى
الآن، وكذبه المشتري، وأراد أن يقيم بينة بذلك، فإن قال: بعتك ملكي أو داري
أو نحو ذلك، مما يقتضي أنها ملكه، لم تسمع دعواه، وإلا، سمعت. قال
الشاشي: لو قال: غصبت داره، ثم قال: أردت دارة الشمس والقمر، لم يقبل
على الصحيح. ولو باع شيئا بشرط الخيار، ثم ادعاه رجل، فأقر البائع في مدة
الخيار أنه ملك المدعي، صح إقراره وانفسخ البيع، لان له الفسخ، بخلاف ما لو
أقر بعد لزوم البيع، فإنه لا يقبل، لعجزه عن الفسخ. ولو أقر بثياب بدنه لزيد، قال
القاضي حسين في الفتاوى: يدخل فيه الطيلسان والدواج وكل ما يلبسه. ولا
يدخل فيه الخف، والمراد بالدواج: اللحاف. ومقتضى كلام القاضي هذا، أنه
يدخل فيه الفروة فإنها مما يلبسه، ولا شك في دخولها. وإنما نبهت عليه، لئلا
يتشكك فيها. وكذلك الحكم لو أوصى بثياب بدنه. ولو كتب على قرطاس: لفلان
علي كذا، لم يكن إقرارا، وكذا الاشهاد عليه لا يكون إلا بالتلفظ، قاله القاضي
حسين. والله أعلم.
60

الباب الرابع في الاقرار بالنسب
يشترط في المقر بالنسب، أن يكون بالصفات المعتبرة في سائر المقرين كما
سبق. ثم لا يخلو، إما أن يلحق النسب بنفسه، وإما بغيره.
القسم الأول: أن يلحقه بنفسه، فيشترط فيه أمور.
الأول: أن لا يكذبه الحس، فيكون ما يدعيه ممكنا. فلو كان في سن لا
يمكن أن يكون ولدا للمستلحق، فلا اعتبار بإقراره. فلو قدمت امرأة من بلاد الكفر
ومعها صبي، وادعاه مسلم، لحقه إن احتمل أنه خرج إليها، أو أنها قدمت إليه قبل
ذلك، وإلا، لم يلحقه.
الثاني أن لا يكون المقر به مشهور النسب من غيره، سواء صدقه المقر به أم
كذبه.
الثالث: أن يصدقه المقر به إن كان معتبر التصديق. فإن استلحق بالغا فلم
يصدقه، لم يثبت النسب إلا ببينة، فإن لم تكن بينة، حلف المدعي، فإن حلف
سقطت دعواه، وإن نكل، حلف المدعي وثبت نسبه. وكذا لو قال رجل لرجل:
أنت أبي، فالقول قول المنكر بيمينه. أما إذا استلحق صغيرا، فيثبت نسبه حتى
يرث منه الصغير لو مات، ويرث هو الصغير إن مات. وإن استلحق صغيرا، فلما
بلغ كذبه، فوجهان. أحدهما: يندفع النسب. وأصحهما: لا يندفع، لان النسب
يحتاط له فلا يندفع بعد ثبوته كالثابت بالبينة. فعلى هذا لو أراد المقر له تحليفه،
قال ابن الصباغ: ينبغي أن لا يمكن، لأنه لو رجع، لم يقبل، فلا معنى لتحليفه.
ولو استلحق مجنونا، فأفاق وأنكر، فعلى الوجهين. ولو استلحق صبيا بعد موته،
61

لحقه، سواء كان له مال، أم لا، ولا ينظر إلى التهمة بطلب المال، بل يرثه، لان
أمر النسب مبني على التغليب، ولهذا يثبت بمجرد الامكان، حتى لو قتله ثم
استلحقه بعد موته، قبل منه وحكم بسقوط القصاص. وإن كان الميت بالغا،
فوجهان، لان شرط لحوق البالغ تصديقه، ولا تصديق بعد الموت، ولان تأخيره
ربما كان خوفا من إنكاره. والأكثرون على أنه يلحقه كالصغير. ومنعوا كون التصديق
شرطا على الاطلاق، بل هو شرط إذا كان المقر به أهلا للتصديق، ولا اعتبار بالتهمة
كما سبق. ويجري الوجهان فيما إذا استلحق مجنونا طرأ جنونه بعد ما بلغ عاقلا.
فرع إذا ازدحم جماعة على الاستلحاق، نظر، إن كان المقر به بالغا،
ثبت نسبه ممن صدقه، فإن كان صبيا، لم يلحق بواحد منهما، بل حكمه ما نذكره
في باب اللقيط إن شاء الله تعالى. فإذا عدم زحمة الغير، شرط رابع في الصغير.
هذا كله إذا كان المقر به ذكرا حرا. فأما استلحاق المرأة والعبد، فسيأتيان في باب
اللقيط إن شاء الله تعالى.
فرع إذا استلحق عبد الغير، أو معتقه، لم يلحق إن كان صغيرا، محافظة
على حق الولاء للسيد، بل يحتاج إلى البينة. وإن كان بالغا وصدقه، فوجهان.
ولو استلحق عبدا في يده، فإن لم يوجد الامكان، بأن كان أكبر سنا منه، لغا قوله.
وإن وجد، فإن كان مجهول النسب، لحقه إن كان صغيرا، وحكم بعتقه. وكذا إن
كان بالغا وصدقه. وإن كذبه، لم يثبت (النسب). وفي العتق، وجهان. وكذا إن كان
المقر به معروف النسب من غيره.
فرع استلحق بالغا عاقلا، فوافقه، ثم رجعا، قال ابن أبي هريرة: يسقط
النسب، كما لو أقر بمال ورجع وصدقه المقر له. وقال الشيخ أبو حامد: لا يسقط،
لان النسب المحكوم بثبوته لا يرتفع بالاتفاق، كالثابت بالفراش.
62

فصل له جارية ذات ولد، فقال: هذا ولدي من هذه الجارية، ثبت نسبه
عند الامكان. وفي كون الجارية أم ولد، قولان. ويقال: وجهان. أظهرهما عند
الشيخ أبي حامد وجماعة: نعم. وأشبههما بالقاعدة، وأقربهما إلى القياس: لا،
لاحتمال أنه أولدها بنكاح ثم ملكها. ولو قال: ولدي استولدتها به في ملكي، أو
علقت به في ملكي، انقطع الاحتمال، وكانت أم ولد قطعا. وكذا لو قال: هذا
ولدي منها، وهي في ملكي من عشر سنين، وكان الولد ابن سنة. وهذا كله إذا لم
تكن الأمة مزوجة، ولا فراشا له، أما إذا كانت مزوجة، فلا ينسب الولد إلى
السيد، ولا أثر لاستلحاقه، للحوقه بالزوج. وإن كانت فراشا له، فإن أقر بوطئها،
لحقه الولد بالفراش، لا بالاقرار، فلا يعتبر فيه إلا الامكان. ولا فرق في الاستلحاق
بالاستيلاد، بين أن يكون في الصحة، أو في المرض، لان إنشاءه نافذ في
الحالين.
فرع له أمتان، لكل واحدة ولد، فقال: أحدهما ولدي، فللأمتين
أحوال.
أحدها: أن لا تكون واحدة منهما مزوجة ولا فراشا للسيد، فيؤمر بالتعيين كما
لو أقر بطلاق إحدى المرأتين، فإذا عين أحدهما، ثبت نسبه وكان حرا وورثه. وهل
تصير أمه أم ولد؟ ينظر، إن لم يزد على استلحاقه، فقولان كما قدمناه، وإن صرح
بأنه استولدها به في ملك اليمين، صارت أم ولد له، وإن صرح بأنه استولدها في
النكاح، لم تصر، وإن أضافه إلى وطئ شبهة، فقولان. وإن قال: استولدتها بالزنا
مفصولا على الاستلحاق، لم يقبل، وكانت أمية الولد على القولين فيما إذا أطلق
الاستلحاق، وإن وصله باللفظ، قال البغوي: لا يثبت النسب ولا أمية الولد،
وينبغي أن يخرج على قولي تبعيض الاقرار. ولو ادعت الأمة الأخرى أن ولدها هو
الذي استلحقه، وأنها المستولدة، فالقول قول السيد مع يمينه. وكذا لو بلغ الولد
وادعى، فإن نكل السيد، حلف المدعي وقضي بمقتضى يمينه. ولو مات السيد قب
التعيين، قام وارثه مقامه في التعيين، وحكم تعيينهم حكم تعيينه في النسب
والحرية، والإرث، وتكون أم المعين مستولدة إن ذكر السيد ما يقتضي ثبوت
الاستيلاد، وإلا سئلوا، وحكم بيانهم حكم بيان المورث. فإن قالوا: لا نعلم كيف
63

استولد، فعلى الخلاف فيما إذا أطلق الاستلحاق. وإذا لم يكن وارث، فهو كما لو
أطلق الاستلحاق. ويجوز ظهور الحال للقائف مع موت المستلحق، بأن كان رآه،
أو يرى قبل الدفن، أو يرى عصبته فيجد الشبه. فإن عجز عن الاستفادة بالقائف
لعدمه، أو لالحاقه الولدين به، أو نفيهما، أو أشكل الامر عليه، أقرعنا بينهما
ليعرف الحر منهما، ولا ينتظر بلوغهما لينتسبا، بخلاف ما لو تنازع اثنان في ولد،
ولا قائف، لان الاشتباه هنا في أن الولد أيهما؟ فلو اعتبرنا الانتساب، ربما انتسب
جميعا إليه، فدام الاشكال، ولا يحكم لمن خرجت قرعته بالنسب والميراث، لان
القرعة لا تعمل فيهما. وهل يوقف نصيب ابن، بين من خرجت قرعته، وبين
الآخر؟ وجهان يأتي قريبا بيانهما. وأما الاستيلاد، فهو على التفصيل السابق، فإن
لم يوجد من السيد ما يقتضيه، لم يثبت، وإن وجد، فهل تحصل أمية الولد في أم
ذلك الولد بخروج القرعة؟ وجهان. أصحهما عند الامام: لا تحصل. والثاني:
تحصل، وب‍ قطع الأكثرون.
فرع حيث ثبت الاستيلاد، فالولد حر الأصل. لا ولاء عليه، وحيث لا
يثبت، فعليه الولاء إلا إذا وطئ نسبه إلى شبهة وقلنا: لا تصير أم ولو إذا ملكها.
وإذا لم يثبت الاستيلاد ومات السيد، ورث الولد أمه وعتقت عليه. هذا إذا تعين،
لا بالقرعة. وإن كان معه وارث آخر، عتق نصيبه ولم يشتر.
الحال الثاني: إذا كانت الأمتان مزوجتين، لم يقبل قول السيد، وولد كل أمة
ملحق بزوجها. وإن كانتا فراشا للسيد، بأن كان أقر بوطئها، لحقه الولدان
بالفراش.
الحال الثالث: كانت إحداهما مزوجة، لم يتعين إقراره في الأخرى، بل
يطالب بالتعيين. فإن عين في ولد الأخرى، قبل وثبت نسبه، وإن كانت إحداهما
فراشا له، لم يتعين اقراره في ولدها، بل يؤمر بالتعيين، فإن عين في ولد الأخرى،
لحقه بالاقرار، والولد الآخر يلحق به بالفراش.
فرع له أمة لها ثلاثة أولاد. قال: أحد هؤلاء ولدي، ولم تكن مزوجة ولا
فراشا للسيد قبل ولادتهم، طولب بالتعيين، فمن عينه منهم، فهو نسيب حر وارث،
والقول في الاستيلاد على التفصيل الذي مر. ثم إن كان المعين الأوسط، فالأكبر
64

رقيق، وأمر الأصغر مبني على استيلاد الأمة، فإن لم نجعلها مستولدة، فهو رقيق.
وإن جعلناها، نظر، إن لم يدع الاستبراء بعد الأوسط، فقد صارت فراشا له
بالأوسط، فيلحقه الأصغر ويرثه على الصحيح. وقيل: لا يلحقه، بل له حكم
الام، يعتق بموت السيد. وإن ادعى الاستبراء، بني على أ ن نسب ملك اليمين،
هل ينتفي به؟ إن قلنا: ينتفي، لم يلحقه الأصغر، وفي حكمه وجهان.
أصحهما: أنه كالأم يعتق بموت السيد، لأنه ولد أم ولد. والثاني: يكون قنا، لان
ولد أم الولد قد تكون كذلك، كما لو أحبل الراهن المرهونة وقلنا: لا تصير أم ولد،
فبيعت في الحق وولدت أولادا ثم ملكها وأولادها، فإنها تحكم بأنها أم ولد له على
الصحيح، والأولاد أرقاء لا يأخذون حكمها على الصحيح. وقيل: يأخذون. ولو
مات السيد قبل التعيين، عين وارثه، فإن لم يكن وارث، أو قال: لا أعرف،
عرضوا على القافة ليعين، والحكم على التقديرين، كما لو عين السيد. فإن
تعذرت معرفة القائف، فالنص أنه يقرع بينهم ليعرف الحرية. وثبوت الاستيلاد،
على التفصيل السابق. واعترض المزني بأن الأصغر حر بكل حال عند موت السيد،
لأنه المقر به، أو ولد أم ولد. وولد أم الولد، يعتق بموت السيد، إذا كان حرا بكل
حال، لم يدخل في القرعة، لأنها ربما خرجت على غيره فيلزم ارقاقه. واختلف
الأصحاب في الجواب، فسلم بعضهم حريته وقالوا: دخوله في القرعة إنما هو لرق
غيره، ويعتق هو إن خرجت قرعته، ومنعها آخرون، بناء على أن ولد أم الولد يجوز
أن يكون رقيقا، والأول: أصح. وحكي وجه: أن الصغير يخرج عن القرعة، وهو
شاذ ضعيف. فإذا أقرعنا فخرجت القرعة لواحد، فهو حر، والمذهب: أن النسب
والميراث لا يثبتان كما ذكرنا في المسألة الأولى. وقال المزني: الا صغر نسيب بكل
حال، وأبطل الأصحاب قوله، لكن الحق المطابق لما سبق، أن يفرق بين ما إذا
كان السيد قد ادعى الاستبراء قبل ولادة الأصغر، وبين ما إذا لم يدع. ويوافق
المزني في الحالة الثانية. وإذا ثبت النسب، ثبتت الحرية قطعا. وحيث لا يثبت
النسب، فهل يوقف الميراث؟ وجهان. أصحهما عند الجمهور: لا، لأنه إشكال
وقع اليأس من زواله، فأشبه غرق المتوارثين. والثاني: بلى كما لو طلق إحدى
امرأتيه ومات قبل البيان.
القسم الثاني: أن يلحق النسب بغيره، كقوله: هذا أخي ابن أبي وابن أمي،
65

أو يقر بعمومة غيره، فيكون ملحقا للنسب بالجد،
ويثبت النسب بهذا الالحاق
بالشروط المتقدمة فيما إذا ألحق بنفسه، وبشروط أخر.
إحداها: أن يكون الملحق به ميتا، فما دام حيا، ليس لغيره الالحاق به وإن
كان مجنونا.
الثانية: أن لا يكون الملحق به قد نفى المقر به، فإن كان نفاه ثم استلحقه
وارثه بعد موته، فوجهان. أصحهما، وبه قطع معظم العراقيين: يلحقه كما لو
استلحقه المورث بعدما نفاه بلعان وغيره. والثاني: المنع. والثالث: صدور
الاقرار من الورثة الحائزين للتركة.
فرع إقرار الأجنبي لا يثبت به النسب كما ذكرنا، فلو مات مسلم عن ابن
كافر، أو قاتل، أو رقيق، لم يقبل إقراره عليه بالنسب، كما لا يقبل إقراره عليه
بمال. ولو كان له ابنان. كافر ومسلم، لم تعتبر موافقة الكافر، ولو كان الميت كافرا
كفى استلحاق الكافر. ولا فرق في ثبوت النسب، بين أن يكون المقر به مسلما، أو
كافرا.
فرع مات وخلف ابنا فأقر بابن آخر، ثبت نسبه. ولو مات وخلف بنين،
أو بنين وبنات، فلا بد من اتفاقهم جميعا. وتعتبر موافقة الزوج والزوجة على
الصحيح. وفي وجه: لا تعتبر، لانقطاع الزوجية بالموت، ويجري الوجهان في
المعتق. ولو خلف بنتا واحدة، فإن كانت حائزة بأن كانت معتقة، ثبت النسب
66

إقرارها، وإن لم تكن حائزة ووافقها الامام، فوجهان يجريان فيما إذا مات من
لا وارث له، فألحق الامام به مجهولا، أصحهما وبه قطع العراقيون: الثبوت بموافقة
الامام. هذا إذا ذكره الامام لا على وجه الحكم، أما إذا ذكره على وجه الحكم،
فإن قلنا: يقضي بعلم نفسه، ثبت النسب، وإلا، فلا. ولا فرق بين أن تكون
حيازة الملحق تركة الملحق به بغير واسطة، أم بواسطة، كمن أقر بعمومة مجهول
وهو حائز لتركة أبيه الحائز تركة جده الملحق به، فإن كان قد مات أبوه قبل جده،
والوارث ابن الأب، فلا واسطة.
فرع وارثان، بالغ وصغير، فالصحيح أن البالغ لا ينفرد بالاقرار وفي
وجه: ينفرد ويحكم بثبوت النسب في الحال. وعلى الصحيح: ينتظر بلوغ
الصغير. فإن بلغ ووافق البالغ، ثبت النسب حينئذ. فإن مات قبل البلوغ، نظر،
إن لم يخلف سوى المقر، ثبت النسب حينئذ. فإن لم يجدد إقرارا - وإن خلف ورثة
سواهم - اعتبر موافقتهم، ولو كان أحدهما مجنونا، فكالصبي. ولو خلف بالغين
عاقلين فأقر أحدهما، وأنكر الآخر ثم مات ولم يخلف إلا أخاه المقر، فوجهان.
أصحهما: يثبت النسب، لان جميع الميراث صار له. والثاني: المنع، لان إقرار
الفرع مسبوق بإنكار الأصل. ويجري الخلاف فيما إذا خلف المنكر وارثا فأقر ذلك
الوارث. ولو أقر أحدهما وسكت الآخر ثم مات الساكت وابنه مقر، ثبت النسب
قطعا، لأنه غير مسبوق بتكذيب الأصل.
فرع أقر الابن المستغرق بأخ مجهول، فأنكر المجهول نسب المعروف،
لم يتأثر بإنكاره نسب المشهور على الصحيح، وفي وجه: يحتاج المقر إلى بينة على
نسبه، وهو ضعيف، ويثبت نسب المجهول على الأصح. ولو أقر بأخ مجهول ثم
أقرا بثالث، فأنكر الثالث نسب الثاني، ففي سقوط نسب الثاني وجهان،
أصحهما: السقوط، لأنه يثبت نسب الثالث فاعتبرت موافقته في ثبوت نسب
الثاني. ولو أقر بأخوين مجهولين، فصدق كل واحد منهما الآخر، ثبت نسبهما،
وإن كذب كل واحد منهما الآخر، ثبت النسبان على الأصح، لوجود الاقرار من حائز
التركة. وإن صدق أحدهما الآخر، وكذبه الآخر، ثبت نسب المصدق فقط، هذا
67

إذا لم يكن المجهولان توأمين، فإن كانا، فلا أثر لتكذيب أحدهما الآخر، فإذا أقر
الوارث بنسب أحدهما، ثبت نسبهما.
فرع أقر بنسب من يحجب المقر، بأن مات عن أخ فأقر بابن للميت،
ثبت نسبه على الأصح.
فرع في الميراث المقر به حالان.
الأولى: أن لا يحجب المقرين، فيشتركون على قدر حصصهم. ولو أقر أحد
الابنين المعترفين بأخ، فأنكره الأخ الآخر، فالصحيح المنصوص: أنه لا يرث، لان
الإرث فرع النسب، ولم يثبت كما سبق. وفي وجه: يرث، ويشارك المقر فيما في
يده، كما لو قال أحدهما: فلانة بنت أبينا، فأنكر الآخر، حرم على المقر
نكاحها، وكما لو قال لعبد في التركة: إنه ابن أبينا، هل يحكم بعتقه؟ وجهان.
وكما لو قال أحد الشريكين في العقار لثالث: بعتك نصيبي، فأنكر، لا يثبت
الشراء. وفي ثبوت الشفعة للشريك خلاف. وكما لو قال: لزيد على عمرو كذا وأنا
ضامنه، فأنكر عمرو، ففي مطالبة المقر بالضمان وجهان. أصحهما: المطالبة،
كما لو اعترف الزوج بالخلع، وأنكرت المرأة، ثبتت البينونة، وإن لم يثبت المال
الذي هو الأصل، وإذا قلنا بالصحيح، قبل في ظاهر الحكم، وأما في الباطن،
فهل على المقر إذا كان صادقا أن يشركه فيما يرثه؟ وجهان. أصحهما: نعم،
لعلمه باستحقاقه. وعلى هذا، هل يشركه بنصف ما في يده، أم بثلثه؟ وجهان.
أصحهما: الثاني.
الحال الثاني: أن يحجبهم أو بعضهم، بأن كان الوارث صغيرا في الظاهر أخا
أو معتقا، فأقر بابن للميت، فإن ليثبت نسبه، فذاك. وإن أثبتناه، لم يرث على
الأصح، للدور، والثاني: يرث ويحجب المقر، قاله ابن سريج، واختاره صاحب
التقريب وابن الصباغ وجماعة، وقالوا: المعتبر كونه وارثا، لولا إقراره. ولو
خلف بنتا معتقة، فأقرت بأخ لها، فهل يرث ويكون الميراث بينهما أثلاثا لكون
توريثه لا يحجبها، أم لا لأنه يمنعها عصوبة الولاء؟ وجهان.
فرع ادعى مجهول على أخي الميت أنه ابن الميت، فأنكر الأخ ونكل عن
اليمين، فحلف المدعي اليمين المردودة، ثبت نسبهم، ثم إن قلنا: النكول مع
68

يمين الرد كالبينة، ورث وحجب الأخ. وإن قلنا: كالاقرار، ففيه الخلاف السابق
في إقرار الأخ. ولو مات عن ابن وأخت، فأقرا بابن للميت، فعلى الأصح: تسلم
الأخت نصيبها، لأنه لو ورثها الابن يحجبها، وعلى الثاني: يأخذ جميع ما في يدها.
وكذا الحكم فيما لو خلف زوجة وأخا، فأقرا بابن للميت، يكون للزوجة الربع على
الأصح، وهذا الابن لا ينقص حقها، كما لا يسقط الأخ.
فرع إقرار الورثة بزوج أو زوجة للميت، مقبول على المذهب. وحكي
عن القديم قول: أنه لا يقبل. فإن قبلنا فأقر أحد الابنين المستغرقين وأنكر الآخر،
فالتوريث على ما ذكرنا فيما إذا أقر أحدهما بأخ وأنكر الآخر.
فرع قال: زيد أخي، ثم فسر بأخوة الرضاع، حكى الروياني عن أبيه:
أن الأشبه بالمذهب، أنه لا يقبل، لأنه خلاف الظاهر، ولهذا لو فسر بأخوة
الاسلام، لم يقبل.
فرع في فتاوى القفال، أنه لو أقر على أبيه بالولاء، فقال: هو معتق
فلان، ثبت الولاء عليه إن كان المقر مستغرقا، كما في النسب.
قلت: لو خلف ثلاثة بنين فأقر ابنان برابع، وأنكره الثالث، لم يثبت نسبه
بإقرارهما، لكن إذا شهدا به عند الحاكم بشروط الشهادة، ثبت نسبه. لان
شهادتهما أولى بالقبول من شهادة الأجنبيين، لان عليهما فيه ضررا، قاله القاضي أبو
الطيب. والله أعلم.
69

كتاب العارية
هي بتشديد الياء. قال الخطابي في الغريب: وقد تخفف، وفيه بابان.
الأول: في أركانها، وهي أربعة.
70

الأول: المعير، ويعتبر فيه أن يملك للمنفعة، وأن لا يكون محجورا عليه
في التبرعات، فيجوز للمستأجر أن يعير لأنه يملك المنفعة، وللموصى له بخدمة
عبد أو سكن دار ونحوهما أن يعيرهما، وليس للمستعير أن يعير على
الصحيح، ولكن له أن يستوفي المنفعة لنفسه بوكيله.
71

قلت: قال صاحب العدة: ليس للأب أن يعير ولده الصغير لمن يخدمه،
لان ذلك هبة لمنافعه، فأشبه إعارة ماله. وهذا الذي قاله، ينبغي أن يحمل على
خدمة تقابل بأجرة، أما ما كان محقرا بحيث لا يقابل بأجرة، فالظاهر الذي تقتضيه
أفعال السلف: أنه لا منع منه إذا لم يضر بالصبي، وقد سبق في كتاب الحجر
نحو هذا. والله أعلم.
الركن الثاني: المستعير، ويشترط فيه كونه أهلا للتبرع (عليه) بعقد يشتمل على
إيجاب وقبول بقول أو فعل، فلا تصح الإعارة للصبي، كما لا يوهب له.
الركن الثالث: المستعار، وله شرطان.
أحدهما: كونه منتفعا به مع بقاء عينه، كالعبد، والثوب، والدابة، والدار،
فلا يجوز إعارة الطعام قطعا، ولا الدراهم والدنانير على الأصح. قال الامام:
ويجري الوجهان في إعارة الحنطة والشعير ونحوهما. ثم السابق إلى الفهم من كلام
الأصحاب، أن الخلاف فيما إذا أطلق إعارة الدراهم، فأما إذا صرح بالإعارة
للتزيين، فينبغي أن يقطع بالصحة، وبه قطع المتولي، لأنه اتخذ هذه المنفعة
مقصودا وإن ضعفت، وإذا لم نصححها، فجرت، فهي مضمونة على الصحيح،
لان العارية الصحيحة مضمونة، وللفاسد حكم الصحيح في الضمان، وقيل: لا
ضمان، لان ما جرى بينهما ليس بعارية صحيحة ولا فاسدة. ومن قبض مال غيره
بإذنه لا لمنفعته، كان أمانة.
72

الشرط الثاني: كون المنفعة مباحة، فيحرم استعارة الجارية للاستمتاع. وأما
للخدمة، فيجوز إن أعارها لمحرم أو امرأة، وإلا، فلا يجوز، لخوف الفتنة،
إلا إذا كانت صغيرة لا تشتهى، أو قبيحة، فوجهان.
قلت: أصحهما: الجواز، وبه قطع جماعة، منهم صاحب التهذيب.
والله أعلم.
قال الغزالي: وإذا أعارها، صحت الإعارة، وإن كانت محرمة. ويشبه أن
يقال بالفساد، كالإجارة للمنفعة المحرمة، ويشعر به إطلاق الجمهور نفي
الجواز.
فرع قلت: يكره استعارة أحد الأبوين للخدمة لان استخدامهما مكروه ولفظ
الامام ينفي الحل
الذي قاله الأصحاب، أنه يكره كراهة تنزيه، قال الجرجاني: ويكره
أيضا استئجارهما. وقد يجوز إعارة ما لا يجوز إجارته، وهو الفحل للضراب،
والكلب للصيد، فإن إعارتهما صحيحة، وإجارتهما باطلة على الأصح. والله
أعلم.
73

وتكره إعارة العبد المسلم لكافر كراهة تنزيه.
قلت: صرح الجرجاني وآخرون، بأنها حرام، وصرح صاحب المهذب
وآخرون، بأنها لا تجوز، وظاهره التحريم، ولكن الأصح الجواز، وقد سبق في
أول البيوع. والله أعلم.
فرع يحرم على الحلال إعارة الصيد من المحرم، فإن فعل فتلف في
يده، ضمن الجزاء لحق الله تعالى، والقيمة للحلال. ولو أعار المحرم حلالا، فإن
قلنا: المحرم يزول ملكه عن الصيد فلا قيمة له على الحلال لأنه غير مالك، وعلى
المحرم الجزاء لحق الله تعالى إن تلف في يد الحلال، لأنه متعد بالإعارة، فإنه
يلزمه إرساله. وإن قلنا: لا يزول، صحت الإعارة وعلى الحلال القيمة إن تلف
عنده.
فرع دفع شاة إلى رجل وقال: ملكتك درها ونسلها، فهي هبة فاسدة،
وما حصل في يده من الدر والنسل، كالمقبوض بالهبة الفاسدة، والشاة مضمونة
بالعارية الفاسدة.
ولو قال: أبحت لك درها ونسلها، فوجهان. أحدهما: أنه كقوله: ملكتك.
والثاني: أنها إباحة صحيحة، والشاة عارية صحيحة، وبه قطع المتولي.
قلت: هذا أصح، واختاره أيضا القاضي أبو الطيب، وصاحب الشامل،
وحكم هذان والمتولي بالصحة فيما إذا أعاره الشاة ليأخذ
لبنها، أو أعاره شجرة ليأخذ
ثمرها. والله أعلم.
فعلى هذا، قد تكون العارية لاستفادة عين، وليس من شرطها أن يكون
المقصود مجرد المنفعة، بخلاف الإجارة. ولو قال: ملكتك درها، أو أبحتكه على
أن تعلفها، قال البغوي: العلف أجرة الشاة وثمن الدر والنسل، فالشاة غير مضمونة
لأنها مقبوضة بإجارة فاسدة، والدر والنسل مضمونان في الشراء الفاسد. وكذا لو دفع
74

قراضة إلى سقاء، وأخذ الكوز ليشرب، فسقط الكوز من يده وانكسر، ضمن الماء
لأنه مأخوذ بالشراء الفاسد، ولم يضمن الكوز لأنه في يده بإجارة فاسدة، وإن أخذه
مجانا، فالكوز عارية، والماء كالمقبوض بالهبة الفاسدة.
فرع قال المتولي: تعيين المستعار عند الإعارة، ليس بشرط. حتى لو
قال: أعرني دابة، فقال: ادخل الإصطبل فخذ ما أردت، صحت العارية،
بخلاف الإجارة، فإنها تصان عن مثل هذا، لان الغرر لا يحتمل في المعاوضات.
الركن الرابع: الصيغة، واللفظ المعتد به في الباب ما يدل على الاذن في
الانتفاع، كقوله: أعرتك، أو خذه لتنتفع به، وما أشبههما. واختلفوا في الواجب
من اللفظ، فالأصح الأشهر ما قطع به البغوي وغيره: أن المعتبر اللفظ من أحد
الطرفين، والفعل من الآخر. حتى لو قال المستعير: أعرني، فسلمه المالك إليه،
صحت الإعارة، كما لو قال: خذه لتنتفع به، فأخذه، قياسا على إباحة الطعام.
وقال الغزالي: يعتبر اللفظ من جهة المعير، ولا يعتبر من جهة المستعير، وإنما يعتبر
منه القبول، إما بالفعل وإما بالقول. وقال المتولي: لا يعتبر اللفظ في واحد منهما،
حتى لو رآه عاريا فأعطاه قميصا فلبسه، تمت العارية. وكذا لو فرش لضيفه فراشا أو بساطا
أو مصلى، أو ألقى له وسادة فجلس عليها، كان ذلك إعارة، بخلاف ما لو دخل
فجلس على الفرش المبسوطة، لأنه لم يقصد بها انتفاع شخص بعينه، ولا بد في
العارية من تعيين المستعير، وهذا الذي قاله المتولي فيه تمام التشبيه بإباحة الطعام،
ويوافقه ما حكي عن الشيخ أبي عاصم، أنه إذا انتفع بظرف الهدية المبعوثة إليه حيث
جرت العادة باستعماله، كأكل الطعام من القصعة المبعوث فيها، كان عارية، لأنه
انتفاع بملك الغير بإذنه.
75

قلت: هذا المحكي عن أبي عاصم، هو فيما إذا كانت الهدية لا تقابل. فأما
إن كانت عوضا، فالظرف أمانة في يده كالإجارة الفاسدة، كذا حكاه المتولي عن أبي
عاصم. والله أعلم.
فرع قال: أعرتك حماري لتعيرني فرسك، فهي إجارة فاسدة، وعلى كل
واحد أجرة مثل دابة صاحبه، وكذا الحكم، لو أعاره شيئا بعوض مجهول، كما لو
أعاره دابة ليعلفها، أو داره ليطين سطحها، وكذا لو كان العوض معلوما، ولكن مدة
الإعارة مجهولة، كقوله: أعرتك داري بعشرة دراهم، أو لتعيرني ثوبك شهرا. وفي
وجه ضعيف: أنها عارية فاسدة، نظرا إلى اللفظ، فعلى هذا تكون مضمونة عليه،
وعلى الأول: لا ضمان، ولو بين مدة الإعارة وذكر عوضا معلوما، فقال: أعرتك
هذه الدار شهرا من اليوم بعشرة دراهم، أو لتعيرني ثوبك شهرا من اليوم، فهل هي
إجارة صحيحة، أو إعارة فاسدة؟ وجهان، بناء على أن الاعتبار باللفظ، أو
المعنى؟
فرع دفع دراهم إلى رجل وقال: اجلس في هذا الحانوت واتجر فيها
لنفسك، أو دفع إليه بذرا وقال: ازرعه في هذه الأرض، فهو معير للحانوت
والأرض، وأما الدراهم والبذر، فهل يكون هبة، أم قرضا؟ وجهان.
الباب الثاني في أحكامها
وهي ثلاثة.
الأول: الضمان. فإذا تلفت العين في يد المستعير، ضمنها، سواء تلفت
76

بآفة سماوية أم بفعله، بتقصير أم بلا تقصير، هذا هو المشهور. وحكي قول: أنها
لا تضمن إلا بالتعدي فيها، وهو ضعيف.
ولو أعار بشرط أن يكون أمانة، لغا الشرط وكانت مضمونة، وإذا ضمن، ففي
القيمة المعتبرة أوجه. أصحها: قيمته يوم التلف. والثاني: يوم القبض.
والثالث: أقصى القيم من يوم القبض إلى يوم التلف. ويبنى على هذا الخلاف، أن
العارية إذا ولدت في يد المستعير، هل يكون الولد مضمونا في يده؟ إن قلنا
بالثالث، كان مضمونا، وإلا، فلا. وليس له استعماله بلا خلاف.
قلت: ولو استعار دابة وساقها، فتبعها ولدها، ولم يتكلم المالك فيه بإذن ولا
نهي، فالولد أمانة، قاله القاضي حسين في الفتاوى. والله أعلم.
والمقبوض على جهة السوم، إذا تلف، في المعتبر من قيمته هذه الأوجه،
لكن قال الامام: الأصح فيه قيمته يوم القبض. وقال غيره: الا صح يوم التلف
هذا إذا تلفت العارية لا بالاستعمال، أما إذا تلفت بالاستعمال المأذون فيه، بأن
انمحق الثوب باللبس، فلا يجب ضمانه على الأصح كالاجزاء. وقيل: يضمن،
77

فعلى هذا، وجهان. أحدهما: يضمن العين بجميع أجزائها، وبه قطع الامام.
وأصحهما: يضمنه في آخر حالات التقويم، وبه قطع البغوي.
وأما الاجزاء، فما تلف منها بسبب استعمال المأذون فيه، كانمحاق الثوب
باللبس، لا يجب ضمانه على الصحيح، وما تلف منها بغير الاستعمال، ففيه
وجهان. أحدهما: لا يضمن، كالتالف بالاستعمال. وأصحهما: الضمان، كتلف
العين كلها. وأما إذا تلفت الدابة بسبب الركوب والحمل المعتاد، فهو كانمحاق
الثوب، وتعييبها به كالانمحاق. وعن القفال: لو قرح ظهرها بالحمل وتلفت منه،
يضمن، سواء تعدى بما حمل، أم لا، لأنه إنما أذن في الحمل، لا في الجراحة،
وردها إلى المالك لا يخرجه عن الضمان، لان السراية تولدت من مضمون، وهذا
في الحمل الذي هو غير متعد به، تفريع على وجوب الضمان في صورة الانمحاق،
كذا ذكره الامام.
فرع مؤنة الرد على المستعير، هذا كله إذا استعار من المالك. فلو
استعار من المستأجر أو الموصى له بالمنفعة، فتلفت العين، فوجهان. أحدهما:
يضمن كما لو استعار من الملك. وأصحهما: لا يضمن، لان المستأجر لا
يضمن وهذا نائبه، ومؤنة الرد في هذه الاستعارة على المستعير إن رد على
المستأجر، وعلى المالك إن رد عليه كما لو رد عليه المستأجر.
فرع إذا استعار العين المغصوبة من الغاصب، وتلفت في يده، غرم
المالك من شاء منهما قيمته يوم التلف، وقرار الضمان على المستعير. فإن كانت
قيمته قبل يوم التلف أكثر، نظر، إن كانت الزيادة في يد المعير الغاصب، لم يطالب
78

بها غيره. وإن كانت في يد المستعير، فإن قلنا: العارية تضمن بأقصى القيم، فهي
كقيمته يوم التلف، وإلا، فالزيادة كبدل المنافع. وحكم بدل المنافع، أن ما
تلف منها تحت يده، فقرار الضمان على المعير، لان يد المستعير في المنافع ليست
يد الضمان. والتي استوفاها بنفسه فيها قولان. أظهرهما: على المستعير،
لمباشرته الاتلاف، والمستعير من المستأجر من الغاصب، حكمه حكم المستعير من
الغاصب إن ضمنا المستعير من المستأجر، وإلا، فيرجع بالقيمة التي غرمها على
المستأجر ويرجع المستأجر على الغاصب.
فرع إذا أركب وكيله الذي استعمله في شغله دابة الموكل، وسيره إلى
موضع، فتلفت الدابة في يده بلا تفريط، فلا ضمان، لأنه لم يأخذها لغرض
نفسه، وكذا لو سلمها إلى رائض ليروضها، أو كان له عليها متاع نفيس فأركب
إنسانا فوقه إحرازا للمال، فلا ضمان.
فرع لو وجد (من) أعيا في الطريق فأركبه فتلفت الدابة، فالمذهب أنه
يضمن، سواء التمس الراكب أو ابتدأه المركب، ومال الإمام، إلى أنه لا يضمن،
وجعل الغزالي هذا وجها، وزعم أنه الأصح، والمعروف الأول، وهو الصواب.
ولو أركبه مع نفسه، فعلى الرديف نصف الضمان، ورأي الامام أنه لا شئ عليه،
تشبيها بالضيف. وعلى المذهب: لو وضع متاعه على دابة رجل، وقال الواضع:
سيرها، ففعل، كان صاحب المتاع مستعيرا من الدابة بقسط متاعه مما عليها، حتى لو كان
عليها لكن سيرها المالك، لم يكن الواضع مستعير ا، بل يدخل المتاع في ضمان صاحب
79

الدابة، لأنه كان حقه أن يطرحه. ولو كان لاحد الرفيقين في السفر دابة، وللآخر متاع،
فقال صاحب المتاع للآخر: احمل متاعي على دابتك، فأجابه، فصاحب المتاع
مستعير، ولو قال: صاحب الدابة: أعطني متاعك لأضعه على الدابة، فهو مستودع
متاعه، ولا تدخل الدابة في ضمان صاحب المتاع، ذكره البغوي.
فرع استعار دابة ليركبها إلى موضع، فجاوزه، فهو متعد من حين
المجاوزة، وعليه أجرة المثل ذهابا من ذلك الموضع ورجوعا إليه. وفي لزوم أجرة
المثل من ذلك الموضع إلى أن يرجع إلى البلد الذي استعار منه، وجها ن. فإن
أوجبناها، فليس له الركوب من ذلك الموضع، بل يسلمه إلى قاضي الموضع الذي
استعار إليه.
قلت: الأصح.
فرع أودعه ثوبا وقال: إن شئت أن تلبسه فالبسه، فهو بعد اللبس عارية،
وقبله وديعة على الصحيح، وقيل: عارية، لأنه مقبوض لتوقع نفع كالمقبوض
بالسوم. قال صاحب التقريب: ولو قيل: لا ضمان في السوم تخريجا من هذا،
لم يبعد.
فرع استعار صندوقا، فوجد فيه دراهم، فهي أمانة عنده، كما لو طيرت
الريح ثوبا في داره.
الحكم الثاني: تسلط المستعير على الانتفاع بحسب إذن المعير، وفيه
مسائل.
الأولى: إذا أعاره أرضا للزراعة، فإن بين ما يزرعه، كقوله: أعرتك لزراعة
80

الحنطة، نظر، إن لم ينهه عن غيرها، فله أن يزرع الحنطة وما ضرره كضررها أو
دونه كالشعير، وليس (له) أن يزرع ما فوقها كالذرة والقطن. وإن نهاه عن غيرها،
لم يكن له زرع غيرها. وحيث زرع ما ليس له، فللمعير قلعه مجانا. وإن أطلق
ذكر الزراعة ولم يبين الزروع، صحت الإعارة على الأصح، ويزرع ما شاء،
لاطلاق اللفظ. والثاني: لا يصح، لتفاوت الضرر. ولو قيل: يصح ولا يزرع
إلا أقل الأنواع ضررا، لكان مذهبا.
الثانية: إذا أعار للزراعة، لم يكن له البناء ولا الغراس. وإن أعار
لأحدهما، فله الزراعة، وليس له الآخر على الأصح.
قلت: حكى صاحب المهذب وغيره وجها: أنه لا يجوز الزرع إذا
استعار للبناء، لان الزرع يرخي الأرض، بخلاف البناء. والصحيح: الجواز. والله
أعلم.
الثالثة: إذا كان المستعار لا ينتفع به إلا بجهة واحدة، كالبساط الذي لا يصلح
إلا لان يفرش، فلا حاجة في إعارته إلى بيان الانتفاع، وإن كان ينتفع به بجهتين
فصاعدا، كالأرض تصلح للزراعة، والبناء، والغراس، وكالدابة للركوب،
والحمل، فهل تصح الإعارة مطلقا، أم يشترط بيان جهة الانتفاع؟ وجهان.
أصحهما عند الامام، والغزالي: الثاني، وقطع الروياني والبغوي بالأول.
قلت: صحح الرافعي في المحرر الثاني. والله أعلم.
81

فعلى الأول: له أن ينتفع كيف شاء. وقال الروياني: ينتفع بما هو العادة
فيه، وهذا أحسن. وعلى الثاني: لو قال: أعرتك لتنتفع به كيف شئت، أو لتفعل
به ما بدا لك، فوجهان.
الحكم الثالث: الجواز. فللمعير الرجوع متى شاء، وللمستعير الرد متى
شاء، سواء العارية المطلقة والمؤقتة، إلا في صورتين.
الأولى: إذا أعار أرضا لدفن ميت، فدفن، لم يكن له الرجوع ونبش القبر
إلى أن يندرس أثر المدفون، وله سقي الأشجار التي فيها إن لم يفض إلى ظهور
شئ من بدن الميت، وله الرجوع ما لم يوضع فيه الميت، قال المتولي: وكذا بعد
الوضع ما لم يواره التراب. قال: ومؤنة الحفر إذا رجع بعد الحفر وقبل الدفن، على
ولي الميت، ولا يلزمه طمها.
قلت: كذا هو في نسخ كتاب الامام الرافعي رحمه الله، وهو غلط في النقل
عن المتولي، فإن المتولي قال: إذا رجع في العارية بعد الحفر وقبل الدفن، غرم
لولي الميت مؤنة الحفر، لأنه بإذنه في الحفر أوقعه في التزام ما التزام، وفوت عليه
مقصوده لمصلحة نفسه، فهذا لفظ المتولي بحروفه، وهو الصواب. والله أعلم.
وإطلاق الإعارة، لا يسلط على الدفن قطعا وإن كان يسلط على ما شاء من
المنافع على الوجهين كما سبق، والفرق ظاهر.
قلت: في البيان وغيره: أنه لو أعار أرضا ليحفر فيها بئرا، صحت
العارية. فإذا نبع الماء، جاز للمستعير أخذه، لأن الماء يستباح بالإباحة. والله
أعلم.
الصورة الثانية: إذا أعاره جدارا لوضع الجذوع، ففي جواز الرجوع
82

وجهان. فإن جوزناه، فهل فائدته طلب الأجرة للمستقبل، أم التخيير بينه وبين
القلع وضمان أرش النقص؟ وجهان. وقد سبق بيان هذا كله واضحا مع بيان الأصح
في كتاب الصلح.
قلت: ومن أحكامها، أنه لو مات المعير، أو جن، أو أغمي عليه، أو حجر
عليه لسفه، انفسخت الإعارة كسائر العقود الجائزة. وإن مات المستعير، انفسخت
أيضا، لان الاذن بالانتفاع إنما كان للمستعير دون وارثه، وإذا انفسخت، وجب
على المستعير ردها، ذكر هذه الجملة المتولي. والله أعلم.
فصل إعارة الأرض للبناء أو الغراس، ضربان: مطلقة لم يبين لها مدة،
ومقيدة بمدة. الأول: المطلقة، وللمستعير فيها أن يبني ويغرس ما لم يرجع
المعير، فإذا رجع، لم يكن له البناء والغراس. ولو فعل وهو عالم بالرجوع، قلع
مجانا، وكلف تسوية الأرض كالغاصب. وإن كان جاهلا، فوجهان كالوجهين فيما
إذا حمل السيل نواة إلى أرضه فنبتت. وأما ما بني وغرس قبل الرجوع، فإن أمكن
رفعه من غير نقص يدخله، رفع، وإلا، فينظر، إن شرط عليه القلع مجانا عند رجوعه،
وتسوية الحفر، لزمه، فإن امتنع، قلعه المعير مجانا، وإن شرط القلع دون
83

التسوية، لم تلزمه التسوية، لان شرط القلع رضى بالحفر. وإن لم يشرط القلع
، نظر، إن أراده المستعير، مكن منه، لأنه ملكه، ويلزمه تسوية الحفر على الأصح.
قلت: كذا صححه الجمهور: أنه يلزمه تسوية الحفر هنا منهم القاضي أبو
الطيب في المجرد وصاحب الانتصار وغيرهما، وبه قطع المحاملي في
المقنع والروياني في الحلية وهو الأصح. ولا يغتر بتصحيح الرافعي في
المحرر: أنه لا يلزمه، فإنه ضعيف، نبهت عليه في مختصر المحرر. والله
أعلم.
وإن لم يرده، لم يكن للمعير قلعه مجانا، لأنه محترم، ولكن يتخير المعير.
وفيما يتخير؟ فيه أوجه. أحدها، وبه قطع الامام، وأبو الحسن العبادي،
والغزالي: يتخير بين ثلاث خصال. إحداها: أن يبقيه بأجرة يأخذها. والثانية: أن
يقلع ويضمن أرش النقص، وهو قدر التفاوت بين قيمته نابتا ومقلوعا. والثالثة: أن
يتملكه بقيمته، فإن اختار خصلة، أجبر عليها المستعير. والثاني، وبه قطع
البغوي: لا بد في الخصلة الأولى والثالثة من رضى المستعير، لان الأولى إجارة
والثالثة بيع. والثالث: يتخير بين خصلتين، القلع وضمان الأرش، والتملك
بالقيمة، وبهذا قطع أبو علي الزجاجي وأكثر العراقيين وغيرهم، وهذا أصح في
المذهب. فعلى هذا، لو امتنع من الخصلتين، وبذل المستعير الأجرة، لم يكن
84

للمعير القلع مجانا. وإن لم يبذلها، فكذلك على الأصح، وبه قطع المخيرون بين
الخصال الثلاث إذا امتنع منها جميعا. وما الذي يفعل فيه؟ وجهان. أحدهما: وبه
قال: أبو علي الزجاجي: يبيع الحاكم الأرض مع البناء أو الغراس لفصل الخصومة.
وقال الأكثرون، منهم المزني: يعرض الحاكم عنهما إلى أن يختارا شيئا، ويجوز
للمعير دخول الأرض، والانتفاع بها، والاستظلال بالبناء والشجر، لأنه جالس في
ملكه، وليس للمستعير دخولها للتفرج بغير إذن المعير، ويجوز لسقي الأشجار
وإصلاح الجدار على الأصح، صيانة لملكه عن الضياع. ووجه المنع: أنه يشغل
ملك غيره إلى أن يصل إلى ملكه. وعلى الأول: لو تعطلت المنفعة على صاحب
الأرض بدخوله، قال المتولي: لا يمكن إلا بالأجرة، ولكل واحد من المعير
والمستعير بيع ملكه للآخر، وللمعير بيع ملكه لثالث، ثم يتخير المشتري تخير
المعير، وهل للمستعير بيع البناء والغراس لثالث؟ وجهان. أصحهما: الجواز.
فعلى هذا، يتنزل المشتري منزلة المستعير، وللمعير الخيار كما سبق وللمشتري
فسخ البيع إن جهل الحال. ولو اتفق المعير والمستعير على بيع الأرض بما فيها بثمن
واحد، فقد قيل: هو كما لو كان لهذا عبد، ولهذا عبد، فباعاهما بثمن واحد،
والمذهب: القطع بالجواز للحاجة. ثم كيف يوزع الثمن هنا، وفيما إذا باعهما
الحاكم على أحد الوجهين؟ قال المتولي: هو على الوجهين فيما إذا غرس الراهن
الأرض المرهونة. وقال البغوي: يوزع على الأرض مشغولة بالغراس أو البناء،
85

وعلى ما فيها وحده، فحصة الأرض للمعير، وحصة ما فيها للمستعير، وحكم
الدخول والانتفاع والبيع، على ما ذكرنا في ابتداء الرجوع إلى الاختيار، وفيما إذا
امتنعا من الاختيار وأعرض القاضي عنهما سواء.
الضرب الثاني: المقيدة بمدة. وللمستعير البناء والغراس في المدة، إلا أن
يرجع المعير، وله أن يجدد كل يوم غرسا، وبعد انقضاء المدة ليس له إحداث البناء
والغراس. وإذا رجع المعير قبل المدة أو بعده، فالحكم كما لو رجع في الضرب
الأول، لكن هنا وجه: أنه لا يتمكن من الرجوع قبل المدة، وقول: أنه إذا رجع
بعد المدة، فله القلع مجانا، نقله الساجي، واختاره الروياني. والمذهب:
الأول.
فرع قال المتولي: إذا بنى أحد الشريكين، أو غرس في الأرض المشتركة
بإذن صاحبه، ثم رجع صاحبه، لم يكن له القلع بأرش النقص، لأنه يتضمن قلع
بناء المالك في ملكه، وليس له أن يتملك بالقيمة، لا ن للباني في الأرض مثل
حقه، لكن له الابقاء بأجرة. فإن لم يبذلها الباني، فهل يباع أو يعرض عنهما؟ فيه
ما سبق.
قلت: كذا قال المتولي: فإن لم يبذلها الباني، وكان ينبغي أن يقول: فإن لم
يرض بها الشريك، فإن بذل الباني، ليس بشرط على المختار كما تقدم، ولو بنى أو
غرس بغير إذن شريكه، قلعه مجانا، وسيأتي بيانه في بناء المشتري في المشفوع.
والله أعلم.
فصل أعار للزرع، فزرعها، فرجع قبل إدراك الزرع، فإن كان مما يعتاد
قطعه، كلف قطعه، وإلا، فأوجه، أحدها: للمعير أن يقلع ويغرم أرش النقص.
والثاني: له تملكه بالقيمة، قاله القاضي أبو الطيب. والثالث وهو الصحيح: لا
تثبت واحدة من هاتين الخصلتين، لان للزرع أمدا، بخلاف البناء والغراس، فعلى
هذا، يلزم المعير إبقاؤه إلى أوان حصاده، وهل له الأجرة؟ وجهان. أحدهما:
لا، وهو منقول عن المزني، واختاره الروياني، لان منفعة الأرض إلى الحصاد
86

كالمستوفاة. وأصحهما: نعم، لأنه إنما أباح له المنفعة إلى وقت الرجوع،
فأشبه من أعار دابة إلى بلد ثم رجع في الطريق، فإن عليه نقل متاعه إلى مأمن بأجرة
المثل. ولو أعار لزرع مدة، فانقضت والزرع غير مدرك، فإن كان ذلك لتقصيره في
الزراعة بالتأخير، قلع مجانا، وإلا، فهو كما لو أعار مطلقا.
فرع لو أعار للفسيل، قال الشيخ أبو محمد: إن كان ذلك مما يعتاد نقله،
فهو كالزرع، وإلا، فكالبناء.
فرع قال البغوي: إذا أعار للزرع مطلقا، لم يزرع إلا زرعا واحدا، وكذا
لو أعار للغراس، فغرس وقلعه، لا يغرس بعده إلا بإذن جديد وهذا بين أن قولنا:
المستعير للبناء والغراس مطلقا يبني ويغرس ما لم يرجع المعير، معناه: البناء
المأذون فيه، وهو مرة واحدة، إلا إذا كان قد صرح له بالتجديد مرة بعد أخرى.
فصل إذا حمل السيل حبات أو نوى لغيره إلى أرضه، لزمه ردها إلى مالكها
إن عرفه، وإلا، فيدفعها إلى القاضي، ولو نبتت في أرضه، فوجهان. أحدهما:
لا يجبر مالكها على قلعها، لأنه غير متعد. فعلى هذا، هو مستعير، فينظر في
النابت أهو شجر، أم زرع؟ ويكون الحكم على ما سبق. وأصحهما: يجبر، لان
المالك لم يأذن، فهو كما لو انتشرت أغصان شجرة في هواء دار غيره، فله قطعها.
ولو حمل ما لا قيمة له، كنواة واحدة، أو حبة، فهل هي لمالك الأرض لان التقوم
حصل في ملكه؟ أم لمالك الحبة لأنها كانت محرمة الاخذ؟ وجهان. فعلى الثاني:
في قلع النابت، الوجهان.
قلت: الأصح: كونها لمالك الحبة، وهذا في حبة ونواة لم يعرض عنها
مالكها، أما إذا أعرض عنها أو ألقاها، فينبغي القطع بكونها لصاحب الأرض. والله
أعلم.
ولو قلع صاحب الشجرة شجرته، لزمه تسوية الأرض، لأنه لتخليص ملكه.
87

فصل في الاختلاف وفيه مسائل.
الأولى: قال راكب الدابة لمالكها: أعرتنيها. فقال: بل أجرتكها مدة كذا
بكذا، فتارة يختلفان والدابة باقية، وتارة (يختلفان) وهي تالفة.
الحال الأول: الباقية، وهو ضربان.
أحدهما: يختلفان بعد مضي مدة لمثلها أجرة. والثاني: قبلها. فالأول:
نص فيه أن القول قول الراكب بيمينه. ونص فيما إذا زرع أرض غيره واختلفا هكذا،
أن القول قول صاحب الأرض. والله أعلم.
وللأصحاب طريقان. أحدهما: تقرير النصين، واختاره القفال، لان الدواب
تكثر فيها الإعارة، بخلاف الأرض، وأصحهما عند الجمهور، وبه قال المزني،
والربيع، وابن سريج: فيهما قولان. أظهرهما: القول قول المالك، فعلى هذا
كيف يحلف؟ وجهان. قال الشيخ أبو محمد وطائفة: يحلف على نفي الإعارة، ولا
يتعرض لاثبات الأجرة، لأنه مدع فيها. وقال العراقيون والقاضي والأكثرون:
يتعرض لاثبات الأجرة مع نفي الإعارة. فعلى الأول: إذا حلف، استحق أقل الأمرين من
أجرة المثل والمسمى. وعلى الثاني: أوجه. أحدها: يستحق المسمى.
والثاني: أقل الأمرين. وأصحها وهو نصه في الام: أجرة المثل. فلو نكل
المالك عن اليمين، لم يحلف الراكب والزارع، لأنهما لا يدعيان حقا على
المالك، وإنما يدعيان الإعارة وليست لازمة. وعن القاضي حسين رمز إلى أنهما
يحلفان للتخلص من الغرم، أما إذا قلنا: القول قول الراكب والزارع، فإن حلف
على نفي الإجارة، كفاه وبرئ، وإن نكل، ردت اليمين على المالك، واستحق
بيمينه المسمى على الصحيح، وعلى الشاذ أجرة المثل.
الضرب الثاني: أن يقع الاختلاف قبل مضي مدة لها أجرة، فالقول قول
الراكب بيمينه. فإذا حلف على الإجارة، سقطت دعوى الأجرة، وردت العين
إلى المالك. وإن نكل، حلف المالك يمين الرد، واستحق الأجرة. وإنما لم يجر
القولان، لان الراكب لا يدعي لنفسه حقا، ولم تتلف المنافع على المالك.
الحال الثاني: أن تكون الدابة تالفة، فإن تلفت قبل مضي مدة لها أجرة،
88

فالراكب مقر بالقيمة، و المالك ينكرها ويدعي الأجرة، فيخرج على الخلاف السابق
في كتاب الاقرار: أن اختلاف الجهة، هل يمنع الاخذ؟ إن قلنا: نعم، سقطت
القيمة برده. وفيمن القول قوله في الأجرة، الطريقان في الحال الأول. وإن قلنا:
لا، فإن كانت الأجرة مثل القيمة أو أقل، أخذ ها بلا يمين. وإن كانت أكثر، أخذ
قدر القيمة. وفي المصدق في الزائد، الخلاف السابق.
المسألة الثانية: قال المتصرف: أعرتني هذه الدابة أو الأرض، فقال
المالك: بل غصبتنيها، فإن لم تمض مدة لها أجرة، فلا معنى للمنازعة، فيرد
المال إلى مالكه. وإن مضت مدة لها أجرة، فنقل المزني: أن القول قول المستعير.
وللأصحاب طرق. أصحها: أنها على الطريقين في المسألة الأولى، ففي طريق:
يفرق بين الأرض والدابة. وفي طريق: هما على قولين. والطريق الثاني: القطع
بأن القول قول المتصرف، لأن الظاهر أنه تصرف بحق. والثالث: القطع
بأن القول قول مالكه، لان الأصل عدم إذنه. ومن قال بهذا، خطأ المزني في النقل. قال
الشيخ أبو حامد: لكنه ضعيف، لان الشافعي رضي الله عنه نص في الام على ما
نقله المزني، هذا إذا كانت العين باقية. فلو تلفت، نظر، إن تلفت بعد مدة لها
أجرة، فالمالك يدعي أجرة المثل والقيمة بالغصب، والمتصرف ينكر الأجرة ويقر
بالقيمة بجهة العارية، فالحكم في الأجرة على ما ذكرنا عند بقاء العين. وأما
القيمة، فقال البغوي: إن قلنا: اختلاف الجهة يمنع الاخذ، لم يأخذها إلا
باليمين، وإلا، فإن قلنا: العارية تضمن ضمان الغصب، أو لم نقل به، وكانت
القيمة يوم التلف أكثر، أخذها بلا يمين، وإن كانت يوم التلف أقل، أخذها بلا
يمين، وفي الزيادة يحتاج إلى اليمين. وإن هلكت قبل مدة لها أجرة، لزمه
القيمة. ثم قياس ما ذكره البغوي: أنا إن جعلنا اختلاف الجهة مانعا من الاخذ،
حلف، وإلا، فيأخذ بلا يمين، ومقتضى كلام الامام: أن لا يخرج على ذلك
الخلاف، لا هذه الصورة، ولا ما إذا كان الاختلاف بعد مدة لها أجرة، قال: لأن العين
متحدة ولا أثر للاختلاف في الجهة مع اتحاد العين. والأول أصح.
الثالثة: قال المالك: غصبتنيها، وقال المتصرف: بل أجرتني، فالمذهب:
89

أنه إن كانت العين باقية، ولم تمض مدة لها أجرة، فالمصدق المالك. فإذا حلف،
استرد المال. وإن مضت مدة لها أجرة، فالمالك يدعي أجرة المثل، والمتصرف
يقر بالمسمى. فإن استويا، أو كانت أجرة المثل أقل، أخذ بلا يمين. وإن كانت
أجرة المثل أكثر، أخذ قدر المسمى بلا يمين، والزيادة باليمين. قال البغوي: ولا
يجئ هنا خلاف اختلاف الجهة، كما لو ادعى المالك فساد الإجارة، والمتصرف
صحتها، يحلف المالك، ويأخذ أجرة المثل. وإن كان الاختلاف بعد بقاء العين
في يد المتصرف مدة، وتلفها، فالمالك يدعي أجرة المثل والقيمة، والمتصرف
يقر بالمسمى وينكر القيمة، فللمالك أخذ ما يقر به بلا يمين. وأخذ ما ينكره باليمين.
الرابعة: قال المالك: غصبتني، وقال (صاحب اليد): بل أودعتني، حلف المالك على
الأصح، وأخذ القيمة إن تلف المال، وأجرة المثل إن مضت مدة لها أجرة.
الخامسة: قال الراكب: أكريتنيها، وقال المالك: بل أعرتكها، والدابة
باقية، فالقول قول المالك في نفي الإجارة. فإذا حلف، استردها. فإن نكل،
حلف الراكب واستحق الامساك. ثم إن مضت مدة لها أجرة، فالراكب يقر بالأجرة،
والمالك ينكرها، ولا يخفى حكمه. وإن كان هذا الاختلاف بعد هلاك الدابة، فإن
هلكت عقب القبض، فالمذهب: أن المالك يحلف، ويأخذ القيمة، لان الراكب
أتلفها، ويدعي مسقطا. وخرج قول في المسألة الأولى: أن القول قول الراكب،
لان الأصل براءته، وإن تلفت بعد مدة لها أجرة، فالمالك يدعي القيمة وينكر
الأجرة، والراكب يقر بالأجرة وينكر القيمة. فإن قلنا: اختلاف الجهة يمنع الاخذ،
حلف وأخذ القيمة، ولا عبرة باقرار الراكب. وإن قلنا: لا يمنع، وهو الأصح، فإن
90

كانت القيمة والأجرة سواء، أو كانت القيمة أقل، أخذها بلا يمين. وإن كانت
القيمة أكثر، أخذ الزيادة باليمين.
فرع استعمل المستعير العارية بعد رجوع المعير وهو جاهل بالرجوع، لم
يلزمه الأجرة، ذكره القفال.
فرع مات المستعير، يلزم ورثته الرد وإن لم يطالب المعير.
قلت: قال أصحابنا: الرد الواجب والمبرئ، هو أن يسلم العين إلى المالك
أو وكيله في ذلك. فلو رد الدابة إلى الإصطبل، أو الثوب ونحوه إلى البيت الذي
أخذه منه، لم يبرأ من الضمان، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الغصب بيان هذا
واضحا. ولو رد الدابة إلى دار المعير، فلم يجده، فسلمها إلى زوجته، أو ولده،
فإن سلمها المتسلم إلى المدعي، فضاعت، فالمعير بالخيار، إن شاء ضمن المستعير، وإن
شاء غرم الزوجة أو الولد. فإن غرم المستعير، رجع عليهما، وإن غرمهما. لم
يرجعا على المستعير. والله أعلم.
91

كتاب الغصب
للأصحاب رحمهم الله، عبارات في معنى الغصب.
إحداها: أنه أخذ مال الغير على جهة التعدي، وربما قيل: الاستيلاء على
مال الغير.
الثانية: وهي أعم من الأولى: أنه الاستيلاء على مال الغير بغير حق.
واختار الامام هذه العبارة، وقال: لا حاجة إلى التقييد بالعدوان، بل يثبت الغصب
وحكم من غير عدوان، كما لو أودع ثوبا عند رجل، ثم جاء المالك فأخذ ثوبا
92

للمودع وهو يظنه ثوبه، أو لبسه المودع على ظن أنه ثوبه.
الثالثة: وهي أعم من الأوليين: أن كل مضمون على ممسكه فهو مغصوب،
كالمقبوض بالبيع الفاسد، والوديعة إذا تعدى فيها المودع، الرهن إذا تعدى فيه
المرتهن. وأشبه العبارات وأشهرها هي الأولى. وفي الصورة المذكورة، الثابت
حكم الغصب، لا حقيقته.
قلت: كل هذه العبارات ناقصة، فإن الكلب وجلد الميتة وغيرهما مما ليس
بمال، لا يدخل فيها مع أنه يغصب، وكذلك الاختصاصات بالحقوق، فالاختيار:
أنه الاستيلاء على حق الغير بغير حق. والله أعلم.
وقد تظاهرت نصوص الكتاب والسنة وإجماع الأمة، على تحريم الغصب،
وفيه بابان.
93

الأول: في الضمان، وفيه أربعة أطراف.
الأول: في الموجب للضمان، والغصب وإن كان موجبا للضمان، فلا
ينحصر الموجب فيه، بل الاتلاف أيضا مضمن، وكذلك الاستعارة والاستيام
وغيرهما، والاتلاف يكون بالمباشرة، أو بالتسبب، وماله مدخل في الهلاك، فقد
يضاف إليه الهلاك حقيقة، وقد، لا. ومالا، يقصد فقد بتحصيله حصول ما يضاف
إليه الهلاك حقيقة، وقد، لا، لان الذي يضاف إليه الهلاك يسمى علة، والآتيان
به، مباشرة، وما لا يضاف إليه الهلاك ويقصد بتحصيله ما يضاف إليه، يسمى
سببا، والآتيان به، تسببا. وهذا القصد والتوقع، قد يكون لتأثيره بمجرده فيه، وهو
علة العلة، وقد يكون بانضمام أمور إليه وهي غير بعيدة الحصول.
فمن المباشرة: القتل، والاكل، والاحراق.
ومن التسبب: الاكراه على اتلاف مال الغير. ومنه ما إذا حفر بئرا في محل
عدوان، فتردت فيها بهيمة، أو عبد، أو حر، فإن رداه غيره، فالضمان على
المباشرة المردي، لان المباشر مقدمة على السبب، وسيأتي تمام هذا وبيان محل
العدوان في كتاب الجنايات إن شاء الله تعالى.
فرع لو فتح رأس زق فضاع ما فيه، نظر، إن كان (مطروحا) على الأرض
فاندفق ما فيه بالفتح، ضمن. وإن كان منتصبا لا يضيع ما فيه لو بقي
كذلك، لكنه سقط، نظر إن سقط بفعله بأن كان يحرك الوكاء ويجذبه حتى أفضى
إلى السقوط، ضمن، وكذا لو سقط بما يقصد تحصيله بفعله، بأن فتح رأسه،
فأخذ ما فيه في التقاطر شيئا فشيئا، حتى ابتل أسفله وسقط، ضمن. وإن سقط
بعارض، كزلزلة، أو هبوب ريح، أو وقوع طائر، فلا ضمان، ولو فتح رأسه
فأخذ ما فيه في الخروج، ثم جاء آخر ونكسه مستعجلا، فضمان الخارج بعد
النكس، هل هو عليهما كالجارحين، أم على الثاني فقط كالحاز مع الجارح؟ فيه
94

وجهان. أصحهما: الثاني. هذا إذا كان ما في الزق مائعا. فإن كان جامدا فطلعت
الشمس فأذابته وضاع، أو ذاب بمرور الزمان وتأثير حرارة الريح فيجب الضمان على
الأصح. ويجري الوجهان، فيما لو أزال أوراق العنب وجرد عناقيده للشمس
فأفسدتها، وفيما لو ربح شاة رجل فهلكت سخلتها، أو حمامة فهلك فرخها، لفقد
ما يصلح لهما. ولو جاء آخر وقرب نارا من الجامد فذاب وضاع، فوجهان.
أحدهما: لا ضمان على واحد منهما، وأصحهما: يضمن الثاني.
ويجري الوجهان فيما لو قرب الفاتح أيضا النار، وفيما لو كان رأس الزق
مفتوحا فجاء رجل وقرب منه النار.
فرع لو حل رباط سفينة فغرقت بالحل، ضمن، ولو غرقت بحادث، كهبوب
ريح أو غيره، لم يضمن. وإن لم يظهر حادث، فوجهان. وليكن الامر كذلك في
مسألة الزق إذا لم يظهر حادث لسقوطه.
فرع فتح قفصا عن طائر وهيجه حتى طار، ضمنه. فإن لم يزد على
الفتح، فثلاثة أقوال. أظهرها: إن طار في الحال، ضمن، وإلا، فلا. والثاني:
يضمن مطلقا. والثالث: لا يضمن مطلقا. وفي ما جمع في فتاوى القفال - تفريعا
على وجوب الضمان إذا طار في الحال -: أنه لو وثبت هرة بمجرد فتح القفص،
ودخلته وقتلت الطائر، لزمه الضمان، لأنه في معنى إغراء الهرة، وأنه لو كان
القفص مغلقا فاضطرب بخروج الطائر وسقط فانكسر، لزم الفاتح ضمانه. وأنه لو
كسر الطائر في خروجه قارورة رجل، لزمه ضمانها، لان فعل الطائر منسوب
إليه، وأنه لو كان شعير في جراب مشدود الرأس، بجنبه حمار، ففتح رأسه
95

فأكله الحمار في الحال، لزم الفاتح ضمانه، ولو حل رباط بهيمة، أو فتح باب
الإصطبل فخرجت وضاعت، فالحكم على ما ذكرنا في القفص.
ولو خرجت في الحال وأتلفت زرع رجل، قال القفال: إن كان نهارا، لم
يضمن الفاتح، وإن كان ليلا، ضمن، كدابة نفسه. وقال العراقيون: لا
يضمن، إذ ليس عليه حفظ بهيمة الغير عن الزروع.
قلت: قطع ابن كج بما قاله القفال والله أعلم
ولو حل قيد العبد المجنون، أو فتح باب السجن، فذهب، فهو كما لو حل
رباط البهيمة. وإن كان العبد عاقلا، نظر، إن لم يكن آبقا، فلا ضمان، لان له
اختيارا صحيحا، فذهابه محال عليه، وإن كان آبقا، فلا ضان أيضا على الأصح،
وقيل: هو كحل رباط البهيمة، ففيه
فرع لو وقع طائر على جداره، فنفره، لم يضمن، لأنه كان ممتنعا قبله،
التفصيل ولو رماه في الهواء فقتله، ضمنه، سواء هواء داره وغيره، إذ ليس له منع الطائر
من هواء ملكه.
فرع لو فتح باب الحرز فسرق غيره، أو دل سارقا فسرق، أو أمر غاصبا
فغصب، أو بنى دارا فألقت الريح فيها ثوبا وضاع، فلا ضمان عليه:
ولو حبس المالك عن ماشيته حتى تلفت، فلا ضمان، لأنه لم يتصرف في
المال، كذا قالوه، ولعل صورته فيما إذا لم يقصد منعه عن الماشية، وإنما قصد
حبسه فأفضى الامر إلى هلاكها، لان المتولي قال: لو كان له زرع ونخيل، وأراد
96

سوق الماء إليها فمنعه ظالم من السقي حتى فسدت، ففي الضمان الوجهان فيما لو
فتح الزق عن جامد فذاب بالشمس وضاع.
قلت: الأصح في صورتي الحبس عن الماشية والسقي: أنه لا ضمان،
بخلاف فتح الزق لما ذكرنا أنه لم يتصرف في المال. والله أعلم
ولو غصب هادي القطيع فتبعه القطيع، أو غصب البقرة فتبعها العجل، لم
يضمن القطيع والعجل على الأصح.
فرع لو نقل صبيا حرا إلى مضيعة، فاتفق سبع فافترسه، فلا ضمان لاحالة
الهلاك على اختيار الحيوان ومباشرته.
ولو نقله إلى مسبعة فافترسه سبع، فلا ضمان أيضا، هذا هو المذهب
والمعروف في كتب لأصحاب، وذكر الغزالي فيه وجهين، وليس بمعروف.
فصل إثبات اليد العادية سبب للضمان، وينقسم إلى مباشرة، بأن يغصب
الشئ فيأخذه من يد مالكه، وإلى التسبب، وهو في الأولاد وسائر الزوائد، لان
إثبات اليد على الأصول سبب لاثباتها على الفروع، فيكون ولد المغصوب وزوائد ه
مغصوبة. ثم إثبات اليد العادية يكون في المنقول والعقار.
97

أما المنقول، فالأصل فيه النقل، لكن لو ركب دابة غيره، أو جلس على
فراش غيره ولم ينقله، في كونه غاصبا ضامنا، وجهان. أصحهما: نعم، سواء
قصد الاستيلاء أم لا. قال المتولي: وهذا إذا كان المالك غائبا، أما إذا كان
حاضرا، فإن أزعجه وجلس على الفراش، أو لم يزعجه وكان بحيث يمنعه من رفعه
والتصرف فيه، فيضلنه قطعا، وقياس ما يأتي إن شاء الله تعالى في نظيره من
العقار: أن لا يكون غاصبا إلا لنصفه.
وأما العقار، فإن كان مالكه فيه، فأزعجه ظالم ودخل الدار بأهله على هيئة من
يقصد السكن، فهو غاصب، سواء قصد الاستيلاء، أم لا، لا ن وجود الاستيلاء
يغني عن قصده، ولو سكن بيتا من الدار، ومنع المالك منه دون باقي الدار، فهو
غاصب لذلك البيت دون باقي الدار. وإن أزعج المالك ولم يد خل الدار، فالمذهب
والذي يدل عليه كلام جماهير الأصحاب: أنه غاصب، فلم يعتبروا في الغصب إلا
الاستيلاء ومنع المالك عنه، وقال الغزالي: لا يكون غصبا، واعتبر دخول الدار في
غصبها،
أما إذا لم يزعج المالك، ولكن دخل واستولى معه، فهو غاصب لنصف
الدار، لاجتماع يدهما واستيلائهما، فإن كان الداخل ضعيفا، والمالك قوي لا يعد
مثله مستوليا عليه، لم يكن غاصبا لشئ من الدار، ولا اعتبار بقصد ما لا يتمكن
من تحقيقه.
أما إذا لم يكن هناك مالك، فدخل على قصد الاستيلاء، فهو غاصب وإن كان
ضعيفا وصاحب الدار قويا، لان الاستيلاء حاصل في الحال، وأثر قوة المالك إنما
هو سهولة إزالته والانتزاع من يده، فصار كما لو سلب قلنسوة ملك، فإنه غاصب وإن
سهل على المالك انتزاعها. وفي وجه: لا يكون غصبا، لان مثله في العرف يعد
98

هزءا، ولا يعد استيلاء، وهو شاذ ضعيف، وإن دخل لا على قصد الاستيلاء، بل
لينظر، هل يصلح له، أو غير ذلك؟ لم يكن غاصبا. قال المتولي: لكن لو
انهدمت في تلك الحال، هل يضمنها؟ وجهان. أحدهما: نعم، كما لو أخذ
منقولا من بين يدي مالكه لينظر هل يصلح له ليشتريه، فتلف في تلك الحال، فإنه
يضمنه. وأصحهما: لا، لان اليد على المنقول حقيقة.
ولو اقتطع قطعة أرض ملاصقة لأرضه، وبنى عليها حائطا وأضافها إلى ملكه،
ضمنها، لوجود الاستيلاء.
فصل فيما إذا انبنت على يد الغاصب يد أخرى قد سبق معظم
مسائله في كتاب الرهن، وحاصله: أن كل يد ترتبت على يد الغاصب، فهي يد
ضمان، فيتخير المالك عند التلف، بين مطالبة الغاصب، ومن ترتبت يده على
يده، سواء علم المغصوب أم لا، لأنه أثبت يده على مال غيره بغير إذنه، فالجهل
ليس مسقطا للضمان. ثم الثاني، أن علم الغصب، فهو غاصب من الغاصب،
فيطالب بكل ما يطالب به الغاصب، وإن تلف المغصوب في يده، فقرار الضمان
عليه. فإذا غرم، لا يرجع على الأول، وإذا غرم الأول رجع عليه، هذا إذا لم
تختلف قيمته في يدهما، أو كانت في يد الثاني أكثر، فلو كانت في يد الأول أكثر،
لم يطالب بالزيادة إلا الأول، وتستقر عليه. أما إذا جهل الثاني الغصب، فإن كانت
اليد في وضعها يد ضمان كالعارية، استقر الضمان على الثاني. وإن كانت يد
أمانة كالوديعة، استقر على الغاصب على المذهب. وفي وجه: تستقر على
المودع وفي وجه: لا يطالب المودع أصلا، وقد سبق بيان هذا الفصل في أواخر
99

الباب الثالث من كتاب الرهن بزيادة على هذا، والقرض معدود من أيدي الضمان.
ولو وهب المغصوب، فهل القرار على الغاصب لأنها ليس يد ضمان، أم على
المتهب لأنه أخذه للتملك؟ قولان. أظهرهما: الثاني. ولو زوج المغصوبة فتلفت
عند الزوج، فالمذهب: أنه لا يطالب الزوج بقيمتها قطعا. وقيل: كا لمودع.
فرع إذا أتلف القابض من الغاصب، نظر، إن استقل بالاتلاف، فقرار
الضمان عليه. وإن حمله الغاصب عليه، بأن غصب طعاما فقدمه إليه ضيافة
فأكله، فالقرار على الاكل أن كان على عالما، وكذا إن كان جاهلا على الأظهر المشهور
في الجديد. فعلى هذا، إن ضمنه، لم يرجع على الغاصب، وإن ضمن
الغاصب، رجع عليه. وعلى القول الآخر بالعكس، هذا إذا قدمه إليه وسكت.
فإن قال: هو ملكي، فإن ضمن الاكل، ففي رجوعه على الغاصب القولان. وإن
ضمن الغاصب، فالمذهب: أنه لا يرجع قطعا، لأنه معترف بأنه مظلوم، فلا يرجع
على غير ظالمه. وقال المزني: يرجع عليه، وغلطه الأصحاب.
ولو وهب المغصوب فأتلفه المتهب، فالقولان، وأولى بالاستقرار على
المتهب.
فرع لو قدم الطعام المغصوب إلى عبد إنسان فأكله، فإن جعلنا القرار
على الحر الاكل، فهذه جناية من العبد يباع فيها، وإلا، فلا يباع، وإنما يطالب
الغاصب كما لو قدم شعيرا مغصوبا إلى بهيمة بغير إذن مالكها.
فرع غصب شاة وأمر قصابا بذبحها جاهلا بالحال، فقرار ضمان النقص
على الغاصب، ولا يخرج على القولين في آكل الطعام، لأنه ذبح الغاصب،
وهناك انتفع بأكله.
100

فرع لو أمر الغاصب رجلا باتلاف المغصوب بالقتل والاحراق ونحوهما،
ففعله جاهلا بالغصب، فالمذهب: القطع بالاستقرار على المتلف، لأنه حرام،
بخلاف الاكل، ولا أثر للتغرير مع التحريم، وقيل على القولين.
فرع قدم المغصوب إلى مالكه، فأكله جاهلا بالحال، فإن قلنا في
التقديم إلى الأجنبي: القرار على الغاصب، لم يبرأ من الضمان. وإلا، فيبرأ،
وربما نصر العراقيون الأول. ونقل الامام عن الأصحاب إن البراءة هنا أولى من
الاستقرار على الاكل. ولو أودعه للمالك، أو رهنه عنده، أو أجره إياه جاهلا
بالحال، فتلف عنده، لم يبرأ من الضمان على المذهب، وقيل بالقولين.
ولو باعه للمالك، أو أقرضه، أو أعاره فتلفت عنده، برئ الغاصب.
ولو دخل المالك دار الغاصب، فأكل طعاما يظنه للغاصب، فكان هو
المغصوب، برئ الغاصب،
ولو صال العبد المغصوب على مالكه، فقتله المالك للدفع، لم يبرأ
الغاصب، سواء علم أنه عبده، أم لا، لان الاتلاف بهذه الجهة كاتلاف العبد
نفسه، ولهذا لو كان العبد لغيره، لم يضمنه. وفي وجه: يبرأ عند العلم،
لاتلافه مال نفسه لمصلحته، وهو ضعيف.
فرع زوج المغصوبة بمالكها جاهلا، فتلفت عنده، فهو كما لو أودعها
عنده فتلفت، فلو استولدها، نفذ الاستيلاد وبرء الغاصب على المذهب.
ولو قال الغاصب للمالك: أعتق هذا، فأعتقه جاهلا، نفذ العتق على
الأصح، لأنه لا يبطل بالجهل، فعلى هذا، يبرأ الغاصب على الأصح، لعود
مصلحة العتق إليه. وعلى الثاني: لا يبرأ، فيطالبه بقيمته. ولو قال: أعتقه عني،
ففعل جاهلا، ففي نفوذ العتق وجهان، إن نفذ، ففي وقوعه عن الغاصب،
101

وجهان. الصحيح: المنع. ولو قال المالك للغاصب: أعتقه عني، أو مطلقا،
فأعتقه، عتق وبرئ الغاصب.
الطرف الثاني: في المضمون، قال الأصحاب رحمهم الله: المضمون هو
المعصوم، وهو قسمان. أحدهما: ما ليس بمال، وهو الأحرار، فيضمنون بالجناية على النفس
والطرف، بالمباشرة تارة، وبالتسبب أخرى، وتفصيله في كتاب الديات.
الثاني: ما هو مال، وهو نوعان: أعيان، ومنافع. والأعيان ضربان: حيوان
وغيره. والحيوان صنفان: آدمي وغيره.
أما الآدمي: فيضمن النفس والطرف من الرقيق بالجناية كما يضمن الحر،
ويضمن أيضا باليد العادية. وبدل نفسه: قيمته بالغة ما بلغت، سواء قتل أو تلف
تحت اليد العادية.
وأما الأطراف والجراحات، فما كان منها لا يتقدر واجبه في الحر، فواجبه
في الرقيق ما نقص من قيمته، سواء حصل بالجناية، أو فات تحت اليد العادية، وما
كان مقدرا في الحر، ينظر، إن حصل بجناية، فقولان. الجديد الأظهر: أنه يتقدر
من الرقيق أيضا، والقيمة في حقه كالدية في حق الحر، فيجب في يد العبد
نصف قيمته، كما يجب في يد الحر نصف ديته، وعلى هذا، القياس. والقديم:
الواجب ما نقص من قيمته كسائر الأموال.
وأما ما يتلف تحت اليد العادية، كمن غصب عبدا فسقطت يده بآفة سماوية،
فالواجب فيه ما ينقص على الصحيح. وفي وجه: إن كان النقص أقل من المقدر،
وجب ما يجب على الجاني، فعلى الجديد: لو قطع الغاصب المغصوب، لزمه
أكثر الامرين من نصف القيمة والأرش. لو قطع يديه، فعليه كمال القيمة. وكذا لو
قطع أنثييه، فزادت قيمته. ولو كان الناقص بقطع الغاصب ثلثي قيمته، وجب ثلثا
قيمته على القولين.
102

أما على القديم، فلأنه قدر النقص. وأما على الجديد، فالنصف بالجناية،
والسدس باليد العادية. ولو كان النقص بسقوط اليد بآفة ثلث القيمة، فهو الواجب
على القديم، وكذا على الجديد تفريعا على الصحيح، وعلى الوجه الاخر:
الواجب نصف قيمته. والمكاتب، والمستولدة، والمدبر، حكمهم في الضمان
حكم القن.
الصنف الثاني: غير الآدمي من الحيوان، فيجب فيه باليد والجناية قيمته،
وفي ما تلف من أجزائه ما نقص من قيمته، ويستوي فيه الخيل، والإبل، والحمير،
وغيرها.
الضرب الثاني: غير الحيوان، وهو منقسم إلى مثلي ومتقوم، وسيأتي
ضبطهما وحكمهما في الطرف الثالث إن شاء الله تعالى.
النوع الثاني: المنافع، وهي أصناف.
منها: منافع الأموال من العبيد والثياب والأرض وغيرها، وهي مضمونة
بالتفويت. والفوات تحت اليد العادية، فكل عين لها منفعة تستأجر لها،
يضمن منفعتها إذا بقيت في يده مدة لها أجرة حتى لو غصب كتابا وأمسكه مدة
وطالعه، أو مسكا فشمه، أو لم يشمه، لزمه أجرته. ولو كان العبد المغصوب يعرف
صنائع، لزمه أجرة أعلاها أجرة، ولا يلزمه أجر الجميع.
ولو استأجر عينا لمنفعة، فاستعملها في غيرها، ضمنها.
103

قلت: ذكر القاضي أبو الطيب في تعليقه، أنه لو غصب أرضا ولم يزرعها،
وهي مما تنقص بترك الزرع كأرض البصرة وشبهها فإنها إذا لم تزرع نبت فيها الدغل
والحشيش، كان عليه رد الحشيش وأجرة الأرض، ولم يذكر القاضي أرش النقص.
والظاهر: أنه يجب. والله أعلم
ومنها: منفعة البضع، فلا تضمن بالفوات تحت اليد، لان اليد لا تثبت
عليها، ولهذا يزوج السيد المغصوبة، ولا يؤجرها، كما لا يبيعها، وكذا لو تداعى
رجلان نكاح امرأة، ادعيا عليها، ولا يدعي كل واحد منهما على الاخر وإن كانت
عنده. وإذا أقرت لأحدهما، حكم بأنها زوجه، وذلك يدل على أن اليد لها، ولان
منفعة البضع تستحق استحقاق ارتفاق للحاجة، وسائر المنافع تستحق استحقاق ملك
تام. ولهذا، من ملك منفعة بالاستئجار، ملك نقلها إلى غيره بعوض أو بغيره،
والزوج لا يملك، نقل منفعة البضع. فأما إذا فوت منفعة البضع بالوطئ، فيضمن
مهر المثل، وسيأتي تفريعه في الفصل الثالث من الباب الثاني إن شاء الله تعالى.
ومنها: منفعة بدن الحر، وهي مضمونة بالتفويت. فإذا قهر حرا وسخره في
عمل، ضمن أجرته. وإن حبسه وعطل منافعه، لم يضمنها على الأصح، لان الحر
لا يدخل تحت اليد، فمنافعه تفوت تحت يده، بخلاف المال، وقال ابن أبي
هريرة: يضمنها، ويقرب من الوجهين الخلاف في صورتين.
إحداهما: لو استأجر حرا وأراد أن يؤجره، هل له ذلك؟
والثانية: إذ أسلم الحر المستأجر نفسه، ولم يستعمله المستأجر إلى انقضاء
المدة التي استأجره فيها، هل تتقرر أجرته؟ قال الأكثرون: له أن يؤجره وتتقرر
أجرته. وقال القفال: لا يؤجره ولا تتقرر أجرته، لان الحر لا يدخل تحت اليد، ولا
تحصل منافعه في يد المستأجر، ويدخل ضمانه إلا عند وجودها، هكذا ذكر
الأصحاب (توجيه) الخلاف في المسائل الثلاث، ولم يجعلوا دخول الحر تحت اليد
104

مختلفا فيه، بل اتفقوا على عدمه، ولكن من جوز إجارة المستأجر، وقرر الأجرة،
بنى الامر على الحاجة والمصلحة، وجعل الغزالي الخلاف في المسائل مبنيا على
التردد في دخوله تحت اليد ولم نر ذلك لغيره.
فرع في دخول ثياب الحر في ضمان من استولى عليه، تفصيل مذكور في
كتاب السرقة.
فرع قال المتولي: لو نقل حرا صغيرا أو كبيرا بالقهر إلى موضع، فأن لم
يكن له غرض في الرجوع إلى الموضوع الأول، فلا شئ عليه. وإن كان واحتاج
إلى مؤنة، فهي على الناقل، لتعديه.
ومنها: منفعة الكلب، فمن غصب كلب صيد أو حراسة، لزمه رده مع مؤنة
الرد إن كان له مؤنة، وهل تلزمه أجرة منفعته؟ وجهان، بناء على جواز إجارته.
وفيما اصطاده الغاصب بالكلب المغصوب، وجهان. أحدهما: للمالك، كصيد
العبد وكسبه. وأصحهما: للغاصب، كما لو غصب شبكة أو قوسا واصطاد بهما،
فإنه للغاصب. ويجري الوجهان، فيما لو اصطاد بالبازي والفهد المغصوبين،
وحيث كان الصيد للغاصب، لزمه أجرة مثل المغصوب، وحيث كان للمالك كصيد
العبد، ففي وجوب الأجرة لزمن الاصطياد وجهان. أصحهما: الوجوب، لأنه ربما
كان يستعمله في شغل آخر.
قلت: والوجهان فيما إذا لم تنقص قيمة الصيد عن الأجرة، فإن نقصت،
وجب الناقص قطعا. والله أعلم
فرع المغصوب، إذا دخله نقص، هل يجب أرشه مع الأجرة؟ نظر، إن
كان النقص بسبب غير الاستعمال، بأن غصب ثوبا أو عبدا، فنقصت قيمته بآفة
سماوية كسقوط عضو العبد بمرض، وجب الأرش مع الأجرة، ثم الاجر الواجبة لما
قبل حدوث النقص، أجرة مثله سليما، ولما بعده، أجرة مثله معيبا. وإن كان
105

النقص بسبب الاستعمال، بأن لبس الثوب فأبلاه، فوجهان. أصحهما: يجبان،
والثاني: لا يجب إلا أكثر الامرين من أجرة المثل وأرش النقص.
فرع سيأتي إن شاء الله تعالى، أن العبد المغصوب إذا تعذر رده بآفة،
غرم الغاصب قيمته للحيلولة، وتلزمه مع ذلك أجرة المثل للمدة الماضية قبل بذل
القيمة، وفيما بعدها، وجهان. أصحهما: الوجوب، لبقاء حكم الغصب.
ويجري الوجهان في أن الزوائد الحاصلة بعد خفع القيمة، هل تكون مضمونة على
الغاصب؟ وفي أنه هل يلزمه مؤنة ردها؟ وفي أن جناية الآبق في إباقه، هل يتعلق
ضمانها بالغاصب؟ ولو غيب الغاصب المغصوب إلى مكان بعيد، وعسر رده، وغرم
القيمة، قال الامام: وطرد شيخي في هذه الصورة، الخلاف في الأحكام المذكورة
، ومنهم من قطع بوجوب الأجرة وثبوت سائر الأحكام. والفرق، أنه إذا
غيبه باختياره، فهو باق في يده وتصرفه، فلا ينقطع عنه الضمان.
فرع الخمر والخنزير، لا يضمنان (لا) لمسلم ولا لذمي، سواء أراق حيث
تجوز الإراقة، أم حيث لا تجوز، ثم خمور أهل الذمة لا تراق إلا إذا تظاهروا بشر بها أو
بيعها، ولو غصب منهم والعين باقية، وجب ردها، وإن غصبت من مسلم،
وجب ردها إن كانت محترمة، وإن لم تكن محترمة، لم يجب، بل تراق.
فرع آلات الملاهي كالبربط والطنبور وغيرهما، وكذا الصنم والصليب،
لا يجب في إبطالها شئ، لأنها محرمة الاستعمال، ولا حرمة لتلك الصنعة.
وفي الحد المشروع في إبطالها، وجهان.
أحدهما: تكسر وترضى حتى تنتهي إلى حد لا يمكن اتخاذ آلة محرمة منها،
106

لا الأولى ولا غيرها. وأصحهما: لا تكسر الكسر الفاحش لكن تفصل.
وفي حد التفصيل وجهان. أحدهما: قدر لا يصلح معه للاستعمال المحرم،
حتى إذا رفع وجه البربط وبقي على صورة قصعة، كفى، والثاني: أن يفصل إلى
حد حتى لو فرض اتخاذ آلة محرمة من مفصلها لنال الصانع التعب الذي يناله في
ابتداء الاتخاذ، وهذا بأن يبطل تأليف الاجزاء كلها حتى تعود كما كانت قبل
التأليف، وهذا أقرب إلى كلام الشافعي رضي الله عنه وجماهير الأصحاب. ثم ما
ذكرناه من الاقتصار على تفصيل الاجزاء، هو فيما إذا تمكن المحتسب منه، أما إذا
منعه من في يده ودافعه عن المنكر، فله إبطاله بالكسر قطعا. وحكى الامام اتفاق
الأصحاب على أن قطع الأوتار لا يكفي لأنها مجاورة لها منفصلة. ومن اقتصر في
إبطالها على الحد المشروع، فلا شئ عليه. ومن جاوزه، فعليه التفاوت بين
قيمتها مكسورة بالحد المشروع، وبين قيمتها منتهية إلى الحد الذي أنى به. وإن
أحرقها فعليه قيمتها مكسورة الحد المشروع.
قلت: قال الغزالي في البسيط: أجمعوا على أنه لا يجوز إحراقها، لان
رضاضها متمول. ومما يتعلق بهذا الفصل، أن الرجل، والمرأة، والعبد،
والفاسق، والصبي المميز، يشتركون في جواز الاقدام على إزالة هذا المنكر وسائر
المنكرات، ويثاب الصبي عليها كما يثاب البالغ، ولكن إنما تجب إزالته على
المكلف القادر. قال الغزالي في الاحياء: وليس لاحد منع الصبي من كسر
الملاهي وإراقة الخمور وغيرهما من المنكرات، كما ليس له منع البالغ، فإن الصبي
وإن لم يكن مكلفا، فهو من أهل القرب، وليس هذا من الولايات، ولهذا يجوز
للعبد والمرأة وآحاد الرعية، وسيأتي ذلك مبسوطا مع ما يتعلق به في كتاب السير
إن شاء الله تعالى. والله أعلم
الطرف الثالث: وفي قدر الواجب، فما كان مثليا، ضمن بمثله. وما كان
متقوما، فبالقيمة.
107

وفي ضبط المثلي أوجه،
أحدها: كل مقدر بكيل أو وزن فهو مثلي، وينسب هذا إلى نص الشافعي
رضي الله عنه، لقوله في المختصر: وما له كيل أو وزن، فعليه مثل كيله أو
وزنه.
والثاني: يزاد مع هذا جواز السلم فيه.
والثالث: زاد القفال وآخرون اشتراك جواز بيع بعضه ببعض.
والرابع: ما يقسم بين الشريكين من غير تقويم.
والخامس، قاله العراقيون: المثلي ما لا تختلف أجزاء النوع منه في القيمة،
وربما قيل في الجرم والقيمة. ويقرب منه قول: من قال: المثلي: المتشاكل في
القيمة ومعظم المنافع. وما اختاره الامام، هو تساوي الاجزاء في المنفعة
والقيمة، فزاد المنفعة، واختاره الغزالي، وزاد من حيث الذات لا من حيث
الصنعة. والوجه الأول منقوض بالمعجونات.
والثالث: بعيد عن اختيار أكثر الأصحاب لأنهم أعرضوا عن هذا الشرط،
وقالوا: امتناع بيع بعضه (ببعض) لرعاية الكمال في حال التماثل بمعزل عما
نحن فيه.
والرابع: لا حاصل له، فإنه منقض بالأرض المتساوية، فإنها تنقسم
كذلك، وليست مثلية:
والخامس: ضعيف أيضا منتقض بأشياء، فالأصح الوجه الثاني، لكن الأحسن
أن يقال: المثلي: ما يحصره كيل أو وزن، ويجوز السلم فيه، ولا يقال:
108

مكيل أو موزون، لان المفهوم منه ما يعتاد كيله ووزنه، فيخرج منه الماء وهو
مثلي، وكذا التراب وهو مثلي على الأصح. ويحصل من الخلاف اختلاف من
الصفر، والنحاس، والحديد، لان أجزاءها مختلفة الجواهر، وكذا في التبر،
والسبيكة، والمسك، والعنبر، والكافور، والثلج، والجمد، والقطن،
لمثل ذلك.
وفي العنب والرطب وسائر الفواكه الرطبة لامتناع بيع بعضها ببعض، وكذا
الدقيق. والأصح: أنها كلها مثلية. وفي السكر والفانيذ والعسل المصفى بالنار
واللحم الطري، للخلاف في جواز بيع كل منها بجنسه، وفي الخبز، لامتناع بيع
بعضه ببعض، وأيضا الخلاف في جواز السلم فيه.
وأما الحبوب، والأدهان، والألبان والسمن، والمخيض، والخل الذي
ليس فيه ماء، والزبيب، والتمر، ونحوها، فمثلية بالاتفاق. والدراهم، والدنانير
الخالصة، مثلية. ومقتضى العبارة الثانية، جريان خلاف فيها،
لان في السلم فيها خلافا سبق.
قلت: الصواب المعروف الذي قطع به الأصحاب: أنها مثلية. والله أعلم
وفي المكسرة، الخلاف في تبر والسبيكة، وأما الدراهم والدنانير
المغشوشة، فقال المتولي: إن جوزنا المعاملة بها، فمثلية، وإلا، فمتقومة.
109

فصل إذا غصب مثليا وتلف في يده، والمثل موجود، فلم يسلمه حتى
فقد، أخذت منه القيمة.
والمراد بالفقدان: أن لا يوجد في ذلك البلد وحواليه على ما سبق في انقطاع
المسلم فيه،
وفي القيمة المعتبرة أحد عشر وجها. أصحها: يجب أقصى القيم من يوم
الغصب إلى الاعواز.
والثاني: أقصاها من الغصب إلى التلف.
والثالث: أقصاها من التلف إلى الاعواز، وربما بني هذان الوجهان على
أن الواجب عند إعواز المثل، هل هو قيمة المغصوب لأنه الذي أتلف على المالك، أم
قيمة المثل لأنه الواجب عند التلف، وفيه وجهان لأبي الطيب ابن سلمة.
والرابع: أقصاها من الغصب إلى تغريم القيمة والمطالبة بها.
والخامس: أقصاها من الاعواز إلى المطالبة.
والسادس: أقصاها من تلف المغصوب إلى المطالبة.
والسابع: قيمته يوم التلف.
والثامن: يوم الاعواز، اختاره أبو علي الزجاجي، بضم الزاي، والحناطي،
بالحاء المهملة، والماوردي، وأبو خلف السلمي.
والتاسع: يوم المطالبة.
والعاشر: إن كان منقطعا في جميع البلاد، فقيمة يوم الاعواز. وإن فقد هناك
فقط، فقيمة يوم الحكم بالقيمة.
110

والحادي عشر: حكي عن الشيخ أبي حامد إن ثبت عنه: قيمة يوم أخذ
القيمة، لا يوم المطالبة،
ولو غصب مثليا فتلف والمثل مفقود، فالقياس: أنه يجب على الوجه الأول.
والثاني: أقصى القيم من الغصب إلى التلف. وعلى الثالث والسابع والثامن: (قيمة)
يوم التلف، وأن يعود. والرابع والسادس والتاسع بحالها. وعلى الخامس أقصى
القيم من التلف إلى يوم التقويم. والعاشر بحاله. قلت: والحادي عشر بحاله. والله أعلم
ولو أتلف لرجل مثليا بلا غصب، وكان المثل موجودا فلم يسلمه حتى فقد،
فعلى الوجه الثاني: قيمة يوم الاتلاف. وعلى الأول والثالث: أقصى القيم من
الاتلاف إلى الاعواز. وعلى الرابع: من الاتلاف إلى التقويم. والقياس: عود
الأوجه الباقية. ولو أتلفه والمثل مفقود، فالقياس أن يقال: على الأوجه الثلاثة
الأوائل، والسابع والثامن: تجب قيمة يوم الاتلاف. وعلى الرابع والخامس
والسادس: أقصى القيم من الاتلاف إلى التقويم. وعلى التاسع: قيمة يوم
التقويم. وعلى العاشر: إن كان مفقودا في جميع البلاد، فيوم الاتلاف، وإلا،
فيوم التغريم.
فرع متى غرم الغاصب أو المتلف القيمة لاعواز المثل، ثم وجد المثل،
هل للمالك رد القيمة وطلب المثل؟ وجهان. أصحهما: لا.
قلت: ويجريان، في أن الغاصب والمتلف، هل لهما رد المثل و طلب
القيمة. والله أعلم
فرع في أن المثلي، هل يؤخذ مثله مع اختلاف الزمان والمكان
أما المكان، فإذا غصب مثليا ونقله إلى بلد آخر، كان للمالك أن يكلفه رده،
وله أن يطالبه بالقيمة في الحال للحيلولة. ثم إذا رده الغاصب رد القيمة
111

واسترده.
فلو تلف في البلد المنقول إليه، طالبه بمثله حيث ظفر به من البلدين لتوجه
الطلب عليه برد العين في الموضعين. فإن فقد المثل، غرمه (قيمة) أكثر البلدين
قيمة.
ولو أتلف مثليا أو غصبه وتلف عنده في بلد، ثم ظفر به في آخر، هل له
مطالبته بالمثل؟ فيه ثلاثة أوجه. الصحيح الذي قطع به الأكثرون: إن كان مما لا
مؤنة لنقله كالدراهم والدنانير، فله المطالبة بالمثل، وإلا، لم يكن له طلب
المثل، وللغارم تكليفه قبوله لما فيه من الضرر، وللمالك أن يغرمه قيمة بلد
التلف، فإن تراضيا على المثل، لم يكن له تكليفه مؤنة النقل. والوجه الثاني:
يطالبه بالمثل. وإن لزمت مؤنة وزادت القيمة كما لو أتلف مثليا في وقت الرخص،
له طلب المثل في الغلاء. والثالث: إن كانت قيمة ذلك البلد لا تزيد على قيمة بلد
التلف، طالبه بالمثل، وإلا، فلا. وإذا قلنا بالمنع، فأخذ القيمة، ثم اجتمعا في
112

بلد التلف، هل للمالك رد القيمة وطلب المثل؟ وهل لصاحبه استرداد القيمة وبذل
المثل؟ فيه الوجهان فيما لو غرم القيمة لاعواز المثل.
ولو نقل المغصوب المثلي إلى بلد، وتلف هناك، أو أتلفه ثم ظفر به المالك
في بلد ثالث وقلنا: إنه لا يطالب بالمثل في غير موضع التلف، فله أخذ قيمة أكثر
البلدين قيمة.
وأما إذا اختلف الزمان، فله المطالبة بالمثل وإن زادت القيمة، وليس له إلا
ذلك وإن نقصت القيمة. هذا كله إذا لم يخرج المثل باختلاف الزمان والمكان عن
أن يكون له قيمة ومالية.
فأما إن خرج بأن أتلف ماءه في مفازة، ثم اجتمعا علي شط نهر أو في بلد، أو
أتلف عليه الجمد في الصيف واجتمعنا في الشتاء، فليس للمتلف بذل المثل، بل
عليه قيمة المثل في مثل تلك المفازة، (وفي الصيف، وإذا غرم القيمة ثم اجتمعا في
مثل تلك المفازة) أو في الصيف، فهل يثبت التراد؟ فيه وجهان.
وأما المسلم إليه والمقترض، إذا ظفرا به المالك في بلد آخر، ففي مطالبته
كلام سبق في كتاب السلم.
قلت: ولو قال المستحق: لا آخذ القيمة بل أنتظر وجود المثل، فله ذلك،
نقله في البيان، ويحتمل أن يجئ فيه الخلاف في أن صاحب الحق إذا امتنع
من قبضه، هل يجبر، ويمكن الفرق. ولو لم يأخذ القيمة حتى وجد المثل تعين
قطعا. والله أعلم
113

فصل الذهب والفضة، إن كانا مضروبين، فقد سبق أنهما مثليان،
وإلا، فإن كان فيهما صنعة بأن أتلف حليا وزنه عشرة وقيمته عشرون، فأربعة أوجه.
أحدها: يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بقيمتها من غير جنسها، سواء
كان ذلك نقد البلد، أم لا، لأنا لو ضمناه الجميع بالجنس لقابلنا عشرة بعشرين
وذلك ربا. والثاني: يضمن العين بوزنها من جنسها، والصنعة بنقد البلد، كما لو
أتلف الصنعة وحدها بكسر، يضمن بنقد البلد، سواء كان من جنس المكسور، أم
لا. والثالث: يضمن الكل بغير جنسه تحرزا عن الفاضل، وعن اختلاف الجنس
في أحد الطرفين. والرابع، وهو أصحها: يضمن الجميع بنقد البلد وإن كان من
جنسه، ولا يلزم من ذلك الربا، فإنه إنما يجري في العقود لا في هذه الغرامات،
هكذا نقل الجمهور، وأحسن منه ترتيب البغوي، وهو أن صنعة الحلي متقومة،
وفي ذاته الوجهان السابقان في التبر. فإن قلنا: متقوم، ضمن الكل بنقد البلد كيف
كان، وإن قلنا: مثلي، فوجهان. أحدهما: يضمن الجميع بغير جنسه.
وأصحهما: يضمن الوزن بالمثل، والصنعة بنقد البلد، سواء كان من جنسه، أم
من غيره. ولو أتلف إناء من ذهب أو فضة، فإن جوزنا اتخاذه، فهو كما لو أتلف
حليا، وإن منعناه، فهو كاتلاف ما لا صنعة له.
ولو أتلف ما لا صنعة فيه كالتبر والسبيكة. فإن قلنا: هو مثلي، ضمن مثله،
وإلا، فوجهان. أحدهما: يضمن قيمته ينقد البلد، سواء كان من جنسه، أم لا
كسائر المتقومات. والثاني: أن الجواب كذلك، إلا إذا كان نقد البلد من جنسه،
وكانت القيمة تزيد على الوزن، فحينئذ يقوم بغير الجنس ويضمن به، وهذا اختيار
العراقيين.
فصل إذا تغير المغصوب، فقد يكون متقوما ثم يصير مثليا، وعكسه،
ومثليا فيهما، ومتقوما فيهما.
الحال الأول: كمن غصب رطبا وقلنا: إنه متقوم فصار تمرا، ثم تلف عنده،
فوجهان. أحدهما، وبه قطع العراقيون: يضمن مثل التمر، لأنه أقرب إلى الحق،
وأشبههما، وبه قطع البغوي: إن كان الرطب أكثر قيمة، لزمه قيمته لئلا تضيع
الزيادة، وإن كان التمر أكثر أو استويا، لزمه المثل، واختار الغزالي أنه يتخير بين
مثل التمر وقيمة الرطب.
114

الحال الثاني: كمن غصب حنطة فطحنها، وتلف الدقيق عنده أو جعله خبزا
وأتلفه، وقلنا: لا مثل للدقيق والخبز، أو تمرا واتخذ منه خلا بالماء، فعلى قول
العراقيين: يضمن المثل وهو الحنطة والتمر، وعلى ما قطع به البغوي: إن كان
المتقوم أكثر قيمة، غرمها، وإلا فالمثل، وعن القاضي حسين: يغرم أكثر القيم،
وليس للمالك مطالبته بالمثل. فعلى هذا، إذا قيل: من غصب حنطة في الغلاء
فتلف المغصوب عنده، ثم طالبه المالك في الرخص، فهل يغرمه المثل أو القيمة،
لم يصح إطلاق الجواب بواحد منهما، بل الصواب أن يقال: إن تلفت وهي حنطة،
غرم المثل. وإن صار إلى حالة التقويم ثم تلف، فالقيمة.
الحال الثالث: كمن غصب سمسما فاتخذ منه شيرجا ثم تلف عنده، قال
العراقيون والغزالي: يغرمه المالك ما شاء منهما. وقال البغوي: إن كان قيمة
أحدهما أكثر، غرم مثله، وإلا، فيتخير المالك ما شاء منهما.
الحال الرابع: يجب فيه أقصى القيم.
فرع إذا لزمه المثل، لزمه تحصيله إن وجده بثمن المثل. فإن لم يجده إلا
بزيادة، فوجهان. أصحهما عند البغوي، والروياني: يلزمه المثل، لان المثل
كالعين، ويجب رد العين وإن لزم في مؤنته أضعاف قيمته. وأصحهما عند آخرين،
منهم الغزالي: لا يلزمه تحصيله، لان الموجود بأكثر من ثمنه كالمعدوم، كالرقبة،
وماء الطهارة، ويخالف العين، فإنه تعدى فيها دون المثل.
قلت: هذا الثاني أصح، وقد صححه أيضا الشاشي. والله أعلم
فصل غصب متقوما فتلف عنده، لزمه أقصى قيمته من يوم غصبه إلى
تلفه، وتجب قيمته من نقد البلد الذي تلف فيه، فلو كانت مائة فصارت مائتين،
115

ثم عادت بالرخص إلى خمسين، ثم تلف، لزمه مائتان.
ولو تكرر ارتفاع السعر وانخفاضه، لم يضمن كل زيادة، وإنما يضمن
الأكثر، ولا أثر لارتفاع السعر بعد التلف قطعا. ولو أتلف متقوما بلا غصب، لزمه
قيمته يوم الاتلاف. فإن حصل التلف بتدرج وسراية، واختلفت قيمته في تلك
المدة بأن جنى على بهيمة قيمتها مائة يومئذ، ثم هلكت وقيمة مثلها خمسون،
فقال القفال: يلزمه المائة، لأنا إذا اعتبرنا الأقصى في اليد العادية، ففي نفس
الاتلاف أولى.
فرع لو لم يهلك المغصوب، لكن أبق، أو غيبه الغاصب، أو ضلت
الدابة، أو ضاع الثوب، فللمالك أن يضمنه القيمة في الحال للحيلولة. والاعتبار
بأقصى القيم من الغصب إلى المطالبة، وليس للغاصب أن يلزمه قبول القيمة،
لان قيمة الحيلولة ليست حقا ثابتا في الذمة حتى يجبر على قبوله، أو الابراء منه، بل
لو أبرأه المالك عنها، لم ينفذ. وفي وجه: هي كالحقوق المستقرة، وهو شاذ. ثم
القيمة المأخوذة، يملكها المالك كما يملك عند التلف، وينفذ تصرفه فيها، ولا
يملك الغاصب المغصوب، فإذا ظفر بالمغصوب، فللمالك استرداده ورد القيمة،
وللغاصب رده واسترداد القيمة.
وهل له حبس المغصوب إلى أن يستردها؟ حكى القاضي حسين عن نص
الشافعي رضي الله عنه: أن له ذلك، كما حكى ثبوت الحبس للمشتري في الشراء
الفاسد لاسترداد الثمن، لكن سبق في البيع ذكر الخلاف في ثبوت الحبس
للمشتري، وذكرنا أن الأصح: المنع، ويشبه أن يكون حبس الغاصب في معناه،
والمنع هو اختيار الإمام في الموضعين. وإذا كانت الدراهم المبذولة بعينها باقيه في
116

يد المالك، فللشيخ أبي محمد تردد في أنه هل يجوز للمالك إمساكها وغرامة مثلها،
أم لا.
قلت: الأقوى: أنه لا يجوز. والله أعلم
ولو اتفقا على ترك التراد، فلا بد من بيع ليصير المغصوب للغاصب، ثم
التضمين للحيلولة، لا يختص بالمتقومات، بل يثبت في كل مغصوب خرج من اليد
وتعذر رده.
قلت: قد حكى صاحب البيان عن القفال: أن المالك لا يملك القيمة
المأخوذة للحيلولة، بل ينتفع به على ملك الغاصب، لئلا يجتمع في ملكه البدل
والمبدل، وهذا شاذ ضعيف نبهت عليه لئلا يغتر به
قال في البيان: ولو ظهر على المالك دين مستغرق، فالغاصب أحق
بالقيمة التي دفعها، لأنها عين ماله. وإن تلفت في يد المالك، رجع الغاصب
بمثلها. وإن كانت باقية زائدة، رجع في زيادتها المتصلة دون المنفصلة. قال
القاضي أبو الطيب، والجرجاني: هذا إذا تصور كون القيمة مما يزيد. والله
أعلم
فرع سبق أن منافع المغصوب مضمونة. فلو كانت الأجرة في مدة الغصب
متفاوتة، فثلاثة أوجه حكاها القاضي أبو سعد بن أبي يوسف. أصحها: يضمن في
كل بعض من أبعاض المدة بأجرة مثلها فيه. والثاني: كذلك إن كانت الأجرة في
أول المدة أقل فإن كانت في الأولى أكثر، ضمنها بالأكثر في جميع المدة، لأنه لو
117

كانت العين في يده، فربما يكريها بها في جميع المدة. والثالث: بالأكثر في جميع
المدة مطلقا، وهو ضعيف.
فصل زوائد المغصوب، منفصلة كانت، كالولد والثمرة والبيض، أو
متصلة، كالسمن وتعلم الصنعة، مضمونة على الغاصب كالأصل، سواء طلبه
المالك بالرد، أم لا.
الطرف الرابع: في الاختلاف، وفيه مسائل.
الأولى: ادعى الغاصب تلف المغصوب، وأنكر المالك. فالصحيح أن
القول قول الغاصب مع يمينه، وقيل: قول المالك بيمينه، فعلى الصحيح، إذا
حلف الغاصب، هل للمالك تغريمه المثل أو القيمة؟ وجهان. أصحهما:
نعم.
الثانية: اتفقا على الهلاك واختلفا في قيمته، صدق الغاصب لان الأصل
براءته، وعلى المالك البينة، وينبغي أن يشهد الشهود أن قيمته كذا، أما إذا أراد
إقامة البينة على صفات العبد ليقومه المقومون بتلك الصفات ففي قول: يقبل
ويقوم بالأوصاف، وينزل على أقل الدرجات كالسلم، والمشهور: المنع،
للتفاوت. قال الامام: لكن يستفيد المالك بالبينة على الأوصاف إبطال دعوى
الغاصب مقدارا حقيرا لا يليق بتلك الصفات، ويصير كما لو أقر الغاصب بصفات في
العبد تقتضي النفاسة، ثم قومه بحقير لا يليق بها، لا يلتفت إليه، بل يؤمر بالزيادة
إلى أن يبلغ حدا يجوز أن يكون قيمة لمثل ذلك الموصوف.
ولو قال المالك: قيمته ألف، وقال الغاصب: بل خمسمائة، وجاء المالك
118

ببينة أنها أكثر من خمسمائة من غير تقدير، فقيل: لا تسمع هكذا، والأكثرون
سمعوها، قالوا: وفائدة السماع أن يكلف الغاصب زيادة على خمسمائة إلى حد لا
يقطع البينة بزيادة عليه، ولو قال المالك: لا أدري كم قيمته، لم تسمع دعواه حتى
يبين. وكذا لو قال الغاصب: أعلم انه دون ما ذكره، ولا أعرف قدره، لم تسمع
حتى يبين، فإذا بين حلف عليه.
الثالثة: قال المالك: كان العبد كاتبا أو محترفا، فأنكر الغاصب،
فالصحيح
أن القول قول الغاصب، وقيل: قول المالك، لأنه أعرف بملكه. ولو ادعى
الغاصب به عيبا وأنكر المالك، نظر، إن ادعى عيبا حادثا فقال: كان أقطع أو
سارقا، ففي المصدق قولان، أظهرهما: المالك. وإن ادعى عيبا خلقيا، فقال:
كان أكمه أو ولد أعرج أو عديم اليد، فالمصدق الغاصب على الصحيح، لان
الأصل العدم، ويمكن المالك البينة. والثاني: يصدق المالك نظرا إلى غلبة
السلامة. والثالث: يفرق بين ما يندر من العيوب وغيره.
الرابعة: رد المغصوب وبه عيب، وقال: غصبته هكذا، وقال المالك:
حدث العيب عندك، صدق الغاصب، قاله المتولي.
قلت: وقاله ابن الصباغ أيضا، ونقله في البيان. والله أعلم
الخامسة: تنازعا في الثياب التي على العبد، صدق الغاصب، لثبوت
يده.
السادسة: قال: غصبت داري بالكوفة، فقال: غصبتها بالمدينة، فالقول
قول المدعى عليه أنه لم يغصب بالكوفة. وأما دار المدينة، فإن وافقه المدعي
عليها، ثبتت، وإلا، فيبطل إقراره بها، لتكذيبه.
قلت: ومثله لو قال: غصبت مني عبدا فقال: بل جارية، ونحو ذلك. والله
أعلم
119

السابعة: غصب خمرا محترمة فهلكت عنده، فقال المغصوب منه: هلكت
بعد التخلل، فقال الغاصب: قبله، صدق الغاصب.
الثامنة: قال: طعامي الذي غصبته كان جديدا، فقال الغاصب: بل عتيقا،
صدق الغاصب بيمينه. فإن نكل، حلف المالك، ثم له أخذ العتيق لأنه دون
حقه.
التاسعة: باع عبدا فجاء زيد وادعى أنه ملكه وأن البائع كان غصبه منه، فلا
شك أن له دعوى عين العبد على المشتري. وفي دعواه القيمة على البائع ما ذكرناه
في الاقرار.
فإن ادعى العين على المشتري فصدقه، أخذ العبد منه، ولا رجوع له بالثمن
على البائع. وإن كذبه المشتري، فأقام زيد بينة، أخذه ورجع المشتري بالثمن
على البائع. وإن لم يقم بينة ونكل المشتري، حلف زيد وأخذه، ولا رجوع
للمشتري بالثمن، لتقصيره بالنكول. وإن صدقه البائع دون المشتري، لم يقبل إقرار
البائع على المشتري ويبقى البيع بحاله، إلا أن يكون إقراره بالغصب في زمن
الخيار، فيجعل ذلك فسخا للبيع. ثم لو عاد العبد إلى البائع بإرث أو رد بعيب،
لزمه تسليمه إلى زيد. وإن صدقه البائع والمشتري جميعا، سلم العبد إلى زيد،
وعلى البائع رد الثمن أو بدله إن كان تالفا.
ولو جاء المدعي بعدما أعتق المشتري العبد وصدقه البائع والمشتري، لم
يبطل العتق، سواء وافقهما العبد أو خالفهما، لان في عتقه حقا لله تعالى، بخلاف
ما لو كاتبه المشتري، ثم توافقوا على تصديق المدعي، لان الكتابة قابلة للفسخ.
وللمدعي في مسألة الاعتاق قيمة العبد على البائع جن اختص بتصديقه، وإذا أوجبنا
الغرم للحيلولة فيما إذا أقر به لزيد ثم لعمرو، وعلى المشتري إن اختص بتصديقه،
120

وعلى من شاء منهما إن صدقاه جميعا. وقرار الضمان على المشتري، إلا أن تكون
القيمة في يد البائع أكثر، فلا يطالب المشتري بالزيادة. ولو مات المعتق وقد كسب
مالا، فهو للمدعي، لان المال خالص حق آدمي، وقد توافقوا أنه مستحقه،
بخلاف العتق، كذا أطلقوه. قال الامام: وهو محمول على كب يستقل به
العبد، فأما كسب يحتاج إلى إذن السيد، فلا يستحقه المدعي، لاعترافه بخلوه عن
الاذن.
قلت: ولو ادعى الغاصب رد المغصوب حيا وأقام به بينة، فقال المالك:
بل مات عندك وأقام به بينة، تعارضت البينتان وسقطتا، وضمن الغاصب، لان
الأصل بقاء الغصب.
ولو قال: غصبنا من زيد ألفا، ثم قال: كنا عشرة أنفس، وخالفه زيد، قال
في البيان: قال بعض أصحابنا: القول قول الغاصب بيمينه، لان الأصل براءته
مما زاد.
والله أعلم
الباب الثاني في الطوارئ على المغصوب
فيه ثلاثة أطراف.
الأول: في النقص، وهو ثلاثة أقسام.
الأول: نقص القيمة فقط، كمن غصب ما يساوي عشرة، فرده بحاله وهو
يساوي درهما، فلا شئ عليه، وقال أبو ثور: يلزمه نقص القيمة، ووافقه بعض
أصحابنا، وهذا شاذ.
القسم الثاني: نقص القيمة والاجزاء، فالجزء الفائت، مضمون بقسطه من
أقصى القيم من الغصب إلى التلف، والنقص الحاصل بتفاوت السعر في الباقي
المردود غير مضمون.
121

مثاله: غصب ثوبا قيمته عشرة، فعادت بالرخص إلى درهم، ثم لبسه فأبلاه
حتى عادت إلى نصف درهم، يرده مع خمسة دراهم، لان بالاستعمال انسحقت
أجزاء من الثوب، وتلك الأجزاء في هذه الصورة، نصف الثوب، فيغرم النصف
بمثل نسبته من أقصى القيم كما يغرم الكل عند تلفه بالأقصى. ولو كانت القيمة
عشرين وعادت بانخفاض السعر إلى عشرة، ثم لبسه وأبلاه فعادت إلى خمسة، لزمه
مع رده عشرة.
ولو كانت عشرة فعادت بالانخفاض إلى خمسة، ثم لبسه فأبلاه حتى عادت
إلى درهم، لزمه مع رده ستة، لأنه تلف بالاستعمال ثلاثة أخماس الثوب، فيغرمها
بثلاثة أخماس أقصى القيم. قال الشيخ أبو علي: وأخطأ بعضهم فقال: يلزمه ثلاثة
لأنها الناقصة بالاستعمال، وقياس قول هذا: أن يلزم في الصورة الأولى نصف
درهم، وفي الثانية خمسة.
ولو غصبه وقيمته عشرة فعاد بالاستعمال إلى خمسة، ثم انخفض السعر فعادت
إلى درهمين فرده، لزمه مع الرد الخمسة الناقصة بالاستعمال، ولا يضمن النقصان
الحاصل في البالي المردود. ولو غصب ثوبا قيمته عشرة، فلبسه وأبلاه حتى عادت إلى خمسة، ثم ارتفع
السعر فصارت قيمته وهو بال عشرة قال ابن الحداد، وبعض الأصحاب: يغرم مع
رد الثوب عشرة، لان الباقي من الثوب نصفه وهو يساوي عشرة. وقال الجمهور: لا
يغرم مع رده إلا الخمسة الناقصة بالاستعمال، ولا عبرة بالزيادة الحاصلة بعد التلف.
قال الامام: والصفات كالاجزاء في هذا كله، حتى لو غصب عبدا صانعا قيمته
مائة، فنسي الصنعة وعادت قيمته إلى خمسين، ثم ارتفع السعر فبلغت قيمته ناسيا
مائة، وقيمة مثله يحسن الصنعة مائتين، لا يغرم مع رده إلا خمسين. ثم الجواب
في صور إبلاء الثوب (كلها) مبني على أن أجرة مثل المغصوب لازمة مع أرش النقص
الحاصل بالاستعمال، وهو الأصح. وسبق وجه: أنه لا يجمع بينهما. فعلى ذلك
122

الوجه: الواجب أكثر الامرين من المقادير المذكورة وأجرة المثل.
ولو اختلف المالك والغاصب في قيمة الثوب الذي أبلاه، فقال المالك:
زادت قبل الابلاء فأغرم التالف بقسطه (منها)، وقال الغاصب: (بل) زادت بعده، قال
ابن سريج: المصدق الغاصب.
القسم الثالث: نقص الاجزاء والصفات وحدها، وسنذكر حكمه في الصور
الآتية إن شاء الله تعالى.
فصل النقص الحادث في المغصوب، ضربان.
أحدهما: ما لا سراية له، فعلى الغاصب أرشه ورد الباقي، ولا فرق بين
أن يكون الأرش قدر القيمة كقطع يدي العبد أو دونها، ولا بين أن تفوت معظم
منافعه، أو لا تفوت، ولا بين أن يبطل بالجناية عليه الاسم الأول كذبح الشاة وطحن
الحنطة، وتمزيق الثوب، أو لا يبطل. فلو أراد المالك ترك الناقص عند الغاصب
وتغريمه بدله، لم يكن له ذلك، لأنه عين ملكه. وفي وجه: إذا طحن الطعام، فله
تركه وطلب المثل، لأنه أقرب إلى حقه من الدقيق.
الضرب الثاني: ما له سراية، لا يزال يسري إلى الهلاك الكلي، كما لو بل
الحنطة وتمكن فيها العفن الساري، أو اتخذ منها هريسة، أو غصب سمنا وتمرا
ودقيقا وعمله عصيدة، وفيه نصوص وطرق مختلفة تجمعها أربعة أقوال منصوصة.
أظهرها عند العراقيين: يجعل كالهالك ويغرم بدل كل مغصوب من مثل أو قيمة.
والثاني: يرده مع أرش النقص، وليس للمالك إلا ذلك، واختاره الامام،
123

والبغوي. والثالث: يتخير المالك بين موجب القولين، واختاره الشيخ أبو
محمد، والمسعودي. والرابع: يتخير الغاصب بين أن يمسكه ويغرمه، وبين أن
يرده مع أرش النقص. قلت: رجح الرافعي في المحرر الأول أيضا. والله أعلم
فعلى الأول: لمن تكون الحنطة المبلولة؟ وجهان نقلهما المتولي.
أحدهما: تبقى للمالك كما لو نجس زيته وقلنا: لا يطهر بالغسل، فإن المالك أولى
به. والثاني: يصير للغاصب. وإذا حكمنا بالأرش مع الرد، غرم أرش عيب سار.
قال المتولي: فإن رأى الحاكم أن يسلم الجميع إليه، فعل، وإن رأى يسلم أرش
النقص المتحقق إليه في الحال ووقف الزيادة إلى أن تتيقن نهايته. وفي هذا نظر،
لان المفهوم من أرش العيب السراي أرش عيب شأنه السراية، وهو حاصل في
الحال.
أما المتولد منه، فيجب قطع النظر عنه، إذ الكلام في نقص لا تقف سرايته
إلى الهلاك. فلو نظرنا إلى المتولد منه، لانجر إلى تمام القيمة، وهو عود إلى
القول الأول، وقد بين ما قلناه أبو خلف السلمي في شرح المفتاح فقال في قول
التخيير: إن شاء المالك غرمه ما نقص إلى الآن، ثم لا شئ له في زيادة فساد
حصل بعد ذلك، وإن شاء تركه له وطالبه بجميع البدل.
فرع من صور هذا الضرب ما إذا صب الماء في الزيت وتعذر تخليصه
منه، فأشرف على الفساد. وعن الشيخ أبي محمد تردد في مرض العبد المغصوب
إذا كان ساريا عسر العلاج، كالسل والاستسقاء، ولم يرضه الامام، لان المريض
المأيوس منه، قد يبرأ، والعفن المفروض في الحنطة يفضي إلى الفساد قطعا.
قلت: ولو عفن الطعام في يده لطول المكث، فطريقان. قال الشيخ أبو
حامد: هو كبل الحنطة. وقال القاضي أبو الطيب: يتعين أخذه مع الأرش قطعا،
124

واختاره ابن الصباغ، وهو الأصح. والله أعلم
فصل في جناية العبد المغصوب، والجناية عليه أما جنايته، فينظر
إن جنى جناية توجب القصاص، واقتص منه في يد الغاصب، غرم الغاصب أقصى
قيمه من الغصب إلى القصاص. وإن جنى بما يوجب قصاصا في الطرف، واقتص
منه في يده، غرم بدله، كما لو سقط بآفة سماوية. ولو اقتص منه بعد الوفاء إلى
السيد، يلزم الغاصب أيضا، وكذا الحكم لو ارتد أو سرق في يد الغاصب، ثم
قتل أو قطع بعد الرد إلى المالك.
ولو غصب مرتدا أو سارقا فقتل، أو قطع في يد الغاصب، فهل يضمنه
الغاصب؟ وجهان، كمن اشترى مرتدا أو سارقا فقتل، أو قطع في يده، فمن ضمان
من يكون القتل أو القطع؟ أما إذا جنى المغصوب على نفس أو مال جناية توجب
المال متعلقا برقبته، فعلى الغاصب تخليصه بالفداء. وبماذا يفديه؟ فيه
طريقان. المذهب: أنه يفديه بأقل الامرين من الأرش وقيمة العبد. وقال الامام:
فيه قولان. أحدهما: هذا. والثاني: بالأرش وإن زاد كالقولين فيما إذا أراد السيد
فداء الجاني. وإذا ثبت أن الجاني والجناية مضمونان على الغاصب، لم يخل، إما
أن يتلف الجاني في يد الغاصب، وإما أن ير ده. فإن تلف في يده، فللمالك تغريمه
أقصى القيم. فإذا أخذها، فللمجني عليه أن يغرم الغاصب إن لم يكن غرمه،
وله أن يتعلق بالقيمة التي أخذها المالك، لان حقه كان متعلقا بالرقبة فيتعلق ببدلها
كما إذا تلف المرهون كانت قيمته رهنا. وفي وجه: لا مطالبة للمجني عليه بما أخذه
المالك. والصحيح: الأول. فإذا أخذ المجني عليه حقه في تلك القيمة، رجع
المالك بما أخذه على الغاصب.
ولو كان العبد يساوي ألفا، فرجع بانخفاض السعر إلى خمسمائة، ثم جنى
ومات عند الغاصب، فغرمه المالك الألف، لم يكن للمجني عليه إلا خمسمائة وإن
كان أرش الجناية ألفا فأكثر، لأنه ليس له إلا قدر قيمته يوم الجناية وإن رد العبد إلى
125

المالك، نظر، إن رده بعدما غرم للمجني عليه، فذاك، وإن رد قبله فبيع في
الجناية، رجع المالك على الغاصب بما أخذ منه، لان الجناية حصلت حين كان
مضمونا عليه، بخلاف ما إذا جنى في يد المالك ثم غصبه رجل ورده ثم بيع في تلك
الجناية، فإنه لا يرجع المالك بشئ، لان الجناية حصلت وهو غير مضمون عليه.
وفرع ابن الحداد وغيره على ذلك فقالوا: إذا جنى في يد المالك جناية
تستغرق قيمته، ثم غصب وجنى في يد الغاصب جناية مستغرقة. ثم رده
المالك، ثم بيع في الجنايتين وقسم الثمن بينهما نصفين، يرجع المالك على
الغاصب بنص قيمة العبد.
ولو كان الفرع بحاله، وتلف العبد بعد الجنايتين في يد الغاصب، فله طلب
القيمة من الغاصب، وللمجني عليهما أخذها، فإذا أخذاها، فللمالك الرجوع
بنصفها على الغاصب، لأنه أخذ منه نصفها بجناية في يد الغاصب، فإذا رجع به،
فللمجني عليه الأول أخذه، لأنه بدل ما تعلق به حقه قبل الجناية الثانية. وإذا أخذه
لم يكن له الرجوع على الغاصب مرة أخرى، لأنه مأخوذ بجناية غير مضمونة على
الغاصب. هذا هو الصحيح في الصورتين.
وقيل: إذا رد العبد وبيع في الجناية، فالنصف الأول يرجع به المالك ويسلم
له ولا يؤخذ منه، وإنما يطالب المجني عليه الأول الغاصب بنصف القيمة. وإذا
تلف في يد الغاصب بعد الجنايتين، لا يأخذ المالك شيئا، ولكن المجني عليه
الأول يطالب الغاصب بتمام القيمة، والمجني عليه الثاني، يطالبه بنصف القيمة.
ولو جنى المغصوب في يد الغاصب أولا، ثم رده إلى المالك فجنى في يده
أخرى، وكل واحد منهما تستغرق القيمة، فبيع فيهما وقسم الثمن بينهما، فلل مالك
الرجوع على الغاصب بنصف القيمة للجناية التي هي مضمونة عليه.
قال الشئ أبو علي: سمعت القفال مرة يقول: ليس لواحد من المجني
عليهما أخذ هذا النصف من المال. أما الثاني، فلان الجناية عليه مسبوقة بجناية
مستغرقة، وحقه لم يثبت إلا في نصف القيمة وقد أخذه.
وأما الأول، فلان حق السيد يثبت في القيمة بنفس الغصب، وهو متقدم على
126

حق المجني عليه، فما لم يصر حقه إليه، لا يرجع إلى غيره شئ. قال أبو علي:
ليس هذا بشئ، بل للمجني عليه الأول أخذه كما في الجناية السابقة، ولا عبرة
بثبوت حق السيد في القيمة، فإن حقه وإن تقدم، فحق المجني عليه مقدم كما في
الرقبة. قال: وناظرت القفال فيه، فرجع إلى قولي. وعلى هذا إذا أخذه المجني
عليه الأول، رجع به المالك على الغاصب مرة أخرى، ويسلم له المأخوذ ثانيا، لان
الأول أخذ تمام القيمة، والثاني لم يتعلق حقه إلا بالنصف وقد أخذه. ولو جنى في
يد الغاصب ثم في يد المالك كما صورناه، ثم قتله الغاصب أو غصبه ثانيا فمات
عنده، أخذت القيمة منه وقسمت بين المجني عليهما، ثم للمالك أن يأخذ منه
نصف القيمة، لأنه أخذ منه بسبب جناية مضمونة عليه. فإذا أخذه كان للمجني عليه
الأول أن يأخذه منه، ثم له أن يرجع به على الغاصب مرة أخرى ويسلم له المأخوذ
في هذه المرة، وقد غرم الغاصب والحالة هذه القيمة مرتين، مرة بجناية العبد في
يده، ومرة بالقتل.
أما الجناية عليه، فإن قتل، نظر، إن وجب القصاص بأن كان القاتل عبدا
والقتل عمدا، فللمالك القصاص. فإذا اقتص، برئ الغاصب، لأنه أخذ بدل
حقه، ولا نظر مع القصاص إلى تفاوت القيمة، كما لا نظر في الأحرار إلى تفاوت
الدية. وإن لم يجب القصاص. فإن كان الجاني حرا، لزمه للجناية قيمته يوم
القتل، سواء قتله الغاصب أو أجنبي، والمالك بالخيار، بين أن يطالب بها
الغاصب، أو الجاني، لكن القرار على الجاني. ثم إن كانت قيمته قبل يوم القتل
أكثر، ونقصت في يد الغاصب، لزمه ما نقص بحكم اليد. وإن كان الجاني عبدا،
فإن سلمه سيده مبيع في الجناية، نظر، إن كان الثمن مثل قيمة المغصوب، أخذه
ولا شئ له على الغاصب إلا إذا كانت قيمته قد نقصت عنده قبل القتل. وإن كان
الثمن أقل، أخذ الباقي من الغاصب. وإن اختار سيده فداه، فإن قلنا: يفديه
بالأرش، أخذه ولا شئ له على الغاصب إلا على التقدير المذكور. وإن قلنا:
يفدي بالأقل من الأرش والقيمة، فإن كانت قيمة المغصوب أكثر من قيمة الجاني،
فالباقي على الغاصب، وإن كانت أقل أو مثلها، أخذها المالك ولا شئ له على
الغاصب إلا على التقدير المذكور. ولو اختار المالك تغريم الغاصب ابتداء، فله
ذلك، ويأخذ منه جميع قيمة الغصوب، ثم يرجع الغاصب على سيد الجاني بما
127

غرم إلا ما لا يطالب به إلا الغاصب. هذا إذا كانت الجناية قتلا، فأما الجراحات،
فاما أن يكون لها أرش مقدر في الحر، وإما لا، والواجب في الحالين، ما ذكرناه
من قبل. وإذا كان الواجب ما نقص من قيمته بالجناية، كان المعتبر حال الاندمال،
فإن لم يكن حينئذ نقص، لم يطالب بشئ. وإذا كان الواجب مقدرا من القيمة
كالمقدر من الدية، فهل يؤخذ في الحال، أم يؤخذ في الاندمال؟ قولان، كما لو
كانت الجناية على حر، وسيأتي (ذلك) في موضعه إن شاء الله تعالى. وإذا كان
الجاني غير الغاصب وغرمناه المقدر من القيمة، وكان الناقص أكثر من ذلك القدر،
فعلى الغاصب ما زاد. وإن كان المقدر أكثر مما نقص من القيمة، فهل يطالب
الغاصب بالزيادة على ما نقص؟ ذكرنا فيما إذا سقطت يده بآفة: أن الأصح: أنه لا
يطالب. وهنا الأصح: أنه يطالب، والقرار على الجاني. واختلفوا فيما لو قطعت
يده قصاصا أو حدا، لأنه يشبه السقوط بآفة من حيث أنه تلف لا بدل له، ويشبه
الجناية من حيث حصوله بالاختيار.
فرع لو اجتمعت جناية المغصوب والجناية عليه، بأن قتل إنسانا، ثم قتله
في يد الغاصب عبد رجل، فللمغصوب منه أن يقتص ويسقط به الضمان عن
الغاصب، ويسقط حق ورثة من قتله المغصوب، لان العبد الجاني إذا هلك (و) لم
يحصل له عوض، يضيع حق المجني عليه، لكن لو كان المغصوب قد نقص عند
الغاصب بحدوث عيب بعدما جنى، لم يبرأ الغاصب من أرش ذلك النقص، ولولي
من قتله التمسك به، وإن حدث العيب قبل جنايته، فاز المغصوب منه بالأرش. فلو
لم يقتص المغصوب منه، بل عفا على مال، أو كانت الجانية موجبة للمال، فحكم
تغريمه وأخذه المال على ما سبق في الجناية عليه من غير جناية منه. ثم إذا أخذ
المال كان لورثة من جنى عليه هذا العبد التعلق به، لأنه بدل الجاني على مورثهم.
فإذا أخذوه، رجع به المغصوب منه على الغاصب مرة أخرى، لأنه أخذ (منه) بسبب
128

جناية مضمونة عليه، ويسلم المأخوذ ثانيا كما سبق نظيره.
قلت: ومما يتعلق بالفصل، لو وثب العبد المغصوب فقتل الغاصب، وهرب
إلى سيده، فإن كانت الجناية عمدا، قال الصيمري: إن عفا ورثة الغاصب عن
القصاص والدية، سقط الضمان عن الغاصب في المال. وإن قتلوه، لزمهم قيمة
العبد في التركة، وكأنهم لم يسلموه، وكذا لو طلبوا الدية من رقبته. وإن قتل
المغصوب سيده وهو في يد الغاصب، فالصحيح الذي قطع به الشيخ أبو حامد: أن
لورثة المالك أن يقتصوا منه، وإذا قتلوه، استحقوا قيمته من الغاصب. وحكى في
البيان وجها: أن جنايته تكون هدرا.
ولو صال العبد المغصوب أو الجمل المغصوب على رجل، فقتله المصول
عليه للدفع، فلا ضمان عليه، ويجب ضمانه على الغاصب، ولا يرجع على
المصول عليه. والله أعلم
فصل نقل التراب من الأرض المغصوبة، تارة يكون من غير إحداث
حفر، ككشط وجهها، وتارة باحداثها كحفر بئر أو نهر. ففي الحالة الأولى،
للمالك إجباره على رده إن كان باقيا. فإن تلف وانمحق بهبوب الريح أو السيول،
أجبره على رد مثله إليه، وعليه إعادة وضعه وهيئته كما كان من انبساط أو ارتفاع.
وإن لم يطالبه المالك بالرد، نظر، إن كان له غرض، بأن دخل الأرض نقص يرتفع
بالرد ويندفع عنه الأرش، أو نقله إلى ملكه وأراد تفريغه، أو إلى ملك غيره، أو
شارع يخاف من التعثر به الضمان، فله الاستقلال بالرد. وإن لم يكن شئ من
ذلك، بأن نقله إلى موات، أو من أحد طرفي الأرض المغصوبة إلى الطرف الآخر،
فإن منعه المالك من الرد، لم يرد، وإن لم يمنعه، فهل يفتقر الرد إلى إذنه؟ وجهان
بناء على الوجهين في أنه لو منعه فخالف ورد، هل للمالك تكليفه النقل ثانيا؟ إن
قلنا: لا، فله الرد بغير إذنه، وإلا، فلا، وهو الأصح. وإذا كان له غرض في الرد
129

فرده، فمنعه المالك من بسطه، لم يبسطه وإن كان في الأصل مبسوطا.
الحالة الثانية: إذا حفر بئرا فأمره المالك بطمها، لزمه، وإلا، فله أن يستقل
به ليدفع عن نفسه خطر الضمان بالسقوط فيها. وقال المزني: لا يطم إلا بإذن
المالك. فإن منعه وقال: رضيت باستدامة البئر، فإن كان للغاصب غرض (في الطم)
سوى دفع ضمان السقوط، فله الطم، وإلا، فلا، في الأصح، ويندفع عنه
الضمان لخروجه عن أن يكون جناية وتعديا. فلو لم يقل: رضيت باستدامتها،
واقتصر على المنع من الطم، قال المتولي: هو كما لو صرح بالرضي، لتضمنه
إياه. وقال الامام: لا يتضمنه.
ولو طوى الغاصب البئر بآلة نفسه، فله نقلها، وللمالك إجباره عليه. فإن
تركها ووهبها له، لم يلزمه القبول على الأصح. وحيث قلنا في الحالتين: يرد
التراب إلى موضعه لوقوعه في ملكه، أو شارع، فذلك إذا لم يتيسر نقله إلى موات
ونحوه في طريق الرد. فإن تيسر، لم يرد إلا باذن قاله الامام وذكر أنه إنما يستقل
بالطم إذا بقي التراب الأول بعينه.
أما إذا تلف، ففي الطم بغيره بغير إذن المالك وجهان. وينبغي أن يجئ هذا
الخلاف في الحالة الأولى، وفيما إذا طلب المالك الرد والطم عند تلف ذلك
(التراب)، والأصح فيهما جميعا، لأنه لا فرق بين ذلك التراب وغيره، ثم إذا أعاد
هيئة الأرض في الحالين كما كانت، إما بطلب المالك، وإما دونه، نظر، إن لم
يبق في الأرض نقص، فلا شئ عليه، ولكن عليه أجرة المثل لمدة الحفر والرد،
وإن بقي، لزمه أرشه مع الأجرة. هذا الذي ذكرناه من أول الفصل إلى هنا هو
المذهب والذي يفتى به، ووراءه تصرف للأصحاب قالوا: نص هنا: أنه يجب
أرش النقص الحاصل بالحفر، ولم يوجب التسوية لأنه نص على ذلك فيما إذا غرس
الأرض المغصوبة ثم قلع بطلب المالك. ونص فيما إذا باع أرضا فيها أحجار مدفونة
فنقلها: أنه يلزمه التسوية. فقيل قولان فيهما، وقيل بتقرير النصين، والفرق
ضعيف. وكلام الغزالي يوهم ظاهره خلاف ما ذكرناه، فليتأول على ما بيناه.
فصل إذا خصي العبد المغصوب، فهو على قولين السابقين في جراح
130

العبد. وهل يتقدر؟ إن قلنا بالجديد: أنه يتقدر، لزمه كمال القيمة، وإلا،
فالواجب ما نقص من القيمة، فإن لم ينقص شئ عليه.
ولو سقط ذلك العضو بآفة سماوية، ولم تنقص قيمته، ورده، فلا شئ عليه
على القولين، لكن قياس الذي قدمناه في أنه يضمن بالتلف تحت اليد العادية
كما يضمن الجناية: أنه يلزمه كمال القيمة.
فرع لو كان في الجارية المغصوبة سمن مفرط، فزال ورجعت إلى
الاعتدال ولم تنقص قيمتها، لم يلزمه شئ، لان السمن ليس له مقدر،
بخلاف الأنثيين.
فصل إذا غصب زيتا أو دهنا فأغلاه، فان نقصت عينه فقط، كمن غصب
صاعين قيمتهما درهمان فصار بالاغلاء صاعا قيمته درهمان، فوجهان. أصحهما:
يرده ويغرم مثل الصاع الذاهب. والثاني: يرده ولا شئ عليه. وإن نقصت قيمته
فقط، رده مع الأرش. وإن نقصا معا، وجب رد الباقي ومثل ما ذهب، إلا إذا كان
ما نقص من القيمة أكثر مما نقص من العين، فيجب مع مثل الذاهب أرش نقص
الباقي. وإن لم ينقص واحد منهما، رده ولا شئ عليه.
ولو غصب عصيرا فأغلاه، فطريقتان. أحدهما: أنه كالزيت فيضمن مثل مثل
الذاهب وإن لم تنقص قيمته على الأصح. وأصحها: لا، فلا يضمن مثل العصير
الذاهب إذا لم تنقص قيمته، لان الذاهب مائيته، والذاهب من الزيت زيت.
ويجري الخلاف في العصير إذا صار خلا ونقصت عينه دون قيمته، وفي
الرطب إذا صار تمرا.
131

فصل نقص الغصوب هل ينجبر بالكمال بعده؟ ينظر، إن كان الكمال
من الوجه الذي نقص به، كما لو هزلت الجارية ثم سمنت وعادت القيمة كما
كانت، لم ينجبر على الأصح وقيل: لا ينجبر قطعا،
ولو كان المغصوب يحسن صنعه فنسيها، ثم ذكرها أو تعلمها، انجبر على
الأصح. وقيل: ينجبر قطعا، لان تذكر الصنعة لا يعد شيئا متجددا، بخلاف
السمن. والثاني: ويجري الخلاف فما لوز كسر والاناء، ثم أعاد تلك
الصنعة.
قلت: الأصح هنا، إلحاق بالسمن، لا بتذكر الصنعة، لأن هذه صنعة
أخرى وهو تبرع بعلمه. والله أعلم
وحيث قلنا بالانجبار، فلو لم يبلغ بالعائد القيمة الأولى، ضمن ما بقي من
النقص وانجبر الباقي.
أما إذا كان الكمال بوجه آخر، بأن نسي صنعة وتعلم أخرى، أو أبطل صنعة
الحلي وأحدث أخرى، فلا انجبار بحال.
وعلى هذا لو تكرر النقص وكان الناقص في كل مرة مغايرا للناقص في المرة
الأخرى، ضمن الجميع. حتى لو غضب جارية قيمتها مائة، فسمنت وبلغت ألفا،
وتعلمت صنعة وبلغت ألفين، ثم هزلت ونسيت الصنعة وعادت قيمتها مائة، يردها
ويغرم ألفا وتسع مائة، وكذا لو علمه الغاصب سورة من القرآن، أو حرفة فنسيها،
132

ثم علمه أخرى فنسيها أيضا، ضمنها. وإن لم يكن مغايرا، بأن علمه سورة
واحدة، أو حرفة مرارا، وينسى قي كل مرة، فان قلنا: لا يحصل الانجبار بالعادة،
ضمن نقصان جميع المرات، وإلا، ضمن أكثر المرات نقصا.
فرع لو زادت فيه الجارية بتعلم الغناء، ثم نسيته، نقل الروياني عن
النص: أنه لا يضمن النقص، لأنه محرم، وإنما يضمن المباح. وعن بعض
الأصحاب: أنه يضمنه. ولهذا لو قتل عبدا مغنيا، يغرم تمام قيمته. قال: وهو
الاختيار.
قلت: الأصح المختار: هو النص. وقد تقدم في فصل كسر الملاهي: أنه
لا ضمان في صنعتها، لأنها محرمة، وهذا لا خلاف فيه. وقد نص القاضي حسين
وغيره، على أنه لو أتلف كبشا نطاحا، أو ديكا هراشا، لزمه قيمته بلا نطاح ولا
هراش، لأنها محرمة. والله أعلم.
فرع مرض العبد المغصوب، ثم برأ وزال أثر المرض ورده، فلا شئ
عليه على الصحيح. وقيل: يضمن نقص المرض ولا يسقط بالبرء، وكذا الحكم لو
رده مريضا فبرأ وزال الأثر.
فرع غصب شجرة فتحات ورقها، ثم أورقت، أو شاة فجز صوفها، ثم
نبت، يغرم الأول قطعا، ولا ينجبر بالثاني، بخلاف ما لو سقط من الجارية
المغصوبة ثم نبت، أو تمعط شعرها ثم نبت، فإنه ينجبر. قال البغوي: لان الورق
والصوف متقومان، فغرمهما، وسن الجارية وشعرها غير متقومين، وإنما يغرم أرش
النقص بفقدهما وقد زال.
فصل غصب عصيرا فتخمر عنده، كان للمغصوب منه تضمينه مثل
العصير، لفوات المالية. قالوا: وعلى الغاصب إراقة الخمر. ولو جعلت محترمة،
كما لو تخمرت في يد المالك بلا قصد الخمرية، لكان جائزا. فلو تخللت في يد
133

الغاصب، فوجهان. أصحهما: أن الخل للمغصوب منه، وعلى الغاصب أرش
النقص إن نقصت قيمة الخل عن العصير. والثاني: يغرم مثل العصير. وعلى
هذا، في الخل وجهان. أحدهما: للغاصب، وأصحهما: للمغصوب منه، لأنه
فرع ملكه. ويجري هذا الخلاف، فيما لو غصب بيضة ففرخت عنده، أو بذرا
فزرعه ونبت، أو بزر قز فصار قزا، فعلى الأصح: الحاصل للمالك، ولا غرم على
الغاصب، إلا أن يكون الحاصل أنقص قيمة مما غصبه، لان المغصوب عاد زائدا
إليه. وعلى الثاني: يغرم المغصوب لهلاكه، ويكون الحاصل للمالك على
الأصح، وللغاصب على الآخر.
فرع غصب خمرا فتخللت في يده، أو جلد ميتة فدبغه، فأربعة أوجه.
أصحها: أن الخل والجلد للمغصوب منه. فعلى هذا إن تلف في يد
الغاصب، ضمنه. والثاني: للغاصب. والثالث: الخل للمغصوب منه،
والجلد للغاصب، لأنه صار مالا بفعله. والرابع: عكسه، لان الجلد كان يجوز
للمغصوب منه إمساكه، والخمر المحترمة كالجلد. وإذا قلنا: هما للمغصوب منه،
فذلك إذا لم يكن المالك معرضا عن الخمر والجلد، فإن أراق الخمر، أو ألقى
الشاة الميتة فأخذها رجل، فهل للمعرض استرداد الحاصل؟ وجهان.
قلت: الأصح: ليس له، وبه قطع الشيخ أبو حامد وغيره في الجلد. والله
أعلم.
الطرف الثاني في الزيادة: وهي آثار محضة وأعيان.
134

أما الأثر، فالقول الجملي فيه: أن الغاصب لا يستحق بتلك الزيادة شيئا،
لتعديه، ثم ينظر، إن لم يمكن رده إلى الحالة الأولى رده بحاله وأرش النقص إن
نقصت قيمته، وإلا فإن رضي به المالك، لم يكن للغاصب رده إلى ما كان وعليه
أرش النقص، إلا أن يكون له عرض في الرد إلى الحالة الأولى، فله الرد، وإن
ألزمه المالك الرد إلى الحالة الأولى، لزمه ذلك وأرش النقص إن نقص عما كان قبل
تلك الزيادة.
فإذا تقرر ذلك، فمن صوره، طحن الحنطة، وقصارة الثوب وخياطته،
وضرب الطين لبنا، وذبح الشاة وشيها. ولا يملك الغاصب المغصوب بشئ من
هذه التصرفات، بل يردها مع أرش النقص إن نقصت القيمة.
وإنما تكون الخياطة من هذا القسم، إذا خاط بخيط المالك. فإن خاط بخيط
الغاصب، فستأتي نظائره إن شاء الله تعالى.
ثم في الطحن والقصارة، والذبح، والشي، لا يمكن الرد إلى ما كان. وكذا
في شق الثوب وكسر الاناء، ولا يجبر على رف ء الثوب وإصلاح الاناء، لأنه لا يعود
إلى ما كان، ولو غزل القطن، رد الغزل وأرش النقص إن نقص.
ولو نسج الغزل، فالكرباس للمالك مع الأرش إن نقص، وليس للمالك
إجباره على نقضه إن لم ى مكن رده إلى الحالة الأولى ونسجه ثانيا، فإن أمكن،
كالخز، فله إجباره. فإن نقضه ونقصت قيمته عن قيمة الغزل في الأصل، غرمه،
ولا يغرم ما زاد بالنسج، لان المالك أمره بنقضه. فإذا نقضه بغير إذن المالك،
ضمنه أيضا. ولو غصب نقرة وضربها دراهم، أو صاغها حليا، أو غصب نحاسا أو
زجاجا فجعله إناء، فإن رضي المالك به، رده كذلك، ولم يكن له رده إلى الحالة
الأولى، إلا أن يضرب الدراهم بغير إذن السلطان، أو على غير عياره، لأنه حينئذ
135

يخاف التغيير، وحيث منع من الرد إلى ما كان فخالف، فهو كاتلاف الزوائد
الحاصلة عند الغصب. ولو أجبره المالك على رده إلى ما كان، لزمه. فإذا امتثل،
لم يغرم النقصان الحاصل بزوال الصنعة، لكن لو نقص عما كان بما طرأ وزال،
ضمنه.
وأما الأعيان، فمن صورها صبغ الثوب. وتقدم عليه صورتين.
إحداهما: إذا غصب أرضا وبنى فيها، أو غرس، أو زرع، كان لصاحب
الأرض أن يكلفه القلع مجانا. ولو أراد الغاصب القلع لم يكن للمالك
منعه، فإنه عين ماله. وإذا قلع، لزمه الأجرة.
وفي وجوب التسوية والأرش، ما سبق في نقل التراب.
وإن نقصت الأرض لطول مدة الغراس، فهل يجمع بين أجرة المثل وأرش
النقص، أو لا يجب إلا أكثرهما؟ فيه الخلاف السابق فيما إذا أبلى الثوب
بالاستعمال.
ولو أراد المالك أن يتملك البناء والغراس بالقيمة، أو يبقيهما أو الزرع
بالأجرة، فهل على الغاصب إجابته؟ وجهان. أحدهما: نعم، كالمستعير،
وأولى، لتعديه. وأصحهما: لا، لتمكنه من القلع بلا غرامة. ولو غصب من رجل
أرضا وبذرا فزرعها به، فللمالك أن يكلفه إخراج البذر من الأرض ويغرمه أرش
النقص، وليس للغاصب إخراجه إذا رضي به المالك.
الصورة الثانية: إذا زوق الأرض المغصوبة، نظر إن كان بحيث لو
نزع، لحصل منه شئ، فللمالك إجباره على النزع. فإن تركه الغاصب ليدفع عنه
كلفة النزع، فهل يجبر المالك على قبوله؟ وجهان ولو أراد الغاصب نزعه، فله
136

ذلك، وسواء كان للمنزوع قيمة أم لا، فإن نزع فنقصت عما كانت قبل التزويق،
لزمه الأرش.
أما إذا كان التزويق تمويها لا يحصل منه عين بالنزع، فليس للغاصب النزع إن
رضي المالك. وهل للمالك إجباره عليه؟ وجهان. أحدهما: نعم، لأنه قد يريد
تغريمه أرش النقص الحاصل بإزالته. وأصحهما: لا، كالثوب إذا قصره. إذا ثبت
هذا، عدنا إلى الصبغ فنقول: للصبغ الذي يصبغ به المغصوب، ثلاثة أحوال.
الأول: أن يكون للغاصب، فينظر، إن كان الحاصل تمويها محضا، فحكمه ما
ذكرناه في التزويق. وإن حصل فيه عين مال بالانصباغ، فهو ضربان.
الأول: إذا لم يمكن فصله، فقولان. القديم: أنه يفوز به صاحب الثوب
تشبيها له بالسمن. والمشهور: أنهما شريكان، فينظر، إن كانت قيمة الثوب
مصبوغا مثل قيمته، وقيمة الصبغ قبل الصبغ جميعا، بأن كانت قيمة الثوب عشرة،
وقيمة الصبغ عشرة، وصار يساوي مصبوغا عشرين، فهو بينهما بالسوية. فلو رغب
فيه راغب بثلاثين، كانت بينهما نصفين. وإن نقصت قيمته مصبوغا عنهما، بأن
صارت قيمته في الصورة المذكورة خمسة عشر، فقد أطلق الأكثرون: أن النقص
محسوب من الصبغ، لان الثوب هو الأصل، والصبغ وإن كان عينا، فهو تابع،
فيكون الثوب المصبوغ بينهما أثلاثا، الثلثان للمغصوب منه. وفي الشامل
والتتمة: أنه إن كان النقص لانخفاض سعر الثياب، فالنقص محسوب من
الثوب. وإن كان لانخفاض سعر الاصباغ، فمن الصبغ وكذا لو كان النقص بسبب
العمل. ويمن أن يكون هذا التفصيل مراد من أطلق. وإن كانت قيمته بعد الصبغ
عشرة، انمحق الصبغ، ولا حق فيه للغاصب. وإن نقصت قيمته مصبوغا عن قيمة
الثوب، فصار يساوي ثمانية، فقد ضاع الصبغ ونقص من الثوب درهمان، فيرده مع
درهمين. وإن زادت قيمته مصبوغا عليهما، بأن صار ثلاثين، فمن أطلق الجواب
في طرف النقص، أطلق هنا أن الزيادة بينهما على نسبة ماليهما. ومن فصل قال:
إن كان ذلك لارتفاع سعر الثياب، فالزيادة لصاحب الثوب، وإن كان لارتفاع سعر
الاصباغ، فهي للغاصب، وإن كان للعمل والصنعة، فهي بينهما، لان الزيادة بفعل
الغاصب تحسب للمغصوب منه.
137

الضرب الثاني: إذا أمكن فصله عن الثوب، فقد حكي قول عن القديم: أنه
إن كان المفصول لا قيمة له، فهو كالسمن، والمشهور أنه ليس كالسمن، فلا يفوز
به المغصوب منه. وهل يملك إجبار الغاصب على فصله؟ وجهان. أصحهما عند
العراقيين: لا. وأصحهما: عند البغوي وطائفة: نعم، واختاره الامام،
ونقل القطع به عن المراوزة. وإنما الخلاف، فيما إذا كان الغاصب يخسر بالفصل
خسرانا بينا، وذلك، قد يكون لضياع المنفصل بالكلية، وقد يكون لحقارته
بالإضافة إلى قيمة الصبغ. ومن جملة الضياع، أن يحدث في الثوب نقص بسبب
الفصل لا تفي بأرشه قيمة المفصول. ولو رضي المغصوب (منه) بابقاء الصبغ وأراد
الغاصب فصله، فله ذلك إن لم ينقص الثوب، وكذا إن نقص على الأصح. وإن
تراضيا على ترك الصبغ بحاله، فهما شريكان. وكيفية الشركة، كما سبق في
الضرب الأول.
فرع لو ترك الغاصب الصبغ للمالك، فهل يجبر كالنعل في الدابة المردودة
بالعيب لأنه تابع، أم لا، كالبناء والغراس إذا تركه الغاصب؟ وجهان. قال
الروياني: أصحهما: الأول. قال الرافعي: بل الثاني أقيس وأشبه.
قلت: الثاني أصح. وممن صححه، صاحب التنبيه قال الجرجاني:
ويجري الوجهان فيما لو غصب بابا وسمره بمسامير للغاصب وتركها للمالك. والله
أعلم.
ثم قيل، الوجهان فيما إذا أمكن فصل الصبغ، وفيما إذا لم يمكن.
والأصح: تخصيصهما بما إذا أمكن وقلنا: إن الغاصب يجبر على الفصل، وإلا
فهما شريكان لا يجبر واحد منهما على قبول هبة الآخر. وعلى هذا، فطريقان.
أحدهما: أن الوجهين فيما إذا كان يتضرر بالفصل، إما لما يناله من التعب، وإما
138

لان المفصول يضيع كله أو أكثره، فإن لم يكن كذلك، لم يجب القبول بحال.
والثاني: أن الوجهين فيما إذا كان الثوب ينقص بالفصل نقصا لا تفي بأرشه قيمة
الصبغ المفصول، فإن وقت، لم يجب القبول بحال وإن تعب أو ضاع معظم
المفصول. قال الامام: وإذا قلنا: يجب القبول على المغصوب منه، لم يشترط
تلفظه بالقبول.
وأما الغاصب، فلا بد من لفظ من جهته يشعر بقطع الحق، كقوله: أعرضت
عنه، أو تركته، أو أبرأته عن حقي، أو أسقطته، قال: ويجوز أن يعتبر اللفظ
المشعر بالتمليك.
فرع لو بذل المغصوب منه قيمة الصبغ، وأراد أن يتملكه على الغاصب،
فهل يجاب إليه؟ فيه أوجه - سواء كان الصبغ يمكن فصله، أم لا - أحدهما: نعم
كالغراس في العارية. وأصحهما: لا، لان المعير لا يتمكن من القلع مجانا فكان
محتاجا إلى التملك بالقيمة، وهنا بخلافه. والثالث: إن كان الصبغ بحيث لو فصل
لم يحصل منه شئ ينتفع به، فنعم، وإلا، فلا.
فرع متى اشتركا في الثوب المصبوغ، فهل لأحدهما الانفراد ببيع ملكه
(منه)؟ وجهان، كبيع دار لا ممر لها. والأصح: المنع.
ولو أراد مالك الثوب البيع، ففي المهذب والتهذيب: أنه يجبر
الغاصب على موافقته ويباع، وإن أراد الغاصب البيع، لم يجبر صاحب الثوب على
الأصح، لئلا يستحق بتعديه إزالة ملك غيره. وفي النهاية: القطع بأن واحدا
منهما لا يجبر كسائر الشركاء.
الحال الثاني: أن يكون الصبغ مغصوبا من غير مالك الثوب، فإن لم يحدث
بفعله نقص، فلا غرم عليه، وهما شريكان في الثوب المصبوغ كما سبق في المالك
والغاصب. وإن حدث، نظر، إن كانت قيمته مصبوغا عشرة، والتصوير كما سبق،
فهو لصاحب الثوب، ويغرم الغاصب الصبغ للآخر. وإن كانت خمسة عشر،
فوجهان. أحدهما: (يكون) الثوب بينهما نصفين، ويرجعان على الغاصب بخمسة.
وأصحهما: أثلاثا على ما سبق في الحال الأول. فإن كان مما يمكن فصله، فلهما
تكليف الغاصب الفصل. فإن حصل بالفصل نقص فيهما أو في أحدهما عما كان قبل
139

أن يصبغ، غرمه الغاصب، ولصاحب الثوب وحده طلب الفصل أيضا إذا قلنا:
المالك يجبر الغاصب عليه في الحال الأول. هذا إذا حصل بالانصباغ عين مال في
الثوب. فإن لم يحصل إلا تمويه، فالحكم كما سبق في التزويق.
فرع يقاس بما ذكرناه في الحالتين ثبوت الشركة فيما إذا طير الريح ثوب
إنسان في أجانة صباغ، فانصبغ، لكن ليس لأحدهما أن يكلف الاخر الفصل ولا
التغريم إن حصل نقص في أحدهما، إذ لا تعدي. ولو أراد صاحب الثوب تملك
الصبغ بالقيمة، فعلى ما سبق.
الحال الثالث: أن يكون الصبغ مغصوبا من مالك الثوب أيضا. فإن لم
يحدث بفعله نقص، فهو للمالك، ولا غرم على الغاصب، ولا شئ له إن زادت
القيمة، لان الموجود منه أثر محض. وإن حدث بفعله نقص، ضمن الأرش، وإذا
أمكن الفصل، فللمالك إجباره عليه. وليس للغاصب الفصل إذا رضي المالك.
فرع إذا كان الصبغ للغاصب وقيمته عشرة، وقيمة الثوب عشرة، فبلغت
قيمة الثوب مصبوغا ثلاثين، ففصل الغاصب الصبغ، ونقصت قيمة الثوب عن
عشرة، لزمه ما نقص، وكذا ما نقص عن خمسة عشر إن فصل بغير إذن المالك
وطلبه، وإن فصل بإذنه، لم يلزمه إلا نقص العشرة. ولو عادت قيمته مصبوغا إلى
عشرة لانخفاض السعر وكان النقص في الثياب والأصباغ على نسبة واحدة،
فالثوب بينهما بالسوية كما كان، والنقص داخل عليهما جميعا، وليس على الغاصب
غرامة ما نقص مع رد العين، لكن لو فصل الصبغ بعد رجوع القيمة إلى عشرة،
فصار الثوب يساوي أربعة، غرم ما نقص، وهو خمس الثوب بأقصى القيم.
والمعتبر في الأقصى خمسة عشر إن فصل بنفسه، وعشرة إن فصل بطلب المالك.
فصل إذا خلط المغصوب بغيره، فقد يتعذر التمييز بينهما، وقد، لا.
وإذا تعذر، فقد يكون ذلك الغير من جنسه، وقد، لا. فإن كان كالزيت
بالزيت. والحنطة بالحنطة، نظر، فإن خلطه بأجود من المغصوب أو مثله، أو أردأ
منه، فالمذهب النص أنه كالهالك حتى يتمكن الغاصب من أن يعطيه قدر حقه من
غير المخلوط. وقيل: قولان. أحدهما: هذا. والثاني: يشتركان في
140

المخلوط، ويرجع في قدر حقه من نفس المخلوط. وقيل: إن خلط بالمثل،
اشتركا، وإلا، فكالهالك. فإن قلنا: كالهالك، فللغاصب دفع المثل من غير
المخلوط، وله دفعه منه إذا خلطه بالأجود أو بالمثل، وليس له دفع قدر حقه من
المخلوط بالأردء، إلا أن يرضى المالك. وإذا رضي، فلا أرش له كما إذا أخذ
الردئ من موضع آخر. وإن قلنا بالشركة، فإن خلط بالمثل، فقدر زيته من
المخلوط له. وإن خلط بالأجود، بأن خلط صاعا قيمته درهم، بصاع قيمته
درهمان، نظر، إن أعطاه صاعا من المخلوط، أجبر المالك على قبوله، وإلا فيباع
المخلوط ويقسم الثمن بينهما أثلاثا، فإن أراد قسمة عين الزيت على نسبة القيمة،
فالمشهور: أنه لا يجوز، وفي قول رواه البويطي: يجوز، وفي وجه: يكلف
الغاصب تسليم صاع من المخلوط، لان اكتساب المغصوب صفة الجودة بالخلط،
كزيادة متصلة. وإن خلط بالأردء، بأن خلط صاعا قيمته درهمان بصاع قيمته درهم،
أخذ المغصوب منه صاعا من المخلوط مع أرش النقص، لان الغاصب متعد
بالخلط، بخلاف المفلس إذا خلط بالأردء، فإن البائع إذا رجع بصاع من المخلوط
لا أرش له، لعدم التعدي، فإن اتفقا على بيع المخلوط وقسمة الثمن أثلاثا، جاز،
وإن أراد قسمة الزيت على نسبة القيمتين، فقيل: هو على الخلاف في طرق
الأجود، وقيل: بالمنع قطعا.
فرع خلط الخل بالخل، واللبن باللبن، كخلط الزيت بالزيت. وإن
خلط الدقيق بالدقيق، فإن قلنا: هو مثلي، فكالزيت بالزيت. وإن قلنا: متقوم،
فإن قلنا: المختلط هالك، فالواجب على الغاصب القيمة. وإن قلنا: بالشركة،
بيع وقسم الثمن بينهما على قدر القيمتين. فإن أراد قسمة عين الدقيق على نسبة
القيمتين، وكان الخلط بالأجود أو الأردء، فعلى ما ذكرنا في خلط الزيت بالزيت.
141

وإن كان الخلط بالمثل، جازت القسمة إن جعلناها إفرازا. وإن جعلناها بيعا، لم
يجز، لان بيع الدقيق بالدقيق لا يجوز.
فرع: خلط المغصوب بغير الجنس، كزيت بشيرج أو دهن جوز، أو دقيق
حنطة بدقيق شعير، فالمغصوب هالك لبطلان فائدة خاصيته، بخلاف الجيد
بالردئ. وقيل: هو على الخلاف السابق، واختار المتولي الشركة هناك وهنا،
وقال: إن تراضيا على بيع المخلوط وقسمة الثمن، جاز، وإن أراد قسمته، جاز،
وكأن المغصوب منه باع ما يصير في يد الغاصب من الزيت بما يصير في يده من
الشيرج. قال الامام: وألحق الأصحاب بخلط الزيت بالشيرج لت السويق بالزيت،
وهو بعيد، وإنما هو كصبغ الثوب.
فرع إذا لم يتعذر التمييز، لزم الغاصب التمييز وفصله بالالتقاط وإن شق،
سواء خلط الجنس كالحنطة البيضاء بالحمراء، أو بغيره كالحنطة بالشعير.
فرع إذا خلط الزيت بالماء، وأمكن التمييز، لزمه التمييز وأرش النقص ان
نقص، وإلا، فهو كخلطه بالشيرج، الا أن لا تبقى له قيمة، فيكون هالكا قطعا.
فإن حصل فيه مميزا كان أو غيره. نقص سار، فقد سبق حكمه.
فصل إذا غصب خشبة وأدخلها في بناء، أو بنى عليها، أو على آجر
مغصوب، لم يملكها، بل عليه إخراجها وردها إلى المالك ما لم تعفن. فإن
عفنت بحيث لو أخرجت لم يكن لها قيمة، فهي هالكة. فإذا أخرجها قبل العفن
وردها، لزمه أرش النقص وإن نقصت. وفي الأجرة ما ذكرناه في إبلاء الثوب
بالاستعمال. ولو أدخل لوحا مغصوبا في سفينة، نظر، إن لم يخف من النزع هلاك نفس
ولا مال، بأن كانت على الأرض، أو مرساة على الشط، أو أدخله في أعلاها ولم
142

يخف من نزعه غرقا، أو لم يكن فيها نفس ولا مال، ولا خيف هلاك السفينة نفسها،
لزمه نزعه ورده، فإن كان في لجة (البحر) وخيف من النزع هلاك حيوان محترم، سواء
كان آدميا الغاصب أو غيره، أو غير آدمي، لم ينزع حتى تصل الشط. وإن خيف
من النزع هلاك مال، إما في السفينة، وإما في غيرها، فهو، إما للغاصب،
أو لمن وضع ماله فيها وهو يعلم أن فيها لوحا مغصوبا، فإن كان لهما، ففي نزعه
وجهان. أصحهما عند الامام: النزع، كما يهدم البناء لرد الخشبة. وأصحهما عند
ابن الصباغ وغيره: لا ينزع، لان السفينة لا تدوم في البحر، فيسهل الصبر إلى
الشط. وإن كان لغيرهما، لم ينزع قطعا.
قلت: الأصح عند الأكثرين ما صححه ابن الصباغ. والله أعلم.
وحيث لا ينزع إلى الشط، فتؤخذ القيمة للحيلولة إلى أن يتيسر النزع، فحينئذ
يرد اللوح مع أر ش النقص ويسترد القيمة. وإن قلنا: لا يبالي في النزع بهلاك مال
الغاصب فاختلطت التي فيها اللوح بسفن للغاصب، ولا قلت: كذا أطلقوا يوقف على اللوح إلا بنزع
الجميع، فهل ينزع الجميع؟ وجهان
الوجهين بلا ترجيح، وينبغي أن يكون أرجحهما عدم
النزع. والله أعلم
فرع الخيط المغصوب، إن خيط به ثوب ونحوه، فالحكم كما في البناء
على الخشبة. وإن خيط به جرح حيوان، فهو قسمان. محترم، وغيره. والمحترم
نوعان. آدمي وغيره.
أما الآدمي: فإن خيف من نزعه هلاكه، لم ينزع، وعلى الغاصب قيمته. ثم
إن خيط جرح نفسه، فالضمان مستقر عليه. وإن خاط جرح غيره باذنه وهو عالم
143

بالغصب، فقرار الضمان على المجروح. وإن كان جاهلا، فعلى الخلاف فيما
إذا أطعم المغصوب رجلا. وفي معنى خوف الهلاك، خوف كل محذور يجوز
العدول إلى التيمم من الوضوء وفاقا وخلافا.
وأما غير الآدمي، فضربان. مأكول، وغيره فغيره، له حكم الآدمي، إلا
أنه لا اعتبار ببقاء الشين (فيه).
وأما المأكول، فإن كان لغير الغاصب، لم ينزع، وإن كان للغاصب،
فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: لا يذبح كغير المأكول. وإذا مات الحيوان
وفيه الخيط. فإن كان غير آدمي نزع، وكذا إن كان آدميا على الأصح.
وأما غير المحترم، فلا يبالي بهلاكه، فينزع منه الخيط. ومن هذا القسم:
الخنزير، والكلب العقور، وكذا الكلب الذي لا منفعة فيه، قاله الامام. وكذا
المرتد على المذهب، وبه قطع الأكثرون. وذكر الامام فيه وجهين، وادعى أن
الأوجه: منع النزع، لان المثلة بالمرتد محرمة، بخلاف المثلة بالميت، لأنا نتوقع
عود المرتد إلى الاسلام. ومن هذا القسم الحربي.
وأما الزاني المحصن، والمحارب، فقال المتولي: هما على الوجهين فيما
إذا مات وفيه الخيط، لان تفويت روحه مستحق، وحيث قلنا: لا ينزع، يجوز
غصب الخيط ابتداء ليخاط به الجرح إذا لم يوجد خيط حلال. وحيد قلنا: ينزع،
لا يجوز.
قلت وحيث بلي الخيط، فلا نزع مطلقا، بل تجب القيمة. والله أعلم
فرع حصل فصيل رجل في بيت رجل، ولم يمكن إخراجه إلا بنقض
البناء، فإن كان بتفريط صاحب البيت، بأن غصبه وأدخله، نقض ولم يغرم صاحب
الفصيل شيئا. وإن كان بتفريط صاحب الفصيل، نقض البناء، ولزمه أرش
144

النقص. وإن دخل بنفسه، نقض أيضا، ولزم صاحب الفصيل أرش النقص على
المذهب، وبه قطع العراقيون. وقيل: وجهان. ثانيهما: لا أرش عليه.
فرع وقع دينار في محبرة، ولا يخرج إلا بكسرها، فإن وقع بفعل صاحب
المحبرة عمدا أو سهوا، كسرت، ولا غرم على صاحب الدينار، وإن وقع بفعل
صاحبه، أو بلا تفريط من أحد، كسرت، وعلى صاحبه الأرش. وقال ابن
الصباغ: إذا لم يفرط أحد، والتزم صاحب المحبرة ضمان الدينار، ينبغي أن لا
تكسر، لزوال الضرر بذلك، وهذا الاحتمال عائد في صورة البيت والفصيل.
فرع أدخلت بهيمة رأسها في قدر، ولم يخرج إلا بكسرها، فإن كان معها
صاحبها، فهو مفرط بترك الحفظ. فإن كانت غير مأكولة، كسرت القدر، وعليه
أرش النقص. وإن كانت مأكولة، ففي ذبحها وجهان، كمسألة الخيط. وإن لم
يكن معها أحد، فإن فرط صاحب القدر، بأن وضع القدر في موضع لا حق له فيه،
كسرت، ولا أرش له. وإن لم يفرط، كسرت، وغرم صاحب البهيمة الأرش،
ولم يذكروا هذا التفصيل بين المأكول وغيره في مسألة الفصيل، والوجه: التسوية.
فرع سيأتي إن شاء الله تعالى القول في أن ما تتلفه البهيمة، متى يضمنه
مالكها في بابه. فإذا ابتلعت شيئا واقتضى الحال الضمان، نظر، إن كان مما يفسد
بالابتلاع، ضمنه. وإن كان مما لا يفسد، كاللؤلؤ، فإن كانت غير مأكولة، لم
تذبح، وغرم قيمة المبتلع، للحيلولة. وإن كانت مأكولة، ففي ذبحها الوجهان.
فرع لو باع بهيمة بثمن معين، فابتلعته، فإن لم يكن الثمن مقبوضا،
انفسخ البيع، وهذه بهيمة لبائعها ابتلعت مال المشتري، إلا أن يقتضي الحال
وجوب الضمان على صاحب البهيمة، فيستقر العقد، ويكون ما جرى قبضا للثمن
بناء على أن إتلاف المشتري قبض منه. وإن كان الثمن مقبوضا، لم ينفسخ البيع،
145

وهذه بهيمة للمشتري ابتلعت مال البائع.
فصل غصب زوجي خف قيمتهما عشرة، فرد أحدهما وقيمته ثلاثة،
وتلف الاخر، لزمه سبعة قطعا، لان بعض المغصوب تلف، وبعضه نقص. ولو
أتلف أحدهما، أو غصبه وحده وتلف، وعادت قيمة الباقي إلى ثلاثة، ففيه أوجه.
أصحها عند الشيخ أبي حامد ومن تابعه: يلزمه سبعة. وأصحها عند الامام،
والبغوي: خمسة، كما لو أتلف رجل أحدهما، وآخر الاخر، فإن كلا منهما يضمن
خمسة. والثالث: يلزمه ثلاثة، لأنها قيمة ما أتلفه. ولو أخذ أحدهما بالسرقة،
وقيمته مع نقص الباقي نصاب، لم يقطع بلا خلاف.
قلت الأقوى، ما صححه الامام، وإن كان الأكثرون على ترجيح الأول
وعليه العمل. ويخالف المقيس عليه، فإنه لا ضرر على المالك هناك. وصورته:
أنهما أتلفاهما دفعة واحدة. فإن تعاقبا، لزم الثاني ثلاثة. وفي الأول، الخلاف.
وفي الصورة الأولى إذا غصبهما معا وجه في التنبيه والتتمة: أنه يلزمه ثلاثة،
وهو غريب. والله أعلم
الطرف الثالث: فيما يترتب على تصرفات الغاصب. وفيه مسائل.
إحداها: إذا أتجر الغاصب في المال المغصوب، فقولان. الجديد: أنه إن
باعه أو اشترى بعينه، فالتصرف باطل. وإن جاع سلما أو اشترى في الذمة وسلم
المغصوب فيه، فالعقد صحيح، والتسليم فاسد، فلا تبرأ ذمته مما التزم، ويملك
الغاصب ما أخذ، وأرباحه له. والقديم: أن بيعه والشراء بعينه ينعقد موقوفا على
إجازة المالك. فإن أجاز، فالربح له. وكذا إذا التزم في الذمة وسلم المغصوب،
تكون الأرباح للمالك، وهذه المسألة سبق ذكرها في البيع، ويتم شرحها في
القراض إن شاء الله تعالى. والغرض هنا، أن ما ذكرناه بعدها مفرع على الجديد،
وهو الأظهر.
الثانية: وطئ الغاصب المغصوبة، فإن كانا جاهلين بتحريم الوطئ، فلا حد
عليهما، وعليه المهر للسيد، وكذا أرش البكارة إن كانت بكرا. ثم هل يفرد الأرش
فنقول: عليه مهر ثيب، والأرش؟ أم لا يفرد، فنقول: مهر بكر؟ وجهان.
146

أصحهما: الأول. والوجه، أن يقال: إن اختلف المقدار بالاعتبارين، وجب
الزائد، وقد أشار الامام إليه، وإلا، ففيه الوجهان.
وإن كانا عالمين بالتحريم، نظر، إن كانت الجارية مكرهة، فعلى الغاصب
الحد والمهر، ويجب أرش البكارة إن كانت بكرا. وإن كانت طائعة، فعليهما
الحد، ولا يجب المهر على الصحيح المنصوص. وقيل: على المشهور.
ويجب أرش البكارة إن كانت بكرا إذا قلنا: يفرد عن المهر، وإلا، ففي
وجوب الزائد على مهر، وإلا، ففي وجوب الزائد على وهي ثيب، وجهان. أحدهما: لا يجب كما لو زنت
الحرة وهي طائعة وهي بكر. والثاني: يجب، كما لو أذنت في قطع طرف منها.
وإن كان الغاصب عالما دونها، فعليه الحد وأرش البكارة إن كانت بكرا،
والمهر. وإن كانت عالمة دونه، فعليها الحد دونه إن طاوعته، ويجب المهر إن
كانت مكرهة، وإلا، فعلى الخلاف. ثم الجهل بتحريم الوطئ، قد يكون للجهل
بتحريم الزنا مطلقا، وقد يكون لتوهم حلها خاصة لدخولها بالغصب في ضمانه، ولا
تقبل دعواهما إلا من قريب العهد بالاسلام، أو ممن نشأ في موضع بعيد عن
المسلمين، وقد يكون لاشتباههما عليه وظنه أنها جاريته فلا يشترط لقبول دعواه ما
ذكرناه.
الثالثة: إذا وطئ المشتري من الغاصب، فالقول في وطئه في حالتي العلم
والجهل ما ذكرنا في الغاصب، إلا أن جهل المشتري قد ينشأ من الجهل بكونها
مغصوبة أيضا، فلا يشترط في دعواه الشرط السابق، وإذا غرم المشتري المهر،
فسيأتي القول في رجوعه (به) على الغاصب.
147

وهل للمالك مطالبة الغاصب به ابتداء؟ وجهان. أصحهما: نعم، وهو
مقتضى كلام الجمهور.
وأشار الامام إلى جريان الوجهين، سواء قلنا: يرجع المشتري بالمهر على
الغاصب، أم لا. وقال: إذا قلنا: لا رجوع، فظاهر القياس: أنه لا يطالب. وإذا
قلنا بالرجوع، فالظاهر المطالبة، لاستقرار الضمان عليه، وطرد الخلاف في مطالبة
الغاصب بالمهر إذا وطئت بالشبهة.
فرع إذا تكرر وطئ الغاصب أو المشترى منه، فإن كان في حال الجهل،
لم يجب إلا مهر، لان الجهل شبهة واحدة مطردة، فأشبه الوطئ في نكاح فاسد
مرارا. وإن كان عالما، وجب المهر، لكونها مكرهة. أو قلنا بالوجوب مع
طاعتها، فوجهان، أحدهما: الاكتفاء بمهر. وأصحهما: يجب لكل مرة مهر.
وإن وطئها، مرة عالما، ومرة جاهلا، وجب مهران.
فرع هذا الذي ذكرنا، فيما إذا لم يكن الوطئ محبلا. أما إذا أحبل
الغاصب أو المشترى منه، نظر، إن كان عالما بالتحريم، فالولد رقيق للمالك غير
نسيب، لكونه زانيا. فإن انفصل حيا، فهو مضمون على الغاصب، أو ميتا بجناية،
فبدله لسيده، أو بلا جناية، ففي وجوب ضمانه على الغاصب، وجهان. أحدهما
وهو ظاهر النص: الوجوب، لثبوت اليد عليه تبعا للام، وبه قال الأنماطي، وابن
سلمة، واختاره القفال. وبالمنع قال أبو إسحاق، واختاره أبو محمد، والامام،
والبغوي، لان جنايته غير متيقنة، وسبب الضمان هلاك رقيق تحت يده.
ويجري الوجهان في حمل البهيمة المغصوبة إذا انفصل ميتا، فإن أوجبنا
الضمان، فهو قيمته يوم الانفصال لو كان حيا في ولد الجارية والبهيمة جميعا،
148

وخرج الامام وجها في ولد الجارية أنه يضمن بعشر قيمة الام، تنزيلا للغاصب منزلة
الجاني.
أما إذا كان الواطئ جاهلا بالتحريم، فالولد نسيب حر للشبهة، وعليه قيمته
لمالك الجارية يوم الانفصال إن انفصل حيا. فإن انفصل ميتا بنفسه،
فالصحيح: أنه لا قيمة عليه، وإن كان بجناية، فعلى الجاني ضمانه، وللمالك
تضمين الغاصب، لان له بدله، فقوم عليه، ثم الواجب على الجاني الغرة،
وللمالك عشر قيمة الام. فإن استويا، ضمن الغاصب للمالك عشر قيمة الام.
وإن كانت قيمة الغرة أكثر، فكذلك، والزيادة تستقر له بحق الإرث. وإن نقصت
الغرة عن العشر، فوجهان. أصحهما: أنه يضمن للمالك تمام العشر. والثاني: لا
يضمن إلا قدر الغرة.
ولو انفصل ميتا بجناية الغاصب، لزمه الضمان. ولو أحبل الغاصب ومات
وترك أباه، ثم انفصل الجنين ميتا بجناية، فالغرة لجد الطفل. ثم عن القاضي
حسين: أنه يضمن للمالك ما كان يضمنه الغاصب. وعنه: أنه لو كان مع الغاصب
أم أم الجنين، فورثت سدس الغرة، قطع النظر عنه، ونظر إلى عشر قيمة الام
وخمسة أسداس الغرة، وكأنها كل الغرة، والجوابان مختلفان، فرأى الامام إثبات
احتمالين في الصورتين، ينظر في أحدهما، إلى أن من يملك الغرة، ينبغي أن
يضمن للمالك، ويستبعد في الاخر تضمين من لم يغصب. قال المتولي: الغرة
تجب مؤجلة، وإنما يغرم الغاصب عشر قيمة الام إذا أخذ الغرة. وتوقف الامام فيه.
هذا هو الصحيح المعروف في الولد المحكوم بحريته. وفي وجه: لا ينظر إلى عشر
قيمة الام، بل تعتبر قيمته لو انفصل حيا. وفي وجه: يغرم الغاصب للمالك أكثر
149

الامرين من قيمة الولد والغرة. ودعوى الجهل في هذا، كدعواه إذا لم تحبل على ما
سبق.
وحكى المسعودي خلافا في قبولها لحرية الولد، وإن قبلت لدفع الحد.
ويجب في حالتي العلم والجهل أرش نقص الجارية إن نقصت بالولادة، فإن تلفت
عنده، وجب أقصى القيم، ودخل فيه نقص الولادة وأرش البكارة. ولو ردها وهي
حبلى، فماتت في يد المالك بالولادة، قال أبو عبد الله القطان في المطارحات:
لا شئ عليه في صورة العلم، لان الولد ليس منه حتى يقال: ماتت بولادة ولده.
ونقل في صورة الجهل قولين، وأطلق المتولي القولين بوجوب الضمان.
قلت: الأصح: قول المتولي: والله أعلم
فرع لو وطئ الغاصب بإذن المالك، فحيث قلنا: لا مهر إذا لم يأذن،
فهنا أولى، وإلا، فقولان محافظة على حرمة البضع. وفي قيمة الولد، طريقان.
قيل: كالمهر، وقيل: تجب قطعا، لأنه لم يصرح بالاذن في الاحبال.
فصل فيما يرجع به المشتري على الغاصب إذا غرمه المالك وفيه
فروع.
الأول: إذا تلفت العين المغصوبة عند المشتري، ضمن قيمتها أكثر ما كانت
من يوم قبضها إلى التلف، ولا يضمن زيادة كانت في يد الغاصب، ولا يرجع بما
ضمنه عالما كان أو جاهلا. وعن صاحب التقريب: أنه يرجع من المغروم بما
150

زاد على قدر الثمن، سواء اشتراه رخيصا، أم زادت قيمته، وهو شاذ.
الثاني: إذا تعيب المغصوب عند المشتري بعمى أو شلل أو نحوهما، فإن كان
بفعل المشتري، استقر ضمانه عليه، وكذا لو أتلف الجميع. وإن كان بآفة
سماوية، فقولان. أظهرهما: لا يرجع على الغاصب، وبه قطع العراقيون
والأكثرون.
الثالث: منافع المغصوب، يضمنها المشتري للمالك بأجرة مثلها، سواء
استوفاها بالسكون والركوب واللبس ونحوها، أم فاتت تحت يده، ولا يرجع بما
استوفاه، ولا بالمهر وأرش البكارة على الجديد الأظهر، ويرجع بما تلف تحت يده
على الأصح.
الرابع: لا يرجع بقيمة الولد المنعقد حرا على المذهب. وقيل: قو لان.
ويرجع بأرش نقص الولادة على المذهب، وبه قطع العراقيون. وقيل: وجهان.
ولو وهب الجارية المغصوبة، فاستولدها المتهب جاهلا بالحال، وغرم قيمة الولد،
ففي رجوعه بها وجهان.
الخامس: إذا بنى المشتري أو غرس في المغصوبة، فجاء المالك ونقض،
رجع بأرش النقصان على الغاصب على الأصح، وبه قطع العراقيون. قال البغوي:
والقياس: أن لا يرجع على الغاصب بما أنفق على العبد وما أدى من خراج الأرض،
لأنه شرع في الشراء على أنه يضمنهما.
السادس: لو زوج الغاصب المغصوبة، فوطئها الزوج جاهلا، غرم مهر
المثل للمالك، ولا يرجع به على الغاصب، لأنه شرع فيه على أن يضمن المهر.
فلو استخدمها الزوج، وغرم الأجرة، لم يرجع لأنه لم يسلطه بالتزويج على
الاستخدام، بخلاف الوطئ، ويرجع بغرم المنافع التالفة تحت يده، لأنه لم
يستوفها، ولم يشرع على أن يضمن. والقول في قيمتها لو تلفت في يده، سبق،
151

فإن غرمها، رجع بها. قال الأصحاب: وضابط هذه المسائل، أن ينظر فيما غرمه
من أثبت يده على (يد) الغاصب جاهلا. فإن دخل على أن يضمنه، لم يرجع، وأن
شرع على أن لا يضمنه، فإن لم يستوف ما يقابله، رجع به. وإن استوفاه،
فقولان. فلو غصب شاة فولدت في يد المشتري، أو شجرة فأثمرت، فأكل فائدتهما
وغرمهما للمالك، ففي رجوعه بما غرم على الغاصب قولان، كالمهر. وإن هلكت
تحت يده، فهي كالمنافع التي لم يستوفها، وكذا القول في الأكساب.
ولو انفصل الولد ميتا، فالمذهب: أنه لا ضمان، وكذا إذا انفصل ميتا في يد
الغاصب. ولو استرضع المشتري الجارية في ولده أو ولد غيره، وغرم أجرة مثلها،
ففي رجوعه بها قولان، كالمهر، ويغرم المشتري اللبن وإن انصرف إلى سخلتها
وعاد نفعه إلى المالك، كما لو غصب علفا وعلف به بهيمة مالكه، قال البغوي:
وينبغي أن يرجع لأنه لم يدخل فيه على أن يضمنه، ولا عاد نفعه إليه.
ولو أجر العين المغصوبة، غرم المستأجر أجرة المثل للمالك، ولم يرجع بها
على الغاصب، ويسترد المسمى.
ولو أعارها، رجع المستعير بما غرم للمنافع الفائتة تحت يده. وفي الرجوع
بما غرمه للمنافع المستوفاة، القولان. وكذا ما غرم للاجزاء التالفة بالاستعمال.
فرع كل ما لو غرمه المشتري رجع به على الغاصب. فإذا طولب به
الغاصب وغرمه، لم يرجع به على المشتري،
وكل ما (لو) غرمه المشتري، لم يرجع به على الغاصب، فإذا غرمه الغاصب،
رجع به على المشتري، وكذا الحكم في غير المشتري ممن أثبتت يده على يد
الغاصب.
فرع لو نقصت الجارية بالولادة، والولد رقيق تفي قيمته بنقصها، لم
ينجبر به النقص، بل يأخذ الولد والأرش.
152

فصل في مسائل منثورة تتعلق بالكتاب إحداها: حمال تعب بخشبة،
فأسندها إلى جدار رجل، فإن لم يأذن مالكه، ضمن الجدار إن وقع باسناده،
وضمن ما تلف بوقوعه عليه. وإن وقعت الخشبة وأتلفت شيئا، ضمن إن وقعت
في الحال. وإن وقعت بعد ساعة، لم يضمن. وإن كان الجدار له أو لغيره، وقد أذن
في إسنادها إليه، فكذلك يفرق بين أن تقع الخشبة في الحال أو بعد ساعة، كفتح
رأس الزق.
الثانية: غصب دارا فنقضها وأتلف النقض، ضمن النقض وما نقص من قيمة
العرصة. وهل يغرم أجرة مثلها دارا إلى وقت النقض، أم إلى وقت الرد؟
وجهان.
الثالثة: غصب شاة وأنزى عليها فحلا، فالولد للمغصوب منه. ولو غصب
فحلا وأنزاه على شاته، فالولد للغاصب، ولا شئ عليه للانزاء. فإن نقصت
قيمته، غرم الأرش، وينبغي أن يخرج وجوب شئ للانزاء، على الخلاف في
صحة الاستئجار له.
قلت: هذا التفريع، لا بد منه، وإنما فرعوه على الأصح. والله أعلم
الرابعة: غصب جارية ناهدا، فتدلى ثديها، أو عبدا شابا، فشاخ، أو
أمرد، فالتحى، ضمن النقصان.
الخامس: غصب خشبة فاتخذ منها أبوابا وسمرها بمساميره، نزع المسامير.
فإن نقصت الأبواب به، ضمن الأرش. ولو بدلها، ففي إجبار المغصوب منه على
قبولها وجهان سبق نظائرهما.
السادسة: غصب ثوبا ونجسه، أو تنجس عنده، لا يجوز له تطهيره، ولا
للمالك أن يكلفه تطهيره. فإن غسله فنقص، ضمن النقص. ولو رده نجسا، فمؤنة
التطهير عل الغاصب. وكذا أرش النقص اللازم منه، وتنجيس المائع الذي لا
يمكن تطهيره، إهلاك. وتنجيس الدهن، مبني على إمكان تطهيره. إن جوزناه،
فهو كالثوب.
153

السابعة: غصب من الغاصب، فأبرأ المالك الأول عن ضمان الغصب، صح
الابراء، لأنه مطالب بقيمته فهو كدين عليه. وإن ملكه العين المغصوبة، برئ،
وانقلب الضمان على الثاني حقا له. وإن باعه لغاصب الغاصب، أو وهبه له، وأذن
في القبض، برئ الأول. وإن أودعه عند الثاني وقلنا: يصير أمانة في يده، برئ
الأول أيضا. وإن رهنه عند الثاني، لم يبرأ واحد منهما.
الثامنة: إذا رد المغصوب إلى المالك أو وكيله، أو وليه، برئ. ولو رد
الدابة إلى اصطبله، قال المتولي: برئ أيضا إذا علم المالك به أو أخبره من يعتمد
خبره، ولا يبرأ قبل العلم والاخبار. ولو امتنع المالك من الاسترداد، رفع الامر إلى
الحاكم.
التاسعة: لو أبرأ المالك غاصب الغاصب عن الضمان، برئ الأول، لان
القرار على الثاني، والأول كالضامن، كذا قاله القفال وغيره، وهذا إن كان بعد تلف
المال فبين، وإن كان قبله، فيخرج على صحة إبراء الغاصب مع بقاء المال في
يده، وفيه خلاف سبق في كتاب الرهن، وبالله التوفيق.
قلت: لو غصب مسكا أو عنبرا أو غيرهما مما يقصد شمه، ومكث عنده،
لزمه أجرته كالثوب والعبد ونحوهما. ولو طرح في المسجد غلة أو غيرها وأغلقه،
لزمه أجرة جميعه. وإن لم يغلقه، لكن شغل زاوية منه، لزمه أجرة ما شغله وممن
صرح بالمسألة الغزالي في الفتاوى، قال: وكما يضمن أجزاء المسجد
بالاتلاف، يضمن منفعته باتلافها. والله أعلم
154

كتاب الشفعة
فيه ثلاثة أبواب.
الأول: فيما تثبت به الشفعة. وله ثلاثة أركان.
الأول: المأخوذ، وله ثلاثة شروط.
الأول: أن يكون عقارا
قال الأصحاب: الأعيان ثلاثة أضرب.
أحدها: المنقولات، فلا شفعة فيها سواء بيعت وحدها أو مع الأرض.
الثاني: الأرض، ثبتت الشفعة فيها سواء بيع الشقص منها وحده، أم مع
شئ من المنقولات.
155

الثالث: ما كان منقولا ثم أثبت في الأرض للدوام كالأبنية والأشجار، فإن
بيعت منفردة، فلا شفعة فيها على الصحيح، وإن بيعت الأرض وحدها، ثبتت
الشفعة فيها وصار الشفيع معه كالمشتري. وإن بيعت الأبنية والأشجار مع الأرض،
إما صريحا، وإما على قولنا: تستتبعها. ثبتت الشفعة فيها تبعا للأرض. فلو كان
على الشجرة ثمرة مؤبرة، وأدخلت في البيع بالشرط، لم تثبت فيها الشفعة، لأنها لا
تدوم في الأرض، فيأخذ الشفيع الأرض والنخيل بحصتها. وإن كانت غير مؤبرة،
دخلت في البيع شرعا، وهل للشفيع أخذها؟ وجهان أو قولان. أصحهما: نعم.
فعلى هذا، لو لم يتفق الاخذ حتى تأبرت، أخذها أيضا على الأصح. والثاني: لا
يأخذها. فعلى هذا، فيما يأخذ به الأرض والنخل؟ وجهان. أصحهما: بحصتها
من الثمن كالمؤبرة. والثاني: بجميع الثمن، تنزيلا له منزلة عيب يحدث. وإن
كانت النخل حائلة عند البيع، ثم حدثت الثمرة قبل أخذ الشفيع، فإن كانت مؤبرة،
لم يأخذها، وإلا، أخذها على الأظهر، وإذا بقيت الثمار للمشتري، لزم الشفيع
إبقاؤها إلى الادراك. وهذا إذا بيعت الأشجار مع البياض المتخلل لها، أو بيع
البستان كله. أما إذا بيعت الأشجار ومغارسها فقط، أو بيع الجدار مع الإس، فلا
شفعة على الأصح، لان الأرض تابعة هنا، والمتبوع منقول.
فرع إذا باع شقصا فيه زرع لا يجز مرارا وأدخله في البيع بالشرط، أخذ
الشفيع الشقص بحصته من الثمن ولا يأخذ الزرع. وإن كان مما يجز مرارا، فالجزة
الظاهرة لا تدخل في البيع المطلق كالثمرة المؤبرة، والأصول كالأشجار.
فرع ما دخل في مطلق بيع الدار من الأبواب، والرفوف، والمسامير،
156

تؤخذ بالشفعة تبعا، كالأبنية، وكذا الدولاب الثابت في الأرض، سواء أداره الماء،
أم غيره، بخلاف الدلو والمنقولات. ولو باع شقصا من طاحونة، وقلنا: يدخل
الحجر الأسفل والأعلى في البيع، أخذ الأسفل بالشفعة، وفي الأعلى وجهان
كالثمار التي لم تؤبر.
الشرط الثاني: كون العقار ثابتا. فلو باع شقصا من غرفة مبنية على سقف
لأحدهما أو لغيرهما، فلا شفعة، إذ لا قرار لها. فلو كان السقف المبني عليه
مشتركا أيضا، فلا شفعة على الأصح لما ذكرناه. ولو كان السفل مشتركا، والعلو
لأحدهما، فباع صاحب العلو نصيبه من السفل، فوجهان. أحدهما: أن الشريك
يأخذ السفل ونصف العلو بالشفعة، لان الأرض مشتركة، وعلوها تابعها.
وأصحهما: لا يأخذ إلا السفل. ولو كان بينهما أرض مشتركة فيها شجر لأحدهما،
فباع صاحب الشجر الشجر ونصيبه من الأرض، فعلى الوجهين.
الشرط الثالث: كونه منقسما، فالعقار الذي لا يقبل القسمة، لا شفعة فيه
على المذهب، وهو قوله الجديد. وقيل: تثبت. و منهم من حكاه، قولا
قديما. والمراد بالمنقسم: ما يجبر الشريك على قسمته إذا طلب شريكه
القسمة. وفي ضبطه أوجه.
أحدها: أنه الذي لا تنقص القسمة قيمته نقصا فاحشا، حتى لو كانت قيمة
الدار مائة، ولو قسمت عادت قيمة كل نصف ثلاثين، لم تقسم.
والثاني: أنه الذي ينتفع بعد القسمة بوجه ما. أما ما لا يبقى فيه نفع
157

بحال، فلا يقسم.
وأصحهما الثالث: أنه الذي إذا قسم، أمكن أن ينتفع به الوجه الذي كان
ينتفع به قبل القسمة، ولا عبرة بامكان نفع آخر. إذا عرف هذا، فلو كان بينهما
طاحونة أو حمام، أو بئر أو نهر، فباع أحدهما نصيبه، نظر، إن كان المبيع كبيرا
بحيث يمكن جعل الطاحونة ثنتين لكل واحدة حجران، والحمام حمامين، أو كل
بيت منه بيتين، والبئر واسعة يمكن أن يبنى فيها فيجعل بئرين لكل واحدة بياض يقف
فيه المستقي، ويلقى فيه ما يخرج منها، ثبتت الشفعة فيها. وإن لم يمكن ذلك وهو
الغالب من هذه الأنواع، فلا شفعة على الأصح. وعلى الوجهين الآخرين، لا
يخفى الحكم. ولو اشترك اثنان في دار صغيرة، لأحدهما عشرها، وللآخر باقيها،
فإن أثبتنا الشفعة فيما لا ينقسم، فأيهما باع فلصاحبه الشفعة، وإن منعناها، فباع
صاحب العشر، فلا شفعة لصاحبه. وإن باع صاحب الكبير، فلصاحبه الشفعة على
الأصح تفريعا على الأصح: أن صاحب الأكثر يجاب إلى القسمة.
ولو كان حول البئر بياض وأمكنت القسمة بجعل البئر لواحد، والبياض لآخر
ليزرعه أو يسكن فيه، أو كان موضع الحجر في الرحى واحدا، ولكن فيها بيت
يصلح لغرض، وأمكنت القسمة بجعل موضع الرحى لواحد، وذلك البيت لآخر،
فقال جماعة: تثبت الشفعة وأن هذه البئر من المنقسمات، وهذا تفريع على الاجبار
في هذا النوع من القسمة. وعلى أنه لا يشترط فيما يصير لكل واحد، إمكان الانتفاع
به من الوجه الذي كان.
فرع شريكان في مزارع وبئر يستقى منها، باع أحدهما نصيبه منهما، ثبت
للآخر الشفعة فيهما إن انقسمت البئر أو أثبتنا الشفعة فيما لا ينقسم، وإلا، فتثبت
في المزرعة قطعا، ولا تثبت في البئر على الأصح.
الركن الثاني: الآخذ، وهو كل شريك في رقبة العقار، سواء فيه المسلم
والذمي، والحر، والمكاتب. حتى لو كان السيد والمكاتب شريكين في دار، فلكل
158

منهما الشفعة على الآخر، ولا شفعة للجار، ملاصقا كان أو مقابلا. وفي وجه:
للملاصق الشفعة، وكذا للمقابل إذا لم ينفذ بينهما طريق، وهو شاذ، والصحيح
المعروف: الأول. وإذا قضى الحنفي لشافعي بشفعة الجوار، لم يعترض عليه في
الظاهر، وفي الحل باطنا خلاف موضعه كتاب الأقضية.
قلت: ولا يقتضي قضاء الحنفي بشفعة الجوار على الأصح. والله أعلم
فرع الدار إن كان بابها مفتوحا إلى درب نافذ، ولا شركة لاحد فيها، فلا
شفعة فيها ولا في ممرها، لان هذا الدرب غير مملوك. وإن كان بابها إلى درب غير
نافذ، فالدرب مشترك بين سكانه. فان باع نصيبه من الممر فقط، فللشركاء الشفعة
فيه إن كان منقسما كما سبق، وإلا، ففيه الخلاف السابق. وإن باع الدار بممرها،
فلا شفعة لشركاء الممر في الدار على الصحيح. فان أرادوا أخذ الممر بالشفعة،
نظر، إن كان للمشتري طريق آخر إلى الدار، أو أمكنه فتح باب آخر إلى شارع،
فلهم ذلك على الصحيح إن كان منقسما، وإلا. فعلى الخلاف في غير المنقسم.
وقال الشيخ أبو محمد: إن كان في اتخاذ الممر الآخر عسر، أو مؤنة لها وقع، وكانت
الشفعة على الخلاف، والمذهب: الأول. وإن لم يكن طريق آخر، ولا أمكن
اتخاذه، ففيه أوجه. أصحها: لا شفعة لهم، لما فيه من الاضرار بالمشتري.
والثاني: لهم الاخذ والمشتري هو المضر بنفسه بشرائه هذه الدار. والثالث: إن
مكنوا المشتري من المرور، فلهم الشفعة، وإلا، فلا، جمعا بين الحقين. وشركة
مالكي سور الخان في صحنه، كشركة مالكي الدور في الدرب الذي لا ينفذ، وكذا
الشركة في مسيل الماء إلى الأرض دون الأرض، وفي بئر المزرعة دون المزرعة،
كالشركة في الممر.
فرع تثبت الشفعة للذمي على المسلم، وعلى الذمي كثبوتها للمسلم،
فلو باع ذمي شقصا لذمي بخمر أو خنزير، وترافعوا إلينا بعد الاخذ بالشفعة، لم
159

نرده. ولو ترافعوا قبله، لم نحكم بالشفعة. ولو بيع الشقص، فارتد الشريك،
فهو على شفعته إن قلنا: الردة لا تزيل المالك. وإن قلنا: تزيله، فلا شفعة. فإن
عاد إلى الاسلام، وعاد ملكه، لم تعد الشفعة على الأصح. وإن قلنا بالوقف،
فمات أو قتل على الردة، أخذه لبيت المال. كما لو اشترى معيبا، أو بشرط
الخيار، وأرتد ومات، فللامام رده. ولو ارتد المشتري، فالشفيع على شفعته.
فرع دار نصفها لرجل، ونصفها لمسجد، اشتراه قيم المسجد له، أو
وهب له ليصرف في عمارته، فباع الرجل نصيبه، كان للقيم أخذه بالشفعة إن رأى
فيه مصلحة، كما لو كان لبيت المال شركة في دار، فباع الشريك نصيبه، فللامام
الاخذ بالشفعة. وإن كان نصف الدار وقفا، ونصفها طلقا، فباع المالك نصيبه، فلا
شفعة لمستحق الوقف على المذهب، ولا شفعة لمالك المنفعة فقط بوصية أو
غيرها.
فرع المأذون له بالتجارة، إذا اشترى شقصا، ثم باع الشريك نصيبه، فله
الاخذ بالشفعة، إلا أن يمنعه السيد أو يسقط الشفعة. وله الاسقاط وإن أحاطت به
الديون وكان في الاخذ غبطة، كما له منعه من الاعتياض في المستقبل. ولو أراد
السيد أخذه بنفسه، فله ذلك.
فرع لا يخفى أن الشركة لا تعتبر في مباشرة الاخذ، وإنما هي معتبرة فيمن
يقع الاخذ له، بدليل الوكيل، والولي، والعبد المأذون، فإن لهم الاخذ.
الركن الثالث: المأخوذ منه، وهو المشتري ومن في معناه. وفي ضبطه
قيود.
الأول: كون ملكه طارئا على ملك الآخذ. فإذا اشترى رجلان دارا معا، أو
شقصا من دار، فلا شفعة لواحد منهما على الآخر، لاستوائهما في وقت حصول
الملك.
الثاني: كونه لازما. فان باع بشرط الخيار لهما، أو للبائع، فلا شفعة ما دام
الخيار باقيا. وإن شرط الخيار للمشتري فقط، فإن قلنا: الملك له، أخذه الشفيع
160

في الحال على الأظهر عند الجمهور. وإن قلنا: الملك للبائع، أو موقوف، لم
يأخذ في الحال على الأصح. فإن قلنا يأخذ، تبينا أن المشتري ملكه قبل
أخذه، وانقطع الخيار.
فرع باع أحد الشريكين نصيبه بشرط الخيار، ثم باع الثاني نصيبه في زمن
الخيار بيع بتات، فلا شفعة في المبيع أو لا للبائع الثاني إذ زال ملكه، ولا للمشترى
منه، وإن تقدم ملكه على ملك المشتري الأول إذا قلنا: لا يملك في زمن الخيار،
لان سبب الشفعة البيع، وهو سابق على ملكه. وأما الشفعة في المبيع ثانيا،
فموقوفة إن توقفنا في الملك، وللبائع الأول إن أبقينا الملك له، وللمشتري منه إن
أثبتنا الملك له. وعلى هذا، قال المتولي: إن فسخ البيع قبل العلم بالشفعة،
بطلت شفعته إن قلنا: الفسخ بخيار الشرط يرفع العقد من أصله. وإن قلنا: يرفعه
من حينه، فهو كما لو باع ملكه قبل العلم بالشفعة. وإن أخذه بالشفعة، ثم فسخ
البيع، فالحكم في الشفعة كالحكم في الزوائد الحادثة في زمن الخيار.
فصل إذا وجد المشتري بالشقص عيبا قديما، وأراد رده، وجاء الشفيع
يريد أخذه، ويرضى بكونه معيبا، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما عند
الجمهور، وقطع به بعضهم: أن الشفيع أولى بالإجابة، لان حقه سابق، فإنه ثبت
بالبيع، ولان غرض المشتري استدراك الظلامة وتحصيل الثمن، وذلك حاصل بأخذ
الشفيع. ولأنا لو قدمنا المشتري، بطل حق الشفيع بالكلية. وإذا قدمنا الشفيع،
حصل للمشتري مثل الثمن أو قيمته. والثاني: المشتري أولى، لان الشفيع إنما
يأخذ إذا استقر العقد. ولو رده بالعيب قبل مطالبة الشفيع، ثم طلب الشفيع، فإن
قلنا: المشتري أولى عند اجتماعهما، فلا يجاب، وإلا، فيجاب على الأصح،
161

ويفسخ الرد. أو نقول: تبينا أن الرد كان باطلا، والخلاف - في أن المشتري أولى
أو الشفيع - جار فيما لو اشترى شقصا بعبد، ثم وجد البائع بالعبد عيبا فأراد رده
واسترداد الشقص، وأراد الشفيع أخذه بالشفعة. وحكى البغوي جريانه فيما لو
اشترى شقصا بعبد وقبض الشقص قبل تسليم العبد، فتلف العبد في يده، ففي
وجه: تبطل شفعة الشفيع. وفي وجه: يتمكن من الاخذ. وقطع ابن الصباغ
وغيره، بأنه إذا كان الثمن عينا فتلف قبل القبض، بطل البيع والشفعة.
فصل أصدقها شقصا، ثم طلقها قبل الدخول، أو ارتد، وجاء الشفيع
يريد أخذه بالشفعة، فله أخذ نصفه، وأما النصف الآخر، فهل الزوج أولى به، أم
الشفيع؟ وجهان. وكذا إذا اشترى شقصا وأفلس بالثمن، فأراد البائع الفسخ،
والشفيع الاخذ بالشفعة، فيه الوجهان. أصحهما: فيهما الشفيع أولى، لان حقه
أسبق، فإنه ثبت بالعقد. وفي وجه ثالث: الشفيع في الأولى أولى، والبائع في
الثانية أولى. فإذا قدمنا الشفيع في صورة الافلاس، ففيه أوجه. أصحها: أن الثمن
المأخوذ من الشفيع مقسوم بين الغرماء كلهم، لان حق البائع إذا انتقل إلى الذمة،
صار كسائر الغرماء، وبهذا قال ابن الحداد، والثاني: يقدم البائع بالثمن رعاية
للجانبين. والثالث: إن كان البائع سلم الشقص ثم أفلس المشتري، لم يكن أولى
بالثمن، لرضاه بذمته. وإن لم يسلمه، فهو أولى بالثمن. والخلاف في نصف
الصداق، جار فيما إذا أعاد كله إلى الزوج بردتها، أو فسخ قبل الدخول. هذا إذا
اجتمع الشفيع والزوج أو البائع، أما إذا أخذ الشفيع الشقص من يد الزوجة، ثم
طلق الزوج، أو من يد المشتري، ثم أفلس، فلا رجوع للزوج والبائع إلى الشقص
بحال، لكن ينتقل حق البائع إلى الثمن، وحق الزوج إلى القيمة في مالها، كما لو
زال الملك ببيع أو غيره. ولو طلقها قبل علم الشفيع، وأخذ النصف، ثم جاء
162

الشفيع، ففي استرداده ما أخذه الزوج، وجهان، كما لو جاء بعد الرد بالعيب.
وقيل: لا يسترد قطعا، لان المهر يتشطر بالطلاق من غير اختيار، فيبعد نقضه. فإن
قلنا: يسترده، أخذه وما بقي في يدها، وإلا، فيأخذ ما في يدها ويدفع إليها نصف
مهر المثل. ولو كان للشقص الممهور شفيعان، فطلبا، وأخذ أحدهما نصفه، ثم
طلقها قبل أن يأخذ الآخر، فلا يأخذ الزوج النصف الحاصل في يد الشفيع. وأما النصف الآخر، فهل هو أولى، أم الشفيع؟ فيه الخلاف السابق، ويجري فيما إذا
أخذ أحد الشفيعين من يد المشتري، ثم أفلس. فان قلنا: الشفيع أولى، ضارب
البائع مع الغرماء بالثمن. وإن قلنا: البائع أولى، فإن شاء أخذ النصف الباقي
وضارب مع الغرماء بنصف الثمن، وإلا، فيتركه ويضارب بكل الثمن.
القيد الثالث: أن يملكه بمعاوضة. فإن ملك بإرث، أو هبة، أو
وصية، فلا شفعة. فإن وهب بشرط الثواب، أو مطلقا، وقلنا: تقتضي
الثواب، تثبت الشفعة على الأصح للمعاوضة. وقيل: لا، لأنها ليست مقصودة.
فعلى الأصح، هل يأخذ قبل قبض الموهوب لأنه صار بيعا، أم لا، لان الهبة لا تتم
إلا بالقبض؟ وجهان. أصحهما: الأول.
فرع اشترى شقصا، ثم تقايلا، فان عفا الشفيع، وقلنا: الإقالة بيع،
تجددت الشفعة، وأخذه من البائع. وإن قلنا: فسخ، لم تتجدد كما لا تتجدد بالرد
بالعيب. وإن قاله قبل علم الشفيع بالشفعة. فإن قلنا: الإقالة بيع، فالشفيع بالخيار
بين أن يأخذ بها، وبين أن ينقضها حتى يعود الشقص إلى المشتري، فيأخذ منه.
وإن قلنا: فسخ، فهو كطلب الشفعة بعد الرد بالعيب.
فرع إذا جعل الشقص أجرة، أو جعلا، أو رأس مال (في) سلم،
صداقا، أو متعة، أو عوض خلع أو صلح عن دم أو مال، أو جعله المكاتب عوضا
عن النجوم، ثبتت الشفعة في كل ذلك. ولو أقرضه شقصا، قال المتولي:
163

القرض صحيح، وللشفيع أخذه إذا ملكه المستقرض. وإنما ثبتت الشفعة في
الجعل بعد العمل. وحكي وجه: أنه إذا كان ما يقابل الشقص مما لا يثبت في الذمة
بالسلم ولا بالقرض، فلا شفعة، وهو شاذ ضعيف.
فرع بذل شقصا عن بعض النجوم، ثم عجز ورق، فهل تبقى الشفعة لأنه
كان عوضا، أم تبطل لخروجه عن العوض؟ وجهان. أصحهما: الثاني.
فرع قال المولى لمستولدته: إن خدمت أولادي شهرا، فلك هذ
الشقص، فخدمتهم، استحقته. وهل تثبت فيه الشفعة كالأجرة، أم لا، لاه وصية
معتبرة من الثلث؟ وجهان. أصحهما: الثاني.
فصل إذا باع الوصي أو القيم شقص الصبي وهو شريكه، فلا شفعة له
على الأصح. وبه قال ابن الحداد، لأنه لو تمكن منه، لم يؤمن أن يسامح في
الثمن، ولهذا لا يبيعه مال نفسه. ولو اشترى شقصا للطفل وهو شريك في العقار،
فله الشفعة على الصحيح، إذ لا تهمة. وقيل: لا، لان في الشراء والاخذ تعليق
عهدة الصبي من غير نفع له، وللأب والجد الاخذ بالشفعة إذا كانا شريكين،
سواء باعا أو اشتريا لقوة ولايتهما وشفقتهما، كما له بيع ماله لنفسه. ولو كان في
حجر الوصي يتيمان بينهما دار، فباع نصيب أحدهما لرجل، فله أخذه بالشفعة
للآخر.
فرع وكل أحد الشريكين صاحبه في بيع نصيبه، فباعه، فللوكيل أخذه
بالشفعة على الأصح وقول الأكثرين، لان الموكل ناظر لنفسه يعترض على الوكيل إن
قصر، بخلاف الصبي. ولو وكل رجل أحد الشريكين في شراء الشقص، فللوكيل
164

الاخذ بالشفعة بلا خلاف. ولو وكل الشريك الشريك في بيع نصف نصيبه وأذن له
في بيع نصيبه، أو بعض نصيبه مع نصيب الموكل إن شاء، فباع نصف نصيب
الموكل مع نصيبه صفقة واحدة، فللموكل أخذ نصيب الوكيل بالشفعة. وهل للوكيل
أخذ نصيب الموكل؟ فيه الوجهان.
فرع إذا كان للمشتري في الدار شركة قديمة، بأن كانت بين ثلاثة أثلاثا،
فباع أحدهم نصيبه لاحد صاحبيه، فالأصح أن المشتري والشريك الآخر يشتركان في
أخذ الشقص، لاستوائهما في الشركة. وقيل: الشريك الثالث يختص بالشفعة،
فعلى هذا إن شاء أخذ جميع الشقص، وإن شاء تركه. وعلى الأصح: إن شاء أخذ
نصف الشقص، أو تركه. فإن قال المشتري: خذ الكل، أو اترك الكل، وقد
تركت أنا حقي، لم تلزمه الإجابة، ولم يصح إسقاط المشتري حقه من الشفعة،
لان ملكه استقر على النصف بالشراء، فصار كما لو كان للشقص شفيعان: حاضر،
وغائب، فأخذ الحاضر الجميع، فحضر الغائب، له أن يأخذ نصفه، وليس للحاضر
أن يقول: اترك الجميع أو خذ الجميع فقد تركت حقي، ولا نظر إلى تبعيض الصفقة
عليه، فإنه لزم من دخوله في هذا العقد. وحكي وجه: أنه إذا ترك المشتري حقه،
لزم الآخر أخذ الكل أو تركه، كما لو عفا أحد الشفيعين الأجنبيين. ولو كان بين اثنين
دار، فباع أحدهما نصف نصيبه لثالث، ثم باع النصف الثاني لذلك الثالث، فعلى الأصح حكمه كما لو باع النصف الثاني لأجنبي، وسيأتي بيانه في الباب الثاني إن
شاء تعالى. وعلى الوجه الآخر: لا شفعة للمشتري، وللشفيع الخيار بين أن يأخذ
الكل أو يأخذ أحد النصفين فقط.
فصل إذا باع في مرض موته شقصا، وحابى، فقد يكون الشفيع والمشتري
أجنبيين، أو وارثين، وقد يكون المشتري وارثا فقط، أو عكسه، فهذه أربعة
أضرب.
165

الأول: إذا كانا أجنبيين، فان احتمل الثلث المحاباة، صح البيع، وأخذ
الشقص بالشفعة. وإن لم يحتمله، بأن باع شقصا يساوي ألفين بألف، ولا مال له
غيره، نظر، إن رده الوارث، بطل البيع في قدر المحاباة. وفي صحته في الباقي
طريقان. أحدهما: فيه قولا تفريق الصفقة. والثاني: القطع بالصحة. وإذا قلنا
بالصحة، ففيما يصح فيه البيع؟ قولان. أحدهما: يصح في قدر الثلث، والقدر
الذي يوازي الثمن بجميع الثمن. والثاني: لا يسقط شئ من المبيع إلا ويسقط ما
يقابله من الثمن. وقد سبق بيان الأظهر من القولين في باب تفريق الصفقة. فان قلنا
بالقول الأول، صح البيع في الصورة المذكورة في خمسة أسداس الشقص بجميع
الثمن. وإن قلنا بالثاني، دارت المسألة. وحسابها أن يقال: يصح البيع في شئ
من الشقص بنصف شئ، يبقى مع الورثة ألفان إلا نصف شئ، وذلك يعدل مثلي
المحاباة، وهي نصف شئ، فمثلاها شئ، فنجبر ونقابل، فيكون ألفان معادلين
لشئ ونصف، والشئ من شئ ونصف ثلثاه، فعلمنا أن البيع صح في ثلثي
الشقص، وقيمته ألف وثلاثمائة وثلاثة وثلاثون وثلث بثلثي الثمن، وهو نصف هذا
المبلغ، فتكون المحاباة ستمائة وستة وستين وثلثين، يبقى للورثة ثلث الشقص وثلثا
الثمن، وهما ألف وثلاثمائة وثلاثون وثلث، وذلك ضعف وثلاثة المحاباة. وعلى
القولين جميعا، للمشتري الخيار، لان جميع المبيع لم يسلم له. فان أجاز، أخذ
الشفيع خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن على القول الأول، وثلثيه بثلث الثمن
على الثاني. وإن أراد أن يفسخ، وطلب الشفيع، فأيهما يجاب؟ فيه الخلاف
السابق في الرد بالعيب، وكذا لو فسخ قبل طلب الشفيع، هل تبطل الشفعة، أم
للشفيع رد الفسخ؟ فيه ما سبق من الخلاف. وإن أجاز الورثة، صح البيع في
الكل. ثم إن قلنا: إن إجازتهم تنفيذ لما فعل الميت، أخذ الشفيع الكل بكل
الثمن. وإن قلنا: إنها ابتداء عطية منهم، لم يأخذ القدر المنفذ بإجازتهم، ويأخذ
المستغني عن إجازتهم، وفيه القولان المذكوران عند الرد.
الضرب الثاني والثالث:: أن يكونا وارثين، أو المشتري وارثا، فيكون هذا
البيع محاباة مع الوارث، وهي مردودة. فإن لم نفرق الصفقة، بطل البيع في
الكل، وإن فرقناها، فإن قلنا في الضرب الأول - والتصوير كما سبق -: إن البيع
يصح في خمسة أسداس الشقص بجميع الثمن، فهنا في مثل تلك الصورة يصح
166

البيع في نصفه بجميع الثمن، وإن قلنا هناك: يصح في ثلثيه بثلثي الثمن، فهنا يبطل
البيع في الكل، كذا ذكره القفال وغيره، وفيه نظر. وينبغي أن يفرق بين الإجازة
والرد، كالضرب الأول.
الضرب الرابع: أن يكون الشفيع وارثا دون المشتري. فان احتمل الثلث
المحاباة، أو لم يحتمل، وصححنا البيع في بعض المحاباة في الضرب الأول،
ومكنا الشفيع من أخذه، فهنا أوجه. أصحها عند الجمهور: يصح البيع ويأخذه
الوارث بالشفعة، لان المحاباة مع المشتري، لا مع الوارث. والثاني: يصح ولا
يأخذه الوارث بالشفعة. والثالث: لا يصح البيع أصلا لتناقض الاحكام. والرابع:
يصح في الجميع ويأخذ الشفيع ما يقابل الثمن، ويبقى الباقي للمشتري مجانا.
والخامس: لا يصح البيع إلا في القدر المقابل للثمن.
فصل وقد سبق أن تقدم ملك الآخذ على ملك المأخوذ منه شرط. فلو كان
في يد رجلين دار اشترياها بعقدين، وادعى كل أن شراءه سبق، وأنه يستحق على
صاحبه الشفعة، نظر، إن ابتدأ أحدهما بالدعوى، أو جاءا معا وتنازعا في
البداءة، فقدم أحدهما بالقرعة فادعى، فعلى الآخر الجواب، ولا يكفيه قوله:
شرائي قبل، لأنه ابتداء دعوى، بل إما أن يبقي سبق شراء المدعي، وإما أن يقول المدعي، وإما أن يقول:
شرائي قبل، لأنه ابتداء دعوى، بل إما أن ينفي سبق شراء المدعي، وإما أن يقول:
لا يلزمني تسليم شئ إليك، وحينئذ يحلف، فان حلف، استقر ملكه ثم تسمع
دعواه على الأول، فان حلف، استقر ملكه أيضا. وإن نكل المدعى عليه أولا
وردت اليمين على المدعي، فإن حلف، أخذ ما يد المدعي عليه، وليس
للمدعى عليه الناكل بعد ذلك أن يدعي عليه، لأنه لم يبق له ملك يأخذ به. وإن
نكل المدعي عن اليمين المردود، سقطت دعواه، وللمدعى عليه أن يدعي عليه.
هذا إذا لم يكن بينة. أما إذا أقام أحدهما بينة بالسبق، فيقضى له. وإن أقام كل
منهما بينة على سبق شرائه مطلقا، أو على أنه اشترى يوم السبت وصاحبه يوم الأحد، فمتعارضتان، وفي تعارضهما قولان. أظهرهما: سقوطهما، فكأنه لا
بينة. والثاني: تستعملان. وفي كيفيته أقوال. أحدها: بالقرعة. فمن قرع، أخذ
نصيب الآخر بالشفعة. والثاني: بالقسمة، ولا فائدة فيها هنا، إلا أن تكون الشركة
بينهما على التفاوت، فيكون التصنيف مقيدا. والثالث الوقف. وعلى هذا،
167

يوقف حق التملك إلى أن يظهر الحال. وقيل: لا معنى للوقف هنا. ولو عينت
البينتان وقتا واحدا، فلا منافاة، لاحتمال وقوع العقدين معا، ولا شفعة لواحد
منهما، لوقوع العقدين معا. وفي وجه: تسقطان.
الباب الثاني في كيفية الاخذ بالشفعة
فيه أطراف.
الأول: فيما يحصل به الملك، لا يشترط في التملك بالشفعة حكم
الحاكم، ولا إحضار الثمن، ولا حضور المشتري، ولا رضاه. وقال
الصعلوكي: حضور المأخوذ منه، أو وكيله، شرط، وهو شاذ ضعيف، ولا بد من
جهة الشفيع من لفظ، كقوله: تملكت، أو اخترت الاخذ بالشفعة، أو أخذته
بالشفعة، وما أشبهه. وإلا، فهو من باب المعاطاة. ولو قال: أنا مطالب
بالشفعة، لم يحصل به التملك على الأصح، وبه قطع المتولي. ولذلك قالوا:
يعتبر في التملك بها، أن يكون الثمن معلوما للشفيع، ولم يشترطوا ذلك في
الطلب. وينبغي أن يكون في صحة التملك مع جهالة الثمن ما ذكرناه في بيع
المرابحة. وفي التتمة إشارة إلى نحوه، ثم لا يملك الشفيع بمجرد اللفظ، بل
يعتبر معه أحد أمور.
الأول: أن يسلم العوض إلى المشتري، فيملك به قبل أن يسلمه، وإلا
فيخلي بينه وبينه، أو يرفع الامر إلى القاضي حتى يلزمه التسليم.
قلت: أو يقبض عنه القاضي. والله أعلم
الثاني: أن يسلم المشتري الشقص ويرضى بكون الثمن في ذمته، إلا أن
168

يبيع شقصا من دار عليها صفائح ذهب بالفضة، أو عكسه، فيجب التقابض في
المجلس. ولو رضي بكون الثمن في ذمته، ولم يسلم الشقص، فوجهان.
أحدهما: لا يحصل الملك، لان قول المشتري وعد. وأصحهما: الحصول، لأنه
معاوضة، والملك في المعاوضات لا يقف على القبض.
الثالث: أن يحضر مجلس القاضي ويثبت حقه بالشفعة، ويختار التملك،
فيقضي القاضي له بالشفعة، فوجهان. أحدهما: لا يحصل الملك حتى يقبض
عوضه، أو يرضى بتأخره. وأصحهما: الحصول.
الرابع: أن يشهد عدلين على الطلب واختيار الشفعة. فإن لم نثبت الملك
بحكم القاضي، فهنا أولى، وإلا، فوجهان لقوة قضاء القاضي. وإذا ملك الشفيع
الشقص بغير الطريق الأول، لم يكن له أن يتسلمه حتى يؤدي الثمن، وأن يسلمه
المشتري قبل أداء الثمن، ولا يلزمه أن يؤخر حقه بتأخير البائع حقه. وإذا لم يكن
الثمن حاضرا وقت التملك، أمهل ثلاثة أيام، فان انقضت ولم يحضره، فسخ
الحاكم تملكه، هكذا قاله ابن سريج والجمهور. وقيل: إذا قصر في الأداء، بطل
حقه. وإن لم يوجد، رفع الامر إلى الحاكم وفسخ منه.
فرع يثبت خيار المجلس للشفيع على الأصح المنصوص، وعلى هذا
فيمتد إلى مفارقته المجلس. وهل ينقطع بأن يفارقه المشتري؟ وجهان.
قلت: الذي صححه الأكثرون: أنه لا خيار للشفيع، ممن صححه صاحب
التنبيه، والفارقي، والرافعي في المحرر، وقطع به البغوي في كتابيه
التهذيب وشرح مختصر المزني، وهو الراجح أيضا في الدليل. والله أعلم
169

فرع إذا ملك الشفيع، امتنع تصرف المشتري، فلو طلبه ولم يثبت الملك
بعد، لم يمتنع، وفيه احتمال للامام، لتأكد حقه بالطلب. وفي نفوذ تصرف الشفيع
قبل القبض إذا كان قد سلم الثمن، وجهان. أصحهما: المنع كالمشتري.
والثاني: الجواز، لأنه قهري كالإرث. ولو ملك بالاشهاد أو بقضاء القاضي، لم
ينفذ تصرفه قطعا، وكذا لو ملك برضى المشتري بكون الثمن عنده.
فرع في تملك الشفيع الشقص الذي لم يره، طريقان.
أصحهما: أنه على قولي بيع الغائب، إن منعناه، لم يتملكه قبل الرؤية،
وليس للمشتري منعه من الرؤية، وإن صححناه، فله التملك. ثم قيل: خيار
الرؤية على الخلاف في خيار المجلس. وقيل: يثبت قطعا، لان خيار المجلس
يبعد ثبوته لاحد الجانبين، بخلاف خيار الرؤية.
قلت: هذا الثاني، أصح، وصححه الامام. والله أعلم
والطريق الثاني: القطع بالمنع وإن صححنا بيع الغائب، لان البيع جرى
بالتراضي، فأثبتنا الخيار فيه، وها هنا الشفيع أخذ من غير رضى المشتري، فلا
يمكن إثبات الخيار فيه. فلو رضي المشتري أن يأخذه الشفيع ويكون بالخيار، فعلى
قول الغائب. وإذا جوزنا له التملك وأثبتنا الخيار، فللمشتري أن يمتنع من قبض
الثمن وإقباض المبيع حتى يراه، ليكون على ثقة منه.
فرع للشفيع الرد بالعيب. ولو أفلس وكان المشتري سلم إليه الشقص
راضيا بذمته، فله الاسترداد.
170

الطرف الثاني: فيما يأخذ به الشفيع، المأخوذ أنواع.
أحدها: المبيع. فان بيع بمثلي، أخذه يمثله. ثم إن قدر بميعاد الشرع،
أخذه به، وإن قدر بغيره، بأن باع بمائة رطل حنطة، فهل يأخذه بمثله وزنا أو كيلا؟
فيه خلاف سبق في القرض. فلو كان المثل منقطعا وقت الاخذ، عدل إلى القيمة
كالغصب. وإن بيع بمتقوم من عبد وثوب ونحوهما، أخذه بقيمة ذلك المتقوم.
والاعتبار بقيمة يوم البيع، لأنه يوم إثبات العوض. وقال ابن سريج والبغوي
وجماعة: يعتبر يوم استقرار العقد وانقطاع الخيار.
النوع الثاني: أن يكون الشقص رأس مال سلم أخذه بمثل المسلم فيه إن كان
مثليا، أو بقيمته إن كان متقوما.
الثالث: إذا صالح من دين على شقص، أخذه بمثل ذلك الدين إن كان
مثليا، أو بقيمته إن كان متقوما. وسواء دين المعاملة ودين الاتلاف.
الرابع: الشقص الممهور، يؤخذ بمهر مثل المرأة. وكذا إذا خالعها على
شقص. والاعتبار بمهر مثلها يوم النكاح ويوم الخلع. هذا هو الصحيح المعروف.
وفي التتمة وجه: أنه يأخذه بقيمة الشقص. ولو متع المطلقة بشقص، أخذه
الشفيع بمتعة مثلها، لا بالمهر.
الخامس: إذا أخذ من المكاتب شقصا عوضا عن النجوم، أخذه الشفيع بمثل
النجوم أو بقيمتها.
السادس: الشقص الذي جعل أجرة يؤخذ بأجرة مثل الدار.
السابع: إذا صالح عليه عن الدم، أخذه الشفيع بقيمة الدية يوم الجناية،
ويعود فيه قول ابن سريج والبغوي.
الثامن: قال المتولي: إذا اقترض شقصا أخذه الشفيع بقيمته وإن قلنا:
المقترض يرد المثلي.
فصل إذا كان الثمن حالا، بذله الشفيع في الحال. فإن كان بألف إلى
سنة مثلا، ففيه أقوال. أظهرها: يتخير، إن شاء عجل الثمن وأخذ الشقص في
171

الحال، وإن شاء صبر إلى أن يحل الاجل، فحينئذ يبذل الألف، ويأخذ الشقص،
وليس له أن يأخذ بألف مؤجل. والثاني: له الاخذ بألف مؤجل. والثالث: يأخذ
بعرض يساوي الألف إلى سنة، فعلى الأول: لا يبطل حقه بالتأخير، لأنه بعذر.
وهل يجب إعلام المشتري بالطلب؟ وجهان. أصحهما: نعم. ولو مات المشتري
وحل عليه، لم يتعجل الاخذ على الشفيع، بل هو على خيرته، إن شاء عجل، وإن
شاء أخر إلى انقضاء السنة. وإن مات الشفيع، فالخيرة لوارثه. ولو باع المشتري
الشقص في المدة، صح، والشفيع بالخيار بين أن يأخذه بالثمن الثاني، وبين أن
يفسخه في الحال، أو عند حلول الأجل، ويأخذه بالثمن الأول. هذا إذا قلنا
بالمذهب: إن الشفيع ينقض تصرف المشتري، وفيه خلاف سنذكره إن شاء الله
تعالى. وإن قلنا بالقول الثاني، ففي موضعه وجهان. أحدهما: أنه إنما يأخذ بثمن
مؤجل إذا كان مليئا موثوقا به وأعطى كفيلا مليئا، وإلا، فلا يأخذ. والثاني: له
الاخذ مطلقا. وإذا أخذه ثم مات، حل عليه الاجل. وإن قلنا بالثالث، فتعيين
العرض إلى الشفيع، وتعديل القيمة إلى من يعرفها. قال الامام: فلو لم يتفق طلب
الشفعة حتى حل الاجل، وجب أن لا يطالب على هذا القول إلا بالعرض المعدل،
لأن الاعتبار في قيمة عوض المبيع بحال البيع، ثم على القول الثاني والثالث، إذا
أخر الشفيع، بطل حقه.
فصل إذا اشترى مع الشقص منقولا، كسيف وثوب، صفقة واحدة، وزع
الثمن عليهما على اعتبار قيمتهما، وأخذ الشفيع الشقص بحصته من الثمن،
وتعتبر قيمتهما يوم البيع، ولا خيار للمشتري وإن تفرقت صفقته لدخوله فيها عالما
بالحال.
فرع إذا اشترى شقصا من دار نقضت، فلها أحوال.
إحداها: أن تتعيب من غير تلف شئ منها، ولا انفصال بعضها عن بعض،
172

بأن ينشق جدار، أو مالت أسطوانة، أو انكسر جذع، أو اضطرب سقف، فالشفيع
بالخيار بين الاخذ بكل الثمن، وبين، الترك، كتعيبها في يد البائع.
الثانية: أن يتلف بعضها، فينظر إن تلف شئ من العرصة بأن غشيها سيل
فغرقها، أخذ الباقي بحصته من الثمن. وإن بقيت العرصة وتلفت السقوف والجدران
باحتراق وغيره، فيبنى على الخلاف السابق في كتاب البيع: أن سقف الدار المبيعة
وجدارها كأحد العبدين المبيعين، أم كطرف من أطراف العبد وصفة من صفاته؟ فإن
قلنا بالأصح: إنه كأحد العبدين، أخذ العرصة بحصتها من الثمن. وإن قلنا:
كطرف العبد، أخذها بكل الثمن. وقيل: إن تلف بآفة سماوية، أخذ بكل الثمن.
وإن تلف باتلاف متلف، أخذ بالحصة، لان المشتري وحصل له بدل التالف، فلا
يتضرر.
الثالثة: أن لا يتلف شئ منها، لكن ينفصل بعضها عن بعض بالانهدام،
فهل يأخذ الشفيع النقض. فيه قولان، ويقال: وجهان. أظهرهما: نعم. فعلى
هذا يأخذه مع العرصة بكل الثمن، أو يتركهما. وإن قلنا: لا يأخذه، بني على أن
السقف والجدار كأحد العبدين، أو كطرف العبد. إن قلنا بالأول، أخذ العرصة وما
بقي من البناء بحصتها من الثمن، وإلا، فوجهان. أحدهما: يأخذ بالحصة.
والثاني وهو قياس الأصل المبني عليه: يأخذ بتمام الثمن كالحالة الأولى. وعلى هذا
يشبه النقض بالثمار والزوائد التي يفوز بها المشتري قبل أخذ الشفيع.
فصل إذا اشترى الشقص، ثم اتفق المتبايعان على حط من الثمن، أو
زيادة فيه، فذلك قد يكون بعد لزوم العقد وقبله، وفي زمن الخيار ومكانه. وسبق
بيان ذلك كله في كتاب البيع. وحاصله: أنه لا يلحق الحط ولا الزيادة بالعقد بعد
لزومه، لا حط الكل، ولا حط البعض. وفيما قبل لزومه، وجهان. أصحهما:
اللحوق. فإن قلنا به، وحط الثمن، فهو كما لو باع بلا ثمن، فلا شفقة
للشريك، لأنه يصير، حبة على رأي، ويبطل على رأي.
فصل إذا اشترى الشقص بعبد مثلا، وتقابضا، ثم وجد البائع بالعبد
عيبا، وأراد رده واسترداد الشقص، وطلب الشفيع الشقص، ففي المقدم منهما
خلاف سبق قريبا. وحكى الامام طريقا حازما بتقديم البائع. ولو علم عيب العبد بعد
173

أخذ الشفيع الشقص لم ينقض بملك الشفيع، كما لو باع ثم اطلع على عيب.
وفي قول: يسترد المشتري الشقص من الشفيع، ويرد عليه ما أخذه، ويسلم
الشقص إلى البائع، لان الشفيع نازل منزلة المشتري، فرد البائع يتضمن نقض
ملكه، كما يتضمن نقض ملك المشتري لو كان في ملكه، والمشهور هو الأول.
فإذا قلنا به، أخذ البائع قيمة الشقص من المشتري. فان كانت مثل قيمة العبد،
فذاك، وإلا، ففي رجوع من بذل الزيادة على صاحبه وجهان. أصحهما: لا
رجوع، لان الشفيع ملكه بالمبذول، فلا يتغير حكمه. ولو عاد الشقص إلى ملك
المشتري بابتياع أو غيره، لم يتمكن البائع من إجباره على رد الشقص، ولا
المشتري من إجبار البائع على القبول ورد القيمة، بخلاف ما إذا غرم قيمة المغصوب
لاباقه، فرجع، لان ملك المغصوب منه لم يزل، وملك المشتري قد زال. وحكى
المتولي فيه وجهين بناء على أن الزائل العائد، كالذي لم يزل، أم كالذي لم يعد؟
والمذهب: الأول.
ولو وجد البائع العيب بالعبد، وقد حدث عنده عيب، فأخذ الأرش لامتناع
الرد، نظر، إن أخذ الشفيع الشقص بقيمة العبد سليما، فلا رجوع عليه. وإن أخذه
بقيمته معيبا، ففي رجوع المشتري على الشفيع الوجهان السابقان في التراجع. لكن
الأصح هنا: الرجوع، ومال ابن الصباغ إلى القطع به، لان الشقص استقر عليه
بالعبد والأرش، ووجوب الأرش من مقتضى العقد، لاقتضائه السلامة. ولو رضي
البائع ولم يرده، ففيما يجب على الشفيع وجهان. أحدهما: قيمة العبد سليما.
والثاني: قيمته معيبا. حتى لو بذل قيمة السليم، استرد قسط السلامة من
المشتري، وبالأول قطع البغوي، وغلط الامام قائله.
فرع للمشتري رد الشقص بالعيب على البائع، وللشفيع رده على
المشتري بالعيوب السابقة على البيع وعلى الاخذ. ثم لو وجد المشتري العيب بعد أخذ
الشفيع، فلا رد في الحال، ولا أرش له على المذهب. ويجئ فيه الخلاف السابق
فيما إذا باعه. فلو رد عليه الشفيع بالعيب، رده حينئذ على البائع. ولو وجد
174

المشتري عيب الشقص قبل أخذ الشفيع، ومنعه عيب حادث من الرد، فأخذ أرش
العيب القديم، حط ذلك عن الشفيع. وإن قدر على الرد، لكن توافقا على
الأرش، ففي صحة هذه المصالحة وجهان سبقا. فإن صححناها، ففي حطه عن
الشفيع وجهان. أصحهما: الحط. والثاني: لا، لأنه تبرع من البائع.
فصل اشترى بكف من الدراهم لا يعلم وزنها، أو صبرة حنطة لا يعلم
كيلها، فيوزن ويكال ليأخذ الشفيع بذلك القدر. فإن كان ذلك غائبا، فتبرع البائع
باحضاره، أو أخبر عنه، واعتمد قوله، فذاك، وإلا، فليس للشفيع أن يكلفه
الاحضار، ولا الاخبار عنه. وإن هلك الثمن وتعذر الوقوف عليه، تعذر الاخذ
بالشفعة. فإن أنكر الشفيع كون الشراء بما لا يعلم قدره، نظر، إن عين قدرا وقال:
اشتريت بكذا، وقال المشتري: لم يكن قدره معلوما، فالأصح المنصوص الذي
عليه جمهور الأصحاب: أنه يقنع منه بذلك، ويحلف عليه. وقال ابن سريج لا
يقنع منه ولا يحلف، بل إن أصر على ذلك، جعل ناكلا وردت اليمين على
الشفيع. وعلى هذا الخلاف، لو قال: نسيت، فهو كالنكول. وإن لم يعين قدرا،
لكن ادعى على المشتري أنه يعلمه، وطالبه بالبيان، فوجهان. أصحهما: لا تسمع
دعواه حتى يعين قدرا، فيحلف المشتري حينئذ أنه لا يعرف. والثاني: تسمع،
ويحلف المشتري على ما يقوله. فإن نكل، حلف الشفيع على علم المشتري،
وحبس المشتري حتى يبين قدره. فعلى الأول: طريق الشفيع أن يعين قدرا، فإن
وافقه المشتري، فذاك، وإلا، حلفه على نفيه، فان نكل، استدل الشفيع بنكوله
وحلف على ما عينه، وإن حلف المشتري، زاد وادعى ثانيا. وهكذا يفعل إلى أن
ينكل المشتري، فيستدل الشفيع بنكوله ويحلف. وهذا أن اليمين قد تستند إلى
التخمين، ولهذا له أن يحلف على خط أبيه إذا سكنت نفسه إليه.
فصل إذا ظهر الاستحقاق في ثمن الشقص المشفوع، فان ظهر في ثمن
المبيع، نظر، إن كان معينا، بأن بطلان البيع وبطلت الشفعة، وعلى الشفيع رد
175

الشقص إن كان قبضه. وإن خرج بعضه مستحقا، بطل البيع في ذلك القدر، وفي
الباقي قولا (تفريق) الصفقة. فان فرقناها واختار المشتري الإجازة، فللشفيع الاخذ.
وإن اختار الفسخ وأراد الشفيع أخذه، ففيه الخلاف فيما إذا أصدقها شقصا ثم طلقها
قبل الدخول. وإن كان الثمن في الذمة، وخرج المدفوع مستحقا، لزمه إبداله،
والبيع والشفعة بحالهما، وللبائع استرداد الشقص ليحبسه إلى أن يقبض الثمن، وإن
ظهر الاستحقاق في ثمن الشفيع، فإن كان جاهلا، لم يبطل حقه وعليه الابدال.
وإن كان عالما، لم يبطل على الأصح، واختاره كثير من الأصحاب، وقطع البغوي
بالبطلان. ثم قال الشيخ أبو حامد وآخرون: الوجهان فيما إذا كان الثمن معينا، بأن
قال: تملكت الشقص بهذه الدراهم. أما إذا كان غير معين، كقوله: تملكته بعشرة
دنانير، ثم نقد المستحقة، فلا تبطل شفعته قطعا، وقيل: الوجهان في الحالين.
قلت: الصحيح: الفرق بين في الحالتين. والله أعلم
ثم في حالة الجهل والعلم، إذا قلنا: لا يبطل حقه، هل نتبين أنه لم يملك
بأداء المستحق، ويفتقر إلى تملك جديد؟ أم نقول: قد ملكه والثمن دين عليه؟ فيه
وجهان. قال الغزالي: أصحهما: الثاني، وهو خلاف المفهوم من كلام
الجمهور، لا سيما في حالة العلم. وخروج الدنانير نحاسا، كخروجها مستحقة.
ولو خرج ثمن المبيع رديئا، فللبائع الخيار بين الرضى به والاستبدال. فإن رضي،
لم يلزم المشتري الرضى بمثله، بل يأخذ من الشفيع ما اقتضاه العقد، ذكره
البغوي.
قلت: وفي هذا احتمال ظاهر. والله أعلم
ولو خرج ما دفعه الشفيع رديئا، لم تبطل شفعته عالما كان أو جاهلا. وقيل:
هو كخروجه مستحقا، والمذهب: الأول.
فصل إذا بنى المشتري، أو غرس، أو زرع، في المشفوع، ثم علم
الشفيع، فله الاخذ وقلع بنائه وغراسه وزرعه مجانا، لا بحق الشفعة، بل لأنه
شريك. وأحد الشريكين إذا انفرد بهذه التصرفات في الأرض المشتركة، كان للآخر
أن يقلع مجانا. وإن بنى أو غرس المشتري في نصيبه بعد القسمة والتمييز، ثم علم
176

الشفيع، لم يكن له قلعه مجانا، كذا نص عليه الشافعي والأصحاب رضي الله
عنهم.
وفي المسألة إشكالان. أحدهما: قال المزني: المقاسمة تتضمن الرضى من
الشفيع، وإذا رضي بتملك المشتري بطلت شفعته، فكيف يتصور ثبوت الشفعة بعد
القسمة؟ الثاني: أن القسمة تقطع الشركة، فيصيران جارين، ولا شفعة للجار.
وأجاب الأصحاب عن الأول، فصوروا صحة القسمة مع بقاء الشفعة في
صور.
منها: أن يقال للشفيع: جرى الشراء بألف، فيعفو ويقاسم، أو أن الشقص
ملكه بالهبة فيقاسم، ثم بأن الشراء كان بدون ألف، وأن الملك حصل بالبيع،
فتصح القسمة وتثبت الشفعة.
ومنها: أن يقاسم الشفيع المشتري على ظن أنه وكيل للبائع باخباره، أو بسبب
آخر.
ومنها: أن يكون للشفيع وكيل بالقسمة مع شركائه ومع المشترين منهم،
فيقاسم الوكيل المشتري بغير علم الشفيع.
ومنها: أن يكون له وكيل في القسمة وفي أخذ الأشقاص بالشفعة، فرأى
في شقص الحظ في تركه، فيتركه، ويقاسم، ثم يقدم الشفيع، ويظهر له أن له الحظ
في الاخذ، وكذلك ولي اليتيم.
ومنها: أن يكون الشفيع غائبا، فيطالب المشتري الحاكم بالقسمة، فيجيبه
وإن علم بثبوت الشفعة، كذا قاله الأصحاب، وتوقف الامام في إجابته إذا علم ثبوت
الشفعة.
وأما الثاني: فأجابوا عنه بأن الجواز إنما لا يكفي في الابتداء.
فإذا تقرر ما ذكرناه، فإن اختار المشتري قلع البناء والغراس، فله ذلك، ولا
يكلف تسوية الأرض، لأنه كان متصرفا في ملكه.
177

فان حدث في الأرض نقص، فيأخذه الشفيع على صفته، أو يترك. وإن لم
يختر المشتري القلع، فللشفيع الخيار بين إبقاء ملكه في الأرض بأجرة، وبين تملكه
بقيمته يوم الاخذ، وبين أن ينقضه ويغرم أرش النقص على الصفة المذكورة في
المعير إذا رجع وقد بنى المستعير أو غرس بلا فرق. وإن كان قد زرع، بقي زرعه
إلى أن يدرك فيحصد.
وقياس الباب: أن يجئ الخلاف المذكور هناك في زرع الأرض المستعارة.
والمذهب في الموضعين، تبقية الزرع. ثم قال صاحب التقريب: في مطالبة
الشفيع للمشتري بالأجرة، الخلاف في المعير. وقال الجمهور: لا مطالبة هنا
قطعا، وهو المذهب، لأنه زرع ملك نفسه، بخلاف المستعير، فأشبه من باع أرضا
مزروعة، لا مطالبة للمشتري بأجرة مدة بقاء الزرع على المذهب، وقد سبق بيانه في
كتاب البيع.
فرع إذا زرع المشتري، فللشفيع تأخير الشفعة إلى الادراك والحصاد.
قال الامام: ويحتمل أن لا يجوز التأخير وإن تأخرت المنفعة، كما لو بيعت الأرض
في غير وقت الانتفاع، لا يؤخر الاخذ إلى وقته. ولو كان في الشقص شجر عليه ثمر
لا يستحق بالشفعة، ففي جواز تأخيره إلى القطاف وجهان، لان الثمر لا يمنع
الانتفاع بالمأخوذ.
فصل تصرفات المشتري في الشقص من البيع والوقف وغيرهما
صحيحة، لأنها في ملكه. وقيل: باطلة، وهو شاذ.
فعلى الصحيح: ينظر إن كان التصرف مما لا تثبت فيه الشفعة كالوقف،
178

والهبة، والإجارة، فللشفيع نقضه وأخذ الشقص بالشفعة.
وإن كان مما تثبت فيه الشفعة كالبيع والاصداق، فهو كالخيار بين أن ينقضه
ويأخذ الشقص بالعقد الأول، وبين أن لا ينقض ويأخذ بالعقد الثاني. هذا هو
المذهب. وفي وجه: لا ينقض تصرفه. وفي وجه: لا ينقض ما تثبت فيه
الشفعة، لكن يتجدد حق الشفعة بذلك. وقيل: لا يتجدد أيضا، لأنه تصرف يبطل
الشفعة، فلا يثبتها. وفي وجه: لا ينقض الوقف، وينقض ما سواه.
فصل في الاختلاف وفيه مسائل.
الأولى: قال المشتري: عفوت عن شفعتك، أو قصرت، فسقطت، فالقول
قول الشفيع.
الثانية: قال: اشتريت بألف، فقال الشفيع: بل بخمسمائة، صدق
المشتري، لأنه أعلم بعقده. وكذا لو كان الثمن عرضا، وتلف، واختلفا في
قيمته، فإن نكل المشتري، حلف الشفيع وأخذ بما حلف عليه. فإن كان لأحدهما
بينة، قضي بها.
179

ولا تقبل شهادة البائع للمشتري على الصحيح، لأنه يشهد بحق نفسه.
وقيل: تقبل، لأنه لا يجر لنفسه نفعا، والثمن ثابت له باقرار المشتري.
ولو شهد للشفيع، فهل يقبل قوله؟ فيه أوجه. أحدها: لا، وبه قطع
العراقيون، لأنه يشهد على فعله. والثاني: نعم، وصححه البغوي، لأنه ينقض
حقه. والثالث: إن شهد قبل قبضه الثمن، قبلت، لأنه ينقض حقه، إذ لا يأخذ
أكثر مما شهد به، وإن شهد بعده، فلا، لأنه يجر إلى نفسه نفعا، فإنه إذا قل
الثمن، قل ما يغرمه عند ظهور الاستحقاق. وإن أقام كل واحد منهما بينة،
فوجهان، أحدهما: تقدم بينة المشتري، كما أن بينة الداخل أولى من بينة
الخارج. وأصحهما: أنهما تتعارضان، لان النزاع هنا فيما وقع العقد به، ولا دلالة
لليد عليه. فعلى هذا إن قلنا: تسقطان، فهو كما لو لم يكن بينة. وإن قلنا
تستعملان، فالاستعمال هنا بالقرعة أو الوقف.
الثالثة: اختلف البائع والمشتري في قدر الثمن، فإن ثبت قول المشتري،
فذاك، وإن ثبت قول البائع بالبينة أو اليمين المردودة، لزم المشتري (ما ادعاه البائع
وأخذ الشفيع بما ادعاه المشتري).
وتقبل شهادة الشفيع للبائع، ولا تقبل للمشتري، لأنه متهم في تقليل الثمن.
وإن لم تكن بينة، وتحالفا، وفسخ عقدهما، أو انفسخ، فإن جرى ذلك بعدما أخذ
الشفيع الشقص، أقر في يده، وعلى المشتري قيمة الشقص للبائع. وإن جرى قبل
الاخذ، ففي سقوط حقه الخلاف السابق في خروجه معيبا. فإن قلنا: لا يسقط،
أخذه بما حلف عليه البائع، لان البائع اعترف باستحقاق الشفيع الاخذ بذلك
الثمن، فيأخذه منه وتكون عهدته على البائع.
الرابعة: أنكر المشتري كون الطالب شريكا، فالقول قول المشتري بيمينه،
فيحلف على نفي العلم بشركته، لا على نفي شركته، فإن نكل، حلف الطالب
على البت وأخذ بالشفعة، وكذا الحكم لو أنكر تقدم ملك الطالب على ملكه.
180

الخامسة: إذا كانا شريكين في عقار، فغاب أحدهما، ورأينا نصيبه في يد
ثالث، فادعى الحاضر عليه أنه اشتراه، وأنه يستحقه بالشفعة، فإن كان للمدعي
بينة، قضي بها وأخذه بالشفعة. ثم إن اعترف المدعى عليه، سلم الثمن إليه،
وإلا، فهل يترك الثمن في يد المدعى إلى أن يقر المدعى عليه، أم يأخذه القاضي
وحفظه، أم يجبر على قبوله أو الابراء منه؟ فيه ثلاثة أوجه مذكورة في باب الاقرار
وغيره. ولو أقام المدعي بينة، وجاء المدعى عليه ببينة أنه ورثه أو اتهبه، تعارضتا.
وإن جاء ببينة أن الغائب أودعه إياه، أو أعاره، فإن لم يكن للبينتين تاريخ، أو سبق
تاريخ الايداع، فلا منافاة فيقضى بالشفعة، لأنه ربما أودعه ثم باعه، وإن سبق
تاريخ البيع، فلا منافاة أيضا، لاحتمال أن البائع غصبه بعد البيع ثم رده إليه بلفظ
الايداع، فاعتمده الشهود. فإن انقطع الاحتمال بأن كان تاريخ الايداع متأخرا،
وقال الشهود: أودعه وهي ملكه، فهاهنا يراجع الشريك القديم. فإن قال:
وديعة، سقط حكم الشراء. وإن قال: لا حق لي فيه، قضي بالشفعة.
أما إذا لم يكن للمدعي بينة، فللمدعى عليه في الجواب أحوال.
أحدها: أن يقر بأنه كان لذلك الغائب فاشتراه منه، فهل للمدعي أخذه؟
وجهان. أحدهما: لا، إذ لا يقبل قوله على الغائب، فيوقف الامر حتى يكاتب،
هل هو مقر بالبيع؟ وأصحهما: نعم، لتصادقهما على البيع، ويكتب القاضي في
السجل أنه أثبت الشفعة بتصادقهما، فإذا قدم الغائب، فهو على حقه. الثاني: أن
ينكر أصل الشراء، فيصدق بيمينه. ثم إن اقتصر في الجواب إنه لا يستحق
اخذه بالشفعة أو أنه لا يلزمه التسلم إليه حلف ذلك ولم يلزمه التعرض لنفي
الشراء. وإن قال في الجواب: لم اشتره، بل ورثته، أو اتهبته، فيحلف لذلك،
أم يكفي الحلف على أنه لا يستحق الشفعة؟ وجهان سبقا في دعوى عيب المبيع.
وإن نكل المدعى عليل، حلف الطالب واستحق الشقص. وفي الثمن الأوجه
السابقة. هذا إذا أنكر الشراء والشريك القديم غير معترف بالبيع، فإن كان معترفا
والشقص في يده، نظر، إن لم يعترف بقبض الثمن، ثبتت الشفعة على الأصح.
وإلى من يسلم الثمن؟ وجهان. أصحهما: إلى البائع، وعهدته عليه، لأنه يتلقى
الملك منه. والثاني: ينصب القاضي أمينا يقبض الثمن منه للمشتري ويدفعه إلى
البائع، ويقبض الشقص من يد البائع للمشتري ويدفعه إلى الشفيع. وإذا أخذ البائع
181

ثمن الشقص، فهل له مخاصمة المشتري ومطالبته بالثمن؟ وجهان، لأنه قد يكون
ماله أبعد عن الشبهة، والرجوع عليه بالدرك أسهل. فإن قلنا: نعم، وحلف
المشتري، فلا شئ عليه. وإن نكل، حلف البائع، وأخذ الثمن من المشتري،
وكانت عهدته عليه. وأما ما أخذه من الشفيع، فهل يؤخذ منه ويوقف، أم يترك في
يده؟ وجهان. كذا قال البغوي، وفي الشامل أن الوجهين في أنه هل يطالب
المشتري فيما إذا لم يرض أخذ الثمن من الشفيع؟ فإن رضي، فليقنع به، وهذا
أصح. فإن اعترف مع البيع بقبض الثمن، فإن قلنا: لا شفعة إذا لم يعترف
بالقبض، فهنا أولى، وإلا، فوجهان. وأصحهما: ثبوتها. ثم هل يترك الثمن في
يد الشفيع، أم يأخذه القاضي ويحفظه، أم يجبر المشتري على قبوله والابراء منه؟
فيه الأوجه السابقة.
الحال الثالث: أن يقول: اشتريته لفلان ولا خصومة لك معي، فينظر في
المضاف إليه، أحاضر، أم غائب، أم صبي؟ وحكمه ما يأتي في سائر الدعاوي إن
شاء الله تعالى.
الطرف الثالث: في تزاحم الشفعاء، وهو ثلاثة أضرب.
أحدها: أن يتفق الشركاء على الطلب. ونقدم عليه أن تعدد المستحقين قد
يكون ابتداء، بأن كانت الدار بين جماعة، فباع أحدهم نصيبه، وثبتت الشفعة
للباقين، وقد يكون دواما، بأن يموت المستحق ويترك ورثة، فلهم الشفعة. فإن
تساوت حصص المستحقين، تساووا في الشقص. وإن تفاوتت كنصف وثلث
وسدس، فباع صاحب النصف، فقولان، أظهرهما: أن الشفعة على قدر
الحصص، فيقسم النصف بينهما أثلاثا. والثاني: على عدد الرؤوس، فيقسم
نصفين.
182

فرع مات مالك الدار عن ابنين: (ثم مات أحدهما عن ابنين) ثم باع أحد
الابنين نصيبه، فهل يشترك الأخ والعم في الشفعة، أم يختص بها الأخ؟ قولان.
أظهرهما: الأول. فعلى هذا، هل يوزع بينهما بالسوية، أم بالحصص؟ فيه
القولان. وقال الامام: مقتضى المذهب: القطع بالحصص. وإذا قلنا: يختص
الأخ فعفا، ففي ثبوتها للعم وجهان. أحدهما: لا، لأنه لو كان مستحقا، لما تقدم
عليه غيره. والثاني: نعم، لأنه شريك، وإنما تقدم الأخ، لزيادة قربه، كما أن
المرتهن يقدم في المرهون على الغرماء. فلو سقط حقه، تمسك به الباقون.
قلت: ينبغي أن يكون هذا الثاني أصح. والله أعلم
ويجري القولان في مسألة الأخ والعم في كل صورة، ملك شريكان بسبب
واحد، وغيرهما من الشركاء بسبب آخر، فباع أحد المالكين بالسبب الواحد، ففي
قول: الشفعة لصاحبه خاصة، وعلى الأظهر: للجميع. مثاله: بينهما دار، فباع
أحدهما نصيبه لرجلين، أو وهبه، ثم باع أحدهما نصيبه.
ولو مات من له دار عن بنتين وأختين، فباعت إحدى البنتين نصيبها،
فطريقان.
أحدهما: على القولين. ففي قول: تختص بالشفعة البنت الأخرى، وعلى الأظهر
: يشتركن كلهن.
والطريق الثاني وهو المذهب: القطع بالاشتراك.
فرع مات الشفيع عن ابن وزوجة ورثا حق الشفعة، ففي كيفية إرثهما
طرق. أصحها: يأخذان على قدر الميراث قطعا. والثاني: القطع بالتسوية
بينهما. والثالث: على القولين.
فرع دار بين اثنين نصفين، باع أحدهما نصف نصيبه لزيد، ثم باع
183

النصف الآخر لعمرو، فالشفعة في النصف الأول تختص بالشريك الأول. ثم قد
يعفو عنه، وقد يأخذه. وفي النصف الثاني أوجه. أحدها: يختص به الأول.
والثاني: يشترك فيه الأول والمشتري الأول. أصحهما: إن عفا الشريك الأول عن
النصف الأول، اشتركا، وإلا، فيختص به الشريك الأول.
الضرب الثاني: أن يطلب بعض الشركاء ويعفو بعضهم. ونقدم عليه ما إذا
كانت الشفعة لواحد فعفا عن بعضها، وفيه أوجه. أصحها: يسقط جميعها
كالقصاص. والثاني: لا يسقط شئ كعفوه عن بعض حد القذف. والثالث: يسقط
ما عفا عنه ويبقى الباقي، قال الصيدلاني: وموضع هذا الوجه، ما إذا رضي
المشتري بتبعيض الصفقة، فإن أبى وقال: خذ الكل أو دعه، فله ذلك. قال
الامام: وهذه الأوجه، إذا لم نحكم بأن الشفعة على الفور. فإن حكمنا به،
فطريقان. منهم من قطع بأن العفو عن البعض تأخير لطلب الباقي، ومنهم من
احتمل ذلك إذا بادر إلى طلب الباقي، وطرد الأوجه. ويؤيد الأول أن صاحب
الشامل قال: استحق شقصا، فجاء وقال: آخذ نصفه، سقطت شفعته في
الكل، لأنه ترك طلب النصف. إذا تقرر هذا، فاستحق اثنان شفعة، فعفا أحدهما
عن حقه، فأوجه. أصحها: يسقط حق العافي، ويثبت الجميع للآخر. فان شاء
أخذ الجميع، وإن شاء تركه، وليس له الاقتصار على قدر حصته، لئلا تتبعض
الصفقة على المشتري. والثاني: يسقط حقهما جميعا، قاله ابن سريج،
كالقصاص. والثالث: لا يسقط حق واحد منهما، تغليبا للثبوت كما سبق في
الصورة الأولى. والرابع: يسقط حق العافي، وليس لصاحبه أن يأخذ إلا قسطه،
وليس للمشتري أن يلزمه أخذ الجميع.
هذا إذا ثبتت الشفعة لعدد ابتداء. فلو ثبتت لواحد فمات عن ابنين، فعفا
أحدهما، فهل هو كما لو ثبتت لواحد فعفا عن بعضها، أم كثبوتها لابنين عفا
أحدهما؟ وجهان. أصحهما: الثاني. ولو كان للشقص شفيعان، فمات كل عن
ابنين، فعفا أحدهما عن حقه، فحاصل المنقول تفريعا على ما تقدم أوجه.
184

أحدها: يسقط الكل. والثاني: يبقى الكل للأربعة. والثالث: يسقط حق العافي
وأخيه، ويأخذ الآخران. والرابع: ينتقل حق العافي إلى الثلاثة، فيأخذون الشقص
أثلاثا. والخامس: يستقر حق العافي للمشتري، ويأخذ ثلاثة أرباع الشقص.
والسادس: ينتقل حق العافي إلى أخيه فقط.
قلت: أصحها: الرابع. والله أعلم
فرع مات الشفيع عن ابنين، فادعى المشتري عفوهما، فالقول قولهما مع
يمينهما على البت. فلو ادعى عفو أبيهما، حلفا على نفي العلم. فإن حلفا،
أخذا. وإن نكلا، حلف المشتري، وبطل حقهما. وإن حلف أحدهما فقط، فإن
قلنا بالأصح: إنه إذا عفا أحدهما أخذ الآخر الجميع، فلا يحلف المشتري، إذ لا
فائدة فيه، وبه قال ابن الحداد. وإن قلنا: حق العافي يستقر للمشتري، حلف
المشتري ليستقر له نصيب الناكل. ثم الوارث الحالف، لا يستحق الجميع بنكول
أخيه، ولكن إن صدق أخاه على أنه لم يعف، فالشفعة بينهما. وإن ادعى عليه
العفو، وأنكر الناكل، عرضت عليه اليمين لدعوى أخيه، ولا يمنعه من الحلف
نكوله في جواب المشتري. فان حلف، فالشفعة بينهما. وإن نكل أيضا، حلف
المدعي أنه عفا، وحينئذ يأخذ الجميع.
الضرب الثالث: أن يحضر بعض الشركاء دون بعض. فإذا كانت الدار لأربعة
بالسوية، فباع أحدهم نصيبه، وثبتت الشفعة للباقين، فلم يحضر إلا واحد، فليس
له أخذ حصته فقط، ولا يكلف الصبر إلى حضورهما، بل إن شاء أخذ الجميع أو
تركه. وهل له تأخير الاخذ إلى حضورهما؟ إذا قلنا: الشفعة على الفور، وجهان.
أصحهما: نعم، للعذر، وإذا أخذ الجميع، ثم حضر أحد الغائبين، أخذ منه
النصف بنصف الثمن، كما لو لم يكن إلا شفيعان. فإذا حضر الثالث، فله أن يأخذ
من كل واحد ثلث ما في يده، ثم يترتب على ما ذكرنا فروع.
أحدها: خرج الشقص مستحقا بعد الترتيب المذكور، ففي العهدة وجهان.
أحدهما: عهدة الثلاثة على المشتري لاستحقاقهم الشفعة عليه. والثاني: أن
185

رجوع الأول على المشتري، فيسترد منه كل الثمن، ورجوع الثاني على الأول،
فيسترد منه النصف، ورجوع الثالث على الأول والثاني، يسترد من كل ما دفع إليه،
وهذا أصح، ورجح العراقيون، الأول. وقال المتولي: هذا الخلاف في الرجوع
بالمغروم من أجرة، ونقص قيمة الشقص. فأما الثمن، فكل فيسترد ما سلمه ممن
سلمه إليه بلا خلاف.
الثاني: أخذ الحاضر جميع الشقص، فوجده معيبا فرده، فحضر الثاني وهو
في يد المشتري، فله أخذ الجميع. الثالث: ما يستوفيه الأول من المنافع، ويحصل له من الأجرة والثمرة، يسلم
له، فلا يزاحمه فيه الثاني والثالث على الأصح، وكذا الثالث لا يزاحم الثاني فيما
يحصل له بعد المناصفة، كما أن الشفيع لا يزاحم المشتري فيها.
الرابع: أخذ الأول كل الشقص وأفرزه، بأن أتى الحاكم فنصب قيما في مال
الغائبين، فاقتسما، وبنى فيه، أو غرس ثم رجع الغائبان، هل لهما القلع؟
وجهان. أصحهما: لا، كما أن الشفيع لا يقلع بناء المشتري وغراسه مجانا.
والثاني: نعم، لأنهما يستحقان كاستحقاق الأول، فليس له التصرف حتى يظهر
حالهما، بخلاف الشفيع مع المشتري.
الخامس: إذا حضر اثنان فأخذا الشقص، واقتسما مع القيم في مال الغائب،
ثم قدم (الغائب)، فله الاخذ وإبطال القسمة، فان عفا، استمرت القسمة.
السادس: أخذ اثنان، فحضر الثالث، وأراد أخذ ثلث ما في يد أحدهما ولا
يأخذ من الثاني شيئا، فله ذلك، كما للشفيع أن يأخذ نصيب أحد المشتريين دون
الآخر. السابع: أخذ الأول الجميع، فحضر الثاني وأراد أخذ الثلث فقط، فله ذلك
على الأصح، لأنه لا يفرق الحق على الأول. فان أخذ الثلث على هذا الوجه، أو
بالتراضي، ثم حضر الثالث، نظر، إن أخذ من الأول نصف ما في يده، ولم
يتعرض للثاني، فلا كلام، وإن أراد أن يأخذ من الثاني ثلث ما في يده، فله ذلك،
لان حقه ثابت في كل جزء، ثم له أن يقول للأول: ضم ما معك إلى ما أخذته
186

لنقسمه نصفين لأنا متساويان. وإنما تصح قسمة الشقص في هذه الحالة من ثمانية
عشر، لأنا نحتاج إلى عدد لثلثه ثلث وهو تسعة، مع الثاني منها ثلاثة، ومع الأول
ستة، فينتزع الثالث من الثاني واحدا يضمه إلى الستة التي مع الأول، فلا ينقسم
بينهما، فتضرب اثنين في تسعة تبلغ ثمانية عشر، للثاني منها اثنان في اثنين بأربعة،
تبقى أربعة عشر للأول والثالث نصفين، وهذا المنقسم من ثمانية عشر، ربع الدار،
فتقسم جملتها من اثنين وسبعين. هذا ما ذكره الأكثرون ونقلوه عن ابن سريج. وقال
القاضي حسين: لما ترك الثاني سدسا للأول، صار عافيا عن بعض حقه، فيبطل
جميع حقه على الأصح كما سبق، فينبغي أن يسقط حق الثاني كله، ويكون
الشقص بين الأول والثالث.
قلت: الأصح قول الأكثرين، ولا يسلم أنه أسقط بعض حقه. والله أعلم
الثامن: قال ابن الصباغ: لو حضر اثنان وأخذ الشقص، ثم حضر الثالث
وأحدهما غائب، فان قضى له القاضي على الغائب، أخذ من كل ثلث ما في يده،
وإلا، فهل يأخذ ثلث ما في يد الحاضر، أم نصفه؟ وجهان. ثم إن حضر الغائب
وغاب الحاضر، فإن كان الثالث أخذ من الحاضر ثلث ما معه، أخذ من القادم ثلث
ما في يده أيضا. وإن كان أخذ نصفه، أخذ من القادم سدس ما في يده ويتم بذلك
نصيبه، وينقسم هذا الشقص من اثني عشر، وجملة الدار من ثمانية وأربعين.
التاسع: ثبتت الشفعة لحاضر وغائب، فعفا الحاضر، ثم مات الغائب،
فورثه الحاضر، فله أخذ الشقص كله بالشفعة تفريعا على الأصح: أنه إذا عفا أحد
الشريكين، أخذ الآخر الجميع. وإن قلنا: عفو أحدهما يسقط حق الآخر، لم
يأخذ شيئا. وإن قلنا: يستقر نصيب العافي للمشتري، لم يأخذ الحاضر بحق الإرث
إلا النصف.
فصل ليس للشفيع تفريق الصفقة على المشتري. ولو اشترى اثنان شقصا
من رجل، فللشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما فقط، إذ لا تفريق عليه. ولو باع اثنان
من ملاك الدار شقصا لواحد، جاز أن يأخذ حصة أحد البائعين على الأصح. ولو باع
اثنان نصيبهما لاثنين يعقد واحد، فهو كأربعة عقود، تفريعا على الأظهر أن تعدد
البائع كتعدد المشتري، فللشفيع الخيار، فان شاء أخذ الجميع أو ثلاثة أرباعه وهو
187

نصيب أحد المشتريين ونصف نصيب الآخر، أو يأخذ نصف الجملة بأخذ نصيب
أحدهما، أو نصف نصيب كل واحد أو يأخذ ربع الجملة وهو نصف نصيب
أحدهما. ولو وكلا وكيلا في بيع شقص أو شرائه، أو وكل وكيلين في بيع شقص أو شرائه،
فالاعتبار بالعاقد، أم بمن له العقد؟ فيه خلاف سبق في تفريق الصفقة. فلو
كانت الدار لثلاثة، فوكل أحدهم ببيع نصيبه، وجوز له أن يبيعه مع نصيب نفسه إن
شاء صفقة واحدة، فباع كذلك، فليس للثالث إذا قلنا: الاعتبار بالعاقد، إلا أخذ
الجميع، أو ترك الجميع. وإن قلنا: الاعتبار بالمعقود له، فله أن يأخذ حصة
أحدهما فقط. ولو كانت الدار لرجلين، فوكل أحدهما الآخر ببيع نصف نصيبه،
وجوز له أن يبيعه مع نصيب نفسه إن شاء صفقة واحدة، فباع كذلك، وأراد الموكل
أخذ نصيب الوكيل بالشفعة بحق النصف الباقي له، فله ذلك، لان الصفقة اشتملت
على ما لا شفعة للموكل فيه وهو ملكه، وعلى ما فيه شفعة وهو ملك الوكيل، فأشبه
من باع شقصا وثوبا بمائة.
وفي وجه ضعيف: أنها كالصورة السابقة. ولو باع شقصين من دارين صفقة
واحدة، فإن كان الشفيع في أحدهما غير الشفيع في الأخرى، فلكل أن يأخذ ما هو
شريك فيه، وافقه الآخر في الاخذ، أم لا. وإن كان شفيعهما واحدا، جاز أيضا
على الأصح.
الباب الثالث فيما يسقط به حق الشفيع
الأظهر المنصوص في الكتب الجديدة: أن الشفعة على الفور. والثاني:
تمتد ثلاثة أيام. والثالث: تمتد مدة تتسع لتأمل المصلحة في الاخذ.
والرابع: تمتد إلى التصريح باسقاطها. والخامس: إلى التصريح أو ما يدل عليه، كقوله: بع
لمن شئت، أو هبه، وكذا قوله: بعنيه، أو هبه لي، أو قاسمين. وقيل: لا تبطل
بهذا، وللمشتري إذا لم يأخذ الشفيع ولم يعفو أن يرفعه إلى الحاكم ليلزمه الاخذ أو
العفو. وفي قول: ليس له ذلك، تنزيلا للشفيع منزلة مستحق القصاص، والتفريع ع
لي قول الفور. (وإنما نحكم بالفور) بعد علم الشفيع بالبيع. فلو لم يعلم حتى مضى
188

سنون، فهو على شفعته، ثم إذا علم، لا يكلف المبادرة، على خلاف العادة
بالعدو ونحوه، بل يرجع فيه إلى العرف، فما عد تقصيرا وتوانيا في الطلب، يسقط
الشفعة، وما لا يعد تقصيرا لعذر، لا يسقطها. والعذر ضربان.
أحدهما: ما لا ينتظر زواله عن قرب كالمرض، فينبغي للمريض أن يوكل إن
قدر. فإن لم يفعل، بطلت شفعته على الأصح، لتقصيره. والثاني: لا. والثالث
إن لم يلحقه في التوكيل منة ولا مؤنة ثقيلة، بطلت، وإلا، فلا. فإن لم يمكنه،
فليشهد على الطلب. فإن لم يشهد، بطلت على الأظهر أو الأصح. والخوف من
العدو، كالمرض، وكذا الحبس إذا كان ظلما أو بدين هو معسر به عاجز عن بينة
الاعسار. وإن حبس بحق، بأن كان مليئا، فغير معذور، ومثله الغيبة. فإذا كان
الشفيع في بلد آخر، فعليه أن يخرج طالبا عند بلوغ الخبر، أو يبعث وكيلا، إلا أن
يكون الطريق مخوفا، فيجوز التأخير إلى أن يجد رفقة معتمدين يصحبهم هو أو وكيله
ويزول الحر والبرد المفرطان. وإذا أخر لذلك، أو لم يمكنه السير بنفسه، ولا وجد
وكيلا، فليشهد على الطلب. فإن لم يشهد، ففي بطلان حقه الخلاف السابق،
وأجري ذلك في وجوب الاشهاد إذا سار طالبا في الحال. والأظهر هنا: أنه لا يجب،
ولا تبطل شفعته بتركه، كما لو أرسل وكيلا ولم يشهد، فإنه يكفي. وليطرد فيما إذا
كان حاضرا في البلد فخرج إليه أو إلى مجلس الحكم كما سبق في الرد بالعيب.
الضرب الثاني: ما ينتظر زواله عن قرب، بأن كان مشغولا بصلاة، أو طعام،
أو قضاء الحاجة، أو في حمام، فله الاتمام، ولا يكلف قطعها، على خلاف العادة
على الصحيح. وقيل: يكلف قطعها حتى الصلاة إذا كانت نافلة. وعلى
الصحيح: لو دخل وقت الاكل أو الصلاة أو قضاء الحاجة، جاز له أن يقدمها، فإذا
فرغ طلب الشفعة، ولا يلزمه تخفيف الصلاة والاقتصار على ما يجزئ.
189

فرع لو رفع الشفيع الامر إلى القاضي، وترك مطالبة المشتري مع
حضوره، جاز، وقد ذكرناه في الرد بالعيب. ولو أشهد على الطلب، ولم يراجع
المشتري ولا القاضي لم يكف. وإن كان المشتري غائبا، فالقياس: أن يرفع
الامر إلى القاضي ويأخذ كما ذكرنا هناك. وإذا ألزمناه الاشهاد فلم يقدر عليه، فهل
يؤمر أن يقول: تملكت الشقص؟ وجهان سبق نظيرهما هناك. ولو تلاقيا في غير بلد
الشقص، فأخر الشفيع الاخذ إلى العود إليه، بطل حقه، لاستغناء الآخذ عن
الحضور عند الشقص.
فصل إذا أخر الطلب ثم قال: أخرت لأني لم أصدق المخبر، فان أخبره
عدلان، أو عدل وامرأتان، بطل حقه، وإن أخبره من لا يقبل خبره، ككافر،
وفاسق، وصبي، لم يبطل. وإن أخبره ثقة، حر أو عبد، بطل حقه على
الأصح. والمرأة كالعبد على المذهب. وقيل: كالفاسق. وعلى هذا، في
النسوة وجها ن بناء على أن المدعي هل يقضي له بيمينه مع امرأتين؟ إن قلنا: لا،
فهو كالمرأة، وإلا، فكالعدل الواحد، هذا كله إذا لم يبلغ عدد المخبرين حدا لا
يمكن التواطؤ على الكذب. فان بلغه، بطل حقه (و) إن كانوا فساقا.
فرع لو كذبه المخبر فزاد في قدر الثمن، بأن قال: باع الشريك الشقص
بألف، فعفا أو توانى، ثم بان بخمسمائة، لم يبطل حقه. ولو كذب بالنقص،
فقال: باع بألف فعفا، فبان بألفين، بطل حقه. ولو كذب في تعيين المشتري،
فقال باع زيدا، فعفا، فبان عمرا، أو قال المشتري: اشتريت لنفسي، فبان
وكيلا، أو كذب في جنس الثمن، فقال: باع بدراهم، فبان دنانير، وفي نوعه،
فقال: باع بنيسابورية، فبان ب‍ هروية، أو في قدر المبيع، فقال: باع كل
نصيبه، فبان بعضه، أو بالعكس، أو باع حالا، فبان مؤجلا، أو إلى شهر، فبان
إلى شهرين، أو باع رجلين، فبان رجلا، أو عكسه، لم يبطل حقه، لاختلاف
الغرض بذلك. وشذ الامام عن الأصحاب فقال: إذا أخبر بالدراهم أو الدنانير،
190

فعفا، فبان عكسه ولم يتفاوت القدر عند التقويم، بطل حقه. ولو قيل: باع بكذا
مؤجلا فعفا، فباع حالا، أو باع كله بألف، (فبان بعضه بألف)، بطل حقه قطعا.
فرع لقي المشتري فقال: السلام عليكم، أو سلام عليك، أو سلام
عليكم، لم تبطل شفعته، لأنه سنة. قال الامام: ومن غلا في اشتراط قطع ما هو
مشغول به من الطعام وقضاء الحاجة، لا يبعد أن يشترط فيه ترك الابتداء بالسلام.
ولو قال عند لقائه: بكم اشتريت؟ فوجهان، قطع العراقيون بالبطلان، وقالوا: حقه
أن يظهر الطلب ثم يبحث. والأصح: المنع، لافتقاره إلى تحقيق ما يأخذه به. ولو
قال: بارك الله لك في صفقتك، لم تبطل على الأصح، وبه قطع الجمهور. ولو
قال: اشتريت رخيصا وما أشبهه، بطلت شفعته، لأنه فضول.
فرع أخر الطلب ثم اعتذر بمرض أو حبس أو غيبة، وأنكر المشتري،
فالقول قول الشفيع إن علم به العارض الذي ادعاه، وإلا، فالمصدق المشتري.
ولو قال: لم أعلم ثبوت حق الشفعة، أو كونها على الفور، فهو كما سبق في الرد
بالعيب.
فصل إذا باع الشفيع نصيبه، أو وهبه عالما بثبوت شفعته، بطلت، سواء
قلنا: الشفعة على الفور أو التراخي لزوال ضرر المشاركة.
ولو باع بعضه، بطلت على الأظهر. وإن باع نصيبه جاهلا بالشفعة،
بطلت على الأصح، لزوال الضرر. ولو باع بعضه جاهلا، أطلق البغوي: أنها
لا تبطل. والوجه: أن يكون على القولين إن قلنا: إن بيع الجميع جاهلا يبطلها.
قلت: الأصح هنا على الجملة: أنها لا تبطل لعذره مع بقاء الحاجة
191

للمشاركة. والله أعلم
فصل إذا صالح من حق الشفعة على مال، فهو على ما ذكرناه في الصلح
عن الرد بالعيب. واختار أبو إسحاق المروزي صحته. ولو تصالحا على أخذ
بعض الشقص، فهل يصح لرضى المشتري بالتبعيض، أم تبطل شفعته، أم يبطل
الصلح ويبقى خياره بين أخذ الجميع وتركه؟ فيه ثلاثة أقوال.
فصل في مسائل منثورة إحداها: للمفلس العفو عن الشفعة، والاخذ،
ولا اعتراض عليه للغرماء، وينبغي أن يعود في أخذه الخلاف السابق في شرائه في
الذمة. ثم الكلام في أنه من أين يؤدي الثمن؟ ذكرناه في التفليس.
الثانية: وهب شقصا لعبده وقلنا: يملك، فباع شريكه، ثبت للعبد الشفعة،
قاله أبو محمد. وفي افتقاره إلى إذن السيد، وجهان.
الثالثة: لعامل القراض الاخذ بالشفعة فإن لم يأخذ فللمالك الاخذ ولو
اشترى مال القاضي شقصا من شريك رب المال، فلا شفعة له على الأصح.
وإن كان العامل شريكا فيه، فله الاخذ إن لم يكن في المال ربح، أو كان وقلنا: لا
يملك بالظهور. فإن قلنا: يملك به، فعلى الوجهين في المالك.
الرابعة: إذا كان الشقص في يد البائع، فقال الشفيع: لا أقبضه إلا من
المشتري، فوجهان. أحدهما: له ذلك، ويكلف الحاكم المشتري أن يتسلمه
ويسلم إلى الشفيع. فإن كان غائبا نصب الحاكم من ينوب عنه في الطرفين.
والثاني: لا يكلف ذلك، بل يأخذه الشفيع من البائع. وسواء أخذه من المشتري أو
البائع، فعهدة الشفيع على المشتري، لان الملك انتقل إليه منه.
قلت: الأول أصح، وبه قطع صاحب التنبيه وآخرون، هكذا ذكر
الوجهين صاحب الشامل وآخرون، وذكر القاضي أبو الطيب، وصاحب
المهذب وآخرون في جواز أخذ الشفيع من البائع وجهين، وقطع صاحب
192

لتنبيه بالمنع. وصحح المتولي الجواز، ذكره في باب حكم البيع قبل القبض.
والله أعلم
الخامسة: اشترى شقصا بشرط البراءة من العيوب، فإن أبطلنا البيع، فذاك،
وإن صححناه وأبطلنا الشرط، فكالشراء مطلقا. وإن صححنا الشرط، فللشفيع رده
بالعيب على المشتري، وليس للمشتري الرد.
السادسة: لو علم الشفيع العيب ولم يعلمه المشتري، فلا رد للشفيع، وليس
للمشتري طلب الأرش، لأنه استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من الرد. فلو رجع
إليه ببيع وغيره، لم يرد على العلة الأولى، ويرد على الثانية.
السابعة: قال أحد الشريكين للآخر: بع نصيبك فقد عفوت عن الشفعة،
فباع، ثبتت الشفعة، ولغا العفو.
قلت: وكذا لو قال للمشتري: اشتر فلا أطالبك بشفعة، لغا عفوه. والله
أعلم
الثامنة: باع شقصا، فضمن الشفيع العهدة للمشتري، لم تسقط شفعته.
وكذا إذا شرطنا الخيار للشفيع، وصححنا شرطه للأجنبي.
التاسعة: أربعة بينهم دار، فباع أحدهم نصيبه واستحق الشركاء الشفعة
، فشهد اثنان منهم على الثالث بالعفو، قبلت شهادتهما إن شهدا بعد عفوهما، وإن
شهدا قبله، لم تقبل. فلو عفوا ثم أعادا تلك الشهادة، لم تقبل أيضا للتهمة وإن
شهدا بعد عفوهما، قبلت شهادة العافي دون الآخر، فيحلف المشتري مع
العافي، ويثبت العفو. ولو شهد البائع على عفو الشفيع قبل قبض الثمن، لم
تقبل، لأنه قد يقصد الرجوع بتقدير الافلاس. وإن كان بعد القبض، فوجهان، لأنه
ربما توقع العود بسبب ما.
العاشرة: أقام المشتري بينة بعفو الشفيع، وأقام الشفيع بينة بأخذه بالشفعة
والشقص في يده، فهل بينة الشفيع أولى لقوتها باليد، أم بينة المشتري لزيادة علمها
بالعفو؟ وجهان. أصحهما: الثاني.
193

الحادية عشرة: شهد السيد بشراء شقص فيه شفعة لمكاتبه، قال الشيخ أبو
محمد: تقبل شهادته. قال الامام: كأنه أراد أن يشهد للمشتري إذا ادعى الشراء،
ثم ثبتت الشفعة تبعا. فأما شهادته للمكاتب، فلا تقبل بحال.
الثانية عشرة: الشفيع صبي، فعلى وليه الاخذ إن كان فيه مصلحة، وإلا،
فيحرم الاخذ. وإذا ترك بالمصلحة، ثم بلغ، فهل له الاخذ؟ فيه خلاف سبق في
الحجر.
الثالثة عشرة: بينهما دار، فمات أحدهما عن حمل، فباع الآخر نصبيه، فلا
شفعة للحمل، لأنه لا يتيقن وجوده. فإن كان له وارث غير الحمل، فله الشفعة.
وإذا انفصل حيا، فليس لوليه أن يأخذ شيئا من الوارث. ولو ورث الحمل شفعة
عن مورثه، فهل لأبيه أو لجده الاخذ قبل انفصاله؟ وجهان، وبالمنع قال ابن سريج،
لأنه لا يتيقن.
الرابعة عشرة: إذا أخذ الشفيع الشقص، وبنى فيه، أو غرس، فخرج
مستحقا، وقلع المستحق بناءه وغراسه، فالقول فيما يرجع به الشفيع على المشتري
من الثمن وما نقص من قيمة البناء والغراس وغير ذلك، كالقول في رجوع المشتري
من الغاصب عليه.
الخامسة عشرة: مات وله شقص من دار، وعليه دين مستغرق، فباع الشريك
حصته قبل بيع الشقص في الدين، قال ابن الحداد: للورثة أخذه بالشفعة، وهذا
تفريع على الصحيح: أن الدين لا يمنع انتقال الملك في التركة إلى الورثة. وإن
قلنا: يمنع، فلا شفعة لهم. ولو خلف دارا كاملة وعليه دين لا يستغرقها، فبيع
بعضها في الدين، قال ابن الحداد: لا شفعة للورثة فيما بيع بما بقي لهم من
194

الملك، وهذا مستمر على الصحيح، فإنهم إذا ملكوا الدار، كان المبيع جزءا من
ملكهم. ومن يبع من ملكه جزءا بحق، ليكن له استرجاعه بالباقي. وإن قلنا:
يمنع، فهل يمنع في قدر الدين، أم في الجميع؟ فيه خلاف مذكور في موضعه.
وإن قلنا بالثاني، فلا شفعة لهم أيضا، وإلا، فلهم. ولو كانت الدار مشتركة بين
الميت وورثته، فبيع نصيبه أو بعضه في دينه ووصيته، فقال الجمهور: لا شفعة.
وقال ابن الحداد: لهم الشفعة، لان ما بيع في دينه كما لو باعه في حياته، وهو
خلاف مقتضى الأصل المذكور، فإنهم إذا ملكوا التركة صار جميع الدار لهم،
فيكون المبيع جزءا من ملكهم.
فصل في الحيل الدافعة للشفعة منها: أن يبيع الشقص بأضعاف ثمنه
دراهم، ويأخذ عرضا قيمته مثل الثمن الذي تراضيا عليه عوضا عن الدراهم، أو
يحط عن المشتري ما يزيد عليه بعد انقضاء الخيار.
ومنها: ما قاله ابن سريج: يشتري أولا بائع الشقص عرضا يساوي ثمن الشقص بأضعاف ذلك الثمن،
ثم يجعل الشقص عوضا عما لزمه.
ومنها أن يبيع جزءا من الشقص بثمن كله، ويهب له الباقي، وهذه الطرق
فيها غرر، فقد لا يفي صاحبه.
ومنها: أن يجعل الثمن حاضرا مجهول القدر، ويقبضه البائع ولا يزنه، بل
ينفقه أو يخلطه فتندفع الشفعة على الصحيح. وفيها خلاف ابن سريج السابق.
ومنها: إذا وقف الشقص، أو وهبه، بطلت الشفعة على رأي أبي إسحاق.
ومنها: لو باع بعض الشقص، ثم باع الباقي، لم يكن للشفيع أن يأخذ جميع
المبيع ثانيا على أحد الوجهين، فيندفع أخذ جميع المبيع.
ومنها: لو وكل البائع شريكه بالبيع، فباع، لم تكن له الشفعة على أحد
الوجهين. وقد سبق ذكر هذه المسائل.
قلت: ومنها: أن يهب له الشقص بلا ثواب، ثم يهب له صاحبة قدر قيمته،
قال الشيخ أبو حامد: هذا لا غرر فيه، لأنه يمكنه أن يحترز من أن لا يفي صاحبه،
بأن يهبه ويجعله في يد أمين ليقبضه إياه، ويهبه صاحبه قدر قيمته، ويجعله في يد
195

أمين ليقبضه إياه، ثم يتقابضا في حالة واحدة. والله أعلم
فرع عند أبي يوسف: لا يكره دفع الشفعة بالحيلة، إذ ليس فيها دفع حق
على الغير، فإنه إنما يثبت بعد البيع. وعند محمد بن الحسن: يكره دفع الشفعة
بالحيلة، لما فيها من إبقاء الضرر، وهذا أشبه بمذهبنا في الحيلة في منع وجوب
الزكاة.
قلت: عجب من الامام الرافعي رحمه الله كيف قال ما قال، مع أن المسألة
مسطورة، وفيها وجهان. أصحهما، وبه قال ابن سريج، والشيخ أبو حامد: تكره
هذه الحيلة. والثاني: لا، قاله أبو حاتم القزويني في كتاب الحيل. أما الحيل في
دفع شفعة الجار، فلا كراهة فيها قطعا، وفيها من الحيل غير ما سبق (ما) ذكره المتولي
أنه يشتري عشر الدار مثلا بتسعة أعشار الثمن، فلا يرغب الشفيع لكثرة الثمن، ثم
يشتري تسعة أعشاره بعشر الثمن، فلا يتمكن الجار من الشفعة، لان المشتري حالة
الشراء شريك في الدار، والشريك مقدم على الجار، أو يخط البائع على طرف ملكه
خطا مما يلي دار جاره، ويبيع ما وراء الخط فتمتنع شفعة الجار، لان بين ملكه وبين
المبيع فاصلا، ثم يهبه الفاصل. والله أعلم
196

كتاب القراض
القراض والمقارضة والمضاربة، بمعنى، وهو أن يدفع مالا إلى شخص
ليتجر فيه والربح بينهما. ودليل صحته إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وفيه ثلاثة
أبواب.
الأول: في أركان صحته، وهي خمسة.
(الركن) الأول: رأس المال، وله أربعة شروط.
الأول: أن يكون نقدا، وهو الدراهم والدنانير المضروبة، ودليله الاجماع.
ولا يجوز على الدراهم المغشوشة على الصحيح، ولا على الفلوس على
197

المذهب.
قلت: قد ذكر الفوراني في جواز، القراض على ذوات المثل وجهين، وهذا
شاذ منكر، والصواب المقطوع به: المنع. والله أعلم
الشرط الثاني: أن يكون معلوما. فلو دفع إليه ثوبا وقال: بعه وقد قارضتك
على ثمنه، لم يجز.
الشرط الثالث: أن يكون معينا. فلو قارض على دراهم غير معينة، ثم أحضر
في المجلس وعينها، قطع القاضي والامام بجوازه، كالصرف والسلم، وقطع
البغوي بالمنع. ولو كان له دين على رجل، فقال لغيره: قارضتك على ديني على
فلان، فاقبضه واتجر فيه، أو قارضتك عليه لتقبض وتتصرف، أو أقبضه فإذا قبضته
فقد قارضتك عليه، لم يصح، وإذا قبض العامل وتصرف فيه، لم يستحق
الربح المشروط، بل الجميع لرب المال، وللعامل أجرة مثل التصرف إن كان قال: إذا قبضت
فقد قارضتك. وإن قال: قارضتك عليه لتقبض وتتصرف، استحق أجرة مثل
التقاضي والقبض أيضا. ولو قال للمديون: قارضتك على الدين الذي لي عليك، لم
يصح القراض، بل لو قال: اعزل قدر حقي من مالك، فعزله، ثم قال: قارضتك
عليه، لم يصح، لأنه لم يملكه. فإذا تصرف المأمور فيما عزله، نظر، إن اشترى
بعينه للقراض، فهو كالفضولي يشتري لغيره بعين ماله. وإن اشترى في الذمة،
فوجهان. أصحهما عند البغوي: أنه للمالك، لأنه اشترى له باذنه. وأصحهما: عند
198

الشيخ أبي حامد: للعامل، لان المالك لم يملك اليمين. وحيث كان المعزول
للمالك، فالربح ورأس المال له لفساد القراض، وعليه الأجرة للعامل. ولو دفع
كيسين في كل ألف، وقال: قارضتك على أحدهما، فوجهان. أحدهما: يصح،
لتساويهما. وأصحهما: المنع، لعدم التعيين.
قلت: فعلى الأول يتصرف العامل في أيهما شاء، فيتعين للقراض. والله
أعلم
ولو كانت دراهمه في يد غيره وديعة، فقارضه عليها، صح، ولو كانت
غصبا، صح على الأصح، كما لو رهنه عند الغاصب. وعلى هذا، لا يبرأ من
ضمان الغصب كما في الرهن.
قلت: معناه: لا يبرأ بمجرد القراض. أما إذا تصرف العامل فباع
واشترى، فيبرأ من ضمان الغصب، لأنه سلمه بإذن المالك، وزالت عنه يده، وما
يقبضه من الأعواض، يكون أمانة في يده، لأنه لم يوجد منه فيها مضمن. والله
أعلم
الشرط الرابع: أن يكون رأس المال مسلما إلى العامل، ويستقل باليد عليه
والتصرف فيه. فلو شرط المالك أن يكون الكيس في يده، ويوفي منه الثمن إذا
اشترى العامل شيئا، أو شرط أنه يراجعه في التصرفات، أو مشرفا نصبه، فسد
القراض. ولو شرط أن يعمل معه المالك بنفسه، فسد على الصحيح. وقال أبو
يحيى البلخي: يجوز على سبيل المعاونة والتبعية. ولو شرط أن يعمل معه غلام
المالك، فوجهان. ويقال: قولان. الصحيح الذي عليه الأكثرون: صحته،
199

لان العبد مال، ولمالكه إعارته وإجارته، فيكون في معنى إذن المالك في
استخدامه. هذا إذا لم يصرح بحجة على العامل، فأما إذا قال: على أن يعمل
معك غلامي ولا تتصرف دونه، أو يكون بعض المال في يده، فيفسد قطعا. ولو
شرط أن يعطيه بهيمة يحمل عليها، جاز على المذهب. ولو لم يشرط عمل الغلام
معه، ولكن شرط ثلث الربح له، والثلث لغلامه، والثلث للعامل، جاز.
وحاصله: اشتراط ثلثي الربح لنفسه، نص عليه في المختصر.
فرع قال المتولي: لو كان بينه وبين غيره دراهم مشتركة، فقال لشريكه:
قارضتك على نصيبي منها، صح، إذ ليس له إلا الإشاعة، وهي لا تمنع صحة
التصرف. قال: ولو خلط ألفين بألف لغيره، ثم قال صاحب الألفين للآخر:
قارضتك على أحدهما وشاركتك في الآخر، فقبل، جاز، وانفرد العامل بالتصرف
في ألف القراض، ويشتركان في التصرف في باقي المال، ولا يخرج على الخلاف
في الصفقة الواحدة تجمع عقدين مختلفين، لأنهما جميعا يرجعان إلى التوكيل
بالتصرف.
فرع لا يجوز جعل رأس المال سكنى دار، لأنه إذا لم يجعل العرض رأس
مال، فالمنفعة أولى.
الركن الثاني: العمل، وله شروط.
الأول: أن يكون تجارة، ويتعلق بهذا الشرط مسائل.
الأولى: لو قارضه على أن يشتري الحنطة فيطحنها ويخبزها، والطعام ليطبخه
ويبيعه، والغزال لينسجه، والثوب أو ليقصده، والدبغ بينهما، فهو فاسد.
ولو اشترى العامل الحنطة، وطحنها ليقصره من غير شرط، فوجهان. أحدهما، وهو قول
القاضي حسين وآخرين: يخرج الدقيق عن كونه رأس مال قراض. فإن لم يكن في
يده غيره، انفسخ القراض، لان الربح حينئذ لا يحال على البيع والشراء فقط. وعلى
هذا، لو أمر المالك العامل بطحن حنطة القراض، كان فسخا للقراض.
وأصحهما: أن القراض بحاله، كما لو زاد عبد القراض بكبر، أو سمن، أو تعلم
200

صنعة، فإنه لا يخرج عن كونه مال قراض، لكن إن استقل العامل بالطحن، صار
ضامنا، ولزمه الغرم إن نقض الدقيق. فإن باعه، لم يكن الثمن مضمونا عليه، لأنه
لم يتعد فيه، ولا يستحق العامل بهذه الصناعات أجرة ولو استأجر عليها، والأجرة
عليه، والربح بينه وبين المالك كما شرطا.
الثانية: قارضه على دراهم على أن يشتري نخيلا، أو دواب، أو مستغلات
ويمسك رقابها لثمارها ونتاجها وغلاتها، وتكون الفوائد بينهما، فهو فاسد، لأنه
ليس ربحا بالتجارة، بل من عين المال.
الثالثة: شرط أن يشتري شبكة ويصطاد بها والصيد بينهما، فهو فاسد،
ويكون الصيد للصائد، وعليه أجرة الشبكة.
الشرط الثاني: أن لا يكون مضيقا عليه بالتعيين. فلو عين نوعا يندر
كالياقوت الأحمر والخز الأدكن، والخيل العتق، والصيد حيث يندر، فسد
القراض، لأنه تضييق يخل بالمقصود. وإن لم يندر، ودام شتاء وصيفا
كالحبوب، والحيوان، والخز، والبز، صح القراض. وإن لم يدم، كالثمار
الرطبة، فوجهان. أصحهما: الجواز، والثاني: المنع، إلا إذا قال: تصرف
فيه، فإذا انقطع، فتصرف في كذا، فيجوز. ولو قال: لا تشتر إلا هذه السلعة، أو
إلا هذا العبد، فسد، بخلاف ما لو قال: لا تشتر هذه السلعة، لأنه يمكن شراء
غيرها. ولو قال: لا تبع إلا لزيد، أو لا تشتر إلا منه، لم يجز، وقال
الماسرجسي: إن كان المعين بياعا لا ينقطع عنده المتاع الذي يتجر في نوعه غالبا،
جاز تعيينه، والمعروف، الأول. ولو قال: لا تبع لزيد ولا تشتر منه، جاز على
الصحيح.
201

فرع لا يشترط تعيين نوع يتصرف فيه على الصحيح، بخلاف الوكالة.
فرع إذا جرى تعيين صحيح، لم يكن للعامل مجاوزته كما في سائر
التصرفات المستفادة بالاذن. ثم الاذن في البز، يتناول ما يلبس من المنسوج، من
الإبريسم، والقطن، والكتان والصوف، دون البسط، والفرش. وفي الأكسية،
وجهان، لأنها ملبوسة، لكن لا يسمى بائعها بزازا.
قلت: أصحهما: المنع. والله أعلم
الشرط الثالث: أن لا يضيق بالتوقيت، ولا يعتبر في القراض بيان المدة،
بخلاف المساقاة، لان مقصودها وهو الثمرة، ينضبط بالمدة. فلو وقت فقال:
قارضتك سنة، فإن منعه من التصرف بعدها مطلقا، أو من البيع، فسد، لأنه يخل
بالمقصود. وإن قال: على أن لا تشتري بعد السنة، ولك البيع، صح على
الأصح، لان المالك يتمكن من منعه من الشراء متى شاء، بخلاف البيع. ولو
اقتصر على قوله: قارضتك سنة، فسد على الأصح. وعلى الثاني: يجوز،
ويحمل على المنع من الشراء، استدامة للعقد. ولو قال: قارضتك سنة على أن لا
أملك الفسخ قبل انقضائها، فسد.
فرع لا يجوز أن يعلق القراض، فيقول: إذا جاء رأس الشهر فقد
قارضتك، كما لا يعلق البيع ونحوه. ولو قال: قارضتك الآن ولا تتصرف حتى
ينقضي الشهر، فقيل: يجوز كالوكالة. والأصح: لا يجوز، كقوله: بعتك ولا
تملك إلا بعد شهر.
الركن الثالث: الربح، وله أربعة شروط.
الأول: أن يكون مخصوصا بالمتعاقدين. فلو شرط بعضه لثالث فقال: على
أن يكون ثلثه لك، وثلثه لي، وثلثه لزوجتي، أو لابني، أو لأجنبي، لم يصح،
إلا أن يشرط عليه العمل معه، فيكون قراضا مع رجلين. ولو كان المشروط له عبدا
لمالك، أو عبدا لعامل، كان ذلك مضموما إلى ما (شرط) للمالك أو للعامل. ولو
202

قال: نصف الربح لك ونصفه لي، ومن نصيبي نصفه لزوجتي، صح القراض،
وهذا وعد هبة لزوجته. ولو قال للعامل: لك كذا على أن تعطي ابنك أو امرأتك
نصفه، قال القاضي أبو حامد: إن ذكره شرطا، فسد القراض، وإلا، فلا.
الشرط الثاني: أن يكون مشتركا بينهما. فلو قال: قارضتك على أن يكون
جميع الربح لك، فوجهان. أصحهما: أنه قراض فاسد رعاية للفظ. والثاني: أنه
قراض صحيح رعاية للمعنى. ولو قال: قارضتك على أن الربح كله لي، فهل هو
قراض فاسد، أم إبضاع؟ فيه الوجهان. ولو قال: أبضعتك على أن نصف الربح
لك، فهو إبضاع، أم قراض؟ فيه الوجهان. ولو قال: خذ هذه الدراهم وتصرف
فيها والربح كله لك، فهو قرض صحيح عند ابن سريج والأكثرين، بخلاف ما لو
قال: قارضتك والربح كله لك، لان اللفظ صريح في عقد آخر. قال الشيخ أبو
محمد: لا فرق بين الصورتين. وقال القاضي حسين: الربح والخسران للمالك،
وللعامل أجرة المثل، ولا يكون قرضا، لأنه لم يملكه. ولو قال: تصرف فيها
والربح كله لي، فهو إبضاع.
الشرط الثالث: أن يكون معلوما. فلو قال: قارضتك على أن لك في الربح
شركا، أو شركة، أو نصيبا، فسد. وإن قال: لك مثل ما شرطه فلان لفلان، فإن
كانا عالمين به، صح. وإن جهله أحدهما، فسد. ولو قال: الربح بيننا، ولم
يبين، فوجهان. أحدهما: الفساد. وأصحهما: الصحة، وينزل على
النصف، كقوله: هذه الدار بيني وبين زيد، يكون مقرا بالنصف. ولو قال: على
أن ثلث الربح لك، وما بقي فثلثه لي وثلثاه لك، صح. وحاصله اشتراط سبعة
أتساع الربح للعامل، هذا إذا علما عند العقد أن المشروط للعامل بهذا اللفظ كم
هو، فإن جهلاه أو أحدهما، صح أيضا على الأصح، وبه قطع في الشامل،
لسهولة معرفته. ويجري الخلاف، فيما إذا قال: (لك) من الربح سدس ربع العشر،
وهما لا يعلمان قدره عند العقد أو أحدهما.
203

الشرط الرابع: أن يكون العلم به من حيث الجزئية، لا من حيث التقدير.
فلو قال: لك من الربح، أو لي منه درهم أو مائة، والباقي بيننا نصفين، فسد
القراض. وكذا لو قال: نصف الربح إلا درهما، وكذا إذا اشترط أن يوليه سلعة كذا
إذا اشتراها برأس المال، لأنه ربما لا يربح إلا فيها، أو أن يلبس الثوب المشترى،
أو يركب الدابة، أو اختصاص أحدهما بربح صنف من المال، أو قال: ربح أحد
الألفين لي، وربح الآخر لك، وشرط تمييز الألفين. فلو دفعهما إليه ولا تمييز،
وقال: ربح أحدهما لي، وربح الآخر لك، فسد أيضا على الأصح. وقيل: يصح
ويكون كقوله: نصف ربح الألفين لك.
الركن الرابع: الصيغة.
القراض والمضاربة والمعاملة، ألفاظ مستعملة في هذا العقد. فإذا قال:
قارضتك، أو ضاربتك، أو عاملتك، على أن الربح بيننا نصفين، كان إيجابا
صحيحا. ويشترط القبول متصلا الاتصال المعتبر في سائر العقود. ولو قال: خذ
هذا الألف واتجر فيه، على أن الربح بيننا نصفين، فقطع القاضي حسين والبغوي،
بأنه قراض، ولا يفتقر إلى القبول. وقال الامام: قطع شيخي والطبقة العظمى من
نقلة المذهب: أنه لا بد من القبول، بخلاف الجعالة والوكالة، لان القراض عقد
معاوضة يختص بمعين. ولو قال: قارضتك على أن نصف الربح لي، وسكت
عن جانب العامل، لم يصح على الأصح وقيل: يصح ويكون بينهما نصفين. ولو
قال: على أن نصف الربح لك، وسكت عن جانب نفسه، أو على أن لك النصف
ولي السدس، وسكت عن الباقي، صح على الصحيح، وكان بينهما نصفين.
الركن الخامس: العاقدان.
فالقراض توكيل وتوكل، فيعتبر فيهما ما يعتبر في الوكيل والموكل، ويجوز
لولي الطفل والمجنون أن يقارض بمالهما، سواء فيه الأب، والجد، والوصي،
والحاكم، وأمينه.
204

فصل إذا قارض في مرض موته، صح، ويسلم للعامل الربح المشروط
وإن زاد على أجرة المثل، ولا يحسب من الثلث ولو ساقاه في مرض الموت
وزاد على مثله، حسبت الزيادة من الثلث على الأصح والفرق: أن النماء في
المساقاة من عين المال.
فصل يجوز أن يقارض الواحد اثنين وعكسه. فإذا قارض اثنين، وشرط
لهما نصف الربح بالسوية، جاز، ولو شرط لأحدهما ثلث الربح، وللآخر ربعه،
فإن أبهم، لم يجز. وإن عين صاحب الثلث وصاحب الربع، جاز. قال الامام:
وإنما يجوز أن يقارض اثنين إذا أثبت لكل واحد الاستقلال. فإن شرط كل واحد
مراجعة الآخر، لم يجز. هذا كلام الامام، وما أظن الأصحاب يساعدونه عليه.
وإذا قارض اثنان واحدا، فليبينا نصيب العامل من الربح، ويكون الباقي بينهما على
قدر ماليهما. ولو قالا: لك من نصيب أحدنا من الربح الثلث، ومن نصيب الآخر
الربع، فإن أيهما، لم يجز. وإن عينا وهو عالم بقدر مال كل واحد، جاز، إلا أن
يشترطا كون الباقي بين المالكين على غير ما تقتضيه نسبة المالين.
فصل إذا فسد القراض بتخلف بعض الشروط، فله ثلاثة أحكام.
أحدها: تنفذ تصرفاته كنفوذها في القراض الصحيح لوجود الاذن كالوكالة
الفاسدة. الثاني: سلامة الربح بكماله للمالك. الثالث: استحقاق العامل أجرة
مثل عمله، سواء كان في المال ربح، أم لا، هذه الأحكام مطردة في صور
الفساد، لكن لو قال: قارضتك على أن جميع الربح لي، وقلنا: هو قراض فاسد،
لا إبضاع، ففي استحقاق العامل أجرة المثل، وجهان. أصحهما: المنع، لأنه
205

عمل مجانا.
فرع قال في المختصر لو دفع إليه ألفا وقال: اشتر بها هرويا أو مرويا
بالنصف، فهو فاسد. واختلفوا في سبب فساده، فالأصح، وفي سياق الكلام ما
يقتضيه: أنه تعرض للشراء دون البيع، وهذا تقريع على الأصح أن التعرض
للشراء لا يغني عن التعرض للبيع بل لا بد من لفظ المضاربة ونحوها لتناول البيع
والشراء، أو (من) لفظ البيع والشراء جميعا. وإذا اقتصر على الشراء، فللمدفوع إليه
الشراء دون البيع، والربح كله للمالك، والخسران عليه. وقيل: يكفي التعرض
للشراء، ويتضمن الاذن في البيع بعده، وقيل: إذا أتى بلفظ المضاربة أو القراض
كان كقوله: اشتر، من غير تعرض للبيع. والصحيح: الصحة. وقيل: سببه أنه
لم يبين لمن النصف. واعترض ابن سريج على هذا، بأن الشرط ينصرف إلى
العامل، لان المالك يستحق بالمال، لا بالشرط. وقال ابن أبي هريرة: سبب
الفساد، أنه لم يعين أحد النوعين، ولا أطلق التصرف في أنواع الأمتعة. واعترض
القاضي حسين عليه، بأنه لو عين أحدهما، حكمنا بالصحة، فإذا ذكرهما على
الترديد، زاد العامل بسطة وتخييرا، فهو أولى بالصحة.
قلت: هذا الاعتراض ليس بمقبول، لان حاصله أنه حمل لفظة أو على
التخيير، وابن أبي هريرة ينكر ذلك ويقول: إنما أذن له في أحدهما وشك في
المراد. والله أعلم
وقيل: سببه أن القراض إنما يصح إذا أطلق التصرف في الأمتعة، أو عين
جنسا يعم وجوده، والهروي والمروي ليسا كذلك، وكأن هذا القائل يقرضه في بلد
لا يعمان فيه. وقال الامام: يجوز أن يكون سببه أنه أرسل ذكر النصف ولم يقل:
نصف الربح.
الباب الثاني في أحكام القراض الصحيح
هي ثلاثة أبواب.
الأول: تقيد تصرف العامل بالمصلحة كتصرف الوكيل، ثم قد تقتضي
206

المصلحة التسوية بينهما، وقد تقتضي الفرق، فبيع العامل وشراؤه بالغبن
كالوكيل، ولا يبيع أيضا نسيئة، ولا يشتري بها. فإن أذن المالك في البيع
نسيئة، ففعل، وجب الاشهاد، فإن تركه، ضمن، ولا حاجة إليه في البيع حالا
لأنه يحبس المبيع إلى استيفاء الثمن، ولو سلمه قبل استيفائه، ضمن، كالوكيل.
فإن كان مأذونا له في التسليم قبل قبض الثمن، سلمه، ولم يلزمه الاشهاد، لان
العادة ترك الاشهاد في البيع الحال. ويجوز للعامل البيع بالعرض، بخلاف
الوكيل، لأنه من مصالح القراض، وكذا له شراء المعيب إذا رأى فيه ربحا، فإن
اشتراه بقدر قيمته، قال المتولي: في صحته وجهان، لان الرغبات تقل في
المعيب.
قلت: الأصح: الجواز إذا رأى المصلحة. والله أعلم
وإن اشترى شيئا على ظن السلامة، فبان معيبا، فله أن ينفرد برده إن كانت فيه
غبطة، ولا يمنعه (منه) رضى المالك، بخلاف الوكيل، لان العامل صاحب حق في
المال. وإن كانت الغبطة في إمساكه، لم يكن له رده على الأصح، لاخلاله
بالمقصود. وحيث ثبت الرد للعامل، فللمالك أولى. قال الامام: ثم العامل يرد
على البائع وينقض البيع. وأما المالك، فإن كان الشراء بعين مال القراض،
فكمثل، وإن كان في الذمة، فيصرفه المالك عن مال القراض. وفي انصرافه إلى
العامل ما سبق في انصراف العقد إلى الوكيل إذا لم يقع للموكل. ولو تنازع المالك
207

والعامل في الرد وتركه، عمل بالمصلحة.
فرع لا يجوز للمالك معاملة العامل، بأن يشتري من مال القراض شيئا،
لأنه ملكه كالسيد مع المأذون له.
فرع لا يجوز أن يشتري للقراض بأكثر من رأس المال. فلو فعل، لم يقع
ما زاد عن جهة القراض. فلو دفع إليه مائة قراضا، فاشترى عبدا بمائة، ثم آخر
بمائة للقراض أيضا، لم يقع الثاني للقراض، بل ينظر إن كان اشتراه بعين المائة
فالشراء باطل، سواء اشترى الأول بعين المائة أو في الذمة. وإن اشتراه في الذمة،
انصرف إلى العامل حيث ينصرف شراء الوكيل المخالف إليه. وإذا انصرف إليه،
فصرف مائة القراض في ثمنه، فقد تعدى، ودخلت المائة في ضمانه، لكن العبد
الأول يبقى أمانة في يده لأنه لم يتعد فيه. فإن تلفت المائة والشراء الأول بعينها،
انفسخ، وإن كان في الذمة، لم ينفسخ، وثبت للمالك على العامل مائة، والعبد
الأول للمالك، وعليه لبائعه مائة، فإن أداها العامل بإذن المالك، وشرط الرجوع،
ثبت له مائة على المالك، ووقع الكلام في التقاص. وإن أداها بغير إذنه، برئ
المالك عن حق صاحب العبد، ويبقى حقه على العامل.
فصل اشترى العامل من يعتق على المالك، فأما أن يشتريه باذنه، وإما
بغيره.
الحال الأول: باذنه، فيصح. ثم إن لم يكن في المال ربح، عتق على
المالك وارتفع القراض إن اشتراه بجميع مال القراض، وإلا، فيصير الباقي رأس
مال. وإن كان في المال ربح، بني على أن العامل متى يملك نصيبه من الربح؟ إن
قلنا: بالقسمة، عتق أيضا، وغرم المالك نصيبه من الربح، وكأنه استرد طائفة من
المال بعد ظهور الربح، وإن قلنا: يملك بالظهور، عتق منه حصة رأس المال
208

ونصيب المالك من الربح، وسرى إلى الباقي إن كان موسرا ويغرمه، وإن كان
معسرا، بقي رقيقا. وفي وجه: إذا كان في المال ربح وقد اشتراه ببعض المال،
نظر، إن اشتراه بقدر رأس المال، عتق وكأن المالك استرد المال، والباقي ربح
يتقاسمانه، وإن اشتراه بأقل، حسب من رأس المال، أو بأكثر، حسب قدر رأس
المال من رأس المال والزيادة من حصة المالك ما أمكن. والصحيح الأول. ولو
أعتق المالك عبدا من مال القراض، فهو كشراء العامل من يعتق عليه باذنه.
الحال الثاني: يشتريه بغير إذنه، فلا يقع (الشراء) عن المالك بحال، إذ لا
مصلحة فيه للقراض، ثم إن اشتراه بعين مال القراض، بطل من أصله. وإن كان
في الذمة، وقع عن العامل، ولزمه الثمن من ماله. فإن أداه من مال القراض،
ضمن.
فرع اشترى زوجة المالك، أو زوجها بلا إذن، قيل: يصح. والأصح
المنصوص، المنع كمن يعتق عليه، لأنه لو صح لانفسخ النكاح وتضرر، وإنما قصد
بالاذن ما فيه حظ. فعلى هذا، هو كما لو اشترى من يعتق عليه بلا إذن.
فرع لو وكل بشراء عبد، فاشترى الوكيل من يعتق على الموكل، صح
ووقع عن الموكل على المذهب، وبه قطع الجمهور، لان اللفظ شامل، بخلاف
القراض، فإن مقصوده الربح فقط، ونقل الامام وجها: أنه لا يقع للموكل بل
يبطل الشراء إن اشترى بعين المال، ويقع عن الوكيل إن كان في الذمة.
فرع العبد المأذون له (في التجارة)، إذا اشترى من يعتق على سيده باذنه،
صح، وعتق عليه إن لم تركبه ديون، وإلا، فقولان، لان ما في يده كالمرهون
بالديون. وإن اشترى بغير إذنه، لم يصح على الأظهر. والثاني: يصح، ويعتق
عليه. ورأي الامام القطع بالبطلان إن كان (أذن) في التجارة، وجعل الخلاف فيما إذا
قال: تصرف في هذا المال واشتر عبدا. والجمهور على جريان القولين في الاذن
في التجارة، وهو نصه في المختصر. ثم هذا الخلاف، إذا لم يركبه دين، فإن
ركبه، ترتب على الخلاف فيما إذا لم يركبه، وأولى بالبطلان. فإن صح، ففي نفوذ
العتق القولان.
209

فرع اشترى العامل من يعتق عليه، فإن لم يكن في المال ربح، صح ولم
يعتق كالوكيل يشتري أباه لموكله، ثم إن ارتفعت الأسعار وظهر ربح، بني على
القولين في أن العامل متى يملك الربح؟ إن قلنا: بالقسمة، لم يعتق منه شئ.
وإن قلنا: بالظهور، عتق عليه بقدر حصته على الأصح. وقيل: لا يعتق، لعدم
استقرار ملكه. فإن قلنا: بالأصح، ففي السراية وتقويم الباقي عليه إن كان موسرا،
وجهان. أصحهما وبه قال الأكثرون: تثبت كما لو اشتراه وفيه ربح وقلنا: يملك
بالظهور. وإن كان في المال ربح، سواء كان حاصلا قبل الشراء، أو حصل بنفس
الشراء بأن كان رأس المال مائة، فاشترى بها أباه وهو يساوي مائتين، فإن قلنا:
يملك الربح بالقسمة، صح الشراء ولم يعتق، وإلا ففي صحة الشراء في قدر
حصته من الربح، وجهان. أصحهما: الصحة، لأنه مطلق التصرف في ملكه.
والثاني: لا، لأنه يخالف غرض الاسترباح. فإن منعنا، ففي الصحة في نصيب
المالك قولا الصفقة، وإن صححنا، ففي عتقه عنه الوجهان السابقان. فإن قلنا:
يعتق، فإن كان موسرا، سرى العتق إلى الباقي ولزمه الغرم، لأنه مختار في
الشراء، وإلا، فيبقى الباقي رقيقا. هذا كله إذا اشترى بعين مال القراض، فأما إن
اشترى في الذمة للقراض، فحيث صححنا الشراء بعين مال القراض، أوقعناه هنا
عن القراض، وحيث لم نصحح هناك، أوقفناه هنا عن العامل، وعتق عليه.
وحكي قول: أنه إذا أطلق الشراء ولم يصرفه إلى القراض لفظا، ثم قال: كنت
نويته، وقلنا: إنه إذا وقع عن القراض لا يعتق منه شئ، لم يقبل قوله، لان الذي
جرى عقد عتاقه، فلا يقبل رفعه.
فرع ليس للعامل أن يكاتب عبد القراض بغير إذن المالك. فإن كاتباه
معا، جاز، وعتق بالأداء، ثم إن لم يكن في المال ربح، فولاؤه للمالك ولا
ينفسخ القراض بما جرى من الكتابة على الأصح، بل ينسحب على النجوم، وإن
كان فيه ربح، فالولاء بينهما على حسب الشرط، وما يزيد من النجوم على القيمة،
ربح.
الحكم الثاني: منع مقارضة العامل غيره. فلو قارض بإذن المالك وخرج
210

من الدين وصار وكيلا في مقارضة الثاني، صح، ولا يجوز أن يشرط العامل الأول
لنفسه شيئا من الربح. ولو فعل، فسد القراض الثاني، ولعامله أجرة المثل على
المالك، لما سبق أن شرط الربح لغير العامل والمالك ممتنع. وإن أذن (له) في أن
يعامل غيره ليكون ذلك الغير شريكا له في العمل والربح المشروط له على ما يراه،
فقيل: يجوز كمقارضة شخصين ابتداء، والأصح: المنع. وإن قارض بغير إذن
المالك، فهو فاسد، ويجئ فيه قول وقف عقد الفضولي على الإجازة. فإذا قلنا
بالمشهور، فتصرف الثاني في المال وربح، فهو كالغاصب إذا أتجر في
المغصوب.
تصرف في عينه، فتصرف فضولي، وإن باع سلما، أو اشترى في الذمة
وسلم المغصوب فيما التزمه وربح، فالربح للغاصب في الجديد، وللمالك في القديم. وفي هذا القديم، أبحاث.
أحدها: هل الربح للمالك جزما، أم موقوف على إجازته؟ قيل: بالوقف
كبيع الفضولي على القديم. فعلى هذا، إن رده، ارتد، سواء اشترى في الذمة أم
بعين المغصوب، وقال الأكثرون بالجزم، وبنوه على المصلحة، وكيف يصح وقف
شراء الغاصب لنفسه على إجازة غيره، وإنما قول الوقف إذا تصرف في عين مال
الغير أو له؟
الثاني: أن هذا القول جار فيما إذا كان في المال ربح وكثرت التصرفات وعسر
تتبعها، فإن سهل وقلت ولا ربح، فلا مجال له. فإن سهل وهناك ربح، أو عسر ولا
211

ربح، فوجهان، وسواء في الربح القليل والكثير.
الثالث: لو اشترى في ذمته ولم يخطر له أن يؤدي الثمن من الدراهم
المغصوبة، ثم خطر له، قال الامام: ينبغي أن لا يجري القديم إن صدقه المالك.
وهذه المسألة تلقب بمسألة البضاعة، وقد ذكرناها مختصرة في أول البيع وفي
الغصب. وإذا قلنا بالجديد، فاشترى بعين مال القراض، فباطل، وإن اشترى في
الذمة، فهل جميع الربح للعامل الثاني لأنه المتصرف كالغاصب؟ أم للأول لان
الثاني تصرف باذنه كالوكيل؟ وجهان. أصحهما: الأول، وعليه للثاني أجرة
عمله. وإذا قلنا: بالقديم، ففيما يستحقه المالك من الربح؟ وجهان. أحدهما:
جميعه كالغصب. فعلى هذا، للعامل الثاني أجرة عمله قيل: يأخذها من العامل
الأول، لأنه استعمله، وقيل: من المالك، لان نفع عمله عاد إليه. و (الوجه) الثاني
وهو الصحيح: له نصف الربح، لأنه رضي بخلاف به، بخلاف صورة الغصب. فعلى
هذا، في النصف الثاني أوجه. قيل: كله للعامل الأول، وللثاني عليه أجرة عمله،
لأنه غرة، وقيل: للثاني. وقيل: كله للعامل الأول، وللثاني عليه أجرة عمله،
لأنه غرة. وقيل: للثاني. وقيل: بينهما بالسوية، وهو الأصح. وعلى هذا، في
رجوع الثاني بنصف أجرة المثل، وجهان. أصحهما: لا، لأنه أخذ نصف ما
حصل لهما، والوجهان فيما إذا كان الأول قال: على أن ربح هذا المال بيننا، أو
على أن لكل نصفه. فإن كان قال: ما رزقنا الله تعالى من الربح فهو بيننا، فلا
رجوع على المذهب، وبه قطع الأكثرون، لان النصف، هو الذي رزقاه. وعن
الشيخ أبي محمد، طرد الوجهين، لان المفهوم، بشطر جميع الربح. وجميع ما
ذكرناه إذا كان القراضان على المناصفة، فإن كانا هما أو أحدهما على نسبة أخرى،
فعلى ما تشارطا. هذا كله إذا تصرف الثاني وربح. أما لو هلك المال في يده، فإن
كان عالما بالحال، فغاصب. وإن ظن العامل مالكا، فهو كالمستودع من الغاصب،
لان يده أمانة. وقيل: كالمتهب من الغاصب، لعود النفع إليه، وقد سبق بيانهما
ضمانا وقرارا.
الحكم الثالث: منعه السفر بمال القراض، فليس له السفر به بغير إذن
المالك، وفي قول: له ذلك عند أمن الطريق، نقله البويطي. فعلى المشهور:
212

لو سافر، ضمن المال، ثم إن كان المتاع بالبلدة التي سافر إليها أكثر قيمة، أو
تساوت القيمتان، صح البيع، واستحق الربح بسبب الاذن. وإن كان أقل قيمة، لم
يصح البيع، إلا أن يكون النقص قدرا يتغابن به. وإذا صححنا البيع، فالثمن الذي
يقبضه مضمون عليه، بخلاف الوكيل في البيع إذا تعدى ثم باع، لا يضمن الثمن
الذي يقبضه، لأنه لم يتعد فيه، وهنا العدوان بالسفر، وهو شامل، ولا تعود الأمانة
بالعود من السفر. أما إذا سافر بالاذن، فلا عدوان ولا ضمان. قال المتولي: ويبيع
بما كان يبيعه في البلد الذي سافر منه، فإن لم يساو إلا ما دونه، فإن ظهر فيه
غرض، بأن كانت مؤنة الرد أكثر من قدر النقص، أو أمكن صرف الثمن إلى متاع
يتوقع فيه ربحا، فله البيع، وإلا، فلا يجوز، لأنه تخسير محض.
قلت: وإذا سافر بالاذن، لم يجز سفره في البحر إلا بنص عليه. والله
أعلم
فصل على العامل أن يتولى ما جرت العادة به من نشر الثياب وطيها وذرعها
وإدراجها في السفط وإخراجها ووزن ما يخف كالذهب والمسك والعود وقبض الثمن
وحمله وحفظ المتاع على باب الحانوت، وفي السفر بالنوم عليه ونحوه، وليس عليه
وزن الأمتعة الثقيلة وحملها، ولا نقل المتاع من الخان إلى الحانوت والنداء عليه،
ثم ما عليه أن يتولاه لو استأجر عليه، فالأجرة في ماله، وما ليس عليه أن يتولاه، له
أن يستأجر عليه من مال القراض. ولو تولاه بنفسه، فلا أجرة له.
فصل أجرة الكيال والوزان والحمال، في مال القراض، وكذا أجرة النقل
إذا سافر بالاذن، وكذا أجرة الحارس والرصدي.
213

فرع لا يجوز للعامل أن يتصدق من مال القراض بشئ أصلا، ولا أن
ينفق منه على نفسه في الحضر قطعا. وفي السفر، قولان. أظهرهما: لا نفقة له،
كالحضر. والثاني: له. وقيل: بالمنع قطعا. وقيل: بالاثبات قطعا. فإن أثبتنا،
فالأصح أنه يختص بما يزيد بسبب السفر، كالخف والإداوة وشبههما. وقيل: يطرد
في كل ما يحتاج إليه من طعام وكسوة وإدام وغيرها.
قلت: وإذا قلنا بالاختصاص، استحق أيضا ما يتجدد بسبب السفر من زيادة
النفقة، واللباس، والكراء، ونحوها. والله أعلم
ويتفرع على الاثبات مسائل.
منها: لو استصحب مال نفسه مع مال القراض، وزعت النفقة على قدر المالين.
قال الامام: ويجوز أن ينظر إلى قدر العمل على المالين، ويوزع على أجرة مثلهما.
وقال أبو الفرج السرخسي: إنما يوزع إذا كان ماله قدرا يقصد السفر له.
قلت: قد قال بمثل قول السرخسي أبو علي في الافصاح، وصاحب البيان.
والله أعلم
ومنها: لو رجع العامل ومعه فضل زاد، أو آلات أعدها للسفر، كالمطهرة
ونحوها، لزمه ردها إلى مال القراض على الصحيح.
ومنها: لو استرد المالك منه المال في الطريق أو في البلد الذي سافر إليه، لم
يستحق نفقة الرجوع على الأصح، كما لو خالع زوجته في السفر.
ومنها: أنه يشترط أن لا يسرف، بل يأخذ بالمعروف، وما يأخذه يحسب من
الربح، فإن لم يكن ربح، فهو خسران لحق المال، ومهما أقام في طريقه فوق مدة
المسافرين في بلد، لم يأخذ لتلك المدة.
ومنها: لو شرط نفقة السفر في ابتداء القراض، فهو تأكيد إذا أثبتناها، وإلا،
فسد القراض على الأصح، كما لو شرط نفقة الحضر. والثاني: لا، لأنه من
214

مصالح العقد. وعلى هذا، في اشتراط تقديرها، وجهان. وعن رواية
المزني في الجامع أنه لا بد من شرط النفقة في العقد مقدرة، لكن لم يثبتها الأصحاب.
فصل هل يملك العامل حصته من الربح بالظهور كالمساقاة، أم لا يملك
إلا بالقسمة؟ قولان. أظهرهما عند الأكثرين: الثاني. فإن قلنا: بالظهور، فليس
ملكا مستقرا، فلا يتسلط العامل على التصرف فيه، لان الربح وقاية لرأس المال.
فلو اتفق خسران، كان من الربح دون رأس المال ما أمكن. ولذلك نقول: إذا طلب
أحدهما قسمة الربح قبل فسخ القراض، لا يجبر الآخر. فإذا أرتفع القراض والمال
ناض واقتسماه، حصل الاستقرار وهو نهاية الامر. وكذلك لو كان قدر رأس المال
ناضا، فأخذه المالك واقتسما الباقي. وفي حصول الاستقرار بارتفاع العقد،
ونضوض المال من غير قسمة، وجهان. أصحهما: نعم، للوثوق بحصول رأس
المال، والثاني: لا، لان القسمة الباقية من تتمة عمل العامل. وإن كان المال
عرضا، بني على خلاف يأتي إن شاء الله تعالى، في أن العامل هل يجبر على البيع
والتنضيض؟ إن قلنا: نعم، فالمذهب أنه لا استقرار، إذ لم يتم العمل، وإلا،
فوجهان، كما لو كان ناضا. ولو اقتسما الربح بالتراضي قبل فسخ العقد، لم
يحصل الاستقرار، بل لو حصل خسران بعده، كان على العامل جبره بما أخذ.
وإذا قلنا: لا يملك إلا بالقسمة، فله فيه حق مؤكد حتى يورث عنه، لأنه وإن لم
يملكه، فقد ثبت له حق التملك، ويقدم على الغرماء، لتعلق حقه بالعين، وله أن
يمتنع من العمل بعد ظهور الربح، ويسعى في التنضيض ليأخذ منه حقه. ولو أتلف
المالك المال، غرم حصة العامل، وكان الاتلاف كالاسترداد.
فرع لو كان في المال جارية، لم يكن للمالك وطؤها، كان في المال ربح
أو لم يكن. واستبعد الامام تحريم إذا لم يكن ربح. وإذا حرمنا، فوطئ، لم
يكن فسخا للقراض على الأصح، ولا حد عليه. وأما المهر، فسنذكره إن شاء الله
تعالى. ولو وطئها العامل، فعليه الحد إن لم يكن ربح وكان عالما، وإلا، فلا
حد، ويؤخذ منه جميع المهر ويجعل في مال القراض. ولو استولد، لم تصر أم ولد
إن قلنا: لا يملك بالظهور، وإلا، ثبت الاستيلاد في نصيبه، ويقوم عليه الباقي إن
كان موسرا.
215

فرع لا يجوز للمالك تزويج جارية القراض، لأنه ينقصها فيضر بالعامل.
فصل فيما يقع في مال القراض من زيادة أو نقص أما الزيادة، فثمرة
الشجرة المشتراة للقراض، ونتاج الدابة، وكسب الرقيق، وولد الجارية، ومهرها
إذا وطئت بشبهة، وبدل منافع الدواب والأرض، وسواء وجب باستعمالها عدوانا أو
بإجارة صدرت من العامل، فإن له الإجارة. فإذا رأى فيها المصلحة، أطلق الامام
والغزالي: أن هذه كلها مال قراض، لأنها من فوائده، وقال المتولي: إن كان في
المال ربح، وملكنا العامل حصته بالظهور، فالجواب كذلك. فإن لم يكن ربح، أو
لم نملكه، فمن الأصحاب من قال: مال قراض. وقال جمهورهم: يفوز بها
المالك، لأنها ليست من فوائد التجارة. ويشبه أن يكون هذا أولى. فإن جعلناها
مال قراض، فالأصح أنها من الربح. وقيل: هي شائبة في الربح ورأس المال.
ولو وطئها المالك، قال الغزالي وغيره: يكون مستردا مقدار المهر، فيستقر نصيب
العامل منه. وقال البغوي: إن كان في المال ربح وملكناه بالظهور، وجب نصيب
العامل من الربح، وإلا، فلا شئ له. واستيلاد المالك جارية القراض،
كاعتاقها. وإذا أوجبنا المهر بوطئه الخالي عن الاحبال، فالأصح الجمع بينه وبين
القيمة. وأما النقص، فما حصل برخص، فهو خسران مجبور بالربح. وكذا النقص
بالتعيب والمرض الحادثين. وأما النقص العيني، وهو تلف البعض،
فإن حصل بعد التصرف في المال بيعا وشراء، فقطع الجمهور بأن
الاحتراق وغيره من الآفات السماوية، خسران يجبر بالربح. وفي التلف
بالسرقة والغصب، وجهان. والفرق أن في الضمان الواجب ما يجبره، فلا
حاجة إلى الجبر بمال القراض، وطرد جماعة الوجهين في الآفة السماوية، والأصح
في الجميع، الجبر. أما إذا نقص قبل التصرف بيعا وشراء، بأن دفع إليه ألفين قراضا،
216

فتلف أحدهما قبل التصرف، فوجهان. أحدهما: أنه خسران، فيجبر بالربح
الحاصل بعد، ويكون رأس المال ألفين. وأصحهما: يتلف من رأس المال، ويكون رأس المال
ألفا. ولو اشترى بالألفين عبدين، فتلف أحدهما، تلف من
الربح على المذهب. وقيل: من رأس المال، لأنه لم يتصرف بعد بالبيع. هذا إذا
تلف بعض المال. أما إذا تلف كله بآفة سماوية قبل التصرف أو بعده، فيرتفع
القراض، وكذا لو أتلفه المالك كما سبق. فلو أتلف أجنبي جميعه أو بعضه، أخذ
منه بدله واستمر فيه القراض. وما ذكرناه من الخلاف في الجبر من الربح في صورة
السرقة والغصب، هو فيما إذا تعذر أخذ البدل من المتلف. ولو أتلف العامل
المال، قال الامام: يرتفع القراض، لأنه وإن وجب عليه بدله، فلا يدخل في ملك
المالك إلا بقبضه منه، وحينئذ يحتاج إلى استئناف القراض. ولك أن تقول: ذكروا
وجهين في أن مال القراض إذا غصب أو أتلف، فمن الخصم فيه؟ أصحهما: أنه
المالك فقط إن لم يكن في المال ربح، وهما جميعا إن كان ربح. والثاني: أن
للعامل المخاصمة مطلقا حفظا للمال، فيشبه أن يكون الجواب المذكور في إتلاف
الأجنبي مفرعا على أن العامل خصم، ويتقدر أن يقال: ليس بخصم، بل إذا
خاصم المالك وأخذه، عاد العامل إلى التصرف فيه بحكم القراض، ولزم مثله
فيما إذا كان العامل هو المتلف.
فرع لو قتل رجل عبد القراض، وفي المال ربح، لم ينفرد أحدهما
بالقصاص، بل الحق لهما، فإن تراضيا على العفو على مال، أو على القصاص،
جاز. وإن عفا أحدهما، سقط القصاص ووجبت القيمة، هكذا ذكروه وهو ظاهر على
قولنا: يملك العامل الربح بالظهور، وغير ظاهر على القول الآخر. وإن لم يكن
في المال ربح، فللمالك القصاص والعفو على غير مال. وكذا لو كانت الجناية
موجب للمال، فله العفو عنه ويرتفع القراض. فإن أخذ المال، أو صالح عن
القصاص على مال، بقي القراض فيه.
فرع مال القراض ألف، اشترى بعينه ثوبا. فتلف الألف قبل التسليم،
بطل الشراء وارتفع القراض. وإن اشترى في الذمة، قال في البويطي: يرتفع
217

القراض ويكون الشراء للعامل، فقال بعض الأصحاب: هذا إذا كان التلف قبل
الشراء، فإن القراض، والحالة هذه، غير باق عند الشراء، فينصرف الشراء إلى
العامل. أما لو تلف بعد الشراء، فالمشتري للمالك. فإذا تلف الألف المعد
للثمن، لزمه ألف آخر. وقال ابن سريج: يقع الشراء عن العامل، سواء تلف
الألف قبل الشراء أو بعده، وعليه الثمن ويرتفع القراض، لان إذنه ينصرف إلى
التصرف في ذلك الألف، فإن قلنا بالأول، فرأس المال ألف، أم ألفان؟
وجهان. فإن قلنا: ألف، فهو الألف الأول، أم الثاني؟ وجهان، فائدتهما عند
اختلاف الألفين في صفة الصحة وغيرها.
الباب الثالث في فسخ القراض والاختلاف فيه
فيه طرفان.
الأول: في فسخه. والقراض جائز، فإنه في أوله وكالة، وبعد ذلك شركة.
إذا حصل ربح، فلكل منهما فسخه متى شاء، ولا يحتاج إلى حضور صاحبه
ورضاه. وإذا مات أحدهما، أو جن، أو أغمي عليه، انفسخ. فإذا فسخا جميعا أو
أحدهما، لم يكن للعامل أن يشتري بعده، ثم ينظر إن كان المال دينا، لزم العامل
التقاضي والاستيفاء، سواء كان ربح، أم لا. فإن لم يكن دينا، نظر إن كان نقدا
من جنس رأس المال ولا ربح، أخذه المالك. وإن كان ربح، اقتسماه بحسب
الشرط، فإن كان الحاصل مكسرة، ورأس المال صحاح، نظر، فإن وجد من
يبدلها بالصحاح وزنا يوزن، أبدلها وإلا، باعها بغير جنسها من التقديم اشترى به
الصحاح، يجوز أيضا أن يبيعها بعرض ويشتري به الصحاح على الأصح. وإن كان
نقدا من غير جنس المال، أو عرضا، فله حالان.
أحدهما: أن يكون فيه ربح فيلزم العامل بيعه إن طلبه المالك، وله بيعه وإن
218

أباه المالك، وليس للعامل تأخير البيع إلى موسم رواج المجاع، لان حق المالك
معجل. ولو قال المالك: تركت حقي لك فلا تكلفني البيع، لم يلزمه الإجابة على
الأصح، لان في التنضيض مشقة ومؤنة، فلا يسقط عن العامل. ولو قال المالك:
لا تبع ونقتسم العروض بتقويم عدلين، أو قال: أعطيك قدر نصيبك ناضا، ففي
تمكن العامل من البيع، وجهان. وقطع الشيخ أبو حامد وغيره بالمنع، لأنه إذا جاز
للمعير أن يتملك غراس المستعير بقيمته لدفع الضرر، فالمالك هنا أولى. وحيث
لزم البيع، قال الامام: الذي قطع به المحققون، أن ما يلزمه بيعه وتنضيضه، قدر
رأس المال. أما الزائد، فحكمه حكم عرض يشترك فيه رجلان، فلا يكلف واحد
منهما بيعه. ثم ما يبيعه بطلب المالك أو دونه، يبيعه بنقد البلد إن كان من جنس
رأس المال. فإن كان من غير جنسه، باعه يرى المصلحة فيه من نقد البلد ورأس
المال، فإن باعه بنقد البلد، حصل به رأس المال.
الحال الثاني: إذا لم يكن في المال ربح، فهل للمالك تكليفه البيع؟ وجهان
أصحهما: نعم، ليرد كما أخذ لئلا يلزم المالك مشقة ومؤنة. وهل للعامل البيع إذا
رضي المالك بامساكه؟ وجهان حكاهما الامام. أحدهما: لا، إذ لا فائدة،
والصحيح وبه قطع الجمهور: له البيع إذا توقع ربحا، بأن ظفر بسوق أو راغب.
وإذا قلنا: ليس للعامل البيع إذا أراد المالك إمساك العرض، أو أنفقنا على أخذ
المالك العرض، ثم ظهر ربح بارتفاع السوق، فهل للعامل فيه نصيب، لحصوله
بكسبه؟ أم لا، لظهوره بعد الفسخ؟ وجهان. أصحهما: الثاني.
فرع كما يرتفع القراض بقول المالك: فسخته، يرتفع بقوله للعامل: لا تتصرف
بعد هذا، أو باسترجاع المال منه. فلو باع المالك ما اشتراه العامل للقراض، فهل
ينعزل كما لو باع الموكل ما وكل في بيعه؟ أم لا ويكون ذلك إعانة له؟ وجهان.
أصحهما: الثاني. ولو حبس العامل ومنعه التصرف، أو قال: لا قراض بيننا، ففي
انعزاله وجهان.
قلت: ينبغي أن يكون الأصح في صورة الحبس، عدم الانعزال، وفي قوله:
لا قراض بيننا الانعزال. والله أعلم
219

فرع إذا مات المالك والمال ناض لا ربح فيه، أخذه الوارث. فإن كان
ربح، اقتسماه. وإن كان عرضا، فالمطالبة بالبيع والتنضيض كحالة حصول الفسخ
في حياتهما، وللعامل البيع هنا حيث كان له البيع هناك، ولا يحتاج إلى إذن الوارث
اكتفاء بإذن المورث، بخلاف ما لو مات العامل، فإنه لا يملك وارثه البيع دون إذن
المالك، لأنه لم يرض بتصرفه. وفي وجه: لا يبيع العامل بغير إذن وارث المالك.
والصحيح: الجواز. ويجري الخلاف في استيفائه الديون بغير إذن الوارث. ولو
أراد الاستمرار على العقد، فإن كان المال ناضا، فلهما ذلك بأن يستأنفا عقدا
بشرطه، ولا بأس بوقوعه قبل القسمة لجواز القراض على المشاع، ولذلك يجوز
القراض مع الشريك بشرط أن لا يشاركه في اليد، ويكون للعامل ربح نصيبه،
ويتضاربان في ربح نصيب الآخر. وهل ينعقد بلفظ الترك والتقرير، بأن يقول
الوارث، أو القائم بأمره: تركتك أو قررتك على ما كنت عليه؟ وجهان.
أصحهما: نعم، لفهم المعنى، وليكن الوجهان تفريعا على أن القراض ونحوه لا
ينعقد بالكناية. فأما إذا قلنا: ينعقد (به)، فينبغي القطع بالانعقاد هنا، وإن كان المال
عرضا، ففي جواز تقريره على القراض وجهان. أصحهما: المنع، لان القراض
الأول انقطع بالموت، ولا يجوز ابتداء القراض على عرض. والأشبه أن يختص
الوجهان بلفظ الترك والتقرير، ولا يسامح باستعمال الألفاظ التي تستعمل في
الابتداء. وحكى الامام فيما إذا فسخ القراض في الحياة طريقة طاردة للوجهين،
وطريقة قاطعة بالمنع، وهي الأشهر. فأما إذا مات العامل واحتيج إلى البيع
والتنضيض، فإن أذن المالك لوارث العامل فيه، فذاك، وإلا، تولاه أمين من جهة
الحاكم، ولا يجوز تقرير وارثه على القراض إن كان المال عرضا قطعا، فإن كان ناضا،
فلهما ذلك بعقد مستأنف. وفي لفظ التقرير، الوجهان السابقان، ويجريان أيضا
فيما إذا انفسخ البيع الجاري بينهما ثم أرادا إعادته، فقال البائع: قررتك على
موجب البيع الأول، وقبل صاحبه، وفي النكاح، لا يصح مثله.
فرع كان رأس مال الميت مائة، والربح مائتين، وجدد الوارث العقد مع
220

العامل مناصفة كما كان بلا قسمة، فرأس مال الوارث مائتان من ثلاث المائة،
والمائة الباقية للعامل، فعند المقاسمة، يأخذها وقسطها من الربح، ويأخذ الوارث
رأس ماله مائتين، ويقتسمان ما بقي.
قلت: إذا جنا أو أغمي عليهما أو أحدهما، ثم أفاقا وأرادا عقد القراض ثانيا،
قال في البيان: الذي يقتضيه المذهب، أنه كما لو انفسخ بالموت، وهو كما
قال. والله أعلم
فصل إذا استرد المالك طائفة من المال، فإن كان قبل ظهور الربح
والخسران، رجع رأس المال إلى القدر الباقي. وإن ظهر ربح، فالمسترد شائع
ربحا وخسرانا على النسبة الحاصلة من جملتي الربح ورأس المال، ويستقر ملك
العامل على ما يخصه بحسب الشرط مما هو ربح منه، فلا يسقط بالخسران الواقع
بعده. وإن كان الاسترداد بعد ظهور الخسران، كان موزعا على المسترد الباقي، فلا
يلزم جبر حصة المسترد من الخسران، ويصير المال هو الباقي بعد المسترد وحصته
من الخسران.
مثال الاسترداد بعد الربح: كان رأس المال مائة، وربح عشرين، واسترد
عشرين، فالربح سدس المال، فيكون المسترد سدسه ربحا، وهو ثلاثة دراهم
وثلث، ويستقر ملك العامل على نصفه إذا كان الشرط مناصفة، وهو درهم وثلثا
درهم. فلو عاد ما في يده إلى ثمانين، لم يسقط نصيب العامل، بل يأخذ منها
درهما وثلثي درهم.
ومثال الاسترداد بعد الخسران: كان رأس المال مائة، وخسر عشرين،
واسترد عشرين، فالخسران موزع على المسترد والباقي، فتكون حصة المسترد
خمسة لا يلزم جبرها، بل يكون رأس المال خمسة وسبعين، فما زاد بعد ذلك
عليها قسم بينهما.
الطرف الثاني: في الاختلاف، وفيه مسائل.
221

إحداها: ادعى العامل تلف المال، صدق بيمينه، فلو ذكر سبب التلف،
فسيأتي بيانه في كتاب الوديعة إن شاء الله تعالى.
الثانية: لو ادعى الرد، صدق بيمينه على الأصح.
الثالثة: قال: ما ربحت، أو ما ربحت إلا ألفا، فقال المالك: ألفين،
صدق العامل بيمينه. فلو قال: ربحت كذا، ثم قال: غلطت في الحساب، إنما
الربح كذا، أو تبينت أن لا ربح، أو قال: كذبت فيما قلت خوفا من انتزاع المال من
يدي، لم يقبل قوله. ولو قال: خسرت بعد الربح الذي أخبرت عنه، قبل منه.
قال المتولي وذلك عند الاحتمال، بأن حدث كساد فإن لم يحتمل لم يقبل.
ولو ادعى الخسارة عند الاحتمال، أو التلف بعد قوله: كنت كاذبا فيما قلت، قبل
أيضا، ولا تبطل أمانته بذلك القول السابق، هكذا نص عليه، وقاله الأصحاب.
الرابعة: قال: اشتريت هذا للقراض، فقال المالك: بل لنفسك، فالقول
قول العامل على المشهور، وفي قول: قول المالك، لان الأصل عدم وقوعه عن
القراض. ولو قال: اشتريته لنفسي، فقال: بل للقراض، صدق العامل بيمينه
قطعا. فلو أقام المالك بينة أنه اشتراه بمال القراض، ففي الحكم بها وجهان.
وجه المنع: أنه قد يشتري لنفسه بمال القراض عدوانا، فيبطل العقد.
الخامسة: قال المالك: كنت نهيتك عن شراء هذا، فقال: لم تنهني،
صدق العامل.
السادسة: قال: شرطت لي نصف الربح، فقال: بل ثلثه، تحالفا
كالمتبايعين، فإذا حلفا، فسخ العقد، واختص الربح والخسران بالمالك، وللعامل
أجرة مثل عمله. وفي وجه: أنها إن كانت أكثر من نصف الربح، فليس له إلا قدر
222

النصف، لأنه لا يدعي أكثر.
قلت: وإذا تحالفا، فهل ينفسخ بنفس التحالف، أم بالفسخ؟ حكمه حكم
البيع كما مضى، قاله في البيان. والله أعلم
السابعة: اختلفا في قدر رأس المال، فالقول قول العامل إن لم يكن في المال
ربح، (وكذا إن لم كان على الأصح. وقيل: يتحالفان. ولو قارض رجلين على أن
نصف الربح له)، والباقي بينهما سواء، فربحا، ثم قال المالك: دفعت إليكما
ألفين، وصدقه أحدهما، وقال الآخر: بل ألفا، لزم المقر ما أقر به، وحلف الآخر
وقضي له بموجب قوله. ولو كان الحاصل ألفين، أخذ المنكر ربع الألف الزائد على
ما أقر به، والباقي يأخذه المالك. ولو كان الحاصل ثلاثة آلاف، فالمنكر يزعم أن
الربح ألفان، له منهما خمسمائة، فتسلم له، ويأخذ المالك من الباقي ألفين عن
رأس المال، يبقى خمسمائة يتقاسماها - المالك والمقر - أثلاثا، لاتفاقهم على أن
ما يأخذه المالك مثلا ما يأخذه كل عامل، وما أخذه النكر، كالتالف. ولو قال
المالك: رأس المال دنانير، فقال العامل:
بل دراهم، صدق العامل. الثامنة: اختلفا في أصل القراض، فقال المالك: دفعت إليك لتشتري لي
بالوكالة، وقال القابض: بل قارضتني، فالمصدق المالك. فإذا حلف أخذ المال
وربحه، ولا شئ عليه للآخر.
قلت: لو دفع إليه ألفا، فتلف في يده، فقال: دفعته قرضا، فقال العامل:
بل قراضا، قال في العدة والبيان: بينة العامل أولى في أحد الوجهين.
والله أعلم
فصل في مسائل منثورة
إحداها: ليس لعامل القراض التصرف في الخمر بيعا ولا شراء وإن كان ذميا،
223

فإن خالف واشتر خمرا، أو خنزيرا، أو أم ولد، ودفع المال في ثمنه، ضمن،
عالما كان أو جاهلا، لأن الضمان لا يختلف بهما. هذا هو الصحيح، وبه قطع
الجمهور. وقيل: لا ضمان في العلم والجهل، وهو شاذ ضعيف. وقيل: يضمن
في العلم دون الجهل. وقيل: يضمن في الخمر مطلقا، ولا يضمن في أم الولد مع
الجهل. قلت:
قلت الوجه المذكور في شراء الخمر عالما، أنه لا يضمنه، هو في الذمي
دون المسلم، لأنه يعتقده مالا، قاله في البيان. والله أعلم
الثانية: قارضه على أن ينقل المال إلى موضع كذا، ويشتري من أمتعته ثم
يبيعها هناك، أو يردها إلى موضع القراض، قال الامام: قال الأكثرون بفساد
القراض، لان نقل المتاع من بلد إلى بلد، عمل زائد على التجارة، فأشبه شرط
الطحن والخبز، ويخالف ما إذا أذن له في السفر، فإن الغرض منه نفي الحرج.
وقال الأستاذ أبو إسحاق وطائفة من المحققين: لا يضر شرط المسافرة، فإنها الركن
الأعظم في الأموال النفيسة.
الثالثة: قال: خذ هذه الدراهم قراضا، وصارف بها مع الصيارفة، ففي
صحة مصارفته مع غيرهم وجهان. وجه الصحة: أن مقصوده التصرف مصارفة.
الرابعة: خلط العامل مال القراض بماله، صار ضامنا، وكذا لو قارضه
رجلان، فخلط مال أحدهما بالآخر، وكذا لو قارضه واحد على مالين بعقدين،
فخلطهما، ضمن. فلو دفع إليه ألفا قراضا، ثم ألفا، وقال: ضمه إلى الأول، فإن لم
يكن تصرف بعد في الأول، جاز، وكأنه دفعهما إليه معا، وإن كان تصرف في
الأول، لم يجز القراض في الثاني، ولا الخلط، لان الأول استقر حكمه بالتصرف
ربحا وخسرانا، وربح كل مال وخسرانه يختص به، ولو دفع إليه ألفا قراضا، وقال:
ضم إليه ألفا من عندك على أن يكون ثلث ربحهما لك وثلثاه لي، أو بالعكس، فسد
القراض، لما فيه من شرط التفاوت في الربح مع التساوي في المال، ولا نظر إلى
العمل بعد الشركة في المال. ولو دفع إليه زيد ألفا قراضا، وعمرو كذلك، فاشترى
لكل واحد عبدا بألف، ثم اشتبها عليه، فقولان. أحدهما: ينقلب شراء العبدين
له، ويغرم لهما، لتفريطه. ثم المغروم عند الأكثرين الألفان. وقيل: يغرم قيمة
224

العبدين وإن زادت. والقول الثاني: يباع العبدان، ويقسم الثمن بينهما. فإن
حصل ربح، فهو بينهم على حسب الشرط. وإن حصل خسران، قال الأصحاب:
يلزمه ضمانه، لتقصيره. واستدرك المتأخرون فقالوا: إن كان لانخفاض السوق،
لا يضمن، لان غايته أن يجعل كالغاصب، والغاصب لا يضمن انخفاض السوق.
قال الامام: والقياس مذهب ثالث غير القولين، وهو أن يبقى العبدان لهما على
الاشكال إن لم يصطلحا.
قلت: قال الجرجاني في المعاياة: (و) لا يتصور خسران على العامل في غير
هذه المسألة.
وبقي من الباب مسائل.
منها: لو دفع إليه مالا وقال: إذا مت فتصرف فيه بالبيع والشراء، ولك نصف
الربح، فمات، لم يكن له التصرف، بخلاف ما لو أوصى له بمنفعة عين، لأنه
تعليق، ولان القراض يبطل بالموت لو صح. ولو قارضه على نقد، فتصرف العامل
ثم أبطل السلطان النقد، ثم انفسخ القراض، قال صاحب العدة والبيان:
رد مثل، النقد المعقود عليه على الصحيح. ولم وقيل من الحادث ولو مات العامل
يعرف مال القراض من غيره، فهو كمن مات وعنده وديعة ولم يعرف عينها، وسيأتي
بيانه في كتاب الوديعة إن شاء الله تعالى.
ولو جنى عبد القراض، قال في العدة: للعامل أن يفديه من مال القراض
على أحد الوجهين كالنفقة عليه والله أعلم
225

كتاب المساقاة
هي أن يعامل إنسان إنسانا على شجرة ليتعهدها بالسقي والتربية، على أن ما رزق
الله تعالى من الثمرة يكون بينهما، وفيه بابان.
226

الأول: في أركانها، وهي خمسة.
(الركن) الأول: العاقدان، وسبق بيانهما في القراض.
و (الركن) الثاني: متعلق العمل، وهو الشجر، وله ثلاثة شروط.
(الشرط) الأول: أن يكون نخلا أو عنبا، فأما غيرهما من النبات، فقسمان.
(القسم الأول): ماله ساق، ومالا. والأول ضربان.
(الضرب) الأول: ماله ثمرة كالتين، والجوز، والمشمش، والتفاح
ونحوها، وفيها قولان. القديم: جواز المساقاة عليها. والجديد: المنع. وعلى
الجديد، في شجر المقل وجهان، جوزها ابن سريج، ومنها غيره.
قلت: الأصح: المنع. والله أعلم
الضرب الثاني: ما لا ثمرة له، كالدلب والخلاف وغيره، فلا تجوز
المساقاة عليه. وقيل: في الخلاف وجهان لأغصانه.
227

القسم الثاني: ما لا ساق له، كالبطيخ، والقثاء، وقصب السكر،
والباذنجان، والبقول التي لا تثبت في الأرض ولا تجز إلا مرة واحدة، فلا تجوز
المساقاة عليها، كما لا تجوز على الزرع. فإن كانت تثبت في الأرض وتجز مرة بعد
مرة، فالمذهب المنع. وقيل: وجهان. أصحهما: المنع.
الشرط الثاني: أن تكون الأشجار مرئية، وإلا، فباطل على المذهب.
وقيل: قولان، كبيع الغائب.
الشرط الثالث: أن تكون معينة. فلو ساقاة على أحد الحائطين، لم يصح.
الركن الثالث: الثمار. فيشترط اختصاصه بالعاقدين مشتركة بينهما
معلومة، وأن يكون العلم بها من حيث الجزئية دون التقدير. فلو شرطا بعض الثمار
لثالث، أو كلها لأحدهما، فسدت المساقاة. وفي استحقاق الأجرة عند شرط الكل
للمالك وجهان كالقراض. أصحهما: المنع، لأنه عمل مجانا. ولو قال: ساقيتك
على أن لك جزءا من الثمرة، فسدت. ولو قال: على أنها بيننا، أو على أن نصفها
لي، أو نصفها لك، وسكت عن الباقي، أو على أن ثمرة هذه النخلة أو النخلات
لي، أو لك، والباقي بيننا، أو على أن صاعا من الثمرة لي، أو لك، والباقي
بيننا، فحكمه كله كما سبق في القراض. وفي التتمة وجه شاذ: أنه تصح
المساقاة إذا شرط كل الثمرة للعامل، لغرض القيام بمصلحة الشجر.
فصل إذا ساقاه على ودي ليغرسه ويكون الشجر بينهما، أو ليغرسه
ويتعهده مدة كذا، والثمرة بينهما، فهو فاسد على الصحيح. وقيل: يصح
فيهما، للحاجة. وقيل: يصح في الثاني. فعلى الصحيح: إذا عمل في هذا
الفاسد، استحق أجرة المثل إن كانت الثمرة متوقعة في هذه المدة، وإلا فعلى
228

الوجهين في شرط الكل للمالك. ولو ساقاه على ودي مغروس، فإن قدرا العقد بمدة
لا يثمر فيها، لم تصح المساقاة، لخلوها عن الغرض. وفي استحقاقه أجرة المثل،
الخلاف السابق. قال الامام: هذا إذا كان عالما بأنها لا تثمر فيها، فإن جهل
ذلك، استحق الأجرة قطعا. وإن قدر بمدة يثمر فيها غالبا، صح، ولا يضر كون
أكثر المدة لا ثمر فيها، فإن اتفق أنها لم تثمر، لم يستحق العامل شيئا، كما لو
قارضه فلم يربح، أو ساقاه على النخيل المثمرة فلم تثمر، وإن قدر بمدة تحتمل
الأثمار وعدمه، لم يصح على الأصح، كما لو أسلم في معدوم إلى وقت يحتمل
وجوده وعدمه. والثاني: يصح. فإن أثمرت، استحق، وإلا، فلا شئ له.
وعلى الأول: يستحق الأجرة إن لم تثمر، لأنه عمل طامعا. هذه طريقة جمهور
الأصحاب، وجعلوا توقع الثمرة ثلاثة أقسام كما ذكرنا. وقيل: إن غلب وجودها في
تلك المدة، صح، وإلا، فوجهان. وقيل: إن غلب عدمها، لم يصح، وإلا،
فوجهان.
فرع دفع إليه وديا ليغرسه في أرض نفسه، على أن يكون الغراس
للدافع، والثمر بينهما، فهو فاسد، وللعامل عليه أجرة مثل عمله وأرضه. ولو دفع
إليه أرضه ليغرمها بودي نفسه، على أن تكون الثمرة بينهما، ففاسد أيضا،
ولصاحب الأرض أجرتها على العامل.
فصل في جواز المساقاة بعد خروج الثمار، قولان. أظهرهما: الجواز.
وفي موضع القولين طرق. أصحها: أنهما فيما بدو الصلاح، فأما بعده، فلا
يجوز قطعا. والثاني: القولان فيما لم يتناه نضجه. فإن تناهى، لم يجز قطعا.
والثالث: طردهما في كل الأحوال. ولو كان بين النخيل بياض، بحيث تجوز
المزارعة عليه تبعا للمساقاة، فكان فيه زرع موجود، ففي جواز المزارعة تبعا،
وجهان بناء على هذين القولين.
فصل إذا كان في الحديقة نوعان من التمر فصاعدا، كالصيحاني،
والعجوة، والدقل، فساقاه على أن له النصف من الصيحاني، أو من العجوة
الثلث، فإن علما قدر كل نوع، جاز، وإن جهله أحدهما، لم يجز. ومعرفة كل
نوع إنما تكون بالنظر والتخمين دون التحقيق. وإن ساقاه على النصف من الكل،
229

جاز وإن جهلا قدر النوعين. ولو ساقاه على أنه إن سقى بماء السماء، فله الثلث،
أو بالدالية، فالنصف، لم يصح، للجهل. ولو ساقاه على حديقته بالنصف على أن
يساقيه على أخرى بالثلث، أو على أن يساقيه العامل على حديقته، ففاسد. وهل
تصح المساقاة الثانية؟ ينظر، إن عقدها وفاء بالشرط الأول، لم يصح، وإلا،
فيصح، وسبق نظيره في الرهن.
فرع حديقة بين اثنين مناصفة، ساقى أحدهما صاحبه وشرط له ثلثي
الثمار، صح وقد شرط له ثلث ثمرته. وإن شرط له ثلث الثمار، أو نصفها، لم
يصح، لأنه لم يثبت له عوضا بالمساقاة، فإنه يستحق النصف بالملك. وإذا عمل،
ففي استحقاقه الأجرة الوجهان. ولو شرط له جميع الثمار، فسد، وفي الأجرة
وجهان، لأنه لم يعمل له إلا أنه انصرف إليه.
قلت: أصحهما: له الأجرة. والله أعلم.
ولو شرط في المساقاة مع الشريك أن يتعاونا على العمل، فسدت وإن أثبت له
زيادة على النصف، كما لو ساقى أجنبيا على هذا الشرط. ثم إن تعاونا واستويا في
العمل، فلا أجرة لواحد منهما. وإن تفاوتا، فإن كان عمل من شرط له الزيادة
أكثر، استحق على الأجرة بالحصة من عمله. وإن كان عمل الآخر أكثر، ففي
استحقاقه الأجرة الوجهان. أما لو أعانه من غير شرط، فلا يضر. ولو ساقى
الشريكان أجنبيا، وشرطا له جزءا من ثمرة كل الحديقة، ولم يعلم نصيب كل واحد
منهما، جاز. فإن قالا: على أن لك من نصيب أحدنا النصف، ومن نصيب الآخر
الثلث، من غير تعيين، لم يصح، وإن عينا، فإن علم نصيب كل واحد، صح،
وإلا، فلا.
فرع كانت الحديقة لواحد، فساقي اثنين على أن لأحدهما نصف الثمرة،
وللآخر ثلثها، في صفقة، أو صفقتين، جاز إن عين من له النصف ومن له الثلث.
فرع حديقة بين ستة أسداسا، فساقوا رجلا على أن له من نصيب واحد
عينوه النصف، ومن نصيب الثاني الربع، ومن الثالث الثمن، ومن الرابع الثلثين،
230

ومن الخامس الثلث، ومن السادس السدس، فحسابه أن مخرج النصف والربع
يدخلان في مخرج الثمن، ومخرج الثلثين والثلث يدخل في السدس، تبقى ستة
وثمانية، يضرب وفق أحدهما في الآخر، تبلغ أربعة وعشرين، تضربه في عدد
الشركاء وهو ستة، تبلغ مائة وأربعة وأربعين، لكل واحد منهم أربعة وعشرون،
فيأخذ العامل ممن شرط له النصف اثني عشر، ومن الثاني ستة، ومن الثالث ثلاثة،
ومن الرابع ستة عشر، ومن الخامس ثمانية، ومن السادس أربعة، فيجتمع له تسعة
وأربعون.
الركن الرابع: العمل، (وشروطه) قريبة من عمل القراض وإن اختلفا في
الجنس.
فمنها: أن لا يشرط عليه عمل ليس من أعمال المساقاة.
ومنها: أن يستبد العامل باليد في الحديقة ليتمكن من العمل متى شاء.
فلو شرطا كونه في يد المالك، أو مشاركته في اليد، لم يصح. ولو سلم
المفتاح إليه، وشرط المالك الدخول عليه، جاز على الصحيح. ووجه الثاني: أنه
إذا دخل، كانت الحديقة في يده، ويتعوق بحضوره العمل.
ومنها: أن ينفرد العامل بالعمل.
فلو شرطا مشاركة المالك في العمل فسد العقد، وإن شرطا أن يعمل معه غلام
المالك، جاز على المذهب والمنصوص. وقيل: وجهان كالقراض. هذا إذا شرطا
معاونة الغلام، ويكون تحت تدبير العامل. فلو شرطا اشتراكهما في التدبير،
ويعملان ما اتفقا عليه، لم يجز بلا خلاف. وإذا جوزناه في الأول، فلا بد من
معرفة الغلام بالرؤية أو الوصف. وأما نفقته، فإن شرطاها على المالك، جاز، وإن
شرطاها على العامل، جاز أيضا على الأصح. وعلى هذا، هل يجب تقديرها
ليعرف ما يدفع إليه كل يوم من الخبز والأدم، أم لا بل يحمل على الوسط المعتاد لأنه
يتسامح به؟ وجهان، وبالثاني قطع الشيخ أبو حامد. وإن شرطاها في الثمار،
231

فقطع البغوي بالمنع، لان ما يبقى مجهول. وقال صاحب الافصاح: يجوز،
لأنه قد يكون من صلاح المال، ويشبه أن يتوسط فيقال: إن شرطاها من جزء
معلوم، بأن شرطا للمالك ثلث الثمار، وللعامل ثلثها، ويصرف الثلث الثالث إلى
نفقة الغلام. جاز، وكأن المشروط للمالك ثلثاها. وإن شرطاها في الثمار بغير
تقدير جزء لم يصح. ولو لم يتعرضا للنفقة أصلا، فالمذهب والذي قطع به
الجمهور: أنها على المالك. وفي وجه: على العامل، حكاه في المهذب.
ولصاحب الافصاح احتمالان آخران. أحدهما: أنها من الثمرة، والآخر، يفسد
العقد، ولا يجوز للعامل استعمال الغلام في عمل نفسه. ولو شرط أن يعمل له،
بطل العقد. ولو كان برسم الحديقة غلمان يعملون فيها، لم يدخلوا في مطلق
المساقاة. ولو شرط استئجار العامل من يعمل معه من الثمرة، بطل العقد. ولو شرط
كون أجرة من يعمل معه على المالك، بطل على المذهب، وبه قطع الأصحاب،
وشذ الغزالي، فذكر في جوازه وجهين.
فصل يشترط لصحة المساقاة، أن تكون مؤقتة. فإن وقت بالشهور أو
السنين العربية، فذاك، ولو وقت بالرومية وغيرها، جاز إذا علماها، فإن أطلقا لفظ
السنة، انصرف إلى العربية. وإن وقت بادراك الثمرة، فهل يبطل كالإجارة، أم
يصح لأنه المقصود؟ وجهان. أصحهما عند الجمهور: أولهما، وبه قطع
البغوي، وصحح الغزالي الثاني. فعلى الثاني لو قال: ساقيتك سنة، وأطلق،
فهل يحمل على السنة العربية، أم سنة الادراك؟ وجهان، زعم أبو الفرج السرخسي
(أن) أصحهما: الثاني. فإن قلنا بالأول، أو وقت بالزمان، فأدركت الثمار والمدة
باقية، لزم العامل أن يعمل في تلك البقية، ولا أجرة له. وإن انقضت المدة وعلى
232

الشجر طلع أو بلح، فللعامل نصيبه منها، وعلى المالك التعهد إلى الادراك. وإن
حدث الطلع بعد المدة، فلا حق للعامل فيه. ولو ساقاه أكثر من سنة، ففي صحته
الأقوال التي سنذكرها إن شاء الله تعالى في الإجارة أكثر من سنة، فإن جوزناه، فهل
يجب بيان حصة كل سنة، أم يكفي قوله: ساقيتك على النصف لاستحقاق النصف
كل سنة؟ قولان، أو وجهان كالإجارة. وقيل: يجب هنا قطعا، لكثرة الاختلاف
في الثمر، بخلاف المنافع، فلو فاوت بين الجزء المشروط في السنين، لم يصح على
المذهب. وقيل: قولان كالسلم إلى آجال. ولو ساقاه سنين، وشرط له ثمرة سنة
بعينها، والأشجار بحيث تثمر كل سنة، لم يصح.
قلت: ولو ساقاه تسع سنين، وشرط له ثمرة العاشرة، لم يصح قطعا، وكذا
إن شرط له ثمرة التاسعة على الصحيح. والله أعلم
الركن الخامس: الصيغة، ولا تصح المساقاة بدونها على الصحيح. وفيها
الوجه المكتفى في العقود بالتراضي، والمعاطاة، وكذا في القراض وغيره.
ثم أشهر الصيغ: ساقيتك على هذه النخيل بكذا، أو عقدت معك عقد
المساقاة.
قال الأصحاب: وينعقد بكل لفظ يؤدي معناها، كقوله: سلمت إليك نخيلي
لتتعهدها على كذا، أو اعمل على هذا النخيل، أو تعهد نخيلي بكذا، وهذا الذي
قالوه، يجوز أن يكون تفريعا على أن مثله من العقود ينعقد بالكناية، ويجوز أن يكون
ذهابا إلى أن هذه الألفاظ صريحة، ويعتبر في المساقاة، لقبول قطعا، ولا يجئ
فيها الوجه المذكور في القراض والوكالة، للزومهما.
فرع لو عقدا بلفظ الإجارة، فقال: استأجرتك لتتعهد نخيلي بكذا من
233

ثمارها، أو عقدا الإجارة بلفظ المساقاة، فوجهان في المسألتين. أحدهما:
الصحة، لما بين البابين من المشابهة، واحتمال كل لفظ معنى الآخر. وأصحهما:
المنع، لان لفظ الإجارة صريح في غير المساقاة، فإن أمكن تنفيذه في موضوعه،
نفذ فيه، وإلا، فلا، وهو إجارة فاسدة، والخلاف راجع إلى أن الاعتبار باللفظ
أو المعنى؟ ولو قال: ساقيتك على هذه النخيل بكذا ليكون أجرة لك، فلا بأس،
لسبق لفظ المساقاة. هذا إذا قصد بلفظ الإجارة المساقاة، أما إذا قصدا الإجارة
نفسها، فينظر، إن لم تكن خرجت الثمرة، لم يجز، لان شرط الأجرة أن تكون في
الذمة، أو موجودة معلومة. وإن كانت خرجت، وبدا فيها الصلاح، جاز، سواء
شرط ثمرة نخلة معينة، أو جزءا شائعا، كذا أطلقوه، ولكن يجئ فيه ما سنذكره إن
شاء الله تعالى في مسألة قفيز الطحان وأخواتها. وإن لم يبد فيها الصلاح، فإن شرط
له ثمرة نخيله بعينها، جاز بشرط القطع، وكذا لو شرط كل الثمار للعامل. وإن شرط
جزءا شائعا، لم يجز وإن شرط القطع، لما سبق في البيع. وإذا عقدا بلفظ
المساقاة، فالصحيح: أنه لا يحتاج إلى تفصيل الأعمال، بل يحمل في كل ناحية
على عرفها الغالب. وقيل: يجب تفصيلها. وهذا الخلاف إذا علم المتعاقدان
العرف المحمول عليه. فإن جهله أحدهما، وجب التفصيل قطعا.
الباب الثاني في أحكام المساقاة
ويجمعها حكمان. أحدهما: ما يلزم العامل والمالك. والثاني: في
لزومها.
أما الأول: فكل عمل تحتاج إليه الثمار لزيادتها، أو صلاح، ويتكرر كل
سنة، فهو على العامل. وإنما اعتبرنا التكرار، لان ما يتكرر يبقى أثره بعد فراغ
المساقاة، وتكليف العامل مثل هذا، إجحاف به. فما يجب عليه السقي، وما يتبعه
234

من إصلاح طريق المال والأجاجين التي يقف فيها الماء، وتنقية الآبار والأنهار
من الحمأة ونحوها. وإدارة الدولاب وفتح رأس الساقية، وسدها عند السقي، على ما
يقتضيه الحال. وفي تنقية النهر وجه ضعيف: أنها على المالك. ووجه: أنها على
من شرطت عليه منهما. فإن لم يذكراها، فسد العقد.
ومنه: تقليب الأرض بالمساحي وكرابها في المزارعة. قال المتولي: وكذا تقويتها بالزبل، وذلك بحسب العادة.
ومنه: التلقيح، ثم الطلع الذي يلقح به على المالك، لأنه عين مال،
وإنما يكلف العامل العمل.
ومنها: تنحية الحشيش المضر، والقضبان المضرة بالشجر.
ومنه: تصريف الجريد. - والجريد: سعف النخل -. وحاصل ما قالوه في
تفسيره شيئان. أحدهما: قطع ما يضر تركه يابسا وغير يابس. والثاني: ردها عن
وجوه العناقيد بينها لتصيبها الشمس، وليتيسر قطعها عند الادراك.
ومنه: تعريش شجر العنب حيث جرت العادة به. قال المتولي: ووضع
الحشيش فوق العناقيد صونا عن الشمس عند الحاجة. وفي حفظ الثمار،
وجهان. أحدهما: على العامل كحفظ مال القراض. فإن لم يحفظ بنفسه، فعليه
مؤنة من يحفظه. والثاني: على العامل والمالك جميعا بحسب اشتراكهما في
الثمار، لان الذي يجب على العامل ما يتعلق بزيادة الثمر وتنميته، ويجري الوجهان
في حفظ الثمر عن الطيور والزنانير، بأن يجعل كل عنقود في قوصرة، فيلزم ذلك
على العامل على الأصح عند جريان العادة (به) وهذه القوصرة على المالك، ويلزم
العامل جداد الثمرة على الصحيح، وبه قطع الأكثرون، لأنه من الصلاح. وقيل:
235

لا، لأنه بعد الفراغ. ويلزمه تجفيف الثمار على الصحيح إذا طردت العادة، أو
شرطاه. وإذا وجب التجفيف، وجب تهيئة موضعه وتسويته، ويسمى: البيدر
والجرين، ونقل الثمار إليه، وتقليبها في الشمس.
وأما ما لا يتكرر كل سنة ويقصد به حفظ الأصول، فهو من وظيفة المالك،
وذلك كحفر الآبار والأنهار الجديدة، والتي انهارت، وبناء الحيطان، ونصب
الأبواب والدولاب ونحوها. وفي ردم الثلم اليسيرة التي تتفق في الجدران، ووضع
الشوك على رأس الجدار، وجهان كتنقية الأنهار. والأصح: اتباع العرف. وأما
الآلات التي يتوفر بها العمل، كالفأس، والمعول، والمسحاة،
والثيران، والفدان في المزرعة، والثور الذي يدير الدولاب، فالصحيح: أنها على
المالك. وقيل: هي على من شرطت عليه، ولا يجوز السكوت عنها، وبه قال أبو
إسحاق، وأبو الفرج السرخسي. وخراج الأرض الخراجية على المالك قطعا، وكذا
كل عين تتلف في العمل، فعلى المالك قطعا. ثم كل ما وجب على العامل، فله
استئجار المالك عليه، ويجئ فيه وجه. ولو شرط على المالك في العقد، بطل
العقد، وكذا ما على المالك لو شرط على العامل، بطل العقد، ولو فعله العامل بلا
إذن لم يستحق شيئا، وإن فعله بإذن المالك، استحق الأجرة. وجميع ما ذكرناه
تفريع على الصحيح، في أن تفصيل الأعمال لا يجب في العقد. فإن أوجبناه،
فالمتبع الشرط إلا أنه لا يجوز أن يكون الشرط مغيرا مقتضي العقد.
الحكم الثاني: المساقاة عقد لازم كالإجارة، ويملك العامل حصته من الثمرة
236

بالظهور على المذهب. وقيل: قولان كالقراض. والفرق على المذهب: أن الربح
في القراض وقاية لرأس المال، بخلاف الثمر.
فرع إذا هرب العامل قبل تمام العمل، نظر، إن تبرع المالك بالعمل،
أو بمؤنة من يعمل، بقي استحقاق العامل بحاله، وإلا، رفع الامر إلى الحاكم،
وأثبت عنده المساقاة ليطلبه الحاكم، فإن وجده، أجبره على العمل، وإلا، استأجر
عليه من يعمل. ومن أين يستأجر؟ ينظر، إن كان للعامل مال، فمنه، وإلا، فإن
كان بعد بدو الصلاح، باع نصيب العامل كله أو بعضه بحسب الحاجة للمالك أو
غيره، واستأجر بثمنه. وإن كان قبل بدو الصلاح، إما قبل خروج الثمرة،
استقرض عليه من المالك أو غيره، أو من بيت المال، واستأجر به، ثم يقضيه
العامل إذا رجع، أو يقضى من نصيبه من الثمرة بعد بدو الصلاح، أو الادراك. ولو
وجد يستأجره بأجرة مؤجلة، استغنى عن الاقتراض. وإن فعل المالك بنفسه،
أو أنفق عليه يفعل، لم يرجع. وإن لم يمكنه الاشهاد، ففي رجوعه وجهان.
أصحهما عند الجمهور: لا يرجع، لأنه عذر نادر. وحكي وجه: أنه يرجع وإن
تمكن من الاشهاد، وهو شاذ. وإن أشهد، رجع على الأصح، للضرورة. وقيل:
لا، لئلا يصير حاكما لنفيه. ثم الاشهاد المعتبر، أن يشهد على العمل أو
الاستئجار، وأنه بذل ذلك بشرط الرجوع. فأما الاشهاد على العمل أو الاستئجار من
غير تعرض للرجوع، فهو كترك الاشهاد، قال في الشامل. وإذا أنفق المالك
بإذن الحاكم ليرجع، فوجهان. وجه المنع: أنه منهم في حق نفسه. فطريقه: أن
يسلم المال إلى الحاكم ليأمر غيره بالانفاق. ولو استأجره لباقي العمل، فوجهان
237

بناء على ما لو أجر داره، ثم استأجرها من المستأجر. ومتى تعذر إتمام العمل
بالاستقراض وغيره، فإن لم تكن الثمرة خرجت، فللمالك فسخ العقد على
الصحيح، للتعذر والضرورة. وقال ابن أبي هريرة: لا يفسخ، لكن يطلب الحاكم
من يساقي عن العامل، فربما فضل له شئ. وإن كانت الثمرة قد حركت، فهي
مشتركة بينهما. فان بدا صلاحها، بيع نصيب العامل كله أو بعضه بقدر ما يستأجر به
عامل. وإن لم يبد، تعذر بيع نصيبه وحده، لان شرط القطع في المشاع لا يكفي.
فإما أن يبيع المالك نصيبه معه ليشرط القطع في الجميع، وإما أن يشتري المالك
نصيبه، فيصح على الأصح في أن بيع الثمار قبل بدو الصلاح لصاحب الشجرة
يكفي عن اشتراط القطع. فإن لم يرغب في بيع ولا شراء، وقف الامر حتى
يصطلحا. وهذا كله تفريع على أنه لا يثبت الفسخ بعد خروج الثمرة، وهو
الصحيح. وقال في المهذب: يفسخ، وتكون الثمرة بينهما، ولا يكاد يفرض
للفسخ بعد خروج الثمرة فائدة.
ويتفرع على ثبوت الفسخ قبل خروج الثمرة فرعان.
أحدهما: إذا فسخ، غرم المالك للعامل أجرة مثل ما عمل، ولا يقال بتوزيع
الثمار على أجرة مثل جميع العمل، إذ الثمار ليست موجودة عند العقد حتى يقتضي
العقد التوزيع فيها.
الثاني: جاء أجنبي وقال: لا تفسخ لأعمل نيابة عن العامل، لم يلزم
الإجابة، لأنه قد لا يأتمنه ولا يرضى بدخوله ملكه. لكن لو عمل نيابة بغير علم
المالك، وحصلت الثمار، سلم للعامل نصيبه منها، وكان الأجنبي متبرعا (عليه)،
هكذا قالوه. ولو قيل: وجود المتبرع كوجود مقرض حتى لا يجوز الفسخ، لكان
قريبا. والعجز عن العمل بمرض ونحوه كالهرب.
فصل ولو مات مالك الشجر في أثناء المدة، لم تنفسخ المساقاة، بل
238

يستمر العامل ويأخذ نصيبه. وإن مات العامل، فان كانت المساقاة على عينه،
انفسخت بموته كالأجير (المعين). وإن كانت على الذمة، فوجهان. أحدهما
تنفسخ لأنه لا يرضي بيده غيره. والثاني وهو الصحيح وعليه التفريع: لا تنفسخ
كالإجارة، بل ينظر إن خلف تركة، تمم وارثه العمل، بأن يستأجر من يعمل، وإلا،
فان أتم العمل بنفسه، أو استأجر من ماله من يتم، فعلى المالك تمكينه إن كان أمينا
مهتديا إلى أعمال المساقاة، ويسلم له المشروط. وإن أبى، لم يجبر عليه على
الصحيح. وقيل: يجبر، لأنه خليفته، وهو شاذ، لان منافعه لنفسه، وإنما يجبر
على أداء ما على المورث من تركته. لكن لو خلف تركة، وامتنع الوارث من
الاستئجار منها، استأجر الحاكم. وإن لم يخلف تركه، لم يستقرض على الميت،
بخلاف الحي إذا هرب. ومهما لم يتم العمل، فالقول في ثبوت الفسخ وفي الشركة
وفصل الامر إذا خرجت الثمار، كما ذكرناه في الهرب. وهذا الذي ذكرناه من أن
المساقاة تكون على العين وفي الذمة، هو تفريع على جوازها على العين، وهو
المذهب المقطوع به، وتردد فيها بعضهم، لما فيها من التضييق.
فرع نقل المتولي: أنه إذا لم تثمر الأشجار أصلا، أو تلفت الثمار كلها
بجائحة، أو غصب، فعلى العامل إتمام العمل وإن تضرر به. كما أن عامل القراض
يكلف التنضيض وإن ظهر خسران ولم ينل إلا التعب. وهذا أصح مما ذكره
البغوي: أنه إذا تلفت الثمار كلها بالجائحة، ينفسخ العقد، إلا أن يريد: بعد تمام
العمل وتكامل الثمار. قال: وإن هلك بعضها، فللعامل الخيار، بين أن يفسخ
العقد ولا شئ له، وبين أن يجيز ويتم العمل ويأخذ نصيبه.
فصل دعوى المالك على العامل السرقة والخيانة في الثمر أو السعف، لا
تقبل حتى يبين قدر ما خان فيه ويحرر الدعوى. فإذا حررها، وأنكر العامل، فالقول
قول العامل مع يمينه. فان ثبتت خيانته ببينة، أو باقراره، أو بيمين المالك بعد
نكوله، فقيل: قولان. أحدهما: يستأجر عليه من يعمل عنه. والثاني: يضم إليه
أمين يشر ف عليه. وقال الجمهور: هي على حالين: إن أمكن حفظه بضم مشرف، قنع
به، وإلا، أزيلت يده بالكلية، واستؤجر عليه من يعمل. ثم إذا استؤجر عليه،
فالأجرة في ماله. وأما أجرة المشرف، فعليه أيضا على المذهب، وبه قطع
239

الجمهور. وقال المتولي: تبنى على مؤنة الحفظ، إن جعلناها على العامل، فكذا
أجرة المشرف، وإن جعلناها عليهما، فكذا هنا. وقال في الوسيط: أجرة
المشرف على العامل إن ثبتت خيانته بالبينة، أو بإقراره، وإلا، فعلى المالك.
وهذا الذي ذكره مشكل، وينبغي إذا لم تثبت خيانته أن لا يتمكن المالك من ضم
مشرف إليه، لما فيه من إبطال استقلاله باليد.
فصل إذا خرجت الأشجار المساقى عليها مستحقة، أخذها المالك مع
الثمار إن كانت باقية. وإن جففاها ونقصت قيمتها بالتجفيف، استحق الأرش
أيضا، ويرجع العامل على الغاصب الذي ساقاه بأجرة المثل، كما لو استأجر
الغاصب من عمل في المغصوب عملا، وقيل: لا أجرة، تخريجا على قولي
الغرور، وكما لو تلفت بجانحة. والصحيح: الأول. وإن أتلفها، فللمالك
الخيار في نصيب العامل، بين أن يطالب بضمانه العامل أو الغاصب. والقرار على
العامل على الصحيح. وقيل: على الغاصب، كما لو أطعمه الطعام المغصوب على
قول. وأما نصيب الغاصب، فللمالك مطالبته به. وفي مطالبته العامل به،
وجهان. أصحهما عند الجمهور: يطالبه، لثبوت يده لم، كما يطالب عامل القراض
والمودع إذا خرج مستحقا. والثاني: لا، لان يده تثبت عليه مقصودة. وعلى
الوجهين يخرج ما إذا تلف جميع الثمار قبل القسمة بجائحة أو غصب، فان ثبتنا يد
العامل عليها، فهو مطالب، وإلا، فلا. ولو تلف شئ من الأشجار، ففيه
الوجهان. وإذا قلنا: يطالب العامل بنصيب الغاصب، ففي رجوعه على الغاصب
الخلاف المذكور في رجوع المودع. والمذهب: القطع بالرجوع.
فصل إذا اختلفا في قدر المشروط للعامل، ولا بينة، تحالفا كما في
القراض. وإذا تحالفا وتفاسخا قبل العمل، فلا شئ للعامل. وإن كان بعده، فله
أجرة مثل عمله. وإن كان لأحدهما بينة، قضي بها. وإن كان لكل منهما بينة، فإن
قلنا: يتساقطان وهو الأظهر، فهو كما لو لم يكن لهما بينة، فيتحالفان. وإن
قلنا: تستعملان، فيقرع بينهما. ولا يجئ قولا الوقف والقسمة، لان الاختلاف
في العقد، وهو لا يقسم ولا يوقف. وقيل: تجئ القسمة في القدر المختلف فيه،
فيقسم بينهما نصفين. ولو ساقاه شريكان في الحديقة، فقال العامل: شرطتما لي
240

نصف الثمر، وصدقه أحدهما، قال الآخر: بل شرطنا الثلث، فنصيب المصدق
مقسوم بينه وبين العامل. وأما نصيب المكذب، فيتحالفان فيه. ولو شهد المصدق
للعامل أو المكذب، قبلت شهادته، لعدم التهمة. ولو اختلفا في قدر الأشجار
المعقود عليها، أو في رد شئ من المال أو هلاكه، فالحكم كما ذكرناه في
القراض.
فصل إذا بدا صلاح الثمار، فإن وثق المالك بالعامل، تركها في يده إلى
الادراك، فيقتسمان حينئذ إن جوزناها، أو يبيع أحدهما نصيبه للثاني، أو يبيعان لثالث.
وإن لم يثق به وأراد تضمينه التمر أو الزبيب، بني على أن الخرص عبرة أو تضمين؟
فان قلنا: عبرة، لم يجز. وإن قلنا: تضمين، جاز على الأصح كما في الزكاة.
ويجري الخلاف، فيما لو أراد العامل تضمين المالك بالخرص.
فصل إذا انقطع ماء البستان، وأمكن رده، ففي تكليف المالك السعي فيه
وجهان. أحدهما: لا، كما لا يكلف الشريك العمارة ولا المكري. والثاني:
يكلف، لأنه لا يتمكن من العمل إلا به، فأشبه ما لو استأجره لقصارة ثوب بعينه
يكلف تسليمه. فعلى هذا لو لم يسع في رده، لزمه للعامل أجرة عمله. ولو لم
يمكن رد الماء، فهو كما لو تلفت الثمار بجائحة.
قلت: أصحهما: لا يكلف. والله أعلم
فصل السواقط، وهي السعف التي تسقط من النخل، يختص بها
المالك، وما يتبع الثمن، فهو بينهما. قال الشيخ أبو حامد: ومنه الشماريخ.
فصل دفع بهمة إليه ليعمل عليها، وما رزق الله تعالى فهو بينهما، فالعقد فاسد. ولو قال: تعهد هذه الغنم بشرط أن درها ونسلها بيننا، فباطل أيضا، لان
النماء لا يحصل بعمله. ولو قال: اعلف هذه من عندك ولك نصف درها، ففعل،
وجب بدل النصف على صاحب الشاة، والقدر المشروط من الدر لصاحب العلف
مضمون في يده، لحصوله بحكم بيع فاسد، والشاة غير مضمونة، لأنها غير مقابلة
بالعوض. ولو قال: خذ هذه واعلفها لتسمن ولك نصفها، ففعل، فالقدر المشروط
منها لصاحب العلف مضمون عليه، دون الباقي.
241

فصل قال المتولي: إذا كانت المساقاة في الذمة، فللعامل أن يعامل غيره
لينوب عنه. ثم إن شرط له من الثمار مثل ما شرط المالك له أو دونه، فذاك، وإن
شرط له أكثر، فعلى الخلاف في تفريق الصفقة. فان جوزناه، وجب للزيادة أجرة
المثل، وإن منعناه، فالأجرة للجميع. وإن كانت المساقاة على عينه، لم يكن له
أن يستنيب ويعامل غيره، فلو فعل، انفسخت المساقاة بتركه العمل، وكانت
الثمار كلها للمالك، ولا شئ للعامل الأول. وأما الثاني، فان علم فساد العقد،
فلا شئ له، وإلا، ففي استحقاقه أجرة المثل الخلاف في خروج الثمار مستحقة.
فصل بيع الحديقة التي ساقى عليها في المدة، يشبه بيع العين
المستأجرة، ولم أر له ذكرا، لكن في فتاوى البغوي: أن المالك إن باعها قبل
خروج الثمرة، لم يصح، لان للعامل حقا في ثمارها، فكأنه استثنى بعض الثمرة.
وإن كان بعد خروج الثمرة، صح البيع في الأشجار ونصيب المالك من الثمار، ولا
حاجة إلى شرط القطع، لأنها مبيعة مع الأصول، ويكون العامل مع المشتري كما
كان مع البائع. وإن باع نصيبه من الثمرة وحدها، لم يصح، للحاجة إلى شرط
القطع وتعذره في الشائع.
قلت؟: هذا الذي قاله البغوي، حسن، وهذه المسألة، لم يذكرها الرافعي
هنا، بل في آخر كتاب الإجارة. والله أعلم
باب المزارعة والمخابرة
قال بعض الأصحاب: هما بمعنى، والصحيح وظاهر نص الشافعي رضي الله عنه: أنهما
عقدان مختلفان.
فالمخابرة: هي المعاملة على الأرض ببعض ما يخرج منها والبذر من العامل.
والمزارعة مثلها، إلا أن البذر من المالك. وقد يقال: المخابرة: اكتراء
242

الأرض ببعض ما يخرج منها. والمزارعة: اكتراء العامل لزرع الأرض ببعض ما
يخرج منها. والمعنى لا يختلف.
قلت: هذا الذي صححه الامام الرافعي، هو الصواب. وأما قول صاحب
البيان: قال أكثر أصحابنا: هما بمعنى، فلا يوافق عليه، فنبهت عليه لئلا يغتر
به. والله أعلم
والمخابرة والمزارعة باطلتان، وقال ابن سريج: تجوز المزارعة.
قلت: قد قال بجواز المزارعة والمخابرة من كبار أصحابنا أيضا، ابن خزيمة،
وابن المنذر، والخطابي وصنف فيها ابن خزيمة جزءا، وبين فيه علل الأحاديث
الواردة بالنهي عنها، وجمع بين أحاديث الباب، ثم تابعه الخطابي وقال: ضعف
أحمد ابن حنبل حديث النهي، وقال: هو مضطرب كثير الألوان. قال الخطابي:
وأبطلها مالك، وأبو حنيفة، والشافعي، رضي الله عنهم، لأنهم لم يقفوا على
علته، قال: فالمزارعة جائزة، وهي عمل المسلمين في جميع الأمصار، لا يبطل
العمل بها أحد. هذا كلام الخطابي.
والمختار جواز المزارعة والمخابرة، وتأويل الأحاديث على ما إذا شرط
243

أحدهما زرع قطعة معينة، والآخر أخرى، والمعروف في المذهب، إبطا لهما،
وعليه تفريع مسائل الباب. والله أعلم
فمتى أفردت الأرض لمخابرة أو مزارعة، بطل العقد. فإن كان البذر
للمالك، فالغلة له، وللعامل أجرة مثل عمله، وأجرة البقر والآلات إن كانت له.
وإن كان البذر للعامل، فالغلة له، ولمالك الأرض عليه أجرة مثلها. وإن كان
لهما، فالغلة لهما، ولكل واحد على الآخر أجرة مثل ما انصرف من منافعه إلى حصة
صاحبه. وإذا أرادا أن يكون الزرع بينهما على وجه مشروع، بحيث لا يرجع أحدهما
على الآخر بشئ، نظر، إن كان البذر بينهما، والأرض لأحدهما، والعمل
والآلات للآخر، فلهما ثلاث طرق.
أحدها: قاله الشافعي رضي الله عنه: يعير صاحب الأرض للعامل نصفها،
ويتبرع العامل بمنفعة بدنه وآلاته لأنه مما يختص صاحب الأرض.
الثاني: قاله المزني: يكري صاحب الأرض للعامل نصفها بدينار مثلا،
ويكتري العامل ليعمل على نصيبه بنفسه وآلاته بدينار، ويتقاصان.
الثالث: قاله الأصحاب: يكريه نصف أرضه بنصف منافع العامل وآلاته،
وهذا أحوطها.
وإن كان البذر لأحدهما، فإن كان لصاحب الأرض، أقرض نصفه للعامل
وأكراه نصف الأرض بنصف عمله ونصف منافع آلاته، ولا شئ لأحدهما على الآخر
إلا رد العوض. وإن شاء استأجر العامل بنصف البذر، ليزرع له النصف الآخر
وأعاره نصف الأرض، وإن شاء استأجره بنصف البذر ونصف منفعة تلك الأرض
ليزرع باقي البذر في باقي الأرض. وإن كان الندر للعامل، فان شاء أقرض نصفه
لصاحب الأرض واكترى منه نصفها بنصف عمله وعمل آلاته، وإن شاء اكترى نصف
الأرض بنصف البذر وتبرع بعمله ومنافع آلاته، وإن شاء اكترى منه نصف الأرض
244

بنصف البذر ونصف عمله ومنافع آلاته.
ولا بد في هذه الإجارات من رعاية الشرائط، كرؤية الأرض والآلات، وتقدير
المدة وغيرها. هذا كله إذا أفرد ت الأرض بالعقد. أما إذا كان النخيل بياض،
فتجوز المزارعة عليه مع المساقاة على النخيل، ويشترط فيه اتحاد العامل، فلا يجوز
أن يساقي واحدا، ويزارع آخر، ويشترط أيضا تعذر إفراد النخيل بالسقي، والأرض
بالعمارة، لانتفاع النخل بسقي الأرض وتقليبها، فان أمكن الافراد، لم تجز
المزارعة.
واختلفوا في اعتبار أمور.
أحدها: اتحاد الصفقة، فلفظ المعاملة، يشمل المزارعة والمساقاة. فلو
قال: عاملتك على هذا النخيل والبياض بالنصف، كفى. وأما لفظ المساقاة
والمزارعة، فلا يغني أحدهما عن الآخر، بل يساقي على النخيل، ويزارع على
البياض، وحينئذ إن قدم المساقاة، نظر، إن أتى بهما على الاتصال، فقد اتحدت
الصفقة ووجد الشرط، وإن فصل بينهما، فقيل: تصح المزارعة، لحصولهما
لشخص. والأصح: المنع، لأنها تبع، فلا تفرد كالأجنبي. وإن قدم المزارعة،
فسدت على الصحيح، لأنها تابعة. وقيل: تنعقد موقوفة. فان ساقاه بعدها، بانت
صحتها، وإلا، فلا.
الثاني: لو شرط للعامل نصف الثمر، وربع الزرع، جاز على الأصح.
وقيل: يشترط التساوي، لان التفضيل يزيل التبعية.
الثالث: لو كثر البياض المتخلل مع عسر الافراد، فقيل: يبطل، لان الأكثر
متبوع لا تابع. والأصح: الجواز، للحاجة. ثم النظر في الكثرة إلى زيادة النماء،
أم إلى مساحة البياض ومغارس الشجر؟ وجهان.
قلت: أصحهما: الثاني. والله أعلم
الرابع: لو شرطا كون البذر من العامل فهي مخابرة، فقيل: تجوز تبعا
للمساقاة كالمزارعة. والأصح: المنع، لان الحديث ورد في المزارعة تبعا في قصة
خيبر، دون المخابرة، ولان المزارعة أشبه بالمساقاة، لأنه لا يتوظف على العامل
245

فيهما إلا العمل. فلو شرط أن يكون البذر من المالك والبقر من العامل، أو عكسه،
قال أبو عاصم العبادي: فيه وجهان. أصحهما: الجواز إذا شرط البذر على
المالك، لأنه الأصل، فكأنه اكترى العامل وبقره، قال: فان جوزنا فيما إذا شرط
البقر على المالك والبذر على العامل، نظر، فان شرط التبن والحب بينهما، جاز،
وكذا لو شرط الحب بينهما والتبن لأحدهما لاشتراكهما في المقصود. فان شرط التبن
لصاحب الثور وهو مالك الأرض، وشرط الحب للآخر، لم يجز، لان المالك هو
الأصل، فلا يمنع المقصود. وإن شرطا التبن لصاحب البذر وهو العامل، فوجهان.
وقيل: لا يجوز شرط الحب لأحدهما والتبن للآخر أصلا. واعلم أنهم أطلقوا القول
في المخابرة بوجوب أجرة مثل الأرض، لكن في فتاوى القفال والتهذيب
وغيرهما: أنه لو دفع أرضا إلى رجل ليغر س أو يبني أو يزرع فيها من عنده على أن
يكون بينهما مناصفة، فالحاصل للعامل وفيما يلزمه من أجيرة الأرض، وجهان.
أحدهما: نصفها، لأنه غرس نصف الغرس لصاحب الأرض بإذنه، فقد رضي
ببطلان منفعة النصف. وأصحهما: جميعها، لأنه إنما رضي ليحصل له نصف
الغراس، فإذا إطلاقهم في المخابرة تفريع على الأصح. ثم العامل يكلف نقل البناء
والغراس إن لم تنقص قيمتهما. وإن نقصت، لم يقلع مجانا، للاذن، بل يتخير
مالك الأرض فيهما تخير المعير، والزرع يبقى إلى الحصاد. ولو زرع العامل
البياض بين النخيل من غير إذن، قلع زرعه مجانا. وإذا لم نجوز المساقاة على ما
سوى النخيل والعنب من الشجر المثمر منفردا، ففي جوازها تبعا للمساقاة كالمزارعة
وجهان.
قلت: أصحهما: الجواز. والله أعلم
246

كتاب الإجارة
فيه ثلاثة أبواب.
الأول: في أركانها، وهي أربعة.
(الركن) الأول: العاقدان ويعتبر فيهما العقل والبلوغ كسائر التصرفات.
الركن الثاني: الصيغة، وهي أن يقول: أكريتك هذه الدار، أو
247

آجرتكها مدة كذا بكذا، فيقول: على الاتصال: (قبلت، أو) استأجرت، أو
اكتريت. ولو أضاف إلى المنفعة فقال: أجرتك أو أكريتك منافع هذه الدار،
فوجهان. أصحهما: الجواز، وبه قطع في الشامل وذكر المنفعة تأكيد
كقوله: بعتك عين هذه الدار أو رقبتها، فإنه يصح البيع، والثاني: المنع، وبه قطع
الامام، لان لفظ الإجارة وضع مضافا إلى العين. وإن كان العقد في الذمة، فقال:
ألزمت ذمتك كذا، فقيل: جاز، وأغنى عن لفظ الإجارة والاكراء. وإن تعاقد
بصيغة التمليك، نظر، إن أضاف إلى المنفعة فقال: ملكتك منفعتها شهرا، جاز
على الصحيح (المعروف)، فان الإجارة تمليك منفعة بعوض. ولو قال: بعتك منفعة
هذه الدار شهرا، فوجهان. قال ابن سريج: يجوز، لان الإجارة صنف من البيع.
والأصح: المنع، لان البيع موضوع لملك الأعيان، فلا يستعمل في المنافع، كما
لا ينعقد البيع بلفظ الإجارة. وقيل وبالمنع قطعا.
الركن الثالث: الأجرة. فالإجارة قسمان. واردة على العين كمن استأجر دابة
بعينها ليركبها أو يحمل عليها، أو شخصا بعينه لخياطة ثوب. أو بناء
الحائط وواردة على الذمة، كمن أستأجر دابة موصوفة للركوب أو الحمل،
أو قال: ألزمت ذمتك خياطة هذا الثوب، أو بناء الحائط، فقبل. وفي قوله:
استأجرتك لكذا، أو لتفعل كذا، وجهان. أصحهما: أن الحاصل به إجارة عين،
للإضافة إلى المخاطب، كما لو قال: استأجرت هذه الدابة. والثاني: إجارة ذمة،
وعلى هذا إنما تكون إجارة عين إذا زاد فقال: استأجرت عينك أو نفسك لكذا، أو
لتعمل بنفسك كذا. وإجارة العقار لا تكون إلا إجارة عين، لأنه لا يثبت في الذمة،
ولهذا لا يجوز السلم في أرض ولا دار.
فرع إذا وردت الإجارة على العين، لم يجب تسليم الأجرة في
248

المجلس، كما لا يشترط تسليم الثمن في البيع. ثم إن كانت في الذمة، فهي
كالثمن في الذمة في جواز الاستبدال، وفي أنه إذا شرط فيها التأجيل أو التنجيم،
كانت مؤجلة أو منجمة. وإن شرط التعجيل، كانت معجلة، وإن أطلق،
فمعجلة، وملكها المكري بنفس العقد، استحق استيفاءها إذا سلم العين إلى
المستأجر. واستدل الأصحاب بأن المنافع موجودة أو ملحقة بالموجود، ولهذا صح
العقد عليها، وجاز أن تكون الأجرة دينا، وإلا، لكان بيع دين بدين.
فرع يشترط العلم بقدر الأجرة ووصفها إذا كانت في الذمة كالثمن في
الذمة،
فلو قال: اعمل كذا لأرضيك أو أعطيك شيئا، وما أشبهه، فسد العقد، وإذا
عمل، استحق أجرة المثل.
ولو استأجره بنفقته أو كسوته، فسد.
ولو استأجره بقدر من الحنطة أو الشعير، وضبطه ضبط السلم، جاز. ولو
استأجره بأرطال خبز، بني على جواز السلم في الخبز.
ولو آجر الدار بعمارتها، أو الدابة بعلفها، أو الأرض بخراجها ومؤنتها أو
بدراهم معلومة على أن يعمرها، ولا يحسب ما أنفق من الأجرة، لم يصح.
249

ولو أجرها بدراهم معلومة على أن يصرفها إلى العمارة، لم يصح، لان
الأجرة، الدراهم مع الصرف إلى العمارة، وذلك عمل مجهول. ثم إذا صرفها في
العمارة، رجع بها.
ولو أطلق العقد، ثم أذن له في الصرف إلى العمارة، وتبرع به المستأجر،
جاز. فإن اختلفا في قدر ما أنفق، فقولان في أن القول قول من؟ ولو أعطاه
ثوبا وقال: إن خطته اليوم فلك درهم، أو غدا فنصف، فسد العقد ووجبت أجرة
المثل متى خاطه. ولو قال: إن خطته روميا فلك درهم، أو فارسيا فنصف، فسد،
والرومي بغرزتين، والفارسي بغرزة.
فرع إذا أجلا الأجرة فحلت وقد تغير النقد، اعتبر نقد يوم العقد. وفي
الجعالة الاعتبار بيوم اللفظ على الأصح، وقيل: بوقت تمام العمل، لان الاستحقاق
يثبت بتمام العمل.
فرع هذا الذي سبق، إذا كانت الأجرة في الذمة. فلو كانت معينة،
ملكت في الحال كالمبيع، واعتبرت فيها الشرائط المعتبرة في المبيع، حتى لو
جعل الأجرة جلد شاة مذبوحة قبل السلخ، لم يجز، لأنه لا يعرف صفته في الرقة
والثخانة وغيرهما. وهل تغني رؤية الأجرة، عن معرفة قدرها؟ فيه طريقان.
أحدهما: على قولي رأس مال السلم. والثاني: القطع بالجواز، وهو المذهب.
فصل أما الإجارة الواردة على الذمة، فلا يجوز فيها تأجيل الأجرة، ولا
الاستبدال عنها، ولا الحوالة بها ولا عليها، ولا الابراء، بل يجب التسليم في
المجلس كرأس مال السلم، لأنه سلم في المنافع، فإن كانت الأجرة مشاهدة غير
250

معلومة القدر، فعلى القولين في رأس مال السلم. هذا إذا تعاقدا بلفظ السلم، بأن
قال: أسلمت إليك هذا الدينار في دابة تحملني إلى موضع كذا، فإن عقدا بلفظ
الإجارة، بأن قال: استأجرت منك دابة صفتها كذا لتحملني إلى موضع كذا،
فوجهان بنوهما على أن الاعتبار باللفظ، أم بالمعنى؟ أصحهما عند العراقيين، وأبي
علي، والبغوي: أنه كما لو عقدا بلفظ السلم، ورجح بعضهم الآخر.
فرع يجوز أن تكون الأجرة منفعة، سواء اتفق الجنس، كما إذا أجر دارا
بمنفعة دار، أو اختلف، بأن أجرها بمنفعة عبد. ولا ربا في المنافع أصلا، حتى لو
أجر دارا بمنفعة دارين، أو أجر حلي ذهب بذهب، جاز، ولا يشترط القبض في
المجلس.
فصل لا يجوز أن يجعل الأجرة شيئا يحصل بعمل الأجنبي، كما لو
استأجر السلاخ ينسج الشاة بجلدها، أو الطحان ليطحن الحنطة بثلث دقيقها، أو
بصاع منه، أو بالنخالة، أو المرضعة بجزء من الرقيق المرتضع بعد الفطام، أو
قاطف الثمار بجزء منها بعد القطاف، أو لينسخ الثوب بنصفه، فكل هذا فاسد،
وللأجير أجرة مثله. ولو استأجر المرضع بجزء من الرقيق في الحال، أو قاطف الثمار
بجزء منها على رؤوس الشجر، أو كان الرقيق لرجل وامرأة، فاستأجرها لترضعه
بجزء منه، أو بغيره، جاز على الصحيح، كما لو ساقى شريكه وشرط له زيادة
من الثمر، يجوز وإن كان يقع عمله في مشترك. وقيل: لا يجوز، ونقله الامام
251

والغزالي عن الأصحاب، لان عمل الأجير ينبغي أن يقع في خاص ملك المستأجر،
وهو ضعيف. قال البغوي: لو استأجر شريكه في الحنطة ليطحنها أو الدابة ليتعهدها
بدراهم، جاز. ولو قال: استأجرتك بربع هذه الحنطة أو بصاع منها لتطحن
الباقي، قال المتولي والبغوي: يجوز، ثم يتقاسمان قبل الطحن، فيأخذ الأجرة،
ويطحن الباقي. قال المتولي: وإن شاء طحن الكل والدقيق مشترك بينهما.
ومثال هذه المسائل، ما إذا استأجره لحمل الشاة المذكاة إلى موضع كذا
بجلدها، ففاسد أيضا.
أما لو استأجره لحمل الميتة بجلدها، فباطل، لأنه نجس.
الركن الرابع: المنفعة، ولها خمسة شروط.
أحدها: أن تكون متقومة
وفيه مسائل.
أحدها: استئجار تفاحة للشم باطل، لأنها لا تقصد له، فلم يصح كشراء حبة
حنطة. فإن كثر التفاح، فالوجه: الصحة، لأنهم نصوا على جواز استئجار المسك
والرياحين للشم، ومن التفاح ما هو أطيب من كثير من الرياحين.
الثانية: استئجار الدراهم والدنانير، إن أطلقه، فباطل، وإن صرح
بالاستئجار للتزيين، فباطل أيضا على الأصح. واستئجار الأطعمة لتزيين
الحوانيت، باطل على المذهب. وقيل: فيه الوجهان. وفي استئجار الأشجار
لتجفيف الثياب عليها، والوقوف في ظلها، وربط الدواب فيها، الوجهان. قال
بعضهم: الأصح هنا: الصحة، لأنها منافع مهمة، بخلاف التزيين. واستئجار
الببغاء للاستئناس، قال البغوي: فيه الوجهان، وقطع المتولي بالجواز، وكذا في
كل ما يستأنس بلونه، كالطاووس، أو صوته، كالعندليب.
الثالثة: استئجار البياع على كلمة البيع، أو كلمة يروج بها السلعة ولا تعب
فيها، باطل، إذ لا قيمة لها. قال الإمام محمد بن يحيى: هذا في مبيع مستقر
القيمة في البلد، كالخبز واللحم. أما الثياب والعبيد، وما يختلف قدر الثمن فيه
252

باختلاف المتعاقدين، فيختص بيعها من البياع، لمزيد منفعة وفائدة، فيجوز
الاستئجار عليه. ثم إذا لم يجز الاستئجار، ولم يتعب البياع، فلا شئ له. وإن
تعب بكثرة التردد، أو كثرة الكلام في أمر المعاملة، فله أجرة المثل، لا ما تواطأ
عليه البياعون.
الرابعة: استئجار الكلب المعلم للصيد والحراسة، باطل على الأصح،
وقيل: يجوز كالفهد والبازي والشبكة للاصطياد والهرة لدفع الفأر.
الشرط الثاني: أن لا يتضمن استيفاء عين قصدا، ومقصوده أن الإجارة عقد
تراد به المنافع دون الأعيان، هذا هو الأصل، إلا أنه قد تستحق بها الأعيان تابعه
لضرورة أو حاجة ماسة، فتلحق تلك الأعيان حينئذ بالمنافع،
وفيه مسائل.
إحداها: استئجار البستان لثماره، والشاة لنتاجها أو صوفها أو لبنها، باطل.
الثانية: الاستئجار لارضاع الطفل جائز، ويستحق به ومنفعة عين.
فالمنفعة: أن تضع الصبي في حجرها وتلقمه الثدي وتعصره بقدر الحاجة.
والعين: اللبن الذي يمصه الصبي. وإنما جوز لمسيس الحاجة أو الضرورة. وفي
الأصل الذي تناوله العقد، وجهان. أحدهما: اللبن. وأما فعلها، فتابع، لان
اللبن مقصود لعينه، وفعلها طريق إليه. وأصحهما: أنه فعلها، واللبن مستحق
تبعا، لقول الله تعالى: * (فإن أرضعن لكم، فآتوهن أجورهن) *، علق الأجرة
بفعل الارضاع، لا باللبن، ولان الإجارة موضوعة للمنافع وإنما الأعيان تتبع
للضرورة، كالبئر تستأجر ليستقى ماؤها، والدار تستأجر وفيها بئر، يجوز الاستقاء
منها. ثم إن استأجرها للحضانة مع الارضاع، جاز، وإن استأجر للارضاع، ونفى
الحضانة، فوجهان. أحدهما: المنع، كاستئجار الشاة لارضاع سخلة.
253

وأصحهما: الجواز، وبه قطع الأكثرون، كما يجوز الاستئجار لمجرد الحضانة.
قال الامام: وهذا الخلاف إذا قصر الإجارة على صرف اللبن إلى الصبي، وقطع عنه
وضعه في حجرها ونحوه، فأما الحضانة بالتفسير الذي سنذكره إن شاء الله تعالى،
فيجوز قطعها عن الارضاع بلا خلاف.
الثالثة: استئجار الفحل للضراب، حكمه ما ذكرناه في كتاب البيع في باب
المناهي.
الرابعة: استئجار القناة للزراعة بمائها، جائز، لأنا إن قلنا: الماء لا يملك،
فكالشبكة للاصطياد - وإلا، فالمنافع آبار الماء وقد جوز واستئجار بئر الماء
للاستقاء والتي بعدها مستأجرة لاجراء الماء فيها. وقال الروياني: إذا اكترى
قرار القناة ليكون أحق بمائها، جاز في وجه، وهو الاختيار. والمعروف: منعه.
ومقتضى لفظه أن يكون تعريفا على أن الماء لا يملك.
الشرط الثالث: أن تكون المنفعة مقدورا على تسليمها، فاستئجار الآبق،
والمغصوب، والأخرس للتعليم، والأعمى لحفظ المتاع، إجارة عين، ومن لا
يحسن القرآن لتعليمه، باطل. فإن وسع عليه وقتا يقدر على التعلم قبل التعليم،
فباطل أيضا على الأصح، لان المنفعة مستحقة من عينه، والعين لا تقبل
254

التأخير. وإذا استأجر أرضا للزراعة، اشترط كون الزراعة متيسرة. والأرض أنواع.
منها: أرض لها ماء دائم من نهر أو عين أو بئر ونحوها.
ومنها: أرض لا ماء لها، لكن يكفيها المطر المعتاد، والنداوة التي تصيبها من
الثلوج المعتادة، أو لا يكفيها ذلك، لكنها تسقى بماء الثلج والمطر في الجبل،
والغالب فيها الحصول.
ومنها: أرض لا ماء لها، ولا تكفيها الأمطار المعتادة، ولا تسقى بماء غالب
الحصول من الجبل، ولكن إن أصابها مطر عظيم أو سيل، نادرا، أمكن زرعها،
فالنوع الأول يصح استئجاره قطعا. والثالث لا يصح قطعا. وفي الثاني وجهان.
أصحهما: الجواز، وبه قطع القاضي حسين وابن كج وصاحب المهذب،
بالمنع أجاب القفال.
ومنها: أرض على شط النيل والفرات وغيرهما، يعلو الماء عليها ثم ينحسر،
ويكفي ذلك لزراعتها في السنة، فإن استأجرها للزراعة بعدما علاها الماء وانحسر،
صح، وإن كان قبل أن يعلوها الماء، فإن كان لا يوثق به، كالنيل لا ينضبط أمره،
لم يصح. وإن كان الغالب حصوله، فليكن على الخلاف في النوع الثاني. وإن
كان موثوقا (به) كالمد بالبصرة، صح كماء النهر. فإن تردد في وصول الماء إلى تلك
الأرض، لم يصح، لأنه كالنوع الثالث. وإن كان علاها ولم ينحسر، فإن كان لا
255

يرجى انحساره، أو يشك فيه، لم يصح استئجارها، لان العجز موجود، والقدرة
مشكوك فيها. وإن رجي انحساره وقت الزراعة بالعادة، صحت الإجارة على
المذهب والمنصوص، سواء كانت الإجارة لما يمكن زراعته في الماء كالأرز، أم
لغيره، وسواء كان رأى الأرض مكشوفة أم هي مرئية الآن لصفاء الماء، أم لم يكن
شئ من ذلك. وقيل: إن لم تر، لم يصح في قول. وقيل: لا يصح لغير الأرز
ونحوه. وحجة مذهب القياس على ما لو استأجر دارا مشحونة بأمتعة يمكن الاشتغال
بنقلها في الحال، فإنه يجوز على الصحيح، أما إذا لم تكن مؤنة، فلان استتارها
بالماء من مصالحها، فإنه يقويها ويقطع العروق المنتشرة، فأشبه استتار الجوز
بقشره. أما إذا كانت الأرض على شط نهر، والظاهر أنها تغرق وتنهار في الماء، فلا
يجوز استئجارها. فإن احتمل ولم يظهر، جاز، لان الأصل والغالب السلامة.
ويجوز أن تخرج حالة الظهور على تقابل الأصل والظاهر.
إذا عرفت حكم الأنواع، فكل أرض لها ماء معلوم، واستأجرها للزراعة مع
شربها منه، فذاك، وإن استأجرها للزراعة دون شربها، جاز إن تيسر سقيها من ماء
آخر، وإن أطل، دخل فيه الشرب، بخلاف ما إذا باعها، لا يدخل الشرب، لان
المنفعة هنا لا تحصل دون الشرب. هذا إذا طردت العادة بالإجارة مع الشرب، فإن
اضطربت، فسيأتي حكمه في الباب الثاني إن شاء الله تعالى. وكل أرض منعنا
استئجارها للزراعة، فلو اكتراها لينزل فيها، أو يسكنها، أو يجمع الحطب فيها، أو
يربط الدواب، جاز. وإن اكتراها مطلقا، نظر، إن قال: أكريتك هذه الأرض
البيضاء ولا ماء لها، جاز، لأنه يعرف بنفي الماء أن الإجارة لغير الزراعة. ثم لو
حمل ماء من موضع وزرعها، أو زرعها على توقع حصول ماء، لم يمنع، وليس له
البناء والغراس فيها، نص عليه. وإن لم يقل: لا ماء لها، فإن كانت بحيث يطمع
في سوق الماء إليها، لم يصح العقد، لان الغالب في مثلها الاستئجار للزراعة،
فكأنه ذكرها، وإن كانت على قلة جبل لا يطمع في سوق الماء إليها، صحح العقد
على الأصح اكتفاء بالقرينة، وإذا اعتبرنا نفي الماء، ففي قيام علم المتعاقدين مقام
التصريح بالنفي، وجهان. أصحهما: المنع، لان العادة في مثلها الاستئجار
للزراعة، فلا بد من الصرف باللفظ.
واعلم أن في المسألة تصريحا بجواز الاستئجار مطلقا من غير بيان جنس
256

المنفعة، وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
فصل قد عرفت انقسام الإجارة إلى واردة على العين، وعلى الذمة.
أما إجارة العين، فلا يصح إيرادها على المستقبل، كإجارة الدار السنة
المستقبلة، والشهر الآتي. وكذا إذا قال: أجرتك سنة أولها من غد، أو أجرتك هذه
الدابة للركوب إلى موضع كذا على أن تخرج غدا. ولو قال: أجرتك سنة، فإذا
انقضت، فقد أجرتك سنة أخرى، فالعقد الثاني باطل على الصحيح، كما لو قال:
إذا جاء رأس الشهر، فقد أجرتك شهرا.
أما الواردة على الذمة، فيحتمل فيها التأجيل والتأخير، كما إذا قال:
ألزمت ذمتك حملي إلى موضع كذا في دابة صفتها كذا غدا أو غرة شهر كذا،
كما لو أسلم مؤجلا، وإن أطلق، كانت حالة. ولو أجر داره لزيد سنة، ثم أجرها
لغيره السنة المستقبلة قبل انقضاء الأولى، لم يصح. وإن أجرها لزيد نفسه،
فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: الجواز، لاتصال المدتين. ولو أجرها أولا
لزيد سنة، ثم أجرها زيد لعمرو، ثم أجرها المالك لعمرو السنة المستقبلة قبل
انقضاء الأولى، ففيه الوجهان، ولا يجوز إجارتها لزيد، كذا قاله البغوي. وفي
فتاوى القفال: أنه يجوز أن يؤجرها لزيد، ولا يجوز أن يؤجرها لعمرو، لان زيدا هو
الذي عاقده، فيضم إلى ما استحق بالعقد الأول السنة المستقبلة. قال: ولو أجر
داره سنة، ثم باعها في المدة، وجوزناه، لم يكن للمشتري أن يؤجرها السنة
المستقبلة للمستأجر، لأنه لم يكن بينهما معاقدة، وتردد في أن الوارث، هل يتمكن
منه إذا مات المكري لان الوارث نائبه؟
فرع إيجار الدار والحانوت شهرا على أن ينتفع بهما الأيام دون الليالي،
باطل، لان زمان الانتفاع لا يتصل بعضه ببعض، فيكون إجارة زمن مستقبل،
بخلاف مثله في العبد والبهيمة، فإنه يجوز، لأنهما لا يطيقان العمل دائما،
257

ويرفهان في الليل على العادة عند إطلاق الإجارة.
ولو أجر دابة إلى موضع ليركبها المكري زمانا، ثم المكتري زمانا، لم يصح،
لتأخر حق المكتري وتعلق الإجارة بمستقبل. وإن أجره ليركب المكتري بعض
الطريق وينزل فيمشي بعضها، أو أجر اثنين ليركب هذا زمانا، وهذا مثله، ففيه
أربعة أوجه.
أصحها وهو المنصوص في الام: صحت الإجارة في الصورتين، سواء
وردت الإجارة على الذمة، أو العين، ويثبت الاستحقاق في الحال، ثم يقتسم
المكري والمكتري أو (المكتريان)، ويكون التأخر الواقع من ضرورة القسمة
والتسليم، فلا يضر.
والثاني: تصح في الصورة الثانية دون الأولى، لاتصال زمن الإجارة في الثانية
دون الأولى.
والثالث: تبطل فيهما، لأنها إجارة أزمان متقطعة.
والرابع: تصح في الصورتين إن كانت مضمونة في الذمة، ولا تصح على دابة
معينة، وهذه المسألة تعرف بكراء العقب وهو جمع عقبة وهي النوبة. فإذا
قلنا بالجواز، فإن كان في ذلك الطريق عادة مضبوطة، إما بالزمان، بأن يركب يوما
وينزل يوما، وإما بالمسافة، بأن يركب فرسخا ويمشي فرسخا، حمل العقد عليها،
وليس لأحدهما أن يطلب الركوب (ثلاثا) والنزول ثلاثا، (لما) في دوام المشي من
التعب. وإن لم تكن عادة مضبوطة، فلا بد من البيان في الابتداء. وإن اختلفا
فيمن يبدأ بالركوب، أقرع. ولو أكرى دابة لاثنين، ولم يتعرض للتعاقب، قال
المتولي: إن احتملت الدابة ركوب شخصين، اجتمعا على الركوب، وإلا،
258

فالرجوع إلى المهاياة كما سبق. ولو قال: أجرتك نصف الدابة إلى موضع كذا، أو
أجرتك الدابة لتركبها نصف الطريق، صح، ويقتسمان بالزمان أو المسافة، وهذه
إجارة المشاع، وهي صحيحة كبيع المشاع. وحكي وجه: أن إجارة نصف الدابة لا
تصح، للتقطع، بخلاف إجارة نصف الدار، وبخلاف ما إذا أجرهما ليركبا في
محمل.
فرع لا تصح إجارة ما لا منفعة فيه في الحال، ويصير منتفعا به في
المدة، كالجحش، لان الإجارة موضوعة على تعجيل الانتفاع، بخلاف المساقاة.
فصل العجز الشرعي كالحسي، فلا يصح الاستئجار لقلع سن
صحيحة، أو (قطع) يد صحيحة، ولا استئجار الحائض لكنس المسجد
وخدمته، ولا استئجار أحد لتعليم التوراة والإنجيل، أو السحر، أو الفحش، أو
ختان صغير لا يحتمل ألمه.
فرع قلع السن الوجعة، إنما يجوز إذا صعب الألم وقال أهل الخبرة: إنه
يزيل الألم. وقطع اليد المتآكلة، إنما يجوز إذا قال أهل الخبرة: إنه نافع، ومع
ذلك، ففيه خلاف وتفصيل يأتي إن شاء الله تعالى في باب ضمان الولاة من كتاب
259

الجنايات فحيث لا يجوز القلع أو القطع، فالاستئجار له باطل، وحيث
يجوز، يصح الاستئجار على الأصح. ووجه المنع: أنه لا يوثق ببقاء العلب، فربما
زالت بتعذر الوفاء. وسبيل مثل هذا، أن يحصل بالجعالة، فيقول: اقلع سني هذه
ولك كذا. ورأي الامام تخصيص الوجهين بالقلع، لان زوال الوجع في ذلك الزمن
غير بعيد، بخلاف الاكلة، فإنه غير محتمل في زمن القطع. ويجري الوجهان، في
الاستئجار للفصد والحجامة وبزغ الدابة، لأن هذه الايلامات إنما تباح بالحاجة،
وقد تزول الحاجة.
فرع استأجرها لكنس المسجد، فحاضت، انفسخ العقد إن أستأجر ها
عينها وعينت المدة. وإن استأجر (ها) في الذمة، لم ينفسخ، لامكان الكنس بغيرها أو
بعد الحيض. وإذا جوزنا الاستئجار لقلع السن، فسكن الوجع وبرأ، انفسخت
الإجارة، للتعذر على المذهب، وفيه كلام يأتي إن شاء الله تعالى في القسم الثالث
من الباب الثالث. وإن لم يبرأ، لكن امتنع المستأجر من القلع، قال في
الشامل: لا يجبر عليه، إلا أنه إذا سلم الأجير نفسه، ومضى مدة إمكان
العمل، وجب على المستأجر الأجرة. ثم ذكر القاضي أبو الطيب: أنها لا تستقر،
حتى لو انقلعت تلك السن، انفسخت الإجارة، ووجب رد الأجرة، كما لو مكنت
الزوجة في النكاح، ولم يطأ الزوج. ويفارق ما إذا حبس الدابة مدة إمكان السير،
حيث تستقر عليه الأجرة، لتلف المنافع تحت يده.
قلت: هذا الذي نقله عن صاحب الشامل إلى آخر كلام القاضي أبي
الطيب، هكذا هو في الشامل والبيان. فإن قيل: قد قال الشيخ نصر المقدسي في تهذيبه: إذا امتنع المستأجر من
قلعه، لم يكن له فسخ العقد، لكن يدفع الأجرة، وله الخيار بين مطالبته بقلعه،
وبين تركه، كما لو استأجره ليخيط له ثوبا. قلنا: هذا الذي قاله، لا يخالف قول
260

صاحب الشامل. والله أعلم
فصل يجوز لغير الزوج استئجار الزوجة للارضاع وغيره باذن الزوج، ولا يجوز
بغير إذنه على الأصح، لان أوقاتها مستغرقة بحقه، والثاني: يصح، وللزوج
فسخه، حفظا لحقه. ولو أجرت نفسها ولا زوج لها، ثم نكحت في المدة،
فالإجارة بحالها، وليس للزوج منعها من توفية ما التزمته، كما لو أجرت نفسها
باذنه، لكن يستمتع بها في أوقات فراغها، فإن كانت الإجارة للارضاع، فهل لولي
الطفل الذي استأجرها لارضاعه منع الزوج من وطئها؟ فيه وجهان. أحدهما:
نعم، لأنه ربما حبلت فينقطع اللبن أو يقل، وإلا، فيضر بالطفل. والثاني: لا،
وبه قطع العراقيون، لان الحبل متوهم، فلا يمنع به الوطئ المستحق. فإن منعناه،
فلا نفقة عليه في تلك المدة.
قلت: الأصح قول العراقيين. والله أعلم
ولو أجر أمته المزوجة، جاز، ولم يكن للزوج منعها من المستأجر، لان يده
يد السيد في الانتفاع.
أما الزوج، فيجوز استئجاره امرأته، إلا إذا استأجرها لارضاع ولده منها، ففيه
وجهان: أحدهما. المنع، وبه قطع العراقيون. وأصحهما: الجواز، كما لو
استأجرها بعد البينونة، وكما لو استأجرها للطبخ ونحوه. وعلى هذا الخلاف،
استئجار الوالد ولده للخدمة. وفي عكسه وجهان إن كانت الإجارة على عينه،
261

كالوجهين فيما إذا أجر المسلم نفسه لكافر.
الشرط الرابع: حصول المنفعة للمستأجر، وأكثر العناية في هذا الشرط
بالقرب، وضبطها الامام فقال: هي قسمان.
أحدهما: قرب يتوقف الاعتداد بها على النية. فما لا تدخله النيابة منها، لا يجوز
الاستئجار عليه، وما تدخله النيابة، جاز الاستئجار عليه، كالحج، وتفرقة
الزكاة. قال الامام: ومن هذا، غسل الميت إذا أوجبنا فيه النية.
القسم الثاني: ما لا تتوقف صحته على النية، وهو نوعان.
فرض كفاية، وشعار غير فرض. والأول ضربان.
أحدهما: يختص افتراضه في الأصل بشخص وموضع معين، ثم يؤمر به غيره
إن عجز، كتجهيز الموتى بالتكفين والغسل والحفر وحمل الميت ودفنه، فإن هذه
المؤن تختص بالتركة. فإن لم تكن، فعلى الناس القيام بها. فمثل هذا يجوز
الاستئجار عليه، لآن الأجير غير مقصود بفعله حتى يقع عنه. ومن هذا، تعليم
القرآن، فإن كل أحد لا يختص بوجوب التعليم وإن كان نشر القرآن وإشاعته من
فروض الكفاية، وهذا كله إذا لم يتعين واحد لمباشرة هذه الأعمال، فإن تعين واحد
لتجهيز الميت، أو تعليم الفاتحة، جاز استئجاره أيضا على الأصح، كالمضطر،
يجب إطعامه ببدله. وقيل: لا، كفرض العين ابتداء.
الضرب الثاني: ما يثبت فرضه في الأصل شائعا غير مختص، كالجهاد، فلا
يجوز استئجار المسلم عليه، ويجوز استئجار الذمي على الصحيح.
النوع الثاني: شعار غير فرض، كالاذان، تفريعا على الأصح. وفي جواز
الاستئجار المسلم عليه، ثلاثة أوجه ذكرناها في بابه. فإن جوزنا، فعلى أي شئ يأخذ الأجرة
؟ فيه أوجه. أصحها: على جميع الاذان بجميع صفاته، ولا يبعد أخذ
262

الأجرة على ذكر الله تعالى كتعليم القرآن وإن اشتمل على قراءة المعلم. والثاني:
على رعاية المواقيت. والثالث: على رفع الصوت. والرابع: على الحيعلتين،
فإنهما ليستا ذكرا.
فرع الاستئجار لامامة الصلوات المفروضة، باطل، وكذا للتراويح وسائر
النوافل على الأصح، لأنه مصل لنفسه. ومتى صلى، اقتدى به من أراد وإن لم ينو
الإمامة. وإن توقف على نيته شئ، فهو إحراز فضيلة الجماعة، وهذه فائدة تختص
به. ومن جوزه، شبهه بالاذان في الشعار.
فرع الاستئجار للقضاء باطل.
فرع أطلقوا القول ببطلان الاستئجار للتدريس. وعن الشيخ أبي بكر
الطوسي ترديد جواب في الاستئجار لإعادة الدرس. قال الامام: ولو عين شخصا
أو جماعة ليعلمهم مسألة أو مسائل مضبوطة، فهو جائز، والذي أطلقوه، محمول
على استئجار من يتصدى للتدريس من غير تعيين من يعلمه وما يعلمه، لأنه كالجهاد
في أنه إقامة مفروض على الكفاية ثابت على الشيوع. وكذلك يمتنع استئجار مقرئ
يقرئ على هذه الصورة، قال: ويحتمل أن يجوز.
الشرط الخامس: كون المنفعة معلومة العين والقدر والصفة، فلا يجوز أن
يقول: أجرتك أحدهما. ثم إن لم يكن للعين المعينة إلا منفعة، فالإجارة محمولة
عليها، وإن كان لها منافع، وجب البيان.
وأما الصفة، فإجارة الغائبة، فيها الخلاف السابق. وأما القدر، فيشترط
العلم به، سواء فيه إجارة العين والذمة. ثم المنافع تقدر بطريقتين. أحدهما:
الزمان، كاستأجرت الدار للسكنى سنة. والثاني: العمل، كاستأجرتك لتخيط هذا
الثوب. ثم قد يتعين الطريق الأول، كاستئجار العقار، فإن منفعته لا تنضبط إلا
بالزمان، وكالارضاع، فإن تقدير اللبن لا يمكن، ولا سبيل فيه إلا الضبط بالزمان.
263

وقد يسوغ الطريقان، كما إذا استأجر عين شخص أو دابة، فيمكن أن يقول في
الشخص: ليعمل لي كذا شهرا، وإن يقول: ليخيط لي هذا الثوب. وفي الدابة
يقول: لأتردد عليها في حوائجي اليوم، أو يقول: لأركبها إلى موضع كذا، فأيهما
كان، كفى، لتعريف المقدار. فإن جمع بينهما فقال: استأجرتك لتخيط لي هذا
القميص اليوم، فوجهان. أصحهما: بطلان العقد. والثاني: صحته، وعلى هذا
وجهان. أصحهما: يستحق الأجرة بأسرعهما، فإن انقضى اليوم قبل تمام
العمل، استحقها، فإن تم العمل قبل تمام اليوم، استحقها. والثاني:
الاعتبار بالعمل، فإن تم العمل أولا، استحقها. وإن تم اليوم أولا، وجب إتمامه.
وإن قال: على أنك إن فرغت قبل تمام اليوم، لم تخط غيره، بطلت
الإجارة، لان زمن العمل يصير مجهولا.
فإذا عرفت هذا، فالمنافع متعلقة بالأعيان، تابعة لها، وعدد الأعيان التي
يستأجر لها كالمتعذر، فعني الأصحاب بثلاثة أنواع تكثر إجارتها ليعرف طريق الضبط
بها، ثم يقاس عليها غيرها.
النوع الأول: الآدمي يستأجر لعمل أو صنعة، كخياطة، فإن كانت الإجارة
في الذمة، قال: ألزمت ذمتك
عمل الخياطة كذا يوما، لم يصح، لأنه لم يعين خياطا ولا ثوبا. ولو استأجر عينه،
قال: استأجرتك لتخيط هذا الثوب. ولو قال: لتخيط لي يوما أو شهرا، قال
الأكثرون: يجوز أيضا. ويشترط أن يبين الثوب وما يريد منه من قميص، أو قباء،
أو سراويل، والطول، والعرض، وأن يبين نوع الخياطة، أهي رومية، أو فارسية؟
إلا أن تطرد العادة بنوع، فيحمل المطلق عليه.
فرع من هذا النوع، الاستئجار لتعليم القرآن، فليعين السورة والآيات
التي يعلمها، فإن أخل بأحدهما، لم يصح على الأصح. وقيل: لا يشترط تعيين
واحد منهما، بل يكفي ذكر عشر آيات مثلا. وقيل: تشترط السورة دون الآيات. وهل
264

يكفي التقدير بالمدة فيقول: لتعلمني شهرا؟ وجهان، قطع الامام والغزالي
بالاكتفاء، وايراد غيرهما يقتضي المنع.
قلت: الاكتفاء أصح وأقوى. والله أعلم
وفي وجوب تعيين قراءة ابن كثير أو نافع أو غيرهما، وجهان.
أصحهما: لا، إذ الامر فيها قريب.
قال الامام: وكنت أود أن لا يصح الاستئجار للتعليم حتى يختبر حفظ
المتعلم، كما لا يصح إيجار الدابة للركوب حتى يعرف حال الراكب، لكن ظاهر
كلام الأصحاب، أنه لا يشترط، والحديث الصحيح يدل عليه في الذي تزوج
265

على تعليم ما معه من القرآن، وإنما يجوز الاستئجار لتعليم القرآن إذا كان المتعلم
مسلما، أو كافرا يرجى إسلامه، فإن لم يرج، لم يعلم، كما لا يباع المصحف لكافر، فلا يصح الاستئجار.
فرع إذا كان يتعلم الشئ بعد الشئ، ثم ينسى، فهل على الأجير إعادة
تعليمه؟ فيه أوجه. أحدها: إن تعلم آية ثم نسيها، لم يجب تعليمها ثانيا، وإن
كان دون آية، وجب العرف والثاني: الاعتبار بالسورة والثالث: إن نسي في مجلس
التعليم، وجب إعادته. وإن نسي بعده، فلا. والرابع: يرجع فيه إلى العزف
الغالب، وهو الأصح.
فرع عن القاضي حسين في الفتاوى: أن الاستئجار لقراءة القرآن على
رأس القبر مدة، جائز، كالاستئجار للاذان وتعليم القرآن.
واعلم أن عود المنفعة إلى المستأجر شرط، فيجب عودها في هذه الإجارة إلى
المستأجر أو ميته، فالمستأجر لا ينتفع بقراءة غيره. ومعلوم أن الميت لا يلحقه ثواب
القراءة المجردة، فالوجه: تنزيل الاستئجار على صورة انتفاع الميت بالقراءة.
وذكروا له طريقين.
أحدهما: أن يعقب القراءة بالدعاء للميت، لان الدعاء يلحقه، والدعاء بعد
القراءة أقرب إجابة وأكثر بركة.
والثاني: ذكر الشيخ عبد الكريم السالوسي، أنه إن نوى القارئ بقراءته أن
يكون ثوابها للميت، لم يلحقه. وإن قرأ، ثم جعل ما حصل من الاجر له، فهذا
دعاء بحصول ذلك الاجر للميت، فينفع الميت.
قلت: ظاهر كلام القاضي حسين: صحة الإجارة مطلقا، وهو المختار، فإن
موضع القراءة موضع بركة، وبه تنزل الرحمة، وهذا مقصود ينفع الميت. والله
أعلم
فصل ومنه الاستئجار للارضاع، ويجب فيه التقدير بالمدة، ولا سبيل إلى
266

ضبط مرات الارضاع، ولا قدر ما يستوفيه في كل مرة، فقد تعرض له الأمراض
والأسباب الملهية، ويجب تعيين الصبي، لاختلاف الغرض باختلافه، وتعيين
موضع الارضاع، أهو بيته، أم بيتها.
فصل ومنه الاستئجار للحج، وقد ذكرناه في بابه.
فصل ومنه إذا استأجر لحفر نهر أو بئر أو قناة، قدر، إما بالزمان،
فيقول: تحفر لي شهرا، وإما بالعمل، فيقدر الطول والعرض والعمق، ويجب
معرفة الأرض بالمشاهدة، لتعرف صلابتها ورخاوتها، ويجب عليه إخراج التراب
المحفور. فإن انهار شئ من جوانب البئر، لم يلزمه إخراجه. وإذا انتهى إلى
موضع صلب أو حجارة، نظر، إن كان يعمل فيه المعول، وجب حفره على
الأصح، وبه قال القاضي أبو الطيب. والثاني: لا يجب، وبه قال ابن الصباغ،
لأنه خلاف ما اقتضته المشاهدة، فعلى هذا له فسخ العقد. وإن لم يعمل فيه
المعول، أو نبع الماء قبل وصوله إلى موضع المشروط وتعذر الحق، انفسخ العقد في
الباقي، ولا ينفسخ فيما مضى على المذهب، فيوزع المسمى على ما عمل وما
بقي.
فرع إذا استأجر لحفر قبر، بين الموضع والطول والعرض والعمق، ولا
يكفي الاطلاق، ولا يجب عليه رد التراب بعد وضع الميت فيه.
فصل ومنه إذا استأجر لضرب اللبن، قدر بالزمان أو العمل. وإذا قدر
267

بالعمل، بين العدد والقالب. فإن كان القالب معروفا، فذاك، وإلا بين طوله
وعرضه وسمكه. وعن القاضي أبي الطيب، الاكتفاء بمشاهدة القالب. ويجب بيان
الموضع الذي يضرب فيه، ولا يجب عليه إقامتها للجفاف. ولو استأجره لطبخ اللبن
فطبخ، لم يجب عليه الاخراج من الأتون.
فصل إذا استأجر للبناء، قدر بالزمان أو العمل، فإن قدر بالعمل، بين
موضعه وطوله وعرضه وسمكه وما يبنى به من اللبن أو الطين أو الآجر.
ولو استأجر للتطيين أو التجصيص، قدر بالزمان، ولا سبيل إلى تقديره بالعمل، لان
سمكه لا ينضبط.
فصل ومنه إذا استأجر كحالا ليداوي عينه، قدره بالمدة دون البرء. فإن
برأت عينه قبل تمامها، انفسخ العقد في الباقي، ولا يقدر بالعمل، لان قدر الدواء
لا ينضبط ويختلف بحسب الحاجة.
فصل ومنه إذا استأجر للرعي، وجب بيان المدة وحبس الحيوان، ثم
يجوز العقد على قطيع معين، ويجوز في الذمة، وحينئذ وجهان. أصحهما عند
صاحب المهذب: يجب بيان العدد. والثاني وبه قطع ابن الصباغ والروياني:
لا يجب، ويحمل على ما جرت العادة أن يرعاه الواحد. قال الروياني: وهو مائة
رأس من الغنم تقريبا. فإن توالدت، حكى ابن الصباغ: أنه لا يلزمه رعي أولادها
إن ورد العقد على أعيانها. وإن كان في الذمة، لزمه.
فصل استأجر ناسخا للكتابة، بين عدد الأوراق والأسطر في كل صفحة،
ولم يتعرضوا للتقدير بالمدة، والقياس جوازه، وأن يجب ند تقدير العمل بيان قدر
الحواشي، والقطع الذي يكتب فيه.
268

فصل يجوز الاستئجار لاستيفاء الحد والقصاص، ولنقل الميتة إلى
المزبلة، والخمر لتراق، ولا يجوز لنقل الخمر من بيت إلى بيت، ولا لسائر
المنافع المحرمة، كالزمر والنياحة، وكما يحرم
أخذ الأجرة في هذا، يحرم إعطاؤها. وإنما يباح الاعطاء دون الاخذ في موضع ضرورة، كفكاك الأسير،
وإعطاء الشاعر لئلا يهجو، والظالم ليدفع ظلمه، والجائر ليحكم بالحق. وهذه
الأمثلة، مذكورة في باب القضاء.
النوع الثاني: العقار، ويستأجر لأغراض.
منها: السكنى. فإذا استأجر دارا، وجب معرفة موضعها، وكيفية أبنيتها،
وفي الحمام، يعرف البيوت والبئر التي يستقي منها ماءه، والقدر التي يسخن فيها،
ومبسط القماش، والأتون وهو موضع الوقود وما يجمع الأتون من السرقين ونحوه،
والموضع الذي يجمع فيه الزبل والوقود، ومطرح الرماد، والمستنقع الذي يجتمع
فيه الماء الخارج من الحمام. وعلى هذا قياس سائر المسكن. وهذا الذي ذكرناه
من اشتراط الرؤية في الحمام ونحوه، تفريع على منع إجارة الغائب، فإن جوزناها،
لم تعتبر الرؤية، بل يكفي الوصف والبيان، ولا يدخل الوقود في بيع الحمام وإجارته، كما
لا تدخل الأزر والأسطال والحبل والدلو. قال في الشامل: في رؤية قدر
الحمام، يكفي رؤية داخلها من الحمام، أو ظاهرها من الأتون. والقياس: على
اعتبار الرؤية أن يشاهد الوجهين إذا أمكن، كما تعتبر مشاهدة وجهي الثوب.
فرع ذكر في شرح المفتاح أنه لا بد في إجارة الدار من ذكر عدد
السكان من الرجال والنساء والصبيان، ثم لا منع من دخول زائر وضيف، وإن بات
فيها ليالي.
269

قلت: هذا الاشتراط لا يعرف لغيره. والمختار: أنه لا يعتر لكن يسكن فيها
من جرت العادة به في مثلها، وهذا مقتضى إطلاق الأصحاب، فلا عدول عنه.
والله أعلم
فرع لا بد من تقدير هذه المنفعة بالمدة، وفي تقدير المدة التي يجوز عقد
الإجارة عليها ثلاثة أقوال المشهور والذي عليه جمهور الأصحاب أنه يجوز سنين
كثيرة، بحيث يبقى إليها ذلك الشئ غالبا، فلا يؤجر العبد أكثر من ثلاثين
سنة، والدابة تؤجر عشر سنين، والثوب سنتين أو سنة على ما يليق به، والأرض
مائة سنة وأكثر. وقال ابن كج: يؤجر العبد إلى تمام مائة وعشرين سنة من عمره.
والقول الثاني: لا يجوز أكثر من سنة مطلقا. والثالث: لا يجوز أكثر من ثلاث سنين.
وحكي وجه: أنه يجوز أن يؤجرها مدة لا تبقى فيها العين غالبا، لان الأصل الدوام،
فإن هلكت لعارض، فكانهدام الدار ونحوه. وحكم الوقف في مدة الإجارة حكم
الطلق. قال المتولي: إلا أن الحكام اصطلحوا على منع إجارته أكثر من ثلاث سنين
لئلا يندرس الوقف، وهذا الاصطلاح، غير مطرد. وفي أمالي السرخسي: أن
المذهب منع إجارة الوقف أكثر من سنة إذا لم تمس إليه حاجة لعمارة وغيرها، وهو
غريب. وإذا جوزنا إجارة أكثر من سنة، فهل يجب تقدير حصة كل سنة؟ قولان.
أظهرهما: لا، وتوزع الأجرة على قيمة منافع السنين، ومنهم من قطع بهذا.
فرع إذا قال: أجرتك شهرا، أو قال: سنة، صح على الأصح، وحمل
على ما يتصل بالعقد. وقيل: يشترط أن يقول: من الآن. ولو قال: أجرتك شهرا
من السنة، فالعقد باطل قطعا للابهام.
ولو قال: كل شهر بدرهم من الآن، فباطل أيضا على المشهور والصحيح.
وقال في الاملاء: يصح في الشهر الأول، وبه قطع الإصطخري. ولو قال: كل
270

شهر من هذه السنة بدرهم، لم يصح على الأصح، وصححه ابن سريج في شهر
فقط، ونقل الامام عن الأصحاب، أنهم قالوا: إذا قال: بعتك كل صاع من هذه
الصبرة بدرهم، لم يصح البيع، لأنه لم يضف إلى جميع الصبرة، بخلاف ما لو
قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم، قال: وكان ينبغي أن يفرق فيقال: إن
قال: بعتك كل صاع من هذه الصبرة بدرهم، كان كقوله: بعتك هذه الصبرة كل
صاع بدرهم، ويصح العقد في الجميع. وإن قال: بعتك هذه الصبرة كل
صاع بدرهم، بطل على الأصح، وعلى قول ابن سريج: يصح في صاع، وكذلك يفرق
في الإجارة. وقد قال بهذا الشيخ أبو محمد، فسوى بين قوله: بعتك كل صاع من
هذه الصبرة بدرهم، وبين قوله: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم، فصحح البيع
في جميع الصبرة باللفظين.
فرع مدة الإجارة، كأجل المسلم فيه، في أن مطلق الشهر والسنة يحمل
على العربي، وفي أنه إذا قيد بالعددية، أو قال: سنة فارسية أو رومية أو شمسية،
كان الاجل ما ذكره، وفي أن العقد إذا انطبق على أول الشهر، كان ذلك الشهر وما
بعده بالأهلة. وإن لم ينطبق، تمم المنكسر بالعدد من الأخير، ويحسب الباقي
بالأهلة. وفي سائر المسائل المذكورة في السلم، وفي التأجيل بالشمسية، وجه:
أنه لا يصح، وهو شاذ.
فرع قال: أجرتك شهرا من هذه السنة، فإن لم يكن بقي منها إلا شهر،
صح، وإن بقي أكثر من شهر، لم يصح، قاله المتولي والبغوي.
فصل مما تستأجر له الأرض، والبناء والغراس والزراعة. فإذا قال:
أجرتك هذه الأرض، ولم يذكر البناء ولا غيره، وكانت صالحة للجميع، لم يصح
العقد، لان منافع هذه الجهات مختلفة، وضررها مختلف، فوجب التعيين، كما لو
أجر بهيمة، لا يجوز الاطلاق، هكذا ذكره الأصحاب، وجعلوه متفقا عليه، حتى
احتجوا به لاحد الوجهين في إعارة الأرض مطلقا، لكن قدمنا في مسألة إجارة الأرض
التي لا ماء لها، تصريحهم بجواز الإجارة مطلقا، ويشبه أن تكون إجارتها
271

مطلقا، على وجهين، كاعارتها. والأصح: المنع فيهما. وما ذكروه في إجارة
الأرض التي لا ماء لها، مفرع على الوجه الآخر أو مؤول.
قلت: المذهب، ما نص عليه الأصحاب في المسائل الثلاث، فلا تصح
الإجارة هنا مطلقا، وتصح العارية على وجه، لان أمرها على التوسعة والارفاق،
فاحتمل فيها هذا النوع من الجهالة كإباحة الطعام، بخلاف الإجارة، فإنها عقد
مغابنة، فهذا عمدة الأصحاب.
وأما مسألة إجارة الأرض التي لا ماء لها، (فمؤولة). والله أعلم
فرع أجر بيتا أو دارا، لا يحتاج إلى ذكر السكنى، لان الدار لا تستأجر إلا
للسكنى ووضع المتاع فيها، وليس ضررهما بمختلف، كذا ذكروه، ويجوز أن يمنع
فيقال: قد تستأجر أيضا ليتخذها مسجدا، ولعمل الحدادين والقصارين، ولطرح
الزبل فيها، وهي أكثر ضررا، فما جعلوه مبطلا في الأرض موجود هنا. فإن قيل:
ينزل في الدار على أدنى وجوه الانتفاع وهو السكنى ووضع المتاع، لزم أن يقال في
272

الأرض مثله وينزل على الزراعة، ومقتضى هذا الاشكال، أنه يشترط في استئجار
الدار بيان أنه يستأجر للسكنى أو غيرها، وقد قال به بعض شارحي المفتاح.
فرع قال: أجرتك هذه الأرض لتنتفع بها بما شئت، صحت الإجارة،
وله أن يصنع ما شاء، لرضاه، وهذا هو الأصح، وبه قطع الامام، والغزالي. وحكى
البغوي وجها بالمنع، كبيع عبد من عبيده.
ولو قال: أجرتكها للزراعة، ولم يذكر ما يزرع، أو للبناء أو للغراس وأطلق،
صح على الأصح عند الجمهور، وبالمنع قال ابن سريج، ونقله ابن كج عن النص
في الجامع الكبير. ومن جوز قال: يزرع ما شاء، للاطلاق. وكان يحتمل
التنزيل على الأقل.
ولو قال: أجرتكها لتزرع ما شئت، صحت الإجارة، ويزرع ما شاء، نص
عليه. وعن ابن القطان وجه: أنها فاسدة كبيع عبد من عبيده. ولو قال: أجرتكها
لتزرع أو تغرس، لم يصح. ولو قال: إن شئت فازرعها، وإن شئت فاغرسها،
صح على الأصح، ويخير المستأجر. ولو قال: أجرتكها فازرعها واغرسها، أو
لتزرعها وتغرسها، ولم يبين القدر، فوجهان. أحدهما وبه قال ابن سلمة: يصح
وينزل على النصف. وعلى هذا، فله أن يزرع الجميع، لجواز العدول من الغراس
إلى الزرع، ولا يجوز أن يغرس الجميع. وأصحهما: لا يصح، وبه قال المزني،
وابن سريج، وأبو إسحاق، لعدم البيان، بل قال القفال: لو قال: ازرع النصف
واغرس النصف، لم يصح، لأنه لم يبين المغروس والمزروع، فصار كقوله: بعتك
أحد هذين العبدين بألف والآخر بخمسمائة.
فرع يشترط في استئجار الأرض للبناء، بيان موضعه وطوله وعرضه، وفي
بيان قدر ارتفاعه، وجهان سبقا في كتاب الصلح. أصحهما: لا يشترط، بخلاف ما
إذا استأجر سقفا للبناء.
النوع الثالث: الدواب، وتستأجر لأغراض. منها: الركوب، وفيه مسائل.
إحداها: يشترط أن يعرف المؤجر الراكب، وطريق معرفته المشاهدة، كذا
273

قاله الجمهور. والأصح: أن الوصف التام يكفي عنها. ثم قيل: يصفه بالوزن. وقيل:
بالضخامة والنحافة ليعرف وزنه تخمينا.
الثانية: إن كان الراكب مجردا ليس معه ما يركب عليه، فلا حاجة إلى ذكر ما
يركب عليه، لكن المؤجر يركبه على ما شاء من سرج وإكاف وزاملة على ما يليق
بالدابة. وإن كان يركب على رحل له، أو فوق زاملة، أو في محمل، أو في
عمارية، أو أراد في غير الإبل الركوب على سرج أو إكاف، وجب ذكره. وينبغي أن
يعرف المؤجر هذه الآلات. فإن شاهدها، كفى، وإلا، فإن كانت سروجهم
ومحاملهم وما في معناها على قدر وتقطيع: لا يتفاحش فيه التفاوت، كفى الاطلاق،
وحمل على معهودهم. وإن لم يكن معهود مطرد، اشترط ذكر وزن السرج
والأكاف والزاملة ووصفها. هذا هو الصحيح المعروف. وقال الامام: لم يتعرض
أحد من الأصحاب لاشتراط ذكر الوزن في السرج والأكاف، لأنه لا يكثر فيهما
التفاوت. وأما المحمل أو العمارية، ففيهما أوجه. أصحها: أن المعتبر فيهما
المشاهدة، أو الوصف مع الوزن لافادتهما التخمين.
والثاني: يكفي الوزن. أو الصفة
والثالث: لا بد من المشاهدة.
والرابع: إن كانت محامل خفافا كالبغدادية، كفى الوصف، لتقاربها، وإن
كانت ثقالا كالخرسانية، اشترط ت المشاهدة، وقال البغوي: تمتحن الزاملة باليد
لتعرف خفتها وثقلها، بخلاف الراكب لا يمتحن بعد المشاهدة. وينبغي أ يكون
المحمل والعمارية في ذلك كالزاملة.
فرع لا بد في المحمل ونحوه من الوطاء، وهو الذي يفرش فيه ليجلس
عليه، وينبغي أن يعرف بالرؤية أو الوصف، والغطاء الذي يستظل به ويتوقى من
المطر، قد يكون وقد لا يكون، فيحتاج إلى شرطه. وإذا شرطه، قال الشيخ أبو
حامد وابن الصباغ: يكفي إطلاقه، لتقارب تفاوته، ويغطيه بجلد أو كساء أو لبد.
274

وقال ابن كج والمتولي: يشترط رؤيته أو وصفه، وهو ظاهر النص كالوطاء. لكن إن
كان فيه عرف مطرد، كفى الاطلاق، وقد يكون للمحمل ظرف من لبود، أو أدم،
فهو كالغطاء.
الثالثة: إذا استأجر للركوب، وشرط حمل المعاليق وهي السفرة،
والإداوة، والقدور، والقمقمة، فإن أراها المؤجر، أو وضعها له وذكر وزنها، صح،
وإلا، فلا تصح الإجارة على المذهب والمنصوص، ومن صحح، حمله على
الوسط المعتاد. وإن لم يشرط المعاليق، لم يستحق حملها على الأصح.
وقيل: هو كشرطها مطلقا. وهذا المذكور في السفرة والإداوة الخاليتين، فإن كان
فيهما طعام وماء، فسيأتي بيانهما في الباب الثاني إن شاء الله تعالى.
الرابعة: إن كانت الإجارة على عين الدابة، اشترط تعيينها،
وفي اشتراط رؤيتها الخلاف في شراء الغائب. وإن كانت في الذمة، اشترط
ذكر جنسها، أهي من الإبل، أم الخيل، أم الحمير والبغال؟ ونوعها، كالبخاتي
والعراب. ويشترط بيان الذكورة والأنوثة على الأصح، لاختلاف الغرض بذلك،
فإن الأنثى أسهل سيرا، والذكر أقوى. ويشترط أن يقول: مهملج أو بحر أو
قطوف، على الأصح، لان معظم الغرض يتعلق بكيفية السير.
الخامسة: إذا استأجر دابة للركوب، فليبينا قدر السير كل يوم، فإذا بينا،
حملا على المشروط، فإن زادا في يوم أو نقصا، فلا جبران، بل يسيران بعده على
275

الشرط. ولو أراد أحدهما مجاوزة المشروط، أو النزول دونه لخوف أخصب، لم
يكن له ذلك، إلا أن يوافقه صاحبه، ذكره البغوي. وكان يجوز أن يجعل الخوف
عذرا لمن يحتاط، ويلزم الآخر موافقته.
قلت: هذا الذي قاله البغوي، ضعيف، وينبغي أن يقال: إن غلب على
الظن حصول ضرر بسبب الخوف، كان عذرا، وإلا، فلا. ولا يتجه غير هذا
التفصيل. والله أعلم
فإن لم يبينا قدر السير، وأطلقا العقد، نظر، إن كان في ذلك الطريق منازل
مضبوطة، صح العقد وحمل عليها، وإن لم يكن منازل، أو كانت والعادة مختلفة،
لم يصح العقد حتى يبينا أو يقدر بالزمان. هذا هو الصحيح المعروف الذي
اشتملت عليه طرق الأصحاب. وقال أبو إسحاق: إذا اكترى إلى مكة في زماننا،
اشترط ذكر المنازل، لان السير في هذه الأزمان شديد. وقال القاضي أبو الطيب:
إن كان الطريق مخوفا، لم يجز تقدير السير فيه، لأنه لا يتعلق بالاختيار، وتابعه
الروياني على هذا. ومقتضاه، امتناع التقدير بالزمان أيضا، وحينئذ يتعذر الاستئجار
في الطريق الذي ليس له منازل مضبوطة إذا كان مخوفا.
فرع القول في وقت السير، أهو الليل، أم النهار؟ وفي موضع النزول في
المرحلة، أهو نفس القرية، أم الصحراء؟ وفي الطريق الذي يسلكه إذا كان
للمقصد طريقان على ما ذكرناه في قدر السير في أنه يحمل على المشروط أو
المعهود. وقد يختلف المعهود في فصلي الشتاء والصيف، وحالتي الامن والخوف،
فكل عادة تراعى في وقتها، ومتى شرطا خلاف المعهود، فهو المتبع، لا المعهود.
فصل مما تستأجر له الدواب الحمل عليها، فينبغي أن يكون المحمول
معلوما، فإن كان حاضرا ورآه المؤجر، كفى، وإلا فلا بد من تقديره بالوزن، أو
بالكيل إن كان مكيلا، والتقدير بالوزن في كل شئ أولى وأحصر، ولا بد من ذكر
276

جنسه، لاختلاف تأثيره. فلو قال: أجرتكها لتحمل عليها مائة رطل مما
شئت، جاز على الأصح، ويكون رضى منه بأضر الأجناس، فلا حاجة حينئذ
إلى بيان الجنس.
وقال صاحب الرقم: قال حذاق المراوزة: إذا استأجر دابة للحمل
مطلقا، جاز، وجعل راضيا بالأضر، وحاصله الاستغناء بالتقدير عن ذكر الجنس.
هذا في التقدير بالوزن،
أما إذا قدر بالكيل، فالمفهوم من كلام أبي الفرج السرخسي: أنه لا يغني عن
ذكر الجنس وإن قال: عشرة أقفزة مما شئت، لاختلاف الأجناس في الثقل مع الاستواء في
الكيل، لكن يجوز أن يجعل ذلك رضى بأثقل الأجناس، كما جعل في الوزن رضى
بأضر الأجناس.
قلت: الصواب قول السرخسي،
والفرق ظاهر، فإن اختلاف التأثير بعد الاستواء في الوزن، يسير، بخلاف
الكيل، وأين ثقل الملح من ثقل الذرة؟ والله أعلم
ولو قال: أجرتكها لتحمل عليها ما شئت، لم يصح، بخلاف إجارة الأرض
ليزرعها ما شاء، لان الدواب لا تطيق كل ما تحمل.
فرع ظروف المتاع وحباله، إن لم تدخل في الوزن، بأن قال: مائة رطل
حنطة، أو كان التقدير بالكيل، فلا بد من معرفتها بالرؤية أو الوصف، إلا أن يكون
هناك غرائر متماثلة اطرد العرف باستعمالها، فيحمل مطلق العقد عليها. وإن دخلت
في قدر المتاع، بأن قال: مائة رطل حنطة بظروفها، صح العقد. ولو اقتصر على
قوله: مائة رطل، فالأصح: أن الظرف من المائة. والثاني: أنه وراءها، لأنه
السابق إلى الفهم. فعلى هذا، يكون الحكم كما لو قال: مائة رطل من الحنطة،
277

والمسألة مفرعة على الاكتفاء بالتقدير. وإهمال ذكر الجنس، إما مطلقا، وإما بأن
قال: مائة رطل مما شئت.
فرع الدابة المستأجرة للحمل، إن كانت معينة، فعلى ما ذكرناه
في الركوب. وإن كانت الإجارة على الذمة، لم يشترط معرفة جنس الدابة وصفتها،
بخلاف الركوب، لان المقصود هنا تحصيل المتاع في الموضع المنقول إليه، فلا
يختلف الغرض. لكن لو كان المحمول زجاجا أو خزفا وشبههما، فلا بد من معرفة
حال الدابة، ولم ينظروا في سائر المحمولات إلى تعلق الغرض بكيفية سير الدابة
بسرعة أو بطء، وقوة أو ضعف، وتخلفها عن القافلة على بعض التقديرات. ولو قيل
به، لم يكن بعيدا. والكلام في المعاليق وتقدير السير، على ما ذكر ناه في
الاستئجار للركوب.
فرع استأجره لحمل هذه الصبرة إلى موضع كذا، كل صاع بدرهم، أو
صاع منها بدرهم، وما زاد فبحسابه، صح العقد كما لو باع كذلك، بخلاف ما لو
قال: أجرتك كل شهر بدرهم، لان جملة الصبرة معلومة محصورة، بخلاف الأشهر.
ولو قال: لتحمل صاعا منها بدرهم، على أن تحمل كل صاع منها بدرهم، أو على أن ما
زاد فبحسابه، فوجهان. أصحهما: المنع، لأنه شرط عقد في عقد. والثاني: الجواز،
وتقديره: كل صاع بدرهم. ولو قال: لتحمل هذه الصبرة وهي عشرة آصع، كل
صاع بدرهم، فإن زادت، فبحسابه، صح العقد في العشرة، دون الزيادة المشكوك
فيها. ولو قال: لتحمل من هذه الصبرة كل صاع بدرهم، لم يصح على المذهب،
وهو المعروف. وقد سبق في مثله في البيع وجه: انه يصح في صاع، فيعود هنا.
فصل ومن الأغراض، سقي الأرض بإدارة الدولاب، والاستقاء من البئر
بالدلو. فإن كانت الإجارة على عين الدابة، وجب تعيينها كما في الركوب والحمل.
وإن كانت في الذمة، لم يجب بيان الدابة ومعرفة جنسها. وعلى التقديرين يعرف
المؤجر الدولاب والدلو وموضع البئر وعمقها، بالمشاهدة، أو الوصف إن كان
الوصف يضبطها، ويقدر المنفعة، إما بالزمان، بأن يقول: لتسقي بهذا الدلو من
البئر اليوم، وإما بالعمل، بأن يقول: لتستقي خمسين دلوا من هذه البئر بهذا الدلو.
278

ولا يجوز التقدير بالأرض، بأن يقول: لتسقي هذا البستان، أو لتسقي جريبا منه.
فصل ومنها: الحراثة، فيجب أن يعرف المؤجر الأرض، لاختلافها.
. وتقدر المنفعة، إما بالزمان، بأن يقول: لتحرث في هذه الأرض الشهر، وإما
بالعمل، بأن يقول: لتحرث هذه القطعة، أو إلى موضع كذا منها. وقيل: لا يجوز
تقدير هذه المنفعة بالمدة، قاله الشيخ أبو حامد. والصحيح: الأول. ولا بد من
معرفة الدابة إن كانت إجارة عين. وإن كانت في الذمة، فكذلك إن قدر بالمدة
وجوزناه، لان العمل يختلف باختلاف الدابة. وإن قدر بالأرض المحروثة، فلا
حاجة إلى معرفتها.
فصل ومنها: الدياس، فيعرف المؤجر الجنس الذي يريد دياسه، ويقدر
المنفعة بالزمان، أو بالزرع الذي يدوسه. والقول في معرفة الدابة، على ما ذكرناه
في الحراثة.
فصل الاستئجار للطحن كالاستئجار للدياس.
فصل جملة ما يجب تعريفه في الإجارات، مما ذكرناه وما لم نذكره، أن
ما يتفاوت به الغرض، ولا يتسامح به في المعاملة، يشترط تعريفه.
فصل اختلف الأصحاب في أن المعقود عليه في الإجارة ماذا؟ فقال أبو
إسحاق وغيره: هو العين ليستوفي منها المنفعة، لان المنفعة معدومة، ومورد العقد
يجب أن يكون موجودا، ولان اللفظ مضاف إلى العين. ولهذا يقول: أجرتك هذه
الدار. وقال الجمهور: ليست العين معقودا عليها، لان المعقود عليه هو ما يستحق
بالعقد، ويجوز التصرف فيه، وليست العين كذلك. فالمعقود عليه، هو المنفعة،
وبه قال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما، وعليه ينطبق قول جمهور أصحابنا: أن
الإجارة تمليك المنافع بعوض، ويشبه أن لا يكون هذا خلافا محققا، لان الأول لا
يقول: العين مملوكة بالإجارة كالمبيع. ومن قال بالثاني، لا يقطع النظر عن
العين.
279

الباب الثاني في حكم الإجارة الصحيحة
فيه طرفان.
الطرف الأول: فيما يقتضي اللفظ دخوله في العقد وضعا أو عرفا، وما
يلزم المتكاريين إتماما له، ومسائله مقسومة على الأنواع الثلاثة المذكورة في شرط العلم
بالمنفعة.
النوع الأول: استئجار الآدمي، وفيه فصلان.
الفصل الأول: الاستئجار للحضانة وحدها، وللارضاع وحده جائز، وكذا لهما
معا كما سبق وذكرنا أن المستحق بالإجارة للارضاع ما هو؟
وأما الحضانة، فهي حفظ الصبي وتعهده، بغسله، وغسل رأسه وثيابه
وخرقه، وتطهيره من النجاسات، ودهنه وكحله، وإضجاعه في مهده، وربطه
وتحريكه في المهد لينام.
وإذا أطلق الاستئجار لأحدهما، ولم ينف الآخر، ففي استتباعه الآخر ثلاثة
أوجه. أصحها: منع الاستتباع. والثاني: إثباته للعادة بتلازمهما. والثالث: يستتبع الارضاع
الحضانة ولا عكس. فإن أتبعنا فيهما، أو شرطهما، فانقطع اللبن، فثلاثة أوجه مبنية
على أن المعقود عليه في هذه الإجارة ماذا؟ أحدها: أنه اللبن، والحضانة تابعة،
فعلى هذا ينفسخ العقد بانقطاعه، والثاني: الحضانة، واللبن تابع، فعلى هذا لا
ينفسخ العقد، لكن للمستأجر الخيار، لأنه عيب. وأصحهما: المعقود عليه
281

كلاهما، لأنهما مقصودان. فعلى هذا، ينفسخ العقد في الارضاع، ويسقط قسطه
من الأجرة. وفي الحضانة قولا تفريق الصفقة، ولم يفرقوا في طرد الأوجه بين أن
يصرح بالجمع بينهما، أو يذكر أحدهما ونحكم باستتباعه الآخر. وحسن أن يفرق
فيقال: إن صرح، فمقصودان قطعا. وإن ذكر أحدهما، فهو المقصود، والآخر
تابع.
فرع يلزم المرضعة أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن، وللمكتري أن
يكلفها ذلك.
الفصل الثاني: إذا استأجر وراقا، فعلى من الحبر؟ فيه ثلاثة طرق. أصحها:
الرجوع إلى العادة. فإن اضطربت، وجب البيان، وإلا فيبطل العقد.
وأشهرها: القطع بأنه لا يجب على الوراق.
والثالث: أنه على الخلاف في أن اللبن هل يتبع الحضانة 0 وإذا أوجبنا على
الوراق، فهو كاللبن في أنه لا يجب تقديره. وإن صرح باشتراطه عليه، فهو
كما لو صرح بالارضاع والحضانة. وإذا لم نوجبه عليه، فشرط في العقد، بطل
العقد إن لم يكن معلوما، وإلا، فطريقان. أحدهما: يصح العقد، لان المقصود
الكتابة، والحبر تابع. والثاني: أنه شراء واستئجار، وليس الحبر كاللبن، لامكان
إفراده بالشراء. وعلى هذا، ينظر، فإن قال: اشتريت منك هذا الحبر على أن تكتب
به كذا، فهو كشراء الزرع بشرط أن يحصده البائع. وإن قال: اشتريت الحبر
واستأجرتك لتكتب به كذا بعشرة، فهو كقوله: اشتريت الزرع واستأجرتك لتحصده
بعشرة. وإن قال: اشتريت الحبر بدرهم واستأجرتك لتكتب به بعشرة، فهو كقوله:
اشتريت الزرع بعشرة واستأجرتك لتحصده بدرهم، وحكم الصور مذكور في البيع.
فرع إذا استأجر الخياط والصباغ وملقح النخل والكحال، فالقول في
282

الخيط والصبغ وطلع النخل والذرور، كما ذكرنا في الحبر. هذا هو المذهب وعليه
الجمهور وقطع الامام وشيخه والغزالي، بأن الخيط لا يجب على الخياط، لان
العادة الغالبة في الخيط خلاف الحبر والصبغ.
النوع الثاني: العقار، وهو صنفان، مبني كالدار والحمام، وغيره.
فالأول: فيه مسألتان.
إحداهما: ما تحتاج إليه الدار المكراة من العمارة، وهو ثلاثة أضرب
أحدها: مرمة لا تحتاج إلى عين جديدة، كإقامة جدار مائل، وإصلاح
منكسر، وغلق تعسر فتحه.
والثاني: ما يحوج إلى عين جديدة، كبناء، وجذع جديد، وتطيين سطح،
والحاجة في الضربين لخلل عرض في دوام الإجارة.
الثالث: عمارة يحتاج إليها لخلل قارن العقد، بأن أجر دارا ليس لها باب ولا
ميزاب. ولا يجب شئ من هذه الأضرب على المستأجر، بل هي من وظيفة
المؤجر، فإن بادر إلى الاصلاح، فلا خيار للمستأجر، وإلا، فله الخيار إذا نقصت
المنفعة. حتى لو وكف البيت لترك التطيين، قال الأصحاب: له الخيار. فإذا
انقطع بطل الخيار، إلا إذا حدث بسببه نقص. وإنما يثبت الخيار في الضرب
الثالث، إذا كان جاهلا به في ابتداء الحال.
وهل يجبر المؤجر على هذه العمارات؟ قال جماعة منهم المتولي والبغوي:
لا يجبر في شئ منها، لأنه إلزام عين لم يتناولها العقد. وقال الامام والغزالي
والسرخسي: يجبر على الضرب الأول، ولا يجبر على الثالث قطعا، ولا على الثاني
على الأصح. وقال القاضي حسين وأبو محمد: يجبر توفيرا للمنفعة. ويجري
الوجهان فيما إذا غصبت المستأجرة وقدر المالك على الانتزاع.
قلت: ينبغي أن يكون الصحيح هنا، وجوب الانتزاع. والله أعلم
ولا شك أنه إذا كان العقد على موصوف في الذمة، ولم ينتزع ما سلمه،
يطالب ببدله. وحكى الامام تفريعا على طريقته وجهين، في أن الدعامة المانعة من
283

الانهدام إذا احتيج إليها، من الضرب الأول، أم من الثاني؟
فرع يجب على المكري تسليم مفتاح الدار، للتمكن من الانتفاع،
بخلاف ما إذا كانت العادة فيه الأقفال، فإنه لا يجب تسليم القفل، لان الأصل أن لا
يدخل المنقولات في العقد الواقع على العقار، والمفتاح تابع للغلق. وإذا سلم،
فهو أمانة في يد المستأجر. فإن ضاع بلا تفريط، فلا شئ عليه، وإبداله من وظيفة
المؤجر، وهل يطالب به؟ فيه الخلاف السابق في العمارات. فإن لم يبدله،
فللمستأجر الخيار.
المسألة الثانية: تطهير الدار عن الكناسة والأتون عن الرماد في دوام الإجارة،
على المستأجر، لأنهما حصلا بفعله، وكسح الثلج عن السطح، من وظيفة
المؤجر، لأنه كعمارة الدار. فإن تركه على السطح وحدث به عيب، فللمستأجر
الخيار. قال الامام: وهل يجب عليه؟ فيه الخلاف السابق في العمارة. وحكي
وجه: أنه لا يجب الكسح وإن وجبت العمارة، لأنها تجب لتعود الدار إلى ما
كانت.
وأما الثلج في عرصة الدار، فإن خف ولم يمنع الانتفاع، فهو ملحق بكنس
الدار. وإن كثف، فكذلك على الأصح، وقيل: كتنقية البالوعة، وفيها خلاف
يأتي إن شاء الله تعالى، لأنه يمنع التردد في الدار.
فرع يلزم المؤجر تسليم الدار وبالوعتها وحشها فارغان. فإن كان مملوءا،
فللمستأجر الخيار، وكذا مستنقع الحمام، وهو الموضع الذي تنصب إليه الغسالة.
فلو امتلأت البالوعة والحش والمستنقع في دوام الإجارة، فهل تفريغها على المؤجر
تمكينا من الانتفاع بقية المدة؟ أم على المستأجر لحصوله بفعله؟ وجهان.
284

أصحهما: الثاني، وبه قطع الماوردي وابن الصباغ والمتولي، كنقل الكناسات.
فإن تعذر الانتفاع، فلينق، ولا خيار له على الصحيح. ولا يلزم المستأجر التنقية
عند انقضاء المدة، ولا تفريغ مستنقع الحمام، ويلزمه التطهير من الكناسة،
وفسروها بالقشور وما سقط من الطعام ونحوه، دون التراب الذي يجتمع بهبوب
الرياح، لأنه بغير فعله لكن قد سبق من أن ثلج العرصة لا يلزم المؤجر نقله، بل هم
كالكناسة، مع أنه حصل لا بفعله، فيجوز أن يكون التراب أيضا كالكناسة، مع أنه
حصل لا بفعله.
قلت: هذا الاحتمال ضعيف. والصواب: أنه لا يلزم المستأجر نقل التراب
كما قاله الأصحاب، وليس المراد بما سبق في ثلج العرصة أنه يلزم المستأجر نقله،
بل المراد أنه لا يلزم المؤجر، فكذا هنا لا يلزم واحدا منهما. والله أعلم
قال الامام والغزالي: رماد الأتون كالكناسة، فيجب على المستأجر نقله.
وفي التهذيب أنه لا يجب، لأنه من صورة استيفاء المنفعة، بخلاف الكناسة.
فرع الدار المستأجرة للسكنى، لا يجوز طرح الرماد والتراب في أصل
حائطها، ولا ربط دابة فيها، بخلاف وضع الأمتعة. وفي جواز طرح ما يسرع
(إليه) الفساد وجهان. أصحهما: الجواز، لأنه معتاد.
الصنف الثاني: الأرض البيضاء. فإذا استأجر أرضا للزراعة ولها شرب
معلوم، فإن شرط دخوله في العقد أو خروجه، اتبع الشرط، وإلا، فإن اطردت
العادة باتباعه الأرض، أو انفراده، اتبعت. وإن اضطربت، فكانت تكرى وحدها
تارة، ومع الشرب تارة، فأوجه. أصحها: لا يجعل الشرب تابعا اقتصارا على
مقتضى اللفظ، إنما عليه بعرف مطرد. والثاني: يجعل تابعا. والثالث: يبطل
العقد من أصله، لان تعارض المقصودين يوجب جهالة.
فصل استأجر أرضا لزرع معين، فانقضت المدة ولم يدرك، فلعدم
الادراك فيها أسباب.
أحدها: التقصير في الزراعة، بأن أخرها حتى ضاق الوقت، أو أبدل الزرع
المعين بما هو أبطا منه، أو أكله الجراد ونحوه، فزرع ثانيا، فللمالك إجباره على
285

قلعه، وعلى الزارع تسوية الأرض كالغاصب، هذا لفظ البغوي، ومقتضى إلحاقه
بالغاصب، أن يقلع زرعه قبل انقضاء المدة أيضا، لكن المتولي وغيره صرحوا بأنه لا
يقلع قبل انقضاء المدة، لان منفعة الأرض في الحال له.
قلت: الصواب ما صرح به المتولي وغيره، وليس مراد البغوي بالحاقه
بالغاصب، القلع قبل المدة. والله أعلم
فرع للمالك منعه من زراعة ما هو أبطأ إدراكا، وهل له منعه من زراعة
الزرع المعين ابتداء إذا ضاق الوقت؟ وجهان لأنه استحق منفعة الأرض تلك المدة،
وقد يقصد القصيل.
قلت: الأصح: أنه ليس له منعه. والله أعلم
السبب الثاني: أن يتأخر الادراك لحر أو برد، أو كثرة المطر، أو أكل الجراد
رؤوس الزرع، فنبت ثانيا فتأخر لذلك، فالصحيح أنه لا يجب على القلع، بل على
المالك الصبر إلى الادراك مجانا أو بأجرة المثل. وقيل: له قلعه مجانا، لخروجه
عن المدة.
السبب الثالث: أن يكون الزرع المعين بحيث لا يدرك في المدة، بأن استأجر
لزراعة الحنطة شهرين. فإن شرطا القلع بعد المدة، جاز، وكأنه أراد القصيل. ثم
لو تراضيا على الابقاء مجانا أو بأجرة المثل، جاز، فإن شرطا الابقاء، فسد العقد،
للتناقض بينه وبين التوقيت، ولجهالة مدة الادراك، ويجئ فيه خلاف سنذكره قريبا
إن شاء الله تعالى. وإذا فسد العقد، فللمالك منعه من الزراعة، لكن لو زرع، لم
يقلع مجانا، للاذن، بل يأخذ منه أجرة المثل لجميع المدة. وإن أطلقا العقد، ولم
يتعرضا لقلع ولا إبقاء، صح العقد على الأصح. فعلى هذا، إن توافقا بعد المدة
على إبقائه مجانا أو بأجرة، فذاك. وإن أراد المالك إجباره على القلع، لم يكن له
على الأصح، وهو اختيار القفال، لان العادة فيه الابقاء. وعلى هذا، فالأصح أن له
أجرة المثل للزيادة. وقيل: لا، لأنه في معنى معير للزيادة. وقال أبو الفرج
السرخسي: إذا قلنا: لا يقلع بعد المدة، لزم تصحيح العقد إذا شرط الابقاء بعد
المدة، وكأنه صرح بمقتضى الاطلاق، وهذا حسن. أما إذا استأجر للزراعة مطلقا
286

وقلنا بالأصح وهو صحته، فعليه أن يزرع ما يدرك في تلك المدة. فإن زرعه وتأخر
إدراكه لتقصير أو لغيره، فعلى ما ذكرناه في الزرع المعين. ولو أراد أن يزرع ما لا
يدرك في تلك المدة، فللمالك منعه. فلو زرع، لم يقلع انقضاء المدة. وقال
صاحب المهذب يحتمل أن لا يمنع من زرعه، كما لا يقلع إذا زرع.
فصل استأجر للبناء أو الغراس، فإن شرط القلع، صح العقد، ولزم
المستأجر القلع بعد المدة، وليس على المالك أرش النقصان، ولا على المستأجر
تسوية الأرض ولا أرش نقصها، لتراضيهما بالقلع. ولو شرطا الابقاء بعد المدة،
فوجهان. أحدهما: العقد فاسد، لجهالة المدة. وهذا أصح عند الامام والبغوي.
والثاني: يصح، لان الاطلاق يقتضي الابقاء، فلا يضر شرطه، وبهذا قطع
العراقيون أو جمهورهم، ويتأيد به كلام السرخسي في مسألة الزرع. فإن قلنا
بالفساد، لزم المستأجر أجرة المثل للمدة، وما بعدها حكمه ما سنذكره فيما إذا أطلقا
العقد. أما إذا أطلقا، فالمذهب صحة العقد. وقيل: وجهان، وليس بشئ، ثم
ينظر بعد المدة، فإن أمكن القلع والرفع بلا نقص، فعل، وإلا، فإن اختار
المستأجر القلع، فله ذلك، لأنه ملكه. وهل عليه تسوية الحفر وأرش نقص
الأرض؟ وجهان. الأصح المنصوص: يلزمه، لتصرفه في أرذ الغير بالقلع بعد
خروجها من يده، وتصرفه بغير إذن مالكها. فعلى هذا، لو قلع قبل المدة، لزمه
التسوية على الأصح، لعدم الاذن. وقيل: لا، لبقاء الأرض في يده وتصرفه.
وإن لم يختر القلع، فهل للمؤجر أن يقلعه مجانا؟ فيه طريقان. أحدهما: القطع
بالمنع. والثاني: على وجهين. أصحهما: هذا، لأنه بناء محترم. والثاني:
نعم. فإن منعنا، فالكلام في أن المؤخر، يتخير بين أن يقلع ويغرم أرش النقص مع
نقص الثمار إن كان على الشجر ثمر، أو يتملكه عليه بالقيمة، أو يبقيه بأجرة
يأخذها، أو لا يتخير إلا بين الخصلتين الأوليين من هذه الثلاث، على ما ذكرناه إذا
رجع المعير عن العارية. وإذا انتهى الامر إلى القلع، فمباشرة القلع أو بدل مؤنته،
هل هي على المؤجر لأنه الذي اختاره، أم على المستأجر لأنه شغل الأرض
فليفرغها؟ وجهان. أصحهما: الثاني. وإذا عين المؤجر خصلة، فامتنع منها
287

المستأجر، ففي إجباره ما ذكرناه في إجبار المستعير. فإن أجبرناه، كلف تفريغ
الأرض مجانا، وإلا، فلا، بل هو كما لو امتنع المؤجر من الاختيار، وحينئذ هل
يبيع الحاكم الأرض بما فيها، أم يعرض عنهما؟ فيه خلاف سبق.
فرع الإجارة الفاسدة للغراس والبناء كالصحيحة في تخيير المالك ومنع
القلع مجانا.
فصل إذا استأجر لزراعة جنس معين، جاز أن يزرعه وما ضرره مثل ضرره
أو دونه، لا ما فوقه، والحنطة فوق ضرر الشعير. وكل واحد من الذرة والأرز فوق
ضرر الحنطة. وعن البويطي: أنه لا يجوز غير زرع المعين، فقيل: هو قول
للشافعي رضي الله عنه. وقيل: هو مذهب للبويطي. وكيف كان، فالمذهب
جوازه. هذا إذا عين جنسا أو نوعا. فلو قال: أجرتكها لزرع هذه الحنطة، ففي
صحة العقد وجهان. أحدهما: المنع، لان تلك الحنطة قد تتلف. والثاني:
الصحة، وهو اختيار ابن كج، ولا تتعذر الزراعة بتلف تلك الحنطة.
قلت: الأصح: الصحة، لأنه لا يتعذر بتلف الحنطة. ولو تعذر، لم يكن
احتمال التلف مانعا، كالاستئجار لارضاع هذا الصبي، والحمل على هذه الدابة.
والله أعلم
ولو قال: لتزرع هذه الحنطة ولا تزرع غيرها، فأوجه. أحدها: يفسد
العقد، لا ينافي مقتضاه. قال ابن كج والروياني: وهذا هو المذهب. والثاني
وهو اختيار الإمام: صحة العقد وفساد الشرط، لأنه شرط لا يتعلق به غرض، فهو
كقوله: أجرتك على أن لا تلبس إلا الحرير. والثالث: يصح العقد والشرط، لأنه
يملك المنفعة من المؤجر، فملك بحسب التمليك.
قلت: الأول أقوى. والله أعلم
وعلى هذا قياس طريق أخرى فيه ولو ركبها في استيفاء سائر المنافع. فإذا استأجر دابة للركوب في طريق،
لم يركبها في مثل ذلك الطريق. وإذا استأجر لحمل الحديد، لم
يحمل القطن ولا العكس، وإذا استأجر دكانا لصنعة، منع مما فوقها في الضرر.
288

فرع إذا تعدى المستأجر للحنطة، فزرع الذرة، ولم يتخاصما حتى
انقضت المدة وحصد الذرة، فالمذهب، وهو نصه في المختصر وبه قال أبو علي
الطبري والقاضي أبو حامد: أن المؤجر بالخيار، بين أن يأخذ المسمى وبدل
النقصان الزائد بزراعة الذرة على ضرر الحنطة، وبين أن يأخذ أجرة المثل لزرع
الذرة. وقال كثيرون: في المسألة قولان. أحدهما: تعيين أجرة المثل للذرة.
والثاني: تعيين المسمى وبدل النقص. وقال ابن القطان: قولان. أحدهما:
المسمى وبدل النقص. والثاني: التخيير.
قلت: وهل يصير ضامنا للأرض غاصبا؟ وجهان حكاهما الشاشي في
المستظهري أصحهما: لا. والله أعلم
ولو تخاصما عند إرادته زراعة الذرة، منع منها، وإن تخاصما بعد زراعتها
وقبل حصادها، فله قلعها. وإذا قلع، فإن تمكن من زراعة الحنطة، زرعها،
وإلا، فلا يزرع، وعليه الأجرة لجميع المدة، لأنه الذي فوت مقصود العقد. ثم إن
لم تمض على بقاء الذرة مدة تتأثر الأرض بها، فذاك، وإن مضت، فالمستحق أجرة
المثل؟ أم قسطها من المسمى مع بدل النقصان؟ أم يتخير بينهما؟ فيه الطرق
السابقة. والطرق جارية فيما إذا استأجر دارا ليسكنها، فأسكنها الحدادين أو
القصارين، أو دابة ليحمل عليها قطنا، فحمل بقدره حديدا، أو غرفة ليضع فيها
مائة رطل حنطة، فأبدلها بحديد، وكذا كل صورة لا يتميز فيها المستحق عما زاد.
فلو تميز، بأن استأجر دابة لحمل خمسين رطلا، فحمل مائة، أو إلى موضع،
فجاوزه، وجب المسمى وأجرة المثل لما زاد قطعا. ولو عدل عن الجنس المشروط
إلى غيره، بأن استأجر للزرع، فغرس، أو بنى، وجبت أجرة المثل على
المذهب. وقيل بطرد الخلاف. وإذا قلنا بالمذهب في أصل المسألة: إنه يتخير،
فاختار المسمى وبدل النقصان الزائد، فمثله أجرة مثلها للحنطة خمسون، وللذرة
سبعون، وكان المسمى أربعين، فله الأربعون والتفاوت بين الأجرتين وهو عشرون.
قلت: وإذا حصد المستأجر ما أذن فيه بعد المدة، لزمه قلع ما يبقى في
الأرض من قصب الزرع وعروقه، لأنه عين ماله، فلزمه إزالته عن ملك غيره. وممن
صرح به، صاحب البيان. والله أعلم
289

النوع الثالث: استئجار الدواب، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: إذا اكترى للركوب، قال الأكثرون: على المؤجر الأكاف
والبرذعة، والحزام، والثفر، والخطام، والبرة، لأنه لا يتمكن من
الركوب دونها. والعرف مطرد بكونها على المؤجر. وفي السرج إذا اكترى الفرس
أوجه. ثالثها: اتباع العادة.
قلت: صحح الرافعي في المحرر اتباع العادة. والله أعلم
وقال أبو الحسن العبادي في الرقم: لا يلزم مكري الدابة إلا تسليمها
عارية، والآلات كلها على المستأجر. وقال البغوي: ما عدا السرج والأكاف
والبرذعة، فعلى المؤجر.
وأما هذه الثلاثة، فإن استأجر عين الدابة، فهي على المستأجر، ويضمن لو
ركب بغير إكاف وسرج. وإن كانت على الذمة، فعلى المؤجر، لأنها للتمكين من
الانتفاع.
أما ما هو للتسهيل على الراكب، كالمحمل، والمظلة، والوطاء،
290

والغطاء، والحبل الذي يشد به المحمل على البعير، والذي يشد به أحد
المحملين إلى الآخر، (فعلى المستأجر، والعرف مضطرد به، وفي المهذب
وجه في الحبل الذي يشد به أحدهما إلى الآخر أنه على المستأجر، وهو شاذ بعيد،
مع القطع بأن المحمل وسائر توابعه على المستأجر. وأما شد أحد المحملين إلى
الآخر)، فهل هو على المكري كالشد على الحمل؟ أم على المكتري لأنه إصلاح
ملكه؟ وجهان.
قلت: أصحهما: الأول. وممن صححه صاحب البيان. والله أعلم
هذا إذا أطلقا العقد، أما إذا قال: أكريتك هذه الدابة العارية بلا حزام ولا
إكاف ولا غيرهما، فلا يلزمه شئ من الآلات.
المسألة الثانية: إذا اكترى للحمل، فالوعاء الذي ينقل فيه المحمول، عل
المستأجر إن وردت الإجارة على عين الدابة. وعلى المؤجر إن ورث على الذمة.
والدلو والرشاء في الاستئجار للاستقاء كالوعاء في الحمل، فيفرق بين العين والذمة.
وعن القاضي حسين: أنه إن كان معروفا بالاستقاء بآلات نفسه، لزمه الاتيان بها،
وهذا يجب طرده في الوعاء. ورأي الامام في إجارة الذمة، الفرق بين أن يلتزم
الغرض مطلقا ولا يتعرض للدابة فتكون الآلات عليه، وبين أن يتعرض لها بالوصف
وحينئذ يتبع العادة. فإن اضطربت، احتمل واحتمل. وإذا رأينا اتباع العادة،
فاضطربت، فالأصح أنه يشترط لصحة العقد التقييد.
قلت: الأصح الذي عليه الجمهور ما سبق. والله أعلم
فرع مؤنة الدليل وسائق الدابة وقائدها والبذرقة وحفظ المتاع في المنزل،
كالوعاء.
المسألة الثالثة: الطعام المحمول ليؤكل في الطريق، كسائر المحمولات
291

في اشتراط رؤيته أو تقديره بالوزن على الصحيح. وقيل: لا يشترط تقديره،
ويحمل الامر فيه على العادة. فعلى الصحيح: لا يشترط تقدير ما يؤكل منه كل
يوم، لصحة العقد على الصحيح. وإذا قدره وحمله، فإن شرط أنه يبدله كلما
نقص، أو لا يبدله، اتبع الشرط، وإلا، فإن فني بعضه أو كله بسرقة أو تلف، فله
الابدال كسائر المحمولات. وإن فني بالاكل، فإن فني كله، أبدله على
الصحيح. وإن فني بعضه، أبدله على الأظهر. ويقال: الأصح. وموضع
الخلاف، إذا كان يجد الطعام في المنازل المستقبلة بسعر المنزل الذي هو فيه. أما
إذا لم يجده، أو وجده بأعلى، فله الابدال قطعا. وإذا قلنا: لا يشترط تقدير الزاد
وحمل ما يعتاد لمثله، لم يبدله حتى يفنى كله، وفيه وجه ضعيف.
الرابعة: إذا اكترى للركوب في الذمة، لزم المؤجر الخروج مع الدابة
لسوقها، وتعهدها، وإعانة الراكب فق الركوب والنزول. وتراعى العادة في كيفية
الإعانة. فينيخ البعير للمرأة، لأنه يصعب عليها النزول والركوب مع قيام البعير،
وكذا إذا كان الرجل ضعيفا لمرض أو شيخوخة، أو كان مفرط السمن، أو نضو
الخلق، ينيخ له البعير، ويقرب البغل والحمار من نشز يسهل عليه الركوب،
والاعتبار في القوة والضعف بحال الركوب، لا بحال العقد.
وإذا اكترى للحمل في الذمة، لزم المؤجر رفع الحمل وحطه وشد المحمل
وحله. وفي شد أحد المحملين إلى الآخر وهما بعد على الأرض، الوجهان
السابقان قريبا.
ويقف الدابة لينزل الراكب لما لا يتهيأ عليها، كقضاء الحاجة، والوضوء،
وصلاة الفرض. وإذا نزل انتظره المكري ليفرغ منها، ولا يلزمه المبالغة في
التخفيف، ولا القصر ولا الجمع، وليس له الابطاء ولا التطويل. قال الروياني:
292

وله النزول في أول الوقت لينال فضله، ولا يقفها للنوافل والأكل والشرب، لامكانها
على الدابة.
وإن ورد العقد على دابة بعينها، فالذي على المؤجر التخلية بين المستأجر
وبينها، وليس عليه أن يعينه على الركوب ولا الحمل. هذا هو المذهب وقول
الجمهور في نوعي الإجارة. وحكى الامام مع هذا، ثلاثة أوجه. أحدها: أنه إن
قال في إجارة الذمة: ألزمت ذمتك تبليغي موضع كذا، لزمه الإعانة. وإن قال:
ألزمت ذمتك منفعة دابة صفتها كذا، لم تلزمه. والثاني: تجب الإعانة على الركوب
في إجارة العين أيضا. والثالث: تجب للحمل في نوعي الإجارة، لاطراد العادة
بالإعانة على الحط والحمل وإن اضطربت في الركوب. ورفع المحمل وحطه
كالحمل.
فرع قال الشافعي رضي الله عنه: إذا اختلفا في الرحلة، هل لا مكبوبا
ولا مستلقيا. قيل: المكبوب أن يجعل مقدم المحمل أو الزاملة أوسع من المؤجر،
والمستلقي عكسه. وقيل: المكبوب بأن يضيق المقدم والمؤخر جميعا، والمستلقي
أن يوسعهما جميعا. وعلى التفسيرين، المكبوب أسهل على الدابة، والمستلقي
أسهل على الراكب. فإن اختلفا فيهما، حملا على الوسط المعتدل، وكذا إذا
اختلفا في كيفية الجلوس.
فرع ليس للمؤجر منع الراكب من النوم في وقته. ويمنعه في غير ذلك
الوقت، لان النائم يثقل، قاله ابن كج.
فرع قد يعتاد النزول والمشي للاراحة، فإن شرطا أن ينزل أو لا ينزل،
اتبع الشرط. قال الامام: ويعرض في شرط النزول إشكال، لانقطاع المسابة،
ويقع في كراء العقب. قال: لكن الأصحاب احتملوه للحاجة. وإن أطلقا، لم
293

يجب النزول على المرأة والمريض. وفي الرجل القوي وجهان، لتعارض اللفظ
والعادة. وهكذا حكم النزول عند العقبات الصعاب.
قلت: قال أصحابنا: وفي معنى المرأة والمريض، الشيخ العاجز. وينبغي
أن يلحق بهم من كانت له وجاهة ظاهرة، وشهرة يخل بمروءته في العادة المشي. ثم
الكلام مفروض في طريق يعتاد النزول فيه لإراحة الدابة. فإن لم تكن معتادة، لم
يجب مطلقا، ولم نصحح شيئا من الوجهين في الرجل القوي. وينبغي أن يكون
الأصح وجوب النزول عند العقبات، دون الإراحة. والله أعلم
فرع إذا اكترى دابة إلى بلد، فبلغ عمرانه، فللمؤجر أخذ دابته، ولا
يلزمه تبليغه داره. ولو اكترى إلى مكة، لم يكن له تتميم الحج عليها. وإن
اكتراها للحج، ركبها إلى منى ثم عرفات، ثم المزدلفة، ثم منى مكة
لطواف الإفاضة. وهل يركبها إلى مكة راجعا إلى منى للرمي والطواف؟ وجهان.
قلت: ينبغي أن يكون أصحهما استحقاقه ذلك، لان الحج لم يفرغ، وإن
كان قد تحلل. ومن مسائل هذا النوع لو طلب أحد المتكاريين مفارقة القافلة بالتقدم
أو التأخر، لم يكن له إلا برضى صاحبه. والله أعلم
فرع إذا اكترى دابة بعينها، فتلفت، انفسخ العقد، وإن وجد بها
عيبا فله الخيار. والعيب، مثل ان تتعثر في المشي، أو لا تبصر في الليل، أو
يكون بها عرج تتخلف به عن القافلة. ومجرد خشونة المشي، ليس بعيب.
294

وإن كانت الإجارة على الذمة، وسلم دابة وتلفت، لم ينفسخ العقد. وإن وجد بها
عيبا، لم يكن له الخيار في فسخ العقد، ولكن على المؤجر إبدالها. ثم الدابة
المسلمة عن الإجارة في الذمة وإن لم ينفسخ العقد بتلفها، فإنه ثبت للمستأجر فيها
حق الاختصاص، حتى يجوز له إجارتها. ولو أراد المؤجر إبدالها، فهل له ذلك
دون إذن المستأجر؟ وجهان. أصحهما عند الجمهور: المنع، لما فيها من حق
المستأجر. والثاني قاله أبو محمد واختاره الغزالي: إن اعتمد باللفظ الدابة، بأن
قال: أجرتك دابة صفتها كذا، لم يجز الابدال. وإن لم يعتمدها، بل قال:
التزمت إركابك دابة صفتها كذا، جاز.
ويتفرع على الوجهين ما إذا أفلس المؤجر بعد تعيين عن إجارة الذمة، هل
يتقدم المستأجر بمنفعتها على الغرماء؟ وقد ذكرناه في التفليس. والأصح: التقدم.
ولو أراد المستأجر أن يعتاض عن حقه في إجارة الذمة، فإن كان قبل أن يتسلم
دابة، لم يجز، لأنه اعتياض عن المسلم فيه. وإن كان بعد التسليم، جاز، لان
هذا الاعتياض عن حق في عين، هكذا قاله الأئمة.
وفيه دليل على أن القبض يفيد تعلق حق المستأجر بالعين، فيمتنع الابدال دون
رضاه.
فصل نذكر فيه قولا جمليا في إبدال متعلقات الإجارة المنفعة
المطلوبة في العقد، لها مستوف، مستوفى منه، ومستوفى به،
فأما المستوفي وهو مستحق الاستيفاء، فله أن يبدل نفسه بغيره، كما يجوز أن
يؤجر ما استأجر، فإذا استأجر دابة للركوب، فله أن يركبها مثل نفسه في الطول
والقصر والضخامة والنحافة ومن هو أخف منه. وكذلك يلبس الثوب مثله، ويسكن
الدار، دون القصار والحداد، لزيادة الضرر. وكذا إذا استأجر دابة لحمل
القطن، فله حمل الصوف والوبر. أو لحمل الحديد، فله حمل النحاس
295

والرصاص. وإذا استأجر للحمل، فأراد إركاب من لا يزيد وزنه على القدر
المحمول، قال المتولي: يرجع إلى أهل الصنعة. فإن قالوا: لا يتفاوت الضرر،
جاز، وإن قالوا: يتفاوت، لم يجز. وكذا لو استأجر للركوب فأراد الحمل.
والأصح: المنع في الطرفين، وهو مقتضى ما في التهذيب.
وأما المستوفى منه، فهو الدار والدابة المعينة، والأجير المعين، ولا يجوز
إبداله كما لا يبدل المبيع.
وأما المستوفى به، فهو كالثوب المعين للخياطة والصبي المعين للارضاع
والتعليم، والأغنام المعينة للرعي. وفي إبداله وجهان. ويقال: قولان. أحدهما:
المنع. وأصحهما عند الامام والمتولي الجواز، لأنه كالراكب.
والخلاف جار في انفساخ الإجارة بتلف هذه الأشياء في المدة، وميل العراقيين
إلى ترجيح الانفساخ، وقالوا: هو المنصوص. والثاني: مخرج. وسنزيد المسألة
إيضاحا إن شاء الله تعالى في الباب الثالث.
ويجري الخلاف فيما إذا لم يلتقم الصبي المعين ثديها، فعلى رأي، ينفسخ
العقد، وعلى رأي، يبدل.
فصل استئجار الثياب للبس، والبسط والزلالي للفراش، واللحف
للالتحاف، جائز. وإذا استأجر ثوبا ليلبسه مدة، لم يجز أن ينام فيه بالليل. وهل له
النوم فيه (في) وقت القيلولة؟ وجهان. أصحهما وبه قطع الأكثرون: جوازه للعادة.
لكن لو كان المستأجر القميص الفوقاني، لزمه نزعه بل يلزمه نزعه في سائر أوقات
الخلوة، وإنما تلبس ثياب التجمل في الأوقات التي جذت العادة فيها بالتجمل،
296

كحالة الخروج إلى السوق ونحوه، ودخول الناس عليه، ولا يجوز الاتزار بما يستأجر
للبس، ويجوز الارتداء به على الأصح. قال المتولي: وإذا استأجر للارتداء، لم يجز
الاتزار، ويجوز التعمم.
قلت: هذا الذي ذكره الامام الرافعي في النوم في الثوب، هو الذي أطلقه
الجمهور، إلا قوله: هل يجوز النوم في وقت القيلولة؟ فإن الأكثرين قالوا: يجوز
النوم فيه بالنهار من غير تقييد بالقيلولة، ولكن ضبطه الصيمري فقال: إن نام ساعة أو
ساعتين، جاز، لأنه متعارف. وإن نام أكثر النهار، لم يجز. قالوا: وإذا استأجر
للبس مطلقا، فله لبسه ليلا ونهارا إذا كان مستيقظا قطعا. ولو استأجر للبس ثلاثة
أيام، ولم يذكر الليالي، فالصحيح دخول الليالي. وقيل: لا تدخل، حكياه في
العدة والبيان.
وإذا استأجر يوما كاملا، فوقته من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وإن
قال: يوما، وأطلق، قال الصيمري: كان من وقته إلى مثله من الغد. وإن استأجر
نهار يوم، قال في البيان: فيه وجهان حكاهما الصيمري. أحدهما: من طلوع
الفجر إلى غروب الشمس. والثاني: من طلوع الشمس إلى غروبها. والله أعلم
الطرف الثاني: في بيان حكم الإجارة في الأمانة والضمان. مال الإجارة،
تارة يكون في يد المستأجر، وتارة في يد الأجير على العمل.
وأما المستأجر، ففيه مسألتان.
إحداهما: يده على الدابة والدار المستأجرتين ونحوهما في مدة الإجارة يد
أمانة، فلا يضمن ما تلف منها بغير تعد وتقصير
وهل يضمن ما يتلف في يده بعد مضي المدة؟ يبنى على أنه هل على
المستأجر الرد ومؤنته؟ وفيه وجهان. أصحهما عند الغزالي: لا، وإنما عليه التخلية
بين المالك وبينها إذا طلب، لأنه أمانة فأشبه الوديعة. وأقربهما إلى كلام الشافعي
رضي الله عنه: يلزمه الرد ومؤنته وإن لم يطلب المالك، لأنه غير مأذون في الامساك
297

بعد المدة، ولأنه أخذ لمنفعة نفسه، فأشبه المستعير.
قال القاضي أبو الطيب: ولو شرط عليه الرد، لزمه بلا خلاف، ومنعه ابن
الصباغ وقال: من لا يوجبه عليه، ينبغي أن لا يجوز شرطه. فإن قلنا: لا يلزمه
الرد، فلا ضمان. وإن قلنا: يلزمه الرد، لزمه الضمان، إلا أن يكون الامساك
بعذر.
قلت: صحح الرافعي في المحرر أنه لا ضمان. والله أعلم
ويترتب على الوجهين، ضمانه أجرة المنافع التي تتلف في يده بعد المدة.
فإن ألزمناه الرد، ضمناه، وإلا، فلا.
قلت: وفي فتاوى الغزالي، القطع بأن الإجارة إذا انفسخت بسبب، لا يلزم
المستأجر ضمان المنافع التالفة عنده، لأنه أمين، وهذا محمول على ما إذا علم
المالك بأنها انفسخت، وإلا، فيجب أن يعلمه. وإذا لم يعلمه، كان مقصرا
ضامنا. والله أعلم
ولو غصبت الدابة المستأجرة مع دواب الرفقة، فذهب بعضهم في الطلب،
ولم يذهب المستأجر، فإن قلنا: لا يلزمه الرد، فلا ضمان عليه. وإن ألزمناه، فإن
استرد من ذهب بلا مشقة ولا غرامة، ضمن المستأجر المتخلف. وإن لحقه غرامة
ومشقة، لم يضمن، قاله الشيخ أبو عاصم العبادي.
فرع لو استأجر قدرا مدة ليطبخ فيها، ثم حملها بعد المدة ليردها، فسقط
الحمار فانكسرت، قال أبو عاصم: إن كان لا يستقل بحملها، فلا ضمان. وإن
كان يستقل، فعليه الضمان، سواء ألزمناه الرد، أم لا، لان العادة أن القدر لا ترد
بالحمار مع استقلال المستأجر أو حمال بها.
المسألة الثانية: الدابة المستأجرة للحمل أو الركوب، إذا ربطها المستأجر
298

ولم ينتفع بها في المدة، فالقول في استقرار الأجرة عليه، سيأتي إن شاء الله
تعالى، ولا ضمان عليه لو ماتت في الإصطبل. فلو انهدم عليها فهلكت به،
نظر، إن كان المعهود في مثل ذلك الوقت لو خرج بها أن يكون في الطريق، وجب
عليه ضمانها.
وإن كان المعهود في مثل ذلك الوقت أن يكون تحت السقف، كجنح الليل
في الشتاء، فلا ضمان.
فصل وأما المال في يد الأجير، كالثوب إذا استؤجر لخياطته أو صبغه
أو قصارته، والعبد إذا استؤجر لتعليمه أو لرضاعه، والدابة إذا استؤجر لرياضتها. فإذا
تلف والأجير منفرد باليد، فهو، إما أجير مشترك، وإما منفرد. والمشترك: هو
الذي يتقبل العمل في ذمته، كما هو عادة الخياطين والصواغين. فإذا التزم لواحد،
أمكنه أن يلتزم لغيره مثل ذلك العمل، فكأنه مشترك بين الناس. والمنفرد: هو الذي
أجر نفسه مدة مقدرة لعمل، فلا يمكنه تقبل مثل ذلك العمل لغيره في تلك المدة.
وقيل: المشترك: هو الذي شاركه في الرأي فقال: اعمل في أي موضع شئت.
والمنفرد: هو الذي عين عليه العمل وموضعه. أما المشترك، فهل يضمن ما تلف
في يده بلا تعد ولا تقصير؟ فيه طريقان. أصحهما: قولان. أحدهما: يضمن
كالمستعير والمستام. وأظهرهما: لا يضمن كعامل القراض. والثاني: لا يضمن
قطعا. وأما المنفرد، فلا يضمن على المذهب، وقطع به جماعة. أما إذا لم يكن
الأجير منفردا باليد، كما إذا قعد المستأجر عنده حتى عمل، أو حمله إلى بيته
ليعمل، فالمذهب وبه قطع الجمهور: لا ضمان، لان المال غير مسلم إليه حقيقة،
299

وإنما استعان به المالك، كالاستعانة بالوكيل. وعن الإصطخري والطبري، طرد
القولين. وحيث ضمنا الأجير، فالواجب أقصى قيمة من القبض إلى التلف، أم
قيمة يوم التلف؟ فيه وجهان.
قلت: أصحهما: الثاني. والله أعلم
هذا كله إذا لم يتعد الأجير، فإن تعدى، وجب الضمان قطعا، وذلك مثل أن
يسرف على الخبز في الايقاد ويلصق الخبز قبل وقته، أو يتركه في التنور فوق العادة
حتى يحترق، أو ضرب على التأديب والتعليم الصبي فمات، لان تأديبه بغير الضرب
ممكن. ومتى اختلفا في التعدي ومجاوزة الحد، عملنا بقول عدلين من أهل
الخبرة، فإن لم نجدهما، فالقول قول الأجير. ومتى تلف المال في يده بعد تعديه،
فالواجب أقصى قيمة من وقت التعدي إلى التلف إن لم يضمن الأجير. فإن ضمناه،
فأقصى قيمة من القبض إلى التلف، كذا ذكره البغوي وغيره. ويشبه أن يكون هذا
جوابا على قولنا: يضمن بأقصى قيمة من القبض إلى التلف.
فأما إن قلنا: يضمن قيمة يوم التلف، فينبغي أن يجب هنا أقصى قيمة من
التعدي إلى التلف.
قلت: هذا الاستدراك الذي ذكره الامام الرافعي، متعين لا بد منه. والله أعلم
فرع قال الأصحاب: إذا حجمه أو ختنه فتلف، إن كان المحجوم
والمختون حرا، فلا ضمان، لأنه لا تثبت اليد عليه. وإن كان عبدا، نظر في انفراد
الحاجم باليد وعدم انفراده، وأنه أجير مشترك، أم لا؟ وحكمه ما سبق.
والمذهب: أنه لا ضمان مطلقا إذا لم يفرط. وكذا البيطار إذا بزغ الدابة فتلفت،
والراعي المنفرد كذلك، فلا ضمان عليهما على المذهب، ولو اكتراه ليحفظ متاعه
في دكانه فتلف، فلا ضمان (قطعا)، لان المال في يد المالك.
فصل إذا دفع ثوبا إلى قصار ليقصره، أو خياط ليخيطه، أو جلس بين
300

يدي حلاق ليحلق رأسه، أو دلاك ليدلكه، ففعل، ولم يجر بينهما ذكر أجرة ولا
نفيها، فيه أوجه. أصحها وهو المنصوص: لا أجرة له مطلقا، لأنه لم يلتزم،
وصار كما لو قال: أطعمني خبزا، فأطعمه، لا ضمان عليه. والثاني: يستحق
أجرة المثل. والثالث: إن بدأ المعمول له فقال: افعل كذا، لزمه الأجرة. وإن
بدأ العامل فقال: أعطني ثوبا لأقصره، فلا أجرة. والرابع: إن كان العامل معروفا
بذلك العمل وأخذ الأجرة عليه، استحق الأجرة للعادة، وإلا، فلا.
ولو دخل سفينة بغير إذن صاحبها، وسار إلى الساحل، لزمه الأجرة. وإن كان
بالاذن ولم يجر ذكر الأجرة، فعلى الأوجه.
وإذا لم نوجب الأجرة، فالثوب أمانة في يد القصار ونحوه. وإن أوجبناها،
فوجوب الضمان على الخلاف في الأجير المشترك.
فرع فيما يأخذه الحمامي أوجه. أحدها: أنه ثمن الماء، وهو متطوع
301

بحفظ الثياب وإعارة السطل، فعلى هذا، الثياب غير مضمونة على الحمامي،
والسطل مضمون على الداخل. والثاني: أنه ثمن الماء وأجرة الحمام والسطل.
وأصحها: أنه أجرة الحمام والسطل والإزار وحفظ الثياب.
وأما الماء، فغير مضبوط، ولا يقابل بعوض. فعلى هذا، السطل غير
مضمون على الداخل، والحمامي أجير مشترك في الثياب، فلا يضمن على
المذهب كسائر الاجراء، وإنما وجبت الأجرة هنا وإن لم يجر لها ذكر ولم يطرد
فيه الخلاف، لان الداخل مستوف منفعة الحمام بسكونه، وهناك صاحب المنفعة
صرفها.
فصل إذا عمل الأجير، ثم تلفت العين التي عمل عليها، نظر، إن لم
يكن منفردا باليد، بل عمل في ملك المستأجر، أو في حضرته، لم تسقط أجرته.
وإن كان منفردا باليد، بأن سلم الثوب إلى قصار فقصره، ثم تلف عنده، بني على
الخلاف السابق في باب التفليس، أن القصارة عين، أم أثر؟ فإن قلنا: أثر، لم
تسقط الأجرة، ثم إن ضمنا الأجير، فعليه قيمة ثوب مقصور، وإلا، فلا شئ
عليه. وإن قلنا: عين، سقطت أجرته وعليه قيمة ثوب غير مقصور إن ضمنا الأجير
أو وجد منه تعد، وإلا، فلا شئ عليه. وإن أتلف أجنبي الثوب المقصور، فإن
قلنا: القصارة أثر، فللأجير الأجرة، وعلى الأجنبي القيمة. ثم المستأجر على قول
تضمين الأجير، يتخير بين مطالبة الأجير والأجنبي، والقرار على الأجنبي. وإن قلنا:
عين، جاء الخلاف فيما إذا أتلف أجنبي المبيع قبل القبض. فإن قلنا: ينفسخ
العقد، فهو كما لو تلف، وإلا، فللمستأجر الخيار في فسخ الإجارة وإجازتها. فإن
أجاز ولم يضمن الأجير، استقرت له الأجرة، والمستأجر يغرم الأجنبي قيمة ثوب
مقصور. وإن ضمناه، فالمستأجر بالخيار، إن شاء ضمن الأجنبي قيمة ثوب
مقصور، وإن شاء ضمن الأجنبي قيمة القصارة، والأجير قيمة ثوب غير مقصور، ثم
الأجير يرجع على الأجنبي. وإن فسخ الإجارة، فلا أجرة عليه ويغرم الأجنبي قيمة
ثوب غير مقصور. وإن ضمنا الأجير، غرم القيمة من شاء منهما، والقرار على
الأجنبي ويغرم الأجنبي الأجير قيمة القصارة. ولو أتلف الأجير الثوب، فإن قلنا:
القصارة أثر، فله الأجرة، وعليه قيمة ثوب مقصور. وإن قلنا: عين، جاء الخلاف
في أن إتلاف البائع كالآفة السماوية، أم كإتلاف الأجنبي؟ إن قلنا: كالآفة،
302

فالحكم ما سبق. وإن قلنا: كالأجنبي، وأثبتنا للمستأجر الخيار، فإن فسخ
الإجارة، سقطت الأجرة وعلى الأجير قيمة ثوب غير مقصور. وإن أجازها،
استقرت الأجرة، وعليه قيمة ثوب مقصور. وصبغ الثوب بصبغ صاحب الثوب
كالقصار. وإن استأجره ليصبغ بصبغ من عنده، قال المتولي: هو جمع بين البيع
والإجارة، ففيه الخلاف المعروف. وسواء صح، أم لم يصح، فإذا هلك الثوب
عنده، سقطت قيمة الصبغ. وسقوط الأجرة على ما ذكرنا في القصارة.
فرع سلم ثوبا إلى قصار ليقصره، فجحده ثم أتى به مقصورا، استحق الأجرة
إن قصره ثم جحد، وإن جحد ثم قصره، فوجهان، لأنه عمل لنفسه.
قلت: ينبغي أن يكون أصحهما: الفرق بين أن يقصد بعمله لنفسه فلا أجرة،
أو يقصد عمله عن الإجارة الواجبة فيستحق الأجرة. والله أعلم
فصل المستأجر يضمن بالتعدي، بأن ضرب الدابة أو كبحها فوق
العادة، وعادة الضرب تختلف في حق الراكب، والرائض، والراعي، فكل
يراعى فيه عادة أمثاله، ويحتمل في الأجير للرياضة والرعي ما لا يحتمل في
المستأجر للركوب.
وأما الضرب المعتاد، إذا أفضى إلى تلف، فلا يوجب ضمانا، ويخالف
ضرب الزوج زوجته، فإنه مضمن، لأنه يمكن تأديبها بغير الضرب.
ولو نام بالليل في الثوب الذي استأجره، أو نقل فيه التراب، أو ألبسه عصارا،
أو دباغا، أو غيرهما ممن هو دون حاله، أو أسكن الدار قصارا أو حدادا أو غيرهما
ممن هو أشد ضررا منه، أو أركب الدابة أثقل منه، وجب الضمان، وقراره على
303

الثاني إن كان عالما، وإلا، فعلى الأول. وإن أركبها مثله، فجاوز العادة في
الضرب، فالضمان على الثاني دون الأول، لأنه لم يتعد.
ولو اكترى لمائة رطل حديد، فحمل مائة من القطن أو التبن، أو بالعكس،
أو مائة رطل حنطة، فحمل مائة رطل شعير أو عكسه، ضمن، لان الشعير أخف،
ومأخذه من ظهر الدابة أكثر، والحنطة يجتمع ثقلها في موضع واحد، وكذا القطن
والحديد. ولو اكترى لعشرة أقفزة حنطة، فحمل عشرة شعيرا، لم يضمن،
لان قدرهما في الحجم سواء، والشعير أخف، وبالعكس يضمن.
ولو اكترى ليركب بسرج، فركب بلا شئ أو عكسه، ضمن، لان الأول أضر
بالدابة، والثاني زيادة على المشروط. ولو اكترى ليحمل عليها بالأكاف، فحمل
بالسرج، ضمن، لأنه أشق عليها، وبالعكس لا يضمن، إلا أن يكون أثقل،
ولو اكترى ليركب بالسرج، فركب بالأكاف، ضمن، وبالعكس لا يضمن،
إلا أن يكون أثقل، وقس على هذا أشباهه.
فرع لو اكترى دابة لحمل مقدار سمياه، فكان المحمول أكثر، نظر، إن
كانت الزيادة بقدر ما يقع من التفاوت بين الكيلين من ذلك المبلغ، فلا عبرة بها،
وإن كانت أكثر، بأن كان المشروط عشرة آصع، والمحمول أحد عشر، فللمسألة
ثلاثة أحوال.
أحدها: إذا كال المستأجر الطعام، وحمله هو عليها، فعليه أجرة المثل لما
زاد على المشهور، وفي قول: عليه أجرة المثل للجميع. وفي قول: يتخير بين
304

المسمى وما دخل الدابة من نقص وبين أجرة المثل. وفي قول: يتخير بين المسمى
وأجرة المثل للزيادة وبين أجرة المثل للجميع. فلو تلفت البهيمة بالحمل، فإن انفراد
المستأجر باليد، ولم يكن معها صاحبها، فعليه ضمانها، لأنه صار غاصبا، وإن
كان معها صاحبها، فهل يلزمه كل القيمة، أم نصفها، أم قسط الزيادة من جملة
القيمة؟ فيه أقوال. أظهرها: الثالث، ورجحه الامام وغيره. وعن الشيخ أبي
محمد، أن الثاني أظهر. ولو تلفت الدابة بسبب غير الحمل، ضمن عند انفراده
باليد، ولم يضمن إذا لم ينفرد.
وأما إذا لم يحمل المستأجر الطعام بنفسه، ولكنه كاله وسلمه إلى المؤجر،
فحمله المؤجر على البهيمة، فإن كان المؤجر جاهلا بالحال، بأن قال له هو عشرة
كاذبا، وجب الضمان على المذهب، كما لو حمل بنفسه. وقيل: قولان،
لاجتماع الغرور والمباشرة.
وإن كان عالما بالزيادة، نظر، إن لم يقل له المستأجر شيئا، ولكن حمله
المؤجر، فحكمه ما يأتي في الحال الثاني، لأنه حمل بغير إذن صاحبه، ولا فرق
بين أن يضعه المستأجر على الأرض فيحمله المؤجر على البهية، وبين أن يضعه
على ظهر الدابة وهي واقفة فيسيرها المؤجر. وإن قال المستأجر: احمل هذه
الزيادة، فأجابه، قال المتولي: هو مستعير للبهيمة في الزيادة، فلا أجرة لها، وإذا
تلفت البهيمة بالحمل ب، فعليه الضمان. وفى كلام الأئمة ما ينازعه في الأجرة
والضمان جميعا.
الحال الثاني: إذا كال المؤجر وحمله على البهيمة، فلا أجرة لما زاد، سواء
غلط أو تعمد، وسواء جهل المستأجر الزيادة أو علمها وسكت، لأنه لم يأذن في نقل
الزيادة، فلا يجب عليه ضمان البهيمة، وله مطالبة المؤجر برد الزيادة إلى الموضع
المنقول منه، وليس للمؤجر أن يردها دون رضاه. فلو لم يعلم المستأجر حتى عاد إلى
البلد المنقول منه، فله مطالبة المؤجر بردها. والأظهر أو الأصح: أن له مطالبته
ببدلها في الحال، كما لو أبق المغصوب من يد الغاصب. والثاني: لا يطالبه
ببدلها، لان عين ماله باقية، وردها مقدور عليه. فإذا قلنا بالأول، فغرم البدل، فإذا
ردها إلى ذلك البلد، استرد البدل وردها إليه.
305

أما لو كال المؤجر، وحمله المستأجر على البهيمة، قال المتولي: إن كان
المؤجر عالما بالزيادة، فهو كما لو كال بنفسه وحمل، لأنه لما علم بالزيادة كان من
حقه أن لا يحملها. وإن كان جاهلا، فوجهان مأخوذان مما لو قدم الطعام المغصوب
إلى المالك فأكله جاهلا، هل يبرأ من الضمان؟
الحال الثالث: إذا كال أجنبي وحمل بلا إذن، فعليه أجرة الزيادة للمؤجر،
وعليه الرد إلى الموضع المنقول منه إن طالبه المستأجر، وضمان البهيمة على ما
ذكرناه في حق المستأجر. وان تولى الحمل بعد كيل الأجنبي أحد المتكاريين،
نظر، أعالم هو، أم جاهل؟ ويقاس بما ذكرناه. هذا كله إذا اتفقا على
الزيادة، وعلى أنها للمستأجر، فإن اختلفا في أصل الزيادة، أو قدرها، فالقول قول المنكر. وإن
ادعى المؤجر أن الزيادة له، والدابة في يده، فالقول قوله. وإن لم يدعها واحد
منهما، تركت في يد من هي في يده حتى يظهر مستحقها، ولا يلزم المستأجر
أجرتها.
فرع لو وجد المحمول على الدابة دون المشروط، نظر، إن كان النقص
بقدر ما يقع من التفاوت بين الكيلين، فلا عبرة به، وإن كان أكثر، قال المتولي:
إن كال المؤجر، حط من الأجرة بقسطه إن لم يعلم المستأجر. فإن علم، فإن كانت
الإجارة في الذمة، فكذلك، لأنه لم يف بالمشروط. وإن كانت إجارة عين،
فالحكم كما لو كال المستأجر بنفسه ونقص، فلا يحط شئ من الأجرة، لان
التمكين من الاستيفاء قد حصل، وذلك كاف في تقرر الأجرة.
فرع اكترى اثنان دابة وركباها، فارتدفهما ثالث بغير إذنهما، فتلفت،
ففيما يلزم المرتدف ثلاثة أوجه. أحدها: نصف القيمة. والثاني: ثلثها.
والثالث: تقسط على أوزانهم، فيلزمه حصة وزنه.
قلت: أصحها: الثاني. قال الشيخ أبو حامد وغيره: لو سخر رجلا
مع بهيمته، فتلفت البهيمة في يد صاحبها، لم يضمنها المسخر، لأنها في يد
صاحبها. والله أعلم
فصل إذا دفع ثوبا إلى خياط ليقطعه ويخيطه، فخاطه قباء، ثم اختلفا،
306

فقال الخياط: أمرتني بقباء، وقال: بل أمرتك بقميص، أو سود الثوب بصبغ
وقال: هكذا أمرتني، فقال: بل أمرتك بصبغة أحمر، ففيه خمسة طرق.
أصحها وبه قال الأكثرون: في المسألة قولان. أظهرهما عند الجمهور: أن
القول قول المالك. والثاني: القول قول الخياط والصباغ.
والطريق الثاني: فيه ثلاثة أقوال. هذان، والثالث: أنهما يتحالفان.
والطريق الثالث: قولان. تصديق المالك، والتحالف.
والرابع: القطع بالتحالف، قاله أبو علي الطبري، وصاحب التقريب،
والشيخ أبو حامد.
والخامس: عن ابن سريج، إن جرى بينهما عقد، تعين التحالف، وإلا،
فالقولان الأولان.
فإن قلنا: القول قول الخياط، فإذا حلف، لا أرش عليه قطعا، ولا أجرة له
على الأصح. والثاني: يجب له المسمى إتماما لتصديقه. والثالث: أجرة المثل.
فإذا قلنا: لا أجرة له بيمينه، فله أن يدعي الأجرة على المالك، ويحلفه، فإن
نكل، ففي تجديد اليمين عليه وجهان.
قلت: ينبغي أن يكون أصحهما: التجديد، وهذه قضية مستأنفة. والله
أعلم
وإن قلنا: القول قول المالك. فإذا حلف، فلا أجرة عليه، ويلزم الخياط
أرش النقص على المذهب. وقيل: فيه وجهان كما في وجوب الأجرة تفريعا على
تصديق الخياط.
والفرق على المذهب: أن القطع يوجب الضمان، إلا أن يكون بإذن، وهو
غير موجب إلا بإذن. ثم في الأرش الواجب وجهان. أحدهما: ما بين قيمته
307

صحيحا ومقطوعا. والثاني: ما بين قيمته مقطوعا قميصا ومقطوعا قباء.
وعلى هذا إن لم ينقص، فلا شئ عليه. وعلى الثاني: في استحقاقه الأجرة
للقدر الذي يصلح للقميص من القطع، وجهان. قال ابن أبي هريرة: نعم، وبه
قطع البغوي، وضعفه ابن الصباغ، لأنه لم يقطعه للقميص.
قلت: المنع أصح، ونقله صاحب البيان عن نص الشافعي رضي الله عنه.
والله أعلم
وإذا قلنا: يتحالفان، فحلفا، فلا أجرة للخياط قطعا، ولا أرش عليه على الأظهر
. وإذا أراد الخياط نزع الخيط، لم يمكن منه حيث حكمنا (له) بالأجرة، سواء
كان الخيط للمالك أو من عنده، لأنه تابع للخياطة.
وحيث قلنا: لا أجرة، فله نزع خيطه كالصبغ. وحينئذ لو أراد المالك أن يشد
بخيطه خيطا ليدخر في الدروز إذا خرج الأول، لم يكن له إلا برضى الخياط.
وأما كيفية اليمين، فقال في الشامل: إن صدقنا الخياط، حلف بالله: ما
أذنت لي في قطعه قميصا، ولقد أذنت لي في قطعه قباء، قال: وإن صدقنا
المالك، كفاه عندي أن يحلف: ما أذنت له في قطعه، ولا حاجة إلى التعرض،
لان وجوب الغرم وسقوط الأجرة يقتضيهما نفي الاذن في القباء. وإن قلنا بالتحالف،
جمع كل واحد في يمينه بين النفي والاثبات كما سبق في البيع. (قال ابن كج:
والكلام في البداءة بمن؟ هو كما سبق في البيع)، والمالك هنا في رتبة البائع.
قلت: وقال الشيخ أبو حامد: إذا صدقنا الخياط، حلف: لقد أذنت لي في
قطعه قباء فقط. فإن لم نثبت للخياط أجرة، فهذا أصح من قول صاحب
الشامل لان هذا القدر كا ف في نفي الغرم عنه وإن أثبتناها، فقول صاحب
الشامل هو الصواب. والله أعلم
308

فرع قال للخياط: إن كان هذا الثوب يكفيني قميصا فاقطعه، فقطعه فلم
يكفه، ضمن الأرش، لان الاذن مشروط بما لم يوجد. وإن قال: هل يكفيني
قميصا، فقال: نعم، فقال: أقطعه، فقطعه فلم يكفه، لم يضمن، لان الاذن
مطلق.
فصل اختلاف المتكاريين في الأجرة أو المدة أو قدر المنفعة، هل هي
عشرة فراسخ، أم خمسة، أم كل الدار، أم بيت منها؟ يوجب التحالف، فإذا
تحالفا، فسخ العقد، وعلى المستأجر أجرة المثل لما استوفاه.
الباب الثالث في الطوارئ الموجبة للفسخ
فالفسخ والانفساخ، يثبت بخلل يعرض في المعقود عليه، وهو ثلاثة أقسام.
إحداها: ما ينقص المنفعة. ومتى ظهر بالمستأجرة نقص تتفاوت به الأجرة،
فهو عيب مثبت للفسخ، وذلك كمرض العبد والدابة، وانقطاع ماء البئر وتغيره بحيث
يمنع الشرب، وانكسار دعائم الدار واعوجاجها، وانهدام بعض جدرانها، لكن لو
بادر المؤجر إلى الاصلاح، وكان قابلا للاصلاح في الحال، سقط خيار المستأجر
كما سبق. وسواء كان العيب سابقا للعقد أو القبض، أو حادثا في يد المستأجر. ثم
إن ظهر العيب قبل مضي مدة لها أجرة، فإن شاء فسخ ولا شئ عليه، وإن شاء أجاز
بجميع الأجرة. وإن ظهر في أثناء المدة، فالوجه ما ذكره المتولي وهو انه إن أراد الفسخ
في جميع المدة، فهو كما لو اشترى عبدين فتلف أحدهما، ثم وجد بالباقي عيبا
وأراد الفسخ فيهما. وإن أراد الفسخ فيما بقي من المدة، فهو كما لو أراد الفسخ في
العبد الباقي وحده، وحكمهما مذكور في البيع. وأطلق الجمهور القول بأن له
الفسخ، ولم يذكروا هذا التفصيل. ومتى امتنع الفسخ، فله الأرش، فيعرف أجرة
مثله سليما ومعيبا، ويعرف التفاوت بينهما. هذا كله في إجارة العين. أما إذا وجد
في إجارة الذمة بالدابة المسلمة عيبا، فلا فسخ، بل يردها ويلزم المؤجر إبدالها.
فصل لا تنفسخ الإجارة بالاعذار، سواء كانت إجارة عين أو ذمة، وذلك
كما إذا استأجر دابة للسفر عليها فمرض، أو حانوتا لحرفة فندم أو هلكت آلات تلك
309

الحرفة، أو حماما فتعذر الوقود، وكذا لو كان العذر للمؤجر، بأن مرض وعجز
عن الخروج مع الدابة، أو أكرى داره وأهله مسافرون، فعادوا واحتاج إلى الدار، أو
تأهل، فلا فسخ في شئ منها، إذ لا خلل في المعقود عليه.
ولو اكترى أرضا للزراعة، فزرعها، فهلك الزرع بجائحة من سيل أو شدة حر
أو برد أو كثر مطر ونحوها، فليس له الفسخ ولا حط شئ من الأجرة، لان الجائحة
لحقت زرع المستأجر، لا منفعة الأرض، فصار كما لو اكترى دكانا لبيع البز فاحترق
بزه، لا تنفسخ الإجارة.
فلو فسدت الأرض بجائحة أبطلت قوة الانبات في مدة الإجارة، انفسخت الإجارة
في المدة الباقية. ثم إن كان فساد الأرض بعد فساد الزرع، فهل يسترد شيئا من
الأجرة؟ فيه احتمالان للامام. أصحهما عند الغزالي: المنع، لأنه لو بقيت
صلاحية الأرض، لم يكن للمستأجر فيها نفع بعد فوات الزرع. والثاني وبه قطع
بعض أصحاب الإمام: يسترد، لان بقاء الأرض على صفتها مطلوب. فإذا زال،
ثبت الانفساخ. وإن كان فساد الزرع بعد فساد الأرض، فأصح الاحتمالين
بالاتفاق: الاسترداد.
القسم الثاني: فوات المنفعة بالكلية حسا،
فمن صوره موت الدابة والأجير المعين، فإن كان قبل القبض أو عقبه قبل
310

مضي مدة لمثلها أجرة، انفسخ العقد. وإن كان في خلال المدة، انفسخ العقد في
الباقي وفي الماضي الطريقان فيما إذا اشترى عبدين، فقبض أحدهما وتلف الثاني قبل
القبض، هل ينفسخ البيع في المقبوض؟ فإن قلنا: ينفسخ في الماضي، سقط
المسمى ووجب أجرة المثل لما مضى.
وإن قلنا: لا ينفسخ فيه، فهل له خيار الفسخ؟ وجهان. أصحهما عند الامام
والبغوي: لا، لان منافعه استهلكت. والثاني: نعم، وبه قطع ابن الصباغ
وآخرون، لان جميع المعقود عليه لم يسلم. فإن قلنا: له الفسخ، ففسخ، رجع
إلى أجرة المثل. وإن قلنا: لا فسخ، أو أجاز، وجب قسط ما مضى من المسمى،
والتوزيع على قيمة المنفعة وهي أجرة المثل، لا على نفس الزمان، وذلك يختلف،
فربما تزيد أجرة شهر على أجرة شهرين، لكثرة الرغبات في ذلك الشهر. وإن كدنت
مدة الإجارة سنة، ومضى نصفها، وأجرة المثل فيه مثلا أجرة المثل في النصف
الباقي، وجب من المسمى ثلثاه. وإن كانت بالعكس، فثلثه. وإذا أثبتنا الخيار
بعيب، ففسخ العقد في المستقبل، ففي الانفساخ في الماضي الطريقان.
فإن لم ينفسخ، فطريق التوزيع ما بيناه. وإن أجازه، فعليه الأجرة المسماة
بتمامها، كما لو رضي بعيب المبيع، لزمه جميع الثمن. وسواء حصل التلف بآفة
سماوية، أم بفعل المستأجر، بل لو قتل العبد أو الدابة المعينة، كان حكم الانفساخ
والأجرة ما ذكرناه، ويلزمه قيمة ما أتلف. وعن ابن أبي هريرة: أنه تستقر عليه الأجرة المسماة
بالاتلاف كما يستقر الثمن على المشتري بإتلافه. والصحيح الأول، لان
البيع ورد على العين، فإذا أتلفها صار قابضا، والإجارة واردة على المنافع، ومنافع
الزمن المستقبل معدومة لا يتصور ورود الاتلاف عليها، وعلى هذا لو عيب المستأجر
الدار، أو جرح العبد، فهو كالتعيب بآفة سماوية في ثبوت الخيار.
فرع نص أن انهدام الدار يقتضي الانفساخ، ونص فيما إذا اكترى أرضا
311

للزراعة ولها ماء: معتاد فانقطع، أن له فسخ العقد، وفيهما ثلاثة طرق. أحدها:
تقرير النصين، لان الدار لم تبق دارا، والأرض بقيت أرضا، ولان الأرض يمكن
زراعتها بالأمطار. والثاني: القطع بعدم الانفساخ. وأصحها: قولان في
المسألتين. أظهرهما: في الانهدام الانفساخ، وفي انقطاع الماء: ثبوت الخيار،
وإنما يثبت الخيار إذا انقطعت الزراعة.
فإن قال المؤجر: أنا أسوق إليها ماء من موضع آخر، سقط الخيار كما لو بادر
إلى إصلاح الدار. فإن قلنا بالانفساخ، فالحكم كموت العبد، وإلا، فله الفسخ
في المدة الباقية. وفي الماضي الوجهان.
فإن منعناه، فعليه قسط ما مضى من المسمى، وإن أجاز، لزمه المسمى
كله، وقيل يحط للانهدام وانقطاع الماء ما يخصه.
فرع لو غصب العبد المستأجر أو أبق، أو ندت الدابة، فإن كانت
الإجارة في الذمة، فعلى المؤجر الابدال. فإن امتنع، استؤجر عليه.
وإن كانت
إجارة عين، أو غصبت الدار المستأجرة، فللمستأجر الخيار.
فإن كان ذلك في أثناء المدة، فإن اختار الفسخ، فسخ في الباقي. وفي الماضي
الخلاف السابق. وإن لم يفسخ وكان قد استأجر مدة معلومة فانقضت، بني على
الخلاف فيما إذا أتلف أجنبي المبيع قبل القبض، هل ينفسخ البيع، أم لا؟ إن قلنا:
ينفسخ، فكذلك الإجارة، ويسترد الأجرة. وإن قلنا: لا ينفسخ، فكذلك
312

الإجارة، ويتخير بين أن يفسخ ويسترد الأجرة، وبين أن يجيز ويطالب الغاصب
بأجرة المثل. والذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه والأصحاب، انفساخ الإجارة
وإن كان البناء المذكور يقتضي ترجيح عدم الانفساخ، لكن المذهب الانفساخ.
وعلى هذا، لو عاد إلى يده وقد بقي بعض المدة، فللمستأجر أن ينتفع به في الباقي،
وتسقط حصة المدة الماضية، إلا إذا قلنا: إن الانفساخ في بعض المدة يوجب
الانفساخ في الباقي، فليس له الانتفاع في بقية المدة. وإن كان استأجره لعمل
معلوم، فله أن يستعمله فيه متى قدر عليه. وإذا بادر المؤجر إلى الانتزاع من
الغاصب، ولم تتعطل منفعة على المستأجر، سقط خياره كما سبق في إصلاح
الدار.
فرع إذا أقر المؤجر بالمستأجرة للغاصب من المستأجر أو لغيره، ففي قبول
إقراره في الرقبة قولان. أظهرهما: القبول. فإن قبلناه، ففي بطلان حق المستأجر من
المنفعة أوجه. أصحها: لا يبطل. والثاني: يبطل. والثالث: إن كانت العين في
يد المستأجر تركت في يده إلى انقضاء المدة. وإن كانت في يد المقر له، لم تنزع
منه، فإن قلنا بالبطلان، فهل يحلف المؤجر؟ فيه الخلاف المذكور في أن
المرتهن، هل يحلف الراهن إذا أقر بالمرهون وقبلناه؟
فرع للمؤجر مخاصمة من غصب المستأجرة أو سرقها، وليس للمستأجر
المخاصمة على الأصح المنصوص كالمودع والمستعير، ويجري الوجهان في أن
المرتهن هل يخاصم لان له حقا؟
فصل الثوب المعين للخياطة، إذا تلف، ففي انفساخ العقد خلاف
سبق. الأصح عند الامام وجماعة: لا ينفسخ، وعن العراقيين والشيخ أبي علي:
أنه ينفسخ لتعلقه بذلك الثوب، وبه قطع ابن الحداد، وفيما إذا اكترى دواب في
الذمة لحمل خمسة أعبد معينين، فمات اثنان منهم وحمل ثلاثة، فقال: له ثلاثة
أخماس الكراء وسقط خمساه، والصورة فيما إذا تساوت أوزانهم، ويشهد له نص
الشافعي رضي الله عنه حيث قال: إذا نكحها على خياطة ثوب معين فتلف قبل
الخياطة، لها مهر المثل. قال الشيخ أبو علي: والخلاف فيما إذا ألزم ذمته خياطة
313

ثوب بعينه، أو حمل متاع بعينه، أو عبد، فإن العقد وإن كان في الذمة، فمتعلق
بعين الثوب والمتاع.
أما إذا استأجر دابة بعينها مدة لركوب أو حمل متاع، فهلكا، فلا ينفسخ
العقد، بل يجوز إبدال الراكب والمتاع بلا خلاف. فإن قلنا: لا ينفسخ، فأتى
بثوب مثله، فذاك. وإن لم يأت لعجزه، أو امتنع مع القدرة حتى مضت مدة إمكان
العمل، ففي استقرار الأجرة وجهان.
قلت: أصحهما: لا تستقر. والله أعلم
فإن قلنا: تستقر، فللمستأجر فسخ العقد على الأصح، لأنه ربما لا يجد ثوبا
آخر، أو لا يريد قطعه.
فرع موت الصبي المعين للتعليم، كتلف الثوب المعين للخياطة، وكذا
الصبي المعين للارضاع إن لم يكن ولد المرضعة. فإن كان ولدها، فخلاف مرتب،
وأولى بالانفساخ، لان درور اللبن على ولدها أكثر من الأجنبي، فلا يمكن إقامة غيره
مقامه.
فرع لو بدأ له في قطع الثوب المعين وهو باق، قال الامام: المتجه أنه لا
يجب عليه الاتيان به، لكن تستقر عليه الأجرة إذا سلم الأجير نفسه ومضى مدة إمكان
العمل إن قلنا: تستقر الأجرة بتسليم الأجير نفسه وليس للأجير فسخ الإجارة، وإن
قلنا: لا تستقر، فله فسخها، وليس للمستأجر الفسخ بحال، لان الإجارة لا تنفسخ
بالاعذار.
فصل لا تنفسخ الإجارة بموت المتعاقدين، بل إن مات المستأجر، قام
314

وارثه في استيفاء المنفعة مقامه. وإن مات المؤجر، ترك المال عند المستأجر إلى
انقضاء مدة الإجارة، فإن كانت الإجارة على الذمة، فما التزمه، دين عليه. فإن
كان في التركة وفاء، استؤجر منها لتوفيته، وإلا، فالوارث بالخيار، إن شاء وفاه
واستحق الأجرة، وإن أعرض فللمستأجر فسخ الإجارة.
ولو أوصى بداره لزيد مدة عمر زيد، فقبل الوصية، وأجرها زيد مدة، ثم مات
في خلالها، انفسخت الإجارة، لانتهاء حقه بموته.
فصل إذا أكرى جمالا فهرب، فتارة يهرب بها، وتارة يهرب ويتركها عند
المستأجر، فإن هرب بها، نظر، فإن كانت الإجارة في الذمة، اكترى الحاكم عليه
من ماله. فإن لم يجد له مالا، اقترض عليه من بيت المال أو من المستأجر أو غيره
واكترى عليه. قال في الشامل: ولا يجوز أن يكل أمر الاكتراء إلى المستأجر،
لأنه يصير وكيلا في حق نفسه. وإن تعذر الاكتراء عليه، فللمستأجر الفسخ كما لو
انقطع المسلم فيه عند المحل. فإن فسخ، فالأجرة دين في ذمة الجمال وإن لم يفسخ، فله مطالبة الجمال - إذا عاد -
بما التزمه. وإن كانت إجارة عين، فللمستأجر فسخ العقد، كما إذا ندت الدابة.
وأما إذا تركها عند المستأجر، فإن تبرع بالانفاق عليها، فذاك، وإلا، راجع
الحاكم لينفق عليها وعلى من يقوم بتعهدها من مال المؤجر إن وجده، وإلا،
استقرض عليه كما ذكرنا، ثم إن وثق بالمستأجر، سلم إليه ما اقترضه لينفق عليها،
وإلا، دفعه إلى من يثق به. وإذا لم يجد مالا آخر، باع منها بقدر الحاجة لينفق
عليها من ثمنه، ولا يخرج على الخلاف في بيع المستأجرة، لأنه محل ضرورة،
ويبقى في يد المستأجر إلى انتهاء المدة. ولو لم يقترض الحاكم من المستأجر،
ولكن أذن له في الانفاق ليرجع، جاز على الأظهر، كما لو اقترض منه ثم دفعه إليه.
والثاني: المنع، ويجعل متبرعا.
315

وعلى الأول، لو اختلفا في قدر ما أنفق، فالصحيح: أن القول قول المنفق.
وقيل: قول الجمال.
قلت: قال أصحابنا: إنما يقبل قول المستأجر إذا ادعى نفقة مثله في العادة.
والله أعلم.
ولو أنفق المستأجر بغير إذن الحاكم مع إمكانه، لم يرجع. وإن لم يكن
حاكم، فعلى ما ذكرناه في عامل المساقاة إذا هرب. قال الامام: ولو كان هناك
حاكم، وعسر إثبات الواقعة عنده، فهو كما إذا لم يكن حاكم. وإذا أثبتنا الرجوع
فيما إذا أنفق بغير مراجعة الحاكم، فاختلفا في قدره، فالقول قول الجمال، لان
إنفاقه لم يستند إلى ائتمان من جهة الحاكم، قال: وفيه احتمال، لان الشرع سلطة
عليه. وإذا انقضت مدة الإجارة ولم يعد الجمال، باع الحاكم منها ما يقضي بثمنه ما
اقترضه وحفظ باقيها. وإن رأى بيعها لئلا تأكل نفسها، فعل.
فصل إذا اكترى دابة أو دارا مدة، وقبضها وأمسكها حتى مضت المدة،
انتهت الإجارة واستقرت الأجرة سواء انتفع بها في المدة، أم لا، وليس له الانتفاع
بعد المدة، فإن فعل، لزمه أجرة المثل مع المسمى. ولو ضبطت المنفعة بالعمل
دون المدة، بأن استأجر دابة ليركبها إلى بلد، أو ليحمل عليها إلى موضع معلوم،
وقبضها وأمسكها عنده حتى مضت مدة يمكن فيها السير إليه، استقرت عليه الأجرة
أيضا، وسواء تخلف المستأجر لعذر أم لغيره، حتى لو تخلف لخوف الطريق أو عدم
الرفقة، استقرت الأجرة عليه، لان المنافع تلفت في يده، ولأنه يمكنه السفر عليها
إلى بلد آخر واستعمالها في البلد تلك، وليس للمستأجر فسخ العقد بهذا السبب،
ولا أن يلزم المؤجر استرداد الدابة إلى تيسر الخروج، هذا في إجارة العين، فإن
كانت على الذمة وسلم دابة بالوصف المشروط، فمضت المدة عند المستأجر،
استقرت الأجرة أيضا، لتعين حقه بالتسليم وحصول التمكن. ولو كانت الإجارة
فاسدة، استقرت فيها أجرة المثل بما يستقر به المسمى في الإجارة الصحيحة، سواء
316

انتفع، أم لا، وسواء كانت أجرة المثل أقل من المسمى أو أكثر.
فرع أجر الحر نفسه لعمل معلوم، وسلم نفسه، فلم يستعمله
المستأجر حتى مضت المدة، أو مدة يمكن فيها ذلك العمل، استقرت الأجرة على
الأصح،
ويجري الخلاف فيما إذا ألزم ذمة الحر عملا، فسلم نفسه مدة إمكان ذلك
العمل ولم يستعمله، وطرد المتولي الخلاف فيما إذا التزم الحر عملا في الذمة وسلم
عبده ليستعمله فلم يستعمله، ووجهه بما يقتضي إثبات خلاف في كل إجارة على
الذمة. ثم إن قلنا: لا تستقر، فللأجير أن يرفع الامر إلى الحاكم ليجبره على
الاستعمال.
فرع أكرى عينا مدة، ولم يسلمها حتى مضت المدة، انفسخت الإجارة،
لفوات المعقود عليه، فلو استوفى منفعة المدة، فطريقان. أحدهما: أنه كاتلاف
البائع المبيع قبل القبض. والثاني: القطع بالانفساخ. ولو أمسكها بعض المدة،
ثم سلمها، انفسخت الإجارة في المدة التي تلفت منافعها. وفي الباقي الخلاف
فيما إذا تلف بعض المبيع قبل القبض، فإن قلنا: لا ينفسخ، فللمستأجر الخيار،
ولا يبدل زمان بزمان. ولو لم تكن المدة مقدرة، واستأجر دابة للركوب إلى بلد فلم
يسلمها حتى مضت مدة يمكن فيها المضي إليه، فوجهان، أحدهما: تنفسخ
الإجارة، وهو اختيار الإمام. وأصحهما وبه قطع الأكثرون: لا تنفسخ، لأن هذه
317

الإجارة متعلقة بالمنفعة لا بالزمان، ولم يتعذر استيفاؤها. فعلى هذا، قال
الأصحاب: لا خيار للمستأجر، كما لا خيار للمشتري إذا امتنع البائع من تسليم
المبيع مدة ثم سلمه. وشذ الغزالي فقال في الوسيط: له الخيار، لتأخر حقه.
والمعروف، ما سبق. ولو كانت الإجارة في الذمة ولم يسلم ما تستوفى المنفعة منه
حتى مضت مدة يمكن فيها تحصيل تلك المنفعة، فلا فسخ ولا انفساخ بحال، لأنه
دين تأخر إيفاؤه.
القسم الثالث: فوات المنفعة شرعا، كفواتها حسا في اقتضاء الانفساخ،
لتعذر الاستيفاء، فإذا استؤجر لقلع سن وجعة، أو يد متأكلة، أو لاستيفاء قصاص
في نفس أو طرف، فالإجارة صحيحة على الأصح كما سبق، فإذا زال الوجع، أو
عفي عن القصاص، فقد أطلق الجمهور أن الإجارة تنفسخ، وفيه كلامان.
أحدهما: أن المنفعة في هذه الإجارة مضبوطة بالعمل دون الزمان، وهو غير مأيوس
منه، لاحتمال عود الوجع، فليكن زوال الوجع كغصب المستأجرة حتى يثبت خيار
الفسخ دون الانفساخ. والثاني: حكى الشيخ أبو محمد وجها أن الإجارة لا
تنفسخ، بل يستعمل الأجير في قلع مسمار أو وتد، ويراعى تداني العملين، وهذا
ضعيف، والقوي ما قيل أن الحكم بالانفساخ جواب على أن المستوفى به لا يبدل،
فإن جوزناه، أمره بقلع سن وجعة لغيره.
فصل إذا آجر الوقف البطن الأول، ثم مات في أثناء المدة، فوجهان.
أحدهما: تبقى الإجارة بحالها كما لو آجر ملكه فمات. وأصحهما: المنع، لان
المنافع بعد موته لغيره، ولا ولاية له عليه، ولا نيابة، ثم عبارة الجمهور بالانفساخ
وعدمه، ففي وجه: ينفسخ. وفي وجه: لا ينفسخ، واستبعدها الصيدلاني والامام
وطائفة، لأن الانفساخ يشعر بسبق الانعقاد، وجعلوا الخلاف في أنا هل نتبين
البطلان لأنا تبينا أنه تصرف في غير ملكه؟ ثم إن أبقينا الإجارة، فحصة المدة الباقية
من الأجرة تكون للبطن الثاني، فإن أتلفها الأول، فهي دين في تركته، وليس كما لو
أجر ملكه ومات في المدة، حيث تكون جميع الأجرة تركة تقضى منها ديونه وتنفذ
وصاياه، لان التصرف ورد على خالص ملكه، والباقي له بعد الإجارة رقبة مسلوبة
المنفعة في تلك المدة، فتنتقل خلى الوارث كذلك. وإن قلنا: لا تبقى الإجارة،
318

فهل تبطل فيما مضى؟ قال ابن الصباغ: يبنى على الخلاف في تفريق الصفقة. فإن
قلنا: لا تفرق، كان للبطن الأول أجرة المثل لما مضى. أما إذا أجر الوقف متولية،
فموته لا يؤثر في الإجارة على الصحيح، لأنه ناظر للجميع. وقيل: تبطل الإجارة
كما سيأتي في ولي الصبي إن شاء الله تعالى.
فرع للولي إجارة الطفل وماله، أبا كان أو وصيا أو قيما، إذا رأى
المصلحة فيها، لكن لا يجاوز مدة بلوغه بالسن. فلو أجره مدة يبلغ في أثنائها، بأن
كان ابن سبع سنين، فأجره عشر سنين، فطريقان. قال الجمهور: يبطل فيما يزيد
على مدة البلوغ، وفيما لا يزيد قولا تفريق الصفقة. والثاني: القطع بالبطلان في
الجميع، وهو الأصح عند البغوي.
قلت: واختاره أيضا ابن الصباغ. والله أعلم
ويجوز أن يؤجره مدة لا يبلغ فيها بالسن وإن احتمل بلوغه بالاحتلام، لان
الأصل بقاء الصبا فلو أنفق في الاحتلام في أثنائها، فوجهان، أصحهما عند الصاحب
ولان المهذب والروياني: بقاء الإجارة. وأصحهما عند الامام والمتولي: لا تبقى.
قلت: صحح الرافعي في المحرر الثاني. والله أعلم
ثم التعبير عن هذا بالانفساخ أو تبين البطلان، كما ذكرنا في مسألة الوقف.
319

وإذا قلنا: لا تبقى الإجارة، جاء فيما مضى خلاف تفريق الصفقة. وإذا قلنا:
تبقى، فهل له خيار الفسخ إذا بلغ؟ وجهان. أصحهما: لا، كما لو زوجها ثم
بلغت.
فرع أجر الولي مال المجنون، فأفاق في أثناء المدة، فهو كبلوغ الصبي
بالاحتلام.
فصل لو أجر عبده ثم أعتقه، نفذ، لان إعتاق المغصوب والآبق نافذ،
فهذا أولى، ولا تنفسخ الإجارة على الصحيح، ولا خيار للعبد على الأصح،
ولا يرجع على السيد بأجرة المثل للمدة الواقعة بعد العتق على الأظهر الجديد.
وقيل: على الأصح. فإن قلنا: يرجع، فنفقته في تلك المدة على نفسه، لأنه
مالك لمنفعة نفسه. وإن قلنا: لا يرجع، فهل هي على سيده لإدامة حبسه؟ أم في
بيت المال لأنه حر عاجز؟ وجهان. أصحهما: الثاني.
قلت: فإن قلنا: النفقة على السيد، فوجهان. أحدهما: تجب بالغة ما
بلغت. وأصحهما: يجب أقل الأمرين من أجرة مثله وكفايته. والله أعلم
ولو ظهر بالعبد عيب بعد العتق، وفسخ المستأجر الإجارة، فالمنافع للعتيق
إن قلنا: يرجع بمنافعه على السيد، وإلا، فهل هي له، أم للسيد؟ وجهان.
قلت: الأصح: كونها للعتيق. والله أعلم
ولو أجر عبده ومات، وأعتقه الوارث في المدة، ففي انفساخ الإجارة ما
سبق. فإن قلنا: لا انفساخ، لم يرجع هنا على المعتق بشئ بلا خلاف. ولو أجر
أم ولده ومات في المدة، عتقت. وفي بطلان الإجارة، الخلاف المذكور
إذا أجر البطن الأول الوقف ومات، وكذا الحكم في إجارة المعلق عتقه
320

بصفة. قال البغوي: وإنما تجوز إجارته مدة لا تتحقق الصفة فيها، فإن تحققت،
فهو كإجارة الصبي مدة يتحقق بلوغه فيها.
قلت: هذا الذي قاله البغوي ظاهر إن منعنا بيع العين المستأجرة، فإن جوزناه
فينبغي أن يقطع بجواز إجارته هنا، لأنه متمكن من بيعه، وإبقاء الإجارة إلى انقضاء
مدتها، بخلاف مسألة الصبي، لكن قد يقال: وإن تمكن فقد لا يفعل. والله
أعلم
فرع كتابة العبد المكرى جائزة عند ابن القطان، باطلة عند ابن كج.
قلت: الثاني: أقوى. والله أعلم
فإن جوزناها، عاد الخلاف في الخيار وفي الرجوع على السيد.
قلت: ومن مسائل الفصل، ما ذكره ابن كج، وهو خارج عن القواعد
السابقة: أنه لو أكرى دارا لعبد ثم قبض العبد وأعتقه، فانهدمت الدار، رجع على
المعتق بقدر ما بقي في المدة من قيمة العبد. والله أعلم
فصل إذا باع العين المستأجرة، فله حالان.
الحال الأول: البيع للمستأجر، وهو صحيح قطعا. ثم في الإجارة وجهان.
أحدهما: تنفسخ، قاله ابن الحداد، ويعبر عنه بأن الإجارة والملك لا
يجتمعان. وأصحهما: لا تنفسخ.
فعلى الأول، يرجع المستأجر على المؤجر بقية المدة على الأصح. وقال ابن الحداد:
لا يرجع.
ولو فسخ المستأجر البيع بعيب، لم يكن (له) الامساك بحكم الإجارة، لأنها قد
انفسخت بالشراء.
321

ولو تلفت العين، لم يرجع على البائع بشئ، لان الإجارة غير باقية عند
التلف، وعلى الوجه الثاني الأصح، وهو أن الإجارة لا تنفسخ بالشراء، ففي صورة
فسخ البيع بالعيب له الامساك بحكم الإجارة، ولو فسخ عقد الإجارة، رجع على
البائع بأجرة بقية المدة. وفي صورة التلف تنفسخ الإجارة بالتلف، وحكمه ما سبق،
وتتخرج على الخلاف في أن الإجارة والملك هل يجتمعان؟ مسائل.
إحداها: أوصى لزيد برقبة دار، ولعمرو بمنفعتها، وأجرها لعمرو، ففي
صحة الإجارة الوجهان.
الثانية: مات المستأجر ووارثه، المؤجر ففي انفساخها الوجهان.
الثالثة: أجر المستأجر العين المستأجرة للمالك، جاز على الصحيح
المنصوص، كما يجوز أن يبيعه ما اشتراه منه، ومنعه ابن سريج، لاجتماع الملك
والإجارة.
الرابعة: أجر داره لابنه، ومات الأب في المدة ولا وارث له غير الابن
المستأجر، وعليه ديون مستغرقة، بني أولا على أن الوارث هل يملك التركة وهناك
دين مستغرق؟ إن قلنا: لا يملك، بقيت الإجارة بحالها. وإن قلنا: يملك، وهو
الصحيح، فعلى الأصح: لا تنفسخ الإجارة. وعلى قول ابن الحداد: تنفسخ،
لان الملك طرأ على الإجارة. وادعى الروياني أن هذا أصح. وإذا
انفسخت الإجارة، قال ابن الحداد: الابن غريم يضارب بأجرة بقية المدة للغرماء،
ووافقه بعضهم، وخالفه المعتبرون، لأنه خلاف ما سبق عنه في الشراء: أنه لا
يرجع، وضعفوا الفرق.
ولو مات الأب المؤجر عن ابنين، أحدهما المستأجر، فعلى الأصح: لا
تنفسخ الإجارة في شئ من الدار، ويسكنها المستأجر إلى انقضاء المدة، ورقبتها
بينهما بالإرث. وقال ابن الحداد: تنفسخ الإجارة في النصف الذي يملكه
322

المستأجر، وله الرجوع بنصف أجرة ما انفسخ العقد فيه، لان مقتضى الانفساخ في
النصف الرجوع بنصف الأجرة، لكنه خلف ابنين والتركة في يدهما، والدين الذي
يلحقها يتوزع، فيخص الراجع الربع، ويرجع بالربع على أخيه، فإن لم يترك
الميت سوى الدار، بيع من نصيب الأخ المرجوع عليه بقدر ما يثبت به الرجوع،
وهذا بعيد عند الأئمة، لان الابن المستأجر ورث نصيبه بمنافعه، وأخوه ورث نصيبه
مسلوب المنفعة، ثم قد تكون أجرة مثل الدار في تلك المدة مثلي ثمنها، فإذا رجع
على الأخ بربع الأجرة، احتاج إلى بيع نصيبه، فيكون أحدهما قد فاز بجميع
نصيبه، وبيع نصيب الآخر وحده في دين الميت. قال الشيخ أبو علي: ولو لم
يخلف إلا الابن المستأجر، ولا دين عليه، فلا فائدة في الانفساخ، ولا أثر له، لان
الكل له، سواء (أخذ) بالإرث، أو أخذ مدة الإجارة بالإجارة وبعدها بالإرث، وسواء أخذ
بالدين أم بالإرث.
فرع أجر البطن الأول الوقف للبطن الثاني، ومات المؤجر في المدة، فإن
قلنا: لو أجر أجنبيا بطلت الإجارة، فهنا أولى، وإلا، فوجهان، لأنه طرأ
الاستحقاق في مدة الإجارة. قال الامام: وهذا أولى بارتفاع الإجارة.
الحال الثاني: البيع لغير المستأجر، وهو صحيح على الأظهر عند
الأكثرين. ويجري القولان سواء أذن المستأجر، أم لا. وإذا صححنا، لم
323

تنفسخ الإجارة، كما لا ينفسخ النكاح ببيع المزوجة، ويترك في يد المستأجر إلى
انقضاء المدة، وللمشتري فسخ البيع إن كان جاهلا. وإن كان عالما، فلا فسخ
له، ولا أجرة لتلك المدة، وكذا لو كان جاهلا وأجاز، ذكره البغوي، ويشبه أن
يكون على الخلاف في مدة بقاء الزرع إذا باع أرضا مزروعة.
ولو وجد المستأجر به عيبا، وفسخ الإجارة، أو عرض ما تنفسخ به الإجارة
بمنفعة بقية المدة، لمن يكون؟ وجهان. قال ابن الحداد: للمشتري. وقال أبو
زيد: للبائع، لان المشتري لم يملك منافع تلك المدة. وبناهما المتولي على أن
الرد بالعيب يرفع العقد من أصله، أم من حينه؟ إن قلنا بالأول، فهي للمشتري
وكأن الإجارة لم تكن. وإن قلنا: من حينه، فللبائع، لأنه لم يوجد عند الرد ما
يوجب الحق للمشتري.
قال: ولو تقايلا الإجارة، فإن قلنا: الإقالة بيع، فهي للبائع. وإن قلنا:
فسخ، فكذلك على الصحيح، لأنها ترفع العقد من حينها قطعا. وإذا حصل
الانفساخ، رجع المستأجر بأجرة بقية المدة على البائع. قال ابن كج: ويحتمل أن
يرجع على المشتري.
فرع القولان في صحة بيع المستأجر يجريان في هبته، وتجوز الوصية به
قطعا. فرع لو باع عينا واستثنى منفعتها لنفسه سنة أو شهرا، فطريقان. أحدهما
يحكى عن ابن سريج: أنه على قولي بيع المستأجر. والمذهب: القطع ببطلان
العقد.
فصل في مسائل منثورة تتعلق بالباب الأول إحداها: قال: ألزمت
324

ذمتك نسج ثوب صفته كذا على أن تنسجه بنفسك، لم يصح العقد، لأنه غرر،
فأشبه السلم في شئ معين.
الثانية: يصح استئجار الأرض بما يستأجر به الثوب والعبد من الدراهم والطعام
وما تنبت الأرض وغيرها، إذا عين أو وصف.
الثالثة: إذا استأجر دابة ليركبها إلى بلد بعشرة دنانير، وجب نقد بلد العقد.
ولو كانت الإجارة فاسدة، فالاعتبار في أجرة المثل بموضع إتلاف المنفعة نقدا أو
وزنا.
الرابعة: تجوز إجارة المصحف والكتب لمطالعتها والقراءة منها.
الخامسة: لا يجوز أن يستأجر بركة ليأخذ منها السمك. فلو استأجرها ليحبس
فيها الماء حتى يجتمع فيها السمك، جاز على الصحيح.
السادسة: يصح من المستأجر إجارة ما استأجره بعد قبضه، سواء أجر بمثل ما
استأجر، أم بأقل، أم بأكثر. وفي إجارته قبل القبض وجهان. قال ابن سريج:
يجوز، والأصح: المنع. فعلى هذا، في إجارته المؤجر وجهان، كبيع المبيع
للبائع قبل قبضه.
قلت: الأصح: صحة إجارته للمؤجر. والله أعلم
السابعة: المستعير لا يكري. فلو استعار ليكريه، لم يصح على الأصح.
وقيل: يجوز كما لو استعاره ليرهنه.
الثامنة: أجر ناظر المسجد حانوته الخراب، بشرط أن يعمره المستأجر بماله،
ويكون ما أنفقه محسوبا من أجرته، لم تصح الإجارة، لأنه عند الإجارة غير منتفع
به.
التاسعة: لا تجوز إجارة الحمام بشرط أن تكون مدة تعطله بسبب العمارة
325

ونحوها محسوبة على المستأجر، ولا على المؤجر، لا بمعنى انحصار الإجارة في
المدة في الباقي لان المدة تصير مجهولة، ولا بمعنى استيفاء مثلها بعد المدة لان آخر
المدة يصير مجهولا.
العاشرة: استأجره ليبيع له شيئا معينا، جاز، لأن الظاهر أنه يجد راغبا، ولشراء
شئ معين لا يجوز، لان رغبة مالكه في البيع غير مظنونة، ولشراء شئ موصوف
يجوز، ولبيع شئ معين لا يجوز.
الحادية عشرة: لو أراد استئجاره للخروج إلى بلد السلطان، والتظلم
للمستأجر، وعرض حاله في المظالم، قال القفال في الفتاوى: يستأجر مدة كذا
ليخرج إلى موضع كذا ويذكر حاله في المظالم ويسعى في أمره عند من يحتاج إليه،
فتصح الإجارة، لان المدة معلومة وإن كان في العمل جهالة، كما لو استأجره يوما
ليخاصم غرماءه، قال: ولو بدا للمستأجر، فله أن يستعمله فيما ضرره مثل ذلك.
الثانية عشرة: حكى ابن كج عن نص الشافعي رضي الله عنه، أنه لا تصح
إجارة الأرض حتى ترى لا حائل دونها من زرع وغيره، وفي هذا تصريح بأن إجارة
الأرض المزروعة لا تصح، توجيها بأن الزرع يمنع رؤيتها، وفيها معنى آخر وهو
تأخر التسليم والانتفاع عن العقد، ومشابهته إجارة الزمان المستقبل، ويقرب منه
ما لو أجر دارا مشحونة بطعام وغيره وكان التفريغ يستدعي مدة، ورأيت للأئمة فيما
جمع من فتاوى القفال جوابين فيه.
أحدهما: أنه إن أمكن التفريغ في مدة ليس لمثلها أجرة، صح العقد،
وإلا، فلا، لأنه إجارة مدة مستقبلة.
والثاني: أنه إن كان يذهب في التفريغ جميع مدة الإجارة، لم يصح. وإن
كان يبقى منها شئ، صح ولزم قسطه من الأجرة إذا وجد فيه التسليم. وخرجوا على
326

الجوابين، ما إذا استأجر دارا ببلد آخر، فإنه لا يتأنى التسليم إلا بقطع المسافة بين
البلدين، وما إذا (باع) جمدا وزنا وكان ينماع بعضه إلى أن يوزن.
قلت: الصحيح من الجوابين هو الأول، بل قد تقدم في الشرط الثالث من
الركن الرابع من الباب الأول وجه: أنه لا تصح إجارة المشحونة بالقماش وإن أمكن
تفريغها في الحال. وتقدم هناك، أن المذهب صحة إجارة الأرض المستورة بالماء
للزراعة، وليس هو مخالفا للمذكور هنا، لان التعليل هناك بأن الماء من مصالحها
مفقود هنا. والأصح عندي، فيما إذا استأجر دارا ببلد آخر، الصحة، وفي الجمد
المنع، لامكان بيعه جزافا. والله أعلم
الثالثة عشرة: إذا استأجر للخدمة، وذكر وقتها من الليل والنهار، وفصل
أنواعها، صح. وإن أطلق، فقد حكي عن النص المنع، والمذهب الجواز، ويلزم
ما جرت العادة به. وفصل القاضي أبو سعد بن أبي يوسف أنواعها فقال: يدخل في
هذه الإجارة، غسل الثوب وخياطته، والخبز والعجن وإيقاد النار والتنور، وعلف
الدابة وحلبها، وخدمة الزوجة، والغرس في الدار، وحمل الماء إلى الدار
للشرب، وإلى المتوضئ للطهارة. وعن سهل الصعلوكي: أن علف الدابة
وحلبها، وخدمه الزوجة، لا تدخل إلا بالتنصيص عليها، وينبغي أن يكون الحكم
كذلك في خياطة الثوب وحمل الماء إلى الدار، ويجوز أن يختلف الحكم فيه
بالعادة. وذكر بعض شراح المفتاح أنه ليس له إخراجه من البلدة، إلا أن يشرط
عليه مسافة معلومة من كل جانب، وأن عليه المكث عنده إلى أن يفرغ من صلاة
العشاء الآخرة.
قلت: المختار في هذا كله، الرجوع إلى عادة الخادم في ذلك البلد وذلك
الوقت، ويختلف ذلك باختلاف مراتب المستأجرين، وباختلاف الاجراء، وفي
327

الذكورة والأنوثة من الطرفين، وغير ذلك، فيدخل ما اقتضه العادة دون غيره. والله
أعلم
الرابعة عشرة: استأجره على القيام على ضيعة، قام عليها ليلا ونهارا على
المعتاد.
الخامسة عشرة: استأجره للخبز، بين أنه يخبز أقراصا، أو أرغفة غلاظا أو
رقاقا، وأنه يخبز في تنور أو فرن، وآلات الخبز على الأجير إن كانت إجارة على
الذمة، وإلا، فعلى المستأجر، وليس على الأجير إلا تسليم نفسه، والقول فيمن
عليه
السادسة عشرة: قال بعض شراح المفتاح: لو اكترى الحطب كالحبر في حق الوراق دابة ليركبها
فرسخين، لم يجز حتى يبين شرقا أو غربا، فإذا بين فأراد العدول إلى غيرها،
فللمكري منعه، لان المعين قد يكون أسهل، أو له فيه غرض، وهذا يخالف ما
سبق، فليجعل وجها.
فصل في مسائل تتعلق بالباب الثاني إحداها: استأجره لعمل مدة،
يكون زمن الطهارة والصلوات - فرائضها وسننها الرواتب - مستثنى، ولا ينقص من
الأجرة، وسواء فيه الجمعة وغيرها. وعن ابن سريج، جواز ترك الجمعة بهذا
السبب، حكاه أبو الفضل بن عبدان. والسبوت في استئجار اليهودي مستثناة إن أطرد
عرفهم، قال الغزالي ف الفتاوى.
الثانية: استأجر مرضعة لتعهد الصبي، فالدهن على أبيه، فإن جرى عرف
البلد بخلافه، فوجهان.
الثالثة: استأجره لحمل حطب إلى داره وهي ضيقة الباب، هل عليه إدخاله
الدار؟ فيه قولان للعرف، ولا يكلف صعود السطح به.
328

الرابعة: استأجره لغسل ثياب معلومة، فحملها إليه حمال، فإن شرطت
أجرته على أحدهما، فذاك، وإلا، فعلى الغسال، لأنه من تمام الغسل.
الخامسة: استأجره لقطع أشجار بقرية، لم تجب عليه أجرة الذهاب
والمجئ، لأنهما ليسا من العمل، ذكر هذه المسائل الأربع أبو عاصم العبادي.
السادسة: استأجر دابة ليركبها ويحمل عليها كذا رطلا، فركب وحمل وأخذ
في السير، فأراد المؤجر أن يعلق عليها مخلاة أو سفرة أو نحوهما من قدام القتب أو
من خلفه، أو أن يردف معه رديفا، فللمستأجر منعه.
السابعة: استأجر دابة ليركبها إلى موضع معلوم، فركبها (إليه)، فعن صاحب
التقريب أن له أن يردها إلى الموضع الذي سار منه، إلا أن ينهاه صاحبها. وقال
الأكثرون: ليس له ردها، بل يسلمها إلى وكيل المالك إن كان، وإلا، فإلى
الحاكم هناك. فإن لم يكن حاكم، فإلى أمين، فإن لم يجد أمينا، ردها أو
استصحبها إلى حيث يذهب، كالمودع يسافر بالوديعة للضرورة. وإذا جاز له الرد،
لم يجز له الركوب، بل يسوقها أو يقودها، إلا أن يكون بها جماح لا تنقاد إلا
بالركوب، وبمثله لو استعار للركوب إليه. قال العبادي: له الركوب في الرد، لان الرد
لازم له، فالاذن تناوله بالعرف، والمستأجر لا رد عليه.
الثامنة: استأجر دابة للركوب إلى مكان، فجاوزه، لزمه المسمى للمكان،
وأجرة المثل للزيادة، ويصير ضامنا من وقت المجاوزة. فإن ماتت، لزمه أقصى
القيم من حينئذ إن لم يكن معها صاحبها، ولا يبرأ عن الضمان بردها إلى ذلك
الموضع. وإن كان معها صاحبها، فإن تلفت بعدما نزل وسلمها إليه، فلا ضمان
عليه. وإن تلفت وهو راكب، نظر، إن تلفت بالوقوع في بئر ونحوه، ضمن جميع
القيمة. وإن لم يحدث سبب ظاهر، فقيل: تلزم كل القيمة أيضا، والأصح: لا
يلزمه الكل جل النصف في قول.
ومقتضى التوزيع عل المسافتين في قول كما سبق، فيما إذا حمل أكثر من
329

المشروط، لأن الظاهر حصول التلف بكثرة التعب وتعاقب السير. حتى لو قام في
المقصد قدر ما يزول فيه التعب، ثم خرج بغير إذن المالك، ضمن الكل. وإذا
استأجر ليركب ويعود، فلا يلزمه لما جاوز أجرة المثل، لأنه يستحق قطع قدر تلك
المسافة ذهابا ورجوعا، بناء على أن يجوز العدول إلى مثل الطريق المعين.
قلت: ولا يجوز أن يركبها بعد المجاوزة جميع الطريق راجعا، بل يركبها بقدر
تمام مسافة الرجوع. والله أعلم
ثم إن قدر في هذه الإجارة مدة مقامه في المقصد، فذاك، وإلا، فإن لم يزد
على مدة المسافرين، انتفع بها في الرجوع. وإن زاد، حسبت الزيادة عليه.
التاسعة: استأجر دابة للركوب إلى عشرة فراسخ، فقطع نصف المسافة، ثم
رجع لاخذ شئ نسيه راكبا، انتهت الإجارة واستقر جميع الأجرة، لان الطريق لا
تتعين، وكذا لو أخذ الدابة وأمسكها يوما في البيت ثم خرج، فإذا بقي بينه وبين
المقصد يوم، استقرت الأجرة، ولم يجز له الركوب بعده، وكذا لو ذهب في الطريق
لاستقاء ماء أو شراء شئ يمينا وشمالا، كان محسوبا من المدة، ويترك الانتفاع إذا
قرب من المقصد بقدره.
العاشرة: دفع إليه ثوبا ليقصره بأجرة، ثم استرجعه، فقال: لم أقصره بعد،
فلا أرده، فقال صاحب الثوب: لا أريد أن تقصره فاردده إلي، فلم يرد وتلف الثوب
عنده، لزمه ضمانه. وإن قصره ورده، فلا أجرة له، وعلى هذا قياس الغزل عند
النساج ونظائره.
قلت: صورة المسألة، إذا لم يقع عقد صحيح. والله أعلم
الحادية عشرة: استأجره ليكتب صكا في هذا البياض، فكتبه خطأ، فعليه
نقصان الكاغد، وكذا لو أمره أن يكتب بالعربية فكتب بالعجمية أو بالعكس.
قلت: ولا أجرة له، ويقرب منه ما ذكره الغزالي في الفتاوى: أنه لو
استأجره لنسخ كتاب، فغير ترتيب الأبواب، قال: إن أمكن بناء بعض المكتوب بأن
كان عشرة أبواب، فكتب الباب الأول آخرا منفصلا، بحيث يبنى عليه، استحق
بقسطه من الأجرة وإلا، فلا شئ له. والله أعلم
330

الثانية عشرة: استأجر دابة لحمل الحنطة من موضع كذا إلى داره يوما إلى
الليل مترددا مرات، فركبها في عوده، فعطبت الدابة، ضمن على الأصح، لأنه
استأجرها للحمل لا للركوب. وقيل: لا يضمن، للعرف، ذكرهما العبادي.
الثالثة عشرة: العامل في المزارعة الصحيحة، لو ترك السقي متعمدا، ففسد
الزرع، ضمن، لأنه في يده وعليه حفظه.
الرابعة عشرة: تعدى المستأجر بالحمل على الدابة، فقرح ظهرها وهلكت
منه، لزمه الضمان وإن كان الهلاك بعد الرد إلى المالك.
فصل في مسائل تتعلق بالباب الثالث إحداها: في المنثور
للمزني، أنه لو استأجر لخياطة ثوب، فخاطه بعضه، واحترق الثوب، استحق الأجرة
لما عمل.
وإن قلنا: ينفسخ العقد، استحق أجرة المثل، وإلا، فقسط المسمى.
ولو استأجره لحمل جرة إلى موضع، فزلق في الطريق فانكسرت، لا شئ له
من الأجرة.
والفرق أن الخياطة تظهر على الثوب، فوقع العمل مسلما بظهور أثره،
والحمل لا يظهر على الجرة.
الثانية: أجر أرضا فغرقت بسيل أو ماء نبع منها، فإن لم يتوقع الخسارة في مدة
الإجارة، فهو كانهدام الدار. وإن توقع، فللمستأجر الخيار كما لو غصبت. فإن
أجاز، سقط من الأجرة بقدر ما كان الماء عليها. وإن غرق نصفها وقد مضى نصف
المدة، انفسخ العقد فيه. والمذهب: أنه لا ينفسخ في الباقي، بل له الخيار فيه
في بقية المدة. فإن فسخ وكانت أجرة المدة لا تتفاوت، فعليه نصف المسمى للمدة
الماضية. وإن أجاز، فعليه ثلاثة أرباع المسمى، فالنصف للماضي، والربع
للباقي.
331

الثالثة: تعطل الرحى لانقطاع الماء، والحمام لخلل في الأبنية، أو لنقص
الماء في بئره ونحوه، كانهدام الدار، وكذا لو استأجر قناة فانقطع ماؤها.
فلو نقص، ثبت الخيار ولم ينفسخ. ولو استأجر طاحونتين متقابلتين، فنقص
الماء، وبقي ماء تدور به إحداهما ولم يفسخ، قال العبادي: تلزمه أجرة أكثرهما.
الرابعة: قال في التتمة: لو دفع غزلا إلى نساج واستأجره لنسج ثوب طوله
عشرة في عرض معلوم، فجاء بالثوب وطوله أحد عشر، لا يستحق شيئا من الأجرة،
وإن جاء به وطوله تسعة، فإن كان طول السدى عشرة، استحق من الأجرة بقدره،
لأنه لو أراد أن ينسج عشرة لتمكن منه. وإن كان طوله تسعة، لم يستحق شيئا،
لمخالفته. ولو كان الغزل المدفوع إليه مسدى، استأجره كما ذكرنا، ودفع إليه من
اللحمة ما يحتاج إليه، فجاء به أطول في العرض المشروط، لم يستحق للزيادة
شيئا. وإن جاء به أقصر في العرض المشروط، استحق بقدره من الأجرة. وإن وافق
في الطول، وخالف في العرض، فإن كان أنقص، نظر، إن كان ذلك لمجاوزته
القدر المشروط من الصفاقة، لم يستحق شيئا من الأجرة، لأنه مفرط لمخالفته.
وإن راعى المشروط في صفة الثوب رقة وصفاقة، فله الأجرة، لان الخلل والحالة
هذه من السدى. وإن كان زائدا، فإن أخذ بالصفاقة، لم يستحق شيئا، وإلا،
استحق الأجرة بتمامها، لأنه زاد خيرا.
الخامسة: مهما ثبت الخيار لنقص، فأجاز، ثم أراد الفسخ، فإن كان (ذلك)
السبب بحيث لا يرجى زواله، بأن انقطع الماء، ولم يتوقع عوده، فليس له
الفسخ، لأنه عيب واحد وقد رضي به. وإن كان بحيث يرجى زواله، فله الفسخ
ما لم يزل، لان الضرر يتجدد، كما لو تركت المطالبة بعد مدة الايلاء، أو الفسخ
بعد ثبوت الاعسار، فلها العود إليه. وكذا لو اشترى عبدا فأبق قبل القبض وأجاز،
ثم أراد الفسخ، فله ذلك ما لم يعد العبد.
فصل لو أراد المستأجر أن يستبدل عن المنفعة، فان كانت الإجارة في
الذمة، لم يجز. وإن كانت إجارة عين، قال البغوي: هو كما لو أجر العين
المستأجرة للمؤجر، وفيه وجهان. أصحهما: الجواز وإن جرى بعد القبض.
فصل لو ضمن رجل العهدة للمستأجر، ففي الفتاوى أنه يصح ويرجع
332

عليه عند ظهور الاستحقاق. وعن ابن سريج: أنه لا يصح.
قلت: ومما يتعلق بكتاب الإجارة، مسائل.
إحداها: إذا توجه الحبس على الأجير، قال الغزالي في الفتاوى: إن
أمكن العمل في الحبس، جمع بينهما. وإن تعذر، فإن كانت الإجارة على العين،
قدم حق المستأجر كما يقدم حق المرتهن، ولان العمل مقصود في نفسه، والحبس
ليس مقصودا في نفسه، ثم القاضي يستوثق (عليه مدة العمل) إن خاف هربه
على ما يراه. وإن كانت الإجارة في الذمة، طولب بتحصيله بغيره. فإن امتنع،
حبس بالحقين.
الثانية: لا يلزم المؤجر أن يدفع عن العين المستأجرة الحريق والنهب
وغيرهما، وإنما عليه تسليم العين ورد الأجرة إن تعذر الاستيفاء. وأما المستأجر،
فإن قدر على ذلك من غير خطر، لزمه كالمودع.
الثالثة: إذا وقعت الدار على متاع المستأجر، فلا شئ على المؤجر، ولا
أجرة تخليصه.
الرابعة: استأجره لبناء درجة، فلما فرغ منها انهدمت في الحال، فهذا قد
يكون لفساد الآلة، وقد يكون لفساد العمل، والرجوع فيه إلى أهل العرف. فإن
قالوا: هذه الآلة قابلة للعمل المحكم وهو المقصر، لزمه غرامة ما تلف.
الخامسة: إذا جعل غلة في المسجد وأغلقه، لزمه أجرته، لأنه كما يضمن
المسجد بالاتلاف يضمن منفعته، ذكر هذه المسائل الخمس الغزالي في الفتاوى،
وتقييده في المسجد بما إذا أغلقه، لا حاجة إليه، بل لو لم يغلقه، ينبغي أن تجب
الأجرة، للعلة المذكورة.
السادسة: استأجر بهيمة إلى بلد لحمل متاع، ثم أراد في أثناء الطريق بيعه
والرجوع، وطلب رد بعض الأجرة، فليس له شئ، لان الإجارة عقد لازم، بل إن
باعه، فله حمل مثله إلى المقصد المسمى.
السابعة: في فتاوى القاضي حسين: أنه لو أكره الامام رجلا على غسل
333

ميت، فلا أجرة له، لان غسله فرض كفاية، فإذا فعله بأمر الإمام، وقع عن
الفرض، ولو أكرهه بعض الرعية، لزمه أجرة المثل لأنه مما يستأجر عليه، هذا
كلام القاضي حسين، ووافقه جماعة. قال إمام الحرمين: هذا إذا لم يكن للميت
تركة، ولا في بيت المال سعة. فإن كان له تركة، فمؤنة تجهيزه في تركته،
وإلا، ففي بيت المال إن اتسع، فيستحق المكره الأجرة. قال الرافعي في أوائل
كتاب السير: هذا التفصيل حسن، فيحمل عليه إطلاقهم.
الثامنة: أجرت نفسها للارضاع، هل عليها الفطر في رمضان إذا احتاج
الرضيع إليه؟ فيه كلام سبق واضحا في كتاب الصيام.
التاسعة: استأجر ابنة الذي بلغ سنا يعمل مثله فيه ليسقط نفقته عن نفسه عليه وينفق
عليه من أجرته، جاز، كما يشتري ماله، ذكره في فتاوى القاضي حسين. والله
أعلم
334

كتاب الجعالة
هي أن يقول: من رد عبدي الآبق، أو دابتي الضالة، ونحو ذلك، فله
كذا، وهي عقد صحيح للحاجة، وأركانه أربعة.
أحدها: الصيغة الدالة على الاذن في العمل بعوض يلتزمه، فلو رد آبقا أو
ضالة بغير إذن مالكها، فلا شئ له، سواء كان الراد معروفا برد الضوال، أم لا.
335

ولو قال لزيد: رد آبقي ولك دينار، فرده عمرو، لم يستحق شيئا، لأنه لم يشرط
له. ولو رده عبد زيد، استحق زيد لان يد عبده يده. ولو قال: من رده فله كذا،
فرده من لم يبلغه نداؤه، لم يستحق شيئا، لأنه متبرع. فإن قصد التعوض لاعتقاده
أن مثل هذا العمل لا يحبط، لم يستحق شيئا على المذهب، ولا أثر لاعتقاده.
وعن الشيخ أبي محمد، تردد فيه. ولو عين رجلا فقال: إن رده زيد فله كذا، فرده
زيد غير عالم بإذنه، لم يستحق شيئا. ولو أذن في الرد ولم يشرط عوضا، فلا شئ
للراد على المذهب وظاهر النص، وفيه الخلاف السابق فيمن قال: اغسل ثوبي ولم
يسم عوضا.
فصل لا يشترط أن يكون الملتزم من يقع العمل في ملكه. فلو قال غير
المالك: من رد عبد فلان فله كذا، استحقه الراد على القائل. ولو قال فضولي:
قال فلان من رد عبدي فله كذا، لم يستحق الراد على الفضولي شيئا، لأنه لم
يلتزم. وأما المالك، فإن كذب الفضولي عليه، فلا شئ عليه. وإن صدق، قال
البغوي: يستحق عليه. وكأن هذا فيما إذا كان المخبر ممن يعتمد قوله، وإلا، فهو
كما لو رد غير عالم بإذنه.
قلت: لو شهد الفضولي على المالك بإذنه، قال: فينبغي أن لا تقبل
شهادته، لأنه متهم في ترويج قوله. وأما قول صاحب البيان: مقتضى المذهب
قبولها، فلا يوافق عليه.
والله أعلم
فرع سواء في صيغة المالك قوله: من رد عبدي، وقوله: إن رده
إنسان، أو إن رددته، أو رده ولك كذا.
الركن الثاني: المتعاملان. فأما ملتزم الجعل، فيشترط أن يكون مطلق
التصرف. وأما العامل، فيجوز أن يكون شخصا معينا، وجماعة، ويجوز أن لا
336

يكون معينا ولا معينين، وقد سبق بيانه في الركن الأول. ثم إذا لم يكن العامل
معينا، فلا يتصور قبول العقد وإن كان لم يشترط قبوله، كذا قاله الأصحاب، وهو
المذهب. وقال الامام: لا يمتنع أن يكون كالوكيل في القبول، ويشترط عند التعيين
أهلية العمل في العامل.
الركن الثالث: العمل، فما لا تجوز الإجارة عليه من الأعمال لكونه مجهولا،
تجوز الجعالة عليه للحاجة، وما جازت الإجارة عليه، جازت الجعالة أيضا على
الصحيح. وقيل: لا، للاستغناء بالإجارة. ولو قال: من رد مالي فله كذا، فرده
من كان في يده، نظر، إن كان في رده كلفة كالآبق، استحق الجعل. وإن لم
يكن، كالدراهم والدنانير، فلا، لان ما لا كلفة فيه لا يقابل بالعوض. ولو قال:
من دلني على مالي فله كذا، فدله من المال في يده، لم يستحق شيئا، لان ذلك
واجب عليه شرعا، فلا يأخذ عليه عوضا. وإن كان في يد غيره، فدله عليه،
استحق، لان الغالب أنه يلحقه مشقة بالبحث عنه. وما يعتبر في العمل لجواز
الإجارة، يعتبر في الجعالة، سوى كونه معلوما.
قلت: فمن ذلك أنه لو قال: من أخبرني بكذا، فأخبره به إنسان،
فلا شئ له، لأنه لا يحتاج فيه إلى عمل، كذا صرح به البغوي وغيره. والله أعلم
337

الركن الرابع: الجعل المشروط، وشرطه أن يكون معلوما كالأجرة، لعدم
الضرورة إلى جهالته. فإن شرط مجهولا، بأن قال: من رد آبقي فله ثوب أو
دابة، أو إن رددته فعلي أن أرضيك أو أعطيك شيئا، فسد العقد. وإذا رد، استحق
أجرة المثل، وكذا لو جعل الجعل خمرا أو خنزيرا. ولو جعل الجعل ثوبا مغصوبا،
قال الامام: يحتمل أن يكون فيه قولان كما لو جعل المغصوب صداقا، فيرجع في
قول بأجرة المثل، وفي قول بقيمة المسمى. قال: ويحتمل القطع بأجرة المثل.
ولو قال: من رد عبدي فله سلبه أو ثيابه، قال المتولي: إن كانت معلومة، أو وصفها
بما يفيد العلم، استحق الراد المشروط، وإلا، فأجرة المثل. ولو قال: فله
نصفه أو ربعه، فقد صححه المتولي، ومنعه أبو الفرج السرخسي.
فصل لو قال: من رد لي عبدي من بلد كذا فله دينار، بني على الخلاف
في صحة الجعالة في العمل المعلوم، فإن صححناها، فمن رده من نصف الطريق،
استحق نصف الجعل، ومن رده من ثلثه، استحق الثلث. وإن رده من مكان أبعد،
لم يستحق زيادة. ولو قال: من رد لي عبدين فله كذا، فرد أحدهما، استحق
نصف الجعل. ولو قال: إن رددتما عبدي فلكما كذا، فرده أحدهما، استحق
النصف، لأنه لم يلتزم له أكثر من ذلك. وإن قال: إن رددتما لي عبدين، فرد
أحدهما أحدهما، استحق الربع.
فصل قال: من رد عبدي فله دينار، فاشترك جماعة، فالدينار مشترك
بينهم. ولو قال لجماعة: إن رددتموه، فردوه، فكذلك، ويقسم بينهم على
الرؤوس. ولو قال لزيد: إن رددته فلك دينار، فرده هو وغيره، فلا شئ لذلك
الغير، لأنه لم يلتزم له. وأما زيد، فإن قصد الغير معاونته إما بعوض وإما مجانا،
338

فله تمام الجعل، ولا شئ للغير على زيد، إلا أن يلتزم له أجرة ويستعين به.
وإن قال: عملت للمالك، لم يكن لزيد جميع الدينار، بل له نصفه على الصحيح
الذي قاله الأصحاب. ورأي الامام التوزيع على العمل أرجح. ولو شاركه اثنان في
الرد، فإن قصدا إعانة زيت، فله تمام الجعل، وإن قصدا العمل للمالك، فله
ثلثه. وإن قصد أحدهما إعانته، والآخر العمل للمالك، فله الثلثان.
فان قيل: هل للعامل المعين أن يوكل بالرد غيره كما يستعين به؟ وهل إذا كان
النداء عاما يجوز أن يوكل من سمعه غيره في الرد؟
قلنا: يشبه أن يكون الأول كتوكيل الوكيل، والثاني كالتوكيل بالاحتطاب
والاستقاء.
قلت: ولو قال: أول من يرد آبقي فله دينار، فرده اثنان، استحقا الدينار،
وستأتي هذه المسألة إن شاء الله تعالى في آخر الطرف الثالث من الباب السادس في
تعليق الطلاق. والله علم
فرع قال لرجل: إن رددته فلك كذا، ولآخر: إن رددته فلك كذا،
ولثالث: إن رددته فلك كذا، فاشتركوا في الرد، قال الشافعي رضي الله عنه: لكل
واحد ثلث ما جعل له، اتفقت الأجعال أم اختلفت. قال المسعودي: هذا إذا عمل
كل منهم لنفسه. أما لو قال أحدهم: أعنت صاحبي عملت لهما، فلا شئ له،
ولكل منهما نصف ما شرط له. ولو قال اثنان: عملنا لصاحبنا، فلا شئ لهما، وله
جميع المشروط. وقول الشافعي رضي الله عنه: لكل واحد الثلث، تصريح بالتوزيع
على الرؤوس، فلو رده اثنان منهم، فلكل منهما نصف المشروط له، وإن أعان
الثلاثة رابع في الرد، فلا شئ له. ثم إن قال: قصدت العمل للمالك، فلكل
واحد من الثلاثة ربع المشروط له. وإن قال: أعنتهم جميعا، فلكل واحد منهم ثلث
المشروط له كما لو لم يكن معهم غيرهم. وإن قال: أعنت فلانا، فله نصف
339

المشروط له، ولكل واحد من الآخرين ربع المشروط له. وعلى هذا القياس لو
قال: أعنت فلانا وفلانا، فلكل واحد منهما ربع المشروط له وثمنه، وللثالث ربع
المشروط له. ولو قال لواحد: إن رددته فلك دينار، وقال لآخر: إن رددته فلك
ثوب، فرداه، فللأول نصف دينار، وللثاني نصف أجرة المثل.
قلت: ولو قال المعين للثلاثة مثلا في الصورة السابقة: أردت أن آخذ الجعل
من المالك، لم يستحق شيئا، وكان لكل من الثلاثة ربع المشروط له. والله علم
فصل في أحكام الجعالة فمنها: الجواز، فلكل واحد من المالك
والعامل فسخها قبل تمام العمل، فأما بعد تمام العمل، فلا أثر للفسخ، لان الدين
لزم. ثم إن اتفق الفسخ قبل الشروع في العمل، فلا شئ للعامل. وإن كان
بعده، فان فسخ العامل، فلا شئ له، لأنه امتنع باختياره ولم يحصل غرض
المالك. وإن فسخ المالك، فوجهان. أحدهما: لا شئ للعامل كما لو فسخ
بنفسه. والصحيح، أنه يستحق أجرة المثل لما عمل، وبهذا قطع الجمهور،
وعبروا عنه بأنه ليس له الفسخ حتى يضمن للعامل أجرة مثل ما عمل. ولو عمل
العامل شيئا بعد الفسخ، لم يستحق شيئا إن علم بالفسخ. فإن لم يعلم، بني على
الخلاف في نفوذ عزل الوكيل في غيبته قبل علمه.
فرع تنفسخ الجعالة بالموت، ولا شئ للعامل لما عمله بعد موت
المالك. فلو قطع بعض المسافة، ثم مات المالك فرده إلى وارثه، استحق من
المسمى بقدر عمله في الحياة.
فرع ومن أحكامها: جواز الزيادة والنقص في الجعل، وتغير جنسه قبل
الشروع في العمل. فلو قال: من رد عبدي، فله عشرة. ثم قال: من رده فله
340

خمسة أو بالعكس، فالاعتبار بالنداء الأخير. والمذكور فيه هو الذي يستحقه الراد،
لكن لو لم يسمع الراد النداء الأخير، قال الغزالي: يحتمل أن يقال: يرجع إلى
أجرة المثل. وأما بعد الشروع في العمل، ففي كلام صاحب المهذب وغيره
تقييد جواز الزيادة والنقص بما قبل العمل، وفي كلام الغزالي قبل الفراغ.
فالظاهر، أنه في أثناء العمل يؤثر في الرجوع إلى أجرة المثل، لان النداء الأخير
فسخ للأول، والفسخ في أثناء العمل يقتضي أجرة المثل.
فرع ومن أحكامها، توقف استحقاق الجعل على تمام الجعل على تمام العمل. فلو
سعى في طلب الآبق، فرده فمات في باب دار المالك قبل أن يسلمه إليه، أو
هرب، أو عضب، أو تركه العامل فرجع، فلا شئ للعامل، لأنه لم يرد.
قلت: ومنه لو خاط نصف الثوب فاحترق، أو تركه، أو بنى بعض الحائط
فانهدم، أو تركه، فلا شئ للعامل، قاله أصحابنا. والله أعلم
فرع إذا رد الآبق، لم يكن له حبسه لاستيفاء الجعل، لان الاستحقاق
بالتسليم، ولا حبس قبل الاستحقاق.
فرع قال: إن علمت هذا الصبي، أو إن علمتني القرآن، فلك كذا،
فعلمه البعض، وامتنع من تعليم الباقي، فلا شئ له، وكذا إن كان الصبي بليدا لا
يتعلم، لأنه كمن طلب العبد فلم يجده. ولو مات الصبي في أثناء التعليم، استحق
أجرة ما علمه، لوقوعه مسلما بالتعليم، بخلاف رد الآبق، وإن منعه أبوه من التعلم
فله أجرة المثل لما علمه.
341

فصل إذا جاء بآبق وطلب الجعل، فقال المالك: ما شرطت جعلا، أو
شرطته على عبد آخر، أو ما سعيت في رده بل هو جاء بنفسه، فالقول قول المالك،
لان الأصل عدم الشرط وبراءته.
ولو اختلفا في قدر المشروط، تحالفا، وللعامل أجرة المثل. وكذا لو
قال المالك: شرطته على رد عبدين، فقال الراد: بل الذي رددته فقط.
فرع قال: من رد عبدي إلى شهر، فله كذا، قال القاضي أبو الطيب: لا
يصح، لان تقدير المدة يخل بمقصود العقد، فربما لا يجده فيها فيضيع عمله ولا
يحصل غرض المالك، كما لا يجوز تقدير مدة القراض.
فرع قال: بع عبدي هذا، أو إعمل كذا، ولك عشرة دراهم، ففي بعض
التصانيف أنه إن كان العمل مضبوطا مقدرا، فهو إجارة. وإن احتاج إلى تردد، أو
كان غير مضبوط، فهو جعالة.
فرع لم أجده مسطورا يد العامل على ما يقع في يده إلى أن يرده يد
أمانة. فلو رفع يده عن الدابة وخلاها في مضيعة، فهو تقصير مضمن، ونفقة العبد
والدابة مدة الرد، يجوز أن تكون كما ذكرنا في مستأجر الجمال إذا هرب الجمال
وخلاها عنده، ويجوز أن يقال: ذاك للضرورة، وهنا أثبت العامل يده مختارا،
فليتكلف المؤنة، ويؤيد هذا العادة.
قلت: عجب قول الإمام الرافعي في نفقة المردود: لا أعلمه مسطورا، وأنه
يحتمل أمرين، وهذا قد ذكره القاضي ابن كج في كتابه التجريد وهو كثير النقل
عنه، فقال: إذا أنفق عليه الراد، فهو متبرع عندنا. وهذا الذي قاله، ظاهر جار
على القواعد. وقول الرافعي: وخلاها في مضيعة، لا حاجة إلى التقييد
بالمضيعة، فحيث خلاها، يضمن. والله أعلم
فرع قال: إن أخبرتني بخروج زيد من البلد، فلك كذا، فأخبره، ففي
فتاوى القفال: أنه إن كان له غر ض في خروجه، استحق، وإلا، فلا، وهذا
342

يقتضي كونه صادقا، وينبغي أن ينظر، هل يناله تعب، أم لا؟
قلت: ومما يتعلق بالباب، وتدعو إليه الحاجة، ما ذكره القاضي حسين
وغيره، وهو مما لا خلاف فيه، أنه لو كان رجلان في بادية ونحوها، فمرض
أحدهما، وعجز عن السير، لزم الآخر المقام معه، إلا أن يخاف على نفسه، فله
تركه. وإذا أقام، فلا أجرة له. وإذا مات، أخذ هذا الرجل ماله وأوصله إلى
ورثته، ولا يكون مضمونا، قال القاضي: وكذا لو غشي عليه، قال: وأما وجوب
أخذ هذا المال، فإن كان أمينا، ففيه قولان كاللقطة. وعندي، أن المذهب هنا
الوجوب.
ومنها: ما ذكره ابن كج، قال: إذا وجدنا عبيدا أبقوا، فالمذهب أن الحاكم
يحبسهم انتظارا لصاحبهم. فإن لم يجئ لهم صاحب، باعهم الحاكم وحفظ
ثمنهم. فإذا جاء صاحبهم، فليس له غير الثمن. وإذا سرق الآبق، قطع كغيره.
والله علم
343

كتاب إحياء الموات
إحياء الموات مستحب، وفيه ثلاثة أبواب.
الباب الأول: في ر قاب الأرضين، وهي قسمان.
أحدهما: أرض الاسلام، ولها ثلاثة أحوال.
أحدها: أن لا تكون معمورة في الحال، ولا من قبل، فيجوز تملكها
بالاحياء، سواء أذن فيه الامام، أم لا، ويكفي فيه إذن رسول الله (ص) في الأحاديث
المشهورة، ويختص ذلك بالمسلمين. فلو أحياها الذمي بغير إذن الإمام، لم
يملك قطعا، ولو أحيا بإذنه، لم يملك أيضا على الأصح، وقال الأستاذ أبو
طاهر: يملك. فإذا قلنا بالصحيح، فكان له فيها عين مال، نقلها. فإن بقي بعد
النقل أثر عمارة، قال ابن كج: إن أحياء رجل باذن الامام، ملكه، وإن لم يأذن،
فوجهان.
قلت: لعل أصحهما: الملك، إذ لا أثر لفعل الذمي. والله علم
344

ولو ترك العمارة متبرعا، تولى الامام أخذ غلتها وصرفها في مصالح
المسلمين، ولم يجز لاحد تملكها.
فرع للذمي الاصطياد والاحتطاب والاحتشاش في دار الاسلام، لان ذلك
يخلف، ولا يتضرر به المسلمون، بخلاف الأرض، وكذا للذمي نقل التراب من
موات دار الاسلام إذا لم يتضرر به المسلمون.
فرع المستأمن كالذمي في الاحياء وفي الاحتطاب ونحوه، و الحربي
ممنوع من جميع ذلك.
الحال الثاني: أن تكون معمورة في الحال، فهي لملاكها، ولا مدخل فيها
للاحياء.
الحال الثالث: أن لا تكون معمورة في الحال وكانت معمورة قبل، فإن عرف
مالكها، فهي له أو لوارثه، ولا تملك بالعمارة. وإن لم يعرف، نظر، إن كانت
عمارة إسلامية، فهي لمسلم أو لذمي، وحكمها حكم الأموال الضائعة. قال الامام:
والامر فيه إلى رأي الامام. فإن رأى حفظه إلى أن يظهر مالكه، فعل، وإن رأى بيعه
وحفظ ثمنه، فعل، وله أن يستقرضه على بيت المال. هذا هو المذهب، وفيه
خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى قريبا.
345

وإن كانت عمارة جاهلية، فقولان. ويقال: وجهان. أحدهما: لا
تملك بالاحياء، لأنها ليست بموات. وأظهرهما: تملك كالركاز. وقال ابن سريج
وغيره: إن بقي أثر العمارة أو كان معمورا في جاهلية قريبة، لم تملك بالاحياء،
وإن اندرست بالكلية وتقادم عهدها، ملكت. ثم إن البغوي وآخرين عمموا هذا
الخلاف، وفرعوا على المنع أنها إن أخذت بقتال فهي للغانمين، وإلا، فهي أرض
للفئ، قال الامام: موضع الخلاف إذا لم يعلم كيفية استيلاء المسلمين عليه
ودخوله تحت يدهم، فأما إن علم، فإن حصلت بقتال، فللغانمين، وإلا، ففئ،
وحصة الغانمين تلتحق بملك المسلم الذي لا يعرف. وطرد جماعة الخلاف، فيما
إذا كانت العمارة الاسلامية ولم يعرف مالكها، وقالوا: هي كلقطة لا يعرف مالكها.
والجمهور فرقوا بين الجاهلية والاسلامية كما سبق.
القسم الثاني: أرض بلاد الكفار، ولها ثلاثة أحوال.
أحدها: أن تكون معمورة، فلا مدخل للاحياء فيها، بل هي كسائر أموالهم
فإذا استولينا عليها بقتال أو غيره، لم يخف حكمه.
الحال الثاني: أن لا تكون معمورة في الحال ولا من قبل، فيتملكها الكفار
بالاحياء. وأما المسلمون، فينظر، إن كان مواتا لا يذبون المسلمين عنه، فلهم
تملكه بالاحياء، ولا يملك بالاستيلاء، لأنه غير مملوك لهم حتى يملك عليهم.
وإن ذبوا عنه المسلمين، لم يملك بالاحياء كالمعمور من بلادهم. فان استولينا
عليه، ففيه أوجه. أصحها: أنه يفيد اختصاصا كاختصاص المتحجر، لان
346

الاستيلاء أبلغ منه. وعلى هذا فسيأتي إن شاء الله تعالى خلاف في أن التحجر (هل)
يفيد جواز البيع؟ إن قلنا: نعم، فهو غنيمة كالمعمور. وإن قلنا: لا، وهو
الأصح، فالغانمون أحق بإحياء أربعة أخماسه، وأهل الخمس أحق بحياء خمسه.
فإن أعرض الغانمون عن إحيائه، فأهل الخمس أحق به. ولو أعرض بعض
الغانمين، فالباقون أحق. وإن تركه الغانمون وأهل الخمس جميعا، ملكه من أحياه
من المسلمين.
قلت: في تصور إعراض اليتامى والمساكين وابن السبيل، إشكال، فيصور
في اليتامى أن أولياءهم لم يروا لهم حظا في الاحياء، ونحوه في الباقين. والله
أعلم
والوجه الثاني: أنهم يملكونه بالاستيلاء كالمعمور.
والوجه الثالث: لا يفيد ملكا ولا اختصاصا، بل هو كموات دار
الاسلام، من أحياه ملكه.
الحال الثالث: أن لا تكون معمورة في الحال وكانت معمورة، فإن عرف
مالكها، فكالمعمورة، وإلا، ففيه طريقة الخلاف وطريقة ابن سريج السابقتان في
القسم الأول.
فرع إذا فتحنا بلدة صلحا على أن تكون لنا ويسكنوا بجزية، فالمعمور
منها فئ، ومواتها الذي كانوا يذبون عنه، هل يكون متحجرا لأهل الفئ؟
وجهان. أصحهما: نعم. فعلى هذا، هو فئ في أحال، أم يحبسه الامام لهم؟
وجهان. أصحهما: الثاني، وإن صالحناهم على أن تكون البلدة لهم، فالمعمور
لهم، والموات يختصون بإحيائه تبعا للمعمور، وعن القاضي أبي حامد وصاحب
347

التقريب: أنه إنما يجب علينا الامتناع عن مواتها إذا شرطناه في الصلح، والأول
أصح.
فرع قال البغوي: البيع التي للنصارى في دار الاسلام، لا تملك
عليهم. فإن فنوا، فهو كما لو مات ذمي ولا وارث له، فتكون فيئا.
فرع حريم المعمور لا يملك بالاحياء، لان مالك المعمور يستحق
مرافقة، وهل نقول: إنه يملك تلك المواضع؟ وجهان. أحدهما: لا، لان الملك
بالاحياء ولم يحيها، وأصحهما: نعم، كما يملك عرصة الدار ببناء الدار، ولان
الاحياء تارة يكون بجعله معمورا، وتارة بجعله تبعا للمعمور. ولو باع حريم ملكه
دون الملك، لم يصح، قاله أبو عاصم، كما لو باع شرب الأرض وحده. قال: ولو
حفر اثنان بئرا على أن يكون نفس البئر لأحدهما وحريمها للآخر، لم يصح وكان
الحريم لصاحب البئر، وللآخر أجرة عمله.
فرع في بيان الحريم وهو المواضع القريبة التي يحتاج إليها لتمام
الانتفاع، كالطريق ومسيل الماء ونحوهما، وفيه صور.
إحداها: ذكرنا في الحال الثالث: إذا صالحنا الكفار على بلدة، لم يجز
إحياء مواتها الذي يذبون عنه على الأصح، فهو من حريم تلك البلدة ومرافقها.
الثانية: حريم القرى المحياة: ما حولها من مجتمع أهل النادي،
ومرتكض الخل، ومناخ الإبل، ومطرح الرماد والسماد، وسائر ما يعد من
مرافقها.
وأما مرعى البهائم، فقال الامام: إن بعد عن القرية، لم يكن من حريمها.
وإن قرب ولم يستقل مرعى، ولكن كانت البهائم ترعى فيه الخوف من الابعاد،
348

فعن الشيخ أبي علي، خلاف فيه، والأصح عند الامام: أنه ليس بحريم. وأما ما
يستقل مرعى وهو قريب، فينبغي أن يقطع بأنه حريم. وقال البغوي: مرعى البهائم
حريم للقرية مطلقا.
فرع المحتطب كالمرعى.
الثالثة: حريم الدار في الموات: مطرح التراب والرماد والكناسات
والثلج، والممر في الصوب الذي فتح إليه الباب، وليس المراد منه استحقاق
الممر في قبالة الباب على امتداد الموات، بل يجوز لغيره إحياء ما في قبالة الباب إذا
أبقي الممر له، فان احتاج إلى انعطاف وازورار، فعل.
فرع عد جماعة منهم ابن كج فناء الدار من حريمها. وقال ابن الصباغ:
عندي أن حيطان الدار لا فناء لها ولا حريم. فلو أراد محي أن يبني بجنبها، لم
يلزمه أن يبعد عن فنائها، لكن يمنع مما يضر الحيطان كحفر بئر بقربها.
الرابعة: البئر المحفورة في الموات، حريمها الموضع الذي يقف فيه
349

النازح، وموضع الدولاب ومتردد البهيمة إن كان الاستقاء بهما، ومصب الماء،
والموضع الذي يجتمع فيه لسقي الماشية والزروع من حوض ونحوه، والموضع
الذي يطرح فيه ما يخرج منه، وكل ذلك غير محدود، وإنما هو بحسب الحاجة، كذا
قاله الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم. وفي وجه: حريم البئر: قدر عمقها من
كل جانب، ولم ير الشافعي رضي الله عنه التحديد، وحمل اختلاف روايات
الحديث في التحديد، على اختلاف القدر المحتاج إليه. وبهذا يقاس حريم النهر
المحفور في الموات. وأما القناة فآبارها لا يستقى منها حتى يعتبر به الحريم،
فحريمها: القدر الذي لو حفر فيه لنقص ماؤها، أو خيف منه انهيار وانكباس،
ويختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها. وفي وجه: أن حريمها حريم البئر التي
يستقى منها، ولا يمنع من الحفر إذا جاوزه وإن نقص الماء، وبهذا الوجه قطع
الشيخ أبو حامد ومن تابعه. والقائلون به، قالوا: لو جاء آخر وتنحى عن المواضع
المعدودة حريما، وحفر بئرا ينقص ماء الأول، لم يمنع منه، وهو خارج عن حريم
البئر. والأصح: أنه ليس لغيره الحفر حيث ينقص ماءها، كما ليس لغيره التصرف
قريبا من بنائه بما يضر به، بخلاف ما إذا حفر بئرا في ملكه، فحفر جاره بئرا في
ملكه فنقص ماء الأول، فإنه يجوز. قال ابن الصباغ: والفرق أن الحفر في الموات
ابتداء تملك، فلا يمكن منه إذا تضرر الغير، وهنا كل واحد متصرف في ملكه.
وعلى هذا، فذلك الموضع داخل في حريم البئر أيضا. واعلم أن ما حكمنا بكونه
حريما، فذلك إذا انتهى الموات إليه. فإن كان هناك ملك قبل تمام حد الحريم،
فالحريم إلى حيث ينتهي الموات.
فرع كل ما ذكرناه في حريم الأملاك، مفروض فيما إذا كان الملك محفوفا
بالموات، أو متاخما له من بعض الجوانب. فأما الدار الملاصقة للدار، فلا حريم
لها، لان الأملاك متعارضة، وليس جعل موضع حريما لدار، أولى من جعله حريما
لأخرى، وكل واحد من الملاك يتصرف في ملكه على العادة، ولا ضمان عليه إن
أقضى إلى تلف. فإن تعدى، ضمن. والقول في تصرف المالكين المتجاوزين
350

بما يجوز وما لا يجوز، وبماذا يتعلق الضمان، منه ما سبق في كتاب الصلح، ومنه
ما سيأتي إن شاء الله تعالى في خلال الديات.
فرع لو اتخذ داره المحفوفة بالمساكن حماما، أو إصطبلا، أو طاحونة،
أو حانوته في صف العطارين حانوت حداد أو قصار على خلاف العادة، ففيه وجهان.
أحدهما: يمنع، للاضرار. وأصحهما: الجواز، لأنه متصرف في خالص ملكه،
وفي منعه إضرار به. وهذا إذا احتاط وأحكم الجدران بحيث يليق بما يقصده، فإن
فعل ما الغالب فيه ظهور الخلل في حيطان الجار، فالأصح: المنع، وذلك مثل أن
يدق الشئ في داره دقا عنيفا تتزعزع منه الحيطان، أو حبس الماء في ملكه بحيث
تنتشر منه النداوة إلى حيطان الجار. ولو اتخذ داره مدبغة، أو حانوته مخبزة حيث لا
يعتاد، فان قلنا: لا يمنع في الصورة السابقة، فهنا أولى،
وإلا ففيه تردد للشيخ أبي محمد. واختار الروياني في كل هذا، أن يجتهد الحاكم فيها، ويمنع إن ظهر له
التعنت وقصد الفساد. قال: وكذلك القول في إطالة البناء ومنع الشمس والقمر.
فرع لو حفر في ملكه بئر بالوعة وفسد بها ماء بئر جاره، فهو مكروه، لكن
لا يمنع منه، ولا ضمان عليه بسببه على الصحيح، وخالف فيه القفال.
فرع لا يمنع من إحياء ما وراء الحريم، قرب، أم بعد، وسواء أحياه أهل
العمران، أم غيرهم.
فرع موات الحرم يملك بالاحياء، كما أن معموره يملك بالبيع والهبة.
وهل تملك أرض عرفات بالاحياء كسائر البقاع، أم لا، لتعلق حق الوقوف بها؟
وجهان. إن قلنا: تملك، ففي بقاء حق الوقوف فيما ملك وجهان. إن قلنا:
يبقى، فذاك مع اتساع الباقي، أم بشرط ضيقه على الحجيج؟ وجهان. واختار
351

الغزالي، الفرق بين أن يضيق الموقف فيمنع، أو، لا، فلا. والأصح: المنع
مطلقا، وهو أشبه بالمذهب، وبه قطع المتولي، وشبهها بما تعلق به حق المسلمين
عموما وخصوصا، كالمساجد والطرق والرباطات، ومصلى العيد خارج البلد.
قلت: وينبغي أن يكون الحكم في أرض منى ومزدلفة، كعرفات، لوجود
المعنى. والله علم
فصل الشارع في إحياء الموات متحجر ما لم يتمه، وكذا إذا أعلم عليه
علامة للعمارة، من نصب أحجار، أو غرز خشبات، أو قصبات، أو جمع تراب،
أو خط خطوط، وذلك لا يفيد الملك، بل يجعله أحق به من غيره. وحكى ابن
القطان وجها: أنه يملك به، وهو شاذ ضعيف، والتفريع على الصحيح.
قلت: قال أصحابنا: إذا مات المتحجر، انتقل حقه إلى ورثته. ولو نقله
إلى غيره، صار الثاني أحق به. والله أعلم
وينبغي للمتحجر أن لا يزيد على قدر كفايته، وأن لا يتحجر ما لا يمكنه القيام
بعمارته. فإن خالف، قال المتولي: فلغيره أن يحيي ما زاد
على كفايته، وما زاد على ما يمكنه بعمارته. وقال غيره: لا يصح تحجره أصلا، لان ذلك القدر
غير متعين.
قلت: قول المتولي أقوى. والله أعلم
وينبغي أن يشتغل بالعمارة عقيب التحجر. فان طالت المدة ولم يحي، قال له
352

السلطان: أحي أو ارفع يدك عنه. فان ذكر عذرا واستمهله، أمهله مدة قريبة يستعد
فيها للعمارة. والنظر في تقديرها إلى رأي السلطان، ولا تتقدر بثلاثة أيام على
الأصح، فإذا مضت ولم يشتغل بالعمارة، بطل حقه. وليس لطول المدة الواقعة بعد
التحجر حد معين، وإنما الرجوع فيه إلى العادة. قال الامام: وحق المتحجر يبطل
بطول الزمان وتركه العمارة وإن لم يرفع الامر إلى السلطان ولم يخاطبه بشئ، لان
التحجر ذريعة إلى العمارة، وهي لا تؤخر عن التحجر إلا بقدر تهيئة أسبابها، ولهذا
لا يصح تحجر من لا يقدر على تهيئة الأسباب، كمن يتحجر ليعمر في السنة
القابلة، وكفقير يتحجر ليعمر إذا قدر، فوجب إذا أخر وطال أن يعود مواتا كما كان،
هذا كلام الامام. وحكى الشيخ أبو حامد مثله عن أبي إسحاق، ثم قال: عندي أنه
لا يبطل إلا بالرفع إلى السلطان ومخاطبته.
فرع لو بادر أجنبي قبل أن يبطل حق المتحجر، فأحيا ما تحجره، ملكه
المحيي على الأصح المنصوص، لأنه حقق سبب الملك وإن كان ظالما، كما لو دخل
في سوم أخيه واشترى.
والثاني: لا يملك، لئلا يبطل حق غيره.
والثالث: أنه إن انضم إلى التحجر إقطاع السلطان، لم يملك المحيي،
وإلا، فيملك.
والرابع: إن أخذ المتحجر في العمارة، لم يملك المبادر، وإلا، فيملك.
وشبهوا المسألة الخلاف فيما إذا عشش الطائر في ملكه وأخذ الفرخ غيره، هل
يملكه؟
قلت: والأصح أيضا أنه يملكه. وكذا لو توحل ظبي في أرضه، أو وقع الثلج
فيها، ونحو ذلك، وقد سبقت مسائل تتعلق بهذا في كتاب الصيد. والله أعلم
فرع: لو باع المتحجر ما تحجره، وقلنا بالصحيح: إنه لا يملك، لم يصح
بيعه عند الجمهور. وقال أبو إسحاق وغيره: يصح، وكأنه يبيع حق الاختصاص.
وعلى هذا لو باع فأحياه في يد المشتري رجل، وقلنا: يملك، فهل يسقط الثمن،
أم لا، لحصول التلف بعد القبض؟ وجهان.
قلت: أصحهما: الثاني. وإذا قلنا: لا يصح البيع، فأحياه المشتري قبل
353

الحكم بفسخ البيع، فهل يكون له، أم للبائع؟ فيه وجهان حكاهما الشاشي،
والصحيح: الأول. والله أعلم
فرع لا قطاع الامام مدخل في الموات، وفائدته مصير المقطع أحق باحيائه
كالمتحجر. وإذا طالت المدة، أو أحياه غيره، فالحكم كما سبق في المتحجر، ولا
يقطع إلا لمن يقدر على الاحياء، وبقدر ما يقدر عليه.
فصل في بيان الاحياء قال الأصحاب: المعتبر ما يعد إحياء في
العرف، ويختلف باختلاف يقصد به. وتفصيله بمسائل.
إحداها: إذا أراد المسكن، اشترط التحويط بالآجر أو اللبن أو الطين أو
القصب أو الخشب بحسب العادة، ويشترط أيضا تسقيف البعض ونصب الباب
على الصحيح فيهما.
الثانية: إذا أراد زريبة للدواب، أو حضيرة فيها الثمار أو يجمع فيها
الحطب أو الحشيش، اشترط التحويط، ولا يكفي نصب سعف وأحجار من غير
بناء، لان المتملك لا يقتصر على مثله في العادة، وإنما يفعله المجتاز. ولو حوط
البناء في طرف، واقتصر للباقي على نصب الأحجار والسعف، حكى الامام عن
القاضي، أنه (يكفي)، وعن شيخه: المنع. ولا يشترط التسقيف هنا. وفي تعليق
الباب، الخلاف السابق.
أحدها: جمع التراب. الثالثة: إذا أراد مزرعة، اشترط أمور
حواليه لينفصل المحيا عن غيره. وفي معناه: نصب
قصب وحجر وشوك، ولا حاجة إلى التحويط. وقال الشيخ أبو حامد: عندي إذا
354

صارت الأرض مزرعة بماء سيق إليها، فقد تم الاحياء وإن لم يجمع التراب حولها.
الثاني: تسوية الأرض بطم المنخفض وكسح المستعلي وحراثتها وتليين
ترابها، فإن لم يتيسر ذلك إلا بماء يساق إليها، فلا بد منه لتتهيأ للزراعة.
الثالث: ترتيب ماء لها بشق ساقية من نهر، أو بحفر بئر أو قناة وسقيها، هل
يشترط ذلك؟ أطلق جماعة اشتراطه، والأصح ما ذكره ابن كج وغيره: أن الأرض
إن كانت بحيث يكفي لزراعتها ماء السماء، لم يشترط السقي وترتيب ماء على
الصحيح. وإن كانت تحتاج إلى ماء يساق إليها، اشترط تهيئة ماء من عين أو بئر أو
غيرهما. وإذا هيأه، نظر، إن حفر له الطريق ولم يبق إلا إجراء الماء، كفى، ولم
يشترط الاجراء، ولا سقي الأرض. وإن لم يحفر بعد، فوجهان. وأما أرض الجبال
التي لا يمكن سوق الماء إليها ولا يصيبها إلا ماء السماء، فمال صاحب التقريب
إلى أنه لا مدخل للاحياء فيها، وبه قال القفال وبنى عليه: أما إذا وجدنا شيئا من
تلك الأرض في يد إنسان، لم نحكم بأنه ملكه، ولا نجوز بيعه وإجارته. ومن
الأصحاب من قال: يملك بالحراثة وجمع التراب على الأطراف، واختاره القاضي
حسين. ولا تشترط الزراعة، لحصول الملك في المزرعة على الأصح، لأنها
استيفاء منفعة وهو خارج عن الاحياء، وكما لا يشترط في الدار أن يسكنها.
المسألة الرابعة: إذا أراد بستانا أو كرما، فلا بد من التحويط، والرجوع
فيما يحوط به إلى العادة، قاله ابن كج. وقال: فان كانت عادة البلد بناء جدار،
اشترط البناء. وإن كان عادتهم التحويط بالقصب والشوك وربما تركوه أيضا كما في
البصرة وقزوين، اعتبرت عادتهم، وحينئذ يكفي جمع التراب حواليه كالمزرعة. والقول
في سوق الماء إليه كما سبق في المزرعة. ويعتبر غرس الأشجار على المذهب، وبه
قطع الجمهور. وقيل: لا يعتبر إذا لم يعتبر الزرع في المزرعة. والفرق عل
المذهب، أن اسم المزرعة يقع على الأرض قبل الزرع، بخلاف البستان قبل
الغرس، ولان الغرس يدوم فألحق بأبنية الدار، بخلاف الزرع.
355

فرع طرق الأصحاب متفقة على أن الاحياء يختلف باختلاف ما يقصده
المحيي من مسكن وحظيرة وغير هما. وذكر الامام شيئين.
أحدهما: أن القصد إلى الاحياء هل يعتبر لحصول الملك؟ فقال: ما لا
يفعله في العادة إلا المتملك كبناء الدار واتخاذ البستان، يفيد الملك وإن لم يوجد
قصد. وما يفعله المتملك وغيره، كحفر البئر في الموات، وكزراعة قطعة من
الموات اعتمادا على ماء السماء، إن انضم إليه قصد، أفاد الملك، وإلا،
فوجهان. وما لا يكتفي به المتملك، كتسوية موضع النزول، وتنقيته عن الحجارة،
لا يفيد الملك. وإن قصده شبه ذلك بالاصطياد بنصب الأحبولة في مدارج الصيود
يفيد ملك الصيد. وإغلاق الباب إذا دخل الصيد الدار على قصد التملك، يفيد
الملك. ودونه وجهان. وتوحل الصيد في أرضه التي سقاها، لا يفيد الملك وإن
قصده.
الشئ الثاني: إذا قصد نوعا وأتي بما يقصد به نوع آخر، أفاد الملك، حتى
إذا حوط البقعة يملكها وإن قصد المسكن، لأنه مما يملك به الزريبة لو قصدها.
قال الامام الرافعي رحمه الله تعالى: أما الكلام الأول، فمقبول لا يلزم (منه) مخالفة
الأصحاب، بل إن قصد شيئا اعتبرنا في كل مقصود ما فصلوه، وإلا، نظرنا فيما أتى
به وحكمنا بما ذكره. وأما الثاني، فمخالفته لما ذكره الأصحاب صريحة، لما
فيه من الاكتفاء بأدنى العمارات أبدا.
فرع إذا حفر بئرا في الموات للتملك، لم يحصل الاحياء ما لم يصل إلى
الماء. وإذا وصل، كفى إن كانت الأرض صلبة، وإلا، فيشترط أن تطوى. وقال
الامام: لا حاجة إليه. وفي حفر القناة، يتم الاحياء بخروج الماء وجريانه.
ولو حفر نهرا ليجري الماء فيه على قصد التملك، فإذا انتهى رأس النهر الذي
يحفره إلى النهر القديم، وجرى الماء فيه، ملكه، كذا قاله البغوي وغيره. وفي
التتمة: أن الملك لا يتوقف على إجراء الماء فيه، لأنه استيفاء منفعة كالسكون
في الدار.
قلت: هذا الثاني، أقوى. والله أعلم
356

فصل في الحمى هو أن يحمي بقعة من الموات لمواش بعينها، ويمنع
سائر الناس الرعي فيها، وكان لرسول الله (ص) أن يحمي لخاصة نفسة، ولكنه لم
يفعله (ص)، وإنما حمى النقيع لا بل الصدقة ونعم الجزية وخيل المجاهدين.
قلت: النقيع بالنون عند الجمهور، وهو الصواب. وقيل: بالباء الموحدة،
وبقيع الغرقد بالباء قطعا. والله أعلم
وأما غير رسول الله (ص)، فليس للآحاد الحمى قطعا، ولا للأئمة لأنفسهم،
وفي حماهم لمصالح المسلمين، قولان. أظهرهما: الجواز. وقيل: يجوز قطعا.
فإذا جوزناه، فهل يختص بالامام الأعظم، أم يجوز أيضا لولاته في النواحي؟
وجهان حكاهما ابن كج وغيره. أصحهما: الثاني. وسواء حمى لخيل
المجاهدين، أم لنعم الجزية والصدقة، والضوال، ومال الضعفاء عن الابعاد في
طلب النجعة، ثم لا يحمي إلا الأقل الذي لا يبين ضرره على الناس ولا يضيق الامر
عليهم، ثم ما حماه رسول الله (ص)، نص فلا ينقض ولا يغير بحال، هذا هو
المذهب. وقيل: إن بقيت الحاجة التي حمى لها، لم يغير. وإن زالت،
فوجهان. أصحهما: المنع، لأنه تغيير المقطوع بصحته باجتهاد. وأما حمى
غيره (ص)، فإذا ظهرت المصلحة في تغييره، جاز نقضه ورده إلى ما كان على الأظهر
رعاية للمصلحة. وفي قول: لا يجوز كالمقبرة والمسجد. وقيل: يجوز
للحامي نقض حماه، ولا يجوز لمن بعده من الأئمة، وإذا جوزنا نقضه، فأحياه
رجل باذن الامام، ملكه وكان الاذن في الاحياء نقضا. وإن استقل المحيي،
فوجهان. ويقال: قولان منصوصان. أصحهما: المنع، لما فيه من الاعتراض
على تصرف الامام وحكمه.
357

قلت: بقيت من الحمى مسائل مهمة.
منها: لو غرس أو بنى أو زرع في النقيع، نقضت عمارته، وقلع زرعه
وغرسه، ذكره القاضي أبو حامد في جامعه.
منها: أن الحمى ينبغي أن يكون عليه حفاظ من جهة الامام أو نائبه، وأن
يمنع أهل القوة من إدخال مواشيهم، لا يمنع الضعفاء، ويأمره الامام
بالتلطف بالضعفاء من أهل, الماشية، كما فعل عمر رضي الله عنه. قال القاضي أبو حامد:
فإن كان للامام ماشية لنفسه، لم يدخلها الحمى، لأنه من أهل القوة. فان فعل
فقد ظلم المسلمين.
ومنها: لو دخل الحمى من هو من أهل القوة، فرعى ماشيته، قال أبو حامد:
فلا شئ عليه، ولا غرم ولا تعرير، ولكن يمنع من الرعي، ونقل ابن كج أيضا عن
نص الشافعي رضي الله عنه أنه لا غرم عليه، وليس هذا مخالفا لما ذكرناه في كتاب
الحج، أن من أتلف شيئا من شجر النقيع أو حشيشه ضمنه على الأصح.
ومنها: أن عامل الصدقات إذا كان يجمعها في بلد، هل له أن يحمي موضعا
لا يتضرر به أهل البلد ليرعاها فيه؟ قال أبو حامد: قيل: له ذلك، ولم يذكر
خلافه. وقال ابن كج: إن منعنا حمى الامام، فذا أولى، وإلا، فقولان.
ومنها: لا يجوز للامام أن يحمي الماء المعد لشرب خيل الجهاد وإبل الصدقة
والجزية وغيرها بلا خلاف، ذكره الشيخ نصر في تهذيبه. قال أصحابنا: إذا
حمى الامام، وقلنا: لا يجوز حماه، فهو على أصل الإباحة، من أحياه، ملكه.
ومنها: أنه يحرم على الامام وغيره من الولاة أن يأخذ من أصحاب المواشي
عوضا عن الرعي في الحمى أو الموات، وهذا لا خلاف فيه، وقد نص عليه
الماوردي في الاحكام وقاله آخرون. والله أعلم
358

الباب الثاني في المنافع المشتركة وغيرها
بقاع الأرض إما مملوكة، وإما محبوسة على الحقوق العامة كالشوارع
والمساجد والمقابر والرباطات، وإما منفكة عن الحقوق العامة والخاصة، وهي
الموات. أما المملوكة، فمنفعتها تتبع الرقبة. وأما الشوارع، فمنفعتها الأصلية:
الطروق. ويجوز الوقوف والجلوس فيها لغرض الاستراحة والمعاملة ونحوهما،
بشرط أن لا يضيق على المارة، سواء أذن فيه الامام، أم لا، وله أن يظلل على
موضع جلوسه بما لا يضر بالمارة من ثوب وبارية ونحوهما. وفي بناء الدكة، ما
ذكرناه في كتاب الصلح. ولو سبق اثنان إلى موضع، فهل يقرع بينهما، أم يقدم
الامام أحدهما؟ وجهان. أصحهما: الأول. وفي ثبوت هذا الارتفاق لأهل الذمة
وجهان حكاهما ابن كج، وهل لاقطاع فيه مدخل؟ وجهان. أصحهما عند
الجمهور: نعم، وهو المنصوص، لان له نظرا فيه، ولهذا يزعج من أضر جلوسه.
وأما إذا تملك شئ من ذلك، فلا سبيل إليه بحال. وحكي وجه في الرقم
للعبادي، وشرح مختصر الجويني لابن طاهر، أن للامام أن يتملك من الشوارع ما
فضل عن حاجة الطروق، والمعروف الأول.
359

قلت: وليس للامام ولا غيره من الولاة أن يأخذ ممن يرتفق بالجلوس والبيع
ونحوه في الشوارع عوضا بلا خلاف. والله علم
فرع من جلس في موضع من الشارع، ثم قام عنه، إن كان جلوسه
لاستراحة وشبهها، بطل حقه. وإن كان لحرفة ومعاملة، فان فارقه على أن لا يعود
لتركه الحرفة، أو لقعوده في موضع آخر، بطل حقه أيضا. وإن فارقه على أن
يعود فالمذهب ما ضبطه الامام والغزالي: أنه إن مضى زمن ينقطع فيه الذين ألفوا
معاملته، بطل. وإن كان دونه، فلا. وسواء فارق بعذر سفر ومرض، أو بلا عذر،
فعلى هذا لا يبطل حقه بالرجوع في الليل إلى بيته، وليس لغيره مزاحمته في اليوم
360

الثاني، وكذا الأسواق التي تقام في كل أسبوع، أو في كل شهر مرة، إذا اتخذ فيها
مقعدا، كان أحق به في النوبة الثانية. وقال الإصطخري: إذا رجع ليلا، فمن سبقه
أحق. وقال طائفة منهم القاضي وابن الصباغ: إن جلس باقطاع الامام، لم يبطل
بقيامه. وإن استقل وترك فيه شيئا من متاعه، بقي حقه، وإلا، فلا. وإذا قلنا
بالأول، فأراد غيره الجلوس فيه مدة غيبته القصيرة إلى أن يعود، فإن كان لغير
معاملة، لم يمنع قطعا، وإلا، لم يمنع أيضا على الأصح.
قلت: وإذا وضع الناس الأمتعة وآلات البناء ونحو ذلك في مسالك الأسواق
والشوارع ارتفاقا لينقلوها شيئا بعد شئ، منعوا منه إن أضر بالمارة إضرارا ظاهرا،
وإلا، فلا، ذكره الماوردي في الأحكام السلطانية. والله أعلم
فرع يختص الجالس أيضا بما حوله بقدر ما يحتاج إليه لوضع متاعه ووقوف
معامليه، وليس لغيره أن يقعد حيث يمنع رؤية متاعه أو وصول المعاملين إليه، أو
يضيق عليه الكيل أو الوزن والاخذ والعطاء.
قلت: وليس له منع من قعد لبيع مثل متاعه إذا لم يزاحمه فيما يختص به من
المرافق المذكورة. والله أعلم
فرع الجوال الذي يقعد كل يوم في موضع من السوق، يبطل حقه
بمفارقته.
فصل وأما المسجد، فالجلوس فيه يكون لأغراض.
منها: أن يجلس ليقرأ عليه القرآن أو الحديث أو الفقه ونحوها، أو ليستفتى.
قال أبو عاصم العبادي والغزالي: حكمه كمقاعد الأسواق، لان له غرضا في ملازمته
ذلك الموضع ليألفه الناس. وقال الماوردي: متى قام بطل حقه وكان السابق أحق
به، والأول أشبه بمأخذ الباب.
قلت: هذا المنقول عن الماوردي، حكاه في الأحكام السلطانية عن
361

جمهور الفقهاء. وعن مالك رضي الله عنه: أنه أحق، فمقتضى كلامه: أن
الشافعي وأصحابه، من الجمهور رضي الله عنهم. والله أعلم
ومنها: أن يجلس للصلاة، فلا اختصاص له في صلاة أخرى. وأما الصلاة
الحاضرة، فهو أحق. فان فارق بغير عذر، بطل حقه فيها أيضا. وإن كان بعذر،
فإن فارق لقضاء حاجة، أو تجديد وضوء، أو رعاف، أو إجابة داع ونحوها، لم
يبطل اختصاصه على الصحيح، للحديث الصحيح، أن رسول الله (ص) قال:
إذا قام أحدكم من مجلسه - في المسجد - فهو أحق به إذا عاد إليه، ولا فرق
على الوجهين بين أن يترك إزاره، أم لا، ولا بين أن يطرأ العذر بعد الشروع في
الصلاة، أو قبله، وإن اتسع الوقت.
ومنها: الجلوس للبيع والشراء والحرفة، وهو ممنوع منه.
قلت: ومنها: الجلوس للاعتكاف، وينبغي أن يقال: له الاختصاص
بموضعه ما لم يخرج من المسجد إن كان اعتكافا مطلقا. وإن نوى اعتكاف أيام،
فخرج لحاجة جائزة، ففي بقاء اختصاصه إذا رجع احتمال، والظاهر بقاؤه،
ويحتمل أن يكون على الخلاف فيما إذا خرج المصلي لعذر.
ومنها: الجالس لاستماع الحديث والوعظ، والظاهر أنه كالصلاة فلا يختص
فيما سوى ذلك المجلس ولا فيه إن فارقه بلا عذر، ويختص إن فارق بعذر على
المختار. ويحتمل أن يقال: إن كان له عادة بالجلوس بقرب كبير المجلس، وينتفع
الحاضرون بقربه منه لعلمه ونحو ذلك، دام اختصاصه في كل مجلس بكل حال.
وأما مجلس الفقيه في موضع معين حال تدريس المدرس في المدرسة أو المسجد،
362

فالظاهر فيه دوام الاختصاص، لاطراد العرف، وفيه احتمال. والله أعلم
فرع يمنع الناس من استطراق حلق القراء والفقهاء في المسجد توقيرا لها.
فرع قال الامام: لا شك في انقطاع تصرف الامام وإقطاعه عن بقاع
المسجد، فإن المساجد لله تعالى، ويخدشه شيئان.
أحدهما: ذكر الماوردي، أن الترتب في المسجد للتدريس والفتوى كالترتب
للإمامة، فلا يعتبر إذن الإمام في مساجد المحال، ويعتبر في الجوامع وكبار
المساجد إذا كانت عاد البلد فيه الاستئذان، فجعل لاذن الامام أثر.
الثاني: عند الشيخ أبو حامد وطائفة رحاب المسجد مع مقاعد الأسواق فيما
يقطع للارتفاق بالجلوس فيه للبيع والشراء، وهذا كما يقدح في نفي الاقطاع،
يخالف المعروف في المذهب في المنع من الجلوس في المسجد للبيع والشراء، إلا
أن يراد بالرحاب: الأفنية الخارجة عن حد المسجد.
قلت: قال الماوردي في الاحكام: إن حريم الجوامع والمساجد، إن كان
الارتفاق به مضرا بأهل المساجد، منع منه، ولم يجز للسلطان الاذن فيه، وإلا،
جاز. وهل يشترط فيه إذن السلطان؟ وجهان. والله أعلم
فصل الرباطات المسبلة في الطرق وعلى أطراف البلاد، من سبق إلى
موضع منها صار أحق به، وليس لغيره إزعاجه، سواء دخل باذن الامام، أم بغيره،
ولا يبطل حقه بالخروج لشراء طعام ونحوه، ولا يشترط تخليفه نائبا له في
الموضع، ولا أن يترك متاعه، لأنه قد لا يجد أمينا. فان ازدحم اثنان ولا سبق،
فعلى ما سبق في مقاعد الأسواق. وكذا الحكم في المدارس والخوانق إذا نزلها من
هو (من) أهلها. وإذا سكن بيتا منها مدة، ثم غاب أياما قليلة، فهو أحق إذا عاد. وإن
طالت غيبته، بطل حقه.
قلت: والرجوع في الطول إلى العرف. ولو أراد غيره النزول فيه في مدة غيبة
الأول على أن يفارقه إذا جاء الأول، فينبغي أن يجوز قطعا، أو يكون على الوجهين
363

السابقين في الموضع من الشارع. ويجوز لغير سكان المدرسة من الفقهاء والعوام
دخولها، والجلوس فيها، والشرب من مياهها، والاتكاء والنوم فيها، ودخول
سقايتها، ونحو ذلك مما جرى العرف به. وأما سكنى غير الفقهاء في بيوتها، فإن كان
فيه نص من الواقف بنفي أو إثبات، اتبع، وإلا، فالظاهر منعه، وفيه احتمال
في بلد جرت به العادة. والله أعلم
فرع النازلون في موضع من البادية، أحق به وبما حواليه بقدر ما يحتاجون
إليه لمرافقهم، ولا يزاحمون في الوادي الذي سرحوا إليه مواشيهم، إلا أن يكون فيه
كفاية للجميع، وإذا رحلوا، بطل اختصاصهم وإن بقي أثر الفساطيط ونحوها.
قلت: ولو أرادت طائفة النزول في موضع من البادية للاستيطان، قال
الماوردي: إن كان نزولهم مضرا بالسابلة، منعهم السلطان قبل النزول أو بعده.
وإن لم يضر، راعى الأصلح في نزولهم ومنعهم ونقل غيرهم إليها. فان نزلوا بغير
إذنه، لم يمنعهم، كما لا يمنع من أحيا مواتا بغير إذنه، ودبرهم بما يراه صلاحا
لهم، وينهاهم عن إحداث زيادة إلا بإذنه. والله أعلم
فصل المرتفق بالشارع والمساجد، إذا طال مقامه هل يزعج؟ وجهان.
أصحهما: لا، لأنه أحد المرتفقين وقد سبق. والثاني: نعم. لتميز المشترك من
المملوك. وأما الربط الموقوفة، فإن عين الواقف مدة المقام، فلا مزيد عليها،
وكذا لو وقف على المسافرين. وإن أطلق الواقف، نظر إلى الغرض الذي بنيت له،
وعمل بالمعتاد فيه، فلا يمكن من الإقامة في ربط المارة إلا لمصلحتها، أو لخوف
يعرض، أو أمطار تتواتر، وفي المدرسة الموقوفة على طلبة العلم، يمكن من
الإقامة إلى إتمام غرضه. فإن ترك التعلم والتحصيل، أزعج. وفي الخانقاه، لا
يمكن هذا الضبط، ففي الازعاج إذا طال مقامه ما سبق في الشوارع.
364

الباب الثالث في الأعيان الخارجة من الأرض
فيه طرفان.
الطرف الأول: في المعادن، وهي البقاع التي أودعها الله تعالى شيئا من
الجواهر المطلوبة، وهي قسمان، ظاهرة، وباطنة.
فالظاهرة: هي التي يبدو جوهرها بلا عمل، وإنما السعي والعمل لتحصيله. ثم تحصيله
قد يسهل، وقد يكون فيه تعب، وذلك كالنفط وأحجار الرحى،
والبرام، والكبريت، والقطران، والقار، والمومياء، وشبهها، فلا يملكها
أحد بالاحياء والعمارة، وإن زاد بها النيل. ولا يختص بها أيضا المتحجر، وليس
للسلطان إقطاعها، بل هي مشتركة بين الناس كالمياه الجارية، والكلأ، والحطب.
ولو حوط رجل على هذه المعادن وبنى عليها دارا أو بستانا، لم يملك البقعة،
لفساد قصده. وأشار في الوسيط إلى خلاف فيه. والمعروف، الأول. وإذا
ازدحم اثنان على معدن ظاهر، وضاق المكان، فالسابق أولى. ثم قال الجمهور:
يقدم بأخذ قدر حاجته، ولم يبينوا أنها حاجة يوم أو سنة. قال الامام: والرجوع فيه
إلى العرف، فيأخذ ما تقتضيه العادة لأمثاله. وإذا أراد الزيادة على ما يقتضيه حق
السبق، فهل يزعج أم يأخذ ما شاء؟ وجهان أصحهما عند الأصحاب: يزعج.
فأما إذا جاءا معا، فالأصح أنه يقرع بينهما. والثاني: يجتهد الامام ويقدم من
365

يراه أحوج وأحق. والثالث: ينصب من يقسم الحاصل بينهما. وقال العراقيون:
الأوجه فيما إذا كانا يأخذان للحاجة. فإن كانا يأخذان للتجارة، يهايأ بينهما. فإن
تشاحا في الابتداء، أقرع بينهما. والأشهر: إطلاق الأوجه. وعلى مقتضى قول
العراقيين: إذا كان أحدهما تاجرا والآخر محتاج، يشبه أن يقدم المحتاج.
فرع من المعادن الظاهرة، الملح الذي ينعقد من الماء، وكذا الجبلي إن
كان ظاهرا لا يحتاج إلى حفر وتنحية تراب، والجص، والمدر، وأحجار النورة.
وفي بعض شروح المفتاح عد الملح الجبلي من المعادن الباطنة. وفي
التهذيب عد الكحل والجص منهما، وهما محمولان على ما إذا أحوج إظهارهما
إلى حفر. ولو كان بقرب الساحل بقعة، لو حفرت وسيق الماء إليها ظهر فيها
الملح، فليست هي من المعادن الظاهرة، لان المقصود منها يظهر بالعمل، فللامام
إقطاعها، ومن حفرها وساق الماء إليها، وظهر الملح، ملكها كما لو أحيا مواتا.
القسم الثاني: المعادن الباطنة، وهي التي لا يظهر جوهرها إلا بالعمل
والمعالجة، كالذهب، والفضة، والفيروزج، والياقوت، والرصاص، والنحاس،
والحديد، وسائر الجواهر المبثوثة في طبقات الأرض. وتردد الشيخ أبو محمد، في
أن حجر الحديد ونحوه، من الباطنة، أم الظاهرة، لان ما فيها من الجوهر باد؟
والمذهب أنه باطن، لان الحديد لا يستخرج منه إلا بعلاج، وليس البادي على
الحجر عين الحديد، وإنما هو في مخيلته.
ولو أظهر السيل قطعة ذهب، أو أتى بها، التحقت بالمعادن الظاهرة. إذا ثبت
هذا، فالمعدن الباطن هل يملك بالحفر والعمل؟ قولان، لتردده بين الموات
والمعدن الظاهر، أظهرهما: لا، رجحه الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم.
فإن قلنا: يملك، فذاك إذا قصد التملك وحفر حتى ظهر النيل. فأما قبل الظهور،
فهو كالمتحجر، وهذا كما إذا حفر بئرا في الموات على قصد التملك، ملكها إذا
366

وصل إلى الماء. وإذا اتسع الحفر ولم يوجد النيل إلا في الوسط، أو في بعض
الأطراف، لم يقصر الملك على موضع النيل، بل يملك أيضا مما حواليه مما يليق
بحريمه، وهو قدر ما يقف فيه الأعوان والدواب. ومن جاوز ذلك وحفر، لم يمنع
وإن وصل إلى العروق. ويجوز للسلطان أن يقطعه كالموات. وإن قلنا: لا يملك،
فالسابق إلى موضع منه أحق به، لكن إذا طال مقامه، ففي إزعاجه ما ذكرناه في
المعادن الظاهرة. وقيل: لا يزعج هنا قطعا، لان هناك يمكن الاخذ دفعة فلا حاجة
إلى الإطالة، وهنا لا يحصل إلا بمشقة فقدم السابق. ولو ازدحم اثنان، فعلى
الأوجه التي هناك. وفي جواز إقطاعها على هذا القول، قولان. أحدهما: المنع
كالمعادن الظاهرة. وأظهرهما: الجواز، ولا يقطع إلا قدرا يتأتى للمقطع العمل عليه
والاخذ منه. وعلى القولين، يجوز العمل في المعدن الباطن والاخذ منه بغير إذن الإمام
، فإنه إما كالمعدن الظاهر، وإما كالموات.
فرع لو أحيا مواتا، ثم ظهر فيه معدن باطن، ملكه بلا خلاف، لأنه بالاحياء
ملك الأرض بأجزائها إن لم يعلم بها معدنا. فإن علم واتخذ عليه دارا، فطريقان.
أحدهما: على القولين السابقين. والثاني: القطع بالملك. وأما البقعة
المحياة، فقال الامام: ظاهر المذهب، أنها لا تملك، لان المعدن لا يتخذ دارا
ولا مزرعة، فالقصد فاسد. وقيل: يملكها. وكأن ما ذكرناه من الخلاف في
المعادن الظاهرة عن الوسيط مأخوذ من هذا.
فرع مما يتفرع على القولين في المعدن الباطن، أنه إذا عمل عليه في
الجاهلية، هل يملك؟ وهل يجوز إقطاعه؟ إن قلنا: يملك بالحفر والعمل، فهو
ملك للغانمين، وإلا، ففي جواز إقطاعه القولان السابقان.
فرع مالك المعدن الباطن، لا يصح منه بيعه على الصحيح، لان مقصوده
النيل، وهو متفرق في طبقات الأرض، مجهول القدر والصفة، فهو كبيع قدر
مجموع من تراب المعدن وفيه النيل، وهو باطل. وحكى الامام وجها في جوازه،
367

لأن المبيع رقبة المعدن والنيل فائدته.
فرع لو تملك معدنا باطنا، فجاء غيره واستخرج منه نيلا بغير إذنه، لزمه
رده، ولا أجرة له. ولو قال المالك: اعمل فيه واستخرج النيل لي، ففعل، ففي
استحقاقه الأجرة الخلاف فيمن قال: اغسل ثوبي فغسل.
ولو قال: اعمل فما استخرجته فهو لك، أو قال: استخرج لنفسك،
فالحاصل لمالك المعدن، لأنه هبة مجهول. وكان يمكن تشبيهه بباحة ثمار
البستان، ولكن المنقول الأول. وفي استحقاقه الأجرة، وجهان، لكونه عمل
لنفسه، لكن لم يقع له، ولا هو متبرع، وبثبوتها قال ابن سريج.
قلت: ثبوتها أصح. والله أعلم،
ولو قال: اعمل فما استخرجته فهو بيننا مناصفة، أو قال: فلك منه عشرة
دراهم، لم يصح، لان الأول أجرة مجهولة، والثاني: قد لا يحصل هذا القدر.
الطرف الثاني: في المياه، وهي قسمان.
أحدهما: المباحة النابعة في موضع لا يختص بأحد، ولا صنع للآدميين في
إنباطه وإجرائه كالفرات وجيحون وسائر أودية العالم والعيون في الجبال وسيول
الأمطار، فالناس فيها سواء، فإن حضر اثنان فصاعدا، أخذ كل ما شاء. فإن قل
الماء أو ضاق المشرع، قدم السابق. فإن جاءا معا، أقرع. وإن أراد واحد السقي
وهناك محتاج للشرب، فالشارب أولى. قاله المتولي، ومن أخذ منه شيئا في إناء
أو جعله في حوض، ملكه ولم يكن لغيره مزاحمته فيه، كما لو احتطب. وفي
النهاية وجه: أنه لا يملكه، لكنه أولى به من غيره. والصحيح: الأول، وبه
368

قطع الجمهور. وإن دخل شئ منه ملك إنسان بسيل، فليس لغيره أخذه ما دام
فيه، لامتناع دخول ملكه بغير إذنه. فلو فعل، فهل يملكه، أم للمالك استرداده؟
وجهان. أصحهما: الأول. فإذا خرج من أرضه، أخذه من شاء.
فرع إذا أراد قوم سقي أرضيهم من مثل هذا الماء، فإن كان النهر عظيما
يفي بالجميع، سقى من شاء متى شاء. وإن كان صغيرا، أو كان الماء يجري من
النهر العظيم في ساقية غير مملوكة، بأن انخرقت بنفسها، سقى الأول أرضه، ثم
يرسله إلى الثاني، ثم الثاني إلى الثالث. وكم يحبس الماء في أرضه؟ وجهان،
الذي عليه الجمهور: أنه يحبسه حتى يبلغ الكعبين. والثاني: يرجع في قدر السقي
إلى العادة والحاجة. وقد قال الماوردي: ليس التقدير بالكعبين في كل الأزمان
والبلدان، لأنه مقدر بالحاجة، والحاجة تختلف وباختلاف الأرض، باختلاف ما
فيها (من) زرع وشجر، وبوقت الزراعة، ووقت السقي.
وحكي وجه عن الداركي: أن الاعلى لا يقدم على الأسفل، لكن يسقون
بالحصص، وهذا غريب باطل. ولو كانت أرض الاعلى بعضها مرتفعا، وبعضها
منخفضا، ولو سقيا معا لزاد الماء في المنخفضة على الحد المستحق، أفرد كل
بعض بالسقي بما هو طريقه.
قلت: طريقه أن يسقي المنخفض حتى يبلغ الكعبين، ثم يسده، ثم يسقي
المرتفع. والله أعلم
369

وإذا سقى الأول، ثم احتاج إلى السقي مرة أخرى، مكن منه على الصحيح
فلو تنازع اثنان أرضاهما متحاذيتان، أو أرادا شق النهر من موضعين متحاذيين يمينا
وشمالا، فهل يقرع، أو يقسم بينهما، أو يقدم الامام من يراه؟ فيه ثلاثة أوجه حكاها
العبادي.
قلت: أصحها: يقرع. والله أعلم
ولو أراد رجل إحياء موات وسقيه من هذا النهر، نظر، إن ضيق على
السابقين، منع، لأنهم استحقوا أرضهم بمرافقها، والماء من أعظم مرافقها،
وإلا، فلا منع.
فرع عمارة حافات هذه الأنهار، من وظائف بيت المال.
فرع يجوز أن يبني عليها من شاء قنطرة لعبور الناس إن كان الموضع
مواتا. وأما (ما) بين العمران، فهو كحفر البئر في الشارع لمصلحة المسلمين. ويجوز
بناء الرحى عليها إن كان الموضع ملكا له أو مواتا محضا. وإن كان بين الأرض
المملوكة، وتضرر الملاك، لم يجز، وإلا، فوجهان. أحدهما: المنع كالتصرف في
سائر مرافق العمارات. وأصحهما: الجواز، كاشراع الجناح في السكة النافذة.
فصل هذا الذي سبق، إذا لم تكن الأنهار والسواقي مملوكة. أما إذا
كانت مملوكة، بأن حفر نهرا يدخل فيه الماء من الوادي العظيم، أو من النهر
المنخرق منه، فالماء باق على إباحته، لكن مالك النهر أحق به كالسيل يدخل
ملكه، فليس لأحد مزاحمته لسقي الأرضين. وأما للشرب والاستعمال وسقي
الدواب، فقال الشيخ أبو عاصم والمتولي: ليس له المنع، ومنهم من أطلق أنه لا
يدلي أحد فيه دلوا، ويجوز لغيره أن يحفر فوق نهره نهرا
إن لم يضيق عليه. وإن ضيق، فلا، فان اشترك جماعة في الحفر، اشتركوا في الملك على قدر عملهم،
فإن شرطوا أن يكون النهر بينهم على قدر ملكهم من الأرض، فليكن عمل كل واحد
370

على قدر أرضه. فإن زاد واحد متطوعا، فلا شئ له على الباقين. وإن زاد مكرها، أو
شرطوا له عوضا، رجع عليهم بأجرة ما زاد، وليس للأعلى حبس الماء على
الأسفل، بخلاف ما إذا لم يكن النهر مملوكا. وإذا اقتسموا الماء بالأيام والساعات،
جاز، ولكل واحد الرجوع متى شاء، لكن لو رجع بعدما استوفى نوبته وقبل أن يستوفي
الشريك، ضمن له أجرة مثل نصيبه من النهر للمدة التي أجرى فيها الماء. وإن
اقتسموا الماء نفسه، فعلى ما سنذكره في القناة المشتركة. ولو أرادوا قسمة النهر
وكان عريضا، جاز، ولا يجري فيها الاجبار كما في الجدار الحائل. ولو أراد
الشركاء الذين أرضهم أسفل توسيع فم النهر، لئلا يقصر الماء عنهم، لم يجز إلا
برضى الأولين، لان تصرف الشريك في المشترك لا يجوز إلا برضى الشريك،
ولأنهم قد يتضررون بكثرة الماء. وكذا لا يجوز للأولين تضييق فم النهر إلا برضى
الآخرين، وليس لاحد منهم بناء قنطرة أو رحى عليه، ولا غرس شجرة على حافته إلا
برضى الشركاء. ولو أراد أحدهم تقديم رأس الساقية التي يجري فيها الماء إلى
أرضه، أو تأخيره، لم يجز، بخلاف ما لو قدم باب داره إلى رأس السكة المنسدة،
لأنه يتصرف هناك في الجدار المملوك، وهنا في الحافة المشتركة. ولو كان لأحدهم
ماء في أعلى النهر، فأجراه في النهر المشترك برضى الشركاء ليأخذه من الأسفل
ويسقي به أرضه، فلهم الرجوع متى شاؤوا، لأنه عارية، وتنقية هذا النهر وعمارته
يقوم بها الشركاء بحسب الملك. وهل على كل واحد عمارة الموضع المتسفل عن
أرضه؟ وجهان. أحدهما: لا، وبه قطع ابن الصباغ، لان المنفعة فيه للباقين.
والثاني: نعم، وهو الأصح عند العبادي، لاشتراكهم وانتفاعهم به.
فرع كل أرض أمكن سقيها من هذا النهر، إذا رأينا لها ساقية منه ولم نجد
لها شربا من موضع آخر، حكمنا عند التنازع بأن لها شربا منه. ولو تنازع الشركاء
في النهر في قدر أنصبائهم، فهل يجعل على قدر الأرضين لأن الظاهر أن الشركة
بحسب الملك، أم بالسوية لأنه في أيديهم؟ وجهان، وبالأول قال الإصطخري
رحمه الله تعالى.
قلت: هو أصحهما. والله أعلم
فرع لو صادفنا نهرا تسقى منه أرضون، ولم ندر أنه حفر أم انخرق،
371

حكمنا بأنه مملوك، لأنهم أصحاب يد وانتفاع، فلا يقدم بعضهم على بعض. وأكثر
هذه المسائل يشتمل عليها كتاب المياه للعبادي رحمه الله تعالى.
القسم الثاني: المياه المختصة ببعض الناس، وهي مياه الآبار والقنوات.
واعلم أن البئر يتصور حفرها على أوجه.
أحدها: الحفر في المنازل للمارة.
والثاني: الحفر في الموات على قصد الارتفاق لا للتملك، كمن ينزل في
الموات فيحفر للشر ب وسقي الدواب.
والثالث: الحفر بنية التملك.
والرابع: الحفر الخالي عن هذه القصود.
فأما المحفورة للمارة، فماؤها مشترك بينهم، والحافر كأحدهم، ويجوز
الاستقاء منها للشرب، وسقي الزروع، فان ضاق عنهما، فالشرب أولى.
وأما المحفورة للارتفاق دون التملك، فالحافر أولى بمائها إلى أن يرتحل،
لكن ليس له منع ما فضل عنه عن محتاج إليه للشرب إذا استقى بدلو نفسه، ولا منع
مواشيه، وله منع غيره من سقي الزرع به. وفيه احتمال للامام، لأنه لم يملكه،
والاختصاص يكون بقدر الحاجة، وبهذا قطع المتولي، فحصل وجهان.
قلت: الأول هو الصحيح المعروف. والله أعلم
ويعتبر في الفاضل الذي يجب بذله، أن يفضل عن نفسه وماشيته وزرعه. قال
الامام: وفي المزارع احتمال على بعد.
قلت: المراد: الفاضل الذي يجب بذله لماشية غيره. أما الواجب بذله
لعطش آدمي محترم، فلا يشترط فيه أن يفضل عن المزارع والماشية. والله أعلم
وإذا ارتحل المرتفق، صارت البئر كالمحفورة للمارة، فان عاد، فهو
كغيره.
372

وأما المحفورة للتملك وفي ملك، فهل يكون ماؤها ملكا؟ وجهان.
أصحهما: نعم، وبه قال ابن أبي هريرة، وهو المنصوص في القديم، وحرملة،
لأنه نماء ملكه، كالثمرة واللبن، ويجري الخلاف فيما إذا انفجرت عين في
ملكه. فإن قلنا: لا يملك، فنبع وخرج منه، ملكه من أخذه. وإن قلنا بالأصح: لا
يملكه الآخذ، ولو دخل رجل ملكه وأخذه، ففي ملكه الوجهان. وسواء قلنا:
يملك، أم لا، فلا يجب على صاحب البئر بذل الفاضل عن حاجته لزرع غيره على
الصحيح، ويجب بذله للماشية على الصحيح.
وللوجوب شروط. أحدها: أن لا يجد صاحب الماشية ماء مباحا.
والثاني: أن يكون هناك كلا يرعى، وإلا، فلا يجب على المذهب. وقال
المتولي: فيه وجهان.
الثالث: أن يكون الماء في مستقره، فأما الماء الموجود في إناء، فلا يجب
بذل فضله على الصحيح. ثم عابروا السبيل، يبذل لهم ولمواشيهم. وفيمن أراد
الإقامة في الموضع وجهان، لأنه لا ضرورة (به) إلى الإقامة.
قلت: الأصح: الوجوب كغيره. وإذا وجب البذل، مكن الماشية من حضور
البئر بشرط أن لا يكون على صاحب الماء ضرر في زرع ولا ماشية. فان لحقه ضرر
بورودها، منعت، لكن يجوز للرعاة استقاء فضل الماء لها، قاله الماوردي. والله
أعلم
وهل يجب البذل للرعاة كما يجب للماشية؟ وجهان حكاهما ابن كج.
أصحهما: يجب، لان البذل لسقاة الناس رعاة كانوا أو غيرهم، أولى من البذل
للماشية، على أن الامام نقل في المنع من الشرب على الاطلاق وجهين إذا قلنا:
مملوك. وإذا أوجبنا البذل، هل يجوز أن يأخذ عليه عوضا كاطعام المضطر؟
وجهان، الصحيح: لا، للحديث (الصحيح) ان النبي (ص) نهى عن بيع فضل
373

الماء.
قلت: قال الماوردي: لو كان هناك ماءان مملوكان لرجلين، لزمهما البذل.
فان اكتفت الماشية ببذل أحدهما، سقط الفرض عن الآخر، قال: وإذا لم توجد
شروط وجوب البذل، جاز لمالكه أخذ ثمنه إذا باعه مقدرا بكيل أو وزن، ولا يجوز،
بيعه مقدرا بري الماشية ولا الزرع. والله أعلم
وأما المحفورة بلا قصد، ففيها وجهان. أصحهما: لا اختصاص له بمائها،
والناس كلهم فيه سواء. والثاني: يختص بقدر حاجته، كما أن الاحياء يفيد الملك
وإن لم يقصده.
فصل حكم القنوات حكم الآبار في ملك مياهها وفي وجوب البذل
وغيرهما، إلا أن حفرها لمجرد الارتفاق لا يكاد يقع ومتى اشترك المتملكون في
الحفر، اشتركوا في الملك بحسب اشتراكهم في العمل أو الارتفاق كما ذكرنا في
النهر المملوك، ثم لهم قسمة الماء بأن تنصب خشبة مستوية الاعلى والأسفل في
عرض النهر، ويفتح فيها ثقب متساوية، أو متفاوتة على قدر حقوقهم، ويجوز أن
تكون الثقب متساوية مع تفاوت الحقوق، إلا أن صاحب الثلث يأخذ ثقبة، والآخر
ثقبتين، وسوق كل واحد نصيبه في ساقية إلى أرضه، وله أن يدير رحى بما صار
له، ولا يشق أحد منهم ساقية قبل المقسم، ولا ينصب عليه رحى، وإن اقتسموا
بالمهاياة، جاز أيضا. وقد يكون الماء قليلا ينتفع به إلا كذلك، ولكل واحد
الرجوع كما ذكرنا في البئر، هذا هو الصحيح المعروف. وقيل: تلزم المهاياة ليثق
كل واحد بالانتفاع. وقيل: لا تصح القسمة بالمهاياة، لأن الماء يقل ويكثر،
وتختلف فائدة السقي بالأيام.
قلت: لو أراد أحدهم أن يأخذ نصيبه من الماء ويسقي به أرضا ليس لها رسم
شرب من هذا النهر، منع منه، لأنه يجعل شربا لم يكن. والله أعلم
374

فرع الذين يسقون أرضهم من الأودية المباحة، لو تراضوا بمهاياة،
وجعلوا للأولين أياما، وللآخرين أياما، فهذه مسامحة من الأولين بتقدم الآخرين،
وليست بلازمة والظاهر: أن من رجع من الأولين، مكن من سقي أرضه.
فصل في بيع الماء أما المحرز في إناء أو حوض، فبيعه صحيح على
الصحيح، وقد سبق فيه الوجه، وليكن عمق الحوض معلوما، ولا يجوز بيع ماء
البئر والقناة فيهما لأنه مجهول، ويزيد شيئا فشيئا فيختلط فيتعذر التسليم. وإن
باع منه آصعا، فإن كان جاريا، لم يصح، إذ لا يمكن ربط العقد بمقدار. وإن
كان راكدا وقلنا: إنه غير مملوك، لم يصح. وإن قلنا: مملوك، فقال القفال: لا
يصح أيضا، لأنه يزيد فيختلط المبيع. والأصح: الجواز كبيع صاع من صبرة. وأما
الزيادة، فقليلة، فلا تضر، كما لو باع ألقت في الأرض بشرط القطع، وكما لو باع
صاعا من صبرة وصب عليها صبرة أخرى، فإن البيع بحاله، ويبقى البيع ما بقي صاع
من الصبرة. ولو باع الماء مع قراره، نظر، إن كان جاريا فقال: بعتك هذه القناة مع
مائها، أو إن لم يكن جاريا وقلنا: إن الماء لا يملك، لم يصح البيع في الماء،
وفي القرار قولا تفريق الصفقة، وإلا، فيصح. ولو باع بئر الماء وأطلق، أو باع دارا
فيها بئر ماء، جاز. ثم إن قلنا: يملك، فالموجود حال البيع يبقى للبائع، وما
يحدث، للمشتري. قال البغوي: وعلى هذا لا يصح البيع حتى يشترط أن الماء
الظاهر للمشتري، لئلا يختلط الماءان. وإن قلنا: لا يملك، فقد أطلقوا أن
المشتري أحق بذلك الماء. وليحمل على ما نبع بعد البيع، فأما ما نبع قبله، فلا
معنى لصرفه إلى المشتري.
قلت: هذا التأويل الذي قاله الامام الرافعي فاسد، فقد صرح الأصحاب بأن
المشتري على هذا الوجه أحق بالماء الظاهر، لثبوت يده على الدار، وتكون يده كيد
البائع في ثبوت الاختصاص به. والله أعلم
ولو باع جزءا شائعا من البئر أو القناة، جاز، وما ينبع مشترك بينهما، إما
اختصاصا مجردا، وإما ملكا.
375

فرع سقى أرضه بماء مملوك لغيره، فالغلة لصاحب البذر وعليه قيمة
الماء. ولو استحل صاحب الماء، كان الطعام أطيب.
قلت: ومما يتعلق بالكتاب، ما ذكره صاحب العدة: أنه لو أضرم نارا في
حطب مباح بالصحراء، لم يكن له منع من ينتفع بتلك النار، فلو جمع الحطب،
ملكه، فإذا أضرم فيه النار، فله منع غيره منها. والله أعلم
376

كتاب الوقف
فيه بابان.
الباب الأول: في أركانه وشروطه، وفيه طرفان.
الطرف الأول: في أركانه، وهي أربعة.
الركن الأول: الواقف، ويشترط كونه صحيح العبارة، أهلا للتبرع.
377

الركن الثاني: الموقوف، وهو كل عين معينة مملوكة ملكا يقبل النقل يحصل
منها فائدة أو منفعة تستأجر لها. احترزنا بالعين، حق المنفعة، وعن الوقف،
الملتزم في الذمة، وبالمعينة، عن وقف أحد عبديه، وبالمملوكة، عما لا يملك،
وبقبول النقل، عن أم الولد والملاهي. وأردنا بالفائدة: الثمرة واللبن ونحوهما،
وبالمنفعة: السكنى واللبس ونحوهما. وقولنا: تستأجر لها، احتراز من الطعام
ونحوه. ونوضحه بمسائل.
إحداها: يجوز وقف العقار والمنقول، كالعبيد، والثياب، والدواب،
والسلاح، والمصاحف، والكتب، سواء المقسوم والمشاع، كنصف دار ونصف
بد، ولا يسري الوقف من نصف إلى نصف.
378

فرع وقف نصف عبد، ثم أعتق النصف الآخر، لم يعتق الموقوف.
الثانية: يجوز وقف ما يراد لعين تستفاد منه، كالأشجار للثمار، والحيوان للبن
والصوف والوبر والبيض، وما يراد لمنفعة تستوفى منه، كالدار، والأرض. ولا
يشترط حصول المنفعة والفائدة في الحال، بل يجوز وقف العبد والجحش
الصغيرين، والزمن الذي يرجى زوال زمانته، كما يجوز نكاح الرضيعة.
الثالثة: لا يصح وقف الحر نفسه، لان رقبته غير مملوكة، وكذلك مالك منافع
الأموال دون رقابها، لا يصح وقفه إياها، سواء ملك مؤقتا، كالمستأجر، أم
مؤبدا، كالموصى له بالمنفعة.
الرابعة: لا يصح وقف أم الولد على الأصح. فإن صححنا فمات السيد،
عتقت. قال المتولي: لا يبطل الوقف، بل تبقى منافعها للموقوف عليه، كما لو
أجرها ومات. وقال الامام: تبطل، لان الحرية تنافي الوقف، بخلاف الإجارة،
وهذا مقتضى كلام ابن كج، ويجري الوجهان في صحة وقف المكاتب،
ويصح وقف المعلق عتقه بصفة. فإذا وجدت الصفة، فإن قلنا: الملك في
الوقف للواقف، أو لله تعالى، عتق وبطل الوقف. وإن قلنا: للموقوف عليه، لم
يعتق ويبقى الوقف بحاله. ويجوز وقف المدبر، ثم هو رجوع إن قلنا: التدبير
وصية، فإن قلنا: تعليق بصفة، فهو كالمعلق عتقه.
الخامسة: لا يصح وقف الكلب المعلم على الأصح. وقيل: لا يصح
379

قطعا، لأنه غير مملوك.
السادسة: في وقف الدراهم والدنانير وجهان، كاجارتهما، إن جوزناها،
صح الوقف لتكرى، ويصح وقف الحلي لغرض اللبس. وحكى الامام أنهم ألحقوا
الدراهم ليصاغ منها الحلي بوقف العبد الصغير، وتردد هو فيه.
السابعة: لا يصح وقف ما لا يدوم الانتفاع به، كالمطعوم والرياحين
المشمومة، لسرعة فسادها.
الثامنة: وقف ثوبا أو عبدا في الذمة، لم يصح كما لو أعتق عبدا في الذمة.
ولو وقف أحد عبديه، لم يصح على الصحيح كالبيع. وقيل: يصح كالعتق.
التاسعة: يجوز وقف علو الدار دون سفلها.
العاشرة: يصح وقف الفحل للضراب، بخلاف إجارته، لان الوقف قربة
يحتمل فيها ما لا يحتمل في المعاوضات.
الحادية عشرة: لا يصح وقف الملاهي.
فرع أجر أرضه ثم وقفها، صح على المذهب، وبه قطع الشيخ أبو علي،
لأنه مملوك بشرائطه، وليس فيه إلا العجز عن صرف منفعته إلى جهة الوقف في
380

الحال، وذلك لا يمنع الصحة، كما لو وقف ماله في يد الغاصب. وفي فتاوى
القفال: أنه على الخلاف في الوقف المنقطع الأول. وقيل: إن وقفه على المسجد
صح، لمشابهته الاعتاق، وإن وقف على إنسان، فخلاف.
فرع استأجر أرضا ليبني فيها، أو يغرس، ففعل، ثم وقف البناء
والغراس، صح على الأصح. ولو وقف هذا أرضه، وهذا بناءه، صح بلا
خلاف، كما لو باعاه. وإذا قلنا بالصحة، ومضت المدة، وقلع مالك الأرض
البناء، فان بقي منتفعا به بعد القلع، فهو وقف كما كان. وإن لم يبق، فهل يصير
ملكا للموقوف عليه؟ أم يرجع إلى الواقف؟ فيه وجهان، وأرش النقص الذي يؤخذ
من القالع، يسلك به مسلك الوقف.
قلت: الأصح: صحة وقف ما لم يره، ولا خيار له عند الرؤية. والله أعلم
الركن الثالث: الموقوف عليه، وهو قسمان.
القسم الأول: أن يكون شخصا معينا، أو جماعة معينين، فشرطه أن
يمكن تمليكه، فيجوز الوقف على ذمي من مسلم وذمي، كما تجوز الوصية
له، ولا يصح الوقف على الحربي والمرتد على الأصح، لأنهما لا دوام لهما.
فرع لا يصح الوقف على من لا يملك، كالجنين، ولا يصح على
381

العبد نفسه، قال جماعة: هذا تفريع على قولنا: لا يملك. فان ملكناه، صح
الوقف عليه. وإذا عتق، كان له دون سيده، وعلى هذا قال المتولي: لو وقف على
عبد فلان وملكناه، صح وكان الاستحقاق متعلقا بكونه عبد فلان، حتى لو باعه أو
وهبه، زال الاستحقاق. ولك أن تقول: الخلاف في أنه هل يملك مخصوص بما
إذا ملكه السيد؟ فأما إذا ملكه غيره، فلا يملك بلا خلاف، وحينئذ إذا كان الواقف
غير السيد، كان الوقف على من لا يملك. أما إذا أطلق الوقف عليه، فهو وقف
على سيده. كما لو وهب له، أو أوصى له، وإذا شرطنا القبول، جاء خلاف في
استقلاله به، كالخلاف في أنه هل يستقل بقبول الهبة والوصية، وقد سبق في باب
معاملات العبيد.
فرع لو وقف على مكاتب، قال الشيخ أبو حامد: لا يصح كالوقف على
القن. وقال المتولي: يصح في الحال وتصرف الفوائد إليه، ونديم حكمه إذا عتق
إن أطلق الوقف. وإن قال: تصرف الفوائد إليه ما دام مكاتبا، بطل استحقاقه. وإن
عجز، بأن لنا أن الوقف منقطع الابتداء.
فرع وقف على بهيمة وأطلق، هل هو كالوقف على العبد حتى يكون وقفا
على مالكها؟ وجهان. أصحهما: لا، لأنها ليست أهلا بحال. ولهذا لا تجوز
الهبة لها والوصية. والثاني: نعم. واختار القاضي أبو الطيب أنه يصح وينفق عليها
منه ما بقيت، وعلى هذا، فالقبول لا يكون إلا من المالك. وحكى المتولي في قوله:
وقفت على علف بهيمة فلان، أو بهائم القرية، وجهين كصورة الاطلاق، قال:
والخلاف فيما إذا كانت البهيمة مملوكة. فلو وقف على الوحوش، أو علف الطيور
المباحة، فلا يصح بلا خلاف.
382

فرع في وقف الانسان على نفسه وجهان. أصحهما: بطلانه، وهو
المنصوص. والثاني: يصح، قاله الزبيري. وحكى ابن سريج أيضا، وحكى
عنه ابن كج: أنه يصح الوقف، ويلغو شرطه، وهذا بناء على أنه إذا اقتصر على
قوله: وقفت، صح، وينبغي أن يطرد في الوقف على من لا يجوز مطلقا. ولو وقف
على الفقراء، وشرط أن تقضى من غلة الوقف زكاته ديونه، فهذا وقف على نفسه
وغيره ففيه الخلاف. وكذلك لو شرط أن يأكل من ثماره، أو ينتفع به ولو
استبقى الواقف لنفسه التولية، وشرط أجرة، وقلنا: لا يجوز أن يقف على نفسه،
ففي صحة هذا الشرط وجهان كالوجهين في الهاشمي هل يجوز أن يأخذ سهم
العاملين إذا عمل على الزكاة.
قلت: الأرجح هنا جوازه. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: ويتقيد ذلك
بأجرة المثل، ولا يجوز الزيادة إلا من أجاز الوقف على نفسه. والله أعلم
ولو وقف على الفقراء، ثم صار فقيرا، ففي جواز أخذه وجهان إذا قلنا: لا
يقف على نفسه، لأنه لم يقصد نفسه وقد وجدت الصفة، ويشبه أن يكون الأصح
الجواز، ورجح الغزالي المنع، لان مطلقة ينصرف إلى غيره.
وأعلم أن للواقف أن ينتفع بأوقافه العامة كآحاد الناس، كالصلاة في بقعة
383

جعلها مسجدا، والشرب من بئر وقفها ونحو ذلك.
قلت: ومن هذا النوع، لو وقف كتابا على المسلمين للقراءة فيه ونحوها، أو
قدرا للطبخ فيها، أو كيزانا للشرب بها ونحو ذلك، فله الانتفاع معهم. والله أعلم
فرع لو قال لرجلين: وقفت على أحدكما، لم يصح، وفيه احتمال عن
الشيخ أبي محمد.
القسم الثاني: الوقف على غير معين، كالفقراء والمساكين، وهذا يسمى وقفا
على الجهة، لان الواقف يقصد جهة الفقر والمسكنة، لا شخصا بعينه، فينظر في
الجهة، إن كانت على المعصية، كعمارة الكنيسة وقناديلها وحصرها، وكتب التوراة
والإنجيل، لم يصح، سواء وقفه مسلم أو ذمي، فنبطله إذا ترافعوا إلينا. أما ما
وقفوه قبل المبعث على كنائسهم القديمة، فنقره حيث نقر الكنائس.
ولو وقف لسلاح قطاع الطريق، أو لآلات سائر المعاصي، فباطل قطعا.
وإن لم تكن جهة معصية، نظر، فإن ظهر فيه قصد القربة، كالوقف على
المساكين، وفي سبيل الله تعالى، والعلماء والمتعلمين، والمساجد والمدارس
والربط والقناطر، صح الوقف.
وإن لم يظهر القربة، كالوقف على الأغنياء، فوجهان، بناء على أن
المرعي بالوقف على الموصوفين جهة القربة، أم التمليك؟ فحكى الامام عن
المعظم: أنه القربة، ولهذا لا يجب استيعاب المساكين، بل يجوز الاقتصار على
ثلاثة منهم. وعن القفال أنه قال: التمليك كالوصية وكالوقف على المعين، وهذا
الوجه اختيار الإمام وشيخه، وطرق العراقيين توافقه، حتى ذكروا أن الوقف على
المساجد والربط، تمليك المسلمين منفعة الوقف. فإن قلنا بالأول، لم يصح
384

الوقف على الأغنياء واليهود والنصارى والفساق، والأصح: الجميع. ويجوز أن
يخرج على هذا الأصل، الخلاف في صحة الوقف على قبيلة كالعلوية وغيرهم ممن
لا ينحصر فيهم. في صحته قولان كالوصية لهم فإن راعينا القربة، صح،
وإلا، فلا، لتعذر الاستيعاب، والأشبه بكلام الأكثرين ترجيح كونه تمليكا،
وتصحيح الوقف على هؤلاء. ولهذا صحح صاحب الشامل الوقف على النازلين
في الكنائس من مارة أهل الذمة وقال: هو وقف عليهم، لا على الكنيسة، لكن
الأحسن توسط لبعض المتأخرين، وهو تصحيح الوقف على الأغنياء، وإبطاله
على اليهود والنصارى وقطاع الطريق وسائر الفساق، لتضمنه الإعانة على المعصية.
فصل في مسائل تتعلق بهذا الركن إحداها: يجوز الوقف على سبيل
الله، وهم المستحقون سهم الزكاة.
الثانية: إذا وقف على سبيل البر، أو الخير، أو الثواب، صح، ويصرف إلى
أقارب الواقف. فإن لم يوجدوا، فإلى أهل الزكاة. وقال في التهذيب:
الموقوف على سبيل البر أو الخير أو الثواب، يجوز صرفه إلى ما فيه صلاح المسلمين
من أهل الزكاة، وإصلاح القناطر، وسد الثغور، ودفن الموتى وغيرها، وقال بعض
أصحاب الإمام: إن وقف على جهة الخير، صرف (في) مصارف الزكاة، ولا يبنى به
مسجد ولا رباط. وإن وقف على جهة الثواب، صرف إلى أقاربه. والذي قطع به
الأكثرون، ما قدمناه. قالوا: ولو جمع بين سبيل الله تعالى، وسبيل الثواب،
وسبيل الخير، صرف الثلث إلى الغزاة، والثلث إلى أقاربه، والثلث إلى الفقراء
والمساكين والغارمين وابن السبيل وفي الرقاب، وهذا يخالف ما سبق.
385

الثالثة: يصح الوقف على أكفان الموتى، ومؤنة الغسالين والحفارين، وعلى
شراء الأواني والظروف لمن تكسرت عليه.
الرابعة: يصح الوقف على المتفقهة - وهم المشتغلون بتحصيل الفقه -
مبتدئهم ومنتهيهم، وعلى الفقهاء، ويدخل فيه من حصل منه شيئا وإن قل.
الخامسة: الوقف على الصوفية، حكي عن الشيخ أبي محمد أنه باطل، إذ
ليس للتصوف حد يعرف، والصحيح المعروف صحته، وهم المشتغلون بالعبادة في
أغلب الأوقات، المعرضون عن الدنيا. وفصله الغزالي في الفتاوى فقال: لا بد في
386

الصوفي من العدالة وتر ك الحرفة، ولا بأس بالوراقة والخياطة وشبههما إذا تعاطاها
أحيانا في الرباط لا في الحانوت، ولا تقدح قدرته على الكسب، ولا اشتغاله بالوعظ
والتدريس، ولا أن يكون له من المال قدر لا تجب فيه الزكاة، أو لا يفي دخله
بخرجه، وتقدح الثروة الظاهرة والعروض الكثيرة، ولا بد أن يكون في زي القوم،
إلا أن يكون مساكنا، فتقوم المخالطة والمساكنة مقام الزي، قال: ولا يشترط لبس
المرفعة من شيخ، وكذلك ذكر المتولي.
السادسة: وقف على الأرقاء الموقوفين لسدانة الكعبة وخدمة قبر
رسول الله (ص)، صح على الأصح.
السابعة: لو وقف على دار أو حانوت، قال الحناطي: لا يصح إلا أن يقول:
وقفت على هذه الدار على أن يأكل فوائده طارقوها، فيصح على الأصح.
الثامنة: وقف على المقبرة لتصرف الغلة في عمارة القبور، قال المتولي: لا
يصح، لان الموتى صائرون إلى البلى، فلا تليق بهم العمارة.
التاسعة: وقف ضيعة على المؤن التي تقع في قرية كذا من جهة السلطان، ففي
فتاوى القفال: أنه صحيح، وصيغته أن يقول: تصدقت بهذه الضيعة صدقة محرمة
على أن تستغل، فما فضل عن عمارتها صرف إلى هذه المؤن.
العاشرة: في فتاوى القفال، أنه لو قال: وقفت هذه البقرة على الرباط
الفلاني ليشرب من لبنها من نزله، أو ينفق من نسلها عليه، صح، فان اقتصر على
قوله: وقفتها عليه، لم يصح وإن كنا نعلم أنه يريده، لأن الاعتبار باللفظ.
وقد بقيت مسائل من هذا الفصل تأتي منثورة في آخر الباب إن شاء الله تعالى.
الركن الرابع: الصيغة، فلا يصح الوقف إلا بلفظ، لأنه تمليك للعين
387

والمنفعة، أو المنفعة، فأشبه سائر التمليكات، لان العتق مع قوته وسرايته لا يصح
إلا بلفظ، فهذا أولى. فلو بنى على هيئة المساجد أو على غير هيئتها، وأذن في الصلاة
فيه، لم يصر مسجدا، وكذا لو أذن في الدفن في ملكه، لم يصر مقبرة سواء صلي
في ذاك ودفن في ذا، أم لا.
وألفاظ الوقف على مراتب.
إحداها: قوله: وقفت كذا، أو حبست، أو سبلت، أو أرضي موقوفة، أو
محبسة، أو مسبلة، فكل لفظ من هذا صريح، هذا هو الصحيح الذي قطع به
الجمهور. وفي وجه: كل هذا كناية، وفي وجه: الوقف صريح، والباقي كناية،
وفي وجه: التسبيل كناية والباقي صريح.
الثانية: قوله: حرمت هذه البقعة للمساكين أو أبدتها، أو داري محرمة أو
مؤبدة، كناية على المذهب، لأنها لا تستعمل إلا مؤكدة للأولى.
الثالثة: تصدقت بهذه البقعة، ليس بصريح، فان زاد معه شيئا، فالزيادة لفظ
أو نية، فأما اللفظ، ففيه أوجه. أصحها: إن قرن به بعض الألفاظ السابقة، بأن
قال: صدقة محرمة، أو محبسة، أو موقوفة، أو قرن به حكم الوقف فقال: صدقة
لا تباع ولا توهب، التحق بالصريح، لانصرافه بهذا عن التمليك المحض.
والثاني: لا يكفي قوله: صدقة محرمة أو مؤبدة، بل لا بد من التقييد بأنها لا تباع
ولا توهب، ويشبه أن لا يعتبر هذا القائل في قوله: صدقة موقوفة مثل هذا التقييد.
والثالث: لا يكون صريحا بلفظ ما، لأنه صريح في التمليك المحض.
وأما النية، فإن أضاف إلى جهة عامة بأن قال: تصدقت به على المساكين
ونوى الوقف، فوجهان: أحدهما: أن النية لا تلتحق باللفظ في الصرف عن صريح
388

الصدقة إلى غيره. وأصحهما: تلتحق فيصير وقفا. وإن أضاف إلى معين فقال:
تصدقت عليك، أو قاله لجماعة معينين، لم يكن وقفا على الصحيح، بل ينفذ فيما
هو صريح فيه وهو التمليك المحض، كذا قاله الامام. ولك أن تقول: تجريد لفظ
الصدقة عن القرائن اللفظية، يمكن تصويره في الجهات العامة، ولا يمكن في
معينين إذا لم نجوز الوقف المنقطع، فإنه يحتاج إلى بيان المصارف بعد المعينين،
وحينئذ فالمأتي به لا يحتمله غير الوقف، كما أن قوله: تصدقت به صدقة محرمة أو
موقوفة، لا يحتمل غير الوقف.
فرع لو قال: جعلت هذا المكان مسجدا، صار مسجدا على الأصح،
لاشعاره بالمقصود واشتهاره فيه. وقطع الأستاذ أبو طاهر والمتولي والبغوي، بأنه لا
يصير مسجدا، لأنه لم يوجد شئ من ألفاظ الوقف. قال الأستاذ: فإن قال: جعلته
مسجدا لله تعالى، صار مسجدا. وحكى الامام خلافا للأصحاب في استعمال لفظ
الوقف فيما يضاهي التجريد، كقوله: وقفت هذه البقعة على صلاة المصلين وهو
يريد جعلها مسجدا، والأصح صحته.
فصل إذا كان الوقف على جهة، كالفقراء، وعلى المسجد والرباط، لم
يشترط القبول. ولو قال: جعلت هذا للمسجد، فهو تمليك لا وقف، فيشترط قبول
القي وقبضه كما لو وهب شيئا لصبي. وإن كان الوقف على شخص أو جماعة معينين،
فوجهان. أصحهما عند الامام وآخرين: اشتراط القبول. فعلى هذا، فليكن متصلا
بالايجاب كما في البيع والهبة. والثاني: لا يشترط كالعتق، وبه قطع البغوي
والروياني. قال الروياني: لا يحتاج لزوم الوقف إلى القبول، لكن لا يملك عليه إلا
بالاختيار، ويكفي الاخذ دليلا على الاختيار. وخص المتولي الوجهين بقولنا: ينتقل
الملك في الموقوف إلى الموقوف عليه، وإلا، فلا يشترط قطعا.
389

قلت: صحح الرافعي في المحرر الاشتراط. والله أعلم
وسواء شرطنا القبول، أم لا، لو رده بطل حقه كالوصية والوكالة، وشذ
البغوي فقال: لا يبطل بالرد كالعتق. فعلى الصحيح: لو رد ثم رجع، قال
الروياني: إن رجع قبل حكم الحاكم برده إلى غيره، كان له. وإن حكم به لغيره،
بطل حقه. هذا في البطن الأول، أما البطن الثاني والثالث: فنقل الامام
والغزالي، أنه لا يشترط قبوله قطعا، لان استحقاقهم لا يتصل بالايجاب،
ونقلا في ارتداده بردهم وجهين، لان الوقف قد ثبت ولزم فيبعد انقطاعه، وأجرى
المتولي الخلاف في اشتراط قبولهم وارتداده بردهم بناء على أنهم يتلقون الحق من
الواقف، أم من البطن الأول؟ إن قلنا بالأول، فقبولهم وردهم كقبول الأولين
وردهم، وإلا، فلا يعتبر قبولهم وردهم كالميراث، حسن، ولا يبعد أن لا
يتصل الاستحقاق بالايجاب مع اشتراط القبول، كما في الوصية.
الطرف الثاني: في شروط الوقف، وهي أربعة.
الأول: التأبيد، بأن يقف على من لا ينقرض، كالفقراء والمساكين، أو على
من ينقرض ثم على من لا ينقرض، كقوله: وقفت على ولدي ثم على الفقراء، أو
على زيد ثم عقبه. ثم الفقراء والمساجد والربط والقناطر، كالفقراء والمساكين،
فان عين مساجد أو قناطر، فوجهان. وفي معنى الفقراء العلماء على الصحيح، وفي
390

فتاوى القفال خلافه، لأنهم قد ينقطعون.
فصل لو قال: وقفت هذا سنة، فالصحيح الذي قطع به الجمهور، أن
الوقف باطل. وقيل: يصح وينتهي بانتهاء المدة. وقيل: الوقف الذي لا يشترط
فيه القبول، لا يفسد بالتوقيت كالعتق، وبه قال الامام ومن تابعه. وفي مطلق الوقف
قول آخر سنحكيه في الهبة إن شاء الله تعالى.
فصل إذا وقف وقفا منقطع الآخر، بأن قال: وقفت على أولادي، أو قال: وقفت على
زيد ثم على عقبه ولم يزد، ففي صحته
ثلاثة أقوال. أظهرها عند الأكثرين: الصحة. منهم القضاة: أبو حامد،
والطبري، والروياني، وهو نصه في المختصر. والثاني: البطلان، وصححه
المسعودي والامام. والثالث: إن كان الموقوف عقارا، فباطل. وإن كان حيوانا، صح،
لان مصيره إلى الهلاك، وربما هلك قبل الموقوف عليه. فإن صححنا، فإذا انقرض
المذكور، فقولان. أحدهما: يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف، أو إلى ورثته إن
كان مات. وأظهرهما: يبقى وقفا،
وفي مصرفه أوجه. أصحها وهو نصه في المختصر: يصرف إلى أقرب
الناس إلى الواقف يوم انقراض المذكور.
391

والثاني: إلى المساكين.
والثالث: إلى المصالح العامة مصارف خمس الخمس.
والرابع: إلى مستحقي الزكاة.
فإن قلنا: إلى أقرب الناس إلى الواقف، فيعتبر قرب الرحم، أم استحقاق
الإرث؟ وجهان. أصحهما: الأول، فيقدم ابن البنت على ابن العم، لان المعتبر
صلة الرحم. وإذا اجتمع جماعة، فالقول في الأقرب كما سيأتي في الوصية
للأقرب. وهل يختص بفقراء الأقارب، أم يشاركهم أغنياؤهم. قولان. أظهرهما:
الاختصاص. وهل هو على سبيل الوجوب، أم الاستحباب؟ وجهان. وإن
قلنا: يصرف إلى المساكين، ففي تقديم جيران الواقف وجهان. أصحهما:
المنع، لأنا لو قدمنا بالجوار، لقدمنا بالقرابة بطريق الأولى.
فرع قال: وقفت هذا على زيد شهرا، على أن يعود إلى ملكي بعد
الشهر، فباطل على المشهور. وفي قول: يصح، فعلى هذا هل يعود ملكا بعد
الشهر، أم يكون كالمنقطع حتى يصرف بعد الشهر إلى أقرب الناس إلى الواقف؟
قولان حكاهما البغوي.
الشرط الثاني: التنجيز. فلو قال: وقفت على من سيولد لي، أو على مسجد
سيبنى، ثم على الفقراء أو قال: على ولدي ثم على الفقراء ولا ولد له، فهذا
وقف منقطع الأول، وفيه طريقان. أحدهما: القطع بالبطلان. والثاني: على
القولين في منقطع الآخر. والمذهب هنا البطلان، وهو نصه في المختصر،
فان صححنا، نظر، إن لم يمكن انتظار من ذكره كقوله: وقفت على ولدي ولا ولد
له، أو على مجهول أو ميت، ثم على الفقراء، فهو في الحال مصروف إلى
الفقراء، وذكر الأول لغو. وإن أمكن، إما بانقراضه كالوقف على عبد، ثم على
الفقراء، وإما بحصوله، كولد سيولد (له)، فوجهان. أحدهما: تصرف الغلة إلى
الواقف حتى ينقرض الأول. وعلى هذا، ففي ثبوت الوقف في الحال وجهان.
392

والثاني وهو الأصح: تنقطع الغلة عن الواقف. وعلى هذا أوجه. أصحها: تصرف
في الحال إلى أقرب الناس إلى الواقف، فإذا انقرض المذكور أولا، صرف إلى
المذكور بعده وعلى هذا، فالقول في اشتراط الفقر وسائر التفاريع على ما سبق.
والثاني: يصرف إلى المذكورين بعده في الحال. والثالث: أنه للمصالح العامة.
فرع وقف على وارثه في مرض الموت، ثم على الفقراء، وقلنا: الوقف
على الوارث باطل، أو صحيح، فرده باقي الورثة، فهو منقطع الأول. وكذا لو وقف
على معين يصح الوقف عليه، ثم على الفقراء، فرده المعين، وقلنا بالصحيح: إنه
يرتد بالرد، فمنقطع الأول.
فرع إذا علق الوقف فقال: إذا جاء رأس الشهر، أو قدم فلان، فقد
وقفته، لم يصح على المذهب. وقيل: على الخلاف في منقطع الأول، وأولى
بالفساد.
فرع وراء منقطع الأول فقط أو الآخر فقط صور.
إحداها: أن يكون متصل الأول والآخر والوسط، فصحيح.
الثانية: أن يكون منقطعها جميعا، فباطل قطعا.
الثالثة: متصل الطرفين منقطع الوسط، بأن وقف على أولاده، ثم رجل
مجهول، ثم الفقراء، فان صححنا منقطع الآخر، فهذا أولى، وإلا، فوجهان.
أصحهما الصحة، ويصرف عند توسط الانقطاع إلى أقرب الناس إلى الواقف، أو
إلى المساكين، أو المصالح، أو الجهة العامة المذكورة آخرا؟ فيه الخلاف
السابق.
الرابعة: أن ينقطع الطرفان دون الوسط، وقف بأن على رجل مجهول، ثم
على أولاده فقط، فان أبطلنا منقطع الأول، فهذا أولى، وإلا، فالأصح بطلانه
أيضا. فان صححنا، ففيمن يصرف إليه الخلاف السابق.
الشرط الثالث: الالزام. فلو وقف بشرط الخيار، أو قال: وقفت
بشرط أني أبيعه، أو أرجع فيه متى شئت، فباطل، واحتجوا له بأنه إزالة ملك إلى
393

الله سبحانه وتعالى، كالعتق، أو إلى الموقوف عليه، كالبيع والهبة، وعلى
التقديرين، فهذا شرط مفسد. لكن في فتاوى القفال أن العتق لا يفسد بهذا
الشرط، وفرق بينهما بأن العتق مبني على الغلبة والسراية. وعن ابن سريج، أنه
يحتمل أن يبطل الشرط، ويصح الوقف. ولو وقف على ولده أو غيره بشرط أن يرجع
إليه إذا مات، فهو باطل على المذهب. وعن البويطي، أنه على قولين أخذا من
مسألة العمرى. ولو وقف وشرط لنفسه أن يحرم من شاء، أو يقدم أو يؤخر، فالشرط
فاسد على الأصح. هذا إذا أنشأ الوقف بهذا الشرط، فلو أطلقه ثم أراد أن يغير ما
ذكره بحرمان أو زيادة، أو تقديم أو تأخير، فليس له قطعا. فان صححنا شرطه
لنفسه، فشرطه لغيره، ففاسد على الأصح. وإن أفسدناه، ففي فساد الوقف خلاف
مبني على أن الوقف كالعتق، أم لا؟
هذا مجموع ما حضرني من كتب الأصحاب. والذي قطع به جمهورهم،
بطلان الشرط والوقف في هذه الصور كلها، وشذ الغزالي فجعل هذه الصور ثلاث
مراتب.
الأولى: وقفت بشرط أن أرجع متى شئت، أو أحرم المستحق وأحول الحق
إلى غيره متى شئت، ففاسد.
الثانية: بشرط أن أغير قدر المستحق للمصلحة، فهو جائز.
الثالثة: يقول: أغير تفصيله، فوجهان، وهذا الترتيب لا يكاد يوجد لغيره،
ثم فيه لبس، فان التحويل المذكور في الأولى هو التغير المذكور في الثانية،
والمذهب ما ذكره الجمهور.
394

فصل لو شرط الواقف أن لا يؤجر الوقف، فأوجه. أصحها: يتبع شرطه
كسائر الشروط. والثاني: لا، لتضمنه الحجر على مستحقي المنفعة. والثالث:
إن منع الزيادة على سنة، اتبع، لأنه من مصالحه، وإن منع مطلقا، فلا. فان
أفسدنا الشرط، فالقياس فساد الوقف به. وقال الشيخ أبو عاصم: إذا شرط أن لا
يؤجر أكثر من سنة، لم يخالف. وقيل: إن كان الصلاح في الزيادة، زيد، وهذا
تصحيح للوقف مع فساد الشرط.
قلت: ليس هذا فسادا للشرط مطلقا، بخلاف مسألتنا. والله أعلم
فصل إذا جعل داره مسجدا، أو أرضه مقبرة، أو بنى مدرسة، أو رباطا،
فلكل أحد أن يصلي ويعتكف في المسجد، ويدفن في المقبرة، ويسكن
المدرسة بشرط الأهلية، وينزل الرباط، وسواء فيه الواقف وغيره.
ولو شرط في الوقف اختصاص المسجد بأصحاب الحديث، أو الرأي، أو
طائفة معلومين، فوجهان. أحدهما: لا يتبع شرطه. فعلى هذا قال المتولي:
يفسد الوقف لفساد الشرط. والثاني: يتبع ويختص بهم رعاية للشرط وقطعا للنزاع
في إقامة الشعائر، ويشبه أن تكون الفتوى بهذا وإن كان الغزالي اقتصر على الأول
في الوجيز.
قلت: الأصح اتباع شرطه، وصححه الرافعي في المحرر. والمراد
بأصحاب الحديث: الفقهاء الشافعية، وبأصحاب الرأي: الفقهاء الحنفية، هذا
عرف أهل خراسان. والله أعلم
395

ثم الوجهان، فيما إذا قال: على أصحاب الحديث، فإذا انقرضوا فعلى عامة
المسلمين، أما إذا لم يتعرض للانقراض، ففيه خلاف.
قلت: يعني اختلفوا في صحة الوقف لاحتمال انقراض هذه الطائفة، والأصح
أو الصحيح الصحة. والله أعلم
ولو شرط في المدرسة والرباط الاختصاص، اختص قطعا. ولو شرط في
المقبرة الاختصاص بالغرباء، أو بجماعة معينين، فالوجه أن يرتب على المسجد.
فان قلنا: يختص، فالمقبرة أولى، وإلا، فوجهان، لترددها بين المسجد
والمدرسة، وإلحاقها بالمدرسة أصح، فان المقابر للأموات كالمساكن للاحياء،
وهذا كله إذا شرط في حال الوقف. أما إذا وقف مطلقا، ثم خصص المدرسة أو
المسجد أو غيرهما، فلا اعتبار به قطعا.
الشرط الرابع: بيان المصرف، فلو قال: وقفت هذا واقتصر عليه، فقولان.
وقيل: وجهان. أظهرهما عند الأكثرين: بطلان الوقف كقوله: بعت داري
بعشرة، أو وهبتها، ولم يقل لمن، ولأنه لو قال: وقفت على جماعة، لم يصح،
لجهالة المصرف. فإذا لم يذكر المصرف، فأولى أن لا يصح. الثاني: يصح،
وإليه ميل الشيخ أبي حامد، واختاره صاحب المهذب والروياني، كما لو نذر
هديا أو صدقة ولم يبين المصرف، وكما لو قال: أوصيت بثلثي، فإنه يصح ويصرف
إلى المساكين. وهذا إن كان متفقا عليه، فالفرق مشكل.
قلت: الفرق، أن غالب الوصايا للمساكين، فحمل المطلق عليه، بخلاف
الوقف، ولان الوصية مبنية على المساهلة، فتصبح بالمجهول والنجس وغير ذلك،
بخلاف الوقف. والله أعلم
فإن صححنا، ففي مصرفه الخلاف في منقطع الآخر إذا صححناه. وعن ابن
396

سريج، يصرفه الناظر فيما يراه من البر كعمارة المساجد، والقناطر، وسد الثغور،
وتجهيز الموتى وغيرها.
فصل في مسائل تتعلق بالباب الأولى: وقف على رجلين، ثم على
المساكين، فمات أحدهما، ففي نصيبه وجهان. أصحهما وهو نصه في حرملة:
يصرف إلى صاحبه. والثاني: إلى المساكين، والقياس: أن لا يصرف إلى صاحبه
ولا إلى المساكين، بل صار الوقف في نصيب الميت منقطع الوسط.
قلت: معناه: يكون صرفه مصرف منقطع الوسط، لأنه يجئ خلاف في
صحة الوقف. والله أعلم
الثانية: وقف على شخصين ولم يذكر من يصرف إليه بعدهما، وصححنا
الوقف، فمات أحدهما، فنصيبه للآخر، أم حكمه حكم نصيبها إذا ماتا؟ فيه
وجهان.
الثالثة: وقف على بطون، فرد البطن الثاني وقلنا: يرتد بردهم فهذا وقف
منقطع الوسط، وسبق بيانه، وفيه قول أو وجه: أنه يصرف إلى البطن الثالث.
الرابعة: يصح الوقف على أقارب رسول الله (ص) إذا جوزنا الوقف على قوم غير
محصورين، ولا يكون كصرف الزكاة إليهم.
الخامسة: قال: وقفت داري على المساكين بعد موتي، قال الشيخ أبو
محمد: أفتى الأستاذ أبو إسحاق بصحة الوقف بعد الموت، ووافقه أئمة عصره،
وهذا كأنه وصية. يدل عليه أن في فتاوى القفال، أنه لو عرض الدار على البيع،
صار راجعا فيه.
السادسة: قال: جعلت داري هذه خانقاه للغزاة، لم تصر وقفا بذلك. ولو
قال: تصدقت بها صدقة محرمة، ليصرف من غلتها كل شهر إلى فلان كذا، ولم يزد
عليه، ففي صحة هذا الوقف وجهان. فان صح، ففي الفاضل عن المقدار أوجه.
أحدها: الصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف. والثاني: إلى المساكين والثالث:
يكون ملكا للواقف.
397

السابعة: قال: جعلت داري هذه للمسجد، أو سلم دارا إلى قيم المسجد
وقال: خذها للمسجد، أو قال: إذا مت فأعطوا من مالي ألف درهم للمسجد، أو
فداري للمسجد، لا يكون شيئا، لأنه لم توجد صيغة وقف ولا تمليك، ولك أن
تقول: إن لم يكن صريحا في التمليك، فلا شك أنه كناية.
الثامنة: قال: وقفت داري على زيد وعلى الفقراء، بني على ما إذا أوصى
لزيد وللفقراء، فان جعلناه كأحدهم، صح الوقف ولا يحرم زيد. وإن قلنا: له
النصف، صح الوقف في نصيب الفقراء. وأما النصف الثاني، فمنقطع الآخر، فإن لم
يصح، جاء تفريق الصفقة. وهذه المسألة مع المسألتين قبلها منقولة في فتاوى
القفال.
التاسعة: في فتاوى القفال: أنه لو قال: وقفتها على المسجد الفلاني، لم
يصح حتى يبين جهته فيقول: وقفت على عمارته، أو وقفت عليه ليستغل فيصرف
إلى عمارته أو إلى دهن السراج ونحوهما، ومقتضى إطلاق الجمهور صحته.
قلت: وقد صرح البغوي وغيره بصحته. والله أعلم
العاشرة: في فتاوى القفال: أنه لو وقف على رباط أو مسجد معين، ولم
يذكر المصرف إن خرب، فهو منقطع الآخر. وفصل صاحب التتمة فقال: إن
كان في موضع يستبعد في العادة خرابه، بأن كان في وسط البلدة، فهو صحيح،
وإن كان في قرية أو حارة، فهو منقطع الآخر.
قلت: ومما يتعلق بهذا الباب.
الباب الثاني في أحكام الوقف الصحيح
إذا صح الوقف، ترتب عليه أحكام.
منها: ما ينشأ من اللفظ المستعمل في الوقف ويختلف باختلاف الألفاظ.
398

ومنها: ما يقتضيه المعنى، فلا يختلف باختلاف اللفظ، ويجمع الباب
طرفان.
الطرف الأول: في الاحكام اللفظية، والأصل فيه، أن شروط الواقف مرعية
ما لم يكن فيها ما ينافي الوقف، وفيه مسائل.
المسألة الأولى: قال: وقفت على أولادي، وأولاد أولادي، فلا ترتيب، بل
يسوى بين الجميع. ولو زاد فقال: ما تناسلوا، أو بطنا بعد بطن، فكذلك،
ويحمل على التعميم على الصحيح. وقال الزيادي: قوله: بطنا بعد بطن، يقتضي
الترتيب. ولو قال: على أولادي ثم على أولاد أولادي،
ثم على أولاد أولاد أولادي ما تناسلوا أو بطنا بعد بطن، فهو للترتيب، ولا يصرف إلى البطن الثاني شئ
ما بقي من الأول واحد، ولا إلى الثالث ما بقي من الثاني أحد، كذا أطلقه الجمهور.
والقياس فيما إذا مات واحد من البطن الأول، أن يجئ في نصيبه الخلاف السابق
فيما لو وقف على شخصين أو جماعة ثم على المساكين فمات واحد، فإلى من
يصرف نصيبه؟ ولم أر تعرضا إليه إلا لأبي الفرج السرخسي، فإنه سوى بين
399

الصورتين، وحكى فيهما وجهين. أحدهما: أن نصيب الميت لصاحبه. والثاني:
أنه لأقرب الناس إلى الواقف، وكذا ذكر صاحب الايضاح ان يصرف إلى
أقرب الناس إلى الواقف.
قلت: الصحيح: ما أطلقه الجمهور، لان من بقي بعد موت بعض الأولاد
يسمون أولادا، بخلاف ما إذا مات أحد الشخصين. ثم إن مراعاة الترتيب لا تنتهي
عند البطن الثالث والرابع، بل يعتبر الترتيب في جميع البطون، فلا يصرف إلى بطن
وهناك أحد من بطن أقرب، صرح به البغوي وغيره. والله أعلم
ولو قال: على أولادي وأولاد أولادي الاعلى فالأعلى، أو الأقرب فالأقرب،
أو الأول فالأول، أو يبدأ بالأعلى منهم، أو على أن لا حق لبطن وهناك أحد فوقهم،
فمقتضاه الترتيب أيضا. ولو قال: فمن مات من أولادي فنصيبه لولده، اتبع شرطه.
فرع قال: على أولادي، ثم على أولاد أولادي، وأولاد أولاد أولادي،
فمقتضاه الترتيب بين البطن الأول ومن دونهم، والجمع بين من دونهم. ولو قال:
على أولادي وأولاد أولادي، ثم على أولاد أولاد أولادي، فمقتضاه الجمع أولا،
والترتيب ثانيا.
فرع قال: على أولادي وأولاد أولادي ومن مات منهم فنصيبه لأولاده،
فمات واحد، فنصيبه لأولاده خاصة، ويشاركون الباقين فيما عدا نصيب أبيهم.
400

المسألة الثانية: إذا وقف على الأولاد، ففي دخول أولاد الأولاد ثلاثة أوجه،
أصحها: لا يدخلون. والثاني: يدخلون. والثالث: يدخل أولاد البنين دون أولاد
البنات، وهذا الخلاف عند الاطلاق، وقد يقرن باللفظ ما يقتضي الجزم
بخروجهم، كقوله: وقفت على أولادي، فإذا انقرضوا فلأحفادي الثلث، والباقي
للفقراء. ولو وقف على الأولاد، ولم يكن له إلا أولاد الأولاد، حمل اللفظ عليهم،
قاله المتولي وغيره. ولو وقف على أولاده وأولاد أولاده، ففي دخول أولاد أولاد
أولاده الخلاف.
الثالثة: الوقف على الأولاد، يدخل فيه البنون والبنات والخنثى المشكل.
الرابعة: الوقف على البنين، لا يدخل فيه الخنثى، وفي دخول بني البنين
والبنات الأوجه الثلاثة.
الخامسة: الوقف على البنات، لا يدخل فيه الخنثى، وفي بنات الأولاد
الأوجه.
السادسة: وقف على البنين والبنات، دخل الخنثى على الأصح. وقيل:
لا، لأنه لا يعد من هؤلاء، ولا من هؤلاء.
السابعة: وقف على بني تميم، وصححنا مثل هذا الوقف، ففي دخول
نسائهم وجهان. أحدهما: المنع، كالوقف على بني زيد. وأصحهما: الدخول،
لأنه يعبر به عن القبيلة.
الثامنة: وقف على أولاده وأولاد أولاده، دخل فيه أولاد البنين والبنات. فان
قال: على من ينتسب إلي من أولاد أولادي، لم يدخل أولاد البنات على الصحيح.
فرع المستحقون في هذه الألفاظ، لو كان أحدهم حملا عند الوقف، هل
401

يدخل حتى يوقف له شئ؟ فيه وجهان حكاهما المتولي. أحدهما: نعم
كالميراث، ويستحق الغلة في مدة الحمل. والصحيح: لا، لأنه قبل الانفصال
لا يسمى ولدا. وأما غلة ما بعد الانفصال، فيستحقها قطعا. وكذا الأولاد الحادث
علوقهم بعد الوقف، يستحقون إذا انفصلوا. هذا هو الصحيح المقطوع به في الكتب. وفي
أمالي السرخسي خلافة.
قلت: ومما يتفرع على الصحيح أنه لا يستحق غلة مدة الحمل: أنه لو كان
الموقوف نخلة، فخرجت ثمرتها قبل خروج الحمل، لا يكون له من تلك الثمرة
شئ، كذا قطع به الفوراني والبغوي، وأطلقاه. وقال الدارمي في الاستذكار:
في الثمرة التي أطلعت ولم تؤبر، قولان، هل لها حكم المؤبرة فتكون للبطن
الأول، أو لا فتكون للثاني؟ وهذان القولان يجريان هنا. والله أعلم
فرع المنفي باللعان، لا يستحق شيئا، لانقطاع نسبه، وخروجه عن كونه
ولدا. وعن أبي إسحاق: أنه يستحق، وأثر اللعان مقصور على الملاعن.
قلت: فلو استلحقه بعد نفيه، دخل في الوقف قطعا، ذكره البغوي. والله
أعلم
التاسعة: قال: وقفت على ذريتي أو عقبي أو نسلي، دخل فيه أولاد البنين
والبنات، قريبهم وبعيدهم. ولو حدث حمل، قال المتولي: يوقف نصيبه قطعا،
لأنه من نسله وعقبه قطعا. ولو وقف على عترته، قال ابن الأعرابي وثعلب: هم
ذريته. وقال القتيبي: هم عشيرته، وهما وجهان للأصحاب. أصحهما: الثاني،
وقد روي ذلك عن زيد بن أرقم.
قلت: هذان المذهبان، مشهوران لأهل اللغة، غير مختصين بالمذكورين،
لكن أكثر من جعلهم عشيرته، خصهم بالأقربين. قال الأزهري: قال بعض أهل
اللغة: عترته: عشيرته الأدنون. وقال الجوهري: عترته: نسله ورهطه الأدنون.
وقال الزبيري: عترته: أقرباؤه من ولد وغيره، ومقتضى هذه الأقوال أنه يدخل ذريته
عشيرته الأدنون، وهذا هو الظاهر المختار. والله أعلم
العاشرة: قال: على عشيرتي، فهو كقوله: على قرابتي. وإذا قال: على
402

قرابتي أو أقرب الناس إلي، فعلى ما سنذكره في الوصية إن شاء الله تعالى.
وقال المتولي: قوله: على قبيلتي أو عشيرتي، لا يدخل فيه إلا قرابة الأب.
ثم إذا كانوا غير محصورين، ففيهم الخلاف السابق. ثم من حدث بعد الوقف
يشاركون الموجودين عند الوقف على الصحيح، وعن البويطي منعه.
الحادية عشرة: اسم المولى يقع على المعتق ويقال له: المولى الاعلى،
وعلى العتيق ويقال له: المولى الأسفل، فإذا وقف على مواليه وليس له إلا
أحدهما، فالوقف عليه. وإن وجدا جميعا، فهل يقسم بينهما، أم يختص به
الاعلى، أم الأسفل، أم يبطل الوقف؟ فيه أربعة أوجه. أصحها في التنبيه
الأول. وفي الوجيز الرابع.
قلت: الأصح، الأول، وقد صححه أيضا الجرجاني في التحرير وحكى
الدارمي وجها خامسا، أنه موقوف حتى يصطلحوا، وليس بشئ. والله أعلم
فصل يرعى شرط الواقف في الاقدار، وصفات المستحقين، وزمن
الاستحقاق. فإذا وقف على أولاده وشرط التسوية بين الذكر والأنثى، أو تفضيل
أحدهما، اتبع شرطه. وكذا الوقف على العلماء بشرط كونهم على مذهب فلان، أو
على الفقراء بشرط الغربة أو الشيخوخة، اتبع. ولو قال: على بني الفقراء، أو على
بناتي الأرامل، فمن استغنى منهم، وتزوج منهن، خرج عن الاستحقاق. فان عاد
فقيرا، أو زال نكاحها، عاد الاستحقاق.
قلت: ولم أر لأصحابنا تعرضا لاستحقاقها في حال العدة، وينبغي أن يقال:
إن كان الطلاق بائنا، أو فارقت بفسخ أو وفاة، استحقت، لأنها ليست بزوجة في
زمن العدة. وإن كان رجعيا، فلا، لأنها زوجة. والله أعلم
قال العبادي في الزيادات: لو وقف على أمهات أولاده إلا على من تزوج منهن،
فتزوجت، خرجت، ولا تعود بالطلاق، والفرق من حيث اللفظ، أنه أثبت
الاستحقاق لبناته الأرامل وبالطلاق صارت أرملة، وهنا جعلها مستحقة إلا أن
تتزوج، وبالطلاق لا تخرج عن كونها تزوجت. ومن حيث المعنى أن غرضه أن تفي
له أم ولده فلا يخلفه عليها أحد، فمن تزوجت لم تف ولو طلقت.
403

فرع لو شرط صرف غلة السنة الأولى إلى قوم، وغلة السنة الثانية إلى
آخرين، وهكذا ما بقوا، اتبع شرطه.
فرع قال: وقفت على أولادي، فإذا انقرض أولادي وأولاد أولادي،
فعلى الفقراء، فهذا وقف منقطع على الوسط الصحيح، وحكمه ما سبق، لأنه لم
يجعل لأولاد الأولاد شيئا، وإنما شرط انقراضهم لاستحقاق الفقراء. وقيل
يستحقون بعد انقراض أولاد الصلب.
فرع وقف على بنيه الأربعة، على أن من مات منهم وله عقب، فنصيبه
لعقبه، ومن مات ولا عقب له، فنصيبه لسائر أصحاب الوقف، ثم مات أحدهم عن
ابن، وآخر عن ابنين، وثالث ولا عقب له، فنصيب الثالث بين الرابع وابن الأول
الأول وابني الثاني بالسوية. ولو قال: وقفت على بني الخمسة ومن سيولد لي على
ما أفصله، ثم فصل فقال: ضيعة كذا لابني فلان، وحصة كذا لفلان، إلى أن ذكر
الخمسة، ثم قال: وأما من سيولد لي، فنصيبه أن من مات من الخمسة ولا عقب له
يصرف حقه إليه، فمات واحد من الخمسة ولا عقب له، وولد للواقف ولد، يصرف
إلى المولود نصيب الميت، وليس له شئ آخر بقوله أولا: وقفت على بني ومن
سيولد لي، لان التفصيل المذكور آخرا بيان لما أجمله أولا، وقد جرت عادة
الشروطيين بمثله.
فرع قال: وقفت على سكان موضع كذا، فغاب بعضهم سنة ولم يبع
داره، ولا استبدل دارا، لا يبطل حقه، ذكره العبادي.
فرع وقف على زيد بشرط أن يسكن موضع كذا، ثم بعده على الفقراء
والمساكين، فهذا (وقف) منقطع، لان الفقراء إنما يستحقون بعد انقراضه،
واستحقاقه مشروط بشرط قد يتخلف.
فصل الصفة والاستثناء عقيب الجمل المعطوف بعضها على بعض يرجعان
إلى الجميع.
مثال الصفة: وقفت على أولادي وأحفادي وإخوتي المحتاجين منهم.
ومثال الاستثناء: وقفت على أولادي وأحفادي وإخوتي، إلا أن يفسق واحد
404

منهم، هكذا أطلقه الأصحاب. ورأي الامام تقييده بقيدين. أحدهما: أن يكون
العطف بالواو، فإن كان ب‍ ثم اختصت الصفة والاستثناء بالجملة الأخيرة.
والثاني: أن لا يتخلل بين الجملتين كلام طويل. فان تخلل، كقوله: على أن
من مات منهم وله عقب، فنصيبه بين أولاده للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن لم يعقب،
فنصيبه للذين في درجته، فإذا انقرضوا، فهو مصروف إلى إخوتي إلا أن يفسق
أحدهم، فالاستثناء يختص بالأخوة. والصفة المتقدمة على جميع الجمل،
كقوله: وقفت على فقراء أولادي وأولاد أولادي وإخوتي، كالمتأخرة عن جميعها،
حتى يعتبر الفقر في الكل.
فرع البطن الثاني هل يتلقون الوقف من الواقف، أم من البطن الأول؟ فيه
وجهان. أصحهما: من الواقف.
الطرف الثاني: في الاحكام المعنوية، فمنها اللزوم في الحال، سواء أضافه
إلى ما بعد الموت، أم لم يضفه، وسواء سلمه، أم لم يسلمه، قضى به
قاض، أم لا.
405

قلت: وسواء في هذا كان الوقف على جهة، أو شخص، وسواء قلنا:
الملك في رقبة الوقف لله تعالى، أم للموقوف عليه، أم باق للواقف، ولا خلاف في
هذا بين أصحابنا إلا ما شذ به الجرجاني في التحرير فقال: إذا كان على شخص
وقلنا: الملك للموقوف عليه، افتقر إلى قبضه كالهبة، وهذا غلط ظاهر وشذوذ
مردود، نبهت عليه لئلا يغتر به. والله أعلم
وإذا لزم، امتنعت التصرفات القادحة في غرض الوقف وفي شرطه. وسواء في
امتناعها الواقف وغيره. وأما رقبة الوقف، فالمذهب وهو نصه في المختصر هنا:
أن الملك فيها انتقل إلى الله تعالى. وفي قول: إلى الموقوف عليه. وخرج قول:
أنه باق على ملك الواقف. وقيل: بالأول قطعا. وقيل: بالثاني قطعا. وقيل: إن
كان الوقف على معين، ملكه قطعا. وإن كان على جهة، انتقل إلى الله تعالى
قطعا، واختاره الغزالي، ولا فرق عند جمهور الأصحاب. هذا كله إذا وقف على
شخص أو جهة عامة. فأما إذا جعل البقعة مسجدا أو مقبرة، فهو فك عن الملك
كتحرير الرقيق، فينقطع عنها اختصاصات الآدميين قطعا.
فصل فوائد الوقف ومنافعه، للموقوف عليه، يتصرف فيها تصرف الملاك
في الأملاك. فإن كان شجرة، ملك الموقوف عليه ثمارها، ولا يملك أغصانها إلا
فيما يعتاد قطعه كشجر الخلاف، فأغصانها كثمر غيرها، وإن كان الموقوف
406

بهيمة، ملك صوفها ووبرها ولبنها قطعا، ويملك نتاجها أيضا على الأصح كالثمرة.
والثاني: تكون وقفا تبعا لامه كولد الأضحية. وقيل: الوجهان في ولد الفرس
والحمار، فأما ولد النعم، فيملكه قطعا، لان المطلوب منها الدر والنسل. وقيل:
لا حق فيه للموقوف عليه، بل يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، إلا أن يصرح
بخلافه، وهذا الخلاف في نتاج حدث بعد الوقف. فإن وقف البهيمة وهي حامل،
فان قلنا: الحادث وقف، فهذا أولى، وإلا، فوجهان بناء على أن الحمل هل له
حكم، أم لا؟ وهذا المذكور في الدر والنسل هو فيما إذا أطلق أو شرطهما للموقوف
عليه. فلو وقف دابة على ركوب إنسان، ولم يشرط له الدر والنسل، قيل: حكمهما
حكم وقف منقطع الآخر. وقال البغوي: ينبغي أن يكون للواقف، وهذا أوجه، لان
الدر والنسل لا مصرف لهما أولا ولا آخرا.
فرع قالوا: لو وقف ثور للانزاء، جاز، ولا يجوز استعماله في الحراثة.
فرع لا يجوز ذبح البهيمة المأكولة الموقوفة، وإن خرجت عن الانتفاع،
كما لا يجوز إعتاق العبد الموقوف، لكن لو صارت بحيث يقطع بموتها، قال
المتولي: تذبح للضرورة. وفي لحمها، طريقان. أحدهما: يشترى بثمنه بهيمة
من جنسها وتوقف. والثاني: إن قلنا: الملك فيها ينتقل إلى الله تعالى، فعل فيه
الحاكم ما رآه مصلحة. وإن قلنا: للموقوف عليه أو للواقف، صرف إليهما.
فرع إذا ماتت البهيمة الموقوفة، فالموقوف عليه أحق بجلدها. وإذا
دبغه، ففي عوده وقفا وجهان. قال المتولي. أصحهما: العود.
فصل المنافع المستحقة للموقوف عليه، يجوز أن يستوفيها بنفسه،
ويجوز أن يقيم غيره مقامه بإعارة أو إجارة، والأجرة ملك له. هذا إن كان الوقف
مطلقا، فان قال: وقفت داري ليسكنها من يعلم الصبيان في هذه القرية، فللمعلم
أن يسكنها، وليس له أن يسكنها غيره بأجرة ولا بغيرها. ولو قال: وقفت داري على
أن تستغل وتصرف غلتها إلى فلان، تعين الاستغلال، ولم يجز له أن يسكنها، كذا
407

ذكرت الصورتان في فتاوى القفال وغيره. ولو كان الوقف مطلقا، فقال الموقوف
عليه: أسكن الدار، فقال الناظر: أكريها لأصرف غلتها في مرمتها، فله أن
يكري.
فرع متى وجب المهر، فوطئ الموقوفة، فهو للموقوف عليه كاللبن
والثمرة.
فرع لا يجوز وطئ الموقوفة لا للواقف ولا للموقوف عليه، وإن قلنا:
الملك فيها لهما، لأنه ملك ضعيف. ولو وطئت فلها أحوال.
أحدها: أن يطأها أجنبي. فإن لم يكن هناك شبهة، لزمه الحد، والولد
رقيق. ثم هل هو ملك طلق، أم وقف؟ وجهان كنتاج البهيمة، ويجب المهر إن
كانت مكرهه. وإن كانت مطاوعة عالمه بالحال، فقيه خلاف سبق في الغصب
وإن كان هناك شبهة فلا حد ويجب المهر والولد حر وعليه قيمته، ويكون ملكا
للموقوف عليه إن جعلنا الولد ملكا، وإلا، فيشتري بها عبد ويوقف.
الحال الثاني: أن يطأها الموقوف عليه. فإن لم يكن شبهه، فقيل: لا حد
لشبهة الملك، وبه قطع ابن الصباغ. والأصح: أنه يبنى على أقوال الملك، فان
جعلناه له، فلا حد، إلا، فعليه الحد. ولا أثر لملك المنفعة، كما لو وطئ
الموصى له بالمنفعة الجارية، وهل الولد ملك أو وقف؟ فيه الوجهان. وإن وطئ
408

بشبهة، فلا حد، والولد حر، ولا قيمة عليه إن ملكناه ولد الموقوفة، وإن جعلناه
وقفا اشترى بها عبد آخر ويوقف، وتصير الجارية أم ولد له إن قلنا: الملك للموقوف
عليه، فتعتق بموته وتؤدى قيمتها من تركته. ثم هل هي لمن ينتقل الوقف إليه بعده
ملك، أم يشترى بها جارية وتوقف؟ فيه خلاف نذكره في قيمة العبد الموقوف إذا
قتل، ولا مهر على الموقوف عليه بحال، لأنه لو وجب لوجب له.
الحال الثالث: أن يطأها الواقف. فإن لم يكن الوطئ بشبهة تفرع على
الخلاف في الملك. فإن لم نجعل الملك له، فعليه الحد، والولد رقيق. وفي
كونه ملكا أو وقفا، الوجهان. ولا تكون الجارية أم ولد له. وإن جعلنا الملك له،
فلا حد. وفي نفوذ الاستيلاد إن أولدها الخلاف في استيلاد الراهن، لتعلق حق
الموقوف عليه بها، وهذا أولى بالمنع. وإن وطئ بشبهة، فلا حد، والولد حر نسيب
وعلية قيمته، وفيما يفعل بها الوجهان. وتصير أم ولد له، إن ملكناه، تعتق بموته
وتؤخذ قيمتها. من تركته وفيما يفعل بها الخلاف.
فرع في تزويج الموقوفة، وجهان. أحدهما: المنع لما فيه من النقص،
وربما ماتت من الطلق، فيفوت حق البطن الثاني. وأصحهما: الجواز، تحصينا
لها وقياسا على الإجارة. فعلى هذا، إن قلنا: الملك للموقوف عليه، فهو الذي
تزوجها ولا يحتاج إلى إذن أحد. وإن قلنا: لله سبحانه وتعالى زوجها السلطان
ويستأذن الموقوف عليه، وكذا إن قلنا: وكذا إن قلنا: للواقف زوجها بإذن الموقوف
عليه، هذا كلام الجمهور. وحكى الغزالي وجهين، في أن السلطان هل يستأذن
الموقوف عليه، وفي أنه هل يستأذن الواقف أيضا؟ ويلزم مثله في استئذان الواقف إذا
زوج الموقوف عليه، والمهر للموقوف عليه بكل حال. وولدها من الزوج للموقوف
عليه ملكا أو وقفا؟ على الخلاف السابق.
409

قلت: ولو طلبت الموقوفة التزويج، فلهم الامتناع. والله أعلم
فرع ليس للموقوف عليه أن يتزوج الموقوفة إن قلنا: إنها ملكه، وإلا،.
فوجهان. أصحهما: المنع احتياطا، وعلى هذا لو وقفت عليه زوجته انفسخ
النكاح.
فصل حق تولية أمر الوقف في الأصل للواقف، فإن شرطها لنفسه أو
لغيره، اتبع شرطه، وأشار في النهاية إلى خلاف فيما إذا كان الوقف على
معين، وشرط التولية لأجنبي، هل يتبع شرطه إذا فرعنا على أن الملك في الوقف
للموقوف عليه؟ والمذهب: الأول، وبه قطع الجمهور. وسواء فرض في الحياة أو
أوصى، فكل منهما معمول به. وإن وقف ولم يشرط التولية لحد، فثلاثة طرق.
أحدها: هل النظر للواقف، أم للموقوف عليه، أم للحاكم؟ فيه ثلاثة أوجه.
والطريق الثاني: يبنى على الخلاف في ملك الرقبة، فإن قلنا: هو للواقف،
فالتولية له على الأصح. وقيل: للحاكم، لتعلق حق الغير به. وإن قلنا: لله
تعالى، فهي للحاكم. وقيل: للواقف إذا كان الوقف على جهة عامة، فان قيامه
بأمر الوقف من تتمة القربة. وقيل: للموقوف عليه إن كان معينا، لان الغلة والمنفعة
له. وإن قلنا: الملك للموقوف عليه، فالتولية له. والطريق الثالث قاله كثيرون:
التولية للواقف بلا خلاف. والذي يقتضي كلام معظم الأصحاب: الفتوى به أن
يقال: إن كان الوقف على جهة عامة، فالتولية للحاكم كما لو وقف على مسجد أو
رباط. وإن كان على معين، فكذلك إن قلنا: الملك ينتقل إلى الله تعالى. وإن
جعلناه للواقف، أو الموقوف عليه، فكذلك التولية.
فرع لابد من صلاحية المتولي لشغل التولية، والصلاحية بالأمانة،
410

والكفاية في التصرف، واعتبارهما كاعتبارهما في الوصي والقيم، وسواء في
اشتراطهما المنصوب للتولية والواقف إذا قلنا: هو المتولي عند الاطلاق، وسواء
الوقف على الجهة العامة والأشخاص المعينين. وقيل: لا تشترط العدالة إذا كان
الوقف على معينين ولا طفل فيهم. فإن خان، حملوه على السداد. والصواب
المعروف هو الأول. حتى لو فوض إلى موصوف بالأمانة والكفاية، فاختلت
إحداهما، انتزع الحاكم الوقف منه. وقبول المتولي ينبغي أن يجئ فيه ما في قبول
الوكيل والموقوف عليه.
فرع وظيفة المتولي العمارة، والإجارة، وتحصيل الغلة، وقسمتها على
المستحقين، وحفظ الأصول والغلات على الاحتياط، هذا عند الاطلاق.
ويجوز أن ينصب الواقف متوليا لبعض الأمور دون بعض، بأن يجعل إلى واحد
العمارة وتحصيل الغلة، وإلى آخر حفظها وقسمتها على المستحقين، أو يشرط
لواحد الحفظ واليد، ولآخر التصرف. ولو فرض إلى اثنين، لم يستقل أحدهما
بالتصرف. ولو قال: وقفت على أولادي على أن يكون النظر لعدلين منهم، فإن لم
يكن فيهم إلا عدل واحد، ضم إليه الحاكم عدلا آخر.
فرع لو شرط الواقف للمتولي شيئا من الغلة، جاز، وكان ذلك أجرة عمله، فلو لم يشرط شيئا، ففي استحقاقه أجرة
عمله الخلاف السابق فيما لو
411

استعمل إنسانا ولم يذكر له أجرة. ولو شرط للمتولي عشر الغلة أجرة لعمله، ثم
عزله، بطل استحقاقه. وإن لم يتعرض لكونه أجرة، ففي فتاوى القفال: أنه لا
يبطل استحقاقه، لان العشر وقف عليه، فهو كأحد الموقوف عليهم، ويجوز أن
يقال: إذا أثبتنا الأجرة بمجرد التفويض، أخذا من العادة، فالعادة تقتضي أن
المشروط للمتولي أجرة عمله، وإن لم يصفه بأنه أجرة، ويلزم من ذلك بطلان
الاستحقاق بالعزل.
فرع ليس للمتولي أن يأخذ من مال الوقف شيئا على أن يضمنه. ولو
فعل، ضمن. ولا يجوز ضم الضمان إلى مال الوقف. وإقراض مال الوقف
حكمه حكم إقراض مال الصبي.
فرع للواقف أن يعزل من ولاه، وينصب غيره، كما يعزل الوكيل، وكأن
المتولي نائب عنه. هذا هو الصحيح، وبه قال الإصطخري، وأبو الطيب ابن
سلمة. وفي وجه: ليس له العزل، لان ملكه زال فلا تبقى ولايته عليه، ويشبه أن
تكون المسألة مفروضة في التولية بعد تمام الوقف دون ما إذا وقف بشرط أن تكون
التولية لفلان، لان في فتاوى البغوي: أنه لو وقف مدرسة على أصحاب الشافعي
412

رضي الله عنه، ثم قال لعالم: فوضت إليك تدريسها، أو اذهب ودرس فيها، كان
له إبداله بغيره. ولو وقف بشرط أن يكون هو مدرسها، أو قال حال الوقف: فوضت
تدريسها إلى فلان، فهو لازم لا يجوز تبديله، كما لو وقف على أولاده الفقراء، لا
يجوز التبديل بالأغنياء، وهذا حسن في صيغة الشرط، وغير متضح في قوله: وقفتها
وفوضت التدريس إليه.
قلت: هذا الذي استحسنه الامام الرافعي، هو الأصح أو الصحيح. ويتعين ن
تكون صورة المسألة كما ذكر. ومن أطلقها، فكلامه محمول على هذا. وفي
فتاوى الشيخ أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: أنه ليس للواقف تبديل من
شرط النظر له حال إنشاء الوقف وإن رأى المصلحة في تبديله، ولا حكم له في ذلك
وأمثاله بعد تمام الوقف. ولو عزل الناظر المعين حالة إنشاء الوقف نفسه، فليس
للواقف نصب غيره، فإنه لا نظر له بعد أن جعل النظر في حالة الوقف لغيره، بل
ينصب الحاكم ناظرا.
وفيها: أنه إذا جعل في حالة الوقف النظر لزيد بعد انتقال الوقف من عمرو إلى
الفقراء، فعزل زيد نفسه قبل انتقاله إلى الفقراء، لم ينفذ عزله، ولا يملك الواقف
413

عزل زيد في الحال ولا بعدها كما تقدم.
وفيها: أنه ليس للناظر أن يسند ما جعل له من الاسناد قبل مصير النظر إليه.
وفيها: أنه لو شرط النظر للأرشد من أولاد أولاده، فكان الأرشد من أولاد
البنات، ثبت له النظر.
وفيها: أنه إذا شرط النظر للأرشد من أولاده، فأثبت كل واحد منهم أنه
الأرشد، اشتركوا في النظر من غير استقلال إذا وجدت الأهلية في جميعهم. فان
وجدت في بعضهم، اختص بذلك، لان البينات تعارضت في الأرشد، فتساقطت
وبقي أصل الرشد، فصار كما لو قامت البينة برشد الجميع من غير تفصيل، وحكمه
التشريك لعدم المزية. وأما عدم الاستقلال، فكما لو أوصى إلى شخصين مطلقا.
وفيها: أنه لو كان له النظر على مواضع في بلدان، فأثبت أهلية نظره في مكان
منها، ثبت أهليته في باقي الأماكن من حيث الأمانة، ولا تثبت من حيث الكفاية،
إلا أن تثبت أهليته للنظر في سائر الوقوف. والله أعلم
فرع في فتاوى البغوي: أنه لا يبدل بعد موت الواقف القيم الذي نصبه،
كأنه يجعل بعد موته كالوصي.
فصل نفقة العبد والبهيمة الموقوفين من حيث شرط الواقف، فإن لم
يشرط، ففي الأكساب وعوض المنافع. فإن لم يكن العبد كاسبا، أو تعطل كسبه
ومنافعه لزمانة أو مرض، أو لم يف كسبه بنفقته بني على أقوال الملك. فإن قلنا:
الملك للموقوف عليه، لزمه النفقة. وإن قلنا: لله تعالى، ففي بيت المال كما لو
أعتق من لا كسب له. وإن قلنا: للواقف، فهي عليه. فإذا مات، ففي بيت
المال، قاله المتولي، لان التركة انتقلت إلى الورثة، والرقبة لم تنتقل إليهم، فلا
يلزمهم النفقة. وقياس قولنا: أن رقبة الوقف الوقف للواقف، انتقالها إلى وارثه، وإذا
مات، فمؤنة تجهيزه كنفقته. وأما العقار الموقوف، فنفقته من حيث شرط. فإن
لم يشرط، فمن غلته. فإن لم يكن غلة، لم يجب على أحد عمارته كالملك الطلق،
بخلاف الحيوان تصان روحه.
فصل للواقف ولمن ولاه الواقف إجارة الوقف. وإذا لم ينصب الواقف
414

للتولية أحدا، فالخلاف فيمن له التولية قد سبق، فإن قلنا: المتولي هو الحاكم،
فهو الذي يؤجره، وإن قلنا: إنه الموقوف عليه بناء على أن الملك له، يمكن من
الإجارة على الصحيح. فإن كان الموقوف عليه جماعة، اشتركوا في الايجار، فإن كان
فيهم طفل، قام وليه مقامه. والثاني: لا، لأنه ربما مات في المدة فيكون
تصرفه في نصيب غيره. فإن كان الواقف جعل لكل بطن منهم الإجارة، فلهم
الإجارة قطعا. وإذا أجر الموقوف عليه بحكم الملك وجوزناه، فزادت الأجرة في
المدة، أو ظهر طالب بالزيادة، لم يتأثر العقد به، كما لو أجر الطلق. ولو أجر
المتولي بحكم التولية، ثم حدث ذلك، فكذلك الحكم على الأصح، لأن العقد
جرى بالغبطة في وقته، فأشبه ما إذا باع الولي مال الطفل ثم ارتفعت القيمة
بالأسواق، أو ظهر طالب بالزيادة. والثاني: ينفسخ العقد، لأنه بان وقوعه،
بخلاف الغبطة في المستقبل. والثالث: إن كانت الإجارة سنة فما دونها، لم يتأثر
العقد. وإن كانت أكثر، فالزيادة مردودة، وبه قطع أبو الفرج الزاز في الأمالي.
فصل إذا اندرس شرط الواقف، ولم تعرف مقادير الاستحقاق، أو كيفية
الترتيب بين أرباب الوقف، قسمت الغلة بينهم بالسوية. وحكى بعض
المتأخرين أن الوجه: التوقف إلى اصطلاحهم، وهو القياس. ولو اختلف أرباب
الوقف في شرط الوقف، ولا بينة، جعلت الغلة بينهم بالسوية. فإن كان الواقف
حيا، رجع إلى قوله، كذا ذكره صاحبا المهذب. والتهذيب ولو قيل: لا
رجوع إلى قوله، كما لا رجوع إلى قول البائع إذا اختلف المشتريان منه في كيفية
الشراء، لما كان بعيدا.
قلت: الصواب: الرجوع إليه، والفرق ظاهر. وقولهم: جعل بينهم، هو
فيما إذا كان في أيديهم، أو لا يد لواحد منهم. أما لو كان في يد بعضهم، فالقول
قوله. قال الغزالي وغيره. فإن لم يعرف أرباب الوقف، جعلناه كوقف مطلق لم
415

يذكر مصرفه، فيصرف إلى تلك المصارف. والله أعلم
فصل في تعطل الموقوف واختلال منافعه وله سببان.
السبب الأول: أن يحصل بسبب مضمون، بأن يقتل العبد الموقوف. فاما
أن لا يتعلق بقتله قصاص، وإما أن يتعلق.
الضرب الأول: ينظر فيه، هل القاتل أجنبي، أم الموقوف عليه، دم
الواقف.
الحال الأول: إذا قتله أجنبي، لزمه قيمته. وفي مصرفها طريقان.
أحدهما: تخريجها على أقوال ملك الرقبة، إن قلنا: لله تعالى، اشترى بها
عبدا يكون وقفا مكانه، فإن لم يوجد، فبعض عبد. وإن قلنا: للموقوف عليه أو
الواقف، فوجهان. أصحهما: كذلك لئلا يتعطل غرض الواقف وحق باقي
البطون. والثاني: يصرف ملكا إلى من حكمنا له بملك الرقبة، وبطل الوقف.
والطريق الثاني: القطع بأنه يشترى بها عبد يكون وقفا. والأصحاب متفقون
على أن الفتوى بأنه يشترى عبد. وإذا اشتري عبد وفضل شئ من القيمة، فهل
يعود ملكا للواقف، أم يصرف إلى الموقوف عليه؟ وجهان في فتاوى القفال رحمه
الله تعالى.
قلت: الوجهان معا ضعيفان، والمختار أنه يشترى به شقص عبد، لأنه بدل
جزء من الموقوف، والتفريع على وجوب شراء عبد. والله أعلم
ثم العبد الذي يجعل بدلا، يشتريه الحاكم إن قلنا: الملك في الرقبة لله
تعالى. وإن قلنا للموقوف عليه، فالموقوف عليه. وإن قلنا: للواقف، فوجهان،
ذكره أبو العباس الروياني في الجرجانيات. ولا يجوز للمتلف أن يشترى العبد
ويقيمه مقام الأول، لان من ثبت في ذمته شئ، ليس له استيفاؤه من نفسه لغيره.
فرع العبد المشترى، هل يصير وقفا بالشراء، أم لا بد من وقف جديد؟
وجهان جاريان في بدل المرهون إذا أتلف. وبالثاني قطع المتولي، وقال: الحاكم
416

هو الذي ينشئ الوقف، ويشبه أن يقال: من يباشر الشراء يباشر الوقف.
قلت: الأصح: أنه لا بد من إنشاء الوقف فيه، ووافق المتولي آخرون.
والله أعلم
فرع لا يجوز شراء عبد بقيمة الجارية، ولا عكسه. وفي جواز شراء
الصغير بقيمة الكبير وعكسه، وجهان حكاهما في الجرجانيات.
قلت: أقواهما: المنع، لاختلاف الغرض بالنسبة إلى البطون من أهل الوقف.
والله أعلم
الحال الثاني والثالث: إذا قتله الموقوف عليه أو الواقف، فإن صرفنا القيمة
إليه في الحالة الأولى ملكا، فلا قيمة عليه إذا كان هو القاتل، وإلا، فالحكم
والتفريع كالحالة الأولى.
الضرب الثاني: ما يتعلق به القصاص، فإن قلنا: الملك للواقف أو الموقوف
عليه، وجب القصاص ويستوفيه المالك منهما. وإن قلنا: لله تعالى، فهو كعبيد
بيت المال. والأصح: وجوب القصاص، قاله المتولي، ويستوفيه الحاكم.
فرع حكم أروش الأطراف والجنايات على العبد الموقوف فيما دون النفس
حكم قيمته في جميع ما ذكرناه، هذا هو الصحيح. وفي وجه: يصرف إلى
الموقوف عليه على كل قول كالمهر والأكساب.
فرع إذا جنى العبد الموقوف جناية موجبة للقصاص، فللمستحق
الاستيفاء. فإن استوفى، فات الوقف كموته. وإن عفا على مال، أو كانت موجبة
للمال، لم تتعلق برقبته، لتعذر بيع الوقف، لكن يفدى كأم الولد إذا جنت. فان
قلنا: الملك للواقف، فداه، وإن قلنا: لله تعالى، فهل يفديه الواقف، أم بيت
المال، أم يتعلق بكسبه؟ فيه أوجه. أصحها: أولها. وإن قلنا: للموقوف عليه،
فداه على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وقيل: على الواقف. وقيل: إن قلنا:
417

الوقف لا يفتقر إلى القبول، فعلى الواقف، وإلا، فعلى الموقوف عليه. وحيث
أوجبنا الفداء على الواقف، فكان ميتا، ففي الجرجانيات أنه أن ترك مالا، فعلى
الوارث الفداء. وقال المتولي: لا يفدي من التركة، لأنها انتقلت إلى الوارث.
فعلى هذا (هل) يتعلق بكسبه، أم ببيت المال كالحر المعسر الذي لا عاقلة له؟
وجهان. ولو مات العبد عقب الجناية بلا فصل، ففي سقوط الفداء وجهان.
أحدهما: نعم، كما لو جنى القن ثم مات. وأصحهما: لا، وبه قال ابن الحداد.
ويجري الخلاف، فيما إذا جنت أم الولد وماتت، وتكرر الجناية من العبد الموقوف
كتكررها من أم الولد.
قلت: وحيث أوجبنا الأرش في جهة، وجب أقل الأمرين من قدر قيمته
والأرش، كذا صرح به الأصحاب، منهم صاحبا المهذب والتهذيب. وأما
قول صاحب البيان: إذا أوجبنا على الموقوف عليه تعين الأرش، فشاذ باطل.
والله أعلم
السبب الثاني: أن يحصل التعطل بسبب غير مضمون. فإن لم يبق شئ منه
ينتفع به، بأن مات الموقوف، فقد فات الوقف. وإن بقي، كشجرة جفت، أو
قلعتها الريح، فوجهان. أحدهما: ينقطع الوقف كموت العبد. فعلى هذا، ينقلب
الحطب ملكا للواقف. وأصحهما لا ينقطع. وعلى هذا، وجهان. أحدهما:
يباع ما بقي، لتعذر الانتفاع بشرط الواقف. فعلى هذا، الثمن كقيمة المتلف.
فعلى وجه: يصرف إلى الموقوف عليه ملكا. وفي وجه: يشترى به شجرة، أو
شقص شجرة من جنسها، لتكون وقفا. ويجوز أن يشترى به ودي يغرس موضعها.
وأصحها: منع البيع. فعلى هذا، وجهان. أحدهما: ينتفع بإجارته جذعا إدامة
للوقف في عينه. والثاني: يصير ملكا للموقوف عليه، واختار المتولي وغيره الوجه
الأول إن أمكن استيفاء منفعة منه مع بقائه، والوجه الثاني إن كانت منفعته في
استهلاكه.
فرع زمانه الدابة الموقوفة، كجفاف الشجرة.
418

قلت: هذا إذا كانت الدابة مأكولة، فإنه يصح بيعها للحمها، فان كانت غير
مأكولة، لم يجئ الخلاف في بيعها، لأنه لا يصح بيعها إلا على الوجه الشاذ في
صحة بيعها اعتمادا على جلدها. والله أعلم
فرع حصر المسجد إذا بليت، ونحاتة أخشابه إذا نخزت، وأستار الكعبة
إذا لم يبق فيها منفعة ولا جمال، في جواز بيعها وجهان. أصحهما: تباع، لئلا
تضيع وتضيق المكان بلا فائدة. والثاني: لا تباع، بل تترك بحالها أبدا. وعلى
الأول، قالوا: يصرف ثمنها في مصالح المسجد. والقياس: أن يشترى بثمن
الحصير حصير، ولا يصرف في مصلحة أخرى، ويشبه أن يكون هو المراد
باطلاقهم. وجذع المسجد المنكسر إذا لم يصلح لشئ سوى الاحراق، فيه هذا
الخلاف. وإن أمكن أن يتخذ منه ألواح أو أبواب، قال المتولي: يجتهد الحاكم
ويستعمله فيما هو أقرب إلى مقصود الواقف. ويجري الخلاف في الدار المنهدمة،
وفيما إذا أشرف الجذع على الانكسار والدار على الانهدام. قال الامام: وإذا
جوزنا البيع، فالأصح صرف الثمن إلى جهة الوقف. وقيل: هو كقيمة المتلف،
فيصرف إلى الموقوف عليه ملكا على رأي، وإذا قيل به فقال الموقوف عليه: لا
419

تبيعوها واقلبوها إلى ملكي، فلا يجاب على المذهب، ولا تنقلب عين الوقف
ملكا، وقيل: تنقلب ملكا بلا لفظ.
فرع لو انهدم المسجد، أو خربت المحلة حوله وتفرق الناس عنها فتعطل
المسجد، لم يعد ملكا بحال، ولا يجوز بيعه، لامكان عوده كما كان، ولأنه في
الحال يمكن الصلاة فيه. ثم المسجد المعطل في الموضع الخراب، إن لم
يخف من أهل الفساد نقضه، لم ينفض. وإن خيف، نقض وحفظ وإن رأى الحاكم
أن يعمر بنقضه مسجدا آخر، جاز، وما كان أقرب إليه، فهو أولى، ولا يجوز
صرفه إلى عمارة بئر أو حوض، وكذا البئر الموقوفة إذا خربت، يصرف نقضها إلى
بئر أخرى أو حوض، لا (إلى) المسجد، ويراعي غرض الواقف ما أمكن.
فرع جميع ما ذكرناه في حصر المسجد ونظائرها، هو فيما إذا كانت
موقوفة على المسجد. أما ما اشتراه الناظر للمسجد، أو وهبه له واهب، وقبله
الناظر، فيجوز بيعه عند الحاجة بلا خلاف، لأنه ملك، حتى إذا كان المشتري
للمسجد شقصا، كان للشريك الاخذ بالشفعة. ولو باع الشريك، فللناظر الاخذ
بالشفعة عند الغبطة، هكذا ذكروه.
قلت: هذا إذا اشتراه الناظر ولم يقفه. أما إذا وقفه، فإنه يصير وقفا قطعا،
وتجري عليه أحكام الوقف.
والله أعلم
فرع لوقف على ثغر، فاتسعت خطة الاسلام حوله، تحفظ غلة
الوقف، لاحتمال عودة ثغرا.
420

فرع قال أبو عاصم العبادي: لو وقف على قنطرة، فانخرق الوادي
وتعطلت تلك القنطرة واحتيج إلى قنطرة أخرى، جاز النقل إلى ذلك الموضع.
فرع إذا خرب العقار الموقوف على المسجد وهناك فاضل من غلته، بدئ
منه بعمارة العقار.
فرع قال ابن كج: إذا حصل مال كثير من غلة المسجد، أعد منه قدر ما
لو خرب المسجد أعيدت به العمارة، والزائد يشترى به للمسجد ما فيه زيادة غلة.
وفي فتاوى القفال: أن الموقوف لعمارة المسجد لا يشترى به شئ أصلا، لان
الواقف وقف على العمارة.
فصل في مسائل منثورة تتعلق بالباب إحداها: وقف على الطالبيين،
وجوزناه، كفى الصرف إلى ثلاثة، ويجوز أن يكون أحدهم من أولاد علي، والثاني
من أولاد جعفر، والثالث من أولاد عقيل، رضي الله عنهم. ولو وقف على أولاد علي وأولاد
عقيل وأولاد جعفر رضي الله عنهم، فلا بد من الصرف إلى ثلاثة من كل
صنف.
الثانية: وقف شجرة، ففي دخول المغرس وجهان، وكذا حكم الأساس مع
البناء.
الثالثة: وقف على عمارة المسجد، لا يجوز صرف الغلة إلى النقش
والتزويق، وذكر في العدة أنه يجوز دفع أجرة القيم منه، ولا يجوز صرف شئ
منه إلى الامام والمؤذن، والفرق أن القيم يحفظ العمارة. قال: ويجوز أن يشترى
منه البواري، ولا يشترى الدهن على الأصح. والذي ذكره البغوي وأكثر من تعرض
421

للمسألة: أنه لا يشترى منه الدهن ولا الحصير. والتجصيص الذي فيه إحكام،
معدود من العمارة. وإذا وقف على عمارة المسجد، جاز أن يشترى منه سلم لصعود
السطح، ومكانس يكنس بها، ومساحي لنقل التراب، لان ذلك كله لحفظ
العمارة. ولو كان يصيب بابه المطر ويفسده، جاز بناء ظلة منه، وينبغي أن لا يضر
بالمارة. ولو وقف على مصلحة المسجد، لم يجز النقش والتزويق، ويجوز شراء
الحصر والدهن، والقياس جواز الصرف إلى الامام والمؤذن أيضا. والموقوف على
الحشيش والسقف، لا يصرف إلى الحصير ولا بالعكس، والموقوف على أحدهما لا
يصرف إلى اللبود ولا بالعكس. ولو وقف على المسجد مطلقا، وجوزناه، قال
البغوي: هو كالوقف على عمارة المسجد. وفي الجرجانيات في جواز الصرف
إلى النقش والتزويق في هذه الصورة وجهان. وفي فتاوى الغزالي: أنه يجوز هنا
صرف الغلة إلى الامام والمؤذن، وأنه يجوز بناء منارة للمسجد، ويشبه أن يجوز بناء
المنارة من الموقوف على عمارة المسجد أيضا. ولو وقف على النقش والتزويق،
فوجهان قريبان من الخلاف في جواز تحلية المصحف.
قلت: الأصح: لا يصح الوقف على النقش والتزويق، لأنه منهي عنه. والله
أعلم
الرابعة: إذا قال المتولي: أنفقت كذا، فالظاهر قبول قوله عند الاحتمال.
الخامسة: لا يجوز قسمة العقار الموقوف بين أرباب الوقف. وقال أب
القطان: إن قلنا: القسمة إفراز، جاز، فإذا انقرض البطن الأول، انقضت
القسمة، ويجوز لأهل الوقف المهاياة، قاله ابن كج.
السادسة: لا يجوز تغيير الوقف عن هيئته، فلا تجعل الدار بستانا ولا حماما،
ولا بالعكس، إلا إذا جعل الواقف إلى الناظر ما يرى فيه مصلحة للوقف. وفي فتاوى
القفال: أنه يجوز أن يجعل حانوت القصارين للخبازين، فكأنه احتمل تغيير النوع
دون الجنس. ولو هدم الدار أو البستان ظالم، أخذ منه الضمان وبني به أو غرس
422

ليكون وقفا مكان الأول. ولو انهدم البناء وانقلعت الأشجار، استغلت الأرض
بالإجارة لمن يزرعها أو يضرب فيها خيامه، ثم تبنى وتغرس من غلتها، ويجوز أن
يقرض الامام الناظر من بيت المال، أو يأذن له في الاقتراض أو الانفاق من مال نفسه
على العمارة بشرط الرجوع، وليس له الاقتراض دون إذن الإمام.
السابعة: لو تلف الموقوف في يد الموقوف عليه من غير تعد، فلا ضمان
عليه.
قلت: ومن ذلك الكيزان المسبلة على أحواض الماء والأنهر ونحوها، فلا
ضمان على من تلف في يده شئ منها بلا تعد. فإن تعدى، ضمن، ومن التعدي،
استعماله في غير ما وقف له. والله أعلم
الثامنة: لو انكسر المرجل والطنجير الموقوفان، ووجد متبرع بالاصلاح،
فذاك، وإلا، اتخذ منه أصغر وأنفق الباقي على إصلاحه. فإن لم يمكن اتخاذ
423

مرجل وطنجير، اتخذ منه ما يمكن من قصعة ومغرفة وغيرهما، ولا حاجة هنا إلى
إنشاء وقفه، فإنه غير الموقوف.
التاسعة: الوقف على الفقراء، هل يختص بفقراء بلد الواق؟ فيه الخلاف
المذكور فيما لو أوصى للفقراء. وهل يجوز الدفع (منه) إلى فقيرة لها زوج يمونها؟ فيه
خلاف سبق في أول قسم الصدقات.
قلت: سبق هناك، أن الأصح أنه لا يدفع إليها ولا إلى الابن المكفي بنفقة
أبيه، قال صاحب المعاياة: ولو كان له صنعة يكتسب بها كفايته ولا مال له،
استحق الوقف باسم الفقر قطعا. وفي هذا الذي قاله احتمال. والله أعلم
العاشرة: سئل الحناطي عن شجرة تنبت في المقبرة، هل يجوز للناس الاكل
من ثمرها؟ فقال: قيل: يجوز، وعندي الأولى أن تصرف في مصالح المقبرة.
قلت: المختار: الجواز. والله أعلم
قلت: وإن غرسها مسبلة للاكل، جاز أكلها بلا عوض، وكذا إن جهلت نيته
حيث جرت العادة به، وسبق في كتاب الصلاة أنها تقلع. والله أعلم
الحادية عشرة: قال الأئمة: إذا جعل البقعة مسجدا، فكان فيها شجرة، جاز
للامام قلعها باجتهاده. وبماذا ينقطع حق الواقف عن الشجرة؟ قال الغزالي في
الفتاوى: مجرد ذكر الأرض لا يخرج الشجرة عن ملكه كبيع الأرض، وحينئذ لا
يكلف تفريغ الأرض، ولك أن تقول: في استتباع الأرض للشجر في البيع قولان.
وإذا قال: جعلت هذه الأرض مسجدا، فلا تدخل الشجرة قطعا، لأنها لا تجعل
مسجدا. ولو جعل الأرض مسجدا، ووقف الشجرة عليها، فعلى هذه الصورة
ونحوها ينزل كلام الأصحاب.
الثانية عشرة: أفتى الغزالي بأنه يجوز وقف الستور لتستر بها جدران
المسجد، وينبغي أن يجئ فيه الخلاف السابق في النقش والتزويق.
424

الثالثة عشرة: لو وقف على دهن السراج للمسجد، جاز وضعه في جميع
الليل، لأنه أنشط للمصلين.
قلت: إنما يسرج جميع الليل إذا انتفع به من في المسجد كمصل ونائم
وغيرهما. فإن كان المسجد مغلقا ليس فيه أحد، ولا يمكن دخوله، لم يسرج،
لأنه إضاعة مال. والله أعلم
425

كتاب الهبة
قسم الشافعي رضي الله عنه العطايا، فقال: تبرع الانسان بماله على غيره،
ينقسم إلى معلق بالموت وهو الوصية، وإلى منجز في الحياة، وهو ضربان.
أحدهما: تمليك محض، كالهبات والصدقات. والثاني: الوقف.
والتمليك المحض: ثلاثة أنواع: الهبة، والهدية، وصدقة التطوع.
وسبيل ضبطها أن نقول: التمليك لا بعوض هبة. فإن انضم إليه حمل
الموهوب من مكان إلى مكان الموهوب له إعظاما له أو إكراما، فهو هدية، وإن
انضم إليه كون التمليك للمحتاج تقربا إلى الله تعالى، وطلبا لثواب الآخرة، فهو
426

صدقة، فامتياز الهدية عن الهبة بالنقل والحمل من موضع إلى موضع، ومنه إهداء
النعم إلى الحرم، ولذلك لا يدخل لفظ الهدية في العقار بحال، فلا يقال:
أهدى إليه دارا، ولا أرضا، وإنما يطلق ذلك في المنقولات كالثياب والعبيد،
فحصل من هذا أن هذه الأنواع تفترق بالعموم والخصوص، فكل هدية وصدقة هبة،
ولا تنعكس. ولهذا لو حلف لا يهب، فتصدق، حنث، وبالعكس لا يحنث.
واختلفوا في أنه هل يشترط في حد الهدية أن يكون بين المهدي والمهدي إليه رسول
أو متوسط، أم لا؟ فحكى أبو عبد الله الزبيري، فيما إذا حلف لا يهدي إليه،
فوهب له خاتما أو نحوه يدا بيد، هل يحنث؟ وجهين. والأصح: أنه لا يشترط،
وينتظم أن يقول لمن حضر عنده: هذه هديتي أهديتها لك. وهذه الأنواع الثلاثة
مندوب إليها، وتفترق في أحكام، وتشترك في أحكام، وسيأتي بيانها إن شاء الله
تعالى.
قلت: قال أصحابنا: وفعلها مع الأقارب ومع الجيران أفضل من غيرهم.
والله أعلم
فرع ينبغي أن لا يحتقر القليل فيمتنع من إهدائه، وأن لا يستنكف المهدى
إليه عن قبول القليل.
قلت: ويستحب للمهدى إليه أن يدعو للمهدي، ويستحب للمهدي إذا دعا له
المهدى إليه، أن يدعو أيضا له، وقد أوضحت ذلك مع بيان ما يدعو به في كتاب
الأذكار. والله أعلم
فصل ويشتمل الكتاب على بابين.
أحدهما: في أركان الهبة وشرط لزومها. أما أركانها فأربعة.
(الركن) الأول والثاني: العاقدان، وأمرهما واضح.
الركن الثالث: الصيغة. أما الهبة، فلا بد فيها من الايجاب والقبول باللفظ،
كالبيع وسائر التمليكات.
427

وأما الهدية، ففيها وجهان. أحدهما: يشترط فيها الايجاب والقبول، كالبيع
والوصية، وهذا ظاهر كلام الشيخ أبي حامد والمتلقين عنه. والثاني: لا حاجة فيها
إلى إيجاب وقبول باللفظ، بل يكفي القبض ويملك به، وهذا هو الصحيح الذي
عليه قرار المذهب ونقله الاثبات من متأخري الأصحاب، وبه قطع المتولي
والبغوي، واعتمده الروياني وغيرهم،
واحتجوا بأن الهدايا كانت تحمل إلى رسول الله (ص) فيقبلها، ولا لفظ هناك،
وعلى جرى ذلك الناس في الأعصار، ولذلك كانوا يبعثون بها على أيدي الصبيان
الذين لا عبارة لهم.
فإن قيل: هذا كان إباحة لا هدية وتمليكا، فجوابه أنه لو كان إباحة، لما
تصرفوا فيه تصرف الملاك، ومعلوم أن ما قبله النبي (ص)، كان يتصرف فيه ويملكه
غيره. ويمكن أن يحمل كلام من اعتبر الايجاب والقبول على الامر المشعر بالرضى
دون اللفظ، ويقال: الاشعار بالرضى قد يكون لفظا وقد يكون فعلا.
فرع الصدقة كالهدية بلا فرق فيما ذكرناه، وسواء فيما ذكرناه في الهدية
الأطعمة وغيرها.
فرع في مسائل تتعلق بما سبق إحداها: حيث اعتبرنا الايجاب
والقبول، لا يجوز التعليق على شرط، ولا التوقيت على المذهب، وفيهما كلام
سنذكره في العمرى إن شاء الله تعالى، وكذلك لا يجوز تأخير القبول عن الايجاب،
بل يشترط التواصل المعتاد كالبيع، وعن ابن سريج جواز تأخير القبول كما في
الوصية، وهذا الخلاف حكاه كثيرون في الهبة، وخصه المتولي بالهدية، وجزم
بمنع التأخير في الهبة، والقياس التسوية بينهما. ثم في الهدايا التي يبعث بها (من)
موضع إلى موضع، وإن اعتبرنا اللفظ والقبول على الفور، فاما أن يوكل الرسول
428

ليوجب ويقبل المبعوث إليه، وإما أن يوجب المهدي ويقبل المهدى إليه عند الوصول
إليه.
الثانية: إذا كانت الهبة لمن ليس له أهلية القبول، نظر، إن كان الواهب
أجنبيا، قبل له من يلي أمره من ولي ووصي وقيم. وإن كان الواهب ممن يلي أمره،
فإن كان غير الأب والجد، قبل له الحاكم أو نائبه. وإن كان أبا أو جدا، تولى
الطرفين. وهل يحتاج إلى لفظي الايجاب والقبول، أم يكفي أحدهما؟ وجهان كما
سبق في البيع. قال الامام: وموضع الوجهين في القبول، ما إذا أتى بلفظ
مستقل، كقوله: اشتريت لطفلي، أو اتهبت له كذا. أما قوله: قبلت البيع والهبة،
فلا يمكن الاقتصار عليه بحال.
فرع لا اعتبار بقبول متعهد الطفل الذي لا ولاية له عليه.
الثالثة: إذا وهب لعبد غيره، فالمعتبر قبول العبد. وفي افتقاره إلى إذن سيده
خلاف سبق.
الرابعة: وهب له شيئا فقبل نصفه، أو وهب له عبدين، فقبل أحدهما، ففي
صحته وجهان. والفرق بينه وبين البيع، أن البيع معاوضة.
الخامسة: غرس أشجارا وقال عند الغراس: أغرسه لابني، لم يصر للابن.
ولو قال: جعلته لابني وهو صغير، صار للجبن، لان هبته له لا تقتضي قبولا،
429

بخلاف ما لو جعله لبالغ، كذا قاله الشيخ أبو عاصم، وهو ملتفت إلى الانعقاد
بالكنايات، وإلى أن هبة الأب لابنه الصغير يكفي فيها أحد الشقين.
السادسة: لو ختن ابنه واتخذ دعوة، فحملت إليه هدايا ولم يسم أصحابها
الأب ولا الابن، فهل تكون الهدية ملكا للأب، أم للابن؟ فيه وجهان.
قلت: قطع القاضي حسين في الفتاوى بأنه للابن، وأنه يجب على الأب
أن يقبلها لولده، فإن لم يقبل، أثم. قال: وكذا وصي وقيم، يقبل الهدية والوصية
للصغير. قال: فإن لم يقبل الوصي الوصية والهدية، أثم وانعزل لتركه النظر. وفي
فتاوى القاضي: أن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي قال: تكون ملكا للأب، لان الناس
يقصدون التقرب إليه، وهذا أقوى وأصح. والله أعلم
السابعة: بعث إليه هدية في ظرف، والعادة - في مثلها رد الظرف، لم يكن
الظرف هدية. فإن كان العادة أن لا يرد كقوصرة التمر، فالظرف هدية أيضا، وقد
يميز القسمان بكونه مشدودا فيه وغير مشدود. وإذا لم يكن الظرف هدية، كان أمانة
في يد المهدي إليه، وليس له استعماله في غير الهدية. وأما فيها، فان اقتضت
العادة تفريغه، لزم تفريغه. وإن اقتضت التناول منه، جاز التناول منه، قال
البغوي: ويكون عارية.
الثامنة: بعث كتابا إلى حاضر أو غائب، وكتب فيه أن اكتب الجواب على
ظهره، لزمه رده، وليس له التصرف فيه، وإلا، فهو هدية يملكها المكتوب إليه،
قاله المتولي. وقال غيره: يبقى على ملك الكاتب، وللمكتوب إليه الانتفاع به على
سبيل الإباحة.
430

قلت: هذا الثاني حكاه صاحب البيان عن حكاية القاضي أبي الطيب عن
بعض الأصحاب، والأول أصح. والله أعلم
التاسعة: أعطاه درهما وقال: ادخل به الحمام، أو دراهم وقال: اشتر بها
لنفسك عمامة ونحو ذلك، ففي فتاوى القفال: أنه إن قال ذلك على سبيل التبسط
المعتاد، ملكه وتصرف فيه كيف شاء. وإن كان غرضه تحصيل ما عينه لما رأى به
من الشعث والوسخ، أو لعلمه بأنه مكشوف الرأس، لم يجز صرفه إلى غير ما عينه.
قلت: وقال القاضي حسين في الفتاوى: وهل يتعين؟ يحتمل وجهين.
وقال: ولو طلب الشاهد مركوبا ليركبه في أداء الشهادة، فأعطاه دراهم ليصرفها إلى
مركوب، هل له صرفها إلى جهة أخرى؟ وجهان. الصحيح المختار، ما قاله
القفال. قال القاضي: ولو قال: وهبتك هذه الدراهم بشرط أنك تشتري بها خبزا
لتأكله، لم تصح الهبة، لأنه لم يطلق له التصرف. والله أعلم
العاشرة: سئل الشيخ أبو زيد رحمه الله تعالى عن رجل مات أبوه، فبعث إليه
رجل ثوبا ليكفنه فيه، هل يملكه حتى يمسكه ويكفنه في غيره؟ فقال: إن كان
الميت ممن يتبرك بتكفينه لفقه وورع، فلا، ولو كفنه في غيره، وجب رده إلى
مالكه.
الحادية عشرة: في فتاوى الغزالي: أن خادم الصوفية الذي يتردد في السوق
ويجمع لهم شيئا يأكلونه، يملكه الخادم الصرف ولا يلزمه الصرف إليهم، إلا أن المروءة
تقتضي الوفاء بما تصدى له، ولو لم يف، فلهم منعه من أن يظهر الجمع لهم
والانفاق عليهم. وإنما ملكه لأنه ليس بولي ولا وكيل عنهم، بخلاف هدايا
الختان.
431

قلت: ومن مسائل الفصل، أن قبول الهدايا التي يجئ بها الصبي المميز،
جائز باتفاقهم، وقد سبق في كتاب البيع، وإنه يجوز قبول هدية الكافر، وأنه يحرم
على العمال وأهل الولايات قبول هدية من رعاياهم. والله أعلم
فصل في العمرى والرقبى أما العمرى، فقوله: أعمرتك هذه الدار
مثلا، أو جعلتها لك عمرك، أو حياتك، أو ما عشت، أو حييت، أو بقيت، وما
يفيد هذا المعنى. ثم له أحوال.
أحدها: أن يقول مع ذلك: فإذا مت، فهي لورثتك أو لعقبك
وهي الهبة بعينها، لكنه طول العبارة فإذا مات. فالدار لورثته، فإن لم يكونوا،
فلبيت المال، ولا يعود إلى الواهب بحال.
الثاني: يقتصر على قوله: جعلتها لك عمرك، ولم يتعرض لما سواه،
فقولان. أظهرهما وهو الجديد: أنه يصح، وله حكم الهبة. والقديم: أنه
باطل. وقيل: إن القديم: أن الدار تكون للمعمر حياته. فإذا مات، عادت إلى
الواهب أو ورثته كما شرط. وقيل: القديم: أنها تكون عارية يستردها متى شاء،
فإذا مات، عادت إلى الواهب.
432

الثالث: أن يقول: جعلتها لك عمرك، فإذا مت عادت إلي أو إلى ورثتي إن
كنت مت. فان قلنا بالبطلان في الحال الثاني، فهنا أولى. وإن قلنا بالصحة والعود
إلى الواهب، فكذا هنا. وإن قلنا بالجديد، فوجهان. أحدهما: البطلان.
والصحيح: الصحة، وبه قطع الأكثرون، وسووا بينه وبين حالة الاطلاق، وكأنهم
أخذوا باطلاق الأحاديث الصحيحة وعدلوا به عن قياس الشروط الفاسدة.
وأما الرقبى: فهو أن يقول: وهبت لك هذه الدار عمرك، على أنك
إن مت قبلي عادت إلي. وإن مت قبلك استقرت لك، أو جعلت هذه الدار لك
رقبى، أو أرقبتها لك. وحكمها حكم الحال الثالث من العمرى، وحاصله طريقان.
أحدهما: القطع بالبطلان. وأصحهما: قولان. الجديد الأظهر: صحته، ويلغو
الشرط. فالحاصل أن المذهب صحة العمرى والرقبى في الأحوال الثلاثة، فإذا
صححناهما وألغينا الشرط، تصرف المعمر في المال كيف شاء. وإن أبطلنا العقد أو
جعلناه عارية، فلا يخفى أنه ليس له التصرف بالبيع ونحوه وإن قلنا بصحة العقد
والشرط، فباع الموهوب له ثم مات، فقد ذكر الامام احتمالين. أصحهما عنده: لا
ينفذ البيع، لان مقتضى البيع التأبيد، وهو لم يملك إلا مؤقتا، فكيف يملك غيره ما
لم يملكه؟ والثاني: ينفذ كبيع المعلق عتقه على صفة، وبهذا قطع ابن كج وعلله
بأنه ملك في الحال، والرجوع أمر يحدث، وشبهه برجوع نصف الصداق بالطلاق
قبل الدخول. فإذا صححنا بيعه، فيشبه أن يرجع الواهب في تركته بالغرم رجوع
الزوج إذا طلق بعد خروج الصداق عن ملكها. قال الامام: وفي رجوع المال إلى
ورثة الواهب إذا مات قبل الموهوب له، استبعاد، لأنه إثبات ملك لهم فيما لم يملكه
المورث، لكنه كما لو نصب شبكة فوقع بها صيد بعد موته، يكون ملكا للورثة.
والصحيح: أنه تركة تقضى منها ديونه وتنفذ الوصايا.
فرع قال: جعلت هذه الدار لك عمري أو حياتي، فوجهان. أحدهما:
أنه كقوله: جعلتها لك عمرك أو حياتك، لشمول اسم العمرى. وأصحهما:
البطلان، لخروجه عن اللفظ المعتاد، ولما فيه من تأقيت الملك، فإنه قد يموت
الواهب أولا، بخلاف العكس، فإن الانسان لا يملك إلا مدة حياته، فلا توقيت
433

فيه. وأجري الخلاف فيما لو قال: جعلتها لك عمر فلان. وخرج من تصحيح العقد
وإلغاء الشرط في هذه الصرة وجه: أن الشرط الفاسد لا يفسد الهبة، وطرد ذلك في
الوقف. ثم منهم من خص الخلاف في هذه القاعدة بما هو من قبيل الأوقات،
كقوله: وهبتك أو وقفتها سنة. ومنهم من طرده في كل شرط، كقوله: وهبتك بشرط
أن لا تبيعه إذا قبضته ونحو ذلك، وفرقوا بين البيع والهبة والوقف، بأن الشرط في
البيع يورث جهالة الثمن فيفسد البيع. والمذهب فساد الهبة والوقف بالشروط
المفسدة للبيع، بخلاف العمرى، لما فيها من الأحاديث الصحيحة.
فرع لو باع على صورة العمرى فقال: ملكتكها بعشر عمرك، قال ابن
كج: لا يبعد عندي جوازه تفريعا على الجديد. وقال أبو علي الطبري: لا يجوز.
فرع لا يجوز تعليق العمرى، كقوله: إذا مات أو قدم فلان أو جاء رأس
الشهر فقد أعمرتك هذه الدار، أو فهي لك عمرك. فلو علق بموته فقال: إذا مت
فهذه الدار لك عمرك، فهي وصية تعتبر من الثلث. فلو قال: إذا مت فهي لك
عمرك، فإذا مت عادت إلى ورثتي، فهي وصية بالعمرى على صورة الحالة الثالثة.
فرع جعل رجلان كل واحد منهما داره للآخر عمره، على أنه إذا مات
قبله، عاد ت إلى صاحب الدار، فهذه رقبى من الجانبين.
فرع قال: داري لك عمرك، فإذا مت فهي لزيد، أو عبدي لك عمرك،
فإذا مت فهو حر، صحت العمرى على قوله الجديد، ولغا المذكور بعدها.
الركن الرابع: الموهوب، فما جاز بيعه، جازت هبته، وما لا، فلا، هذا
434

هو الغالب. وقد يختلفان، فتجوز هبة المشاع سواء المنقسم وغيره، وسواء وهبه
للشريك أو غيره، وتجوز هبة الأرض المزروعة مع زرعها ودون زرعها وعكسه.
فرع لو وهب لاثنين، فقبل أحدهما نصفه، فوجهان كالبيع. وقطع
صاحب الشامل بالتصحيح.
فرع لا تصح هبة المجهول، ولا الآبق والضال، وتجوز هبة المغصوب
لغير الغاصب إن قدر على الانتزاع، وإلا، فوجهان. وأما هبته للغاصب، فقد
ذكرناها في كتاب الرهن. وتجوز هبة المستعار لغير المستعير ثم إذا قبض الموهوب
له بالاذن، برئ الغاصب والمستعير من الضمان، وتجوز هبة المستأجرة إذا جوزنا
بيعها، وإلا، ففيها الوجهان. ثم قال الشيخ أبو حامد وغيره: ولو وكل الموهوب له
الغاصب أو المستعير أو المستأجر في قبض ما في يده في نفسه، وقبل، صح. وإذا
مضت مدة يتأنى فيها القبض، برئ الغاصب والمستعير من الضمان، وهذا يخالف
الأصل المشهور في أن الشخص لا يكون قابضا مقبضا، وفي هبة المرهون
وجهان. إن صححناها، انتظرنا، فإن بيع في الرهن، بأن بطلان الهبة. وإن فك
الرهن، فللواهب الخيار من الاقباض. ويجري الوجهان في هبة الكلب، وجلد
435

الميتة قبل الدباغ، والخمر المحترمة. والأصح من الوجهين في هذه الصور كلها
البطلان، قياسا على البيع. والثاني: الصحة، لأنها أخف من البيع.
قال
الامام: من صحح فيها، فحقه تصحيحها في المجهول والآبق كالوصية.
فرع إذا وهب الدين لمن هو عليه، فهو إبراء، ولا يحتاج إلى القبول على
المذهب. وقيل: يحتاج اعتبارا باللفظ. وإن وهبه لغير من هو عليه، لم يصح
على المذهب. وقيل: في صحته وجهان، كرهن الدين. فإن صححنا، ففي
افتقار لزومها إلى قبض الدين، وجهان. فإن قلنا: لا يفتقر، فهل يلزم بنفس
الايجاب والقبول كالحوالة؟ أم لا بد من إذن جديد ويكون ذلك كالتخلية فيما لا
يمكن نقله؟ وجهان.
فرع رجل عليه زكاة وله دين على مسكين، فوهب له الذين بنية الزكاة،
لم يقع الموقع، لأنه إبراء بتمليك وإقامة الابراء مقام التمليك إبدال، وذلك
لا يجوز في الزكاة، هكذا قال صاحب التقريب. ولك أن تقول: ذكروا وجهين
في أن هبة الدين ممن عليه (الدين) تنزل منزلة التمليك، أم هو محض إسقاط؟ وعلى
هذا خرج اعتبار
436

القبول فيها. فإن قلنا: تمليك، وجب أن يقع الموقع.
ولو كان الدين على غير المسكين، فوهبه للمسكين بنية الزكاة، وقلنا:
تصح الهبة ولا يعتبر القبض، أجزأه عن الزكاة، ويطالب المسكين والمديون.
فصل وأما شرط لزوم الهبة، فهو القبض، فلا يحصل الملك في
الموهوب والهدية إلا بقبضهما، هذا هو المشهور. وفي قول قديم: يملك بالعقد
كالوقف. وفي قول مخرج: الملك موقوف، فإن قبض، تبينا أنه ملك بالعقد.
ويتفرع على الأقوال أن الزيادة الحادثة بين العقد والقبض، لمن تكون؟ ولو مات
الواهب أو الموهوب له بعد العقد وقبل القبض، فوجهان. وقيل: قولان.
أحدهما: ينفسخ العقد، لجوازه، كالشركة والوكالة. وأصحهما: لا ينفسخ، لأنه
يؤول إلى اللزوم. كالبيع الجائز، بخلاف الشركة. فعلى هذا، إن مات الواهب
تخير الوارث في الاقباض. وإن مات الموهوب له، قبض وارثه إن أقبضه الواهب.
ويجري الخلاف في جنون أحدهما وإغمائه.
قلت: قال البغوي: ويقبض بعد الإفاقة منهما، ولا يصح القبض في حال
الجنون والاغماء. والله أعلم
437

فرع القبض المحصل للملك، هو الواقع باذن الواهب، فلو قبض بلا
إذنه، لم يملكه، ودخل في ضمانه، سواء ض في مجلس العقد أو بعده. ولو
كان الموهوب في يد الموهوب له، فحكمه ما سبق في كتاب الرهن. ولو أذن في
القبض، ثم رجع عنه قبل القبض، صح رجوعه، فلا يصح القبض بعده. وكذا لو
أذن، ثم مات الآذن أو المأذون له قبل القبض، بطل الاذن.
فرع بعث هدية إلى إنسان، فمات المهدى إليه قبل وصولها إليه، بقيت
الهدية للمهدي. ولو مات المهدي، لم يكن للرسول حملها إلى المهدي إليه،
وكذا المسافر إذا اشترى لأصدقائه هدايا، فمات قبل وصولها إليهم، فهي له تركة.
فرع كيفية القبض في العقار والمنقول، كما سبق في البيع. وحكينا هنا
قولا، أن التخلية في المنقول قبض. قال المتولي: لا جريان له هنا، لان القبض
هناك مستحق، وللمشتري المطالبة به، فجعل التمكين قبضا، وفي الهبة غير
مستحق، فاعتبر تحقيقه ولم يكتف بالوضع بين يديه.
قلت: فلو كان الموهوب مشاعا، فإن كان غير منقول، فقبضه بالتخلية، وإن
كان منقولا، فقبضه بقبض الجميع. قال أصحابنا: صاحب الشامل وآخرون:
فيقال للشريك ليرضى بتسليم نصيبه أيضا إلى الموهوب له، ليكون في يده وديعة
حتى يتأتى القبض ثم يرده إليه. فإن فعل، (فقبض الموهوب الجميع، ملك. وإن
امتنع، قيل للموهوب له: وكل الشريك في القبض لك. فإن فعل) نقله الشريك
وقبضه له. فإن امتنعا، نصب الحاكم من يكون في يده لهما فينقله ليحصل
القبض، لأنه لا ضرر في ذلك عليهما. (والله أعلم)
فرع لو أتلف المتهب الموهوب، لم يصر قابضا، بخلاف المشتري إذا
أتلف المبيع، والفرق ما سبق في الفرع قبله. ولو أذن الواهب للموهوب له في أكل
438

طعام الموهوب، فأكله، أو في إعتاق الموهوب، فأعتقه، أو أمر الموهوب له
الواهب باعتاقه، فأعتقه، كان قابضا.
فرع لو باع الواهب الموهوب قبل الاقباض، حكى الشيخ أبو حامد: أنه
إن كان يعتقد أن الهبة غير لازمة، صح بيعه وبطلت الهبة. وإن اعتقد لزومها
وحصول الملك بالعقد، ففي صحة بيعه قولان، كمن مال أبيه يظن أنه حي،
فبان ميتا.
فرع في مسائل محكية عن نص الشافعي رضي الله عنه لو قال:
وهبته له وملكه، لم يكن إقرارا بلزوم الهبة، لجواز أن يعتقد لزومها وحصول الملك
بالعقد، والاقرار يحمل على اليقين. ولو قال: وهبته له وخرجت إليه منه، فإن كان
الموهوب في يد المتهب، كان إقرارا بالقبض، وإن كان في يد الواهب، فلا. ولو
قيل له: وهبت دارك لفلان وأقبضته؟ فقال: نعم، كان إقرارا بالهبة والاقباض.
الباب الثاني
في حكم الهبة في الرجوع والثواب
فيه طرفان.
(الطرف) الأول: في الرجوع، فالهبة تنقسم إلى مقيدة بنفي الثواب، ومقيدة
باثباته، ومطلقة. أما المقيدة بنفي الثواب، فتلزم بنفس القبض، ولا رجوع فيها إلا
للوالد، فإنه يرجع فيما وهبه لولده كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فصل ينبغي للوالد أن يعدل بين أولاده في العطية، فإن لم يعدل، فقد
فعل مكروها، لكن تصح الهبة. والأولى في هذا الحال، أن يعطي الآخرين ما
يحبه العدل. ولو رجع، جاز. وإذا أعطى وعدل، كره له الرجوع. وكذا لو
439

كان ولدا واحدا، فوهب له، كره الرجوع إن كان الولد عفيفا بارا، فإن كان عاقا أو
يستعين بما أعطاه في معصية، فلينذره بالرجوع. فإن أصر، لم يكره الرجوع.
فرع في كيفية العدل بين الأولاد في الهبة، وجهان. أصحهما: أن
يسوي بين الذكر والأنثى. والثاني: يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين.
قلت: وإذا وهبت الام لأولادها، فهي كالأب في العدل بينهم في كل ما
ذكرناه، وكذلك الجد والجدة، وكذا الابن إذا وهب لوالديه. قال الدارمي: فان
فضل فليفضل الام. والله أعلم
فصل للأب الرجوع في هبته لولده. وعن ابن سريج: أنه إنما يرجع إذا
قصد بهبته استجلاب بر أو دفع عقوق فلم يحصل، فإن أطلق الهبة ولم يقصد ذلك،
فلا رجوع والصحيح الجواز مطلقا وأما الام والأجداد والجدات من جهة
الأب والأم، فالمذهب أنهم كالأب. وفي قول: لا رجوع لهم. وقيل: ترجع
الام. وفي غيرها، قولان. وقيل: يرجع آباء الأب، وفي غيرهم قولان. ولا
رجوع لغير الأصول كالأخوة والأعمام وغيرهم من الأقارب قطعا. وسواء في ثبوت
440

الرجوع للوالد كانا متفقين في الدين، أم لا. ولو وهب لعبد ولده، رجع. ولو
وهب لمكاتب ولده، فلا. وهبته لمكاتب نفسه كالأجنبي. ولو تنازع رجلان
مولودا، ووهبا له، فلا رجوع لواحد منهما. فإن ألحق بأحدهما، فوجهان، لان
الرجوع لم يكن ثابتا ابتداء.
قلت: أصحهما: الرجوع، وبه قطع ابن كج، لثبوت بنوته في الاحكام.
والله أعلم
فرع حكم الرجوع في الهدية حكمه في الهبة. ولو تصدق على ولده، فله
الرجوع على الأصح المنصوص. قال المتولي: ولو أبرأه من دين، بني على أن
الابراء إسقاط، أو تمليك؟ إن قلنا: تمليك، رجع، وإلا، فلا.
قلت: ينبغي أن لا يرجع على التقديرين. والله أعلم
فرع وهب لولده، ثم مات الواهب، ووارثه أبوه لكون الولد مخالفا في
الدين، فلا رجوع للجد.
فرع الموهوب، إما أن لا يكون باقيا في سلطنة المتهب، وإما أن يكون.
القسم الأول: أن لا يكون، بأن أتلف، أو زال ملكه عنه ببيع أو غيره، أو
وقفه، أو أعتقه، أو كاتبه، أو استولدها، أو وهبه وأقبضه، أو رهنه وأقبضه، فلا
441

رجوع له، ولا قيمة أيضا. وحكى الامام خلافا، في أن الرهن هل يمنع الرجوع،
مبنيا على ما سبق من صحة هبة المرهون؟ فإن قلنا: لا تصح، لم يصح الرجوع،
وإلا، توقفنا. فإن فك الرهن، بان صحة الرجوع، وذكر أيضا ترددا في كتابة العبد
بناء على صحة بيعه. ولا يمتنع الرجوع بالرهن والهبة إذا لم يقبضا، ولا بالتدبير
وتعليق العتق بصفة، ولا بزراعة الأرض وتزويج الأمة قطعا، ولا بالايجار على
المذهب، وبه قطع الأكثرون، وتبقى الإجارة بحالها كالتزويج. وقال الامام: إن
صححنا بيع المستأجر، رجع، وإلا، فان جوزنا الرجوع في المرهون وتوقفنا، صح
الرجوع هنا ولا توقف، بل الرقبة للراجع، ويستوفي المستأجر المنفعة إلى انقضاء
المدة. وإن منعنا الرجوع في المرهون، ففي المستأجر تردد، وخرج على هذا،
ترددا فيما إذا أبق العبد الموهوب من يد المتهب، هل يصح رجوع الواهب، مع
قولنا: لا تصح هبة الآبق، لان الهبة تمليك مبتدأ والرجوع بناء فيسامح فيه؟ ولو
جنى وتعلق الأرش برقبته، فهو كالمرهون في امتناع الرجوع. لكن لو قال: أنا أفديه
وأرجع، مكن، بخلاف ما لو كان مرهونا فأراد أن يبذل قيمته ويرجع، لما فيه من
إبطال تصرف المتهب.
ولو زال ملك المتهب ثم عاد بإرث أو شراء، ففي عود الرجوع وجهان. وقال
الغزالي: قولان. أصحهما: المنع. واحتج أبو العباس الروياني لهذا الوجه،
بأنه لو وهب لابنه، فوهبه الابن لجده، فوهبه الجد لابن ابنه الذي وهبه، فإن حق
الرجوع للجد الذي حصل منه هذا الملك، لا للأب، ولا يبعد أن يثبت القائل الأول
الرجوع لهما جميعا.
442

ولو وهب له عصيرا فصار خمرا، ثم صار خلا، فله الرجوع على المذهب.
وحكى بعضهم وجهين في زوال الملك بالتخمر، ووجهين في عود الرجوع تفريعا
على الزوال. وإذا انفك الرهن أو الكتابة بعجز المكاتب، ثبت الرجوع على
المذهب.
ولو حجر على المتهب بالفلس، فلا رجوع على الأصح كالرهن. وقيل:
يرجع، لان حقه سابق، فإنه يثبت من حين الهبة.
قلت: ولو حجر عليه بالسفه، ثبت الرجوع قطعا، لأنه لم يتعلق به حق
غيره، قاله المتولي وآخرون. والله أعلم
ولو ارتد وقلنا: لا يزول ملكه، ثبت الرجوع. وإن قلنا: يزول، فلا. فإن
عاد إلى الاسلام، ثبت الرجوع على المذهب. وقيل: على الخلاف فيما لو زال
ملكه ثم عاد. ولو وهب الابن المتهب الموهوب لابنه، أو باعه له أو ورثه منه، فلا
رجوع للجد على المذهب.
قلت: ولو وهبه المتهب لأخيه من أبيه، قال في البيان: ينبغي أن لا يجوز
للأب الرجوع قطعا، لان الواهب لا يملك الرجوع، فالأب أولى. ولا يبعد تخريج
الخلاف لأنهم عللوا الرجوع بأنه هبة لمن للجد الرجوع في هبته، وهذا موجود
هنا. والله أعلم
القسم الثاني: أن يكون باقيا في سلطنة المتهب، فإن كان بحاله، أو ناقصا،
فله الرجوع، وليس على المتهب أرش النقص، وإن كان زائدا، نظر، إن كانت
الزيادة متصلة، كالسمن وتعلم صنعة، رجع فيه مع الزيادة. وإن كانت منفصلة
كالولد، والكسب، رجع في الأصل وبقيت الزيادة للمتهب. وإن وهب جارية أو
بهيمة حاملا، فرجع قبل الوضع، رجع فيها حاملا. وإن رجع بعد الوضع، فإن
قلنا: للحمل حكم، رجع في الولد مع الام، وإلا، ففي الام فقط. وإن وهبها
حائلا ورجع وهي حامل، فإن قلنا: لا حكم للحمل، رجع فيها حاملا، وإلا، فلا
يرجع إلا في الام، وهل له الرجوع في الحال، أم عليه الصبر إلى الوضع؟
وجهان. ولو وهبه حبا فبذره ونبت، أو بيضا فصار فرخا، فلا رجوع، لان ماله
443

قال البغوي: هذا إذا ضمنا الغاصب بذلك، وإلا، فقد وجد عين ماله
فيرجع.
ولو كان الموهوب ثوبا فصبغه الابن، رجع في الثوب، والابن شريك
بالصبغ. ولو قصره، أو كانت حنطة فطحنها، أو غزلا فنسجه، فإن لم تزد قيمته،
رجع ولا شئ للابن. وإن زادت، فإن قلنا: القصارة عين، فالابن شريك. وإن
قلنا: أثر، فلا شئ له. ولو كان أرضا فبنى فيها أو غرس، رجع الأب في
الأرض، وليس له قلع البناء والغراس مجانا، لكنه يتخير بين الابقاء بأجرة، أو
التملك بالقيمة، أو القلع. وغرامة النقص كالعارية. ولو وطئ الابن الموهوبة،
قال ابن القطان: لا رجوع وإن لم تحبل، لأنها حرمت على الأب، والصحيح:
ثبوت الرجوع.
فرع فيما يحصل به الرجوع يحصل بقوله: رجعت فيما وهبت، أو
ارتجعت، أو استرددت المال، أو رددته إلى ملكي، أو أبطلت الهبة، أو نقضتها
وما أشبه ذلك، هكذا أطلقوه. وحكى الروياني في الجرجانيات وجهين في أن
الرجوع نقض وإبطال للهبة، أم لا؟ فعلى الثاني: ينبغي أن لا يستعمل لفظ النقض
والابطال، إلا أن يجعل كناية عن المقصود. وذكر الروياني هذا، أن اللفظ الذي
يحصل به الرجوع، صريح وكناية فالصريح: رجعت. والكناية تفتقر إلى النية،
كأبطلت الهبة وفسختها. فلو لم يأت بلفظ، لكن باع الموهوب، أو وهبه لآخر، أو
وقفه، فثلاثة أوجه. أصحها: لا يكون رجوعا. والثاني: رجوع وينفذ التصرف.
والثالث: رجوع فلا ينفذ التصرف. ولو أتلف الطعام الموهوب، أو أعتق العبد، أو
وطئ، لم يكن رجوعا على الأصح. والثاني: رجوع. وأشار الامام إلى وجه
ثالث: أنه إن أحبلها بالوطئ وحصل الاستيلاد، كان رجوعا، وإلا، فلا. فعلى
الأصح: يلزمه بالاتلاف القيمة ويلغو الاعتاق، وعليه بالوطئ مهر المثل، وباستيلاد
القيمة.
قلت: ولا خلاف أن الوطئ حرام على الأب وإن قصد به الرجوع، كذا قاله
444

الامام، لاستحالة إباحة الوطئ لشخصين، ولا خلاف أن المتهب يستبيح الوطئ قبل
الرجوع. لكن إذا جرى وطئ الأب الحرام، هل يتضمن الرجوع؟ فيه الخلاف.
والله أعلم
ولو صبغ الثوب الموهوب، أو خلط الطعام بطعام نفسه، لم يكن رجوعا، بل
هو كما لو فعل الغاصب ذلك.
فرع الرجوع في الهبة حيث يثبت، لا يفتقر إلى قضاء القاضي. وإذا رجع
ولم يسترد المال، فهو أمنة في يد الولد، بخلاف المبيع في يد المشتري بعد فسخ
البيع، لان المشتري أخذه على حكم الضمان.
فرع لو اتفق الواهب والمتهب على فسخ الهبة حيث لا رجوع، فهل
ينفسخ كما لو تقايلا، أم لا كالخلع؟ فيه وجهان عن الجرجانيات.
قلت: لا يصح الرجوع إلا منجزا. فلو قال: إذا جاء رأس الشهر، فقد
رجعت، لم يصح. قال المتولي: لان الفسوخ لا تقبل التعليق. والله
أعلم
الطرف الثاني: في الثواب، قد سبق أن الهبة مقيدة بنفي الثواب، وإثباته،
ومطلقة، ومضى الكلام في المقيدة، وفرعناها على المذهب والذي قطع به
الجمهور وهو صحتها. وقيل: إنها باطلة إذا أوجبنا الثواب في المطلقة، لأنه شرط
يخالف مقتضاها.
445

وأما القسم الثاني: وهي المطلقة، فينظر، إن وهب الاعلى للأدنى، فلا
ثواب، وفي عكسه قولان. أظهرهما عند الجمهور: لا ثواب. والثاني: يجب الثواب،
فعلى هذا، هل (هو) قدر قيمة الموهوب، أم ما يرضى به الواهب، أم ما يعد
ثوابا لمثله في العادة، أم يكفي ما يتمول؟ فيه أربعة أوجه. وقيل: أقوال.
أصحها: أولها، والخيار في جنسه إلى المتهب. فعلى الأصح، لو اختلف قدر
القيمة، فالاعتبار بقيمة يوم القبض على الأصح. وقيل: بيوم بذل الثواب. ثم إن
لم يثب ما يصلح ثوابا، فللواهب الرجوع إن كان الموهوب بحاله.
قلت: قال أصحابنا: ولا يجبر المتهب على الثواب قطعا. والله أعلم
فإن زاد زيادة منفصلة، رجع فيه دونها. وإن زاد متصلة، رجع فيه معها على
الصحيح. وقيل: للمتهب إمساكه وبذل قيمته بلا زيادة. وإن كان تالفا،
فوجهان. وقيل: قولان منصوصان في القديم. أصحهما: يرجع بقيمته. والثاني:
لا شئ له كالأب في هبة ولده. وإن كان ناقصا، رجع فيه. وفي تغريمه المتهب
أرش النقصان الوجهان. وقيل: له ترك العين والمطالبة بكمال القيمة.
قلت: وإن كانت جارية قد وطئها المتهب، رجع الواهب فيها، ولا مهر على
المتهب، لأنه وطئ ملكه. والله أعلم
وأما إذا وهب لنظيره، فالمذهب القطع بأن لا ثواب. وقيل: فيه القولان.
وعن صاحب التقريب طرد القولين في هبة الاعلى للأدنى، وهو شاذ.
قلت: وحكى صاحب الإبانة والبيان وجها أنه إذا وهب لنظيره ونوى
الثواب، استحقه، وإلا، فقولان. فإن اختلفا في النية، فأيهما يقبل قوله؟
وجهان. والمذهب: أنه لا يجب الثواب في جميع الصور. قال المتولي: إذا لم
يجب فأعطاه المتهب ثوبا، كان ذلك ابتداء هبة. حتى لو وهب لابنه فأعطاه الابن
446

ثوابا، لا ينقطع حق الرجوع، ولا يجب في الصدقة ثواب بكل حال قطعا، صرح
به البغوي وغيره، وهو ظاهر. وأما الهدية، فالظاهر أنها كالهبة. والله أعلم
وأما القسم الثالث: فالمقيدة بالثواب، وهو إما معلوم، وإما مجهول.
فالحالة الأولى: المعلوم، فيصح العقد على الأظهر، ويبطل على قول. فإن
صححنا، فهو بيع على الصحيح. وقيل: هبة. فإن قلنا: هبة، لم يثبت الخيار
والشفعة، ولم يلزم قبل القبض. وإن قلنا: بيع، ثبتت هذه الأحكام. وهل تثبت
عقب العقد، أم عقب القبض؟ قولان. أظهرهما: الأول.
ولو وهبه حليا بشرط الثواب، أو مطلقا وقلنا: الهبة تقتضي الثواب، فنص في
حرملة أنه إن أثابه قبل التفرق بجنسه، اعتبرت المماثلة. وإن أثابه بعد التفرق
بعرض، صح، وبالنقد لا يصح، لأنه صرف، وهذا تفريع على أنه بيع. وفي
التتمة أنه لا بأس بشئ من ذلك، لأنا لم نلحقه بالمعاوضات في اشتراط العلم
بالعوض، وكذا سائر الشروط، وهذا تفريع على أنه هبة. وحكى الامام الأول عن
الأصحاب، وأبدى الثاني احتمالا. وخرج على الوجهين ما إذا وهب الأب لابنه
بثواب معلوم. فإن جعلنا العقد بيعا، فلا رجوع، وإلا، فله الرجوع. وإذا وجد
بالثواب عيبا وهو في الذمة، طالب بسليم. وإن كان معينا، رجع إلى عين الموهوب
إن كان باقيا، وإلا، طالب ببدله. واستبعد الامام مجئ الخلاف أنه بيع أم هبة
هنا، حتى لا يرجع على التقدير الثاني وإن طرده بعضهم. وإذا جعلناه هبة، فكافأه
بدون المشروط إلا أنه قريب، ففي شرح ابن كج، وجهان في أنه هل يجبر على
القبول لان العادة فيه مسامحة؟
قلت: والأصح أو الصحيح: لا يجبر. والله أعلم
الحالة الثانية: إذا كان الثواب مجهولا، فإن قلنا: الهبة لا تقتضي ثوابا،
بطل العقد، لتعذر تصحيحه بيعا وهبة، وإن قلنا: تقتضيه، صح، وهو تصريح
447

بمقتضى العقد، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى الغزالي وجها: أنه
يبطل بناء على أن العوض يلحقه بالبيع.
فرع نص الشافعي رضي الله عنه أنه لو وهب لاثنين بشرط الثواب،
فأثابه أحدهما فقط، لم يرجع في حصة المثيب، وأنه لو أثاب أحدهما عن نفسه
وعن صاحبه ورضي به الواهب، لم يرجع الواهب على واحد منهما. ثم إن أثاب
إذن بغير الشريك، لم يرجع عليه. وإن أثاب بإذنه، رجع بالنصف إن أثاب ما يعتاد
ثوابا لمثله. فإن زاد، فمتطوع بالزيادة.
فرع خرج الموهوب مستحقا بعد الثواب، رجع بما أثاب على الواهب.
وإن جرج بعضه مستحقا، فله الخيار بين أن يرجع على الواهب بقسطه من الثواب،
وبين أن يرد الباقي ويرجع بجميع الثواب. وقيل: تبطل الهبة في الكل. وقيل: لا
يجئ قول الابطال هنا.
448

فرع قال: وهبتك ببدل، فقال: بلا بدل، وقلنا: مطلق الهبة لا يقتضي
ثوابا، فهل المصدق الواهب، أم المتهب؟ وجهان، وبالأول قطع ابن كج.
قلت: الثاني، أصح. والله أعلم
فصل في مسائل تتعلق بالكتاب هبة منافع الدار، هل هي إعارة؟ لها
وجهان في الجرجانيات، ولا يحصل الملك بالقبض في الهبة
الفاسدة. وهل المقبوض بها مضمون كالبيع الفاسد؟ أم لا، كالهبة الصحيحة؟
وجهان. ويقال: قولان.
قلت: أصحهما: لا ضمان، وهو المقطوع به في النهاية والعدة
والبحر والبيان، ذكروه في باب التيمم. قال المتولي: وإذا حكمنا بفساد
الهبة، فسلم المال بعد ذلك هبة، فإن كان يعتقد فساد الأولى، صحت الثانية،
وإلا، فوجهان بناء على من باع مال أبيه على أنه حي فكان ميتا.
وهذه مسائل متعلقة بالكتاب.
إحداها: قال لرجل: كسوتك هذا الثوب، ثم قال: لم أرد الهبة، قال
صاحب العدة: يقبل قوله، خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه، لأنه يصلح
للعارية، فلا يكون صريحا في الهبة.
الثانية: قال: منحتك هذه الدار، أو الثوب، فقال: قبلت وأقبضه،
فهو هبة، قاله في العدة.
الثالثة: في فتاوى الغزالي: لو كان في يد ابن الميت عين، فقال: وهبنيها
449

أبي وأقبضنيها في الصحة، فأقام باقي الورثة بينة بأن الأب رجع فيما وهب لابنه،
ولم تذكر البينة ما رجع فيه، لا تنتزع من يده بهذه البينة، لاحتمال أن هذه العين
ليست من المرجوع فيه. ويقرب من هذا، لو وهب وأقبض ومات، فادعى
الوارث كون ذلك في المرض، وادعى المتهب كونه في الصحة، فالمختار أن القول
قول المتهب.
الرابعة: دفع إليه ثوبا بنية الصدقة، فأخذه المدفوع إليه ظانا أنه وديعة أو
عارية، فرده على الدافع، لا يحل للدافع قبضه، لأنه زال ملكه، فإن الاعتبار بنية
الدافع. فإن قبضه، لزمه رده إلى المدفوع إليه، ذكره القاضي حسين.
الخامسة: بر الوالدين مأمور به، وعقوق كل واحد منهما محرم معدود من
الكبائر بنص الحديث الصحيح، وصلة الرحم مأمور بها، فأما برهما، فهو
الاحسان إليهما، وفعل الجميل معهما، وفعل ما يسرهما من الطاعات لله تعالى
وغيرها مما ليس بمنهي عنه، ويدخل فيه الاحسان إلى صديقهما، ففي صحيح
450

مسلم أن رسول الله (ص) قال: إن من أبر البر، أن يصل الرجل أهل ود أبيه. وأما
العقوق، فهو كل ما أتى به الولد مما يتأذى (به) الوالد أو نحوه تأذيا ليس بالهين، مع
أنه ليس بواجب. وقيل: تجب طاعتهما في كل ما ليس بحرام، فتجب طاعتهما
في الشبهات. وقد حكى الغزالي هذا في الاحياء عن كثير من العلماء، أو
أكثرهم. وأما صلة الرحم، ففعلك مع قريبك ما تعد به واصلا غير منافر ومقاطع
له، ويحصل ذلك تارة بالمال، وتارة بقضاء حاجته أو خدمته أو زيارته. وفي حق
الغائب بنحو هذا، وبالمكاتبة وإرسال السلام عليه ونحو ذلك.
السادسة: الوفاء بالوعد، مستحب استحبابا متأكدا، ويكره إخلافه كراهة
شديدة، ودلائله من الكتاب والسنة معلومة، وقد ذكرت في كتاب الأذكار فيه
بابا، وبينت فيه اختلاف العلماء في وجوبه. والله أعلم
451

كتاب اللقطة
فيه بابان.
(الباب) الأول: في أركانها، وهي ثلاثة.
(الركن) الأول: الالتقاط، وفيه مسألتان.
(المسألة) الأولى: في وجوب الالتقاط أربعة طرق أصحها وقول الأكثرين: أنه
على قولين. أظهرهما: لا يجب كالاستيداع. والثاني يجب. والطريق الثاني:
إن كانت في موضع يغلب على الظن ضياعها، بأن تكون في ممر الفساق والخونة،
وجب الالتقاط، وإلا، فلا. والثالث: إن كان لا يثق بنفسه، لم يجب قطعا.
452

وإن غلب على ظنه أمانة نفسه، ففيه القولان. والرابع: لا يجب مطلقا. فإذا قلنا:
لا يجب، فإن وثق بنفسه، ففي الاستحباب وجهان. أصحهما ثبوته. وإن لم يثق
وليس هو في الحال من الفسقة، لم يستحب له الالتقاط قطعا. قاله الامام. وحكى
عن شيخه في الجواز وجهين. أصحهما: ثبوته، وسواء قلنا بوجوب الالتقاط أو
عدمه، فلا يضمن اللقطة بالترك، لأنها لم تحصل في يده. هذا حكم الأمين، أما
الفاسق، فقطع الجمهور أنه يكره له الالتقاط. وأما قول الغزالي: إن علم الخيانة،
حرم الالتقاط، وقوله في الوسيط: الفاسق لا يجوز له الاخذ، فمخالف لما
أطلقه الجمهور من الكراهة.
المسألة الثانية: في وجوب الاشهاد على اللقطة وجهان. ويقال: قولان.
أصحهما: لا يجب لكن يستحب. وقيل: لا يجب قطعا. ثم في كيفية الاشهاد،
وجهان. أصحهما عند البغوي: يشهد على أصلها دون صفاتها، لئلا يتوصل كاذب
إليها. قال البغوي: ويجوز أن يذكر جنسها. والثاني: يشهد على صفاتها أيضا،
حتى لو مات لا يتملكها الوارث، ويشهد الشهود للمالك. وأشار الامام إلى توسط
بين الوجهين، وهو أنه لا يستوعب الصفات، بل يذكر بعضها ليكون في الاشهاد
فائدة.
قلت: الأصح، هذا الذي اختاره الامام. قال الامام: والوجه الأول ساقط،
إذ لا فائدة فيه. وما ذكرناه من المنع من ذكر تمام الأوصاف، لا نراه ينتهي إلى
453

التحريم. والله أعلم
الركن الثاني: الملتقط وبناء الكلام فيه على أصل، وهو أن اللقطة فيها معنى
الأمانة والولاية والاكتساب، فالأمانة والولاية أولا، والاكتساب آخرا بعد التعريف.
وهل المغلب الأمانة والولاية لأنها ناجزة، أم الاكتساب لأنه مقصوده ولا يستقل الآحاد
بالأمانات؟ فيه وجهان. ويقال: قولان.
فإذا اجتمع في شخص أربع صفات: الاسلام، والحرية، والأمانة
والتكليف، فله أن يلتقط ويعرف ويتملك، لأنه أهل للأمانة والولاية والاكتساب،
وإلا، ففيه مسائل.
إحداها: يمكن الذمي من الالتقاط في دار الاسلام على الأصح. وقيل:
قطعا، كالاصطياد والاحتطاب، وربما شرط فيه عدالته في دينه. فإن قلنا: ليس له
الالتقاط فالتقط، أخذه الامام منه وحفظه إلى ظهور مالكه. وإن جوزناه، قال
البغوي: هو كالتقاط الفاسق. قال: والمرتد إن قلنا: يزول ملكه، انتزعت
454

اللقطة منه، كما لو احتطب، ينتزع من يده. وإن قلنا: لا يزول، فكالفاسق
يلتقط. ولك أن تقول: إن أزلنا ملكه، فما يحتطبه ينتزع ويكون لأهل الفئ فإن
كانت اللقطة كذلك، فقياسه أن يجوز للامام ابتداء الالتقاط لأهل الفئ ولبيت
المال، وأن يجوز للولي الالتقاط للصبي. وإن قلنا: لا يزول ملكه، فهو بالذمي
أشبه منه من الفاسق، فليكن كالتقاط الذمي، وبهذا قطع المتولي.
الثانية: الفاسق أهل للالتقاط على المذهب، وبه قطع الجمهور، وهو
ظاهر النص. وعن القفال، تخريجه على الأصل المذكور، إن غلبنا الاكتساب،
فنعم، أو الأمانة، فلا، وما يأخذه مغصوب. فعلى المذهب، هل يقر المال في
يده؟ قولان. أظهرهما: لا، بل ينتزع منه ويوضع عند عدل. والثاني: نعم،
ويضم إليه عدل يشرف عليه. وعن ابن القطان وجه: أنه لا يضم إليه أحد. وسواء
قلنا: ينتزع أو يضم إليه مشرف، ففي التعريف قولان. أظهرهما: لا يعتمد وحده،
بل يضم إليه نظر العدل ومراقبته. والثاني: يكفي تعريفه. ثم إذا تم التعريف،
فللملتقط التملك.
الثالثة: التقاط العبد، وهو على ثلاثة أضرب.
أحدها: التقاط لم يأذن فيه السيد ولا نهى عنه، وفيه قولان. أظهرهما: لا
يصح والثاني: كاحتطابه ويكون الحاصل لسيده.
فان قلنا: لا يصح التقاطه، لم يعتد بتعريفه. ثم إن لم يعلم السيد التقاطه،
فالمال مضمون في يد العبد، والضمان متعلق برقبته، سواء أتلفه أو تلف بتفريط أو
بغير تفريط، كالمغصوب. وإن علم، فله أحوال.
أحدها: أن يأخذه من يده. ولهذا مقدمة، وهي أن القاضي لو أخذ
المغصوب من الغاصب ليحفظه للمالك، هل يبرأ الغاصب من الضمان؟ وجهان.
أقيسهما: البراءة، لان يد القاضي نائبة عن يد المالك.
455

فإن قلنا: لا يبرأ، فللقاضي أخذه منه. وإن قلنا: يبرأ، فإن كان المال
معرضا للضياع، والغاصب بحيث لا يبعد أن يفلس أو يغيب وجهي، فكذلك،
وإلا، فوجهان أحدهما: لا يأخذ فإنه أنفع للمالك. والثاني: يأخذ نظرا لهما
جميعا. وليس لآحاد الناس أخذ المغصوب إذا لم يكن معرضا للضياع، ولا
الغاصب بحيث تفوت مطالبته ظاهرا. وإن كان كذلك، فوجهان. أصحهما:
المنع، لان القاضي هو النائب عن الناس، ولأنه قد يؤدي إلى الفتنة. والثاني:
الجواز احتسابا ونهيا عن المنكر. فعلى الأول، لو أخذه ضمنه وكان كغاصب من
غاصب. وعلى الثاني: لا يضمن، وبراءة الغاصب على الخلاف السابق، وأولى
بأن لا يبرأ. قال الامام: ويجوز أن يقال: إن كان هناك قاض يمكن رفع الامر
إليه، فلا يجوز، وإلا، فيجوز. إذا عرف هذا، فقال معظم الأصحاب: إذا أخذ
السيد اللقطة من العبد كان أخذه التقاطا، لان يد العبد إذا لم تكن يد التقاط، كان
الحاصل في يده ضائعا بعد، ويسقط الضمان عن العبد لوصوله إلى نائب المالك،
فان كل أهل للالتقاط كأنه نائب عنه. وبمثله قالوا فيما لو أخذه أجنبي، إلا أن
المتولي جعل أخذه الأجنبي على الخلاف فيما لو تعلق صيد بشبكة رجل فأخذه غيره،
واستبعد الامام قولهم: إن أخذ السيد التقاط، لان العبد ضامن بالأخذ. ولو كان
أخذ السيد التقاطا، لسقط الضمان عنه، فيتضرر به المالك، وهذا وجه ذكره ابن
كج والمتولي، وحكيا تفريعا عليه أن السيد ينتزعه من يده ويسلمه إلى الحاكم
ليحفظه لمالكه أبدا.
وأما الامام فقال: إذا قلنا: إنه ليس بالتقاط، فأراد أخذه بنفسه وحفظه
لمالكه، فوجهان مرتبان على أخذ الآحاد المغصوب للحفظ، وأولى بالمنع، لان
السيد ساع لنفسه غير متبرع. ثم يترتب على جواز الاخذ حصول البراءة كما قدمنا.
وإن استدعى من الحاكم انتزاعه، فهذه الصورة أولى بأن يزيل الحاكم فيها اليد
العادية. وإذا أزال، فأولى أن تحصل البراءة لتعلق غرض السيد بالبراءة، وهو غير
منسوب إلى عدوان حتى يغلظ عليه.
الحال الثاني: أن يقره في يده ويستحفظه عليه ليعرفه. فإن لم يكن العبد
أمينا، فهو متعد بالاقرار، وكأنه أخذه منه ورده إليه. وإن كان أمينا، جاز، كما لو
استعان به في تعريف ما التقطه بنفسه. وذكر الامام في سقوط الضمان وجهين.
456

أصحهما عنده: المنع. وقياس كلام الجمهور سقوطه.
الحال الثالث: أن لا يأخذه ولا يقره، بل يهمله ويعرض عنه. فنقل المزني
أن الضمان يتعلق برقبة العبد كما كان، ولا يطالب به السيد في سائر أمواله، لأنه لا
تعدي منه ولا أثر لعلمه، كما لو رأى عبده يتلف مالا فلم يمنعه، ونقل الربيع تعلقه
بالعبد وبجميع أموال السيد. وعكس الامام والغزالي، فنسبا الأول إلى الربيع،
والثاني إلى المزني. والصواب المعتمد، ما سبق ثم فيهما أربعة طرق. أصحها
وقول الأكثرين: المسألة على قولين. أظهرهما: تعلقه بالعبد وسائر أموال السيد،
حتى لو هلك العبد، لا يسقط الضمان.
ولو أفلس السيد، قدم صاحب اللقطة في العبد على سائر الغرماء. ومن قال
به، لم يسلم عدم وجوب الضمان إذا رأى عبده يتلف مالا فلم يمنعه.
والطريق الثاني: حمل نقل المزني على ما إذا كان العبد مميزا، ونقل الربيع
على غير المميز.
والثالث: القطع بنقل المزني في النقل.
والرابع: القطع بنقل الربيع وبه قال أبو إسحاق، وغلطوا المزني في النقل
هذا كله إذا قلنا: لا يصح التقاطه. فإن قلنا: يصح، صح تعريفه وليس له
التعريف أن يتملكه لنفسه، وله التملك للسيد بإذنه، ولا يجوز بغير إذنه على
المذهب. وقيل: وجهان كاتهابه وشرائه، فعلى المذهب قيل: لا يصح تعريفه بغير
إذن سيده. والصحيح صحته كالالتقاط. قال الامام: لكن إن قلنا: انقضاء مدة
التعريف توجب الملك، فيجوز أن يقال: لا يصح تعريفه، ويجوز أن يقال: يصح
ولا يثبت الملك، كما لا يثبت إذا عرف من قصد الحفظ. ثم لا يخلو، إما أن يعلم
السيد بالالتقاط، وإما أن لا يعلم. فإن لم يعلم، فالمال أمانة في يد العبد، لكن لو
كان معرضا عن التعريف، ففي الضمان وجهان كالوجهين في الحر إذا امتنع من
التعريف. ولو أتلفه العبد بعد مدة التعريف، أو تملكه لنفسه فهلك عده، فهل
457

يتعلق الضمان بذمته كما لو اقترض فاسدا وأتلفه، أم برقبته كالمغصوب؟ وجهان.
وبالأول قطع الشيخ أبو محمد في الفروق. ولو أتلفه في المدة، أو تلف
بتقصيره، فالمذهب تعلق الضمان برقبته، وبه قطع الجمهور، لأنه خيانة محضة،
إذ لم يدخل وقت التملك، بخلاف ما بعد المدة. وقيل: في تعلقه بالرقبة أو الذمة
قولان. وإن علم به السيد، فله أخذه كأكسابه ثم يكون كالتقاطه بنفسه. فإن شاء
حفظه لمالكه، وإن شاء عرف وتملك. فإن كان العبد عرف بعض المدة، احتسب
به وبنى عليه. وإن أقره في يده وهو خائن، ضمن السيد بابقائه في يده. وإن كان
أمينا، جاز، ثم إن تلف في يده في مدة التعريف، فلا ضمان. وإن تلف بعدها،
فإن أذن السيد في التملك فتملك، لم يخف الحكم، وإلا، فوجهان.
أصحهما: يتعلق الضمان بالسيد، لاذنه في سبب الضمان، كم لو أذن له في
استيام شئ فأخذه فتلف في يده. والثاني: لا كما لو أذن له في الغصب فغصب.
فعلى الأول، يتعلق الضمان أيضا بذمة العبد، فيطالب به بعد العتق كما
يطالب به السيد في الحال، وعلى الثاني، يتعلق برقبته كما يتعلق بمال السيد.
وإن لم يأذن، فهل يتعلق الضامن بذمة العبد، أم برقبته؟ وجهان. أصحهما:
الأول، ولا يتعلق بالسيد قطعا. فإن أتلفه العبد بعد المدة، فعلى الخلاف السابق.
فرع قال صاحب التقريب: القولان في أصل المسألة، فيما إذا نوى
الالتقاط لنفسه، فإن نوى لسيده، فيحتمل أن يطرد القولان، ويحتمل أن يقطع
458

بالصحة. وقال ابن كج: القولان إذا التقط ليدفع إلى سيده. فإن قصد نفسه،
فليس له الالتقاط قطعا، بل هو متعد، وحكاه عن أبي إسحاق والقاضي أبي حامد.
الضرب الثاني: التقاط بإذن السيد، بأن يقول: متى وجدت لقطة فخذها
وائتني بها، فطريقان. قال ابن أبي هريرة بطرد القولين، لان الاذن لا يفيده أهلية
الولاية. وقطع غيره بالصحة، وإليه ميل الامام، كما لو أذن في قبول الوديعة
ولو أذن له في الاكتساب مطلقا، ففي دخول الالتقاط وجهان.
الضرب الثالث: التقاط نهاه عنه السيد، فقطع الإصطخري بالمنع، وطرد
غيره القولين.
قلت: طريقة الإصطخري أقوى، ولكن سائر الأصحاب على طرد القولين،
قاله صاحب المستظهري. والله أعلم
فرع إذا التقط ثم أعتقه السيد، فإن صححنا التقاطه، فهي كسب عبده
يأخذها السيد ويعرفها ويتملكها. فإن كان العبد عرف، اعتد به، هذا هو
المذهب. وقال ابن القطان: هل السيد أحق نظرا إلى وقت الالتقاط، أم العبد نظرا
إلي وقت التملك؟ وجهان. وإن لم نصحح التقاطه، قال ابن كج: للسيد حق
التملك إذا قلنا: للسيد التملك على هذا القول. وقطع الجمهور بأنه ليس للسيد
أخذها. فعلى هذا، هل للعبد تملكها وكأنه التقط بعد الحرية، أم يجب أن يسلمها
إلى الحاكم لأنه لم يكن أهلا؟ وجهان. أصحهما: الأول.
فرع في التقاط المكاتب طرق. أحدها: الصحة قطعا. والثاني: المنع
459

قطعا، بخلاف القن، فإن السيد ينتزع منه، ولا ولاية للسيد على مال المكاتب مع
نقصانه. والثالث وهو الأصح عند الجمهور: طرد القولين كالعبد، لكن الأظهر هنا
باتفاق الأصحاب، صحة التقاطه. ثم المذهب أن هذه الطرق في المكاتب كتابة
صحيحة.
فأما الفاسدة، فكالقن قطعا. وقيل بطرد الخلاف في النوعين، ونقل الامام
عن العراقيين، تفريعا على القطع بالصحة، أن في إبقاء اللقطة في يده قولين كما
سبق في الفاسق، وكتبهم ساكتة عن ذلك إلا ما شاء الله تعالى.
فإن صححنا التقاط المكاتب، عرفها وتملكها ويكون بدلها في كسبه. وفي
تقدم المالك به على الغرماء وجهان في أمالي أبي الفرج الزاز. وإذا أعتق في مدة
التعريف، أتم التعريف وتملك. وإن عاد إلى الرق قبل تمام التعريف، فالمنقول
عن الأصحاب، أن القاضي يأخذها ويحفظها للمالك، وأنه ليس للسيد أخذها
وتملكها، لان التقاط المكاتب لا يقع للسيد، فلا ينصرف إليه. وقال البغوي:
ينبغي أن يجوز له الاخذ والتملك، لان الالتقاط اكتساب وأكساب المكاتب لسيده
عند عجزه. قال: وكذا لو مات المكاتب أو العبد قبل التعريف، وجب أن يجوز
للسيد التعريف والتملك، كما أن الحر إذا التقط ومات قبل التعريف، يعرف الوارث
ويتملك. وإذا لم نصحح التقاطه فالتقط، صار ضامنا، ولا يأخذ السيد اللقطة منه،
بل يأخذها القاضي ويحفظها، هكذا ذكروه. ولك أن تقول: ذكرتم تفريعا على منع
التقاط القن، أن للأجنبي أخذها ويكون ملتقطا، ولم تعتبروا الولاية، وليس السيد
في حق المكاتب بأدنى حالا من الأجنبي في القن. ثم إذا أخذها الحاكم برئ
460

المكاتب من الضمان. ثم كيف الحكم؟ ذكر الشيخ أبو حامد وغيره: أنه يعرفها،
فذا انقضت مدة التعريف، تملكها المكاتب. والأصح: أنه ليس له التملك، فإن
التفريع على فساد الالتقاط، لكن إذا (أخذها) حفظها إلى أن يظهر مالكها.
فرع من بعضه حر وبعضه رقيق، هل يصح التقاطه قطعا، أم على القولين
كالقن؟ فيه طريقان. وقيل: يصح في قدر الحرية قطعا، وفي الباقي الطريقان،
وبهذا قطع المتولي، وأبداه الشاشي احتمالا.
قلت: المذهب المنصوص، صحة التقاطه. والله أعلم
فإن قلنا: لا يصح، فهو متعد بالأخذ، ضامن بقدر الحرية في ذمته، ويؤخذ
منه إن كان له مال، وبقدر الرق في رقبته.
وهل ينتزع منه، أم يبقى في يده ويضم إليه مشرف؟ وجهان حكاهما ابن
كج. أصحهما: الانتزاع. وعلى هذا، هل يسلم إلى السيد، أم يحفظه الحاكم
إلى ظهور مالكه؟ وجهان. الصحيح: الثاني. فإن سلم إلى السيد، فعن أبي
حفص بن الوكيل: أن السيد يعرفه ويتملكه. قال ابن كج: ويحتمل عندي أن
يكون بينهما بحسب الرق والحرية.
أما إذا قلنا: يصح التقاطه، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة، فاللقطة
بينهما يعرفانها ويتملكانها بحسب الرق والحرية كشخصين التقطا مالا. وقال ابن
الوكيل: يختص بها السيد كلقطة القن، وليس بشئ. وإن كان بينهم مهايأة، بني
على أن الكسب النادر هل يدخل في المهاياة؟ فيه قولان. ويقال: وجهان
ذكرناهما في زكاة الفطر. وميل العراقيين والصيدلاني هناك إلى ترجيح عدم
461

الدخول ثم أنهم مع سائر الأصحاب، كالمتفقين على ترجيح عدم الدخول هنا، وهو
نصه في المختصر. فعلى هذا، إن وقعت اللقطة في نوبة السيد، عرفها
وتملكها. وإن وقعت في نوبة العبد، عرفها وتملك. والاعتبار بوقت الالتقاط، هذا
هو الصحيح المعروف. وأشار الامام إلى وجه: أن الاعتبار بوقت التملك. وإن
قلنا: النادر لا يدخل في المهاياة، فهو كما لو لم يكن مهايأة.
قلت: ونقل إمام الحرمين في باب زكاة الفطر اتفاق العلماء على أن أرش
الجناية لا يدخل في المهاياة، لأنه يتعلق بالرقبة وهي مشتركة. والله أعلم
فرع المدبر والمعلق عتقه بصفة، وأم الولد، كالقن في الالتقاط. لكن
حيث حكمنا بتعلق الضمان برقبة القن، ففي أم الولد يجب على السيد، سواء علم
التقاطها، أم لا، لان جنايتها على السيد. وفي الام أنه إن علم سيدها،
فالضمان في ذمته، وإلا، ففي ذمتها، وهذا لم يثبته الأصحاب، وقالوا: هذا سهو
من كاتب، أو غلط من ناقل، وربما حاولوا تأويله.
المسألة الرابعة التقاط الصبي، فيه طريقان كالفاسق. والمذهب صحته
كاحتطابه واصطياده، فإن صححناه فلم يعلم به الولي وأتلفه الصبي، ضمن. وإن
تلف في يده، فوجهان. أصحهما: لا ضمان عليه كما لو أودع مالا فتلف عنده.
وتسليط الشرع له على الالتقاط، كتسليط المودع. والثاني: يضمن لضعف
أهليته، فإنه لا يقر في يده. فإن علم به الولي، فينبغي أن ينتزعه من يده ويعرفه.
ثم إن رأى المصلحة في تملكه للصبي، جاز حيث يجوز الاستقراض عليه. وقال
ابن الصباغ: عندي يجوز التملك له وإن لم يجز الاقتراض، لأنه على هذا القول
ملحق بالاكتساب.
قلت: هذا الذي قاله ابن الصباغ، كما هو شذوذ عن الأصحاب، فهو
ضعيف دليلا، فإنه اقتراض. والله أعلم
وإن لم ير التملك له، حفظه أمانة، أو سلمه إلى القاضي. وإذا احتاج
التعريف إلى مؤنة، لم يصرفها من مال الصبي، بل يرفع الامر إلى القاضي ليبيع
جزءا من اللقطة لمؤنة التعريف. ويجئ وجه مما سنذكره إن شاء الله تعالى في
462

التقاط الشاة: أنه يبيع بنفسه ولا يحتاج إلى إذن الحاكم.
ولو تلفت اللقطة في يد الصبي قبل الانتزاع بغير تفريط، فلا ضمان. وإن
قصر الولي بتركها في يده حتى تلفت، أو أتلفها، لزم الولي الضمان من مال نفسه،
وشبهوه بما إذا احتطب الصبي وتركه الولي في يده حتى تلف، أو أتلفه الصبي،
يجب الضمان على الولي، لان عليه حفظ الصبي عن مثله.
قال البغوي: ثم يعرف التالف، وبعد التعريف يتملك للصبي إن كان في
التملك مصلحة، ويشبه أن يكون هذا فيما إذا وجد قبض من جهة القاضي ليصير
المقبوض ملكا للملتقط، أو إفراز من جهة الولي إذا قلنا: إن من التقط شاة وأكلها
يفرز بنفسه قيمتها من ماله.
فأما الضمان في الذمة، فلا يمكن تملكه للصبي.
أما إذا قلنا: لا يصح التقاط الصبي، فإذا التقط وتلفت في يده أو أتلفها،
وجب الضمان في ماله، وليس للولي أن يقرها في يده، بل يسعى في انتزاعها، فإن
أمكنه رفع الامر إلى القاضي، فعل، وإن انتزع الحاكم، ففي براءة الصبي عن
الضمان الخلاف المذكور في انتزاع القاضي المغصوب من الغاصب، وأولى
بحصول البراءة نظرا للطفل. إن لم يمكنه رفع الامر إلى القاضي، أخذه بنفسه،
وتبنى براءة الصبي عن الضمان على الخلاف في براءة الغاصب بأخذ الآحاد. فإن لم
تحصل البراءة، ففائدة الاخذ صون عين المال عن التضييع والاتلاف. قال
المتولي: وإذا أخذه الولي، فان أمكنه التسليم إلى القاضي فلم يفعل حتى تلف،
لزمه الضمان، وإلا، فقرار الضمان على الصبي. وفي كون الولي طريقا،
وجهان.
463

وهذا إذا أخذ الولي لا على قصد الالتقاط.
أما إذا قصد ابتداء الالتقاط، ففيه وجهان، وليكونا كالخلاف في الاخذ من
العبد على هذا القصد إذا لم نصحح التقاطه.
ولو قصر الولي وترك المال في يده، قال المتولي: لا ضمان عليه إذا
تلف، لأنه لم يحصل في يده، ولا حق للصبي فيه حتى يلزمه حفظه، بخلاف ما
إذا فرعنا على القول الأول. وخصص الامام هذا الجواب بما إذا قلنا: إن أخذه لا
يبرئ الصبي.
أما إذا قلنا: يبرئ، فعليه الضمان لتركه الصبي في ورطة الضمان، ويجوز
أن يضمن. وإن قلنا: إن أخذه لا يبرئ الصبي لان المال في يد الصبي معرض
للضياع، فحق أن يصونه.
فرع المجنون كالصبي في الالتقاط، وكذا المحجور عليه بسفه، إلا أنه
يصح تعريفه، ولا يصح تعريف الصبي والمجنون.
464

الركن الثالث: الشئ الملتقط، وهو قسمان. مال وغيره، والمال نوعان،
حيوان وجماد. والحيوان ضربان، آدمي وغيره. وغيره صنفان.
أحدهما: ما يمتنع من صغار السباع بفضل قوته، كالإبل والخيل والبغال
والحمير، أو بشدة عدوه كالأرانب والظباء المملوكة، أو بطيرانه كالحمام، فإن
وجدها في مفازة، فللحاكم ونوابه أخذها للحفظ.
وفي جواز أخذها للآحاد للحفظ وجهان. أصحهما عند الشيخ أبي حامد
والمتولي وغيرهما: جوازه، وهو المنصوص، لئلا يأخذها خائن فتضيع.
وأما أخذها للتملك، فلا يجوز لاحد. فمن أخذها للتملك ضمنها، ولا
يبرأ عن الضمان بالرد إلى ذلك الموضع. فإن دفعها إلى القاضي، برئ على
الأصح. وإن وجدها في بلدة أو قرية، أو في موضع قريب منها، فوجهان أو
قولان. أحدهما: لا يجوز التقاطها للتملك كالمفازة. وأصحهما: جوازه، لأنها
في العمارة تضيع بتسلط الخونة. وقيل: يجوز قطعا. وقيل: لا يجوز قطعا. فإن
منعنا، فالتقاطها بقصد التملك كما ذكرنا في التقاطها من الصحراء. وإن جوزناه،
فعلى ما سيأتي في النصف الثاني إن شاء الله تعالى. هذا كله إذا كان زمان أمن.
فأما في زمن النهب والفساد، فيجوز التقاطها قطعا. وسواء وجدت في الصحراء أو
العمران، كما سيأتي فيما لا يمتنع، قاله المتولي.
الصنف الثاني: ما لا يمتنع من صغار السباع، كالكسير والغنم والعجول
والفصلان، فيجوز التقاطها للتملك، سواء وجدت في المفازة أو العمران. وفي
وجه: لا يؤخذ ما وجد في العمران. والصحيح المعروف: أنه لا فرق. ثم إذا
وجده في المفازة، فهو بالخيار بين أن يمسكها ويعرفها ثم يتملكها، وبين أن يبيعها
ويحفظ ثمنها ويعرفها ثم يتملك الثمن، وبين أن يأكلها إن كانت مأكولة ويغرم
قيمتها. والخصلة الأولى أولى من الثانية، والثانية أولى من الثالثة. وإن وجدها في
العمران، فله الامساك مع التعريف والتملك، وله البيع والتعريف وتملك الثمن.
وفي الاكل قولان. أحدهما: الجواز كالمفازة. وأظهرهما عند الأكثرين:
المنع، لان البيع في العمران أسهل هذا إذا كانت مأكولة، فأما الجحش وصغار
465

ما لا يؤكل، فحكمها في الامساك والبيع حكم المأكول
وفي جواز تملكها في الحال، وجهان. أحدهما: نعم، كما يجوز أكل
المأكول. ولو لم يجوز ذلك لأعرض عنها الواجدون ولضاعت وأصحهما: لا
يجوز تملكها حتى تعرف سنة كغيرها. ويتفرع على الخصال الثلاث مسائل.
إحداها: إذا أمسكها وتبرع بالانفاق، فذاك. وإن الرجوع، فلينفق بإذن
الحاكم. فإن لم يجد حاكما، أشهد كما سبق في نظائره.
الثانية: إذا أراد البيع، فإن لم يجد حاكما، استقل به. وإن وجده، فالأصح
أنه يجب استئذانه. وهل يجوز بيع جزء منها لنفقة باقيها؟ قال الامام: نعم، كما تباع
جميعها. وحكى عن شيخه احتمالا أنه لا يجوز، لأنه يؤدي إلى أن تأكل نفسها،
وبهذا قطع أبو الفرج الزاز، قال: ولا يستقرض على المالك أيضا، لهذا المعنى،
لكنه يخالف ما سبق في هرب الجمال ونحوه.
466

قلت: الفرق بينه وبين هرب الجمال ظاهر، فان هناك لا يمكن البيع لتعلق
حق المستأجر، وهنا يمكن فلا يجوز الاضرار بمالكها من غير ضرورة. والله
أعلم.
فرع متى حصلت الضالة في يد الحاكم، فإن كان هناك حمى، سرحها
فيه ووسمها بسمة الضوال، ويسم نتاجها أيضا. وإن لم يمكن، فالقول في بيع كلها
أو بعضها للنفقة على ما سبق، لكن لو توقع مجئ المالك في طلبها على قرب، بأن
عرف أنها من نعم بني فلان، تأنى أياما كما يراه.
الضرب الثاني: الآدمي، فإذا وجد رقيقا مميزا، والزمان آمن، لم يأخذه،
لأنه يستدل على سيده. وإن كان غير مميز أو مميزا في زمن نهب، جاز أخذه كسائر
الأموال. ثم يجوز تملك العبد والأمة التي لا تحل كالمجوسية والمحرم. وإن كانت
ممن تحل، فعلى قولين كالاستقراض.
فإن منعناه، لم يجب التعريف، كذا ذكره الشيخ أبو حامد. ويتفق على
الرقيق مدة الحفظ من كسبه، وما بقي من الكسب حفظ معه. فإن لم يكن كسب،
فعلى ما سبق في الصنف الثاني. وإذا بيع ثم ظهر المالك وقال: كنت أعتقته،
فقولان. أظهرهما: يقبل قوله ويحكم بفساد البيع. والثاني: لا، كما لو باع
بنفسه.
467

النوع الثاني: الجماد، وينقسم إلى ما لا يبقى، بمعالجة، كالرطب يخفف، أو
بغيرها، كالذهب والفضة والثياب، وإلى ما لا يبقى، كالهريسة، وكل ذلك لقطة
يؤخذ ويملك، لكن فيما لا يبقى بمعالجة مزيد كلام نذكره في الباب الثاني
إن شاء الله تعالى.
القسم الثاني: ما ليس بمال، ككلب يقتنى، فميل الامام والآخذين عنه،
إلى أنه لا يؤخذ إلا على قصد الحفظ أبدا لان الاختصاص به ممتنع، وبلا
عوض يخالف وضع اللقطة.
وقال الأكثرون: يعرفه سنة ثم يختص وينتفع به فإن ظهر صاحبه بعد ذلك
وقد تلف، فلا ضمان. وهل عليه أجرة المثل لمنفعة تلك المدة؟ وجهان بناء على
جواز إجارته.
فصل يشترط في اللقطة ثلاثة شروط غير ما سبق.
أحدها: أن تكون شيئا ضاع من مالكه لسقوط أو غفلة ونحوهما. فأما إذا
ألقت الريح ثوبا في حجره أو ألقى إليه هارب كيسا ولم يعرف من هو
468

مورثه عن ودائع وهو لا يعرف ملاكها فهو مال ضائع يحفظ ولا يتملك. ولو وجد
دفينا في فالقول في أنه ركاز أو لقطة سبق في الزكاة.
الثاني: أن يوجد في موات، أو شارع، أو مسجد. أما إذا وجد في أرض
مملوكة، فقال المتولي: لا يؤخذ للتملك بعد التعريف، بل هو لصاحب اليد في
الأرض، فإن لم يدعه، فلمن كانت في يده قبله، وهكذا إلى أن ينتهي إلى
المحيي، فإن لم يدعه، حينئذ يكون لقطة.
الثالث: أن يكون في دار الاسلام، أو في دار الحرب وفيها مسلمون. أما إذا
لم يكن فيها مسلم، فما يوجد فيها غنيمة، خمسها لأهل الخمس، والباقي
للواجد، ذكره البغوي وغيره.
الباب الثاني
في أحكام الالتقاط الصحيح
وهي أربعة.
(الحكم) الأول: في الأمانة والضمان، ويختلف ذلك بقصده. وله أحوال.
أحدها: أن يأخذها ليحفظها أبدا، فهي أمانة في يده. فلو دفعها إلى الحاكم
لزمهم القبول. وكذا من أخذ للتملك ثم بدا له ودفعها إلى الحاكم، لزمه القبول.
وهل يجب التعريف إذا قصد الحفط أبدا؟ وجهان يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى.
فإن يجب، لم يضمن بتركه. وإذا له قصد التملك، عرفها سنة من يومئذ،
ولا يعتد بم عرف من قبل. وإن أوجبناه، فهو ضامن بالترك. حتى لو بدأ
بالتعرف بعد ذلك، فهلك في سنة التعريف، ضمن.
الثاني أن يأخذ بنية الخيانة والاستيلاء، فيكون ضامنا غاصبا. وفي براءته
469

بالدفع إلى الحاكم. الوجهان في الغاصب، فلو عرف بعد ذلك وأراد التملك، لم
يكن له ذلك على المذهب، وبه قطع الجمهور، كالغاصب، وقيل: وجهان،
لوجود صورة الالتقاط.
الثالث: أن يأخذها ليعرفها سنة ويتملكها بعد السنة، فهي أمانة في السنة،
وأما بعد السنة، فإن قلنا: تملك بمضي السنة، فقد دخلت في ملكه وضمانه،
وإلا، فقال الغزالي: تصير مضمونة عليه إذا كان غرم التملك مطردا، ولم يوافقه
غيره، فالأصح ما صرح ابن الصباغ والبغوي: أنها أمانة ما لم يختر التملك قصدا،
أو لفظا إذا اعتبرناه، كما قبل الحول، لكن إذا اختار وقلنا: لا بد من التصرف،
فحينئذ يكون مضمونا عليه كالقرض. وإذا قصد الأمانة ثم قصد الخيانة، فالأصح أنه
لا يصير مضمونا عليه بمجرد القصد، كالمودع لا يضمن بنية الخيانة على
المذهب. والثاني: يصير، لأنه لم يسلطه المالك. ومهما صار الملتقط ضامنا
في الدوام، إما بحقيقة الخيانة أو بقصدها، ثم أقلع وأراد أن يعرف ويتملك، فله
ذلك على الأصح.
الحال الرابع: أن يأخذ اللقطة ولا يقصد خيانة ولا أمانة، أو يقصد أحدهما
وينساه، فلا تكون مضمونة عليه وله التملك بشرطه.
الحكم الثاني: التعريف، فينبغي للملتقط أن يعرف اللقطة ويعرفها.
أما المعرفة، فيعلم عفاصها، وهو الوعاء من جلد وخرقة وغيرهما،
ووكاءها، وهو الخيط الذي تشد به، وجنسها، أذهب أم عيره؟ ونوعها، أهروية أم
غيرها؟ وقدرها، بوزن أو عدد وإنما يعرف هذه الأمور لئلا تختلط بماله ويستدل بها
470

على صدق طالبها، ويستحب تقييدها بالكتابة وأما التعريف، ففيه مسائل.
إحداها: يجب تعريف اللقطة سنة، وليس ذلك بمعنى استيعاب السنة، بل
لا يعرف في الليل، ولا يستوعب الأيام أيضا، بل على المعتاد، فيعرف في الابتداء
في كل يوم مرتين طرفي النهار، ثم في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرتين أو
مرة، ثم في كل شهر بحيث لا ينسى أنه تكرار للأول.
وفي وجوب المبادرة بالتعريف على الفور وجهان. الأصح الذي يقتضيه كلام
الجمهور: لا يجب، بل المعتبر تعريف سنة متى كان. وهل تكفي سنة مفرقة بأن
يفرق شهرين مثلا ويترك شهرين، وهكذا؟ فيه وجهان. أحدهما: لا، وبه قطع
الامام، لأنه لا تظهر فائدة التعريف. فعلى هذا، إذا قطع مدة، وجب الاستئناف.
والثاني وبه قطع العراقيون والروياني: نعم.
قلت: هذا الثاني أصح، ولم يقطع به العراقيون بل صححوه، لأنه عرف
سنة. والله أعلم
الثانية: ليصف الملتقط بعض أوصاف اللقطة، فإنه أقرب إلى الظفر
بالمالك. وهل هو شرط، أم مستحب؟ وجهان. أصحهما: مستحب. فإن
شرطناه، فهل يكفي ذكر الجنس بأن يقول: من ضاع منه دراهم؟ قال الامام:
عندي أنه لا يكفي، ولكن يتعرض للعفاص والوكاء ومكان لالتقاط وزمنه، ولا
يستوعب الصفات ولا يبالغ فيها لئلا يعتمدها الكاذب. فإن بالغ، ففي مصيره ضامنا
وجهان، لأنه لا يلزمه الدفع إلا ببينة، لكن قد يرفعه إلى حاكم يلزمه الدفع
بالوصف.
471

قلت: أصحهما: الضمان. والله أعلم
الثالثة: إن تبرع الملتقط بالتعريف، أو بذل مؤنته، فذاك، وإلا، فإن أخذها
للحفظ أبدا، فإن قلنا: لا يجب التعريف والحالة هذه، فهو متبرع إن عرف. وإن
قلنا: يجب، فليس عليه مؤنته، بل يرفع الامر إلى القاضي ليبذل أجرته من بيت
المال، أو يقترض على المالك، أو يأمر الملتقط به ليرجع كما في هرب
الجمال. وإن أخذها للتملك واتصل الامر بالتملك، فمؤنة التعريف على
الملتقط قطعا. وإن ظهر مالكها، فهل هي على الملتقط لقصده التملك، أم على
المالك لعود الفائدة إليه؟ فيه وجهان. أصحهما: أولهما. ولو قصد الأمانة أولا،
ثم قصد التملك، ففيه الوجهان.
الرابعة: ما ذكرناه من وجوب التعريف، هو فيما إذا قصد التملك، أما إذا
قصد الحفظ أبدا، ففي وجوبه وجهان. أصحهما عند الامام والغزالي: وجوبه،
لئلا يكون كتمانا مفوتا للحق على صاحبه. والثاني وبه قطع الأكثرون: لا يجب،
قالوا: لان التعريف إنما يجب لتخصيص شرط التملك.
472

قلت: الأول أقوى، وهو المختار. والله أعلم
الخامسة: ليكن التعريف في الأسواق ومجامع الناس وأبواب المساجد عند
خروج الناس من الجماعات، ولا يعرف في المساجد، كما لا تطلب اللقطة فيها،
قال الشاشي في المعتمد: إلا أن الأصح جواز التعريف في المسجد الحرام،
بخلاف سائر المساجد. ثم إذا التقط في بلدة أو قرية، فلا بد من التعريف فيها،
وليكن أكثر تعريفه في البقعة التي وجد فيها، لان طلب الشئ في موضع ضياعه
أكثر. فإن حضره سفر، فوض التعريف إلى غيره، ولا يسافر بها. وإن التقط في
الصحراء، فعن أبي إسحاق: أنه إن اجتازت به قافلة، تبعهم وعرف، وإلا، فلا
فائدة في التعريف في المواضع الخالية، ولكن يعرف في البلدة التي يقصدها قربت
أم بعدت. وإن بدا له الرجوع، أو قصد بلدة أخرى، عرف فيها ولا يكلف أن يغير
قصده، ويعدل إلى أقرب البلاد إلى ذلك الموضع، حكاه الامام وتابعه الغزالي.
ولكن ذكر المتولي وغيره: أنه يعرف في أقرب البلاد إليه، وهذا إن أراد به الأفضل
فذاك، وإلا، فيحصل في المسألة الوجهان.
قلت: الأصح: أنه لا يكلف العدول. والله أعلم
473

فرع ليس للملتقط تسليم المال إلى غيره ليعرفه إلا بإذن الحاكم، فإن
فعل، ضمن، ذكره ابن كج وغيره.
فرع يشترط كون المعرف عاقلا غير مشهور بالخلاعة والمجون، وإلا،
فلا يعتمد قوله، ولا تحصل فائدة التعريف.
فصل إنما يجب تعريف اللقطة إذا جمعت وصفين، أحدهما: كون
الملتقط كثيرا. فإن كان قليلا، نظر، إن انتهت قلته إلى حد يسقط تموله كحبة
الحنطة والزبيبة، فلا تعريف، ولواجده الاستبداد به. وإن كان متمولا مع قلته،
وجب تعريفه، وفي قدر تعريفه وجهان. أصحهما عند العراقيين: (سنة) كالكثير.
وأشبههما باختيار معظم الأصحاب: لا يجب سنة. فعلى هذا أوجه. أحدها:
يكفي مرة. والثاني: ثلاثة أيام. وأصحها: مدة يظن في مثلها طلب فاقده له، فإذا
غلب على الظن إعراضه، سقط، ويختلف ذلك باختلاف المال، قال الروياني:
فدانق الفضة يعرف في الحال، ودانق الذهب يعرف يوما، أو يومين، أو ثلاثة. وأما
الفرق بين القليل والمتمول والكثير، ففيه أوجه. أصحها: لا يتقدر، بل ما غلب
على الظن أن فاقده لا يكثر أسفه عليه ولا يطول طلبه له غالبا، فقليل، قاله الشيخ أبو
محمد وغيره، وصححه الغزالي والمتولي. والثاني: القليل: ما دون نصاب
السرقة. والثالث: الدينار قليل. والرابع: ما دون الدرهم قليل، والدرهم كثير.
فرع قال المتولي: يحل التقاط السنابل وقت الحصاد إن أذن فيه المالك،
أو كان قدرا لا يشق عليه أن يلتقط وإن كان يلتقط بنفسه لو اطلع عليه، وإلا، فلا
474

يحل.
الوصف الثاني: أن يكون شيئا لا يفسد. أما ما يفسد، فضربان.
أحدهما: أن لا يمكن إبقاؤه كالهريسة، والرطب الذي لا يتتمر، والبقول.
فإن وجده في برية، فهو بالخيار بين أن يبيعه ويأخذ ثمنه، وبين أن يتملكه في الحال
فيأكله ويغرم قيمته. وإن وجده في بلدة أو قرية، فطريقان.
أحدهما: على قولين. أحدهما: ليس له الاكل، بل يبيعه ويأخذ ثمنه
لمالكه، لان البيع متيسر في العمران. والثاني وهو المشهور: أنه كما لو وجد في
برية.
والطريق الثاني: القطع بالمشهور. فإذا لم نجوز الاكل فأخذ للاكل، كان
غاصبا. وإذا جوزناه فأكل، ففي وجوب التعريف بعده وجهان. أصحهما:
الوجوب إن كان في البلد، كما أنه إذا باع يعرف. وإن كان في الصحراء، قال
الامام: فالظاهر أنه لا يجب، لأنه لا فائدة فيه.
وهل يجب إفراز القيمة المغرومة من ماله؟ وجهان. ويقال: قولان
أصحهما: لا، لان ما في الذمة لا يخشى هلاكه، وإذا أفرز (كان المفرز) أمانة.
والثاني: يجب احتياطا لصاحب المال ليقدم بالمفرز لو أفلس الملتقط. وعلى
هذا، فالطريق أنه يرفع الامر إلى الحاكم ليقبض عن صاحب المال. فإن لم يجد
حاكما، فهل للملتقط بسلطان الالتقاط أن يستنيب عنه؟ فيه احتمال عند الامام.
وذكر الامام والغزالي، أنه إذا أفرزها، لم تصر ملكا لصاحب المال، بل هو أولى
بتملكها. ولو كان كما قالا، لم يسقط حقه بهلاك المفرز. وقد نصوا على
السقوط، ونصوا أيضا على أنه لو مضت مدة التعريف، فله أن يتملك المفرز كما
475

يتملك نفس اللقطة، وكما يتملك الثمن إذا باع الطعام، وهذا يقتضي صيرورة
المفرز ملكا لصاحب اللقطة.
ولو اختلفت قيمة يومي الاخذ والاكل، ففي بعض الشروح أنه إن أخذ للاكل
اعتبرت قيمة يوم الاخذ. وإن أخذ التعريف، اعتبرت قيمة يوم الاكل. وإذا اختار
البيع، ففي الحاجة إلى إذن الحاكم ما سبق في بيع الشاة. وإذا باع أو أكل،
عرف المبيع والمأكول باتفاق الأصحاب، لا الثمن والقيمة، سواء أفرزها، أم لا.
الضرب الثاني: ما يمكن إبقاؤه بالمعالجة والتجفيف. فإن كان الحظ لصاحبه
في بيعه رطبا، بيع، وإلا، فإن تبع الملتقط بالتجفيف فذاك بيع بعضه
وأنفق على تجفيف الباقي.
الحكم الثالث: التملك، فيجوز تملك اللقطة بعد التعريف، سواء كان
الملتقط غنيا أو فقيرا، ومتى تملك؟ فيه أوجه. أصحها: لا تملك إلا بلفظ،
كقوله: تملكت ونحوه. والثاني: لا تملك ما لم يتصرف. وعلى هذا، يشبه أن
يجئ الخلاف المذكور في القرض، في أن الملك بأي نوع من التصرف يحصل.
والثالث: يكفيه تجديد قصد التملك بعد التعريف، ولا يشترط لفظ. والرابع:
تملك بمجرد مضي السنة.
فرع في لقطة مكة وحرمها وجهان. الصحيح: أنه لا يجوز أخذها
للتملك، وإنما تؤخذ للحفظ أبدا. والثاني: أنها كلقطة سائر البقاع. قال هذا
476

القائل: والمراد بقول النبي (ص): لا تحل لقطتها إلا لمنشد أنه لا بد من
تعريفها سنة كغيرها، لئلا يتوهم أن تعريفها في الموسم كاف لكثرة الناس وبعد العود
في طلبها من الآفاق.
قلت: قال أصحابنا: ويلزم الملتقط بها الإقامة للتعريف، أو دفعها إلى
الحاكم، فلا يجئ هنا الخلاف السابق فيمن التقط للحفظ، هل يلزمه التعريف؟
بل يجزم هنا بوجوبه، للحديث. والله أعلم
الحكم الرابع: رد عينها أو بدلها عند ظهور مالكها. فإذا جاء من يدعيها،
فإن لم يقم بينة أنها له، ولم يصفها، لم تدفع إليه، إلا أن يعلم الملتقط أنها له،
فيلزم الدفع إليه. وإن أقام بينة، دفعت إليه. وإن وصفها، نظر، إن لم يظن
الملتقط صدقه، لم يدفع إليه على المذهب المعروف وحكى الامام ترددا في
جواز الدفع أن ظن صدقة، جاز الدفع إليه، ولا يجب على المذهب، وبه قطع
الجمهور. ونقل الامام في وجوبه وجهين. فعلى المذهب، لو قال الواصف:
يلزمك تسليمها إلي، فله أن يحلف أنه لا يلزمه. ولو قال: تعلم أنها ملكي، فله أن
يحلف أنه لا يعلم. ولو أقام الواصف شاهدا، فالمذهب أنه لا يجب الدفع، واختار
الغزالي وجوبه. وإذا دفعها إلى الواصف بوصفه، فأقام غيره بينة أنها له، فإن
كانت باقية، انتزعت منه ودفعت إلى الثاني. وإن تلفت عنده، فهو بالخيار بين أن
يضمن الملتقط أو الواصف. فإن ضمن الواصف، لم يرجع على الملتقط. وإن
ضمن الملتقط، رجع على الواصف إن لم يقر بالملك للواصف. وإن أقر، لم
يرجع، مؤاخذة له. هذا إذا دفع بنفسه. أما إذا ألزمه الحاكم الدفع إلى الواصف،
فليس لصاحب البينة تضمينه.
477

فرع لو جاء الواصف بعد أن تملك الملتقط اللقطة وأتلفها، فغرمها
الملتقط لظنه صدقه، فأقام آخر بينة بها، طالب الملتقط دون الواصف، لان
الحاصل عند الواصف مال الملتقط، لا ماله. وإذا غرم الملتقط، هل يرجع على
الواصف؟ ينظر، هل أقر له بالملك أم لا كما سبق
فرع أقام مدعي اللقطة شاهدين عدلين عنده وعند الملتقط، وهما فاسقان
عند القاضي، لم يلزمه القاضي الدفع على الصحيح. وقيل: يلزمه، لاعترافه
بعدالتهما.
فرع إذا ادعاها اثنان، وأقام كل واحد بينة أنها له، ففيه أقوال
التعارض.
فصل إذا ظهر المالك قبل تملك الملتقط، أخذ اللقطة بزوائدها المتصلة والمنفصلة.
وإن ظهر بعد التملك، فللقطة حالان.
أحدهما: أن تكون باقية عنده، فينظر، إن بقيت بحالها، فوجهان.
أصحهما: له أخذها، وليس للملتقط أن يلزمه أخذ بدلها. والثاني: المنع،
فلا شك أنه لو ردها الملتقط لزم المالك القبول، فعلى الأصح: لو باعها الملتقط
فجاء المالك في مدة الخيار، فهل له فسخ البيع؟ وجهان حكاهما الشاشي،
478

ووجه المنع بأن الفسخ حق للعاقد، فلا يتمكن منه غيره بغير إذنه. وجعل ابن كج
الوجهين في أنه يجبر الملتقط على الفسخ، ويجوز فرض الوجهين في الانفساخ.
فإن زادت، فالمتصلة تتبعها، والمنفصلة تسلم للملتقط، ويرد الأصل وإن نقصت
بعيب ونحوه وقلنا: لو بقيت بحالها لم يكن للمالك أخذها قهرا، رجع إلى بدلها
سليمة. وإن قلنا: له أخذها قهرا فكذا هنا، ويغرمه الأرش، لان الكل مضمون
عليه. وقيل: لا أرش عليه، وبه قطع البغوي. ولو أراد بدلها، وقال الملتقط:
أضم إليها الأرش وأردها، أجيب الملتقط على الأصح. والثاني: يجاب المالك،
فله الخيار بين البدل أو العين الناقصة مع الأرش أو دونه كما سبق.
الحالة الثانية: أن تكون تالفة، فعليه بدلها: المثل، أو القيمة. والاعتبار
بقيمة يوم التملك. وقال الكرابيسي من أصحابنا: لا يطالب بالقيمة، ولا برد العين
عند بقائها. والصحيح المعروف هو الأول. وعلى هذا، فالضمان ثابت في ذمته من
يوم التلف. وعن أبي إسحاق المروزي: أنه لا يثبت، وإنما يتوجه عند مجئ
المالك وطلبه.
فصل في مسائل تتعلق بالكتاب إحداها: وجد رجلان لقطة،
يعرفانها، ويتملكانها، وليس لأحدهما نقل حقه إلى صاحبه، كما لا يجوز
للملتقط نقل حقه إلى غيره.
الثانية: تنازعا، فأقام كل واحد بينة أنه الملتقط، فإن تعرضت بينة لسبق،
حكم بها، وإلا، فعلى الخلاف في تعارض البينتين.
479

الثالثة: ضاعت من يد الملتقط، فأخذها آخر، فالأول أحق بها على
الأصح. وقيل: الثاني.
الرابع: كانا يتماشيان، فرأى أحدهما اللقطة، وأخبر بها الآخر، فالآخذ أولى.
فلو أراه اللقطة وقال: هاتها، فأخذها لنفسه، فهي للآخذ. وإن أخذها
للآمر، أو له ولنفسه، فعلى القولين في جواز التوكيل بالاصطياد ونحوه.
الخامسة: رأى شيئا مطروحا على الأرض، فدفعه برجله ليعرف جنسه أو قدره
ولم يأخذه حتى ضاع، لم يضمنه، لأنه لم يحصل في يده، قاله المتولي.
السادسة: دفع اللقطة إلى الحاكم وترك التعريف والتملك، ثم ندم وأراد أن
يعرف ويتملك، ففي تمكينه وجهان حكاهما ابن كج.
قلت: المختار المنع، لأنه أسقط حقه. والله أعلم
السابعة: قال في المهذب: لو وجد خمرا أراقها صاحبها، لم يلزمه
تعريفها، لان إراقتها مستحقة. فإن صارت عنده خلا، فوجهان. أحدهما: أنها
للمريق، كما لو غصبها فصارت خلا. والثاني: للواجد، لأنه أسقط حقه، بخلاف
الغصب، وهذا الذي ذكره تصويرا وتوجيها، إنما يستمر في الخمرة المحترمة،
وحينئذ لا تكون إراقتها مستحقة. أما في الابتداء، فظاهر. وأما عند الواجد،
فينبغي أن يجوز إمساكها إذا خلا عن قصد فاسد، ثم يشبه أن يكون ما ذكره
480

مخصوصا بما إذا أراقها، لأنه معرض. أما إذا ضاعت المحترمة من صاحبها،
فلتعرف كالكلب.
قلت: أما قول الإمام الرافعي: يشبه أن يكون.. إلى آخره، فكذا صرح
به صاحب المهذب فقال: وجد خمرا أراقها صاحبها. وأما قوله: إن الواجد
يجوز له إمساكها، فغير مقبول، بل لا يجوز وإن خلا عن القصد الفاسد.
والكلام فيما إذا لم يعلم الواجد أنها محترمة، وحينئذ فقول صاحب المهذب:
الإراقة واجبة - يعني على الواجد - كلام صحيح، لأن الظاهر عدم احترامها. والله
أعلم
الثامنة: قد سبق أن البعير وما في معناه، لا يلتقط إذا وجد في الصحراء،
واستثنى صاحب التلخيص ما إذا وجد بعيرا في أيام منى مقلدا في الصحراء تقليد
الهدايا، فحكى عن نص الشافعي رضي الله عنه: أنه يأخذه ويعرفه أيام منى. فإن
خاف فوت وقت النحر، نحره، والمستحب أن يرفعه إلى الحاكم حتى يأمره بنحره.
وحكى غيره قولا أنه لا يجوز أخذه. وبنوا القولين على القولين فيمن وجد بدنه
منحورة قد غمس نعلها في دمها وضرب به صفحتها، هل يجوز الاكل منها؟ فإن
منعناه، منعنا الاخذ هنا. وإن جوزنا اعتمادا على العلامة، فكذا هنا التقليد
علامة. والأضحية المعينة إذا ذبحت في وقت النحر، وقعت الموقع وإن لم يأذن
صاحبها، قال الامام: لكن ذبح الأضحية إن وقع الموقع، لا يجوز الاقدام عليه من
غير إذن، ولهذا الاشكال قال القفال تفريعا على (هذا) القول يجب رفع الامر إلى
القاضي لينحره، وأول قول الشافعي رضي الله عنه: استحب. ثم لك أن تقول:
481

الاستثناء غير منتظم وإن جوزناه الاخذ، لان الاخذ الممنوع إنما هو الاخذ للتملك،
ولا شك أن هذا البعير لا يؤخذ للتملك.
قلت: قد سبق في جواز أخذ البعير لآحاد الناس للحفظ وجهان. فإن منعناه،
ظهر الاستثناء. وإن جوزناه وهو الأصح، ففائدة الاستثناء جواز التصرف فيه
بالنحر. والله أعلم
482

كتاب اللقيط
يقال للصبي الملقي الضائع: لقيط، وملقوط، ومنبوذ، وفيه بابان.
الباب الأول: في أركان الالتقاط الشرعي وأحكام. أما الأركان، فثلاثة.
أحدها: نفس الالتقاط، وهو فرض كفاية. ومن أخذ لقيطا، لزمه الاشهاد
عليه على المذهب لئلا يضيع نسبه. وقيل: في وجوبه قولان أو وجهان كاللقطة.
وقيل: إن كان ظاهر العدالة، لم يلزمه. وإن كان مستورها، لزمه. فإن أوجبنا
الاشهاد فتركه، قال في الوسيط: لا تثبت ولاية الحضانة، ويجوز الانتزاع،
وهذا يشعر باختصاص الاشهاد الواجب بابتداء الالتقاط. وإذا أشهد، فليشهد
483

على اللقيط وما معه، نص عليه.
الركن الثاني: اللقيط، وهو كل صبي ضائع لا كافل له، فيخرج بقيد الصبي
البالغ، لأنه مستغن عن الحضانة والتعهد، فلا معنى للالتقاط. لكن لو وقع في معرض
هلاك، أعين ليتخلص. وفي الصبي الذي بلغ سن التمييز تردد للامام، والأوفق
لكلام الأصحاب: أنه يلتقط، لحاجته إلى التعهد. والمراد بالضائع: المنبوذ.
وأما غير المنبوذ، فإن لم يكن له أب ولا جد ولا وصي، فحفظه من وظيفة القاضي،
فيسلمه إلى من يقوم به، لأنه كان له كافل معلوم، فإذا فقد، قام القاضي مقامه.
وقولنا: لا كافل له، المراد بالكافل: الأب والجد ومن يقوم مقامهما. والملتقط
ممن هو في حضانة أحق هؤلاء، لا معنى لالتقاطه، إلا أنه لو حصل في مضيعة أخذ
ليرد إلى حاضنه.
قلت: معناه: يجب أخذه لرده إلى حاضنه. والله أعلم
484

الركن الثالث: الملتقط، ويشترط فيه أمور.
أحدها: التكليف، فلا يصح التقاط الصبي والمجنون
الثاني: الحرية، فالعبد إذا التقط ينتزع منه إن لم يأذن سيده. وإن أذن أو
علم به فأقره في يده، جاز وكان السيد هو الملتقط، وهو نائبه في الاخذ والتربية،
والمكاتب إذا التقط بغير إذن السيد، انتزع منه أيضا. وإن التقط باذنه، ففيه
الخلاف في تبرعاته بالاذن، لكن المذهب الانتزاع، لان في الالتقاط ولاية وليس هو
من أهلها. فإن قال له السيد: التقط لي صغيرا، فالسيد هو الملتقط. ومن بعضه
حر إذا التقط في يومه، هل يستحق كفالته؟ وجهان حكاهما في المعتمد.
الثالث: الاسلام، فالكافر يلتقط الطفل الكافر دون المسلم لأنه أولى به،
وللمسلم التقاط الصبي المحكوم بكفره.
الرابع: العدالة، فليس للفاسق الالتقاط. ولو التقط، انتزع منه، وأما
من ظاهر حاله الأمانة، إلا أنه لم يختبر، فلا ينتزع من يده، لكن يوكل القاضي به
من يراقبه بحيث لا يعلم لئلا يتأذى. فإذا وثق به، صار كمعلوم العدالة. وقبل ذلك
485

لو أراد المسافرة به، منع وانتزع منه، لأنه لا يؤمن أن يسترقه.
الخامس: الرشد، فالمبذر المحجور عليه، لا يقر اللقيط في يده.
فرع لا يشترط في الملتقط الذكورة قطعا، ولا الغنى. وقيل: لا يقر في
يد الفقير، والصحيح الأول.
فصل إذا ازدحم اثنان على لقيط، نظر، إن ازدحما قبل الاخذ، وطلب
كل واحد أخذه وحضانته، جعله الحاكم في يد من رآه منهما أو من غيرهما، إذ لا
حق لهما قبل الاخذ. وإن ازدحما بعد الاخذ، فإن لم يكن أحدهما أهلا
للالتقاط، سلم اللقيط إلى الآخر. وإن كانا أهلين، قدم أسبقهما بالالتقاط. وهل
يثبت السبق بالوقوف على رأسه بغير أخذ؟ وجهان. أصحهما: لا. وإن لم يسبق
واحد منهما، فقد يختص أحدهما بصفة تقدمه، وقد يستويان، والصفات المقدمة
أربع.
إحداها: الغنى، فإذا كان أحدهما غنيا والآخر فقيرا، فقيل: يستويان.
والأصح تقديم الغني. وعلى هذا لو تفاوتا في الغنى، فهل يقدم أكثرهما مالا؟
وجهان.
قلت: الأصح لا يقدم. والله أعلم
الثانية: البلد، فلو كان أحدهما بلديا والآخر قرويا أو بدويا، ففيه كلام نذكره
إن شاء الله تعالى في فصل الاحكام.
الثالثة: من ظهرت عدالته بالاختبار، يقدم على المستور على الأصح.
الرابعة: الحر أولى من المكاتب وإن التقط بإذن سيده. ولو كان أحدهما عبدا
التقط بإذن سيده، فالاعتبار بالسيد والآخر، ولا تقدم المرأة على الرجل، بخلاف
الام في الحضانة، لان شفقتها أكمل، ويتساوى المسلم والذمي في اللقيط المحكوم
بكفره، وقيل: يقدم المسلم، وقيل: الذمي، والأول أصح. وإذا استويا في
486

الصفات وتشاحا، أقرع بينهما على الصحيح المنصوص وقول الجمهور. وقال ابن
خيران: يقدم الحاكم من رآه منهما أصلح للقيط، فإن استويا أو تحير، أقرع.
قال الأصحاب: ولا يخير الصبي بينهما، وإن كان ابن سبع سنين فأكثر،
بخلاف تخييره بين الأبوين، لان هناك يعول على الميل بسبب الولادة. وقال
الامام: يحتمل أن يخير ويقدم اختياره على القرعة، وإذا خرجت القرعة لأحدهما،
فترك حقه للآخر، لم يجز، كما ليس للمنفرد نقل حقه إلى غيره.
ولو ترك حقه قبل القرعة، فوجهان. أصحهما: ينفرد به كالشفيعين
والثاني: لا بل يرفع إلى الحاكم حتى يقره في يد الآخر إن رآه، وله أن يختار
أمينا آخر فيقرع بينه وبين الآخر. وقال الامام تفريعا على الثاني: إن التارك لا
يتركه الحاكم، بل يقرع بينه وبين صاحبه. فإن خرج عليه، ألزمه القيام بحضانته
بناء على أن المنفرد إذا شرع في الالتقاط، لا يجوز له الترك، وسيأتي إن شاء الله
تعالى.
فصل وأما أحكام الالتقاط.
487

فمنها: أن الذي يلزم الملتقط حفظ اللقيط ورعايته. فأما نفقته، فلا تلزمه،
وسيأتي بيان محلها إن شاء الله تعالى. فإن عجز عن الحفظ لأمر عرض، سلمه إلى
القاضي، وإن تبرم به مع القدرة، فوجهان بناء على أن الشروع في فرض الكفاية هل
يلزم الاتمام ويصير الشارع متعينا؟ وموضع ذكره كتاب السير، والأصح هنا: أن له
التسليم إلى القاضي، واختاره ابن كج، ولا خلاف أنه يحرم عليه نبذه ورده إلى
ما كان. واعلم أنهم يستعملون في هذا الباب لفظ الحضانة، والمراد منه الحفظ
والتربية، لا الأعمال المفصلة في الإجارة، لان فيها مشقة ومؤنة كثيرة، فكيف تلزم
من لا تلزمه النفقة؟ وقد أوضحه البغوي فقال: نفقة اللقيط وحضانته في ماله إن كان
له مال، ووظيفة الملتقط حفظه وحفظ ماله.
فرع الملتقط البلدي، إذ وجد لقيطا في بلدته، أقر في يده، وليس له
نقله إلى البادية إن أراد الانتقال إليها)، بل ينتزع منه لمعنيين. أحدهما: أن
عيش البادية خشن، ويفوته العلم بالدين والصنعة. والثاني: تعريض نسبه
للضياع. فلو كان الموضع المنتقل إليه من البادية في بياض البلدة يسهل عليه
تحصيل ما يراد منها، فعلى المعنى الأول: ل يمنع. وعلى الثاني: إن كان أهل
البلد يختلطون بهم، فكذلك، وإلا، منع. وكما ليس له نقله إلى البادية،
فليس له نقله إلى قرية. ولو أراد نقله إلى بلدة أخرى، أو التقطه غريب في تلك
488

البلدة وأراد نقله إلى بلدته، فعلى المعنى الأول: لا يمنع، وعلى الثاني: يمنع
وينتزع اللقيط منه. والأول هو المنصوص، وبه قال الجمهور. قال المتولي: ولا
فرق بين سفر النقلة والتجارة والزيارة. ولو وجد القروي لقيطا في قريته أو قرية
أخرى أو في بلدة، يقاس بما ذكرناه في البلدي. ولو وجد الحضري اللقيط في
بادية، نظر، إن كان في مهلكة، فلا بد من نقله، وللملتقط أن يذهب به إلى
مقصده. ومن قال في اللقطة: يعرفها في أقرب البلاد، يشبه أن يقول: لا يذهب به
إلى مقصده رعاية للنسب. وإن كان في حلة أو قبيلة، فله نقله إلى البلدة والقرية
على المذهب، وبه قطع الجمهور. وعن القاضي حسين: أنه على وجهين بناء على
المعنيين. ولو أقام هناك، أقر في يده قطعا. أما البدوي، فإذا التقط في قرية أو بلدة
وأراد المقام بها أقر في يده. وإن أراد نقله إلى البادية أو قرية أو بلدة أخرى، فعلى
ما ذكرناه في الحضري. وإن وجده في حلة أو قبيلة في البادية، فإن كان من أهل
حلة مقيمين في موضع راتب، أقر في يده، وإن كان ممن ينتقلون من موضع إلى
موضع منتجعين، ففي منعه وجهان.
قلت: أصحهما لا منع. والله أعلم
فرع لو ازدحم على لقيط في البلدة أو القرية مقيم بها وظاعن، قال
الشافعي رضي الله عنه في المختصر: المقيم أولى. قال الأصحاب: إن كان
الظاعن يظعن إلى البادية أو إلى بلدة أخرى، وقلنا: ليس للمنفرد الخروج به إلى
بلدة، فالمقيم أولى، وإن جوزناه له ذلك، فهما سواء. ولو اجتمع على لقيط في
القرية قروي مقيم بها وبلدي، قال ابن كج: القروي أولى، وهذا يخرج على منع
النقل من بلد إلى بلد. فإن جوزنا، وجب أن يقال: هما سواء.
قلت: المختار الجزم بتقديم القروي مطلقا، كما قاله ابن كج، وإنما نجوز
النقل إذا لم يعارضه معارض. والله أعلم
489

ولو اجتمع حضري وبدوي على لقيط في البادية، نظر، إن وجد في حلة أو
قبيلة، والبدوي في موضع راتب، فهما سواء. وقال ابن كج: البدوي أولى إن كان
مقيما فيهم. وإن كان منتجعا، فإن قلنا: يقر في يده لو كان منفردا، فهما سواء،
وإلا، فالحضري أولى. وإن وجد في مهلكة، قال ابن كج: الحضري أولى.
وقياس قوله: تقديم البدوي أو من كان مكانه أقرب إلى موضع الالتقاط،
أقرب.
فرع اللقيط قد يكون له مال يستحقه بكونه لقيطا أو بغيره، فالأول:
كالوقف على اللقطاء والوصية لهم، والثاني: كالوصية لهذا اللقيط والهبة له والوقف
عليه، ويقبل له القاضي من هذا ما يحتاج إلى القبول. ومن الأموال التي يستحقها،
ما يوجد تحت يده واختصاصه، فإن للصغير يدا واختصاصا كالبالغ، والأصل الحرية
ما لم يعرف غيرها، وذلك كثيابه التي هو لابسها والمفروشة تحته والملفوفة عليه، وما
غطي به من لحاف وغيره، وما شد عليه وعلى ثوبه، أو جعل في جيبه من حلي
ودراهم وغيرها، وكذا الدابة التي عنانها بيده، أو هي مشدودة في وسطه أو ثيابه،
والمهد الذي هو فيه، وكذا الدنانير المنثورة فوقه والمصبوبة تحته وتحت فراشه.
وفي التي تحته، وجه ضعيف. ولو كان في خيمة أو دار ليس فيهما غيره، فهما له.
وعن الحاوي وجهان في البستان.
قلت: وطرد صاحب المستظهري الوجهين في الضيعة وهو بعيد، وينبغي
القطع بأنه لا يحكم له بها. والله أعلم
ولو كان بقربه ثياب وأمتعة موضوعة، أو دابة، فوجهان. أصحهما: لا تجعل
له كما لو كانت بعيدة. والثاني: بلى، لان هذا يثبت اليد والاختصاص، ألا ترى
أن الأمتعة الموضوعة في السوق بقرب الشخص تجعل له. والمال المدفون تحت
490

اللقيط لا يجعل له، لأنه لا يقصد بالدفن الضم إلى الطفل، بخلاف ما يلف عليه
ويوضع بقربه. فلو وجدت معه أو في ثيابه رقعة مكتوب فيها: إن تحته دفينا له،
فوجهان. أصحهما عند الغزالي: أنه له بقرينة المكتوب. والثاني: لا أثر للرقعة،
وهو الموافق لكلام الأكثرين. قال الامام: ومن عول على الرقعة ليت شعري ما
يقول لو أرشدت الرقعة إلى دفين بالعبد منه، أو دابة مربوطة بالبعد منه.
قلت: مقتضاه أن نجعله للقيط، فإن الاعتماد إنما هو على الرقعة، لا على
كونه تحته. والله أعلم
ولو كانت دابة مشدودة باللقيط وعليها راكب، قال ابن كج: هي بينهما.
ثم إن ما سوى الدفين من هذه الأموال إذا لم يجعل للقيط، فهو لقطة، والدفين قد
يكون لقطة وقد يكون ركازا كما سبق.
فرع إذا عرف للقيط مال، فنفقته في ماله. فإن لم يعرف، فقولان.
أظهرهما: ينفق عليه الامام من بيت المال من سهم المصالح. والثاني: يستقرض
له الامام من بيت المال أو بعض الناس. فإن لم يكن في بيت المال شئ ولم يقرض
أحد، جمع الامام أهل الثروة من البلد وقسط عليهم نفقته وجعل نفسه منهم. ثم إن
بان رقيقا، رجعوا على سيده. وإن بان حرا أو له مال أو قريب، فالرجوع عليه.
وإن بان حرا لا قريب له ولا مال ولا كسب، قضى الامام حقهم من سهم الفقراء أو
491

المساكين أو الغارمين كما يراه.
قلت: اعتباره القريب غريب، قل من ذكره، وهو ضعيف، فإن نفقته القريب
تسقط بمضي الزمان. والله أعلم
أما إذا قلنا بالأظهر: إنه ينفق من بيت المال، فإن لم يكن فيه مال، أو كان
هناك ما هو أهم، كسد ثغر يعظم ضرره لو ترك، قام المسلمون بكفايته، ولم يجز
لهم تضييعه. ثم هل طريقه طريق النفقة، أم طريق القرض؟ قولان. أظهرهما
والذي يقتضي كلام العراقيين وغيرهم: ترجيحه أنه طريق
القرض. فإن قلنا: طريق النفقة، فقام به بعضهم، اندفع الحرج عن الباقين. وإن امتنعوا، أثموا كلهم،
وطالبهم الامام. فإن أصروا، قاتلهم، وعند التعذر يقترض على بيت المال وينفق
عليه، وإن قلنا: طريق القرض، يثبت الرجوع. وعلى هذا، إن تيسر الاقتراض،
فذاك، وإلا، قسط الامام نفقته على الموسرين من أهل البلد، ثم إن ظهر عبدا،
فالرجوع على سيده. وإن ظهر له مال أو اكتسب، فالرجوع عليه. فإن لم يكن له
شئ، قضي من سهم المساكين أو الغارمين. وإن حصل في بيت المال مال قبل
بلوغه ويساره، قضي منه. وإن حصل في بيت المال، أو حصل للقيط مال دفعة
واحدة، قضي من مال اللقيط كما لو كان له مال وفي بيت المال مال. ولم يتعرض
الأصحاب لطرد الخلاف، في أنه إنفاق أو إقراض، إذا كان في بيت المال مال
وقلنا: نفقته منه، والقياس طرده.
قلت: ظاهر كلامهم، أنه إنفاق، فلا رجوع لبيت المال قطعا، وهذا هو
492

المختار الظاهر والله أعلم
وحيث قلنا: يقسطها الامام على الأغنياء، فذاك عند إمكان الاستيعاب. فإن
كثروا أو تعذر التوزيع عليهم، قال الامام: يضربها السلطان على من يراه منهم
باجتهاده. فإن استووا في اجتهاد، تخير، والمراد أغنياء تلك البلدة أو القرية.
فصل إذا كان للقيط مال، هل يستقل الملتقط بحفظه؟ وجهان.
أحدهما: لا، بل يحتاج إلى إذن القاضي، إذ لا ولاية للملتقط. وأرجحهما على
ما يقتضيه كلام البغوي: الاستقلال.
قلت: رجح الامام الرافعي أيضا في المحرر هذا الثاني. والله أعلم
ولو ظهر منازع في المال المخصوص باللقيط، فليس للملتقط مخاصمته على
الأصح، وسواء قلنا: له الاستقلال بالحفظ، أم لا، فليس له إنفاقه على اللقيط إلا
بإذن القاضي إذا أمكن مراجعته. فإن أنفق، ضمن، ولم يكن له الرجوع على
اللقيط كمن في يده مال وديعة ليتيم أنفقها عليه. وحكى ابن كج وجها أنه لا
يضمن، (وهو شاذ)، وإذا رفع الامر إلى الحاكم، فليأخذ المال منه ويسلمه إلى أمين
لينفق منه على اللقيط بالمعروف، أو يصرفه إلى الملتقط يوما يوما. ثم إن خالف
الأمين وقتر عليه، منع منه، وإن أسرف، ضمن كل واحد من الأمين والملتقط
الزيادة، والقرار على الملتقط إن كان سلم إليه، لحصول الهلاك في يده. وهل
493

يجوز أن يترك المال في يد الملتقط ويأذن له في الانفاق منه؟ تقدم عليه مسألة،
وهي أنه إذا لم يكن للقيط مال واحتيج إلى الاقتراض له، هل يجوز للقاضي أن يأذن
للملتقط في الانفاق عليه من مال نفسه (ليرجع)؟ نص أنه يجوز، ونص في الضالة،
أنه لا يأذن لواجدها في الانفاق من مال نفسه ليرجع على صاحبها، بل يأخذ المال
منه ويدفعه. إلى أمين، ثم الأمين يدفع إليه كل يوم قدر الحاجة، فقال جمهور
الأصحاب: المسألتان على قولين. أحدهما: المنع فيهما. وأظهرهما عند الشيخ
أبي حامد: الجواز فيهما للحاجة، لكثرة المشقة، ويلحق الأمين بالأب في ذلك،
وسبق مثل هذا الخلاف في إنفاق المالك عند هرب عامل المساقاة والجمال، وأجراه
أبو الفرج السرخسي في إنفاق قيم الطفل من مال نفسه. وقالت طائفة بظاهر
النصين، وفرقوا بأن اللقيط لا ولي له في الظاهر. رجعنا إلى إذن الحاكم للملتقط في
الانفاق من مال اللقيط، فالأكثرون طردوا الطريقين في جوازه، والأحسن ما أشار إليه
ابن الصباغ، وهو القطع بالجواز كقيم اليتيم يأذن له القاضي في الانفاق من ماله
عليه، وينبغي أن يجري هذا الخلاف في تسليم ما اقترضه القاضي على الجمال
الهارب إلى المستأجر، ولا ذكر له هناك. وإذا جوزناه، فبلغ اللقيط واختلفا فيما
أنفق، فالقول قول الملتقط إذا ادعى قدر الايفاء في الحال، وقد سبق في هرب
الجمال وجه: أن القول قول الجمال، والقياس طرده هنا. وإن ادعى زيادة على
اللائق، فهو مقر بتفريطه، فيضمن، ولا معنى للتحليف. قال الامام: لكن لو وقع
النزاع في عين، فزعم الملتقط أنه أنفقها، فيصدق لتنقطع المطالبة بالعين، ثم
يضمن كالغاصب إذا ادعى التلف، هذا كله إذا أمكن مراجعة القاضي. فإن لم يكن
هناك قاض، فهل ينفق من مال اللقيط عليه بنفسه، أم يدفعه إلى أمين لينفق عليه؟
قولان. أظهرهما: الأول. فعلى هذا، إن أشهد لم يضمن على الصحيح، وإلا،
ضمن على الأصح.
494

الباب الثاني
في أحكام اللقيط
هي أربعة.
الأول: الاسلام، وإسلام الشخص قد يثبت بنفسه استقلالا، وقد يثبت
تبعا. أما القسم الأول، فالبالغ العاقل، يصح منه مباشرة الاسلام بالنطق إن كان
ناطقا، وبالإشارة إن كان أخرس.
وأما المجنون والصبي الذي لا يميز، فلا يصح إسلامهما مباشرة بلا خلاف،
ولا يحكم بإسلامهما إلا بالتبعية. وأما الصبي المميز، ففيه أوجه. الصحيح
المنصوص: لا يصح إسلامه. والثاني: يتوقف. فإن بلغ واستمر على كلمة
الاسلام، تبينا كونه مسلما من يومئذ. وإن وصف الكفر، تبينا أنه كان لغوا. وقد
يعبر عن هذا بصحة إسلامه ظاهرا لا باطنا. والثالث: يصح إسلامه حتى يفرق بينه
وبين زوجته الكافرة ويورث من قريبه المسلم، قاله الإصطخري. وعلى هذا، لو
ارتد، صحت ردته، لكن لا يقتل حتى يبلغ. فإن تاب، وإلا، قتل.
قلت: الحكم بصحة الردة، بعيد، بل غلط. والله أعلم
فإذا قلنا بالصحيح، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: يحال بينه وبين أبويه
وأهله الكفار لئلا يفتنوه. فإن بلغ ووصف الكفر، هدد وطولب بالاسلام. فإن
أصر، رد إليهم. وهل هذه الحيلولة مستحبة، أم واجبة؟ وجهان. أصحهما:
مستحبة، فليتلطف بوالديه ليؤخذ منهما. فإن أبيا، فلا حيلولة. هذا في أحكام
الدنيا.
495

فأما ما يتعلق بالآخرة، فقال الأستاذ أبو إسحاق: إذا أضمر الاسلام كما
أظهره، كان من الفائزين بالجنة، ويعبر عن هذا بصحة إسلامه باطنا لا ظاهرا. قال
الامام: في هذا إشكال، لان من يحكم له بالفوز لاسلامه، كيف لا يحكم
باسلامه؟ ويجاب عنه بأنه قد يحكم بالفوز في الآخرة وإن لم يحكم بأحكام الاسلام
في الدنيا، كمن لم تبلغه الدعوة.
فصل للتبعية في الاسلام ثلاث جهات. إحداها: إسلام الأبوين أو
أحدهما، ويتصور ذلك من وجهين. أحدهما: أن يكون الأبوان أو أحدهما مسلما
يوم العلوق، فيحكم بإسلام الولد، لأنه جزء من مسلم، فإن بلغ ووصف الكفر،
فهو مرتد. والثاني: أن يكونا كافرين يوم العلوق، ثم يسلما أو أحدهما، فيحكم
باسلام الولد في الحال. قال الامام: وسواء اتفق الاسلام في حال اجتنان الولد أو
بعد انفصاله، وسنذكر إن شاء الله تعالى ما يفترق فيه هذان الوجهان بإسلامه. وفي
معنى الأبوين الأجداد والجدات، سواء كانوا وارثين أم لم يكونوا، فإذا أسلم الجد
أبو الأب، أو أبو الأم، تبعه الصبي إن لم يكن الأب حيا قطعا، وكذا إن كان على
الأصح. ثم إذا بلغ هذا الصبي، فإن أفصح بالاسلام، تأكد ما حكمنا به. وإن
أفصح بالكفر، فقولان. المشهور: أنه مرتد، لأنه سبق الحكم باسلامه جزما،
فأشبه من باشر الاسلام ثم ارتد، وما إذا حصل العلوق في حال الاسلام. والثاني:
أنه كافر أصلي، لأنه كان محكوما بكفره أولا وأزيل تبعا، فإذا استقل، زالت
496

التبعية. ويقال: إن هذا القول مخرج، ومنهم من لم يثبته وقطع بالأول. فإن
حكمنا بكونه مرتدا لم قص شيئا مما أمضيناه من أحكام الاسلام. وإن حكمنا بأنه
كافر أصلي، فوجهان. أحدهما: إمضاؤها بحالها، لجريانه في حال التبعية.
وأصحهما: أنا نتبين بطلانها، ونستدرك ما يمكن استدراكه، حتى يرد ما أخذه من
تركه قريبة المسلم، ويأخذ من تركه قريبه الكافر ما حرمناه منه، ونحكم بأن إعتاقه
عن الكفارة لم يقع مجزئا. هذا فيما جرى في الصغر. فأما إذا بلغ ومات له قريب
مسلم قبل أن يفصح بشئ، أو أعتق عن الكفارة في هذا الحال، فإن قلنا: لو
أفصح بالكفر كان مرتدا، أمضينا أحكام الاسلام ولا تنقض. وإن جعلناه كافرا
أصليا، فإن أفصح بالكفر، تبينا أنه لا إرث ولا إجزاء عن الكفارة. وإن فات
الافصاح بموت أو قتل، فوجهان. أحدهما: إمضاء أحكام الاسلام كما لو مات في
الصغر. وأصحهما: نتبين الانتقاض، لان سبب التعبية الصغر وقد زال، ولم يظهر
في الحال حكمه في نفسه، فيرد الامر إلى الكفر الأصلي. وعن القاضي حسين:
أنه إن مات قبل الافصاح وبعد البلوغ، ورثه قريبه المسلم. ولو مات له قريب
مسلم، فإرثه عنه موقوف. قال الامام: أما التوريث منه، فيخرج على أنه لو مات
قبل الافصاح، هل ينقض الحكم؟ وأما توريثه، فإن أراد بالتوقف أنه يقال: لو
أفصح بالاسلام، فهو قريب، ويستفاد به الخروج من الخلاف. وأما لو مات
القريب، ثم مات هو، وفات الافصاح، فلا سبيل إلى الفرق بين توريثه والتوريث
عنه. ولو قتل بعد البلوغ وقبل الافصاح، ففي تعلق القصاص بقتله
قولان أحدهما: نعم كما لو قتل قبل البلوغ وأظهرهما: لا، للشبهة وانقطاع التبعية.
وأما الدية، فالذي أطلقوه وحكوه عن نص الشافعي رضي الله عنه: تعلق الدية
الكاملة بقتله، وقياس قولنا: إنه لو أفصح بالكفر كان كافرا أصليا، أن لا نوجب
الدية الكاملة على رأي، كما أنه إذا فات الافصاح بالموت يرد الميراث على رأي.
قلت: الصواب ما قاله الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم. والله أعلم
فرع المحكوم بكفره إذا بلغ مجنونا، حكمه حكم الصغير، حتى إذا
أسلم أحد والديه تبعه. وإن بلغ عاقلا ثم جن، فكذلك على الأصح.
الجهة الثانية: تبعية السابي، فإذا سبى المسلم طفلا منفردا عن أبويه، حكم
497

باسلامه، لأنه صار تحت ولايته كالأبوين.
قلت: هذا الذي جزم به، هو الصواب المقطوع به في كتب المذهب، وشذ
صاحب المهذب فذكر في كتاب السير في الحكم باسلامه وجهين، وزعم أن
ظاهر المذهب: أنه لا يحكم به، وليس بشئ، وإنما ذكرته تنبيها على ضعفه لئلا
يغتر به. والله أعلم
فلو سباه ذمي، فوجهان. أحدهما: يحكم باسلامه، لأنه من أهل دار الاسلام. وأصحهما: لا، لان كونه من أهل الدار
لم يؤثر فيه ولا في أولاده، فغيره
أولى. فعلى هذا، لو باعه الذمي لمسلم، لم يحكم باسلامه.
498

ولو سبي ومعه أحد أبويه، لم يحكم باسلامه قطعا. فلو كانا معه ثم ماتا،
لم يحكم بإسلامه أيضا، لان التعبية إنما تثبت في ابتداء السبي.
قلت: معن سبي معه أحد أبويه، أن يكونا في جيش واحد وغنيمة
واحدة، ولا يشترط كونها في ملك رجل. قال البغوي في كتاب الظهار: إذا سباه
مسلم، وسبى أبويه غيره، إن كان في عسكر واحد، تبع أبويه. وإن كان في
عسكرين، تبع السابي. والله أعلم
فرع حكم الصبي المحكوم بإسلامه تبعا للسابي إذ بلغ، حكم المحكوم
بإسلامه تبعا لأبويه إذا بلغ.
فرع المحكوم باسلامه تبعا لأبيه أو للسابي إذا وصف الكفر، فإن جعلناه
كافرا أصليا، ألحقناه بدار الحرب. فإن كان كفره مما يقر عليه بالجزية، قررناه
برضاه. وإن وصف كفرا غير ما كان موصوفا به، فهو انتقال من ملة إلى ملة، وفيه
تفصيل وخلاف مذكور في كتاب النكاح.
وأما تجهيزه والصلاة غلته ودفنه في مقابر المسلمين إذ فات بعد البلوغ وقبل
الافصاح، فيتفرع على القولين في أنه لو أفصح بالكفر كان كافرا أصليا أو مرتدا؟
ورأي الامام أن يتساهل في ذلك ويقام فيه شعار الاسلام.
قلت: الذي رآه الامام هو المختار أو الصواب، لأن هذه الأمور مبنية على
499

الظواهر، وظاهره الاسلام. والله أعلم
الجهة الثالثة: تبعية الدار. فاللقيط يوجد في دار الاسلام أو دار الكفر.
الحال الأول: دار الاسلام، وهي ثلاثة أضرب.
أحدها: دار يسكنها المسلمون، فاللقيط الموجود فيها مسلم وإن كان فيها
أ هل ذمة، تغليبا للاسلام.
الثاني: دار فتحها المسلمون وأقروها في يد الكفار بجزية، فقد ملكوها، أو
صالحوهم ولم يملكوها، فاللقيط فيها مسلم إن كان فيها مسلم واحد
فأكثر، وإلا، فكافر على الصحيح. وقيل: مسلم، لاحتمال أنه ولد من يكتم إسلامه
منهم.
الثالث: دار كان المسلمون يسكنونها، ثم جلوا عنها وغلب عليها الكفار،
فإن لم يكن فيها من يعرف بالاسلام، فهو كافر على الصحيح. وقال أبو إسحاق:
مسلم، لاحتمال أن فيها كاتم إسلامه. وإن كان فيها معروف بالاسلام، فهو
مسلم، وفيه احتمال للامام.
وأما عد الأصحاب الضرب الثالث دار إسلام، فقد يوجد في كلامهم ما يقتضي
أن الاستيلاء القديم يكفي لاستمرار الحكم، ورأيت لبعض المتأخرين تنزيل ما
500

ذكروه على ما إذا كانوا لا يمنعون المسلمين منها، فإن منعوهن، فهي دار كفر.
الحال الثاني: دار الكفر. فإن لم يكن فيها مسلم، فاللقيط الموجود فيها
محكوم بكفره. وإن كان فيها تجار مسلمون ساكنون، فهل يحكم بكفره تبعا للدار،
أو باسلامه تغليبا للاسلام؟ وجهان. أصحهما: الثاني، ويجريان فيما لو كان فيها
أسارى، ورأي الامام ترتيب الخلاف فيهم على التجار، لأنهم مقهورون. قال:
ويشبه أن يكون الخلاف في قوم ينتشرون، إلا أنهم ممنوعون من الخروج من
البلدة، فأما المحبوسون في المطامير، فيتجه أن لا يكون لهم أثر كما لا أثر لطروق
العابرين من المسلمين، وحيث حكمنا بالكفر، فلو كان أهل البقعة أصحاب
ملل مختلفة، فالقياس أن يجعل من أصونهم دينا.
فرع الصبي المحكوم بإسلامه بالدار، إذا بلغ وأفصح بالكفر، فهو كافر
أصلي على المذهب. وقيل: قولان كالمسلم تبعا لأبويه أو السابي.
أحدهما: أنه أصلي. والثاني: أنه مرتد. فإذا قلنا: أصلي، فهل نتوقف
في حال صباه في الاحكام التي يشترط لها الاسلام؟ وجهان. أصحهما: لا، بل
نمضيها كالمحكوم باسلامه تبعا لأبيه. والثاني: نتوقف حتى يبلغ فيفصح بالاسلام.
فإن مات في صباه، لم يحكم بشئ من أحكام الاسلام، وهذا ضعيف.
فرع اللقيط الموجود في دار الاسلام، لو ادعى ذمي نسبه وأقام عليه بينة،
501

لحقه وتبعه في الكفر، وارتفع ما كنا نظنه. وإن اقتصر على مجرد الدعوى،
فالمذهب أنه مسلم، وهو المنصوص، وبه قطع أبو إسحاق وغيره، وصححه
الأكثرون. وقيل: قولان. ثانيهما: يحكم بكفره، لأنه يلحقه بالاستحقاق. فإذا
ثبت نسبه، تبعه في الدين كما لو أقام البينة. وحجة المذهب: أنا حكمناه باسلامه،
فلا نغيره بمجرد دعوى كافر. وأيضا فيجوز أن يكون ولده من مسلمة، وحينئذ لا يتبع
الدين النسب. وعلى الطريقين، يحال بينهما كما ذكرنا فيما إذا وصف المميز
الاسلام. ثم إذا بلغ ووصف الكفر، فإن قلنا: يتبعه فيه، قرر، لكنه يهدد،
ولعله يسلم، وإلا، ففي تقريره ما سبق من الخلاف.
فرع سبق أن اللقيط المسلم، ينفق عليه من بيت المال إذا لم يكن له
مال. فأما المحكوم بكفره، فوجهان. أصحهما: كذلك، إذ لا وجه لتضييعه.
الحكم الثاني: جناية اللقيط، والجناية عليه. أما جنايته، فإن كانت خطأ،
فموجبها في بيت المال، ولا نخرج ذلك على الخلاف في التوقف، كما لا نتوقف
في صرف تركته إلى بيت المال. وإن كانت عمدا، نظر، إن كان بالغا، فعليه
القصاص بشرطه. وإن جنى قبل البلوغ، فإن قلنا: عمد الصبي عمد، وجبت
الدية مغلظة في ماله. فإن لم يكن له مال، ففي ذمته إلى أن يجد. وإن قلنا:
خطأ، وجبت مخففة في بيت المال. ولو أتلف مالا، فالضمان عليه، فإن كان
502

اللقيط محكوما بكفره، فالتركة فيئ، ولا تكون جنايته في بيت المال.
وأما الجناية عليه، فإن كانت خطأ، نظر، إن كانت على نفسه، أخذت الدية
ووضعت في بيت المال. وقياس من قال بالتوقف في أحكامه: أن لا يوجب الدية
الكاملة، ولم أره.
قلت: الصواب، الجزم بالدية الكاملة. والله أعلم
وإن كانت على طرفه، فواجبها حق اللقيط يستوفيه القاضي، ويعود فيه
القياس المذكور. وإن كانت عمدا، فإن قتل، وجب القصاص على الأظهر.
وقيل: يجب قطعا، وهو نصه في المختصر، لأنه مسلم معصوم. وإن قتل
بعد البلوغ والافصاح بالاسلام، وجب قطعا. وقيل: على الخلاف، لان القصاص
حق للمسلمين، ولا يتصور رضى كلهم باستيفائه. وإن قتل بعد البلوغ قبل
الافصاح، فعلى الخلاف. وقيل: لا يجب قطعا، لقدرته على الافصاح
الواجب. وإن كانت الجناية على الطرف، وجب القصاص على المذهب. وقيل:
قولان. ثانيهما: يتوقف. فإن بلغ وأفصح، تبينا وجوبه، وإلا، فعدمه. وإن
كان الجاني على النفس أو الطرف كافرا رقيقا، وجب على المذهب. وقيل:
قولان، لأنه حق للمسلمين، ولا يتصور رضاهم.
فرع إذا أوجبنا له القصاص، فقصاص النفس يستوفيه الامام إن رآه
مصلحة. وإن رأى العدول إلى الدية، عدل، وليس له العفو مجانا، لأنه خلاف
مصلحة المسلمين. وأما قصاص الطرف، فإن كان اللقيط بالغا عاقلا، فالاستيفاء
إليه، وإلا، فليس للامام استيفاؤه. وقال القفال: يجوز في المجنون، لأنه ليس
لافاقته زمن معين، وهذا ضعيف عند الأصحاب. وأضعف وجه حكاه السرخسي في
503

جواز الاقتصاص، حيث يجوز له أخذ الأرش. والمذهب: المنع قطعا. وإذا لم
يقتص، فهل له أخذ أرش الجناية؟ نظر، إن كان المجني عليه مجنونا فقيرا، فله
وإن كان صبيا غنيا، فلا، وإن كان مجنونا غنيا، أو صبيا فقيرا، فالأصح المنع.
وحيث منعنا الأرش، أو لم نر المصلحة فيه، يحبس الجاني إلى البلوغ والإفاقة،
وإذا جوزناه فأخذه، ثم بلغ الصبي أو أفاق المجنون وأراد أن يرده ويقتص، ففي
تمكنه وجهان شبيهان بما لو عفا الولي عن الشفعة للمصلحة فبلغ وأراد الاخذ، وهما
مبنيان على أن أخذ المال عفو كلي وإسقاط للقصاص، أم سببه الحيلولة لتعذر
الاستيفاء؟ وقد يرجح الأول بأن الحيلولة إنما تكون إذا جاءت من قبل الجاني كا باق
المغصوب.
قلت: الراجح الأول. والله أعلم
وما ذكرناه في أخذ الأرش للقيط، جار في كل طفل يليه أبوه أو جده بلا فرق.
وحكى الامام عن شيخه، أنه ليس للوصي أخذه، قال: وهذا حسن إن جعلناه
إسقاطا. وإن قلنا: للحيلولة، فينبغي أن لا يجوز للوصي أيضا.
الحكم الثالث: نسب اللقيط، وهو كسائر المجهولين، فإذا استلحقه حر
مسلم، لحقه، وقد سبق في كتاب الاقرار ما يشترط الاستلحاق، ولا فرق في ذلك
بين الملتقط وغيره، لكن يستحب أن يقال للملتقط: من أين هو لك؟ فربما توهم أن
الالتقاط يفيد النسب. وإذا ألحق بغير الملتقط، سلم إليه، لأنه أحق من
الأجنبي. واستلحاق الكافر، كاستلحاق المسلم في ثبوت النسب، لاستوائهما
504

في الجهات المثبتة للنسب. وإن استلحقه عبد، لحقه إن صدقه السيد، وكذا إن
كذبه على الأظهر. وقيل: لا يلحق قطعا. وقيل: يلحق قطعا إن كان مأذونا له في
النكاح ومضى زمان إمكانه، وإلا، فقولان. والمذهب: للحوق مطلقا، ويجري
الخلاف في إقرار العبد بأخ أو عم. وقيل بالمنع هنا قطعا، لان لظهور نسبه طريقا آخر،
وهو إقرار الأب أو الجد، ويجري فيما لو استلحق حر عبد غيره وهو بالغ فصدقه،
لما فيه من قطع الإرث المتوهم بالولاء. وقيل: يثبت هنا قطعا، ويجري فيما لو
استلحق المعتق غيره. والمنع هنا أبعد، لاستقلاله بالنكاح والتسري. وإذا صححنا
استلحاق العبد، فلا يسلم إليه اللقيط، لأنه لا يتفرغ لحضانته وتربيته، ولا نفقة
عليه، إذ لا مال له.
فرع: استلحقته امرأة وأقامت بينة، لحقها ولحق زوجها إن أمكن العلوق
منه، ولا ينتفي عنه إلا بلعان. هذا إذا قيدت البينة أنها ولدته على فراشه. فإن لم
تتعرض للفراش، ففي ثبوت نسبه من الزوج وجهان.
قلت: الأصح المنع. والله أعلم
وإن لم تقم بينة واقتصرت على الدعوى، فهل يلحقها، أم لا؟ أم يلحق
الخلية دون المزوجة؟ فيه أوجه. أصحها: الثاني. فإن ألحقنا ولها زوج، لم
يلحقه على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. وباللحوق قال ابن
سلمة. واستلحاق الأمة كالحرة إن جوزنا استلحاق العبد، فإن أثبتناه، لم يحكم
برق الولد لمولاها على المذهب، وبه قطع ابن الصباغ والمتولي، وذكر البغوي فيه
وجهين.
فصل ادعى نسب اللقيط اثنان، ففيه صور.
إحداها: ادعاه حر وعبد، فإن قلنا: يصح استلحاق العبد، فهما سواء،
وإلا، فيلحق بالحر.
الثانية: ادعاه مسلم وكافر، يستويان فيه.
الثالثة: اختص أحدهما بيد، نظر، إن كان صاحب اليد هو الملتقط، لم
يقدم، لان اليد لا تدل على النسب، بل إن استلحقاه معا ولا بينة، عرض معهما
505

على القافة كما سنذكره إن شاء الله تعالى. وإن استلحقه الملتقط أولا، حكمنا
بالنسب، ثم ادعاه الآخر، قال الشافعي رضي الله عنه: يعرض الولد مع الثاني على
القائف، فإن نفاه عنه، بقي لاحقا بالملتقط باستلحاقه. وإن ألحقه بالثاني، عرض
مع الملتقط عليه، فإن نفاه عنه، فهو للثاني، وإن ألحقه به أيضا، فقد تعذر العمل
بقول القائف فيوقف. وإن كان صاحب اليد غير الملتقط، فإن كان استلحقه
وحكم (له) بالنسب، ثم جاء آخر وادعى نسبه، لم يلتفت إليه. وإن لم يسمع
استلحاقه إلا بعدما جاء الثاني واستلحقه، فهل يقدم صاحب اليد، أم يستويان؟
وجهان. أصحهما: الثاني.
الرابعة: تساويا ولا بينة، عرض الولد على القائف، فبأيهما ألحقه لحق.
فإن لم يوجد قائف، أو تحير، أو ألحقه بهما، أو نفاه عنهما، ترك حتى يبلغ، فإذا
بلغ، أمر بالانتساب إلى أحدهما، ولا ينسب بالتشهي، بل يعول فيه على ميل الطبع
الذي يجده الولد إلى الوالد إلى القريب والقريب بحكم الجبلة. وقيل: لا يشترط
البلوغ، بل يخير إذا بلغ سن التمييز كالتخيير بين الأبوين في الحضانة. والصحيح
اشتراطه.
والفرق أن الاختيار في الحضانة لا يلزم، بل له الرجوع، وهنا يلزم، وعليهما
النفقة مدة الانتظار. فإذا انتسب إلى أحدهما، رجع الآخر عليه بما أنفق. ولو لم
ينتسب إلى واحد منهما، لفقد الميل، بقي الامر موقوفا. ولو انتسب إلى غيرهما
وادعاه ذلك الغير، ثبت نسبه منه. وفيه وجه: أنه إن كان الرجوع إلى انتسابه بسبب
إلحاق القائف بهما جميعا، لم يقبل انتسابه إلى غيرهما. والصحيح الأول. وإذا
انتسب إلى أحدهما لفقد القائف، ثم وجد، عرضناه عليه. فإن ألحقه بالثاني،
قدمنا قوله على الانتساب، لأنه حجة أو حكم. وقال أبو إسحاق: يقدم الانتساب.
قال: وعلى هذا، فمتى ألحقه القائف بأحدهما، فللآخر أن ينازعه ويقول: يترك
حتى يبلغ فينتسب. ولو ألحقه القائف بأحدهما، وأقام الآخر بينة، قدمت البينة،
506

لأنها حجة في كل خصومة، وقيل: لا يغير ما حكمنا به ولا يعمل بالبينة.
فرع ادعت امرأتان نسب لقيط أو مجهول غيره، ولا بينة، وقبلنا استلحاق
المرأة، ففي عرض الولد معهما على القائف وجهان أحدهما: المنع. و الأصح
المنصوص: العرض، لأنه حكم أو حجة، فأشبه البينة، فإذا ألحقه بإحداهما وهي
ذات زوج، لحق زوجها أيضا كما قامت البينة. وقيل: لا يلحقه، وهو ضعيف.
الخامسة: أقام كل واحد بينة بنسبه، وتعارضتا، ففي التعارض في الأموال
قولان. أظهرهما: التساقط. فعلى هذا تسقطان أيضا هنا على الصحيح،
ويرجع إلى قول القائف. وقيل: لا تسقطان وترجح إحداهما بقول القائف، ولا يختلف
المقصود على الوجهين. والقول الثاني: تستعملان بالوقف، أو القسمة، أو القرعة؟
فيه ثلاثة أقوال معروفة، ولا يجئ هنا الوقف للاضرار بالطفل ولا القسمة، فلا مجال
لها في النسب، ولا تجئ القرعة أيضا على الأصح وقول الأكثرين، لأنها لا تدخل
النسب، وأثبتها الشيخ أبو حامد. ولو اختص أحدهما باليد، لم ترجح بينته بها.
وفي الافصاح للمسعودي، وأمالي أبي الفرج الزاز: أنه لو أقام أحدهما بينة
بأنه في يده من سنة، والثاني بينة أنه في يده من شهر، وتنازعا في نسبه، فصاحب
السنة مقدم، لكن هذا كلام غير مهذب، فإن ثبوت اليد لا يقتضي ثبوت النسب.
وإن فرض تعرض البينتين لنفس النسب، فلا مجال للتقدم والتأخر فيه. وإن شهدتا
على الاستلحاق، فيبنى على أن الاستلحاق من شخص هل يمنع غيره من الاستلحاق
بعد؟ وقد سبق بيانه.
فرع ادعاه امرأتان، وأقامتا بينتين، قال الشافعي رضي الله عنه: أريته
القائف معهما، فبأيتهما ألحقه لحقها ولحق زوجها. فمن الأصحاب من قال: هذا
تفريع على قول الاستعمال، وترجيح بقول القائف، كما يرجح في الاملاك
بالقرعة، وهذا يوافق ما سبق عن الشيخ أبي حامد. وعلى هذا، يلحق الزوج
قطعا، لان الحكم بالبينة. ومنهم من قال: هذا جواب على قول التساقط، وكأنه لا
بينة، فيرجع إلى القائف. وعلى هذا، ففي لحوقه بالزوج الخلا ف السابق.
507

فرع ألحقه القائف بأحدهما، ثم بالآخر، لم ينقل إليه، إذا الاجتهاد
ينقض بالاجتهاد.
فرع وصف أحد المتداعيين أثر جراحة أو نحوه أو بظهره أو بعض أعضائه
الباطنة، وأصاب، لا يقدم.
فصل تنازعا في الالتقاط وولاية الحفظ والتعهد، فإن تنازعا عند الاخذ أو
قبله، فقد سبق بيانه. وإن قال كل واحد: أنا الملتقط فلي حفظه، فإن اختص
بيد، وقال الآخر: أخذه مني، فالقول قول صاحب اليد مع يمينه. فإن أقاما
بينتين، قدمت بينة صاحب اليد. وإن لم يكن في يد واحد منهما، فهو كما لو وجداه
معا وتشاحا في حفظه، فيجعله الحاكم عند من يراه منهما أو من غيرهما. وإن كان
في يدهما، فإن حلفا أو نكلا، فحكمه كما سكرنا إذا ازدحما على الاخذ معا وهما
متساويا الحال. وإن حلف أحدهما فقط، خص به. ولو أقام كل واحد بينة وهو في
يدهما، أو لا في يد واحد منهما، فإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين بتاريخ واحد، أو
إحداهما مؤرخة والأخرى مطلقة، فهما متعارضتان. فإن قلنا بالتساقط، فكأنه لا
بينة. وإن قلنا بالاستعمال، فلا يجئ الوقف ولا القسمة، وتجئ القرعة، فيسلم
لمن خرجت قرعته. وإن قيدتا بتاريخين مختلفين، قدم السابق، بخلاف المال،
فإنه لا يقدم فيه بسبق التاريخ على الأظهر، لان الأموال تنتقل، والملتقط لا ينتزع
منه ما دامت الأهلية. فإذا ثبت السبق، لزم استمراره. هكذا فرق الأصحاب، قال
أبو الفرج الزاز: هذا إذا قلنا: من التقط اللقيط ثم نبذه لا يسقط حقه. فإن
أسقطناه، فهو على القولين في الأموال، لأنه ربما نبذه الأول فالتقطه غيره، وهذا
حسن. ويتفرع على تقديم البينة المصرحة بالسبق، ما إذا كان اللقيط في يد أحدهما
وأقام من في يده البينة، وأقام الآخر بينة أنه كان في يده وانتزعه منه صاحب اليد،
فتقدم بينة مدعي الانتزاع، لاثباتها السبق.
الحكم الرابع: الحرية والرق، وللقيط في ذلك أربعة أحوال.
508

الأول: أن لا يقر على نفسه بالرق، ولا يدعي رقه أحد، فيحكم بحريته،
لان ظاهر حاله الحرية، ولان غالب الناس أحرار، هذا هو المذهب، وقد سبق
أن من الأصحاب من يتوقف في إسلامه. قال الامام: وذلك التردد يجري هنا
وأولى، لقوة الاسلام واقتضائه الاستتباع للوالد والسابي، بخلاف الحرية. ثم ذكر
الامام تفصيلا متوسطا فقال: يجزم بالحرية ما لم ينته الامر إلى إلزام الغير شيئا، فإن
انتهى، ترددنا إن لم يعتر ف الملتزم بحريته، فنحكم له بالملك فيما نصادفه في يده
جزما. وإذا أتلفه متلف، أخذنا منه الضمان وصرفناه إليه، لان المال المعصوم
مضمون على المتلف، فليس التضمين بالحرية، وميراثه لبيت المال قطعا، وأرش
جنايته الخطأ في بيت المال قطعا، قال الامام: ويحتمل أن يخرج على التردد
المذكور، لان مال بيت المال لا يبذل إلا عن تحقق. ولو قتل اللقيط، فقد ذكرنا في
وجوب القصاص خلافا، وينضم إليه التردد في الحرية، فمن لا يجزم القول باسلامه
وحريته، لا يوجب القصاص على الحر المسلم بقتله، ويوجبه على الرقيق الكافر.
ومن يجزم بهما، يخرج وجوب القصاص بكل حال على قولين - بناء على أنه ليس له
وارث معين -، الأظهر: وجوبه. وإذا قتل خطأ، فالواجب الدية على الصحيح،
أخذا بظاهر الحديث، وأقل الامرين من الدية والقيمة في الثاني، بناء على أن
الحرية غير متيقنة. قال الامام: وقياس هذا أن نوجب الأقل من قيمته عبدا، ودية
مجوسي، لامكان الحمل على التمجس، وقد يرتب القصاص على الدية فيقال: إن
لم نوجب الدية، فالقصاص أولى، وإلا، فوجهان.
الحال الثاني: أن يدعي شخص رقه ولا بينة. ومن ادعى رق صغير لا تتيقن
حريته، سمعت دعواه، لامكانها. فإن لم يكن في يده، لم يقبل قوله إلا ببينة،
لأن الظاهر الحرية، فلا تترك إلا بحجة، بخلاف النسب، فإن قبوله
509

مصلحة للصبي وثبوت حق له. وإن كان في يده وقد عرفنا استنادها إلى التقاطه،
فقولان. أحدهما: يحكم له بالرق كيد غير الملتقط، وكما لو التقط مالا - وادعاه ولا
منازع، يقبل قوله ويجوز شراؤه منه. وأظهرهما: لا يقبل إلا ببينة، لان الأصل
الحرية، ويخالف المال، فإنه مملوك وليس في دعواه تغيير صفة له، واللقيط حر
ظاهرا، وفي دعواه تغيير صفة. وإن لم يعرف استنادها إلى الالتقاط، حكم
لصاحبها بالرق الذي يدعيه على الصحيح الذي قطع به الجمهور، لأن الظاهر ممن
في يده يتصرف فيه تصرف المالكين، ولا معارض له، ولا سبب يحال عليه أنه
ملكه، وسواء كان الصغير مميزا أو غيره مقرا أو منكرا على الأصح. والثاني: إن
كان مميزا منكرا، احتاج المدعي إلى البينة. فعلى الأصح: يحلف المدعي،
واليمين واجبة على الأصح المنصوص. وقيل: مستحبة. ثم إذا بلغ الصبي وأقر
بالرق لغير صاحب اليد، لم يقبل. وإن قال: أنا حر، لم يقبل أيضا على الأصح،
إلا أن يقيم بينة بالحرية، ولكن له تحليف السيد، قاله البغوي. والثاني: يقبل،
قاله أبو علي الثقفي.
فرع رأى صغيرا في يد إنسان يأمره وينهاه ويستخدمه، هل له أن يشهد له
بالملك؟ قال أبو علي الطبري: فيه وجهان. وقال غيره: إن سمعه يقول: هو
عبدي، أو سمع الناس يقولون: إنه عبده، شهد له بالملك، وإلا، فلا.
قلت: هذا أصح. والله أعلم
فرع صغيرة في يد رجل يدعي نكاحها، فبلغت وأنكرت، يقبل قولها،
510

وعلى المدعي البينة. وهل يحكم في صغرها بالنكاح؟ قال ابن الحداد: نعم
كالرق. والأصح: المنع. وفرق الأصحاب، بأن اليد في الجملة دالة على
الملك، ويجوز أن يولد وهو مملوك والنكاح طارئ، فيحتاج إلى البينة.
الحال الثالث: أن يدعي رقه مدع ويقيم عليه بينة حيث يحتاج مدعي الرق
إلى بينة كما فصلناه. وهل يكفي إقامة البينة على الرق أو الملك مطلقا؟ قولان.
أحدهما: نعم كما لو شهد بملك دار أو ثوب وغيرهما، وهذا اختيار المزني، وهو
نصه في الدعاوي وفي القديم. والثاني: لا، لاحتمال اعتماد الشاهد ظاهر اليد،
ويكون يد التقاط. وإذا احتمل ذلك مع أن اللقيط محكوم بحريته بظاهر الدار، لم
يزل ذلك إلا بيقين، وأمر الرق خطر، وهذا نصه (هنا)، وهو الأصح عند الامام
والبغوي والروياني وآخرين، ورجح ابن كج وأبو الفرج الزاز الأول، ويؤيده أن من
الأصحاب من قطع به، وحمل نصه هنا على الاحتياط، ولان البينة بمطلق الملك
ليست بأقل من دعوى غير الملتقط رق الصغير في يده.
قلت: كل من الترجيحين ظاهر، وقد رجح الرافعي في المحرر الثاني.
والله أعلم
ويجري القولان، سواء كان المدعي هو الملتقط أو غيره، هكذا ذكره
الجمهور. وذكر الامام كلاما يتخرج منه ومما ذكره غيره قول: أن البينة المطلقة
تكفي في غير الملتقط، ولا تكفي فيه. والمذهب: أنه لا فرق. وإذا قلنا: لم
يكتف بالبينة المطلقة، شرطنا تعرض الشهود لسبب الملك من الإرث أو الثراء أو
الالتهاب ونحوها. ومن الأسباب أن يشهدوا أن أمته ولدته مملوكا له. فإن اقتصروا
على أن أمته ولدته، أو أنه ولد أمته، فطريقان. قال الجمهور: قولان. أظهرهما:
يكفي. والثاني: لا. وقيل: يكفي قطعا، وهو نصه هنا. وإن شهدوا أنه ملكه
ولدته مملوكته قال البغوي: يكفي قطعا، وهو نصه هنا. وإن شهدوا أنه ملكه
ولدته مملوكته، قال البغوي: يكفي قطعا، وإن شهدوا بأن أمته ولدته في ملكه،
قال الأصحاب: يكفي قطعا. وقال الامام: لا يكتفى به تفريعا على وجوب التعرض
511

لسبب الملك، فقد تلد في ملكه حرا بالشبهة وفي نكاح الغرور، وقد تلد مملوكا
لغيره بأن يوصي بحملها وتكون الرقبة للوارث، وهذا حق. ويشبه أن لا يكون فيه
خلاف، ويكون قولهم: في ملكه، مصروفا إلى المولود - كقولك: ولدته في
مشيمة - لا إلى الولادة، ولا إلى الوالدة، وحينئذ يكون قولهم: ولدته مملوكا له،
ويكفي المدعي في دعواه قوله: هو ملكي، وإنما يشترط ذكر السبب إن شرطناه في
صيغة الشهود.
فرع تقبل هذه الشهادة من رجل وامرأتين على القولين، لان الغرض إثبات
الملك. وإذا اكتفينا بالشهادة على أنه ولدته أمته، قبل من أربع نسوة أيضا، لأنها
شهادة على الولادة، ثم يثبت الملك في ضمنها كثبوت النسب في ضمن الشهادة
على الولادة. ولو شهدن أنه ملكه ولدته أمته، قال القاضي حسين: ثبت الملك
والولادة، وذكر الملك لا يمنع ثبوت الولادة، ثم يثبت الملك ضمنا لا
بتصريحهن.
فرع لو شهدت البينة لمدعي الرق باليد، قال في المهذب: إن كان
المدعي الملتقط، لم يحكم له. وإن كان غيره، فقولان. والأصح ما ذكره صاحب
الشامل وغيره: أن المدعي إذا أقام البينة أنه كان في يده قبل التقاط الملتقط،
قبلت وثبتت يده، ثم يصدق في دعوى الرق، لما سبق أن صاحب اليد على الصغير
إذا لم يعرف أن يده عن التقاط، يصدق في دعوى الرق، وبمثله قطع البغوي فيما
512

إذا أقام الملتقط بينة أنه كان في يده، قبل إن التقطه، لكن نقل ابن كج في هذه
الصورة عن النص، أنه لا يرق حتى يقيم البينة على سبب الملك.
الحال الرابع أن يقر على نفسه بالرق وهو بالغ عاقل، فينظر، إن كذبه المقر له،
لم يثبت الرق. فلو عاد بعد ذلك فصدقه، لم يلتفت إليه، لأنه لما كذبه ثبتت
حريته بالأصل، فلا يعود رقيقا. وإن صدقه، نظر، إن لم يسبق الاقرار ما يناقضه،
قبل على المشهور كسائر الأقارير. وفي قول حكاه صاحب التقريب: لا يقبل،
لأنه محكوم بحريته بالدار، فلا ينقض، كالمحكوم باسلامه بالدار، لو أفصح
بالكفر، لا ينقض ما حكمنا به في قول، بل يجعل مرتدا. وإن سبقه ما يناقضه،
ففيه صور.
إحداها: إذا أقر بالحرية بعد البلوغ، ثم أقر بالرق، لا يقبل على المذهب،
وبه قطع الأصحاب. ونقل الامام وجهين، ثانيهما القبول.
الثانية: إذا أقر بالرق لزيد، فكذبه، ثم أقر لعمرو، لم يقبل على المذهب
والمنصوص والذي قطع به الجمهور، بل يكون حرا، وعن ابن سريج قبوله.
الثالثة: إذا وجدت منه تصرفات يقتضي نفوذها الحرية، كبيع ونكاح
وغيرهما، ثم قامت بينة برقه، نقضت تصرفاته المقتضية للحرية، وجعلت صادرة
عن عبد لم يأذن له سيده، ويسترد ما قبضه من زكاة أو ميراث وما أنفق عليه من بيت
المال، وتباع رقبته فيها. فلو لم تقم بينة، لكن أقر بالرق، فإن قلنا بالقول الذي
حكاه صاحب التقريب فاقراره لاغ. لكن لو كان نكح، فاقراره اعتراف
بتحريمها، فيؤاخذ به. وإن قلنا بالمشهور، ففيه طرق، حاصلها أنه تثبت أحكام
الأرقاء في المستقبل على المذهب. وقال ابن سلمة: قولان. ثانيهما: أنه يبقى
على أحكام الحرية مطلقا. وقيل: يبقى فيما يضر بغيره، وكلاهما شاذ ضعيف.
وأما الماضي، فيقبل إقراره فيما يضر به من التصرفات السابقة قطعا، ولا يقبل فيما
يضر بغيره على الأظهر. ويتفرع على القولين فروع.
أحدها: إذا نكح قبل الاقرار، نظر، أذكر هو، أم أنثى،
فإن كان أنثى فزوجها الحاكم على [الحرية ثم أقرت بالرق. فإن قبلنا الاقرار فيما يضر غيره،
فالنكاح فاسد، ولا شئ على الزوج إن لم يدخل بها، وإن دخل، فعليه مهر المثل
513

للمقر له. فإن كان سلم المهر إليها، استرده إن كان باقيا، وإلا، رجع عليها بعد
العتق، والأولاد منها أحرار، لظنه الحرية، وعلى الزوج قيمتهم للمقر له، ويرجع
عليها بالقيمة إن كانت هي الغارة.
وفي الرجوع بالمهر قولان معروفان. وفي العدة وجهان. أصحهما: يلزمها
قرءان، لان عدة الأمة بعد ارتفاع النكاح الصحيح قرءان، ونكاح الشبهة في
المحرمات كالنكاح الصحيح، وبهذا قطع الشيخ أبو حامد وصاحبا المهذب
والشامل. والثاني: لا عدة عليها، إذ لا نكاح، ولكن تستبرئ بقرء بسبب
الوطئ. قال الامام: ويجب طرد هذا الخلاف في كل نكاح شبهة على أمة. وإن
قلنا: لا يقبل الاقرار فيما يضر غيره، فالكلام في أمور.
أحدها: لا يحكم بانفساخ نكاحها، بل يبقى كما كان. قال الامام: سواء
فرقنا بين الماضي والمستقبل، أم لا، ويصير النكاح كالمستوفى المقبوض،
واستدرك ابن كج فقال: إن كان الزوج ممن لا يحل له نكاح الإماء، انفسخ
نكاحه، لان الأولاد الذين يلدهم في المستقبل أرقاء كما سنذكره إن شاء الله تعالى،
فليس له الثبات عليه، وهذا حسن، لكن صرح ابن الصباغ بخلافه.
قلت: الأصح: أنه لا ينفسخ كما قال ابن الصباغ، كالحر إذا وجد الطول بعد
نكاح الأمة. والله أعلم
ثم أطلق الأصحاب أن للزوج خيار فسخ النكاح، ونص عليه في
المختصر. قال الشيخ أبو علي: هذا إذا نكحها على أنها حرة، فإن توهم
الحرية ولم يجر شرطها، ففيه خلاف نذكره في النكاح إن شاء الله تعالى.
الثاني: في المهر، ومتى ثبت للزوج الخيار، ففسخ قبل الدخول، فلا شئ
عليه، وإن كان بعده، لزمه أقل الأمرين من المسمى ومهر المثل. وإن أجاز، لزمه
المسمى، قاله البغوي. فإن طلقها بعد الإجازة وقبل الدخول، لزمه نصف
514

المسمى، وفيه إشكال، لان المقر له يزعم فساد النكاح، فإذا لم يكن دخول،
وجب أن لا يطالب بشئ، وقد يشعر بهذا إطلاق الغزالي.
قلت: الراجح: أنه لا يلزمه شئ لما ذكره. والله أعلم
فإن كان الزوج أعطاها الصداق، لم يطالب به ثانيا.
الثالث: أولادها، فالذين حصلوا قبل الاقرار أحرار، ولا يلزم للزوج
قيمتهم. والحادثون بعده أرقاء، لأنه وطئها عالما برقها.
قال الامام: هذا ظاهر إن قبلنا الاقرار فيما يضر بالغير في المستقبل. فإن لم
نقبله، فيحتمل أن يقال بحريتهم لصيانة حق الزوج، كما أدمنا النكاح صيانة له،
ويحتمل أن يقال برقهم، وهو ظاهر ما أطلقه الأصحاب، لان العلوق الرابع: تردد الامام في أنا إذا متوهم فلا
يجعل مستحقا بالنكاح، بخلاف الوطئ
الرابع أدمنا النكاح، تسلم إلى الزوج تسليم الإماء،
أم تسليم الحرائر؟ فالظاهر: الثاني، وإلا، لعظم الضرر على الزوج واختلت
مقاصد النكاح، ويؤيده قول الشافعي رضي الله عنه في المختصر: لا أصدقها
على فساد النكاح، ولا على ما يجب عليها للزوج.
الخامس: في العدة. وأما عدة الطلاق، فإن كان رجعيا وطلقها، ثم أقرت،
فعليها ثلاثة أقراء، وله الرجعة في جميعها، لأنه ثبت ذلك بالطلاق. وإن أقرت ثم
طلقها، فكذلك على الصحيح الذي قطع به الأكثرون، لان النكاح أثبت له الرجعة
في ثلاثة أقراء. والثاني: تعتد بقرئين، لأنه أمر يتعلق بالمستقبل كارقاق أولادها،
وصححه أبو الفرج الزاز، وحكاه عن ابن سريج. وإن كان الطلاق بائنا، فهو
كالرجعي على الأصح، لأن العدة فيهما لا تختلف. والثاني: تعتد بقرئين مطلقا،
515

لأنها رقيقة وليست للزوج رجعة.
وأما عدة الوفاة، فإنها بشهرين وخمسة أيام، عدة الإماء، نص عليه، سواء
أقرت قبل موت الزوج أو بعده في العدة، لأنها حق الله تعالى، فقبل في قولها
انتقاضها، وليس فيها إضرار بأحد. وفي وجه: لا يجب عليها عدة الوفاة أصلا،
لأنها تزعم بطلان النكاح من أصله وقد مات الزوج، فعلى هذا، إن جرى دخول،
لزمها الاستبراء. قال الامام: والقول في أنه بقرء، أم بقرئين، على ما سبق في
التفريع على القول. فإن لم يجر دخول، فهل تستبرئ بقرء كما لو اشتريت من امرأة
أو مجبوب، أم لا استبراء أصلا لانقطاع حقوق الزوج؟ فيه احتمالان للامام،
وبالثاني قطع الغزالي. هذا كله إذا كان المقر أنثى. فإن كان ذكرا فبلغ ونكح ثم أقر
بالرق، فإن قبلنا إقراره مطلقا، فهذا نكاح فاسد، فيفرق بينهما، ولا مهر إن لم يقع
دخول، وإن وقع، فعليه مهر المثل، كذا قاله الجمهور. وقال في المهذب -
وأبداه الامام احتمالا -: أن عليه الأقل من مهر المثل والمسمى. ثم متعلق الواجب
ذمته، أم رقبته؟ قولان أظهرهما: الأول. وإن قبلنا إقراره فيما يضره دون غيره،
حكمنا بانفساخ النكاح، ولم نقبل قوله في المهر، فعليه نصف المسمى إن لم
يدخل، وجميعه إن دخل، ويؤدي ذلك مما في يده أو من كسبه في الحال أو
المستقبل، فإن لم يوجد، ففي ذمته إلى أن يعتق.
الفرع الثاني: إذا كانت عليه ديون وقت الاقرار بالرق وفي يده أموال، فإن
قبلنا إقراره مطلقا، فالأموال تسلم للمقر له، والديون في ذمته. وإن قبلناه فيما يضره
دون غيره، قضينا الديون مما في يده. فإن فضل من المال شئ، فهو للمقر له،
وإن بقي من الدين شئ، ففي ذمته إلى أن يعتق.
الفرع الثالث: إذا باع أو اشترى بعد البلوغ، ثم أقر بالرق، فإن قبلنا الاقرار
مطلقا، فالبيع والشراء باطلان، فإن كان ما باعه باقيا في يد المشتري، أخذه المقر
له، وإلا، طالبه بقيمته. والثمن إن أخذه المقر وأتلفه، فهو في ذمته إلى أن يعتق،
وإن كان باقيا رده، وما اشتراه إن كان باقيا في يده، رده إلى بائعه، وإلا، استرد
الثمن من البائع، وحق البائع يتعلق بذمته، وإن قلنا: لا يقبل فيما يضر غيره، لم
نبطلهما، ثم ما باعه إن لم يستوف ثمنه، استوفاه المقر له، وإن كان استوفاه، لم
516

يطالب المشتري ثانيا، وما اشتراه إن كان وزن ثمنه، فقد تم العقد وسلم المبيع
للمقر له. وإن لم يزن، فإن كان في يده مال حين أقر بالرق، وزن الثمن منه، وإلا،
فهو كافلاس المشتري، فيرجع البائع إلى عين ماله إن كان باقيا، وإلا، فهو في ذمة
المقر حتى يعتق.
الفرع الرابع: جنى ثم أقر بالرق، فان كانت الجناية عمدا، فعليه
القصاص، سواء كان المجني عليه حرا أو عبدا. وإن كانت خطأ، فإن كان في يده
مال، أخذ أرش منه، كذا قاله البغوي، وهو خلاف قياس القولين، لان أرش
الخطأ لا يتعلق بما في يد الجاني حرا كان أو عبدا، وإن لم يكن في يده مال،
تعلق الأرش برقبته على القولين. وقال القاضي أبو الطيب: إن قلنا: لا يقبل إقراره
فيما يضر غيره، فالأرش في بيت المال. فلو زاد الأرش على قيمة الرقبة، فالزيادة
في بيت المال على هذا القول قطعا.
الفرع الخامس: جني عليه فقطع طرفه، ثم أقر بالرق، فان كانت الجناية عمدا
والجاني عبدا، اقتص منه. وإن كان حرا، فلا قصاص، ويكون كالخطأ. وإن كانت
خطأ، فان قبلنا إقراره مطلقا، فعلى الجاني كمال قيمته إن صارت قتلا، وإلا، فما
تقتضيه جراحة العبد. وإن قبلناه فيما يضره دون غيره وكانت الجناية قطع يد، فإن لم
يزد نصف القيمة على نصف الدية، فالواجب نصف القيمة، وإن زاد، فهل
يجب نصف الدية، أم نصف القيمة؟ وجهان. أصحهما: الأول. هذا كله تفريع
على تعلق الدية بقتل اللقيط. وفيه وجه سبق أن الواجب الأقل من الدية
والقيمة، وذلك الوجه مطرد في الطرف.
517

فرع لا فرق في جميع ما ذكرناه، بين أن يقر بالرق ابتداء، وبين أن يدع
رقه شخص فيصدقه، فلو ادعى رجل رقه، فأنكره، ثم أقر له، ففي قبوله وجهان،
لأنه بالانكار لزمه أحكام الأحرار.
قلت: ينبغي أن يفصل، فان قال: لست بعبد، لم يقبل إقراره بعده، وإن
قال: لست بعبد لك، فالأصح القبول، إذ لا يلزم من هذه الصيغة الحرية. والله
أعلم
فرع ادعى مدع رقه، فأنكر ولا بينة، فإن قبلنا إقراره بالرق، فله
تحليفه، وإلا، فلا، إلا إذا جعلنا اليمين مع النكول كالبينة، فله التحليف.
فصل إذا قذف لقيطا صغيرا، عزر، وإن كان بالغا، حد إن اعترف
بحريته. فان ادعى رقه، فقال المقذوف: بل أنا حر، فالقول قول المقذوف على الأظهر
. وقيل: قطعا. ويجري الطريقان، فيما لو قطع حر طرفه وادعى رقه وقال:
بل أنا حر. وقيل: يجب القصاص قطعا، لان الحد يغني عنه التعزير، لاشتراكهما
في الزجر. فإن لم نوجب القصاص، أوجبنا الدية في اليدين، ونصفها في إحداهما
على الأصح. وعلى الثاني: القيمة أو نصفها. ولو قذف اللقيط واعترف بأنه (حر)،
حد حد الأحرار. وإن ادعى أنه رقيق، وصدقه المقذوف، حد حد العبيد. وإن
كذبه، فأي الحدين يحد؟ قولان بناء على إقراره، إن قبلناه مطلقا، فحد
العبيد، وإن منعناه فيما يضر غيره، فحد الأحرار. وحكى في المعتمد وجها:
أنه إن أقر لمعين، قبل إقراره وحد حد العبيد، وإن لم يعين، حد حد الأحرار.
انتهى الجزء الرابع
ويليه الجزء الخامس وأوله:
(كتاب الفرائض)
518