الكتاب: مغني المحتاج
المؤلف: محمد بن أحمد الشربيني
الجزء: ٤
الوفاة: ٩٧٧
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٧٧ - ١٩٥٨ م
المطبعة:
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: شرح الشيخ محمد الشربيني الخطيب من أعيان علماء الشافعية في القرن العاشر الهجري على متن المنهاج لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي من أعلام علماء الشافعية في القرن السابع الهجري / ملتزم الطبع والنشر : شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر

مغنى المحتاج
إلى معرفه معاني ألفاظ المنهاج
شرح
الشيخ محمد الشربيني الخطيب
عين أعيان علماء الشافعية في القرن العاشر الهجري
على متن المنهاج
لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي
من أعلام علماء الشافعية في القرن السابع الهجري
رحمهما الله، ونفع بعلومهما آمين
الجزء الرابع
1377 ه‍ = 1958 م
1

من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
(حديث شريف)
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الجراح
كتاب الجراح
هو بكسر الجيم جمع جراحة، وهي إما مزهقة الروح أو مبينة للعضو أو لا تحصل واحد منهما. ولما كانت الجراحة
تارة تزهق النفس إما بالمباشرة وإما بالسراية، وتارة تبين عضوا، وتارة لا تفعل شيئا من ذلك جمعها لاختلاف
أنواعها، وكان التبويب بالجنايات أولى لشمولها الجناية بالجرح وغيره كالقتل بمثقل ومسموم وسحر، لكن قال الرافعي
لما كانت الجراحة أغلب طرق القتل حسنت الترجمة بها. وأما الجرح بضمها فهو الاسم، والجمع جروح، واجترح
بمعنى اكتسب، ومنه: * (ويعلم ما جرحتم بالنهار) *. وجوارح الانسان أعضاؤه، وجوانحه أطراف ضلوعه. والأصل
في الباب قبل الاجماع آيات، كقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص) * وأخبار كخبر الصحيحين
" اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: وما هن يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق
وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات. وقتل الآدمي عمدا بغير حق أكبر الكبائر
بعد الكفر. وقد سئل النبي (ص): أي الذنب أعظم عند الله؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. قيل: ثم أي؟ قال
: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك رواه الشيخان. قال (ص): لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال
الدنيا وما فيها رواه أبو داود بإسناد صحيح، وتصح توبة القاتل عمدا لأن الكافر تصح توبته فهذا أولى. ولا
يتحتم عذابه، بل هو في خطر المشيئة، ولا يخلد عذابه إن عذب وإن أصر على ترك التوبة كسائر ذوي الكبائر غير
الكفر، وأما قوله تعالى: * (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها) * فالمراد بالخلود المكث الطويل، فإن الدلائل
متظاهرة على أن عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم، أو مخصوص بالمستحل لقتله كما ذكره عكرمة وغيره. وإذا اقتص
منه الوارث أو عفا على مال أو مجانا فظواهر الشرع تقتضي سقوط المطالبة في الدار الآخرة كما أفتى به المصنف، وذكر
مثله في شرح مسلم، لكن ظاهر تعبير الشرح والروضة يدل على بقاء العقوبة، فإنهما قالا: ويتعلق بالقتل المحرم وراء
العقوبة الأخروية مؤاخذات في الدنيا. وجمع بين الكلامين بأن كلام الروضة وأصلها مفروض فيمن مات مصرا على
القتل، وكلام الفتاوى وشرح مسلم مفروض فيمن تاب ثم أقيم عليه الحد. ولو قال في الروضة وأصلها: ويتعلق بالقتل المحرم
وراء استحقاق العقوبة الأخروية بدل قوله: وراء العقوبة لكان أولى، لأن العقوبة غير مجزوم بها لجواز العفو. ومذهب أهل
السنة أن المقتول لا يموت إلا بأجله، والقتل لا يقطع الاجل خلافا للمعتزلة فإنهم قالوا القتل يقطعه. ثم شرح المصنف في تقسيم
2

القتل إلى عمد وغيره، فقال: (الفعل) الصادر من شخص مباشرة أو سببا جرحا كان أو غيره، (المزهق) بكسر الهاء: أي
القاتل للنفس، أقسامه (ثلاثة عمد وخطأ وشبه عمد) وجه الحصر في ذلك أن الجاني إن لم يقصد عين المجني عليه فهو الخطأ،
وإن قصدها فإن كان بما يقتل غالبا فهو العمد، وإلا فشبه العمد. روى البيهقي عن محمد بن خزيمة أنه قال: حضرت مجلس المزني
يوما فسأله رجل من العراق عن شبه العمد، فقال: إن الله وصف القتل في كتابه بصفتين عمد وخطأ فلم قلتم إنه ثلاثة أصناف؟
فاحتج عليه المزني بما روى أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان
عن القاسم بن ربيعة عن عبد الله بن عمر، أن النبي (ص) قال: ألا إن في قتيل عمد الخطأ قتيل السوط
أو العصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها. فقال المناظر: أتحتج علي بعلي بن زيد بن جدعان؟
فسكت المزني. فقلت للمناظر: قد رواه جماعة غيره منهم أيوب السختياني وخالد الحذاء. فقال للمزني: أنت تناظر
أم هذا؟ فقال: إذا جاء الحديث فهو يناظر لأنه أعلم به مني ثم أتكلم.
تنبيه: إنما قيد الفعل بالازهاق مع أن الجرح والأطراف حكمها كذلك لأنه يذكرها بعد في قوله: ويشترط
لقصاص الطرف والجرح ما شرط للنفس. فإن قيل: كان الأحسن التعبير بالافعال ليطابق المبتدأ الخبر. أجيب بأنه أراد
بالفعل الجنس. وشبه بكسر الشين وإسكان الباء، ويجوز فتحهما، ويقال أيضا شبيه كمثل ومثل ومثيل.
فائدة: يمكن انقسام القتل إلى الأحكام الخمسة: واجب وحرام ومكروه ومندوب ومباح، فالأول قتل المرتد إذا لم
يتب والحربي إذا لم يسلم أو يعط الجزية. والثاني: قتل المعصوم بغير حق. والثالث: قتل الغازي قريبه الكافر إذا لم يسب
الله أو رسوله. والرابع: قتله إذا سب أحدهما. والخامس: قتل الإمام الأسير فإنه مخير فيه كما سيأتي. وأما قتل الخطأ
فلا يوصف بحرام ولا حلال لأنه غير مكلف فيما أخطأ فهو كفعل المجنون والبهيمة. (ولا قصاص) في شئ من
هذه الثلاثة، (إلا في العمد) لقوله تعالى: * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * الآية، سواء مات في الحال أم بعده بسراية جراحة.
وأما عدم وجوبه في شبه العمد فللحديث المار، وأما في الخطأ فلقوله تعالى: * (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة
ودية مسلمة) * فأوجب الدية ولم يتعرض للقصاص.
تنبيه: يشترط في العمد أن يكون ظلما من حيث كونه مزهقا للروح، بخلاف غير الظلم، وبخلاف الظلم لا من
تلك الحيثية، كأن عدل عن الطريق المستحق في الاتلاف كأن استحق حز رقبته قودا فقده نصفين. والقصاص بكسر
القاف المماثلة، وهو مأخوذ من القص وهو القطع، أو من اقتصاص الأثر وهو تتبعه، لأن المقتص يتبع جناية الجاني ليأخذ
مثلها. (وهو) أي العمد في النفس، (قصد للفعل) العدوان (و) عين (الشخص بما يقتل) قطعا أو (غالبا).
وقوله: (جارح أو مثقل) جرى على الغالب، ولو أسقطهما كان أولى ليشمل ذلك القتل بالسحر وشهادة الزور ونحو ذلك،
وهما مجروران على البدل من ما، ويجوز رفعهما على القطع، أو لعله قصد بالتصريح بهما التنبيه على خلاف أبي حنيفة
فإنه لم يوجبه في المثقل كالحجر والدبوس الثقيلين، ودليلنا عليه قوله تعالى: * (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) *
وهذا قتل مظلوما، وخبر الصحيحين: أن جارية وجدت وقد رض رأسها بين حجرين، فقيل لها: من فعل بك
هذا أفلان أو فلان؟ حتى سمي يهودي، فأومأت برأسها، فأخذ اليهودي فاعترف، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
برض رأسه بالحجارة فثبت القصاص في هذا بالنص وقيس عليه الباقي. وقد وافقنا أبو حنيفة على أن القتل بالعمود
الحديد موجب للقود، وقد ثبت النص في القصاص بغيره في المثقل كما مر، فلا خصوصية للعمود الحديد، لأن
القصاص شرع لصيانة النفوس فلو لم يجب بالمثقل لما حصلت الصيانة. فإن قيل: إن أراد بما يقتل غالبا الآلة ورد
غرز الإبرة في مقتل أو في غيره مع الورم والألم إلى الموت فإنه عمد والآلة لا تقتل غالبا، وإن أراد الفعل ورد إذا قطع أنملة
إنسان فسرت الجراحة إلى النفس فالقصاص واجب والفعل لا يقتل غالبا. أجيب بأن المراد الآلة، ولا يرد غرز الإبرة لأنه
3

صرح بها لخروجها عن الضابط أو أنها تقتل غالبا في هذا المحل الذي غرزت فيه.
تنبيه: ما جزم به المصنف من قصد تعيين الشخص في العمد موافق للروضة هنا ولما سيأتي في موجبات الدية،
فلو قصد إصابة أحد رجلين فأصاب واحدا منهما يجب عليه القصاص. ولا يخالف هذين الموضعين ما رجحه قبل
الديات من زوائده من وجوب القصاص فيمن رمى شخصا أو جمعا وقصد إصابة أي واحد منهم فأصاب واحدا، لأن
أي للعموم فكأن كل شخص مقصود بخلاف ما إذا قصد واحدا لا بعينه فلا يكون عمدا، فما في الزوائد هو المعتمد
وإن خالف في ذلك البلقيني والأسنوي وغيرهما. ويشترط أيضا مع قصد الشخص أن يعرف أنه إنسان كما قاله البلقيني،
فلو رمى شخصا اعتقده نخلة فكان إنسانا لم يكن عمدا على الصحيح، وبه قطع الشيخ أبو محمد، وأورد على المصنف
ما إذا قصد الفعل والشخص بما يقتل غالبا بجهة حكم، ثم بان الخلل في مستنده ولم يقصر الحاكم، كما إذا قبله بشهادة
من بانا بعد القتل رقيقين، إذ الراجح وجوب الدية مخففة. وما إذا رمى حربي أو مرتد فأسلم، ثم أصابه السهم إذ هو
خطأ، وعلى النص أنها حالة في مال الجاني. وما إذا كان وكيلا في استيفاء القصاص ثم عفا عن الجاني أو عزل ولم يعلم
الوكيل ذلك واستوفى القصاص تجب دية مغلظة حالة على الوكيل. وقد يقال إنما سقط القصاص في هذه الصور
لعوارض. (فإن فقد قصد) هما أو فقد قصد (أحدهما) أي الفعل أو الشخص، (بأن وقع عليه فمات) هذا كما قال
الرافعي مثال للأولى، فكان ينبغي للمصنف أن يزيدها. وأما مثال الثانية فهو قوله: (أو رمى شجرة) أو نحو ذلك
كدابة فأصابه فمات، أو رمى آدميا فأصاب غيره فمات، (فخطأ) لعدم قصد عين الشخص.
تنبيه: يوزع المصنف في تصوير قصد الشخص دون الفعل فإنه متعذر، قيل: ويمكن تصويره بما إذا قصد
ضربه بصفح السيف فأخطأ وأصاب بحده فهذا لم يقصد الفعل بالحد مع أنه قصد الشخص، وبما لو توعده إمام ظالم
وهدد فمات بذلك فهذا قصد الشخص بالكلام ولم يقصد الفعل الواقع به لعدم صدوره إذ ذاك منه. ونوزع في المثال
أيضا بأن من وقع على شخص لا ينسب إليه فعل أصلا فضلا عن كونه خطأ، لأن الخطأ على مقتضى تقسيم المصنف
الفعل المزهق لا بد فيه من فعل. وقد يعتذر عنه كما قاله بعض شراح الكتاب بأن المثال المذكور مما يعطى حكم الخطأ
وليس بخطأ، أو أن الوقوع فيه منسوب إلى الشخص الواقع فيصدق عليه حينئذ الفعل المقسم. وعبارة المحرر ظاهرة في
المراد حيث قال: الفعل المزهق إن وجد والشخص غير قاصد للفعل بأن صاح على صبي فمات أو غير قاصد لمن أصابه
كما إذا رمى شجرة فأصاب إنسانا فهذا خطأ، فظهر من كلامه أن المعتبر في الخطأ أحد أمرين: أن لا يقصد أصل الفعل
أو يقصده دون الشخص. (وإن قصدهما) أي الفعل والشخص، (بما) أي شئ له مدخل في الاهلاك (لا يقتل غالبا)
عدوانا، فمات، (فشبه عمد) سمي بذلك لأنه أشبه العمد في القصد، ويسمى أيضا خطأ عمد وعمد خطأ وخطأ شبه عمد.
(ومنه الضرب بسوط أو عصا) للحديث المار، لكن بشروط أن يكونا خفيفين، وأن يوالي بين الضربات، وأن
لا يكون الضرب في مقتل أو المضروب صغيرا أو ضعيفا، وأن لا يكون حر أو برد معين على الهلاك، وأن
لا يشتد
الألم ويبقى إلى الموت. فإن كان فيه شئ من ذلك فهو عمد لأنه يقتل غالبا كما في الشرح والروضة. ومثل العصا
المذكورة الحجر الخفيف وكف مقبوضة الأصابع لمن يحمل الضرب بذلك واحتمل موته به.
تنبيه: يرد على طرده التعزير ونحوه، فإنه قصد الفعل والشخص بما لا يقتل غالبا، وليس بشبه عمد بل خطأ،
وعلى عكسه ما لو قال الشاهدان الراجعان: لم نعلم أنه يقتل بقولنا، وكانا ممن يخفى عليهما ذلك، فحكمه حكم شبه العمد
مع وجود قصد الشخص والفعل بما يقتل غالبا. (فلو غرز إبرة بمقتل) بفتح المثناة الفوقية: واحد المقاتل وهي المواضع
التي إذا أصيبت قتلت، كعين ودماغ وأصل أذن وحلق وثغرة نحر وخاصرة وأخدع بالدال المهملة وهو عرق العنق،
وإحليل وأنثيين، ومثانة، بالمثلثة بعد الميم: مستقر البول من الآدمي، وعجان، وهو بكسر العين المهملة: ما بين الخصية والدبر،
4

ويسمى العضرط بفتح العين المهملة، فمات به ولو بلا تورم، (فعمد) ذلك الغرز لخطر المواضع وشدة تأثيره. (وكذا)
لو غرز إبرة (بغيره) أي المقتل كفخذ وألية (إن تورم وتألم) أي اجتمع الأمران واستمرا (حتى مات) فعمد
لحصول الهلاك به. وظاهر هذا أنه لا قصاص في الألم بلا ورم. وليس مرادا بل الأصح كما صححه المصنف في شرح
الوسيط الوجوب، وأما الورم بلا ألم فقط لا يتصور، ولهذا قال الرافعي: لو لم يتعرض له الغزالي لم يضر، لأن الورم
لا يخلو عن الألم. فإن لم يظهر للغرز (أثر) بأن لم يشتد الألم، وليس المراد بأن لا يوجد ألم أصلا، فإنه لا بد من ألم
ما، (ومات في الحال فشبه عمد) في الأصح لأنه لا يقتل غالبا، فأشبه الضرب بالسوط الخفيف. (وقيل) هو (عمد)
لأن في البدن مقاتل خفية وموته حالا يشعر بإصابة بعضها. (وقيل لا شئ) أي لا قصاص ولا دية إحالة للموت على سبب
آخر، أما إذا تأخر الموت عن الغرز فلا ضمان قطعا كما قاله الماوردي وغيره.
تنبيه: ما ذكره من التفصيل بين المقتل وغيره إنما هو في حق المعتدل، أما إذا غرز في بدن صغير أو شيخ هرم
أو نضو الخلفة في أي موضع كان فإنه يجب القصاص كما نقلاه عن الرقم للعبادي وأقراه. (ولو غرز) ها (فيما لا يؤلم
كجلدة عقب) ولم يبالغ في إدخالها فمات (فلا شئ) في غرزها (بحال) أي سواء أمات في الحال أم بعده للعلم بأنه
لم يمت منه، وإنما هو موافقة قدر، كما ألقى عليه خرقة أو ضربه بقلم فمات. أما إذا بالغ فيجب القود قطعا كما قاله
الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب. (ولو حبسه ومنعه الطعام والشراب) أو أحدهما (و) منعه أيضا
(الطلب) لذلك (حتى مات) بسبب المنع، (فإن مضت) عليه (مدة يموت مثله) أي المحبوس (فيها غالبا جوعا)
أو عطشا، فعمد) لظهور قصد الاهلاك به. وتختلف المدة باختلاف حال المحبوس قوة وضعفا، والزمان حر أو برد
لأن فقد الماء في الحر ليس كفقده في البرد. واحترز بقوله: منعه عما إذا كان ذلك عنده وأمكنه تناوله فلم يتناوله خوفا أو حزنا،
أو أمكنه طلبه ولو بالسؤال فلم يفعل، أو منعه الشراب فترك الاكل خوف العطش، أو انهدم السقف عليه، أو أمكنه
الهرب كما قاله الفوراني من غير مخاطرة فمات بذلك، فلا قصاص ولا دية على حابسه، لأنه قتل نفسه، ومنع الدفاء في
البرد كمنع الاكل فيما ذكر. ولو قتله بالدخان بأن حبسه في بيت وسد منافذه فاجتمع عليه الدخان فضاق نفسه فمات
وجب القود كما قاله المتولي، وكذا لو منع من افتصد من شد فصاده حتى مات كما أفتى به الغزالي.
تنبيه: قوله: حبسه يفهم أنه لو منعه من غير حبس، كما لو أخذ زاده أو ماءه في مفازة أو عراة فمات جوعا
أو عطشا أو بردا أنه لا ضمان، وهو كذلك، لأنه لم يحدث فيه صنعا. قال الأذرعي: وقضية هذا التوجيه أنه لو أغلق عليه
بيتا وهو جالس فيه حتى مات جوعا لم يضمنه، وفيه نظر اه‍. هذه القضية ممنوعة، لأنه في أخذ الطعام منه متمكن من
أخذ شئ بخلافه في الحبس، بل هذه داخلة في كلام الأصحاب. ثم قال: وهذا في مفازة يمكنه الخروج منها، أما إذا
لم يمكنه ذلك لطولها أو لزمانته ولا طارق في ذلك الوقت فالمتجه وجوب القود كالمحبوس اه‍. وهو بحث قوي لكنه خلاف
المنقول. وهذا كله في الحر، أما الرقيق فيضمن باليد مطلقا سواء راعاه بالطعام والشراب أم لا كما قالاه. (وإلا) بأن
لم تمض المدة المذكورة ومات المحبوس، (فإن لم يكن به جوع وعطش) الواو بمعنى أو بدليل إفراد الضمير في قوله
(سابق) على المنع (فشبه عمد) لأنه لا يقتل غالبا. (وإن كان) به (بعض جوع وعطش) الواو أيضا بمعنى أو
، (وعلم الحابس الحال) وكانت مدة حبسه بحيث لو أضيفت لمدة جوعه أو عطشه السابق بلغت المدة القاتلة (فعمد)
لظهور قصد الاهلاك. أما إذا لم يبلغ مجموع المدتين ذلك فهو كما لو لم يكن به شئ سابق كما قاله ابن النقيب، وقال: لا بد
5

منه وهو مرادهم بلا شك اه‍. وتبعه الزركشي وهو ظاهر. (وإلا) بأن لم يعلم الحابس الحال، (فلا) أي فليس بعمد بل
هو شبه عمد (في الأظهر) لأنه لم يقصد إهلاكه، ولا أتى بما هو مهلك، كما لو دفعه دفعا خفيفا فسقط على سكين
وراءه وهو جاهل فإنه لا قصاص. والثاني: هو عمد فيجب القصاص لحصول الهلاك به، كما لو ضرب المريض ضربا
يهلكه ولا يهلك الصحيح وهو جاهل بمرضه. وأجاب الأول بأن الضرب ليس من جنس المرض فيمكن إحالة الهلاك
عليه، والجوع من جنس الجوع، والقدر الذي يتعلق منه بصفة لا يمكن إحالة الهلاك عليه، حتى لو ضعف من
الجوع
فضربه ضربا يقتل مثله وجب القصاص.
تنبيه: مراده بقوله: وإلا فلا وجوب نصف دية شبه عمد وإن أوهمت عبارته وجوب دية شبه عمد كاملة
لحصول الهلاك بالجوعين أو العطشين والذي منه أحدهما، ومسألة الحبس من السبب فكان الأولى ذكرها بعد قوله
: (ويجب القصاص بالسبب) كالمباشرة، لأن ماله دخل من الافعال في الزهوق إما مباشرة، وهي ما يؤثر في الهلاك
ويحصله كالجرح السابق ففيها القصاص كما مر، وإما شرط وهو ما لا يؤثر في الهلاك ولا يحصله بل يحصل التلف عنده
بغيره ويتوقف تأثير ذلك الغير عليه كالحفر مع التردي فإنه لا يؤثر في التلف ولا يحصله، وإنما يؤثر التخطي في صوب
الحفرة، والمحصل للتلف التردي فيها ومصادمتها، لكن لولا الحفر لما حصل التلف، ولهذا سمي شرطا. ومثله الامساك
للقاتل، وهذا لا قصاص فيه، وإما سبب وهو ما يؤثر في الهلاك ولا يحصله. وجه الحصر في ذلك أن الفاعل لا يخلو إما
أن يقصد عين المجني عليه أو لا، فإن قصده بالفعل المؤدي إلى الهلاك بلا واسطة فهو المباشرة، وإن أدى إليه بواسطة
فهو السبب كالشهادة بموجب قصاص، وإن لم يقصد عين المجني عليه بالكلية فهو الشرط. والسبب ينقسم إلى ثلاثة
أضرب، الأول: شرعي كالشهادة ويقتص من شهود الزور بشروط تأتي. والثاني: عرفي كتقديم مسموم لمن يأكله وسيأتي.
والثالث: حسي كالاكراه على القتل. وقد شرع في الضرب الأول فقال: (فلو شهدا) أي رجلان على شخص عند قاض
(بقصاص) أي بموجبه في نفس أو طرف، أو شهدا عليه بردة أو سرقة، (فقتل) المشهود عليه، أو قطع بعد حكم
القاضي بشهادتهما، (ثم رجعا) عنها (وقالا تعمدنا) الكذب فيها وعلمنا أنه يقتل أو يقطع بشهادتنا، (لزمهما) حينئذ
(القصاص) لأنهما تسببا في إهلاكه بما يقتل غالبا فأشبه ذلك الاكراه الحسي. قال الإمام: بل أبلغ من الاكراه،
لأن المكره قد يؤثر هلاك نفسه على سفك دم محرم، والقاضي لا محيص له عن الحكم بشهادتهما. أما إذا قالا لا نعلم
أنه يقتل بشهادتنا فإنه ينظر إن كانا ممن يخفى عليهما ذلك لقرب عهدهما بالاسلام أو بعدهما عن العلماء لم يجب عليهما
القصاص بل دية شبه عمد كما ذكراه في باب الرجوع عن الشهادة. قال البلقيني: وكذا لو قالا لم نعلم أنه يقتل
بشهادتنا لظهور أمور فينا تقتضي ردها، ولكن الحاكم قصر فتجب دية شبه عمد. قال: ولم أر من تعرض له اه‍.
وإن لم يخف عليهما ذلك، فلا اعتبار بقولهما، كمن رمى سهما إلى شخص واعترف بأنه قصده ولكنه قال لم أعلم
أنه يبلغه.
تنبيه: قد يرد على مفهوم قوله: تعمدنا ما لو قال كل منهما: تعمدت ولا أعلم حال صاحبي، وكذا لو اقتصر على
تعمدت فإنه يلزمهما القصاص. واعلم أن المقتضي لوجوب القصاص عليهما هو رجوعهما مع اعترافهما بالتعمد
لا كذبهما، حتى لو تيقنا كذبهما بأن شاهدنا المشهود بقتله حيا فلا قصاص لجواز أنهما لم يتعمدا ولو رجع أحدهما فقط، فإن
قال: تعمدت أنا وصاحبي فعليه القصاص وإلا فلا. ثم استثنى من وجوب القصاص على الشاهدين قوله: (إلا أن يعترف
الولي) أي ولي المقتول (بعلمه بكذبهما) في شهادتهما حين القتل كما صرح به في المحرر، فلا قصاص عليهما حينئذ،
لأنهما لم يلجئا إلى قتله حسا ولا شرعا فصار قولهما شرطا محضا كالمسك مع القاتل فيجب على الولي القصاص. أما
لو قال الولي: عرفت كذبهما بعد القتل فلا يسقط القصاص عنهما.
6

تنبيه: هذا إذا تمحض القصاص، فلو شهدا على قاطع الطريق ثم رجعا لم يسقط القصاص عنهما باعتراف الولي
بكذبهما، لأن حق الله تعالى باق. وخرج بولي المقتول ولي القاتل، فإنه إذا قال: أنا أعلم كذبهما في رجوعهما وأن
مورثي قتله فلا قصاص على أحدهما. قال البلقيني: وهذا واضح. وقد يرد على حصره ما لو اعترف القاضي بعلمه
بكذبهما حين الحكم أو القتل دون الولي فالقصاص عليه دون الشهود. وسيذكر المصنف رجوع الشهود آخر كتاب
الشهادات بأبسط مما هنا. وخرج بالشاهد الراوي، كما لو أشكلت حادثة على قاض فروى له فيها إنسان خبرا فقتل
الحاكم به شخصا ثم رجع الراوي وقال: تعمدت الكذب فلا قصاص عليه كما نقله في الروضة كأصلها قبيل الديات عن
الإمام وغيره، خلافا للبغوي في فتاويه. وقياسه ما لو استفتى القاضي شخصا فأفتاه بالقتل ثم رجع كما بحثه بعض المتأخرين.
ثم شرع في الضرب الثاني وهو السبب العرفي، فقال: (ولو ضيف بمسموم) يقتل غالبا، أو ناوله (صبيا) غير مميز كما
قيده به الإمام وغيره ونقله الشيخ أبو حامد عن النص، (أو مجنونا) فأكله (فمات) منه (وجب القصاص) لأنه
ألجأه إلى ذلك، سواء قال له هو مسموم أم لا. وفي معناهما الأعجمي الذي يعتقد وجوب طاعة أمره. وأما المميز
فكالبالغ، وكذا المجنون الذي له تمييز كما قاله البغوي. (أو) ضيف به (بالغا عاقلا ولم يعلم) الضيف (حال الطعام
فدية) ولا قصاص لأنه تناوله باختياره من غير إلجاء. (وفي قول قصاص) ورجحه البغوي وغيره. واستدل له
المتولي بقتله (ص) اليهودية التي سمت له الشاة بخيبر لما مات بشر بن البراء بن معرور. قال في البحر:
والاستدلال بذلك ضعيف، لأنها لم تقدم الشاة إلى الأضياف، بل بعثتها إليه (ص) وهو أضاف أصحابه.
وما هذا سبيله لا يلزمه قصاص. ولا ينافي الأول ما في الصحيحين أنه (ص) عفا عنها، لأن ذلك كان
في الابتداء فلما مات بشر أمر بقتلها. (وفي قول لا شئ) من قصاص أو دية تغليبا للمباشرة على السبب. أما
إذا علم الضيف
حال الطعام فلا شئ على المضيف جزما، لأنه المهلك نفسه. (ولو دس سما) بتثليث السين والفتح أفصح، وهو شئ يضاد
القوة الحيوانية. (في طعام شخص الغالب أكله منه فأكله جاهلا) بالحال فمات. (فعلى الأقوال) في المسألة قبلها. وجه الثاني
التسبب. والأول قال: يكفي فيه الدية. وعلى الثلاثة يجب له قيمة الطعام لأن الداس أتلفه عليه. ومثل الطعام في ذلك
ماء على طريق شخص معين والغالب شربه منه. واحترز بقوله: في طعام شخص عما إذا دسه في طعام نفسه فأكل
منه شخص عادته الدخول عليه فإنه هدر. وقوله: الغالب أكله منه زيادة على المحرر، وهي في الشرحين ولم يتعرض
لها الأكثرون. وقضيته أنه إذا كان أكله منه نادرا يكون هدرا، وجرى على ذلك جمع من الشراح. وليس مرادا
وإنما هو لأجل الخلاف حتى يأتي القول بالقصاص وإلا فالواجب دية شبه العمد مطلقا، نبه على ذلك شيخي فتنبه
له فإنه يغفل عنه كثير من الطلبة.
فروع: لو قال لعاقل: كل هذا الطعام وفيه سم فأكله فمات فلا قصاص ولا دية كما نص عليه في الام وجزم
به الماوردي. ولو ادعى القاتل الجهل بكونه سما فقولان، والأوجه ما قاله المتولي أنه إن كان ممن يخفى عليه ذلك صدق
وإلا فلا. فإن ادعى الجهل بكونه قاتلا فالقصاص. ولو قامت بينة بأن السم الذي أوجره يقتل غالبا وقد ادعى أنه
لا يقتل غالبا وجب القصاص، فإن لم تقم بينة بذلك صدق بيمينه. ولو أوجر شخصا سما لا يقتل غالبا فشبه عمد أو يقتل
مثله غالبا فالقصاص، وكذا إكراه جاهل عليه لا عالم. وكلام أصل الروضة هنا محمول على هذا بقرينة ذكره له
في الكلام على إكراهه على قتل نفسه. ولا يجب على المجني عليه معالجة الجناية بما يدفعها: (و) حينئذ (لو ترك
المجروح علاج جرح مهلك) له (فمات) منه (وجب القصاص) جزما على الجارح، لأن البرء غير موثوق به لو
عولج، والجراحة في نفسها مهلكة. أما ما لا يهلك كأن فصده فلم يعصب العرق حتى مات فإنه لا ضمان لأنه الذي قتل
7

نفسه كما لو حبسه وعنده ما يأكل فلم يفعل. (ولو ألقاه في ماء) راكد أو جار (لا يعد مغرقا) بسكون الغين وبفتحها
وتشديد الراء (كمنبسط فيه مضطجعا) أو جالسا أو مستلقيا (حتى هلك فهدر) لا قصاص فيه ولا دية، لأنه
المهلك نفسه. فإن ألقاه في الماء المذكور مكتوفا بحيث لا يمكنه التخلص فمات وجب القصاص. (أو) ألقى رجلا أو صبيا
مميزا في ماء (مغرق) كنهر (لا يخلص منه إلا بسباحة) بكسر السين مصدر سبح في الماء: عام، (فإن لم يحسنها أو
كان) مع إحسانها (مكتوفا أو زمنا) أو ضعيفا فهلك بذلك، (فعمد) فيه قصاص.
تنبيه: أفهم كلامه أن الماء الذي لا يتوقع الخلاص منه بالسباحة كلجة بحر أنه يجب فيه القصاص، سواء أكان
يحسن السباحة أم لا، وهو كذلك. (وإن) أمكنه التخلص بسباحة مثلا، ولكن (منع منها عارض كريح وموج
)
فهلك بسبب ذلك، (فشبه عمد) تجب ديته.
تنبيه: تعبيره يقتضي التصوير بطرو العارض، وهو يفهم أنه لو كان موجودا عند الالقاء يجب القود، وهو
كذلك فهو كمن لا يحسن السباحة. (وإن أمكنته) سباحة أو غيرها كتعلق بزورق (فتركها) باختياره، كأن تركها حزنا
أو لجاجا، (فلا دية في الأظهر) كما في المحرر، وعبر في الروضة كأصلها بقوله وجهان أو قولان لأنه المهلك نفسه بإعراضه
عما ينجيه. والثاني: تجب، لأنه قد يمنعه من السباحة دهشة أو عارض باطني.
تنبيه: لو شك في إمكان تخلصه بأن قال الملقي: كان يمكنه الخروج مما ألقيته فيه فقصر، وقال الولي: لم يمكنه،
صدق الولي بيمينه لأن الظاهر أنه لو أمكنه الخروج لخرج.
فرع: لو ربطه وطرحه عند ماء يزيد إليه غالبا كالمد بالبصرة فزاد ومات به فعمد، أو قد يزيد وقد لا يزيد
فزاد ومات به فشبه عمد، أو بحيث لا يتوقع زيادة فاتفق سيل نادر فخطأ. (أو) ألقاه (في نار يمكن) معها (الخلاص
منها) فمكث فيها حتى مات، (ففي الدية القولان) في الماء، والأظهر عدم الوجوب كما مر، ويعرف الامكان بقوله
أو بكونه على وجه الأرض وإلى جانبه أرض لا نار عليها. فإن اختلف الملقي والولي في إمكان تخلصه صدق الولي كما مر
لأن الظاهر أنه لو أمكنه الخروج لخرج، وقيل الملقي لأن الأصل براءة ذمته. (ولا قصاص في الصورتين) وهما الالقاء
في الماء والالقاء في النار لأنه الذي قتل نفسه. (وفي) الالقاء في (النار وجه) بوجوب القصاص بخلاف الماء،
والفرق أن النار تحرق بأول ملاقاتها وتؤثر قروحات قاتلة، بخلاف الماء. على أن في الماء وجها أيضا في الروضة، فلا
مفهوم لتقييد المتن. وعلى عدم القصاص يجب على الملقي أرش ما أثرت النار فيه من حين الالقاء إلى الخروج على
النص، سواء أكان أرش عضو أم حكومة، فإن لم يعرف قدر لذلك لم يجب إلا التعزير كما في البحر عن الأصحاب.
واحترز بقوله: يمكنه الخلاص عما إذا لم يمكنه لعظمها أو لكونها في وحدة أو كونه مكتوفا أو زمنا أو صغيرا أو ضعيفا
فعليه القصاص.
تنبيه: إذا اجتمعت المباشرة مع السبب أو الشرط فقد يغلب السبب المباشرة كما مر في شهود الزور إذا اعترفوا
بالتعمد والعلم فإن القصاص عليهم دون الولي والقاضي الجاهلين بكذب الشهود. وقد تغلب المباشرة السبب والشرط كما
قال: (ولو أمسكه) شخص (فقتله آخر أو حفر بئرا) ولو عدوانا (فرداه فيها آخر) والتردية تقتل غالبا. (أو ألقاه من
شاهق) أي مكان عال، (فتلقاه آخر فقده) أي قطعه نصفين مثلا قبل وصوله الأرض، والقد لغة هو القطع طولا
8

والقط عرضا كقط القلم، وليس مرادا هنا. (فالقصاص على القاتل) في الأولى لحديث: إذا أمسك الرجل
الرجل حتى
جاء آخر فقتله قتل القاتل وحبس الممسك رواه الدارقطني، وصحح ابن القطان رفعه، وقاسه الشافعي على ممسك
المرأة للزنا يحد الزاني دونه، وكما لا قصاص لا دية بل يعزر لأنه آثم، ولهذا قال في الحديث: يحبس. نعم لو كان
المقتول رقيقا كان للمالك مطالبة الممسك باليد والقرار على القاتل، بخلاف ما لو أمسك المحرم صيدا فقتله حلال وهو في
يد المحرم فالضمان على المحرم. وفرقوا بأنه ثم ضمان يد وهنا ضمان إتلاف، وجعلوا سلب القتيل للقاتل الممسك لاندفاع
شر الكافر بهما.
تنبيه: شرط المسألة المذكورة في المتن أن يكون القاتل مكلفا، فلو أمسكه وعرضه لمجنون أو سبع ضار فقتله،
فالقصاص على الممسك قطعا كما قاله ابن الرفعة لأنه يعد قاتلا عرفا. ويرد على المصنف ما لو وضع صغيرا على هدف بعد
الرمي لا قبله فأصابه سهم الرامي فإن القصاص على المقدم لأنه المباشر فهو كالمردي دون الرامي لأنه كالحافر، بخلاف ما لو
وضعه قبل الرمي، فإن القصاص على الرامي لأنه المباشر. (و) على (المردي) في الثانية تقديما للمباشرة، لأن الحفر شرط
ولا أثر له مع المباشرة
تنبيه: كلامه قد يفهم تعلق القصاص بالحافر لو انفرد، وليس مرادا لأن الحفر شرط، والشرط لا يتعلق به
قصاص كما مر، ومعلوم أنه لا بد لوجود القصاص من كون التردية يحصل منها القتل غالبا كما قدرته في كلامه. (و)
على (القاد) في الثالثة الملتزم للأحكام لأن فعله قطع أثر السبب، ولا شئ على الملقي وإن عرف الحال أو كان القاد
ممن لا يضمن كحربي. نعم لو كان القاد مجنونا ضاربا فالقصاص على الملقي كما قاله الإمام. وقوله: (فقط) أي دون الممسك
والحافر والملقي على ما تقرر. (ولو ألقاه في ماء مغرق) لا يمكنه الخلاص منه كلجة البحر، (فالتقمه حوت) ولو قبل
الوصول إلى الماء، (وجب القصاص في الأظهر) لأنه هلك بسببه، ولا نظر إلى جهة الهلاك كما لو ألقاه في بئر مهلكة في
أسفلها سكين لم يعلم بها الملقي فهلك بها. والثاني. وهو من تخريج الربيع في صورة الالقاء من شاهق: تجب الدية، لأن
الهلاك من غير الوجه الذي قصد فانتهض شبهة في نفي القصاص، والأصحاب بين راد له ومضعف.
تنبيه: محل الخلاف ما لم يرفع الحوت رأسه ويلقمه، وإلا وجب القصاص قطعا. ومحله أيضا إذا لم يعلم بالحوت
الذي في اللجة، فإن علم به وجب القود قطعا كما لو ألقاه على أسد في زريبته كما قال صاحب المعين أنه الذي أفهمه كلام
الأصحاب. (أو غير مغرق) فالتقمه حوت ولم يعلم به الملقي، (فلا) قصاص قطعا لأنه لم يقصد إهلاكه ولم يشعر بسبب
الاهلاك، كما لو دفعه دفعا خفيفا فوقع على سكين فمات ولم يعلم بها الدافع، ويجب في الصورتين دية شبه عمد
.
تنبيه: قضية التعليل أنه إذا علم أن هناك حوتا يجب القود، وهو ما صرح به في الوسيط، كما لو علم السكين. ثم شرع
في الضرب الثالث، وهو السبب الحسي، فقال: (ولو أكرهه على قتل) لشخص بغير حق فقتله، (فعليه) أي المكره
بكسر الراء (القصاص) لأنه أهلكه بما يقصد به الاهلاك غالبا، فأشبه ما لو رماه بسهم فقتله. (وكذا) يجب القصاص
على (المكره) أيضا بفتحها، (في الأظهر) لأنه قتله عمدا عدوانا لاستبقاء نفسه، فأشبه ما لو قتله المضطر ليأكله، بل
أولى لأن المضطر على يقين من التلف إن لم يأكل بخلاف المكره. والثاني: لا قصاص عليه، لحديث رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه ولأنه آلة للمكره فصار كما لو ضربه به. وقيل: لا قصاص على المكره - بكسر الراء - لأنه
متسبب، بل على المكره - بفتحها - فقط لأنه مباشر، والمباشرة مقدمة.
تنبيهات: الأول: إطلاقه يقتضي أنه لا فرق في جريان الخلاف بين كون المكره الإمام أو غيره، وهو الصحيح.
ولكن محله فيما إذا كان المكره عليه غير نبي، أما إذا كان نبيا فيجب على المكره - بفتح الراء - القصاص قطعا كما دل
عليه كلامهم في المضطر. والثاني: لم يبين المصنف ما يحصل به الاكراه اكتفاء بما ذكره في الطلاق، ولكن نقل الرافعي
9

هنا عن المعتبرين أن الاكراه لا يحصل إلا بالتخويف بالقتل أو بما يخاف منه التلف كالقطع والضرب الشديد، وقيل
يحصل بما يحصل به الاكراه على الطلاق اه‍. والأول هو الظاهر. ولو قال: اقتل هذا وإلا قتلت ولدك، قال في أصل
الروضة في كتاب الطلاق: إنه ليس بإكراه على الأصح، ولكن قال الروياني: الصحيح عندي أنه إكراه، وهذا هو الظاهر
لأن ولده كنفسه في الغالب. الثالث: لا يجوز للمكره الاقدام على القتل المحرم لذاته وإن لم نوجب عليه القصاص بل يأثم إذا
قتل، وكذا لا يباح الزنا بالاكراه، ويباح به شرب الخمر والقذف والافطار في رمضان على القول بإبطال الصوم به،
والخروج من صلاة الفرض، وإتلاف مال الغير وصيد الحرم. ويضمن كل من المكره والمكره والمال والصيد والقرار
على المكره - بكسر الراء - لتعديه، وليس لمالك المال دفع المكره عن ماله بل يجب عليه إن بقي روحه بماله، ويجب على
المكره أيضا إن بقي روحه بإتلافه كما قاله الغزالي في وسيطه ونقل ابن الرفعة الاتفاق عليه وللاتيان بما هو كفر قولا
أو فعلا مع طمأنينة القلب بالايمان. وعلى هذا الأفضل أن يثبت، ولا يأتي بلفظة الكفر، وقيل: يأتي به صيانة لنفسه،
وقيل: إن كان من العلماء المقتدى بهم فالأفضل الثبوت وإلا فلا. ويستثنى من إطلاق المصنف ما إذا كان المكره
- بفتح
الراء - أعجميا يرى طاعة كل أحد فإنه لو أمره بقتل كان القصاص على الآمر فقط. الرابع: قيد البغوي وجوب القصاص
على المكره - بالفتح - بما إذا لم يظن أن الاكراه يبيح الاقدام، فإن ظن ذلك فلا قود عليه جزما. وهو ظاهر إن كان ممن
يخفى عليه تحريم ذلك، إذ القصاص يسقط بالشبهة. (فإن وجبت الدية) في صورة الاكراه كأن عفا عن القصاص عليها،
(وزعت) عليهما بالسوية كالشريكين في القتل، وللولي أن يقتص من أحدهما ويأخذ نصف الدية من الآخر. وهذا إذا
كافأه، (فإن كافأه) بهمزة أي ساوى المقتول (أحدهما فقط) كأن كان المقتول ذميا أو عبدا وأحدهما كذلك والآخر
مسلم أو حر، (فالقصاص عليه) أي المكافئ دون الآخر، بل عليه نصف الضمان لأنهما كالشريكين، وشريك غير المكافئ
يقتص منه كشريك الأب. (ولو أكره بالغ) عاقل كما في المحرر (مراهقا) أو عكسه على قتل شخص فقتله، (فعلى البالغ
القصاص) لوجود مقتضيه وهو القتل المحض العدوان، هذا (إن قلنا عمد الصبي عمد، وهو الأظهر) فإن قلنا خطأ
فلا قصاص لأنه شريك مخطئ، ولا قصاص على الصبي بحال لعدم تكليفه.
تنبيه: محل الخلاف في عمد الصبي والمجنون هل هو عمد أو خطأ إذا كان لهما نوع تمييز وإلا فخطأ قطعا كما نقلاه
عن القفال وغيره في الكلام على شريك المخطئ وأشار المصنف إلى ذلك بالتمثيل بالمراهق. (ولو أكره) بفتح الهمزة
بخطه، مكلفا (على رمي شاخص علم المكره) بكسر الراء (أنه رجل وظنه المكره) بفتحها (صيدا) أو حجرا أو نحو ذلك
فرماه فقتله، (فالأصح وجوب القصاص على المكره) بكسر الراء لأنه قتله قاصدا للقتل بما يقتل غالبا دون المكره - بفتحها
- فإنه جاهل بالحال فكان كالآلة للمكره. والثاني: لا قصاص على المكره أيضا لأنه شريك مخطئ.
تنبيه: هل يجب على من ظن الصيد نصف دية مخففة على عاقلته أو لا؟ وجهان، رجع ابن المقري الثاني.
ويؤخذ من كلام الأنوار ترجيح الأول، وهو كما قال شيخنا الأوجه. (أو) أكرهه (على رمي صيد فأصاب) آدميا
(رجلا) أو غيره فمات، (فلا قصاص على أحد) منهما لأنهما لم يتعمداه، ويجب على عاقلة كل منهما نصف الدية.
(أو) أكرهه (على صعود شجرة) أو على نزول بئر، (فزلق فمات فشبه عمد) لأنه لا يقصد به القتل غالبا. وقضية
هذا وجوب الدية على عاقلة المكره - بكسر الراء - وهو ما جزم به في التهذيب، وهو الظاهر. قال الزركشي: لكن حكى
10

ابن القطان في فروعه نص الشافعي على أنها في ماله. (وقيل) هو (عمد) وهذا ليس بوجه محقق بل هو رأي للغزالي،
وعليه فيجب به القصاص لأنه تسبب إلى قتله فأشبه ما لو رماه بسهم.
تنبيه: حمل هذا القول فيما إذا كانت الشجرة مما يزلق على مثلها غالبا كما ذكره المصنف في نكت الوسيط.
أما إذا كانت لا يزلق على مثلها غالبا فلا يأتي هذا القول، فالتقييد بذلك لمحل الخلاف، لا كما فهمه أكثر الشراح من أنه
قيد لشبه العمد فيكون في هذه الحالة خطأ، فتنبه لذلك فإنه مما يغفل عنه كثير من الطلبة. وصحح البلقيني أن هذا ليس بشبه
عمد بل هو خطأ محض. (أو) أكرهه (على قتل نفسه) بأن قال له: اقتل نفسك أو اشرب هذا السم وإلا قتلتك فقتلها
(فلا قصاص) عليه (في الأظهر) لأن هذا ليس بإكراه حقيقة لاتحاد المأمور به والمخوف فصار كأنه مختار له.
والثاني: يجب، كما إذا أكرهه على قتل غيره. وعلى الأول لا شئ على الآمر من الدية كما ذكره الرافعي في باب
موجبات الدية، وإن جرى ابن المقري على وجوب نصف دية، لأن القصاص إنما يسقط لانتفاء الاكراه فينتفي
موجبه فلا يجب على فاعله شئ.
تنبيه: محل الخلاف كما قاله أبو الفرج الرازي ما إذا خوفه بمثل ذلك القتل، فإن خوفه بعقوبة فوق القتل
كالاحراق والتمثيل فهو إكراه. ويستثنى ما إذا كان المكره - بفتح الراء - غير مميز لصغر أو جنون فإنه يجب القصاص على
المكره - بكسر الراء - بخلاف البالغ الأعجمي، فإنه لا يخفى عليه أنه لا يجوز له قتل نفسه، بخلاف ما إذا أمره بقتل غيره
فعل. نعم إن أمره ببط جرحه أو بفتح عرقه القاتل، فإن كان بمقتل وجهل كونه قاتلا ضمن الآمر، لأن الأعجمي
حينئذ لا يظنه قاتلا فلا يجوز أن يعتقد وجوب الطاعة. أما إذا علمه قاتلا فلا ضمان على آمره. وخرج بالتقييد بالنفس
الطرف، فلو قال له: اقطع يدك أو رجلك أو نحو ذلك وإلا قتلتك، فقطعها اقتص منه لأنه إكراه، لأن قطعه ترجى معه
الحياة. (ولو قال) شخص لآخر: (اقتلني وإلا قتلتك فقتله) ذلك الشخص، (فالمذهب لا قصاص) عليه لأن الاذن
شبهة دارئة للحد. والطريق الثاني ذات قولين، ثانيهما: يجب عليه القصاص، لأن القتل لا يباح بالاذن، فأشبه ما لو أذن
له في الزنا بأمته. (والأظهر) على عدم القصاص (لا دية) أيضا بناء على أنها تثبت للمقتول في آخر جزء من حياته
ثم تنتقل إلى الوارث، وهو الأظهر ولهذا تنفذ منها وصاياه وتقضى منها ديونه، ولو كانت للورثة ابتداء لم يكن كذلك.
والثاني: تجب ولا يؤثر إذنه، بناء على أنها تثبت للورثة ابتداء عقب هلاك المقتول.
تنبيه: لو لم يقل: وإلا قتلتك كان الحكم كذلك كما سيأتي في قول المصنف في باب كيفية القصاص. ولو قال:
اقتلني ففعل، فهدر. هذا كله في النفس، فلو قال له: اقطع يدي مثلا فقطعها ولم يمت فلا قود ولا دية قولا واحدا، قاله
في الروضة. فإن مات فعلى الخلاف. ومحله فيما إذا أمكن دفعه بغير القتل، فإن قتله دفعا فلا ضمان عليه جزما كما أشار إليه
الشيخان وجزم به ابن الرفعة. فإن قيل: إذا أمكنه دفعه بغير القتل، فقد انتفى الاكراه فينبغي أن يجب القصاص
جزما. أجيب بأن الاذن بلا إكراه مسقط. وقد حكى الرافعي الطريقين في الاذن المجرد، ثم قال: فإن انضم إلى ذلك
إكراه فسقوط القصاص أوجه. ولو قال: اقذفني وإلا قتلتك فقذفه فلا حد على الصواب في زوائد الروضة، ولو كان
الآذن عبدا لم يسقط الضمان. وفي القصاص إذا كان المأذون له عبدا وجهان، أظهرهما السقوط. ولو أكرهه على
إكراه غيره اقتص منهم، وللمأمور بالقتل دفع المكره، وللثالث دفعهما، وإن أفضى إلى القتل فهدر، والمكره هنا
هو المحمول على قتل معين لا يجد عنه محيصا. (و) حينئذ (لو قال) لشخص: (اقتل زيدا أو عمرا) وإلا قتلتك
(فليس بإكراه) حقيقة، فمن قتله منهما فهو مختار لقتله فيلزمه القصاص له، ولا شئ على الآمر غير الاثم. وقال
القاضي حسين: هو إكراه لأنه لا يتخلص إلا بقتل أحدهما فهو ملجأ إليه، وصححه البلقيني، قال: وليس هذا
كإكراهه على طلاق إحدى زوجتيه فإن عليه أن يقول: إحداهما طالق، فإذا طلق معينة كان مختارا.
11

تتمة: لو أمر السلطان شخصا بقتل آخر بغير حق والمأمور لا يعلم ظلم السلطان ولا خطأه وجب القود أو الدية
والكفارة على السلطان ولا شئ على المأمور لأنه آلته، ولا بد منه في السياسة، فلو ضمناه لم يتول الجلد أحد، ولان
الظاهر أن الإمام لا يأمر إلا بالحق، ولان طاعته واجبة فيما لا يعلم أنه معصية، ويسن للمأمور أن يكفر لمباشرة القتل. وإن
علم بظلمه أو خطئه وجب القود على المأمور إن لم يخف قهره بالبطش بما يحصل به الاكراه لأنه لا يجوز طاعته حينئذ
كما جاء في الحديث الصحيح، فصار كما لو قتله بغير إذن، فلا شئ على السلطان إلا الاثم فيما إذا كان ظالما. نعم إن اعتقد
وجوب طاعته في المعصية فالضمان على الإمام لا عليه، لأن ذلك مما يخفى، نقله الأذرعي والزركشي عن صاحب الوافي
وأقراه. فإن خاف قهره فكالمكره فالضمان بالقصاص وغيره عليهما. وحكم سيد البغاة حكم الإمام فيما ذكر، لأن أحكامه
نافذة، بل إن أمره بقتله متغلب فعليه القصاص أو الدية والكفارة وليس على الآمر إلا الاثم، ولا فرق بين أن يعتقده
حقا أو يعرف أنه ظلم لأنه ليس بواجب الطاعة. هذا إن لم يخف قهره كما مر وإلا فكالمكره. ولو أكرهه الإمام على
صعود شجرة أو نزول بئر ففعل، فإن لم يخف قهره فلا ضمان عليه، وإن خافه فالضمان على عاقلته وهي دية شبه عمد كما
مر وإن كان ذلك لمصلحة المسلمين. ولو أمر شخص عبده أو عبد غيره المميز الذي لا يعتقد وجوب طاعته في كل
أمره بقتل أو إتلاف ظلما ففعل أثم الآمر واقتص من العبد البالغ وتعلق ضمان المال برقبته، وإن كان للصبي أو المجنون
تمييز فالضمان عليهما دون الآمر، وما أتلفه غير المميز بلا أمر خطأ يتعلق بذمته إن كان حرا وبرقبته إن كان رقيقا
لاهدر، وإن اقتضى كلام أصل الروضة أنه هدر. ولو أكره شخص عبدا مميزا على قتل مثلا ففعل تعلق نصف الدية
برقبته بناء على الأصح من أن الحر المكره يلزمه نصف الدية.
فصل: في الجناية من اثنين وما يذكر معها: إذا (وجد من شخصين) مثلا حال كونهما (معا) أي مجتمعين
في زمن واحد (فعلان) مثلا (مزهقان) للروح لو انفرد كل منهما لأمكن إصالة الازهاق عليه، وهما (مذففان)
بإعجام الذال بخطه، ويجوز إهمالهما، أي مسرعان للقتل. (كحز) للرقبة (وقد) للجثة، (أو لا) أي غير مذففين
(كقطع عضوين) ومات منهما، (فقاتلان) يجب عليهما القصاص، وكذا الدية إذا وجبت لوجود السبب منهما.
وقضية كلامه أنه لو كان أحدهما مذففا دون الآخر كان المذفف هو القاتل وهو كذلك. واحترز بقوله: معا عما إذا
ترتب فعلهما وسيذكره.
تنبيه: استعمل المصنف هنا معا للدلالة على الاتحاد في الزمان وفاقا لثعلب وغيره، وأما ابن مالك فاختار عدم
دلالتها على الاتحاد وأنها تستعمل بمعنى جميعا، وهو ظاهر نص الشافعي فيمن قال لامرأتيه: إن ولدتما معا فأنتما
طالقتان أنه لا يشترط الاتحاد في الزمان، وإذا أفردت عن الإضافة كما في الكتاب أعربت حالا، ومذففان في كلامه خبر
مبتدأ محذوف، أي وهما مذففان كما صرح به في المحرر، وليس صفة لفعلان لتنويعهما إلى التذفيف وعدمه. والفاء
في قوله فقاتلان جواب شرط محذوف كما قدرته في كلامه. (وإن) لم يوجد الفعلان معا بالوصف السابق، بل ترتبا بأن
(أنهاه رجل) مثلا (إلى حركة مذبوح) وهي المفسرة بقوله: (بأن لم يبق) معها (إبصار، و) لا (نطق)
اختياري (و) لا (حركة اختيار) وهي التي يبقى معها الادراك وهي المستقرة، ويقطع بموته بعد يوم أو أيام، وهي
التي اشترط وجودها في إيجاب القصاص دون المستمرة، وهي التي لو ترك معها لعاش. واحترز بالاختيار عما إذا قطع
الانسان نصفين وبقيت أحشاؤه في النصف الاعلى، فإنه ربما يتكلم بكلمات لا تنتظم، وإن انتظمت فليست عن
روية واختيار، بل تجري مجرى الهذيان الذي لا يصدر عن عقل صحيح ولا قلب ثابت. حكى ابن هريرة أن رجلا
قطع نصفين فتكلم واستسقى ماء فسقي، وقال هكذا يفعل بالجيران. وإن شك في وصوله إلى حركة مذبوح رجع إلى
أهل الخبرة كما قال الرافعي، أي وعمل بقول عدلين منهم. وحالة المذبوح تسمى حالة اليأس، وهي التي لا يصح فيها
12

إسلام ولا ردة ولا شئ من التصرفات وينتقل فيها ماله لورثته الحاصلين حينئذ لا لمن حدث، ولو مات له قريب لم يرثه.
(ثم) إن (جنى) شخص (آخر) عليه بعد الانتهاء لحركة مذبوح، (فالأول) متهما (قاتل) لأنه صيره إلى حالة
الموت، (ويعزر الثاني) منهما لهتكه حرمة الميت كما لو قطع عضوا من ميت. (وإن جنى الثاني) منهما (
قبل الانهاء
إليها) أي حركة مذبوح، (فإن ذفف) الثاني (كحز) للرقبة (بعد جرح) سابق من الأول، (فالثاني قاتل) فعليه
القصاص، لأن الجرح إنما يقتل بالسراية، وحز الرقبة بقطع أثرها، ولا فرق بين أن يتوقع البرء من الجراحة السابقة
أن يتيقن الهلاك بها بعد يوم أو أيام لأن له في الحال حياة مستقرة، وقد عهد عمر رضي الله تعالى عنه في هذه الحالة
وعمل بعهده ووصاياه. (وعلى الأول قصاص العضو أو مال بحسب الحال) من عمد أو غيره، (وإلا) أي وإن لم
يذفف الثاني أيضا كأن قطع الأول يده من الكوع والثاني من المرفق ومات المجني عليه بسراية القطعين، (فقاتلان)
بطريق السراية، ولا يقال إن أثر القطع الثاني أزال أثر القطع الأول. (ولو قتل مريضا في النزع وعيشه عيش مذبوح
وجب) بقتله (القصاص) لأنه قد يعيش، فإن موته غير محقق، قال الإمام: ولو انتهى المريض إلى سكرات الموت
وبدت مخايله فلا يحكم له بالموت وإن كان يظن أنه في حالة المقدود، وفرقوا بأن انتهاء المريض إلى تلك الحالة غير
مقطوع به، وقد يظن ذلك ثم يشفى، بخلاف المقدود ومن في معناه، ولان المريض لم يسبق فيه فعل بحال القتل وأحكامه
عليه حتى يهدر الفعل الثاني.
تنبيه: قضية كلام المصنف أن المريض المذكور يصح إسلامه وردته، وليس مرادا بل ما ذكراه هنا من أنه
ليس كالميت محمول على أنه ليس كالميت في الجناية وقسمة تركته وتزوج زوجاته، أما في غير ذلك من الأحوال فهو
فيه كالميت بقرينة ما ذكراه في الوصية من عدم صحة وصيته وإسلامه وتوبته ونحوها. وحاصله أن من وصل إلى تلك
الحالة بجناية فهو كالميت مطلقا، ومن وصل إليها بغير جناية هو كالميت بالنسبة لأقواله وكالحي بالنسبة لغيرها كما جمع
به بعض المتأخرين، وهو حسن.
فصل: في أركان القصاص في النفس. وهي ثلاثة: قتل، وشرط فيه ما مر من كونه عمدا ظلما. وقتيل، وقاتل.
وفيما إذا قتل إنسانا يظنه على حال فكان بخلافه. وقد شرع في هذا القسم فقال: (قتل مسلما ظن كفره) كأن
رآه يعظم آلهتهم، أو كان عليه زي الكفار (بدار الحرب) أو بصفة المحاربين بدارنا كما سيأتي، (لا قصاص) عليه
جزما للعذر الظاهر، إن قتله ذمي لم يستعن به المسلمون لزمه القصاص كما قاله البلقيني، قال: وفي نص الشافعي ما يشهد له.
(وكذا لا دية في الأظهر) لأنه أسقط حرمة نفسه بمقامه في دار الحرب التي هي دار الإباحة وسواء علم في دارهم مسلما
أم لا، عين شخصا أم لا. والثاني تجب الدية، لأنها تثبت مع الشبهة. أما الكفارة فتجب جزما لقوله تعالى: * (وإن كان
من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة) فإن من بمعنى في كما نقله الإمام الشافعي وغيره.
تنبيه لا يكفي ظن كفره، بل لا بد من ظن حرابته. أما إذا ظنه ذميا فسيأتي في كلامه أن المذهب وجوب
القصاص. واحترز بقوله ظن كفره عما إذا لم يظنه، وفيه تفصيل ذكره الرافعي في الشرحين عن البغوي، وجزم به
في الروضة، فقال: إن عرف مكانه وقصده فكقتله بدارنا عمدا، وإن قصد غيره فأصابه فدية مخففة على العاقلة، وإن
لم يعرف مكانه ورمى سهما إلى صف الكفار في دار الحرب سواء أعلم أن في الدار مسلما أم لا؟ نظر إن لم يعين شخصا أو
عين كافرا فأخطأ وأصاب مسلما فلا قود ولا دية، وكذا لو قتله في بيات أو إغارة ولم يعرفه. وإن عين شخصا فأصابه
13

فكان مسلما لا قصاص، وفي الدية قولان، قالا: ويشبه أن يكون هما القولين فيمن ظنه كافرا. ولو أمن القاتل أهل
دار الحرب وقتل في دارهم مسلما تزيا بزيهم، قال الزركشي: فالمتجه وجوب القصاص قياسا على من عهده عبدا وكان
قد عتق ولم يعلم القاتل أنه عتق اه‍. وهو ظاهر إذا قلنا إن التزيي بزيهم ليس بردة، وهو الصحيح عند المصنف في باب
الردة. أما إذا قلنا إنه ردة كما نقل عن النص فإنه لا قصاص عليه. (أو) قتل من (بدار الاسلام وجبا) أي القصاص
والدية، لا على الاجتماع كما هو معلوم وإن أوهمته العبارة، بل على البدل، لأن الظاهر من حال من هو في دار الاسلام
العصمة. ويستثنى ما إذا كان في صف أهل الحرب بدارنا فإنه لا قصاص قطعا ولا دية في الأظهر. (وفي القصاص)
في قتل من ذكر بدار الاسلام (قول) في الام بعدم وجوبه إذا عهده حربيا لأنه الذي أبطل حرمة نفسه بخروجه على
هيئة الكفار، أما إذا ظنه ولم يعهده حربيا فإنه القصاص قطعا بخلاف ما إذا كان بدار الحرب فإنه يكفي ظن كونه
حربيا. وإذا لم نوجب القصاص فهل تجب الدية مغلظة أو مخففة على العاقلة؟ قولان بلا ترجيح في الروضة وأصلها
أظهرهما عند الإمام الأول. (أو) قتل (من عهده مرتدا أو ذميا أو عبدا، أو) قتل من (ظنه قاتل أبيه فبان خلافه) أي
إسلامه أو حريته أو عدم قتله لأبيه، (فالمذهب وجوب القصاص) عليه نظرا إلى ما في نفس الامر، لأنه قتله عمدا
عدوانا، والظن لا يبيح القتل. أما في الذمي ونحوه والعبد فظاهر، وأما في المرتد فقال الرافعي: لأن قتله إلى الإمام
وقضيته أنه لا يجب القصاص على الإمام، والمعتمد إطلاق المتن إذ كان من حقه التثبت، وأما في الأخيرة فلان من
حقه التثبت وليس معه ما يستصحبه. وفيما عدا الأولى قول بعدم الوجوب طرد في الأولى، وفيما عدا الأخيرة
طريق قاطع بالوجوب بحث الرافعي مجيئه في الأخيرة.
تنبيه: قوله: عهده يقتضي أنه إذا ظنه مرتدا أو ذميا أو عبدا من غير أن يعهد كذلك وجوب القصاص قطعا
، وهو كذلك، وإن حكى الإمام فيما إذا ظنه ذميا أو عبدا من غير عهد قولين. ومحل الخلاف فيما إذا كان القاتل حرا
مسلما، أما إذا كان عبدا أو ذميا فإنه يجب القصاص قطعا. (ولو ضرب مريضا جهل مرضه ضربا يقتل) مثله (المريض)
لا الصحيح فمات منه، (وجب القصاص) على الضارب في الأصح، لأن جهله لا يبيح له الضرب.
تنبيه: يؤخذ من التعليل أن كل صورة أبحنا له فيها الضرب كالزوج والمعلم إذا ضرب تأديبا ضربا لا يقتل الصحيح
وهو جاهل بالمرض لا يجب القصاص، وهو كذلك كما في الوسيط وغيره خلافا لما أطلقه المصنف كالمحرر. (وقيل
لا) يجب قصاص، لأن ما أتى به ليس بمهلك عنده. واحترز بقوله: جهل عما لو علم فيجب القصاص جزما، وبقوله
: يقتل المريض عما لو كان يقتل الصحيح فيجب قطعا. ثم شرع في القسم الأول وهو الأركان، وقد مر شرط القتل،
وأما القتيل فيشترط كونه معصوما، وأما القاتل فيشترط كونه مكلفا، وقد بدأ بالأول وهو الركن الثاني، فقال: (ويشترط
لوجوب القصاص) أو الدية (في) نفس (القتيل) أو طرفه العصمة بأن يوجد منه (إسلام) لخبر مسلم: أمرت أن
أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها. (أو أمان) بعقد
ذمة أو عهد، أو أمان مجرد لقوله تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) * إلى قوله: * (حتى يعطوا الجزية) *، ولقوله تعالى: * (وإن
أحد من المشركين استجارك فأجره) * الآية.
تنبيه: كان الأولى أن يعبر المصنف بوجوب الضمان ليشمل الدية كما قدرتها في كلامه. ويشترط مع الاسلام
والأمان كما قال البلقيني أن لا يكون صائلا ولا قاطع طريق لا يندفع شره إلا بالقتل، وإلا فهو غير معصوم في تلك الحالة
مع أنه مسلم. وأورد في المهمات على الحصر في الاسلام والأمان ضرب الرق على الأسير فإنه يصير معصوما بذلك
، ورده البلقيني بأنه صار بالرق مالا للمسلمين، وما لهم في أمان فهو داخل في قول المصنف: أو أمان. وإذا شرطنا الاسلام
14

والأمان (فيهدر الحربي والمرتد) أما الأول فلعموم قوله تعالى: * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) *، وأما الثاني فلقوله
صلى الله عليه وسلم: من بدل دينه فاقتلوه والمراد إهداره في حق المسلم. أما في حق ذمي أو مرتد فسيأتي. (ومن عليه
قصاص) فهو معصوم على غير المستحق (كغيره) فإذا قتله غير المستحق اقتص منه، لقوله تعالى: * (ومن قتل مظلوما
فقد جعلنا لوليه سلطانا) * فخص وليه بقتله، فدل على أن وليه لا سلطان له عليه.
تنبيه: محل هذا فيمن لم يتحتم قتله، أما إذا تحتم قتله لقطع طريق فإن الصحيح أنه يقتل قصاصا. ولو قتله غير
المستحق لا يقتل به إلا إن كان مثله. (والزاني) المسلم (المحصن إن قتله ذمي قتل به) لأنه لا تسلط له على المسلم، وإذا
كان الذمي يقتل به فالمرتد والمعاهد والمؤمن بالأولى. وخرج بقيد المسلم ما لو كان المحصن ذميا، فإن الذمي
غير الزاني
المحصن لا يقتل به كما قال البلقيني، فإن كان مثله قتل به. (أو) قتله (مسلم) غير زان محصن (فلا) يقتل به (في
الأصح) المنصوص في الام لاستيفائه حد الله تعالى. والثاني: يجب القصاص، لأن الاستيفاء للام، فأشبه ما لو قتل من
عليه القصاص غير مستحقه. وعلى الأول لا فرق بين أن يقتله قبل أمر الإمام بقتله أم لا، ولا بين أن يثبت زناه بالبينة
أم لا، ولا بين أن يكون قبل رجوعه عن الاقرار أم لا. ووقع في تصحيح التنبيه للمصنف أن ذلك فيما إذا ثبت زناه
بالبينة، فإن ثبت بالاقرار قتل به. أما المسلم الزاني المحصن إذا قتله فإنه يقتل به، أو تارك الصلاة عمدا بعد أمر الحاكم بها
كالزاني ثم شرع في الركن الثالث وهو القاتل، فقال: (و) يشترط (في القاتل) المحصن تكليف، وهو (بلوغ وعقل)
فلا قصاص على صبي ومجنون، لخبر: رفع القلم عن ثلاث.
تنبيه: محله في المجنون إذا كان الجنون مطبقا، أما المتقطع فينظر إن كان في زمن إفاقته فهو كالعاقل الذي لا جنون
به، وإن كان في زمن جنونه فهو كالمجنون الذي لا إفاقة له. (والمذهب وجوبه) أي القصاص (على السكران) المتعدي
بسكره، لأنه مكلف عند غير المصنف، ولئلا يؤدي إلى ترك القصاص، لأن من رام القتل لا يعجز أن يسكر حتى
لا يقتص منه. وهذا كالمستثنى من شرط العقل، وهو من قبيل ربط الأحكام بالأسباب. وألحق به من تعدى بشرب
دواء مزيل للعقل. أما غير المتعدي فهو كالمعتوه فلا قصاص عليه. (ولو قال: كنت يوم القتل صبيا أو مجنونا) وكذبه
ولي المقتول، (صدق) القاتل (بيمينه إن أمكن الصبا) وقت القتل (وعهد الجنون) قبله، لأن الأصل بقاؤهما، بخلاف
ما إذا لم يمكن صباه ولم يعهد جنونه. ولو قامت بينة بجنونه وأخرى بعقله ولم يعلم حاله قبل ذلك أو علم حاله وكانت
البينتان مقيدتين بحالة الموت تعارضتا، أو لو اتفق ولي المقتول والقاتل على زوال عقله لكن الولي يقول: بسكر تعدى
فيه، والقاتل: بجنون، صدق القاتل كما أطلقاه. (ولو قال) القاتل (أنا) الآن (صبي) وأمكن (فلا قصاص) عليه
(ولا يحلف) أنه صبي، لأن التحليف لاثبات صباه، ولو ثبت لبطلت يمينه، ففي تحليفه إبطال لتحليفه، وسيأتي
هذا في الدعوى والبينات مع زيادة. (ولا قصاص) ولا دية (على حربي) قتل حال حرابته، وإن عصم بعد ذلك بإسلام
أو عقد ذمة، لما تواتر من فعله صلى الله عليه وسلم والصحابة بعده من عدم القصاص ممن أسلم، كوحشي قاتل حمزة
رضي الله تعالى عنه، ولعدم التزامه الأحكام. (ويجب) القصاص (على المعصوم) بإيمان أو أمان من غير
تأويل لالتزامه
الأحكام، أما بالتأويل بأن قتل البغاة من أهل العدل في حال الحرب فلا ضمان عليهم كما سيأتي.
تنبيه: عبارة المحرر: ويجب على الذمي، فعدل عنها المصنف إلى المعصوم لعمومها، وزاد عليه قوله: (و) على
(المرتد) لأجل تعبيره بالمعصوم لئلا يرد على المفهوم فإنه غير معصوم، وإنما أوجبنا عليه القصاص لبقاء علقة الاسلام فيه.
15

تنبيه: محله في المرتد إذا لم يكن له شوكة وقوة، وإلا ففيه قولان أظهرهما عند البغوي الضمان وهو الظاهر،
وظاهر تعبير الشرح الصغير يقتضي ترجيح المنع. (و) يشترط أيضا في القاتل (مكافأة) بالهمز، وهي مساواته للقتيل بأن
لم يفضله بإسلام أو أمان أو حرية أو أصلية أو سيادة، ويعتبر حال الجناية، وحينئذ (فلا يقتل مسلم) ولو زانيا محصنا
(بذمي) لخبر البخاري: ألا لا يقتل مسلم بكافر قال ابن المنذر: ولم يصح عن النبي (ص) خبر يعارضه،
ولأنه لا يقاد المسلم بالكافر فيما دون النفس بالاجماع كما قاله ابن عبد البر، فالنفس بذلك أولى.
تنبيه: لو عبر المصنف بالكافر كان أولى لموافقة لفظ الحديث ولشموله من لم تبلغه الدعوة، فإن المسلم لا يقتل
به على الأصح، لكنه إنما ذكر الذمي لينبه على خلاف الحنفية، فإنهم يقولون: إن المسلم يقتل به، وحملوا الكافر في
الحديث على الحربي لقوله بعد: ولا ذو عهد في عهده وذو العهد يقتل بالمعاهد ولا يقتل بالحربي لتوافق المتعاطفين.
وأجيب عن حملهم على ذلك بأن قوله (ص): لا يقتل مسلم بكافر يقتضي عموم الكافر فلا يجوز تخصيصه بإضمار،
وقوله: ولا ذو عهد كلام مبتدأ، أي لا يقتل ذو العهد لأجل عهده. وبأنه لو كان كما قالوه لخلا عن الفائدة لأنه
يصير التقدير: لا يقتل المسلم إذا قتل كافرا حربيا، ومعلوم أن قتله عبادة فكيف يعقل أنه يقتل به. (ويقتل ذمي به) أي
المسلم لشرفه عليه. (و) يقتل أيضا (بذمي وإن اختلفت ملتهما) فيقتل يهودي بنصراني ومعاهد ومستأمن ومجوسي
وعكسه، لأن الكفر كله ملة واحدة من حيث أن النسخ شمل الجميع، وإن اقتضت عبارة المتن أنه ملل إلا أن يريد
اختلاف ملتهما بحسب زعمهما. (فلو أسلم) الذمي (القاتل) كافرا مكافئا له، (لم يسقط القصاص) لتكافئهما حالة الجناية،
لأن الاعتبار في العقوبات بحال الجناية ولا نظر لما يحدث بعدها، وذلك إذا زنى الرقيق أو قذف ثم عتق يقام عليه حد
الأرقاء. فإن قيل: في هذا قتل مسلم بكافر وقد منعتم من ذلك. أجيب بالمنع، بل هو قتل كافر بكافر إلا أن الموت تأخر
عن حال القتل. ومنهم من حمل عليه حديث أنه صلى الله عليه وسلم قتل يوم خيبر مسلما بكافر وقال: أنا أكرم من وفى بذمته
رواه أبو داود في مراسيله. ويقتل رجل بامرأة وخنثى كعكسه، وعالم بجاهل كعكسه، وشريف بخسيس، وشيخ
بشاب كعكسهما، لأنه صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن: أن الذكر يقتل بالأنثى رواه النسائي وصححه
ابن حبان والحاكم. وقيس بما فيه البقية. (ولو جرح ذمي) أو نحوه (ذميا) أو نحوه (وأسلم الجارح ثم مات المجروح)
بسراية تلك الجراحة، (فكذا) لا يسقط القصاص في النفس (في الأصح) للتكافؤ حالة الجرح المفضي إلى
الهلاك. وإنما اعتبرت لأنها حالة الفعل الداخل تحت الاختيار ولهذا لو جرح الجارح ومات المجروح وجب القصاص.
والثاني: يسقط نظرا في القصاص إلى المكافأة وقت الزهوق. وكما لا يسقط القصاص لا تسقط الكفارة كالديون اللازمة
في الكفر.
تنبيه: قد علم من تعليل الثاني أن محل الخلاف إذا لم يسلم المجروح، فإن أسلم ثم مات وجب القصاص قطعا.
ومحله أيضا في قصاص النفس، أما لو قطع طرفا ثم أسلم القاطع ثم سرى وجب قصاص الطرف قطعا. (وفي الصورتين)
وهما إسلام القاتل بعد قتله أو جرحه لا يقتص له وارثه الكافر، بل (إنما يقتص) له (الإمام) لكن (بطلب الوارث)
ولا يفوضه إليه تحرزا من تسليط الكافر على المسلم، فإن أسلم فوض إليه لزوال المانع. أما إذا لم يطلب
فليس للإمام أن يقتص وإن كان هو الوارث فله أن يقتص. (والأظهر قتل مرتد) انتقل من إسلام إلى كفر (بذمي)
ومستأمن ومعاهد سواء عاد إلى الاسلام أم لا كما قاله في الام لاستوائهما في الكفر، بل المرتد أسوأ حالا من الذمي لأنه
مهدر الدم ولا تحل ذبيحته ولا مناكحته ولا يقر بالجزية، فأولى أن يقتل بالذمي الثابت له ذلك، أي غالبا، وإلا فقد
يتخلف عنه بعضها كالمجوسي إذا عقدت له الذمة. والثاني: لا يقتل به لبقاء علقة الاسلام في المرتد. ويؤخذ من التعليل
16

أن المرتد من التهود إلى التنصر أو عكسه يقتل بالذمي قطعا، وهو كذلك كما قاله الزركشي. (و) الأظهر أيضا قتل مرتد
(بمرتد) لتساويهما كما لو قتل الذمي ذميا، والثاني: لا، لأن المقتول مباح الدم.
تنبيه: ما اقتضاه كلامه من أن الخلاف قولان كما قدرته في كلامه هو الصواب، فقد نص عليهما في الام وإن نقلاه
في الشرحين والروضة وجهين. (لا ذمي) بالجر بخطه: أي أو نحوه فلا يقتل. (بمرتد) في الأظهر لما مر والثاني يقتل به
لما مر أيضا، وحكى الجمهور الخلاف في هذه وجهين، ويقتل المرتد بالزاني المسلم المحصن كما يقتل بالذمي، ولا يقتل
زان محصن به لاختصاصه بفضيلة الاسلام، ولخبر لا يقتل مسلم بكافر.
تنبيه: يقدم قتل المرتد بالقصاص الواجب عليه على قتله بالردة لأنه حق آدمي، فإن عفا على مال أخذ من تركته
وقتل بالردة، ولا دية لمرتد وإن قتله مثله كما جزم به ابن المقري لأنه لا قيمة لدمه، وقيل تجب وهل هي دية مسلم لبقاء
علقة الاسلام وأخس الديات؟ وجهان أصحهما الثاني (ولا يقتل حر بمن فيه رق) وإن قل لقوله تعالى: * (الحر بالحر
والعبد بالعبد) * فاقتضى الحصر أن لا يقتل حر بعبد، ولخبر البيهقي لا يقاد حر بعبد وللاتفاق أنه لا يقطع طرف حر
بطرف عبد، فأولى أن لا يقتل به لأن حرمة النفس أعظم من حرمة الأطراف، وسواء في ذلك المكاتب والمدبر وأم
الولد وعبده وعبد غيره. وأما خبر من قتل عبده قتلناه، ومن جدع أنفه جدعناه، ومن خصاه خصيناه الذي
استدل به النخعي وأبو حنيفة وداود لقتل السيد بعبده فمنقطع، وقال البيهقي إنه منسوخ، وابن المنذر ليس بثابت،
وإن صح فمحمول على ما إذا أعتقه ثم قتله، فيفيد أن تقدم الملك لا يمنع ذلك.
فائدة: حكى الروياني: أن بعض فقهاء خراسان سئل في مجلس أميرها عن قتل الحر بالعبد، فقال: أقدم حكاية ثم
قال: كنت في أيام تفقهي ببغداد نائما ذات ليلة على شاطئ دجلة فسمعت ملاحا يترنم ويقول:
خذوا بدمي هذا الغزال فإنه رماني بسهمي مقلتيه على بعد
ولا تقتلوه إنني أنا عبده ولم أر حرا قط يقتل العبد
فقال الأمير: حسبك فقد أغنيت عن الدليل. قال الثعالبي: وكان أبو الحسن الماسرخسي ينشد في تدريسه
هذين البيتين.
تنبيه: لو قتل الحر المسلم شخصا لا يعلم أنه مسلم أو كافر ولا أنه حر أو عبد فلا قصاص للشبهة كذا نقلاه عن
صاحب البحر وأقراه، فإن قيل هذه المسألة مثل مسألة اللقيط سواء، وقد صححا فيها وجوب القصاص بقتله قبل البلوغ
وعللوه بأن الدار دار حرية وإسلام ولا يظهر بين المسألتين فرق. أجيب بأن محل ما هنا في قتله بدار الحرب وما هناك
في قتله بدارنا بقرينة تعليلهم وجوب القصاص فيه بأن الدار دار حرية وإسلام. وأجاب بعضهم بأن ما هنا محله إذا لم يكن
له ولي يدعي الكفاءة، وإلا فهي مسألة اللقيط، وبعضهم بأن صورة اللقيط علم فيها التقاطه فجرى عليه حكم الدار،
وصورة البحر لم يعلم التقاطه حتى يجري عليه حكم الدار، وإنما نص المصنف على البعض ليعلم منه حكم كامل الرق من
باب أولى. (ويقتل قن ومدبر ومكاتب وأم ولد بعضهم ببعض) ولو كان المقتول لكافر والقاتل لمسلم للتساوي في الملك
ولا نظر إلى ما انعقد لهؤلاء من سبب الحرية، وإنما المؤثر الحرية الناجزة.
تنبيه: استثنى المكاتب إذا قتل عبده لا يقتل به كما لا يقتل الحر بعبده، ولو كان المقتول أباه على الأصح في الروضة
خلافا لما في الشرح الصغير لأنه مملوكه والسيد لا يقتل بمملوكه (ولو قتل عبد عبدا ثم
عتق القاتل، أو) جرح عبد عبدا ثم (عتق) الجارح (بين الجرح والموت فكحدوث الاسلام) لذمي قتل أو جرح. وحكمه كما سبق وهو عدم سقوط القصاص
في القتل جزما، وكذا في الجرح على الأصح. ولو أسلم الذمي أو عتق الرقيق عقب إرسال المسلم في الأول والحر في الثاني
سهما، وقبل الإصابة لا قصاص لأنه لم يساوه من أول الفعل.
17

تنبيه: لو قتل شخص عبدا من ثلاثة عتق أحدهم مبهما، ثم خرجت قرعة العتق على المقتول بان أنه قتل حرا
وكانت ديته لورثته وهل يجب على قاتله قصاص؟. قال القاضي: ظاهر المذهب لا، بخلاف ما لو قال لعبده: أنت حر
قبل جرح فلان إياك بيوم مثلا، فإذا جرحه وسرى إلى النفس ومات فالصحيح وجوب القصاص، وحكى
الرافعي
ذلك في باب العتق عن بعض الأصحاب وجزم به في التتمة. (ومن بعضه حر لو قتل مثله) أي مبعضا سواء ازدادت حرية
القاتل على حرية المقتول أم لا حرية بجزء رق وهو ممتنع (وقيل إن لم تزد حرية القاتل وجب) القصاص سواء أتساويا
أم كانت حرية المقتول أكثر لتساويهما في الحرية والرق في الصورة الأولى، ولأنه في الثانية مفضول والمفضول يقتل
بالفاضل، وأصل الخلاف قولا الحصر والإشاعة. أما إذا كانت حرية القاتل أكثر فلا قصاص قطعا لانتفاء المساواة
ولم يرجح في الروضة وأصلها شيئا من الوجهين، بل قالا إن الأول أصح عند المتأخرين، والثاني أشهر عند المتقدمين،
وإذا لا يحسن التعبير بقيل، بل التعبير بالأصح لقوة الخلاف، والفضيلة في شخص لا تجبر النقص فيه (و) لهذا قال
المصنف (لا قصاص) واقع (بين عبد مسلم وحر ذمي) لأن المسلم لا يقتل بالذمي والحر لا يقتل بالعبد، ولا تجبر فضيلة كل
منهما نقيصته، ولو قتل ذمي عبدا ثم نقض العهد واسترق لا يجوز قتله وإن صار كفؤا له، لأن الاعتبار بوقت الجناية
ولم يكن مكافئا له (ولا) قصاص (بقتل ولد) للقاتل (وإن سفل) لخبر الحاكم والبيهقي وصححاه لا يقاد للابن من أبيه
ولرعاية حرمته، ولأنه كان سببا في وجوده فلا يكون سببا في عدمه.
تنبيه: لو حكم حاكم بقتل الحر بالعبد، أو الأصل بالفرع نقض حكمه في الثاني دون الأول إلا إن أضجع الأصل
فرعه وذبحه فلا ينقض حكمه لقول مالك بوجوب القصاص، وشمل كلام المصنف الأب والام والأجداد والجدات
وإن علوا من قبل الام والأب جميعا، لأن الحكم يتعلق بالولادة فاستوى فيه من ذكر كالنفقة، وذكره الولد في مسائل
الكفاءة يوهم أن الولد لا يكافئ أباه، وصرح به بعضهم. لكن قال في البسيط إنه فاسد، واستدل بأن الولد يكافئ
العم وعمه يكافئ أباه ومكافئ المكافئ مكافئ. قال ابن الرفعة: وقوله (ص) المسلمون تتكافأ دماؤهم
يدل عليه وهل يقتل بولده المنفي باللعان؟ وجهان، ويجريان في القطع بسرقة ماله وقبول شهادته له. قال الأذرعي:
والأشبه أنه يقتل به ما دام مصرا على النفي اه‍. والأوجه أنه لا يقتل به مطلقا للشبهة كما قاله غيره. (ولا) قصاص (له) أي
الولد على الوالد كأن قتل زوجة نفسه وله منها ولد، أو قتل زوجة ابنه، أو لزمه قود فورث بعضه ولده كأن قتل أبا
زوجته ثم ماتت الزوجة وله منها ولد لأنه إذا لم يقتل بجنايته على ولده فلان لا يقتل بجنايته على من له في قتله حق أولى
(ويقتل) الولد (بوالديه) بكسر الدال بخطه على لفظ الجمع وإن علوا: أي بكل واحد منهم كغيرهم بل أولى وتقتل
المحارم بعضهم ببعض. وقد صرح به في المحرر وأسقطه المصنف لأنه مفهوم مما ذكر.
تنبيه: يستثنى من إطلاق المصنف ما إذا قتل المكاتب أباه وهو يملكه كما مر، وما إذا ورث القاتل القصاص كما
سيأتي ويقتل العبد بعبد لوالده ولا يقتل الولد المسلم بالوالد الكافر. (ولو تداعيا) قتيلا (مجهولا) نسبه (فقتله
أحدهما)
قبل تبين حاله فلا قصاص في الحال لأن أحدهما أبوه، وقد اشتبه الامر فهو كما لو اشتبه طاهر بنجس لا يستعمل أحدهما
بغير اجتهاد بل يعرض على القائف (فإن ألحقه القائف بالآخر اختص) الآخر لثبوت أبوته وانقطاع نسبه عن القاتل، فلو
اشتركا في قتله وألحقه القائف بأحدهما اقتص من الآخر لأنه شريك الأب (وإلا) بأن لم يلحقه القائف بالآخر (فلا) يقتص
لعدم ثبوت الأبوة. وأورد على مفهومه ما لو ألحقه بغيرهما فإنه يجب القصاص مع أنه يصدق أنه لم يلحقه بالآخر. وهو
ظاهر إن قرئ أقتص بضم الهمزة، فإن قرئ بكسرها فلا يرد.
18

تنبيه: كلامه قد يفهم أنه لو رجع القاتل عن الاستلحاق أنه لا يقتص الآخر منه، وليس مرادا بل يقتص منه
ولو رجعا عن تنازعهما لم يقبل رجوعهما لأنه صار ابنا لأحدهما، وفي قبول الرجوع إبطال حقه من النسب هذا إن
لم يكن لحوق الولد بأحدهما بالفراش بل بالدعوى كما هو الفرض. أما إذا كان بالفراش كأن وطئت امرأة بنكاح أو شبهة في عدة من نكاح
وأتت بولد وأمكن كونه من كل منهما فلا يكفي رجوع أحدهما في لحوق الولد بالآخر، وإنما
يلحق به بالقائف ثم بانتسابه إليه إذا بلغ. (ولو قتل أحد أخوين) شقيقين حائزين للميراث (الأب، و) قتل (الآخر
الام) وكان زهوق روحهما (معا) سواء أكان بينهما زوجية أم لا (فلكل) منهما (قصاص) على أخيه الآخر
لأنه قتل مورثه، هذا يقتص بأبيه، وهذا بأمه، ولا يرث كل قاتل من قتيله شيئا، والمعية والترتيب الآتي بزهوق الروح
لا بالجناية، وتعبير المصنف بالقتل يشير إليه، فلو عفا أحدهما عن الآخر كان للمعفو عنه قتل العافي (و) إن لم يعف واحد
منهما أو تنازعا في التقديم للقصاص فإنه (يقدم) له (بقرعة) إذ لا مزية لأحدهما على الآخر، ويصح التوكيل في
القصاص لمن خرجت قرعته لأنه يقتص له في حياته دون من لم تخرج قرعته، لأن الوكالة تبطل بقتله، فلو وكل كل
منهما وكيلا قبل القرعة ليقتص له صح ثم يقرع بين الوكيلين، وحين يقتص من أحدهما ينعزل وكيله، لأن الوكيل
ينعزل بموت موكله. قال البلقيني: فلو اقتص الوكيلان معا فهل يقع الموقع؟ لم أقف فيه على نقل، والظاهر أن قتلهما وقع
وهما معزولان من الوكالة، لأن شرط دوام استحقاق الموكل قتل من وكل في قتله أن يبقى عند قتله حيا وهو مفقود في
ذلك. أي فلا يقع الموقع فيجب على كل منهما دية ولا قصاص عليها كالوكيل إذا اقتص جاهلا بعد عفو الموكل، فإن
لم يتنازعا بل طلب أحدهما القصاص دون الآخر أجيب الطالب.
تنبيه: استثنى البلقيني من اشتراط القرعة صورتين. إحداهما إذا قطع كل منهما من مقتوله عضوا وماتا بالسراية
معا، فلكل منهما طلب قطع عضو الآخر حالة قطع عضوه. ثانيتهما لو قتلاهما معا في قطع الطريق، فللإمام إن يقتلهما
معا لأنه حد وإن غلب فيه معنى القصاص، لكنه لا يتوقف على الطلب (فإن اقتص بها) أي القرعة (أو) اقتص
(مبادرا) بلا قرعة (فلوارث المقتص منه قتل المقتص) بالقرعة أو المبادرة (إن لم نورث قاتلا بحق) وهو الأصح
كما سبق في كتاب الفرائض، أو ورثناه على المرجوح وكان هناك من يحجبه كأن يكون لذلك الأخ ابن، فإن ورثناه
ولم يكن هناك من يحجبه سقط القصاص عنه، لأنه ورث القصاص المستحق على نفسه أو بعضه (وكذا إن قتلا)
أي الاخوان (مرتبا) بأن تأخر زهوق روح أحدهما (ولا زوجية) حينئذ بين الأبوين، فلكل منهما حق
القصاص على الآخر.
تنبيه: قضية كلامه أنه يقدم بالقرعة، وهو ما اعتمده البلقيني. ولكن الراجح كما نقله الإمام عن الأصحاب أنه
يبدأ بالقاتل الأول لتقدم سببه مع تعلق الحق بالعين، ولا يصح توكيل القاتل الأول في قتل أخيه لأنه إنما يقتل بعد
قتله وبقتله تبطل الوكالة، هذا ما نقله الروياني عن الأصحاب وهو المعتمد. ثم قال: وعندي أن توكيله صحيح، ولهذا
لو بادر وكيله فقتل لم يلزمه شئ. لكن إذا قتل موكله بطلت الوكالة.
فرع: لو علم سبق دون عين السابق، فمقتضى كلامه التوقف إلى البيان، ويحتمل أن يقرع، والأول أظهر.
(وإلا) بأن كانت الزوجية باقية بين الأبوين (فعلى) أي فالقصاص على القاتل (الثاني فقط) أي دون الأول لأنه
إذا سبق قتل لم يرث منه قاتله ويرثه أخوه والام، وإذا قتل الآخر الام ورثها الأول فتنتقل إليه حصتها من القصاص
ويسقط باقيه ويستحق القصاص على أخيه، ولو سبق قتل الام سقط القصاص عن قاتلها واستحق قتل أخيه.
(فروع: الأول) إخوة أربعة قتل الثاني أكبرهم ثم الثالث أصغرهم ولم يخلف القتيلان غير القاتلين، فللثاني أن
19

يقتص من الثالث، ويسقط القصاص عنه لما ورثه من قصاص نفسه، وذلك لأنه لما قتل الأكبر صار القصاص للثالث
والأصغر، فإذا قتل الثالث الصغير ورث الثاني ما كان الأصغر يستحقه. الثاني: من استحق قتل من يستحق قتله
كأن قتل زيد ابنا لعمرو وعمرو ابنا لزيد وكل منهما منفرد بالإرث كان لكل منهما القصاص على الآخر، لأن التقاص
لا يجوز في القصاص. الثالث: لو شهد اثنان على أبيهما بقتل قبلت شهادتهما وقتل بها لانتفاء التهمة بل ذلك أبلغ في
الحجة وقيل لا تقبل الشهادة لنرتب القتل عليها كما أنه لا يقتل بقتل ولده. (ويقتل الجمع بواحد) وإن تفاضلت جراحاتهم
في العدد والفحش والأرش سواء أقتلوه بمحدد أم بغيره كأن ألقوه من شاهق أو في بحر - لما روى مالك أن عمر رضي الله
تعالى عنه قتل نفرا خمسة أو سبعة برجل قتلوه غيلة: أي حيلة - بأن يخدع ويقتل في موضع لا يراه فيه أحد، وقال:
لو تمالا: أي اجتمع عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعا، ولم ينكر عليه أحد فصار ذلك إجماعا، ولان القصاص عقوبة تجب
على الواحد فيجب للواحد على الجماعة كحد القذف، ولأنه شرع لحقن الدماء فلو لم يجب عند الاشتراك لكان
كل من
أراد أن يقتل شخصا استعان بآخر على قتله واتخذ ذلك ذريعة لسفك الدماء لأنه صار آمنا من القصاص.
تنبيه: إنما يعتد في ذلك بجراحة كل واحد منهم إذا كان مؤثرة في زهوق الروح فلا عبرة بخدشة خفيفة،
والولي يستحق دم كل شخص بكماله، إذ الروح لا تتجزأ، ولو استحق بعض دمه لم يقتل، وقيل البعض بدليل أنه
لو آل الامر إلى الدية لم يلزمه شئ إلا بالحصة، ولكن لا يمكن استيفاؤه إلا بالجميع، فاستوفى لتعذره، وأبطل الإمام
القياس على الدية بقتل الرجل المرأة، فإن دمه مستحق فيها وديتها على النصف (وللولي العفو عن بعضهم على حصته
من الدية) وعن جميعهم على الدية. ثم إن كان القتل بجراحات وزعت الدية (باعتبار) عدد (الرؤوس) لأن تأثير
الجراحات لا ينضبط، وقد تزيد نكاية الجرح الواحد على جراحات كثيرة، وإن كان بالضرب فعلى عدد الضربات،
لأنها تلاقي الظاهر ولا يعظم فيها التفاوت بخلاف الجراحات.
تنبيه: من اندملت جراحته قبل الموت لزمه مقتضاها دون قصاص النفس، لأن القتل هو الجراحة السارية،
ولو جرحه اثنان متعاقبان وادعى الأول اندمال جرحه وأنكره الولي ونكل وحلف مدعي الاندمال سقط عنه قصاص
النفس، فإن عفا الولي عن الآخر لم يلزمه إلا نصف الدية، إذ لا يقبل قول الأول عليه إلا أن تقوم بينة بالاندمال
فيلزمه كمال الدية.
قاعدة: لا يقتص من شريك مخطئ أو شبه عمد، ويقتص من شريك من امتنع قوده لمعنى فيه إذا تعمدا
جميعا. وقد شرع في القسم الأول بقوله: (ولا يقتل شريك مخطئ وشبه عمد) لأن الزهوق حصل بفعلين: أحدهما
يوجبه والآخر ينفيه فغلب المسقط، كما إذا قتل المبعض رقيقا وفهم من نفيه القتل وجوب الدية فيجب على عاقلة غير
المعتمد نصف الدية مخففة أو مثقلة، وعلى المعتمد نصفها مغلظة سواء تعدد الجارح كما هنا أم اتحد كما سيأتي، واستثنى
الزركشي والدميري وابن قاسم ما لو قطع شخص طرف رجل عمدا ثم قطع آخر طرفه الثاني خطأ ثم سرى إلى نفسه
ومات فعلى المعتمد القصاص وهو ممنوع، فإن شريك المخطئ لا قصاص عليه. فإن قيل: إنه يقتص من المعتمد في
الطرف ولا قصاص على الطرف قاطع الآخر خطأ ولا قصاص عليهما في النفس للسراية إليها بجنايتين إحداهما خطأ
والأخرى عمد. أجيب بأن هذا ممنوع أيضا، لأنهم استثنوا ذلك من قول المصنف ولا يقتل شريك مخطئ، وأما
قصاص الطرف فهو ظاهر معلوم من كلامه فيما مر. ثم شرع في القسم الثاني من القاعدة المتقدمة بقوله (ويقتل
شريك الأب) في قتل ولده، وعلى الأب نصف الدية مغلظة، وفارق شريك الأب شريك المخطئ بأن الخطأ شبهة
في فعل الخاطئ والفعلان مضافان إلى محل واحد فأورث شبهة القصاص كما لو صدر من واحد وشبهة الأبوة في ذات
الأب لا في الفعل وذات الأب متميزة عن ذات الأجنبي فلا تورث شبهة في حقه (و) يقتل (عبد شارك حرا في)
20

قتل (عبد، و) يقتل (ذمي شارك مسلما في) قتل (ذمي) ونحوه، لأن كلا من العبد والذمي لو انفرد اقتص منه
فإذا شاركه في العمدية من لا يقتص منه لمعنى فيه وجب أيضا، كما لو رمى اثنان سهما إلى واحد ومات أحدهما قبل
الإصابة فإنه يجب القصاص على الآخر. وكما لو كانا عامدين فعفا الولي عن أحدهما (وكذا) يقتل (شريك حربي) في
قتل مسلم (و) كذا شريك (قاطع قصاصا أو) قاطع (حدا) كأن جرحه بعد القطع المذكور غير القاطع ومات بالقطع
والجرح (و) كذا يقتل (شريك) جارح (النفس) كأن جرح الشخص نفسه وجرحه غيره فمات بهما (و) كذا
شريك (دافع الصائل) كأن جرحه بعد دفع الصائل فمات بهما، وكذا يقتل شريك صبي ومميز ومجنون له نوع تمييز في
قتل من يكافئه، وكذا يقتل شريك السبع والحية القاتلين غالبا في قتل من يكافئه، وكذا يقتل عبد شارك سيدا في قتل
عبده (في الأظهر) لحصول الزهوق فيما ذكر بفعلين عمدين وامتناع القصاص على الآخر لمعنى يخصه فصار كشريك
الأب، والثاني لا يقتل في الصور المذكورة لأنه شريك من لا يضمن، فهو أخف حالا من شريك الخاطئ الذي فعله
مضمون بالدية، فإذا لم توجب القصاص على شريكه فهنا أولى، ويفارق شريك الأب بأن فعله مضمون بخلافه هنا.
تنبيه: ما تقرر في مسألة شريك السبع والحية هو ما في الروضة وأصلها، ووقع في تصحيح التنبيه للمصنف أنه
لا يقتص منه مطلقا، وجرى عليه صاحب الأنوار، والأول هو ما نص عليه الشافعي في الام، ولو جرحه شخص خطأ
ونهشته حية وسبع ومات من ذلك لزمه ثلث الدية، كما لو جرحه ثلاثة نفر، وخرج بالخطأ العمد فيقتص من صاحبه كما
مر. (ولو جرحه) أي واحد شخصا (جرحين عمدا أو خطأ) بالنصب على البدلية من جرحين (ومات بهما، أو) جرحه
جرحين مضمونا وغير مضمون كمن (جرح حربيا أو مرتدا) أو عبد نفسه أو صائلا (ثم أسلم) المجروح أو عتق العبد،
أو رجع الصائل (وجرحه) أي من ذكر بعد ذلك (ثانيا ومات بهما) بالجرحين، أو جرح شخصا بحق كقصاص وسرقة
ثم جرحه عدوانا، أو جرح حربيا مثلا ثم أسلم في جرحه ثانيا فمات بالسراية (لم يقتل) ذلك الواحد أما في الأولى فلان
الزهوق لم يحصل بالعمد المحض فيجب نصف الدية المخففة على عاقلته ونصف الدية المغلظة في ماله، وأما في باقي الصور
فلان الموت حصل بمضمون وغير مضمون فغلب مسقط القصاص كما مر ويثبت موجب الجرح الثاني من
قصاص وغيره
، ولو وقعت إحدى الجراحتين بأمره لمن لا يميز كان الحكم كذلك كما قاله الزركشي، لأنه كالآلة (ولو داوى) المجروح
ولو بنائبه (جرحه بسم مذفف) أي قاتل في الحال كأن شربه أو وضعه على الجرح (فلا قصاص) ولا دية (على جارحه)
في النفس لأن المجروح قتل نفسه فصار كما لو جرحه إنسان فذبح هو نفسه. أما الجرح فعلى الجارح ضمانه.
تنبيه: لو قال المصنف فلا ضمان في النفس كان أولى واستغنى عما قدرته في كلامه. وقضية إطلاقه أنه لا فرق
بين أن يعلم المجروح حال السم أو لا. وبه صرح الماوردي والروياني. (وإن لم يقتل) ذلك (السم غالبا فشبه) أي
فالمداواة به شبه (عمد) فلا قصاص على جارحه في النفس لأنه شريك لصاحب شبه عمد بل عليه نصف الدية المغلظة
والقصاص في الطرف إن اقتضاه الجرح (وإن قتل غالبا وعلم) المجروح (حاله فشريك جارح نفسه) في أصح الطريقين
وعليه القود في الأظهر كما سبق تنزيلا لفعل المجروح منزلة العمد (وقيل) هو (شريك مخطئ) لأنه قصد التداوي
فأخطأ فلا قود على شريكه. وهذه الطريقة الثانية فلم يرد المصنف هنا بقيل حكاية وجه، بل هو إشارة إلى هذه
الطريقة وإن كان في ذلك خفاء.
21

تنبيه: قضية توجيه الثاني أنه لو قصد قتل نفسه ليستريح من الألم مثلا كان شريك قاتل نفسه قطعا وهو كذلك،
واحترز بقوله وعلم حاله عما إذا لم يعلم فلا قصاص جزما، لأنه شريك مخطئ، ولو خاط المجروح جرحه في لحم حي
ولو تداويا خياطة تقتل غالبا، ففي القصاص الطريقان، بخلاف ما لو خاطه في لحم ميت فإنه لا أثر له ولا للجلد كما فهم
بالأولى لعدم الايلاء المهلك فعلى الجارح القصاص أو كمال الدية، ولو خاطه غيره بلا أمر منه اقتص منه ومن الجارح
وإن كان الغير إماما لتعديه مع الجارح، فإن خاطه الإمام لصبي أو مجنون لمصلحة فلا قصا ص عليه، بل تجب دية مغلظة
على عاقلته نصفها ونصفها الآخر في مال الجارح ولا قصاص عليه، ولو قصد المجروح أو غيره الخياطة في لحم ميت
فوقع في لحم حي فالجارح شريك مخطئ، وكذا لو قصد الخياطة في الجلد فوقع في اللحم، والكي فيما ذكر كالخياطة
فيه، ولا أثر لدواء لا يضر، ولا اعتبار بما على المجروح من قروح، ولا بما به من مرض وضنى. قال الرافعي: لأن
ذلك لا يضاف إلى أحد، ولا يدخل تحت الاختيار. (ولو) ضربوه بسياط مثلا (فقتلوه وضرب كل واحد) منهم لو انفرد
(غير قاتل ففي القصاص عليهم أوجه) أحدها يجب على الجميع القصاص كيلا يصير ذريعة إلى القتل. والثاني لا يجب على
واحد منهم لأن فعل كل واحد شبه عمد والثالث وهو (أصحها يجب) عليهم (إن تواطؤوا) أي اتفقوا على ضربه
تلك الضربات وكان ضرب كل واحد يؤثر في الزهوق بخلاف ما إذا وقع اتفاقا، بل تجب عليهم الدية باعتبار عدد
الضربات لأنها تلاقي ظاهر البدن فلا يعظم فيها التفاوت بخلاف الجراحات ويخالف الجراحات حيث لا يعتبر فيها
التواطؤ، لأن نفس الجرح يقصد به الاهلاك، بخلاف الضرب بالسوط، واحترز بقوله: وضرب كل واحد غير قاتل
عما لو كان قاتلا فإن عليهم القصاص مطلقا، ولو ضربه واحد ضربا يقتل كأن ضربه خمسين سوطا ثم ضربه الآخر سوطين
أو ثلاثة حال الألم من ضرب الأول عالما بضربه اقتص منهما لظهور قصد الاهلاك منهما، أو جاهلا به فلا قصاص
على واحد منهما لأنه لم يظهر قصد الاهلاك من الثاني والأول شريك، فعلى الأول حصة ضربه من دية العمد، وعلى
الثاني حصة ضربه من دية شبهه وإن ضرباه بالعكس فلا قصاص على واحد منهما، لأن ضرب الأول شبه عمد والثاني
شريكه، بل يجب على الأول حصة ضربه من دية شبه العمد، والثاني حصة ضربه من دية العمد (ومن قتل جمعا) أو
قطع أطرافهم مثلا (مرتبا قتل) أو قطع (بأولهم) إن لم يعف لسبق حقه.
تنبيه: شمل كلامه ما إذا كان القاتل حرا أو عبدا وهو كذلك. وقيل: إن كان عبدا قتل بجميعهم، فإن عفا
الأول قتل بالثاني وهكذا، والاعتبار في التقديم والتأخير بوقت الموت لا بوقت الجناية. (أو معا) أي دفعة كأن جرحهم
أو هدم عليهم جدارا فماتوا في وقت واحد أو أشكل أمر المعية والترتيب أو علم سبق ولم يعلم عين السابق فبالقرعة وجوبا.
وقيل: ندبا قطعا للنزاع فمن خرجت قرعته قتل أو قطع به، وليس لولي الثاني أن يجبر ولي الأول على المبادرة إلى
القصاص أو العفو بل حقه على التراخي (وللباقين) من المستحقين (الديات) لتعذر القصاص عليهم كما لو مات الجاني،
فإن اتسعت التركة لجميعهم فذاك وإلا قسمت بين الجميع بحسب استحقاقهم.
تنبيه: قضية كلامه تعين القرعة، وليس مرادا بل لو تراضوا بتقديم واحد بلا قرعة جاز إذ الحق لا يعدوهم،
فإن بدا لهم ردوا إليها قاله الإمام وأقراه، ولو طلبوا الاشتراك في القصاص والديات لم يجابوا لذلك، ولو كان
ولي القاتل الأول أو بعض أولياء القتلى صبيا أو مجنونا أو غائبا حبس القاتل إلى بلوغه وإفاقته وقدومه. (قلت) كما قال
الرافعي في الشرح (فلو قتله غير الأول) من المستحقين في الأولى أو غيره من خرجت قرعته منهم في الثانية (عصى)
لأنه قتل نفسا منع من قتلها وعزر لابطال حق غيره (ووقع) قتله (قصاصا) لأن حقه يتعلق به بدليل ما لو عفا
الأول فإنه ينتقل إلى من بعده (وللأول) أو من خرجت قرعته (دية) يعني وللباقين الديات (والله أعلم) لتعذر
22

القصاص عليهم بغير اختيارهم ولو قتلوه كلهم أساءوا ووقع القتل موزعا عليهم ورجع كل منهم بالباقي له من الدية، فلو
كانوا ثلاثة أخذ كل واحد منهم ثلث حقه وله ثلثا الدية، ولو قتله أجنبي وعفا الوارث على مال اختص بالدية ولي القتيل
الأول، وهل المراد دية القتيل أو القاتل، وحكى المتولي فيه وجهين: وفائدتهما فيما لو اختلف قدر الديتين،
فعلى الثاني
لو كان القتيل رجلا والقاتل امرأة وجب خمسون من الإبل، وفي العكس مائة، والأوجه الوجه الأول كما دل عليه
كلامهم في باب العفو عن القود.
فصل: في تغير حال المجروح من وقت الجرح إلى الموت بعصمة أو حرية أو إهدار أو بقدر المضمون به إذا
(جرح) مسلم أو ذمي (حربيا أو مرتدا) وزاد على المحرر (أو عبد نفسه فأسلم) الحربي أو المرتد أو أمن الحربي (وعتق)
العبد (ثم مات بالجرح) أي بسرايته (فلا ضمان) بمال ولا قصاص، لأن الجرح السابق غير مضمون (وقيل تجب دية)
مخففة اعتبارا بحال استقرار الجناية، والمراد دية حر مسلم كما سيأتي في المسألة عقبها.
قاعدة: كل جرح أوله غير مضمون لا ينقلب مضمونا بتغير الحال في الانتهاء، وإن كان مضمونا في أوله فقط
فالنفس هدر، ويجب ضمان تلك الجناية، وإن كان مضمونا في الحالين اعتبر في قدر الضمان الانتهاء، ويعتبر في
القصاص المكافأة من الفعل إلى الانتهاء. (و) حينئذ (لو رماهما) أي نوع الكافر بصفتين من حرابة وردة ونوع
عبد نفسه (فأسلم) الحربي أو المرتد أو أمن الحربي (وعتق) العبد ثم أصابه السهم (فلا قصاص) قطعا لعدم المكافأة
في أول أجزاء الجناية (والمذهب وجوب دية مسلم) اعتبارا بحال الإصابة لأنها حال اتصال الجناية والرمي كالمقدمة
التي يتسبب بها إلى الجنابة كما لو حفرا بئرا عدوانا وهناك حربي أو مرتد فأسلم ثم وقع فيها فإنه يضمنه، وإن كان
السبب مهدرا، وقيل: لا يجب اعتبارا بحال الرمي وهو مذهب أبي حنيفة فإنه الداخل تحت الاختيار، والخلاف مرتب
في الشرح على الخلاف فيما إذا أسلم وعتق بعد الجرح وأولى منه بالوجوب، وكان تعبير المصنف فيه بالمذهب لذلك
وعبد نفسه أولى بالضمان لأنه معصوم مضمون بالكفارة، وسكت عنه لأنه زاده على المحرر كما مر، فكان ينبغي أن
يقول مسلم أو حر وأن يقول رماهم ليعود للثلاثة قبله، وكان يستغنى عن التأويل والتقدير السابقين، والأصح وجوب
الدية (مخففة) مضروبة (على العاقلة) لأنها دية خطأ كما رمى إلى صيد فأصاب آدميا، وهذا ما جزم به في المحرر،
وقيل: دية شبه عمد، وقيل: عمد، وعكس هذا وهو لو جرح حربي مسلما ثم أسلم الجارح أو عقدت له ذمة، ثم
مات المجروح فلا ضمان على الصحيح في زيادة الروضة (ولو ارتد) المسلم (المجروح ومات بالسراية) مرتدا وجارحه
غير مرتد (فالنفس هدر) لا قود فيها ولا دية ولا كفارة، سواء أكان الجارح الإمام أم غيره، ولأنه لو قتل حينئذ
مباشرة لم يجب فيه شئ فكذا بالسراية، أما إذا كان جارحه مرتدا فإنه يجب عليه القصاص كما مر (و) لكن (يجب
قصاص الجرح) إن كان مما يوجب القصاص كالموضحة وقطع الطرف (في الأظهر) لأن القصاص في الطرف منفرد
عن القصاص في النفس فهو كما لو لم يسر، والثاني المنع لأن الجراحة صارت نفسا مهدرة، فكذا الطرف واحترز
بالسراية عما لو قطع يد مسلم فارتد واندملت يده فله القصاص، وإن مات قبل استيفائه (يستوفيه قريبه المسلم) لأن
القصاص للتشفي حتى لو كان القريب ناقصا انتظروا كماله ليستوفي.
تنبيه: لو عبر بالوارث أو لا الردة بدل القريب الشامل لغير الوارث لكان أولى (وقيل) ونسبه ابن كج
وغيره للأكثر يستوفيه (الإمام) لأن المرتد لا وارث له فيستوفيه الإمام كما يستوفي قصاص من لا وارث له،
23

وعلى الأول يجوز أن يعفو قريبه عن مال يأخذه الإمام، وما تقدم هو فيما إذا اقتضى الجرح قصاصا كما مر (فإن اقتضى
الجرح) للمرتد (مالا) كهاشمة وقطع طرف خطأ (وجب أقل الأمرين من أرشه) أي الجرح (ودية) النفس لأنه
المتيقن، فإن كان الأرش أقل كجائفة لم يزد بالسراية في الردة شئ، وإن كانت دية النفس أقل كأن قطع يديه ورجليه
ثم ارتد ومات لم يجب أكثر منهما، لأنه لو مات مسلما بالسراية لم يجب أكثر منهما فههنا أولى (وقيل) وجب (أرشه)
بالغا ما بلغ، ولو زاد على الدية ففي قطع يديه ورجليه ديتان.
تنبيه: الواجب على القول بأنه فئ لا يأخذ الوارث منه شيئا (وقيل) هذا الجرح (هدر) ضمان لأن الجراحة
إذا سرت صارت قتلا وصارت الأطراف تابعة للنفس والنفس مهدرة فكذلك ما يتبعها هذا كله إذا طرأت الردة
بعد الجرح، فلو طرأت بعد الرمي وقبل الإصابة فلا ضمان باتفاق لأنه حين جنى عليه كان مرتدا (ولو ارتد) المجروح
(ثم أسلم فمات بالسراية فلا قصاص) في الأصح مطلقا لأنه انتهى إلى حالة ومات فيها لم يجب القصاص فصار شبهة
دارئة للقصاص (وقيل) وهو قول منصوص في الام (إن قصرت الردة) أي زمنها بأن لم يمض في الردة زمن يسري
فيه الجرح (وجب) القصاص لأنها إذا قصرت لم يظهر فيها أثر السراية، فإن طال لم يجب قطعا (وتجب) على الأول
(الدية) بكمالها في ماله لوقوع الجرح والموت وفي حالة العصمة (وفي قول نصفها) توزيعا على حالتي العصمة والاهدار،
وفي ثالث ثلثاها توزيعا على الأحوال الثلاثة حالتي العصمة وحالة الاهدار.
تنبيه: محل الخلاف عند الجمهور إذا طالت المدة وإلا فيقطع بكمالها (ولو جرح مسلم ذميا فأسلم، أو) جرح
(حر عبدا) مسلما لغيره (فعتق ومات بالسراية فلا قصاص) على الجارح في الصورتين، لأنه لم يقصد بالجناية من
يكافئه فكان شبهة (وتجب دية) حر (مسلم) لأنه كان مضمونا في الابتداء وفي الانتهاء حر مسلم، فإن كان العبد
كافرا وجب دية حر كافر، وخرج بالسراية ما لو اندمل الجرح، ثم مات فإنه يجب أرش الجناية ويكون الواجب في
العبد لسيده، فلو قطع يديه مثلا لزمه كمال قيمته سواء كان العتق قبل الاندمال أم بعده (وهي) أي دية العتيق
إذا مات
سراية ولم يكن لجرحه أرش مقدر (لسيد العبد) ساوت قيمته أو نقصت عنها لأنه قد استحق هذا القدر بهذه الجناية
الواقعة في ملكه، ولا يتعين حقه فيها بل للجاني العدول لقيمتها وإن كانت الدية موجودة، فإذا تسلم الدراهم أجبر
السيد على قبولها وإن لم يكن له مطالبة إلا بالدية (فإن زادت) دية العبد (على قيمته فالزيادة لورثته) لأنها وجبت
بسبب الحرية (ولو) كان لجرحه أرش مقدر كأن (قطع يد عبد) أو فقأ عينه (فعتق ثم مات بسراية) وأوجبنا كمال
الدية كما مر (فللسيد الأقل من الدية الواجبة و) من (نصف قيمته) وهو أرش العضو الذي تلف في ملكه لو اندملت
الجراحة لأن السراية لم تحصل في الرق حتى يعتبر في حق السيد، فإن كان كل الدية أقل فلا واجب غيره، وإن كان
نصف القيمة أقل فهو أرش الجناية الواقعة في ملكه.
تنبيه: لو عبر بأرش القطع بدو نصف القيمة كان أعم (وفي قول) للسيد (الأقل من الدية، و) من
(قيمته) لأن السراية حصلت بجناية مضمونة للسيد فلا بد من النظر إليها في حقه فيقدر موته رقيقا وموته حرا،
ويجب للسيد أقل العوضين، فإن كانت الدية أقل فليس على الجاني غيرها، ومن إعتاق السيد جاء النقصان، وإن
كانت القيمة أقل فالزيادة وجبت بسبب الحرية، فليس للسيد إلا قدر القيمة الذي يأخذه لو مات رقيقا (ولو قطع)
24

شخص (يده) أي العبد (فعتق فجرحه آخران) مثلا كأن قطع أحدهما يده الأخرى، والآخر إحدى رجليه (ومات
بسرايتهم) الحاصلة من قطعهم (فلا قصاص على الأول إن كان حرا) لعدم المكافأة حال الجناية (ويجب على
الآخرين) قصاص الطرف قطعا وقصاص النفس على المذهب لأنهما كفاءان، وسقوطه عن الأول لمعنى فيه فأشبه
شريك الأب.
تنبيه: سكت المصنف عن الدية فيما إذا عفا عن الآخرين، ويجب حينئذ دية حر موزعة على الجنايات الثلاث
كل واحد ثلثها، لأن جرحهم صار قتلا بالسراية، ولا حق للسيد فيما يجب على الآخرين، وإنما يتعلق بما يؤخذ من
الجاني عليه في الرق لأنه الجاني على ملكه والآخران جنيا على حر، وفيما يستحقه منه القولان في الصورة المذكورة
قبلها، فعلى الأول للسيد أقل الأمرين من ثلث الدية ومن أرش القطع في ملكه وهو نصف القيمة، وعلى الثاني أقل الأمرين
من ثلث الدية وثلث القيمة. قال ابن شهبة: وقد وقع هنا لابن الملقن في شرحيه وهم، وجرى عليه الأذرعي
فاحذره اه‍.
تتمة: لو قطع حر يد عبد فعتق فحز آخر رقبته بطلت السراية، فعلى الأول نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني
القصاص أو الدية كاملة للوارث، فإن قطع الثاني يده الأخرى بعد العنق ثم حزت رقبته، فإن حزها ثالث بطلت سراية
القطعين، فعلى الأول نصف القيمة للسيد، وعلى الثاني القصاص في اليد أو نصف الدية للوارث، وعلى الثالث القصاص
في النفس أو الدية كاملة للوارث، وإن حزه القاطع أولا قبل الاندمال لزمه القصاص في النفس، فإن قتل به
سقط حق
السيد، وإن عفا عنه الوارث وجبت الدية، وللسيد منها الأقل من نصفها ونصف القيمة، أو حزه بعد الاندمال فعليه
نصف القيمة للسيد، وقصاص النفس أو الدية كاملة للوارث، وعلى الثاني نصف الدية وإن حزه الثاني قبل الاندمال
أو بعده فلا يخفى الحكم.
فصل: في شروط القصاص في الأطراف والجراحات والمعاني وفي إسقاط الشجاع وغير ذلك (يشترط لقصاص
الطرف) وهو بفتح الراء ما له حد ينتهي إليه كأذن ويد ورجل (و) لقصاص (الجرح) بضم الجيم ولغيرهما مما دون
النفس (ما شرط للنفس) من كون الجاني مكلفا ملتزما، وكونه غير أصل للمجني عليه، وكون المجني عليه معصوما
ومكافئا للجاني، ولا يشترط التساوي في البدل كما لا يتشرط في قصاص النفس، فيقطع العبد بالعبد، والمرأة بالرجل
وبالعكس، والذمي بالمسلم، والعبد بالحر، ولا عكس، وكون الجناية عمدا عدوانا، ومن أنه لا قصاص إلا في العمد
لا في الخطأ وشبه العمد. ومن صور الخطأ: أن يقصد أن يصيب حائطا بحجر فيصيب رأس إنسان فيوضحه، ومن
صور شبه العمد: أن يضرب رأسه بلطمة أو بحجر لا يشج غالبا لصغره فيتورم الموضع إلى أن يتضح العظم.
تنبيه: مراد المصنف إلحاق ذلك بالنفس في الجملة، وإلا لو رد عليه بالعصا الخفيفة فإنه عمد في الشجاع، لأنه
يوضح غالبا، وهو شبه عمد في النفس لأنه لا يقتل غالبا كما حكاه الرافعي عن التهذيب وغيره، وجزم به في الروضة،
وما إذا كان الحجر مما يوضح غالبا فأوضح به وجب قصاص الموضحة، ولو مات منها لم يجب قصاص النفس
كما في الشامل عن الشيخ أبي حامد، وقيده الماوردي بما إذا مات في الحال بلا سراية وإلا فيوجبه فيها أيضا، وهو
حسن. وما إذا قطع السيد طرف مكاتبه فإنه يضمنه، ولا يضمنه إذا قتله لأن الكتابة تبطل بالموت فيموت على
ملك مكاتبه، ولا تبطل بقطع طرفه، وأرشه كسب له فيدفع ذلك له، وهذه المسألة لا نظير لها، وكان ينبغي للمصنف
أن يزيد بعد قوله: ما شرط للنفس عند التساوي في الصحة لئلا يرد عليه الطرف الأشل فإنه لا يقطع السليم به، وإن كان
كامل الخلق يقتل بالزمن والمقطوع. (و) تقطع الأيدي الكثيرة باليد الواحدة كما (لو) اشترك جمع في قطع: كأن
(وضعوا سيفا) مثلا (على يده) أي المجني عليه (وتحاملوا عليه دفعة) أي اليد بتأويل العضو، وفي بعض النسخ
25

عليها، ويدل له قوله (فأبانوها قطعوا) كلهم أو تعمدوا كما في النفس. فإن قيل لو سرى رجلان نصابا واحدا لم يقطعا
فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن القطع حق الله تعالى، والحدود بالمساهلات أحق، بخلاف القصاص الذي هو حق
آدمي. واحترز بقوله: وتحاملوا عليه دفعة عما لو تميز فعل بعضهم عن بعض، كأن قطع كل منهم من جانب
والتقت
الحديدتان. وبقوله: وأبانوها عما لو أبان كل منهم بعض الطرف أو تعاونوا على قطعه بمنشار جره بعضهم في الذهاب
وبعضهم في العود فإنه لا قود على أحد في الأولى خلافا لصاحب التقريب، ولا في الثانية عند الجمهور لتعذر المماثلة
لاشتمال المحل على أعصاب ملتفة وعروق ضاربة وساكنة مع اختلاف وضعها في الأعضاء، بل على كل منهم حكومة
تليق بجنايته بحيث يبلغ مجموع الحكومات دية اليد كما بحثه الرافعي وتبعه المصنف (وشجاج) مجموع (الرأس والوجه)
بكسر المعجمة جمع شجة بفتحها وهي جرح فيهما، أما في غيرهما فيسمى جرحا لا شجة (عشر) دليله استقراء كلام
العرب. ثم بدأ بأول الشجاج بقوله (حارصة) بمهملات (وهي ما شق الجلد قليلا) كالخدش مأخوذ من قولهم:
حرص القصار الثوب إذا شقه بالدق. وتسمى أيضا: القاشرة بقاف وشين معجمة، والحرصة والحريصة (ودامية)
بمثناة تحتية خفيفة، وهي التي (تدميه) بضم أوله: أي الشق من غير سيلان دم، فإن سال فدامعة بعين مهملة. وبهذا
الاعتبار تكون الشجاج أحد عشر كما سيأتي (وباضعة) بموحدة ومعجمة مكسورة ثم عين مهملة، وهي التي (تقطع)
أي تشق (اللحم) الذي بعد الجلد شقا خفيفا من البضع وهو القطع (ومتلاحمة) بمهملة، وهي التي (تغوص فيه)
أي اللحم ولا تبلغ الجلدة التي بين اللحم والعظم. سميت بذلك تفاؤلا بما تؤول إليه من الالتحام وتسمى أيضا الملاحمة
(وسمحاق) بسين مكسورة وحاء مهملتين، وهي التي (تبلغ الجلد التي بين اللحم والعظم) سميت بذلك
لأن تلك الجلدة يقال لها سمحاق الرأس مأخوذة من سماحيق البطن وهي الشحم الرقيق وقد تسمى هذه الشحمة
الملطاء والملطاة واللاطية (وموضحة) وهي التي (توضح) أي تكشف (العظم) بحيث يقرع بالمرود وإن لم يشاهد
العظم من أجل الدم الذي يستره حتى لو غرز إبرة في رأسه ووصلت إلى العظم كان إيضاحا (وهاشمة) وهي التي
(تهشمه) أي تكسره سواء أوضحته أم لا (ومنقلة) بكسر القاف المشددة أفصح من فتحها وتسمى أيضا المنقولة
وهي التي (تنقله) بالتخفيف والتشديد من محل إلى آخر سواء أوضحته وهشمته أو لا (ومأمومة) بالهمز جمعها مآميم
كمكاسير وتسمى أيضا آمة وهي التي (تبلغ خريطة الدماغ) المحيطة به وهي أم الرأس (ودامغة) بمعجمة وهي
التي (تخرقها) أي خريطة الدماغ وتصل إليه وهي مذففة غالبا.
تنبيه: أفهم كلامه أن جميع هذه الشجاج تتصور في الوجه، وهو ظاهر في الجبهة، ويتصور ما عدا المأمومة
والدامغة في خد وقصبة أنف ولحي أسفل وسائر البدن، وهذه العشرة هي المشهورة، وزاد أبو عبيد: الدامعة بالعين
المهملة بعد الدال، ولذلك عدها الماوردي أحد عشر. (ويجب القصاص) من هذه العشرة (في الموضحة فقط) لتيسر
ضبطها واستيفاء مثلها. وأما غيرها فلا يؤمن الزيادة والنقصان في طول الجراحة وعرضها ولا يوثق باستيفاء المثل، ولذلك
لا يجب القصاص في كسر العظام (وقبل) يجب في الموضحة (وفيما قبلها) من الشجاع أيضا (سوى الحارصة) فلا
يجب القصاص فيها جزما، وهي الدامية والباضعة والمتلاحمة والسمحاق لامكان الوقوف على نسبة المقطوع في الجملة.
تنبيه: استثناء الحارصة مما زاده المصنف على المحرر. قال في الدقائق: ولا بد منه فإن الحارصة لا قصاص فيها قطعا
وإنما الخلاف في غيرها اه‍. وفي الكفاية أن كلام جماعة يفهم خلافا فيها. وقال في المطلب: إن كلام الشافعي في المختصر
26

يقتضي القصاص فيها، وعلى هذا فلا يحتاج إلى استيفائها (ولو أوضح في باقي البدن) كأن كشف عظم الصدر أو
العتق أو الساعد أو الأصابع (أو قطع بعض مارن) وهو بكسر الراء: ما لأن من الانف (أو) قطع بعض (أذن) أو
شفة ولسان أو حشفة (ولم يبنه وجب القصاص في الأصح) وفي الروضة كأصلها الأظهر. أما في الايضاح فلقوله
تعالى * (والجروح قصاص) * ولما مر في الموضحة، ووجه عدم الوجوب فيه القياس على الأرش فإنه لا أرش فيه مقدر،
ونقضه الأول بالإصبع الزائدة فإنه يقتص بمثلها ولا أرش لها مقدر وكذا الساعد بلا كف واليد الشلاء، وهذا عكس
الجائفة فإن لها أرشا مقدرا ولا قصاص فيها. وأما في القطع فلتيسر اعتبار المماثلة، وبقدر المقطوع بالجزئية كالثلث
والربع، ويستوفي من الجاني مثله لا بالمساحة لأن الأطراف المذكورة تختلف كبرا وصغرا بخلاف الموضحة كما سيأتي.
ووجه عدم الوجوب فيما ذكر القياس على المتلاحمة.
تنبيه: اقتصار المصنف على بعض المارن والاذن يقتضي انتفاء القصاص في بعض الكوع ومفصل الساق من
القدم إذا لم يبنه وهو الأظهر لعدم تحقق المماثلة في قطعه، لكن يرد عليه بعض الشفة واللسان والحشفة فإن إبانتها
كبعض الاذن كما قدرته في كلامه، وقد يفهم كلامه أنه إذا أبان ما ذكر لا يكون كذلك، وليس مرادا، بل الصحيح
الوجوب. وقد يفهم أيضا طرد الخلاف فيما إذا بقي المقطوع معلقا بجلدة فقط، والمجزوم في الروضة وأصلها أنه يجب
القصاص أو كمال الدية لأنه أبطل فائدة العضو، ثم إذا انتهى القطع في القصاص إلى تلك الجلدة حصل القصاص، ثم
يراجع أهل الخبرة في تلك الجلدة ويفعل فيها المصلحة من قطع أو ترك. قال في الروضة: ولا قصاص في إطار شفة بكسر
الهمزة وتخفيف المهملة، وهو المحيط بها، إذ ليس له حد مقدر اه‍. وهذا هو المعتمد كما جرى عليه ابن
المقري وإن قال
الأسنوي: أنه غلط، وصوابه هنا السه بمهملة بعدها هاء بلا فاء، وهو حلقة الدبر لأن المحيط بها لا حد له. قال: وهي
كذلك في نسخ الرافعي الصحيحة اه‍. وعلى الأول هما مسألتان لا قصاص في كل منهما. (ويجب) القصاص (في القطع
من مفصل) لانضباطه، وهو بفتح ميمه وكسر صاده: واحد مفاصل الأعضاء موضع اتصال عضو بآخر على مقطع
عظمين برباطات واصلة بينهما، إما مع دخول أحدهما في الآخر كالركبة أولا كالكوع (حتى في أصل فخذ) وهو
ما فوق الورك (ومنكب) وهو مجمع ما بين العضد والكتف (إن أمكن) القصاص فيهما (بلا إجافة) وهي جرح
ينفذ إلى جوف كما سيأتي لامكان المماثلة (وإلا) أي وإن لم يمكن إلا بها (فلا) يجب القصاص (على الصحيح) سواء
أجافه الجاني أم لا، لأن الجوائف لا تنضبط ضيقا وسعة وتأثيرا ونكاية، ولذلك امتنع القصاص فيها، والثاني يجب إن
أجافه الجاني، وقال أهل النظر: يمكن أن يقطع ويجاف مثل تلك الجائفة لأن الجائفة هنا نابعة.
تنبيه: محل الخلاف إذا لم يمت بالقطع، فإن مات به قطع الجاني وإن لم يمكن بلا إجافة كما سيأتي إيضاحه
(ويجب) القصاص (في فق ء عين) أي تعويرها بعين مهملة (وقطع أذن وجفن) وهو بفتح الجيم، وحكي كسرها:
غطاء العين من فوق ومن أسفل (ومارن) وتقدم ضبطه (وشفة) بفتح الشين سفلى أو عليا وأصلها شفهة
بدليل جمعها على شفاه (ولسان) ويذكر ويؤنث (وذكر وأنثيين) وإن لم يكن لها مفاصل، لأن لها نهايات مضبوطة
فألحقت بالمفاصل.
تنبيه: شمل إطلاقه وجوب القصاص بقطع الاذن ما لوردها في حرارة الدم والتصقت، وهو كذلك لأن الحكم
متعلق بالإبانة وقد وجدت، والمراد بالأنثيين البيضتان. وأما الخصيتان فالجلدتان اللتان فيهما البيضتان قاله ابن
السكيت (وكذا أليان) بهمزة مفتوحة ومثناة تحتية تثنية ألية، وفي لغة قليلة أليتان بزيادة التاء المثناة من فوق،
وهم اللحمان الناتئان بين الظهر والفخذ (وشفران) وهما بضم الشين المعجمة تثنية شفر، وهو حرف الفرج: اللحم
27

المحيط بالفرج إحاطة الشفتين بالفم، وشفر كل شئ حرفه. وأما شفر العين فمنبت هدبها، وحكي فيه الفتح: يجب
القصاص فيهما (في الأصح) لما مر، والثاني المنع لأنه لا يمكن استفاؤها إلا بقطع غيرها.
تنبيه: قد يفهم كلامه أنه لا خلاف فيما قبل الأليين، وليس مرادا بل هو جار في الشفة واللسان لكنه ضعيف
فيهما، ولهذا عبر في الروضة فيهما بالصحيح، وفي الأليين والشفرين بالأصح. (ولا قصاص في كسر عظام) لعدم
الوثوق بالمماثلة، لأن الكسر لا يدخل تحت الضبط، وسيأتي الكلام في السر (وله) أي المجني عليه بكسر عظم مع
الإبانة (قطع أقرب مفصل إلى) أسفل (موضع الكسر) لأن فيه تحصيل استيفاء بعض الحق، والميسور لا يسقط
بالمعسور (و) له (حكومة الباقي) لأنه لم يأخذ عوضا عنه، فلو كسر ذراعه اقتص في الكف وأخذ الحكومة
لما زاد وله
العفو عن الجناية، ويعدل إلى المال كما في الروضة كأصلها.
تنبيه: في كلامه أمور: أحدها قوله أقرب مفصل يفهم اعتبار اتحاد، وليس مرادا، فلو كسر العظم من نفس
الكوع كان له التقاط الأصابع، وإن تعددت المفاصل كما جزما به في الروضة وأصلها. ثانيها قضيته أنه إذا كسر عظم العضد
لا يمكن من قطع الكوع، وسيأتي في كلامه أن له ذلك على الأصح، ثالثها أنه لو أطلق ذلك، وقيده البلقيني بأن يحصل
بالكسر انفصال العضو كما قدرته في كلام المصنف. قال: ويدل عليه قوله بعد ولو كسر عضده وأبانه. قال: فلو حصل
الكسر من غير انفصال فليس له أن يقطع أقرب مفصل إلى موضع الكسر (ولو أوضحه وهشم أوضح) المجني عليه
الجاني لامكان القصاص في الموضحة (وأخذ) منه (خمسة أبعرة) عن أرش الهشم لتعذر القصاص فيه (ولو أوضح
ونقل) العظم (أوضح) المجني عليه لما مر (وله عشرة أبعرة) أرش التنقيل المشتمل على الهشم لتعذر القصاص فيما ذكر.
تنبيه: لو أوضح وأم أوضح لما مر وأخذ بين الموضحة والمأمومة، وهو ثمانية وعشرون بعيرا وثلث، لأن
في المأمومة ثلث الدية كما سيأتي. (ولو قطعه) أي كفه (من الكوع) وكف الجاني والمجني عليه كاملتان (فليس له) ترك
الكف، و (التقاط أصابعه) لأنه قادر على محل الجناية ومهما أمكنه المماثلة لا يعدل عنها، بل لو طلب قطع أنملة واحدة
لم يمكن من ذلك، فإن كانت كف المجني عليه ناقصة أصبعا مثلا لم تقطع السليمة بها، وله أن يلتقط أربع أصابع منها
كما سيأتي في الباب عقب هذا، والكوع بضم الكاف، ويقال له أيضا الكاع، وهو العظم الذي في مفصل الكف
يلي الابهام، وما يلي الخنصر كرسوع، وأما البوع فهو العظم الذي عند أصل الابهام من الرجل بكسر الراء، ومنه قولهم:
لا يعرف كوعه من بوعه: أي لا يدري من غباوته ما اسم العظم الذي عند إبهام يده من الذي عند إبهام رجله، وقد مرت الإشارة
إلى ذلك في باب صفة الصلاة. وأما الباع فهو ما بين طرفي يدي الانسان إذا مدهما يمينا وشمالا (فإن فعله) أي قطع الأصابع
(عزر) وإن قال لا أطلب للباقي قصاصا ولا أرشا لعدوله عن المستحق. نعم إن كان ممن يخفى عليه ذلك ينبغي أنه
لا يعزر (ولا غرم) لأنه يستحق إتلاف الجملة فلا يلزمه بإتلاف البعض غرم (والأصح أن له قطع الكف بعده)
لأنه مستحق كما أن مستحق النفس لو قطع يد الجاني له أن يعود ويحز رقبته، فإن قيل قد قالوا أنه لو قطعه من نصف
ساعده فلقط أصابعه لا يمكن من قطع كفه فهلا كان هنا كذلك؟ أجيب بأنه ثم بالتمكين لا يصل إلى تمام حقه بخلافه
هنا، والثاني المنع لأن فيه زيادة ألم آخر، وعلى الأول لو ترك قطع الكف وطلب حكومتها لم يجب لذلك. لأن حكومة
الكف تدخل في دية الأصابع، وقد استوفى الأصابع المقابلة بالدية فأشبه ما لو قطع مستحق النفس يدي الجاني ثم عفا
عن حز الرقبة وطلب الدية لم يجب إليها، لأنه قد استوفى ما يقابلها، وقد يشكل هذا على ما يأتي في الباب الآتي من أنه
لو قطع كامل الأصابع يدا ناقصة أصبعا، فإن المصنف قال هناك: فإن شاء المقطوع أخذ دية أصابع الأربع، وإن شاء
28

لقطها، والأصح أن حكومة منابتهن تجب إن لقط لا إن أخذ ديتهن، وعلل بأن الحكومة من جنس الدية، بخلاف
القصاص فإنه ليس من جنسها فدخلت فيها دونه، وقد يجاب بأنه هنا متمكن من استيفاء حقه بخلافه فيما سيأتي، ولو
قطع يده من المرفق فرضي عنها بكف وإصبع لم يجز لعدوله عن محل الجناية مع القدرة عليه، فإن قطعها من الكوع عزر،
ولا غرم عليه لما مر وهدر الباقي فليس له قطعة ولا طلب حكومته لأنه بقطعه من الكوع ترك بعض حقه وقنع ببعضه كما نقله
الإمام والبغوي عن الأصحاب، وإن قال البغوي: عندي له حكومة الساعد، ويفارق ما مر في الصورة السابقة من أن
له قطع الباقي بأن القاطع من الكوع مستوف لمسمى اليد بخلاف ملتقط الأصابع (ولو كسر عضده وأبانه) أي المكسور
قطع من الموفق لأنه أقرب مفصل إلى محل الجناية والعضد من مفصل المرفق إلى الكتف (وله حكومة الباقي)
لتعذر القصاص فيه. فإن قيل: هذه المسألة قد علمت من قوله قبل: وله قطع أقرب مفصل إلى موضع الكسر وحكومة
الباقي فلا فائدة لذكرها. أجيب بأنه إنما أعادها لأجل التفريع عليها وهو قوله: (فلو طلب الكوع) للقطع
(مكن) منه (في الأصح) لأنه عاجز عن القطع في محل الجناية، وهو بالعدول تارك لبعض حقه فلا يمنع منه، وله
حكومة الساعد مع حكومة المقطوع من العضد لأنه لم يأخذ عوضا عنه. والثاني ورجحه في الشرح الصغير وصاحب
الأنوار لا، لعدوله عما هو أقرب إلى محل الجناية. ولم يصرحا في الشرح والروضة بترجيح. قال البلقيني: والأرجح
ما في المنهاج وتبعه الدميري، وعلى ما في الشرح الصغير: لو قطع من الكوع ثم أراد القطع من المرفق لم يمكن كما جزما به
في الروضة وأصلها. قال الزركشي: ويحتاج إلى الفرق بينه وبين مسألة التقاط الأصابع، فإن له قطع الكف بعده اه‍.
وفرق بأنه هناك يعود إلى محل الجناية وههنا إلى غير محلها، وإنما جوزنا قطع ما دونه للضرورة، فإذا قطع مرة لم
يكرره. (ولو أوضحه) مثلا (فذهب ضوءه) من عينيه معا (أوضحه) طلبا للمماثلة (فإن ذهب الضوء) من عيني
الجاني فذاك (وإلا) بأن لم يذهب بذلك (أذهبه) إن أمكن ذهابه مع بقاء الحدقة بقول أهل الخبرة (بأخف)
أمر (ممكن) في إذهاب به كطرح كافور، و (كتقريب حديدة محماة من حدقته) كما أذهب ضوءه بها شمة ونحوها
مما لا يجري فيه القصاص، قال لم يمكن إذهاب الضوء أصلا أو لم يمكن إلا بإذهاب الحدقة سقط القصاص
ووجبت الدية
كما قاله المتولي وغيره. وقال الأذرعي: إنه متعين، ولو نقص الضوء امتنع القصاص إجماعا (ولو لطمة) أي ضربة على
وجهه بباطن راحته (لطمة تذهب ضوءه) بفتح الضاد وضمها من عينيه (غالبا فذهب) ضوءه (لطمة مثلها)
طلبا للمماثلة ليذهب بها ضوءه (فإن لم يذهب) باللطمة (أذهب) بالطريق المتقدر مع بقاء الحدقة إن أمكن وإلا
أخذت الدية، وفي وجه رجحه البغوي واستحسنه في الروضة كأصلها لا يقتص في اللطمة لعدم انضباطها، ولهذا
لو انفردت عن إذهاب الضوء لم يجب فيها قصاص، وأما لو ذهب الضوء من إحدى عينيه فإنه لا يلطم لاحتمال أن يذهب
منهما بل يذهب بالمعالجة إن أمكن وإلا فالدية، واحترز بغالبا عما إذا لم تذهب اللطمة غالبا الضوء فإنه لا قصاص فيها
كما صرح به الروياني. (والسمع) أي إذهابه بجناية على الاذن (كالبصر يجب القصاص فيه بالسراية) لأن له محلا
مضبطا. وقيل: لا قود فيه لأنه في غير محل الجناية فلا يمكن القصاص فيه. قال البلقيني: وهو الصواب فقد نص
عليه في الام، وقال الأذرعي: إنه المذهب المنصوص اه‍. ومع هذا المعتمد ما في المتن (وكذا البطش والذوق والشم)
أي إذهابها بجناية على يد أو رجل أو فم أو رأس يجب القصاص فيها بالسراية (في الأصح) في الجميع لأن لها محال
مضبوطة ولأهل الخبرة طرق في إبطالها. والثاني المنع إذ لا يمكن القصاص فيها.
29

تنبيه: ذكر المصنف من الحواس أربعة وسكت عن اللمس والكلام والعقل. فأما الأول فلانه إن زال
بزوال البطش فقد ذكر، وإن لم يزل لم يتحقق زوال اللمس، وإن فرض تخدير ففيه حكومة. وأما الثاني فقال الإمام
: لا يبعد إلحاقه بالبصر. وأما الثالث فلا قصاص فيه للاختلاف في محله فقيل: في القلب. وقيل: في الرأس (و)
لا يجب القصاص في الأجسام بالسراية فعلى هذا (لو قطع أصبعا) أو أنملة أو نحو ذلك (فتأكل) أو شل (غيرها)
كإصبع أو كف أو أوضحه فذهب شعر رأسه (فلا قصاص في المتأكل) والذاهب بالسراية لعدم تحقق العمدية، بل فيه
الدية أو الحكومة في مال الجاني لأنه سراية جناية عمد، وإن جعلناها خطأ في سقوط القصاص، ويطالب بدية المتأكل
عقب قطع أصبع الجاني، لأنه وإن سرى القطع إلى الكف لم يسقط باقي الدية، فلا معنى لانتظار السراية، بخلاف ما لو
سرت الجناية إلى النفس، فاقتص بالجناية لم يطالب في الحال، فلعل جراحة القصاص تسري فيحصل التقاص ويفارق
هذا إذهاب البصر ونحوه من المعاني، فإن ذلك لا يباشر بالجناية بخلاف الإصبع ونحوها من الأجسام فيقصد بمحل
البصر مثلا نفسه ولا يقصد بالإصبع غيرها مثلا. فلو اقتص في أصبع من خمسة فسرى لغيرها لم تقع السراية قصاصا
بل يجب على الجاني للأصابع الأربع أربعة أخماس الدية، ولا حكومة لمنابت الأصابع بل تدخل في ديتها، ولو ضرب
يده فتورمت ثم سقطت بعد أيام وجب القصاص كما حكاه الشيخان في الفروع المنثورة قبيل الديات عن البغوي،
وخالف ما نحن فيه لأن الجناية على اليد مقصودة فتأخير السقوط لا يمنع القود.
خاتمة: لو اقتص من الجاني عليه خطأ أو شبه عمد ففي كونه مستوفيا خلاف، والأصح أنه مستوف كما جرى
عليه شيخنا في شرح الروض وإن جرى صاحب الحاوي ومن تبعه على عكسه، وإن اقتص من قاتل مورثه وهو
صبي أو مجنون لم يكن مستوفيا لعدم أهليته للاستيفاء، فإن قيل: لو أتلف وديعته فإنه يكون مستوفيا لحقه فهلا كان
هنا كذلك؟ أجيب بأن الوديعة لو تلفت برئ الوديع، ولو مات للجاني لم يبرأ، وإذا لم يكن مستوفيا فإن الدية تتعلق
بتركة الجاني، ويلزمه دية عمد بقتله الجاني لأن عمده عمد، فإن اقتص بإذن الجاني أو تمكينه بأن أخرج إليه طرفه
فقطعه فهدر، والطرف كالنفس فيما ذكر.
باب كيفية القصاص
بكسر القاف، من القص وهو القطع، وقيل: من قص الأثر: إذا تبعه لأن المقتص يتبع الجاني إلى أن يقتص
منه (ومستوفيه والاختلاف) بين الجاني وخصمه (فيه) والعفو عن القصاص والمصالحة عليه، وقد عقد المصنف لكل
واحد مما ذكره فصلا غير أنه خالف ترتيب الترجمة لأنه قدم فصل الاختلاف على فصل من يستوفي القصاص.
(لا تقطع يسار) من يد ورجل وأذن وجفن ومنخر (بيمين) لاختلاف المحل والمنفعة، والمقصود من القصاص المساواة،
ولا مساواة بينهما.
تنبيه: علم من تمثيله العكس من باب أولى (ولا شفة سفلى بعليا و) لا (عكسه) ولا جفن أعلى بأسفل ولا
عكسه لما مر، ولو تراضيا بقطع ذلك لم يقع قصاصا، ولا يجب في المقطوعة بدلا قصاص بل دية، ويسقط قصاص
الأولى في الأصح.
تنبيه: قوله: لا تقطع أولى منه لا تؤخذ لشموله للمعاني وفق ء العين ونحوه. (ولا) تقطع (أنملة) بفتح همزتها وضم
ميمها في أفصح لغاتها التسع، وهي: فتح الهمزة وضمها وكسرها مع تثليث الميم (بأخرى) ولا سن بأخرى لأنها جوارح
مختلفة المنافع والأماكن.
30

تنبيه: قد علم من هذا أنه لا يقطع أصبع بأخرى كالسبابة والوسطى كما صرح به في المحرر (ولا) عضو
(زائد) في محل (بزائد في محل آخر) كأن تكون زائدة المجني عليه تحت الخنصر وزائدة الجاني بعد الابهام بل يؤخذ من الزائد
الحكومة، ولا يؤخذ عضو أصلي بزائد ولا زائد بأصلي إذا كان الزائد ثابتا في غير موضع نبات الأصلي، وإلا فيقطع
به إذا رضي المجني عليه إلا إذا لم ينقطع الدم كاليد الشلاء تؤخذ بالصحيحة بالشرط المذكور كما سيأتي.
تنبيه: أفهم كلامه أنه يقطع الزائد بالزائد عند اتحاد المحل وهو كذلك إلا إذا كانت زائدة الجاني أتم كأن كان
لإصبعه الزائدة ثلاث مفاصل، ولزائدة المجني عليه مفصلا، فلا يقطع بها على المنصوص لأن هذا أعظم من
تفاوت
المحل، وكان ينبغي أن يزيد ولا حادث بعد الجناية بأصلي ليشمل ما لو قلع سنا ليس له مثلها فلا قصاص، وإن نبت له
مثلها بعد لأنها لم تكن موجودة حال الجناية. قاله الرافعي في الكلام على السن (ولا يضر) في القصاص عند مساواة
المحل (تفاوت كبر) وصغر (وطول) وقصر (وقوة بطش) وضعفه (في) عضو (أصلي) قطعا لاطلاق قوله
تعالى: * (والعين بالعين والأنف بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن) * فإنه لا يقتضي عدم النظر إلى ذلك كما في للنفس ولان
المماثلة في ذلك لا تكاد تنضبط، فلو اعتبرت لتعطل حكم القصاص غالبا. ويستثنى من ذلك ما لو كان للمجني عليه يد
أقصر من أختها قطعها الجاني وهو مستوي اليدين فإنه لا قصاص عليه لأنها ناقصة بل فيها ديتها ناقصة حكومة، حكاه
في أصل الروضة عن البغوي وأقره.
تنبيه: شمل إطلاق المصنف ما إذا كان النقص بآفة سماوية أو بجناية وهو ما صوبه الزركشي، لكن الذي حكاه
الإمام هنا وأقراه أنه لا قصاص، إذا كان بجناية، وأنه لا تجب دية كاملة وهو أوجه (وكذا) عضو (زائد) لا يضر
فيه التفاوت المذكور (في الأصح) كالأصلي، والثاني يضر، لأن القصاص إنما يجب في العضو الزائد بالاجتهاد، فإذا
كان عضو الجاني أكبر حكومته أكثر فلا يأخذ بالذي هو أنقص منه بخلاف الأصلي، فإن القصاص يثبت فيه
بالنص، فلا يعتبر التساوي فيه (ويعتبر قدر الموضحة) بالمساحة (طولا وعرضا) في قصاصها لا بالجزئية، لأن
الرأسين مثلا قد يختلفان صغرا وكبرا فيكون جزء أحدهما قدر جميع الآخر فيقع الحيف بخلاف الأطراف، لأن
القصاص وجب فيها بالمماثلة في الجملة ولو اعتبرناها بالمساحة أدى إلى أخذ الانف ببعض الانف، وقد قال تعالى
* (والأنف بالأنف) * ولا كذلك في الموضحة، فاعتبرت بالمساحة. وكيفية معرفته أن تذرع موضحة المشجوج بعود
أو خيط يحلق ذلك الموضع من رأس الشاج إن كان عليه شعر، ويخط عليه بسواد أو غيره ويضبط الشاج كيلا
يضطرب ويوضح بحديدة حادة كالموسى بسيف وحجر ونحوهما وإن كان أوضح كما قاله القفال وجرى عليه
ابن المقري إذ لا تؤمن الزيادة. قال الروياني بعد نقله ذلك عن القفال: وفيه نظر، وقياس المذهب أنه يقتص بمثل ما فعله
إن أمكن، ولعل ما قاله القفال إذا لم يمكن. قال الزركشي: وهو ما نقله البغوي عن القاضي ولم يذكر غيره، وهو
الظاهر ثم يفعل المجني عليه بالجاني ما هو أسهل عليه من الشق دفعة واحدة أو شيئا فشيئا، وهذا ما قاله الأصحاب. وقال
ابن الرفعة: الأشبه الاتيان بمثل جنايته إن أوضح دفعة فدفعة، أو التدريج فالتدريج اه‍. وهذا ظاهر عند النزاع
ويحمل كلام الأصحاب على غير هذه الحالة.
تنبيه: ما ذكره من أنه يحلق الشعر عند الاقتصاص محله ما إذا كان على رأس المجني عليه حال الجناية شعر
فإن كان برأس الشاج شعر دون المشجوج ففي الروضة وأصلها عن نص الام أنه لا قود لما فيه من إتلاف شعر
لم يتلفه الجاني،
وظاهر نص المختصر وجوبه بعد إزالة الشعر من موضع الشجة وعزي للماوردي. وحمل ابن الرفعة الأول على فساد
منبت المشجوج. والثاني على ما لو حلق. وهو حمل حسن. قال الأذرعي: وقضية نص الام أن الشعر الكثيف تجب
إزالته ليسهل الاستيفاء ويبعد عن الغلط. قال: والتوجيه يشعر بأنها لا تجب إذا كان الواجب استيعاب الرأس اه‍.
31

وهو ظاهر (ولا يضر تفاوت غلظ لحم وجلد) في قصاصها، لأن اسم الموضحة يتعلق بانتهاء الجراحة إلى العظم والتفاوت
في قدر العرض قل ما يتفق فيقطع النظر عنه كما يقطع النظر في الصغر والكبر في الأطراف (ولو أوضح) شخص آخر
في بعض رأسه وقدر الموضحة يستوعب جميع رأس الشاج أوضح جميع رأسه لقوله تعالى: * (والجروح قصاص) * والقصاص
المماثلة، ولا يمكن في الموضحة إلا بالمساحة وقد استوعبت المساحة رأسه فوجب، وإن زاد حقه على جميع رأس الشاج
أو وضح (كل رأسه) أي المشجوج (ورأس الشاج أصغر) من رأسه (استوعبناه) إيضاحا، ولا يكتفي به (ولا نتممه
من الوجه والقفا) لأنهما غير محل الجناية، ولو قال: ولا نتممه من غيره كان أولى ليشمل سائر الجوانب، فإن الحكم
فيها كذلك، لو أوضح جبهته، وجبهته، وجبهة الجاني أضيق لا يرتقي للرأس لما ذكر (بل يؤخذ قسط الباقي من أرش
الموضحة لو وزع على جميعها) لتعينه طريقا، فإن كان الباقي قدر الثلث مثلا فالمتمم به ثلث أرشها، وطريق معرفته
بالمساحة (وإن كان رأس الشاج أكبر) من رأس المشجوج (أخذ) منه (قدر) موضحة (رأس المشجوج فقط) معتبرا
بالمساحة لحصول المساواة (والصحيح) وبه قطع الأكثرون كما في الروضة (أن الاختيار في) تعيين (موضعه
إلى الجاني) لأن جميع رأسه محل الجناية فأي موضع أدى منه تعين كما في الدين، بخلاف ما إذا لم يستوعب رأس المجني
عليه فإنه يعتبر ذلك المحل. فقولهم: إن الرأس كلها محل الجناية فيما إذا استوعبت رأس المجني عليه، وكذا لو أوضح من به
موضحة غير منه ملة غيره في موضع موضحته لا يقتص منه وإن اندملت موضحته، لأن محل القصاص لم يكن موجودا
عند الجناية. والثاني: الاختيار في ذلك إلى المجني عليه أن لم يطلب أزيد من حقه، وليس هذا كالدين لأنه مسترسل في الذمة
وصوبه الأذرعي وغيره.
تنبيه: محل الخلاف ما إذا أخذ قدر ذلك القدر من مكان واحد، فلو أرد أن يأخذ قدر ما أوضحه منه من مواضع
من رأسه فالأصح المنع، لأنه يؤدي إلى مقابلة موضحة بموضحتين فأكثر ولا تتبعض مع إمكان استيفائها قصاصا وأرشا،
بخلاف الموضحتين فإن له أن يقتضي في إحداهما ويأخذ أرش الأخرى (ولو أوضح ناصية) من شخص (وناصيته أصغر)
من ناصية المجني عليه (تمم من باقي الرأس) من أي محل كان لأن الرأس كله عضو واحد فلا فرق بين مقدمه وغيره،
بخلاف ما سبق في الوجه والرأس فإنهما عضوان (ولو زاد المقتص) عمدا (في موضحة على حقه لزمه قصاص الزيادة)
لتعمده، ولكن إنما يقتص منه بعد اندمال موضحته (فإن كان) الزائد (خطأ) كأن اضطربت يده أو شبه عمد (أو) عمدا
(عفا على مال وجب أرش كامل، قسط) الزيادة
فقط بعد توزيع الأرش عليهما.
تنبيه: محل الضمان في الخطأ ما إذا لم تكن الزيادة باضطراب من الجاني فقط وإلا فلا ضمان، فإن كانت بسبب
اضطرابهما فالضمان عليهما وإن قال الزركشي فيه نظر، ولو قال المقتص: تولدت باضطرابك فأنكر ففي المصدر منهما
وجهان: أوجههما كما استظهره البلقيني تصديق المقتص منه.
تنبيه: كلام المصنف قد يوهم تمكين المستحق من الاستيفاء، وسيأتي أنه لا يمكن في الطرف في الأصح، فقيل
كلامه هنا مبني على مرجوح أو محمول على ما إذا بادر واستوفى الطرف فزاد على حقه فإنه يلزمه قصاص الزيادة، وإن
قلنا أنه لا يمكن من استيفاء قصاص الطرف، وصوره الزركشي بصورتين: إحداهما أن يرضى الجاني باستيفاء المستحق،
32

وثانيتهما أن يوكل المستحق في الاستيفاء فيستوفي زائدا. قال ابن شهبة: وفي الصورة الثانية نظر. (ولو أوضحه جمع)
بتحاملهم على آلة واحدة جروها معا (أوضح من كل واحد) منهم موضحة (مثلها) إذ ما من جزء إلا وكل واحد
جان عليه فأشبه ما إذا اشتركوا في قطع عضو (وقيل قسطه) منها لامكان التجزئة فتوزع عليهم، ويوضح من كل واحد
بقدر حصته كإتلاف المال، بخلاف الطرف، وهذا الخلاف إنما هو احتمال للإمام.
تنبيه: قد يقتضي كلام المصنف ترجيح وجوب دية موضحة كاملة على كل واحد إذا آل الامر إلى الدية وهو
الأقرب عند الإمام، وقطع البغوي بإيجاب القسط وصوبه البلقيني كقطع الطرف، والأوجه الأول كما جرى عليه
في الأنوار لأن الموضحة تعدد بتعدد الفاعل، ولا كذلك الطرف. ووقع في الروضة عزو الأول إلى البغوي والثاني إلى
الإمام ونسب للسهو، وقد ذكره الرافعي على الصواب. (ولا تقطع) يد أو رجل (صحيحة بشلاء) بالمد إن لم يسر
القطع إلى النفس، والشلل بطلان العمل وإن لم يزل الحس والحركة كما رجحه ابن الرفعة (وإن رضي) به (الجاني) أو
شلت يده أو رجله بعد الجناية وإن لم تفهمه عبارة المصنف لانتفاء المماثلة وقتها (فلو) خالف صاحب الشلاء و (فعل)
القطع بغير إذن الجاني (لم يقع قصاصا) لأنه غير مستحق (بل عليه ديتها) وله حكومة يده الشلاء (فلو سرى) القطع
(فعليه قصاص النفس) لتوفيتها بغير حق، وإن فعله بإذنه، فإن قال له اقطعها ولم يقل قصاصا فقطعها كان
مستوفيا
لحقه ولا شئ عليه، وإن مات الجاني بالسراية لاذنه له في القطع وإن قال اقطعها قصاصا فوجهان: أحدهما وهو
الأوجه كما قطع به البغوي أن ذلك لا يقع قصاصا بل على المجني عليه نص الدية لأنه لم يستحق ما قطعه، وعلى الجاني
الحكومة لأنه لم يبدل عضوه مجانا. والثاني يقع وكأن الجاني أدى الجيد عن الردئ وقبضه المستحق. أما إذا سرى
القطع إلى النفس فإن الصحيحة تقطع بالشلاء كما ذكره الرافعي في الطرف الثالث، وكذا لو كانت النفس مستحقة
الازهاق للمجني عليه فإن الصحيحة تؤخذ بالشلاء وعكسه وإن لم تنحسم العروق ويطرد ذلك فيما يعتبر فيه رعاية المماثلة
في الأطراف فتؤخذ كاملة الأصابع بناقصتها أو فاقدتها كما في الرافعي في كيفية المماثلة (وتقطع الشلاء) من يد أو رجل
بشلاء كما اقتضاه قوله: ولا تقطع صحيحة بشلاء، ولكن محله إذا استويا في الشلل، أو كان شلل الجاني أكثر ولم
يخف نزف الدم، وإلا فلا تقطع، وتقطع أيضا (بالصحيحة) كما علم بالأولى، لأنها دون حقه (إلا أن يقول أهل
الخبرة) أي عدلان منهم، وإن اقتضت عبارته أنه لا بد من جمع (لا ينقطع الدم) بل تنفتح أفواه العروق ولا تنسد
بحسم النار ولا غيره فلا تقطع بها وإن رضي الجاني كما نص عليه في الام حذرا من استيفاء النفس بالطرف، فإن قالوا
ينقطع الدم (و) الحال أنه (يقنع بها مستوفيها) بأن لا يطلب أرشا للشلل فيقطع حينئذ بالصحيحة لاستوائهما في الجرم
وإن اختلفا في الصفة، لأن الصفة المجردة لا تقابل بمال، ولذا لو قتل الذمي بالمسلم أو العبد بالحر لم يجب لفضيلة الاسلام
والحرية شئ، ويخالف ما لو نقصت يده أصبعا حيث تؤخذ ديتها، لأن الإصبع تفرد بالقصاص.
تنبيه: لو قدم قوله: ويقنع بها مستوفيها على قوله: إلا أن يقول إلخ لاستغنى عما قدرته، ولو قطع الأشل مثله
ثم صح القاطع لم يقطع لوجود الزيادة عند الاستيفاء. فإن قيل: إنما تعتبر المماثلة عند الجناية، لا عند الاستيفاء بدليل
أنه لو جنى ذمي على ذمي ثم أسلم الجاني فإنه يقتص منه. أجيب بأن المنافع إذا عادت يتبين أنها لم تزل، ففي الحقيقة
ما اعتبرنا إلا حالة الجناية، ولو قطع سليم يد أو رجل أشل أو ناقصة أصبع ثم شلت بفتح الشين يده في الأولى ونقصت الإصبع
في الثانية لم تقطع في الأولى كما مرت الإشارة إليه لانتفاء المماثلة عند الجناية، وتقطع في الثانية خلافا لابن المقري لأن القصاص
قد تعلق بها بما عد الإصبع المذكورة عند الجناية. وقد قالوا: لو قطع كامل أصبع الوسطى من فاقد عليا تلك الإصبع ثم سقطت
33

علياه اقتص منه لأنه صار مماثلا له. (ويقطع) عضو (سليم بأعسم وأعرج) إذ لا خلل في العضو، والعسم
بمهملتين مفتوحتين، وهو كما في الروضة كأصلها تبعا لجمهور أهل اللغة: تشنج في المرفق أو قصر في
الساعد أو العضد.
وقال ابن الصباغ: هو ميل واعوجاج في الرسغ. وقال الشيخ أبو حامد: الأعسم هو الذي بطشه بيساره أكثر،
وهو الأعسر في العرف (ولا أثر) في القصاص في يد أو رجل (لخضرة أظفار وسوادها) لأنه علة ومرض في الظفر
وذلك لا يؤثر في وجوب القصاص.
تنبيه: محل ذلك في علة الظفر كما قاله الأذرعي إذا كان خلقة ولم يكن جافا وإلا فلا قصاص كما جزم به في الأول
المتولي ونص عليه الشافعي في الثاني وجرى عليه الإمام، وتقطع فاقدة الأظفار بفاقدتها، ولو نبتت أظفار القاطع لم
يقطع لحدوث الزيادة. ويؤخذ منه أن يد الجاني لو نبت فيها أصبع بعد الجناية لم يقطع (والصحيح قطع ذاهبة الأظفار
بسليمتها) لأنها دونها (دون عكسه) لأن الكامل لا يؤخذ بالناقص.
تنبيه: اعترض على المصنف من وجهين: أحدهما أن عبارته تقتضي طرد وجهين في المسألتين مع أن الأولى
لا خلاف فيها، والثانية فيها احتمال للإمام لا وجه، فجعله وجها وعبر فيها بالصحيح، ولو قال: ولا تقطع سليمة أظفارها
بذاهبتها دون عكسه كان أظهر وأخصر. الثاني تعبيره بذاهبة الأظفار يقتضي زوالها بعد وجودها، لكنه في الروضة
كأصلها صورها بمن لم يخلق ظفر وعليه ينطبق التعليل السابق مع أن الحكم واحد إذ لا فرق بين ذاهبتها وبين المخلوقة
بدونها، وإذا قطعت ذاهبة الأظفار بالسليمة كان لصاحب السليمة حكومة الأظفار كما قاله ابن أبي عصرون، وبحثه
البلقيني، وقال: لم أر من تعرض له (والذكر صحة وشللا كاليد) صحة وشللا فيما مر جميعه، إذ لا فرق بينهما،
ويجب في قطع الذكر وفي قطع الأنثيين وفي إشلالهما القصاص. سواء أقطع الذكر والأنثيين معا أم مرتبا، وفي إشلال
إحداهما إن علم سلامة الأخرى بقول أهل الخبرة، ولو دقهما اقتص بمثله إن أمكن، وإلا وجبت الدية كما نقله في الروضة
عن التهذيب، وجرى عليه ابن المقري وإن قال الرافعي: يشبه أن يكون الدق ككسر العظام.
تنبيه: صحة وشللا منصوبان على الحال من الذكر، ولكن مجئ الحال من المبتدأ خلاف مذهب سيبويه.
قال الزركشي: ويمكن أن يكونا حالين من الضمير في الجار والمجرور بعده: أي كاليد صحة وشللا (و) الذكر
(الأشل) كما في تحرير المصنف عن الأصحاب (منقبض لا ينبسط أو عكسه) أي منبسط لا ينقبض، أي يلزم حالة
واحدة من انقباض أو انبساط ولا يتحرك أصلا، وقيل هو الذي لا يتقلص في البرد ولا يسترسل في الحر، وهو بمعنى
الأول (ولا أثر) في القصاص في الذكر (للانتشار وعدمه، فيقطع فحل) أي ذكره (بخصي) وهو مقطوع الأنثيين
بجلدتيهما (وعنين) وهو العاجز عن الوطئ خلافا للأئمة الثلاثة. أما الثاني فلانه لا خلل في نفس عضوه، وتعذر
الانتشار لضعف في القلب أو الدماغ. وأما الأول فلسلامة ذكره وقدرته على الايلاج فهو آكد من ذكره الثاني،
ولا فرق في الذكر بين الأقلف و المختون وذكر الكبير والصغير (و) يقطع (أنف صحيح) شما وغيره (بأخشم)
وهو من فقد شمه، لأن الشم لا يحل جرم الانف وبأجذم وإن اسود لبقاء الجمال والمنفعة، ويقطع أنف سقط بعضه
ولو صحيحا بمثله ولو أجدم، فإن لم يسقط بعضه وكان صحيحا قطع من الصحيح مثل ما كان بقي من أنف المجني عليه
ولو أجذم إن أمكن (و) تقطع (أذن سميع بأصم) وهو من لا يسمع وعكسه كما فهم بالأولى لأن السمع ليس في
جرم الاذن، وكذا صحيحة بمستحشفة بكسر الشين المعجمة: أي بغير جناية وبمثقوبة ثقبا غير شائن لبقاء الجمال
والمنفعة من جميع الصوت ورد الهوام، بخلاف اليد والرجل الشلاوين، ولا تقطع صحيحة بمخرومة ومثقوبة لفوات
الجمال فيهما، والمخرومة ما قطع بعضها بل يقتص فيها بقدر ما بقي منها كما مر، وتقطع مخرومة بصحيحة ويؤخذ
34

أرش ما نقص منها، وثقب الاذن الشائن كالخرم فيما ذكر.
تنبيه: التصاق الاذن بعد الإبانة لا يسقط القصاص ولا الدية لأن الحكم يتعلق بالإبانة وقد وجدت ولا يوجب
قصاصا ولا دية بقطعها ثانيا لأنها مستحقة الإزالة ولا مطالبة للجاني بقطعها، وأما التصاقها وقطعها ثانيا قبل الإبانة
فيسقط القصاص والدية عن الأول ويواجههما على الثاني، وللمجني عليه حكومة على الجاني أولا، ويجب قطع الاذن
المبانة إذا التصقت إن لم يخف منه محذور التيمم لنجاسة باطن الاذن بالدم الذي ظهر في محل القطع، فقد ثبت له حكم
النجاسة فلا يزول بالاستبطان، بخلاف ما إذا كانت معلقة بجلدة، والتصقت فإنه لا يجب قطعها. وإنما أوجبنا القطع ثم الدم
لأن المتصل منه بالمبان قد خرج عن البدن بالكلية فصار كالأجنبي وعاد إليه بلا حاجة، ولهذا لم يعف عنه وإن قل،
بخلاف المتصل منه هنا، ولو استوفى المجني عليه بعض الاذن والتصق فله قطعه مع باقيها لاستحقاقه الإبانة. و (لا) تؤخذ
(عين صحيحة بحدقة عمياء) ولو مع بقاء سوادها وبياضها لأن العين القائمة كاليد الشلاء فلا تؤخذ بها المبصرة لأنها
أكثر من حقه لأن البصر في العين بخلاف السمع والشم، وتؤخذ العمياء بالصحيحة إن رضي بها المجني عليه لأنها
دون حقه.
تنبيه: لا يصح عطف عين على ما قبله لأن العامل فيما قبله وهو يقطع لا يصح تقديره هنا، ولذلك قدرت في
كلامه تؤخذ لأنه أنسب، ويقطع جفن البصير بجفن الأعمى لتساوي العضوين في الجرم والصحة، والبصر ليس في
الجفن، لكن لا يؤخذ جفن له أهداب بما لا أهداب له (ولا) يقطع (لسان ناطق) أي متكلم (بأخرس)
لأن النطق في جرم اللسان، ويجوز عكسه إن رضي المجني عليه لأنه دون حقه، ولا يجب معه شئ، ويقطع لسان ناطق
بلسان رضيع إن ظهر فيه أثر النطق بحيث يحركه عند البكاء وغيره، كذا قالاه هنا، لكن ذكرا في كتاب الديات
ما حاصله أن المذهب وجوب الدية في لسان الرضيع الذي لم يظهر فيه أثر النطق كقطع يده أو رجله لأن الظاهر السلامة
ومقتضى ذلك وجوب القصاص فيه ذكره الأسنوي. وأجيب بأنه لا يلزم من وجوب الدية وجوب القصاص لأنه يدرأ
بالشبهة، والأولى أن يقال: إن بلغ أوان النطق ولم يتكلم لم يجب القصاص وإن لم يبلغ ذلك وجب، ويحمل عليه قول
شيخنا في شرح الروض: والأوجه وجوبه كما لو قطع يده عقب الولادة فإنه يجب فيها القصاص. (وفي قلع السن قصاص)
قال تعالى * (والسن بالسن) * نعم لا تؤخذ التي بطل نفعها أو التي فيها صغر بحيث لم تصلح للمضغ، أو كان بها نقص
ينقص به أرشها كأن كانت إحدى ثنيتيه أنقص من الأخرى أو كانت مضطربة اضطرابا شديدا إلا بمثلها، ولا تؤخذ
صحيحة بمكسورة، ويجوز عكسه مع أرش الذاهب من المكسورة، وتؤخذ العليا بالعليا والسفلى بالسفلى، و (لا) قصاص
(في كسرها) بناء على ما سبق من عدم وجوب القصاص في كسر العظام. نعم إن أمكن فيها القصاص فعن النص أنه
يجب لأن السن عظم مشاهد من أكثر الجوانب، ولأهل الصنعة آلات قطاعة يعتمد عليها في الضبط فلم يكن كسائر
العظام، واحتج لذلك بحديث البخاري عن أنس بن النضر أن أخته الربيع كسرت ثنية جارية من الأنصار فطلبوا
الأرش وطلبوا العفو، فأتوا رسول الله (ص) فأمر بالقصاص، فقال أنس: أتكسر ثنية الربيع يا رسول الله؟ لا والذي
بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال (ص): كتاب الله القصاص فرضي القوم وعفوا وبنى على ذلك البلقيني
أنها لو قلعت ممن لم يثغر فعادت ناقصة اقتص في الزيادة إن أمكن (ولو قلع) شخص مثغور، وهو الذي سقطت رواضعه،
وهي أربع تنبت وقت الرضاع يعتبر سقوطها لا سقوط الكل، قاله في الأنوار، فتسمية غيرها بالرواضع مجاز علاقته
المجاورة، أو غير مثغور (سن) كبير أو (صغير لم يثغر) بضم أوله وسكون ثانيه المثلث وفتح ثالثه المعجم: أي لم
تسقط أسنانه الرواضع التي من شأنه السقوط، ومنها المقلوعة (فلا ضمان في الحال) بقصاص ولا دية لأنه لم يتحقق
إتلافها لأنها تعود غالبا فأشبه الشعر.
35

تنبيه: لو حذف المصنف صغير لكان أخصر، واستغنى عما قدرته (فإن جاء وقت نباتها بأن سقطت البواقي)
من الأسنان (وعدن) أي نبتن (دونها) أي المقلوعة (وقال أهل البصر) أي الخبرة (فسد المنبت) بحيث لا يتوقع نباتها
(وجب القصاص) فيها حينئذ لليأس من عودها. فإن قالوا: يتوقع نباتها إلى وقت كذا انتظر، فإن مضى الوقت ولم
تعد وجب القصاص (ولا يستوفى له) أي للصغير (في صغره) بل ينتظر بلوغه ليستوفي لأن القصاص للتشفي، وإنما ذكر
المصنف هذا وإن استغنى عنه بما سيأتي في قوله: وينتظر كمال صبيهم لأن ذاك في الوارث، وهذا في المستحق نفسه،
فإن مات قبل بلوغه اقتص وارثه في الحال أو أخذ الأرش، وإن مات قبل حصول اليأس وقبل تبين الحال فلا قصاص
لوارثه، وكذا لا دية على الأصح كما ذكره الشيخان في الديات.
تنبيه: سكت المصنف عما إذا نبتت سليمة لوضوحه فإنه لا قصاص فيها ولا دية، وإن نبتت سوداء أو معوجة أو
بقي شين أو نبتت أطول مما كانت أو نبتت معها سن ثانية فحكومة، وإن نبتت أقصر مما كانت وجب تقدير أرش النقص
من الأرش أو القصاص إن أمكن كما مر عن البلقيني (ولو قلع) مثغور (سن مثغور فنبتت) قبل أخذ مثلها من الجاني أو
الأرش عنها (لم يسقط القصاص في الأظهر) لأن عودها نعمة جديدة من الله تعالى، إذ لم تجر العاد به كما لو التحمت
الجائفة أو اندملت الموضحة أو نبتت اللسان، إذ لا يسقط بذلك دية ما ذكر، والثاني يسقط كالصغير إذا عاد سنه لأن
ما عاد قام الأول فكأنه لم يسقط، وعلى القولين للمجني عليه أن يقتص أو يأخذ الأرش في الحال ولا ينتظر عودها،
فإن نبتت بعد أخذ مثلها فليس للجاني قطعها ولا أخذ الأرش أو بعد أخذ الأرش فليس له استرداده.
تنبيه: في قلع سن المثغور النابتة القصاص، فإن قلعها منه الجاني وقد اقتص منه وجب عليه الأرش للقلع الثاني،
لأن ما وجب فيه القصاص وهو سن الجاني قد فات، وإن كان قد أخذ أرشها للقلع الأول اقتص منه للقلع الثاني وأخذ
منه الأرش، وإن لم يأخذ منه شيئا ولم يقتص لزمه قصاص وأرش أو أرشان بلا قصاص. وسكت المصنف عما لو قلع
بالغ غير مثغور سن مثغور، وحكمه أن المجني عليه مخير بين الأرش والقصاص ولا أرش كما في أخذ اليد الشلاء بدل
الصحيحة وانقطع طلبه بذلك، فلو عادت السن لم نقلع ثانيا، وخرج بالبالغ الصغير فإنه لا قصاص عليه، وعما لو قلع
غير مثغور سن مثله، وحكمه أنه لا قصاص ولا دية في الحال لما مر، فإن نبتت سن المجني عليه فلا قصاص ولا دية وإن
لم تنبت وقد دخل وقت نباتها اقتص من القالع أو أخذ منه الأرش، فإن اقتص ولم تعد سن الجاني فذاك وإن عادت
كان له قلعها ثانيا ليفسد منبتها كما أفسد منبته. فإن قيل قياس ما مر في قلع غير المثغور سن المثغور أنها لا تقلع هنا ثانيا.
أجيب بأن القصاص ثم إنما توجه لسن مماثلة لسن المجني عليه وهي لم توجد بعد، فلما لم يصبر إلى وجودها وقلع الموجودة
غير المماثلة سقط حقه كما في الشلاء، وهنا توجه إلى الموجودة لمماثلها المقلوعة، فإذا قلعها ولم يفسد منبتها قلع المعادة
ليفسد منبتها كمنبت المجني عليه، وظاهر هذا التعليل أنها تقلع ثالثا، وهكذا حتى يفسد منبتها، وظاهر ما تقدم
أنها إذا
طلعت سن المثغور ثانيا أنها نعمة جديدة أنها لا تقلع، وهو الظاهر، ولذلك اقتصروا على القلع ثانيا (ولو نقصت يده) أي
شخص (أصبعا) مثلا (فقطع) يدا (كاملة) أصابعها فإن شاء المجني عليه فله أخذ الأرش، وإن شاء (قطع) يد الجاني (وعليه) أي
الجاني (أرش أصبع) لأنه قطع منه أصبعا لم يستوف قصاصها فيكون له أرشها، وعكس هذه الصورة (و) هو (لو قطع كامل) أصابع
اليد يدا (ناقصة) أصبعا مثلا (فإن شاء المقطوع أخذ دية أصابعه الأربع، وإن شاء لقطها) لأنها داخلة في الجناية، ويمكن استيفاء
36

القصاص فيها، وليس له قطع اليد الكاملة لما فيه من استيفاء الزيادة، ولا لقط البعض وأخذ أرش الباقي (والأصح أن
حكومة منابتهن تجب إن لقط) المقطوع الأصابع الأربع، و (لا) تجب لأنها من جنس الدية (إن أخذ ديتهن) بل تندرج
الحكومة في ذلك لأنها من جنس الدية فدخلت فيها دون القصاص فإنه ليس من جنسها، والثاني تجب إذا لقطهن
وتدخل تحت قصاص الأصابع كما تدخل تحت ديتها، فإنه أحد موجبي الجناية (و) الأصح (أنه يجب في الحالين) وهما
حالة اللفظ، وحالة أخذ الدية (حكومة خمس الكف) الباقي، وهي ما يقابل منبت أصبعه الباقية. أما حالة لقط الأصابع
فجزما كما في الشرح والروضة، وإن أوهم كلام المصنف جريان الخلاف فيه، وأما في حالة أخذ الدية فعلى الأصح لأنه
لم يستوف في مقابلته شئ يتخيل اندراجه فيه، والثاني المنع وهو خاص بحالة أخذ الدية كما تقرر لأن كل أصبع يستتبع
الكف كما يستتبعها كل الأصابع، ويأتي ما ذكر فيما لو كانت يد الجاني زائدة أصبع ويد المجني
عليه معتدلة فلقط المجني عليه أصابع الجاني الخمس (ولو قطع) شخص (كفا بلا أصابع) عليها (فلا قصاص) عليه (إلا أن تكون كفه) أي القاطع
(مثلها) لفقد المساواة في الأولى ووجودها في الثانية.
تنبيه: قوله: إلا أن تكون كفه مثلها إن حمل على حالة الجناية اقتضى أن وجود الأصابع مانع من الوجوب
وليس مرادا بل إنما هو مانع من الاستيفاء لا الوجوب، فإذا سقطت الأصابع حصلت القدرة على القصاص في الكف
فيقتص كما صرحوا به فيما إذا قطع سليم اليد الأنملة الوسطى ممن هو فاقد الأنملة العليا كما مرت الإشارة إليه وإن حمل
قوله: تكون على قصير صح، ويؤخذ منه ما لو كان فاقدها عند الجناية بطريق الأولى (ولو قطع فاقد الأصابع كاملها
قطع) المستحق (كفه وأخذ دية الأصابع) لأنه لم يستوف شيئا في مقابلتها.
تنبيه: هذه المسألة قد علمت مما مر في قوله: ولو قطع ناقص اليد أصبع يد كاملة (ولو شلت) بفتح الشين المعجمة
كما في الصحاح، وحكى غيره الضم (إصبعاه) مثلا (فقطع يدا كاملة فإن شاء) المجني عليه (لقط) أصابع الجاني (الثلاث
السليمة لأنها مساوية لأصابعه (وأخذ دية إصبعين) لتعذر الوصول إلى تمام حقه مع ثلاثة أخماس حكومة الكف
على
الأصح وسكت المصنف عن ذلك هنا لفهمه مما سبق فيما لو قطع كامل ناقصة (وإن شاء) المقطوع (قطع يده
وقنع بها) وليس له طلب أرش الإصبعين الشلاوين كما لو كانت يده شلاء جميعها لا يستحق شيئا مع قطعها ففي
البعض أولى.
تتمة: لو قطع من له ست أصابع أصلية يدا معتدلة لقط المعتدل خمس أصابع وأخذ سدس دية يد وحكومة خمسة
أسداس الكف ويحط شئ من الثلث بالاجتهاد، ولو التبست الزائدة بالأصلية فلا قطع، فإن لقط خمسا كفاه ويعزر
ولو قطع ذو الست أصبع معتدل قطعت أصبعه المماثلة للمقطوعة وأخذ منه ما بين خمس دية اليد وسدسها، وهو بعير وثلثان
لأن خمسها عشرة وسدسها ثمانية وثلث والتفاوت بينهما ما ذكرناه، ولو قطع معتدل اليد ذات الست الأصلية قطع يده
وأخذ منه شئ للزيادة المشاهدة، فإن قطع أصبعا منها فلا قصاص عليه لما فيه من أخذ خمس بسدس، بل يجب عليه
سدس دية وإن قطع إصبعين منها قطع صاحبها منه أصبعا وأخذ ما بين خمس دية يد وثلثها وهو ستة أبعرة وثلثان،
وإن قطع منها ثلاثا قطع منه إصبعان وأخذ ما بين نصف دية اليد وخمسيها وهو خمسة أبعرة وتقطع أصبع ذات أربع أنامل
أصلية بمعتدلة كما جزم به ابن المقري وجرى عليه البغوي في تعليقه إذ لا تفاوت بين الجملتين بخلاف من له ست أصابع
37

لا تقطع بمن له خمس كما مر لوجود الزيادة في منفصلات العدة، وقيل لا تقطع بها وجرى عليه البغوي في تهذيبه بل يقطع
ثلاث أنامل ويؤخذ التفاوت، وتقطع أنملة من له أربع أنامل بأنملة المعتدل مع أخذ ما بين الثلث والربع من دية أصبع
وهو خمسة أسداس بعير، لأن أنملة المعتدل ثلث أصبع، وأنملة القاطع ربع أصبع، وإن قطعها المعتدل فلا قصاص ولزمه
ربع دية أصبع، وإن قطع منه المعتدل أنملتين قطع منه أنملة وأخذ منه ما بين ثلث ديتها ونصفها، وهو بعير وثلثان.
فصل: في اختلاف ولي الدم والجاني. إذا (قد) شخص شخصا (ملفوفا) في ثوب أو هدم عليه جدارا (وزعم)
أي ادعى (موته) حين الفقد أو الهدم، وادعى الولي حياته حينئذ (صدق الولي بيمينه في الأظهر) وإن كان ملفوفا على هيئة
التكفين، لأن الأصل بقاء الحياة فأشبه من قتل من عهده مسلما وادعى ردته والثاني يصدق الجاني، وصححه الشيخ
في التنبيه وأقره المصنف عليه في تصحيحه، لأن الأصل براءة الذمة. وقيل: يفرق بين أن يكون ملفوفا على هيئة التمكين
أو في ثياب الاحياء، قال الإمام: وهذا لا أصل له.
تنبيه: محل الخلاف إذا تحققت حياته قبل ذلك، أما إذا لم تحقق فينبغي كما قال البلقيني أن يقطع بتصديق الجاني
لأن الأصل براءة الذمة ولم يعارضه أصل آخر، وإذا حلف الولي فيحلف يمينا واحدا، بخلاف نظيره في القسامة يحلف
خمسين يمينا لأن الحلف تم على القتل وهنا على حياة المجني عليه، وسوى البلقيني بين البابين والفرق ظاهر،
والواجب
يحلف الولي الدية لا القصاص كما صرح به في الروضة لأنه يدرأ بالشبهة، بخلاف ما لو ادعى على الوكيل في القتل عفو الولي
ونكل عن اليمين وحلف الولي فإنه يستحق عليه القصاص، لأن اليمين المردودة كالبينة أو كالاقرار وكلاهما يثبت به
القصاص، وللولي أن يقيم بينة بحياة الملفوف، ولمن رآه يلتف أو يدخل البيت الشهادة بحياته، وإن لم يتيقنها حالة القد
أو الهدم استصحابا لما كان، ولا تقبل شهادته بأنه رآه يلتف أو يدخل البيت. (ولو) قتل شخصا ثم ادعى رقه وأنكر
الولي صدق الولي بيمينه لأنه الغالب والظاهر الحرية، ولهذا حكمنا بحرية اللقيط المجهول وإن (قطع طرفا) لغيره أو جنى
على عضو (وزعم) نقصه كشلل أو خرس أو فقد أصبع وأنكر المجني عليه (فالمذهب تصديقه) أي الجاني بيمينه (إن
أنكر أصل السلامة في عضو ظاهر) كاليد والرجل واللسان والعين (وإلا) بأن اعترف بأصل السلامة أو أنكره في عضو
باطن كالفخذ (فلا) يصدق الجاني بل المجني عليه بيمينه، والفرق عسر إقامة البينة في الباطن دون الظاهر، والأصل عدم
حدوث نقصه. والثاني تصديق الجاني مطلقا لأصل البراءة. والثالث تصديق المجني عليه مطلقا لأصل السلامة، وهذه
الأقوال الثلاثة مختصرة من طرق.
تنبيه: لو قال بدل قطع: جنى على عضو لكان أولى ليشمل ضوء العين وذهاب السمع والشم ونقصهما، والمراد
بالباطن كما قاله الرافعي ما يعتاد ستره مروءة، وقيل ما يجب وهو العورة، وعلى هذا يختلف حكم الرجل والمرأة، وإذا
صدق المجني عليه قال الشارح: فالواجب الدية وهو قياس ما مر في قد الملفوف، والذي صرح به الماوردي ونقله ابن
الرفعة عن مقتضى كلام البندنيجي والأصحاب وجوب القصاص، واستشكله بما مر في الملفوف. وفرق غيره بأن الجاني
ثم لم يعترف ببدل أصلا بخلافه هنا، وإذا صدقنا الجاني احتاج المجني عليه إلى بينة بالسلامة، ثم الأصح أنه يكفي قول
الشهود كان صحيحا، ولا يشترط تعرضهم لوقت الجناية ولهم الشهادة بسلامة اليد والذكر برؤية الانقباض والانبساط،
وسلامة البصر برؤية توقيه المهالك وإطالة تأمله لما يراه بخلاف التأمل اليسير لأنه قد يوجد من الأعمى، ولو قطع
شخص كف آخر مثلا واختلفا في نقص أصبع صدق المنكر الوجود بيمينه. (أو) قطع (يديه ورجليه فمات) المجني
عليه (وزعم) الجاني (سراية) أي أنه مات بالسراية، أو قال: قتلته قبل الاندمال فتجب دية واحدة (و) زعم (الولي
38

اندمالا ممكنا) قبل موته (أو) زعم (سببا) آخر للموت عينه كقوله: قتل نفسه أو قتله آخر (فالأصح)
المنصوص
(تصديق الولي) بيمينه لأن الأصل عدم السراية، ولموافقته الظاهر فتجب ديتان. والثاني تصديق الجاني بيمينه لاحتمال
السراية فتجب دية واحدة، واحترز بممكن عما لا يمكن لقصر زمنه كقوله: اندمل الجرح بعد يوم أو يومين فيصدق
الجاني في قوله بلا يمين كما صرح به الرافعي، أما إذا لم يعين الولي السبب فينظر إن أمكن الاندمال صدق الولي بيمينه
أنه مات بسبب آخر، وإن لم يمكن الاندمال صدق الجاني أنه مات بالسراية أو بقتله. قال ابن المقري: بيمينه وهو كما
قال شيخنا ظاهر في دعوى قتله، أما في دعوى السراية فيصدق بلا يمين كنظيره في المسألة السابقة. ولو قال الولي للجاني:
أنت قتلته بعد الاندمال فعليك ثلاث ديات، وقال الجاني: بل قبل الاندمال فعلي دية، وأمكن الاندمال حلف كل
منهما على ما ادعاه وسقطت الثالثة بحلف الجاني، فحلفه أفاد سقوطها وحلف الولي أفاد دفع النقص عن ديتين فلا
يوجب زيادة، فإن لم يمكن الاندمال حلف الجاني عملا بالظاهر (وكذا لو قطع يده) ومات (وزعم) الجاني (سببا)
آخر للموت غير القطع كشرب سم موح وهو بضم الميم وفتح الواو وتشديد الحاء المهملة الذي يقتل في الحال حتى لا يلزمه
إلا نصف دية (و) زعم (الولي سراية) من قطع الجاني فعليه كل الدية، فإن الأصح تصديق الولي بيمينه سواء أعين
الجاني السبب أم أبهمه، لأن الأصل عدم وجود سبب آخر، وقدم هذا الأصل على أصل براءة الذمة لتحقق الجناية،
فإن قيل: قياس ما تقدم في المسألة قبلها من تصحيح تصديق الولي أنه مات بسبب آخر بشرطه السابق تصديق الجاني
هنا لأن الأصل عدم وجود سبب آخر. أجيب بأنا إنما صدقنا الولي ثم مع ما ذكر لأن الجاني قد اشتغلت ذمته ظاهرا
بديتين ولم يتحقق وجود المسقط لإحداهما وهو السراية فكانت الإحالة على السبب الذي ادعاه الولي أقوى، إذ دعواه
قد اعتضدت بالأصل وهو شغل ذمة الجاني، وإن عاد الجاني بعد قطع يده فقتله وادعى أنه قتله قبل الاندمال حتى
تلزمه دية وادعى الولي أنه قتله بعده حتى يلزمه دية ونصف صدق الجاني بيمينه، لأن الأصل عدم الاندمال، ولو تنازع
الولي وقاطع اليدين أو اليد في مضي زمن إمكان الاندمال صدق منكر الامكان بيمينه، لأن الأصل عدمه، ولو قطع
شخص أصبع آخر فداوى جرحه ثم سقطت الكف، فقال المجروح تأكل من الجرح، وقال الجاني من الدواء صدق
المجروح بيمينه عملا بالظاهر إلا إن قال أهل الخبرة إن هذا الدواء يأكل اللحم الحي والميت فيصدق الجارح بيمينه.
(ولو أوضحه موضحتين ورفع الحاجز) بينهما والجميع عمد أو بشبهة أو خطأ (وزعمه) أي الرفع (قبل
اندماله)
أي الايضاح حتى يجب أرش واحد، وزعم الجريح أن الرفع بعد الاندمال حتى يجب أرش ثلاث موضحات (صدق)
الجاني بيمينه (إن أمكن) عدم الاندمال بأن قصر الزمان لأن الظاهر معه (وإلا) بأن لم يمكن عدم الاندمال بأن
طال الزمان (حلف الجريح) أنه بعد الاندمال (وثبت) له (أرشان) للموضحتين الأولى والثانية عملا بالظاهر في الحالين
(قيل و) أرش (ثالث) لرفع الحاجز بعد الاندمال مال لأنه ثبت رفع الحاجز باعترافه وثبت الاندمال بيمين المجني عليه
فحصلت وضحة ثالثة، وأجاب الأول بأن حلفه دافع للنقص عن أرشين فلا يوجب أرشا آخر.
تتمة: لو قال المجني عليه: أنا رفعت الحاجز أو رفعه آخر، وقال الجاني: بل أنا رفعته أو رفع بالسراية، صدق
المجني عليه بيمينه لأن الموضحتين موجبتان أرشين، فالظاهر ثبوتهما واستمرارهما، وإن قال الجاني: لم أوضح إلا واحدة،
وقال المجني عليه: بل أوضحت موضحتين وأنا رفعت الحاجز بينهما، صدق الجاني بيمينه لأن الأصل براءة الذمة ولم
يوجد ما يقتضي وجوب الزيادة.
فصل: في مستحق القصاص ومستوفيه (الصحيح) المنصوص (ثبوته) أي القصاص في النفس ابتداء
لا تلقيا من القتيل (لكل وارث) خاص من ذوي الفروض والعصبة، أي يرثه جميع الورثة لا كل فرد فرد من الورثة
39

كما يوهمه كلامه وإلا لجاز انفراد الواحد منهم بالقصاص وليس مرادا، ويقسم القصاص بين الورثة على حسب إرثهم
لأنه حق يورث فكان كالمال، فلو خلف قتيل زوجته ابنا كان لها الثمن وللابن الباقي، والثاني يثبت للعصمة الذكور
خاصة لأن القصاص لرفع العار فاختص بهم كولاية النكاح، والثالث يستحقه الوارثون بالنسب دون السبب لانقطاعه
بالموت فلا حاجة إلى التشفي. أما قصاص الطرف إذا مات مستحقه فإنه يثبت لجميع الورثة قطعا. قال البلقيني: ويحتمل
جريان الخلاف الذي في النفس فيه لكنهم لم يذكروه.
تنبيه: قد سبق أن المجروح إذا ارتد ومات بالسراية فنفسه هدر ويستوفي جرحه قريبه المسلم مع أنه غير وارث،
وخرج بالوارث الخاص العام فإن فيه قولين هل يقتص أو لا؟ وأظهرهما أنه يقتص، وعليه فيقتص الإمام مع الوارث
غير الحائز، وله أن يعفو على مال إن رأى المصلحة في ذلك، وقياس توريث ذوي الأرحام في غير القصاص أن يقال
به فيه أيضا، ومحل ثبوته للورثة في غير قطع الطريق، أما فيه فالقصاص حتى يتم بشرطه الآتي في باب قاطع الطريق
ويتعلق بالإمام دون الورثة. (وينتظر) حتما في غير قاطع الطريق (غائبهم) إلى حضوره أو إذنه (وكمال صبيهم) ببلوغه
عاقلا (و) كمال (مجنونهم) بإفاقته لأن القصاص للتشفي فحقه التفويض إلى خيرة المستحق فلا يحصل
باستيفاء غيره
من ولي أو حاكم أو بقية الورثة، ولو حكم للكبير حاكم باستيفاء القصاص لم ينقض حكمه في أصح الوجهين، حكاهما
والد الروياني عن جده، وإذا كان الصبي والمجنون فقيرين محتاجين للنفقة جاز لولي المجنون غير الوصي العفو على الدية
دون ولي الصبي على الأصح في الروضة في كتاب اللقيط، لأن الصبي غاية تنتظر بخلاف المجنون. وقيل يجوز للولي
في الصبي أيضا، وجرى عليه في التنبيه وأقره عليه المصنف في تصحيحه ونبهت في شرحه على ضعفه. أما في قاطع
الطريق فلا ينتظر ما ذكر كما قاله الزركشي فإنه لا يصح العفو عنه (ويحبس القاتل) أو القاطع حتما كما جزم به
الماوردي والروياني إلى أن يزول المانع حفظا لحق المستحق، لأنه استحق قتله، وفيه إتلاف نفس ومنفعة، فإذا تعذر
استيفاء نفسه أتلفنا منفعته بالحبس، ولا يحتاج الحاكم في حبسه بعد ثبوت القتل عنده إلى إذن الولي والغائب كما قاله
الروياني وغيره (ولا يخلى بكفيل) لأنه قد يهرب فيفوت الحق.
تنبيه: محل الحبس في غير قاطع الطريق، أما فيه فالقصاص متحتم بشرطه فلا يؤخر. ولينفقوا) أي مستحقو
القصاص المكلفون الحاضرون (على مستوف) له منهم أو من غيرهم وليس لهم أن يجتمعوا على مباشرة استيفائه
لأن فيه زيادة تعذيب للجاني، ويؤخذ من العلة أن لهم ذلك إذا كان القصاص بنحو إغراق أو تحريق وهو كذلك كما
صرح به البلقيني.
تنبيه: يشترط في المستوفي الذي يتفقون عليه أن يكون مسلما إذا كان المقتول مسلما، وأن لا يكون من
المستحقين للقصاص إذا كان القصاص في طرف، بل يتعين توكيل أجنبي إذا لم يأذن الجاني كما سيأتي (وإلا) بأن
لم يتفقوا على مستوف، بل أراد كل منهم أو بعضهم أن يستوفيه بنفسه (فقرعة) بينهم واجبة كما قاله الروياني لعدم
المزية، فمن خرجت قرعته تولاه بإذن الباقين بعدها بخلاف نظيره في التزويج، فإن من خرجت قرعته من الأولياء
يزوج ولا يحتاج إلى إذنهم بعدها، لأن القصاص مبني على الدرء والاسقاط، ولجميعهم ولبعضهم تأخيره كإسقاطه،
والنكاح لا يجوز تأخيره عند الطلب.
تنبيه: محل وجوب القرعة إذا كان القصاص بجارح أو مثقل يحصل به زيادة تعذيب، فإن كان بإغراق أو تحريق
أو رمي صخرة أو نحو ذلك فللورثة الاجتماع عليه كما مر ولا حاجة للقرعة وعلى وجوب القرعة (يدخلها العاجز)
عن الاستيفاء كشيخ وامرأة، لأنه صاحب كالقادر (ويستنيب وقيل) وهو الأصح عند الأكثرين كما في الروضة
(لا يدخل) وصححه في الشرح الصغير ونص عليه في الام. وقال البلقيني: إنه هو المعتمد في الفتوى. وقال الروياني
40

في البحر: إن الأول غلط لأنها للاستيفاء فيختص بأهله، وعلى هذا لو خرجت لقوي فعجز قبل الاستيفاء أعيدت للباقين.
تنبيه: ظاهر كلامهم في المرأة تخصيصها بالعاجزة، فلو كانت قوية جاز لها الاستيفاء، وبه صرح القاضي.
(ولو بدر) أي أسرع (أحدهم) أي المستحقين للقصاص (فقتله) أي الجاني قبل العفو (فالأظهر) أنه (لا قصاص)
عليه، لأن له حقا في قتله فيدفع حقه العقوبة عنه كما إذا وطئ أحد الشريكين الأمة المشتركة لا يلزمه الحد (وللباقين)
من المستحقين (قسط الدية) لفوات القصاص بغير اختيارهم (من تركته) أي الجاني، لأن المبادر فيما وراء حقه
كالأجنبي. ولو قتله أجنبي أخذ الورثة الدية من تركة الجاني لا من الأجنبي فكذا هنا، ولو ورث الجاني على المبادر قسط ما زاد
على قدر حصته من الدية (وفي قول من المبادر) لأنه أتلف ما يستحقه هو وغيره فيلزمه ضمان حق غيره، وفي قول
مخرج أنهم بالخيار، ومقابل الأظهر عليه القصاص لأنه استوفى أكثر من حقه فأشبه ما لو استحق طرفا فاستوفى نفسا،
وعلى هذا إذا اقتص منه استحق ورثته قسطه من تركة الجاني كالباقين.
تنبيه: محل الخلاف ما إذا علم تحريم القتل ولم يحكم حاكم له بقصاص ولا منع، فإن جهله أو حكم له به حاكم
فلا قصاص قطعا، أو حكم حاكم بمنعه من القصاص فعليه القصاص جزما، وفيمن يحمل الدية إذا قتله المبادر جاهلا
بالتحريم قولان: أوجههما كما قاله بعض المتأخرين أنها على العاقلة. (وإن بادر بعد عفو غيره) من المستحقين (لزمه
القصاص) في الأصح، سواء أعلم بعفو غيره أم لا لارتفاع الشبهة، لأن حقه من القود سقط بعفو غيره. فإن قيل:
الوكيل إذا اقتص جاهلا بالعزل لا قصاص عليه فهلا كان هنا كذلك؟. أجيب بأن الوكيل يجوز له الاقدام بغير
إذن ولا يجوز لاحد الورثة الاقدام بعد خروج القرعة إلا بإذن منهم.
تنبيه: بادر: لغة في بدر (وقيل لا) قصاص عليه (إن لم يعلم) بعفو غيره (و) لم (يحكم قاض به) أي بنفي
القصاص عن المبادر، وظاهر عبارته اختصاص جريان هذا الوجه بانتفاء العلم والحكم معا وليس مرادا، بل أحدهما
كاف إلا أن يحمل على أن الواو في كلامه بمعنى أو فيصح، ويوجه عدم القصاص في نفيهما أو العلم فقط بعدم العلم،
وفي نفي الحكم بشبهة اختلاف العلماء، فإن منهم من ذهب إلى أن لكل وارث من الورثة الانفراد باستيفاء القصاص.
تنبيه: أفهم كلامه أن الخلاف وجهان مع أنه قولان كما صوبه الزركشي، وأفهم أيضا لزوم القصاص في صورة
الجهل بالعفو، وهو الظاهر وإن لم يصرح فيها في الروضة بتصحيح، وأفهم أيضا لزوم القصاص جزما بعد العلم بالعفو
وحكم الحاكم بالسقوط، وبه صرح في الروضة وأصلها، وإذا اقتص منه للجاني فنصيبه لورثته في تركة الجاني، فإن عفا
عنه وارث الجاني عمل بمقتضى العفوين من وجوب المال وعدمه (ولا يستوفي قصاص) في نفس أو غيرها (إلا بإذن
الإمام) فيه لخطره، ولان وجوبه يفتقر إلى اجتهاد لاختلاف الناس في شرائط الوجوب والاستيفاء.
تنبيه: المراد بالإمام هنا الأعظم أو نائبه، وكذا القاضي كما صرح به الماوردي واقتضاه كلام الرافعي في باب
أدب القضاء. فإنه ذكر أن القاضي يستفيد بولايته إقامة الحدود، وظاهر كلام المصنف أنه لا يشترط حضور الإمام، بل
يكفي إذنه وهو كذلك، لكن يسن حضوره أو نائبه وحضور شاهدين وأعوان السلطان وأمر المقتص منه بما عليه من
صلاة يومه وبالوصية بماله وعليه، وبالتوبة والرفق في سوقه إلى موضع الاستيفاء، وستر عورته وشد عينيه وتركه ممدود
العنق وكون السيف صارما إلا إن قتل بكال فيقتص به. ويشترط أن لا يكون السيف مسموما، ويستثنى من اعتبار
إذن الإمام صور: إحداها السيد فإنه يستوفي القصاص من رقيقه على الأصح كما اقتضاه كلام الشيخين. ثانيها
إذا انفرد بحيث لا يرى كما بحثه ابن عبد السلام، وفي معناه كما قال الزركشي ما إذا كان بمكان لا إمام فيه، ويوافقهما
قول الماوردي: أن من وجب له على شخص حد قذف أو تعزير وكان ببادية بعيدة عن السلطان له استيفاؤه إذا قدر
41

عليه بنفسه، ثالثها إذا كان المستحق مضطرا فله قتله قصاصا وأكله، قال الرافعي في بابه. (فإن استقل) مستحق القصاص
بالاستيفاء في غير ما استثنى اعتد به، لأنه استوفى حقه، و (عزر) لافتياته على الإمام، ويؤخذ من ذلك أنه إذا كان
جاهلا بالمنع أنه لا يعزر، وهو ظاهر كما بحثه الزركشي لأنه مما يخفى. ولو قتل الجاني بكال ولم تكن الجناية بمثله،
أو بمسموم كذلك عزر، وإن استوفى طرفا بمسموم فمات لزمه نصف الدية من ماله، فإن كان السم موحيا لزمه القصاص
(ويأذن) الإمام أو من ذكر معه (لأهل) من مستحقي القصاص في استيفائه بنفسه (في نفس) إذا طلب ذلك ليكمل
له التشفي، واحترز بالأهل عن غيره كالشيخ والزمن والمرأة، فإن الإمام يأمره أن يستنيب لما في استيفائه بنفسه من
التعذيب، وعما إذا قتل ذمي ذميا ثم أسلم القاتل فإنه لا يمكن الوارث الذمي من القصاص، فإنه غير أهل في الاستيفاء
من مسلم لئلا يتسلط كافر على مسلم ويأذن له في الاستنابة، ويؤخذ من ذلك أنه لا يصح أن يوكل المسلم ذميا في الاستيفاء
من مسلم، وبه صرح الرافعي في كتاب البغاة، وألحق به الشيخ عز الدين عدو الجاني لما يخشى منه من الحيف، و (لا)
يأذن لأهل (في طرف في الأصح) المنصوص لأنه لا يؤمن منه الحيف بترديد الآلة مثلا فيسري أو يزيد في التعذيب،
والثاني يأذن له كالنفس لأن إبانة الطرف مضبوطة، ولا يأذن أيضا في حد قذف، فإن تفاوت الضربات كثير، وهو
حريص على المبالغة، فلو فعل لم يجز كما في التعزير.
تنبيه: سكت المصنف عن المنافع وحكمها حكم الطرف، فإذا قلع عينه لم يمكن من الاستيفاء بالقلع، بل يؤمر
بالتوكيل فيه كما ذكره في التنبيه وأقره المصنف عليه في التصحيح (فإن أذن) من مر لأهل في الاستيفاء (في ضرب
رقبة فأصاب غيرها) كأن ضرب كتفه (عمدا) بأن اعترف به (عزر) لتعديه (ولم يعزله) الإمام في الأصح لوجود
الأهلية وإن تعدى بفعله، وقيل يعزله، لأنه لا يؤمن أن يتعدى ثانيا (ولو قال: أخطأت وأمكن) الخطأ عادة كأن
ضرب رأسه مما يلي الرقبة (عزله) لأن حاله يشعر بعجزه فلا يؤمن أن يخطئ ثانيا (ولم يعزر) بضم أوله إن
حلف أنه أخطأ لعدم تعديه، واحترز بأمكن عما إذا ادعى الخطأ فيما لا يقع الخطأ بمثله كما إذا ضرب رجله أو وسطه
فإنه يلتحق بالعمد.
تنبيه: ما أطلقه المصنف من العزل مخصوص كما قال الإمام بمن لم تعرف مهارته في ضرب الرقاب. أما هو فلا
يعزل لخطأ اتفق له (وأجرة الجلاد) في الحدود والقصاص، وهو المنصوب لاستيفائهما، وصف بأغلب أوصافه، ولو
عبر بالمقتص لكان أولى، لأن الكلام في استيفاء القصاص لا في جلد محدود (على الجاني) الموسر (على الصحيح)
المنصوص إن لم ينصب الإمام جلادا ويرزقه من مال المصالح لأنها مؤونة حق لزمه أداؤه كأجرة كيال المبيع على البائع ووزن
الثمن على المشتري، فإن نصبه فلا أجرة على الجاني وإن كان معسرا اقترض له الإمام على بيت المال أو استأجره
بأجرة مؤجلة، أي على بيت المال أيضا أو سخر من يقوم به على ما يراه والثاني هي في الحد في بيت المال وفي القصاص
على المقتص، والواجب حينئذ على الجاني التمكين.
تنبيه: قد يفهم كلام المصنف أنه لو قال الجاني: أنا أقتص من نفسي ولا أؤدي الأجرة لا يجاب، وهو الأصح
لفقد التشفي، فإن أجيب وفعل أجزأ في أصح الوجهين كما قاله الأذرعي لحصول الزهوق وإزالة الطرف بخلاف الجلد
لا يجزئ لأنه قد لا يؤلم نفسه ويوهم الايلام، فلا يتحقق حصول المقصود، ولو أذن الإمام للسارق في قطع يده جاز
وإن قال الدميري: الصحيح أنه لا يمكن من قطع يد نفسه فقد نسب للسهو، ويجزئ عن الحد وإن خالف الرافعي
في الباب الثاني من أبواب الوكالة، لأن الغرض منه التنكيل، وهو يحصل بذلك بخلاف الزاني، والقاذف لا يجوز فيه
ذلك ولا يجزئ لما مر. (ويقتص) المستحق (على الفور) أي يجوز له ذلك في النفس جزما وفي الطرف على
42

المذهب، لأن القصاص موجب الاتلاف فيتعجل كقيم المتلفات والتأخير أولى لاحتمال العفو (و) يقتص (في الحرم)
لأنه قتل لو وقع في الحرم لم يضمن فلا يمنع منه كقتل الحية والعقرب، وسواء التجأ إليه أم لا لأن النبي صلى الله
عليه وسلم لما دخل مكة يوم الفتح قيل له إن ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال اقتلوه. وفي الصحيحين إن الحرم
لا يعيذ فارا بدم ولان القصاص على الفور فلا يؤخر.
تنبيه: يستثنى من قوله: على الفور ما لو التجأ إلى الكعبة أو المسجد الحرام أو غيره من المساجد كما قاله الإمام
أو ملك إنسان فيخرج منه، ويقتل صيانة للمسجد ولأنه يمتنع استعمال ملك الغير بغير إذنه لأن التأخير المذكور يسير.
وظاهر كلام الرافعي أن الاستيفاء في المسجد حرام، وهو كذلك إن خيف التلويث، وإلا فمكروه كما قاله المتولي،
وكذا لو التجأ إلى مقابر المسلمين ولم يمكن قتله إلا بإراقة الدم عليها كما قال البلقيني (و) يقتص في (الحر والبرد والمرض)
وإن كان مخطرا، وكذا لا يؤخر الجلد في القذف.
تنبيه: شمل إطلاقه قصاص الطرف، وهو ما نقلاه عن قطع الغزالي والبغوي وغيرهما، وما نقل عن نص
الام من أنه يؤخر محمول على الندب بخلاف قطع السرقة والجلد في حدود الله تعالى، لأن حقوق الله تعالى مبنية على
التخفيف وللمجني عليه أن يقطع الأطراف متوالية ولو فرقت من الجاني لأنها حقوق واجبة في الحال (وتحبس
الحامل) عند طلب المستحق حبسها (في قصاص النفس أو الطرف) أو المعنى أو حد القذف كما هو مقتضى كلام ابن
المقري (حتى) تضع ولدها و (ترضعه اللبأ) وهو بهمز وقصر اللبن أول الولادة، ولا بد من انقضاء النفاس كما قاله
ابن الرفعة (ويستغنى) ولدها (بغيرها) من امرأة أخرى أو بهيمة يحل لبنها (أو فطام حولين) إن فقد ما يستغني الولد
به، هذا كالمستثنى من فورية القصاص. أما تأخيرها إلى الوضع في قصاص النفس فبالاجماع كما قاله القاضي أبو الطيب،
ولأنه اجتمع فيها حقان: حق الجنين، وحق الولي في التعجيل، ومع الصبر يحصل استيفاء الجنين، فهو أولى من
تفويت أحدهما. وأما في قصاص الطرف أو المعنى أو حد القذف فلان في استيفائه قد يحصل إجهاض الجنين وهو متلف
له غالبا وهو برئ فلا يهلك بجريمة غيره، ولا فرق بين أن يكون الجنين من حلال أو حرام، ولا بين أن يحدث بعد
وجوب العقوبة أو قبلها حتى أن المرتدة لو حملت من الزنا بعد الردة لا تقتل حتى تضع حملها. وأما تأخيرها لارضاع
اللبأ فلان الولد لا يعيش إلا به محققا أو غالبا مع أن التأخير يسير. وأما تأخيرها للاستغناء بغيرها فلأجل حياة الولد
أيضا فإنه إذا وجب التأخير لوضعه فوجوبه بعد وجوده وتيقن حياته أولى. ويسن صبر الولي بالاستيفاء بعد وجود
مرضعات يتناوبنه أو لبن شاة أو نحوه حتى توجد امرأة راتبة مرضعة لئلا يفسد خلقه ونشؤه بالألبان المختلفة ولبن
البهيمة، وتجبر المرضعة بالأجرة، فلو وجد مراضع وامتنعن أجبر الحاكم من يرى منهن بالأجرة.
تنبيه: قوله: أو فطام حولين محله إذا تضرر بفطمه قبلهما ولم يتضرر به عندهما، وإلا فعل ما لا يتضرر به
من نقص في الأولى مع توافق الأبوين أو رضا السيد في ولد الأمة وزيادة في الثانية، فالتقييد بالحولين كما قال ابن الرفعة
نظرا للغالب، وهذا الحبس متعلق بنظر المستحق، فلا يحبسه الحاكم بغير طلب بخلاف الحبس لانتظار الغائب وكمال
الصبي والمجنون فإنه متعلق بالحاكم فيحبسه وإن لم يطلب المستحق.
فروع: لو بادر المستحق وقتلها بعد انفصال الولد قبل وجود ما يغنيه فمات لزمه القود فيه كما لو حبس رجلا
ببيت ومنعه الطعام حتى مات، فإن قتلها وهي حامل ولم ينفصل حملها أو انفصل سالما ثم مات فلا ضمان عليه لأنه لا يعلم
أنه مات بالجناية، فإن انفصل ميتا فالواجب فيه غرة وكفارة أو متألما ثم مات فدية وكفارة لأن الظاهر أن تألمه وموته
من موتها والدية والغرة على عاقلته لأن الجنين لا يباشر بالجناية، ولا تتيقن حياته فيكون هلاكه خطأ أو شبه عمد
بخلاف الكفارة فإنها في ماله، وإن قتلها الولي بأمر الإمام كان الضمان على الإمام
43

علما بالحمل أو جهلا، أو علم الإمام وحده لأن البحث عليه، وهو الآمر به والمباشر كالآلة لصدور فعله عن رأيه وبحثه، وبهذا فارق المكره حيث يقتص
منه، فإن علم الولي دونه فالضمان عليه لاجتماع العلم مع المباشرة، ولو قتلها جلاد الإمام جاهلا فلا ضمان عليه، أو عالما
فكالولي يضمن إن علم دون الإمام، وما ضمنه على عاقلته كالولي وإن قال ابن المقري إنه من ماله، فإن علم بالحمل
الإمام والجلاد والولي، فالقياس على ما مر كما قاله الأسنوي أن الضمان على الإمام هنا أيضا خلافا لما مر في الروضة من
أنها عليهم أثلاثا وحيث ضمنا الإمام الغرة فهي على عاقلته كما قاله الرافعي، وهو قياس ما مر كما قاله الأسنوي خلافا
لما في الروضة من أنها في ماله. وليس المراد بالعلم بالحمل حقيقة الحال، بل المراد ظن مؤكد بمخايله، ولو ماتت الام
في حد أو نحوه من العقوبة بألم الضرب لم تضمن لأنها تلفت بحد أو عقوبة عليها، وإن ماتت بألم الولادة فهي مضمونة
بالدية أو بهما فنصفها واقتصاص الولي منها جاهلا برجوع الإمام عن إذنه له في قتلها كوكيل جهل عزل موكله أو عفوه
عن القصاص، وسيأتي. (والصحيح) المنصوص في الام (تصديقها في حملها) إذا أمكن حملها عادة (بغير مخيلة)
لقوله تعالى: * (ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن) * أي من حمل أو حيض، ومن حرم عليه كتمان شئ
وجب قبوله إذا أظهره كالشهادة، ولقوله (ص): قول الغامدية في ذلك بل قال الزركشي: ينبغي أن يقال
بوجوب الاخبار عليها بذلك لحق الجنين، وقد حكى داود وجها فيما إذا لم تخبر به وقتلت أن الضمان يجب على عاقلتها،
وهو غريب اه‍. والثاني لا تصدق لأن الأصل عدم الحمل، وهي متهمة بتأخير الواجب فلا بد من بينة تقوم على
ظهور مخايله أو إقرار المستحق كما صرح به في الروضة وأصلها. وعلى الأول هل تحلف أو لا؟ رأيان:
أوجههما الأول
كما صرح به الماوردي، وجزم به ابن قاضي عجلون في تصحيحه على هذا الكتاب لأن لها غرضا في التأخير. وقال
الأسنوي: المتجه الثاني لأن الحق لغيرها وهو الجنين. قال الإمام: ولا أدري الذي يصدقها يقول بالصبر إلى انقضاء
مدة الحمل أم إلى ظهور المخايل؟ والأرجح الثاني فإن التأخير أربع سنين من غير ثبت بعيد اه. لا بعد في ذلك، فإن
الزوج ما دام يغشاها فاحتمال الحمل موجود وإن زادت المدة على أربع سنين. وقال الدميري: ينبغي أن يمنع الزوج من
الوطئ لئلا يقع حمل يمنع استيفاء ولي الدم، أما إذا لم يمكن حملها عادة كآيسة فلا تصدق كما نقله البلقيني عن النص،
فإن الحس يكذبها، وخرج بقصاص النفس وما ذكر معه من حدود الله تعالى فلا تحبس لها، ولا تستوفي أيضا مع وجود
المرضعة بل ترضعه هي ولا بعد الرضاع حتى يوجد له كافل. (ومن قتل بمحدد) كسيف أو بمثقل كحجر (أو خنق)
- بكسر النون - عن الجوهري، وبسكونها عن خاله الفارابي، وتبعه المصنف في تحريره مع تجويز فتح الخاء وكسرها، ومعناه
عصر الحلق (أو تجويع ونحوه) كتغريق أو تحريق أو إلقاء من شاهق (اقتص به) أي اقتص الولي بمثله، فإن المماثلة
معتبرة في الاستيفاء لقوله تعالى * (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به) * وقوله تعالى * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) * وقوله
تعالى * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) * وفي الصحيحين أن النبي (ص) رض
رأس يهودي بين حجرين وكان قد قتل جارية بذلك وروى البيهقي مرفوعا ومن حرق حرقناه ومن غرق غرقناه
و لأن المقصود من القصاص التشفي، وإنما يكمل إذا قتل القاتل بمثل ما قتل، وحديث النهي عن المثلة محمول على من
وجب قتله، لا على وجه المكافأة.
تنبيه: قوله: اقتص به: أي له ذلك، لا أنه يتعين، فلو عدل إلى السيف جاز جزما كما ذكره بعد، وكما تراعى
المماثلة في طريق القتل تراعى في الكيفية والمقدار، ففي التجويع يحبس مثل تلك المدة ويمنع الطعام، وفي الالقاء في الماء
أو النار يلقى في ماء ونار ومثلهما ويترك تلك المدة وتشد قوائمه عند الالقاء في الماء إن كان يحسن السباحة، وفي الخنق
يخنق بمثل تلك المدة، وفي الالقاء من الشاهق يلقى من مثله وتراعى صلابة الموضع، وفي الضرب بالمثقل
يراعى الحجم وعدد الضربات، وإذا تعذر الوقوف على قدر الحجر أو النار أو على عدد الضربات أخذ باليقين،
وقيل يعدل إلى السيف، هذا إذا عزم على أنه إن لم يمت بذلك قتله، فإن قال فإن لم يمت به عفوت عنه لم يمكن كما قاله
44

المتولي وغيره لما فيه من التعذيب. (أو) قتل (بسحر فبسيف) يقتل لأن عموم السحر حرام لا شئ مباح فيشبهه ولا ينضبط
وتختلف تأثيراته. وفي الخبر حد الساحر ضربة بالسيف رواه الترمذي.
تنبيه: هذه المسألة مستثناة من القاعدة المتقدمة لما ذكر، وكذا قوله (وكذا خمر) يقتل غالبا قتل جان بها كأن
وأجرها المجني عليه فبسيف يقتل الجاني (ولواط) يقتل غالبا كأن لاط بصغير فبسيف يقتل اللائط (في الأصح) فيهما،
وعبر في الروضة بالصحيح، لأن المماثلة ممتنعة لتحريم الفعل فيتعين السيف، والثاني في الخمر يوجر مائعا كخل أو ماء،
وفي اللواط يدس في دبره خشبة قريبة من آلته ويقتل بها، وفي معنى اللواط: ما لو جامع صغيرة فقتلها كما في المحرر،
ولكن يتعين في هذه العدول إلى السيف قطعا قاله الزركشي.
تنبيه: كلام المصنف مشعر باختصاص المماثلة بالنفس وليس مرادا، بل يعتبر في الطرف أيضا إن أمكن كما
في الروضة وأصلها، فإن لم يمكن كأن أبان طرفه بحجر فلا يستوفي إلا بالسيف.
فروع: لو أوجر بولا فكالخمر فيما ذكر أو ماء نجسا أوجر ماء طاهرا، ذكره في أصل الروضة، وإن أغرقه
بالملح جاز تغريقه في العذب دون عكسه وإن لم تأكل الحيتان الأول، ففي جواز إلقاء الثاني لتأكله وجهان أقربهما
عدم الجواز، ولو قتله بمسموم من طعام أو آلة اقتص منه بمثله إذا لم يكن مهريا يمنع الغسل، ولو أنهشه حية فهل يقاد
بمثلها؟ وجهان في الحاوي. قال: فإن كانت تلك الحية موجودة لم يعدل إلى غيرها، أي إذا قلنا تنهشه، وهو الظاهر
ولو رجع شهود الزنا بعد رجم المشهود عليه اقتص منهم بالرجم كما ذكره الرافعي أو بعد موته بالجلد اقتص منهم بالجلد
كما في فتاوى البغوي. (ولو جوع) أو حرق أو غرق (كتجويعه) أو تحريقه أو تغريقه: أي كمدة ذلك (فلم يمت) من
ذلك الجنس (زيد) فيه حتى يموت ليكون قتله بالطريق التي قتل به، ولا يبالي بزيادة الايلاء والتعذيب كما لو ضرب
رقبة إنسان بضربة واحدة ولم تنحز رقبته إلا بضربتين، وهذا ما صححه المصنف هنا، وفي تصحيح التنبيه تبعا للمحرر
(وفي قول: السيف) يقتل به، وهذا هو الأصح كما نص عليه في الام والمختصر، وقال القاضي الحسين: إن الشافعي
لم يقل بخلافه، ولم يختلف مذهب الشافعي فيه، وجرى عليه جمع من الأصحاب. وصوبه البلقيني وغيره لأن
المماثلة قد حصلت ولم يبق إلا تفويت الروح فيجب تفويتها بالأسهل، ولم يصرحا في الروضة ولا الرافعي في الشرحين
بترجيح واحد من القولين (ومن عدل) عما تجوز فيه المماثلة (إلى سيف فله) سواء أرضي الجاني أم لا، لأنه أوحى
وأسهل، بل هو أولى للخروج من الخلاف.
تنبيه: المراد بالعدول إلى السيف حيث ذكر حز الرقبة على المعهود، فلو عدل إلى ذبحه كالبهيمة لم يجز لهتكه
الحرمة، وحمله بعضهم على ما إذا لم يكن القاتل قد فعل ذلك. أما عكس ما ذكره المصنف بأن كان الجاني قتل بالسيف
ويريد ولي المقتول قتل الجاني بغيره فإنه لا يمكن من ذلك (ولو) قتله بجرح ذي قصاص كأن (قطع) يده (فسرى) قطعه
للنفس (فللولي حز رقبته) ابتداء، لأنه أسهل على الجاني من القطع ثم الحز (وله القطع) للمماثلة (ثم الحز
) للرقبة
حالا للسراية، ولا يجاب الجاني إذا قال لولي المجني عليه: أمهلني مدة بقاء المجني عليه بعد جنايتي لثبوت حق القصاص
ناجزا (وإن شاء) الولي أخر، و (انتظر السراية) بعد القطع، وليس للجاني أن يقول لولي المقتول: أرحني بالقتل
أو العفو، بل الخيرة إلى المستحق.
تنبيه: ظاهر إطلاقه كالروضة وأصلها أن للولي في صورة السراية قطع العضو بنفسه وإن منعناه من القتل حيث
لا سراية، وهو كذلك كما مرت الإشارة إليه عند قول المصنف: ويقتص على الفور، وأفهم تعبيره بقطع إن
محل الحكم المذكور في جراحة سارية يشرع فيها القصاص كما قدرته في كلامه، وهو احتراز عن جراحة الجائفة
45

المذكور حكمها في قوله (ولو مات بجائفة أو كسر عضد) أو نحو ذلك مما لا قصاص فيه ككسر ساعد (فالحز)
فقط للولي، لأن المماثلة لا تتحقق في هذه الحالة بدليل عدم إيجاب القصاص في ذلك عند الاندمال فتعين السيف،
وهذا ما صححه المصنف هنا تبعا للمحرر (وفي قول) أن للولي أن يفعل بالجاني (كفعله) تحقيقا للمماثلة في فعله،
وهذا هو الأصح كما صححه المصنف في تصحيح التنبيه ونقله في الروضة عن ترجيح الأكثرين، ووقع في المحرر
نسبة الأول إلى الأكثرين فتبعه المصنف. قال ابن شهبة: والظاهر أنه سبق قلم، وكأنه أراد أن يقول الثاني،
فقال الأول.
تنبيه: محل الخلاف عند الاطلاق. أما إذا قال: أجيفه وأقتله إن لم يمت، فله ذلك قطعا، فإن قال: أجيفه أو ألقيه
من شاهق ثم أعفو لم يمكن من ذلك، فإن أجاف بقصد العفو عزر، وإن لم يعف لتعديه ولا يجبر على قتله (فإن لم يمت)
على القول الثاني كما أشار إليه المصنف بعطفه بالفاء (لم تزد الجوائف في الأظهر) لاختلاف تأثيرها باختلاف محالها، بل
تحز رقبته. والثاني تزاد حتى يموت ليكون إزهاق الروح قصاصا بطريق إزهاقها عدوانا.
تنبيه: كلام الرافعي يفهم أن معنى الزيادة على هذا الرأي أن يجاف بموضع آخر. وفي التتمة وغيرها: أن معناه
أن توسع الجائفة حتى يموت. (ولو اقتص مقطوع) أي مقطوع عضو فيه نصف الدية من قاطعه (ثم مات) المقطوع الأول
(سراية فلوليه حز) لرقبة القاطع في مقابلة نفس مورثه (وله عفو بنصف دية) واليد المستوفاة مقابلة بالنصف الآخر
وإن مات الجاني حتف أنفه أو قتله غير الولي تعين نصف الدية في تركة الجاني (ولو قطعت يداه فاقتص) المقطوع (ثم
مات) سراية (فلوليه الحز) لرقبة الجاني في مقابلة نفس مورثه (فإن عفا) عن حزها (فلا شئ له) لأنه استوفى ما يقابل
الدية بقصاص اليدين.
تنبيه: محل ما ذكر عند استواء الديتين، فلو نقصت دية القاطع كأن قطع ذمي يد مسلم أو يديه فاقتص منه
ومات المسلم سراية وعفا وليه عن النفس بالبدل فله في الأولى خمسة أسداس دية لأن المستحق استوفى ما يقابل سدسها،
وفي الثانية ثلثاها لأن المستحق استوفى ما يقابل ثلثها، صححه في الروضة وأصلها في باب العفو، ولو قطعت
امرأة يد رجل أو يديه فاقتص منها ثم مات الرجل فعفا وليه عن النفس بالبدل فله في الأولى ثلاثة أرباع الدية لأن
المستحق استوفى ما يقابل ربعها، وفي الثانية نصفها لأن المستحق استوفى ما يقابل نصفها. قال ابن النقيب: وقياس
ذلك في عكس المسألة إذا قطع رجل يد امرأة فاقتصت ثم ماتت سراية فعفا وليها على مال أنه لا شئ له. قال: ولم أره
مسطورا اه‍. وهذا ظاهر لأنها استوفت ما يقابل ديتها. ولو قطع عبد يد حر فاقتص منه ثم عتق فمات الحر بالسراية سقط
من ديته نصف قيمة العبد ولزم السيد الأقل من القيمة وباقي الدية، إذ عنقه اختيار للفداء. (ولو مات جان) سراية
(من قطع قصاص فهدر) نفسه لقوله تعالى * (ولمن انتصر بعد ظلمه) * الآية. وروى البيهقي عن عمر وعلي رضي الله
تعالى عنهما من مات في حد أو قصاص فلا دية له والحق قتله ولأنه مات من قطع مستحق، فلا يتعلق بسرايته
ضمان كقطع يد السارق (وإن ماتا) أي الجاني بالقصاص منه والمجني عليه بالجناية (سراية معا أو سبق المجني عليه) أي
سبق موته موت الجاني (فقد اقتص) أي حصل قصاص اليد بقطع يد الجاني والسراية بالسراية ولا شئ على
الجاني، لأن السراية لما كانت كالمباشرة في الجناية وجب أن تكون كذلك في الاستيفاء (وإن تأخر) موت المجني
عليه من موت الجاني سراية (فله) أي لولي المجني عليه (نصف الدية) في تركة الجاني (في الأصح) إذا استويا
46

دية، والثاني لا شئ له، لأن الجاني مات سراية بفعل المجني عليه فحصلت المقابلة، ودفع بأن القصاص لا يسبق الجناية
فإن ذلك يكون في معنى السلم في القصاص، وهو ممتنع.
تنبيه: لو كان ذلك في قطع يديه مثلا لم يستحق شيئا، لأنه قد استوفى ما يقابل النفس، أو في موضحة وجب
تسعة أعشار الدية ونصف عشرها وقد أخذ المجني عليه بقصاص الموضحة نصف العشرة، وقس على ذلك. ثم اعلم أن
هذه المسألة الآتية تسمى مسألة الدهشة، وللمخرج فيها أحوال. الحال الأول أن يقصد الإباحة كما نبه على ذلك بقوله:
(ولو قال) مكلف (مستحق) قصاص (يمين) للجاني (أخرجها) أي يمينك (فأخرج) له (يساره) عالما بها
وبعدم إجزائها (وقصد إباحتها) فقطعها وهو مكلف حر مستحق قصاص اليمين (فمهدرة) لا قصاص فيها ولا دية،
سواء أعلم القاطع أنها اليسار مع ظن الاجزاء أم لا، جعلها عوضا عن اليمين أم لا لأن صاحبها بذلها مجانا وإن لم يتلفظ
بالإباحة كما لو قال: ناولني متاعك لألقيه في البحر فناوله فلا يجب ضمانه إذا ألقاه في البحر ويبقى قصاص اليمين إلا
إذا مات المبيح أو ظن القاطع الاجزاء أو جعلها عوضا، فإنه يعدل إلى الدية لأن اليسار وقعت هدرا، وخرج
بالمكلف
المقدر في كلامه المجنون، فإنه إذا أخرج يساره وقطعتها المقتص عالما بالحال وجب عليه القصاص، وإن كان جاهلا
وجب عليه الدية. وصورته: أن يجني عاقلا ثم يجن وإلا فالمجنون حالة الجناية لا يجب عليه القصاص، وبالحر المقدر
في كلامه أيضا الرقيق فإنه لا تهدر يساره بإباحتها قطعا، وفي سقوط القصاص إذا كان القاطع رقيقا وجهان في الروضة
وأصلها في مسائل الاكراه بلا ترجيح، ورجح البلقيني السقوط، وهو الظاهر.
تنبيه: كلام المصنف يشعر بمباشرة المستحق للقطع مع أن الأصح عدم تمكينه من استيفاء القصاص في الطرف كما
سبق. وصورها المتولي بما أذن له الإمام في استيفاء القصاص بنفسه. الحال الثاني أن يقصد المخرج جعلها عن اليمين
كما نبه على ذلك بقوله: (وإن قال) المخرج بعد قطعها (جعلتها) حالة الاخراج (عن اليمين وظننت إجزاءها) عنها
(فكذبه) القاطع في هذا الظن وقال: بل عرفت أنها اليسار وأنها لا تجزئ عن اليمين (فالأصح لا قصاص في اليسار)
سواء قال القاطع ظننت أنه أباحها أو أنها اليمين أم علمت أنها اليسار وأنها لا تجزئ، أو قطعها عن اليمين وظننت
أنها تجزئ عنها لشبهة بذلها، لأنا أقمنا ذلك مقام إذنه في القطع، وهو لو قال لغيره: اقطع يدي فقطعها لا قصاص
عليه (وتجب دية) فيها لأنه لم يبذلها مجانا، والثاني يجب القصاص، وهو في الأولى احتمال للإمام، وعبر في الروضة
عن مقابله في الثانية بالمذهب، وفي الثالثة بالأصح، وفي الرابعة في الصحيح.
تنبيه: ما ذكره المصنف في هذه الحال الثاني ليس مطابقا لما في المحرر ولا الروضة وأصلها، وعبارة المحرر
ولو قال: قصدت إيقاعها عن اليمين وظننتها تجزئ عنها، وقال القاطع: عرفت أن المخرج اليسار وأنها لا تجزئ فلا
قصاص في الأصح، ومراده عرفت - بضم التاء - للمتكلم. فظن المصنف أنها بفتح التاء للخطاب فعبر عنه بالتكذيب.
قال ابن شهبة: وهو غير صحيح لامرين: أحدهما أن هذا ليس موضع تنازعهما، والذي في الروضة وغيرها في هذا
القسم كله ظن القاطع أو علمه. الأمر الثاني أنه يقتضي أنه إذا صدقه يجب قصاص اليسار. والذي في الشرح والروضة
في هذه الحالة أنه لا قصاص أيضا على الأصح. (ويبقى قصاص اليمين) في الأولى قطعا، وفي الثانية على المذهب،
وفي الثالثة على أصح الوجهين، لأنه في الثلاثة لم يستوفه ولا عفا عنه. أما الرابعة فيسقط فيها، ولكل
دية ما قطع الآخر، فلو سرى القطع إلى النفس وجب ديتها وتدخل فيها اليسار، قاله في التتمة. الحال الثالث
للمخرج أن يقول: دهشت كما نبه على ذلك بقوله (وكذا لو قال) المخرج (دهشت) بضم أوله بخطه.
ويجوز فتحه وكسر ثانيه، من الدهشة وهي الحيرة (فظننتها اليمين) أو قال: ظننته قال اخرج يسارك
47

(وقال القاطع) المستحق أيضا (ظننتها اليمين) فالمذهب لا قصاص في اليسار، وتجب ديتها إلا إذا قال:
ظننت إباحتها أو دهشت
أو علمت أنها لا تجزئ فإنه يلزمه قصاص اليسار. أما في الأولى فهو كمن قتل رجلا وقال: ظننت أنه أذن في قتله،
ويفارق عدم لزومه فيما لو ظن إباحتها مع قصد المخرج جعلها عن اليمين بأن جعلها عن اليمين تسليط بخلاف إخراجها
دهشة أو ظنا منه أنه قال أخرج يسارك. وأما في الثانية فلان الدهشة لا تليق بحال القاطع. وأما في الثالثة فلانه لم يوجد
من المخرج تسليط ولا يسقط قصاص اليمين إلا إن قال: ظننت أنها تجزئ عن اليمين أو قطعتها عوضا كما مر.
تنبيه: حيث أوجبنا الدية في اليسار في الصور المتقدمة فهي في ماله لأنه قطع معتمدا، وكذا من قطع أنملتين
بأنملة، وقال أخطأت وتوهمت أني أقطع أنملة واحدة تجب دية الأنملة الزائدة في ماله لا على عاقلته، لأن إقراره لا يسري
عليها، وإن اعترف بتعمده قطعت منه الأنملة الزائدة ويصدق بيمينه في أنه أخطأ لأنه أتلفها بتسليطه وإن لم يخرجها له وقطع يمينه لم يصح استيفاؤه لعدم أهليته
ووجب لكل دية وسقطتا والقول قول المخرج يده فيما نوى لأنه أعرف بقصده. ثم هذا كله في القصاص فإن جرى
في السرقة فقال الجلاد للسارق: أخرج يمينك فأخرج يساره فقطعها فالمذهب المنصوص أنه يكتفي بما جرى للحد
والفرق أن المقصود بالحد التنكيل وتعطيل الآلة الباطشة وقد حصل والقصاص مبني على المماثلة.
فصل: في موجب العمد في العفو (موجب) بفتح الجيم أي مقتضى (العمد) في نفس أو غيرها (القود)
عينا وهو بفتح الواو القصاص لقوله تعالى * (كتب عليكم القصاص في القتلى) * وفي الحديث من قتل عمدا فهو
قود رواه أبو داود والنسائي وغيرهما بإسناد صحيح، وسمي قودا لأنهم يقودون الجاني بحبل أو غيره إلى محل الاستيفاء،
ولأنه بدل متلف فتعين جنسه كسائر المتلفات (والدية) أو الأرش (بدل عند سقوطه) بعفو أو غيره كموت الجاني،
وكان ينبغي أن يزيد الأرش كما قدرته في كلامه ليشمل الجراحات.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف أن الدية بدل عن القود وبه صرح الدارمي وغيره. وقال الماوردي: هي بدل
عن النفس لا عن القود بدليل المرأة لو قتلت رجلا وجب عليها دية الرجل، فلو كانت بدلا عن القود وجب عليها
دية المرأة. وقال المتولي: الواجب عند العفو دية المقتول لا دية القاتل. وجمع بعضهم بين الكلامين بأن القود بدل عن
نفس المجني عليه وبدل البدل بدل. (وفي قول) موجب العمد (أحدهما مبهما) وفي المحرر لا بعينه وهو القدر المشترك
بينهما في ضمن أي معين منهما. وصحح المصنف هذا في تصحيح التنبيه ولا اعتماد عليه في المذهب، وإن قال
إنه الجديد.
تنبيه: محل الخلاف كما قاله ابن النقيب فيما إذا كان العمد يوجب القصاص فإن لم يوجبه كقتل الوالد ولده
والمسلم الذمي فإن موجبه الدية جزما ومحلهما أيضا في عمد تدخله الدية ليخرج قتل المرتد مرتدا، فإن الواجب فيه
القود جزما (وعلى القولين) معا (للولي عفو) عن القود (على الدية بغير رضا الجاني) لما روى البيهقي عن مجاهد
وغيره كان في شرع موسى (ص) تحتم القصاص جزما، وفي شرع عيسى (ص) الدية فقط، فخفف الله تعالى عن
هذه الأمة وخيرها بين الامرين لما في الالزام بأحدهما من المشقة، ولان الجاني محكوم عليه فلا يعتبر رضاه
كالمحال عليه والمضمون عنه، ولو عفا عن عضو من أعضاء الجاني سقط كله كما أن تطليق بعض المرأة تطليق لكلها،
ولو عفا بعض المستحقين سقط أيضا وإن لم يرض البعض الآخر لأن القصاص لا يتجزأ ويغلب فيه جانب
السقوط لحقن الدماء ولا يؤثر فيه الجهل، فلو قطع رقيق فعفا عنه سيده قبل معرفته بالعضو المعفو عنه صح العفو
48

لأن العفو مستحب، فقد رغب الشارع فيه. قال الله تعالى * (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) * وروى البيهقي وغيره عن
أنس: أن النبي (ص) كان ما رفع إليه قصاص قط إلا أمر فيه بالعفو (وعلى الأول) وهو أن موجب العمد
القود (لو أطلق) الولي (العفو) عن القود ولم يتعرض للدية بنفي أو إثبات (فالمذهب لا دية) لأن القتل لم يوجب الدية على
هذا القول، والعفو إسقاط ثابت لا إثبات معدوم. والثاني تجب لقوله تعالى * (فمن عفي له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف)
* أي اتباع المال وذلك يشعر بوجوبه بالعفو، وأجاب الأول بحمل الآية على ما إذا عفا على الدية. فإن قيل: ما الفرق
بين عبارة المصنف وعبارة الروضة، وهي لو عفا عن القود مطلقا إلخ؟ أجيب بأن الفرق بينهما أن هذه قيدت العفو
بالاطلاق بخلاف عبارة المصنف فإنها تقتضيه لا بقيد فهي أعم.
تنبيه: محل الخلاف ما إذا أمكن ثبوت المال، فإن لم يمكن كأن قتل أحد عبدي شخص عبده الآخر فللسيد أن
يقتص وأن يعفو ولا يثبت له على عبده مال، فإن أعتقه لم يسقط القصاص، فإن عفا السيد بعد العتق مطلقا لم يثبت المال
جزما، أو على مال ثبت كما في الروضة وأصلها آخر الباب. ونفي المصنف الدية قد يفهم أنه لو اختار الدية عقب عفوه
المطلق لم تجب، والمنقول عن ابن كج وجوبها ويكون اختيارها بعد العفو تنزيلا له منزلة العفو عليها بخلاف ما إذا تراخى
اختياره لها عن العفو فلا تجب خلافا لما نقل عن بعض الأصحاب، ولم يفرع المصنف على القول المرجوح لطوله وعدم
العمل به. (ولو عفا) الولي على القول الأول (عن الدية لغا) عفوه لأنه عفا عما ليس مستحقا له (وله العفو) عن القصاص
(بعده عليها) وإن تراخى لأن اللاغي كالمعدوم (ولو عفا) على القولين عن القود (على غير جنس الدية) أو صالح غيره
عليه (ثبت) ذلك الغير أو المصالح عليه، وإن كان أكثر من الدية (إن قبل الجاني) أو المصالح ذلك وسقط عنه
القصاص (وإلا) بأن لم يقبل الجاني أو المصالح ذلك (فلا) يثبت لأنه اعتياض فاشترط رضاهما كعوض الخلع (ولا
يسقط) عنه (القود في الأصح) لأنه رضي به على عوض ولم يحصل له، وليس كالصلح على عوض فاسد لأن الجاني
هناك قبل والتزم. والثاني يسقط لرضاه بالصلح عنه، وعلى هذا هل تثبت الدية؟ قال البغوي: هو كما لو عفا مطلقا
وأقراه.
تنبيه: لو عفا عن القود على نصف الدية، قال القاضي حسين: هذه معضلة أسهرت الجلة اه‍. والجلة - بكسر
الجيم وتشديد اللام - الطاعنون في السن قاله الجوهري. وقال غير القاضي: هو كعفو عن القود ونصف الدية، كذا
قاله الشيخان. قال في المهمات: وما نقلاه عن غير القاضي صرح به القاضي أيضا فيسقط القود ونصف الدية. (وليس
لمحجور فلس) أو نحوه كوارث المديون استحق قصاصا (عفو عن مال إن أوجبنا أحدهما) لا بعينه لأنه ممنوع من التبرع
به (وإلا) بأن أوجبنا القود عينا (فإن عفا) من ذكر عنه (على الدية ثبتت) قطعا كغيره (وإن أطلق) العفو (فكما سبق
) من أن المذهب لا دية (وإن عفا) من ذكر (على أن لا مال) أصلا (فالمذهب أنه لا يجب شئ) لأن القتل لم يوجب
المال، ولو كلفنا المفلس أن يعفو على مال كان ذلك تكليفا بأن يكتسب وليس عليه الاكتساب، وقيل تجب
الدية بناء على أن إطلاق العفو يوجبها.
تنبيه: جرى المصنف هنا على طريقة الخلاف، لكنه في باب التفليس جزم بالصحة، سواء أكان على مال
أم لا، حيث قال فيه: ويصح اقتصاصه وإسقاطه، واحترز بمحجور عن المفلس قبل الحجر عليه فإنه كموسر، وبمفلس
عن المحجور عليه بسلب عبارته كصبي ومجنون فعفوهما لغو (والمبذر) بمعجمة، حكمه بعد الحجر عليه بالتبذير في
49

إسقاط القود واستيفائه كرشيد، وعنهما احترز بقوله (في الدية) فهو فيها (كمفلس) أي كمحجور فلس بل أولى منه،
لأن الحجر عليه لحق نفسه لا لغيره، وحينئذ فلا تجب الدية في صورتي عفوه. قال في الروضة: وبه قطع الجمهور.
(وقيل) المبذر (كصبي) فلا يصح عفوه عن المال بحال وهذا ما قطع به القفال ويشهد له ما نقله الشيخان في السير عن
الإمام وأقراه أنه لا يصح إعراض المحجور عليه بسفه عن الغنيمة بخلاف المفلس، أما من بذر بعد رشده ولم يحجر عليه
ثانيا فتصرفه نافذ على المذهب كالرشيد، ولو كان السفيه هو القاتل فصالح عن القصاص بأكثر من الدية نفذ ولا حجر
للولي فيه كما هو قضية كلام الرافعي في الجزية، قال: ولو كان المستحق لا يعفو إلا بزيادة ولم يجب السفيه وأجاب الولي.
قال الإمام: اتبع رأي من يرغب في الحقن.
فرع: عفو المكاتب عن الدية تبرع فلا يصح بغير إذن سيده، وبإذنه فيه القولان (ولو تصالحا) أي الولي
والجاني (عن القود على) أكثر من الدية كالصلح على (مائتي بغير لغا) هذا الصلح (إن أوجبنا أحدهما) لا بعينه لأنه
زيادة على الواجب نازل منزلة الصلح من مائة على مائتين (وإلا) بأن أوجبنا القود عينا والدية بدل عنه (فالأصح
الصحة) لأنه مال يتعلق باختيار المستحق والتزام الجاني فلا معنى لتقديره كبدل الخلع. والثاني المنع لأن الدية
خلفه فلا يزاد عليها.
تنبيه: محل هذا الخلاف كما قاله في المطلب أن يقع الصلح على إبل بالصفة الواجبة في جناية العمد، فإن كانت
بغير صفتها إما معينة أو في الذمة فينبغي الجزم فيها بالصحة على القولين معا، لأن الرافعي جزم في آخر الباب فيما إذا
صالح عن القصاص على ثوب أو عبد بالجواز، وظاهره جواز ذلك ولو زادت على الدية وجرى عليه في المهمات، ولو
تصالحا على أقل من الدية صح بلا خلاف كما قاله القاضي. (ولو قال) حر مكلف (رشيد) أو سفيه لآخر (اقطعني) أي
يدي مثلا (ففعل فهدر) لا قصاص فيه ولا دية للاذن فيه.
تنبيه: اعترض على المصنف من وجهين: أحدهما أنه يقتضي أن السفيه ليس كذلك مع أنه كالرشيد. الثاني أنه
يقتضي إن أذن الرقيق يسقط المال لأنه رشيد مع أن إذنه لا يسقطه، وفي سقوط القصاص بإذنه وجهان مرت الإشارة
إليهما مع ترجيح البلقيني السقوط، فلو عبر بما قدرته في كلامه لسلم من الاعتراضين، وعبارة المحرر والشرحين والروضة:
المالك لامره والمراد به الحر الكامل سواء أكان محجورا عليه أم لا ليخرج العبد والصبي والمجنون، هذا إن وقف
القطع (فإن سرى) للنفس (أو قال) له ابتداء (اقتلني) فقتله (فهدر) في الأظهر للاذن (وفي قول تجب دية) الخلاف مبني
على أن الدية ثبتت للميت ابتداء في آخر جزء من حياته ثم يتلقاها الوارث، أو ثبتت للوارث ابتداء عقب هلاك المقتول،
إن قلنا بالأول وهو الأصح لم تجب، وإلا وجبت.
تنبيه: أطلق وجوب الدية، وظاهره أنه على هذا القول تجب دية كاملة في الصورتين، وهو ظاهر في صورة
اقتلني. وأما في صورة القطع فالواجب نصف الدية لأنه الحادث بالسراية قاله ابن الرفعة، وقوله فهدر ليس
على عمومه فإن الكفارة تجب على الأصح لحق الله تعالى، والاذن لا يؤثر فيها (ولو قطع) - بضم أوله - عضو من شخص يجب
فيه قود (فعفا) المقطوع (عن قوده وأرشه، فإن لم يسر) القطع بأن اندمل (فلا شئ) من قصاص أو أرش لاسقاطه
الحق بعد ثبوته.
تنبيه: تصوير المصنف هذه المسألة بما إذا عفا عن مجموع الامرين للاحتراز عما في الروضة من أنه لو قال:
عفوت عن هذه الجناية ولم يزد كان عفوا عن القود على النص أي وفي الأرش الخلاف المار، واحترز بقوله: ولو
قطع عما إذا كانت الجناية بجرح لا يوجب القصاص كالجائفة فعفا المجني عليه عن القصاص فيها ثم سرت الجناية إلى
50

نفسه فلوليه أن يقتص في النفس لأنه عفو عن القود فيما لا قود فيه فلم يؤثر العفو. وحكى الإمام فيه الاتفاق ثم
أبدى فيه احتمالا لنفسه. (وإن سرى) للنفس كما في المحرر (فلا قصاص) في نفس ولا طرف، لأن السراية تولدت
من معفو عنه فصارت شبهة دافعة للقصاص. أما إذا سرى إلى عضو آخر فلا قصاص فيه وإن لم يعف عن الأول كما مر
(وأما أرش العضو) في صورة سراية القطع للنفس (فإن جرى) من المقطوع في لفظ العفو عن الجاني (لفظ وصية
ك‍) - أن قال بعد عفوه عن القود: (أوصيت له بأرش هذه الجناية فوصية للقاتل) والأظهر صحتها كما مر في باب الوصية،
وحينئذ يسقط الأرش إن خرج من الثلث أو أجاز الوارث، وإلا سقط منه القدر الذي يحتمله الثلث (أو) جرى (لفظ
إبراء أو إسقاط، أو) جرى (عفو) عن الجناية (سقط) الأرش قطعا (وقيل) ما جرى من هذه الثلاثة (وصية)
لاعتباره من الثلث فيأتي فيها خلاف الوصية للقاتل، ودفع بأن ما ذكره إسقاط ناجز، والوصية ما تعلق بالموت.
تنبيه: ما حكاه المصنف وجها هو نص الام. وقال البلقيني: إنه الحق فكان ينبغي أن يقول: وفي قول وصية.
(وتجب الزيادة عليه) أي أرش العضو المعفو عنه إن كان (إلى تمام الدية) للسراية سواء تعرض في عفوه لما يحدث
منها أم لا (وفي قول: إن تعرض في عفوه) عن الجناية (لما يحدث منها سقطت) تلك الزيادة، والأظهر عدم السقوط
لأن إسقاط الشئ قبل ثبوته غير منتظم. نعم إن قاله بلفظ الوصية كأوصيت له بأرش هذه الجناية، وأرش ما يحدث منها أو
يتولد منها، أو يسري إليه بني على القولين في الوصية للقاتل، ويأتي جميع ما سبق في أرش العضو.
تنبيه: محل ما ذكره من التفصيل في الأرش إذا كان دون الدية، أما إذا قطع يديه مثلا فعفا عن أرش
الجناية وما يحدث منها سقطت الدية بكمالها في الأظهر إن وفى بها الثلث سواء أصححنا الابراء عما لم يجب أم لا، لأن
أرش اليدين دية كاملة فلا يزاد بالسراية شئ. (فلو سرى) قطع العضو المعفو عن قوده وأرشه كإصبع (إلى عضو
آخر) كباقي الكف (فاندمل) القطع الساري إلى ما ذكر (ضمن دية السراية) فقط (في الأصح) لأنه إنما عفا
عن موجب جناية موجودة فلا يتناول غيرها. والثاني المنع لأنها تولدت من معفو عنه. أما القصاص في العضو المقطوع
وديته فساقطان.
تنبيه: كلام المصنف يفهم أنه لا قصاص في العضو الذي سرى إليه وهو كذلك، لأن القصاص لا يجب في
الأجسام بالسراية، ويفهم أيضا أنه يضمن دية السراية وإن تعرض لما يحدث من الجناية وهو كذلك على الأظهر السابق.
فرع: لو عفا شخص عن عبد تعلق به قصاص له ثم مات سراية صح العفو لأن القصاص عليه، أو تعلق به
مال له بجناية وطلق العفو أو أضافه إلى السيد صح العفو أيضا، لأنه عفو عن حق لزم السيد في غير ماله، وإن أضاف
العفو إلى العبد لغا، لأن الحق ليس عليه، ولو عفا الوارث في جناية الخطأ عن الدية أو عن العاقلة أو طلق صح، لأنه
تبرع صدر من أهله، وإن عفا عن الجاني لم يصح، لأن الحق ليس عليه. ويؤخذ من هذا أن الدية لو كانت عليه
صح العفو كأن كان ذميا وعاقلته مسلمين أو حربيين وهو كذلك. (ومن له قصاص نفس بسراية) قطع (طرف)
كأن قطع يده فمات بسراية (لو عفا) وليه (عن النفس فلا قطع له) لأن المستحق القتل والقطع طريقه وقد عفا
عنه، وقيل له ذلك، وجزم به في البسيط، وقال البلقيني: إنه المعتمد (أو) عفا وليه (عن الطرف فله حز الرقبة في
الأصح) لأن كلا منهما حقه. والثاني المنع، لأنه استحق القتل بالقطع الساري وقد عفا عنه. وخرج بالسراية
51

المباشرة: كما لو قطع يده ثم قتله فالقصاص مستحق فيهما أصالة، فلو عفا عن النفس لم يسقط قصاص الطرف وبالعكس.
أما إذا كان مستحق النفس غير مستحق الطرف كأن قطعت يد رقيق ثم عتق ثم مات بسراية فقصاص النفس لورثة
العتيق، وقصاص اليد للسيد ولا شك حينئذ أن عفو أحدهما لا يسقط حق الآخر (ولو قطعه) الولي (ثم عفا عن
النفس مجانا) أو بعوض (فإن سرى القطع) إلى النفس (بان بطلان العفو) ووقعت السراية قصاصا، لأن السبب
وجد قبل العفو وترتب عليه مقتضاه فلم يؤثر فيه العفو. فإن قيل: فما فائدة بطلان العفو؟ أجيب بأن فائدته أنه
لو عفا على مال لم يلزم، وحينئذ فقوله: مجانا ليس بقيد كما علم مما قدرته (وإلا) بأن لم يسر قطع الولي بل وقف
(فيصح) عفوه، لأنه أثر في سقوط القصاص ويستقر العوض المعفو عليه، إذ لم يستوف بالقطع تمام الدية، ولا يلزم
الولي بقطع اليد شئ، لأنه حين فعله كان مستحقا بحملته التي المقطوع بعضها فهو مستوف لبعض حقه، وعفوه منصب
على ما وراء ذلك، وكذا الحكم فيما لو قتله بغير القطع وقطع الولي يده متعديا ثم عفا عنه، لأنه قطع عضو من مباح له
دمه فكان كما لو قطع يد مرتد.
تنبيه: لا يخفى أن قوله: ولو قطعه إلخ من تمام حكم قوله: ومن له قصاص النفس بسراية طرف فإنه تارة يعفو وتارة
يقطع. فذكر الأول ثم الثاني (ولو وكل) الولي غيره في استيفاء القصاص (ثم عفا) عن القصاص (فاقتص الوكيل جاهلا)
بذلك (فلا قصاص عليه) لعذره، بخلاف من قتل من عهده مرتدا فبان مسلما حيث يجب عليه القصاص، لأن القاتل
هناك مقصر بخلاف الوكيل (والأظهر وجوب دية) لأنه بان أنه قتله بغير حق. والثاني لا تجب لأنه عفا بعد خروج
الامر من يده فوقع لغوا (و) على الأول الأظهر، وعبر في الروضة بالأصح (أنها عليه) أي الوكيل حالة مغلظة لورثة
الجاني لا للموكل كما لو قتله غيره، ولسقوط حق الموكل قبل القتل لا على عاقلته لأنه عامد في فعله وإنما سقط عنه
القصاص لشبهة الاذن والثاني عليهم لأنه فعله معتقدا إباحته (والأصح) المنصوص في الام (أنه) أي الوكيل (لا يرجع
بها) أي الدية (على العافي) أمكن الموكل إعلام الوكيل بالعفو أم لا، لأنه محسن بالعفو و * (ما على المحسنين من سبيل) *.
والثاني يرجع إذا غرم لأنه غره، ورجحه البلقيني حيث نسب الموكل إلى تقصير بأن أمكنه إعلامه ولم يعلمه لأن
الوكيل لم ينتفع بشئ، بخلاف الزوج المغرور لا يرجع بالمهر على من غره لانتفاعه بالوطئ. أما الكفارة فتجب على
الوكيل على القولين، واحترز بقوله: جاهلا عما إذا علم بالعفو فعليه القصاص قطعا.
تنبيه: لو قال الوكيل: قتلته بشهوة نفسي لا من جهة الموكل لزمه القصاص وانتقل حق الموكل إلى التركة كما نقلاه
عن فتاوى البغوي وأقراه، وإن قال القفال في فتاويه بعدم وجوبه، ولو عزل الموكل الوكيل ثم اقتص الوكيل بعد عزله
جرى فيه التفصيل المذكور. (ولو وجب) لرجل (قصاص عليها) أي امرأة (فنكحها عليه) أي القصاص عليه بأن جعله
صداقا لها (جاز) أي صح النكاح والصداق. أما النكاح فواضح، وأما المهر فلانه عرض مقصود، وقيل
لا يصح ويجب لها مهر مثل (وسقط) القصاص لتضمن ذلك العفو، لأنها ملكت قصاص نفسها (فإن فارق‍) ها
(قبل الوطئ رجع) عليها (بنصف الأرش) لتلك الجناية، لأنه بدل ما وقع العقد به كما لو أصدقها تعليم سورة فعلمها
ثم طلقها قبل الدخول فإنه يرجع بنصف أجرة التعليم (وفي قول) نص عليه في الام يرجع عليها (بنصف مهر مثل)
بناء على القول الثاني، واحترز بقوله وجب قصاص عما إذا أوجبت الجناية مالا كالخطأ فنكحها على الأرش فإن
52

النكاح يصح دون الصداق للجهل بالدية. خاتمة: لو قتل حر عبدا فصالح عن قيمته المعلومة على عين واستحقت أو ردت بعيب أو تلفت قبل القبض
رجع السيد بالأرش قطعا، فإن كان الجاني فيما ذكر عبدا فالسيد مختارا للفداء بالصلح وليس بمختار له إن صالح على رقبته
واستحقت أو ردت بعيب أو تلفت قبل القبض، ويتعلق الأرش حينئذ بها كما كان حتى لو مات سقط حق المجني عليه،
ولو قطع العبد يد الحر فاشتراه بالأرش وهو الواجب لم يصح الشراء للجهل بوصف الإبل، وإن كان الواجب القصاص
سقط وإن لم يصح الشراء لأنه اختيار للمال، وإن كان الشراء بغير الأرش لم يسقط كما لو قطعه وهو في ملكه، ولو
صالحه عن القصاص على عين فاستحقت، أو ردها بعيب أو تلفت قبل قبضها وجب على السيد الأقل من قيمة العبد
وأرش الجناية لاختياره الفداء بالصلح.
كتاب الديات
لما فرغ من القصاص عقبه بالدية، لأنها بدل عنه على الصحيح، وجمعها باعتبار الاشخاص، أو باعتبار النفس
والأطراف ومفردها دية، وهي المال الواجب بجناية على الحر في نفس أو فيما دونها وأصلها ودية بوزن فعلة، والهاء
بدل من فاء الكلمة التي هي واو، إذ أصلها ودية مشتقة من الودي، وهو دفع الدية كالعدة من الوعد، تقول: وديت
القتيل أديه وديا ودية: أي أديت ديته. والأصل فيها الكتاب والسنة والاجماع. قال تعالى * (ومن قتل مؤمنا خطأ
فتحرير رقبة مؤمنة ودية) * والأحاديث الصحيحة طافحة بذلك، والاجماع منعقد على وجوبها في الجملة. وتعرض
المصنف في آخر هذا الكتاب لبيان الحكومة وضمان الرقيق، وبدأ بالدية لأن الترجمة لها فقال: (في قتل) الذكر
(الحر المسلم) المحقون الدم غير جنين انفصل بجناية ميتا والقاتل له لا رق فيه (مائة بعير) لأن الله تعالى أوجب في الآية
المذكورة دية، وبينها النبي (ص) في كتاب عمرو بن حزم في قوله في النفس مائة من الإبل رواه
النسائي وصححه ابن حبان، ونقل ابن عبد البر وغيره فيه الاجماع وأن أول من سنها مائة عبد المطلب، وقيل
أبو سيارة الذي أجار الحجاج أربعين سنة في الجاهلية من المزدلفة إلى منى وجاءت الشريعة مقررة لها. والبعير يطلق
على الذكر والأنثى كما مر في باب الوصية، ولا تختلف الدية بالفضائل والرذائل وإن اختلفت بالأديان والذكورة والأنوثة
بخلاف الجناية على الرقيق فإن فيه القيمة المختلفة. أما إذا كان غير محقون الدم كتارك الصلاة كسلا والزاني المحصن إذا
قتل كلا منهما مسلم فلا دية فيه ولا كفارة وإن كان القاتل رقيقا لغير المقتول ولو مكاتبا وأم ولد فالواجب أقل الأمرين
من الحصة من الدية والحصة من القيمة، وقد يعرض للدية ما يغلظها، وهو أحد أسباب خمسة: كون القتل
عمدا، أو شبه عمد، أو في الحرم، أو الأشهر الحرم، أو لذي رحم محرم، وقد يعرض لها ما ينقصها، وهو أحد أسباب
أربعة: الأنوثة، والرق، وقتل الجنين، والكفر. فالأول يردها إلى الشطر، والثاني إلى القيمة، والثالث إلى الغرة،
والرابع إلى الثلث أو أقل كما سيأتي بيان ذلك، وكون الثاني أنقص جرى على الغالب وإلا فقد تزيد القيمة على الدية.
وقد بدأ بالقسم الأول بقوله: (مثلثة في) قتل (العمد) سواء أوجب فيه قصاص وعفى عنه أم لا كقتل الوالد ولده،
والمراد بتثليثها جعلها ثلاثة أقسام وإن كان بعضها أزيد من بعض كما بين ذلك بقوله: (ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة،
وأربعون خلفة أي حاملا) لخبر الترمذي بذلك، فهي مغلظة من ثلاثة أوجه: كونها على الجاني، وحالة، ومن
53

جهة السن. تنبيه: قد يفهم كلامه اختصاص ذلك بدية النفس وليس مرادا بل بثلث المقدر في العمد في غير النفس
كالطرف نص عليه في الام والمختصر واتفق الأصحاب عليه، والخلفة بفتح الخاء المعجمة وكسر اللام وبالفاء ولا جمع لها
من لفظها عند الجمهور، بل من معناها وهو مخض كامرأة ونساء. وقال الجوهري: جمعها خلف بكسر اللام، وابن
سيده خلفات (ومخمسة في الخطأ: عشرون بنت مخاض، وكذا بنات لبون، وبنو لبون، وحقاق، وجذاع) لخبر
الترمذي وغيره بذلك.
تنبيه: كلام المصنف يوهم إجزاء عشرين حقا وعشرين جذعا ولا قائل به، فإن الحقاق وإن أطلقت على الذكور
والإناث، فإن الجذاع مختصة بالذكور، وجمع الجذعة جذعات، قاله الأذرعي وغيره، وهذه مخففة من ثلاثة أوجه:
كونها على العاقلة، ومؤجلة، ومن جهة التخميس. ويغلظ الخطأ في ثلاثة أشياء: أولها ما ذكره بقوله (فإن قتل
خطأ في حرم مكة) فإنها تثلث فيه لأن له تأثيرا في الامن بدليل إيجاب جزاء الصيد المقتول فيه سواء أكان
القاتل
والمقتول فيه، أم أصيب المقتول فيه ورمي من خارجه، أم قطع السهم في مروره هواه الحرم وهما بالحل، أو كان بعض
القاتل أو المقتول في الحل وبعضه في الحرم كما هو قضية الالحاق بالصيد كما قاله البلقيني. نعم الكافر لا تغلظ ديته في
الحرم كما قاله المتولي، لأنه ممنوع من دخوله، فلو دخله لضرورة اقتضته فهل تغلظ به أو يقال هذا نادر؟ الأوجه
الثاني وخرج بالحرم الاحرام، لأن حرمته عارضة غير مستمرة، وبمكة حرم المدينة بناء على منع الجزاء بقتل صيده
وهو الأصح. وثانيها ما ذكره بقوله (أو) قتل في (الأشهر الحرم: ذي القعدة) بفتح القاف (وذي الحجة) بكسر
الحاء على المشهور فيهما، وسميا بذلك لقعودهم عن القتال في الأول، ولوقوع الحج في الثاني (والمحرم) بتشديد الراء
المفتوحة، سمي بذلك لتحريم القتال فيه. وقيل لتحريم الجنة فيه على إبليس، حكاه صاحب المستعذب ودخلته اللام
دون غيره من الشهور لأنه أولها فعرفوه كأنه قيل: هذا الشهر الذي يكون ابتداء أول السنة (ورجب) ويجمع على
أراجب ورجائب ورجوب ورجبات، ويقال له الأصم والأصب، وفي روضة الفقهاء: لم يعذب الله أمة في شهر رجب
ورد عليه بأن الله تعالى أغرق قوم نوح فيه كما قاله الثعلبي فمثلثة دية هذا المقتول، وهذا الترتيب الذي ذكره
المصنف في عدد الأشهر الحرم، وجعلها من سنتين هو الصواب كما قاله المصنف في شرح مسلم، وعدها الكوفيون من
سنة واحدة فقالوا: المحرم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة، قال ابن دحية: وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا نذر صيامها
أي مرتبة، فعلى الأول يبدأ بذي القعدة، وعلى الثاني بالمحرم، وينبغي أنه لو رمى في الشهر الحرام وأصاب في غيره
أو عكسه، أو جرحه فيها ومات في غيرها أو عكسه أن تغلظ الدية كما تقدم في الحرم وغيره كما يؤخذ ذلك من كلام ابن
المقري في إرشاده. وثالثها ما ذكره بقوله (أو) قتل شخص قريبا له (محرما ذا رحم) كالأم والأخت، وجواب الشرط
السابق وما عطف عليه قوله: (فمثلثة) أي دية المقتول في هذه الثلاثة أشياء كما تقرر، لأن العبادلة وغيرهم من الصحابة
رضي الله تعالى عنهم غلظوا في هذه الأشياء الثلاثة وإن اختلفوا في كيفية التغليظ. ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي
الله تعالى عنهم فكان إجماعا، وهذا لا يدرك بالاجتهاد بل بالتوقيف من النبي (ص)، واحترز بقوله:
محرما ذا رحم عن صورتين: إحداهما ما إذا انفردت المحرمية عن الرحم كما في المصاهرة والرضاع فلا يغلظ بها القتل
قطعا. ثانيتها أن تنفرد الرحمية عن المحرمية كأولاد الأعمام والأخوال فلا تغلظ فيهم على الأصح عند الشيخين لما بينهما
من التفاوت في القرابة، ورجح البلقيني الاكتفاء بذي الرحم وإن لم يكن محرما.
تنبيه: يرد عليه ما لو قتل ابن عم هو أخ من الرضاع، أو بنت عم هي أم زوجته، فإنه لا تغليظ فيه، مع أنه
رحم محرم، لأن المحرمية ليست من الرحم فكان الأولى له تقييد المحرمية بذلك، ويدخل التغليظ والتخفيف في دية المرأة
والذمي ونحوه ممن له عصمة، وقطع الطرف، وفي دية الجرح بالنسبة لدية النفس. ولا يدخل قيمة العبد تغليظ ولا تخفيف
54

بل الواجب قيمته يوم التلف على قياس سائر قيم المتقومات، ولا تغليظ في قتل الجنين بالحرم كما يقتضيه إطلاقهم وصرح
به الشيخ أبو حامد وإن كان مقتضى النص خلافه، ولا تغليظ في الحكومات كما نقله الزركشي عن تصريح الماوردي
وإن كان مقتضى كلام الشيخين خلافه، وتقييد المصنف القتل بالخطأ إشارة إلى أن التغليظ إنما يظهر فيه. أما إذا كان
عمدا أو شبه عمد فلا يتضاعف بالتغليظ، ولا خلاف فيه كما قاله العمراني، لأن الشئ إذا انتهى بنهايته في التغليظ
لا يقبل التغليظ كالايمان في القسامة، ونظيره المكبر لا يكبر كعدم التثليث في غسلات الكلب، قاله الدميري والزركشي.
فرع: الصبي والمجنون لو كانا مميزين وقتلا في الأشهر الحرم أو ذا رحم محرم، قال ابن الرفعة: لم أر في التغليظ
عليهما بالتثليث نقلا فيحتمل أن يقال به، ويحتمل أن لا يغلظ، لأن التغليظ يلحق الخطأ بشبه العمد، وليس لهما
شبه عمد فالملتحق أولى بالعدم، والاحتمال الأول أظهر، وقوله: ليس لهما شبه عمد ممنوع، لأنهما إذا قصد الفعل
والشخص بما لا يقتل غالبا يكون شبه عمد. (والخطأ إن تثلث) كما سبق (فعلى العاقلة) ديته (مؤجلة) عليها، وإذا
كانت عليها وهي مثلثة فغير المثلثة أولى. وسيأتي بيان العاقلة والتأجيل والدليل عليه في باب عقب هذا (والعمد) ديته
(على الجاني معجلة) عليه في ماله كسائر أبدال المتلقات (وشبه العمد) ديته (مثلثة على العاقلة مؤجلة) فهي مخففة من
وجهين: مغلظة من وجه، وهو التثليث. أما التثليث: فلما روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده:
أن النبي (ص) قال عقل شبه العمد مثل عقل العمد لا يقتل صاحبه وأما كونها على العاقلة ومؤجلة
فلما سيأتي في بابها، ولما كان شبه العمد مترددا بين الخطأ والعمد أعطي حكم هذا من وجه.
تنبيه: يجوز في قوله: معجلة ومؤجلة الرفع والنصب (ولا يقبل) في إبل الدية (معيب) بما يثبت الرد
في العيب (و) لا (مريض) وإن كانت إبل من لزمته معيبة، لأن الشرع أطلقها فاقتضت السلامة، وخالف ذلك
الزكاة لتعلقها بعين المال والكفارة، لأن مقصودها تخليص الرقبة من الرق لتستقل، فاعتبر فيها السلامة مما يؤثر
في العمل والاستقلال.
تنبيه: عطف المريض على المعيب من عطف الخاص على العام، أو لبقي توهم أخذه كما في زكاة المال فإنه
قال هناك: ولا تؤخذ مريضة ولا معيبة إلا عن مثلهما (إلا برضاء) أي المستحق بذلك إذا كان أهلا للتبرع لأن
الحق
له فله إسقاطه (ويثبت حمل الخلفة) المأخوذة من الدية (بأهل خبرة) بذلك: أي بعدلين منهم عند إنكار المستحق
حملها إلحاقا له بالتقويم، وإذا أخذها المستحق بقولهما أو بتصديق المستحق على حملها ثم ماتت عند المستحق وشق
جوفها فبانت حائلا وغرمها وأخذ بدلها حاملا كما لو خرج المسلم فيه على غير الصفة المشروطة، فإن تنازعا في الحمل
بعد موتها وقبل شق جوفها شق ليعرف، فيترتب عليه ذلك، فإن ادعى الدافع إسقاط الحمل، كأن قال: أسقطت
عندك، وقال المستحق: لم يكن بها حمل وأمكن الاسقاط صدق الدافع أن أخذها المستحق بقول خبيرين لتأيد قوله
بأهل الخبرة، فإن لم يمكن ذلك أو أمكن وأخذها المستحق بقول الدافع مع تصديقه له صدق المستحق بلا يمين في الأولى،
وبيمين في الثانية، لأن الظاهر معه (والأصح) وفي الروضة الأظهر (إجزاؤها) أي الخلفة (قبل خمس سنين) لصدق
الاسم عليها وإن كان الغالب أن الناقة لا تحمل قبلها، والثاني اعتبر الغالب.
تنبيه: محل الخلاف عند عدم الرضا، فإن رضى بأخذها جاز قطعا (ومن لزمته) دية من جان أو عاقلة
(وله إبل فمنها) تؤخذ الدية ولا يكلف غيرها لأنها تؤخذ على سبيل المواساة فكانت مما عنده كما تجب الزكاة في نوع
النصاب (وقيل من غالب إبل بلده) أو قبيلته إن كانت إبله من غير ذلك لأنها عوض متلف،
واعتباره بملك المتلف بعيد، ورجح هذا الإمام. فإن كانت إبله من الغالب أخذت منها قطعا (وإلا) بأن لم يكن له إبل (فغالب)
55

أي فتؤخذ من غالب إبل (قبيلة بدوي) لأنها بدل متلف فوجب فيها البدل الغالب كما في قيمة المتلفات (وإلا)
بأن لم يكن في البلدة أو القبيلة إبل بصفة الاجزاء (فأقرب) أي فيؤخذ من غالب إبل أقرب (بلاد) أي أقرب
قبائل إلى موضع المؤدي فيلزمه نقلها كما في زكاة الفطر ما لم تبلغ مؤونة نقلها مع قيمتها أكثر من ثمن المثل بلد أو قبيلة
العدم فإنه لا يجب حينئذ نقلها، وهذا ما جرى عليه ابن المقري، وهو أحسن من الضبط بمسافة القصر (و) إذا وجب
نوع من الإبل (لا يعدل) عنه (إلى نوع) من غير ذلك الواجب (و) لا إلى (قيمة) عنه (إلا بتراض) من المؤدي
والمستحق.
تنبيه: ظاهر إطلاقه أنه لا فرق بين أن يعدل إلى نوع مثلها أو دونها أو فوقها، وهو ما صرحا به في الشرح
والروضة، وقيل يجبر على الاعلى، وجرى عليه الماوردي وغيره، وتقدم في الصلح أنه لا يجوز الصلح عن إبل الدية
بالتراضي لجهالتها، وحمل ابن الرفعة ما هناك على ما إذا كانت مجهولة الصفة، وما هنا على ما إذا كانت معلومتها، وهو
حسن، وما تقرر من أنها إنما تؤخذ من غالب إبل محله عند عدم إبله هو ما في المهذب والبيان وغيرهما، والذي
في الروضة ونقله أصلها عن التهذيب التخيير بينهما، وما جرى عليه المصنف هنا أوجه، وجرى عليه شيخنا في منهجه،
وظاهر ما تقرر أن إبله لو كانت معيبة أخذت الدية من غالب إبل محله. قال الزركشي وغيره: وليس كذلك،
بل يتعين
نوع إبله سليما كما قطع به الماوردي ونص عليه في الام، ولو اختلفت أنواع إبله أخذ من الأكثر، فإن استوت فمما
شاء الدافع، وكذا لو اختلفت أنواع إبل محله (ولو عدمت) إبل الدية حسا بأن لم توجد في موضع يجب تحصيلها منه،
أو شرعا بأن وجدت فيه بأكثر من ثمن مثلها (فالقديم) الواجب (ألف دينار) على أهل الدنانير (أو اثنا عشر ألف
درهم) فضة على أهل الدراهم لحديث على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم
صححه ابن حبان والحاكم من حديث عمرو بن حزم.
تنبيه: قضية كلام المصنف تخيير الجاني بين الذهب والدراهم، وهو رأي الإمام، والذي عليه الجمهور ما قدرته
في كلامه والحديث يدل عليه، ولو كان الواجب دية مغلظة كأن قتل في الحرم أو عمدا هل يزاد له التغليظ؟ فيه
وجهان: أصحهما لا، لأن التغليظ في الإبل إنما ورد بالسن والصفة لا بزيادة العدد، وذلك لا يوجد في الدراهم
والدنانير، وهذا أحد ما احتج به على فساد القول القديم (والجديد) الواجب (قيمتها) أي الإبل وقت وجوب تسليمها
بالغة ما بلغت لأنها بدل متلف فيرجع إلى قيمتها عند إعواز أصله وتقوم (بنقد بلده) الغالب، لأنه أقرب من غيره
وأضبط فإن كان فيه نقدان فأكثر لا غالب فيهما تخير الجاني بينهما.
تنبيه: قوله: بنقد بلده قال ابن النقيب: لم أدر أي بلد هو، أبلد الجاني أم بلد المجني عليه أم الولي القابض
أم الذي يجب التحصيل منه؟ لم أر تصريحا بشئ منه. وقال البلقيني: كلامه يوهم أن المراد بلد من لزمته كما سبق
في قوله: وإلا فغالب إبل بلده، وليس كذلك، فالمراد هنا بلد العدم المفهوم من قوله: ولو عدمت اه‍. والمراد المحل
الذي يجب التحصيل منه لو كانت موجودة فيه لأنها بدل متلف، ويراعى صفتها في التغليظ (وإن وجد بعض) من
الإبل الواجبة (أخذ) الموجود منها (وقيمة الباقي) كما لو وجب له على إنسان مثل ووجد بعض المثل فإنه يأخذه
وقيمة الباقي.
تنبيه: محل ذلك ما إذا لم يمهل المستحق، فإن قال: أنا أصبر حتى توجد الإبل لزم الدافع امتثاله لأنها الأصل،
فإن أخذت القيمة ثم وجدت الإبل وأراد رد القيمة ليأخذ الإبل لم يجب لذلك لانفصال الامر بالأخذ، بخلاف ما لو
وجدت قبل قبض القيمة فإن الإبل تتعين كما صرح به سليم وغيره تبعا لنص المختصر (والمرأة والخنثى) المشكل
56

الحر أن دية كل منهما في نفس أو جرح (كنصف) دية (رجل) حر ممن هما على دينه (نفسا وجرحا) بضم الجيم.
ولما فرغ من مغلظات الدية شرع في منقصاتها، فمنها الأنوثة لما روى البيهقي خبر دية المرأة نصف دية الرجل وألحق
بنفسها جرحها، وبها الخنثى، لأن زيادته عليها مشكوك فيها، ففي قتل المرأة أو الخنثى خطأ عشر بنات مخاض وعشر
بنات لبون، وهكذا، وفي قتلها أو قتله عمدا أو شبه عمد خمس عشرة حقة وخمس عشرة جذعة وعشرون خلفة
.
تنبيه: اقتصر المصنف بإلحاقه بالأنثى على النفس والجرح، وألحق بهما في المحرر الأطراف، ولعل حذف
المصنف لذلك أن الخنثى لا يلتحق بالأنثى في الأطراف مطلقا، فإن في حلمتيها ديتها، وفي حلمتيه أقل الأمرين من دية
المرأة والحكومة. وشفريه كذلك بخلافها (ويهودي ونصراني) ومعاهد ومستأمن دية كل منهم إذا كان معصوما تحل
مناكحته (ثلث) دية (مسلم) نفسا وغيرها. أما في النفس فروي مرفوعا. قال الشافعي في الام: قضى بذلك عمر
وعثمان رضي الله عنهما، ولأنه أقل ما أجمع عليه، وهذا التقدير لا يعقل بلا توقيف، ففي قتله عمدا أو شبه عمد عشر
حقاق وعشر جذعات وثلاث عشرة خلفة وثلث، وفي قتله خطأ لم تغلظ ستة وثلثان من كل من بنات
المخاض وبنات اللبون وبني اللبون والحقاق والجذاع. وقال أبو حنيفة: دية مسلم. وقال مالك: نصفها. وقال أحمد: إن قتل عمدا
فدية مسلم أو خطأ فنصفها. أما غير المعصوم من المرتدين ومن لا أمان له فإنه مقتول بكل حال. وأما من لا تحل مناكحته
فهو كالمجوسي. وأما الأطراف والجراح فبالقياس على النفس.
تنبيه: السامرة كاليهود، والصابئة كالنصارى إن لم يكفرهما أهل ملتهما، وإلا فكمن لا كتاب له (ومجوسي)
له أمان ديته أخس الديات وهي (ثلثا عشر) دية (مسلم) كما قال به عمر وعثمان وابن مسعود رضي الله عنهم،
ففيه عند التغليظ حقتان وجذعتان وخلفتان وثلثا خلفة، وعند التخفيف بعير وثلث من كل سن، والمعنى في ذلك أن
في اليهودي والنصراني خمس فضائل، وهي حصول كتاب ودين كان حقا بالاجماع، وتحل مناكحتهم وذبائحهم، ويقرون
بالجزية، وليس للمجوسي من هذه الخمسة إلا التقرير بالجزية، فكانت ديته من الخمس من دية اليهودي والنصراني.
تنبيه: قوله: ثلثا عشر أولى منه خمس، لأن في الثلثين تكريرا، وأيضا فهو الموافق لتصويب أهل الحساب
لكونه أخصر (وكذا وثني) ونحوه، كعابد شمس وقمر وزنديق، وهو من لا ينتحل دينا ممن له (أمان) كدخوله
لنا رسولا، أما من لا أمان له فهدر.
تنبيه: سكت المصنف هنا عن دية المتولد بين كتابي ووثني مثلا. وهي دية الكتابي اعتبارا بالأشرف، سواء
أكان أبا أم أما لأن المتولد يتبع أشرف الأبوين دينا، والضمان يغلب فيه جانب التغليظ ويحرم قتل من له أمان
لامانه. ودية نساء وخناثى من ذكر على النصف من دية رجالهم. ولو أخر المصنف ذكر المرأة والخنثى إلى هنا لشمل
الجميع ويراعى في ذلك التغليظ والتخفيف. والوثن: هو الصنم. وذكر السهيلي: أنه لا يقال وثن إلا لما كان من
غير صخرة كنحاس وحديد. (والمذهب) المنصوص. وعبر في الروضة بالأصح (أن من) قتل معصوما. و (لم يبلغه
الاسلام) أي دعوة نبينا محمد (ص) (إن يمسك بدين لم يبدل فدية) أهل (دينه) ديته. فإن كان
كتابيا فدية كتابي، وإن كان مجوسيا فدية مجوسي. وقيل: دية مسلم لأنه ولد على الفطرة ولم يظهر منه عناد.
ورد
بأنه تمسك بدين منسوخ فلم يثبت له حكم الاسلام ولكن ثبت له نوع عصمة، فألحق المستأمن من أهل دينه فإن
جهل قدر دية أهل دينه وجب فيه أخس الديات كما قاله ابن الرفعة لأنه المتيقن، وأما من لم يعلم هل بلغته الدعوة أو لا
ففي ضمانه وجهان بناء على أن الناس قبل ورود الشرع على أصل الايمان والكفر، والأشبه بالمذهب كما قال شيخنا
الضمان خلافا للأذرعي لأن الانسان يولد على الفطرة، وعليه ينبغي أن يجب أخس الديات (وإلا) بأن تمسك
بدين بدل. ولم يبلغه ما يخالفه أو لم يبلغه دعوة نبي أصلا. وهذه المسألة ليست في المحرر وهي التي فيها الطرق
57

كما في الروضة وأصلها، وكان تعبير المصنف بالمذهب نظرا لمجموع المسألتين والحكم لا يختلف، فلذا قال: (فكمجوسي)
ديته وإن اختلفت مراتب الخلاف، وقيل: تجب دية أهل دينه، وقيل: لا يجب شئ لأنه ليس على دين حق ولا عهد
له ولا ذمة. قال الزركشي: وعلى المذهب يجب فيمن تمسك الآن باليهودية أو النصرانية دية مجوسي لأنه لحقه التبديل اه‍.
أي إذا لم تحل مناكحتهم.
تتمة: لا يجوز قتل من لم تبلغه الدعوة ويقتص لمن أسلم بدار الحرب ولم يهاجر منها بعد إسلامه وإن تمكن، لأن
العصمة بالاسلام.
فصل: في موجب ما دون النفس، وهو ثلاثة أقسام: جرح، وإبانة طرف، وإزالة منفعة. وقد بدأ بالقسم
الأول، وهو الجرح، فقال: و (في موضحة الرأس) ولو للعظم الثاني خلف الاذن (أو الوجه) وإن صغرت ولو لما
تحت المقبل من اللحيين وإن لم يدخل ذلك في غسل الوجه في الوضوء نصف عشر دية صاحبها ففيها (لحر) ذكر (مسلم)
غير جنين (خمسة أبعرة) لما رواه الترمذي وحسنه: في الموضحة خمس من الإبل فتراعى هذه النسبة في حق غيره من
المرأة والكتابي وغيرهما، ففي موضحة الكتابي بعير وثلثان، وفي موضحة المجوسي ونحوه ثلث بعير، فلو عبر المصنف
بما ذكرته لكان أشمل وأخصر، وكذا يقال في الهاشمة، وخرج بالرأس والوجه ما عداهما كالساق والعضد، فإن فيهما
الحكومة كما سيأتي (و) في (هاشمة على إيضاح) أو احتياج إليه بشق لاخراج عظم أو تقويمه أو سرت إليه (عشرة) من
أبعرة وهي عشر دية الكامل بالحرية وغيرها، ولو عبر به لكان أولى ليشمل الصور المتقدمة قبل هذا. والأصل في
ذلك ما روي عن زيد بن ثابت أنه (ص) أوجب في الهاشمة عشرا من الإبل رواه الدارقطني والبيهقي مرفوعا
عن زيد، ومثل ذلك لا يكون إلا عن توقيف (و) هاشمة (دونه) أي الايضاح وما ذكر معه (خمسة) من أبعرة على
الأصح، لأن العشرة في مقابلة الايضاح والهشم وأرش الموضحة خمسة فتعين أن الخمسة الباقية في مقابلة الهشم فوجبت
عند انفراده (وقيل) في الهشم إذا خلا عما ذكر (حكومة) لأنه كسر عظم بلا إيضاح فأشبه كسر سائر العظام (ومنقلة)
مع إيضاح وهشم كما صوره الرافعي (خمسة عشر) بعيرا، روى النسائي ذلك عن النبي (ص) ونقل في الام
فيه الاجماع، وكذا ابن المنذر (و) في (مأمومة ثلث الدية) لخبر عمرو بن حزم بذلك. قال في البحر: وهو إجماع.
وفي الدامغة ما في المأمومة على الأصح المنصوص، وقيل تزاد حكومة لخرق غشاء الدماغ قاله الماوردي، وهو قياس
ما يأتي في خرق الأمعاء في الجائفة. وقيل: يجب تمام الدية لأنها تذفف والأول يمنع ذلك وإنما يجب في المأمومة وما قبلها
ما ذكر إن اتحد الجاني، فلو تعدد فحكمه مذكور في قوله: (ولو أوضح) واحدا ذكرا حرا مسلما (فهشم آخر) بعد الايضاح
أو قبله وليس تعقيب الهشم للايضاح بشرط، وإن أوهمه كلامه (ونقل ثالث وأم رابع فعلى كل من الثلاثة خمسة) من
الإبل، أما الأول فبسبب الايضاح، وأما الثاني فلانه الزائد عليهما من دية الهاشمة، وأما الثالث فلانه الزائد عليهما من
دية المنقلة (و) على (الرابع تمام الثلث) وهو ثمانية عشر بعيرا وثلث بعير وهو ما بين المنقلة والمأمومة، وصورة المسألة
أن يهشم الآخر في محل الايضاح كما قيده الإمام وغيره.
تنبيه: ما أطلقه من أن الواجب على الأول خمسة محله عند العفو أو لم يكن عمدا، وإلا فالواجب القصاص كما
صرح به في المحرر حتى لو أراد القصاص في الموضحة وأخذ الأرش من الباقين مكن نص عليه في الام، هذا كله إذا لم
58

يمت مما ذكر، فإن مات منه وجبت ديته عليهم بالسراية لأن القتل لا يفرق فيه بين الجرح الكبير والصغير. قاله
الفارقي في فوائده (والشجاج) الخمس التي (قبل الموضحة) من خارصة ودامية وباضعة ومتلاحمة وسمحاق (إن عرفت
نسبتها منها) أي الموضحة بأن كان على رأسه موضحة إذا قيس بها الباضعة مثلا عرف أن المقطوع ثلث أو نصف في عمق
اللحم (وجب قسط من أرشها) بالنسبة، فإن شككنا في قدرها من الموضحة أوجبنا اليقين، هذا ما جرى عليه المصنف
تبعا للمحرر، والذي في الروضة وأصلها عن الأصحاب وجوب الأكثر من الحكومة والقسط من الموضحة لأنه وجد سبب
كل منهما، فإن استويا وجب أحدهما (وإلا) بأن لم تعرف نسبته منها (فحكومة) لا تبلغ أرش موضحة (كجرح
سائر) أي باقي (البدن) كالايضاح والهشم والتنقيل فإن فيه الحكومة فقط لأن أدلة ما مر في الايضاح والهشم
والتنقيل لم يشمله لاختصاص أسماء الثلاثة بجراحة الرأس والوجه، وليس غيرهما في معناهما لزيادة الخطر والقبح فيهما
وأيضا فأرش نفس العضو لا ينبغي أن ينقص عن أرش الجناية على العضو، وليس في الأنملة الواحدة إلا ثلاثة أبعرة
وثلث، فكيف نوجب في إيضاح عظمها خمسا من الإبل؟ (وفي جائفة) وإن صغرت (ثلث دية) لثبوت ذلك في
حديث عمرو بن حزم، وهذا كالمستثنى مما قبله إذا لا جرح في البدن يقدر غيرها (وهي جرح ينفذ) بالمعجمة: أي
يصل (إلى جوف) فيه قوة تحيل الغذاء أو الدواء كما أشار إلى ذلك بقوله: (كبطن) أي كداخله (و) داخل
(صدر، و) داخل (ثغرة نحر) بضم المثلثة وغين معجمة ساكنة، وهي نقرة بين الترقوتين (و) داخل (جبين)
بموحدة بعد جيم وهو أحد جانبي الجبهة، وفي بعض نسخ المتن بنون ساكنة بعد جيم تثنية جنب، وبه عبر المحرر
والروضة وأصلها والأول أولى، لأن الجنب علم من التمثيل بالبطن (و) داخل (خاصرة) من الخصر: وهو وسط
الأسنان ولا فرق بين أن يجيف بحديدة أو خشبة. وخرج بالجوف المذكور غيره كالفم والأنف والجفن والعين وممر
البول إذ لا يعظم فيها الخطر كالأمور المتقدمة ولأنها لا تعد من الأجواف بل فيها حكومة، فلو وصلت الجراحة إلى الفم
أو داخل الانف بإيضاح من الوجه أو بكسر قصبة الانف فأرش موضحة في الأولى أو أرش هاشمة في الثانية مع حكومة
فيهما للنفوذ إلى الفم والأنف لأنها جناية أخرى، وإن حز بسكين من كتف أو فخذ إلى البطن فأجافه فواجبه أرش
جائفة وحكومة لجراحة الكتف أو الفخذ لأنها في غير محل الجائفة، أو حز بها من الصدر إلى البطن أو النحر فأرش
جائفة بلا حكومة لأن جميعه محل الجائفة، ولو أجافه حتى لدغ كبده أو طحاله لزمه مع دية الجائفة حكومة في ذلك،
ولو كسر ضلعه كانت حكومته معتبرة بنفوذ الجائفة فإن نفذت في غير الضلع لزمه حكومة الدية وإن لم تنفذ إلا
بكسره دخلت حكومة كسره في دية الجائفة.
تنبيه: سيأتي أنه لو نفذ الطعن إلى البطن وخرج من الظهر كان ذلك جائفتين، ففيه إطلاق الجائفة على
ما خرج من جوف، وإن أوهم كلامه هنا تقييد الجائفة بما دخل الجوف (ولا يختلف أرش موضحة بكبرها) ولا صغرها
لاتباع الاسم كالأطراف ولا بكونها بارزة أو مستورة بالشعر.
تنبيه: لا يتقيد ذلك بالموضحة الجائفة كذلك كما مرت الإشارة إليه حتى لو غرز فيه إبرة فوصلت إلى
الجوف فهي جائفة، ولهذا قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: وهكذا كل ما في الرأس من الشجاج فهو على الأسماء.
واعلم أن الموضحة تتعدد صورة وحكما ومحلا وفاعلا وذكرها المصنف على هذا الترتيب، وبدأ بأولها في قوله (ولو
أوضح) الجاني مع اتحاد الحكم (موضعين بينهما لحم وجلد) معا سواء أوضحهما معا أو مرتبا (قيل أو) بينهما
(أحدهما) أي لحم فقط أو جلد فقط (فموضحتان) أما في الأولى فلاختلاف الصورة مع قوة الحاجز، وأما في الثانية
فوجه القائل بالتعدد وجود حاجز بين الموضعين، والأصح أنها واحدة لأن الجناية أتت على الموضع كله كاستيعابه
59

بالايضاح، ولو رفع الجاني الحاجز في الصورة الأولى بينهما أو تأكل قبل الاندمال عاد الارشان إلى واحد على الأصح
وكان كما لو أوضح في الابتداء موضحة واسعة، ولو أدخل الحديدة ونفذها من إحداهما إلى الأخرى في الداخل ثم سلها
ففي تعدد الموضحة وجهان أقربهما عدم التعدد، ولو كثرت الموضحات تعدد الأرش بحسبها ولا ضبط، وقيل: لا يجب أكثر
من دية النفس كما قيل به فيما لو استوعب الأسنان قلعا. الثاني من أسباب التعدد ما ذكر بقوله: ولو انقسمت موضحته
عمدا أو خطأ أو شبه عمد أو قصاصا وعدوانا فموضحتان على الصحيح كما سيأتي لاختلاف الحكم. الثالث من أسباب
التعدد ما ذكره بقوله: (أو شملت) بكسر الميم في الأفصح (رأسا ووجها فموضحتان) على الصحيح لاختلاف المحل
فقوله: فموضحتان راجع لكل من المسألتين، وكذا قوله: (وقيل موضحة) نظرا للصورة.
تنبيه: نصب عمدا وخطأ: إما على نزع الخافض أو على المفعول المطلق نيابة عن المصدر: أي موضحة عمدا
أو خطأ. واحترز بقوله رأسا ووجها عن شمولها رأسا وقفا فيلزمه مع موضحة الرأس حكومة القفا، وعن شمولها الجبهة
والوجه فالمذهب الاتحاد، وقد يوهم كلامه شمول الموضحة لكل من الرأس والوجه مع أنه ليس بقيد، فإن الحكم
كذلك لو أوضح بعض الرأس وبعض الوجه (ولو وسع) الجاني (موضحته) مع اتحاد الحكم (فواحدة على
الصحيح) كما لو أوضح أولا كذلك، والثاني وهو احتمال للإمام لا وجه منقول ثنتان لأن التوسعة إيضاح ثان، أما مع
اختلاف الحكم فتعدد كما علم من قوله: ولو انقسمت موضحته عمدا وخطأ. الرابع من أسباب التعدد ما ذكره بقوله
: (أو غيره فثنتان) لأن فعل الانسان لا ينبني على فعل غيره كما لو قطع يد رجل وحز آخر رقبته، فإن على كل منهما
جنايته، نعم لو كان الموسع مأمورا للموضح أولا وكان غير مميز فالأوجه عدم التعدد لأنه كالآلة وإن لم يصرحوا به هنا.
تنبيه: قوله أو غيره يجوز فيه الرفع أي وسعها غيره وهو ما في المحرر. ونقل عن خط المصنف أنه ضبطه بالفتح
والكسر، فالكسر عطف على الضمير المجرور في موضحته: أي وسع موضحة غيره فحذف وبقي المضاف إليه على حاله
وهو ماش على ما اختاره شيخه ابن مالك تبعا للكوفيين من أنه لا يحتاج في العطف على مجرور إعادة الجار خلافا
للبصريين والفتح على حذف المضاف وإعطاء إعرابه المضاف إليه كقوله تعالى * (واسئل القرية) * أي أهلها.
فرع: لو اشترك اثنان في موضحة وعفا على مال هل يلزم كل واحد أرش كامل أو عليهما أرش واحد كما
لو اشتركا في قتل النفس، فإن عليهما دية واحدة؟ وجهان: أوجههما الأول كما جرى عليه صاحب الأنوار، ويتفرع على
ذلك ما لو أوضحا موضحتين مشتركين فيهما ثم رفع أحدهما الحاجز قبل الاندمال، فإن الموضحة تتحد في حقه، فإن
قلنا بالتعدد فعلى الرافع أرش كامل وعلى غيره أرشان، وإن قلنا بعدمه لزم الرافع نصف أرش ولزم صاحبه
أرش كامل
وجرى على هذا ابن المقري (والجائفة كموضحة في) الاتحاد وفي (التعدد) المتقدم صورة وحكما ومحلا وفاعلا وفي
رفع الحاجز بين الجائفتين. نعم يشترط في وجوب أرش الجائفة على من وسع جائفة غيره أن يوسع الظاهر والباطن
بخلاف الموضحة في ذلك، فلو أدخل سكينا في جائفة غيره ولم يقطع شيئا فلا ضمان ويعزر، وإن زاد في غورها وكان
قد ظهر عضو باطن كالكبد فغور السكين فيه فعليه الحكومة، وإن قطع شيئا من الظاهر دون الباطن أو بالعكس
فعليه حكومة، وإن قطع من جانب بعض الظاهر ومن جانب بعض الباطن ففي التتمة أنه ينظر في ثخانة اللحم والجلد
ويقسط أرش الجناية على المقطوع من الجانبين، وقد يقتضي التقسيط تمام الأرش بأن يقطع نصف الظاهر من جانب
ونصف الباطن من جانب وأقره الشيخان (ولو) طعنه بآلة طعنة (نفذت في بطن وخرجت من ظهر) أو عكسه
أو نفذت من جنب وخرجت من جنب (فجائفتان في الأصح) المنصوص في الام اعتبارا للخارجة بالداخلة، وقد
قضى أبو بكر رضي الله تعالى عنه في رجل رمى رجلا بسهم فأنفذه بثلثي الدية، وقضى به عمر رضي الله تعالى عنه،
60

وإلا مخالف لهما فكان إجماعا كما نقله ابن المنذر، والثاني في الخارجة حكومة.
تنبيه: المراد بالبطن والظهر حقيقتهما، لا كل باطن وظاهر لما مر في الفم والذكر وغيرهما (ولو أوصل جوفه)
بالخرق (سنانا) هو طرف الرمح (له طرفان فثنتان) إن سلم الحاجز بينهما كما لو أجافه باثنين، فإن خرجا من ظهره
فأربع جوائف.
تنبيه: هذه المسألة مكررة فإنها قد علمت من قوله والجائفة كموضحة في التعدد، وقد سبق له في الموضحة أنه
لو أوضح في موضعين بينهما لحم وجلد تعدد الأرش، وكان ينبغي أن يقول: ولو طعن جوفه بدل أوصل لأن عبارته
تصدق لولا ما قدرته بأن يوصله من منفذ مفتوح كحلقة مع أن هذا لا يسمى جائفة. (ولا يسقط أرش باندمال ولا
بالتحام موضحة وجائفة) لأن مبنى الباب على اتباع الاسم وقد وجد، وسواء أبقي شئ أم لا. ثم شرع في القسم
الثاني وهو إبانة الطرف، ومقدر البدل من الأعضاء ستة عشر عضوا، وأنا أسردها لك: أذن، عين، جفن، أنف،
شفة، لسان، سن، لحي، يد، رجل، حلمة، ذكر، أنثيان، أليان، شفران، جلد، ثم ما وجب فيه الدية منها
وهو ثنائي كاليدين، ففي الواحد منه نصفها، أو ثلاثي كالأنف فثلثها، أو رباعي كالأجفان فربعها ولا زيادة على ذلك،
وفي البعض من كل منها بقسطه، لأن ما وجب فيه الدية وجب في بعضه بقسطه. العضو الأول هو ما ذكره بقوله:
(والمذهب) المنصوص (أن في) قلع أو قطع (الاذنين) من أصلهما بغير إيضاح (دية) بالنصب اسم أن سواء أكان
سميعا أم أصم (لا حكومة) لخبر عمرو بن حزم في الاذن خمسون من الإبل رواه الدارقطني والبيهقي، ولأنهما عضوان
فيهما جمال ومنفعة فوجب أن يكون فيهما الدية كاليدين، وفي وجه أو قول مخرج تجب فيهما حكومة كالشعور.
تنبيه: المراد بالدية هنا وفيما يأتي من نظائره دية من جنى عليه، فإن حصل بالجناية إيضاح وجب مع الدية على
الأول أرش الايضاح (وبعض) بالرفع مع الاذنين (بقسطه) أي المقطوع لما مر ويقدر بالمساحة.
تنبيه: شمل قوله: بعض ما لو قطع إحداهما ما لو وقطع البعض من إحداهما، ولهذا لم يحتج أن يقول: وفي
إحداهما نصف الدية كما قاله المحرر (ولو أيبسهما) بالجناية عليهما بحيث لو حركتا لم تتحركا (فدية) كما لو ضرب يده
فشلت (وفي قول حكومة) لأن منفعتهما لا تبطل بذلك وهي جمع الصوت ليتمادى إلى محل السماع بخلاف اليد إذا شلت،
فإن منفعتها بطلت بالكلية ومال إليه البلقيني، وقال: نص الام يقتضيه، وأجاب الأول بأن المنفعة الأخرى وهي دفع
الهوام بالاحساس قد بطلت، ويكفي ذلك في وجوب الدية (ولو قطع) أذنين (يابستين) بجناية أو غيرها (فحكومة)
تجب فيهما في الأظهر (وفي قول) فيهما (دية) تلزمه: الأول مبني على الأول، والثاني على الثاني كما في المحرر. فإن
قيل: قد مر أن الاذن الصحيحة تقطع بالمستحشفة والجمع بين جريان القصاص فيها وعدم تكميل الدية مما لا يعقل.
أجيب بأنه لا تلازم بين وجوب القصاص ووجوب الدية، وعلى الأول هل يشترط أن يبلغ بالحكومتين مقدار الدية
حتى لا نكون قد أسقطنا الدية فيهما أو لا، فيه طريقان، أشار إليهما الماوردي أوجههما الثاني. العضو الثاني هو
ما ذكره بقوله (وفي) قلع (كل عين) وهي مؤنثة: اسم لحاسة البصر من إنسان وغيره (نصف دية) لخبر عمرو
بن حزم بذلك صححه ابن حبان والحاكم، وحكى ابن المنذر فيه الاجماع، ولأنها من أعظم الجوارح نفعا، فكانت أولى
بإيجاب الدية (ولو) هي (عين أحول) وهو من في عينه خلل دون بصره (و) عين (أعمش) وهو من يسيل دمعه
غالبا مع ضعف رؤيته (و) عين (أعور) وهو ذاهب حس إحدى العينين مع بقاء بصره، وعين أخفش وهو صغير
العين المبصرة وعين أعشى وهو من لا يبصر في الشمس لأن المنفعة باقية بأعين من ذكر، أو مقدار المنفعة لا ينظر إليها.
61

تنبيه: قد توهم عبارته أن العين العوراء فيها نصف دية، وليس مرادا وإنما هو في العين الأخرى، واحترز
بذلك عمن يقول ك مالك وأحمد في عين الأعور كل الدية، لأن بصر الذاهبة انتقل إليها. (وكذا من بعينه بياض) على
بياضها أو سوادها أو ناظرها وهو رقيق (لا ينقص الضوء) الذي فيها يجب في قلعها نصف دية لما مر (فإن نقص)
الضوء وأمكن ضبط النقص بالاعتبار بالصحيحة التي لا بياض فيها (فقسط) ما نقص يسقط من الدية (فإن لم ينضبط)
أي النقص (فحكومة) تجب، والفرق بينه وبين عين الأعمش أن البياض ينقص الضوء الذي كان في أصل
الحدقة،
وعين الأعمش لم ينقص ضوؤها عما كان في الأصل. قاله الرافعي، ويؤخذ منه كما قاله الأذرعي وغيره أن العمش
لو تولد من آفة أو جناية لا تكمل فيه الدية. العضو الثالث هو ما ذكره بقوله (وفي) قطع (كل جفن) بفتح جيمه
وكسرها، وإن اقتصر المصنف على الفتح، وهو غطاء العين كما مر (ربع دية) سواء الاعلى والأسفل، ففي الأربعة
الدية (ولو) كان (لأعمى) وبلا هدب لأن فيها جمالا ومنفعة وقد اختصت عن غيرها من الأعضاء بكونها رباعية
وتدخل حكومة الأهداب في دية الأجفان، بخلاف ما لو انفردت الأهداب، فإن فيها حكومة إذا فسد منبتها كسائر
الشعور، لأن الفائت بقطعها الزينة والجمال دون المقاصد الأصلية وإلا فالتعزير، وفي قطع الجفن المستحشف حكومة،
وفي إحشاف الجفن الصحيح ربع دية جزما بخلاف ما تقدم من الاذن، فإن المنفعة هنا تزول أصلا بخلافه هناك،
وفي بعض الجفن الواحد قسط من الربع، فإن قطع بعضه فتقلص باقيه فقضية كلام الرافعي عدم تكميل الدية.
العضو الرابع هو ما ذكره بقوله: (و) في قطع (مارن) وهو ما لأن من الانف وخلا من العظم (دية لخبر عمرو
بن حزم بذلك، ولان فيه جمالا ومنفعة، وهو مشتمل على الطرفين المسميان بالمنخرين، وعلى الحاجز بينهما وتندرج
حكومة قصبته في ديته كما رجحه في أصل الروضة. وقيل: فيها حكومة مع ديته. قال الأسنوي: وعليه الفتوى،
ولا فرق بين الأخشم وغيره، لأن الشم ليس فيه (وفي كل من طرفيه والحاجز ثلث) توزيعا للدية عليهما (وقيل في
الحاجز) بينهما (حكومة) فقط (وفيهما) أي الطرفين (دية) لأن الجمال وكمال المنفعة فيهما دون الحاجز.
تنبيه: ظاهره أن الخلاف وجهان، وهو ما صححه في المحرر، والراجح أنه قولان، ولا تصريح في الروضة
كأصلها بترجيح وفي قطع باقي المقطوع من المارن بجناية أو غيرها ولو بجذام قسطه من الدية بالمساحة، وفي إشلال المارن
الدية وفي شقه إذا لم يذهب منه شئ حكومة وإن يلتئم، فإن تأكل بالشق بأن ذهب بعضه وجب قسطه من الدية، وفي
قطع القصبة وحدها دية منقلة. العضو الخامس هو ما ذكره بقوله: (و) في قطع (كل شفة) وهي في عرض الوجه إلى
الشدقين وفي طوله ما يستر اللثة كما قاله في المحرر، وفي بعض نسخ المنهاج وفي نسخة المصنف ذكر هذا ثم ضرب عليه
(نصف دية) علويا أو سفليا رقت أو غلظت صغرت أو كبرت، ففي الشفتين الدية لما في كتاب عمرو بن حزم وفي الشفتين
الدية. ولما فيهما من الجمال والمنفعة، إذ الكلام يتميز بهما ويمسكان الريق والطعام، والاشلال كالقطع، وفي شقهما بلا
إبانة حكومة، ولو قطع شفة مشقوقة وجبت ديتها إلا حكومة الشق، وإن قطع بعضها فتقلص البعضان الباقيان وبقيا كمقطوع
الجميع وزعت الدية على المقطوع والباقي كما اقتضاه نص الام وصرح به في الأنوار، وهل تسقط مع قطعهما حكومة
الشارب أو لا؟ وجهان: أظهرهما الأول كما في الأهداب مع الأجفان. العضو السادس: هو ما ذكره بقوله (و) في قطع
(لسان) لناطق سليم الذوق (ولو) كان اللسان (لألكن) وهو من في لسانه لكنة أو عجمة (و) لو لسان (أرت)
بمثناة (و) لو (ألثغ) بمثلثة، وسبق تفسيرها في باب صلاة الجماعة (و) لو لسان (طفل) وإن لم ينطق. وقوله:
(دية) يرجع لكل من الألسنة المذكورة لاطلاق حديث عمرو بن حزم وفي اللسان الدية صححه ابن حبان
والحاكم. ونقل في الام وابن المنذر فيه الاجماع، ولان فيه جمالا ومنفعة يتميز به الانسان عن البهائم في البيان والعبارة
62

عما في الضمير وفيه ثلاث منافع: الكلام، والذوق، والاعتماد في أكل الطعام وإدارته في اللهوات حتى يستكمل
طحنه بالأضراس (وقيل شرط) الدية في قطع لسان (الطفل ظهور أثر نطق بتحريكه) أي اللسان (لبكاء ومص
) للثدي لأنها أمارات ظاهرة على سلامة اللسان، فإن لم يظهر فحكومة لأن سلامته غير متيقنة، والأصل براءة الذمة،
وعلى الأول لو بلغ الطفل أوان النطق والتحريك ولم يوجدا منه فحكومة لا دية لاشعار الحال بعجزه، وإن لم يبلغ أوان
النطق فدية كما شمله كلام المصنف أخذا بظاهر السلامة كما تجب الدية في يده ورجله إن لم يكن في الحال بطش
ولا مشي.
تنبيه: لو أخذت دية اللسان فنبت لم تسترد. وفارق عود المعاني كما يأتي بأن ذهابها كان مظنونا، وقطع اللسان
محقق والعائد غيره، وهو نعمة جديدة، ولو أخذت الحكومة لقطع بعض لسانه لأمر اقتضى إيجابها ثم نطق ببعض
الحروف وعرفنا سلامة لسانه وجب تمام قسط ديته. أما إذا كان اللسان عديم الذوق فجزم الماوردي وصاحب المهذب
بأن فيه حكومة كالأخرس. قال الأذرعي: وهذا بناء على المشهور أن الذوق في اللسان، وقد ينازعه قول البغوي
وغيره إذا قطع لسانه فذهب ذوقه لزمه ديتان اه‍. واللسان ذو الطرفين إن استويا خلقة فلسان مشقوق فتجب بقطعهما
الدية ويقطع أحدهما قسطه منها، وإن كان أحدهما أصليا والآخر زائدا، ففي قطع الأصلي الدية، وفي قطع الزائد
حكومة. (و) في لسان (الأخرس حكومة) ولو كان خرسه عارضا كما في قطع اليد الشلاء قال الرافعي: هذا إذا لم
يذهب بقطعه الذوق أو كان ذاهب الذوق. فأما إذا قطع لسان أخرس فذهب ذوقه وجبت الدية للذوق، وهذا يعلم من قوله:
إن في الذوق الدية، قال الزركشي ك الأذرعي: ويستثنى من إطلاق المصنف ما لو ولد أصم فقطع لسانه الذي ظهر فيه
أمارة النطق، فإن الأصح عدم وجوب الدية لأن المنفعة المعتبرة في اللسان النطق، وهو مأيوس من الأصم،
والصغير
إنما ينطق بما يسمعه وإذا لم يسمع لم ينطق، وفي قطع اللهات حكومة. قال الجوهري: وهي الهفة المطبقة في أقصى
سقف الفم. العضو السابع: هو ما ذكره بقوله (و) في قلع (كل سن) أصلية تامة مثغورة غير مقلقلة صغيرة
كانت أو كبيرة بيضاء أو سوداء نصف عشر دية صاحبها، ففيها (لذكر حر مسلم خمسة أبعرة) لحديث عمرو بن
حزم بذلك، ولا فرق بين الثنية والناب والضرس وإن انفرد كل منها باسم كالسبابة والوسطى والخنصر في الأصابع
وفيها لأنثى حرة مسلمة بعيران ونصف، ولذمي بعير وثلثان، ولمجوسي ثلث بعير، ولرقيق نصف عشر قيمته، ولو
قال ما قدرته في كلامه لشمل جميع هذه الصور، واستفيد منه التغليظ والتخفيف. ويستثنى من إطلاقه صورتان:
إحداهما لو انتهى صغر السن إلى أن لا يصلح للمضغ فليس فيها إلا حكومة. الثانية أن الغالب طول الثنايا على الرباعيات
فلو كانت مثلها أو أقصر فقضية كلام الروضة وأصلها أن الأصح أنه لا يجب الخمس بل ينقص منها بحسب نقصانها.
ثم نبه بقوله: (سواء أكسر الظاهر منها دون السنخ) وهو بكسر المهملة وسكون النون وإعجام الخاء، ويقال بالجيم
أصلها المستتر باللحم (أو قلعها به) أي معه على أنه لا فرق في ديتها بين حالة وجوب القصاص فيها كالقلع أو لا كالكسر
لأن السنخ نابع، فأشبه الكف مع الأصابع.
تنبيه: قضية كلامه أنه لو أذهب منفعة السن وهي باقية على حالها عدم وجوب الدية، وليس مرادا، فقد
صرح الماوردي بوجوب الدية بذلك. قال وإن اختلفا فالقول قول المجني عليه، لأن ذهاب منافعها لا يعرف إلا من
جهته، والمراد بالظاهر البادي خلقة. أما لو ظهر بعض السنخ لخلل أصاب اللثة لم يلحق ذلك بالظاهر بل يكمل الدية
فيما كان ظاهرا في الأصل، وقيل: تجب للسنخ حكومة، ومحل الخلاف إذا كان القالع لها واحدا وقلعهما معا كما يشعر
به تعبير المصنف، فلو قلع الظاهر ثم السنخ بعد الاندمال وكذا قبله على الأصح، أو قلع واحد السن وآخر السنخ
وجب للسنخ حكومة جزما، ولو قلع السن فبقيت معلقة بغروقها ثم عادت إلى ما كانت لزمه حكومة، لأنها إنما تجب
63

بالإبانة ولم توجد، وإن كسر سنا مكسورة واختلف هو وصاحبها في قدر الفائت صدق في قدره بيمينه لأن الأصل
عدم فوات الزائد، وإن كسر منه صحيحة واختلف هو وصاحبها في قدر ما كسر منها صدق الجاني في قدر ما كسر بيمينه
لأن الأصل براءة ذمته (وفي سن زائدة) وهي الخارجة عن سمت الأسنان الأصلية لمخالفة نباتها (حكومة)
كالإصبع الزائدة.
تنبيه: لو عبر بالشاغية كالمحرر كان أولى، واستغنى عما قدرته فإن عبارته تشمل الزائد على الغالب على
الفطرة،
وهي اثنان وثلاثون، ولو كانت على سمت الأسنان مع أن الراجح أن فيها أرشا، ويعزر قالع سن اتخذت من نحو
ذهب كفضة من غير أرش ولا حكومة وإن تشبثت باللحم واستعدت للمضغ لأنها ليست جزءا من الشخص (وحركة
السن) لكبر أو مرض (إن قلت) بحيث لا تؤذي القلة لنقص منفعتها من مضغ وغيره (فكصحيحة) حكمها في وجوب
القصاص والأرش لبقاء الجمال والمنفعة (وإن بطلت المنفعة) منها لشدة حركتها (فحكومة) تجب فيها للشين الحاصل
بزوال المنفعة، ولعل المراد كما قال الزركشي منفعة المضغ، فإن منفعة الجمال وحبس الطعام والريق موجودة (أو
نقصت) تلك المنفعة المذكورة (فالأصح) وفي الروضة الأظهر أنها (كصحيحة) فيجب الأرش لوجود أصل المنفعة
من المضغ وحفظ الطعام ورد الريق ولا أثر لضعفها كضعف البطش.
تنبيه: لو تزلزلت سن صحيحة بجناية ثم سقطت بعد لزمه الأرش، وإن ثبتت وعادت كما كانت ففيها حكومة
كما لو لم يبق في الجراحة نقص ولا شين، وإن عادت ناقصة المنفعة ففيها أرش، وكذا في الشرحين والروضة، والذي
في الأنوار لزمته الحكومة لا الأرش، لأن الأرش إنما يجب بقلعهما كما مر. قال: وهذا الموضع مزلة القدم في الشرحين
والروضة فليتأمل اه‍. وقد يجاب بأن المراد بنقص المنفعة ذهابها بالكلية، فلا مخالفة حينئذ (ولو قلع سن صغير)
أو غيره (لم يثغر) بمثناة تحتية مضمومة ومثلثة ساكنة وغين معجمة مفتوحة لم تسقط أسنانه، وهي رواضعه التي
من شأنها غالبا عودها بعد سقوطها (فلم تعد) وقت أوان عودها (وبان فساد المنبت) منها (وجب) القصاص
فيها كما سبق في باب كيفية القصاص أو (الأرش) تاما، فإن عادت فلا قصاص ولا دية، وتجب الحكومة إن بقي
شين، وإلا فلا (والأظهر) وفي الروضة الأصح (أنه لو مات قبل البيان) لحال طلوعها وعدمه (فلا شئ)
على الجاني، لأن الأصل براءة ذمته، والظاهر أنه لو عاش لعادت، والثاني يجب الأرش لتحقق الجناية، والأصل
عدم العود.
تنبيه: ظاهر إطلاقه أنه لا حكومة عليه، لكن المجزم به في الروضة كأصلها، ونص عليه في الام وجوبها
وظاهره أيضا أنه لو مات قبل تمام نباتها أنه لا حكومة عليه بطريق الأولى، والراجح وجوب الحكومة، وإنما لم يجب
القسط لأنا لم نتيقن أنه لو عاش لم تكمل ولو قلعها قبل تمام نباتها آخر انتظرت، فإن لم تنبت فالدية على الآخر،
وإلا فحكومة أكثر من الحكومة الأولى وإن أفسد منبت غير المثغورة آخر بعد قلع غيره لها فعليه حكومة، وعلى
الأول كذلك في أحد احتمالين للإمام رجحه في البيان وإن سقطت بلا جناية ثم أفسد شخص منبتها لزمه حكومة على
قياس ما مر لأنه لم يقلع سنا. (و) الأظهر (أنه لو قلع) شخص (سن مثغور فعادت) تلك المقلوعة (لا يسقط)
الأرش لأن العود نعمة جديدة كموضحة أو جائفة التحمت بعد أخذ أرشها فإنه لا يسترد كما لا يسقط بالتحامها القصاص،
والثاني يسقط لأن العائدة قائمة مقام الأولى وإن لم تعد وجب الأرش جزما (ولو قلعت الأسنان) كلها، وهي اثنان
وثلاثون في غالب الفطرة كما مر أربع ثنايا، وهي الواقعة في مقدم الفم ثنتان من أعلى وثنتان من أسفل، ثم أربع
64

رباعيات: ثنتان من أعلى وثنتان من أسفل، ثم أربع ضواحك. ثم أربعة أنبات وأربعة نواجذ واثنا عشر ضرسا،
وتسمى الطواحين، قاله في أصل الروضة. فإن قيل: قضيته أن النواجذ في الاثني عشر، وليس كذلك بل هي آخرها
أجيب بأن هذا ليس قضيته لأنه عبر في الأول بثم، ثم عطف النواجذ والأضراس بالواو، وهي لا تقتضي ترتيبا. وأما خبر
أنه (ص) ضحك حتى بدت نواجذه فالمراد ضواحكه، لأن ضحكه (ص) كان تبسما (فبحسابه) ففيها مائة وستون
بعيرا، سواء أقلعها معا أم مرتبا لما مر أن كل سن خمسة أبعرة (وفي قول) حكاه الماوردي وغيره وجها
(لا يزيد) أرش جميع الأسنان (على دية إن اتحد جان وجناية) عليها كأن أسقطها بشرب دواء أو بضربة
أو بضربات من غير تخلل اندمال لأن الأسنان جنس متعدد، فأشبه الأصابع، وفرق الأول بأنا إنما اعتبرنا الأسنان في
أنفسها وإن زاد أرشها على الدية لأنها مما يختلف نباتها ويتقدم ويتأخر، فاحتيج إلى اعتبارها في أنفسها، بخلاف الأصابع
فإنها متساوية متفقة في النبات فقسطت الدية عليها، فإن تخلل الاندمال بين كل سن وأخرى أو تعدد الجاني فإنها تزاد قطعا.
تنبيه: قضية إطلاقه أنه لو زادت الأسنان على اثنين وثلاثين يجب لكل سن خمس من الإبل، وقد مر ما فيه عند
قوله: وفي سن زائد حكومة، هذا كله إن خلقت مفرقة كما هو العادة، فإن خلقت صفيحتان كان فيهما دية فقط وفي
إحداهما نصفها كما نبه على ذلك الدميري، وذكر هنا فائدتين: الأولى قال: جزم في الجواهر تبعا لابن سيده أن من
لا لحية له والكوسج لا تكمل أسنانه العدة المتقدمة. الثانية قال: عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن عباس الأمير مات
بأسنانه التي ولد بها ولم يثغر، وكانت قطعة واحدة من الأسفل وقطعة واحدة من الأعلى، وعاش نحوا من ثمانين
سنة. العضو الثامن: هو ما ذكره بقوله (و) في (كل لحي نصف دية) وهو بفتح لامه وكسرها واحد اللحيين بالفتح
لأن فيهما جمالا ومنفعة فوجب فيهما الدية وفي أحدهما نصفها كالأذنين، وهما عظمان تنبت عليهما الأسنان السفلى،
وملتقاهما الذقن، أما العليا فمنبتها عظم الرأس.
تنبيه: استشكل المتولي إيجاب الدية في اللحيين بأنه لم يرد فيهما خبر، والقياس لا يقتضيه لأنهما من العظام الداخلية
فيشبهان الترقوة والضلع، وأيضا فإنه لا دية في الساعد والعضد والساق والفخذ وهي عظام فيها جمال ومنفعة
وقد يجاب
بأنهما لما كانا من الوجه كانا أشرف من غيرهما فوجب فيهما الدية. (ولا يدخل أرش الأسنان في دية) فك (اللحيين في
الأصح) لأن كلا منهما مستقل برأسه، وله بدل مقدر واسم يخصه، فلا يدخل أحدهما في الآخر كالأسنان واللسان،
والثاني يدخل كما تدخل حكومة الكف في دية الأصابع، وفرق الأول بأن اسم اليد يشمل الكف والأصابع، ولا يشمل
اللحيان الأسنان، وبأن اللحيين كاملا الخلق قبل الأسنان بدليل الطفل، بخلاف الكف مع الأصابع لأنهما
كالعضو الواحد.
تنبيه: ظاهر كلامهم أن سن المثغور وغيره في ذلك سواء، ويتصور إفراد اللحيين عن الأسنان في صغير أو كبير
سقطت أسنانه بهرم أو غيره، ولو فكهما أو ضربهما فيبسا لزمه ديتهما، فإن تعطل بذلك منفعة الأسنان لم يجب لها
شئ لأنه لم يجن عليها بل على اللحيين، نص عليه في الام كما قاله الأذرعي وغيره. العضو التاسع هو ما ذكره بقوله
(و) في (كل يد نصف دية) لخبر عمرو بن حزم بذلك رواه النسائي وغيره.
تنبيه: المراد باليد الكف مع الأصابع الخمس، هذا (إن قطع) اليد بتأويلها بالعضو (من) مفصل (كف)
وهو الكوع.
تنبيه: قد يفهم قوله: إن قطع من الكف أنه لا يجب النصف إذا قطع الأصابع وبقي الكف، لكنه متروك
بقوله بعد: وكل أصبع عشرة وإنما قيد ذلك في اليد دفعا لتوهم احتمال إيجاب الحكومة لأجل الكف لا للنقص إن
65

قطع من دونه، وهذا إذا حزه من الكف، فإن قطع الأصابع ثم قطع الكف هو أو غيره بعد الاندمال أو قبله وجبت
الحكومة كما في النسخ مع السن. وأورد على المصنف ما لو كانت أصابع إحدى يديه وكفها أقصر من الأخرى فإنه
لا يجب القصيرة نصف دية كاملة بل يجب نصف دية ناقصة حكومة كما نقلاه عن البغوي وأقراه. (فإن قطع من فوقه) أي
الكف (فحكومة) تجب (أيضا) مع دية الكف ليس بتابع بخلاف الكف مع الأصابع فإنهما
كالعضو الواحد بدليل قطعهما في السرقة بقوله تعالى: * (فاقطعوا أيديهما) *.
تنبيه: قال بعض المتأخرين: قد يجب في اليد ثلث الدية، وذلك فيما لو قطع إنسان يمين آخر حال صياله ثم يساره
حال توليه عنه ثم رجليه حال صياله عليه ثانيا فمات بذلك فعليه ثلث الدية لليد اليسرى اه‍. وهذا ممنوع لأن الثلث إنما
وجب لأجل أن النفس فاتت بثلاث جراحات فوزعت الدية على ذلك لا أن اليد وجب فيها ثلث الدية. ثم قال: وقد
يجب في اليدين بعض الدية كأن سلخ جلد شخص فبادر آخر وحياته مستقرة فقطع يديه فالسالخ يلزمه دية وقاطع اليدين
يلزمه دية ينقص منها ما يخص الجلد الذي كان على اليدين اه‍. وهذا ممنوع فإنا أوجبنا في اليدين الدية بتمامها، وإنما
نقصنا منها شيئا لأجل ما فات من اليدين، لا أنا أوجبنا دون الدية في يدين تامتين. (وفي كل أصبع) أصلية من
يد أو رجل
عشر دية صاحبها ولو عبر به كان أولى، ففيها لذكر حر مسلم (عشرة أبعرة) كما جاء في خبر عمرو بن حزم. أما
الإصبع الزائدة ففيها حكومة (و) في كل (أنملة) منها من غير إبهام (ثلث العشرة) لأن لكل أصبع ثلاث أنامل إلا
الابهام فله أنملتان كما قال (و) في (أنملة الابهام نصفها) عملا بقسط واجب الإصبع.
تنبيه: لو انقسمت أصبع أربع أنامل متساوية ففي كل واحدة ربع العشر كما صرح به في أصل الروضة، ويقاس
بهذه النسبة الزائدة على الأربع والناقصة عن الثلاث وبه صرح الماوردي. ثم قال: فإن قيل لم لم يقسموا دية الأصابع
عليها إذا زادت أو نقصت كما في الأنامل، بل أوجبوا في الإصبع الزائدة حكومة؟ قلنا: الفرق أن الزائدة من الأصابع متميزة
ومن الأنامل غير متميزة فلذلك اشتركت الأنامل وتفرقت الأصابع، وأيضا أن الأنامل لما اختلفت في أصل الخلقة
بالزيادة والنقص كان كذلك في الخلقة النادرة، ولما لم تختلف الأصابع في الخلقة المعهودة فارقها حكم الخلقة النادرة،
ولو لم يكن لإصبعه أنامل ففيه دية تنقص شيئا، لأن الانثناء إذا زال سقط معظم منافع اليد. العضو العاشر هو ما ذكره
بقوله: (والرجلان) في قطعهما وأصابعهما وأناملهما (كاليدين) في جميع ما ذكر فيهما لحديث عمرو بن حزم بذلك
، والقدم كالكف، والساق كالساعد، والفخذ كالعضد، والأعرج كالسليم، لأن العيب ليس في نفس العضو، وإنما
العرج نقص في الفخذ، والشلل في الرجل كما في اليد وتقدم بيانه. العضو الحادي عشر هو ما ذكره بقوله: (وفي
حلمتيها) أي الأنثى (ديتها) لأن منفعة الارضاع وجمال الثدي بهما كمنفعة اليدين وجمالهما بالأصابع سواء أذهبت منفعة
الارضاع أم لا وفي إحداهما نصفها، والحلمة كما في المحرر المجتمع الناتئ على رأس الثدي، وهذا التفسير صادق بحلمة
الرجل. قال الإمام: ولون الحلمة يخالف لون الثدي غالبا وحواليه دائرة على لونها، وهي من الثدي لا منها، ولو
قطع باقي الثدي أو قطعه غيره وجبت فيه حكومة، وإن قطعه مع الحلمة دخلت حكومته في ديتها في الأصح كالكف
مع الأصابع فإن قطعهما مع جلدة الصدر وجبت حكومة الجلدة مع الدية، فإن وصلت الجراحة الباطن وجب أرش
الجائفة مع الدية (و) في (حلمتيه) أي الرجل ومثله الخنثى (حكومة) إذ ليس فيها منفعة مقصودة بل مجرد جمال
(وفي قول ديته) أي الرجل كالمرأة، فالخنثى على هذا القول تلحق بالأنثى كما علم من قول المصنف سابقا: والمرأة
والخنثى كنصف رجل.
تنبيه: يجب للحلمة التي تحت حلمة الرجل أو الخنثى حكومة أخرى ولا يتداخلان لأن المقطوع منه عضوان
ومن المرأة كعضو واحد. قال الروياني: وليس للرجل ثدي، وإنما هي قطعة لحم من صدره.
66

فرع: لو ضرب ثدي امرأة فشل بفتح الشين وجبت ديته، وإن استرسل فحكومة، لأن الفائت مجرد جمال.
وإن ضرب ثدي خنثى فاسترسل لم تجب فيه حكومة حتى يتبين كونه امرأة لاحتمال كونه رجلا فلا يلحقه نقص بالاسترسال
ولا يفوته جمال، فإن تبين امرأة وجبت الحكومة. العضو الثاني عشر هو ما ذكره بقوله (وفي أنثيين) من الذكر
(دية) لحديث عمرو بن حزم بذلك، ولأنهما من تمام الخلقة ومحل التناسل وفي إحداهما نصفها سواء اليمنى واليسرى ولو
من عنين ومجبوب وطفل وغيرهم.
تنبيه: المراد بالأنثيين البيضتان كما صرح بهما في بعض طرق حديث عمرو بن حزم. وأما الخصيتان فالجلدتان
اللتان فيهما البيضتان. العضو الثالث عشر هو ما ذكره بقوله: (وكذا ذكر) سليم في قطعه دية لخبر عمرو بن حزم بذلك
(ولو) كان (لصغير وشيخ وعنين) وخصي لاطلاق الخبر المذكور، ولان ذكر الخصي سليم وهو قادر على الايلاج،
وإنما الفائت الايلاد، والعنة عيب في غير الذكر، لأن الشهوة في القلب، والمني في الصلب، وليس الذكر بمحل
لواحد منهما فكان سليما من العيب بخلاف الأشل (وحشفة كذكر) فيجب في قطعها وحدها الدية، لأن ما عداها من
الذكر كالتابع لها كالكف مع الأصابع، لأن معظم منافع الذكر وهو لذة المباشرة تتعلق بها وأحكام الوطئ تدور عليها
(وبعضها) أي قطعه يجب (بقسطه) أي الذكر (منها) أي الحشفة، لأن الدية تكمل بقطعها فقسطت على أبعاضها (وقيل)
يجب بقسطه (من) كل ا (الذكر) لأنه المقصود بكمال الدية، وتبع المصنف المحرر في حكاية الخلاف وجهين وهما قولان
منصوصان في الام.
تنبيه: محل ما ذكر إذا لم يختل مجرى البول، فإن اختل فعليه أكثر الامرين من قسط الدية وحكومة فساد المجرى
كما نقلاه عن المتولي وأقراه، ولو قطع باقي الذكر بعد قطع الحشفة أو قطعه غيره وجبت فيه حكومة بخلاف ما
إذا قطعه معها كما علم مما مر، فإن شق الذكر طولا فأبطل منفعته وجبت فيه دية، كما لو ضربه فأشله وإن تعذر
بضربه الجماع به لا الانقباض والانبساط فحكومة، لأنه ومنفعته باقيان والخلل في غيرهما، فلو قطعه قاطع بعد ذلك
فعليه القصاص أو كمال الدية كما قاله الرافعي. أما الذكر الأشل ففيه حكومة. (وكذا حكم) قطع (بعض مارن، و)
قطع بعض (حلمة) من المرأة هل ينسب المقطوع إلى المارن والحلمة، أو إلى الانف والثدي؟ فيه الخلاف السابق،
والأصح التوزيع على الحلمة والمارن فقط. العضو الرابع عشر هو ما ذكره بقوله: (وفي الأليين) وهما الناتئان عن
البدن عند استواء الظهر والفخذ (الدية) لما فيهما من الجمال والمنفعة في الركوب والقعود، وفي أحدهما
نصفها، وفي
بعض بقسطه إن عرف قدره وإلا فالحكومة، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة، ولا نظر إلى اختلاف البدن الناتئ
واختلاف الناس فيه كاختلافهم في سائر الأعضاء، ولا يشترط في وجوب الدية بلوغ الحديد إلى العظم، ولو نبت
ما قطع لم تسقط الدية على ظاهر المذهب كما قاله البغوي.
تنبيه: اللحم الناتئ على الظهر في جانبي السلسلة فيه حكومة، وجرى في التنبيه على أن فيه دية قيل ولا
يعرف لغيره. العضو الخامس عشر هو ما ذكره بقوله: (وكذا شفراها) أي المرأة بضم الشين، وهما اللحمان المحيطان
بحرفي فرج المرأة إحاطة الشفتين بالفم ففي قطعهما وإشلالهما ديتها، وفي أحدهما نصفها، لأن فيهما جمالا ومنفعة،
إذ بهما يقع الالتذاذ بالجماع لا فرق في ذلك بين الرتقاء والقرناء وغيرهما، لأن النقصان فيهما ليس في الشفرين بل
في داخل الفرج، ولا بين البكر وغيرها، فلو زالت بقطعهما البكارة وجب أرشها مع الدية، وإن قطع العانة معهما أو
مع الذكر فدية وحكومة، ولو قطعهما فجرح موضعهما آخر بقطع لحم أو غيره لزم الثاني حكومة. العضو السادس عشر هو
ما ذكره بقوله: (وكذا سلخ) جلد فيه دية المسلوخ منه إن لم ينبت، لأن في الجلد جمالا ومنفعة ظاهرة، وأشار بقوله:
67

(إن بقي) فيه (حياة مستقرة) إلا أن إيجاب الدية فيه إنما يظهر إن فرضت الحياة المذكورة بعد سلخه اه‍. (و) مات بسبب
آخر غير السلخ كأن حز غير السالخ رقبته) بعد السلخ فيجب على الجاني القصاص، لأنه أزهق روحه وعلى السالخ
الدية، ومثل حز غير السالخ ما لو انهدم عليه حائط أو نحوه، فإن مات بسبب السلخ أو لم يمت لكن حز السالخ رقبته
فالواجب حينئذ دية النفس إن عفا عن القود.
تنبيه: عبارته توهم أنه لا يتصور حز الرقبة من غيره وليس مرادا بل يتصور منه أيضا بأن تكون إحدى
الجنايتين عمدا والأخرى خطأ أو شبه عمد فإن الأصح أنهما لا يتداخلان.
تتمة: في كسر الترقوة، وهو بفتح التاء: العظم المتصل بين المنكب وتغرة النحر حكومة كسائر العظام، وقيل:
الواجب فيها جمل لما روي عن عمر أنه قضى بذلك، وحمله الأولى على أن الحكومة كانت في الواقعة قدر جمل. ولكل
أحد ترقوتان، والجمع تراق كما قال تعالى: * (كلا إذا بلغت التراقي) * والضمير في بلغت للنفس وإن لم يجر لها ذكر،
لأن الكلام يدل عليها كما قال حاتم:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فائدة: روي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه لما احتضر جلست ابنته عائشة رضي الله تعالى عنها عند رأسه تبكيه وتكرر
هذا البيت ففتح عينيه، وقال لا تقولي هكذا ولكن قولي * (وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد)
* وكذلك
كان يقرأ الآية، وهي كذلك في مصحف ابن مسعود. ثم شرع في القسم الثالث وهو إزالة المنافع بالجناية وترجم لذلك بقوله:
فرع: وترجم في المحرر بفصل وهو أولى، وهي أربعة عشر شيئا، وأنا أسردها لك: عقل، سمع، بصر، شم،
نطق، صوت، ذوق، مضغ، إمناء، إحبال، جماع، إفضاء، بطش، مشي. الشئ الأول هو ما ذكره بقوله:
(في العقل) أي إزالته إن لم يرج عوده بقول أهل الخبرة في مدة يظن أنه يعيش إليها ويجري ذلك في السمع والبصر ونحوهما
(دية) كما جاء في خبر عمرو بن حزم. وقال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه العلم على ذلك لأنه أشرف المعاني وبه
يتميز الانسان عن البهيمة. قال الماوردي وغيره: والمراد العقل الغريزي الذي به التكليف دون المكتسب الذي به حسن
التصرف ففيه حكومة. فإن رجي عوده في المدة المذكورة انتظر، فإن عاد فلا ضمان كما في سن من لم يثغر. وفي إزالته
بعضه بعض الدية بالقسط إن ضبط بزمان كأن كان يجن يوما ويفيق يوما أو يغيره كأن يقابل صواب قوله وفعله بالمحتل
منهما وتعرف النسبة بينهما، فإن لم ينضبط فحكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، فإن مات في أثناء المدة المقدر عوده فيها
وجبت ديته كما جزم به الجرجاني وغيره، وقال في الروضة نقلا عن المتولي: فإن توقع عوده فيتوقف في الدية فإن
مات قبل الاستقامة ففي الدية وجهان: كما لو قلع سن مثغور فمات قبل عودها، وقوله: سن مثغور صوابه كما قال
الأذرعي وغيره: سن غير مثغور فإنه الذي ذكره المتولي، وإن كان الموافق للمنقول: أي من حيث الحكم ما عبر به
، فالمشاححة إنما هي في نسبة ذلك إلى المتولي، لا في الحكم كما توهمه بعضهم.
تنبيه: اقتصار المصنف على الدية يقتضي عدم وجوب القصاص فيه وهو المذهب للاختلاف في محله، وقد مرت
الإشارة إلى ذلك في باب أسباب الحدث، فقيل القلب، وقيل الدماغ، وقيل مشترك بينهما، والأكثرون على
الأول، وقيل مسكنه الدماغ وتدبيره في القلب. ويسمى عقلا، لأنه يعقل صاحبه عن التورط في المهالك، ولا يزاد
شئ على دية العقل إن زال بما لا أرش له كأن ضرب رأسه أو لطمه لكن يعزر على الأصح (فإن زال) العقل الغريزي
(بجرح له أرش) مقدر كالموضحة (أو حكومة) كالباضعة (وجبا) أي الدية والأرش أو هي والحكومة، ولا يندرج
ذلك في دية العقل لأنها جناية أبطلت منفعة غير حالة في محل الجناية فكانت كما لو أوضحه فذهب سمعه أو بصره
، وكما لو انفردت الجناية عن زوال العقل، فعلى هذا لو قطع يديه ورجليه فزال عقله لزمه ثلاث ديات (وفي قول) قديم
68

(يدخل الأقل في الأكثر) فإن كانت دية العقل أكثر كأن أوضحه فذهب عقله دخل فيه أرش الموضحة، وإن كان
أرش الجناية أكثر كأن قطع يديه ورجليه فزال عقله دخل فيه دية العقل.
تنبيه: قضية كلامه أنه لو تساويا كأن قطع يديه فزال عقله أنه لا يتأتى القول بالتداخل. وقال البلقيني: إن
مقتضى نص الإمام على هذا القول التداخل أيضا (ولو ادعى زواله) أي العقل وأنكر الجاني ونسبه إلى التجانن اختبر
في غفلانه (فإن لم ينتظم قوله وفعله في خلواته فله دية بلا يمين) لأن يمينه تثبت جنونه والمجنون لا يحلف. فإن قيل:
يستدل بحلفه على عقله، أجيب بأنه قد يجري انتظام ذلك منه اتفاقا وهذا في الجنون المطبق، أما المتقطع فإنه يحلف في
زمن إفاقته، فإن انتظم قوله وفعله وحلف الجاني لاحتمال صدور المنتظم اتفاقا أو جريا على العادة، والاختبار لا يقدر
بمدة بل إلى أن يغلب على الظن صدقه أو كذبه، ولا بد في سماع دعوى الزوال كما قال البلقيني من كون الجناية تحتمل
زوال العقل وإلا لم تسمع الدعوى ويحمل على الاتفاق كحصول الموت بصعقة خفيفة.
تنبيه: قول المصنف: ولو ادعى زواله الخ ينبغي أن يقرأ مبنيا لما لم يسم فاعله: أي ادعى ذلك من له ولاية
الدعوى من ولي أو منصوب حاكم، والشارح قدر بعد ادعى المجني عليه وهو ممنوع وقدره ابن الملقن أيضا، إذ كيف
يصح دعوى المجنون، لكن الشارح قال في آخر القولة: واستشكل سماع دعواه لتضمنه لزوال عقله، وأول بأن المراد
ادعى وليه، ومنه منصوب الحاكم اه‍. ولو قدر هذا أولا كان أولى، وظاهره أن كلام المتن يقرأ مبنيا للفاعل ويقدر بما
ذكر. الشئ الثاني هو ما ذكره بقوله: (وفي السمع) أي إزالته (دية) لخبر البيهقي: وفي السمع الدية ونقل ابن المنذر
فيه الاجماع، ولأنه من أشرف الحواس فكان كالبصر بل هو أشرف منه عند أكثر الفقهاء، لأن به يدرك الفهم
ويدرك من الجهات الست، وفي النور والظلمة، ولا يدرك بالبصر إلا من جهة المقابلة وبواسطة من ضياء أو شعاع، وقال
أكثر المتكلمين بتفضيل البصر عليه، لأن السمع لا يدرك به إلا الأصوات، والبصر يدرك الأجسام والألوان والهيئات،
فلما كانت تعلقاته أكثر كان أشرف.
تنبيه: لا بد في وجوب الدية من تحقق زواله، فلو قال أهل الخبرة يعود وقدروا له مدة لا يستبعد أن يعيش إليها
انتظرت، فإن استبعد ذلك أو لم يقدروا مدة أخذت الدية في الحال، وإن قالوا: لطيفة السمع باقية في مقرها ولكن
انسد منفذ السمع والسمع باق وجبت فيه حكومة إن لم يرج فتقه لا دية لبقاء السمع، فإن رجى لم يجب شئ (و) في
إزالته (من أذن نصف) من الدية لا لتعدد السمع فإنه واحد، وإنما التعدد في منفذه بخلاف ضوء البصر، إذ تلك اللطيفة
متعددة ومحلها الحدقة، بل لأن ضبط نقصانه بالمنفذ أقرب منه بغيره، وهذا ما نص عليه في الام (وقيل قسط النقص)
منه من الدية فيعتبر ما نقص من السمع بحالة الكمال على ما سيأتي (ولو أزال أذنيه وسمعه فديتان) لأن محل السمع غير
محل القطع فلم يتداخلا كما لو أوضحه فعمي.
فائدة: السمع عند الحكماء قوة أودعها الله في العصب المفروش في الصماخ، وهو بكسر الصاد: خرق الاذن
يدرك بها الصوت بطريق وصول الهواء المتكيف بكيفية الصوت إلى الصماخ، وعند أهل السنة أن الوصول المذكور
بمشيئة الله تعالى على معنى خلق الله الادراك في النفس عند ذلك الوصول. (ولو ادعى) المجني عليه (زواله) أي السمع
من أذنيه وكذبه الجاني (وانزعج للصياح في نوم وغفلة فكاذب) لأن ذلك يدل على التصنع.
تنبيه: مقتضى تعبيره بكاذب أن الجاني لا يحلف وليس مرادا، بل لا بد من تحليفه أن سمعه لباق لاحتمال
أن يكون انزعاجه اتفاقا، ولا يختص الانزعاج بالصياح، بل الرعد وطرح شئ له صوت من علو كذلك،
ويكرر ذلك من جهات وفي أوقات الخلوات حتى يتحقق زوال السمع بها (وإلا) بأن لم ينزعج بالصياح ونحوه فصادق في دعواه،
69

و (حلف) حينئذ لاحتمال تجلده (وأخذ دية) لسمعه. قال الماوردي: ولا بد في يمينه من التعرض لذهاب سمعه بجناية
الجاني لجواز ذهابه بغير جنايته، ثم إذا ثبت زواله قال الماوردي: يراجع عدول الأطباء، فإن نفوا عوده وجبت الدية
في الحال، وإن جوزوا عوده إلى مدة معينة يعيش إليها انتظرت، فإن عاد فيها لم تجب الدية وإلا وجبت.
تنبيه: لو ادعى الزوال من إحدى الاذنين حشيت السليمة وامتحن في الأخرى على ما سبق. (وإن نقص)
سمع المجني عليه (فقسطه) أي النقص من الدية (إن عرف) قدر ما ذهب بأن كان يسمع من مكان كذا فصار
يسمع من قدر نصفه مثلا، وطريق معرفة ذلك أن يحدثه شخص ويتباعد إلى أن يقول لا أسمع فيعلي الصوت قليلا،
فإن قال: أسمع، عرف صدقه ثم يعمل كذلك من جهة أخرى، فإن اتفقت المسافتان ظهر صدقه، ثم ينسب ذلك من
مسافة سماعه قبل الجناية إن عرف ويجب بقدر من الدية، فإن كان التفاوت نصفا وجب نصف الدية (وإلا) بأن لم يعرف
قدره بالنسبة (فحكومة) تجب فيه (باجتهاد قاض) في الأصح المنصوص لأنه لا يمكن تقديره (وقيل يعتبر سمع
قرنه) وهو بفتح القاف وسكون الراء: من له مثل سنه (في صحته) كأن يجلس القرن بجنبه ويناديهما رفيع الصوت
من مسافة لا يسمعه واحد منهما، ثم يقرب المنادي شيئا فشيئا إلى أن يقول قرنه سمعت، ثم يضبط ذلك الموضع، ثم
يرفع صوته من هذا الموضع شيئا فشيئا حتى يقول المجني عليه سمعت (ويضبط التفاوت) بين سمعيهما ويؤخذ
بنسبته من الدية، فلو قال المجني عليه: أنا أعرف قدر ما ذهب من سمعي. قال الماوردي: صدق بيمينه لأنه لا يعرف
إلا من جهته كالحيض، ولعله فيما إذا لم يمكن معرفته بالطريق المتقدم، وأما القرن - بكسر القاف - فهو الكفء (وإن
نقص) سمع المجني عليه (من أذن) واحدة (سدت) هذه الناقصة (وضبط منتهى سماع الأخرى ثم عكس)
بأن تسد الصحيحة ويضبط منتهى سماع الناقصة (ووجب قسط التفاوت) ويؤخذ قسطه من الدية،
فإن كان بين مسافة السميعة والأخرى النصف فله ربع الدية، لأنه أذهب ربع سمعه، وإن كان الثلث عليه
سدس الدية وهكذا، فإن لم ينضبط فالواجب حكومة. قال الرافعي: بالاتفاق. الشئ الثالث هو ما ذكره بقوله:
(وفي) إذهاب (ضوء) أي بصر (كل عين) صغيرة أو كبيرة، حادة أو كآلة، صحيحة أو عليلة، عمشاء أو حولاء
من شيخ أو طفل حيث البصر سليم (نصف دية) وفي العينين الدية، لخبر معاذ: في البصر الدية وهو غريب ولأنه
من المنافع المقصودة.
فائدة: البصر عند الحكماء قوة أودعها الله في العصبتين المجوفتين الخارجتين من مقدم الدماغ ثم تنعطف
معصبة التي من الجهة اليمنى إلى الجهة اليسرى، والتي من اليسرى إلى اليمنى حتى يتلاقيا، ثم تأخذ التي من الجهة اليمنى
يمينا، والتي من جهة اليسرى يسارا حتى تصل كل واحدة إلى عين تدرك بتلك القوة الألوان وغيرها. وأما عند أهل
السنة فإدراك ما ذكر بمشيئة الله تعالى على معنى أن الله تعالى يخلق إدراك ما ذكر في نفس العبد عند استعماله تلك
القوة. (فلو فقأها لم يزد) على نصف الدية، كما لو قطع يده بخلاف إزالة الاذن مع السمع لما مر (وإن ادعى)
المجني عليه (زواله) أي الضوء وأنكر الجاني (سئل أهل الخبرة) بذلك: أي عدلان منهم مطلقا، أو رجل وامرأتان
إن كان خطأ أو شبه عمد، فإنهم إذا أوقفوا الشخص في مقابلة عين الشمس ونظروا في عينه عرفوا أن الضوء ذاهب
أو موجود، بخلاف السمع لا يراجعون فيه إذ لا طريق لهم إليه ثم أشار إلى طريق آخر في معرفة زواله بقوله (أو
يمتحن) المجني عليه (بتقريب عقرب أو حديدة) محماة أو نحو ذلك (من عينيه بغتة ونظر هل ينزعج) أو لا؟ فإن
70

انزعج صدق الجاني بيمينه، وإلا فالمجني عليه بيمينه.
تنبيه: قضية كلامه تبعا للمحرر التخيير بين الأول والثاني وبه قال المتولي، وجعل ذلك في أصل الروضة
خلافا فقال: وجهان، أحدهما وهو نصه في الام يراجع أهل الخبرة إلخ. والثاني: يمتحن بتقريب حديدة الخ، ورتب في
الكفاية فقال يسألون، فإن تعذر الاخذ بقولهم امتحن، وظاهر كلامه أنه المعتبر وهو كذلك، وقال البلقيني: إنه
متعين، وإذا جعلت أو في كلام المصنف للتنويع لا للتخيير: أي إذا عجز عن أهل الخبرة فينقل إلى الامتحان وافق
ذلك، ثم إن قالوا يعود وقدروا مدة انتظر كالسمع، فإن مات قبل عوده في المدة وجبت الدية، لأن الظاهر عدم عوده
لو عاش، وهل يجب القصاص أو لا؟ وجهان: أحدهما وهو الأوجه كما جرى عليه الرافعي تبعا للبغوي وصاحب
المهذب. الثاني للشبهة، وصوب الزركشي الأول كما جزم به الماوردي وغيره، وإن ادعى الجاني عوده قبل الموت وأنكر
الوارث صدق الوارث بيمينه، لأن الأصل عدم عوده. (وإن نقص) ضوء المجني عليه (فكالسمع) أي فحكمه كنقص
السمع فإن عرف قدر النقص بأن كان يرى الشخص من مسافة فصار لا يراه إلا من نصفها مثلا فقسطه من الدية وإلا فحكومة،
فإن نقص بعض ضوء عينه عصبت ووقف شخص في موضع يراه ويؤمر أن يتباعد حتى يقول لا أراه فتعرف المسافة،
ثم تعصب الصحيحة وتطلق العليلة ويؤمر الشخص بأن يقرب راجعا إلى أن يراه فيضبط ما بين المسافتين، ويجب
قسطه من الدية، فإن أبصر بالصحيحة من مائتي ذراع مثلا وبالأخرى من مائة فالنصف. نعم لو قال أهل الخبرة: إن
المائة الثانية تحتاج إلى مثلي ما تحتاج إليه المائة الأولى لقرب الأولى وبعد الثانية وجب ثلثا دية العليلة، وإن أعشاه
لزمه نصف دية، وفي إزالة عين الأعشى بآفة سماوية الدية، وإن كان مقتضى كلام التهذيب وجوب نصفها موزعا على
إبصارها بالنهار وعدم إبصارها بالليل، وإن أعمشه أو أخفشه أو أحوله أو أشخص بصره فالواجب حكومة، وإن أذهب
أحد شخصين الضوء والآخر الحدقة واختلفا في عود الضوء صدق الثاني بيمينه وإن كذبه المجني عليه، لأن الأصل
عدم عوده.
حادثة: سئل ابن الصلاح عن رجل أرمد أتى امرأة لبادية تدعي الطب لتداوي عينه، فكحلته فتلفت عينه
فهل يلزمها ضمانها؟. فأجاب: إن ثبت أن ذهاب عينه بتداويها فعلى عاقلتها ضمانها، فإن لم تكن فعلى بيت المال
، فإن تعذر فعليها في ما لها إلا أن يكون الأرمد أذن لها في المداواة بهذا الدواء المعين فلا تضمن. قال: ونظيره ما إذا
أذن البالغ العاقل في قطع سلعته أو فصده فمات لا يضمن، أما إذا لم ينص عليه فلا يتناول إذنه ما يكون سببا في إتلافه.
الشئ الرابع هو ما ذكره بقوله: (وفي) إزالة (الشم) من المنخرين بجناية على رأس وغيره (دية على الصحيح) كما
جاء في خبر عمرو بن حزم وهو غريب، ولأنه من الحواس النافعة فكملت فيه الدية كالسمع. والثاني لا بل حكومة
لأنه ضعيف النفع، إذ منفعته إدراك الروائح والأنتان أكثر من الطيبات فيكون التأذي أكثر من التلذذ، وعلى الأول
ففي إزالة شم كل منخر نصف دية، ولو نقص الشم وجب بقسطه من الدية إذا أمكن معرفته وإلا فالحكومة، وإن نقص
شم أحد المنخرين اعتبر بالجانب الآخر كما في السمع والبصر كما بحثه في أصل الروضة وصرح به سليم.
تنبيه: لو أنكر الجاني زواله امتحن المجني عليه في غفلاته بالروائح الحادة، فإن هش للطيب وعبس لغيره حلف
الجاني لظهور كذب المجني عليه وإلا حلف هو لظهور صدقه مع أنه لا يعرف إلا منه. ولو وضع المجني عليه يده على
أنفه فقال له الجاني فعلت ذلك لعود شمك، فقال: بل فعلته اتفاقا أو لغرض آخر كامتخاط ورعاف وتفكر صدق بيمينه
لاحتمال ذلك. فإن قطع أنفه فذهب شمه فديتان كما في السمع، لأن الشم ليس في الانف.
فائدة: الشم عند الحكماء قوة أودعها الله تعالى في الزائدتين الناتئتين من مقدم الدماغ بين العينين عند
منتهى قصبة الانف الشبيهتين بحلمتي الثديين لما فيهما من الثقب يدرك بتلك القوة الروائح بطريق وصول الهواء
المتكيف بكيفية ذي الرائحة إلى الخيشوم، وعند أهل السنة أن الادراك المذكور بمشيئة الله تعالى:
71

يعني أن الله تعالى يخلق في الشخص إدراك ما ذكر عند استعماله تلك القوة. الشئ الخامس هو ما ذكره في قوله: (وفي) إبطال (الكلام)
بجناية على اللسان (الدية) لخبر البيهقي في اللسان الدية إن منع الكلام. وقال ابن أسلم: مضت السنة بذلك ولان اللسان
عضو مضمون بالدية فكذا منفعته العظمى كاليد والرجل، وإنما تؤخذ الدية إذا قال أهل الخبرة لا يعود كلامه،
قاله في أصل الروضة على ما سبق من الفرق بين أن يقدروا مدة يعيش إليها أولا، فإن أخذت ثم عاد استردت،
ولو ادعى زوال نطقه امتحن بأن يروع في أوقات الخلوات وينظر هل يصدر منه ما يعرف به كذبه، فإن لم يظهر
شئ حلف المجني عليه كما يحلف الأخرس ووجبت الدية، هذا في إبطال نطقه بكل الحروف (و) أما (في) إبطال
(بعض الحروف) فيعتبر (قسطه) من الدية، هذا إذا بقي له كلام منتظم مفهوم وإلا فعليه كمال الدية كما جزم به
صاحب الأنوار (و) الحروف (الموزع) أي التي توزع (عليها) الدية (ثمانية وعشرون حرفا في لغة العرب) أي من
كانت لغته، بحذف كلمة لا، لأنها لام ألف وهما معدوتان، ففي إبطال نصف الحروف نصف الدية، وفي إبطال
حرف منها ربع سبعها، وعدها الماوردي تسعة وعشرين بإثبات كلمة لا. قال الزركشي: وجمهور النحاة عدوها
تسعة وعشرين بالألف والهمزة، وأسقط المبرد الهمزة وجعلها ثمانية وعشرين، ومن أطلق هذا العدد على رأي الجمهور
فهو إما سهو وإما تسامح في العبارة بإطلاق الألف على أعم من الهمزة والألف الساكنة، وربما وقع في كلام سيبويه جواز
إطلاق الألف على الهمزة تجوزا اه‍. واحترز بلغة العرب عن غيرها، فإن كانت لغته غيرها وزع على حروف لغته وإن
كانت أكثر حروفا، وقد انفردت لغة العرب بحرف الضاد فلا يوجد في غيرها، وفي اللغات حروف ليست في لغة
العرب كالحرف المتولد بين الجيم والسين. والحروف المذكورة تسمى حروف الهجاء والتهجي التي أولها في العد عادة
ألف: أي همزة، با، تا إلى آخر فالباء اسم ومسماه به وهكذا الخ.
تنبيه: حروف اللغات مختلفة، بعضها أحد عشر، وبعضها أحد وثلاثون، فلو تكلم بلغتين وحروف إحداهما
أكثر وبطل بالجناية بعض حروف كل منهما فهل يوزع على أكثرهما حروفا أو على أقلهما؟ وجهان: أرجحهما كما
قاله البلقيني وغيره الأول، لأن الأصل براءة ذمة الجاني فلا يلزمه إلا اليقين، ولا فرق في توزيع الدية على الحروف
بين اللسانية وغيرها كالحروف الحلقية (وقيل لا يوزع على) غير اللسانية من (الشفهية) وهي أربعة: الباء والفاء والواو
والميم نسبة للشفة على أصلها في الأصح، وهو شفهة، ولك أن تنسبها على اللفظ فنقول شفي. وقيل: أصل
شفة شفوة
فحذفت الواو، وعليه قول المحرر الشفوية (و) من (الحلقية) أي المنسوبة للحلق، وهي ستة: الهمزة، والهاء، والعين
والحاء المهملتان، والغين والخاء المعجمتان، لأن الجناية على اللسان فتوزع الدية على الحروف الخارجة منه، وهي
ما عدا المذكورات، وعلى هذا فيكون الموزع عليه ثمانية عشر، لأن منفعة اللسان النطق بها فتكمل الدية فيها.
وأجاب الأول بأن الحروف وإن كانت مختلفة المخارج الاعتماد في جميعها على اللسان، وبه يستقيم النطق ويكمل.
تنبيه: لو قطع شفتيه فذهبت الميم والباء فهل يجب أرشهما مع دية الشفتين أو لا؟. وجهان: أوجههما كما قاله
شيخنا الأول، ويضمن أرش حرف فوتته ضربة أفادته حروفا لم يكن يتمكن من النطق بها ولا ينجبر الفائت بما
حدث لأنه نعمة جديدة. وهل يوزع على الحروف وفيها الحروف المفادة أو عليها قبل الجناية؟ قال الإمام: هذا موضع
نظر، وقضية كلام الرافعي ترجيح الثاني، وبه صرح صاحب الذخائر (ولو عجز) المجني على لسانه (عن بعضها) أي
الحروف (خلقة) كأرت وألثغ، وسبق بيانهما في صلاة الجماعة ولم يكن لغته كذلك (أو بآفة سماوية فدية) كاملة
في إبطال كلام كل منهما لأنه ناطق وله كلام مفهوم، إلا أن في نطقه ضعفا، وضعف منفعة العضو لا يقدح في كمال
الدية كضعف البطش والبصر، فعلى هذا لو أبطل بالجناية بعض الحروف، فالتوزيع على ما يحسنه لا على جميع الحروف
(وقيل قسط) من الدية بالنسبة لجميع الحروف. أما من عجز عن بعضها خلقة وكانت لغته كذلك كالفارسي الذي لا ضاد
72

في لغته، فالمعروف كما قال الزركشي القطع بالتكميل (أو) عجز عن بعضها (بجناية فالمذهب لا تكمل دية) في
إبطال كلامه، لئلا يتضاعف الغرم في القدر الذي أبطله الجاني الأول، ومقتضى هذا التوجيه تخصيص التصوير بجناية
من تضمن جنايته حتى تكون جناية الحربي كالآفة السماوية. قال الأذرعي: ولا أحسبه كذلك.
تنبيه: تعبيره بالمذهب يقتضي إثبات طريقين، وليس في الروضة وأصلها غير خلاف مرتب على الوجهين في
المسألة قبلها، أي فإن قلنا بالقسط هناك فهنا أولى بالتكميل هناك فهنا فيه وجهان. وحاصله طريقان: قاطعة
وحاكية لخلاف، ولو أبطل بعض ما يحسنه في المسائل الثلاث وجب قسطه مما ذكر على الخلاف فيه. (ولو قطع نصف
لسانه) أي المجني عليه (فذهب) حروف هي (ربع كلامه أو عكس) بأن قطع ربع لسانه فذهب حروف هي
نصف كلامه (فنصف دية) يجب في المسألتين، لأن اللسان مضمون بالدية وكذا الكلام، ولو لم تؤثر الجناية إلا في
أحدهما لوجبت الدية، فإذا أثرت فيهما وجب أن ينظر إلى الأكثر لأنه لو انفرد لوجب قسطه، ولو قطع في الصورتين
آخر الباقي فثلاثة أرباع الدية لأنه أبطل في الأولى ثلاثة أرباع الكلام، وقطع في الثانية ثلاثة أرباع اللسان وفيهما قوة
الكلام، ولو تساوت نسبة الحرم والكلام بأن قطع نصف لسانه فذهب نصف كلامه وجب نصف الدية، ولا
يقتص
مقطوع نصف ذهب نصف كلامه من مقطوع نصف ذهب ربع كلامه إذا قطع الثاني الباقي من لسان الأول، وإن
أجرينا القصاص في بعض اللسان لنقص الأول عن الثاني، ولو قطع بعض لسان وبقي نطقه فالواجب حكومة لا قسط
خلافا للزركشي إذ لو وجب للزم إيجاب الدية الكاملة في لسان الأخرس، ولو قطع لسانا ذهب نصف كلامه مثلا بجناية
على اللسان من غير قطع شئ منه فالواجب الدية لأنه قطع جميع اللسان مع بقاء المنفعة فيه.
تنبيه: لو قطع نصف لسانه فذهب نصف كلامه فاقتص من الجاني فلم يذهب إلا ربع كلامه فللمجني عليه
ربع الدية ليتم حقه، فإن اقتص منه فذهب ثلاثة أرباع كلامه لم يلزمه شئ، لأن سراية القصاص مهدرة. الشئ
السادس هو ما ذكره بقوله: (وفي) إبطال (الصوت) مع إبقاء اللسان على اعتداله وتمكنه من التقطيع والترديد
(دية) لما رواه البيهقي عن زيد بن أسلم أنه قال مضت السنة في الصوت إذا انقطع الدية وقول الصحابي: من
السنة كذا في حكم المرفوع، ولأنه من المنافع المقصودة في غرض الاعلام والزجر وغيرهما وقال البلقيني: وجوب الدية
في الصوت يكاد أن يكون خرقا للاجماع. وقال الأذرعي: لم أره لغير الإمام وحمل كلام زيد بن أسلم على الكلام وعلى
المعتمد في وجوب الدية (فإن أبطل معه) أي الصوت (حركة لسان فعجز عن التقطيع والترديد فديتان) لأنهما
منفعتان في كل واحدة منهما إذا انفردت بالتفويت كمال الدية (وقيل دية) لأن المقصود الكلام لكنه يفوت تارة
ببطلان الصوت، وأخرى بعجز اللسان عن الحركة. قال الزركشي: وهذا مقتضى ظاهر كلام الشافعي والأصحاب
رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
تنبيه: لو أذهب بإبطال الصوت النطق واللسان سليم الحركة وجبت دية واحدة بناء على أن تعطيل المنفعة ليس
كإبطالها، وينبغي كما قال شيخنا إيجاب حكومة لتعطيل النطق. الشئ السابع هو ما ذكره بقوله: (وفي) إبطال (الذوق)
بجناية على اللسان (دية) لأنه أحد الحواس الخمس فأشبه الشم.
تنبيه: اختلف في محله هل هو في طرف الحلقوم أو في اللسان؟ نقل الرافعي الأول عن المتولي وأقره، ويدل له
قولهم في قطع لسان الأخرس حكومة محله إذا لم يذهب الذوق فإنه لو كان في اللسان ذهب ولا بد، وجزم الرافعي في
موضع آخر بالثاني، وجزم به جماعة منهم ابن جماعة شارح المفتاح، وقال النسائي وغيره: أنه المشهور وعليه الحكماء
لكنهم يقولون: هو قوة منبثة في العصب المفروش على جرم اللسان يدرك بها الطعوم بخالطة اللعابية التي في الفم
73

بالمطعوم ووصولها للعصب، وعند أهل السنة أن الادراك المذكور بمشيئة الله تعالى، يعني أن الله تعالى يخلق ما ذكر
عند المخالطة المذكورة، وعلى هذا القول ينبغي كما قال شيخنا أن يكون كالنطق مع اللسان فتجب دية واحدة للسان.
ثم ذكر أنواع الطعوم واقتصر كالأصحاب منها على خمسة، فقال: (ويدرك به) أي الذوق (حلاوة وحموضة ومرارة
وملوحة وعذوبة) قال الماوردي: وفرعها أهل الطب إلى ثمانية، ولا تعتبرها في الأحكام لدخول بعضها في بعض
كالحرافة مع المرارة (وتوزع) الدية (عليهن) أي الخمسة، فإذا أبطل إدراك واحدة منهن وجب فيها خمس الدية
وهكذا (فإن نقص) الادراك نقصا لا يتقدر بأن يحس بمذاق الخمس لكن لا يدركها على كمالها (فحكومة) تجب في
ذلك النقص وتختلف بقوة النقصان وضعفه، فإن عرف قدره فقسطه من الدية، ولو اختلف الجاني والمجني عليه في
ذهاب الذوق امتحن بالأشياء المرة ونحوها كالحامضة الحادة بأن يلقيها له غيره معافصة، فإن لم يعبس صدق بيمينه وإلا
فالجاني بيمينه. الشئ الثامن هو ما ذكره بقوله: (وتجب الدية في) إبطال (المضغ) كأن يجني على أسنانه فتخدر وتبطل
صلاحيتها للمضغ لأنه المنفعة العظمى للأسنان وفيها الدية فكذا منفعتها كالبصر مع العين والبطش مع اليد.
تنبيه: قال ابن شهبة: لم يرد فيه خبر ولا أثر ولم يتعرض له الشافعي ولا جمهور الأصحاب، وإنما قاله الفوراني
والإمام وتبعهما من بعدهما. الشئ التاسع هو ما ذكره بقوله: (و) تجب الدية في إبطال (قوة إمناء بكسر صلب)
لفوات المقصود وهو النسل، بخلاف انقطاع اللبن بالجناية على الثدي، فإن فيه حكومة فقط لأن الرضاع يطرأ ويزول
واستعداد الطبيعة للامناء صفة لازمة للفحول، ونازع البلقيني في ذلك وقال: الصحيح بل الصواب عدم وجوب الدية
لأن الامناء الانزال، فإذا أبطل فوته ولم يذهب المني وجبت الحكومة لا الدية لأنه قد يمتنع الانزال بما يسد طريقه
فيشبه ارتتاق الاذن اه‍. وهو إشكال قوي ولكن لا يدفع المنقول. والصلب الظهر، ويقال: الصلب بفتحتين كفرس
ذكره ابن فارس. الشئ العاشر هو ما ذكره بقوله: (و) تجب الدية في إبطال (قوة حبل) من المرأة لفوات النسل
فيكمل فيه ديتها لانقطاع النسل كذا صوره الرافعي. قال في المطلب: ويحتمل تصويره بإذهابه من الرجل أيضا بأن
يجنى على صلبه فيصير منيه لا يحبل فتجب فيه الدية. قال: ويتصور ذلك أيضا بما إذا جنى على الأنثيين، فإنه يقال أنهما
محل انعقاد المني. قال الأذرعي: ويشبه أن يكون محل إيجاب الدية بإذهاب الاحبال في غير من ظهر للأطباء أنه عقيم،
وإلا فلا تجب. الشئ الحادي عشر هو ما ذكره بقوله: (و) تجب الدية في (ذهاب جماع) من المجني عليه بجناية على
صلبه مع بقاء مائه وسلامة ذكره فيبطل التلذذ بالجماع لأن ذلك من المنافع المقصودة، وقد ورد الأثر فيه عن الخلفاء
الراشدين، ولو ادعى المجني عليه ذهابه وأنكر الجاني صدق المجني عليه بيمينه لأنه لا يعرف إلا منه كما إذا قالت المرأة
حضت ولو أبطل إمناءه أو لذة جماعه بقطع الأنثيين وجب ديتان كما في إذهاب الصوت مع اللسان. الشئ الثاني عشر
هو ما ذكره بقوله: (وفي إفضائها) أي المرأة بجناية عمدا أو شبهة أو خطأ بوطئ أو بغيره (من الزوج وغيره دية) أي
ديتها كما عبر به في المحرر، لما روي عن زيد بن ثابت ولفوات منفعة الجماع أو اختلالها، وعلله الماوردي بأنه يقطع
التناسل لأن النطفة لا تستقر في محل العلوق لامتزاجها في البول فأشبه قطع الذكر.
تنبيه: إنما نص على غير الزوج لأن في كلام بعضهم ما يقتضي الاهدار في الزانية، وسواء في ذلك المكرهة
والمطاوعة، لأن المطاوعة لا تقتضي الاذن في الافضاء، وأصل الافضاء من الفضاء، وهي البرية الواسعة. (وهو) أي
الافضاء (رفع ما) أي حاجز (بين مدخل ذكر ودبر) فيصير سبيل جماعها وغائطها واحدا، إذ به تفوت المنفعة
بالكلية (وقيل) وجزم به في الروضة كأصلها في إثبات الخيار، فقالا: الافضاء رفع ما بين مدخل (ذكر و) مخرج
(بول) فيصير سبيل جماعها وبولها واحدا، لأن ما بين القبل والدبر قوي لا يرفعه الذكر وبينهما عظم لا يتأتى كسره
74

إلا بحديدة ونحوها، فلا يحمل الافضاء عليه. قال البلقيني: والأصح هو المذكور هنا، وأما الذي في الخيار في النكاح
فاقتصرا فيه على تفسير الشيخ أبي حامد وأتباعه، وإذا قلنا بالثاني فصار بولها لا يستمسك لزم الجاني مع الدية حكومة صرح
به في أصل الروضة، وقياسه إيجاب الحكومة على الأول أيضا إذا لم يستمسك الغائط وهو ظاهر، وفي وجه ثالث
صححه المتولي أن كلا منهما إفضاء موجب للدية لأن التمتع يختل بكل منهما، فلو أزال الحاجزين لزمه ديتان.
تنبيه: محل إيجاب الدية إذا لم يلتحم، فإن التحم سقطت ديته وتجب حكومة إن بقي أثر كما لو عاد ضوء البصر
بخلاف الجائفة لأن الدية لزمت ثم بالاسم، وهنا بفقد الحائل وقد سلم فلا معنى للدية (فإن لم يمكن الوطئ) للزوجة (إلا
بإفضاء) من زوجها: إما لكبر آلته أو ضيق منفذها (فليس للزوج) وطؤها لافضائه إلى الافضاء المحرم، وليس لها
أن تمكنه في هذه الحالة. وهل لها الفسخ بكبر آلته، أو له الفسخ يضيق منفذها؟ تقدم في باب خيار النكاح التنبيه عليه
(ومن لا يستحق افتضاضها) أي البكر (فأزال البكار) منها (بغير ذكر) كإصبع وخشبة (فأرشها) يلزمه وهو الحكومة
بتقدير الرق كما سيأتي.
تنبيه: قوله: فأرشها قد يفهم أنه لا قصاص فيها، وقد يتصور بأن تزيل بكر بكارة أخرى فيفتض منها كما جزم
به الرافعي. قال المتولي: ولو كان يستحق عليها القود فأزال بكارتها بأصبع ونحوها لا شئ عليه (أو) أزالها (بذكر)
ولو ملفوفا بخرقة (لشبهة) كأن ظنها زوجته (أو) كانت (مكرهة) على ذلك أو صغيرة أو مجنونة كما بحثه بعض المتأخرين
(فمهر مثل ثيبا) يلزمه (وأرش البكارة) زائدة عليه فلا يندرج في المهر، لأن المهر يجب لاستيفاء منفعة
البضع. والأرش
يجب لإزالة تلك الجلدة وهما جهتان مختلفتان (وقيل) يلزمه (مهر بكر) ولا أرش، لأن القصد من هذا الفعل الاستمتاع،
إزالة تلك الجلدة تحصل ضمن الاستمتاع، وعلى الأول لو أفضاها داخل أرش البكارة في الدية لأنهما وجبا للاتلاف
فيدخل الأقل في الأكثر بخلاف المهر لاختلاف الجهة، فإن المهر للتمتع والأرش لإزالة الجلدة. واحترز بقوله لشبهة
أو مكرهة عما لو أزالها بزنا فإنه ينظر، فإن كانت حرة فهدر، وإن كانت أمة وجب الأرش. إن قلنا يفرد عن المهر
كما مر في كتاب الغصب، وقدمت في خيار النقيصة الفرق بين ما وقع في هذا الباب وباب الغصب، والبيع الفاسد
والنكاح الفاسد، وفي إيجاب الزيادة على مهر مثلها وهي ثيب إذا طاوعته وهي عالمة بالحال وجهان: رجح البلقيني
منهما الوجوب، لأن الذي يسقط بمطاوعة الأمة المهر المتمحض للوطئ، أما ذهاب شئ من الجسد فلا.
تنبيه: هذا كله في المرأة، أما الخنثى إذا أزيلت بكارة فرجه وجبت حكومة الجراحة من حيث هي جراحة،
ولا تعتبر البكارة من حيث هي لأنه لم يتحقق كونه فرجا، قاله الرافعي (ومستحقه) أي افتضاضها وهو زوجها (لا شئ
عليه) في إزالة بكارتها بذكر إن غيره لأنه مأذون له فيه شرعا فلا يضره الخطأ في طريق الاستيفاء. (وقيل إن أزال)
بكارتها (بغير ذكر) كإصبع (فأرش) يلزمه لعدوله عن الطريق المستحق له فيكون حينئذ كالأجنبي. الشئ
الثالث عشر: هو ما ذكره بقوله: (وفي) إبطال (البطش) من يدي المجني عليه بجناية عليهما فشلتا (دية) لزوال
منفعتهما. الشئ الرابع عشر هو ما ذكره بقوله: (وكذا المشي) أي إبطاله من الرجلين بجناية على صلب فيه دية
لفوات المنفعة المقصودة منهما، وفي إبطال بطش أو مس يد أو رجل أو أصبع ديتها، ولا تؤخذ الدية حتى يندمل،
فإن انجبر وعاد بطشه أو مسه كما كان فلا دية، وإن بقي شين فحكومة (و) في (نقصهما) أي كل من البطش والمشي
75

إن لم ينضبط (حكومة) لما فات ويختلف بحسب النقص قلة وكثرة، سواء احتاج في مشيه لعصا أم لا، فإن انضبط
وجب القسط كالسمع (ولو كسر صلبه) أي المجني عليه (فذهب) مع سلامة الرجل والذكر (مشيه وجماعة أو)
مشيه (ومنيه فديتان) لأن كل واحد منهما مضمون بالدية عند الانفراد، فكذا عند الاجتماع (وقيل دية) لأن
الصلب محل المني، ومنه يبتدأ المشي وينشأ الجماع، واتحاد المحل يقتضي اتحاد الدية ومنع الأول محلية الصلب لما
ذكر، وعلى الأول لو شلت رجلاه أيضا وجب عليه ثلاث ديات، وإن شل ذكره أيضا وجب عليه أربع ديات،
قاله الكافي.
تنبيه: قضية كلامه أنه لا يفرد كسر الصلب بحكومة وهو كذلك فيما إذا كان الذكر والرجلان سليمين، فإن
شلا وجب مع الدية الحكومة لأن المشي منفعة في الرجل، فإذا شلت فاتت المنفعة لشللها فأفرد كسر الصلب
الحكومة،
وإذا كانت سليمة ففوات المشي لخلل الصلب فلا يفرد بالحكومة. ويمتحن من ادعى ذهاب مشيه بأن يفاجأ بمهلك
كسيف، فإن مشى علمنا كذبه، وإلا حلف وأخذ الدية.
فرع: في اجتماع ديات كثيرة في شخص بجراحات بقطع أطراف وإبطال منافع. قال الغزالي: وهي تقرب من
عشرين دية. قال الرافعي: وإذا تأملت ما سبق وجدتها أكثر من ذلك وسرد ما تقدم، ثم قال: وقد تضاف إليها
المواضح وسائر الشجاج والجوائف والحكومات فيجتمع شئ كثير لا ينحصر، واعترضه الأذرعي بأنه كيف يجتمع
ديتان لليدين وللبطش، وديتان للرجلين وللمشي، ودية للحيين، ودية للمضغ، وثلاث ديات للسان والنطق والصوت،
وترجم المصنف لذلك بالفرع لتفرعها على ما ذكر من وجوب الدية في المذكورات. إذا (أزال) الجاني (أطرافا) تقتضي
ديات كقطع أذنين ويدين ورجلين (ولطائف تقتضي ديات) كإبطال سمع وبصر وشم (فمات سراية) منها كما في المحرر،
وكذا من بعضها ولم يندمل البعض كما اقتضاه نص الشافعي، واعتمده البلقيني إذا كان قبل الاندمال للبعض الآخر
(فدية) واحدة وسقط بدل ما ذكره، لأنها صار ت نفسا. أما إذا مات بسراية بعضها بعد اندمال بعض آخر منها لم
يدخل ما اندمل في دية النفس قطعا، وكذا لو جرحه جرحا خفيفا لا مدخل للسراية فيه ثم أجافه فمات بسراية الجائفة
قبل اندمال ذلك الجرح فلا يدخل أرشه في دية النفس كما هو مقتضى كلام الروضة وأصلها، أما لا يقدر بالدية
فيدخل أيضا كما فهم مما تقرر بالأولى (وكذا لو حزه الجاني) أي قطع عتق المجني عليه (قبل اندماله) من الجراحة
يلزمه للنفس دية واحدة (في الأصح) المنصوص، لأن دية النفس وجبت قبل استقرار ما عداها فيدخل فيها بدله
كالسراية. والثاني تجب ديات ما تقدمها، لأن السراية قد انقطعت بالقتل فأشبه انقطاعها بالاندمال. فإن قيل: لو قطع
أطراف حيوان غير آدمي وسرت الجناية إلى النفس أو عاد وقتله قبل الاندمال لم تدخل قيمة أطرافه في قيمته، بل أوجبوا
قيمته يوم موته، فهلا كان كما هنا؟. أجيب بأن الحيوان مضمون بما نقص من القيمة وهي تختلف بالكمال
والنقصان، والآدمي مضمون بمقدر، وهو لا يختلف بذلك، ولان الغائب في ضمانه التعبد، كما قاله الشيخ
عز الدين. وما سبق هو عند اتحاد الفعل المجني به (فإن) كان مختلفا كأن (حز) الرقبة (عمدا والجناية) الحاصلة قبل
الحز (خطأ) أشبه عمد (أو عكسه) كأن حزه خطأ والجنايات عمدا أو شبه عمد (فلا تداخل) لشئ مما دون النفس
فيها (في الأصح) بل يستحق الطرف والنفس لاختلافهما واختلاف من تجب علته فلو قطع يديه ورجليه خطأ أو
شبه عمد ثم حز رقبته عمدا أو قطع هذه الأطراف عمدا ثم حز الرقبة خطأ أو شبه عمد وعفا الأول في العمد على ديته
وجبت في الأولى دية خطأ أو شبه عمد ودية عمد، وفي الثانية ديتا عمد ودية خطأ أو شبه عمد، والثاني تسقط الديات
فيهما (ولو حز) الرقبة (غيره) أي الجاني المتقدم (تعددت) أي الديات لأن فعل الانسان لا يدخل في فعل
غيره
76

فيلزم كلا منهما ما أوجبته جنايته. ولما فرغ مما فيه أرش مقدر من الحر شرع في الجناية التي لا تقدير لأرشها فيه وفي
الجناية على الرقيق مترجما لذلك بفصل فقال:
(فصل: تجب الحكومة فيما) أي شئ يوجب مالا ليخرج ما يوجب تعزيرا فقط كقلع سن من ذهب، وقوله:
(لا مقدر فيه) أي من الدية ولم تعرف نسبته من مقدر، فإن عرفت نسبته منه كأن كان بقرب موضحة أو جائفة وجب
الأكثر من قسطه وحكومة كما مر. قال ابن قاسم: وقد يقال لا حاجة لهذا القيد فإن مثل هذا لا يسمى حكومة فإنها
التي يقدر الحر فيها رقيقا، ويشير إلى ذلك قول المصنف في الفصل في أول باب الديات: والشجاج قبل الموضحة أن عرفت
نسبتها منها وجب قسط من أرشها وإلا فحكومة اه‍. وهذا ظاهر على ما جرى عليه المصنف وإن قلنا بالأصح وهو وجوب
الأكثر من قسطه ومن الحكومة فلا بد من هذا القيد فإنه لا بد أن يقدر رقيقا حتى يعرف الأكثر، وسميت حكومة
لاستقرار بحكم الحاكم، حتى لو اجتهد غيره في ذلك لم يكن له أثر، وإنما ذكرت الحكومة بعد المقدرات لتأخرها
عنها في الرتبة لأنها جزء منها كما سيأتي، والغزالي ذكرها في أول الباب. قال الرافعي: وذكرها هنا أحصن ليتم
الكلام على الانتظام، وكذا صنع في الروضة فذكرها هنا (وهي جزء) من الدية (نسبته إلى دية النفس) في الأصح
(وقيل) نسبته (إلى عضو الجناية نسبه نقصها) أي الجناية (من قيمته) أي المجني عليه (لو كان رقيقا بصفاته)
التي هو عليها، مثاله جرح يده، فيقال: كم قيمة المجني عليه بصفاته التي هو عليها بغير جناية لو كان رقيقا؟ فإذا
قيل مائة فيقال: كم قيمته بعد الجناية؟ فإذا قيل تسعون فالتفاوت العشر فيجب عشر دية النفس، وهو عشر من الإبل
إذا كان المجني عليه حرا ذكرا مسلما، لأن الجملة مضمونة بالدية فتضمن الاجزاء بجزء منها كما في نظيره من عيب المبيع.
والوجه الثاني أن تنسب إلى عضو الجناية لا إلى دية النفس فيجب عشر دية اليد، وهو خمس من الإبل، فإن كانت
الجناية على أصبع وجب بعير، أو على أنملة وجب ثلث بعير في غير الابهام، ويقاس على ذلك ما أشبهه وللحاجة
في معرفة الحكومة إلى تقدير الرق قال الأئمة: العبد أصل الحر في الجنايات التي لا يتقدر أرشها، كما أن الحر أصل
العبد في الجنايات التي يتقدر أرشها، وتجب الحكومة إبلا كالدية لا نقدا. وأما التقويم فمقتضى كلام المصنف كغيره
أنه بالنقد، لكن نص الشافعي على أنه بالإبل فقال في إذهاب العذرة فيقال: لو كانت أمة تساوي خمسين من الإبل كم
ينقصها ذهاب العذرة من القيمة، فإن قيل العشر وجب خمس من الإبل، وإن قيل أقل أو أكثر وجب، حكاه
البلقيني
ثم قال: وهو جار على أصله في الديات أن الإبل اه‍. والظاهر كما قال شيخنا أن كلا من الامرين جائز، لأنه
يوصل إلى الغرض.
تنبيه: محل الخلاف إذا كانت الجناية على عضو له أرش مقدر، فإن كانت على الصدر أو الفخذ أو نحو ذلك
مما لا مقدر فيه اعتبرت الحكومة من دية النفس قطعا، وتقدر لحية امرأة أزيلت ففسد منبتها لحية عبد كبير يتزين
بها، ومثلها الخنثى، ولو قلع سنا أو قطع أصبعا زائدة ولم ينقص بذلك شئ قدرت زائدة لا أصلية خلفها ويقوم له المجني
عليه متصفا بذلك، ثم يقوم مقطوع الزائد فيظهر التفاوت بذلك، لأن الزائدة تشد الوجه ويحصل بها نوع جمال،
ويستثنى من اعتبار النسبة لو قطع أنملة لها طرف زائد فيجب فيها مع دية أنملة حكومة يقدرها القاضي باجتهاد،
ولا تعتبر النسبة لعدم إمكانها. قال الرافعي: وكان يجوز أن يقوم له الزائدة بلا أصلية ثم يقوم دونها كما فعل في السن
الزائدة، أو يعتبر بأصلية كما اعتبرت لحية المرأة بلحية الرجل، ولحيتها كالأعضاء الزائدة، ولحيته كالأعضاء الأصلية.
وأجاب شيخي عن ذلك بأنا لو فعلنا ما ذكر لزاد زيادة تضر بالجاني، لأن أرشها يكثر بذلك. (فإن كانت) أي الحكومة
(بطرف) أي لأجله (له) أرش (مقدر) كاليد والرجل (اشترط أن لا تبلغ) تلك الحكومة (مقدره) أي
الطرف لئلا تكون الجناية على العضو مع بقائه مضمونة بما يضمن به العضو نفسه فينقص حكومة الأنملة بجرحها
77

أو قطع ظفرها عن يدها، وحكومة جراحة الإصبع بطوله عن ديته، ولا يبلغ بحكومة ما دون الجائفة من الجراحات على
البطن أو نحوه أرش الجائفة (فإن بلغته نقص القاضي) منه (شيئا باجتهاده) لئلا يلزم المحذور السابق، ولا يكفي
أقل متمول كما قاله الإمام وجرى عليه ابن المقري وإن قال ابن الرفعة تبعا للماوردي أقله ما يصلح ثمنا أو صداقا: أي
فيكفي أقل متمول (أو) كانت لطرف (لا تقدير فيه) ولا يتبع مقدرا (كفخذ) وساعد وظهر وكف (فإن) أي
فالشرط أن (لا تبلغ) حكومته (دية نفس) وهو معلوم أنها لا تصل إلى ذلك، لأن الكل أكثر من الجزء، بل
المراد أن لا يصير بلوغها أرش عضو مقدر وإن زادت عليه كما صرح به الرافعي تبعا للبغوي وإن كان النص يقتضي أن
يبلغ بها دية العضو، فإن تبع مقدرا كالكف فإنه يتبع الأصابع، فالشرط أن لا يبلغ ذلك دية المقدر وإن بلغ بحكومة
الكف دية أصبع جاز، لأن منفعتها دفعا واحتواشا تزيد على منفعة أصبع، كما أن حكومة اليد الشلاء لا تبلغ دية اليد
ويجوز أن تبلغ دية أصبع وأن تزيد عليها، وإنما لم يجعل الساعد كالكف حتى لا يبلغ بحكومة جرحه دية الأصابع،
لأن الكف هي التي يتبع الأصابع دون الساعد، ولهذا لو قطع من الكوع لزمه ما يلزمه في لقط الأصابع، ولو قطع من
المرفق لزمه مع الدية حكومة الساعد (ويقوم) لمعرفة الحكومة المجني عليه بفرض رقه، لكن (بعد اندماله)
لا قبله، لأن الجراحة قد تسري إلى النفس أو إلى ما يكون واجبه مقدرا فيكون ذلك هو الواجب لا الحكومة (فإن لم
يبق) بعد اندماله (نقص) في المنفعة ولا الجمال ولا تأثرت به القيمة (اعتبر) فيه (أقرب نقص) من حالات
نقص فيه (إلى الاندمال) وهكذا لئلا تحيط الجناية على المعصوم، فإن لم يظهر النقص إلا حال سيلان الدم اعتبرنا
القيمة حينئذ واعتبرنا الجراحة دامية.
تنبيه: مقتضى اعتباره أقرب نقص إلى الاندمال أنه لو لم يكن هناك نقص كالسن الزائد ولحية المرأة لم يجب
شئ، وليس مرادا كما علم فأمر، فإن كانت الجراحة خفيفة لا تؤثر في حال سيلان الدم عزر فقط إلحاقا لها كما
في الوسيط باللطمة والضربة التي لم يبق لها أثر للضرورة لانسداد باب التقويم الذي هو عمدة الحكومة، وفي التتمة:
الحاكم يوجب شيئا باجتهاده، ورجحه البلقيني. (وقيل يقدره) أي يقدر النقص المذكور (قاض باجتهاده) لئلا تخلو
الجناية عن غرم (وقيل لا غرم) حينئذ، بل الواجب التعزير كالضربة والصفعة التي لم يبق لها أثر، واختاره
ابن سريج، وقال الإمام: أنه القياس (والجرح المقدر) أرشه (كموضحة) ومأمومة (يتبعه الشين) الكائن (حواليه)
ولا يفرد بحكومة، لأنه لو استوعب بالايضاح جميع موضع الشين لم يكن فيه إلا أرش موضحة.
تنبيه: هذا إذا كان الشين في محل الايضاح، فإن تعدى شين موضحة الرأس عن محله إلى القفا أو الوجه لم
يتبعه، في أحد وجهين يظهر ترجيحه، وصححه البارزي لتعديه محل الايضاح، وكلام أصل الروضة يشير إليه.
ويستثنى من الاستتباع ما لو أوضح جبينه فأزال حاجبه فعليه الأكثر من أرش موضحة وحكومة الشين وإزالة الحاجب،
حكياه عن المتولي وأقراه، ولو جرحه على بدنه جراحة وبقربها جائفة قدرت بها ولزمه الأكثر من أرش القسط
والحكومة كما لو كان بقربها موضحة (وما) أي والجرح الذي (لا يتقدر) أرشه كدامية (يفرد) الشين حواليه (بحكومة)
عن حكومة الجرح (في الأصح) لضعف الحكومة عن الاستتباع بخلاف المقدر وما ألحق به. والثاني تتبع الجرح كما
في الأرش المقدر.
تنبيه: أورد على المصنف المتلاحمة فإنها ليست مقدرة، وهي كالموضحة في استباع الشين إذا قدرنا أرشها بالنسبة
إلى الموضحة على الأصح في أصل الروضة هنا:
فروع: لو ضربه أو لطمه ولم يظهر بذلك شين فعليه التعزير، فإن ظهر شين كأن اسود محل ذلك أو اخضر
78

وبقي الأثر بعد الاندمال وجبت الحكومة، والعظم المكسور في غير الرأس والوجه إذا انجبر ولم يبق فيه أثر اعتبر
أقرب نقص إلى الاندمال كما مر، وإن بقي أثر وهو الغالب وجبت الحكومة، ولو انجبر معوجا فكسره الجاني ليستقيم
وليس له كسره لذلك حكومة أخرى، لأنه جناية جديدة. وفي إفساد منبت الشعور حكومة إذا كان فيه جمال
كشعر اللحية وشعر الرأس. أما ما الجمال في إزالته كشعر الإبط فلا حكومة فيه في الأصح وإن كان التعزير واجبا
للتعدي كما قاله الماوردي وإن كان ظاهر كلام ابن المقري فيه وجوب الحكومة أيضا. أما إذا لم يفسد منبتها فإنه
لا حكومة فيها لأنها تعود غالبا. وضابط ما يوجب الحكومة وما لا يوجبها إن بقي أثر الجناية من ضعف أو شين أوجب
الحكومة وكذا إن لم يبق على الأصح بأن يعتبر أقرب نقص إلى الاندمال كما مر. وإن كانت الجناية بغير جرح ولا
كسر كإزالة الشعور واللطمة فلا حكومة فيه وفيه التعزير كما علم مما مر. ثم عقب المصنف الحكومة ببيان حكم الجناية
على الرقيق لاشتراكهما في أمر تقديري وإن كان استوفى الكلام على ضمان الرقيق وغيره من الحيوان في كتاب
الغصب بأبسط مما هنا، إلا أنه أعاد الكلام فيه هنا ليبين أن الجناية عليه تارة تكون بإثبات اليد عليه كما سبق في
الغصب وتارة بغير ذلك كما هنا فقال: (و) تجب (في) الجناية على (نفس الرقيق) المعصوم ذكرا كان أو أنثى ولو
مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد (قيمته) بالغة ما بلغت سواء أكانت الجناية عمدا أم خطأ وإن زادت على دية الحر كسائر
الأموال المتلفة، ولا يدخل في قيمته التغليظ. أما المرتد فلا ضمان في إتلافه. قال في البيان: وليس لناشئ يصح بيعه
ولا يجب في إتلافه شئ سواه (و) يجب (في) إتلاف (غيرها) أي نفس الرقيق من أطرافه ولطائفة (ما نقص
من قيمته) سليما (إن لم يتقدر) ذلك الغير (في الحر) ولم تبع مقدرا ولا يبلغ بالحكومة قيمة جملة الرقيق المجني
عليه أو قيمة عضوه على ما سبق في الحر. (وإلا) بأن قدرت في الحر كموضحة وقطع عضو (فنسبته) أي فيجب
مثل نسبته من الدية (من قيمته) أي الرقيق لأنا نشبه الحر بالرقيق في الحكومة ليعرف قدر التفاوت ليرجع به،
ففي المشبه به أولى، ولأنه أشبه الحر في أكثر الأحكام بدليل التكليف فألحقناه في التقادير، ففي قطع يده نصف
قيمته، وفي يديه قيمته، وفي أصبعه عشرها، وفي موضحته نصف عشرها، وعلى هذا القياس.
تنبيه: قوله: وإلا فنسبته من قيمته، محله في جناية واحدة أو جنايتين بعد اندمال الأولى،
فإن لم تندمل الأولى كما لو قطع يد عبد قيمته ألف درهم فصار يساوي ثمان مائة درهم فإنا نغرمه على الأظهر خمسمائة درهم لأنها نصف
القيمة، فإذا قطع آخر يده الأخرى قبل الاندمال ولم يمت منهما لا نغرمه أربعمائة بل نصف ما أوجبناه على الأول
وهو مائتان وخمسون، لأن الجناية الأولى لم تستقر حتى يضبط النقصان، وقد أوجبنا بها نصف القيمة، فكأنه أنقص
نصفها، لأنه قبل الاندمال لا يقوم فيؤخذ منه نصف ما بقي، وتظهر فائدة ذلك فيما لو جنى عليه بحز رقبته (وفي
قول) نسبة المصنف في الغصب القديم: يجب (ما نقص) من قيمته، لأنه مملوك كالبهيمة. ثم فرع على القولين معا
قوله: (ولو قطع ذكره وأنثياه) ونحوهما مما يجب للحر فيه ديتان (ففي الأظهر) يجب بقطعهما (قيمتان) كما يجب
فيهما من الحر ديتان (و) في (الثاني) يجب (ما نقص) من قيمته كالبهيمة (فإن لم ينقص) عنها أو زاد عليها
لرغبة فيه بكونه خصيا (فلا شئ) يجب بقطعهما على هذا القول لعدم النقص، وقد اختلف فيه أهو قديم أم مخرج؟
وعلى هذا فالأولى التعبير بالمذهب أو النص أو الجديد.
خاتمة: قال الماوردي: من نصفه حر يجب في طرفه نصف دية طوف الحر، ونصف ما في طرف العبد ففي
يده ربع الدية وربع القيمة، وفي أصبعه نصف عشر الدية ونصف عشر القيمة، وعلى هذا القياس فيما زاد من الحرية أو نقص.
79

باب موجبات الدية
غير ما مر في الباب قبله مما تجب فيه الدية ابتداء: كقتل الولد ولده، وكصور الخطأ وشبه العمد (و) باب
(العاقلة) وجناية الرقيق والغرة (والكفارة) للقتل يعطف الجميع على موجبات، والعاقلة جمع عاقل، وسيأتي بيانهم
في الفصل الثاني من فصول هذا الباب، سموا بذلك لأنهم يعقلون الإبل بفناء دار القتيل، وقيل لأنهم يمنعون عنه
. والعقل: المنع، وقيل لاعطائها العقل الذي هو الدية، والكفارة تقدم الكلام عليها في بابها، وأراد بالكفارة
كفارة القتل كما قدرته، ولو زاد على ما زدته من جناية الرقيق والغرة لكان أولى لأنهما من فصول الباب.
إذا (صاح على صبي لا يميز) أصلا أو ضعيف التمييز أو على مجنون أو امرأة ضعيفة العقل، وكل ممن ذكر كائن
(على طرف سطح) أو شفير نهر أو بئر أو غير ذلك صيحة منكرة (فوقع بذلك) الصياح بأن ارتعد به (فمات)
منه كما في الروضة ولو بعد مدة مع وجود الألم (فدية) أي فيه فدية (مغلظة) بالتثليث السابق في كتاب الديات
(على العاقلة) لأن هؤلاء كثيرا ما يتأثرون بذلك (وفي قول) يجب فيما ذكر (قصاص) لأن التأثير به غالب،
والأول يمنع غلبته ويجعل مؤثره شبه عمد، سواء أغافله من ورائه أم واجهه، وسواء أكان في ملك الصائح أم لا.
تنبيه: التقييد بالارتعاد عبارة الشرح والروضة. قال ابن الرفعة: والتقييد به كأنه لو حظ فيه أن يغلب على
الظن كون السقوط بالصياح. قال الأذرعي: ولعل الارتعاد ملازم لهذه الحالة فكان ينبغي أن يقول: فمات منه كما في
الروضة اه‍. ولهذا لم يتعرض له الجمهور وحذفه من الكتاب، ولو لم يمت بل اختل بعض أعضائه ضمن أيضا. وخرج
بالصياح عليه ما لو صاح على غيره فوقع من الصياح فهل يكون هدرا أو كما لو صاح على صيد؟. قال الأذرعي:
الأقرب الثاني، وما لو صاح بداية الغير أو هيجها بوثبة فسقطت في ماء أو وهدة فهلكت فإنه يضمنها كالصبي، حكاه
الرافعي عن فتاوى البغوي قبيل السير، وبغير المميز المميز فإنه لا ضمان بوقوعه. لكن قوله بعد ذلك: ومراهق
متيقظ كالبالغ يقتضي أن غير المراهق ليس كالبالغ، وسيأتي التنبيه على ذلك، وبطرف سطح ما لو كان على وسطه
فإنه يقتضي أنه كالأرض، لكن عبارة غيره على سطح، وهي أعم. (ولو كان) المصيح عليه ممن ذكر سابقا
(بأرض) مستوية أو قريبة منها فمات من الصيحة (أو صاح على بالغ) عاقل كما علم مما مر كائن (بطرف سطح)
فسقط ومات (فلا دية في الأصح) المنصوص فيهما لندرة الموت بذلك، والثاني في كل منهما الدية لأن الصياح حصل
به في الصبي ونحوه الموت، وفي البالغ عدم التماسك المفضي إليه، وأجاب الأول بأن موت الصبي بمجرد
الصياح في
غاية البعد، وعدم تماسك البالغ به خلاف الغالب من حاله فيكون موتهما موافقة قدر.
تنبيه: كلامه يقتضي نفي القصاص قطعا، وهو ظاهر في البالغ كما صرح به القاضي الحسين، وأما في غيره
فمقتضى كلام الروضة إثبات الخلاف السابق فيه. وأما المجنون ومن يعتريه وسواس، والنائم والمرأة الضعيفة كالصبي
الذي لا يميز كما في أصل الروضة، ولو صاح على صغير فزال عقله وجبت الدية كما جزم به الإمام، ونص في الام
وإن كان بالغا فلا (وشهر) أي سل (سلاح) لبصير يراه أو تهديد شديد (كصياح) فيما ذكر فيه، بل هو أولى
منه (ومراهق متيقظ) ليس كصبي بل هو (كبالغ) فلا دية في الأصح لعدم تأثيره بذلك غالبا.
تنبيه: كلامه في الصبي المميز متدافع، وكلام الشارح يدل على أنه كالمراهق، لأنه جعل المراهق في مقابلة
80

غير المميز فدخل في هذا المميز، والأولى أن يقال فيه أخذا مما مر: إن كان ضعيف التمييز فهو كغير المميز، وإن كان
قوي التمييز فهو كالمراهق. وقال الزركشي: الامر منوط بالتمييز وعدمه لا بالبلوغ، والمراهقة وعدمها مع أن ظاهر
كلام الشافعي والأصحاب أن الصبي لا يضمن ولو كان مراهقا لأنه لم يكمل عقله (ولو) لم يقصد الصبي ونحوه ممن ذكر
بل (صاح) شخص (على) نحو (صيد) ولو كان الصائح على الصيد محرما أو في الحرم (فاضطرب) به (صبي) لا يميز،
وما في معناه ممن سبق، وهو كائن على طرف سطح (وسقط) ومات منه (فدية مخففة على العاقلة) لأنه
لم يقصد الشخص.
تنبيه: أفهم كلامه أنه لو لم يضطرب لم يضمنه، وهو كذلك، وما ذكره هنا من اشتراط اضطراب الصبي
مشعر باشتراطه أيضا في مسألة الصياح المذكورة أول الباب، وتقدم ما فيه (ولو طلب سلطان من) أي امرأة (ذكرت)
عنده (بسوء) وأمر بإحضارها (فأجهضت) أي ألقت جنينا فزعا منه قبل تمامه (ضمن الجنين) - بضم أوله - أي وجب
ضمانه بغرة على عاقلة السلطان.
تنبيه: كان الأولى أن يقول: أسقطت لأن الاجهاض مختص بالإبل كما قاله ابن سيده وغيره، وتصويرهم
المسألة بطلب السلطان قد يقتضي اشتراط كون الطالب مرهوبا، فإن كان غير مرهوب فلا ضمان وهو ظاهر،
والأظهر لحوق القاضي، وكذا كل من له سطوة في ذلك بالإمام، وقول المصنف: بسوء ليس بقيد، بل لو كذب
شخص وأمرها بالحضور على لسان الإمام كان الحكم كذلك، وكذا لو تهددها بلا طلب. قال البلقيني: وكذا لو طلبها
في دين فأسقطت ضمن إن كانت مخدرة لتعديه أو غير مخدرة لكنها تخاف من سطوته، فإن لم تخف من سطوته
وهي غير مخدرة فلا ضمان، وطلبها أيضا ليس بقيد، بل لو طلب سلطان رجلا عندها فأجهضت كان الحكم كذلك
على النص. وظاهر كلامه أن الضمان على السلطان، لكن سيأتي أن الغرة إنما تحملها العاقلة، ولذا قيدت كلامه بذلك.
قال البلقيني: وينبغي للحاكم أن يسأل هل هي حامل قبل أن يطلبها؟ ولم أر من يفعله، وهو حسن، واحترز
بقوله: أجهضت عما لو ماتت فزعا فلا ضمان لأن مثله لا يفضي إلى الموت. نعم لو ماتت بالاجهاض ضمن
عاقلته ديتها
لأن الاجهاض قد يحصل منه موت الام، قاله البلقيني. ولو فزع إنسانا فأحدث في ثيابه فأفسدها فلا ضمان، لأنه لم
ينقصه جمالا ولا منفعة. (ولو وضع صبيا) حرا كما قيده الرافعي ك الغزالي وغيره (في مسبعة) بميم وباء موحدة مفتوحتين:
اسم لأرض كثيرة السباع، وجوز في المحكم ضم الميم وكسر الموحدة (فأكله سبع فلا ضمان) عليه، لأن الوضع
ليس بإهلاك ولم يوجد منه ما يلجئ السبع، بل الغالب أنه ينفر من الانسان في المكان الواسع، سواء أمكنه
الانتقال عن موضع الهلاك أم لا (وقيل إن لم يمكنه انتقال) عنه (ضمن) لأن الوضع والحال ما ذكر بعد إهلاكا
عرفا، والأول يمنع ذلك. أما إذا أمكنه فلم ينتقل فلا ضمان عليه قطعا، وإن خالف في ذلك البلقيني كما لو فتح
عرقه فلم يعصبه حتى مات، وخرج بالصبي البالغ فإنه لا يضمن جزما كما صرح به في أصل الروضة. واحترز بمسبعة
عن وضع صبي بمضيعة لا سباع فيها فاتفق افتراس سبع له فلا ضمان جزما، وهذا بخلاف ما لو وضع الصبي أو البالغ
في زريبة السبع وهو فيها، أو ألقى السبع على أحدهما، أو ألقاه على السبع في مضيق أو حبسه معه في بيت أو بئر أو
قذفه له حتى اضطر إلى قتله، والسبع مما يقتل غالبا كأسد ونمر وذئب فقتله في الحال أو جرحه جرحا يقتل غالبا
فعليه القود لأنه ألجأ السبع إلى قتله فإن كان جرحه لا يقتل غالبا فشبه عمد، وهذا بخلاف ما لو ألقاه على حية أو
ألقاها عليه أو قيده وطرحه في مكان فيه حياة ولو ضيقا فإنه لا يضمنه، فإن قيل: لم لم يفرقوا في إلقاء الحية بين المضيق
والمتسع كما في السبع؟. أجيب بأنها تنفر بطبعها من الآدمي بخلاف السبع فإنه يثب عليه في المضيق دون المتسع، فإن
81

السبع ينفر فيه من الآدمي كما مر، والمجنون الضاري كالسبع المغري في المضيق، ولو ألقاه مكتوفا بين يدي السبع في
مكان متسع فقتله فلا ضمان، ولو السعة حية مثلا فقتلته، فإن كانت مما يقتل غالبا فعمد وإلا فشبهه (ولو تبع بسيف)
أو نحوه مكلفا بصيرا أو مميزا (هاربا منه فرمى نفسه بماء أو نار) أو نحوه من المهلكات كبئر (أو من سطح) عال أو من
شاهق جبل فمات أو لقيه لص في طريقه فقتله أو سبع فافترسه ولم يلجئه إليه بمضيق، سواء كان المطلوب بصيرا أم أعمى
(فلا ضمان) له على التابع لأنه فيما عدا الأخيرتين باشر هلاك نفسه قصدا، والمباشرة مقدمة على السبب فصار كما لو
حفر بئرا فجاء آخر وردى نفسه فيها. وفي الأخيرتين لم يوجد من التابع إهلاك، ومباشرة السبع أو اللص العارضة
كعروض القتل على إمساك الممسك، أما إذا كان المطلوب صبيا أو مجنونا لا تمييز له فإنه يجب الضمان في هذه الصورة
لأن عمدهما خطأ بخلاف ما إذا كان لهما تمييز فإن عمدهما عمد كما مر في الكلام على الاكراه على القتل (فلو وقع) الهارب
فيما ذكر (جاهلا) به (لعمى أو ظلمة) في نهار أو ليل أو لتغطية بئر (ضمن) التابع له، لأنه لم يقصد إهلاك نفسه وقد
ألجأه المتبع إلى الهرب المفضي إلى الهلاك (وكذا لو انخسف به) أي الهارب صبيا كان أو بالغا (سقف في هربه) ومات
بذلك ضمنه التابع أيضا (في الأصح) المنصوص لأنه حمله على الهرب وألجأه إليه، فأشبه ما لو وقع في بئر مغطاة، والثاني
لا، لعدم شعوره بالمهلك.
تنبيه: محل الخلاف ما إذا كان سبب الانخساف ضعف السقف ولم يشعر به المطلوب، أما لو ألقى نفسه على السقف
من علو فانخسف لثقله لم يضمنه التابع قطعا لأنه باشر ما يفضي إلى الهلاك كما لو ألقى نفسه في ماء أو نار. وأما من
لا تمييز له أصلا لجنون أو صغر فمضمون إذ عمده خطأ كما نبه على ذلك الزركشي (ولو سلم) بضم أوله (صبي إلى سباح ليعلمه) السباحة،
وهي العوم (فغرق) بتعليمه أو بإلقائه في الماء (وجبت ديته) على عاقلة السابح لأنه مات بإهماله وقد
التزم بحفظه، فتكون ديته شبه عمد على الصحيح كما لو هلك الصبي بضرب المعلم تأديبا. وقول الماوردي: وجوب
الدية على السابح أول على أنها تلاقيه ابتداء، وسواء أخذه السابح بيده وألقاه في الماء أو كان الصبي على الشط فأشار
إليه بدخول الماء فدخل باختياره وغرق كما يشعر به إطلاقه، وهو موافق لبحث البسيط خلافا للجرجاني من
تصحيحه عدم الضمان. فإن قيل: قد مر أنه ألقاه في مسبعة لم يضمن مع أن الخطر فيها أكثر، وهنا الخطر قليل،
وقد تدعو الحاجة إليه، فهلا كان هنا كذلك؟ أجيب بأن الماء مهلك، فالتفريط من السباح، وليست المسبعة
بنفسها مهلكة لاحتمال بقائه.
تنبيه: محل وجوب الدية كما قال البلقيني إذا لم يقع من السباح تقصير، فلو رفع يديه من تحته عمدا فغرق وجب
القصاص. وأشعر قوله: سلم بأن السباح لو تسلمه بنفسه لا ضمان، وقوله إلى سباح بأن الولي لو كان هو المعلم للسباحة
فلا ضمان أيضا، وليس مرادا، بل الأصح فيهما الضمان، وأشعر أيضا بأنه لا فرق بين كون المسلم للصبي وليه أو
أجنبيا، وهو كلك، لكن في تسليم الأجنبي يكون هو والسباح شريكين. وخرج بالصبي بالبالغ العاقل، فلو سلم نفسه
للسباح ليعلمه فغرق هدر لاستقلاله، فعليه أن يحتاط لنفسه ولا يغتر بقول السباح.
فائدة: اختلف في قوله تعالى: * (والسابحات سبحا) * فقيل النجوم لأنها تسبح في الفلك، وقيل الملائكة لأنها
تتصرف في الأمور بأمر الله تعالى تجئ وتذهب، وقيل الشمس والقمر والليل والنهار، وقيل السحاب لأنها كالقائمة
في الهواء، وقيل المنايا تسبح في نفوس الحيوان، وقيل جماعة الخيل ولذلك يقال للفرس سابح، وقيل حيتان البحر
وهي من عظيم المخلوقات. فيروى أن الله تعالى بث في الدنيا ألف نوع من الحيوان: منها أربعمائة في البر،
وستمائة في البحر. (ويضمن) الشخص (بحفر بئر عدوان) كحفرها بملك غيره بغير إذنه أو في مشترك بغير إذن
82

شريكه، أو في شارع ضيق أو واسع لمصلحة نفسه بغير إذن الإمام فيضمن ما تلف فيها من آدمي حر أو غيره، لكن
الآدمي يضمن بالدية إن كان حرا وبالقيمة إن كان رقيقا على عاقلة الحافر حيا كان أو ميتا، وأما غير الآدمي كبهيمة
أو مال آخر فيضمن بالغرم في مال الحافر، وكذا القول في الضمان في جميع المسائل الآتية.
تنبيه: يشترط أن يستمر العدوان إلى السقوط فيها، فلو رضي المالك بإبقائها زال الضمان في الأصح، وكذا
لو ملك البقعة. ويشترط أن لا يوجد هناك مباشرة بأن رداه في البئر غير حافرها، وإلا فالضمان على المردي لا الحافر،
وأن يتجرد التردي للاهلاك فلو تردت بهيمة في بئر ولم تتأثر بالصدمة وبقيت فيها أياما، ثم ماتت جوعا أو عطشا فلا
ضمان على الحافر، وقضية إطلاقه أنه لا فرق في تضمين الحافر بين المتردي فيها بالليل والنهار وهو كذلك، ونقله في
البسيط عن إطلاق الأصحاب وخصه الإمام بالتردي نهارا. وقوله عدوان هو بالجر صفة حفر، ويجوز النصب على
الحال. ولو تردى شخص فيها ثم قال المالك: حفر بإذني لم يصدق، واحتاج الحافر إلى بينة بإذنه، ولو تعدى الداخل
بدخوله فوقع فيها لم يضمنه الحافر كما رجحه البلقيني وغيره لتعديه. فإن أذن له المالك في دخولها فإن عرفه البئر
فلا ضمان، وإلا فالضمان على المالك في أحد الوجهين كما رجحه البلقيني لأنه مقصر بعدم إعلامه: فإن كان ناسيا فعلى
الحافر و (لا) يضمن بحفر بئر (في ملكه) لعدم تعديه ومحله إذا عرفه المالك أن هناك بئرا أو كانت مكشوفة والداخل
متمكن من التحرز، فأما إذا لم يعرفه والداخل أعمى فإنه يضمن كما قاله في التتمة وأقراه. وما إذا لم يوسع حفرها،
فإن وسعه على خلاف العادة أو قربها من جدار جاره خلاف العادة أو وضع في أصل جدار غيره سرجينا أو لم يطو
بئره. ومثل أرضها ينهار إذا لم يطو ضمن في الجميع ما هلك بذلك لتقصيره. ولا يضمن المتولد من نار أوقدها في
ملكه أو على سطحه إلا إذا أوقدها وأكثر على خلاف العادة أو في ريح شديد فيضمن لا إن اشتد الريح بعد الايفاد
فلا يضمن لعذره إلا إن أمكنه إطفاؤها فتركه. قال الأذرعي: ففي تضمينه نظر اه‍. والأوجه عدم تضمينه كما لو بنى
جداره مستويا ثم مال وأمكنه إصلاحه ولم يصلحه حتى وقع على شئ فأتلفه فإنه لا يضمنه كما سيأتي، وكالمالك ما في
معناه من المستحق منفعته أبدا بوصية أو وقف كما قاله الأذرعي (و) لا يضمن بحفر بئر في (موات) للتملك أو الارتفاق،
فإنه كالحفر في ملكه، وعليه يحمل خبر مسلم البئر جرحها جبار أي غير مضمون، فإن حفر البئر في الموات ولم
يخطر بباله تملك ولا ارتفاق فهو كما لو حفرها للارتفاق كما قاله الإمام، لأنه فعل جائز.
تنبيه: قول المصنف: لا في ملكه وموات يحتمل أن مراده لا عدوان فيه، وهو الموافق لعبارة المحرر، أو فلا
ضمان فيه وإن كان عدوانا، ويرد على كل من الاحتمالين ما إذا حفر حفرة واسعة في ملكه قريبا من أرض جاره بحيث
يؤدي إلى إضرار أرض جاره، فإنه يكون متعديا ضامنا لمن وقع في موضع التعدي كما قاله البلقيني، ويرد على الاحتمال
الأول ما لو حفر في ملكه المرهون المقبوض بغير إذن المرتهن، أو في ملكه الذي أجره إجارة صحيحة فهو حفر عدوان
ولا ضمان فيه لو سقط فيه إنسان غير متعد كالمستأجر، ويستثنى من إطلاقه ما لو حفر بالحرم بئرا في ملكه أو موات
فإنه يضمن الصيد الواقع فيه في الحرم في الأصح كما في الرافعي في محرمات الاحرام.
فروع: لو سقى أرضه فخرج الماء من حجر فأهلك شيئا لم يضمنه إلا إن سقى فوق العادة أو علم بالحجر ولم
يحتط فيضمن لتقصيره. ولو وضع جرة على طرف سطح فسقطت بريح أو هدم لمحلها فأهلكت شيئا أو أوقف دابة في
ملكه فرفست شخصا فأهلكته ولو خارج ملكه أو نجست ثوبه أو كسر حطبا في ملكه فتطاير منه شئ فأهلك شيئا
لم يضمن. ثم استثنى في المعنى مما سبق ما تضمنه قوله: (ولو حفر بدهليزه) بكسر الدال (بئرا ودعا رجلا) إلى الدهليز
أو إلى بيته ولم يعلمه وكان الغالب أنه يمر عليها فأجابه (فسقط) فيها جاهلا بها لنحو ظلمة كتغطية أو كان أعمى فمات
(فالأظهر ضمانة) لأنه غره ولم يقصد هو إهلاك نفسه فإحالته على السبب الظاهر أولى. والثاني لا يضمنه لأنه غير ملجئ
83

فهو المباشر لاهلاك نفسه باختياره. تنبيه: المراد بالضمان الدية، وهي دية شبه عمد. أما القصاص فلا يجب في الأظهر كما ذكره في أول الجراح
، وخرج بدعاء ما لو دخل بغير إذنه فسقط فيها ومات فلا ضمان، وظاهر أنه يضمن فيما لو أكرهه على الدخول، وأفهم
قوله رجلا اعتبار التكليف في الداخل. أما غير المكلف فيجئ فيه ما سبق في الضيافة بطعام مسموم، حتى لو كان
غير مميز ضمنه قطعا. قال البلقيني: بل يجب القصاص عند التكافؤ (أو) حفر (بملك
غيره) بلا إذنه (أو) بملك (مشترك) بينه وبين غيره (بلا إذن) من شريكه (فمضمون) حفره في المسألتين لتعديه، ولو ذكر هذا عقب قوله
سابقا: ويضمن بحفر بئر عدوان لكان أولى، لأنه مثال له، وقد مثلت له به (أو) حفر (بطريق ضيق يضر المارة
فكذا) يجب ضمان ما تلف بها، وإن أذن الإمام إذ ليس له أن يأذن فيما يضر (أو لا يضر) المارة لسعة الطريق أو
لانحراف البئر عن الجادة (وأذن الإمام) في الحفر (فلا ضمان) فيه إن حفره لمصلحة المسلمين على المذهب، وكذا
لمصلحة نفسه على الأصح لعدم التعدي.
تنبيه: أفهم كلامه كغيره اعتبار إذن الإمام قبل الحفر، وليس مرادا، بل لو حفر بغير إذن الإمام وأقره عليه
فإنه لا يضمن كما لو حفره ابتداء بإذنه كما صرح به الجرجاني ونقله غيره عن الأكثرين، وأفهم أيضا أن الاذن
خاص
بالإمام، لكن قال العبادي وغيره أن للقاضي الاذن في بناء مسجد واتخاذ سقاية بطريق واسع حيث لم يضر المارة
(وإلا) بأن لم يأذن الإمام في الحفر بل استقل هو به (فإن حفر لمصلحته) هو فقط (فالضمان) إن لم يقره الإمام كما
مر لافتياته عليه (أو) حفره (لمصلحة عامة) كالحفر للاستقاء أو لاجتماع ماء المطر (فلا) ضمان فيه (في الأظهر)
لما فيه من المصلحة العامة، وقد تعسر مراجعة الإمام في مثله، والثاني يضمن إذ النظر في المصالح العامة للإمام، وخص
الماوردي الخلاف بما إذا أحكم رأسها فإن لم يحكمها وتركها مفتوحة ضمن مطلقا، ومحله أيضا ما إذا لم ينهه عنه الإمام
ولم يقصر، فإن نهاه فحفر ضمن كما قاله أبو الفرج الزاز لافتياته على الإمام حينئذ، أو قصر كأن كان الحفر في أرض
خوارة ولم يطؤها، ومثلها ينهار إذا لم يطو، أو خالف العادة في سعتها ضمن وإن أذن الإمام، نبه عليه الرافعي في
الكلام على التصرف في الاملاك.
تنبيه: ولو وقع شخص في بئر أو نحوه فوقع عليه آخر عمدا بغير جذب فقتله اقتص منه إن قتل مثله مثله غالبا
لضخامته أو عمق البئر أو نحو ذلك كما لو رماه بحجر فقتله، فإن مات الآخر فالضمان في ماله، وإن لم يقتل مثله مثله غالبا
فشبه عمد، وإن سقط عليه خطأ بأن لم يختر الوقوع أو لم يعلم وقوع الأول ومات بثقله عليه وبانصدامه بالبئر فنصف الدية
على عاقلته لورثة الأول، والنصف الآخر على عاقلة الحافر إن كان الحفر عدوانا لأنه مات بوقوعه في البئر وبوقوع
الثاني عليه، وإن لم يكن الحفر عدوانا هدر، وإذا غرم عاقلة الثاني في صورة الحفر عدوانا رجعوا بما غرموا على عاقلة
الحافر، لأن الثاني غير مختار في وقوعه عليه، بل ألجأه الحافر إليه فهو كالمكره له على إتلاف مال بل أولى لانتفاء قصده
هنا بالكلية. ولو نزل الأول البئر ولم ينصدم ووقع عليه آخر فكل ديته على عاقلة الثاني، وإن مات الثاني فضمانه على
عاقلة الحافر المتعدي بحفره لا إن ألقى نفسه في البئر عمدا فلا ضمان فيه لأنه القاتل لنفسه (ومسجد) في الحفر فيه
(كطريق) في حفر بئر فيه على التفصيل السابق جزما وخلافا.
تنبيه: قضية إطلاقه أنه يجوز أن يحفر فيه بئرا لمصلحة نفسه خاصة بإذن الإمام وهو كذلك، وإن قال البلقيني
: هذا لا يقوله أحد. ففي زوائد الروضة في آخر باب شروط الصلاة نقلا عن الصيمري أنه يكره حفر البئر في المسجد ولم
يفرق فيه بين أن يكون للمصلحة العامة أو لمصلحة نفسه على التفصيل السابق. وإذا قلنا بجوازه لم يضمن ما تلف فيه،
وإن بحث الزركشي الضمان لعدم تعديه. ومعلوم أنه لا بد أن يكون الحفر لا يمنع الصلاة في تلك البقعة إما لسعة
المسجد أو نحوها، وأن لا يتشوش الداخلون إلى المسجد بسبب الاستقاء، وأن لا يحصل به للمسجد ضرر.
ولو بنى
84

سقف المسجد أو نصب فيه عمود أو طين جداره أو علق فيه قنديلا فسقط على إنسان أو مال فأهلكه أو فرش فيه حصيرا
أو حشيشا فزلق به إنسان فهلك أو دخلت شوكة منه في عينه فذهب بها بصره لم يضمنه، وإن لم يأذن له الإمام لأنه
فعله لمصلحة المسلمين. ولو بنى مسجدا في ملكه أو موات فهلك به إنسان أو بهيمة أو سقط جداره على إنسان أو مال
فلا ضمان إن كان بإذن الإمام، وإلا فعلى الخلاف السابق، وبناء سقاية على باب داره في الشارع لشرب الناس منها
كالحفر في الشارع. (وما تولد من جناح) بفتح جيمه: وهو البارز عن سمت الجدار من خشب أو غيره (إلى شارع
فمضمون) سواء أكان يضر أم لا، أذن الإمام فيه أم لا، لأن الارتفاق بالشارع مشروط بسلامة العاقبة، ولو تناهى
في الاحتياط فجرت حادثة لا تتوقع أو صاعقة سقط بها وإن قال الإمام في هذه الحالة: لست أرى إطلاق القول بالضمان
في ذلك، فإن قيل لو حفر بئرا لمصلحة نفسه بإذن الإمام لم يضمن، فهلا كان هنا كذلك؟. أجيب بأن للإمام الولاية
على الشارع مكان إذنه معتبرا حيث لا ضرر، بخلاف الهواء لا ولاية له عليه فلم يؤثر إذنه في عدم الضمان، والدية في
الحر والقيمة في الرقيق على العاقلة إن تلفا بذلك، وإن تلف به مال غير رقيق ففي مال المبرز.
تنبيه: المراد يكون مضمونا على ما سيأتي في الميزاب فيضمن الكل بالخارج فقط والنصب بالجميع، وقوله
: فمضمون يقتضي الضمان، ولو تولد التلف منه بغير سقوطه أو سقوط بعضه كما إذا صدمه راكب على شئ عال أو سقط
منه حيوان كفأرة فتلف بذلك شئ وهو كذلك، وإن قال البلقيني: القياس عدم الضمان ولم أر من تعرض له اه‍. وخرج
بالشارع ما لو أخرجه إلى هواء ملكه أو ملك غيره بإذنه فلا ضمان لما تولد منه جزما لعدم تعديه، أو إلى درب منسد
ليس فيه مسجد أو نحوه، أو إلى ملك الغير بلا إذن من أهل الدرب أو المالك فالضمان وإن كان عاليا لتعديه بخلافه
بالاذن كما لو كان في ملك المخرج، أما إذا كان مسجدا أو نحوه فهو كالشارع كما نبه عليه الأذرعي وغيره، ولو أشرعه
إلى ملكه ثم سبل ما تحته شارعا استمر عدم الضمان فلا يضمن ما تولد كما لو استمر ملكه عليه، ولو سبل أرضه المجاورة
لداره شارعا، واستثنى لنفسه الاشراع لها ثم أشرع لها، فالظاهر كما قال الدميري لا ضمان. (ويحل) للمسلم (إخراج
الميازيب) العالية التي لا تضر بالمارة (إلى شارع) وإن لم يأذن الإمام كالجناح للحاجة الظاهرة إليها، ولما روى الحاكم
في مستدركه أن عمر رضي الله تعالى عنه مر تحت ميزاب العباس رضي الله عنه فقطرت عليه قطرات، فأمر بقلعه
فقلع فخرج العباس، فقال: أتقلع ميزابا نصبه رسول الله (ص) فقال عمر: والله لا ينصبه إلا من يرقى
على ظهري، وانحنى العباس حتى رقي إليه فأعاده إلى موضعه. أما الذمي فقال البلقيني: يمنع كما يمنع إخراج الجناح
، وقد يفرق بأن الجناح يمشي عليه ويقعد وينام فكان أشد من علاء بنائه بخلاف الميزاب، والأرجح أنه لا فرق اه‍.
وهذا هو الظاهر.
تنبيه: جرى المصنف في جميع الميازيب على لغة ترك الهمزة في مفرده وهو ميزاب وهي لغة قليلة، والأفصح
في جمعه مآزب بهمزة، ومد جمع مئزاب بهمزة ساكنة، ويقال فيه مرزاب بتقديم الراء على الزاي وعكسه، فلغاته
حينئذ أربع (والتالف بها) أو بما سال من مائها (مضمون في الجديد) لأنه ارتفاق بالشارع فجوازه مشروط بسلامة
العاقبة كالجناح، وكما لو طرح ترابا بالطريق ليطين به سطحه فزلق به إنسان ضمنه، والقديم لا ضمان لأنه ضروري
لتصرف المياه بخلاف الجناح لأنه لاتساع المنفعة. ومنع الجديد كونه ضروريا، إذ يمكنه أن يتخذ لماء السطح بئرا
أو يجري الماء في أخدود الجدار من غير إخراج شئ (فإن كان بعضه) أي الميزاب ويصح رجوعه للجناح أيضا
بتأويل ما ذكر (في الجدار) وبعضه خارجا عنه (فسقط الخارج) منه كله أو بعضه فأتلف شيئا (فكل
الضمان) يجب لأنه تلف بما هو مضمون عليه خاصة (وإن سقط كله) أي الميزاب داخله وخارجه بأن قطع من أصله
(فنصفه) أي الضمان يجب (في الأصح) لأن التلف حصل بالداخل في ملكه وهو غير مضمون وبالخارج وهو
85

مضمون فوزع على النوعين، سواء أكانت الإصابة بالداخل والخارج أم لا، استويا في القدر أم لا، والثاني يوزع
على الداخل والخارج فيجب قسط الخارج ويكون التوزيع بالوزن، وقيل بالمساحة.
تنبيه: يلغز بهذه المسألة، فيقال رجل إن قتل إنسانا بخشبة لزمه بعض ديته، وإن قتله ببعضها لزمه تمام ديته،
وقد علم مما تقرر أنه لو كان كله خارج الجدار كأن سمر عليه تعلق الضمان بسقوطه كله أو بعضه، ولو كان كله في
الجدار فلا ضمان بوقوعه كالجدار، وأورد على المصنف ما لو سقط كل الخارج وبعض الداخل أو عكسه، فالظاهر
أنه كسقوطه كله، وما لو سقط كله وانكسر نصفين في الهواء ثم أصاب فإنه ينظر إن أصاب بما كان في الجدار لم يضمن
أو بالخارج ضمن الكل كما قاله البغوي في تعليقه، ولو أصاب الماء النازل من الميزاب شيئا فأتلفه ضمن نصفها إن
كان بعضه في الجدار وبعضه خارجا، ولو اتصل ماؤه بالأرض ثم تلف به إنسان قال البغوي: فالقياس التضمين
أيضا. (وإن بنى) شخص (جداره) كله (مائلا إلى شارع) أو ملك غيره بغير إذنه (فكجناح) في ضمان ما تلف
به وإن أذن فيه الإمام على ما مر لأنه مباح بشرط سلامة العاقبة، وخرج بقوله: إلى شارع ما لو كان مائلا إلى ملكه
فلا ضمان لأن له أن يبني في ملكه ما يشاء. نعم لو كان ملكه مستحقا لغيره بإجارة أو وصية كان كما لو بناه مائلا
إلى ملك غيره لأن منفعة الهواء تابعة لمنفعة القرار، قاله الأذرعي. والظاهر في هذه عدم الضمان كما مر في حفر البئر
في ملكه المستأجر، ثم رأيت هذا البحث لشيخي.
تنبيه: لو أسقط قوله: إلى شارع لاستغنى عما قدرته، فإن بنى الجدار مائلا والبعض الآخر مستويا فسقط
المائل فقط ضمن الكل، أو سقط الكل ضمن النصف في الأصح، والميل إلى طريق غير نافذ إن كان فيه مسجد أو
بئر مسبل فكالشارع، وإلا فملك لغير وعلى هذا يحمل قول الزركشي: ينبغي أن يكون كالميل للشارع. ولا يبرأ
ناصب الميزاب أو الجناح أو باني الجدار المائل من الضمان ببيع الدار لغيره حتى لو تلف بها إنسان ضمنته عاقلة البائع كما
نقله عن البغوي وأقراه. نعم لو بنى الجدار إلى ملك الغير عدوانا ثم باعه منه ودفعه إليه، فينبغي أن يبرأ بذلك كما يؤخذ
مما مر في مسألة البئر إذا حفره عدوانا ثم رضي المالك ببقائها فإن الحافر يبرأ بذلك كما قاله الزركشي وغيره. وقال البلقيني
: الأصح عندي لزومه المالك أو عاقلته حالة التلف، قال: ولو تعلق بالواضع أو بعاقلته كما قاله البغوي لتعلق بالصانع له
الذي وضعه للمالك اه‍. فإن قيل: ما الفرق على قول الزركشي بين الجدار والميزاب؟. قلت: الفرق أن سبب الضمان
هنا هو العدوان وقد زال، وثم لم يزل، لأن الانتفاع مشروط بسلامة العاقبة، فاستمر الحكم على ما هو عليه، ولو
كانت عاقلته يوم التلف غيرها يوم إخراج الجناح أو نصب الميزاب أو ميل الجدار كان الضمان عليه كما صرح به البغوي
في تعليقه (أو) بنى جداره (مستويا فمال) إلى شارع أو ملك غيره (وسقط) على شئ فأتلفه (فلا ضمان) به لأنه تصرف
في ملكه، والميل لم يحصل بفعله، فأشبه ما إذا سقط بلا ميل، سواء أمكنه هدمه وإصلاحه أم لا (وقيل: إن أمكنه
هدمه وإصلاحه ضمن) لتقصيره بترك النقد والاصلاح.
تنبيه: لو اختل جداره فصعد السطح فدقه للاصلاح فسقط على إنسان فمات قال البغوي في فتاويه في
باب الغصب: إن سقط وقت الدق فعلى عاقلته الدية (ولو سقط) ما بناه مستويا بعد ميله (بالطريق فعثر به شخص)
فمات (أو تلف) به (مال فلا ضمان) عليه (في الأصح) لأنه بنى في ملكه بلا ميل، والسقوط لم يحصل بفعله،
سواء أقصر في رفعه أم لا، والثاني عليه الضمان لتقصيره بترك رفع ما سقط الممكن له. قال الأذرعي: هو المختار،
وعلى الأول لا فرق أن يطالب بالنقض أو لا، ولو استهدم الجدار ولم يمل لم يلزمه نقضه كما في أصل الروضة،
ولا ضمان ما تولد منه لأنه لم يجاوز ملكه، وقضية هذا أنه إذا مال لزمه ذلك، وليس مرادا، ولصاحب الملك
مطالبة
من مال جداره إلى ملكه بالنقض كأغصان الشجرة تنتشر إلى هواء ملكه فإن له المطالبة بإزالتها، لكن لو تلف بها
86

شئ لم يضمن مالكها لأن ذلك لم يكن بصنعه بخلاف الميزاب ونحوه، نقله البغوي في تعليقه عن الأصحاب (ولو
طرح) شخص (قمامات) جمع قمامة بضم القاف: أي كناسة (وقشور بطيخ) بكسر الموحدة أو رمان أو نحو ذلك
(بطريق) فتلف بذلك شئ (فمضمون على الصحيح) وبه قطع الجمهور كما في أصل الروضة، سواء أطرحه في متن
الطريق أم طرفه لأن الارتفاق الطريق مشروط بسلامة العافية ولان في ذلك ضررا على المسلمين كوضع الحجر والسكين
، والثاني لا ضمان الاطراد العادة بالمسامحة به مع الحاجة.
تنبيه: محل الخلاف كما في الروضة وأصلها في طرحها في غير المزابل والمواضع المعدة لذلك وإلا فشبه القطع بنفي
الضمان، ومحله أيضا إذا كان المتعثر بها جاهلا، فإن مشى عليها قصدا فلا ضمان قطعا كما لو نزل البئر فسقط، وخرج
بطرحها ما لو وقعت بنفسها بريح أو نحوه فلا ضمان. قال شيخنا في شرح الروض: إلا أن قصر في رفعها بعد ذلك،
ويظهر لي أن هذا بحث، والأوجه عدم الضمان أيضا كما لو مال جداره وسقط وأمكنه رفعه فإنه لا يضمن، ولو طرحها
في ملكه أو موات أو ألقى القمامة في سباطة مباحة فلا ضمان.
فروع: يضمن برش الماء في الطريق لمصلحة نفسه ما تلف به، لا برشه لمصلحة المسلمين كدفع الغبار عن المارة
وذلك كحفر البئر للمصلحة العامة، هذا إن لم يجاوز العادة وإلا فيضمن كبل الطين في الطريق ولتقصيره. نعم إن مشى
على موضع الرش قصدا فلا ضمان كما في الروضة، وما ذكر من أنه إذا لم يجاوز العادة فلا ضمان عليه قضيته ولو لم يأذن
له الإمام. قال الزركشي: لكن الذي صرح به الأصحاب وجوب الضمان إذا لم يأذن الإمام. وقال المتولي: إنه
الصحيح لأنه ليس إليه مراعاة المصالح، ولان معظم غرضه مصلحة نفسه، وهو أن لا يتأذى بالغبار، وبهذا فارق
ما لو حفر بئرا للمصلحة العامة فإنه لا ضمان عليه كما مر، ولو قرص أو ضرب رجلا حاملا لشئ فتحرك وسقط ما هو
حامله فكإكراهه على إلقائه فيضمن كل منهما، ولو تغذى بإسناد خشبة إلى جدار غيره فسقط على شئ فأتلفه ضمن
الجدار وما تلف به وإن تأخر السقوط عن الاسناد، بخلاف ما لو فتح قفصا عن طائر فطار حيث يفرق فيه بين طيرانه في الحال
وطيرانه بعد مدة كما مر في باب الغصب لأن الطائر مختار، والجماد لا اختيار له، وإن سندها إلى جداره أو جدار غيره بلا تعد
فسقط أو مال ثم سقط بعد حين ضمن ما أتلفه كما لو أسقط جدارا على مال غيره، بخلاف ما لو وقع ذلك بعد حين فلا ضمان
كما لو حفر بئرا في ملكه، ولو بنى دكة على باب داره في الطريق أو وضع متاعه في الطريق لا في طرف حانوته ضمن
ما تعثر وتلف به لما مر، ولأنه بنى الدكة لمصلحة نفسه، وإنما يضمن ما تلف مما وضعه بطرف حانوته لكونه موضوعا
فيما يختص به، ولو اغتسل شخص في الحمام وترك الصابون والسدر المزلقين بأرضه أو رمى فيها نخامة، فزلق بذلك
إنسان فمات أو انكسر قال الرافعي: فإن ألقى النخامة على الممر ضمن، وإلا فلا، ويقاس بالنخامة ما ذكر معها،
وهذا كما قال الزركشي ظاهر. وقال الغزالي في الاحياء: أنه إن كان بموضع لا يظهر بحيث يتعذر الاحتراز منه فالضمان
متردد بين تاركه والحمامي، إذ على الحمامي تنظيف الحمام، والوجه إيجابه على تاركه في اليوم الأول، وعلى الحمامي
في اليوم الثاني، إذ تنظيف الحمام كل يوم معتاد. وقال في فتاويه: إن نهى الحمامي عنه فالضمان على الواضع، وإن لم
يأذن ولا نهى فالعادة جارية باستعماله، فإن جاوز العادة واستكثر منه ضمن وإلا فلا، لأن وظيفة تنقية الحمام على
الحمامي في العادة لا على المغتسل ثم ما سبق حيث المهلك سبب واحد. ثم شرع فيما إذا تعدد، فقال: (ولو تعاقب سببا
هلاك) بحيث لو انفرد كل منهما كان مهلكا (فعلى الأول) منهما في التلف لا الوجود بحال الهلاك إذا ترجح بالقوة،
وذلك (بأن حفر) شخص بئرا (ووضع آخر حجرا) مثلا على طرف البئر حال كون كل من الحفر والوضع (عدوانا)
كما يشعر به كلامه، وهو أولى من جعل بعضهم العدوان حالا من الوضع فقط، وسواء كان الوضع قبل الحفر أم بعده
كما اقتضاء التعبير بالواو. وقال في المطلب: أنه ظاهر نص المختصر (فعثر) بالبناء للمفعول (به) أي الحجر (ووقع
87

العاثر) بغير قصد (بها) أي البئر فهلك (فعلى الواضع الضمان) لأن التعثر هو الذي ألجأه إلى الوقوع فيها المهلك له فوضع
الحجر سبب أول للهلاك، وقد ترجح بما ذكر، وحفر البئر سبب ثان له، فلو ترجح الحفر بالقوة كأن حفر بئرا
عدوانا فوضع آخر سكينا فيها ومات المتردي بالسكين فالضمان على الحافر، لأن الحفر أقوى السببين لأنه الملجئ له إلى
السقوط على السكين، فإن لم يتعد الحافر كأن كان مالكا فلا ضمان عليهما. أما المالك: فظاهر، وأما الآخر: فلان
السقوط في البئر هو الذي أفضى إلى السقوط على السكين، فكان الحافر كالمباشر والآخر كالمتسبب، بل هو غير معتد
كما سيأتي، فإن استوى السببان كأن حفر شخص بئرا قريبة العمق فعمقها غيره فضمان من تردى فيها عليهما بالسوية،
ولو تفاضلا في الحفر كأن حفر أحدهما ذراعا والآخر ذراعين كالجراحات، ولو طمت بئر حفرت عدوانا فنبشها آخر
فالضمان عليه لانقطاع أثر الحفر الأول بالطم، سواء كان الطام الحافر أم غيره.
تنبيه: أطلق المصنف الواضع، ولا بد فيه أن يكون من أهل الضمان، فلو تعدى بحفر بئر ووضع حربي أو
سبع الحجر فلا ضمان على أحد على الصحيح: وخرج بقولنا: بغير قصد ما لو رأى العاثر الحجر فلا ضمان كما في حفر
البئر، ذكره الرافعي بعد هذا الموضع (فإن لم يتعد الواضع) للحجر كأن وضعه في ملكه (فالمنقول) كما عبر به في
الروضة وأصلها (تضمين الحافر) لأنه المتعدي بخلاف الواضع. قال الرافعي: وينبغي أن يقال: لا يتعلق بالحافر والواضع
ضمان كما لو حفر بئرا عدوانا ووضع السيل أو سبع حجرا فعثر به إنسان وسقط في البئر فهو هدر على الصحيح. قال:
ويدل عليه أن المتولي قال: لو حفر في ملكه بئرا ونصب غيره فيها حديدة فوقع رجل في البئر فجرحته الحديدة ومات
فلا ضمان على واحد منهما، أما الحافر: فظاهر، وأما الآخر: فلان الوقوع في البئر هو الذي أفضى في الوقوع على
الحديدة فكان حافر البئر كالمباشر والآخر كالمتسبب اه‍. وفرق البلقيني بين مسألتنا ومسألة السيل ونحوه بأن الوضع
في مسألتنا فعل من يقبل الضمان فإذا سقط عنه لعدم تعديه فلا يسقط عن المتعدي بخلافه في مسألة السيل ونحوه، فإن
فاعله ليس مهيئا للضمان أصلا فسقط الضمان بالكلية اه‍. وأما المستدل به فيحمل كما قال شيخنا على ما إذا كان الواقع
في البئر متعديا بمروره أو كان الناصب غير متعد، فإن لم يتعد الحافر أيضا فلا ضمان على واحد منهما.
تنبيه: لما كان الحكم في المسألة مشكلا عبر هنا وفي الروضة تبعا للرافعي بالمنقول للتنبيه على ذلك، إلا أن
قولهما: المنقول يقتضي أن لا نقل يخالف ذلك، وما نقلاه عن المتولي يخالفه، فينبغي أو يحمل قولهما: المنقول
على المشهور.
فروع: لو كان بيد شخص سكين فألقى رجل رجلا عليها فهلك ضمن الملقي، لا صاحب السكين إلا أن يلقاه بها
فيضمن، ولو وقع في بئر فأرسل رجل حبلا فشده العبد في وسطه وجره الرجل فسقط العبد فمات ضمنه كما قاله البغوي
في فتاويه، ولو وقف اثنان على بئر فدفع أحدهما الآخر فلما هوى جذب معه الدافع فسقطا فماتا، قال الصيمري: فإن
جذبه طمعا في التخلص وكانت الحالة توجب ذلك فهو مضمون، ولا ضمان عليه، وإن جذبه لا لذلك بل لاتلاف
المجذوب ولا طريق لخلاص نفسه بمثل ذلك، فكل منهما ضامن للآخر لو تجارحا (ولو وضع) شخص (حجرا)
في طريق عدوانا (وآخران حجرا) كذلك (فعثر بهما) آخر فمات (فالضمان) عليهم للعاثر (أثلاث) وإن تفاوت
فعليهم نظرا إلى عدد رؤوس الجناة كما لو مات بجراحة ثلاثة واختلفت الجراحات (وقيل) الضمان (نصفان) على الأول
نصف وعلى الآخر نصف نظرا إلى عدد الموضوع ورجحه البلقيني، إذ ليس هذا كالجراحات التي لها نكاية في
الباطن بل هو إلى صورة الضربات أقرب بل أولى في الحكم.
تنبيه: كلام المصنف يفهم أنه لا فرق في حجر الآخرين بين أن يكون بجنب الأول أو لا، لكن المحرر والروضة
وأصلها قيدوه بكونه بجنبه فيحتمل أن يكون لنفي الضمان عما لو لم يكن بجنبه، ويحتمل خلافه. والظاهر أنه قيد
88

لصورة المسألة. (ولو وضع) شخص (حجرا) في طريق سواء كان متعديا أم لا (فعثر به رجل فدحرجه فعثر به آخر)
فمات (ضمنه المدحرج) وهو العاثر الأول لأن الحجر إنما حصل ثم بفعله (ولو عثر) بفتح العين والثاء المثلثة في الأشهر،
وحكي كسرها ماش (بقاعد أو نائم أو واقف بالطريق وماتا) أي العاثر والمعثور به (أو أحدهما فلا ضمان) على أحد كما
في المحرر بل يهدران، وهذا (إن اتسع الطريق) لأنه غير متعد، والعاثر كان يمكنه التحرز.
تنبيه: تبع في هذا التعبير المحرر وظاهره إهدار العاثر والقاعد والنائم والواقف، ولا يعرف هذا لغير المحرر،
والذي في الروضة كالشرحين إهدار العاثر وأن عاقلته تضمن دية القاعد والنائم والواقف، ويمكن أن يؤول قول المصنف
فلا ضمان يعني على القاعد والنائم والواقف ليوافق المنقول وإن كان فيه تعسف، وسواء في ذلك كان القاعد أو الواقف
بصيرا أو أعمى كما لو قصد قتل من يمكنه الاحتراز منه فلم يحترز حتى قتله (وإلا) بأن ضاق الطريق (فالمذهب إهدار
قاعد ونائم) لأن الطريق للطروق، وهما بالقعود والنوم مقصران (لا عاثر بهما) فلا يهدر لعدم تقصيره، بل على
عاقلتهما ديته (وضمان واقف) لأن الشخص قد يحتاج إلى الوقوف لتعب أو سماع كلام أو انتظار رفيق أو نحو ذلك
فالوقوف من مرافق الطريق (لا عاثر به) فلا يضمن لتقصيره، والطريق الثاني ضمان كل منهما، والثالث ضمان العاثر
وإهدار المعثور به، والرابع عكسه.
تنبيه: هذا كله إذا لم يوجد من الواقف فعل، فإن وجد بأن انحرف إلى الماشي لما قرب منه فأصابه في انحرافه
وماتا فهما كماشيين اصطدما. وسيأتي حكمه بخلاف ما إذا انحرف عنه فأصابه في انحرافه أو انحرف إليه فأصابه بعد تمام
انحرافه فحكمه كما لو كان واقفا لا يتحرك. والقائم في طريق واسع أو ضيق لغرض فاسد كسرقة أو أذى
كالقاعد في ضيق كما قاله الأذرعي. قال الماوردي: لو كان الوقوف يضر بالمار كان كالجلوس فيضمن به دية
العاثر، وإن كان القعود والاضطجاع لا يضرهم فكالقيام، فلو عثر الماشي بواقف أو قاعد أو نائم في ملكه أو مستحق
منفعته فهلكا أو أحدهما فالماشي ضامن ومهدر لأنه قتل نفسه وغيره دونهم فليسوا بضامنين ولا مهدرين، وإنما يهدر
الماشي إن دخلا بلا إذن ممن ذكر فإن دخل بإذن لم يهدر، ولو وقف أو قعد أو نام في ملك الغير تعديا فعثر به المالك
وهو ماش فهو هدر لتعديه.
تتمة: المسجد لقائم أو قاعد فيه وكذا نائم معتكف به كالملك لهم فعلى عاقلة العاثر ديتهم وهو مهدر ولنائم
فيه غير معتكف أو قائم أو قاعد فيه لما ينزه عنه المسجد كالطريق فيفصل فيه بين الواسع والضيق كما مر. وما تقدم من
تضمين واضع القمامة والحجر والحافر والمدحرج والعاثر وغيرهم المراد به وجوب الضمان على عاقلتهم بالدية أو بعضها
كما مرت الإشارة إليه لا وجوب الضمان عليهم أنفسهم كما نص عليه الشافعي والأصحاب.
فصل: فيما يوجب الشركة في الضمان وما يذكر معه: إذا (اصطدما) أي حران كاملان راكبان أو ماشيان
أو راكب وماش طويل سواء أكانا مقبلين أو مدبرين أم أحدهما مقبلا والآخر مدبرا كما يشعر به إطلاقه وإن قيد
الرافعي بالمدبرين. وقيد المصنف الاصطدام بقوله: (بلا قصد) كاصطدام أعميين أو غافلين، أو كانا في ظلمة ليشمل
ما إذا غلبتهما الدابتان، وسيأتي محترز في كلامه. واستقيد تقييد الاصطدام بالحرين من قوله: (فعلى عاقلة كل)
منهما (نصف دية مخففة) أما كونه نصف دية فلان كل واحد هلك بفعله وفعل صاحبه فيهدر النصف كما لو جرحه مع
جراحة نفسه، وأما كونها مخففة على العاقلة فلانه خطأ محض. ولا فرق في ذلك بين أن يقعا منكبين أو مستلقيين،
89

أو أحدهما منكبا والآخر مستلقيا اتفق المركوبان كفرسين أو لا كفرس وبعير وبغل اتفق سيرهما أو اختلف كأن
أحدهما يعدو والآخر يمشي على هينته (وإن قصدا) جميعا الاصطدام (فنصفها مغلظة) على عاقلة كل منهما لورثة الآخر،
أما كونها نصف دية فلما مر، وأما كونها مغلظة على العاقلة فلان القتل حينئذ شبه عمد لأن الغالب أن الاصطدام
لا يفضي إلى الموت فلا يتحقق فيه العمد المحض ولذلك لا يتعلق به القصاص إذا مات أحدهما دون الآخر (أو) قصد
(أحدهما) الاصطدام دون الآخر وماتا (فلكل) منهما (حكمه) من التخفيف والتغليظ.
تنبيه: محل ذلك ما إذا لم تكن إحدى الدابتين ضعيفة بحيث يقطع بأنه لا أثر لحركتها، فإن كانت كذلك لم يتعلق
بحركتها حكم كغرز الإبرة في جلدة العقب مع الجراحات العظيمة، نقله في الروضة عن الإمام وأقره، وجزم به ابن
عبد السلام ولا ينافيه قول الشافعي رضي الله تعالى عنه: سواء أكان أحد الراكبين على فيل والآخر على كبش لأنا
لا نقطع بأنه لا أثر لحركة الكبش مع حركة الفيل، ومثل ذلك يأتي في الماشيين كما قاله ابن الرفعة وغيره (والصحيح أن
على كل) منهما في تركته (كفارتين) إحداهما لقتل نفسه والأخرى لقتل صاحبه لاشتراكهما في إهلاك نفسين بناء على أن
الكفارة لا تتجزأ وأن قاتل نفسه عليه كفارة وهو الأظهر. والثاني على كل كفارة بناء على أنها تتجزأ وإن ماتا مع
مركوبيهما فكذلك الحكم دية وكفارة (و) يزاد على ذلك أن (في تركة كل) منهما (نصف قيمة دابة الآخر) أي مركوبه
لاشتراكهما في الاتلاف مع هدر فعل كل منهما في حق نفسه، وقد يجئ التقاص في ذلك ولا يجئ في الدية إلا أن يكون
عاقلة كل منهما ورثته وعدمت الإبل.
تنبيه: هذا إذا كانت الدابتان لهما، فإن كانتا لغيرهما كالمعارتين والمستأجرتين لم يهدر منهما شئ، لأن المعار
ونحوه مضمون، وكذا المستأجر ونحوه إذا أتلفه ذو اليد، وقد أشار المصنف إلى هذا في السفينتين حيث قال: إن كانتا
لهما ولا فرق بين الدابتين والسفينتين، وكان ينبغي تقييد المقدم وإطلاق المؤخر ليحمل عليه. أما غير الحرين الكاملين
فسيأتي حكمهما على الأثر.
فروع: لو كان مع كل من المصطدمين بيضة، وهي ما تجعل على الرأس فكسرت، ففي البحر أن الشافعي رضي
الله تعالى عنه قال: على كل منهما نصف قيمة بيضة الآخر، ولو تجاذبا حبلا لهما أو لغيرهما فانقطع وسقطا وماتا فعلى
عاقلة كل منهما نصف دية الآخر وهدر الباقي، لأن كل منهما مات بفعله وفعل الآخر سواء أسقطا منكبين أم مستلقيين،
أم أحدهما منكبا والآخر مستلقيا، فإن قطعه غيرهما فماتا فديتهما على عاقلته، لأنه القاتل لهما، وإن مات أحدهما بإرخاء
الآخر الحبل فنصف ديته على عاقلته وهدر الباقي، لأنه مات بفعلهما، وإن كان الحبل لأحدهما والآخر ظالم فالظالم
هدر وعلى عاقلته نصف دية المالك، ولو كان شخص يمشي فوقع مداسه على مؤخر مداس غيره وتمزق لزمه نصف
الضمان، لأنه تمزق بفعله وفعل صاحبه (وصبيان أو مجنونان) أو صبي ومجنون في اصطدامهما (ككاملين) فيما سبق
فيهما ومنه التغليظ بناء على أن عمدهما عمد، وهو الأصح إن كانا مميزين، هذا إن ركبا بأنفسهما، وكذا إن أركبهما
وليهما لمصلحتهما وكانا ممن يضبط المركوب (وقيل) ونص عليه في الام (إن أركبهما الولي تعلق به الضمان) لما فيه من
الخطر، وجوازه مشروط بسلامة العاقبة، والأصح المنع كما لو ركبا بأنفسهما.
تنبيه: لأن الخلاف كما نقلاه عن الإمام وأقراه إذا أركبهما لزينة أو لحاجة غير مهمة، فإن أرهقت إلى
إركابهما حاجة كنقلهما من مكان إلى مكان فلا ضمان عليه قطعا قالا ومحله أيضا عند ظن السلامة، فإن أركبهما الولي
دابة شرسة جموحا ضمن الولي لتعديه. قال الأذرعي: ومحله أيضا فيمن يستمسك على الدابة، فلو أركبه دابة هادية
وهو لا يستمسك عليها تعلق به الضمان. قال ابن الرفعة: ويستثنى من عدم تضمين الولي ما إذا كانا غير مميزين كابن
90

سنة وسنتين فأركبهما الولي فيجب على عاقلته دية كل منهما. قال البلقيني: وينبغي أن يضاف إلى ما ذكره الإمام أن
لا ينسب الولي إلى تقصير في ترك من يكون معهما ممن جرت العادة بإرساله معهما. قال: والمراد بالولي هنا ولي الحضانة
الذكر، لا ولي المال، وذلك ظاهر من قول الشافعي رضي الله تعالى عنه وبسط بذلك، ثم قال: ولم أر من تعرض له.
وقال الزركشي في التكملة: يشبه أن من له ولاية التأديب من أب وغيره خاص وغيره. وقال في الخادم: ظاهر كلامهم
ولي المال اه‍. والأوجه كلام البلقيني. (ولو أركبهما أجنبي) بغير إذن الولي ولو لمصلحتهما (ضمنهما ودابتيهما) لتعديه
بإركابهما، وحكى ابن المنذر فيه الاجماع.
تنبيه: شمل إطلاقه تضمين الأجنبي ما لو تعمد الصبيان الاصطدام وهو كذلك، وإن قال في الوسيط يحتمل إحالة
الهلاك عليهما بناء على أن عمدهما عمد، واستحسنه الشيخان، لأن هذه المباشرة ضعيفة فلا يعول عليها كما قاله شيخي.
وقوله ضمنهما ودابتيهما ليس على إطلاقه، بل الضمان الأول على عاقلته والثاني عليه، وقضية كلام الجمهور أن ضمان
المركب بذلك ثابت، وإن كان الصبيان ممن يضبطان الركوب وهو كذلك وإن كان قضية نص الام أنهما إن كانا كذلك
فهما كما لو ركبا بأنفسهما، وجزم به البلقيني أخذا من النص المشار إليه، وإن وقع الصبي فمات ضمنه المركب كما قاله
الشيخان، وظاهره أنه لا فرق بين أن يكون إركابه لغرض من فروسية ونحوها أو لا وهو كذلك في الأجنبي، بخلاف
الولي فإنه إذا أركبه لهذا الغرض وكان ممن يستمسك على الدابة فإنه لا يضمنه، وقول المتولي: لا فرق فيه بين الولي والأجنبي،
حمله ابن الرفعة في الأجنبي على ما إذا أركب بإذن معتبر. (أو) اصطدم (حاملان وأسقطتا) بأن ألقتا جنينيهما وماتتا
(فالدية كما سبق) من وجوب نصفها على عاقلة كل منهما وإهدار النصف الآخر، لأن الهلاك منسوب إلى فعلها
(وعلى) أي ويجب في تركة (كل) من الحاملين (أربع كفارات على الصحيح) بناء على الصحيح أن الكفارة تجب
على قاتل نفسه وأنها لا تتجزأ فيجب كفارة لنفسها، وثانية لجنينها، وثالثة لصاحبتها، ورابعة لجنينها لأنهما اشتركا
في إهلاك أربعة أنفس. والثاني تجب كفارتان بناء على عدم الوجوب وعلى التجزي (و) يجب (على عاقلة كل) منهما
(نصف غرتي جنينيهما) نصف غرة لجنينها ونصف غرة لجنين الأخرى، لأن الحامل إذا جنت على نفسها فألقت
جنينا وجبت الغرة على عاقلتها كما لو جنت على حامل أخرى ولا يهدر من الغرة شئ، بخلاف الدية فإنه يجب نصفها
ويهدر نصفها كما مر، لأن الجنين أجنبي عنهما بخلاف أنفسهما.
تنبيه: كلامه قد يوهم وجوب رقيق واحد نصفه لهذا ونصفه لذاك، وعبارة ابن يونس له أن يسلم نصف رقيق
عن واحد ونصف رقيق عن الآخر، وعلى هذا فكان الأولى للمصنف أن يقول نصف غرة لهذا ونصف غرة للأخرى
(أو) اصطدم (عبدان) وماتا (فهدر) سواء ماتا معا بهذا الاصطدام أم أحدهما بعد الآخر قبل إمكان بيعه وسواء
اتفقت قيمتهما أم اختلفت لأن جناية العبد تتعلق برقبته وقد فاتت.
تنبيه: يستثنى من الاهدار مسائل: الأولى المغصوبان، فعلى الغاصب فداء كل نصف منهما بأقل الامرين. الثانية
إذا أوصى أو وقف على أرش ما يجنيه العبد فإنه يصرف منه لسيد كل عبد نصف قيمة عبده، قاله البلقيني. قال: ولم
أر من تعرض له، لكنه فقه واضح. الثالثة ما إذا امتنع بيعهما كأن كانا ابني مستولدتين، أو موقوفتين، أو منذورا
إعتاقهما فلا يهدران، لأنهما حينئذ كالمستولدتين، وحكم المستولدتين أو على سيد كل واحدة قدر النصف الذي جنت
عليه مستولدته للآخر بأقل الامرين من قيمتها وأرش الجناية لأنه باستيلادها منع بيعها. الرابع المستولدتان أيضا
واستثناء هذه إنما يأتي على رأي ابن حزم أن لفظ العبد يشمل الأمة. أما إذا مات أحدهما فقط فنصف قيمته
في رقبة الحي، وكذا نصف قيمة ما كان معه إن تلف أيضا وإن أثر فعل الميت في الحي نقصا تعلق غرمه بنصف
قيمة العبد المتعلق برقبة الحي وجاء التقاص في ذلك المقدار، وإن اصطدم عبد وحر فمات العبد فنصف قيمته على
91

عاقلة الحر ويهدر الباقي أو مات الحر فنصف ديته تتعلق برقبة العبد، وإن ماتا معا فنصف قيمة العبد على عاقلة الحر
ويتعلق به نصف دية الحر، لأن الرقبة فاتت فتتعلق الدية ببدلها فيأخذ السيد من العاقلة نصف القيمة ويدفع منه أو من
غيره للورثة نصف الدية. (أو) اصطدم (سفينتان) وغرفتا (فكدابتين) اصطدمتا وماتتا في حكمهما السابق (والملاحان)
فيهما تثنية ملاح، وهو النوتي صاحب السفينة سمي بذلك لاجرائه السفينة على الماء الملح، حكمهما (كراكبين)
ماتا باصطدام في حكمها السابق (إن كانتا) أي السفينتان وما فيهما (لهما) فيهدر نصف قيمة كل سفينة ونصف بدل
ما فيهما، فإن ماتا بذلك لزم كل منهما كفارتان كما سبق ولزم عاقلة كل منهما نصف دية الآخر.
تنبيه: يستثنى من كون الملاحين كالراكبين ما إذا قصد الملاحان الاصطدام بما يعده أهل الخبرة مهلكا مغرقا
فإنه يجب نصف دية كل منهما في تركة الآخر، بخلاف المصطدمين فإنهما على العاقلة، ولو مات أحدهما بما صدر من
المتعمد دون الآخر وجب القصاص على الحي بناء على إيجاب القصاص على شريك جارح نفسه، ولو كان في السفينة
من يقتلان به فعليهما القصاص إذا مات بذلك، فلو تعدد الغرقى قتل بواحد ووجب في مال كل واحد نصف ديات
الباقين وضمان الكفارات بعدد من أهلكا، وإن كان الاصطدام لا يعد مهلكا غالبا وقد يهلك فشبه عمد فتجب الدية
مغلظة على العاقلة، ولو كان الملاحان صبيين وأقامهما الولي أو أجنبي فالظاهر كما قاله الزركشي أنه لا يتعلق به ضمان،
لأن الوضع في السفينة ليس بشرط، لأن العمد من الصبيين هنا هو المهلك. (فإن) كانت السفينتان لهما و (كان فيهما مال
أجنبي لزم كلا) منهما (نصف ضمانه) سواء أكان المال في يد مالكه وهو السفينة أم لا لتعديهما، ويتخير الأجنبي
بين أخذ جميع بدل ماله، من أحد الملاحين ثم هو يرجع على الآخر، وبين أن يأخذ نصفه منه ونصفه من الآخر،
فإن كان الملاحان رقيقين تعلق الضمان برقبتهما (وإن كانتا لأجنبي) والملاحان فيهما أمينين أو أجيرين للمالك (
لزم كلا
نصف قيمتهما) لأن مال الأجنبي لا يهدر منه شئ، ويتخير كل من المالكين بين أن يأخذ جميع قيمة سفينته من
ملاحه، ثم يرجع هو بنصفها على الملاح الآخر، أو يأخذ نصفها منه ونصفها من الملاح الآخر، فلو كان الملاحان
رقيقين تعلق الضمان برقبتيهما.
تنبيه: محل هذا التفصيل إذا كان الاصطدام بفعلهما أو لم يكن وقصرا في الضبط، أو سيرا في ريح شديد، فإن
حصل الاصطدام بغلبة الريح فلا ضمان على الأظهر، بخلاف غلبة الدابة فإن الضبط ثم ممكن باللجام ونحوه، فالقول
قولهما بيمينهما عند التنازع في أنهما غلبا، لأن الأصل براءة ذمتهما وإن تعمد أحدهما أو فرط دون الآخر فلكل حكمة،
وإن كانت إحداهما مربوطة فالضمان على مجرى السائرة.
تنبيه: لو خرق شخص سفينته عامدا خرقا يهلك غالبا كالخرق الواسع الذي لا مدفع له فغرق به إنسان فالقصاص
أو الدية المغلظة على الخارق، وإن خرقها لاصلاحها أو لغير إصلاحها لكن لا يهلك غالبا فشبه عمد، وإن سقط من
يده حجر أو غيره فخرقها أو أصاب بالآلة غير موضع الاصلاح فخطأ محض، ولو ثقلت سفينة بتسعة أعدال فألقى إنسان
فيها عاشرا عدوانا فغرقت به لم يضمن الكل، لأن الغرق حصل بثقل الجميع وهل يضمن النصف أو العشر، وجهان:
كالوجهين في الجلد إذا زاد على الحد المشروع، ذكره في أصل الروضة، وقضيته ترجيح العشر. (ولو أشرفت سفينة
على غرق) وفيها متاع وراكب (جاز) لراكبها (طرح متاعها) في البحر حفظا للروح.
تنبيه: ظاهر كلامه طرح جميع المتاع وهو كذلك إن لم يندفع غرقها إلا به، فإن اندفع بطرح بعضه وجب أن
يقتصر عليه (ويجب) طرحه (لرجاء نجاة الراكب) المحترم، بخلاف غير المحترم كحربي ومرتد وزان محصن.
تنبيهان: (الأول) تعبيره بالمتاع يقتضي أنه لا يجوز إلقاء الحيوان وليس مرادا بل يجب إلقاء الحيوان ولو محترما
92

لسلامة آدمي محترم إن لم يمكن دفع الغرق بغير إلقائه، فإن أمكن لم يجز إلقاؤه، والظاهر كما قال الأذرعي أنه لو كان هناك
أسرى من الكفار وظهر للأمير أن المصلحة في قتلهم فيبدأ بإلقائهم قبل الأمتعة وقبل الحيوان المحترم، وينبغي كما قال
أيضا أن يراعى في الالقاء الأخس فالأخس قيمة من المتاع والحيوان إن أمكن حفظا للمال ما أمكن، الثاني لا يجوز إلقاء
الأرقاء لسلامة الأحرار بل حكمها واحد فيما ذكر، وإن لم يلق من لزمه الالقاء حتى غرقت السفينة فهلك به شئ أثم
ولا ضمان عليه كما لو لم يطعم مالك الطعام المضطر حتى مات. الثالث لم يميز المصنف حالة الوجوب من حالة الجواز،
وقوله لرجاء نجاة الراكب إن كان تعليلا للمسألتين فكيف تصلح هذه العبارة الواحدة للجواز تارة وللوجوب أخرى،
وإن كان للوجوب فقط فكيف يستقيم الجواز بدون ذلك؟ والقياس الوجوب لرجاء نجاة الراكب مطلقا، لأن
القاعدة
الأصولية أن ما كان ممنوعا منه إذا جاز وجب. وقال البلقيني: والذي يقال في ذلك إن حصل هول خيف منه الهلاك مع
غلبة السلامة جاز الالقاء لرجاء نجاة الراكب وإن غلب الهلاك مع ظن السلامة بالطرح وجب، ثم استشكل قولهم: إنه يطرح
الأخف قيمة ومالا روح فيه لتخليص ذي الروح فإنه إن جعلت الخيرة في عين المطروح للملاح ونحوه فهو غير لائق
، وإن توقف على إذن صاحبه فقد لا يأذن فيحصل الضرر. ثم قال: إنه يحتاج إلى إذن المالك في حال الجواز دون الوجوب،
فلو كانت لمحجور لم يجز إلقاؤها في محل الجواز ويجب في محل الوجوب. قال: ولو كانت مرهونة أو لمحجور عليه
بفلس، أو لمكاتب، أو لعبد مأذون عليه ديون وجب إلقاؤها في محل الوجوب وامتنع في محل الجواز إلا باجتماع الراهن
والمرتهن، أو السيد والمكاتب، أو السيد والمأذون والغرماء في الصورة المذكورة، وإن ألقى الولي في محل الجواز
بعض أمتعة محجوره ليسلم به باقيها فقياس قول أبي عاصم العبادي فيما لو خاف الولي استيلاء غاصب على المال، فله أن
يؤدي شيئا لتخليصه جوازه هنا، ويحرم على الشخص إلقاء المال ولو ماله بلا خوف، لأنه إضاعة مال. (فإن طرح
مال غيره بلا إذن) منه ولو في حال الخوف (ضمنه) لأنه أتلف مال غيره بغير إذنه من غير أن يلجئه إلى إتلافه
فصار كما لو أكل المضطر طعام غيره بغير إذنه (وإلا) أي بأن طرحه بإذنه، أو ألقى مال نفسه، ولو اختص الخوف
بغيره بأن كان بالشط أو بزورق (فلا) ضمان للاذن المبيح في الأولى ولا لقائه مال نفسه في الثانية، ويشترط مع الاذن
أن لا يتعلق به حق الغير كما مر وفارقت هذه حينئذ مسألة المضطر إذا أطعمه مالك الطعام قهرا بأن المطعم ثم دافع للتلف
لا محالة، بخلاف الملقى (ولو قال) شخص لآخر في سفينة (ألق متاعك) في البحر (وعلي ضمانه، أو على أني
ضامن) له، أو على أن أضمنه فألقاه فيه (ضمنه) وإن لم يكن للملتمس فيها شئ ولم تحصل النجاة لأنه التمس إتلافا
لغرض صحيح بعوض فيلزمه، كما إذا قال: أعتق عبدك وعلي كذا، أو طلق زوجتك، أو أطلق الأسير، أو اعف عن
القصاص ولك علي كذا، أو على أن أعطيك كذا فأجاب سؤاله فيلزمه ما التزمه. فإن قيل: ينبغي أن لا يصح هذا الضمان،
لأنه ضمان ما لم يجب. أجيب بأن هذا ليس على حقيقة الضمان المعروف وإن سمي به وإنما حقيقته الافتداء من الهلاك
فهو كما لو قال: أطعم هذا الجائع ولك علي كذا.
تنبيه: قول البلقيني: لا بد أن يشير إلى ما يلقيه، أو يكون معلوما له وإلا فلا يضمن إلا ما يلقيه بحضرته
ممنوع لأن
هذه حالة ضرورة فلا يشترط فيها شئ من ذلك.
فرع: لو ألقى المتاع شخص أجنبي بعد الضمان لم يضمن المستدعي وكذا لو ألقته الريح، ولا بد في الضمان
من استمراره على الالتزام فلو رجع قبل الالقاء لم يضمن (ولو اقتصر) الملتمس (على) قوله (ألق) متاعك في البحر
فألقاه (فلا) ضمان (على المذهب) لعدم الالتزام، وفي وجه من الطريق الثاني فيه الضمان كقوله: أد ديني، فأداه فإنه
يرجع عليه في الأصح، وفرق الأول بأنه بالقضاء برئ قطعا، والالقاء قد لا ينفعه.
تنبيه: هل يفترق الحال بين كون المأمور بإلقاء ماله أعجميا يعتقد وجوب طاعة أمره أو لا فرق؟ قال الأذرعي:
93

لم أر فيه شيئا، وقضية إطلاقهم عدم الفرق، لكنهم في مواضع فرقوا بينهما كما تقدم اه‍. والفرق أوجه وسيأتي ما يؤيده.
ولو ألقى صاحب المتاع متاعه عند خوف الهلاك بلا استدعاء لم يرجع على الركبان بشئ، وإن كان في حالة يجب فيها
الالقاء. (وإنما يضمن ملتمس) من مالكه طرح متاعه (لخوف غرق) للسفينة ففي حالة الامن لا ضمان سواء أقال
وعلي ضمانه أم لا. كما لو قال له: أهدم دارك أو أحرق متاعك ففعل ولو لم يوجد الخوف ولكنه متوقع. قال
الزركشي: ينبغي تخريج خلاف فيه من تنزيل المتوقع منزلة الواقع اه‍. والظاهر عدم الضمان، ثم أشار المصنف رحمه
الله تعالى لشرط الضمان بقوله: (ولم يختص نفع الالقاء بالملقى) وهو مالك المتاع بأن كان معه في السفينة المشرفة على
الغرق وغيره، وهذا صادق بست صور: الأولى أن يختص النفع بالملتمس. الثانية أن يعود له ولمالك المتاع. الثالثة أن
يختص بغيرهما. الرابعة أن يختص بمالك المتاع وأجنبي. الخامسة أن يعود للملتمس وأجنبي. السادسة أن يعم الثلاثة،
وفي جميعها يضمن الملتمس ولم يصرحا في الشرح والروضة بالثانية ولا السادسة، أما إذا اختص نفع الالقاء بالملقى
وحده بأن أشرفت سفينته على الغرق وفيها متاعه، فقال له آخر من الشط: ألق متاعك وعلي ضمانه فألقاه لم يجب شئ
لأنه يجب عليه الالقاء لحفظ نفسه فلا يستحق به عوضا، كما لو قال للمضطر: كل طعامك وأنا ضامن له فأكله فلا
شئ له على الملتمس.
فروع: لو قال شخص لآخر: ألق متاعك في البحر وأنا ضامن له وركاب السفينة أو على أني أضمنه أنا وركابها
أو أنا ضامن له وهم ضامنون، أو أنا وركاب السفينة ضامنون له كل منا على الكمال، أو على أني ضامن، وكل منهم
ضامن لزمه الجميع لأنه التزمه، أو قال: أنا وركاب السفينة ضامنون له لزمه قسطه، وإن لم يقل معه كل منا بالحصة،
وإن أراد الاخبار عن ضمان سبق منهم فصدقوه فيه لزمهم، وإن أنكروا صدقوا، وإن صدقه بعضهم فلكل حكمه،
وإن قال: أنشأت عنهم الضمان ثقة برضاهم لم يلزمهم وإن رضوا، لأن العقود لا توقف، وإن قال: أنا وهم ضمناء وضمنت
عنهم بإذنهم طولب بالجميع، فإن أنكروا الاذن فهم المصدقون حتى لا يرجع عليهم، وإن قال: أنا وهم ضامنون له
وأصححه وأخلصه من مالهم أو من مالي لزمه الجميع كما لو قال اختلعها على ألف أصححها لك وأضمنها لك من مالها
تلزمه الألف، وإن قال: علي نصف الضمان وعلى فلان ثلثه وعلى فلان سدسه لزمه النصف فقط لأنه الذي التزمه، وإن
قال: أنا وهم ضامنون له ثم باشر الالقاء بإذن المالك ضمن الجميع في أحد وجهين، حكاه الرافعي عن القاضي أبي حامد،
وقال الأذرعي إنه نص الام، وقيل بالقسط عملا بقضية اللفظ، ولو قال شخص لعمرو: ألق متاع زيد وعلي ضمانه
ففعل ضمن عمرو دون الآخر لأنه المباشر للاتلاف.
تنبيه: سكت المصنف عن المضمون أهو المثل ولو صورة كالقرض أو المثل في المثلي والقيمة في المتقوم أو القيمة
مطلقا؟ وتعتبر قيمة الملقى حيث أوجبناه قبيل هيجان البحر إذا لا قيمة له حينئذ ولا تجعل قيمته في البحر مع الخطر
كقيمته في البر، وظاهر كلامهم الأخير، وإن كان الملقى مثليا ورجحه البلقيني لما في إيجاب المثل من الاجحاف،
وعلله البلقيني بأنه لا مثل لمشرف على الهلاك إلا مشرف على هلاك وذلك بعيد، وجزم في الكفاية بالوسط ورجحه
الأذرعي وهو كما قال شيخي أوجه من كلام البلقيني خلافا لبعض المتأخرين، نعم إن كان المأمور أعجميا يعتقد وجوب
طاعة آمره ضمن الآمر، وهذا هو الذي يؤيد ما تقدم ولو لفظ البحر المتاع الملقى فيه على الساحل فظفرنا به أخذه
المالك واسترد الضامن منه عين ما أعطى إن كان باقيا وبدله إن كان تالفا ما سوى الأرش الحاصل بالغرق فلا يسترده
كما صرح به الأسنوي، وقال الأذرعي إنه واضح. (ولو عاد) أي رجع (حجر منجنيق) وهو بفتح الميم والجيم
في الأشهر فارسي معرب يذكر ويؤنث: آلة ترمى بها الحجارة، وحكي كسر الميم ومنجنوق بالواو ومنجليق باللام،
واختلفوا في زيادة ميمه ونونه، فذهب سيبويه إلى أن ميمه أصلية ونونه زائدة، ولذلك تثبت في الجمع (فقتل
أحد رماته) وكانوا عشرة مثلا (هدر قسطه) من ديته، وهو في هذا المثال عشرها (وعلى عاقلة) كل من
94

التسعة (الباقين الباقي) من ديته، وهو تسعة أعشارها على كل منهم عشرها لأنه مات بفعله وفعلهم فسقط ما قابل فعله
لأنه غير مضمون.
تنبيه: صورة المسألة فيمن مد معهم الحبال ورمى بالحجر، أما من أمسك خشبة المنجنيق إن احتيج إلى ذلك أو
وضع الحجر في الكفة ولم يمد الحبال فلا شئ عليه لأنه متسبب والمباشر غيره، قاله الماوردي والمتولي وغيرهما.
واستثنى البلقيني من الوجوب على العاقلة ما لو حصل ذلك بأمر صنعه رفقاؤه وقصدوا الرفيق المذكور لسقوطه عليه
وغلبت إصابته فهو عمد لا تحمله العاقلة بل هو في أموالهم ولا قصاص عليهم لأنهم شركاء مخطئ قال: ولم ينبه عليه
أحد وكأنهم تركوه لأنه لا يتصور عندهم ونحن صورناه فلا خلاف بيننا وبينهم (أو) قتل حجر المنجنيق (غيرهم) أي
الرماة (ولم يقصدوه) أي الغير (فخطأ) قتله يوجب الدية المخففة على العاقلة (أو قصدوه فعمد في الأصح) قتله يوجب
القصاص عليهم: أي الدية المغلظة في مالهم (إن غلبت الإصابة) منهم لانطباقه حينئذ على حد العمد.
والثاني شبه عمد لأنه لا يتحقق قصد معين بالمنجنيق، والأول يمنع هذا، واحترز المصنف بقوله: إن غلبت الإصابة عما إذا لم تغلب
إصابتهم بأن غلب عدمها أو استوى الأمران فإنه شبه عمد.
تتمة: لو قصدوا غير معين كأحد الجماعة كان شبه عمد، وإنما لم يكن عمدا، لأن العمد يعتمد قصد العين بدليل
أنه لا قصاص على الآمر في قوله: اقتل أحد هؤلاء وإلا قتلتك فقتل أحدهم لأنه لم يقصد عينه.
فصل: في العاقلة وكيفية تأجيل ما تحمله، وأشار إلى ذلك بقوله: (دية الخطأ وشبه العمد) في الأطراف ونحوها،
وكذا في نفس غير القاتل نفسه، وكذا الحكومات والغرة (تلزم العاقلة) لا الجاني كما مر أول كتاب الديات،
وذكرها هنا توطئة لما بعده، وشبه العمد من زيادة الكتاب على المحرر، فإنه ذكر الخطأ فقط، ولو عكس
كان أولى.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف أن الوجوب لا يلاقي الجاني أولا بل يلاقي العاقلة ابتداء، والأصح المنصوص أنه
يلاقيه ابتداء ثم يتحملونها إعانة له كقضاء دين من غرم لاصلاح ذات البين. قال العلماء: وتغريم غير الجاني خارج عن
القياس، لكن الجاهلية كانوا يمنعون من جنى منهم من أولياء القتيل أن يدنو منه ويأخذوا بثأرهم، فجعل الشارع بدل
تلك النصرة بذل المال، وخص ذلك بالخطأ وشبه العمد لكثرتهما، سيما في حق من يتعاطى حمل السلاح فأعين كيلا
يفتقر بالسبب الذي هو معذور فيه، وإنما يلزمهم ذلك إذا كانت بينة بالخطأ أو شبه العمد أو اعترف به فصدقوه وإن
كذبوه لم يقبل إقراره عليهم، لكن يحلفون على نفي العلم، فإذا حلفوا وجب على المقر، وهذا حينئذ مستثنى من كلام
المصنف ولا يقبل إقراره على بيت المال. أما إذا قتل نفسه، فالمشهور أنه لا يجب على العاقلة شئ، هذا كله إذا كان
القاتل حرا، فإن كان مبعضا وقتل خطأ تحملت العاقلة نصف الدية كما ذكره الرافعي في آخر الباب عن فتاوى البغوي،
وشبه العمد كالخطأ في ذلك. وجهات تحمل الدية ثلاثة: قرابة وولاء وبيت مال لا غيرها كزوجية ومحالفة وقرابة ليست
بعصبة، ولا العديد الذي لا عشيرة له فيدخل نفسه في قبيلة ليعد منها. وقد ذكر المصنف جهات التحمل على هذا
الترتيب، وقد شرع في أولها بقوله: (وهم عصبته) أي الجاني الذين يرثونه بالنسب أو الولاء إذا كانوا ذكورا
مكلفين لما في خبر المرأتين السابق أوائل كتاب الديات في رواية، وأن العقل على عصباتها. قال الشافعي رضي
الله تعالى عنه: ولا أعلم مخالفا أن العاقلة العصبة، وهم القرابة من قبل الأب. قال: ولا أعلم مخالفا في أن المرأة
والصبي وإن أيسرا لا يحملان شيئا، وكذا المعتوه عندي اه‍. ثم استثنى المصنف من العصبة أصل الجاني وفرعه فقال
: (إلا الأصل) من أب وإن علا (و) إلا (الفرع) من ابن وإن سفل لأنهم أبعاضه، فكما لا يتحمل الجاني لا يتحمل
أبعاضه، وروى النسائي لا يؤخذ الرجل بجريرة أي جريمة ابنه وفي رواية لأبي داود في خبر المرأتين السابق:
95

وبرأ الولد أي من العقل، وقيس به غيره من الابعاض (وقيل يعقل) عن المرأة القاتلة (ابن) لها (هو
ابن ابن عمها) أو ابن معتقها كما يلي نكاحها، والأصح المنع لعموم الاخبار، ولان البعضية موجودة، والفرق
بينه وبين النكاح أن البنوة هنا مانعة وهناك غير مقتضية لا مانعة، فإذا وجد المقتضى عمل عمله (ويقدم) في
تحمل الدية من العصبة (الأقرب) فالأقرب على الابعد منهم، والأقرب الاخوة، ثم بنوهم وإن نزلوا، ثم الأعمام، ثم
بنوهم وإن نزلوا، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم وإن نزلوا، ثم أعمام الجد، ثم بنوهم وإن نزلوا (فإن)
لم يوف الأقرب بالواجب بأن (بقي) منه (شئ فمن) أي فيوزع الباقي على من (يليه) الأقرب ثم على من
يليه وهكذا (و) يقدم ممن ذكر (مدل بأبوين) على مدل باب على الجديد كالإرث (والقديم التسوية) بينهما
لأن الأنوثة لا مدخل لها في تحمل العاقلة فلا تصلح للترجيح (ثم) بعد عصبة النسب إن فقدوا أو لم يوف ما عليهم
بالواجب في الجناية يقدم (معتق) ذكر لخبر: الولاء لحمة كلحمة النسب. (ثم) إن فقد المعتق أو لم يف ما عليه
بالواجب تقدم (عصبته) من نسب غير أصله وإن علا وفرعه وإن سفل كما مر في أصل الجاني، وفرعه يقدم الأقرب
فالأقرب لما رواه الشافعي والبيهقي أن عمر قضى على علي رضي الله تعالى عنهما بأن يعقل عن موالي صفية بنت
عبد المطلب لأنه ابن أخيها دون ابنها الزبير واشتهر ذلك بينهم، وقيس بالابن غيره من الابعاض، وصحح البلقيني
أنهما يدخلان. قال: لأن المعتق يتحمل، فهما كالمعتق لا كالجاني ولا نسب بينهما وبين الجاني بأصلية ولا فرعية. وأجاب
شيخي عن كلام البلقيني بأن إعتاق المعتق منزل منزلة الجناية، ويكفي هذا إسناده للمنقول فإن المنقول مشكل (ثم
معتقه) أي معتق المعتق (ثم عصبته) كذلك وهكذا ما عدا الأصل والفرع على ما مر (وإلا) بأن لم يوجد
معتق ولا عصبة (فمعتق أبي الجاني ثم عصبته) من نسب غير أصله وفرعه (ثم معتق معتق الأب وعصبته) غير
أصله وفرعه، وعبر في المحرر بثم، وهو أولى (وكذا أبدا) إذا لم يوجد معتق الأب ولا عصبته يتحمل معتق الجد
ثم عصبته كذلك إلى حيث ينتهي كالإرث، ويفارق الاخذ من البعيد إذا لم يف الأقرب بالواجب الإرث حيث يجوزه
الأقرب بأنه لا تقدير لميراث العصبة بخلاف الواجب هنا فإنه مقدر بنصف دينار أو ربعه كما سيأتي.
تنبيه: حيث ضربنا على المعتق فبقي شئ يضرب على عصبته في حياته كما مرت الإشارة إليه وصرح به
صاحب الشامل والتتمة وغيرهما وإن أشعر كلام الصغير برجحان عدم الضرب. وقال الزركشي: إنه القياس.
(وعتيقها) أي المرأة الجاني (يعقله عاقلتها) ولا يضرب عليها لأن المرأة لا تحمل العقل بالاجماع فيتحمل عنها من
يتحمل جنايتها من عصباتها كما يزوج عتيقتها من يزوجها إلحاقا للعقل بالتزويج لعجزها عن الامرين (ومعتقون)
في تحملهم جناية عتيقهم (كمعتق) واحد فيما عليه كل سنة من نصف دينار أو ربعه لأن الولاء لجميعهم لا لكل منهم (وكل
شخص من عصبة كل معتق يحمل ما كان يحمله ذلك المعتق) في حياته من نصف أو ربع. فإن قيل: هلا وزع عليهم
ما كان الميت يحمله؟. أجيب بأن الولاء لا يتوزع عليهم توزعه على الشركاء، ولا يرثون الولاء من الميت بل يرثون به.
تنبيه: لا يختص هذا بكون المعتق جمعا، فلو كان واحدا ومات عن إخوة مثلا ضرب على كل منهم ما كان
يحمله الميت من نصف أو ربع (ولا يعقل عتيق) عن معتقه (في الأظهر) كما لا يرث، والثاني يعقل، ورجحه
البلقيني، لأن العقل للنصرة والإعانة، والعتيق أولى بهما. أما عصبة العتيق فلا تعمل عن معتقه قطعا (فإن فقد
العاقل) ممن ذكر (أو) وجد، و (لم يف) ما عليه بالواجب (عقل) ذوو الأرحام إن قلنا بتوريثهم، وهو ما صححه
96

المصنف إذا لم ينتظم أمر بيت المال كما سبق في الفرائض، ومعلوم أن محله إذا كان ذكرا غير أصل وفرع، فإن انتظم
عقل (بيت المال عن) الجاني (المسلم) كما يرثه، ولخبر: أنا وارث من لا وارث له أعقل عنه وأرثه أخرجه أبو داود
والنسائي وصححه ابن حبان. والمسلم يرثه المسلمون، بخلاف الذمي والمرتد والمعاهد فإنه لا يرثهم، وإنما يوضع
فيه مالهم فيئا بل تجب الدية في مالهم مؤجلة، فإن ماتوا حلت كسائر الديون.
تنبيه: استثنى من عقل بيت المال اللقيط إذا جنى على نفسه خطأ وفقدت عاقلة قاتله، ففي تعليق الشيخ
أبي حامد في باب اللقيط لا يعقل عنه بيت المال، إذ لا فائدة في أخذها منه لتعاد إليه، ومعلوم أن من لا وارث له إلا
بيت المال كذلك (فإن فقد) بيت المال بأن لم يوجد فيه شئ، أو لم ينتظم أمره بحيلولة الظلمة دونه أو لم يف
(فكله) أي الواجب أو الباقي منه (على الجاني في الأظهر) بناء على أنها تلزمه ابتداء ثم تتحملها العاقلة وهو الأصح
كما مر والثاني لا، بناء على أنها تجب عليهم ابتداء. قال البلقيني: وكان ينبغي التعبير بالأصح بدل الأظهر كما
في الروضة وأصلها.
تنبيه: أفهم كلامه أن الجاني لا يحمل مع وجود من ذكر، وليس مرادا، بل متى وزع الواجب في السنة الأولى
على العاقلة أو بيت المال وفضل شئ منه فهو على الجاني مؤجلا عليه كالعاقلة، وقد يجب عليه في صور أخر منها ما لو
جرح ابن عتيقة أبو رقيق شخصا خطأ أو شبه عمد ثم انجر الولاء إلى موالي الأب بعتقه ثم مات الجريح بالسراية فعلى
موالي الام أرش الجرح، ثم إن بقي شئ فعلى الجاني لحصول السراية بعد العتق بجناية قبله، لا على موالي
أبيه لتقدم
سببه على الانجرار ولا على موالي أمه لانتقال الولاء عنهم قبل وجوبه، ولا بيت المال لوجود جهة الولاء بكل حال
فإن لم يبق شئ إن ساوى أرش الجرح الدية كأن قطع يديه ثم عتق الأب ثم مات الجريح فعلى موالي الام دية كاملة
لأن الجرح حين كان الولاء لهم يوجب هذا القدر، ولو جرحه هذا الجارح ثانيا خطأ عتق أبيه ومات الجريح
سراية من الجراحتين لزم موالي الام أرش الجرح الأول ولزم موالي الأب باقي الدية، ومنها ما لو جرح ذمي شخصا
خطأ ومات الجريح بالسراية بعد إسلام الذمي فعلى عاقلته الذميين ما يخص الجرح وباقي الدية إن كان عليه، فإن لم يبق
شئ كأن قطع رجليه فعلى عاقلته الذميين دية كاملة لما مر في نظيره، ولو جرحه هذا الجارح ثانيا خطأ بعد إسلامه فعلى
عاقلته الذميين أرش الجرح الأول وعلى عاقلته المسلمين باقي الدية، ومنها ما لو رمى شخص إلى صيد فأصاب رجلا
بعد أن تخللت منه ردة أو إسلام كانت الدية في ماله لا على عاقلته لأن شرط تحملها أن تكون صالحة لولاية النكاح من
الفعل إلى الفوات. (وتؤجل على العاقلة) ولو من غير ضرب القاضي (دية نفس كاملة) بإسلام وحرية وذكورية
(ثلاث سنين) بنصب ثلاث (في) آخر (كل سنة ثلث) من الدية. أما كونها في ثلاث فلما رواه البيهقي من قضاء
عمر وعلي رضي الله عنهما، وعزاه الشافعي في المختصر إلى قضاء النبي (ص). وأما كونها في كل سنة ثلث
فتوزيعا لها على السنين الثلاث. وأما كونه في آخر السنة، فقال الرافعي: كان سببه الفوائد كالزرع والثمار تتكرر كل
سنة فاعتبر مضيها ليجتمع عندهم ما يتوقعونه فيواسون عن تمكن.
تنبيه: قوله: تؤجل يقتضي أنه لا بد من تأجيل بضرب الحاكم، وليس مرادا قطعا كما بقدرته في كلامه.
والتقييد بالعاقلة يخرج بيت المال والجاني، وليس مرادا أيضا فقد صرح القفال وغيره بأنها إذا وجبت في بيت المال
كانت مؤجلة، وصرح الأصحاب بتأجيلها على الجاني إذا وجبت عليه ولا يخالفهم إلا في أمرين: أحدهما أنه يؤخذ
منه ثلث الدية عند الحوادث وكل واحد منهم لا يطالب إلا بنصف دينار أو ربع. ثانيهما أنه لو مات في أثناء الحول
يحل الاجل على الأصح كسائر الديون المؤجلة، ولو مات واحد من العاقلة لا يؤخذ من تركته شئ لأنها مواساة فتسقط
بالموت، والوجوب على الجاني سبيله صيانة الحق من الضياع فلا يسقط كيلا يضيع. ولما كان الأصح عند الأصحاب
97

في معنى تأجيلها في ثلاث سنين كونها بدل نفس كاملة، وأن مقابله كونها بدل نفس محترمة أشار إلى مسائل تظهر فيها
فائدة الخلاف، فقال: (و) تؤجل دية (ذمي) على الأصح (سنة) لأنها قدر ثلث دية مسلم (وقيل) تؤجل
(ثلاثا) أي في ثلاث سنين لأنها بدل نفس محترمة (و) تؤجل دية (امرأة) مسلمة (سنتين) في آخر (الأولى)
منهما (ثلث) من دية نفس كاملة، والباقي آخر السنة الثانية (وقيل) تؤجل ديتها (ثلاثا) أي في ثلاث سنين لأنها
بدل نفس محترمة.
تنبيه: الخنثى كالمرأة فيما ذكر (وتحمل العاقلة العبد) أي الجناية عليه من الحر، لكن بقيمته خطأ كانت
الجناية أو شبه عمد في نفس أو طرف (في الأظهر) الجديد لأنه بدل آدمي وتعلق قصاص وكفارة فأشبه الحر، والثاني
لا تحمله بل هي على الجاني لأنه مضمون بالقيمة فأشبه البهيمة، وعلى الأول إن كانت قيمته قدر ثلث دية كاملة فأقل
ضربت في سنة وإن كانت أكثر (ففي) آخر (كل سنة) يؤخذ من قيمته (قدر ثلث دية) كاملة إلى المقدار (وقيل)
تؤخذ كلها (في ثلاث) من السنين لأنها بدل نفس.
تنبيه: لو اختلف العاقلة والسيد في قيمته صدقوا بأيمانهم لكونهم غارمين. (ولو قتل) شخص (رجلين) مثلا
كاملين معا أو مرتبا (ففي) أي فتؤجل ديتهما على عاقلته في (ثلاث) من السنين لأن الواجب ديتان مختلفتان والمستحق
يختلف، فلا يؤخر حق واحد باستحقاق آخر كالديون المختلفة إذا اتفق انقضاء آجالها (وقيل) تؤجل دية من ذكر في
(ست) في كل سنة قدر سدس دية لأن بدل النفس الواحدة يضرب في ثلاث سنين فيراد للأخرى مثلها وفي عكس
مسألة الكتاب، وهي ما لو قتل اثنان واحدا وجهان: أحدهما على عاقلة كل منهما نصف دية مؤجلة في سنتين نظرا
إلى اتحاد المستحق. والثاني وهو الصحيح على عاقلة كل منهما كل سنة ثلث ما يخصه كجمع الدية عند الانفراد،
ولو قتل شخص امرأتين أجلت ديتهما على عاقلته في سنتين لما مر (والأطراف) كقطع اليدين والحكومات وأرش
الجنايات تؤجل (في كل سنة قدر ثلث دية) كاملة، فإن كان الواجب أكثر من ثلث دية ولم يزد على ثلثيها ضرب في
سنتين وأخذ قدر الثلث في آخر السنة الأولى والباقي في آخر الثانية، وإن زاد - أي الواجب على الثلثين - ولم يزد على دية
نفس ضرب في ثلاث سنين. وإن زاد على دية نفس كقطع اليدين والرجلين ففي ست سنين (وقيل) تؤخذ (كلها في
سنة) بالغة ما بلغت لأنها ليست بدل نفس حتى تؤجل.
تنبيه: محل الخلاف إذا كان الأرش زائدا على الثلث، فإن كان قدره أو دونه ضرب في سنة قطعا. وهذا
كله مبني على أن بدل الأطراف وأروش الجنايات تضرب على العاقلة وهو المشهور كدية النفس كما مرت الإشارة إليه.
(وأجل) دية (النفس) يعتبر ابتداؤه (من الزهوق) لأنه وقت استقرار الوجوب (و) أجل دية (غيرها)
أي النفس كقطع يد اندمل (من) ابتداء (الجناية) في الأصح لأنها حالة الوجوب فأنيط الابتداء بها كما نيط بحالة
الزهوق في النفس لأنها حالة وجوب ديتها. وإن كان لا يطالب ببدلها إلا بعد الاندمال أما إذا لم يندمل بأن سرى
من
عضو إلى عضو: كأن قطع أصبعه فسرت إلى كفه فأجل أرش الإصبع من قطعها والكف من سقوطها كما جزم به
صاحبا الحاوي الصغير والأنوار ورجحه البلقيني (ومن مات) من العاقلة (في بعض) أي في أثناء (سنة سقط)
من واجب تلك السنة، ولا يؤخر من تركته لأنها مواساة كالزكاة. واحترز بقوله: في بعض سنة عما لو مات بعدها
وهو موسر فلا يسقط وتؤخذ من تركته. ثم شرع في صفات من يعقل وهي خمس: الذكورة، وعدم الفقر، والحرية،
98

والتكليف، واتفاق الدين. أما الصفة الأولى فقد استغنى المصنف عن ذكرها بقوله سابقا: وعتيقها يعقله عاقلتها
أي لا هي، والخنثى كالمرأة، وإنما لم تعقل المرأة أهليتها للنصرة ولعدم الولاية، فلو بان الخنثى ذكرا هل يغرم
حصته التي أداها غيره أو لا؟ وجهان قال في الروضة: لعل أصحهما نعم، ورجحه ابن المقري اعتبارا بما في نفس
الامر كما في شاهد النكاح ووليه ورجح البلقيني الثاني قال: لبناء التحمل على الموالاة والمناصرة الظاهرة، وقد كان هذا
في ستر الثوب كالأنثى فلا نصرة به اه‍. والأول أوجه لأن النصرة موجودة فيه بالقوة وأما الصفة الثانية فمأخوذة من قوله:
(ولا يعقل فقير) ولو كسوبا لأن العقل مواساة، وليس الفقير من أهلها كنفقة القريب. فإن قيل الفقير تلزمه الجزية،
فهلا كان مثل هذا؟ أجيب بأن الجزية موضوعة لحقن الدم ولاقراره في دار الاسلام فصارت عوضا، وأما الصفة الثالثة
فمأخوذة من قوله (و) لا يعقل (رقيق) ولو مكاتبا، إذ لا ملك له فلا مواساة، والمكاتب وإن ملك فملكه ضعيف،
وليس من أهل المواساة، ولهذا لا تجب عليه الزكاة، وألحق البلقيني المبعض بالمكاتب لنقصه بالرق، وأما الصفة الرابعة
فمأخوذة من قوله (و) لا يعقل (صبي و) لا (مجنون) لأن مبنى العقل على النصرة ولا نصرة فيهما لا بالعقل ولا بالرأي،
بخلاف الزمن والشيخ الهرم والأعمى فإنهم يتحملون لأنهم ينصرون بالقول والرأي.
تنبيه: ظاهر إطلاقهم أنه لا فرق بين الجنون المتقطع والمطبق، ويحتمل كما قال الأذرعي الوجوب فيما إذا كان
يجن في العام يوما واحدا، وليس هو آخر السنة، فإن هذا لا عبرة به. وأما الصفة الخامسة فمأخوذة من قوله (و)
لا يعقل (مسلم عن كافر وعكسه) لأنه لا موالاة بينهما ولا توارث فلا مناصرة (ويعقل يهودي عن نصراني وعكسه
في الأظهر) كالإرث إذ الكفر كله ملة واحدة، والثاني، لا، لانقطاع الموالاة بينهما.
تنبيه: يتعاقل ذمي ومعاهد إن زادت مدة عهده على مدة الاجل، بخلاف ما إذا نقصت عنها وهو ظاهر
أو ساوتها تقديما للمانع على المقتضي، ويكفي في تحمل كل حول على انفراده زيادة مدة العهد عليه. قال الأذرعي:
ومقتضى كلام القاضي وغيره أن ما ذكر من تحمل الذمي ونحوه محله إذا كانوا في دارنا، لأنهم تحت حكمنا، ولا تعاقل
بين ذمي وحربي، والمعاهد كالذمي. ثم أخذ المصنف رحمه الله تعالى في كيفية توزيع المضروب على العاقلة فقال: (وعلى
الغني) من العاقلة، وهو من يملك فاضلا عما يبقى له في الكفارة عشرين دينارا أو قدرها اعتبارا بالزكاة (نصف
دينار) على أهل الذهب، أو قدره دراهم على أهل الفضة، وهو ستة منها، لأن ذلك أول درجة المواساة في زكاة
النقد، والزيادة عليه لا ضابط لها (و) على (المتوسط) منهم، وهو من يملك فاضلا عما ذكره من العشرين دينارا
أو قدرها، وفوق ربع دينار لئلا يبقى فقيرا. فإن قيل: ينبغي أن يقاس به الغني لئلا يبقى متوسطا. أجيب بأن المتوسط
من أهل التحمل بخلاف الفقير (ربع) من دينار أو ثلاثة دراهم، لأنه واسطة بين الفقير الذي لا شئ عليه والغني
الذي عليه نصف دينار، ولم نجز إلحاقه بأحد الطرفين لأنه إفراط أو تفريط فتوسط فيه بربع دينار، لأن الناقص عنه
تافه بدليل عدم القطع به.
تنبيه: ما ضبطنا به الغني والمتوسط هو ما قاله الإمام وتبعه الغزالي وغيره، ورجحه ابن المقري وضبطه البغوي
تبعا للقاضي بالعرف ولا ترجيح في الروضة. قال الإمام: وكون الغني عليه نصف الدينار والمتوسط ربع لا يعرف
في ذلك أثر ناص ولا خبر، لكنهم راعوا معنى المواساة ويجب النصف والربع (كل سنة من الثلاث) لأنها مواساة
تتعلق بالحول فتكررت بتكرره كالزكاة فجميع ما يلزم الغني في الثلاث سنين دينار ونصف والمتوسط نصف وربع
(وقيل هو) أي ما ذكر من نصف أو ربع (واجب الثلاث) أخذا من قول الشافعي رضي الله عنه في الام: أن
من كثر ماله يحمل إذا قومت الدية نصف دينار ومن كان دونه ربع دينار لا يزاد على هذا
ولا ينقص وعلى هذا يؤدي الغني كل سنة سدس دينار والمتوسط نصف سدس، وعلى الأول لو كثرت العاقلة أو قل الواجب نقص القسط
99

فيؤخذ من كل منهم حصته من غير تخصيص أحد منهم لشمول جهة التحمل لهم، وإن قلوا أو كثر الواجب لم يزد القسط
لتضررهم بذلك.
تنبيه: إنما اعتبر مقدار نصف الدينار وربعه لا عينهما، لأن الإبل هي الواجبة، وما يؤخذ بعد تمام الحول من
نصف وربع يصرف إليها، وللمستحق أن لا يأخذ غيرها لما مر، والدعوى بالدية المأخوذة من العاقلة لا تتوجه عليهم،
بل على الجاني نفسه، ثم هم يدفعونها بعد ثبوتها كما قاله ابن القاص في أدب القضاء، وهو مقتضى كلام الرافعي فيه أيضا
(و) الغني والمتوسط (يعتبران آخر الحول) لأنه حق مالي متعلق بالحول على جهة المواساة فاعتبر بآخره كالزكاة فلا يؤثر
الغني وضده قبله ولا بعده، فلو أيسر آخره ولم يؤد ثم أعسر ثبت دينا في ذمته (ومن أعسر فيه) أي آخر الحول (سقط)
أراد لم يلزمه شئ لأنه ليس أهلا للمواساة بخلاف الجزية، لأنها كالأجرة لسكني دار الاسلام. قال الماوردي:
ولو
ادعى الفقر بعد الغنى حلف ولا يكلف البينة لأنه إنما يتحمل بعد العلم بغناه ومن كان الحول ناقصا برق
أو كفر أو جنون أو صبا وصار في آخره بصفة الكمال لم يؤخذ منه شئ في ذلك الحول ولا فيما بعده. قال الرافعي:
لأنهم ليسوا أهلا للنصرة بالبدن في الابتداء فلا يكلفون النصرة بالمال في الانتهاء والمعسر كامل أهل للنصرة وإنما
يعتبر المال ليتمكن في الأداء فيعتبر وقته.
ولما فرغ مما يجب الحر شرع فيما يجب بجناية غيره مترجما لذلك بفصل فقال:
فصل: في جناية الرقيق: (مال جناية العبد) الموجبة للمال بأن كانت غير عمد أو عمد أو عفا الأول مال (يتعلق برقبته)
بالاجماع كما حكاه البيهقي إذ لا يمكن إلزامه لسيده لأنه إضرار به مع براءته، ولا أن يكون في ذمة العبد إلى عتقه
للاضرار بالمستحق بخلاف معاملة غيره له لرضاه بذمته، فالتعلق برقبته طريق وسط في رعاية الجانبين ولا يجب
على عاقلة سيده لأنها وردت في الحر على خلاف الأصل، وفارق جناية البهيمة حيث يضمنها مالكها إذا قصر
لأن للآدمي اختيار.
تنبيه: معنى التعلق بالرقبة أن يباع، ويصرف ثمنه إلى الجناية، ولا يملكه المجني عليه بنفس الجناية وإن كانت
قيمته أقل من أرشها لما فيه من إبطال حق السيد من التمكن من الفداء، ويستثنى من التعلق بالرقبة جناية غير المميز
والأعجمي الذي يعتقد طاعة آمره بأمر سيده أو غيره فإنها تكون على الامر، ولا يتعلق الضمان برقبته على الأصح
كما ذكراه في الرهن والمبعض يجب عليه من واجب جنايته بنسبة حريته وباقيه من الرق يتعلق به باقي واجب الجناية
فيفديه السيد بأقل الامرين من حصتي واجبها والقيمة كما يعلم مما يأتي (ولسيده) ولو بنائبه (بيعه لها) أي الجناية،
ولا بد من إذن المستحق ولو كان البيع بعد اختيار الفداء، وله تسليمه ليباع فيها، ولا يباع منه أكثر من أرش
الجناية إلا بإذن سيده أو ضرورة كأن لم يجد من يشتري بعضه، ويتعلق الأرش بجميع رقبته إن كان بقدر قيمتها
أو أكثر، وكذا إن كان أقل على ظاهر النص ولو أبرأ المستحق عن بعض الواجب انفك من العبد بقسطه على الأصح
كما ذكره الرافعي في دوريات الوصايا. واستشكل بأن تعلق الرهن بالمرهون دون تعلق المجني عليه برقبة العبد ومع
ذلك لو أبرأ المرتهن عن بعض الدين لم ينفك شئ من الرهن، وقد يفرق بأن التعليق الجعلي أقوى من الشرعي (و)
أيضا (فداؤه) فيتخير بين الامرين فإن اختار الفداء فيفديه في الجديد (بالأقل من قيمته وأرشها) لأن الأقل إن كان
القيمة فليس عليه غير تسليم الرقبة وهي بدلها، أو الأرش فهو الواجب، وتعتبر القيمة يوم الجناية كما حكي عن
النص، وجرى عليه ابن المقري في روضه لنوجه طلب الفداء فيه، ولأنه يوم تعلقها اعتبر القفال يوم الفداء،
لأن النقص قبله لا يلزم السيد بدليل ما لو مات العبد قبل اختيار الفداء، وحمل النص على ما لو منع بيعه حال الجناية
ثم نقصت القيمة، وجرى على هذا ابن المقري في إرشاده وشرحه، وهذا كما قال الزركشي هو المتجه
100

(وفي القديم) يفديه (بأرشها) بالغا ما بلغ، لأنه لو سلمه ربما بيع بأكثر من قيمته، والجديد لا يعتبر هذا الاحتمال (ولا يتعلق)
مال جناية العبد (بذمته مع رقبته في الأظهر) وإن أذن له سيده في الجناية، وإلا لما تعلق برقبته كديون المعاملات حتى
لو بقي شئ لا يتبع به بعد عتقه. والثاني يتعلق بالذمة والرقبة مرهونة بما في الذمة، فإن لم يوف الثمن به طولب العبد بالباقي
بعد العتق.
تنبيه: قد علم من قول المصنف: بذمته مع رقبته أن محل الخلاف فيما إذا تعلق الأرش بالرقبة بأن قامت بينة بجناية
العبد أو أقر بها السيد. فأما لو تعذر التعلق بالرقبة بأن أقر بها العبد وكذبه السيد قال الإمام: فلا وجه إلا القطع بالتعلق
بذمة العبد، وقد يرد على المصنف ما لو أقر السيد بأن عبده جنى على عبد خطأ قيمته ألف، وقال العبد قيمته ألفان لزم
العبد بعد العتق القدر الزائد على ما أقر به السيد على النص في الام. قال البلقيني: وقد اجتمع في هذه الصورة التعلق
بالرقبة والتعلق بالذمة على المذهب لكن لم يتحد محل التعلق.
فرع: لو اطلع سيد العبد على لقطة في يده وأقرها عنده أو أهمله وأعرض عنه، وفرعنا على الأظهر من أنه لا يصح
التقاطه فأتلفها أو تلفت عنده تعلق المال برقبته وسائر أموال السيد كما نبه عليه البلقيني.
فرع: حمل الجانية للسيد لا يتعلق به الأرش سواء كان موجودا قبل الجناية أم حدث بعدها فلا تباع حتى تضع
إذ لا يمكن إجبار السيد على بيع الحمل، ولا يمكن استثناؤه، فإن لم يفدها بعد وضعها بيعا معا وأخذ السيد حصة الولد
وأخذ المجني عليه حصته (ولو فداه) السيد (ثم جنى) بعد الفداء (سلمه للبيع) أي ليباع أو باعه بنفسه (أو فداه) كما
تقدم ولو تكرر ذلك مرارا، لأنه الآن لم يتعلق به غير هذه الجناية (ولو جنى ثانيا قبل الفداء باعه فيهما) أي الجنايتين،
أو سلمه ليباع فيهما، ووزع ثمنه عليهما (أو فداه) السيد (بالأقل من قيمته والأرشين) على الجديد (وفي القديم
بالأرشين) لما مر.
تنبيه: محل الخلاف إذا لم يمنع من بيعه مختارا للفداء، فإن منع لزمه أن يفدي كلا منهما كما لو كان منفردا كما
صرح به الشيخان في الكلام على جناية المستولدة، وما جزم به المصنف من البيع في الجنايتين محله أن يتحدا، فلو جنى
خطأ ثم قتل عمدا ولم يفده السيد ولا عفا صاحب العمد، ففي فروع ابن القطان أنه يباع في الخطأ وحده، ولصاحب
العمد القود كمن جنى خطأ ثم ارتد فإنا نبيعه ثم نقتله بالردة إن لم يتب. قال المعلق عنه: فلو لم يجد من يشتريه لتعلق القود به
فعندي أن القود يسقط، لأنا نقول لصاحبه إن صاحب الخطأ قد منعك فلو أقدناك لأبطلنا حقه فأعدل الأمور أن
تشتركا فيه ولا سبيل إليه إلا بترك القود، كذا نقله الزركشي وأقره، وفيه كما قال ابن شهبة نظر. (ولو أعتقه
) أي العبد
الجاني (أو باعه) فإن أبطلناهما فظاهر حكمه (و) إن (صححناهما) أي قلنا بصحتهما بأن كان المعتق موسرا والبائع مختارا
للفداء، وهو في الأولى راجح، وفي الثانية مرجوح (أو قتله) السيد (فداه) حتما (بالأقل) من قيمته والأرش قطعا،
لأنه فوت محل حقه، ثم أشار لطريقة حاكية للجديد والقديم السابقين بقوله: (وقيل) في فدائه (القولان) السابقان، وما
رجحه من طريقة القطع جرى عليه في الروضة هنا، وجزم في كتاب البيع في بيع العبد الجاني بطريقة الخلاف (ولو
هرب) العبد الجاني (أو مات) قبل اختيار السيد الفداء (برئ سيده) من عهدته، لأن الحق متعلق برقبته وقد فاتت
(إلا إذا طلب) منه تسليمه ليباع في الجناية (فمنعه فإنه لا يبرأ، بل يصير مختارا للفداء لتعديه بالمنع، والمستثنى منه
صادق بأن لم يطلب منه أو طلب ولم يمنعه.
101

تنبيه: لو علم السيد موضع العبد الهارب وأمكنه رده قال الزركشي: يتجه أن يجب لأن التسليم واجب عليه،
ولو قتل العبد الجاني أجنبي قتلا يوجب مالا بأن قتله خطأ، أو شبه عمد، أو يوجب قصاصا وعفا السيد على مال
تعلقت جناياته بقيمته لأنها بدله، فإذا أخذت سلمها السيد أو بدلها من سائر أمواله. فإن لم يعف السيد بل اقتص
وهو جائز له. قال البغوي: لزمه الفداء للمجني عليه وأقراه وهذا كما قال شيخي مفرع على القول بأن الواجب القصاص
أو الدية. أما إذا فرعنا على الأصح من أن الواجب القصاص فلا يلزمه شئ كالمرهون إذا قتل واقتص السيد (ولو
اختار) السيد (الفداء فالأصح) وفي الروضة الصحيح وهو أولى (أن له الرجوع) عنه (و) أن عليه (تسليمه)
حينئذ ليباع في الجناية لأنه وعد ولا أثر له، واليأس لم يحصل من بيعه. والثاني يلزمه الفداء عملا بالتزامه.
تنبيه: فهم من قوله: وتسليمه بقاء العبد، فإن مات أو قتل فلا رجوع له قطعا، ومحل الرجوع إذا كان باقيا
كما قال البلقيني إذا لم تنقص قيمته بعد اختياره الفداء، فإن نقصت لم يمكن من الرجوع ويلزمه الفداء قطعا، لأنه فوت
باختياره ذلك القدر من قيمته، فإن قال: أنا أسلمه وأغرم النقص قبل، وما إذا لم يحصل بتأخير بيعه تأخير يضر بالمجني
عليه بالتأخير، فإن حصل وللسيد مال غيره فليس له الرجوع قطعا للضرر الحاصل للمجني عليه بالتأخير، ولو باعه بإذن
المجني عليه بشرط الفداء لزمه الفداء وشمل كلامه الاختيار الفعلي كأن وطئ الأمة الجانية وليس مرادا فإن الصحيح
أنه ليس باختبار، وقوله: وتسليمه منصوب عطفا على اسم أن، والمعنى وأن عليه تسليمه كما قدرته في كلامه، ولا يصح
رفعه عطفا على ضمير خبر أن لأن التسليم عليه لا له. (ويفدي) بفتح أوله السيد وجوبا (أم ولده) الجانية حتما
(بالأقل) من قيمتها والأرش قطعا، لأنه بالاستيلاد منع من بيعها مع بقاء الرق فيها فأشبه ما إذا جنى القن فلم
يسلمه
للبيع. وقال الإمام: السيد بالاستيلاد مستمتع بحقه متصرف في ملكه، فجعله ملتزما للفداء بجناية تحدث من بعد فيه
غموض، ولكنه متفق عليه بين الأصحاب (وقيل) في جناية أم ولده، (القولان) السابقان في جناية القن، ولعل
مأخذه جواز بيع أم الولد.
تنبيه: محل وجوب فدائها على السيد إذا امتنع بيعها كما اقتضاه التعليل السابق، فلو كانت تباع لكونه استولدها
وهي مرهونة وهو معسر فإنه يقدم حق المجني عليه على حق المرتهن، وتباع وتعتبر قيمتها يوم الجناية على الأصح اعتبارا
بوقت لزوم فدائها ووقت الحاجة إلى بيعها الممنوع بالاحبال، وقيل يوم الاستيلاد لأنه السبب في منع البيع. وشمل
كلامه الأمة التي استولدها سيدها بعد الجناية وهو ظاهر، لكن الظاهر هنا كما قال شيخنا أن العبرة بقيمة يوم الاحبال
إلا أن يمنع بيعها حال الجناية فتعتبر قيمتها حينئذ (وجناياتها) حكمها (كواحدة في الأظهر) فيلزمه للكل فداء واحد،
لأن الاستيلاد منزل منزلة الاتلاف، وإتلاف الشئ لا يوجب إلا قيمة واحدة، كما لو جنى عبده جنايات ثم قتله أو
أعتقه، فلو كانت قيمتها ألفا وجنت جنايتين وأرش كل منهما ألف فلكل منهما خمسمائة، فإن كان الأول قبض ألفا
استرد منه الثاني نصفه، أو أرش الثانية خمسمائة استرد منه ثلثه، أو أرش الثانية ألف والأولى خمسمائة استرد منه ثلثها ومن
السيد خمسمائة تمام القيمة ليصير معه ثلثا الألف، ومع الأول ثلثه كديون الميت إذا قسمت تركته عليها ثم حدث عليه دين
آخر كأن حفر بئرا عدوانا فهلك بها شئ فيزاحم المستحق الغرماء ويسترد منهم حصته واستثنى البلقيني من ذلك
أم الولد التي تباع بأن استولدها وهي مرهونة وهو معسر إذا جنت جناية تتعلق برقبتها، فإن حق المجني عليه يقدم على
المرتهن فلا تكون جناياتها كواحدة، لأنه يمكنه بيعها، بل هي كالقن يجني جناية بعد أخرى فيأتي فيها التفصيل المار.
والثاني يفديها في كل جناية بالأقل من قيمتها وأرش تلك الجناية.
تنبيه: محل الخلاف أن يكون أرش الجناية الأولى كالقيمة أو أكثر أو أقل، والباقي من القيمة لا يفي بالجناية
الثانية، فإن كان أرش الأولى دون القيمة وفداها به، وكان الباقي من قيمتها يفي الجناية الثانية فداها بأرشها قطعا.
102

قال الزركشي: وسكتوا عن التعلق بذمتها ويشبه القطع به لتعذر التعلق برقبتها، وهذا ممنوع بل الأشبه كما قال شيخنا
القطع بالتعلق بذمة السيد لأنه منع بيعها، فلو ماتت عقب الجناية لم يسقط الأرش عن السيد في الأصح بخلاف القن كما
قاله الرافعي في كلامه على جناية الموقوف.
تتمة: حكم الموقوف حكم المستولدة لمنع الواقف بيعه بوقفه، والظاهر كما قال شيخنا أن المنذور عتقه كذلك، وأما
المكاتب فذكر المصنف جنايته في باب الكتابة.
فصل: في دية (الجنين) الحر المسلم (غرة) لخبر الصحيحين أنه (ص) قضى في الجنين بغرة عبد
أو أمة بترك تنوين غرة على الإضافة البيانية وتنوينها على أن ما بعدها بدل منها، وأصل الغرة البياض في وجه الفرس،
ولهذا شرط عمرو بن العلاء أن يكون العبد أبيض والأمة بيضاء، وحكاه الفاكهاني في شرح الرسالة عن ابن عبد البر
أيضا ولم يشترط الأكثرون ذلك، وقالوا: النسمة من الرقيق غرة لأنها غرة ما يملك: أي أفضله، وغرة كل شئ
خياره، وإنما تجب الغرة فيه (إن انفصل ميتا بجناية) على أمه الحية مؤثرة فيه، سواء أكانت الجناية بالقول كالتهديد
والتخويف المفضي إلى سقوط الجنين أم بالفعل كأن يضربها أو يوجرها دواء أو غيره فتلقي جنينا، أم بالترك كأن
يمنعها الطعام أو الشراب حتى تلقي الجنين وكانت الأجنة تسقط بذلك، ولو دعتها ضرورة إلى شرب دواء، فينبغي كما
قال الزركشي أنها لا تضمن بسببه وليس من الضرورة الصوم ولو في رمضان إذا خشيت منه الاجهاض، فإذا فعلته
فأجهضت ضمنته كما قاله الماوردي، ولا ترث منه لأنها قاتلة وسواء كان الجنين ذكرا أم غيره لاطلاق الخبر، لأن
ديتهما لو اختلفت لكثر الاختلاف في كونه ذكرا أو غيره فسوى الشارع بينهما كأصل الصاع من التمر يكون بدل اللبن
في المصراة، سواء أقل اللبن أم كثر، وسواء كان الجنين تام الأعضاء أم ناقصها ثابت النسب أم لا، لكن لا بد أن
يكون معصوما مضمونا على الجاني عند الجناية، وإن لم تكن أمه معصومة أو مضمونة عندها، أما الجنين الرقيق والكافر
فذكرهما المصنف آخر الفصل ولا أثر لنحو لطمة خفيفة كما لا تؤثر في الدية ولا لضربة قوية أقامت بعدها بلا ألم، ثم
ألقت جنينا نقله في البحر عن النص.
تنبيه: سمي الجنين جنينا لاستتاره ومنه الجن. وقوله: (في حياتها أو موتها) متعلق بانفصل: أي انفصل في
حياتها بجناية أو انفصل بعد موتها بجناية في حياتها، ويحتمل أن يكون في حياتها أو موتها متعلق بجناية. فيشمل ما لو
ضرب ميتة فألفت جنينا ميتا، وبه صرح القاضي أبو الطيب والروياني فأوجبنا الغرة لأن الأصل بقاء الحياة، وقال
البغوي: لا شئ عليه، وبه قال الماوردي وادعى فيه الاجماع ورجحه البلقيني ولم يرجح الشيخان شيئا (وكذا إن ظهر)
بعض الجنين (بلا انفصال) من أمه كخروج رأسه ميتا تجب فيه الغرة (في الأصح) لتحقق وجوده، والثاني لا بد من
تمام انفصاله لأن ما لم ينفصل كالعضو منها (وإلا) بأن لم يكن معصوما عند الجناية كجنين حربية من حربي، وإن
أسلم أحدهما بعد الجناية أو لم يكن مضمونا كأن كان الجاني مالكا للجنين ولامه بأن جنى السيد على أمته الحامل وجنينها
من غيره وهو ملك له فعتقت، ثم ألقت الجنين أو كانت أمه ميتة أو لم ينفصل ولا ظهر بالجناية على أمه (فلا) شئ
فيه لعدم احترامه في الأولى، وعدم ضمان الجاني في الثانية ولظهور موته بموتها في الثالثة، ولعدم تحقق وجوده في
الأخيرتين.
تنبيه: تقييد الجنين بالعصمة أولى من تقييد الام بها لايهام أنه لو جنى على حربية جنينها معصوم حين الجناية
لا شئ فيه وليس كذلك، ولو ماتت الام ولم ينفصل الولد ولم يظهر فلا غرة، لأنا لم نتيقن وجود الجنين فلا
نوجب شيئا بالشك، وكذا لو كانت المرأة منتفخة البطن فضربها ضارب فزال الانتفاخ أو كانت تجد حركة في بطنها
فانقطعت بالضربة لجواز أن يكون ريحا فانفشت وسكن. (أو) انفصل (حيا وبقي) بعد انفصاله (زمانا بلا ألم) فيه
103

(ثم مات فلا ضمان) على الجاني، سواء أزال ألم الجناية عن أمه قبل إلقائه أم لا لأن الظاهر أنه مات بسبب آخر (وإن
مات حين خرج) بعد انفصاله أو تحرك تحركا شديدا كقبض يد وبسطها، ولو حركة مذبوح لا اختلاجا (أو دام
ألمه ومات) منه (فدية نفس) كاملة على الجاني، ولو انفصل الجنين لدون ستة أشهر لأنا تيقنا حياته، والظاهر موته
بالجناية بخلاف مجرد اختلاجه لاحتمال كونه انتشارا بسبب الخروج من المضيق.
تنبيه: لو حزه شخص وقد انفصل بلا جناية، وإن لم تكن حياته مستقرة أو بجناية وحياته مستقرة وجب
عليه القصاص كما لو قتل مريضا مشرفا على الموت، وإن كان بجناية وحياته غير مستقرة، فالقائل له هو الجاني على أمه
ولا شئ على الحاز إلا التعزير، ولو خرج رأسه وصاح فحزه شخص لزمه القصاص لأنا تيقنا بالصياح حياته. (ولو
ألقت) أي امرأة بجناية عليها (جنينين) ميتين (فغرتان) تجبان فيهما، أو ثلاثا فثلاثة، وهكذا لأن الغرة متعلقة
باسم الجنين فتتعدد بتعدده، ولو ألقت ميتا وحيا واستمر ألم الحي حتى مات فغرة للأول ودية للثاني، ولو اشترك
جماعة في الاجهاض اشتركوا في الغرة كما في الدية (أو) ألقت (يدا) أو رجلا وماتت (فغرة) تجب، لأن العلم قد حصل
بوجود الجنين، والغالب على الظن أن اليد بانت بالجناية، وخرج بماتت ما لو عاشت ولم تلق جنينا، فلا يجب إلا نصف
غرة كما أن يد الحي لا يجب فيها إلا نصف دية ولا يضمن باقيه، لأنا لم نتحقق تلفه.
فروع: لو ألقت بدنين ولو ملتصقين فغرتان، إذ الواحد لا يكون له بدنان، فالبدنان حقيقة يلتزمان رأسين،
فلو لم يكن إلا رأس فالمجموع بدن واحد حقيقة فلا تجب إلا غرة واحدة، ولو ألقت ثلاثا أو أربعا من الأيدي أو الأرجل
أو رأسين وجب غرة فقط لامكان كونها لجنين واحد، بعضها أصلي وبعضها زائد، وعن الشافعي رضي الله تعالى
عنه أنه أخبر بامرأة لها رأسان فنكحها بمائة دينار ونظر إليها وطلقها، وظاهر أنه يجب للعضو الزائد حكومة، ولو ألقت
يدا ثم جنينا ميتا بلا يد قبل الاندمال وزال الألم من الام فغرة، لأن الظاهر أن اليد مبانة منه بالجناية، أو حيا فمات
من الجناية فدية ودخل فيها أرش اليد، فإن عاش وشهد القوابل أو علم أنها يد من خلقت فيه الحياة فنصف دية
لليد،
وإن لم يشهد القوابل بذلك ولم يعلم فنصف غرة لليد عملا باليقين، أو ألقته بعد الاندمال وزال الألم أهدر الجنين لزوال
الألم الحاصل بالجناية ووجب لليد الملقاة قبله إن خرج ميتا نصف غرة أو حيا أو ما أو عاش فنصف دية إن شهد القوابل
أو علم أنها يد من خلقت فيه الحياة. وإن انفصل بعد إلقاء اليد ميتا كامل الأطراف بعد الاندمال فلا شئ فيه، وفي
اليد حكومة كما بحثه شيخنا أو قبل الاندمال ميتا فغرة فقط لاحتمال أن اليد التي ألقتها كانت زائدة لهذا الجنين وانمحق
أثرها، أو حيا ومات فدية لا غرة كما وقع في أصل الروضة، وإن عاش فحكومة وتأخر اليد عن الجنين إلقاء كتقدم
لذلك فيما ذكره (وكذا لحم) ألقته امرأة بجناية عليها يجب فيه غرة إذا (قال القوابل) وهن أهل الخبرة (فيه صورة خفية)
على غيرهن فلا يعرفها سواهن لحذقهم.
فائدة: تظهر الصورة الخفية بوضعه في الماء الحار، ويكفي تصور أصبع أو عين أو ظفر أو ما بان من خلف
آدمي. (قيل أو لا) صورة: أي تجب الغرة أيضا في إلقاء لحم لا صورة فيه أصلا تعرفها القوابل، ولكن (قلن) إنه
(لو بقي) ذلك اللحم (لتصور) أي تخلق كما تنقضي به العدة، والمذهب لا غرة كما لا تصير به أم ولد، ومر إيضاح
هذا في باب العدد.
تنبيه: أفهم تعبيره باللحم تصوير المسألة بالمضغة، فلو ألقت علقة لم يجب فيها شئ قطعا كما لا تنقضي به العدة
(وهي) أي الغرة الواجبة (عبد أو أمة) كما نطق به الخبر والخيرة في ذلك إلى الغارم، ويجبر المستحق على قبولها
من أي نوع كانت.
تنبيه: علم من ذلك أنه لا يلزم قبول الخنثى كما قاله الزركشي لأنه ليس بذكر ولا أنثى في الظاهر، وأشار لوصف
104

الغرة بقوله (مميز) فلا يلزمه قبول غيره، لأن الغرة هي الخيار كما مر، وغير المميز ليس من الخيار لأنه يحتاج إلى من
يكفله، ولفظ الجنين وإن كان يشمل المميز وغيره يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصه، لأن المقصود بالغرة جبر
الخلل ولا جبر مع عدم التمييز.
تنبيه: قضية كلامه اعتبار التمييز من غير نظر إلى السن، حتى لو ميز قبل السبع أجزأ، وليس مرادا، بل
لا بد من هذا السن كما قاله البلقيني. قال وقد نص عليه في الام (سليم من عيب مبيع) لأن المعيب ليس من
الخيار. فإن قيل قد اكتفى في الكفارة بالمعيب إذا كان العيب لا يخل بالعمل، فهلا كان هنا كذلك؟ أجيب
بأن الكفارة حق لله تعالى والغرة حق لآدمي، وحقوق الله تعالى مبنية على المساهلة، فإن رضي المستحق بالمعيب
جاز لأن الحق له.
تنبيه: أفهم كلامه قبول الكافر، لكن في الشرح والروضة أنه لا يجبر على قبول خصي وخنثى وكافر، وجمع
بينهما بأن ما في الشرح والروضة محمول بقرينة ما مر في البيع على كافر ببلد نقل فيه الرغبة أو على مرتد أو
كافرة يمتنع
وطؤها لتمجس ونحوه. وما هنا على غير ذلك، وأفهم امتناع الحامل لجزمهم في كتاب البيع بأنه عيب في الجواري، وبه
صرح صاحب المعتمد، فقال: لا يلزمه قبول حامل ولا موطوءة لم يتحقق عدم حملها، وما ذكره من عدم قبول الموطوءة
التي لم يتحقق عدم حملها ممنوع، فقد قال في البحر بقبولها هنا بخلاف الزكاة، لأن الغالب من الدواب الحمل بخلاف
بنات آدم (والأصح قبول) رقيق (كبير) من عبد أو أمة (لم يعجز بهرم) لأنه من الخيار ما لم تقص منافعه،
والثاني لا يقبل بعد عشرين سنة عبدا كان أو أمة، لأن ثمنه ينقص حينئذ، والثالث لا يقبل بعدها في الأمة وبعد
خمس عشرة سنة في العبد، وضعف الوجهان بأن نقصان الثمن يقابله زيادة المنفعة. أما العاجز بالهرم فلا يقبل لعدم استقلاله
وضبطه سليم في المجرد بأن يبلغ إلى حد يصير في معنى الطفل الذي لا يستقل بنفسه. (ويشترط) في الغرة (بلوغها)
في القيمة (نصف عشر دية) من الأب المسلم وهو عشر دية الام المسلمة، ففي الحر المسلم رقيق قيمته خمسة أبعرة
كما روي عن عمر وعلي وزيد بن ثابت رضي الله تعالى عنهم. قال الماوردي: ولم يخالفهم فيه أحد فكان إجماعا
ولأنها دية فكانت مقدرة كسائر الديات، ولان الجنين على أقل أحوال الانسان، فاعتبر فيه أقل ما قدره الشرع من
الديات وهو دية الموضحة والسن (فإن فقدت) تلك الغرة حسا بأن لم توجد، أو شرعا بأن وجدت بأكثر من ثمن
مثلها (فخمسة أبعرة) بدلا عنها لأنها مقدرة بها عند وجودها فعند عدمها يؤخذ ما كانت مقدرة به، ولان الإبل هي
الأصل في الديات فوجب الرجوع إليها عند فقد المنصوص عليه، فإن فقدت الإبل وجب قيمتها كما في فقد إبل الدية،
فإن فقد بعضها وجبت قيمته مع الموجود (وقيل لا يشترط) بلوغها ما ذكر: بل متى وجدت سليمة مميزة وجب قبولها
وإن قلت قيمتها لاطلاق لفظ العبد والأمة في الخبر، وعلى هذا الوجه المعبر عنه في الروضة بالقول (فللفقد قيمتها) أي
الغرة بالغة ما بلغت كما لو غصب عبدا فمات.
تنبيه: الاعتياض عن الغرة لا يصح كالاعتياض عن الدية (وهي) أي الغرة (لورثة الجنين) على فرائض
الله تعالى لأنها دية نفس، ويقدر انفصاله حيا ثم موته (و) هي أي واجبة (على عاقلة الجاني) لحديث أبي هريرة
المار (وقيل إن تعمد) الجناية بأن قصدها بما يلقي غالبا (فعليه) وهذا قد يفهم أن الجناية قد تكون عمدا محضا،
ومع ذلك يجب على العاقلة في الأصح، وليس مرادا بل الخلاف مبني على تصور العمد في الجناية على الجنين والمذهب
أنه لا يتصور، وإنما يكون خطأ أو شبه عمد، سواء أكانت الجناية على أمه خطأ أو عمدا أم شبه عمد، لأنه لا يتحقق
وجوده وحياته حتى يقصد، بل قيل إنه لا يتصور فيه شبه العمد أيضا وهو قوي ولكن المنقول خلافه، لأن حد
شبه
105

العمد لا ينطبق عليه لأنه يعتبر فيه قصد الشخص كالعمد، ومن هذا يؤخذ أنه لا يجب القصاص في الجنين إذا خرج
حيا ومات، لأن القصاص إنما يجب في العمد، ولا يتصور العمد فيه.
تنبيه: يغلظ في شبه العمد على القول به فيؤخذ عند فقد الغرة حقة ونصف وجذعة ونصف خلقتان. قال
الروياني وغيره: وينبغي أن يغلظ في الغرة أيضا بأن تبلغ قيمتها نصف عشر الدية المغلظة واستحسناه. واقتصاره على
العاقلة يقتضي تحمل عصباته من النسب، ثم الولاء، ثم بيت المال على ما مر، وبه صرح الإمام، فإن لم يكن بيت المال
ضربت على الجاني فإن لم تف العاقلة بالواجب وجب على الجاني الباقي. ثم شرع في حكم الجنين
الكافر، فقال (والجنين اليهودي أو النصراني) بالتبع لأبويه (قيل كمسلم) في الغرة (وقيل) هو (هدر) وهذان القولان مبنيان على أن الغرة
غير مقدرة بالقيمة (والأصح) المنصوص بناء على أن الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب في الجنين المذكور (غرة
كثلث غرة مسلم) كما في ديته وهو بعير وثلثا بعير، وفي الجنين المجوسي ثلث خمس غرة مسلم كما في ديته وهو ثلث بعير،
وأما الجنين الحربي والجنين المرتد بالتبع لأبويهما فمهدران، ثم شرع في حكم الجنين الرقيق، فقال: (و) الجنين (الرقيق)
ذكرا كان أو غيره فيه (عشر قيمة أمه) قنة كانت أو مدبرة أو مكاتبة أو مستولدة قياسا على الجنين الحر، فإن الغرة
في الجنين معتبرة بعشر ما تضمن به الام، وإنما لم يعتبروا قيمته في نفسه لعدم ثبوت استقلاله بانفصاله ميتا،
واستثنى ما إذا كانت الأمة هي الجانية على نفسها فإنه لا يجب في جنينها المملوك للسيد شئ، إذ لا يجب للسيد على
رقيقه شئ، وخرج بالرقيق المبعض، وحكمه حكم الحر، قاله المحامل في اللباب، وينبغي أن توزع الغرة
على الرق والحرية، وتعتبر قيمة الام (يوم الجناية) عليها لأنه وقت الوجوب (وقيل) يوم (الاجهاض) للجنين
لأنه وقت استقرار الجناية.
تنبيه: إطلاق اعتبار يوم الجناية يقتضي أنه سواء كانت القيمة فيه أكثر من وقت الاجهاض أم أقل وبه صرح
القاضي الحسين وغيره، لكن الصحيح المنصوص كما في أصل الروضة أنا نعتبر قيمتها أكثر ما كانت من حين الجناية
إلى الاجهاض، هذا كله إذا انفصل ميتا كما علم من التعليل السابق، فإن انفصل حيا ومات من أثر الجناية فإن فيه
قيمته يوم الانفصال قطعا وإن نقصت عن عشر قيمة أمه كما نقله في البحر عن النص ويصرف ما ذكر في الرقيق
(لسيدها) أي أم الجنين، وعبارة المحرر والشرح للسيد: أي سيد الجنين، وهي أولى لأن الجنين قد يكون لشخص
وصي له به وتكون الام لآخر فالبدل لسيده لا لسيدها، وقد يعتذر عن المصنف بأنه جرى على الغالب من أن الحمل
المملوك لسيد الام (فإن كانت) تلك الام (مقطوعة) أطرافها (والجنين سليم) أطرافه (قومت) بتقديرها (
سليمة
في الأصح) لسلامته كما لو كانت كافرة والجنين مسلم فإنه يقدر فيها الاسلام وتقوم مسلمة، وكذا لو كانت حرة
والجنين رقيق فإنها تقدر رقيقة وصورته أن تكون الأمة لشخص والجنين لآخر بوصية فيعتقها مالكها، والثاني
لا تقدر سليمة لأن نقصان الأعضاء أمر خلقي، وفي تقدير خلافه بعد.
تنبيه: كلام المصنف قد يوهم أنه لو كان الجنين مقطوعا والام سليمة قومت الام مقطوعة، وليس مرادا بل
تقوم سليمة أيضا في الأصح لأن نقصان الجنين قد يكون من أثر الجناية، واللائق التغليظ على الجاني لا التخفيف،
فلو قال: وعكسه لشمل هذه الصورة (وتحمله) أي العشر المذكور (العاقلة) أي عاقلة الجاني (في الأظهر) لما مر في
الغرة، وهذا قد علم من قوله سابقا في الفصل الثاني من هذا الباب: وتحمل العاقلة العبد في الأظهر.
تتمة: سقط جنين ميت فادعى وارثه على إنسان أنه سقط بجنايته فأنكر صدق بيمينه، وعلى المدعي البينة،
ولا يقبل إلا شهادة رجلين، فإن أقر بالجناية وأنكر الاسقاط وقال القسط ملتقط فهو المصدق أيضا وعلى المدعي البينة
106

، ويقبل فيها شهادة النساء لأن الاسقاط ولادة، وإن أقر بالجناية والاسقاط وأنكر كون الاسقاط بسبب جناية نظر إن
أسقطت عقب الجناية فهي المصدقة باليمين لأن الجناية سبب ظاهر، وإن أسقطت بعد مدة من وقت الجناية صدق بيمينه
لأن الظاهر معه إلا أن تقوم بينة أنها لم تزل متألمة حتى أسقطت، ولا يقبل هنا إلا رجلان، وضبط المتولي المدة المتخللة
بما يزول فيها ألم الجناية وأثرها غالبا، وإن اتفقا على سقوطه بجناية وقال الجاني: سقط ميتا، فالواجب الغرة وقال الوارث: بل
حيا ثم مات فالواجب الدية، فعلى الوارث البينة بما يدعيه من استهلاك وغيره، ويقبل فيه شهادة النساء لأن الاستهلال
لا يطلع عليه غالبا إلا النساء، ولو أقام كل بينة بما يدعيه فبينة الوارث أولى لأن معها زيادة علم.
فصل: في كفارة القتل التي هي من موجباته (يجب بالقتل) عمدا كان أو شبهه أو خطأ كما سيأتي (كفارة)
لقوله تعالى: * (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) * وقوله تعالى: * (فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير
رقبة مؤمنة) *. وقوله تعالى: * (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) * وخبر: وائلة
بن الأسقع قال: أتينا النبي (ص) في صاحب لنا قد استوجب النار بالقتل. فقال: أعتقوا عنه
رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار رواه أبو داود وصححه الحاكم وغيره. وخرج بالقتل الأطراف
والجروح فلا كفارة فيها لعدم وروده، ولا يشترط في وجوب الكفارة تكليف بل تجب (وإن كان القاتل صبيا أو
مجنونا) لأن الكفارة من باب الضمان فتجب في مالهما فيعتق الولي عنهما من مالهما ولا يصوم عنهما بحال. فإن
صام الصبي المميز أجزأه. وألحق الشيخان به المجنون في هذا، وهو محمول على أن صومه لا يبطل بطريان جنونه، وإلا
لم تتصور المسألة، ولو أعتق الولي عنهما من مال نفسه، فإن كان أبا أو جدا جاز وكأنه ملكه ثم ناب عنهما في
الاعتاق. وإن كان قيما أو وصيا لم يجز حتى يقبل القاضي لهما التمليك كما في الروضة وأصلها هنا عن البغوي
. وقالا
في باب الصداق: لو لزم الصبي الكفارة قتل لم يجز لوليه أن يعتق عنه من ماله ولا من مال نفسه لأنه يتضمن دخوله في
ملكه وإعتاقه عنه. ولا يجوز إعتاق عبد الطفل. وكلام المتولي يقتضي أن المراد عتق التبرع. وعلى هذا فلا مخالفة
بين كلامي الروضة كأصلها.
تنبيه: سكت المصنف كالروضة وأصلها عن حكم السفيه، وذكرا في باب الحجر أنه في كفارة اليمين لا يكفر بالعتق
بل بالصوم كالعبد، وقد يوهم أن غيرها من الكفارات كذلك، لكن صرح الصيمري بوجوب كفارة القتل في
ماله وهو القياس، وتجب الكفارة أيضا، ولا يشترط في وجوبها الحرية، بل تجب (و) إن كان القاتل (عبدا)
كما يتعلق بقتله القصاص والضمان، لكن يكفر بالصوم لعدم ملكه (وذميا) لالتزامه الأحكام، ولا فرق بين أن
يقتل مسلما، وقلنا ينتقض عهده أولا (أو ذميا) ويتصور إعتاقه عبدا مسلما في صور: منها أن يسلم في ملكه أو
يرثه أو يقول لمسلم: أعتق عبدك عن كفارتي فإنه يصح على الأصح، وإن لم يتيسر له إعتاق عبد مسلم قال القاضي
الحسين: لا يكفر بالصوم لأنه ليس من أهله ولا يشترط في وجوبها الخطأ بل تجب (و) إن كان القاتل (عامدا) لحديث
وائلة المار أول الفصل، فإن فيه في صاحب لنا استوجب النار، ولا يستوجب النار إلا في العمد ولان الكفارة للجبر
والعامد أحوج إليها، ومثله شبه العمد ولو قال المصنف: عامدا أو لا دخل شبه العمد، واختار ابن المنذر أنها
لا تجب في العمد. وهو قول أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد لأنها عقوبة لا يدخلها قياس (و) أما إذا كان
(مخطئا) فبالاجماع، وللآية السابقة.
تنبيه: قضية إطلاقه أن من قتل شخصا بإذنه تجب عليه الكفارة، وهو الأصح وإن اقتضى كلامه في باب
القصاص عدم الوجوب لقوله: هدر، ويستثنى من إطلاقه الجلاد القاتل بأمر الإمام إذا جرى على يده قتل غير
مستحق وهو جاهل به فإنه لا كفارة عليه كما جزم به في الروضة وأصلها في مسألة الاستيفاء من الحائل، لأنه سيف
الإمام وآلة سياسته (و) لا يشترط في وجوبها المباشرة بل تجب، وإن كان القاتل (متسببا) كالمكره والآمر به
107

لمن لا يميز وشاهد الزور وحافر بئر عدوانا ولو حصل التردي بعد موت الحافر على الأصح لأن اسم القاتل يشمل الامرين
فشملتهما الآية، وبالقياس على وجوب الدية.
تنبيه: الشرط كالسبب وإن حمل قوله: متسببا على الأعم دخل الشرط في عبارته، وتقدم أوائل كتاب الجراح
الفرق بين الشرط والسبب والمباشرة، وإنما تجب الكفارة على من ذكر (بقتل مسلم ولو) كان (بدار حرب)
وإن لم يجب فيه القصاص، ولا الدية للآية الثانية المتقدمة فقد مر فيها أن: من قوم بمعنى في قوم كما قاله الشافعي تبعا
لابن عباس رضي الله تعالى عنهم، ولان دار الحرب لا تهدر دمه، وسبب العصمة وهو الاسلام قائم، وسواء ظن كفره
أو تترس به العدو أم لا (و) بقتل (ذمي) ومستأمن للآية الأخيرة، فإن الذمة والعهد من المواثيق (و) بقتل
(جنين) مضمون بالغرة أو غيرها لأنه آدمي معصوم، وبذلك قضى عمر رضي الله عنه (و) بقتل (عبد
نفسه)
لعموم الآية وإن كانت القيمة لا تجب فيها عليه لأنها لو وجبت لوجبت له، بخلاف الكفارة فإنها حق الله تعالى،
وإذا وجبت في عبد نفسه ففي عبد غيره أولى (و) بقتل (نفسه) لأنه قتل نفس معصومة فتجب فيه كفارة لحق
الله تعالى فتخرج من تركته: أما إذا لم تكن نفسه معصومة بأن كانت مهدرة فينبغي كما قال الزركشي أن لا تجب
الكفارة (وفي) قتل (نفسه وجه) أنه لا يجب لها الكفارة كما لا يجب ضمانها بالمال، و (لا) تجب الكفارة
بقتل (امرأة، و) لا بقتل (صبي حربيين) وإن كان يحرم قتلهما لأن المنع من قتلهما ليس لحرمتهما بل لمصلحة
المسلمين لئلا يفوتهم الارتفاق بهما (و) لا يقتل مباح الدم كقتل (باغ وصائل) لأنهما لا يضمنان فأشبه الحربي
ومرتد وزان محصن بالنسبة لغير المساوي وحربي ولو قتله مثله (ومقتص منه) بقتل المستحق له لأنه مباح الدم
بالنسبة إليه.
تنبيه: لو قتله المستحق لبعضه كأن انفرد بعض الأولاد بقتل قاتل أبيهم فلا كفارة عليه، قاله المتولي خلافا
لابن الرفعة. وقال الزركشي: إنه المتجه، ويمكن الجمع بينهما بأن كلام المتولي عند إذن الباقين، وكلام ابن الرفعة
عند عدمه، فإن قتله من لا استحقاق له في قتله فعليه الكفارة (وعلى كل من الشركاء) في القتل (كفارة في
الأصح) المنصوص لأنه حق يتعلق بالقتل فلا يتبعض كالقصاص. فإن قيل هلا تبعضت كالدية؟. أجيب بأن الدية
بدل عن النفس، وهي واحدة، والكفارة لتكفير القتل، وكل واحد قاتل، ولان فيها معنى العبادة، والعبادة
الواجبة على الجماعة لا تتبعض، والثاني على الجميع كفارة واحدة كقتل الصيد (وهي) أي كفارة القتل (كظهار)
أي كصفة كفارته في الترتيب فيعتق أولا، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين للآية (لكن لا إطعام) فيها عند
العجز عن الصوم (في الأظهر) اقتصارا على الوارد فيها، إذ المنبع في الكفارات النص لا القياس، ولم يذكر الله
تعالى في كفارة القتل غير العتق والصيام، فإن قيل: لم لا حمل المطلق على المقيد في الظهار كما فعلوا في قيد الايمان
حيث اعتبروه ثم حملا على المقيد هنا؟ أجيب بأن ذاك إلحاق في وصف، وهذا إلحاق في أصل، وأحد الأصلين لا يلحق
بالآخر بدليل أن اليد المطلقة في التيمم حملت على المقيدة بالمرافق في الوضوء، ولم يحمل إهمال الرأس والرجلين في التيمم
على ذكرهما في الوضوء، وعلى هذا لو مات قبل الصوم أطعم من تركته كفائت صوم رمضان، والثاني يطعم ستين
مسكينا كالظهار.
تنبيه: القول في صفة الرقبة والصيام والاطعام على القول به على ما سبق في كتاب الكفارة.
خاتمة: لا كفارة على من أصاب غيره بالعين واعترف أنه قتله بها وإن كانت العين حقا، لأن ذلك لا يفضي إلى
القتل غالبا، ولا يعد مهلكا كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الباب الذي يلي هذا.
108

كتاب دعوى الدم
أي القتل، وعبر به للزومه له غالبا (والقسامة) وهي - بفتح القاف - اسم للايمان التي تقسم على أولياء الدم.
مأخوذة من القسم، وهو اليمين، وقيل اسم للأولياء وذكر في الباب أيضا الشهادة على الدم، واستغنى عن الترجمة
لها لأن الدعوى بالدم تستبع الشهادة، واستفتح الباب في المحرر بحديث: البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه
إلا في القسامة وفي إسناده لين. وأول من قضى بها الوليد بن المغيرة في الجاهلية، وأقرها الشارع في الاسلام.
(ويشترط) لكل دعوى بدم أو غيره كغصب أو سرقة وإتلاف ستة شروط: أحدها أن تكون معلومة غالبا
بأن (يفصل ما يدعيه من عمد وخطأ) وشبه عمد (و) من (انفراد وشركة) وعدد الشركاء في قتل يوجب الدية لاختلاف
الأحكام بذلك. نعم إن قال: أعلم أنهم لا يزيدون على عشرة مثلا سمعت دعواه وطالب بحصة المدعي عليه، فإن كان
واحدا طالبه بعشر الدية، فإن أوجب القود لم يجب في الأصح بيان عدد الشركاء.
تنبيه: قال الماوردي: يستثنى من وجوب التفصيل السحر، فلو ادعى على ساحر أنه قتل أباه مثلا بسحره لم يفصل
في الدعوى بل يسأل الساحر ويعمل بمقتضى بيانه، وهذا هو الظاهر وإن قال في المطلب: إطلاق غيره يخالفه (فإن
أطلق) المدعي دعواه كقوله: هذا قتل أبي (استفصله القاضي) ندبا عما ذكر لنصح بتفصيله دعواه وإن اقتضى
كلام المصنف الوجوب فيقول له كيف قتله عمدا أم خطأ أم شبه عمد، فإن عين نوعا منها سأل عن صفته لأنه نطق عن صفته
العمد محضا (وقيل) لا يستفصل القاضي بل (يعرض عنه) لأنه ضرب من التلقين، ومنع الأول كونه تلقينا بل
التلقين أن يقول له قل قتله عمدا أو خطأ أو شبه عمد. وثانيها أن تكون ملزمة فلا تسمع دعوى هبة شئ أو بيعه أو إقراره به
حتى يقول المدعي: وقبضته بإذن الواهب، ويلزم البائع أو المقر التسليم إلي. (و) ثالثها (أن يعين) المدعي في دعواه
المدعي عليه) واحدا كان أو جمعا معينا كثلاثة حاضرين (فلو قال قتله أحدهم) فأنكروا طلب تحليفهم (لا يحلفهم
القاضي في الأصح) للابهام، كما لو ادعى دينا على أحد رجلين. والثاني يحلفهم، وجزم به الشيخان في مسقطات اللوث.
قال الأسنوي وغيره: وهو خلاف الصحيح، فقد مر أول الباب أنه لو قال قتله أحد هؤلاء وطلب من القاضي تحليف
كل واحد لم يجبه للابهام، وسبب ما وقع فيه الرافعي هنا أن الغزالي في الوجيز ذكره هنا كذلك، وهو ممن يصحح سماع
الدعوى على غير المعين نقله ذاهلا عما مر اه‍. وجمع شيخي بين الموضعين بأن ما في أول الباب عند عدم اللوث، وهو
ما جرى عليه المصنف هنا، وما في مسقطات اللوث عند وجوب اللوث، وعلى هذا فإن نكل واحد منهم عن اليمين
فذلك لوث في حقه، لأن نكوله يشعر بأنه القاتل فللولي أن يقسم عليه. فلو نكلوا كلهم عن اليمين أو قال عرفته فله
تعيينه ويقسم عليه، لأن اللوث حاصل في حقهم جميعا، وقد يظهر بعد الاشتباه أن القاتل هو الذي عينه، ولا
يختص الوجهان المذكوران بدعوى الدم (و) حينئذ (يجريان في دعوى غصب وسرقة وإتلاف) ونحوها، إذ
السبب
ليس لصاحب الحق فيه اختيار، والمباشر له يقصد الكتمان فأشبه الدم.
تنبيه: ضابط محل الخلاف أن يكون سبب الدعوى ينفرد به المدعى عليه فيجهل تعيينه، بخلاف دعوى البيع
والقرض وسائر المعاملات، لأنها لم تنشأ باختيار المتعاقدين، وشأنها أن يضبط كل واحد منهما صاحبه.
فرع: لو نشأت الدعوى عن معاملة وكيله أو عبده المأذون وماتا أو صدرت عن مورثه قال البلقيني: احتمل
109

إجراء الخلاف للمعنى، واحتمل أن لا يجري، لأن أصلها معلوم. قال: ولم أر من تعرض لذلك اه‍. وإجراء الخلاف
أوجه. (و) رابعها ما تضمنه قوله (إنما تسمع) الدعوى (من مكلف) أي بالغ عاقل حالة الدعوى، فلا تسمع دعوى
صبي ولا مجنون، ولا يضر كونه صبيا، أو مجنونا، أو أجنبيا حالة القتل إذا كان بصفة الكمال عند الدعوى، لأنه قد
يعلم الحال بالتسامع، ويمكنه أن يحلف في مظنة الحلف إذا عرف ما يحلف عليه بإقرار الجاني أو سماع كلام من يثق به، كما
لو اشترى عينا وقبضها فادعى رجل ملكها فله أن يحلف أنه لا يلزمه التسليم إليه اعتمادا على قول البائع.
أفهم اشتراطه التكليف أن السكران المتعدي بسكره لا تصح دعواه، فإنه عنده ليس بمكلف كما مر في الطلاق،
وإلا لاستثناه كما استثناه في الطلاق. ويجاب بأنه سكت عنه لما علم من هناك، وأنه لا يشترط في المدعي الرشد فتصح
دعوى السفيه كما صرح به في المحرر، لكن لا يقول في الدعوى: واستحق تسليم ذلك، بل يقول تسليمه إلى ولي
(ملتزم) فلا تسمع من حربي لأنه لا يستحق قصاصا ولا غيره قال في المهمات: وما ذكره الشيخان من أن دعوى
الحربي لا تسمع ذهول عن قواعد مذكورة في السير، فقد نصوا هنا على أن الحربي لو دخل بأمان وأودع عندنا مالا
ثم عاد للاستيطان لم ينقض الأمان فيه على الصحيح، وذكر مسائل من ذلك، ولهذا قال الزركشي: إن الصواب
حذف قيد الالتزام. ويجاب عن قول صاحب المهمات بأن ما هنا في حربي لا أمان له وما في السير في حربي له أمان، فلا
مخالفة، وعن قول الزركشي بأن المراد بالملتزم من له أمان فيدخل المعاهدة فإنه لا توقف في سماع دعواه بماله الذي استحقه
على مسلم أو ذمي أو مستأمن مثله، ولا في دعواه دم مورثه الذمي أو المستأمن. وخامسها أن تكون الدعوى (على) مدعى
عليه (مثله) أي المدعى عليه في كونه مكلفا فلا تصح الدعوى على صبي ومجنون، بل أن توجه على الصبي أو المجنون حق مالي
ادعى مستحقه على وليهما، فإن لم يكن ولي حاضر فالدعوى عليهما كالدعوى على الغائب فلا تسمع، إلا أن يكون
هناك بينة ويحتاج معها إلى يمين الاستظهار كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب القضاء على الغائب، فعلم من ذلك أن لا تنافي
بين البابين، فما هنا محله عند حضور وليهما، وما هناك عند غيبته.
تنبيه: دخل في المكلف المحجور عليه بالسفه والفلس والرق، فتسمع الدعوى عليهم فيما يصح إقرارهم به فتسمع
الدعوى على المحجور عليه بالسفه بالقتل، ثم إن كان هنا لوث سمعت مطلقا سواء أكان عمدا أم خطأ أم شبه عمد
وإن لم يكن لوث فإن ادعى ما يوجب القصاص سمعت، لأن إقراره مقبول، وكذلك حد القذف فإن أقر أمضى
حكمه، وإن نكل حلف المدعى واقتص، وإن ادعى خطأ أو شبه عمد لم تسمع، إذ لا يقبل إقراره بالاتلاف وتسمع
على كل من المحجور عليه بفلس أو رق فيما يقبل إقراره فيه، وسيأتي إن شاء الله تعالى تحرير ذلك في الدعاوى وأما كونه
ملتزما فليس في المحرر والشرحين والروضة هنا تعرض له، وإنما فيها اشتراط التكليف خاصة. لكن إذا شرط الالتزام
في المدعي، ففي المدعى عليه أولى. قال الزركشي: والظاهر أنه ليس بشرط هنا أيضا كما سبق انتهى. ويجاب عنه بما
مر فتصح الدعوى على المستأمن وأما الحربي فإن لم يلزمه المدعى به لاتلافه في حال حرابته لم يسمع وإن أتلفه في حال
التزامه، سمعت وهو إذ ذاك ليس بحربي. (و) سادسها أن لا تتناقض دعوى المدعى وحينئذ (لو ادعى) على شخص
(انفراده بالقتل ثم ادعى على آخر) أنه شريكه أو منفرد (لم تسمع) الدعوى (الثانية) لما فيه من تكذيب الأولى ومناقضتها
وسواء أقسم على الأولى ومضى الحكم فيه أم لا.
تنبيه: قد يفهم كلامه بقاء الدعوى الأولى بحالها وفيها تفصيل، وهو أنه إن كان قبل الحكم بها لم يمكن من
العود إليها كما جزم به في الروضة وأصلها لأن الثانية تكذبها. وإن كان بعده مكن من العود إليها إلا أن يصرح بأنه
ليس بقاتل. ومحل عدم سماع الثانية ما إذا لم يصدقه الثاني فإن صدقه فهو مؤاخذة بإقراره وتسمع الدعوى عليه على
الأصح في أصل الروضة لأن الحق لا يعدوهما. (أو) ادعى (عمدا ووصفه بغيره) من خطأ أو شبه عمد وعكسه
110

بطل الوصف فقط و (لم يبطل أصل الدعوى) وهو دعوى القتل (في الأظهر) لأنه قد يظن ما ليس بعمد عمدا وعكسه
وحينئذ يعتمد تفسيره ويمضي حكمه. والثاني يبطل لأن في دعوى العمد اعترافا ببراءة العاقلة.
تنبيه: ظاهر كلامه على الأول عدم احتياجه إلى تجديد دعوى، لكن جزم بتجديدها ابن داود في شرح
المختصر. ولما فرغ المصنف رحمه الله تعالى من شروط دعوى الدم شرع في المترتب عليها، وهي القسامة معرضا لمحلها
فقال: (وتثبت القسامة) وسبق تفسيرها (في القتل) للنفس لا في غيره من جرح أو إتلاف مال كما سيأتي، ويعتبر
كون القتل (بمحل) أي مكان (لوث) بالمثلثة (وهو) أي اللوث لغة القوة. ويقال الضعف، يقال لاث في كلامه:
أي تكلم بكلام ضعيف، واصطلاحا (قرينة) حالية أو مقالية (لصدق) أي تدل على صدق (المدعي) بأن يغلب
على الظن صدقه، وفسر القرينة بقوله (بأن) أي كأن (وجد قتيل) أو بعضه كرأسه إذا تحقق موته (في محلة) منفصلة
تلك المحلة عن بلد كبير كما في الروضة وأصلها، ولا يعرف قاتله، ولا بينة بقتله (أو) في (قرية صغيرة لأعدائه)
سواء في ذلك العداوة الدينية والدنيوية إذا كانت تبعث على الانتقام بالقتل ولم يساكنهم في القرية غيرهم، لاحتمال أن
الغير قتله، وهل يشترط أن لا يخالطهم غيرهم حتى لو كانت القرية على قارعة الطريق وكان يطرقها المسافرون
والمجتازون فلا لوث أو لا يشترط؟ وجهان: أصحهما في الشرح والروضة الثاني، لكن المصنف في شرح مسلم حكى
الأول عن الشافعي وصوبه في المهمات، وقال البلقيني: أنه المذهب المعتمد، والمراد على كلا القولين بغيرهم من
لم تعلم صداقته للقتيل، ولا كونه من أهله كما قاله ابن أبي عصرون.
تنبيه: قول المصنف لأعدائه يقتضي اعتبار عدواتهم للقتيل وليس بشرط بل يكفي أن يكونوا أعداء لقبيلته.
فروع: لو انفرد أهل المحلة أو القرية بحيث لا يدخلها غيرهم لم يشترط العداوة كما صرح به الغزالي في زوائده
واستظهره ابن الرفعة، والموجود بقرب القرية كمن هو فيها إذا لم يكن هناك عمارة أخرى، ولا من يقيم بالصحراء. قال
الأذرعي: ويشبه اشتراط أن لا يكون هناك طريق جادة كثيرة الطارقين، ولو وجد قتيل بين قريتين أو قبيلتين ولم
يعرف بينه وبين إحداهما عداوة لم نجعل قربه من إحداهما لوثا كما نقله الرافعي عن المتولي وأقره، ولو وجد بعض
قتيل في محلة أعدائه وبعضه في أخرى لأعداء له آخرين فللولي أن يعين ويقسم وله أن يدعى عليهما ويقسم (أو) وجد
قتيل (تفرق عنه جمع) كأن ازدحموا على بئر أو باب الكعبة ثم تفرقوا عن قتيل لقوة الظن أنهم قتلوه، ولا يشترط
هنا كونهم أعداء، لكن يشترط أن يكونوا محصورين بحيث يتصور اجتماعهم على القتيل. قال: وإلا لم تسمع الدعوى
ولم يقسم، فلو ادعى على عدد منهم يتصور اجتماعهم على القتيل قال الرافعي: ينبغي أن تسمع، ويمكن من القسامة،
قال الأذرعي: وقد صرح الدارمي بمقتضى ما قاله الرافعي ونقله عن النص. ثم قال: وقال ابن سريج لا يقبل، لأن
شرطه أن لا يخالطهم غيرهم، فإذا أبرأ البعض خالطوهم اه‍. وهذا إنما يأتي على ما في شرح مسلم. وأما على ما في الروضة
فلا تضر المخالطة.
تنبيه: لا يشترط في اللوث والقسامة ظهور دم ولا جرح، لأن القتل يحصل بالخنق وعسر البيضة ونحوهما،
فإذا ظهر أثره قام مقام الدم، فلو لم يوجد أثرا أصلا فلا قسامة على الصحيح في الروضة وأصلها وإن قال في المهمات إن
المذهب المنصوص، وقول الجمهور ثبوت القسامة (ولو تقابل صفان لقتال) واقتتلوا (وانكشفوا عن قتيل) من
أحدهما طري كما قاله بعض المتأخرين (فإن التحم) أي اختلط (قتال) من بعضهم لبعض أو لم يلتحم ولكن
وصل سلاح أحدهما للآخر كما في الروضة وأصلها، وكان كل منهما يلزمه ضمان ما أتلفه على الآخر كما قاله الفارقي
(فلوث في حق) أهل (الصف الآخر) لأن الظاهر أن أهل صفه لا يقتلونه سواء أوجد بين الصفين أم في
صف نفسه
111

أم في صف خصمه (وإلا) بأن لم يلتحم قتال، ولا وصل سلاح أحدهما للآخر (ف‍) لوث (في حق) أهل صفه أي
القتيل، لأن الظاهر أنهم قتلوه (وشهادة العدل) الواحد (لوث) لحصول الظن بصدقه. قال في المطلب: ولا بد من
البيان فقد يظن ما ليس بلوث لوثا.
تنبيه: قضية كلامه اعتبار صيغة الشهادة عند حاكم بعد دعوى وليس مرادا، ففي أصل الروضة سواء
تقدمت شهادته على الدعوى أم تأخرت، ذكره الرافعي بحثا وقال في لفظ الوجيز إشعار به، وقال البلقيني: إنه مقتضى
كلام الشافعي والأصحاب، لكن يشترط في شهادته البيان فقد يظن ما ليس بلوث لوثا.
تنبيه: إنما تكون شهادة العدل لوثا في القتل العمد الموجب للقصاص، فإن كان في خطأ أو شبه عمد لم يكن
لوثا بل يحلف معه يمينا واحدة ويستحق المال كما صرح به الماوردي وإن كان عمدا لا يوجب قصاصا كقتل المسلم
الذمي فحكمه حكم قتل الخطأ في أصل المال لا في صفته (وكذا عبيد أو نساء) أي شهادتهم لوث، لأن ذلك يفيد
غلبة الظن.
تنبيه: تعبيره بالجمع يخرج الاثنين وليس مرادا، فإن الذي في الشرح والروضة عن التهذيب أن شهادة عبدين
أو امرأتين كشهادة الجمع، بل في الوجيز أن القياس أن قول واحد منهم لوث، وعليه مشى الحاوي الصغير، ونقله
في الذخائر عن اختيار الإمام، وهو الظاهر وسواء في شهادة من ذكر جاءوا مجتمعين أو متفرقين (وقيل يشترط تفرقهم)
لاحتمال التواطؤ حالة الاجتماع، والأصح المنع كما اقتضاه كلامه وصرح بتصحيحه في أصل الروضة، لأن احتمال
التواطؤ كاحتمال الكذب في شهادة الواحد، وقد حكى الرافعي في شهادتهم إذا جاءوا دفعة وجهين: أشهرهما المنع،
وأقواهما أنه لوث واقتصر في الروضة على الأصح بدل الأقوى، وهذا كله إذا شرطنا التعدد فإن لم نشرط فلا خلاف
في أنه يكتفي بهم متفرقين ومجتمعين، هذا فيمن تقبل روايته. وأما غيره فلا بد فيه من جمع كما قال (وقول) أي
أخبار (فسقة وصبيان وكفار لوث في الأصح) لأن الغالب أن اتفاق الجمع على الاخبار عن الشئ كيف كان لا يكون
إلا عن حقيقة. والثاني المنع، إذ لا اعتبار بقولهم، وصححه البلقيني. والثالث خص المنع بالكفار.
تنبيه: لا فرق على الأول بين أن يخيروا مجتمعين متفرقين على الخلاف المتقدم، ويشترط في إخبارهم البيان
كما مر، ومن اللوث لهج الخاص والعام بأن فلانا قتل فلانا كما نقلاه عن البغوي وأقراه، أو رئي في موضعه رجل
يحرك من بعده يده كضارب بسيف، أو وجد عنده رجل سلاحه ملطخ بدم، أو على ثوبه أو بدنه أثره ما لم يكن
قرينة تعارضه كأن وجد بقربه سبع أو رجل آخر مول ظهره أو غير مول كما في الأنوار، لا يكون لوثا في حقه، ومنه
إخبار عدل أن فلانا قتله أحد هذين، فللولي أن يدعي عليهما، وله أن يعين أحدهما ويدعي عليه، بخلاف ما لو
أخبر أن فلانا قتل أحد هذين فلا يكون لوثا لأنه لا يقع في القلب صدق ولي أحدهما. ويؤخذ من هذه العلة أنه
لو كان وليهما واحدا كان لوثا، وبه صرح ابن يونس. قال ابن الرفعة: ويقوي ما قاله ما لو كانت ديتها متساوية.
قال الأسنوي: ويؤيده ما لو عجز الشهود عن تعيين الموضحة فإنه يجب الأرش، لأنه لا يختلف باختلاف محلها
وقدرها، بخلاف القصاص لتعذر المماثلة، وما لو شهدا أنه قطع يد زيد ولم يعينا، وكان زيد مقطوع اليدين
فإن الدية تجب لا القصاص لما مر، ولو كان مقطوع واحدة نزل على المقطوعة كما صوب المصنف الجزم به،
وقول المجروح: جرحني فلان، أو قتلني، أو دمي عنده، أو نحو ذلك ليس بلوث، لأنه مدع فلا يعتمد قوله. وقد
يكون بينه وبينه عداوة فيقصد إهلاكه. ثم شرع المصنف في مسقطات اللوث وهي متعددة ذكر منها
ثلاثة أمور. الأول تكاذب الورثة كما ذكر ذلك بقوله: (ولو ظهر لوث) في قتيل (فقال أحد ابنيه) مثلا (قتله
112

فلان) وظهر عليه لوث (وكذبه الآخر) فقال لم يقتله (بطل اللوث) لأن الله تعالى أجرى العادة بحرص القريب على
التشفي من قاتل قريبه وأنه لا يبرئه فعارض هذا اللوث فسقطا فلا يحلف المدعي لانخرام ظن القتل بالتكذيب الدال
على أنه لم يقتله. وفرقوا بينه وبين ما لو ادعى أحد وارثين دينا للمورث وأقام به شاهدا وكذبه الآخر حيث لا يمنع
تكذيبه حف المدعي مع الشاهد بأن شهادة الشاهد حجة في نفسها وهي محققة، وإن كذب الآخر واللوث ليس بحجة
وإنما هو مثير للظن فيبطل بالتكذيب. قال البلقيني: ومحله إذا لم يثبت اللوث بشهادة واحد في خطأ أو شبه عمد، وإلا
لم يبطل بتكذيب أحدهما قطعا، وفيه كما قال ابن شهبة نظر، فقد مر أن شهادة العدل إنما تكون لوثا في قتل العمد
(وفي قول لا) يبطل حقه من اللوث، ورجحه البلقيني كسائر الدعاوى لا يسقط حق المدعي بتكذيب أحد الوارثين.
وعليه فيحلف المدعي خمسين يمينا ويأخذ حقه من الدية (وقيل لا يبطل) اللوث (بتكذيب فاسق) لأن قوله غير معتبر
في الشرع، والأصح المنصوص أنه لا فرق بينه وبين العدل لأن قبول الفاسق فيما يسقط حقه مقبول لانتفاء التهمة.
فإن قيده الشافعي رضي الله تعالى عنه في المختصر بقوله وهو عدل. أجيب بأن مراده بالعدالة كونه من أهل القبول
فلا يكون صغيرا ولا مجنونا.
تنبيه: محل الخلاف بالنسبة إلى المدعي أما بطلان اللوث بالنسبة إلى المكذب، فلا خلاف فيه كما صرح
به في البيان وغيره. قال البلقيني: ومحله أيضا في المعين لا في أهل محلة ونحوهم ثبت في حقهم لوث فعين أحد الوارثين
واحدا منهم وكذبه الآخر وعين غيره ولم يكذبه أخوه فيما قال فلا يبطل حق الذي كذب من الذي عينه قطعا لبقاء
أصل اللوث وانخرامه إنما هو في ذلك المعين الذي تكاذبا فيه. وأفهم تصوير المصنف بالتكذيب أنه لو قال الآخر:
لا أعلم أنه قتله، لا يبطل اللوث وهو كذلك قطعا كما قاله ابن الرفعة، وإن سكت ولم يكذبه ولم يصدقه لم يبطل أيضا كما
في المعتمد وغيره. (ولو) لم يتكاذب ابنا القتيل مثلا، بل (قال أحدهما: قتله زيد ومجهول) عندي (وقال الآخر)
قتله (عمرو ومجهول) عندي (حلف كل) منهما (على من عينه) منهما، إذ لا تكاذب بينهما لاحتمال أن الذي أبهم
ذكره هو الذي عينه الآخر وكذلك بالعكس (وله) أي لكل منهما (ربع الدية) لاعترافه بأن الواجب عليه نصفها
وحصته منه نصفه، ولو رجعا وقال كل منهما: بان لي الذي أبهمته هو الذي عينه أخي فلكل أن يقسم على الآخر
ويأخذ ربع الدية، وهل يحلف كل منهما في المرة الثانية خمسين يمينا أو نصفها؟ فيه خلاف، ويؤخذ مما سيأتي ترجيح
الثاني، ولو قال المجهول غير من عينه أخي رد كل منهما ما أخذه لتكاذبهما ولكل منهما تحليف من عينه، وإن قال
ذلك أحدهما رد صاحبه وحده ما أخذه ولصاحبه أن يحلف من عينه، ولو قال أحدهما: قتله زيد وعمرو، وقال
الآخر: بل زيد وحده أقسما على زيد لاتفاقهما عليه وطالباه بالنصف ولا يقسم الأول على عمرو لأن أخاه كذبه
في الشركة وللأول تحليف عمرو فيما بطلت فيه القسامة وللثاني تحليف زيد فيه، ثم شرع في الأمر الثاني من مسقطات اللوث
وهو إنكار المدعي عليه المشاركة المذكورة بقوله (ولو أنكر المدعي عليه اللوث في حقه فقال) قبل أن يقسم المدعي
(لم أكن مع) القوم (المتفرقين عنه) أي القتيل (صدق بيمينه) لأن الأصل براءة ذمته من القتل، وعلى المدعي
البينة على الاسارة التي يدعيها، وهي عدلان كما ذكره القاضي الحسين، فإن لم يكن بينة حلف المدعى عليه على نفيها
وسقط اللوث ويبقى مجرد الدعوى.
تنبيه: لو قال: كنت غائبا وقت القتل فعلى المدعى البينة، فإن أقام كل بينة قدمت بينة الغيبة لزيادة علمها كما
في التهذيب. قال في الروضة كأصلها هذا عند اتفاقهما على حضوره من قبل ولم يبينا الحكم عند عدم الاتفاق، وحكمه
التعارض. ثم شرع في الأمر الثالث من مسقطات اللوث وهو ظهور اللوث بأصل القتل بقوله: (ولو ظهر لوث)
113

في قتيل لكن (بأصل) أي مطلق (قتل دون) تقييده بصفة (عمد وخطأ) وشبه عمد (فلا قسامة) حينئذ (في الأصح) لأن
مطلق القتل لا يفيد مطالبته القاتل، بل لا بد من ثبوت العمد، ولا مطالبة العاقلة، بل لا بد أن يثبت كونه خطأ أو شبه
عمد والثاني نعم صيانة عن الاهدار، ورجحه في المطلب، وعلى هذا يحكم بالأخف حكما وهو الخطأ لأنه المحقق
لكن تكون الدية في ماله لا على عاقلته.
تنبيه: أطلق المصنف الخلاف وتصويره مشكل فإن الدعوى لا تسمع إلا مفصلة كما سبق وجعله الرافعي فيما
إذا ادعى الولي وفصل وظهرت الامارة في أصل القتل دون صفته. قال: وكذا إذا وقعت الدعوى مطلقة وجوزناه
وظهر اللوث في مطلق القتل فيجئ فيه هذا الخلاف أيضا، واعلم أن القسامة من خصيصة قتل النفس. (و) حينئذ
(لا يقسم في) ما دون النفس من قطع (طرف) على الصحيح، ولو بلغ دية نفس وجرح (وإتلاف مال) بل القول
في ذلك قول المدعى عليه بيمينه، ولو قال هناك لوث لأن النص ورد في النفس لحرمتها، فلا يتعدى إلى ما دونها كما
اختصت بالكفارة.
تنبيه: كلام المصنف ناقص عن عبارة المحرر، فإنه قال: ولا قسامة في الجراحات وقطع الأطراف والأموال،
فأسقط المصنف الجراحات، ولو قال: ولا يقسم فيما دون النفس كما قدرته في كلامه لشملها وكان أخصر وعدم القسامة
في المال مجزوم به، وفي الأطراف على الصحيح كما قدرته في كلامه أيضا، وإن أشعر كلامه بالتسوية بينهما. ثم استثنى
من عدم القسامة في المال الرقيق فقال: (إلا في) قتل (عبد) أو أمة مع لوث فيقسم السيد على من قتله من حر أو رقيق
(في الأظهر) بناء على أن بدل الرقيق تحمله العاقلة ومنهم من قطع به لحرمة النفس كالقصاص والثاني لا قسامة فيه
بناء على أن بدله لا تحمله العاقلة فهو ملحق بالبهائم.
تنبيه: جريان الخلاف لا فرق فيه بين كونه قنا أو مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد. ثم شرع في صفة القسامة بقوله:
(وهي) أي القسامة أن (يحلف المدعي) الوارث ابتداء (على قتل) النفس ولو ناقصة كامرأة وذمي (ادعاه)
مع وجود اللوث (خمسين يمينا) لخبر الصحيحين عن سهل بن خثمة، قال: انطلق عبد الله بن سهل ومحيصة بن
مسعود إلى خيبر وهي يومئذ صلح فتفرقا فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه قتيلا فدفنه، ثم قدم
المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة ابنا مسعود إلى رسول الله (ص) فذهب عبد الرحمن
يتكلم، فقال له (ص): كبر كبر وهو أحدث القوم. فسكت فتكلما وأنكر اليهود القتل، فقال (ص
) أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم وفي رواية يحلفون خمسين يمينا ويستحقون دم قاتلكم
أو صاحبكم. قالوا كيف نأخذ بقول كفار؟ فعقله النبي (ص)، وهذا مخصص لخبر البيهقي البينة على
المدعي واليمين على المدعى عليه. وقيل: إن الخمسين تسقط على الدية الكاملة، فيحلف في المرأة خمسة وعشرين يمينا.
وفي اليهودي والنصراني سبعة وعشرين. وصورة التعدد أن يأتي الحالف بالقسم خمسين مرة يأتي بعد كل مرة منها
بما تقدم اشتراطه، لا أنه يأتي به بعد تمامها لأن ذلك تكرير للقسم لا لليمين. ذكره في المطلب عن نص الشافعي
وبمثله صرحوا في اللعان، وهل يشترط أن يقول في اليمين وقتله وحده أو مع زيد أو عمدا أو خطأ أو شبه عمد أو لا؟
وجهان: أوجههما الثاني بل هو مستحب لأنه يذكر ذلك في دعواه. والحلف يتوجه إلى الصفة التي أحلفه الحاكم
عليها. فيقول: والله لقد قتل هذا. ويشير إليه إن كان حاضرا ويرفع في نسبه إن كان غائبا، ويعرفه بما يمتاز به من
قبيلة أو حرفة أو لقب.
تنبيه: احترز بقوله المدعي عن المدعى عليه، فإنه لو حلف إما ابتداء حيث لا لوث أو عند نكول المدعى مع
اللوث لا يسمى قسامة فإنها عندنا الايمان التي يحلفها المدعي، ولا بد أن يكون اليمين في جهة المدعي ابتداء حتى
114

لو كانت اليمين في جهة المدعى عليه ابتداء، ثم ردها على المدعي وحلف لا يسمى قسامة أيضا كما قيدت به كلامه،
وقيدت المدعي أيضا بكونه وارثا احترازا عن صورة هي ما لو أوصى للمستولدة سيدها بقيمة عبد المقتول، وهناك لوث
ومات السيد فلها الدعوى على النص، وليس لها أن تقسم في الأظهر، وإنما الذي يقسم هو الوارث، وقوله على
قتل أورد عليه الجنين فإنه يقسم عليه ولا يسمى قتيلا إذ لم يتحقق حياته، وأجيب بأن منعه التهيؤ للحياة في معنى
القتل. وأورد عليه أيضا قد الملفوف فإنه يقسم فيه مع أنه لا يتحقق فيه حالة القتل حياة مستقرة. وأجيب بأن المراد
تحقق الحياة المستقرة في الجملة، وقد تحققت قبل ذلك، ويندب للقاضي أن يحذر المدعي إذا أراد أن يحلف ويأمر
بتقوى الله عز وجل ويقرأ عليه * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * الآية، ويعرفه إثم اليمين الفاجرة،
والقول في تغليظ اليمين زمانا ومكانا ولفظه فيه ما سبق في اللعان، ومنه ما هو مؤخر إلى الدعوى والبينات. (ولا يشترط
موالاتها) أي الايمان، فلو حلفه القاضي خمسين يمينا في خمسين يوما صح (على المذهب) لأن الايمان من جنس
الحجج، والحجج يجوز تفريقها كما لو شهد الشهود متفرقين: وقيل يشترط لأن للموالاة أثرا في الزجر والردع، وهذا هو
الأشبه في اللعان، وفرق الأول بينهما بأن اللعان أولى بالاحتياط لأنه تتعلق به العقوبة البدنية ويختل به النسب
وتشيع الفاحشة (ولو تخللها) أي الايمان (جنون) من الحالف (أو إغماء) منه (بنى) إذا أفاق على ما مضى
ولا يجب الاستئناف. إما على عدم اشتراط الموالاة فظاهر، وإما على اشتراطها فلقيام العذر، وهذا بخلاف ما لو عزل
القاضي أو مات في خلالها فإنه لا يبني بل يستأنف إلا إن عاد المعزول فيبني المدعي بناء على أن الحاكم يحكم بعلمه
، وإنما يستأنف فيما إذا ولي غيره تشبيها بما لو عزل القاضي أو مات بعد سماع البينة وقبل الحكم وبما لو أقام شاهدا
واحدا وأراد أن يحلف معه فعزل القاضي وولى آخر لا بد من استئناف الدعوى والشهادة (ولو مات) الولي المقسم
في أثناء الايمان (لم يبن وارثه) بل يستأنف (على الصحيح) المنصوص لأن الايمان كالحجة الواحدة، ولا يجوز
أن يستحق أحد شيئا بيمين غيره وليس كما لو أقام شطر البينة. ثم مات حيث يضم وارثه إليه الشطر الثاني، ولا
يستأنف لأن شهادة كل شاهد مستقلة بدليل أنه إذا انضمت اليمين إليها قد يحكم بهما بخلاف أيمان القسامة لا استقلال
لبعضها بدليل أنه لو انضم إليه شهادة شاهد لا يحكم بهما، والثاني يبني لأنا إذا كنا نبني يمين بعض الورثة في
توزيع القسامة عليهم فبناء الوارث على يمين المورث أولى. أما إذا تمت أيمانه قبل موته فلا يستأنف وارثه، بل يحكم
به كما لو أقام بينة ثم مات. وأما وارث المدعى عليه فيبني على أيمانه إذا تخلل موته الايمان، وكذا يبني المدعى عليه
لو عزل القاضي أو مات خلالها وولي غيره، والفرق بين المدعي والمدعى عليه أن يمين المدعى عليه للنفي فتنفذ
بنفسها ويمين المدعي للاثبات فيتوقف على حكم القاضي، والقاضي الثاني لا يحكم بحجة أقيمت عند الأول.
تنبيه: عزل القاضي وموته بعد تمام الايمان كهما في أثنائها في طرف المدعي وطرف المدعى عليه فيأتي
فيه ما مر (ولو كان للقتيل ورثة) خاصة ثنان فأكثر (وزعت) أي الايمان الخمسون عليهم (بحسب الإرث)
لأن ما ثبت بأيمانهم يقسم بينهم على فرائض الله تعالى فوجب أن يكون اليمين كذلك، وخرج بقولنا خاصة ما لو كان
هناك وارث غير حائز وشريكه بيت المال، فإن الايمان لم توزع: بل يحلف خمسين يمينا كما لو نكل بعض الورثة أو غاب
يحلف الحاضر خمسين ففي زوجة وبنت تحلف الزوجة عشرا والبنت أربعين يجعل الايمان بينهما أخماسا لأن سهامهما
خمسة وللزوجة منها واحد، ولا يثبت الباقي بذلك بل حكمه كمن مات بلا وارث وسيأتي حكمه.
تنبيه: قوله: بحسب الإرث، ليس فيه بيان أنه يحسب أسماء فرائضهم أو سهامهم وذلك يظهر أثره في العول
كزوج وأم وأختين لأب وأختين لام أصلها من ستة وتعول إلى عشرة، فهل تقسم الايمان بينهم على أصل الفريضة
أو على الفريضة وعولها؟ وجهان: أصحهما كما في الحاوي والثاني فيحلف الزوج على هذا خمس عشرة، وكل أخت
115

لأب عشرة، وكل أخت لأم خمسة، والام خمسة، وفي صور الجد مع الاخوة تقسم الايمان كقسم المال، وفي المعادة
لا يحلف ولد الأب إن لم يأخذ شيئا، وإن أخذ شيئا حلف بقدر حقه. وظاهر عبارته التوزيع بحسب الإرث المحكوم به
ناجزا وليس مرادا، وإنما هو بحسب الإرث المحتمل، فإن كان الورثة ابنا وخنثى فلا توزع الخمسين بحسب الإرث
الناجز بل يحلف الابن ثلثي الخمسين ويأخذ النصف ويحلف الخنثى نصف الخمسين ويأخذ الثلث ويوقف الباقي بينهما،
والضابط الاحتياط في الطرفين الحلف بالأكثر والاخذ بالأقل. (وجبر المنكسر) إن لم تنقسم صحيحة لأن اليمين
لا تتبعض ولا يجوز إسقاطه لئلا ينقص نصاب القسامة، فلو كان ثلاثة بنين حلف كل منهم سبعة عشر أو تسعة
وأربعين حلف كل يمينين (وفي قول) مخرج (يحلف كل) منهم (خمسين) لأن العدد في القسامة كاليمين الواحدة
في غيرها، وأجاب الأول بأن اليمين الواحدة لا يمكن قسمتها بخلاف أيمان القسامة (ولو نكل) عن الايمان
(أحدهما) أي الوارثين (حلف) الوارث (الآخر خمسين) يمينا وأخذ حصته لأن الدية لا تستحق بأقل منها، وما
سبق من توزيع الايمان مقيد بحضور الوارثين وكمالهم (و) حينئذ (لو غاب) أحدهما أو كان صبيا أو مجنونا
(حلف الآخر خمسين وأخذ حصته) في الحال لأن الخمسين هي الحجة، فلو كان الوارث ثلاث عصبات كإخوة
أحدهم
حاضر وأراد أن يحلف حلف خمسين يمينا وأخذ ثلث الدية، فإذا حضر الثاني حلف خمسة وعشرين وأخذ الثلث،
فإذا حضر الثالث حلف سبعة عشر، ويقاس بهذا غيره. قال الأسنوي: وهذا إنما يتجه إذا قلنا أن تكذيب بعض
الورثة لا يمنع القسامة. وهو رأي البغوي، فإن قلنا يمنع وهو الصحيح تعين انتظار الغائب أي وكمال الناقص، وقد
يجاب بأنا تحققنا الاستحقاق. والأصل عدم المانع، فإن وجد عمل بمقتضاه. ولو حلف الحاضر أو الكامل ثم مات
الغائب أو الناقص وورثه الحالف لم يأخذ نصيب إلا بعد أن يحلف حصته، ولا يحسب ما مضى لأنه لم يكن مستحقا له
حينئذ، ولو تبين أن الغائب كان ميتا حال الحلف فينبغي كما قال ابن شهبة الاكتفاء بحلفه لأنه كان هو الوارث
فأشبه ما لو باع مال أبيه ظانا حياته فبان ميتا (وإلا) أي وإن لم يحلف الحاضر أو الكامل (صبر للغائب) حتى يحضر، وللصبي
حتى يبلغ، وللمجنون حتى يفيق فيحلف ما يخصه من الايمان، ثم ما سبق محله في الايمان الصادرة من المدعي. أما
الصادرة من المدعى عليه فأشار إليها بقوله: (والمذهب أن يمين) الشخص (المدعى عليه) قتل (بلا لوث) خمسون (و) اليمين
(المردودة) منه (على المدعي) بأن لم يكن لوث أو كان ونكل المدعي عن القسامة فردت على المدعى عليه فنكل فردت
على المدعى مرة ثانية خمسون (أو) اليمين المردودة (على المدعى عليه) بسبب نكول المدعي (مع لوث) خمسون (واليمين)
أيضا (مع شاهد) وقوله (خمسون) راجع للجميع كما تقرر لأنها فيما ذكر يمين دم حتى لو تعدد المدعى عليه حلف كل
خمسين ولا توزع على الأكثر بخلاف تعدد المدعي، والفرق أن كل واحد من المدعى عليهم ينفي عن نفسه القتل كما
ينفيه من انفرد، وكل من المدعين لا يثبت لنفسه ما يثبته الواحد أو انفرد بل يثبت بعض الإرث فيحلف بقدر الحصة،
والقول الثاني يحلف يمينا واحدة في الجميع لأن ذلك ليس مما ورد فيه النص بالخمسين.
تنبيه: كلامه مشعر بحكاية المذهب في كل من هذه المسائل، ولم يحكه في الروضة إلا في الثالثة، وحكى فيما
عداها الخلاف قولين: أظهرهما أن الحلف خمسون واعتذر عن المصنف بأن حكاية المذهب في مجموع المسائل بالنظر
للثالثة. والأحسن في المردودة واليمين نصبهما عطفا على اسم إن قبل استكمال خبرها، ويجوز عند الكسائي الرفع،
وأطلق الشيخان تعدد اليمين مع الشاهد، وينبغي أن يقيد بالعمد. أما قتل الخطأ وشبه العمد فيحلف مع الشاهد
يمين واحدة كما مر عن تصريح الماوردي في الكلام على أن شهادة العدل لوث. (ويجب بالقسامة) من المدعي
116

(في قتل الخطأ، أو) قتل (شبه العمد دية على العاقلة) مخففة في الأول مغلظة في الثاني لقيام الحجة بذلك كما لو قامت
به بينة. فإن قيل كان المصنف مستغنيا عن هذا بما قدمه في فصل العاقلة. أجيب بأنه إنما ذكره هنا لئلا يتوهم أن القسامة
ليست كالبينة في ذلك كما أنها ليست كالبينة في العمد فإنه لا يجب بها القصاص بل دية كما قال: (وفي) قتل (العمد) دية
حالة (على المقسم عليه) ولا قصاص في الجديد، لخبر البخاري: إما أن تدوا صاحبكم أو تأذنوا بحرب وأطلق
(ص) إيجاب الدية ولم يفصل، ولو صلحت الايمان للقصاص لذكره، ولان القسامة حجة ضعيفة فلا توجب القصاص
احتياطا لأمر الدماء كالشاهد واليمين (وفي القديم) عليه (قصاص) حيث يجب لو قامت بينة به لخبر الصحيحين أتحلفون
وتستحقون دم صاحبكم: أي دم قاتل صاحبكم ولأنها حجة يثبت بها العمد بالاتفاق فيثبت بها القصاص كشهادة
الرجلين. وأجاب في الجديد عن الحديث بأن التقدير بدل دم صاحبكم، وعبر بالدم عن الدية لأنهم يأخذونها بسبب
الدم، وعن التعليل بانتقاضه بما إذا ثبتت السرقة برجل وامرأتين فإنه يثبت المال دون القطع، واحترز عما
لو حلف المدعي عند نكول المدعى عليه وكان القتل عمدا فإنه يثبت القود لأنها كالافرار أو كالبينة، والقود يثبت
بكل منهما. (ولو ادعى) قتلا (عمدا بلوث) أي معه (على ثلاثة حضر أحدهم) فإن اعترف بالقتل اقتص منه، وإن
أنكر (أقسم عليه خمسين وأخذ) منه (ثلث الدية) من ماله على الجديد، وله أن يقتص منه على القديم (فإن حضر
آخر) واعترف اقتص منه، وإن أنكر (أقسم عليه خمسين) في الأظهر كالأول، لأن الايمان السابقة لم تتناوله وأخذ
منه ثلث الدية (وفي قول) يقسم (خمسا وعشرين) كما لو حضرا معا، وقوله (إن لم يكن ذكره) أي الغائب (في الايمان)
التي حلفها للحاضر قيد لا قسم للقول المرجوح كما توهمه عبارة المصنف (وإلا) بأن كان ذكره فيها (فينبغي) كما
بحثه المحرر (الاكتفاء بها) ولا يحلف (بناء على صحة القسامة في غيبة المدعى عليه، وهو الأصح) كإقامة البينة،
ووجه مقابله ضعف القسامة.
تنبيه: قضية كلام المصنف أن هذا التقييد منقول الأصحاب، وليس مرادا، وإنما هو بحث للرافعي كما
قدرته، وسكت عن حكم الثالث إذا حضر، هو كالثاني فيما مر فيه: ثم ذكر ضابط من يحلف في القسامة في قوله
(و) كل (من استحق بدل الدم) من سيد أو وارث (أقسم) سواء كان مسلما أم كافرا عدلا أم فاسقا محجورا
عليه أم غيره (ولو) هو (مكاتب لقتل عبده) لأنه المستحق لبدله، ولا يقسم سيده بخلاف العبد المأذون له
في التجارة إذا قتل العبد الذي تحت يده فإن السيد يقسم دون المأذون لأنه لا حق له، ولو عجز المكاتب بعدما أقسم
أخذ السيد القيمة كما لو مات الولي بعدما أقسم، أو قبله وقبل نكوله حلف السيد، أو بعده فلا لبطلان الحق بالنكول
كما حكاه الإمام عن الأصحاب، وما ذكره عن نص المختصر، وجرى عليه الماوردي وغيره من أن السيد يحلف محمول
على هذا التفصيل.
تنبيه: احترز بمن استحق الخ عما لو جرح شخص مسلما فارتد ومات فإنه لا يثبت لوليه القسامة لأنه
لا يستحق بدلها، بل هو فئ للمسلمين، وبقولنا من سيد أو وارث من مسألة المستولدة السابقة، وهي ما لو
أوصى
السيد لمستولدته بقيمة عبده المقتول، فإن الوصية تصح، فإذا مات السيد قبل القسامة، فإن المستولدة تستحق القيمة،
ومع ذلك لا تقسم بل الوارث لأن العبد يوم القتل كان للسيد، والقسامة من الحقوق المعلقة بالقتل فيرثها كسائر الحقوق
وإذا ثبتت القيمة صرفها إلى المستولدة بموجب وصيته وتحقيق مراده كأنه يقضي دينه. (ومن ارتد) بعد استحقاقه
117

بدل الدم بأن يموت المجروح ثم يرتد وليه قبل أن يقسم (فالأفضل) وعبارة المحرر: فالأولى، ولو عبر به كان أولى
(تأخير أقسامه ليسلم) لأنه لا يتورع في حال ردته عن الايمان الكاذبة. فإذا عاد إلى الاسلام أقسم. أما إذا ارتد قبل
موته ثم مات المجروح وهو مرتد فلا يقسم لأنه لا يرث بخلاف ما إذا قتل العبد وارتد سيده فإنه لا فرق بين أن يرتد
قبل موت العبد أو بعده لأن استحقاقه بالملك لا بالإرث (فإن أقسم في الردة صح) إقسامه واستحق الدية (على
المذهب) لأنه عليه الصلاة والسلام اعتد بأيمان اليهود فدل على أن يمين الكافر صحيحة، والقسامة نوع
اكتساب للمال فلا يمنع منه الردة كالاحتطاب. قال الرافعي: وهو المشهور، وعن المزني وحكى قولا مخرجا
ومنصوصا أنه لا يصح.
تنبيه: محل الخلاف إذا مات أو قتل في الردة، فإن عاد إلى الاسلام اعتد به قطعا، ولو ارتد قبل موت
المجروح وأسلم بعد موته لم يقسم لأنه ليس بوارث (ومن لا وارث له) خاص (لا قسامة فيه) وإن كان هناك لوث
لعدم المستحق المعين لأن ديته لعامة المسلمين وتحليفهم غير ممكن، لكن ينصب القاضي من يدعي على من نسب القتل
إليه ويحلفه، فإن نكل فهل يقضي عليه بالنكول أو لا؟ وجهان جزم في الأنوار بالأول، ومقتضى ما صححه الشيخان
فيمن مات بلا وارث فادعى القاضي أو منصوبه دينا له على آخر فأنكر ونكل أنه لا يقضي له بالنكول بل يحبس ليحلف
أو يقر: ترجيح الثاني، وهو أوجه.
فصل: فيما يثبت موجب القصاص وموجب المال من إقرار وشهادة (إنما يثبت موجب القصاص) - بكسر الجيم -
من قتل أو جرح (بإقرار، أو) شهادة (عدلين) به لما سيأتي في الشهادات إن شاء الله تعالى.
تنبيه: ورد على حصره علم القاضي ونكول المدعى عليه وحلف المدعي فإنه يثبت بهما. وأجيب عن الثاني
برجوعه إلى الاقرار أو البينة، ويستثنى من إطلاقه السحر فإنه قد يوجب القصاص، ومع ذلك لا يثبت بالبينة، بل
بالاقرار فقط كما سيأتي (و) إنما يثبت موجب (المال) من قتل أو جرح خطأ أو شبه عمد (بذلك) أي إقراره أو شهادة
عدلين أو علم القاضي (أو برجل وامرأتين، أو) برجل (ويمين) لا بامرأتين ويمين لما سيأتي في بابه، فإن هذه المسائل
من جملة ما يأتي في كتاب الشهادات ذكرت هنا تبعا للشافعي رضي الله تعالى عنه، ويأتي ثم الكلام على صفات الشهود
والمشهود به مستوفى، وفي باب القضاء بيان أن القاضي يقضي بعلمه.
تنبيه: قوله: والمال هو بالجر عطفا على القصاص، وحينئذ يرد على حصره القسامة في محل اللوث فإن المال
يثبت باليمين فقط، والمراد باليمين في كلامه الجنسي لا الافراد لما مر من تعدد اليمين مع الشاهد، وإنما يثبت المال برجل
وامرأتين إذا ادعى به عينا. فلو ادعى القصاص فشهد له رجل وامرأتان لم يثبت القصاص ولا الدية. فإن قيل: لو
أقام في السرقة رجلا وامرأتين ثبت الغرم لا القطع، فهلا كان هنا كذلك؟ أجيب بأن الشهادة بالسرقة توجبهما معا،
وإذا كانت البينة لا يثبت بها القطع، بقي الغرم، بخلاف الجناية، فإنها توجب القود عينا أو أحدهما لا بعينه، فلو أجبنا
الدية في العمد أوجبنا فيه بخلاف مقتضى الجناية (ولو عفا) مستحق قصاص في جناية توجبه (عن القصاص ليقبل للمال
رجل وامرأتان) أو رجل ويمين (لم يقبل) أي لم يحكم له بذلك (في الأصح) المنصوص لأن المال إنما يثبت، بعد ثبوت
القصاص ولم يثبت، فينبغي أن يثبت القصاص ليعتبر العفو. والثاني يقبل، وصححه الماوردي، لأن القصد المال،
وعلى الأول لو أقام بينة بعد عفوه بالجناية المذكورة هل يثبت القصاص لأن العفو غير معتبر أو لا؟ لأنه أسقط حقه،
لم أر من تعرض له، والظاهر الأول.
تنبيه: محل الخلاف إن أنشأ الدعوى والشهادة بعد العفو، أما لو ادعى العمد وأقام رجلا وامرأتين ثم عفا
118

عن القصاص على مال وقصد الحكم له بتلك الشهادة لم يحكم له بها قطعا، لأنها غير مقبولة حين أقيمت فلم يجز العمل بها،
كما لو شهد صبي أو عبد بشئ ثم بلغ الصبي أو عتق العبد. (ولو شهد هو) أي الرجل (وهما) أي المرأتان (بهاشمة
قبلها إيضاح لم يجب أرشها على المذهب) المنصوص، لأن الهشم المشتمل على الايضاح جناية واحدة، وإذا اشتملت
الجناية على ما يوجب القصاص احتيط لها فلا يثبت إلا بحجة كاملة، وفي قول يجب أرشها، وهو مخرج من نص آخر
فيما إذا رمى إلى زيد سهما فمرق منه إلى غيره أنه يثبت الخطأ الوارد على الثاني برجل وامرأتين وشاهد ويمين انتهى.
والمذهب تقرير النصين، والفرق أن الهشم المشتمل على الايضاح جناية واحدة، وفي مسألة مرور السهم حصل جنايتان
لا تعلق لإحداهما بالأخرى، ومن ذلك يعلم أن صورة مسألة الكتاب إذا كان ذلك من شخص واحد بجناية واحدة،
فإن كان من جنايتين، أو من جان واحد في مرتين ثبت أرش الهاشمة بذلك كما نقله في أصل الروضة في الثانية عن
بحث الإمام مع الرجل والمرأتين، ومثله الرجل مع اليمين، وتؤخذ الأولى من هذه بطريق الأولى، فكلام الوسيط
يقتضي القطع بما قاله الإمام. (وليصرح الشاهد بالمدعى) به - بفتح العين - وجوبا (فلو قال) الشاهد (
ضربه) أي
المجني عليه (بسيف فجرحه فمات لم يثبت) هذا القتل المدعى به، لاحتمال أن يكون مات بسبب آخر (حتى يقول)
الشاهد (فمات منه) أي من جرحه (أو فقتله) أو أنهر دمه أو نحو ذلك كضربه فمات مكانه كما نقله الشيخان عن
نص المختصر لينتفي الاحتمال المذكور (ولو قال) الشاهد (ضرب) الجاني (رأسه) أي المجني عليه (فأدماه أو)
ضرب رأسه مثلا (فأسال) الضرب (دمه ثبتت) بذلك (دامية) عملا بقوله، بخلاف ما لو قال فسال دمه لم تثبت
لاحتمال حصول السيلان بسبب آخر (ويشترط لموضحة) أي في الشهادة بها أن يقول الشاهد (ضربه فأوضح عظم
رأسه) لأنه لا شئ يحتمل بعده (وقيل يكفي فأوضح رأسه) من غير تصريح بإيضاح العظم، وظاهر الروضة كأصلها
الجزم به، ونقله البلقيني عن نص الام والمختصر، وهو المعتمد لمفهوم المقصود بذلك عرفا (ويجب) على الشاهد
(بيان محلها) أي الموضحة (وقدرها) بالمساحة أو بالإشارة إليها إذا كان على رأسه مواضح (ليمكن) فيها (القصاص)
فإن لم يكن برأسه إلا موضحة واحدة وشهد الشاهد بأنه أوضح رأسه لم يثبت القصاص أيضا لجواز أنه كان على رأسه
موضحة صغيرة فوسعها غير الجاني.
تنبيه: أفهم قوله: ليمكن القصاص أنه بالنسبة لوجوب الدية فيه لا يحتاج إلى بيان، وهو الأصح المنصوص.
(ويثبت القتل بالسحر بإقرار به) من الساحر، فإن قال: قتلته بسحري وهو يقتل غالبا فعمد فعليه القود، وإن قال: يقتل
نادرا فشبه عمد، وإن قال: أخطأت من اسم غيره إلى اسمه فخطأ، ويجب في هاتين الصورتين دية في مال الساحر
لا على عاقلته، لأن إقراره لا يلزمهم إلا أن تصدقه العاقلة فالدية عليهم، فقوله في الوجيز: والدية على العاقلة محمول على
هذا والحمل على هذا أولى من قول الدميري: إنه وهم أو سبق فلم، ويثبت السحر أيضا باليمين المردودة كأن يدعي
عليه القتل بالسحر فينكر وينكل عن اليمين فترد على المدعى بناء على الأصح من أنها كالاقرار، وقد يقال إن هذه
داخلة في عبارة المصنف، ويحمل قوله بإقرار حقيقة أو حكما، وإن قال إن سحره كفر قتل به إلا أن يتوب، وينبغي كما
قال بعض المتأخرين أن يستفسر، إذ قد يظن ما ليس بكفر كفرا، ولو قال: آذيته بسحري ولم أمرضه نهي عنه، فإن عاد
عزر، كذا قالاه، ولو قيل بأنه يعزر على قوله الأول كما قال شيخنا لم يبعد، وإن قال: أمرضته به عزر، فإن مرض به
وتألم حتى مات كان لوثا إن قامت بينة بأنه تألم به حتى مات ثم يحلف الولي أنه مات بسحره ويأخذ الدية، فإن ادعى
119

الساحر برءه من ذلك المرض واحتمل برؤه بأن مضت مدة يحتمل برؤه فيها صدق بيمينه، وإن قال: قتلت بسحري ولم
يعين أحدا عزر لارتكابه محرما، ولا قصاص عليه ولا حد، لأن المستحق غير معين.
تنبيه: السحر لغة: صرف الشئ عن وجهه، يقال ما سحرك عن كذا: أي صرفك عنه. واصطلاحا مزاولة
النفوس الخبيثة لافعال وأقوال يترتب عليها أمور خارقة للعادة، واختلف فيه هل هو تخييل أو حقيقة؟ قال بالأول
المعتزلة، واستدلوا بقوله * (يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى) * وقال بالثاني أهل السنة، ويدل لذلك الكتاب
والسنة الصحيحة، والساحر قد يأتي بفعل أو قول يتغير به حال المسحور فيمرض ويموت منه، وقد يكون ذلك
بوصول شئ إلى بدنه من دخان أو غيره، وقد يكون دونه، ويفرق به بين الزوجين، ويكفر معتقد إباحته، فإن
تعمده تعليما، أو تعلما، أو فعلا أثم فكل منها حرام لخوف الافتتان والاضرار بالناس خلافا لابن أبي هريرة في قوله:
يجوز تعلمه وتعليمه للوقوف عليه لا للعمل به بل إن احتيج فيها إلى تقديم اعتقاد مكفر كفر. قال إمام الحرمين: ولا يظهر
السحر إلا على فاسق، ولا تظهر الكرامة على فاسق، وليس ذلك بمقتضى العقل بل مستفاد من إجماع الأمة
. و (لا) يثبت السحر (ببينة) لأن الشاهد لا يعلم قصد الساحر ولا يشاهد تأثير سحره.
تنبيه: قد يفهم كلام المصنف أنه لا مدخل للبينة في ذلك أصلا. لكن في الكفاية أن ما ينشأ عن ذلك السحر
يثبت بالبينة أيضا: كما لو قال سحرته بنوع كذا، فشهد عدلان كانا ساحرين ثم تابا بأن هذا النوع يقتل غالبا أو نادرا
فيثبت بما يشهدان به.
فائدة: لم يبلغ أحد من السحر إلى الغاية التي وصل إليها القبط أيام دلوكا ملكة مصر بعد فرعون، فإنهم وضعوا
السحر على البرابي وصوروا فيها صور عساكر الدنيا، أي عسكر قصدهم أتوا إلى ذلك العسكر المصور فما فعلوه به من
قلع الأعين وقطع الأعضاء اتفق نظيره للعسكر العامد لهم فيخاف منهم العساكر، وأقاموا ستمائة سنة بمصر بعد غرق
فرعون وجنوده تهابهم الملوك والامراء. قال الدميري: حكاه القرافي وغيره. وذهب قوم إلى أن الساحر يقلب بسحره
الأعيان ويجعل الانسان حمارا بحسب قوة السحر. قال الدميري: وهذا واضح البطلان، لأنه لو قدر على هذا لقدر أن يرد
بنفسه إلى الشباب بعد الهرم. وأن يمنع نفسه من الموت. ومن جملة أنواعه السيمياء وأما الكهانة والتنجيم والضرب
بالرمل والحصى والشعير والشعبذة فحرام تعليما وتعلما وفعلا، وكذا إعطاء العوض أو أخذه عنها بالنص الصحيح في
حلوان الكاهن، والباقي بمعناه والكاهن من يخبر بواسطة النجم عن المغيبات في المستقبل بخلاف العراف فإنه الذي
يخبر عن المغيبات الواقعة كعين السارق ومكان المسروق والضالة. قال في الروضة: ولا يغتر بجهالة من يتعاطى الرمل
وإن نسب إلى علم. وأما الحديث الصحيح: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك فمعناه من علمتم موافقته
له فلا بأس، ونحن لا نعلم الموافقة فلا يجوز لنا ذلك.
فرع: لو اعترف شخص بقتله إنسانا بالعين فلا ضمان ولا كفارة، وإن كانت العين حقا لخبر مسلم: العين حق
،
ولو كان شئ سابق القدر سبقته العين لأنها لا تفضي إلى القتل غالبا، ويسن للعائن أن يدعو للمعين - بفتح الميم - بالمأثور
وهو: اللهم بارك فيه ولا تضره، وأن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله. قال في الروضة: وأن يغسل داخل إزاره مما يلي
الجلد بماء، وعبارة ابن المقري وأن يغسل جلده مما يلي إزاره بماء، ثم يصب على المعين. قيل: وينبغي للسلطان منع
من عرف بذلك من مخالطة الناس ويأمره بلزوم بيته ويرزقه ما يكفيه إن كان فقيرا فإن ضرره أشد من ضرر
المجذوم الذي منعه عمر رضي الله تعالى عنه من مخالطة الناس. وذكر القاضي حسين أن نبيا من الأنبياء عليهم الصلاة
والسلام استكثر قومه ذات يوم فأمات الله منهم مائة ألف في ليلة واحدة، فلما أصبح شكا إلى الله تعالى ذلك فقال
الله تعالى: إنك استكثرتهم فأعنتهم، فهلا حصنتهم حين استكثرتهم، فقال: يا رب كيف أحصنهم؟ فقال تعالى تقول:
حصنتكم بالحي القيوم الذي لا يموت أبدا ودفعت عنكم السوء بألف لا حول ولا قوة إلا بالله. قال القاضي: وهكذا
120

السنة في الرجل إذا رأى عينه سليمة وأحواله معتدلة يقول في نفسه ذلك، وكان القاضي يحصن تلامذته بذلك إذا
استكثرهم. وذكر الإمام فخر الدين في بعض كتبه إن العين تؤثر ممن له نفس شريفة لأنها استعظام الشئ، وما
رواه القاضي عن بعض الأنبياء يرد ذلك. قال الزركشي: وسكتوا عن القتل بالحال ولم أر فيه نقلا، وأفتى بعض
المتأخرين بأنه يقتل إذا قتل به لأن له فيه اختيارا كالساحر، والصواب أنه لا يقتل به ولا بالدعاء عليه كما نقل ذلك عن
جماعة من السلف. قال مهدي بن ميمون: حدثنا غيلان بن جرير أن مطرف بن عبد الله بن الشخير كان بينه
وبين رجل كلام فكذب عليه، فقال مطرف: اللهم إن كان كاذبا فأمته فخر ميتا فرفع ذلك إلى زياد فقال قتلت
الرجل، فقال: لا، ولكنها دعوة وافقت أجلا. (ولو شهد لمورثه بجرح قبل الاندمال لم تقبل) للتهمة لأنه لو مات مورثه
كان الأرش له فكأنه شهد لنفسه. قال أبو علي الفارقي: إلا أن يكون على المجروح دين يستغرق تركته فتقبل شهادته
لأنه لا يجر بذلك لنفسه نفعا. وتبعه على ذلك تلميذه أبو سعيد بن أبي عصرون. قال الأسنوي: وفيه نظر لأن الدين
لا يمنع الإرث، وربما يبرأ منه. وقال الأذرعي: فيه وقفة وتقوى فيما إذا كانت الديون لا يتصور الابراء منها كالزكوات
والوقوف العامة أو كانت لطفل أو مجنون اه‍. والظاهر إطلاق كلام الأصحاب، لأن التهمة موجودة لاحتمال ظهور مال
لمورثه مخفيا. قال الرافعي: وشهادتهم بتزكية الشهود كشهادتهم بالجرح.
تنبيه: أطلق الشيخان الجرح وقيده الإمام بجرح يمكن أن يفضي إلى الهلاك، وكلام المصنف قد يوهم
اعتبار الإرث حالة الشهادة حتى لو كان محجوبا ثم زال المانع يقبل، والمذهب أنه لو مات قبل الحكم بشهادتهما بطلت
أو بعده فلا (وبعده) أي الاندمال (يقبل) جزما لانتفاء التهمة حينئذ.
تنبيه: أطلق المصنف المورث وهو مقيد بغير أصله وفرعه كما يعلم من باب الشهادات، لأن شهادتهما لا تقبل
مطلقا للبعضية. (وكذا) لو شهد لمورثه (بمال في مرض موته) تقبل (في الأصح) عند الأكثرين لما مر، والثاني
لا تقبل كالجرح، وفرق الفارقي بينهما بأنهما إذا شهدا بالمال لم يحصل لهما نفع حال وجوبه، لأن الملك يحصل
للمشهود له وينفذ تصرفه فيه في ملاذه وشهواته، وإذا شهدا له بالجراحة كان النفع حال الوجوب لهما لأن الدية قبل
الموت لم تجب، وبعده تجب لهما، وفرق الرافعي بأن الجرح سبب الموت الناقل للحق، فإذا شهد بالجرح فكأنه
شهد بالسبب الذي ثبت به الحق، وههنا بخلافه (ولا تقبل شهادة العاقلة بفسق شهود قتل) أو قطع طرف خطأ أو
شبه عمد (يحملونه) وقت الشهادة لأنهم يدفعون عن أنفسهم الغرم، فإن كانوا لا يحملونها وقت الشهادة نظرت، فإن
كانوا من فقراء العاقلة فالنص ردها أيضا، أو من أباعدهم وفي الأقربين وفاء بالواجب فالنص قبولها. والفرق
أن المال غاد ورائح، والغني غير مستبعد فتحصل التهمة، وموت القريب كالمستبعد في الاعتقاد فلا تتحقق التهمة بمثله،
واحترز المصنف بقوله قتل يحملونه عما لو شهدوا بفسق بينة القتل العمد وبينة الاقرار بالقتل فإنها مقبولة لعدم التهمة،
إذ لا تحمل.
تنبيه: لو قال: ولا تقبل شهادة العاقلة بفسق شهود ما تحمله ليدخل ما قدرته في كلامه لكان أولى. واعلم أنه
يشترط في الشهادة السلامة من التكاذب. (و) حينئذ (لو شهد اثنان على اثنين بقتله) أي شخص (فشهدا) أي المشهود
عليهما مبادرة (على الأولين) أو غيرهما (بقتله فإن صدق الولي الأولين حكم بهما) لسلامة شهادتهما عن التهمة وسقطت
شهادة الآخرين لأنهما يدفعان بشهادتهما عن أنفسهما القتل الذي شهد به الأولان، والدافع متهم في شهادته.
تنبيه: قضية كلامه أن الأولين إنما يحكم بشهادتهما إذا صدقهما الولي، وليس مرادا، بل يشترط عدم
121

تكذيبهما، فإن شهادتهما بعد صدور الدعوى مسموعة للقاضي الحكم بها وإن لم يصدقهما الولي لأن دعواه القتل
على المشهود عليهما وطلب الشهادة كاف في جواز الحكم كما قاله البلقيني. (أو) صدق (الآخرين أو) صدق (الجميع
أو كذب الجميع بطلتا) أي الشهادتان في المسائل الثلاثة، أما الأولى فلان في تصديق الآخرين تكذيب الأولين
وعداوة الآخرين لهما، وأما في الثانية فلان في تصديق كل فريق تكذيبا للآخر، وأما الثالثة فالامر فيها ظاهر.
تنبيه: قد استشكل تصوير هذه المسألة بأن الشهادة على القتل لا تسمع إلا بعد تقدم الدعوى على الصحيح ولا بد
في الدعوى من تعيين القاتل فكيف يشهدان ثم يراجع الولي؟. وأجيب بأوجه ذكرتها في شرح التنبيه أصحها أن
يدعي الولي على اثنين ويشهد له بذلك شاهدان فيبادر المشهود عليهما ويشهدان على الشاهدين أو غيرهما كما مر
بأنهما القاتلان وذلك يورث ريبة للحاكم فيراجع الولي ويسأله احتياطا وينظر هل يستمر على الدعوى أو يعود
إلى تصديق الآخرين أو الجميع أو يكذب الجميع، وهل يبطل حقه من الدعوى؟ مقتضى عبارة المصنف عدم
البطلان. قال الزركشي: وينبغي أن يأتي فيه ما سبق في تكذيب بعض الورثة، لكن عبارة الجمهور بطل حقه.
(ولو أقر بعض الورثة) ولو فاسقا (بعفو بعض) منهم عن القصاص، سواء عينه أم لا (سقط القصاص) لأنه
لا يتبعض، ولو اعترف بسقوط حقه منه فيسقط حق الباقي، واحترز بسقوط القصاص عن الدية فإنها لا تسقط:
بل إن لم يعين العافي فللورثة كلهم الدية وإن عينه فأنكر فكذلك ويصدق بيمينه أنه لم يعف، وإن أقر بالعفو مجانا أو
مطلقا سقط حقه من الدية وللباقين حصتهم منها.
تنبيه: اشترط لاثبات العفو من بعض الورثة عن القصاص لا عن حصته من الدية شاهدان، لأن القصاص ليس
بمال وما لا يثبت بحجة ناقصة لا يحكم بسقوطه. أما إثبات العفو عن حصته من الدية فيثبت بالحجة الناقصة أيضا من رجل
وامرأتين أو رجل ويمين لأن المال يثبت بذلك فكذا إسقاطه، وخرج بقوله أقر ما لو شهد، فإنه إن كان فاسقا أو
لم يعين العافي فكالاقرار، وإن كان عدلا وعين العافي وشهد بأنه عفا عن القصاص والدية جميعا بعد دعوة الجاني
قبلت شهادته في الدية، ويحلف الجاني مع الشاهد أن العافي عفا عن الدية لا عنها وعن القصاص لأن القصاص سقط
بالاقرار فيسقط من الدية حصة العافي، وإن شهد بالعفو عن الدية فقط لم يسقط قصاص الشاهد. (ولو اختلف شاهدان
في زمان) للقتل كأن قال أحدهما: قتله في الليل، والآخر قال في النهار (أو مكان) له، كأن قال أحدهما قتله في المسجد.
وقال الآخر: قتله في الدار (أو آلة) له، كأن قال أحدهما قتله بسيف، وقال الآخر: قتله برمح (أو هيئته) له، كأن قال
أحدهما: حز رقبته، وقال الآخر: شقه نصفين (لغت) شهادتهما ولا لوث بها لأن كل واحد ناقض صاحبه وذكر الهيئة
مزيد (وقيل) هذه الشهادة (لوث) فيقسم الولي وتثبت الدية لاتفاقهما على أصل القتل والاختلاف في الصفة بما يكون
غلطا أو نسيانا. فإن قيل: لم لم يحلف على الأول مع من وافقه منهما أو يأخذ البدل كنظيره من السرقة؟. أجيب بأن
باب القسامة أمره أعظم، ولهذا غلظ فيه بتكرير الايمان.
تنبيه: هذا إذا شهد على الفعل، فلو شهد على الاقرار لم يضر اختلافهما في الزمان كما نص عليه في الام ولا في
مكانه كما قاله ابن المقري لأنه لا اختلاف في القتل وصفته بل في الاقرار، نعم إن عينا يوما أو نحوه في مكانين متباعدين
بحيث لا يصل المسافر من أحدهما إلى الآخر في الزمن الذي عيناه كأن شهد أحدهما بأنه أقر بالقتل بمكة يوم كذا، والآخر
بأنه أقر بقتله بمصر ذلك اليوم، فتلغو الشهادة.
خاتمة: لو شهد أحدهما على المدعى عليه بالقتل، والآخر بالاقرار به فلوث تثبت به القسامة دون القتل لأنهما
لم يتفقا على شئ واحد، فإن ادعى عليه الوارث قتلا عمدا أقسم، وإن ادعى خطأ أو شبه عمد حلف مع أحد
122

الشاهدين، فإن حلف مع شاهد القتل فالدية على العاقلة أو مع شاهد الاقرار فعلى الجاني، وإن ادعى عليه عمدا
فشهد أحدهما بإقراره بقتل عمد، والآخر بإقراره بقتل مطلق، أو شهد أحدهما بقتل عمد، والآخر بقتل مطلق ثبت
أصل القتل لاتفاقهما عليه حتى لا يقبل من المدعى عليه إنكاره وطولب بالبيان لصفة القتل، فإن امتنع منه جعل ناكلا
وحلف المدعي يمين الرد أنه قتل عمدا واقتص منه، وإن بين فقال: قتلته عمدا اقتص منه أو عفا على مال أو قتل خطأ
فللمدعي تحليفه على نفي العمدية إن كذبه، فإذا حلف لزمه دية خطأ بإقراره، فإن نكل عن اليمين حلف المدعي
واقتص منه، ولو شهد رجل على آخر أنه قتل زيدا وآخر أنه قتل عمرا أقسم ولياهما لحصول اللوث في حقهما جميعا.
كتاب البغاة
جمع باغ، والبغي الظلم ومجاوزة الحد، سموا بذلك لظلمهم، وعدولهم عن الحق كما يقال: بغت المرأة إذا فجرت، وافتتحه
في المحرر بقوله تعالى: * (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا) * الآية، وليس فيها ذكر الخروج على الإمام،
لكنها تشمل لعمومها أو تقتضيه لأنه إذا طلب القتال لبغي طائفة على طائفة للبغي على الإمام أولى، والاجماع منعقد
على قتالهم. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: أخذت السيرة في قتال المشركين من النبي (ص) وفي قتال المرتدين
من أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وفي قتال البغاة من علي رضي الله تعالى عنه، وقد عرف المصنف رضي الله تعالى عنه
البغاة بقوله: (هم) مسلمون (مخالفو الإمام) ولو جائرا وهم عادلون كما قاله القفال، وحكاه ابن القشيري عن معظم
الأصحاب وما في الشرح والروضة من التقييد بالإمام العادل، وكذا هو في الام والمختصر مرادهم إمام أهل العدل فلا
ينافي ذلك، ويدل لذلك قول المصنف في شرح مسلم إن الخروج على الأئمة وقتالهم حرام بإجماع المسلمين وإن كانوا
فسقة ظالمين، لكن نوزع في الاجماع بخروج الحسين على يزيد بن معاوية وابن الزبير على عبد الملك بن مروان، ومع
كل منهما خلق كثير من السلف، وقد يقال إن مراده الاجماع بعد ذلك، وفرق بعضهم بين من تغلب على الإمامة
فيجوز الخروج عليه إذا جار وبغى، وبين من عقدت له الإمامة فلا يجوز. وتحصل مخالفة الإمام بأحد أمرين: إما
(بخروج عليه) نفسه (و) إما بسبب (ترك الانقياد) له (أو) لا بهذين الامرين بل بخروج عن طاعته بسبب
(منع حق) مالي لله تعالى أو لآدمي أو غيره كقصاص أو حد (توجه عليهم) لأن الصديق رضي الله تعالى عنه قاتل
مانعي الزكاة لمنعهم الزكاة ولم يخرجوا عليه، وإنما منعوا الحق المتوجه عليهم، وإنما يكون مخالفو الإمام بغاة
(بشرط شوكة لهم) بكثرة أو قوة ولو بحصن بحيث يمكن معها مقاومة الإمام فيحتاج في ردهم إلى الطاعة لكلفة من
بذل مال وتحصيل رجال (و) بشرط (تأويل) يعتقدون به جواز الخروج عليه أو منع الحق المتوجه عليهم، لأن
من خالف من غير تأويل كان معاندا للحق.
تنبيه: يشترط في التأويل أن يكون فاسدا لا يقطع بفساده بل يعتقدون به جواز الخروج كتأويل الخارجين
من أهل الجمل وصفين على علي رضي الله تعالى عنه بأنه يعرف قتلة عثمان رضي الله عنه ويقدر عليهم ولا يقتص منهم
لمواطأته إياهم، وتأويل بعض مانعي الزكاة من أبي بكر رضي الله تعالى عنهم بأنهم لا يدفعون الزكاة إلا لمن صلاته سكن
لهم وهو النبي صلى الله عليه وسلم. (و) بشرط (مطاع فيهم) أي متبوع يحصل به قوة لشوكتهم. وإن لم
يكن إماما
منصوبا فيهم يصدرون عن رأيه، إذ لا قوة لمن لا يجمع كلمتهم مطاع وهذا نقله الرافعي عن الإمام، وظاهر كلامه أن
المطاع شرط لحصول الشوكة، لا أنه شرط آخر غير الشوكة كما يقتضيه تعبير الكتاب، ولهذا لم يذكر في المحرر غير
123

شرطين، وجعل المطاع قيدا في الشوكة (قيل و) يشترط (إمام منصوب) فيهم حتى لا تتعطل الأحكام بينهم، وهذا
ما نسبه الرافعي للجديد ونسبه الإمام للمعظم، وجزم به جمع كثير.
تنبيهان: أحدهما: كلام المصنف يوهم اعتبار وجود شخصين على هذا الوجه، وليس مرادا بل المراد أنه
لا بد من مطاع، وهل يشترط أن يكون منصوبا فيه؟ وجهان: أصحهما عند الأكثرين المنع، لأن عليا رضي الله
تعالى عنه قاتل أهل الجمل ولا إمام لهم وأهل صفين قبل نصب إمامهم، وسكت المصنف عن شرط آخر وهو انفراد
البغاة ببلدة أو قرية أو موضع من الصحراء كما نقله في الروضة وأصلها عن جمع، وحكى الماوردي الاتفاق عليه. الثاني
ليس أهل البغي بفسقة كما أنهم ليسوا بكفرة لأنهم إنما خالفوا بتأويل جائز باعتقادهم لكنهم مخطئون فيه، وليس اسم
البغي ذما، والأحاديث الواردة فيما يقتضي ذمهم كحديث: من حمل علينا السلاح فليس منا وحديث: من فارق
الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه، وحديث: من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فميتته جاهلية
محمول على من خرج عن الطاعة بلا تأويل أو بتأويل فاسد قطعا، فإن فقدت فيهم الشروط المذكورة بأن خرجوا
بلا تأويل كما نعي حق الشرع كالزكاة عنادا أو بتأويل يقطع بفساده كتأويل المرتدين، ومانعي حق الشرع كالزكاة
الآن والخوارج أو لم يكن لهم شوكة بأن كانوا أفرادا يسهل الظفر بهم، أوليس فيهم مطاع فليسوا بغاة لانتفاء حرمتهم
فيترتب على أفعالهم مقتضاها، ولان ابن ملجم قتل عليا متأولا بأنه وكيل امرأة قتل علي أباها فاقتص منه، ولم يعط
حكمهم في سقوط القصاص لانتفاء شوكته. (ولو أظهر قوم رأي الخوارج) وهم قوم من المبتدعة يكفرون من
ارتكب كبيرة ويطعنون بذلك في الأئمة ولا يحضرون معهم الجمعة والجماعات كما إشار إلى ذلك بقوله (كترك الجماعات
وتكفير ذي) أي صاحب (كبيرة) ولم نكفرهم بذلك كما هو الأصح (ولم يقاتلوا) وهم في قبضتنا كما في المحرر
والشرح والروضة (تركوا) فلا نتعرض لهم، سواء كانوا بيننا أم امتازوا بموضع عنا لكن لم يخرجوا عن طاعة
الإمام كما قاله الأذرعي ولم يفسقوا بذلك ما لم يقاتلوا، لأن اعتقادهم أن من أتى كبيرة كفر وحبط عمله وخلد في النار،
وإن دار الإمام صارت لظهور الكبائر فيها دار كفر وإباحة، فلذلك طعنوا في الأئمة ولم يصلوا خلفهم وتجنبوا الجمعة
والجماعة، ولو صرحوا بسب الإمام أو غيره من أهل العدل غزروا لا إن عرضوا في الأصح، لأن عليا رضي الله
تعالى عنه سمع رجلا من الخوارج، يقول: لا حكم إلى الله ورسوله، وعرض بتخطئته في الحكم. فقال: كلمة حق أريد بها
باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم معنا، ولا
نبدؤكم بقتال، فجعل حكمهم حكم أهل العدل.
تنبيه: محل عدم التعرض لهم إذا لم نتضرر بهم، فإن تضررنا بهم تعرضنا لهم حتى يزول الضرر كما قاله
القاضي عن الأصحاب (وإلا) بأن قاتلونا أو لم يكونوا في قبضتنا (فقطاع) أي فحكمهم إن لم نكفرهم وهو الأصح
كما سبق كحكم قطاع (طريق) فإن قتلوا أحدا ممن يكافئهم اقتص منهم كغيرهم، لا أنهم قطاع طريق كما يفهمه كلام
المصنف فلا يتحتم قتلهم، وإن كانوا كقطاع الطريق في شهر السلاح، لأنهم لم يقصدوا إخافة الطريق. ثم شرع
في حكم البغاة بقوله (وتقبل شهادة البغاة) لأنهم ليسوا بفسقة كما مر لتأويلهم. قال الشافعي رضي الله عنه إلا أن
يكونوا ممن يشهدون لموافقيهم بتصديقه كالخطابية، وهم صنف من الرافضة يشهدون بالزور ويقضون به لموافقيهم
بتصديقهم فلا تقبل شهادتهم ولا ينفذ حكم قاضيهم، ولا يختص هذا بالبغاة كما سيأتي في الشهادات، وسيأتي فيها أنهم
إن بينوا السبب أن شهادتهم تقبل لانتفاء التهمة حينئذ (و) يقبل (قضاء قاضيهم) بعد اعتبار صفات القاضي فيه
(فيما يقبل) فيه (قضاء قاضينا) لأن لهم تأويلا يسوغ فيه الاجتهاد (إلا أن يستحل) شاهد البغاة أو قاضيهم
(دماءنا) وأموالنا فلا تقبل شهادته ولا قضاؤه، لأنه ليس بعدل، وشرط الشاهد والقاضي العدالة.
124

تنبيه: ما جزم به المصنف من عدم صحة شهادته ونفوذ قضائه إذا استحل دماءنا وأموالنا، وما نقلاه في الروضة
وأصلها هنا عن المعتبرين من أصحابنا محمول على ما إذا كان بلا تأويل، وما ذكره في زيادة الروضة في كتاب الشهادات
من أنه لا فرق في قبول شهادة أهل الأهواء وقضاء قاضيهم بين من يستحل الدم والمال أم لا محمول على ما إذا استحلوه
بتأويل فلا منافاة بين الموضعين كما توهمه بعض الشارحين، وينبغي كما قال الزركشي أن يكون سائر الأسباب الموجبة
للفسق في معنى استحلال الدم والمال، ولو شككنا في الاستحلال حيث قلنا: لا تصح الشهادة ولا ينفذ القضاء:
فقولان، حكاهما ابن كج، وقال: اختيار الشافعي رحمه الله تعالى عدم قبول الحكم، ويأتي مثله في الشهادة،
وخرج بما ينفذ فيه قضاء قاضينا غيره كأن حكم بما يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا فلا يقبل (وينفذ)
بضم أوله وتشديد الفاء، قاضينا (كتابه) أي قاضي البغاة (بالحكم) فإذا كتب بما حكم به إلى قاضينا جاز له قبوله
وتنفيذه، ولكن يسن له عدم تنفيذه استخفافا بهم (ويحكم بكتابه بسماع البينة) أي يجوز له ذلك (في الأصح)
كتقييد كتابه بالحكم، ويستحب أنه لا يحكم به لما مر. والثاني لا يحكم به، لأن فيه معونة أهل البغي وإقامة مناصبهم.
تنبيه: تبع المحرر في حكاية الخلاف وجهين، لكنه في الروضة كأصلها جعله قولين، وطردهما الإمام في
الكتاب بالحكم (ولو) استولى البغاة على بلد و (أقاموا) أي ولاة أمورهم (حدا) على من وجب عليه (وأخذوا
زكاة) من أهلها (وخراجا) من أرض خراجية (وجزية) من أهل ذمة (وفرقوا سهم المرتزقة) من الفئ
(على جندهم صح) ما فعلوه في البلد الذي استولوا عليه تأسيا بعلي رضي الله تعالى عنه، ولان في إعادة
المطالبة
إضرارا بأهل البلد، أما إذا أقام الحد غير ولاتهم فإنه لا يعتد به، ومحل الاعتداد به في الزكاة كما قال البلقيني إذا كانت
غير معجلة، أو كانت معجلة لكن استمرت شوكتهم حتى وجبت، فلو زالت شوكتهم قبل الوجوب لم يقع ما عجلوه موقعه
لأن وقت الوجوب لم يكونوا أهلا للاخذ. قال: ولم أر من تعر ض لذلك، وقد أشار الشافعي رضي الله تعالى عنه إليه
بقوله: بصدقة عامة. (وفي الأخير) وهو تفرقة سهم المرتزقة على جندهم (وجه) أنه لا يقع الموقع لئلا يتقووا به على
أهل العدل. وأجاب الأول بأنهم من جند الاسلام، ورغب الكفار قائم بهم، وفي الجزية أيضا وجه حكاه الرافعي، وفي
الزكاة أيضا وجه حكاه القاضي. قال الزركشي: وصرح في الاشراف بحكاية الخلاف في الخراج (وما أتلفه باغ) من
نفس أو مال (على عادل وعكسه) أي أتلفه عادل على باغ (إن لم يكن في قتال) لضرورته بأن كان في غير القتال
أو فيه لا لضرورته (ضمن) قطعا كل منهما متلفه من نفس ومال جريا على الأصل في الاتلاف.
تنبيه: يستثنى من ذلك ما إذا قصد أهل العدل بإتلاف المال إضعافهم وهزيمتهم فإنه لا ضمان، قال الماوردي
قال: بخلاف ما لو قصدوا التشفي والانتقام. (وإلا) بأن كان الاتلاف في قتال لضرورته (فلا) ضمان اقتداء بالسلف
لأن الوقائع التي جرت في عصر الصحابة كوقعة الجمل بصفين لم يطلب بعضهم بعضا بضمان نفس ولا مال، وترغيبا في
الطاعة لئلا ينفروا عنها ويتمادوا على ما هم فيه، ولهذا سقطت التبعة عن الحربي إذا أسلم، ولأنا مأمورون بالقتال فلا
يضمن ما يتولد منه وهم إنما أتلفوا بتأويل (وفي قول يضمن الباغي) ما أتلفه على العادل، لأنهما فرقتان من
المسلمين محقة ومبطلة فلا يستويان في سقوط الغرم كقطاع الطريق لشبهة تأويلها.
تنبيه: محل الخلاف كما يؤخذ مما قدرته في كلامه فيما أتلف في القتال بسبب القتال، فإن أتلف فيه ما ليس
من ضرورته ضمن قطعا، قاله الإمام وأقراه ثم ما ذكر بالنسبة للضمان، وأما بالنسبة للتحريم فقال الشيخ عز الدين
لا يتصف إتلافهم بإباحة ولا بتحريم لأنه خطأ معفو عنه، بخلاف ما يتلفه الكفار حال القتال إنه حرام غير مضمون.
فرع: لو وطئ باغ أمة عادل بلا شبهة حد ورق الولد ولا نسب، لأن الوطئ حينئذ زنا، ومتى كانت مكرهة على
125

الوطئ لزمه المهر كغيره، وبعضهم استثنى هذه المسألة من إطلاق المصنف نفي الضمان وهو ممنوع، لأن إتلاف البضع
بالوطئ لا تعلق له بالقتال، والكلام إنما هو فيه. وأما الحربي إذا وطئ أمة غيره بلا شبهة فإن الولد يكون رقيقا، ولا
نسب ولا حد عليه، ولا مهر إن كانت مكرهة على الوطئ، لأنه لم يلتزم الأحكام. واعلم أن ما سبق من نفي الضمان محله
عند اجتماع الشوكة والتأويل، فإن فقد أحدهما فله حالان أشار إلى الأول بقوله: (و) الباغي (المتأول بلا
شوكة) له
(يضمن) النفس والمال ولو حال القتال كقاطع الطريق، ولأنا لو أسقطنا الضمان عنه لم تعجز كل شرذمة تريد إتلاف
نفس ومال أن تبدي تأويلا وتفعل من الفساد ما تشاء، وفي ذلك بطلان السياسات، وأشار إلى الثاني بقوله: (وعكسه)
وهو من له شوكة بلا تأويل حكمه (كباغ) في الضمان وعدمه، وتقدم أن الأظهر عدم الضمان في حال القتال لضرورته
فكذا هنا لأن سقوط الضمان في الباغين لقطع الفتنة واجتماع الكلمة وهو موجود هنا، وخالف في ذلك البلقيني
وقال: بالضمان.
تنبيه: ما ذكره المصنف من تنزيلهم منزلة البغاة هو بالنسبة للضمان كما قيدت به كلامه، لأنه السابق أولا، أما الحدود
إذا أقاموها، أو الحقوق إذا قبضوها، فلا يعتد بها الانتفاء شرطهم. قال الشيخان: والتحكيم فيهم على الخلاف في غيرهم.
فرع: لو ارتدت طائفة لهم شوكة فأتلفوا مالا أو نفسا في القتال ثم تابوا وأسلموا هل يضمنون أولا كالبغاة؟
وجهان في أصل الروضة من غير ترجيح، والصحيح كما قال الأسنوي الأول لجنايتهم على الاسلام ونقله الماوردي عن
النص في أكثر كتبه. وقال الأذرعي: إنه الوجه، ولا ينفذ قضاء قاضي المرتدين قطعا، قاله في أصل الروضة. ثم
شرع المصنف في كيفية قتال البغاة فقال: (ولا يقاتل) الإمام (البغاة حتى يبعث إليهم أمينا فطنا) إن كان البعث
للمناظرة كما قاله بعض المتأخرين (ناصحا) لهم، فإذا وصل إليهم (يسألهم ما ينقمون) أي يكرهون اقتداء ب علي رضي
الله تعالى عنه فإنه بعث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما إلى أهل النهروان فرجع بعضهم وأبى بعضهم.
تنبيه: ظاهر عبارته أن البعث واجب وهو ظاهر عبارة الشرحين أيضا، وصرح به ابن الصباغ وغيره، وقال
في المطلب وهو ظاهر كلام الشافعي، وصرح به الأصحاب، وفي تعليق القاضي أبي الطيب أنه مستحب (فإن ذكروا
مظلمة) هي سبب امتناعهم عن الطاعة، وهي إن كانت مصدرا ميميا فبفتح اللام وكسرها. وقال الزركشي: الفتح
هو القياس، أو اسما لما يظلم به فالكسر فقط (أو شبهة أزالها) لأن المقصود بقتالهم ردهم إلى الطاعة ودفع شرهم
كدفع الصائل دون قتلهم لقوله تعالى: * (فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله) * أي ترجع إلى كتاب الله تعالى وسنة
رسوله (فإن أصروا) بعد الإزالة أو لم يذكروا شيئا (نصحهم) ووعظهم وخوفهم سوء عاقبة البغي، وأمرهم بالعود
للطاعة، لأن ذلك أقرب إلى حصول المقصود (ثم) إن أصروا دعاهم إلى المناظرة، فإن لم يجيبوا أو أجابوا أو غلبوا
في المناظرة وأصروا (آذنهم) بالمد، أي أعلمهم (بالقتال) لأن الله تعالى أمر أولا بالاصلاح ثم بالقتال، فلا يجوز
تقديم ما أخره الله تعالى.
تنبيه: إنما يعلمهم بالقتال إذا علم أن في عسكره قوة وقدرة عليهم، وإلا أخره إلى أن تمكنه القوة عليهم، لأنه
الاحتياط في ذلك كما نقله في البحر عن النص، وقتالهم حينئذ واجب لاجماع الصحابة عليه بأحد خمسة أمور كما قاله
الماوردي: أن يتعرضوا لحريم أهل العدل، أو يتعطل جهاد الكفار بهم، أو يأخذوا من حقوق بيت المال ما ليس لهم،
أو يمتنعوا من دفع ما وجب عليهم، أو يتظاهروا على خلع الإمام الذي قد انعقدت بيعته، فلو انفردوا عن الجماعة ولم
يمنعوا حقا ولا تعدوا إلى ما ليس لهم جاز قتالهم لأجل تفريق الجماعة، ولا يجب لتظاهرهم بالطاعة (فإن استمهلوا) أي
طلبوا الامهال من الإمام (اجتهد) فيه وفي عدمه (وفعل ما رآه صوابا) منهما، وإن ظهر له أن استمالهم للتأمل
126

في إزالة الشبهة أمهلهم ليتضح لهم الحق، وإن ظهر لهم أنهم يحتالون لاجتماع عساكرهم وانتظار مددهم لم يمهلهم، وإن
سألوا ترك القتال أبدا لم يجبهم.
تنبيه: قضية كلامه أن مدة الامهال لا تتقيد وهو كذلك، بل ترجع إلى ما يراه الإمام، وفي التهذيب كيوم أو
يومين، وفي المهذب ثلاثة أيام، وقضيته أيضا مراعاة هذا التدريج في القتال وهو كذلك وبه صرح الإمام فقال: سبيله
سبيل دفع الصائل من الاقتصار على الأدنى فالأدنى (ولا يقاتل مدبرهم) إذا وقع قتال، ولا من ألقى سلاحه وأعرض
عن القتال (ولا مثخنهم) بفتح المعجمة اسم مفعول من أثخنه الجرح إذا أضعفه (و) لا (أسيرهم) إذا كان الإمام
يرى رأينا فيهم لقوله تعالى: * (حتى تفئ) * والفيئة الرجوع عن القتال بالهزيمة. روى ابن أبي شيبة بإسناد حسن أن عليا
رضي الله عنه أمر مناديه يوم الجمل فنادى: لا يتبع مدبر، ولا يذفف على جريح، ولا يقتل أسير، ومن أغلق بابه
فهو آمن، ومن ألقى سلاحه فهو آمن، ولان قتالهم شرع للدفع عن منع الطاعة وقد زال أما إذا كان لا يرى ذلك
فلا اعتراض عليه، ويستثنى من إطلاق المصنف المدبر المتحرف للقتال، أو المتحيز إلى فئة قريبة فيقاتلان، بخلاف
المتحيز إلى فئة بعيدة، وما إذا انهزموا مجتمعين تحت راية زعيمهم، فإنهم يقاتلون حتى يرجعوا إلى الطاعة. قال
الإمام: أو يتبددوا.
تنبيه: عبر في المحرر في المدبر بالقتال، وفي الآخرين بالقتل، وهو أولى من تعبير المصنف، لأن المثخن والأسير
لا يقاتلان، وقد يفهم من منع قتل هؤلاء وجوب القصاص بقتلهم، والأصح أنه لا قصاص لشبهة أبي حنيفة (ولا
يطلق) أسيرهم بل يحبس كما صرح به الماوردي وغيره، إذ بحبسه تضعف البغاة (وإن كان صبيا وامرأة) وعبدا (حتى
تنقضي الحرب و) تؤمن غائلتهم بأن (يتفرق جمعهم) لينكشف شرهم ولا يتوقع عودهم.
تنبيه: ظاهر عبارته استمرار حبسهم إلى أن (يتفرق جمعهم) ومحله في الرجل الحر المتأهل للقتال وكذا
الصبي
والمرأة والعبد والشيخ الفاني إن كانوا مقاتلين كما قاله الإمام وغيره في الأولين، ويلحق بهما الآخران، وإلا أطلقوا
بمجرد انقضاء الحرب وإن خفنا عودهم (إلا أن يطيع) الأسير (باختياره) بمبايعة الإمام والرجوع عن البغي إلى الطاعة
فيطلق قبل ذلك.
تنبيه: هذا الاستثناء خاص بالرجل الحر، أما الصبيان والنساء والعبيد فلا بيعة لهم (ويرد) وجوبا (سلاحهم
وخيلهم) وغيرهما (إليهم إذا انقضت الحرب وأمنت غائلتهم) أي شرهم بتفرقهم أو ردهم للطاعة لزوال المحذور حينئذ.
تنبيه: فهم من رد السلاح والخيل إليهم غيرهما من الأموال التي ليست عونا لهم في القتال من باب أولى (ولا
يستعمل) أي يحرم استعمال شئ من سلاحهم وخيلهم أو غيرهما من أموالهم (في قتال) وغيره لعموم قوله (ص)
لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه. (إلا لضرورة) كما إذا خيف انهزام أهل العدل ولم يجدوا غير
خيولهم فيجوز لهم ركوبها وكذا إن لم يجدوا ما يدفعون به عنهم غير سلاحهم.
تنبيه: قضية ذلك وجوب أجرة استعمالها في القتال للضرورة كالمضطر إذا أكل طعام غيره، إنه يلزمه بدله،
والأوجه كما اقتضاه كلام الأنوار خلافا لما مر من أنه لا ضمان لما يتلف في القتال وتفارق مسألة المضطر بأن الضرورة
فيها نشأت من المضطر بخلافه في مسألتنا فإنها إنما نشأت من جهة المالك (ولا يقاتلون بعظيم كنار ومنجنيق) وإرسال
سيل وأسود وحيات ونحوها من المهلكات لأن المقصود من حالهم ردهم إلى الطاعة كما مر، وقد يرجعون فلا يجدون
للنجاة سبيلا، وفي الحديث الصحيح: لا يعذب بالنار إلا ربها.
تنبيه: لو عبر بما يعم لكان أولى، لأن آلة الحرب قد تعظم ولكن لا تعم، وليس المنع إلا مما يعم لأنه قد
127

يصيب من لا يجوز قتله كالنساء والصبيان (وإلا لضرورة) فيجوز قتالهم بالعظيم (كأن قاتلوا به أو أحاطوا بنا)
واضطررنا إلى الرمي بذلك تدفعهم عنا بأن خيف استئصالنا، فإن أمكن دفعهم بغيره كانتقالنا الموضع آخر لم نقاتلهم به
. تنبيه: لو تحصنوا ببلد أو قلعة ولم يتأت الاستيلاء عليهم إلا بذلك لم يجز قتالهم لما مر، ولان ترك بلدة أو
قلعة بأيدي طائفة من المسلمين يتوقع الاحتيال في فتحها أقرب إلى الصلاح من استئصالهم ولا يجوز حصارهم بمنع
طعام أو شراب إلا على رأي الإمام في أهل قلعة، ولا يجوز عقر خيولهم إلا إذا قاتلوا عليها، ولا قطع أشجارهم وزروعهم،
ويلزم الواحد كما قال المتولي من أهل العدل مصابرة اثنين من البغاة كما يجب على المسلم أن يصبر لكافرين فلا يول إلا
متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: يكره للعادل أن يتعمد قتل ذي رحمه من أهل البغي
وحكم دار البغي دار الاسلام، فإذا جرى فيها ما يوجب إقامة حد أقامه الإمام إذا استولى عليها ولو سبى المشركون طائفة
من البغاة وقدر أهل العدل على استنقاذهم لزمهم ذلك (ولا يستعان عليهم) في قتال (بكافر) ذمي أو غيره لأنه
يحرم تسليطه على المسلم، ولهذا لا يجوز لمستحق القصاص من مسلم أن يوكل كافرا في استيفائه، ولا للإمام أن يتخذ
جلادا كافرا لإقامة الحدود على المسلمين.
تنبيه: ظاهر كلامهم أن ذلك لا يجوز ولو دعت الضرورة إليه لكنه في التتمة صرح بجواز الاستعانة به عند
الضرورة وقال الأذرعي وغيره أنه المتجه (ولا) يستعان عليهم أيضا (بمن يرى قتلهم) حال كونهم (مدبرين)
لعداوة أو اعتقاد ك الحنفي إبقاء عليهم، وفرق بينه وبين جواز استخلاف الشافعي الحنفي ونحوه بأن الخليفة ينفرد برأيه
واجتهاده، والمذكورون هنا تحت رأي الإمام ففعلهم منسوب إليه فلا يجوز لهم أن يعملوا بخلاف اجتهاده، ويستثنى
ما إذا دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم. قال الشيخان: فيجوز بشرطين: أحدهما أن يكون حسن إقدام وجراءة، الثاني
أن يمكن دفعهم عنهم لو اتبعوهم بعد انهزامهم. زاد الماوردي شرطا ثالثا وهو أن يشرط عليهم أن لا يتبعوا مدبرا ولا
يقتلوا جريحا وأن يثق بوفائهم بذلك (ولو استعانوا علينا بأهل حرب وآمنوهم) بهمزة ممدودة وقصرها مع تشديد
الميم لحن كما قاله ابن مكي، أي عقدوا لهم أمانا ليعينوهم علينا (لم ينفذ) بالمعجمة (أمانهم علينا) لأن الأمان لترك
قتال المسلمين فلا ينعقد على شرط قتالهم، وحينئذ قلنا غنم أموالهم واسترقاقهم وقتل أسيرهم وقتلهم مدبرين وتذفيق
جريحهم، نعم لو قالوا ظننا أنه يجوز لنا إعانة بعضكم على بعض أو أنهم المحقون ولنا إعانة المحق، أو أنهم استعانوا بنا
على كفار وأمكن صدقهم كما يؤخذ من كلام الإمام الغزالي الآتي في أهل الذمة بلغناهم المأمن وأجرينا عليهم حكم
البغاة فلا نستبيحهم للأمان مع عذرهم (ونفذ عليهم) أمانهم (في الأصح) لأنهم آمنوهم وآمنوا منهم، والثاني المنع
لأنه أمان على قتال المسلمين. أما لو آمنوهم بدون شرط قتالنا فإنه ينفذ علينا وعليهم، فإن استعانوا بهم علينا بعد ذلك
وقاتلونا انتقض أمانهم حينئذ في حقنا كما نص عليه، والقياس انتقاضه في حقهم أيضا.
تنبيه: أشعر عطفه آمنوهم على الاستعانة بأنها غيرها وهو ظاهر كلام الماوردي، وصرح به المتولي. واحترز
بأهل حرب عما تضمنه قوله: (ولو أعانهم أهل الذمة) مختارين (عالمين بتحريم قتالنا انتقض عهدهم) بذلك كما لو انفردوا
بالقتال فصار حكمهم حكم أهل الحرب فيقتلون مقبلين ومدبرين.
تنبيه: قضية كلامهم انتقاض عهدهم مطلقا حتى في حق أهل البغي وهو كذلك كما ذكره البغوي وغيره، وإن
قال في البيان: ينبغي أن يكون في انتقاضه الخلاف في أمان أهل الحرب، ولو أتلفوا شيئا بعد الشروع في القتال لم يضمنوه
(أو مكرهين فلا) ينتقض عهدهم لشبهة الاكراه.
128

تنبيه: ظاهر كلام الشيخين أنه يكتفى بقولهم إنهم مكرهون وهو ظاهر إطلاق الجمهور، وإن قال المتولي
والبندنيجي أنه لا بد من ثبوت كونهم مكرهين عند الإمام، هذا في أهل الذمة، وأما أهل العهد فلا تقبل دعواهم الاكراه
إلا ببينة عند الشيخين، لأن إمام أهل الذمة أقوى بدليل أنه لو خاف الإمام من أهل العهد الخيانة نبذ إليهم عهدهم
بخلاف أهل الذمة، واحترز بعالمين عما تضمنه قوله (وكذا إن قالوا ظننا جوازه) أي أنه يجوز لنا إعانة بعض المسلمين
على بعض، أو ظننا أنهم يستعينون بنا على قتال كفار، وأمكن صدقهم كما أشار إليه في البسيط، فلا ينتقض عهدهم
بالظن المذكور (أو) ظننا (أنهم محقون) فيما فعلوه، وأن لنا إعانة المحق فلا ينتقض عهدهم أيضا (على المذهب) لموافقتهم
طائفة من المسلمين مع عذرهم، ولا بد في دعواهم الجهل من إمكان صدقهم كما ذكره الإمام والغزالي وإلا فلا تقبل،
وزاد الرافعي في شرحيه بعد قوله وأنهم محقون، وأن لهم إعانة المحق، وإلا فليس لهم قتال المحقين ولا المبطلين، وناقش
الوجيز بترك ذلك وأسقطه من الروضة كما هنا، وقد قدرته في كلامه وفي قوله أنه ينتقض، ولو ادعوا ذلك كما لو
استقلوا بالقتال، وتعبير المصنف بكذا يقتضي أنه لا خلاف في أن المكره لا ينتقض عهده، وليس مرادا، بل فيه
الطريقان، فلو جمع بين المسألتين بعبارة واحدة لكان أولى.
تنبيه: محل الخلاف إذا لم يشترط عليهم الإمام ترك القتال في عقد الذمة وإلا فينتقض قطعا، ولو قاتل أهل الذمة
أهل البغي لم ينتقض عهدهم على الصحيح، لأنهم حاربوا من يلزم الإمام محاربته. (ويقاتلون) حيث قلنا بعدم انتقاض
عهدهم في المسائل الثلاث (كبغاة) أي كقتالهم، لأن الأمان حقن دماءهم كما أن الاسلام حقن دماء البغاة، أما إذا
انتقض عهدهم فحكمه مذكور في الجزية.
تنبيه: تشبيه المصنف لهم بالبغاة في المقاتلة يقتضي أنهم لا يلحقون بهم في نفي ضمان ما يتلفونه في حال القتال وهو
كذلك، لأنا أسقطنا الضمان عن البغاة لاستمالة قلوبهم وردهم إلى الطاعة، لئلا ينفرهم الضمان وأهل الذمة في قبضة
الإمام، وهل يجب عليهم القصاص؟ وجهان: في الروضة كأصلها بلا ترجيح، أرجحهما كما قال البلقيني: الوجوب.
وقال إنه ظاهر نص الشافعي، وخرج بأهل الذمة غيرهم من المعاهدين والمؤمنين فينتقض عهدهم ولا يقبل عذرهم
إلا في الاكراه، ولا بد من بينة في دعواهم الاكراه كما مر عن الشيخين.
فرع: لو اقتتل طائفتان باغيتان منعهما الإمام، فلا يعين إحداهما على الأخرى، وإن عجز عن منعهما قاتل
أشرهما بالأخرى التي هي أقرب إلى الحق، وإن رجعت لم يفاجئ الأخرى بالقتال حتى يدعوها إلى الطاعة لأنها
صارت باستعانته بها في أمانه، فإن استوتا قال الماوردي: ضم إليه أقلهما جمعا ثم أقربهما دارا ثم يجتهد فيهما وقاتل
بالمضمومة إليه منهما الأخرى غير قاصد إعانتها بل قاصدا دفع الأخرى، ولو غزا البغاة مع الإمام مشركين فكأهل
العهد في حكم الغنائم فيعطى القاتل منهم السلب كغيره من أهل العدل، ولو عاهد البغاة مشركا اجتنباه بأن لا نقصده بما
نقصد به الحربي غير المعاهد ولو قتل عادل عادلا في القتال وقال: ظننته باغيا، حلف ووجبت الدية دون
القصاص
للعذر، ولو تعمد عادل قتل باغ أمنه عادل ولو كان المؤمن له عبدا أو امرأة اقتص منه وإن كان جاهلا بأمانه لزمه
الدية. ولما قدم المصنف أن البغي هو الخروج على الإمام الأعظم وهو القائم بخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا
فيا لها رتبة ما أسناها ومرتبة ما أعلاها احتاج إلى تعريفه فعقد له فصلا، فقال:
فصل: في شروط الإمام الأعظم وبيان انعقاد طرق الإمامة، وهي فرض كفاية كالقضاء، إذ لا بد للأمة من
إمام يقيم الدين وينصر السنة وينصف المظلوم من الظالم ويستوفي الحقوق ويضعها مواضعها، وقدما في الشرح والروضة
الكلام على الإمامة على أحكام البغاة، وما في الكتاب أولى، لأن الأول هو المقصود بالذات. وقد بدأ بالقسم الأول
وهو الشروط بقوله (شرط الإمام) الأعظم هو مفرد مضاف فيعم كل شرط، أي شروطه حال عقد الإمامة أو العهد بها
129

أمور: أحدها (كونه مسلما) ليراعي مصلحة الاسلام والمسلمين، فلا تصح تولية كافر ولو على كافر. ثانيها كونه
(مكلفا) ليلي أمر الناس، فلا تصح إمامة صبي ومجنون بإجماع، لأن المولى عليه في حضانة غيره فكيف يلي أمر الأمة،
وفي الحديث: نعوذ بالله من إمارة الصبيان رواه الإمام أحمد. ثالثها: كونه (حرا) ليكمل ويهاب، بخلاف من فيه رق،
ولأنه مشغول بخدمة غيره، وما رواه مسلم من قوله (ص): اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي فمحمول على
غير الإمامة العظمى. رابعها كونه (ذكرا) ليتفرغ ويتمكن من مخالطة الرجال، فلا تصح ولاية امرأة، لما في الصحيح:
لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ولا ولاية خنثى وإن بانت ذكورته كما ذكروه في تولية القاضي فالإمام أولى. خامسها
كونه (قرشيا) لخبر النسائي: الأئمة من قريش وبه أخذ الصحابة ومن بعدهم. هذا عند تيسر قرشي جامع للشروط، فإن
عدم فمنتسب إلى كنانة، فإن عدم فرجل من ولد إسماعيل (ص) فإن عدم فرجل جرهمي كما في التتمة. وجرهم أصل العرب،
ومنهم تزوج سيدنا إسماعيل حين أنزله أبوه (ص) أرض مكة، فإن عدم فرجل من ولد إسحق (ص) ثم إلى غيرهم،
ولا يشترط كونه هاشميا باتفاق، فإن الصديق وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم لم يكونوا من بني هاشم. سادسها كونه
عدلا، ولو ذكره بدل مسلما لعلم منه كونه مسلما. قال الشيخ عز الدين: وإذا تعذرت العدالة في الأئمة والحكام
قدمنا أقلهم فسقا. سابعها كونه عالما (مجتهدا) ليعرف الأحكام ويعلم الناس ولا يحتاج إلى استفتاء غيره في الحوادث لأنه
بالمراجعة والسؤال يخرج عن رتبة الاستقلال. ثامنها كونه (شجاعا) - بتثليث المعجمة - والشجاعة قوة القلب عند البأس
لينفرد بنفسه ويدبر الجيوش ويقهر الأعداء ويفتح الحصون. تاسعها كونه (ذا رأي) يفضي إلى سياسة الرعية
وتدبير
المصالح الدنيوية فهو ملاك الأمور.
قال المتنبي: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس حرة بلغت من العلياء كل مكان
ولربما قهر الفتى أقرانه بالرأي لا بتطاول الاقران
وقد كان العباس بن عبد المطلب يضرب به المثل في سداد الرأي (و) عاشرها كونه ذا (سمع وبصر ونطق) ليتأتى
منه فصل الأمور، ولا يضر ثقل السمع والتتمة ولا كونه أعشى العين لأن عجزه حال الاستراحة ويرجى زواله. وأما
ضعف البصر فإن منع تمييز الاشخاص منع، وإلا فلا.
تنبيه: فهو من اشتراطه البصر جواز كونه أعور وهو كذلك، وإن خالف في ذلك الروياني، ومن اقتصاره على
ما ذكر أنه لا يؤثر فقد شم وذوق وهو كذلك كما جزم به في زوائد الروضة، ويشترط فيه أيضا أن لا يكون به نقص
يمنع استيفاء حركة النهوض كالنقص في اليد والرجل كما صححه في الروضة. ولا يشترط كونه معصوما، لأن العصمة
للأنبياء، ولا يضر قطع ذكر وأنثيين واعلم أن هذه الشروط كما تعتبر في الابتداء تعتبر في الدوام إلا العدالة فإنه
لا ينعزل بالفسق في الأصح ولا الجنون المتقطع، إذا كان زمن الإفاقة أكثر قاله الماوردي. وإلا في قطع إحدى
اليدين والرجلين فلا يؤثر في الدوام، إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، فعلم من ذلك أنه ينعزل بالعمى والصمم
والخرس والمرض الذي ينسيه العلوم. ثم شرع في القسم الثاني وهو بيان انعقاد طرق الإمامة بقوله: (وتنعقد الإمامة)
بثلاثة طرق. أحدها (بالبيعة) - بفتح الموحدة - كما بايع الصحابة أبا بكر رضي الله تعالى عنهم أجمعين، واختلف
في عدد المبايع (والأصح) لا يتعين عدد، بل المعتبر (بيعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء ووجوه الناس الذين
يتيسر اجتماعهم) لأن الامر ينتظم بهم ويتبعهم سائر الناس، ولا يشترط اتفاق أهل الحل والعقد من سائر الأقطار
البعيدة ولا يشترط عدد كما يوهمه كلامه، بل لو تعلق الحل والعقد بواحد مطاع كفت بيعته ولزمه الموافقة والمتابعة،
130

وقيل لا بد من اثنين لأنهما أقل الجماعة، وقيل من ثلاثة لأنهم أقل الجمع، وقيل من أربعة لأنهم أكثر نصاب
الشهادة، وقيل من خمسة غير البائع كأهل الشورى، وقيل من أربعين لأنه أشد خطرا من الجمعة، وهل يشترط
لانعقادهم إشهاد شاهدين أو لا؟ حكى في الروضة عن الإمام عن الأصحاب الأول لئلا يدعي عقد سابق، ولان الإمامة
ليست دون النكاح، وقيل إن عقدها واحد اشترط الاجهاد، أو جمع فلا، وجرى على هذا ابن المقري (وشرطهم)
أي المباعين (صفة الشهود) من العدالة وغيرها مما يأتي.
تنبيه: قضية كلامه عدم اشتراط الاجتهاد وهو كذلك وما في الروضة كأصلها من أنه يشترط أن يكون المبايع
مجتهدا إن اتحد، وأن يكون فيه مجتهدا إن تعدد مفرع على اشتراط العدد، والمراد بالمجتهد هنا المجتهد بشروط الإمامة لا أن
يكون مجتهدا مطلقا كما صرح به الزنجاني في شرح الوجيز. (و) ثانيهما ينعقد (باستخلاف الإمام) شخصا
عينه
في حياته ليكون خليفته بعده، ويعبر عنه بعهدت إليه كما عهد أبو بكر إلى عمر رضي الله تعالى عنهما، بقوله: بسم الله
الرحمن الرحيم، هذا ما عهد أبو بكر خليفة رسول الله (ص) عند آخر عهده من الدنيا وأول عهده بالآخرة
في الحالة التي يؤمن فيها الكافر ويتقي فيها الفاجر إني استعملت عليكم عمر بن الخطاب، فإن بر وعدل فذاك علمي به
وعلمي فيه، وإن جار وبدل فلا علم لي بالغيب والخير أردت، ولكل امرئ ما اكتسب * (وسيعلم الذين ظلموا أي
منقلب ينقلبون) * وانعقد الاجماع على جوازه.
تنبيه: لا بد أن يكون الإمام كما قال الأذرعي وغيره جامعا لشروط الإمامة، فلا عبرة باستخلاف الجاهل
والفاسق، وأن يقبل الخليفة في حياة الإمام، وإن تراخى عن الاستخلاف كما اقتضاه كلام الروضة، وإن بحث البلقيني
اشتراط الفور، فإن أخره عن الحياة رجع ذلك إلى الايصاء وسيأتي حكمه، وعليه أن يتحرى الأصلح للإمامة بأن
يجتهد فيه، فإذا ظهر له واحد ولاه، وله جعل الخلافة لزيد، ثم بعده لعمرو، ثم بعده لبكر، وتنتقل على ما رتب كما
رتب رسول الله (ص) أمراء جيش مؤتة، فإن مات الأول في حياة الخليفة فالخلافة للثاني، وإن مات الثاني
أيضا فهي للثالث، وإن مات الخليفة وبقي الثلاثة أحياء وانتصب الأول كان له أن يعهد بها إلى غير الأخيرين، لأنها لما
انتهت إليه صار أملك بها بخلاف ما إذا مات ولم يعهد إلى أحد، فليس لأهل البيعة أن يبايعوا غير الثاني ويقدم عهد
الأول على اختيارهم. ولا يشترط في الاستخلاف رضا أهل الحل والعقد في حياته أو بعد موته، بل إذا ظهر له واحد
جاز بيعته من غير حضور غيره ولا مشاورة أحد كما نقله في الروضة عن الماوردي وقطع به الإمام. (فلو جعل) الإمام
(الامر) في الخلافة (شورى) هو مصدر بمعنى التشاور (بين جمع فكاستخلاف) حكمه إلا أن المستخلف غير
معين (فيرتضون أحدهم) بعد موت الإمام فيعنونه للخلافة كما جعل عمر رضي الله تعالى عنه الامر شورى بين
ستة: علي والزبير وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة، فاتفقوا على عثمان رضي الله عنه.
أما قبل موته فليس لهم أن يعينوه إلا بإذنه، فإن خافوا تفرق الامر وانتشاره بعده استأذنوه، ولو امتنع أهل الشورى
من الاختيار لم يجبروا عليه وكأنه لم يعهد، وكذلك لو امتنع المعهود إليه من القبول.
تنبيه: لو أوصى بها جاز كما لو استخلف لكن قبول الموصى له إنما يكون بعد موت الموصي، وقيل لا يجوز
لأنه بالموت يخرج عن الولاية ويتعين من اختياره للخلافة بالاستخلاف أو الوصية مع القبول، فليس لغيره أن يعين
غيره. وإن استعفى الخليفة أو الموصى له بعد القبول لم ينعزل حتى يعفي ويوجد غيره، فإن وجد غيره جاز استعفاؤه
وإعفاؤه وخرج من العهد باستجماعهما وإلا امتنع وبقي العهد لازما، ويجوز العهد إلى الوالد والولد كما يجوز
إلى
غيرهما كما جزم به صاحب الأنوار وابن المقري، وقيل: يمتنع ذلك كالتزكية والحكم، وقيل تجوز للوالد دون الولد
لشدة الميل إليه.
فرع: لو صلح للإمامة واحد فقد تعين أو اثنان استحب لأهل العقد والحل تقديم أسنهما في الاسلام ثم
131

إن كثرت الحروب كأن ظهر أهل الفساد أو البغاة فالأشجع أحق، لأن الحاجة دعت إلى زيادة الشجاعة، أو كثرت
البدع فالأعلم أحق، لأن الحاجة دعت إلى زيادة العلم، فإن استويا أفرع وإن لم يتنازعا كما هو قضية كلام ابن المقري
لأن فيأهما للمسلمين لا لهما لعدم الترجيح، وقيل: يقدم أهل العقد والحل من شاءوا بلا فرعة، ولو تنازعاها لم يقدح
فيهما تنازعها، لأن طلبها ليس مكروها (و) ثالثها (باستيلاء) شخص متغلب على الإمامة (جامع للشروط)
المعتبرة في الإمامة على الملك بقهر وغلبة بعد موت الإمام لينتظم شمل المسلمين. أما الاستيلاء على الحي
فإن كان الحي متغلبا انعقدت إمامة المتغلب عليه، وإن كان إماما ببيعة أو لم تنعقد إمامة المتغلب عليه (وكذا فاسق وجاهل)
تنعقد إمامة كل منهما مع وجود بقية الشروط بالاستيلاء (في الأصح) وإن كان عاصيا بذلك لما مر، والثاني المنع
لفقد الشروط.
تنبيه: كلامه يفهم أن الخلاف إنما يجري في حال اجتماع الفسق والجهل، لكن عبارة الروضة وأصلها مشعرة
بجريان الخلاف عند انفراد كل منهما، وهو الظاهر كما قاله الدميري، فإن جعلت الواو في كلام المصنف بمعنى أو كما
قررت به كلامه فلا مخالفة، ولا يختص هذا كما قال الزركشي بالفسق والجهل، بل سائر الشروط إذا فقد واحد منها
كذلك كالعبد والمرأة والصبي المميز. قال الدميري: ولى الأكنان وهو في بطن أمه حين مات أبوه ولم يكن له ولد
وضعوا التاج على بطن أمه وعقدوا لحملها اللواء فولدت ذكرا فملكهم إلى أن مات. نعم الكافر إذا تغلب لا تنعقد إمامته
لقوله تعالى * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * وقول الشيخ عز الدين: ولو استولى الكفار على إقليم
فولوا القضاء رجلا مسلما، فالذي يظهر انعقاده ليس بظاهر، فإنه قال: لو ابتلى الناس بولاية صبي مميز يرجع للعقلاء
أو امرأة هل ينفذ تصرفها العام فيما يوافق الحق كتولية القضاء والولاة فيه وقفة اه‍. فإذا كان عنده وقفة في ذلك
فالكافر أولى.
فروع: تجب طاعة الإمامة وإن كان جائرا فيما يجوز من أمره ونهيه لخبر: اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم
عبد حبشي مجدع الأطراف ولان المقصود من نصبه اتحاد الكلمة، ولا يحصل ذلك إلا بوجوب الطاعة، وتجب
نصيحته للرعية بحسب قدرته، ولا يجوز عقدها لإمامين فأكثر ولو بأقاليم ولو تباعدت لما في ذلك من اختلاف الرأي
وتفرق الشمل فإن عقدت لاثنين معا بطلتا أو مرتبا انعقدت للسابق كما في النكاح على امرأة، ويعزز الثاني ومبايعوه
إن علموا ببيعة السابق لارتكابهم محرما. فإن قيل ورد في مسلم: إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما فكيف
يقال بالتعزيز فقط؟ أجيب بأن معنى الحديث لا تطيعوه فيكون كمن قتل، وقيل: معناه أنه إن أصر فهو باغ يقاتل،
فإن علم سبق وجهل بطل العقدان كما مر نظيره من الجمعة والنكاح، وإن علم السابق ثم نسي وقف الامر رجاء
الانكشاف، فإن أضر الوقف بالمسلمين عقد لأحدهما لا لغيرهما، لأن عقدها لهما أوجب صرفها عن غيرهما وإن
بطل عقداهما بالاضرار، وخالف البلقيني الشيخين في ذلك وقال بجواز عقدها لغيرهما والحق في الإمامة للمسلمين لا لهما
فلا تسمع دعوى أحدهما السبق وإن أقر به أحدهما للآخر بطل حقه ولا يثبت الحق للآخر إلا ببينة، ويجوز تسمية
الإمام خليفة، وخليفة رسول الله (ص)، وأمير المؤمنين. قال البغوي: وإن كان فاسقا، وأول من سمي
به عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ولا يجوز تسميته بخليفة الله تعالى، لأنه إنما يستخلف من يغيب ويموت والله
تعالى منزه عن ذلك. قال المصنف في شرح مسلم: ولا يسمى أحد خليفة الله بعد آدم وداود عليهما السلام. وعن
ابن مليكة أن رجلا قال لأبي بكر رضي الله تعالى عنه: يا خليفة الله، فقال: أنا خليفة محمد (ص) وأنا راض بذلك. ولا
يجوز خلع الإمام ما لم تختل الصفات فيه، ولا يصير الشخص إماما بتفرده بشروط الإمامة في وقته، بل لا بد من أحد
الطرق كما حكاه الماوردي عن الجمهور، وقيل يصير من غير عقد، حكاه القمولي. قال: ومن الفقهاء من ألحق القاضي
بالإمام في ذلك. وقال الإمام: لو شغر الزمان عن الإمام انتقلت أحكامه إلى أعلم أهل ذلك الزمان (قلت) كما قال الرافعي
132

في الشرع فيما لو عاد البلد من البغاة إلينا (لو ادعى) بعض أهله (دفع زكاة إلى البغاة صدق) بلا يمين إن لم يتهم
و (بيمينه) إن اتهم لبنائها على المواساة، والمسلم مؤتمن في أمر دينه.
تنبيه: اليمين هنا مستحبة على الأصح كما في زيادة الروضة في الزكاة وإن صحح في تصحيح التنبيه هنا أنها
واجبة، وجرى عليه الدميري (أو) ذمي ادعى دفع (جزية فلا) يصدق بيمينه (على الصحيح) لأنها عوض
عن السكن، فأشبه ما لو ادعى المستأجر دفع الأجرة. والثاني بصدق كالمزكى، وفرق الأول بأن الذمي غير مؤتمن فيما
يدعيه على المسلمين للعداوة الظاهرة (وكذا خراج) لأرض دفعه المسلم كما قاله الماوردي لقاضي البغاة: لا يصدق في
دفعه (في الأصح) لأنه أجرة والثاني يصدق كالزكاة، أما الكافر إذا ادعى دفع الخراج فلا يصدق جزءا (ويصدق)
الشخص (في) إقامة (حد) أنه أقيم عليه. قال الماوردي: بلا يمين، لأن الحدود تدرأ بالشبهات (إلا أن يثبت)
الحد (ببينة، و) الحال أنه (لا أثر له) أي الحد (في البدن) فلا يصدق في ذلك (والله أعلم) لأن الأصل عدم
إقامته ولا قرينة تدفعه، والفرق بين ثبوته بالبينة دون الاقرار أن المقر بالحد لو رجع قبل رجوعه وإنكاره بقاء
الحد
عليه في معنى الرجوع.
تنبيه: كان ينبغي للمصنف أن يذكر هذه الزيادة قبل الكلام على أحكام الإمامة.
خاتمة: لا ينعزل إمام أسره كفار أو بغاة لهم إمام إلا إن وقع اليأس ولم يعد إلى إمامته، وإن لم يكن للبغاة إمام
لم ينعزل الإمام المأسور، وإن وقع اليأس من خلاصه ويستنيب عن نفسه إن قدر على الاستنابة وإلا استنيب عنه
فلو خلع الإمام نفسه أو مات لم يصر المستناب إماما. قال الدميري: كان المعتصم بالله يدعى المثمن، لأنه كان ثامن
خلفاء بني العباس، ولد سنة ثمان ومائة لثمان عشرة خلت من شعبان، وهو الشهر الثامن من السنة، وفتح ثمان فتوحات،
ووقف ثمانية ملوك وثمانية أعداء ببابه، وعاش ثمانية وأربعين سنة، وكانت خلافته ثمان سنين وثمانية أيام، وخلف
ثمان بنين وثمان بنات، وثمانية آلاف دينار، وثمانية آلاف درهم، وثمانية آلاف فرس، وثمانية آلاف بعير
وبغل ودابة. وثمانية آلاف خيمة وثمانية آلاف عبد، وثمانية آلاف أمة وثمانية قصور، وكان نقش خاتمه:
الحمد لله، وهي ثمانية أحرف، وكانت عدد غلمانه الأتراك ثمانية عشر ألفا.
كتاب الردة
أعاذنا الله تعالى منها (هي) لغة الرجوع عن الشئ إلى غيره، وهي أفحش الكفر وأغلظه حكما، محبطة للعمل
إن اتصلت بالموت. قال الله تعالى * (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر) * الآية، وإن عاد إلى الاسلام لم يجب
عليه أن يعيد حجه الذي حجه قبل الردة خلافا لأبي حنيفة، هذا ما ذكره الأصحاب وجرى عليه الشيخان. ونقل
في المهمات عن نص الشافعي رحمه الله تعالى حبوط ثواب الأعمال بمجرد الردة، وقال إنه من مذهب الشافعي، ثم قال:
وهذه مسألة نفيسة مهمة غفل عنها الأصحاب اه‍. وليس في هذا مخالفة لكلامهم، فإن كلامهم أن الردة لا تحبط نفس
العمل بدليل أنهم جعلوه مأخذ الخلاف بيننا وبين الحنفية في لزوم الحج بعد الردة حبوط العمل وكلام النص في حبوط
ثواب العمل، وهي مسألة أخرى، ولا يلزم من سقوط ثواب العمل بدليل أن الصلاة في الدار المغصوبة
صحيحة مسقطة للقضاء مع كونها لا ثواب فيها عند أكثر العلماء. وشرعا (قطع) استمرار (الاسلام) ودوامه، ويحصل
133

قطعه بأمور (بنية) كفر، وذكر النية مزيد على المحرر والشرحين والروضة ليدخل من عزم على الكفر في المستقبل
فإنه يكفر حالا، لكن كان ينبغي على هذا التعبير العزم، فقد قال الماوردي: إن النية قصد الشئ مقترنا بفعله، فإن
قصده وتراخى عنه فهو عزم وسيأتي في كلام المصنف التعبير بالعزم (أو) قطع الاسلام بسبب (قول كفر أو فعل)
مكفر فقوله: قطع جنس يشمل قطع الاسلام وغيره من المعاني. وقوله الاسلام فصل يخرج به قطع غيره من العبادات
كالصلاة والصوم والحج فلا يكون ذلك كفرا، وقوله بنية إلخ أشار به إلى أن القطع يكون بأحد هذه الأمور الثلاثة،
وأورد عليه أن الردة تحصل وإن لم يوجد قطع: كما لو تردد في أنه يخرج من الاسلام أو يبقى فإنه ردة على ما
سيأتي،
وكذا من علق بين مرتدين فإنه مرتد على الأصح عند المصنف. وهذا الثاني غير وارد فإنه لم يرتد، وإنما ألحق بالمرتد
حكما ولا يرد الكافر المنتقل من دين إلى آخر وإن كان لا يقبل منه إلا الاسلام لأنه لا يسمى مرتدا شرعا وإنما يعطى
حكم المرتد. ثم قسم القول ثلاثة أقسام بقوله: (سواء قاله استهزاء أو عنادا أو اعتقادا) لقوله تعالى: * (قل بالله وآياته
ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفر تم بعد إيمانكم) * وكان الأولى تأخير القول في كلامه عن الفعل، لأن
التقسيم فيه وخرج بذلك من سبق لسانه إلى الكفر، أو أكره عليه، فإنه لا يكون مرتدا، وكذا الكلمات
الصادرة من الأولياء في حال غيبتهم، ففي أمالي الشيخ عز الدين بن عبد السلام أن الولي إذا قال: أنا الله، عزر التعزير
الشرعي، ولا ينافي الولاية لأنهم غير معصومين، وينافي هذا القول القشيري: من شرط الولي أن يكون محفوظا، كما أن
من شرط النبي أن يكون معصوما فكل من كان للشرع عليه اعتراض فهو مغرور مخادع، فالولي الذي توالت
أفعاله على الموافقة. وقد سئل ابن سريج عن الحسين الحلاج لما قال: أنا الحق فتوقف فيه وقال: هذا رجل خفي علي
أمره وما أقول فيه شيئا، وأفتى بكفره بذلك القاضي أبو عمرو الجنيد وفقهاء عصره، وأمر المقتدر بضربه ألف سوط
فإن مات، وإلا ضرب ألفا أخرى، فإن لم يمت قطعت يداه ورجلاه ثم يضرب عنقه، ففعل به جميع ذلك لست بقين
من ذي الحجة سنة تسع وثلاثمائة، والناس مع ذلك مختلفون في أمره، فمنهم من يبالغ في تعظيمه، ومنهم من يكفره
لأنه قتل بسيف الشرع، وجرى ابن المقري تبعا لغيره على كفر من شك في كفر طائفة ابن عربي الذين ظاهر كلامهم
عند غيرهم الاتحاد وهو بحسب ما فهموه من ظاهر كلامهم، ولكن كلام هؤلاء جار على اصطلاحهم، إذ اللفظ المصطلح
عليه حقيقة في معناه الاصطلاحي مجاز في غيره، والمعتقد منهم لمعناه معقد لمعنى صحيح، وأما من اعتقد ظاهره من
جهلة الصوفية فإنه يعرف، فإن استمر على ذلك بعد تعريفه صار كافرا، وسيأتي الكلام على هذا أيضا في كتاب السير
إن شاء الله تعالى، وخرج أيضا ما إذا حكى الشاهد لفظ الكفر، لكن الغزالي ذكر في الاحياء أنه ليس له حكايته إلا
في مجلس الحكم فليتفطن له. فإن قيل: قوله أو قول كفر فيه دور، فإن الردة أحد نوعي الكفر فكيف يقول أو قول
كفر؟ أجيب بأن المراد بالكفر في أحد الكفر الأصلي.
تنبيه: كان الأولى للمصنف أن يقول يقول بنية كفر أو قول أو فعل ليكون حذف لفظة كفر من الآخر لدلالة الأول
عليه، وتعبيره لا يتناول كفر المنافق فإنه لم يسبق له إسلام صحيح (فمن نفى) أي أنكر الصانع وهو الله سبحانه،
وهم الدهرية الزاعمون أن العالم لم يزل موجودا كذلك بلا صانع. فإن قيل: إطلاق (الصانع) على الله تعالى لم يرد
في الأسماء الحسنى، وإنما ذلك من عبارات المتكلمين المجوزين الاطلاق بالاشتقاق والراجح أن أسماءه تعالى توقيفية.
أجيب بأن البيهقي رواه في الأسماء والصفات وقال تعالى * (صنع الله الذي أتقن كل شئ) * وقال (ص) إن
الله صنع كل صانع وصنعته رواه الحاكم في أوائل المستدرك من حديث حذيفة وقال: إنه صحيح على شرط مسلم. ونفي
ما هو ثابت لله تعالى بالاجماع كالعلم والقدرة أو أثبت ما هو منفي عنه بالاجماع كحدوثه أو قدم العالم كما قاله الفلاسفة،
قال المتولي: أو أثبت له لونا أو اتصالا أو انفصالا.
تنبيه: اختلف في كفر المجسمة. قال في المهمات: المشهور عدم كفرهم، وجزم في شرح المهذب في صفة
134

الأئمة بكفرهم. قال الزركشي في خادمه: وعبارة شرح المهذب من جسم تجسيما صريحا. وكأنه احترز بقوله صريحا عمن
يثبت الجهة فإنه لا يكفر كما قاله الغزالي، وقال الشيخ عز الدين: إنه الأصح، وقال في قواعده: إن الأشعري رجع عند
موته عن تكفير أهل القبلة، لأن الجهل بالصفات ليس جهلا بالموصوفات اه‍. وأول نص الشافعي بتكفير القائل بخلق
القرآن بأن المراد كفران النعمة لا الاخراج عن الملة، قاله البيهقي وغيره من المحققين لاجماع السلف والخلف على
الصلاة خلف المعتزلة ومناكحتهم وموارثتهم. فإن قيل: قد كفر أصحابنا من اعتقد أن الكواكب فعالة فهلا كانت
المعتزلة كذلك؟. أجيب بأن صاحب الكواكب اعتقد فيها ما يعتقد في الاله من أنها مؤثرة في جميع الكائنات كلها بخلاف
المعتزلة فإنهم قالوا العبد يخلق أفعال نفسه فقط. (أو) نفى (الرسل) بأن قال: من يرسلهم الله، أو نفى نبوة نبي أو ادعى
نبوة بعد نبينا (ص) أو صدق مدعيها أو قال: النبي (ص) أسود أو أمرد أو غير قرشي، أو قال: النبوة مكتسبة أو
تنال رتبتها بصفاء القلوب أو أوحى إلي ولم يدع نبوة (أو كذب رسولا) أو نبيا أو سبه أو استخف به أو باسمه أو
باسم الله أو أمره أو وعده أو وعيده أو جحد آية من القرآن مجمعا على ثبوتها أو زاد فيه آية معتقدا أنها منه أو استخف
بسنة كما لو قيل له: كان النبي (ص) إذا أكل لعق أصابعه الثلاثة، فقال: ليس هذا بأدب، أو قيل له: قلم أظفارك فإنه
سنة، فقال: لا أفعل وإن كان سنة وقصد الاستهزاء بذلك كما صوبه المصنف، أو قال: لو أمرني الله ورسوله بكذا لم أفعل، أو
لو جعل الله القبلة هنا لم أصل إليها، أو لو اتخذ الله فلانا نبيا لم أصدقه ولو شهد عندي نبي بكذا أو ملك لم أقبله، أو قال
: إن كان ما قاله الأنبياء صدقا نجونا، أو لا أدري النبي أنسي أو جني، أو قال إنه جن، أو صغر عضوا من أعضائه احتقارا، أو
صغر اسم الله تعالى، أو قال: لا أدري ما الايمان احتقارا، أو قال لمن حوقل: لا حول لا تغني من جوع،
أو لو أوجب الله الصلاة
على مع مرضي هذا لظلمني، أو قال المظلوم: هذا بتقدير الله، فقال: الظالم أنا أفعل بغير تقديره، أو أشار بالكفر على مسلم
أو على كافر أراد الاسلام بأن أشار عليه باستمراره على الكفر، أو لم يلقن الاسلام طالبا منه، أو استمهل منه تلقينه كأن
قال له: اصبر ساعة لأنه اختار الكفر على الاسلام كما نقله المصنف عن المتولي وأقره، أو كفر مسلما بلا تأويل للكفر
بكفر النعمة كما نقله في الروضة عن المتولي وأقره، وهذا هو الظاهر الدال عليه الخبر وإن قال في شرح مسلم: إن الخبر
محمول على المستحل، وقال في الأذكار: يحرم تحريما مغلظا، أو نودي بيا يهودي أو نحوه فأجاب، وإن نظر فيه في الروضة
أو قيله له ألست مسلما؟ فقال: لا، أو سمى الله على شرب خمر، أو زنا استخفافا باسمه تعالى، أو قال: لا أخاف القيامة وقال
ذلك استخفافا كما قاله الأذرعي، أو كذب المؤذن آذانه كأن قال له تكذب، أو قال: قصعة من ثريد خير من العلم، أو قال
لمن قال أودعت الله مالي: أودعته من لا يتبع السارق إذا سرق وقال ذلك استخفافا كما قاله الأذرعي، أو قال: توفني إن
شئت مسلما أو كافرا، أو لم يكفر من دان بغير الاسلام كالنصارى، أو شك في كفرهم، أو قال: أخذت مالي وولدي
فماذا تصنع أيضا، أو ماذا بقي لم تفعله أو أعطى من أسلم مالا، فقال مسلم ليتني كنت كافرا فأسلم فأعطى مالا، أو قال
معلم الصبيان مثلا: اليهود خير من المسلمين لأنهم ينصفون معلمي صبيانهم (أو حلل محرما بالاجماع كالزنا) واللواط والظلم
وشرب الخمر، ومن هذا لو اعتقد حقية المكس، ويحرم تسميته حقا. قال الرافعي: ولم يستحسن الإمام إطلاق القول
بتكفير من خالف حكم الاجماع، ونحن لا نكفر من رد أصل الاجماع وإنما نبدعه ونضلله، وأجاب الزنجاني عن
ذلك بأن مستحل الخمر لا يكفر من حيث أنه خالف الاجماع فقط بل لأنه خالف ما ثبت ضرورة أنه من دين محمد (ص)،
والاجماع والنص عليه. وقال ابن دقيق العيد: الحق أن المسائل الاجماعية إن صحبها التواتر كالصلاة
كفر منكرها لمخالفة التواتر لا لمخالفة الاجماع، وإن لم يصحبها التواتر لا يكفر (وعكسه) بأن حرم حلالا بالاجماع كالبيع
والنكاح (أو نفى وجوب مجمع عليه) كان نفي وجوب ركعة من الصلوات الخمس (أو عكسه) بأن اعتقد وجوب
ما ليس بواجب بالاجماع كزيادة ركعة من الصلاة المفروضة أو وجوب صوم يوم من شوال.
135

تنبيه: لو قال أو نفى مشروعية مجمع عليه لشمل إنكار المجمع على ندبه، فقد صرح البغوي في تعليقه بتكفير
من أنكر مجمعا على مشروعيته من السنن كالرواتب وصلاة العيدين، وهو لأجل تكذيب التواتر، ويتعين فيما ذكر
أن يكون الحكم المجمع عليه معلوما من الدين بالضرورة وإن لم يكن فيه نص، بخلاف ما لا يعرفه إلا الخواص وإن كان
فيه نص كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب، وتحريم نكاح المعتدة فلا يكفر منكره للعذر بل يعرف الصواب
ليعتقده، وظاهر هذا أنه لو كان يعرفه أنه يكفر إذا جحده، وظاهر كلامهم أولا أنه لا بد أن يعرفه الخاص والعام،
وإلا فلا يكفر، وهذا هو الظاهر وأن يكون المحلل والمحرم والنافي والمثبت ممن لا يجوز خفاؤه عليه بخلاف غيره كمن
قرب عهده بالاسلام أو نشأ بعيدا عن العلماء. (أو عزم على الكفر غدا) مثلا أو علقه على شئ (أو تردد فيه) حالا
بطريان شك بناقض جزم النية بالاسلام، وهذا وارد على الحد كما مر، إذ لا قطع فيه (كفر) جواب لجميع ما مر من
المسائل المذكورة، فإن لم يناقض جزم النية به كالذي يجري في الكن فهو مما يبتلى به الموسوس ولا اعتبار به كما قاله
الإمام، واحترز المصنف: بكذب رسولا عما لو كذب عليه فإنه لا يكفر خلافا للشيخ أبي محمد فإنه قال: يكفر بذلك
ويراق دمه. قال الإمام: وهذه زلة، ولم أر ما قاله لاحد من الأصحاب والصواب أنه يعزر ولا يقتل ولا يكفر.
(والفعل المكفر ما تعمده) صاحبه (استهزاء صريحا بالدين أو جحودا له كإلقاء مصحف) وهو اسم للمكتوب من كلام الله
بين الدفتين (بقاذورة) بذال معجمة لأنه صريح في الاستخفاف بكلام الله تعالى والاستخفاف بالكلام استخفاف
بالمتكلم، ويلتحق بالمصحف كتب الحديث. قال الروياني: أو أوراق العلوم الشرعية (وسجود لصنم) قال ابن المقري
في هذا وفي إلقاء المصحف: إن فعل ذلك استخفافا أي على وجه يدل على الاستخفاف وكأنه كما قال شيخنا احترز
به في سجود الصنم عما لو سجد بدار الحرب فلا يكفر كما نقله القاضي عن النص وإن زعم الزركشي أن المشهور خلافه،
وفي إلقاء المصحف عما لو ألقاه في قذر خيفة أخذ الكافر له، إذ الظاهر أنه لا يكفر به وإن حرم عليه (أو) سجود
(شمس) أو غيرها من المخلوقات، وكذا السحر الذي فيه عبادة كوكب لأنه أثبت لله شريكا.
تنبيه: يكفر من نسب الأمة إلى الضلال أو الصحابة إلى الكفر أو أنكر إعجاز القرآن أو غير شيئا منه أو أنكر
الدلالة على الله في خلق السماوات والأرض بأن قال: ليس في خلقهما دلالة عليه تعالى، أو أنكر بعث الموتى من قبورهم
بأن يجمع أجزاءهم الأصلية ويعيد الأرواح إليها أو أنكر الجنة أو النار أو الحساب أو الثواب أو العقاب أو أقر بها
لكن قال: المراد بها غير معانيها، أو قال: إني دخلت الجنة وأكلت من ثمارها وعانقت حورها، أو قال: الأئمة أفضل
من الأنبياء، هذا إن علم معنى ما قاله لا إن جهل ذلك لقرب إسلامه أو بعده عن المسلمين فلا يكفر لعذره كما مر، ولا
إن قال مسلم لمسلم: سلبه الله الايمان، أو لكافر: لا رزقه الله الايمان لأنه مجرد دعاه بتشديد الامر والعقوبة عليه، ولا
إن دخل دار الحرب وشرب معهم الخمر وأكل لحم الخنزير، ولا إن قال الطالب ليمين خصمه وقد أراد الخصم أن
يحلف بالله تعالى: لا أريد الحلف به بل بالطلاق أو العتاق، ولا إن قال: رؤيتي إياك كرؤية ملك الموت، ولا إن قرأ
القرآن على ضرب الدف أو القصب، أو قيل له تعلم الغيب؟ فقال: نعم، أو خرج لسفر فصاح العقعق فرجع، ولا
إن صلى بغير وضوء متعمدا بنجس أو إلى غير القبلة ولم يستحل ذلك، ولا إن تمنى حل ما كان حلالا في زمن قبل
تحريمه كأن تمنى أن لا يحرم الله الخمر أو المناكحة بين الأخ والأخت أو الظلم أو الزنا أو قتل النفس بغير حق، ولا
إن شد الزنار على وسطه أو وضع قلنسوة المجوس على رأسه أو شد على وسطه زنارا أو دخل دار الحرب للتجارة أو لتخليص
الأسارى، ولا إن قال: النصرانية خير من المجوسية أو المجوسية شر من النصرانية، ولا إن قال: لو أعطاني الله الجنة
ما دخلتها. صرح بذلك كله في الروضة، وفيها أيضا لو قال: فلان في عيني كاليهودي والنصراني في عين الله أو بين يدي
الله، فمنهم من قال كفر، ومنهم من قال إن أراد الجارحة كفر، وإلا فلا. قال الأذرعي: والظاهر أنه لا يكفر مطلقا
136

لأنه ظهر منه ما يدل على التجسم، والمشهور أنا لا نكفر المجسمة، وفيها أيضا عن القاضي عياض: أنه لو شفي مريض
ثم قال: لقيت في مرضي هذا ما لو قتلت أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما لم أستوجبه، فقال بعض العلماء: يكفر
ويقتل لأنه يتضمن النسبة إلى الجور، وقال آخرون: لا يتحتم قتله ويستناب ويعزر اه‍. وقال المحب الطبري: الأظهر
أنه لا يكفر، وقال صاحب الأنوار في مسألة: لو أعطاني الله الجنة ما دخلتها أنه يكفر، والأولى كما قال الأذرعي: أنه إن
قال ذلك استخفافا أو استغناء كفر، وإن أطلق فلا. وقال الأسنوي في مسألة من صلى بنجس ما اقتضاه كلامه من
كفر من استحل الصلاة بنجس ممنوع فإنه ليس مجمعا على تحريمها، بل ذهب جماعة من العلماء إلى الجواز كما ذكره
المصنف في مجموعه اه‍. وحيث كان كذلك فلا يكفر.
فائدة: لا بدع ولا إشكال في العبارة المعزوة إلى إمامنا الشافعي رضي الله عنه في قوله: أنا مؤمن إن شاء الله فهي
مروية عن عمر، وصحت عن ابن مسعود وهي قول أكثر السلف والشافعية والمالكية والحنابلة وسفيان الثوري
والأشعرية، وحكي عن أبي حنيفة إنكارها. قال الدميري: وهو عجيب لأنها صحت عن ابن مسعود وهو
شيخ شيخ شيخ شيخه، والقائلون بجواز قولها اختلفوا في الوجوب، وذكر العلماء لها محامل كثيرة، والصواب
عدم الاحتياج إلى تلك المحامل لأن حقيقة أنا مؤمن هو جواب الشرط أو دليل الجواب، وكل منهما لا بد أن يكون
مستقبلا، فمعناه أنا مؤمن في المستقبل إن شاء الله، وحينئذ لا حاجة إلى تأويل، بل تعليقه واضح مأمور به
بقوله
تعالى: * (ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) * ويعتبر فيمن يصير مرتدا بشئ مما مر أن يكون مكلفا
مختارا (و) حينئذ (لا تصح ردة صبي) ولو مميزا (و) لا ردة (مجنون) تكليفهما، فلا اعتداد بقولهما
واعتقادهما.
تنبيه: المراد أنه لا يترتب عليهما حكم الردة وإلا فالردة فعل معصية كالزنا فكيف يوصف بالصحة عدمها
(و) لا ردة (مكره) وقلبه مطمئن بالايمان كما نص عليه الكتاب العزيز فإن رضي بقلبه فمرتد.
تنبيه: لو تجرد قلبه عند الاكراه على التلفظ عن اعتقاد إيمان وكفر، ففي كونه مرتدا وجهان، وينبغي أن
لا يكون مرتدا لأن الايمان كان موجودا قبل الاكراه، وقول المكره ملغى ما لم يحصل منه اختيار لما أكره عليه كما لو
أكره على الطلاق فإن العصمة كانت موجودة قبل الاكراه، فإذا لم يحصل منه اختيار لما أكره عليه لم يقع عليه طلاق
(ولو ارتد) ولم يستتب (فجن لم يقتل في جنونه) لأنه قد يعقل ويعود إلى الاسلام، فإن قتل مجنونا لم يجب على قاتله
شئ كما نقلاه عن التهذيب وأقراه، وقضية هذا أن التأخير مستحب. قال الأسنوي: وهو غير مستقيم، فإن تصحيح
وجوب التوبة ينفيه. قال الزركشي: وظاهر نص الام يقتضي وجوب التأخير وهو الوجه اه‍. وعلى هذا يعزر قاتله
لتفويته الاستتابة الواجبة، ويحمل قول المهذب لم يجب شئ، أي من قصاص أو دية.
تنبيه: أشار المصنف بالتعبير بالفاء إلى تعقب الجنون الردة للاحتراز عما إذا ارتد واستتيب فلم يتب، ثم جن
فإنه يجوز قتله في حال جنونه، ولو أقر بما يوجب حد الله تعالى، ثم جن لا يقام عليه حينئذ احتياطا لأنه قد يرجع
عن الاقرار، فلو استوفى منه حينئذ لم يجب فيه شئ بخلاف ما لو ثبت ببينة أو أقر بقذف أو قصاص ثم جن فإنه
يستوفى منه في جنونه لأنه لا يسقط برجوعه (والمذهب صحة ردة السكران) المتعدي بسكره كطلاقه وسائر تصرفاته،
وفي صحة استتابته حال سكره وجهان: أحدهما نعم كما تصح ردته وعليه الجمهور، ونقله الرافعي عن النص، وقال
العمراني: إنه المذهب المنصوص والأسنوي: أنه المفتى به، لكن يندب تأخيرها إلى الإفاقة خروجا من خلاف من قال
بعدم صحة توبته، وهو الوجه الثاني القائل بأن الشبهة لا تزول في تلك الحالة. أما غير المتعدي بسكره كأن أكره على
شربها فلا يحكم عليه بالارتداد كما في طلاقه وغيره (و) المذهب صحة (إسلامه) عن ردته، ولو ارتد صاحيا ثم
137

أسلم معاملة لأقواله معاملة الصاحي.
تنبيه: قضية الاعتداد بإسلامه في السكر أنه لا يحتاج إلى تجديد بعد الإفاقة وليس مرادا، فقد حكى ابن الصباغ
عن النص أنه إذا أفاق عرضنا عليه الاسلام، فإن وصفه كان مسلما من حين وصف الاسلام، وإن وصف
الكفر كان كافرا من الآن لأن إسلامه صح، فإن لم يتب قتل (وتقبل الشهادة بالردة مطلقا) أي على وجه الاطلاق
ويقضى بها من غير تفصيل كما في الروضة وأصلها تبعا للإمام، لأن الردة لخطرها لا يقدم الشاهد بها إلا عن
بصيرة
(وقيل يجب التفصيل) أي استفسار الشاهد بها لاختلاف المذاهب في التكفير، والحكم بالردة عظيم فيحتاط له. قال
الأذرعي: هذا هو المذهب الذي يجب القطع به. وقال الأسنوي: إنه المعروف عقلا ونقلا، قال: وما نقل عن الإمام
بحث له. وقال الدميري: والذي صححه الرافعي تبع فيه الإمام وهو لم ينقله عن أحد، وإنما هو من تخريجه. فإن
قيل: يدل على التفصيل ما قالاه فيمن مات عن ابنين مسلمين، فقال أحدهما: ارتد فمات كافرا أن الأظهر أنه لا بد
من بيان سبب كفره خلافا لما جرى عليه المصنف من عدم التفصيل كما سيأتي، لأنه قد لا يتوهم ما ليس بكفر كفرا.
أجيب بأنه هنا حي يمكنه أن يأتي بالشهادتين بخلافه بعد الموت، ولهذا قال بعضهم: ولما كانت الشهادة عند من يقبل
التوبة ك الشافعي قبلت مطلقة، ثم يقول له القاضي تلفظ بالشهادتين ولا حاجة إلى السؤال عن السبب، فإن امتنع كان
امتناعه قرينة لا يحتاج الشاهد معها إلى ذكر السبب، وإن كان عند من لا يقبل التوبة كالمالكي فلا تقبل إلا مفصلة،
واعترض بأنه وإن كان عند من يقبل التوبة فيبقى فيه عار على الانسان، وبهذا يرد على الجواب المتقدم، وحينئذ فلا
بد من التفصيل وهو كما قال شيخنا أوجه.
تنبيه: محل الخلاف كما قال البلقيني: إذا شهدا بأنه ارتد عن الايمان، فلو شهد بأنه ارتد ولم يقولا عن الايمان
أو قالا كفر ولم يقولا بالله لم تقبل هذه الشهادة قطعا (فعلى الأول) وهو قبولها مطلقا (لو شهدوا) المراد اثنان فأكثر
على شخص (بردة) ولم يفصلوا (فأنكر) المشهود عليه (حكم) عليه (بالشهادة) ولا ينفعه إنكاره، بل يلزمه أن يأتي
بما يصير به الكافر مسلما، لأن الحجة قامت والتكذيب والانكار لا يرفعه كما لو قامت البينة بالزنا فأنكره أو كذبهم
لم يسقط عنه الحد، فإن أتى بما يصيره مسلما قبل الحكم امتنع الحكم بالشهادة بالردة كما نص عليه الشافعي رضي
الله تعالى عنه، ولكن يحكم عليه بما يترتب عليها من بينونة زوجاته إذا كان قبل الدخول بهن أو بعده وانقضت العدة،
وهل ينعزل عن وظائفه التي يعتبر فيها الاسلام أو لا؟ خلاف الظاهر الأول.
تنبيه: شمل قوله: شهدوا بردة ما إذا شهدوا على إنشائه أو إقراره بالزنا فأنكره، لأنه لو أقر بهما ثم رجع قبل
رجوعه، وقوله: فعلى الأول لا يختص بالأول، بل الحكم كذلك إذا شرطنا التفصيل، فكان ينبغي للمصنف أن يقول
فعلى القولين أو يطلق التفريع، ولو لم تقم عليه بينة فطلب المدعى عليه من القاضي الحكم بعصمة دمه خوفا من أن
تقوم عليه بينة زور عند من لا يرى قبول توبته فللقاضي تجديد إسلامه والحكم بعصمة دمه كما أفتى به جمع من المتأخرين
وصوبه، وإن قال ابن دقيق العيد: ليس للحاكم ذلك إلا بعد اعترافه أو إقامة بينه عليه. وهل يجوز للشافعي مثلا أن
يشهد بالكفر أو بالتعرض بالقذف أو بما يوجب التعزير عند من يعلم أنه لا يقبل التوبة ويحد بالتعريض ويعزر
بأبلغ ما يوجبه الشافعي، والظاهر كما قال الزركشي المنع، فإن علم الشاهد أن لسانه سبق إلى كلمة كفر ولم يقصد ذلك،
فلا يحل له أن يشهد عليه قطعا، وقد حكى الرافعي مثله من الطلاق. (فلو) صدق شخص من شهد عليه بردة ولكن
(قال: كنت مكرها واقتضته قرينة) مشعرة بذلك (كأسر كفار) له (صدق بيمينه) عملا بالقرينة المشعرة بذلك،
وإنما حلف لاحتمال أنه كان مختارا، والظاهر كما قال الزركشي: أن هذه اليمين مستحبة (وإلا) بأن لم تقتضه
138

قرينة بأن كان في دار كفر وسبيله مخلى (فلا) يقبل قوله، فيحكم ببينونة زوجته غير المدخول بها ويطالب بالنطق
بالشهادتين لانتفاء القرينة (ولو) لم يقل الشاهد إن ارتد ولكن (قالا لفظ لفظ كفر) أو فعل فعله (فادعى
إكراها) بعد أن صدقهما على ذلك (صدق) بيمينه (مطلقا) بقرينة ودونها، لأنه ليس فيه تكذيب البينة
بخلاف المسألة قبلها لأن الاكراه ينافي الردة ولا ينافي التلفظ بكلمة الردة ولا الفعل المكفر، ويندب أن يجدد كلمة
الاسلام، فإن قتل قبل اليمين فهل يضمن لأن الردة لم تثبت، أو لا؟ لأن لفظ الردة وجد الأصل الاختيار: قولان
أوجههما كما قال شيخنا الثاني.
تنبيه: استشكل الرافعي تصوير هذه المسألة بأنه إن اعتبر تفصيل الشهادة، فمن الشرائط الاختيار فدعوى
الاكراه تكذيب الشاهد أولا فالاكتفاء بالاطلاق إنما هو فيما إذا شهدا بالردة لتضمنه حصول الشرائط، أما إذا قال
إنه تكلم بكذا فيبعد أن يحكم به ويقنع بأن الأصل الاختيار. وأجيب باختيار الأول ويمنع قوله: فمن الشرائط الاختيار
وباختيار الثاني، ولا يبعد أن يقنع بالأصل المذكور لاعتضاده بسكوت الشهود عليه مع قدرته على الدفع. فإن قيل:
في الروضة وأصلها في الاكراه في الطلاق أنه لو تلفظ به، ثم قال: كنت مكرها وأنكرت زوجته ذلك لم يقبل قوله إلا
أن يكون محبوسا أو كان هناك قرينة أخرى، فهلا كان هنا كذلك كما قال به البلقيني. أجيب بأن الحق هنا لله تعالى
فسومح فيه بخلافه في الطلاق، فإن الحق فيه لآدمي فشدد فيه (ولو مات) من هو (معروف بالاسلام عن ابنين مسلمين،
فقال أحدهما) أي الابنين (ارتد) أي الأب (فمات كافرا) وأنكر الآخر (فإن بين سبب كفره) كأن قال:
تكلم بما يوجب الكفر أو سجد لصنم (لم يرثه ونصيبه فئ) لبيت المال، لأن المرتد لا يورث (وكذا) يكون
نصيبه فيئا (إن أطلق) أي لم يبين سبب كفره (في الأظهر) لأنه أقر بكفره فعومل بمقتضى إقراره فلم يرث منه،
وهذا الترجيح تبع فيه المحرر، والثاني هو الأظهر في الشرح الصغير والروضة أنه يستفصل، فإن ذكر ما هو كفر كان
كافيا، وإن ذكر ما ليس كفرا كأن قال: كان يشرب الخمر صرف إليه، وإن لم يذكر شيئا وقف الامر كما نص عليه
الشافعي، ونقله الإمام عن العراقيين وأقره.
فروع: لو ارتد أسير أو غيره مختارا ثم صلى في دار الحرب حكم بإسلامه، لا إن صلى في دارنا، لأن صلاته
في دارنا قد تكون تقية خلافها في دارهم لا تكون إلا عن اعتقاد صحيح، ولو صلى كافرا صلى ولو في دارهم لم يحكم
بإسلامه بخلاف المرتد، لأن علقة الاسلام باقية فيه والعود أهون من الابتداء فسومح فيه إلا أن يسمع تشهده في الصلاة
فيحكم بإسلامه. فإن قيل: إسلامه حينئذ باللفظ والكلام في خصوص الصلاة الدالة بالقرينة. أجيب بأن فائدة
ذلك رفع إبهام أنه لا أثر للشهادة فيها لاحتمال الحكاية، ولو أكره أسير أو غيره على الكفر ببلاد الحرب لم يحكم بكفره
كما مر، فإن مات هناك ورثة وارثه المسلم، فإن قدم علينا عرض عليه الاسلام استحبابا لاحتمال أنه كان مختارا كما
لو أكره على الكفر بدارنا، فإن امتنع من الاسلام بعد عرضه عليه حكمنا بكفره من حين كفره الأول لأن امتناعه
يدل على أنه كافرا من حينئذ، فلو مات قبل العرض والتلفظ بالاسلام فهو مسلم كما لو مات قبل قدومه علينا. ثم
شرع في بيان أحكام الردة بعد وقوعها، فقال: (وتجب استتابة المرتد والمرتدة) قبل قتلهما لأنهما كانا محترمين بالاسلام،
فربما عرضت لهما شبهة فيسعى في إزالتها، لأن الغالب أن الردة تكون عن شبهة عرضت، وثبت وجوب الاستتابة
عن عمر رضي الله عنه، وروى الدارقطني عن جابر أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت فأمر النبي (ص)
أن يعرض عليها الاسلام، فإن تابت وإلا قتلت. ولا يعارض هذا النهي عن قتل النساء الذي استدل به
أبو حنيفة لأن ذلك محمول على الحربيات وهذا على المرتدات، ولهذا نص المصنف على المرأة إشارة إلى الخلاف، لكن
139

كان الأولى أن يعبر كما في المحرر بقتل المرتد إن لم يتب رجلا كان أو امرأة، لأن خلاف أبي حنيفة في قتلها، لا في
استتابتها، فإنه قال: تحبس وتضرب إلى أن تموت أو تسلم (وفي قول تستحب) استتابته (كالكافر) الأصلي. فإن قيل:
يدل لذلك أنه (ص) لم يستتب العرنيين. أجيب بأنهم حاربوا، والمرتد إذا حارب لا يستتاب (وهي) أي الاستتابة على
القولين معا (في الحال) في الأظهر، فإن تاب وإلا قتل، لأن قتله المرتب عليها حد، فلا يؤخر كسائر الحدود، وقد
مر أن السكران يسن تأخيره إلى الصحو، ولو سأل المرتد إزالة شبهة نوظر بعد إسلامه لا قبله، لأن الشبهة لا تنحصر،
وهذا ما صححه الغزالي كما في نسخ الرافعي المعتمدة وهو الصواب، ووقع في أكثر نسخ الروضة تبعا لنسخ الرافعي
السقيمة أن الأصح عند الغزالي المناظرة أولا، والمحكي عن النص عدمها، وإن شكا قبل المناظرة جوعا أطعم ثم
نوظر (وفي قول) يمهل فيها على القولين (ثلاثة أيام) لاثر عن عمر رضي الله تعالى عنه في ذلك، وأخذ به الإمام مالك.
وقال الزهري: يدعى إلى الاسلام ثلاث مرات، فإن أبى قتل، وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه يستتاب
شهرين.
وقال النخعي والثوري: يستتاب أبدا، وعلى التأخير يحبس مدة الامهال ولا يخلى سبيله. (فإن) لم يتب الرجل والمرأة
عن الردة: بل (أصرا) عليها (قتلا) لقوله (ص): من بدل دينه فاقتلوه رواه البخاري، ويقتله
الإمام أو نائبه إن كان حرا لأنه قتل مستحق لله تعالى فكان للإمام ولمن أذن له كرجم الزاني، هذا إن لم يقاتل، فإن
قاتل جاز قتله لكل من قدر عليه، ويجوز للسد فتل رقيقه المرتد على الأصح، ويقتل بضرب العنق دون الاحراق
ونحوه للامر بإحسان القتلة، فإن خالف وقتله بغيره أو قتله غير الإمام أو نائبه بغير إذنه عزر الأول لعدوله عن المأمور
به. والثاني لافتياته ولا شئ عليه من قصاص أو دية. نعم قتله مرتد قتل به كما مر في الجنايات. قال الماوردي:
ولا يدفن المرتد في مقابر المسلمين لخروجه بالردة عنهم، ولا في مقابر الكفار لما تقدم له من حرمة الاسلام اه‍. والذي
يظهر أن حرمة الاسلام انقطعت بموته كافرا فلا مانع من دفنه في مقابر الكفار، قد مر أن الردة أفحش الكفر (وإن)
كان كل من الرجل والمرأة ارتدا إلى دين لا تأويل لأهله كعبدة الأوثان ومنكري النبوات، ومن يقر بالتوحيد وينكر
نبوة محمد (ص) ثم (أسلم صح) إسلامه إذا أتى بالشهادتين، قال ابن النقيب في مختصر الكفاية: وهما أشهد أن لا إله إلا
الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وهذا يؤيد من أفتى من بعض المتأخرين بأنه لا بد أن يأتي بلفظ في أشهد الشهادتين،
وإلا لا يصح إسلامه. وقال الزنكلوني في شرح التنبيه: وهما لا إله إلا الله محمد رسول الله، وظاهره أن لفظه أشهد لا تشترط
في الشهادتين، وهو يؤيد من أفنى بعدم الاشتراط، وهي واقعة حال اختلف المفتون في الافتاء في عصرنا فيها، والذي
يظهر لي أن ما قاله ابن النقيب محمول على الكمال، وما قاله الزنكلوني محمول على أقل ما يحصل به الاسلام، فقد قال
(ص): أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله محمد رسول الله رواه البخاري ومسلم، ولا بد من ترتيب
الشهادتين بأن يؤمن بالله ثم رسوله، فإن عكس لم يصح ما في المجموع في الكلام على ترتيب الوضوء، وقال الحليمي:
إن الموالاة بينهما لا تشترط، فلو تأخر الايمان بالرسالة عن الايمان بالله تعالى مدة طويلة صح، قال: وهذا بخلاف
القبول في البيع والنكاح، لأن حق المدعو إلى دين الحق أن يدوم ولا يختص بوقت دون وقت فكأن العمر كله بمنزلة
المجلس (و) إذا قال كل منهما ذلك (ترك) ولو كان زنديقا، أو تكرر ذلك منه، ولا يشترط مضي مدة الاستبراء
لقوله تعالى * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *. نعم يعزر من تكرر ذلك منه لزيادة تهاونه
بالدين فيعزر
في المرة الثانية فما بعدها، ولا يعزر في المرة الأولى، وحكى ابن يونس الاجماع عليه. وقال أبو حنيفة: إنما يعزر في
الثالثة ونقل عن أبي إسحق المروزي أنه يقتل في الرابعة. قال الإمام: وعد هذا من هفواته اه‍. ولا يصح هذا عن
أبي إسحق، وإنما هو منسوب لإسحاق بن راهويه كما قاله القاضي حسين وغيره.
تنبيه: كان الأولى للمصنف أن يثني أسلم، وترك ليوافق ما قبله، ولكن يحصل بما قدرته (وقيل لا يقبل)
140

أي لا يصح (إسلامه إن ارتد إلى كفر خفي كزنادقة) وهم من يظهر الاسلام وبخفي الكفر كما قالاه هنا وفي الفرائض
وصفة الأئمة، وقالا في اللعان: هم من لا ينتحل دينا، وصوبه في المهمات، وقال الأذرعي أنه الأقرب فإن الأول هو المنافق
وقد غايروا بينهما (و) قيل لا يقبل إسلامه إن ارتد إلى كفر (باطنية) وهم القائلون بأن للقرآن باطنا وأنه المراد
منه دون الظاهر، وقيل: هم ضرب من الزنادقة يزعمون أن الله خلق شيئا ثم خلق منه شيئا آخر يدبر العالم، وسموا
الأول العقل والثاني النفس، وإن كان ارتد إلى دين يزعم أهله أن محمدا (ص) مبعوث إلى العرب خاصة، أو إلى
دين من يقول رسالته حق، لكنه لم يظهر بعد، أو جحد فرضا أو تحريما لم يصح إسلامه إلا أن يقر بأن محمدا (ص)
رسول إلى جميع الخلق، ويرجع الثاني عما اعتقده، ولا يكفي شهادة الفلسفي، وهو النافي لاختيار الله تعالى أن الله
علة الأشياء ومبدؤها حتى يشهد بالاختراع والاحداث من العدم، ولا يكفي الطبائعي القائل بنسبة الحياة والموت إلى
الطبيعة لا إله إلا المحيي المميت حتى يقول لا إله إلا الله ونحوه من أسمائه تعالى التي لا تأويل له فيها. وأما البرهمي وهو
موحد ينكر الرسل فإن قال مع لا إله إلا الله محمد رسول الله فهو مؤمن وإن لم يذكر غيره من الرسل، لا إن قال عيسى
وموسى وكل نبي قبل محمد (ص) رسل الله، لأن الاقرار برسالة محمد (ص) إقرار برسالة من قبله، لأنه شهد لهم
وصدقهم، فإن قيل: كما أن محمدا (ص) شهد لهم وصدقهم فقد شهدوا له وبشروا به. أجيب بأن شريعته ناسخة
لما قبلها باقية، بخلاف شريعة غيره. والمعطل إذا قال: محمد رسول الله قيل يكون مؤمنا، لأنه أثبت المرسل والرسول،
والأصح أنه لا بد أن يأتي بالشهادتين كغيره، ولو أقر يهودي برسالة عيسى لم يجبر على الاسلام، كما لو أقر ببعض شرائع
الاسلام كالصلوات الخمس، وتقبل توبة مكذبه (ص)، وكذا قاذفه على الأصح، وقال أبو بكر الفارسي: إنه يقتل
حدا، ولا يسقط بالتوبة. وقال الصيدلاني: يجلد ثمانين جلدة، لأن الردة ارتفعت بإسلامه وبقي جلده.
فائدة: يصح الاسلام بسائر اللغات كما قاله ابن الصباغ وغيره، وبإشارة الأخرى. نعم لو لقن العجمي الكلمة
العربية فقالها ولم يعرف معناها لم يكف، ويسن امتحان الكافر بعد الاسلام بتقريره بالبعث بعد الموت. ولو قال
بدل محمد رسول الله في الشهادتين: أحمد أو أبو القاسم رسول الله كفاه، ولو قال: النبي بدل رسول
الله كفاه لا الرسول فإنه ليس كرسول الله، فلو قال: آمنت بمحمد النبي كفى، بخلاف آمنت بمحمد الرسول، لأن النبي لا يكون إلا لله تعالى
والرسول قد يكون لغيره. وبخلاف آمنت بمحمد كما فهم بالأولى.
تنبيه: غير وسوى وما عدا أو نحوها في الاستثناء قالا في الاكتفاء بها كقوله لا إله غير الله، أو سوى الله، أو
ما عدا الله، أو ما خلا الله. ولو قال كافر: أنا منكم، أو مثلكم، أو مسلم، أو ولي محمد، أو أحبه، أو أسلمت، أو
آمنت لم يكن اعترافا بالاسلام لأنه قد يريد أنا منكم أو مثلكم في البشرية، أو نحو ذلك من التأويلات، فإن قال
: آمنت أو أسلمت، أو أنا مؤمن، أو مسلم مثلكم، أو أنا من أمة محمد (ص) أو دينكم حق، أو قال: أنا برئ
من كل من يخالف الاسلام، أو اعترف من كفر بإنكاري وجوب شئ بوجوبه ففيه طريقتان: إحداهما وهي ما
عليها الجمهور، وهي الراجحة لا يكون ذلك اعترافا بالاسلام. والثانية ونسبها الإمام للمحققين أنه يكون اعترافا به
ولو قال: أنا برئ من كل ملة تخالف الاسلام لم يكف على الطريقتين. لأنه لا ينفي التعطيل الذي يخالف الاسلام. وهو
ليس بملة، ولو قال: لأرحمن، أو لا بارئ إلا الله أو من آمن به المسلمون لم يكف كما قاله بعض المتأخرين خلافا
للحليمي. ومن قال: آمنت بالذي لا إله غيره لم يكن مؤمنا بالله. لأنه قد يريد الوثن، وكذا لا إله إلا المالك أو الرزاق
لأنه قد يريد السلطان الذي يملك أمر الجند ويرتب أرزاقهم، فإن قال: آمنت بالله ولم يكن على دين قبل ذلك صار مؤمنا
بالله فيأتي بالشهادة الأخرى، وإن كان مشركا لم يصر مؤمنا حتى يضم إليه وكفرت بما كنت أشركت به. ومن قال
بقدم غير الله كفى للايمان بالله أن يقول لا قديم إلا الله كمن لم يقل به ومن لم يقل به يكفيه أيضا: الله ربي.
141

(وولد المرتد إن انعقد قبلها) أي الردة (أو) انعقد (بعدها) أي فيها (وأحد أبويه مسلم فمسلم) ذلك الولد بالتبعة
للمسلم تغليبا للاسلام (أو) وأبواه (مرتدان فمسلم) أيضا لبقاء علقة الاسلام فيهما ولم يصدر منه كفر، وهذا ما رجحه
المحرر تبعا لجمع، وعليه لا يسترق (وفي قول) هو (مرتد) تبعا لهما، وعلى هذا لا يسترق في أصح الوجهين كما
لا يسترق أبواه، ولا يقتل حتى يبلغ ويستتاب، فإن أصر قتل (وفي قول) هو (كافر أصلي) لتولده بين كافرين
ولم يباشر الردة حتى يغلظ عليه (قلت: الأظهر) هو (مرتد) إذا لم يكن في أصول أبويه مسلم (ونقل العراقيون)
القاضي الحسين وابن الصباغ والبندنيجي وغيرهم (الاتفاق على كفره، والله أعلم) فإن كان في أصول أبويه مسلم
فهو مسلم تبعا له كما مر ذلك في باب اللقيط.
تنبيه: ما ادعاه من نقل الاتفاق اعتمد فيه قول القاضي أبي الطيب أنه لا خلاف فيه كما قاله في الروضة،
واعترض
بأن الصيمري شيخ الماوردي من كبارهم، وقد جزم بأنه مسلم، ولم يحك ابن المنذر عن الشافعي غيره، وقال البلقيني:
إن نصوص الشافعي قاضية به، وأطال في بيانه وذكر نحوه الزركشي، وفي تعبير المصنف بمرتد وكافر أصلي تسمح،
والأولى أن يقال فهو على حكم الكفر، وسكت الأصحاب هنا عما لو أشكل علوقه هل قبل الردة أو بعدها
والظاهر كما قال الدميري أنه على الأقوال، لأن الأصل في كل حادث تقديره بأقرب زمان، ويدل له كلامهم في الوصية
للحمل، وأولاد المبتدعة من المسلمين إذا كفرناهم الظاهر كما قاله الدميري أيضا أنهم مسلمون ما لم يعتقدوا بعد بلوغهم
كفرا، لأنهم ولدوا على الاسلام، واعتقاد الأب لا يسري إلى الولد، وقد تقدم في اللقيط حكم أطفال أولاد المشركين.
(وفي زوال ملكه) أي المرتد (عن ماله) الحاصل قبلها أو فيها بنحو اصطياد (بها) أي الردة (أقوال: أظهرها)
الوقف كبضع زوجته سواء التحق بدار الحرب أم لا فعليه (ان هلك مرتدا بأن زواله بها) أي الردة فما ملكه فئ وما
تملكه من احتطاب ونحوه باق على الإباحة (وإن أسلم بان أنه لم يزل) لأن بطلان أعماله تتوقف على هلاكه على الردة
فكذا زوال ملكه. والثاني يزول بنفس الردة لزوال العصمة بردته فماله أولى. والثالث لا يزول، لأن الكفر لا ينافي
الملك كالكافر الأصلي (و) يتفرع (على) هذه (الأقوال) أنه (يقضى منه) أ مال المرتد (دين لزمه قبلها) بإتلاف
أو غيره، لأنا إن قلنا ببقاء ملكه أو موقوف فواضح، وإن قلنا بزواله فهي لا تزيد على الموت، والدين يقدم على
حق الورثة، فكذا على حق الفئ، وإذا مات على الردة وعليه دين وفي، ثم إن بقي شئ صرف لبيت المال، وهل
ينتقل جميعه لبيت المال فيئا متعلقا به الدين كما تنتقل التركة للورثة كذلك أو لا ينتقل للفئ إلا الفاضل عن الدين؟
القياس الأول وإن كان ظاهر كلام مختصر التبريزي الثاني.
تنبيه: هل يصير محجورا عليه بنفس الردة أم لا بد من ضرب القاضي؟ فيه وجهان. وقيل قولان. قال
ابن النقيب: أصحهما الثاني، وجزم به جماعة. وقال الماوردي: إن الجمهور عليه، ولكن مقتضى كلام الشيخين
الأول، وهو الظاهر، وعلى الثاني هل هو كحجر الفلس، أو السفه، أو المرض؟. فيه أوجه: أصحها أولها (وينفق
عليه) أي المرتد زمن استتابته (منه) أي ماله، وتجعل حاجته للنفقة كحاجة الميت إلى التجهيز بعد زوال الملك
بالموت (والأصح يلزمه غرم إتلافه) مال غيره (فيها) أي الردة حتى لو ارتد جمع وامتنعوا عن الإمام ولم يصل
إليهم إلا بقتال، فما أتلفوا في القتال إذا أسلموا ضمنوه على الأظهر كما مرت الإشارة إليه في الباب الذي قبل هذا
وإن صحح في البيان عدم الضمان (و) الأصح يلزمه (نفقة زوجات وقف نكاحهن وقريب) لأنها حقوق متعلقة به
142

هذا هو المنصوص عليه في الام والمختصر، والثاني لا يلزمه ذلك لأنه لا مال له.
تنبيه: هذا الخلاف مفرع على القول بزوال ملكه كما ذكره في الشرح والروضة، فإن قلنا ببقاء ملكه أو موقوف
لزمه ذلك قطعا، وسكت المصنف عن نفقة الرقيق، قال في المطلب: وشك أنه ينفق عليه منه مطلقا، والظاهر كما قال
الأذرعي أن أم الولد إذا قلنا بزوال ملكه كالزوجة (وإذا وقفنا ملكه) وهو الأظهر كما مر وفرعنا عليه (فتصرفه)
الواقع منه في ردته (إن احتمل) أي قبل (الوقف) بأن قبل التعليق (كعتق وتدبير ووصية موقوف) لزومه كما قاله الإمام
(إن أسلم نفذ) بمعجمة: أي بان نفوذه (وإلا) بأن مات مرتدا (فلا) ينفذ، لأن الوقف لا يضره (وبيعه وهبته ورهنه
وكتابته) ونحوها مما لا يقبل الوقف (باطلة) بناء على بطلان وقف العقود وهو الجديد (وفي القديم) هي (موقوفة) بناء على
صحة وقف العقود، فإن أسلم حكم بصحتها، وإلا فلا.
تنبيه: ما ذكره في الكتابة من أنها على قولي وقف العقود حتى تبطل على الجديد هو المعتمد كما ذكره في المحرر هنا
وفي الكتابة، وصوبه في الروضة هنا، وإن رجحا في الشرحين والروضة في باب الكتابة صحتها، ورجحه البلقيني
(وعلى الأقوال) السابقة (يجعل ماله مع) أي عند (عدل) يحفظه (وأمته عند امرأة ثقة) أو من يحل له الخلوة بها كالمحرم
احتياطا لتعليق حق المسلمين به.
تنبيه: قد يفهم كلامه أنه يكفي بالجعل المذكور على قوله بقاء ملكه، وليس مرادا، بل عليه لا بد من ضرب
الحجر عليه كما نص عليه الشافعي رحمه الله (ويؤدي مكاتبه النجوم إلى القاضي) حفظا لها ويعنق بذلك، وإنما لم يقبضها
المرتد، لأن قبضه غير معتبر، ولو أدى في الردة زكاة وجبت عليه قبلها ثم أسلم قال القفال: ينبغي أن لا تسقط، ولكن
نص الشافعي على السقوط، لأن المراد بالنية هنا التمييز.
خاتمة: لو امتنع مرتدون ينحو حصن بدأنا بقتالهم، لأن كفرهم أغلظ كما مر، ولأنهم أعرف بعورات المسلمين،
واتبعنا مدبرهم، وذففنا على جريحهم، واستتبنا أسيرهم، وعليهم ضمان ما أتلفوه في حال القتال كما مر، ويقدم القصاص
على قتل الردة، وتجب الدية حيث لزمته في ماله مطلقا، لأنه عاقلة له معجلة في العمد ومؤجلة في غيره، فإن مات
حلت، لأن الاجل يسقط بالموت، ولا يحل الدين المؤجل بالردة، ولو وطئ مرتدة بشبهة كأن وطئها مكرهة،
أو استخدم المرتد أو المرتدة إكراها فوجوب المهر والأجرة موقوفان، ولو أتى في ردته ما يوجب حدا كأن زنى أو
سرق، أو قذف، أو شرب خمرا حد ثم قتل.
كتاب الزنا
هو بالقصر لغة حجازية، وبالمد لغة تميمية، واتفق أهل الملل على تحريمه، وهو من أفحش الكبائر، ولم يحل في ملة
قط، ولهذا كان حده أشد الحدود، لأنه جناية على الاعراض والأنساب. والأصل في الباب قوله تعالى: * (الزانية والزاني
فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) * والشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما - وهذه نسخ لفظها وبقي حكمها، وقد
رجم صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية، وله حكمان يختصان به: اشتراط أربعة في الشهادة، وإيجاب مائة جلدة، وحقيقته
الشرعية الموجبة للحد (إيلاج) حشفة أو قدرها من (الذكر) المتصل الأصلي من الآدمي الواضح ولو أشل وغير
143

منتشر وكان ملفوفا في خرقة كما هو قضية ما جزم به في التحقيق في باب الغسل، وصرح به الدارمي خلافا للديلمي
(بفرج) أي قبل أنثى ولو غوراء كما بحثه الزركشي فارقا بين ما هنا وما في باب التحليل من عدم الاكتفاء بالايلاج
ببناء التحليل على تكميل اللذة. (محرم) في نفس الامر (لعينه) أي الايلاج (خال عن الشبهة) المسقطة للحد
(مشتهى) طبعا بأن كان فرج آدمي حي، وقوله: (يوجب الحد) هو خبر عن قوله إيلاج، والحد هو الجلد والتغريب
على غير المحصن، والرجم على المحصن بالنص والاجماع، وخرج بمتصل من استدخلت ذكرا مقطوعا فلا حد عليها،
وبالأصلي الزائد، وبالآدمي والواضح من استدخلت ذكر بهيمة أو مشكل فلا حد عليها، وبنفس الامر ما لو وطئ
زوجته ظانا أنها أجنبية فلا حد، وما بقي من محترزات قيود الحد يأتي في المتن، وبما تقرر علم ما في الحد من الاجحاف.
قال ابن شهبة: وفيه زيادة لا حاجة إليها، وهي قوله خال عن الشبهة لخروج الشبهة بقيد التحريم، فإن وطئ الشبهة
لا يوصف بحل ولا حرمة على الأصح اه‍. لكن الشبهة ثلاثة أقسام: شبهة فاعل كأن يكون جاهلا، وشبهة محل كظن أنها
زوجته، وشبهة جهة كالنكاح بلا ولي، والذي لا يوصف بحل ولا حرمة هو القسم الأول.
تنبيه: قال البلقيني: لو ثنى ذكره وأدخل قدر الحشفة، ففي ترتب الأحكام علية توقف، والأرجح الترتيب
إن أمكن اه‍. وظاهر كلامهم في الحشفة حيث كانت موجودة أنه لا يعتبر إدخال غيرها فإنهم يقولون قدر الحشفة من
مقطوعها، وهذا هو الظاهر (ودبر ذكر و) دبر (أنثى) أجنبية (كقبل) للأنثى فيجب بالايلاج في كل من كل الدبرين
المسمى باللواط الحد (على المذهب) فيرجم المحصن ويجلد غيره ويغرب، لأنه زنا بدليل قوله تعالى: * (ولا تقربوا الزنا
إنه كان فاحشة) * وقال تعالى: * (أتأتون الفاحشة) *. وروى البيهقي عن أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أتى الرجل
الرجل فهما زانيان وفي قول يقتل محصنا كان أو غيره لحديث: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل
والمفعول به رواه أبو داود الترمذي وابن ماجة وصحح الحاكم إسناده، وعلى هذا يقتل بالسيف كالمرتد وقال:
إن
واجبه التعزير فقط كإتيان البهيمة.
تنبيه: شمل إطلاقه دبر عبده وهو المذهب، هذا حكم الفاعل. وأما المفعول به فإن كان صغيرا أو مجنونا أو
مكرها فلا حد عليه، ولا مهر له، لأن منفعة بضع الرجل غير متقومة وإن كان مكلفا مختارا جلد وغرب محصنا كان
أو غيره سواء أكان رجلا أم امرأة، لأن المحل لا يتصور فيه إحصان، وقيل: ترجم المرأة المحصنة. أما وطئ زوجته أو
أمته في دبرها فالمذهب أن واجبه التعزيز إن تكرر منه الفعل، فإن لم يتكرر فلا تعزير كما ذكره البغوي والروياني،
والزوجة والأمة في التعزير مثله سواء، واحترز (بإيلاج) عما تضمنه قوله (ولا حد بمفاخذة) بإعجام الذال، ولا بإيلاج
بعض الحشفة، ولا بإيلاجها في غير فرج كسرة، ولا بمقدمات وطئ، ولا بإتيان المرأة المرأة لعدم الايلاج بل يعزران
، ولا باستمنائه بيده بل يعزر. أما بيد من يحل له الاستمتاع بها فمكروه، لأنه في معنى العزل (و) احترز بمحرم
لعينه عن (وطئ زوجته في حيض) ونفاس (وصوم وإحرام) واستبراء فلا حد به فإن التحريم ليس لعينه بل
لأمور عارضة.
تنبيه: قد يخرج بمحرم وطئ حربية بقصد القهر والاستيلاء، فإنه يملكها بذلك ولا حد عليه، وإن لم يقصد
ذلك بقلبه وجب عليه الحد كما حكاه الإمام عن القفال في باب السرقة في الكلام على سرقة العين، وذكره الرافعي
هناك من غير نسبة إلى القفال، واحترز بخال عن الشبهة عن شبهة المحل التي تضمنها قوله (وكذا أمته المزوجة) والمشتركة
(والمعتدة) من غيره والمجوسية والوثنية والمسلمة وهو ذمي فلا حد بوطئها جزما، وقيل في الأظهر (و) كذا
(مملوكته المحرم) بنسب أو رضاع كأخته منهما أو بمصاهرة كموطوءة أبيه أو ابنه فلا حد بوطئها في الأظهر كما سيأتي
144

لشبهة الملك.
تنبيه: محل ذلك فيمن يستقر ملكه عليها كأخته، أما من لا يستقر ملكه عليها كالأم والجدة فهو زان قطعا كما قاله
الماوردي وغيره، واحترز عن شبهة الفاعل التي تضمنها قوله (ومكره) فلا حد عليه لحديث: رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه. وقوله (في الأظهر) راجع للمسألتين كما تقرر، لكنه عبر في الروضة كأصلها في المكره
بالأصح، وعبر في المحرر عن شبهة الفاعل بما إذا وجد امرأة على فراشه فوطئها على ظن أنها زوجته أو أمته، والثاني
يحد فيهما أما الأولى فلانه وطئ لا يستباح بحال فأشبه اللواط. وظاهر كلامهم على الأول أن وطئ أمته المحرم في دبرها
لا يوجب الحد وهو كذلك لشبهة الملك وإن نقل ابن الرفعة عن البحر المحيط أنه يوجبه، وأما في الثانية فلان انتشار الآلة
لا يكون إلا بشهوة واختيار، ومأخذ الخلاف التردد في تصوير الاكراه في الزنا، والصحيح تصويره لأن
الانتشار
تقتضيه الطبيعة عند الملابسة.
تنبيه: محل الخلاف في الرجل: أما المرأة فلا يجب عليها الحد قطعا. قاله في الوسيط.
فائدة: في سنن البيهقي أن عمر أتى بامرأة جهدها العط ش فمرت على راع فاستسقته فأبى أن يسقيها إلا أن تمكنه من
نفسها ففعلت فشاور الناس في رجمها. فقال علي: هذه مضطرة أرى أن يخلى سبيلها ففعل، وكان الأولى تأخير المكره
إلى قوله: وشرطه التكليف فيقول والاختيار، وتعبير المصنف يوهم عدم الخلاف في أمته المزوجة والمعتدة وليس
مرادا، بل الخلاف الذي في المحرم جار فيها.
فرع: لو وطئ امرأة على ظن أنها أمته المشتركة فبانت أجنبية حد كما رجحه في الروضة من احتمالين:
نقلها تبعا لبعض نسخ الرافعي عن الإمام لأنه علم التحريم فكان من حقه الامتناع، وقيل: لا حد عليه. وقال ابن
عبد السلام: إنه أظهر الاحتمالين لأنه ظن ما لو تحقق رفع عنه الحد. واحترز عن شبهة الطريق التي تضمنها قوله
(وكذا كل جهة أباحها) أي قال بالوطئ بها (عالم كنكاح بلا شهود) فقط كما قال به مالك أو بلا ولي فقط كما قال
به أبو حنيفة، أو بولي وشهود، ولكنه مؤقت وهو نكاح المتعة كما قال به ابن عباس رضي الله تعالى عنهم لا حد
بالوطئ فيه (على الصحيح) وإن اعتقد تحريمه لشبهة الخلاف، وقيل يجب على معتقد التحريم دون غيره، وقيل
يجب على معتقد الإباحة أيضا كما يحد الحنفي على شرب النبيذ، وفي قول يجب في نكاح المتعة لأنه ثبت نسخه، وابن
عباس رجع عنه كما رواه البيهقي.
تنبيه: محل الخلاف في النكاح المذكور كما قاله الماوردي أن لا يقارنه حكم، فإن حكم شافعي ببطلانه حد
قطعا، أو حنفي أو مالكي بصحته لم يحد قطعا، والضابط في الشبهة قوة المدرك كما صرح به الروياني وغيره لا عين الخلاف
كما ذكره الشيخان، فلو وطئ أمة غيره بإذنه حد على المذهب، وإن حكى عن عطاء حل ذلك. ويجب في الوطئ
في نكاح بلا ولي ولا شهود. قال القاضي: إلا في الدنيئة فلا حد فيها لخلاف مالك فيه، ويستثنى من الشبهة من زنى
بجارية بيت المال فيجب الحد بوطئها كما في سير الروضة، لأنه واحترز
بمشتهى عما تضمنه قوله (ولا) يستحق في بيت المال النفقة لا الاعفاف حد (بوطئ ميتة في الأصح) وإن كانت محرمة في الحياة خلافا لما في نكت
الوسيط، لأن هذا مما ينفر الطبع عنه فلا يحتاج إلى الزجر عنه بحد كشرب البول بل يعزر، والثاني يحد به كوطئ
الحية ولا يجب فيه مهر بحال، لأن الميت لا يستأنف ملكا (ولا) بوطئ (بهيمة في الأظهر) لأن الطبع السليم
يأباه فلم يحتج إلى زاجر بحد بل يعزر، وفي النسائي عن ابن عباس: ليس على الذي يأتي البهيمة حد، ومثل هذا
لا يقوله إلا عن توقيف، والثاني يقتل محصنا كان أو غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم: من أتى بهيمة فاقتلوه
واقتلوها معه رواه
الحاكم وصحح إسناده، والثالث يحد حد الزنا فيفرق فيه بين المحصن وغيره. وأما البهيمة المفعول بها ففيها أوجه:
145

أصحها لا تذبح، وقيل: تذبح إن كانت مأكولة، وقيل: تذبح مطلقا لظاهر الحديث، واختلفوا في علة ذلك: فقيل
لاحتمال أن تأتي بولد مشوه الخلق، فعلى هذا لا تذبح إلا إذا كانت أنثى، وقد أتاها في الفرج، وقيل إن في بقائها تذكارا
للفاحشة فيعير بها وهذا هو الأصح، فعلى هذا لا فرق بين الذكر والأنثى وإن كانت مأكولة وذبحت حل أكلها على
الأصح، وحيث وجب الذبح والبهيمة لغير الفاعل لزمه لمالكها إن كانت مأكولة ما بين قيمتها حية ومذبوحة، وإلا لزمه
جميع القيمة وقيل لا شئ لصاحبها لأن الشرع أوجب قتلها للمصلحة، وقد مر أن شرط الشبهة أن تكون قوية
المدرك مسقطة للحد ليخرج أيضا شبهة من استؤجرت للزنا فلذلك قال: (ويحد في) وطئ (مستأجرة) للزنا بها لانتفاء
الملك والعقد، وعقد الإجارة باطل ولا يورث شبهة مؤثرة كما لو اشترى خمرا فشربها، وعن أبي حنيفة أنه لا حد لأن
الإجارة شبهة، وعورض بأنها لو كانت شبهة لثبت النسب، ولا يثبت اتفاقا. فإن قيل: لم لم يراع خلافه هنا كما مر
في نكاح بلا ولي؟ أجيب بضعف مدركه هنا (و) يحد أيضا في وطئ (مبيحة) فرجها للوطئ، لأن البضع لا يباح
بالإباحة. وتحد هي أيضا في المسألتين (و) في وطئ (محرم) بنسب أو إرضاع أو مصاهرة (وإن كان تزوجها) لأنه
وطئ صادف محلا ليس فيه شبهة وهو مقطوع بتحريمه اه‍. فيتعلق به الحد.
تنبيه: أشار بقوله وإن كان تزوجها إلى خلاف أبي حنيفة فإنه قال: لا حد عليه لأن صورة العقد شبهة، وقال أحمد
وإسحق: يقتل ويؤخذ ماله لحديث فيه صححه يحيى بن معين.
فروع: لو ادعى الجهل بتحريم الموطوءة بنسب لم يصدق لبعد الجهل بذلك. قال الأذرعي: إلا إن جهل مع
ذلك النسب ولم يظهر لنا كذبه فالظاهر تصديقه، أو بتحريمها برضاع فقولان: أظهرهما كما قال الأذرعي تصديقه إن
كان ممن يخفى عليه ذلك، أو بتحريمها بكونها مزوجة أو معتدة وأمكن جهله بذلك صدق بيمينه، وحدت هي دونه إن
علمت تحريم ذلك، ويحد في وطئ نكاح أخت نكحها على أختها، وفي وطئ من ارتهنها، وفي وطئ مسلمة نكحها
وهو كافر، ووطئ عالما بالحال وفي وطئ وثنية أو مجوسية نكحهما مسلم، ويحد في وطئ مطلقته ثلاثا وذات زوج
وملاعنة ومعتدة لغيره ومرتدة، ولو زنى مكلف بمجنونة أو نائمة أو مراهقة حد، ولو مكنت مكلفة مجنونا أو مراهقا
أو استدخلت ذكر نائم حدت، ولا تحد خلية حبلى لم تقر بالزنا أو ولدت ولم تقر به، لأن الحد إنما يجب ببينة أو إقرار
كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وشرطه: أي إيجاب حد الزنا رجما كان أو جلدا في الفاعل أو المفعول به (التكليف)
فلا حد على صبي ومجنون لارتفاع القلم عنهما، ولكن يؤدبهما وليهما بما يزجرهما. ولو زنى وعنده أنه غير بالغ فبان
بالغا هل يحد أو لا؟ حكى الروياني فيه وجهين: ويظهر أنه لا حد عليه. وزاد المصنف على المحرر والشرحين والروضة
قوله: (إلا السكران) فإنه يحد وهو غير مكلف وتقدم الكلام عليه في كتاب الطلاق (وعلم تحريمه) فلا حد على
من جهل تحريم الزنا لقرب عهده بالاسلام أو بعده عن المسلمين لكن إنما يقبل منه بيمينه كما هو وكلام الشيخين
في الدعاوى فإن نشأ بينهم وادعى الجهل لم يقبل منه.
تنبيه: أفهم كلامه أنه لو علم التحريم وجهل الحد أنه يحد وهو الصحيح في زيادة الروضة، وبقي من الشروط
التزام الأحكام ليخرج الحربي والمستأمن. وأما الاختيار فعلم مما مر (وحد) الزاني (المحصن) من رجل أو امرأة
(الرجم) حتى يموت بالاجماع وتظافر الاخبار فيه كرجم ماعز والغامدية، ولا يجلد مع الرجم عند جماهير العلماء. وقد
مر أنه لا رجم على الموطوء في دبره، إذ لا يتصور الايلاج في دبره على وجه مباح حتى يصير به محصنا فحده كحد البكر.
والاحصان: لغة المنع، وشرعا جاء بمعنى الاسلام والبلوغ والعقل والحرية والعفة والتزويج ووطئ المكلف الحر في نكاح
صحيح وهو المراد هنا كما يؤخذ من قوله (وهو) أي المحصن (مكلف) لا معنى لاشتراط التكليف في الاحصان بعد
اشتراطه في مطلق وجوب الحد، وكان ينبغي أن يقول أو سكران على طريقته (حر) فالرقيق ليس بمحصن ولو مكاتبا
146

ومبعضا ومستولدة لأنه على النصف من الحر والرجم لا نصف له (ولو) هو (ذمي) أو مرتد لأن النبي (ص)
رجم اليهوديين كما ثبت في الصحيحين زاد أبو داود: وكانا قد أحصنا.
تنبيه: عقد الذمة شرط لإقامة الحد على الذمي لا لكونه محصنا، فلو غيب حربي حشفته في حال حرابته في
نكاح وصححنا أنكحة الكفار وهو الأصح فهو محصن حتى لو عقدت له ذمة فزنى رجم ومثل الذمي المرتد، وخرج
به المستأمن فإنا لا نقيم عليه حد الزنا على المشهور (غيب) المكلف وهو بهذه الصفات قبل أن يزني (حشفته) من
ذكره الأصلي العامل ولو مع لف خرقة خلافا لما في المطلب، أو غيبها غيره وهو نائم، أو غيب قدرها إن فقدها (بقبل)
أو وطئت الأنثى فيه (في نكاح صحيح) لأن الشهوة مركبة في النفوس، فإذا وطئ في نكاح صحيح ولو كانت الموطوءة
في عدة وطئ شبهة أو وطئها في نهار رمضان أو في حيض أو إحرام فقد استوفاها، فحقه أن يمتنع من الحرام، ولأنه يكمل
طريق الحل بدفع البينونة بطلقة أو ردة، واحترز بقوله حشفته عما لو غيب بعضها، وأما مفقودها فلا بد أن يغيب
قدرها، وبالقبل وهو من زيادة على المحرر عن الدبر، فلا يحصل الاحصان بالوطئ فيه، وبالنكاح عن ملك اليمين ووطئ
شبهة، وبالصحيح عن الفاسد كما قال (لا) في نكاح (فاسد) فإنه فيه غير محصن (في الأظهر) لأنه حرام، فلا
يحصل به صفة كمال، وبالثاني وعزى للقديم هو محصن، لأن الفاسد كالصحيح في العدة والنسب، فكذا في الاحصان
والجمهور قطعوا بالمنع كما في الروضة.
تنبيه: هذه الشروط كما تعتبر في الواطئ تعتبر أيضا في الموطوءة (والأصح) المنصوص (اشتراط التغيب) لحشفة
الرجل أو قدرها عند قطعها (حال حريته) الكاملة (وتكليفه) فلا يجب الرجم على من وطئ في نكاح صحيح وهو
صبي أو مجنون أو رقيق، وإنما اعتبر وقوعه في حال الكمال لأنه مختص بأكمل الجهات وهو النكاح الصحيح، فاعتبر
حصوله من كامل حتى لا يرجم من وطئ وهو ناقص كما مر، ثم زنى وهو كامل فيرجم من كان كاملا في الحالين وإن
تخللهما نقص كجنون ورق، فالعبرة بالكمال في الحالين. فإن قيل: يراد إدخال المرأة حشفة الرجل وهو نائم وإدخاله
فيها وهي نائمة فإنه يحصل الاحصان للنائم أيضا كما مر مع أنه غير مكلف عند الفعل. أجيب بأنه مكلف استصحابا
لحاله قبل النوم، والثاني لا يشترط ذلك فإنه وطئ يحصل به التحليل فكذا الاحصان.
تنبيه: سكتوا عن شرط الاختيار هنا، وقضية كلامهم عدم اشتراطه حتى لو وجدت الإصابة والزوج مكره عليها.
وقلنا بتصور الاكراه حصل التحصين وهو كذلك، وإن قال ابن الرفعة: فيه نظر (و) الأصح كما هو قضية كلام
المصنف ولكنه قال في الروضة: والأظهر (أن الكامل) من رجل أو امرأة (الزاني بناقص) كصغيرة (محصن)
لأنه حر مكلف وطئ في نكاح صحيح فأشبه ما إذا كانا كاملين، والثاني لا يكون بذلك محصنا لأنه وطئ لا يصير أحد
الواطئين محصنا، فكذلك الآخر كما لو وطئ بالشبهة.
تنبيه: عبارة المصنف لا يفهم المراد منها، لأن قوله بناقص لا يخلو إما أن يتعلق بالزاني أو بالكامل، فإن
علقته بالأول فسد المعنى، إذ يقتضي حينئذ أن الكامل إذا زاني بناقص محصن على الأصح، وليس مرادا، وإن علقته
بالثاني يصير قوله: الزاني سائبا، فلو قال: وأن الكامل بناقص محصن لكان أخصر وأقرب إلى المراد، ومن الشراح
من أجاب بأن قوله بناقص متعلق بمحذوف تقديره: وإن الكامل الزاني إذا كان كماله بناقص محصن، وغير بعض
الشراح لفظة الزاني بالباني أي الناكح وادعى صحة العبارة بذلك، ورد عليه بأنه إنما يقال بنى على أهله لا بنى بهم
كما قاله الجوهري وغيره (والبكر) وهو غير المحصن المكلف (الحر) من رجل أو امرأة حده (مائة جلدة)
لآية *
(الزانية والزاني) * ولاء فلو فرقها نظر، فإن لم يزل الألم لم يضر، وإلا فإن كان خمسين لم يضر، وإن كان دون ذلك
ضر وعلل بأن الخمسين حد الرقيق، وسمي جلدا لوصوله إلى الجلد (وتغريب عام) لرواية مسلم بذلك.
147

تنبيه: أفهم عطفه التغريب بالواو أنه لا يشترط الترتيب بينهما، فلو قدم التغريب على الجلد جاز كما صرح به
في الروضة وأصلها، وإن نازع فيه الأذرعي وقال إنه خلاف ما درج عليه السلف، وأفهم لفظ التغريب أنه لا بد من
تغريب الإمام أو نائبه، حتى لو أراد الإمام تغريبه فخرج بنفسه وغاب سنة ثم عاد لم يكف وهو الصحيح، لأن المقصود
التنكيل ولم يحصل، وابتداء للعام من حصوله في بلد التغريب في أحد وجهين، أجاب به القاضي أبو الطيب، والوجه
الثاني من خروجه من بلد الزنا، ولو ادعى المحدود انقضاء العام ولا بينة صدق لأنه من حقوق الله تعالى ويحلف استحبابا.
قال الماوردي: وينبغي للإمام أن يثبت في ديوانه أول زمان التغريب. ويغرب (إلى مسافة قصر) لأن ما دونها في حكم
الحضر لتوصل الاخبار فيها إليه. والمقصود إيحاشه بالبعد عن الأهل والوطن (فما فوقها) إن رآه الإمام، لأن عمر
غرب إلى الشام، وعثمان إلى مصر، وعليا إلى البصرة، وليكن تغريبه إلى بلد معين فلا يرسله الإمام إرسالا (وإذ
عين الإمام جهة فليس له) أي المغرب (طلب غيرها في الأصح) لأن ذلك أليق بالزجر، ومعاملة له بنقيض قصده،
والثاني له ذلك لأن المقصود إيحاشه بالبعد عن الوطن.
تنبيه: لو غرب على الأول إلى بلد معين، فهل يمنع من الانتقال إلى بلد آخر؟. وجهان: أصحهما كما في أصل
الروضة لا يمنع لأنه امتثل والمنع من الانتقال لم يدل عليه دليل، وما صححه الروياني من أنه يلزمه أن يقيم ببلد الغربة
ليكون كالحبس له، فلا يمكن من الضرب في الأرض لأنه كالنزهة يحمل كما قال شيخنا على أن المراد ببلد الغربة غير
بلده لأن ما عداه بلاد غربة، وبقوله: فلا يمكن من الضرب في الأرض أنه لا يمكن من ذلك في جميع جوانبها، بل
في غير جانب بلده فقط على ما عرف، ويجوز له أن يحمل معه جارية يتسرى بها مع نفقة يحتاجها، وكذا مال يتجر فيه
كما قاله الماوردي، وليس له أن يحمل معه أهله وعشيرته، فإن خرجوا معه لم يمنعوا، ولا يعتقل في الموضع الذي غرب إليه
كما قالاه لكن يحفظ بالمراقبة والتوكيل به لئلا يرجع إلى بلدته أو إلى ما دون المسافة منها، لا لئلا ينتقل إلى بلد آخر لما
مر من أنه لو انتقل إلى بلد آخر لم يمنع، فإن احتيج إلى الاعتقال خوفا من رجوعه إلى ما ذكر اعتقل، وكذا إن خيف
من تعرضه للنساء وإفسادهن فإنه يحبس كما قاله الماوردي كفا له عن الفساد، ولو عاد إلى البلد الذي غرب منه
أو إلى دون مسافة القصر منه رد واستؤنفت المدة على الأصح، إذ لا يجوز تفريق سنة التغريب في الحر، ولا نصفها
في غيره لأن الايحاش لا يحصل معه، وقضية هذا أنه لا يتعين للتغريب البلد الذي غرب إليه، وأشار إلى تفرده به
ولم يقف ابن الرفعة على نقل في ذلك، فقال: الأشبه أن يقال (ويغرب) زان
(غريب) له بلد (من إن قلنا بالاستئناف لم يتعين ذلك البلد بلد الزنا) تنكيلا وإبعادا عن موضع الفاحشة (إلى غير بلده) لأن القصد إيحاشه
وعقوبته وعوده إلى وطنه يأباه، ويشترط أن يكون بينه وبين بلده مسافة القصر فما فوقها ليحصل ما ذكر (فإن
عاد إلى بلده) الأصلي (منع منه في الأصح) معارضة له بنقيض قصده، ومقابل الأصح أنه لا يتعرض له وهو
احتمال للغزالي لا وجه كما يوهمه كلام المتن، ولو زنى الغريب في البلد الذي غرب إليه غرب إلى بلد آخر ودخلت مدة
بقية الأول مدة الثاني لتجانس الحديث، ولو زنى المسافر في طريقه غرب إلى غير مقصده لما مر به ونازع في ذلك
البلقيني، وقال: لا يحجر على الإمام في ذلك، بل إذا رأى تغريبه في جهة مقصده لم يمنع، ومن لا وطن له كالمهاجر إلينا
من دار الحرب ولم يتوطن بلدا يمهل حتى يتوطن ثم يغرب، وهذا لا ينافيه قول القاضي أنه يغرب من المكان الذي
قصده، ويغرب البدوي عن حلته وقومه (ولا تغرب امرأة) زانية (وحدها في الأصح بل مع زوج أو محرم) لخبر
لا تسافر المرأة إلا ومعها زوج أو محرم. وفي الصحيحين: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة
148

يوم إلا مع ذي محرم ولان القصد تأديبها، والزانية إذا خرجت وحدها هتكت جلباب الحياء، والثاني تغرب وحدها
لأنه سفر واجب عليها فأشبه سفر الهجرة. قال البلقيني: ونص عليه في موضعين من الام، وقال: إن النهي عن سفرها
إنما هو فيما لا يلزمها (ولو) لم يخرج الزوج أو المحرم إلا (بأجرة) لزمها ذلك وهو في مالها على الأصح إذا كان
لها مال لأنها مما يتم بها الواجب كأجرة الجلاد ولأنها من مؤن سفرها، فإن لم يكن لها مال فعلى بيت المال.
تنبيه: محل الخلاف إذا كان الطريق أمنا، وإلا فلا تغرب وحدها جزما، وقضية كلام المصنف أنه لا يكتفي
بالنسوة الثقاة وهو كذلك مع عدم أمن الطريق، وأما مع أمنها ففيه وجهان: أظهرهما أنه يكفي قياسا على الزوج
والمحرم. قال الرافعي: وربما اكتفى بعضهم بواحدة ثقة اه‍. والاكتفاء بها هو ما في الشامل وغيره. وقال ابن الرفعة:
إنه الأصح والبلقيني إنه المعتمد وصححه المصنف في مجموعه في نظيره من الحج مع أنه على التراخي فهذا أولى، وقضية
كلامهم أن الرجل يغرب وحده ولو أمرد، والظاهر ما قال الأذرعي وغيره: أن الأمرد الحسن الذي يخاف عليه الفتنة
يحتاج إلى محرم ونحوه (فإن امتنع) من ذكر من الخروج ولو (بأجرة لم يجبر في الأصح) كما في الحج، ولان فيه
تغريب من لم يذنب ولا يأثم بامتناعه كما بحثه في المطلب، والثاني يجبر للحاجة إليه في إقامة الواجب، وعلى الأول
يؤخر تغريبهما إلى أن يتيسر كما جزم به ابن الصباغ (و) حد غير الحر من (العبد) أو غيره إذا كان مكلفا (خمسون)
جلدة، لقوله تعالى * (فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) * والمراد الجلد لأن الرجم
قتل والقتل لا يتنصف. وروى مالك وأحمد عن علي رضي الله تعالى عنه أنه أتى بعبد وأمة زنيا فجلدهما خمسين
خمسين إذ لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى بجامع الرق، ولو عبر المصنف بمن فيه رق لعم الذكر والأنثى والمكاتب
وأم الولد المبعض، واستغنى عما قدرته، وقيل إن الحد يقسط على المبعض بقدر ما فيه من الحرية والرق فيكون على
حر النصف ثلاثة أرباع الجلد (ويغرب) من فيعرق (نصف سنة) لعموم الآية، ولأنه يتبعض فأشبه الجلد، وعلى التقسيط
في المبعض يغرب تسعة أشهر (وفي قول) يغرب من فيه رق (سنة) لأن ما يتعلق بالطبع لا يفرق فيه بين الحر وغيره كمدة
العنة والايلاء (وفي قول لا يغرب) لأن فيه تفويت حق السيد لأن الرقيق لا أهل له فلا يستوحش بالتغريب، وأجاب
الأول بأنه إذا ألف موضعا شق عليه فراقه ولا يبالي بحق السيد في العقوبات كما يقطع بالسرقة ويقتل بالردة، والأشبه
كما قال الزركشي: أنه يعتبر في تغريب الأمة خروج محرم معها كالحرة ومؤنة المغرب في مدة تغريبه على نفسه إن كان
حرا، وعلى سيده إن كان رقيقا، وإن زادت على مؤنة الحضر.
تنبيه: لو زنى العبد المؤجر حد، وهل يغرب في الحال ويثبت للمستأجر الخيار أو يؤخر إلى مضي المدة؟ وجهان
حكاهما الدارمي. قال الأذرعي: ويقرب أن يفرق بين مدة الإجارة وقصرها قال: ويشبه أن يجئ ذلك في الأجير
الحر أيضا اه‍. والأوجه كما قال شيخنا إنه لا يغرب إن تعذر عمله في الغربة كما لا يحبس لغريمه إن تعذر عمله في الحبس بل
أولى لأن ذلك حق آدمي وهذا حق الله تعالى بخلاف المرأة إذا توجه عليها حبس فإنها تحبس ولو فات التمتع على الزوج
لأنه لا نهاية له وقضية كلامهم إنه لا فرق فيما ذكر بين العبد والمسلم والكافر وهو كذلك، وقول البلقيني لا حد على الرقيق الكافر
لأنه يلتزم الأحكام بالذمة إذ لا جزية عليه فهو كالمعاهد والمعاهد لا يحد مردود لقول الأصحاب للكافر أن يحد عبده
الكافر، ولان الرقيق تابع لسيده فحكمه حكمه بخلاف المعاهد، ولأنه لا يلزم من عدم لزوم الجزية عدم الحد كما في المرأة
الذمية (ويثبت) الزنا بأحد أمرين (ببينة) عليه وهي أربعة شهود لآية * (واللاتي أتين الفاحشة من نسائكم) *.
تنبيه: أطلق البينة ويشترط فيها التفصيل فتذكر بمن زنى لجواز أن لا حد عليه بوطئها، والكيفية لاحتمال إرادة
المباشر فيما دون الفرج، وتتعرض للحشفة أو قدرها وقت الزنا فيقولون: رأيناه أدخل ذكره أو قدر حشفته منه في فرج
149

فلانة على وجه الزنا. وينبغي كما قال الزركشي أن يقوم مقامه زنى بها زنا يوجب الحد إذا كانوا عارفين بأحكامه،
ويشترط تقديم لفظ أشهد على أنه زنى ويذكر الموضع فإنهم لو اختلفوا فيه بطلت الشهادة (أو إقرار) حقيقي ولو (مرة)
لأنه (ص) رجم ماعزا والغامدية بإقرارهما رواه مسلم.
تنبيه: أشار بقوله: مرة إلى خلاف مذهب أبي حنيفة و أحمد حيث اعتبر الاقرار أربعا لحديث ماعز رضي الله
عنه. وأجاب أئمتنا بأنه (ص) إنما كرره على ماعز في خبره لأنه شك في عقله ولهذا قال: أبك جنون،
ولم يكرره في خبر الغامدية، ويعتبر كون الاقرار مفصلا كالشهادة فلا يستوفي القاضي الحد بعلمه كما قاله المصنف في
القضاء، بخلاف سيد العبد فإنه يستوفيه من العبد بعلمه، أما الاقرار التقديري وهو اليمين المردودة بعد نكول الخصم
فلا يثبت به الزنا ولكن يسقط به الحد عن القاذف، وأورد عن طريق آخر مختص بالمرأة وهو ما إذا قذفها الزوج ولاعن
ولم تلاعن هي فإنه يجب عليها الحد كما ذكراه في بابه.
فروع: يكفي في ثبوت الحد إشارة الأخرى بالاقرار بالزنا، وإن رئي رجل وامرأة أجنبيان تحت لحاف عزرا
ولم يحدا ويقام الحد في دار الحرب إن لم يخف فتنة في نحو ردة المحدود والتحاقه بدار الحرب، ويسن للزاني ولكل من
ارتكب معصية الستر على نفسه لخبر: من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا
عليه الحد رواه الحاكم والبيهقي بإسناد جيد، فإظهارها ليحد أو يعزر خلاف المستحب، وأما التحدث بها تفكها لحرام
قطعا للأخبار الصحيحة فيه. وأيضا فقد يسن له ذلك بترك الشهادة إن رآه مصلحة فإن تعلق بتركها إيجاب حد على
الغير كأن شهد ثلاثة بالزنا أثم الرابع بالتوقف ويلزمه الأداء. أما ما يتعلق بحق آدمي كقتل أو قذف فإنه يستحب له بل يجب
عليه أن يقر به ليستوفى منه لما في حقوق الآدميين من التضييق، ويحرم العفو عن حد الله تعالى والشفاعة فيه لقوله (ص)
لأسامة لما كلمه في شأن المخزومية التي سرقت أتشفع في حد من حدود الله تعالى ثم قام فخطب فقال: إنما أهلك الذين
من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة
بنت محمد سرقت لقطعت يدها رواه الشيخان. (ولو أقر) بالزنا (ثم رجع) عنه (سقط) الحد عنه، لأنه (ص)
عرض لماعز بالرجوع بقوله: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت فلو لم يسقط به الحد لما كان له معنى، ولأنهم لما رجموه
قال: ردوني إلى رسول الله (ص) فلم يسمعوا، وذكروا ذلك للنبي (ص). فقال: هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله عليه.
قال ابن عبد البر: هذا أوضح دليل على أنه يقبل رجوعه، لكن لو قتل بعد الرجوع لم يقتص من قاتله لاختلاف العلماء
في سقوط الحد بالرجوع ويضمن بالدية كما قال ابن المقري، لأن الضمان بها بجامع الشبهة ويحصل الرجوع بقوله: كذبت،
أو رجعت عما أقررت به أو ما زنيت أو كنت فأخذت أو نحو ذلك، وسواء رجع بعد الشروع في الحد أو قبله، فإن رجع
في أثنائه فكمل الإمام متعديا بأن كان يعتقد سقوطه بالرجوع فمات بذلك، هل يجب عليه نصف الدية لأنه مات بمضمون
وغيره أو توزع الدية على السياط؟ قولان: أقربهما كما قال شيخنا الثاني كما لو ضربه زائدا على حد القذف ويسن
لمن أقر بزنا أو شرب مسكرا الرجوع كما يستتر ابتداء كما رجحه في الروضة.
فروع: لو قال: زنيت بفلانة فأنكرت، وقالت: كان تزوجني فمقر بالزنا وقاذف لها فيلزمه حد الزنا وحد القذف
فإن رجع سقط حد الزنا وحده، وإن زنيت بها مكرهة لزمه حد الزنا لا القذف ولزمه لها مهر، فإن رجع عن إقراره سقط
الحد لا المهر لأنه حق آدمي، ولو شهد بإقراره بالزنا فكذبهم لم يقبل تكذيبه، لأنه تكذيب للشهود والقاضي، ولو أقر
بالزنا ثم شهد عليه أربعة بالزنا ثم رجع عن الاقرار هل يحد؟ وجهان: أحدهما يحد لبقاء حجة البينة كما لو شهد عليه
ثمانية فرد أربعة، وثانيهما لا إذ لا أثر للبينة مع الاقرار. وقد بطل ونقلهما الماوردي في ذلك وفي عكسه، وقال: الأصح
عندي اعتبار أسبقهما، وينبغي كما قال شيخي: أن المعول على البينة حيث وجدت، لأن البينة في هذا الباب أقوى كما
أن الاقرار في المال أقوى، إلا إذا أسند الحكم للاقرار، فإنه يعمل به، قدمت البينة عليه أو تأخرت.
150

تنبيه: قد يفهم كلام المصنف عدم سقوط الحد بعد ثبوته بالبينة، وهو كذلك فلا يسقط بالرجوع كما لا يسقط
هو ولا الثابت بالاقرار بالتوبة، لكن استثنى منه صورتان: الأولى ما إذا أقيمت عليه البينة ثم ادعى الزوجية كما نص
عليه الشافعي قال الزركشي: وما نقله عن الإمام في السرقة مما يخالفه مردود، الثانية: الاسلام فإذا ثبت زنا
الذمي ببينة ثم أسلم سقط عنه الحد، كما ذكره في زيادة الروضة آخر السير (ولو قال) المقر بالزنا (لا تحدوني أو هرب)
من إقامة الحد (فلا) يسقط عنه (في الأصح) لأنه قد صرح بالاقرار ولم يصرح بالرجوع، ولكن يكف عنه في الحال
ولا ينبع، فإن رجع فذاك وإلا حد، وإن لم يكف عنه فمات فلا ضمان لأنه (ص) لم يوجب عليهم في قصة ماعز شيئا،
والثاني يسقط لاشعاره الرجوع.
تنبيه: لا يشترط حياة الشهود ولا حضورهم حالة الحكم، ولا قرب عهد الزنا فتقبل الشهادة به، وإن تطاول
الزمان. ولما فرغ من مسقط الاقرار بالزنا شرع في مسقط البينة فقال: (ولو شهد أربعة) من الرجال (بزناها وأربع
نسوة) أو رجلان، كما قال البلقيني، أو رجل وامرأتان كما قاله غيره. (أنها عذراء) بمعجمة: أي بكر،
سميت بذلك
لتعذر جماعها وصعوبته (ولم تحد هي) لشبهة بقاء العذرة، والحد يدرأ بالشبهات، لأن الظاهر من حالها أنها لم توطأ
(ولا قاذفها) لقيام البينة بزناها، واحتمال عود بكارتها لترك المبالغة في الافتضاض. قال البلقيني: هذا إذا لم تكن غوراء
يمكن تغييب الحشفة مع بقاء البكارة، فإن كان كذلك حدت لثبوت الزنا وعدم التنافي اه‍. وتقدم الفرق بينه وبين
التحليل: أن التحليل مبني على تكميل اللذة، ولا الشهود أيضا. لقوله تعالى * (ولا يضار كاتب ولا شهيد) * قال القاضي:
وتسقط حضانتها بلا خلاف.
تنبيه: ما أطلقه المصنف وغيره من عدم حد قاذفها قيده القاضي الحسين بما إذا كان بين الشهادتين زمن بعيد
يمكن عود العذرة فيه، فإن شهدوا أنها زنت الساعة وشهدن بأنها عذراء وجب الحد، ولو شهد عليها أربعة بالزنا وأربع
بأنها رتقاء فلبس عليها حد الزنا، ولا عليهم حد القذف لأنهم رموا من لا يمكن جماعه (ولو عين شاهد) من الأربعة
(زاوية) من زوايا البيت (لزناه، و) عين (الباقون) منهم زاوية (غيرها لم يثبت) أي الحد لأنهم لم يتفقوا على
زنية واحدة فأشبه ما لو قال بعضهم زنى بالغداة، وبعضهم بالعشي.
تنبيه: سكت المصنف عن سقوط الحد عن القاذف، والظاهر كما قال الزركشي عدم سقوطه، ويجب الحد على
الشهود في الأظهر لأن عددهم لم يتم في زنية قال الزركشي: ولا يبعد عدم الحد على الشهود إذا تقاربت الزوايا لامكان
الزحف مع دوام الايلاج (و) بعد ثبوت حد الزنا (يستوفيه الإمام) الأعظم (أو نائبه) فيه (من) زان (حر)
للاتباع (و) من (مبعض) لأنه لا ولاية للسيد على الحر منه، والحد متعلق بجملته.
تنبيه: في معنى المبعض العبد الموقوف كله أو بعضه بناء على الأظهر أن الملك فيه لله تعالى، وعبد
بيت المال، وعبد محجوره، ومستولدة الكافر، والعبد الموصى بإعتاقه إذا زنى بعد موت الموصى، وقبل إعتاقه وهو يخرج من الثلث كما
قاله البلقيني، بناء على أن إكسابه له وهو المذهب ومعتبر الحرية حال الوجوب، ولو زنى ذمي حر ثم نفض العهد واسترق
أقام الإمام عليه الحد دون سيده كما في الروضة وأصلها، وخرج بالإمام أو نائبه غيره، فلو استوفى الجلد واحد من
الناس لم يقع حدا ولزمه الضمان، لأن الحد يخلف وقتا ومحلا فلا يقع حد إلا بإذن الإمام، بخلاف القطع. قال ابن
عبد السلام: وإنما لم يفوض لأولياء المزني بها، لأنهم قد لا يستوفونه خوفا من العار. قال القاضي: ولا بد في إقامة
الحدود من النية حتى لو ضرب لمصادرة أو غيرها وعليه حدود لم يحسب منها. وقال القفال: لا يحتاج فيها إلى نية حتى
151

لو حد بنية الشرب فظهر أنه حده للزنا جاز، لأنه لو أخطأ من يده اليمنى إلى اليسرى في السرقة أجزأ، وعلى هذا لو
أن الإمام جلد رجلا مائة ظلما فبان أن عليه حد الزنا سقط عنه: كما لو قتل رجلا فبان أنه قاتل أبيه اه‍.
والأشبه كما
قال الأذرعي ما قاله القاضي في صور جلده ظلما. وأما ما قبلها فالاجزاء فيه ظاهر، لأنه قصد الحد، فلا عبرة بظنه أنه
عن الشرب.
فرع: لو زنى الإمام الأعظم لم ينعزل، ويقيم عليه الحد من ولى الحكم عنه كما قاله القفال (ويستحب) عند استيفاء
الحد سواء أثبت بالبينة أم بالاقرار (حضور الإمام، و) حضور (شهوده) أي الزنا إن ثبت بهم للخروج من خلاف
أبي حنيفة، فإنه قال بوجوب حضورهم لنا أنه صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية وماعزا ولم يحضرهما وقال لأنيس: فإن اعترفت فارجمها،
ولم يقل فأعلمني حتى أحضر، ولا قال له أحضر معك جمعا، وقياسا على الجلد، ويسن حضور جمع من الرجال
المسلمين الأحرار لقوله تعالى * (وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين) *. قال الشافعي رضي الله عنه: وأقلهما أربعة عدد شهود
الزنا، والسنة أن يبدأ الإمام بالرجم، ثم الناس إن ثبت بالاقرار، وإن ثبت بالبينة بدأ به الشهود ثم الإمام ثم الناس.
قال الماوردي: وتعرض عليه التوبة قبل رجمه لتكون خاتمة أمره، فإن حضر وقت صلاة أمر بها، وإن تطوع
مكن من ركعتين، وإن استسقى ماء سقي، وإن استطعم لم يطعم، لأن الشرب لعطش سابق والاكل لشبع مستقبل
(ويحد الرقيق سيده) بنفسه أو نائبه إذا كان عالما بقدر الحد وكيفيته وإن لم يأذن له الإمام لخبر أبي داود: أقيموا الحدود
على ما ملكت أيمانكم، وفي خبر الصحيحين: إذا زنت أمة أحدكم فليحدها ولا يثرب عليها بالمثلثة: أي لا يوبخها
ولا يعيرها، وقيل: لا يبالغ في جلدها حتى يدميها، ويسن للسيد أن يبيع الأمة إذا زنت ثالثة لخبر ورد بذلك، ويجب
عليه أن يبين ذلك لمشتريها.
تنبيه: لو كان السيد امرأة هل تقيمه هي أو وليها أو السلطان؟ فيه أوجه. أصحها أولها كما شمله إطلاق
المصنف، ويستثنى من إطلاقه السفيه فلا يقيم الحد على رقيقه كما قاله الزركشي لخروجه عن أهلية الاستصلاح والولاية
وشمل إطلاقه الحد حد الزنا وباقي الحدود حتى القطع وقتل الردة والمحاربة، وهو الأصح لاطلاق الخبر السابق، ولو كان
الرقيق مشتركا حده ملاكه بتوزيع السياط على الملك، ويفوض المنكسر إلى أحدهم أو غيرهم، وفي جواز إقامة
الولي من أب وجد وحاكم ووصي وقيم في رقيق المولى عليه من طفل وسفيه ومجنون وجهان قال في أصل الروضة:
ويشبه أن يقال إن قلنا الحد إصلاح فله إقامته، أو ولاية ففيه الخلاف، وقضيته ترجيح الجواز. قال ابن عبد السلام
في قواعده: وإنما يقيم السيد الحد على عبده إذا لم يكن بينهما عداوة ظاهرة. قال الزركشي: ويشكل بما إذا كان
المقذوف السيد فإنهم أجازوا له استيفاءه (أو) يحده (الإمام) لعموم ولايته فأيهما فعل وقع الموقع، ولكن السيد
أولى كما صححه في زيادة الروضة لثبوت الحديث فيه، ولأنه أستر.
تنبيه: العبرة بكونه سيدا حال إقامة الحد، فإذا زنى الرقيق فباعه سيده كان إقامة الحد لمشتريه (فإن تنازعا)
أي الإمام والسيد في حد الرقيق (فالأصح) من احتمالات للإمام يحده (الإمام) الأعظم أو نائبه لعموم ولايته. والثاني
السيد لغرض إصلاح ملكه. والثالث إن كان جلدا فالسيد، أو قطعا أو قتلا فالإمام.
تنبيه: يستثنى من إطلاقه ما لو زنى ذمي ثم نقض العهد ثم استرق فإن الحد إنما يقيمه عليه الإمام، لأنه لم
يكن مملوكا يومئذ. فإن قيل: قد مر أن الرقيق لو زنى ثم باعه سيده كان للمشتري إقامة الحد عليه ولم يكن مملوكا له
حال الزنا فالعبر بحالة الاستيفاء. أجيب بأن استيفاء الحد هنا يثبت للإمام أولا، واسترقاقه بعد ثبوته لا يمنع استيفاءه،
لأنه لم يثبت لسيده ابتداء، وأما فيما مر فثبت للسيد، وهو للاستصلاح، ولا وجه لإقامة البائع الحد عليه لخروجه
عن ملكه فصار الاستيفاء مترددا بين الإمام والمشتري (و) الأصح (أن السيد يغربه) كما يجلده لاندراجه في خبر
152

أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم والثاني لا، لعدم ذكره في الحديث المار، فإنه ذكر فيه الجلد فقط، وأجاب
الأول بأن سكوته في الحديث لا ينافيه، وقد ثبت ذلك عن عمر رضي الله تعالى عنه.
تنبيه: مؤنة تغريب الرقيق في بيت المال، فإن فقد فعلى السيد، وعليه مؤنته في زمن التغريب، وقيل في بيت المال
(و) الأصح (أن) الزاني (المكاتب) بفتح المثناة (كحر) فلا يستوفيه إلا الإمام لخروجه عن قبضة السيد بالكتابة الصحيحة.
والثاني أنه كالقن، لأنه عبد ما بقي عليه درهم، وعلى الأول لو عجز فرق قبل استيفاء الحد هل للسيد الاستيفاء أو لا؟
فيه نظر يعرف مما مر فيما إذا زنى الذمي ثم نقض العهد واسترق. أما المكاتب كتابة فاسدة فكالقن (و) الأصح (أن)
السيد (الفاسق والكافر والمكاتب) بفتح المثناة (يحدون عبيدهم) لعموم أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم وهذا
مبني على أن السيد يقيم الحد على عبده بطريق الملك لغرض الاستصلاح كالقصد والحجامة وهو الأصح. والثاني لا،
بناء على أنه يقيمه بالولاية وليسوا من أهلها.
تنبيه: سكت المصنف عن السيد المبعض، ويؤخذ من توجيه الأول أنه كالمكاتب بل أولى وإن خالف في ذلك
البلقيني وقال: قضية النص المنع، ومحل الخلاف في الكافر إذا كان عبده كافرا. أما إذا كان مسلما فليس له إقامة
الحد عليه بحال كما صرح به ابن كج. وقال الأذرعي: إنه الأصح المختار (و) الأصح (أن السيد يعزر) رقيقه، والثاني لا،
لأنه غير مضبوط، فاختص بالإمام لأنه يحتاج إلى نظر واجتهاد.
تنبيه: محل الخلاف في حقوق الله تعالى، أما حقوق نفسه وكذا حقوق غيره فيستوفيها قطعا (و) الأصح أن
السيد (يسمع البينة) على رقيقه (بالعقوبة) لأنه يملك إقامة الحد فملك سماع البينة به كالإمام. والثاني لا، لأن سماعها مختص
بالحكام، وعلى الأول له النظر في تزكية البينة، ولا بد كما في الروضة وأصلها من علمه بصفات الشهود وأحكام الحدود
وإن كان جاهلا بغيرها، فلو سمع البينة بزناه عالما بأحكامها، أو قضى بما شاهده من زناه جاز، وخرج بكونه
عالما
بأحكام البينة ما لو لم يكن عالما بها فلا يسمعها لعدم أهليته لسماعها، وقضيته أنه ليس للمكاتب والكافر والفاسق والمرأة
سماعها لعدم أهليتهم لسماعها، فلا يحدون ببينة بل بإقرار أو بمشاهدة منهم. وقال الأذرعي: ويشبه أن يختص سماع
البينة وجرحها وتعديلها بالرجل العدل لا مطلقا. وقال الزركشي: إطلاق المصنف السيد هنا بعد ذكره الكافر والمكاتب
يوهم طرد ذلك فيهم وهو ممنوع، وقد صرح الرافعي وغيره باعتبار الأهلية في سماع البينة، وعلى هذا فيخرج الفاسق
والمكاتب اه‍. وقال شيخي: المراد يكون فيه أهلية سماع البينة أن يعرف أحكام الحدود وصفات الشهود، وعلى هذا
فيسمعها الفاسق وغيره، وهو ظاهر كلام الشيخين.
تنبيه: هل للسيد أن يتولى لعان عبده فيما إذا قذف زوجته المملوكة لسيده بأن يلاعن بينهما؟ وجهان: أظهرهما
الجواز كما هو قضية كلام أصل الروضة. ثم أخذ في كيفية استيفاء الحد والآلة التي يرجم بها فقال (والرجم)
للمحصن إلى موته (بمدر) أي طين متحجر (وحجارة معتدلة) أي ملء الكف كما اختاره الماوردي، لا بحصيات
خفيفة لئلا يطول تعذيبه، ولا بصخرات تذففه فيفوت التنكيل المقصود كذا قالاه تبعا للإمام والغزالي. ونازع في
ذلك البلقيني وقال: يرمي بالخفيف والثقيل على حسب ما يجده الرامي وأطال في ذلك. والاختيار في حجر الرمي كما قال
الماوردي أن يكون ملء الكف.
تنبيه: جميع بدن المحصن محل للرجم المقاتل وغيرها. لكن يختار كما قاله بعض المتأخرين أن يتوقى الوجه.
ويكون موقف الرامي بحيث لا يبعد عنه فيخطئه ولا يدنو منه فيؤلمه. قال: والأولى لمن حضره أن يرجمه إن رجم بالبينة
وأن يمسك عنه إن رجم بالاقرار. قال: وينبغي أي يجب أن يستر عورة الرجل وجميع بدن الحرة عند الرجم ولا يربط
ولا يقيد (ولا يحفر للرجل) عند رجمه سواء أثبت زناه ببينة أم بإقرار كما في الروضة وأصلها. وفصل الماوردي والشيخ
153

أبو إسحق بين أن يثبت زناء ببينة، فيسن أن يحفر له حفرة ينزل فيها إلى وسطه لتمنعه من الهرب، أو بإقرار فلا يسن
(والأصح استحبابه) أي الحفر (للمرأة) إلى صدرها (إن ثبت) زناها (ببينة) لئلا تنكشف، والظاهر من الشهود عدم
الرجوع، بخلاف ما إذا ثبت بالاقرار ليمكنها الهرب إن رجعت، والثاني يحفر لها مطلقا فقد ثبت الحفر في قصة الغامدية
مع أنها كانت مقرة. وأجاب الأول: بأن ذلك فعل بيانا للجواز (ولا يؤخر) الرجم (لمرض وحر وبرد مفرطين)
سواء أثبت زناه ببينة أم بإقرار، لأن النفس مستوفاة ولا فرق بينه وبين الصحيح (وقيل يؤخر إن ثبت بإقرار) كما نص
عليه في الام، وصححه جمع منهم صاحب التنبيه والقاضي الحسين، لأن الظاهر رجوعه للندب إليه.
تنبيه: كلام المصنف يقتضي وجوب التأخير على هذا الوجه. وقال البلقيني: إنما هو مستحب، قال: ولم أر
من تعرض له هنا وتعرضوا له في الجلد اه‍. ويجب التأخير في صورتين: إحداهما الحامل، فتؤخر إلى الوضع وانقضاء مدة
الرضاع كما ذكره المصنف في باب استيفاء القصاص سواء أكان الحمل من زنا أم من غيره. الثانية: إذا أقر بالزنا ثم جن
لا يحد في جنونه بل يؤخر حتى يفيق، لأنه قد يرجع بخلاف ما لو ثبت بالبينة ثم جن، قاله الرافعي في باب الردة (ويؤخر
الجلد) وإن لم يهلك غالبا (لمرض) يرجى برؤه كالحمى والصداع لأن المقصود الردع لا القتل، وقد يفضى الجلد
حينئذ إلى القتل.
تنبيه: في معنى المرض النفاس، ومن به جرح أو ضرب وكذا الحامل كما نص عليه في المختصر (فإن لم يرج برؤه)
منه لزمانة أو كان نضوا (جلد) ولا يؤخر إذ لا غاية تنتظر، لكن (لا بسوط) لئلا يهلك (بل بعثكال) وهو الذي يكون
فيه البلح بمنزلة العنقود من الكرم (عليه مائة غصن) وهي الشماريخ بضرب به مرة إذا كان حرا لما رواه أبو داود
عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض الصحابة أن رجلا منهم اشتكى حتى أضنى فعاد جلده على عظمه فوقع
على جارية لبعضهم فأمر النبي (ص) أن يأخذوا له شمراخا فيضربوه بها ضربة واحدة (فإن كان) عليه
(خمسون) غصنا (ضرب به مرتين) لتكمل المائة، وإن كان رقيقا ضرب مرة واحدة، وعلى هذا القياس.
تنبيه: العثكال - بكسر العين وفتحها - ويقال: عثكول - بضم العين - وإثكال بإبدالها همزة مع ضم الهمزة وكسرها
ولا يطلق إلا على شمراخ النخل ما دام رطبا، أما إذا يبس فهو عرجون ولا يتعين العثكال بل يضرب به أو
بالنعال أو بأطراف الثياب كما صرح به في أصل الروضة وإن نازع البلقيني في الضرب بالنعال (وتمسه) أي
المجلود (الأغصان) جميعها (أو ينكبس بعضها على بعض ليناله بعض الألم) لئلا تبطل حكمة الحد فإذا انتفى ذلك
أو شك فيه لم يسقط الحد، فإن قيل قد اكتفوا في الايمان بالضرب غير المؤلم فهلا كان كذلك؟ أجيب بأن الايمان
مبنية على العرف، والضرب غير المؤلم يسمى ضربا، والحدود مبنية على الزجر، وهو لا يحصل إلا بالايلام (فإن
برأ) - بفتح الراء - المجلود بعد أن ضرب بما ذكر (أجزأه) الضرب ولا يعاد به. فإن قيل المغصوب إذا حج عنه ثم
شفي وجب عليه إعادته، فهلا كان هنا كذلك؟ أجيب بأن الحدود مبنية على الدرء، فإن برئ قبل ذلك حد حد
الأصحاء، أو في الأثناء كمل حد الأصحاء، واعتد بما مضى كما بحثه الزركشي، وهو نظير ما لو قدر في أثناء الصلاة
على القيام فلو ضرب بما ذكر من يرجى برؤه فبرأ لم يجزه، ويخير من له حد قذف على مريض بين الضرب بعثكال
ونحوه وبين الصبر إلى برئه كما جرى عليه ابن المقري تبعا للأسنوي، وقيل: يجلد بالسياط سواء أرجى برؤه أم لا لأن
حقوق الآدميين مبنية على المضايقة، ورجحه في أصل الروضة في استيفاء القصاص وأسقطه ابن المقري هناك. وقال
154

الزركشي: أنه خلاف المنصوص عليه في الام (ولا جلد في) مرض أو (حر وبرد مفرطين) أي شديدين، بل يؤخر
إلى البرء واعتدال الوقت خشية الهلاك، وكذا القطع في السرقة، بخلاف القصاص وحد القذف.
تنبيه: لو كان في بلاد لا ينفك حرها أو بردها لم يؤخر ولم ينقل إلى البلاد المعتدلة كما قاله الماوردي والروياني
لما فيه من تأخير الحد ولحوق المشقة، وقوبل إفراط الحر والبرد بتخفيف الضرب ليسلم من القتل كما في المرض الملازم
(وإذا جلد الإمام في مرض أو حر وبرد) مفرطين فمات المجلود سراية (فلا ضمان على النص) في الام لأن التلف حصل
من واجب أقيم عليه. فإن قيل: لو ختنه في حر أو برد مفرط ضمن كما نص عليه في المختصر، فهلا كان هنا كذلك؟
أجيب بأن الجلد ثبت بالنص، والختان بالاجتهاد فأشبه التعزير، واقتصار المصنف على عدم الضمان في الحر والبرد
والمرض قد يشعر بوجوبه إذا كان الزاني نضو الخلق لا يحتمل السياط فجلده بها فمات وهو الظاهر كما قاله الزركشي
لأن جلد مثله بالعثكال لا بالسياط، وحكي في الكفاية عن القاضي أبي الطيب عدم الضمان، وخرج بالإمام السيد فلا
يضمن رقيقه جزما (فيقتضي) نص الام (أن التأخير مستحب) وهو ما قاله الإمام، لكن صحح في زيادة الروضة وجوب
التأخير سواء أقلنا بالضمان أم لا. قال الأذرعي: وهو المجزوم به في الحاوي والمهذب وغيرهما.
خاتمة: للمقتول حدا بالرجم أو غيره حكم موتى المسلمين من غسل وتكفين وصلاة وغيرها كتارك الصلاة إذا
قتل، ولأنه صلى الله عليه وسلم صلى على الجهنية، وأمر بالصلاة على الغامدية ودفنها، وفي رواية صلى هو عليها أيضا.
كتاب حد القذف
وهو بمعجمة: لغة الرمي، والمراد به هنا الرمي بالزنا في معرض التعيير، ليخرج الشهادة بالزنا فلا حد فيها إلا أن يشهد
به دون أربعة كما سيأتي، وهو من الكبائر الموبقات، ففي الحديث: من السبع الموبقات قذف المحصنات سواء في ذلك
الرجل والمرأة. روي أن النبي (ص) قال: قذف المحصنة يحبط عمل مائة سنة واستغنى المصنف ببيان القذف في اللعان
عن إعادته هنا. والحد شرعا عقوبة مقدرة وجبت حقا لله تعالى كما في الزنا، أو لآدمي كما في القذف. وسميت الحدود
حدودا، لأن الله تعالى حدها وقدرها، فلا يجوز لاحد أن يتجاوزها. قال الله تعالى * (ومن يتعد حدود الله فقد ظلم
نفسه) *، وقيل سميت بذلك لأن الحد في اللغة: المنع، وهي تمنع من الاقدام على الفواحش. والأصل في الباب قوله
تعالى * (والذين يرمون المحصنات) * الآية، وصح أنه (ص) لما نزلت براءة عائشة رضي الله تعالى عنها جلد من قذفها، والحكمة
في وجوب الحد بالقذف دون التساب بالكفر أن المسبوب بالكفر قادر على أن ينفي عنه ذلك بكلمة الشهادتين، بخلاف
الزاني فإنه لا يقدر على نفي الزنا عنه، وللقاذف شروط ذكرها المصنف بقوله: (شرط حد القاذف) أي المحدود بسبب
القذف (التكليف) فلا حد على صبي ومجنون لرفع القلم عنهما، وعدم حصول الايذاء بقذفهما، وزاد على المحرر
قوله: (إلا السكران) فإنه مستثنى عنده من التكليف، ومع ذلك يحد، ولم يذكره في الروضة، هذا وقد مر الكلام على
ذلك في كتاب الطلاق (والاختيار) فلا حد على مكره - بفتح الراء - لرفع القلم عنه ولأنه لم يقصد الأذى بذلك لاجباره عليه،
ولا على مكره بكسرها، والفرق بينه وبين القتل أنه يمكنه جعل يد المكره كالآلة له بأن يأخذ يده فيقتل بها، ولا
يمكنه أن يأخذ لسان غيره فيقذف به.
155

تنبيه: سكت عن شروط أخر، وهي التزام الأحكام والعلم بالتحريم، وعدم إذن المقذوف، وأن يكون غير
أصل، فلا حد على حربي لعدم التزامه الأحكام، ولا جاهل بالتحريم لقرب عهده بالاسلام، أو بعده عن العلماء،
ولا على من قذف غيره بإذنه كما نقله الرافعي عن الأكثرين، وإن ادعى الإمام أن الجماهير أجمعوا على حده، كما لو
قال اقطع يدي فقطعها لا يجب ضمانها، ولا على أصل كما سيأتي. ويسقط أيضا حد القاذف بإقامة البينة
بزنا المقذوف وبإقراره وبعفوه وباللعان في حق الزوجة (ويعزر) القاذف (المميز) من صبي، أو مجنون له نوع تمييز كما
جزم به في الروضة للزجر والتأديب، فإن لم يعزر الصبي حتى بلغ سقط لأنه كان للزجر والتأديب وقد حدث سبب
أقوى منه وهو التكليف كما قالاه في اللعان، وقياسه كما قال الزركشي أن يكون المجنون إذا أفاق كذلك (ولا يحد) الأصل
ولو أنثى (بقذف الولد وإن سفل) كما لا يقتل به.
تنبيه: اقتصاره على نفي الحد يقتضي أنه يعزر، وهو المنصوص للايذاء. فإن قيل: قد قالوا في كتاب
الشهادات: أن الأصل لا يحبس في وفاء دين فرعه مع أن الحبس تعزير. أجيب بأن حبسه للدين قد يطول زمنه فيشق
عليه، بخلاف التعزير هنا فإنه قد يحصل بقيام من مجلس ونحوه وحيث ثبت فهو لحق الله تعالى لا لحق الولد، وكما لا يحد
بقذف ولده لا يحد بقذف من ورثه الولد ولم يشاركه فيه غيره، كما لو قذف امرأة له منها ولد ثم ماتت، لأنه إذا لم يثبت
له ابتداء لم يثبت له انتهاء كالقصاص، فإن شاركه فيه غيره كأن كان لها ولد آخر من غيره كان له الاستيفاء لأن بعض
الورثة يستوفيه جميعها.
فرع: قال في الحاوي في باب اللعان: لو قال لابنه أنت ولد زنا كان قاذفا لامه. قال الدميري: وهذه مسألة
حسنة ذكرها ابن الصلاح في فتاويه بحثا من قبل نفسه، وكأنه لم يطلع فيها على نقل. وزاد أنه يعزر للمشتوم. قال
الشيخ عز الدين: لو قذف شخص آخر في خلوة بحيث لا يسمعه إلا الله والحفظة لم يكن كبيرة موجبة للحد لخلوه عن
مفسدة الايذاء، ولا يعاقب في الآخرة إلا عقاب من كذب كذبا لا ضرورة فيه.
فائدة: اختار المصنف والغزالي أن الغيبة بالقلب إذا أدركها الملكان الحافظان كما لو تلفظ بها ويدركان ذلك بالشم،
ولعل هذا فيما إذا صمم على ذلك، وإلا فما يخطر على القلب مغفور، وإذا عرف شرط حد القذف (فالحر) القاذف حده
(ثمانون) جلدة لآية * (فاجلدوهم ثمانين جلدة) * إذ المراد فيها الأحرار لقوله تعالى فيها * (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) * لأن العبد
لا تقبل شهادته وإن لم يقذف (والرقيق) القاذف والمكاتب والمدبر وأم الولد والمبعض حد كل منهم (أربعون) جلدة
على النصف من الحر بالاجماع، وهذا من أمثلة تخصيص القرآن بالاجماع.
تنبيه: محل كون حده أربعين إذا قذف في حال رقه، فلو قذف وهو حر ملتزم ثم التحقيق بدار الحرب واسترق
فحده ثمانون اعتبارا بحال القذف (و) شرط (المقذوف) أي الذي يحد قاذفه (الاحصان) أي كونه محصنا لقوله تعالى
* (والذين يرمون المحصنات) * فقيد إيجاب الثمانين بذلك (وسبق في) كتاب (اللعان) بيان ما يحصل به الاحصان، وبيان شرط
المقذوف فلا حاجة لذكره هنا (ولو شهد) في مجلس الحكم (دون أربعة) من الرجال (بزنا حدوا في الأظهر) لأن عمر
رضي الله تعالى عنه حد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا كما ذكره البخاري في صحيحه ولم يخالفه أحد،
ولئلا يتخذ صورة الشهادة ذريعة إلى الوقيعة في أعراض الناس. والثاني المنع لأنهم جاءوا شاهدين لا هاتكين.
تنبيه: محل الخلاف إذا شهدوا في مجلس أما لو شهدوا والقاضي في غيره فقاذفون جزما وإن كان بلفظ الشهادة كما
صرح به في الوجيز وغيره.
فرع: لو شهد الزوج بزنا زوجته كان قاذفا لها فيحد حد القذف، لأن شهادته بزنا غير مقبولة للتهمة،
156

وعلى هذا لو شهد عليها دون أربعة حدوا لأنهم قذفة (وكذا أربع نسوة وعبيد وكفرة) أهل ذمة فإنهم في كل من
المسائل الثلاث يحدون (على المذهب) لأنهم ليسوا من أهل الشهادة فلم يقصدوا إلا القذف. والطريق الثاني في حدهم
القولان تنزيلا لنقص الصفة منزلة نقص العدد.
تنبيه: محل الخلاف كما قال الإمام إذا كانوا في ظاهر الحال بصفة الشهود ثم بانوا كفارا أو عبيدا، لأن القاضي
إذا علم حالهم لا يصغي إليهم فيكون قولهم قذفا محصنا قطعا، لأنه ليس في معرضه شهادة.
فروع: لو شهد أربعة بالزنا وردت شهادتهم بفسق ولو مقطوعا به كالزنا وشرب الخمر لم يحدوا وفارق ما مر
في نقص العدد بأن نقص العدد متيقن وفسقهم إنما يعرف بالظن والاجتهاد والحد يدرأ بالشبهة، ولو شهد دون أربعة
بالزنا فحدوا وعادوا مع رابع لم تقبل شهادتهم كالفاسق ترد شهادته ثم يتوب ويعيدها لم تقبل، ولو شهد بالزنا عبيد
وحدوا فعادوا بعد العتق قبلت لعدم اتهامهم، ولو شهد به خمسة فرجع واحد منهم عن شهادته لم يحد لبقاء النصاب،
أو اثنان منهم حدا لأنهما ألحقا به العار دون الباقين لتمام النصاب عند الشهادة مع عدم تقصيرهم، ولو رجع واحد من
أربعة حد وحده دون الباقين لما ذكر (ولو شهد واحد على إقراره) بزنا (فلا) حد عليه جزما، لأن من قال لغيره:
قد أقررت بأنك زنيت وهو في معرض القذف والتعبير لاحد عليه، فكذا هنا.
تنبيه: شاهد الجرح بالزنا ليس بقاذف للحاجة وإن لم يوافقه غيره كما صوبه المصنف خلافا للرافعي حيث جعل
عدم موافقة غيره كنقص العدد (ولو تقاذفا) أي قذف كل من شخصين صاحبه (فليس) ذلك (تقاصا) فلا يسقط
حد هذا الحد هذا، بل لكل منهما أن يحد الآخر، لأن التقاص إنما يكون عند اتفاق الجنس والصفة والحدان لا يتفقان
في الصفة، إذ لا يعلم التساوي لاختلاف القاذف والمقذوف في الضعف والقوة والخلقة غالبا (ولو استقل المقذوف
بالاستيفاء) للحد من قاذفه ولو بإذنه (لم يقع الموقع) على الصحيح، لأن إقامة الحد من منصب الإمام فيترك حتى
يبرأ ثم يحد، واستثنى من ذلك صورتان: الأولى لو قذف العبد سيده فله أن يحده كما صرحا به آخر باب الزنا. والثانية
إذا بعد عن السلطان في بادية وقدر على الاستيفاء بنفسه من غير تجاوز جاز كما قاله الماوردي
خاتمة: إذا سب إنسان إنسانا جاز للمسبوب أن يسب الساب بقدر ما سبه لقوله تعالى * (وجزاء سيئة سيئة مثلها) *.
ولا يجوز أن يسب أباه ولا أمه. وروي أن زينب لما سبت عائشة قال لها النبي (ص) سبيها كذا رواه
أبو داود. وفي سنن ابن ماجة: دونك فانتصري فأقبلت عليها حتى يبس ريقها في فيها فتهلل وجه النبي (ص).
وإنما يجوز السب بما ليس كذبا ولا قذفا كقوله: يا ظالم يا أحمق لأن أحدا لا يكاد ينفك عن ذلك، وإذا انتصر بسبه
فقد استوفى ظلامته وبرئ الأول من حقه وبقي عليه أثم الابتداء أو الاثم لحق الله تعالى، ويجوز للمظلوم أن يدعو على
ظالمه كما قاله الجلال السيوطي في تفسير قوله تعالى * (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) * قال: بأن يخبر عن
ظلم ظالمه ويدعو عليه اه‍. ويخفف عن الظالم بدعاء المظلوم، لما رواه أحمد في كتاب الزهد عن عمر بن عبد العزيز
أنه قال: بلغني أن الرجل ليظلم مظلمة فلا يزال المظلوم يشتم الظالم وينقصه حتى يستوفي حقه. وفي الترمذي عن عائشة
رضي الله تعالى عنها أن النبي (ص) قال: من دعا على من ظلمه فقد استنصر وفي كتاب اللطائف للقاضي أبي يوسف
أن امرأة من بني إسرائيل كانت صوامة قوامة سرقت لها امرأة دجاجة فنبت ريش الدجاجة في وجه السارقة وعجزوا
عن إزالته عن وجهها فسألوا عن ذلك بعض علمائهم، فقالوا: لا يزول هذا الريش إلا بدعائها عليها، قال فأتتها عجوز
وذكرتها بدجاجتها فلم تزل بها إلى أن دعت على سارقها دعوة فسقط من وجهها ريشة فلم تزل تكرر ذلك حتى سقط
جميع الريش، واختلف العلماء في التحليل من الظلامة على ثلاثة أقوال: أي هل الأفضل التحليل أو لا؟ فكان
ابن المسيب لا يحلل أحدا من عرض ولا مال، وكان سليمان بن يسار وابن سيرين يحللان منهما، ورأي مالك التحليل من
157

العرض دون المال، ولو سمع الإمام رجلا يقول: زنيت برجل، لم يقم عليه الحد لأن المستحق مجهول ولا يطالبه بتعيينه لأن
الحد يدرأ بالشبهة، وإن سمعه يقول: زنى فلان، لزمه أن يعلم المقذوف في أصح الوجهين لأنه ثبت له حق لم يعلم: فعلى
الإمام إعلامه كما لو ثبت له عنده مال لم يعلم به.
كتاب قطع السرقة
لو قال كتاب السرقة كما فعل في الزنا لكان أخصر وأعم لتناوله أحكام نفس السرقة، وهي بفتح السين وكسر الراء،
ويجوز إسكانها مع فتح السين وكسرها، ويقال أيضا السرق - بكسر الراء - لغة: أخذ المال خفية، وشرعا أخذه خفية ظلما
من حرز مثله بشروط تأتي والأصل في القطع بها قبل الاجماع قوله تعالى * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) *
والاخبار الشهيرة، ولما نظم أبو العلاء المعري البيت الذي شكك على الشريعة في الفرق بين الدية والقطع في
السرقة، وهو:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
أجابه القاضي عبد الوهاب المالكي بقوله:
وقاية النفس أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري
وهو جواب بديع مع اختصار، ومعناه أن اليد لو كانت تودي بما قطع فيه لكثرت الجنايات على الأطراف
لسهولة الغرم في مقابلتها فغلظ الغرم حفظاها. وقال ابن الجوزي: لما سئل عن هذا لما كانت أمينة كانت ثمينة، فلما
خانت هانت. وأركان القطع ثلاثة: مسروق وسرقة وسارق، وبدأ بشروط الأول، فقال: (يشترط لوجوبه) أي
القطع (في المسروق أمور) الأول (كونه ربع دينار) فأكثر ولو كان الربع لجماعة لخبر مسلم: لا تقطع يد سارق
إلا في ربع دينار فصاعدا. ثم وصف ربع الدينار بكونه (خالصا) لأن الربع المغشوش ليس بربع دينار حقيقة، فإن
كان في المغشوش ربع خالص وجب القطع. ونبه بقوله (أو قيمته) على أن الأصل في التقويم هو الذهب الخالص
حتى لو سرق دراهم أو غيرها قومت به ويعتبر النصاب وقت إخراجه من الحرز، فلو نقصت قيمته بعد ذلك لم
يسقط القطع. وقال ابن بنت الشافعي: يقطع بسرقة القليل، ولا يشترط النصاب لعموم الآية، وفي الصحيح: لعن
الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده. وأجيب عن الآية بأنها مخصوصة بالحديث المار، وعما
في الصحيح بأجوبة: أحدها ما قاله الأعمش كانوا يرون أنها بيضة الحديد، والحبل يساوي دراهم كحبل السفينة،
ورواه البخاري عنه. الثاني حمله على جنس البيض والحبال. الثالث أن المراد أن ذلك يكون سببا وتدريجا من هذا إلى
ما تقطع فيه يده.
تنبيه: يعتبر في التقويم القطع مع أن الشهادة لا تقبل وإن كان مستندها الظن (و) على أن التقويم
يعتبر بالمضروب (لو سرق ربعا) من دينار (سبيكة) هو صفة ربعا على تأويل بمسبوكا، وبذلك اندفع ما قيل إنه
لا يصح أن يكون صفة لربعا لاختلافهما بالتذكير والتأنيث أو حليا أو نحوه كقراضة (لا يساوي ربعا مضروبا فلا قطع)
به (في الأصح) وإن ساواه غير مضروب لأن المذكور في الخبر لفظ الدينار وهو اسم لمضروب، والثاني ينظر إلى
الوزن فيقطع ولا حاجة لتقويمه لبلوغ عين الذهب قدر النصاب كما في الزكاة. قال الأذرعي: وهذا قول الجمهور. وقال
البلقيني: إنه ظاهر نصوص الشافعي. وقال الشيخ أبو حامد: لا يختلف فيه المذهب، ومع هذا فالمعتمد ما جرى
158

عليه المصنف هنا، وجرى عليه في الروضة، وإن لم يصرح الرافعي في الشرحين بترجيح. ويتفرع على الخلاف ما لو سرق
خاتما وزنه دون ربع، وقيمته بالصنعة تبلغ ربعا، وقضية ترجيح الكتاب وجوب القطع في هذه الصورة لكن قال في
أصل الروضة: الصحيح أنه لا يقطع مع تصحيحه في مسألة الكتاب عدم القطع. قال الأسنوي: وهذا غلط فاحش
لأنه سوى بين هذه والتي قبلها في تصحيح عدم القطع ثم عقبه بقوله: والخلاف في المسألتين راجع إلى أن الاعتبار
بالوزن أو بالقيمة وهو لا يستقيم. وقال البلقيني: ليس بغلط بل فقه مستقيم وإن لم يعطه كلام الرافعي. فإن الوزن في
الذهب لا بد منه، وهل يعتبر معه إذا لم يكن مضروبا أن تبلغ قيمته ربع دينار مضروب؟ فيه الخلاف الذي في السبيكة
فأما إذا نقص الوزن ولكن قيمته تساوي ربع دينار مضروب، فهذا يضعف فيه الاكتفاء بالقيمة فاستقام ما في الروضة،
وما ذكره الرافعي فيه إلباس وكان اللائق أن ينبه عليه صاحب الروضة اه‍. وبذلك علم كما قال شيخنا: أنه لا بد في
المسألتين من اعتبار الوزن والقيمة.
تنبيه: لو لم تعرف قيمة المسروق بالدنانير قوم بالدراهم، ثم قومت الدراهم بالدنانير قاله الدارمي، فلو لم يكن
في مكان السرقة دنانير قال الزركشي: فالمتجه اعتبار القيمة في أقرب البلاد إليه، وقضية كلامهم أن سبيكة الذهب
تقوم بالدنانير، وإن كان فيه تقويم ذهب بذهب خلافا للدارمي في قوله: يقوم بالدراهم ثم الدراهم بالدنانير، ويراعى
في القيمة المكان والزمان لاختلافها بهما، ولو كان في البلد نقدان خالصان من الذهب وتفاوتا قيمة اعتبرت القيمة
بالأغلب منهما في زمان السرقة، فإن استويا استعمالا فبأيهما يقوم؟ وجهان: أحدهما بالأدنى اعتبارا بعموم الظاهر،
والثاني بالأعلى في المال دون القطع للشبهة. نقل ذلك الزركشي عن الماوردي واستحسنه وأطلق الدارمي أن الاعتبار
بالأدنى، ولا يشترط علم السارق بلوغ ما يسرقه نصابا. (و) حينئذ (لو سرق دنانير ظنها فلوسا لا تساوي) أي لا تبلغ
قيمتها (ربعا) من دينار (قطع) لأنه قصد سرقة عينها وهي تساوي ربعا، ولوجود الاسم، ولا عبرة بالظن البين
خطؤه. فإن قيل: لو سرق من دار وهو ظنها له والمال ملكه فبان خلافه فإنه لا قطع كما قاله الغزالي ورجحه، فهلا
ألحقت هذه الصورة بما في المتن كما قال به في التهذيب؟. أجيب بأن ظن الملك شبهة والحد يدرأ بها، بخلاف الفلوس فإنه
قصد السرقة بخلاف ما لو سرق فلوسا ظنها دنانير، ولو لم تبلغ قيمة الفلوس نصابا فإنه لا قطع جريا مع الاسم وجودا وعدما
(وكذا ثوب رث) بمثلثة فيهما قيمته دون ربع (في جيبه تمام ربع جهله) السارق يقطع به (في الأصح) لأنه أخرج
نصابا من حرز على قصد السرقة. والجهل بحبس المسروق لا يؤثر كالجهل بصفته، والثاني لا يقطع نظرا إلى الجهل.
(ولو أخرج نصابا من حرز) في (مرتين) مثلا كل منهما دون نصاب بأن أخرج مرة بعضه ومرة باقيه (فإن تخلل)
بينهما (علم المالك وإعادة الحرز) بأن أعاده المالك بنفسه أو مأذونه كما يؤخذ من عبارة الروضة بإغلاق بابه أو سد
نقبه أو نحوه (فالاخراج الثاني سرقة أخرى) فلا قطع لأن كل واحدة منفصلة عن الأخرى ولم تبلغ نصابا (وإلا)
بأن لم يتخلل علم المالك ولم يعد الحرز بأن انتفيا (قطع في الأصح) وإن اشتهر هتك الحرز خلافا للبلقيني إبقاء للحرز
بالنسبة للآخذ لأنه أخرج نصابا كاملا من حرز مثله فأشبه ما إذا أخرجه دفعة واحدة لأن فعل الشخص ينبني على فعله
ولهذا لو جرح شخصا ثم قتله دخل الأرش في دية النفس، ولو جرح واحد وقتل آخر لم يدخل. والثاني لا قطع لأنه
أخذ النصاب من حرز مهتوك، والثالث إن اشتهر هتك الحرز بين المرتين لم يقطع وإلا قطع فلو لم يعلم المالك
وأعاد الحرز غيره أو علم ولم يعده قطع كما هو مقتضى المتن. إذ المسألتان داخلتان أيضا في قوله: وإلا فإن قيل
: فهلا أدخلتهما؟ قلت إنما أخرتهما تبعا للزركشي لاختصاص الخلاف المتقدم بالصورة المتقدمة. واعتمد البلقيني فيهما
عدم القطع ورأي الإمام الغزالي القطع في الثانية وفي الثالثة عدم القطع أيضا.
159

تنبيه: ناقش الرافعي الوجيز في إيراد هذه المسألة هنا، وقال: لا تعلق لها بالنصاب فإن النظر فيها إلى كيفية الاخراج
فإيرادها في غير هذا الموضع أليق. ثم خالف في المحرر فذكرها والأليق ذكرها عند قوله: ولو نقب وعاد في ليلة أخرى
فسرق قطع. ولا يشترط في السرقة أخذ السارق النصاب بيده من الحر (و) حينئذ (لو نقب وعاء) أي طرف
(حنطة ونحوها) كوعاء زيت (فانصب نصاب) أي شئ مقوم بربع دينار (قطع) به (في الأصح) لأنه سرق نصابا
من حرز لا شبهة له فيه، والثاني لا قطع لأنه خرج بسببه، والسبب ضعيف لا يقطع به.
تنبيه: محل الخلاف إذا انصب النصاب على التدريج شيئا فشيئا كما قاله الجمهور، فإن انصب دفعة قطع قطعا
ومن صور مسألة المتن طرف الجيب والكم ويلغز بذلك، ويقال لنا شخص قطع بسرقة ولم يدخل حرزا ولم يأخذ منه
مالا، ولا يشترط في السارق الاتحاد (و) حينئذ (لو اشتركا) أي سارقان مكلفان (في إخراج نصابين) فأكثر من
حرز (قطعا) لأن كلا منهما سرق نصابا، وقيده القمولي بما إذا كان كل منهما يطيق حمل ما يساوي نصابا، أما إذا
كان أحدهما لا يطيق ذلك والآخر يطيق حمل ما فوقه فلا يقطع الأول، والظاهر هو القطع كما أطلقه الأصحاب لمشاركته
في إخراج نصابين فلا نظر إلى ضعفه (وإلا) بأن كان المخرج أقل من نصابين (فلا) قطع على واحد منهما لأن كل
واحد منهما لم يسرق نصابا، وخرج باشتراكهما في الاخراج ما لو تميزا فيه فيقطع من مسروقه نصاب دون من
مسروقه أقل.
تنبيه: محل ما ذكره المصنف إذا كانا مستقلين، فلو كان أحدهما صبيا أو مجنونا قال الزركشي تبعا للأذرعي:
فالظاهر قطع المكلف وإن لم يكن المخرج نصابا لأنه حينئذ كالآلة له اه‍. ويؤخذ من التعليل أن محله إذا أذن له المكلف.
ويشترط في المسروق كونه محترما (و) حينئذ (لو سرق) أي أخرج، ولو عبر به كان أولى مسلم أو ذمي (خمرا) ولو
محترمة (وخنزيرا وكلبا) ولو مقتني (وجلد ميتة بلا دبغ فلا قطع) لأن ما ذكر ليس بمال، وخرج بقوله بلا دبغ
المدبوغ فيقطع به حتى لو دبغه السارق في الحرز ثم أخرجه وهو يساوي نصاب سرقة فإنه يقطع به إذا قلنا بأنه للمغصوب
منه إذا دبغه الغاصب وهو الأصح ومثله كما قال البلقيني إذا صار الخمر خلا بعد وضع السارق يده عليه وقيل إخراجه
من الحرز (فإن بلغ إناء الخمر نصابا قطع) به (على الصحيح) لأنه سرق نصابا من حرز لا شبهة له فيه كما إذا سرق
إناء فيه بول فإنه يقطع باتفاق كما قاله الماوردي وغيره، والثاني المنع لأن ما فيه مستحق الإراقة فيصير شبهة في دفعه،
وقضية هذه العلة أن الخمر لو كانت محترمة أنه يقطع قطعا لأنها غير مستحقة الإراقة، وأنه لو أراق الخمر في الحرز
ثم خرج بالاناء أنه يقطع قطعا، وأنها لو كانت لذمي ولم يظهر شربها ولا بيعها أنه يقطع قطعا، فإن أظهر ذلك جاء
الخلاف لوجود العلة.
تنبيه: محل الخلاف أيضا إذا قصد بإخراج ذلك السرقة، أما لو قصد تغييرها بدخوله أو بإخراجها فلا قطع قطعا
كما صرح به في الثاني في أصل الروضة واقتضاه كلامه في الأولى، وسواء أخرجها في الأولى أو دخل في الثانية يقصد
السرقة أم لا كما هو قضية كلام الروض فيهما وكلام أصله في الثانية (ولا قطع) في أخذ ما سلط الشرع على كسره
كما (في طنبور) - بضم الطاء - ويقال فيه أيضا طنبار: فارسي معرب (ونحوه) كمزمار وصنم وصليب
لأن التوصل
إلى إزالة المعصية مندوب إليه فصار شبهة كإراقة الخمر (وقيل إن بلغ مكسره نصابا قطع) لأنه سرق نصابا من
حرزه (قلت) هذا (الثاني أصح) عند الأكثرين كما في الروضة وأصلها ونص عليه في الام (والله أعلم)
ويشهد له جزم الرافعي وغيره فيما إذا سرق ما لا يحل الانتفاع به من الكتب أنه يقطع إذا كان الجلد والقرطاس
يبلغ نصابا.
160

تنبيه: محل الخلاف إذا لم يقصد التغيير كما في الروضة، فإن قصد بإخراجه تيسير فلا قطع قطعا، وما إذا
كان لمسلم فإن كان لذمي قطع قطعا، ويقطع بسرقة إناء النقد لأن استعماله يباح عند الضرورة إلا إن أخرجه من الحرز
ليشهره بالكسر، ولو كسر إناء الخمر أو الطنبور ونحوه أو إناء النقد في الحرز ثم أخرجه قطع إن بلغ نصابا كحكم الصحيح.
(الثاني) من شروط المسروق (كونه ملكا لغيره) أي السارق فلا يقطع لسرقة ماله الذي بيد غيره وإن كان مرهونا
أو مؤجرا، ولو سرق ما اشتراه من يد غيره ولو قبل تسليم الثمن أو في زمن الخيار أو سرق ما اتهب له قبل قبضه لم يقطع
فيهما، والصورة الثانية واردة على قوله ملكا لغيره وعدم القطع لشبهة الملك، ولو سرق مع ما اشتراه مالا آخر بعد
تسليم الثمن لم يقطع كما في الروضة، ولو سرق الموصى له به قبل موت الموصي أو بعده وقبل القبول قطع في الصورتين:
أما الأولى فلان القبول لم يقترن بالوصية، وأما في الثانية فبناء على أن الملك فيها لا يحصل بالموت. فإن قيل: قد مر
أنه لا يقطع بالهبة بعد القبول وقبل القبض فهلا كان هنا كذلك؟ أجيب بأن الموصى له مقصر بعدم القبول مع تمكنه
منه بخلافه في الهبة فإنه قد لا يتمكن من القبض، وأيضا القبول وجد ثم، ولم يوجد هنا، ولو سرق الموصى به فقير بعد
موت الموصي والوصية للفقراء لم يقطع كسرقة المال المشترك بخلاف ما لو سرقه الغني.
تنبيه: أراد المصنف كون المسروق ملك غيره حالة إخراجه بدليل قوله: (فلو ملكه) أي المسروق أو بعضه
(بإرث وغيره) كشراء (قبل إخراجه من الحرز، أو) لم يملكه ولكن (نقص فيه) أي الحرز (عن نصاب
بأكل) لبعضه (وغيره) كإحراق (لم يقطع) أما في الأولى فلانه ما أخرج إلا ملكه، وأما في الثانية فلانه لم
يخرج من الحرز نصابا. واحترز بقوله قبل إخراجه عما لو طرأ ذلك بعده فإن القطع لا يسقط، فإن الاعتبار في العقوبة
بحال الجناية، نعم لو طرأ الملك بعده وقبل الرفع إلى الحاكم لم يقطع بناء على أن استيفاء القطع يتوقف على الدعوى
بالمسروق والمطالبة به وهو صحيح كما سيأتي.
تنبيه: كان الأولى ذكر المسألة الثانية في الشرط الأول، وكان المقتضى لذكرها هنا مشاركتها لما قبلها في النظر
بحالة الاخراج (وكذا) لا يقطع السارق (إن ادعى ملكه) أي المسروق أو ملك بعضه (على النص) ولم يسند
الملك إلا بعد السرقة وبعد الرفع إلى الحاكم وثبتت السرقة بالبينة لاحتمال صدقه فصار شبهة دارئة للقطع،
ويروى
عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه سماه السارق الظريف. أي الفقيه، وفي وجه أو قول مخرج يقطع لئلا يتخذ
الناس ذلك ذريعة لدفع الحد وحمل النص على ما إذا أقام بينة بما ادعاه، ويجري الخلاف في دعوى ملك الحرز
أو مالك السرقة إذا كان مجهول النسب، أو أنه أخذ بإذن المالك، أو أنه أخذه وهو دون نصاب، أو أنه ملك أبيه أو ملك
سيده، أو كان الحرز مفتوحا، أو كان صاحبه معرضا عن الملاحظة، أو كان نائما، وخرج بدعوى الملك ما لو ادعى عدم
السرقة، وقامت عليه بينة فلا يسقط القطع كما قاله ابن كج وإنما قبلت دعوى الملك في مقابلة البينة لأنه ليس فيها
تكذيب البينة بخلاف نفي السرقة.
تنبيه: هذا كله بالنسبة إلى القطع. أما المال فلا يقبل قوله فيه، بل لا بد من بينة أو يمين مردودة، فإن
نكل عن اليمين لم يجب القطع، ولو أقر المسروق منه أن المال المسروق ملك للسارق لم يقطع وإن كذبه السارق،
ولو أقر بسرقة مال رجل فأنكر المقر له ولم يدعه يقطع لأن ما أقر به يترك في يده كما مر في الاقرار (و) على
اللص (لو سرقا) أي اثنان مالا نصابين فأكثر (وادعاه) أي المسروق (أحدهما له أو لهما فكذبه الآخر لم يقطع
المدعي) لما مر (وقطع الآخر في الأصح) لأنه أقر بسرقة نصاب لا شبهة له فيه، والثاني لا يقطع المكذب لدعوى
رفيقه الملك له.
161

تنبيه: قضية كلام المصنف أنه لو صدقه لم يقطع كالمدعي، وبه صرح البغوي وغيره وقضية كلامه أيضا أنه
لو سكت ولم يصدقه ولم يكذبه، أو قال لا أدري أنه لا يقطع وهو كذلك لقيام الشبهة (وإن سرق من حرز شريكه)
مالا (مشتركا) بينهما (فلا قطع) به (في الأظهر وإن قل نصيبه) لأن له في جزء حقا شائعا وذلك شبهة فأشبه
وطئ الجارية المشتركة. والثاني يقطع إذ لا حق له في نصيب شريكه.
تنبيه: محل الخلاف إذا خلص له من مال شريكه نصاب السرقة وإلا لم يقطع قطعا. وقضية قوله: مشتركا
أنه لو سرق من مال شريكه الذي ليس بمشترك أنه يقطع وهو محمول على ما إذا اختلف حرزهما وإلا فلا. قال
الماوردي: وعلى هذا أيضا يحمل إطلاق القفال القطع (الثالث) من شروط المسروق (عدم شبهة فيه) لحديث:
ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم صحح الحاكم إسناده. سواء في ذلك شبهة الملك كمن سرق مشتركا
بينه وبين غيره كما مر، أو شبهة الفاعل كمن أخذ مالا على صورة السرقة يظن أنه ملكه أو ملك أصله أو فرعه
أو شبهة المحل كسرقة الابن مال أصوله، أو أحد الأصول مال فرعه كما قال (فلا قطع بسرقة مال أصل) للسارق وإن علا
(وفرع) له وإن سفل لما بينهما من الاتحاد وإن اختلفت ديتهما كما بحثه بعض المتأخرين، ولان مال كل منهما مرصد
لحاجة الآخر، ومنها أن لا تقطع يده بسرقة ذلك المال بخلاف سائر الأقارب، وسواء أكان السارق منهما حرا أو عبدا
كما صرح به الزركشي تفقها مؤيدا له بما ذكروه من أنه لو وطئ الرقيق أمة فرعه لم يحد للشبهة (و) لا قطع بسرقة رقيق مال (سيد) له بالاجماع كما حكاه ابن المنذر، ولشبهة استحقاق المنفعة، ويده كيد سيده، والمبعض
كالقن، وكذا المكاتب، لأنه قد يعجز فيصير كما كان.
قاعدة: من لا يقطع بمال لا يقطع به رقيقه، فكما لا يقطع الأصل بسرقة مال الفرع وبالعكس لا يقطع رقيق أحدهما
بسرقة مال الآخر، ولا يقطع السيد بسرقة مال مكاتبه، ولا بمال ما ملكه المبعض ببعضه الحر كما جزم به الماوردي
والشيخ أبو حامد وغيرهما، ولان ما ملكه بالحرية في الحقيقة بجميع بدنه فصار شبهة. وقيل: يقطع به كمال الشريك بعد
القسمة، ويحد زان بأمة سيده، إذ لا شبهة له في بضعها.
فروع: لو سرق طعاما زمن القحط ولم يقدر عليه لم يقطع، وكذا من أذن له في الدخول إلى دار أو حانوت لشراء
أو غيره فسرق كما رجحه ابن المقري، ويقطع بسرقة حطب وحشيش ونحوهما كيد لعموم الأدلة، ولا أثر لكونها
مباحة الأصل، ويقطع بسرقة معرض للتلف كهريسة وفواكه، وبقول كذلك وبماء وتراب ومصحف وكتب علم
شرعي وما يتعلق به، وكتب شعر نافع مباح لما مر، فإن لم يكن نافعا مباحا قوم الورق والجلد، فإن بلغ نصابا قطع
وإلا فلا، ولو قطع بسرقة عين ثم سرقها ثانيا من مالكها الأول أو من غيره قطع أيضا لأن القطع عقوبة تتعلق بفعل
في عين فتكرر بتكرر ذلك الفعل، كما لو زنى بامرأة فحد ثم زنى بها ثانيا، ولو سرق مال غريمه الجاحد لدينه الحال
أو المماطل وأخذ بقصده الاستيفاء لم يقطع لأنه حينئذ مأذون له في أخذه وإلا قطع، وغير جنس حقه كجنس حقه
في ذلك. ولا يقطع بذلك على قدر حقه أخذه معه وإن بلغ الزائد نصابا وهو مستقل لأنه إذا تمكن من الدخول
والاخذ ولم يبق المال محرزا عنه. (والأظهر قطع أحد زوجين بالآخر) أي بسرقة ماله المحرز عنه لعموم الآية الاخبار.
ولان النكاح عقد على منفعة فلا يؤثر في درء الحد كالإجارة لا يسقط بها الحد عن الأجير أو المستأجر إذا سرق أحدهما
من الآخر. ويفارق العبد الزوجة بأن مؤنتها على الزوج عوض كثمن المبيع ونحوه بخلاف مؤنة العبد، والثاني لا قطع
على واحد منهما للشبهة فإنها تستحق عليه النفقة وهو يستحق الحجر عليها، والثالث يقطع الزوج دونها لأن لها حقوقا
في ماله بخلاف وماله إليه الأذرعي.
تنبيه: محل الخلاف في الزوجة إذا لم تستحق على الزوج شيئا حين السرقة، أما إذا كانت تستحق النفقة
162

والكسوة في تلك الحالة. قال في المطلب: فالمتجه أنه لا قطع إذا أخذت بقصد الاستيفاء كما في حق رب الدين الحال
إذا سرق نصابا من المديون اه‍. ومحله أخذا مما مر أن يكون جاحدا أو مماطلا، وقد يقال: لا حاجة إلى هذا إذ الكلام
في السرقة والاخذ بقصد الاستيفاء ليس بسرقة، أما لو كان المال في مسكنهما بلا إحراز فلا قطع قطعا (ومن
سرق)
وهو مسلم (مال بيت المال، إن فرز) بفاء مضمومة وراء مهملة خفيفة مكسورة وزاي معجمة (لطائفة) كذوي
القربى والمساكين وكان منهم أو أصله أو فرعه فلا قطع، أو فرز لطائفة (ليس هو منهم قطع) إذ لا شبهة له في ذلك
(وإلا) بأن لم يفرز لطائف فلا، (فالأصح أنه إن كان له حق في المسروق كمال مصالح) بالنسبة لمسلم فقير جزما،
أو غني على الأصح (وكصدقة وهو فقير) أو غارم لذات البين، أو غاز (فلا) يقطع في المسألتين. أما في الأولى فلان
له حقا وإن كان غنيا كما مر، لأن ذلك قد يصرف في عمارة المساجد والرباطات والقناطر فينتفع بها الغني والفقير من
المسلمين، لأن ذلك مخصوص بهم، بخلاف الذمي يقطع بذلك، ولا نظر إلى إنفاق الإمام عليه عند الحاجة، لأنه إنما
ينفق عليه للضرورة وبشرط الضمان: كما ينفق على المضطر بشرط الضمان وانتفاعه بالقناطر والرباطات بالتبعية من
حيث أنه قاطن بدار الاسلام، لا لاختصاصه بحق فيها. وأما في الثانية فلاستحقاقه، بخلاف الغني فإنه يقطع لعدم
استحقاقه إلا إذا كان غازيا، أو غارما لذات البين فلا يقطع لما مر. (وإلا) بأن لم يكن له فيه حق (قطع) لانتفاء
الشبهة. والثاني لا يقطع مطلقا غنيا كان أو فقيرا سرق مال الصدقة أو المصالح، لأنه مرصد للحاجة والفقير ينفق عليه
منه، والغني يعطى منه ما يلزمه بسبب حمالة يتحملها. والثالث يقطع مطلقا كما في سائر الأموال.
تنبيه: من لا يقطع بسرقة مال بيت المال لا يقطع أصله أو فرعه أو رقيقه بسرقته منه، وخرج ببيت المال ما لو
سرق مستحق الزكاة من مال من وجبت عليه فإنه إن كان المسروق من غير جنس ما وجبت فيه قطع، وإن كان منه
وكان متعينا للصرف وقلنا بالأصح أنها تتعلق تعلق الشركة فلا قطع كالمال المشترك، قاله البغوي وصاحب الكافي.
(والمذهب) الذي قطع به الجمهور (قطعه) أي المسلم (ب‍) سرقة (باب مسجد وجذعه) - بإعجام الذال - وتأزيره
وسواريه وسقوفه وقناديل زينة فيه، لأن الباب للتحصين، والجذع ونحوه للعمارة، ولعدم الشبهة في القناديل، ويلحق
بهذا ستر الكعبة فيقطع سارقه على المذهب إن خيط عليها، لأنه حينئذ محرز (لا) بسرقة (حصره) المعدة للاستعمال
ولا سائر ما يفرش فيه (و) لا (قناديل تسرج) لأن ذلك لمصلحة المسلمين فله فيه حق كمال بيت المال وخرج بالمعدة
حصر الزينة فيقطع بها كما قاله ابن الملقن. وينبغي أن يكون ستر المنبر كذلك إن خيط عليه، وأن يكون بلاط المسجد
لحصره المعدة للاستعمال. أما الذمي فيقطع بذلك قطعا لعدم الشبهة.
تنبيه: محل ذلك في المسجد العام، أما الخاص بطائفة فيختص القطع بغيرها بناء على أنه إذا خص المسجد
بطائفة اختص بها وهو الراجح، ولو سرق شخص المصحف الموقوف على القراءة لم يقطع إذا كان قارئا، لأن له فيه
حقا، وكذا إن كان غير قارئ لأنه ربما تعلم منه. قال الزركشي: أو يدفعه إلى من يقرأ فيه لاستماع الحاضرين،
ولو سرق الخطيب المنبر أو المؤذن الدكة ينبغي عدم القطع ولم أر من ذكره، بل ينبغي عدم القطع لغيرهما أيضا
لأن النفع لا يختص بهما، ولو سرق مسلم بكرة بئر مسبلة لم يقطع كما جزم به صاحب البحر وجرى عليه ابن المقري وإن
كان مقتضى كلام الروضة القطع، لأنها لمنفعة الناس. قال صاحب البحر: وعندي أن الذمي لا يقطع بسرقتها أيضا،
لأن له فيه حقا اه‍. وهذا هو الظاهر لما سيأتي أن الذمي لا يقطع بالأخذ من الموقوف على الأمور العامة. (والأصح قطعه
بموقوف) على غيره، لأنه مال محرز سواء أقلنا الملك فيه لله تعالى أم للموقوف عليه أم للواقف، والثاني المنع لأنه
إن كان لله تعالى فهو كالمباحات، وإن كان للموقوف عليه أو الواقف فلضعف الملك، أما إذا كان له فيه استحقاق
163

أو شبهة استحقاق كمن سرق من وقف على جماعة هو منهم أو سرق منه أبو الموقوف عليه أو ابنه، أو وقف على الفقراء
فسرق فقير فلا قطع قطعا. قال الروياني: واحترز المصنف بالموقوف عما لو سرق من غلة الموقوف فيقطع قطعا، ولو
سرق مالا موقوفا على الجهات العامة أو على وجوه الخير لا يقطع وإن كان السارق ذميا، لأنه تبع للمسلمين (و) الأصح
قطعه بسرقة (أم ولد سرقها) حال كونها (نائمة، أو مجنونة) أو عمياء كما قاله الزركشي، أو مكرهة كما قاله في البيان،
أو أعجمية لا تميز بين سيدها وغيره في وجوب طاعته، لأنها مضمونة بالقيمة كالقن، والثاني لا لنقصان الملك، وخرج
بما ذكر ما إذا كانت عاقلة بصيرة مستيقظة فإنه لا قطع لقدرتها على الامتناع، ومثل أم الولد فيما ذكر ولدها الصغير من
زوج أو زنا، وكذا العبد المنذور إعتاقه والموصى بعتقه، ولو سرق عبدا صغيرا، أو مجنونا، أو بالغا أعجميا لا يميز
قطع قطعا إذا كان محرزا، وإنما خص المصنف أم الولد بذلك لأنها محل الوجهين، وخرج بأم الولد المكاتب والمبعض
فلا قطع بسرقتهما قطعا لأن مظنة الحرية شبهة مانعة من القطع. (الرابع) من شروط المسروق (كونه محرزا) بالاجماع
كما حكاها بن المنذر فلا قطع بسرقة ما ليس محرزا لخبر أبي داود: لا قطع في شئ من الماشية إلا فيما أواه المراح
ولان الجناية تعظم بمخاطرة أخذه من الحرز، فحكم بالقطع زجرا، بخلاف ما إذا جرأه المالك ومكنه من تضييعه،
والاحزاز يكون إما (بملاحظة) للمسروق (أو حصانة موضعه) بفتح الحاء المهملة - من التحصين وهو المنع، والمحكم
في الحرز العرف، فإنه لم يحد في الشرع، ولا في اللغة، فرجع فيه إلى العرف كالقبض والاحياء، ولا شك أنه يختلف
باختلاف الأموال والأحوال والأوقات، فقد يكون الشئ حرزا في وقت دون وقت بحسب صلاح أحوال الناس وفسادها
وقوة السلطان وضعفه، وضبطه الغزالي بما لا يعد صاحبه مضيعا. وقال الماوردي: الاحراز تختلف من خمسة أوجه
باختلاف نفاسة المال وخسته، وباختلاف سعة البلد وكثرة دعاره وعكسه، وباختلاف الوقت أمنا وعكسه، وباختلاف
السلطان عدلا وغلظة على المفسدين وعكسه، وباختلاف الليل والنهار وإحراز الليل أغلظ. فإن قيل: يرد على المصنف
حصر الحرز فيما ذكر النائم على ثوبه فإنه لا ملاحظة منه، وليس الثوب بموضع حصين مع أن سارقه يقطع، وقاطع
الطريق فإنه يقطع إذا أخذ المال وهو من غير حرز. أجيب عن الأول بأن النوم على الثوب بمنزلة الملاحظة، وعن الثاني
بأنه لا يسمى سارقا.
تنبيه: تعبيره بأو يقتضي الاكتفاء بالحصانة من غير ملاحظة، وليس مرادا، فإنه سيصرح بخلافه في قوله:
فإن كان بحصن كفى لحاظ معتاد فدل على أن اعتبارا للحظ لا بد منه إلا أنه يحتاج في غير الحصن إلى دوامه، ويكتفي
في الحصن بالمعتاد، ولهذا قال الرافعي: لا تكفي حصانة الموضع عن أصل الملاحظة، حتى إن الدار البعيدة عن البلد
لا تكون حرزا وإن تناهت في الحصانة. (فإن كان) المسروق (بصحراء أو مسجد) أو شارع أو غيره مما لا حصانة له
(اشترط دوام لحاظ) - بكسر اللام - وهو المراعاة، مصدر لاحظه لأنه بذلك محرز عرفا، وأما بفتح اللام فهو ما في
الصحاح: مؤخر العين من جانب الاذن، بخلاف الذي من جانب الانف، فيسمى المرق، يقال: لحظه إذا نظر إليه
بمؤخر عينه.
تنبيه: قضية كلامه أن الفترات العارضة في العادة تقدح في هذا اللحاظ، فلو تغفله وأخذ في تلك الفترة لم يقطع،
والمشهور أن ذلك لا يقدح، وأن السارق منه يقطع، فينبغي التعبير باللحاظ المعتاد في مثله كما ذكره في قوله: (وإن
كان بحصن) كخان وبيت وحانوت (كفى لحاظ معتاد) في مثله، ولا يشترط دوامه عملا بالعرف، وقد علم مما مر
أن حرز كل شئ بحسبه (و) حينئذ (إصطبل) وهو بكسر الهمزة، وهي همزة قطع أصلي، وكذا بقية حروفه: بيت
الخيل ونحوها (حرز دواب) وإن كانت نفيسة كثيرة الثمن، لأنه (ص) جعل حرز الماشية المراح
فكذا الإصطبل.
164

تنبيه: قيد في الوسيط الإصطبل بكونه متصلا بالدور، فإن كان منفصلا عنها فلا بد من اللحاظ الدائم وإن لم
يفهمه كلام المصنف. (لا آنية وثياب) ولو خسيسة، فليس الإصطبل حرزا لها لأن إخراج الدواب مما يظهر
ويبعد
الاجتراء عليه، بخلاف ما يخف ويسهل حمله. ويستثنى منها كما قال البلقيني وغيره آنية الإصطبل كالسطل وثياب
الغلام، وآلات الدواب من سروج وبراذع ولجم ورحال جمال وقربة السقاء والراوية ونحو ذلك مما جرت العادة
بوضعه في إصطبلات الدواب.
تنبيه: المتبن حرز للتبن إذا كان متصلا بالدور كما مر في الإصطبل. (وعرصة) أي صحن (دار، وصفتها حرز
آنية) خسيسة كما قاله الأذرعي (وثياب بذلة) أي مهنة ونحوها كالبسط والأواني لقضاء العرف بذلك. أما النفيسة
فحرزها البيوت والخانات ونحوها كالأسواق المعينة، فإذا سرق المتاع من الدكاكين وهناك حارس بالليل قطع (لا) حرز
(حلي، و) لا (نقد) وثياب وأوان نفيسة، فليست العرصة والصفة حرزا لها، لأن العادة فيها الاحراز في البيوت
المغلفة في الدور ونحوها كالمخازن.
(فروع) لو ضم العطار أو البقال ونحوه الأمتعة وربطها بحبل على باب الحانوت أو أرخى عليها شبكة أو خالف
لوحين على باب حانوته وكانت محرزة بذلك في النهار، لأن الجيران والمارة ينظرونها وفيما فعل ما ينبههم ما قصدها السارق،
فإن لم يفعل شيئا من ذلك فليست محرزة. وأما في الليل فمحرزة بذلك، لكن مع حارس، والبقل ونحوه كالفجل إن
ضم بعضه إلى بعض وترك على باب الحانوت وطرح عليه حصير ونحوها فهو محرز بحارس، وإن رقد ساعة ودار على
ما يحرسه أخرى، والأمتعة النفيسة التي تترك على الحوانيت في ليالي الأعياد ونحوها لتزيين الحوانيت وتستر بنطع ونحوه
محرزة بحارس، لأن أهل السوق يعتادون ذلك فيقوى بعضهم ببعض، بخلاف سائر الليالي، والثياب الموضوعة على
باب حانوت القصار ونحوه كأمتعة العطار الموضوعة على باب حانوته فيما مر، والقدور التي يطبخ فيها في الحوانيت محرزة
بسدد تنصب على باب الحانوت للمشقة في نقلها إلى بناء وإغلاق باب عليها، والحانوت المغلق بلا حارس حرز لمتاع
البقال في زمن الامن ولو ليلا لانتفاع البزاز ليلا، بخلاف الحانوت المفتوح والمغلق زمن الخوف وحانوت متاع البزاز
ليلا، والأرض حرز للبذر، والزرع للعادة، وقيل ليست حرزا إلا بحارس. قال الأذرعي: وقد يختلف ذلك باختلاف
عرف النواحي فيكون محرزا في ناحية بحارس، وفي غيرها مطلقا اه‍. وهذا أوجه والتحويط بلا حارس لا يحرز
الثمار وإن كانت على الأشجار إلا إن اتصلت بجيران يراقبونها عادة وأشجار أفنية الدور محرزة بلا حارس، بخلافها
في البرية، والثلج في المثلجة، والجمد في المجمدة، والتبن في المتبن، والحنطة في المطامير، كل منها في
الصحراء غير
محرز إلا بحارس، وأبواب الدور والبيوت التي فيها، والحوانيت بما عليها من مغاليق وحلق ومسامير محرزة بتركيبها
ولو مفتوحة أو لم يكن في الدور والحوانيت أحد، ومثلها كما قال الزركشي وغيره سقوف الدور والحوانيت ورخامها
والآخر محرز بالبناء والحطب وطعام البياعين محرز بشد بعض كل منها إلى بعض بحيث لا يمكن أخذ شئ منه إلا بحل الرباط
أو بفتق بعض الغرائر حيث اعتيد ذلك، بخلاف ما إذا لم يعتد فإنه يشترط أن يكون عليه باب مغلق. (ولو نام بصحراء
أو مسجد) ونحو ذلك من موضع مباح كشارع (على ثوب) أو لابسا لعمامته، أو غيرها كمداسه وخاتمه (أو توسد)
أي وضع (متاعا) تحت رأسه أو اتكأ عليه (فمحرز) فيقطع السارق بدليل الامر بقطع سارق رداء صفوان. قال
الشافعي رضي الله تعالى عنه: ورداؤه كان محرزا باضطجاعه عليه، ولفضاء العرف بذلك. وإنما يقطع بتغييبه عنه
ولو بدفنه إذ إحراز مثله بالمعاينة، فإذا غيبه عن عين الحارس بحيث لو نبه له لم يره كأن دفنه في تراب، أو واراه
تحت ثوبه أو حال بينهما جدار فقد أخرجه من حرزه.
تنبيه: استثنى الماوردي والروياني فيما لو توسد شيئا لا يعد التوسد حرزا له كما لو توسد كيسا فيه نقد أو جوهر
165

ونام فليس بمحرز حتى يشده بوسطه. قال الأذرعي: أي تحت الثياب وقيد المروزي القطع بأخذ الخاتم بما إذا لم
يكن مخلخلا في يد، أو كان في الأنملة العليا وإلا فلا قطع. (فلو انقلب) في نومه (فزال عنه) أي الثوب (فلا) يكون
حينئذ محرزا فلا يقطع سارقه. ولو قلبه السارق عن الثوب ثم أخذه لم يقطع أيضا كما صرح به في أصل الروضة عن
البغوي وأقره لما مر. قال البلقيني: وهذا عندنا شاذ مردود لا وجه له، والذي نعتقده القطع بخلافه لأنه أزال
الحرز ثم أخذ النصاب فصار كما لو نقب الحائط أو كسر الباب أو فتحه وأخذ النصاب فإنه يقطع باتفاق اه‍. وفرق بأن
المال ثم لما أخذه كان محرزا في الجملة بخلافه هنا فإنه منسوب لتقصير. ويؤيد هذا ما قاله البغوي أيضا من أنه لو وجد
جملا وصاحبه نائم عليه فألقاه عنه وهو نائم وأخذ الجمل فإنه لا يقطع وإن خالف في ذلك الجويني وابن القطان (وثوب
ومتاع) لشخص (وضعه) أي كل منهما (بقربه بصحراء) أو نحو شارع كمسجد (إن لاحظه) بنظره كما مر (محرز)
لقضاء العرف بذلك (وإلا) بأن لم يلاحظه بل نام أو ولاه ظهره أو ذهل عنه (فلا) يكون محرزا.
تنبيه: هذه المسألة علمت من قوله سابقا: فإن كان بصحراء إلخ لكن زاد هنا قيد القرب ليخرج ما لو وضعه
بعيدا بحيث لا ينسب إليه فإن هذا تضييع لا إحراز. ويشترط مع الملاحظة أمران: أحدهما أن لا يكون في الموضع ازدحام
للطارقين، نعم إن كثر الملاحظون عادل كثرة الطارقين كما نقلاه عن الإمام وأقراه. الثاني أن يكون الملاحظ في
موضع بحيث يراه السارق حتى يمتنع من السرقة إلا بتغفلة، فإن كان في موضع لا يراه فلا قطع إذ لا حرز يظهر للسارق
حتى يمتنع من السرقة، قاله البلقيني. قال في أصل الروضة: وينبغي أن لا يفرق فيما ذكرنا بين كون الصحراء مواتا
أو غيره، قيده الشافعي في الام بالموضع المباح وجرى عليه القاضي. أجيب بأن المراد بالمباح مقابل الحرام،
لا ما لبس مملوكا فلا منافاة. (وشرط الملاحظ) لمتاع كثوب ونحوه (قدرته على منع سارق) من الاخذ لو اطلع عليه
(بقوة أو استغاثة) فإن كان الملاحظ ضعيفا لا يبال السارق به لقوته والموضع بعيد عن الغوث فليس بحرز، وإن كان
السارق ضعيفا أيضا وأخذه ولم يشعر به الملاحظ ولو شعر به لطرده فإنه يقطع على الظاهر عند الإمام، وإن كان لو
أخذه قوى في هذه الحالة لا يقطع (ودار منفصلة عن العمارة) ككونها بأطراف الخراب والبساتين (إن كان بها)
ملاحظ (قوي يقظان حرز) لما فيها (مع فتح الباب وإغلاقه) لاقتضاء العرف ذلك (وإلا) صادق بأربع صور:
بأن لا يكون بها أحد والباب مغلق أو فيها أحد وهو ضعيف لا يبال به كما قيده في المحرر وهي بعيدة عن الغوث أو
فيها قوي نائم والباب مفتوح، أو قوي نائم وهو مغلق (فلا) تكون حرزا، والصورة الأخيرة فيها وجهان: أحدهما
أنها ليست حرز كما هو ظاهر كلام المصنف تبعا للمحرر. والثاني أنها حرز، وهو الأقرب في الشرج الصغير،
والأقوى في زيادة الروضة. وقال الأذرعي: إنه المنقول في الذخائر وغيره عن العراقيين ولم يذكروا سواه، وهو
الموافق لكلام الأصحاب في الخيمة كما سيأتي، والدار المغلقة أولى بالاحراز من الخيمة (و) دار (متصلة) بالعمارة بدور
آهلة (حرز) لما فيها ليلا ونهارا (مع إغلاقه) أي الباب (و) مع (حافظ) قوي أو ضعيف (ولو) هو (نائم)
ولو في زمن خوف لأن السارق على خطر من اطلاعه وتنبهه بحركاته واستغاثته بالجيران. قال الأذرعي: ويشبه أن
يكون الضعيف كالعدم قال الزركشي: لو عجز الضعيف عن الاستغاثة فيتجه أن يكون كالعدم اه‍. ويمكن حمل كلام
الأذرعي على هذا فيكون ظاهرا. (و) الدار المتصلة (مع فتحه) أي الباب (ونومه) أي الحافظ (غير حرز ليلا)
جزما لأنه مضيع (وكذا نهارا في الأصح) كما لو لم يكن فيها أحد والباب مفتوح، والثاني يكون حرزا اعتمادا على
166

نظر الجيران ومراقبهم.
تنبيه: محل الخلاف في زمن الامن النهب وغيره، وإلا فالأيام كالليالي كما جزم به أصل الروضة، وكلام
المصنف محمول على المنقول في الدار حتى لا يرد عليه الباب المفتوح نفسه، والأبواب المنصوبة الداخلة فإنها بتركيبها في
حرز وإن لم تغلق، وكذا حلقها المسمرة وسقفها ورخامها كما مر. (وكذا يقظان) في دار (تغفله سارق) وسرق فليست
بحرز (في الأصح) فلا قطع لتقصيره بإهمال المراقبة مع فتح الباب، والثاني أنها حرز لعسر المراقبة دائما.
تنبيه: محل الخلاف ما إذا لم يبالغ في الملاحظة، فإن بالغ فيها فانتهز السارق فرصة قطع بلا خلاف كما في الروضة
وأصلها، وألحق بالباب المغلق ما كان مردودا ونام خلفه بحيث لو فتحه لأصابه وانتبه كما قاله البلقيني، وما لو نام
أمامه بحيث لو فتح لانتبه بصريره كما قاله الدارمي وغيره. وقال الزركشي: وينبغي أن يكون حكم ما بعد الفجر إلى
الاسفار حكم الليل وما بعد الغروب وقبل انقطاع الطارق حكم النهار (فإن خلت) أي الدار المتصلة من حافظ فيها (فالمذهب
أنها حرز نهارا زمن أمن وإغلاقه) أي الباب (فإن فقد شرط) من هذه الشروط الثلاثة بأن كان الباب مفتوحا أو الزمن
زمن خوف أو الوقت ليلا (فلا) تكون هذه الدار حينئذ حرزا.
تنبيه: عبر في الروضة أيضا بالمذهب وفي الشرح والمحرر بالظاهر ولم يذكر له مقابل، ويستثنى من إطلاق المصنف
أن الدار المغلقة نهارا حرز ما لو أغلق الباب نهارا ووضع المفتاح في شق قريب من الباب فبحث عنه السارق وأخذه وفتح
الباب فإنه لا قطع عليه كما أفتى به البلقيني، لأن وضع المفتاح هناك تفريط فيكون شبهة دارئة للحد (وخيمة بصحراء)
وسبق معنى الخيمة في باب صلاة المسافر. (إن لم تشد أطنابها وترخى أذيالها) بالمعجمة (فهي وما فيها كمتاع بصحراء) فيأتي
فيها ما تقدم، فلو كانت مضروبة العمائر فهي كمتاع بين يديه في السوق (وإلا) بأن شدت أطنابها وأرخيت أذيالها
(فحرز) لما فيها (بشرط حافظ قوي) وضعف يبالي به (فيها) أو بقربها (ولو) هو (نائم) فيها أو بقربها كما في الروضة
وأصلها لحصول الاحراز عادة، فلو لم يكن فيها ولا بقربها أحد أو كان وهو ضعيف وبعيد عن الغوث فليست حرزا،
نعم إن كان مستيقظا لم يعتبر القرب بل يكفي أن يكون بموضع تحصل منه الملاحظة ويراه السارق بحيث ينزجر به، قاله
البلقيني. وصحح في الروضة أنه لا يشترط إسبال بابها إذا كان من فيها نائما. فإن قيل: قد مر أن باب الدار إذا كان
مفتوحا والحافظ فيها نائم لم تكن حرزا فهلا هنا كذلك؟. أجيب: بأن الخيمة تهاب غالبا فاكتفي فيها بذلك
بخلاف الدار فلو شدت أطنابها ولم ترخ أذيالها فهي محرزة دون ما فيها فيعتبر في نفس الخيمة أمران: حافظ وشد
أطنابها، وفيما فيها ثلاثة: هذان، وإرخاء أذيالها وإن كان ظاهر كلام المصنف مساواة حكم الخيمة وما فيها. وأورد
على إطلاق المصنف ما لو كان فيها نائم فنحاه السارق ثم سرق فلا قطع كما مر في الثوب المفروش تحته.
تنبيه: قوله: وترخى بإثبات الألف بخطه على أنه مرفوع من عطف جملة على جملة في حيز النفي، أي انتفى
الشد
والارخاء، وعلى هذا لو صرح بالنافي في المعطوف كالمحرر وغيره كان أوضح، ويجوز أن يكون مجزوما عطفا على
تشد وعليه فيجب حذف الألف للجازم، اللهم إلا أن يقال إنها حذفت وإن الموجدة تولدت من إشباع فتحة الخاء كما
قيل بإشباع الكسر في قول الشاعر:
إذا العجوز غضبت فطلقي ولا ترضاها ولا تملقي
بإثبات الياء (وماشية) من إبل وخيل وبغال وحمير وغيرها (بأبنية مغلقة) أبوابها (متصلة بالعمارة محرزة) بها
167

ولو (بلا حافظ) للعرف كذا أطلقوه، وينبغي كما قال الزركشي: تقييده بما إذا أحاطت به المنازل الأهلية، فأما إذا
اتصلت بالعمارة ولها جانب آخر من جهة البرية فإنها تلحق بالبرية وسيأتي. وخرج بقوله مغلقة ما لو كان الباب مفتوحا
فإنه لا بد من الحافظ ولو كان نائما كما صرح به في المعتمد. فإن قيل: قيد المصنف سابقا الدار المتصلة بالعمارة بكونها
محرزة نهارا زمن أمن، ولا يظهر بينهما فرق كما قاله بعض المتأخرين. أجيب بأنه يتسامح في أمر الماشية دون غيرها
(و) الماشية بأبنية مغلقة (ببرية يشترط) في إحرازها لما فيها (حافظ) قوي أو ضعيف يبالي به (ولو) هو (نائم) فإن كان
الباب مفتوحا اشترط حافظ مستيقظ، وهذا يفهم من قوله أولا مغلقة. قال الأذرعي: والظاهر أن نومه بالباب مفتوح
كاف، ويكفي كون المراح من حطب أو حشيش أو نحوه، وشرط الماوردي في المراح بالبرية اجتماعها فيه بحيث يحس
بعضها بحركة بعض وأن يكون معها حافظ، فإن كان مستيقظا كفى، فإن نام احتاج إلى شرط ثالث وهو ما يوقظه إن
أريد سرقتها ككلاب تنبح أو أجراس تتحرك فإن أخل بهذا عند نومه لم تكن محرزة، واستحسنه الأذرعي، فإن
كان الحافظ ضعيفا لم يبال به السارق ولا يلحقه غوث فكالعدم كما مر.
تنبيه: قوله بأبنية يقتضي اعتبار إحراز الماشية به وليس مرادا فقد جزما بأن الإبل المناخة المعقولة محرزة بحافظ
عندها ولو نائما لأن في حل عقالها ما يوقظه، ولان الرعاة إذا أرادوا أن يناموا عقلوا إبلهم (وإبل) وما ذكر معها من
خيل ونحوها (بصحراء) ترعى في مرعى خال عن المارين (محرزة بحافظ) أي معها (يراها) ويبلغها صوته، فإن نام أو
غفل عنها أو استتر عنه بعضها فمضيع لها في الأولين ولبعضها المستتر في الأخيرة، فإن لم تخل المرعى عن المارين
حصل الاحراز بنظرهم، نبه عليه الرافعي أخذا من كلام الغزالي، وإن بعد عن بعضها ولم يبلغ ذلك البعض صوته
فوجهان: أحدهما أنه غير محرز لعدم بلوغ الصوت له، والثاني وهو الظاهر ورجحه في الشرح الصغير وعزاه القمولي وابن
الرفعة إلى الأكثرين محرزا اكتفاء بالنظر لامكان العدو إلى ما لم يبلغه. (و) إبل أو بغال (مقطورة) يقودها قائد (يشترط)
في إحرازها (التفات قائدها) أو راكب أولها (إليها كل ساعة بحيث يراها) جميعها لأنها تعد محرزة بذلك، وإن كان يسوقها
سائق فمحرزة إن انتهى نظره إليها، وفي معناه الراكب لآخرها، فإن كان لا يرى البعض لحائل جبل أو بناء فذلك البعض
غير محرز، فإن ركب غير الأول والآخر فهو لما بين يديه كسائق ولما في خلفه كقائد. قالا وقد يستغنى بنظر المارة عن
نظره إن كان يسيرها في سوق ونحوه، وفي اشتراط بلوغ الصوت لها ما سبق قريبا (و) يشترط (أن لا يزيد قطار) وهو بكسر
القاف ما كان بعضها أثر بعض (على تسعة) - بالتاء المثناة أو له - للعادة الغالبة في ذلك، فإن زاد فكغير المقطورة. قال ابن
الصلاح: كذا وقع في بعض نسخ الوسيط وهو تصحيف، والصحيح سبعة - بالموحدة بعد السين - وعليه العرف، واعترضه
الأذرعي بأن المنقول تسعة - بالمثناة في أوله - وهو ما ذكره الفوراني ونقله عنه العمراني، وكذا قاله البغوي والغزالي في الوجيز
والوسيط، ونسبه في الوسيط إلى الأصحاب، قال الرافعي: والأحسن التوسط، ذكره أبو الفرج السرخسي، فقال:
في الصحراء لا يتقيد القطار بعدد، وفي العمران يعتبر ما جرت العادة بأن يجعل قطارا هو ما بين سبعة إلى عشرة، وصححه
في الروضة وجرى عليه ابن المقري في روضه وهو الظاهر. وقال البلقيني: التقييد بالتسع أو السبع ليس بمعتمد، فإن
الشافعي لم يعتبر ذلك ولا كثير من الأصحاب، منهم الشيخ أبو حامد وأتباعه. وذكر الأذرعي والزركشي نحوه، قالا:
والأشبه الرجوع في كل مكان إلى عرفه، وبه صرح صاحب الوافي. قال الرافعي: ومنهم من أطلق التقطير ولم يقيده
بعدد. قال الأذرعي: وهم الجمهور، وكذا أطلقه الشافعي رحمه الله في الام والمختصر، وسبب اضطراب الأصحاب
في عدد القطار اضطراب العرف. (و) إبل (غير مقطورة) كأن كانت تساق (ليست محرزة في الأصح) وفي المحرر الأشبه
168

أن الإبل لا تسير كذلك غالبا، والثاني محرزة بسائقها المنتهي نظره إليها كالمقطورة المسوقة ورجحه في الشرح الصغير.
وقال الأذرعي: إنه المذهب ونقله عن الأكثرين. وقال في المهمات: إن الفتوى على ما في المنهاج والمحرر، فقد نص
عليه الشافعي رحمه الله في الام. قال في أصل الروضة: والخيل والبغال والحمير والغنم السائرة كالإبل السائرة إذا لم
تكن مقطورة، ولم يشترطوا القطر فيها، لكنه معتاد في البغال، ويختلف عدد الغنم المحرزة بحارس واحد بالبلد والصحراء اه‍.
والذي عليه ابن المقري أن البغال كالإبل تقطيرا وعدمه. وعلى أن غيرهما من الماشية مع التقطير
وعدمه مثلهما مع التقطير وهو الأوجه.
فروع: المتاع الذي على الدابة المحرزة محرز يقطع سارقه سواء سرقه وحده أو مع الدابة، ولو سرق بقرة مثلا
فتبعها عجلها لم يكن العجل محرزا إلا إذا كان قريبا منه بحيث يراه إذا التفت وكان يلتفت كل ساعة كما تقدم في قائد
القطار، ولو دخل المراح وحلب من لبن الغنم أو جز من نحو صوفها كوبرها ما يبلغ نصابا وأخرجه قطع، ولا يشترط
كون اللبن من واحدة منها على الأصح من وجهين، لأن المراح حرز واحد لجميعها. قال الروياني: وهو اختيار جماعة
من أصحابنا، والوجه الثاني لا يقطع لأنها سرقات من أحراز، لأن كل ضرع حرز للبنه. قال الأذرعي: ويأتي مثل
ذلك في جز الصوف ونحوه، ومحل الخلاف كما قال الأذرعي أيضا إذا كانت الدواب لواحد أو مشتركة، فإن لم تكن
كذلك قطع بالثاني كما قاله شيخنا. (وكفن) مشروع كائن (في قبر ببيت محرز) بالجر صفة بيت (محرز) بالرفع خبر
كفن فيقطع سارقه منه لما روى البيهقي عن البراء برفعه: من نبش قطعنا. وروى البخاري في تاريخه أن الزبير قطع
نباشا (وكذا) كفن بقبر (بمقبرة) كائنة (بطرف العمارة) فإنه محرز يقطع سارقه حيث لا حارس هناك (في الأصح)
لأن القبر في المقابر حرز في العادة كما أن البيت المغلق في العمران حرز وإن لم يكن فيه أحد، والثاني إن لم يكن هناك
أحد فهو غير محرز. وسواء على الأول أكان الكفن من مال الميت أم من غيره ولو من بيت المال كما يقتضيه إطلاق
كلام المصنف، وإنما قطع به وإن كان من بيت المال لانقطاع الشركة عنه بصرفه إلى الميت كما لو أصرفه إلى الحي،
وسواء أقلنا الملك في الكفن لله تعالى أم للوارث على الأصح لأجل اختصاص الميت به. نعم لو سرقه بعض الورثة،
أو ولد بعضهم لم يقطع، ومقتضى كلام الروضة أن حارس المقبرة إذا سرق منها لم يقطع، أما المقبرة المحفورة بالعمارة
التي يندر تخلف الطارقين عنها في زمن يتأتى فيه النبش أو كان عليها حراس مرتبون فهو بمثابة البيت المحرز كما نقلاه
عن الإمام وأقراه، وإنما يقطع بإخراجه من جميع القبر إلى خارجه لا من اللحد إلى فضاء القبر وتركه ثم لخوف أو غيره
لأنه لم يخرجه من تمام حرزه. أما غير الشرعي كأن زاد على خمسة أثواب فليس الزائد محرزا بالقبر كما لو وضع مع
الكفن غيره إلا أن يكون القبر ببيت محرز فإنه محرز به، ولو تغالى في الكفن بحيث جرت العادة أن لا يخلى مثله بلا
حارس لم يقطع سارقه كما قاله أبو الفرج الزاز (لا) كفن في قبر (بمضيعة) أي بقعة ضائعة، وهي بضاد معجمة
مكسورة بوزن معيشة أو ساكنة بوزن مسبعة، فإنه غير محرز (في الأصح) كالدار البعيدة عن العمران، لأن السارق
يأخذ من غير خطر، والثاني أن القبر حرز للكفن حيث كان لأن النفوس تهاب الموتى.
فروع: لو كفن الميت من التركة فنبش قبره وأخذ منه طالب به الورثة من أخذه لأنه ملكهم وإن قدم به
الميت، وكذا لو سرقه بعض الورثة أو ولده لم يقطع كما مر، ولو أكل الميت سبع أو ذهب به سيل وبقي الكفن
اقتسموه كذلك، ولو كفنه أجنبي أو سيد من ماله، أو كفن من بيت المال كان كالعارية للميت. قال الرافعي: لأن نقل
الملك إليه غير ممكن لأنه لا يملك ابتداء فكان المكفن معيرا عارية لا رجوع له فيها كإعارة الأرض للدفن فيقطع به
غير المكفنين والخصم فيه الملك في الأولين، والإمام في الثالثة. ولو سرق الكفن وضاع ولم تقسم التركة وجب إبداله
من التركة، وإن كان الكفن من غير ماله، فإن لم يكن تركة فكمن مات ولا تركة له، وإن قسمت ثم سرق استحب
لهم إبداله. هذا إذا كفن أولا في الثلاثة التي هي حق له فإنه لا يتوقف التكفين بها على رضا الورثة، أما لو كفن منها
169

بواحد فينبغي كما قال الأذرعي أن يلزمهم تكفينه من تركته بثان وثالث، والفساقي المعروفة كبيت معقود حتى إذا لم
تكن في حرز ولا لها حافظ لم يقطع بسرقة الكفن منها كما بحثه الأذرعي، فإن اللص لا يلقى عناء في النبش بخلاف
القبر المحكم في العادة، وجمع الحجارة على الميت وهو على وجه الأرض عند تعذر الحفر كالدفن للضرورة، بخلاف
ما إذا لم يتعذر الحفر والبحر ليس حرزا لكفن الميت المطروح فيه فلا يقطع آخذه، لأنه ظاهر فهو كما لو وضع الميت
على شفير القبر فأخذ كفنه، فإن غاص في الماء فلا قطع على آخذه أيضا، لأن طرحه في الماء لا يعد إحرازا كما لو تركه
على وجه الأرض وغيبه الريح بالتراب، ولو أخرج الميت مع الكفن ففي القطع وجهان. قال الزركشي: وقضية
ما سيأتي من عدم القطع بسرقة الحر العاقل وعليه ثيابه أن يكون هنا كذلك، وإذا أخذ الكفن حينئذ لا قطع لأنه لم
يأخذه من حرز. قال الزركشي: ولا بد من كون الميت محترما ليخرج الحربي ولم يذكره اه‍. وهو ظاهر، ولا بد أيضا كما
بحثه بعضهم أن يكون القبر محترما ليخرج قبر في أرض منصوبة.
فصل: فيما لا يمنع القطع وما يمنعه وما يكون حرزا لشخص دون آخر. ولو أخر هذا الفصل إلى قوله: ولا يقطع
مختلس كان أولى، لأنه أول الركن الثاني للقطع (يقطع) جزما (مؤجر الحرز) إجارة صحيحة بسرقته منه مال المستأجر
الذي وضعه فيه إذ لا شبهة له فيه، لأن المنافع بعقد الإجارة مستحقة للمستأجر والاحراز من المنافع، وهذا بخلاف
ما لو وطئ المالك أمته المزوجة فإنه لا يحد لأن الشبهة قائمة في المحل، وبخلاف ما ليس للمستأجر وضعه فيه كأن
استأجر أرضا للزراعة فآوى إليه ماشية مثلا، ويؤخذ من هذا أنه لو سرق منها بعد فراغ مدة الإجارة لم يقطع وهو
كذلك وإن كان قضية كلام ابن الرفعة أنه يقطع، وبخلاف ما لو كانت الإجارة فاسدة فلا قطع.
تنبيه: يرد على جزم المصنف قطع المؤجر لو ثبت له خيار الفسخ بطريق معتبر بأن ثبت على وجه لا يبطل
بالتأجير كما لو بلغه ليلا إفلاس المستأجر فسرق تلك الليلة من الحرز ففيه خلاف المعير لتمكنه من فسخ الإجارة كما أن
المعير يتمكن من الرجوع في العارية، قاله البلقيني بحثا. قال: ولم أر من تعرض له. (وكذا) يقطع (معيره) أي الحرز
إعارة صحيحة بسرقة مال المستعير الذي له وضعه فيه (في الأصح) لأنه سرق النصاب من حرز محترم، وإنما يجوز له
الدخول إذا رجع، والثاني لا يقطع لأن الإعارة لا تلزم، وله الرجوع متى شاء. ويؤخذ من هذا أن محل الخلاف في
العارية الجائزة أما الإعارة اللازمة فيقطع فيها قطعا كالمؤجر، ومحله أيضا إذا لم يتقدمه رجوع فإن رجع أولا في العارية
بالقول وامتنع المستعير من الرد بعد التمكن فلا قطع قطعا، لأن المستعير حينئذ يتصرف فيه بغير حق فكان كالغاصب
وإن سرقه بعد الرجوع قبل إمكان التفريغ فلا قطع، كما لو سرق المشتري مال البائع من الدار المبيعة بعد توفية الثمن
وقبل القبض وقبل إمكان التفريغ، أما قبل توفية الثمن فيقطع لأن للبائع قبل تسليمه حق الحبس، فأشبه المستأجر بخلاف
ما بعده، وقضيته أنه لو كان الثمن مؤجلا لم يقطع وهو كما قال شيخنا ظاهر. وخرج بالصحيحة الفاسدة فلا قطع فيها
لما مر في الإجارة وبماله الذي وضعه فيه ما لو استعار للزراعة فغرس ودخل المستعير فسرق من الغراس لم يقطع على قياس
ما مر في صورة الإجارة السابقة.
تنبيه: مثل إعارة الحرز إعارة رقيق لحفظ مال أو رعي غنم ثم سرق مما يحفظه رقيقه، وقد خرج بقول المصنف
الحرز ما لو أعاره قميصا فطر المعير جيبه وأخذ المال فإنه يقطع قطعا كما قاله الإمام. قال الأذرعي: ونقب الجدار أي
المعار كطر الجيب فيما يظهر. (ولو غصب حرزا لم يقطع مالكه) بسرقة ما أحرزه الغاصب فيه جزما، لأن له الدخول
والهجوم عليه فلا يكون محرزا عنه وصاحب المتاع ظالم، وقد قال (ص): ليس لعرق ظالم رق. (وكذا
أجنبي) لا يقطع بسرقته منه (في الأصح) لأن الاحراز من المنافع، والغاصب لا يستحقها، والثاني يقطع إذ لا حق للأجنبي
170

فيه وليس له الدخول. تنبيه: لو وضع متاعه بدار غيره من غير علمه ورضاه فسرق هل يقطع سارقه؟. قال الحناطي في فتاويه: قيل
لا يقطع، لأن الموضع لا يكون حرزا في حقه وإن كان في نفسه حرزا، وقيل: يقطع لأن الحرز يرجع إلى صون المتاع
وهو موجود هنا. قال: وهذا أشبه بالحق عندي اه‍. والأوجه الأول بل هو داخل في قول المصنف: غصب
حرزا. (ولو غصب
مالا) أو سرقه (وأحرزه بحرزه فسرق المالك منه مال الغاصب، أو) سرق (أجنبي) منه المال (المغصوب) أو
المسروق (فلا قطع) على واحد منهما (في الأصح) أما في المالك فلان له دخول الحرز وهتكه لاخذ ماله، فالذي
يأخذه من مال الغاصب أو السارق يأخذه وهو محرز عنه، والثاني يقطع لأنه أخذ غيره ماله. قال الرافعي: وخصص
المحققون الوجهين في المالك بما إذا كان مال الغاصب متميز عن ماله فأخذه وحده أو مع مال نفسه، فأما إذا كان مخلوطا
بحيث لا يتميز أحدهما عن الآخر فلا قطع فيه جزما. وأما في الأجنبي فلان الحرز ليس برضا المالك فكأنه غير محرز،
والثاني نظر إلى أنه حرز في نفسه. واحترز بقوله مال الغاصب عما لو سرق مال نفسه وحده فلا قطع قطعا، وبقوله
أو أجنبي المغصوب عما لو سرق الأجنبي غير المغصوب فإنه يقطع قطعا.
تنبيه: في قول المصنف: أو سرق أجنبي إشارة لتخصيص الخلاف بدخول الأجنبي بقصد سرقة مغصوب، أما
إذا أخذه بقصد الرد على المالك فلا يقطع جزما كما صرح به البغوي. وأعلم أن السرقة أخذ المال خفية كما مر. (و)
حينئذ (لا يقطع مختلس) وهو من يعتمد الهرب من غير غلبة مع معاينة المالك (و) لا (منتهب) وهو من يأخذ عيانا
ويعتمد على القوة والغلبة (و) لا (جاحد) أي منكر (وديعة) وعارية لحديث: ليس على المختلس والخائن
قطع. صححه الترمذي وفرق من حيث المعنى بينهم وبين السارق بأن السارق يأخذ المال خفية، ولا يتأتى منعه
فمشرع القطع زجرا له، وهؤلاء لا يقصدونه عيانا فيمكن منعهم بالسلطان وغيره، كذا قاله الرافعي وغيره، ولعل
هذا حكم على الأغلب، وإلا فالجاحد لا يقصد الاخذ عند جحوده عيانا فلا يمكن منعه بالسلطان ولا غيره.
تنبيه: دخل في تفسيرهم المنتهب قاطع الطريق فلا بد من لفظ يخرجه. (ولو نقب) في ليلة ولم يسرق (وعاد
في ليلة أخرى) قبل إعادة الحرز (فسرق قطع في الأصح) كما لو نقب في أول الليل وسرق في آخره، والثاني لا لأنه
إنما أخذ بعد انتهاك الحرز، والأول أبقى الحرز بالنسبة إليه، فإن أعيد الحرز فسرق قطع جزما كما سبق أول الباب
في مسألة إخراج نصاب من حرز مرتين. واحترز بقوله: وعاد في ليلة أخرى عما لو نقب وأخرج النصاب عقب
النقب فإنه يقطع جزما. (قلت) كما قال الرافعي في الشرح (هذا) أي القطع في مسألة المتن (إذا لم يعلم المالك النقب ولم
يظهر) بأن لم يشتهر (للطارقين) لخفائه عليهم (وإلا) بأن علم المالك النقب، أو ظهر للطارقين (فلا يقع قطعا، والله
أعلم) لانتهاك الحرز فصار كما لو سرقه غيره. فإن قيل: ما جزم به من عدم القطع عند الاشتهار يخالف ما رجحه فيما إذا
أخرج نصابا من حرز مرتين أنه يجب القطع على الأصح وإن عاد بعد الاشتهار. أجيب بأنه ثم تمم السرقة فلم يضر فيها
الاشتهار، وهنا ابتدأها.
تنبيه: يقع في بعض النسخ وإلا فيقطع قطعا وهو غلط، والصواب إثبات حرف النفي وهو موجود في خط المصنف،
قاله الأذرعي. (ولو نقب) شخص (وأخرج غيره) المال من النقب ولو في الحال (فلا قطع) على واحد منهما، لأن الناقب
لم يسرق، والآخذ أخذ من غير حرز، ويجب على الأول ضمان الجدار، وعلى الثاني ضمان المأخوذ.
تنبيه: أطلق المصنف المسألة، وصورتها أن لا يكون في الدار أحد، فإن كان فيها حافظ قريب من النقب
171

وهو يلاحظ المتاع فالمال محرز به فيجب القطع على الآخذ، وإن كان الحافظ نائما فلا قطع على الأصح كمن نام والباب
مفتوح، ومحل منع القطع على الناقب إذا كان ما أخرجه من البناء لا يبلغ نصابا كما قاله الزركشي وإلا فيقطع وإن
لم يدخل فقد صرحوا بأن الجدار حرز لآلة البناء، وفي أد ب القضاء للدنيلي: إذا نقب حائطا فأخرج منه آجرا. قال
الشافعي رحمه الله: إن بلغ قيمة الاجر مقدارا يجب به القطع قطع، انتهى. فيكون المراد حينئذ بقولهم: لأن الأول لم يسرق
أنه لم يسرق ما في الحرز، هذا كله إذا كان المخرج مميزا، أما لو نقب ثم أمر صبيا غير مميز أو نحوه بالاخراج فأخرج قطع
الامر، وإن أمر مميزا أو قردا فلا، لأنه ليس آلة له، ولان للحيوان اختيارا. فإن قيل: هلا كان غير المميز كالقرد؟
أجيب بأن اختيار القرد ثم أرسله على إنسان فقتله فإنه يضمنه، فهلا وجب عليه الحد هنا؟. أجيب بأن الحد
إنما يجب بالمباشرة دون السبب بخلاف القتل أقوى، فإن قيل له: لو علمه القتل وهل القرد مثال فيقاس عليه كل حيوان معلم أو لا؟
الذي يظهر الأول، ولو عزم على عفريت فأخرج نصابا هل يقطع أو لا؟ الذي يظهر الثاني كما لو أكره بالغا مميزا على
الاخراج فإنه لا قطع على واحد منهما. (ولو تعاونا) أي اثنان (في النقب وانفرد أحدهما بالاخراج) لنصاب فأكثر
(أو وضعه ناقب) أي أحد الناقبين (بقرب النقب فأخرجه آخر) مع مشاركته له في النقب وساوى ما أخرجه
نصابا فأكثر (قطع المخرج) في الصورتين لأنه السارق.
تنبيه: جملة وضعه عطف على جملة انفرد فهي من تتمة مسألة التعاون، والفرق بينها وبين ما قبلها أن المخرج
في تلك المسألة لا مدخل له في النقب بخلاف هذه ولو قال المصنف الآخر بالألف واللام كما في المحرر لكان أولى، وتحصل
الشركة وإن أخذ هذا لبنات وهذا لبنات على الأصح، وقيل لا بد في حصول الشركة أن يتحاملا على آلة واحدة
به. (ولو وضعه بوسط نقبه) - بفتح السين - لأنه اسم أريد به موضع النقب (فأخذه) شخص (خارج) أو ناوله لغيره من
فم النقب كما في الروضة وأصلها (وهو يساوي نصابين) فأكثر (لم يقطعا في الأظهر) لأن كلا منهما لم يخرج من تمام
الحرز وهو الجدار ويسمى هذا السارق الظريف أي الفقيه ومنهم من قطع بهذا القول، والثاني يقطعان لاشتراكهما
في النقب والاخراج، ولئلا يصير ذلك طريقا إلى إسقاط الحد، ويؤخذ من العلة الأولى أن صورة المسألة أنهما
تعاونا
في النقب ثم دخل أحدهما ووضع المتاع في بعض النقب فمد الآخر يده وأخذه، وإن أوهم تعبير المصنف جريان الخلاف
ولو كان الخارج غير ناقب، فلو قال فأخذه شريكه في النقب لكان أصرح في المقصود، وخرج بقوله وهو يساوي
نصابين ما إذا كان يساوي دون النصابين فإنه لا قطع عليهما جزما، ولو ربط المال لشريكه الخارج فجره مقطع الخارج
دون الداخل وعليهما الضمان، ويقطع الأعمى بسرقة ما دله عليه الزمن، وإن حمله ودخل به الحرز ليدله على المال
وخرج به لأنه السارق، ويقطع الزمن بما أخرجه والأعمى حامل للزمن لذلك، وإنما لم يقطع الأعمى لأنه ليس حاملا
للمال، ولهذا لو حلف لا يحمل طبقا فحمل رجلا حاملا طبقا لم يحنث وكالزمن غيره، وفتح الباب والقفل بكسر أو غيره
وتسور الحائط كالنقب فيما مر (ولو رماه) أي المال المحرز لشخص (إلى خارج حرز) أو أخذه في يده وأخرجها به
من الحرز ثم أعادها له (أو وضعه بماء جار) في الحرز فخرج الماء به منه أو راكدا فحركه فخرج به كما فهم بالأولى (أو)
وضعه على (ظهر دابة سائرة) أو واقفة سيرها هو كما فهم بالأولى، وصرح به في المحرر فخرجت به من الحرز (أو
عرضه) بتشديد الراء (لريح هابة فأخرجته) منه (قطع) في هذه الصور كلها لأن الاخراج في الجميع منسوب إليه،
وسواء رماه من النقب أم الباب أم من فوق الجدار، وسواء أخذه بعد الرمي أم لا، أخذه غيره أم لا، تلف كأن
172

رماه في نار، أم لا. تنبيه: لو عرف المصنف الحرز كالمحرر كان أولى، لأن تنكيره يوهم أنه لو فتح الصندوق وأخذ منه النقد ورماه
في أرض البيت فتلف أو أخذه غيره أنه يقطع وفيه تفصيل يأتي، واحترز بالماء الجاري أو الراكد إذا حركه عما لو
طرح المتاع في ماء راكد فزاد بانفجار أو سيل أو نحوه فأخرجه فلا قطع على الأصح لخروجه بسبب حادث، ولو وضعه
في ماء راكد فحركه غيره حتى خرج فالقطع على المحرك، وقد يرد على إطلاقه ما لو كان خارج الحرز واحتال برمي
أحجار وغير ذلك حتى سقط الأترج أو غيره من الثمار في الماء وخرجت من الجانب الآخر، فالأصح لا قطع، وبقوله
هابة عما إذا كانت ساكنة ووضعه على الطرف فهبت وأخرجته فلا قطع على الأصح كالماء الراكد فيما مر. وقوله على
ظهر دابة سائرة: أي ليخرج من الحرز. أما لو كانت سائرة من جانب من الدار إلى جانب آخر منها فوضعه عليها ثم
عرض لها الخروج بعد ذلك لخرجت، فالظاهر كما قاله الأذرعي: أنه كما لو وضعه عليها وهي واقفة ثم سارت، وحكمه
ما ذكره بقوله (أو) وضعه على ظهر دابة (واقفة فمشت بوضعه) حتى خرجت به من الحرز (فلا) قطع (
في الأصح) لأن
لها اختيارا في السير، فإذا لم يسبقها فقد سارت باختيارها، والثاني يقطع لأن الخروج حصل بفعله فإن الدابة إذا حملت
سارت، والثالث إن سارت عقب الوضع قطع وإلا فلا، وهو نظير المصحح في فتح قفص الطائر.
فروع: لو ابتلع جوهرة مثلا في الحرز وخرج منه قطع إن خرجت منه بعد لبقائها بحالها فأشبه ما لو أخرجها فيه
في وعاء، فإن لم تخرج منه فلا قطع لاستهلاكها في الحرز كما لو أكل المسروق في الحرز، وكذا لو خرجت منه لكن
نقصت قيمتها حال الخروج عن ربع دينار كما نبه عليه البارزي، ولو تضمخ بطيب في الحرز وخرج منه لم يقطع،
ولو جمع من جسمه نصاب منه لأن استعماله بعد إتلافا له كالطعام، ولو ربط لؤلؤة مثلا بجناح طائر ثم طيره قطع كما
لو وضعه على ظهر دابة ثم سيرها (ولا يضمن حر بيد ولا يقطع سارقه) وإن كان صغيرا لأنه ليس بمال، وألحق به
البغوي المكاتب، والرافعي المبعض. فإن قيل: روى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها أنه (ص) أتى برجل يسرق
الصبيان ثم يخرج بهم فيبيعهم في أرض أخرى، فأمر به فقطعت يده، فما الجواب عن ذلك؟ أجيب بأن الحديث ضعيف
وعلى تقدير صحته فمحمول على الأرقاء، وحكمهم أنه إن سرق من حرز رقيقا غير مميز لصغر أو عجمة أو جنون
قطع كسائر الأموال، وحرزه فناء الدار ونحوه ما إذا لم يكن الفناء مطروقا كما قاله الإمام، وسواء أحمله السارق أو دعاه
فأجابه لأنه كالبهيمة تساق أو تقاد، ولو أكره المميز فخرج من الحرز قطع كما لو ساق البهيمة بالضرب، ولان القوة
التي هي الحرز قد زالت، وإن أخرجه بخديعة لم يقطع لأنها خيانة لا سرقة، ولو حمل عبدا مميزا قويا على الامتناع نائما
أو سكران قطع كما صرح به القاضيان أبو الطيب وحسين وغيرهما، وهو نظير ما مر في أم الولد، بخلاف ما إذا حمله
مستيقظا فإنه لا يقطع لأنه محرز بقوته وهي معه (ولو سرق) حرا (صغيرا) لا يميز أو مجنونا أو أعجميا أو أعمى من موضع
لا ينسب لتضييع (بقلادة) أو مال غيرها مما يليق به من حيلة وملابسة وذلك نصاب (فكذا) لا يقطع سارقه (في الأصح)
لأن للحر يدا على ما معه. ولهذا لو وجد منفردا ومعه حلي حكم له به فصار كمن سرق جملا وصاحبه راكبه، والثاني
يقطع لأنه أخذه لأجل ما معه، أما إذا سرقه من موضع ينسب لتضييع فلا يقطع بلا خلاف أو كان ما معه فوق ما يليق
به وأخذه من حرز مثله قطع بلا خلاف، أو من حرز يصلح للصبي دونه لم يقطع بلا خلاف، ذكره في الكفاية.
تنبيه: هذا إذا كانت القلادة للصبي، فلو كانت لغيره، فإن أخذه من حرز مثلها قطع وإلا فلا جزما، قاله
الماوردي. ولو أخرج الصبي من الحرز ثم نزع القلادة منه لم يقطع كما قاله ابن المقري لأنه لم يأخذها من حرز،
ولو سرق قلادة مثلا معلقة على صغير ولو حرا أو كلب محرزين أو سرقها مع الكلب قطع، وحرز الحر الصغير حرز
العبد الصغير، وحرز الكلب حرز الدواب. (ولو نام عبد على بعير) فجاء سارق (فقاده وأخرجه عن القافلة) إلى مضيعة
173

كما في الروضة (قطع) لأنه كان محرزا بالقافلة والعبد في نفسه مسروق وثبتت اليد وتعلق به القطع (أو) نام (حر) على
بعير إلخ (فلا) يقطع (في الأصح) لأن البعير بيده، سواء أنزله بعد ذلك عنه أم لا، كما صرح به في التهذيب ومثله
المكاتب والمبعض كأعلم مما مر، والخلاف راجع للمسألتين كما في الروضة، وإن أوهم كلام المصنف الجزم في العبد،
ومقابل الأصح في الأولى لا يقطع لأن يده على البعير، وفي الثانية يقطع لأن البعير كان محرزا بالقافلة، وخرج بنام ما لو
كان مستيقظا وهو قادر على الامتناع، ولو أخرجه إلى قافلة أخرى أو بلدة أو قرية لم يقطع في الثانية بلا خلاف،
ومقتضى ما في الروضة أنه لا قطع في الأولى أيضا وليس مرادا، ولهذا أسقط ابن المقري ذكر المضيعة من روضه. (ولو
نقل) المال من بعض زوايا البيت لبعض آخر منه لم يقطع، أو نقل المال (من بيت مغلق) بفتح اللام (إلى صحن
دار بابها مفتوح) ولم يخرجه منها (قطع) جزما لأنه أخرجه من حرزه وجعله في محل الضياع (وإلا) صادق بثلاث
صور: الأولى أن يكون البلد مفتوحا وباب الدار مغلقا، الثانية أن يكونا مغلقين والعرصة حرز للمخرج، الثالثة
أن يكونا مفتوحتين ولا حافظ ثم (فلا) يقطع في الأصح لأنه في الأوليين لم يخرجه من تمام الحرز، والمال في الثالثة
غير محرز.
(تنبيه) محله في الثالثة إذا فتح الباب غير السارق كأن تسور السارق الجدار وفتح الباب غيره، أما إذا فتحه هو
فهو في حقه كالمغلق حتى لا يقطع، لأنه لم يخرجه من تمام الحرز، وإلا لزم أن لا يقطع بعد إخراجه المال، لأنه أخرجه
من غير حرز. (وقيل إن كانا) أي باب البيت والدار (مغلقين قطع) لأنه أخرجه من حرز، والأصح المنع لأنه لم يخرجه
من تمام الحرز فأشبه ما إذا أخرج من الصندوق المغلق إلى البيت المغلق ولم يخرجه من البيت (وبيت خان) أو رباط أو نحوه
(وصحنه كبيت و) صحن (دار في الأصح) فيفترق الحال بين أن يكون باب الخان مفتوحا ومغلقا كما إذا أخرج من
البيت إلى صحن الدار، والثاني يجب القطع بكل حال، لأن صحن الخان ليس حرزا لصاحب البيت، بل هو مشترك
بين السكان فهو كالسكة المشتركة بين أهلها.
(تنبيه) محل الخلاف إذا كان السارق من غير سكانه، فإن كان منهم وسرق من البيت والحجرة المغلقين قطع،
وإن سرق من العرصة لم يقطع.
فروع: لو سرق الضيف من مكان مضيفه أو الجار من حانوت جاره أو المغتسل من الحمام، وإن دخل ليسرق
أو المشتري من الدكان المطروق للناس ما ليس محرزا عنه لم يقطع على القاعدة في سرقة ذلك، وإن دخل الحمام ليسرق.
قال ابن الرفعة: أو ليغتسل ولم يغتسل فتغفل حماميا أو غيره استحفظ متاعا فحفظه وأخرج المتاع من الحمام قطع،
بخلاف ما لو لم يستحفظ أو استحفظ فلم يحفظ لنوم أو إعراض أو غيره أو لم يكن حافظ، ولو نزع شخص ثيابه في
الحمام والحمامي أو الحارس جالس ولم يسلمها إليه ولا استحفظه بل دخل على العادة فسرقت فلا قطع ولا ضمان
على الحمامي ولا على الحارس، ولو سرق السفن من الشط وهو جانب النهر والوادي وجمعه شطوط وهي مشدودة
قطع لأنها محرزة بذلك، فإن لم تكن مشدودة فلا قطع لأنها غير محرزة في العادة.
فصل: في شروط السارق، وفيما تثبت به السرقة وما يقطع بها، وشروط السارق تكليف واختيار والتزام وعلم
تحريم السرقة كما أشار إليه الفارقي رحمه الله، وحينئذ (لا يقطع صبي ومجنون ومكره) - بفتح الراء - لرفع القلم عنهم
وحربي لعدم التزامه، وأعجمي أمر بسرقة وهو يعتقد إباحتها أو جهل التحريم لقرب عهده بالاسلام أو بعده عن العلماء
لعذره، وقطع السكران ممن قبيل ربط الحكم بسببه، وقد مر الكلام عليه في الطلاق وغيره.
تنبيه: اقتصار المصنف على المكره - بالفتح - قد يوهم أن المكره - بالكسر - يقطع وليس مرادا، نم لو كان
174

المكره - بالفتح - غير مميز لعجمة أو غيرها، فقد سبق عن الجمهور فيما لو نقب ثم أمر غير مميز فأخرج أنه يجب القطع على
الآمر فليكن هنا مثله. (ويقطع مسلم وذمي بمال مسلم و) مال (ذمي) أما قطع المسلم بمال المسلم فبإجماع، وأما قطعه بمال
الذمي فعلى المشهور لأنه معصوم بذمته، وقيل لا يقطع كما لا يقتل به. وأما قطع الذمي بمال المسلم والذمي فلالتزامه
الأحكام، سواء أرضي بحكمنا أم لا.
تنبيه: قد يفهم كلام المصنف أن المسلم أو الذمي لا يقطع بمال المعاهد والمؤمن وهو كذلك كما قاله القاضي الحسين
والإمام والغزالي ومن تبعهم بناء على أن المعاهد لا يقطع بمال المسلم أو الذمي، وقد ذكر الخلاف في ذلك بقوله: (وفي)
سرقة (معاهد) بفتح الهاء بخطه، ويجوز كسرها، ومستأمن إذا سرق ولو لمعاهد (أقوال: أحسنها) كما في المحرر
والشرح الكبير، وفي الصغير أنه الأقرب (إن شرط) عليه في عهده (قطعه بسرقة قطع) لالتزامه (وإلا فلا) يقطع
لعدم التزامه (قلت: الأظهر عند الجمهور لا قطع) مطلقا (والله أعلم) وقالا في الشرح والروضة أنه الأظهر عند
الأصحاب وهو نصه في أكثر كتبه لأنه لم يلتزم الأحكام فأشبه الحربي، والثالث يقطع مطلقا كالذمي، واختاره
في المرشد
وصححه مجلي، وخص الماوردي الخلاف بمال المسلم أو الذمي، فإن سرق مال معاهد فلا يقطع قطعا، وأما المال
المسروق فيجب استرداده منه جزما إن بقي، وبدله إن تلف (وتثبت السرقة بيمين المدعي المردودة) كأن يدعي على
شخص سرقة نصاب فينكل عن اليمين فترد على المدعي ويحلف فيجب القطع (في الأصح) ونقله في الروضة عن تصحيح
المحرر، وسكت عليه لأن اليمين بين المردودة كالاقرار أو البينة، والقطع يجب بكل منهما فأشبه القصاص، والثاني لا يقطع
بها لأن القطع في السرقة حق الله تعالى فأشبه ما لو قال: أكره أمتي على الزنا، وحلف المدعي بعد نكول المدعي عليه
يثبت المهر دون حد الزنا وهذا هو المعتمد كما جزما به في الروضة وأصلها في الباب الثالث في اليمين من الدعاوى،
ومشى عليه في الحاوي الصغير هنا. وقال الأذرعي: إنه المذهب والصواب الذي قطع به جمهور الأصحاب. وقال
البلقيني: إنه المعتمد لنص الام، والمختصر أنه لا يثبت القطع إلا بشاهدين وإقرار السارق.
تنبيه: هذا الخلاف بالنسبة إلى القطع. أما المال فيثبت قطعا (أو بإقرار السارق) مؤاخذة له بقوله، ولا يشترط
تكرار الاقرار كما في سائر الحقوق.
تنبيه: أطلق المصنف الاقرار وله شرطان: أحدهما أن يكون بعد الدعوى عليه، فإن أقر قبلها لم يثبت القطع
في المال، بل يوقف على حضور المالك وطلبه كما سيأتي. ثانيهما أن يفصل الاقرار كالشهادة فيبين السرقة والمسروق منه
وقدر المسروق والحرز بتعيين أو وصف بخلاف ما إذا لم يبين ذلك لأنه قد يظن غير السرقة الموجبة للقطع سرقة موجبة له
وقضية كلامه أنه لا يثبت القطع بعلم القاضي، وهو كذلك بخلاف السيد فإنه يقتضي بعلمه في رقيقة كما مر في حد الزنا.
(والمذهب قبول رجوعه) عن الاقرار بالسرقة بالنسبة إلى القطع، ولو في أثنائه لأن حق الله تعالى فيسقط حد الزنا،
ولو بقي من القطع بعد الرجوع ما يضر إبقاؤه قطعه هو لنفسه ولا يجب على الإمام قطعه، أما الغرم فلا لأنه حق آدمي،
والطريق الثاني لا يقبل في المال، ويقبل في القطع على الأصح، والثالث يقبل في القطع لا في المال على الأصح.
فرعان: أحدهما لو أقر بسرقة ثم رجع ثم كذب رجوعه لم يقطع كما قاله الدارمي. ثانيهما: لو أقر بها ثم أقيمت
عليه البينة ثم رجع، قال القاضي: سقط عنه القطع على الصحيح، لأن الثبوت كان بالاقرار اه‍. وتقدم نظيره في الزنا
عن الماوردي والترجيح فيه، وهو إن أسند الحكم إلى البينة لا يسقط، أو إلى الاقرار قبل رجوعه.
تنبيه: لو رجع المقرين بالسرقة عن إقراره دون الآخر قطع الآخر فقط. (ومن أقر) ابتداء أو بعد دعوى
(بعقوبة الله تعالى) أي بمقتضيها كالسرقة والزنا (فالصحيح أن للقاضي أن يعرض له) أي للمقر (بالرجوع)
عما أقر
175

به مما يقبل فيه رجوعه كأن يقول له في السرقة: لعلك أخذت من غير حرز، وفي الزنا: لعلك أخذت أو لمست، وفي
الشرب: لعلك لم تعلم أن ما شربته مسكر، لأنه (ص) قال لمن أقر عنده بالسرقة: ما إخالك سرقت قال بلى،
فأعاد عليه مرتين أو ثلاثا، فأمر به فقطع. وقال لماعز: لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت رواه البخاري (ولا) يصرح
بذلك فلا (يقول) له (ارجع) عنه أو نحو ذلك كاجحده لا يكون أمرا بالكذب، والثاني لا يعرض له بالرجوع
كما لا يصرح له به، والثالث يعرض له إن لم يعلم أن له الرجوع وإن علم فلا.
تنبيهات: قضية كلام المصنف أن الخلاف في الجواز، وأنه لا يستحب وهو الأصح في الشرح والروضة، لكن
في البحر عن الأصحاب أن يستحب، وأشار المصنف في شرح مسلم إلى نقل الاجماع فيه، واحترز بالاقرار عما إذا
ثبت زناه بالبينة فإنه يعرض له بالرجوع، وبقوله: ومن أقر عما قبل الاقرار، فإن للقاضي أن يعرض له بالانكار
ويحمله عليه أي يلقنه إياه قطعا، وبقوله لله تعالى من حقوق الآدميين فإنه لا يعرض بالرجوع عنها، وهل للحاكم أن
يعرض للشهود بالتوقف في حدود الله تعالى وجهان: أصحهما في زيادة الروضة نعم إن رأى المصلحة في الستر، وإلا
فلا. قال الأذرعي: ولم يصرحوا بأن التصريح بذلك لا يجوز أو مكروه، والظاهر أن مرادهم الأول اه‍. وكلام المصنف
يقتضي أن قوله: ولا يقول ارجع من تتمة ما قال إنه الصحيح وليس مرادا، بل هو مجزوم به في الرافعي وغيره.
وأما الشفاعة في الحد، فقال المصنف في شرح مسلم: أجمع العلماء على تحريمها بعد بلوغ الإمام، وأنه يحرم تشفيعه فيه،
أما قبل بلوغ الإمام فأجازها أكثر العلماء إن لم يكن المشفوع فيه صاحب شر وأذى للناس، فإن كان لم يشفع، وستأتي
الشفاعة في التعزيز في بابه. (ولو أقر) شخص (بلا) سبق (دعوى) عليه (إنه سرق مال زيد الغائب لم يقطع في الحال، بل
ينتظر حضوره) ومطالبته (في الأصح) المنصوص لأنه ربما حضر أقر أنه كان أباح له المال أو يقر له بالملك فيسقط
الحد وإن كذبه السارق للشبهة، والثاني يقطع في الحال عملا بإقراره كما لو أقر أنه زنى بفلانة فإنه لا ينتظر حضورها،
وفرق الأول بأن حد الزنا لا يسقط بإباحة الوطئ وحد السرقة يسقط بإباحة المال، وعلى الأول هل يحبس إلى أن يقدم
الغائب أو لا؟ فيه خلاف قال: وأشار الإمام إلى أن الظاهر عند الأصحاب أنه يحبس لما يتعلق به من حق الله تعالى
وصححه في الكفاية وقال الأذرعي: إنه ظاهر نص الشافعي في الام، وجزم به صاحب الأنوار.
تنبيه: لو سرق مال صبي أو مجنون، قال شيخنا: أو سفيه فيما يظهر انتظرنا بلوغه أو إفاقته أو رشده لاحتمال أن
يقر له بأنه مالك لما سرقه كالغائب.
فرعان: لو أقر شخص لغائب بمال لم يطالبه الحاكم به إذ ليس له المطالبة بمال الغائب إلا إن مات الغائب عن
المال وخلفه لطفل ونحوه فله أن يطالب المقر به ويحبسه، ولو أقر عبد بسرقة دون النصاب لم يقبل إلا إن صدقه سيده
أو نصاب قطع كإقراره بجناية توجب قصاصا ولا يثبت المال وإن كان بيده كما علم ذلك من باب الاقرار. (أو) أقر (أنه
أكره أمة غائب على زنا حد في الحال) ولم ينتظر حضور الغائب (في الأصح) لأن حد الزنا لا يتوقف على الطلب، ولو
حضر وقال: كنت أبحتها له لم يسقط الحد لأن إباحة البضع ملغاة، والثاني ينتظر حضوره لاحتمال أن يقر إنه كان
وقفها عليها، والمذكور في كتاب للوقف إن الحد مبني على أقوال الملك، إن جعلناه له فلا حد، وإلا حد.
تنبيه: ذكر الاكراه ليس بقيد، فإنه لو قال زنيت بأمة فلان ولم يذكر إكراها كان الحكم كذلك
والمصنف إنما ذكره، لأن فيه حقا للسيد، وهو المهر، لكن هذا لا تعلق به بالحد. (وتثبت) السرقة الموجبة للقطع
(بشهادة رجلين) كسائر العقوبات غير الزنا فإنه خص بمزيد العدد (فلو شهد رجل وامرأتان) بسرقة أو أقام المدعي
شاهدا بها وحلف معه (ثبت المال ولا قطع) على السارق، كما لو علق الطلاق أو العتق على غصب أو سرقة فشهد
176

رجل وامرأتان على الغصب أو السرقة ثبت المال دون الطلاق والعتق.
تنبيه: محل ثبوت المال ما إذا شهدوا بعد دعوى المالك أو وكيله، فلو شهدوا حسبة لم يثبت بشهادتهم المال
أيضا، لأن شهادتهم منصبة إلى المال، وشهادة الحسبة بالنسبة إلى المال غير مقبولة. (ويشترط ذكر الشاهد) بسرقة
مال (شروط السرقة) الموجبة للقطع ببيان السارق بالإشارة إلى عينه إن كان حاضرا، ويذكر اسمه ونسبه بحيث
يحصل التمييز إن كان غائبا. واستشكل بأن البينة لا تسمع على غائب في حدود الله تعالى، وقد يجاب بأنها إنما سمعت
تغليبا لجانب المال، ولهذا لا قطع على السارق حتى يحضر المالك ويدعي بما له كما مر، وببيان المسروق منه
والمسروق، وكون السرقة من حرز بتعينه أو وصفته وغير ذلك فلا يكفي الاطلاق، إذ قد يظن ما ليس بسرقة سرقة
لاختلاف العلماء فيما يوجب القطع. واستثنى البلقيني من إطلاقه مواضع: إحداها أن من شروط القطع كون
المسروق نصابا، وهذا لا يشترطان يذكره الشاهد، بل يكفي تعيين المسروق ثم الحاكم ينظر فيه فإذا ظهر له أنه نصاب
عمل بمقتضاه، ثانيها: ومن شروطه كون المسروق ملكا لغير السارق، وهذا لا يشترط في شهادة الشاهد بل يكفي أن
يقول سرق هذا ثم المالك يقول هذا ملكي والسارق يوافقه، ثالثها: ومن شروطه عدم الشبهة مقتضاه اعتبار أن
يقول في شهادته: ولا أعلم له فيه شبهة وقد حكاه في الروضة عن القاضي أبي الطيب وغيره. ثم قال: قال صاحب الشامل
وليكن هذا تأكيدا لأن الأصل عدم الشبهة فيكون مستثنى على هذا ولكن المعتمد الأول وقياسه اشتراط ذلك
في الاقرار بالسرقة ويشترط بإنفاقهما في شهادتهما. (و) حينئذ (لو اختلف شاهدان) في وقت الشهادة (
كقوله)
أي أحدهما (سرق بكرة و) قول (الآخر) سرق (عشية فباطلة) هذه الشهادة لأنهما شهدا على فعل لم
ينفقا عليه.
تنبيه: قوله: فباطلة أي بالنسبة إلى القطع، أما المال فإن حلف المسروق منه مع الشاهد أخذ الغرم منه، وإلا
فلا، كذا قالاه، والمراد حلف مع من وافقت شهادته دعواه أي الحق في زعمه كما بينه في الكفاية.
تنبيه: أطلق المصنف الاختلاف، والمراد به القادح فإنه لو قال أحدهما: سرق كيسا وقال الآخر: كيسين ثبت الواحد
وتعلق به القطع إن كان نصابا، ولو شهد اثنان بسرقة واثنان بسرقة فإن لم يتواردا على عين واحدة ثبت القطع والمالان،
وإن تواردا على عين واحدة كأن شهد اثنان أنه سرق كذا غدوة، وشهد آخران أنه سرقه عشية تعارضتا فلا يحكم
بواحدة منهما، وإن شهد له واحد بسرقة ثوب أبيض وآخر بأسود فله أن يحلف مع أحدهما، وله مع ذلك أن يدعي
الثوب الآخر ويحلف مع شاهده واستحقهما، لأن ذلك مما يثبت بالشاهد واليمين، ولا يقال تعارضت شهادتهما لأن
الحجة لم تتم، ولا قطع لاختلاف شهادتهما. (وعلى السارق رد ما سرق) إن بقي لخبر أبي داود: على اليد ما أخذت
حتى تؤديه. وقال أبو حنيفة: إن قطع لم يغرم، وإن غرم له لم يقطع. وقال مالك: إن كان غنيا ضمن وإلا فلا. لأن
القطع لله تعالى والضمان لآدمي فيمنع أحدهما الآخر، ولا يمنع الفقر إسقاط مال الغير، ولو كان للمسروق منفعة
استوفاها السارق أو عطلها وجبت أجرتها كالمغصوب، ولو أعاد المال المسروق إلى الحرز لم يسقط القطع ولا الضمان
عنه. وقال أبو حنيفة: يسقطان. وعن مالك: لا ضمان ويقطع. قال بعض أصحابنا: ولو قيل بالعكس لكان مذهبا لدرء
الحدود بالشبهات (فإن تلف ضمنه) ببدله جبرا لما فات (وتقطع يمينه) أي يده اليمنى أولا وإن كان أعسر بالاجماع
وفي معجم الطبراني أن النبي (ص) أتى بسارق فقطع يمينه، وكذا فعل الخلفاء الراشدون. وقال تعالى
* (فاقطعوا أيديهما) * وقرئ شاذا: فاقطعوا أيمانهما، والقراءة الشاذة كخبر الواحد في الاحتجاج كما نص عليه
في البويطي. وقال إمام الحرمين: الظاهر من مذهب الشافعي أنه لا يحتج بها، فقلده المصنف في ذلك فجزم به في شرح
مسلم في قوله: شغلونا عن الصلاة الوسطى. قال في المهمات: فاحذر ذلك. فإن قيل: لم قطعت يد السارق ولم يقطع
177

ذكر الزاني؟ أجيب عن ذلك بجوابين: الأول أن اليد للسارق مثلها غالبا فلم تفت عليه المنفعة بالكلية، الثاني أن في قطع
الذكر إبطال النسل غالبا، والحكمة في قطع اليمنى أولا أن البطش بها أقوى غالبا فكانت البداءة بها أردع.
تنبيه: محل قطعها إذا لم تكن شلاء والأرجح أهل الخبرة، فإن قالوا ينقطع الدم وتسد أفواه العروق
قطعت واكتفي بها وإلا لم تقطع لأنه يؤدي إلى فوات الروح. (فإن سرق ثانيا بعد قطعها) أي يده اليمنى (فرجله
اليسرى) تقطع إن برئت يده اليمنى، وإلا أخرت للبرء (و) إن سرق (ثالثا) بعد قطع رجله اليسرى تقطع (يده
اليسرى و) إن سرق (رابعا) بعد قطع يده اليسرى تقطع (رجله اليمنى) لما رواه الشافعي بإسناده عن أبي هريرة رضي
الله عنه أن رسول الله (ص) قال في السارق: إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن
سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله. والحكمة في قطع اليد والرجل أن اعتماد السارق في السرقة على
البطش والمشي فإنه يأخذ بيده وينقل برجله فتعلق القطع بهما، وإنما قطع من خلاف لئلا يفوت جنس المنفعة عليه
فتضعف حركته كما في قطع الطريق، لأن السرقة مرتين تعدل الحرابة شرعا، والمحارب تقطع أولا يده اليمنى ورجله
اليسرى، وفي الثانية يده اليسرى ورجله اليمنى، وإنما لم تقطع الرجل إلا بعد اندمال اليد، لئلا تفضي الموالاة إلى
الهلاك، وخالف موالاتهما في الحرابة، لأن قطعهما فيها حد واحد. (وبعد ذلك) أي بعد قطع اليدين والرجلين
إذا سرق خامسا فأكثر فإنه (يعزر) لأن القطع ثبت بالكتاب والسنة ولم يثبت بعد ذلك شئ آخر، والسرقة معصية
فتعين التعزير كما لو سقطت أطرافه أولا ولا يقتل كما نقل عن القديم. وما استدل به من أنه (ص) قتله،
أجيب عنه بأنه منسوخ، أو محمول على أنه بزنا أو استحلال كما قاله الأئمة، بل ضعفه الدارقطني وغيره، وقال ابن
عبد البر: إنه منكر، ولان كل معصية أوجبت حدا لم يوجب تكرارها القتل كالزنا والقذف (ويغمس محل القطع
بزيت أو دهن مغلى) - بضم الميم وفتح اللام - اسم مفعول من أغلى. أما فتح الميم مع كسر اللام وتشديد الياء على
زنة مفعول فلحن كما قاله ابن قاسم، وفعل ذلك مندوب للامر به كما رواه الحاكم وصححه، والمعنى فيه سد أفواه
العروق لينقطع الدم.
تنبيه: قضية كلامه امتناعه بغير الزيت والدهن، واقتصر الشافعي في الام على الجسم بالنار، وفصل الماوردي
في الحاوي فجعل الزيت للحضري، والنار للبدوي لأنها عادتهم وهو تفصيل حسن. (قيل هو) أي الغمس المسمى
بالحسم (تتمة للحد) فيجب على الإمام فعله، ولا يجوز له إهماله، لأن فيه مزيد إيلام (والأصح) المنصوص
(أنه) أي الغمس المذكور (حق للمقطوع) لأن الغرض المعالجة ودفع الهلاك بنزف الدم (فمؤنته عليه) كأجرة
الجلاد إلى أن يقيم الإمام من ينصب الحدود ويرزقه مال المصالح كما مر.
تنبيه: سكت المصنف عن المؤنة على الوجه الأول، وقضيته أنها لا تكون على المقطوع وليس مرادا، ففي
الروضة وأصلها أنه على الخلاف في مؤنة الجلاد. (و) على الأصح (للإمام إهماله) ولا يجبر المقطوع عليه، بل يستحب
له ويندب للإمام الإمام به عقب القطع، ولا يفعله إلا بإذن المقطوع، لأنه نوع مداواة. نعم لو كان إهماله يؤدي إلى
تلف لتعذر فعل ذلك من المقطوع بإغماء أو جنون أو نحو ذلك لم يجز للإمام إهماله كما قاله البلقيني وغيره (وتقطع اليد)
بحديدة ماضية دفعة واحدة (من الكوع) أي مفصله للامر به في خبر سارق رداء صفوان، والمعنى فيه أن
البطش
بالكف وما زاد من الذراع تابع، ولهذا يجب في قطع الكف الدية، وفيما زاد عليه حكومة (و) تقطع (الرجل من
مفصل القدم) - بفتح الميم وكسر الصاد - اتباعا ل عمر رضي الله عنه كما رواه ابن المنذر. وروى البيهقي عن علي رضي الله
عنه أنه يبقى له الكعب ليعتمد عليه، وبه قال أبو ثور.
178

تنبيه: يندب خلع العضو المقطوع قبل قطعه تسهيلا لقطعه، ويندب أن يكون المقطوع جالسا، وأن يضبط لئلا
يتحرك، وأن يعلق العضو المقطوع في عنقه ساعة للزجر والتنكيل. (ومن سرق مرارا) مرتين فأكثر (بلا قطع كفت يمينه)
أي قطعها فقط عن جميع المرار لاتحاد السبب، كما لو زنى أو شرب مرارا فإنه يكفيه حد واحد وهذا بخلاف ما إذا
لبس المحرم أو تطيب في مجالس فإن الفدية تتعدد وإن كان السبب واحدا لأن في ذلك حقا لآدمي لأن مصرف الكفارة
إليه فلم تتداخل بخلاف الحد.
تنبيه: غير اليد اليمنى في ذلك مثلها ويكفي قطعها. (وإن نقصت) يمينه (أربع أصابع) ولا يعدل إلى الرجل لحصول
الايلاء والتنكيل (قلت) كما قاله الرافعي في الشرح (وكذا لو ذهبت) الأصابع (الخمس) كلها كفت أيضا (في الأصح)
المنصوص (والله أعلم) لأن اسم اليد يطلق مع نقص أصابعها ما يطلق عليها مع زيادتها فاندرجت في الآية، والثاني
لا تكفي بل بعدل إلى الرجل لانتفاء البطش.
تنبيه: يجري الخلاف فيما لو سقط بعض الكف وبقي محل القطع، فلو قال: وكذا لو سقط بعض الكف مع الخمس
لأفاد حكم المسألتين (وتقطع يد زائدة أصبعا) أو أكثر (في الأصح) لاطلاق الآية فإن اسم اليد يتناول ما عليه خمس
أو أكثر، والثاني لا بل يعدل إلى الرجل.
تنبيه: لو كان له كفان على معصمه قطعت الأصلية منهما إن تميزت وأمكن استيفاؤها بدون الزائدة وإلا فيقطعان،
وإن لم تتميز قطعت إحداهما فقط. هذا ما اختاره الإمام بعد أن نقل عن الأصحاب قطعها مطلقا، لأن الزائدة كالإصبع
الزائدة، والذي في التهذيب أنه إن تميزت الأصلية قطعت وإلا فإحداهما فقط، ولا يقطعان بسرقة واحدة بخلاف
الإصبع الزائدة فإنه لا يقع عليها اسم يد. قال الرافعي: وهذا أحسن. وقال المصنف: إنه الصحيح المنصوص وجزم
به في التحقيق وصوبه في شرح المهذب وصححه ابن الصلاح. قال الدميري: لكن يشكل على المصنف أنه صحح في
الخنثى المشكل كما سبق في موضعه أنه لا يختن في أحد فرجيه معللا بأن الجرح مع الاشكال ممتنع، ولو قيل بإجراء وجه
ثالث أنه لا يقطع واحدة منهما لم يبعد، لأن الزائدة لا يجوز قطعها، وقد التبست بالأصلية اه‍. ويجاب عن الاشكال
المذكور بأن السارق إنما قطعت يده مع الاشكال تغليظا عليه، وعلى ما جرى عليه المصنف لو لم يمكن قطع الأصلية
إلا بالزائدة أو لم يمكن قطع إحداهما عند الاشتباه فإنه يعدل إلى الرجل، فإن أمكن قطع الأصلية وقطعناها، ثم سرق
ثانيا، وقد صارت الزائدة أصلية بأن صارت باطشة أو كانت الكفان أصليتين وقطعت إحداهما في سرقة قطعت الثانية،
ولا يعدل إلى الرجل. وأورد بعضهم هذه المسألة على قول المصنف، فإن سرق ثانيا فرجله اليسرى. وأجيب عنه بأنه
إنما تكلم على الخلطة المعتادة الغالبة. (ولو سرق) شخص (فسقطت يمينه) مثلا (بآفة) سماوية أو غيرها كأن قطعت في قصاص
(سقط القطع) في اليد الساقطة، ولا يعدل إلى الرجل لأن القطع تعلق بعينها فسقط بفواتها كموت المرتد، وكذا لو شلت
بعد السرقة وخيف من قطعها تلف النفس كما قاله القاضي الحسين بخلاف من لا يمين له، فإن رجله تقطع (أو) سقطت
(يساره) بشئ مما ذكر مع بقاء اليمين (فلا) يسقط قطع اليمين (على المذهب) لبقاء محل القطع، وقيل يسقط في قول،
وحكم الرجل حكم اليد فيما ذكر.
خاتمة: لو أخرج السارق للجلاد يساره فقطعها سئل الجلاد، فإن قال: ظننتها اليمين أو أنها تجزئ عنها غرم
الدية بعد حلفه على ما ادعاه إن كذبه السارق، لأن قوله محتمل فكان شبهة في درء القصاص، وإنما غرم الدية
لقطعه عضوا معصوما وأجزأته عن قطع اليمين لئلا تقطع يداه بسرقة واحدة. أو قال: علمتها اليسار وأنها لا تجزئ لزمه
القصاص لأنه قطعها عمدا بلا شبهة، هذا إن لم يقصد المخرج بدلها عن اليمين أو إباحتها، وإلا فلا كما مر في الجنايات، ولم
179

تجزه اليسار عن اليمين، بل تقطع يمينه حدا لأنها الذي وجب قطعها وهي باقية فلم يجزه غيرها كالقصاص. وما ذكر
من أن الجلاد يسئل هو ما جرى عليه الشيخ في التنبيه وابن المقري في روضه وهي طريقة حكاها في أصل الروضة، وحكى
معها طريقة أخرى، وهي إن قال المخرج: ظننتها اليمين أو أنها تجزئ أجزأته وإلا فلا، وكلام أصل الروضة يومئ إلى الأولى
وهي الصحيحة، وإن صحح الأسنوي الثانية.
باب قاطع الطريق
سمى بذلك لامتناع الناس من سلوك الطريق خوفا منه، والأصل فيه قوله تعالى " إنما جزاء الذين يحاربون
الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا " الآية. قال أكثر العلماء: نزلت في قاطع، لافى الكفار، واحتجوا له بقوله
تعالي: إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم " الآية، إذ المراد التوبة عن قطع الطريق، ولو كان المراد الكفار
لكانت توبتهم بالاسلام وهو دافع للعقوبة قبل القدرة وبعدها قال الماوردي: ولان الله تعالى قد بين حكم أهل
الكتاب والمرتدين وأهل الحرب في غيره هذه الآية، فاقتضى أن تكون هذه الآية في غيره، وفى أبى داود أنها نزلت
في العرنيين، وفى النسائي أنها نزلت في المحاربين من الكفار، لأن المؤمن لا يحارب الله ورسوله وقطع الطريق هو
البروز لاخذ مال أو لقتل أو إرعاب مكابرة اعتمادا على الشوكة مع البعد عن الغوث كما يعلم من قوله (هو) أي قاطع
الطريق ملتزم للأحكام (مسلم) أو مرتد أو ذمي كما في السارق، ولو عبر بذلك المصنف لكان أولى، فقد قال
الأذرعي: لم أر في الكتب المشهورة بعد الكشف التام التنصيص على أن من شرط قاطع الطريق الاسلام إلا في كلام
الرافعي، ومن أخذ منه. وقال الزركشي: قد رأيت نص الشافعي في آخر الام مصرحا بأن أهل الذمة حكمهم حكم
المسلمين، وحكاه ابن المنذر في الاشراف عن الشافعي وأبى ثور. قال ولا أثر للتعلق بسبب النزول، فإنه لا يقتضى
التخصيص على الأصح (مكلف) ولو عبدا أو امرأة، ومثله السكران فإنه ملحق بالمكلف كما مر في كتاب الطلاق
مختار (له شوكة) أي قوة وقدرة يغلب بها غيره.
(تنبيه) إفراد المصنف الصفات يقتضى أنه لا يشترط في قاطع الطريق عدد ولا ذكورة ولا سلاح وهو كذلك
فالواحد ولو أنثى إذا كان له، فضل قوة يغلب بها الجماعة وتغرض للنفس وللمال مجاهرة مع البعد عن الغوث كما يعلم
من قوله بعد: وفقد الغوص الخ قاطع وكذا الخارج بغير سلاح إن كان له قوة يغلب بها الجماعة ولو باللكز والضرب
بجمع الكف وقيل لابد من آلة، وخرج بملتزم الحربي والمعاهد، بو المكلف غيره إلا السكران كما مر، وإن ضمن غير
المكلف النفس والمال كما لو أتلفوا في غير هذه الحالة، وبالاختيار المكره، وبالشوكة ما تضمنه قوله: لا مختلسون)
قليلون (يتعرضون لاخر قافلة) عظيمة (يعتمدون الهرب) بركض الخيل أو نحوها أو العدو على الاقدام أو نحو
ذلك، فليسوا قطاعا لانتفاء الشوكة، وحكمهم في القصاص والضمان كغيرهم، والمعنى فيه أن المعتمد على الشوكة ليس
له دافع من الرفقة فغلظت عقوبته ردعا له، بخلاف المختلس أو المتهب فإنه لا يرجع إلى قوة.
(تنبيه) قوله: لاخر قافلة جرى على الغالب وليس بقيد: بل حكم التعرض لأولها وجوانبها كذلك، فلو
قهروهم ولو مع كونهم قليلين فقطاع لاعتمادهم على الشوكة، فلا يعد أهل العاقلة مقصرين، لأن العاقلة لا تجتمع كلمتهم
ولا يضبطهم مطاع ولا عزم لهم على القتال، وبين المصنف هنا أن مراده بشوكة قطاع الطريق بالنظر لمن يخرجون
عليه حيث قال (والذين يغلبون شرذمة) وهي بذال معجمة: طائفة من الناس (بقوتهم) لو قاوموهم (قطاع في
حقهم) لاعتمادهم على الشوكة بالنسبة إلى الجماعة اليسيرة، وإن هربوا منهم وتركوا الأموال لعلهم بعجز أنفسهم
180

عن مقاومتهم.
(تنبيه) لو ساقهم اللصوص مع الأموال إلى ديارهم كانوا قطاعا في حقهم أيضا كما قال إبراهيم المروزي (لا) قطاع
(لقافلة عظيمة) أخذوا شيئا منهم، إذ لا قوة لهم مع القافلة الكبيرة بل هم في حقهم مختلسون.
(تنبيه) لو استسلم لهم القادرون على دفعهم حتى قتلوا أو أخذت أموالهم فمنتهبون لاقطاع، وإن كانوا ضامنين
لما أخذوا لأن ما فعلوه لم يصدر عن شوكتهم بل عن تفريط القافلة (وحيث يلحق غوص) بغين معجمة وبعدها مثلثة
عند الاستغاثة، وهي كقول الشخص يا غوثاه (ليس) حينئذ ذو الشوكة بمن معه (بقطاع) بل منتهبون لامكان الاستغاثة
(وفقد الغوث يكون للبعد) عن العمران وعساكر السلطان (أو للقرب لكن (لضعف) في السلطان كذا قيده في المحرر
والشرح والروضة، واستحسن إطلاق المنهاج الضعف لشموله ما لو دخل جماعة دارا ليلا وشهروا السلاح ومنعوا
أهل الدار من الاستغاثة فهم قطاع على الصحيح مع قوة السلطان وحضوره (و) ذوو الشوكة (قد يغلبون والحالة
هذه) أي ضعف السلطان أو بعده أو بعد أعوانه وإن كانوا (في بلد) لم يخرجوا منها إلي طرفها ولا إلى صحراء (فهم
قطاع) لوجود الشروط فيهم ولأنهم إذا وجب عليهم هذا الحد في الصحراء وهي موضع الخوف فلان يجب في البلد وهي
موضع الامن أولي لعظم جراءتهم.
(تنبيه) أشعر كلامه بأنه لو تساوت الفرقتان لم يكن لهم حكم قطاع الطريق، لكن الأصح في الروضة وأصلها
خلافه (ولو علم الإمام قوما يخيفون الطريق) أي المارين فيها (لم يأخذوا مالا) أي نصابا (ولا) قتلوا (نفسا عزرهم
بحبس وغيره) لارتكابهم معصية وهي الحرابة لاحد فيها ولا كفارة، وهذا تفسير النفي في الآية الكريمة، والامر في
جنس هذا التعزير راجع إلي الإمام، وظاهر كلام المصنف الجمع بين الحبس وغيره وهو كذلك وله تركه إن رآه
مصلحة، ولا يقدر الحبس بمدة بل يستدام حتى تظهر توبته، وقيل يقدر بستة أشهر ينقص منها شيئا لئلا يزيد على
تغريب العبد في الزنا، وقيل يقدر بسنة ينقص منها شيئا لئلا يزيد على تغريب الحر في الزنا والحبس في غير موضعه أولى
لأنه أحوط وأبلغ في الزجر، وقله علم الإمام صريح في أنه يكتفى بعلمه في ذلك، وإن قلنا بالأصح أن القاضي لا يقضى
بعلمه في حدود الله تعالى لما مر في ذلك من حق الآدمي، ومقتضى عبارته كالروضة الوجوب وهو كذلك بخلاف مقتضى
عبارة المحرر كالشرح ينبغي (وإذا أخذ القاطع) واحد أو أكثر (نصاب السرقة) فأكثر (قطع) الإمام (يده اليمنى
ورجله اليسرى) دفعة أو على الولاء لأنه حد واحد (فإن عاد بعد قطعهما مرة أخرى (فيسراه ويمناه) تقطعان،
لقوله تعالى " " أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف " وإنما قطع من خلاف لما مر في السرقة وقطعت اليمنى للمال كالسرقة
ولهذا اعتبر في تقطع النصاب، وقيل للمحاربة، والرجل قيل للمال والمجاهرة تنزيلا لذلك منزلة سرقة ثانية، وقيل
للمحاربة قال العمراني وهو أشبه:
(تنبيه) لو قطع الإمام يده اليمنى ورجله اليمنى فقد تعدى ولزمه القود في رجله إن تعمد وديتها إن لم يتعمد " ولا
يسقط قطع رجله اليسرى، ولو قطع يده اليسرى ورجله اليمنى فقد أساء ولا يضمن وأجزاء، والفرق أن قطعها من
خلاف نص يوجب وخلافه الضمان، وتقديم اليمنى على اليسرى اجتهاد يسقط بمخالفته الضمان، ذكره الماوردي
والروياني قال الأذرعي، ولا شك في الإساءة وتوقف في القود وعدم الا جزأه في الحالة الأولي فإن قيل قال الزركشي:
وقضية الفرق أنه لو قطع في السرقة يده اليسرى في المرة الأولى عامدا أجزاه، لأن تقديم اليمنى عليها بالاجتهاد وليس
كذلك كما مر في بابه. أجيب بأنا لا نسلم أن تقديم اليمنى ثبت ثم بالاجتهاد: بل بالنص لما مر أنه قرئ شاذا
" فاقطعوا أيمانهما " وأن القراءة الشاذة كخبر الواحد. قال الأذرعي. وسكتوا هنا عن توقف القطع على المطالبة بالمال
181

وعلى عدم دعوى ونحوه من المسقطات، وينبغي أن يأتي فيه ما مر في السرقة اه‍ وكلام المصنف قد يفهم أنه
لا يعتبر الحرز وهو وجه، والمشهور وجزم به الأكثرون أنه يعتبر، فلو كان المال تسير به الدواب بلا حافظ أو كانت
الجمال مقطورة ولم تتعهد كما شرط في السرقة لم يجب القطع والحرز هنا أن يكون المال مع مالكه أو بحيث يراه وتغزر
أن يدفع عنه من يأخذه ومحل قطعهما إذا وجدتا، فإن فقدت إحداهما اكتفى بقطع الأخرى، وفى معنى الفقد أن
تكون شلاء لا تنحسم عروقها لو قطعت، قال في أصل الروضة: ويحسم موضع القطع كما في السارق ويجوز أن يحسم
اليد ثم تقطع الرجل، وأن تقطعا جميعا ثم يحسما، ويعتبر قيمة المأخوذ في موضع الاخذ إن كان موضع بين وشراء
حال السلامة لا عند استسلام الناس لاخذ أموالهم بالقهر والغلبة، وإن لم يكن موضع بين وشراء فأقرب موضع إليه
يوجد فيه ذلك وشراؤه: قاله الماوردي (وإن قتل) معصوما مكافئا له عمدا كما يعلم مما يأتي، ولم يأخذ مالا
(قتل حتما) للآية السابقة، وإنما تحتم لأنه ضم إلى جنايته إخافة السبيل المقتضية زيادة العقوبة، ولا زيادة هنا إلا
بالتحتم، قال البندنيجي: ومحل تحتم القتل إذا قتل لاخذ المال وإلا فلا يتحتم. قال البلقيني: وهو مقتضى نص
الام، ومعنى تحتمه أنه لا يسقط بعفو الولي ولا بعفو السلطان عمن لا وارث له، ويستوفيه الإمام لأنه حد من حدود الله
تعالى، ولا فرق بين القتل صبرا وبين الجرح والموت منه بعد أيام قبل الظفر به والتوبة ولم يرجع عن إقراره، أما إذا
قتل غير معصوم أو غير مكافئ له أو قتل خطأ أو شبه عمد فلا يقتل (وإن قتل وأخذ مالا) نصابا فأكثر، وقياس
ما سبق اعتبار الحرز، وعدم الشبهة (قتل ثم صلب) حتما زيادة في التنكيل ويكون صلبه بعد غسله، وتكفينه والصلاة
عليه كما مر في الجنائز، والغرض من صلبه بعد قتله التنكيل به وزجر غيره، وبما تقرر فسر ابن عباس الآية فقال:
المعنى أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا مع ذلك إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، إن
اقتصروا على أخذ المال، أو ينفوا من الأرض إن أرعبوا ولم يأخذوا شيئا فحمل كلمة أو على التنويع لا التخيير كما
في قوله تعالى " وقالوا كونوا هودا أو نصارى " إذ لم يخير أحد منهم بين اليهودية والنصرانية، وإنما صلب بعد القتل لأن
في صلبه قبله زيادة تعذيب. وقد نهى عن تعذيب الحيوان. قال صلى الله عليه وسلم " إذا قتلتم فأحسنوا القتلة "
ويصلب على خشبة ونحوها (ثلاثا) من الأيام ليشتهر الحال ويتم النكال، ولان لها اعتبارا في الشرع وليس لما
زاد عليها غاية (ثم ينزل) هذا إذا لم يخف التغير، فإن خيف قبل الثلاث أنزل على الأصح وحمل النص في الثلاث
على زمن البرد والاعتدال.
(تنبيه) أشعر كلامه بالاكتفاء بالصلب أي موضع كان. وقال الماوردي: يكون قتلهم وصلبهم في الموضع الذي حاربوا
فيه لا أن يكون بمفازة لا يمر بها أحد فيقتلون في أقرب المواضع منها. فإن قيل: كان الأولى للمصنف أن يقول ثلاثة،
لأن الأيام مذكرة فتثبت فيه التاء. أجيب بأن المعدود إذا حذف يجوز فيه الوجهان كما في قوله صلى الله عليه وسلم " من صام
رمضان ثم أتبعه ستا من شوال " (وقيل يبقى) مصلوبا أكثر من ثلاثة أيام (حتى يسيل صديده) وهو ماء رقيق يخرج
مختلطا بدم تغليظا عليه وتنفيرا عن فعله (وفى قول يصلب) حيا صلبا (قليلا ثم ينزل فيقتل) لأن الصلب شرع عقوبة
له فيقام عليه وهو حي. فإن قيل: كلامه لا يوافق أصله، ولا الشرح والروضة، فإن عبارة المحرر يصلب صلبا
لا يموت منه، وعبارة الشرح والروضة: يصلب حيا ثم يقتل. أجيب بأن عبارته لا تنافى ذلك، بل هي بيان العبارات
المذكورة، لكن الغالب أن القليل يحمل على ثلاثة أيام، ولهذا قال الأذرعي: وكأن المصنف أراد أن يكتب ثلاثا
فسبق القلم فكتب قليلا اه‍ ولعله إنما كتبها قصدا فلا يتقيد ذلك بثلاث قال الغزالي: وكلامهم يدل على أن الخلاف
في الوجوب (ومن أعانهم) أي قطاع الطريق (وكثر جمعهم) ولم يزد على ذلك بأن لم يأخذ مالا نصابا ولا قتل نفسا
(عزر بحبس وتغريب وغيرهما) كسائر المعاصي، وفى الخبر " من كثير سواد قوم فهو منهم ".
182

(تنبيه) الواو في كلامه بمعنى أو كما صرح به في المحرر: أي يعزره بواحد مما ذكر، وتعيينه لرأى الإمام كما مر
في المخيفين (وقيل يتعين التغريب إلى حيث) أي مكان (يراه) الإمام. لأن عقوبته في الآية النفي، وعلى هذا
هل يعزره في البلد المنفى إليه ضرب أو حبس أو نحو ذلك؟ وجهان: أصحهما أن ذلك إلي رأى الإمام وما تقتضيه
المصلحة. ثم شرع في بيان الخلاف في المعنى المغلب في قتل القاطع بقوله (وقتل القاطع يغلب فيه معنى القصاص)
لأنه حق آدمي. والأصل فيما اجتمع فيه حق آدمي وحق الله تعالى يغلب فيه حق الآدمي لبنائه على الضيق، ولأنه
لو قتل بلا محاربة ثبت لوليه القصاص فكيف يحبط حقه بقتله فيها؟ (وفى قول) معنى (الحد) وهو حق الله
تعالى
لأنه لا يصح العفو عنه، ويستوفيه الإمام بدون طلب الولي، وفرع على القولين مسائل خمسة ذكرها في قوله (فعلى
الأول لا يقتل) والد (بولده) الذي قتله في قطع الطريق (و) لا (ذمي) إذا كان هو مسلما، ولا نحو ذلك ممن
لا يكافئه كعبد والقاطع حر لعدم المكافأة وتجب الدية أو القيمة، وعلى الثاني يقتل إلا أن يكون المقتول غير معصوم
كمرتد وزان محصن فإنه لم يقتل (ولو مات) القاطع من غير قتله قصاصا) فدية) على الأول تؤخذ من تركته في قتل
حر وقيمة في قتل عبد، وعلى الثاني لا شئ كما قالاه وإن صحيح البلقيني وجوب الدية (ولو قتل جمعا) معا (قتل
بواحد) منهم بالقرعة (واللباقين ديات) على الأول كالقصاص، وعلى الثاني يقتل بهم. أما إذا قتلهم مرتبا فإنه يقتل
حتما بأولهم وإن أوهم كلام المتن خلافه، حتى لو عفا وليه لم يسقط لتحمنه (ولو عفا) عن القصاص (وليه) أي
المقتول (بمال) أي عليه صح العفو على الأول، و (وجب) المال (وسقط القصاص) عنه (ويقتل) بعد ذلك
(حدا) كما لو وجب القصاص على مرتد فعفا عنه الولي، وعلى الثاني فالعفو لغو كما قالاه وإن قال البلقيني إنه لغو
على القولين، لأن القاطع لم يستفد بالعفو شيئا لتحتم قتله بالمحاربة (ولو قتل) القاطع شخصا (بمثل أو بقطع عضو)
أو بغير ذلك (فعل بن مثله) على الأول تغليبا للقصاص، وعلى الثاني يقتل بالسيف كالمرتد كما قالاه وإن قال البلقيني
إنه يقتل بالسيف على القولين، ولا نظر إلى المماثلة.
(تنبيه) من ثمرة الخلاف أيضا ما لو تاب قبل أن يقدر عليه لم يسقط القصاص على الأول ويسقط على الثاني
(ولو جرح) قاطع الطريق شخصا جرحا يوجب قصاصا كقطع يد (فاندمل) الجرح (لم يتحتم) على القاطع
(قصاص) في ذلك الطرف المجروح (في الأظهر) بل يتخير المجروح بين القصاص والعفو، لأن التحتم تغليظ الحق
الله تعالى فاختص بالنفس كالكفارة، ولان الله تعالى لم يذكر الجرح في الآية فكان باقيا على أصله في غير الحرابة:
والثاني يتحتم كالنفس، والثلاث يتحتم في اليدين والرجلين لأنهما مما يستحقان في المحاربة دون الانف والاذن ونحوهما.
(تنبيه) قوله فاندمل من زيادته على المحرر، واحترز به عما إذا سرى إلى النفس فهو كالقتل، لكنه يوهم أن
الاندمال قيد لمحل الخلاف وليس مرادا، فلو قطع يده ثم قتله قبل الاندمال جرى القولان أيضا في التحتم في قصاص
اليد كما نقلاه عن ابن الصباغ، وأشعر قوله لم يتحتم بتصوير المسألة فيما فيه قود من الأعضاء. أما غيره كجائفة فواجبه
المال (وتسقط عقوبات تخص القاطع) من تحتم القتل والصلب وقطع الرجل، وكذا اليد في الأصح. فإن قيل:
كلام المصنف يوهم خلافه، فإن الرجل هي المختصة بقطع الطريق، فلو قال تسقط حد الله تعالى لاستقام.
أجيب بأن
قطع اليد ليس عقوبة كاملة وإنما هو جزء عقوبة، فإن المجموع من قطع اليد والرجل عقوبة واحدة مختصة بقاطع
الطريق، فإذا سقط بعضها سقط كلها (بتوبة قبل القدرة عليه) لقوله تعالى " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا
183

عليهم " الآية (لا بعدها) أي القدرة فلا تسقط تلك العقوبات عنه بالتوبة منها لمفهوم الآية، وإلا لما كان للتخصيص بقوله
" من قبل " فائدة، والفرق من جهة المعنى أنه بعد القدرة متهم لدفع قصد الحد، بخلاف ما قبلها فإنها بعيدة عن التهمة
قريبة من الحقيقة، وقوله (على المذهب) راجع للمسألتين، وقيل في كل منهما قولان كالقولين في سقوط حد الزاني
والسارق بالتوبة، أما غير هذه العقوبات مما ذكر هنا من قصاص وضمان وغيرهما فلا يسقط بالتوبة مطلقا كما في غير
هذا الباب.
(تنبيه) المراد بالتوبة قبل القدرة الثابتة فلو ظفرنا به فادعى سبق توبته ففي الكفاية عن الأحكام السلطانية للماوردي
أنه إن لم تظهر أمارتها لم يصدق، وإلا فوجهان محتملان، وقضية كلامه استواء التوبة التي قبل القدرة والتي بعدها
وليس مرادا فإن الأولى يكتفى بمجردها، والثانية يشترط فيها اصلاح العمل كما قاله جماعة من العراقيين، وصححه
الرافعي في الشرح الصغير، ولو ثبت قطع الطريق والقتل بإقراره ثم رجع قبل رجوعه كما ذكره في التنبيه في أوائل
الاقرار (ولا تسقط سائر) أي باقي (الحدود) المختصة بالله تعالى كالزنا والسرقة وشرب الخمر (بها) أي التوبة في قاطع
الطريق وغيره (في الأظهر) لأنه صلى الله عليه وسلم لما جاء ما عز وأقر بالزنا حده، ولا شك أنه لم يأته إلا وهو
تائب، فلما أقام عليه الحد لد على أن الاستثناء في المحارب وحده. والثاني تسقط بها قياسا على حد قاطع الطريق،
وصححه البلقيني.
(تنبيه) يرد على المصنف تارك الصلاة كسلا فإنه يقتل حدا على الصحيح، ومع ذلك لو تاب سقط القتل قطعا،
والكافر إذا زنى ثم أسلم فإنه يسقط عنه الحد كما نقله في الروضة عن النص، ومرت الإشارة إليه في باب الزنا، ولا يرد
عليه المرتد إذا تاب حيث تقبل توبته ويسقط القتل: لأنه إذا أصر يقتل كفرا لاحدا، ومحل الخلاف في السقوط وعدمه
في ظاهر الحكم. أما فيما يبينه وبين الله تعالى فيسقط قطعا، لأن التوبة تسقط أثر المعصية كما نبه عليه في زيادة الروضة
في باب السرقة، وقد قال صلى الله عليه وسلم " التوبة ت جب ما قبلها " وورد " التائب من الذنب كمن لاذنب له " وإذا أقيم الحد في الدنيا
لم يقم في الآخرة كما قاله الجيلي الحديث " الله أعدل أن يثنى على عبده العقوبة في الآخرة " وقد مرت لإشارة إلى ذلك مع
زيادة في أول باب الجراح.
(فصل) في اجتماع عقوبات في غير قاطع الطريق، وهي إما لادمي، أو لله تعالى: أو لهما، وقد بدأ بالقسم الأول
فقال (من لزمه) لجماعة (قصاص) في نفس (وقطع) لطرف آدمي (وحد قذف) لاخر (وطالبوه) بذلك (جلدا) أولا للقذف
(ثم قطع لقصاص الطرف (ثم قتل) لقصاص النفس، لأن ذلك أقرب إلى استيفاء الجميع، فإن اجتمع مع ذلك تعزير
لادمي بدئ به (ويبادر بقلته بعد قطعه) فلا تجب المهلة بينهما، لأن النفس مستوفاة (لا قطعه بعد جلده إن غاب مستحق
قتله) جزما، لأنه قد يهلك بالموالاة فيفوت قصاص النفس (وكذا إن حضر وقال عجلوا القطع) وأنا أبادر بالقتل بعده
فإنا لا نعجله (في الأصح) لما مر. والثاني نبادر، لأن التأخير كان لحقه وقد رضى بالتقديم (ولو أخر مستحق النفس حقه)
وطلب الاخر ان حقهما (جلد للقذف أولا (فإذا برأ) بفتح الراء، ويجوز كسرها من الجلد (قطع) للطرف، ولا يوالي
بينهما خوف الهلاك فيوفت قصاص النفس فإن قيل كان المصنف في غنى عن هذا بما إذا غاب مستحق القتل أجيب
بأنه إنما أعاده لضرورة التقسيم (ولو أخر مستحق طرف) حقه وطلب المقذوف حقه من قاذفه (جلد، و) وجب (على مستحق
184

النفس الصبر) بحقه (حتى يستوفى الطرف) سواء أتقدم استحقاق النفس أم نأخر حذرا من فواته وإن قال البلغيني
الذي نقوله: أن لمستحق النفس أن يقول لمستحق الطرف: إما أن نستوفي أو تعفو أو تأذن لي في التقديم، ويجبره
الحاكم على أحد هذه المذكورات، فإن أبى ذلك مكن الحاكم مستحق النفس من القتل، لأنه ظهر الضرر من
مستحق الطرف، وليس له عذر يمنعه من ذلك، ومستحق القتل طالب حق أثبته الله له بقوله " فقد جعلنا
لوليه سلطانا " (فإن بادر) مستحق النفس (فقتل فلمستحق الطرف دية) في تركة المقتول لفوات محل الاستيفاء
واستوفى حقه مستحق النفس (ولو أخر مستحق الجلد حقه فالقياس) مما سبق في هذه المسألة كما قاله الرافعي
في الشرح الكبير، وسكت عن حكمها في الصغير، وعبر بها في المحرر. ينبغي (صبر الآخرين) حتى يستوفى حقه،
وإن تقدم استحقاقهما لئلا يفوتا عليه حقه وإن نازع في ذلك البلقيني بقوله: تبع في القياس الرافعي، وليس القياس
بالنسبة إلى القطع، لأنه يمكن أن يقطع، ثم لا يفوت الجلد لأنه يمكن استيفاؤه بعد البرء من القطع، لا سيما إذا كان
الطرف إذنا أو أنملة أو نحوهما. ثم شرع في القسم الثاني، فقال (ولو اجتمع) على شخص (حدود لله تعالى)
كأن شرب وزنى، وهو بكر وسرق وارتد (قدم) وجوبا (الأخف) منها (فالأخف) سعيا في إقامة الجميع،
فأخفها حد الشرب فيحد له، ثم يمهل حتى يبرأ منه، ثم يجلد للزنا، ثم يمهل حتى يبرأ، ثم يقطع للسرقة، ثم يقتل
بغير مهملة لأن النفس مستوفاة، وهل يقدم قطع السرقة على التغريب؟، قال ابن الرفعة: لم أر لأصحابنا
تعرضنا له اه‍
والأوجه عدم تقدمه، لأن النفس قد تفوت.
(تنبيه) قد علم من قوله: يقدم الأخف أنه لو اجتمع مع الحدود تعزير فهو المقدم، وبه صرح الماوردي، ومن
قوله: فالأخف أن صورة المسألة إذا تفاوتت الحدود، فلو اجتمع قتل ردة ورجم زنا قال القاضي: يقدم قتل الردة
إذا فسادها أشد، وقال الماوردي والروياني: يرجم، ويدخل فيه قتل الردة، لأن الرجم أكثر نكالا، وهذا أوجه
ولو اجتمعا قتل وقطع الطريق، قال القاضي: قدم وإن جعل حدا لأنه حق آدمي، ولو اجتمع قطع سرقة وقطع
محاربة قطعت يده اليمنى لهما، وهل تقطع الرجل معهما؟ وجهان: أصحهما نعم، وقيل تؤخر حتى تبرأ اليد. ثم شرع
في القسم الثالث، فقال (أو) اجتمع (عقوبات لله تعالي والآدميين) كأن انضم إلى هذه العقوبات حد قذف (قدم
حد قذف على) حد (زنا) كما نص عليه، واختلف في علته، قيل لأنه أخف، والأصح كونه حق آدمي وفائدة الخلاف
تظهر في المسألة عبقها، وهي قوله (والأصح تقديمه) أي حد القذف (على حد الشرب) بناء على العلة الثانية
في المسألة السابقة، ومقابلة على العلة الأولى (وأن القصاص قتلا وقطعا يقدم على الزناد) بمنى على العلة الثانية، ومقابلة
على العلة الأولى، ولا يوالي بين حد الشرب وحد القذف بل يمهل لئلا يهلك بالتوالي.
(تنبيه) محل الخلاف في تقديم حد الزنا إذا كان الواجب الرجم، فإن كان جلدا قمد على القتل قطعا، ومحله أيضا
في تقديم قطع القصاص على حد الزنا إذا كان جلدا، فإن رجما قدم القطع قطعا.
(خاتمة) لو اجتمع قتل قصاص في غير محاربة وقتل محاربة قدم السابق منهما ورجع الاخر إلى الدية " وفى
اندراج قطع السرقة في قتل المحاربة فيما لو سرق وقتل في المحاربة وجهان: أوجهما كما قال شيخنا نعم، ومن زنى
مرات أو سرق أو شرب كذلك أجزأه عن كل جنس حد واحد، لأن سببها واحد فتداخلت، قال القاضي الحسين
وهو مقابل الزنيات كلها لئلا يخلو بعضها عنه كالمهر في النكاح الفاسد فإنه يقابل كل الوطئات، وهل وجب حدود على
185

عدد الزنيات ثم تداخلت، أو حد واحد فقط، وتجعل الزنيات إذا لم يتخللها حد كحركات زنية واحدة؟ فيه تردد والثاني
أقرب كما قاله ابن النقيب، وما في فروع أنب الحداد من أن المرأة إذا ثبت زناها بلعان زوجين أنه يلزمها حدان أنكره
الأصحاب، وقالوا إنهما حدان لله تعالي من جنس واحد فتداخلا، وإن جلد للزنا ثم زنى ثانيا قبل التغريب أو جلد
له خمسين ثم زنى ثانيا كفاه فيهما جلد مائة وتغريب واحد، ودخل في المائة الخمسون الباقية، وفى التعريب للثاني
التغريب الأول، ولو زنى بكرا ثم محصنا قبل أن يجلد دخل التغريب تحت الرجم لئلا تطول المدة مع أن النفس مستوفاة
ولان التغريب صفة، فيغتفر فيها مالا يغتفر في غيرها، ولا يدخل الجلد في الرجل كما رجحه ابن المقرى لاختلاف العقوبتين
وقيل يدخل لأنهما عقوبة جريمة واحدة، ولو زنى ذمي محصن ثم نقض العهد واسترق ثم إلى ثانيا ففي دخول الجلد
في الرجم وجهان أصحهما كما قاله البغوي المنع وإن قال البلقيني الأصح الدخول كالحدين، ويثبت قطع الطريق
بإقرار
القاطع به لا باليمين المردودة كما مر في كتاب السرقة خلافا لما في الكتاب وبشهادة رجلين لا رجل وامرأتين أو ويمين وأما
المال فيثبت بذلك، ويشترط في الشهادة التفصيل، وتعيين قاطع الطريق، ومن قتله أو أخذ ماله كما سبق في الشهادة
على السرقة، ولو شهد اثنان من الرفقة على المحارب لغيرهما، ولم يتعرضا لأنفسهما في الشهادة قبلت شهادتهما وليس
على القاضي البحث عن كونهما من الرفقة أولا، وإن بحث لم يلزمهما أن يجيبا، فإن قالا نهبونا وأخذوا مالنا أو مال
رفقتنا لم يقبلا في حقهما ولا في حق غيرهما للعداوة.
كتاب الأشربة
والتعازير، والأشربة جمع شراب بمعنى مشروب، والشريب: المولع بالشراب، والشرب - بفتح الشين وسكون الراء -:
الجماعة يشربون الخمر، وشربه من كبائر المحرمات، بل هي أم الكبائر كما قاله عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما:
والأصل في تحريمها قوله تعالى: * (إنما الخمر والميسر) * الآية، وقال تعالى: * (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما
بطن والاثم) * وهو الخمر عند الأكثرين، واستشهد له بقول الشاعر:
شربت الاثم حتى ضل عقلي كذاك الاثم يذهب بالعقول
وتظافرت الأحاديث على تحريمها، روى أبو داود أن رسول الله (ص) لعن الخمرة وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها
وآكل ثمنها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه، وقال صلى الله عليه وسلم: من شربها في الدنيا ولم يتب حرمها الله عليه
في الآخرة. وروى مسلم أن النبي (ص) قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر
حين يشربها وهو مؤمن وانعقد الاجماع على تحريمها، ولا التفات إلى قول من حكى عنه إباحتها، وكان المسلمون
يشربونها في أول الاسلام فاختلف أصحابنا في أن ذلك كان استصحابا منهم بحكم الجاهلية أو بشرع في إباحتها على
وجهين رجح الماوردي الأول، والمصنف الثاني. وكان تحريمها في السنة الثانية من الهجرة بعد أحد، وقيل: بل كان
المباح الشرب ولا ما ينتهي إلى السكر المزيل للعقل فإنه حرام في كل ملة، حكاه ابن الشقيري في تفسيره عن القفال
الشاشي قال المصنف في شرح مسلم: وهو باطل لا أصل له، والخمر المسكر من عصير العنب وإن لم يقذف بالزبد،
واشترط أبو حنيفة أن يقذف، فحينئذ يكون مجمعا عليه.
تنبيه: اختلف أصحابنا في وقوع اسم الخمر على الأنبذة حقيقة، فقال المزني وجماعة بذلك، لأن الاشتراك
في الصفة يقتضي الاشتراك في الاسم، وهو قياس في اللغة وهو جائز عند الأكثرين وهو ظاهر الأحاديث، ونسب
الرافعي إلى الأكثرين أنه لا يقع عليها إلا مجازا، أما في التحريم والحد فهو كالخمر، لكن لا يكفر مستحلها
بخلاف
الخمر للاجماع على تحريمها دون تلك، فقد اختلف العلماء في تحريمها، ولم يستحسن الإمام إطلاق القول بتكفير
186

مستحل الخمر، قال: وكيف نكفر من خالف الاجماع، ونحن لا نكفر من يرد أصله، وإنما نبدعه. وأول كلام
الأصحاب على ماذا صدق المجمعين على أن تحريم الخمر ثبت شرعا ثم حاله فإنه رد للشرع، حكاه عنه الرافعي. ثم
قال: وهذا إن صح فليجر في سائر ما حصل الاجماع على افتراضه فنفاه، أو تحريمه فأثبته، وأجاب عنه الزنجاني بأن
مستحل الخمر لا نكفره لأنه خالف الاجماع فقط، بل لأنه خالف ما ثبت ضرورة أنه من دين محمد (ص)
والاجماع والنص عليه. وشمل قول المصنف (كل شراب أسكر كثيره حرم) هو و (قليله) جمع الأشربة من نقيع
التمر والزبيب وغيرهما لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه (ص) قال كل شراب أسكر
فهو حرام. وروى مسلم خبر كل مسكر خمر، وكل خمر حرام. وروى النسائي بإسناد صحيح عن سعد بن أبي وقاص،
أنه (ص) قال: أنهاكم عن قليل ما أسكر كثيره، وصحح الترمذي: ما أسكر كثيره قليله حرام. وخالف
أبو حنيفة في القدر الذي لا يسكر من نقيع التمر والزبيب وغيره، واستند لأحاديث معلومة بين الحفاظ، وأيضا أحاديث
التحريم متأخرة فوجب العمل بها، وإنما حرم القليل (وحد شاربه) وإن كان لا يسكر حسما لمادة الفساد كما حرم تقبيل
الأجنبية والخلوة بها لافضائه إلى الوطئ المحرم ولحديث رواه الحاكم: من شرب الخمر فاجلدوه وقيس به شرب النبيذ،
ولو فرض شخص لا يسكره شرب الخمر حرم شربه للنجاسة لا للاسكار، ويحد أيضا كما قاله الدميري وغيره حسما
للباب كمن شرب قدرا يؤثر فيه لا يسكر، ومن حد ثم شرب المسكر حال سكره في الشرب الأول حد ثانيا.
تنبيه: المراد بالشارب المتعاطي شربا كان أو غيره، سواء فيه المتفق على تحريمه والمختلف فيه، وسواء جامدة
ومائعه مطبوخه ونيئه، وسواء أتناوله معتقدا تحريمه أو إباحته على المذهب لضعف أدلة الإباحة كما مر. وخرج بالشراب
النبات، قال الدميري: كالحشيشة التي تأكلها الحرافيش، ونقل الشيخان في باب الأطعمة عن الروياني إن أكلها
حرام ولا حد فيها. وقال الغزالي في القواعد: يجب على آكلها التعزير والزجر دون الحد، ولا تبطل بحملها
الصلاة. وقال ابن تيمية: إن الحشيشة أول ما ظهرت في آخر المائة السادسة من الهجرة حين ظهرت دولة التتار، وهي
من أعظم المنكر وشر من الخمر في بعض الوجوه لأنها تورث نشوة ولذة وطربا كالخمر ويصعب الفطام عنها أكثر من
الخمر، وقد أخطأ القائل فيها:
حرموها من غير عقل ونقل وحرام تحريم غير الحرام
وكل ما يزيل العقل من غير الأشربة من نحو بنج لا حد فيه كالحشيشة فإنه لا يلذ ولا يطرب ولا يدعو قليله إلى كثيره
بل فيه التعزير، ولا ترد الخمرة المعقودة والحشيش المذاب نظرا لأصلها، وبالمسكر غيره، ولكن يكره من
غير المسكر
المنصف وهو ما يعمل من تمر ورطب، والخليط وهو ما يعمل من بسر ورطب، لأن الاسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط
قبل أن يتغير فيظن الشارب أنه ليس بمسكر ويكون مسكرا، ويشترط كون شاربه مكلفا ملتزما للأحكام مختارا عالما
بأن ما شربه مسكر من غير ضرورة. ومحترز هذه القيود يؤخذ من قوله (إلا صبيا ومجنونا) لرفع القلم عنهما (وحربيا)
لعدم التزامه (وذميا) لأنه لا يلتزم بالذمة ما لا يعتقده إلا الأحكام المتعلقة بالعباد (وموجرا) أي مصبوبا في حلقه قهرا
(وكذا مكره على شربه) أي المسكر (على المذهب) لحديث: وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ويقابل
المذهب طريقة حاكيه لوجهين.
تنبيه: ظاهر قوله إلا صبيا وما بعده أنه مستثنى من التحريم ووجوب الحد، لكن الأصحاب إنما ذكروه في
الحد وعدمه. نعم تعرضوا للحل بالنسبة إلى الاكراه والصحيح الحل، وبه جزم الرافعي في الجراح، ونص الشافعي
في البويطي على أن عليه أن يتقايأه، وقيل يجب، وقيل يسن، والأول أوجه. (ومن جهل كونها) أي الخمر (خمرا)
187

فشربها ظانا كونها شرابا لا يسكر (لم يحد) للعذر ولا يلزمه قضاء الصلوات الفائتة مدة السكر كالمغمى عليه، ولو قال
السكران بعد الأصحاء: كنت مكرها، أو لم أعلم أن الذي شربته مسكرا صدق بيمينه قاله في البحر في كتاب الطلاق.
(ولو قرب إسلامه فقال جهلت تحريمها لم يحد) لأنه قد يخفي عليه ذلك والحدود تدرأ بالشبهات. قال الأذرعي: وهذا
ظاهر في غير من نشأ في بلاد الاسلام، أما من نشأ فيها فلا يخفى عليه تحريم الخمر عند المسلمين فلا يقبل قوله اه‍. وظاهر
كلام الأصحاب الاطلاق وهو الظاهر (أو) قال: علمت تحريمها ولكن (جهلت الحد) بشربها (حد) لأن من
حقه إذا علم التحريم أن يمتنع (ويحد بدردي خمر) وهو بمهملات وتشديد آخره: ما في أسفل وعاء الخمر من عكر
لأنه منه.
تنبيه: كلامه قد يوهم أن دردي غيره من المسكرات ليس كذلك وليس مرادا، بل الظاهر كما قاله الأذرعي
أنه لا فرق بين الجميع، ويحد بالثخين منها إذا أكله. و (لا) يحد بشربها فيما استهلكت فيه كما في الروضة وأصلها عن
الإمام وجزم به في الرضاع ولا (بخبز عجن دقيقه بها) على الصحيح لأن عين الخمر أكلتها النار وبقي الخبز نجسا
(ومعجون هي فيه) لاستهلاكها ولا بأكل لحم طبخ بها بخلاف مرقه إذا شربه أو غمس فيه أو ثرد بها فإنه يحد لبقاء عينها
(وكذا حقنة) بها بأن أدخلها دبره (وسعوط) - بفتح السين - بأن أدخلها أنفه، فلا يحد بذلك (في الأصح) لأن الحد للزجر
ولا حاجة إليه هنا فإن النفس لا تدعو إليه، والثاني يحد فيهما كما يحصل الافطار بهما للصائم، والثالث وجرى
عليه البلقيني
أنه يحد في السعوط دون الحقنة لأنه قد يطرب به بخلاف الحقنة (ومن غص) بغين معجمة مفتوحة بخطه، وحكي ضمها
والفتح أجود قاله ابن الصلاح والمصنف في تهذيبه: أي شرق (بلقمة) ملا (أساغها) أي أزالها (بخمر) وجوبا كما قاله
الإمام (إن لم يجد غيرها) ولا حد عليه إنقاذا للنفس من الهلاك والسلامة بذلك قطعية بخلاف التداوي، وهذه رخصة
واجبة (والأصح تحريمها) أي تناولها على مكلف (لدواء وعطش) أما تحريم الدواء بها فلانه (ص) لما سئل عن التداوي
بها قال: إنه ليس بدواء ولكنه داء، والمعنى أن الله تعالى سلب الخمر منافعها عندما حرمها، ويدل لهذا قوله (ص):
إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها وهو محمول على الخمر. روي أن النبي (ص) قال: إن الله لما
حرم الخمرة سلبها المنافع. وما دل عليه القرآن من أن فيها منافع للناس إنما هو قبل تحريمها، وإن سلم بقاء المنفعة
فتحريمها مقطوع به، وحصول الشفاء بها مظنون، فلا يقوى على إزالة المقطوع به، وأما تحريمها للعطش فلأنها لا تزيله
بل تزيده لأن طبعها حار يابس كما قاله أهل الطب، ولهذا يحرض شاربها على الماء البارد. وقال القاضي أبو الطيب:
سألت أهل المعرفة بها، فقال: تروي في الحال ثم تثير عطشا شديدا. فإن قيل: هذه رواية فاسق لا تقبل. أجيب بأنه
أخبر بعد نوبته. والثاني يجوز التداوي بها، أي بالقدر الذي لا يسكر كبقية النجاسات، ويجوز شربها لإساغة اللقمة بها،
وقيل يجوز التداوي بها دون شربها للعطش، وقيل عكسه، وشربها لدفع الجوع كشربها لدفع العطش.
تنبيه: محل الخلاف في التداوي بها بصرفها، أما الترياق المعجون بها ونحوه مما تستهلك فيه فيجوز التداوي
به عند فقد ما يقوم مقامه مما يحصل به التداوي من الطاهرات كالتداوي بنجس كلحم حية وبول، ولو كان
التداوي بذلك لتعجيل شفاء بشرط إخبار طبيب مسلم عدل بذلك أو معرفته للتداوي به، والند - بالفتح - المعجون بخمر
لا يجوز بيعه لنجاسته. قال الرافعي: وكان ينبغي أن يجوز كالثوب المتنجس لامكان تطهيره بنقعه في الماء، ودخانه
كدخان من التبخر به، ويجوز تناول ما يزيل العقل من غير الأشربة لقطع عضو، أما الأشربة فلا يجوز تعاطيها
188

لذلك وينبغي إن لم يجد غيرها أو لم يزل عقله إلا بها جوازه، ويقدم النبيذ على الخمر لأنه مختلف في حرمته، ومحله
في شربها للعطش إذا لم ينته الامر به إلى الهلاك، فإن انتهى به إلى ذلك وجب عليه تناولها كتناول الميتة للمضطر كما نقله
الإمام عن إجماع الأصحاب، وعلى القول بجواز التداوي بها وشربها لا حد، وكذا على التحريم كما نقله الشيخان في
التداوي عن القاضي والغزالي واختاره المصنف في تصحيحه، وصححه الأذرعي وغيره، لشبهة قصد التداوي
ومثله شربها للعطش، وما نقله الإمام عن الأئمة المعتبرين من وجوب الحد بذلك ضعفه الرافعي في الشرح الصغير وجزم
صاحب الاستقصاء في كتاب البيع بجواز إسقائها للبهائم وإطفاء الحريق بها. (وحد الحر أربعون) جلدة لما في مسلم عن
أنس رضي الله تعالى عنه: كان النبي (ص) يضرب في الخمر بالجريد والنعال أربعين (و) حد (رقيق)
ولو مبعضا كما قاله الأذرعي (عشرون) لأنه حد يتبعض فتنصف على الرقيق كحد الزنا.
تنبيه: لو تعدد الشرب كفى ما ذكره المصنف، وحديث الامر بقتل الشارب في الرابعة منسوخ بالاجماع، ويروى
أن أبا محجن الثقفي القائل:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمة لتروي عظامي بعد موتي عروقها
ولا تدفنني في الفلاة فإنني أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
جلده عمر رضي الله عنه مرارا، والظاهر أنها أكثر من أربع ثم تاب وحسنت توبته، وذكر أنه قد نبت عليه
ثلاث أصول كرم وقد طالت وانتشرت وهي معرشة على قبره بنواحي جرجان. والأصل في الجلد أن يكون (بسوط
أو أيد أو نعال أو أطراف ثياب) لما روى الشيخان أنه (ص) كان يضرب بالجريد والنعال. وفي البخاري
عن أبي هريرة رضي الله عنه: قال أتي النبي (ص) بسكران فأمر بضربه، فمنا من ضربه بيده، ومنا من
ضربه بنعله، ومنا من ضربه بثوبه.
تنبيه: ليس المراد بطرف الثوب الضرب به على هيئته، وإنما المراد أنه يفتل حتى يشتد، ثم يضرب به كما صرح
به المحاملي وغيره. (وقيل يتعين) للجلد (سوط) للسليم القوي كحد الزنا والقذف وهو كما قال ابن الصلاح المتخذ من
جلود سيور تلوى وتلف، سمي بذلك لأنه يسوط اللحم بالدم أي يخلطه، أما نضو الخلق فلا يجوز جلده بسوط جزما
كما قاله الزركشي (ولو رأى الإمام بلوغه) أي الحد للحر (ثمانين جاز في الأصح) المنصوص لما روي عن علي رضي
الله تعالى عنه أنه قال جلد النبي (ص) أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وعمر ثمانين وكل سنة، وهذا
أحب إلي لأنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وحد الافتراء ثمانون وروى البيهقي أن عمر
رضي الله تعالى عنه أتى شيخ قد شرب الخمر في رمضان فضربه ثمانين ونفاه إلى الشام، وقال: في شهر رمضان
وشيخا تتصابى. قال: وأتي علي رضي الله تعالى عنه بشيخ سكر في شهر رمضان فضربه ثمانين، ثم أخرجه من الغد
وضربه عشرين، ثم قال: إنما ضربتك هذه العشرين لجراءتك على الله وإفطارك في شهر رمضان والثاني لا تجوز الزيادة
لرجوع علي رضي الله تعالى عنه عن ذلك، وكان يجلد في خلافته أربعين.
تنبيه: يجري الخلاف في بلوغه في الرقيق أربعين. (والزيادة) عليها في الحر، وعلى العشرين في غيره
(تعزيرات) لأنها لو كانت حدا لما جاز تركها (وقيل حد) لأن التعزير لا يكون إلا عن جناية محققة. واعترض
الأول بأن وضع التعزير النقص عن الحد فكيف يساويه؟. وأجيب بأنه الجناية تولدت من الشارب، ولهذا استحسن
تعبير المصنف بتعزيرات على تعبير المحرر بتعزير. قال الرافعي: وليس هذا الجواب شافيا فإن الجناية لم تتحقق حتى
يعزر، والجنايات التي تتولد من الخمر لا تنحصر فلتجز الزيادة على الثمانين وقد منعوها. قال: وفي قصة تبليغ الصحابة
الضرب ثمانين ألفاظ مشعرة بأن الكل حد، وعليه فحد الشرب مخصوص من بين سائر الحدود بأن يتحتم بعضه
189

ويتعلق بعضه باجتهاد الإمام اه‍. والمعتمد أنها تعزيرات وإنما لم تجز الزيادة اقتصارا على ما ورد. ثم شرع في بيان ما يثبت
به شرب المسكر فقال: (ويحد بإقراره) كقوله: شربت خمرا أو شربت مما شرب منه غيري فسكر منه (أو شهادة
رجلين) يشهدان بمثل ذلك (لا) بشهادة رجل وامرأتين، لأن البينة ناقصة والأصل براءة الذمة، ولا باليمين المردودة
لما مر في قطع السرقة، (لا بريح خمر وسكر وقئ) لاحتمال أن يكون شرب غالطا أو مكرها، والحد يدرأ بالشبهة
ولا يستوفيه القاضي بعلمه على الصحيح بناء على أنه لا يقضي بعلمه في حدود الله تعالى، نعم سيد العبد يستوفيه بعلمه
لاصلاح ملكه (و) لا يشترط في الاقرار والشهادة تفصيل، بل (يكفي) الاطلاق (في إقرار) من شخص بأنه شرب
خمرا (و) في (شهادة) بشرب مسكر (شرب) فلان (خمرا) ولا يحتاج أن يقول وهو مختار عالم لأن الأصل عدم
الاكراه، والغالب من حال الشارب علمه بما يشربه فنزل الاقرار والشهادة عليه (وقيل يشترط) التفصيل بأن يزاد
على ما ذكر في كل منهما كقول المقر: وأنا عالم مختار: وكقول الشاهد (وهو عالم به مختار) لأنه إنما يعاقب باليقين
كالشهادة بالزنا، واختاره الأذرعي وفرق الأول بأن الزنا قد يطلق على ما لاح فيه كما في الحديث: العينان يزنيان
بخلاف سكر المسكر.
تنبيه: سكت المصنف هنا عن حكم رجوع المقر بشرب خمر وهو على مما سبق في حد الزنا، فإن كل ما ليس من
حق آدمي يقبل الرجوع فيه. (ولا يحد حال سكره) لأن المقصود منه الردع والزجر والتنكيل وذلك لا يحصل مع السكر،
بل يؤخر وجوبا كما صرح به ابن الوردي في بهجته ليرتدع، فإن حد قبلها ففي الاعتداد به وجهان: أصحهما كما قاله
البلقيني والأذرعي: الاعتداد به (وسوط الحدود) أو التعازير (بين قضيب) وهو الغصن (وعصا) غير معتدلة
(و) بين (رطب ويابس) بأن يكون معتدل الجرم والرطوبة للاتباع ولم يصرحوا بوجوب هذا ولا بندبه، وقضية
كلامهم الوجوب كما قاله الزركشي. ولما فرغ من صفة السوط بين كيفية عدد الضرب بقوله: (ويفرقه) أي السوط،
أي الضرب به (على الأعضاء) فلا يجمعه في موضع واحد، لما روى البيهقي عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال للجلاد
: أعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير والتفريق واجب كما بحثه الأذرعي: لأن الضرب على موضع
واحد
يعظم ألمه بالموالاة، وقد يؤدي إلى الهلاك. قال: ولم أر فيه نصا للأصحاب، ثم استثنى المصنف من الأعضاء قوله:
(إلا المقاتل) وهي مواضع يسرع القتل إليها بالضرب كقلب وثغرة نحر وفرج فلا يضربه عليها لما مر من قول علي:
واتق الوجه والمذاكير، وظاهر كلامهم كما قال الأذرعي: أن ذلك واجب، لأن القصد ردعه لا قتله، فلو ضربه على
مقتل فمات ففي ضمانه وجهان، وقضية كلام الدارمي ترجيح نفي الضمان (و) إلا (الوجه) فلا يضربه عليه وجوبا
لخبر مسلم: إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه ولأنه مجمع المحاسن فيعظم أثر شينه (قيل: و) إلا (الرأس) فلا يضربه لشرفه
كالوجه، والأصح وعزاه الرافعي للأكثرين لا، والفرق أنه معظم غالبا فلا يخاف تشويهه بالضرب بخلاف الوجه.
وروى ابن أبي شيبة عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه قال للجلاد: اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس. وكان
ينبغي أن يقول: في قول والرأس فإن القاضي أبا الطيب حكاه عن نص البويطي ورجحه، وجزم به الماوردي
وابن الصباغ وصاحب التنبيه وغيرهم، وقال الروياني في التجربة: غلط من قال بخلافه.
تنبيه: لا يجوز للجلاد رفع يده بحيث يبدو بياض إبطه، ولا يخفضها خفضا شديدا، بل يتوسط بين خفض
ورفع، فيرفع ذراعه لا عضده، ولا يبالي بكون المجلود رقيق الجلد يدميه الضرب الخفيف. (ولا تشد يده) أي المجلود
بل تترك مطلقة يتقي بها، وإذا وضعها على موضع ضرب غيره، ولا يلقى على وجهه، ولا يربط ولا يمد كما قاله البغوي
بل يجلد الرجل قائما والمرأة جالسة (ولا تجرد ثيابه) الخفيفة التي لا تمنع أثر الضرب، أما ما يمنع كالجبة المحشوة والفروة
190

فتنزع عنه مراعاة لمقصود الحد، ويترك على المرأة ما يسترها، وتشد عليها ثيابها، ويتولى ذلك منها امرأة أو محرم،
ويكون بقربها إن تكشفت سترها. وأما الجلد فيتولاه الرجال، لأن الجلد ليس من شأن النساء، والخنثى كالمرأة فيما
ذكر، ولكن لا يختص بشد ثيابه المرأة ونحوها، ويحتمل كما قاله شيخنا تعين المحرم ونحوه، وإن كان المحدود من
ذوي الهيئات ضرب كما قاله الماوردي في الخلوات، وإلا ففي الملا، ولا يحد ولا يعزر في المسجد لخبر أبي داود وغيره:
لا تقام الحدود في المساجد ولاحتمال أن يتلوث من جراحة تحدث، فإن فعل أجزأه كالصلاة في أرض مغصوبة،
كذا قالاه هنا، وقضيته تحريم ذلك وبه جزم البندنيجي، لكن الذي كراه في باب القضاء أنه لا يجرم، بل يكره،
ونص عليه في الام، نبه عليه الأسنوي وهو الظاهر (ويوالي الضرب عليه بحيث يحصل زجر وتنكيل) فلا يجوز
أن يفرق على الأيام والساعات لعدم الايلام المقصود في الحد، بخلاف ما لو حلف ليضربنه مائة سوط فإنه يبرأ إذا فرقها
على الأيام والساعات، لأن مستند الايمان إلى الاسم، وهنا التنكيل والزجر ولم يحصل، ولو جلد للزنا خمسين ولاء وفي
غده كذلك أجزأ.
تنبيه: لم يضبط التفريق الجائز وغيره. قال الإمام: إن لم يحصل في كل دفعة ألم له وقع كسوط أو سوطين في
كل يوم فهذا ليس بحد، وإن آلم وأثر بما له وقع، فإن لم يتخلل زمن يزول فيه الألم الأولى كفى، وإن تخلل لم يكف
على الأصح، ثم عقب المصنف رحمه الله تعالى الجنايات السبع الموجبة للحد بالتعزير، وترجم له بفصل فقال:
فصل: في التعزير، وهو لغة: التأديب. وأصله من العزر، وهو المنع، ومنه قوله تعالى * (وتعزروه) * أي
تدفعوا العدو عنه وتمنعوه، ويخالف الحد من ثلاثة أوجه. أحدها: أنه يختلف باختلاف الناس، فتعزير ذوي الهيئات
أخف ويستوون في الحد. والثاني تجوز الشفاعة فيه والعفو بل يستحبان. والثالث التألق به مضمون في الأصح
خلافا لأبي حنيفة ومالك. وشرعا: لتأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة كما نبه على ذلك بقوله: (يعزر في كل معصية
لا حد لها ولا كفارة) سواء أكانت حقا لله تعالى أم لآدمي، وسواء أكانت من مقدمات ما فيه حد كمباشرة أجنبية
في غير الفرج، وسرقة ما لا قطع فيه، والسب بما ليس بقذف أم لا كالتزوير وشهادة الزور والضرب بغير حق
ونشوز المرأة ومنع الزوج حقها مع القدرة. والأصل فيه قبل الاجماع قوله تعالى * (واللاتي تخافون نشوزهن) * الآية.
فأباح الضرب عند المخالفة فكان فيه تنبيه على التعزير، وقوله (ص) في سرقة التمر: إذا كان دون نصاب
غرم مثله وجلدات نكال رواه أبو داود، والنسائي بمعناه. وروى البيهقي أن عليا رضي الله تعالى عنه سئل عمن قال
لرجل: يا فاسق يا خبيث، فقال: يعزر.
تنبيه: اقتضى كلام المصنف ثلاثة أمور. الأمر الأول: تعزير ذي المعصية التي لا حد فيها ولا كفارة، ويستثنى منه
مسائل. الأولى: إذا صدر من ولي لله تعالى صغيرة فإنه لا يعزر كما قاله ابن عبد السلام. قال: وقد جهل أكثر الناس
فزعموا أن الولاية تسقط بالصغيرة، ويشهد لذلك حديث أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود رواه أبو داود،
قال الإمام الشافعي رحمه الله: والمراد بذوي الهيئات الذين لا يعرفون بالشر فيزل أحدهم الزلة، ولم يعلقه بالأولياء، لأن
ذلك لا يطلع عليه. فإن قيل: قد عزر عمر رضي الله تعالى عنه غير واحد من مشاهير الصحابة رضي الله تعالى عنهم
وهم رؤوس الأولياء وسادة الأمة ولم ينكره أحد؟ أجيب بأن ذلك تكرر منه، والكلام هنا في أول زلة زلها
مطيع. الثانية: إذا قطع شخص أطراف نفسه. الثالثة إذا وطئ زوجته أو أمته في دبرها فلا يعزر بأول مرة، بل
ينهى عن العود، فإن عاد عزر، نص عليه في المختصر، وصرح به البغوي وغيره. الرابعة: الأصل لا يعزر لحق الفرع
كما لا يجد بقذفه. الخامسة: إذا رأى من يزني بزوجته وهو محصن فقتله في تلك الحالة فلا تعزير عليه. وإن اقتات على
الإمام لأجل الحمية، حكاه ابن الرفعة عن أبي داود. السادسة: إذا دخل واحد من أهل القرى إلى الحمى الذي حماه
191

الإمام للضعفة ونحوهم فرعي منهم لا تعزير عليه ولا غرم وإن كان عاصيا وآثما، لكن يمنع من الرعي، كذا نقله في
زيادة الروضة هناك عن القاضي أبي حامد وأقره. السابعة: إذا ارتد ثم أسلم فإنه لا يعزر أول مرة، نقل ابن المنذر
الاتفاق عليه. الثامنة إذا كلف السيد عبده ما لا يطيق فإنه يحرم عليه ولا يعزر أول مرة وإنما يقال له لا تعد، فإن
عاد عزر، ذكره الرافعي في آخر الباب الأول من اللعان. التاسعة: إذا طلبت المرأة نفقتها بطلوع الفجر، قال في النهاية:
الذي أراه أن الزوج إن قدر على إجابتها فهو حتم ولا يجوز تأخيره، وإن كان لا يحبس ولا يركل به، ولكن يعصى
بمنعه. العاشرة: إذا عرض أهل البغي بسبب الإمام لم يعزروا على الأصح في زيادة الروضة. الأمر الثاني: أنه متى كان
في المعصية حد كالزنا، أو كفارة كالتمتع يطيب في الاحرام ينتفي التعزير لايجاب الأول للحد والثاني للكفارة. ويستثنى
منه مسائل. الأولى: إفساد الصائم يوما من رمضان بجماع زوجته أو أمته فإنه يجب فيه التعزير مع الكفارة. الثانية
المظاهر يجب عليه التعزير مع الكفارة. الثالثة: إذا قتل من لا يقاد به كولده وعبده، قال الأسنوي: نعم يجاب عنه
بأن إيجاب الكفارة ليس للمعصية، بل لاعدام النفس بدليل إيجابها بقتل الخطأ، فلما بقي التعمد خاليا عن الزجر
أوجبنا فيه التعزير. الرابعة: اليمين الغموس يجب فيها الكفارة والتعزير كما ذكره في المهذب. الخامسة: الزيادة على
الأربعين في شرب المسكر إلى الثمانين تعزيرات على الصحيح كما سبق في كلام المصنف. السادسة ما ذكره الشيخ
عز الدين في القواعد الصغرى أنه لو زنى بأمه في جوف الكعبة في رمضان وهو صائم معتكف محرم لزمه العتق والبدنة،
ويحد للزنا، ويعزر لقطع رحمه، وانتهاك حرمة الكعبة. السابعة: ما ذكره الفوراني أن السارق إذا قطعت يده يعزر،
قال في الذخائر: إن أراد به تعليق يده في عنقه فحسن، أو غيره فمنفرد به، وتعليق يده في عنقه ضرب من النكال
نص عليه، وليس من الحد قطعا إذا لم يقل بوجوبه أحد. الأمر الثالث: أنه لا يعزر في غير معصية: ويستثنى منه
مسائل. الأولى: الصبي والمجنون يعزران إذا فعلا ما يعزر عليه البالغ وإن لم يكن فعلهما معصية، نص عليه في الصبي
وذكره القاضي حسين في المجنون. الثانية: قال الماوردي في الأحكام: السلطان يمنع المحتسب من يكتسب باللهو ويؤدب
عليه الآخذ والمعطى، وظاهره تناول اللهو المباح. ثالثها نفي المخنث، نص عليه الشافعي رحمه الله مع أنه ليس بمعصية
وإنما فعل للمصلحة. وعلق المصنف بقوله سابقا يعزر قوله هنا (بحبس أو ضرب أو صفع) وهو الضرب بجمع الكف
(أو توبيخ) باللسان، لأن ذلك يفيد الردع والزجر عن الجريمة والمراد بالضرب غير المبرح فإن علم أن التأديب
لا يحصل عليه إلا بالضرب المبرح فعن المحققين أنه ليس له فعل المبرح ولا غيره. قال الرافعي: ويشبه أن يقال بضربه غير
مبرح إقامة لصورة الواجب. قال في المهمات: وهو ظاهر.
تنبيه: قضية كلامه أنه ليس له الجمع بين هذه الأمور ولا بين نوعين منها وليس مرادا، ففي أصل الروضة
أن له الجمع بين الحبس والضرب، وقضيته أيضا أنه لا يتعين للحبس مدة، وليس مرادا أيضا، بل شرطه النقص عن
سنة كما نص عليه في الام، وصرح به معظم الأصحاب، وقضيته أيضا الحصر فيما ذكره، وليس مرادا أيضا، فإن
من أنواع التعزير النفي كما ذكره في باب حد الزنا، ونص عليه في الام، وقد ثبت في الحديث نفي المخنثين، ومنه
كشف الرأس والقيام من المجلس والاعراض كما ذكره الماوردي ويجتهد الإمام في جنسه وقدره لأنه غير مقدر
شرعا موكل إلى رأيه يجتهد في سلوك الأصلح لاختلاف ذلك باختلاف مراتب الناس وباختلاف المعاصي فله أن يشهر
في الناس من أدى اجتهاده إليه، ويجوز له حلق رأسه دون لحيته، ويجوز أن يصلب حيا، ولا يمنع من الطعام
والشراب، ولا من الوضوء للصلاة، ويصلي موميا ويعيد إذا أرسل، ولا يجاوز ثلاثة أيام قاله الماوردي اه‍. واعترض
منعه من الصلاة متمكنا، والظاهر أنه لا يمنع، وفي جواز تسويد وجهه وجهان، قال الماوردي: إن الأكثرين
على الجواز، وله إركابه الدابة منكوسا، وعلى الإمام مراعاة الترتيب والتدريج اللائق بالحال في القدر والنوع كما يراعيه
في دفع الصائل، فلا يرقى إلى مرتبة وهو يرى ما دونها كافيا مؤثرا كما حكاه الإمام عن الأصحاب، وإن أوهم عطف
192

المصنف بأو المقتضية للتخيير خلافه، وقضية كلامه أنه لا يستوفيه إلا الإمام. واستثنى منه مسائل. الأولى: للأب
والام ضرب الصغير والمجنون زجرا لهما عن سئ الأخلاق وإصلاحا لهما، قال شيخنا: ومثلهما السفيه. وعبارة
الدميري: وليس للأب تعزير البالغ وإن كان سفيها على الأصح، وتبعه ابن شهبة. الثانية: للمعلم أن يؤدب من يتعلم
منه، لكن بإذن الولي كما في الروضة، وإن قال الأذرعي: الاجماع الفعلي مطرد بذلك من غير إذن. الثالثة للزوج
ضرب زوجته لنشوزها ولما يتعلق به من حقوق عليها للآية السابقة أول الباب، وليس له ذلك لحق الله تعالى لأنه
لا يتعلق به، وقضيته أنه ليس له ضربها على ترك الصلاة، وهو كذلك، وإن أفتى ابن البرزي بأنه يجب على الزوج
أمر زوجته بالصلاة في أوقاتها، ويجب عليه ضربها على ذلك، وأما أمره لها بالصلاة فمسلم. الرابعة للسيد ضرب
رقيقه لحق نفسه كما في الزوج، بل أولى لأن سلطته أقوى، وكذا لحق الله تعالى كما مر في الزنا، وتسمى هذه
المسائل المستثناة تعزيرا، وقيل إنما يسمى ما عدا ضرب الإمام ونائبه تأديبا لا تعزيرا، وعلى هذا لا استثناء. (وقيل
إن تعلق) التعزير (بآدمي لم يكف) فيه (توبيخ) لتأكد حق الآدمي، والأصح الاكتفاء كما في حق الله
تعالى. ثم شرع في بيان قدر التعزير بقول (فإن جلد) الإمام (وجب أن ينقص في عبد عن عشرين جلدة
و) في (حر عن أربعين) جلدة أدنى حدودهما، لخبر: من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين رواه
البيهقي، وقال: المحفوظ إرساله، وكما يجب نقص الحكومة عن الدية والرضخ عن السهم (وقيل) يجب أن ينقص في
تعزير الحر عن (عشرين) جلدة لأنها حد العبد، فهو داخل في المنع في الحديث المتقدم، وقيل لا يزاد في تعزيرهما
على عشرة أسواط لحديث: لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى واختاره الأذرعي والبلقيني
وقال: إنه على أصل الشافعي في اتباع الخبر، وقال صاحب التقريب: لو بلغ الشافعي لقال به، وأجاب الأول عنه بأنه
منسوخ بعمل الصحابة على خلافه من غير إنكار، قال القونوي: وحمله على الأولوية بعد ثبوت العمل بخلافه أهون
من النسخ ما لم يتحقق.
فائدة: أهل بدر إذا عمل أحد منهم ذنبا يقتضي حدا أو غيره أقيم عليه بالاجماع، وأما ما ورد في الحديث من
أنه مغفور لهم، فقيل معناه مغفور لهم في الدار الآخرة. وقال الخطابي وغيره: المراد الماضي لا المستقبل، لأنه لو كان
للمستقبل لكان إطلاقا في الذنوب، ولا وجه له، وقد حد النبي (ص) نعيمان في الخمر، وعمر رضي الله تعالى عنه قدامة
بن مظعون فيه أيضا، وكانا بدريين، وضرب النبي (ص) مسطحا الحد، وكان بدريا. (ويستوي في هذا)
المذكور (جميع المعاصي) السابقة، أي معصية الشرب وغيره (في الأصح) فيلحق ما هو من مقدمات الحدود بما
ليس منها، إذ لا دليل على التفرقة، والثاني لا بل يقاس كل معصية بما يناسبها مما يوجب الحد (ولو عفا مستحق حد)
عنه كحد قذف (فلا تعزير للإمام في الأصح) لأنه لازم مقدر لا نظر للإمام فيه، ولأنه مضبوط فجاز إسقاطه والابراء
عنه. والثاني له التعزير، لأنه لا يخلو عن حق الله تعالى (أو) عفا مستحق (تعزير فله) أي الإمام التعزير (في
الأصح) لحق الله تعالى وإن كان لا يعزر بدون عفو قبل مطالبة المستحق له، لأن التعزير أصله يتعلق بنظر الإمام
فلم يؤثر فيه إسقاط غيره، ولان التعزير غير مضبوط، لأنه يحصل بأنواع شتى من ضرب وصفع وتوبيخ وحبس ونحو
ذلك، ويحصل بقليل هذه الأمور وكثيرها ومستحقه لم يستحق نوعا معينا من أنواع التعازير ولا مقدارا معينا بل استحق
مجهولا والابراء من المجهول باطل. والثاني المنع لأن المستحق قد أسقطه.
خاتمة: للإمام ترك تعزير لحق الله تعالى لاعراضه (ص) عن جماعة استحقوه كالغال في الغنيمة ولاوي
193

شدقه في حكمه للزبير، ولا يجوز تركه إن كان لآدمي عند طلبه كالقصاص كما جرى عليه الحاوي الصغير ومختصره خلافا
لما رجحه ابن المقري من أن له ذلك، ويعزر من وافق الكفار في أعيادهم، ومن يمسك الحية ويدخل النار، ومن
قال لذمي يا حاج، ومن هنأه بعيده، ومن سمى زائر قبور الصالحين حاجا، والساعي بالنميمة لكثرة إفسادها بين الناس.
قال يحيى بن أبي كثير: يفسد النمام في ساعة ما لا يفسده الساحر في السنة، ولا يجوز للإمام العفو عن الحد، ولا تجوز
الشفاعة فيه، لقوله (ص): لعن الله الشافع والمشفع، وفي البيهقي عن ابن عمر أن النبي (ص) قال من حالت شفاعته
دون حد من حدود الله تعالى فقد ضاد الله في حكمه وتسن الشفاعة الحسنة إلى ولاة الأمور من أصحاب الحقوق ما لم
يكن في حد أو أمر لا يجوز تركه كالشفاعة إلى ناظر يتيم أو وقف في ترك بعض الحقوق التي في ولايته، فهذه شفاعة سوء
محرمة، واستدل للشفاعة الحسنة بقوله تعالى * (من يشفع شفاعة حسنة) * الآية، وبما في الصحيحين عن أبي موسى
أن النبي (ص) كان إذا أتاه طالب حاجة أقبل على جلسائه، وقال: اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على
لسان نبيه ما شاء.
كتاب الصيال
هو والمصاولة: الاستطالة والوثوب، والصائل الظالم (وضمان الولاة) وأدرج المصنف في الباب حكم الختان وإتلاف
البهائم، وعقد في الروضة لاتلاف البهائم بابا، وذكر حكم الختان في باب ضمان إتلاف الإمام. والأصل في الباب قوله
تعالى: * (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) *. وافتتحه في المحرر بخبر البخاري: انصر أخاك ظالما
أو مظلوما والصائل ظالم فيمنع من ظلمه لأن ذلك نصره.
(له) أي المصول عليه (دفع كل صائل) مسلما كان أو كافرا عاقلا أو مجنونا بالغا أو صغيرا قريبا أو أجنبيا آدميا أو غيره
(على) معصوم من (نفس أو طرف) أو منفعة (أو بضع أو مال) لخبر: من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل
دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد رواه أبو داود والترمذي وصححه. ووجه الدلالة أنه لما جعله
شهيدا دل على أن له القتل والقتال، كما أن من قتله أهل الحرب لما كان شهيدا كان له القتل والقتال.
تنبيه: في معنى البضع من قصد الاستمتاع بأهله فيما دون الفرج كالقبلة، وألحق الروياني الأخت والبنت
بالزوجة. وشمل قوله أو مال الكثير والقليل كدرهم. فإن قيل: كيف يكون المقدر في السرقة أكثر وما فيه سوى قطع
الطرف، وقد يؤدي الدفع إلى هلاك النفس وهو أعظم والمال فيه قليل؟ أجيب بأن قطع الطرف محقق، فاعتبر
فيه ذلك بخلاف هلاك النفس ومال نفسه ومال غيره، ويستثنى من جواز الدفع عن المال ما لو صال مكرها على
إتلاف
مال غيره لم يجز دفعه، بل يلزم المالك أن بقي روحه بمال كما يناوله المضطر طعامه كما ذكره الرافعي قبيل الديات
ولكل منهما دفع المكره، وتعبيره بالمال قد يخرج ما ليس بمال كالكلب المقتنى والسرجين، وقضية كلام الماوردي
وغيره إلحاقه به وهو الظاهر، وله دفع مسلم عن ذمي ووالد عن ولده وسيد عن عبده لأنهم معصومون، ولو صال قوم
على النفس والبضع والمال قدم الدفع عن النفس على الدفع عن البضع والمال، والدفع عن البضع على الدفع عن
المال، والمال الكثير على الحقير. ولو صال اثنان على متساويين في نفسين أو بضعين أو مالين ولم يتيسر دفعهما معا
دفع أيهما شاء، ولو صال أحدهما على صبي باللواط، والآخر على امرأة بالزنا ففيه احتمالان لبعض المتأخرين، أحدهما
يبدأ بصاحب الزنا للاجماع على وجوب الحد فيه، والثاني بصاحب اللواط، إذ ليس إلى حله سبيل. وقال بعضهم: يبدأ
بأيهما شاء وهو أوجه لعدم الأولوية. (فإن قتله) أي المصول عليه الصائل دفعا (فلا ضمان) بقصاص ولا دية ولا
194

كفارة ولا قيمة ولا إثم لأنه مأمور بدفعه، وفي الامر بالقتال والضمان منافاة، حتى لو صال العبد المغصوب أو المستعار
على مالكه فقتله دفعا لم يبرأ الغاصب ولا المستعير. ويستثنى من عدم الضمان المضطر إذا قتله صاحب الطعام دفعا فإن
عليه القود، قاله الذبيلي في أدب القضاء.
تنبيه: دخل في كلامهم ما لو صالت حامل على إنسان فدفعها فألقت جنينها ميتا فالأصح لا يضمنه، وقاسه القاضي
على ما إذا تترس الكفار حال القتال بمسلم، واضطر المسلمون إلى قتله. (ولا يجب الدفع عن مال) لا روح فيه لأنه يجوز
إباحته للغير قال الأذرعي: والظاهر أن هذا في الآحاد، فأما الإمام ونوابه فيجب عليهم الدفع عن أموال رعاياهم
وكذا إن كان ماله وتعلق به حق الغير كرهن وإجارة. قال الغزالي: وإن كان مال محجور عليه أو وقف أو مالا مودعا
وجب على من هو بيده الدفع عنه اه‍. أما ما فيه روح فيجب الدفع عنه إذا قصد إتلافه ما لم يخش على نفسه أو بضع لحرمة
الروح حتى لو رأى أجنبي شخصا يتلف حيوان نفسه إتلافا محرما وجب عليه دفعه على الأصح في أصل الروضة (ويجب)
الدفع (عن بضع) لأنه لا سبيل إلى إباحته، وسواء بضع أهله أو غيره، ومثل البضع مقدماته ومحل ذلك إذا لم يخف
على نفسه كما قاله البغوي والمتولي (وكذا نفس) للشخص يجب الدفع عنها إذا (قصدها كافر) ولو معصوما، إذ غير
المعصوم لا حرمة له والمعصوم بطلت حرمته بصياله، ولان الاستسلام للكافر ذل في الدين، ومقتضى هذه العلة جواز
استسلام الكافر للكافر وبحثه الزركشي.
تنبيه: محل ممنع جواز استسلام المسلم للكافر إذا لم يجوز الأسر، فإن جوزه لم يحرم كما سيأتي إن شاء الله تعالى
في السير. (أو) قصدها (بهيمة) لأنها تذبح لاستيفاء الآدمي، فلا وجه للاستسلام لها، وظاهر أن عضوه ومنفعته كنفسه
(لا) إن قصدها (مسلم) ولو مجنونا ومراهقا أو أمكن دفعه بغير قتله فلا يجب دفعه (في الأظهر) بل يجوز الاستسلام له،
بل يسن كما أفهمه كلام الروضة لخبر أبي داود: كن خير ابني آدم يعني قابيل وهابيل، ولمنع عثمان رضي الله تعالى عنه
عبيده وكانوا أربعمائة يوم الدار، وقال: من ألقى سلاحه فهو حر، واشتهر ذلك في الصحابة رضي الله تعالى عنهم ولم
ينكر عليه أحد. والثاني يجب، لقوله تعالى * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * وكما يجب عليه إصانة نفسه بأكل ما يجده،
وأجاب الأول بأن في القتل شهادة بخلاف ترك الأكل.
تنبيه: محل ذلك في المحقون الدم كما قيده القاضي الحسين والإمام والغزالي والبلقيني، ليخرج المهدر كالزاني المحصن
وتارك الصلاة، ومن تحتم قتله في قطع الطريق، فإن حكمهم حكم الكافر كما صرح به في الترغيب. قال الأذرعي: ويظهر
الدفع عن العضو عند ظن السلامة لأنه ليس هنا شهادة، وكذلك يجب عن النفس إذا أمكن عند غلبة الظن بأنه يحصل
بقتله مفاسد في الحريم والأطفال اه‍. وهو بحث حسن. (والدفع عن) نفس (غيره) إذا كان آدميا محترما ولو رقيقا (كهو
عن نفسه) فيجب حيث يجب وينتفي حيث ينتفي إذ لا يزيد حق غيره على حق نفسه. وقد أكثر المصنف في المتن من
جر ضمير الغائب بالكاف وهو قليل.
تنبيه: محل الوجوب إذا أمن الهلاك كما صرح به في أصل الروضة إذ لا يلزمه أن يجعل روحه بدلا عن روح غيره،
وقول البلقيني: نعم إن كان في قتال الحربيين أو المرتدين فلا يسقط الوجوب بالخوف ظاهر، إذا كان في الصف وكانوا
مثليه فأقل وإلا فلا، ولا يلزم العبد الدفع عن سيده عند الخوف على نفسه، بل السيد في ذلك كالأجنبي، حكاه
الرافعي عن الإمام، ويؤخذ منه كما قال الزركشي: أنه لا يلزم الابن الدفع عن أبيه أيضا. قال: ولم يتعرضوا له، أي
لوضوحه. أما لو صال شخص على غير محترم حربي فلا يجب على المسلم دفعه عنه، وإن وجب الدفع عن نفسه لعدم
احترامه. (وقيل يجب) الدفع عن غيره (قطعا) لأن له الايثار بحق نفسه دون غيره، وبه جزم البغوي وغيره، وفي مسند
أحمد: من أذل عنده مسلم فلم ينصره وهو قادر أن ينصره أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة.
195

تنبيه: محل الخلاف بالنسبة إلى الآحاد، أما الإمام وغيره من الولاة فيجب ذلك عليهم قطعا، وقضية الوجوب
أو الجواز عدم الضمان وهو ظاهر، وإن قال الشيخ أبو حامد: من قتل غيره دفعا عن مال غيره كان عليه الضمان. ومحله
أيضا إذا كان المصول عليه غير نبي، أما هو فيجب الدفع عنه قطعا كما قاله الفوراني. قال الإمام: ولا يختص
الخلاف بالصائل بل من أقدم على محرم من شرب خمر أو غيره فلبعض الآحاد منعه، ولو أتى على النفس كما
قال الرافعي: إنه الموجود في كتب المذهب حتى قالوا: لو ظهر في بيت خمر يشرب أو طنبور يضرب أو نحوهما، فله
الهجوم على متعاطيه لازالته نهيا عن المنكر، وإن لم ينتهوا فله قتالهم، وإن أتى على النفس وهو مثاب على ذلك،
والغزالي ومن تبعه عبروا هنا بالوجوب ولا ينافيه تعبير الأصحاب بالجواز إذ ليس مرادهم أنه مخير فيه، بل إنه جائز بعد
امتناعه قبل ارتكاب ذلك وهو صادق الوجوب، وقضية كلام المصنف أنه لا يجب الدفع عن مال الغير، لكن قال
الغزالي: مهما قدر على حفظ مال غيره من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه، أو خسران في ماله، أو نقصان في
جاهه وجب عليه، وهو أقل درجات حقوق المسلم، وهو أولى بالايجاب من رد السلام، ولا خلاف أن مال الانسان إذا
كان يضيع بظلم ظالم وكان عنده شهادة وجب عليه أداؤها ويعصى بتركها. (ولو سقطت جرة) مثلا وهي - بفتح الجيم -:
إناء من فخار على إنسان (ولم تندفع عنه إلا بكسرها) جاز له، بل صرح البغوي بوجوبه صيانة لروحه، ولا ينافي ذلك
الجواز كما مر، وإذا كسرها (ضمنها في الأصح) إذ لا قصد لها ولا اختيار حتى يحال عليها، فصار كالمضطر إلى
طعام غيره يأكله ويضمنه. والثاني لا، لأنه دافع للضرر عن نفسه، وصححه البلقيني تنزيلا لها منزلة البهيمة الصائلة،
وفرق الأول بأن البهيمة لها نوع اختيار.
تنبيه: محل الخلافة أن تكون موضوعة بمحل غير عدوان، فإن كان موضوعة بمحل عدوان كأن وضعت
بروشن، أو على معتدل لكنها مائلة أو على حالة يغلب فيها سقوطها لم يضمنها قطعا، قاله الزركشي، لكن لو أبدل قوله
عدوان بيضمن به كان أولى، ويضمن بهيمة لم يمكن جائعا وصوله إلى طعامه إلا بقتلها وقتلها لأنها لم تقصده وقتله لها
لدفع الهلاك عن نفسه بالجوع فكان كأكل المضطر طعام غيره فإنه موجب للضمان. فإن قيل: يمكن أن يجعل الأصح
هنا نفي الضمان، كما لو عم الجراد المسالك فوطئها المحرم وقتل بعضها فإنه لا ضمان عليه. أجيب بأن الحق ثم لله تعالى،
وهنا للآدمي. ثم بين كيفية دفع الصائل بقوله (ويدفع الصائل بالأخف) فالأخف إن أمكن، والمعتبر غلبة الظن
(فإن أمكن) دفعه (بكلام واستغاثة) - بغين معجمة ومثلثة - بالناس (حرم الضرب) أي الدفع به (أو) أمكن
دفعه (بضرب بيد حرم سوط، أو) أمكن دفعه (بسوط حرم عصا، أو) أمكن دفعه (بقطع عضو حرم قتل) لأن
ذلك جوز للضرورة، ولا ضرورة في الاثقل مع إمكان تحصيل المقصود بالأسهل ولو اندفع شره كأن وقع في ماء أو نار
أو انكسرت رجله، أو حال بينهما جدار أو خندق لم يضربه كما صرح به في الروضة. وفائدة الترتيب المذكور
أنه متى
خالف وعدل إلى رتبة مع إمكان الاكتفاء بما دونها ضمن. ويستثنى من مراعاة الترتيب مسائل: الأولى: لو التحم
القتال بينهما واشتد الامر عن الضبط سقط مراعاة الترتيب كما ذكره الإمام في قتال البغاة. الثانية: ما سيأتي في النظر
إلى الحرم أنه يرمي بالحصاة قبل الانذار على خلاف فيه يأتي. الثالثة: لو كان الصائل يندفع بالسوط والعصا والمصول
عليه لا يجد إلا السيف فالصحيح أن له الضرب به لأنه لا يمكنه الدفع إلا به، وليس بمقصر في ترك استصحاب السوط
ونحوه. الرابعة: إذا رآه يولج في أجنبية فله أن يبدأ بالقتل، وإن اندفع بدونه فإنه في كل لحظة مواقع لا يستدرك بالأناة
كذا قاله الماوردي والروياني وهو مردود لقول الشيخين في الروضة وأصلها: إذا وجد رجلا يزني بامرأته أو غيرها لزمه
196

منعه ودفعه، فإن هلك في الدفع فلا شئ عليه، وإن اندفع بضرب ونحوه ثم قتله لزمه القصاص إن لم يكن الزاني محصنا.
فإن كان فلا قصاص على الصحيح، وقد سبق في الجنايات اه‍. فهذا دليل على اشتراط الترتيب (فإن أمكن) المصول
عليه (هرب) أو التجأ لحصن أو جماعة (فالمذهب وجوبه وتحريم قتال) لأنه مأمور بتخليص نفسه بالأهون فالأهون،
وما ذكر أسهل من غيره فلا يعدل إلى الأشد، والثاني لا يجب لأن إقامته في ذلك الموضع جائزة فلا يكلف الانصراف
والطريق الثاني إن تيقن النجاة بهرب وجب وإلا فلا حملا للنصين المختلفين على هذين الحالين.
تنبيه: قضية المتن أنه لو قاتل مع إمكان الهرب لزمه القصاص، وقضية كلام البغوي المنع، فإنه قال تلزمه
الدية اه‍. والأول أوجه لما مر، وقضية إطلاق المتن وجوب الهرب أنه لا فرق بين أن يكون المقصود نفسه أو ماله أو
بضعه، وتعليل الرافعي يقتضي تخصيصه بالدفع عن نفسه وهو الظاهر كما قاله الزركشي فلا يلزمه الهرب، ويدع ماله
إذا كان الصيال عليه لأجل ما له ولم يمكنه لهرب، وأما إذا كان المقصود البضع فقضية البناء على وجوب الدفع أنه لا يلزمه
الهرب، بل يثبت إن أمن على نفسه. (ولو عضت يده) أو غيرها (خلصها بالأسهل من فك لحييه) أي رفع إحداهما
عن الأخرى بلا جرح (وضرب) أي أو ضرب (شدقيه) بكسر المعجمة، وهما جانبا الفم (فإن عجز) عن الأسهل
(فسلها فندرت) - بنون -: أي سقطت (أسنانه فهدر) لما في الصحيحين: أن رجلا عضن يد رجل فنزع يده من فيه
فوقعت ثناياه، فاختصما إلى رسول الله (ص) فقال يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل لا دية لك، ولان
النفس لا تضمن بالدفع فالاجزاء أولى، وسواء أكان العاض ظالما أو مظلوما لأن العض لا يباح بحال. قال
ابن أبي عصرون: إلا إذا لم يمكن التخلص إلا به فهو حق له، نقله عنه الأذرعي وقال إنه صحيح وهو ظاهر.
تنبيه: اقتضى كلام المصنف أمرين: الأول التخيير بين فك اللحي والضرب، وليس مرادا بل الفك مقدم على
الضرب كما علم مما مر، لأنه أسهل. والثاني الحصر فيما ذكر، وليس مرادا أيضا، فالصحيح في أصل الروضة أنه إذا
لم يمكنه التخلص إلا ببعج بطنه، أو فق ء عينه، أو عصر خصييه جاز، وقضية كلام الشيخين مراعاة الترتيب فلو عدل
عن الأخف مع إمكانه ضمن، وهو قضية كلام الجمهور. قال الأذرعي: وإطلاق كثيرين يفهم أنه لو سل يده ابتداء
فندرت أسنانه كانت مهدرة وهو ظاهر الحديث اه‍. ولا يجب قبل ذلك الانذار بالقول كما جزم به الماوردي وغيره،
فإن اختلفا في إمكان التخلص بدون ما دفع به صدق الدافع بيمينه، جزم به في البحر. قال الزركشي تبعا للأذرعي:
وليكن الحكم كذلك في الصائل.
فائدة: العض بضاد معجمة إذا كان بجارحة، وبظاء معجمة إذا كان بغيرها: نحو عظت الحرب وعظ الزمان.
قالت عتبة أم حاتم الطائي:
لعمري لقدما عظني الدهر عظة فيا ليت أن لا أمنع الدهر جائعا
وقولا لهذا اللائم اليوم اعفني فإن أنت لم تفعل فعض الأصابعا
(ومن نظر) بضم أوله (إلى حرمه) بضم أوله وفتح ثانيه المهملين وبهاء الضمير الراجع لمن، والمراد بهن الزوجات
والإماء والمحارم (في داره) المختصة به بملك أو غيره (من كوة) أي طاقة، ومر في الصلح أنها بفتح الكاف،
وحكي ضمها (أو ثقب) بفتح المثلثة أوله، أي خرق في الدار، وقوله: (عمدا) قيد في النظر (فرماه) أي رمى
صاحب الدار من نظر إلى حرمه حال نظره (بخفيف) نقصد العين بمثله (كحصاة فأعماه، أو) لم يعمه، بل (أصاب
قرب عينه فجرحه) فسرى الجرح (فمات فهدر) لخبر الصحيحين: لو اطلع أحد في بيتك ولم تأذن له فحذفته
197

بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح، وفي رواية صححها ابن حبان والبيهقي: فلا قود ولا دية، والمعنى فيه المنع
من النظر وسواء أكانت حرمه مستورة أو في منعطف أم لا، لعموم الاخبار، ولأنه يريد سترها عن الأعين وإن
كانت مستورة.
تنبيه: شمل قوله: ومن نظر الرجل والمرأة عند نظرها ما لا يجوز، والخنثى والمراهق وهو كذلك. فإن قيل:
المراهق غير مكلف، ولا يستوفى منه الحدود فكيف يجوز رميه؟ أجيب بأن الرمي ليس للتكليف بل لدفع مفسدة
النظر فإذن لا فرق بين المكلف وغيره ممن يحصل به المفسدة، وخرج بقوله: نظر الأعمى، ومن استرق السمع، فلا
يجوز رميهما، إذ ليس السمع كالبصر في الاطلاع على العورات وبقوله: حرمه ما إذا كان فيها المالك وحده، فإن
فيه تفصيلا وهو إن كان مكشوف العورة فله الرمي، وإلا فلا في الأصح، وإن اختار الأذرعي الرمي مطلقا لعموم
الحديث المار، وما إذا كان فيها خنثى مستور العورة فإنه لا يرميه كما قال البلقيني إنه الأقرب. وقال الزركشي:
ينبغي تخريجه على جواز النظر إليه، وهذا أوجه، والضمير في قوله: في داره راجع لمن له الحرم، أما
الناظر فلا فرق
بين أن يكون الموضع الذي يطلع منه ملكه أو شارعا أو غيره، لأنه لا يحل له الاطلاع، وبقوله: من كوة أو ثقب ما إذا
نظر من الباب المفتوح فلا يرميه لتفريط صاحب الدار بفتحه، ولا بد من تقييد الكوة بالصغيرة، أما الكبيرة فكالباب
المفتوح، وفي معناها الشباك الواسع العين لتقصير صاحب الدار إلا أن ينذر، فيرميه كما صرح به الحاوي الصغير وغيره.
ويؤخذ من التعليل أنه لو كان الفاتح للباب هو الناظر ولم يتمكن رب الدار من إغلاقه جاز الرمي وهو ظاهر، وحكم النظر
من سطح نفسه والمؤذن من المارة كالكوة على الأصح، إذ لا تفريط من صاحب الدار. وبقوله: عمدا ما إذا لم يقصد
الاطلاع كأن كان مجنونا أو كان مخطئا أو وقع نظره اتفاقا فإنه لا يرميه إذا علم بذلك صاحب الدار، فإن رماه
وادعى المرمي عدم القصد فلا شئ على الرامي لأن الاطلاع حصل والقصد باطن. قال الرافعي: وهذا ذهاب إلى جواز
الرمي من غير تحقق القصد. وفي كلام الإمام ما يدل على المنع وهو حسن اه‍. وظاهر كما قال شيخنا أن ما ذكر ليس
ذهابا لذلك إذ لا يمنع ذلك إن تحقق الامر بقرائن يعرف بها الرامي قصد الناظر ولا يجوز رمي من انصرف عن النظر
كالصائل إذا رجع عن صياله. وبقوله: بخفيف الثقيل كالحجر الكبير والنشاب ويضمن إن رمي بذلك بالقصاص
أو الدية. نعم لو لم يجد غير ذلك جاز كنظيره في الصيال فيما إذا أمكنه الدفع بالعصا ولم يجد إلا السيف كما نبه عليه
الزركشي، ولو لم يمكن رمي عينه أو لم يندفع برميه بالخفيف استغاث عليه فإن لم يكن في محل غوث استحب أن
ينشده بالله تعالى ثم له ضربه بالسلاح وما يردعه. ويستثنى من إطلاقهم الناظر صورتان: الأولى ما لو كان أحد أصوله
الذين لا قصاص عليهم ولا حد قذف فلا يجوز رميه كما قاله الماوردي والروياني، لأنه نوع حد، فإن رماه وفقأه ضمن.
الثانية ما إذا كان النظر مباحا له لخطبة ونحوها بشرطه كما قاله البلقيني وغيره، ولمستأجر الدار رمي المالك وهل يجوز
للمستعير رمي المعير؟ وجهان في أصل الروضة بلا ترجيح. وقال الأذرعي وغيره: الأقوى الجواز ولو كان في دار مغصوبة
أو مسجد أو شارع مكشوف العورة، أو هو وأهله فلا يجوز رميه، لأن الموضع لا يختص به. والخيمة في الصحراء
كالبيت في البنيان وإنما يجوز رمي الناظر (بشرط عدم محرم وزوجة للناظر) فإن كان له شئ من ذلك حرم رميه
لأن له في النظر شبهة كما لا يقطع بسرقة المال المشترك.
تنبيه: الواو في عبارته بمعنى أو، فإن أحدهما كاف ومثل الزوجة الأمة، ويرد على طرده ما لو كان له هناك
متاع فإنه لا يجوز رميه كما جزما به في الشرح والروضة، وعلى عكسه ما لو كان له هناك محرم ولكن متجردة فإنه يجوز
رميه إذ ليس له النظر إلى ما بين سرتها وركبتها. ثم أشار لاعتبار شرطين آخرين على مرجوح أحدهما ما تضمنه
قوله (قيل: و) بشرط عدم (استتار الحرم) فإن كن مستترات بالثياب، أو في منعطف لا يراهن الناظر لم يجز رميه
لعدم اطلاعه عليهن، والأصح عدم اشتراط ذلك لعموم الاخبار، وحسما لمادة النظر فقد يريد ستر حرمه عن الناس
198

وإن كن مستترات. والشرط الثاني ما تضمنه قوله (قيل: و) بشرط (إنذار) بمعجمة (قبل رميه) على قياس
الدفع بالأهون فالأهون، والأصح عدم اشتراطه للحديث المار، إذ لم يذكر فيه الانذار. قال الإمام: ومجال التردد
في الكلام الذي هو موعظة وتخجيل قد يفيد وقد لا يفيد. فأما ما يوثق بكونه دافعا من تخويف وزعقة مزعجة فلا يجوز
أن يكون في وجوب البداءة خلاف. قال الرافعي: وهذا حسن اه‍. وهو ظاهر. فإن قيل تصحيح عدم وجوب
الانذار مخالف لما ذكروه من أنه لو دخل شخص داره أو خيمته بغير إذنه فإن له دفعه، وإن أتى الدفع على نفسه لم
يضمنه، لكن لا يجوز قبل إنذاره على الأصح. قال الرافعي: كسائر أنواع الدفع. أجيب بأن رمي المتطلع منصوص
عليه كقطع اليد في السرقة، ودفع الداخل مجتهد فيه فلزم سلوك ما يمكن، وبهذا يفرق بين ما ذكروه وما مر في
تخليص اليد من عاضها من حيث أنه (ص) لما أهدر ثنية العاض بنزع المعضوض يده من فيه لم يفصل
بين وجود الانذار وعدمه. ولو قتل شخص آخر في داره وقال: إنما قتلته دفعا عن نفسي أو مالي وأنكر الولي فعليه
البينة بأنه قتله دفعا، ويكفي قولها دخل داره شاهر السلاح، ولا يكفي قولها دخل بسلاح من غير شهر إلا إن كان
معروفا بالفساد، أو بينه وبين القتيل عداوة فيكفي ذلك للقرينة كما قاله الزركشي، ولا يتعين ضرب رجليه وإن كان
الدخول بهما لأنه دخل بجميع بدنه فلا يتعين قصد عضو بعينه. ولو أخذ المتاع وخرج فله أن يتبعه ويقاتله إلى أن
يطرحه، ولا يجوز دخول بيت شخص إلا بإذنه مالكا كان أو مستأجرا أو مستعيرا، فإن كان أجنبيا، أو قريبا غير محرم
فلا بد من إذن صريح سواء أكان الباب مغلقا أم لا، وإن كان محرما فإن كان ساكنا مع صاحبه فيه لم يلزم الاستئذان
، ولكن عليه أن يشعره بدخوله بتنحنح أو شدة وطئ أو نحو ذلك ليستتر العريان، فإن لم يكن ساكنا فإن كان الباب مغلقا
لم يدخل إلا بإذن، وإن كان مفتوحا فوجهان: والأوجه الاستئذان.
فروع: لو صال عبد مغصوب أو مستعار على المالك فقتله دفعا لم يبرأ كل من الغاصب والمستعير من الضمان إذ
لا أثر بقتله دفعا، ولو قطع يد صائل دفعا وولي فتبعه فقتله قتل به، لأنه حين ولي عنه لم يكن له أن يقتله ولا شئ له
في اليد، لأن النفس لا تنقص بنقص اليد، ولهذا لو قتل من له يدان من ليس له إلا يد قتل به ولا شئ عليه،
ولو
أمكنه الهرب من فحل صائل عليه ولم يهرب فقتله دفعا ضمن بناء على وجوب الهرب عليه إذا صال عليه إنسان. وفي
حل أكل لحم الفحل الصائل الذي تلف بالدفع إن أصيب مذبحه وجهان: وجه منع الحل أنه لم يقصد الذبح والاكل
والراجح كما قال الزركشي الحل كما دل عليه كلام الرافعي في الصيد والذبائح. (ولو عزر ولي) محجوره (ووال) من
رفع زوجته إليه (وزوج) فيما يتعلق به من نشوز وغيره (ومعلم) صغيرا يتعلم منه ولو بإذن وليه (فمضمون) تعزيرهم.
فإذا حصل به هلاك، فإن كان بضرب يقتل غالبا فالقصاص على غير الأصل وإلا فدية شبه العمد على العاقلة
لأنه مشروط بسلامة العاقبة، إذ المقصود التأديب لا الهلاك، فإذا حصل به هلاك تبين أنه جاوز الحد المشروع. فإن
قيل: لو ضرب الدابة المستأجرة أو الرائض لتعلم الرياضة الضرب المعتاد فهلكت فإنه لا ضمان فهلا كان هنا كذلك؟
أجيب بأن الدابة لا يستغنى عن ضربها، وقد يستغنى عن ضرب الآدمي بالقول والزجر فضمنه.
تنبيه: دخل في تعبيره ما لا مدخل له في الهلاك كتوبيخ غير الحامل والحبس والنفي والصفعة الخفيفة لذكره
قبل ذلك أن التعزير يكون بالحبس والصفع والتوبيخ، ثم أطلق التعزير هنا مع أن هذا ليس بمضمون قطعا. واقتصار
المصنف على هذه الأربعة يخرج السيد في تعزير عبده فإنه غير مضمون، إذ لا يجب له شئ على نفسه، وكذا لو أذن
السيد لغيره في ضرب مملوكه فضربه فمات فإنه لا ضمان كما نقلاه عن البغوي وأقراه. واستثنى البلقيني من الضمان ما إذا
اعترف بما يقتضي التعزير وطلب بنفسه من الوالي تعزيره فعزره فإنه لا يضمنه لأنه ينبغي كما قال ابن شهبة: أن يقيد
بما إذا عين له نوع التعزير وقدره. والزركشي: الحاكم إذا عزر الممتنع من الحق المتعين عليه مع القدرة على أدائه،
وتسمية ضرب الولي والزوج والمعلم تعزيرا هو أشهر الاصطلاحين كما ذكره الرافعي. قال: ومنهم من يخص لفظ التعزير
199

بالإمام أو نائبه، وضرب الباقي بتسميته تأديبا لا تعزيرا. (ولو حد) الإمام حيث كان الاستيفاء (مقدرا) بنص
فيه كحد قذف فمات المحدود (فلا ضمان) بالاجماع كما حكاه ابن المنذر، لأن الحق قتله سواء في ذلك الجلد والقطع
وسواه جلده في حر وبرد مفرطين أم لا كما مر في آخر حد الزنا، وسواء كان في مرض يرجى برؤه أم لا، فإن قيل
لا معنى لوصف الحد بالتقدير فإنه لا يكون إلا مقدرا. أجيب بأنه احترز به عن حد الشرب إذا بلغ به ثمانين كما سيأتي
(ولو ضرب شار ب بنعال وثياب) فمات (فلا ضمان) فيه (على الصحيح) المنصوص كما في سائر الحدود، والثاني
يضمن بناء على أنه لا يجوز أن يضرب هكذا بأن يتعين السوط (وكذا أربعون سوطا) ضربها الشارب الحر فمات فلا ضمان
فيه (على المشهور) لأن الصحابة أجمعت على أن يضرب بأربعين جلدة ولأنه جلد يسقط به الحد فلا يتعلق به
ضمان كحد الزنا والقذف، والثاني فيه الضمان، وصححه البلقيني، لأن تقديره الأربعين كان باجتهاده، وكذا علله
الرافعي، واعترض بأن في صحيح مسلم عن علي رضي الله تعالى عنه: جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين فهو
ثابت بالنص.
تنبيه: محل الخلاف إذا منعنا السياط، فإن جوزناه به وبغيره كما هو الأصح فلا ضمان قطعا كما صرح به المصنف
في تصحيحه، وإذا أوجبنا الضمان ضمن الجميع وقيل النصف. (أو) جلد الإمام في حد الشرب (أكثر) من أربعين
جلدة فمات (وجب قسطه) أي الأكثر (بالعدد) أي عدد الجلدات نظرا للزائد قط، ويسقط الباقي لأن الضرب
يقع على ظاهر البدن، فهو قريب التماثل فيسقط الضمان على عده، ففي إحدى وأربعين جلدة جزء من إحدى وأربعين
جزءا من الدية، وفي عشرة خمس الدية وهكذا (وفي قول نصف دية) لأنه مات من مضمون وغيره، وجرى على
هذا البلقيني وقال: لم أقف على ترجيح الأول في كلام أحد من الأصحاب، ولكن من حفظ حجة على من لم يحفظ.
واستشكل بعضهم الأول بأن حصة السوط الحادي والأربعين مثلا لا تساوي حصة السوط الأول، لأن الأول صادف
بدنا صحيحا قبل أن يؤثر فيه الضرب، بخلاف الأخير فإنه صادف بدنا قد ضعف بأربعين، ولكن الأصحاب
قطعوا النظر عن ذلك (ويجريان في قاذف جلد أحدا وثمانين) فمات، ففي قول يجب نصف الدية، والأظهر جزء من
أحد وثمانين جزءا من الدية.
تنبيه: قوله: أحد كذا هو في نسخة المصنف، وذكره لإرادة السوط، وفي المحرر إحدى لإرادة الجلدة وهو
أولى لموافقة القرآن مائة جلدة، ثمانين جلدة ومحل الخلاف إذا ضربه الزائد مع بقاء ألم الضرب الأول، فإن ضربه
الحد كاملا وزال ألم الضرب، ثم ضربه الزائد فمات ضمن ديته كلها بلا خلاف. (ولمستقل) بأمر نفسه وهو الحر
البالغ العاقل كما قال البغوي والماوردي وغيرهما ولو سفيها (قطع سلعة) منه وهو بكسر السين، وحكي فتحها مع
سكون اللام وفتحها: خراج كهيئة الغدة يخرج بين الجلد واللحم يكون من الحمصة إلى البطيخة، وله فعل ذلك بنفسه
وبنائبه لأن له غرضا في إزالة الشين (إلا) سلعة (مخوفة) قطعها بقول اثنين من أهل الخبرة أو واحد كما بحثه
الأذرعي (لا خطر في تركها) أصلا (أو الخطر في قطعها أكثر) منه في تركها فيمتنع عليه القطع في هاتين الصورتين
لأنه يؤدي إلى هلاك نفسه، قال تعالى * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * أما التي خطر تركها أكثر أو القطع
والترك فيها سيان فيجوز له قطعها على الصحيح في الأولى والأصح في الثانية كما في الروضة وأصلها كما يجوز قطعه
لغير المخوفة لزيادة رجاء السلامة مع إزالة الشين، وإن نازع البلقيني في الجواز عند استوائهما، قال: لو قال
الأطباء إن
لم تقطع حصل أمر يفضي إلى الهلاك وجب القطع كما يجب دفع المهلكات ويحتمل الاستحباب اه‍. وهذا الثاني
200

أوجه، ومثل السلعة فيما ذكر وفيما يأتي العضو المتأكل. قال المصنف: ويجوز الكي وقطع العروق للحاجة، ويسن
تركه، ويحرم على المتألم تعجيل الموت وإن عظم ألمه ولم يطقه لأن برأه مرجو، فلو ألقى نفسه في محرق علم أنه لا ينجو
منه إلا إلى مائع مغرق ورآه أهون عليه من الصبر على لفحات المحرق جاز لأنه أهون، وقضية التعليل أن له قتل نفسه
بغير إغراق، وبه صرح الإمام في النهاية عن والده، وتبعه ابن عبد السلام (ولأب وجد) وإن علا (قطعها) أي
السلعة (من صبي ومجنون مع الخطر) فيه (إن زاد خطر الترك) على خطر القطع لأنهما يليان صون مالهما عن الضياع
فبدنهما أولى.
تنبيه: أفهم كلامه المنع فيما إذا زاد خطر القطع، ولا خلاف فيه، وفيما إذا استوى الأمران وهو ما نقلا
تصحيحه عن الإمام وأقراه. فإن قيل: قد مر في المستقل أنه يجوز له القطع حينئذ، فهلا كان هنا كذلك كما قال
به في الكفاية؟. أجيب بأن القطع ثم من نفسه، وهنا من غيره فاحتيط فيه. (لا لسلطان) ولا لغيره ما عدا الأب
والجد كالوصي، وذلك لأنه يحتاج إلى نظر دقيق وفراغ وشفقة تامين، وكما أن للأب والجد تزويج البكر الصغيرة
دون غيرهما.
تنبيه: قضية التعليل أنه لو كانت الام وصية جاز لها ذلك وهو كما قال شيخنا ظاهر. (وله) أي من ذكر من أب
وجد (ولسلطان) ولغيره من الأولياء لا الأجنبي (قطعها بلا خطر) فيه لعدم الضرر، ونازع الأذرعي في تجويز ذلك
للسلطان، وقال إنه من تصرف الإمام وجريا عليه، أم الأجنبي فليس له ذلك بحال، فإن فعل وسرى إلى النفس
وجب عليه القصاص (و) يجوز له أيضا ولبقية الأولياء (فصد وحجامة) ونحوهما بلا خطر عند إشارة الاباء بذلك
للمصلحة مع عدم الضرر بخلاف الأجنبي لأنه لا ولاية له، ويؤخذ من ذلك أن الأب الرقيق والسفيه كالأجنبي كما بحثه
الأذرعي (فلو مات) الصبي المجنون (بجائز من هذا) المذكور (فلا ضمان في الأصح) لئلا يمتنع من ذلك فيتضرر
الصبي والمجنون، والثاني يضمن كما في التعزير إذا أفضى إلى التلف (ولو فعل سلطان بصبي) أو مجنون (ما منع) منه
في حقه فمات (فدية مغلظة في ماله) لتعديه.
تنبيه: لا معنى للتقييد بالسلطان، بل الأب والجد كذلك، ولا قصاص على واحد منهم لشبهة الاصلاح وللبعضية
في الأب والجد، ودخل في عبارة المصنف ما لو كان الخوف في القطع أكثر من الترك وهو كذلك، وإن قال الماوردي
في هذه بوجوب القصاص على السلطان. (وما وجب بخطأ إمام في حد أو حكم فعلى عاقلته) كغيره من الناس (وفي قول:
في بيت المال) لأن خطأه قد يكثر لكثرة الوقائع فيضر ذلك بالعاقلة.
تنبيه: محل الخلاف إذا لم يظهر منه تقصير، فإن ظهر كما لو أقام الحد على الحامل وهو عالم به فألقت جنينا
فالغرة على عاقلته قطعا، واحترز بخطئه عما يتعدى فيه فهو فيه كآحاد الناس، وبقوله في حد أو حكم من خطئه فيما
لا يتعلق بذلك فإنه فيه كآحاد الناس أيضا كما إذا رمى صيدا فأصاب آدميا فتجب الدية على عاقلته بالاجماع، ويرد
على الصنف الكفارة فإنها في ماله على الأول قطعا وعلى الثاني على الأصح، وقوله في حكم قد يشمل التعزير فإنه
كالحد: وهذا كله إذا كان الخطأ في النفس. فإن كان في المال فقولان: أحدهما وهو الأوجه يتعلق بماله. والثاني بيت
المال. (ولو حده) أي الإمام شخصا) (بشاهدين فبانا عبدين) أو عدوين للمشهود عليه أو أصليه أو فرعيه أو فاسقين
(أو ذميين أو مراهقين) ومات المحدود نظرت (فإن قصر) الإمام (في اختيارهما) بأن تركه جملة كما قاله الإمام
201

(فالضمان عليه) أي فيقتص منه إن تعمد، لأن الهجوم على القتل ممنوع منه بالاجماع، وإن وجب المال فهو عليه أيضا
لا على عاقلته ولا في بيت المال، وإن لم يتعمد فالضمان على عاقلته لا في بيت المال.
تنبيه: لو قال غير مقبولي الشهادة لشمل ما ذكر من الصور، ولو قال: فبانا كافرين لشمل الحربيين والمستأمنين
وإن لم يتعلق بهما ضمان. (وإلا) بأن لم يقصر في اختبارهما بل بحث وبذل وسعه (فالقولان) في أن الضمان على عاقلته
أو في بيت المال، وقد مر توجيههما وإن أظهرهما الأول. ثم فرع على القولين قوله: (فإن ضمنا عاقلة) على الأظهر
(أو بيت مال) على مقابله (فلا رجوع على الذميين والعبدين) والفاسقين والمراهقين من ذكر بعدهم (في
الأصح) المنصوص، لأنهم يزعمون أنهم صادقون ولم يوجد منهم تعد فيما أتوا به، والثاني له الرجوع عليهم لأنهم
غروا القاضي، والثالث يثبت الرجوع للعاقلة دون بيت المال، وعلى الأول له الرجوع على المتجاهر بالفسق بما
غرمه، لأن حقه أن لا يشهد، ولان الحكم بشهادته يشعر بتدليس منه وتغرير، بخلاف غير المتجاهر بذلك، ولا يقال
إن الذمي كالمتجاهر لأن عقيدته لا تخالف ذلك.
تنبيه: أفهم كلامه أنه لا ضمان على المزكين وهو ما في أصل الروضة عن العراقيين قبيل الدعاوى، لكن في أصلها
في القصاص أن المزكى الراجع يتعلق به القصاص والضمان في الأصح، وهذا هو المعتمد كما قاله بعض المتأخرين. (ومن
حجم) غيره (أو فصد) ه (بإذن) معتبر كقول حر مكلف لحاجم: أحجمني أو أفصدني ففعل وأفضى للتلف (لم يضمن)
ما تولد منه وإلا لم يفعله أحد، هذا إن لم يخطئ، فإن أخطأ ضمن وتحمله العاقلة كما نص عليه الشافعي في الخاتن،
قال ابن المنذر. وأجمعوا على أن الطبيب إذا لم يتعد لم يضمن (وقتل جلاد وضربه بأمر الإمام كمباشرة الإمام
) القتل
والضرب (إن جهل) الجلاد (ظلمه) أي الإمام (وخطأه) فيتعلق الضمان بالإمام قودا ومالا لا بالجلاد لأنه آلته ولا بد
منه في السياسة، فلو ضمناه لم يتول الجلد أحد لكن استحب الشافعي رضي الله عنه له أن يكفر لمباشرته القتل.
قال الإمام: وهذا من النوادر لأنه قاتل مباشر مختار، ولا يتعلق به حكم في القتل بغير حق (وإلا) بأن علم ظلمه أو
خطأه (فالقصاص والضمان على الجلاد) وحده هذا (إن لم يكن) هناك (إكراه) من جهة الإمام لتعديه، إذا كان
من حقه لما علم الحال أن يمتنع، إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، نعم إن اعتقد وجوب الطاعة في المعصية فالضمان
على الإمام لا عليه لأنه مما يخفى، نقله الأذرعي والزركشي عن صاحب الوافي وأقراه، فإن كان هناك إكراه فالضمان
عليهما بالمال قطعا وبالقصاص على الأظهر.
تنبيه: محل ما ذكر في خطأ في نفس الامر، فإن كان في محل الاجتهاد كقتل مسلم بكافر وحر بعبد، فإن اعتقد
أنه غير جائز أو اعتقد الإمام جوازه دون الجلاد، فإن كان هناك إكراه فالضمان عليهما وإلا فعلى الجلاد في الأصح،
وإن اعتقد الجواز فلا ضمان على أحد، وإن اعتقد الإمام المنع والجلاد الجواز، فقيل ببنائه على الوجهين في عكسه
وضعفه الإمام لأن الجلاد مختار عالم بالحال والإمام لم يفوض إليه النظر والاجتهاد بل القتل فقط، فالجلاد كالمستقل
كما في الروضة وأصلها، وما ضعفه جزم به جمه. ولو أسرف المعزر مثلا أو ظهر منه قصد القتل تعلق به القصاص
أو الدية المغلظة في ماله. (ويجب ختان المرأة بجزء) أي قطعة (من اللحمة) الكائنة (بأعلى الفرج) وهي فوق ثقبة البول
تشبه عرف الديل، فإذا قطعت بقي أصلها كالنواة، ويكفي قطع ما يقع عليه الاسم. قال في التحقيق: وتقليله
أفضل، لما روى أبو داود وغيره أنه (ص) قال للختانة أشمي ولا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة أي أكثر
202

لماء وجهها ودمه وأحب للبعل: أي أحسن في جماعها (و) ختان (الرجل بقطع ما) أي جلدة (تغطي حشفته)
حتى تظهر كلها، فلا يكفي قطع بعضها، ويقال لتلك الجلدة القلفة، وقوله (بعد البلوغ) ظرف ليجب ويكون بعد
العقل أيضا واحتمال الختان. أما وجوبه فلقوله تعالى * (ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا) * وكان من ملته
الختان، ففي الصحيحين: أنه اختتن وعمره ثمانون سنة وفي صحيح ابن حبان والحاكم مائة وعشرون سنة وقيل
سبعون سنة. ولأنه قطع جزء من البدن لا يخلف تعبدا فلا يكون إلا واجبا كقطع يد السارق، واحترز بالقيد الأول
عن الظفر والشعر، وبالثاني عن القطع للأكلة، ولأنه يجوز كشف العورة له من غير ضرورة ولا مداراة. فلو لم
يجب لما جاز، ولأنه (ص) أمر بالختان رجلا أسلم فقال له: ألق عنك شعر الكفر واختتن والامر للوجوب
خرج إلقاء الشعر بدليل فبقي في الختان تقليلا لمخالفة الامر، وقيل هو سنة لقول الحسن: قد أسلم الناس ولم
يختتنوا،
وقيل واجب للذكور سنة للإناث. قال المحب الطبري: وهو قول أكثر أهل العلم، وأما كيفيته فكما ذكره المصنف،
ولو ولد مختونا أجزأه.
فائدة: أول من اختتن من الرجال إبراهيم صلى الله عليه وسلم، ومن الإناث هاجر رضي الله تعالى عنها.
تنبيه: خلق آدم مختونا وولد من الأنبياء مختونا ثلاثة عشر: شيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف
وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان ونبينا محمد (ص)، لكن روى ابن عساكر عن أبي بكرة موقوفا:
أن جبريل ختن النبي (ص) حين طهر قلبه وروى أبو عمر في الاستيعاب عن عكرمة عن ابن عباس: أن عبد المطلب
ختن النبي (ص) يوم سابعه وجعل له مأدبة وسماه محمدا. وخرج بالبالغ الصغير، وبالعاقل المجنون، وبمن يحتمله من
لا يحتمله، لأن الأولين ليسا من أهل الوجوب، والثالث يتضرر به، ولا يجوز ختان ضعيف خلقة يخاف عليه منه
فيترك حتى يغلب على الظن سلامته، فإن لم يخف عليه منه استحب تأخيره حتى يحتمله. قال البلقيني: وهذا شرط لأداء
الواجب لا أنه شرط للوجوب، وبالمرأة الرجل الخنثى المشكل، فلا يجوز ختانه مطلقا، لأن الجرح لا يجوز بالشك،
هذا ما صححه في زيادة الروضة. وقيل: يجب ختان فرجيه بعد بلوغه ليتوصل إلى المستحق. وقال ابن الرفعة: إنه المشهور.
وعلى هذا قال المصنف رحمه الله: إن أحسن الختن ختن نفسه وإلا اتباع أمه تختنه فإن عجز عنها تولاه الرجال والنساء
للضرورة كالطبيب، ومن له ذكران عاملان يجب عليه ختنهما، وإن كان أحدهما عاملا فقط وجب عليه ختنه فقط،
وإن شك فالقياس أنه كالخنثى، وهل يعرف العمل بالجماع أو البول؟ وجهان: جزم في الروضة في باب الغسل بالثاني
ورجحه في التحقيق. (ويندب تعجيله) أي الختان (في سابعه) أي يوم الولادة، لما رواه الحاكم عن عائشة رضي الله عنها:
أنه (ص) ختن الحسن والحسين يوم السابع من ولادتهما وقال صحيح الاسناد، ولا يحسب يوم الولادة
من السبعة كما صححه في الروضة، وإن صحح في شرح مسلم أنه يحسب وإنما حسب يوم الولادة منها في العقيقة وحلق
الرأس وتسمية الولد لما في الختن من الألم الحاصل به المناسب له التأخير المفيد للقوة على تحمله، وقيل لا يجوز في السابع
لأن الصغير لا يطيقه ولان اليهود يفعلونه فالأولى مخالفتهم، وجرى على ذلك في الاحياء، وعلى الأول يكره قبل السابع
كما جزم به في التحقيق، وقال الماوردي: ولو أخره عن السابع استحب أن يختن في الأربعين، فإن أخره عنها، ففي السنة
السابعة لأنه الوقت الذي يؤمر فيه بالطهارة والصلاة (فإن ضعف) الطفل (عن احتماله) في السابع (أخر) حتما إلى أن يحتمله
لزوال الضرر (ومن ختنه) من ولي أو غيره (في سن لا يحتمله) فمات (لزمه قصاص) إن علم أنه لا يحتمله لتعديه بالجرح
المهلك لأنه غير جائز في هذه الحالة قطعا، فإن ظن احتماله كأن قال له أهل الخبرة يحتمله فمات فلا قصاص، ويجب دية
شبه العمد كما بحثه الزركشي (إلا والدا) وإن علا ختنه في سن لا يحتمله فلا قصاص عليه للبعضية، ويجب عليه دية مغلظة
في ماله لأنه عمد محض
203

. تنبيه: السيد في ختان رقيقه لا ضمان عليه، والمسلم في ختان كافر لا قصاص عليه. (فإن احتمله وختنه ولي) فمات
(فلا ضمان) عليه (في الأصح) لأنه لا بد منه والتقديم أسهل من التأخير لما فيه من المصلحة، والثاني يضمن لأنه غير
واجب في الحال فلم يبح إلا بشرط سلامة العاقبة.
تنبيه: يشمل قوله ولي الأب والجد والحاكم والقيم والوصي وهو كذلك، واقتضى كلامه أن من ليس بولي يضمن
قطعا. قال الأذرعي: وبه صرح الماوردي وغيره، ونص عليه في الام لتعديه بالمهلك فيقتص منه. قال الزركشي:
إلا إذا قصد بذلك إقامة الشعار فلا يتجه القصاص، لأن ذلك يتضمن شبهة في التعدي، ويؤيده ما ذكره البغوي في
قطعه يد السارق بغير إذن الإمام اه‍. والبالغ المحجور عليه بسفه ملحق بالصغير كما صرح به صاحب الوافي، والمستقل إذا
ختنه بإذنه أجنبي فمات فلا ضمان. (وأجرته) أي الختن وباقي مؤنه (في مال المختون) الحر ذكرا كان أو أنثى صغيرا أو
كبيرا لأنه لمصلحته فأشبه تعليم الفاتحة، فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته، وفي وجه أنها على الوالد، أما الرقيق
فأجرته على سيده إن لم يمكنه من الكسب لها.
تتمة: يجبر الإمام البالغ العاقل على الختان إذا احتمله وامتنع منه، ولا يضمنه حينئذ إن مات
بالختان لأنه مات من واجب، فلو أجبره الإمام فختن أو ختنه أب أوجد في حر أو برد شديد فمات وجب على الإمام دون الأب والجد
نصف الضمان، لأن أصل الختان واجب والهلاك حصل من مستحق وغيره، ويفارق الحد بأن استيفاءه إلى الإمام
، فلا يؤاخذ بما يفضي إلى الهلاك، والختان يتولاه المختون أو ولده غالبا، فإذا تولاه هو شرط فيه عليه غلبة سلامة العاقبة،
وبذلك عرف الفرق بينه وبين الوالد في الختان، ومن مات بغير ختان لم يختن في الأصح، وقيل: يختن الكبير دون الصغير،
وقطع السرة من المولود واجب على الولي ليمتنع الطعام من الخروج، قاله ابن الرفعة حكما وتعليلا ولم ينقله عن أحد
وهو ظاهر، وفي كتاب المدخل لابن الحاج المالكي أن السنة في ختان الذكور إظهاره وفي ختان الإناث إخفاؤه.
فصل: في ضمان ما تتلفه البهائم (من كان مع دابة أو دواب) سواء أكان مالكا، أم مستأجرا، أم مودعا، أم
مستعيرا، أم غاصبا (ضمن إتلافها) بيدها أو رجلها أو غير ذلك (نفسا ومالا ليلا ونهارا) لأنها في يده وعليه تعهدها
وحفظها، ولأنه إذا كان معها كان فعلها منسوبا إليه والأنسب إليها كالكلب إذا أرسله صاحبه وقتل الصيد حل، وإن
استرسل بنفسه فلا فجنايتها كجنايته، سواء أكان سائقها أم قائدها أم راكبها، ولو كان معها سائق وقائد فالضمان
عليهما نصفين، ولو كان معها سائق وقائد مع راكب فهل يختص الضمان بالراكب أو يجب أثلاثا؟ وجهان: أرجحهما
الأول كما صرح به الروياني وغيره، واقتضاه كلام الرافعي وجزم به ابن المقري، ولو كان عليها راكبان فهل يجب
الضمان عليهما أو يختص بالأول دون الرديف؟ وجهان: أوجههما الأول، لأن اليد لهما.
تنبيه: حيث أطلقوا للنفس في هذا الباب فهو على العاقلة كحفر البئر ونصب الحجر كما نقلاه في آخر الباب
عن البغوي وأقراه، وأفهم قول المصنف: مع دابة أنها إذا تلفت وأتلفت شيئا لا ضمان وهو كذلك لخروجها عن يده،
وأورد على قوله من كان مع دابة ما إذا كانت معه في مسكنه فدخل فيه إنسان فرمحته أو عضته فلا ضمان، فلو قال في
الطريق لم يرد، وأورد على قوله نفسا ومالا صيد الحرم والاحرام وشجر الحرم فإنه يضمنه وليس نفسا ولا مالا، ورد
بأنه لا يخرج عنهما وهو لم يقل لآدمي فلا يرد ذلك، ويستثنى من إطلاقه صور: إحداها لو أركبها أجنبي بغير إذن
الولي صبيا أو مجنونا فأتلف شيئا فالضمان على الأجنبي. ثانيها لو ركب الدابة فنخسها إنسان بغير إذنه كما قيد البغوي
فرمحت وأتلفت شيئا فالضمان على الناخس، وقيل عليهما. فإن أذن الراكب في النخس فالضمان عليهما. ثالثها
لو غلبته دابته فاستقبلها إنسان فردها فأتلفت في انصرافها شيئا ضمنه الراد. رابعها لو سقطت الدابة ميتة فتلف بها شئ
204

لم يضمنه، وكذا لو سقط هو ميتا على شئ وأتلفه لا ضمان عليه. قال الزركشي: وينبغي أن يلحق بسقوطها ميتة
سقوطها بمرض أو عارض ريح شديد ونحوه. خامسها لو كان الراكب لا يقدر على ضبطها فعضت اللجام وركبت رأسها
فهل يضمن ما أتلفته؟ قولان. وقضية كلام أصل الروضة في مسألة اصطدام الراكبين ترجيح الضمان، نبه عليه البلقيني
وغيره. سادسها لو كان مع الدواب راع فهاجت ريح وأظلم النهار فتفرقت الدواب ووقعت في زرع فأفسدته فلا ضمان
على الراعي في الأظهر للغلبة كما لو ند بعيره أو انفلتت دابته من يده فأفسدت شيئا، بخلاف ما لو تفرقت الغنم لنومه فيضمن،
ولو ركب صبي أو بالغ دابة إنسان بلا إذنه فغلبته فأتلفت شيئا ضمنه. قال الإمام: ومن ركب الدابة الصعبة في الأسواق
أو ساق الإبل غير مقطورة فيها ضمن ما أتلفته لتقصيره بذلك.
فروع: لو انتفخ ميت فتكسر بسببه شئ لم يضمنه، بخلاف طفل سقط على شئ، لأن له فعلا بخلاف الميت.
(ولو بالت أو راثت) بمثلثة (بطريق) ولو واقفة (فتلف به نفس أو مال فلا ضمان) لأن الطريق لا يخلو عن
ذلك
والمنع من الطريق لا سبيل إليه.
تنبيه: ما جزم به من عدم الضمان كذا هو في الشرح والروضة هنا، وخالفاه في كتاب الحج فجزما فيه بالضمان
ونص عليه في الام، لأن الارتفاق بالطريق مشروط بسلامة العاقبة كإخراج الجناح والروشن إلى الطريق، وهذا
ما عليه الأصحاب، والأول احتمال للإمام فإنه نقل في باب وضع الحجر أن من كان مع دابة ضمن ما تتلفه ببولها في الطريق
لأنه سبب من جهته، ثم أبدى احتمالا لنفسه بعدم الضمان، ثم إنه جرى على احتماله هنا وجزم به فتبعه الغزالي والرافعي
وغيرهما. قال الأذرعي: وما جزم به هنا تبعا للإمام لا ينكر اتجاهه، ولكن المذهب نقل اه‍. ومن هنا قال البلقيني:
عدم الضمان فيما تلف بركض معتاد بحث للإمام بناه على احتماله المذكور والذي يقتضيه قياس المذهب الضمان وإطلاق
نصوص الشافعي والأصحاب قاضية به اه‍. ثم محل الضمان في الطريق إذا لم يقصد المار فلو مشى قصدا على موضع
الرش أو البول فتلف به فلا ضمان ما ذكره الرافعي أيضا هناك، واحترز بقوله بطريق عما لو وقع ذلك في ملكه فلا
ضمان كما نص عليه في المختصر، وذكره الرافعي في باب موجبات الدية. (ويحترز) راكب الدية (عما لا يعتاد) فعله له
(كركض شديد في وحل) بفتح الحاء (فإن خالف ضمن ما تولد منه) لتعديه، وفي معنى الركض في الوحل الركض
في مجتمع الناس كما أشار إليه في البسيط، واحترز بالركض الشديد عن المشي المعتاد فيه فلا يضمن ما يحدث منه،
فلو ركضها كالعادة ركضا ومحلا وطارت حصاة لعين إنسان لم يضمن. قال الأذرعي: والظاهر أن هذا التفصيل إنما
يأتي على طريقة الإمام، أما على طريقة الجمهور فيضمن في الحالين، وقد مر مثل ذلك عن البلقيني.
تنبيه: قول المصنف: عما لا يعتاد يقتضي أن سوق الأغنام لا يضمن بتلفها شيئا، لأنه معتاد، وهو وجه حكاه ابن
كج في الغنم دون الإبل والبقر، والمشهور كما قاله الرافعي إطلاق الحكم في البهائم من غير فرق بين حيوان وحيوان.
(ومن حمل حطبا على ظهره، أو) على (بهيمة) ليلا ونهارا (فحك بناء) ليلا أو نهارا (فسقط ضمنه) لوجود
التلف أو فعل دابته المنسوب إليه.
تنبيه: يستثنى من ذلك ما إذا كان مستحق الهدم ولم يتلف من الآلة شئ كما قاله الأذرعي. قال الزركشي:
وقضية كلامهم تصوير المسألة بما إذا سقط في الحال، فلو وقف ساعة ثم سقط فكمن أسند خشبة إلى جدار الغير
فلا يضمن اه. وهو ظاهر إذا لم ينسب السقوط إلى ذلك الفعل. (وإن دخل سوقا) مثلا بذلك الحطب (فتلف به
نفس أو مال ضمن) ما تلف به (إن كان) هناك (زحام) بكسر الزاي، سواء أكان صاحب الثوب مستقبلا أو
مستدبرا لاتيانه بما لا يعتاد (فإن لم يكن) زحام (وتمزق) به (ثوب) مثلا (فلا) يضمنه، لأن التقصير من
205

صاحب الثوب إذ عليه الاحتراز (إلا ثوب أعمى) ولو مقبلا (و) إلا ثوب (مستدبر البهيمة فيجب تنبيهه) أي
كل منهما، فإن لم ينبهه ضمنه لتقصيره، وإن نبهه وأمكنه الاحتراز ولم يحترز فلا ضمان. وألحق البغوي وغيره بما إذا
لم ينبهه ما لو كان أصم، ويلحق بالأعمى معصوب العين لرمد ونحوه كما ذكر المصنف.
تنبيه: محل ضمان جميع الثوب إذا لم يكن من صاحب الثوب جذب، فإن علق الثوب في الحطب فجذبه صاحبه
وجذبته البهيمة فعلى صاحب الدابة نصف الضمان كلاحق وطئ مداس سابق فانقطع فإنه يلزمه نصف الضمان، لأنه
انقطع بفعله وفعل السابق. قال الرافعي: وينبغي أن يقال إن انقطع مؤخر السابق فالضمان على اللاحق، أو مقدم
مداس اللاحق فلا ضمان على السابق، ولو دخل في غير وقت الزحام وتوسط السوق فحدث الزحام، فالمتجه كما قال
الزركشي إلحاقه بما لم يكن زحام لعدم تقصيره، كما لو حدثت الريح وأخرجت المال من الثقب لا قطع فيه، بخلاف
تعريضه للريح الهابة، وقيد الإمام والغزالي وغيرهما البصير المقبل بما إذا وجد منحرفا، وقضيته أنه إذا لم يجده لضيق
وعدم عطفة يضمن لأنه في معنى الزحام، نبه عليه الزركشي. (و) صاحب البهيمة (إنما بضمنه) أي ما أتلفته بهيمته
(إذا لم يقصر صاحب المال) فيه (فإن قصر بأن وضعه) أي المال (بطريق أو عرضه للدابة فلا) يضمنه فإنه المضيع لماله،
وألحق به القفال في فتاويه ما إذا كان يمشي من جهة وحمار الحطب من أخرى فمر على جانب الحمار وأراد أن يتقدم
الحمار فتعلق ثوبه بالحطب وتمزق فلا ضمان على السائق، لأنه جنى بمروره على الحطب.
تنبيه: قسيم قول المصنف سابقا من كان معه دابة قوله هنا (وإن كانت الدابة وحدها فأتلفت زرعا أو غيره
نهارا لم يضمن صاحبها، أو ليلا ضمن) لتقصيره بإرسالها ليلا بخلافه نهارا للخبر الصحيح في ذلك رواه أبو داود وغيره
وهو على وفق العادة في حفظ الزرع ونحوه نهارا والدابة ليلا، ولو تعود أهل البلد إرسال البهائم أو حفظ الزرع ليلا دون
النهار انعكس الحكم فيضمن مرسلها ما أتلفته نهارا دون الليل اتباعا لمعنى الخبر والعادة، ومن ذلك يؤخذ ما بحثه البلقيني
أنه لو جرت عادة بحفظها ليلا ونهارا ضمن من مرسلها ما أتلفت مطلقا.
تنبيه: يستثنى من عدم الضمان نهارا صور: إحداها ما إذا ربط الدابة في الطريق على بابه أو غيره، فأتلفت شيئا
فيلزمه الضمان مطلقا وإن كان الطريق واسعا على الصحيح المنصوص، لأن الارتفاق به مشروط بسلامة العاقبة
كإشراع الجناح. نعم إن ربطها في المتسع بأمر الإمام لم يضمن كما لو حفر بئرا فيه لمصلحة نفسه، قاله القاضي والبغوي.
ثانيها ما إذا كانت المراعي متوسطة المزارع وكانت البهائم ترعى في حريم السواقي فيجب ضمان ما تفسده إذا أرسلها
بلا راع على المذهب لاعتياد الراعي في مثل ذلك. ثالثها ما إذا أخرجها عن زرعه إلى زرع غيره فأتلفته ضمنه، إذ
ليس له أن يقي ماله بمال غيره، فإن لم يمكن إلا ذلك بأن كانت محفوفة بمزارع الناس ولا يمكن إخراجها إلا بإدخالها
مزرعة غيره تركها في زرعه وغرم صاحبها ما أتلفته. رابعها ما إذا أرسلها في البلد وأتلفت شيئا فإنه يضمنه مطلقا لمخالفة
العادة. خامسها ما لو تكاثرت المواشي بالنهار حتى عجز أصحاب الزرع عن حفظها فحكى فيه الماوردي وجهين: رجح
البلقيني منهما وجوب الضمان على أصحاب المواشي لخروج هذا عن مقتضى العادة وهي المعتبرة على الأصح. سادسها
ما لو أرسل الدابة في موضع مغصوب فانتشرت منه إلى غيره فأفسدته كان مضمونا على من أرسلها ولو كان نهارا، قاله
البلقيني واستشهد له بقول القاضي الحسين: أنه إذا خلاها في ملك الغير سواء كان ليلا أم نهارا فهو مضمون، لأنه
متعد في إرسالها. سابعها لو أرسل الدابة المودوعة فأتلفت ولو نهارا لزم المرسل الضمان إن لم يكن معها أجير يحفظها.
ثامنها لو استأجر رجلا يحفظ دوابه فأتلفت زرعا ليلا أو نهارا فعلى الأجير الضمان كما حكاه الرافعي عن فتاوى البغوي،
وعلله بأن عليه حفظها في الوقتين. ثم قال: وفي هذا توقف، ويشبه أن يقال عليه حفظها بحسب ما يحفظه الملاك.
206

قال المصنف في زيادة الروضة: ينبغي أن لا يضمن الأجير والمودع إذا أتلفت نهارا، لأن على صاحب الزرع حفظه نهارا،
وتفريط الأجير إنما يؤثر في أن مالك الدابة يضمنه اه‍. وحيث وجب الضمان فهو على مالك الدابة، قال الإمام: ولم
يعلفوا الضمان برقبة البهائم كما علفوه برقبة العبد، لأن الضمان فيها تتلفه البهيمة يحال على تقصير صاحبها والعبد ذو ذمة
يلزم. ويستثنى من الدواب الحمام وغيره من الطيور فلا ضمان بإتلافها مطلقا كما حكاه في أصل الروضة عن ابن الصباغ
وعلله بأن العادة إرسالها، ويدخل في ذلك النحل، وقد أفتى البلقيني في نخل لانسان قتل جملا لآخر بعدم الضمان،
وعلله بأن صاحب النحل لا يمكنه ضبطه والتقصير من صاحب الجمل. ثم استثنى المصنف من تضمين المالك ليلا ما تضمنه
قوله (إلا أن لا يفرط) صاحب الدابة (في ربطها) ليلا بأن أحكمه فانحل، أو أغلق الباب عليها ففتحه لص، أو
انهدم الجدار فخرجت ليلا فأتلفت زرع الغير فلا ضمان لعدم التقصير منه، وكذا لو خلاها في موضع بعيد لم تجر العادة
بردها منه إلى المنزل ليلا كما حكاه البلقيني عن الدارمي والقاضي الحسين (أو) فرط في ربطها لكن (حضر
صاحب الزرع وتهاون في دفعها) عنه حتى أتلفته فلا يضمن على الصحيح وإن أشعر كلامه بالجزم به لتفريطه، فإن
كان زرعه محفوفا بمزارع الناس ولم يمكن إخراجها إلا بإدخالها مزرعة غيره لم يجز له أن يقي مال نفسه بمال غيره، بل
يصبر ويغرم صاحبها كما مرت الإشارة إليه (وكذا إن كان الزرع في) مكان (محوط له باب تركه) صاحبه (مفتوحا)
فلا يضمن مالكها ولو ليلا (في الأصح) لأنه مقصر بعدم غلقه. والثاني يضمن لمخالفته للعادة في ربطها ليلا.
فروع: لو ألقت الريح في حجرة ثوبا مثلا فألقاه ضمنه لتركه الواجب عليه فليسلمه إلى المالك ولو إلى نائبه،
فإن لم يجده فالحاكم، ولو دخلت دابة الغير ملكه وجب عليه ردها لمالكها إلا إن كان المالك هو الذي سيبها فيحمل
قولهم فيما مر أخرجها من زرعه إن لم يكن زرعه محفوفا بزرع غيره على ما إذا سيبها المالك، أما إذا لم يسيبها فيضمنها
مخرجها، إذ حقه أن يسلمها لمالكها، فإن لم يجده فإلى الحاكم، ولو سقط شئ من سطح غيره يريد أن يقع في ملكه
فدفعه في الهواء حتى وقع خارج ملكه لم يضمن كما قاله البغوي في فتاويه، ويدفع صاحب الزرع الدابة عن زرعه دفع
الصائل، فإن تنحت عنه لم يجز إخراجها عن ملكه، لأن شغلها مكانه وإن كان فيه ضرر عليه لا يبيح إضاعة مال
غيره، ولو دخلت دابة ملكه فرمحته فمات فكإتلافها زرعه في الضمان وعدمه فيفرق بين الليل والنهار، ولو حمل متاعه
في مفازة على دابة رجلا بلا إذن منه وغاب فألقاه الرجل عنها، أو أدخل دابته زرع غيره بلا إذن منه فأخرجها من
زرعه فوق قدر الحاجة فضاعت ففي الضمان عليه لهما وجهان: أحدهما وهو الأوجه لا لنعدي المالك وإن قال
بعض المتأخرين الأوجه الثاني وهو الضمان لتعدي الفاعل بالتضييع. (وهرة تتلف طيرا أو طعاما) أو غيره (إن عهد
ذلك منها ضمن مالكها) أي صاحبها الذي يؤويها ما أتلفته (في الأصح ليلا) كان (أو نهارا) كما يضمن مرسل الكلب
العقور ما يتلفه، لأن مثل هذه ينبغي أن تربط ويكف شرها، وكذا كل حيوان مولع بالتعدي كالجمل والحمار
الذين عرفا بعقر الدواب وإتلافها. والثاني لا يضمن ليلا ولا نهارا، لأن العادة لم تجز بربطها. وقضية هذه العلة
أنه لو كان الحيوان المفسد مما بربط عادة فتركه ضمن ما يتلفه قطعا، وبه صرح الإصطخري والمراد تعهد المالك ونحوه
ذلك منها لأنه حينئذ مقصر بإرسالها (وإلا) بأن لم يعهد منها إتلاف ما ذكر (فلا) يضمن (في الأصح) لأن العادة حفظ
الطعام عنها لا ربطها. والثاني يضمن في الليل دون النهار كالدابة، ولو هلكت في الدفع عن حمام ونحوه فهدر
لصيالها، ولو أخذت حمامة وهي حية جاز فتل أذنها وضرب فمها ليرسلها فتدفع دفع الصائل بالأخف فالأخف، ولو
صارت ضاربة مفسدة فهل يجوز قتلها في حال سكونها؟ وجهان: أصحهما وبه قال القفال لا يجوز، لأن ضراوتها عارضة
207

والتحرز عنها سهل، وجوز القاضي قتلها في حال سكونها إلحاقا لها بالفواسق الخمس فيجوز قتلها، ولا يختص بحال
ظهور الشر، ولا يجري الملك عليها، ولا أثر لليد والاختصاص فيها.
تنبيه: سكتوا عن ضبط العادة. قال الدميري: والظاهر أنه يأتي فيه الخلاف مرتين أو ثلاثة كما في الكلب
المعلم.
خاتمة: لو دخلت بقرة مثلا مسيبة ملك شخص فأخرجها من موضع يعسر عليها الخروج منه فتلفت ضمنها،
ولو ضرب شجرة في ملكه ليقطعها وعلم أنها إذا سقطت تسقط على غافل عن ذلك ولم يعلمه القاطع به فسقطت عليه
فأتلفته ضمنه وإن دخل ملكه بغير إذنه فإن لم يعلم القاطع بذلك أو علم به وعلم به ذلك الانسان أيضا أو لم يعلم به لكن
أعلمه القاطع به أو لم يعلما به لم يضمنه إذ لا تقصير منه، ولو حل قيد دابة غيره لم يضمن ما تتلفه كما لو نقب الحرز
وأخذ المال غيره. وسئل القفال عن حبس الطيور في أقفاص لسماع أصواتها وغير ذلك، فأجاب بالجواز إذا تعهدها
مالكها بما تحتاج إليه، لأنها كالبهيمة تربط، ولو كان بداره كلب عقور أو دابة جموح ودخلها شخص بإذنه ولم
يعلمه بالحال فعضه الكلب أو رمحته الدابة ضمن، وإن كان الداخل بصيرا أو دخلها بلا إذن أو أعلمه بالحال فلا ضمان
لأنه المتسبب في هلاك نفسه ولو أتلفت الدابة المستعارة أو المبيعة قبل قبضها زرعا مثلا لمالكها ضمنه المستعير والبائع
، لأنها في يدهما أو أتلفت ملك غيرهما فإن كان الزرع للبائع لم يضمنه وإن كان ثمنا للدابة لأنها ما أتلفت ملكه ويصير
قابضا للثمن بذلك كما مر في محله.
كتاب السير
بكسر السين وفتح المثناة التحتية، جمع سيرة بسكونها، وهي السنة والطريقة، وغرضه من الترجمة ذكر الجهاد
وأحكامه، وعدل عن الترجمة به أو بقتال المشركين كما ترجم به بعضهم إلى السير، لأن الجهاد متعلق من سيره قوله (ص)
في غزواته. والأصل فيه قبل الاجماع آيات كقوله تعالى * (كتب عليكم القتال) * و * (قاتلوا المشركين كافة)
* * (واقتلوهم حيث وجدتموهم) * وأخبار كخبر الصحيحين: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله،
وخبر مسلم: لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها، وقد جرت عادة الأصحاب تبعا للإمام الشافعي
رضي الله عنه أن يذكروا مقدمة في صدر هذا الكتاب فلنذكر نبذة منها على سبيل التبرك، فنقول:
بعث رسول الله (ص) يوم الاثنين في رمضان، وهو ابن أربعين سنة، وقيل ثلاث وأربعين، وآمنت به خديجة رضي الله
عنها، ثم بعدها قيل علي رضي الله عنه، وهو ابن تسع، وقيل ابن عشر، وقيل أبو بكر، وقيل زيد بن حارثة رضي الله
تعالى عنهم، ثم أمر بتبليغ قومه بعد ثلاث سنين من مبعثه. وأول ما فرض الله عليه بعد الانذار والدعاء إلى التوحيد
من قيام الليل ما ذكر في أول سورة المزمل، ثم نسخ بما في آخرها، ثم نسخ بالصلوات الخمس إلى بيت المقدس ليلة
الاسراء بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر ليلة سبع وعشرين من رجب. وقيل بعد النبوة بخمس أو ست
وقيل غير ذلك. ثم أمر باستقبال الكعبة، ثم فرض الصوم بعد الهجرة بسنتين تقريبا، وفرضت الزكاة بعد
الصوم،
وقيل قبله، وفي السنة الثانية قيل في نصف شعبان، وقيل في رجب من الهجرة حولت القبلة، وفيها فرضت صدقة
الفطر، وفيها ابتدأ (ص) صلاة عيد الفطر، ثم عيد الأضحى، ثم فرض الحج سنة ست، وقيل سنة خمس، ولم يحج
(ص) بعد الهجرة إلا حجة الوداع سنة عشر، واعتمر أربعا. (كان الجهاد في عهد رسول الله (ص))
بعد الهجرة (فرض كفاية) أما كونه فرضا فبالاجماع، وأما كونه على الكفاية: فلقوله تعالى * (ولا يستوي
القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر) * إلى قوله تعالى: * (وكلا وعد الله الحسنى) * ففاضل سبحانه وتعالى بين
208

المهاجرين والقاعدين، ووعد كلا الحسنى، والعاصي لا يوعد بها، ولا يفاضل بين مأجور ومأزور، وأما قبل الهجرة
فكان ممنوعا أول الاسلام من قتال الكفار مأمورا بالصبر على الأذى، وكذلك من تبعه بقوله تعالى * (لتبلون في أموالكم) *
الآية. ثم هاجر إلى المدينة بعد ثلاث عشرة سنة من مبعثه، وقيل بعد عشرة في يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول،
فأقام بها عشرا بالاجماع، ثم أمر به إذا ابتدئ به بقوله تعالى: * (وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم) * ثم أبيح له ابتداؤه
في غير الأشهر الحرم بقوله تعالى * (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) * الآية. ثم أمر به من من غير تقييد بشرط ولا زمان بقوله تعالى
* (واقتلوهم حيث ثقفتموهم) *. وقد غزا (ص) سبعا وعشرين غزوة قاتل فيها في تسع سنين كما حكاه
الماوردي ففي مسلم عن زيد بن أرقم: أنه (ص) غزا تسع عشرة، وبعث صلى الله عليه وسلم سرايا، ولم
يتفق في كلها قتال، فلنذكر من غزواته صلى الله عليه وسلم أشهرها:
ففي السنة الأولى من هجرته لم يغز، وكانت غزوة بدر الكبرى في الثانية، وأحد، ثم بدر الصغرى، ثم بني النضير
في الثالثة والخندق في الرابعة، وذات الرقاع، ثم دومة الجندل، وبني قريظة في الخامسة، والحديبية وبني المصطلق في
السادسة، وخيبر في السابعة، ومؤتة، وذات السلاسل، وفتح مكة، وحنين، والطائف في الثامنة، وتبوك في التاسعة
على خلاف في بعض ذلك، والأنبياء معصومون قبل النبوة من الكفر لما روي أنه (ص) قال: ما كفر بالله
نبي قط وفي عصمتهم قبلها من المعاصي خلاف وهم معصومون بعدها من الكبائر ومن كل ما يزرى بالمروءة، وكذا
من الصغائر ولو سهوا عند المحققين لكرامتهم على الله تعالى أن يصدر عنهم شئ منها وتأولوا الظواهر الواردة فيها وجوز
الأكثرون صدورها عنهم سهوا إلا الدالة على الخسة: كسرقة لقمة. قال في الروضة: واختلفوا هل كان (ص)
قبل النبوة يتعبد على دين إبراهيم أو نوح أو موسى أو عيسى أو لم يلتزم دين أحد منهم؟ والمختار أنه لا يجزم في ذلك بشئ
لعدم الدليل انتهى. وصحح الواحدي الأول وعزى إلى الشافعي، واقتصر الرافعي على نقله عن صاحب البيان. وتوفي
(ص) ضحى يوم الاثنين لاثني عشر خلت من ربيع الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة. (وقيل) كان
الجهاد في عهده (ص) فرض (عين) لقوله تعالى * (انفروا خفافا وثقالا) * * (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) * وقائله
قال: كان القاعدون حراسا للمدينة، وهو نوع من الجهاد، وأجاب الأول بأن الوعيد في الآية لمن عينه النبي صلى الله عليه
وسلم لتعيين الإجابة. وقال السهيلي: كان فرض عين على الأنصار دون غيرهم لأنهم بايعوا عليه. قال شاعرهم:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وقد يكون الجهاد في عهده (ص) فرض عين بأن أحاط عدو بالمسلمين كالأحزاب من الكفار الذين تحزبوا
حول المدينة فإنه مقتض لتعين جهاد المسلمين لهم فصار لهم حالان، خلاف ما يوهمه قوله (وأما بعده) (ص)
(فللكفار حالان: أحدهما يكونون ببلادهم) مستقرين بها غير قاصدين شيئا من بلاد المسلمين (ففرض كفاية) كما دل
عليه سير الخلفاء الراشدين، وحكى القاضي عبد الوهاب فيه الاجماع، ولو فرض على الأعيان لتعطل المعاش (إذ
فعله من فيهم كفاية سقط الحرج عن الباقين) لأن هذا شأن فروض الكفايات وتعبيره بالسقوط ظاهر في أن فرض الكفاية
يتعلق بالجميع وهو الصحيح عند الأصوليين، وقوله: من فيهم كفاية يشمل من لم يكن من أهل فرض الجهاد وهو كذلك،
فلو قام به مراهقون سقط الحرج عن أهل الفروض. قال في الروضة: وسقط فرض الكفاية مع الصغر والجنون والأنوثة،
فإن تركه الجميع أثم كل من لا عذر له من الاعذار الآتي بيانها.
تنبيه: أقل الجهاد مرة في السنة كإحياء الكعبة، ولقوله تعالى (أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو
مرتين) * قال مجاهد: نزلت في الجهاد ولفعله صلى الله عليه وسلم منذ أمر به، ولان الجزية تجب بدلا عنه وهي واجبة
في كل سنة فكذا بدلها، ولأنه فرض يتكرر، وأقل ما وجب المتكرر في كل سنة كالزكاة والصوم، فإن زاد على مرة
209

فهو أفضل، ويحصل فرض الكفاية بأن يشحن الإمام الثغور بمكافئين للكفار مع إحكام الحصون والخنادق وتقليد
الامراء أو بأن يدخل الإمام أو نائبه دار الكفر بالجيوش لقتالهم، ووجوب الجهاد وجوب الوسائل لا المقاصد، إذ المقصود
بالقتال إنما هو الهداية وما سواها من الشهادة، وأما قتل الكفار فليس بمقصود حتى لو أمكن الهداية بإقامة الدليل بغير
جهاد كان أولى من الجهاد، وما ذكره المصنف محله في الغزو، وأما حراسة حصون المسلمين فمتعينة فورا. واعلم أن
فروض الكفاية كثيرة جدا، ذكر منها المصنف في الجنائز غسل الميت وتكفينه والصلاة عليه ودفنه وفي اللقيط
التقاط المنبوذ، وذكر هنا الجهاد، ثم استطرد إلى ذكر غيره، فقال: (ومن فروض الكفاية القيام بإقامة الحجج)
العلمية، وهي البراهين القاطعة على إثبات الصانع سبحانه وتعالى وما يجب له من الصفات وما يستحيل عليه منها وعلى
إثبات النبوات وصدق الرسل، وما ورد به الشرع من الحساب والمعاد والميزان وغير ذلك، وكما أنه لا بد من إقامة الحجج
القهرية بالسيف لا بد ممن يقيم البراهين ويظهر الحجج ويدفع الشبهات ويحل المشكلات كما نبه عليه بقوله: القيام
بإقامة (وحل المشكلات في الدين) ودفع الشبهة ويتعين على المكلف دفع شبهة أدخلها بقلبه، وذلك بأن يعرف
أدلة المعقول ويعلم دواء أمراض القلب وحدودها وأسبابها كالحسد والرياء والكبر وأن يعرف من ظواهر العلوم
لا دقائقها ما يحتاج إليه لإقامة فرائض الدين كأركان الصلاة والصيام وشروطهما. وإنما يجب تعلمه بعد الوجوب وكذا
قبله إن لم يتمكن من تعلمه بعد دخول الوقت مع الفعل وكأركان الحج وشروطه وتعلمها على التراخي كالحج وكالزكاة
إن ملك مالا، ولو كان هناك ساع يكفيه الامر وأحكام البيع والقراض إن أراد أن يبيع ويتجر فيتعين على من يريد
بيع الخبز أن يعلم أنه لا يجوز بيع خبر البر بالبر ولا بدقيقه، وعلى من يريد الصرف أن يعلم أنه لا يجوز بيع درهم بدرهمين
ونحو ذلك. وأما أصول العقائد فالاعتقاد المستقيم مع التصميم على ما ورد به الكتاب والسنة ففرض عين وأما العلم
المترجم بعلم الكلام فليس بفرض عين، وما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يشتغلون به. قال الإمام: ولو كان
الناس على ما كانوا عليه في صفوة الاسلام لما أوجبنا التشاغل به، وربما نهينا عنه، وأما الآن وقد ثارت البدعة
ولا سبيل إلى تركها تلتطم فلا بد من إعداد ما يدعى به إلى المسلك الحق وتحل به الشبهة فصار الاشتغال بأدلة المعقول
وحل الشبهة من فروض الكفايات، وما نص عليه الشافعي من تحريم الاشتغال به، وقال: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب
ما خلا الشرك خير له من أن يلقاه بشئ من علم الكلام محمول على التوغل فيه. وأما تعلم علم الفلسفة والشعبذة
والتنجيم والرمل وعلوم الطبائعيين والسحر فحرام، والشعر مباح إن لم يكن فيه سخف أو حث على شر وإن حث
على التغزل والبطالة كره. (و) من فروض الكفايات القيام (بعلوم الشرع كتفسير وحديث) وسبق معناهما في
كتاب الوصايا (والفروع) الفقهية الزائدة على ما لا بد منه (بحيث يصلح للقضاء) والفتيا كما في المحرر لشدة الحاجة
إلى ذلك. فإن احتيج في التعليم إلى جماعة لزمهم، ويجب لكل مسافة قصر مفت لئلا يحتاج إلى قطعها. وفرق بينه
وبين قولهم، لا يجوز إخلاء مسافة العدوي عن قاض بكثرة الخصومات وتكررها في اليوم الواحد من كثيرين
بخلاف الاستفتاء في الوقائع، ولو لم يفت المفتي وهناك من يفتي وهو عدل لم يأثم فلا يلزمه الافتاء. قال في الروضة:
وينبغي أن يكون المعلم كذلك اه‍. وفرق بين هذا وبين نظيره من أولياء النكاح والشهود بأن اللزوم هنا فيه حرج
ومشقة بكثرة الوقائع بخلافه ثم قال في الروضة: ويستحب الرفق بالمتعلم والمستفتي، أما تعلم ما لا بد منه من الفروع ففرض
عين كما مرت الإشارة إليه.
تنبيه: من فروض الكفاية علم الطب المحتاج إليه لمعالجة الأبدان والحساب المحتاج إليه لقسمة المواريث
والوصايا والمعاملات وأصول الفقه والنحو واللغة والتصريف وأسماء الرواة والجرح والتعديل واختلاف العلماء واتفاقهم
وأما المنطق. فقال الغزالي: إن من جهله لا وثوق بعلمه، وقال غيره: يحرم الاشتغال به، ومر الكلام على ذلك في
210

باب الحدث في الكلام على الاستنجاء. قال الشارح: وعرف أي المصنف الفروع: أي بالألف واللام دون ما قبله لما
ذكره بعده: أي وهو قوله بحيث يصلح للقضاء لئلا يتوهم عوده لما قبله أيضا، وهنا مؤاخذة على المصنف وهي إما
أن يكون قوله: والفروع مجرورا بالعطف على تفسير، أو بالعطف على المجرور بالباء، وهو قوله بإقامة. فإن كان الأول
اقتضى أن يكون بقي شئ من علوم الشرع لم يذكره ولم يبق شئ، وإن كان الثاني اقتضى أن الفروع ليست من علوم
الشرع وليس مرادا، وقد يختار الأول، ويجاب عنه بأن الكاف استقصائية.
فائدة: قال الماوردي: إنما يتوجه فرض الكفاية في العلم على من جمع أربعة شروط: التكليف، وأن يكون
ممن يلي القضاء - أي حرا ذكرا لا عبدا وامرأة -، وأن لا يكون بليدا، وأن يقدر على الانقطاع بأن يكون له كفاية
ويدخل الفاسق في الفرض، ولا يسقط به لأنه لا تقبل فتواه، وفي دخول المرأة والعبد وجهان: أوجههما الدخول
لأنهما أهل للفتوى دون القضاء. (و) من فروض الكفايات (الامر بالمعروف) من واجبات الشرع (والنهي عن
المنكر) من محرماته بالاجماع، إذا لم يخف على نفسه أو ماله أو على غيره مفسدة أعظم من مفسدة المنكر الواقع،
أو غلب على ظنه أن المرتكب يزيد فيما هو فيه عنادا كما أشار إليه الغزالي في الاحياء كإمامه، ولا يختص بالولاة:
بل يجب على كل مكلف قادر من رجل وامرأة حر أو عبد وللصبي ذلك ويثاب عليه إلا أنه لا يجب عليه، ولا يشترط
في الامر بالمعروف العدالة، بل قال الإمام: وعلى متعاطي الكأس أن ينكر على الجلاس، وقال الغزالي: يجب على
من غصب امرأة على الزنا أمرها بستر وجهها عنه اه‍. والانكار يكون باليد، فإن عجز فباللسان ويرفق بمن يخاف شره
ويستعين عليه فإن لم يخف فتنة، فإن عجز رفع ذلك إلى الوالي، فإن عجز أنكر بقلبه، ولا يشترط فيه أيضا أن يكون
مسموع القول، بل على المكلف أن يأمر وينهى، وإن علم بالعادة أنه لا يفيد * (فإن الذكرى تنفع المؤمنين) * ولا أن
يكون ممتثلا ما يأمر به مجتنبا ما ينهى عنه، بل عليه أن يأمر وينهى نفسه، فإن اختل أحدهما لم يسقط الآخر، ولا يأمر
ولا ينهى في دقائق الأمور إلا عالم، فليس للعوام ذلك، ولا ينكر العالم إلا مجمعا على إنكاره، لا ما اختلف فيه إلا أن
يرى الفاعل تحريمه، فإن قيل: قد صرحوا بأن الحنفي يحد بشرب النبيذ مع أن الانكار بالفعل أبلغ منه بالقول. أجيب
بأن أدلة عدم تحريم النبيذ واهية، وبهذا فرق بين حدنا الشارب به وعدم حدنا الواطئ في نكاح بلا ولي، وإن ندب
على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف برفق فحسن إن لم يقع في خلاف آخر أو في ترك سنة ثابتة لاتفاق العلماء
على استحباب الخروج من الخلاف حينئذ. وليس لكل من الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر التجسس والبحث
واقتحام الدور بالظنون، بل إن رأى شيئا غيره، نعم إن أخبره ثقة بمن اختفى بمنكر فيه انتهاك حرمة يفوت تداركها
كالزنا والقتل اقتحم له الدار وتجسس وجوبا.
تنبيه: يجب على الإمام أن ينصب محتسبا يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وإن كانا لا يختصان بالمحتسب
فيتعين عليه الامر بصلاة الجمعة إذا اجتمعت شروطها، وكذا بصلاة العيد، وإن قلنا إنها سنة. فإن قيل قال الإمام:
معظم الفقهاء على أن الامر بالمعروف في المستحب مستحب، وهذا مستحب. أجيب بأن محله في غير المحتسب ولا
يقاس بالوالي غيره ولهذا لو أمر الإمام بصلاة الاستسقاء أو بصومه صار واجبا، ولا يأمر المخالفين له في المذهب بما
لا يجوزونه ولا يناهم عما يرونه فرضا عليهم أو سنة لهم، ويأمر بما يعم نفعه كعمارة سور البلد وشربه ومعونة المحتاجين
ويجب ذلك من بيت المال إن كان فيه مال، وإلا فعلى من له قدرة على ذلك، وينهى الموسر عن مطل الغني إن
استعداه الغريم عليه، وينهى الرجل عن الوقوف مع المرأة في طريق خال، لأنه موضع ريبة بخلاف ما لو وجده معها
في طريق يطرقه الناس، ويأمر النساء بإيفاء العدد، والأولياء بنكاح الأكفاء، والسادة بالرفق بالمماليك، وأصحاب
البهائم بتعهدها، وأن لا يستعملوها فيما لا تطيق، وينكر على من تصدى للتدريس والفتوى والوعظ، وليس هو من
أهله ويشهر أمره لئلا يغتر به وينكر على من أسر في صلاة جهرية أو زاد في الاذان وعكسهما، ولا ينكر في حقوق
211

الآدميين قبل الاستعداء من ذي الحق عليه، ولا يحبس ولا يضرب للدين، وينكر على القضاة إن احتجبوا عن
الخصوم أو قصروا في النظر في الخصومات، وعلى أئمة المساجد المطروقة إن طولوا الصلاة كما أنكر (ص)
على معاذ ذلك، ويمنع الخونة من معاملة النساء لما يخشى فيها من الفساد، وليس له حمل الناس على مذهبه. (و) من
فروض الكفايات (إحياء الكعبة) والمواقف التي هناك (كل سنة بالزيارة) مرة، لأن ذلك من
شعائر الاسلام.
تنبيه: المراد بالزيارة كل سنة أن يأتي بحج وعمرة، فلا يكفي إحياؤها بالاعتكاف والصلاة، وإن أوهمت
عبارته الاكتفاء بذلك ولا بالعمرة كما قاله المصنف، إذ لا يحصل مقصود الحج بذلك، لأن المقصود الأعظم من بناء
الكعبة الحج فكان به إحياؤها، فيجب الاتيان كل سنة بحج وعمرة، ولا يشترط في القائمين بهذا الفرض قدر
مخصوص:
بل الفرض أن يحجها كل سنة بعض المكلفين، قاله في المجموع. قال الأسنوي: ويتجه اعتباره من عدد يظهر بهم
الشعار اه‍. ونوزع في ذلك. فإن قيل: كيف الجمع بين هذا وبين التطوع بالحج، لأن إحياء الكعبة بالحج من فروض
الكفايات، فكل وفد يجيئون كل سنة للحج فهم يحيون الكعبة، فمن كان عليه فرض الاسلام حصل بما أتى به سقوط
فرضه، ومن لم يكن عليه فرض الاسلام كان قائما بفرض كفاية، فلا يتصور حج التطوع؟ أجيب بأن هنا جهتين
من حيثيتين: جهة التطوع من حيث أنه ليس عليه فرض الاسلام، وجهة فرض الكفاية من حيث الامر بإحياء
الكعبة، فصح أن يقال هو تطوع من حيث أنه ليس عليه فرض عين، وأن يقال فرض كفاية من حيث الاحياء، وبأن
وجوب الاحياء لا يستلزم كون العبادة فرضا، لأن
الواجب المعين قد يسقط بالمندوب كاللمعة المغفلة في الوضوء تغسل
في الثانية أو الثالثة، والجلوس بين السجدتي بجلسة الاستراحة، وإذا سقط الواجب المعين بفعل المندوب ففرض
الكفاية أولى، ولهذا تسقط صلاة الجنازة عن المكلفين بفعل الصبي، ولو قيل يتصور ذلك في العبيد والصبيان والمجانين،
لأن فرض الكفاية لا يتوجه إليهم لكان جوابا. (و) من فروض الكفايات (دفع ضرر) المعصومين، ولو عبر به
كان أولى (المسلمين) وغيرهم على الموسرين (ككسوة عار) منهم (وإطعام جائع) منهم (إذا لم يندفع) ضررهم
(بزكاة و) لا (بيت مال) واقتصر عليهما لأنهما أغلب من غيرهما، وإلا ففي معناهما سهم المصالح ونحوه كوقف عام
ونذر وكفارة ووصية صيانة للنفوس.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف أن المراد بالكسوة ستر ما يحتاج إليه البدن. قال في المهمات: وهو كذلك بلا شك
فيختلف الحال بين الشتاء والصيف، وتعبير الروضة يستر العورة معترض، وظاهر كلامه أيضا وجوب دفع الضرر
، وإن لم يبق لنفسه شيئا، لكن الأصح ما في زيادة الروضة عن الإمام أنه يجب على الموسر المواساة بما زاد على كفاية
سنة، ومقتضاه أنه لا بوجه فرض الكفاية بمواساة المحتاج على من ليس معه زيادة على كفاية سنة وهو كذلك وإن قال
البلقيني: هذا لا يقوله أحد ولا ينافيه ما في الأطعمة من وجوب إطعام المضطر وإن كان يحتاجه في ثاني الحال، فإن هذا
في المحتاج غير المضطر وذاك في المضطر، وهل يكفي سد الضرورة أم يجب تمام الكفاية التي يقوم بها من تلزمه النفقة؟
فيه وجهان: مقتضى كلام الرافعي في الأطعمة أن ذلك على القولين فيما إذا وجد المضطر الميتة ترجيح الأول، والأوجه
ترجيح الثاني، ولا يلزم من البناء الاتحاد في الترجيح، ويجب أيضا على الموسرين فك أسرى المسلمين من مالهم، ولا يجب
على الإمام ابتياعهم من بيت المال كذا في بعض شروح الكتاب. قال بعضهم: ولعله محمول على أسير تعذبه الكفار كما
في الروضة في باب الجزية لكن في باب الهدنة أن الفداء مستحب وبهذا الحمل يجمع بين كلامي الروضة أيضا. أما
أسارى الذميين ففيهم احتمالان: والأوجه فيهم التفصيل. (و) من فروض الكفايات إعانة القضاة على استيفاء الحقوق
للحاجة إليها و (تحمل الشهادة) إن حضر المتحمل المشهود عليه، فإن ادعى الشاهد للتحمل لم يجب عليه إلا أن
212

دعاه قاض أو معذور بمرض ونحوه (وأداؤها) إذا تحمل أكثر من نصاب، فإن تحمل اثنان في الأموال فالأداء فرض
عين، وسيأتي بيان التجمل والأداء في الشهادات مع مزيد إيضاح.
تنبيه: التحمل يفارق الأداء من جهة أن التحمل فرض كفاية على الناس والأداء على من تحمل دون غيره. قال
الماوردي في باب الشهادات: وفرض الأداء أغلظ من فرض التحمل لقوله تعالى: * (ولا تكتموا الشهادة) * الآية. (والحرف
والصنائع) كالتجارة والخياطة والحجامة لأن قيام الدنيا بهذه الأسباب وقيام الدين يتوقف على أمر الدنيا حتى لو امتنع
الخلق منه أثموا وكانوا ساعين في إهلاك أنفسهم لكن النفوس مجبولة على القيام بها فلا يحتاج إلى حث عليها وترغيب
فيها، وفي الحديث: اختلاف أمتي رحمة وفسره الحليمي باختلاف الهمم والحرف.
تنبيه: عطف الصنائع على الحرف يقتضي تغايرهما مع أن صاحب الصحاح فسر الصناعة بالحرفة، فعلى هذا
عطفها عليها كعطف رحمة على صلوات في قوله تعالى * (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة) * وقال الزركشي:
الصناعات هي المعالجات كالخياطة والتجارة والحرف وإن كانت تطلق على ذلك، فتطلق عرفا على من يتخذ صناعا
ويدولبهم ولا يعمل فهي أعم. (وما تتم به المعايش) التي بها قوام الدين والدنيا كالبيع والشراء والحراثة، لأن كل فرد
من الافراد عاجز عن القيام بكل ما يحتاج إليه سمع النبي (ص) عليا رضي الله تعالى عنه يقول: اللهم
لا تحوجني إلى أحد من خلقك فقال: لا تقل هكذا ليس من أحد إلا وهو محتاج إلى الناس قال فكيف أقول؟
قال: قل: اللهم لا تحوجني إلى شرار خلقك قلت: يا رسول الله ومن شر خلقه؟ قال: الذين إذا أعطوا منوا
وإذا منعوا عابوا، وسمع (ص) أبا بكر رضي الله تعالى عنه يقول: اللهم إني أسألك الصبر، فقال: سألت الله البلاء
فسله العافية. وسمع الإمام أحمد بن حنبل رجلا يقول: اللهم لا تحوجني إلى أحد من خلقك فقال: هذا رجل تمنى الموت
(و) من فروض الكفايات (جواب سلام) لمسلم عاقل ولو صبيا مميزا (على جماعة) من المسلمين المكلفين. أما
كونه فرضا فلقوله تعالى * (وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) * وأما كونه كفاية فلخبر أبي داود: يجزئ عن
الجماعة إذا مروا أن يسلم أحدهم ويجزئ عن الجلوس أن يرد أحدهم والراد منهم هو المختص بالثواب وسقط الحرج
عن الباقين، وإن أجابوا كلهم كانوا مؤدين للفرض سواء كانوا مجتمعين أم مترتبين: كصلاة الجنازة، ولا يسقط الفرد
برد الصبي المميز على الصحيح، فإن قيل سقط به فرض الصلاة على الجنازة فهلا كان هنا كذلك؟ أجيب بأن المقصود
من الصلاة الدعاء والصبي أقرب إلى الإجابة، والمقصود من السلام الأمان والصبي ليس من أهله، ولا يسقط أيضا
برد من لم يسمع السلام على المشهور، ولو سلم على جماعة فيهم امرأة فردت هل يكفي؟. ينبغي كما قال الزركشي بناؤه على
أنه هل يشرع لها الابتداء بالسلام أم لا؟ فحيث شرع لها كفى جوابها، وسيأتي الكلام على ذلك وإلا فلا، ومثلها كما
بحثه شيخنا الخنثى، واحترز بالجماعة عن الواحد فإن الرد عليه فر ض عين إلا إن كان المسلم أو المسلم عليه أنثى مشتهاة
والآخر رجلا ولا محرمية بينهما فلا يجب الرد ثم إن سلم هو حرم عليها. أما إذا كان هناك نحو محرمية كزوجته وعبد
المرأة بالنسبة إليها، ومثله كل من يباح نظره إليها فيجب الرد، ولا يكره على جمع نسوة أو عجوز لانتفاء خوف الفتنة،
بل يندب الابتداء به منهن على غيرهن وعكسه، ويجب الرد كذلك، والخنثى مع المرأة كالرجل معها ومع الرجل كالمرأة
معه ومع الخنثى كالرجل مع المرأة، ويشترط في الرد اتصاله بالابتداء لاتصال الايجاب بالقبول في العقد، فلو سلم جماعة
متفرقون على واحد، فقال: وعليكم السلام وقصد الرد على جميعهم أجزأه ويسقط عنه فرض الجميع كما لو صلى على
جنائز صلاة واحدة كما نقله في المجموع عن المتولي والرافعي وأقراه، بخلاف ما إذا لم يقصد الرد عليهم جميعا، وقضية هذا
أنه لو طلق لم يكفه، والأوجه كما قال شيخنا خلافه، وظاهر كلام المجموع أنه لا فرق بين أن يسلموا دفعة واحدة
متفرقين وهو كما قاله بعض المتأخرين ظاهر فيما سلموا دفعة واحدة. أما لو سلموا واحدا بعد واحد وكانوا كثيرين
فلا يحصل الرد لكلهم إذ قد مر أن شرط حصول الواجب أن يقع متصلا بالابتداء ولا يجب الرد على مجنون وسكران
213

وإن شملتها عبارة المصنف وكذا فاسق ونحوه كمبتدع إن كان في تركه زجر لهما أو لغيرهما، ولو كتب كتابا وسلم
عليه فيه أو أرسل رسولا، فقال: سلم علي فلان، فإذا بلغه خبر الكتاب والرسالة لزمه الرد وهل صيغة إرسال السلام مع
الغير السلام على فلان أو يكفي سلم لي على فلان كما هو ظاهر ما مر؟ يؤخذ من كلام التتمة الثاني، وعبارته أنه لو ناداه
من وراء ستر أو حائط، وقال: السلام عليك يا فلان أو كتب كتابا وسلم عليه فيه أو أرسل رسولا. فقال: سلم على فلان
فبلغه الكتاب أو الرسالة وجب عليه الجواب، لأن تحية الغائب إنما تكون بالمناداة أو الكتاب أو الرسالة اه‍. ولو
سلم
الأصم جمع بين اللفظ والإشارة، أما اللفظ فلقدرته عليه، وأما الإشارة فليحصل بها الافهام ويستحق الجواب ويجب
الجمع بينهما على من رد عليه ليحصل به الافهام، ويسقط عنه فرض الجواب، وقضية التعليل أنه إن علم أنه فهم
ذلك بقرينة الحال والنظر إلى فمه لم تجب الإشارة وهو ما بحثه الأذرعي، وسلام الأخرس بالإشارة معتد به وكذا رده
لأن إشارته قائمة مقام العبارة.
تنبيه: لو سلم ذمي على مسلم قال له وجوبا، كما قاله الماوردي والروياني وعليك فقط، لخبر الصحيحين: إذا
سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم. وروى البخاري خبر: إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليك
فقولوا وعليك وقال الخطابي: كان سفيان يروي عليكم بحذف الواو وهو الصواب لأنه إذا حذفها صار قولهم مردودا
عليهم وإذا ذكرها وقع الاشتراك معهم والدخول فيما قالوه. قال الزركشي: وفيه نظر، إذ المعنى: ونحن ندعوا عليكم
بما دعوتم به علينا على أنا إذا فسرنا السام بالموت فلا إشكال لاشتراك الخلق فيه.
فرع: لو سلم على إنسان ورضي أن لا يرد عليه لم يسقط عنه فرض الرد كما قاله المتولي لأنه حق الله تعالى ويأثم
بتعطيل فرض الكفاية كل من علم بتعطيله وقدر على القيام به وإن بعد عن المحل، وكذا يأثم قريب منه لم يعلم به لتقصيره
في البحث عنه، ويختلف هذا بكبر البلد وصغره كما قاله الإمام، وإن قام به الجميع فكلهم مؤد فرض كفاية وإن
ترتبوا في أدائه. قال الإمام وغيره: والقيام به أفضل من فرض العين لأن القيام بفرض العين أسقط الحرج عن نفسه والقيام
بفرض الكفاية أسقط الحرج عنه وعن الأمة. والمعتمد أن فرض العين أفضل كما جرى عليه الشارح في شرحه على
جمع الجوامع. (ويسن ابتداؤه) أي السلام على كل مسلم حتى على الصبي، وهو سنة عين إن كان المسلم واحدا، وسنة
كفاية إن كان جماعة. أما كونه سنة فلقوله تعالى * (فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم) * أي ليسلم بعضكم على بعض
وللامر بإفشاء السلام في الصحيحين، وأما كونه كفاية فلخبر أبي داود السابق. أما الذمي فلا يجوز ابتداؤه به، وقد
يتصور وجوب الابتداء بالسلام، وهو ما لو أرسل سلامه إلى غائب ففي زوائد الروضة يلزم المرسل أن يبلغه فإنه أمانة ويجب
أداؤها ويجب الرد كما مر، ويسن الرد على المبلغ وابتداء السلام أفضل من رده كما ناله القاضي في فتاويه، وهذه سنة
أفضل من فرض، ونظيره إبراء المعسر سنة وإنظاره فرض وإبراؤه أفضل.
تنبيه: قول القاضي: ليس لنا سنة كفاية غير ابتداء السلام من الجماعة أو رد عليه مسائل: منها التسمية على
الاكل، ومنها الأضحية في حق أهل البيت، ومنها تشميت العاطس، ومنها الأذان والإقامة. و (لا) يسن ابتداؤه
(على قاضي حاجة) للنهي عنه في سنن ابن ماجة، ولان مكالمته بعيدة عن الأدب، والمراد بالحاجة البول
والغائط، ولا على المجامع بطريق الأولى (و) لا على (آكل) - بالمد - لشغله به (و) لا على من (في حمام) لاشتغاله
بالاغتسال، وهو مأوى الشياطين، وليس موضع تحية. واستثنى مع ذلك مسائل كثيرة، منها المصلي، ومنها المؤذن، ومنها
الخطيب، ومنها الملبي في النسك، ومنها مستغرق القلب بالدعاء وبالقراءة كما بحثه الأذرعي، ومنها النائم
أو الناعس، ومنها الفاسق والمبتدع، لأن حالتهم لا تناسبه، والضابط كما قاله الإمام أن يكون الشخص على حالة لا يجوز
أو لا يليق بالمروءة القرب منه (ولا جواب) واجب (عليهم) لو أتى به لوضعه السلام في غير محله لعدم سنه. واستثنى
الإمام من الاكل ما إذا سلم عليه بعد الابتلاع وقبل وضعه لقمة أخرى فيسن السلام عليه ويجب عليه الرد، وكذا من
214

كان في محل نزع الثياب في الحمام كما جرى عليه الزركشي وغيره.
تنبيه: مقتضى كلامه استواء حكم الجميع، وليس مرادا، بل يكره الرد لقاضي الحاجة والمجامع، ويندب لمن
يأكل أو في حمام، وكذا المصلي ونحوه بالإشارة، ولو سلم على المؤذن لم يجب حتى يفرغ، وهل الإجابة بعد الفراغ
واجبة أو مندوبة؟ لم يصرحوا به، والأوجه كما قاله البلقيني أنه لا يجب، وقيل يجب على المصلي الرد بعد الفراغ،
والصحيح أنه لا يجب عليه الرد مطلقا، وإذا سلم على حاضر الخطبة وقلنا بالجديد أنه لا يحرم عليهم الكلام، ففي الرد
ثلاثة أوجه: أصحها عند البغوي وجوب الرد وصححه البلقيني، والثاني استحبابه، والثالث جوازه، والخلاف
في غير الخطيب. أما هو لا يجب عليه الرد قطعا لاشتغاله، والقارئ كغيره في استحباب السلام وجوب الرد باللفظ
على من سلم عليه كما جرى عليه ابن المقري إلا مستغرق القلب كما مر عن الأذرعي.
تنبيه: صيغة السلام ابتداء: السلام عليكم، فإن قال: عليكم السلام جاز، لأنه تسليم لكن مع الكراهة للنهي
عنه في خبر الترمذي وغيره، ويجب فيه الرد على الصحيح كما نقله في الروضة عن الإمام وأقره وإن بحث الأذرعي
عدم الوجوب وكعليكم السلام عليكم سلام. أما لو قال: وعليكم السلام، فليس سلاما فلا يستحق جوابا، لأنه لا يصلح
للابتداء كما نقله في الأذكار عن المتولي وأقره، وتندب صيغة الجمع لأجل الملائكة سواء أكان المسلم عليه واحدا أم
جماعة، ويكفي الافراد للواحد ويكون آتيا بأصل السنة دون الجماعة فلا يكفي، والإشارة به بيد أو نحوها بلا لفظ
لا يجب لها رد للنهي عنه في خبر الترمذي، والجمع بينها وبين اللفظ أفضل من الاقتصار على اللفظ، وصيغته ردا
وعليكم السلام، أو وعليك السلام للواحد، ولو ترك الواو فقال عليكم السلام أجزأه، ولو قال: والسلام عليكم، أو السلام
عليكم كفى، فإن قال: وعليكم، وسكت عن السلام لم يكف، إذ ليس فيه تعرض للسلام، وقيل يجزئ. فإن قيل: يؤيد
هذا أنه لو سلم ذمي على مسلم لم يزد في الرد على قوله وعليك. أجيب بأنه ليس الغرض ثم السلام على الذمي
، بل الغرض
أن يرد عليه بما ثبت في الحديث، ويكفي سلام عليكم ابتداء وعليكم سلام جوابا، ولكن التعريف فيهما أفضل، وزيادة
ورحمة الله وبركاته على السلام ابتداء وردا أكمل من تركها، وظاهر كلامهم أنه يكفي وعليكم السلام، وإن أتى المسلم
بلفظ الرحمة والبركة. قال ابن شهبة: وفيه نظر لقوله تعالى * (وإذا حييتم بتحية) * الآية، ولو سلم كل من اثنين
تلاقيا على الآخر معا لزم كل منهما الرد على الآخر ولا يحصل الجواب بالسلام، أو مرتبا كفى الثاني سلامه ردا إلا إذا قصد
به الابتداء فلا يكفي كما قاله الزركشي لصرفه عن الجواب.
فروع: يندب أن يسلم الراكب على الماشي، والماشي على الواقف، والصغير على الكبير، والجمع القليل على
الجمع الكثير في حال التلاقي في طريق، فإن عكس لم يكره. أما إذا ورد من ذكر على قاعد أو واقف أو مضطجع
فإن الوارد يبدأ سواء أكان صغيرا أم لا، قليلا أم لا، ويكره تخصيص البعض من الجمع بالسلام ابتداء وردا، ولو سلم
بالعجمية جاز إن أفهم المخاطب وإن قدر على العربية، ويجب الرد لأنه يسمى سلاما، ويحرم أن يبدأ به الشخص
ذميا للنهي عنه، فإن بان من سلم عليه ذميا فليقل له ندبا: استرجعت سلامي كما في الروضة أو رد على سلامي كما في
الأذكار تحقيرا له، ويستثنيه بقلبه إن كان بين مسلمين، ولا يبدأ بتحية غير السلام أيضا كأنعم الله صباحك، أو صبحت
بالخير إلا لعذر، وإن كتب إلى كافر كتب ندبا السلام على من اتبع الهدى، ولو قام عن مجلس فسلم وجب الرد عليه
ومن دخل دارا ندب أن يسلم على أهله، وإن دخل موضعا خاليا من الناس ندب أن يقول: السلام علينا وعلى عباد
الله الصالحين، ويندب أن يسمي قبل دخوله، ويدعو بما أحب ثم يسلم بعد دخوله، وأن يبدأ بالسلام قبل الكلام
وإن كان مارا في سوق وجمع لا ينتشر فيهم السلام الواحد سلم على من يليه أول ملاقاته، فإن جلس إلى من سمعه
سقط عنه سنة السلام أو إلى من لم يسمعه سلم ثانيا، ولا يترك السلام لخوف عدم الرد عليه لكبر أو غيره، والتحية
من المار على من خرج من حمام أو على غيره بنحو صبحك الله بالخير أو السعادة، أو طاب حمامك، أو قواك الله
لا أصل لها إذ لم يثبت فيها شئ ولا جواب لقائلها، فإن أجاب بالدعاء فحسن إلا أن يريد تأديبه لتركه السلام فترك
الدعاء له أحسن. وأما التحية بالطليقة وهي أطال الله بقاءك فقيل بكراهتها، والأوجه أن يقال كما قال الأذرعي: إنه إن
215

كان من أهل الدين أو العلم، أو من ولاة العدل فالدعاء له بذلك قربة وإلا فمكروه، وحتى الظهر مكروه، ولا يغتر بكثرة
من يفعله. وتقبيل اليد لزهد أو صلاح أو نحوه من الأمور الدينية ككبر سن وشرف وصيانة مستحب، وتقبيلها
لدنيا
أو ثروة أو نحوها كشوكة ووجاهة مكروه شديد الكراهة، وتقبيل خد طفل لا يشتهى ولو لغيره وتقبيل من
أطرافه شفقة ورحمة سنة، ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح للتبرك، ويندب القيام للداخل إن كان فيه فضيلة ظاهرة
من علم أو صلاح، أو شرف، أو ولادة، أو رحم، أو ولاية مصحوبة بصيانة أو نحوها، ويكون هذا القيام للبر
والاكرام والاحترام، لا للرياء والاعظام، ويحرم على الداخل محبة القيام له بأن يقعد ويستمروا قيامه ماله كعادة الجابرة،
أما من أحب ذلك إكراما لا على الوجه المذكور فلا يتجه كما قال شيخنا تحريمه، وتندب المصافحة مع بشاشة الوجه
والدعاء بالمغفرة وغيرها للتلاقي، ولا أصل للمصافحة بعد صلاتي الصبح والعصر، ولكن لا بأس بها فإنها من جملة المصافحة
وقد حث الشارع عليها، وإن قصد بابا لغيره مغلقا ندب أن يسلم على أهله ثم يستأذن، فإن لم يجب إعادة ثلاث مرات
فإن أجيب فذاك، وإلا رجع، فإن قيل له بعد استئذانه: من أنت ندب أن يقول: فلان بن فلان أو نحوه مما يحصل به
التعريف، ولا بأس أن يكني نفسه، أو يقول القاضي فلان أو الشيخ فلان إذا لم يعرفه المخاطب إلا بذلك، ويكره
اقتصاره على قوله: أنا، أو الخادم، وتندب زيارة الصالحين، والجيران غير الأشرار، والاخوان والأقارب وإكرامهم
بحيث لا يشق عليه ولا عليهم، ويندب أن يطلب منهم أن يزوروه، وأن يكثروا زيارته بحيث لا يشق، وتندب عيادة
المرضى، وأن يضع من جاءه العطاس يده أو ثوبه أو نحوه على وجهه، ويخفف صوته ما أمكن، وأن يحمد الله عقب
عطاسه، ثم إن كان في صلاة أسر به أو في حالة بول، أو جماع أو نحوه حمد الله تعالى في نفسه، فإن حمد الله تعالى
شمت إلى ثلاث مرات، فإن زاد عليها دعي له بالشفاء ويذكر بالحمد إن تركه، والتشميت للمسلم برحمك الله، أو
ربك، ويرد بيهديكم الله، ويغفر الله لكم، وابتداؤه وردة سنة عين إن تعين وإلا فكفاية. وتشميت الكافر
بيهديك الله ونحوه، لا بيرحمك الله تعالى، ويندب رد التثاؤب ما استطاع، فإن غلبه ستر فمه بيده أو غيرها، ويندب
أن يرحب بالقادم المسلم، وأن يلبي دعاءه. أما الكافر فلا، وأن يخبر أخاه بحبه له في الله، وأن يدعو لمن أحسن إليه
ولا بأس بقول الرجل الجليل في علمه أو صلاحه أو نحوه: جعلني الله فداك، أو فداك أبي وأمي. ودلائل ما ذكر من
الأحاديث الصحيحة كثيرة مشهورة. ثم شرع في موانع الجهاد فقال: (ولا جهاد) واجب إلا على مسلم أو مرتد كما قاله
الزركشي بالغ عاقل ذكر مستطيع له حر ولو سكران واجدا هبة القتال، فلا يجب على كافر ولو ذميا، لأنه يبذل الجزية
ليذب عنه لا ليدب عنا، ولا (على صبي ومجنون) لعدم تكليفهما، ولقوله تعالى * (ليس على الضعفاء) * الآية، قيل: هم
الصبيان لضعف أبدانهم: وقيل: المجانين لضعف عقولهم، ولان النبي صلى الله عليه وسلم رد جماعة استصغرهم.
وروى الشيخان: أنه صلى الله عليه وسلم رد ابن عمر يوم أحد وأجازه في الخندق، وكذا اتفق ل سعد بن حبتة -
بحاء مهملة ثم باء موحدة ثم مثناة فوقية - الأنصاري، ولما رآه النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق يقاتل قتالا شديدا،
وهو حديث السن، قال: أسعد الله جد ك اقترب مني، فاقترب منه فمسح رأسه ودعا له بالبركة في ولده ونسله، فكان عما
لأربعين، وخالا لأربعين، وجدا لعشرين، كذا ذكره ابن دحية وغيره (و) لا على خنثى، ولا (امرأة) لضعفها،
ولقوله تعالى: * (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) * وإطلاق لفظ المؤمنين ينصرف للرجال دون النساء والخنثى
مثلها، وأحسن الحسن بن هانئ في قوله:
وإذا المطي بنا بلغن محمدا فظهورهن على الرجال حرام
(و) لا على (مريض) يتعذر قتاله أو تعظم مشقته ولا على أعمى (و) لا (ذي عرج بين) ولو في رجل واحدة،
لقوله تعالى * (ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) * فلا عبرة بصداع ووجع ضرس
وضعف بصر إن كان يدرك شخص ويمكنه اتقاء السلاح، ولا عرج يسير لا يمنع المشي والعدو والهرب (و) لا على (أقطع)
216

يد بكمالها أو معظم أصابعها، بخلاف فاقد الأقل، أو فاقد الأنامل، أو أصابع الرجلين إن أمكنه المشي بغير
عرج بين (و) لا على (أشل) يد أو معظم أصابعها، لأن مقصود الجهاد البطش والنكاية وهو مفقود فيهما، لأن
كلا منهما لا يتمكن من الضرب (و) لا على (عبد) ولو مبعضا أو مكاتبا، لقوله تعالى * (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله)
* ولا مال للعبد ولا نفس يملكها فلم يشمله الخطاب حتى لو أمره سيده لم يلزمه كما قاله الإمام، لأنه
ليس من أهل هذا الشأن، وليس القتال من الاستخدام المستحق للسيد، لأن الملك لا يقتضي التعرض للهلاك
(و) لا على (عادم أهبة قتال) من نفقة وسلاح، وكذا مركوب إن كان سفر قصر، فإن كان دونه لزمه إن كان
قادرا على المشي فاضل ذلك عن مؤنة من تلزمه مؤنته كما في الحج، ولو مرض بعدما خرج أو فني زاده أو هلكت
دابته فهو بالخيار بين أن يتصرف أو يمضي، فإن حضر الوقعة جاز له الرجوع على الصحيح إذا لم يمكنه القتال، فإن
أمكنه الرمي بالحجارة فالأصح في زوائد الروضة الرمي بها على تناقض وقع له فيه، ولو كان القتال على باب داره أو
حوله سقط اعتبار المؤن كما ذكره القاضي أبو الطيب وغيره.
تنبيه: أشعر كلامه باشتراط ملكه الأهبة إلا أن يريد بالعدم عدم الملك والقدرة، ولو بذل لعادم الأهبة ما يحتاج
إليه، فإن كان الباذل من بيت المال لزمه وإلا فلا. ثم أشار لضابط يعم ما سبق وغيره بقوله (وكل عذر منع وجوب
الحج) كفقد زاد وراحلة (منع الجهاد) أي وجوبه (إلا خوف طريق من كفار) فلا يمنع وجوبه جزما لبناء الجهاد على
مصادمة المخاوف (وكذا) خوف (من لصوص المسلمين) لا يمنع وجوبه (على الصحيح) لأن الخوف يحتمل في هذا السفر
وقتال اللصوص أهم وأولى، والثاني يمنع كالحج فإنه قد يأنف من قتال المسلمين.
تنبيه: محل الوجوب في الصورتين إذا كان له قوة تقاومهم وإلا فهو معذور. ولما فرغ من موانع الجهاد الحسية
شرع في موانعه الشرعية فقال (والدين الحال) على موسر لمسلم أو ذمي (يحرم) بكسر الراء المشددة (سفر جهاد و)
سفر (غيره) لأنه متعين عليه أداؤه، والجهاد على الكفاية وفرض العين مقدم على فرض الكفاية، وفي صحيح
مسلم: القتل (في سبيل الله) يكفر كل شئ إلا الدين. (إلا بإذن غريمه) وهو رب الدين الجائز الاذن فله منعه من السفر لتوجه المطالبة
به والحبس إن امتنع، فإن أذن له لم يحرم. أما غير جائز الاذن كولي المحجور، فلا يأذن لمدين المحجور في السفر
وكالمديون وليه كما بحثه بعض المتأخرين لأنه المطالب، ولو استناب الموسر من يقضي دينه من مال حاضر جاز له
السفر بغير إذن غريمه بخلاف ما له الغائب فإنه قد لا يصل، وأما المعسر فليس لغريمه منعه على الصحيح في أصل الروضة،
إذ لا مطالبة في الحال.
تنبيه: حيث جاهد بالاذن قال الماوردي والروياني: لا يتعرض للشهادة ولا يتقدم أمام الصفوف بل يقف
في وسطها وحواشيها ليحفظ الدين بحفظ نفسه. (و) الدين (المؤجل لا) يحرم السفر مطلقا، فلا يمنعه رب الدين
وإن قرب الاجل لأنه لا يتوجه عليه الطلب به إلا بعد حلوله وهو الآن مخاطب بفرض الكفاية، وللمستحق الخروج
معه إن شاء ليطالبه عند الحلول (وقيل يمنع سفرا مخوفا) كالجهاد وركوب البحر صيانة لحق الغريم (ويحرم) على رجل
(جهاد) بسفر وغيره (إلا بإذن أبويه إن كانا مسلمين) لأن الجهاد فرض كفاية وبرهما فرض عين، وفي الصحيحين:
أن رجلا استأذن النبي (ص) في الجهاد. فقال: ألك والدان؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد وفي رواية: ألك والدة؟
قال: نعم، قال: فانطلق إليها فأكرمها فإن الجنة تحت رجليها رواه الحاكم، وقال صحيح. ولو كان الحي أحدهما لم يجز
إلا بإذنه وجميع أصوله كذلك، ولو وجد الأقرب منهم وأذن سواء كانوا أحرارا أم أرقاء ذكورا أم إناثا لأن
217

برهم متعين بخلاف الكافر منهم لا يجب استئذانه. وكذا المنافق كما نص عليه في الام، ولو كان الولد رقيقا
اعتبر إذن سيده لا والديه كما قال الماوردي: ويلزم المبعض استئذان الأبوين لما فيه من الحرية والسيد لما فيه من
الرق (لا سفر تعلم فرض عين) حيث لم يجد من يعلمه أو توقع زيادة فراغ أو إرشاد فإنه جائز بغير إذنهم كحج تضيق
عليه، وكذا إن لم يتضيق على الصحيح (وكذا) سفر تعلم فرض (كفاية) فيجوز أيضا بغير إذنهم (في الأصح)
كأن خرج طالبا لدرجة الافتاء، وفي الناحية من يستقل بذلك لأن الحجر على المكلف وحبسه بعيد، والثاني لهما المنع
كالجهاد، وفرق الأول بأن الجهاد فيه خطر، فإن لم يكن في الناحية مستقل بالافتاء، ولكن خرج جماعة فليس
للأبوين المنع على المذهب لأنه لم يوجد في الحال من يقوم بالمقصود، والخارجون قد لا يظفرون بالمقصود، وإن لم
يخرج معه أحد لم يحتج إلى إذن ولا منع لهما قطعا لأنه بالخروج يدفع الاثم عن نفسه كالفرض المتعين
عليه، وقيد الرافعي الخارج وحده بالرشيد، وينبغي كما قال الأذرعي: أن لا يكون أمرد جميلا يخشى عليه. قال
الماوردي: ولو وجب عليه نفقة أبويه وجب استئذانهما ولو كافرين إلا أن يستنيب من ينفق عليهما من ماله الحاضر،
وقضيته كما قال الزركشي: أن يكون الفرع إذا وجبت نفقته كذلك إن كان الفرع أهلا للاذن، وهذا يلغز به، فيقال
والد لا يسافر إلا بإذن ولده. قال البلقيني: والقياس أنه لو أداه، أي من ينفق عليه نفقة ذلك اليوم، وسافر في بقيته
كان كالمديون بدين مؤجل.
تنبيه: سكت المصنف عن حكم السفر المباح كالتجارة، وحكمه إن كان قصيرا فلا منع منه بحال وإن كان
طويلا، فإن غلب الخوف فكالجهاد وإلا جاز على الصحيح بلا استئذان، والوالد الكافر في هذه الاسفار كالمسلم
ما عدا الجهاد كما مر. (فإن أذن) لرجل (أبواه والغريم) في جهاد (ثم رجعوا) بعد خروجه وعلم بذلك (وجب)
عليه (الرجوع إن لم يحضر الصف) لأن عدم الإذن عذر يمنع وجوب الجهاد، فكذا طربانه كالعمى والمرض،
ولو أسلم أصله الكافر بعد خروجه ولم يأذن وعلم الفرع الحال فكالرجوع عن الاذن. ويستثنى من كلامه ما لو خاف على
نفسه أو ماله أو خالف انكسار قلوب المسلمين برجوعه، أو خرج مع الإمام بجعل كما قاله الماوردي تبعا للنص فلا يلزمه
الرجوع، بل لا يجوز في معظم ذلك، وإن أمكنه الإقامة عند الخوف بموضع في طريقه إلى أن يرجع الجيش فيرجع
معهم الرجوع لزمه ذلك، وإن لم يمكنه الإقامة ولا الرجوع فله المضي مع الجيش، لكن يتوقى مظان القتل كما نص عليه في
الام (فإن) حضر الصف و (شرع في قتال) بأن التقى الصفان، ثم رجع من ذكر وعلم برجوعه (حرم
الانصراف في الأظهر) وعبر في الروضة بالأصح لوجوب المصابرة، لقوله تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة
فاثبتوا) * ولان الانصراف يشوش أمر القتال ويكسر القلوب، والثاني لا يحرم، بل يجب الانصراف رعاية لحق الآدمي
الذي بناؤه على الضيق. وعلى الأول لا يقف موقف طلب الشهادة، بل في آخر الصفوف يحرس كما قاله القاضي أبو الطيب،
وحكي عن نص الشافعي رضي الله تعالى عنه.
تنبيه: لو قال: فإن حضر الصف كما قدرته كان أولى لأن حرمة الانصراف لا تتوقف على القتال حقيقة، بل
التقاء الصفين كاف في ذلك كما مر.
فروع: لو خرج بلا إذن وشرع في القتال حرم الانصراف أيضا لما مر. ورجوع العبد إن خرج بلا إذن
قبل الشروع في القتال واجب وبعده مندوب، وإنما لم يجب عليه الثبات بعد لأنه ليس من أهل الجهاد، ولو مرض
من خرج للجهاد أو عرج عرجا بينا أو تلف زاده أو دابته فله الانصراف ولو من الوقعة إن لم يورث فشلا في المسلمين
وإلا حرم عليه انصرافه منها، ولا ينوي المنصرف من الوقعة لمرض ونحوه فرارا، فإن انصرف ثم زال العذر قبل
مفارقته دار الحرب لا بعده لزمه الرجوع للجهاد. ومن شرع في صلاة جنازة لزمه الاتمام لأنها في حكم الخصلة الواحدة بخلاف
218

من شرع في تعلم علم لا يلزمه إتمامه، وإن أنس من نفسه الرشد فيه لأن الشروع لا يغير حكم المشروع فيه غالبا. قال
الأذرعي: والمختار لزوم اتمامه لأنه تلبس بفرض، ولو شرع لكل شارع في علم الشريعة الاعراض عنه لأدى ذلك إلى
إضاعة العلم، وأجاب السبكي عن القياس على الجهاد بأن المشتغل بالعلم له باعث نفسي عمن يحثه على دوام الاشتغال به
لمحبة ثمرته والمقاتل ميلة إلى الحياة يباعده عن ذلك لكراهة الموت وشدة سكراته، فوكل المشتغل بالعلم إلى محبته لأنه منهوم
لا يشبع، وكلف المقاتل بالثبات عند الممات الذي منه يفزع، ولذلك قال (ص) مداد العلماء أفضل من دم الشهداء.
ثم شرع المصنف في الحال (الثاني) من حالي الكفار، وهو ما تضمنه قوله: (يدخلون بلدة لنا) أو
ينزلون على جزائر أو جبل في دار الاسلام ولو بعيدا عن البلد (فيلزم أهلها الدفع بالممكن) منهم، ويكون الجهاد حينئذ فرض عين، وقيل
كفاية. واعتمده البلقيني: وقال إن نص الشافعي يشهد له (فإن أمكن) أهلها (تأهب) استعدادا (لقتال وجب) على كل
منهم (الممكن) أي الدفع للكفار بحسب القدرة (حتى على فقير) بما يقدر عليه (وولد ومدين) وهو من عليه دين (وعبد
بلا إذن) من أبوين ورب دين ومن سيد، وينحل الحجز عنهم في هذه الحالة، لأن دخولهم دار الاسلام خطب عظيم
لا سبيل إلى إهماله فلا بد من الجد في دفعه بما يمكن، وفي معنى دخولهم البلدة ما لو أطلوا عليها. والنساء كالعبيد إن كان
فيهن دفاع، وإلا فلا يحضرن. قال الرافعي: ويجوز أن لا تحتاج المرأة إلى إذن الزوج (وقيل: إن حصلت مقاومة بأحرار
اشترط) في عبد (أذن سيده) لأن في الأحرار غنية عنهم واعتمده البلقيني وقال: هو مقتضى نص الشافعي. والأصح
في الشرح والروضة الأول لتقوى القلوب وتعظم الشوكة وتشتد النكاية في الكفار انتقاما من هجومهم (وإلا) بأن لم
يمكن أهل البلدة التأهب لقتال بأن هجم الكفار عليهم بغتة (فمن قصد) من المكلفين ولو عبدا، أو امرأة، أو
مريضا
أو نحوه دفع عن نفسه الكفار (بالممكن) له (إن علم أنه إن أخذ قتل) بضم أولهما (وإن جوز) المكلف المذكور (الأسر
) والقتل (فله) أن يدفع عن نفسه، و (أن يستسلم) لقتل الكفار إن كان رجلا لأن المكافحة حينئذ استعجال للقتل
والأسر يحتمل الخلاص هذا إن علم أنه إن امتنع من الاستسلام قتل، وإلا امتنع عليه الاستسلام. أم المرأة فإن علمت
امتداد الأيدي إليها بالفاحشة فعليها الدفع وإن قتلت لأن الفاحشة لا تباح عند خوف القتل وإن لم تمتد الأيدي إليها
بالفاحشة الآن، ولكن توقعتها بعد السبي احتمل جواز استسلامها ثم تدفع إذا أريد منها. ذكر ذلك في الروضة كأصلها،
ثم ما مر حكم أهل بلدة دخلها الكفار، وأشار لغيرهم بقوله (ومن هو دون مسافة قصر من البلدة) التي دخلها الكفار
حكمه (كأهلها) فيجب عليهم المضي إليهم إن وجدوا زادا، ولا يعتبر المركوب لقادر على المشي على الأصح، هذا
إن لم يكن في أهل البلد التي دخلوها كفاية، وكذا إن كان في الأصح لأنهم كالحاضرين معهم، وليس لأهل البلدة ثم
الأقربين فالأقربين إذا قدروا على القتال أن يلبثوا إلى لحوق الآخرين (ومن) أي والذين هم (على المسافة) للقصر
فأكثر (يلزمهم) في الأصح إن وجدوا زادا ومركوبا (الموافقة بقدر الكفاية إن لم يكف أهلها ومن يليهم) دفعا
عنهم وإنقاذا لهم.
تنبيه: أشار بقوله بقدر الكفاية إلى أنه لا يجب على الجميع الخروج، بل إذا صار إليهم قوم فيهم كفاية سقط
الحرج عن الباقين. (قيل: وإن كفوا) أي أهل البلد ومن يليهم يلزم من كان على مسافة القصر موافقتهم مساعدة
219

لهم، ودفع بأن هذا يؤدي إلى الايجاب على جميع الأمة وفي ذلك حرج من غير حاجة.
تنبيه: قائل هذا الوجه إنما يوجب على الأقربين فالأقربين بلا ضبط حتى يصل الخبر بأنهم قد كفوا، فكان
ينبغي للمصنف أن يقول: ومن على مسافة. قيل يلزمهم الأقرب فالأقرب، والأصح إن كفى أهلها لم يلزمهم (ولو
أسروا) أي الكفار (مسلما فالأصح وجوب النهوض إليهم) وإن لم يدخلوا دارنا (لخلاصه إن توقعناه) بأن يكونوا قريبين
كما ننهض إليهم عند دخولهم دارنا بل أولى، لأن حرمة المسلم أعظم من حرمة الدار. والثاني المنع، لأن إزعاج الجنود
لخلاص أسير بعيد، أما إذا لم يمكن تخليصه بأن لم يرجوه فلا يتعين جهادهم، بل ينتظر للضرورة، وذكر في التنبيه
وغيره فك من أسر من الذميين.
تتمة: لا تتسارع الطوائف والآحاد منا إلى دفع ملك منهم عظيم شوكته دخل أطراف بلادنا لما فيه من عظم
الخطر.
فصل: فيما يكره من الغزو، ومن يحرم أو يكره قتله من الكفار، وما يجوز قتالهم به (يكره غزو بغير إذن الإمام
أو نائبه) تأدبا معه، ولأنه أعرف من غيره بمصالح الجهاد، وإنما لم يحرم لأنه ليس فيه أكثر من التغرير
بالنفوس وهو
جائز في الجهاد، وينبغي كما قال الأذرعي: تخصيص ذلك بالمتطوعة، أما المرتزقة فلا يجوز لهم ذلك لأنهم مرصدون لمهمات
تعرض للاسلام يصرفهم فيها الإمام، فهم بمنزلة الاجراء.
تنبيه: استثنى البلقيني: من الكراهة صورا أحدها: أن يفوته المقصود بذهابه للاستئذان. ثانيها: إذا عطل
الإمام الغزو وأقبل هو وجنوده على أمور الدنيا كما يشاهد. ثالثها: إذا غلب على ظنه أنه لو استأذنه (لم يأذن له) ويسن
للإمام أو نائبه (إذا بعث سرية) لبلاد الكفار، وهي طائفة من الجيش يبلغ أقصاها أربعمائة، سميت بذلك،
لأنها تسري في الليل وقيل لأنها خلاصة العسكر وخياره. روى ابن عباس أن النبي (ص) قال: خير
الأصحاب أربعة، وخير السرايا أربعمائة، وخير الجيش أربعة آلاف، ولن تغلب اثنا عشر ألفا من قلة رواه
الترمذي وأبو داود، وزاد أبو يعلى الموصلي: إذا صبروا وصدقوا (أن يؤمر عليهم) أميرا مطاعا يرجعون إليه
في أمورهم (ويأخذ) عليهم (البيعة) وهي بفتح الموحدة: الحلف بالله تعالى (بالثبات) على الجهاد وعدم الفرار
اقتداء به (ص) كما هو مشهور في الصحيح، وأن يبعث الطلائع، ويتجسس أخبار الكفار. قال الشافعي
رضي الله تعالى عنه في الام: ولا ينبغي أن يولي الإمام الغزو إلا ثقة في دينه شجاعا في بدنه، حسن الإنابة، عارفا
بالحرب يثبت عند الهرب ويتقدم عند الطلب، وأن يكون ذا رأي في السياسة والتدبير ليسوس الجيش على اتفاق
الكلمة في الطاعة وتدبير الحرب في انتهاز الفرصة، وأن يكون من أهل الاجتهاد في أحكام الجهاد. وأما في الأحكام
الدينية ففيه وجهان: والظاهر عدم اشتراطه، ويستحب أن يخرج بهم يوم الخميس أول النهار، لأنه (ص)
كان يحب أن يخرج يوم الخميس، وأن يبعث الطلائع، ويتجسس أخبار الكفار، ويعقد الرايات، ويجعل
لكل فريق راية وشعارا. روى الحاكم عن البراء بن عازب أن النبي (ص) قال: إنكم ستلقون عدوكم
فليكن شعاركم حم لا ينصرون قال ابن عباس: حم اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه حلف بالله لا ينصرون
وأن يحرصهم على القتال. وأن يدخل دار الحرب بنفسه. لأنه أحوط وأرهب وأن يدعو عند التقاء الصفين،
قال (ص): ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء: عند حضور الصلاة، وعند التقاء الصف في سبيل الله تعالى
ويستنصر بالضعفاء، قال (ص): هل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم. ويكبر بلا إسراف في رفع
220

الصوت، ويجب عرض الاسلام أولا إن علم أن الدعوى لم تبلغهم، وإلا استحب، وجاز بياتهم. قال الحليمي: وينبغي
أن تعرف الغزاة الآداب التي يحتاجون إليها وما يحل منها وما يحرم، والفرق بين الراجل والفارس، ومن
يسهم ومن لا يسهم له. (وله الاستعانة) على الكفار (بكفار) من أهل الذمة وغيرهم، وإنما تجوز الاستعانة بهم بشرطين:
أحدهما ما ذكره بقوله: (تؤمن خيانتهم). قال في الروضة: وأن يعرف حسن رأيهم في المسلمين. والرافعي جعل
معرفة حسن رأيهم مع أمن الخيانة شرطا واحدا. وثانيهما ما ذكره بقوله: (ويكونون بحيث لو انضمت فرقتا الكفر
قاومناهم) أي أنهم إذا انضموا إلى الفرقة الأخرى أمكن دفعهم، فإن زادوا بالاجتماع على الضعف لم تجز الاستعانة
بهم، وشرط العراقيون قلة المسلمين. قال الرافعي: وهذا الشرط وما قبله، أي وهو مقاومة الفريقين
كالمتنافيين، لأنهم
إذا قلوا حتى احتاجوا لمقاومة فرقة إلى الاستعانة بالأخرى كيف يقدرون على مقاومتهما معا. قال المصنف: ولا منافاة
لأن المراد أن يكون المستعان بهم فرقة يسيرة لا يكثر العدد بهم كثرة ظاهرة. قال البلقيني: وفيه لين، ثم أجاب بأن
الكفار إذا كانوا مائتين مثلا وكان المسلمون مائة وخمسين ففيهم قلة بالنسبة لاستواء العددين، فإذا استعانوا بخمسين
كافرا فقد استوى العددان، ولو انحاز هؤلاء الخمسون إلى العدو فصاروا مائتين وخمسين أمكن المسلمين مقاومتهم لعدم
زيادتهم على الضعف. قال: وأيضا ففي كتب جمع من العراقيين اعتبار الحاجة من غير ذكر القلة، والحاجة قد يكون
للخدمة فلا يتنافى الشرطان انتهى. وشرط الماوردي شرطا آخر، وهو أن يخالفوا معتقد العدو كاليهود مع النصارى
وأقره في زيادة الروضة.
تنبيه: يفعل الإمام بالمستعان بهم ما يراه مصلحة من أفرادهم بجانب الجيش أو اختلاطهم به بأن يفرقهم بين
المسلمين، والأولى أن يستأجرهم. لأن ذلك أحقر لهم، ويرد المخذل وهو من يخوف الناس كأن يقول: عدونا كثير
وجنودنا ضعيفة، ولا طاقة لنا بهم، ويرد المرجف، وهو من يكثر الأراجيف كأن يقول: قتلت سرية كذا، ولحق
مدد للعدو من جهة كذا، أو لهم كمين في موضع كذا، ويرد أيضا الخائن، وهو من يتجسس لهم ويطلعهم على العورات
بالمكاتبة والمراسلة، وإنما كان (ص) يخرج عبد الله بن أبي سلول في الغزوات، وهو رأس المنافقين
مع ظهور التخذيل وغيره منه، لأن الصحابة كانوا أقوياء في الدين لا يبالون بالتخذيل ونحوه، أو أنه (ص)
كان يطلع بالوحي على أفعاله فلا يتضرر بكيده ويمنع هذه الثلاثة من أخذ شئ من الغنيمة حتى سلب قتيلهم. (و)
الاستعانة (بعبيد بإذن السادة) لأنه ينتفع بهم في القتال: واستثنى البلقيني العبد الموصى بمنفعته لبيت المال والمكاتب
كتابة صحيحة فلا يعتبر إذن سيدهما. قال شيخنا: وفيما قاله في المكاتب وقفة اه‍. والظاهر أنه لا بد من الاذن (و) له
أيضا الاستعانة بأشخاص (مراهقين أقوياء) في قتال أو غيره كسقي ماء ومداواة الجرحى لما مر. ويصحب أيضا النساء
لمثل ذلك روى مسلم عن أم عطية رضي الله عنها قالت غزوت مع رسول الله (ص) سبع غزوات
أخلفهم في رحالهم وأصنع لهم الطعام، وأداوي لهم الجرحى، وأقوم على المرضى.
تنبيه: الخناثى والنساء، إن كانوا أحرارا كالمراهقين في استئذان الأولياء، أو أرقاء فكالعبيد في استئذان
السادات، هذا كله إذا كانوا مسلمين. أما إحضار نساء أهل الذمة وصبيانهم ففيه قولان في الشرح والروضة بلا ترجيح
ورجح البلقيني الجواز وقال إنه مجزوم به في الام، وظاهر كلامه اعتبار الاذن في العبيد دون المراهقين، ويشبه كما قال
ابن شهبة اعتبار إذن الأولياء، وهو ظاهر لا سيما إذا كان أصلا، لأنا إذا اعتبرنا إذنه في البالغ ففي المراهق
أولى.
فإن قيل: في الاستعانة بالمراهقين تعزير بأنفسهم، ولا أثر لرضاهم ورضا الأولياء بذلك لغرض الشهادة كما لا أثر لذلك
في إتلاف أموالهم. أجيب بأن في الاستعانة بهم أثرا ظاهرا، وهو تمرنهم على الجهاد. (وله) أي الإمام (بذل الأهبة
والسلاح من بيت المال ومن ماله) إعانة للغازي، وللإمام ثواب إعانته لخبر الصحيحين من جهر غازيا فقد غزا
221

وأما ثواب الجهاد فلمباشره، وللآحاد بذل ذلك من أموالهم، لهم ثواب إعانتهم، وثواب الجهاد لمباشره كما مر،
ومحله في المسلم. أما الكافر فلا، بل يرجع فيه إلى رأي الإمام لاحتياجه إلى اجتهاد، لأن الكافر قد يخون.
تنبيه: ما ذكر محله إذا بذل ذلك، لا على أن يكون الغزو للباذل، وإلا لم يجز كما صرح به الروياني وغيره
(ولا يصح استئجار مسلم لجهاد) لأنه يقع عنه، وما يأخذه المرتزقة من الفئ، والمتطوعة من الصدقات ليس بأجرة
لهم، بل هو مرتبهم وجهادهم وقع منهم، ولو أكره الإمام جماعة على الغزو لم يستحقوا أجرة لوقوع غزوهم لهم.
قال البغوي: هذا إن تعين عليهم، وإلا فلهم الأجرة من الخروج إلى حضور الوقعة. قال الرافعي: وهو حسن
فليحمل إطلاقهم عليه.
تنبيه: قد ذكر المصنف هذه المسألة في باب الإجارة، وذكر ههنا توطئا لقوله: (ويصح استئجار ذمي) ومعاهد
ومستأمن (للإمام) حيث تجوز الاستعانة بهم ولو بأكثر من سهم لراجل أو فارس، لأنه لا يقع عنه. فأشبه استئجار
الدواب واغتفرت الجهالة للضرورة، فإن المقصود القتال، ولان معاقدة الكفار يحتمل فيها ما لا يحتمل في معاقدة
المسلمين (قيل: ولغيره) من الآحاد كالاذان، والأصح المنع، لأنه من المصالح العامة لا تتولاها الآحاد، والاذان
الأجير فيه مسلم، وهذا كافر لا يؤتمن.
تنبيه: قضية كلامه صحة استئجار الذمي ونحوه بأي مال كان من نفسه، أو من أموال بيت المال، وليس
مرادا، بل إنما يعطى من سهم المصالح سواء كان مسمى أو أجرة مثل ولو من غير غنيمة قتاله لا من أصل الغنيمة،
ولا من أربعة أخماسها لأنه يحضر للمصلحة لا أنه من أهل الجهاد فإن أسلم انفسخت الإجارة وإن أكرهه الإمام
عليه، أو استأجره بمجهول كأن قال: أرضيك أو أعطيك ما تستعين به وقاتل وجب له أجرة المثل بخلاف ما إذا
لم يقاتل كنظائره، وإن قهر الكفار على الخروج إلى الجهاد فهربوا قبل وقوعهم في الصف، أو خلي سبيلهم قبله فلهم
أجرة الذهاب فقط، وإن تعطلت منافعهم في الرجوع، لأنهم ينصرفون حينئذ كيف شاؤوا ولا حبس ولا استئجار، وإن
رضوا بالخروج ولم يعدهم بشئ رضخ لهم من أربعة أخماس الغنيمة كما مر في بابها، وتفارق الأجرة بأنه إذا حضر طامعا
بلا مسمى فقد شبه بالمجاهدين فجعل في القسمة معهم، بخلاف ما إذا حضر بأجرة فإنها عوض محض ونظر مقصور عليها
فجعلت فيما يختص بيد الإمام وتصرفه ولا يزاحمه فيه الغانمون أما إذا خرجوا بلا إذن من الإمام فلا شئ لهم لأنهم ليسوا من
أهل الذب عن الدين بل متهمون بالخيانة والميل إلى أهل دينهم سواء نهاهم عن الخروج أم لا، بل له تعزيرهم فيما نهاهم عنه
إن رآه. (ويكره لغاز قتل قريب) له كافر لأن الشفقة قد تحمل على الندامة فيكون ذلك سببا لضعفه عن الجهاد، ولان
فيه قطع الرحم المأمور بصلتها وهي كراهة تنزيه وإن اقتضت العلة الثانية أنها كراهة تحريم (و) قتل قريب (محرم) له
(أشد) كراهة لأنه (ص) منع أبا بكر يوم أحد من قتل ولده عبد الرحمن ومنع أبا حذيفة من قتل أبيه
يوم بدر. (قلت: إلا أن يسمعه) أو يعلم بطريق يجوز له اعتماده أنه (يسب الله) تعالى (أو رسوله (ص)
) بأن يذكره بسوء فلا كراهة حينئذ (والله أعلم) بل ينبغي الاستحباب تقديما لحق الله تعالى وحق رسوله (ص)
قال تعالى * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله) * وفي الصحيحين: والذي
نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده زاد مسلم: والناس أجمعين. وكذا لا كراهة إذا قصد
هو قتله فقتله دفعا عن نفسه (ويحرم) عليه (قتل صبي ومجنون) ومن به رق (وامرأة وخنثى مشكل) للنهي عن قتل
الصبيان والنساء في الصحيحين، وألحق المجنون بالصبي، والخنثى بالمرأة لاحتمال أنوثته.
تنبيه: يستثنى من ذلك مسائل: الأول إذا لم يجد المضطر سواهم فله قتلهم وأكلهم على الأصح في زيادة الروضة
222

من كتاب الأطعمة. الثانية: إذا قاتلوا يجوز قتلهم، وقد استثناها في المحرر. الثالثة: حال الضرورة عند تترس الكفار
بهم كما سيأتي. الرابعة: إذا كانت النساء من قوم ليس لهم كتاب كالدهرية وعبدة الأوثان وامتنعن من الاسلام. قال
الماوردي: فيقتلن عند الشافعي رضي الله تعالى عنه. الخامسة: إذا سب الخنثى أو المرأة الاسلام أو المسلمين لظهور
الفساد، ويقتل مراهق نبت الشعر الخشن على عانته، لأن إنباته دليل بلوغه كما مر في الحجر لا إن ادعى استعجاله
بدواء وحلف أنه استعجله بذلك فلا يقتل بناء على أن الانبات ليس بلوغا بل دليل، وحلفه على ذلك واجب وإن
تضمن حلف من يدعي الصبا لظهور أمارة البلوغ فلا يترك بمجرد دعواه. (ويحل قتل راهب وأجير) ومحترف (وشيخ)
ولو ضعيفا (وأعمى وزمن) ومقطوع اليد والرجل وإن لم يحضروا الصف، و (لا قتال فيهم ولا رأي في الأظهر)
لعموم قوله تعالى * (اقتلوا المشركين) * ولأنهم أحرار مكلفون فجاز قتلهم كغيرهم والثاني المنع لأنهم لا يقاتلون فأشبهوا
النساء والصبيان.
تنبيه: محل الخلاف إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا قتلوا قطعا، والمراد بالراهب عابد النصارى، فيشمل الشيخ والشاب
والذكر والأنثى، واحترز بقوله: لا رأي فيهم عما إذا كان فيهم رأي فإنهم يقتلون قطعا، وقوله لا قتال فيهم، الظاهر
أنه قيد في الشيخ ومن بعده، فإن الراهب والأجير قد يكون فيهم القتال، ويجوز قتل السوقة لا الرسل فلا يجوز قتلهم
لجريان السنة بذلك، وإذا جاز قتل المذكورين (فيسترقون وتسبى نساؤهم) وصبيانهم ومجانينهم (و) تغنم (أموالهم)
وإذا منعنا قتلهم رقوا بنفس الأسر.
تنبيه: اقتصاره على سبي النساء يوهم أن صبيانهم ومجانينهم لا تسبى، وهو وجه، والأصح خلافه كما تقرر. (ويجوز
حصار الكفار في البلاد) والحصون (والقلاع، وإرسال الماء عليهم، ورميهم بنار ومنجنيق) وما في معنى ذلك من
هدم بيوتهم، وقطع الماء عنهم، وإلقاء حياة أو عقارب عليهم ولو كان فيهم نساء وصبيان لقوله تعالى * (وخذوهم
واحصروهم) *، وفي الصحيحين: أنه (ص) حاصر أهل الطائف وروى البيهقي: أنه نصب عليهم المنجنيق،
وقيس به ما في معناه مما يعم الاهلاك به.
تنبيه: مقتضى كلامه جواز ذلك وإن كان فيهم النساء والصبيان واحتمل أن يصيبهم ذلك وهو كذلك لأن النهي
عن قتلهم محمول على ما بعد السبي لأنهم غنيمة، ومحل جواز ذلك في غير مكة وحرمها. فلو تحصن بها أو بموضع من
حرمها والعياذ بالله تعالى طائفة من الحربيين لم يجز قتالهم بما يعلم كما نقله في كتاب الحج من المجموع عن نصه في الام
في سير الواقدي، وظاهر كلامهم أنه يجوز إتلافهم بما ذكر وإن قدرنا عليهم بدونه. قال الزركشي وبه صرح
البندنيجي: نعم يكره حينئذ إذ لا نأمن من أن نصيب مسلما من الجيش نظنه كافرا قاله البلقيني وقال إنه أشار إليه في الام.
(و) يجوز (تبييتهم في غفلة) وهو الإغارة عليهم ليلا وهم غافلون لما في الصحيحين: أنه (ص) أغار على بني
المصطلق وسئل عن المشركين يبيتون فيصاب من نسائهم وذراريهم فقال: هم منهم.
تنبيه: استثنى بعضهم من إطلاق المصنف من لم تبلغه الدعوة. قال: فلا يجوز قتالهم بذلك حتى يدعوا إلى الاسلام،
فإن قتل منهم أحد ضمن بالدية والكفارة نص عليه الشافعي رحمه الله والأصحاب، ولا حاجة إلى استثنائه لأن هذا
شرط لأصل القتال. (فإن كان فيهم مسلم أسير أو تاجر) أو نحوه (جاز ذلك) أي الرمي بما ذكر وغيره (على المذهب)
لئلا يتعطل الجهاد لحبس مسلم عندهم وقد لا يصيب المسلم وإن أصيب رزق الشهادة.
تنبيه: تعبيره بالجواز لا يقتضي الكراهة سواء اضطروا إلى ذلك أم لا، وملخص ما في الروضة ثلاثة طرق:
المذهب إن لم يكن ضرورة كره تحرزا من إهلاك المسلم ولا يحرم على الأظهر، وإن كان ضرورة كخوف ضررهم
223

أو لم يحصل فتح القلعة إلا به جاز قطعا، وكالمسلم الطائفة من المسلمين كما قاله الرافعي، وقضيته عدم الجواز إذا كان في
المسلمين كثرة وهو كذلك. (ولو التحم حرب فتترسوا بنساء) وخناثى (وصبيان) ومجانين منهم (جاز) حينئذ
(رميهم) إذا دعت الضرورة إليه، ونتوقى من ذكر لئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى منع الجهاد وطريقا إلى الظفر بالمسلمين،
لأنا إن كففنا عنهم لأجل التترس بمن ذكر لا يكفون عنا فالاحتياط لنا أولى من الاحتياط لمن ذكر (وإن دفعوا بهم
عن أنفسهم ولم تدع ضرورة إلى رميهم فالأظهر تركهم) وجوبا لئلا يؤدي إلى قتلهم من غير ضرورة وقد نهينا عن
قتلهم، وهذا ما رجحه في المحرر. والثاني هو المعتمد كما صححه في زوائد الروضة جواز رميهم كما يجوز نصب المنجنيق
على القلعة وإن كان يصيبهم، ولئلا يتخذوا ذلك ذريعة إلى تعطيل الجهاد أو حيلة إلى استبقاء القلاع لهم، وفي ذلك
فساد عظيم. واحترز المصنف بقوله دفعوا بهم عن أنفسهم عما إذا فعلوا ذلك مكرا وخديعة لعلمهم بأن شرعنا يمنع من
قتل نسائهم وذراريهم فلا يوجب ذلك ترك حصارهم ولا الامتناع من رميهم وإن أفضى إلى قتل من ذكر قطعا،
قاله الماوردي. قال في البحر: وشرط جواز الرمي أن يقصد بذلك التوصل إلى رجالهم. (وإن تترسوا بمسلمين) ولو
واحدا أو ذميين كذلك (فإن لم تدع ضرورة إلى رميهم تركناهم) وجوبا صيانة للمسلمين وأهل الذمة وفارق النساء
والصبيان على المعتمد بأن المسلم والذمي محقونا الدم لحرمة الدين والعهد فلم يجز رميهم بلا ضرورة، والنساء والصبيان
حقنوا لحق الغانمين فجاز رميهم بلا ضرورة (وإلا) بأن دعت ضرورة إلى رميهم بأن تترسوا بهم حال التحام القتال
بحيث لو كففنا عنهم ظفروا بنا وكثرت نكايتهم (جاز رميهم) حينئذ (في الأصح) المنصوص ويقصد بذلك قتال
المشركين ونتوقى في المسلمين وأهل الذمة بحسب الامكان لأن مفسدة الاعراض أعظم من مفسدة الاقدام، ويحتمل هلاك
طائفة للدفع عن بيضة الاسلام ومراعاة الأمور الكلية. والثاني المنع إذا لم ينأت رمي الكفار إلا برمي مسلم أو ذمي
وكالذمي المستأمن.
تنبيه: إذا رمى شخص إليهم فأصاب مسلما لزمته الكفارة لأنه قتل معصوما، وكذا الدية إن علمه القاتل
مسلما، أو كان يمكنه توقيه والرمي إلى غيره، ولا قصاص عليهم لأنه مع تجويز الرمي لا يجتمعان، وحيث تجب في الحر دية
تجب في الرقيق قيمته، ولو تترس كافر بمال مسلم أو ركب مركوبه فرماه مسلم فأتلفه ضمنه إلا إن اضطر بأن لم يمكنه في
الالتحام الدفع إلا بإصابته في أحد وجهين يظهر ترجيحه، وإن قطع المتولي بأنه يضمنه كما لو أتلف مال غيره عند
الضرورة، ولو تترسوا بمسلمين في نحو قلعة عند محاصرتها، فلا نرمي الترس لأنا في غنية عن رميه. (ويحرم) على من
لزمه الجهاد عند التقاء صف المسلمين والكفار (الانصراف عن الصف) ولو غلب على ظنه أنه ثبت قتل لقوله
تعالى * (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الادبار) *، وفي الصحيحين: اجتنبوا السبع
الموبقات وعد منها الفرار يوم الزحف، وخرج بمن لزمه الجهاد من لم يلزمه كمريض وامرأة، وبالصف ما لو لقي مسلم
مشركين فله الانصراف وإن طلباه، وكذا إن طلبهما فقط فله الانصراف بعد ذلك كما في الروضة وأصلها وإن
قال
البلقيني إنه الأظهر، ومقتضى نص المختصر أنه ليس له الانصراف، هذا (إذا لم يزد عدد الكفار على مثلينا) بأن كانوا
مثلينا أو أقل، قال تعالى * (وإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين) *، وهو خبر بمعنى الامر: أي لصبر مائة لمائتين
، وعليه حمل لقوله تعالى * (إذا لقيتم فئة فاثبتوا) *، إذ لو كان خبرا على ظاهره لم يقع بخلاف المخبر عنه لأن الخلف في أخبار الله
تعالى محال، والمعنى في وجوب المصابرة على الضعف أن المسلم على إحدى الحسنيين: إما أن يقتل فيدخل الجنة، أو يسلم فيفوز
بالاجر والغنيمة، والكافر يقاتل على الفوز: بالدنيا (لا) منصرفا عنه (متحرفا لقتال) وأصل التحرف الزوال عن
224

جهة الاستواء، والمراد به هنا الانتقال من مضيق إلى متسع يمكن فيه القتال، أو يتحول عن مقابلة الشمس أو الريح الذي
يسف التراب على وجهه إلى موضع واسع. قال الماوردي: وكذا لو كان في موضع معطش، فانتقل إلى موضع فيه
ماء (أو متحيزا إلى فئة) أي طائفة قريبة تليه من المسلمين (يستنجد بها) للقتال ينضم إليها ويرجع معها محاربا
فيجوز انصرافه، لقوله تعالى * (إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة) * والتحيز أصله الحصول في حيز وهو الناحية،
والمكان الذي يحوزه، والمراد به هنا الذهاب بنية الانضمام إلى طائفة من المسلمين ليرجع معهم محاربا، ولا يلزمه العود
ليقاتل مع الفئة المتحيز إليها على الأصح لأن عزمه العود لذلك رخص له الانصراف فلا حجر عليه بعد ذلك. والجهاد
لا يجب قضاؤه لأنه لا يجب بالنذر الصريح كما لا تجب به الصلاة على الميت، ففي العزم أولى (ويجوز) التحيز (إلى
فئة بعيدة في الأصح) المنصوص، لاطلاق الآية، ولقول عمر رضي الله عنه أنا فئة لكل مسلم وكان في المدينة
وجنوده بالشام والعراق، ولان عزمه على العود إلى القتال لا يختلف بالقرب والبعد. والثاني يشترط قربها ليتصور
الاستنجاد بهم في هذا القتال.
تنبيه: من عجز بمرض أو نحوه كغلبة عقل بلا إثم أو لم يبق معه سلاح جاز له الانصراف بكل حال، وكذا
إذا حضر بغير إذن سيده بل يسن له ذلك، ولو ذهب سلاحه وأمكن الرمي بالحجارة لم ينصرف عن الصف كما في
زائد الروضة هنا، وإن كان في أصل الروضة في الباب الأول صحح الانصراف، وإن ذهب فرسه وهو لا يقدر على
القتال راجلا جاز له الانصراف، ويندب لمن فر لعجز أو غيره مما ذكر قصد التحيز أو التحرف ليخرج عن صورة
الفرار المحرم، وإذا عصى بالفرار هل يشترط في توبته أن يعود إلى القتال أو يكفيه أنه متى عاد لا ينهزم إلا كما أمر الله
تعالى؟ فيه وجهان في الحاوي، والظاهر الثاني. (ولا يشارك متحيز إلى) فئة (بعيدة الجيش فيما غنم بعد
مفارقته)
لأن النصرة تفوت ببعده. أما ما غنموه قبل مفارقته فيشارك فيه كما نص عليه (ويشارك متحيز إلى) فئة (قريبة)
الجيش فيما غنم بعد مفارقته (في الأصح) لبقاء نصرته فهو كالسراية القريبة تشارك الجيش فيما غنمه. والثاني لا يشاركه
لمفارقته، ويشارك فيما غنم قبل مفارقته قطعا.
تنبيه: سكت المصنف عن بيان القريبة، والمراد بها أن تكون بحيث يدرك غوثها المتحيز عنها عند الاستغاثة
والمتحرف يشارك الجيش فيما غنم قبل مفارقته، ولا يشاركه فيما غنم بعدها نص عليه، أي إذا بعد، ومن أطلق أنه
يشاركه محمول على من يبعد كما فصل في الفئة.
فرع: لو ادعى الهارب التحرف صدق بيمينه إن عاد قبل انقضاء القتال، ويستحق من الجميع إن حلف
وإلا ففي المحوز بعد عوده فقط، قاله البغوي ورجحه في الروضة في باب قسم الغنيمة، والجاسوس إذا بعثه
الإمام لينظر عدد المشركين، وينقل أخبارهم إلينا يشارك الجيش فيما غنم في غيبته لأنه كان في مصلحتنا وخاطر بنفسه
أكثر من الثبات في الصف. (فإن زاد) عدد الكفار (على مثلين) منا (جاز الانصراف) عن الصف، لقوله تعالى *
(الآن خفف الله عنكم) * الآية (إلا أنه يحرم انصراف مائة بطل) من المسلمين (عن مائتين وواحد ضعفاء) من الكفار
(في الأصح) اعتبارا بالمعنى لأنهم يقاومونهم لو ثبتوا، وإنما يراعى العدد عند تقارب الأوصاف، والثاني لا تحرم
اعتبارا بالعدد.
تنبيه: الخلاف لا يختص بهذه الصورة، والضابط أن يكون من المسلمين مع القوة ما يغلب الظن أنهم يقاومون
الزيادة على مثليهم ويرجون الظفر بهم كما قاله البلقيني، ومأخذ الخلاف أنه هل يجوز أن يستنبط من النص معنى
يخصصه أو لا، والأصح الجواز كما خصص عموم * (أو لامستم النساء) * بغير المحارم، والمعنى الذي شرع القتال لأجله
225

وهو الغلبة دائر مع القوة والضعف لا مع العدد فيتعلق الحكم به، والخلاف جار في عكسه وهو فرار مائة من ضعفائنا
عن مائة وتسعين من أبطالهم. ووقع في الروضة من ضعفائهم، ونسب لسبق القلم. قال الماوردي والروياني: تجوز
الهزيمة من أكثر من المثلين وإن كان المسلمون فرسانا والكفار رجالة، ويحرم من المثلين وإن كانوا بالعكس.
قال في زيادة الروضة: وفيه نظر، ويمكن تخريجه على الوجهين السابقين: أي الضعفاء مع الابطال في أن الاعتبار بالمعنى
أو بالعدد، وهذا هو الظاهر وإن قال البلقيني: ما صححه من إدارة الحال على المعنى مخالف لظواهر نصوص الشافعي
التي احتج عليها بظاهر القرآن.
فرع: إذا زادت الكفار على الضعف ورجى الظفر بأن ظنناه إن ثبتنا استحب لنا الثبات، وإن غلب على
ظننا الهلاك بلا نكاية وجب علينا الفرار، لقوله تعالى * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * أو بنكاية فيهم استحب لنا
الفرار. (وتجوز) بلا ندب وكره (المبارزة) وهي ظهور اثنين من الصفين للقتال، من البروز وهو الظهور فهي
مباحة لنا لأن عبد الله بن رواحة وابن عفراء رضي الله تعالى عنهم بارزوا يوم بدر ولم ينكر عليهم رسول الله (ص)
(فإن طلبها كافر استحب الخروج إليه) أي لمبارزته لما في الترك من الضعف للمسلمين والتقوية
للكافرين (وإنما تحسن). أي تندب المبارزة بشرطين: أحدهما كونها (ممن) أي شخص (جرب نفسه) بأن
عرف منها القوة والجراءة، وإلا فتكره له ابتداء وإجابة (و) للشرط الثاني كونها (بإذن الإمام) أو أمير الجيش لأن
للإمام نظرا في تعيين الابطال، فإن بارز بغير إذنه جاز مع الكراهة. قال الماوردي: ويعتبر في الاستحباب أن
لا يدخل بقتله ضرر علينا بهزيمة تحصل لنا لكونه كبيرنا. قال البلقيني وغيره: وأن لا يكون عبدا ولا فرعا ولا مديونا
مأذونا لهم في الجهاد من غير تصريح بالاذن في البراز وإلا فيكره لهم.
تنبيه: لو تبارز مسلم وكافر بشرط أن لا يعين المسلمون المسلم ولا الكافرون الكافر إلى انقضاء القتال، أو كان
عدم الإعانة عادة فقتل الكافر المسلم أو ولى أحدهما منهزما أو أثخن الكافر جاز لنا قتله لأن الأمان كان إلى انقضاء
الحرب وقد انقضى، وإن شرط أن لا نتعرض للثخن وجب الوفاء بالشرط، وإن شرط الأمان إلى دخوله الصف وجب
الوفاء به، وإن فر المسلم عنه فتبعه ليقتله أو أثخنه الكافر منعناه من قتله وقتلنا الكافر وإن خالفنا شرط تمكينه من
إثخانه لنقضه الأمان في الأولى، وانقضاء القتال في الثانية، فإن شرط له التمكين من قتله فهو شرط باطل لما فيه من
الضرر، وهل يفسد أصل الأمان أو لا؟ وجهان: أوجههما الأول. فإن أعانه أصحابه قتلناهم وقتلناه أيضا إن لم يمنعهم.
أما إذا لم يشرط عدم الإعانة ولم تجربه عادة فيجوز قتله مطلقا، ويكره نقل رؤوس الكفار ونحوها من بلادهم إلى
بلادنا، لما روى البيهقي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه أنكر على فاعله وقال: لم يفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وما
روي من حمل رأس أبي جهل فقد تكلموا في ثبوته، وبتقدير ثبوته إنما حمل من موضع إلى موضع، لا من بلد إلى بلد
وكأنهم فعلوه لينظر الناس إليه فيتحققوا موته. نعم إن كان في ذلك نكاية للكفار لم يكره كما قاله الماوردي والغزالي،
وإن قال الرافعي لم يتعرض له الجمهور. (ويجوز) لنا (إتلاف بنائهم) بالتخريب (وشجرهم) بالقطع وغيره،
وكذا كل ما ليس بحيوان (لحاجة القتال والظفر بهم) لقوله تعالى * (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها
فبإذن الله) * وسبب نزولها أنه (ص): أمر بقطع نخل بنى النضير فقال واحد من الحصن: إن هذا لفساد يا محمد،
وإنك تنهى عن الفساد فنزلت رواه الشيخان من حديث ابن عمر، فإن توقف الظفر على إتلاف ذلك وجب كما
قطع به الماوردي وغيره (وكذا) أيجوز إتلافها (إن لم يرج) أي يظن (حصولها) أي الأبنية والأشجار (لنا
)
مغايظة لهم وتشديدا عليهم. قال تعالى * (ولا يطؤون موطئا يغيظ الكفار) * الآية، وقال تعالى: * (يخربون بيوتهم
226

بأيديهم وأيدي المؤمنين) * (فإن رجي) - بضم أوله، حصولها لنا (ندب الترك) وكره الاتلاف حفظا لحق الغانمين ولا يحرم
لأنه قد يظن شيئا فيظهر خلافه. أما إذا غنمناها بأن فتحنا دارهم قهرا أو صلحا على أن تكون لنا أو لهم أو غنمنا أموالهم
وانصرفنا فيحرم إتلافها لأنها صارت غنيمة لنا (ويحرم إتلاف الحيوان) المحترم للنهي عن ذبح الحيوان إلا لاكله،
وخالف الأشجار لأن للحيوان حرمتين: حق مالكه، وحق الله تعالى، فإذا سقطت حرمة المالك لكفره بقيت حرمة
الخالق في بقائه، ولذلك يمنع مالك الحيوان من إجاعته وعطشه بخلاف الأشجار (إلا) حيوانا مأكولا فيذبح للاكل
خاصة لمفهوم الخبر المار، أو (ما يقاتلونا عليه) أو خفنا أن يركبوه للغد كالخيل فيجوز إتلافه (لدفعهم أو ظفر بهم)
لأنها كالآلة للقتال، وإذا جاز قتل النساء والصبيان عند التترس بهم فالخيل أولى، وقد ورد ذلك في السير من فعل
الصحابة رضي الله تعالى عنهم من غير نكير (أو) إلا إذا (غنمناه وخفنا رجوعه إليهم وضرره) لنا فيجوز إتلافه دفعا
لهذه المفسدة ومغايظة لهم. أما إذا خفنا الاسترداد فقط فلا يجوز عقرها وإتلافها بل نذبح للاكل كما مر، وإن خفنا
استرداد نسائهم وصبيانهم ونحوهما منا لم يقتلوا لتأكيد احترامهم.
تتمة: ما أمكن الانتفاع به من كتبهم الكفرية والمبدلة والهجرية والفحشية لا التواريخ ونحوها مما يحل الانتفاع به
ككتب الشعر والطب واللغة يمحى بالغسل إن أمكن مع بقاء المكتوب فيه وإلا مزق، وإنما نقره بأيدي أهل الذمة
لاعتقادهم كما في الخمر وندخل المغسول والممزق في الغنيمة، وخرج بتمزيقه تحريقه فهو حرام لما فيه من تضييع المال
لأن للمزق قيمة وإن قلت. فإن قيل: قد جمع عثمان رضي الله عنه ما بأيدي الناس وأحرقه أو أمر بإحراقه لما جمع
القرآن ولم يخالفه غيره. أجيب بأن الفتنة التي تحصل بالانتشار هناك أشد منها هنا. أما غير المحترم كالخنزير والخمور
فيجوز إتلافها، لا أواني الخمور الثمينة، فلا يجوز إتلافها بل تحمل، فإن لم تكن ثمينة بأن لم تزد قيمتها على مؤنة
حملها أتلفت، هذا إذا لم يرغب أحد من الغانمين فيها، وإلا فينبغي أن تدفع إليه ولا تتلف، وإن كان الخنزير
يعدو على الناس وجب إتلافه وإلا فوجهان. قال في المجموع: ظاهر نص الشافعي أنه يتخير. قال
الزركشي: بل ظاهره الوجوب، وبه صرح الماوردي والروياني، وهو الظاهر لأن الخمر تراق، وإن لم يكن
فيها عدو.
فصل: في حكم ما يؤخذ من أهل الحرب (نساء الكفار) أي النساء الكافرات والخناثى (وصبيانهم) ومجانينهم (إذا
أسروا رقوا) - بفتح الراء - أي صاروا أرقاء بنفس الأسر، فالخمس منهم لأهل الخمس، والباقي للغانمين،
لأن النبي
(ص) كان يقسم السبي كما يقسم المال، والمراد بالسبي النساء والولدان.
تنبيه: من تقطع جنونه العبرة فيه بحال الأسر كما بحثه الإمام وصححه الغزالي. (وكذا العبيد) للكفار، ولو كانوا
مرتدين أو مسلمين صاروا أرقاء لنا.
تنبيه: عطف العبيد هنا مشكل، لأن الرقيق لا يرق، فالمراد استمراره لا تجديده، ومثلهم فيما ذكر المبعضون
تغليبا لحقن الدم.
تنبيه: لا يقتل من ذكر للنهي عن قتل النساء والصبيان، والباقي في معناهما، فإن قتلهم الإمام ولو لشرهم
وقوتهم ضمن قيمتهم للغانمين كسائر الأموال. (ويجتهد الإمام) أو أمير الجيش (في) أسر الكفار الأصليين
(الأحرار الكاملين) وهم الذكور البالغون العاقلون (ويفعل) فيهم وجوبا بعد أسرهم (الاحظ) للاسلام كالمن
227

عليهم، والأحظ (للمسلمين) من أربع خصال مذكورة في قوله (من قتل) بضرب رقبة لا بتحريق وتغريق (ومن)
عليهم بتخلية سبيلهم (وفداء) بكسر الفاء مع المد وبفتحها مع القصر (بأسرى) مسلمين كما نص عليه رجال أو غيرهم
أو أهل ذمة كما بحثه شيخنا (أو مال) يؤخذ منهم، سواء أكان من مالهم أو من مالنا في أيديهم (واسترقاق) للاتباع في
الأربعة، وقال تعالى * (اقتلوا المشركين) * وقال تعالى * (فإما منا بعد وإما فداء) * وقال تعالى * (حتى إذا أثخنتموهم فشدوا
الوثاق) *: أي بالاسترقاق.
تنبيه: شمل إطلاقه الاسترقاق استرقاق كل شخص، وكذا بعضه وهو الأصح. قال الرافعي: بناء على
تبعيض الحرية في ولد الشريك المعسر بقدر حصته، وإذا منعنا استرقاق بعضه فخالف رق كله، وعلى هذا يقال لنا
صورة يسري فيها الرق كما يسري فيها العتق. (فإن خفي) على الإمام الاحظ السابق (حبسهم حتى يظهر) له لأنه
راجع إلى الاجتهاد لا إلى التشهي فيؤخر لظهور الصواب، ولو بذل الأسير الجزية ففي قبولها وجهان. قال صاحب
البيان: الذي يقتضيه المذهب أنه لا خلاف في جواز قبول ذلك منه، وإنما الوجهان في الوجوب لأنه إذا جاز أن يمن عليه
من غير مال أو بمال يؤخذ منه مرة واحدة، فلان يجوز بمال يؤخذ منه في كل سنة أولى. قال في الشامل: وإذا بذل
الجزية حرم قتله وتخير الإمام فيما عدا القتل كما لو أسلم، وصححه الرافعي في باب الجزية. ثم ما جزم به المصنف من
التخيير هو فيمن له كتاب، أما غيره فأشار إلى خلاف في استرقاقه بقوله: (وقيل لا يسترق وثني) كما لا يجوز تقريره بالجزية
ورد بأن من جاز أن يمن عليه ويفادى جاز أن يسترق كالكتابي (وكذا عربي) لا يجوز أيضا استرقاقه (في قول) قديم
لحديث فيه ورد بأن الحديث واه وقد سبى (ص) بني المصطلق وهوازن وقبائل من العرب وأجرى
عليهم الرق كما رواه البخاري.
تنبيه: لا ترد أسلحتهم التي بأيدينا عليهم بمال يبذلونه لنا كما لا يجوز أن نبيعهم السلاح ونردها لهم بأسارى منا
في أحد وجهين، استظهره شيخنا وهو ظاهر كما تجوز المفاداة بهم ولان ما نأخذه خير مما نبذله، والوجه الآخر يمنع كما
يمنع الرد بمال وخرج بقولنا الكفار الأصليين المرتدون فيطالبهم الإمام بالاسلام، فإن امتنعوا فالسيق.
فرع: من استبد بقتل أسير إن كان بعد حكم الإمام بقتله فلا شئ عليه سوى التعزير لافتياته على الإمام، وإن
أرقه الإمام ضمنه القاتل بقيمته ويكون غنيمة، وإن من عليه فإن قتله قبل حصوله في مأمنه ضمن ديته لورثته أو
بعده هدر دمه وإن فداه فإن قتله قبل قبض الإمام فداءه ضمن ديته للغنيمة أو بعد قبضه وإطلاقه إلى مأمنه فلا
ضمان عليه لعوده إلى ما كان عليه قبل أسره وقضية هذا التعليل أن محل ذلك إذا وصل إلى مأمنه وإلا فيضمن ديته
لورثته وهو ظاهر. (ولو أسلم أسير) مكلف لم يختر الإمام فيه قبل إسلامه منا ولا فداء (عصم) الاسلام (دمه) فيحرم قتله
لخبر الصحيحين: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، إلى أن قال: فإذا قالوها عصموا مني دماءهم
وأموالهم وقوله: وأموالهم محمول على ما قبل الأسر بدليل قوله إلا بحقها، ومن حقها أن ماله المقدور عليه بعد الأسر
غنيمة (وبقي) فيه (الخيار في الباقي) في خصال التخيير السابقة، وهو المن والارقاق والفداء، لأن المخير بين أشياء إذا
سقط بعضها لتعذره لا يسقط الخيار في الباقي كالعجز عن العتق في الكفارة.
تنبيه: إنما تجوز المفاداة إذا كان عزيزا في قومه، أو له فيهم عشيرة ولا يخشى الفتنة في دينه ولا نفسه، أما إذا
اختار الإمام قبل إسلامه المن أو الفداء انتهى التخيير وتعين ما اختاره الإمام. (وفي قول يتعين الرق) بنفس الاسلام لأنه أسير
يحرم قتله فيمتنع عليه المن والفداء كالصبيان والنساء. ورد بأن الصبيان والنساء لم يكن مخيرا فيهم في الأصل بخلاف الأسير
(وإسلام كافر) مكلف، رجلا كان أو امرأة في دار حرب أو إسلام (قبل ظفر به) وهو أسره كما صرح به الشافعي رضي الله تعالى عنه
228

في المختصر. ولا يخالفه قول الروضة قبل أسره والظفر به لأنه عطف تفسير (يعصم دمه وماله) للخبر المار
(و) يعصم (صغار ولده) الأحرار عن السبي لأنهم يتبعونه في الاسلام. والجد كذلك في الأصح ولو كان الأب
حيا لما مر. وولده أو ولده المجنون كالصغير، ولو طرأ الجنون بعد البلوغ ما مر أيضا، ويعصم الحمل تبعا له لا إن
استرقت أمه قبل إسلام الأب فلا يبطل إسلامه رقه كالمنفصل وإن حكم بإسلامه. أما البالغ العاقل فلا يعصمه إسلام الأب
لاستقلاله بالاسلام. و (لا) يعصم إسلام الزوج (زوجته) عن الاسترقاق (على المذهب) المنصوص لاستقلالها ولو
كانت حاملا منه في الأصح. وفي قول مخرج لا تسترق لئلا يبطل حقه من النكاح، كما لو أعتق المسلم عبدا كافرا ثم
التحق بدار الحرب لا يجوز استرقاقه على المنصوص. وأجاب الأول بأن الولاء بعد ثبوته لا يمكن رفعه بحال بخلاف
النكاح. فإن قيل: لو بذل الجزية منع إرقاق زوجته وابنته البالغة فكان الاسلام أولى. أجيب بأن ما يمكن
استقلال
الشخص به لا يحصل فيه تابعا لغيره. والبالغة تستقل بالاسلام ولا تستقل ببذل الجزية. (فإن استرقت) أي إن قلنا
بأن زوجة من أسلم قبل الظفر أنها ترق (انقطع نكاحه في الحال) أي حال السبي سواء أكان قبل الدخول أم بعده
لامتناع إمساك الأمة الكافرة للنكاح كما يمتنع ابتداء نكاحها. ولقوله (ص) في سبايا أوطاس وبني المصطلق:
ألا لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حامل حتى تحيض ولم يسأل عن ذاك زوج ولا غيرها، ومعلوم أنه كان فيهم
من لها زوج (وقيل إن كان) استرقاقها (بعد الدخول بها انتظرت العدة فلعلها تعتق فيها) فيدوم النكاح كالردة
والأصح عدم الفرق ما مر، لأن حدوث الرق يقطع النكاح فأشبه الرضاع. (ويجوز إرقاق زوجة ذمي) إذا كانت
حربية: أي ترق بنفس الأسر وينقطع به نكاحه. فإن قيل: هذا يخالف قولهم أن الحربي إذا بذل الجزية عصم
نفسه وزوجته من الاسترقاق. أجيب بأن المراد هنا الزوجة الموجودة حين العقد فيتناولها العقد على جهة التبعية،
والمراد هنا الزوجة المتجددة بعد العقد، لأن العقد لم يتناولها، أو يحمل ما هناك على ما إذا كانت زوجته داخلة تحت
القدرة حين العقد، وما هنا على ما إذا لم تكن كذلك (وكذا عتيقه) الحربي يجوز إرقاقه (في الأصح) المنصوص
لأن الذمي لو التحق بدار الحرب استرق فعتيقه أولى. والثاني المنع لئلا يبطل حقه من الولاء (لا عتيق مسلم) التحق
بدار الحرب فلا تسترق، لأن الولاء بعد ثبوته لا يرتفع، وسواء أكان المعتق مسلما حال العتق أم كافرا ثم أسلم قبل أسر
العتيق قال البلقيني: وقل من تعرض لهذا الفرع: أي وهو ما إذا أعتق الكافر عبدا ثم أسلم قبل الأسر، وقد يفهم
كلام المصنف استرقاقه، إذ يصدق أنه ليس عتيق مسلم (و) لا (زوجته) أي المسلم (الحربية) فلا تسترق إذا
سبيت (على المذهب) وهذا ما صححه في المحرز، وهو المعتمد وإن كان مقتضى كلام الروضة والشرحين الجواز
فإنهما سويا في جريان الخلاف بينها وبين زوجة الحربي إذا أسلم لأن الاسلام الأصلي أقوى من الاسلام الطارئ. قال
ابن كج: ولو تزوج بذمية في دار الاسلام ثم التحقت بدار الحرب فلا تسترق قولا واحدا (وإذا سبي زوجان) معا
(أو أحدهما) فقط (انفسخ النكاح) بينهما سواء أكان ذلك في الدخول أم بعده (إن كانا حرين) لما رواه
مسلم أنهم لما امتنعوا يوم أوطاس من وطئ السبايا لأن لهن أزواجا أنزل الله تعالى * (والمحصنات من النساء) * أي
المتزوجات * (إلا ما ملكت أيمانكم) * فحرم المتزوجات إلى المملوكات بالسبي، فدل على ارتفاع النكاح، وإلا لما
حللن، ولعموم خبر: لا توطأ حامل حتى تضع إذ لم يفرق فيه بين المنكوحة وغيرها كما مر، ولان الرق إذا
حدث زال ملكها عن نفسها، فلان تزول العصمة بينها وبين الزوج أولى.
تنبيهان: أحدهما محل الانفساخ في سبي الزوج إن كان صغيرا أو مجنونا أو كاملا، واختيار الإمام رقه، فإن
كان اختار فداءه أو المن عليه استمرت الزوجية، ومحله في سبي الزوجة إذا كان الزوج كافرا، فإن كان مسلما بنى على
229

الخلاف المتقدم هل تسبى أو لا؟. ثانيهما التقييد بكونهما حرين يقتضي عدم الانفساخ فيما إذا كان أحدهما حرا والآخر
رقيقا، وليس مرادا، فلو كانت حرة وهو رقيق وسبيت وحدها أو معه انفسخ أيضا، والحكم في عكسه كذلك إن
كان الزوج غير مكلف أو مكلفا وأرقه الإمام، لأن العلة في انفساخ النكاح زوال ملكه عن نفسه فزوجته كذلك. (قيل:
أو رقيقين) فينفسخ النكاح بينهما لحدوث السبي، والأصح المنع إذا لم يحدث رق، وإنما انتقل الملك من مالك إلى آخر
فأشبه البيع، والخلاف جار سواء أسلما أم لا.
تنبيه: لو استأجر مسلم حربيا فاسترق أو داره فغنمت كان له استيفاء مدته، لأن منافع الأموال مملوكة ملكا
تاما مضمونة باليد كأعيان الأموال، وكما لا تغنم العين المملوكة للمسلم لا تغنم المنافع المملوكة له، بخلاف منفعة البضع
فإنها تستباح ولا تملك ملكا تاما، ولهذا لا تضمن باليد. (وإذا أرق) حربي (وعليه دين) لغير حربي (لم يسقط) لأن شغل
الذمة قد حصل ولم يوجد ما يقتضي إسقاطه، أما إذا كان الحربي فيسقط لعدم احترامه، وإذا لم يسقط دين غير الحربي
(فيقضي من ماله) حيث كان له مال (إن غنم بعد إرقاقه) ولو حكم بزوال ملكه عنه بالرق كما أن دين المرتد يقضى من
ماله وإن حكم بزوال ملكه، ولان الدين يقدم على الغنيمة كما يقدم على الوصية، أما إذا لم يكن له مال فإن دينه يبقى
في ذمته إلى أن يعتق ويوسر، وخرج بقوله بعد إرقاقه ما إذا غنم قبله فلا يقضى منه، لأن الغانمين ملكوه، وكذا ما غنم
مع استرقاقه في الأصح، فإن حق الغانمين تعلق بعين المال وحق صاحب الدين كان في الذمة وما يتعلق بالعين يقدم على
المتعلق بالذمة، وهل يحل الدين المؤجل بالرق؟ فيه وجهان: أصحهما أنه يحل، لأنه يشبه الموت من حيث أنه
يزيل الملك ويقطع النكاح.
تنبيهان: أحدهما لو كان الدين الذي على الحربي للسابي قال الشيخان: ففي سقوطه الوجهان فيمن كان له دين على
عبد غيره فملكه أي فيسقط، وهذا كما قال الأسنوي إنما هو ظاهر في قدر حصته وهي الأربعة أخماس، وأما الخمس
فينبغي أن لا يسقط ما يقابله قطعا ولهذا عدل ابن المقري عن هذه العبارة وقال: فلو ملكه الغريم سقط اه‍. فعلم أنه لا يسقط
إلا بقدر ما يملكه. الثاني: لو كان الدين لحربي على غير حربي فرق من له الدين لم يسقط بل يوقف فإن عتق فله، وإن
مات رقيقا ففئ. (ولو اقترض حربي من حربي) مالا (أو اشترى منه) شيئا بمال (ثم أسلما) معا أو مرتبا (أو) لم يسلما
بل (قبلا جزية) أو حصل لهما أمان، أو حصل أحدهما لأحدهما وغيره للآخر كما بحثه بعض المتأخرين (دام الحق) في
ذلك لالتزامه بعقد، وخرج بالمال نحو الخمر والخنزير مما لا يصح طلبه.
تنبيه: قد يفهم كلامه أنه لو أسلم أحدهما أو قبل جزية دون الآخر لا يدوم الحق، وليس مرادا في إسلام صاحب
الدين قطعا وفي إسلام
المديون في الأظهر. (و) الحربي (لو أتلف عليه حربي) آخر شيئا أو غصبه منه
(فأسلما) أو أسلم المتلف أو الغاصب أو قبلا الجزية (فلا ضمان) عليه (في الأصح) لأنه لم يلتزم شيئا، والاتلاف ليس
عقدا يستدام ولان الحربي إذا قهر حربيا على ماله ملكه والاتلاف نوع من القهر، ولان إتلاف مال الحربي لا يزيد
على مال المسلم، وهو يوجب الضمان على الحربي، والثاني يضمن لأنه لازم عنده. ثم شرع في حكم أموال الحربيين،
فقال: (والمال المأخوذ من أهل الحرب قهرا) عليهم حتى سلموه أو تركوه وانهزموا (غنيمة) لما مر في كتاب
قسمها، وكان ينبغي أن يقول: المال الذي أخذناه ليخرج ما أخذه أهل الذمة منه، فليس بغنيمة، وإنما أعاد
ذلك لضرورة التقسيم الدال عليه قوله (وكذا ما أخذه واحد أو جمع من دار الحرب بسرقة) أو نحوها ولم
230

يدخلها بأمان (أو) لم يؤخذ سرقة، بل هناك مال ضائع (وجد كهيئة اللقطة) فأخذه شخص بعد علمه أنه للكفار
فإنه في القسمين غنيمة (على الأصح) المنصوص لأن دخوله دار الحرب وتغريره بنفسه يقوم مقام القتال. والثاني هو
لمن أخذه خاصة وادعى الإمام الاتفاق عليه.
تنبيه: يستثنى من ذلك ما إذا كان سبب الوصول إلى اللقطة في دار الحرب هروبهم خوفا منا من غير قتال فإنها
فئ قطعا، وأما إذا كان بقتالنا لهم فهو غنيمة قطعا، ثم ما سبق إذا لم يمكن كونه لمسلم (فإن أمكن كونه) أي الملتقط
(لمسلم) بأن كان ثم مسلم (وجب تعريفه) فإذا عرفه ولم يعرفه أحد يكون غنيمة.
تنبيه: لم يصحح الشيخان شيئا في مدة التعريف، بل نقلا عن الشيخ أبي حامد أنه يعرفه يوما أو يومين. قال:
ويقرب منه قول الإمام يكفي بلوغ التعريف إلى الأجناد إذا لم يكن هناك مسلم سواهم ولا ينظر إلى احتمال مرور
التجار، وعن المهذب والتهذيب يعرفه سنة اه‍. واختلف المتأخرون في الترجيح، فاعتمد البلقيني ما قاله الإمام،
ونقله عن نص الام في سير الواقدي، وقال: إنه خارج عن قاعدة اللقطة، فتستثني هذه الصور من إطلاق تعريف
اللقطة سنة في غير الحقير. وقال الزركشي: شبه حمل الأول: أي كلام الشيخ أبي حامد على الخسيس، وقال
الأذرعي: الظاهر أنه لا فرق بين هذه وبين لقطة دار الاسلام في التعريف اه‍. وهذا هو الظاهر. ثم شرع في أحكام
الغنيمة، فقال: (وللغانمين) ممن يسهم لهم أو يرضخ ولو بغير إذن الإمام (التبسط في الغنيمة) قبل اختيار التملك
(بأخذ القوت) منها على سبيل الإباحة لا التمليك ينتفع به الآخذ ولا يتصرف فيه، ووقع في الحاوي الصغير: أنه
يملكه ولا يصرف لغيره.
تنبيه نبه في القوت على أنه لا يجوز أخذ شئ من الأموال، كسلاح ودابة ولا الانتفاع بها، فإن احتاج إلى
الملبوس لبرد أو حر ألبسه الإمام له، إما بالأجرة مدة الحاجة، ثم يرده إلى المغنم، أو يحبسه عليه من سهمه. (و)
للغانمين التبسط أيضا بأخذ (ما يصلح به) القوت، كزيت وسمن وعسل وملح (ولحم) لا لكلاب وبازا ت (وشحم)
لا لدهن الدواب، وإنما يجوز ذلك للاكل، فلو قال كلحم ليكون ذلك مثالا لما يصلح به لكان أولى (و) لهم
التبسط أيضا بأخذ (كل طعام يعتاد أكله) للآدمي (عموما) أي على العموم لما رواه البخاري عن ابن عمر رضي الله
تعالى عنهما قال كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا نرفعه، والمعنى فيه عزته في دار الحرب غالبا لاحراز
أهله له عنا، فجعله الشارع مباحا، ولأنه قد يفسد، وقد يتعذر نقله، وقد تزيد مؤنة نقله عليه. قال الإمام: ولو
وجد في دارهم سوقا وتمكن من الشراء منه جاز التبسط أيضا إلحاقا لدارهم فيه بالسفر في الرخص، وقضيته أنا لو
جاهدناهم في دارنا امتنع التبسط، ويجب حمله كما قال شيخنا على محل لا يعز فيه الطعام، واحترز بقوله: عموما عما
يحتاج إليه نادرا كالسكر والفانيد والأدوية، فلا يلحق بالأطعمة على الصحيح، فإن احتاج مريض منهم إلى شئ
من ذلك أعطاه له الإمام بقيمته أو يحسبه عليه من سهمه، فإن احتاج شخص منهم إلى القتال بالسلاح جاز للضرورة،
ولا أجرة عليه ويرده إلى المغنم بعد زوالها فإن لم يكن ضرورة لم يجز له استعماله، ولو اضطر إلى المركوب في القتال
فله ركوبه بلا أجر كما بحثه شيخنا كالقتال بالسلاح (و) لهم (علف الدواب) التي لا يستغنى عنها في الحرب، كفرسه
ودابة تحمل سلاحه ولو كانت عدد الواحد (تبنا وشعيرا ونحوهما) كقوله: لأن الحاجة تمس إليه كمؤنة نفسه. أما
ما يستصحبه من الدواب الزينة أو الفرجة: كفهود ونمور، فليس له علفها من مال الغنيمة قطعا.
231

تنبيه: العلف هنا بفتح اللام لأن المراد ما تأكله، ويجوز أن تكون ساكنة ويكون المراد أن له فعل ذلك من
الغنيمة. (و) لهم (ذبح) حيوان (مأكول للحمه) على الصحيح لأنه مما يؤكل عادة، فهو كاللحم، وقيل لا يجوز الذبح
لندرة الحاجة إليه، ورجحه البلقيني، وعلى الأول يجب رد جلده إلى المغنم إلا ما يؤكل مع اللحم، ولا يجوز أن يتخذ
من الجلد سقاء ولا خفا ولا غيرهما، فإن فعل وجب رد المصنوع كذلك، ولا شئ له إن زادت قيمته بالصنعة
وعليه الأرش إن نقصت، وإن استعمله لزمه أجرته (والصحيح) الذي قطع به الجمهور (جواز) أكل (الفاكهة)
رطبها ويابسها للخبر المار في العنب، والثاني المنع لندرة الحاجة إليها. قال الإمام: والحلواء، كالفاكهة (و) الصحيح
(أنه لا تجب قيمة المذبوح) لأجل أكل لحمه كما لا يجب قيمة الطعام المأخوذ، والثاني يجب، لأن الترخص ورد في الطعام،
والحيوان ليس بطعام، والصحيح كما يشعر به كلامه هنا وفيما بعده، وعبر في الروضة بالأصح فيهما (وأنه لا يختص
الجواز بمحتاج إلى طعام وعلف) بلام مفتوحة، بل يجوز، وإن لم يحتج في الأصح، فإن الرخصة وردت من
غير تفصيل، والثاني يختص بالمحتاج لاستغناء غيره عن أخذ حق الغير، وعلى الأول لو قل الطعام وازدحموا عليه،
نقل الإمام عن المحققين: أن الإمام يضع يده عليه ويقسمه على ذوي الحاجات. قال البغوي: ولهم التزود لقطع
مسافة بين أيديهم.
تنبيه: إنما يجوز التبسط والتزود بقدر الحاجة، فمن أكل فوق حاجته لزمه بدله. قال الزركشي: وينبغي أن
يقال به في علف الدواب، وهو ظاهر (و) الأصح المنصوص (أنه لا يجوز ذلك) أي التبسط المذكور (لمن لحق
الجيش بعد) انقضاء (الحرب، و) بعد (الحيازة) لأنه أجنبي عنهم كغير الضيف مع الضيف، والثاني يجوز لمظنة
الحاجة وعزة الطعام هناك.
تنبيه: عبارة الكتاب والمحرر والروضة تفهم جواز التبسط فيما إذا لحق بعد انقضاء الحرب وقبل الحيازة، وعبارة
الرافعي في الشرح تقتضي المنع لغير شاهد الوقعة، وهذا هو الظاهر كما أنه لا يستحق من الغنيمة شيئا، وجرى على
ذلك في الحاوي الصغير.
فرع: لو أضيف بما فوق حاجته الغانمين جاز، وليس فيه إلا تحمل التعب عنهم فإن ضيف به غيرهم
فكغاصب ضيف غيره بما غصبه فيأثم به، ويلزم الآكل ضمانه، ويكون المضيف له طريقان في الضمان. (و) الصحيح
وجعل الروضة وأصلها هذا الخلاف أقوالا (أن من رجع إلى دار الاسلام) أو دار يسكنها أهل الذمة أو العهد، وهي
في قبضتنا كما قاله الأذرعي (ومعه بقية) مما تبسط به (لزمه ردها إلى المغنم) أي الغنيمة لزوال الحاجة، والثاني لا يلزمه
لأن المأخوذ مباح، والأول قال بقدر الكفاية.
تنبيه: محل الرد إلى المغنم ما لم تقسم الغنيمة، فإن قسمت رد الإمام، ثم إن كثر قسم، وإلا جعل في
سهم المصالح. قال الإمام: ولا ريب أن إخراج الخمس منه ممكن، وإنما هذا في الأربعة الأخماس. (وموضع التبسط
دارهم) أي أهل الحرب جزما لأنه موضع العزة (وكذا) محل الرجوع (ما لم يصل) إلى (عمران الاسلام في الأصح)
لبقاء الحاجة إليه، فإن وصله انتهى التبسط لزوالها. والثاني المنع، لأن المظنة دار الحرب، وقد خرجوا عنها.
تنبيه: المراد بعمران الاسلام ما يجدون فيه حاجتهم من الطعام والعلف كما هو الغالب، فلو لم يجدوا فيها ذلك
232

فلا أثر له في منع التبسط في الأصح لبقاء المعنى، وكدار الاسلام بلد أهل ذمة أو عهد لا يمتنعون من معاملتنا، لأنها وإن
لم تكن مضافة إلى دار الاسلام فهي في قبضتنا بمثابتها فيما نحن فيه للتمكن من الشراء منهم، نقله في أصل الروضة عن
الإمام وأقره.
فروع: لو كان القتال في دارنا في موضع يعز الطعام ولا يجدونه بشراء جاز لهم التبسط أيضا بحسب الحاجة كما
قاله القاضي، ولا يجوز لهم التصرف بالبيع ونحوه فيما تزودوه من المغنم لما مر أنهم لا يملكونه، فلو أقرض منه غانم
غانما آخر كان له مطالبته بعينه أو بمثله ما لم يدخلوا دار الاسلام، فإن رده من المغنم صار الأول أحق به لحصوله
في يده، وليس له مطالبته به من خالص ماله، إذ ليس ذلك قرضا محققا، لأن الآخذ لا يملك المأخوذ حتى يملكه لغيره،
فلو رد عليه من ماله لم يأخذه، لأن غير المملوك لا يقابل بالمملوك، وإن فرغ الطعام سقطت المطالبة أو دخلوا دار
الاسلام، ولم يعز الطعام رده المفترض إلى الإمام لانقطاع حقوق الغانمين عن أطعمة المغنم، فإن بقي غير المقترض رده
إلى المغنم، ولو تبايع غانمان ما أخذاه صاعا بصاع أو بصاعين فكتناول الضيفان لقمة بلقمة أو بلقمتين، فلا يكون
ربا لأنه ليس بمعاوضة محققه، بل يأكل كل منهما ما صار إليه ولا يتصرف فيه ببيع ونحوه. (ولغانم) حر (رشيد
ولو) هو مريض أو سكران متعد بسكره أو (محجورا عليه بفلس الاعراض عن الغنيمة) أي عن حقه منها سهما كان
أو رضخا (قبل القسمة) وقبل اختيار التملك، لأن الغرض الأعظم من الجهاد إعلاء كلمة الله تعالى والذب عن الملة،
والغنائم تابعة، فمن أعرض عنها فقد جرد قصده للغرض الأعظم.
تنبيه: صورة الاعراض: أن يقول أسقطت حقي من الغنيمة، فإن قال: وهبت نصيبي فيها للغانمين وقصد
الاسقاط فكذلك، أو تمليكهم فلا لأنه مجهول، وإنما كان المفلس كغيره لأن الاعراض بمحض جهاده للآخرة، فلا
يمنع منه، ولان اختيار التملك كابتداء الاكتساب، والمفلس لا يلزمه ذلك. وخرج بالحر الذي قدرته في كلامه العبد،
فالاعراض إنما هو لسيده لأنه المستحق. نعم إن كان العبد مكاتبا أو مأذونا له في التجارة وقد أحاطت به الديون قال
الأذرعي: فلا يظهر صحة إعراضه في حقهما. قال شيخنا: وفي الثاني نظر. وبالرشيد الصبي والمجنون، فلا
إعراضهما عن الرضخ لأن عبارتهما ملغاة، ولا إعراض وليهما لعدم الحظ في إعراضه للمولى عليه، فإن بلغ الصبي
أو أفاق المجنون قبل اختيار التملك صح إعراضه.
تنبيه: التقييد بالرشد من زيادته على المحرر، وقضيته أنه لا يصح إعراض السفيه المحجور عليه. وقال الإمام:
إنه الظاهر. واقتصر في الشرح والروضة على نقله عنه وأقراه، وقالا: لو فك حجره قبل القسمة صح إعراضه. قال
البلقيني: وهذا إنما فرعه الإمام على أنه يملك بمجرد الاغتنام، وبه صرح في البسيط فقال: والسفيه يلزم حقه على
قولنا يملك ولا يسقط بالاعراض إلا على قولنا: إنه لا يملك، وتقدم أنه لا يملك إلا باختيار فيكون الأصح صحة
إعراضه، وكذا قالوا لا يجب مال فيما إذا عفا السفيه عن القصاص وأطلق. وفرعنا على أن الواجب القود عينا مع أنه
يمكنه جلب المال بالعفو عنه، وقد سووا بينه وبين المحجور عليه بالفلس هناك فينبغي التسوية بينهما هنا. وقال
في المهمات: الراجح صحة إعراضه. وقال الأذرعي: أنه مقتضى إطلاق الجمهور. قال ابن شهبة: ويمكن أن يقال إنه
لا يصح إعراضه. وإن قلنا لا يملك إلا باختيار التملك لأنه ثبت له اختيار تملك حق مالي، ولا يجوز للسفيه الاعراض
عن الحقوق المالية كجلد الميتة والسرجين، وأما القصاص فهو محض عقوبة شرع للتشفي فلهذا ملك العفو عنه اه‍.
وهذا يقوي كلام الشيخين، وفي قياسه على ما ذكره نظر لأن ما ذكره حاصل يريد الاعراض عنه بخلاف المقيس.
واحترز المصنف بقوله: قبل القسمة عما بعدها لاستقرار الملك، ولو قال قبل التملك كان أولى لأنه لو قال قبل
القسمة اخترت الغنيمة منع ذلك من صحة الاعراض في الأصح ولهذا قدرت في كلامه وقبل اختيار التملك. (والأصح)
المنصوص (جوازه) أي إعراض الحر الرشيد (بعد فرز الخمس) وقبل قسمة الأخماس الأربعة لأن إفراز الخمس
233

لا يتعين به حق كل واحد على ما كان عليه، والثاني منعه لتميز حق الغانمين (و) الأصح (جوازه) أي
الاعراض (لجميعهم) أي الغانمين، ويصرف حقهم مصرف الخمس، لأن المعنى المصحح للاعراض يشمل الواحد
والجميع والثاني المنع، لأن مصارف الخمس غير الأربعة الأخماس (و) الأصح (بطلانه) أي الاعراض (من
ذي القربى) المذكورين في باب قسم الفئ والغنيمة، والمراد الجس فيتناول إعراض بعضهم لأنهم يستحقون سهمهم
من غير عمل، بل هو منحة من الله تعالى، فأشبه الإرث (و) من (سالب) وهو مستحق سلب من قتله أو أسره كما
مر في بابه، لأن السلب متعين له كالمتعين بالقسمة والثاني صحته منهما كالغانمين.
تنبيه: إنما خص ذوي القربى بالذكر دون بقية أهل الخمس كاليتامى لأنها جهات عامة لا يتصور فيها إعراض
كالفقراء. (والمعرض) من الغانمين عن حقه حكمه (كمن لم يحضر) فيضم نصيبه إلى المغنم ويقسم بين المرتزقة وأهل
الخمس، وقيل يضم إلى الخمس خاصة (ومن) لم يعرض عن الغنيمة، و (مات فحقه لوارثه) كسائر الحقوق فيطلبه
أو يعرض عنه (ولا تملك) الغنيمة (إلا بقسمة) لأنهم لو ملكوها بالاستيلاء كالاصطياد والتحطب لم يصح إعراضهم،
لأن للإمام أن يخص كل طائفة بنوع من المال، ولو ملكوا لم يصح إبطال حقهم من نوع بغير رضاهم.
تنبيه: أفهم كلامه حصر ملكها في القسمة، وليس مرادا بل تملك بأحد أمرين: إما اختيار التملك كما في
الروضة كأصلها، وإما بالقسمة بشرط الرضا بها، ولذا قال في الروضة: وإنما اعتبرت القسمة لتضمنها اختيار التملك اه‍.
وأما قبل ذلك فإنما ملكوا أن يتملكوا كحق الشفعة كما قال. (ولهم) أي الغانمين بين الحيازة والقسمة (التملك)
قبل القسمة لأن حق التملك ثبت لهم (وقيل يملكون) الغنيمة بعد الحيازة قبل القسمة ملكا ضعيفا يسقط بالاعراض
(وقيل) الملك في الغنيمة موقوف (إن سلمت إلى القسمة بأن ملكهم) أي الغانمين لها بالاستيلاء (وإلا) بأن
تلفت أو أعرضوا عنها (فلا) يملكونها (ويملك العقار بالاستيلاء) عليه لعموم الأدلة كقوله تعالى * (واعلموا
أنما غنمتم من شئ) * الآية وزاد على المحرر قوله (كالمنقول) لينبه بذلك على أن ملك العقار بالاستيلاء رأي مرجوح
كما أنه في المنقول كذلك، ولو قال: ويملك العقار بما يملك به المنقول كان أوضح، وخرج بالعقار مواتهم فلا
يملك بالاستيلاء
لأنهم لم يملكوه إذ لا يملك إلا بالاحياء كما مر في بابه (ولو كان فيها) أي الغنيمة (كلب أو كلاب تنفع) لصيد أو
ماشية أو زرع أو غير ذلك (وأراده بعضهم) أي الغانمين من أهل خمس أو جهادا (ولم ينازع) فيه - بفتح الزاي -
بخطه (أعطيه) إذ لا ضرر في ذلك على غيره (وإلا) بأن نازعه غيره (قسمت) تلك الكلاب عددا (إن
أمكن) قسمتها (وإلا) بأن لم يمكن ذلك (أقرع) بينهم فيها دفعا للنزاع، أما ما لا تنفع فلا يجوز اقتناؤها
(والصحيح) المنصوص (أن سواد العراق) من البلاد وهو من إضافة الجنس إلى بعضه، لأن السواد أزيد من
العراق بخمسة وثلاثين فرسخا كما قاله الماوردي، وسمي سوادا لأنهم خرجوا من البادية فرأوا خضرة الزرع
والأشجار الملتفة والخضرة ترى من البعد سوادا، فقالوا: ما هذا السواد؟ ولان بين اللونين تقاربا فيطلق اسم أحدهما
على الآخر (فتح) في زمن عمر رضي الله تعالى عنه (عنوة) - بفتح العين - أي قهرا وغلبة (وقسم) بين الغانمين
(ثم) بعد قسمته واختيار تملكه (بذلوه) بمعجمة - أي أعطوه ل عمر بعوض أو بغير (ووقف) بعد استرداده دون
أبنيته الآتي في المتن حكمها (على المسلمين) لأنه خاف تعطل الجهاد باشتغالهم بعمارته لو تركه بأيديهم، ولأنه لم
234

يستحسن قطع من بعدهم عن رقبته ومنفعته وأجره من أهله إجارة مؤبدة بالخراج المضروب عليه على خلاف سائر
الإجارات وجوزت كذلك للمصلحة الكلية. قال العلماء: لأنه بالاسترداد رجع إلى حكم أموال الكفار، وللإمام أن يفعل
بالمصلحة الكلية في أموالهم ما لا يجوز في أموالنا كما يأتي مثله في مسألة البراءة، والرجعة وغيرهما.
تنبيه: معلوم أن البدل إنما يكون ممن يكن بذله كالغانمين وذوي القربى أن انحصروا بخلاف بقية أهل الخمس
فلا يحتاج الإمام في وقف حقهم إلى بذل لأن له أن يعمل في مثل ذلك ما فيه مصلحة لأهله. (وخراجه) المضروب
عليه (أجرة) منجمة (تؤدى كل سنة لمصالح المسلمين) الأهم فالأهم، وليس لأهل السواد بيعه ورهنه وهبته
لكونه صار وقفا ولهم إجارته مدة معلومة لا مؤبدة كسائر الإجارات، وإنما خولف في إجارة عمر رضي الله تعالى عنه
للمصلحة الكلية كما مر، ولا يجوز لغير ساكنه إزعاجهم عنه ويقول أنه استغله وأعطي الخراج لأنهم ملكوا بالإرث المنفعة
بعقد بعض آبائهم مع عمر رضي الله تعالى عنه والإجارة لازمة لا تنفسخ بالموت.
تنبيه: كان قدر الخراج في كل سنة ما فرضه عثمان بن حنيف لما بعثه عمر ماسحا، وهو على كل جريب شعير
درهمان، وجريب حنطة أربعة، وجريب شجر وقصب سكر ستة، وجريب نخل ثمانية، وجريب كرم عشرة
وجريب زيتون اثنا عشر درهما، والجريب عشر قصبات، كل قصبة ستة أذرع بالهاشمي، كل ذراع ست قبضات،
كل قبضة أربع أصابع، فالجريب مساحة مربعة، بين كل جانبين منها ستون ذراعا هاشميا. قال في الأنوار: الجريب
ثلاثة آلاف وستمائة ذراع. قال الرافعي: وكان مبلغ ارتفاع خراج السواد في زمن عمر رضي الله تعالى عنه مائة ألف
ألف وستة وثلاثين ألف ألف درهم ثم تناقص إلى أن بلغ في أيام الحجاج ثمانية عشر ألف ألف درهم لظلمه وغشمه،
فلما ولي عمر بن عبد العزيز ارتفع بعدله وعمارته في السنة الأولى إلى ثلاثين ألف ألف درهم، وفي السنة الثانية إلى ستين
ألف ألف درهم، وقال: إن عشت لأزيدنه إلى ما كان في أيام عمر رضي الله تعالى عنه فمات في تلك السنة. (وهو) أي سواد
العراق باتفاق مصنفي الفتوح والتاريخ زمن عرف أسماء البلدان (من) أول (عبادان) - بموحدة مشددة - مكان قرب البصرة
(إلى حديثة الموصل) بحاء مهملة وميم مفتوحتين (طولا) وقيدت الحديثة بالموصل لاخراج حديثة أخرى عند بغداد،
سميت الموصل، لأن نوحا ومن كان معه في السفينة لما نزلوا على الجودي أرادوا أن يعرفوا قدر الماء المتبقي على الأرض
فأخذوا حبلا وجعلوا فيه حجر ثم دلوه في الماء فلم يزالوا كذلك حتى بلغوا مدينة الموصل، فلما وصل الحجر سميت
الموصل. ثم أخذ المصنف في بيان عرض السواد بقوله (ومن) أول (القادسية) اسم مكان بينه وبين الكوفة نحو مرحلتين،
وبين بغداد نحو خمس مراحل، سميت بذلك لأن قوما من قادس نزلوها (إلى) آخر (حلوان) - بضم المهملة - بلد معروف
(عرضا) هذا ما في المحرر. وقال في الشرح: فيه تساهل لأن البصرة كانت سبخة أحياها عثمان بن أبي العاص بعد فتح العرق،
وهي داخلة في هذا الحد المذكور فلذلك استدرك المصنف على إطلاق المحرر بقوله: (قلت) كما قال الرافعي في الشرح
(الصحيح أن البصرة) - بتثليث الموحدة والفتح أفصح - مدينة بناها عتبة بن غزوان زمن عمر رضي الله تعالى عنه سنة سبع
عشرة ولم يعبد بعدها صنم قط، ويقال لها قبة الاسلام، وهي أقوم البلاد قبلة، وهي (وإن كانت داخلة في حد السواد)
المضاف إلى العراق (فليس لها حكمه إلا في موضع غربي دجلتها) - بكسر الدال - نهر مشهور بالعراق (و) إلا (في موضع
شرقيها) يسمى الفرات، وما سواهما منها فموات أحياه المسلمون بعد ذلك.
تنبيه: ما في أرض سواد العراق من الأشجار ثمارها للمسلمين يبيعها الإمام، ويصرف أثمانها أو يصرفها
نفسها مصارف الخراج، وهو مصالح المسلمين كما مر. (و) الصحيح (أن ما في السواد من الدور والمساكن يجوز
235

بيعه، والله أعلم) إذ لم ينكره أحد، ولهذا لا يؤخذ عليها خراج. ولان وقفها يفضي إلى حرابها. نعم إن كانت آلتها
من أجزاء الأرض الموقوفة لم يجز بيعها كما قاله الأذرعي تفقها، وعليه يحمل ما قاله البلقيني عن النص، وقطع به من
أن الموجود من الدور حال الفتح وقف لا يجوز بيعه والثاني المنع كالزارع.
تنبيه: لو رأى الإمام اليوم أن يقف أرض الغنيمة كما فعل عمر رضي الله تعالى عنه أو عقاراتها أو منقولاتها جاز
إن رضي الغانمون بذلك كنظيره فيما مر عن عمر رضي الله تعالى عنه، لا قهرا عليهم، وإن خشي أنها تشغلهم عن الجهاد
لأنها ملكهم لكن يقهرهم على الخروج إلى الجهاد بحسب الحاجة، ولا يرد شئ من الغنيمة إلى الكفار إلا برضا
الغانمين لأنهم ملكوا أن يتملكوها. (وفتحت مكة صلحا) لا عنوة. لقوله تعالى: * (ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الادبار) *
الآية يعني أهل مكة، وقوله تعالى: * (وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة) * وقوله تعالى: * (وعدكم الله
مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه) * إلى قوله: * (وأخرى لم تقدروا عليها) * أي بالقهر، قيل التي عجلها لهم غنائم حنين،
والتي لم يقدروا عليها غنائم مكة، ومن قال فتحت عنوة، معناه أنه دخل مستعدا للقتال لو قوتل. قال الغزالي: (فدورها
وأرضها المحياة ملك يباع) إذ لم يزل الناس يتبايعونها، ولقوله (ص) لما قال له أسامة بن زيد: يا رسول
الله أتنزل غدا بدارك بمكة؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور وكان عقيل ورث أبا طالب،
وطلب دور علي وجعفر لأنهما كانا مسلمين، ولا يورث إلا ما كان الميت مالكا له، ومنع أبو حنيفة من بيعها. قال
الروياني: ويكره بيعها وإجارتها للخروج من الخلاف ونازعه المصنف في مجموعه، وقال إنه خلاف الأولى لأنه
لم يرد فيه نهي مقصود، والأول كما قال الزركشي هو المنصوص، بل اعترض على المصنف فإنه صرح بكراهة
بيع المصحف والشطرنج ولم يرد فيهما نهي مقصود.
تنبيه: محل الخلاف بين العلماء في بيع نفس الأرض، أما البناء فهو مملوك يجوز بيعه بلا خلاف أي إذا لم يكن
من أجزاء أرضها كما يؤخذ مما مر في بناء السواد، وتعبير المصنف بالفاء يقتضي ترتب كونها ملكا على الصلح وليس
مرادا، بل مقتضى الصلح أنها وقف لأنها فئ وهو وقف: إما بنفس حصوله وإما بإيقافه، ومقتضى تعبيره أنها على
العنوة لا تباع، وليس مرادا أيضا لأن المفتوح عنوة غنيمة مخمسة، بل الأولى أن يقال كما قاله بعض المتأخرين أنه (ص)
أقر الدور بيد أهلها على الملك الذي كانوا عليه ولا نظر في ذلك إلى أنها فتحت صلحا أو عنوة.
تتمة: الصحيح أن مصر فتحت عنوة، وممن نص عليه مالك في المدونة وأبو عبيد والطحاوي وغيرهم، وأن
عمر رضي الله تعالى عنه وضع على أراضيهم الخراج، وفي وصية الشافعي في الام ما يقتضى أنها فتحت صلحا،
وكان الليث يحدث عن زيد بن حبيب أنها فتحت صلحا. وقيل: فتحت صلحا ثم نكثوا ففتحها عمر رضي الله تعالى
عنه ثانيا عنوة، ويمكن حمل الخلاف على هذا، فمن قال فتحت صلحا نظر لأول الامر، ومن قال عنوة نظر
لآخر الامر، وأما الشام فنقل الرافعي عن الروياني: أن مدتها فتحت صلحا وأرضها عنوة، ولكن رجع السبكي
أن دمشق فتحت عنوة.
فصل: في الأمان، وهو ضد الخوف وأريد به هنا ترك القتل والقتال مع الكفار، وهو من مكايد الحرب
ومصالحه والعقود التي تفيدهم إلا من ثلاثة: أمان وجزية وهدنة لأنه إن تعلق بمحصور فالأمان، أو بغير محصور
فإن كان إلى غاية فالهدنة وإلا فالجزية وهما مختصان بالإمام بخلاف الأمان. والأصل في الأمان آية * (وإن أحد من
المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله) * وخبر الصحيحين: ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما - أي
نقض عهده - فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين والذمة العهد والأمان والحرمة والحق، وأما الذمة في قولهم:
ثبت المال في ذمته وبرئت ذمته فلها معنى آخر مر بيانه في البيع. (يصح) ولا يجب (من كل مسلم مكلف مختار)
236

ولو عبدا لمسلم أو كافر أو فاسقا أو محجورا عليه لسفه أو امرأة (أمان حربي) واحد غير أسير، سواء كان بدار الحرب
أم لا، في حال القتال أم لا، عين الإمام قتله كما بحثه الزركشي أم لا (وعدد محصور) منهم كأهل قرية صغيرة (فقط)
فخرج بالمسلم الكافر لأنه متهم، وليس أهلا للنظر لنا، وبالمكلف غيره لالغاء عبارته، ويلحق بالمكلف السكران
المتعدي بسكره على طريقة المصنف، وبالمختار المكره، وبالمحصور غيرهم كأهل بلد أو ناحية، فلا يؤمنهم الآحاد لئلا يتعطل
الجهاد فيها بأمانهم. قال الإمام: ولو أمن مائة ألف منا مائة ألف منهم، فكل واحد منا لم يؤمن إلا واحدا، لكن
إن ظهر انسداد وانتقاض فأمان الجميع مردود. قال الرافعي وهو ظاهر إن أمنوهم دفعة، فإن وقع مرتبا فينبغي
صحة الأول فالأول إلى ظهور الخلل، واختار المصنف وقال: إنه مراد الإمام (ولا يصح أمان أسير لمن هو معهم)
أو غيرهم (في الأصح) والثاني يصح لدخوله في الضابط.
تنبيه: محل الخلاف في الأسير المقيد والمحبوس وإن لم يكن مكرها لأنه مقهور بأيديهم لا يعرف وجه المصلحة
لأن وضع الأمان أن يأمن المؤمن، وليس الأسير آمنا، أما أسير الدار وهو المطلق بدار الكفر الممنوع من الخروج
منها فيصح أمانه كما في التنبيه وغيره، وعليه قال الماوردي: إنما يكون مؤمنه آمنا بدار الحرب لا غير إلا أن يصرح
بالأمان في غيرها، وبغير الأسير الكافر الأسير لأنه بالأسر ثبت فيه حق للمسلمين، وقيده الماوردي بغير الذي أسره،
أما الذي أسره فإنه يؤمنه إذا كان باقيا في يده لم يقبضه الإمام كما يجوز قتله، وفي عقد الأمان للمرأة استقلالا وجهان:
أرجحهما كما جزم به الماوردي الجواز. (ويصح) إيجاب الأمان (بكل لفظ يفيد مقصوده) صريحا كأجرتك وأمنتك
أو لا تفزع كأنت على ما تحب، أو كن كما شئت (و) يصح (بكتابة) بالفوقية لاثر فيه عن عمر رضي الله تعالى
عنه، ولا بد من النية لأنها كناية، أو لا تخف، أو لا بأس عليك، أو أنت آمن، أو في أماني، أو أنت مجار، ولا
فرق في اللفظ المذكور بين العربي كما مر وبين العجمي كمترس: أي لا تخف أو كناية مع النية (ورسالة) لأنها أقوى
من الكتابة، سواء كان الرسول مسلما أم كافرا لأن بناء الباب على التوسعة في حقن الدم، ومقتضى هذا جواز
الرسول صبيا، لكن لا بد من تكليفه كالمؤمن.
تنبيه: يصح إيجاب الأمان بالتعليق بالغرر كقوله: إن جاء زيد فقد أمنتك، لما مر أن بناء الباب على التوسعة،
وبإشارة مفهمة ولو من ناطق كما سيأتي في القبول، فلو أشار مسلم لكافر فظن أنه أمنه فجاءنا فأنكر المسلم أنه أمنه بها
بلغناه مأمنه ولا نغتاله لعذره. فإن مات المشير قبل أن يبين الحال فلا أمان ولا اغتيال فيبلغ المأمن وإلا اغتيل،
وللإمام لا للآحاد جعلها أمانا إن رأى في الدخول لها مصلحة، ولا تجب إجابة من طلب الأمان إلا إذا طلبه لسماع كلام
الله تعالى فتجب قطعا، ولا يمهل أربعة أشهر، بل قدر ما يتم به البيان. (ويشترط) لصحة الأمان (علم الكافر
بالأمان) كسائر العقود، فإن يعلم فلا أمان له كما قالاه، وإن نازع في ذلك البلقيني: فتجوز المبادرة إلى قتله ولو من
المؤمن (فإن) علم الكافر بأمانه و (رده بطل) جزما لأنه عقد كالهبة (وكذا) يبطل (إن لم يقبل في الأصح) كغيره من
العقود، والثاني يكفي السكوت لبناء الباب على التوسعة كما مر.
تنبيه: تعبيره بالأصح يقتضي أن المسألة ذات وجهين وليس مرادا، وإنما هو تردد للإمام، والترجيح بحث
له، والمنقول في التهذيب وغيره الاكتفاء بالسكوت. قال البلقيني وغيره: وهو قضية نص الشافعي، فإنه لم يعتبر القبول
وهو ما عليه السلف والخلف، ولما مر من بناء الباب على التوسعة، لكن يشترط مع السكوت ما يشعر بالقبول، وهو
237

الكف عن القتال كما صرح به الماوردي. (وتكفي) ولو من ناطق (إشارة مفهمة للقبول) لكن يعتبر في كونها كناية من
الأخرس أن يختص بفهمها فظنون، فإن فهمها كل أحد فصريحة كما علم من الطلاق.
تنبيهان: أحدهما: قد يوهم كلامه أن الإشارة لا تكفي في إيجاب الأمان والمذهب الاكتفاء كما مر، وهذا بخلاف
الإشارة في الطلاق والرجعة وسائر العقود، حيث يعتبر العجز عن النطق، لأن المقصود هنا حقن الدماء فكانت الإشارة
شبهة، واحترز بالمفهمة عن غير المفهمة، فلا يصح بها أمان. الثاني أن محل الخلاف في اعتبار القبول إن لم يسبق
منه استيجاب، فإن سبق منه لم يحتج للقبول جزما. (ويجب أن لا تزيد مدته على أربعة أشهر) في الأظهر لما سيأتي في الهدنة،
فإن زاد عليها بطل في الزائد، ولا يبطل في الباقي على الأصح تخريجا على تفريق الصفقة، فلو أطلق الأمان حمل على
أربعة أشهر، ويبلغ بعدها المأمن. فإن قيل: قد رجحا في الهدنة أنها لا تصح عند الاطلاق، وقد قالا: حكم الأمان
حكم الهدنة حيث لا ضعف، أجيب بأن هذا مستثنى لأن بابه أوسع بدليل صحته من الآحاد بخلافها (وفي قول يجوز)
أكثر منها (ما لم تبلغ) مدته (سنة) كالهدنة، أما السنة فممتنعة قطعا.
تنبيهان: أحدهما: محل الخلاف في أمان الرجال، أما النساء فلا يحتاج فيهن إلى تقييده مدة، وقد نص في الام
على أن المرأة المستأمنة إذا كانت ببلاد الاسلام لم تمنع ولا تتقيد بمدة لأن الأربعة أشهر إنما هي للمشركين
الرجال،
ومنعوا من السنة لئلا تترك الجزية، والمرأة ليست من أهلها، والخنثى كالمرأة كما بحثه بعض المتأخرين. الثاني سكت
المصنف عن بيان المكان الذي يكون المؤمن فيه إشعارا بأنه لا حاجة لتقييده وهو كذلك. (ولا يجوز) ولا يصح (أمان
يضر المسلمين كجاسوس) وطليعة لخبر: لا ضرر ولا ضرار وينبغي كما قال الإمام أن لا يستحق تبليغ المأمن فيغتال
لأن دخول مثله خيانة.
تنبيه: كلام المصنف يقتضي أن شرط الأمان انتفاء الضرر دون ظهور المصلحة وهو كذلك كما صرح به
في أصل الروضة تبعا للإمام، وإن رجح البلقيني تبعا للقاضي حسين أنه إنما يجوز بالمصلحة. ثم قال: لا يخفى أن ذلك في
أمان الآحاد، أما أمان الإمام، فلا يجوز إلا بالنظر للمسلمين نص عليه اه‍. وهذا ظاهر، ولا لغيره ولو أمن أحادا على
مدارج الغزاة وعسر بسببه سير العسكر واحتاجوا إلى نقل الزاد رد للضرورة، وفي معنى الجاسوس من يحمل سلاحا إلى
دار الحرب ونحوه مما يعينهم. (وليس للإمام) ولا لغيره (نبذ الأمان إن لم يخف خيانة) لأن الأمان لازم من جهة
المسلمين فإن خافها نبذه كالهدن وأولى، جائز من جهة الكافر لينبذه متى شاء (ولا يدخل في الأمان) لحربي بدارنا
(ماله وأهله من زوجته وولده الصغير أو المجنون بدار الحرب) جزما، لأن فائدة الأمان تحريم قتله واسترقاقه
ومفاداته، لا أهله وماله، فيجوز اغتنام أمواله وسبي ذراريه المخلفين هناك (وكذا ما معه منهما) في دار الاسلام،
وإن لم يكن في حيازته (في الأصح إلا بشرط) لقصور اللفظ عن العموم، والثاني لا يحتاج إلى شرط.
تنبيه: المراد بما معه من ماله غير المحتاج إليه مدة أمانه، أما المحتاج إليه فيدخل ولو بلا شرط، ومن ذلك
ما يستعمله في حرفته من الآلات ومركوبه إن لم يستغن عنه، هذا إذا أمنه غير الإمام. فإن أمنه الإمام دخل ما معه
بلا شرط، ولا يدخل ما خلفه بدار الحرب إلا بشرط من الإمام، أما إذا كان الأمان للحربي بدراهم، فقياس ما ذكر أن
يقال إن كان أهله وماله بدراهم دخلا ولو بلا شرط إن أمنه الإمام، وإن أمنه غيره لم يدخل أهله ولا ما لا يحتاجه من
ماله إلا بشرط، بخلاف ما يحتاجه فيدخل من غير شرط، وإن كان بدارنا دخلا إن شرطه الإمام لا غيره، وكلام المصنف
يقتضي أن الذي معه لغيره لا يدخل قطعا وليس مرادا، فقد نص في الام على التسوية بين ما معه من ماله
ومال غيره.
238

فائدة: لهذه المسألة أحوال وهي: إما أن يكون المؤمن الإمام أو غيره والمؤمن إما أن يكون بدار الحرب
أو بدارنا جملة ذلك أربعة أحوال، ثم ماله إما أن يكون بالدار التي هو فيها أو لا، اضرب اثنين في أربعة بثمانية ثم
الذي معه إما أن يكون محتاجا إليه أو لا، اضرب اثنين في ثمانية بستة عشر، ثم كل من الإمام وغيره: إما أن
يقع منه بشرط أو لا، فهذه أربعة تضرب في ستة عشر بأربعة وستين، ثم الذي معه: إما أن يكون له أو لغيره
،
اضرب اثنين في أربعة وستين بمائة وثمانية وعشرين وكل ذلك يعلم مما ذكرته فاستفده، فإني استخرجته من فكري
الفاتر. ثم أخذ في بيان حكم هجرة المسلم، فقال: (والمسلم) المقيم (بدار الحرب إن أمكنه إظهار دينه) لكونه مطاعا
في قومه أو لأن له عشيرة يحمونه ولم يخف فتنة في دينه (استحب له الهجرة) إلى دار الاسلام، لئلا يكثر سوادهم
أو يكيدوه أو يميل إليهم، وإنما لم يجب لقدرته على إظهار دينه.
تنبيه: محل استحبابها ما لم يرج ظهور الاسلام هنا ك بمقامه، فإن رجاه فالأفضل أن يقيم، ولو قدر على الامتناع
بدار الحرب الاعتزال وجب عليه المقام بها، لأن موضعه دار إسلام، فلو هاجر لصار دار حرب فيحرم ذلك، نعم
إن رجى نصرة المسلمين بهجرته فالأفضل أن يهاجر، قاله الماوردي. ثم في إقامته يقاتلهم على الاسلام ويدعوهم
إليه إن قدر وإلا فلا. (وإلا) أي وإن لم يمكنه إظهار دينه أو خاف فتنة فيه (وجبت) عليه الهجرة رجلا كان
أو امرأة وإن لم تجد محرما (إن أطاقها) لقوله تعالى * (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) * الآية، ولخبر أبي
داود وغيره: أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين وسميت هجرة لأنهم هجروا ديارهم ولم يقيدوا ذلك
بأمن الطريق ولا بوجود الزاد والراحلة، وينبغي أنه إن خاف تلف نفسه من خوف الطريق أو من
ترك الزاد، أو من عدم الراحلة عدم الوجوب. ويستثنى من الوجوب من في إقامته مصلحة للمسلمين، فقد حكى ابن عبد البر وغيره
أن إسلام العباس رضي الله تعالى عنه كان قبل بدر، وكان يكتمه ويكتب إلى النبي (ص) بأخبار
المشركين، وكان المسلمون يثقون به، وكان يحب القدوم على النبي (ص). فكتب إليه النبي (ص)
إن مقامك بمكة خير ثم أظهر إسلامه يوم فتح مكة. ويلتحق بوجوب الهجرة من دار الكفر من أظهر حقا
ببلدة من بلاد الاسلام ولم يقبل ولم يقدر على إظهاره فتلزمه الهجرة من تلك، نقله الأذرعي وغيره عن صاحب
المعتمد فيها، وذكر البغوي مثله في سورة العنكبوت فقال: يجب على كل من كان ببلد تعمل فيها المعاصي ولا يمكنه
تغيير ذلك الهجرة إلى حيث تتهيأ له العبادة، ويدل لذلك قوله تعالى * (فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) *
فإن استوت جميع البلاد في عدم إظهار ذلك كما في زماننا فلا وجوب بلا خلاف، فإن لم يطق الهجرة فلا وجوب حتى
يطيقها، فإن فتح البلد قبل أن يهاجر سقطت عنه الهجرة. (ولو قدر أسير) في أيدي الكفار (على هرب لزمه)
لخلوصه به من قهر الأسر سواء أمكنه إظهار دينه أم لا كما نقله الزركشي عن تصحيح الإمام وإن جزم القمولي وغيره
بتقييده بعدم الامكان (ولو أطلقوه) من الأسر (بلا شرط فله اغتيالهم) قتلا وسبيا وأخذ مال لأنهم لم يستأمنوه،
وقتل الغيلة أن يخدعه فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله (أو) أطلقوه (على أنهم في أمانه) وإن لم يؤمنوه
كما نص عليه في الام (حرم) عليه اغتيالهم وفاء بما التزمه، وكذا لو أطلقوه على أنه في أمانهم، لأنهم إذا
أمنوه
وجب أن يكونوا في أمان منه، فلو قالوا: أمناك ولا أمان لنا عليك، جاز له اغتيالهم كما في نص الام (فإن تبعه قوم)
منهم بعد خروجه (فليدفعهم) وجوبا (ولو بقتلهم) كالصائل فيراعى الترتيب في الصائل، وظاهر كلام الشيخين
أنه لا ينقض العهد بذلك (أو) أطلقوه و (شرطوا) عليه (أن لا يخرج من دارهم) نظرت، فإن لم يمكنه إظهار
دينه (لم يجز الوفاء) بالشرط بل يجب عليه الخروج إن أمكنه، لأن في ذلك ترك إقامة الدين، والتزام ما لا يجوز لا يلزم
239

وإن أمكنه لم يحرم الوفاء، لأن الهجرة حينئذ مستحبة.
تنبيه: لو حلفوه ولو بالطلاق مكرها على ذلك لم يحنث بتركه لعدم انعقاد يمينه، فإن قالوا لا نطلقك حتى تحلف
أنك لا تخرج فحلف، فأطلقوه فخرج لم يحنث أيضا كما لو أخذ اللصوص رجلا وقالوا: لا نتركك حتى تحلف أنك
لا تخبر بمكاننا فحلف ثم أخبر بمكانهم لم يحنث، لأنه يمين إكراه وإن حلف لهم ترغيبا، ولو قبل الاطلاق حنث بخروجه،
وله عند خروجه أخذ مال مسلم وجده عندهم ليرده عليه ولو أمنهم عليه، ولا يضمنه كما رجحه ابن المقري لأنه لم
يكن مضمونا على الحربي الذي كان بيده، بخلاف المغصوب إذا أخذه شخص من الغاصب ليرده إلى مالكه فإنه يضمنه،
لأنه كان مضمونا على الغاصب فأديم حكمه.
فروع: لو التزم لهم قبل خروجه ما لا فداء وهو مختار، أو أن يعود إليهم بعد خروجه إلى دار الاسلام حرم عليه
العود إليه، وسن له الوفاء بالمال الذي التزمه ليعتمدوا الشرط في إطلاق الاسراء، وإنما لم يجب لأنه التزام بغير حق
والمال المبعوث إليهم فداء لا يملكونه كما قاله الروياني وغيره، لأنه مأخوذ بغير حق ولو اشترى منهم شيئا ليبعث إليهم
ثمنه أو اقترض، فإن كان مختارا لزمه الوفاء، أو مكرها فالمذهب أن العقد باطل، ويجب رد العين، فإن لم يجر لفظ
بيع بل قالوا خذ هذا وابعث إلينا كذا من المال فقال نعم فهو كالشراء مكرها، ولو وكلوه ببيع شئ لهم بدارنا باعه ورد
ثمنه إليهم. (ولو عاقد الإمام) أو نائبه (علجا) هو الكافر الغليظ الشديد سمي به لدفعه عن نفسه بقوته ومنه سمي
العلاج علاجا لدفعه الداء. وفي الحديث: الدعاء والبلاء يتعالجان إلى يوم القيامة أي يتصارعان، رواه البزار والحاكم
من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها (يدل على قلعة) تفتح عنوة، وهي بفتح القاف وإسكان اللام، وحكي
فتحها: الحصن، إما لأنه قد خفي علينا طريقها، أو ليدلنا على طريق خال من الكفار، أو سهل، أو كثير الماء،
أو الكلأ أو نحو ذلك (وله منها جارية جاز) ذلك سواء أكان ابتداء الشرط من العلج أم من الإمام وهي جعالة
بجعل مجهول غير مملوك احتملت للحاجة وسواء كانت الجارية معينة أو مبهمة، حرة أم أمة، لأن الحرة ترق بالأسر
والمبهمة يعينها الإمام ويجبر العلج على القول وسواء حصل بالدلالة كلفة أم لا حتى لو كان الإمام نازلا تحت قلعة لا يعرفها،
فقال: من دلني على قلعة كذا فله منها جارية، فقال العلج: هي هذه. استحق الجارية كما في الروضة وأصلها، فإن قيل:
مقتضى ما ذكروه في باب الجعالة عدم الاستحقاق فإنهم شرطوا التعب ولا تعب هنا. أجيب بأنهم لم يعتبروا التعب
هنا، ولهذا لو قال العلج: القلعة بمكان كذا ولم يمش ولم يتعب استحق الجارية فكذلك أيضا هنا، وقد استثنوا من
عدم صحة الاستئجار على كلمة لا تتعب مسألة العلج للحاجة.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف أنه لا فرق بين القلعة المعينة والمبهمة، وهو ما في تعليق الشيخ أبي حامد، ولعله كما
قال شيخنا محمول على ما إذا أبهم في قلاع محصورة، وإلا فلا يصح، بل الجمهور إنما صوروه بالمعينة، لأن غير
المعينة يكثر فيها الغرر، لكن مع الحمل المذكور يخف فينبغي اعتماده. وخرج بالعلج ما لو عاقد مسلما بما ذكر فإن
الأصح عند الإمام عدم الصحة وتبعه في الحاوي الصغير لأن فيه أنواع غرر فلا يحتمل معه واحتملت مع الكافر
لأنه أعرف بأحواله قلعهم وطرقهم غالبا، ولان المسلم يتعين عليه فرض الجهاد والدلالة نوع منه فلا يجوز أخذ العوض
عليه لكن الذي أورده العراقيون الجواز، وقال في البحر إنه المشهور. وقال الأذرعي إنه الأصح المختار كشرط النفل
في البراءة والرجعة وهو قضية كلام الرافعي في باب الغنيمة وصححه البلقيني وغيره وهو الظاهر لأن الحاجة
قد تدعو إلى ذلك واحترز بقوله: وله منها جارية عما إذا قال الإمام وله جارية مما عندي مثلا فإنه لا يصح للجهل
بالجعل كسائر الجعالات وتعبيره بالجارية مثال ولو قال جعل كما في التنبيه لكان أشمل. (فإن فتحت) أي القلعة عنوة
بمن عاقده (بدلالته) - بكسر الدال وفتحها - وفيها الجارية المعينة أو المبهمة حية ولم تسلم قبل إسلامه (أعطيها) وإن لم يوجد
سواها على الأصح لأنه استحقها بالشرط قبل الظفر.
240

تنبيه: قضية إطلاقه أنه يعطاها متى فتحت بدلالته ولو في وقت آخر كأن تركناها ثم عدنا إليها وهو كذلك. (أو)
فتحت من غير من عاقده ولو بدلالته أو ممن عاقده لكن (بغيرها) أي دلالته (فلا) شئ له (في
الأصح) أما في الأولى فلانتفاء معاقدته مع من فتحها، وأما في الثانية فلان القصد الدلالة الموصلة إلى الفتح ولم توجد، والثاني يستحقها
لدلالته ولا ينظر إلى ذلك (فإن لم تفتح) تلك القلعة (فلا شئ له) لأن الاستحقاق مقيد بشيئين: الدلالة والفتح (وقيل:
إن لم يعلق الجعل بالفتح فله أجرة مثل) لوجود الدلالة، ورد بأن تسليمها لا يمكن إلا بالفتح فالشرط مقيد به حقيقة
وإن لم يجر لفظا، أما إذا علق الجعل بالفتح فلا يستحق شيئا قطعا.
تنبيه: هذا إذا كان الجعل من القلعة، فإن كان من غيرها قال الماوردي: لا يشترط في استحقاقه فتحها بلا
خلاف. (فإن لم يكن فيها جارية) أصلا (أو) كانت ولكن (ماتت قبل العقد فلا شئ) له لفقد المشروط (أو
) ماتت
(بعد) العقد و (الظفر قبل التسليم) بها (وجب بدل) عنها جزما لأنها حصلت في قبضة الإمام، فالتلف من ضمانه (أو) ماتت
(قبل ظفر) بها (فلا) بدل عنها (في الأظهر) لأن الميتة غير مقدور عليها فصارت كأن لم تكن فيها. والثاني تجب،
ورجحه البلقيني، لأن العقد قد علق بها وهي حاصلة ثم تعذر تسليمها وهروبها قبل الظفر بها كموتها (وإن أسلمت)
دون العلج بعد العقد وقبل ظفر بها أو بعده (فالمذهب وجوب بدل) لتعذر تسليمها له بالاسلام بناء على عدم جواز
شراء الكافر مسلما. قال البلقيني: وهذا البناء مردود بل يستحقها قطعا، لأنه استحقها بالظفر وقد كانت إذا ذاك
كافرة فلا يرتفع ذلك بإسلامها، كما لو ملكها ثم أسلمت، لكن لا تسلم إليه، بل يؤمر بإزالة ملكه عنها، كما لو أسلم
العبد الذي باعه المسلم للكافر قبل القبض، لكن هناك يقبضه له الحاكم، وهنا لا يحتاج إلى قبض. وقد يفرق بين
ما هنا وبين البيع لأن البيع عقد لازم وهنا جعالة جائزة مع المسامحة فيها ما لا يتسامح في غيرها فلا يلحق بغيرها. أما
لو أسلمت قبل العقد فلا شئ له إن علم بذلك، وبأنها قد فاتته كما قاله البلقيني، وكلام غيره يقتضيه وإن كان ظاهر
عبارة المصنف بغير التقدير الذي ذكرته استحقاقه، لأنه عمل متبرعا (وهو) أي البدل في الجارية المعينة حيث وجب
(أجرة مثل) في الأصح عند الإمام (وقيل قيمتها) وهو الأصح كما عليه الجمهور ونص عليه أيضا الشافعي في الام ومحله
من الأخماس الأربعة، لا من أصل الغنيمة، ولا من سهم المصالح. وأما المبهمة فإن وجب البدل فيها فيجوز أن يقال
يرجع بأجرة المثل قطعا لتعذر تقويم المجهول ويجوز أن يقال تسلم إليه قيمة من تسلم إليه قبل الموت قاله الشيخان.
والثاني أوجه على ما عليه الجمهور. أما إذا فتحت القلعة صلحا بدلالته فينظر إن دخلت الجارية المشروطة في الأمان ولم
يرض أصحاب القلعة بتسليمها إليه، ولا رضى العلج بعوضها، وأصروا على ذلك نقضنا الصلح وبلغوا المأمن بأن
يردوا إلى القلعة ليستأنف القتال، وإن رضي أصحاب القلعة بتسليمها بقيمتها دفعنا لهم القيمة، وهل هي من سهم
المصالح أو من حيث يكون الرضخ؟ وجهان: أوجههما كما قال الزركشي الثاني، وإن كانت خارجة عن الأمان بأن
كان الصلح على أمان صاحب القلعة وأهله ولم تكن الجارية منهم سلمت إلى العلج.
خاتمة: فيها مسائل منشورة: لو صال زعيم قلعة وهو سيد أهلها على أمان مائة منهم صح وإن جهلت
أعيانهم وصفاتهم للحاجة إليه، فإن عد مائة غير نفسه جاز للإمام قتله لخروجه عن المائة واستدل له الرافعي وغيره بأن
أبا موسى الأشعري رضي الله عنه حاصر مدينة فصالحه دهقانها على أن يفتح له المدينة ويؤمن مائة رجل من أهلها،
فقال أبو موسى: اللهم أنسه نفسه، فلما عدهم قال له أبو موسى أفرغت؟ فقال نعم، فأمنهم وأمر بقتل الدهقان، فقال:
أتعذرني وقد أمنتني؟ قال: أمنت العدة التي سميت ولم تسم نفسك، فنادى بالويل وبذل مالا فلم يقبله منه وقتله
ويسقط بإسلام الكافر حد الزنا عنه كما مر في بابه لآية * (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) * مع كون
241

الحق له تعالى، ولا تسقط به كفارة يمين وظهار وقتل كالدين، وعليه بعد إسلامه رد مال مسلم استولى عليه ولو بدار
الحرب فإن غنمناه ولو مع أموالهم رد مالكه، وإن خرج لواحد بعد القسمة رده أيضا لمالكه وغرم له الإمام بدله
من بيت المال، فإن لم يكن فيه شئ نقضت القسمة، ولو استولد بالكافر جارية مسلم ثم وقعت في الغنم أخذها وولدها
مالكها، لأن ملكه لم يزل عنها، ويندب له عدم أخذها، ولو نكح حربي مسلمة، أو أصابها بشبهة وولد ت منه
لحقه الولد للشبهة، ثم إن ظفرنا بهم لم يرق الولد كأمه للحكم بإسلامه تبعا لها، ولو وجد أسير بدارنا فادعى الاسلام أو
الذمة صدق بيمينه، بخلاف أسير وجد بدار الحرب، ولو غنمنا رقيقا مسلما اشتراه كافر من مسلم رد لبائعه
ورد بائعه الثمن للكافر لعدم صحة البيع، وفداء الأسير مندوب للآحاد، فلو قال شخص للكافر بغير إذن الأسير: أطلقه ولك
علي كذا لزمه ولا رجوع له على الأسير، فإن أذن له رجع عليه به إذا غرمه ولو لم يشترط الرجوع كقول المدين لغيره
أقض ديني. ولو قال الأسير للكافر: أطلقني بكذا أو قال له الكافر: أفد نفسك بكذا فقبل لزمه ما التزم، فإن قيل:
هذا مخالف لقولهم: أنه لو التزم لهم مالا ليطلقوه لم يلزمه الوفاء به، ومن أنهم لو قالوا له خذ هذا وابعث لنا كذا من
المال فقال نعم فهو كالشراء مكرها فلا يلزمه المال، وقياسه أن يكون ما هنا كذلك. أجيب بأن ما مر في الأولى صورته
أن يعاقده على أن يطلقه ليعود إليه أو يرد إليه مالا كما أفصح عنه الدارمي، وهنا عاقده على رد المال عينا. وأما الثانية
فلا عقد فيها في الحقيقة، ولو غنم المسلمون ما افتدى به الأسير لزمهم رده للمفادى، لأنه لم يخرج عن ملكه، ولو انقضت
مدة حربي مستأمن، وأمانه مختص ببلد بلغ مأمنه، فإن كان أمانه عاما لم يجب تبليغه مأمنه، لأن ما يتصل ببلادنا
ببلادهم من محل أمانه فلا يحتاج إلى مدة الانتقال من موضع الأمان
كتاب عقد الجزية للكفار
لما فرغ المصنف رحمه الله تعالى من قتال المشركين عقبه بالجزية، لأن الله تعالى غيا القتال بها بقوله * (حتى
يعطوا الجزية) * الآية، وتطلق على العقد، وعلى المال الملتزم به، وهي مأخوذة من المجازاة لكفنا عنهم، وقيل من
الجزاء بمعنى القضاء. قال تعالى * (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا) * أي لا تقضي، ويقال: جزيت ديني
أي قضيته، وجمعها جزى كقرية وقرى، وليست هي مأخوذة في مقابلة الكفر ولا التقرير عليه، بل هو نوع إذلال
لهم ومعونة لنا، وربما يحملهم ذلك على الاسلام مع مخالطة المسلمين الداعية إلى معرفة محاسن الاسلام، ولعل الله
تعالى أن يخرج منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر. والأصل فيها قبل الاجماع قوله تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) *
إلى قوله: * (حتى يعطوا الجزية) * الآية، وقد أخذها (ص) من مجوس هجر كما رواه البخاري، ومن أهل نجران كما رواه
أبو داود، ومن أهل أيلة كما رواه البيهقي، وقال إنه منقطع. وأركانها خمسة: صيغة، وعاقد، ومعقود له،
ومكان، ومال. وقد شرع المصنف في أولها فقال: (صورة عقدها) من الموجب وسيأتي أنه الإمام أو نائبه نحو (أقركم)
كأقررتكم كما في المحرر وغيره، وحينئذ لا فرق بين أن يأتي بصيغة الماضي أو المضارع وقول البلقيني: لا بد أن يقصد
المضارع الحال أو الاستقبال لينسلخ عن معنى الوعد ممنوع، لأن المضارع عند التجرد من القرائن يكون للحال. قال
ابن شهبة: وقد ذكر القرافي أن صيغ المضارع تأتي للانشاء كأشهد ونحوه وقول المصنف (بدار الاسلام) ليس
بقيد فقد يقرهم بالجزية في دار الحرب (أو أذنت في إقامتكم بها) غير الحجاز كما سيأتي (على أن تبذلوا) - بالمعجمة -
أن تعطوا بمعنى تلتزموا (جزية) هي كذا في كل حول. قال الجرجاني: ويقول أول الحول أو آخره (وتنقادوا لحكم
الاسلام) في غير العبادات من حقوق الآدميين في المعاملات وغرامة المتلفات وكذا ما يعتقدون تحريمه كالزنا والسرقة
242

دون ما لا يعتقدونه كشرب الخمر ونكاح المجوس، وقد فسر إعطاء الجزية في الآية بالتزامها، والصغار بالتزام أحكامنا.
قالوا: وأشد الصغار على المرء أن يحكم عليه بما لا يعتقده ويضطر إلى احتماله، وإنما وجب التعرض لذلك في الايجاب،
لأن الجزية مع الانقياد والاستسلام كالعوض عن التقرير فيجب التعرض له كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة، وهذا
في حق الرجل. أما المرأة فيكفي فيها الانقياد لحكم الاسلام فقط، إذ لا جزية عليها.
تنبيه: لا تنحصر صيغة إيجابها فيما ذكره المصنف، فلو قال الكافر ابتداء: أقررني بكذا، فقال الإمام: أقررتك كفى،
لأن الاستيجاب كالقبول. (والأصح اشتراط ذكر قدرها) أي الجزية لما مر أنها كالثمن والأجرة. والثاني وهو ضعيف
جدا خلاف ما يفهمه كلامه لا يشترط، ويحمل على الأقل عند الاطلاق.
تنبيه: أفهم تخصيصه الخلاف بذكر قدرها أنه لا خلاف في اشتراط الانقياد لحكم الاسلام، وليس مرادا، بل
ذكر القاضي حسين والإمام فيه خلافا، لأن الأحكام من مقتضيات العقد، والتصريح بمقتضى العقد لا يشترط في صحته
(لا كف اللسان) منهم (عن الله تعالى ورسوله (ص) ودينه) فلا يشترط ذكره لدخوله في شرط الانقياد،
وقيل يشترط، إذ به تحصل المسالمة وترك التعرض من الجانبين (ولا يصح العقد) للجزية (مؤقتا على المذهب) لأنه عقد
يحقن به الدم فلا يجوز مؤقتا كعقد الاسلام وفي قول أو وجه يصح.
تنبيه: محل الخلاف في التأقيت بمعلوم كسنة، أما المجهول كأقركم ما شئنا، أو ما شاء الله أو زيد، أو ما أقركم الله،
فالمذهب القطع بالمنع. وأما قوله (ص): أقركم ما أقركم الله فإنما جرى في المهادنة حين وادع يهود خيبر،
لا في عقد الذمة، ولو قال ذلك غيره من الأئمة لم يصح، لأنه (ص) يعلم ما عند الله بالوحي بخلاف غيره.
وقضية كلامهم أنه لا يشترط ذكر التأبيد، بل يجوز الاطلاق، وهو يقتضي التأبيد، ولو قال: أقركم ما شئتم صح، لأن
لهم نبذ العقد متى شاؤوا فليس فيه إلا التصريح بمقتضى العقد، بخلاف الهدنة لا تصح بهذا اللفظ، لأنه يخرج عقدها عن
موضوعه من كونه مؤقتا إلى ما يحتمل تأبيده المناني لمقتضاه. (ويشترط) في صحة العقد من الناطق (لفظ قبول) كقبلت
أو رضيت بذلك كغيره من العقود. أما الأخرى فيكفي فيه الإشارة المفهمة، لأنها بمنزلة نطقه، وتكفي الكتابة مع النية
كما بحثه الزركشي كالبيع، بل أولى، وكما صرحوا به في الأمان.
تنبيه: سكتوا عن شرط اتصال القبول بالايجاب، وظاهر كما قال شيخنا أنه يشترط وإن قال الأذرعي: يقرب
عدم اعتباره. (ولو وجد كافر بدارنا فقال دخلت لسماع كلام الله تعالى، أو) قال دخلت (رسولا) ولو عبدا سواء كان
معه كتاب أم لا (أو) قال دخلت (بأمان مسلم) يصح أمانه (صدق) فلا يتعرض له لاحتمال ما يدعيه، وقصد ذلك يؤمنه
من غير احتياج إلى تأمين، وكذا لو قال: دخلت لاسلم، أو لأبذل جزية.
تنبيه: محل ذلك إذا ادعاه قبل أن يصير عندنا أسيرا، وإلا فلا يقبل إلا ببينة كما قاله البلقيني. (وفي دعوى
الأمان وجه) أنه لا يصدق فيه، بل يطالب ببينة لامكانها غالبا. وأجاب الأول بأن الظاهر من حال الحربي أنه
لا يدخل دارنا بغير أمان، فإن اتهم حلف كما نقله الرافعي عن ابن كج في مدعي الرسالة، وجزم به ابن المقري في غيره.
ثم شرع في الركن الثاني وهو العاقد، فقال: (ويشترط لعقدها الإمام، أو نائبه) فيها خصوصا أو عموما، لأنها
من المصالح العظام فتحتاج إلى نظر واجتهاد، فلا يصح عقدها من غيرهما، لكن لا يغتال المعقود له، بل يبلغ مأمنه،
ولا شئ عليه، ولو أقام سنة فأكثر لأن العقد لغو (وعليه) أي عاقدها (الإجابة إذا طلبوا) عقدها لخبر مسلم عن
243

بريدة: كان رسول الله (ص) إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه - إلى أن قال -: فإذا هم أبوا الاسلام
فسلهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم.
تنبيه: محل الوجوب قبل الأسر، فأما الأسير إذا طلب عقد الجزية لا تجب إجابته على الأصح كما اقتضاه كلام
الروضة (إلا) إذا طلب عقدها شخص يخاف كيده كان يكون الطالب (جاسوسا نخافه) فلا نجيبه للضرر الذي يخشى منه،
بل لا نقبل الجزية منه، والجاسوس صاحب سر الشر، كما أن الناموس صاحب سر الخير. ثم شرع في الركن الثالث وهو
المعقود له. فقال: (ولا تعقد) الجزية (إلا لليهود والنصارى) من العرب والعجم الذين لم يعلم دخولهم في ذلك الدين
بعد نسخه لأهل الكتاب، وقد قال تعالى: * (قاتلوا الذين لا يؤمنون) * إلى أن قال: * (من الذين أوتوا
الكتاب حتى يعطوا
الجزية) * (والمجوس) لأنه (ص) أخذها منهم، وقال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب ولان لهم شبهة
كتاب، والأظهر أنه كان لهم كتاب فرفع (وأولاد من تهود أو تنصر قبل النسخ) لدينه ولو بعد التبديل، وإن لم
يجتنبوا المبدل منه تغليبا لحقن الدم، ولا تحل مناكحتهم ولا ذبيحتهم كما مر، لأن الأصل في الابضاع والميتات
التحريم.
تنبيه: المراد بالنسخ نسخ التوراة بالإنجيل في اليهود، ونسخ الإنجيل في النصارى ببعثته (ص)، ولا
تعقد لأولاد من تهود أو تنصر بعد النسخ بشريعة نبينا أو تهود بعد بعثة عيسى كآبائهم لأنهم تمسكوا بدين باطل
وسقطت فضيلته. (أو) أي وتعقد أيضا لمن لم يعلم حاله كان (شككنا في وقته) أي التهود أو التنصر فلم نعرف أدخلوا قبل
النسخ أو بعده؟ تغليبا لحقن الدم كالمجوس. وبذلك حكمت الصحابة في نصارى العرب وهم نهرا وتنوخ وبنو تغلب.
تنبيه: فهم من إطلاق المصنف أن يهود خيبر كغيرهم. وانفرد ابن أبي هريرة بإسقاط الجزية عنهم لأن النبي
(ص) ساقاهم وجعلهم بذلك خولا: أي عبيدا. وسئل ابن سريج عما يدعونه من أن علي بن أبي طالب
كتب لهم كتابا بإسقاطها، فقال: لم ينقل أحد من المسلمين ذلك. وأما الصابئة والسامرة فتعقد لهم الجزية إن لم تكفرهم
اليهود والنصارى ولم يخالفوهم في أصول دينهم، وإلا فلا تعقد لهم، وكذا تعقد لهم لو أشكل أمرهم. وأما من ليس
لهم كتاب ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان والشمس والملائكة ومن في معناهم كمن يقول إن الفلك حي ناطق، وإن
الكواكب السبعة آلهة فلا يقرون بالجزية سواء فيهم العربي والعجمي. وعند أبي حنيفة تؤخذ الجزية من العجم
منهم. وعند مالك تؤخذ من جميع المشركين إلا مشركي قريش. (وكذا) يقر بالجزية على المذهب (زاعم التمسك
بصحف إبراهيم وزبور داود صلى الله عليهما وسلم) وكذا صحف شيث وهو ابن آدم لصلبه لأن الله تعالى أنزل عليهم
صحفا، فقال: * (صحف إبراهيم وموسى) * وقال: * (وإنه لفي زبر الأولين) * وسمى كتابا كما نص عليه الشافعي فاندرجت
في قوله تعالى * (من الذين أوتوا الكتاب) * وقيل لا تعقد لهم لأنها مواعظ لا أحكام لها، فليس لها حرمة الأحكام، ولا
تحل مناكحتهم وذبيحتهم على المذهب عملا بالاحتياط في المواضع الثلاثة (ومن أحد أبويه كتابي والآخر وثني) تعقد
له (على المذهب) وإن كان الكتابي أمه تغليبا لحقن الدم، وتحرم مناكحته وذبيحته احتياطا. والطريق الثاني لا تعقد
له كما لا يصح نكاحه.
تنبيه: قوله على المذهب راجع إلى هذه المسألة وإلى التي قبلها، ولو ظفرنا بقوم وادعوا أو بعضهم التمسك تبعا
لتمسك آبائهم بكتاب قبل النسخ، ولو بعد التبديل صدقنا المدعين دون غيرهم وعقد لهم الجزية لأن دينهم لا يعرف
إلا من جهتهم، فإن شهد عدلان بكذبهم فإن كان قد شرط عليهم في العقد قتالهم إن بان كذبهم اغتلناهم، وكذا إن
244

لم يشرط في أحد وجهين نقله الأذرعي وغيره عن النص لتلبيسهم علينا، ولو توثن نصراني بلغ المأمن. ثم أطفال
المتوثنين من أمهم النصرانية نصارى، وكذا أطفال النصارى من أمهم الوثنية فتقعد الجزية لمن بلغ منهم لأنه قد ثبت
له علقة التنصر، فلا تزول بما يحدث بعد. (ولا جزية على امرأة) لقوله تعالى * (قاتلوا الذين لا يؤمنون) *: إلى قوله: *
(وهم صاغرون) * وهو خطاب الذكور، وحكى ابن المنذر فيه الاجماع، وروى البيهقي عن عمر رضي الله عنه أنه
كتب إلى أمراء الأجناد أن تؤخذ الجزية من النساء والصبيان.
تنبيه: لو طلب النساء عقد الذمة بالجزية أعلمهن الإمام بأنه لا جزية عليهن، فإن رغبن في بذلها فهي هبة
لا تلزم إلا بالقبض. (و) لا على (خنثى) لاحتماله كونه أنثى، فإن بانت ذكورته، وقد عقد له الجزية طالبناه بجزية
المدة الماضية عملا بما في نفس الامر بخلاف ما لو دخل حربي دارنا وبقي مدة ثم أطلعنا عليه لا نأخذ منه شيئا لما
مضى لعدم عقد الجزية له، والخنثى كذلك إذا بانت ذكورته ولم تعقد له الجزية، وعلى هذا التفصيل يحمل إطلاق من
صحح الاخذ منه، ومن صحح عدمه كما أشار البلقيني (و) لا على (من فيه رق) فمن كله رقيق أولى ولو مكاتبا،
لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم، والعبد مال والمال لا جزية فيه، كما لا تجب على العبد لا تجب على سيده بسببه.
فإن قيل: هلا وجبت على المبعض بقدر ما فيه من الحرية كمن تقطع جنونه، فإن إفاقته تلفق كما سيأتي، ويجب عليه
بقدرها. أجيب بأن الجنون والإفاقة لم يجتمعا في وقت واحد بخلاف الرق والحرية (و) لا على (صبي) لقوله
(ص) ل معاذ لما بعثه إلى اليمن: خذ من كل حالم - أي محتلم - دينارا رواه الترمذي وأبو داود. ولو عقد
على الرجال أن يؤدوا عن نسائهم وصبيانهم شيئا غير ما يؤدونه عن أنفسهم، فإن كان من أموال الرجال جاز ولزمهم،
وإن كان من أموال النساء والصبيان لم يجز كما قاله الإمام (و) لا على (مجنون) أطبق جنونه لعدم تكليفه (فإن
تقطع جنونه) وكان (قليلا كساعة من شهر لزمته) ولا عبرة بهذا الزمن اليسير، وكذا لا أثر ليسير زمن الإفاقة كما
بحثه شيخنا (أو كثيرا كيوم ويوم. فالأصح تلفق الإفاقة) أي زمنها (فإذا بلغت) أزمنة الإفاقة المتفرقة
(سنة) فأكثر (وجبت) جزية اعتبارا للأزمنة المتفرقة بالأزمنة المجتمعة، والثاني لا شئ عليه لنقصانه كالمبعض.
تنبيه: محل الخلاف إذا أمكن التلفيق، فإن لم يمكن أجرى عليه أحكام الجنون كما استظهره شيخنا. هذا
إذا تعاقب الجنون والإفاقة، فلو كان عاقلا فجن في أثناء الحول فكموت الذمي في أثنائه، وإن كان مجنونا فأفاق في
أثنائه استقبل الحول حينئذ. (ولو بلغ ابن ذمي) ولو بنبات عانته أو أفاق المجنون أو عتق العبد (ولم يبذل) - بالمعجمة -
أي يعط (جزية) بعد طلبنا لها منه (ألحق بمأمنه) سواء أعتق العبد ذمي أم مسلم، وعن مالك أن عتيق المسلم
لا تضرب عليه الجزية لحرمة ولائه (وإن بذلها) من ذكر (عقد له) ولا يكفي عقد أب وسيد، ولو كان كل منهما
قد أدخله في عقده إذا بلغ أو عتق كأن قال قد التزمت هذا عني وعن ابني إذا بلغ، أو عبدي إذا عتق (وقيل عليه
)
أي الصبي (كجزية أبيه) ولا يحتاج إلى عقد اكتفاء بعقد أبيه، وإذا لم يكف ذلك فيعقد له عقدا مستأنف، ويساوم
كغيره لانقطاع التبعية بالكمال ولوجوب جزية أخرى، ومر أن إعطاءها في الآية بمعنى التزامها، وللإمام أن يجعل
حول التابع والمتبوع واحدا ليسهل عليه أخذ الجزية، ويستوفى ما لزم التابع في بقية العام الذي اتفق الكمال في
أثنائه إن رضي التابع بذلك أو يؤخره إلى الحول الثاني فيأخذه مع جزية المتبوع في آخره، لئلا يختلف أواخر الأحوال،
وإن شاء إفرادهما بحول فيأخذ ما لزم كلا منهما عند تمام حوله.
تنبيه: لو بلغ الصبي سفيها فعقد لنفسه أو عقد له وليه بدينار صح لأن فيه مصلحة حقن الدم، أو بأكثر
من دينار لم يصح لأن الحقن ممكن بدينار. فإن قيل: لو صالح السفيه مستحق القصاص الواجب عليه بأكثر من
245

الدية صح صيانة لروحه، فهلا كان هنا كذلك؟ أجيب بأن صون الدم في الجزية يحصل بالدينار، وصون الروح
لا يحصل في القصاص إلا بالزيادة إذ يجب على الإمام قبول الدينار، ولا يجب على المستحق قبول الدية. ولو اختار
السفيه أن يلتحق بالمأمن لم يمنعه وليه، ولان حجره على ماله لا على نفسه. (والمذهب وجوبها على زمن وشيخ هرم
وأعمى وراهب وأجير) لأنها كأجرة الدار، فيستوي فيها أرباب الاعذار وغيرهم، والطريق الثاني لا جزية عليهم إن
قلنا لا يقتلون كالنساء والصبيان (و) على (فقير عجز عن كسب) ولو من أهل خيبر لعموم الآية، ولأنه كالغني في
حقن الدم والسكنى (فإذا تمت سنة وهو معسر ففي ذمته حتى يوسر) وكذا حكم السنة الثانية وما بعدها كما تعامل
المعسر، ويطالب إذا أيسر وفي قول غير مشهور أنه لا جزية عليه وإن كان ظاهر عطف المصنف له على الزمن
يقتضي أن الخلاف فيه طريقان.
تنبيه: سكتا عن تفسير الفقير هنا، وفيه وجهان حكاهما الدارمي والرازي في تعليقه، أحدهما مستحق الزكاة
لو كان مسلما، والثاني وهو الأشبه كما قاله الزركشي: من لا يملك فاضلا عن قوت يومه آخر الحول ما يقدر به على أداء
الجزية كما في زكاة الفطر، وقال بعض المتأخرين يرجع فيه إلى العرق. ثم شرع في الركن الرابع وهو المكان القابل
للتقرير، فقال: (ويمنع كل كافر من استيطان الحجاز) سواء أكان ذلك بجزية أم لا لشرفة، ولما روى البيهقي عن
أبي عبيدة بن الجراح: آخر ما تكلم به النبي (ص): أخرجوا اليهود من الحجاز، ولخبر الصحيحين:
أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وخبر مسلم: لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب. والمراد منها
الحجاز المشتملة هي عليه ولم يرد جميع الجزيرة، لأن عمر رضي الله تعالى عنه أجلاهم من الحجاز وأقرهم في اليمن مع
أنه من جزيرة العرب.
تنبيه: لو عبر بالإقامة الاستيطان كما في الروضة لكان أولى، فإنه يلزم من منعها منع الاستيطان ولا عكس،
فلو أراد الكافر أن يتخذ دارا بالحجاز ولم يسكنها ولم يستوطنها لم يجز، لأن ما حرم استعماله حرم اتخاذه كالأواني وآلات
الملاهي، وإليه يشير قول الشافعي في الام: ولا يتخذ الذمي شيئا من الحجاز دارا. (وهو) أي الحجاز (مكة والمدينة
واليمامة) وهي مدينة بقرب اليمن على أربع مراحل من مكة، ومرحلتين من الطائف، قيل سميت باسم جارية زرقاء
كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام، وكانت تسكنها (وقراها) أي الثلاثة كالطائف ووج لمكة وخيبر للمدينة
(وقيل له) أي الكافر (الإقامة في طرقه) أي الحجاز (الممتدة) بين هذه البلاد التي لم تجر الإقامة فيها عادة لأنها ليست من
مجتمع الناس ولا موضع الإقامة، والمشهور أنهم يمنعون لأن الحرمة للبقعة.
تنبيه: محل الخلاف في غير حرم مكة، فأما البقاع التي من الحرم، فإنهم يمنعون منها قطعا، ولا يمنعون من
ركوب بحر الحجاز، لأنه ليس موضع إقامة، ويمنعون من الإقامة في جزائره وسواحله المسكونة
بخلاف غير المسكونة، وإن خالف في ذلك الأذرعي وغيره وقالوا بالمنع مطلقا، وسمي ذلك حجازا، قال الأصمعي: لأنه حجز بين نجد
وتهامة، وجزيرة العرب من أقصى عدن إلى ريف العراق في الطول، وفي العرض من جدة وما والاها من ساحل البحر
إلى أطراف الشام، وسميت جزيرة العرب لإحاطة بحر الحبشة وبحر فارس ودجلة والفرات بها. (ولو دخله) كافر ب‍ (- غير
إذن الإمام أخرجه) منه لعدم إذنه له (وعزره إن علم أنه ممنوع منه) لجراءته ودخول ما ليس له دخوله، فإن
جهل ذلك أخرج ولم يعزر (فإن استأذن) كافر الإمام في دخول الحجاز (أذن) له (إن كان) في دخوله
246

(مصلحة للمسلمين كرسالة) يؤديها وعقد ذمة وهدنة (وحمل ما نحتاج) نحن (إليه) من طعام ومتاع، فإن لم يكن
مصلحة لم يأذن له (فإن كان) دخوله (لتجارة ليس فيها كبير حاجة) كالعطر (لم يأذن) له الإمام في دخول
الحجاز (إلا بشرط أخذ شئ منها) أي من متاعها، وقدر المشروط منوط برأي الإمام اقتداء ب عمر رضي الله عنه
فإنه كان يأخذ من القبط إذا اتجروا إلى المدينة عشر بعض الأمتعة كالقطيفة، ويأخذ نصف العشر من الحنطة والشعير
ترغيبا لهم في حملها للحاجة إليهما، ولا يؤخذ من حربي دخل دارنا رسولا أو بتجارة نضطر نحن إليها، فإن لم
نضطر، واشترط عليهم الإمام أخذ شئ، ولو أكثر من عشرها جاز ويجوز دونه، وفي نوع أكبر من نوع ولو
أعفاهم جاز. فإن شرط عشر الثمن أمهلوا إلى البيع بخلاف ما إذا شرط أن يأخذ من تجارتهم، وما يؤخذ في الحول
لا يؤخذ إلا مرة ولو تردد، وولاة المكاسة تفعل بالمسلمين كذلك، ولا يؤخذ شئ من تجارة ذمي ولا ذمية إلا إن شرط
مع الجزية ولا من غير متجر دخل بأمان وإن دخل الحجاز، ويكتب لمن أخذ منه براءة حتى لا يطالب مرة أخرى
قبل الحول.
تنبيه: ظاهر كلامهم في الدخول للتجارة أنه لا فرق بين الذمي وغيره وهو كذلك، وإن خصه البلقيني بالذمي،
وقال إن الحربي لا يمكن من دخول الحجاز للتجارة. (و) إذا أذن له الإمام في الدخول (لا يقيم إلا ثلاثة أيام
)
فأقل اقتداء ب عمر رضي الله تعالى عنه. ولا يحسب منها يومي الدخول والخروج كما مر في صلاة المسافر، لأن
أكثر من ذلك مدة الإقامة وهو ممنوع منها، ويشترط الإمام ذلك عليه عند الدخول ولا يؤخر لقضاء دين، بل يوكل
من يقضي عنه.
تنبيه: محل منع الزائد على الثلاث إذا كان في موضع واحد، أما لو أقام في موضع ثلاثة أيام ثم انتقل إلى آخر، وهكذا
لم يمنع من ذلك. قال الزركشي تبعا لصاحب الوافي: وينبغي أن يكون بين كل موضعين مسافة القصر وإلا فيمنع من ذلك وهو
بحث حسن لأن ما دونها في حكم الإقامة. (ويمنع) الكافر ولو لمصلحة (دخول حرم مكة) لقوله تعالى * (فلا يقربوا المسجد
الحرام) * والمراد به الحرم بإجماع المفسرين بدليل قوله تعالى * (وإن خفتم عيلة) * (1) أي فقرا بانقطاع التجارة عنكم لمنعهم
من الحرم * (فسوف يغنيكم الله من فضله) * (1) ومعلوم أن الجلب إنما يجلب للبلد لا إلى المسجد نفسه، والمعنى في ذلك أنهم
أخرجوا النبي (ص) منه فعوقبوا بالمنع من دخوله بكل حال (فإن كان رسولا) والإمام في الحرم (خرج إليه الإمام أو
نائب يسمعه) إذا امتنع من أدائها إلا إليه، وإلا بعث إليه من يسمع وينهى إليه، وإن طلب منا المناظرة ليسلم خرج
إليه من يناظره، وإن كان لتجارة خرج إليه من يشتري منه، وقضية إطلاقه أنه لا فرق في منع دخوله إليه بين حال
الضرورة وغيرها، وبه صرح الشافعي في الام.
تنبيه: لو بذل الكافر على دخوله الحرم مالا لم يجب إليه، فإن أجيب فالعقد فاسد ثم إن وصل المقصد أخرج
وثبت المسمى، أو دون المقصد فبالقسط من المسمى.
قاعدة: كل عقد فسد يسقط فيه المسمى إلا هذه المسألة لأنه قد استوفى العوض، وليس لمثله أجرة فرجع
إلى المسمى. (وإن مرض فيه) أي حرم مكة (نقل) منه (وإن خيف موته) من النقل لأنه ظالم بدخوله (فإن مات)
فيه (لم يدفن فيه) تطهيرا للحرم منه (فإن دفن) فيه (نبش وأخرج) منه إلى الحل لأن بقاء جيفته فيه أشد من
دخوله حيا.
247

تنبيه: محل نبشه إذا لم يتهر، فإن تهرى ترك، ولا يجري هذا الحكم في حرم المدينة لاختصاص حرم مكة بالنسك،
وثبت أنه (ص) أدخل الكفار مسجده، وكان ذلك بعد نزول براءة، فإنها نزلت سنة تسع وقدم الوفد
عليه سنة عشر وفيهم وفد نصارى نجران، وهم أول من ضرب عليهم الجزية فأنزلهم مسجده وناظرهم في أمر المسيح
وغيره. (وإن مرض في غيره) أي غير حرم مكة (من الحجاز وعظمت المشقة في نقله) سواء خيف مع ذلك موته أم لا
(ترك) مراعاة لأعظم الضررين لأنه يجوز دخوله في الجملة (وإلا) بأن لم تعظم المشقة فيه (نقل) مراعاة لحرمة
الدار (فإن مات) فيه (وتعذر نقله) إلى الحل لتقطعه مثلا (دفن هناك) للضرورة، فإن لم يتعذر لم يدفن هناك،
فإن دفن ترك.
تنبيه: ما ذكر في الذمي، أما الحربي أو المرتد فلا يدفن فيه، بل تغرى الكلاب على جيفته، فإن تأدى الناس
بريحه ووري كالجيفة. ثم شرع في الركن الخامس وهو المال مترجما له بفصل فقال:
فصل: (أقل الجزية دينار لكل سنة) عن كل واحد، لما رواه الترمذي وغيره عن معاذ: أنه (ص)
لما وجهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل حالم دينار أو عدله من المعافر وهي ثياب تكون باليمن.
تنبيه: ظاهر الخبر أن أقلها دينارا أو ما قيمته دينار، وبه أخذ البلقيني والمنصوص الذي عليه الأصحاب كما هو
ظاهر عبارة المصنف أن أقلها دينار، وعليه إذا عقد به جاز أن يعتاض عنه ما قيمته دينار، وإنما امتنع عقدها بما
قيمته دينار لأن قيمته قد تنقص عنه آخر المدة، ومحل كون أقلها دينارا عند قوتنا، وإلا فقد نقل الدارمي عن المذهب
أنه يجوز عقدها بأقل من دينار، نقله الأذرعي وقال: إنه ظاهر متجه وقضية كلام المصنف تعلق الوجوب بانقضاء
السنة. وقال القفال: اختلف قوم الشافعي في أن الجزية تجب بالعقد وتستقر بانقضاء الحول أو تجب بانقضاء وبنى
عليهما إذا مات في أثناء الحول هل تسقط؟ فإن قلنا بالعقد لم تسقط وإلا سقطت حكاه القاضي الحسين في الاسرار، ولا حد
لأكثر الجزية. (ويستحب للإمام مماكسة) أي مشاححة الكافر العاقد لنفسه أو لموكله في قدر الجزية حتى يزيد
على دينار، بل إذا أمكنه أن يعقد بأكثر منه لم يجز أن يعقد بدونه إلا لمصلحة، ويسن أن يفاوت بينهم (حتى
يأخذ من متوسط دينارين، و) من (غني أربعة) ومن فقير دينارا اقتداء ب عمر رضي الله تعالى عنه كما رواه البيهقي
عنه، ولان الإمام متصرف للمسلمين فينبغي أن يحتاط لهم وللخروج من الخلاف، فإن أبا حنيفة لا يجيزها إلا كذلك.
تنبيه: هذا بالنسبة إلى ابتداء العقد، فأما إذا انعقد العقد على شئ فلا يجوز أخذ شئ زائد عليه كما نص عليه في سير
الواقدي ونقله الزركشي عن نص الام وأطلق الشيخان استحباب المماكسة، فأخذ شيخنا من الاطلاق أن المماكسة
كما تكون في العقد تكون في الاخذ واستدل بقول الأصحاب: يستحب للإمام المماكسة حتى يأخذ من الغنى إلخ
وهذا لا يصلح دليلا لذلك لأن قولهم حتى يأخذ: أي إذا ماكسهم في العقد فيأخذ إلخ، فإن أبى الكافر عقدها إلا
بدينار أجيب لأنه الواجب ومعلوم مما مر أن السفيه لا يماكس هو ولا وليه لأنه لا يصح عقده بأكثر من دينار. (ولو
عقدت) للكفار ذمة (بأكثر) من دينار (ثم علموا) بعد العقد (جواز دينار لزمهم ما التزموه) كمن اشترى شيئا بأكثر
من ثمن مثله ثم علم الغبن (فإن أبوا) بذل الزيادة بعد العقد (فالأصح أنهم ناقضون) للعهد كما لو امتنعوا من أداء
أصل الجزية فيبلغون المؤمن كما سيأتي. والثاني لا ويقنع منهم بالدينار كما يجوز ابتداء العقد به وعلى الأول لو
بلغوا المأمن، ثم عادوا وطلبوا العقد بدينار أجيبوا إليه كما لو طلبوه أولا.
248

تنبيه: لو شرط على الغني كذا وعلى المتوسط كذا وأطلق الشرط صح واعتبر الغني وغيره عند الاخذ،
فإن قيدت هذه الأحوال بوقت اتبع، والقول قول مدعي التوسط أو الفقر بيمينه إلا أن تقوم بينة بخلافه أو عهد له
مال، وكذا من غاب وأسلم ثم حضر، وقال أسلمت من وقت كذا كما نص عليه الشافعي في الام. (ولو أسلم ذمي) أو نبذ العهد (أو
مات بعد سنين) وله وارث مستغرق (أخذت جزيتهن) منه في الأوليين، وفي الثالثة (من تركته مقدمة على)
حق الورثة و (الوصايا) كالخراج وسائر الديون.
تنبيه: لم يذكر المصنف حكم إسلامه كما ذكرته لوضوحه. أما إذا لم يخلف وارثا فتركته فئ فلا معنى لاخذ
الجزية من التركة، ثم ردها إلى بيت المال، أو كان له وارث لا يستغرق، والباقي لبيت المال أخذ من نصيب الوارث
ما تتعلق به الجزية، وسقطت حصة بيت المال. (ويسوى بينها وبين دين آدمي على المذهب) لأن الجزية ليست بقربة
حتى تكون كالزكاة فيوفى الجميع أن وقت التركة، وإلا ضارب الإمام مع الغرماء بالجزية، والطريق الثاني أنها على
الأقوال الثلاثة في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي فتقدم هي في قول، ودين الآدمي في قول، ويسوى بينهما في قول
والفرق على المذهب أو الجزية غلب فيها حق الآدمي جهة أنها أجرة (أو) أسلم أو نبذ العهد أو مات (في خلال سنة
فقسط) لما مضى كالأجرة لأنها وجبت بالسكنى فإذا سكن بعد المدة وجب القسط (وفي قول لا شئ) لأنه يراعى فيه
الحول فيسقط بالموت في خلال الحول كالزكاة.
تنبيه: قضية كلامهم أنه لو حجر عليه بفلس في أثناء العام لا يؤخذ منه القسط حينئذ. قال البلقيني: وهو الجاري
على القواعد، لكن نص في الام على أخذه اه‍. وحمل شيخي النص على ما إذا قسم ماله في أثناء الحول، وكلام البلقيني
على خلافه وهو حمل حسن، واقتصر ابن شهبة والأشموني على عبارة النص، وقالا كما حكاه البلقيني. قال - يعني البلقيني -:
وهو فرع حسن لم أر من تعرض له ولم يذكرا عنه أنه قال وهو الجاري على القواعد، ولو جن في أثناء الحول وثم وهو
مجنون أخذت جزيته بالقسط كما مرت الإشارة إليه. ثم شرع في كيفية أخذ الجزية بقوله: (وتؤخذ) الجزية (بإهانة فيجلس
الآخذ) - بالمد - أي المسلم (ويقوم الذمي ويطأطئ رأسه ويحني ظهره ويضعها) أي الجزية (في) كفة (الميزان ويقبض
الآخذ) منه الجزية (لحيته ويضرب لهزمتيه) بكسر اللام والزاي، وهما مجمع اللحم بين الماضغ والاذن من الجانبين
لأن بعضهم فسر الصغار في الآية بهذا.
تنبيه: قضية كلامه أنه يضرب كل لهزمة ضربة وهو كذلك. وقال الرافعي: يشبه أن يكفي الضرب في أحد
الجانبين، والظاهر كما قال البلقيني أنه يضربه بالكف مفتوحا. وقال الأذرعي وغيره: ويقول يا عدو الله أد
حق الله. (وكله) أي ما ذكر من هذه الهيئة (مستحب) لسقوطه بتضعيف الصدقة كما سيأتي (وقيل واجب) ليحصل
الصغار المذكور (فعلى الأول) وهو الاستحباب (له) أي الذمي (توكيل مسلم بالأداء) للجزية (و) له (حوالة)
بها (عليه، وأن يضمنها) لأن الصغار حاصل بالتزامه المال وانقياده لأحكام الاسلام على كره منه، بخلافه على الثاني،
وهو الوجوب فلا يجوز شئ من ذلك.
تنبيه: قوله: مسلم قد يفهم صحة توكيل الذمي به قطعا، ونقلا عن الإمام طرد الخلاف فيه، لأن كلا منهما
مقصود بالصغار وأقراه، فلو حذفه المصنف لشمل ذلك، واحترز بالأداء عن توكيله في عقد الجزية فإنه يجوز قطعا،
لأن الصغار يراعى عند الأداء لا عند العقد. قال الرافعي: وهذا فيما يؤدى باسم الجزية، فإن كان باسم الصدقة
249

سقطت الإهانة قطعا. (قلت: هذه الهيئة) المذكورة في المحرر (باطلة) لأنها لا أصلها من السنة، ولا تقل عن فعل أحد
من السلف (و) حينئذ (دعوى استحبابها أشد خطأ) من دعوى جوازها، ودعوى وجوبها أشد خطأ من دعوى استحبابها
(والله أعلم) وكان القياس أن يقول أشد بطلانا ليطابق قوله باطلة. قال ابن قاسم: وكأنه أراد بالباطلة الخطأ. قال في
زيادة الروضة: وإنما ذكرها طائفة من الخراسانيين. وقال جمهور الأصحاب: تؤخذ الجزية برفق كأخذ الديون اه‍.
قال الشارح: وفيه تحمل على الذاكرين لها، وللخلاف فيها المستند إلى تفسير الصغار في الآية المبني عليها المسائل المذكورة.
قال ابن النقيب: ولم أر من تعرض لذلك هل هو حرام أو مكروه؟ وقضية كونها كسائر الديون التحريم اه‍. وتصريح
المصنف بالبطلان يقتضي التحريم، ويجوز للذمي أن يحيي الجزية وعشر التجارة من أهل الذمة (ويستحب) وإن كان
قضية كلام الجمهور الجواز (للإمام إذا أمكنه أن يشرط) بنفسه أو نائبه (عليهم) أي الكفار (إذا صولحوا في بلدهم ضيافة
من يمر بهم من المسلمين) وإن لم يكن المار من أهل الفئ أو كان غنيا، لما رواه البيهقي أنه (ص) صالح
أهل أيلة على ثلاثمائة دينار، وكانوا ثلاثمائة رجل. وعلى ضيافة من يمر بهم من المسلمين ولان فيه مصلحة ظاهرة
لفقراء المسلمين ولأغنيائهم، فإنهم قد لا يبيعون منهم إذا مروا بهم فيتضررون، فإذا علموا أن ضيافتهم عليهم واجبة
بادروا إلى البيع خوفا من نزولهم عندهم.
تنبيه: قوله في بلدهم يقتضي المنع فيما إذا صولحوا في بلدنا. قال الزركشي: وبه صرح سليم في المجرد وصاحب
الاستقصاء. قال الأذرعي: والظاهر أنهم لو صولحوا في بلادنا وانفردوا في قرية كان الحكم كذلك، وكلام كثير
يقتضيه، وقول المصنف: أن يشرط المفعول النائب عن فاعل يستحب: أي يستحب عند الامكان اشتراط الضيافة
لا أنه فاعل أمكنه ويكون ما ذكر (زائدا على أقل جزية) لأن الجزية مبنية على التملك والضيافة على الإباحة فلم يجز
الاكتفاء بها، كما لا يجوز التغدية والتعشية عن الكفارة (وقيل يجوز) أن تحسب الضيافة (منها) لأنه ليس عليهم إلا
الجزية، وعلى هذا يشترط أن يكون الضيف من أهل الفئ (وتجعل) الضيافة (على غني ومتوسط، لا) على
(فقير في
الأصح) المنصوص لأنها تتكرر فيعجز عنها. والثاني عليه أيضا كالجزية (ويذكر) العاقد عند اشتراط الضيافة (عدد
الضيفان) بكسر الضاد - جمع ضيف، من ضاف إذا مال (رجالا وفرسانا) لأنه أقطع للمنازعة وأنفى للغرر.
تنبيه: كلامه صادق بأمرين: إما أن يشترط ذلك على كل واحد منهم كأن يقول: أقررتكم على أن على
الغني منكم أربعة دنانير وضيافة عشرة أنفس في كل يوم رجالة كذا وفرسانا كذا، أو على المجموع كأن تضيفوا في
كل سنة ألف مسلم، ثم يوزعون فيما بينهم، أو يتحمل بعضهم عن بعض. وإذا تفاوتوا في الجزية استحب أن
يفاوت بينهم في الضيافة فيجعل على الغني عشرين مثلا، وعلى المتوسط عشرة، ولا يفاوت بينهم في جنس الطعام،
لأنه لو شرط على الغني أطعمة فاخرة أجحف به الضيفان، وإن ازدحم الضيفان على المضيف لهم أو عكسه خير المزدحم
عليه، وإن كثرت الضيفان عليهم بدءوا بالسابق لسبقه، وإن تساووا أقرع بينهم، وليكن للضيفان عريف يرتب أمرهم
كما صرح به في أصل الروضة ويذكر (جنس الطعام والأدم وقدرهما ولكل واحد) من الضيفان (كذا) من الخبز،
وكذا من السمن أو الزيت بحسب العرف لأنه أنفى للغرر، والمعتبر فيه طعامهم وأدمهم نفيا للمشقة عنهم. قال الماوردي:
فإن كانوا يقتاتون الحنطة ويتأدمون باللحم كان عليهم أن يضيفوهم كذلك، وإن كانوا يقتاتون الشعير ويتأدمون
250

بالألبان أضافوهم بذلك.
تنبيه: اقتصار المصنف على ذكر الطعام والادم يقتضي أن ما سواهما من الثمار والفواكه لا يلزمهم وفي ذلك
تفصيل، وهو إن كانوا يأكلونها غالبا في كل يوم شرط عليهم في زمانها بخلاف الفواكه النادرة والحلواء التي لا تؤكل
في كل يوم، ولا يلزمهم أجرة الطبيب والحمام وثمن الدواء، وليس للأضياف أن تكلفهم ما ليس بغالب من أقواتهم،
ولا ذبح دجاجهم وقوله: ولكل واحد كذا هو بخطه، ولا معنى لاثبات الواو، وعبارة المحرر ويقدم الطعام والآدم
فيقول: لكل واحد كذا من الخبز وكذا من السمن. (و) يذكر (علف الدواب) ولا يشترط بيان جنسه وقدره
بل يكفي الاطلاق، ويحمل على تبن وقت وحشيش، ويرجع فيه للعادة، ولا يجب الشعير ونحوه إلا مع التصريح به،
فإن ذكره بين قدره.
تنبيه: قد يوهم كلامه أنه يعلف لكل واحد دوابه، لكن إن لم يعين عددا منها لم يعلف إلا واحدة على
النص. (و) يذكر (منزل الضيفان من كنيسة وفاضل مسكن) عن أهله ولا يخرجون أهل المساكن منها وإن ضاقت.
قال الماوردي: ويجب أن تعلق الأبواب ليدخلها المسلمون ركبانا كما شرطه عمر رضي الله تعالى عنه على أهل الشام
(و) يذكر (مقامهم) - بضم الميم - أي قدر إقامة الضيفان في الحول بعشرين يوما، أما يفتحها فمعناه القيام (ولا يجاوز)
المضيف في المد (ثلاثة أيام) لخبر الصحيحين: الضيافة ثلاثة أيام ولان في الزيادة عليها مشقة، فإن وقع
توافق
على زيادة جاز كما صرح به الإمام. ونقل في الذخائر عن الأصحاب أنه يشترط عليهم تزويد الضيف كفاية يوم وليلة.
تنبيه: لو اعتاض الإمام عن الضيافة دراهم أو دنانير برضاهم جاز، واختصت بأهل الفئ، ولضيفهم حمل
الطعام من غير أكل بخلاف طعام الوليمة لأنها مكرمة وما هنا معاوضة، وليس له المطالبة بالعوض، ولا طعام الغد،
ولا طعام أمس الذي لم يأتوا بطعامه بناء على أن الضيافة زائدة على الجزية، ولو امتنع من الضيافة جماعة أجبروا عليها
فإن امتنع الكل قوتلوا، فإن قاتلوا انتقض عهدهم قاله مجلي. (ولو قال قوم) من الكفار ممن تعقد لهم الجزية
(نؤدي الجزية باسم الصدقة لا) باسم (جزية) وقد عرفوها حكما وشرطا (فللإمام إجابتهم إذا رأى) ذلك وتسقط
عنهم الإهانة واسم الجزية لما روى البيهقي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه فعل ذلك بمن تنصر من العرب قبل بعثة رسول
الله (ص) وهو تنوخ ونهرا وبنو تغلب لما طلبها منهم أبوا دفعها وقالوا: نحن عرب لا تؤدي ما تؤدي العجم،
فخذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض يريدون الزكاة فقال: إنها طهرة للمسلمين ولستم من أهلها، فقالوا: تأخذ
ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية فأبى فارتحلوا وأرادوا أن يلتحقوا بالروم فصالحهم عمر رضي الله تعالى عنه على
أن يضعف عليهم الصدقة ويأخذها جزية باسم الصدقة، ولم يخالفه أحد من الصحابة فكان ذلك إجماعا وعقد لهم
الذمة مؤبدا فليس لأحد نقض ما فعله والأصح أنه لا فرق في ذلك بين العرب والعجم، هذا إذا تيقنا وفاءها بدينار
وإلا فلا يجابوا ولو اقتضى إجابتهم تسليم بعض منهم عن بعض ما التزموا فإنهم يجابون ولبعضهم أن يلتزم عن نفسه
وعن غيره وغرضنا تحصيل دينار عن كل رأس فيقول الإمام في صورة العقد جعلت عليكم ضعف الصدقة أو صالحتكم عليه أو
نحوه.
تنبيه: قوله: فللإمام الخ يفهم أنه لا تلزمه الإجابة وهو كذلك بخلاف بذلهم الدينار. نعم تلزمه الإجابة عند
ظهور المصلحة فيه لقوتهم وضعفنا أو لغير ذلك إذا أبوا الدفع إلا باسم الصدقة لأنها جزية حقيقية كما سيأتي. ثم شرع
المصنف رحمه الله في بيان التضعيف فقال: (ويضعف عليهم الزكاة فمن خمسة أبعرة شاتان) ومن
عشرة أربعة، ومن خمسة عشر ست شياه، ومن عشرين ثمان شياه (و) من (خمسة وعشرين) بعيرا (بنتا مخاض) ومن أربعين
251

من الغنم شاتان، ومن ثلاثين من البقر تبيعان، ومن مائتين من الإبل ثمان حقاق، أو عشر بنات لبون، ولا يفرق
فلا يأخذ أربع حقاق وخمس بنات لبون، كما لا يفرق في الزكاة، كذا قالاه. قال ابن المقري: قلت: وفيه نظر إذ لا تشقيص
هنا بخلاف ما هناك، وهذا هو الظاهر (وعشرين دينارا دينار، و) من (مائتي درهم عشرة) من الدراهم، ومن
الركاز خمسان (وخمس المعشرات) فيما سقى بلا مؤنة، والعشر فيما سقى بها (ولو وجب) على كافر (بنتا مخاض) مثلا
(مع جبران) كأن كان عنده ست وثلاثون وفقد بنتي لبون (لم يضعف الجبران) عليه (في الأصح) المنصوص عليه في
الام لئلا يكثر التضعيف، ولأنه على خلاف القياس فيقتصر فيه على مورد النص، ولان الجبران تارة
يؤخذ وتارة يدفع، ولو ضعفناه عند الاخذ لزم أن يضعف عند الدفع، وهو ممنوع قطعا. والثاني يضعف فيأخذ مع كل بنت مخاض
أربع شياه أو أربعين درهما، ولو دفع حقتين بدل بنتي لبون لم يضعف الجبران كما مر.
تنبيه: قال الأذرعي: وفي تعبير المصنف بالأصح مناقشة، فإن مقابله ساقط، بل قال الإمام أنه غلط لا شك فيه
ولا ينبغي عده من المذهب اه‍. ويعطى الإمام الجبران من الفئ كما يصرفه إذا أخذه إلى الفئ. (ولو كان) ما عند الكافر
(بعض نصاب) من مال زكوي كمائة درهم (لم يجب قسطه) من تمام النصاب (في الأظهر) كشاة من عشرين ونصف شاة
من عشرة، لأن أثر عمر رضي الله تعالى عنه إنما ورد في تضعيف ما يلزم المسلم لا في إيجاب ما لم يجب فيه شئ على المسلم.
والثاني يجب قسطه رعاية للتضعيف.
تنبيه: هذا إن لم يخالط غيره، فإن خلط عشرين شاة بعشرين شاة لغيره أخذ منه شاة أن ضعفنا، ولو عبر
بالمشهور كان أولى، لأن مقاله ضعيف جدا، ويجري الخلاف في الأوقاص التي بين النصب، وهل يعتبر النصاب
كل الحول أو آخره؟ وجهان: في الكفاية قياس باب الزكاة ترجيح الأول. وقياس اعتبار الغنى والفقر والتوسط
آخر الحول في هذا الباب ترجيح الثاني، وهو الظاهر كما بحثه بعض المتأخرين. (ثم المأخوذ) باسم الزكاة مضعفا أو غير
مضعف (جزية) وإن بدل اسمها تصرف مصرف الفئ. فعن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: هؤلاء حمقاء أبوا الاسم
ورضوا بالمعنى.
تنبيه: قوله: جزية هو بالرفع على الخبرية، يوجد في بعض نسخ المتن: بعد جزية حقيقة، وهو نصب على
إسقاط الخافض بدليل قول المحرر على الحقيقة، أو نصب على المصدر المؤكد لغيره. وعلى كون المأخوذ جزية (فلا)
ينقص عن دينار حتى لو وفى قدر الزكاة بلا تضعيف أو نصفها بالدينار يقينا لا ظنا كفى أخذه، فلو كثروا وعسر عددهم
لمعرفة الوفاء بالدينار لم يجز الاخذ بغلبة الظن، بل يشترط تحقق أخذ دينار عن كل رأس، ولا يتعين تضعيفها، ولا
تنصيفها، فيجوز تربيعها وتخميسها ونحوهما على ما يرونه بالشرط المذكور، ولا (يؤخذ من مال لا جزية عليه)
كصبي ومجنون وامرأة وخنثى بخلاف الفقير. قال في أصل الروضة: وإذا شرط ضعف الصدقة وزاد على دينار، ثم
سألوا إسقاط الزيادة وإعادة اسم الجزية أجيبوا على الصحيح اه‍. ولا ينافي هذا ما مر من أنها لو عقدت بأكثر من دينار
ثم علموا جواز دينار لزمهم ما التزموا لأن الزيادة هنا في مقابلة الاسم وقد أسقطوه.
تتمة: لو صالحناهم وأبقينا أرضهم على ما ملكهم وضربنا عليها خراجا يؤدونه كل سنة عن كل جريب كذا يفي
ذلك الخراج بالجزية عن كل واحد منهم جاز فالمأخوذ جزية يصرف مصرف الفئ فلا تؤخذ من أرض صبي ومجنون
وامرأة وخنثى ويؤخذ الخراج منهم، وإن لم تزرع الأرض أو باعوها أو وهبوها ما لم يسلموا، لأنه جزية كما
مر فإن اشتراها مسلم فعليه الثمن، أو استأجرها فعليه الأجرة، والخراج باق على البائع والمؤجر، ويؤخذ منهم الخراج
252

في موات يذبون عنه، لا فيما لا يذبون عنه وإن أحيوه إلا إن شرط عليهم أن يؤخذ ذلك مما يحيونه، وإن ضربناه على
أن الأرض لنا ويسكنونها ويؤدون كل سنة عن كل جريب كذا فالمأخوذ منهم أجرة، لأن ذلك عقد إجارة فلا يسقط
بإسلامهم، ولا يشترط فيه أن يبلغ دينارا والجزية باقية فتجب مع الأجرة، ولا يجوز لهم بيع الأرض ولا هبتها، ولهم
إجارتها، لأن المستأجر يؤجر ويؤخذ ذلك من أرض النساء والصبيان وغيرهم ممن لا جزية عليه، لأنه أجرة.
فصل: في أحكام عقد الجزية الزائدة على ما مر (يلزمنا) بعد عقد الذمة الصحيح للكفار (الكف عنهم)
نفسا ومالا وخلاص من أسر منهم، واسترجاع ما أخذ من أموالهم كما صرح به في الروضة وأصلها، والكف عن
خمورهم وخنازيرهم وسائر ما يقرون عليه ما لم يظهروه بيننا، لأن الله تعالى غيا قتالهم بالاسلام
أو ببذل الجزية، والاسلام يعصم النفس والمال وما ألحق به فكذا الجزية. وروى أبو داود خبر: من ظلم معاهدا، أو انتقصه، أو كلفه فوق
طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة (و) يلزمنا (ضمان ما نتلفه عليهم نفسا ومالا) أي
يضمنه المتلف منا كما يضمن مال المسلم ونفسه، لأن ذلك فائدة عقد الذمة، واحترز بالمال عن الخمر والخنزير، فمن
أتلف شيئا من ذلك لا ضمان عليه سواء أظهره أم لا، لكن من غصبه يجب عليه رده عليهم ومؤنة الرد على الغاصب
ويعصى بإتلافها إلا إن أظهروها، وتراق خمر مسلم اشتراها منهم وقبضها ولا ثمن عليه، لأنهم تعدوا بإخراجها إليه،
ولو قضى الذمي دين مسلم كان له عليه بثمن خمر أو نحوه حرم على المسلم قبوله إن علم أنه ثمن ذلك لأنه حرام في عقيدته،
وإلا لزمه القبول، وما اقتضاه كلام الروضة في نكاح المشرك من أنه لا يحرم قبوله مع العلم مردود.
تنبيه: قوله نفسا ومالا منصوبان على التمييز من الكف وحذفا من قوله وضمان ما نتلفه لدلالة ما سبق، والتمييز
إذا علم جاز حذفه، ولا يجوز أن يكون الكف وضمان من تنازع العاملين، لأنك إن أعملت الأول منهما أضمرت في
الثاني فيلزم وقوع التمييز معرفة، وإن أعملت الثاني لزم الحذف من الأول لدلالة الثاني وهو ضعيف ويلزمنا استنقاذ من
أسر منهم واسترجاع ما أخذ من أموالهم. (و) يلزمنا (دفع أهل الحرب) وغيرهم (عنهم) إذا كانوا في بلاد المسلمين
لأنه لا بد من الذب عن الدار، ومنع الكفار من طروقها (وقيل إن انفردوا ببلد) بجوار دار الاسلام كما قيده في
الروضة (لم يلزمنا الدفع) عنهم كما لا يلزمهم الذب عنا عند طروق العدو لنا، والأصح اللزوم إن أمكن إلحاقا
بأهل الاسلام في العصمة والصيانة. أما المستوطنون بدار الحرب إذا بذلوا الجزية وليس معهم مسلم، فلا يلزمنا الدفع
عنهم جزما إلا إن شرط الذب عنهم هناك فلزمنا وفاء بالشرط، فإن لم ندفع عنهم حيث لزمنا ذلك فلا جزية لمدة
عدم الدفع. فإن ظفر الإمام ممن أغار عليهم وأخذ أموالهم رد عليهم ما وجد من أموالهم، ولا يضمنون ما أتلفوه
إن
كانوا حربيين كما لو أتلفوا مالنا (ونمنعهم) وجوبا (إحداث كنيسة) وبيعة وصومعة للرهبان، وبيت نار للمجوس
(في بلد أحدثناه) كبغداد والكوفة والبصرة والقاهرة، لما رواه أحمد بن عدي عن عمر رضي الله تعالى عنه أن
رسول الله (ص) قال لا تبنى كنيسة في الاسلام ولا يجدد ما خرب منها وروى البيهقي أن عمر رضي الله
تعالى عنه لما صالح نصارى الشام كتب إليهم كتابا إنهم لا يبنون في بلادهم ولا فيما حولها ديرا ولا كنيسة ولا صومعة
راهب ورواه ابن أبي شيبة عن ابن عباس أيضا ولا مخالف لهما من الصحابة، ولان إحداث ذلك معصية، فلا يجوز في
دار الاسلام. فإن بنوا ذلك هدم، سواء أشرط ذلك عليهم أم لا، ولو عاقدهم الإمام على التمكن من إحداثها فالعقد
باطل (أو) بلد (أسلم أهله عليه) كالمدينة الشريفة واليمن، فإنهم يمنعون أيضا مما ذكر لما مر.
تنبيه: لو وجدت كنائس أو نحوها فيما ذكر وجهل أصلها بقيت لاحتمال أنها كانت في قرية أو برية فاتصل
بها عمران ما أحدث منا بخلاف ما لو علم إحداث شئ منها بعد بنائها فإنه يلزمنا هدمه. هذا إذا بني ذلك للتعبد فإن بني
لنزول المارة نظر، إن كان لعموم الناس جاز، وإن كان لأهل الذمة فقط فوجهان: جزم صاحب الشامل منهما
253

بالجواز. (وما) أي والبلد الذي (فتح عنوة) كمصر وأصبهان وبلاد المغرب (لا يحدثونها فيه) لأن المسلمين ملكوها
بالاستيلاء فيمتنع جعلها كنيسة، وكما لا يجوز إحداثها لا يجوز إعادتها إذا انهدمت (ولا يقرون على كنيسة كانت فيه في
الأصح) لما مر، وعلى هذا فلا يجوز تقرير الكنائس بمصر كما قاله الزركشي: لأنها فتحت عنوة ولا بالعراق، والثاني
يقرون لأن المصلحة قد تنقضي ذلك، ومحل الخلاف في القائمة عند الفتح، أما المتهدمة أو التي هدمها المسلمون فلا
يقرون عليها قطعا.
تنبيه: لو استولى أهل حرب على بلدة أهل ذمة وفيها كنائسهم ثم استعدناها منهم عنوة أجرى عليها حكم ما كانت
عليه قبل استيلاء أهل الحرب، قاله صاحب الوافي، واستظهره الزركشي. (أو) فتح البلد (صلحا) كبيت المقدس
(بشرط) كون (الأرض لنا وشرط إسكانهم) فيها بخراج (وإبقاء الكنائس) مثلا لهم (جاز) لأنه إذا جاز الصلح على
أن كل البلد لهم فعلى بعضهم أولى.
تنبيه: قوله وإبقاء الكنائس يقتضي منعهم من إحداثها، وبه صرح الماوردي، والذي في الشرح والروضة عن
الروياني وغيره إنهم إذا صولحوا على إحداثها جاز أيضا ولم يذكر إخلافه. قال الزركشي: وهو محمول على ما إذا
دعت إليه ضرورة وإلا فلا وجه له اه‍. ومقتضى التعليل الجواز مطلقا وهو الظاهر، والتعبير بالجواز المراد به عدم المنع،
إذ الجواز حكم شرعي ولم يرد الشرع بجواز ذلك، نبه عليه السبكي. (وإن) فتح البلد صلحا بشرط الأرض لنا (وأطلق)
الصلح فلم يذكر فيه إبقاء الكنائس ولا عدمه (فالأصح المنع) من إبقائها فيهدم ما فيها من الكنائس، لأن إطلاق
اللفظ
يقتضي ضرورة جميع البلد لنا، والثاني لا، وهي مستثناة بقرينة الحال لحاجتهم إليها في عبادتهم.
فائدة: قال الشيخ عز الدين: لا يجوز للمسلم دخول كنائس أهل الذمة إلا بإذنهم، لأنهم يكرهون دخولهم إليها،
ومقتضى ذلك الجواز بالاذن وهو محمول على ما إذا لم تكن فيها صورة فإن كان وهي لا تنفك عن ذلك حرم هذا
إذا كانت مما يقرون عليها وإلا جاز دخولها بغير إذنهم لأنها واجبة الإزالة، وغالب كنائسهم الآن بهذه الصفة. (أو)
فتح صلحا بشرط الأرض (لهم) ويؤدون خراجها (قررت) كنائسهم لأنها ملكهم (ولهم الاحداث في الأصح) لأن
الملك والدار لهم فيتصرفون فيها كيف شاءوا، والثاني المنع لأن البلد تحت حكم الاسلام، وعلى الأول لا يمنعون من
إظهار شعارهم كخمر وخنزير، وأعيادهم كضرب ناقوسهم، ويمنعون من إيواء الجاسوس وتبليغ الاخبار وسائر
ما نتضرر به في ديارهم.
تنبيه: حيث جوزنا أيضا الكنائس، فلا منع من ترميمها إذا استهدمت لأنها مبقاة، وهل يجب إخفاء
العمارة؟ وجهان: أصحهما لا، ولا يمنعون من تطيينها من داخل وخارج، وتجوز إعادة الجدران الساقطة،
وإذا انهدمت الكنيسة المبقاة، فلا يمنعون من إعادتها على الأصح في الشرح والروضة لأن ذلك ليس بإحداث،
وقال السبكي في كتاب الوقف: ولا أرى الفتوى بذلك، فإن في سنة ثلاث عشرة أو نحوها رأيت في منامي رجلا
من أكابر العلماء في ذلك الوقت عليه عمامة زرقاء، فعندما طلع الفجر من تلك الليلة طلبني ذلك العالم فوجدته في ذلك
المكان الذي رأيته فيه، وبيده كراسة في ترميم الكنائس، يريد أن ينتصر لجواز الترميم ويستعين بي فذكرت
واعتبرت. قال: ومعنى قولنا لا نمنعهم الترميم، وليس المراد جائز، بل هو من جملة المعاصي التي يقرون عليها
كشرب الخمر، ولا نقول أن ذلك جائز لهم، ولا ينبغي أن يأذن لهم ولي الأمر فيه كما يأذن في الأشياء الجائزة في الشرع،
وإنما معنى تمكينهم التخلية وعدم الانكار كما إنا نقرهم على التوراة والإنجيل، ولو اشتروهما أو استأجروا من يكتبهما
لهم لم يحكم بصحته، ولا يحل للسلطان ولا للقاضي أن يقوم لهم افعلوا ذلك وأن يعينهم عليه ولا لاحد من المسلمين
254

لأن يعمل لهم فيه، ولو استأجروا له وترافعوا إلينا حكمنا ببطلان الإجارة. قال: والمراد بالترميم الإعادة لما تهدم منها
لا بآلات جديدة. قال: وهذا مدلول لفظ الإعادة والترميم، ومن ادعى خلاف ذلك فهو مطالب بنقل عن أحد من
علماء الشريعة، قال: وبالجملة مشهور مذهبنا التمكين والحق عندي خلافه اه‍. والذي قاله ابن يونس في شرح الوجيز
، واقتضى كلامه الاتفاق عليه أنها ترمم بآلات جديدة وليس لهم توسيعها، لأن الزيادة في حكم كنيسة محدثة متصلة
بالأولى. (ويمنعون) أي الذميون (وجوبا وقيل ندبا من رفع بناء) لهم (على بناء جار) لهم (مسلم) وإن لم يشرط
عليهم في العقد لخبر البخاري عن ابن عباس: الاسلام يعلو ولا يعلى عليه وليتميز البناءان، ولئلا يطلع على عوراتنا،
ولا فرق في ذلك بين أن يرضى الجار بذلك أم لا، لأن المنع من ذلك لحق الدين لا لمحض حق الجار، وسواء أكان بناء
المسلم معتدلا أم في غاية الانخفاض.
تنبيه: محل المنع كما قال البلقيني: إذا كان بناء المسلم مما يعتاد في السكنى، فلو كان قصيرا لا يعتاد فيها لأنه لم
يتم بناؤه أو أنه هدمه إلى أن صار كذلك لم يمنع الذمي من بناء جداره على أقل ما يعتاد في السكنى، لئلا يتعطل عليه
حقها الذي عطله المسلم باختياره أو تعطل عليه بإعساره، والمراد بالجار كما قال الجرجاني أهل محلته دون جميع البلد.
(والأصح المنع من المساواة) أيضا بين بناء المسلم والذمي، لقوله تعالى * (ضربت عليهم الذلة) * فينبغي استحقارهم
في جميع الأشياء، لأن القصد تمييزهم عن المسلمين في المساكن والملابس والمراكب، والحديث يدل على علو الاسلام،
ولا علو مع المساواة.
تنبيه: فهم من قوله رفع تصوير المنع بالاحداث، فلو تلك الذمي دار مساوية أو عالية لم يكف هدمها، وكذا
ما بنوه قبل أن تملك بلادهم لأنه وضع بحق، لكن يمنع من طلوع سطحه إلا بعد تحجيره بخلاف المسلم فإنه مأمون،
ويمنع صبيانهم من الاشراف على المسلم بخلاف صبياننا، حكاه في الكفاية عن الماوردي. فإن انهدم البناء المذكور
امتنع العلو والمساواة، ولو رفع بناءه على المسلم فأراد المسلم أن يرفع بناءه عليه لم يؤخر هدم بنائه بذلك، فلو تأخر
نقضه حتى رفع المسلم بناءه عليه قال ابن الصلاح: الظاهر أنه لا يسقط حق النقض بذلك، ولو رفعه فحكم الحاكم
بنقضه فباعه من مسلم فهل يسقط حق النقض؟ قال ابن الرفعة فيما كتبه على حواشي كفايته: يظهر تخريجه على
الوجهين فيما إذا باع المستعير ما بناه على الأرض المستعار بعد رجوع المعير، وكذا بيع البناء بعد انقضاء الإجارة، فإن
لم يجوزوه انبنى على من اشترى فصيلا بشرط القطع، ثم اشترى الأرض هل يلزمه القطع؟ وجهان اه‍. ويؤخذ
من ذلك أنه لا يسقط النقض بعد حكم الحاكم بنقضه إذا باعه لمسلم بخلاف ما إذا باعه قبل الحكم بذلك. قال الأذرعي:
وحكمت أيام قضائي على يهودي بهدم ما بناه، وبالتنقيص عن المساواة لجاره فأسلم فأقررته على بنائه وفي نفسي منه
شئ، وظني إن كنت قلت له إن أسلمت لم أهدمه اه‍. بل الوجه عدم الهدم لقوله تعالى * (قل للذين كفروا) *
الآية قال الزركشي: ولو استأجر الذمي دارا عالية لم يمنع من سكناها بلا خلاف، قاله المرشد، وهل يجري مثله
فيما لو ملك دار لها روشن حيث قلنا لا يشرع له روشن، أي وهو الأصح، أو لا يجري. لأن التعلية من حقوق الملك
والروشن لحق الاسلام وقد زال؟ فيه نظر اه‍. والوجه الأول وخرج بقول المصنف: المسلم رفع أهل الذمة بعضهم
على بعض، فإن اختلفت ملتهم ففي منع علو بعضهم على بعض وجهان في الحاوي والبحر، والذي ينبغي القطع به
الجواز. (و) الأصح وعبر في الروضة بالصحيح (أنهم لو كانوا بمحلة منفصلة) عن المسلمين بطرف من البلد،
منقطع عن العمارة (لم يمنعوا) من رفع البناء، لأن الممنوع المطاولة، وإنما تحقق عند وجود بناء مسلم ولامتناع
خوف الاطلاع على عورة المسلمين، والثاني المنع لأنه استعلاء في دار الاسلام. أما إذا التصقت دور البلد من أحد
جوانبها، فإنا نعتبر في ذلك الجانب: أن لا يرتفع فيه بناء أهل الذمة على بناء من يجاورهم من المسلمين دون بقية
255

الجوانب إذ لا جار لهم (ويمنع الذمي) الذكر المكلف في بلاد المسلمين (ركوب خيل) لقوله تعالى * (ومن رباط
الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) *، فأمر أولياءه بإعدادها لأعدائه، ولما في الصحيحين من حديث عروة البارقي:
الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وعني به الغنيمة وهم مغنومون. وروي: الخيل ظهورها عز.
أما إذا انفردا ببلدة أو قرية في غير دارنا لم يمنعوا في أقرب الوجهين إلى النص كما قاله الأذرعي،
قال: ولو استعنا بهم في حرب حيث يجوز، فالظاهر تمكينهم من ركوبها زمن القتال.
تنبيه: ظاهر كلامه أنه لا فرق في منع ركوب الخيل بين النفيس منها والخسيس، وهو ما عليه الجمهور، لكن
استثنى الجويني وغيره منها البراذين الخسيسة، وجرى عليه ابن المقري. (لا) ركوب (حمير) قطعا ولو رفيعة القيمة
(و) لا (بغال نفيسة) في الأصح لأنها في نفيسة خسيسة، وألحق الإمام والغزالي البغال النفيسة بالخيل واختاره
الأذرعي وغيره، فإن التجمل والتعاظم بركوبها أكثر من كثير من الخيل. وقال البلقيني: لا توقف عندنا في الفتوى
بذلك لأنه لا يركبها في هذا الزمان في الغالب إلا أعيان الناس أو من يتشبه بهم اه‍. ويمنع تشبههم بأعيان الناس، أو من
يتشبه بهم، وقول المصنف (ويركب بإكاف) - بكسر الهمزة - أي برذعة ونحوها، وقد مر الكلام على ذلك في باب
الإجارة (وركاب خشب لا حديد) ونحوه (ولا سرج) اتباعا لكتاب عمر رضي الله تعالى عنه، والمعنى فيه أن
يتميزوا عن المسلمين، وله الركوب على سرج من خشب كما نقله الزركشي عن الماوردي، ويركب عرضا بأن يجعل
رجليه من جانب واحد وظهره من جانب آخر. قال الرافعي: ويحسن أن يتوسط فيفرق بين أن يركب إلى مسافة
قريبة من البلد أو إلى بعيدة، وهو ظاهر، ويمنع من حمل السلاح ومن اللجم المزينة بالنقدين. قال الزركشي: ولعل
منعه من حمل السلاح محمول على الحضر ونحوه دون الاسفار المخوفة والطويلة. أما النساء والصبيان ونحوهما فلا يمنعون
من ذلك كما لا جوية عليهم، حكاه في أصل الروضة عن ابن كج وأقره. فإن قيل: قد صححوا أن النساء
يؤمرن
بالغيار والزنار والتمييز في الحمام، فكان ينبغي أن يكون هنا كذلك؟: أجيب بأن ما هناك كالضرورة لحصول التمييز
به بخلاف ما هنا. قال ابن الصلاح: وينبغي منعهم من خدمة الملوك والامراء كما يمنعون من ركوب الخيل (ويلجأ)
الذمي عند زحمه المسلمين (إلى أضيق الطرق) بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه جدار لقوله (ص): لا تبدءوا
اليهود ولا النصارى بالسلام، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه. أما إذا خلت الطريق عن الزحمة
فلا حرج. قال في الحاوي: ولا يمشون إلا أفرادا متفرقين (ولا يوقرون ولا يصدرون في مجلس) فيه مسلم لأن الله
تعالى أذلهم، والظاهر كما قال الأذرعي تحريم ذلك.
فائدة: دخل محمد بن الوليد الطرطوشي على الملك الأفضل ابن أمير الجيوش، وكان إلى جانبه رجل نصراني
فوعظ الطرطوشي الأمير حتى بكى، ثم أنشد:
يا ذا الذي طاعته قربة وحبه مفترض واجب إن الذي شرفت من أجله
أي محمد (ص). يزعم هذا - أي النصراني - أنه كاذب. فأقامه الأفضل من موضعه، هكذا
كانت العلماء إذا دخلت على الملوك، وتحرم مودة الكافر لقوله تعالى * (لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر
يوادون من حاد الله ورسوله) *. فإن قيل قد مر في باب الوليمة إن مخالطته مكروهة؟. أجيب بأن المخالطة
إلى الظاهر. والمودة إلى الميل القلبي، فإن قيل: الميل القلبي لا اختيار للشخص فيه؟. أجيب بإمكان رفعه بقطع
أسباب المودة التي ينشأ عنها ميل القلب، كما قيل: الإساءة تقطع عروق المحبة. (ويؤمر) الذمي والذمية المكلفان
في الاسلام وجوبا (بالغيار) - بكسر المعجمة - وإن لم يشرط عليهم، وهو أن يخيط كل منهما بموضع لا يعتاد الخياطة
عليه، كالكتف على ثوبه الظاهر ما يخالف لونه لون ثوبه ويلبسه: وذلك للتمييز، ولان عمر رضي الله تعالى عنه
256

صالحهم على تغيير زيهم بمحضر من الصحابة كما رواه البيهقي. فإن قيل لم لم يفعل النبي (ص) هذا بيهود المدينة
ونصارى نجران؟. أجيب بأنهم قليلين معروفين، فلما كثروا في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم وخافوا
من التباسهم بالمسلمين احتاجوا إلى تمييزهم وإلقاء منديل ونحوه كالخياطة كما في أصل الروضة وإن استبعده ابن الرفعة،
والأولى باليهود: الأصفر، وبالنصارى الأزرق والأكهب، ويقال له الرمادي، وبالمجوس الأحمر أو الأسود. قال
البلقيني: وما ذكر من الأولى لا دليل عليه اه‍. ويكفي عن الخياطة العمامة كما عليه العمل الآن، أما إذا انفردوا بمحلة
فلهم ترك الغيار كما قاله في البحر، وهو قياس ما تقدم في تعلية البناء. (و) يؤمر الذمي أيضا بشد (الزنار) وهو بضم
المعجمة: خيط غليظ يشد في الوسط (فوق الثياب) لأن عمر رضي الله تعالى عنه صالحهم عليه كما رواه البيهقي،
هذا في الرجل. أما المرأة فتشده تحت الإزار كما صرح به في التنبيه، وحكاه الرافعي عن التهذيب وغيره، لكن مع ظهور
بعضه حتى يحصل به فائدة. قال الماوردي: ويستوي فيه سائر الألوان. قال في أصل الروضة: وليس لهم إبداله بمنطقة
ومنديل ونحوهما، والجمع بين الغيار والزنار أولى، وليس بواجب كما يقتضيه كلام المصنف، ومن لبس منهم قلنسوة
يميزها عن قلانسنا بعلامة فيها (وإذا دخل) الذمي متجردا (حماما) وهو مذكر بدليل عود الضمير عليه مذكرا
في قوله (فيه مسلمون أو تجرد عن ثيابه) بين مسلمين في غير حمام (جعل) وجوبا (في عنقه خاتم حديد) بفتح التاء
وكسرها (أو رصاص) بفتح الراء، وقوله (ونحوه) مرفوع بخطه، ويجوز نصبه عطفا على خاتم لا رصاص، وأراد
بنحو الخاتم الجلجل ونحوه، ويجوز عطفه على الرصاص، ويراد حينئذ بنحوه النحاس ونحوه، بخلاف الذهب
والفضة، قال الزركشي: والخاتم طوق يكون في العنق.
تنبيه: شمل إطلاق المصنف النساء، وهو الأصح بناء على جواز دخولهن الحمام مع المسلمات والأصح في
زيادة الروضة المنع منه، لأنهن أجنبيات في الدين، وتقدم في النكاح ما له بهذا تعلق، وقد تقدم الكلام في دخول
المسلمات الحمام في باب الغسل.
فروع: لو لبس الذمي الحرير وتعمم أو تطيلس لم يمنع كما لم يمنع من رفيع القطن والكتان. قال الأذرعي:
ويجب القطع بمنعهم من التشبه بلباس أهل العلم والقضاة ونحوهم، لما في ذلك من التعاظم والتيه. قال الماوردي:
ويمنعون من التختم بالذهب والفضة، ولما فيه من التطاول والمباهاة، وتجعل المرأة خفها لونين، ولا يشترط التمييز بكل
هذه الوجوه، بل يكفي بعضها. قال الحليمي: ولا ينبغي لفعلة المسلمين وصياغهم أن يعملوا للمشركين كنيسة أو صليبا،
أما نسج الزنانير فلا بأس به لأن فيه صغارا لهم. (ويمنع) الكافر (من إسماعه المسلمين) قولا (شركا) كقولهم:
الله ثالث ثلاثة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا (وقولهم) بالنصب بخطه عطفا على شركا (في عزير والمسيح) صلى
الله على نبينا وعليهما وعلى بقية أنبياء الله تعالى (ومن إظهار خمر وخنزير وناقوس) وهو ما تضرب به النصارى
لأوقات الصلاة (وعيد) ومن إظهار قراءتهم التوراة والإنجيل ولو في كنائسهم، لما في ذلك من المفاسد وإظهار
شعار الكفر.
تنبيه: قضية كلامه منعهم من ذلك سواء شرط عليهم في العقد أم لا، وبه صرح القاضي أبو الطيب وابن الصباغ
وغيرهما، ومتى أظهروا خمورهم أريقت، وقياسه إتلاف الناقوس إذا أظهروه، وإذا فعلوا ما يعتقدون تحريمه
أجرى عليهم حكم الله فيه، ولا يعتبر رضاهم، وذلك كالزنا والسرقة فإنهما محرمان عندهم كشرعنا، بخلاف ما يعتقدون
حله كشرب الخمر فلا يقام عليهم الحد بشربه في الأصح، وفهم من التقييد بالاظهار أنه لا يمنع بينهم، وكذا إذا
انفردوا بقرية، نص عليه في الام.
257

فروع: يمنعون أيضا من إظهار دفن موتاهم، ومن النوح واللطم، ومن إسقاء مسلم خمرا، ومن إطعامه خنزيرا،
ومن رفع أصواتهم على المسلمين، ومن استبذالهم إياهم في الخدمة بأجرة وغيرها، فإن أظهروا شيئا من ذلك عزروا،
وإن لم يشرط في العقد. (ولو شرطت هذه الأمور) من إحداث الكنيسة فما بعده في العقد: أي شرط نفيها (فخالفوا)
ذلك بإظهارها (لم ينتقض العهد) بذلك لأنهم يتدينون بها من غير ضرر على المسلمين فيها بخلاف القتال ونحوه كما
سيأتي، وحملوا الشرط المذكور على تخويفهم (ولو قاتلونا) ولا شبهة لهم (أو امتنعوا من) أداء (الجزية) (أو من
إجراء حكم الاسلام) عليهم (انتقض) عهدهم بذلك وإن لم يشرط عليهم الانتقاض به لمخالفته مقتضى العقد. أما
إذا كانت شبهة كأن أعانوا طائفة من أهل البغي وادعوا الجهل أو صال عليهم طائفة من متلصصي المسلمين وقطاعهم
فقاتلوهم دفعا فلا يكون ذلك نقضا وسواء كان امتناعهم من أصل الجزية أو من الزائد على الدينار.
تنبيه: هذه النسبة للقادر، أما العاجز إذا استمهل لا ينتقض عهده. قال الإمام: ولا يبعد أخذها من الموسر قهرا
ولا ينتقض ويخص بالمتغلب المقاتل وأقره الرافعي، قال الإمام: وإنما يؤثر عدم الانقياد لأحكام الاسلام إذا كان يتعلق
بقوة وعدة ونصب للقتال. وأما الممتنع هاربا فلا ينتقض، وجزم به في الحاوي الصغير. (ولو زنى ذمي بمسلمة) مع
علمه بإسلامها حال الزنا، وسيأتي جواب هذه المسألة وما عطف عليها في قوله فالأصح إلخ، فإن لم يعلم الزاني بإسلامها
كما لو عقد على كافرة فأسلمت بعد الدخول بها فأصابها في العدة فلا ينتقض عهده بذلك (أو أصابها بنكاح) أي باسمه
أو لاط بغلام مسلم أو قتل مسلما قتلا يوجب قصاصا، وإن لم نوجبه عليه كذمي حر قتل عبدا مسلما أو قطع طريقا على
مسلم (أو دل أهل الحرب على عورة) أي خلل (للمسلمين) الموجدين فيهم بسبب ضعف أو غيره أو آوى جاسوسا
لهم (أو فتن مسلما عن دينه) أو قذف مسلما ادعاه إلى دينهم (أو طعن الاسلام أو القرآن أو) سب الله أو (ذكر
رسول الله (ص)) أو غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه (بسوء) مما لا يتدينون به وفعلوا ذلك
جهرا (فالأصح) في المسائل المذكورة (أنه إن شرط) عليهم (انتقاض العهد بها انتقض، وإلا فلا) ينتقض لمخالفته
الشرط الأول دون الثاني. وهذا ما في المحرر، وصححه في الشرح الصغير، ونقله الزركشي وغيره عن نص الشافعي،
والثاني ينتقض مطلقا، لما فيه من الضرر، والثالث لا ينتقض مطلقا، ودفع في أصل الروضة تصحيحه وعلى الأول
لو نكح كافرة، ثم أسلمت بعد الدخول فوطئها في العدة، لم ينتقض عهده مطلقا، فقد يسلم فيستمر نكاحه.
أما ما يتدينون به كقولهم: القرآن ليس من عند الله، أو محمد ليس بنبي، فلا انتقاض به مطلقا، ويعزرون على ذلك،
ولو شرط عليه الانتقاض بذلك ثم قتل بمسلم أو بزناه حالة كونه محصنا بمسلمة صار ماله فيئا كما قاله ابن المقري، لأنه
حربي مقتول تحت أيدينا لا يمكن صرفه لأقاربه الذميين لعدم التوارث، ولا للحربيين، لأنا إذا قدرنا على مالهم أخذناه
فيئا أو غنيمة وشرط الغنيمة هنا ليس موجودا.
تنبيه: قول المصنف: وإلا فلا يدخل فيه ما لو أشكل الحال في شرط ما ذكر وعدمه، لكن قال في الانتصار:
يجب تنزيله على أنه مشروط، لأن مطلق العقد يحمل على المتعارف، وهذا العقد في مطلق الشرع كان مشتملا على
هذه الشرائط، وهذا ظاهر وإن نظر فيه ابن الرفعة. (ومن انتقض عهده بقتال جاز دفعه) بغيره (و) جاز أيضا (قتله)
لقوله تعالى * (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) * ولا يبلغ مأمنه، إذ لا وجه لتبليغه مأمنه مع نصبه القتال، وحينئذ فيتخير
258

الإمام فيمن ظفر به منهم من الأحرار الكاملين كما يتخير في الأسير.
تنبيه: تعبيره بالجواز يقتضي أنه لا يجب، وليس مرادا، بل هو واجب، فقد مر أن الجهاد عند دخوله طائفة
من أهل الحرب دار الاسلام فرض عين، ولا فرق بينها وبين التي كانت لها ذمة ثم انتقضت، وعبارة الروضة: فلا بد
من دفعهم والسعي في استئصالهم. (أو) انتقض عهده (بغيره) أي القتال ولم يسأل تجديد العهد (لم يجب إبلاغه
مأمنه) - بفتح الميمين - أي مكانا يأمن فيه على نفسه (في الأظهر) والمراد به كما قاله البندنيجي: أقرب بلاد الحرب
من بلاد الاسلام، ولا يلزمنا إلحاقه ببلده الذي يسكنه فوق ذلك، إلا أن يكون بين بلاد الكفر ومسكنه بلد للمسلمين
يحتاج للمرور عليه (بل يختار الإمام فيه قتلا) وأسرا (ورقا ومنا وفداء) لأنه كافر لا أمان له كالحربي. والثاني
يجب لأنهم دخلوا دار الاسلام بأمان فلم يجز قتلهم قبل الرد إلى المأمن: كما لو دخل بأمان صبي، وأجاب الأول بأن
من دخل بأمان صبي يعتقد لنفسه أمانا، وهذا فعل باختياره ما أوجب الانتقاض، وعلى القولين لو فعل ما يوجب حدا
أو تعزيرا أقمناه قبل ذلك، صرح به الروياني وغيره في الحد ومثله التعزير. وروى البيهقي عن عمر رضي الله تعالى
عنه أنه صلب يهوديا زنى بمسلمة أما إذا سأل تجديد العهد فتجب إجابته (فإن أسلم) من انتقض عهده
(قبل الاختيار) من الإمام لشئ مما سبق (امتنع) القتل، و (الرق) والفداء، لأنه لم يحصل في يد الإمام بالقهر،
وله أمان متقدم فخف أمره.
تنبيه: لو قال المصنف تعين من كان أولى مما ذكره. (وإذا بطل أمان رجال لم يبطل أمان نسائهم، و) أمان
(الصبيان في الأصح) لأنه قد ثبت لهم الأمان ولم يوجد منهم ناقض فلا يجوز سبيهم ويجوز تقريرهم في دارنا.
والثاني يبطل لأنهم دخلوا تبعا فيزول بزوال الأصل وعلى الأول لو طلبوا الرجوع إلى دار الحرب أجيب النساء
دون
الصبيان لأنه لا حكم لاختيارهم قبل البلوغ، فإن طلبهم مستحق الحضانة أجيب. فإن بلغوا وبذلوا الجزية فذاك،
وإلا ألحقوا بدار الحرب.
تنبيه: الخناثى كالنساء والمجانين كالصبيان والإفاقة كالبلوغ. (وإذا اختار ذمي نبذ العهد واللحوق بدار
الحرب بلغ) على المذهب (المأمن) السابق تفسيره لأنه لم يوجد منه خيانة ولا ما يوجب نقض عهده فيبلغ مكانا
يأمن فيه على نفسه. ولو رجع المستأمن إلى بلاده بإذن الإمام لتجارة أو رسالة فهو باق على أمانه في نفسه وماله، وإن
رجع للاستيطان انتقض عهده، ولو رجع ومات في بلاده واختلف الوارث والإمام هل انتقل للإقامة فهو حربي أو
للتجارة فلا ينتقض عهده؟ أجاب بعض المتأخرين بأن القول قول الإمام لأن الأصل في رجوعه إلى بلاده الإقامة.
فائدة: روي عن جعفر بن محمد أن النبي (ص) قال: لو عاش إبراهيم لعتقت أخواله، ولوضعت
الجزية عن كل قبطي. وروي أن الحسن بن علي كلم معاوية في أهل قرية أم إبراهيم فسامحهم بالجزية إكراما
لسيدنا إبراهيم. قال المصنف: وما روي عن بعض المتقدمين. لو عاش إبراهيم لكان نبيا باطل.
خاتمة: الأولى للإمام أن يكتب بعد عقد الذمة اسم من عقد له ودينه وحليته، ويتعرض لسنه أهو شيخ أم
شاب، ويصف أعضاءه الظاهرة من وجهه ولحيته وحاجبيه وعينيه وشفتيه وأنفه وأسنانه وآثار
وجهه إن كان فيه آثار ولونه من سمرة وشقرة وغيرهما ويجعل لكل من طوائفهم عريفا مسلما يضبطهم ليعرفه بمن مات أو أسلم أو بلغ
منهم أو دخل فيهم، وأما من يحضرهم ليؤدي كل منهم الجزية، أو يشتكي إلى الإمام من يتعدى عليهم منا أو منهم
فيجوز جعله عريفا كذلك ولو كان كافرا، وإنما اشترط إسلامه في الفرض الأول لأن الكافر لا يعتمد خبره.
259

باب الهدنة
وتسمى الموادعة والمعاهدة والمسالمة والمهادنة، وهي لغة المصالحة. وشرعا مصالحة أهل الحرب على ترك القتال مدة
معينة بعوض أو غيره سواء فيهم من يقر على دينه ومن لم يقر، وهي مشتقة من الهدون وهو السكون والأصل فيها
قبل الاجماع قوله تعالى * (براءة من الله ورسوله) * الآية. وقوله تعالى * (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) * ومهادنته
(ص) قريشا عام الحديبية كما رواه الشيخان. وهي جائزة لا واجبة بأربعة شروط: الأول ما أشار إليه
بقوله (عقدها لكفار أقليم) كالروم والهند (يختص بالإمام أو نائبه فيها) أي عقد الهدنة لما فيها من الخطر. والإمام
أو نائبه هو الذي يتولى الأمور العظام، وهو أعرف بالمصالح من الآحاد وأقدر على التدبير منهم كما قال الماوردي.
ولا يقوم إمام البغاة مقام إمام الهدنة في ذلك.
تنبيه: قد علم من منع عقدها من الآحاد لأهل إقليم منع عقدها للكفار مطلقا من باب أولى. وقد صرح في المحرر
بالامرين جميعا، فإن تعاطاها الآحاد لم يصح لكن لا يغتالون بل يبلغون المأمن لأنهم دخلوا على اعتقاد صحة
أمانه. (و) عقدها (لبلدة) أي كفارها (يجوز لوالي الإقليم) لتلك البلدة كما في الروضة وأصلها لتفويض مصلحة الإقليم
إليه ولاطلاعه على مصالحه، ولان الحاجة قد تدعو إلى ذلك والمفسدة فيه قليلة لو أخطأ. وأفهم قوله (أيضا) أنه
يجوز عقد الهدنة لكفار بلدة من الإمام ونائبه أيضا. قال الرافعي: والقصور على بلدة واحدة في ذلك الإقليم لا معنى
له فإن الحاجة قد تدعو إلى مهادنة أهل بلاد في ذلك الإقليم وتكون المصلحة في ذلك.
تنبيه: قد يفهم من تعبير المصنف بعقدها اعتبار الايجاب والقبول، لكن على كيفية ما سبق في عقد الأمان،
وقضية كلامه كغيره: أن والي الإقليم لا يهادن جميع أهل الإقليم، وبه صرح الفوراني، وهو أظهر من قول العمراني
أن له ذلك وقضية كلامه أيضا أنه لا يشترط إذن الإمام للوالي في ذلك، وهو قضية كلام الرافعي، لكن نص الشافعي
على اعتبار إذنه وهو الظاهر، والإقليم - بكسر الهمزة - أحد الأقاليم السبعة التي في الربع المسكون من الأرض وأقاليمها
أقسامها، وذلك أن الدنيا مقسومة على سبعة أسهم على تقدير أصحاب الهيئة. ثم شرع في الشرط الثاني بقوله (وإنما
تعقد لمصلحة) ولا يكفي انتفاء المفسدة لما فيه من موادعتهم بلا مصلحة، وقد قال تعالى * (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم
وأنتم الأعلون) *. ثم بين المصلحة بقوله (كضعفنا بقلة عدد) لنا (وأهبة، أو) لا لضعفنا، بل لأجل (رجاء
إسلامهم، أو بذل جزية) أو نحو ذلك كحاجة الإمام إلى إعانتهم له على غيرهم ولأنه (ص) هادن صفوان
بن أمية أربعة أشهر عام الفتح وقد كان (ص) مستظهرا عليه، ولكنه فعل ذلك لرجاء إسلامه، فأسلم
قبل مضيها.
تنبيه: قوله: أو رجاء معطوف على قوله كضعفنا، لا على الذي يليه كما يفهم مما قدرته، فكان ينبغي إعادة
الجار فيه: أي أن المصلحة تارة تكون لضعفنا لقلة العدد والأهبة، وتارة مع قوتنا، ولكن لرجاء إسلامهم أو غيره.
ثم شرع في الشرط الثالث بقوله (فإن لم يكن) بنا ضعف ورأي الإمام المصلحة فيها (جازت) ولو بلا عوض
(أربعة أشهر) للآية المارة ولمهادنته صلى الله عليه وسلم صفوان كما مر (لا سنة) فلا يجوز جزما، لأنها مدة تجب
فيها الجزية فلا يجوز تقريرهم فيها بلا جزية (وكذا دونها) فوق أربعة أشهر لا يجوز أيضا (في الأظهر) لزيادتها
260

على مدة السياحة، وقد قال تعالى * (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) * وهو عام إلا ما خص لدليل وهو أربعة أشهر.
والثاني يجوز لنقصها عن مدة الجزية، والأول نظر إلى مفهوم الآية.
تنبيه: محل ذلك كما قال الماوردي في النفوس، أما أموالهم فيجوز العقد عليها مؤبدا، وهل يجوز ذلك في
الدية؟ فيه وجهان: أوجههما الجواز. واستثنى البلقيني المهادنة مع النساء فإنها تجوز من غير تقييد بمدة. (ولضعف
تجوز عشر سنين) فما دونها بحسب الحاجة (فقط) فيمتنع أكثر منها، لأن هذا غاية مدة الهدنة، ولا يجوز الوصول
إليها إلا عند الاحتياج لها لأنه صلى الله عليه وسلم هادن قريشا في الحديبية هذه المدة رواه أبو داود. وكان ذلك قبل
أن يقوى الاسلام.
تنبيه: محل المنع إذا جرى ذلك في عقد واحد، فإن جرى في عقود متفرقة جاز بشرط أن لا يزيد كل عقد على
عشر كما جزم به الفوراني وغيره، قال ابن الرفعة. قال الأذرعي: وعبارة الروضة ولا تجوز الزيادة على العشر، لكن
إن انقضت المدة والحاجة باقية استؤنف العقد، وهذا صحيح. وأما استئناف عقد إثر عقد كما قاله الفوراني فغريب
لا أحسب الأصحاب يوافقون عليه أصلا. انتهى. وهذا ظاهر، وإذا عقد لهم هذه المدة ثم استقوينا قبل فراغها تمت لهم
عملا بالعقد. (ومتى زاد) الإمام أو نائبه في عقدها (على) القدر (الجائز) فيها بحسب الحاجة بأن زاد في حال قوتنا
على أربعة أشهر، أو حال ضعفنا على عشر سنين (فقولا تفريق الصفقة) في عقدها لأنه جمع في العقد الواحد بين
ما يجوز العقد عليه وما لا يجوز أظهرهما يبطل في الزائف فقط (وإطلاق العهد) عن ذكر لمدة فيه (يفسده) أي عقد
الهدنة لاقتضائه التأبيد وهو ممتنع لمنافاة مقصوده المصلحة. ثم شرع في الشرط الرابع بقوله: (وكذا شرط) أي
يشترط خلو عقد الهدنة من كل شرط فاسد (على الصحيح) المنصوص (بأن شرط منع فك أسرانا) منهم (أو ترك
مالنا) الذي استولوا عليه. قال الزركشي بحثا: أو مال ذمي (لهم أو لتعقد لهم) أي لكل واحد منهم (ذمة بدون
دينار، أو) لتعقد لهم ذمة (بدفع مال إليهم) ولم تدع ضرورة إليه فهو معطوف على بدون، وأشعر كلامه انحصار
الشرط الفاسد فيما ذكره، وليس مرادا، فمنه ما إذا شرط أن يقيموا بالحجاز، أو يدخلوا الحرم أو يظهروا الخمور
في دارنا، أو نحو ذلك من الشروط الفاسدة، فلو أتى المصنف بكاف التشبيه كما في المحرر كان أولى. والأصل في منع
ما ذكر قوله تعالى * (فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون) * وفي اشتراط ذلك إهانة ينبو الاسلام عنها. أما إذا دعت
الضرورة إلى دفعه بأن كانوا يعذبون الاسرى ففديناهم، أو أحاطوا بنا وخفنا الاصطلام فيجوز الدفع، بل يجب
عن الأصح في زوائد الروضة. قال الأسنوي: وتصحيحه وجوب البذل هنا مخالف لقوله آخر السير: أن فك الاسرى
مستحب. انتهى. وحمل البلقيني استحباب فك الاسرى على ما إذا لم يعاقبوا، فإن عوقبوا وجب، وحمل الغزي
الاستحباب على الآحاد، والوجوب على الإمام، وهذا أولى.
تنبيه: إذا عقدنا لهم على دفع مال إليهم عند الضرورة هل العقد صحيح أو لا؟ وقال الأذرعي: عبارة كثير
تفهم صحته وهو بعيد، والظاهر بطلانه، وهو قضية كلام الجمهور انتهى. ولا يملكون ما أعطى لهم لأخذهم له بغير
حق (وتصح الهدنة على أن ينقضها الإمام متى شاء) لخبر البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع يهود خيبر وقال:
أقركم ما أقركم الله وقال الشافعي رضي الله تعالى عنه: ولو قال الإمام الآن هذه اللفظة لم يجز، لأنه صلى الله
عليه وسلم
يعلم ما عند الله بالوحي بخلاف غيره.
تنبيه: لا يختص ذلك بمشيئة الإمام، بل لو قال متى شاء فلان وهو مسلم عدل ذو رأي صح أيضا بخلاف ما لو
قال ما شاء فلان منكم فإنه لا يجوز. ثم شرع في أحكام الهدنة فقال: (ومتى صحت وجب) على عاقدها وعلى من بعده من الأئمة
261

(الكف) ودفع الأذى من مسلم أو ذمي (عنهم) وفاء بالعهد. قال الله تعالى * (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا) * أما
أهل الحرب فلا يلزمنا الكف عنهم ولا منع بعضهم عن بعض لأن مقصود الهدنة الكف لا الحفظ بخلاف الذمة
نعم إن أخذ الحربيون ما لهم بغير حق وظفرنا به رددناه إليهم، وإن لم يلزمنا استنقاذه ويستمر ذلك (حتى تنقضي)
مدتها (أو ينقضوها) أو ينقضها الإمام إذا علفت بمشيئته، وكذا غيره إذا علقت بمشيئته. قال تعالى: * (فما استقاموا
لكم فاستقيموا لهم) * وقال تعالى: * (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) *. ونقضهم لها يكون مع ما مر آنفا (بتصريح)
منهم (أو قتالنا) حيث لا شبهة لهم، فإن كان لهم شبهة كأن أعابوا البغاة مكرهين فلا ينتقض كما بحثه الزركشي (أو
مكاتبة أهل الحرب بعورة) أي خلل (لنا) وقوله (أو قتل مسلم) يفهم أنه لو قتل ذميا في دارنا أن الحكم يختلف
وليس مرادا، ولا ينحصر الانتقاض فيما ذكره، بل تنتقض بأشياء أخر، منها لو سبوا الله تعالى أو القرآن أو رسوله
(ص) وكل ما اختلف في انتقاض الذمة به تنتقض الهدنة جزما، لأن الهدنة ضعيفة غير متأكدة
ببذل الجزية.
تنبيه: أفهم قوله: صحت أنها لو كانت فاسدة لا يجب الكف عنهم وليس مرادا، بل يجب إنذارهم وإعلامهم
ولا يجوز اغتيالهم ولو رأى الإمام العقد الثاني فاسدا، فإن كان فساده بطريق الاجتهاد لم يفسخه، وإن كان بنص أو
إجماع فسخه. (وإذا انتقضت) أي الهدنة وهو ببلادهم (جازت الإغارة عليهم وبياتهم) - بفتح الموحدة أوله - وهو
الإغارة عليهم ليلا. قال الله تعالى * (بياتا وهم نائمون) * فهو من عطف الخاص على العام، سواء أعلموا أنه ناقض أم لا.
لقوله تعالى * (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم) * الآية، ولأنهم صاروا حينئذ كما كانوا قبل الهدنة، أما إذا كانوا ببلادنا
فلا نقاتلهم بل نبلغهم المأمن كما في الروضة وأصلها (ولو نقض بعضهم) الهدنة بشئ مما مر (ولم ينكر الباقون)
عليهم (بقول ولا فعل) بأن سكتوا ولم يعتزلوهم (انتقض فيهم) أي الباقين (أيضا) لأن سكوتهم يشعر بالرضا
فجعل نقضا منهم كما أن هدنة البعض وسكوت الباقين هدنة في حق الكل، وهذا بخلاف عقد الجزية فليس نقضه من
بعضهم نقضا من الكل لقوته وضعف الهدنة (وإن أنكروا باعتزالهم) عنهم (أو إعلام الإمام) أي إعلام البعض
المنكرين الإمام (ببقائهم على العهد، فلا) ينقض العهد في حقهم وإن كان الناقص رئيسهم، لقوله تعالى *
(أنجينا الذين ينهون عن السوء) * فإن اقتصروا على الانكار من غير اعتزال أو إعلان الإمام بذلك فناقضون
بخلاف عقد
الذمة، وإنما أتى بمثالين لأن الأول إنكار فعلي، والثاني قولي والقول قول منكر النقض بيمينه (ولو خاف)
الإمام (خيانتهم) بظهور أمارة تدل على الخوف لا بمجرد الوهم (فله نبذ عهدهم إليهم) لقوله تعالى * (وإما تخافن من
قوم خيانة) * الآية.
تنبيه: أفهم كلام المصنف أنه إذا لم يخف الخيانة لا يجوز نبذ عهدهم، ومنه يعلم أن عقدها لازم. (و)
ينذرهم بعد نبذ عهدهم، و (يبلغهم) وجوبا (المأمن) بعد استيفاء ما وجب عليهم من الحقوق وفاء بالعهد. وسبق
تفسير المأمن في الباب قبله (ولا ينبذ عقد الذمة بتهمة) - بتحريك الهاء - أي بمجردها عند استشعار الإمام خيانتهم
بخلاف الهدنة، وفرق بينهما بثلاثة أوجه: الأول: أن في عقد الذمة يغلب جانبهم، ولهذا تجب الإجابة إليه إذا طلبوا،
وفي الهدنة يغلب جانبنا، ولهذا لا تجب الإجابة. الثاني أن أهل الذمة في قبضة الإمام، وإذا تحققت خيانتهم أمكنه
تداركها بخلاف أهل الهدنة. الثالث أن عقد الذمة آكد لأنه مؤبد، ولأنه عقد معاوضة (ولا يجوز) في عقد الهدنة
262

(شرط رد مسلمة تأتينا منهم) وإن أسلمت عندنا، لقوله تعالى * (فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار) *
ولأنه لا يؤمن أن يصيبها زوجها الكافر أو تزوج بكافر، ولأنها عاجزة عن الهرب منهم وقريبه من الافتتان لنقصان عقلها
وقلة معرفتها.
تنبيه: لا فرق في ذلك بين الحرة والأمة، وبحث بعض المتأخرين أن الخنثى كالمرأة، ولو أسقط المصنف تأتينا
لكان أولى، لأن حكم من جاءت إلينا كافرة، ثم أسلمت كذلك كما قدرته في كلامه. (فإن شرط) في عقد الهدنة رد
المرأة المذكورة (فسد الشرط) قطعا، سواء أكان لها عشيرة أم لا، لأنه أحل حراما (وكذا العقد في الأصح)
المنصوص في الام لفساد الشرط، والثاني لا، لأنها ليست بآكد من النكاح وهو لا يفسد بالشروط الفاسدة.
تنبيه: قال ابن شهبة: هذا هو الخلاف المار في قوله: وكذا شرط فاسد على الصحيح إلا أنه ضعفه هناك
فكرر وناقض. وسلمت الروضة من هذا فإنه عبر أولا، بالصحيح، ثم أحال ثانيا عليه اه‍. وأجاب عن ذلك الشارح
فقال: وأشار به - أي بالتعبير بالأصح - إلى قوة الخلاف في هذه الصورة، وعبر في صور تقدمت بالصحيح إشارة إلى
ضعف الخلاف فيها، فلا تكرار ولا تحالف اه‍. وخرج بالمسلمة الكافرة، فيجور شرط ردها. (وإن شرط) الإمام
أو نائبه في عقد الهدنة لهم (رد من جاء) منهم (مسلما) إلينا (أو) عقد، وأطلق بأن (لم يذكر ردا) ولا
عدمه (فجاءت امرأة) مسلمة (لم يجب دفع مهر) بارتفاع نكاحها بإسلامها قبل الدخول أو بعده (إلى زوجها في
الأظهر) لأن البضع ليس بمال حتى يشمله الأمان، والثاني يجب على الإمام، لقوله تعالى * (وآتوهم ما أنفقوا) *: أي
من المهور، والامر فيه محتمل للوجوب وللندب الصادق بعدم الوجوب الموافق للأصل، ورجحوه على
الوجوب لما
قام عندهم في ذلك، وأما غرمه (ص) المهر، فلانه كان قد شرط لهم رد من جاءتنا مسلمة. ثم نسخ
ذلك بقوله تعالى * (فلا ترجعوهن إلى الكفار) * (1) فغرم حينئذ لامتناع ردها بعد شرطه.
تنبيه: إنما يستحق المهر إذا أوجبناه بتسع شروط جمعها الماوردي، وهي مفرقة في كلام الرافعي: أحدها
أن يكون الطالب زوجها، وقد أشار إليه المصنف بقوله إلى زوجها. الثاني أن يكون ساق إليها مهرها. الثالث أن
تكون جاءت مسلمة، أو جاءت ذمية ثم أسلمت. الرابع أن تكون بالغة عاقلة. الخامس أن تكون باقية الحياة،
فلو ماتت قبل طلبه فلا. السادس أن تكون باقية في العدة، فلو كان بعد انقضائها لم يدفع إليه شئ قطعا، ذكره
الرافعي بحثا، ونقله البلقيني عن نص الام. السابع أن تكون مقيمة على الاسلام، وأن يكون الزوج مقيما على
دينه ليكون المانع منها. الثامن أن يكون مقيما على النكاح، فلو خالعنا بعد الطلب لم يسقط حقه على ذلك القول.
التاسع أن تكون جاءت إلى بلد فيه الإمام أو نائبه، وإلا فعلى أهل البلد منعها حسبة، ولا يغرمون المهر ولا الإمام،
نص عليه في الام، واحترز المصنف بقوله ولم يذكر ردا عما إذا شرط ترك الرد، فإنه لا غرم قطعا. (ولا يرد) من
جاء منهم إلينا وهو (صبي) وصف الاسلام ذكرا كان أو أنثى، طلبه أبواه الكافران أم لا (و) لا يرد من جاء
منهم إلينا وهو (مجنون) بالغ ذكرا كان أو أنثى، طرأ جنونه بعد بلوغه، مشركا أم لا لضعفهما كالنساء، ولا يجوز الصلح
بشرط ردهما. فإن قيل: قد رجحا في باب اللقيط أن الحيلولة بين الصبي إذا أسلم وبين أهله مستحبة لا واجبة. أجيب
بأن الكلام هناك محمول على ما إذا كانوا في دارنا، والكلام هنا في جواز رده إلى الكفر، فإنهم يتمكنون من
استمالته ورده إلى الكفر، بخلاف ما إذا كانوا مقيمين عندنا، فإنهم لا يتمكنون من ذلك، فإن بلغ الصبي وأفاق المجنون
ثم وصفا الكفر ردا، وكذا إن لم يصفا شيئا كما بحثه بعض المتأخرين، وإن وصفا الاسلام لم يردا كما لو كان الجنون
بعد الاسلام، أو وقع الاسلام بعد الإفاقة من الجنون، ولو شككنا في أنه أسلم قبل جنونه أو بعده لم يرد أيضا
263

(وكذا) لا يرد (عبد) مسلم بالغ عاقل (و) كذا لا يرد (حر لا عشيرة له على المذهب) لأنه لا يستدل عندهم
كالعبد، وقيل يردان لقوتهما بالنسبة إلى غيرهما، وقطع بعضهم بالرد في الحر، والجمهور بعدمه في العبد. أما الأمة
المسلمة ولو مكاتبة ومستولدة فلا ترد قطعا.
تنبيه: لو هاجر قبل الهدنة أو بعدها عبد أو أمة، ولو مستولدة ومكاتبة ثم أسلم كل منهما عتق، لأنه إذا جاء
قاهرا لسيده ملك نفسه بالقهر فيعتق، ولان الهدنة لا توجب أمان بعضهم من بعض، فبالاستيلاء على نفسه ملكها،
ويعتق أيضا إذا أسلم ثم هاجر قبل الهدنة لوقوع قهره حال الإباحة، بخلاف ما لو أسلم بعدها فلا يعتق، لأن أموالهم
مخطورة حينئذ فلا يملكها المسلم بالاستيلاء، ولكن لا يرد إلى سيده لأنه جاء مسلما مراغما له، والظاهر أنه يسترقه
ويهيئه ولا عشيرة له تحميه بل يعتقه السيد، فإن لم يفعل باعه الإمام عليه لمسلم أو دفع قيمته من بيت المال وأعتقه
عن المسلمين ولهم ولاؤه، وكالمهاجرة الهرب إلى المأمن، وإنما ذكروا هجرته لأن بها يعلم عتقه غالبا. وأما المكاتبة
فتبقى مكاتبة إن لم تعتق، فإن أدت نجوم الكتابة عتقت بها وولاؤها لسيدها، وإن عجزت ورقت وقد أدت شيئا من
النجوم بعد الاسلام لا قبله حسب ما أدته من قيمتها، فإن وفى بها أو زاد عليها عتقت لأنه استوفى حقه وولاؤها
للمسلمين، ولا يسترجع من سيدها الزائد، وإن نقص عنها وفى من بيت المال. (ويرد من) أي حر (له عشيرة طلبته)
أن يرد (إليها) لأنه (ص) رد أبا جندل على أبيه سهيل بن عمرو، كما رواه الشيخان، والمعنى فيه أنهم
يذبون عنه ويحمونه.
تنبيه: هل الاعتبار في الطلب بحضور العشيرة أو واحد منهم، أو يكفي بعث رسولهم إذا غلب على الظن صدقه؟.
قال الزركشي: لم يتعرضوا له، والظاهر الثاني. قال: وإذا شرط رد من له عشيرة تحميه كان الشرط جائزا، صرح
به العراقيون وغيرهم. قال البندنيجي: والضابط أن كل من لو أسلم في دار الحرب لم تجب عليه الهجرة يجوز
شرط رده في عقد الهدنة. قال ابن شهبة: وهو ضابط حسن. و (لا) يجوز رده (إلى غيرها) أي عشيرته إذا طلبه ذلك
الغير لأنهم يؤذونه (إلا أن يقدر المطلوب على قهر الطالب) له (والهرب منه) فيرد إليه حينئذ، وعليه حمل
رد النبي (ص) أبا بصير لما جاء في طلبه رجلان فقتل أحدهما في الطريق وأفلت الآخر، رواه البخاري.
أما إذا لم يطلب أحد فلا يرد، أو لم يشترط فلا يجب الرد مطلقا (ومعنى الرد: أن يخلى بينه) أي المطلوب (وبين
طالبه) عملا بقضية الشرط، ولا تبعد تسمية التخلية ردا كما في الوديعة (ولا يجبر) المطلوب (على الرجوع) إلى طالبه لأن
إجبار المسلم على الإقامة بدار الحرب لا يجوز، وعلى هذا حمل رد النبي (ص) أبا بصير وأبا جندل (ولا
يلزمه) أي المطلوب (الرجوع) إليه، لأن العهد لم يجر معه، ولهذا لم ينكر النبي (ص) امتناعه ولا قتله طالبه
بل سره ما فعل، ولو كان واجبا لامره بالرجوع إلى مكة (وله قتل الطالب) دفعا عن نفسه ودينه لقصة أبي بصير (ولنا)
هو صادق بالإمام وبآحاد المسلمين (التعريض له به) أي المطلوب بقتل طالبه، لأن عمر رضي الله عنه قال لأبي
جندل حين رد إلى أبيه: اصبر أبا جندل فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم كدم كلب يعرض له بقتل أبيه كما
رواه البيهقي في سننه والإمام أحمد في مسنده (لا التصريح) له به فلا يجوز لأنهم في أمان. نعم لو أسلم واحد
منهم بعد عقد الهدنة له أن يصرح بذلك كما يقتضيه كلامهم، لأنه لم يشترط على نفسه أمانا لهم ولا تناوله شرط الإمام،
قاله الزركشي (ولو شرط) عليهم في الهدنة (أن يردوا من جاءهم مرتدا منا) رجلا كان أو امرأة حرا أو رقيقا
264

(لزمهم الوفاء) بالشرط عملا بالتزامهم. فإن امتنعوا من رده فناقضون للعهد لمخالفتهم الشرط (والأظهر جواز شرط
أن لا يردوا) ولو كان المرتد امرأة، فلا يلزمهم رده. لأنه (ص) شرط ذلك في مهادنة قريش، حيث قال
لسهيل بن عمرو، وقد جاء رسولا منهم: من جاءنا منكم مسلما رددناه، ومن جاءكم منا فسحقا سحقا ولكن
يغرمون
مهر المرتدة. فإن قيل لم غرموا ولم نغرم نحن مهر المسلمة؟. أجيب بأنهم فوتوا علينا الاستتابة الواجبة علينا، وأيضا
المانع جاء من جهتها والزوج غير متمكن منها بخلاف المسلمة الزوج متمكن منها بالاسلام.
خاتمة: يغرمون أيضا قيمة رقيق ارتد دون الحر، فإن عاد الرقيق المرتد إلينا بعد أخذنا قيمته رددناها عليهم
بخلاف نظيره في المهر. قال في أصل الروضة: لأن الرقيق بدفع القيمة يصير ملكا لهم والنساء لا يصرن زوجات،
فإن قيل: هذا إنما يأتي على قولنا بصحة بيع المرتد للكافر، والأصح خلافه. أجيب بأن هذا ليس ببيع حقيقة
واغتفر ذلك لأجل المصلحة فليس مفرعا على القول بصحة بيعه. قال في أصل الروضة: ويغرم الإمام لزوج المرتدة
ما اتفق من صداقها لأنا بعقد الهدنة خلينا بينه وبينها ولولاه لقتلناهم حتى يردوها اه‍. ويشبه كما قال شيخنا: أن يكون
الغرم لزوجها مفرعا على الغرم لزوج المسلمة المهاجرة. قال الماوردي: ويجوز شراء أولاد المهادنين منهم لا سبيهم.
كتاب الصيد
هو مصدر صاد يصيد صيدا، ثم أطلق الصيد على المصيد. قال تعالى * (ولا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) *. (والذبائح)
جمع ذبيحة بمعنى مذبوحة. ولما كان الصيد مصدرا أفرده المصنف وجمع الذبائح لأنها تكون بالسكين أو السهم أو
الجوارح. والأصل في الباب قوله تعالى: * (وإذا حللتم فاصطادوا) * وقوله تعالى: * (إلا ما ذكيتم) * وقوله تعالى * (أحل لكم الطيبات) *
والمذكى من الطيبات ومن السنة ما سنذكره، وأجمعت الأمة على جلها.
تنبيه: قدم الذبائح في الحكم على الصيد عكس ما في الترجمة، لكن الواو لا تقتضي ترتيبا. وذكر المصنف
كما في المحرر وأكثر الأصحاب هذا الكتاب وما بعده هنا وفاقا للمزني وخالف في الروضة فذكره آخر ربع العبادات
تبعا لطائفة من الأصحاب. قال وهو أنسب. قال ابن قاسم: ولعل وجه الا نسبية أن طلب الحلال فرض عين اه‍.
وأركان الذبح بالمعنى الحاصل بالمصدر أربعة: ذبح، وذابح، وذبيح، وآلة. وبدأ بالأول فقال: (ذكاة الحيوان
المأكول) البري المفيدة لحل أكله، إنسيا كان الحيوان أو وحشيا تأنس تحصل شرعا بطريقتين ذكر المصنف
إحداهما في قوله (بذبحه) بذال معجمة (في حلق) وهو أعلى العتق (أو) في (لبة) وهي بلام وموحدة مشددة
مفتوحتين: أسفل العنق (إن قدر عليه) بالاجماع، وسيأتي أن ذكاته بقطع كل الحلقوم والمرئ. فهو معنى الذبح
وذالهما معجمة، فكان الأولى ذكرهما في موضع واحد، فلا يحل شئ من الحيوان المأكول بغير ذكاة شرعية لقوله
تعالى * (حرمت عليكم الميتة) * إلى قوله * (إلا ما ذكيتم) *: فإن قيل: قضية كلامه تسمية الكل ذبحا، ويخالفه بعد ذلك قوله: ويسن نحر
إبل وذبح بقر وغنم فإنه يقتضي أن المسنون في الإبل لا يسمى ذبحا. أجيب بأن تسميته بالنحر لا تنافي تسميته ذبحا، بل تسمى نحرا
وذبحا. ثم ذكر الطريق الثاني في قوله (وإلا) بأن لم يقدر عليه (فبعقر) بفتح العين (مزهق) للروح (حيث) أي في أي موضع (كان)
العقر ذكاته. فإن قيل: يرد على الحصر في الطريقين الجنين، فإن ذكاته بذكاة أمه؟. أجيب بأن كلامه في الذكاة استقلالا، وسيأتي الكلام
265

على الجنين في باب الأطعمة إن شاء الله تعالى. ثم شرع في شرع الركن الثاني، وهو الذابح، فقال (وشرط ذابح) أي
وعاقر (وصائد) لغير سمك وجراد ليحل مذبوحه ومعقوره ومصيده (حل مناكحته) للمسلمين بكونه مسلما أو كتابيا
بشرطه السابق في محرمات النكاح. قال تعالى * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) *. قال ابن عباس: وإنما
أحلت ذبائح اليهود والنصارى من أجل أنهم آمنوا بالتوراة والإنجيل رواه الحاكم وصححه. وسواء اعتقدوا إباحته
كالبقر والغنم أم تحريمه كالإبل، وأما سائر الكفار كالمجوسي والوثني والمرتد فلا تحل ذبيحتهم ولا مصيدهم ولا معقورهم
لعدم حل مناكحتهم.
تنبيه: إن قلنا تحل مناكحة الجن حلت ذبيحتهم، وإلا فلا، وتقدم الكلام على ذلك في محرمات النكاح، وبقية
الحيوانات لا تحل ذبيحتها لو علمت الذبح في المقدور عليه، وسيأتي الكلام في غيره، وإنما لم يشترط المصنف في الصائد
كونه بصيرا لأنه سيذكر بعد ذلك أن الأعمى لا يحل صيده، ولم يشترط في الذابح كونه ليس محرما في الوحشي أو
المتولد منه، وفي المذبوح كونه غير صيد حرمي على حلال أو محرم لأنه قدم ذلك في محرمات الاحرام، ولان المحرم
مباح الذبيحة في الجملة، ولكن الاحرام مانع بالنسبة إلى الصيد البري، أما صائد السمك والجراد فلا يشترط فيه الشرط
المذكور لأن ميتتهما حلال، فلا عبرة بالفعل، ولا أثر للرق في الذابح. (و) حينئذ (تحل ذكاة أمة كتابية) وإن حرم
مناكحتها لعموم الآية المذكورة، وهذه مستثناة من قوله: وشرط ذابح حل مناكحته. واستثنى الأسنوي أيضا
زوجات النبي (ص) بأنهن لا تحل مناكحتهن وتحل ذبيحتهن. قال: فينبغي أن يقول في الضابط من لا تحل مناكحته لنقصه
، واعترضه البلقيني بأنه كان يحل مناكحتهن للمسلمين قبل أن ينكحهن النبي (ص)، وبعد أن نكحهن،
فالتحريم على غيره لا عليه، وهو رأس المؤمنين (ص). قال: فلا يورد ذلك إلا قليل البصيرة. قال ابن شهبة:
ويمكن أن يصحح الاستثناء بأن يقال زوجاته (ص) بعد موته يحرم نكاحهن وتحل ذبيحتهن اه‍. والأولى
عدم استثناء ذلك لأن حرمتهن على غيره (ص) لا لشئ فيهن، وإنما هو تعظيما له (ص)
، بخلاف الأمة الكتابية فإنه لأمر فيها وهو رقها مع كفرها.
تنبيه: علم من كلامه حل ذكاة المرأة المسلمة بطريق الأولى وإن كانت حائضا، وقيل تكره ذكاة المرأة الأضحية
والخنثى كالأنثى. (ولو شارك مجوسي) أو غيره ممن لا تحل مناكحته، ولو عبر به كان أولى (مسلما في ذبح أو اصطياد)
يحتاج لتزكية كأن أمرا سكينا على حلق شاة أو قتلا صيدا بسهم أو كلب (حرم) المذبوح والمصاد تغيبا للتحريم (ولو
أرسلا) أي مسلم ومجوسي (كلبين أو سهمين) أو أحدهما كلبا والآخر سهما على صيد (فإن سبق آلة المسلم) آلة المجوسي
في صورة السهمين أو كلب المسلم كلب المجوسي في صورة الكلبين (فقتل) الصيد (أو) لم يقتله بل (أنهاه إلى حركة مذبوح)
ثم أصابه كلب المجوسي أو سهمه (حل) ولا يقدح ما وجد من المجوسي كما لو ذبح المسلم شاة فقدها مجوسي، فلو أدركه
كلب المجوسي أو سهمه وفيه حياة مستقرة فقتله حرم وضمنه المجوسي للمسلم (ولو انعكس) ما ذكر بأن سبق آلة المجوسي
فقتل أو أنهاه إلى حركة مذبوح (أو) لم يسبق واحد منهما (جرحاه معا) وحصل الهلاك بهما (أو جهل) ذلك، وهذه
مزيدة على المحرر والشرح (أو) جرحاه (مرتبا) بأن سبق آلة أحدهما الآخر (و) لكن (لم يذفف أحدهما) - بإعجام
الذال وإهمالها - أي لم يقتل سريعا فهلك بهما (حرم) الصيد في مسألة العكس، وما عطف عليها تغليبا للتحريم.
تنبيه: قضية كلامه أنه لو سبق كلب المجوسي فأمسك ولم يقتل ولم يجرح أنه إذا قتله كلب المسلم يحل، وليس
مرادا بل هو حرام لأنه لما أمسكه ولم يجرحه صار مقدورا عليه، فلا يحل بقتل كلب المسلم، ولو أثخن مسلم بجراحته
266

صيدا فقد زال امتناعه وملكه، فإذا جرحه مجوسي ومات الجرحين حرم، وعلى المجوسي قيمته مثخنا، لأنه أفسده
بجعله ميتة ولو أكره مجوسي مسلما على ذبح ولو أمسك له صيدا فذبحه أو شاركه في قتله بسهم أو كلب وهو في حركة
مذبوح أو شاركه في رد الصيد على كلب المسلم بأن رده إليه لم يحرم، إذ المقصود الفعل، وقد حصل ممن يحل ذبحه،
فلا يؤثر فيه الاكراه ولا غيره بما ذكر، ويحل ما اصطاد المسلم بكلب المجوسي قطعا، ولو أرسل مجوسي ونحوه سهمه
على صيد ثم أسلم ووقع بالصيد لم يحل نظرا إلى أغلظ الحالين، ولو كان مسلما في حالتي الرمي والإصابة وتخللت الردة
بينهما لم يحل أيضا.
فائدة: قال المصنف في شرح مسلم: قال بعض العلماء: والحكمة في اشتراط الذبح وإنهار الدم تمييز حلال اللحم
والشحم من حرامهما وتنبيه على حرام الميتة لبقاء دمها. (ويحل ذبح) وصيد (صبي) مسلم أو كتابي (مميز) لأن قصده
صحيح بدليل صحة العبادة منه إن كان مسلما، فاندرج تحت الأدلة كالبالغ (وكذا) صبي (غير مميز ومجنون وسكران)
يحل ذبحهم (في الأظهر) لأن لهم قصدا وإرادة في الجملة، لكن مع الكراهة كما نص عليه في الام، وصرح به في التنبيه
خوفا عن عدولهم عن محل الذبح وإن أشعر كلام المصنف بخلافه، فلو قال: ويكره كأعمى كان أولى وأخصر، والثاني
لا تحل لفساد قصدهم.
تنبيه: محل الخلاف في المجنون والسكران إذا لم يكن لهما تمييز أصلا، فإن كان لهما أدنى تمييز حل قطعا، قاله البغوي،
ومحل حل ذبح غير المميز إذا أطاق الذبح، فإن لم يطق لم يحل، نص عليه في الام والمختصر، قاله البلقيني، بل المميز
إذا لم يطق الحكم فيه كذلك، ونقل عن نص الام. (وتكره زكاة أعمى) لما مر (ويحرم صيده برمي أو كلب) وغيره من
جوارح السباع (في الأصح) المنصوص لعدم صحة قصده لأنه لا يرى الصيد فصار كاسترسال الكلب وما ذكره معه
بنفسه، والثاني يحل كذبحه.
تنبيه: اقتصاره على تحريم صيد الأعمى يقتضي أن صيد من قبله حلال، وهو كما قاله في المجموع إنه المذهب، وقيل
لا يصح لعدم القصد، وليس بشئ اه‍. وقول الروضة وأصلها أن الوجهين في الأعمى يجريان في اصطياد الصبي،
والمجنون لا يلزم منه الاتحاد في الترجيح وإن جرى ابن المقري على الاتحاد، وحكى الدارمي في ذبح النائم وجهين، والذي
ينبغي القطع به عدم حله، وأما ذبيحة الأخرس فتحل وإن لم تفهم إشارته كالمجنون.
فرع: قال في المجموع: قال أصحابنا: أولى الناس بالزكاة الرجل العاقل المسلم ثم المرأة المسلمة، ثم الصبي المسلم،
ثم الكتابي، ثم المجنون والسكران انتهى. قال شيخنا: والصبي غير المميز في معنى الأخيرين. (وتحل ميتة السمك والجراد)
بالاجماع وإن كان نظير الأول في البر محرما ككلب لقوله تعالى: * (أحل لكم صيد البحر وطعامه) * ولخبر: أحلت لنا ميتتان
ولخبر: هو - أي البحر - الطهور ماؤه، الحل ميتته ولان ذبحهما لا يمكن عادة فسقط اعتباره سواء ماتا بسبب أم لا،
وسواء كان طافيا أم راسبا، خلافا لأبي حنيفة في الطافي لأنه (ص) أكل من العنبر، وهو الحوت الذي
طفا، وكان أكله منه بالمدينة رواه مسلم. (لو صادهما) أي السمك والجراد (مجوسي) لأن أكثر ما فيه أن يجعل ميتة
وميتتهما حلال كما مر، ولا اعتبار بفعله. قال في زيادة الروضة: ولو ذبح مجوسي سمكة حلت أيضا، فلو قال
المصنف: ولو قتلهما مجوسي لكان أولى. وأما قتل المحرم الجراد فيحرم عليه، وأما على غيره ففيه قولان:
أصحهما أنه لا يحرم، وجزم به في المجموع، ويسن ذبح كبار السمك الذي يطول بقاؤه إراحة له، ويكره ذبح
صغاره لأنه عبث وتعب بلا فائدة.
تنبيه: شمل حل ميتة السمك ما لو وجدت سمكة ميتة في جوف أخرى فتحل، كما لو ماتت حتف أنفها إلا
267

أن تكون متغيرة وإن لم تتقطع كما قاله الأذرعي، لأنها صارت كالروث والقئ. (وكذا الدود المتولد من طعام كخل)
وجبن (وفاكهة إذا أكل معه) ميتا يحل (في الأصح) لعسر تمييزه، وألحق بعض المتأخرين اللحم المدود بالفاكهة،
وقضية هذا التعليل أنه إذا سهل تمييزه كالتفاح أنه يحرم أكله معه. قال ابن شهبة: وهو ظاهر، أي إذا كان لا مشقة فيه،
وخرج بقوله: معه أكله منفردا فيحرم لنجاسته واستقذاره، وكذا لو نحاه من موضع إلى آخر كما قاله البلقيني، أو تنحى
بنفسه ثم عاد بعد إمكان صوته عنه كما بحثه بعض المتأخرين. والثاني يحل مطلقا
لأنه كجزء منه.
والثالث يحرم مطلقا لأنه ميتة. تنبيه: حق هذه المسألة أن تذكر في باب الأطعمة، وقضية إطلاقهم أنه لا فرق بين ما كثر من الدود أو لا، وقضية
ما ذكروه فيما لا نفس له سائلة أنه إذا كثر وغير يمنع، لأن الأصح أنه ينجس في هذه الحالة، ويفرق بأن وقوع ما لا نفس
له سائلة يمكن صون المائع عن كثرته بخلافه هنا. قال ابن شهبة: ويقاس بالدود المتولد من الطعام التمر والباقلاء المسوسان
إذا طبخا ومات السوس فيهما، وهذا أولى من قول الزركشي: ولو فرق بين التمر والفول بأن التمر يشق عادة ويزال
ما فيه، بخلاف الفول لكان متجها. ولو وقع في العسل نمل وطبخ جاز أكله، بخلاف اللحم لأنه لا مشقة في تنقيته عنه،
ولو وقعت نملة واحدة أو ذبابة في قدر طبيخ وتهرت أجزاؤها فيه لم يحرم أكل ذلك الطبيخ لأنه لا يستقذر، ومثل
الواحدة الشئ القليل من ذلك فيما يظهر، ولو وقع في القدر جزء من لحم آدمي وإن قل. قال في الاحياء: حرم أكل
ما فيها لا لنجاسته، بل لحرمته، وخالفه في الروضة فقال: المختار أنه لا يحرم لاستهلاكه. (ولا يقطع) شخص على جهة
الكراهة كما في الروضة (بعض سمكة حية) أو جرادة حية، وإنما لم يحرم كما قيل، لأن عيشه عيش مذبوح، كما يكره
قلبه حيا في الزيت المغلي لما ذكر (فإن فعل) أي قطع بعض ما ذكر وبلع ذلك المقطوع (أو بلع) - بكسر اللام - في الأشهر (سمكة)
أو جرادة (حية حل) ما ذكر (في الأصح) أما في الأولى فلان المبان كالميتة، وميتة هذا الحيوان حلال، وأما في الثانية
فلانه ليس فيه أكثر من قتلها وهو جائز. والثاني لا يحل المقطوع كما في غير السمك والجراد، ولا المبلوع لما في جوفه،
وعلى الأول يكره ذلك على الخلاف المذكور.
تنبيهات: أحدها محل الخلاف في الأولى إنما هو في القدر الذي أبين مع بقاء حياة السمكة أو الجرادة، أما لو قطع
ولم يبق في الباقي حياة حل قطعا. ومحله في الثانية إذا لم يكن حاجة، فإن مست الحاجة إليه للتداوي جاز قطعا كما دل عليه
كلام الرافعي: ثانيها: لو أكل مشوي صغار السمك بروثه حل وعفى عن روثه لعسر تتبعه، وأما كباره فلا يجوز
أكل الروث معه لفقد العلة المذكورة. ثالثها: قول المصنف حية قد يفهم أنه يجوز في الميتة بلا خلاف وليس مرادا،
بل إن كانت كبيرة امتنع لعدم العفو عن نجاسة روثها بخلاف ما إذا كانت صغيرة كما يؤخذ من المسألة المارة. وصرح
به ابن شهبة في الكبيرة، والزركشي في الصغيرة. (وإذا) رمى بسهم (صيدا متوحشا أو) رمى (بعيرا) إنسيا توحش كأن
(ند) - بفتح النون أوله - أي ذهب على وجهه شاردا (أو) رمى (شاة) إنسية توحشت كأن (شردت بسهم) فيه نصل أوله حد، أو
بسيف أو رمح أو نحوه (أو أرسل عليه) أي الصيد (جارحة) من سباع أو طيور (فأصاب شيئا من بدنه)
حلقا أو لبة أو غير ذلك (ومات في الحال حل) في الجميع. أما في المتوحش فبالاجماع كما حكاه ابن الصلاح وغيره، وأما
في البعير الناد فلما في الصحيحين عن رافع بن خديج أن بعيرا ند فرماه رجل بسهم فحبسه: أي قتله فقال (ص):
إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم منها فاصنعوا به هكذا وقيس بما فيه غيره. وخرج بقوله:
ومات في الحال ما لو أدركه وفيه حياة مستقرة وأمكنه ذبحه ولم يذبحه فإنه لا يحل كما سيأتي.
268

تنبيه: الاعتبار بعدم القدرة عليه حالة الإصابة، فلو رمى غير مقدور عليه فصار قبل الإصابة مقدورا عليه ثم
أصاب غير المذبح حرم أو بالعكس حل كما قاله الرافعي، واحترز بقوله متوحشا عن الصيد المستأنس، فهو كالمقدور عليه
في اعتبار ذبحه. (ولو تردى) أي سقط (بعير ونحوه في بئر) أو نحوها (ولم يمكن قطع حلقومه) ومريئه (فكناد) -
بتشديد الدال - أي شارد في حله الرمي، وكذا بإرسال الكلب في وجه اختاره البصريون فتصير أجزاؤه كلها مذبحا،
أما إذا أمكنه ذلك بأن كان موضع الذبح ظاهرا فلا تصح ذكاته إلا في حلق أولية. ولما كان مقتضى تشبيه المحرر
المتردي بالناد أنه يحل إرسال الكلب عليه، وفي معناه السهم استدركه المصنف بقوله: (قلت الأصح لا يحل) المتردي
(بإرسال الكلب) عليه (وصححه الروياني) وهو بغير همزة نسبة لرويان من بلاد طبرستان عبد الواحد أبو المحاسن
شافعي زمانه صاحب البحر وغيره القائل: لو احترقت كتب الشافعي أمليتها من حفظي (والشاشي) فخر الاسلام محمد
أبو بكر بن أحمد بن الحسين صاحب الحلية وغيرها، فإنه نقل عدم حل المتردي بما ذكر عن الروياني (والله أعلم)
والفرق أن الحديد يستباح به الذبح مع القدرة بخلاف فعل الجارحة، ولو تردى بعير فوق بعير فغرز رمحا في الأول حتى
نفذ منه إلى الثاني حلا وإن لم يعلم بالثاني، قاله القاضي، فإن مات الأسفل بثقل الاعلى لم يحل، ولو دخلت الطعنة إليه
وشك هل مات بها أو بالثقل لم يحل كما هو قضية ما في فتاوى البغوي (ومتى تيسر لحوقه) أي الناد (بعدو أو استعانة) -
بمهملة ونون بخطه - من العون، وتجوز قراءته بمعجمة ومثلثة من الغوث (بمن يستقبله) مثلا (فمقدور) أي حكمه
كحيوان مقدور (عليه) لا يحل إلا بالتزكية في حلق أو لبة.
تنبيه: قوله كلامهم يفهم أنه متى أمكن وتيسر ذلك كان غير مقدور عليه، وليس مرادا، بل لا بد من تحقق
العجز عنه في الحال. (ويكفي في) الحيوان (الناد والمتردي) السابقين، وفي الوحشي أيضا كما صرح به
الإمام
والغزالي (جرح يفضي) غالبا (إلى الزهوق) أي الموت سواء أذفف الجرح أم لا، وهذا ما نسبه الرافعي للمعظم
والمصنف للأكثرين (وقيل يشترط) في الرمي بسهم جرح (مذفف) وهو المسرع للقتل، وحكى هذا الإمام عن
القفال والمحققين. أما إرسال الكلب فلا يشترط فيه تذفيف جزما (وإذا أرسل) الصائد آلة صيد (سهما أو كلبا)
معلما (أو طائرا) معلما (على صيد فأصابه ومات) نظرت (فإن لم يدرك فيه) أي الصائد في الصيد (حياة
مستقرة أو أدركها) أي الحياة المستقرة فيه (وتعذر ذبحه بلا تقصير) من الصائد (بأن) أي كأن (سل السكين)
على الصيد، أو ضاق الزمان، أو مشى له على هينته ولم يأته عدوا، أو اشتغل بتوجيهه للقبلة، أو بتحريفه وهو منكب
أو بطلب المذبح، أو بتناول السكين، أو منع منه سبع (فمات قبل إمكان) منه لذبحه (أو امتنع) منه (بقوته
ومات قبل القدرة) عليه (حل) في الجميع كما لو مات ولم يدرك حياته. نعم يسن ذبحه إذا وجد فيه حياة
غير مستقرة.
تنبيه: قوله: فأصابه ومات لا يستقيم جعله موردا للتقسيم، فإن منها إدراكه بالحياة المستقرة، والميت لا حياة فيه،
وعبارة المحرر والشرح والروضة، فأصاب ثم أدرك الصيد حيا، وللحياة المستقرة قرائن وأمارات تغلب على الظن
بقاء الحياة فيدرك ذلك بالمشاهدة، ومن أماراتها الحركة الشديدة وانفجار الدم بعد قطع الحلقوم والمرئ، والأصح أن
الحركة الشديدة تكفي وحدها، فإن شككنا في حصولها ولم يترجح ظن فالأصح التحريم. (وإن مات لتقصيره)
269

أي الصائد (بأن) أي كأن (لا يكون معه سكين) أو لم تكن محدودة، أو ذبح بظهرها خطأ (أو غصبت) بضم
المعجمة أوله: أي أخذها منه غاصب (أو نشبت) بفتح النون أوله، وكسر الشين المعجمة: أي عسر إخراجها بأن
تعلقت (في الغمد) بغين معجمة مكسورة، وهو الغلاف كما سبق تفسيره في الاقرار (حرم) الصيد في هذه الصور
للتقصير، لأن من حق من يعافي الصيد أن يستصحب الآلة في غمد يوافق، وسقوطها منه وسرقتها تقصير. نعم لو اتخذ
للسكين غمدا معتادا فنشبت لعارض حل كما يفهمه التعبير بالتقصير نبه على ذلك الزركشي.
تنبيه: لو شك بعد موت الصيد هل قصر في ذبحه أم لا؟ حل في الأظهر، لأن الأصل عدم التقصير.
فائدة: في السكين لغتان: التذكير والتأنيث، وقد استعملهما المصنف هنا حيث قال: معه سكين، ثم قال:
غصبت. واستعمل التذكير فقط في قوله بعد: ولو كان بيده سكين فسقط. (ولو رماه) أي الصيد (فقده) أي قطعه
(نصفين) مثلا (حلا) أي النصفان تساويا أو تفاوتا لحصول الجرح المذفف، لكن إن كانت التي مع الرأس في
صورة التفاوت أقل حلا بلا خلاف، فإن ذلك يجري مجرى الذكاة، وإن كان العكس حلا أيضا خلافا لأبي حنيفة
وهو إحدى الروايتين عن أحمد. واحتج الأصحاب عليه بالقياس على ما سلمه (ولو أبان منه) أي الصيد (عضوا)
كيده (بجرح مذفف) أي مسرع للقتل فمات في الحل (حل العضو والبدن) أي باقيه لأن محل ذكاة الصيد كل
البدن
(أو) أبان منه عضوا (بغير) أي بجرح غير (مذفف ثم ذبحه، أو) لم يذبحه بل (جرحه جرحا آخر مذففا) ولم يثبته
بالجرح الأول فمات (حرم العضو) فقط، لأنه أبين من حي (وحل الباقي) لوجود الذكاة في الصورة الأولى. وقيام
المذفف مقامها في الصورة الثانية، فإن كان الجرح الأول مثبتا بغير ذبحه فلا يجزئ الجرح الثاني لأنه مقدور عليه
(فإن لم يتمكن من ذبحه ومات بالجرح) الأول (حل الجميع) العضو والبدن، لأن الجرح السابق كالذبح للجملة
فيتبعها العضو. هذا ما جرى عليه المصنف هنا تبعا للمحرر (وقيل) وهو المصحح في الشرحين والروضة والمجموع
(يحرم العضو) لأنه أبين من حي، فأشبه ما لو قطع ألية شاة ثم ذبحها لا تحل الالية، وأما باقي البدن فيحل جزما.
ثم شرع في الركن الثالث، وهو الذبيح بمعنى المذبوح فقال: (وذكاة كل حيوان) إنسي أو وحشي (قدر عليه)
وفيه حياة مستقرة وقت ابتداء ذبحه تحصل في الأصح (بقطع كل الحلقوم) بضم المهملة (وهو مخرج) أي مجرى
(النفس) خروجا ودخولا (و) بقطع كل (المرئ) بفتح ميمه وهمز أخره، ويجوز تسهيله (وهو مجرى الطعام)
والشراب من الحلق إلى المعدة وتحت الحلقوم لأن الحياة تفقد بفقدهما.
تنبيه: احترز بالقطع عما لو اختطف رأس عصفور أو غيره بيده أو ببندقة أو نحوها فإنه ميتة لا يسمى ذكاة
بل هو في معنى الخنق لا في معنى القطع. وبقوله قدر عليه عما لا يقدر عليه وقد مر. وبقوله: كل الحلقوم والمرئ
عما لو بقي شئ من أحدهما ولو يسيرا فلا يحل، ويشترط أن يكون فيه حياة مستقرة في ابتداء الذبح خاصة كما قاله
الإمام. وفي زيادة الروضة في باب الأضحية ما يقتضي ترجيحه، وقد يدخل في قوله: قدر عليه ما إذا خرج بعض
الجنين وفيه حياة مستقرة، لكن صحح في زيادة الروضة حله. وسيأتي الكلام عليه (ويستحب قطع الودجين) بواو ودال مفتوحتين تثنية ودج مستوفى في باب الأطعمة
بفتح الدال وكسرها (وهما عرقان في صفحتي العنق)
محيطان بالحلقوم، وقيل بالمرئ وهما الوريدان من الآدمي لأنه أوحى وأسهل لخروج الروح فهو من الاحسان
270

في الذبح.
تنبيه: إنما لم يجب قطع الودجين لأنهما قد يسلان من الحيوان فيبقى، وما هذا شأنه لا يشترط قطعه كسائر العروق،
ولا يسن قطع ما وراء ذلك. (ولو ذبحه) أي الحيوان المقدور عليه (من قفاه) أو من صحفة عنقه (عصى) بذلك لما
فيه من التعذيب (فإن أسرع) في ذلك (فقطع الحلقوم والمرئ، وبه حياة مستقرة) أول قطعهما (حل) لأن الذكاة
صادفته وهو حي، كما لو قطع يد الحيوان تم ذكاه (وإلا) بأن لم يسرع قطعهما ولم يكن فيه حياة مستقرة بل
انتهى
إلى حركة مذبوح (فلا) يحل، لأنه صار ميتة فلا يفيده الذبح بعد ذلك.
تنبيه: لو ذبح شخص حيوانا وأخرج آخر أمعاءه أو نخس خاصرته معا لم يحل لأن التذفيف لم يتمحض بقطع
الحلقوم والمرئ. وقال في أصل الروضة: سواء أكان ما قطع به الحلقوم مما يذفف لو انفرد أو كان يعين على التذفيف
ولو اقترن قطع الحلقوم بقطع رقبة الشاة من قفاها بأن أجرى سكينا من القفا وسكينا من الحلقوم حتى التقيا فهي ميتة
كما صرح به في أصل الروضة، لأن التذفيف إنما حصل بذبحين خلاف ما يوهمه كلام المتن من الحل، فقضية كلامه
أنه لا بد من قطع جميع الحلقوم والمرئ وفيه حياة مستقرة، وليس بشرط، بل يكفي وجودها عند ابتداء قطع المرئ،
لأن أقصى ما وقع التعبد به أن يكون فيه حياة مستقرة عند الابتداء بقطع المذبح، ولا يشترط العلم بوجود الحياة المستقرة
عند الذبح، بل يكفي الظن بوجودها بقرينة، ولو عرفت بشدة الحركة أو انفجار الدم، ومحل ذلك ما لم يتقدمه ما يحال
عليه الهلاك، فلو وصل بجرح إلى حركة المذبوح وفيه شدة الحركة، ثم ذبح لم يحل. وحاصله أن الحياة المستقرة
عند الذبح، بل يكفي الظن بوجودها بقرينة، ولو عرفت بشدة الحركة أو انفجار الدم، ومحل ذلك ما لم يتقدمه ما يحال
عليه الهلاك، فلو وصل بجرح إلى حركة المذبوح وفيه شدة الحركة، ثم ذبح لم يحل. وحاصله أن الحياة المستقرة عند
الذبح تارة تتيقن، وتارة تظن بعلامات وقرائن، فإن شككنا في استقرارها حرم للشك في المبيح وتغليبا للتحريم، فإن
مرض أو جاع فذبحه، وقد صار آخر رمق حل لأنه لو يوجد سبب يحال الهلاك عليه، ولو مرض بأكل نبات مضر
حتى صار آخر رمق كان سببا يحال الهلاك عليه فلم يحل كما جزم به القاضي مرة وهو أحد احتماليه في مرة أخرى، وإن
جرى بعض المتأخرين على خلاف ذلك ولا يشترط في الذكاة قطع الجلد الذي فوق الحلقوم والمرئ كما يؤخذ من
قوله (وكذا إدخال سكين بأذن ثعلب) ليقطع الحلقوم والمرئ داخل الجلد لأجل جلده فإنه حرام للتعذيب. ثم إن
أسرع بقطع الحلقوم والمرئ داخل الجلد وبه حياة مستقرة حل، وإلا فلا.
تنبيه: الثعلب مثال لا قيد، فلو فعل ذلك بغيره كان الحكم كذلك. (ويسن نحو إبل) في اللبة، وهي
أسفل العنق كما مر، لقوله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * وللامر به في الصحيحين، والمعنى فيه أنه أسرع لخروج الروح
لطول عنقها وقياس هذا كما قال ابن الرفعة: أن يأتي في كل ما طال عنقه كالنعام والإوز والبط ويسن (ذبح
بقر وغنم) ونحوهما كخيل بقطع الحلقوم والمرئ الكائنين أعلى العنق للاتباع، رواه الشيخان وغيرهما (ويجوز)
بلا كراهة كما في أصل الروضة (عكسه) وهو ذبح إبل ونحوها ونحر بقر وغنم ونحوهما لعدم ورود نهى فيه (و)
يسن (أن يكون) نحر (البعير قائما) على ثلاث (معقول) بالتنوين بخطه (الركبة) وهي اليسرى كما في
المجموع لقوله تعالى: * (فاذكروا اسم الله عليها صواف) * قال ابن عباس: أي قياما على ثلاث رواه الحاكم وصححه.
قال الشاعر:
ألف الصفوف فلا يزال كأنه مما يقوم على الثلاث كسيرا
فإن لم يكن قائما فباركا، والنحر الطعن بما له حد في المنحر، وهو الوهدة التي في أعلى الصدر، وأصل العنق.
تنبيه: كلام المصنف يفهم أن إيجاب قطع الحلقوم والمرئ واستحباب قطع الودجين مخصوص بالذبح وليس
271

مرادا، فقد جزم به في المجموع في النحر أيضا، وحكاه في الكفاية عن الحاوي والنهاية وغيرهما. (و) أن تكون (البقرة
والشاة) حال ذبح كل منهما (مضجعة لجنبها الأيسر) أما الشاة ففي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أضجعها وقيس
عليها البقر وغيره لأنه أسهل على الذابح في أخذه السكين باليمين وإمساك الرأس باليسار.
تنبيه: لو كان الذابح أعسر استحب أن يستنيب غيره ولا يضجعها على يمينها كما أن مقطوع اليمين لا يشير بسبابته
اليسرى. (ويترك رجلها اليمنى) بلا شد لتستريح بتحريكها (وتشد باقي القوائم) لئلا تضطرب حال الذبح فيزل الذابح (و) يسن للذابح
(أن يحد) بضم أوله (شفرته) وهي - بفتح المعجمة - سكين عظيمة، لخبر مسلم وغيره: إن الله
كتب الاحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته،
وليرح ذبيحته.
تنبيه: لو ذبح بسكين كال حل بشرطين: أن لا يحتاج القطع إلى قوة الذابح، وإن يقطع الحلقوم والمرئ قبل
انتهائها إلى حركة المذبوح. ويسن إمرار السكين بقوة وتحامل يسير ذهابا وإيابا. ويكره أن يحد شفرته والبهيمة تنظر
إليه، وأن يذبح حيوانا وآخر ينظر إليه، ففي سنن البيهقي أن عمر رضي الله تعالى عنه رأى رجلا يفعل ذلك فضربه بالدرة
والأولى أن يساق الحيوان إلى المذبح برفق، وأن يعرض عليه الماء قبل الذبح، لأن ذلك أعون على سهولة سلخه،
ويكره أن يبين الرأس وأن يكسر العنق، وأن يقطع عضوا منه، وأن يحركه، وأن ينقله إلى مكان حتى تخرج روحه
منه. (و) يسن أن (يوجه) الذابح (للقبلة ذبيحته) للاتباع، ولأنها أفضل الجهات، والأصح أنه يوجه مذبحها لا وجهها
ليمكنه أيضا هو الاستقبال، فإنه يندب الاستقبال للذابح أيضا. فإن قيل هلا كره كالبول إلى القبلة؟. أجيب بأن
هذا عبادة، ولهذا شرع فيها التسمية كما قال (وأن يقول) عند ذبحها (بسم الله) لقوله تعالى: * (فكلوا مما ذكر اسم الله
عليه) * ولا تجب، فلو تركها عمدا أو سهوا حل. وقال أبو حنيفة: إن تعمد لم تحل، وأجاب أئمتنا بقوله تعالى: * (حرمت
عليكم الميتة والدم) * إلى قوله: * (إلا ما ذكيتم) * فأباح المذكى ولم يذكر التسمية، وبأن الله تعالى أباح ذبائح أهل الكتاب بقوله
تعالى * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * وهم لا يسمون غالبا، فدل على أنها غير واجبة، وبقول عائشة رضي الله
تعالى عنها إن قوما قالوا يا رسول الله إن قومنا حديثو عهد بالجاهلية يأتونا بلحام لا ندري أذكروا اسم الله عليها أم
لم يذكروا أنأكل منها؟ فقال: اذكروا اسم الله وكلوا رواه البخاري. ولو كان واجبا لما أجاز الاكل مع الشك، وروي
أنه صلى الله عليه وسلم قال: المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسم وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول
الله أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي الله تعالى، فقال: اسم الله في قلب كل مسلم وأما قوله تعالى * (ولا تأكلوا مما
لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق) * فالذي تقتضيه البلاغة أن قوله * (وإنه لفسق) * ليس معطوفا للتباين التام بين الجملتين، إذ
الأولى فعلية إنشائية، والثانية اسمية خبرية، ولا يجوز أن تكون جوابا لمكان الواو فتعين أن تكون حالية
فتقيد النهي بحل كون الذبح فسقا، والفسق في الذبيحة مفسر في كتاب الله بما أهل لغير الله به، وعن ابن مسعود
وابن عباس وغيرهما أن المراد بما لم يذكر اسم الله عليه الميتة، وذلك أن مجوس الفرس قالوا لقريش تأكلون مما
قتلتم ولا تأكلون مما قتل الله، فأنزل الله تعالى * (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه) * وأما نحو خبر أبي ثعلبة
فما صدت بقوسك فاذكر اسم الله ثم كل، وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل فأجابوا عنه بحمله
على الندب.
تنبيه: لا يختص سن التسمية بالذبح، بل تسن عند إرسال السهم والجارحة إلى صيد، ولو عند الإصابة
بالسهم، والعض من الجارحة كما في الحديث المار. بل حكى الروياني عن النص استحبابها عند صيد السمك والجراد،
ويكره تعمد تركها. قال الزركشي في الخادم: ويستحب أن لا يقول في التسمية الرحمن الرحيم، لأنه لا يناسب المقام،
272

لكنه قال في شرح هذا الكتاب: ليس المراد بالتسمية خصوص هذا اللفظ، بل لو قال الرحمن الرحيم كان حسنا، وفي
البحر عن البيهقي أن الشافعي قال: فإن زاد شيئا من ذكر الله فالزيادة خير فالاكمل أن يقول (بسم الله الرحمن
الرحيم) ويسن في الأضحية أن يكبر قبل التسمية وبعدها ثلاثا، وأن يقول اللهم منك وإليك. (و) أن (يصلي
على النبي (ص)) عند ذلك، لأنه محل شرع فيه ذكر الله فشرع فيه ذكر نبيه عليه السلام كالاذان
والصلاة، وكرهها في هذه الحالة ابن المنذر وأبو حنيفة وغيرهما، وقالوا لا يذكر إلا الله وحده، وما أحسن قول الحليمي
: وحاشا لله أن تكره الصلاة على رسول الله (ص) عند طاعة أو قربة، بل يكره تركها عمدا كما قاله
بعض المتأخرين (ولا يقل) أي الذابح والصائد باسم محمد ولا (بسم الله، واسم محمد) ولا باسم الله، ومحمد رسول
الله (ص) بالجر، أي لا يجوز له ذلك لايهامه التشريك. قال الرافعي: فإن أراد أذبح باسم الله، وأتبرك
باسم محمد، فينبغي أن لا يحرم ذلك، ويحمل إطلاق من نفي الجواز عنه على أنه مكروه، لأن المكروه يصح نفي الجواز
المطلق عنه. قال: وقد تنازع جماعة من فقهاء قزوين فيه هل تحل ذبيحته وهل يكفر أو لا؟ والصواب ما بيناه، وقد
نص الشافعي على أنه لو قال: أذبح للنبي (ص) أو تقربا له لا يحل أكلها. أما لو قال باسم الله ومحمد رسول الله -
برفع محمد - فإنه لا يحرم، بل ولا يكره كما بحثه شيخنا لعدم إيهامه التشريك. قال الزركشي: وهذا ظاهر في النحوي،
أما غيره فلا يتجه فيه ذلك.
تنبيه: لا تحل ذبيحة مسلم ولا غيره لغير الله، لأنه مما أهل به لغير الله، بل إن ذبح المسلم لذلك تعظيما
وعبادة كفر كما لو سجد له لذلك. قال الروياني: من ذبح للجن وقصد التقرب إلى الله تعالى ليصرف شرهم عنه فهو
حلال، وإن قصد الذبح لهم فحرام وإن ذبح للكعبة أو للرسل تعظيما لكونها بيت الله أو لكونهم رسل الله جاز.
قال في الروضة: وإلى هذا المعنى يرجع قول القائل أهديت للحرم أو للكعبة، وتحرم الذبيحة إذا ذبحت تقربا إلى السلطان
أو غيره لما مر، فإن قصد الاستبشار بقدومه فلا بأس كذبح العقيقة لولادة المولود، وعد الصيمري من الآداب أن
لا يذبح على قارعة الطريق، أي فيكره، وإن قال الغزالي في الاحياء بالتحريم. ثم شرع في الركن الرابع وهو الآلة
مترجما لذلك بفصل فقال:
فصل: (يحل ذبح) حيوان (مقدور عليه) بقطع حلقومه ومريئه (و) يحل (جرح) حيوان (غيره) أي المقدور عليه
في أي موضع كان منه (بكل محدد) - بفتح الدال الشديدة - أي له حد (يجرح) أي يقطع (كحديد) أي محدد حديد (و)
محدد (نحاس) وكذا بقية المعطوفات (وذهب) وفضة ورصاص (وخشب وقصب وحجر وزجاج) لأن ذلك أوحى
لازهاق الروح. فإن قيل: قول المصنف يحل ذبح مقدور عليه تبع فيه المحرر وهو تعبير معكوس، والصواب عبارة
الروضة وهي المقدور عليه لا يحل إلا بالذبح إلخ. أجيب بأن المراد هنا بيان ما يحل به، وأما كون المقدور عليه لا يحل
لا بالذبح فذكره أول الباب بقوله: ذكاة الحيوان المأكول بذبحه في حلق أو لبة إن قدر عليه (إلا ظفرا وسنا وسائر)
أي باقي (العظام) متصلا كان أو منفصلا من آدمي أو غيره، لخبر الصحيحين: ما أنهر وذكر اسم الله عليه فكلوه
ليس السن والظفر، وسأحدثكم عن ذلك أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة وألحق بذلك باقي العظام، والنهي
عن الذبح بالعظام قبل تعبد، وبه قال ابن الصلاح ومال إليه ابن عبد السلام، وقال المصنف في شرح مسلم: معناه
لا تذبحوا بها فإنها تنجس بالدم، وقد نهيتم عن تنجسها في الاستنجاء لكونها زاد إخوانكم من الجن، فلو جعل نصل
سهم عظما فقتل به صيدا حرم، ومعنى قوله: وأما الظفر فمدى الحبشة أنهم كفار، وقد نهيتم عن التشبه بهم.
273

تنبيه: قد يؤخذ من علة النهي عن الذبح بالعظم أنه بمطعوم الآدمي أولى كأن يذبح بحرف رغيف محدد،
ومعلوم مما يأتي أن ما قتلته الجارحة بظفرها أو نابها حلال، فلا حاجة إلى استثنائه. وخرج بمحدد ما تضمنه قوله (فلو
قتله بمثقل) - بقاف مفتوحة شديدة - أي شئ ثقيل (أو ثقل محدد) فالأول (كبندقة وسوط وسهم بلا نصل ولا
حد)
وأما الثاني فلم يمثل له، وذلك كسهم بنصل أو حد قتل بثقله، ومنه السكين الكال إذا ذبحت بالتحامل عليها. ثم أشار
لصور يقع الموت فيها بسببين بقوله (أو) قتل بنحو (سهم وبندقة) أي قتله بهما (أو جرحه) أي الصيد (نصل
وأثر فيه عرض السهم) - بضم العين - أي جانبه (في مروره ومات بهما) أي الجرح والتأثير (أو انخنق) ومات
(بأحبولة) منصوبة لذلك، وهي ما تعمل من الحبال للاصطياد (أو أصابه سهم) فجرحه جرحا مؤثرا (فوقع بأرض)
عالية (أو) طرف (جبل ثم سقط منه) في المسألتين وفيه حياة مستقرة ومات (حرم) الصيد في جميع هذه
المسائل، أما القتل بالمثقل، فلأنها موقوذة فإنها مما قتل بحجر أو نحوه مما لا حد له، وأما موته بالسهم والبندقة وما
بعدهما فلانه مات بسببين مبيح ومحرم، فغلب المحرم لأنه الأصل في الميتات، وأما المنخنقة بالأحبولة فلقوله تعالى
: * (والمنخنقة) * وأما إذا أصابه سهم فوقع بأرض، فقد اختلف كلام الشراح في تصويره، فمنهم من صوره بما إذا أصابه
السهم في الهواء ولم يؤثر فيه جرحا بل كسر جناحه فوقع فمات، فإنه لا يحل لعدم مبيح يحال الموت عليه، أما إذا
جرحه السهم جرحا مؤثرا ثم سقط على الأرض ومات، فإنه يحل كما سيأتي في كلامه. ومنهم من صوره بما إذا جرحه
جرحا مؤثرا ووقع بأرض عالية ثم سقط منها وجعله من صور الموت بسببين، وعلله بأنه لا يدري بأيهما مات، وهذا
هو الظاهر كما حملت كلامه عليه. ولو عبر كالمحرر والروضة بوقوع على طرف سطح كان أولى. ولا بد في تصوير الأرض
والجبل بأن يكون فيه حياة مستقرة كما قدرته في كلامه أما إذا أنهاه السهم إلى حركة مذبوح فإنه يحل ولا أثر لصدمة
الأرض والجبل. واحترز بقوله سقط عما إذا لم يسقط منه ولكن تدحرج من جنب إلى جنب فإنه يحل بلا خلاف.
فائدة: أفتى المصنف بأن الرمي بالبندق جائز، ولكن محله إذا كان الصيد لا يموت منه غالبا كالكركي فإن كان
يموت منه غالبا كالعصافير وصغار الوحش حرم كما قاله في شرح مسلم، فإن احتمل واحتمل ينبغي أن يحرم. (ولو أصابه
سهم بالهواء) أو جرحه جرحا مؤثرا (فسقط بأرض ومات) قبل وصوله الأرض أو بعده (حل) لأن الوقوع على
الأرض لا بد منه فعفي عنه كما لو كان الصيد قائما فوقع على جنبيه لما أصابه السهم وانصدم بالأرض وكذلك لو كان
الطائر على شجرة فأصابه السهم فسقط بالأرض، فإن سقط على غصن ثم على الأرض لم يحل كما لو سقط على سطح
ثم على الأرض ومات لم يحل، وخرج بالأرض ما لو وقع في بئر فيها ماء فإنه يحرم، فإن لم يكن فيها ماء حل إن لم
يصدم جدرانها.
تنبيه: لو رمى طير الماء وهو فيه فأصابه ومات حل، والماء له كالأرض لغيره، وإن كان الطير في هواء
الماء، فإن كان الرامي في الماء، ولو في نحو سفينة حل، أو في البر حرم إن لم ينهه بالجرح إلى حركة مذبوح، ولو
كان الطير خارج الماء فرماه فوقع في الماء سواء كان الرامي في الماء أم خارجه حرم كما فهم مما ذكر بالأولى، وكما
هو أحد وجهين حكاهما في الروضة كأصلها بلا ترجيح، وقضية كلامهما أن طير البر ليس كطير الماء فيما ذكر،
لكن البغوي في تعليقه جعله مثله، فإن حمل أن الإضافة في طير الماء في كلامهما على معنى في فلا مخالفة، وهذا أولى
ومحل ما مر كما قال الأذرعي: إذا لم يغمسه السهم في الماء سواء كان على وجه الماء أم في هواته، أما لو غمسه فيه
قبل إنهائه إلى حركة المذبوح، أو انغمس فيه بالوقوع لثقل جثته فمات فهو غريق لا يحل قطعا. قال الماوردي:
274

وأما الساقط في النار فحرام. (ويحل الاصطياد) أي أكل المصاد بالشرط الآتي في غير المقدور عليه (بجوارح السباع
والطير) في أي موضع كان جرحها حيث لم تكن فيه حياة مستقرة بأن أدركه ميتا، أو في حركة المذبوح، أما
الاصطياد بمعنى إثبات الملك فلا يختص بالجوارح، بل يحصل بكل طريق تيسر كما يأتي في الفصل بعده وذبحه كذبح
الحيوان الانسي، والجوارح جمع جارح، وهو كل ما يجرح، سمي بذلك لجرحه الطير بظفره أو نابه. ثم مثل الجوارح
بقوله: (ككلب وفهد) ونمر في السباع (وباز وشاهين) وصقر في الطير لقوله تعالى * (أحل لكم الطيبات وما علمتم
من الجوارح) * أي صيد ما علمتم. قال في المجموع: وقوله في الوسيط: فريسة الفهد والنمر حرام غلط مردود، وليس
وجها في المذهب، بل هما كالكلب نص عليه الشافعي وكل الأصحاب اه‍. فإن قيل قد صرحا في الروضة وأصلها
هنا بعد النمر في السباع التي يحل الاصطياد بها، وقالا في كتاب البيع: لا يصح بيع النمر، لأنه لا يصلح للاصطياد. أجيب
بأن ما ذكر في البيع في نمر لا يمكن تعليمه، وما هنا بخلافه، فإذا كان معلما أو أمكن تعليمه صح بيعه (بشرط
كونها معلمة) للآية وللحديث المار (بأن تنزجر) أي تقف (جارحة السباع بزجر صاحبها) في ابتداء الامر
وبعده (و) أن (تسترسل بإرساله) أي تهيج بإغرائه لقوله تعالى: * (مكلبين) * (2) قال الشافعي رضي الله تعالى عنه
: إذا أمرت الكلب فائتمر وإذا نهيته فانتهى فهو كلب مكلب حكاه العبادي في طبقاته عن رواية يونس (و) أن
(يمسك) أي يحبس (الصيد) على صاحبه، ولا يخليه يذهب، فإذا جاء صاحبه خلى بينه وبينه ولا يدفعه عنه (ولا
يأكل منه) أي من لحمه أو نحوه كجلده وحشوته وأذنه وعظمه قبل قتله له أو عقبه لحديث الصحيحين عن عدي بن
حاتم إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فأمسك وقتل فكل، وإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون أمسك على
نفسه ومنعه الصائد من الصيد كالأكل منه، أما إذا أكل منه ولم يقتله أو قتله، ثم انصرف وعاد إليه فأكل منه
فإنه لا يضر. قال الزركشي: وينبغي القطع في تناوله الشعر بالحل، إذ ليس عادته الاكل منه، ومثله الصوف والريش،
وفيما ذكر تذكير الجارحة، وسيأتي تأنيثها نظرا إلى المعنى تارة وإلى اللفظ أخرى (ويشترط ترك الأكل في جارحة
الطير في الأظهر) قياسا على جارحة السباع. والثاني لا يشترط، لأنها لا تحتمل الضرب لتتعلم ترك الأكل، بخلاف
الكلب ونحوه.
تنبيه: أفهم كلامه أنه لا يشترط فيها انزجارها بالزجر ولا إمساكها الصيد لصاحبها، وهو ما اقتضاه كلام الروضة
في الثانية، وصرح به في الأولى، ونقل عن الإمام أنه لا مطمع في انزجارها بعد طيرانها، لكن نص في الام على اشتراط
ذلك فيها أيضا كما نقله البلقيني كغيره، ثم قال: ولم يخالفه أحد من الأصحاب، وقد اعتبره في البسيط، ثم ذكر مقالة
الإمام بلفظ قيل، وذكر نحوه الأذرعي وغيره، ونقله عن الدارمي وسليم الرازي ونصر المقدسي، ونقله ابن الرفعة عن
الروياني وغيره، وهذا هو الظاهر كما جرى عليه شيخنا في منهجه. (ويشترط تكرر هذه الأمور) المعتبرة في التعليم
(بحيث يظن تأدب الجارحة) ولا ينضبط ذلك بعدد، بل الرجوع في ذلك إلى أهل الخبرة بالجوارح، وقيل يشترط
تكرره ثلاث مرات، وقيل مرتين (ولو ظهر) بما ذكر من الشروط (كونه معلما ثم أكل) مرة كما في المحرر
(من لحم صيد لم يحل ذلك الصيد في الأظهر) لحديث الصحيحين المار، ولان عدم الاكل شرط في التعلم ابتداء،
فكذا دواما، والثاني يحل أكله لخبر أبي داود بإسناد حسن: إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله عليه فكل وإن
أكل منه، وأجاب الأول بأن في رجاله من تكلم فيه، وإن صح حمل على ما إذا أطعمه صاحبه منه أو أكل منه بعد
275

ما قتله وانصرف عنه.
تنبيه: محل الخلاف في الاكل مرة كما قدرته في كلامه، فلو تكرر الاكل منه حرم الآخر جزما، وما
أكل منه قبله في الأصح، ونبه المصنف بقوله: ذلك الصيد على أنه لا ينعطف التحريم على ما اصطاده قبله، وهو
كذلك خلافا لأبي حنيفة، وإنما يخرج بالاكل عن التعليم إذا أكل مما أرسل عليه، فإن استرسل المعلم بنفسه
فقتل وأكل لم يقدح في كونه معلما قطعا، وقوله: من لحم صيد قد يخرج غيره، وليس مرادا، بل يلحق به نحوه
مما مر من جلده وعظمه وحشوته. ثم فرع على الأظهر، وهو عدم الحل قوله (فيشترط) في هذه الجارحة (تعليم
جديد) قال في المجموع: لفساد التعليم الأول. قال الزركشي: وفيه نظر لتصريحهم بعد انعطاف التحريم على ما صاده
قبل ذلك اه‍. ورد عليه بأن الفساد من حين الاكل، ولم يقل لتبين فساد التعليم (ولا أثر للعق الدم) لأنه لا
يقصد للصائد، فصار كتناوله الفرث، ولان المنع منوط في الحديث بالاكل ولم يوجد (ومعض الكلب من الصيد
نجس) كغيره مما ينجسه الكلب (والأصح أنه لا يعفى عنه) كولوغه، والثاني يعفى عنه للحاجة، وقواه في المطلب
(و) الأصح على الأول (أنه يكفي غسله) أي المعض سبعا (بماء وتراب) في إحداهن كغيره (و) أنه (لا يجب
أن يقور) المعض (ويطرح) لأنه لم يرد، والثاني يجب ذلك، ولا يكفي الغسل لأن الموضع تشرب لعابه، فلا
يتخلله الماء (ولو تحاملت الجارحة على صيد فقتلته بثقلها) ولم تجرحه (حل في الأظهر) لعموم قوله تعالى
* (فكلوا مما أمسكن عليكم) *، ولأنه يعسر تعليمه أن لا يقتل إلا بجرح، والثاني يحرم كالقتل بثقل السيف
أو الرمح.
تنبيه: محل الخلاف إذا لم تجرحه كما قدرته في كلامه، أما إذا جرحته ثم تحاملت عليه فقتلته فإنه يحل قطعا،
وخرج بقوله: بثقله ما لو مات فزعا من الجارحة أو من عدوها فإنه يحرم قطعا، لكن الثقل ليس بقيد، بل لو مات
بصدمتها أو بعضها أو بقوة إمساكها من غير عقر كان فيه القولان كما قاله الماوردي وغيره، فلو قال المصنف: فمات
بإمساكه من غير جرح لكان أشمل، والقتل ليس بقيد أيضا، بل لو صار بالثقل إلى حركة المذبوح كان الحكم
كذلك كما قاله الإمام. (و) يشترط في الذبح قصد العين بالفعل وإن أخطأ في الظن أو قصد الجنس وإن أخطأ في الإصابة
كما سيأتي في تصويرهما، فعلى هذا (لو كان بيده) أي شخص (سكين) مثلا (فسقط) من يده (وانجرح به صيد)
مثلا ومات (أو احتكت به شاة) مثلا (وهو في يده) سواء أحركها أم لا (فانقطع حلقومها ومريئها) أو تعقر به صيد
(أو استرسل كلب) معلم (بنفسه فقتل) صيدا (لم يحل) وأحدهما ذكر قطعا لانتفاء الذبح وقصده والارسال (وكذا
لو استرسل كلب فأغراه صاحبه) أو غيره (فزاد عدوه لم يحل) الصيد (في الأصح) المنصوص لاجتماع الاسترسال
المانع والاغراء المبيح فغلب جانب المنع والثاني يحل لظهور أثر الاغراء بزيادة العدو، واحترز بقوله: فزاد عدوه
عما إذا لم يزد، فإنه يحرم جزما
تنبيه: محل الوجهين إذا لم يتقدم الاغراء وزجر، فإن تقدم بأن الزجر ثم أغرا فاسترسل واصطاد حل قطعا،
وإن لم ينزجر فأغراه فزاد عدوه فعلى الوجهين وأولى بالتحريم، ولو أرسله مالكه فزجره ثم أغراه فاسترسل وأخذ
صيدا فهو للفضولي لأنه المرسل، فإن زجره الفضولي فلم ينزجر أو لم يزجره بل أغراه فزاد عدوه وأخذ صيدا فهو لصاحب
276

الجارح، وللأجنبي أخذ الصيد من فم جارح معلم استرسل بنفسه ويملكه بالأخذ كما لو أخذ فرخ طائر من شجرة غيره لا
من فم غير معلم أرسله صاحبه لأن ما صاده ملك صاحبه تنزيلا لارساله منزلة نصب شبكة تعلق بها الصيد، ولو أرسله
مسلم فازداد عدوه بإغراء مجوسي حل، لأن حكم الاسترسال لا ينقطع بالاغراء، وإن أرسله مجوسي فأغراه مسلم حرم
لذلك. (ولو أصابه) أي الصيد (سهم بإعانة ريح) مثلا (حل) سواه اقترن الريح بابتداء رمي السهم أو هجم الريح قبل
خروجه كما يقتضيه إطلاقهم. إذ لا يمكن الاحتراز عن هبوبها، بخلاف حملها الكلام حيث لا يقع به الحنث، لأن
اليمين مبنية على العرف.
تنبيه: أشار المصنف كغيره بإعانتها إلى أنه لو صارت الإصابة منسوبة إلى الريح خاصة لم يحل، وبه صرح صاحب
الوافي كما نقله عنه الزركشي وأقره، ولو أصاب السهم الأرض أو جدارا أو حجرا فازدلف ونفذ فيه أو تقطع الوتر
عند نزع القوس فصدم الفوق فارتمى السهم وأصاب الصيد في الجميع حل، لأن ما يتولد من فعل الرامي منسوب إليه،
إذ لا اختيار للسهم. (ولو أرسل سهما) مثلا (لاختبار قوته أو إلى غرض) يرمي إليه (فاعترضه صيد فقتله) ذلك السهم
(حرم في الأصح) المنصوص، لأنه لم يقصد صيدا معينا ولا منهما، والثاني لا يحرم نظرا إلى قصد الفعل دون مورده كما
لو قطع ما ظنه ثوبا بان حلق شاة، وفرق الأول بأنه هناك قصد عينا، بخلافه هنا.
تنبيه: قضية قوله: فاعترضه صيد أنه لو كان هناك صيد حل، وليس مرادا، بل الاعتبار بنية الاصطياد، كما نص
عليه في الام والمختصر. فلو قال: لا يقصد لكان أشمل، وفي معنى ما ذكره ما لو أرسله على ما لا يؤكل كخنزير فأصاب
صيدا فإنه لا يؤكل على الأصح، وكذا لو أرسل الكلب حيث لا صيد فاعترضه صيد فقتله لم يحل. (ولو رمى صيدا ظنه
حجرا) أو حيوانا لا يؤكل فأصاب صيدا حل (أو) رمى (سرب) - بكسر السين - أي قطيع (ظباء) ونحوها من الوحوش
(فأصاب واحدة) من ذلك السرب (حلت) أما في الأولى فلانه قتله بفعله، ولا اعتبار بظنه، وأما في الثانية فلانه قصد
السرب، وهذه منه (وإن قصد واحدة) من السرب (فأصاب غيرها) منه (حلت في الأصح) المنصوص، سواء أكان العير
على سمت الأولى أم لا لوجود قصد الصيد، والثاني المنع نظرا إلى أنها غير المقصودة، ولو أرسل كلبا على صيد فعدل
إلى غيره ولو إلى غير جهة الارسال فأصابه ومات حل كما في السهم لأنه يعسر تكليفه ترك العدول، ولان الصيد لو عدل
فتبعه حل قطعا، وظاهر كلامهم حله وإن ظهر للكلب بعد إرساله كما لو أرسله على صيد فأمسكه ثم عن له آخر فأمسكه
فإنه يحل، سواء أكان عند الارسال موجودا أم لا، لأن المعتبر أن يرسله على صيد، وقد وجد، ولو قصد وأخطأ
في الظن والإصابة معا كمن رمى صيدا ظنه حجرا أو خنزيرا فأصاب صيدا غيره حرم، لأنه قصد محرما، فلا يستفيد الحل،
بخلاف عكسه بأن رمى حجرا أو خنزيرا ظنه صيدا فأصاب صيدا فمات حل، لأنه قصد مباحا.
فروع: لو رمى في ظلمة لعله يصادف صيدا فصادفه ومات لم يحل، لأنه لم يقصد قصدا صحيحا، وقد يعد مثله
سفها وعبثا، ولو رمى شاة فأصابه مذبحها ولو اتفاقا بأن لم يقصده فقطعه حلت لأنه قصد الرمي إليها، ولو أحس بصيد
في ظلمة أو من وراء شجرة أو غيرها فرماه فأصابه ومات حل لأن له به نوع علم، ولا يقدح هذا في عدم الحل برمي
الأعمى، إذ البصير يصح رميه في الجملة بخلاف الأعمى. (ولو غاب عنه الكلب) الذي أرسله (والصيد) قبل أن يجرحه
الكلب (ثم وجده) أي الصيد (ميتا حرم لاحتمال موته بسبب آخر، ولا أثر لتلطخ الكلب بالدم لاحتمال أن الكلب
جرحه وأصابته جراحة أخرى (وإن جرحه) الكلب أو أصابه بسهم فجرحه جرحا يمكن إحالة الموت عليه (وغاب ثم
277

وجده ميتا حرم في الأظهر) لما مر، والثاني يحل حملا على أن موته بالجرح، وصححه البغوي. وقال في الروضة: إنه
أصح دليلا، وفي المجموع: أنه الصحيح أو الصواب، وثبت فيه أحاديث صحيحة دون التحريم، والأول هو ما عليه
الجمهور. قال البلقيني: وهو المذهب المعتمد، ففي سنن أبي داود وغيره بطرق حسنة، وفي حديث عدى بن حاتم
قال: قلت يا رسول الله إنا أهل صيد وإن أحدنا يرمي الصيد فيغيب عنه الليلتين والثلاث فيجده ميتا؟ فقال: إذا
وجدت فيه أثر سهمك ولم يكن أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكل فهذا مقيد لبقية الروايات ودال على التحريم في
محل النزاع اه‍. أي وهو ما إذا لم يعلم: أي لم يظن أن سهمه قتله، فتحرر من ذلك أن المعتمد في المتن، وجرى عليه
في مختصره.
تنبيه: محل الخلاف إذا لم يكن أنهاه بالجرح إلى حركة مذبوح وإلا فيحل جزما، وما لم يجد فيه غير جرحه،
فإن وجد به أثر صدمة أو جراحة أخرى حرم جزما.
تتمة: لمسألة المتن نظائره منها ما إذا مشط المحرم رأسه فسقط منه شعر وشك هل انتتف بالمشط أو كان منتتفا؟ والأصح
أنه لا فدية كما مر في بابه، ومنها إذا قد ملفوفا ومر ما فيه، ومنها إذا بالت ظبية في ماء ثم ظهر تغيره، والمذهب المنصوص
نجاسته إحالة على السبب الظاهر كما مر في محله، وهذا يقوي الوجه الثاني، ومنها إذا جرح المحرم صيدا ثم غاب عنه ثم
وجده ميتا، ولم يدر هل مات بسبب جراحته أو بسبب آخر، والأصح فيها وجوب الأرش لا كمال الجزاء، إذ
الشك فيه أوجب عدم وجوبه، وهذا يقوي الوجه الأول، وهو نظير المسألة.
فصل: فيما يملك به الصيد وما يذكر معه (يملك) الصائد (الصيد) غير الحرمي ممتنعا كان أم لا، إن لم يكن به أثر
ملك كخضب، وقص جناح، وقرط وصائده غير محرم وغير مرتد (بضبطه بيده) وإن لم يقصد تملكه، حتى لو أخذ
صيدا لينظر إليه ملكه، لأنه مباح فيملك بوضع اليد عليه كسائر المباحات. نعم إن قصد أخذه لغيره نيابة عنه
بإذنه
ملكه ذلك الغير على الأصح، وإن كان به أثر ملك من ذلك لم يملكه بل هو ضالة أو لقطة. وأما الصيد الحرمي
والصائد المحرم فقد سبق حكمهما في محرمات الاحرام. وأما المرتد فسبق في الردة أن ملكه موقوف إن عاد إلى الاسلام
تبين أنه ملكه من وقت الاخذ، وإلا فهو باق على إباحته (و) يملك الصيد أيضا (بجرح مذفف) أي مسرع للهلاك
(وبإزمان وكسر جناح) بحيث يعجز عن الطيران والعدو جميعا إن كان مما يمتنع بهما، وإلا فبإبطال واحد منهما
وإن لم يضع يده عليه، وقص الجناح ككسره، ويكفي للتملك إبطال شدة العدو وجعله بحيث يسهل إلحاقه وأخذه،
ولو طرده فوقف إعياء أو جرحه فوقف عطشا لعدم الماء لم يملكه حتى يأخذه لأن وقوفه في الأول استراحة وهي
معينة له على امتناعه من غيره. وفي الثاني لعدم الماء بخلاف ما لو جرحه فوقف عطشا لعجزه عن وصول الماء فإنه
يملكه لأن سببه الجراحة (و) يملك أيضا (بوقوعه في شبكة) من الشبك، وهو الخيط (نصبها) للصيد فيملكه، وإن لم
يضع يده عليه سواء أكان حاضرا أم غائبا طرده إليها طارد أم لا، وسواء أكانت الشبكة مباحة أم مغصوبة لأنه
يعد بذلك مستوليا عليه، فإن قيل لو غصب عبدا وأمره بالصيد كان الصيد لمالك العبد بخلافه هنا. أجيب بأن للعبد يدا
فإذا استولى عليه دخل في ملك سيده قهرا. واحترز بقوله: نصبها عما لو وقعت الشبكة من يده بلا قصد وتعلق بها صيد
فإنه لا يملكه على الأصح.
تنبيه: كان ينبغي أن يقول: نصبها له كالمحرر أو للصيد كما قدرته في كلامه فإن مجرد نصبها لا يكفي حتى يقصد
نصبها للصيد، وإنما يملكه إذا لم يقدر على الخلاص منها فإن قطعها الصيد فانفلت منها صار مباحا يملكه من صاده
لأن الأول لم نثبته شبكته. وإن قطعها غيره فانفلت فهو باق على ملك صاحبها فلا يملكه غيره كما صححه في المجموع. ولو
278

ذهب الصيد بالشبكة نظرت، فإن كان على امتناعه بأن يعدو ويمتنع معها فهو لمن أخذه، وإن كان ثقلها يبطل امتناعه
بحيث لا يتيسر أخذه فهو لصاحبه. (و) يملك أيضا (بإلجائه إلى مضيق) ولو مغصوبا (لا يفلت منه) أي لا يقدر الصيد على
التفلت منه كبيت لأنه صار مقدورا عليه، فإن قدر الصيد على التفلت لم يملكه الملجئ، ولو أخذه غيره ملكه.
تنبيه: يفلت بضم أوله وكسر ثالثه بخطه على البناء للفاعل، وضبطه بعض الشراح بالبناء للمفعول. قال ابن قاسم:
وهو مخالف لضبط المصنف، وقد يشعر كلامه بحصر ملك الصيد فيما ذكر من الصور، وليس مرادا بل من ذلك ما لو
عشش طائر في بنائه، وقصد ببنائه تعشيشه فإنه يملكه لقصده ذلك، والضابط الذي ترد إليه صور ملك الصيد
هو كما قال الرافعي: إبطال امتناعه وحصول الاستيلاء عليه، فلو عبر به المصنف كان أولى ليسلم من البسط
والحذف،
ولو دخل السمك حوضا له فسد المنفذ بحيث لا يمكنه الخروج منه، فإن كان الحوض صغيرا يمكنه تناول ما فيه باليد ملكه،
وإن كان كبير لا يمكنه أن يتناول ما فيه إلا بجهد وتعب أو إلقاء شبكة في الماء لم يملكه به، ولكنه يصير أولى به من
غيره، فلا يصيده أحد إلا بإذنه.
تنبيه: الدرة التي توجد في السمكة غير مثقوبة ملك للصائد إن لم يبع السمكة، وللمشتري إن باعها تبعا لها. قال
في الروضة: كذا في التهذيب، ويشبه أن يقال إنه في الثانية للصائد أيضا كالكنز الموجود في الأرض يكون لمحييها، وما
بحثه هو ما جزم به الإمام والماوردي وغيرهما، وإن كانت مثقوبة فللبائع، وصورته إن ادعاها، فإن لم يكن بيع أو
كان ولم يدعها البائع فلقطة، وقيد الماوردي ما ذكر بما إذا صاد من بحر الجوهر وإلا فلا يملكها، بل تكون لقطة.
(ولو وقع صيد) اتفاقا (في ملكه) أو مستأجر له أو معار أو مغصوب تحت يد الغاصب (وصار مقدورا عليه بتوحل
وغيره لم يملكه) ولا ما حصل منه كبيضة (في الأصح) لأن مثل هذا لا يقصد به الاصطياد، والقصد مرعي في التملك،
لكن يصير أحق به من غيره، والثاني يملكه كوقوعه في شبكته.
تنبيه: محل الخلاف فيما إذا لم يكن سقي الأرض مما يقصد به توحل الصيد، فإن قصد به فهو كنصب الشبكة
فيملكه كما نقله في أصل الروضة هنا عن الإمام وغيره، لكنه نقل في إحياء الموات عن الإمام خلافه، وضعفه الأذرعي
وجمع البلقيني بينهما بحمل ما هنا على سقي اعتيد الاصطياد به، وما هناك على خلافه، وهو حسن، ولو حفر حفرة
وقع فيها صيد ملكه إن كان الحفر للصيد، وإلا فلا، ولو استأجر سفينة فدخلها سمك هل يملكه المستأجر، لأن ملك
منافعها له، أو المالك، لأن هذه ليست من المنافع التي تقع الإجارة عليها؟ وجهان في فروق ابن جماعة المقدسي
أوجههما الأول كما استظهره بعض المتأخرين. (ومتى ملكه) أي الصيد (لم يزل ملكه) عنه (بانفلاته) فمن أخذه لزمه رده
سواء أكان يدور في البلد أم التحق بالوحوش في البرية كما لو أبق العبد أو شردت البهيمة، ويستثنى من ذلك ما لو أتلفت
بقطعه ما نصب له، فإنه يعود مباحا ويملكه من يصطاده كما مرت الإشارة إليه (وكذا) لا يزول ملكه (بإرسال المالك
له في الأصح) لأن رفع اليد عنه لا يقتضي زوال الملك عنه كما لو سيب بهيمته فليس لغيره أن يصيده إذا عرفه، والثاني
يزول ويجوز اصطياده كما بحثه ابن الرفعة في المطلب، والثالث إن قصد بإرساله التقرب إلى الله زال ملكه، وإلا فلا.
تنبيه: محل الخلاف في مالك مطلق التصرف، أما الصبي والمجنون والمحجور عليه بسفه أو فلس والمكاتب
الذي لم يأذن له سيده فلا يزول ملكه عنه قطعا، وعلى الأول لا يجوز إرساله، لأنه قد يختلط بالمباح فيصاد،
ولما فيه
من التشبه بفعال الجاهلية، وقد قال تعالى * (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام) * والبحيرة هي التي
يمنع درها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس، والسائبة كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شئ، والوصيلة الناقة
279

تبكر في أول نتاج الإبل. ثم تثنى بأنثى، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إذا وصلت أنثى بأنثى ليس بينهما ذكر، والحام
فحل الإبل يضرب الضراب المعدود، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت وأعفوه من الحمل فلم يحمل عليه شئ وسموه
الحامي، وإنما ذكرت ذلك تتميما للفائدة. ويستثنى من عدم الجواز ما إذا خيف على ولد الصيد بحبس ما صاده منهما
فينبغي وجوب الارسال صيانة لروحه، ويشهد له حديث الغزالة التي أطلقها النبي (ص) من أجل أولادها
لما استجارت به، وحديث الحمرة - بضم الحاء وتشديد الميم - التي أمر النبي (ص) برد فرخيها إليها لما
أخذا، والحديثان صحيحان، نبه على ذلك الزركشي. ومحل الوجوب كما قال شيخنا في صيد الولد أن لا يكون مأكولا
وإلا فيجوز ذبحه. ولو قال مطلق التصرف عند إرساله: أبحته لمن يأخذه، أو أبحته فقط كما بحثه شيخنا حل لمن
أخذه أكله بلا ضمان، وله إطعام غيره منه كما بحثه شيخنا أيضا، ولا ينفذ تصرفه فيه ببيع ونحوه، وهل يحل إرساله
في هذه الحالة أو لا؟ لم أر من ذكره. لكن أفتى شيخي بالأول وأما كسر الخبز والسنابل ونحوها التي يطرحها
مالكها فالأرجح فيها أن آخذها يملكها وينفذ تصرفه فيها بالبيع ونحوه كما هو ظاهر أحوال السلف ورجحه المصنف،
ولا فرق في السنابل بين أن يتعلق بها الذكاة أم لا نظرا لأحوال السلف، وإن أعرض عن جلد ميتة فمن دبغه ملكه
ويزول اختصاص المعرض عنه، لأن مجرد الاختصاص يضعف بالاعراض. (ولو تحول حمامه) من برجه (إلى برج
غيره) وفيه حمام له (لزمه) أي ذلك الغير (رده) إن تميز عن حمامه لبقاء ملكه كالضالة.
تنبيه: المراد برده إعلام مالكه به وتمكينه من أخذه كسائر الأمانات الشرعية، لا رده حقيقة، فإن لم يرده
ضمنه قال الزركشي: وهذا إذا أخذه. قال: فإن تركه ولم يأخذه نظر إن طلبه صاحبه فلم يرده ضمنه، وإن لم
يطلبه لم يضمن ونسبه لنص المختصر.
فرع: لو وجد من الحمامين فرخ أو بيض فهو لمالك الأنثى فقط. (فإن اختلط) حمام برجيهما (وعسر
التمييز لم يصح بيع أحدهما وهبته شيئا منه لثالث) لعدم تحقق الملك فيه، فإنه كما يحتمل كون ذلك المبيع ملكه يحتمل
أن يكون ملكا للآخر.
تنبيه: علم من كلامه امتناع بيع الجميع من باب أولى، وصرح به في البسيط فقال: ليس له الهجوم على بيع
الكل. قال في المطلب: لكن لو فرض ذلك فهل يبطل البيع في الجميع أو يصح في الذي يملكه؟ لم أر فيه نقلا،
والظاهر الأول. (ويجوز) ببيع أحدهما وهبته لما له منه (لصاحبه) مع الجهل (في الأصح) للحاجة، وقد تدعو
الحاجة إلى التسامح باختلاف بعض الشروط، ولهذا صححوا القراض والجعالة مع ما فيهما من الجهالة. والثاني ما يغتفر ذلك.
تنبيه: كالبيع والهبة غيرهما من سائر التصرفات. (فإن باعاهما) أي الحمامين لثالث (والعدد معلوم) لهما
(والقيمة سواء صح) ووزع الثمن على أعدادهما. فإذا كان لأحدهما مائتين وللآخر مائة كان الثمن أثلاثا، ولو باعا
لثالث بعض العين صح أيضا بالجزئية (وإلا) بأن جهل العدد والقيمة متساوية أو علم ولم تستو القيمة (فلا) يصح
البيع، لأن كل واحد لا يعرف مستحقه من الثمن.
تنبيه: إذا منعنا البيع في صورة المتن فالحيلة في صحة بيعها لثالث أن يبيع كل منهما نصيبه بكذا فيكون الثمن
معلوما، أو أن يوكل أحدهما الآخر في بيع نصيبه فيبيع الجميع بثمن فيقتسمانه، أو أن يصطلحا في المختلط على شئ بأن
يتراضيا على أن يأخذ كل منهما منه شيئا ثم يبيعانه لثالث، فصح البيع.
فروع: لو شك في كون المخلوط بحمامه مملوكا لغيره أو مباحا فله التصرف فيه، لأن الظاهر أنه مباح، ولو اختلط
حمام مملوك بحمام مباح غير محصور أو نصب ماء ملك في نهر لم يحرم على أحد الاصطياد والاستقاء من ذلك استصحابا
لما كان وإن لم يزل ملك المالك بذلك، لأن حكم ما لا ينحصر لا يتغير باختلاطه بما ينحصر أو بغيره كما لو اختلطت
280

محرمة بنساء غير محصورات يجوز له التزوج منهن ولو كان المباح محصورا حرم ذلك كما يحرم التزوج في نظيره، وقد مر
الكلام على المحصور وغيره في باب ما يحرم من النكاح. ولو اختلطت دراهم أو دهن حرام بدراهمه أو دهنه أو نحو
ذلك ولم يتميز فميز قدر الحرام وصرفه إلى ما يجب صرفه فيه وتصرف في الباقي بما أراد جاز للضرورة كحمامة لغيره
اختلطت بحمامه فإنه يأكله بالاجتهاد فيه إلا واحدة، كما لو اختلطت تمرة غيره بتمره ولا يخفى الورع، وقد قال بعضهم:
ينبغي للمتقي أن يجتنب طير البروج وبناءها. ثم شرع في بيان حكم الازدحام بالجرح على الصيد بقوله: (ولو جرح الصيد
اثنان) وللحكم المذكور أربعة أحوال: الحال الأول أن يقع الجرحان (متعاقبان، فإن ذفف) أي قتل (الثاني)
منهما الصيد (أو أزمن) بأن أزال امتناعه (دون الأول) منهما بأن لم يوجد منه تذفيف ولا إزمان (فهو للثاني) لأن
جرحه هو المؤثر في امتناعه، ولا شئ له على الأول بجرحه. لأنه كان مباحا حينئذ (وإن ذفف الأول فله) الصيد
لما مر، وله على الثاني أرش ما نقص من لحمه وجلده إن كان، لأنه جنى على ملك الغير (وإن أزمن) الأول (فله)
الصيد لا زمانه إياه (ثم) ينظر (إن ذفف الثاني بقطع حلقوم ومرئ فهو حلال) أكله لحصول الموت بفعل ذابح
(وعليه للأول) أرش وهو (ما نقص بالذبح) وهو ما بين قيمته زمنا ومذبوحا، كما لو ذبح شاة غيره بغير إذنه (وإن
ذفف) الثاني (لا بقطعهما) أي الحلقوم والمرئ (أو لم يذفف) أصلا (ومات بالجرحين فحرام) أما الأول
فلان
المقدور عليه لا يحل إلا بذبحه. وأما الثاني فلاجتماع المبيح والمحرم، كما لو اشترك في الذبح مسلم ومجوسي (ويضمنه
الثاني للأول) لأنه أفسد ملكه.
تنبيه: ظاهر كلامه أنه يضمن جميع قيمته زمنا وهو كذلك إذا كان جرحه مذففا، فإن جرح بلا تذفيف
ومات بالجرحين فكذلك إن لم يتمكن الأول من ذبحه كما اقتضاه كلامهم، لكن استدرك صاحب التقرير فقال: إن
كانت قيمته سليما عشرة وزمنا تسعة ومذبوحا ثمانية لزمه ثمانية ونصف لحصول الزهوق بفعلهما فيوزع الدرهم الفائت
بها عليهما فيهدر نصفه ويلزمه نصفه وصححه الشيخان، وإن تمكن الأول من ذبحه وذبحه بعد جرح الثاني لزم الثاني
الأرش إن حصل بجرحه نقص، وإن لم يذبح بل تركه حتى مات فالأصح أن الثاني يضمن زيادة على الأرش، لأن
غايته أن الأول امتنع من تدارك ما تعرض للفساد بجناية الجاني مع إمكان التدارك وهو لا يسقط الضمان، وعلى هذا
لا يضمن جمع قيمته مزمنا، لأن تفريط الأول صير فعله إفسادا، ولهذا لو لم يوجد الجرح الثاني وترك الذبح كان الصيد
ميتة، وحينئذ فنقول مثلا: قيمة الصيد عشرة فنقص بالجرح الأول واحد وبالثاني واحد ثم مات بالجرحين فتجمع قيمته
قبل الجرح الأول وقيمته قبل الجرح الثاني فيصير المجموع تسعة عشر فيقسم عليه ما فوتاه وهو عشرة فحصة الأول
لو كان ضامنا عشرة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة، ويلزم الثاني تسعة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة.
ثم شرع في الحال الثاني بقوله: (وإن جرحا معا وذففا) بجرحهما (أو أزمنا) به (فلهما) الصيد لاشتراكهما في سبب
الملك بجرحهما سواء تفاوت الجرحان صفرا وكبرا أم لا كان في المذبح أم لا. ثم شرع في الحال الثالث بقوله: (وإن)
جرحا معا، و (ذفف) في مذبح أو غيره (أحدهما أو أزمنا دون الآخر فله) أي المذفف أو المزمن الصيد لانفراده
بسبب الملك، ولا ضمان على الآخر لوقوع جراحته حين كان مباحا.
تنبيه: لو جهل كون التذفيف أو الأزمان منهما أو من أحدهما كان لهما لعدم الترجيح، ويسن أن يستحل
كل منهما من صاحبه تورعا من مظنة الشبهة، فلو علم تأثير أحدهما وشك في تأثير الآخر وقف النصف بينهما،
281

فإن تبين الحال أو اصطلحا على شئ فواضح، وإلا قسم بينهما نصفين وسلم النصف الآخر لمن أثر جرحه فيخلص له ثلاثة
أرباع الصيد، وللآخر ربعه كما نقله في أصل الروضة عن الإمام واقتضى كلام الغزالي ترجيحه وجرى عليه ابن المقري
خلافا لما في أصل الروضة عن القفال من أنه لا وقف. ثم شرع في الحال الرابع بقوله: (وإن ذفف واحد) في غير
مذبح (وأزمن آخر) مرتبا (وجهل السابق) منهما (حرم) الصيد على المذهب لاجتماع الحظر والإباحة، فإنه
يحتمل سبق التذفيف فيحل، أو تأخره فلا يحل بعده إلا بقطع الحلقوم والمرئ، وفي قول من طريق ثان لا يحرم
لاحتمال تأخر الأزمان. أما لو ذفف أحدهما في المذبح فإنه يحل قطعا ويكون بينهما كما استظهره في المطلب، لأن كلا
من الجرحين مهلك لو انفرد، فإذا جهل السابق لم يكن أحدهما أولى به من الآخر، فإن ادعى كل منهما أنه المزمن
له أولا فلكل تحليف صاحبه، فإن حلفا اقتسماه ولا شئ لأحدهما على الآخر، أو حلف أحدهما فقط فهو له، وله
على الناكل أرش ما نقص بالذبح.
تنبيه: الاعتبار في الترتيب والمعية بالإصابة، لا بابتداء الرمي، كما أن الاعتبار في كونه مقدورا عليه أو غير مقدور
عليه بحالة الإصابة، فلو رمى غير مقدور عليه فأصابه وهو مقدور عليه لم يحل إلا بإصابته في المذبح، وإن رماه وهو
مقدور عليه وأصابه وهو غير مقدور عليه حل مطلقا.
خاتمة: لو أرسل كلبا وسهما فأزمنه الكلب ثم ذبحه السهم حل، وإن أزمنه السهم ثم قتله الكلب حرم، ولو
أخبر فاسق أو كتابي أنه ذبح هذه الشاة مثلا حل أكلها لأنه من أهل الذبح، فإن كان في البلد مجوس ومسلمون وجهل
ذابح الشاة هل هو مسلم أو مجوسي لم يحل أكلها للشك في الذبح المبيح، والأصل عدمه. نعم إن كان المسلمون أغلب
كما في بلاد الاسلام فينبغي كما قال شيخنا أن تحل كنظيره فيما مر في باب الاجتهاد عن الشيخ أبي حامد وغيره فيما لو وجد
قطعة لحم، أما إذا لم يكن فيه مجوس فتحل، وفي معنى المجوس كل من لا تحل ذبيحته.
كتاب الأضحية
مشتقة من الضحوة، وسميت بأول زمان فعلها، وهو الضحى، وفيها لغات: ضم همزها وكسره وتشديد يائها وتخفيفها
وجمعها أضاح، ويقال: ضحية بفتح ضادها وكسره ضحايا، ويقال أيضا: إضاحة بكسر همزها وضمها وجمعها أضحى
بالتنوين كأرطاة وأرطا، فهذه ثمان لغات فيها. وهي ما يذبح من النعم تقربا إلى الله تعالى من يوم العيد إلى آخر أيام
التشريق. والأصل فيها قبل الاجماع قوله تعالى: * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) * الآية، فهي من أعلام
دين الله، وقوله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * على أشهر الأقوال، أن المراد بالصلاة صلاة العيد، وبالنحر الضحايا
وخبر مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على
صفاحهما والأملح قيل الأبيض الخالص، وقيل الذي بياضه أكثر من سواده، وقيل الذي تعلوه حمرة وقيل غير
ذلك وخبر الترمذي والحاكم عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي (ص) قال: ما عمل ابن آدم يوم
النحر من عمل أحب إلى الله تعالى من إراقة الدم، إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله
بمكان قبل أن يقع من الأرض فطيبوا بها نفسا وذكر الرافعي وابن الرفعة حديث: عظموا ضحاياكم فإنها على
الصراط
مطاياكم لكن قال ابن الصلاح: إنه غير ثابت. (هي) أي التضحية كما في الروضة والمحرر وغيرهما لا الأضحية كما يوهمه
كلامه لأن الأضحية اسم لما يضحى به (سنة) مؤكدة في حقنا، أما في حقه صلى الله عليه وسلم فواجبة لحديث: أمرت
282

بالنحر وهو سنة لكم رواه الترمذي، وفي رواية الدارقطني: كتب علي النحر وليس بواجب عليكم. قال في
العدة: وهي سنة على الكفاية إن تعدد أهل البيت، فإذا فعلها واحد من أهل البيت كفى عن الجميع، وإلا فسنة عين
ولا تجب بأصل الشرع لما مر، ولما روى البيهقي وغيره بإسناد حسن أن أبا بكر وعمر كانا لا يضحيان مخافة أن ترى
الناس ذلك واجبا ولان الأصل عدم الوجوب، والمخاطب بها المسلم الحر البالغ العاقل المستطيع، وكذا المبعض إذا
ملك مالا ببعضه الحر، قاله في الكفاية. قال الزركشي: ولا بد أن تكون فاضلة عن حاجته وحاجة من يمونه على
ما سبق في صدقة التطوع، لأنها نوع صدقة اه‍. وظاهر هذا أنه يكفي أن تكون فاضلة عما يحتاجه في يومه وليلته
وكسوة فصله كما مر في صدقة التطوع، وينبغي أن تكون فاضلة عن يوم العيد وأيام التشريق فإنه وقتها، كما أن
يوم العيد وليلة العيد وقت زكاة الفطر. واشترطوا فيها أن تكون فاضلة عن ذلك. وأما المكاتب فهي منه تبرع،
فيجري فيها ما يجري في سائر تبرعاته. قال الإمام: ولا يضحي عما في البطن. قال البلقيني: ويظهر من ذلك أن
سنيتها تتعلق بمن يولد عند دخول وقت الأضحية، فمن كان حملا ذلك الوقت، ثم انفصل بعد يوم النحر أو ما بعده لم
يتعلق به سنة الأضحية. قال: ولم أر من تعرض لذلك وخرجته من زكاة الفطر.
تنبيه: شمل كلام المصنف أهل البوادي والحضر والسفر والحاج وغيره، لأنه (ص) ضحى في
منى عن نسائه بالبقر رواه الشيخان. وبهذا رد على العبدري قوله إنها لا تسن للحاج بمنى، وأن الذي ينحره
بها هدي لا أضحية فيكره للقادر تركها. و (لا تجب) لما مر (إلا بالتزام) كسائر القرب. فإن قيل: ما فائدة ذكر
هذا بعد قوله هي سنة؟. أجيب بأنه ذكره لدفع توهم أن يراد بالسنة الطريقة التي هي أعم من الواجب والمندوب،
وللتلويح بمخالفة أبي حنيفة حيث أوجبها على مقيم بالبلد مالك لنصاب زكوي، وللتنبيه على أن نية الشراء للأضحية
لا تصير به أضحية، لأن إزالة الملك على سبيل القربة لا تحصل بذلك كما لو اشترى عبدا بنية العتق أو الوقف.
تنبيه: قوله التزام اعترض عليه بأنه إن أراد به مطلق الالتزام ورد عليه ما لو التزمت الأضحية ولا تجب، وما لو
قال: إن اشتريت هذه الشاة فلله على أن أجعلها أضحية كما هو أقيس الوجهين في المجموع تغليبا لحكم التعيين، وقد
أوجبها قبل الملك فيلغو كما لو علق به طلاقا أو عتقا بخلاف ما لو قال: إن اشتريت شاة فلله على أن أجعلها
أضحية ثم اشترى
شاة لزمه أن يجعلها أضحية وفاء بما التزمه في ذمته، هذا إن قصد الشكر على حصول الملك، فإن قصد الامتناع فنذر
لجاج وسيأتي، وإن أراد خصوص الالتزام بالنذر كما هو ظاهر عبارة الروضة، ورد عليه ما لو قال جعلت هذه الشاة
أضحية أو هذه أضحية، فإنه يجب إن علق بشفاء مريض قطعا، وكذا إن أطلق في الأصح مع أنه ليس بنذر، بل ألحقه
الأصحاب بالتحرير والوقف. (ويسن لمريدها) إن لم يكن محرما (أن لا يزيل شعره ولا ظفره في عشر ذي الحجة حتى
يضحي) بل يكره له ذلك، لقوله (ص): إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك
عن شعره وأظفاره رواه مسلم عن أم سلمة. وسواء في ذلك شعر الرأس واللحية والشارب والإبط والعانة وغيرها،
بل سائر أجزاء البدن كالشعر كما حكاه في زيادة الروضة عن إبراهيم المروزي. واستثنى من ذلك ما كانت إزالته واجبة
كختان البالغ وقطع يد السارق والجاني بعد الطلب، وما كانت إزالته مستحبة كختان الصبي، فإن قيل: التضحية
من مال الصبي ممتنعة، إذ لا يجوز لولي المحجور أن يضحي عنه من ماله، لأنه مأمور بالاحتياط لماله ممنوع من التبرع
به، والأضحية تبرع فكيف يصح الاستثناء؟ أجيب بأن التضحية سنة كفاية في حق أهل البيت، فإنه لو ضحى شخص
وأشرك غيره في الثواب جاز. قال الأسنوي: ولقائل أن يمنعه وهو الأوجه، وبقول الأحاديث الواردة بالامر،
وعبارات الأئمة إنما دلت عليه في حق من أراد التضحية، وهذا لم يردها.
تنبيه: قول الزركشي: لو أراد الاحرام في عشر ذي الحجة لم تكره له الإزالة قياسا على ما لو دخل يوم الجمعة،
فإنه يستحب له أخذ شعره وظفره ممنوع في المقيس والمقيس عليه، إذ لا يخلو الشهر من يوم جمعة. أما المحرم فيحرم
283

عليه إزالة الشعر والظفر، وقول المصنف في عشر ذي الحجة، يفهم أنه لو لم يصح يوم النحر لا بأس بالحلق في أيام
التشريق، وإن كان على عزم التضحية في بقيتها وليس مرادا، ولهذا لم يقيد في الروضة وأصلها بعشر ذي الحجة. قال
الزركشي: وفي معنى مريد الأضحية من أراد أن يهدي شيئا من النعم إلى البيت بل أولى، وبه صرح ابن سراقة. قال
وقضية قولهم حتى يضحي أنه لو أراد التضحية بأعداد زالت الكراهة بذبح الأول، ويحتمل بقاء النهي إلى آخرها اه‍.
والأوجه زوالها بالأول، والأفضل أن لا يفعل شيئا من ذلك إلى آخرها، ولو أخر الناذر التضحية بمعين إلى انقضاء أيام
التشريق، قال البلقيني: فالأرجح بقاء الكراهة لأن عليه أن يذبحها قضاء. (و) يسن (أن يذبحها) أي الأضحية الرجل
(بنفسه) إن أحسن الذبح للاتباع، رواه الشيخان، وأن يكون ذلك في بيته بمشهد من أهله ليفرحوا بالذبح ويتمتعوا
باللحم، وفي يوم النحر، وإن تعددت الأضحية مسارعة للخيرات. أما المرأة، فالسنة لها أن توكل كما في المجموع،
والخنثى مثلها، قال الأذرعي: والظاهر استحباب التوكيل لكل من ضعف عن الذبح من الرجال لمرض أو غيره
وإن أمكنه الاتيان، ويتأكد استحبابه للأعمى وكل من تكره ذكاته (وإلا) أي وإن لم يذبح الأضحية بنفسه لعذر أو
غيره (فليشهدها) لما روى الحاكم، وقال صحيح الاسناد أنه (ص) قال ل فاطمة رضي الله تعالى عنها:
قومي إلى أضحيتك فاشهديها، فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنوبك. قال عمران بن حصين: هذا لك
ولأهل بيتك فأهل ذلك أنتم أم للمسلمين عامة؟
قال بل للمسلمين عامة. تنبيه: أفهم كلامه جواز الاستنابة، وبه صرح غيره، لأن النبي (ص) ساق مائة بدنة فنحر منها بيده
ثلاثا وستين، ثم أعطى عليا رضي الله عنه المدية فنحر ما غير - أي بقي -. والأفضل أن يستنيب مسلما فقيها بباب الأضحية،
ويكره استنابة كتابي وصبي وأعمى. قال الروياني: واستنابة الحائض خلاف الأولى، ومثلها النفساء، ويسن للإمام أن
يضحي من بيت المال عن المسلمين بدنة في المصلى، وأن ينحرها بنفسه، رواه البخاري وإن لم يتيسر بدنة فشاة للاتباع
رواه الماوردي وغيره، وإن ضحى عنهم من ماله ضحى حيث شاء. (ولا تصح) أي الأضحية. قال الشارح: من حيث
التضحية بها، أي لا من حيث حل ذبحها وأكل لحمها ونحو ذلك (إلا من) نعم (إبل وبقر وغنم) بسائر أنواعها بالاجماع،
وقال تعالى * (ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) * ولم ينقل عنه (ص)
ولا عن أصحابه التضحية بغيرها، ولان التضحية عبادة تتعلق بالحيوان فتختص بالنعم كالزكاة، فلا يجزئ غير النعم
من بقر الوحش وغيره والظباء وغيرها.
تنبيه: المتولد بين جنسين من النعم يجزئ هنا، وفي العقيقة والهدي وجزاء الصيد، لأنه ينبغي اعتبار أعلى الأبوين
سنا في الأضحية ونحوها حتى يعتبر في المتولد بين الضأن والمعز بلوغه سنتين ويطعن في الثالثة، وهو مراد شيخنا في شرح
الروض بقوله: بلوغه ثلاث سنين إلحاقا له بأعلى السنين به. ثم شرع في قدر سن ذلك، فقال (وشرط إبل أن يطعن
في السنة السادسة، وبقر ومعز في) السنة (الثالثة وضأن في) السنة (الثانية) بالاجماع كما نقله في المجموع.
تنبيه: ما ذكر في الضأن يفهم أنه لو أجذع قبل تمام السنة: أي سقطت أسنانه لا يجزئ وليس مرادا، والمنقول
في الرافعي عن العبادي والبغوي: الاجزاء، ولعموم خبر أحمد وغيره: ضحوا بالجذع من الضأن فإنه جائز
أي ويكون ذلك كالبلوغ بالسن أو الاحتلام، فإنه يكفي أسبقهما كما صرح به في أصل الروضة (ويجوز ذكر وأنثى) أي
التضحية بكل منهما بالاجماع، وإن كثر نزوان الذكر وولادة الأنثى. نعم التضحية بالذكر أفضل على الأصح
المنصوص
لأن لحمه أطيب، كذا قال الرافعي. ونقل في المجموع في باب الهدي عن الشافعي: أن الأنثى أحسن من الذكر لأنها أرطب
لحما ولم يحك غير، ويمكن حمل الأول على ما إذا لم يكثر نزوانه، والثاني ما على إذا كثر.
284

تنبيه: لم يتعرض كثير من الفقهاء لاجزاء الخنثى في الأضحية، وقال المصنف: إنه يجزئ لأنه ذكر أو أنثى،
وكلاهما يجزئ وليس فيه ما ينقص اللحم، والقياس على ما قاله الرافعي: تفضيل الذكر عليه لاحتمال الأنوثة، وتفضيله
على الأنثى لاحتمال الذكورة. (و) يجوز (خصي) لأنه (ص) ضحى بكبشين مأجوين أي خصيين
رواه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما، والخصي ما قطع خصيتاه، أي جلدتا البيضتين مثنى خصية، وهو من النوادر،
والخصيتان البيضتان، وجبر ما قطع منه زيادة لحمه طيبا وكثرة. نعم الفحل أفضل منه إن لم يحصل منه ضراب (والبعير
والبقرة) يجزئ كل منهما عن سبعة لما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله (ص)
مهلين بالحج فأمرنا أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بدنة وفي رواية له: نحرنا مع رسول الله
(ص) بالحديبية البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة وظاهره أنهم لم يكونوا من أهل بيت واحد.
وسواء اتفقوا في نوع القربة أم اختلفوا كما إذا قصد بعضهم التضحية وبعضهم الهدى، وكذا لو أراد بعضهم اللحم
وبعضهم الأضحية ولهم قسمة اللحم لأن قسمته قسمة إفراز على الأصح كما في المجموع.
تنبيه: لا يختص إجزاء البعير والبقرة عن سبعة بالتضحية، بل لو لزمت شخصا سبع شياه بأسباب مختلفة كالتمتع
والقران والفوات ومباشرة محظورات الاحرام جاز عن ذلك بعير أو بقرة. وإنما استثنوا من ذلك جزاء الصيد، فلا
تجزئ البقرة أو البعير عن سبعة ظباء لأنه إتلاف فروعي فيه الصورة. (والشاة) المعينة تجزئ (عن واحد) فإن ذبحها
عنه وعن أهله أو عنه وأشرك غيره في ثوابها جاز. وعليهما حمل خبر مسلم: أنه (ص) ضحى بكبشين،
وقال: اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد وهي في الأولى سنة كفاية كما مرت الإشارة إليه تتأتى بواحد
من أهل البيت كالابتداء بالسلام، وتشميت العاطس. قال في المجموع: ومما يستدل به لذلك الخبر الصحيح في الموطأ:
أن أبا أيوب الأنصاري قال: كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن أهل بيته، ثم تباهى الناس بعد فصارت
مباهاة. ولكن الثواب فيما ذكر للمضحي خاصة لأنه الفاعل كما في القائم بفرض الكفاية.
تنبيه: قد يوهم كلام المصنف لولا ما قدرته الاشتراك في شاتين مشاعتين بينهما، والأصح المنع، ولذا يقال:
لو اشترك أكثر من سبعة في بقرتين مشاعتين أو بعيرين كذلك لم يجز عنهم ذلك، لأن كل واحد لم يخصه سبع بقرة
أو بعير من كل واحد من ذلك، والمتولد بين إبل وغنم أو بقر وغنم يجزئ عن واحد فقط كما هو ظاهر، وإن لم أر من
ذكره. (وأفضلها) أي أنواع الأضحية بالنظر لإقامة شعارها (بعير) أي بدنة لأنه أكثر لحما، والقصد التوسعة على
الفقراء (ثم بقرة) لأن لحم البدنة أكثر من لحم البقرة غالبا، وفي الخبر: من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة
الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة. قال في الدقائق: هذه مزيدة على المحرر.
قال ابن النقيب: وقد رأيتها في المحرر، فلعل نسخه مختلفة. (ثم ضأن ثم معز) لطيب الضأن على المعز وبعد المعز المشاركة
كما سيأتي، فالاعتراض بأنه لا شئ بعد المعز ساقط، أما بالنظر للحم، فلحم الضأن خيرها (وسبع شياه) من ضأن
أو معز (أفضل من بعير) أو بقرة، لأن لحم الغنم أطيب ولكثرة الدم المراق، وقيل البدنة أو البقرة أفضل منهما
لكثرة اللحم. قال الرافعي: وقد يؤدي التعارض في مثل هذا إلى التساوي ولم يذكروه (وشاة أفضل من مشاركة في
بعير) للانفراد بإراقة الدم وطيب اللحم.
تنبيه: قضية إطلاقه أن الشاة أفضل من المشاركة في بعير وإن كانت أكثر من سبع: كما لو شارك واحد خمسة
في بعير، وبه صرح صاحب الوافي تفقها، لكن الشارح قيد ذلك بقوله بقدرها فأفهم أنه إذا زاد على قدرها يكون
أفضل وهو الظاهر، ولو ضحى ببدنة أو بقرة بدل شاة واجبة فالزائد على السبع تطوع فله صرفه مصرف أضحية
285

التطوع من إهداء وتصدق. تنبيه: استكثار القيمة في الأضحية بنوع أفضل من استكثار العدد منه بخلاف العتق، فلو كان معه دينار
ووجد به شاة سمينة وشاتين دونها فالشاة أفضل، ولو كان معه مائة دينار وأراد عتق ما يشتري بها فعبدان خسيسان
أفضل من عبد نفيس، لأن المقصود هنا اللحم، ولحم السمين أكثر وأطيب، والمقصود في العتق التخليص من
الرق. وتخليص عدد أولى من تخليص واحد، وكثرة اللحم خير من كثرة الشحم إلا أن يكون لحما رديئا، وأجمعوا
على استحباب السمين في الأضحية، واستحبوا تسمينها فالسمينة أفضل من غيرها. ثم ما تقدم من الأفضلية في الذوات.
وأما في الألوان، فالأبيض أفضل، ثم الصفراء ثم العفراء، وهي التي لا يصفو بياضها، ثم الحمراء ثم البلقاء ثم السوداء،
قيل للتعبد، وقيل لحسن المنظر، وقيل لطيب اللحم. وروى أحمد والحاكم خبر: لدم عفراء أحب إلى الله من دم
سوداوين. (وشرطها) أي الأضحية المجزئة (سلامة من) كل (عيب) بها (ينقص) بفتح أوله وضم ثالثه
بخطه (لحما) أو غيره مما يؤكل، فإن مقطوع الاذن أو الالية لا يجزئ كما سيأتي مع أن ذلك ليس بلحم، فلو قال
ما ينقص مأكولا لكان أولى، ولا فرق في النقص بين أن يكون في الحال كقطع بعض أذن أو في المآل كعرج بين
كما سيأتي، لأن المقصود من الأضحية اللحم أو نحوه، فاعتبر ما ينقصه كما اعتبر في عيب المبيع ما ينقص المالية لأنه المقصود
فيه. وهذا الشرط معتبر في وقوعها على وجه الأضحية المشروعة، فلو نذر التضحية بمعيبة أو صغيرة أو قال
: جعلتها
أضحية وجب ذبحها فدية، ويفرق لحمها صدقة ولا تجزئ عن الأضحية، وتختص بوقت النحر وتجري مجرى
الأضحية في الصرف.
تنبيه: أفهم كلامه عدم إجزاء التضحية بالحامل، لأن الحمل يهزلها وهو الأصح كما نقله المصنف في مجموعه
عن الأصحاب. قال الأذرعي: وبه جزم الشيخ أبو حامد وأتباعه وغيرهم. وفي بيوع الروضة وصداقها ما يوافقه.
وقول ابن الرفعة المشهور: أنها تجزئ لأن ما حصل بها من نقص اللحم ينجبر بالجنين، فهو كالخصي مردود بأن
الجنين قد لا يبلغ حد الاكل كالمضغة، ولان زيادة اللحم لا تجبر عيبا بدليل العرجاء السمينة، ويلحق بها
قريبة العهد بالولادة لنقص لحمها والمرضع، نبه عليه الزركشي. ثم فرع على شرط سلامتها من العيب
قوله: (فلا تجزئ عجفاء) أي ذاهبة المخ من شدة هزالها، والمخ دهن العظام، لما روى الترمذي وصححه
أربع لا تجزئ في الأضاحي: العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين عرجها، والعجفاء
التي لا تنقي مأخوذة من النقي - بكسر النون وإسكان القاف - وهو المخ، أي لا مخ لها (و) لا (مجنونة) وهي التي
تدور في المرعى ولا ترعى إلا قليلا فتهزل، وتسمى أيضا التولاء، بل هو أولى بها (و) لا (مقطوعة بعض أذن)
وإن كان يسيرا لذهاب جزء مأكول. وقال أبو حنيفة: إن كان المقطوع دون الثلث أجزأ. وأفهم كلام المصنف منع
كل الاذن بطريق الأولى ومنع المخلوقة بلا أذن وهو ما اقتصر عليه الرافعي بخلاف فاقدة الضرع أو الالية أو الذنب
خلقة فإنه لا يضر. والفرق أن الاذن عضو لازم غالبا بخلاف ما ذكر، أما في الأولين فكما يجزئ ذكر المعز، وأما
في الثالث فقياسا على ذلك، وإن قيل هي أولى بعدم الاجزاء من المخلوقة بلا أذن. أما إذا فقد ذلك بقطع ولو لبعض
منه، أو بقطع بعض لسان فإنه يضر لحدوث ما يؤثر في نقص اللحم. وبحث بعض المتأخرين أن شلل الاذن كفقدها
وهو ظاهر إن خرج عن كونه مأكولا، ولا يضر قطع فلقة يسيرة من عضو كبير كفخذ، لأن ذلك لا يظهر بخلاف
الكبيرة بالإضافة إلى العضو فلا تجزئ لنقصان اللحم (و) لا (ذات عرج) بين لو حدث تحت السكين (و)
لا ذات (عور) بين وإن بقيت الحدقة (و) لا ذات (مرض) بين (و) لا ذات (جرب) وقوله (بين) راجع
للأربع كما تقرر للحديث المار. فإن قيل: لا حاجة لتقييد العور بالبين لأن المدار في عدم إجزاء العوراء على فاقدة
البصر من إحدى العينين. أجيب بأن الشافعي قال: أصل العور بياض يغطي الناظر، وإذا كان كذلك فتارة يكون
286

يسيرا فلا يضر فلا بد من تقييده بالبين كما في الحديث. ولذا قال المصنف (لا يضر يسيرها) أي يسير الأربع لعدم
تأثيره في اللحم.
تنبيه: قد علم من كلامه عدم إجزاء العمياء بطريق الأولى، وتجزئ العمشاء وهي ضعيفة البصر مع سيلان
الدمع غالبا والمكوية لأن ذلك لا يؤثر في اللحم والعشواء وهي التي لا تبصر ليلا لأنها تبصر وقت الرعي غالبا.
(ولا) يضر (فقد قرن) خلقه وتسمى الجلحاء ولا كسره ما لم يعب اللحم، وإن دمى بالكسر لأن القرن لا يتعلق به
كبير غرض، فإن عيب اللحم ضر كالجرب وغيره، وذات القرن أولى لخبر: خير الضحية الكبش الأقرن رواه
الحاكم وصحح إسناده ولأنها أحسن منظرا بل يكره غيرها كما نقله في المجموع عن الأصحاب، ولا يضر ذهاب
بعض الأسنان لأنه لا يؤثر في الاعتلاف ونقص اللحم، فلو ذهب الكل ضر لأنه يؤثر في ذلك. وقضية هذا التعليل أن
ذهاب البعض إذا أثر يكون كذلك وهذا هو الظاهر، ويدل لذلك قول البغوي: ويجزئ مكسور سن أو سنين
ذكره الأذرعي وصوبه الزركشي (وكذا) لا يضر (شق أذن و) لا (خرقها و) لا (ثقبها في الأصح) بشرط أن لا يسقط
من الاذن شئ بذلك كما علم مما مر لأنه لا ينقص بذلك من لحمها شئ والنهي الوارد عن التضحية بالشرقاء - وهي
مشقوقة الأذن - محمول على كراهة التنزيه أو على ما أبين منه شئ بالشرق، والثاني يضر لظاهر النهي المذكور.
تنبيه: الجمع بين الخرق الثقب تبع فيه المحرر. قال ابن شهبة: ولا وجه له. قال الرافعي: فسر الخرق بالثقب.
(قلت: الصحيح المنصوص) وقال الرافعي: أنه قضية ما أورده المعظم صريحا ودلالة. ونقلوه عن نصه في الجديد (يضر
يسير الجرب والله أعلم) لأنه يفسد اللحم والودك. والثاني لا يضر كالمرض. وفي معنى الجرب البثور والقروح
(ويدخل وقتها) أي التضحية (إذا ارتفعت الشمس كرمح يوم النحر) وهو العاشر من ذي الحجة (ثم مضى قدر ركعتين)
خفيفتين (وخطبتين خفيفتين) فإن ذبح قبل ذلك لم تقع أضحية لخبر الصحيحين: أول ما تبدأ به في يومنا هذا نصلي
ثم نرجع فتنحر، من فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شئ.
ويستثنى من ذلك ما لو وقفوا بعرفة في الثامن غلطا وذبحوا في التاسع ثم بان ذلك أجزأهم تبعا للحج، ذكره في المجموع
عن الدارمي. وهذا إنما يأتي على رأي مرجوح وهو أن الحج يجزئ والأصح أنه لا يجزئ. فكذا الأضحية.
تنبيه: قوله خفيفتين يقتضي اعتبار الخفة في الخطبتين خاصة وهو وجه ضعيف، والأصح اعتبارها في الركعتين
أيضا كما قدرته في كلامه فلو قال خفيفات لسلم من هذا ووقع في مناسك المصنف معتدلين بدل خفيفتين، واستغرب.
(ويبقى) وقت التضحية (حتى تغرب) الشمس (آخر) أيام (التشريق) وهي ثلاثة عند الشافعي رحمه الله بعد العاشر
لقوله (ص): عرفة كلها موقف وأيام التشريق كلها منحر رواه البيهقي وصححه ابن حبان، وفي رواية
لابن حبان: في كل أيام التشريق ذبح، وقال الأئمة الثلاثة: يومان بعده.
تنبيه: لو وقفوا العاشر غلطا حسب أيام التشريق على الحقيقة لا على حساب وقوفهم، ويكره الذبح والتضحية
ليلا للنهي عنه، قيل المعنى فيه خوف الخطأ في المذبح، وقيل إن الفقراء لا يحضرون للأضحية بالليل
حضورهم بالنهار.
(قلت: ارتفاع الشمس فضيلة) في وقت التضحية (والشرط طلوعها، ثم مضي قدر الركعتين والخطبتين، والله أعلم)
هذا مبني على صلاة العيد كما قاله الرافعي لمن قال يدخل بالطلوع. قال هنا: يعتبر قدر الركعتين والخطبتين عقبه، ومن
287

قال بالارتفاع يعتبرهما بعد ذلك، والمحرر جزم هناك بالطلوع وهنا بالارتفاع، فلهذا استدرك المصنف عليه، ونازع
البلقيني في قول المصنف إن ارتفاع الشمس فضيلة، وقال: تعجيل النحر مطلوب فلا يؤخر (ومن نذر) أضحية (معينة
فقال: لله على أن أضحي بهذه) البقرة مثلا، أو جعلتها أضحية، أو هذه أضحية، أو على أن أضحي بها، ولو لم يقل
لله تعالى زال ملكه عنها و (لزمه ذبحها في هذا الوقت) السابق بيانه وهو أول وقت يلقاه بعد النذر، لأنه جعلها بهذا
اللفظ أضحية فتعين ذبحها وقت الأضحية، ولا يجوز تأخيرها للعام القابل كما هو مقتضى كلامهم، فإن قيل: قد قالوا
لو قال لله علي أن أعتق هذا العبد لم يزل ملكه عنه فهل كان هنا كذلك؟ أجيب بأن الملك فيه لا ينتقل بل ينفك عن الملك
بالكلية بخلافها، فإن الملك ينتقل فيها إلى المساكين، ولهذا لو أتلفها ضمنها كما سيأتي، ولو أتلف العبد لم يضمنه،
وإن كان لا يجوز بيعه، لأن العبد هو المستحق لذلك فلا يضمن لغيره بخلاف الأضحية، فإن مستحقيها باقون.
تنبيه: أشار بقوله: فقال إلى أنه لو نوى جعل هذه الشاة أو البدنة أضحية ولم يتلفظ بذلك لم تصر أضحية، وهو
الصحيح، ومعلوم أن إشارة الأخرس المفهمة كنطق الناطق كما قاله الأذرعي وغيره، وقضية التقييد بالمعينة أنه لو قال:
لله علي أن أضحي بشاة يكون بخلافه، لكن الأصح التأقيت أيضا، فيلزمه ذبحها في الوقت المذكور كما سيأتي. وقوله:
في هذا الوقت: أي لتقع أداء، وإلا فلو أخرها عن هذا الوقت لزمه ذبحها بعده ويكون قضاء كما حكاه الروياني عن الأصحاب.
ثم شرع في بعض أحكام الأضحية، وأحكامها خمسة أنواع: الأول حكم التلف والاتلاف، وقد شرع في القسم الأول منهما
بقوله: (فإن تلفت) أي الأضحية المنذورة المعينة (قبله) أي الوقت، أو فيه قبل التمكن من ذبحها ولم يقصر (فلا شئ
عليه) لعدم تقصيره، وهي في يده أمانة فلا يجوز له بيعها، فإن تعدى وباعها استردها إن كانت باقية ورد ثمنها، وإن تلفت
في يد المشتري استرد أكثر قيمتها من وقت القبض إلى وقت التلف كالغاصب، والبائع طريق في الضمان، والقرار على
المشتري، ويشتري البائع بتلك القيمة مثل التالفة جنسا ونوعا وسنا، فإن نقصت القيمة عن تحصيل مثلها وفي القيمة من
ماله، فإن اشترى المثل بالقيمة أو في ذمته مع نيته عند الشراء أنه أضحية صار المثل أضحية بنفس الشراء، وإن اشترى
في الذمة ولم ينو أنه أضحية فيجعله أضحية، ولا تجوز إجارتها أيضا لأنها بيع للمنافع، فإن أجرها وسلمها للمستأجر
وتلفت عنده بركوب أو غيرها ضمنها المؤجر بقيمتها وعلى المستأجر أجرة المثل. نعم إن علم الحال فالقياس أن يضمن
كل منهما الأجرة والقيمة والقرار على المستأجر، ذكره الأسنوي. وتصرف الأجرة مصرف الأضحية كالقيمة فيفعل بها
ما يفعل بها وتقدم بيانه. وأما إعارتها فجائزة لأنها الارتفاق، كما يجوز له الارتفاق بها للحاجة برفق، فإن تلفت في يد
المستعير لم يضمن ولو فيما تلف بغير الاستعمال، لأن يد معيره يد أمانة، فكذا هو كما ذكره الرافعي وغيره في المستعير من
المستأجر ومن الموصى له بالمنفعة. قال ابن العماد: وصورة المسألة أن تتلف قبل وقت الذبح، فإن دخل وقته وتمكن
من ذبحها وتلفت ضمن لتقصيره: أي كما يضمن معيره لذلك. ثم شرع في القسم الثاني بقوله (وإن أتلفها) أجنبي ضمنها
بالقيمة كسائر المتقومات فيأخذها منه الناذر ويشتري بها مثلها، فإن لم يجد بها مثلها اشترى دونها بخلاف العبد المنذور
عتقه إذا أتلفه أجنبي فإن الناذر يأخذ قيمته لنفسه، ولا يلزمه أن يشتري بها عبدا يعتقه لما مر أن ملكه لم يزل عنه
ومستحق العتق هو العبد وقد هلك ومستحقو الأضحية باقون، فإذا كانت المتلفة ثنية من الضأن مثلا تنقصت القيمة
من ثمنها أخذ عنها جذعة من الضأن، ثم ثنية معز، ثم دون من الأضحية، ثم سهم من الأضحية، ثم لحم، فظاهر كلامهم
أنه لا يتعين لحم جنس المنذورة، ثم يتصدق بالدراهم للضرورة، وإن أتلفها الناذر أو قصر (لزمه أن يشتري بقيمتها
مثلها) جنسا ونوعا وسنا (ويذبحها) أي وقت التضحية المذكور لتعديه.
تنبيه: قضية كلامه أنه يلزمه قيمتها فقط حتى أنه لو لم يجد مثلها إلا بأكثر من قيمتها لم يلزمه شراؤه كالأجنبي
وهو وجه. والأصح يلزمه الأكثر من قيمتها يوم الاتلاف ومن قيمة مثلها يوم النحر، كما لو باعها وتلفت عند المشتري
288

ولأنه التزم الذبح وتفرقة اللحم وقد فوتهما، وبهذا فارق إتلاف الأجنبي، فإن زادت القيمة على ثمن مثل المتلفة
لرخص حدث اشترى كريمة، أو مثل المتلفة وأخذ بالزائد أخرى إن وفى بها، وإن لم يوف بها ترتب الحكم كما سبق
فيهما إذا أتلفها أجنبي ولم تف القيمة بما يصلح للأضحية. واستحب الشافعي والأصحاب أن يتصدق بالزائد الذي لا يفي
بأخرى، وأن لا يشتري به شيئا ويأكله، وفي معناه بدل الزائد الذي يذبحه، وإنما لم يجب التصدق بذلك كالأصل،
لأنه مع أنه ملكه قد أتى ببدل الواجب كاملا، وإن ذبحها الناذر قبل الوقت لزمه التصدق بجميع الحم، ولزمه أيضا
أن يذبح في وقتها مثلها بدلا عنها، وإن باعها فذبحها المشتري قبل الوقت أخذ البائع منه اللحم وتصدق به وأخذ منه
الأرش وضم إليه البائع ما يشتري به البدل، ولو ذبحها أجنبي قبل الوقت لزمه الأرش، وهل يعود اللحم ملكا أو يصرف
مصارف الضحايا؟. وجهان: فإن قلنا بالأول اشترى الناذر به وبالأرش الذي يعود ملكا أضحية وذبحها في الوقت،
وإن قلنا بالثاني، وهو كما قال شيخنا الظاهر فرقه واشترى بالأرش أضحية إن أمكن، وإلا فكما مر. ثم شرع فيما إذا
كانت الأضحية المنذورة في الذمة بقوله: (وإن نذر في ذمته) ما يضحي به كأن قال: لله علي أضحية (ثم عين) المنذور
كعينت هذا البعير لنذري (لزمه ذبحه) أي ما عينه (فيه) أي الوقت المذكور، لأنه التزم أضحية في الذمة، وهي
مؤقتة، وقيل لا تتأقت لثبوتها في الذمة كدم الجبرانات (فإن تلفت) أي المعينة عن النذر (قبله) أي الوقت أو فيه (بقي
الأصل عليه في الأصح) لأن ما التزمه ثبت في الذمة، والمعين وإن زال ملكه عنه فهو مضمون عليه. والثاني لا يجب
الابدال، لأنها تعينت بالتعيين. النوع الثاني حكم التعييب، فإذا حدث في المنذورة المعينة ابتداء عيب يمنع ابتداء التضحية
ولم يكن بتقصير من الناذر، فإن كان قبل التمكن من ذبحها أجزأه ذبحها في وقتها ولا يلزمه شئ بسبب التعييب، فإن
ذبحها قبل الوقت تصدق باللحم ولا يأكل منه شيئا، لأنه فوت ما التزمه بتقصيره وتصدق بقيمتها دراهم أيضا، ولا
يلزمه أن يشتري بها أضحية أخرى، إذ مثل المعيبة لا يجزئ أضحية، وإن كان العيب بعد التمكن من ذبحها لم تجزه
لتقصيره بتأخير ذبحها، ويجب عليه أن يذبحها ويتصدق بلحمها لأنه التزم ذلك إلى هذه الجهة، وأن يذبح بدلها سليمة،
ولو ذبح المنذورة في وقتها ولم يفرق لحمها حتى فسد لزمه شراء بدل اللحم بناء على أنه مثلي وهو الأصح، ولا يلزمه
شراء أخرى لحصول إراقة الدم ولكن له ذلك. وقيل يلزمه قيمته. وجرى عليه ابن المقرى تبعا لاصله، هذا بناء
على أنه متقوم. وأما المعينة عما في الذمة لو حدث بها عيب ولو حالة الذبح بطل تعيينها وله التصرف فيها، ويبقي عليه الأصل
في ذمته. النوع الثالث حكم ضلال المنذورة فلا يضمنها إن ضلت بغير تقصير منه، فإن وجدها بعد فوات الوقت ذبحها
في الحال قضاء وصرفها مصرف الأضحية، ولا يجوز له تأخيرها وعليه طلبها إلا إن كان بمؤنة، وإن قصر حتى ضلت
لزمه طلبها ولو بمؤنة. قالا: ومن التقصير تأخير الذبح إلى آخر أيام التشريق بلا عذر، وخروج بعضها ليس بتقصير
كمن مات في أثناء وقت الصلاة الموسع لا يأثم. قال الأسنوي: وهذا ذهول عما ذكره الرافعي فيها قبل: من أنه إن تمكن
من الذبح ولم يذبح حتى تلفت أو تعيبت فإنه يضمنها وذكر البلقيني نحوه وقال: ما رجحه النووي ليس بمعتمد.
قال شيخنا:
ويفرق بينه وبين عدم إثم من مات وقت الصلاة بأن الصلاة محض حق الله تعالى بخلاف الأضحية اه‍. وما فرق به بين
الضلال والاتلاف فإنها في الضلال باقية بحالها بخلافها فيما مضى لا تجزئ، والأوجه التسوية بين الضلال وبين ما تقدم. ولو عين
شاة عما في ذمته، ثم ذبح غيرها مع وجودها ففي إجزائها خلاف، ويؤخذ مما مر من أنه يزول ملكه عنها عدم الاجزاء ولو ضلت
هذه المعينة عما في الذمة فذبح غيرها أجزأته. فإن وجدها لم يلزمه ذبحها، بل يتملكها كما صرح به الرافعي في الشرح الصغير. (وتشترط
النية) للتضحية (عند الذبح) للأضحية (إن لم يسبق تعيين) أما اشتراط النية فلأنها عبادة والأعمال بالنيات. وأما اشتراطها
عند الذبح فلان الأصل اقتران النية بأول الفعل، وهذا وجه. والأصح في الشرح والروضة والمجموع جواز تقديم النية في غير
289

المعينة كما في تقديم النية على تفرقة الزكاة، لكن يشترط صدور النية بعد تعيين المذبوح، فإن كان قبله لم يجز كما في
نظيره من الزكاة حيث تعتبر النية بعد إفراز المال وقبل الدفع. قال في المهمات: وهل يشترط لذلك دخول وقت
الأضحية أو لا فرق؟ فيه نظر اه‍. والأوجه الأول (وكذا إن) عين كأن (قال: جعلتها) أي الشاة مثلا (أضحية) يشترط
النية عند ذبحها (في الأصح) ولا يكفي تعيينها لأنها قربة في نفسها فوجبت النية فيها، والثاني قال يكفي تعيينها.
تنبيه: ما رجحه من اشتراط النية عند الذبح في هذه الصورة مبني على ما جزم به من اشتراط النية عند الذبح إن
لم يسبق تعيين، وقد تقدم أنه وجه، والأصح خلافه. قال الأذرعي: ولا شك في جواز تقديم النية في المعينة إذا جوزنا
التقديم في غيرها وهو الأصح.
تنبيه: لا يشكل على عدم الاكتفاء بما سبق من التعيين ما قالوه من أنه لو ذبح الأضحية المعينة أو الهدي المعين
فضولي في الوقت وأخذ منه المالك اللحم وفرقه على مستحقيه وقع الموقع لأنه مستحق الصرف إليه، فلا يشترط فعله
كرد الوديعة، ولان ذبحها لا يفترق إلى النية، فإذا فعله غيره أجزأ كإزالة الخبث، لأن الكلام هناك في التعيين بالنذر
، وهنا في التعيين بالجعل، وهي صيغة منحطة عن صيغة النذر. (وإن وكل بالذبح نوى عند إعطاء الوكيل) ما يضحى به
(أو) عند (ذبحه) لأنه قائم مقامه فصار كالوكيل في تفرقة الزكاة. قال الزركشي: ويستثنى ما لو وكل كافرا في الذبح
فلا تكفيه النية عند الذبح في الظاهر اه‍. والظاهر الاكتفاء بذلك.
تنبيه: ما ذكره المصنف صريح في جواز تقديم النية على الذبح، وقد صحح خلافه فيما مضى، وقد مر ما فيه،
وقد يوهم أيضا عدم جواز النية من الوكيل وهو ظاهر إذا كان الوكيل كتابيا أو غير مميز. أما إذا وكل مسلما مميزا وفوض
إليه النية فإنه يكفي لصحتها منه. النوع الرابع حكم الاكل من الأضحية، وقد شرع فيه بقوله: (وله) أي
للمضحى
(الاكل من أضحية تطوع) ضحى بها عن نفسه، بل يستحب قياسا على هدي التطوع الثابت بقوله تعالى * (فكلوا منها
وأطعموا البائس الفقير) * أي الشديد الفقر، وفي البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم كان يأكل من كبد أضحيته وإنما لم يجب
الاكل منها كما قيل به لظاهر الآية لقوله تعالى * (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) * فجعلها لنا، وما جعل للانسان فهو
مخير بين تركه وأكله قاله في المهذب، وخرج بذلك من ضحى عن غيره كميت بشرطه الآتي فليس له ولا لغيره من
الأغنياء الاكل منها، وبه صرح القفال وعلله بأن الأضحية وقعت عنه، فلا يحل الاكل منها إلا بإذنه، وقد تعذر فيجب
التصدق بها عنه، والأضحية الواجبة لا يجوز له الاكل منها، فإن أكل منها شيئا غرم بدله (و) به (إطعام الأغنياء)
المسلمين كما في البويطي، لقوله تعالى: * (وأطعموا القانع والمعتر) *. قال مالك: أحسن ما سمعت أن القانع الفقير، والمعتر
الزائر، والمشهور أن القانع السائل، والمعتر الذي يتعرض للسؤال ويحوم حوله، وقيل القانع الجالس في بيته، والمعتر
الذي يسأل، يقال: قنع يقنع قنوعا - بفتح عين الماضي والمضارع - إذا سأل وقنع يقنع قناعة - بكسر عين الماضي وفتح عين
المضارع - إذا رضي بما رزقه الله. قال الشاعر:
العبد حر إن قنع والحر عبد إن طمع فاقنع ولا تطمع فما شئ يشين سوى الطمع
(لا تمليكهم) منها شيئا، فلا يجوز بل يرسل إليهم على سبيل الهدية ولا يتصرفوا فيه بالبيع وغيره، واستثنى
البلقيني أضحية الإمام من بيت المال فيملك الأغنياء ما يعطيهم منها، أما الفقراء فيجوز تمليكهم منها ويتصرفون
فيما ملكوه بالبيع وغيره (ويأكل ثلثا) على الجديد، لقوله تعالى * (فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر) * وأما الثلثان،
فقيل يتصدق بهما. وقيل: وصححه في تصحيح التنبيه. ونص عليه البويطي: يهدي للأغنياء ثلثا ويتصدق
على الفقراء بثلث، ولم يرجح في الروضة كأصلها شيئا (وفي قول) قديم يأكل (نصفا) ويتصدق بالنصف الآخر،
290

لقوله تعالى: * (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) * فجعلها على قسمين.
تنبيه: مقصود المصنف على ما دل عليه كلام الروضة: أنه يسن أن لا يزيد في الاكل ونحوه على الثلث على
الجديد ولا على النصف على القديم، وليس المراد أنه يسن له أكل هذا القليل كما عبر به في البيان والروياني في الحلية،
واستثنى البلقيني من أكل الثلث أو النصف تضحية الإمام من بيت المال. (والأصح وجوب التصدق ببعضها) ولو
جزءا يسيرا من لحمها بحيث ينطلق عليه الاسم على الفقراء، ولو واحدا بخلاف سهم الصنف الواحد من الزكاة لا يجوز
صرفه لأقل من ثلاثة لأنه يجوز هنا الاقتصار على جزء يسير لا يمكن صرفه لأكثر من واحد، ويشترط في اللحم أن
يكون نيئا ليتصرف فيه من يأخذه بما شاء من بيع وغيره كما في الكفارات، فلا يكفي جعله طعاما ودعاء الفقراء
إليه،
لأن حقهم في تملكه لا في أكله، ولا تمليكهم له مطبوخا ولا تمليكهم غير اللحم من جلد وكرش وكبد وطحال
ونحوها، ولا الهدية عن التصدق، ولا القدر التافه من اللحم كما اقتضاه كلام الماوردي، ولا كونه قديدا كما قاله
البلقيني، ولو تصدق بقدر الواجب وأكل ولدها كله جاز، ولو أعطى المكاتب جاز كالحر قياسا على الزكاة، وخصه
ابن العماد بغير سيده وإلا فهو كما لو صرفه إليه من زكاته، والثاني لا يجب التصدق، ويكفي في الثواب إراقة الدم بنية
القربة، وعلى الأول لو أكلها غرم ما ينطلق عليه الاسم، وهل يلزمه صرفه إلى شقص أضحية أم يكفي صرفه إلى اللحم
وتفرقته؟ وجهان: في الروضة أصحهما كما في المجموع الثاني، وجرى ابن المقري على الأول، وله على الوجهين تأخير
الذبح وتفرقة اللحم عن الوقت، ولا يجوز له الاكل من ذلك لأنه بدل الواجب (والأفضل) التصدق (بكلها) لأنه
أقر إلى التقوى وأبعد عن حظ النفس (إلا) لقمة أو لقمتين أو (لقما يتبرك بأكلها) عملا بظاهر القرآن، وللاتباع
كما مر وللخروج من خلاف من أوجب الاكل، وإذا أكل البعض وتصدق بالبعض حصل له ثواب التضحية بالكل،
والتصدق بالبعض كما صوبه في الروضة والمجموع.
تنبيه: لا يكره الادخار من لحم الأضحية والهدي، ويندب إذا أراد الادخار أن يكون من ثلث الاكل، وقد
كان الادخار محرما فوق ثلاثة أيام. ثم أبيح بقوله (ص) لما راجعوه فيه: كنت نهيتكم عنه من أجل الدافة
وقد جاء الله بالسعة فادخروا ما بدا لكم رواه مسلم. قال الرافعي: والدافة جماعة كانوا قد دخلوا المدينة قد أفحمتهم
، أي أهلكتهم السنة في البادية، وقيل: الدافة النازلة ولا يجوز نقل الأضحية من بلدها كما في نقل الزكاة، وقول الأسنوي:
قد صححوا في قسم الصدقات جواز نقل المنذورة والأضحية فرد من أفرادها مردود بأن الأضحية تمتد إليها أطماع
الفقراء لأنها مؤقتة بوقت كالزكاة بخلاف النذور والكفارات لا شعور للفقراء بها حتى تمتد أطماعهم إليها. النوع الخامس
الانتفاع بشئ منها، وقد شرع فيه بقوله: (ويتصدق) المضحي في أضحية تطوع (بجلدها أو ينتفع به) كما يجوز له
الانتفاع بها كما مر كأن يجعله دلوا أو نعلا أو خفا لفعل الصحابة والتصدق به أفضل، أما الواجبة فيجب التصدق
بجلدها كما في المجموع.
تنبيه: قصر المصنف الانتفاع على المضحي نفسه فيه إشارة إلى أنه يمتنع عليه إجارته لأنها بيع المنافع كما مر
وبيعه لخبر الحاكم وصححه: من باع جلد أضحيته فلا أضحية له وإعطاؤه أجرة للجزار وهو كذلك، لكن يجوز
له إعارته كما له إعارتها كما مر والقرن مثل الجلد فيما ذكر وله جز صوف عليها إن ترك إلى الذبح ضربها للضرورة
وإلا فيجزئ إن كانت واجبة لانتفاع الحيوان به في دفع الأذى، وانتفاع المساكين به عند الذبح وله الانتفاع به
والتصدق به أفضل من الانتفاع به كما مر في الجلد وكالصوف فيما ذكر الشعر والوبر. (وولد) الأضحية (الواجبة)
المعينة ابتداء من غير نذر أو به، أو عن نذر في ذمته (يذبح) حتما كأمه ويفرق سواء ماتت أم لا وسواء أكانت
حاملة عن التعيين أم حملت بعده وليس هذا من التضحية بالحامل كما توهمه بعضهم لأن الحمل قبل انفصاله لا يسمى
291

ولدا كما ذكره الشيخان في كتاب الوقت (وله) أي المضحي (أكل كله) قياسا على اللبن، وهذا تبع فيه المحرر ونقله
الرافعي عن ترجيح الغزالي وقال في زيادة الروضة إنه الأصح. قال ابن شهبة: وإنما يصح إذا قلنا يجوز الاكل من
الواجبة، وقد مر أن المذهب منع الاكل منها، وقال الغزالي ممن يجوز الاكل من المعينة، فلهذا جوز أكل جميع الولد،
فإذا المجزوم به في الكتاب مفرع على مرجوح اه‍. والأوجه ما في الكتاب، إذ لا يلزم من تحريم الاكل من الأضحية
الواجبة منع أكل ولدها، لأن التصدق إنما يجب بما يقع عليه اسم الأضحية والولد لا يسمى أضحية لنقص سنه وإنما
لزم ذبحه تبعا، ولا يلزم أن يعطى التابع حكم المتبوع من كل وجه، وكما يجوز للموقوف عليه أكل الولد ولا يكون
وقفا كذلك هذا يجوز أكله ولا تجري عليه أحكام الأضحية، وقيل يكفي التصدق من إحداهما، وقيل يجب التصدق
ببعضه وصححه الروياني. أما ولد الأضحية المتطوع بها فيجوز أكله كما علم من ذلك بطريق الأولى، فإن كان الولد
ولد هدي وعجز عن المشي فيحمله على الام أو غيرها ليبلغ الحرم، وقد فعله ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كما رواه مالك
بإسناد صحيح (و) له (شرب فاضل لبنها) عن ولدها مع الكراهة كما قاله الماوردي. ويدل للجواز قوله تعالى
(لكم فيها منافع) قال النخعي: إن احتاج إلى ظهرها ركب، وإن حلب لبنها شرب، وله سقي غيره بلا عوض،
ولو تصدق به كان أفضل كما قاله الشافعي والأصحاب، ولا يجوز بيعه قطعا.
تنبيه: قضية كلامه فرض المسألة في الواجبة، ولذا صورها في المجموع بالمنذورة، ثم استشكله في نكت التنبيه
بأن ملكه قد زال عنها فكيف يشربه بغير إذن مالكه، والمنقول في الكفاية أنه لا فرق بين الواجبة وغيرها، وفرق من
منع أكل ولد الواجبة بينه وبين شرب اللبن بأن بقاء اللبن معها يضرها، وبأن اللبن يستخلف مع الأوقات فما
يتلفه يعود فيسامح به، وبأنه لو جمعه لفسد. (ولا تضحية لرقيق) كله قنا أو مدبرا أو أم ولد، لأنه لا يملك شيئا
(فإن أذن) له (سيده) فيها وضحى وكان غير مكاتب (وقعت له) أي لسيده، لأنه نائب عنه فصار كما لو أذن
له في الصدقة. فإن قيل: كيف تقع عن السيد من غير نية منه ولا من العبد نيابة عنه؟ أجيب بأن خصوص كونها من
العبد بطل وبقي عموم الاذن له في التضحية فوقعت عن السيد، أو أن السيد نوى عن نفسه، أو فوض النية للعبد
فنوى عن السيد (ولا يضحي مكاتب بلا إذن) من سيده، لأنه تبرع، فإن أذن له وقعت التضحية عن المكاتب
كسائر تبرعاته. أما المبعض فيضحي بما ملكه ببعضه الحر، ولا يحتاج إلى إذن السيد، لأنه فيما يملكه كالحر الكامل
(ولا تضحية) أي لا تقع (عن الغير) الحي (بغير إذنه) لأنها عبادة، والأصل أن لا تفعل عن الغير إلا ما خرج
بدليل لا سيما مع عدم الإذن.
تنبيه: استثنى من هذا صور: إحداها تضحية واحد من أهل البيت تحصل بها سنة الكفاية لهم كما مر
وإن لم يصدر من بقيتهم إذن، وفي زيادة الروضة عن العدة: لو أشرك غيره في ثواب أضحيته وذبح عن نفسه جاز.
ثانيها المعينة بالنذر إذا ذبحها أجنبي وقت التضحية فإنها تقع الموقع على المشهور في أصل الروضة، فيفرق صاحبها لحمها
لأنه مستحق الصرف إلى هذه الجهة فلا يشترط فعله كرد الوديعة، ولان ذبحها لا يفتقر إلى نية كما مر، فإذا فعله غيره
أجزأه. ثالثها تضحية الإمام عن المسلمين من بيت المال، أي عند سعته فإنه يجوز كما قاله الماوردي، وقد تقدم الكلام
على ذلك. رابعها تضحية الولي من ماله عن محاجيره كما ذكره البلقيني والأذرعي، وهو ما أشعر به قول الماوردي
والأصحاب، ولا تصح التضحية عن الحمل كما لا يخرج عنه الفطرة، ولا يجوز لولي الطفل والمجنون والمحجور أن
يضحي عنه من ماله فأفهم جوازها عنهم من مال الولي، وحيث امتنعت، فإن كانت الشاة معينة وقعت عن المضحي،
وإلا فلا. (ولا) تضحية (عن ميت إن لم يوص بها) لقوله تعالى * (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) * فإن أوصى بها جاز، ففي
سنن أبي داود والبيهقي والحاكم أن علي بن أبي طالب كان يضحي بكبشين عن نفسه وكبشين عن النبي (ص)
292

وقال: إن رسول الله (ص) أمر أن أضحي عنه، فأما أضحي عنه أبدا لكنه من رواية شريك
القاضي وهو ضعيف. وقدمنا أنه إذا ضحى عن غيره يجب عليه التصدق بجميعها، وقيل تصح التضحية عن الميت
وإن لم يوص بها، لأنها ضرب من الصدقة، وهي تصح عن الميت وتنفعه، وتقدم في الوصايا أن محمد بن إسحاق
السراج النيسابوري أحد أشياخ البخاري ختم عن النبي (ص) أكثر من عشرة آلاف ختمة، وضحى عنه
بمثل ذلك.
فصل في العقيقة: من عق يعق بكسر العين وضمها، وهي في اللغة اسم للشعر الذي على المولود حين ولادته،
وشرعا ما يذبح عند حلق شعره تسمية للشئ باسم سببه، ولان مذبحه يعق، أي يشق ويقطع، ومقتضى كلامهم
والاخبار أنه لا يكره تسميتها عقيقة، لكن روى أبو داود أنه (ص) قال للسائل عنها: لا يحب الله
العقوق فقال الراوي: كأنه كره الاسم، ويوافقه قول ابن أبي الدم: قال أصحابنا يستحب تسميتها نسيكة أو ذبيحة
ويكره تسميتها عقيقة، كما يكره تسمية العشاء عتمة. ويدخل وقتها بانفصال جميع الولد، ولا تحسب قبله بل تكون
شاة لحم، وهي سنة مؤكدة للاخبار الآتية: قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: أفرط في العقيقة رجلان
: الحسن
قال إنها بدعة، والليث قال إنها واجبة، ثم لما نشأ داود بعد الشافعي وافق الليث، والحجة عليهما حديث أبي داود:
من أحب أن ينسك عن ولده فليفعل ولأنها إراقة دم بغير جناية ولا نذر فلم تجب كالأضحية، والمعنى فيه إظهار
البشر بالنعمة ونشر النسب، والأصل في استحبابها أخبار كخبر: الغلام مرتهن بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق
رأسه ويسمى وكخبر: أنه (ص) أمر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق رواهما
الترمذي. وقال في الأول حسن صحيح، وفي الثاني حسن، ومعنى مرتهن بعقيقته قيل لا ينمو نمو مثله حتى يعق عنه.
قال الخطابي: وأجود ما قيل فيه ما ذهب إليه أحمد بن حنبل: أنه إذا لم يعق عنه لم يشفع في والديه يوم القيامة، ونقله
الحليمي عن جماعة متقدمة على أحمد. (يسن) لمن تلزمه نفقة فرعه بتقدير فقره (أن يعق عن) مولود (غلام بشاتين)
متساويتين (و) عن (جارية بشاة) لخبر عائشة رضي الله تعالى عنها أمرنا رسول الله (ص) أن نعق عن الغلام بشاتين، وعن
الجارية بشاة رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وإنما كانت الأنثى على النصف تشبيها
بالدية، لأن الغرض منها استبقاء النفس. ويتأدى أصل السنة عن الغلام بشاة واحدة لما روى أبو داود بإسناد صحيح:
أنه (ص) عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا وكالشاة سبع بدنة أو بقرة، فلو ذبح بدنة أو بقرة عن
سبعة أولاد، أو اشترك جماعة فيها جاز سواء أرادوا كلهم العقيقة أو بعضهم العقيقة وبعضهم اللحم، قاله في المجموع،
وكالأنثى والخنثى كما قاله الأسنوي، وتتعدد العقيقة بتعدد الأولاد كما هو قضية كلام المجموع. فإن قيل: قد عق النبي
(ص) عن الحسن والحسين، وقد قلتم إنها إنما تسن لمن تلزمه نفقة المولود؟. أجيب بأن المراد بعقه (ص)
أنه أمر أباهما بذلك، أو أعطاه ما عق به أو أنهما كانا في نفقة جدهما (ص) لعسر أبويهما.
أما من مال المولود فلا يجوز للولي أن يعق عنه من ذلك، لأن العقيقة تبرع وهو ممنوع منه من مال المولود، فإن فعل
ضمن كما نقله في المجموع عن الأصحاب. قال الأذرعي: وإطلاقهم استحباب العقيقة لمن تلزمه نفقة الولد يفهم أنه
يستحب للام أن تعق عن ولدها من زنا، وفيه بعد لما فيه من زيادة العار، وأنه لو ولدت أمته من زنا أو زوج معسر،
أو مات قبل عقه استحب للسيد أن يعق عنه وليس مرادا.
تنبيه: لو كان الولي عاجزا عن العقيقة حين الولادة ثم أيسر بها قبل تمام السابع استحبت في حقه، وإن
أيسر بها بعد السابع مع بقية مدة النفاس: أن أكثره كما قاله بعض المتأخرين لم يؤمر بها، وفيما إذا أيسر بها بعد
السابع في مدة النفاس تردد للأصحاب، ومقتضى كلام الأنوار ترجيح مخاطبته بها. ولا يفوت على الولي الموسر بها حتى
يبلغ الولد، فإن بلغ سن أن يعق عن نفسه تداركا لما فات، وما قيل أنه صلى الله عليه وسلم عق عن نفسه بعد
293

النبوة قال في المجموع: باطل ويسن أن يعق عمن مات قبل السابع أو بعده، بعد أن تمكن من الذبح. (و) جنسها و (سنها
وسلامتها) من العيب والأفضل منها (والاكل) وقدر المأخوذ منها والادخار (والتصدق) والاهداء منها وتعيينها إذا
عينت وامتناع بيعها (كالأضحية) المسنونة في ذلك لأنها ذبيحة مندوب إليها، فأشبهت الأضحية.
تنبيه: لو ذكر المصنف ما زدته لكان أولى لئلا يتوهم الحصر فيما ذكره، ويستثنى من التشبيه بالأضحية ما ذكره
بقوله (ويسن طبخها) كسائر الولائم لما روى البيهقي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه السنة، وتطبخ بحلوى تفاؤلا
بحلاوة أخلاق المولود. وفي الحديث الصحيح: أنه (ص) كان يحب الحلواء والعسل.
تنبيه: ظاهر كلامهم أنه يسن طبخها ولو كانت منذورة، وهو كذلك كما قاله شيخنا وإن بحث الزركشي أنه
يجب التصدق بلحمها نيئا، لأن الأضحية ضيافة عامة من الله للمؤمنين بخلاف العقيقة، ولهذا إذا أهدي للغني منها شيئا
ملكه بخلافه في الأضحية كما مر، ولا يكره طبخها بحامض، إذ لم يثبت فيه نهي. وحملها مطبوخة مع مرقتها للفقراء
أفضل من دعائهم إليها ولا بأس بنداء قوم إليها، ويستثنى من طبخها رجل الشاة فإنها تعطى للقابلة، لأن فاطمة رضي
الله تعالى عنها فعلت ذلك بأمر النبي (ص) رواه الحاكم، وقال صحيح الاسناد. (ولا يكسر) منها (عظم)
أي يسن ذلك ما أمكن، بل يقطع كل عظم من مفصله تفاؤلا بسلامة أعضاء المولود فإن كسره لم يكره إذ لم يثبت فيه
نهي مقصود بل هو خلاف الأولى.
تنبيه: قول الزركشي: ولو عق عنه بسبع بدنة هل يتعلق استحباب ترك الكسر بعظم السبع أو بعظام جميع
البدنة؟ الأقرب الأول، لأن الواقع عقيقة هو السبع ممنوع، بل الأقرب كما قال شيخنا أنه إن تأتى قسمتها بغير
كسر فاستحباب ترك الكسر يتعلق بالجميع، إذ ما من جزء إلا وللعقيقة فيه حصة. (و) يسن (أن تذبح) العقيقة
(يوم سابع ولادته) أي المولود ويحسب يوم الولادة من السبعة كما في المجموع، فإن ولدت ليلا حسب اليوم الذي
يليه، وأن يقول الذابح بعد التسمية: اللهم منك وإليك عقيقة فلان لخبر ورد فيه رواه البيهقي بإسناد حسن. ويكره
لطخ رأس المولود بدمها لأنه من فعل الجاهلية وإنما لم يحرم للخبر الصحيح كما في المجموع أنه (ص) قال:
مع الغلام عقيقة فأهرقوا عليه دما وأميطوا عنه الأذى بل قال الحسن وقتادة: أنه يستحب ذلك ثم يغسل لهذا الخبر.
ويسن لطخ رأسه بالزعفران والخلوف كما صححه في المجموع (و) يسن أن (يسمى فيه) أي السابع كما في الحديث
المار أول الفصل وبأس بتسميته قبله. وذكر المصنف في أذكاره أن السنة تسميته يوم السابع أو يوم الولادة
واستدل لكل منهما بأخبار صحيحة وحمل البخاري أخبار يوم الولادة على من لم يرد العق، وأخبار يوم السابع على
من أراده. قال ابن حجر شارحه: وهو جمع لطيف لم أره لغيره، ولو مات قبل التسمية استحب تسميته بل يسن
تسمية السقط، فإن لم يعلم أذكر هو أم أنثى سمي اسم يصلح لهما: كخارجة وطلحة وهند. ويسن أن يحسن اسمه لخبر:
إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم وأفضل الأسماء عبد الله وعبد الرحمن لخبر مسلم
: أحب
الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن زاد أبو داود: وأصدقها حارث وهمام، وأقبحها حرب ومرة وتكره
الأسماء القبيحة، كشيطان وظالم وشهاب وحمار وكليب، وما يتطير بنفيه عادة، كنجيح وبركة لخبر: لا تسمين غلامك
أفلح ولا نجيحا ولا يسارا ولا رباحا فإنك إذا قلت أثم هو؟ قال لا ويسن أن تغير الأسماء القبيحة وما يتطير بنفيه لخبر مسلم:
أنه (ص) غير اسم عاصية وقال: أنت جميلة. وفي الصحيحين: أن زينب بنت جحش كان اسمها برة فقيل تزكي نفسها
فسماها النبي (ص) زينب ويكره كراهة شديد: كما في المجموع التسمية بست الناس أو العلماء أو القضاة أو العرب لأنه
كذب ولا تعرف الست إلا في العدد ومراد العوام بذلك سيدة، ولا تجوز التسمية بملك الاملاك وشاهان شاه ومعناه
ملك الاملاك ولا ملك الاملاك إلا الله ونقل الأذرعي عن القاضي أبي الطيب التحريم في قاضي القضاة وأبلغ منه
294

حاكم الحكام، وفي منهاج الحليمي: جاء عن رسول الله (ص) أنه قال: لا تقولوا الطبيب وقولوا الرفيق
فإنما الطبيب الله وإنما سمي الرفيق، لأنه يرفق بالعليل، وأما الطبيب فهو العالم بحقيقة الداء والدواء والقادر على
الصحة والشفاء، وليس بهذه الصفة إلا الله تعالى. ولا تكره التسمية بأسماء الملائكة والأنبياء ويس وطه خلافا لمالك
رحمه الله تعالى ففي تفسير القرطبي عند قوله تعالى * (السلام المؤمن المهيمن) * عن ابن عباس أنه قال إذا كان يوم
القيامة أخرج الله تعالى أهل التوحيد من النار، وأول من يخرج من وافق اسمه اسم نبي حتى إذا لم يبق فيها من
وافق اسمه اسم نبي قال الله تعالى أنتم المسلمون وأنا السلام وأنتم المؤمنون وأنا المؤمن، فيخرجهم من النار ببركة
هذين الاسمين وفي كتاب الخصائص لابن سبع عن ابن عباس أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد ألا ليقم من
اسمه محمد فليدخل الجنة كرامة لنبيه محمد (ص). وفي مسند الحارث بن أبي سلمة أن النبي (ص)
قال: من كان له ثلاثة من الولد ولم يسم أحدهم بمحمد فقد جهل وقال مالك: سمعت أهل المدينة يقولون:
ما من أهل بيت فيهم اسم محمد إلا رزقوا رزق خير، قال ابن رشيد: يحتمل أن يكونوا عرفوا ذلك بالتجربة أو عندهم
في ذلك أثر، والتسمية بعبد النبي قد تجوز إذا قصد به التسمية لا النبي (ص)، ومال الأكثرون إلى
المنع منه خشية التشريك لحقيقة العبودية، واعتقاد حقيقة العبودية: كما أنه لا يجوز التسمي بعبد الكعبة وعبد العزى،
قيل: شهد رجل عند الحارث. فقال له الحارث: ما اسمك؟ قال جبريل. فقال له الحارث: قد ضاقت عليك أسماء بني
آدم حتى تسميت باسم الملائكة. فقال له الرجل: قد ضاقت عليك الأسماء حتى تسميت باسم الشيطان، فإن اسمه
الحارث، ويحرم تلقيب الشخص بما يكره، وإن كان فيه كالأعور والأعمش، ويجوز ذكره بنية التعريف لمن لم
يعرف إلا به، فالألقاب الحسنة لا ينهى عنها، فقد لقب الصديق بعتيق، وعمر بالفاروق، وحمزة بأسد الله، وخالد بسيف
الله، وما زالت الألقاب الحسنة في الجاهلية والاسلام. قال الزمخشري: إلا ما أحدثه الناس في زماننا هذا من التوسع
حتى لقبوا السفلة بالألقاب العلية وهب العذر مبسوط فما أقول في تلقيب من ليس من الدين في قبيل ولا دبير بفلان
الدين هي لعمر الله الغصة التي لا تساغ، ومعنى اللقب اسم ما يدعى الاسم به يشعر بضعة المسمى أو رفعته والمقصود به
الشهرة، فما كان مكروها نهى عنه، ويسن أن يكون أهل الفضل الرجال والنساء، وإن لم يكن لهم ولد، وأما التكني
بأبي القاسم فهو حرام، وقد قدمت الكلام عليه في خطبة هذا الكتاب. ولا يكنى كافر قال في الروضة: ولا فاسق
ولا مبتدع لأن الكنية للتكرمة وليسوا من أهلها. بل أمرنا بالاغلاظ عليهم إلا لخوف فتنة من ذكره باسمه أو
تعريف كما قيل به في قوله تعالى * (تبت يدا أبي لهب) * واسمه عبد العزى ولا بأس بكنية الصغير. ويسن أن يكنى
من له أولاد بأكبر أولاده، ويسن لولد الشخص وتلميذه وغلامه أن لا يسميه باسمه. والأدب أن لا يكني الشخص
نفسه في كتاب أو غيره إلا أن لا يعرف بغيرها أو كانت أشهر من الاسم. (و) يسن في سابع ولادة المولود أن (يحلق
رأسه) كلها لما مر، ويكون ذلك (بعد ذبحها) أي العقيقة كما في الحاج. ولا فرق في ذلك بين كون المولود ذكرا
أم أنثى خلافا لبعضهم في كراهته فيها.
تنبيه: لم يصرح المصنف بكون الحلق يوم السابع. وجزم في أصل الروضة بكونه فيه ولذا قدرته في كلامه،
كان ينبغي له أن يقول فيه كما فعل في التسمية، ولا يكفي حلق بعض الرأس ولا تقصير الشعر، ولو لم يكن برأسه شعر، ففي
استحباب إمرار الموسى عليه احتمالان. (و) أن (يتصدق بزنته) أي الشعر (ذهبا أو فضة) وفي المجموع، فإن لم
يفعل ففضة، وفي الروضة: فإن لم يتيسر ففضة، فهي بيان لدرجة الأفضلية، والأصل في ذلك أنه (ص)
أمر فاطمة فقال: زني شعر الحسين وتصدق بوزنه فضة وأعطى القابلة رجل العقيقة. رواه الحاكم وصححه وقيس
بالفضة الذهب، وبالذكر الأنثى، ولا ريب أن الذهب أفضل من الفضة وإن ثبت بالقياس عليها، والخبر محمول على أنها كانت هي المتيسرة إذ ذاك، فتعبيرهم بما ذكر بيان لدرجة الأفضلية.
295

تنبيه: من لم يفعل بشعره ما ذكر ينبغي كما قال الزركشي أن يفعله وبعد بلوغه إن كان شعر الولادة باقيا
وإلا تصدق بزنته يوم الحلق، فإن لم يعلم احتاط وأخرج الأكثر.
فائدة: قال في الاحياء: لا أدري رخصة في تثقيب أذن الصبية لأجل تعليق حلي الذهب أي أو نحوه فيها، فإن
ذلك جرح مؤلم، ومثله موجب للقصاص، فلا يجوز إلا لحاجة مهمة كالفصد والحجامة والختان والتزين بالحلي غير
مهم، فهذا وإن كان معتادا فهو حرام، والمنع منه واجب، والاستئجار عليه غير صحيح، والأجرة المأخوذة عليه
حرام اه‍. فإن قيل في البخاري: فجعلن يلقين من أقراطهن وخواتمهن في حجر بلال؟ أجيب بأن النبي (ص)
أقر على التعليق لا على التثقيب. وعند الحنابلة إن تثقيب آذان البنات للزينة جائز ويكره للصبيان، وعند الحنفية
لا بأس بتثقيب آذان الصبية، لأنهم كانوا يفعلونه في الجاهلية ولم ينكر النبي (ص). قال الحسن بن إسحاق
بن راهويه: ولد أبي إسحق مثقوب الاذنين فمضى جدي إلى الفضل بن موسى فسأله عن ذلك. فقال: يكون
ابنك
رأسا إما في الخير، وإما في الشر. (و) يسن أن (يؤذن في أذنه) اليمنى ويقام في اليسرى (حين يولد) لخبر ابن السني: من ولد
له مولود فأذن له في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى لم تضره أم الصبيان أي التابعة من الجن وليكون إعلامه بالتوحيد أول
ما يقرع سمعه عند قدومه إلى الدنيا كما يلقن عند خروجه منها، ولما فيه من طرد الشيطان عنه فإنه يدبر عند سماع الاذان
كما ورد في الخبر. وأن يقول في أذنه - أي اليمنى -: إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم. وظاهر كلامهم أنه يقول
ذلك وإن كان الولد ذكر على سبيل التلاوة والتبرك بلفظ الآية بتأويل إرادة النسمة. وفي مسند ابن رزين أنه صلى الله
عليه وسلم قرأ في أذن مولود - أي أذنه اليمنى - سورة اخلاص. (و) أن (يحنك) المولود (بتمر) سواء أكان ذكرا أم أنثى،
وإن خصه البلقيني بالذكر فيمضغ ويدلك به حنكه، ويفتح فاه حتى ينزل إلى جوفه منه شئ، فإن لم يكن تمر فيحنكه
بحلو لأنه صلى الله عليه وسلم أتى بابن أبي طلحة حين ولد وتمرات فلاكهن ثم فغرفاه ثم مجه في فيه فجعل يتلمظ، فقال
صلى الله عليه وسلم: حب الأنصار التمر وسماه عبد الله. رواه مسلم وفي معنى التمر الرطب. قال في المجموع: وينبغي أن يكون
المحنك له من أهل الخير، فإن لم يكن رجل فامرأة صالحة، وأن يهنأ الوالد بأن يقال له: بارك الله لك
في الموهوب لك وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره، وأن يرد هو على المهنئ، فيقول: بارك الله لك وبارك عليك أو أجزل الله
ثوابك أو نحو ذلك.
تتمة: قال ابن سراقة: آكد الدماء المسنونة الهدايا، ثم الضحايا، ثم العقيقة، ثم العتيرة،
ثم الفرع، والعتيرة - بالعين المهملة - ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من رجب، ويسمونها الرجيبة أيضا. والفرع - بفتح الفاء والراء
والعين المهملة - أول نتاج البهيمة كانوا يذبحونه ولا يملكونه رجاء البركة في الام وكثرة نسلها ويكرهان لخبر البخاري:
لا فرع ولا عتيرة.
خاتمة: يسن لكل أحد من الناس أن يدهن غبا - بكسر الغين المعجمة - أي وقتا بعد وقت بحيث يجف
الأول، وأن يكتحل وترا لكل عين ثلاثة وأن يحلق العانة ويقلم الظفر وينتف الإبط، ويجوز حلق الإبط ونتف العانة
ويكون آتيا بأصل السنة. قال المصنف في تهذيبه: والسنة في الرجل حلق العانة، وفي المرأة نتفها والخنثى مثلها كما
بحثه شيخنا. والعانة الشعر النابت حول الفرج والدبر. وكيفية التقليم أن يبدأ بالمسبحة من يده اليمنى لأنها أشرف
إذ يشار بها إلى التوحيد في التشهد، ثم الوسطى لكونها عن يمين المسبحة إذا نزلت الأرض على سمتها مبسوطة
الكف على الأرض، ثم البنصر، ثم الابهام، ثم بخنصر اليسرى، ثم بنصرها، ثم الوسطى، ثم السبابة، ثم الابهام
، ثم يبدأ بخنصر الرجل اليمنى ثم بما بعدها إلى أن يختم بخنصر رجله اليسرى، وأن يقص الشارب حتى يبين حد
الشفة بيانا ظاهرا ولا يحفيه من أصله. قال في المجموع: وما جاء في الحديث من الامر بحف الشوارب محمول على حفها
296

من طرف الشفة ويكره تأخير هذه المذكورات عند الحاجة، وتأخيرها إلى بعد الأربعين أشد كراهة، وأن يغسل
البراجم ولو في غير الوضوء، وهي عقد الأصابع ومفاصلها وذلك للاتباع، وأن يغسل معاطف الاذن وصماخها فيزيل
ما فيه من الوسخ بالمسح، قاله في المجموع، وأن يغسل داخل الانف تيامنا في كل المذكورات، وأن يخضب الشعر
الشائب بالحمرة والصفرة، وهو بالسواد حرام، لقوله (ص): اجتنبوا السواد إلا لمجاهد في الكفار فلا بأس به
وخضاب اليدين والرجلين بالحناء ونحوه للرجل حرام إلا لعذر. أما المرأة فيسن لها مطلقا، والخنثى في ذلك كالرجل
احتياطا، ويسن فرق شعر الرأس وتمشيطه بماء أو دهن أو غيره، وتسريح اللحية لخبر أبي داود بإسناد حسن من كان
له شعر فليكرمه ويكره القزع وهو حلق بعض الرأس مطلقا، وقيل حلق مواضع متفرقة منه، وأما حلق جميع
الرأس فلا بأس به لمن أراد التنظف، ولا يتركه لمن أراد أن يدهنه ويرجله. وأما المرأة فيكره لها حلق رأسها إلا
لضرورة، ويكره نتف اللحية أول طلوعها إيثارا للمرودة، ونتف الشيب واستعجال الشيب بالكبريت أو غيره طلبا
للشيخوخة، ونتف جانبي العنفقة وتشعيثها إظهارا للزهد وتصفيفها طاقة فوق طاقة للتزين والتصنع، والنظر في سوادها
وبياضها إعجابا وافتخارا، والزيادة في العذارين من الصدغ والنقص منهما، ولا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب.
قال الزركشي: هذا يرده ما رواه الإمام أحمد في مسنده: قصوا سبالاتكم ولا تتشبهوا باليهود.
كتاب الأطعمة
جمع طعام: أي بيان ما يحل أكله وشربه منها وما يحرم، إذ معرفة أحكامها من المهمات، لأن في تناول الحرام
الوعيد الشديد، فقد ورد في الخبر: أي لحم نبت من حرام، فالنار أولى به. والأصل فيها قوله تعالى: * (قل لا أجد
فيما أوحي إلي محرما) * الآية، وقوله تعالى * (يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات) *: أي ما تستطيبه النفس
وتشتهيه، ولا يجوز أن يراد الحلال لأنهم سألوه عما يحل لهم، فكيف يقول أحل لكم الحلال.
فائدة: اسم الطيب يقع على أربعة أشياء: الحلال، ومنه: * (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات) * والطاهر، ومنه:
* (فتيمموا صعيدا طيبا) * وما لا أذى فيهم كقولهم: هذا يوم طيب، وما تستطيبه النفس كقولهم: هذا طعام طيب.
(حيوان البحر) وهو ما لا يعيش إلا في الماء وعيشه خارجه كعيش المذبوح، منه ما ليس له رئة كأنواع السمك، ومنه
ما له رئة كالضفدع فإنها تجمع بين الماء والهواء.
فائدة: روى القزويني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي (ص) قال: إن الله خلق في الأرض ألف
أمة ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر. وقال مقاتل بن حيان: لله تعالى ثمانون ألف عالم، أربعون ألفا في البحر،
وأربعون ألفا في البر. (السمك منه) أي ما هو بصورته المشهورة (حلال كيف مات) حنف أنفه أو بسبب
ظاهر كصدمة حجر أو ضربة صياد أو انحسار ماء راسبا كان أو طافيا، لقوله تعالى * (أحل لكم صيد البحر وطعامه)
* أي مصيده ومطعومه، وقال جمهور الصحابة: طعامه ما طفا على وجه الماء، وإلى هذا يشير قوله (ص):
هو الطهور ماؤه الحل ميتته والصحيح في حديث العنبر أنهم وجدوه بشاطئ البحر ميتا فأكلوا منه، وقدموا منه
إلى النبي (ص) فأكل منه، نعم إن انتفخ الطافي بحيث يخشى منه السقم يحرم للضرورة، قاله
الجويني والشاشي.
تنبيه: كلام المصنف قد يوهم توقف الحل على موته وليس مرادا، وقد مر في الصيد والذبائح أنه يحل بلع
سمكة حية، وأنه يحل قلي صغار السمك من غير أن يشق جوفه ويعفى عما فيه، وأنه لو وجد سمكة في جوف
297

سمكة حل أكلها إلا أن تكون قد تغيرت فيحرم لأنها صارت كالقئ. (وكذا غيره) أي السمك مما ليس على
صورته المشهورة كخنزير الماء وكلبه حلال (في الأصح) المنصوص لاطلاق الآية والحديث المارين، وعن أبي بكر
رضي الله عنه كل دابة تموت في البحر فقد ذكاها الله لكم (وقيل لا) يحل لأنه لا يسمى سمكا، والأول يقول
يسماه، وعلى الأول لا يشترط فيه الذكاة لأنه حيوان ولا يعيش إلا في الماء.
تنبيه: كلام المصنف صريح في انقسام حيوان البحر إلى سمك وغيره وهو مخالف لتصحيح الروضة وأصلها
أن السمك يقع على جميعها ولهذا أولت قول المصنف منه ما هو بصورته المشهورة، وقوله وكذا غيره مما ليس على
صورته المشهورة، ويشهد له قول الروضة ما ليس على صورة السمك المشهورة. (وقيل إن أكل مثله في البر) كالبقر
والغنم (حل) أكله ميتا (وإلا) بأن لم يؤكل مثله في البر (فلا) يحل (ككلب وحمار) اعتبارا لما في
البحر بما في البر، ولان الاسم يتناوله فأجرى عليه حكمه، فعلى هذا الوجه ما لا نظير له في البر يحل لحديث العنبر
المشهور في الصحيح، أما إذا ذبح ما أكل شبهه في البر فإنه يحل جزما، ولو كان يعيش في البر والبحر لأنه حينئذ
كحيوان البر، وحيوان البر يحل مذبوحا فمحل الخلاف إذا أكل ميتا كما قدرته (وما يعيش في بر وبحر كضفدع)
بكسر الضاد مع فتح الدال وكسرها بخطه، ويجوز فتح الضاد مع كسر الدال وضمها مع فتح الدال، وكنيته أبو المسيح
وهو من الحيوان الذي لا عظم له (وسرطان) ويسمى أيضا عقرب الماء وكنيته أبو بحر (وحية) ويطلق على
الذكر والأنثى، ودخلت الهاء للوحدة لأنه واحد من جنسه كدجاجة وعقرب وترسة وهي اللجأة، وسلحفاة بضم
السين وفتح اللام وبمهملة ساكنة وتمساح (حرام) للسمية في الحية والعقرب وللاستخباث في غيرهما ولان
التمساح يتقوى بنابه وقضيته تحريم القرش بكسر القاف ويقال له اللخم بفتح اللام والخاء المعجمة، لكن أجاب
المحب الطبري تبعا لابن الأثير في النهاية بحله وهو الظاهر وفي تحريم النسناس بكسر النون وجهان: أوجههما كما
جرى عليه ابن المقري التحريم وهو على خلقة الناس قاله القاضي أبو الطيب وغيره وقال الجوهري: وهو جنس من
الخلق يثب على رجل واحدة. وقال المسعودي: له عين واحدة يخرج من الماء ويتكلم ومتى ظفر بالانسان قتله
يوجد في جزائر الصين ينقر كما ينقر الطير، وفي المحكم أنه سبع من أخبث السباع.
تنبيه: قد يفهم كلامه أن الحية التي لا تعيش إلا في الماء حلال لكن صرح الماوردي بتحريمها هي وغيرها
من ذوات السموم البحرية. قال المصنف في مجموعه: قلت الصحيح المعتمد أن جميع ما في البحر تحل ميتته إلا
الضفدع ويحمل ما ذكره الأصحاب أو بعضهم من السلحفاة والحية والنسناس على غير ما في البحر اه‍. ويوافقه
قول الشامل بعد نقله نصوص الحل. قال أصحابنا أو بعضهم: يحل جميع ما فيه إلا الضفدع للنهي
عن قتله اه‍. والنهي هو ما صح عن ابن عمر أنه قال: لا تقتلوا الضفادع فإن نعيقها تسبيح وقال بعض الفقهاء: إنما حرم لأنه كان جار
الله في الماء الذي كان عليه العرش قبل خلق السماوات والأرض وظاهر كما قال شيخنا أنه على هذا تستثنى ذوات
السموم أيضا. قال ابن قاسم: ومما عمت به البلوى أكل الدنيلس في مصر والسرطان في الشام اه‍. أما السرطان
فقد تقدم الكلام فيه، وأما الدنيلس فعن ابن عبد السلام وعلماء عصره أنه يحل أكله وهذا هو الظاهر لأنه من
طعام البحر ولا يعيش إلا فيه، وعن ابن عبد السلام أنه أفتى بتحريمه. قال الزركشي: وهو الظاهر لأنه أصل
السرطان لتولده منه، وقال الدميري: لم يأت على تحريمه دليل، وما نقل عن ابن عبد السلام لم يصح، فقد نص
الشافعي على أن حيوان البحر الذي لا يعيش إلا فيه يؤكل لعموم الآية والاخبار. (وحيوان البر يحل منه الانعام)
وهي الإبل والبقر والغنم وإن اختلفت أنواعها لقوله تعالى * (أحلت لكم بهيمة الأنعام) * (والخيل) ولا واحد له
من لفظه كقوم، وقيل مفرده خائل، لا فرق في ذلك بين العربية وغيرها لخبر الصحيحين عن جابر: نهى رسول الله (ص)
298

يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل وفيهما عن أسماء رضي الله عنها قالت
: نحرنا فرسا على عهد رسول الله (ص) وأكلناه ونحن بالمدينة. وأما خبر خالد في النهي عن أكل لحوم الخيل، فقال
الإمام أحمد وغيره منكر، وقال أبو داود منسوخ والاستدلال على التحريم بقوله تعالى * (لتركبوها وزينة) * ولم
يذكر الاكل مع أنه في سياق الامتنان مردود كما ذكره البيهقي وغيره، فإن الآية مكية بالاتفاق ولحوم الحمر إنما
حرمت يوم خيبر سنة سبع بالاتفاق، فدل على أنه لم يفهم النبي (ص) ولا الصحابة في الآية تحريما لا للحمر ولا لغيرها،
فإنها لو دلت على تحريم الخيل دلت على تحريم الحمر، وهم لم يمنعوا منها بل امتدت الحال إلى يوم خيبر فحرمت
، وأيضا الاقتصار على ركوبها والتزين بها لا يدل على نفي الزائد عليهما، وإنما خصهما بالذكر لأنهما معظم المقصود
من الخيل كقوله تعالى * (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير) * لأنه معظم مقصوده، وقد أجمعوا على تحريم شحمه
ودمه وسائر أجزائه. (وبقر وحش) وهو أشبه شئ بالمعز الأهلية وقرونها صلاب جدا تمنع بها عن نفسها (وحماره)
أي الوحش لأنهما من الطيبات، ولما في الصحيحين، أنه (ص) قال في الثاني: كلوا من لحمه وأكل منه. وقيس به
الأول، ولا فرق في حمار الوحش بين أن يستأنس أو يبقى على توحشه كما أنه لا فرق في تحريم الأهلي بين الحالين
(وظبي) وظبية بالاجماع (وضبع) بضم الموحدة بخطه، ويجوز سكونها، اسم للأنثى لأنه (ص) قال:
يحل أكله رواه الترمذي وقال حسن صحيح. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: وما زال الناس يأكلونها بين
الصفا والمروة من غير نكير، ولان نابها ضعيف لا تتقوى ولا تعيش به، وهو من أحمق الحيوان لأنه يتناوم حتى
يصاد. قال الدميري: ومن عجيب أمرها أنها تحيض وتكون سنة ذكرا وسنة أنثى، ويقال للذكر ضبعان (وضب)
لأنه أكل على مائدته (ص) بحضرته ولم يأكل منه، فقيل له: أحرام هو؟ قال: لا، ولكنه ليس بأرض قومي فأجدني
أعافه رواه الشيخان، وخبر النهي عنه إن صح محمول على التنزيه وهو حيوان للذكر منه ذكران وللأنثى
فرجان لا تسقط أسنانه إلى أن يموت (وأرنب) بالتنوين بخطه، وفي بعض الشروح بلا تنوين لمنع صرفه، وهو واحد
الأرانب، وحيوان شبه العناق قصير اليدين طويل الرجلين عكس الزرافة يطأ الأرض على مؤخر قدميه، لأنه بعث
بوركها إلى النبي (ص) فقبله وأكل منه، رواه البخاري، ولم يبلغ أبا حنيفة ذلك فحرمها محتجا بأنها تحيض كالضبع
وهي محرمة عنده أيضا (وثعلب) بمثلثة أوله لأنه لا يتقوى بنابه، ولأنه من الطيبات، وكنيته أبو الحصين، والأنثى
ثعلبة، وكنيتها أم هويل (ويربوع) لأن العرب تستطيبه ونابه ضعيف، وأوجب فيه عمر رضي الله عنه على المحرم
إذا قتله جفرة وهو حيوان يشبه الفأر، قصير اليد طويل الرجلين أبيض البطن أغبر الظهر بطرف ذنبه شعرات
ووقع للدميري في شرحه: قصير اليدين والرجلين (وفنك) بفتح الفاء والنون، لأن العرب تستطيبه، وهو حيوان
يؤخذ من جلده الفرو للينه وخفته (وسمور) بفتح المهملة وضم الميم المشددة، وهو حيوان يشبه السنور، لأن العرب
تستطيب ذلك وهما نوعان من ثعالب الترك.
تتمة: يحل أيضا القنفذ - بالذال المعجمة - والوبر - بإسكان الموحدة - دويبة أصغر من الهر كحلاء العين لا ذنب لها
والدلدل وهو - بإسكان اللام بين الدالين المهملتين المضمومتين - دابة قدر السخلة ذات شوك طوال يشبه السهام وفي
الصحاح أنه عظيم القنافذ، وابن عرس وهو دويبة رقيقة تعادي الفأر تدخل جحره وتخرجه، وجمعه بنات عرس، والحواصل
جمع حوصلة، ويقال له حوصل، وهو طائر أبيض أكبر من الكركي ذو حوصلة عظيمة يتخذ منها فرو ويكثر بمصر
ويعرف بها بالبجع. والفاقم - بضم القاف الثانية - دويبة يتخذ جلدها فروا وذلك لأن ما ذكر من الطيبات. (ويحرم
بغل) للنهي عن أكله في خبر أبي داود بإسناد على شرط مسلم ولتولده بين حلال وحرام فإنه متولد بين فرس وحمار أهلي
فإن كان الذكر فرسا كان شديد الشبه بالحمار أو حمارا كان الذكر شديد الشبه بالفرس فإن تولد بين فرس وحمار
وحشي أو بين فرس وبقر حل بلا خلاف (وحمار أهلي) وإن توحش للنهي عنه في خبر الصحيحين. وكنيته أبو زياد، وكنية
299

الأنثى أم محمود (وكل ذي) أي صاحب (ناب من السباع) وهو كما قال الشافعي رضي الله تعالى
عنه: ما يعدو على الحيوان ويتقوى بنابه (و) ذي (مخلب) بكسر الميم وإسكان الخاء المعجمة: أي ظفر (من الطير)
للنهي عن الأول في خبر الصحيحين، وعن الثاني في خبر مسلم فذو الناب (كأسد) وذكر له ابن خالويه خمسمائة
اسم، وزاد علي بن جعفر عليه مائة اسم وثلاثين اسما (ونمر) بفتح النون وكسر الميم، وبإسكان الميم مع ضم النون
وكسرها: حيوان معروف أخبث من الأسد، سمي بذلك لتنمره واختلاف لون جسده، يقال تنمر فلان: أي تنكر
وتغير، لأنه لا يوجد غالبا إلا غضبان معجب بنفسه ذو قهر وسطوات عتيدة ووثبات شديدة إذا شبع نام ثلاثة
أيام ورائحة فيه طيبة (وذئب) بالهمز وعدمه: حيوان معروف يلتحم عند السفاد كالكلب، وهو موصوف بالانفراد
والوحدة، وكنيته أبو جعدة، والأنثى ذيبة، ومن طبعه أنه لا يعود إلى فريسة شبع منها، وينام بإحدى عينيه والأخرى
يقظى حتى تكتفي العين النائمة من النوم ثم يفتحها وينام بالأخرى ليحترس باليقظى ويستريح بالنائمة، وفيه حاسة
للشم يشم الشئ من فرسخ، وإذا جاء الشتاء دخل وكره ولا يخرج منه حتى يطيب الهواء، فإذا جاع مص أصابع
يديه ورجليه فيندفع عنه بذلك الجوع ويخرج أسمن ما كان ويسفد الذكر الأنثى مضطجعة على الأرض وتضع
جروها قطعة لحم غير مميز الجوارح فلا تزال تلحسه حتى تتميز أعضاؤه. (ودب) بضم الدال المهملة وكنيته أبو حيد
والأنثى دبة (وفيل) وجمعه فيلة وأفيال وكنيته أبو العباس والفيل المذكور في القرآن كنيته أبو العباس واسمه محمود،
والذكر ينزو إذا تم له خمس سنين وتحمل الأنثى لسنتين وهو صاحب حقد ولسانه مقلوب ولولا ذلك لتكلم
ويخاف من الهرة خوفا شديدا وفيه من الفهم ما يقبل به التأديب والتعليم ويمر كثيرا، والهند تعظمه لما اشتمل عليه
من الخصال المحمودة (وقرد) وجمه قردة وقرود وهو حيوان قبيح مليح ذكي سريع الفهم تلد الأنثى في البطن الواحد
العشرة والاثني عشر وهو يشبه الانسان في غالب حالاته فإنه يضحك ويضرب ويتناول الشئ بيده، ويأنس بالناس،
والذكر شديد الغيرة على الإناث، ومن ذي الناب الكلب والخنزير والفهد بفتح الفاء وكسرها مع كسر الهاء وإسكانها،
والببر بباءين موحدتين: الأولى مفتوحة، والثانية ساكنة، وهو ضرب من السباع يعادي الأسد من العدو لا من المعاداة،
ويقال له الفرانق: بضم الفاء وكسر النون شبيه بابن آوى (و) ذي المخلب نحو (باز) من أشد الحيوان وأضيقه خلقا،
وهو مذكر، ويقال في التثنية بازان، وفي الجمع بزاة (وشاهين) هو فارسي معرب (وصقر ونسر) بفتح النون، ويقال
بتثليثها (وعقاب) وكنيته أبو الحجاج.
تنبيه: دخل في ذلك جميع جوارح الطير لاستخبائها خلافا ل مالك حيث قال يكره، وجعل المصنف الصقر قسما
للبازي والشاهين، وأنكره في تحرير التنبيه لأنه لا يقال للبزاة والشواهين وغيرها صقور. وأجاب بأنه من ذكر
الخاص بعد العام، ويجاب عنه هنا بما أجاب. ويستثنى من المخلب الضبع والثعلب واليربوع. (وكذا ابن آوى) بالمد
بعد الهمز، وهو فوق الثعلب ودون الكلب طويل المخالب، فيه شبه من الذئب وشبه من النعث وسمي بذلك لأنه
يأوي إلى عواء أبناء جنسه، ولا يعوي إلا ليلا إذا استوحش وبقي وحده، وصياحه يشبه صياح الصبيان (وهرة وحش)
يحرمان (في الأصح). أما ابن آوى فلانه مستخبث، وله ناب يعدو به ويأكل الميتة، ووجه حله أن نابه ضعيف،
وأما الهرة فلأنها تعدو بنابها فتشبه الأسد، ووجه حلها أنها حيوان ينقسم إلى أهلي ووحشي، فيحل الوحش منه ويحرم
الأهلي كالحمار. واحترز بالوحشية عن الأهلية فإنها حرام أيضا على الصحيح ففي الحديث أنها سبع وقيل تحل
لضعف نابها.
تنبيه: قال الدميري: لو قال المصنف وهرة وحذف لفظ وحش لكان أشمل وأخصر انتهى. وقد يتعذر عنه
باختلاف التصحيح كما علم من التقرير وإن أوهم كلامه الجزم بحرمتها. وأما ابن مقرض وهو بضم الميم وكسر الراء
300

وبكسر الميم وفتح الراء: الدلق بفتح اللام فلا يحرم، لأن العرب تستطيبه ونابه ضعيف، وهذا ما جرى عليه ابن المقري
وهو مقتضى كلام الرافعي، والذي نقله في أصل الروضة عن تصحيح الأكثرين، وما صححه المصنف في مجموعه من
تحريمه، لأنه ذو ناب غلطه فيه الأسنوي وغيره، وهو دويبة أكهل اللون، طويل الظهر، أصغر من الفأر، يقتل
الحمام، ويقرض الثياب. وأما النمس الذي يأوي الخراب من الدور ونحوها، فهو نوع من القردة فيحرم، لأنه يفترس
الدجاج فهو كابن آوى. (ويحرم) أكل (ما ندب قتله) لايذائه (كحية) ويقال للذكر والأنثى (وعقرب) اسم
للأنثى، ويقال للذكر عقربان بضم العين والراء (وغراب أبقع) وهو الذي فيه سواد وبياض، وتقييد المصنف به
يوهم حل غيره وسيأتي الكلام عليه (وحدأة) بوزن عنبة (وفأرة) بالهمز وكنيتها أم خراب وجمعها فأر بالهمز (وكل
سبع) بضم الباء (ضار) بالتخفيف: أي عاد، والبرغوث - بضم الباء - والزنبور - بضم الزاي - والبق، والقمل لخبر
الصحيحين: خمس تقتلن في الحل والحرم: الغراب، والحدأة، والفأرة، والعقرب، والكلب العقور، وفي رواية
لمسلم: والغراب الأبقع والحية بدل العقرب، وفي رواية لأبي داود والترمذي ذكر السبع العادي مع الخمس،
وقيس
بهن الباقي لايذائها، ولان الامر بقتل ما ذكر إسقاط لحرمته ومنع من اقتنائه، ولو أكل لجاز اقتناؤه، واستثنى من
عموم تحريم ما أمر بقتله البهيمة المأكولة اللحم إذا وطئها الآدمي فإنه يحل أكلها على الأصح كما ذكر في باب الزنا مع
الامر بقتلها.
تنبيه: احترز بالضاري عن نحو الضبع والثعلب مما نابه ضعيف، فهذه المذكورات إنما ندب قتلها لايذائها كما
مر إذ لا نفع فيها، وما فيه نفع ومضرة لا يستحب قتله لنفعه، ولا يكره لضرره، ويكره قتل من لا ينفع ولا يضر
كالخنافس جمع خنفساء - بضم الفاء أفصح من فتحها -، والجعلان - بكسر الجيم - ويقال له أبو جعران، وهو دويبة معروفة
تسمى الزعقوق تعض البهائم في فرجها فتهرب، وهي أكبر من الخنفساء شديدة السواد، في بطنها لون حمرة،
للذكر قرنان، والرخم والكلب غير العقور الذي لا منفعة فيه مباحة. (وكذا رخمة) وهي طائر يشبه النسر في الخلفة،
وكنيتها أمم قيس لخبث غذائها (وبغاثة) بتثليث الموحدة وبالمعجمة والمثلثة، لأنها كالحدأة، وهو طائر أبيض بطئ
الطيران أصغر من الحدأة له مخلب ضعيف.
تنبيه: يحرم أيضا النهاس - بسين مهملة - طائر صغير ينهس اللحم بطرف منقاره، وأصل النهس أكل اللحم بطرف
الأسنان، وأما النهش بالمعجمة فهو الاكل بجميعها فتحرم الطيور التي تنهس كالسباع التي تنهش لاستخبائها. (والأصح
حل غراب زرع) وهو أسود صغير يقال له الزاغ، وقد يكون محمر المنقار والرجلين، لأنه مستطاب يأكل الزرع
فأشبه الفواخت، والثاني نظر إلى أنه غراب. وأما ما عدا الأبقع وغراب الزرع فأنواع: أحدها العقعق ويقال له القعقع،
وهو ذو لونين أبيض وأسود، طويل الذنب، قصير الجناح، عيناه يشبهان الزئبق، صوته العقعقة، كانت العرب
تتشاءم بصوته. ثانيها الغداف الكبير، ويسمى الغراب الجبلي، لأنه لا يسكن إلا الجبال، فهذان حرامان لخبثهما،
ثالثها الغداف الصغير، وهو أسود رمادي اللون، وهذا قد اختلف فيه، فقيل يحرم كما صححه في أصل الروضة وجرى
عليه ابن المقري للامر بقتل الغراب في خبر مسلم، وقيل بحله كما هو قضية كلام الرافعي، وهو الظاهر، وقد صرح
بحله البغوي والجرجاني والروياني، وعلله بأنه يأكل الزرع، واعتمده الأسنوي والبلقيني. (و) الأصح (تحريم ببغا)
بفتح الموحدتين وتشديد الثانية، ومنهم من يسكنها، وبغين معجمة، وبالقصر: طائر أخضر. وهو المعروف بالدرة بضم
الدال المهملة وتشديد الراء المفتوحة، له قوة على حكاية الأصوات وقبول التلقين. قال ابن مطرف: ولا يعرف لها اسم
ذكر من لفظها (و) يحرم (طاووس) وهو طائر في طبعه العفة وحب الزهو بنفسه والخيلاء والاعجاب بريشه، وهو
مع حسنه يتشاءم به، ووجه تحريمه وما قبله خبثهما. والثاني يمنع ذلك.
301

تتمة: يحرم أيضا ملاعب ظله، هو طائر يسبح في الجو مرارا كأنه ينصب على طائر والضبوع - وهو بضاد
معجمة مضمومة - يقع على الذكر والأنثى، يقول في صياحه صدا أو قياد فيختص بالذكر، وكنية الأنثى أم الحراب
وأم الصبيان، ويقال لها غراب الليل، وتحريم هذه الثلاثة لاستخباثها. (وتحل نعامة) بالاجماع، ولان الصحابة رضي
الله عنهم قضوا فيها إذا قتلها المحرم ببدنة، وكنيتها أم البيض، وليست بطائر عند المتكلمين في طبائع الحيوان ولو كانت
تبيض ولها جناح وريش (و) يحل (كركي) قطعا، وما أوهمه كلام العبادي من جريان الخلاف فيه شاذ، وهو
طائر كبير معروف كنيته أبو نعيم، وفي طبعه التحارس بالنوبة في الليل وإذا كبر أبواه عالهما ولا يمشي على
الأرض إلا بإحدى رجليه ويعلق الأخرى وإذا وضعهما وضعهما وضعا خفيفا مخافة أن تخسف الأرض به (و) يحل
طير الماء وهو أنواع: منها (بط) بفتح أوله (وأوز) بكسر أوله وفتح ثانيه لأنهما من الطيبات.
تنبيه: عطفه على البط يقتضي تغايرهما وفسر الجوهري وغيره الإوز بالبط. وقال الدميري في شرحه: البط
هو الإوز الذي لا يطير.
تنبيه: جميع طيور الماء حلال لأنها من الطيبات إلا اللقلق وهو طير طويل العنق يأكل الخبائث ويصف
فلا يحل لاستخباثه. وروي: كل ما رف ودع ما صف. (و) يحل (دجاج) بالاجماع وهو - بتثليث أوله والفتح
أفصح - يقع على الذكر والأنثى والواحدة دجاجة وليست الهاء للتأنيث، وحله بالاجماع سواء إنسيه ووحشيه
ولأنه (ص) أكله رواه الشيخان. (و) يحل (حمام) بسائر أنواعه، لأنه من الطيبات، ويقع على
الذكر والأنثى، الواحدة حمامة وليست الهاء فيها للتأنيث (وهو) عند الجوهري نقلا عن العرب ذوات الأطواق
كالفواخت والمقاري وعند المصنف الشافعي نقلا عن الأزهري (وكل ما عب) أي شرب الماء من غير تنفس بأن
شرب جرعة بعد جرعة من غير مص (وهدر) أي رجع الصوت.
تنبيه: جمع بينهما تبعا للمحرر. وقال في الروضة في جراء الصيد: أنه لا حاجة إلى وصفه بالهدير مع العب
فإنهما متلازمان، ولهذا اقتصر الشافعي رضي الله عنه على العب، ويحل الورشان، وهو - بفتح الواو والراء - ذكر
القمري، وقيل طائر متولد بين الفاختة والحمامة، ويحل القطا جمع قطاة، وهو طائر معروف، والحجل - بالفتح - جمع
حجلة وهو طائر على قدر الحمام كالقطا أحمر المنقار والرجلين، ويسمى دجاج البر، وهذه الثلاثة قال في الروضة أنها
أدرجت في الحمام. (و) يحل كل (ما على شكل عصفور) بضم أوله بخطه، وحكي فتحها، سمي بذلك لأنه عصى وفر،
وكنيته أبو يعقوب، والأنثى عصفورة، لأنه من الطيبات (وإن اختلف لونه ونوعه كعندليب) بفتح العين والدال
المهملتين، وبينهما نون وآخره موحدة بعد تحتانية وهو الهزار (وصعوة) - بفتح الصاد وسكون العين المهملتين - صغار
العصافير المحمرة الرأس (وزرزور) وهو - بضم الزاي - طائر من نوع العصفور، سمي بذلك لزرزرته: أي تصويته،
ونغر - بضم النون وفتح المعجمة - عصفور صغير أحمر الانف. وبلبل بضم الباءين. وكذا الحمرة بضم الحاء المهملة وتشديد
الميم المفتوحة. قال الرافعي: ويقال إن أهل المدينة يسمون البلبل النغرة والحمرة. (ولا) يحل ما نهي عن قتله، وهو
أمور: منها (خطاف) - بضم الخاء وتشديد الطاء - وجمعه خطاطيف، ويسمى زوار الهند، ويعرف عند الناس
بعصفور الجنة لأنه زهد فيما في أيديهم من الأقوات. قال الدميري: ومن عجيب أمره أن عينه تقلع فتعود، ولا يفرخ
في عش عتيق حتى يطينه بطين جديد. وأما الخفاش ويقال له الوطواط فقطع الشيخان بتحريمه مع جزمهما في محرمات
الاحرام بوجوب قيمته إذا قتله المحرم أو في الحرم مع تصريحهما بأن ما لا يؤكل لا يجب ضمانه، والمعتمد ما هنا. وظاهر
كلامهما أن الخطاف والخفاش متغايران، واعترضا بأن الخفاش والخطاف واحد وهو الوطواط كما قاله أهل اللغة
وأجيب بأن كلاهما ليس باعتبار اللغة بل باعتبار العرف، ففي تهذيب الأسماء واللغات أن الخطاف عرفا وهو طائر
302

أسود الظهر، أبيض البطن، يأوي البيوت في الربيع، وأما الوطواط وهو الخفاش فهو طائر صغير لا ريش له يشبه
الفأرة، يطير بين المغرب والعشاء، ولهذا أفردهما الفقهاء بالذكر وإن أطلق اللغويون اسم أحدهما على الآخر. ومنها
هدهد وصرد، وهو بالحروف المهملة: طائر فوق العصفور يصيد العصافير (ونمل) وكنيته أبو مشغول، والواحدة
نملة، وكنيتها أم مارن، سميت نملة لتنملها وهو كثرة حركتها وقلة قوائمها. قال الخطابي: إن النهي الوارد في قتل النمل
المراد به النمل السليماني وهو الكبير. أما الصغير ففي الاستقصاء نقلا عن إيضاح الصيمري أنه لا يحرم قتله، لأنه مؤذ،
وذكره البغوي أيضا ووافق عليه في المجموع (ونحل) وهو ذباب العسل، والواحدة نملة (وذباب) - بضم أوله المعجم -
وكنيته أبو جعفر، وهو أجهل الخلق، لأنه يلقي نفسه في الهلكة، وضرب الله به المثل في القرآن، وهو أصناف
كثيرة (و) لا تحل (حشرات) - بفتح الشين المعجمة - صغار دواب الأرض، وصغار هوامها، الواحدة حشرة بالتحريك
(كخنفساء) بضم الخاء وفتح ثالثه أشهر من ضمه وبالمد وكنيتها أم الفسو، وهي أنواع منها بنات وردان وحمار قبان
والصرصار، وتحرم ذوات السموم والابر والوزغ بأنواعها لاستخباثها، ولأنه (ص) أمر بقتلها، ووقع
في الرافعي أنه نهى عن قتلها ونسب لسبق القلم. ويحرم سام أبرص، وهو كبار الوزغ، والعضاه. وهي - بالعين المهملة
والضاد المعجمة - دويبة أكثر من الوزغ، واللحكا - بضم اللام وفتح الحاء المهملة - دويبة كأنها سمكة ملساء مشربة بحمرة
توجد في الرمل، فإذا أحست بالانسان دارت بالرمل وغاصت فيه (ودود) جمع دودة وجمع الجمع ديدان، وهو
أنواع كثيرة تدخل فيها الأرضة، ودود القز والدود الأخضر يوجد على شجر الصنوبر، ودود الفاكهة، وتقدم حل
أكل دود الخل والفاكهة معه.
تنبيه: استثنى من الحشرات القنفذ، وأم حبين بمهملة مضمومة وموحدة مفتوحة ونون في آخره والوبر والضب
واليربوع، ومرت الإشارة إلى بعض ذلك. (وكذا) لا يحل (ما تولد من مأكول وغيره) كمتولد بين كلب وشاة إذا تحققنا ذلك
بأن رأينا كلبا نزا على شاة فولدت سخلة تشبه الكلب، فلو لم نر ذلك وولدت سخلة تشبه الكلب. قال البغوي: لا تحرم،
لأنه قد يحصل الخلق على خلاف صورة الأصل، وعن القاضي حسين نحوه، ومن المتولد بين مأكول وغيره: السبع - بكسر
السين المهملة - فإنه متولد بين الذئب والضبع، فيه شدة الضبع وجراءة الذئب أسرع من الريح عدوا كثير الوثبات، والبغل
لتولده بين فرس وحمار أهلي كما مر، والزرافة وهي بفتح الزاي وضمها كما حكاهما الجوهري، وقال بعضهم: الضم من
لحن العوام، وبتحريمها جزم صاحب التنبيه. وقال المصنف في المجموع: أنه لا خلاف فيه، ومنع ابن الرفعة التحريم، وحكي
أن البغوي أفتى بحلها واختاره السبكي، وحكاه عن فتاوى القاضي وتتمة التتمة. وقال الأذرعي: وهو الصواب نقلا ودليلا،
ومنقول اللغة أنها متولدة بين مأكولين من الوحش: واقتضى كلام ابن كج نسبته للنص. وقال الزركشي: ما في المجموع سهو،
وصوابه العكس اه‍. وهذا الخلاف يرجع فيه إلى الوجود إن ثبت أنها متولدة بين مأكولين، فما يقوله هؤلاء ظاهر.
لكن ظاهر كلام الشيخ في التنبيه أنها مما يتقوى بنابه، واعترض بأنها لا تتقوى بنابها وإن الشيخ لم يرها وظن أنها تتقوى
به كسائر السباع. وقيل إن الذي في التنبيه الزراقة - بالقاف - وهو حيوان يتقوى بنابه غير الذي يسمى الزرافة. قال السبكي:
وهذا ليس بشئ. (وما) أي والحيوان الذي (لا نص فيه) من كتاب أو سنة أو إجماع، لا خاص ولا عام بتحريم ولا تحليل
ولا ورد فيه أمر بقتله ولا بعدمه (إن استطابه أهل يسار) أي ثروة وخصب (و) أهل (طباع سليمة من) أكثر (العرب)
سكان بلاد أو قرى (في حال رفاهية حل، وإن استخبثوه فلا) يحل لأن الله تعالى أناط الحل بالطيب، والتحريم
بالخبيث وعلم بالعقل أنه لم يرد ما يستطيبه ويستخبثه كل العالم لاستحالة اجتماعهم على ذلك عادة لاختلاف طبائعهم
فتعين أن يكون المراد بعضهم، والعرب بذلك أولى لأنهم أولى الأمم إذ هم المخاطبون أولا، ولان الدين عربي. وخرج
303

بأهل اليسار المحتاجون، وبسليمة أجلاف البوادي الذين يأكلون ما دب ودرج ممن غير تمييز، فلا عبرة بهم، وبحال
الرفاهية حال الضرورة، فلا عبرة بها.
تنبيه: قضية كلام المصنف أنه لا بد من أخبار جمع منهم، والظاهر كما قال الزركشي: الاكتفاء بخبر عدلين
ويرجع في كل زمان إلى العرب الموجودين فيه، فإن استطابته فحلال أو استخبثته فحرام، والمراد به ما لم يسبق فيه
كلام العرب الذين كانوا في عهده (ص) فمن بعدهم، فإن ذلك قد عرف حاله واستقر أمره، فإن اختلفوا
في استطابته اتبع الأكثر فإن استووا فقريش لأنهم قطب العرب، فإن اختلفت ولا ترجيح أو شكوا أو لم نجدهم ولا
غيرهم من العرب اعتبرنا أقرب الحيوان شبها به صورة أو طبعا أو طعما، فإن استوى الشبهان أو لم يوجد ما يشبهه فحلال
لآية * (قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما) * ولا يعتمد فيه شرع من قبلنا، لأنه ليس شرعا لنا، فاعتماد ظاهر الآية المقتضية
للحل أولى من استصحاب الشرائع السالفة، واندفع بما قرت به كلام المصنف اعتراض البلقيني، فإنه قال: إن أراد نص
كتاب أو سنة لم يستقم فقد حكم بحل الثعلب، وتحريم الببغا والطاووس، وليس فيها نص كتاب ولا سنة أو قول عالم
فقول العالم ليس دليلا يعتمد، وإن أريد نص كتاب أو سنة أو نص الشافعي أو أحد من أصحابه فهو بعيد، لأن هذا
لا يطلق عليه نص في اصطلاح الأصوليين. (وإن جهل اسم حيوان سئلوا) أي العرب عن ذلك الحيوان (وعمل بتسميتهم)
له مما هو حلال أو حرام، لأن المرجع في ذلك إلى الاسم وهم أهل اللسان (وإن لم يكن له اسم عندهم اعتبر بالأشبه) به
من الحيوان في الصورة أو الطبع أو الطعم في اللحم، فإن تساوى الشبهان أو فقد ما يشبهه حل على الأصح في الروضة والمجموع.
ولما فرغ المصنف من حكم الحيوان الحرام أخذ من حكم المكروه منه، فقال: (وإذا ظهر تغير لحم جلالة) من نعم أو
غيره كدجاج، ولو يسيرا (حرم أكله) أي اللحم كما في المحرر وبه قال الإمام أحمد، لأنها صارت من الخبائث، وقد
صح النهي عن أكلها، وشرب لبنها وركوبها كما قاله أبو داود وغيره، وهي بفتح الجيم وتشديد اللام، ويقال
الجالة التي تأكل الجلة - بفتح الجيم - وهي العذرة والبعر وغيرهما من النجاسات والحكم منوط كما قال المصنف بالتغير
على الأصح وقيل إن كان أكثر علفها النجاسة ثبت وإلا فلا، وهو ظاهر كلام المصنف في التحرير وجزم به في
تصحيح التنبيه وإطلاقه هنا التعبير يشمل الأوصاف الثلاثة وقيداه في الشرح والروضة بالرائحة. قال الزركشي تبعا
للأذرعي: والظاهر أنه ليس بقيد فإن تغير الطعم أشد (وقيل يكره) لنتن لحمها (قلت: الأصح يكره) كما نقله
الرافعي في الشرح عن إيراد أكثرهم (والله أعلم) لأن النهي إنما هو لتغير اللحم وهو لا يوجب التحريم كما لو نتن
اللحم المذكى وتروح فإنه يكره أكله على الصحيح.
تنبيه: قد يفهم تقييد المصنف باللحم أن غيره ليس كذلك، وليس مرادا، بل لا فرق بين لحمها ولبنها
وبيضها في النجاسة والطهارة والتحريم والتحليل وفاقا وخلافا، بل قال البلقيني: ينبغي تعدي الحكم إلى شعرها
وصوفها المنفصل في حياتها. وقال الزركشي: الظاهر إلحاق ولدها بها إذا ذكيت ووجد في بطنها ميتا اه‍. ويكره
ركوبها بلا حائل. (فإن علفت) علفا (طاهرا) أو متنجسا كشعير أصابه ماء نجس أو نجس العين كما هو ظاهر كلام
التنبيه (فطاب) لحمها بزوال رائحته (حل) ما ذكر وإن علفت دون أربعين يوما اعتبارا بالمعنى. وأما خبر: حتى
تعلف أربعين يوما والتقييد بالعلف الطاهر، فجرى على الغالب، وخرج بعلفت ما لو غسلت هي أو لحمها بعد
ذبحها أو طبخ لحمها فزال التغير فإن الكراهة لا تزول، وكذا بمرور الزمان كما قاله البغوي وقال غيره: تزول
قال الأذرعي وهذا ما جزم به المروزي تبعا للقاضي. وقال شيخنا: وهو نظير طهارة الماء المتغير بالنجاسة إذا زال
التغير بذلك قال البلقيني: وهذا في مرور الزمان على اللحم، فلو مر على الجلالة أيام من غير أن تأكل طاهرا: أي
أو غيره كما مر حلت، وإنما ذكر العلف بطاهر لأن الغالب أن الحيوان لا بد له من علف، ووافقه الزركشي على ذلك.
304

تنبيه: قول المصنف حل: المراد زوال التحريم على الأول، والكراهة على الثاني، فلو قال: لم يكره لكان
أولى، إذ الحل يجامع الكراهة إلا أن يريد حلا مستوي الطرفين.
فروع: لو ربى سخلة بلبن كلبة أو خنزيرة كانت كالجلالة، ولو غذى شاة نحو عشر سنين بمال حرام، قال ابن
عبد السلام: لم يحرم عليه أكلها ولا على غيره، لأن الأعيان لا توصف بحل ولا حرمة. وقال الغزالي: ترك الأكل
من شاة علفت بعلف مغصوب من الورع ولا يحرم ترك الورع، ولا تكره الثمار التي سقيت بالمياه النجسة ولا حب
زرع نبت في نجاسة كزبل كما في المجموع عن الأصحاب، إذ لا يظهر في ذلك أثرها، وقضية ما قال الزركشي أنه متى
ظهر التغير فيها كرهت، ولا يكره بيض سلق بماء نجس ولو نتن اللحم أو البيض لم ينجس. قال في المجموع قطعا،
ويحل أكل النقانق والشوى والهرائس كما قاله ابن عبد السلام، وإن كان لا يخلو من الدم غالبا.
فائدة: قيل إن الكلب إذا عض حيوانا وذبح من أكل منه كلب، ولهذا قال بعضهم لا يحل أكله. (ولو
تنجس) مائع (طاهر: كخل) ودهن (ودبس ذائب) بمعجمة (حرم) تناوله لحديث الفأرة المار في باب النجاسة،
وكذا جامد تعذر تطهيره كالذي لاقى الفأرة من السمن الجامد أو أمكن ولم يطهر كما يؤخذ من إطلاق المتنجس،
ويجوز أن يعلف المتنجس دابته، ولو وقع في قدر طبيخ جزء من لحم آدمي ميت. قال الغزالي: لم يحل منه
شئ لحرمة الآدمي، وخالفه في المجموع. وقال: المختار الحل، لأنه صار مستهلكا فيه، ولو تحقق إصابة روث
الفئران القمح عند درسه فمعفو عنه، ويسن غسل الفم من أكله كما في المجموع: ومرت الإشارة إلى ذلك في كتاب
الطهارة (وما كسب) أي المكسوب (بمخامرة نجس: كحجامة وكنس) لنجس كزبل (مكروه) للحر تناوله ولو
اكتسبه رقيق (ويسن أن لا يأكله) أو (يطعمه رقيقه) ولا يكره للرقيق، وإن كسبه حر (و) يعلفه (ناضحة)
وهو البعير وغيره يسقى عليه الماء، وحكم سائر الدواب كذلك وذلك لأنه (ص) سئل عن كسب الحجام
فنهى عنه وقال: أطعمه رقيقك وأعلفه ناضحك رواه ابن حبان وصححه الترمذي وحسنه، والفرق من جهة المعنى
شرف الحر ودناءة غيره، وصرف النهي عن الحرمة خبر الشيخين عن ابن عباس: احتجم رسول الله (ص)
وأعطى الحجام أجرته ولو كان حراما لم يعطه لأنه حيث حرم الاخذ حرم الاعطاء لأنه إعانة على معصية كأجرة
الندب والنياحة إلا عند الضرورة، كأن أعطى الشاعر لئلا يهجوه أو الظالم لئلا يمنعه حقه أو لئلا يأخذ منه أكثر
مما أعطاه فإن الاثم على الاخذ دون المعطى. فإن قيل يحتمل أنه (ص) إنما أعطاه ذلك ليطعمه رقيقه
وناضحه. أجيب بأنه لو كان ذلك لبينه له (ص)، وقيس بالحجامة غيرها من كل ما تحصل به
مخامرة النجاسة.
تنبيه: قوله أن لا يأكله يفهم جواز أن يشتري به ملبوسا أو نحوه، ولا كراهة في ذلك، والظاهر كما قاله
الأذرعي: التعميم بوجوه الانفاق حتى التصدق به. وقال في الذخائر: إذا كان في يده حلال وحرام أو شبهة والكل
لا يفضل عن حاجته. قال بعض العلماء: يخص نفسه بالحلال فإن التبعة عليه في نفسه آكد لأنه يعلمه والعيال
لا تعلمه، ثم قال: إن الذي يجئ على المذهب أنه وأهله سواء في القوت والملبس دون سائر المؤن من أجرة حمام وقصارة
ثوب وعمارة منزل وفحم تنور وشراء حطب ودهن سراج وغيرها من المؤن. ولو غلب الحرام في يد السلطان قال
الغزالي: حرمت عطيته وأنكر عليه في المجموع، وقال: مشهور المذهب الكراهة لا التحريم مع أنه في شرح مسلم
جرى على ما قاله الغزالي ولو كانت الصنعة دنيئة بلا مخامرة نجاسة: كفصد وحياكة لم تكره إذ ليس فيها مخامرة
نجاسة وهي العلة الصحيحة لكراهة ما مر عند الجمهور وقيل العلة دناءة الحرفة، ورجحه البلقيني: قال في الروضة:
وكره جماعة كسب الصواغ. قال الرافعي: لأنهم كثيرا ما يخلفون الوعد ويقعون في الربا لبيعهم المصوغ بأكثر من
305

وزنه، وقيل لا يكره، ورجحه الأسنوي، وقد علم مما قررت به كلام المصنف أن ما في كلامه مصدرية لا موصولة، إذ
لو كانت موصولة لكان المعنى أن المكسوب بذلك مكروه، ونفس المكسوب لا يوصف بكراهة ولا غيرها، إنما تتعلق
الكراهة بالكسب.
فروع: أفضل ما أكلت منه كسبك من زراعة لأنها أقرب إلى التوكل، ولخبر لا يغرس مسلم غرسا ولا يزرع
زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شئ إلا كانت له صدقة ثم من صناعة، لأن الكسب فيها يحصل بكد اليمين،
ثم من تجارة، لأن الصحابة كانوا يكتسبون بها، ويحرم تناول ما يضر البدن أو العقل كالحجر والتراب والزجاج والسم -
بتثليث السين، والفتح أفصح - كالأفيون، وهو لبن الخشخاش، لأن ذلك مضر، وربما يقتل، وقد قال تعالى: * (ولا
تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * لكن قليله يحل تناوله للتداوي به إن غلبت السلامة واحتيج إليه كما في أصل الروضة، ويحل
أكل كل طاهر لا ضرر فيه لآية: * (قل من حرم زينة الله) * إلا جلد ميتة دبغ، فلا يحل أكله لعموم قوله تعالى: * (حرمت
عليكم الميتة) * أما جلد المذكاة فيحل أكله وإن دبغ وإلا ما استقذر كالمخاط والمني لاستقذاره، وإلا الحيوان الحي
غير السمك والجراد كما علم مما مر في باب الصيد، وفي حل أكل بيض ما لا يؤكل خلاف. قال في المجموع: وإذا قلنا
بطهارته أي وهو الراجح حل أكله بلا خلاف لأنه طاهر غير مستقذر بخلاف المني، ومال البلقيني إلى المنع
ويحرم النبات المسكر وإن لم يطرب لاضراره بالعقل، ولا حد فيه إن لم يطرب بخلاف ما إذا أطرب كما صرح به الماوردي ويجوز التداوي به عند فقد غيره مما يقوم مقامه وإن أسكر للضرورة، وما لا يسكر إلا مع غيره يحل أكله وحده. (ويحل
جنين وجد ميتا) أو عيشه عيش مذبوح سواء أشعر أم لا (في بطن مذكاة) بالمعجمة سواء كانت ذكاتها بذبحها، أو إرسال
سهم أو كلب عليها لحديث ذكاة الجنين ذكاة أمه رواه الترمذي وحسنه، وابن حبان وصححه، أي ذكاتها التي
أحلتها أحلته تبعا لها ولأنه جزء من أجزائها، وذكاتها ذكاة لجميع أجزائها، ولأنه لو لم يحل بذكاة أمه لحرم ذكاتها
مع ظهور الحمل كما لا تقتل الحامل قودا. أما إذا خرج وبه حياة مستقرة فلا يحل بذكاة أمه، ولا بد أن يسكن عقب
ذبح أمه، ولو اضطرب في البطن بعد ذبح أمه زمانا طويلا ثم سكن لم يحل كما قاله الشيخ أبو محمد في الفروق وأقراه،
وإن خالف في ذلك البغوي والمروزي وقالا بالحل مطلقا. قال الأذرعي: والظاهر أن مراد الأصحاب إذا مات بذكاة
أمه، فلو مات قبل ذكاتها كان ميتة لا محالة لأن ذكاة الام لم تؤثر فيه والحديث يشير إليه اه‍. وعلى هذا لو خرج رأسه
ميتا ثم ذبحت أمه قبل انفصاله لم يحل وإن خالف في ذلك البغوي. وقال البلقيني: محل الحل ما إذا لم يوجد سبب يحال
عليه موته، فلو ضرب حاملا على بطنها وكان الجنين متحركا فسكن حتى ذبحت أمه فوجد ميتا لم يحل، ولو خرج
رأسه وفيه حياة مستقرة لم يجب ذبحه حتى يخرج، لأن خروج بعضه كعدم خروجه في العدة وغيرها فيحل إذا مات عقب
خروجه بذكاة أمه وإن صار بخروج رأسه مقدورا عليه، وشرط حله أن يخرج مضغة مخلقة، فإن كان علقة لم يؤكل
لأنه دم ولو لم تتخطط المضغة لم تحل بناء على عدم وجوب الغرة فيها وعدم ثبوت الاستيلاد، يعني لو كانت من آدمي،
ولو كان للمذكاة عضو أشل حل كسائر أجزائها (ومن خاف) من عدم الاكل (على نفسه موتا أو مرضا مخوفا) أو
زيادته أو طول مدته، أو انقطاعه عن رفقته، أو خوف ضعف عن مشي أو ركوب ولم يجد حلالا يأكله، ويسمى
هذا الخائف مضطرا (ووجد محرما) كميتة ولحم خنزير وطعام الغير (لزمه أكله) لأن تاركه ساع في هلاك نفسه، وكما
يجب دفع الهلاك بأكل الحلال. وقد قال تعالى * (ولا تقتلوا أنفسكم) * قال الزركشي: وينبغي أن يكون خوف حصول
الشين الفاحش في عضو ظاهر كخوف طول المرض كما في التيمم ولا يشترط مما يخاف منه تحقق وقوعه لو لم يأكل،
بل يكفي في ذلك الظن كما في الاكراه على أكل ذلك فلا يشترط فيه التيقن ولا الاشراف على الموت بل لو انتهى
إلى هذه الحالة لم يحل له أكله فإنه غير مفيد كما صرح به في أصل الروضة.
306

تنبيه: لو اضطرت امرأة إلى طعام وامتنع المالك من بذله إلا بوطئها زنا قال المحب الطبري: لم أر فيه نقلا،
والذي ظهر أنه لا يجوز لها تمكينه بخلاف إباحة الميتة، فإن المضطر فيها إلى نفس المحرم وتندفع به الضرورة، وهذا
الاضطرار ليس إلى المحرم، وإنما جعل المحرم وسيلة إليه، وقد لا تنتفع به الضرورة، إذ قد يصر على المنع بعد وطئها.
(وقيل) لا يلزم المضطر أكل المحرم بل (يجوز) تركه وأكله كما يجوز له الاستسلام للصائل، وأجاب الأول بأن
الاستسلام للصائل يؤثر مهجة غيره على مهجته طلبا للشهادة وهنا بخلافه، ويستثنى من ذلك علم العاصي بسفره، فلا
يباح له الاكل حتى يتوب. قال الأذرعي: ويشبه أن يكون العاصي بإقامته كالمسافر إذا كان الاكل عونا له على الإقامة.
وقولهم تباح الميتة للمقيم العاصي بإقامته محمول على غير هذه الصورة. قال البلقيني: وكالعاصي بسفره مراق الدم
كالمرتد والحربي فلا يأكلان من ذلك حتى يسلما. قال: وكذا مراق الدم من المسلمين وهو متمكن من إسقاط القتل
بالتوبة كتارك الصلاة، ومن قتل في قطع الطريق، قال: ولم أر من تعرض له، وهو متعين.
تنبيه: أفهم إطلاق المصنف المحرم أنه يتخير بين أنواعه كميتة شاة وحمار، لكن لو كانت الميتة من حيوان نجس في حياته كخنزير وميتة حيوان
طاهر في حياته كحمار وجب تقديم ميتة الطاهر كما صححه في المجموع. قال في المهمات:
وهذا التفصيل الذي صححه ليس وجها ثابتا فضلا عن تصحيحه اه‍. واعترض بأنه وجه ثابت، وجزم به في الحاوي.
(فإن توقع) مضطر (حلالا قريبا) أي على قرب (لم يجز) قطعا (غير سد الرمق) لاندفاع الضرورة به وقد يجد
بعده الحلال، ولقوله تعالى * (غير متجانف لاثم) * قيل أراد به الشبع. قال الأسنوي ومن تبعه: والرمق بقية الروح
كما قاله جماعة، وقال بعضهم إنه القوة، وبذلك ظهر لك أن الشد المذكور بالشين المعجمة لا بالمهملة. قال الأذرعي
وغيره: الذي نحفظه أنه بالمهملة وهو كذلك في الكتب أي والمعنى عليه صحيح لأن المراد سد الخلل الحاصل
في ذلك سبب الجوع (وإلا) بأن لم يتوقع حلالا قريبا (ففي قول يشبع) أي يجوز له ذلك لاطلاق الآية ولان له تناول
قليله فجاز له الشبع لمذكى، وليس المراد بالشبع أن يملا جوفه حتى لا يجد للطعام مساغا، فإن هذا حرام قطعا
، صرح
به القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما، بل المراد كما قاله الإمام أن يأكل حتى يكسر سورة الجوع بحيث لا يطلق
عليه اسم جائع (والأظهر) لا يشبع، بل يجب (سد الرمق) فقط في الأصح لأنه بعده غير مضطر، فلا يباح
لانتفاء الشرط (إلا أن يخاف تلفا) أو حدوث مرض أو زيادته (إن اقتصر) على سد الرمق فتباح له الزيادة بل
تلزمه لئلا يهلك نفسه.
تنبيه: يجوز له التزود من المحرمات ولو رجا الوصول إلى الحلال ويبدأ وجوبا بلقمة حلال ظفر بها، فلا يجوز
له أن يأكل مما ذكر حتى يأكلها لتتحقق الضرورة، وإذا وجد الحلال بعد تناوله الميتة ونحوها لزمه القئ أي إذا
لم يضره كما هو قضية نص الام، فإنه قال: وإن أكره رجل حتى شرب خمرا أو أكل محرما فعليه أن يتقايأ إذا قدر عليه،
ولو عم الحرام جاز استعمال ما يحتاج إليه ولا يقتصر على الضرورة. قال الإمام: بل على الحاجة. قال ابن عبد السلام:
هذا إن توقع معرفة المستحق إذ المال عند اليأس منها للمصالح العامة. (وله) أي للمضطر (أكل آدمي ميت) إذا لم
يجد ميتة غيره كما قيداه في الشرح والروضة لأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ويستثنى من ذلك ما إذا كان
الميت نبيا فإنه لا يجوز الاكل منه جزما كما قاله إبراهيم المروزي وأقره، وما إذا كان الميت مسلما والمضطر كافرا،
فإنه لا يجوز له الاكل منه لشرف الاسلام بل لنا وجه أنه لا يجوز أكل الميت المسلم، ولو كان المضطر
مسلما.
تنبيه: حيث جوزنا أكل ميتة الآدمي المحترم لا يجوز طبخها ولا شيها لما فيه من هتك حرمته، ويتخير في
غيره بين أكله نيئا ومطبوخا ومشويا. (و) له (قتل مرتد) وأكله (و) قتل (حربي) بالغ وأكله لأنهما
307

غير معصومين، وله قتل الزاني المحصن والمحارب وتارك الصلاة ومن له عليه قصاص وإن لم يأذن الإمام في القتل
لأن قتلهم مستحق، وإنما اعتبر إذنه في غير حال الضرورة تأدبا معه، وحال الضرورة ليس فيها رعاية أدب (لا) قتل
(ذمي ومستأمن) معاهد (وصبي حربي) وحربية لحرمة قتلهم (قلت: الأصح حل قتل الصبي والمرأة الحربيين
للاكل، والله أعلم) لأنهما ليسا بمعصومين، ومنع قتلهما في غير الضرورة لا لحرمتهما بل لحق الغانمين، ولهذا لا يتعلق
بقتلهما الكفارة.
تنبيه: حكم مجانين أهل الحرب وأرقائهم وخناثاهم كصبيانهم. قال ابن عبد السلام: ولو وجد المضطر صبيا مع
بالغ حربيين أكل البالغ وكف عن الصبي لما في أكله من إضاعة المال، ولان الكفر الحقيقي أبلغ من الكفر الحكمي،
وقضيته إيجاب ذلك فلتستثن هذه الصورة من إطلاقهم جواز قتل الصبي الحربي للاكل، وكذا يقال فيما شبه بالصبي.
قال البلقيني: ومحل الإباحة إذا لم نستول على الصبي والمرأة: أي ونحوهما وإلا صاروا أرقاء معصومين لا يجوز
قتلهم قطعا لحق الغانمين. (ولو وجد) مضطر (طعام غائب) ولو غير محرز ولم يجد غيره (أكل) منه إبقاء لمهجته (وغرم)
بدل ما أكله من قيمة في المتقوم ومثل في المثلى لحق الغائب، سواء قدر على البدل أم كان عاجزا عنه لأن الذمم تقوم
مقام الأعيان. نعم تعتبر قيمة المثلى بالمفازة كما ذكروه في الماء نبه عليه الزركشي بالنسبة للممتنع ومال الصبي
والمجنون إذا كان وليهما غائبا حكمه حكم مال الغائب، وإن كان حاضرا فهو في مالهما كالكامل.
تنبيه: في وجوب الاكل والقدر المأكول الخلا ف الساق، واستثنى البلقيني ما إذا كان الغائب مضطرا يحضر
عن قرب فليس له أكله. (أو) طعام (حاضر مضطر) إليه (لم يلزمه بذله) - بمعجمة - لغيره (إن لم يفضل عنه) بل هو
أحق به لحديث: ابدأ بنفسك وإبقاء لمهجته. نعم إن كان غير المالك نبيا وجب على المالك بذله له وإن لم يطلبه،
ويتصور هذا في زمن عيسى عليه السلام أو الخضر على القول بحياته ونبوته، ولو كان في يد مضطر ميتة كان أحق بها
من مضطر آخر كسائر المباحات خلافا لما في فتاوى القاضي من أن اليد لا تثبت عليها فلا يكون أحق بها.
تنبيه: هل المراد بما يفضل عنه عن سد الرمق أو الشبع؟ الظاهر كما قال الزركشي: الأول حفظا للمهجتين
ولو وجد مضطرين ومعه ما يكفي أحدهما وتساويا في الضرورة والقرابة والصلاح. قال الشيخ عز الدين: احتمل أن
يتخير بينهما، واحتمل أن يقسمه عليهما اه‍. والثاني أوجه، فإن كان أحدهما أولى كوالد وقريب أو وليا لله تعالى أو إماما
مقسطا، قدم الفاضل على المفضول، ولو تساويا ومعه رغيف مثلا لو أطعمه لأحدهما عاش يوما، وإن قسمه بينهما
عاشا نصف يوم. قال الشيخ عز الدين: المختار قسمته بينهما، ولا يجوز التخصيص. (فإن آثر) - بالمد - على نفسه في هذه
الحالة مضطرا (مسلما) معصوما (جاز) بل يسن وإن كان أولى به كما في الروضة، لقوله تعالى (ويؤثرون على أنفسهم
ولو كان بهم خصاصة) وهو من شيم الصالحين. وخرج بالمسلم الكافر والبهيمة، وبالمعصوم مراق الدم فيجب عليه
أن يقدم نفسه على هؤلاء (أو) وجد طعام حاضر (غير مضطر) له (لزمه) أي غير المضطر (إطعام مضطر)
معصوم (مسلم أو ذمي) أو نحوه كمعاهد، ولو كان يحتاج إليه في ثاني الحال على الأصح للضرورة الناجزة بخلاف
غير المعصوم كالحربي.
تنبيه: يجب إطعام البهيمة المحترمة وإن كانت ملكا لغير صاحب الطعام بخلاف غير المحترمة كالكلب العقور،
ولو كان للانسان كلب مباح المنفعة جائع وشاة لزمه ذبح الشاة لاطعام الكلب ويحل أكلها للآدمي لأنها ذبحت للاكل
ويجب على المضطر أن يستأذن مالك الطعام أو وليه في أخذه. (فإن امتنع) وهو أو وليه غير مضطر في الحال من
بذله بعوض لمضطر محترم (فله) أي المضطر (قهره) على أخذه، وإن احتاج إليه المانع في المستقبل
308

(وإن قتله) ولا يجب قتاله كالصائل بل أولى: أي إذا كان صاحب الطعام مسلما كما هو في المقيس عليه، قاله
الأذرعي، ولان
عقل المالك أو وليه ودينه يبعثانه على الاطعام. وهو واجب عليه فجاز أن يجعل الامر موكولا إليه، وإنما يجوز قتاله
على ما يدفع ضرره به، وهو ما يسد الرمق، إلا أن يخشى الهلاك، لأن الضرورة تتقدر بقدرها، ولا يقتص منه للممتنع
إن قتله، ولا تؤخذ له دية، ويقتص له إن قتله الممتنع، لأنه لم يتعد بخلاف الممتنع، فإن عجز عن أخذه منه ومات
جوعا فلا ضمان على الممتنع، إذا لم يحدث منه فعل مهلك، لكنه يأثم.
تنبيه: قضية كلام المصنف جواز قهر الذمي للمسلم وإن قتله، وليس مرادا، ولذا قال الشارح: إلا إن كان
مسلما والمضطر غير مسلم: أي فلا يجوز له قهره ولا قتله، فإن قتله فعليه ضمانه، لأن الكافر لا يسلط على ميتة المسلم،
فالحي أولى، وقد قال تعالى * (ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * ولا يختص ما ذكره المصنف بإطعام، بل
لو خاف على نفسه من حر أو برد لزمه أخذ الثوب من مالكه إن لم يكن مضطرا مثله كما في التهذيب. (وإنما يلزمه) أي
المالك أو وليه إطعام المضطر (بعوض ناجز إن حضر) ذلك العوض (وإلا) بأن لم يحضر العوض (فبنسيئة) ولا يلزمه
البدل مجانا، ولا بدون ثمن المثل على الصحيح، لأن الضرر لا يزال بالضرر.
تنبيه: ظاهر كلامه أنه يجب عليه أن يبيعه له نسيئة عند عدم حضور ماله، وليس مرادا، بل يجوز له أن يبيعه
بثمن حال، غير أنه لا يطالبه به في حال إعساره، وفائدة الحلول جواز المطالبة عند القدرة، ولا يلزمه أن يشتريه
بأكثر من ثمن مثله بل ينبغي أن يحتال في أخذه منه ببيع فاسد لئلا يلزمه أكثر من قيمته كأن يقول له: ابذله بعوض
فإن اشتراه منه بأكثر من ثمن مثله ولو بأكثر مما يتغابن به لزمه ذلك وإن غبن في شرائه أو كان عاجزا عن أخذه
منه وقهره لأنه مختار في الالتزام فكان كما لو اشتراه بثمن مثل فإن بذله له هبة لزمه قبوله أو بثمن المثل في مكانه
وزمانه أو بزيادة يتغابن بمثلها ومعه ثمنه أو رضي بذمته لزمه شراؤه حتى بإزاره وصلى عاريا إلا إن خشي التلف
بالبرد. (فلو أطعمه) أي المضطر (ولم يذكر عوضا) بل سكت عنه (فالأصح لا عوض) حملا على المسامحة المعتادة
في الطعام خصوصا في حق المضطر. والثاني عليه العوض لأنه خلصه من الهلاك.
تنبيه: محل الخلاف إذا لم يصرح المالك بالإباحة. قال البلقيني: وكذا لو ظهرت قرينة إباحة أو تصدق فلا
عوض قطعا وعلى الأول لو اختلفا في التزام عوض الطعام فقال: أطعمتك بعوض، فقال: بل مجانا صدق المالك بيمينه
لأنه أعرف بكيفية بذله. ولا أجرة لمن خلص مشرفا على الهلاك بوقوعه في ماء أو نار أو نحوه بل يلزمه تخليصه بلا
أجرة لضيق الوقت عن تقدير الأجرة، فإن اتسع الوقت لتقديرها لم يجب تخليصه إلا بأجرة. فإن قيل قد مر أنه
لا يجب بذل الطعام للمضطر مجانا فهل يفرق فيه بين ضيق فلا يجب كما هنا، أو لا يجب عليه إلا بعوض مطلقا؟ خلاف
نقل صاحب الشامل عن الأصحاب الأول. وقال الأذرعي: إنه الوجه. والذي قاله القاضي أبو الطيب وغيره واختصر
عليه الأصفوني والحجازي كلام الروضة الثاني وهو الظاهر والفرق أن في إطعام المضطر بذل مال فلا يكلف بذله بلا مقابل
بخلاف تخليص المشرف على الهلاك، ولو أوجر المالك المضطر قهرا، أو أوجره وهو مغمى عليه لزمه البذل لأنه غير
متبرع بل يلزمه إطعامه إبقاء لمهجته، ولما فيه من التحريض على مثل ذلك. فإن قيل: قد مر في المتن أنه لو أطعمه
ولم يذكر عوضا أنه لا عوض فيكون هنا كذلك كما قاله القاضي وغيره. أجيب بأن هذه حالة ضرورة فرغب فيها. (ولو
وجد مضطر ميتة وطعام غيره) الغائب (أو) وجد مضطر (محرم ميتة وصيدا) مأكولا غير مذبوح ولم يجد حلالا
يذبحه (فالمذهب) يجب (أكلها) أما في الأولى فلان إباحة الميتة للمضطر بالنص وإباحة مال الغير بالاجتهاد والنص
أقوى، ولان حق الله تعالى أوسع. وأما في الثانية فلان فيها تحريم ذبح الصيد وتحريم أكله، وفي الميتة تحريم واحد،
وما خف تحريمه أولى. والثاني يأكل الطعام والصيد. والثالث التخيير بين الاثنين في المسألتين لأن الأول نجس
309

لا ضمان فيه. والثاني ظاهر فيه الضمان، والخلاف في الأولى أوجه. ويقال أقوال. وفي الثانية قولان. والثالث
قول أو وجه. وفيها طريق قاطع بالأول بناء على أن ما يذبحه المحرم من الصيد ميتة أما إذا كان مالك الطعام حاضرا
وامتنع من البيع أصلا أو إلا بأكثر مما يتغابن به فإنه يجب عليه أكل الميتة في الأولى. ويجوز له في الثانية وسن له الشراء
بالزيادة إن قدر عليه.
تنبيه: مثل الميتة في ذلك صيد الحرم كما في الكفاية، فإن ذبح المحرم الصيد أو الحلال صيد الحرم وصار ميتة فيتخير
المضطر بينه وبين الميتة لأن كلا منهما ميتة، ولا مرجح ولا قيمة للحمه كسائر الميتات. وفي الصيد وطعام الغير
وجوه أحدها وهو الظاهر يتعين الصيد لبناء حق الله تعالى على المسامحة. ثانيها يتعين الطعام. ثالثها يتخير بينهما وإن
وجد المريض طعاما له أو لغيره يضره ولو بزيادة في مرضه فله أكل الميتة دونه، ويجوز للمضطر شرب البول عند
فقد الماء النجس لا عند وجوده، لأن الماء النجس أخف منه، لأن نجاسته طارئة. (والأصح) حيث لم يجد المضطر
شيئا يأكله (تحريم قطع بعضه) جزء من فخذه (لاكله) بفتح الهمزة وسكون الكاف، لأنه قد يتولد منه الهلاك
(قلت) أخذا من الرافعي في الشرح (الأصح جوازه) لأنه إتلاف بعضه لاستبقاء كله، فأشبه قطع اليد بسبب الاكلة
(وشرطه) أي الجواز أمران أحدهما (فقد الميتة ونحوها) مما مر (و) الأمر الثاني (أن يكون الخوف في قطعه أقل)
من الخوف في ترك الأكل فإن كان مثله أو أكثر حرم جزما. فإن قيل: قد تقدم في قطع السلعة الجواز عند تساوي
الخطرين فهلا كان هنا كذلك؟ أجيب بأن السلعة لحم زائد على البدن وفي قطعها إزالة الشين وتوقع الشفاء ودوام
البقاء فهو من باب المداواة بخلاف هذا فإن فيه إفسادا وتغييرا لبنيته. وليس من باب المداواة. ولهذا قيد البلقيني
محل القطع هنا بما إذا لم يكن ذلك المقطوع يجوز قطعه في غير الاضرار، فإن كان كالسلعة واليد المتأكلة حيث جاز
قطعها فيجوز ذلك في حال الاضرار قطعا ويحرم جزما على شخص (قطعه) أي بعض نفسه (لغيره) من المضطرين،
لأن قطعه لغيره ليس فيه قطع البعض لاستيفاء الكل.
تنبيه: هذا إذا لم يكن ذلك الغير نبيا، وإلا لم يحرم بل يجب. (و) يحرم على مضطر أيضا أن يقطع لنفسه
قطعة (من) حيوان (معصوم. والله أعلم) لما مر.
خاتمة: ترك التبسط في الطعام المباح مستحب فإنه ليس من أخلاق السلف، هذا إذا لم تدع إليه حاجة كقري
الضيف وأوقات التوسعة على العيال كيوم عاشوراء ويومي العيد، ولم يقصد بذلك التفاخر والتكاثر بل تطييب خاطر
الضيف والعيال، وقضاء وطرهم مما يشتهونه. وفي إعطاء النفس شهواتها المباحة مذاهب حكاها الماوردي: منعها
وقهرها لئلا تطغى، إعطاؤها نحيلا على نشاطها وبعثها لروحانيتها. قال: والأشبه التوسط بين الامرين لأن في إعطاء
الكل سلاطة عليه وفي منعه بلادة. ويسن الحلو من الأطعمة وكثرة الأيدي على الطعام وإكرام الضيف والحديث
الحسن على الاكل، ويسن تقليله، ويكره ذم الطعام إذا كان الطعام لغيره لما فيه من الايذاء فإن كان له فلا. وتكره
الزيادة على الشبع من الطعام الحلال إذا كان الطعام له أما في طعام مضيفه فإن علم رضاه بذلك فكذلك وإلا فحرام
كما مر في الوليمة ويسن أن يأكل من أسفل الصحفة ويكره من أعلاها، أو وسطها. وأن يحمد الله عقب الاكل
فيقول: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه. وفي البخاري: أنه (ص) كان إذا رفع مائدته قال: الحمد لله حمدا
كثيرا طيبا مباركا فيه غير مكفي ولا كفور ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا برفعه بالابتداء أو الخبرية، وبنصبه
للاختصاص أو النداء، وبجره بالبدل من الله. وروى أبو داود بإسناد صحيح: أنه (ص) كان إذا
أكل وشرب قال: الحمد لله الذي أطعم وسقى وسوغه وجعل له مخرجا.
310

كتاب المسابقة
على الخيل ونحوها، من السبق بسكون مصدر سبق: أي تقدم، وبالتحريك المال الموضوع بين أهل السباق (والمناضلة)
على السهام ونحوها، وهو - بالضاد المعجمة - المراماة، وهو بمعنى المغالبة، يقال: ناضلته فنضلته كغالبته فغلبته وزنا ومعنى
وقال الأزهري: النضال الرمي، والرهان في الخيل، والسباق يكون في الخيل والرمي كما في قوله تعالى * (إنا ذهبنا نستبق
) *. قيل: معناه ننتضل بالسهام، فعلى هذا الترجمة بالمسابقة كا ف لشمول الامرين، وعليه اقتصر في التنبيه، وهذا الباب
لم يسبق الشافعي رضي الله تعالى عنه أحد إلى تصنيفه كما قاله المزني. (هما) أي كل منهما للرجال المسلمين
غير ذوي الأعذار
كما صرح به صاحب الاستقصاء في الأعرج يقصد التأهب للجهاد (سنة) أي مسنون بالاجماع، ولقوله تعالى *
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) * الآية وفسر النبي (ص) القوة بالرمي رواه مسلم. ولخبر البخاري: خرج النبي (ص)
على قوم من أسلم ينتضلون فقال: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميا. ولخبر أنس: كانت العضباء ناقة رسول الله
(ص) لا تسبق فجاء أعرابي على قعود له فسبقها فشق ذلك على المسلمين، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من هذه الدنيا إلا وضعه. ولخبر الترمذي وحسنه وابن حبان وصححه: لا سبق
إلا في خف أو حافر أو نصل. قال الزركشي: وينبغي أن يكونا فرض كفاية لأنهما من وسائل الجهاد وما لا يتوصل
إلى الواجب الآية فهو واجب والامر بالمسابقة يقتضيه، قال: وقضية كلام المصنف تساويهما في مطلق السنة، وينبغي أن
تكون المناضلة آكد، ففي السنن مرفوعا: ارموا أو اركبوا وأن تراموا خير لكم من أن تراكبوا والمعنى فيه أن السهم
ينفع في السعة والضيق كمواضع الحصار بخلاف الفرس، فإنه لا ينفع في الضيق، بل قد يضر. قال في الروضة: ويكره
لمن علم الرمي تركه كراهة شديدة ففي صحيح مسلم أنه (ص) قال: من علم الرمي ثم تركه فليس منا - أو
قد عصى فإن قصد بذلك غير الجهاد فهو مباح، لأن الأعمال بالنيات كما قاله الماوردي. قال الأذرعي: فإن قصد بهما
محرما كقطع الطريق حرما. أما النساء فصرح الصيمري بمنع ذلك لهن وأقراه. قال الزركشي وغيره: ومراده أنه لا يجوز
بعوض لا مطلقا، فقد روى أبو داود بإسناد صحيح أن عائشة رضي الله تعالى عنها سابقت النبي (ص).
(ويحل أخذ عوض عليهما) بالوجه الآتي لأن فيه ترغيبا للاستعداد للجهاد. وقال الخطابي: الرواية الصحيحة في خبر
الترمذي المار، وهو الأسبق الخ - بفتح الباء - وهو المال الذي يأخذه السابق (وتصح المناضلة على سهام) عربية، وهي
النبل وعجمية، وهي النشاب لعموم الحديث السابق في قوله أو نصل (وكذا مزاريق) جمع مزراق، وهو الرمح صغير
(ورماح) هو من عطف العام على الخاص (ورمي) بالجر بخطه (بأحجار) بمقلاع أو يد (ومنجنيق) أي الرمي به. وهو من
عطف الخاص على العام عكس المتقدم (وكل نافع في الحرب) غير ما ذكر مما يشبهه كالرمي بالمسلات والابر والتردد بالسيوف
والرماح (على المذهب) قال البلقيني: والذي يظهر امتناع ذلك في الإبرة وجوازه في المسلة إذا كان يحصل برميها النكاية
الحاصلة من السهم اه‍. ومقابل المذهب عدم الصحة فيما ذكر، لأنه ليس من آلة الحرب وورد وقطع بالأول وخرج
بقوله: ورمي بأحجار المداحاة بأن يرمي كل واحد منهما الحجر إلى صاحبه فباطلة قطعا وإشالة الحجر باليد
ويسمى العلاج
والأكثرون على عدم جواز العقد عليه، وأما الثقاف فلا نقل فيه. قال الأذرعي: والأشبه جوازه لأنه ينفع في حال
المسابقة وقد يمنع خشية الضرر إذ كل يحرص على إصابة صاحبه كاللكام و (لا) تصح المسابقة بعوض (على كرة صولجان)
311

والكرة - بضم الكاف وتخفيف الراء - وتجمع على كرين وهاؤها عوض عن واو: جسم محيط به سطح في داخله نقطة،
والصولجان - بصاد مهملة ولام مفتوحتين - عصا محنية الرأس، وهو فارسي معرب لأن الصاد والجيم لا يجتمعان في كلمة
واحدة من كلام العرب وتجمع على صوالجة (و) لا على (بندق) يرمي به إلى حفرة ونحوها (و) لا على (سباحة) في الماء
(و) لا على (شطرنج) بكسر وفتح أوله المعجم والمهمل (و) لا على (خاتم) بكسر التاء وفتحها، ويقال أيضا ختام وختام
(و) لا على (وقوف على رجل، و) لا على (معرفة ما في يده) من شفع ووتر، وكذا سائر أنواع اللعب كالمسابقة على
الاقدام وبالسفن والزوارق، لأن هذه الأمور لا تنفع في الحرب هذا إذا عقد عليها بعوض، وإلا فمباح. وأما الرمي
بالبندق على قوم فظاهر كلام الروضة كأصلها أنه كذلك، لكن المنقول في الحاوي الجواز. قال الزركشي: وقضية
كلامهم أنه لا خلاف فيه قال وهو أقرب (وتصح المسابقة) بعوض وغيره (على خيل) للحديث المار لا سبق إلا
في خف أو حافر.
تنبيه: سكت كالمحرر عن الإبل، وهي كالخيل لهذا الحديث والعرب تقاتل عليها أشد القتال. قال ابن شهبة:
وعجب سكوتهما عنها مع قولهما بعد ذلك وسبق إبل بكتف. وفي زيادة الروضة عن الدارمي وجهان في اختصاص الخيل
بما يسهم له وهو الجذع أو الثني أو يطرد في الصغير. قال البلقيني: الأرجح عندنا جوازها على ما يعتاد المسابقة عليها،
قال: أما غيرها فالمسابقة عليها لا تظهر فروسية، ولا يجوز أخذ السبق عليها. (وكذا فيل وبغل وحمار) تصح المسابقة عليها
بعوض وغيره (في الأظهر) لعموم الحديث المار، قال الإمام: ويؤيده العدول عن ذكر الفرس والبعير إلى الخف والحافر
ولا فائدة فيه غير قصد التعميم. والثاني قصر الحديث على الإبل والخيل، لأنها المقاتل عليها غالبا، أما بغيره فيجوز،
ولا يجوز على الكلاب ومهارشة الديكة ومناطحة الكباش بلا خلاف لا بعوض ولا غيره، لأن فعل ذلك سفه، ومن
فعل قوم لوط الذين أهلكهم الله بذنوبهم، و (لا) على (طير) جمع طائر كراكب وركب (وصراع) قال ابن قاسم:
بكسر الصاد ووهم من ضمها فلا تجوز المسابقة في المسألتين عليها بعوض (في الأصح) لأنهما ليسا من آلات القتال. والثاني
تجوز، أما الطير فللحاجة إليها في الحرب لانهاء الاخبار. وأما الصراع فلان النبي (ص) صارع ركانة على
شياه، رواه أبو داود في مراسيله. وأجاب الأول بأن الحاجة إلى الطير تافهة فلا تقابل بعوض أو بأن الغرض من مصارعة
ركانة أن يريه شدته ليسلم بدليل أنه لما صرعه فأسلم رد عليه غنمه، فإن كان ذلك بلا عوض جاز جزما، وكذا كل ما لا
ينفع في الحرب كالشباك والمسابقة على البقر فتجوز بلا عوض، وأما الغطس في الماء فإن جرت العادة بالاستعانة به في
الحرب فكالسباحة فيجوز بلا عوض وإلا فلا يجوز مطلقا (والأظهر أن عقدهما) أي المسابقة والمناضلة (لازم) أي
لمن التزم العوض، أما من لم يلتزم شيئا فجائز في حقه، وقد يكون العقد لازما من جانب وجائز من جانب كالرهن
والكتابة، وإنما قال (لا جائز) ليصرح بمقابل الأظهر القائل بأنه كعقد الجعالة، لأن العوض مبذول في مقابلة ما لا يوثق
به كرد الآبق.
تنبيه: محل الخلاف إذا كان العقد بعوض منهما بمحل أو من أحدهما أو من غيرهما كما سيأتي وإلا فجائز قطعا،
وقيل على القولين. قال الأذرعي: وزيف اه‍. ويؤخذ من التعبير بالعقد اعتبار الايجار والقبول لفظا وعلى
لزمه. (فليس لأحدهما) إذا التزما المال، وبينهما محلل (فسخه) لأن هذا شأن العقود اللازمة. نعم إن بان
بالعوض المعين عيب ثبت حق الفسخ كما في الأجرة (ولا ترك العمل قبل الشروع) فيه (و) لا (بعده) فاضلا
كان أو مفضولا كما يشعر به إطلاقه، لكن محله في الفاضل إذا أمكن أن يدركه الآخر ويسبقه لأن ذلك ثمرة
اللزوم فإن لم يمكن أن يدركه ويسبقه فله تركه لأنه ترك حق نفسه (ولا زيادة و) لا (مقص فيه) أي العمل (ولا في
312

مال) ملتزم بالعقد إلا أن يفسخا العقد الأول ويستأنفا عقدا جديدا إن وافقهما المحلل، وعلى الجواز يجوز جميع
ذلك أما إذا كان المال من أحدهما أو من أجنبي فلغيره الفسخ بلا عيب كالمحلل (وشرط المسابقة) أي شروطها
بين اثنين مثلا عشرة: أولها أن يكون المعقود عليه عدة للقتال كما مر، ثانيها (علم الموقف) الذي يبتدئان الجري منه
(و) علم (الغاية) التي يجريان إليها.
تنبيه: دخل في إطلاقه الغاية صورتان: الأولى أن يكون إما بتعيين الابتداء والانتهاء، وإما مسافة يتفقان
عليها مروة أو مشهورة. الثانية أن يعينا الابتداء والانتهاء، ويقولا إن اتفق السبق عندها فذاك وإلا فغايتنا موضع
كذا فيجوز، فإن لم يعينا غاية وشرطا المال لمن سبق منهما لم يجز كما جزم به في المحرر. (و) ثانيهما (تساويهما
فيهما) أي الموقف والغاية، فلو شرط تقدم موقف أحدهما أو تقدم غايته لم يجز، لأن المقصود معرفة فروسية الفارسين
وجودة جرى الدابة، وهو لا يعرف مع تفاوت المسافة لاحتمال أن يكون السبق لقرب المسافة لا لحذق الفارس ولا لفراهة
الدابة (و) ثالثها (تعيين الفرسين) مثلا، لأن الغرض معرفة سيرهما، وهي تقتضي التعيين ويكفي وصفهما في
الذمة كما في أصل الروضة، لأن الوصف يقوم مقام التعيين كما في السلم وإن كان ظاهر كلام المصنف أن
الوصف لا يكفي
وصححه الغزالي. وقال الأذرعي: إنه الصحيح (ويتعينان) بالتعين فلا يجوز إبدالهما ولا أحدهما لاختلاف الغرض،
فإن وقع هلاك انفسخ العقد فإن وقع العقد على موصوف في الذمة لم يتعين كما بحثه الرافعي فلا ينفسخ العقد بموت
الفرس الموصوف كالأجير غير المعين.
تنبيه: مراده بالامكان الغالب، فإن أمكن نادرا لم يصح في الأصح وقد علم من هذا الشرط أنه لا تجوز
المسابقة بين الخيل والإبل ولا بين الخيل والحمير وهو الأصح. وأما بين البغل والحمار فيجوز على الأصح لتقاربهما،
ولا يضر اختلافهما في النوع كعتيق وهجين من الخيل ونجيب وبختي من الإبل. وخامسها أن يركبا المركوبين ولا
يرسلاهما، فلو شرطا إرسالهما ليجريا بأنفسهما لم يصح لأنهما ينفران به ولا يقصدان الغاية بخلاف الطيور إذا جوزنا
المسابقة عليها لأن لها هداية إلى قصد الغاية. وسادسها أن يقطع المركوبان المسافة، فيعتبر كونهما بحيث يمكنهما
قطعها بلا انقطاع وتعب وإلا فالعقد باطل. وسابعها تعين الراكبين، فلو شرط كل منهما أن يركب دابته من شاء لم يجز
حتى يتعين الراكبان، قاله الصيمري. ولا يكفي الوصف في الراكب كما بحثه الزركشي. وثامنها المال كما يؤخذ من قوله
(والعلم بالمال المشروط) جنسا وقدرا وصفة كسائر الأعواض عينا كان أو دينا حالا أو مؤجلا أو بعضه كذا وبعضه
كذا، فإن كان معينا كفت رؤيته على الأصح عند المصنف، فلا يصح عقد بغير مال ككلب ولا مال مجهول كثوب
غير موصوف، فإن كان لأحدهما على الآخر مال في ذمته وجعلاه عوضا جاز بناء على جواز الاعتياض عنه وهو
الراجح (ويجوز شرط المال) أي إخراجه في المسابقة (من غيرهما) أي المتسابقين (بأن يقول الإمام أو أحد
الرعية) وأخصر وأشمل من ذلك: أو أجنبي (من سبق منكما فله في بيت المال) كذا هذا مقول الإمام، ويكون
ما يخرجه من بيت المال من سهل المصالح كما قاله البلقيني (أو) من سبق منكما (فله علي كذا) هذا مقول أحد
الرعية فهو من باب اللف والنشر المرتب، وإنما صح هذا الشرط لما فيه من التحريض على تعلم الفروسية وأعداد
أسباب القتال، ولأنه بذل مال في طاعة (أو) يجوز أيضا شرط المال (من أحدهما) فقط (فيقول إن سبقتني
313

فلك علي كذا، أو سبقتك فلا شئ عليك) لانتفاء صورة القمار المحرمة. وتاسعها المحلل إذا كان المال منهما كما
يؤخذ من قوله (فإن شرط) أي شرط في عقد المسابقة (أن من سبق منهما فله على الآخر كذا لم يصح) هذا
الشرط (إلا بمحلل) بكسر اللام بخطه من أحل جعل الممتنع حلا، لأنه يحل العقد ويخرجه عن صورة القمار
المحرم (فرسه كف ء لفرسيهما) يغنم إن سبق ولا يغرم أن سبق، فيجوز لخروجه بذلك عن صورة القمار، واحترز
بقوله كفرسيهما عما لو كان ضعيفا عنهما أو أفره منهما فإنه لا يصح، والكف ء - مثلث الكاف - المساوي
والنظير.
تنبيه: لا يشترط أن يكون بين كل اثنين محلل كما يفهمه كلام المصنف، بل يكفي المحلل لجماعة وإن كثروا،
وقوله: فرسه مثال فإن كل ما تصح المسابقة عليه كذلك، واقتصر على شرط واحد للمحلل، ونقل في البحر عن الأصحاب
له أربعة، هذا، وأن يكون فرسه معينا عند العقد كفرسيهما، وأن لا يخرج شيئا، وأن يأخذ إن سبق، فإن شرط أن
لا يأخذ لم يخرج، وهذا الرابع يؤخذ من كلام المصنف (فإن سبقهما أخذ المالين) سواء أجاءا معا أم مرتبا لسبقه
لهما (وإن سبقاه وجاءا معا فلا شئ لاحد) لعدم سبقه لهما وعدم سبق أحدهما للآخر (وإن جاء) المحلل (مع أحدهما)
أي المتسابقين وتأخر الآخر (فمال هذا لنفسه) لأنه لم يسبقه أحد (ومال المتأخر للمحلل وللذي معه) على الصحيح المنصوص
لأنهما سبقاه (وقيل) هو (للمحلل فقط) اقتصارا لتحليله على نفسه (وإن جاء أحدهما، ثم المحلل، ثم الآخر فمال الآخر
للأول في الأصح) لسبقه الاثنين، والثاني له وللمحلل لسبقهما الآخر ولا خلاف أن الأول يجوز ما أخرجه.
تنبيه: الصور الممكنة في المحلل ثمانية. أن يسبقهما ويجيئان معا أو مرتبا، أو يسبقاه ويجيئان معا أو
مرتبا، أو يتوسط بينهما أو يكون مع أولهما أو ثانيهما أو يجئ الثلاثة معا. ولا يخفى الحكم في الجميع. (وإن تسابق ثلاثة فصاعدا)
وباذل المال غيرهم (وشرط للثاني) منهم (مثل الأول فسد) العقد لأن كل واحد منهما لا يجتهد في السبق لوثوقه
بالمال سبق أو لم يسبق. هذا ما جزم به في المحرر وتبعه المصنف واعتمده البلقيني، ولكن الأصح كما في الشرحين
والروضة الصحة لأن كلا منهما يجتهد ويسعى أن يكون أولا أو ثانيا، فإن شرط للثاني أكثر من الأول أو الكل فسد
العقد، وأما الفسكل وهو الأخير، فلا يجوز أن يساوي من قبله، ويجوز أن يشرط له دون ما شرط لمن قبله في
الأصح (و) إن شرط للثاني منهم (دونه) أي أقل من الأول (يجوز) بل يستحب (في الأصح) لأنه يسعى ويجتهد ليفوز
بالأكثر، والثاني المنع لأنه يكسل إذا علم أنه يفوز بشئ فيفوت مقصود العقد، ويقاس بما ذكر ما لو كانوا أكثر من
ثلاثة، فلو كانوا عشرة مثلا وشرط لكل واحد سوى الفسكل مثل المشروط لمن تقدمه جاز في الأصح على ما في
الروضة وامتنع على ما في المتن. وعاشرها اجتناب شرط مفسد، فإن قال إن سبقتني فلك هذا الدينار بشرط أن تطعمه
أصحابك فسد العقد لأنه تمليك بشرط يمنع كمال التصرف فصار كما لو باعه شيئا بشرط أن لا يبيعه.
تنبيه: لم يتعرض المصنف هنا ولا في الروضة لاسماء خيل السباق وعدها الرافعي في الشرح عشرة.
نظمها بعضهم بقوله:
وهي مجل ومصل تالي البارع والمرتاج بالتوالي
ثم خطي عاطف مؤمل ثم السكيت والأخير الفسكل
314

وقال بعض آخر:
وجملة خيل السبق تسمى بحلية * وترتيبها من بعد ذا أنا واصف
مجل مصل ثم تال فبارع * فمرتاجها ثم الخطي فعاطف
مؤملها ثم اللطيم سكيتها * والآتي أخيرا فسكل وهو تائف
والفسكل بكسر الفاء والكاف، ويقال بضمهما، ويقال فيهما غير ذلك، ومنهم من زاد حادي عشر سماه المقردح
والفقهاء قد يطلقونها على ركاب الخيل. ثم شرع فيما يحصل به السبق، فقال: (وسبق إبل) أي ونحوها كفيلة عند إطلاق
العقد كما في الروضة (بكتف) وعبر فيها كأصلها تبعا للنص، والجمهور بكتد بمثناة فوقية وفتحها أشهر من كسرها وهو
مجمع الكتفين بين أصل، العنق والظهر ويسمى الكاهل قاله الشيخ أبو حامد، ونقل البغوي عن الربيع أنه الكتف
ولكونه أشهر من الكتد، عبر به المصنف، وقال الجوهري: الكتد هو ما بين الكاهل والظهر، وعليه لا يصح التعبير
بواحد منهما (و) سبق (خيل) أي ونحوها كبغال (بعنق) فمتى سبق أحدهما الآخر بكتفه أو عنقه أو بعضه عند الغاية هو
السابق، وإنما اعتبر ذلك لأن الإبل ترفع أعناقها في العدو فلا يمكن اعتبارها، والخيل تمدها فاعتبر بها.
تنبيه: هذا إذا استوى الفرسان في خلقة العنق طولا وقصرا، فإن اختلفا وسبق الأقصر عنقا أو الأطول بأكثر
من قدر الزيادة فهو السابق وإلا فلا، ولو رفعت الخيل أعناقها فقضية التعليل السابق أن الحكم فيها كالإبل، وبه صرح
الجرجاني والفوراني وجزم البلقيني وعلى هذا تستثنى هذه الصورة من كلام المصنف. (وقيل) يعتبر السبق (بالقوائم
فيهما) أي الإبل والخيل: أي ونحوهما لأن العدو بالقوائم وهو الأقيس عند عدم الإمام، أما إذا لم يطلقا العقد، بل شرطا
في السبق إقداما معلومة، فإن السبق لم يحصل بما دونها، ولو سبق واحد في وسط الميدان والآخر في آخره فهو السابق
ولو عثر أحد المركوبين أو وقف لمرض ونحوه فتقدم الآخر لم يكن سابقا أو بلا علة فمسبوق لا إن وقف قبل أن يجري
ويسن جعل قصبة في الغاية يأخذها السابق ليظهر سبقه (ويشترط للمناضلة) أي لصحتها (بيان أن الرمي) فيها (مبادرة
وهي أن يبدر) أي يسبق (أحدهما) أي المتناضلين (بإصابة العدد المشروط) مع استوائهما في العدد والرمي كخمسة من
عشرين، فمن أصابه ناضل لمن أصاب أربعة من عشرين فيستحق المال المشروط في العقد، وإن أصاب كل منها خمسة
فلا ناضل منهما (أو) بيان أن الرمي في المناضلة (محاطة) بتشديد الطاء (وهي أن تقابل إصابتهما) من عدد معلوم كأن
يقول كل منهما نرمي عشرين مثلا (ويطرح المشترك) أي ما اشتركا فيه الإصابات (فمن زاد) فيها (بعدد كذا) كخمس
(فناضل) للآخر فيستحق المال المشروط في العقد، ولو أصاب أحدهما من العشرين خمسة ولم يصب الآخر شيئا.
فهل يقال الأول ناضل أو لا؟ إن قيل: نعم انتقض حد المحاطة لكونها لا تقابل ولا طرح، وإن قيل لا احتيج
إلى نقل. وقضية كلامه أنهما لو شرطا النضل بواحدة وطرح المشترك أنه لا يكون من صور المحاطة لأن الواحد ليس
بعدد وليس مرادا.
تنبيه: ما جزم به المصنف من اشتراط التعرض لكون الرمي مبادرة أو محاطة تبع فيه المحرر وهو وجه والأصح
كما في أصل الروضة والشرح الصغير أنه لا يشترط التعرض لهما في العقد والاطلاق محمول على المبادرة لأنها الغالب
من المناضلة، ويشترط ذكر عدد الرمي في عقد محاطة أو مبادرة إلا إذا توافقا على رمية واحدة وشرطا المال لمضيها
فيصح في الأصح. (و) يشترط في الرمي مبادرة أو محاطة (بيان عدد نوب الرمي) بين الراميين لينضبط العمل وهي أن
المناضلة كالميدان في المسابقة فيجوز أن يشرطا رمي سهم سهم أو أكثر من ذلك، ويجوز أن يشرطا تقدم واحد
315

بجميع سهامه ولو أطلقا صح وحمل على رمي سهم سهم كذا قالاه. وظاهره أن بيان عد نوب الرمي مستحب
وبه صرح الماوردي خلافا لما يوهمه كلام المصنف، ولو اتفقا على أن يرميا سهما سهما صح خلافا لما يوهمه كلامه أيضا
لما مر من أن الواحد ليس بعدد (و) بيان عدد (الإصابة) كخمسة من عشرين لأن الاستحقاق بالإصابة وبها يتبين
حذق الرامي وجودة رميه.
تنبيه: يشترط إمكان الإصابة والخطأ فيفسد العقد إن امتنعت الإصابة عادة لصغر الغرض أو كثرة الإصابة
المشروطة كعشرة متوالية أو ندرت كإصابة تسعة من عشرة أو تيقنت كإصابة حاذق واحد من مائة. واشتراط بيان
عدد الإصابة يقتضي أنه لو قالا نرمي عشرة فمن أصاب أكثر من صاحبه فناضل لا يكفي، وجزم الأذرعي بأنه يكفي
وهو الظاهر. (و) بيان (مسافة ارمي) وهي ما بين موقف الرامي والغرض لاختلاف الغرض بها وبيانها: إما بالذرعان
أو المشاهدة.
تنبيه: محل اشتراط ذلك ما إذا لم يكن هناك عادة غالبة، وإلا فينزل المطلق عليها كما هو المرجح في الروضة كأصلها،
ولو تناضلا على أن يكون السبق لأبعدهما رميا ولم يقصدا غرضا صح العقد على الأصح فيراعى للبعد استواؤهما في شدة
القوس ورزانة السهم، ويشترط أن يكون الوصول إلى الغرض ممكنا، فإن لم يمكن لم يصح العقد، وكذا لو كانت الإصابة
فيها نادرة على الأرجح، قالا: وقدر الأصحاب المسافة التي يقرب توقع الإصابة فيها بمائتين وخمسين ذراعا، وما يتعذر
فيها بما فوق ثلاثمائة وخمسين، وما يندر فيها بما بينهما قال الدميري: والظاهر أن المراد بالذراع ذراع اليد المعتبر في مسافة
الإمام والمأموم. (و) بيان (قدر الغرض طولا وعرضا) وسمكا وارتفاعا من الأرض (إلا أن يعقد) بمثناة تحتية بخطه (بموضع
فيه غرض معلوم فيحمل المطلق عليه) ولا يحتاج لبيان قدر الغرض كما مر في المسافة.
تنبيه: قوله: عليه ينبغي عوده على المسألتين، أعني مسافة الرمي وقدر الغرض ليوافق ترجيح الروضة المتقدم،
والغرض - بفتح الغين المعجمة والراء المهملة - ما يرمى إليه من خشب أو جلد أو قرطاس، والهدف ما يرفع ويوضع
عليه الغرض والرقعة عظم ونحوه يجعل وسط الغرض، والدارة نقش مستدير كالقمر قبل استكماله قد يجعل بدل الرفعة
في وسط الغرض أو الخاتم وهو نقش في وسط الدارة، وقد يقال له الحلقة والرقعة. قال الماوردي: ويشترط أن يكون
محل الإصابة معلوما هل هو الهدف أو الغرض أو الدارة؟ فإن أغفل ذلك كان جميع الغرض محلا للإصابة، وإن
شرطت الإصابة في الهدف وهو تراب يجمع أو حائط يبني سقط اعتبار الغرض ولزم وصف الهدف في طوله وعرضه
الغرض لزمه وصفه أو في الدارة سقط اعتبار الغرض ولزم وصف الدارة اه‍. ولو شرط إصابة الخاتم ألحق بالنادر.
(وليبينا صفة الرمي) أي كيفيته وإصابة الغرض (من قرع) بقاف مفتوحة وراء ساكنة سمي بذلك لقرعه الغرض (وهو
إصابة الشن) - بشين معجمة بعدها نون - وهو الغرض الذي تقصد إصابته، وأصله الجلد البالي، وقيل هو جلدة تلصق
على وجه الهدف (بلا خدش) له (أو) من (خزق) بخاء وزاي معجمتين (وهو أن يثقبه) أي السهم الشن (ولا
يثبت فيه) بأن يعود (أو) من (خسق) بخاء معجمة، ثم سين مهملة (وهو أن يثبت فيه) ولو مع خروج بعض
النصل أو مع وقوعه في ثقب قديم وله قوة بحيث يخرق لو أصاب موضعا صحيحا (أو) من (مرق) بسكون الراء
(وهو أن ينفذ) ويخرج من الجانب الآخر. قال ابن شهبة: وإنما يتصور ذلك في الشن المعلق اه‍. وإنما اعتبرت هذه
الصفات لأن الأغراض تختلف بها، وأهمل المصنف الخرم - بالراء المهملة - وهو أن يصيب طرف الغرض فيخرمه،
وكان الأولى أن يقول وليبينا صفة الإصابة كما في المحرر والروضة وأصلها فإن ما ذكر صفة لها للرمي فعجب من
316

المصنف، فإن الشيخ عبر في التنبيه كما في الكتاب فاعترضه المصنف في التحرير بما ذكرناه.
تنبيه: ظاهر كلامه تعين هذه الصفات بالشرط، وليس مرادا مطلقا بل كل صفة يغنى عنها ما بعدها فالقرع
يغني عنه الخزق وما بعده، والخزق يغني عنه الخسق وما بعده، وهكذا إلى آخرها، وما ذكره من المغايرة بين الخزق
والخسق خلاف ما يقتضيه كلام الجوهري والأزهري حيث جعلا الخازق - بالزاي - لغة في الخسق - بالسين -، فهما شئ واحد
فلعل ما ذكره الفقهاء هو عرف الرماة. (فإن أطلقا) العقد كفى، و (اقتضى القرع) لأنه التعارف (ويجوز عوض
المناضلة من حيث) أي من الجهة التي (يجوز) منها (عوض المسابقة) فيخرج عوض المناضلة الإمام من
بيت المال،
أو أحد الرعية، أو أحد المتناضلين، أو كلاهما فيقول الإمام أو أحد الرعية إرميا كذا، فمن أصاب من كذا فله في بيت
المال أو علي كذا، أو يقول أحدهما نرمي من كذا فإن أصبت أنت منها كذا فلك علي كذا، وإن أصبتها أنا فلا شئ لي
عليك، وأشار بقوله: (وبشرطه) إلى أن العوض إذا شرطه كل منهما على صاحبه لا يصح إلا بمحلل يكون رميه كرميهما
في القوة والعدد المشروط يأخذ ما لهما إن غلبهما ولا يغرم إن غلب (ولا يشترط) في المناضلة (تعيين قوس وسهم)
لأن الاعتماد على الرامي بخلاف المركوب في المسابقة (فإن عين) شئ منهما (لغا) ذلك المعين (وجاز إبداله بمثله)
من ذلك النوع سواء أحدث فيه خلل يمنع من استعماله أم لا بخلاف المركوب كما مر، واحترز بقوله بمثله عن الانتقال
من نوع إلى نوع كالقسي الفارسية والعربية فإنه لا يجوز إلا بالرضا، لأنه ربما كان به أرمى (فإن شرط منع إبداله فسد
العقد) لأنه شرط فاسد يخالف مقتضى العقد فأفسده لما فيه من التضييق على الرامي، فإنه قد يعرض له أحوال خفية
تحوجه إلى الابدال.
تنبيه: لا يشترط تعيين نوع في العقد، لأن الاعتماد في المناضلة على الرامي كما مر، فإذا أطلقا صح العقد، ثم
إن تراضيا على نوع فذاك، أو نوع من جانب وآخر من جانب جاز في الأصح، وإن تنازعا فسخ العقد في الأصح،
وقيل ينفسخ، ولا يتناول عبارة المصنف هذه الصورة، لأن التفريع المذكور من أنه لو عين لغا وما بعده لا يستقيم
في تعيين النوع وعدم اشتراطه النوع، أما اتحاد الجنس فيشترط، وإن اختلف كسهام مع رماح لم يصح على الأصح.
(والأظهر اشتراط بيان البادئ) من المتناضلين (بالرمي) لاشتراط الترتيب بينهما فيه حذرا من اشتباه المصيب بالمخطئ
كما لو رميا معا، فإن لم يبيناه فسد العقد. والثاني لا يشترط بيانه ورجحه البلقيني وعليه يقرع بينهما، وعلى الأول
لو بدأ أحدهما في نوبة له تأخر عن الآخر في الأخرى، ولو شرط تقديمه أبدا لم يجز، لأن المناضلة مبنية على التساوي،
والرمي في غير النوبة لاغ، ولو جرى باتفاقهما فلا تحسب الزيادة له إن أصاب، ولا عليه إن أخطأ، ويشترط أيضا كما
سبق تساويهما في المواقف، فلو شرط كون أحدهما أقر ب للغرض فسد العقد (ولو حضر جمع للمناضلة فانتصب زعيمان)
تثنية زعيم، وهو سيد القوم (يختاران) قبل عقدهما من ذلك الجمع (أصحابا) أي حزبا، وكان انتصابهما برضا
ذلك الجمع (جاز) ويكون كل حزب في الإصابة والخطأ كشخص واحد. قال القاضي الحسين: ويشترط كونها
أحد
الجماعة، وللجواز أربعة شروط: أحدها أن يكون لكل حزب زعيم، فلا يكفي زعيم واحد كما لا يجوز أن يتولى
واحد طرفي البيع. الثاني تعيين الأصحاب قبل العقد ويختاران واحدا بواحد، وهكذا حتى يتم العدد، ولا يجوز أن
يختار واحد جميع حزبه أولا لئلا يؤخذ الحذاق. الثالث استواء عدد الحزبين عند العراقيين، وبه أجاب البغوي، وهو
أظهر من قول الإمام: لا يشترط التساوي في العدد. بل لو رمى واحد سهمين في مقابلة اثنين جاز الرابع إمكان قسمة
السهام عليهم بلا كسر. فإن تحزبوا ثلاثة اشترط أن يكون للسهام ثلث صحيح كالثلاثين، وإن تحزبوا أربعة فربع
صحيح كالأربعين، ويجوز شرط المال من غيرهما، ومن أحدهما ومنهما لكن بمحلل، وهو حزب ثالث يكافئ
317

كل حزب في العدد والرمي كما قاله الماوردي (ولا يجوز شرط تعيينهما) أي الأصحاب (بقرعة) ولا أن يختار واحد
جميع الحزب أولا، لأن القرعة أو الذي اختاره قد يجمع الحذاق في جانب وضدهم في الآخر فيفوت مقصود المناضلة،
ولو تنازع الزعيمان فيمن يختار أولا أقرع بينهما. قال الإمام: ولو ضم حاذق إلى غيره في كل جانب وأقرع فلا بأس.
قال الرافعي: ولو رضيا بمن أخرجته وعقدا عليه فينبغي جوازه اه‍. وبعد تمييز الأصحاب وتراضي الحزبين يتوكل كل
زعيم عن أصحابه في العقد ويعقدان. قال في أصل الروضة: ونص في الام على أنه يشترط أن يعرف كل واحد من
يرمي معه بأن يكون حاضرا أو غائبا يعرفه، قاله القاضي أبو الطيب، وظاهره أنه يكفي معرفة الزعيمين، ولا يعتبر أن
يعرف الأصحاب بعضهم بعضا، وابتداء أحد الحزبين كابتداء أحد الرجلين، ولا يجوز أن يشترط أن يتقدم من هذا
الحزب فلان ويقابله من الحزب الآخر فلان، لأن تدبير كل حزب إلى زعيمه، وليس للآخر مشاركته فيه.
تنبيه: أفهم كلامه أنه لا يشترط في الزعيم معرفة كون الحزب راميا، بل تكفي المشاهدة ولهذا قال: (فإن اختار)
زعيم (غريبا ظنه راميا فبان خلافه) أي لم يحسن رميا أصلا (بطل العقد فيه وسقط من الحزب الآخر واحد) بإزائه
ليحصل التساوي، كما إذا بطل البيع في بعض المبيع سقط قسطه من الثمن (وفي بطلان الباقي) من الحزبين (قولا)
تفريق (الصفقة) أظهرهما تفرق، ويصح العقد فيه (فإن صححنا) العقد في الباقي وهو الأصح (فلهم جميعا الخيار)
بين الفسخ والإجازة للتبعيض (فإن أجازوا) العقد (وتنازعوا فيمن) أي في تعيين من (يسقط بدله فسد العقد)
لتعذر إمضائه، هذا إذا قلنا سقط واحد على الابهام كما هو ظاهر كلام المصنف، ولكن ذكر ابن الصباغ في الشامل والشاشي
في الحلية وصاحب الترغيب كما حكاه الأذرعي أنه يسقط الذي عينه الزعيم في مقابلته، لأن أحد الزعيمين يختار واحدا
ويختار الآخر واحدا في مقابلته. وقال البلقيني: إنه متعين، لأن الابطال مع الابهام مع الاختلاف فيه عذر
عظيم اه‍. وعلى هذا لا فسخ ولا منازعة، ويحمل كلام المصنف على ما إذا لم يعلم مقابله، أما إذا بان ضعيف الرمي
أو قليل الإصابة فلا فسخ، ولو بان فوق ما ظنوه فلا فسخ للحزب الآخر، ولو اختار مجهولا ظنه غير رام فبان
راميا قال الزركشي: فالقياس البطلان أيضا.
تنبيه: لو تناضل غريبا لا يعرف كل منهما الآخر جاز، فإن بان غير متكافئين فهل يبطل العقد أو لا؟ وجهان:
أظهرهما كما جزم به ابن المقري البطلان لتبين فساد الشرط. (وإذا نضل) أي غلب في المناضلة (حزب) من الحزبين
الآخر (قسم المال) المشروط (بحسب الإصابة) لأنهم استحقوا بها، فمن لا إصابة له لا شئ له، ومن أصاب أخذ
بحسب إصابته (وقيل) يقسم المال (بالسوية) بينهم على عدد رؤوسهم لأنهم كالشخص الواحد: كما أن المنضولين
يغرمون بالسوية. وهذا هو الصحيح في أصل الروضة. والأشبه في الشرحين وفي المحرر أن الأشبه الأول وتبعه
المصنف. قال في المهمات: والذي يظهر أن ما وقع في المحرر سبق قلم.
تنبيه: محل الخلاف في حالة الاطلاق، فإن شرطوا أن يقسموا على الإصابة فالشرط متبع ولولا أن الخلاف
محقق لأمكن حمل كلام المتن على هذا. (ويشترط في الإصابة المشروطة أن تحصل بالنضل) لأنه المتعارف لا بالفوق مثلا
وهو موضع الوتر من السهم، فإن أصاب به حسب عليه لا له.
تنبيه: النضل بضاد معجمة بخطه، وفي الروضة بالمهملة: أي بطرف النضل وصوبه بعضهم. ثم شرع
في النكبات التي تطرأ عند الرمي وتشوشه، والأصل أن السهم متى وقع متباعدا عن الغرض تباعدا مفرطا إما مقصرا عنه
318

أو مجاوزا له، فإن كان ذلك بسوء الرمي حسب على الرامي ولا يرد إليه السهم ليرمي به، وإن كان لنكبة عرضت أو خلل
في آلة الرمي بلا تقصير منه لم يحسب عليه (فلو تلف وتر) بانقطاعه حال رميه (أو قوس) بانكساره حال رميه،
لا بتقصيره وسوء رميه كما في الروضة، (أو عرض شئ) كحيوان (انصدم به السهم وأصاب) في المسائل الثلاث
الغرض (حسب له) لأن الإصابة مع ذلك تدل على جودة الرمي وقوته (وإلا) بأن لم يصب الغرض في الصور
الثلاث (لم يحسب عليه) لعذره فيعيد رميه، فإن قصر أو أساء رميه حسب عليه. قال في الروضة: ولو انكسر
السهم نصفين بلا تقصير فأصاب إصابة شديدة بالنصف الذي فيه النصل حسب له، لأن اشتداده مع الانكسار يدل
على جودة الرمي وغاية الحذق بخلاف إصابته بالنصف الآخر لا يحسب له كما لو لم يكن انكسار، وظاهر التقييد بالشديدة
أن الضعيفة لا تحسب، والأوجه كما قال شيخنا أنها تحسب، وإن أصاب بالنصفين حسب ذلك إصابة واحدة كالرمي
دفعة بسهمين إذا أصاب بهما، ولو أصاب السهم الأرض فاندلق وأصاب الغرض حسب له، وإن أخطأ فعليه، ولو
سقط السهم بالاغراق من الرامي بأن بالغ بالمد حتى دخل النصل مقبض القوس ووقع السهم عنده فانقطاع الوتر
وانكسار القوس، لأن سوء الرمي أن يصيب غير ما قصده ولم يوجد هنا. (ولو نقلت الريح الغرض) فيما إذا كان الشرط
القرع (فأصاب) السهم (موضعه حسب له) عن إصابته المشروطة، لأن لو كان موضعه لأصابه، فإن كان الشرط
الخزق فثبت السهم والوضع في صلابة العرض حسب له (وإلا) بأن لم يصب موضعه (فلا يحسب عليه) إحالة على
السبب العارض. قال الشارح: وما بعد لا مزيد على المحرر، وفي الروضة كأصلها: أو أصاب الغرض في الموضع المنتقل
إليه حسب عليه لا له ولا يرد على المنهاج اه‍. دفع بذلك الاعتراض على المنهاج، ووجه الاعتراض أنه إذا كان
عند إصابة الغرض في الموضع المنتقل إليه يحسب عليه حسب عليه بالأولى إذا لم يصبه، ووجه الدفع: إما أن يقال إن
ما في المنهاج محمول على ما إذا طرأت الريح بعذر منه فنقلت الغرض فلم يحصل منه تقصير، والروضة على ما إذا نقلته قبل
رميه فنسب إلى تقصير، فهما مسألتان، أو أنه محمول على ما إذا نقلت الريح الغرض والحال ما ذكر من تلف وتر
أو قوس أو عرض شئ انصدم به السهم بخلاف ما في الروضة، وهذا أقرب إلى عبارة المصنف (ولو شرط خسق) فرمى
أحد المتناضلين السهم (فثقب وثبت، ثم سقط أو لقي صلابة فسقط) ولو بلا ثقب (حسب له) لعدم تقصيره فلو خدشه
ولم يثقبه فليس بخاسق، وكذا إن ثقبه ولم يثبت في الأظهر.
خاتمة: فيها مسائل منثورة تتعلق بالباب: يندب أن يكون عند الغرض شاهدان يشهدان على ما وقع من إصابة
وخطأ، وليس لهما أن يمدحا المصيب، ولا أن يذما المخطئ، لأن ذلك يخل بالنشاط، وتنفسخ المناضلة بموت
الرامي كالأجير المعين، وينفسخ عقد المسابقة بموت الفرس، لا بموت الفارس، لأن التعويل فيها على الفرس، ويتولى
المسابقة الوارث عنه الخاص، وإلا فالعام، ويؤخر الرمي في المناضلة للمرض ونحوه، ولا تنفسخ بذلك، ولو امتنع
المنضول من إتمام العمل حبس على ذلك وعزر، وكذا الناضل إن توقع صاحبه إدراكه، ويمنع أحدهما بعد رمي صاحبه
من التباطؤ بالرمي، ولا يدهش استعجالا، وليس للولي المسابقة أو المناضلة بالصبي بما له وإن استفاد بهما التعلم. نعم إن
كان من أولاد المرتزقة وقد راهق فينبغي كما قال الأذرعي الجواز، لا سيما إذا كان قد أثبت اسمه في الديوان،
وكذا في السفيه البالغ، لما فيه من المصلحة. ولو عقدا في الصحة ودفعا العوض في مرض الموت فالعوض من رأس المال
كالأجرة، أو عقدا في المرض بعوض المثل عادة فعوض المثل من رأس المال، لأنه ليس تبرعا ولا محاباة فيه، وإن
زاد على عوض المثل عادة فالزيادة من الثلث، لأنها تبرع، ولا يجوز بذل مال على حظ الفضل لأنه لا يقابل بمال،
ولا عقد الشركة في المال المشروط لأجنبي فيما غرم المناضل أو غنم لأن الغرم والغنم في ذلك مسببان عن العمل وهذا
319

الأجنبي لا يعمل، ولا أن تحسب لأحدهما الإصابة بإصابتين، ولا أن يحط من إصابته شئ لأن هذه المعاملة مبنية
على التساوي، ولو سأل أحدهما وضع المال الملتزم عند عدل والآخر تركه عندهما، وهو عين أجيب، وإلا فلا
وإن اختار كل منهما عدلا اختار الحاكم عدلا قطعا للنزاع. وهل يتعين أحد العدلين أو لا؟. وجهان: أوجههما كما
قال شيخنا الثاني، ولا أجرة للعدل وإن جرت بها عادة كما في الخياط والغسال. وإن اختلفا في مكان المحلل لزم توسطه،
فإن تنازع المتسابقان في اليمين واليسار أقرع بينهما، ويمنع أحدهما من أذية صاحبه بالتبجح والفخر عليه ولا يجوز
شرط حمل أحدهما في يده من النبل أكثر مما في يد الآخر، ولكل منهما حث الفرس في السباق بالسوط وتحريك
اللجام، ولا يجلب عليه بالصياح ليزيد عدوه، لخبر: لا جلب ولا جنب. قال الرافعي: وذكر في معنى الجنب أنهم
كانوا يجنبون الفرس حتى إذا قاربوا الأمد تحولوا عن المركوب الذي كره بالركوب إلى الجنيبة فنهوا عنه.
كتاب الايمان
بفتح الهمزة جمع يمين. وأصلها في اللغة اليد اليمين، وأطلقت على الحلف لأنهم كانوا إذا تحالفوا يأخذ كل واحد منهم
بيمين صاحبه، وسمي العضو باليمين لوفور قوته. قال تعالى * (لاخذنا منه باليمين) * أي: بالقوة. ولما كان الحلف
يقوي الحنث على الوجود أو العدم سمي يمينا، وقيل لأنها تحفظ الشئ على الحالف كما تحفظه اليد. وفي الاصطلاح
تحقيق أمر غير ثابت ماضيا كان أو مستقبلا نفيا أو إثباتا ممكنا كحلفه ليدخلن الدار، أو ممتنعا كحلفه ليقتلن الميت،
صادقة كانت أو كاذبة مع العلم بالحال أو الجهل به، وخرج بالتحقيق لغو اليمين فليست يمينا كما سيأتي، وبغير ثابت
الثابت كقوله: والله لأموتن أو لا أصعد السماء، لتحققه في نفسه فلا معنى لتحقيقه، ولأنه لا يتصور فيه الحنث، وفارق
انعقادها بما لا يتصور فيه البر كحلفه ليقتلن الميت بأن امتناع الحنث لا يخل بتعظيم اسم الله تعالى وامتناع البر يخل
به فيحوج إلى التفكير ويكون أيضا للتأكيد والأصل في الباب قبل الاجماع آيات كقوله تعالى * (لا يؤاخذكم
الله باللغو في أيمانكم) * الآية، وقوله: * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * وأخبار منها: أنه (ص)
كان يحلف: لا ومقلب القلوب رواه البخاري، وقوله والله لأغزون قريشا - ثلاث مرات - ثم قال في
الثالثة: إن شاء الله رواه أبو داود واليمين والقسم والايلاء والحلف ألفاظ مترادفة.
تنبيه: أهمل المصنف ضابط الحالف استغناء بما سبق منه في الطلاق والايلاء، وهو غير كاف والأضبط أن يقال:
مكلف مختار قاصد فلا تنعقد يمين الصبي والمجنون ولا المكره ولا يمين اللغو. ثم شرع فيما تنعقد اليمين به، فقال: (
لا تنعقد إلا بذات الله تعالى أو صفة له) بأن يحلف بما مفهومه الذات أو الصفة، فالذات (كقوله والله) يجر أو
نصب أو رفع سواء تعمد ذلك أم لا والصفة كقوله: (ورب العالمين) أي مالك المخلوقات، لأن كل مخلوق علامة
على وجود خالقه (والحي الذي لا يموت، ومن نفسي بيده) أي بقدرته يصرفها كيف يشاء (وكل اسم مختص به
سبحانه وتعالى) غير ما ذكر كالإله ومالك يوم الدين والذي أعبده أو أسجد له، لأن الايمان معقودة بمن عظمت
حرمته ولزمت طاعته، وإطلاق هذا مختص بالله تعالى فلا تتعد بالمخلوقات كوحق النبي وجبريل والملائكة والكعبة،
وفي الصحيحين: إن الله نهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت والحلف بذلك مكروه،
وما روى الحاكم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي (ص) قال من حلف بغير الله فقد كفر
وروي فقد أشرك حمل على من اعتقد فيما حلف به من التعظيم ما يعتقده في الله تعالى (ولا يقبل قوله) في هذا القسم
320

(لم أرد به اليمين) لأنها لا تحمل غيره، وما جزم به هنا من صراحة هذه الألفاظ وأنه إن نوى غير اليمين لم يقبل هو
المعروف، لكن ذكرا عند حروف القسم فيما لو قال: والله لأفعلن كذا ونوى غير اليمين أنه يقبل ظاهرا على المذهب
وهذا هو المعتمد، ويحمل كلامه هنا أنه لا يقبل منه إرادة غير الله تعالى ظاهرا ولا باطنا، لأن اليمين بذلك لا تحتمل غيره،
وإنما قبل منه هنا إرادة غير اليمين بخلاف الطلاق والايلاء والعتاق لتعلق حق غيره به، ولان العادة جرت بإجراء
لفظ اليمين بلا قصد، بخلاف هذه الثلاثة فدعواه فيها تخالف الظاهر فلا يقصد، فإن كان ثمة قرينة تدل على قصد
اليمين لم يصدق ظاهرا.
فائدة: التورية في الايمان نافعة، والعبرة فيها بنية الحالف إلا إذا استحلفه القاضي بغير الطلاق والعتاق كما سيأتي
إن شاء الله تعالى في الدعاوى، وهي وإن كان لا يحنث بها لا يجوز فعلها حيث يبطل بها حق المستحق بالاجماع، فمن
التورية أن ينوي باللباس الليل، وبالفراش والبساط الأرض، وبالأوتاد الجبال، وبالسقف والبناء السماء، وبالآخرة
آخرة الاسلام، وما ذكرت فلانا: أي ما قطعت ذكره، وما عرفته: ما جعلته عريفا، وما سألته حاجة: أي شجرة صغيرة
وما أكلت له دجاجة: أي كبة من غزل، ولا فروجة: أي دراعة ولا في بيتي فرس: أي صغار الإبل، ولا حصير، أي
الملك، وما له عندي جارية: أي سفينة، وما عندي كلب: أي مسمار في قائم السيف، وكل هذا يجمعه قوله (ص):
إن في المعاريض لمندوحة من الكذب. وقال عمر رضي الله تعالى عنه: في المعاريض ما يغني المسلم عن الكذب.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما أحب بمعاريض الكلام حمر الوحش. وقد حكى عبد الرحمن ابن أبي ليلى أنه
كان له جارية يطؤها سرا من أهله فوطئها ليلة وأراد أن يغتسل وكره أن يعلم أهله، فقال: إن مريم بنت عمران عليها
السلام كانت تغتسل في مثل هذه الليلة فلم يبق في منزله أحد إلا اغتسل واغتسل هو معهم، وكانت مريم تغتسل كل ليلة،
وكان إبراهيم النخعي قد خط في بيته مسجدا، فإذا جاء من لا يريد دخوله عليه قال للجارية قولي هو في المسجد،
وحضر سفيان الثوري مجلس النهدي فحلف له أنه يعود إليه، ثم نهض وترك نعله كالناسي له، ثم رجع من ساعته فأخذه
وخرج فلم يره بعدها. (وما انصرف إليه سبحانه) وتعالى (عند الاطلاق) ويصرف إلى غيره مقيدا (كالرحيم والخالق
والرازق) والجبار والمتكبر والقاهر والقادر والحق (والرب تنعقد به اليمين) سواء أقصده سبحانه وتعالى أم أطلق،
لأن الاطلاق ينصرف إليه تعالى.
فائدة: الألف واللام في هذه الصفات ونحوها ليست للعموم ولا للعهد بل للكمال. قال سيبويه: تكون لام
التعريف للكمال تقول: زيد الرجل، تريد الكامل في الرجولية، وكذا هي في أسماء الله تعالى، فإذا قلت الرحمن: أي الكامل في معنى الرحمة، والعليم: أي
الكامل في معنى العلم، وكذا تتمة الأسماء. (إلا أن يريد) الحالف (غيره) تعالى
فيقبل ولا يكون يمينا، لأنه قد يستعمل في حق غيره مقيدا: كرحيم القلب وخالق الكذب ورازق الجيش. قال تعالى: *
(وتخلقون إفكا) * وقال: * (فارزقوهم منه) * ورب الإبل (وما استعمل فيه) تعالى (وفي غيره) استعماله (سواء كالشئ
والموجود) وكالسميع والبصير (والعالم) بكسر اللام (والحي) والغني والكريم (ليس بيمين إلا بنية) لأنها لما
استعملت فيه، وفي غيره سواء أشبهت كنايات الطلاق، فإن نواه تعالى فهو يمين، بخلاف ما إذا أراد بها غيره أو
أطلق (والصفة) الذاتية (كوعظمة الله) تعالى (وعزته وكبريائه وكلامه وعلمه وقدرته ومشيئته يمين) بشرط أن
يأتي بالظاهر بدل المضمر في الستة لأنها صفات لم يزل سبحانه وتعالى موصوفا بها فأشبهت الأسماء المختصة به، وهذه
الأربعة الأخيرة من الصفات التي جملتها عند الأشاعرة ثمانية مجموعة في قول الناظم:
حياة وعلم قدرة وإرادة كلام وإبصار وسمع مع البقا
321

تنبيه: قد علم بما فسر به الصفة أن المراد بالاسم جميع أسماء الله تعالى الحسنى التسعة والتسعين سواء المشتق
من صفات ذاته كالسميع والبصير والعالم والقادر، والمشتق من صفات الفعل كالخالق والرازق، والفرق بين صفتي الذات
والفعل أن الأولى ما استحقه في الأزل، والثانية ما استحقه فيما لا يزال دون الأزل يقال عالم في الأزل، ولا يقال رزق في
الأزل إلا توسعا باعتبار ما يؤول إليه الامر. (إلا أن ينوي) أي يريد (بالعلم المعلوم) كما يقال اغفر لنا علمك فينا - أي
معلومك به - (وبالقدرة المقدور) كما يقال انظر لقدرة الله - أي مقدورة - فلا يكون يمينا في المسألتين،
ويكون كأنه قال:
ومعلوم الله ومقدور الله لأن اللفظ محتمل، وما جزم به من أن عظمة الله صفة هو المعروف وبني عليه بعضهم
منع قولهم: سبحان من تواضع كل شئ لعظمته، قال: لأن التواضع للصفة عبادة لها ولا يعبد إلا الذات ومنع القرافي
ذلك وقال: الصحيح أن عظمة الله لمجموع من الذات والصفات فالمعبود مجموعهما.
تنبيه: ظاهر كلامه تخصيص الاستثناء بهاتين الصفتين العلم والقدرة دون ما قبلهما من الصفات إذ يتخيل فيها
مثل هذا الاحتمال، وهو وجه جزم به كثيرون والأصح كما في الشرحين والروضة عدم الفرق لأنه قد يقال عاينت
عظمة الله وكبرياءه ويشير إلى أفعاله سبحانه وتعالى، وقد يراد بالجلال والعزة والكبرياء ظهور أثرها على المخلوقات،
وبالكلام الحروف والأصوات الدالة عليه، وقد قال تعالى: * (فأجره حتى يسمع كلام الله) * وإنما يسمع الأصوات.
(ولو قال) الحالف في يمينه (وحق الله) بالجر (فيمين) إن نوى اليمين قطعا، وكذا إن أطلق في الأصح لغلبة
استعماله في اليمين فنزل الاطلاق عليه قال المروزي: ومعناه وحقية الإلهية، لأن الحق ما لا يمكن جحوده فهو في
الحقيقة اسم من أسماء الله تعالى. وقال غيره: حق الله هو القرآن. قال تعالى: * (وإنه لحق اليقين) * والحلف بالقرآن
يمين في صورة الاطلاق فكذا ما نحن فيه (إلا أن يريد) بالحق (العبادات) التي أمر الله بها فلا يكون يمينا قطعا
لأن العبادات حق لله تعالى علينا وليست صفة له تعالى، فإن رفع الحق أو نصبه فكناية لتردده بين استحقاق الطاعة
والإلهية فليس بيمين إلا بنية، ولو حلف المسلم بآية منسوخة من القرآن أو بالتوراة أو الإنجيل انعقدت يمينه وتنعقد
اليمين بقوله: وكتاب الله أو قرآن الله كما نقلاه عن البغوي وأقراه. قالا: وقال إبراهيم المروزي وكذا لو قال: والقرآن
أو المثبت في المصحف إلا أن يريد بالقرآن الخطبة أو الصلاة وبقوله المصحف إلا أن يريد الورق أو الجلد.
فائدة: قال ابن الرفعة: يقتضي كلام المحاملي والماوردي وابن الصباغ والروياني أن الحلف بالطالب الغالب يمين
صريحة لأن فيها تنبيها على استجلاب منافعه واستدفاع مضاره، قال: وسماعي من أقضى القضاة الجمال يحيى بن الحسين
خليفة الحكم العزيز بمصر أن الحلف بذلك لا يشرع، وكان يذكر أنه نقله عن أئمة المذهب، ويوجهه بأن الله تعالى
وإن كان طالبا غالبا فأسماؤه تعالى توقيفية ولم ترد تسميته بذلك اه. قال الدميري: وكان الجمال يحيى من صدور
الشافعية نائبا عن قاضي القضاة ابن رزين قال له يوما قاضي القضاة: لو أردت عزلتك، قال: لا تطيق ذلك، قال: ولم؟
قال: كنا يوما عند الفقيه أبي طاهر فحصلت له حالة، فقال: من له حاجة يذكرها؟ فقلت: أنا أريد أن أكون نائب حكم
ولا يعزلني أحد، فقال: لك ذلك. قال الخطابي: وما جرت به عادة الحكام من تغليظ الايمان وتوكيدها إذا حلفوا الرجل
أن يقولوا بالله الطالب الغالب المدرك المهلك لا يجوز أن يطلق في حقه تعالى ذلك، ولو جاز أن يعد ذلك في أسمائه
وصفاته لجاز في أسمائه المخزي والمضل لأنه قال: * (وإن الله مخزي الكافرين) * وقال: * (كذلك يضل الله من يشاء) * (حروف
القسم) ثلاثة (باء) موحدة (وواو، وتاء) فوقانية لاشتهارها فيه شرعا وعرفا (كبالله، ووالله، وتالله) لأفعلن كذا
وزاد المحاملي والشيخ أبو حامد على الثلاثة الألف نحو الله بدل الهمزة وسيأتي كناية والأصل الباء الموحدة، ثم الواو
ثم التاء الفوقية كما ذكرها المصنف كذلك لابدال التاء الفوقية من الواو والواو من الباء الموحدة كما ذكره الزمخشري
ولدخولها على المضمر كالمظهر تقول: حلفت بك وبه لأفعلن كذا، والواو تختص بالمظهر (وتختص التاء) الفوقية
322

(بالله تعالى) لأن الباء لما كانت في الأصل في القسم والواو بدل منها، والباء بدل من الواو ضاق تصرفها عن البدل
والمبدل منه فلم تدخل على شئ مما يدخلان عليه سوى اسم الله تعالى. قال تعالى: * (تالله تفتؤ تذكر يوسف) * قال ابن
الخشاب: إن التاء وإن ضاق تصرفها فلم تدخل إلا على اسم واحد فقد بورك لها في اختصاصها بأشرف الأسماء وأجلها
فلا تدخل على غير لفظ الله - أي لغة - فلا يقال تربك. وقال ابن مالك: حكى الأخفش ترب الكعبة وهو شاذ.
وأما من جهة الشرع فإنه لو قال تالرحمن أو الرحيم انعقدت يمينه كما قاله البلقيني، وغايته أنه استعمل شاذا فإن
أراد غير اليمين قبل منه وكذا لو قال بالله بالموحدة أو والله لأفعلن كذا ونوى غير اليمين كاستعنت بالله واعتصمت
أو والله المستعان لم يكن يمينا.
تنبيه: كان الأولى للمصنف أن يقول: ويختص الله بالتاء لأن الشائع أن فعل الاختصاص إنما يدخل على
المقصور في المشهور، وذلك في التاء لا في الله وإن جاز دخوله عليه لأنه يدخل عليه الباء والواو، وعبارته تقتضي أن
الله لا يدخل عليه غير التاء وهو مدافع لكلامه السابق. (ولو) حذف الحالف حرف القسم و (قال الله) بهمزة
الاستفهام أو بدونها (ورفع أو نصب أو جر) أو سكن لأفعلن كذا (فليس بيمين إلا بنية) لها، واللحن لا يمنع
انعقاد اليمين على أن غير الرفع لا لحن فيه، فالنصب بنزع الخافض والجر بحذقه وإبقاء عمله. قال سيبويه: ولا يجوز
حذف حرف الجر وإبقاء عمله إلا في القسم والتسكين بإجراء الوصل مجرى الوقف، وأما الرفع فيصح أيضا أن يكون
ابتداء كلام.
تنبيه: أفهم كلامه أن التصريح بحرف القسم تنعقد به اليمين بلا نية، سواء أرفع أم نصب أم جر وهو كذلك
والخطأ في الاعراب لا يمنع صراحة اليمين بذلك، ولو قال: فالله بالفاء أو يا لله بالياء المثناة من تحت لأفعلن كذا كان
كناية وجه كونه يمينا في الثانية بحذف المنادى، وكأنه قال: يا قوم أو يا رجل ثم استأنف اليمين، ولو قال له القاضي
قل والله، فقال: تالله بالمثناة أو والرحمن لم يحسب يمينا لمخالفته التحليف وقضية التعليل أنه لا يحسب يمينا فيما لو قال له:
قل تالله بالمثناة، فقال: بالله بالموحدة، أو قل: بالله، فقال: والله وهو الظاهر، ولو قال: بالله بحذف الألف بعد اللام
المشددة قال المصنف: ينبغي أن لا تكون يمينا وإن نواها قال لأنها لا تكون إلا باسم الله تعالى أو صفته، والقول
بأن هذا لحن ممنوع، لأن اللحن مخالفة صواب الاعراب، بل هذه كلمة أخرى، وقال ابن الصلاح: ليس هو لحنا
بل لغة حكاها الزجاجي وهي شائعة فينبغي أن تكون يمينا عند الاطلاق. قال الأذرعي: ولو استحضر النووي
ما قاله ابن الصلاح لما قال ما قال، وجزم في الأنوار بما نقله الرافعي عن الجويني والإمام والغزالي من أنها يمين إن نواها
ويحمل حذف الألف على اللحن لأن الكلمة تجري كذلك على ألسنة العوام والخواص. وهذا أوجه من كلام
ابن الصلاح خلافا لبعض المتأخرين لأن البلة تكون بمعنى الرطوبة، فلا يكون يمينا إلا بنية. (ولو قال أقسمت أو أقسم)
أو آليت أو أولي (أو حلفت أو أحلف بالله) الراجع لكل الصور (لأفعلن) كذا (فيمين) قطعا (إن نواها) لاطراد
العرف باستعمال ذلك في اليمين، لا سيما ذلك وقد نواه (أو أطلق) في الأصح لكثرة الاستعمال، وقد قال تعالى: *
(وأقسموا بالله جهد أيمانهم) * * (فيقسمان بالله) * وقيل لا يكون ذلك يمينا لأن صلاحية أقسمت للماضي وأقسم للمستقبل،
وخرج بقوله بالله ما لو سكت عن ذكره فليس بيمين وإن نواه (وإن قال قصدت) بصيغة الماضي السابقة (خبرا ماضيا)
أي الاخبار عن يمين ماضية (أو) أردت بصيغة المضارع السابقة (مستقبلا) أي يمينا في المستقبل (صدق باطنا) أي
دين فيه قطعا حتى لا تلزمه الكفارة فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال ما يدعيه (وكذا ظاهرا على المذهب) لاحتمال ما نواه،
وفي قول لا، وبه قطع بعضهم لظهور اللفظ في الانشاء.
323

تنبيه: محل الخلاف ما إذا لم يعلم له يمين ماضية وإلا قبل قوله في إرادتها قطعا. (ولو قال) شخص (لغيره أقسم
عليك بالله أو أسألك بالله لتفعلن) كذا (وأراد يمين نفسه فيمين) لاشتهاره في ألسنة حملة الشرع، ويسن للمخاطب
إبراره فيهما إن لم يتضمن الأبرار ارتكاب محرم أو مكروه، فإن لم يبره فالكفارة على الحالف (وإلا) بأن أراد
يمين المخاطب أو لم يرد يمينا، بل التشفع إليه أو أطلق (فلا) يكون يمينا في الصور الثلاث، لأنه لم يحلف هو ولا
المخاطب ويحمل على الشفاعة في فعله، ويكره السؤال بوجه الله، ورد السائل به لحديث: لا يسئل بوجه الله إلا الجنة
وخبر: من سأل بالله تعالى فأعطوه.
فروع: لو حلف شخص بالله، فقال: آخر يمين في يمينك أو يلزمني ما يلزمك، لم يلزمه شئ وإن نوى به اليمين
لخلو ذلك عن اسم الله تعالى وصفة من صفاته، وإن قال: اليمين لازمة لي لم يلزمه شئ، وإن نوى لما مر،
وإن قال:
أيمان البيعة لازمة لي وهي بيعة الحجاج، فإن البيعة كانت على عهد رسول الله (ص) بالمصافحة فلما ولى الحجاج رتبها
أيمانا تشتمل على اسم الله تعالى وعلى الطلاق والعتاق والحج والصدقة لم يلزمه شئ وإن نوى، لأن الصريح لم يوجد
والكناية تتعلق بما يتضمن إيقاعا، وأما في الالتزام فلا، إلا أن ينوي الطلاق والعتاق فيلزمه لأن للكناية مدخلا
فيهما، ولو قال: إن فعلت كذا فأيمان البيعة لازمة لي بطلاقها وعتاقها وحجها وصدقتها. ففي التتمة أن الطلاق لا حكم
له لأنه لا يصح التزامه، والباقي يتعلق به الحكم إلا أنه في الحج والصدقة كنذر اللجاج والغضب. وقول الحالف
لاها الله - بالمد والقصر - كناية إن نوى به اليمين فيمن وإلا فلا، وإن كان مستعملا في اللغة لعدم اشتهاره. وقوله: وأيم
الله بضم الميم أشهر من كسرها ووصل الهمزة ويجوز قطعها، وأيمن الله كذلك، وإنما لم يكن كل منهما يمينا إذا
أطلق لأنه وإن اشتهر في اللغة وورد في الخبر لا يعرفه إلا الخواص. وقوله لعمر الله والمراد منه البقاء والحياة كذلك،
وإنما لم يكن صريحا لأنه يطلق مع ذلك على العبادات. وقوله: على عهد الله وميثاقه وأمانته وذمته وكفالته كل منها
كذلك. سواء أضاف المعطوفات إلى الضمير كما مثل أم إلى الاسم الظاهر. والمراد بعهد الله إذا نوى به اليمين استحقاقه
لايجاب ما أوجبه علينا وتعبدنا به، وإذا نوى به غير العبادات التي أمرنا بها، وقد فسر بها الأمانة في قوله تعالى * (إنا عرضنا
الأمانة) * فإن نوى اليمين بالكل انعقدت يمين واحدة، والجمع بين الألفاظ أكيد، فلا يتعلق بالحنث فيها إلا كفارة
واحدة، ولو نوى بكل لفظ يمينا كان يمينا ولم يلزمه إلا كفارة واحدة كما لو حلف على الفعل الواحد مرارا. (ولو قال
إن فعلت كذا فأنا يهودي) أو نصراني أو مستحل الخمر (أو برئ من الاسلام) ونحو ذلك كقوله: برئ من الله
أو من رسوله أو من الكعبة (فليس بيمين) لخلوه عن ذكر اسم الله تعالى وصفته، ولا كفارة عليه في الحنث به
والحلف بذلك معصية والتلفظ به حرام كما قاله المصنف في الأذكار هذا إذا قصد بذلك تبعيد نفسه عن ذلك المحلوف
عليه، أما لو قال ذلك على قصد الرضا بالتهود وما في معناه إذا فعل ذلك الفعل كفر في الحال، فإن لم يعرف قصده لموت
أو غيبة وتعذرت مراجعته، ففي المهمات: القياس تكفيره إذا عري عن القرائن الحاملة على غيره، لأن اللفظ بوضعه
يقتضيه، وكلام الأذكار يقتضي خلافه اه‍. والأوجه ما في الأذكار. قال في زيادة الروضة: قال الأصحاب: وإذا لم
نكفره استحب له أن يستغفر الله تعالى ويقول لا إله إلا الله محمد رسول الله اه‍. ولا يحالف ذلك ما في الصحيحين: من
حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله فإنه محمول على الندب، وإن قال صاحب الاستقصاء بوجوب ذلك
وتجب التوبة من كل معصية، ويسن الاستغفار من كل تكلم بكلام قبيح. ويشترط في انعقاد اليمين كون الحالف
قاصدا معناه (و) حينئذ (من سبق لسانه إلى لفظها) أي اليمين (بلا قصد) لمعناها (لم تنعقد) يمينه لقوله
تعالى *
(لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان) *. أي قصدتم بدليل الآية الأخرى *
(ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم) * ولغو اليمين كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها قول الرجل لا والله وبلى
324

والله رواه البخاري وصحح ابن حبان رفعه كأن قال ذلك في حال غضب أو لجاج أو صلة كلام. قال ابن الصلاح:
والمراد بتفسير لغو اليمين بلا والله، وبلى والله على البدل لا على الجمع. أما لو قال: لا والله وبلى والله في وقت واحد.
قال الماوردي: كانت الأولى لغوا والثانية منعقدة لأنها استدراك فصارت مقصودة، ولو حلف على شئ فسبق لسانه
إلى غيره كان من لغو اليمين، وجعل صاحب الكافي من لغو اليمين ما إذا دخل على صاحبه فأراد أن يقوم له، فقال: والله
لا تقوم وهو مما تعم به البلوى. ولو ادعى سبق لسانه في إيذاء أو الحلف بطلاق أو عتق لم يقبل ظاهرا لتعلق حق الغير به.
تنبيه: لا حاجة لقوله بلا قصد بعد قوله ومن سبق لسانه. (وتصح) اليمين (على ماض) كوالله ما فعلت كذا
أو فعلته بالاجماع لقوله تعالى * (يحلفون بالله ما قالوا) * ثم إن كان عامدا فهي اليمين الغموس، سميت بذلك لأنها تغمس
صاحبها في الاثم أو في النار، وهي من الكبائر وتتعلق بها الكفارة خلافا للأئمة الثلاثة لقوله تعالى: * (ولكن يؤاخذكم
بما عقدتم الايمان) * وهو يعم الماضي والمستقبل. وتعلق الاثم لا يمنع الكفارة كما أن الظهار منكر من القول وزور
وتتعلق به الكفارة بل وفيه التعزير أيضا كما مر في فصل التعزير أنها مستثنى من قولهم يعزر كل معصية لا حد فيها
ولا كفارة. فإن جهل ففي الكفارة خلاف حنث الناسي وحيث صدق فلا شئ عليه. والمراد بصدقه موافقة ما قصده
إن احتمله اللفظ. ولو خالف الظاهر إلا أن يحلفه حاكم فتعتبر موافقة ظاهر لفظ الحاكم كما سيأتي إن شاء الله تعالى في
محله (و) على (مستقبل) لقوله (ص): والله لأغزون قريشا ويستثنى ممتنع الحنث لذاته. فإن اليمين
فيه لا تنعقد كما مر أول الباب كقوله: والله لأموتن أو لا أصعد السماء بخلاف ممتنع البر، وتقدم الفرق بينهما، فلو قيد
ممتنع البر بزمن كلا أصعد السماء غدا هل يحنث في الحال؟ حكمه حكم ما لو حلف ليأكلن هذا الرغيف غدا وسيأتي
(وهي) أي اليمين (مكروهة) للنهي عنها. بقوله تعالى * (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم) *: أي لا تكثروا الحلف بالله
لأنه ربما يعجز عن الوفاء به. قال حرملة: سمعت الشافعي يقول: ما حلفت بالله صادقا ولا كاذبا.
تنبيه: كان الأولى للمصنف أن يقول في الجملة كما في المحرر: إذ منها ما هو معصية كما سيأتي في كلامه، ومنها
ما هو مباح، ومنها ما هو مستحب، وقد تجب (إلا في طاعة) من فعل واجب أو مندوب وترك حرام أو مكروه
فطاعة، واستثنى الرافعي اليمين الواقعة في دعوى إن كانت صدقا فإنها لا تكره. قال المصنف رحمه الله: وكذا
لو احتاج إليها لتوكيد كلام وتعظيم أمر، فالأول كقوله (ص): فوالله لا يمل الله حتى تملوا والثاني كقوله:
لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا وضابطه الحاجة إلى اليمين. قال الإمام: ولا تجب اليمين أصلا لا على
المدعي ولا على المدعى عليه، وأنكره الشيخ عز الدين. وقال: إذا كان المدعي كاذبا في دعواه وكان المدعى به مما
لا يباح بالإباحة كالدماء والابضاع، فإن علم المدعى عليه أن خصمه لا يحلف إذا نكل فيتخير إن شاء حلف وإن شاء
نكل وإن علم أو غلب على ظنه أنه يحلف وجب عليه الحلف فإن كان يباح بالإباحة وعلم أو ظن أنه لا يحلف فيتخير
أيضا وإلا فالذي أراه وجوب الحلف دفعا لمفسدة كذب الخصم اه‍. وينبغي أن لا يجب عليه في هذه الحالة (فإن حلف
على ترك واجب) كترك الصبح (أو فعل حرام) كالسرقة (عصى) بحلفه في الصورتين واستثنى البلقيني من
الصورة الأولى مسألتين الأولى الواجب الذي يمكن سقوطه كالقصاص بعد الحكم به فإنه يمكن سقوطه بالعفو الثانية
الواجب على الكفاية كما لو حلف لا يصلي على فلان الميت حيث لم تتعين عليه فإنه لا يعصي بهذا الحلف (ولزمه)
عند عصيانه (الحنث وكفارة) لأن الإقامة على هذه الحالة معصية لخبر الصحيحين: من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا
منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه.
تنبيه: إنما يلزمه الحنث كما قال الزركشي إذا لم يكن له طريق سواه وإلا فلا، كما لو حلف لا ينفق على زوجته،
فإن له طريقا سواه كأن يعطيها من صداقها أو يقرضها ثم يبرئها لأن الغرض حاصل مع بقاء التعظيم، وعكس مسألة
325

الكتاب لو حلف على فعل واجب أو ترك حرام أطاع باليمين وعصى بالحنث وعليه به الكفارة. (أو) حلف على (ترك
مندوب) كسنة الضحى (أو) على (فعل مكروه) كالتفاته بوجهه في الصلاة (سن حنثه وعليه الكفارة) لأن اليمين
والإقامة عليها مكروهان، لقوله تعالى: * (ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة) * الآية نزلت في الصديق رضي الله
عنه وقد حلف أن لا يبر مسطحا، فقال أبو بكر بلى رب وبره، وأجيب عن حديث الاعرابي حيث لم ينكر عليه
(ص) في قوله: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه بأن يمينه تضمنت طاعة وهو امتثال الامر، ويحتمل
أنه سبق لسانه إلى قوله لا أزيد فكان من لغو اليمين.
تنبيه: اختلف فيما لو حلف لا يأكل طيبا ولا يلبس ناعما، فقيل مكروه لقوله تعالى: * (قل من حرم زينة الله)
* الآية، وقيل: طاعة لما عرف من اختيار السلف خشونة العيش، وقيل: يختلف ذلك باختلاف أحوال الناس وقصودهم
وفراغهم للعبادة واشتغالهم بالضيق والسعة، وهذا كما قال الرافعي الصواب. (أو) على (ترك مباح) معين (أو فعله)
كدخول دار وأكل طعام ولبس ثوب (فالأفضل) له (ترك الحنث) بل يسن لما فيه من تعظيم الله تعالى وقد
قال تعالى: * (ولا تنقضوا الايمان بعد توكيدها) * (وقيل) الأفضل له (الحنث) لينتفع الفقراء بالكفارة، قال
الأذرعي: ويشبه أن محل الخلاف ما إذا لم يكن في ذلك أذى للغير، فإن كان بأن حلف لا يدخل دار أحد
أبويه أو أقاربه أو صديق يكره ذلك فالأفضل الحنث قطعا، وعقد اليمين على ذلك مكروه بلا شك، وكذا حكم
الاكل واللبس.
تنبيه: من حلف على فعل مندوب أو ترك مكروه وكره حنثه وعليه بالحنث كفارة، وقد علم بما تقرر أن
اليمين لا تغير حال المحلوف عليه عما كان وجوبا وتحريما وندبا وكراهة إباحة، لكن قول المتن في المباح: الأفضل ترك
الحنث فيه تغير للمحلوف عليه، ولذلك رجح بعضهم أن فيه التخيير بين الحنث وعدمه فيكون جاريا على القاعدة.
(وله) أي الحالف (تقديم كفارة بغير صوم) من عتق أو إطعام أو كسوة (على حنث جائز) واجب أو مندوب
أو مباح لقوله (ص): فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح.
ولأنه حق مالي وجب بسببين فجاز تعجيله بعد وجود أحدهما كالزكاة قبل الحول، لكن الأولى أن لا يكفر حتى يحنث
خروجا من خلاف أبي حنيفة، واحترز بقوله على حنث عن تقديمها على اليمين فإنه يمتنع بلا خلاف، وكذا مقارنتها
لليمين، كما لو وكل من يعتق عنها مع شروعه في اليمين. أما الصوم فيمتنع تقديمه على الحنث على الصحيح، لأنه عبادة
بدنية فلم يجز تقديمها على وقت وجوبها بغير حاجة كصوم رمضان، واحترز بغير حاجة عن الجمع بين الصلاتين (قيل:
و) له تقديمها على حنث (حرام) كالحنث بترك واجب أو فعل حرام (قلت: هذا) الوجه (أصح، والله أعلم)
من مقابله وهو المنع الذي جرى عليه في المحرر، وعلله بأنه يتطرق به لارتكاب محظور، والتعجيل رخصة فلا تليق
بالعاصي، لأن الحظر في الفعل ليس من حنث اليمين، لأن المحلوف عليه حرام قبل اليمين وبعدها فالتكفير
لا يتعلق به استباحة.
تنبيه: إذا قدم الكفارة على الحنث ولم يحنث استرجع كالزكاة، قاله الدارمي. ولو قدم العتق اشترط في إجزائه
بقاء العتيق حيا مسلما إلى الحنث، فلو مات أو ارتد قبله لم يجزه، ولو أعتق عبدا عن كفارته ومات قبل حنثه كأن عتقه
تطوعا كما صرح به البغوي في فتاويه.
فروع: لو قال: أعتقت عبدي عن كفارتي إن حنثت فحنث أجزأه، وإن قال: إن حلفت لم يجزه، ولو قال: إن
حنثت غدا فعبدي حر عن كفارتي، فإن حنث غدا عتق وأجزأه عنها، وإلا فلا. ولو قال: أعتقته عن كفارتي إن
حنثت فبان حانثا عتق وأجزأه عنها، وإلا فلا. نعم إن حنث بعد ذلك أجزأه عنها، ولو قال: إن حلفت وحنثت فبان
326

حاله لم يجزه قاله البغوي للشك في الحلف. (و) له تقديم (كفارة ظهار) بغير صوم كما مر من عتق أو إطعام (على العود)
في الظهار، لأنه أحد السببين والكفارة منسوبة إليه كما أنها منسوبة إلى اليمين، وصوروا التقديم على العود بما إذا ظاهر
من رجعية ثم كفر ثم راجعها، وبما إذا طلق بعد الظهار رجعيا ثم كفر ثم راجع. أما إذا أعتق عقب الظهار عنه، فهو
تكفير مع العود لا قبله لأن اشتغاله بالعتق عود، واحترز بقوله على العود عن تقديمها على الظهار فلا يجوز جزما (و)
له تقديم كفارة (قتل على الموت) منه بعد حصول الجرح وتقديم جزاء الصيد قبل الموت وبعد الجرح، لأنه بعد وجود
السبب، ولا يجوز تقديمها على الجرح (و) له أيضا تقديم كفارة على (منذور مالي) على المعلق عليه كأن قال: إن شفى الله
مريضي فلله علي أن أعتق رقبة أو أتصدق بكذا فيجوز تقديمه على الشفاء كالزكاة يجوز تقديمها على الحول، وما صححاه
في أصل الروضة والمجموع في تعجيل الزكاة من أنه لو قال: إن شفى الله مريضي فلله علي عتق رقبة فأعتق قبل الشفاء
أنه لا يجوز. قال البلقيني: هو غير معتمد، والجاري على قاعدة الشافعي في تعجيل الزكاة وكفارة اليمين المالية وزكاة
الفطر الجواز اه‍. وخرج بالمالي البدني كالصوم فلا يجوز تقديمه على المشروط.
تتمة: لا يجوز تقديم كفارة الجماع في رمضان، أو الحج، أو العمرة عليه، وكذا تقديم فدية الحلق واللبس والطيب
عليها. نعم إن جوزت هذه الثلاثة لعذر كمرض جاز تقديمها لوجود السبب.
فصل: في صفة كفارة اليمين، واختصت من بين الكفارات بكونها مخيرة في الابتداء، مرتبة في الانتهاء،
والصحيح في سبب وجوبها عند الجمهور الحنث واليمين معا (يتخير) المكفر (في كفارة اليمين بين عتق) فيها
(كالظهار) أي كعتق رقبة كفارته بالصفة السابقة في بابه من كونها رقبة مؤمنة بلا عيب يخل بعمل أو كسب (و)
بين (إطعام عشرة مساكين لكل مسكين مد حب) أو غيره (من غالب قوت بلده) كالفطرة كما مر في كتاب الكفارات
وصرح به جماعة هنا (و) بين (كسوتهم بما يسمى كسوة) مما يعتاد لبسه (كقميص، أو عمامة، أو إزار) أو
رداء، أو طيلسان. أو منديل - بكسر الميم - قال في الروضة: والمراد به المعروف الذي يحمل في اليد، أو مقنعة، أو
جبة، أو قباء، أو درع من صوف ونحوه، وهو قميص لا كم له، ووقع لبعض الشراح أن الدرع يكفي وهو سهو (لا خف
وقفازين) ومكعب، وهو المداس، ونعل (ومنطقة) - بكسر الميم - وقلنسوة، وهي - بفتح القاف واللام - ما يغطى به
الرأس ونحو ذلك مما لا يسمى كسوة كدرع من حديد، ويجزئ فرو ولبدا عتيد في البلد لبسهما، ولا يجز التبان
وهو سروال قصير لا يبلغ الركبة، ولا الخاتم، والتكة. والعرقية. ووقع في شرح المنهج لشيخنا أنها تكفي، ورد
بأن القلنسوة لا تكفي كما مر وهي شاملة لها، وحمله شيخي على التي تجعل تحت البرذعة وهو وإن كان بعيدا أولى
من مخالفته للأصحاب (ولا يشترط صلاحيته) أي ما ذكر من الكسوة (للمدفوع إليه فيجوز سراويل صغير لكبير
لا يصلح له و) يجوز (قطن وكتان وحرير) وشعر وصوف منسوج كل منها (لامرأة ورجل) لوقوع اسم الكسوة
على ذلك (ولبيس) بفتح اللام بعدها موحدة مكسورة بمعنى ملبوس (لم تذهب قوته) فإن ذهبت بحيث صار مسحقا
لم يجز، ولا بد مع بقاء قوته من كونه غير منخرق. ولا يجزئ جديد مهلهل النسج إذا كان لبسه لا يدوم إلا بقدر
ما يدوم لبس الثوب البالي لضعف النفع به، ولا يجوز نجس العين من الثياب، ويجزئ المتنجس، وعليه أن يعلمهم
327

بنجاسته، ويجوز ما غسل ما لم يخرج عن الصلاحية كالطعام العتيق لانطلاق الكسوة عليه، وكونه يرد في البيع لا يؤثر
في مقصودها كالعيب الذي لا يضر بالعمل في الرقيق، ويندب أن يكون الثوب جديدا خاما كان أو مقصور الآية: * (لن
تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) *، ولو أعطى عشرة ثوبا طويلا لم يجزه، بخلاف ما لو قطعه قطعا قطعا ثم دفعه إليهم،
قاله الماوردي، وهو محمول على قطعة تسمى كسوة، وخرج بقول المصنف عشرة مساكين ما إذا أطعم خمسة وكسا
خمسة، فإنه لا يجزئ، كما لا يجزئ إعتاق نصف رقبة وإطعام خمسة. ويستثنى من إطلاقه التخيير للعبد وسيأتي كلامه،
والمحجور عليه بسفه أو فلس فلا يكفر بالمال بل بالصوم كالمعسر، فإن لم يصم حتى فك عنه الحجر لم يجزه مع اليسار،
ومن مات وعليه كفارة فالواجب أن يخرج من تركته أقل الخصال قيمة ومع ذلك فلا تخيير إلا إن استوت قيمتها
(فإن عجز عن) كل واحد من (الثلاثة) المذكورة (لزمه صوم ثلاثة أيام) لقوله تعالى: * (فكفارته إطعام عشرة
مساكين) * الآية.
تنبيه: المراد بالعجز أن لا يقدر على المال الذي يصرفه في الكفارة كمن يجد كفايته وكفاية من تلزمه مؤنته فقط
ولا يجد ما يفضل عن ذلك. قالا: ومن له أن يأخذ من سهم الفقراء والمساكين من الزكاة والكفارات له أن يكفر
بالصوم، لأنه فقير في الاخذ فكذا في الاعطاء، وقد يملك نصابا ولا يفي دخله بخرجه فتلزمه الزكاة وله أخذها،
والفرق بين البابين أنا لو أسقطنا الزكاة خلا النصاب عنها بلا بدل، والتكفير بالمال له بدل وهو الصوم. (ولا يجب تتابعها
في الأظهر) لاطلاق الآية. والثاني يجب، لأن ابن مسعود قرأ: ثلاثة أيام متتابعات والقراءة الشاذة كخبر الواحد في
وجوب العمل كما أوجبنا قطع يد السارق بالقراءة الشاذة في قوله: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * ولان من قاعدة
الشافعي رضي الله تعالى عنه حمل المطلق على المقيد من جنسه، وهو الظهار والقتل وأجاب الأول بأن آية اليمين نسخت
متتابعات تلاوة وحكما، فلا يستدل بها، بخلاف آية السرقة فإنها نسخت تلاوة لا حكما، وبأن المطلق ههنا متردد بين
أصلين يجب التتابع في أحدهما، وهو كفارة الظهار والقتل، ولا يجب في الآخر، وهو قضاء رمضان فلم يكن
أحد
الأصلين في التتابع بأولى من الآخر، لكن قال الإمام: حمل الكفارة على الكفارة أولى من حملها على قضاء رمضان
(وإن غاب ماله) إلى مسافة قصر أو دونها كما يشعر به إطلاقهم وإن نازع فيه البلقيني (انتظره ولم يصم) لأنه واجد، وإنما
أبيح له الصوم إذا لم يجد. فإن قيل: المتمتع إذا أعسر بالدم بمكة يجزئه الصوم وإن كان له ببلده ماله فهلا كان هنا
كذلك؟ أجيب بأن القدرة هناك اعتبرت بمكة فلا ينظر إلى غيرها والقدرة هنا اعتبرت مطلقا، ولو كان له عبد غائب
تيقن حياته جاز له إعتاقه بخلاف منقطع الخبر في الأصح (ولا يكفر عبد بمال) لعدم ملكه (إلا إذا ملكه سيده
طعاما أو كسوة) ليكفر بهما أو ملكه مطلقا وأذن له في التكفير (وقلنا يملك) بالتمليك على رأي مرجوح تقدم في باب
العبد فإنه يكفر بذلك.
تنبيه: قوله: سيده يقتضي أن تمليك غير السيد لا أثر له، وليس مرادا، بل الخلاف فيهما سواء. وخرج بقوله:
طعاما أو كسوة ما إذا ملكه رقيقا ليعتقه عن كفارته ففعل فإنه لم يقع عنها، لامتناع الولاء للعبد، وحكم المدبر والمعتق
عتقه بصفة وأم الولد حكم العبد. فإن قيل: يرد على المصنف المكاتب فإنه يكفر بالاطعام والكسوة بإذن السيد كما
صححه في تصحيح التنبيه. أجيب بأن العبد إذا أطلق إنما يراد به القن، لا سيما وقد قال: وقلنا يملك والمكاتب يملك
قطعا، ولو أذن السيد للمكاتب في التكفير بالاعتاق فأعتق لم يجزه على المذهب كما قالاه في باب الكتابة وإن نقلا هنا
عن الصيدلاني أن ذمته تبرأ بذلك. (بل يكفر بصوم) لعجزه عن غيره ولا فرق بين كفارة اليمين والظهار في ذلك
كما صرح به المرعشي وغيره (وإن ضره) الصوم لشدة حر أو طول نهار أو نحو ذلك، وكان يضعف عن العمل
328

بسببه (وكان حلف وحنث بإذن سيده) في كل منهما (صام بلا إذن) وليس له منعه، وإن كانت الكفارة على التراخي
لصدور السبب الموجب عن إذن السيد (أو وجدا) أي الحلف والحنث (بلا إذن) منه (لم يصم إلا بإذن) منه قطعا
سواء أكان الحلف واجبا أم جائزا أم ممنوعا، لأنه لم يأذن في السبب وحقه على الفور والكفارة على التراخي، فإن
صام بلا إذن أجزأه كما لو صلى الجمعة بلا إذن فإنها تجزئه، أو حج فإنه ينعقد وعدم الاعتداد به عن حجة الاسلام،
ولو أذن له سيده فيه إنما هو للحديث المتقدم في الحج (وإن أذن) له (في أحدهما) فقط (فالأصح اعتبار) إذن السيد
له في (الحلف) فإذا حلف بإذنه وحنث بغير إذنه صام بغير إذنه، لأن إذنه في الحلف إذن فيما يترتب عليه. والثاني الاعتبار
بالحنث لأن اليمين مانعة منه، فليس إذنه فيها إذنا في التزام الكفارة، وهذا هو الأصح كما في الشرحين والروضة في كتاب
الكفارة ونقلاه عن الأكثرين، وأحالا المسألة هنا على ما هناك، بل قيل إن ما في المحرر سبق قلم من الحنث إلى
الحلف، لكن المحرر يتبع البغوي كثيرا كما استقرئ من كلامه، والبغوي صحح أن الاعتبار بالحلف وخرج بيضره
الصوم ما إذا لم يضره فله الصوم بغير إذن سيده، وبالعبد الأمة فللسيد منعها من الصوم وإن لم تتضرر به، لأن حق
السيد في الاستمتاع بها ناجز (ومن بعضه حر وله مال يكفر بطعام أو كسوة) ولا يكفر بالصوم ليساره كما أنه إذا وجد
ثمن الماء أو الثوب لا يجوز له أن يصلي متيمما أو عاريا (لا عتق) لأنه يستعقب الولاء المتضمن للولاية والإرث وليس
هو من أهلهما. واستثنى البلقيني من ذلك ما لو قال له مالك بعضه: إذا أعتقت عن كفارتك فنصيبي منك حر قبيل
إعتاقك عن الكفارة أو معه فيصح إعتاقه عن كفارة نفسه في الأولى قطعا، وفي الثانية على الأصح، ولو مات العبد
وعليه كفارة فللسيد التكفير عنه بالمال وإن قلنا لا يملك إذ لا رق بعد الموت، فهو والحر سواء في ذلك بخلاف ما قبله
ولا يكفر عنه بالعتق لنقصه عن أهلية الولاء.
فصل: في الحلف على السكنى والمساكنة والدخول وغيرها مما يأتي، وبدأ بالأول فقال: إذا (حلف لا يسكنها)
أي دارا معينة (أو لا يقيم فيها) وهو فيها عند الحلف (فليخرج في الحال) ببدنه بنية التحول كما في التنبيه وغيره
ليتخلص من الحنث وإن بقي أهله ومتاعه فإنه المخلوف عليه، ولا يكلف في خروجه عدوا، ولا هرولة ولا أن يخرج
من بابها القريب، نعم لو كان له باب من السطح فخرج منه مع القدرة على الخروج من غيره حنث، لأنه بالصعود في
حكم المقيم كما قاله الماوردي وإنما اشترط نية التحول ليقع الفرق بينه وبين الساكن الذي من شأنه أن يخرج ويعود
ويومئ إلى ذلك قول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في الام والمختصر: ويخرج ببدنه متحولا. وهذا كما قاله الأذرعي
في المتوطن فيها قبل حلفه فلو دخلها لينظر إليها هل يسكنها أو لا. فحلف لا يسكنها وخرج في الحال لم يفتقر إلى نية
التحول قطعا والمراد بالسكون الحلول لا ضد الحركة (فإن مكث بلا عذر حنث) وإن قل كما لو وقف ليشرب مثلا
وقول الروضة: مكث ساعة لم يرد به الساعة الزمانية بل متى مكث حنث (وإن بعث متاعه) لأن المحلوف عليه سكناه
وهو موجود إذ السكنى تطلق على الدوام كالابتداء يقال: سكن شهرا، وتستعمل مع المتاع ودونه. واحترز بقوله
بلا عذر ما لو مكث لعذر كأن أغلق عليه الباب أو منع من الخروج أو خاف على نفسه أو ماله لو خرج أو كان به
مرض لا يقدر معه على الخروج ولم يجد من يخرجه قال الماوردي: أو ضاق وقت الفريضة بحيث لو خرج قبل أن
يصليها فاتت لم يحنث. قال البلقيني: وما ذكره الماوردي جار على المعتمد فيمن حلف ليطأن زوجته في هذه الليلة
فوجدها حائضا اه‍. ولو حدث عجزه على الخروج بعد حلفه فكالمكره (وإن اشتغل) بعد الحلف (بأسباب الخروج
329

كجمع متاع، وإخراج أهل، ولبس ثوب لم يحنث) بمكثه لذلك سواء أقدر في ذلك على الاستنابة أم لا كما هو قضية
إطلاق المصنف، لأنه لا يعد ساكنا وإن طال مقامه بسبب ذلك وإن كان قضية قوله في المجموع: وإن وقف فيها لغلق
أبوابه وإحراز ماله ولم يقدر على من يستنيبه لم يحنث على الصحيح وأنه إن قدر على الاستنابة أنه يحنث. قال الماوردي:
ويراعى في لبثه لثقل المتاع والاهل ما جرى به العرف من غير إرهاق ولا استعجال، ولو احتاج إلى مبيت ليلة لحفظ
متاع لم يحنث على أصح احتمالي ابن كج.
تنبيه: أطلق المصنف لبس الثوب وقيده في الشرح والروضة بثوب الخروج، وقضيته أنه لو اشتغل بلبس
ثياب تزيد على حاجة التجمل التي تلبس للخروج أنه يحنث، وهو كما قال ابن شهبة ظاهر، ولو عاد إليها بعد الخروج
منها حالا لنقل متاع لم يحنث. قال الشاشي: إذا لم يقدر على الاستنابة، وهذا يوافق قضية كلام المجموع ولو عاد
لزيارة أو عيادة مريض أو نحو ذلك ولم يمكث كما قاله الأذرعي وغيره نقلا عن تعليق البغوي لم يحنث كما قالوا فيما لو عاد
المريض قبل خروجه منها فإنه إن قعد عنده حنث بخلاف ما إذا عاده مارا في خروجه. قال شيخنا: وقد يفرق بأنه
في مسألتنا خرج ثم عاد، فلا يعد ساكنا، لأن اسم السكنى زال عنه وثم لم يخرج أي فاسم السكنى باق عليه وله
وجه ولكن الأوجه الأول. قال في الروضة: ولو حلف خارجها ثم دخل لم يحنث ما لم يمكث، فإن مكث حنث إلا أن
يشتغل بجمع متاع كما في الابتداء، ولو خرج بعد حلفه فورا ثم اجتازها كأن دخل من باب وخرج من آخر لم يحنث
وإن تردد فيها بلا غرض حنث. وينبغي أن لا يحنث كما قال الرافعي إن أراد بلا أسكنها لا اتخذها مسكنا لأنه لا تصير
به مسكنا. (ولو حلف لا يساكنه) أي زيدا مثلا (في هذه الدار) أو لا يسكن معي فيها أو لا سكنت معه (فخرج
أحدهما) منها (في الحال لم يحنث) لعدم المساكنة فإن مكث ساعة إلا أن يشتغل بنقل متاع أو بأسباب
الخروج كما قال الإمام قال الأذرعي: ويجئ ما سبق من الفروق بين الخروج بنية التحول وعدمها ويبعد كل البعد
أنه لو خرج المحلوف على عدم مساكنته لصلاة أو حمام أو حانوت ونحوها ومكث الحالف في الدار أنه لا يحنث
لبعده عن
العرف اه‍. وهو ظاهر (وكذا لو بنى بينهما جدار) من طين أو غيره (ولكل جانب) من الدار (مدخل)
لا يحنث (في الأصح) لاشتغاله برفع المساكنة. والثاني يحنث لحصول المساكنة إلى تمام البناء من غير ضرورة،
وهذا هو الأصح كما في الشرحين والروضة ونسباه إلى الجمهور، وترجيح الأول تبع فيه المحرر، ونقلاه في الشرح
والروضة عن البغوي.
تنبيه: محل الخلاف إذا كان البناء بفعل الحالف أو بأمره، أو بفعلهما أو بأمرهما، فلو كان بأمر غير الحالف
أما المحلوف عليه أو غيره فإن الحالف يحنث قطعا كما اقتضاه التعليل السابق، واحترز بقوله في هذه الدار عما لو أطلق
المساكنة ونوى أن لا يساكنه ولو في البلد حنث بمساكنته ولو فيه عملا بنيته، فإن لم ينو موضعا حنث بالمساكنة في
أي موضع كان، فإن سكنا في بيتين يجمعهما صحن ومدخلهما واحد حنث لحصول المساكنة، لا إن كان البيتان
من خان ولو صغيرا فلا حنث وإن اتحدت فيه المرافق وتلاصق البيتان، لأنه مبني لسكني قوم، وبيوته تنفرد بأبواب
ومغاليق فهو كالدرب، ولا إن كانا من دار كبيرة وإن تلاصقا فلا حنث لذلك، بخلافهما في صغيرة، ويشترط
في الكبيرة لا في الخان أن يكون لكل بيت فيها غلق ومرقي، فإن لم يكونا أو سكنا في صفتين في الدار، أو بيت
وصفة حنث، ولو انفرد في دار كبيرة بحجرة منفردة المرافق كالمرقى والمطبخ والمستحم وباب الحجرة في الدار لم يحنث،
وكذا لو انفرد منهما بحجرة كذلك في دار، وبقوله: جدار عما لو أرخى بينهما ستر وأقام كل واحد في جانب فإنه
يحنث قطعا. قال المتولي: إلا أن يكونا من أهل الخيام، فإنه إذا أحدث حاجزا فقد اختلف المسكن. (ولو حلف
330

لا يدخلها) أي الدار (وهو فيها، أو لا يخرج) منها (وهو خارج فلا حنث) في الصورتين (بهذا) المذكور من
دخول أو خروج، لأن الدخول الانفصال من خارج إلى داخل والخروج عكسه ولم يوجد ذلك في الاستدامة، فلهذا
لا يسمى دخولا ولا خروجا. نعم إن نوى بعدم الدخول الاجتناب فأقام حنث كما قاله ابن الرفعة تبعا للإمام، أو نوى بعدم
الخروج عدم نقل المتاع والاهل حنث بنقلهما، ولو حلف لا يملك هذه العين وهو مالكها فكما وحلف لا يدخل هذه
الدار وهو فيها، قاله الزركشي نقلا عن فتاوى ابن الصلاح (أو) حلف (لا يتزوج) وهو متزوج (أو لا يتطهر)
وهو متطهر (أو لا يلبس) وهو لابس (أو لا يركب) وهو راكب (أو لا يقوم) وهو قائم (أو لا يقعد) وهو قاعد
(فاستدام هذه الأحوال) المتصف بها من التزوج إلى آخرها (حنث) في جميع هذه المذكورات (قلت: تحنيثه)
أي المحرر بمسائل استدامة اللبس والركوب والقيام والقعود صحيح، لأنه يقال: لبست يوما وركبت يوما، وهكذا الباقي
و (باستدامة التزوج والتطهر غلط) لمخالفته للمجزوم به في الشرحين وغيرهما من عدم الحنث (لذهول) بذال
معجمة، وهو نسيان الشئ والغفلة عنه، إذ لا يقال: تزوجت شهرا بل من شهر، لأن التزوج قبول العقد. وأما
وصف الشخص بأنه لم يزل ناكحا فلانة منذ كذا فإنه يراد به استمرارها على عصمة نكاحه، ولا يقال تطهرت شهرا
بل من شهر.
تنبيه: محل عدم الحنث إذا لم ينو الاستدامة، فإن نواها حنث لوجود الصفة المقصودة بيمينه، قاله صاحب
الاستقصاء. ولو نوى باللبس شيئا مبتدأ فهو على ما نواه. قاله ابن الصلاح. (واستدامة طيب ليست تطيبا في الأصح)
فلا يحنث باستدامته من حلف لا يتطيب. إذ لا يقال: تطيبت شهرا. ولهذا لو تطيب ثم أحرم واستدام لا تلزمه الفدية
(وكذا وطئ وصوم وصلاة) بأن يحلف في الصلاة ناسيا أنه فيها، أو كان أخرس وحلف بالإشارة فلا يحنث باستدامتها
على الأصح (والله أعلم) لما مر. قال بعضهم: ولا يخلو ذلك عن بعض إشكال، إذ يقال: صمت شهرا وصليت
ليلة، وقد يجاب بأن الصلاة انعقاد النية، والصوم كذلك كما قالوا في التزوج: أنه قبول النكاح، وقد صرحوا بأنه
لو حلف أنه لا يصلي فأحرم بالصلاة إحراما صحيحا حنث، لأنه يصدق عليه أنه مصل بالتحرم. قال الماوردي: وكل
عقد أو فعل يحتاج إلى نية لا تكون استدامته كابتدائه، ولو حلف لا يشارك زيدا فاستدام أفتى ابن الصلاح بالحنث
إلا أن يريد شركة مبتدأة، ولو حلف لا يستقبل القبلة وهو مستقبل فاستدام حنث قطعا، ولو حلف لا يغصب شيئا لم
يحنث باستدامة المغصوب في يده كما جزم به في الروضة. فإن قيل يقال: غصبته شهرا أو سنة، ونحو ذلك كما قاله
في المهمات. أجيب بأن يغصب يقتضي فعلا مستقبلا، فهو في معنى قوله: لا أنشئ غصبا. وأما قولهم: غصبه شهرا
فمعناه: غصبه وأقام عنده شهرا كما أول قوله تعالى: * (فأماته الله مائة عام) * أي أماته وألبثه مائة عام أو جرت عليه
أحكام الغصب شهرا، وأما تسميته غاصبا باعتبار الماضي فمجاز لا حقيقة. ولو حلف لا يسافر وهو في السفر قاصدا
بحلفه الامتناع من ذلك السفر فرجع فورا أو وقف بنية الإقامة لم يحنث، فإن لم يقصد ذلك حنث، لأنه في العرف
مسافر أيضا، قاله في الروضة. قال في المهمات: وهو ذهول عن المنقول، فقد جزم الماوردي في الحاوي بأنه لا يحنث
وعلله بقوله: لأنه أخذ في ترك السفر، وهذا بحسب ما فهمه من كلام الماوردي، وكلامه فيما إذا قصد الامتناع عن
ذلك السفر كما مر، فلا مخالفة بين الكلامين. (ومن حلف لا يدخل دارا) معينة (حنث بدخول دهليز)
لها، وهو فارسي معرب (داخل الباب) الذي لا ثاني بعده، فهو بين الباب والدار (أو) كان (بين بابين) لأنه
331

من الدار، ومن جاوز الباب عد داخلا، و (لا) يخنث (بدخول طاق) للدار (قدام الباب) لأنه وإن كان
منها ويدخل في بيعها لا يقال لمن دخله أنه دخلها، وفسر الرافعي الطاق بالمقعود خارج الباب، وهو ما يعمل
لبعض
أبواب الأكابر.
تنبيه: محل ذلك إذا لم يكن للطاق باب يغلق كالدار، فإن كان قال المتولي: هو من الدار مسقفا كان أو غير مسقف
كما نقله عنه الرافعي وأقره، وقول الزركشي: وهو مشكل لخروجه عن العرف ليس هو في هذه الحالة خارجا عن
العرف. (ولا) يحنث جزما (بصعود سطح) من خارجها (غير محوط) لأنه لا يسمى داخل الدار لغة ولا عرفا لأنه
حاجز يقي الدار الحر والبرد، فهو كحيطانها (وكذا) سطح (محوط) من جوانبه الأربع بخشب أو قصب أو نحو
ذلك، لا يحنث بصعوده (في الأصح) لما مر، والثاني يحنث لإحاطة حيطان الدار به.
تنبيه: محل الخلاف إذا لم يكن السطح مسقفا كله أو بعضه وإلا حنث قطعا إذا كان يصعد إليه من الدار لأنه
من أبنيتها كما ذكره في الروضة، ونازع البلقيني فيما إذا كان المسقف بعضه ودخل في المكشوف. وقال: إن مقتضى
كلام الماوردي عدم الحنث ويرد ذلك التعليل المذكور (ولو أدخل يده أو رأسه) أو رجله فيها (لم يحنث) لأنه
لا يسمى داخلا، وقد ثبت أن النبي (ص) كان يخرج رأسه إلى عائشة رضي الله عنها وهو معتكف ولم يعد
خروجا مبطلا للاعتكاف (فإن وضع رجليه فيها معتمدا عليهما) وباقي بدنه خارج (حنث) لأنه يسمى داخلا. واحترز
بقوله: معتمدا عليها عما لو أدخل رجلا فقط واعتمد عليها، وعلى الخارجة فإنه لا يحنث، لأنه لم يدخل، فإن اعتمد
على الداخلة فقط بحيث لو رفع الخارجة لم يسقط فهو كما لو اعتمد عليها كما نقل عن فتاوى البغوي، وما لو مد رجليه فيها
وهو قاعد خارجها فإنه لا يحنث لأنه لا يعد داخلا، ولو تعلق بحبل أو جذع في هوائها وأحاط به بنيانها حنث، وإن لم
يعتمد على رجليه ولا إحداهما، لأنه يعد داخلا، فإن ارتفع بعض بدنه عن بنيانها لم يحنث (ولو انهدمت فدخل،
وقد بقي أساس الحيطان حنث) لأنها منها كذا قاله البغوي في التهذيب وتبعه في المحرر، وجرى عليه المصنف وعبارة
الشرح والروضة إن بقيت أصول الحيطان والرسوم حنث والمتبادر إلى الفهم من هذه العبارة بقاء شاخص بخلاف
عبارة الكتاب، فإن الأساس هو البناء المدفون في الأرض تحت الجدار البارز. قال الدميري: وكأن الرافعي والمصنف
لم يمعنا النظر في المسألة اه‍. والحاصل أن الحكم دائر مع بقاء اسم الدار وعدمه، وبذلك صرح المصنف في تعليقه على
المهذب. فقال نقلا عن الأصحاب: إذا انهدمت فصارت ساحة لم يحنث، أما إذا بقي منها ما تسمى معه دارا فإنه
يحنث بدخولها.
تنبيه: كل هذا إذا قال: لا أدخل هذه الدار، فإن قال: لا أدخل هذه حنث بالعرصة، وإن قال دارا لم يحنث
بفضاء ما كان دارا، وهذه ترد على المصنف، فإنه صور المسألة في أصلها بقوله دارا، لكن مراده هذه الدار
، ولهذا
قدرت في كلامه معينة. (وإن صارت) تلك الدار المحلوف على دخولها (فضاء) بالمد وأريد به هنا الساحة الخالية من
بناء (أو جعلت مسجدا أو حماما أو بستانا فلا) يحنث بدخولها لزوال مسمى الدار وحدوث اسم آخر لها.
تنبيه: مقتضى كلامه انحلال اليمين بذلك حتى لو أعيدت لم يحنث بدخولها، وهو كذلك إن أعيدت بآلة
أخرى فإن أعيدت بآلتها الأولى فالأصح في زوائد الروضة الحنث، ولو حلف لا يدخل دارا مختارا ولا مكرها ولا ناسيا
حنث بذلك كله عملا بتعليقه فلو انقلب الحالف من نومه بجنب الدار فحصل فيها أو حمل إليها، ولو لم يمتنع لم يحنث، إذ
لا اختيار له في الأولى ولا فعل منه في الثانية، وإن حمل إليها بأمره حنث كما لو ركب دابة ودخلها. (ولو حلف لا يدخل
332

دار زيد حنث بدخول ما) أي دار (يسكنها بملك) سواء أكان مالكا لها عند الحلف أم بعده حتى لو قال لا أدخل
دار العبد، فلا يتعلق بمسكنه الآن، بل ما يملكه بعد عتقه لوجود الصفة، أو دارا تعرف به كدار العدل، وإن لم
يسكنها، و (لا) يحنث بدخول ما يسكنها (بإعارة وإجارة وغصب) ووصية بمنفعتها ووقف عليه، لأن مطلق الإضافة
إلى من يملك تقتضي ثبوت الملك حقيقة بدليل أنه لو قال: هذه الدار لزيد، كان إقرارا له بالملك حتى لو قال: أردت به
ما يسكنها لم يقبل، ولا فرق بين أن يحلف بالفارسية أو بغيرها خلافا للقاضي في قوله أنه إذا حلف بالفارسية أنه يحمل على
المسكن (إلا أن يريد) بداره (مسكنه) فيحنث بالمعار وغيره، وإن لم يملكه ولم يعرف به، لأنه مجاز اقترنت به
النية. قال الله تعالى: * (لا تخرجوهن من بيوتهن) * المراد بيوت الأزواج اللاتي يسكنها (ويحنث بما يملكه) زيد (ولا
يسكنه) لأنه دخل في دار زيد حقيقة، هذا إذا كان يملك الجميع. فإن كان يملك بعض الدار فظاهر نص الام أنه
لا يحنث، وإن كثر، نصيبه وأطبق عليه الأصحاب كما قاله الأذرعي (إلا أن يريد) بداره (مسكنه) فلا يحنث بما
لا يسكنه عملا بقصده.
تنبيه: كان ينبغي أن يقول: بما يملكه أو لا يملكه، ولكن لا يعرف إلا به ليشمل ما لو كان بالبلد دار أو سوق
أو حمام مضاف إلى رجل كسوق أمير الجيوش، وخان الخليلي بمصر، وسوق يحيى ببغداد، وخان يعلى بقزوين،
وسوق السخي بدمشق، ودار الأرقم بمكة. قال في الروضة: وكذا دار العقيقي بدمشق اه‍. ودار العقيقي هي المدرسة
الظاهرية، قاله ابن شهبة فيحنث بدخول هذه الأمكنة، وإن كان من تضاف إليه ميتا لتعذر حمل الإضافة على الملك
فتعين أن تكون للتعريف. (ولو حلف لا يدخل دار زيد) مثلا (أو لا يكلم عبده أو زوجته فباعهما) أي الدار والعبد
أو بعضهما بيعا يزول به الملك أو زال ملكه عنهما أو عن بعضهما بغير البيع (أو طلقها) أي زوجته طلاقا بائنا أو
رجعيا وانقضت عدتها (فدخل) الدار (وكلم) العبد أو الزوجة (لم يحنث) تغليبا للحقيقة، لأنه لم يدخل داره
ولم
يكلم عبده ولا زوجته لزوال الملك بالبيع ونحوه والزوجية بالطلاق، فإن كان الطلاق رجعيا ولم تنقض العدة وكلم
الزوجة حنث، لأن الرجعية في حكم الزوجات، ولو لم يزل الملك بالبيع لأجل خيار مجلس أو شرط لهما أو للبائع
حنث إن قلنا الملك للبائع أو موقوف وفسخ البائع البيع، فإنه يتبين أن الملك للبائع فيتبين حنث الحالف فلو قال المصنف:
فأزال ملكه عن بعضهما بدل فباعهما لكان أولى وأعم لتدخل الهبة وغيرها (إلا أن يقول) الحالف (دار هذه أو
زوجته هذه أو عبده هذا فيحنث) تغليبا للإشارة، اللهم (إلا أن يريد) الحلف بما ذكر (ما دام ملكه) عليه فلا
يحنث مع الإشارة إذا دخل الدار أو كلم العبد بعد زوال الملك أو الزوجية بعد الطلاق البائن عملا بإرادته، ومثل زوال
ملكه عن العبد ما لو أعتق بعضه كما لو حلف لا يكلم عبدا فكلم مبعضا، فإنه لا يحنث، وكذا لو حلف لا يكلم حرا أو لا يكلم حرا
ولا عبدا كما لو حلف لا يأكل بسرة ولا رطبة فأكل منصفة. فإنه لا يحنث، ولو اشترى زيد بعد الدار
دارا أخرى لم يحنث الحالف بدخولها إن أراد الدار الأولى، وإن أراد أي دار تكون في ملكه حنث بالثانية، وكذا
إن أطلق كما ذكره البغوي وغيره، وإن أراد أي دار جرى عليها ملكه حنث بهما، ونقل الرافعي آخر الباب
عن الحليمي أن الإضافة إن تعلقت بما يملك فالاعتبار بالمالك، أو بما لا يملك فالاعتبار بالمحلوف عليه كما لو قال: لا أكلم
عبد فلان، حنث لموجود في ملكه وبالمتجدد اعتبارا بالمالك، وإن قال: لا أكلم ولده فلان، حنث بالموجود دون المتجدد،
والفرق أن اليمين تنزل على ما للمحلوف عليه قدرة على تحصيله. ولا يشكل على ذلك ما قاله صاحب الكافي من أنه لو حلف
333

لا يمس شعر فلان فحلقه فنبت شعر آخر فمسه حنث، لأن هذا أصل الشعر المحلوف عليه فليس هو غيره.
تنبيه: يصح في قول المصنف ملكه الرفع على أنه اسم دام، والنصب على أنه خبرها والخبر أو الاسم محذوف.
(ولو حلف لا يدخلها) أي الدار (من ذا الباب فنزع) من محله (ونصب في موضع آخر منها) أي الدار (لم يحنث
بالثاني) أي بالدخول من المنفذ الثاني (ويحنث بالأول في الأصح) المنصوص فيهما حملا لليمين على المنفذ، لأنه المحتاج
إليه في الدخول دون المنصوب الخشب ونحوه. والثاني عكسه حملا على المنصوب. والثالث لا يحنث بدخول واحد
منهما حملا على المنفذ والمنصوب معا.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف أنه لا فرق في جريان الخلاف بين أن يسد الأول أو لا وهو كذلك، وإن قيده في المهذب
والتهذيب وتبعهما المصنف في نكت التنبيه بما إذا سد الأول، ومحل الخلاف عند الاطلاق، فإن نوى شيئا ممن ذلك
حمل عليه قطعا، واحترز المصنف بقوله: من ذا الباب باسم الإشارة عما لو قال: لا أدخلها من بابها، فإنه يحنث بالباب الثاني
في الأصح، لأنه يطلق عليه اسم بابها.
فرع: لو حلف لا يركب على سرج هذه الدابة فركب عليه، ولو على دابة أخرى حنث (أو) حلف (لا يدخل)
أو لا يسكن (بيتا) ولا نية له (حنث) بالدخول أو السكنى (بكل بيت من طين أو حجر أو آجر أو خشب) أو قصب
محكم كما قاله الماوردي (أو خيمة) ونحوها سواء أكان الحالف حضريا أم بدويا، لأن اسم البيت يقع على ذلك كله حقيقة
في اللغة كما لو حلف لا يأكل الخبز، فإنه يحنث بجميع أنواعه.
تنبيه: أطلق المصنف الخيمة، ومقتضى كلامهم كما قال الزركشي التصوير بما إذا اتخذت مسكنا، وأشار إلى
ذلك الصيمري في الايضاح، قال: فأما ما يتخذها المسافر والمجتاز لدفع الأذى فلا تسمى بيتا، ومحل ذلك عند الاطلاق،
فإن نوى نوعا منها انصرف إليه، ومحله أيضا إذا تلفظ بالبيت بالعربية، فلو حلف بالفارسية كأن قال: والله لا أدخل
درخانه لم يحنث بغير البيت المبني، لأن العجم لا يطلقونه على غير المبني، نقله الرافعي عن القفال وغيره، وصححه
في الشرح الصغير. (ولا يحنث) على المذهب (بمسجد) وكعبة (و) بيت (حمام) ورحى (وكنيسة وغار جبل)
لأنها لا تسمى بيتا عرفا، فلا يشكل ذلك بتسمية المسجد بيتا، في قوله تعالى: * (في بيوت أذن الله أن ترفع) * ولا بتسمية
الكعبة بيتا، في قوله تعالى: * (وطهر بيتي للطائفين) * كما لو حلف لا يجلس على بساط فجلس على الأرض، فإنه لا يحنث
مع أن الله تعالى سماها بساطا، وكما لو حلف لا يجلس عند سراج فجلس عند الشمس مع أن الله تعالى سماها سراجا.
تنبيه: أطلق المصنف الغار، ومحله كما قال البلقيني: في غار لم يتخذ للسكنى، فأما ما اتخذ من ذلك مسكنا،
فإنه يحنث به. وقال الأذرعي: المراد بالكنيسة موضع تعبدهم، أما لو دخل بيتا في الكنيسة فإنه يحنث قطعا، ولا
شك أنه لا يحنث بدخول ساحة المدرسة والرباط ونحوهما. وكذا الإيوان فيما يظهر ويحنث بدخول بيت من بيوتهما.
(أو) حلف (لا يدخل على زيد فدخل بيتا فيه زيد وغيره) عالما بذلك ذاكرا للحلف مختارا (حنث) مطلقا في
الأظهر لوجود صورة الدخول عليه (وفي قول إن نوى الدخول على غيره دونه لم يحنث) كما في مسألة السلام الآتية،
وفرق الأول بأن الاستثناء يمتنع في الافعال دون الأقوال، بدليل أنه لا يصح أن يقال دخلت عليكم إلا زيدا،
ويصح سلمت عليكم إلا زيدا، ولو دخل عليه دارا، فإن كانت كبيرة يفترق المتبايعان فيها لم يحنث وإلا حنث
334

(فلو جهل حضوره) أي زيد في البيت (فخلاف حنث الناسي) والجاهل المذكورين في الطلاق، والأصح
عدم الحنث.
تنبيه: محل الخلاف إذا أطلق، فإن قال: لا أدخل عليه عامدا ولا ناسيا حنث بالدخول عليه ناسيا قطعا كما نقله
القاضي الحسين. (قلت: ولو حلف لا يسلم عليه فسلم على قوم هو فيهم) وعلم به (واستثناه) لفظا أو نية (لم يحنث) في الأولى
جزما، ولا في الثانية عن المذهب، لأنه أخرجه بالاستثناء عن أن يكون مسلما عليه (وإن أطلق حنث في الأظهر والله
أعلم) لأن العام يجري على عمومه ما لم يخصص، والثاني لا يحنث لأن اللفظ صالح للجميع وللبعض، فلا يحنث بالشك
فإن قصده حنث قطعا أو جهله فيهم لم يحنث أخذا مما مر.
تنبيه: يأتي الخلاف فيما لو سلم من صلاته وزيد من المؤتمين به كذا. قال الرافعي: وقال ابن الصلاح: إنه
قياس المذهب وجزم به المتولي وقال البلقيني: إنه لا يحنث بالسلام من الصلاة، لأن المحلوف عليه إنما هو السلام
الخاص الذي يحصل به الانس وزوال الهجران، وهذا إنما يكون في السلام في غير الصلاة: قال وما ذكره الرافعي
أخذه الشامل وهو بحث له، فإن قال: إنه الذي يقتضيه المذهب اه‍. ويمكن حمل كلام الرافعي على ما إذا قصده بالسلام
وكلام البلقيني على ما إذا قصد التحلل أو أطلق، وقال الزركشي: ما قاله الرافعي خارج عن العرف، ثم قال: ويحتمل
التفصيل بين أن يقصده أم لا كما في قراءة الآية المفهمة اه‍. وهذا قريب من الحمل المذكور وهو ظاهر أن محل ذلك
إذا سمع سلامه، فقد صرح الرافعي في باب الطلاق بعدم الحنث فيما إذا كان المسلم عليه في الصلاة وبعد بحيث لا يسمع
سلام المسلم عليه.
فصل: في الحلف على أكل أو شرب مع بيان ما يتناوله بعض المأكولات، إذا (حلف) شخص (لا يأكل
الرؤوس) أو الرأس أو لا يشتريها (ولا نية له حنث برؤوس تباع وحدها) وهي رؤوس الغنم قطعا، وكذا الإبل والبقر
على الصحيح لأن ذلك هو المتعارف، وإن اختص بعضها ببلد الحالف (لا) برؤوس (طير وحوت وصيد)
وخيل (إلا ببلد تباع فيه مفردة) لكثرتها واعتياد أهلها فيحنث بأكلها فيه لأنه كرؤوس الانعام في حق غيرهم،
وسواء أكان الحالف من تلك البلدة أم لا، وإن كان في بلد لا تباع فيه مفردة بل تباع في غيره مفردة حنث على
الأقوى في الروضة لشمول الاسم، ولان ما ثبت فيه العرف في موضع ثبت في سائر المواضع كخبز الأرز. قال: وهو
الأقرب إلى ظاهر النص اه‍. وهذا هو الظاهر وقيل يحنث وصححه المصنف في تصحيح التنبيه ورجحه
الشيخ أبو حامد وغيره، وقطع به المحاملي وهو مفهوم كلام المتن وأصله، ومال إليه البلقيني قال: والأول مقيد
بما إذا انتشر العرف بحيث بلغ الحالف وغيره وإلا فلا حنث اه‍. أما إذا نوى شيئا منها فإنه يعمل به، وإن نوى مسمى
الرأس حنث بكل رأس وإن لم تبع وحدها، وإن قال: لا آكل رؤوس الشوى حنث برؤوس الغنم فقط، دون رؤوس
غيرها كما قاله الأذرعي: وتبعه ابن المقري.
تنبيه: قول المصنف: حنث برؤوس يقتضي أنه لا بد من أكل جمع من الرؤوس، وصرح بهن القطان في
فروعه، وقال: لا بد من أكل ثلاثة منها، لكن قال الأذرعي: إن ظاهر كلامهم، أو صريحه أن إطلاق اليمين محمول
على الجنس، حتى لو أكل رأسا أو بعضه حنث اه‍. وهذا هو الظاهر. قال الشيخ أبو زيد: لا أدري ما إذا بنى الشافعي
عليه مسائل الايمان، وإن اتبع اللفظ فمن حلف لا يأكل الرؤوس ينبغي أن يحنث بكل رأس، وإن اتبع العرف
335

فأصحاب القرى لا يعدون الخيام بيوتا، ولم يفرق بين القروي والبدوي، وأجاب عنه الرافعي في آخر الباب بأنه يتبع
مقتضى اللغة تارة، وذلك عند ظهورها وشمولها وهو الأصل، وتارة يتبع العرف إذا اشتهر واطرد وذكر الشيخ
عز الدين نحوه، فقال: قاعدة الايمان البناء على العرف إذا لم يضطرب، فإذا اضطرب فالرجوع إلى اللغة اه‍. ولو اقتصر
المصنف على صيد لشمل رأس سمك وطير، فإن كل منهما صيد، ويجوز في طير وما بعده الرفع أيضا، ويقال لبياع
الرؤوس رآس، والعامة يقولون رواس. (والبيض) جمع بيضة (يحمل) فيمن حلف لا يأكل بيضا (على)
بيض (مزايل) أي مفارق (بائضه في الحياة كدجاج) - بتثليث الدال - أي بيضة وبيض إوز وبط (ونعامة وحمام)
وعصافير ونحوها، لأنه المفهوم عند الاطلاق.
تنبيه: قضية تمثيله التخصيص ببيض المأكول، وبه صرح صاحب الكافي، فقال: ولا يحنث ببيض ما لا
يؤكل، والأصح كما في المجموع حل أكله بلا خلاف، إذا قلنا بطهارته لأنه طاهر غير مستقذر، وإن نازع في
ذلك البلقيني، وقول المصنف: على مزايل بائضه أي ما شأنه ذلك لا المزايلة الحقيقية، فإنه لو خرج من الدجاجة بعد
موتها بيض متصلب حنث به على الأصح في زيادة الروضة ثم لا فرق في الحنث بين أكله وحده أو مع غيره إذا ظهر
فيه بخلاف ما إذا أكله في شئ لا تظهر صورته فيه كالناطف، فإنه لا يخلو عن بياض البيض فلا يحنث به. قاله في
التتمة، وبه أجاب المسعودي لما توقف القتال فيمن حلف لا يأكل البيض. ثم لقي رجلا فحلف ليأكلن مما في كمه،
فإذا هو بيض، فقال: يتخذ منه الناطف ويؤكل ويكون قد أكل مما في كمه ولم يأكل البيض، فاستحسن ذلك. (لا)
بيض (سمك) وهو المسمى بالبطارخ (و) لا بيض (جراد) فلا يحنث الحالف على أكل البيض بهما لأنه إنما يخرج
بعد الموت بشق البطن، ولو بيع بيض السمك منفردا لم يحنث بأكله لأنه استجد اسما آخر، وهو البطارخ، ولا يحنث
بخصية شاة لأنها لا تفهم عند الاطلاق هذا كله إذا لم ينو شيئا، وإن نوى شيئا فكما سبق في الرؤوس، كما صرح به
الماوردي والمتولي. ولا يجوز أكل مصارين السمك المملوح مع بيضه لأنها محتوية على النجاسة (و) يحمل
(اللحم) فيمن حلف لا يأكله (على) لحم (نعم) من إبل وبقر وغنم (و) لحم (خيل) وهذا مزيد على
المحرر والروضة كأصلها، وصرح به ابن الصباغ وغيره (و) لحم (وحش وطير) مأكولين لوقوع اسم اللحم عليه
حقيقة فيحنث بالاكل من مذكاها، سواء أكله نيئا أم لا. ولا يحنث بلحم ما لا يؤكل كالميتة والحمار لأن قصده
الامتناع عما لا يعتاد أكله ولان اسم اللحم إنما يقع على المأكول شرعا. وإن قال الأذرعي: يظهر أن يفصل بين
كون الحالف ممن يعتقد حل ذلك فيحنث وإلا فلا. (ولا) على لحم (سمك) وجراد لأنه لا يسمى لحما في العرف
وإن سماه الله تعالى لحما. ولهذا يصح أن يقال ما أكلت لحما بل سمكا، كما لا يحنث بالجلوس على الأرض إذا حلف
لا يجلس على بساط كما مر، وإن سماها الله تعالى بساطا.
تنبيه: أفهم إطلاقه لحم السمك أنه لا فرق بين أن تجري عادة ناحيته ببيع لحمه مفردا أم لا، وبه صرح ابن
القاص. هذا كله عند الاطلاق. فإن نوى شيئا حمل عليه. (و) لا (شحم بطن) وشحم عين لمخالفتهما اللحم في
الاسم والصفة (وكذا كرش) بكسر الراء، ويجوز إسكانها مع فتح الكاف وكسرها. وهو للحيوان كالمعدة للانسان
(وكبد) بفتح الكاف وكسر الباء الموحدة، ويجوز إسكانها مع فتح الكاف وكسرها (وطحال) بكسر الطاء (وقلب)
ورئة ومعي (في الأصح) لأنه يصح أن يقال أنها ليست لحما. قال الأذرعي: وكذا الثدي والخصية في الأقرب.
والثاني يحنث بها لأنها في حكم اللحم. قال ابن أبي عصرون: ولا يحنث بقانصة الدجاجة - أي ونحوها - قطعا لأنها
لا تدخل في مطلق الاسم.
فائدة: روى البيهقي في الشعب عن علي رضي الله تعالى عنه أنه قال العقل في القلب والرحمة في الكبد
336

والرأفة في الطحال. (والأصح تناوله) أي اللحم (لحم رأس ولسان) لصدق الاسم عليهما، والثاني لا، لأنه لا يطلق
عليهما إلا مضافا، فيقال لحم رأس ولحم لسان، ويجري الخلاف في لحم الخد والأكارع، وينبغي أن يكون الآذان
كذلك، وأما الجلد فلا يحنث به الحالف، لا يأكل لحما لأنه لا يؤكل غالبا لأنه جنس غير اللحم كما ذكره الرافعي في الربا
(و) يتناول اللحم أيضا (شحم ظهر وجنب) وهو الأبيض الذي لا يخالطه لحم أحمر لأنه لحم سمين، ولهذا يحمر
عند الهزال، والثاني المنع نظرا إلى اسم الشحم قال تعالى * (حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما) * أي
ما علق بها منه فسماه شحما، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك (و) الأصح (أن شحم الظهر) فيمن حلف لا يأكل شحما
(لا يتناوله الشحم) لما مر أنه لحم، والثاني يتناوله لما مر أيضا أنه شحم. أما شحم البطن فيحنث به جزما (و)
الأصح، وعبر في الروضة بالصحيح (أن الالية) بفتح الهمزة (والسنام) بفتح السين (ليسا) أي كل منهما (شحما
ولا لحما) لأنهما يخالفان كلا منهما في الاسم والصفة، فإذا حلف لا يأكل اللحم أو الشحم لا يحنث بهما (والالية
لا تتناول سناما، و) السنام (لا يتناولها) لاختلاف الاسم والصفة، وهذا لا خلاف فيه كما اقتضاه كلام الرافعي
وغيره، وعلى هذا فنقرأ الالية بالرفع على أنها مبتدأ، ولا يصح أن تكون معطوفة على ما قبلها من مسائل الخلاف
(والدسم) وهو الودك (يتناولهما) أي الالية والسنام (و) يتناول (شحم ظهر وبطن وكل دهن) لصدق الاسم
على جميع ذلك.
تنبيه: قيد بعضهم الدهن بكونه يؤكل عادة ليخرج ما لا يؤكل عادة كدهن خروع أو شرعا كدهن ميتة وهو
حسن. فإن قيل: كيف أدخل المصنف شحم الظهر في الدسم مع أنه عنده لحم وهو لا يدخل في الدسم؟ أجيب بأنه لما
صار سمينا صار يطلق عليه اسم الدسم، وإن لم يطلق الدسم على كل لحم، وخرج بالدهن أصوله كالسمسم والجوز واللوز.
فإن قيل: لم لم يذكر المصنف اللبن في الدسم مع أنه ثبت في الصحيح أنه (ص) شرب لبنا ثم تمضمض،
وقال: إن له دسما. أجيب بأنه لم يقل إنه دسم. فإن قيل: قد أكل منه الدسم. أجيب بأنه مستهلك ولا يحنث بدهن
السمسم من حلف لا يأكل دهنا كما قاله البغوي، وفي معناه دهن جوز ولوز ونحوهما. (ولحم البقر يتناول جاموسا)
فيحنث بأكله من حلف لا يأكل لحم بقر لدخوله تحت اسم البقر، ولهذا جعلوهما في باب الربا جنسا واحدا، ويدخل
فيه بقر الوحش في الأصح لصدق الاسم عليه، بخلاف ما لو حلف لا يركب حمارا فركب حمارا وحشيا لا يحنث لأن
المعهود للركوب الحمار الأهلي بخلاف الاكل، قاله الرافعي. وقياس ما قالوه هنا تناول الغنم للمعز لما مر.
فروع: لو حلف لا يأكل ميتة لم يحنث بمذكاة ولا بسمك وجراد كما لو حلف لا يأكل دما فأكل كبدا أو طحالا،
ولو حلف لا يأكل لبنا فأكل شيرازا وهو - بكسر الشين المعجمة - لبن يغلى فيسخن جدا ويصير فيه حموضة أو دوغا وهو
- بضم الدال وإسكان الواو وبالغين المعجمة - لبن ثخين نزع زبده وذهبت مائيته أو ماشتا وهو - بشين معجمة وتاء مثناة
فوقية - لبن ضأن مخلوط بلبن، حنث لصدق اسم اللبن على ذلك وسواء أكان من نعم أو من صيد. قال الروياني:
أو آدمي أو خيل بخلاف ما لو أكل لوزا وهو - بضم اللام وإسكان الواو وبالزاي - شئ بين الجبن واللبن الجامد نحو الذي
يسمونه في بلاد مصر قريشة أو مصلا، وهو - بفتح الميم - شئ يتخذ من ماء اللبن لأنهم إذا أرادوا أقطا أو غيره جعلوا
اللبن في وعاء من صوف أو خوص أو كرباس ونحوه فينز ماؤه فهو المصل، أو جبنا، وتقدم ضبطه في باب السلم أو كشكا
وهو بفتح الكاف معروف، أو أقطا أو سمنا، إذ لا يصدق على ذلك اسم اللبن، وأما الزبد فإن ظهر فيه لبن فله حكمه
وإلا فلا، وكذا القشطة كما بحثه شيخنا، والسمن والزبد والدهن متغايرة، فالحالف على شئ منها لا يحنث بالباقي
للاختلاف في الاسم والصفة، ولو حلف على الزبد والسمن لا يحنث باللبن، ولو حلف لا يأكل اللبأ، وهو أول اللبن
337

ويحدث بالولادة لم يحنث بما يحلب قبلها. (ولو قال) في حلفه (مشيرا إلى حنطة) مثلا (لا آكل هذه حنث بأكلها على
هيئتها وبطحنها وخبزها) تغليبا للإشارة، هذا عند الاطلاق، فإن نوى شيئا حمل عليه.
تنبيه: قال الأذرعي: واعلم أن كلامه مصرح في هذه الصورة وأشباهها بأنه إنما يحنث بأكل الجميع، وقالوا
لو قال: لا آكل هذا الرغيف لم يحنث ببعضه، فلو بقي منه ما يمكن التقاطه وأكله لم يحنث وهو يفهم الحنث فيما إذا بقي
ما لا يمكن التقاطه وأكله، ولا شك أن الحنطة إذا طحنت يبقى في ثقوب الرحى منها بقية دقيق ويطير منه شئ، وإذا
عجن يبقى في المعجن غالبا منها بقية، وإذا أكل الخبز يبقى منه فتات صغير، وهذا كله مما يوجب التوقف في الحنث
بأكل خبزها عند من ينظر إلى حقيقة اللفظ ويطرح العرف. وقد حكى أبو بكر بن العربي في فوائد رحلته قال:
وكنت أجلس كثيرا في مجلس الشاشي، يعني صاحب الحلية فيأتي إليه الرجل يقول: حلفت بالطلاق أن لا ألبس هذا
الثوب، وقد احتجت إلى لبسه، فيقول: سل منه خيطا فيسل منه خيطا مقدار الشبر أو الإصبع، ثم يقول: البس لا شئ
عليك اه‍. وعلى هذا إذا تحقق ذهاب ما ذكر لا يحنث. (ولو) صرح في حلفه بالإشارة مع الاسم كأن (قال
لا آكل هذه الحنطة حنث بها مطبوخة) مع بقاء حباتها (ونيئة ومقلية) - بفتح الميم - لأن الاسم لم يزل. إن هرست
في طبخها لم يحنث لزوال اسم الحنطة كما يؤخذ من قوله (لا بطحينها وسويقها وعجينها وخبزها) - بضم الخاء - لزوال
الاسم والصورة.
تنبيه: لو أخر اسم الإشارة كأن قال: لا آكل الحنطة هذه فهو كما لو اقتصر على الإشارة. (ولا يتناول رطب) -
بضم الراء - حلف على أكله (تمرا ولا بسرا) - بضم الباء الموحدة - ولا بلحا (ولا) يتناول (عنب زبيبا، وكذا العكوس)
لهذه المذكورات فلا يحنث بأكل التمر من حلف لا يأكل رطبا، وكذا الباقي لاختلافها اسما وصفة.
تنبيه: لو حلف لا يأكل رطبا أو بسرا فأكل منصفا، وهو بضم الميم وفتح النون وكسر الصاد المهملة المشددة
حنث لاشتماله على كل منهما فإن حلف لا يأكل رطبا فأكل غير الرطب منه فقط، أو لا يأكل بسرا فأكل الرطب منه
فقط لم يحنث. قال أهل اللغة: تمر النخل أوله طلع وكافور، ثم خلاف بفتح الخاء المعجمة واللام المخففة، ثم
بلح ثم بسر، ثم رطب، ثم تمر، فإذا بلغ الأرطاب منصف البصرة قيل منصفه، فإن بدا من ذنبها ولم يبلغ النصف قيل مذنبة
بكسر النون، ويقال في الواحدة بسرة بإسكان السين وضمها، والجمع بسر بضم السين وبسرات، وأبسر النخل أر
ثمره بسرا، وهل يتناول البسر المشدخ وهو ما لم يترطب بنفسه، بل عولج حتى ترطب وهو المسمى في مصر بالمعمول
؟ قال الزركشي: فيه نظر، وقد ذكروا في السلم أنه لو أسلم إليه في رطب فأحضر إليه مشدخا لا يلزمه قبوله لأنه لا يتناوله
اسم الرطب. (ولو قال) الحالف (لا آكل هذا الرطب فتتمر) أي صار تمرا (فأكله أو لا أكلم ذا الصبي) وأطلق
(فكلمه شيخا فلا حنث في الأصح) لزوال الاسم كما في الحنطة، والثاني يحنث لبقاء الصورة، وإن تغيرت الصفة كما
لو قال: لا آكل هذا اللحم فجعله شواء وأكله، أما إذا قصد الامتناع من أكل هذه الثمرة وكلام هذا الشخص فإنه
يحنث، وإن تبدلت الصفة ويجري الخلاف في نظائر هذا كما لو قال: لا آكل من هذا البسر فصار رطبا، أو العنب
فصار زبيبا، أو العصير فصار خمرا، أو هذه الخمر فصار خلا، أو لا آكل من لحم هذه السخلة أو الخروف فصار
كبشا فذبحه وأكله أو لا أكلم هذا العبد فعتق.
تنبيه: قوله: شيخا يوهم أنه لو كلمه بالغا يحنث وليس مرادا، فلو عبر بالبالغ لدل على الشيخ من باب أولى،
338

ولو قال مشيرا إلى سخلة لا آكل من لحم هذه البقرة حنث بأكلها تغليبا للإشارة. (والخبز) في حلقه على أكله
(يتناول كل خبز كحنطة وشعير) بفتح الشين أفصح من كسرها (وأرز) بفتح الهمزة وضم الراء وتشديد الزاي
(وباقلا) بتشديد اللام مع القصر اسم للفول (وذرة) - بإعجام الذال بخطه - وهي الدهن، وتكون سوداء وبيضاء
(وحمص) بكسر الحاء بخطه، ويجوز فتح الميم وكسرها، وسائر المتخذ من الحبوب كالعدس وإن لم يكن بعضها
معهودا ببلده، لأن الجميع خبز واللفظ باق على مدلوله من العموم، وعدم الاستعمال لا يوجب تخصيصا لوجود الاسم كما
لو حلف لا يلبس ثوبا فإنه يحنث بكل ثوب وإن لم يعهده ببلده، وخبز الملة وهي - بفتح الميم وتشديد اللام - الرماد
الحار كغيره (فلو ثرده) بالمثلثة مخففا (فأكله حنث) وكذا لو ابتلعه بلا مضغ كما في الروضة كأصلها هنا، وفي
الطلاق فيها أنه لا يحنث بالبلع إذا حلف لا يأكل فعد ذلك تناقضا. وأجاب شيخي عن ذلك بأن ما في الطلاق مبني
على اللغة، والبلع فيها لا يسمى أكلا، والايمان مبناها على العرف، والبلع فيها يسمى أكلا والجمع أولى من تضعيف
أحد الموضعين، ولو جعله في مرقة حسوا: أي مائعا يشرب شيئا بعد شئ، أو فتيتا وهو الخبز يفت في الماء بحيث
يبقى فيه كالحسو فشرب الحسو أو الفتيت. ويقال فيه الفتوت - بفتح الفاء فيهما - لم يحنث به، لأنه حينئذ لا يسمى خبزا
قال ابن الرفعة: ويظهر أنه لو دق الخبز اليابس ثم أكله لم يحنث، لأنه استجد اسما آخر كالدقيق. قال في الروضة:
ولا يحنث بأكل الجوزنيق في الأصح، وهو القطائف المحشوة بالجوز، ومثله اللوزنيق، وهو القطائف المحشوة باللوز
قال ابن خلكان: وعلل ذلك بأنه مقلي، وأخذ بعض المتأخرين من ذلك أن الضابط في الخبز كل ما خبز لا ما قلي.
قال في زيادة الروضة: وأما البقسماط والبسيس والرقاق وبيض لذلك. قال في المهمات. أما البقسماط فسماه الجوهري
خبزا، والرقاق في معناه نعم أهل العرف لا يسمون ذلك خبزا، وأما البسيس فهو أن يلت السويق أو الدقيق أو الاقط
المطحون بالسمن أو بالزيت ثم يؤكل من غير طبخ، كذا ذكره الجوهري وأنشد عليه: لا تخبز خبزا وبساسا
وإذا علمت ما ذكره تفسيرا واستدلالا قطعت بأنه لا يحنث بالبسيس اه‍. وقال الأذرعي: يظهر
الحنث بالرقاق والبقسماط وكذا ببسيس أو خبز، لا إن قلي بشيرج. قال: والمراد به أي بما يخبز ما يتعاطاه
أهل الشام من أنهم يعجنون دقيقا ويخبزونه قبل أن يختم ثم يبسونه بغربال ونحوه ويضيفون إليه سمنا، وقد يزاد عسلا
أو سكرا اه‍. وقوله: إلا إن قلي فيه إشارة إلى الضابط المذكور، وعليه يحنث بالكنافة، ولا يحنث بالزلابية. وفيه
نظر، بل رجح الأشموني في بسط الأنوار أن البقسماط ونحوه لا يسمى خبزا، والظاهر أن الضابط في ذلك العرف،
لا ما يخبز ويقلى. وقال بعض المتأخرين: ينبغي الحنث في الجميع إن اعتمدنا اللغة، وعدمه إن اعتمدنا العرف (و)
الافعال المختلفة الأجناس كالأعيان لا يتناول بعضها بعضا، والشرب ليس أكلا ولا عكسه، فعلى هذا لو حلف
لا يأكل سويقا فسفه، أو تناوله (بأصبع) مبلولة أو نحوها (حنث) لأنه يعد أكلا.
تنبيه: قضية كلامه أنه لا يشترط في حصول اسم الاكل المضغ، بل يكفي البلع وهو كذلك، وتقدم الفرق بينه
وبين الطلاق عند قول المصنف فلو ثرده. (وإن جعله) أي السويق (في ماء) أو مائع وغيره حتى انماع (فشربه
فلا) لعدم الاكل، فإن كان خائرا بحيث يؤخذ منه باليد حنث (أو) حلف (لا يشربه) أي السويق (فبالعكس)
فيحنث في الثانية لوجود المحلوف عليه دون الأولى، لأنه لم يشربه.
فروع: لو حلف لا يأكل سويقا ولا يشربه فذاقه لم يحنث، لأنه لم يأكل ولم يشرب، وإن حلف لا يذوق
شيئا فمضغه ولفظه حنث، لأن الذوق معرفة الطعم وقد حصل، ولو حلف لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق فأوجر في
حلقه وبلغ جوفه لم يحنث لأنه لم يأكل ولم يشرب ولم يذق أو لا يطعم حنث بالايجار من نفسه أو من غيره باختباره لأن
معناه لأجعلنه لي طعاما وقد جعله له طعاما، ولو حلف لا يأكل العنب أو الرمان فامتصه ولم يزدرد شيئا من تفله لم يحنث
339

وينبغي أن يكون القصب كذلك، ولم أر من ذكره. (أو) حلف لا يأكل لبنا أو (مائعا آخر) كالزيت (وأكله بخبز
حنث) لأنه كذلك يؤكل (أو شربه فلا) يحنث لأنه لم يأكله (أو) حلف (لا يشربه فبالعكس) فيحنث بالثانية
لوجود المحلوف عليه دون الأولى لعدمه.
تنبيه: لو حلف لا يأكل السكر فوضعه بفيه وذاب وابتلعه لم يحنث، ولا يحنث بما اتخذ منه إلا إن نوى، وكذا
الحكم في التمر والعسل ونحوهما. (أو) حلف (لا يأكل سمنا فأكله بخبز جامدا أو ذائبا) بمعجمة بخطه (حنث) لأنه فعل
المحلوف عليه وذاب فأشبه ما لو حلف لا يدخل على زيد فدخل على زيد وعمرو. فإن قيل: بل يشبه ما لو حلف لا يأكل
ما اشتراه زيد فأكل مما اشتراه زيد وعمرو فلا يحنث كما قاله الإصطخري. أجيب بأنه ههنا آكل له بخلافه ثم فإنه ليس
بآكل ما اشتراه المحلوف عليه (وإن شرب‍) - ه ذائبا (فلا) يحنث، لأنه لم يأكله (وإن أكله في عصيدة) وهي كما قاله
ابن مالك: دقيق يلت بسمن وبطبخ. قال ابن قتيبة: سميت بذلك لأنها تعصد بآلة أي تلوى (حنث إن كانت عينه
ظاهرة) بحيث يرى جرمه بأن بقي لونه وطعمه لما مر. فإن كانت عينه مستهلكة فلا، وإن حلف لا يشربه فشربه
صرفا حنث وإن مزجه بغيره حنث إن غلب على غيره بلونه وطعمه ولم يحنث إن غلب عليه غيره بلونه وطعمه، قاله
الماوردي. فإن لم يغلب أحدهما فينبغي كما بحثه بعض المتأخرين أنه يحنث، ولو جعل الخل المحلوف عليه في
سكباج
فظهر لونه وطعمه حنث، وإن استهلكه فلا.
فروع: لو حلف لا يشرب من هذا الكوز فجعل ماؤه في غيره وشربه لم يحنث، لأن اليمين تعلقت بالشرب
من الكوز ولم يوجد، وإن حلف لا يشرب من ماء هذا النهر مثلا، أو لأشربن منه فشرب من مائه في كوز حنث في
الأول وبر في الثاني وإن قل ما شربه، أو حلف لا أشرب أو لأشربن ماء هذا الكوز أو الإداوة أو نحو ذلك مما
يمكن استيفاؤه شربا في زمان وإن طال لم يحنث في الأول ولم يبر في الحال وفي الثاني يشرب بعضه، بل يشرب الجميع،
لأن الماء معرف بالإضافة فيتناول الجميع. قال الدميري: ولو قال لا أشرب ماء النيل، أو ماء هذا النهر، أو الغدير
لم يحنث بشرب بعضه، هذا هو الصواب. والذي وقع في الروضة بخط المصنف عكس ذلك سبق قلم اه‍. ولو حلف
ليصعدن السماء غدا حنث في الغد لأن اليمين معقودة على الصعود فيه، فإن لم يقل غدا حنث في الحال. ولأشربن
ما في هذا الكوز وكان فارغا وهو عالم بفراغه. أو لأقتلن زيدا وهو عالم بموته حنث في الحال لأن العجز متحقق
فيه. وإن كان فيه ماء فانصب منه قبل إمكان شربه فكالمكره، أو لأشربن منه فصبه في ماء وشرب منه بر إن علم
وصوله إليه، ولو حلف ليشربنه من الكوز فصبه في ماء وشربه أو شرب منه لم يبر وإن علم وصوله إليه
لأنه لم يشربه من الكوز فيها، ولم يشربه جميعه في الثانية، ولو حلف أنه لا يشرب هذا النهر أو نحوه أو لا يأكل
خبز الكوفة ونحوها، أو لا يصعد السماء لم تنعقد يمينه، لأن الحنث في ذلك غير متصور، وفارق ما لو حلف أنه فعل كذا
أمس وهو صادق حيث ينعقد يمينه وإن لم يتصور فيه الحنث بأن الحلف ثم محتمل للكذب، ولو حلف لا يشرب ماء فراتا
أو من ماء فرات حنث بالماء العذب من أي موضع كان لا بالملح أو من ماء الفرات حمل على النهر المعروف. ولو حلف
لا يشرب الماء حنث بكل ماء حتى ماء البحر وشرب ماء الثلج والجمد لا أكلهما، فشربهما غير أكلهما، وأكلهما غير شربهما
والثلج غير الجمد. (ويدخل في فاكهة) حلف لا يأكلها (رطب وعنب ورمان) وتفاح وسفرجل وكمثرى ومشمش
وخوخ (وأترج) بضم الهمزة والراء وتشديد الجيم، ويقال فيه أترنج بالنون وترج (ورطب ويابس) كتمر وزبيب وتين
يابس ومفلق وخوخ ومشمش لوقوع الاسم على ذلك، لأن الفاكهة ما يتفكه بها أي يتنعم بأكلها أو لا يكون قوتا
كما قاله البندنيجي وغيره. وفي شمول الفاكهة للزيتون وجهان: أوجههما عدم الشمول. وشرط الزبيدي
340

في الفاكهة النضج. قال: فلو تناوله قبل إدراكه ونضجه وطيبه لم يكن عندي حانثا، ولا أحفظ عن أحد فيه شيئا،
وإنما هو شئ رأيته، لأنه ليس في معنى الغذاء ولا الطعام، بل هو كورق الشجر لا يدخل في التفكه اه‍. وجزم بهذا شيخنا
في شرح الروض ولم يعزه لاحد وهو ظاهر.
تنبيه: قضية كلام المصنف عدم دخول البلح والحصرم في ذلك وبه صرح المتولي، ومحله كما قال البلقيني في
البلح في غير الذي احمر واصفر وحلا وصار بسرا، أو ترطب بعضه ولم يصر رطبا، فأما ما وصل إلى هذه الحالة فلا توقف
أنه من الفاكهة، وإنما ذكر المصنف الرطب والعنب والرمان لأجل خلاف أبي حنيفة فيه فإنه قال: لا يحنث بها لقوله
تعالى: * (فيهما فاكهة ونخل ورمان) * وميز العنب عن الفاكهة في صورة عبس، والعطف يقتضي المغايرة. قال الواحدي
والأزهري: وهو خلاف إجماع أهل اللغة، فإن من عادة العرب عطف الخاص على العام كقوله: * (وملائكته ورسله
وجبريل وميكال) * فمن قال ليسا من الملائكة فهو كافر. وقال المصنف في تهذيبه: لا تعلق فيها لمن أخرج النخل والرمان
من الفاكهة لأنها نكرة في سياق الاثبات تصلح للقليل والكثير، فلما عطف عليها أشعر بأنه ربما لم يدخلا في قوله فاكهة
ولا يلزم من هذا خروجهما من جنس الفاكهة كلها وجرى عليه ابن الرفعة في المطلب، واعترض بأنها وإن كانت نكرة
في سياق الاثبات، فإنها في سياق الامتنان. وهي تعم كما قاله القاضي أبو الطيب وغيره في الأصول فالصواب أنه من
عطف الخاص على العام. (قلت) أخذا من الرافعي في الشرح (وليمون) بفتح اللام وإثبات النون في آخره، الواحدة
ليمونة نقله الزركشي عن بعضهم وغلط من نفى النون منكرا على المصنف إثباتها. وقال: المعروف ليمو بحذف النون،
ومثله النارنج ومحله في الطريين كما قيده الفارقي فالمملح منهما ليس بفاكهة، واليابس منهما أولى بذلك بل قال بعضهم
إن الطري منهما ليس بفاكهة عرفا، وإنما يصلح به بعض الأطعمة كالخل (و) يدخل أيضا في فاكهة (نبق) طريه
ويابسه، وهو بفتح النون وسكون الموحدة وبكسرها وعليه اقتصر المصنف في خطه: ثمر حمل السدر (وكذا بطيخ)
بكسر الباء الموحدة وفتحها (ولب فستق) وهو بفتح التاء وضمها بخطه اسم جنس، والواحدة فستقة (و) لب
(بندق) بموحدة ودال مضمومتين كما عبر به المصنف وغيره وبالفاء كما عبر به الأزهري وغيره (وغيرهما) من اللبوب
كلب لوز وجوز (في الأصح) أما البطيخ فلان له نضخا وإدراكا كالفواكه. وأما اللبوب فإنها تعد من يابس الفواكه.
والثاني المنع لأن ذلك لا يعد في العرف فاكهة واختاره الأذرعي (لا قثاء) بكسر القاف وضمها وبمثلثة مع المد
(و) لا (خيار، و) لا (باذنجان) بكسر المعجمة (و) لا (جزر) بفتح الجيم وكسرها بخطه، لأنها من الخضراوات
لا الفواكه فأشبهت البقل.
تنبيه: ظاهر كلامهم أن القثاء غير الخيار، وهو الشائع عرفا ويؤيده ما في زيادة الروضة في باب الربا أن القثاء
مع الخيار جنسان، لكنه نقل في تهذيبه عن الجوهري أن القثاء الخيار ولم ينكره. قال الفزاري: ومن العجب أن
الخيار لا يكون من الفاكهة مع أن لب الفستق من الفاكهة والعادة جارية بجعل الخيار في أطباق الفاكهة دون الفستق
والبندق. (ولا يدخل في) حلفه على عدم أكل (الثمار) بمثلثة (يابس) منها (والله أعلم) فلا يحنث بأكله بخلاف
الفاكهة ويدخل فيها يابسها، وفرق بأن الثمر اسم للرطب من الفاكهة وصوب البلقيني إطلاقه على اليابس أيضا
وقال أهل العرف: يطلقون عليها ثمرا بعد اليبس (ولو أطلق بطيخ وتمر وجوز) فيمن حلف لا يأكل واحدا منها
(لم يدخل) في حلفه (هندي) منها فلا يحنث بأكله للمخالفة في الصورة والطعم وكذا لا يتناول الخيار
الشنبر والبطيخ الهندي هو الأخضر، واستشكل عدم الحنث به في الديار المصرية والشامية فإن إطلاق البطيخ عندهم
على الأخضر أكثر وأشهر فينبغي الحنث به كما جرى عليه البلقيني والأذرعي وغيرهما (والطعام) إذا حلف لا يأكله
341

(يتناول قوتا وفاكهة وأدما وحلوى) لأن اسم الطعام يقع على الجميع بدليل قوله تعالى * (كل الطعام كان حلا لبني
إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه) *.
تنبيه: قضية كلامه أن الطعام لا يتناول الدواء وبه جزم الماوردي والروياني واختاره الأذرعي وغيره، وفيه
وجهان في الروضة بلا ترجيح وجعله المصنف داخلا في اسم الطعام في باب الربا، وتقدم الفرق بين البابين هناك، والحلوى
كل ما اتخذ من نحو عسل وسكر من كل حلو، وليس جنسه حامضا كدبس وقند وفانيد، لا عنب وإجاص ورمان، أما
السكر والعسل ونحوهما فليس بحلوى بدليل خبر الصحيحين أنه (ص) كان يحب الحلوى والعسل فيشترط في الحلوى أن
تكون معقودة فلا يحنث إذا حلف لا يأكل الحلوى بغير المعمول بخلاف الحلو. قال في الروضة: وفي اللوزينج
والجوزنيج وجهان والأشبه كما قال الأذرعي: الحنث، لأن الناس يعدونها حلوى. قال الأذرعي: ومثله ما يقال له
المكفن والخشكنان والقطائف، وإذا قصرت الحلوى كتبت بالياء وإلا فبالألف.
فائدة: روى البيهقي في الشعب عن أبي أمامة الباهلي أن النبي (ص) قال: قلب المؤمن حلو يحب الحلوى ونازع
البلقيني المصنف في كون الطعام يتناول ما ذكر. ولو عرف الديار المصرية أن الطعام هو المطبوخ فلا يحنث إلا به،
ومن أمر غيره بشراء طعام فاشترى له شيئا من الحبوب أو الفواكه عد من الحمقى. والايمان إنما ينظر فيها إلى اللغة إن
لم يعارضها عرف شرعي أو عادي. قال: ونقل عن عرف أهل الحجاز إطلاق الطعام على البر، فإن كان عرفهم هذا
حملت أيمانهم عليه اه‍. وهل يدخل التمر والزبيب واللحم في القوت لمن يعتاد كلا منهما أو لا؟ وجهان أوجههما كما
قال شيخنا عدم دخولها إذا لم يعتد إقياتها ببلد الحالف، بخلاف ما لو اعتيد ذلك أو كان الحالف يقتاتها، ومن الادم
الفجل والثمار والبصل والملح والخل والشيرج والتمر. (ولو) تعارض المجاز، والحقيقة المشتهرة قدمت عليه، وحينئذ لو
(قال) الحالف (لا آكل من هذه البقرة تناول لحمها) فيحنث به، لأنه المفهوم عرفا، وكذا شحمها وكبدها وغيرهما
مما يؤكل منها كما صرح به القاضي حسين وغيره، وإن أوهمت عبارة المصنف الاقتصار على اللحم (دون ولد) لها
(ولبن) منها فلا يحنث بهما حملا على الحقيقة المتعارفة، وأما الجلد فإن جرت العادة بأكله مسموطا حنث به وإلا فلا،
فإن كان المجاز مشتهرا قدم على الحقيقة المرجوحة كما أشار إليه بقوله (أو) لا آكل (من هذه الشجرة فثمر) منها يحنث
الحالف به (دون ورق وطرف غصن) منها حملا على المجاز المتعارف لتعذر الحمل على الحقيقة، لأن الأغصان والأوراق
لا تراد في العرف، والجمار كما قال البلقيني كالثمر قال: وإن أكل الورق في بلدة أكلا متعارفا كورق بعض شجر الهند،
فقد أخبرني الثقة بأنهم يأكلونه وأنه مثل الحلوى وأحسن فيحنث به أيضا اه‍. فإن ثبت ذلك يكون كالجمار. قال ابن
شهبة: وإنما قالوا في التعليل المذكور لتعذر الحمل على الحقيقة للاحتراز عما إذا كان المجاز راجحا والحقيقة تتعاهد
في بعض الأوقات كما لو قال: لأشربن من هذا النهر فهو حقيقة في الكرع بفيه وإذا غرف بإناء وشربه فهو مجاز
لأنه شرب من الكوز لا من النهر. لكنه المجاز الراجح المتبادر والحقيقة قد تراد لأن كثيرا من الرعاء وغيرهم
يكرع بفيه. قال الزركشي: والمختار عند الإمام فخر الدين والبيضاوي أنهما سواء لأن في كل منهما قوة ليست
في الآخر، وهو مقتضى المذهب. قال الرافعي قال: فيما إذا حلف لا يشرب من ماء الفرات يحنث سواء أخذ الماء بيده
أم في إناء فشرب أو كرع خلافا لأبي حنيفة فإنه قال: لا يحنث إلا بالكرع.
فصل: في مسائل سائل منثور لو حلف لا يشم - بفتح الشين المعجمة وحكى ضمها - الريحان - بفتح الراء - حنث بشم
الضميران وهو - بفتح الضاد المعجمة وإسكان الياء التحتية وضم الميم - الريحان الفارسي لانطلاق الاسم عليه حقيقة
وإن شم الورد والياسمين لم يحنث لأنه مشموم لا ريحان ومثله البنفسج والنرجس والزعفران ولو حلف على ترك
342

المشموم حنث بذلك دون المسك والكافور والعنبر، لأنها طيب لا مشموم، ولو حلف على الورد والبنفسج لم يحنث
بدهنهما، و (لو حلف لا يأكل هذه الثمرة) المعينة (فاختلطت بتمر فأكله إلا تمرة). قال الصيمري: أو أكل الغراب
مثلا منه واحدة (لم يحنث) لاحتمال أن تكون المتروكة هي المحلوف عليها والأصل براءة ذمته من الكفارة والورع
أن يكفر لاحتمال أنها غير المحلوف عليها، فإن علم أنه أكلها أو أكل الكل حنث. قال القفال: ويحنث بآخر تمرة
يأكلها حتى لو كان الحلف بالطلاق فالعدة من حينئذ لا من وقت اشتغاله بالاكل.
تنبيه: كلامه يوهم أنه لو أكله إلا بعض تمرة أنه يحنث، وليس مرادا، فلو ذرها لعلم منها حكم ترك جميع
التمرة من باب أولى. (أو) حلف (ليأكلنها) أي التمرة المعينة (فاختلطت) بتمر كله (لم يبر إلا بالجميع) لاحتمال أن
تكون المتروكة هي المحلوف عليها. أما إذا لم تخلط به كله كأن وقعت في جانب من الصبرة فأكل ذلك الجانب بر كما
قاله الإمام، ويقاس على ذلك ما إذا كانت التمرة متميزة عن أكثر التمر وهناك قليل يشبهها بر بأكل جميع ما يشبهها
والضابط حصول اليقين بأكلها (أو) حلف (ليأكلن هذه الرمانة فإنما يبر بجميع حبها) لتعلق يمينه بالجميع، ولهذا
لو قال: لا آكلها، فترك منها حبة لم يحنث (أو) حلف (لا يلبس هذين الثوبين) وأطلق (لم يحنث بأحدهما) لأن الحلف
عليهما، فإن نوى أن لا يلبس منهما شيئا حنث بأحدهما كما نص عليه في الام. ولو أتى بواو العطف بدلا عن التثنية
كما لو قال: لا ألبس هذا الثوب وهذا الثوب كان الحكم كذلك (فإن لبسهما معا) أي في مدة واحدة (أو مرتبا) بأن
لبس أحدهما ثم قلعه ثم لبس الآخر (حنث) لوجود المحلوف عليه.
تنبيه: قد استعمل المصنف معا للاتحاد في الزمان وفاقا لثعلب وغيره، لكن الراجح عند ابن مالك خلافه، وقد
مرت الإشارة إلى ذلك في كتاب الجراح. (أو) قال في حلفه أنه (لا ألبس هذا ولا هذا حنث بأحدهما) لأنهما يمينان،
حتى لو حنث في أحدهما بقيت اليمين منعقدة على فعل الآخر حتى إذا وجد كفر أخرى، لأن إدخال حرف العطف
وتكرير لا بينهما يقتضي ذلك. ويخالف ما لو حذف لا فإنه لا يحنث إلا بالجميع كما مر لتردده بين جعلهما كالشئ
الواحد والشيئين، والأصل براءة الذمة وعدم الحنث، فإذا أدخل لا فلا بد من فائدة وليس إلا إفراد كل منهما باليمين
فحملت عليه، ولذا قال النحاة: إن النفي بلا لنفي كل واحد.
ودونها لنفي المجموع. فروع: لو حلف لا يلبس شيئا فلبس درعا، وهي من الحديد مؤنثة عند الجمهور، وحكى أبو عبيدة والجوهري
فيها التذكير والتأنيث، هذا في درع الرجل، وأما درع المرأة فمذكر باتفاق، أو جوشنا بفتح الجيم والشين المعجمة،
أو خفا أو نعلا، وهي مؤنثة، أو خاتما، أو قلنسوة أو نحوها من سائر ما يلبس حنث لصدق الاسم بذلك. وفرق
بعضهم بين الدرع والجوشن بأن الأول سابغ كله، والثاني إلى نصف الفخذ وإلى نصف العضد، وإن حلف لا يلبس
ثوبا حنث بقميص ورداء، وسراويل وجبة وقباء ونحوها، مخيطا كان أو غيره، من قطن وكتان وصوف وإبريسم
سواء لبسه بالهيئة المعتادة أم لا، بأن ارتدى، أو اتزر بالقميص، أو تعمم بالسراويل لتحقق اسم اللبس والثوب
لا بالجلود والقلنسوة والحلي لعدم اسم الثوب. نعم إن كان من ناحية يعتادون لبس الجلود ثيابا فيشبه كما قال الأذرعي
أنه يحنث بها ولا يحنث بوضع الثوب على رأسه، ولا بافتراشه تحته ولا بتدثره، لأن ذلك لا يسمى لبسا وإنما حرم افتراش
الحرير لأنه نوع استعمال فكان كسائر أنواع الاستعمال. وإن حلف على رداء أنه لا يلبسه ولم يذكر الرداء
في يمينه بل قال: لا ألبس هذا الثوب فقطعه قميصا ولبسه حنث لأن اليمين على لبسه ثوبا فحمل على العموم كما لو
حلف لا يلبس قميصا منكرا أو معرفا كهذا القميص فارتدى أو اتزر به حنث لتحقق اسم اللبس والقميص. وقد مر نظيره
في الحلف على لبس الثوب لا إن ارتدى أو اتزر به بعد فتقه لزوال اسم القميص فلو أعاده على هيئته الأولى فكالدار
343

المعادة بنقضها وقد مر حكمها، ولو قال: لا ألبس هذا الثوب وكان قميصا أو رداء فجعله نوعا آخر كسراويل حنث
بلبسه لتعلق اليمين بعين ذلك الثوب إلا أن ينوي ما دام بتلك الهيئة، أو لا ألبس هذا القميص أو الثوب قميصا فارتدى
به أو اتزر أو تعمم لم يحنث لعدم صدق الاسم بخلاف ما لو قال: لا ألبسه وهو قميص، وإن حلف لا يلبس حلية فلبس
خاتما أو مخنقة لؤلؤ وهي بكسر الميم وتخفيف النون، مأخوذة من الخناق بضم الخاء وتخفيف النون، والمخنق بفتح
الخاء والنون المشددة موضع المخنقة من العنق، أو تحلى بالحلي المتخذ من الذهب والفضة والجواهر ولو منطقة محلاة
وسوارا وخلخالا ودملجا سواء أكان الحالف رجلا أو امرأة حنث لأن ذلك يسمى حليا، ولا يحنث بسيف محلى
لأنه ليس حليا، ويحنث بالخرز والسبج بفتح المهملة والموحدة والجيم، وهو الخرز الأسود، وبالحديد والنحاس
إن كان من قوم يعتادون التحلي بها كأهل السودان وأهل البوادي، وإلا فلا كما يؤخذ من كلام الروياني. ولو حلف
لا يلبس خاتما فجعله في غير خنصره من أصابعه حنثت المرأة دون الرجل كما جزم به ابن الرفعة وتبعه ابن المقري في روضه
وقيل يحنث مطلقا. قال الأذرعي: وهو الراجح لوجود حقيقة اللبس وصدق الاسم. قال: والظاهر أنه لا فرق بين
لبسه في الأنملة العليا أو الوسطى أو السفلى. (أو) حلف (ليأكلن ذا الطعام غدا فمات قبله) أي الغد (فلا شئ عليه)
لأنه لم يبلغ زمن البر والحنث (وإن مات أو تلف الطعام) أو بعضه (في الغد) في المسألتين (بعد تمكنه من أكله
حنث) لأنه فوت البر على نفسه باختياره (و) إن تلف (قبله) أي التمكن ففي حنثه (قولان كمكره) أظهرهما عدم
الحنث، لأن فوت البر ليس باختياره.
تنبيه: حيث قالوا قولي المكره أرادوا به ما إذا حلف باختياره ثم أكره على الحنث. أما إذا أكره على الحلف
لا يحنث قطعا، وشمل قول المصنف قبله صورتين: الأولى ما إذا تلف قبل الغد، والثانية ما إذا تلف بعده وقبل
التمكن والأولى لا يحنث فيها قطعا، والثانية فيها الخلاف المذكور فيحمل كلامه عليها، ومحل ما ذكره في صورة
الموت إذا لم يكن بقتله نفسه، فإن قتل نفسه حنث كما قاله البلقيني. وفي صورة التلف إذا لم ينسب إلى تقصير
في تلفه، فلو أتلفته
هرة أو صغير مثلا مع إمكان دفعه فلم يدفعه حنف كما يؤخذ من قوله (وإن أتلفه) أو بعضه (بأكل أو غيره قبل الغد)
عالما عامدا مختارا (حنث) لأنه فوت البر باختياره.
تنبيه: قضية كلامه أنه يحنث في الحال لتحقق اليأس وهو وجه، والأصح أنه لا يحنث حتى يأتي الغداء كما
قطع به ابن كج، وعلى هذا هل حنثه بمضي زمن إمكان الاكل من الغد أو قبيل غروب الشمس؟ وجهان: أصحهما
الأول كما قاله البغوي والإمام، وتظهر فائدة الخلاف فيما لو كان معسرا يكفر بالصوم فيجوز له أن ينوي صوم الغد عن
كفارته على قضية كلام المصنف دون الأصح. (وإن تلف) الطعام بنفسه (أو أتلفه أجنبي) قبل الغد (فكمكره)
لما مر والأظهر فيه عدم الحنث (أو) قال مخاطبا لشخص له عليه حق: والله (لأقضين حقك عند رأس الهلال)
أو معه أو مع الاستهلال أو عنده أو عند رأس الشهر، أو مع رأسه، أو أول الشهر (فليقض) الحق المحلوف عليه
(عند غروب الشمس آخر الشهر) الذي قبله لوقوع هذا اللفظ على أول جزء من الليلة الأولى من الشهر، ويعرف إما
برؤية الهلال أو العدد، لكن لفضة عند أو مع تقتضي المقارنة. قال الرافعي: وذكر الإمام والغزالي أن هذا لا يكاد
يقدر عليه، فإما أن يتسامح فيه ويقنع بالممكن أو يقال التزم محالا فيحنث بكل حال، وهذا لا ذاهب إليه اه‍. وظاهر
كلامهم الأول كما يؤخذ من كلام المصنف الآتي (فإن قدم) قضاء الحق على غروب الشمس (أو مضى بعد الغروب
344

قدر إمكانه) أي قضاء الحق (حنث) لتفويته البر باختياره، وكذا لو مضى زمن الشروع ولم يشرع مع الامكان
ولا يتوقف على مضي زمن القضاء كما صرح به الماوردي فينبغي أن يعد المال ويترصد ذلك الوقت فيقضيه فيه.
تنبيه: قد ذكر الشيخان فيما لو قال: لأقضين غدا ونوى أنه لا يؤخره عن الغد أنه لا يحنث بقضائه قبله فيجئ
مثله هنا، فيستثنى هذا من قول المصنف: فإن قدم. ولو قال الحالف أردت بقولي عند إلى ففي قبوله وجهان: مختار
الإمام والغزالي منهما القبول فيجوز له حينئذ تقديم القضاء عليه. (وإن شرع في الكيل) أو الوزن، أو العد (حينئذ)
أي عند غروب الشمس، أو في مقدمة القضاء كحمل الكيل أو الميزان، ولو عبر بها كان أولى لفهم الشروع في غيرها
بطريق أولى (ولم يفرغ) من توفية الحق الموزون أو المكيل مع تواصل الكيل أو الوزن أو نحوه كما يشير إليه كلام
الماوردي وابن الصباغ (لكثرته إلا بعد مدة لم يحنث) لأنه أخذ في القضاء عند ميقاته، فإن حصلت فترات لا يعد الكيل
أو نحوه فيها متواصلا حنث حيث لا عذر.
تنبيه: لو حمل الحق إليه حين الغروب ومنزله بعيد لا يصل إليه حتى تمضي الليلة لم يحنث كما قال الماوردي،
ولو شك في الهلال فأخر القضاء عن الليلة الأولى وبان كونها من الشهر لم يحنث كالمكره وانحلت اليمين كما قاله ابن المقري
، ولو رأى الهلال بالنهار بعد الزوال فهو لليلة المستقبلة كما مر في كتاب الصوم فلو أخر القضاء إلى الغروب لم يحنث كما
قاله الصيدلاني. (أو) حلف (لا يتكلم فسبح) الله تعالى أو حمده أو هلله أو كبره، وكذا لو دعا. قال القاضي
أبو الطيب: بما لا يتعلق بخطاب الآدمي (أو قرأ قرآنا) في الصلاة أو خارجها ولو كان عليه حدث أكبر (فلا حنث)
بذلك لانصراف الكلام إلى كلام الآدميين في محاوراتهم، ولو حلف لا يسمع كلاما يحنث بسماعه ذلك من نفسه، ولو
قرأ من التوراة الموجودة اليوم أو الإنجيل لم يحنث للشك في أن الذي قرأه مبدل أو لا، ويؤخذ منه أنه يحنث بما يعلمه
مبدلا كأن قرأ جميع التوراة والإنجيل ولا يحنث بكلام النفس، ولو تكلم مع نفسه من غير أن يخاطب أحدا أو صلى
وسلم في صلاته قال في الكافي: يحتمل وجهين: أصحهما الحنث لأنه كلام حقيقة، ويحنث بكل ما يعدونه مخاطبة
للناس، فلو حلف لا يسلم على زيد مثلا (أو لا يكلمه فسلم عليه) وسمع كلامه كما قاله البغوي. قالا: ولو كان سلام
الصلاة (حنث) أما عدم السلام عليه فقد مر، وأما عدم كلامه فلان السلام عليه نوع من الكلام، ويؤخذ من ذلك
أنه لا بد من قصده بالسلام، فلو قصد التحلل فقط أو أطلق لم يحنث كما بحثه بعض المتأخرين وهو الظاهر، بل قال
الأذرعي: الراجح المختار الذي دلت عليه قواعد الباب، والعرف الظاهر أنه لا يحنث به، لأنه لا يقال كلمه أصلا
بخلاف السلام مواجهة خارج الصلاة، ولو سبق لسانه بذلك لم يحنث كما قاله ابن الصلاح، وبحث ابن الأستاذ عدم
قبول ذلك منه في الحكم وهو ظاهر حيث لا قرينة هناك تصدقه. واعتبر الماوردي والقفال المواجهة أيضا، فلو تكلم
بكلام فيه تعريض له ولم يواجهه كيا حائط ألم أقل لك كذا لم يحنث، والمراد بالكلام الذي يحنث به اللفظ المركب ولو
بالقوة كما بحثه الزركشي.
تنبيه: لو كلمه وهو مجنون أو مغمى عليه وكان لا يعلم بالكلام لم يحنث وإلا حنث وإن لم يفهمه كما نقله الأذرعي
عن الماوردي، ونقل عنه أيضا أنه لو كلمه وهو نائم بكلام يوقظ مثله حنث وإلا فلا لو كلمه وهو بعيد منه،
فإن كان بحيث يسمع كلامه حنث وإلا فلا، سمع كلامه أم لا. (وإن كاتبه أو راسله أو أشار إليه بيد أو غيرها) بعين
أو رأس (فلا) حنث عليه بذلك (في الجديد) حملا للكلام على الحقيقة بدليل صحة النفي عن ذلك، فيقال ما كلمه
ولكن كاتبه أو راسله، وفي التنزيل: * (فلن أكلم اليوم إنسيا) * * (فأشارت إليه) * وفي القديم نعم، حملا
للكلام على الحقيقة
والمجاز، ويدل له قوله تعالى: * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا) * فاستثنى الوحي
345

والرسالة من التكلم، فدل على أنها منه، وقوله تعالى: * (ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) * فاستثنى الرمز من الكلام،
فدل على أنه منه، ومنهم من قطع بالجديد، وحمل ما نقل عن القديم على ما إذا نوى في يمينه المكاتبة والمراسلة، قاله
الرافعي، وهو صريح في أنه عند النية يحنث قطعا وهو واضح، ووجهه أن المجاز تجوز إرادته بالنية.
تنبيه: قضية إطلاق المصنف الإشارة يقتضي أنه لا فرق فيها بين إشارة الناطق والأخرس وهو كذلك، وإنما
أقيمت إشارة الأخرس في المعاملات مقام النطق للضرورة كذا ذكره الرافعي، وتعقب بما في فتاوى القاضي من أن
الأخرس لو حلف لا يقرأ القرآن فقرأه بالإشارة حنث، وبما مر في الطلاق من أنه لو علقه بمشيئة ناطق فخرس،
وأشار بالمشيئة طلقت وأجيب عن الأول بأن الخرس موجود فيه قبل الحلف بخلافه في مسألتنا، وعن الثاني بأن
الكلام مدلوله اللفظ فاعتبر بخلافه المشيئة، وإن كانت تؤدى باللفظ.
تنبيه: قد مر في كتاب القسم والنشوز أن هجران المسلم فوق ثلاثة أيام حرام إلا لمصلحة، فإذا كاتبه أو
راسله ارتفع الهجران إذا كان ذلك في حال الغيبة أو كانت المواصلة بينهما قبل الهجران بهما وتضمنت في الحالين الألفة
بينهما لا إن كان فيهما إيذاء وإيحاش فلا يرتفع بهما الاثم، ولا إن كان ذلك في حال الحضور ولم تكن المواصلة بينهما
قبل الهجران بذلك. (ولو قرأه) الحالف (آية أفهمه) أي المحلوف على عدم كلامه (بها مقصوده) نحو: * (ادخلوها
بسلام آمنين) * عند طرق المحلوف عليه الباب (وقصد قراءة) فقط أو مع إفهامه (لم يحنث) لأنه لم يكلمه (وإلا)
بأن قصد إفهامه فقط أو أطلق (حنث) لأنه كلمه، ونازع البلقيني في حال الاطلاق. واعتمد عدم الحنث، ومثل هذا
ما لو فتح على إمامه أو سبح لسهوه فيأتي فيه التفصيل المذكور. وإن فرق بعضهم بأن ذلك من مصالح الصلاة
بخلاف قراءة الآية.
فروع: لو حلف لا يقرأ حنث بما قرأ ولو بعض آية، أو ليتركن الصوم أو الحج أو الاعتكاف أو الصلاة حنث
بالشروع الصحيح في كل منها، وإن فسد بعده لأنه يسمى صائما وحاجا ومعتكفا ومصليا بالشروع لا بالشروع الفاسد،
لأنه لم يأت بالمحلوف عليه لعدم انعقاده إلا في الحج فيحنث به، وصورة انعقاد الحج فاسدا أن يفسد عمرته ثم يدخل
الحج عليها فإنه ينعقد فاسدا، وتصويره بأن يحرم به مجامعا إنما يأتي على وجه مرجوح، إذ الأصح عدم انعقاده كما مر
في بابه أو لا أصلي صلاة حنث بالفراغ منها ولو من صلاة فاقد الطهورين ونحوها مما يجب قضاؤها عملا بنيته، ولا يحنث بسجود تلاوة وشكر وطواف، لأنها لا تسمى صلاة
قال الماوردي والقفال: ولا يحنث بصلاة جنازة لأنها غير متبادرة عرفا. وقضية كلام ابن المقري أنه يحنث بصلاة
ركعة واحدة، وكلام الروياني يقتضي أنه إنما يحنث بصلاة ركعتين فأكثر، وهذا أوجه كما لو نذر أن يصلي صلاة أو لا يصلي
خلف زيد فحضر الجمعة فوجده إماما ولم يتمكن من صلاة جمعة غير هذه موجب عليه أن يصلي خلفه لأنه
ملجأ إلى الصلاة بالاكراه الشرعي وهل يحنث أو لا؟ الظاهر الأول كما بحثه بعض المتأخرين كما حلف لا يصوم
فأدرك رمضان فإنه يجب عليه الصوم ويحنث أو لا يؤم زيدا فصلى زيد خلفه ولم يشعر به لم يحنث، فإن شعر به وهو
في فريضة وجب عليه إكمالها، وهل يحنث أو لا؟ فيه ما مر. (أو لا مال له) وأطلق (حنث بكل نوع وإن قل) وزاد
على المحرر قوله: (حتى ثوب بدنه) لصدق اسم المال عليه.
تنبيه: قضية قوله بكل نوع أنه لا فرق بين المنافع والأعيان، وهو قضية تقسيم المال إلى أعيان ومنافع،
لكن قال الرافعي: لو كان يملك منفعة بوصية أو إجارة لم يحنث على الصحيح، لأن المفهوم من لفظ المال عند
الاطلاق الأعيان اه‍. وقضية قوله وإن قل أنه لا فرق بين المتمول وغيره. لكن قيده البلقيني بالمتمول واستظهره
الأذرعي وهو الظاهر، وقوله وثوب مجرور بحتى عطفا على المجرور قبله، وشرط جمع من النحويين في عطفها على
346

المجرور إعادة عامل الجر، وعليه فينبغي أن يقول حتى يثوب. (و) حتى (مدبر) له (و) رقيق له (معلق عتقه
بصفة) أما مدبر مورثه الذي تأخر عتقه بصفة كدخول دار أو الذي أوصى مورثه بإعتاقه فلا يحنث به لعدم ملكه
(و) حتى (ما وصى به) الحالف من رقيق وغيره (ودين حال) ولو على معسر أو لم يستقر كالأجرة قبل انقضاء
مدة الإجارة، وكذا على جاحد ولا بينة على الأصح في الروضة (وكذا) دين (مؤجل) يحنث به (في الأصح)
لأنه ثابت في الذمة يصح الابراء منه والاعتياض عنه، وتجب الزكاة فيه. واستثنى البلقيني من الحنث بالدين الحال
والمؤجل أخذا من التعليل بوجوب الزكاة دينه على مدين مات ولم يخلف تركة، ودينه على مكاتبه أفلا يحنث بهما
ولو كان له مال غائب أو ضال أو مغصوب أو مسروق وانقطع خبره هل يحنث به أو لا؟ وجهان. أحدهما يحنث، لأن
الأصل بقاء الملك فيها، والثاني لا يحنث، لأن بقاءها غير معلوم ولا يحنث بالشك. قال شيخنا: وهذا أوجه، ويحنث
بمستولدته لأنه يملك منافعها وأرش جناية عليها (لا مكاتب) كتابة صحيحة فلا يحنث به (في الأصح) لأنه لا يملك
ما ذكر فهو كالخارج عن ملكه، والثاني يحنث لأنه عبد ما بقي عليه درهم. أما المكاتب كتابة فاسدة فيحنث به ولا
يحنث بموقف عليه ولا باستحقاق قصاص، فلو كان قد عفا عن القصاص بمال حنث، فإن نوى نوعا من المال
اختص به، ولو حلف لا ملك له حنث بمغصوب منه وآبق ومرهون لا بزوجة إن لم يكن له نية وإلا فيعمل بنيته ولا
بزيت نجس أو نحوه، لأن الملك زال عنه بالتنجس كموت الشاة أو حلف أن لا عبد له لم يحنث بمكاتبه كتابة
صحيحة تنزيلا
للكتابة منزلة البيع (أو) حلف (ليضربنه فالبر) - بكسر الموحدة بخطه - في يمينه يتعلق (بما يسمى ضربا) فلا يكفي
وضع اليد عليه ورفعها (ولا يشترط) فيه (إيلام) لصدق الاسم بدونه، إذ يقال ضربه فلم يؤلمه بخلاف الحد
والتعزير، لأن المقصود منهما الزجر (إلا أن يقول) أو ينوي (ضربا شديدا أو نحوه كمبرح فيشترط فيه) الايلام
للتنصيص عليه، ولا يكفي الايلام وحده: كوضع حجر ثقيل عليه. قال الإمام: ولا حد يقف عنده في تحصيل البر، ولكن
الرجوع إلى ما يسمى شديدا، وهذا يختلف لا محالة باختلاف حال المضروب. قال ابن شهبة: وليست هذه المسألة
في الشرحين والروضة (وليس وضع سوط عليه) أي المحلوف على ضربه (و) لا (عض، و) لا (خنق) بكسر
النون بخطه مصدر خنقه: عصر عنقه (و) لا (نتف شعر) بفتح عينه (ضربا) فلا يبر الحالف على ضرب زيد
مثلا بهذه المذكورات لأن ذلك لا يسمى ضربا عرفا، ويصح نفيه عنه (قيل: ولا لطم) وهو ضرب الوجه بباطن
الراحة (و) لا (وكز) وهو الضرب باليد مطبقة. قال تعالى: * (فوكزه موسى فقضى عليه) * أي لا يسمى كل منهما ضربا،
والأصح يسمى، ومثل ذلك الرفس واللكم والصفع، لأنه يقال: ضربه بيده وبرجله، وإن تنوعت أسماء الضرب
. تنبيه: يبر الحالف بضرب السكران والمغمى عليه والمجنون لأنهم محل للضرب لا بضرب الميت لأنه ليس محلا
له. (أو ليضربنه مائة سوط، أو) مائة (خشبة فشد مائة) مما حلف عليه من السياط أو الخشب (وضربه بها ضربة)
واحدة بر لوجود المحلوف عليه، ولا تكفي السياط عن الخشب وعكسه (أو) ضربه (بعثكال) - بكسر العين
وبالمثلثة - أي عرجون (عليه) أي العثكال (مائة شمراخ) بكسر أوله بخطه (بر) الحالف (إن علم إصابة الكل)
من الشماريخ بأن عاين إصابة كل واحد منها بالضرب بأن بسطها واحدا بعد واحد كالحصير (أو تراكم بعض)
منها (على بعض فوصله) أي المضروب بها (ألم الكل) أي ثقله فإنه يبر أيضا وإن حال الثوب أو غيره مما لا يمنع
347

تأثر البشرة بالضرب، لقوله تعالى: * (وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث) * فإن الضغط هو الشماريخ القائمة على الساق،
ويسمى العثكال، وهذا وإن كان شرع من قبلنا، فقد ورد في شرعنا تقريره في قصة الزاني الضعيف كما قدمناها في باب
الزنا وفي ذلك خلاف، هل هو شرع لنا أو لا؟ وقدمت الكلام على ذلك في باب الجعالة وغيره.
تنبيه: اقتضى كلامه أنه يبر في قوله مائة سوط بالعثكال، وصوبه الأسنوي، ولكن الأصح كما في الروضة
كأصلها أنه لا يبر بذلك لأنه لا يسمى سياطا، وإنما يبر بسياط مجموعة بشرط علمه إصابتها بدنه على ما مر، واقتضى
كلامه أيضا أن تراكم بعضها على بعض مع الشد كيف كان يحصل به ألم الثقل؟ ولكن صوره الشيخ أبو حامد
والماوردي وغيرهما: بأن تكون مشدودة الأسفل محلولة الاعلى واستحسن. (قلت: ولو شك في إصابة الجميع بر
على النص، والله أعلم) عملا بالظاهر وهو الإصابة لاطلاق الآية، ولكن الورع أن يكفر عن يمينه لاحتمال تخلف بعضها،
وفرقوا بينه وبين ما لو حلف ليدخلن الدار اليوم إلا أن يشاء زيد فلم يدخل ومات زيد ولم تعلم مشيئته حيث يحنث
على النص بأن الضرب سبب ظاهر في الانكباس. والمشيئة لا أمارة عليها، والأصل عدمها، وخرج قول كل
منهما في الآخر.
تنبيه: الشك هنا مستعمل في حقيقته وهو استواء الطرفين، فإن ترجح عدم إصابة الكل فمقتضى كلام الأصحاب
كما في المهمات عدم البر. (أو) حلف (ليضربنه مائة مرة لم يبر بهذا) المذكور من المائة المشدودة ومن العثكال لأنه
جعل العدد للضربات، وكذا لو قال: مائة ضربة على الأصح لأن الجميع يسمى ضربة واحدة، وهل يشترط
التوالي في ذلك أو لا، وظاهر كلام الإمام الأول، وابن الصلاح الثاني، وهو أوجه (أو) قال لغريمه والله (لا أفارقك
حتى استوفي) حقي منك (فهرب) منه غريمه (ولم يمكنه اتباعه) لمرض أو غيره (لم يحنث) لعذره بخلاف ما إذا
أمكنه ولم يتبعه (قلت: الصحيح) أخذا من الرافعي في الشرح (لا يحنث إذا أمكنه اتباعه) ولم يتبعه وإن أذن له
(والله أعلم) لأنه حلف على فعل نفسه فلا يحنث بفعل غيره، والمراد بالمفارقة ما يقطع خيار المجلس، ووجه مقابله
أنه بالمقام مفارق (وإن فارقه) الحالف مختارا ذاكرا لليمين (أو) لم يفارقه بل (وقف حتى ذهب) غريمه (وكانا
ماشيين) وهذه مزيدة على المحرر (أو أبرأه) الحالف من الحق (أو احتال) به (على غريم) للغريم أو أحال هو به
على غريمه (ثم فارقه، أو أفلس) أي ظهر أن غريمه مفلس (ففارقه ليوسر) وفي المحرر إلى أن يوسر (حنث)
في المسائل الخمس لوجود المفارقة في الأوليين ولتفويته في الثالثة البر باختياره، وفي الرابعة والخامسة الحوالة. وإن قلنا
هي استيفاء فليست استيفاء حقيقة، وإنما هي كالاستيفاء في الحكم اللهم إلا أن ينوي أن لا يفارقه وذمته مشغولة بحقه،
فحينئذ ينبغي الامر على ما قصده ولا يحنث قاله المتولي، وأما في الأخيرة فلوجود المفارقة، وإن كان تركه واجبا
كما لو حلف لا يصلي الفرض فصلى. فإنه يحنث وإن كانت الصلاة واجبة، فإن ألزمه الحاكم بمفارقتها فعلى قولي
المكره والأصح لا حنث. واحترز بقوله وكانا ماشيين عما إذا كانا ساكنين وابتدأ الغريم بالمشي فلا يحنث.
لأن الحادث المشي وهو فعل الغريم.
تنبيه: لو استوفى من وكيل غريمه أو من متبرع به وفارقه حنث إن كان قال منك وإلا فلا حنث. فإن قال:
لا تفارقني حتى أستوفي منك حقي، أو حتى توفيني حقي ففارقه الغريم عالما مختارا حنث الحالف وإن لم يختر فراقه لأن
اليمين على فعل الغريم وهو مختار في المفارقة فإن نسي الغريم الحلف أو أكره على المفارقة ففارق فلا حنث
إن كان
348

ممن يبالي بتعليقه كنظيره في الطلاق، نبه على ذلك الأسنوي. ولو فر الحالف منه لم يحنث وإن أمكنه متابعته لأن
اليمين على فعله، فإن قال: لا نفترق حتى أستوفي منك حقي حنث بمفارقة أحدهما الآخر عالما مختارا، وكذا إن قال:
لافترقنا حتى أستوفي منك لصدق الافتراق بذلك، فإن فارقه ناسيا أو مكرها لم يحنث. (وإن استوفى) الحالف حقه من
غريمه (وفارقه فوجده) أي ما استوفاه (ناقصا) نظرت (إن كان من جنس حقه، لكنه أردأ) منه (لم يحنث)
بذلك لأن الرداءة لا تمنع من الاستيفاء.
تنبيه: ظاهر كلامه أنه لا فرق بين أن يكون الأرش قليلا فلا يتسامح بمثله أو كثيرا، وهو كذلك، وإن قيده
في الكفاية بالأول. (وإلا) بأن لم يكن من جنس حقه بأن كان دراهم خالصة فخرج ما أخذه مغشوشا أو نحاسا (حنث عالم)
بحال المال المأخوذ قبل المفارقة للمفارقة قبل الاستيفاء (وفي غيره) أي العالم، وهو الجاهل بالحال (القولان) في
حنث الجاهل والناسي، أظهرهما لا حنث، والتعريف في القولين للعهد المذكور في باب الطلاق فقول ابن شهبة: ولا
عهد مقدم يحيل عليه ممنوع وإن حلف الغريم فقال: والله لا أوفيك حقك فعلمه له مكرها أو ناسيا لم يحنث، أو لا
استوفيت حقك مني فأخذها مكرها أو ناسيا لم يحنث بخلاف ما إذا أخذه عالما مختارا، وإن كان المعطي مكرها أو ناسيا
(أو) حلف (لا رأى منكرا إلا رفعه إلى القاضي) أو لا رأى لقطة أو ضالة إلا رفعها إليه (فرأى) الحالف ذلك
(وتمكن) من الرفع إليه (فلم يرفع) ذلك (حتى مات) الحالف (حنث) لتفويته البر باختباره ولا يلزمه المبادرة
إلى الرفع بل له المهلة مدة عمره وعمر القاضي، فمتى رفعه إليه بر، ولا يشترط في الرفع أن يذهب إليه بل يكفي أن
يكتب إليه بذلك أو يرسل رسولا بذلك فيخبره لأن القصد بذلك إخباره، والاخبار يحصل بذلك. ولو رأى المنكر
بين يديه هل يكفي ذلك أو لا بد من إخباره؟ وجهان: أرجحهما الثاني كما رجحه ابن المقري. وهل يقال مثل ذلك إذا
رأى القاضي يتعاطى المنكر أو يقال مثل هذا اللفظ لا يتناول القاضي؟ لم أر من تعرض لذلك. ويظهر الثاني (ويحمل
على قاضي البلد) عند الاطلاق لا على غيره لأن ذلك مقتضى التعريف بأل (فإن) عزل قاضي البلد وتولى غيره
(فالبر) يحصل (بالرفع إلى) القاضي (الثاني) ولا عبرة بالموجود حالة الحلف لأن التعريف في الألف واللام
للجنس، ويشترط في رفع المنكر إلى القاضي أن يكون في محل ولايته، فإن كان في غيره لم يبر إذ لا يمكنه إقامة موجبة
كما قاله البغوي. وإن كان في بلده قاضيان كفى الرفع إلى أحدهما وإن اختص كل منهما بناحية خلافا لابن
الرفعة
في قوله: فإن اختص بذلك فينبغي أن يتعين قاضي الناحية التي فيها فاعل المنكر، وهو الذي يجب عليه إجابته إذا
دعاه إذ رفع المنكر إلى القاضي منوط بإخباره به كما مر لا بوجوب إجابة فاعله (أو) حلف لا رأى منكرا (إلا رفعه
إلى قاض بر بكل قاض) في ذلك البلد وغيره لصدق الاسم، وسواء أكان قاضيا حال اليمين أم ولي بعده لعموم اللفظ
(أو) إلا رفعه (إلى القاضي فلان) وكناية عن اسم علم لمن يعقل ومعناه واحد من الناس (فرآه) أي المفكر
(ثم) لم يرفعه إليه حتى (عزل) القاضي (فإن نوى ما دام قاضيا حنث إن) رأى المنكر و (أمكنه رفعه) إليه
(فتركه) لتفويته البر باختياره، فإن قيل: هذا مخالف لقول الروضة وأصلها أنه إذا عزل لم يبر بالرفع إليه وهو معزول
ولا يحنث وإن كان تمكن لأنه ربما ولي ثانيا واليمين على التراخي فإن مات أحدهما قبل أن يولي بأن الحنث.
أجيب بأن المصنف عبر هنا بدوام كونه قاضيا والديمومة تنقطع بالعزل، وغفل بعض الشراح عن ذلك فأجاب بأن كلام
المصنف هذا محمول على عزل اتصل بالموت (وإلا) بأن لم يمكنه رفعه إليه (فكمكره) والأظهر عدم الحنث.
349

تنبيه: جعلا من صور عدم الامكان المرض والحبس وما إذا جاء إلى باب القاضي فحجب. وينبغي كما قال
الزركشي: أن يحنث إذا ما تمكن من المكاتبة والمراسلة فلم يفعل، فإنهم اكتفوا بذلك كما مر. (وإن لم ينو) ما دام
قاضيا (بر بالرفع إليه بعد عزله) قطعا إن نوى عينه وذكر القضاء للتعريف، وعلى الأصح إن أطلق نظر إلى التعيين
ووجه مقابله النظر إلى الصفة.
فصل: في الحلف على أن لا يفعل كذا: إذا (حلف) شخص أنه (لا يبيع أو لا يشتري) مثلا وأطلق (فعقد
لنفسه) حنث قطعا لصدور الفعل منه (أو غيره) بولاية أو وكالة (حنث) على الصحيح، لأن إطلاق اللفظ يشمله.
تنبيه: مطلق الحلف على العقود ينزل على الصحيح منها فلا يحنث بالفاسد. قال ابن الرفعة: ولم يخالف الشافعي
رحمه الله هذه القاعدة إلا في مسألة واحدة، وهي ما إذا أذن لعبده في النكاح فنكح فاسدا، فإنه أوجب فيها المهر، كما
يجب في النكاح الصحيح، وكذا العبادات لا يستثنى منها إلا الحج الفاسد فإنه يحنث به كما مر، ولو أضاف العقد إلى ما لا
يقبله كأن حلف لا يبيع الخمر، ولا المستولدة ثم أتى بصورة البيع، فإن قصد التلفظ بلفظ العقد مضافا إلى ما ذكره حنث،
وإن أطلق فلا. (ولا يحنث) الحالف على عدم البيع مثلا إذا أطلق (بعقد وكيله له) البيع سواء أكان ممن يتولاه الحالف
بنفسه عادة أم لا، لأنه لم يعقد (أو) حلف (لا يزوج أو لا يطلق أو لا يعتق أو لا يضرب فوكل من فعله لا يحنث) وإن
فعله الوكيل بحضرته وأمره بأنه حلف على فعله ولم يفعل، فإن قيل قد مر في الخلع أنه لو قال لزوجته متى
أعطيتني
ألفا فأنت طالق أنها لو قالت لوكيلها سلم إليه فسلم طلقت، وكان تمكينها من المال إعطاء، وقياسه هنا أنه يحنث بذلك.
أجيب بأن اليمين يتعلق باللفظ فاقتصر على فعله أما في الخلع فقولها لوكيلها: سلم إليه، بمثابة خذه فلاحظوا المعنى، ولو
حلف أن لا يطلق، ثم علق الطلاق على مشيئة الزوجة أو فعلها، فوجد ذلك حنث، لأن الموجود منها مجرد صفة،
وهو الموقع بخلاف ما لو فوض الطلاق إليها فطلقت نفسها على الأصح ولو حلف لا يعتق عبدا فكاتبه وعتق بالأداء
لم يحنث كما نقلاه عن ابن القطان وأقروه، وإن صوب في المهمات الحنث معللا بأن التعليق مع وجود الصفة إعتاق كما
أن تعليق الطلاق مع وجود الصفة تطليق، لأن الظاهر أن اليمين عند الاطلاق منزلة على الاعتاق مجانا (إلا أن يريد)
الحالف استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، وهو (أن لا يفعل هو ولا غيره) فيحنث بفعله وكيله فيما ذكر في مسائل
الفصل كلها عملا بإرادته، ولو حلف لا يبيع ولا يوكل وكان وكل قبل ذلك يبيع ماله فباع الوكيل بعد يمينه بالوكالة
السابقة، ففي فتاوى القاضي الحسين أنه لا يحنث، لأنه بعد اليمين لم يباشر ولم يوكل، وقياسه أنه لو حلف على زوجته
أن لا تخرج إلا بإذنه، وكان أذن لها قبل ذلك في الخروج إلى موضع معين فخرجت إليه بعد اليمين لم يحنث. قال البلقيني:
وهو ظاهر (أو) حلف (لا ينكح حنث بعقد وكيله له لا بقبوله هو) أي الحالف النكاح (لغيره) لأن الوكيل في النكاح
سفير محض، ولهذا يجب تسمية الموكل، ونازع البلقيني في ذلك واعتمد عدم الحنث.
تنبيه: هذا كله إذا أطلق، فإن أراد أن لا ينكح لنفسه ولا لغيره حنث عملا بنيته، وإن نوى منع نفسه أو
وكيله اتبع.
فروع: لو حلفت المرأة أن لا تتزوج فعقد عليها وليها نظرت إن كانت مجبرة فعلى قولي المكره، وإن كانت
غير مجبرة وأذنت في التزويج فزوجها الولي فهو كما لو أذن الزوج لمن يزوجه، ولو حلف لا يراجع مطلقته فوكل في
350

رجعتها لم يحنث كما قاله البلقيني، والمعتمد أنه يحنث سواء أقلنا الرجعة ابتداء نكاح أم استدامة، ولو حلف لا يتزوج،
ثم جن فعقد له وليه لم يحنث لعدم إذنه فيه، ذكرته بحثا، وهو ظاهر. ولو حلف الأمير لا يضرب زيدا، فأمر الجلاد
بضربه فضربه لم يحنث، أو حلف لا يبني بيته، فأمر البناء ببنائه فبناه فكذلك أو لا يحلق رأسه، فأمر حلاقا فحلقه لم
يحنث كما جزم عليه ابن المقري لعدم فعله، وقيل: يحنث للعرف، وجزم به الرافعي في باب محرمات الاحرام من
شرحيه، وصححه الأسنوي. (أو) حلف (لا يبيع مال زيد) مثلا (فباعه) بيعا صحيحا بأن باعه (بإذنه) أو لظفر أو إذن
حاكم لحجر أو امتناع أو إذن الولي لحجر أو صغر أو جنون (حنث) لصدق اسم البيع بما ذكر، فلو عبر المصنف ببيع
صحيح كما قدرته في كلامه لشمل ما ذكرته (وإلا) بأن باعه بيعا غير صحيح (فلا) حنث لفساد البيع وهو في الحلف
منزل على الصحيح وذكر البيع مثالا وإلا فسائر العقود لا تتناول إلا الصحيح، وكذا العبادات إلا الحج الفاسد، فإنه
يحنث به كما مر. قال الزركشي: ويقع النظر في إلحاق الخلع والكتابة الفاسدين وما أشبههما بالحج، لأنهما كالصحيحين
في حصول الطلاق والعتق اه‍. والظاهر عدم إلحاقهما به، ولو باعه بإذن وكيل زيد ولم يعلم أنه مال زيد لم يحنث
أيضا لجهله.
فروع: لو حلف لا يبيع إلى زيد مالا فوكل الحالف رجلا في البيع وأذن له في التوكيل فوكل الوكيل زيدا في بيع
ذلك فباعه حنث الحالف سواء أعلم زيد أنه ما الحالف أم لا، لأن اليمين منعقدة على نفي فعل زيد، وقد فعل باختياره
والجهل أو النسيان إنما يعتبر في المباشر للفعل لا في غيره. قال الأذرعي: والظاهر حمل ذلك على ما إذا قصد التعليق،
أما إذا قصد المنع فيأتي فيه ما مر في تعليق الطلاق. ولو حلف لا يطلق زوجته ثم فوض إليها طلاقها فطلقت نفسها لم
يحنث كما لو وكل فيه أجنبيا ولو قال: إن فعلت كذا أو إن شئت كذا فأنت طالق ففعلت أو شاءت حنث لأن الوجود
منها مجرد صفة وهو المطلق، ولو حلف لا يبيع بيعا فاسدا فباع بيعا فاسدا ففي حنثه وجهان: أحدهما أنه يحنث.
وقال الإمام: إنه الوجه عندنا وقال الأذرعي: الطلب إليه أميل اه‍. وهذا هو الظاهر لأنه فعل المحلوف عليه. والثاني
لا حنث وجرى عليه صاحب الأنوار وقال الأذرعي: إنه ظاهر كلام الشيخين. (أو) حلف (لا يهب له) أي لزيد
مثلا (فأوجب له) الهبة (فلم يقبل لم يحنث) لأن الهبة لم تتم ويجري ذلك كما قال الإمام في البيع وغيره من العقود
المشتملة على الايجاب والقبول (وكذا إن قبل) الهبة (ولم يقبض) لم يحنث أيضا (في الأصح) لأن مقتضى الهبة نقل
الملك ولم يوجد ولان المقصود بالحلف على الامتناع من الهبة عدم التبرع على الغير وذلك حاصل عند عدم
القبض. قال إبراهيم المروزي: ولا يحنث بالهبة لعبد زيد لأنه إنما عقد مع العبد. قال الماوردي: ولا بمحاباة
في بيع ونحوه.
تنبيه: أفهم كلام المصنف أنه يحنث إذا قبضها بلا خلاف، لكن متى يحنث؟ فيه وجهان في الحاوي: أحدهما
حالة القبض تخريجا من قول الشافعي أن الهبة تملك بالقبض والثاني من وقت العقد تخريجا من قول الشافعي أن
القبض دال على الملك حالة الهبة والأول أوجه. (ويحنث) من حلف لا يهب (بعمري ورقبي) وسبق تفسيرهما
في الهبة (وصدقة) تطوعا وهدية مقبوضة لأنها أنواع خاصة من الهبة. أما الصدقة الواجبة فلا يحنث بها على الأصح
لأنها كقضاء الدين و (لا) يحنث بغيرها ما ذكر من (إعارة) وضيافة إذ لا ملك فيهما (ووصية) لأنها تملك بعد
الموت والميت لا يحنث (ووقف) عليه لأن الملك فيه لله تعالى (أو) حلف (لا يتصدق) حنث بالصدقة فرضا
وتطوعا على فقير وغني ولو ذميا لشمول الاسم ويحنث بالاعتاق لأنه تصدق عليه برقبته، و (لم يحنث بهبة في الأصح)
لأنها أعم من الصدقة، والثاني يحنث كعكسه، وفرق الأول بأن الصدقة أخص فكل صدقة هبة وليس كل
351

هبة صدقة، نعم إن نواها به حنث كما صرح به الإمام ولا يحنث بالإعارة والضيافة ويحنث بالوقف عليه، لأن الوقف
صدقة. فإن قيل: ينبغي أن يحنث به فيما مر أيضا، لأنه تبين بهذا أن الوقف صدقة، وكل صدقة هبة. أجيب
بأن هذا الشكل غير منتج لعدم اتحاد الوسط، إذ محمول الصغرى صدقة لا تقتضي الملك وموضع الكبرى صدقة تقتضيه
كما مر في بابها.
فروع: لو حلف لا يبره حنث بجميع التبرعات كإبرائه من الدين وإعتاقه وهبته وإعارته لأن كلا منها يعد برا
عرفا بإعطائه الزكاة كما لو قضى دينا أو لا يشارك فقارض. قال الخوارزمي: حنث لأنه نوع من الشركة وهو كما
قال الزركشي ظاهر بعد حصول الربح دون ما قبله أو لا يتوضأ فتيمم لم يحنث أو لا يضمن لفلان مالا فكفل بدن
مديونه لم يحنث لأنه لم يأت بالمحلوف عليه، أو لا يذبح الجنين فذبح شاة في بطنها جنين حنث لأن ذكاتها ذكاته،
أو لا يذبح شاتين لم يحنث بذلك، لأن الايمان يراعى فيها العادة، وفي العادة لا يقال إن ذلك ذبح لشاتين، ويحتمل أن
لا يحنث في الأولى أيضا، وهذا الاحتمال كما قال الأذرعي أقرب، أو لا يقرأ في مصحف ففتحه وقرأ فيه حنث، أو
لا يدخل هذا المسجد فدخل زيادة حادثة فيه بعد اليمين، أو لا يكتب بهذا القلم وهو مبري فكسر ثم بري فكتب به لم
يحنث وإن كانت الأنبوبة واحدة لأن اليمين في الأولى لم تتناول الزيادة حال الحلف والقلم في الثانية اسم للمبري دون
القصبة، وإنما يسمى قبل البري قلما مجازا لأنه سيصير قلما، أو لا آكل اليوم إلا أكلة واحدة فاستدام من أول
النهار إلى آخره لم يحنث، وإن قطع الاكل قطعا بينا ثم عاد حنث، وإن قطع لشرب أو انتقال من لون إلى آخر، أو
انتظار ما يحمل إليه من الطعام ولم يطل الفصل لم يحنث. (أو لا يأكل طعاما اشتراه زيد لم يحنث بما اشتراه) زيد (مع غيره)
شركة معا أو مرتبا، لأن كل جزء من الطعام لم يختص زيد بشرائه بدليل أنه لا يقال اشتراه فلان بل بعضه، ولا يحنث
بما اشتراه لزيد وكيله أو ملكه بقسمة وإن جعلناها بيعا أو بصلح أو إرث أو هبة أو وصية أو رجع إليه برد بعيب أو
إقالة وإن جعلناها بيعا (وكذا لو قال) لا آكل (من طعام اشتراه زيد) لم يحنث بما ذكره في المتن (في الأصح) لما مر
والثاني يحنث به، لأن غرض الحالف الامتناع عما ثبت لزيد منه شراء وهو موجود (ويحنث بما اشتراه) زيد (سلما) أو
إشراكا أو تولية أو مرابحة، لأنها أنواع من الشراء. فإن قيل: ما ذكره المصنف في السلم مناقض لما صححه في بابه
من عدم انعقاده بلفظ البيع. أجيب بأنه لا يلزم من كون السلم بيعا في الحقيقة أن يصح بلفظ البيع بل بلفظ السلم. وهذا
كما أن التولية والاشراك بيع حقيقي ولا يصحان بلفظ البيع، وسببه أن هذه بيوع خاصة والخاص فيه قدر زائد على العام
فلا يصح إيراده بالعام لفوات المعنى الزائد على العام.
تنبيه: لو اشتراه زيد لغيره، أو اشتراه ثم باعه، أو باع بعضه فأكل منه حنث، ولا يحنث بما ملكه زيد بإرث،
أو هبة، أو وصية، أو رجع إليه برد بعيب، أو إقالة أو خلص له بالقسمة وإن جعلناها بيعا، وكذا الصلح، لأن
لفظ الصلح موضوع للرضا بترك بعض الحق، ولا بما اشتراه له وكيله. (ولو اختلط ما اشتراه) زيد (بمشترى غيره لم
يحنث) بأكله من المختلط (حتى يتيقن أكله من ماله) بأن يأكل قدرا صالحا كالكف والكفين، لأنه يتحقق أن فيه مما
اشتراه زيد، بخلاف عشر حبات وعشرين حبة.
تنبيه: قوله بمشترى غيره ليس بقيد فإن اختلاطه بملك الغير كذلك وسواء أملكه ذلك الغير بالشراء أم بغيره.
وقوله: حتى يتيقن مثله الظن، وقضية كلامه أنه لا فرق فيما ذكره بين أن يقول طعاما اشتراه
أو من طعام اشتراه وهو ظاهر في الثانية. وأما الأولى ففي تحنيثه بالبعض توقف لاعطاء اللفظ الجميع،
لا سيما إذا قصده وهذا كله عند الاطلاق، فلو قال أردت طعاما يشتريه سائغا أو خالصا حنث به، لأنه غلظ على نفسه.
352

(أو) حلف (لا يدخل دارا اشتراها زيد لم يحنث) أي الحالف (بدار أخذها) زيد كلها أو بعضها (بشفعة) لفقد الاسم المعلق عليه
في الوضع والعرف، إذ الاخذ بالشفعة شراء حكمي لا حقيقي، ويتصور أخذ الكل بالشفعة في صورتين: الأولى في
شعفة الجوار، وهي أن يأخذ بها دار جاره ويحكم له بها حاكم حنفي وقلنا يحل له باطنا كما هو الأصح. الثانية أن يملك
شخص نصف دار ويبيع شريكه النصف الآخر فيأخذه بالشفعة، فتصير الدار جميعها له ثم يبيع الآخر النصف
الذي لم يملكه بالشفعة شائعا، ثم يبيعه ذلك الغير من غير فله أخذه منه بالشفعة وقد صدق عليه أنه ملك جميع الدار
بالشفعة، لكن في عقدين.
خاتمة: فيها مسائل منثورة مهمة تتعلق بالباب لو حلف لا يخرج فلان إلا بإذنه أو بغير إذنه، أو حتى يأذن
له، فخرج بلا إذن منه حنث، أو بإذن فلا، ولو لم يعلم إذنه لحصول الاذن وانحلت اليمين في حالتي الحنث وعدمه حتى
لو خرج بعد ذلك لم يحنث ولو كان الحلف بالطلاق فخرجت وادعى الاذن لها وأنكرت فالقول قولها بيمينها، وتنحل
اليمين بخرجة واحدة، لأن لهذا اليمين جهة بر وهي الخروج بإذن، وجهة حنث وهي الخروج بلا إذن، لأن الاستثناء
يقتضي النفي والاثبات جميعا، وإذا كان لها جهتان ووجدت إحداهما انحلت اليمين بدليل ما لو حلف لا يدخل اليوم الدار
وليأكلن هذا الرغيف، فإنه إن لم يدخل الدار في اليوم بر وإن ترك أكل الرغيف، وإن أكله بر وإن دخل الدار،
وليس كما لو قال: إن خرجت لابسة حريرا فأنت طالق فخرجت غير لابسة له لا تنحل حتى يحنث بالخروج ثانيا لابسة
له، لأن اليمين لم تشتمل على جهتين، وإنما علق الطلاق بخروج مقيد، فإذا وجد وقع الطلاق، فإن كان التعليق
بلفظ كلما أوكل وقت لم تنحل بخرجة واحدة وطريقه أن يقول: أذنت لك في الخروج كلما أردت، ولو قال: لا أخرج
حتى أستأذنك، فاستأذنه فلم يأذن فخرج حنث، لأن الاستئذان لا يعني لعينه، بل للاذن، ولم يحصل. نعم إن قصد
الاعلام لم يحنث، أو حلف لا يلبس ثوبا أنعم به عليه فلان فباعه ثوبا وأبرأه من ثمنه أو حاباه فيه لم يحنث بلبسه، وإن
وهبه له أو وصى له به حنث بلبسه إلا أن يبدله قبل لبسه بغيره ثم بلبس الغير فلا يحنث، وإن عدد عليه النعم غيره فحلف
لا يشرب له ماء من عطش فشرب له ماء بلا عطش، أو أكل له طعاما أو لبس له ثوبا لم يحنث لأن اللفظ لا يحتمله.
أو حلف لا يلبس ثوبا من غزل فلانة فلبس ثوبا سداه من غزلها ولحمته من غيره لم يحنث، وإن قال: لا ألبس من
غزلها حنث به لا بثوب خيط بخيط من غزلها لأن الخيط لا يوصف بأنه ملبوس وإن قال: لا ألبس مما غزلته لم
يحنث بما غزلته بعد اليمين، أو لا ألبس مما تغزله لم يحنث بما غزلته قبل اليمين. أو قال: لا ألبس من غزلها حنث بما
غزلته وبما تغزله لصلاحية اللفظ لهما. أو حلف ليصلين على النبي (ص) أفضل الصلاة فليقل: اللهم
صلى على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إلخ. هذا ما قال في الروضة أنه الصواب. ونقل الرافعي عن المروزي
إن أفضلها أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كلما ذكره الذاكرون وكلما سها عن ذكره الغافلون. قال
المصنف: وقد يستأنس له بأن الشافعي رضي الله عنه كان يستعمل هذه العبارة ولعله أول من استعملها. وقال البارزي:
عندي أن البر أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد أفضل صلواتك عدد معلوماتك اه‍. والأوجه الأول.
ومع ذلك فالأحوط للحالف أن يأتي بجميع ما ذكر كما قاله الأذرعي. ولا بد في كل ما قيل أنه أفضل أن تقرن الصلاة
بالسلام وإلا فيكون مكروها، ولا يقال في المكروه أنه أفضل من غيره وهذا ظاهر وإن لم أر من تعرض له في هذا
المحل أو حلف لا يزور فلانا حيا ولا ميتا لم يحنث بتشييع جنازته. أو لا يدخل بيته صوفا فأدخل شاة عليها صوف
ومثله الجلد الذي عليه الصوف كما بحثه شيخنا. أو لا يدخل بيته بيضا فأدخل دجاجة فباضت ولو في الحال لم يحنث.
أو حلف لا يظله سقف حنث باستظلاله بالأزج. أو حلف لا يفطر حنث بأكل وجماع ونحوهما مما يفطر، لا بردة وحيض
ودخول ليل ونحوهما مما لا يفطر عادة كجنون فلا يحنث بها. أو حلف لا يتزوج امرأة كان لها زوج فطلق
امرأته ثم
تزوجها لم يحنث لأن اليمين تنعقد على غير زوجته التي هي في نكاحه، فإن كانت بائنا فتزوجها حنث، أو حلف
353

لا يتزوج سرا فتزوج بولي وشاهدين حنث، لأن التزويج لا يصح بدون ذلك، وإن شهد فيه ثلاثة لم يحنث، أو حلف
لا يركب فركب إنسان واجتاز به النهر ونحوه لم يحنث، أو حلف لا يسكن هذا البيت، أو لا يصطاد ما دام زيد واليا
أو فلان قاضيا أو نحو ذلك فعزل فلان ثم ولي لم يحنث بالمحلوف عليه لايقاع الديمومة، صرح به الخوارزمي وغيره، أو
حلف على من له عليه دين بأن قال: إن لم أقضه منك اليوم فامرأتي طالق، وقال صاحبه: إن أعطيته اليوم فامرأتي
طالق، فطريقه أن يأخذه منه صاحبه جبرا فلا يحنثان، ووقت الغذاء من طلوع الفجر إلى الزوال، ووقت العشاء
من الزوال إلى نصف الليل، وقدرهما أن يأكل فوق نصف الشبع، ووقت السحور بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر
والغدوة من طلوع الفجر إلى الاستواء، والضحوة بعد طلوع الشمس من حين زوال كراهة الصلاة إلى الاستواء،
والصباح ما بعد طلوع الشمس إلى ارتفاع الضحى، أو حلف ليثنين على الله أحسن الثناء، أو أعظمه أو أجله فليقل:
لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، زاد إبراهيم المروزي: فلك الحمد حتى ترضى. وزاد المتولي: أول
الذكر سبحانك، أو حلف ليحمدن الله تعالى بمجامع الحمد أو بأجل التحاميد فليقل: الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ
مزيده، يقال إن جبريل علمه لآدم عليهما السلام وقال: قد علمك الله مجامع الحمد. وفسر في الروضة يوافي نعمه
بقوله: أي يلاقيها حتى يكون معها ويكافئ مزيده بقوله: أي يساوي مزيد نعمه، أي يقوم بشكر ما زاد منها. قال
ابن المقري: وعندي أن معناه يفي بها ويقوم بحقها ويمكن حمل الأول كما قال شيخنا على هذا.
كتاب النذر
وهو بذال معجمة ساكنة، وحكي فتحها. لغة الوعد بخير أو شر، وشرعا الوعد بخير خاصة، قاله الروياني والماوردي.
وقال غيرهما: التزام قربة لم تتعين كما يعلم مما يأتي، وذكره المصنف عقب الايمان، لأن كلا منهما عقد يعقد المرء على
نفسه تأكيدا لما التزمه، ولأنه يتعلق بالنذر كفارة ككفارة اليمين في الجملة. والأصل فيه آيات كقوله تعالى: * (وليوفوا
نذورهم) * وقوله تعالى: * (يوفون بالنذر) * وأخبار كخبر البخاري: من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي
الله فلا يعصه، وخبر مسلم: لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم.
تنبيه: اختلفوا هل النذر مكروه أو قربة؟ نقل الأول عن النص، وجزم به المصنف في مجموعه لخبر الصحيحين
أنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه وقال: إنه لا يرد شيئا وإنما يستخرج به من البخيل ونقل الثاني عن القاضي والمتولي
و الغزالي، وهو قضية قول الرافعي: النذر تقرب فلا يصح من الكافر، وقول المصنف في مجموعه في كتاب الصلاة:
النذر عمدا في الصلاة لا يبطلها في الأصح لأنه مناجاة لله تعالى. فهو يشبه قوله: سجد وجهي للذي خلقه وصوره.
قال في المهمات: ويعضده النص، وهو قوله تعالى: * (وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه) * أي يجازى
عليه، والقياس وهو أنه وسيلة إلى القربة، وللوسائل حكم المقاصد، وأيضا فإنه يثاب عليه ثواب الواجب كما قاله
القاضي الحسين، وهو يزيد على النفل سبعين درجة كما في زوائد الروضة في النكاح عن حكاية الإمام، والنهي محمول
على من ظن أنه لا يقوم بما التزمه، أو أن للنذر تأثيرا كما يلوح به الخبر، أو على المعلق بشئ. وقال الكرماني:
المكروه التزام القربة، إذ ربما لا يقدر على الوفاء. وقال ابن الرفعة: الظاهر أنه قربة في نذر التبرر دون غيره اه‍.
هذا أوجه. وأركان النذر ثلاثة: ناذر وصيغة، ومنذور. وسكت المصنف عن الأولين، أما الناذر فيشترط فيه
التكليف والاسلام والاختيار ونفوذ التصرف فيما بنذره، فلا يصح من غير مكلف كصبي ومجنون لعدم أهليتهما
للالتزام إلا السكران فإنه يصح منه وإن كان غير مكلف عند المصنف كما مر بيانه في كتاب الطلاق لصحة تصرفه،
ولا يصح من كافر لعدم أهليته للقربة أو التزامها، وإنما صح وقفه وعتقه ووصيته وصدقته من حيث إنها عقود مالية
354

لا قربة ولا مكره لخبر: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولا ممن لا ينفذ تصرفه فيما ينذره كنذر
السفيه القرب المالية لعينيه كعتق هذا العبد، ويصح من المحجور عليه بسفه أو فلس في القرب البدنية ولا حجر عليهما
في الذمة فيصح نذرهما المالي فيهما لأنهما إنما يؤديان بعد فك الحجر عنهما، ويصح نذر الرقيق المال في ذمته ولو بغير
إذن سيده كما اقتضاه كلامهم. فإن قيل: ينبغي أن لا يصح كما قاله ابن الرفعة كما لا يصح ضمانه في ذمته بغير إذن سيده.
أجيب بأن المغلب في النذر حق الله تعالى إذ لا يصح إلا في قربة بخلاف الضمان والأصح انعقاد نذره الحج. قال ابن الرفعة: ويشبه
أن غير الحج كذلك، وأما الصيغة فيشترط فيها لفظ يشعر بالتزام فلا ينعقد بالنية كسائر العقود وتنعقد بإشارة الأخرس
المفهمة وينبغي كما قال شيخنا انعقاده بكناية الناطق مع النية. قال الأذرعي: وهو أولى بالانعقاد بها مع البيع. (وهو)
أي النذر (ضربان) أحدهما (نذر لجاج) بفتح أوله بخطه، وهو التمادي في الخصومة، وسمي بذلك لوقوعه حال
الغضب، ويقال له يمين اللجاج، والغضب ويمين الغلق ونذر الغلق بفتح الغين واللام، والمراد به ما خرج
مخرج اليمين
بأن يقصد الناذر منع نفسه أو غيرها من شئ أو يحث عليه أو يحقق خيرا أو غضبا بالتزام قربة (كان كلمته) أي زيدا
مثلا، أو إن لم أكلمه، أو إن لم يكن الامر كما قلته (فلله علي) أو فعلي (عتق أو صوم) أو نحوه كصدقة وحج
وصلاة (وفيه) عند وجود المعلق عليه (كفارة يمين) لقوله (ص): كفارة النذر كفارة يمين
رواه مسلم. ولا كفارة في نذر التبرر قطعا فتعين أن يكون المراد به اللجاج وروى ذلك عن عمر وعائشة وابن عباس
وابن عمر وحفصة وأم سلمة رضي الله عنهم (وفي قول) يجب على الناذر في (ما التزم) لقوله (ص)
: من نذر وسمى فعليه ما سمى ولأنه التزم عبادة عند مقابلة شرط فتلزمه عند وجوده (وفي قول أيهما) أي الامرين (شاء) أي
الناذر فيختار واحدا منهما من غير توقف على قوله اخترت، حتى لو اختار معينا منهما لم يتعين
وله العدول إلى غيره (قلت) هذا (الثالث) كما قال الرافعي في الشرح (أظهر، ورجحه العراقيون) بل لم يورد
أبو الطيب منهم غيره (والله أعلم) لأنه يشبه النذر من حيث أنه التزام قربة، واليمين من حيث المنع، ولا سبيل إلى الجمع
بين موجبيهما ولا إلى تعطيلهما فوجب التخيير.
تنبيه: قضية قول المصنف فلله علي عتق أو صوم أن نذر اللجاج لا بد فيه من التزام قربة وبه صرح في
المحرر، لكن الصحيح في أصل الروضة فيما لو قال: إن دخلت الدار فلله علي أن آكل الخبز في صور اللجاج، وأنه
يلزمه كفارة يمين، لكن هنا إنما يلزمه كفارة يمين فقط، لأنه إنما يشبه اليمين لا النذر، لأن المعلق غير قربة، ومثل
بالعتق والصوم ليفهم أنه لا فرق في الملتزم بين المالي والبدني، والعتق لا يحلف به إلا على وجه التعليق والالتزام كقوله:
إن فعلت كذا فعلي عتق فتجب الكفارة ويتخير بينها وبين ما التزمه، فلو قال: العتق يلزمني لا أفعل كذا ولم ينو
التعليق لم يكن يمينا، فلو قال: إن فعلت كذا فعبدي حر ففعله عتق العبد قطعا، أو قال: والعتق أو والطلاق بالجر
لا أفعل كذا لم تنعقد يمينه ولا حنث عليه إن فعله، وتعبيره بأو ليس بقيد بل لو عطف بالواو فقال: إن كلمته فلله
علي صوم وعتق وحج وأوجبنا الكفارة فواحدة على المذهب، أو الوفاء بما التزمه لزمه الكل. (ولو قال: إن دخلت)
الدار (فعلي كفارة يمين، أو) كفارة (نذر لزمته كفارة بالدخول) في الصورتين وهي كفارة يمين. أما الأولى فبالاتفاق
تغليبا لحكم اليمين، وأما الثانية فلخبر مسلم السابق. واحترز بقوله فعلي كفارة يمين عما إذا قال فعلي يمين فإنه يكون لغوا
على الأصح لأنه لم يأت بصيغة النذر ولا الحلف، وليست اليمين مما يلتزمه في الذمة.
تنبيه: قوله أو نذر معطوف على يمين كما قدرت كفارة في كلامه، ولا يصح أن يكون معطوفا على كفارة كما
توهمه بعضهم، نبه عليه شيخنا في شرح منهجه، فإنه لو قال: فعلي نذر صح ويتخير بين قربة وكفارة يمين،
355

ونص البويطي: يقتضي أنه لا يصح ولا يلزمه شئ، فلو كان ذلك في نذر التبرر كأن قال: إن شفي الله مريضي فعلي نذر، أو
قال ابتداء: فلله علي نذر لزمه قربة من القرب والتعيين إليه كما ذكره البلقيني. (و) الضرب الثاني (نذر تبرر) وهو تفعل
من البر، سمي بذلك لأن الناذر طلب به البر والتقرب إلى الله تعالى، وهو نوعان كما في المتن. أحدهما نذر المجازاة وهو
المعلق بشئ (بأن يلتزم) الناذر (قربة إن حدثت) له (نعمة أو ذهبت) عنه (نقمة كإن شفي مريضي) أو ذهب عني كذا
(فلله علي أو فعلي كذا) من عتق أو صوم أو نحوه (فيلزمه ذلك إذا حصل المعلق عليه) لقوله تعالى: * (وأوفوا بعهد الله إذا
عاهدتم) * وقد ذم الله أقواما عاهدوا ولم يوفوا فقال: * (ومنهم من عاهد الله) * الآية، وللحديث المار: من نذر أن يطيع
الله فليطعه.
تنبيه: أطلق المصنف النعمة، وخصصها الشيخ أبو محمد بما يحصل على نذور، فلا يصح في النعم المعتادة كما لا يستحب
سجود الشكر لها. قال الإمام: ووافقه طائفة من الأصحاب، لكن القاضي الحسين طرده في كل مباح وهو أفقه اه‍.
وخرج بالحدوث استمرار النعمة وهو قياس سجود الشكر كما قاله الزركشي، وهذا يؤيد ما قاله الشيخ أبو محمد. ويجوز
تقديم المنذور على حصول المعلق عليه إن كان ماليا كما قالاه في الباب الثاني من أبواب الايمان، وإن كانا صححا عدم
الجواز في باب تعجيل الزكاة.
فرع: لو نذر شيئا إن شفى الله مريضه فشفي، ثم شك هل نذر صدقة أو عتقا أو صلاة أو صوما؟ قال البغوي
في فتاويه: يحتمل أن يقال عليه الاتيان بجميعها كمن نسي صلاة من الخمس، ويحتمل أن يقال: يجتهد بخلاف الصلاة
لأنا تيقنا هناك وجوب الكل عليه فلا يسقط إلا باليقين، وهنا تيقنا أن الجميع لم يجب عليه إنما وجب شئ واحد، واشتبه
فيجتهد كالأواني والقبلة اه‍. وهذا أوجه. ثم شرع في النوع الثاني من الضرب الثاني بقوله: (وإن لم يعلقه) الناذر (بشئ كلله)
أي كقوله ابتداء الله (على صوم أو حج أو غير ذلك لزمه) ما التزمه (في الأظهر) لعموم الأدلة المتقدمة، والثاني لا
لعدم العوض.
تنبيه: لو علق النذر بمشيئة الله تعالى أو مشيئة زيد لم يصح، وإن شاء زيد لعدم الجزم اللائق بالقرب. نعم إن
قصد بمشيئة الله التبرك أو وقع حدوث مشيئة زيد نعمة مقصودة كقدوم زيد في قوله: إن قدم زيد فعلي كذا فالوجه
الصحة كما صرح به الأذرعي في الأولى وشيخنا في الثانية.
فائدة: الصيغة إن احتملت نذر اللجاج ونذر التبرع رجع فيها إلى قصد الناذر، فالمرغوب فيه تبرر والمرغوب
عنه لجاج، وضبطوا ذلك بأن الفعل إما طاعة أو معصية أو مباح والالتزام في كل منها تارة يتعلق بالاثبات وتارة بالنفي
فالاثبات في الطاعة كقوله: إن صليت فعلي كذا يحتمل التبرر بأن يريد إن وفقني الله للصلاة فعلي كذا، واللجاج
بأن يقال له: صل، فيقول: لا أصلي وإن صليت فعلي كذا، والنفي في الطاعة كقوله وقد منع من الصلاة: إن
لم أصل
فعلي كذا لا يتصور إلا لجاجا فإنه لا يبر في ترك الطاعة، والاثبات في المعصية كقوله وقد أمر بشرب الخمر: إن شربت
الخمر فعلي كذا يتصور لجاجا فقط والنفي في المعصية كقوله: إن لم أشرب الخمر فعلي كذا يحتمل التبرر بأن يريد
إن عصمني الله من الشرب فعلي كذا، واللجاج بأن يمنع من الشرب، فيقول: إن لم أشرب فعلي كذا يريد إن أعانني
الله على كسر شهوتي فعلي كذا، وفي الاثبات كقوله: إن أكلت كذا فعلي كذا يريد إن يسر الله لي فعلي كذا.
واللجاج في النفي كقوله: وقد منع من أكل الخبز إن لم آكله فعلي كذا، وفي الاثبات كقوله وقد أمر بأكله: وإن
أكلته فعلي كذا. ثم شرع في الركن الثالث وهو المنذور وبين حكمه بقوله: (ولا يصح نذر معصية) كالقتل والزنا
وشرب الخمر لحديث: لا نذر في معصية الله تعالى رواه مسلم، ولخبر البخاري المار: من نذر أن يطيع الله فليطعه
356

ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه فلا تجب كفارة إن حنث. وأجاب المصنف عن خبر: لا نذر في معصية وكفارته
كفارة يمين بأنه ضعيف وغيره يحمله على نذر اللجاج. ومحل عدم لزومها بذلك كما قال الزركشي: إذا لم ينو به اليمين
كما اقتضاه كلام الرافعي آخرا، فإن نوى به اليمين لزمه الكفارة بالحنث.
تنبيه: أورد في التوشيح إعتاق العبد المرهون. فإن الرافعي حكى عن التتمة أن نذره منعقد إن نفذنا عتقه
في الحال أو عند أداء المال، وذكر في الرهن أن الاقدام على عتق المرهون لا يجوز، فإن تم الكلامان كان نذرا في
معصية منعقدا. واستثنى غيره ما لو نذر أن يصلي في أرض مغصوبة صح النذر ويصلي في موضع آخر. كذا ذكره
البغوي في تهذيبه، وصرح باستثنائه الجرجاني في إيضاحه ولكن جزم المحاملي بعدم الصحة، ورجحه الماوردي
وكذا البغوي في فتاويه. وهذا هو الظاهر الجاري على القواعد. وقال الزركشي: إنه الأقرب، ويتأيد بالنذر في الأوقات
المكروهة فإنه لا ينعقد على الصحيح. (ولا) يصح نذر (واجب) على العين بطريق الخصوص كما قاله البلقيني:
كالصبح أو صوم أول رمضان لأنه واجب بإيجاب الشرع ابتداء فلا معنى لايجابه، أما واجب العين بطريق العموم
فيصح كما إذا نذر الوضوء لكل صلاة، فإذا توضأ لصلاة عن حدث خرج به عن واجب الشرع والنذر كما جزم به في
أصل الروضة، أما واجب الكفاية فالأصح لزومه بالنذر كما في أصل الروضة، سواء احتيج فيه إلى بذل مال ومقاساة
مشقة كالجهاد وتجهيز الموتى أم لا كصلاة الجنازة والامر بالمعروف والنهي عن المنكر.
تنبيه: شمل كلامهم الواجب المخبر الذي هو الاحد المبهم وهو ظاهر لأنه في الحقيقة من هذه الجهة واجب عينا،
ولو نذر خصلة معينة من خصاله هل ينعقد كفرض الكفاية أو لا ينعقد إلا أعلاها بخلاف العكس أو لا ينعقد
بالكلية؟
رجح شيخنا الأول، والزركشي الثاني، وقال: إنه القياس، والقاضي الثالث وهو أوجه، لأن الشارع نص على التخيير
فلا يغير. (ولو نذر فعل مباح) كأكل ونوم (أو تركه) كأن لا يأكل الحلوى (لم يلزمه) الفعل ولا الترك لخبر
أبي داود: لا نذر إلا فيما ابتغى به وجه الله تعالى، ولخبر البخاري عن ابن عباس: بينما النبي (ص) يخطب إذ رأى
رجلا قائما في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يصوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم، قال: مروه
فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه. وأجابوا عن حديث المرأة التي قالت للنبي (ص) حين قدم المدينة:
إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف، فقال لها: أوف بنذرك، بأنه لما حصل السرور للمسلمين بقدومه (ص)
وأغلظ الكفار، وأرغم المنافقين كان من القرب، ولذلك استحب ضربه في النكاح ليخرج عن معنى
السفاح. وفسر في الروضة وأصلها المباح بمالا يرد فيه ترغيب ولا ترهيب، وزاد في المجموع على ذلك: واستوى فعله
وتركه شرعا كنوم وأكل، وسواء أقصد بالنوم النشاط على التهجد، وبالاكل التقوى على العبادة أم لا. وإنما لم
يصح في القسم الأول كما اختاره الأذرعي وصوبه الزركشي لأن الفعل غير مقصود والثواب على القصد لا الفعل، وأما
النكاح فقد مر في بابه أنه لا يلزم بالنذر وجرى عليه ابن المقري هنا، وإن خالف فيه بعض المتأخرين إذا كان مندوبا.
وفي فتاوى الغزالي إن قول البائع للمشتري إن خرج المبيع مستحقا فلله علي أن أهبك ألفا لغو لأن المباح لا يلزم
بالنذر لأن الهبة وإن كانت قربة في نفسها إلا أنها على هذا الوجه ليست قربة ولا محرمة فكانت مباحة كذا قاله ابن
المقري، والأوجه كما قال شيخنا انعقاد النذر وأي فرق بينه وبين قوله: إن فعلت كذا فلله علي أن أصلي ركعتين؟. ثم
استدرك على عدم لزوم نذر المباح بقوله (لكن إن خالف لزمه كفارة يمين على المرجح) في المذهب كما في المحرر لأنه
نذر في غير معصية الله تعالى. لكن الأصح كما في الروضة والشرحين وصوبه في المجموع أنه كفارة فيه لعدم
انعقاده. فإن قيل: يوافق الأول ما في الروضة وأصلها من أنه لو قال: إن فعلت كذا فلله علي أن أطلقك أو أن آكل
الخبز، أو لله علي أن أدخل الدار فإن عليه كفارة في ذلك عند المخالفة. أجيب بأن الأولين في نذر اللجاج وكلام المتن
في نذر التبرر وأما الأخيرة فلزوم الكفارة فيها من حيث اليمين لا من حيث النذر.
357

تنبيه: سكت المصنف عن نذر المكروه كصوم الدهر غير العيد والتشريق لمن خاف به ضررا أو فوت حق هل
ينعقد أو لا. قال في المجموع: ينعقد ويلزم الوفاء به بلا خلاف. قال الزركشي: وليس كما قال بل كلام المتولي يفهم
عدم الانعقاد، وأشار إليه الرافعي تفقها لأن النذر تقرب، والمكروه لا يتقرب به، وهذا هو المختار اه‍. وهذا ظاهر
لأن المباح لا ينعقد، فالمكروه بطريق الأولى، أما إذا لم يخف به فوت حق ولا ضرر عليه فينعقد، فإذا نذر
صوما
بعده لم ينعقد لأن الزمن مستحق لغيره، ويستثنى من صحة نذر صوم الدهر رمضان أداء وقضاء والعيدان وأيام
التشريق والحيض والنفاس وكفارة تقدمت نذره، فإن تأخرت عنه صام عنها وفدى عن النذر، ويقضي فائت
رمضان، ثم إن كان فواته بلا عذر فدى عن صوم النذر قضاء ما يفطره من الدهر، فإن أفطر فيه، فإن كان لعذر
كسفر ومرض فلا فدية عليه، وإن كان سفر نزهة وإلا وجبت الفدية عليه لتقصيره، ولو أراد وليه الصوم عنه حيا
لم يصح، سواء أكان برا أم لا عجز أم لا على المعتمد، ولو منع المرأة زوجها من صوم الدهر المنذور بحق سقط الصوم
عنها ولا فدية أو بغير حق فلا يسقط الصوم عنها وعليها الفدية إن لم تصم، وإن أذن لها فيه فلم تصم تعديا فدت.
فروع: لا ينعقد نذر صوم يوم الشك ولا الصلاة في الأوقات المكروهة في غير حرم مكة، وإن صح فعل
المنذور فيهما، ولا نذر التيمم لأنه إنما يؤتى به عند الضرورة، ويؤخذ من ذلك أنه إذا كان لغير ضرورة كالتيمم عن الغسل
المندوب أنه يصح، ولا يصح نذر الغسل لكل صلاة بناء على الأصح من أنه لا يسن تجديده وإن نذر الوضوء صح وحمل على
التجديد المشروع، وهو أن يكون صلى بالأول صلاة ما، وإن نذر لكل صلاة لزمه، ويكفيه في خروجه عن عهد
نذره وضوء الحدث كما مرت الإشارة إليه، ولو نذر صوم رمضان في السفر انعقد إن لم يتضرر به وإلا فلا، أو نذر
القيام في الفرض في المرض إن تضرر بذلك لم ينعقد وإلا انعقد أو نذر القيام في النفل عند عدم الضرر انعقد. ولو
نذر الصوم، وشرط أن لا يفطر في المرض لم يلزمه الوفاء به في المر ض، لأن الواجب بالنذر لا يزيد على الواجب بالشرع،
وإن نذر أن لا يفر من جماعة من الكفار وقدر على مقاومتهم انعقد نذره وإلا فلا، ويشترط في انعقاد نذر القربة
المالية كالصدقة والأضحية الالتزام لها في الذمة أو الإضافة إلى معين يملكه كلله علي أن أتصدق بدينار أو بهذا الدينار،
بخلاف ما لو أضاف إلى معين يملكه غيره كلله علي أن أعتق عبد فلان لخبر مسلم السابق أول الباب، وإن
قال: إن ملكت عبدا، أو إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبدا، أو إن ملكته، أو لله علي أن أشتري عبدا وأعتقه، أو
فعبدي حر إن دخل الدار انعقد نذره، لأنه في غير الأخيرة التزم قربه في مقابلة نعمة، وفي الأخيرة مالك للعبد. وقد
علقه بصفتين الشفاء والدخول، وهي مستثناة مما يعتبر فيه علي. ولو قال: إن ملكت عبدا أو إن شفى الله مريضي
وملكت عبدا فهو حر لم ينعقد نذره. لأنه لم يلتزم التقرب بقربة، بل علق الحرية بشرط وليس هو مالكا. قال
البلقيني: فلغا. ولو قال: إن ملكت أو شفى الله مريضي وملكت هذا العبد فلله علي أن أعتقه أو فهو حر انعقد
نذره في الأولى دون الثانية بشقيها، ولو نذر الإمام أن يستسقي للناس لزمه الخروج بهم في زمن الجدب، وأن يؤمهم
في صلاة الاستسقاء، ويخطب بهم، لأن ذلك هو المفهوم منه، وإن نذر أن يستسقي غير الإمام لزمه صلاة
الاستسقاء،
ولو منفردا، فإن نذر الاستسقاء بالناس لم ينعقد نذره لأنهم لا يطيعونه، كذا في الروضة عن البغوي، وعبارة الجرجاني
عن النص لو نذر غير الإمام أن يستسقي مع الناس كان عليه أن يخرج بنفسه ولم يكن عليه أن يخرج بالناس لأنه
لا يملكهم وهذا لا يخالف ما مر، فقولهم: لم ينعقد نذره، أي بالنسبة لاستسقائه بالناس، وإن نذر أن يخطب وهو من
أهل الخطبة انعقد نذره ولزمه القيام فيها كما في الصلاة المنذورة كما نقله في الروضة عن البغوي وأقره وإن نازع في ذلك
الأذرعي. (ولو نذر) كسوة يتيم لم يجز كسوة يتيم ذمي، لأن مطلق اليتيم في الشرع للمسلم، أو نذر (صوم أيام)
معدودة معينة (ندب تعجيلها) مسارعة إلى براءة الذمة.
تنبيه: محل ندب ذلك، ما إذا لم يكن عليه صوم كفارة سبقت النذر، وهي على التراخي، فإنه كما قال
358

البلقيني: يندب تعجيل الكفارة وتقدم على النذر، فإن كانت الكفارة على الفور وجب تعجيلها، ومحله أيضا كما قال
الأذرعي عند انتفاء المانع، فلو عارضه ما هو أقوى منه كالمجاهد والمسافر تلحقه المشقة بالصوم فالأولى التأخير لزوال
المانع، لا سيما إن وجد ذلك قبل النذر، ولو خشي الناذر أنه لو أخر الصوم عجز عنه مطلقا إما لزيادة مرض لا يرجى
برؤه أو لهرم لزمه التعجيل كما قاله الأذرعي: فإن نذر أياما معينة تعينت على الأصح ولو لم تكن معدودة كلله علي صوم
أيام لزمه ثلاثة، ولو قيدها بكثيرة لأنه أقل الجمع. (فإن قيد) نذر صوم الأيام (بتفريق أو موالاة وجب) ذلك عملا
بالتزامه، أما الموالاة فقطعا، وأما التفريق فعلى الأصح لأنه يراعى في صيام التمتع (وإلا) بأن لم يقيد بتفريق ولا
موالاة (جاز) أي التفريق والموالاة عملا بمقتضى الاطلاق، لكن الموالاة أفضل خروجا من خلاف أبي حنيفة (أو)
نذر صوم (سنة معينة) كسنة كذا أو سنة من الغد، أو من أول شهر كذا (صامها) عن نذره إلا ما ذكره في قوله
(وأفطر) منها (العيد) أي يوميه الفطر والأضحى (والتشريق) وهو ثلاثة أيام بعد يوم النحر وجوبا لأنه غير قابل
للصوم (وصام) شهر (رمضان) منها (عنه) أي رمضان لأنه لا يقبل غيره (ولا قضاء) عليه للنذر لأن هذه الأيام
لو نذر صومها لم ينعقد نذره فإذا أطلق فأولى أن لا تدخل في نذره (وإن أفطرت) أي امرأة في سنة نذرت صيامها (بحيض
ونفاس وجب القضاء) لأيامها (في الأظهر) لأن الزمان قابل للصوم، وإنما فطرت لمعنى فيها فتقضي كصوم رمضان،
وهذا ما رجحه البغوي وصاحب التنبيه والمرشد فتبعهم المحرر (قلت) أخذا من الرافعي في الشرح (الأظهر لا يجب)
قضاء زمن أيامها (وبه قطع الجمهور والله أعلم) لأن أيامهما لا تقبل الصوم فلا تدخل بالنذر كالعيد، واعتمد
البلقيني الأول ونازع في نقل الثاني عن الجمهور.
تنبيه: الاغماء في ذلك كالحيض. (وإن أفطر) الناذر من السنة (يوما بلا عذر) أثم، و (وجب قضاؤه) لتفويته
البر باختياره (ولا يجب استئناف سنة) لأن التتابع إنما كان للوقت كما في رمضان، لا لأنه مقصود في نفسه، بل لو
أفطر جميع السنة لم يجب ولاء قضائها.
تنبيه: أفهم كلامه أنه إذا أفطر لعذر لم يجب قضاؤه، واستثنى منه ما لو أفطر بعذر السفر فإنه يجب القضاء على
الأصح لأنه يتعلق بمحض اختياره، وأما أيام المرض التي أفطر فيها، فقضية كلام أصل الروضة أنه لا يجب عليه
قضاؤها وجرى عليه ابن المقري في روضه لأنها غير داخلة في النذر لاستثنائها شرعا، وصحح البلقيني وغيره وجوب
القضاء، وقالوا كما ذكروه في صوم الأثانين اه‍. وهذا أوجه، وفرق ابن كج بينه وبين الحيض بأنه يصح نذر صوم
يومه، أي فهو كعذر السفر بخلاف نذر صوم يوم الحيض وهذا كله إذا لم يشترط في السنة. (فإن شرط) فيها
(التتابع) كلله علي صومها متتابعا (وجب) استئنافها (في الأصح) لأن ذكر التتابع يدل على أنه مقصود والثاني
لا يجب لأن ذكر التتابع مع التعيين لغو (أو) نذر صوم سنة هلالية (غير معينة وشرط) فيها (التتابع وجب)
وفاء بما التزمه (ولا يقطعه) أي التتابع فيها (صوم رمضان عن فرضه وأفطر العيد والتشريق) لاستثناء ذلك
شرعا واحترز بقوله عن فرضه عما لو صام رمضان عن نذر أو قضاء أو تطوع فإنه لا يصح صومه لما مر أنه لا يقبل
غيره وينقطع به التتابع قطعا (ويقضيها) أي المذكورات من رمضان والعيدين والتشريق لأنه التزم صوم
سنة ولم يصمها (تباعا) بكسر أوله: أي ولا (متصله بآخر السنة) عملا بشرط التتابع. وقيل: لا يقضي كالسنة المعينة
359

وأجاب الأول بأن المعين في العقد لا يبدل بغيره، والمطلق إذا عين قد يبدل.
تنبيه: محل الخلاف إذا أطلق اللفظ، فإن نوى الأيام التي تقبل الصوم من سنة متتابعة لم يلزمه القضاء قطعا، وإن
نوى عددا يبلغ سنة كأن قال: ثلاثمائة وستين يوما لزمه القضاء قطعا، قاله المتولي، وإذا أطلق الناذر السنة حملت على
الهلالية، لأنها السنة شرعا. (ولا يقطعه) أي التتابع في السنة لو كان الناذر لها امرأة (حيض) ونفاس: أي زمنهما،
لأنه لا يمكن الاحتراز منه (و) لكنه (في قضائه) ومثله النفاس (القولان) السابقان في قضاء زمن الحيض في السنة
المعينة أظهرهما لا يجب كما مر. قال ابن الرفعة: والأشبه لزومه كما في رمضان، بل أولى وفرضه في الحيض. قال
الزركشي: ومثله النفاس، وإن أفطر لسفر، أو مرض، أو لغير عذر استأنف كفطره في صوم الشهرين المتتابعين
(وإن لم يشرطه) أي التتابع في صوم السنة غير المعينة (لم يجب) أي التتابع فيها لعدم التزامه فيصوم ثلاثمائة وستين
يوما (أو) نذر صوم (يوم الاثنين أبدا لم يقض أثاني رمضان) الواقعة فيه غالبا وهي أربعة جزما لأن النذر لا يشملها
لسبق وجوبها. وأما لو وقع فيه خمسة أثانين ففي قضاء الخامس القولان في العيد كما قال (وكذا العيد والتشريق) إن
اتفق شئ منها يوم الاثنين لا يقضي أبدا (في الأظهر) قياسا على أثاني رمضان. والثاني يقضيها لأن مجئ الاثنين فيما
ذكر غير لازم.
تنبيه: أثاني بياء ساكنة جمع اثنين كما صوبه في المجموع، وهو المحكي عن سيبويه أيضا، لكن في الصحاح أن
يوم الاثنين لا يثنى ولا يجمع، فإن أحببت أن تجمعه لأنه صفة للواحد قلت أثانين، واعترضه ابن بري بأنه لم يسمع
أثانين، بل هو من قول الفراء، وعن النحاس أن أثاني بحذف النون أكثر من أثانين بإثباتها. قال الشارح: وكان
وجه حذف النون التبعية لحذفها من المفرد، ووجه إثباتها أنها محل الاعراب بخلافها في المفرد، وظاهر على الحذف
بقاء سكون الياء كما نقل عن ضبط المصنف في الموضعين. (فلو لزمه صوم شهرين تباعا) - بكسر أوله - أي ولاء (لكفارة)
أو لنذر لم يعين فيه وقتا (صامهما ويقضي أثانيهما) لأنه أدخل على نفسه صوم الشهرين (وفي قول لا يقضي إن سبقت
الكفارة النذر) أي نذر صوم الاثنين (قلت: ذا القول أظهر، والله أعلم) نظرا إلى وقت الوجوب، والأول نظرا إلى
وقت الأداء وصوبه الأسنوي.
تنبيه: قول المصنف: الكفارة لو تركه كان أولى ليشمل ما قدرته. (وتقضي) المرأة في نذرها صوم الأثاني
(زمن حيض ونفاس) واقع في الأثاني (في الأظهر) لأنها لم تتحقق وقوعه فيه لم تخرج من نذرها. والثاني المنع
كما في العيد، ويؤخذ من الروضة كأصلها ترجيحه وهو المعتمد، ولعل المصنف سكت عن استدراكه هنا عن المحرر
اكتفاء باستدراكه عليه فيما سبق حيث قال: قلت الأظهر لا يجب ولو كان لها عادة غالبة، فعدم القضاء فيما يقع في
عادتها أظهر، لأنها لا تقصد صوم اليوم الذي لا يقع في عادتها في مفتتح الامر، وتقضي ما فات بالمرض (أو) نذر
(يوما بعينه لم يصم) عنه (قبله) فإن فعل لم يصح كالواجب بأصل الشرع، ولا يجوز تأخير عنه بغير عذر، فإن
أخره وفعله صح وكان قضاء (أو) نذر (يوما) عينه (من أسبوع) أي جمعة (ثم نسيه صام آخره) أي الأسبوع
(وهو الجمعة، فإن لم يكن هو) أي اليوم الذي عينه الجمعة (وقع) صوم يوم الجمعة (قضاء) عنه، وإن كان هو
فقد وفى بما التزمه. قال المصنف في مجموعه: ومما يدل على أن يوم الجمعة آخر الأسبوع ويوم السبت أوله خبر مسلم
360

عن أبي هريرة قال أخذ رسول الله (ص) بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال
يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث الدواب
يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل وخالف ذلك
في تهذيبه وفي مجموعه في صوم التطوع فقال: سمى يوم الاثنين لأنه ثاني الأيام، والخميس لأنه خامس الأسبوع،
وهو صريح في أن أوله الاحد فيكون آخره السبت، وبه جزم القفال. قال في المهمات: والصواب الأول للخبر
المذكور. قال الزركشي: لكنه حديث تكلم فيه علي بن المديني والبخاري وغيرهما من الحفاظ وجعلوه من كلام
كعب، وأن أبا هريرة إنما سمعه منه ولكنه اشتبه على بعض الرواة فجعله مرفوعا، ونقل البيهقي أنه مخالف لما عليه
أهل السنة والتواريخ من أن بدء الخلق إنما هو في يوم الأحد لا في السبت، ويدل عليه حديث ابن عباس: خلق الأرض
يوم الأحد والمعتمد كما قال شيخنا الأول، وقال الزركشي بعد نقله الخلاف: وينبغي على هذا أن لا تبرأ ذمته بيقين
حتى يصوم الجمعة والسبت خروجا من الخلاف وقال في المطلب: يجوز أن يقال يلزمه جميع الأسبوع لقول الماوردي:
لو نذر الصلاة ليلة القدر لزمه أن يصلي تلك الصلاة في جميع الليالي العشر لأجل الابهام، ولو صح ما قاله المصنف
لكان يصليها في آخر ليلة من رمضان.
تنبيه: يؤخذ مما ذكره المصنف أن نذر صوم يوم الجمعة منفردا ينعقد، وبه قال بعض المتأخرين، وهو إنما يأتي
على قول صحة نذر المكروه كما مر عن المجموع، وأما على المشهور في المذهب من أن نذر المكروه لا يصح كما مر
فلا يأتي إلا أن يؤول بأنه كان نذر صوم يومين متواليين وصام أحدهما ونسي الآخر فإنه حينئذ لا كراهة ويصدق عليه
أنه نذر صوم يوم من أسبوع ونسيه، وهذا تأويل ربما يتعين، ولا يتوقف فيه إلا قليل الفهم أو معاند. (ومن شرع في
صوم نفل) أو في صلاته، أو طوافه، أو اعتكافه كما صرح به الدارمي وغيره (فنذر إتمامه لزمه على الصحيح) لأن
النفل عبادة فصح التزامه بالنذر ويلزمه الاتمام. والثاني لا يلزمه، لأن الشرع مكنه من إبطاله بعد انعقاده، وهذا
يقتضي أن الخلاف كما قال المتولي في الانعقاد، وكلام المصنف يقتضي أنه في اللزوم.
تنبيه: محل اللزوم في الصوم إذا نوى من الليل، فإن نوى من النهار قبل الزوال، ففي انعقاد نذره ولزومه الوفاء
به قولان. قال الإمام: والذي أراه اللزوم وأقره الرافعي، وهو ظاهر إطلاق المصنف، وعلى هذا ليس لنا صوم
واجب يصح بنية النهار إلا هذا. وقال في البيان: المشهور عدم الانعقاد. وقال البلقيني: إنه الصحيح. قال: وعبارة المحرر
تفهمه لقوله: من أصبح صائما عن تطوع. (وإن نذر بعض يوم لم ينعقد) نذره، لأنه ليس بقربة (وقيل) ينعقد و (يلزمه
يوم) لأن صوم بعض اليوم ليس معهودا شرعا فلزمه يوم كامل.
تنبيه: يجري هذا الخلاف فيمن نذر بعض ركعة، وإن نذر بعض نسك فينبغي أن ينبني على ما لو أحرم ببعض
نسك وقد مر في بابه أنه ينعقد نسكا كالطلاق، وإن نذر بعض طواف فينبغي بناؤه، هل يصح التطوع بشئ منه؟
وقد نص في الام على أنه يثاب عليه، كما لو صلى ركعة ولم يضف إليها أخرى، وإن نذر سجدة لم يصح نذره،
لأنها ليست قربة بلا سبب بخلاف سجدتي التلاوة والشكر، ولو نذر الحج في عامه وهو متعذر لضيق الوقت كأن كان
على مائة فرسخ ولم يبق إلا يوم واحد لم ينعقد نذره، لأنه لا يمكنه الاتيان بما التزمه. (أو) نذر أن يصوم (يوم قدوم
زيد فالأظهر انعقاده) لامكان الوفاء به. والثاني لا، لتعذر الوفاء به، وأجاب الأول بأنه يعلم قدومه غدا فينوي صومه
ليلا (فإن قدم) زيد (ليلا أو يوم عيد) أو تشريق (أو في رمضان فلا شئ عليه) لأنه قيد باليوم ولم يوجد القدوم
في محل يقبل الصوم.
تنبيه: لو أراد باليوم الوقت أو لم يرده فقدم زيد ليلا استحب للناذر أن يصوم صبيحة ذلك اليوم، لأجل
361

خلاف من أوجبه كما قاله الماوردي، أو يوما آخر شكرا لله تعالى كما قاله الرافعي. (أو) قدم زيد (نهارا وهو) أي
الناذر (مفطر أو صائم قضاء أو نذرا وجب) في الأحوال المذكورة (يوم آخر) قضاء (عن هذا) المنذور وهو صوم
يوم قدوم زيد، كما لو نذر صوم يوم ففاته، ويسن قضاء الصوم الواجب الذي هو فيه أيضا، لأنه بان أنه صام يوما
مستحق الصوم لكونه يوم قدوم زيد، وللخروج من الخلاف. قال الرافعي في التهذيب: وفي هذا دليل على أنه إذا
نذر صوم يوم بعينه ثم صامه عن نذر آخر أو قضاء ينعقد: أي مع الاثم ويقتضي نذر هذا اليوم.
تنبيه: دخل في قوله مفطر إفطاره بتناوله مفطرا، أو بعدم النية من الليل. نعم إن أفطر لجنون طرأ عليه فلا قضاء
كما قاله الماوردي وغيره، وإذا أوجبنا عليه القضاء هل يتبين وجوب الصوم من أول يوم القدوم وأنه إنما وجب من
وقت القدوم ولا يمكن قضاؤه إلا بيوم كامل؟. الأصح الأول. وفائدة الخلاف تظهر في صور منها ما لو نذر اعتكاف
يوم قدوم زيد فقدم نهارا، لكن الأصح هنا يلزمه اعتكاف بقية النهار وإن اقتضى ما ذكر لزوم يوم وتبين وقوع العتق
والطلاق المعلق كل منهما بقدومه من أول اليوم فإن سبق فيه بيع العبد في الأولى وموت أحد الزوجين في الثانية قبل قدوم
زيد فالبيع باطل في الأولى لتبين حرية العبد، ولا إرث إن كان الطلاق المعلق بائنا، فإن قدم ليلا أو بعد اليوم
صح ما ذكر، خرج بقوله: قضاء أو نذرا ما لو صامه عن القدوم بأن تبين له أنه يقدم غدا بخبر ثقة مثلا فبيت الصوم والأصح
الاجزاء لبنائه على أصل مظنون. (أو) قدم زيد (وهو) أي الناذر (صائم نفلا) وقدوم زيد قبل الزوال (فكذلك) يجب
صوم يوم آخر عن نذره في الأصح، لأنه لم يأت بالواجب عليه بالنذر، والنفل لا يقوم مقام الفرض، وهذا بناء على الأصح
في لزوم الصوم من أول النهار (وقيل) لا، بل (يجب تتميمه) بقصد كونه عن النذر (ويكفيه) عن نذره بناء على
أن لزوم الصوم من وقت قدومه، ويكون أوله تطوعا وآخره فرضا كمن دخل في صوم تطوع ثم نذر إتمامه (ولو
قال إن قدم زيد فلله علي صوم اليوم التالي ليوم قدومه، وإن قدم عمرو فلله علي صوم أول خميس بعده) أي بعد
قدومه (فقدما) أي زيد وعمرو (في الأربعاء وجب صوم الخميس عن أول النذرين) لسبقه (ويقضي الآخر) لتعذر
الاتيان به في وقته، فلو صام الخميس عن النذر الثاني أثم وصح في الأصح لما مر أنه يصح صوم يوم النذر عن غيره
ويقضي يوما آخر من النذر الآخر، وكلام المصنف يقتضي خلافه.
تنبيه: لو قال إن قدم زيد فلله علي أن أصوم أمس قدومه صح نذره على المذهب المجموع، هكذا نقله ابن شهبة،
ونقل شيخنا أنه قال: لم يصح على المذهب، ثم قال: ما نقل عنه من أنه قال يصح نذره على المذهب سهو اه‍. ولعل
نسخه مختلفة، وبالجملة فالمعتمد الصحة، لأنه قد يعلم بأخبار ثقة مثلا كما مر. قال الأذرعي: كلام الأئمة ناطق
بأن هذا النذر المعلق بالقدوم نذر شكر على نعمة القدوم، فلو كان قدومه لغرض فاسد للناذر كامرأة أجنبيه يهواها
أو أمرد يعشقه أو نحوهما فالظاهر أنه لا ينعقد كنذر المعصية، وهذا كما قال شيخنا سهو منشؤه اشتباه الملتزم به
بالمعلق والذي يشط كونه قربة الملتزم لا المعلق به والملتزم هنا الصوم، وهو قربة فيصح نذره، سواء أكان المعلق به
قربة أم لا.
فصل: في نذر حج أو عمرة أو هدي أو غيرها مما يأتي. إذا (نذر المشي إلى بيت الله) تعالى وقصد البيت
الحرام، وهو الكعبة أو صرح بلفظ الحرام في هذه المسألة والتي بعدها كما في الروضة (أو) لم ينذر المشي لبيت الله
بل نذر (إتيانه) فقط (فالمذهب وجوب إتيانه بحج أو عمرة) لأن الله تعالى أوجب قصده بنسك فلزم بالنذر كسائر
362

القرب، وفي قول من طريق لا يجب ذلك حملا للنذر على جائز الشرع، والأول يحمله على واجبه، أما إذا لم يقل البيت
الحرام في المسألتين ولا نواه أو نذر أن يأتي عرفات، ولم ينو الحج لم ينعقد نذره، لأن بيت الله تعالى يصدق ببيته الحرام
وبسائر المساجد ولم يقيد بلفظ ولا نية، وعرفات من الحل فهي كبلد آخر، ولو نذر إتيان مكان من الحرم كالصفا
أو المروة أو مسجد الخيف أو منى أو مزدلفة أو دار أبي جهل أو الخيزران لزمه إتيان الحرم بحج أو عمرة، لأن القربة
إنما تتم في إتيانه بنسكه، والنذر محمول عن الواجب كما مر، وحرمة الحرم شاملة لجميع ما ذكر من الأمكنة ونحوها
في تنفير الصيد وغيره، ولو قال في نذره: بلا حج ولا عمرة لزمه أيضا ويلغو النفي، وإن صحح البلقيني عدم
الصحة
معللا لها بأنه صرح بما ينافيه، ولو نذر المشي أو الاتيان لبيت المقدس أو المدينة الشريفة لم يلزمه ذلك ويلغو نذره،
لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك فلم يجب إتيانه بالنذر كسائر المساجد، ويفارق لزوم الاعتكاف فيها بالنذر بأن
الاعتكاف عبادة في نفسه، وهو مخصوص بالمسجد فإذا كان للمسجد فضيلة في العبادة الملتزمة فالاتيان بخلافه.
تنبيه: إنما جمع المصنف بين المشي والاتيان للتنبيه على خلاف أبي حنيفة، فإنه وافق في المشي وخالف في
الاتيان، وقال: إنه غير مراد للقربة بخلاف المشي، وهو محجوج بقوله تعالى * (يأتوك رجالا وعلى كل ضامر) * فجعل
الركوب صفة له كالمشي. (فإن نذر الاتيان) إلى بيت الله الحرام أو الذهاب أو نحو ذلك (لم يلزمه مشي) لأن ذلك
لا يقتضي المشي، بل له الركوب قطعا (وإن نذر المشي) إلى بيت الله الحرام (أو أن يحج أو يعتمر ماشيا) وهو قادر على المشي
(فالأظهر وجوب المشي) لأنه الملتزم جعله وصفا للعبادة فهو كما لو نذر أن يصوم متتابعا. أما العاجز فلا يلزمه مشي،
ولو قدر عليه بمشقة شديدة لم يلزمه أيضا كما ذكره الزركشي. والثاني لا يلزم القادر أيضا، لأنه لم يجب في جنسه مشى
بالشرع فلا يجب بالنذر.
تنبيه: أصل الخلاف مبني على أن الركوب في الحج أفضل أو المشي؟. وفيه أقوال: أظهرها عند المصنف أفضلية
الركوب لأنه (ص) حج راكبا، ولان فيه زيادة مؤنة وإنفاق في سبيل الله تعالى. والثاني أفضلية المشي،
وصححه الرافعي لزيادة المشقة، والاجر على قدر التعب، وأجيب عن حجه (ص) راكبا بأنه لو مشى في حجه
لمشى جميع من معه، ولا شك أن فيهم من يشق عليه المشي معه إلا بجهد فأراد أن لا يشق على أمته. والثالث هما سواء
لتعارض المعنيين، إذا عرفت هذا فما صححه المصنف من وجوب المشي واضح على تفضيله على الركوب. أما على ما رجحه،
هو من أفضلية الركوب فلا يجب المشي، وهو ما اقتضى كلام الروضة في النوع الثاني من أنواع النذر ترجيحه فإنه قال:
كما يلزم أصل العبادة بالنذر يلزم الوفاء بالصفة المستحبة فيها إذا شرطت كمن شرط المشي في الحج الملتزم إذا قلنا المشي
في الحج أفضل من الركوب اه‍. ونقله في المجموع في أوائل النذر بهذا اللفظ، وهو ناص على أنه لا يلزمه المشي المشروط
إلا إذا جعلنا المشي أفضل من الركوب، لكنه قال في الكلام على المسألة هنا من الروضة بعد موافقته للرافعي على لزوم
المشي: الصواب أن الركوب فضل وإن كان الأظهر لزوم المشي بالنذر لأنه مقصود والله أعلم اه‍. واعترض بأنه
كيف يكون مقصودا مع كونه مفضولا، ولئن سلم كونه مقصودا فلا يمنع العدول إلى الاعلى كما في زكاة الفطر وكما لو
نذر الصلاة قاعدا فصلى قائما قال ابن شهبة: قيل ويمكن أن يقال الركوب والمشي نوعان للعبادة فلم يقم أحدهما
مقام الآخر وإن كان أحدهما أفضل كما لو نذر أن يتصدق بالفضة لا تبرأ ذمته بالتصدق بالذهب وإن كان أفضل كما
نقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام اه‍. وهذا أحسن ما يجاب به عن المصنف. (فإن كان قال) في نذره (أحج
ماشيا) أو أمشي حاجا وأطلق كما بحثه في المجموع (فمن) أي يلزمه المشي من (حيث يحرم) من الميقات أو قبله
أو بعده، لأنه التزم المشي في الحج وابتداء الحج من وقت الاحرام، فإن صرح بالمشي من دويرة أهله لزمه (وإن
قال) في نذره (أمشي إلى بيت الله تعالى) الحرام أو إلى الحرم ماشيا (فمن دويرة أهله) يمشي (في الأصح) لأن
363

قضية ذلك أن يخرج من بيته ماشيا، لأنه مدلول لفظه. والثاني يمشي من حيث يحرم كما مر.
تنبيه: كان الأولى أن يقول الحرام كما قدرته في كلامه وإلا فمطلق بيت الله لا يوجب شيئا كما مر. (وإذا أوجبنا
المشي) على الناذر (فركب لعذر) وهو أن يناله به مشقة ظاهرة كما قالوه في العجز عن القيام في الصلاة قاله في
المجموع (أجزأه) نسكه راكبا عن نذره ماشيا قطعا لما في الصحيحين: أنه (ص) رأى رجلا يهادي بين
ابنيه فسأل عنه فقالوا نذر أن يحج ماشيا فقال: إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه وأمره أن يركب (وعليه دم في الأظهر)
لتركه الواجب. والثاني لا دم عليه كما لو نذر الصلاة قائما فصلى قاعدا للعجز، وفرق الأول بأن الصلاة لا تجبر بالمال
بخلاف الحج، واحترز بقوله: إذا أوجبنا المشي عما إذا لم نوجبه فإنه لا يجبر تركه بدم (أو) ركب (بلا عذر أجزأه)
الحج راكبا (على المشهور) مع عصيانه، لأنه لم يترك إلا هيئة التزمها وتركها لا يمنع من الاحتساب فصار كترك
الاحرام من الميقات. والثاني لا يجزئه، لأنه لم يأت بما التزم. وقوله (وعليه دم) يقتضي أنه لا خلاف فيه، وليس
مرادا، بل إنما يلزمه على المشهور، فلو قدمه عليه عاد إليهما لأنه إذا أوجبناه مع العذر فبدونه أولى. والثاني لا دم عليه
لما مر، والدم في المسألتين شاة تجزئ في الأضحية.
تنبيه: حيث أوجبنا المشي فحتى يفرغ من نسكه أو يفسده وفراغه من حجه بفراغه من التحللين، ولا يجب عليه
أن يستمر حتى يرمي أو يبيت لأنهما خارجان من الحج خروج السلام الثاني من الصلاة. وما في التنبيه من توقفه على
الرمي ضعيف، بل قال في المجموع إنه خطأ. قالا: والقياس أنه إذا كان يتردد في خلال أعمال النسك لغرض تجارة
أو غيرها فله الركوب ولم يذكروه، ولو فاته الحج أو إن أفسده لزمه القضاء ماشيا، ولا يلزمه المشي في أعمال تحلل
الفوات، ولا في النسك الفاسد، لأنه خرج بالفساد والفوات عن ما يجزئه عن نذره.
تنبيه: لو قال لله على رجلي الحج ماشيا لزمه إلا إن أراد إلزام رجليه خاصة وإن ألزم رقبته أو نفسه ذلك لزمه
مطلقا لأنهما كنايتان عن الذات وإن قصد التزامهما، ولو نذر الحج حافيا لزمه الحج ولا يلزمه الحفاء، بل له أن يلبس
النعلين في الاحرام ولا فدية عليه قطعا، لأنه ليس بقربة. قال في المهمات: وينبغي أن يلزمه الحفاء في الموضع الذي
يستحب فيه، وهو عند دخول مكة: أي إذا أمن من تلويث نجاسة ولم يحصل مشقة، ويندب الحفاء أيضا في الطواف.
(ومن نذر حجا أو عمرة لزمه فعله بنفسه) إن كان قادرا (فإن كان معضوبا) وهو العاجز عن الحج بنفسه (استناب)
غيره في ذلك ولو بأجرة أو جعل كما في حجة الاسلام.
تنبيه: قال المتولي في كتاب الحج إذا كان المعضوب بمكة أو دون مرحلتين منها لم تجز الاستنابة، لأن
المشقة لا تكثر عليه وأقره المصنف هناك فليكن هنا كذلك. وفي فتاوى البغوي لو نذر المعضوب الحج بنفسه لم
ينعقد. قال: بخلاف ما لو نذر الصحيح الحج بماله فإنه ينعقد، لأن المعضوب أيس من الحج بنفسه، والصحيح لم
ييأس من الحج بماله. قال: فإن برئ المعضوب لزمه الحج، لأنه بان أنه غيره. مأيوس. (ويندب) للناذر (تعجيله
في أول) سني (الامكان) مبادرة إلى براءة الذمة، فإن خشي العضب لو أخر لزمته المبادرة كما في حجة الاسلام (فإن
تمكن) من التعجيل (فأخر فمات حج من ماله) لتقصيره، أما إذا مات قبل أن يتمكن فلا شئ عليه كحجة
الاسلام، والعمرة في ذلك كالحج (وإن نذر الحج عامه وأمكنه) فعله فيه بأن كان على مسافة يمكنه منها الحج في ذلك
العام (لزمه) فيه تفريعا على الصحيح في تعيين الزمان في العبادات، فلا يجوز تقديمها عليه كالصوم ولا تأخيرها عنه،
فإن أخره وجب عليه القضاء في العام الثاني كما قاله الماوردي. واحترز بقوله: عامة عما إذا لم يقيده بعامه فيلزمه في أي
عام شاة، وبقوله: وأمكنه عما إذا نذر حج السنة ولا زمان يسع الاتيان به، فإنه لا ينعقد نذره على الأصح لتعذر اللزوم.
364

تنبيه: ما ذكره المصنف فيمن حج حجة الاسلام، فإن لم يحج حجة الاسلام فإنه يلزمه للنذر حج آخر كما لو نذر
أن يصلي عليه وعليه صلاة الظهر فتلزمه صلاة أخرى، ويقدم حجة الاسلام على حجة النذر، ومحل انعقاد نذره ذلك أن ينوي
غير كما قاله الماوردي الفرض، فإن نوى الفرض لم ينعقد كما لو نذر الصلاة المكتوبة أو صوم رمضان، وإن أطلق فكذلك إذ لا ينعقد
نسك محتمل (فإن منعه مرض وجب القضاء) كما لو نذر صوم سنة معينة فأفطر فيها بعذر
المرض، فإنه يقضي، والنسيان وخطأ الطريق والضلال فيه كالمرض.
تنبيه: محل القضاء إذا منعه المرض بعد الاحرام، فإن كان مريضا وقت خروج الناس ولم يتمكن من الخروج
معهم أو لم يجد رفقة وكان الطريق مخوفا لا يتأتى للآحاد سلوكه فلا قضاء عليه، لأن المنذور حج في تلك السنة ولم يقدر
عليه كما لا تستقر حجة الاسلام والحالة هذه. هذا ما في الروضة كأصلها في هذه المسألة، ونازع البلقيني في اشتراط كون
ذلك بعد الاحرام وقال إنه مخالف لنص الام اه‍. ومحل وجوب القضاء على الأول إذا لم يحصل بالمرض غلبة على العقل،
فإن غلب على عقله عند خروج القافلة ولم يرجع إليه عقله في وقت لو خرج فيه أدرك الحج لم يلزمه قضاء الحجة المنذورة
كما قاله البلقيني كما لا تستقر حجة الاسلام والحالة هذه في ذمته كما نص عليه في الام بالنسبة لحجة الاسلام. (أو) منعه
بعد الاحرام (عدو) أو سلطان وحده أو رب دين لا يقدر على وفائه حتى مضى إمكان الحج تلك السنة (فلا)
قضاء عليه (في الأظهر) لمكان العذر، ويفارق المرض لاختصاصه بجواز التحلل به من غير شرط بخلاف المرض.
والثاني وهو من تخريج ابن سريج أنه يجب، لأن باب النذر أوسع من واجب الشرع، ولهذا لو نذر حجات كثيرة
لزمته، ولا يجب بالشرع إلا حجة واحدة، أما إذا صده عدو أو سلطان صدا عاما بعد ما أحرم. قال الإمام: أو امتنع عليه
الاحرام للصد فلا قضاء على المنصوص، وقد علم من هذا التقرير أن الفرق بين الصد العام والخاص إنما هو من
حيث الخلاف لا من حيث الحكم، فإن هذا المحل تتوقف فيه الطلبة في كلام الشارح، فإنه ساق الكلامين ولم يقيد
بعام ولا خاص فتنبه له.
تنبيه: لو نذر أن يحج عشر حجات مثلا ومات بعد سنة. وقد تمكن من حجة فيها قضيت من ماله وحدها.
والمعضوب يستنيب في العشر فقد يتمكن من الاستنابة فيها في سنة فيقضي العشر من ماله، فإن لم يف ماله بها لم
يستقر إلا ما قدر عليه. (أو) نذر (صلاة أو صوما في وقت) معين لم ينه عن فعل ذلك فيه (فمنعه) من ذلك (مرض
أو عدو وجب القضاء) لتعين الفعل في الوقت فإن قيل: هلا كان ذلك كالحج فلا يجب فيه القضاء كما
مر فيه؟. أجيب بأن الواجب بالنذر كالواجب بالشرع، وقد تجب الصلاة والصوم مع العجز فلزما بالنذر، والحج
لا يجب إلا عند الاستطاعة فكذا حكم النذر. فإن قيل: كيف يتصور المنع من الصوم والصلاة فإن الصوم لا سبيل
فيه إلى المنع من النية فإنها بالقلب. وإن أكره على الفطر لم يفطر على الأصح والصلاة يمكن فعلها مع الاكراه بإمرار
أفعالها على قلبه في الوقت المعين ويقضي لأن ذلك عذر نادر كما في الواجب بالشرع. أجيب عن الأول بأن ذلك
يتصور بالأسير كما قاله في المجموع يأكل خوفا من القتل. وعن الثاني بأن يأتي بالصلاة على التلبس بها على غير طهارة
أو نحوها. فإن قيل: قولهم إن الواجب بالنذر كالواجب بالشرع يشكل عليه أنه لو نذر صلاة في يوم بعينه فأغمي عليه
لزمه القضاء وإن لم يلزمه قضاء صلوات ذلك اليوم. أجيب بأن هذا مستثنى كبقية المستثنيات، أما إذا نذر الصلاة
في أوقات النهي في غير حرم مكة أو الصوم في يوم الشك فقد مر أن نذره لم ينعقد وإن صح فعل المنذور فيهما
.
(أو) نذر (هديا) أي أن يهدي شيئا سماه من نعم أو غيرها كأن قال: لله علي أن أهدي شاة أو ثوبا إلى مكة أو الحرم (لزمه حمله إلى مكة)
أو الحرم لأنه محل الهدي (و) لزمه (التصدق به على من بها) من الفقراء والمساكين
من المسلمين غريبا كان أو مستوطنا فيمتنع بيعه وتفرقة ثمنه وينزل بعينه منزلة الأضحية والشاة في الزكاة وإن كان
365

الحيوان لا يجزئ في الأضحية كالظبا لزمه التصدق به حيا، فإن ذبحه لم يجز إذ لا قربة في ذبحه لعدم إجزائه أضحية
وغرم الأرش إن نقصت قيمته بالذبح وتصدق باللحم، وإن كان مما يجزئ في الأضحية لزمه ذبحه في أيام النحر وتفرقة
لحمه على من ذكر. وتعبيره بالهدي قد يوهم اختصاص ذلك بالإبل والبقر والغنم وليس مرادا، فلو قال شيئا كما قدرته
في كلامه كان أولى. وكان ينبغي التعبير بالحرم بدلا عن مكة ليستغني عما زدته في كلامه فإن حمله لا يتقيد بمكة بل
يعم سائر الحرم. وقوله: حمله يفهم أنه فيما سهل نقله وهو كذلك، أما ما تعذر نقله مما أهداه كالدار أو تعسر كحجر الرحى
فإنه يبيعه بنفسه وينقل ثمنه إلى الحرم من غير مراجعة حاكم ويتصدق به على مساكينه. وهل له إمساكه بقيمته أو لا
فقد يرغب فيه بأكثر منها؟ وجهان: في الكفاية ينبغي الأول إلا أن يظهر راغب بالزيادة. وقوله: والتصدق به يقتضي
الاكتفاء بكون ذلك الشئ مما يتصدق به وإن لم تصح هبته ولا هديته، فيدخل فيه ما لو نذر إهداء دهن نجس بناء على
ما قاله المصنف: من أنه ينبغي أن يقطع بصحة التصدق به بعد حكايته عن القاضي أبي الطيب المنع من ذلك. ويدخل
فيه أيضا جلد الميتة قبل الدباغ لكن قال البلقيني: الأرجح أنه يشترط فيه أن يكون مما يهدى لآدمي اه‍. وهذا أظهر.
ويستثنى من وجوب التصدق به ما لو عسر التصدق به حيث وجب التعميم به كاللؤلؤة والثوب فإنه يباع ويفرق
ثمنه عليهم كما قاله الماوردي وإن كانت قيمته في الحرم ومحل النذر سواء تخير بين حمله وبيعه بالحرم وبين حمل ثمنه،
أو في أحدهما أكثر تعين، وما لو نوى الناذر اختصاص الكعبة بالمنذور فإن كان شمعا أشعله فيها، أو دهنا
أوقده في مصابيحها، أو طيبا طيبها به، أو متاعا لا يستعمل فيها باعه وصرف ثمنه في مصالحها. أما إذا قال لله
علي أن أهدي ولم يسم شيئا أو إن أضحي فإنه يلزمه ما يجزئ في الأضحية حملا على معهود الشرع، فإن عين عن
نذره بدنة أو بقرة شاة تعينت بشروط الأضحية. فلا يجزئ فصيل ولا عجل ولا سخلة. وإن تعيب الهدى المنذور
أو المعين عن نذره تحت السكين عند الذبح لم يجز كالأضحية لأنه من ضمانه ما لم يذبح. وقيل يجزئ وجرى عليه ابن
المقري لأن الهدي ما يهدى إلى الحرم. وبالوصول إليه حصل الاهداء، وعليه مؤنة نقل الهدي إلى الحرم لأنه
محل
الهدي، قال تعالى: * (حتى يبلغ الهدي محله) * فإن لم يكن له مال بيع بعضه لنقل الباقي كما في أصل الروضة ولزمه تفرقة
لحمه فيه على مساكينه. وفي الإبانة أنه إن قال أهدي هذا فالمؤنة عليه وإن قال جعلته هديا فلا يباع منه شئ لأجل
مؤنة النقل. ونسبه في البحر للقفال واستحسنه. قال الرافعي: لكن مقتضى جعله هديا أن يوصله كله الحرم فليلتزم
مؤنته كما لو قال: أهدي اه‍. وهذا هو الظاهر، وعليه أيضا علف الحيوان كما صرح به الماوردي والقاضي الحسين، ولو
نذر أن يهدي شاة مثلا ونوى ذات عيب أو سخلة أجزأه هذا المنوي لأنه الملتزم، ويؤخذ مما مر أنه يتصدق به حيا،
فإن أخرج بدله تاما فهو أفضل.
تنبيه: قد علم مما مر أنه يمتنع إهداء ما ذكر إلى أغنياء الحرم. نعم لو نذر نحره لهم خاصة واقترن به نوع
من القربة كأن تتأسى به الأغنياء لزمه كما قاله في البحر، ويسن لمن أهدى شيئا من البدن أو البقر أن يشعرها، أي
يجرحها بشئ له حد حتى يسيل الدم، والأولى أن يكون في صفحة سنامها اليمنى، وأن يقلدها بعري القرب ونحوها من
الخيوط المفتولة والجلود، ويقلد الغنم ولا يشعرها، والحكمة في ذلك الاعلام بأنه هدي فلا يتعرض له، فإن عطب منها
شئ قبل المحل نحره وجوبا في المنذور، وندبا في غيره، وغمس المقلد به في دمه وضرب به صفحته، وخلى بينه وبين
المساكين، ولا بد من الاذن في التطوع بخلاف المنذور، ولا يجوز له ولا لرفقته الاكل من المنذور، والمراد برفقته
جميع القافلة كما قاله المصنف، فإن لم ينحره حتى مات مع تمكنه ضمنه بالأكثر من قيمته حينئذ ومن مثله، فإن لم
يتمكن من الذبح حتى مات لم يضمنه، ولو نذر أن يضحي ببينة وقيدها بالإبل أو نواها أو أطلق تعينت البدنة من الإبل
لأنها وإن أطلقت على البقر والغنم أيضا كما صححه في المجموع فهي في الإبل أكثر استعمالا، فإن عدمت وقد أطلق
نذره فبقرة، فإن عدمت فسبع شياه كما نص عليه الشافعي، وإن كان ظاهر كلام الروضة أنه يتخير بين البقرة والسبع
شياه، وإن عدمت وقد قيد نذره بها لفظا أو نية وجب عليه أن يشتري بقيمتها بقرة، ويفارق ذلك عدم اعتبار
قيمتها حالة الاطلاق بل اللفظ عند الاطلاق ينصرف إلى معهود الشرع ومعهوده لا تقوم فيه فإن فضل من قيمته
366

شئ اشترى به بقرة أخرى إن أمكن وإلا فشاة أو شقصا من بدنة أو بقرة، فإن لم يجد واحدا منهما تصدق بالفاضل
دراهم، فإن عدمت البقرة اشترى سبع شياه بقيمة البدنة، ولو وجد بقيمة البدنة ثلاث شياه أتم السبعة من ماله، ولو
نذر شاة فذبح بدلها بدنة أجزأه لأنها أفضل، ومحله كما قال صاحب البيان: إذا نذرها في ذمته، وإلا فالذي يقتضيه
المذهب عدم الاجزاء وفي كون كلها فرضا وجهان: أصحهما نعم، على اضطراب فيه. (أو) نذر (التصدق) بشئ
(على أهل بلد معين) مكة أو غيرها (لزمه) ذلك وفاء بالتزامه وصرفه لمساكينه من المسلمين، ولا يجوز نقله كما في زيادة
الروضة كالزكاة.
تنبيه: قد يفهم كلامه أنه لا فرق في أهل البلد بين الغني والفقير والمسلم والذمي وليس مرادا، فقد نص في الام
على التخصيص بالمساكين، وصرح القاضي حسين وغيره بعدم جواز وضع المنذور في أهل الذمة، وقد يفهم أيضا
أن غير الحرم لا ينذر فيه إلا التصدق وليس مرادا، بل لو نذر الأضحية به تعين ذبحها مع التفرقة فيه
لتضمنها التفرقة فيه، وإن نذر الذبح والتفرقة أو نواها ببلد غير الحرم تعينا فيه، لأن الذبح وسيلة إلى التفرقة المقصودة، فلما جعل مكانه
مكانها اقتضى تعينه تبعا، وإن نذر الذبح في الحرم والتفرقة في غيره تعين المكانان، لأن المعلق بكل منهما قربة، وإن
نذر الذبح في غير الحرم أو بسكين ولو مغصوبا ونذر التفرقة فيها في الحرم تعين مكان التفرقة فقط، إذ لا قربة في الذبح
خارج الحرم ولا في الذبح بسكين معين ولو في الحرم، وإن نذر الذبح بالحرم فقط لزمه النحر به، لأن ذكر الذبح في
النذر مضافا إلى الحرم يشعر بالقربة، ولان الذبح فيه عبادة معهودة ولزمه التفرقة فيه حملا على واجب الشرع، وإن
نذر الذبح بأفضل بلد تعينت مكة للذبح لأنها أفضل البلاد، ولو نذر لمعين بدراهم مثلا كان له مطالبة الناذر بها إن لم
يعطه كالمحصورين من الفقراء لهم المطالبة بالزكاة التي وجبت، فإن أعطاه ذلك فلم يقبل برئ الناذر لأنه أتى بما عليه
ولا قدرة له على قبول غيره، ولا يجبر على قبوله بخلاف مستحقي الزكاة لأنهم ملكوها بخلاف مستحق النذر، وأيضا
الزكاة أحد أركان الاسلام فأجبروا على قبولها خوف تعطيله بخلاف النذر. (أو) نذر (صوما في بلد) مثلا لزمه الصوم
لأنه قربة، و (لم يتعين) أي الصوم فيه فله الصوم في غيره، سواء الحرم وغيره كما أن الصوم الذي هو بدل جبران
واجب الاحرام لا يتعين فيه، وقيل إن عين الحرم تعين، لأن بعض المتأخرين رجح أن جميع القرب تتضاعف فيه، فالحسنة فيه
بمائة ألف حسنة والتضعيف قربة (وكذا صلاة) نذرها في بلد لم يتعين لها ويصلي في غيره لأنها لا تختلف
باختلاف الأمكنة.
تنبيه: شمل إطلاقه صلاة الفرائض إذا نذر أن يصليها في مسجد فإنه لا يتعين لها مسجد، وإن عينه لكن يتعين أن
يصليها في مسجد بناء على أن صفاتها تفرد بالالتزام بخلاف النفل، والفرق أن أداء الفريضة في المسجد
أفضل. (إلا المسجد الحرام) إذا نذر الصلاة فيه فيتعين لعظم فضله وتعلق النسك، وصح أن الصلاة فيه بمائة ألف صلاة كما رواه الإمام أحمد
وغيره.
تنبيه: المراد بالمسجد الحرام جميع الحرم، لأنه موضع الطواف فقط، فقد جزم الماوردي بأن حرم مكة
كمسجدها في المضاعفة وتبعه المصنف في مناسكه، وجزم به الحاوي الصغير، ونقل الإمام عن شيخه أنه لو نذر
الصلاة في الكعبة فصلى في أطراف المسجد خرج عن نذره لأن الجميع من المسجد الحرام، وإن كانت في الكعبة زيادة
فضيلة. (وفي قول، و) إلا (مسجد المدينة والأقصى) فيتعينان للصلاة المنذورة فيهما (قلت: الأظهر) أخذا من الرافعي
في الشرح (تعيينهما كالمسجد الحرام. والله أعلم) لاشتراك الثلاثة في عظم الفضيلة وإن تفاوتت فيه لقوله (ص):
لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد وقال البلقيني: ما ادعاه المصنف أنه الأظهر ممنوع نقلا ودليلا،
وأطال الكلام في ذلك. لكن كلام المصنف يشعر بعدم إجزاء الصلاة في غيرهما وليس مرادا، بل لو صلى ما نذره
367

بالمسجدين بالمسجد الحرام خرج عن نذره في الأصح، ويقوم مسجد المدينة مقام الأقصى، ولا عكس على النص
وسكت عن نذره الاعتكاف لتقدمه في بابه.
تنبيه: لا تجزئ صلاة واحدة في هذه المساجد عن أكثر منها، فلو نذر ألف صلاة في المسجد الحرام لم تجزه
صلاة واحدة في مسجد المدينة كما لو نذر أن يصلي في مسجد المدينة صلاة لا تجزيه ألف صلاة في غيره، وإن عدلت بها
كما أنه لو نذر قراءة ثلث القرآن فقرأ: * (قل هو الله أحد) * لا تجزيه، وإن عدلت ثلث القرآن ولا يلحق بالمساجد الثلاثة
مسجد قباء خلافا لما بحثه الزركشي لما مر، وإن أخرج الترمذي صلاة فيه كعمرة. ثم شرع المصنف في فروع يظهر بها
أن النذر هل يسلك به واجب الشرع أو جائزه؟ والأصح عند المصنف الأول إلا فيما استثنى، ورجح العراقيون الثاني،
واختار المصنف في باب الرجعة أنه لا يطلق ترجيح واحد من القولين، بل يختلف الراجح منهما بحسب المسائل، وبدأ
من تلك الفروع بنذر الصوم فقال: (أو) نذر (صوما مطلقا) من غير تعرض لعدد بلفظ ولا نية (فيوم) يحمل عليه،
لأن الصوم اسم جنس يقع على الكثير والقليل، والصوم لا يكون أقل منه والمتيقن يوم فلا يلزمه أكثر منه. فإن قيل:
ينبغي أن لا يكتفي به إذا حملنا النذر على واجب الشرع، فإن أقل ما وجب بالشرع ابتداء صيام ثلاثة أيام. أجيب بمنع
ذلك بدليل وجوب يوم في جزاء الصيد وعند إفاقة المجنون، وبلوغ الصبي قبل طلوع فجر آخر يوم من رمضان.
تنبيه: لو نذر صوما كثيرا أو طويلا لم يلزمه أكثر من يوم كما قاله الخوارزمي في الكافي، ومثله ما لو قال حينا
أو دهرا. (أو) نذر (أياما) أي صومها (فثلاثة) لأنها أقل الجمع، أو شهورا فقياسه ثلاثة، وقيل أحد عشر شهرا لكونه
جمع كثرة، ولو عرف الأشهر احتمل ذلك واحتمل إرادة السنة وهو الظاهر، ويجب التبييت في صوم النذر بناء
على الأصح من أنه يسلك به مسلك واجب الشرع، ولو نذر الصوم في السفر صح إن كان صومه أفضل من فطره
وإلا فلا (أو) نذر (صدقة فيما) أي تصدق بأي شئ (كان) مما يتمول كدانق ودونه لاطلاق الاسم. فإن قيل: هلا
يتقدر بخمسة دراهم أو بنصف دينار كما أنه أقل واجب في زكاة المال؟ أجيب بأن الخلطاء قد يشتركون في نصاب
فيجب على أحدهم شئ قليل.
تنبيه: لو نذر التصدق بمال عظيم. قال القاضي أبو الطيب في باب الاقرار في تعليقه: لا يتقدر بشئ وأي قدر
تصدق أجزأه. قال: ورأيت بعضهم يوجب فيه مائتي درهم. وفي فتاوى القفال: لو قال لله علي أن أعطي الفقراء
عشرة دراهم ولم يرد به الصدقة لم يلزمه شئ كما لو قال: لله علي أن أحب الفقراء. قال الأذرعي: وفيه نظر، إذ
لا يفهم من ذلك إلا الصدقة اه‍. وهذا هو الظاهر، ولو نذر أن يشتري بدرهم خبزا للتصدق لزمه التصدق بخبز قيمته
درهم، ولا يلزمه شراؤه نظرا للمعنى، لأن القربة إنما هي التصدق لا الشراء.
فروع: لو قال: ابتداء مالي صدقة، أو في سبيل الله فلغو، لأنه لم يأت بصيغة التزام، فإن علق قوله المذكور
بدخول مثلا كقوله: إن دخلت الدار فمالي صدقة فنذر لجاج، فإما أن يتصدق بكل ماله، وإما له أن يكفر كفارة يمين
إلا أن يكون المعلق به مرغوبا فيه كقوله: إن رزقني الله دخول الدار، أو إن دخلت الدار - وأراد ذلك - فمالي صدقة
فيجب التصدق عينا، لأنه نذر تبرر، ولو قال: بدل صدقة: في سبيل الله، تصدق بكل ماله على الغزاة، ولو قال: إن
شفى الله مريضي فعلي ألف ولم يعين شيئا باللفظ ولا بالنية لم يلزمه شئ لأنه لم يعين مساكين ولا دراهم ولا تصدقا
ولا غيرها، ولو نوى التصدق بألف ولم ينو شيئا فكذلك كما جزم به ابن المقري تبعا لاصله، لكن قال الأذرعي: يحتمل
أن ينعقد نذره ويعين ألفا مما يريد، كما لو قال: لله علي نذر. قال شيخنا: وما قاله ظاهر، وأي فرق بينه وبين نذر
التصدق بشئ، ولو قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بألف درهم مثلا فشفي والمريض فقير فإن كان
لا يلزمه نفقته جاز إعطاؤه ما لزمه، وإلا فلا كالزكاة، ولو نذر التصدق على ولده أو غيره الغني جاز، لأن الصدقة على الغني
368

جائزة وقربة، ولو نذر أن يضحي بشاة مثلا على أن يتصدق بها لم ينعقد نذره لتصريحه بما ينافيه. (أو) نذر (صلاة
فركعتان) تكفي عن نذره في الأظهر حملا على أقل واجب الشرع (وفي قول) تكفيه (ركعة) واحدة حملا على
جائزه ولا تكفيه على القولين سجدة تلاوة أو شكر، لأن ذلك لا يسمى صلاة، ولا صلاة جنازة، لأنها ليست
واجبة عينا، وإن حصل تعيين فعارض فلا يحمل عليها النذر (فعلى الأول) المبني على السلوك بالنذر مسلك واجب
الشرع (يجب القيام فيهما) أي الركعتين مع القدرة عليه (وعلى الثاني) المبني على السلوك على جائز الشرع (لا)
يجب القيام فيهما.
تنبيه: محل الخلاف إذا أطلق، فإن قال: أصلي قاعدا فله القعود قطعا كما لو صرح بركعة فتجزئه قطعا، لكن
القيام أفضل منه.
فروع: لو نذر أن يصلي ركعتين فصلى أربعا بتسليمة بتشهد أو بتشهدين ففي الاجزاء طريقان. قال في المجموع
أصحهما وبه قطع البغوي جوازه اه‍، وهذا على خلاف الأصل السابق، ولهذا جزم في الأنوار بعدم الجواز بناء على
أنه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، والقائل بالجواز قاسه على ما لو نذر أن يتصدق بعشرة فتصدق بعشرين. قال في
أصل الروضة بعد ذكره الخلاف: ويمكن بناؤه على ما ذكر إن نزلناه على واجب الشرع لم يجزه، كما لو صلى الصبح
أربعا وإلا أجزأه، ولو نذر أن يصلي أربع ركعات جاز أن يصليهما بتسليمتين لزيادة فضلهما وإن خالف ذلك البناء
المذكور لذلك، ولأنه يسمى مصليا أربع ركعات كيف صلاها، فإن صلاها بتسليمة فيأتي بتشهدين، فإن ترك الأول
منهما سجد للسهو هذا إن نذر أربعا بتسليمة واحدة أو أطلق، فإن نذرها بتسليمتين لزمتاه لأنها أفضل كما صرح
بذلك صاحب الاستقصاء في صلاة التطوع، ولو نذر صلاتين لم يجزه أربع ركعات بتسليمة كما جزم به في الروضة
وأصلها، ولا يجزيه فعل الصلاة على الراحلة إذا لم ينذره عليها بأن نذره على الأرض أو أطلق، فإن نذره عليها أجزأه
فعله عليها، لكن فعلها على الأرض أولى. (أو) نذر (عتقا) وأطلق (فعلى الأول) المبني على ما سبق يلزمه (رقبة
كفارة) وهي ما سبق بأنها مؤمنة سليمة من عيب يخل بعمل أو كسب (وعلى الثاني) المبني على ما سبق يكفيه (رقبة)
ولو معيبة وكافرة لصدق الاسم (قلت: الثاني هنا أظهر) وفي زيادة الروضة أنه الأصح عن الأكثرين وهو الراجح
في الدليل (والله أعلم) لتشوف الشارع إلى العتق، ولان الأصل براءة الذمة فاكتفى بما يقع عليه الاسم والفرق بينه
وبين الصلاة أن العتق من باب الغرامات التي يشق إخراجها، فكان عند الاطلاق لا يلزمه إلا هو الأقل ضررا
بخلاف الصلاة.
تنبيه: قال المصنف في تحريره: قوله التنبيه أو عتقا كلام صحيح، ولا التفات إلى من أنكره لجهله، ولكن
لو قال إعتاقا لكان أحسن اه‍. قال ابن شهبة: والعجيب أن عبارة المحرر إعتاقا فغيرها إلى خلاف الأحسن. (أو) نذر
(عتق) رقبة مؤمنة أو سليمة لم تجزه الكافرة والمعيبة، أو عتق رقبة (كافرة معيبة أجزأه) أي كفاه عنها رقبة (كاملة)
لاتيانه بما هو أفضل، وذكر الكفر والعيب ليس للتقرب، بل الجواز الاقتصار على الناقص فصار كمن نذر التصدق
بحنطة رديئة يجوز له التصدق بالجيدة (فإن عين) رقبة (ناقصة) بأن قال: لله علي أن أعتق هذه الرقبة الكافرة أو
المعيبة (تعينت) فلا يجزئه غيرها وإن كان خيرا منها لتعلق النذر بعينها.
تنبيه: ما قررت به كلام المصنف من أنه يصح نذر عتق الرقبة الكافرة هو المتعمد وإن كان في فتاوى القاضي
حسين أنه لا يلزمه إعتاقه لأنه جعل الكفر صفة له، ولا يزول ملكه عن المعينة بنفس النذر، وليس له بيعها ولا هبتها
ولا يجوز ذلك، ولا يلزمه إبدالها إن تلفت أو أتلفها، وإن أتلفها أجنبي لزمه قيمتها لمالكها، ولا يلزمه صرفه إلى
369

أخرى بخلاف الهدي فإن الحق فيه للفقراء وهم موجودون، قاله في البيان. (أو) نذر (صلاة) حالة كونه (قائما
لم يجز) فعلها حالة كونه (قاعدا) مع القدرة بلا مشقة على القيام، لأنه دون ما التزمه، أما مع المشقة لنحو كبر أو مرض
فلا يلزمه القيام على الأصح (بخلاف عكسه) وهو نذر الصلاة قاعدا، فيجوز قائما لاتيانه بما هو الأفضل.
تنبيه: كلامه يفهم أن له القعود أيضا وهو كذلك، ففي الشرحين والروضة هنا أنه لا خلاف فيه وإن ذكرا بعد
ذلك بنحو ثلاثة أوراق عن الإمام عن الأصحاب أنه يلزمه القيام عند القدرة، ولو نذر إتمام الصلاة أو قصرها صح
إن كان كل منهما أفضل، وإلا فلا كما جزم به في الأنوار، ولو نذر القيام في النوافل أو استيعاب الرأس بالمسح أو التثليث
أو غسل الرجلين صح ولزم كما جزم في الأنوار أيضا. (أو) نذر (طول قراءة الصلاة) فرضا كانت أو نفلا، ومثله
طول ركوعها وسجودها لزمه ذلك: أي إن لم يكن إماما في مكان لم يحضر جمعه، أو حصروا ولم يرضوا بالتطويل كما
نبه عليه البلقيني، لأن التطويل حينئذ مكروه (أو) نذر (سورة معينة، أو) نذر (الجماعة) ولو في نفل تسن فيه
الجماعة، وقوله (لزمه) راجع للمسائل المذكورة كما تقرر، لأن ذلك طاعة فلزم بالنذر، وما قررت به كلام المصنف من
أن ما ذكره شامل للفرض والنفل هو المعتمد كما جرى عليه شيخنا. وقال: فالقول بأن صحته هنا مقيدة بكونها في
الفرائض أخذا من تقييد الروضة وأصلها بذلك وهم، لأنهما إنما قيدا بذلك للخلاف فيه، ولو نذر القراءة في الصلاة
فقرأ في محل التشهد أو في ركعة زائدة قام لها ناسيا لم تحسب.
تنبيه: لو خالف في الوصف الملتزم كأن صلى في الأخيرة منفردا سقط عنه خطاب الشرع في الأصل وبقي الوصف،
ولا يمكنه الاتيان به وحده فعليه الاتيان به ثانيا مع وصفه، ذكره في الأنوار تبعا للقاضي والمتولي. وقال القاضي
أبو الطيب: يسقط عنه نذره أيضا، لأنه ترك الوصف ولا يمكنه قضاؤه. قال ابن الرفعة: والأول ظاهر إذا لم نقل أن
الفرض الأول، وإلا فالمتجه الثاني. قال شيخنا: وقد يحمل الأول على ما إذا ذكر في نذره الظهر مثلا. والثاني على
ما إذا ذكر فيه الفرض اه‍. والأوجه ما ذكره صاحب الأنوار. (والصحيح انعقاد النذر بكل قربة لا تجب ابتداء كعيادة)
لمريض (وتشييع جنازة، والسلام) على الغير أو على نفسه إذا دخل بيتا خاليا وتشميت العاطس، وزيارة القادم
لأن الشارع رغب فيها والعبد يتقرب بها، فهي كالعبادات، والثاني المنع لأنها ليست على أوضاع العبادات، وإنما
هي أعمال وأخلاق مستحسنة رغب الشارع فيها لعموم فائدتها، ويصح نذر فعل المكتوبة أول الوقت، وصلاة الضحى،
وقيام التراويح، وتحية المسجد وركعتي الاحرام والطواف وستر الكعبة ولو بالحرير وتطييبها وصرف
ماله في شراء سترها وتطييبها، فإن نوى المباشرة لذلك بنفسه لزمه، وإلا فله بعثه إلى القيم لصرفه في ذلك، ويصح نذر
تطييب مسجد المدينة والأقصى وغيرهما من المساجد كما اختاره في المجموع، لأن تطييبها سنة مقصودة فلزم بالنذر كسائر
القرب، بخلاف البيوت ونحوها كمشاهد العلماء والصالحين. واحترز المصنف بقوله: لا تجب ابتداء عن القرب التي يجب
جنسها بالشرع كالصلاة والصوم والحج والعتق فإنها تلزم بالنذر قطعا كما في التتمة، وكان ينبغي أن يزيد في الضابط
أن لا يكون فيه إبطال رخصة للشرع فيخرج ما لو نذر أن لا يفطر في السفر في رمضان، وأن بتم الصلاة في السفر فإنه
لا ينعقد نزره، أن إذا كان الفطر أو القصر أفضل كما مرت الإشارة إليه وأورد على الضابط ما لو قال: إن شفى الله
مريضي فلله علي أن أعجل زكاة مالي، فإن الأصح في زيادة الروضة عدم انعقاده لأنه ليس بقربة. نعم حيث قلنا
إنه يندب تعجيل الزكاة كأن اشتدت حاجة المستحقين لها أو التمسوها من المذكى أو قدم الساعي قبل تمام حوله فينبغي كما
قال الأسنوي وغيره صحة نذره.
خاتمة: في مسائل منثورة مهمة تتعلق بالباب: لو قال: إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بعشرة دراهم
مثلا ثم قال في اليوم الثاني مثله، فإن قصد التكرار لم يلزمه غير عشرة، وإن قصد الاستئناف أو أطلق لزمه عشرون
370

كما في فتاوى القفال، ويجئ مثله كما قال الزركشي في نذر اللجاج. ولو نذر التصدق على أهل الذمة بدينار جاز صرفه
إلى المسلمين، أو على المبتدعة. أو الرافضة جاز صرفه إلى أهل السنة. أو على الأغنياء جاز صرفه إلى الفقراء كما في
فتاوى القفال. ولو قال: لله علي ذبح ولدي فإن لم يجز فشاة مكانه لم يصح نذره، لأن ذلك ليس بقربة، ولا يلزم
الكافر وفاء ما نذره في كفره بعد إسلامه، وقوله (ص) ل عمر رضي الله عنه في نذر كان نذره في الجاهلية:
أوف بنذرك محمول على الندب. ولو قال أحد هذين للفقراء فهو نذر إن أراده أو أطلق، فإن تلف أحدهما أعطاهم
الآخر، فإن أراد الاقرار بأن لهم أحدهما والآخر ملكه فتلف أحدهما فعينه لهم قبل قوله، أو نذر التصدق بأحد شيئين فتلف
أحدهما لزمه التصدق بالآخر. ولو نذر أن لا يكلم أحدا لم يصح نذره لما فيه من التضييق والتشديد. ولو قال: إن شفى
الله مريضي فعبدي هذا حر ثم نذر عتقه إن رد الله غائبه انعقد النذران، فإن حصلا معا أقرع بينهما، كذا نقله في
الروضة عن فتاوى القاضي عن العبادي، والذي فيها عنه أن النذر الثاني موقوف، فإن شفى الله المريض قبل القدوم
أو بعده أو معه بان أنه لم ينعقد، والعبد مستحق العتق عن الأول، وإن مات انعقد وأعتق العبد عنه، كذا ذكره البغوي
في فتاويه، وهذا أوجه. ولو نذر من يموت أولاده عتق رقيق إن عاش له ولد فعاش له ولد أكثر من أولاده الموتى ولو قليلا
لزمه العتق. ومن نذر زيتا أو شمعا لاسراج مسجدا أو غيره أو وقف ما يشتريان به من غلته صح كل من النذر
والوقف إن كان يدخل المسجد أو غيره من ينتفع به من نحو مصل أو نائم، وإلا لم يصح، لأنه إضاعة مال، وقد
ذكر الأذرعي ما يفيد ذلك. وفي إيقاد الشموع ليلا على الدوام والمصابيح الكثيرة نظر لما فيه من الاسراف. وأما
المنذور للمشاهد الذي يبيت على قبر ولي أو نحوه، فإن قصد الناذر بذلك التنوير على من يسكن البقعة أو يتردد إليها
فهو نوع قربة وحكمه ما ذكر، أي الصحة. وإن قصد به الايقاد على القبر ولو مع قصد التنوير فلا، وإن قصد به
وهو الغالب من العامة تعظيم البقعة، أو القبر، أو التقرب إلى من دفن فيها، أو نسبت إليه، فهذا نذر باطل غير
منعقد فإنهم يعتقدون أن لهذه الأماكن خصوصيات لأنفسهم ويرون أن النذر لها مما يندفع به البلاء، قال: وحكم
الوقف كالنذر فيما ذكرنا انتهى. فإن حصل شئ من ذلك رد إلى مالكه وإلى وارثه بعده، فإن جهل صرف في مصالح
المسلمين. وقال الشيخ عز الدين: المهدي إلى المساجد من زيت أو شمع إن صرح بأنه نذر وجب صرفه إلى جهة النذر
ولا يجوز بيعه وإن أفرط في الكثرة، وإن صرح بأنه تبرع لم يجز التصرف فيه إلا على وفق إذنه وهو باق على ملكه، فإن
طالت المدة وجوز أن باذله مات فقد بطل إذنه ووجب رده إلى وارثه، فإن لم يعرف له وارث صرف في مصالح المسلمين،
وإن لم يعرف قصد المهدي أجري عليه أحكام المنذور التي تقدمت، أو يصرف في مصالح المسلمين. ولو نذر أن يصلي
في أفضل الأوقات، فقياس ما قالوه في الطلاق ليلة القدر أو في أحب الأوقات إلى الله تعالى، قال الزركشي: ينبغي
أن لا يصح نذره، والذي ينبغي الصحة ويكون كنذره في أفضل الأوقات. ولو نذر أن يعبد الله تعالى بعبادة لا يشركه
فيها أحد، فقيل: يطوف بالبيت وحده، وقيل: يصلي داخل البيت وحده، وقيل: يتولى الإمامة العظمى فإن
الإمام
لا يكون إلا واحدا فإن انفرد بها واحد فقد قام بعبادة هي أعظم العبادات، وعليه حمل قول سليمان عليه الصلاة
والسلام: رب هب لي ملكا لا ينبغي لاحد من بعدي فإنه انفرد بهذه العبادة وهي القيام بمصالح الإنس والجن
والطير وغيرها. وينبغي أن يكفي أي واحد من ذلك، وما ورد من أن البيت لا يخلو عن طائف ملك أو غيره مردود
لأن العبرة بما في ظاهر الحال.
كتاب القضاء
بالمد: أي الحكم بين الناس، وجمعه أقضية كقباء وأقبية. وهو لغة: إحكام الشئ وإمضاؤه، ومنه: * (وقضينا
إلى بني إسرائيل) *. وفراغه، ومنه: * (فوكزه موسى فقضى عليه) *: أي قتله وفرغ منه. وإتمامه، ومنه: * (ليقضى أجل مسمى) *، أي
371

ليتم الاجل. وشرعا: الخصومة بين خصمين فأكثر بحكم الله تعالى. قال ابن عبد السلام: الحكم الذي يستفيده القاضي
بالولاية هو إظهار حكم الشرع في الواقعة فيمن يجب عليه إمضاؤه فيه بخلاف المفتي، فإنه لا يجب عليه إمضاؤه، وسمي
القضاة حكما لما فيه من الحكمة التي توجب وضع الشئ في محله لكونه يكف الظالم عن ظلمه، أو من إحكام الشئ، ومنه
حكمة اللجام لمنعه الدابة من ركوبها رأسها، وقد قيل إن الحكمة مأخوذة من هذا أيضا لمنعها النفس من هواها.
والأصل في ذلك الكتاب والسنة والاجماع، فمن الكتاب آيات كقوله تعالى: * (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) * وقوله
تعالى: * (فاحكم بينهم بالقسط) * وقوله تعالى: * (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس) *. ومن السنة أخبار، كخبر
الصحيحين: إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإن أصاب فله أجران، وفي رواية صحح الحاكم إسنادها: فله عشرة
أجور. وروى البيهقي خبر: إذا جلس الحاكم للحكم بعث الله له ملكين يسددانه ويوفقانه، فإن عدل أقاما، وإن جار
عرجا وتركاه. قال المصنف في شرح مسلم: أجمع المسلمون على أن الحديث - يعني الذي في الصحيحين - في حاكم
عالم أهل للحكم إن أصاب فله أجران باجتهاده، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده في طلب الحق، أما من ليس بأهل للحكم فلا
يحل له أن يحكم، وإن حكم فلا أجر له، بل هو آثم ولا ينفذ حكمه سواء وافق الحق أم لا، لأن إصابته اتفاقية ليست
صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شئ
من ذلك. وقد روى الأربعة والحاكم والبيهقي أن النبي (ص) قال: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض
في الجنة، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به، واللذان في النار: رجل عرف الحق فجار في الحكم، ورجل
قضى للناس على جهل فالقاضي الذي ينفذ حكمه هو الأول والثاني والثالث لا اعتبار بحكمهما. والاجماع منعقد على
فعله سلفا وخلفا. وقد استقضى النبي (ص) والخلفاء الراشدون بعده فمن بعدهم ووليه سادات وتورع عنه
مثلهم، وورد من الترغيب والتحذير أحاديث كثيرة. ولا شك أنه منصب عظيم إذا قام العبد بحقه، ولكنه خطر
والسلامة فيه بعيدة إلا من عصمه الله تعالى، وقد كتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء رضي الله تعالى عنهما لما كان
قاضيا ببيت المقدس: إن الأرض لا تقدس أحدا، وإنما يقدس المرء عمله، وقد بلغني أنك جعلت طبيبا تداوى، فإن
كنت تبرئ فنعما لك، وإن كنت مطببا فاحذر أن تقتل أحدا فتدخل النار، فما بالك بمن ليس بطبيب ولا مطبب.
وقال بعض الأكابر ممن دخل في القضاء: أنا نذير لمن يكون عنده أهلية العلم أن لا يتولى القضاء. فإن كلام العلماء
يؤخذ بالقبول، وكلام القضاة تسري إليه الظنون، وإن ترتب على القضاء أجر في وقائع جزئية، فالعلم يترتب عليه
أمور كلية تبقى إلى يوم القيامة، وما ورد في التحذير عنه: من جعل قاضيا ذبح بغير سكين، فهو محمول على من يكره له
القضاء، أو يحرم على ما سيأتي. (هو) أي قبول تولية القضاء من الإمام (فرض كفاية) في حق الصالحين له في الناحية،
أما كونه فرضا فلقوله تعالى: * (كونوا قوامين بالقسط) * ولان طباع البشر مجبولة على التظالم ومنع الحقوق، وقل من
ينصف من نفسه، ولا يقدر الإمام على فصل الخصومات بنفسه فدعت الحاجة إلى تولية القضاء. وأما كونه على
الكفاية فلانه أمر بمعروف أو نهي عن منكر، وهما على الكفاية، وقد بعث النبي (ص) عليا إلى اليمن
قاضيا، فقال: يا رسول الله بعثتني أقضي بينهم وأنا شاب لا أدري ما القضاء فضرب النبي (ص) صدره وقال:
اللهم اهده وثبت لسانه قال: فوالذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما شككت في قضاء بين اثنين، رواه أبو داود والحاكم
وقال: صحيح الاسناد. واستخلف النبي (ص) عتاب بن أسيد على مكة واليا وقاضيا، وقلد معاذا قضاء اليمن. وبعث
أبو بكر أنسا إلى البحرين، وبعث عمر أبا موسى الأشعري إلى البصرة. فلو كان فرض عين لم يكف واحد. وعن
القاضي أبي الطيب استحباب نصب القضاة في البلدان، قال ابن الرفعة: ولم أره لغيره. فعلى المشهور إذا قام بالفرض من
يصلح سقط الفرض عن الباقين. وإن امتنعوا أثموا وأجبر الإمام أحد الصالحين على الصحيح. وخرج بقبوله التولية
إيقاعها للقاضي من الإمام فإنها فرض عين عليه لدخوله في عموم ولايته ولا يصح إلا من جهته، ولا يجوز أن يتوقف
372

حتى يسأل لأنها من الحقوق المسترعاة. وقد مر في كتاب السير أنه يجب على الإمام أن يولي في كل مسافة عدوى قاضيا
كما يجب عليه أن يجعل في كل مسافة قصر مفتيا، وتقدم هناك الفرق بينهما. قال البلقيني: وأما إيقاع القضاء بين المتنازعين
ففرض عين على الإمام بنفسه أو نائبه، وإن ترافعا إلى النائب فإيقاع القضاء بينهما فرض عين عليه، ولا يجوز
له الدفع
إذا كان فيه تعطيل وتطويل نزاع: (فإن تعين) للقضاء واحد في تلك الناحية بأن لم يصلح غيره، (لزمه طلبه) إن لم يعرض
عليه للحاجة إليه، ولا يعذر لخوف ميل منه، بل يلزمه أن يطلب ويقبل ويحترز من المال كسائر فروض الأعيان.
تنبيه: محل وجوب الطلب إذا ظن الإجابة كما بحثه الأذرعي، فإن تحقق أو غلب على ظنه عدمها لما علم من فساد
الزمان وأئمته لم يلزمه، فإن عرض عليه لزمه القبول، فإن امتنع عصى، وللإمام إجباره على الأصح، لأن الناس
مضطرون إلى علمه ونظره فأشبه صاحب الطعام إذا منعه المضطر. فإن قيل: إنه بامتناعه حينئذ يصير فاسقا، ويحمل
قولهم على أنه يجبر أنه يؤمر بالتوبة أو لا، فإذا تاب أجبر. أجيب بأنه لا يفسق بذلك لأنه يمتنع غالبا إلا متأولا
للتحذيرات الواردة في الباب، واستشعاره من نفسه العجز، وعدم اعتماده على نفسه الامارة بالسوء، وكيف يفسق من
امتنع متأولا تأويلا سائغا أداه اجتهاده إليه وأن المنجى له من عذاب الله وسخ طه عدم التلبس بهذا الامر، وقد يرى
هو أنه لا يعرف إلا باعترافه، فالوجه عدم فسقه بمجرد امتناعه خوفا على دينه أو غير ذلك من الاعذار الباطنة الخفية
علينا، ولا يعصي بذلك أيضا لما ذكر. ولو خلا الزمان عن إمام رجع الناس إلى العلماء، فإن كثر علماء الناحية
فالمتبع أعلمهم، فإن استووا وتنازعوا أقرع كما قاله الإمام. (وإلا) بأن لم يتعين للقضاء واحد في تلك الناحية لوجود غيره
معه نظرت، (فإن كان غيره أصلح) لتولية القضاء منه (وكان) الأصلح (يتولاه) أي يرضى بتوليته، (فللمفضول) المتصف
بصفة القضاء وهو غير الأصلح (القبول) للتولية إذا بذل له من غير طلب في الأصح. (وقيل: لا) يجوز له قبولها. (و) على
الأول (يكره طلبه) لوجود من هو أولى منه، (وقيل: يحرم) واستشكله الإمام بأنه إذا كان النصب جائزا فكيف يحرم
طلب الجائز؟ ونظير هذا سؤال الصدقة في المسجد، فإنه لا يجوز. ويجوز إعطاؤه على الأصح، إذ الاعطاء باختيار
المعطي فالسؤال كالعدم. وعلى الثاني يحرم طلبه.
تنبيه: أشعر قوله: يتولاه تخصيص الخلاف برضاه بالتولية، فإن لم يرض بها فكالعدم، وهو كذلك كما في الروضة
وأصلها. ومحله أيضا حيث لا عذر، فإن كان لكون المفضول أطوع في الناس أو أقرب للقلوب أو كان الأفضل
غائبا أو مريضا انعقد للمفضول جزما كما قاله الماوردي. (وإن كان) غيره (مثله) وسئل بلا طلب، (فله القبول) لأنه من
أهله ولا يلزمه على الأصح لأنه قد يقوم به غيره. وقد امتنع ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لما سأله عثمان رضي الله عنه
القضاء، رواه الترمذي. وعرض على الحسين بن منصور النيسابوري قضاء نيسابور، فاختفى ثلاثة أيام ودعا
الله تعالى
فمات في اليوم الثالث. وورد كتاب السلطان بتولية نصر بن علي الجهضمي عشية قضاء البصرة، فقال: أشاور نفسي الليلة
وأخبركم غدا، وأتوا عليه من الغد فوجدوه ميتا. وقال مكحول: لو خيرت بين القضاء والقتل اخترت القتل. وامتنع
منه الإمام الشافعي رضي الله عنه لما استدعاه المأمون لقضاء الشرق والغرب. وامتنع منه الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه
لما استدعاه المنصور فحبسه وضربه. وحكى القاضي الطبري وغيره أن الوزير بن الفرات طلب أبا علي بن خيران لتولية
القضاء، فهرب منه فختم على دوره نحوا من عشرين يوما، كما قيل فيه:
وطينوا الباب على أبي علي عشرين يوما ليلي فما ولي
وقال بعض القضاة:
وليت القضاء وليت القضاء لم يكن شيئا توليته
373

فأوقفني في القضاء القضاء وما كنت قدما تمنيته
وقال آخر: فيا ليتني لم أكن قاضيا ويا ليتها كانت القاضية
تنبيه: قول المصنف: وله القبول يقتضي جوازه وإن خاف على نفسه اتباع الهوى، وقال الإمام والرافعي:
ينبغي أن يحترز، فإن أهم الغنائم حفظ السلامة اه‍. وقضيته منع الاقدام حينئذ وهو الظاهر، بل قطع في الذخائر بوجوب
الامتناع. (ويندب) له (الطلب) للقضاء (إن كان خاملا) أي غير مشهور بين الناس، (يرجو به) أي القضاء (نشر العلم)
لتحصل المنفعة بنشره إذا عرفه الناس، (أو) لم يكن خاملا، لكن كان (محتاجا إلى الرزق) فإذا ولي حصل له كفايته من
بيت المال بسبب هو طاعة لما في العدل من جزيل الثواب، وفي هذا إشعار على أنه يجوز أخذ الرزق على القضاء،
وسيأتي إيضاح ذلك.
تنبيه: يندب الطلب أيضا إذا كانت الحقوق مضاعة لجور أو عجز، أو فسدت الأحكام بتولية جاهل، فيقصد
بالطلب تدارك ذلك. وقد أخبر الله تعالى عن نبيه يوسف صلوات الله وسلامه عليه أنه طلب، فقال: * (اجعلني على
خزائن الأرض) * وإنما طلب ذلك شفقة على خلق الله لا منفعة نفسه. (وإلا) بأن لم يكن خاملا بل مشهورا ولا محتاجا
للرزق بل مكفيا به، (فالأولى) له (تركه) أي طلب القضاء لما فيه من الخطر من غير حاجة، وينشر العلم والفتيا. (قلت)
كما قال الرافعي في الشرح: (ويكره) له حينئذ الطلب (على الصحيح) وكذا قبول التولية أيضا (والله أعلم) لأنه ورد فيه
نهي مخصوص، وعليه حملت الأخبار الواردة في التحذير وامتناع السلف منه. والثاني: لا كراهة في طلب ولا قبول،
بل هما خلاف الأولى.
تنبيه: أهمل المصنف من أقسام الطلب التحريم، قال الماوردي: كما إذا قصد انتقاما من الأعداء أو اكتسابا
بالارتشاء. وجعل من المكروه طلبه للمباهاة والاستعلاء، ونوزع في ذلك. وجرى بعضهم على الحرمة
للأحاديث الدالة
عليه وهو ظاهر. وهذا التفصيل إذا لم يكن هناك قاض مولى، فإن كان نظر، فإن كان غير مستحق القضاء فكالمعدوم.
وإن كان مستحقا له فطلب عزله حرام ولو كان دون الطالب، وتبطل بذلك عدالة الطالب، فإن عزل وولي الطالب
نفذ حكمه عند الضرورة، أما عند تمهد الأصول الشرعية فلا ينفذ. وهذا في الطلب بلا بذل مال، فإن كان نظر إن
تعين على الباذل القضاء أو كان ممن يسن له جاز له بذل المال، ولكن الآخذ ظالم بالأخذ. وهذا كما إذا تعذر الامر
بالمعروف إلا ببذل مال، فإن لم يتعين ولم يسن طلبه لم يجز بذل المال ليولى، ويجوز له البذل بعد التولية لئلا يعزل،
والآخذ ظالم بالأخذ، ووقع في الروضة أنه يجوز له بذله ليولى ونسب إلى الغلط. وأما بذل المال لعزل قاض لم يكن
متصفا بصفة القضاء فمستحب لما فيه من تخليص الناس منه، ولكن آخذه ظالم بالأخذ، وإن كان بصفة القضاء فهو
حرام. فإن عزله وولى الباذل نفذ عند الضرورة كما مر، أما عند تمهد الأصول الشرعية فتوليته باطلة والمعزول على
قضائه، لأن العزل بالرشوة حرام، وتولية المرتشي للراشي حرام. (والاعتبار في التعيين) للقضاء (وعدمه) ببلدة (بالناحية)
وكذا في وجوب الطلب والقبول وعدمه، فلا يجب على من تعين عليه القضاء طلب ولا قبول له في غير ناحيته لما في فيه
من الهجرة وترك الوطن. وفارق سائر فروض الكفايات بأنه يمكنه القيام بها والعود إلى الوطن والقضاء لا غاية له مع
قيام حاجة بلد المعين إليه. وظاهر كلام أصل الروضة أنه لو كان بناحية صالحان وولي أحدهما لم يجب على الآخر ذلك
في ناحية ليس بها صالح، وهو كذلك لما ذكر خلافا للبلقيني ومن تبعه في الوجوب عليه.
تنبيه: حكم المقلد الآن حكم المجتهدين في الأصلح وعدمه كما قاله بعض المتأخرين ويؤيده قول الغزالي في
الوسيط: المقلد إذا بلغ رتبة الاجتهاد في المذهب وجب تقديمه على من لم يبلغها، فقد اعتبر - أعني المقلدين - وإن كان
374

قيد بالاجتهاد. ثم شرع فيما يشترط لتولية القاضي، فقال: (وشرط القاضي) أي من يولى قاضيا، (مسلم) أي إسلام وكذا
الباقي. وهذا الشرط داخل في اشتراط العدالة، ولهذا لم يذكره في الروضة، فلا يولي كافر على مسلمين لقوله تعالى: *
(ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا) * ولا سبيل أعظم من القضاء، ولا على كفار، لأن القصد به فصل الأحكام
والكافر جاهل بها. وأما جريان العادة بنصب حاكم من أهل الذمة عليهم، فقال الماوردي والروياني: إنما هي رياسة
وزعامة لا تقليد حكم وقضاء، ولا يلزمهم حكمه بإلزامه بل بالتزامهم، ولا يلزمون بالتحاكم عنده. (مكلف) أي
بالغ عاقل، فلا يولى صبي ولا مجنون وإن تقطع جنونه لنقصهما.
تنبيه: قال الماوردي: ولا يكفي العقل الذي يتعلق به التكليف حتى يكون صحيح الفكر جيد الفطنة بعيدا عن
السهو والغفلة يتوصل بذكائه إلى وضوح المشكل وحل المعضل. (حر) فلا يولى رقيق كله أو بعضه لنقصه كالشهادة،
أو (ذكر) فلا تولى امرأة، لقوله صلى الله عليه وسلم: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة رواه البخاري، ولأن النساء
ناقصات عقل ودين.
تنبيه: شمل إطلاق المصنف منعها ولو فيما تقبل شهادتها فيه وهو كذلك، وفيه إشارة إلى الرد على أبي حنيفة حيث
جوزه حينئذ، وعلى ابن جرير الطبري حيث جوزه مطلقا. والخنثى المشكل في ذلك كالمرأة كما قاله الماوردي وغيره،
فلو ولي ثم بان رجلا لم يصح توليته كما قاله الماوردي، وصرح به في البحر، وقال: إنه المذهب لا يحتاج إلى تولية جديدة.
أما إذا بانت ذكورته قبل التولية فإنها تصح. (عدل) وسيأتي في الشهادات بيانه، فلا يولى فاسق لعدم الوثوق بقوله ولأنه
ممنوع من النظر في مال ولده مع وفور شفقته، فنظره في أمر العامة أولى بالمنع.
تنبيه: يؤخذ مما سيأتي في الشهادات إن شاء الله تعالى عن الصيمري أنه يشترط في الشاهد أن لا يكون محجورا عليه
بسفه، وأن يكون القاضي كذلك، وبه صرح البلقيني، لأن مقتضى القضاء التصرف على المحجور عليهم. قال: وأما
الاكراه فإنه مانع من صحة القبول إلا فيمن تعين عليه. ولا يولى مبتدع أيضا ردت شهادته، ولا من ينكر الاجماع أو
أخبار الآحاد أو الاجتهاد المتضمن إنكاره إنكار القياس. (سميع) ولو بصياح في أذنه، فلا يولى أصم لا يسمع أيضا فإنه
لا يفرق بين إقرار وإنكار. (بصير) فلا يولى أعمى ولا من يرى الأشباح ولا يعرف الصور لأنه لا يعرف الطالب من
المطلوب، فإن كان يعرف الصور إذا قربت منه صح. وخرج بالأعمى الأعور، فإنه يصح توليته، وكذا من يبصر
نهارا فقط دون من يبصر ليلا فقط ما قال الأذرعي. فإن قيل: قد استخلف النبي (ص) ابن أم مكتوم
على المدينة وهو أعمى، ولذلك قال مالك بصحة ولاية الأعمى. أجيب بأنه إنما استخلفه في إمامة الصلاة دون الحكم.
تنبيه: لو سمع القاضي البينة ثم عمي قضى في تلك الواقعة على الأصح. واستثني أيضا لو نزل أهل قلعة على حكم
أعمى فإنه يجوز كما هو مذكور في محله. (ناطق) فلا يولى أخرس وإن فهمت إشارته، لعجزه عن تنفيذ الأحكام. (كاف)
للقيام بأمور القضاء، فلا يولى مغفل ومختل نظر بكبر أو مرض ونحو ذلك. وفسر بعضهم الكفاية اللائقة بالقضاء بأن
يكون فيه قوة على تنفيذ الحق بنفسه، فلا يكون ضعيف النفس جبانا فإن كثيرا من الناس يكون عالما دينا ونفسه ضعيفة
عن التنفيذ والالزام والسطوة فيطمع في جانبه بسبب ذلك، ولذلك قال ابن عبد السلام: وللولاية شرطان العلم بأحكامها
والقدرة على تحصيل مصالحها وترك مفاسدها، فإذا فقد الشرطان حرمت الولاية، قال (ص): يا أبا ذر
إني أراك ضعيفا، لا تتأمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم. وجعل بعضهم هذا الشرط خارجا بقوله: (مجتهد) فلا يولى
الجاهل بالأحكام الشرعية ولا المقلد، وهو من حفظ مذهب صاحبه لكنه غير عارف بغوامضه وقاصر عن تقرير
أدلته لأنه لا يصلح للفتوى فللقضاء أولى.
تنبيه: كان ينبغي للمصنف أن يقول: إسلام وتكليف وكذا ما بعدهما، فيأتي بالمصدر كما قدرته في كلامه، لأن
375

الشرط هو الاسلام وغيره من المذكورات، وكذا ما بعدهما لا الشخص نفسه. أو أن يقول: مسلما مكلفا الخ بنصب
الجميع على خبر كان المحذوفة كقوله فيما سبق: يشترط في الإمام كونه مسلما. (وهو) أي المجتهد (أن يعرف من
الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام) أي طريق الاجتهاد، ولا يشترط حفظ آياتها ولا أحاديثها المتعلقات بها عن ظهر
قلب، وآي الأحكام كما ذكره البندنيجي والماوردي وغيرهما خمسمائة آية، وعن الماوردي أن عدد أحاديث الأحكام
خمسمائة كعدد الآي. واعترض الأول بأن الأحكام كما تستنبط من الأوامر والنواهي تستنبط من القصص والمواعظ
ونحوهما. والثاني: بأن غالب الأحاديث لا تكاد تخلو عن حكم شرعي، وأدب شرعي، وسياسة دينية، وكل ذلك
أحكام شرعية. وأجيب عن ذلك بأن المراد التي هي محال النظر والاجتهاد والخفاء ونحو ذلك. واحترز المصنف بقوله:
ما يتعلق بالأحكام عن المواعظ والقصص. (و) يعرف (خاصه وعامه) بتذكير الضمير نظرا لما، والخاص خلاف
العام الذي هو لفظ يستغرق الصالح له من غير حصر. ويعرف العام الذي أريد به الخصوص، والخاص الذي أريد به
العموم ومطلقه ومقيده (ومجمله) وهو ما لم تتضح دلالته، (ومبينه) وهو المتضح دلالته ويعرف نصه وظاهره،
(وناسخه ومنسوخه) فيعرف ما نسخ لفظه وبقيت تلاوته وعكسه. ويعرف المتشابه والمحكم (ومتواتر السنة
وغيره) أي الآحاد، لأن له أن يتمكن من الترجيح عند تعارض الأدلة، فيقدم الخاص على العام والمقيد على المطلق
والمبين على المجمل والناسخ على المنسوخ والمتواتر على الآحاد.
تنبيه: أفرد المصنف الضمير حملا على لفظ ما، قال ابن برهان: ويشترط أن يعرف أسباب النزول، (و) يعرف
(المتصل) من السنة (والمرسل) منها، وأريد به هنا غير المتصل، (وحال الرواة قوة وضعفا) بنصبهما على التمييز
لأنه بذلك يتوصل إلى تقرير الأحكام.
تنبيه: إنما يشترط معرفة الرواة في حديث لم يجمع على قبوله، أما ما أجمع السلف على قبوله أو تواترت عدالة
رواته فلا حاجة للبحث عن عدالتهم، وما عدا ذلك يكتفي في عدالة رواته بتعديل إمام مشهور عرف صحة مذهبه. قال
في زيادة الروضة: هذا ما أطبق عليه جمهور الأصحاب، وشذ من شرط في التعديل اثنين اه‍. ولا بد مع العدالة من الضبط.
(و) يعرف (لسان العرب لغة ونحوا) بنصبهما أيضا على التمييز. وأراد بالنحو ما يشمل البناء والاعراب والتصريف
لورود الشريعة به، ولان به يعرف عموم اللفظ وخصوصه وإطلاقه وتقييده وإجماله وبيانه وصيغ الأمر والنهي والخبر
والاستفهام والوعد والوعيد والأسماء والافعال والحروف وما لا بد منه في فهم الكتاب والسنة. (و) يعرف (أقوال
العلماء من الصحابة) رضي الله تعالى عنهم، (فمن بعدهم إجماعا واختلافا) لئلا يقع في حكم أجمعوا على خلافه.
تنبيه: قضية كلامه أنه يشترط معرفة جميع ذلك، وليس مرادا، بل يكفي أن يعرف في المسألة التي يفتي أو يحكم
فيها أن قوله لا يخالف الاجماع فيها إما بعلمه بموافقة بعض المتقدمين، أو يغلب على ظنه أن تلك المسألة لم يتكلم فيها
الأولون بل تولدت في عصره، وعلى هذا قياس معرفة الناسخ والمنسوخ كما نقلاه عن الغزالي وأقراه. (و) يعرف
(القياس) صحيحه وفاسده (بأنواعه) الأولى والمساوي والأدون ليعمل بها، فالأول كقياس ضرب الوالدين على
التأفيف، والثاني كقياس إحراق مال اليتيم على أكله في التحريم فيهما، والثالث كقياس التفاح على البر في باب
الربا بجامع الطعم. ولا يشترط أن يكون متبحرا في كل نوع من هذه العلوم حتى يكون في النحو كسيبويه وفي اللغة
كالخليل، بل يكفي معرفة جمل منها، قال ابن الصباغ: إن هذا سهل في هذا الزمان، فإن العلوم قد دونت وجمعت اه‍.
ويشترط أن يكون له من كتب الحديث أصل مصحح يجمع أحاديث غالب الأحكام كصحيح البخاري وسنن أبي داود.
ولا يشترط حفظه جميع القرآن ولا بعضه عن ظهر قلب، بل يكفي أن يعرف مظان أحكامه في أبوابها فيراجعها وقت الحاجة.
376

تنبيه: أشعر اقتصار المصنف على الأدلة الأربعة أنه لا يشترط معرفة الأدلة المختلف فيها، كالاخذ بأقل ما قبل
وكالاستصحاب، وليس مرادا، بل لا بد أيضا من معرفتها. وبأنه لا يشترط معرفة أصول الاعتقاد، وليس مرادا أيضا
، فقد حكى في الروضة كأصلها عن الأصحاب اشتراطه. وبأنه لا يشترط فيه الكتابة، وهو الأصح، لأنه (ص)
كان أميا لا يقرأ ولا يكتب. وقيل: يشترط، وصححه الجرجاني، وقال الزركشي: إنه المختار في هذا الزمان، لأنه يحتاج
أن يكتب لغيره ويكتب إليه، وإذا قرئ عليه شئ ربما حرف القارئ بخلاف الذين كانوا عند النبي (ص)،
ولان عدم الكتابة في حقه معجزة، وفي حق غيره منقصة. وبأنه لا يشترط فيه معرفة الحساب لتصحيح المسائل
الحسابية الفقهية، وهو كذلك كما صوبه في المطلب، لأن الجهل به لا يوجب الخلل في غير تلك المسائل،
والإحاطة بجميع
الأحكام لا تشترط. ثم اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق، وهو الذي يفتي في جميع أبواب الشرع، وأما
المقيد بمذهب إمام خاص فليس عليه غير معرفة قواعد إمامه. وليراع فيها ما يراعيه المطلق في قوانين الشرع فإنه مع
المجتهد كالمجتهد مع نصوص الشرع، ولهذا ليس له أن يعدل عن نص إمامه، كما لا يسوغ الاجتهاد مع النص. قال
ابن دقيق العيد: ولا يخلو العصر عن مجتهد إلا إذا تداعى الزمان وقربت الساعة، وأما قول الغزالي والقفال: إن العصر
خلا عن المجتهد المستقل، فالظاهر أن المراد مجتهد قائم بالقضاء فإن العلماء يرغبون عنه وهذا ظاهر لا شك فيه، أو
كيف يمكن القضاء على الاعصار بخلوها عن المجتهد والقفال نفسه كان يقول للسائل في مسألة الصبر: أتسألني عن
مذهب الشافعي أم ما عندي؟ وقال: هو والشيخ أبو علي والقاضي الحسين والأستاذ أبو إسحاق وغيرهم أسناد مقلدين
للشافعي، بل وافق رأينا رأيه. فما هذا كلام من يدعي زوال رتبة الاجتهاد. وقال: ابن الصلاح وإمام الحرمين والغزالي
والشيخ أبو إسحاق الشيرازي من الأئمة المجتهدين في المذهب.
فروع: يجوز أن يتبعض الاجتهاد بأن يكون العالم مجتهدا في باب دون باب، فيكفيه علم ما يتعلق بالباب الذي
يجتهد فيه. ويندب أن يكون من يتولى القضاء من قريش. ومراعاة العلم والتقى أولى من مراعاة النسب. وأن يكون
ذا حلم وتثبت ولين وفطنة ويقظة وكتابة وصحة حواس وأعضاء. وأن يكون عارفا بلغة البلد الذي يقضي لأهله،
قنوعا سليما من الشحناء، صدوقا، وافر العقل، ذا وقار وسكينة. وإذا عرف الإمام أهلية أحد ولاه، وإلا بحث عن
حاله كما اختبر النبي (ص) معاذا. ولو ولى من لا يصلح للقضاء مع وجود الصالح له والعلم بالحال أثم المولي بكسر اللام والمولى
بفتحها، ولا ينفذ قضاؤه وإن أصاب فيه. هذا هو الأصل في الباب، (فإن تعذر) في رجل (جمع
هذه الشروط) السابقة (فولى سلطان له شوكة فاسقا) مسلما (أو مقلدا، نفذ) - بالمعجمة - (قضاؤه للضرورة) لئلا
تتعطل مصالح الناس.
تنبيه: أفهم تقييده بالفاسق - أي المسلم كما قدرته في كلامه - أنه لا ينفذ من المرأة والكافر إذا وليا بالشوكة،
واستظهره الأذرعي، لكن صرح ابن عبد السلام بنفوذه من الصبي والمرأة دون الكافر، وهذا هو الظاهر. ومعلوم
أنه يشترط في غير الأهل طرف من الأحكام. وللعادل أن يتولى القضاء من الأمير الباغي، فقد سئلت عائشة رضي الله
عنها عن ذلك لمن استقضاه زياد، فقالت: إن لم يقض لهم خيارهم قضى لهم شرارهم. (ويندب للإمام إذا ولى قاضيا أن
يأذن له في الاستخلاف) ليكون أسهل له وأسرع إلى فصل الخصومات، ويتأكد عند اتساع العمل وكثرة الرعية
.
(فإن نهاه) عن الاستخلاف (لم يستخلف) ويقتصر على ما يمكنه إن كانت توليته أكثر لأنه منه لم يرض بنظر غيره،
فإن استخلف لم ينفذ حكم خليفته، فإن تراضى الخصمان بحكمه التحق بالمحكم كما في الروضة وأصلها، وإن عين له من
يستخلفه وليس بأهل لم يكن له استخلافه لفساده ولا غيره لعدم الإذن.
تنبيه: لو قال: وليتك القضاء على أن تستخلف فيه ولا تنظر فيه بنفسك، قال الماوردي: هذا تقليد اختيار
377

ومراعاة وليس بتقليد حكم ولا نظر. قال الزركشي: ويحتمل في هذا إبطال التولية، كما لو قالت للولي: أذنت لك في
تزويجي ولا تزوج بنفسك انتهى. والظاهر الأول، ويفرق بأن ولي النكاح ثابت له الولاية، وهي تريد أن تنفيها عنه
بخلاف من أذن له في أن يولى القضاء. (فإن أطلق) أي الإمام الولاية لشخص ولم ينهه عن الاستخلاف ولم يأذن له فيه،
وهو لا يقدر إلا على بعضه، (استخلف فيما لا يقدر عليه) لحاجته إليه، (لا) في (غيره) وهو ما يقدر عليه (في الأصح)
لأن قرينة الحال تقتضي ذلك. وليس من العجز ما لا يراه المستخلف في مذهبه، فليس له أن يستخلف مخالفا ليعقد
ما لا يراه مع قدرته على ما ولي فيه كما قاله بعد المتأخرين، والقادر على ما وليه لا يستخلف فيه أيضا على الأصح.
والثاني: يستخلف في المسألتين كالإمام بجامع النظر في المصالح العامة.
تنبيه: محل الخلاف في العجز المقارن، أما الطارئ كما لو مر ض القاضي أو أراد أن يسافر لشغل فيجوز له
الاستخلاف قطعا، قاله في التهذيب. ولو أذن له الإمام في الاستخلاف وعمم أو أطلق بأن لم يعمم له في الاذن جاز له
الاستخلاف في العام والخاص والمقدور عليه، وإن خصصه بشئ لم يتعده. (وشرط) الشخص (المستخلف) - بفتح اللام
بخطه - (كالقاضي) في شروطه السابقة، لأنه قاض.
تنبيه: ظاهر إطلاق كلامه جواز استخلاف أبيه وابنه، وبه صرح الماوردي والبغوي وغيرهما، لكن محله إن
ثبتت عدالتهما عند غيره، أما إذا فوض الإمام لشخص اختيار قاض فلا يختار ولده ولا والده، كما لا يختار نفسه.
ثم استثنى من التشبيه المذكور قوله: (إلا أن يستخلف) شخص (في أمر خاص، كسماع بينة فيكفي علمه بما يتعلق به)
أي الامر الخاص من شرائط البينة، ولا يشترط فيه رتبة الاجتهاد كما نقلاه عن أبي محمد وأقراه وإن أشعر كلام المتن
باشتراطه أيضا بأن خلاف الاستخلاف يجري أيضا في الامر الخاص، وهو مقتضى إطلاق الأكثرين، لكن قطع القفال
بالجواز، وفي كلام الروضة ما يوافقه. وحيث جاز الاستخلاف فاستخلف شافعي مخالفا أو بالعكس جاز على المشهور كما يشير
إليه قوله: (ويحكم) الخليفة (باجتهاده) إن كان مجتهدا، (أو باجتهاد مقلده) بفتح اللام بخطه، (إن كان مقلدا) بكسرها،
حيث ينفذ قضاء المقلد، لقوله تعالى: * (فاحكم بين الناس بالحق) * والحق ما دل عليه الدليل عند المجتهد، فلا يجوز أن يحكم
بغيره والمقلد ملحق بمن يقلده لأنه إنما يحكم بمعتقده فلذلك أجرى عليه حكمه. (ولا يجوز أن يشرط عليه) أي على من
استخلفه (خلافه) أي الحكم باجتهاده أو باجتهاد مقلده لأنه لا يعتقده. وقضية ذلك أنه لو شرطه لم يصح الاستخلاف،
وهو كذلك، لأن الحاكم إنما يعمل باجتهاده أو اجتهاد مقلده، وكذا لو شرطه الإمام في تولية القاضي لم تصح توليته لما
مر، وإن قال: لا تحكم في كذا فيما يخالفه فيه جاز وحكم في غيره من بقية الحوادث، كقوله: لا تحكم في قتل المسلم بالكافر
والحر بالعبد: (ولو حكم) بكاف مشددة، (خصمان رجلا) غير قاض (في غير حد الله تعالى) من مال أو غيره، (جاز مطلقا)
على التفاصيل الآتية، (بشرط أهلية القضاء) ولا يشترط عدم القاضي، لأنه وقع لجمع من كبار الصحابة ولم ينكره أحد،
قال الماوردي: فكان إجماعا.
تنبيه: قوله: خصمان يوهم اعتبار الخصومة، وليس مرادا، فإن التحكيم يجري في النكاح، فلو قال
اثنان كان أولى، وقوله: في غير حدود الله مزيد على المحرر، ولا بد منه لأنه لا يصح التحكيم فيها، ولو قال في غير
عقوبة لله ليتناول التعزير كان أولى لأنه كالحد في ذلك. واحترز بقوله: بشرط أهلية القضاء عما إذا كان غير أهل
فلا ينفذ حكمه قطعا، والمراد بالأهلية الأهلية المطلقة لا بالنسبة إلى تلك الواقعة، ولهذا قال في المحرر: ويشترط فيه
378

صفة القاضي. نعم يستثنى التحكيم في عقد النكاح، فإنه يجوز فيه تحكيم من لم يكن مجتهدا كما مر ذلك في بابه. واستثنى
البلقيني من جواز التحكيم الوكيلين، فلا يكفي تحكيمهما، بل المعتبر تحكيم الموكلين والوليين، فلا يكفي تحكيمهما
إذا كان مذهب المحكم يضر بأحدهما. والمحجور عليه بالفلس لا يكفي رضاه إذا كان مذهب المحكم يضر بغرمائه.
والمأذون له في التجارة وعامل القراض لا يكفي تحكيمهما، بل لا بد من رضا المالك. والمحجور عليه بالسفه لا أثر
لتحكيمه، قال: ولم أر من تعرض لذلك. (وفي قول) من طريق: (لا يجوز) التحكيم مطلقا لما فيه من الافتيات على الإمام.
(وقيل) أي وفي وجه من طريق: يجوز التحكيم (بشرط عدم قاض بالبلد) لوجود الضرورة حينئذ. (وقيل) أي وفي وجه
من طريق: (يختص) جواز التحكيم (بمال) لأنه أخف (دون قصاص ونكاح ونحوهما) كلعان وحد قذف لخطر أمرها،
فتناط بنظر القاضي ومنصبه. والصحيح عدم الاختصاص، لأن من صح حكمه في مال صح في غيره كالمولى من
جهة الإمام.
تنبيه: لا يأتي التحكم في حدود الله تعالى، إذ ليس لها طالب معين. ويؤخذ من هذا التعليل أن حق الله تعالى المالي
الذي لا طالب له معين لا يجوز فيه التحكيم. (و) المحكم (لا ينفذ حكمه إلا على راض به) قبل حكمه، لأن رضا الخصمين
هو المثبت للولاية، فلا بد من تقدمه.
تنبيه: محل اشتراط الرضا حيث لم يكن أحد الخصمين القاضي، فلو تحاكم القاضي مع شخص عند محكم لم يشترط
رضا الآخر على المذهب بناء على أن ذلك تولية. ورده ابن الرفعة بأن ابن الصباغ وغيره قالوا: ليس التحكيم تولية،
فلا يحسن البناء. وأجيب بأن محل هذا إذا صدر التحكيم من غير قاض فيحسن البناء. (فلا يكفي رضا قاتل) بحكمه (في
ضرب دية على عاقلته) بل لا بد من رضا العاقلة، لأنهم لا يؤاخذون بإقرار الجاني فكيف يؤاخذون برضاه. ويشترط
استدامة الرضا إلا تمام الحكم، (و) حينئذ (إن رجع أحدهما قبل) تمام (الحكم) ولو بعد إقامة البينة والشروع فيه، (امتنع
الحكم) لعدم استمرار الرضا. (ولا يشترط الرضا بعد الحكم في الأظهر) كحكم المولى من جهة الإمام. والثاني: يشترط،
لأن رضاهما معتبر في أصل الحكم فكذا في لزومه.
تنبيه: ليس للمحكم أن يحبس، بل غايته الاثبات والحكم، وقضيته أنه ليس له الترسيم، قال الرافعي نقلا عن
الغزالي: وإذا حكم بشئ من العقوبات كالقصاص وحد القذف لم يستوفه لأن ذلك يحرم أبهة الولاية، وإذا ثبت
الحق عنده وحكم به أو لم يحكم فله أن يشهد على نفسه في المجلس خاصة، إذ لا يقبل قوله بعد الافتراق كالقاضي بعد
العزل، قاله الماوردي. ولا يحكم لنحو ولده ممن يتهم في حقه ولا على عدوه كما في القاضي لأنه لا يزيد عليه، ويمضي
حكم المحكم كالقاضي ولا ينقض حكمه إلا بما ينقض به قضاء غيره.
فرع: يجوز أن يتحاكما إلى اثنين، فلا ينفذ حكم أحدهما حتى يجتمعا. ويفارق تولية قاضيين على اجتماعهما
على الحكم لظهور الفرق، قاله في المطلب. (ولو نصب) الإمام ببلد (قاضيين في بلد وخص كلا بمكان) منه يحكم فيه،
(أو زمان) كيوم كذا، (أو نوع) من الحكم كأن جعل أحدهما يحكم في الأموال والآخر في الدماء والفروج، (جاز) لعدم
المنازعة بينهما.
تنبيه: شمل كلامه ما لو ولى الإمام قاضيا يحكم بين الرجال وآخر يحكم بين النساء، وهو ما جزم به الإمام.
وعلى هذا لو اختصم رجل وامرأة لم يفصل واحد منهما الخصومة فلا بد من ثالث يتولى القضاء بين الرجال والنساء،
379

قال الأذرعي: وقس بهذا ما يشبهه. (وكذا إن لم يخص) كلا من القاضيين بما ذكر بل عمم ولايتهما، فيجوز (في
الأصح) كنصب الوصيين والوكيلين، وحكاه في البحر عن النص، ونسبه الماوردي إلى الأكثرين. والثاني:
لا يجوز، وصححه الإمام والغزالي وابن أبي عصرون. (إلا أن يشرط اجتماعهما على الحكم) فلا يجوز لما يقع بينهما
من الخلاف في محل الاجتهاد فلا تنفصل الخصومات. وقضية هذا التعليل أنه لو ولى الإمام مقلدين لإمام واحد وقلنا
تجوز ولاية المقلد أنه يجوز وإن شرط اجتماعهما على الحكم لأنه لا يؤدي إلى اختلاف لأن إمامهما واحد. فإن قيل:
قد يكون للإمام الواحد قولان فيرى أحدهما العمل بقول والآخر بخلافه فيؤدي إلى النزاع والاختلاف. أجاب الشيخ
برهان الدين الفزاري بأن كلا منهما إنما يحكم بما هو الأصح من القولين، وهو كما قال ابن شهبة ظاهر في المقلد
الصرف، وعند تصريح ذلك الإمام بتصحيح أحد القولين، أما إذا كانا من أهل النظر والترجيح وإلحاق ما لم يقفا
فيه على نص من أئمة المذهب بما هو منصوص وترجيح أحد القولين، فههنا يقع النزاع في ذلك والاختلاف ويختلف
النظر فيتجه المنع أيضا، أما إذا أطلق بأن لم يشرط استقلالهما ولا اجتماعهما فإنه يحمل على إثبات الاستقلال تنزيلا
للمطلق على ما يجوز. ويفارق نظيره في الوصيين بأن تعيينهما بشرط اجتماعهما على التصرف جائز. فحمل المطلق عليه
بخلاف القاضيين. وإن طلب القاضيان خصما بطلب خصميه له منهما أجاب السابق منهما بالطلب، فإن طلباه معا أقرع
بينهما، وإن تنازع الخصمان في اختيار القاضيين أجيب الطالب للحق دون المطلوب كما جزم به الروياني، فإن تساويا
بأن كان كل منهما طالبا ومطلوبا كتحاكمهما في قسمة ملك أو اختلفا في قدر ثمن مبيع أو صداق اختلافا يوجب
تخلفهما تحاكما عند أقرب القاضيين إليهما، فإن استويا في القرب إليهما عمل بالقرعة، ولا يعرض عنهما حتى يصطلحا
لئلا يؤدي إلى طول النزاع.
تنبيه: ما ذكره المصنف من نصب القاضيين يجري أيضا في أكثر من قاضيين، قال الماوردي والروياني:
بشرط أن يقل عددهم، فإن كثر لم يصح قطعا، ولم يحدوا القلة والكثرة بشئ. قال في المطلب: ويجوز أن يناط ذلك
بقدر الحاجة اه‍. وهذا ظاهر.
تتمة: قال الماوردي: ولو قلده - أي الإمام - بلدا وسكت عن نواحيها، فإن جرى العرف بإفرادها عنها لم تدخل
في ولايته، وإن جرت بإضافتها دخلت، وإن اختلف العرف روعي أكثرها عرفا، فإن استويا روعي أقربهما عهدا.
فصل: فيما يعرض للقاضي مما يقتضي عزله أو انعزاله: (جن قاض) أطبق جنونه أو تقطع كما يقتضيه إطلاقهم.
وفي الروضة كأصلها في باب البغاة عن الماوردي: أن الإمام لو تقطع جنونه وزمن الإفاقة أكثر بحيث يمكنه فيه القيام
بالأمور أنه لا ينعزل. قيل: وقياسه في القاضي كذلك، وسيأتي الفرق بين الإمام والقاضي. (أو أغمي عليه أو عمي) وفي
معنى العمى الخرس والصمم. (أو ذهبت أهلية اجتهاده وضبطه بغفلة أو نسيان) مخل بالضبط، (لم ينفذ حكمه) في حال مما
ذكر لانعزاله بذلك، ولأن هذه الأمور تمنع من ولاية الأب فالحاكم أولى.
تنبيهات: أحدها: يستثنى من عدم نفوذ قضاء الأعمى ما لو سمع البينة وتعليلها ثم عمي فإن قضاءه ينفذ في تلك الواقعة
إن لم يحتج إلى إشارة فكأنه إنما انعزل بالنسبة إلى غير هذه الواقعة، بل لو عاد بصره تبين أنه لم ينعزل لأنه لو ذهب لما عاد
كما مر ذلك في الجنايات. والثاني: قوله: ذهبت أهلية اجتهاده ظاهر في أن الكلام في المجتهد المطلق، أما المقلد لمذهب معين إذا
كان مجتهدا فيه فإذا خرج عن أهلية الاجتهاد فيه قال الأذرعي: فحكمه كذلك وأولى، قال: ومن لم يبلغ هذه الرتبة
وهو الموجود اليوم غالبا فلم أر فيه شيئا. ويشبه أنه إذا حصل له أدنى تغفل ونحوه لم ينفذ حكمه لانحطاط رتبته فيقدح
في ولايته ما عساه يغتفر في حق غيره. الثالث: المرض المعجز له عن النهضة، والحكم ينعزل به إذا كان لا يرجى زواله، فإن رجي
380

أو عجز عن النهضة دون الحكم لم ينعزل، قاله الماوردي. الرابع: لو أنكر كونه قاضيا، ففي البحر ينعزل، ومحله كما
قال الزركشي إذا تعمد ولا غرض له في الاخفاء. الخامس: لو أنكر الإمام كونه قاضيا لم ينعزل كما بحثه بعض المتأخرين.
(وكذا لو فسق) لم ينفذ حكمه، وينعزل (في الأصح) لوجود المنافي للولاية. والثاني: ينفذ كالإمام الأعظم. وفرق
الأول بحدوث الفتن واضطراب الأمور.
تنبيه: هذه المسألة مكررة لتقدمها في فصل الايصاء، إلا أن يقال ذكرت هناك للانعزال وهنا لعدم نفوذ الحكم،
ولهذا لم يتعرض للانعزال، وإن كنت قدرته في كلامه.
تنبيه: محل ذلك في غير قاضي الضرورة، أما هو إذا ولاه ذو شوكة والقاضي فاسق فزاد فسقه، فلا ينعزل كما
بحثه بعض المتأخرين. فإن قيل: فاقد الطهورين إذا أحدث بعد إحرامه تبطل صلاته على الراجح فهلا كان هنا
كذلك أجيب بأن صلاته إنما بطلت لشمول النص لها، وهو حتى يجد ريحا أو يسمع صونا. ثم أشار المصنف
رحمه الله تعالى لفرع من قاعدة أن الزائل العائد كالذي لم يعد بقوله: (فإن زالت هذه الأحوال) السابقة من جنون
وما بعده ثم عادت الأهلية، (لم تعد ولايته) بلا تولية (في الأصح) كالوكالة، ولان الشئ إذا بطل لم ينقلب إلى
الصحة بنفسه، وإن زال المانع كالبيع ونحوه. والثاني: تعود من غير استئناف تولية كالأب إذا جن ثم أفاق أو
فسق ثم تاب.
تنبيه: لو زالت أهلية الناظر على الوقف ثم عادت، فإن كان نظره مشروطا في أصل الوقف عادة ولايته جزما
كما أفتى به المصنف لقوته، إذ ليس لأحد عزله، وإلا فلا يعود إلا بتوليه جديدة. (و) يجوز (للإمام عزل قاض ظهر منه
خلل) لا يقتضي انعزاله، ويكفي فيه غلبة الظن كما في أصل الروضة عن الوسط، وجزم به في الشرح الصغير. ومن
الظن كثرة الشكاوى منه، بل قال ابن عبد السلام: إذا كثرت الشكاوى منه وجب عزله اه‍. وهذا ظاهر. وقد روى
أبو داود: أن النبي صلى الله عليه وسلم عزل إماما يصلي بقوم بصق في القبلة وقال: لا يصلي بهم بعدها أبدا. وإذا جاز هذا
في إمام الصلاة جاز في القاضي، بل أولى. نعم إن كان متعينا للقضاء لم يجز عزله، ولو عزله لم ينعزل. أما ظهور خلل
يقتضي انعزاله، فلا يحتاج فيه إلى عزل لانعزاله به. (أولم يظهر) منه خلل، (و) لكن (هناك) من هو (أفضل
منه) تحصيلا لتلك المزية للمسلمين. ولا يجب ذلك، وإن قلنا: إن ولاية المفضول لا تنعقد مع وجود الفاضل، لأن الولاية
قد تمت فلا يقدح فيها ما يحدث. (أو) كان هناك (مثله) أي أو دونه، (و) لكن (في عزله به) للمسلمين (مصلحة
كتسكين فتنة) لما فيه من المصلحة للمسلمين، (وإلا) بأن لم يكن في عزله مصلحة (فلا) يجوز عزله، لأنه عبث
وتصرف الإمام يصان عنه. وهذا قيد في المثل لا في الأفضل، وقيده في المحرر أيضا بعدم الفتنة في عزله، فقال: أو مثله.
وفي عزله به للمسلمين مصلحة وليس في عزله فتنة. ولا يستغنى عنه بقوله وفي عزله به مصلحة فقد يكون الشئ
مصلحة من وجه آخر، و (لكن ينفذ العزل في الأصح) مراعاة لطاعة الإمام. والثاني: لا، لأنه لا خلل في الأول ولا مصلحة
في عزله. أما إذا لم يوجد هناك من يصلح للقضاء غيره فإنه لا ينعزل، ومتى كان العزل في محل النظر واحتمل أن يكون
فيه مصلحة فلا اعتراض على الإمام فيه وبحكم نفوذه. ولو ولى الإمام قاضيا ظانا موت القاضي الأول أو فسقه فبان
حيا أو عدلا لم يقدح في ولاية الثاني، كذا قالاه، وقضيته كما قال الأذرعي انعزاله الأول بالثاني لأنه أقامه مقامه لا أنه
ضمه إليه، وبه صرح البغوي في تعليقه. وقضية كلام القفال عدم انعزاله، والأول أوجه. وفي بعض الشروح أن تولية
قاض بعد قاضي هل هي عزل للأول؟ وجهان، وليكونا مبنيين على أنه هل يجوز أن يكون في بلد قاضيان اه‍. قال الزركشي:
والراجح أنها ليست بعزل. وقد ذكر في الروضة في الوكالة أنه لو وكل شخصا ثم وكل آخر فليس بعزل للأول قطعا
381

مع أن تصرف الوكيل أضعف من تصرف القاضي. واحترز المصنف بالإمام عن القاضي مع خليفته فله عزله بلا موجب
بناء على انعزاله بموته كما قاله الماوردي والسبكي، وإن خالف فيه البلقيني. وأفهم قوله: وللإمام أنه ليس للقاضي عزل
نفسه، وليس مرادا بل له عزل نفسه كالوكيل كما جزم به في الروضة وأصلها، قال الشيخ أبو علي: إلا إن تعين عليه
فلا يعزل نفسه، قال ابن عبد السلام: ولا ينعزل.
تنبيه: ما ذكره المصنف من جواز العزل محله في الامر العام، أما الخاص فقال الزركشي نقلا عن إفتاء
جمع متأخرين: ولا ينعزل أرباب الوظائف الخاصة كالإمامة والاذان والتصرف والتدريس والطلب والنظر
بالعزل من
غير سبب إلا أن يكون في شرط الواقف ما يقتضيه، وقاسه على الجند المثبتين في الديوان. وفيه كلام للسبكي ذكرته
في باب الوقف. (والمذهب أنه) أي القاضي، (لا ينعزل قبل بلوغه خبر عزله) وفي قوله من الطريق الثاني أنه ينعزل كأرجح
القولين في الوكيل. والفرق بينهما على الأول عظم الضرر في نقض أقضيته بعد العزل وقبل بلوغ الخبر، بخلاف
الوكيل. ولو علم الخصم أنه معزول لم ينفذ حكمه له لعلمه أنه غير حاكم باطنا، ذكره الماوردي في النكاح. نعم لو
رضي بحكمه كان كالتحكيم.
تنبيه: لم يتعرضوا لما يحصل به بلوغ خبر العزل، قال الزركشي: ينبغي إلحاق ذلك بخبر التولية، أي تولية القضاء،
بل أولى حتى يعتبر شاهدان، وتكفي الاستفاضة، ولا يكفي الكتاب المجرد في الأصح فيهما. وقال الأذرعي: الظاهر أنه
يكفي خبر عدل واحد، ولو عبدا وامرأة اه‍. وهذا هو الظاهر. ويفرق بين التولية والعزل، بأن التولية فيها إقدام
على الأحكام فيحتاط لها، والعزل فيه توقف عنها، وهو أحوط. قال البلقيني: ولو بلغه الخبر ولم يبلغ نوابه
لا ينعزلون حتى يبلغهم الخبر وتبقى ولاية أصلهم مستمرة حكما وإن لم ينفذ حكمه، ويستمر ما رتب له على سد
الوظيفة لسدها بنوابه. قال: والقياس في عكسه - أي فيما لو بلغ النائب قبل أصله - أن النائب لا ينعزل حتى يبلغ أصله خبر
العزل وينفذ حكمه كما ينفذ حكم أصله. قال: ولم أر من تعرض له اه‍. وما قاله ظاهر في الأول ممنوع في العكس، لأن
النائب دخل في عموم كلام الأصحاب حتى يبلغه الخبر والنائب قاض فينعزل ببلوغ الخبر كما جرى عليه شيخنا في بعض
كتبه. ولو ولى السلطان قاضيا ببلد فحكم ذلك القاضي ولم يعلم أن السلطان ولاه، قال الزركشي: فيحتمل أن ينفذ حكمه،
كما لو وكل وكيلا ببيع شئ فتصرف الوكيل وباعه ثم علم بالوكالة، فإن الشيخ أبا حامد وغيره قالوا: هو على الخلاف
فيما لو باع مال أبيه ظانا حياته فبان ميتا اه‍. والظاهر عدم نفوذ حكمه لاشتراط قبول من القاضي وأخذا مما بحثه في قاض
أقدم على تزويج امرأة يعتقد أنها في غير محل ولايته ثم ظهر أنها بمحل ولايته من أنه لا يصح، قال: لأنه بالاقدام يفسق
ويخرج عن الولاية. (وإذا) علق الإمام عزل القاضي بقراءة كتاب، كأن (كتب الإمام إليه إذا قرأت كتابي فأنت معزول
فقرأه انعزل) لوجود الصفة، وكذا لو طالعه وفهم ما فيه ولم يتلفظ، (وكذا إن قرئ عليه في الأصح) لأن القصد إعلامه
بالعزل لا قراءته بنفسه. والثاني: لا ينعزل نظرا إلى صورة اللفظ. ولو كتب إليه عزلتك أو أنت معزول من غير تعليق
على القراءة لم ينعزل ما لم يأته الكتاب كما قاله البغوي وغيره.
تنبيه: لو جاءه بعض الكتاب فقياس ما قالوه في الطلاق أنه إن انمحى موضع العزل لا ينعزل وإلا انعزل. ثم
شرع في بيان انعزال نواب القاضي، فقال: (وينعزل بموته) أي القاضي، (وانعزاله) نائبه المقيد، وهو كل (من
أذن له في شغل معين كبيع مال ميت) أو غائب وسماع شهادة في حادثة وغير ذلك من القضايا الجزئية كالوكيل. والمراد
إذا علم بذلك كما يعلم مما مر، وصرح به ابن سراقة وفي الروضة وأصلها عن السرخسي: أن الإمام لو نصب نائبا عن
القاضي لا ينعزل بموت القاضي وانعزاله. قال الرافعي: ويجوز أن يقال إذا كان الاذن مقيدا بالنيابة ولم يبق الأصل لم
382

يبق النائب اه‍. وهذا ظاهر. وبحث بعضهم أن الموت ليس بعزل، بل ينتهي به القضاء. (والأصح انعزال نائبه المطلق)
بما ذكر، وهذا (إن لم يأذن له في الاستخلاف) لأن الاستخلاف في هذه للمعاونة، وقد زالت ولايته فبطلت المعاونة.
(أو) إن (قيل له) أي قال له الإمام: (استخلف عن نفسك، أو أطلق) له الاستخلاف لظهور غرض المعاونة وبطلانها
ببطلان ولايته.
تنبيه: محل انعزاله عند الاطلاق إذا لم يعين من يستخلفه، فإن قال: استخلف فلانا فهو كقوله: استخلف عني
فلا ينعزل، لأنه قطع نظر بالتعيين وجعله سفيرا، أشار إليه الماوردي والروياني كما ذكره الأذرعي وغيره (فإن قيل)
أي قال الإمام له: (استخلف عني فلا) ينعزل الخليفة بما ذكر، لأنه نائب عن الإمام، والأول: سفير في التولية،
والثاني: ينعزل مطلقا كالوكيل بموت الموكل، والثالث: لا مطلقا رعاية لمصلحة الناس.
تنبيه: مقتضى كلام الأصحاب انعزال نواب قاضي الإقليم الكبير بموته حيث لم يقل له الإمام استخلف عني، وهو
كذلك، فقد قال الصيمري: نواب القاضي الكبير كقاضي خراسان ينعزلون بموته، وعزله على الصحيح بخلاف قضاة
الإمام. قال: وجعل القاضي حسين قضاة والي الإقليم كقضاة الإمام، محله فيما إذا صرح الإمام له بذلك أو اقتضاه العرف،
وحينئذ فيكون كالمنصوبين من جهة الإمام. (ولا ينعزل قاض) وغيره ممن ولي أمرا عاما كوكيل بيت المال، (بموت
الإمام) وانعزاله لشدة الضرر في تعطيل الحوادث. وفرق في الحاوي بينه وبين خليفة القاضي بأن الإمام يستنيب
القضاة في حقوق المسلمين فلم ينعزلوا بموته والقاضي يستنيب خليفته في حق نفسه فانعزل بموته. قال: وعلى هذا الفرق
يجوز للقاضي أن ينعزل خليفته بغير موجب، ولا يجوز للإمام عزل القاضي بغير موجب اه‍. وتقدم الكلام على ذلك.
قال الأذرعي: وأفتى بعض العصريين بانعزال وكيل بيت المال بموت السلطان متمسكا بقولهم: إن الوكيل ينعزل
بموت الموكل وهذا جمود على الأسماء وذهول عن المعنى، وليس بصواب بل غلط. (ولا) ينعزل (ناظر يتيم، و)
ناظر (وقف بموت قاض) وانعزاله لئلا تتعطل أبواب المصالح.
تنبيه: لو شرط لواقف النظر لحاكم المسلمين ببلد كذا ففوض النظر فيه لواحد ثم تولى قاض جديد، قال
الأذرعي: الظاهر انعزاله قطعا، لأنه آل إلى القاضي الجديد بشرط الواقف كما لو شرط النظر لزيد ثم لعمرو فنصب زيد
لنفسه نائبا فيه ثم مات زيد فإنه ينعزل نائبه لا محالة ويصير النظر لعمرو فليحمل، إذ كلام المصنف على ما إذا آل
النظر إلى القاضي لكون الواقف لم يشرط ناظرا، أو انقرض من شرط له، أو خرج عن الأهلية. قال ابن شهبة: ويقع في
كتب الأوقاف كثيرا. فإذا انفرضت الذرية يكون النظر فيه لحاكم المسلمين ببلد كذا يوليه من شاء من نقبائه ونوابه،
فإذا آل النظر إلى قاض فولى النظر لشخص فهل ينعزل بموت ذلك القاضي أو انعزاله. والأقرب عدم انعزاله. (ولا
يقبل قوله) أي القاضي (بعد انعزاله): كنت (حكمت بكذا) لفلان إلا ببينة، لأنه لا يملك إنشاء الحكم حينئذ
فلا يملك الاقرار. نعم لو انعزل بالعمى قبل منه ذلك لأنه إنما انعزل بالعمى فيما يحتاج إلى الابصار، وقوله: حكمت عليك
بكذا لا يحتاج إلى ذلك، قاله البلقيني. ولو قال: صرفت مال الوقف لجهته أو عمارته التي يقتضيها الحال صدق بلا يمين.
(فإن شهد مع آخر بحكمه لم يقبل على الصحيح) لأنه يشهد بفعل نفسه. والثاني: يقبل، كما لو شهدت المرضعة أنها
أرضعت ولم تطالب بأجرة. وفرق الأول بأن فعلها غير مقصود بالاثبات، ولان شهادتها على فعلها تتضمن تزكيتها
بخلاف القاضي فيهما. واحترز بحكمه عما لو شهد أن فلانا أقر في مجلس حكمه بكذا، فإنه يقبل قطعا لأنه لم يشهد
على فعل نفسه، وإنما يشهد على إقرار سمعه، قاله الماوردي.
تنبيه: قول المصنف: مع آخر يوهم أنه لو شهد بذلك وحده لم يقبل قطعا، ومقتضى كلامهم جريان الخلاف في
383

الحالين. وقد يكون الحق مما يثبت بالشاهد واليمين فلو حذفه لكان أولى، قاله الزركشي. (أو) شهد (بحكم
حاكم جائز الحكم) ولم يضفه إلى نفسه، (قبلت) شهادته (في الأصح) كالمرضعة إذا شهدت كذلك. والثاني: المنع، لأنه قد
يريد فعل نفسه.
تنبيه: قول المصنف: جائز الحكم تأكيد كما قاله بعضهم. ومحل الخلاف إذا لم يعلم القاضي أنه حكمه، وإلا فلا
يقبل جزما نظرا لبقاء التهمة، ومحله أيضا إذا قلنا لا يعتبر تعيين الحاكم في الشهادة على الحكم، بل يكفي أن تقوم البينة على
حكومة حاكم من الحكام كما هو المذهب المشهور. أما إذا قلنا باشتراط التعيين فلا يقبل قطعا. (ويقبل قوله قبل عزله:
حكمت بكذا) حتى لو قال على سبيل الحكم: نساء القرية طوالق من أزواجهن قبل قوله: بلا حجة لقدرته على الانشاء
حينئذ، بخلاف ما لو قاله على سبيل الاخبار فلا يقبل كما صرح به البغوي، وهو مقتضى كلام أصل الروضة.
وينبغي أن يكون محله كما قال شيخنا ما لو أسنده إلى ما قبل ولايته. قال الأذرعي: وما قالوه من قبول قوله
ظاهر في
القاضي المجتهد مطلقا أو في مذهب إمامه، أما غيرهما ففي قبوله وقفة، وقد استخرت الله وأفنيت فيمن سئل من قضاة
العصر عن مستند قضائه أنه يلزمه بيانه لأنه قد يظن ما ليس بمستند مستندا كما هو كثير أو غالب. قال: ويشبه أن يكون
محل ما ذكر في قرية أهلها محصورون، أما في بلد كبير كبغداد فلا لأنا نقطع ببطلان قوله. وإلى ما قاله يشير تعبير الشيخين
بالقرية. ولو قال الحاكم: شهد عندي فلان وفلان بكذا وأنكرا لم يلتفت لانكارهما كما قاله ابن الصباغ. (فإن كان) أي
القاضي (في غير محل ولايته فكمعزول) في أنه لا ينفذ حكمه لعدم قدرته على الانشاء ثم.
تنبيه: المراد بمحل ولايته بلد قضائه، وظن بعضهم أنه لا ينفذ حكمه في غير مجلسه المعد للحكم وهو خطأ صريح،
نبه عليه ابن الصلاح والمصنف في الطبقات. قال الزركشي: وظاهر كلامهم أن المراد المحيط بها السور والبناء المتصل
دون البساتين والمزارع، فعلى هذا لو زوج القاضي امرأة في البلد وهو بالمزارع أو البساتين أو عكسه لم يصح لأنه ليس
في محل ولايته. قال: وكثير من الحكام يتساهل في ذلك والأحوط تركه، لأن الولاية لم تتناول غير البلد اه. وهذا
إذا لم يكن عرف كما قدمناه. ولو قال المعزول للأمين: أعطيتك المال أيام قضائي لتحفظه لفلان فقال الأمين: بل لفلان
صدق المعزول، وهل يغرم الأمين لمن عينه هو قدر ذلك؟ فيه وجهان في تعليق القاضي، أوجههما كما قال شيخنا
المنع. فإن قال له الأمين: لم تعطني شيئا بل هو لفلان فالقول قول الأمين، لأن الأصل عدم الاعطاء. ويستثنى من
إطلاق المصنف ما لو أذن الإمام للقاضي أن يحكم بين أهل ولايته حيثما كان، فإنه يجوز له الحكم بينهم ولو كان في غير
محل ولايته، قال صاحب البيان: هذا الذي يقتضيه المذهب، وقاله في الذخائر أيضا. وحينئذ فيقبل قوله على من هو
من أهل بلده أنه حكم عليه بكذا. (ولو ادعى شخص على معزول أنه أخذ ماله برشوة) أي على سبيل الرشوة كما في المحرر،
وهي بتثليث الراء: دفع لمن لم يحكم بالحق أو يمتنع عن الحكم به. (أو شهادة عبدين مثلا) أي أو غيرهما ممن لا تقبل شهادته
وأعطاه لفلان، ومعتقده أنه لا تجوز شهادتهما، (أحضر وفصلت خصومتهما) كما لو ادعى عليه غصبا لتعذر إثبات ذلك
بغير حضوره، وله أن يوكل ولا يحضر كما قاله في المطلب. وإذا حضر فإن أقيمت عليه بينة أو أقر حكم عليه وإلا صدق
بيمينه كسائر الامناء إذا ادعى عليهما جناية، ولعموم خبر: البينة على المدعي واليمين على من أنكر وقيل: بلا يمين، لأنه
أمير الشرع فيصان منصبه على التحليف. قال الزركشي: وهذا فيمن عزل مع بقاء أهليته، أما من ظهر فسقه
وشاع
جوره وخيانته، فالظاهر أنه يحلف قطعا.
384

تنبيه: لو حضر إنسان إلى القاضي الجديد وتظلم من المعزول وطلب إحضاره إلى مجلس الحكم لم يبادر
بإحضاره بل يقول: ما تريد منه؟ فإن ذكر أنه يدعي عليه دينا أو عينا أحضره. ولا يجوز إحضاره قبل تحقق الدعوى
إذ قد لا يكون له حق، وإنما قصد ابتذاله بالحضور. (وإن قال) الشخص (حكم) علي القاضي (بعبدين) أو نحوهما
مما لا تقبل شهادته كفاسقين، قال ابن الرفعة: أي وهو يعلم ذلك فإنه لا يجوز وأنا أطالبه بالغرم. (ولم يذكر) رشوة
ولا (مالا أحضر) المعزول ليجيب عن دعواه. (وقيل: لا حتى يقيم بينة بدعواه) لأنه كان أمين الشرع. والظاهر
من أحكام القضاة جريانها على الصحة فلا يعدل عن الظاهر إلا ببينة. (فإن أحضر) على الوجهين وادعى عليه
(وأنكر) بأن قال: لم أحكم عليه أصلا، أو: لم أحكم إلا بشهادة حرين، (صدق بلا يمين في الأصح) لأنه أمين الشرع
فيصان منصبه عن الحلف والابتذال بالمنازعات. (قلت: الأصح يمين، والله أعلم) لعموم قوله (ص):
واليمين على من أنكر ولان أقصى درجات المعزل أن يكون مؤتمنا، والمؤتمن كالمودع يحلف. قال الزركشي:
وقد اختلف تصحيح المصنف، فقد صحح الأول في الروضة، والصواب ما صححه هنا فإنه المنصوص. قال الفارقي:
محل الخلاف إذا علم الشاهدان وإلا فينظر فيهما ليعرف حالهما. قال الغزي: وهو متجه في العبد دون الفسقة، لأن
الفسق قد يطرأ على العبد اه‍. وهو ظاهر. (ولو ادعي) بالبناء للمفعول، (على قاض) حال ولايته، (جور في حكم)
أو ادعى على شاهد زور، وأريد تحليفه كما سيأتي في الدعاوى، (لم يسمع ذلك، ويشترط بينة) به فلا يحلف فيه
واحد منهما لأنهما أمينان شرعا، ولو فتح باب التحليف لاشتد الامر ورغب الناس عن القضاء والشهادة، قال
الزركشي: وهذا إذا كان موثوقا به وإلا حلف. وقال الأذرعي: قولهم في توجيه منع التحليف أنه لو حلف الخ
أن ذلك مبني على كمال القاضي ووجود أهليته التامة، ونحن نقطع بأن غالب من يلي القضاء في عصرنا لو حلف
الواحد كل يوم سبعين مرة على عدم جوره في الحكم وارتشائه لم يرده ذلك عن الحرص على القضاء ودوام ولايته
مع ذلك، بل يشتد حرصه وتهافته عليه وطلبه هو وغيره، فإنا لله وإنا إليه راجعون اه‍. هذا في زمانه، فلو أدرك
زماننا، فإن قيل: كيف تشترط البينة مع عدم سماع الدعوى؟ أجيب بأن المراد لم تسمع الدعوى لقصد تحليفه وإن
سمعت لأجل البينة، فإن كانت له بينة سمعت لا محالة. (وإن لم تتعلق) تلك الدعوى على قاض (بحكمه) بل يخاصمه
نفسه، (حكم بينهما) فيها (خليفته، أو) قاض آخر (غيره) كآحاد الرعايا. قال السبكي: هذا إن كانت الدعوى
بما لا يقدح فيه ولا يخل بمنصبه ولا يوجب عزله، وإلا فاقطع بأن الدعوى لا تسمع ولا يحلف ولا طريق
للمدعي
حينئذ إلا البينة. ثم قال: بل أقول لكل من ثبتت عدالته وادعي عليه بدعوى ينبغي للقاضي أن ينظر فيها وفي
إنكار ذلك العدل بها، فإن كان يمكن أن يكون عن سهو وغفلة أو اجتهاد وتأويل ونحوه بحيث لا يخل بعدالته فيسمعها
ويقبلها بيمين كغيرها إلا أن يظهر له من المدعى تعنت فيدفعه، وإن كان إنكاره لا يمكن أن يكون إلا قادحا فيه
فينبغي أن لا يسمع دعوى المدعي في ذلك وطلب تحليفه إلا أن يأتي ببينة، وذلك لأن ما يدعيه والحالة هذه مخالف لما
ثبت من عدالته، وله طريق وهو البينة.
تتمة ليس لأحد أن يدعي على متول في محل ولايته عند قاض أنه حكم بكذا، فإن كان في غير محلها أو معزولا
سمعت ولا يحلف، ذكره في الروضة وأصلها، فما تقرر في المعزول مخالف لما صححه هنا كما مر.
فصل: في آداب القضاء وغيرها: (ليكتب الإمام) ندبا (لمن يوليه) القضاء ببلد ما فوضه إليه في كتاب،
385

لأن النبي (ص) كتب لعمرو بن حزم لما بعثه إلى اليمن وهو ابن سبع عشرة سنة رواه أصحاب السنن،
ولان أبا بكر كتب لانس لما بعثه إلى البحرين وختم بخاتم رسول الله (ص)، رواه البخاري. ولم يجب ذلك
لأنه (ص) لم يكتب لمعاذ، بل اقتصر على وصيته. وإذا كتب إليه كتاب العهد بالولاية ذكر في الكتاب
ما يحتاج القاضي إلى القيام به ويعظه فيه ويعظمه ويوصيه بتقوى الله تعالى، ومشاورة أهل العلم، وتفقد الشهود
وغير ذلك. وفي معنى الإمام القاضي الكبير إذا استخلف في أعماله البعيدة. قال الصيمري: وينبغي للإمام أن يسلم
كتاب عهده إليه بحضرته خوفا من الزيادة فيه والنقصان ويقول له: هذا عهدي وحجتي عند الله. (ويشهد) ندبا
(بالكتاب) أي المكتوب بما تضمنه من التولية، (شاهدين يخرجان معه إلى البلد) الذي تولاه قرب أو بعد، (يخبران)
أهل البلد (بالحال) من التولية وغيرها، وعبارة التنبيه: وأشهد على التولية شاهدين، وهي أولى من عبارة الكتاب،
إذ الاعتماد على التولية دون الكتاب. وعند إشهادهما يقرآن الكتاب أو يقرأه الإمام عليهما، فإذا قرأه الإمام، قال في
البحر: لا يحتاج الشاهدان إلى أن ينظرا في الكتاب، وإن قرأه غير الإمام فالأحوط أن ينظر الشاهدان فيه ليعلما أن
الامر على ما قرأه القارئ من غير زيادة ولا نقصان. ولو أشهد ولم يكتب كفى فإن الاعتماد على الشهود، فإذا أخبروا
أهل البلد لزمهم طاعته.
تنبيه: أشار بقوله: يخبران إلى أنه لا يشترط لفظ الشهادة عند أهل ذلك البلد، وهو كذلك كما نقله في الروضة
عن الأصحاب من أن هذه الشهادة ليست على قواعد الشهادات، إذ ليس هناك قاض تؤدى عنده الشهادة. قال الزركشي:
وقضية ذلك أنه لو كان هناك قاض آخر كما جرت به العادة في بعض البلاد من نصب أتباع المذاهب الأربعة اعتبار
حقيقة الشهادة ولا شك فيه. وقال البلقيني: عندي أنه إذا كان المدار على الاخبار فإنه ليس على قواعد الشهادات فينبغي
أن يكتفي بواحد لأن هذا من باب الخبر، قال: ولم أر من تعرض لذلك اه‍. والظاهر هو إطلاق كلام الأصحاب. (وتكفي)
بمثناة فوقية، عن أخبارهما بالتولية، (الاستفاضة) بها (في الأصح) لحصول المقصود، ولم ينقل عنه (ص
)
ولا عن الخلفاء الراشدين الاشهاد. والثاني: المنع، لأن العقود لا تثبت بالاستفاضة كالبيع والإجارة.
تنبيه: ظاهر كلامه تبعا للمحرر جريان الخلاف ولو كان البلد بعيدا، وهو كذلك. ومنهم من ذكره في البلد القريب،
وليس للتقييد كما دل عليه كلام الروضة وأصلها. (لا مجرد كتاب) بها بلا إشهاد أو استفاضة، فلا يكفي (على المذهب)
لامكان التزوير. وفي وجه من الطريق الثاني: يكفي، لبعد الجراءة في مثل ذلك على الإمام.
تنبيه: أفهم كلامه أنه لا يكفي مجرد إخبار القاضي لهم، ولا خلاف في ذلك إن لم يصدقوه، فإن صدقوه ففي
وجوب طاعته وجهان. وقياس ما قالوه في الوكالة عدم وجوبها، لأن الإمام لو أنكر توليته كان القول قوله. قال
الأذرعي: لعل وجوبها أشبه، وفي الآثار والاخبار ما يعضده، أي ولأنهم اعترفوا بحق عليهم. (ويبحث) برفع المثلثة،
(القاضي) قبل دخوله بلد التولية الذي لا يعرف من فيه، (عن حال علماء البلد وعدوله) والمزكين سرا وعلانية
ليدخل على بصيرة بحال من فيه، لأنه لا بد له منهم فيسأل عن ذلك قبل الخروج، فإن لم يتيسر ففي الطريق، فإن لم
يتيسر فحين يدخل.
تنبيه: يندب إذا ولي أن يدعوا أصدقاءه الامناء ليعلموه عيوبه فيسعى في زوالها كما ذكره الرافعي آخر الباب
الثاني في جامع أدب القضاء. (ويدخل يوم الاثنين) صبيحته، لأنه (ص) دخل المدينة فيه حين اشتد
الضحى. فإن تعسر فالخميس، وإلا فالسبت. وأن يدخل في عمامة سوداء، ففي مسلم: أنه صلى الله عليه وسلم
دخل مكة يوم الفتح بها، ولأنه أهيب له. قال المصنف: ويستحب لمن كان له وظيفة من وظائف الخير كقراءة قرآن
أو حديث أو ذكر أو صنعة من الصنائع أو عمل من الأعمال أن يفعل ذلك أول النهار إن أمكنه، وكذلك من
386

أراد سفرا أو إنشاء أمر كعقد نكاح أو غير ذلك من الأمور. (وينزل وسط البلد) بفتح السين في الأشهر، ليساوي
أهله في القرب منه. هذا إذا اتسعت خطته كما قاله الزركشي، وإلا نزل حيث تيسر، قال: وهذا إذا لم يكن فيه موضع
يعتاد النزول فيه. قال القاضي أبو محمد: وإذا دخل نهارا قصد الجامع فيصلي فيه ركعتين ثم أمر
بعهده فقرئ ثم أمر بالنداء: من كانت له حاجة فلينظر ما رفع إليه من أمورهم ليكون قد أخذ في العمل واستحق رزقه اه‍. وهذا يفهم
أنه لا يستحق الرزق من يوم الولاية، وإنما يستحقه من يوم الشروع في العمل. قال ابن شهبة: وقد صرح الماوردي بذلك
فقال: لا يستحق قبل الوصول إلى عمله، فإذا وصل ونظر استحق، وإن وصل ولم ينظر، فإن تصدى للنظر استحق
وإن لم ينظر كالأجير إذا سلم نفسه، وإن لم يتصد لم يستحق اه‍. ثم إن شاء قرأ العهد فورا، وإن شاءوا عد الناس ليوم
يحضرون فيه ليقرأه عليهم، وإن كان معه شهود شهدوا ثم انصرف إلى منزله. (وينظر أولا في أهل الحبس) لأن الحبس
عذاب، فينظر هل يستحقونه أو لا.
تنبيه: ما صرح به في البداءة بأهل الحبس قاله الإمام والغزالي وابن الصباغ، لكنه خلاف ما نقلاه عن
الأصحاب أنه بعد قراءة العهد يتسلم ديوان الحكم، وهو ما كان عند القاضي قبله من المحاضر، وهي التي فيها ذكر
ما جرى من غير حكم، والسجلات، وهي ما يشتمل على الحكم، وحجج الأيتام وأموالهم ونحو ذلك من الحجج المودعة
في الديوان كحجج الأوقاف، لأنها كانت في يد الأول بحكم الولاية وقد انتقلت الولاية إليه فيتسلمها ليحفظها على
أربابها. وهذا التقديم على سبيل الاستحباب كما صرح به الرافعي في أواخر الآداب، لكن نقل ابن الرفعة عن الإمام أنه
واجب وأقره، والأولى أن يقال ما دعت إليه مصلحة وجب تقديمه كما يؤخذ مما يأتي. وإنما قدم على أهل الحبس ما مر مع
أنه عذاب لأنه أهم، ويؤخذ منه ما جزم به البلقيني أنه يقدم على البحث عنهم أيضا كل ما كان أهم منه كالنظر في
المحاجير والجائعين الذين تحت نظره، وما أشرف على الهلاك من الحيوان في التركات وغيرها، وما أشرف من الأوقاف
وأملاك محاجيره على السقوط بحيث يتعين الفور في تداركه، وكيفية النظر في أمر المحبوسين أن يأمر مناديا ينادي يوما
أو أكثر على حسب الحاجة: ألا إن القاضي فلانا ينظر في أمر المحبوسين يوم كذا، فمن كان له محبوس فليحضر. ويبعث
إلى الحبس أمينا من أمنائه يكتب في رقاع أسماءهم وما حبس به كل منهم ومن حبس له في رقعة، فإذا جلس اليوم الموعود
وحضر الناس نصب تلك الرقاع بين يديه، فيأخذ واحدة واحدة، وينظر في اسم المثبت فيها، ويسأل عن خصمه،
فمن قال أنا خصمه بعث معه ثقة إلى الحبس ليأخذ بيده ويخرجه. وهكذا يحضر من المحبوسين بقدر ما يعرف أن المجلس
يحتمل النظر في أمرهم، ويسألهم بعد اجتماعهم عن سبب حبسهم. (فمن قال حبست بحق) فعل به مقتضاه، فإن كان
الحق حدا أقامه عليه وأطلقه، أو تعزيرا ورأي إطلاقه فعل، أو مالا أمره بأدائه، فإن لم يوفه ولم يثبت إعساره
(أدامه) في الحبس، وإلا نودي عليه لاحتمال خصم آخر، فإن لم يحضر أحد أطلق. (أو) قال حبست (ظلما فعلى
خصمه حجة) إن كان حاضرا أنه حبسه بحق، فإن لم يقمها صدق المحبوس بيمينه وأطلق. ولا يطالب بكفيل على
الأصح، ونازع البلقيني في ذلك وقال: القول قول خصمه بيمينه ولا يكلف حجة لأن معه حجة سابقة وهي
أن الحاكم حبسه. (فإن كان) خصمه (غائبا) عن البلد طالبه بكفيله أورده إلى الحبس و (كتب إليه) قال الزركشي:
إلى قاضي بلد خصمه، وقال ابن المقري: إلى خصمه، وهو أقرب إلى قول المصنف. (ليحضر) لفصل الخصومة
بينهما، فإن لم يحضر أطلق. ونازع البلقيني في ذلك وقال: إن إحضاره من العجائب إذ يصير المحبوس المطلوب
طالبا لمن له الحق وليس في الشريعة ما يشهد لهذا. ورد بأنه ليس المراد إلزامه بالحضور بل إعلامه بذلك ليلحق
بحجته في إدامة حبس المحبوس إن كان له بذلك حجة، ويكفي المدعى إقامة بينة بإثبات الحق الذي حبس به أو بأن
القاضي المعزول حكم عليه بذلك. (ثم) بعد النظر في أهل الحبس ينظر (في) حال (الأوصياء) على
387

الأطفال والمجانين والسفهاء لأنهم ينصرفون في حق من لا يملك المطالبة بماله فكان تقديمهم أولى مما بعدهم. قال
الماوردي: ويبدأ في الأوصياء ونحوهم بمن شاء من غير قرعة، والفرق بينهم وبين المحبوسين أن المحابيس ينظر لهم،
والأوصياء ونحوهم ينظر عليهم.
تنبيه: سبيل تصرفه في مال عنده ليتيم في غير عمله كتصرفه في مال الغائب، إذ العبرة بمكان الطفل لا المال كما
مر في باب الحجر، وإنما ينظر في الأوصياء بعد ثبوت الوصاية عنده بطريقه. (فمن ادعى) منهم (وصاية) بكسر الواو
بخطه ويجوز فتحها: اسم من أوصيت له جعلته وصيا: (سأل عنها) من جهة ثبوتها بالبينة هل ثبتت وصاية بها أو لا.
(و) سأل (عن حاله) بالنسبة إلى الأمانة والكفاية، وهذا مزيد على المحرر. (و) عن (تصرفه) فيها، فإن قال: صرفت
ما أوصى به، فإن كان لمعين لم يتعرض له، وهو كما قال الأذرعي ظاهر إن كانوا أهلا للمطالبة، فإن كانوا محجورين
فلا، أو لجهة عامة وهو عدل أمضاه أو فاسق ضمنه لتعديه. ولو فرقها أجنبي لمعينين نفذ أو لعامة ضمن. وإذا
كان الموصى به باقيا تحت يد الوصي، (فمن وجده) عدلا قويا أقره، أو (فاسقا أخذ المال منه) وجوبا ووضعه عند
غيره من الامناء.
تنبيه: كلامه يفهم أنه لا يأخذه ممن شك في عدالته، وهو ما جرى عليه ابن المقري، وهو الأقرب إلى كلام
الجمهور، لأن الظاهر الأمانة. وقيل: ينزع منه حتى يثبت عدالته، وقال الأذرعي وغيره: إنه المختار لفساد الزمان.
ومحل الوجهين كما قاله البلقيني إذا لم تثبت عدالته عند الأول، وإلا فلا يتعرض له مع الشك جزما. فإن قيل: إذا عدل
الشاهد ثم شهد في واقعة أخرى بحيث طال الزمان احتاج إلى الاستزكاء، لأن طول الزمان يغير الأحوال. أجيب بأن
الوصاية قضية واحدة، وقد ثبت الحال فيها فلا يتكرر، ولو كلفنا الوصي ذلك لأضررنا بالمحجور عليه باشتغال الوصي
عنه بإثبات عدالته ولا كذلك الشاهد. (أو) وجده عدلا (ضعيفا) عن القيام بها لكثرة المال أو غيره، (عضده) أي
قواه (بمعين) ولا يرفع يده، ثم بعد الأوصياء يبحث عن أمناء القاضي المنصوبين على الأطفال وتفرقة الوصايا، فيعزل
من فسق منهم ويعين الضعيف بآخر. وله أن يعزل من يشاء من الامناء وإن لم يتغير حاله ويولي غيره بخلاف
الأوصياء،
لأن الامناء يتولون من جهة القاضي بخلاف الأوصياء. وأخروا عن الأوصياء لأن التهمة فيهم أبعد، لأن ناصبهم القاضي،
وهو لا ينصب إلا بعد ثبوت الأهلية عنده بخلاف الأوصياء. ثم يبحث عن الأوقاف العامة ومتوليها، وعن الخاصة
أيضا كما قاله الماوردي والروياني لأنها تؤول لمن لا يتعين من الفقراء والمساكين، فينظر هل آلت إليهم وهل له ولاية على
من تعين منهم لصغر أو نحوه؟ ويبحث أيضا عن اللقطة التي لا يجوز تملكها للملتقط أو يجوز ولم يختر تملكها بعد التعريف.
وعن الضوال فيحفظ هذه الأموال في بيت المال مفردة عن أمثالها، وله خلطها بمثلها إن ظهر في ذلك مصلحة أودعت
إليه حاجة كما قاله الأذرعي، فإذا ظهر مالكها غرم له من بيت المال، وله بيعها وحفظ ثمنها لمصلحة مالكها، ويقدم من
كل نوع مما ذكر الأهم فالأهم. ويستخلف فيما إذا عرضت حادثه حال شغله بهذه المهمات من ينظر في تلك الحادثة أو فيما
هو فيه. (و) بعد ذلك (يتخذ) بذال معجمة، (مزكيا) بزاي، لشدة الحاجة إليه ليعرفه حال من يجهل حاله من الشهود،
لأنه لا يمكنه البحث عنهم، وسيأتي شرطه آخر الباب.
تنبيه: أراد المصنف بالمزكي الجنس، ولو قال مزكين كان أولى، لأن الواحد لا يكفي إلا أن ينصب حاكما في
الجرح. (و) يتخذ (كاتبا) لتوقع الحاجة إليه لأنه مشغول بالحكم والاجتهاد والكتابة تشغله، وكان للنبي (ص)
كتاب فوق الأربعين. وإنما يسن اتخاذه إذا لم يطلب أجرة، أو طلب وكان يرزق من بيت المال وإلا لم
يتعين لئلا يتغالى في الأجرة. (ويشترط كونه) أي الكاتب (مسلما عدلا) في الشهادة كما يؤخذ من كلام الجيلي
لتؤمن خيانته، إذ قد يغفل القاضي عن قراءة ما يكتبه أو يقرأه. ولا بد من الحرية والذكورة وكونه (عارفا بكتابة
388

محاضر وسجلات) وكتب حكمية لئلا يفسدها، حافظا لئلا يغلط، فلا يكفي من اتصف بشئ من ضد ذلك. وهذا فيما
يتعلق بالحكم، أما ما يتعلق بخاصة أمره فيستكتب فيه من شاء.
تنبيه: أفرد المصنف الكاتب لأنه لا يشترط فيه عدد كما أفهمه كلام أصل الروضة، لأنه لا يثبت شيئا، بل
يتخذ القاضي ما يحصل به الكفاية. وقوله: محاضر مجرور بالفتحة جمع محضر، وهو بفتح الميم: ما يكتب فيه ما جرى
للمتحاكمين في المجلس، فإن زاد عليه الحكم أو تنفيذه سمي سجلا، وقد يطلق المحضر على السجل. (ويستحب) في الكاتب
(فقه) زائد على ما لا بد منه من أحكام الكتابة لئلا يؤتى من قبل الجهل. أما الذي يتعلق بها فشرط. وهذا ما جمع
به بين إطلاق الرافعي الاستحباب وإطلاق الماوردي الاشتراط. (ووفور عقل) زائد على العقل التكليفي لئلا يخدع
ويدلس عليه. أما العقل التكليفي فشرط كما علم مما مر، وعفة عن الطمع لئلا يستمال به. (وجودة خط) أي
يكون
خطه حسنا واضحا مع ضبطه الحروف وترتيبها، فلا يترك فسحة يمكن إلحاق شئ فيها وتفصيلها، فلا يكتب سبعة مثل
تسعة ولا ثلاثا مثل ثلاثين لئلا يقع الغلط والاشتباه. قال علي رضي الله تعالى عنه: الخط الحسن يزيد الحق وضوحا
. ويسن أن يكون حاسبا للحاجة إليه في كتب المقاسم والمواريث فصيحا عالما بلغات الخصوم، وأن يجلس كاتبه بين
يديه ليمليه ما يريد وليرى ما يكتبه. (و) يتخذ (مترجما) يفسر للقاضي لغة المتخاصمين، لأن القاضي قد لا يعرف
لغتهما فلا بد ممن يطلعه على ذلك. قال ابن النقيب: كذا أطلقوه، ولم يظهر لي اتخاذه على أي لغة، فإن اللغات لا تكاد
تنحصر، ويبعد أن الشخص الواحد يحيط بجميعها، وأبعد منه أن يتخذ من كل لغة اثنين لعظم المشقة، فالأقرب أن يتخذ
من اللغات التي يغلب وجودها في علمه وفيه عسر أيضا. (وشرط عدالة، وحرية، وعدد) ولفظ شهادة كالشاهد
بأن يقول كل منهما: أشهد أنه يقول كذا. فإن كان الحق يثبت برجل وامرأتين كفى في ترجمته مثل ذلك كما في أصل
الروضة عن الأصحاب، وإن كان قضية كلام المصنف أنه لا يكفي في الزنا رجلان كالشهادة على الاقرار به. (والأصح
جواز) ترجمة (أعمى) لأن الترجمة تفسيرا للفظ الذي سمعه فلا يحتاج فيه إلى معاينة وإشارة، بخلاف الشهادة التي قاس
عليها الوجه الثاني.
تنبيه: محل الجواز إذا لم يتكلم في المجلس إلا الخصمان، وإلا لم يجز قطعا كما نقله الزركشي عن الإمام وأقره.
(و) الأصح (اشتراط عدد في إسماع قاض به صمم) كالمترجم فإنه ينقل عين اللفظ كما أن ذاك ينقل معناه. والثاني:
المنع، لأن المسمع لو غير أنكر عليه الخصم والحاضرون بخلاف المترجم. وقضية هذا التعليل أنه لو كان الخصمان
أصمين أيضا اشترط العدد قطعا، وبه صرح القاضي الحسين.
تنبيه: لا بد في المسمع من لفظ الشهادة، فيقول: أشهد أنه يقول كذا. ويجوز أن يكون أعمى قياسا عليه، ويكتفي
بإسماع رجل وامرأتين في المال قياسا عليه أيضا. وقد أشار المصنف بقوله: في إسماع قاض إلى
التصوير بالنقل من الخصم إلى القاضي، فأما إسماع الخصم الأصم ما يقوله القاضي والخصم فلا يشترط فيه عدد لأنه إخبار محض، لكن يشترط
فيه الحرية، وكالأصم في ذلك من لا يعرف لغة خصمه أو القاضي. وأشار أيضا بقوله: في إسماع قاض إلى أن المراد
صمم يسمع معه برفع الصوت، أما إن لم يسمع أصلا لم تصح ولايته كما مر في شرط القاضي.
فروع: للقاضي وإن وجد كفايته أخذ كفايته وكفاية عياله مما يليق بحالهم من بيت المال ليتفرغ للقضاء إلا أن
يتعين للقضاء ووجد ما يكفيه وعياله، فلا يجوز له أخذ شئ لأنه يؤدي فرضا تعين عليه وهو واجد الكفاية.
ويسن لمن لم يتعين إذا كان مكتفيا ترك الاخذ، ومحل جواز الاخذ للمكتفي ولغيره إذا لم يوجد متطوع بالقضاء صالح
له، وإلا فلا يجوز كما صرح به الماوردي وغيره. ولا يجوز أن يرزق القاضي من خاص مال الإمام أو غيره من
الآحاد، ولا يجوز له قبوله. وفارق نظيره في المؤذن بأن ذاك لا يورث فيه تهمة ولا ميلا لأن عمله لا يختلف، وفي المفتي
389

بأن القاضي أجدر بالاحتياط منه. فإن قيل: الرافعي رجح في الكلام على الرشوة جوازه وهنا عدمه. أجيب بأن
ما هناك في المحتاج وما هنا في غيره. ولا يجوز عقد الإجارة على القضاء كما مر في بابها وأجرة الكاتب ولو كان القاضي
وثمن الورق الذي يكتب فيه المحاضر والسجلات وغيرهما من بيت المال، فإن لم يكن فيه مال أو احتيج إليه إلى ما هو
أهم فعلى من له العمل من مدع ومدعى عليه إن شاء كتابة ما جرى في خصومته، وإلا فلا يجبر على ذلك، لكن
يعلمه القاضي له أنه إذا لم يكتب ما جرى فقد ينسى شهادة الشهود وحكم نفسه. وللإمام أن يأخذ من بيت المال لنفسه
ما يليق به من خيل وغلمان ودار وأمتعة، ولا يلزمه الاقتصار على ما اقتصر عليه النبي (ص) والخلفاء الراشدون والصحابة
رضي الله تعالى عنهم أجمعين لبعد العهد عن زمن النبوة التي كانت سببا للنصر بالرعب في القلوب، فلو
اقتصر اليوم على ذلك لم يطع وتعطلت الأمور. ويرزق الإمام أيضا من بيت المال كل من كان عمله مصلحة عامة
للمسلمين كالأمير والمفتي والمحتسب والمؤذن وإمام الصلاة ومعلم القرآن وغيره من العلوم الشرعية والقاسم والمقوم
والمترجم وكاتب الصكوك، فإن لم يكن في بيت المال شئ لم يندب أن يعين قاسما ولا كاتبا ولا مقوما ولا مترجما ولا
مسمعا ولا مزكيا، وذلك لئلا يغالوا بالأجرة. (ويتخذ درة) بكسر الدال المهملة وتشديد الراء، (للتأديب) اقتداء ب عمر
رضي الله تعالى عنه.
تنبيه: قد يفهم كلام المصنف أن القاضي لا يؤدب بالسوط، وليس مرادا، بل له ذلك إن أدى إليه اجتهاده.
فائدة: قال الشعبي: كانت درة عمر أهيب من سيف الحجاج. قال الدميري: وفي حفظي من شيخنا أنها
كانت من نعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه ما ضرب بها أحدا على ذنب وعاد إليه. (و) يتخذ (سجنا لأداء
حق) الله تعالى أو الآدمي، (ولتعزير) لأن عمر رضي الله تعالى عنه اشترى دارا بمكة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجنا،
رواه البيهقي وعبد الرازق في مصنفه. وفي البخاري: بأربعمائة.
تنبيه: لو امتنع مديون من أداء ما عليه تخير القاضي من بيع ماله بعير إذنه وبين سجنه ليبيع مال نفسه كما في
الروضة في باب التفليس نقلا عن الأصحاب. ولا يسجن والد بدين ولده في الأصح، ولا من استؤجرت عينه لعمل
وتعذر عمله في السجن كما في فتاوى الغزالي، ونفقة المسجون في ماله وكذا أجرة السجن والسجان. ولو استشعر القاضي
من المحبوس الفرار من حبسه فله نقله إلى حبس الجرائم كما في الروضة وأصلها عن ابن القاص. ولو سجن لحق رجل
فجاء آخر وادعى عليه أخرجه الحاكم بغير إذن غريمه ثم رده والحبس لمعسر عذر في ترك الجمعة له. ويتخذ
أعوانا ثقات. قال شريح الروياني: وأجرة العين على الطالب إن لم يمتنع خصمه من الحضور، فإن امتنع فالأجرة عليه
لتعديه بالامتناع. (ويستحب كون مجلسه) أي القاضي (فسيحا) لأن الضيق يتأذى منه الخصوم، (بارزا) أي
ظاهرا ليعرفه من أراده من مستوطن وغريب (مصونا من أذى حر وبرد) بأن يكون في الصيف في مهب الريح وفي
الشتاء في كن. ويكون مصونا أيضا من كل ما يؤذى من نحو الروائح والدخان والغبار. (لائقا بالوقت) فيجلس في
كل فصل من الصيف والشتاء وغيرهما بما يناسبه، فيجلس في الصيف في مهب الريح وفي الشتاء في كن، وهذا معلوم
من قوله قبل: مصونا. ولو عبر بما قاله في المحرر، فإنه قال: لائقا بالوقت لا يتأذى فيه بالحر والبرد، فجعل ذلك مثل
اللائق لا صفة أخرى كان أولى. وزاد على المحرر قوله: (والقضاء) كأن يكون دارا (لا مسجد) فيكره اتخاذه
مجلسا للحكم، لأن مجلس القاضي لا يخلو عن اللغط وارتفاع الأصوات. وقد يحتاج لاحضار المجانين والصغار والحيض
والكفار والدواب والمسجد يصان عن ذلك. وفي مسلم: أنه (ص) حين سمع من ينشد ضالته في
المسجد قال: (إن المساجد لم تبن لهذا إنما بنيت له) فإن اتفقت قضية أو قضايا وقت حضوره في المسجد
لصلاة أو غيرها فلا بأس بفصلها، وعلى ذلك يحمل ما جاء عنه (ص) وعن خلفائه في القضاء في
390

المسجد. وكذا إذا احتاج للجلوس فيه لعذر من مطر ونحوه، فإن جلس فيه مع الكراهة أو دونها منع الخصوم من
الخوض فيه بالمخاصمة والمشاتمة ونحوهما، بل يقعدون خارجه وينصب من يدخل عليه خصمين خصمين. وإقامة
الحدود فيه أشد كراهة كما نص عليه، وقيل: يحرم إقامتها فيه كما جزم به ابن الصباغ، وهو محمول على ما إذا خيف
تلويث المسجد من دم ونحوه.
تنبيه: من الآداب أن يجلس على مرتفع كدكة ليسهل عليه النظر إلى الناس وعليهم المطالبة. وأن يتميز عن
غيره بفراش ووسادة وإن كان مشهورا بالزهد والتواضع ليعرفه الناس وليكون أهيب للخصوم وأرفق به فلا يمل.
وأن يستقبل القبلة لأنها أشرف المجالس كما رواه الحاكم وصححه. وأن لا يتكئ بغير عذر. وأن يدعو عقب جلوسه
بالتوفيق والتسديد، والأولى ما روته أم سلمة أن النبي (ص) كان إذا خرج من بيته قال: بسم الله، توكلت على
الله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي قال في الأذكار: حديث
صحيح رواه أبو داود، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، قال ابن وقاص: وسمعت أن الشعبي كان يقوله
إذا خرج
إلى مجلس القضاء ويزيد فيه: أو أعتدي أو يعتدى علي، اللهم أعني بالعلم وزيني بالحلم وألزمني التقوى حتى لا أنطق إلا
بالحق ولا أقضي إلا بالعدل. وأن يأتي مجلس القضاء راكبا، ويستعمل ما جرت به العادة من العمامة والطيلسان.
ويندب أن يسلم على الناس يمينا وشمالا. (ويكره) له (أن يقضي في حال غضب وجوع وشبع مفرطين، و) في
(كل حال يسوء خلقه فيه) كالمرض ومدافعة الأخبثين وشدة الحزن والسرور وغلبة النعاس، لخبر الصحيحين:
لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان رواه ابن ماجة بلفظ: لا يقضي وفي صحيح أبي عوانة: لا يقضي القاضي وهو
غضبان مهموم ولا مصاب، ولا يقضي وهو جائع. وظاهر هذا أنه لا فرق بين المجتهد وغيره، وهو كذلك، وإن قال
في المطلب: لو فرق بين ما للاجتهاد فيه مجال وغيره لم يبعد. ولا فرق بين أن يكون الغضب لله أو لغيره، وهو كذلك كما قال
الأذرعي إنه هو الموافق لاطلاق الأحاديث وكلام الشافعي والجمهور، وإن استثنى الإمام والبغوي الغضب لله تعالى،
لأن المقصود تشويش الفكر، وهو لا يختلف بذلك، نعم تنتفي الكراهة إذا دعت الحاجة إلى الحكم في الحال.
وقد يتعين الحكم على الفور في صور كثيرة، فإن قضى مع تغير خلقه نفذ قضاؤه لقصة الزبير المشهورة. ويكره أن
يتخذ حاجبا حيث لا زحمة وقت الحكم لخبر: من ولي من أمور الناس شيئا فاحتجب حجبه الله يوم القيامة رواه
أبو داود والحاكم وصحح إسناده. فإن لم يجلس للحاكم بأن كان في وقت خلواته أو كان ثم زحمة لم يكره نصبه، والبواب
وهو من يقعد بالباب للاحراز، ويدخل على القاضي للاستئذان كالحاجب فيما ذكر. قال الماوردي: أما من وظيفته
ترتيب الخصوم والاعلام بمنازل الناس، أي المسمى الآن بالنقيب، فلا بأس باتخاذه وصرح القاضي أبو الطيب
وغيره باستحبابه. (ويندب) عند الاختلاف وجوه النظر وتعارض الأدلة في حكم، (أن يشاور الفقهاء) لقوله تعالى: * (وشاورهم
في الامر) *. قال الحسن البصري: كان النبي (ص) مستغنيا عنها، ولكن أراد أن تصير سنة للحكام. أما
الحكم المعلوم بنص أو إجماع أو قياس جلي فلا.
تنبيه: المراد بالفقهاء كما قاله جمع من الأصحاب الذين يقبل قولهم في الافتاء فيدخل الأعمى والعبد والمرأة، ويخرج
الفاسق والجاهل. وقال القاضي حسين: لا يشاور من دونه في العلم على الأصح، قال: وإذا أشكل الحكم تكون المشاورة
واجبة، وإلا فمستحبة اه‍. وقوله: لا يشاور من دونه فيه كما قال ابن شهبة نظر، فقد يكون عند المفضول في بعض
المسائل ما ليس عند الفاضل، ويرده أيضا مشاورته (ص). (و) يندب (أن لا يشتري، و) لا (يبيع
بنفسه) لئلا يشتغل قلبه عما هو بصدده، ولأنه قد يحابى فيميل قلبه إلى من يحابيه إذا وقع بينه وبين غيره حكومة، والمحاباة
فيها رشوة أو هدية وهي محرمة.
391

تنبيه: عطف هذين على قبلهما يفهم كونهما خلاف الأولى، لكن في الروضة وأصلها أنهما مكروهان، ومع
ذلك فغيرهما من بقية المعاملات من إجارة وغيرها كالبيع والشراء، بل نص في الام على أنه لا ينظر في نفقة عياله
ولا أمر صنعته بل يكله إلى غيره تفريغا لقلبه. واستثنى الزركشي معاملة أبعاضه لانتفاء المعنى ولا ينفذ حكمه لهم،
وما قاله لا يأتي مع التعليل الأول. (و) يندب أن (لا يكون له وكيل معروف) كيلا يحابي أيضا، فإن فعل ذلك كره.
والمعاملة في مجلس حكمه أشد كراهة، فإن عرف وكيله استبدل غيره، فإن لم يجد وكيلا عقد لنفسه للضرورة، فإن
وقعت لمن عامله خصومة أناب ندبا غيره في فصلها خوف الميل إليه. (فإن أهدى إليه من له خصومة) في الحال عنده،
سواء أكان ممن يهدى إليه قبل الولاية أم لا، سواء أكان في محل ولايته أم لا، (أو لم) يكن له خصومة لكنه لم (يهد)
له (قبل ولايته) القضاء ثم أهدى إليه بعض القضاء هدية، (حرم) عليه (قبولها) أما في الأولى فلخبر: هدايا العمال غلول
رواه البيهقي بإسناد حسن، وروي: هدايا العمال سحت، وروي هدايا السلطان سحت ولأنها تدعو إلى الميل إليه
وينكسر بها قلب خصمه. وما وقع في الروضة من أنها لا تحرم في غير محل ولايته سببه خلل وقع في نسخ الرافعي السقيمة،
وأما في الثانية فلان سببها العمل ظاهرا، ولا يملكها في الصورتين لو قبلها، ويردها على مالكها، فإن تعذر وضعها
في بيت المال. وقضية كلامهم أنه لو أرسلها إليه في محل ولايته ولم يدخل بها حرمت، وهو كذلك وإن ذكر فيها
الماوردي وجهين.
تنبيه: يستثنى من ذلك هدية أبعاضه كما قال الأذرعي إذ لا ينفذ حكمه لهم. (وإن كان يهدي) إليه بضم أوله،
قبل ولايته، (و) الحال أنه (لا خصومة) له، (جاز) قبولها إن كانت الهدية (بقدر العادة) السابقة ولاية القضاء في صفة
الهدية وقدرها. ولو قال: كالعادة دخلت الصفة وذلك لخروجها حينئذ عن سبب الولاية، فانتفت التهمة. (والأولى)
إن قبلها (أن) يردها أو (يثيب عليها) أو يضعها في بيت المال، لأن ذلك أبعد عن التهمة، ولأنه (ص)
كان يقبلها ويثيب عليها. أما إذا زادت على المعتاد فكما لو لم يعهد منه، كذا في أصل الروضة. وقضيته تحريم الجميع،
لكن قال الروياني نقلا عن المذهب: إن كانت الزيادة من جنس الهدية جاز قبولها لدخولها في المألوف وإلا فلا. وفي
الذخائر: ينبغي أن يقال إن لم تتميز الزيادة، أي بجنس أو قدر، حرم قبول الجميع، وإلا فالزيادة فقط، لأنها حدثت
بالولاية، وصوبه الزركشي، وجعله الأسنوي القياس، وهو الظاهر. فإن زاد في المعنى كأن أهدى من عادته قطن
حريرا، فقد قالوا يحرم أيضا. لكن هل يبطل في الجمع أو يصح منها بقدر قيمة المعتاد؟ فيه نظر، واستظهر الأسنوي
الأول، وهو ظاهر إن كان للزيادة وقع، وإلا فلا عبرة بها. والضيافة والهبة كالهدية، وكذا الصدقة كما قاله شيخنا.
والزكاة كذلك كما قاله بعض المتأخرين إن لم يتعين الدافع إليه. والعارية إن كانت مما يقابل بأجرة حكمها كالهدية،
وإلا فلا كما بحثه بعض المتأخرين.
تنبيه: قبول الرشوة حرام، وهي ما يبذل له ليحكم بغير الحق، أو ليمتنع من الحكم بالحق، وذلك لخبر: لعن
الله الراشي والمرتشي في الحكم رواه ابن حبان وغيره وصححوه، ولان الحكم الذي يأخذ عليه المال إن كان بغير
حق فأخذ المال في مقابلته حرام، أو بحق فلا يجوز توفيقه على المال إن كان له رزق في بيت المال. وروي: إن القاضي
إذا أخذ فقد أكل السحت، وإذا أخذ الرشوة بلغت به الكفر. واختلف في تأويله، فقيل: إذا أخذها مستحلا،
وقيل: أراد إن ذلك طريق وسبب موصل إليه كما قال بعض السلف: المعاصي بريد الكفر.
فروع: ليس للقاضي حضور وليمة أحد الخصمين حالة الخصومة، ولا حضور وليمتيهما ولو في غير محل الولاية
لخوف الميل. وله تخصيص إجابة من اعتاد تخصيصه قبل الولاية، ويندب إجابة غير الخصمين إن عمم المولم النداء لها
ولم يقطعه كثرة الولائم عن الحكم وإلا فيترك الجميع. ويكره له حضوره وليمة اتخذت له خاصة أو للأغنياء وادعي فيهم،
392

بخلاف ما لو اتخذت للجيران أو للعلماء وهو فيهم. ولا يضيف أحد الخصمين دون الآخر. ولا يلحق فيما ذكر المفتي
والواعظ ومعلم القرآن والعلم، إذ ليس لهم أهلية الالزام. وللقاضي أن يشفع لاحد الخصمين ويزن عنه ما عليه، لأنه
ينفعهما. وأن يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويزور القادمين ولو كانوا متخاصمين، لأن ذلك قربة. قال في أصل
الروضة: فإن لم يمكنه التعميم أتى بممكن كل نوع وخص من عرفه وقرب منه. وفرقوا بينها وبين الولائم إذا كثرت بأن
أظهر الأغراض فيها الثواب لا الاكرام، وفي الولائم العكس. وشهادة الزور من أكبر الكبائر، وإنما تثبت بإقرار
الشاهد، أو بتيقن القاضي منه بأن شهد على رجل أنه زنى يوم كذا في بلد كذا وقد رآه القاضي ذلك اليوم في غيره
فيعزره بما يراه ويشهره. ولا تكفي إقامة البينة بأنه شهد زورا لاحتمال زورها، وإنما يتصور إقامتها بالاقرار به. ثم
شرع في موانع حكم القاضي بقوله: (ولا ينفذ حكمه لنفسه) لأنه من خصائصه (ص). نعم يجوز له تعزير
من أساء الأدب عليه فيما يتعلق بأحكامه كقوله: حكمت بالجور ونحو ذلك، واستثنى البلقيني صورا تتضمن حكمه فيها
لنفسه وينفذ، الأولى: أن يحكم لمحجوره بالوصية على الأصح في أصل الروضة، وأن يضمن استيلاءه على المال المحكوم
به وتصرفه فيه، وفي معناه حكمه على من في جهته مال لوقف تحت نظره بطريق الحكم. الثانية: الأوقاف التي شرط
النظر فيها للحاكم أو صار فيها النظر إليه بطريق العموم، لانقراض ناظرها الخاص له الحكم بصحتها وموجبها وإن
تضمن الحكم لنفسه في الاستيلاء أو التصرف. الثالثة: للإمام الحكم بانتقال ملك إلى بيت المال وإن كان فيه استيلاؤه
عليه بجهة الإمامة، وللقاضي الحكم به أيضا وإن كان يصرف إليه من جامكيته ونحوها. (و) لا (رقيقه) بالجر،
أي لا يحكم له في تعزير أو قصاص أو مال للتهمة. واستثنى البلقيني منه أيضا صورا، أولاها: حكمه لرقيقه بجناية عليه
قبل رقه بأن جنى ملتزم على ذمي ثم نقض المجني عليه العهد والتحق بدار الحرب واسترق، قال: ولم أر من تعرض
لذلك، قال: ويوقف المال إلى عتقه، فإن مات رقيقا فالأظهر أنه فئ ثانيها: العبد الموصى بإعتاقه الخارج من الثلث
إذا قلنا إن كسبه له دون الوارث وكان الوارث حاكما فله الحكم بطريقه. ثالثها: العبد المنذور إعتاقه. (و) لا (شريكه)
يحكم له (في) المال (المشترط) بينهما للتهمة. قال البلقيني: ويستثنى من ذلك ما إذا حكم بشاهد ويمين الشريك
فإنه يجوز، لأن المنصوص أنه لا يشاركه في هذه الصورة، قال: ولم أر من تعرض لذلك. (وكذا أصله وفرعه) لا ينفذ
حكمه لكل منهم (على الصحيح) لأنهم أبعاضه فيشبه قضاؤه لهم قضاءه لنفسه، ورقيق أصله وفرعه
كأصله وفرعه ورقيق أحدهما في المشترك كذلك. والثاني: ينفذ حكمه لهم بالبينة، لأن القاضي أسير البينة فلا تظهر منه تهمة. ويؤخذ
من ذلك أن محل الخلاف عند إقامة البينة أما قضاؤه بالعلم فلا ينفذ قطعا. واحترز بالحكم لمن ذكر عن الحكم عليهم
فإنه ينفذ عليهم. قال الماوردي: ولو حكم على نفسه وآخذناه به هل هو إقرار أو حكم؟ وجهان، أوجههما كما قال
شيخنا الثاني. ولو حكم لولده على ولده أو لاصله على فرعه أو عكسه لم يصح كما يؤخذ مما مر. وهل يجوز للابن
أن ينفذ حكم أبيه؟ وجهان حكاهما شريح الروياني، قال: وقيل يجوز قولا واحدا، لأن لا تهمة فيه اه‍. ويظهر الجواز
لما ذكر. وفي جواز حكمه بشهادة ابن له لم يعدله شاهدان وجهان، أحدهما: نعم، لأن المقصود الخصم لا الشاهد.
والثاني: لا، قال ابن الرفعة: وهو الأرجح في البحر وغيره لأنه لا يتضمن تعديله، فإن عدله شاهدان حكم بشهادته.
وكابنه في ذلك سائر أبعاضه. (ويحكم له) أي القاضي (ولهؤلاء) المذكورين معه حيث لكل منهم خصومة (الإمام
أو قاض آخر) مستقل، سواء أكان معه في بلده أم في بلدة أخرى لانتفاء التهمة. (وكذا نائبه) يحكم له (على
الصحيح) كبقية الحكم. والثاني: لا، للتهمة.
تنبيه: قد يوهم اقتصار المصنف على منع الحكم لمن ذكر جوازه على العدو، وهو وجه اختار الماوردي،
والمشهور في المذهب أنه لا يجوز حكمه عليه، ويجوز أن يحكم له. (وإذا أقر المدعى عليه) عند القاضي بالمدعى به
393

، (أو نكل) عن اليمين بعد عرضها عليها، (فحلف المدعي) اليمين المردودة أو أقام بينة، (وسأل القاضي أن يشهد
على إقراره عنده) في صورة الاقرار، (أو) على (يمينه) في صورة النكول، أو على ما قامت به البينة، (أو) سأل
(الحكم بما ثبت) عنده، (و) سأل أيضا (الاشهاد به لزمه) إجابته، لأنه قد ينكر بعد ذلك فلا يتمكن القاضي
من الحكم عليه إن قلنا لا يقضى بعلمه، وإن قلنا يقضي به فربما نسي أو انعزل فلا يقبل قوله فيضيع الحق. ولو
أقام المدعى عليه بينة بما ادعاه وسأله الاشهاد عليه لزمه أيضا، لأن الاشهاد أيضا يتضمن تعديل البينة وإثبات حقه.
ولو حلف المدعى عليه وسأل القاضي الاشهاد بإحلافه ليكون حجة له فلا يطالبه مرة أخرى لزمه إجابته.
تنبيه: كلامه يقتضي أنه لا يجب الحكم قبل أن يسأله المدعي، وهو كذلك، قال في الروضة في باب القضاء
على الغائب: لا يجوز الحكم على المدعى عليه إلا بسؤال المدعي على الأصح. نعم إن كان الحكم لمن لا يعبر عن نفسه
لصغر أو جنون وهو وليه فيظهر كما قال الأذرعي الجزم بأنه لا يتوقف على سؤال أحد. ولم يبين المصنف صيغة الحكم
اللازم، وصيغته قوله: حكمت على فلان لفلان بكذا، أو قضيت بكذا، أو نفذت الحكم به، أو ألزمت الخصم به أو نحو
ذلك، كأمضيته أو أجزته بخلاف قوله: ثبت عندي، أو صح، أو وضح لدي أو سمعت البينة، أو قبلتها، فإنه لم يكن
حكما، وكذا ما يكتب على ظهر الكتب الحكمية وهو الصحيح، وورد هذا الكتاب علي فقبلته قبول مثله وألزمت
العمل بموجبه. ولا بد في الحكم من تعيين ما يحكم به ومن يحكم له، لكن قد يبتلى القاضي بظالم يريد ما لا يجوز
ويحتاج إلى ملاينته فرخص في رفعه بما يخيل إليه أنه أسعفه بمراده، مثاله: أقام الخارج بينة والداخل بينة والقاضي يعلم
بفسق بينة الداخل ولكنه يحتاج إلى ملاينته، وطلب هو الحكم بناء على ترجيح بينته، فيكتب: حكمت بما هو
مقتضى الشرع في معارضته بينة فلان الداخل وفلان الخارج وقررت المحكوم به في يد المحكوم له وسلطته عليه ومكنته
من التصرف. ولما فرغ المصنف مما تجب فيه إجابة القاضي للمدعي شرع فيما يسن له فيه الإجابة، وذكر ذلك في قوله:
(أو) سأل المدعي القاضي (أن يكتب له) في قرطاس أحضره من عنده أو من بيت المال (محضرا بما جرى من غير
حكم، أو) يكتب له (سجلا بما حكم) به، (استحب) للقاضي (إجابته) في الأصح لأنه مذكور. (وقيل تجب)
كالاشهاد. وفرق الأول بأن الكتابة لا تثبت حقا بخلاف الاشهاد، وسواء في ذلك الديون المؤجلة والوقوف وغيرهما.
نعم إن تعلقت الحكومة بصبي أو مجنون له أو عليه وجب التسجيل على ما نقل عن الزبيلي وشريح الروياني
وغيره.
وكالمدعي في استحباب الإجابة المدعى عليه كما في الروضة كأصلها.
تنبيه: اعلم أن لألفاظ الحكم المتداولة في التسجيلات مراتب، أدناها الثبوت المجرد، وهو أنواع: ثبوت
اعتراف المتبايعين مثلا بجريان البيع، وثبوت ما قامت به البينة من ذلك، وثبوت نفس الجريان. وهذا كله ليس
بحكم كما صححاه في باب القضاء على الغائب ونقله في البحر عن نص الام وأكثر الأصحاب، لأنه إنما يراد به صحة
الدعوى وقبول الشهادة، فهو بمثابة: سمعت البينة وقبلتها، ولا إلزام في ذلك، والحكم إلزام. وأعلاها الثبوت من
الحكم، والحكم أنواع ستة: الحكم بصحة البيع مثلا، والحكم بموجبه، والحكم بموجب ما ثبت عنده، والحكم
بموجب ما قامت به البينة عنده، والحكم بموجب ما أشهد به على نفسه، والحكم بثبوت ما شهدت به البينة، وأدنى
هذه الأنواع هذا السادس، وهو الحكم بثبوت ما شهدت به البينة لأنه لا يزيد على أن يكون حكما بتعديل البينة،
وفائدته عدم احتياج حاكم آخر إلى النظر فيها وجواز النقل في البلد، وأعلاها الحكم بالصحة أو بالموجب، أعني
الأولين. وأما هذان فلا يطلق القول بأن أحدهما أعلى من الآخر، بل يختلف ذلك باختلاف الأشياء، ففي شئ يكون
الحكم بالصحة أعلى من الحكم بالموجب، وفي شئ يكون الامر بالعكس، فإذا كانت مختلفة فيها وحكم بها من
394

يراها كان حكمه بها أعلى من حكمه بالموجب. مثاله بيع المدبر مختلف في صحته، ف الشافعي يرى صحته، والحنفي يرى
فساده، فإذا حكم بصحته شافعي كان حكمه بها أعلى من حكمه بموجب البيع، لأن حكمه في الأول حكم المختلف فيه
قصدا، وفي الثاني يكون حكمه بها ضمنا، لأنه في الثاني إنما حكم قصدا بترتب أثر البيع عليه، واستتبع هذا الحكم
الحكم بالصحة، لأن أثر الشئ إنما يترتب عليه إذا كان صحيحا. ومثل هذا تعليق طلاق المرأة على نكاحها، ف الشافعي
يرى بطلانه والمالكي يرى صحته، فلو حكم بصحته مالكي صح، واستتبع حكمه به الحكم بوقوع الطلاق إذا وجد
السبب، وهو النكاح، بخلاف ما لو حكم بموجب التعليق المذكور فإنه يكون حكمه متوجها إلى وقوع الطلاق قصدا
لا ضمنا فيكون لغوا، لأن الوقوع لم يوجد، فهو حكم بالشئ قبل وجوده، فلا يمنع الشافعي أن يحكم بعد النكاح ببقاء
العصمة وعدم وقوع الطلاق. وإذا كان الشئ متفقا على صحته والخلاف في غيرها كان الامر بالعكس، أي يكون
الحكم بالموجب فيه أعلى من الحكم بالصحة، مثاله التدبير متفق على صحته، فإذا حكم الحنفي بصحته لا يكون حكمه
مانعا للشافعي من الحكم بصحة بيعه، بخلاف ما لو حكم الحنفي بموجب التدبير، فإن حكمه بذلك يكون حكما ببطلان
بيعه، فهو مانع من حكم الشافعي بصحة بيعه. وهل يكون حكم الشافعي بموجب التدبير حكما بصحة بيعه حتى لا يحكم
الحنفي بفساده؟ الظاهر كما قال الأشموني لا، لأن جواز بيعه ليس من موجب التدبير، بل التدبير ليس مانعا منه ولا
مقتضيا له. نعم جواز بيعه من موجبات الملك، فلو حكم شافعي بموجب الملك أن يكون مانعا للحنفي من
الحكم ببطلان بيعه، لأن الشافعي حينئذ قد حكم بصحة البيع ضمنا. ومثل التدبير بيع الدار المتفق على صحته لو اختلف
فيه، إذا حكم الشافعي بصحته كان حكمه مانعا للحنفي من الحكم بشفعة الجوار، وإن حكم بموجب البيع كان حكمه به
مانعا للحنفي من ذلك. ولو حكم شافعي بصحة إجارة لا يكون حكمه مانعا للحنفي من الحكم بفسخها بموت أحد
المتاجرين، وإن حكم الشافعي فيها بالموجب فالظاهر خلافا لبعضهم أن حكمه يكون مانعا للحنفي من الحكم بالفسخ
بعد الموت، لأن حكم الشافعي بالموجب قد يتناول الحكم بانسحاب بقاء الإجارة ضمنا. فإن قيل: حكم الشافعي
ببقاء الإجارة بعد الموت حكم بالموت قبل وجوده فيكون باطلا كما مر في حكم المالكي بموجب التعليق. أجيب بأن
الحكم ببقاء الإجارة حكم وقع ضمنا، لأن موجب الإجارة لم ينحصر فيه، وحكم المالكي بموجب التعليق وقع بوقوع
الطلاق قصدا لانحصار موجب التعليق فيه، وهم يغتفرون في الضمنيات ما لا يغتفرون في القصديات، قال الأشموني:
هذا ما ظهر لي. وقد بان لك أن الحكم بالصحة يستلزم الحكم بالموجب وعكسه، وهذا غالب لا دائم فقد يتجرد كل
منهما عن الآخر، مثال تجرد الصحة البيع بشرط الخيار فإنه صحيح ولم يترتب عليه أثره فيحكم فيه بالصحة ولا يحكم
فيه بالموجب، ومثال تجرد الموجب الخلع والكتابة على نحو خمر فإنهما فاسدان ويترتب عليهما أثرهما من البينونة والعتق
ولزوم مهر المثل والقيمة فيحكم فيهما بالموجب دون الصحة، وكذا الربا والسرقة ونحوهما يحكم فيه بالموجب دون
الصحة. ويتوقف الحكم بموجب البيع مثلا كما أوضحته على ثبوت ملك المالك وحيازته وأهليته وصحة صيغته في
مذهب الحاكم. وقال ابن قاسم أخذا من كلام ابن شهبة: والفرق بين الحكم بالصحة والحكم بالموجب أن الحكم
بالموجب يستدعي صحة الصيغة وأهلية التصرف، والحكم بالصحة يستدعي ذلك وكون التصرف صادرا في محله
وفائدته في الأثر المختلف فيه، فلو وقف على نفسه وحكم بموجبه حاكم كان حكما منه بأن الواقف من أهل التصرف،
وصيغة وقفه على نفسه صحيحة حتى لا يحكم ببطلانها من يرى الابطال، وليس حكما بصحة وقفه لتوقفه على كونه مالكا
لما وقفه حين وقفه ولم يثبت ذلك. ويسن للقاضي إذا أراد الحكم أن يعلم الخصم بأن الحكم
موجبه عليه وله الحكم على ميت بإقراره حيا في أحد وجهين رجحه الأذرعي. (ويستحب) للقاضي (نسختان) بما وقع بين الخصمين وإن
لم يطالبا بذلك. (إحداهما) تعطى (له) أي صاحب الحق غير مختومة لينظر فيها ويعرضها على الشهود لئلا
ينسوا. (و) النسخة (الأخرى تحفظ في ديوان الحكم) مختومة مكتوبا على رأسها اسم الخصمين ويضعها في
حرز
395

له لا لأنه طريق للتذكر، وإنما تعددت لأنها لو كانت واحدة ودفعها للمحكوم عليه لم يؤمن من ضياعها. وما يجتمع عند الحاكم
يضم بعضه إلى بعض ويكتب عليه محاضر كذا في شهر كذا، وإذا احتاج إليه تولى أخذه بنفسه ونظر أولا
إلى ختمه وعلامته.
تنبيه: ما يقضي به القاضي ويفتي به المفتي: الكتاب والسنة والاجماع والقياس، وقد يقتصر على الكتاب والسنة،
ويقال: الاجماع يصدر عن أحدهما، والقياس يرد إلى أحدهما. وليس قول الصحابي إن لم ينتشر في الصحابة حجة،
لأنه غير معصوم عن الخطأ، لكن يرجح به أحد القياسين على الآخر، وإذا كان ليس بحجة فاختلاف الصحابة في
شئ كاختلاف سائر المجتهدين. فإن انتشر قول الصحابي في الصحابة ووافقوه فإجماع حر في حقه، فلا يجوز له مخالفة
الاجماع، فإن سكتوا فحجة إن انقرضوا وإلا فلا، لاحتمال أن يخالفوه لأمر عرض لهم. قالا: والحق مع أحد
المجتهدين في الفروع، قال صاحب الأنوار: وفي الأصول. والآخر مخطئ مأجور لقصده. (وإذا) تقرر ذلك ثم (حكم)
قاض (باجتهاده) وهو من أهله وإن لم يطلب الخصم، (ثم بان) حكمه (خلاف نص الكتاب، أو
السنة) المتواترة، أو الآحاد (أو) خلاف (الاجماع، أو قياس جلي) وهو ما قطع فيه بنفي تأثير الفارق بين الأصل والفرع، أو يبعد تأثيره
كقياس الضرب على التأفيف للوالدين في قوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف) * وما فوق الذرة بها في قوله: * (فمن يعمل
مثقال ذرة خيرا يره) *، وكذا ما قطع فيه بالمساواة، وإن لم يكن أولى كقياس الأمة على العبد في السراية وغير السمن من
المائعات عليه في حكم وقوع الفأرة. قال الرافعي: وربما خص بعضهم اسم الجلي بما كان الفرع فيه أولى بحكم الأصل،
وسمى ما كان مساويا واضحا. (نقضه هو) أي يلزمه لك، وإن لم يرفع إليه كما صرح به الماوردي والإمام والغزالي
وغيرهم فيتتبع أحكامه لنقضها. (و) نقضه (غيره) أيضا، وإن لم يجز له تتبع أحكام غيره في أحد وجهين صححه
الفارقي وعزاه الماوردي إلى جمهور البصريين. فأما النقض لمخالفة الاجماع فبالاجماع والباقي في معناه، فقد قال
(ص): من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. وكان عمر رضي الله تعالى عنه يفاضل بين الأصابع
في الدية لتفاوت منافعها حتى روى له الخبر في التسوية فنقض حكمه، رواه الخطابي في المعالم. وقضى عمر بن عبد العزيز
رضي الله تعالى عنه فيمن رد عبدا بعيب أنه يرد معه خراجه، فأخبره عروة عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي
(ص) قضى أن الخراج بالضمان فرجع، وقضى بأخذ الخراج من الذي أخذه، رواه الشافعي في مسنده.
ونقض علي رضي الله تعالى عنه قضاء شريح في ابني عم أحدهما أخ لام بأن المال للأخ متمسكا بقوله تعالى: * (وأولو
الأرحام بعضهم أولى ببعض) * فقال له علي: قال الله تعالى: * (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت
فلكل واحد منهما السدس) *. قال الزركشي: وفي معنى قول المصنف باجتهاده ما إذا كان مقلدا ولي للضرورة، وحكم
بخلاف نص إمامه مقلدا لوجه ضعيف، فإنهم جعلوا نص إمامه بالنسبة إليه كنص الشارع بالنسبة إلى المجتهد كما قاله في
الروضة في الكلام على الفتوى، قال: ويجب نقضه، ولا شك في نقض ما صدر من مقلد غير متبحر بخلاف المعتمد
عند أهل المذهب، ولو حكم بغير مذهب من قلده لم ينقض بناء على أن للمقلد تقليد من شاء.
تنبيه: صيغة النقض: نقضته وفسخته أو نحو ذلك كأبطلته. ولو قال: هذا باطل أوليس بصحيح فوجهان،
وينبغي أن يكون نقضا. وفي تعبيرهم بنقض وانتقض مسامحة، إذ المراد أن الحكم لم يصح من أصله، نبه عليه ابن
عبد السلام. وعلى القاضي إعلام الخصمين بصورة الحال، قال الماوردي: ويجب على القاضي أن يسجل بالنقض
كما سجل بالحكم ليكون التسجيل الثاني مبطلا للأول كما صار الثاني ناقضا للحكم الأول، فإن لم يكن قد سجل بالحكم
لم يلزمه الاسجال بالنقض، وإن كان الاسجال به أولى. وقوله (لا) إن بان خلاف قياس (خفي) تصريح بمفهوم
جلي. وأراد بالخفي ما لا يزيل احتمال المفارقة ولا يبعد، كقياس الأرز على البر في باب الربا بعلة الطعم، فلا ينقض الحكم
396

المخالف له، لأن الظنون المتعادلة لو نقض بعضها ببعض لما استمر حكم ولشق الامر على الناس. ومشهور عن عمر
رضي الله تعالى عنه حكم بحرمان الأخ الشقيق في المشركة ثم شرك بعد ذلك ولم ينقض قضاءه الأول، وقال: ذاك
على ما قضينا وهذا على ما نقضي. ولو قضى قاض بصحة نكاح المفقود زوجها بعد أربع سنين، ومدة العدة، وبنفي
خيار المجلس، وبنفي بيع العرايا، وبمنع القصاص في القتل بمقتل، وبصحة بيع أم الولد، ونكاح
الشغار، ونكاح المتعة، وحرمة الرضاع بعد حولين أو نحو ذلك كقتل مسلم بذمي، وجريان التوارث بين المسلم والكافر، نقض قضاؤه
كالقضاء استحسان فاسد، وذلك لمخالفة القياس الجلي في جعل المفقود ميتا مطلقا أو حيا كذلك في الأولى، والحاكم
المخالف جعله فيها ميتا في النكاح دون المال، ولمخالفة القياس الجلي في عصمة النفوس في الرابعة، ولظهور الاخبار
في خلاف حكمه في البقية وبعدها عن التأويلات التي عنده. وهذا ما عليه الأكثر كما يعلم من كلام الرافعي هنا، واقتصر
في كتاب الأمهات الأولاد على نقله عن الروياني نفسه عن الأصحاب، وصححه ابن الرفعة، وجزم به صاحب الأنوار
وقيل لا ينقض ذلك، وصححه الروياني وكلام الروضة فيما عدا مسألة المفقود يميل إليه. والاستحسان الفاسد أن
يستحسن شئ لأمر بهجس في النفس أو لعادة الناس من غير دليل أو على خلاف الدليل لأنه تحرم متابعته، أما إذا
استحسن الشئ لدليل يقوم عليه أو من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، فيجب متابعته ولا ينقض. ولو قضى بصحة
النكاح بلا ولي أو بشهادة من لا تقبل شهادته كفاسق لم ينقض حكمه كمعظم المسائل المختلف فيها.
تنبيه: هذا كله في الصالح للقضاء، أما من لم يصلح له فإن أحكامه تنقض وإن أصاب فيها لأنها صدرت
ممن لا ينفذ حكمه. ويؤخذ من ذلك أنه لو ولاه ذو شوكة بحيث ينفذ حكمه مع الجهل أو نحوه أنه لا ينقض ما أصاب
فيه، وهو الظاهر كما جرى عليه ابن المقري. (والقضاء) فيما باطن الامر فيه بخلاف ظاهره، (ينفذ ظاهرا لا باطنا)
لأنا مأمورون باتباع الظاهر، والله يتولى السرائر، فلا يحل هذا الحكم حراما ولا عكسه. فلو حكم بشهادة شاهدين
ظاهرهما العدالة لم يحصل بحكمه الحل باطنا، سواء المال وغيره، ولقوله (ص): إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن
يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حق أخيه بشئ فلا يأخذه، فإنما
أقطع له قطعة من النار متفق عليه. فإذا كان المحكوم به نكاحا لم يحل للمحكوم له الاستمتاع بها وعليها
الامتناع والهرب ما أمكنها، فإن أكرهت فلا إثم عليها كما قالاه. وحمله الأسنوي على ما إذا ربطت وإلا فالوطئ
لا يباح بالاكراه. وأجيب بأن محله إذا لم يتقدمه حكم بخلاف ما هنا. وفي حده بالوطئ وجهان، أوجههما كما جزم به
صاحب الأنوار وابن المقري عدم الحد، لأن أبا حنيفة يجعلها منكوحة بالحكم، فيكون وطؤ موطأ في نكاح مختلف
في صحته وذلك شبهة. وإذا تقرر أنه لا يجوز لها تمكينه وقصدها دفعته كالصائل على البضع وإن أتى على نفسه.
فإن قيل: فلعله ممن يرى الإباحة فكيف يسوغ دفعه وقتله؟ أجيب بأن المسوغ للدفع والموجب له انتهاك الفرج
المحرم بغير طريق شرعي وإن كان الطالب لا إثم عليه، كما لو صال صبي أو مجنون على بضع امرأة فإنه لا يجوز لها دفعه
بل يجب. وإن كان طلاقا حل له وطؤها باطنا إن تمكن منه لكنه يكره لأنه يعرض نفسه للتهمة ويبقى التوارث
بينهما للنفقة للحيلولة. ولو نكحت آخر فوطئها جاهلا بالحال فشبهة وتحرم على الأول حتى تنقضي العدة، أو عالما
أو نكحها أحد الشاهدين ووطئ فكذا في الأشبه عند الشيخين. أما ما باطن الامر فيه كظاهره بأن ترتب على أصل
صادق فينفذ الحكم فيه باطنا أيضا قطعا إن كان في محل اتفاق المجتهدين وعلى الأصح عند البغوي وغيره إن كان
في محل اختلافهم وإن كان لمن لا يعتقد لتتفق الكلمة ويتم الانتفاع، فلو حكم حنفي لشافعي بشفاعة الجوار أو
بالإرث بالرحم حل له الاخذ به اعتبارا بعقيدة الحاكم، لأن ذلك مجتهد وفيه والاجتهاد إلى القاضي لا إلى غيره. ولو
شهد شاهد بما يعتقده القاضي للشاهد كشافعي شهد عنه حنفي بشفعة الجوار قبلت شهادته لذلك، قال الأسنوي:
ولشهادته بذلك حالان، أحدهما: أن يشهد بنفس الجوار وهو جائز. ثانيهما: أن يشهد باستحقاق الاخذ بالشفعة
397

أو بشفعة الجوار، وينبغي عدم جوازه لاعتقاده خلافه اه‍. وهذا لا يأتي مع تعليلهم المذكور. (ولا يقضي)
القاضي (بخلاف
علمه بالاجماع) كما إذا شهد شاهد أن بزوجية بين اثنين وهو يعلم أن بينهما محرمية أو طلاقا بائنا، فلا يقضي بالبينة في
ذلك لأنه لو قضى به لكان قاطعا ببطلان حكمه والحكم بالباطل محرم.
تنبيه: اعترض على المصنف دعواه الاجماع بوجه حكاه الماوردي بأنه يحكم بالشهادة المخالفة لعلمه. وأجيب بأن
لنا خلافا في أن الأوجه هل تقدح في الاجماع بناء على أن لازم المذهب هل هو مذهب أو لا، والراجح أنه ليس بمذهب
فلا تقدح. وتعبير المصنف مشعر بأنه لو قضى بشهادة شاهدين لا يعلم صدقهما ولا كذبهما يكون قاضيا بخلاف علمه،
فلا ينفذ قضاؤه، وليس مرادا بل هو نافذ جزما، فلو عبر ك الماوردي وغيره ب‍ لا يقضي بما يعلم خلافه كان أولى. وقوله:
ولا يقضي بخلاف علمه يندرج فيه حكمه بخلاف عقيدته، قال البلقيني: وهذا يمكن أن يدعى فيه اتفاق العلماء، لأن
الحكم إنما يبرم من حاكم بما يعتقده. (والأظهر أنه يقضي بعلمه) ولو علمه قبل ولايته أو في غير محل ولايته. وسواء
أكان في الواقعة بينة أم لا، لأنه إذا حكم بما يفيد الظن وهو الشاهدان أو شاهد ويمين فبالعلم أولى. وعلى هذا يقضي
بعلمه في المال قطعا، وكذا في القصاص وحده القذف في الأظهر. والثاني: المنع لما فيه من التهمة. ورد بأنه لو قال:
ثبت عندي وصح لدي كذا قبل قطعا مع احتمال التهمة. وعلى الأول يكره كما أشار إليه الشافعي في الام، قال الربيع:
كان الشافعي يرى القضاء بالعلم ولا يبوح به مخافة قضاة السوء. قال الماوردي: ولا بد أن يقول للمنكر قد علمت أن له
تمليك ما ادعاه وحكمت عليك بعلمي، فإن ترك أحد هذين لم ينفذ. وشرط الشيخ عز الدين في القواعد كون الحاكم
ظاهر التقوى والورع.
تنبيه: شمل إطلاق المصنف جريان الخلاف في الجرح والتعديل، وهي طريقة ضعيفة والمشهور القطع بأنه يقضي
فيه بالعلم، وقد جزم المصنف في الفصل الآتي: ولا يقضي بعلمه جزما لاصله وفرعه وشريكه في المشترك وما المراد
بالعلم الذي يقضي به اه‍. واليقين الذي لا يحتمل غيره أو غلبة الظن مطلقا؟ والراجح الثاني كما يقتضيه كلام الرافعي، فمتى
تحقق الحاكم طريقا تسوغ الشهادة للشاهد جاز له الحكم بها كمشاهدة القرض والابراء أو استصحاب حكمهما، وكمشاهدة
اليد والتصرف مدة طويلة بلا معارض، وكخبرة باطن المعسر ومن لا وارث له ونحو ذلك. ولا يكتفي في ذلك بمجرد
الظنون وما يقع في القلوب بلا أسباب لم يشهد الشرع باعتبارها. هذا كله فيما علمه بالمشاهدة، أما ما علمه بالتواتر فهو
أولى، لأن المحذور ثم التهمة، فإذا شاع الامر زالت. واختار البلقيني التفصيل بين التواتر الظاهر لكل أحد كوجود
بغداد فيقضي به قطعا، وبين التواتر المختص فيتخرج على خلاف القضاء بالعلم. واستثنى البلقيني من القضاء بالعلم ما لو
علم القاضي بالابراء فذكره للمقر فقال: أعرف صدور الابراء منه، ومع ذلك فدينه باق علي، فإن القاضي يقضي على
المقر بما أقر به، وإن كان على خلاف ما علمه القاضي، لأن الخصم قد أقر بما يدفع علم القاضي. قال: ولم أر من تعرض لذلك
وهو فقه واضح اه‍. ورد بأن هذا ليس بقضاء على خلاف العلم، لأن إقرار الخصم المتأخر عن الابراء قد يرفع حكم الابراء
فصار العمل به لا بالبينة ولا بالاقرار المتقدم. واستثني من محل الخلاف بالقضاء بالعلم صور، أحدها: ما لو أقر في مجلس قضائه
بشئ فله أن يقضي به قطعا، لكنه قضاء بالاقرار لا بالعلم. ثانيها: لو علم الإمام استحقاق من طلب الزكاة جاز الدفع له. ثالثها:
لو عاين القاضي اللوث كان له اعتماده، ولا يخرج على الخلاف في القضاء بالقضاء بالعلم. رابعها: أن يقر عنده بالطلاق الثلاث، ثم يدعي
زوجيتها. خامسها: أن يدعي أن فلانا قتل أباه وهو يعلم أنه قتله غيره. (إلا في حدود الله تعالى) كالزنا والسرقة والمحاربة والشرب،
فلا يقضي بعلمه فيها لأنها تدرأ بالشبهات ويندب سترها، والتعزيرات المتعلقة بحق الله تعالى كالحدود المتعلقة به تعالى كما قاله
البلقيني. ويستثنى من ذلك ما إذا علم القاضي من مكلف أنه أسلم ثم أظهر الردة، فقد أفتى البلقيني بأن القاضي يقضي عليه بالاسلام
بعلمه ويرتب عليه أحكامه. واستثني أيضا ما إذا اعترف في مجلس الحكم بما يوجب الحد ولم يرجع عن إقراره فإنه يقضي
398

فيه بعلمه ولو اعترف سرا، لقوله (ص): فإن اعترفت فارجمها ولم يقيده بأن يكون اعترافها بحضور الناس.
وخرج بحدود الله تعالى وتعزيراته حقوقه المالية فيقضي فيها بعلمه كما صرح به الدارمي، ولو قامت عنده بينة بخلاف
علمه امتنع عليه الحكم بشئ منهما.
تنبيه: قال الأذرعي: وإذا نفذنا أحكام القاضي الفاسق للضرورة كما مر فينبغي أن لا ينفذ قضاؤه بعلمه بلا
خلاف، إذ لا ضرورة إلى تنفيذ هذه الجزئية النادرة مع فسقه الظاهر وعدم قبول شهادته بذلك قطعا. (ولو رأى) قاض
أو شاهد (ورقة فيها حكمه أو شهادته) على إنسان بشئ، (أو شهد شاهدان أنك حكمت أو شهدت بهذا لم يعمل)
القاضي (به) أي بمضمون خطه، (ولم يشهد) أي الشاهد بمضمون خطه، (حتى يتذكر) كل منهما أنه حكم أو شهد
به على التفصيل، لامكان التزوير وتشابه الخطوط في الحالة الأولى، وأما الثانية فلان القاعدة إذا أمكن اليقين لا يعتمد
الظن، ولا يكفي تذكر أصل القضية.
تنبيه: أفهم قوله لم يعمل به جواز العمل به لغيره، وهو كذلك في الحالة الثانية، فإذا شهد غيره عنه بأن فلانا
حكم بكذا اعتمدوه. والفرق أن جهله بفعل نفسه لما كان بعيدا قدح في صدق الشهود وأفهم العمل به عند التذكر،
وهو ظاهر. (وفيهما) أي العمل والشهادة، (وجه في ورقة مصونة) من سجل ويحضر (عندهما) أي القاضي والشاهد
أنه يجوز الاعتماد عليه إذا وثق بخطه ولم يداخله ريبة لبعد التحريف في مثل ذلك، والأصح الأول لاحتماله. (وله) أي
الشخص (الحلف على استحقاق حق) له على غيره (أو) على (أدائه) لغيره، (اعتمادا على خط مورثه) أن له على فلان
كذا أو عليه له كذا، (إذا وثق بخطه وأمانته) اعتضادا بالقرينة. واحتج ابن دقيق العيد لجواز اليمين على غلبة الظن بحلف
عمر رضي الله تعالى عنه بحضرة النبي (ص) أن ابن صياد هو الدجال ولم ينكر عليه، وسيأتي في الدعاوى
جواز الحلف على البت بظن مؤكد يعتمد خطه أو خط أبيه. وفرقوا بين ذلك وبين القضاء والشهادة بأنهما يتعلقان
بغير القاضي والشاهد بخلاف الحلف، فإنه يتعلق بنفس الحالف، ويباح بغالب الظن. وضبط القفال الوثوق بخط
الأب كما نقله الشيخان وأقراه بكونه بحيث لو وجد في التذكرة لفلان على كذا لم يجد من نفسه أن يحلف على نفي العلم
به بل يؤديه من التركة.
تنبيه: قوله: مورثه ليس بقيد، بل خط مكاتبه الذي مات في أثناء الكتابة، وخط مأذونه القن بعد موته،
وخط معامله في القراض وشريكه في التجارة كذلك عملا بالظن المؤكد، وكذا الخط ليس بقيد، بل الاخبار من
عدل مثله، نبه عليه الزركشي. (والصحيح جواز رواية الحديث بخط محفوظ عنده) وإن لم يتذكره لعمل العلماء به
سلفا وخلفا، وسواء أكان بخطه أم بخط غيره. والثاني: المنع كالشهادة. وفرق الأول بأنه قد يتساهل في الرواية بخلاف
الشهادة لأنها تقبل من العبد والمرأة، ومن الفرع مع حضور الأصل بخلاف الشهادة، ولان الراوي يقول حدثني فلان
عن فلان أنه يروي كذا، ولا يقول الشاهد حدثني فلان أنه يشهد بكذا. ويجوز للشخص أن يروي بإجازة أرسلها
إليه المحدث بخطه إن عرف هو خطه اعتمادا على الخط، فيقول: أخبرني فلان كتابة أو في كتابة أو كتب إلي بكذا،
ويصح أن يروي عنه بقوله: أجزتك مروياتي أو نحوها كمسموعاتي، بل لو قال: أجزت المسلمين أو من أدرك زماني
أو نحو ذلك ككل أحد صح، ولا يصح بقوله: أجزت أحد هؤلاء الثلاثة مثلا مروياتي ونحوها أو أجزتك أحد هذه
الكتب للجهل بالمجاز له في الأولى وبالمجاز في الثانية، ولا بقوله: أجزت من سيولد بمروياتي مثلا لعدم المجاز له. وتصح
الإجازة لغير المميز، وتكفي الرواية بكتابة ونية إجازة كما تكفي مع القراءة عليه مع سكوته، وإذا كتب الإجازة استحب
399

أن يتلفظ بها. فصل: في التسوية بين الخصمين وما يتبعها: (ليسوا) القاضي حتما على الصحيح (بين الخصمين في دخول عليه)
فلا يدخل أحدهما قبل الآخر، بل يأذن لهما في الدخول.
تنبيه: الخصم - بفتح الخاء وسكون الصاد - يستوي فيه الواحد والجميع والمذكر والمؤنث، ومن العرب من يثنيه
ويجمعه، ومشى المصنف على التثنية هنا، وعلى الجميع في قوله بعد: وإذا ازدحم خصوم. أما الخصم بكسر الصاد،
فهو الشديد الخصومة. (و) في (قيام لهما) فيقوم لهما أو يترك. وكره ابن أبي الدم القيام لهما جميعا، لأن أحدهما
قد يكون شريفا والآخر وضيعا فإذا قام لهما علم الوضيع أن القيام لأجل خصمه فيزداد الشريف تيها والوضيع كسرا،
فترك القيام لهما أقرب إلى العدل، قال: فلو دخل الخصم ذو الهيئة فظن الحاكم أنه ليس بمحاكم فقام له فليقم لخصمه
أو يعتذر بأنه قام للأول ولم يشعر بكونه خصما. قال الأذرعي: وينبغي أن يقال إن كان لآخر ممن يقام له قام وإلا اعتذر.
(واستماع) لكلامهما ونذر إليهما. (و) في (طلاقة وجه) لهما (و) في (جواب سلام) منهما إن سلما معا، ولا يرد
على أحدهما ويترك الآخر، فإن سلم عليه أحدهما انتظر الآخر أو قال سلم ليجيبهما معا إذا سلم. قال الشيخان: وقد
يتوقف في هذا إذا طال الفصل، وكأنهم احتملوا هذا الفصل لئلا يبطل معنى التسوية. فإن قيل: ما ذكراه هنا لا يوافق
ما جزما به في السير من أن ابتداء السلام سنة كفاية، فإذا حضر جمع وسلم أحدهم كفى عن الباقيين. أجيب بأنهم ارتكبوا
ذلك هنا حذرا من التخصيص وتوهم الميل. (و) في (مجلس) لهما بأن يجلسهما بين يديه أو أحدهما عن يمينه والآخر
عن يساره، والجلوس بين يديه أولى. ومثل ما ذكره سائر أنواع الاكرام فلا يخص أحدهما بشئ منهما وإن اختلفا
بفضيلة وغيرها. ولا يرتفع الموكل على الوكيل والخصم، لأن الدعوى متعلقة به أيضا بدليل تحليفه إذا وجبت يمين، حكاه
ابن الرفعة عن الزبيلي وأقره، قال الأذرعي وغيره: وهو حسن والبلوى به عامة، وقد رأينا من
يوكل فرارا من التسوية بينه وبين خصمه. وليقبل على الخصمين بقلبه وعليه السكينة بلا مزح ولا تشاور ولا نهر ولا صياح ما لم يتركا
أدبا. ويندب أن يجلسا بين يديه ليتميزا، وليكون استماعه إلى كل منهما أسهل. وإذا جلسا تقاربا إلا أن يكونا رجلا
وامرأة غير محرم فيتباعدان. (والأصح) وعبر في الروضة بالصحيح، (رفع مسلم عن ذمي فيه) أي المجلس، كأن يجلس
المسلم أقرب إليه من الذمي لما روى البيهقي عن الشعبي قال: خرج علي رضي الله تعالى عنه إلى السوق فإذا هو بنصراني
يبيع درعا، فعرفها علي فقال: هذه درعي بيني وبينك قاضي المسلمين، فيأتيا شريحا، فلما رأى القاضي عليا قام من مجلسه
وأجلسه وجلس شريح أمامه إلى جنب النصراني، فقال له علي: لو كان خصمي مسلما لجلست معه بين يديك ولكن
سمعت رسول الله (ص) يقول: لا تساووهم في المجالس اقض بيني وبينه يا شريح فقال شريح: ما تقول
يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذه درعي ذهبت مني منذ زمان، فقال شريح: ما تقول يا نصراني؟ فقال: ما أكذب
أمير المؤمنين
الدرع درعي. فقال شريح لأمير المؤمنين: هل من بينة؟ فقال علي: صدق شريح. فقال النصراني: إني أشهد أن هذه
أحكام الأنبياء. ثم أسلم النصراني فأعطاه علي الدرع وحمله على فرس عتيق، قال الشعبي: فقد رأيته يقاتل المشركين
عليه. ولان الاسلام يعلو ولا يعلى عليه. والثاني: يسوى بينهما فيه، ويشبه كما في الروضة كأصلها أن يجري ذلك في سائر
وجوه الاكرام حتى في التقديم في الدعوى كما بحثه بعضهم، وهو كما قال شيخنا ظاهر إذا قلت الخصوم المسلمون،
وإلا فالظاهر خلافه لكثرة ضرر المسلمين.
تنبيه: لم يبين المصنف أن الخلاف في الجواز أو الوجوب، وصرح صاحب التمييز بالوجوب، وهو قياس القاعدة
الأغلبية أن ما كان ممنوعا منه إذا جاز وجب كقطع اليد في السرقة. وصرح سليم في المجرد بالجواز، وعبارته التي نقلها
ابن شهبة عنه: فلا بأس أن يرفع المسلم. قال الأسنوي: ولو كان أحدهما ذميا والآخر مرتدا، فيتجه تخريجه على
التكافؤ في القصاص، والصحيح أن المرتد يقتل بالذمي دون عكسه. وتعجب البلقيني من هذا التخريج، فإن
400

التكافؤ في القصاص ليس مما نحن فيه بسبيل، ولو اعتبرناه لرفع الحر على العبد والوالد على الولد. (وإذا) حضر
الخصمان بين يديه و (جلسا) أو وقفا كما هو الغالب، (فله أن يسكت) عنهما حتى يتكلما لأنهما حضرا ليتكلما. (و)
له (أن يقول) إن لم يعرف المدعي: (ليتكلم المدعي) منكما، لأنه ربما هاباه. وله إن عرفه أن يقول له: تكلم كما في
الروضة وأصلها. والأولى أن يقول ذلك القائم بين يديه، فإن طال سكوتهما بغير سبب من هيبة وتحرير كلام
ونحوهما قال: ما خطبكما؟ قال الماوردي: فإن لم يدع واحد منهما أقيما من مكانهما. قال الماوردي: والأولى بالخصم
أن يستأذن القاضي في الكلام. (فإذا ادعى) أحدهما دعوى صحيحة، (طالب خصمه بالجواب) وإن لم يسأله المدعي،
لأن المقصود فصل الخصومة وبذلك تنفصل، فيقول له: ما تقول؟ أو: اخرج من دعواه إن كانت ممكنة فإن علم كذب
المدعي مثل أن يدعي الذمي استئجار الأمير أو الكبير لعلف الدواب أو كنس بيته وكدعوى المعروف بالعيب وجر
ذوي الاقدار لمجلس القضاة واستحلافهم ليفتدوا منه بشئ فكذلك، خلافا للأصطخري في قوله لا يلتفت إليه.
(فإن أقر) بما ادعى عليه به حقيقة وحكما، (فذاك) ظاهر في ثبوته بغير حكم بخلاف البينة، لأن دلالة الاقرار
ولو حكما على وجوب الحق جلية إذ الانسان على نفسه بصير، بخلاف البينة فإنها تحتاج إلى نظر واجتهاد. وللمدعي بعد
الاقرار أن يطلب من القاضي الحكم عليه. (وإن أنكر) الدعوى، وهي مما لا يمين فيها في جانب المدعى، (فله) أي
القاضي (أن يقول للمدعي: ألك بينة) وإن كان الحق مما يثبت بالشاهد واليمين قال له: ألك بينة أو شاهد مع
يمين؟ فإن
كان اليمين في جانب المدعي لكونه أمينا أو في قسامة قال له: أتحلف؟ ويقول للزوج المدعي على زوجته بالزنا: أتلاعنها؟
فلو عبر المصنف بالحجة بدل البينة كان أولى ليشمل جميع ذلك. (و) للقاضي (أن) لا يستفهم المدعي عن البينة
بأن (يسكت) تحرزا عن اعتقاد ميله إلى المدعي. نعم إن جهل المدعي أن له إقامة البينة فلا يسكت، بل يجب إعلامه
بأن له ذلك كما أفهمه كلام المهذب وغيره. وقال البلقيني: إن علم علمه بذلك فالسكوت أولى، وإن شك فالقول أولى،
وإن علم جهله به وجب إعلامه اه‍. وهو تفصيل حسن. (فإن قال) المدعي: (لي بينة) وأقامها، فذاك (وأريد تحليفه
فله ذلك) لأنه إن تورع عن اليمين وأقر سهل الامر على المدعي واستغنى عن إقامة البينة، وإن حلف أقام المدعي
البينة وأظهر خيانته وكذبه، فله في طلب تحليفه غرض ظاهر. واستثنى البلقيني ما إذا ادعى لغيره بطريق الولاية أو
النظر أو الوكالة أو لنفسه ولكن كان محجورا عليه بسفه أو فلس أو مأذونا له في التجارة أو مكاتبا فليس له ذلك
في شئ من هذه الصور لئلا يحلف، ثم يرفعه لحاكم يرى منع البينة بعد الحلف فيضيع الحق. ورد بأن المطالبة متعلقة
بالمدعي فلا يرفع غريمه إلا لمن يسمع البينة بعد الحلف بتقدير أن ما ينفصل أمره عند الأول. (أو) قال: (لا بينة لي)
وأطلق، أو زاد عليه: لا بينة لي حاضرة ولا غائبة، أو: كل بينة أقيمها فهي باطلة أو كاذبة أو زور، وحلفه (ثم أحضرها قبلت
في الأصح) لأنه ربما لم يعرف بينة أو نسي، ثم عرف أو تذكر. والثاني: لا للمناقضة، إلا أن يذكر لكلامه تأويلا
ككنت ناسيا أو جاهلا، ونسبه الماوردي والروياني إلى الأكثرين. أما لو قال: لا بينة لي حاضرة ثم أحضرها، فإنها
تقبل قطعا لعدم المناقضة. ولو قال: شهودي فسقة أو عبيد فجاء بعدول، وقد مضت مدة استبراء أو عتق، أقبلت شهادتهم
وإلا فلا. قال الأذرعي: وهذا ظاهر فيما إذا اعترف أن هذه البينة هي التي نسب إليها ذلك، أما لو أحضر بينة عن
قرب فقال: هذه بينة عادلة جهلتها أو نسيتها غير تلك ثم علمتها أو تذكرتها، فيشبه أن تقبل لا سيما إذا كانت حرية
المحضرين وعدالتهم مشهورة.
تنبيه: يندب للقاضي بعد ظهور وجه الحكم ندب الخصمين إلى صلح يرجى، ويؤخر له الحكم يوما ويومين
برضاهما، بخلاف ما إذا لم يرضيا. (وإذا ازدحم) في مجلس القاضي (خصوم) مدعون، (قدم) حتما (الأسبق)
401

فالأسبق منهم بمجلس الحكم إن جاءوا مترتبين وعرف السابق، لأنه العدل، كما لو بسبق موضع مباح، والعبرة
بسق المدعي دون المدعى عليه، لأن الحق للمدعي.
تنبيه: قال البلقيني: محل وجوب تقديم السابق إذا تعين على القاضي فصل الخصومات، وإلا فله أن يقدم من
شاء كما صرحوا به في العلم الذي لا يجب تعليمه. (فإن جهل) الأسبق منهم (أو جاءوا معا أقرع) بينهم، وقدم من خرجت
قرعته، إذ لا مرجح، فإن آثر بعضهم بعضا جاز. هذا إذا أمكن الاقراع، فإن كثروا أو عسر الاقراع كتب أسماءهم
في رقاع وجعلها بين يديه ليأخذها واحدة واحدة ويقدم صاحبها، هكذا قالاه، وهذا نوع من الاقراع كما صرح به
الروياني. وتسمع دعوى الأول فالأول حتما، فإن كان فيهم مريض يتضرر بالصبر لتوبته فالأولى لغيره كما قال
الروياني وغيره تقديمه، فإن لم يفعل قدمه القاضي إن كان مطلوبا ولا يقدمه إن كان طالبا، لأن المطلوب مجبور
والطالب مجبر.
تنبيه: لا يقدم القاضي بعض المدعين على بعض إلا في صورتين، أشار للأولى منهما بقوله: (ويقدم) ندبا على المختار
في زوائد الروضة، (مسافرون مستوفرون) أي متهيئون للسفر خائفون من انقطاعهم إن تأخروا على مقيمين لئلا يتضرروا
بالتخلف. وأشار للثانية بقوله: (و) يقدم (نسوة) على رجال طلبا لسترهن (وإن تأخروا) أي المسافرون والنسوة في
المجئ إلى القاضي، وفيه تغليب المذكر على المؤنث، وكذا في قوله: (ما لم يكثروا) فإن كثروا بل أو ساووا كما في المهذب،
أو كان الجميع مسافرون أو نسوة، فالتقديم بالسبق أو القرعة.
تنبيه: أفهم إطلاقه المسافرين والنسوة أنه لا فرق فيه بين كون كل منهما مدعيا أو مدعى عليه، وهو ما بحثه في
أصل الروضة، وإن نازع فيه البلقيني وقال: إنه مختص بالمدعين. والخناثى مع الرجال كالنسوة. ويقدم المسافر المرأة
المقيمة كما صرح به في الأنوار. وإطلاق المصنف النساء يقتضي أنه لا فرق بين الشابة والعجوز، وهو كذلك وإن قال
الزركشي: القياس إلحاق العجوز بالرجال لانتفاء المحذور. وأفهم اقتصاره على المسافرين والنسوة الحصر فيهما، وليس
مرادا، بل المريض كما سبق كذلك. قال الزركشي: وينبغي أن يلحق به من له مريض بلا متعهد، وتقديم مسلم على
كافر. والازدحام على المفتي والمدرس كالازدحام على القاضي إن كان العلم فرضا ولو على الكفاية، وإلا فالخبرة إلى
المفتي أو المدرس. (ولا يقدم سابق وقارع) أي من خرجت قرعته، (إلا بدعوى) واحدة وإن اتحد المدعى عليه لئلا يتضرر
الباقون، لأنه ربما استوعب المجلس بدعاويه فتسمع دعواه وينصرف ثم يحضر في مجلس آخر وينتظر فراغ دعوى الحاضرين
ثم تسمع دعواه. الثانية: إن بقي وقت ولم يضجر.
تنبيه: سكت المصنف عن حكم تقديم المسافر والنسوة، والأرجح تقديمهم بدعاويهم إن كانت خفيفة لا تضر
بالمقيمين في الأولى وبالرجال في الثانية، فإن طالت قدم من ذكر بواحدة لأنها مأذون فيها، وقد يقنع بواحدة
ويؤخر الباقي إلى أن يحضر، هذا ما رجحه في الروضة، واعترضه الأسنوي بأن ما ذكره من التقديم بواحدة فقط ممنوع
بل القياس على ما قاله أن يسمع في عدد لا يضر بالباقين، كما لو لم يكن معه غيره، أي من المسافرين أو النساء. قال
الأذرعي: وهذا لا يكاد ينضبط. وإذا قدمنا بواحدة فالمراد كما بحثه شيخنا التقديم بالدعوى وجوبها وفصل الحكم فيها.
نعم إن تأخر الحكم لانتظار بينة أو تزكية أو نحوها سمع دعوى من بعده حتى يحضر هو ببينته فيشتغل حينئذ بإتمام
خصومته، ولا وجه لتعطيل الخصوم، ذكره الأذرعي وغيره.
تنبيه: لو قال كل من الخصمين: أنا المدعي، فإن كان قد سبق أحدهما إلى الدعوى لم تقطع دعواه بل على
الآخر أن يجيب ثم يدعي إن شاء وإلا ادعى من بعث منهما العون خلف الآخر، وكذا من أقام بينة بأنه أحضر
الآخر ليدعي عليه، فإن استووا أقرع بينهم فمن خرجت قرعته ادعى. (ويحرم) على القاضي اتخاذ شهود معينين
402

(لا يقبل غيرهم) لما فيه من التضييق على الناس، إذ قد يتحمل الشهادة غيرهم، فإذا لم يقبل ضاع الحق، وقد قال تعالى: *
(وأشهدوا ذوي عدل منكم) * فإن عين شهودا وقبل غيرهم لم يحرم ولم يكره كما قاله الماوردي. (وإذا شهد) عند القاضي
(شهود فعرف) فيهم (عدالة أو فسقا عمل بعلمه) فيهم فيقبل من عرف عدالته ولم يحتج إلى تعديل وإن طلبه الخصم،
ويرد من عرف فسقه ولا يحتاج إلى بحث.
تنبيه: محل هذا في العدالة في غير أصله وفرعه، أما هما ففيهما وجهان، أرجحهما كما قاله البلقيني عدم الجواز
ما لم تقم عنده بينة بعدالتهما تفريعا على تصحيح الروضة أنه لا يقبل تزكيته لهما. (وإلا) بأن لم يعرف القاضي في الشهود
عدالة ولا فسقا، (وجب الاستزكاء) أي طلب القاضي منهم التزكية، وهي البحث عن حال الشهود سواء أطلبه الخصم
أم لا، طعن في الشهود أم لا، اعترف بعدالتهم أم لا، لأن الحكم يقع بشهادتهم فيجب البحث عن شرطها. نعم لو
صدقهما الخصم فيما شهدوا به قضى بإقراره لا بالبينة.
تنبيه: لو جهل إسلام الشهود رجع فيه إلى قولهم بخلاف جهله بحريتهم، فإنه لا بد من البينة. ولو شهد عليه
شاهدان معروفان بالعدالة واعترف الخصم بما شهدا به قبل الحكم عليه، فالحكم بالاقرار لا بالشهادة لأنه أقوى، بخلاف
ما لو أقر بعد الحكم فإن الحكم قد مضى مستندا إلى الشهادة، هذا ما نقله في أصل الروضة عن الهروي وأقره. وتقدم في
باب الزنا أن الأصح عند الماوردي اعتبار الأسبق من الاقرار والشهادة، وتقدم ما فيه. وقول ابن شهبة: والصحيح
استناده إلى المجموع ممنوع. ثم بين صورة الاستزكاء بقوله: (بأن) أي كأن (يكتب) القاضي (ما يتميز به الشاهد والمشهود
له، و) المشهود (عليه) من اسم وكنية إن اشتهر بها، وولاء إن كان عليه ولاء، واسم أبيه وجده وحليته وحرفته وسوقه
ومسجده لئلا يشتبه بغيره، وقد يكون بينهما وبين الشاهد ما يمنع الشهادة كبغضة أو عداوة، فإن كان الشاهد مشهورا
وحصل التمييز ببعض هذه الأوصاف اكتفي به. (وكذا قدر) المشهود به من (الدين) وغيره (على الصحيح
) لأنه قد يغلب
على الظن صدق الشاهد في القليل دون الكثير. والثاني: لا يكتبه، لأن العدالة لا تختلف بقلة المال وكثرته، ونقله الإمام عن
معظم الأئمة، وقال عن الأول: ليس بسديد، فكان الأولى التعبير بالأصح لا بالصحيح، وأن يقول: وكذا ما شهدوا به
ليعلم الدين والعين والنكاح والقتل وغيرها، وليستغني عما قدرته في كلامه. (و) أن (يبعث به) أي بما كتبه (مزكيا) هو
نصب بإسقاط الخافض، وصرح به في المحرر، فقال: إلى مزك. وفي الشرح والروضة: ينبغي أن يكون للقاضي مكون
وأصحاب مسائل، فالمزكون الرجوع إليهم ليبينوا حال الشهود، وأصحاب المسائل هم الذين يبعثهم القاضي إلى
المزكين ليبحثوا ويسألوا، وربما فسر أصحاب المسائل في لفظ الشافعي رضي الله عنه بالمزكين اه‍. قال في الروضة:
ويكتب لكل مزك كتابا ويدفعه إلى صاحب مسألة ويخفي كل كتاب عن غير من دفعه إليه وغير من يبعثه احتياطا لئلا
يسعى المشهود له في التزكية والمشهود عليه في الجرح. (ثم) إن عاد إليه الرسل بجرح من المزكين توقف عن الحكم
وكتم الجرح وقال للمدعي: زدني في الشهود أو عادوا إليه بتعديل لم يحكم بقولهم، بل (يشافهه) أي القاضي (المزكى)
المبعوث إليه (بما عنده) من حال الشهود من جرح أو تعديل، لأن الحكم يقع بشهادته ويشير إلى المزكي ليأمن بذلك
الغلط من شخص إلى آخر، ولا يقتصر المزكى على الكتابة للقاضي مع أصحاب المسائل في الأصح. (وقيل تكفي كتابته)
له معهم من غير مشافهة، وهذا ما اختاره القاضي حسين وأصحابه وعليه عمل القضاة الآن من اكتفائهم برؤية سجل
العدالة وليس المراد بالمزكى واحدا كما يشعر به كلامه بل اثنين فأكثر.
403

تنبيه: من نصب أرباب المسائل حاكما في الجرح والتعديل كفى أن ينهي إلى القاضي وحده ذلك، فلا يعتبر العدد
لأنه حاكم فالحكم مبني على قوله، وكذا لو أمر القاضي صاحب المسألة بالبحث فبحث وشهد بما بحثه، لكن يعتبر
العدد لأنه شاهد. قال في أصل الروضة: وإذا تأملت كلام الأصحاب فقد تقول ينبغي أن لا يكون فيه خلاف محقق،
بل إن ولي صاحب المسألة الجرح والتعديل فحكم القاضي مبني على قوله، فلا يعتبر العدد لأنه حاكم، وإن أمره بالبحث
فبحث ووقف على حال الشاهد وشهد به، فالحكم أيضا مبني على قوله، لكن يعتبر العدد لأنه شاهد، وإن
أمره بمراجعة مزكين وإعلامه ما عندهما فهو رسول محض فليحضر أو يشهدا، وكذا لو شهدا على شهادتهما لأن شاهد
الفرع لا يقبل مع حضور الأصل اه‍. فقد رفع بذلك الخلاف في أن الحكم بقول المزكين أو بقول هؤلاء. والذي نقله
عن الأكثرين أنه بقول هؤلاء، وهو كما قال شيخنا المعتمد. واعتذر ابن الصباغ عن كونه شهادة على شهادة مع
حضور
الأصل بالحاجة، لأن المزكين لا يكلفون الحضور. ويعتبر فيمن نصب حاكما في الجرح والتعديل صفات القضاة. (وشرطه)
أي المزكى الذي يشهد بالعدالة مثلا، (كشاهد) أي كشرطه. وقضيته عدم شهادة الأب بتعديل الابن وعكسه، وهو الأصح.
(مع معرفة) أسباب (الجرح والتعديل) لئلا يجرح العدل ويزكى الفاسق، (وخبرة باطن من يعدله لصحبة أو جوار) بكسر
الجيم أفصح من ضمها، (أو معاملة) ونحوها، فعن عمر رضي الله تعالى عنه أن اثنين شهدا عنده، فقال لهما: إني لا أعرفكما،
ولا يضركما أني لا أعرفكما، ائتيا بمن يعرفكما فأتيا برجل، فقال له عمر: كيف تعرفهما؟ قال: بالصلاح والأمانة،
قال: هل كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما ومدخلهما ومخرجهما؟ قال: لا، قال: هل عاملتهما بهذه الدراهم
والدنانير التي يعرف بهما أمانات الرجال؟ قال: لا، قال: هل صاحبتهما في السفر الذي يسفر عن أخلاق الرجال؟ قال: لا،
قال: فأنت لا تعرفهما، ائتيا بمن يعرفكما والمعنى فيه أن أسباب الفسق خفية غالبا، فلا بد من معرفة المزكى حال من يزكيه.
ويشترط علم القاضي بأنه خبير بباطن الحال إلا إذا علم من عدالته أنه لا يزكى إلا بعد الخبرة فيعتمده. ولا يعتبر في خبرة
الباطن التقادم في معرفته، بل يكتفي بشدة الفحص ولو غريبا يصل المزكى بفحصه إلى كونه خبيرا بباطنه، فحين يغلب
على ظنه عدالته باستفاضة شهد بها. واحترز المصنف بقوله: من يعدله عن الشاهد بالجرح، فإنه لا يشترط فيه الخبرة
الباطنة فإنه لا يقبل إلا مفسرا. وما ذكره من اعتبار شروط الشاهد محله في غير المنصوب، أما من نصب حاكما في
الجرح والتعديل فيعتبر فيه صفات القاضي كما مر. وقوله: وخبرة ومجرور بالعطف على قوله: مع معرفته، وجوز ابن
الفركاح رفعه بالعطف على خبرة قوله: وشرطه خبرة. (والأصح اشتراط لفظ شهادة) من المزكى، فيقول: أشهد أنه
عدل أو غير عدل لكذا كسائر الشهادات. والثاني: لا يشترط لفظها، بل يكفي أعلم وأتحقق وهو شاذ. (و) الأصح (أنه
يكفي) مع لفظ الشهادة قول المزكى: (هو عدل) لأنه أثبت العدالة التي اقتضاها ظاهر قوله تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل
منكم) * وهذا ما نص عليه في حرملة. (وقيل) ونص عليه في الام والمختصر: (يزيد) على ذلك قوله: (علي ولي) لأن قوله:
هو عدل لا يمنع أن يكون عدلا في شئ دون شئ، فهذه الزيادة تزيل الاحتمال، وعلى الأول تأكيد. ولو شهد عند القاضي
جماعة وأشكل عليه عدالتهم فأخبر نائب القاضي أن اثنين منهم عدلان، فإن عينهما حكم وإلا فلا. (ويجب ذكر
سبب الجرح) صريحا كقوله: هو زان أو قاذف أو سارق أو نحو ذلك، أو يقول ما يعتقده من البدعة المنكرة،
لأن
أسباب الجرح مختلف فيها، فلا بد من البيان ليفعل القاضي باجتهاده، ويكفي ذكر بعض أسباب. وقيل إن كان
الجارح عالما بالأسباب اكتفي بإطلاقه وإلا فلا.
404

تنبيه: محل الخلاف في غير المنصوب للجرح والتعديل، أما هو فليس للحاكم سؤاله عن السبب كما نقله
الزركشي عن المطلب عن ابن الصباغ. وإنما لم يحتج في التعديل إلى بيان سبب العدالة، لأن أسبابها كثيرة غير
منحصرة. ولا يجعل الجارح بذكر الزنا قاذفا وإن انفرد لأنه مسؤول في حقه فرض كفاية أو عين، بخلاف شهود
الزنا إذا نقصوا عن الأربعة، فإنهم قذفة لأنهم مندوبون إلى الستر فهم مقصرون. ولو قال الشاهد: أنا مجروح قبل
وإن لم يبين السبب كما قاله الهروي. وإنما يكون الجرح والتعديل عند القاضي أو من يعينه القاضي لذلك. (ويعتمد)
الجارح (فيه) أي الجرح، (المعاينة) كأن رآه يزني، أو السماع كما ذكره في المحرر كما إذا سمعه يقذف إنسانا،
أو يقر على نفسه بذلك، (أو الاستفاضة) عنه بين الناس بما يجرحه، أو التواتر كما فهم بالأولى، وكذا شهادة عدلين
مثلا بشرطه لحصول العلم أو الظن بذلك. وفي اشتراط ذكر ما يعتمده من معاينة ونحوها وجهان، أحدهما وهو الأظهر:
نعم، فعلى هذا لا بد أن يقول رأيته يزني أو سمعته يقذف أو نحو ذلك. وثانيهما وهو الأقيس: لا. ذكره في الروضة وأصلها،
ويحكى هذا عن ابن أبي هريرة، وهو الظاهر في سائر الشهادات.
تنبيه: إذا لم يقبل الجرح يفيد التوقف عن الاحتجاج بالمجروح إلى أن يبحث عن ذلك الجرح، ذكره ابن
الصلاح والمصنف في الرواية. قال ابن النقيب: ولا فرق بين الرواية والشهادة فيما يظهر. (ويقدم) الجرح، أي بينته
(على) بينة (التعديل) سواء أكانت بينة الجارح أكثر أم لا لزيادة علمها، فإن بينة التعديل ثبت أمرها على
ما ظهر من الأسباب الدالة على العدالة وخفي عليها ما اطلع عليه بينة الجارح من السبب التي جرحته به كما لو قامت بينة
بالحق وبينة بالابراء. (فإن قال المعدل) بكسر الدال بخطه: (عرفت سبب الجرح وتاب منه وأصلح، قدم) قوله على
قول الجارح، لأن معه حينئذ زيادة علم بجريان التوبة وصلاح الحال بعد وجود السبب الذي اعتمده الجارح.
تنبيه: هذه المسألة إحدى مسألتين تقدم فيهما بينة التعديل على الجرح. والثانية: لو جرح ببلد ثم انتقل
لآخر فعدله اثنان قدم التعديل كما قاله صاحب البيان عن الأصحاب، قال في الذخائر: ولا يشترط اختلاف البلدين، بل
لو كانا في بلد واختلف الزمان فكذلك اه‍. وحاصل الامر تقديم البينة التي معها زيادة علم من جرح أو تعديل. ولو عدل
الشاهد في واقعة ثم شهد في أخرى وطال بينهما زمن استبعده القاضي باجتهاده طلب تعديله ثانيا، لأن طول الزمن
يغير الأحوال بخلاف ما إذا لم يطل. ولو عدل في مال قليل هل يعمل بذلك التعديل المذكور في شهادته بالمال الكثير
بناء على أن العدالة لا تتجزأ أو لا بناء على أنها تتجزأ؟ وجهان، قال ابن أبي الدم: المشهور من المذهب
الأول، فمن قبل
في درهم قبل في الألف، نقله عن الأذرعي وأقره. ولو عدل الشاهد عند القاضي في غير محل ولايته لم يعمل بشهادته
إذا عاد إلى محل ولايته، إذ ليس هذا قضاء بعلم، بل ببينة فهو كما لو سمع البينة خارج ولايته. (والأصح أنه لا يكفي في
التعديل قول) الخصم (المدعى عليه) وهو عارف بالتعديل أهل للاقرار بالحق المدعى به: (هو) أي الشاهد
(عدل وقد غلط) على في شهادته، بل لا بد من البحث والتعديل لأن الاستزكاء حق لله تعالى، ولهذا لا يجوز
الحكم بشهادة فاسق وإن رضي الخصم.
تنبيه: كلامه يقتضي أن مقابل الأصح الاكتفاء بذلك في التعديل، ولا قائل به، وإنما مقابله الاكتفاء به في
الحكم على المدعى عليه بذلك، لأن الحق له وقد اعترف بعدالته. قال البلقيني: وقوله: وقد غلط لا يحتاج إليه، بل
اعترافه بعدالته يقتضي جريان الوجهين وإن لم يقل غلط.
خاتمة: تقبل شهادة الحسبة في الجرح والتعديل كما سيأتي، لأن البحث عن حال الشهود ومنع الحكم بشهادة
الفاسق حق لله تعالى. ويسن للقاضي قبل التزكية أن يفرق شهودا أرباب تهم أو توهم غلطهم لخفة عقل وجدها فيهم
ويسأل كلا منهم عن زمان محل الشهادة عاما وشهرا ويوما أو غدوة أو عشية، وعمن كتب شهادته معه، وأنه كتب
405

بحبر أو مداد ونحو ذلك ليستدل على صدقهم إن اتفقت كلمتهم وإلا فيقف عن الحكم. وإذا أجابه أحدهم لم يدعه
يرجع إلى الباقين حتى يسألهم لئلا يخبرهم بجوابه، فإن امتنعوا من التفصيل ورأي أن يعظهم ويحذرهم عقوبة شهادة
الزور وعظهم وحذرهم. فإن أصروا على شهادتهم ولم يفصلوا وجب عليه القضاء إذا وجدت شروطه، ولا عبرة بما
يبقى من ريبة. وإنما استحب له ذلك قبل التزكية لا بعدها، لأنه إن اطلع على عورة استغنى عن الاستزكاء والبحث عن
حالهم، وإن لم يرتب فيهم ولا توهم غلطهم فلا يفرقهم وإن طلب منه الخصم تفريقهم، لأن فيه غضا منهم.
انتهى. باب القضاء على الغائب
عن البلد أو عن المجلس وتوارى أو تعزز، مع ما يذكر معه.
والدعوى على الغائب إما من صاحب الحق أو وكيله كما سيأتي. وبدأ المصنف بالأول فقال: (هو جائز) بشرطه
الآتي لعموم الأدلة، ولقول عمر في خطبته: من كان له على الأسيفع - بالفاء المكسورة - مال فليأتنا غدا، فإنا بائعو ماله
وقاسموه بين غرمائه وكان غائبا. ولقوله (ص) لهند: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف وهو قضاء منه على
زوجها، ولو كان فتوى لقال: لك أن تأخذي، أو لا بأس عليك أو نحوه، ولم يقل خذي، لأن المفتى لا يقطع، فلما
قطع كان حكما. كذا استدلوا به، وقال المصنف في شرح مسلم: لا يصح الاستدلال به، لأن أبا سفيان كان حاضرا
بمكة، فإن الواقعة كانت بمكة لما حضرت هند المبايعة. وذكر الرافعي في النفقات ما يدل على أن ذلك كان استفتاء
، قال ابن شهبة: وهو الذي يظهر، لأنه (ص) لم يحلفها، ولم يقدر المحكوم به لها ولم تجر دعوى على ما
شرطوه اه‍. ويحتمل أن تكون الواقعة وقعت مرتين. وصح عن عمر رضي الله عنه أنه حكم في امرأة المفقود أنها تتربص
أربع سنين وأربعة أشهر وعشرا، وقال ابن حزم: صح عن عثمان القضاء على الغائب. ولا مخالف لهما من الصحابة،
ولان البينة مسموعة بالاتفاق على الغائب، فليجب الحكم بها كالبينة المسموعة على الحاضر الساكت. وأيضا فالحكم
على الميت والصغير جائز، وهما أعجز عن الدفع من الغائب، ولان في المنع منه إضاعة للحقوق التي ندب الحكام إلى
حفظها فإنه لا يعجز الممتنع من الوفاء عن الغيبة. وألحق القاضي حسين بالغائب ما إذا أحضره المجلس فهرب قبل أن
يسمع الحاكم البينة أو بعده وقبل الحكم فإنه يحكم عليه قطعا. وإنما يسمع الدعوى ويقضي بها على الغائب (إن) بين
المدعي ما المدعي به وقدره ونوعه ووصفه وقال إني طالب بحقي، و (كان) للمدعي (بينة) ولو شاهدا ويمينا فيما يقضي فيه
بهما، لأن الدعوى لقصد ثبوت الحق، وطريقه محصورة في إقرار أو يمين مردودة أو بينة، والاولان مفقودان
عند غيبة المدعى عليه.
تنبيه: كلامه يوهم جواز الدعوى على الغائب وإن لم يكن عليه بينة، وليس مرادا، فكان الأولى أن يعتبر ذلك
في صحة الدعوى كما قدرته في كلامه وإن نازع البلقيني في اشتراط البينة في صحة سماع الدعوى وقال: الدعوى صحيحة
بدونه، ولكن لا يحكم القاضي إلا أن يستند قضاؤه إلى الحجة المعتبرة. ولو عبر المصنف بالحجة بدل البينة ليشمل علم
القاضي بالواقعة إذا سوغنا الحكم لكان أولى. وقوله: (وادعى المدعي) على الغائب (جحوده) أي الحق المدعى به شرط
لصحة الدعوى وسماع البينة على الغائب. ولا يكلف البينة بالجحود بالاتفاق كما حكاه الإمام، ثم استشكله بأنه إن كان
يدعي جحوده في الحال فهو محال، لأنه لا يعلم حاله وإن كان يدعي جحوده لما كان حاضرا فالقضاء في الحال لا يرتبط
بجحود ماض اه‍. وقد يجاب بأن الأصل استمرار الجحود.
تنبيه: يقوم مقام الجحود ما في معناه، كما لو اشترى عينا وخرجت مستحقة فادعى الثمن على البائع الغائب فلا
406

خلاف أنها تسمع وإن لم يذكر الجحود، وإقدامه على البيع كاف في الدلالة على جحوده، قاله الإمام والغزالي. (فإن
قال: هو) أي الغائب (مقر) وأنا أقيم البينة استظهارا لمخالفة أن يبكر لغت دعواه، و (لم تسمع بينته) لتصريحه بالمنافي
لسماعها، لأنها لا تقام على مقر.
تنبيه: هذا إن أراد بإقامتها أن يكتب القاضي بذلك لحاكم بلد الغائب، فلو كان للغائب مال حاضر وأقام البينة
على دينه ليوفيه القاضي حقه سمعت، وإن قال: هو مقركما في الروضة وأصلها عن فتاوى القفال. وزاد البلقيني على
هذه الصورة صورا أخر. أحدها: لو قال هو مقر ولكنه ممتنع سمعت بينته وحكم بها. ثانيها: إذا كانت بينته شاهدة
بالاقرار فإنه يقول عند مطابقة دعواه بينته أقر فلان بكذا أولى به بينة، قال: فإن قيل: لم لم يقل هو مقر الآن بخلاف
صورة القفال؟ قلنا: قوله أقر يقتضي دوام الاقرار، لأن الأصل بقاء الاقرار، لكنه ضمني ويغتفر في الضمني ما لا يغتفر
في الاستقلال. ثالثها: لو كان الغائب لا يقبل إقراره لسفه ونحوه فلا يمنع قوله هو مقر من سماع بينة المدعي، وكذا المفلس
يقر بدين معاملة بعد الحجر فإنه لا يقبل في حق الغرماء، فلا يضر قول المدعي في غيبته إنه مقر، لأن إقراره لا يؤثر، وكذا
لو قال: هذه الدار لزيد بل لعمرو فادعاها عمرو في غيبته ليقيم بينته لا يضره قوله وهو مقر لأن إقراره غير مؤثر في العقد
الذي وقعت به الدعوى. قال: ويتصور نحو ذلك في الرهن والجناية، ولم أر من تعرض لذلك. (وإن أطلق) المدعي
بأن لم يتعرض لجحود الغائب ولا لاقراره، (فالأصح أنها) أي بينته (تسمع) لأنه قد لا يعلم جحوده في غيبته
ويحتاج إلى إثبات حقه، فيجعل غيبته كسكوته. والثاني: لا تسمع، لأن البينة إنما يحتاج إليها عند الجحود. (و) الأصح
(أنه لا يلزم القاضي مسخر) بفتح الخاء المعجمة، (ينكر على الغائب) عند الدعوى عليه، قال في أصل
الروضة: لأنه قد يكون مقرا فيكون إنكار المسخر كذبا، قال: ومقتضى هذا التوجيه أنه لا يجوز نصبه، لكن الذي
ذكره العبادي وغيره أن القاضي مخير بين النصب وعدمه انتهى. فقول ابن المقري: إن نصبه مستحب قال شيخنا:
قد يتوقف فيه. والثاني: يلزمه لتكون البينة على إنكار منكر. (ويجب) على القاضي (أن يحلفه) أي المدعي يمين الاستظهار،
(بعد) إقامة (البينة) أي وتعديلها وقبل توفية الحق، (أن الحق) الذي لي على الغائب (ثابت في ذمته) إلى الآن وأنه
يجب تسليمه إلي كما في الروضة وأصلها احتياطا للمحكوم عليه، لأنه لو حضر ربما ادعى ما يبرئه منه، هذا أقل
ما يكفي، والأكمل على ما ذكره في أصل الروضة أنه ما أبرأه من الدين الذي يدعيه ولا من شئ منه ولا اعتاض
ولا استوفى ولا أحال عليه هو ولا أحد من جهته بل هو ثابت في ذمة المدعى عليه يلزمه أداؤه. ثم قال: ويجوز أن
يقتصر فيحلفه على ثبوت المال في ذمته ووجوب تسليمه اه‍. وإنما اعتبر ذكر لزوم تسليمه لأنه قد يكون ثابتا في ذمته
، ولا يلزمه تسليمه لتأجيل ونحوه. (وقيل: يستحب) تحليفه، لأنه يمكنه التدارك إن كان له دافع.
تنبيه: محل وجوب التحليف إذا لم يكن للغائب وكيل حاضر، وإلا لم يحتج إلى ضم اليمين إلى البينة كما قاله ابن الرفعة.
(ويجريان) هذان الوجهان (في دعوى على صبي أو مجنون) أو ميت بلا وارث خاص، والأصح الوجوب لعجزهم
عن التدارك، فإن كان للميت وارث خاص اعتبر في الحلف طلب الوارث، لأن الحق له في التركة، ومثله ما لو كان
للصبي أو المجنون نائب خاص، وبه صرح صاحب المهذب والتهذيب وغيرهما كما نقله الزركشي وأقره.
تنبيه: قد علم من ذلك أنه لا تنافي بين ما ذكر هنا وما ذكر في كتاب دعوى الدم والقسامة من أن شرط
المدعى عليه أن يكون مكلفا ملتزما للأحكام، فلا تصح الدعوى على صبي ومجنون، لأن محل ذلك عند حضور وليهما
فتكون الدعوى على الولي، أما عند غيبته فالدعوى عليهما كالدعوى على الغائب فلا تسمع إلا أن يكون هناك بينة
407

ويحتاج معها إلى اليمين، ولا يشترط في يمين الاستظهار التعرض لصدق الشهود بخلاف اليمين مع الشاهد لكمال الحجة
هنا كما صرح به في أصل الروضة. وأفهم قول المصنف أن يحلفه بعد البينة أنه لا ينفذ الحكم عليه قبل التحليف، وهو
مقتضى كلام الأصحاب. وأفهم اقتصاره في الحال الصبي والمجنون بالغائب في الحلف أن المدعي على المتوارى أو المتعزز
لا يحلف بعد البينة، وسيأتي الكلام عليه في الفصل الآتي.
فروع: لو قدم الغائب أو كمل الناقض فهو على حجته من قادح في البينة أو معارضة بينته بالأداء أو الابراء
شرط ذلك في الحكم أم لا. ولو ادعى قيم لموليه شيئا وأقام بينة على قيم شخص آخر فمقتضى كلام الشيخين أنه يجب
انتظار كمال المدعى له ليحلف ثم يحكم له، وإن خالفهما السبكي، وقال الوجه: أنه يحكم له ولا ينتظر كماله، لأنه قد
يترتب على الانتظار ضياع الحق. ولا تسمع الدعوى والبينة على الغائب بإسقاط حق له، لأن الدعوى بذلك والبينة
لا تسمع إلا بعد المطالبة بالحق، قال ابن الصلاح: وطريقه في ذلك أن يدعي على إنسان أن رب الدين أحاله به فيعترف
المدعى عليه بالدين لربه وبالحوالة ويدعي أنه برأه منه أو أقبضه فتسمع الدعوى بذلك والبينة وإن كان رب الدين
حاضرا بالبلد. (ولو ادعى وكيل) عن غائب بحق (على غائب) عن البلد وأقام البينة وقلنا كما سبق بوجوب التحليف
بعدها، (فلا تحليف) على الوكيل، بل يحكم بالبينة ويعطي المال المدعى به وإن كان للمدعى عليه هناك مال، لأن الوكيل
لا يحلف يمين الاستظهار بحال، لأن الشخص لا يستحق بيمين غيره، ولو وقفنا الامر إلى أن يحضر الموكل لانجر الامر
إلى تعذر استيفاء الحقوق بالوكالة. وأفهم كلام الروض كأصله أنه لا يعطيه إن لم يكن هناك مال، والمتجه كما قال التاج
السبكي خلافه إن كان المال في محل عمله، وقد يحمل قوله هناك على محل ولايته فيزول الاشكال. ثم أشار المصنف لمسألة
مستأنفة ليست من هذا الباب ولا تعلق لها بما قبلها، وإن أوهم كلامه خلافه، فقال: (ولو حضر) أي كان (المدعى
عليه) حاضرا فادعى عليه وكيل شخص غائب بحق، (و) أقام البينة عليه، ثم (قال لوكيل المدعي أبرأني موكلك)
الغائب عما ادعيته على (أمر) المدعى عليه (بالتسليم) للحق المدعى به للوكيل، ولا يؤخر الحق إلى حضور الموكل الغائب،
لأنه يؤدي إلى تعذر استيفاء الحقوق بالوكلاء. ويمن ثبوت الابراء بعد ذلك إن كان له حجة. وكذا لو ادعى قيم
الصبي دينا للصبي، فقال المدعى عليه إنه أتلف علي من جنس ما يدعيه ما هو قضاء لدينه، لم ينفعه في تأخير قضاء ما أثبته
القيم، بل يقتضيه في الحال، وإذا بلغ الصبي عاقلا حلفه على نفي ما ادعاه من الاتلاف. فإن قيل: هذا يشكل على
ما مر من أن مقتضى كلام الشيخين أنه يجب انتظار كمال المدعى له. أجيب بأن صورة المسألة هنا أن قيم الصبي ادعى
دينا له على حاضر رشيد اعترف به، ولكن ادعى وجود مسقط صدر من الصبي وهو إتلافه فلا يؤخر الاستيفاء
لليمين المتوجهة على الصبي بعد بلوغه وما مر فيما إذا أقام قيم الطفل بينة وقلنا بوجوب التحليف فينظر، لأن البينة
على الطفل ومن في معناه من غائب ومجنون لا يعمل بها حتى يحلف مقيمها على المسقطات التي يتصور دعواها من الغائب
ومن في معناه فلم تتم الحجة التي يعمل بها فإنه لا يعمل بالبينة وحدها، بل لا بد من البينة واليمين.
تنبيه: لو سأل المدعى عليه تحليف الوكيل الذي ادعى عليه أنه لم يعلم أن موكله أبرأه من الحق أجيب إليه، قاله
الشيخ أبو حامد وغيره. فإن قيل: هذا يخالف ما سبق من أن الوكيل لا يحلف. أجيب بأنه لا يلزم من تحليفه هنا
تحليفه ثم، لأن تحليفه هنا إنما جاء من جهة دعوى صحيحة يقتضي اعترافه بها سقوط مطالبته لخروجه باعترافه فيها عن
الوكالة في الخصومة، بخلاف يمين الاستظهار فإن حاصلها أن المال ثابت في ذمة الغائب أو الميت، وهذا لا يتأتى من
الوكيل، وفي معنى الابراء دعوى علمه بالوفاء ونحوه.
فروع: لو قال شخص لآخر: أنت وكيل فلان الغائب ولي عليه كذا وادعى عليك وأقيم به بينة، فأنكر الوكالة
أو قال: لا أعلم إني وكيل، لم تقم عليه بينة بأنه وكيله، لأن الوكالة حق له فكيف تقام بينة بها قبل دعواه. وإذا علم أنه
408

وكيل وأراد أن لا يخصم فليعزل نفسه، وإن لم يعلم ذلك فينبغي أن يقول: لا أعلم أني وكيل، ولا يقول: لست بوكيل،
فيكون مكذبا لبينة قد تقوم عليه بالوكالة. (وإذا ثبت) عند حاكم (مال على غائب) وحكم به عليه (وله مال) حاضر
وطلبه المدعى (قضاء الحاكم منه) لأنه حق وجب عليه وتعذر وفاؤه من جهة من عليه فقام الحاكم مقامه كما لو كان
حاضرا فامتنع.
تنبيه: قضية كلامه أنه يقضيه ولا يطالب بكفيل، وهو الأصح، لأن الأصل عدم الدفع. (وإلا) بأن لم يكن الغائب
مال حاضر، (فإن سأل المدعي إنهاء الحال) من سماع بينة أو شاهد ويمين بعد ثبوت عدالة الشاهد أو سأل إنهاء حكم
(إلى قاضي بلد الغائب أجابه) لذلك إن علم مكان الغائب مسارعة إلى قضاء الحقوق، (فينهي) إليه (سماع بينة ليحكم
بها ثم يستوفي المال) ويكتب في صفة إنهائها: سمعت بينة عادلة قامت عندي بأن لفلان على فلان كذا فأحكم بها. وهو
مشروط ببعد المسافة كما سيأتي. (و) ينهي إليه (حكما) إن حكم (ليستوفي) المال، ويكتب في إنهاء الحكم: قامت عندي
بينة عادلة على فلان لفلان بكذا وحكمت له به فاستوفى حقه، ولان الحاجة قد تدعو لذلك، فإن من له بينة في بلد
وخصمه في بلد آخر لا يمكنه حملها إلى بلد الخصم ولا حمل الخصم إلى بلد البينة فيضيع الحق، ولا يشترط في هذه
الحالة بعد المسافة كما سيأتي.
تنبيه: اعلم أن لانهاء الحال إلى قاضي بلد الغائب ثلاث درجات، الأولى: سماع البينة. والثانية: قول الحاكم ثبت
عندي، وهي تستلزم الأولى بخلاف العكس. والثالثة: الحكم بالحق، وهو أرفع الدرجات وتستلزم ما قبلها، وحينئذ فالذي
يرتب عليه المكتوب إليه الحكم هو الثانية لا الأولى. قال ابن شهبة: فإذا تعبير المصنف ليس بمحرر. وقوله: إلى قاضي
بلد الغائب يوهم أنه لا بد أن يكون المكتوب إليه معينا، وليس مرادا، بل يجوز أن يكتب إلى من يصل إليه من قضاة
المسلمين، فمن بلغه عمل به. ولو كتب لمعين فشهد الشاهدان عند غيره قبل شهادتهما وأمضاه اعتمادا على الشهادة. وقول
المصنف: سماع بينة ليحكم بها يوهم أنه لو سمع البينة ولم يعد لهم وفوض تعديلها إلى المكتوب إليه لا يجوز، وليس مرادا،
ويوهم أنه لو ثبت الحق عنده بعلمه وكتب ليقضي له بموجب علمه على المدعى عليه أنه لا يجوز، وبه صرح في العدة
فقال: لا يجوز وإن جوزنا القضاء بالعلم، لأنه ما لم يحكم به هو كالشاهد، والشهادة لا تتأدى بالكتابة. وفي أمالي السرخسي
جوازه. ويقضي به المكتوب إليه إذا جوزنا القضاء بالعلم، لأن إخباره عن علمه إخبار عن قيام الحجة، فليكن
كإخباره عن قيام البينة. قال الأسنوي: وبما قاله في العدة جزم به صاحب البحر وجرى عليه ابن المقري، وقال البلقيني:
الأصح المعتمد ما قاله السرخسي اه‍. وهذا هو مقتضى كلام أصل الروضة، ولهذا قال شيخنا: ما قاله المصنف - يعني ابن
المقري - عكس ما اقتضاه كلام أصله ولعله سبق قلم. (والانهاء أن يشهد عدلين بذلك) أي بسماع البينة خاصة، أو
بالحكم باستيفاء الحق يؤديانه عند القاضي الآخر. ولو لم يشهدهما ولكن أنشأ الحكم بحضورهما فلهما أن يشهدا عليه
وإن لم يشهدهما كما يعلم مما يأتي. (ويستحب) مع الاشهاد (كتاب به) ولا يجب، لأن الاعتماد على الشهادة، وفائدة
الكتاب ليذكر الشاهد الحال لأنه قد ينساه. (يذكر فيه ما يتميز به المحكوم عليه) والمحكوم له من اسم كل منهما وكنيته
وقبيلته وحليته وغير ذلك ليسهل التمييز، ويذكر أسماء شهور الكتاب وتاريخه.
تنبيه: كان الأولى أن يقول: ما يتميز به الغائب بدل المحكوم عليه ليتناول الثبوت المجرد عن الحكم. (ويختمه)
أي الكتاب ندبا حفظا للكتابة وإكراما للمكتوب إليه، وختم الكتاب سنة متبعة كما قاله ابن بطال شارح البخاري،
روى البخاري: أنه (ص) كان يرسل كتبه غير مختومة، فامتنع بعضهم من قبولها إلا مختومة، فاتخذ خاتما
ونقش
عليه محمد رسول الله. وإنما كانوا لا يقرؤون كتابا غير مختوم خوفا على كشف أسرارهم وإضاعة تدبيرهم. ويكون
409

الختم بعد قراءته على الشاهد بحضرته، ويقول: أشهدكما أني كتبت إلى فلان بما سمعتما، ويضعان خطهما فيه. ولا يكفي
أن يقول: أشهد كما أن هذا خطي وأن ما فيه حكمي، من غير قراءة. ويدفع للشاهدين نسخة أخرى بلا ختم ليطالعاها،
ويتذاكرا عند الحاجة. ومن صفة الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم حضر، عافانا الله وإياك فلان، وادعى على فلان
الغائب المقيم ببلدك بالشئ الفلاني وأقام عليه شاهدين هما فلان وفلان، وقد عدلا عندي وحلفت المدعي وحكمت له
بالمال، فسألني أن أكتب إليك في ذلك فأجبته وأشهدت بالكتاب فلانا وفلانا. ويسن أن يكتب اسمه واسم المكتوب
إليه في العنوان أيضا، فإن لم يعلم بلد الغائب كتب الكتاب مطلقا إلى كل من يبلغه من قضاة المسلمين، ثم من بلغه عمل
به. ويشترط في شهود الكتاب والحكم ظهور عدالتهم عند القاضي المكتوب إليه، ولا تثبت عدالتهم عنده بتعليل
الكاتب إياهم في الأصح. وإذا حملا الكتاب إلى بلد الغائب أخرجاه إليه ليقف على ما فيه. (ويشهدان) عند القاضي
المكتوب إليه (عليه) أي على ما صدر من القاضي الكاتب من الحكم أو الثبوت المجرد عن الحكم، (إن أنكر) الخصم
المحصر للقاضي الحق المدعى به عليه. (ف‍) - إن اعترف به ألزمه القاضي توفيته، و (إن قال لست المسمى في) هذا
(الكتاب) أي المكتوب، (صدق بيمينه) أنه ليس المسمى فيه، لأنه أخبر بنفسه والأصل فراغ ذمته. ولا يكفي الحلف
على نفي اللزوم كما في الشرح الصغير. نعم إن أجاب بلا يلزمني شئ وأراد الحلف عليه مكن. (وعلى المدعي بينة بأن
هذا المكتوب اسمه ونسبه) لأن الأصل عدم تسميته بهذا الاسم. وهذا إن لم يكن معروفا به وإلا فلا يفيد إنكاره،
وكذا إذا شهدوا على عينه أن القاضي الكاتب حكم عليه فيستوفى منه، قال الزركشي: وهذه البينة يكفي فيها العدالة الظاهر.
ولا يبالغ في البحث والاستزكاء كما أشار إليه الرافعي في باب الشهادات. (فإن أقامها) أي أقام المدعي البينة بأن المكتوب
في الكتاب اسم المدعى عليه ونسبه، (فقال) الغائب صحيح ما قامت به البينة، لكن (لست المحكوم عليه) بهذا الحق،
(لزمه الحكم) بما قامت به البينة ولم يلتفت لقوله (إن لم يكن هناك) شخص آخر (مشارك له في الاسم والصفات)
المذكورة، لأن الظاهر أنه المحكوم عليه. (وإن كان) هناك مشارك له فيما ذكر وقد مات بعد الحكم وقع الاشكال،
وإن مات قبله فإن لم يعاصره فلا إشكال، وإن عاصره وكان حاضرا (أحضر، فإن اعترف) المشارك له (بالحق
طولب) به (وترك الأول) لبيان أن الغلط فيه.
تنبيه: هذا إذا صدقه المدعي، وإلا فهي مسألة ما إذا كذب المقر له وقد سبقت في الاقرار كما قاله صاحب البيان
. (وإلا) بأن لم يعترف المشارك له بالحق، (بعث) القاضي المكتوب إليه (إلى) القاضي (الكاتب ليطلب من الشهود زيادة
صفة تمييزه) أي المشهود عليه، (ويكتبها ثانيا) وينهيها لبلد الغائب، فإن لم يجد زيادة على الصفات المكتوبة وقف الامر
حتى ينكشف بتمييز شهود الأصل بالإشارة إليه.
تنبيه: يعتبر مع المعاصرة إمكان المعاملة كما صرح به البندنيجي والجرجاني وغيرهما. وقضية كلام المصنف
الاقتصار على كتابة الصفة المميزة من غير حكم، وهو كذلك وإن قال البلقيني: لا بد من حكم مستأنف على الموصوف
بالصفة الزائدة وإن لم يحتج لدعوى وحلف. (ولو حضر قاضي بلد الغائب ببلد الحاكم) للمدعي الحاضر، (فشافهه
بحكمه) على الغائب، (ففي إفضائه) أي تنفيذه (إذا عاد إلى) محل (ولايته خلاف القضاء بعلمه) وقد مر
فيحكم. وخرج ببلد الحاكم ما لو اجتمعا في غير بلدهما وأخبره بحكمه فليس له إمضاؤه إذا عاد لمحل ولايته، وبحكمه
410

ما لو شافهه بسماع البينة فقط فلا يقضي بها إذا عاد إلى محل ولايته جزما كما قاله الإمام والغزالي. ولا يتخرج على القضاء
بالعلم، وهو قضية كلام الرافعي هنا، والفرق أن قوله في محل ولايته حكمت بكذا يحصل للسامع به علم بالحكم، لأنه
صالح للانشاء في تخريجه على القضاء بالعلم، بخلاف سماع الشهادة، فإن الاخبار به لا يحصل علما بوقوعه فتعين أن
يسلك به مسلك الشهادة فاختص سماعها بمحل الولاية. (ولو ناداه) وهما كائنان (في طرفي ولايتهما) أي قال
قاضي بلد الحاضر وهو في طرف ولايته لقاضي بلد الغائب في طرف ولايته: حكمت بكذا على فلان الذي ببلدك، (أمضاه)
أي نفذه لأنه أبلغ من الشهادة والكتابة في الاعتماد عليه. وكذا لو كان في البلد قاضيان وقال أحدهما للآخر: إني
حكمت بكذا، فإنه يمضيه إذا أخبره به نائبه في البلد وعكسه. (وإن اقتصر) القاضي الكاتب (على سماع بينة) بلا
حكم، (كتب) بها إلى بلد الغائب فيقول في كتابه له: (سمعت بينة على فلان) ابن فلان ويصفه بما يميزه به بكذا
وكذا ليتولى المكتوب إليه الحكم عليه. (ويسميها القاضي) الكاتب حتما ويرفع في نسبها (إن لم يعدلها) ليبحث
المكتوب إليه عن عدالتها وغيرها حتى يحكم بها، (وإلا) بأن عدلها (فالأصح جواز ترك التسمية) للبينة، ويأخذ
القاضي المكتوب إليه اكتفاء بتعديل القاضي الكاتب لها من غير إعادة تعديلها كما قال الرافعي إنه القياس، وصوبه
المصنف، كما يستغنى عن تسمية الشهود. والثاني: المنع، لأن الآخر إنما يقضي بقولهم.
تنبيه: لو أقام الخصم بينة بجرح الشهود قدمت على بينة التعديل وللمدعى عليه الاستمهال ثلاثة أيام
ليقيم بينة الجرح، وكذا لو قال أبرأني أو قضيت الحق واستمهل لقيام البينة، فلو قال: أمهلوني حتى أذهب إلى بلدهم
وأجرحهم فإني لا أتمكن من جرحهم إلا هناك، أو قال: لي بينة هناك دافعة، لم يمهل، بل يؤخذ الحق منه، فإن
أثبت جرحا أو دفعا استرد. وجميع ما سبق حيث الحجة شاهدان، فإذا كانت شاهدا ويمينا أو يمينا مردودة وجب
بيانها، فقد لا يكون ذلك حجة عند المنهي إليه. (والكتاب) أو الانهاء بدونه (بالحكم يمضي مع قرب المسافة) وبعدها
كما في المحرر وغيره لفهمه بطريق الأولى. (و) الكتاب (بسماع البينة) فقط (لا يقبل على الصحيح إلا في مسافة قبول
شهادة على شهادة) وهي كما سيأتي ما فوق مسافة العدوي المعتبرة بأنها التي يرجع منها المبكر لموضعه ليلا لا المعتبرة
بمسافة القصر على الصحيح. والثاني: يقبل مع قرب المسافة أيضا. وفارق على الأول الانهاء بالحكم لأن الحكم قد
تم ولم يبق إلا الاستيفاء بخلاف سماع الحجة، إذ يسهل اختصارها مع القرب والعبرة في المسافة بما بين القاضيين،
لا بما بين القاضي المنهي والغريم.
فصل: في بيان الدعوى بعين غائبة أو غيرها وسماع البينة والحكم بها: إذا (ادعى) عند قاض (عينا غائبة عن
البلد) سواء أكانت في محل ولايته أم لا، (يؤمن اشتباهها) بغيرها (كعقار وعبد وفرس معروفات) بالشهرة.
تنبيه: لو عبر كالمحرر والروضة بمعروفين بتغليب العاقل على غيره كان أولى، ولكنه غلب غير العاقل الأكثر
على العاقل الأقل. وجواب الشرط المقدر قوله: (سمع) القاضي (ببينته وحكم بها وكتب) بذلك (إلى قاضي بلد
المال ليسلمه) أي المدعى به، (للمدعي) بعد ثبوت ذلك عنده كما في نظيره من الدعوى على الغائب. ولا فرق في
مسائل الفصل بين حضور المدعى عليه وغيبته، وإنما أدخله المصنف في الباب نظرا لغيبة المحكوم به، ولا بين كون
المدعى به في محل ولاية القاضي أو خارجا عنها كما أن قضاءه ينفذ على الخارج عن محل ولايته إذا قامت البينة بنسبه
411

وصفته. قال الإمام: وعلى هذا قال العلماء بحقائق القضاء: قاضي قرية ينفذ قضاؤه على بقاع الدنيا في دائرة الآفاق
ويقضي على أهل الدنيا. (ويعتمد) المدعي (في) دعوى (العقار) الذي لم يشتهر، (حدوده) الأربعة ليتميز.
تنبيه: محل ذكر حدوده كلها إذا لم يعلم بأقل منها، وإلا اكتفى بما يعلم به منها كما يؤخذ مما أفتى به القفال وغيره.
ويجب ذكر البقعة والسكة، وهل هو في أولها أو آخرها أو وسطها، وغير ذلك مما يتميز به العقار. ولا يجب ذكر القيمة
لحصول التمييز بدونها. هذا كله إذا توقف التعريف على الحدود، فلو حصل التعريف باسم وضع لها لا يشاركها فيه
غيرها كدار الندوة بمكة كفى كما جزم به الماوردي في الدعاوى. وإن ادعى أشجارا في بستان ذكر حدوده التي لا يتميز
بدونها وعدد الأشجار ومحلها من البستان وما تتميز به عن غيرها، والضابط التمييز. (أو) كان المدعى به عينا غائبة عن
البلد، (لا يؤمن) اشتباهها كغير المعروف من العبيد والدواب وغيرها، (فالأظهر سماع البينة) على صفتها مع غيبتها
وهي غائبة اعتمادا على الصفات، لأن الصفة تميزها عن غيرها، والحاجة داعية إلى إقامة الحجة عليها كالعقار. والثاني:
المنع، لأن الصفات تتشابه. (و) على الأظهر (يبالغ المدعي في) استقصاء (الوصف) للمدعى به المثلي قدر ما يمكنه، (ويذكر
القيمة) في المتقوم وجوبا فيهما، ويندب أن يذكر فيه المثلي وأن يبالغ في وصف المتقوم.
تنبيه: ما قررت به كلام المصنف هو ما في الروضة وأصلها هنا، وما ذكره كالروضة وأصلها في الدعاوى من
وجوب وصف العين بصفة السلم دون قيمتها مثلية كانت أو متقومة هو في عين حاضرة بالبلد يمكن إحضار مجلس
الحكم. وبذلك اندفع قول بعضهم إن كلامهما هنا يخالف ما في الدعاوى، وقال البلقيني مع اعتماده ما في الدعاوى:
كلام المتن في غير النقد، أما هو فيعتبر فيه ذكر الجنس والنوع والصحة والتكسير. (و) الأظهر (أنه) إذا سمع بينة
الصفة (لا يحكم بها) لأن الحكم مع خطر الاشتباه والجهالة بعيد، والحاجة تندفع بسماع البينة والمكاتبة بها.
تنبيه: هذا معطوف على الأظهر كما قدرته في كلامه، أي إذا قلنا بسماع البينة، ففي الحكم بها قولان،
أظهرهما لا يحكم بها لما مر، والثاني: يحكم ولا نظر إلى خطر الاشتباه. ثم فرع المصنف على الأظهر فقال: (بل يكتب
إلى قاضي بلد المال بما شهدت) تلك البينة (به فيأخذه) أي ينزع القاضي المكتوب إليه المدعى به من يد المدعى عليه
إذا وجده بالصفة التي تضمنها الكتاب، (ويبعثه إلى) القاضي (الكاتب ليشهدوا) أي الشهود أولا (على عينه) أي
المدعى به ليحصل اليقين.
تنبيه: ظاهر كلامه كالمحرر تفريع هذه المسألة على عدم الحكم بسماع بينة الصفة، لكن الذي في الروضة أنه
يكتب بما جرى عنده من مجرد قيام البينة أو مع الحكم إن جوزناه في طريقه، قولان. (والأظهر أنه) أي المكتوب إليه
(يسلمه إلى المدعي) بعد أن يحلفه كما قال الزركشي إن المال هو الذي شهد به شهوده عند القاضي. ويجب أن يكون
التسليم (بكفيل ببدنه) أي المدعى احتياطا للمدعى عليه حتى إذا لم تعينه البينة طولب برده. وقيل: لا يكفله ببدنه، بل
يكفله بقيمة المال. ويسن أن يختم على العين حين تسليمها بختم لازم لئلا تبدل بما يقع به اللبس على الشهود، فإن كان
رقيقا جعل في عنقه قلادة وختم عليها، وأخذ الكفيل واجب. والختم مستحب، والمقصود من الختم أن لا تبدل
المأخوذة، فإن كانت الدعوى بأمة تحرم خلوة المدعى بها بعثها مع أمين في الرفقة كما استحسنه الرافعي وقال في الروضة
إنه الصحيح أو الصواب، لتقوم البينة بعينها.
تنبيه: محل مما ذكره من البعث حيث لم يبد الخصم دافعا، فإن أبداه بأن أظهر عينا أخرى مشاركة في الاسم
والصفة المذكورة فكما مر في المحكوم عليه. (فإن) ذهب الشهود إلى القاضي الكاتب، و (شهدوا) عنده
(بعينه) أي المدعى به حكم به للمدعي وسلمه إليه، و (كتب) إلى قاضي بلد المال (ببراءة الكفيل) ولا يحتاج
412

إلى إرساله مرة ثانية. (وإلا) بأن لم يشهدوا على عينه (فعلى المدعي مؤنة الرد) للمدعى به والاحضار له إلى مكانه
لتعديه، ولهذا كان مضمونا عليه كما حكاه ابن الرفعة عن البندنيجي. وعليه أيضا أجرته لمدة الحيلولة إن كانت له منفعة
كما قاله العراقيون لأنه عطل منفعته على صاحبه بغير حق. (أو) كان المدعى به عينا (غائبة عن المجلس) للحكم (لا) عن
(البلد أمر) بضم أوله، أي أمر القاضي الخصم أو من العين في يده (بإحضار ما يمكن) أي يسهل (إحضاره ليشهدوا
بعينه) أي عليها لتيسر ذلك، والفرق بينه وبين الغائب عن البلد بعد المسافة وكثرة المشقة. أما ما لا يمكن إحضاره
كالعقار فيحده المدعي ويقيم البينة بتلك الحدود. فإن قال الشهود: نعرف العقار بعينه لا نعرف الحدود، بعث القاضي
من يسمع البينة على عينه أو يحضر بنفسه، فإن كان المشار إليه بالحدود المذكورة في الدعوى حكم وإلا فلا. هذا إذا لم
يكن العقار مشهورا بالبلد وإلا لم يحتج إلى تحديده كما مر في العين الغائبة عن البلد. وأما ما يعسر إحضاره كالشئ الثقيل
أو ما أثبت في الأرض أو ركز في الجدار وأورث قلعه ضررا فكالعقار، فلو عبر المصنف بتيسر إحضاره دون الامكان
كان أولى ليشمل ما ذكر. ويستثنى من إطلاقه وجوب الاحضار ما لو كانت العين مشهودة للناس فإنه لم يحتج إلى
إحضارها، وكذا إذا عرفها القاضي وحكم بعلمه بناء على جواز حكمه بعلمه.
تنبيه: قضية قوله: غائبة عن المجلس لا البلد أن الغائبة عن البلد لا يؤمر بإحضارها وإن قربت، وليس مرادا،
بل الغائبة عن البلد بموضع يجب الأعداء إليه كالتي في البلد لاشتراك الحالين في إيجاب الحضور كما نبه على ذلك في المطلب.
(ولا تسمع شهادة بصفة) لعين غائبة عن مجلس الحكم وإن سمعت الدعوى بها، لأنه إنما جاز السماع حال غيبتها عن
البلد للحاجة وهي منتفية هنا كما لا تسمع في غيبة المدعى عليه عن المجلس لا البلد، بل إن كان الخصم حاضرا أمر بإحضارها
ليقيم البينة على عينها إن أقر باشتمال يده عليها، وحيث امتنعت الشهادة بالوصف امتنع الحكم.
تنبيه: ما جزم به من عدم السماع بالصفة ذكره في الروضة، ثم قال بعد ذلك: ولو شهدوا أنه غصب عبدا بصفة
كذا فمات العبد استحق بتلك الشهادة قيمته على تلك الصفة. وهذا ما عزاه الرافعي لصاحب العدة، قال ابن شهبة: وهو
مخالف لكلامهما الأول. (وإذا وجب إحضار) الشئ المدعى ولا بينة لدعيه (فقال) المدعى عليه: (ليس بيدي عين
بهذه الصفة، صدق بيمينه) على حسب جوابه، لأن الأصل عدم عين تحت يده بهذه الصفة. (ثم) بعد حلفه يجوز (للمدعي
دعوى القيمة) لاحتمال أنها هلكت.
تنبيه: ظاهر كلامه أنه يدعي القيمة مطلقا وليس مرادا، بل إنما يدعي القيمة فيما إذا كانت متقومة، فإن كانت
مثلية ادعى المثل لأنه يضمن به. (فإن نكل) المدعى عليه عن اليمين (فحلف المدعي، أو) لم ينكل، بل (أقام) المدعي
(بينة) حين إنكاره بأن العين الموصوفة كانت بيده، (كلف الاحضار) للمدعى به ليشهد الشهود على عينه كما سبق. (و) إن
امتنع ولم يبد عذرا (حبس عليه) أي الاحضار، لأنه امتنع من حق واجب عليه. (ولا يطلق) من الحبس (إلا بإحضاره)
المدعى به، لأنه عين ما حبس عليه. (أو دعوى تلف) له فيصدق بيمينه، وإن ناقض قوله الأول للضرورة، لأنه قد
يكون صادقا، ولأنا لو لم نقبل قوله لخلد عليه الحبس.
تنبيه: هذا إذا أطلق دعوى التلف أو أسندها إلى جهة خفية كسرقة، أما لو أسندها إلى سبب ظاهر، فالوجه
كما قاله الأذرعي تكليفه البينة على وجود السبب كما مر في الوديعة، ثم يصدق في دعوى التلف به بيمينه، ثم ما ذكره
المصنف فيمن جزم بالدعوى. (و) حينئذ (لو شك المدعي) على من غصب عينا منه، أي تردد: بأن تساوى عنده
413

الطرفان أو رجح أحدهما، (هل تلفت العين) المدعى بها (فيدعي قيمة) عينها إن كانت متقومة، أو مثلا إن كانت مثلية. (أم لا
فيدعيها) أي العين نفسها (فقال) في صفة دعواه: (غصب مني) فلان (كذا فإن بقي لزمه رده) إلي (وإلا فقيمته) إن
كان متقوما أو مثله إن كان مثليا يلزمه، (سمعت دعواه) مع التردد للحاجة. ثم إن أقر بشئ فذاك، وإن أنكر حلف أنه
لا يلزمه رد العين ولا بد لها. فإن نكل، فهل يحلف المدعي على التردد أو يشترط التعيين؟ وجهان، أوجههما كما قال
شيخنا الأول. (وقيل لا) تسمع دعواه على التردد، (بل يدعيها) أي العين (ويحلفه) عليها (ثم) بعد حلفه (يدعي القيمة) أو
المثل ويحلفه على ذلك، (ويجريان) أي هذان الوجهان (فيمن دفع ثوبا لدلال ليبيعه) فطالبه به (فجحده) الدلال (وشك)
الدافع (هل باعه) الدلال (فيطلب) منه الثمن (أم أتلفه فقيمته) يطلبها (أم هو باق فيطلبه) منه، فعلى الأصح السابق يدعي
على الدلال رد الثوب أو ثمنه إن باعه أو قيمه إن أتلفه، ويحلف الخصم يمينا واحدة أنه لا يلزمه تسلم الثوب ولا
ثمنه ولا قيمته. وعلى الثاني يدعي العين في دعوى، والثمن في أخرى، والقيمة في أخرى، فإذا نكل المدعى عليه حلف ثلاثة
أيمان، فإن نكل حلف المدعي على التردد على الأوجه كما مر. قال البلقيني: وقد يكون الدلال باعه ولم يسلمه ولم
يقبض الثمن والدعوى المذكورة ليست جامعة لذلك، والقاضي إنما يسمع الدعوى المترددة حيث اقتضت الالزام على كل
وجه، فلو أتى ببقية الاحتمالات لم يسمعها الحاكم فإن فيها ما لا إلزام به، قال: ولم أر من تعرض لذلك. وإذا حضر
الغائب عن المجلس (حيث أوجبنا) على المدعى عليه (الاحضار) للمدعى به فأحضره (فثبت للمدعي استقرت مؤنته) أي
الاحضار (على المدعى عليه) لتعديه، (وإلا) بأن لم يثبت للمدعى (فهي) أي مؤنة الاحضار (ومؤنة الرد) للمال إلى محله
(على المدعي) لتعديه، قال الزركشي: ولا أجرة عليه لمدة الحيلولة، بخلافه في الغائب عن البلد كما مر.
تنبيه: لو تلف المال في الطريق بانهدام دار ونحوه، قال في المطلب: لم يضمنه المدعي بلا خلاف.
فصل: في ضابط الغائب المحكوم عليه، وبيان غيبته المشترطة في الحكم عليه وما يذكر معه: (الغائب الذي تسمع
البينة) عليه (ويحكم عليه) بموجبها (من) هو كائن (بمسافة بعيدة، وهي التي لا يرجع منها مبكر إلى موضعه) لذي بكر
منه (ليلا) بعد فراغ المحاكم كما بينه البلقيني، لما في إيجاب الحضور عليه من المشقة الحاصلة بمفارقة الأهل والوطن في الليل.
قال البلقيني: وتعبير المصنف غير مستقيم، لأن قوله منها يعود على المسافة البعيدة، والمسافة البعيدة ليست التي
لا يرجع منها، بل التي لا يصل إليها ليلا من يخرج بكرة من موضعه إلى بلد الحاكم. قال بعضهم: ولو قال مبكر منها
لاستقام، وهو مراده.
تنبيه: قوله ليلا يريد أوائل الليل، وهو القدر الذي ينتهي به سفر الناس غالبا. (وقيل) هي (مسافة قصر)
لأن الشارع اعتبرها في مواضع فما دونها في حكم الحاضر. (ومن بقريبة) وهي دون البعيدة بوجهيها حكمة
(كحاضر) في البلد (فلا تسمع بينته) عليه، (و) لا (يحكم) عليه (بغير حضوره إلا لتواريه أو تعززه) وعجز
414

القاضي حينئذ عن إحضاره بنفسه وبأعوان السلطان، فتسمع البينة عليه حينئذ ويحكم عليه بغير حضوره وبغير نصب
وكيل ينكر عنه لتعذر الوصول إليه كالغائب وإلا اتخذ الناس ذريعة إلى إبطال الحق. وهل يحلف له المدعي يمين
الاستظهار كالغائب أو لا لقدرته على الحضور؟ وجهان صحح منهما البلقيني الأول، لأن هذا احتياط للقضاء، فلا
يمنع منه ذلك، وجزم صاحب العدة والماوردي والروياني بالثاني، وهو أوجه كما صححه الأذرعي وغيره.
تنبيه: هذا كله إذا كان الخصم الخارج عن البلد في محل ولاية القاضي، فإن كان خارجا عنها فالبعد والقرب
على حد سواء، فيجوز أن تسمع الدعوى عليه، ويحكم ويكاتب كما قاله الماوردي وغيره. (والأظهر) وعبر في الروضة
بالمشهور، (جواز القضاء على غائب في) عقوبة لآدمي، نحو (قصاص وحد قذف) لأنه حق آدمي فأشبه المال (ومنعه
في حد لله تعالى) أو تعزير له، لأن حق الله تعالى مبني على المسامحة والدرء لاستغنائه تعالى، بخلاف حق الآدمي،
فإنه مبني على التضييق لاحتياجه. والثاني: المنع مطلقا، لأن ذلك يسعى في دفعه ولا يوسع بابه. والثالث الجواز مطلقا
كالأموال، وما اجتمع فيه حق لله تعالى ولآدمي كالسرقة يقضى فيها على الغائب بالمال دون القطع كما قاله القاضي
أبو الطيب وغيره وحقوق الله تعالى المالية كحق الآدمي (ولو سمع) قاض (بينة على غائب فقدم) أو على صبي فبلغ
عاقلا أو على مجنون فأفاق (قبل الحكم) في الجميع، (لم يستعدها) أو لا يجب عليه أن يستعيدها، بخلاف شهود
الأصل إذا حضروا بعد شهادة شهود الفرع، وقبل الحكم لا d قضى بشهادتهم لأنهم بدل ولا حكم للبدل مع وجود
الأصل. (بل يخبره) أي من ذكر بالحال، (ويمكنه) بعد ذلك من (جرح) فيها وما يمنع شهادتها عليه كعداوة ويمهل
لذلك ثلاثة أيام. وأما بعد الحكم فهو على حجته بالأداء والابراء والجرح يوم الشهادة، لأنه إذا أطلق الجرح
احتمل حدوثه بعد الحكم كما قالاه، ولا معنى لاشتراطه يوم الشهادة، بل لو جرحها قبلها ولم تمض مدة الاستبراء فكذلك،
فإن مضت لم يؤثر الجرح كما صرح به الماوردي. قال الأذرعي: والظاهر أنه لا عبرة ببلوغ الصبي سفيها لدوام الحجر عليه
كما لو بلغ مجنونا. (ولو عزل) قاض (بعد سماع بينة، ثم ولي وجبت الاستعادة) قطعا، ولا يحكم بالسماع الأول
لبطلانه بالعزل.
تنبيه: لو خرج عن محل ولايته ثم عاد فله الحكم بالسماع الأول على الصحيح لبقاء ولايته. ثم استطرد
المصنف لذكر ما لا يختص بهذا الباب فقال: (وإذا استعدي) بالبناء للمفعول من أعدى يعدي: أي يزيل العدوان،
وهو الظلم، كأشكاه أزال شكواه. (على) خصم صالح لسماع الدعوى والجواب عنها، (حاضر بالبلد) أي طلب من
القاضي إحضاره ولم يعلم القاضي كذبه كما قاله الماوردي وغيره، سواء عرف أن بينهما معاملة أم لا. (أحضره) وجوبا
إقامة لشعار الأحكام ولزمه الحضور رعاية لمراتب الحكام. وقال ابن أبي الدم: إذا استحضره القاضي وجب عليه الإجابة
لا أن يوكل أو يقضي الحق إلى الطالب اه‍. وهذا ظاهر. وعن ابن سريج أنه يحضر ذوي المروءات في داره لا في مجلس
الحكم، والمذهب أنه لا فرق. ويستثنى من وجوب الاحضار من وقعت الإجارة على عينة وكان يتعطل بحضوره مجلس
الحكم حق المستأجر، ذكره السبكي في التفليس من شرحه على المهذب وأخذه من قول الغزالي بعدم حبس من وقعت
الإجارة على عينه، وقال: لا يعترض باتفاق الأصحاب على إحضاره البرزة، وإن كانت متزوجة أو حبسها، لأن الإجارة
لها أمد ينتظر، وهو انقضاء المدة بخلاف النكاح. وفي الزوائد عن العدة أن المستعدى عليه إذا كان من أهل
الصيانة والمروءة وتوهم الحاكم أن المستعدي يقصد ابتذاله وأذاه لا يحضره، ولكن ينفذ إليه من يسمع الدعوى تنزيلا
لسيانته منزلة المخدرة. وجزم به سليم في التقريب ويوم الجمعة كغيره في إحضار الخصم، لكن لا يحضر إذا صعد الخطيب
المنبر حتى تفرغ الصلاة بخلاف اليهودي يوم السبت، فإنه يحضره ويكسر عليه سبته. قال الزركشي: ويقاس عليه
415

النصراني في الاحد، أما إذا ادعاه الخصم إلى حاكم من غير رفع فقال الإمام: لا يلزمه الحضور، بل الواجب أداء
الحق إن كان عليه. وفي الحاوي والمهذب والبيان الحضور مطلقا لظاهر قوله تعالى: * (إنما كان قول المؤمنين إذا
دعوا إلى الله ورسوله) * الآية. وحمل ابن أبي الدم الأول على ما إذا قال: لي عليك كذا فاحضر معي إلى الحاكم، فلا
يلزمه الحضور وإنما عليه وفاء الدين، والثاني على ما إذا قال: بيني وبينك محاكمة ولم يعلمه بها ليخرج عنها فيلزمه
الحضور اه‍. وكلام الإمام أظهر. ويحضر القاضي الخصم المطلوب إحضاره لمجلس الحكم، (بدفع ختم) أي مختوم
(طين رطب أو غيره) للمدعي بعرضه على الخصم، وليكن نقش الختم: أجب القاضي فلانا، وكان هذا أولا عادة
قضاء السلف، ثم هجر واعتاد الناس الآن الكتابة في الكاغد، وهو أولى. (أو) أحضره إن لم يجب بما مر (بمرتب
لذلك) من الأعوان بباب القاضي يسمون في زماننا بالرسل صيانة للحقوق، ومؤنة العون على الطالب إن لم يرزق من
بيت المال.
تنبيه: ظاهر كلامه التخيير بينهما وليس مرادا، ولذا قدرت في كلامه: إن لم يجب بما مر، ففي تعليق الشيخ
أبي حامد أنه يرسل الختم أولا، فإن لم يحضر بعث إليه العون. قال البلقيني: وفيه مصلحة لأن الطالب قد يتضرر
بأخذ أجرته منه، أي فإن أجرة العون عليه إن لم يرزق من بيت المال كما مر. نعم ينبغي كما قال شيخنا أن يكون مؤنة
من أحضره عند امتناعه الحضور يبعث الختم على المطلوب أخذا مما يأتي، وفي الحاوي للقاضي أن يجمع بين ختم
الطين والمرتب إن أدى اجتهاده من إليه من قوة الخصم وضعفه. (فإن امتنع) المطلوب من الحضور (بلا عذر) أو سوء أدب
بكسر الختم ونحوه، ولو بقول العون الثقة، (أحضره) وجوبا (بأعوان السلطان) وعليه حينئذ مؤنتهم لامتناعهم. (وعزره)
بما يراه ممن ضرب أو حبس أو غيره. وله العفو عن تعزيره إن رآه، فإن اختفى نودي بإذن القاضي على باب داره أنه
إن لم يحضر إلى ثلاثة أيام سمر بابه أو ختم عليه، فإن لم يحضر بعد الثلاث وطلب الختم سمره أو ختمه إجابة إليه إن
تقر عنده أنها داره، ولا يرفع المسمار ولا الختم إلا بعد فراغ الحكم. والظاهر كما قال الأذرعي أن محل التسمير أو
الختم إذا كان لا يأويها غيره، وإلا فلا سبيل إلى ذلك ولا إلى إخراج من فيها. فإن عرف موضعه بعث إليه النساء
ثم الصبيان ثم الخصيان يهاجمون الدار ويفتشون عليه ثم يبعث معهم عدلين كما قاله ابن القاص وغيره، فإذا
دخلوا
الدار وقف الرجال في الصحن وأخذ غيرهم في التفتيش. قالوا: ولا هجوم في الحدود إلا في حد قاطع الطريق. قال
الماوردي: وإذا تعذر حضور بعد هذه الأحوال حكم القاضي بالبينة. وهل يجعل امتناعه كالنكول في رده اليمين؟
الأشبه نعم، لكن لا يحكم عليه بذلك إلا بعد إعادة النداء على بابه ثانيا بأنه يحكم عليه بالنكول، فإذا امتنع من الحضور
بعد النداء الثاني حكم بنكوله. وإن امتنع من الحضور لعذر كخوف ظالم أو حبسه أو مرض بعث إليه نائبه
ليحكم بينه وبين خصمه، أو وكل المعذور من يخاصم عنه، ويبعث القاضي إليه من يحلفه إن وجب تحليفه. قال في
المهمات: ويظهر أن هذا في غير معروف النسب. أو لم يكن عليه بينة، وإلا سمع الدعوى والبينة وحكم عليه لأن المرض
كالغيبة في سماع شهادة الفرع فكذا في الحكم عليه، قال: وقد صرح بذلك البغوي. (أو) كان الاستعداء على (غائب
في غير) محل (ولايته) أي القاضي، (فليس له إحضاره) لأنه لا ولاية له عليه، ولو استحضره لم يلزمه إجابته،
بل يسمع الدعوى والبينة ثم إن شاء أنهى السماع وإن شاء حكم بعد تحليف المدعي على ما سبق وإن كانت في مسافة
قريبة كما مر عن الماوردي. (أو) على غائب (فيها) أي في محل ولايته (وله هناك نائب لم يحضره) القاضي لما في
إحضاره من المشقة مع وجود الحاكم هناك، (بل يسمع بينة) عليه بذلك (ويكتب) بسماعها (إليها) أي نائبه ليحكم بها
لامكان الفصل بهذا الطريق فلا يكلف الحضور.
416

تنبيه: ظاهر كلامه كالروضة وأصلها أنه لا فرق بين أن يكون على مسافة قريبة أو بعيدة، وليس مرادا، بل
محل ذلك إذا كان فوق مسافة العدوي لما مر أن الكتاب بسماع البينة لا يقبل في مسافة العدوي. (أو لا نائب) له
هناك، (فالأصح يحضره من مسافة العدوي فقط) لكن بعد تحير الدعوى وصحة سماعها. (وهي التي يرجع منها
مبكر) إلى موضعه (ليلا) سميت بذلك لأن القاضي يعدي لمن طلب خصما منها لاحضار خصمه، أي يقويه أو
يعينه. والثاني: إن كان دون مسافة القصر أحضره وإلا فلا، لأن ما دون مسافة القصر حكم الحاضر في مسائل كثيرة.
والثالث: يحضره وإن بعدت المسافة، وهذا ما اقتضى كلام الروضة وأصلها ترجيحه وعليه العراقيون، ورجحه
ابن المقري، لأن عمر رضي الله عنه استدعى المغيرة بن شعبة في قضية من البصرة إلى المدينة، ولئلا يتخذ السفر طريقا
لابطال الحقوق، ومع هذا فالأوجه ما في المتن، وليس في قضية عمر رضي الله تعالى عنه أنه أحضره بغير اختياره،
ولما في ذلك من المشقة في إحضاره، ويبعث القاضي إلى بلد المطلوب.
تنبيه: محل إحضاره إذا لم يكن هناك نائب وما لم يكن هناك من يتوسط ويصلح بينهما، فإن كان لم يحضره
بل يكتب إليه أن يتوسط ويصلح بينهما. واشترط ابن الرفعة وابن يونس فيه أهلية القضاء، ولم يشترطه الشيخان.
وقال الشيخ عماد الدين الحسباني: يتجه أن يقال إن كانت القضية مما تنفصل بصلح فيكفي وجود متوسط مطاع
يصلح بينهما، وإن كانت لا تنفصل بصلح فلا بد من صالح للقضاء في تلك الواقعة ليفوض إليه الفصل بينهما بصلح
أو غيره اه‍. وهذا لا بأس به. وقول المصنف: ليلا يتناول أول الليل ووسطه وآخره. قال في المهمات: وليس كذلك
بل الضابط أن يرجع قبل الليل، كذا ذكره الأصحاب، وكا هو في أصل الروضة في النكاح في سوالب الولاية اه‍.
ثم استثنى المصنف في المعنى من قولهم: لا تسمع البينة على حاضر قوله: (و) الأصح (أن المخدرة) الحاضرة (لا تحضر)
للدعوى، بضم أوله وفتح ثالثه مضارع أحضر: أي لا تكلف الحضور للدعوى عليها صرفا للمشقة عنها كالمريض،
لأنه (ص) قال: اغد يا أنيس إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها فلم يطلبها لكونها مخدرة، ورجم الغامدية
ظاهرا لكونها برزة. كذا استدل به، ونظر فيه. ولا تكلف أيضا الحضور للتحليف إن لم يكن في اليمين تغليظ بالمكان،
فإن كان أحضرت على الأصح في الروضة في الباب الثالث من الدعاوى، بل توكل أو يبعث القاضي إليها نائبه فتجيب
من وراء الستر إن اعترف الخصم أنها هي، أو شهد اثنان من محارمها أنها هي، وإلا تلفعت بنحو ملحفة وخرجت من
الستر إلى مجلس الحكم، وعند الحلف تحلف في مكانها. (وهي) أي المخدرة (من لا يكثر خروجها لحاجات) متكررة
كشراء خبز وأقط وبيع غزل ونحوها بأن لم تخرج أصلا إلا لضرورة أو لم تخرج إلا قليلا لحاجة كزيارة وحمام وعزاء.
والوجه الثاني: أنها تحضر كغيرها، وبه جزم القفال في فتاويه، وغير المخدرة وهي البرزة - بفتح الباء الموحدة - يحضرها
القاضي، لكن يبعث إليها محرما لها أو نسوة ثقات لتخرج معهم بشرط أمن الطريق كما جرى عليه ابن المقري
وصاحب الأنوار.
تنبيه: لو كانت بزرة ثم لزمت التخدر قال القاضي الحسين في فتاويه: حكمها حكم الفاسق يتوب، فلا
بد من مضي سنة في قول، أو ستة أشهر في قول اه‍. وفرق الأذرعي بين المخدرة برفعة بعلها وغيرها، قال ابن شهبة:
وهو المتجه، قال: وليس للتخدير أصل في الشرع اه‍. ولو اختلفا في التخدير ففي فتاوى القاضي أن عليها البينة.
وقال الماوردي والروياني: إن كانت من قوم الأغلب من حال نسائهم التخدير صدقت بيمينها، وإلا صدق بيمينه، أي
حيث لا بينة لهما، وهذا أولى.
خاتمة في مسائل منثورة مهمة: للقاضي أن يشهد في محل ولايته على كتاب حكم كتبه في غير محل ولايته،
وليس له أن يشهد في غير محل ولايته على كتاب حكم كتبه في محل ولايته، والحكم كالاشهاد بخلاف الكتابة
417

لا بأس بها، وقول المحكوم عليه الموكل في الخصومة: كنت عزلت وكيلي قبل قيام البينة لا يبطل الحكم، لأن القضاء
على الغائب جائز، بخلاف المحكوم له إذا قال ذلك يبطل الحكم لأن القضاء للغائب باطل. وليس لمن تحمل شهادة
بكتاب حكمي أرسله به القاضي الكاتب إلى قاضي بلد الغائب وخرج به أن يتخلف في الطريق عن القاضي المقصود
إلا إن أشهد على شهادته بأن أشهد على نفسه شاهدين يحضران بالكتاب ويشهدان به عند القاضي المقصود أو شهد
به عند قاض فيضمنه ويكتب به للقاضي المقصود، فإن لم يجد قاضيا ولا شهودا وطلب أجرة لخروجه إلى القاضي المقصود
لم يعط غير النفقة وكراء الدابة، بخلاف سؤاله الأجرة قبل الخروج من بلد القاضي الكاتب فيعطاها، وإن زادت على
ما ذكر فإنه لا يكلف الخروج والقناعة بذلك، لأن القاضي يتمكن من إشهاد غيره، وهنا التحمل مضطر إليه. وإن
استوفى المكتوب إليه الحق من الخصم وسأله الخصم الاشهاد على المدعي بذلك لزمه إجابته، ولا يلزمه أن يكتب له
كتابا، لأن الحاكم إنما يطالب بإلزام ما حكم به وثبت عنده، ولا أن يعطيه الكتاب الذي ثبت به الحق كما لا يلزم من
استوفى من غريمه ماله عليه بحجة أو من باع غيره شيئا له به حجة أن يعطيه الحجة لأنها غالبا تكون ملكه، ولأنه قد
يظهر استحقاقه فيحتاج إليها. وللقاضي إقراض مال للغائب من ثقة ليحفظه في الذمة، وله بيع حيوانه لخوف هلاكه
ونحوه كغصبه، وله إجارته إن أمن عليه لأن المنافع تفوت بمضي الوقت. وإذا باع شيئا للمصلحة أو أجره بأجرة مثله
ثم قدم الغائب فليس له الفسخ كالصبي إذا بلغ، ولان ما فعله القاضي كان بنيابة شرعية. ومال من لا ترجى معرفته للقاضي
بيعه وصرف ثمنه في المصالح وله حفظه، قال الأذرعي: والأحوط في هذه الاعصار صرفه في المصالح لا حفظه لأنه يعرضه
للنهب ومد أيدي الظلمة إليه.
باب القسمة
بكسر القاف، وهي تمييز بعض الانصباء من بعض. والقسام الذي يقسم الأشياء بين الناس، قال لبيد:
فارض بما قسم المليك فإنما قسم المعيشة بيننا قسامها
ووجه ذكرها في خلال القضاء أن القاضي لا يستغني عن القسامة للحاجة إلى قسمة المشتركات، بل القاسم كالحاكم
فحسن الكلام في القسمة مع الأقضية. والأصل فيها قبل الاجماع قوله تعالى: * (وإذا حضر القسمة) * الآية، وخبر: الشفعة
فيما لم يقسم، وكان (ص) يقسم الغنائم بين أربابها رواهما الشيخان. والحاجة داعية إليها ليتمكن كل
واحد من الشركاء من التصرف في ملكه على الكمال ويتخلص من سوء المشاركة واختلاف الأيدي. (قد يقسم)
المشترك (الشركاء) بأنفسهم لأن الحق لهم، (أو) يقسمه (منصوبهم) أي وكيلهم، (أو منصوب الإمام) أو
هو نفسه أو
المحكم، لحصول المقصود بكل من ذلك.
تنبيه: لو وكل بعضهم واحدا منهم أن يقسم عليه، قال في الاستقصاء: إن وكله على أن يفرز لكل منهم
نصيبه لم يجز، لأن على الوكيل أن يحتاط لموكله، وفي هذا لا يمكنه لأنه يحتاط لنفسه، وإن وكله على أن يكون نصيب
الوكيل والموكل جزءا واحدا جاز لأنه يحتاط لنفسه ولموكله، وإن وكل جميع الشركاء أحدهم أن يقسم عنهم ويرى فيما
يأخذه بالقسمة لكل واحد منهم رأيه لم يجز، ولا يجوز حتى يوكل كل واحد منهم وكيلا عن نفسه على الانفراد. (وشرط
منصوبه) أي الإمام، (ذكر حر عدل) لأنه يلزم كالحاكم من حيث أن الحاكم ينظر في الحجة ويجتهد، ثم يلزم
بالحكم كذلك القسام أيضا مساحة وتقديرا، ثم يلزم بالافراز لأن ذلك ولاية ومن لا يتصف بما ذكر ليس من
أهل الولايات.
تنبيه: اعتبر في المحرر التكليف، وحذفه المصنف لدخوله في العدالة كدخول الاسلام فيها. ولو قال بدل عدل
418

تقبل شهادته لاستفيد منه اشتراط السمع والبصر والنطق والضبط، إذ لا بد فيه من ذلك. (يعلم المساحة) بكسر الميم
من مسح الأرض ذرعها. وعلم المساحة يغني عن قوله: (والحساب) لاستدعائها له من غير عكس. وإنما شرط
علمهما لأنهما آلة القسمة كما أن الفقه آلة القضاء، واعتبر الماوردي وغيره مع ذلك أن يكون عفيفا عن الطمع،
واقتضاه كلام الام. وهل يشترط فيه معرفة التقويم أو لا؟ وجهان، أوجههما الثاني كما جرى عليه ابن المقري، وقال
الأسنوي: جزم باستحبابه القاضيان البندنيجي و أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهم، وحينئذ فإن لم يكن عارفا رجع إلى
إخبار عدلين عند الحاجة إلى ذلك. واعتمد البلقيني الأول في قسمتي التعديل والرد دون قسمة الاجزاء.
تنبيه: أفهم قول المصنف: منصوبه أنه لا يشترط ذلك في منصوب الشركاء، وهو كذلك لأنه وكيل عنهم كما مر،
لكن يشترط فيه التكليف إلا أن يكون فيهم محجور عليه فتعتبر فيه العدالة أيضا، ومحكمهم كمنصوب الإمام. (فإن
كان فيها) أي القسمة (تقويم) هو مصدر قوم السلعة: قدر قيمتها، (وجب قاسمان) لاشتراط العدد في المقوم،
لأن التقويم شهادة بالقيمة. (وإلا) بأن لم يكن فيها تقويم (فقاسم) واحد في الأظهر. (وفي قول) من طريق
(اثنان) كالمقومين. ومأخذ الوجهين أنه حاكم أو شاهد، والراجح الأول لأن قسمته تلزم بنفس قوله، ولأنه يستوفي
الحقوق لأهلها. ورجح البلقيني الثاني، وقال: لم نجد نصا صريحا يخالفه.
تنبيه: محل الخلاف في منصوب الإمام، فلو فوض الشركاء القسمة إلى واحد غيرهم بالتراضي جاز قطعا كما
في أصل الروضة، وظاهر كلام المصنف أنه يكفي واحد وإن كان فيها خرص، وهو الأصح، وإن قال الإمام القياس أنه لا بد
من اثنين كالتقويم، لأن الخارص يجتهد ويعمل باجتهاده فكان كالحاكم، والمقوم يخبر بقيمة الشئ فهو كالشاهد. ولا
يحتاج القاسم إلى لفظ الشهادة وإن وجب تعدده لأنها تستند إلى عمل محسوس. (وللإمام جعل القاسم حاكما في
التقويم)
بأن يفوض له سماع البينة فيه وأن يحكم به، (فيعمل فيه بعدلين) أي بقولهما، (ويقسم) بنفسه. وللقاضي الحكم في التقويم بعلمه
كما هو الأصح في أصل الروضة، وإن اقتضى كلام المصنف خلافه. (ويجعل الإمام رزق منصوبه) إن لم يتبرع (من بيت
المال) وجوبا إذا كان فيه سعة كما هو مقتضى كلام الرافعي، ويكون من سهم المصالح لأنه من المصالح العامة، وحكى الماوردي
عن علي رضي الله عنه فعل ذلك، ولا يزاد على أجرة مثله كما صرح به الدارمي. (فإن لم يكن) في بيت المال شئ أو كان
مصرف أهم من ذلك أو لم يف، (فأجرته على الشركاء) إن طلب القسمة جميعهم أو بعضهم لأن العمل لهم، وقيل: هي
على الطالب وحده، وليس للإمام حينئذ نصب قاسم معين، بل يدع الناس يستأجرون من شاءوا لئلا يغالي المعين في
الأجرة أو يواطئه بعضهم فيحيف، كذا في أصل الروضة فيحتمل أنه حرام كما قاله القاضي حسين وأنه مكروه كما قاله
الفوراني، والأول أوجه. (فإن استأجروه وسمى كل) منهم (قدرا لزمه) سواء تساووا فيه أم تفاضلوا، وسواء كان مساويا
بالأجرة مثل حصته أم لا، وليستأجروا بعقد واحد كأن يقولوا: استأجرناك لتقسم بيننا كذا بدينار على فلان ودينارين
على فلان، أو يوكلوا من يعقد لهم كذلك. فلو انفرد كل منهم بعقد لافراز نصيبه وترتبوا كما قالاه أو لم يترتبوا كما بحثه
شيخنا صح إن رضي الباقون، بل يصح أن يعقد أحدهم ويكون حينئذ أصيلا ووكيلا، ولا حاجة حينئذ إلى عقد الباقين.
فإن لم يرضوا لم يصح كما قاله ابن المقري وصاحب الأنوار، وهو الظاهر، لأن ذلك يقتضي التصرف في ملك غيره
بغير إذنه. نعم لهم ذلك في قسمة الاجبار بأمر الحاكم، وقيل: يصح وإن لم يرض الباقون، لأن كلا عقد لنفسه، قال
في الكفاية: وبه جزم الماوردي وغيره، وعليه نص الشافعي. (وإلا) بأن سموا أجرة مطلقة في إجارة صحيحة أو
فاسدة، (فالأجرة موزعة على) قدر (الحصص) المأخوذة، لأنها من مؤن الملك كنفقة المشترك. (وفي قول) من طريق
419

حاكيه لقولين: الأجرة موزعة (على) عدد (الرؤوس) لأن العمل في النصيب القليل كالعمل في الكثير. وهذه طريقة
ذكرها المراوزة، وطريقة العراقيين الجزم بالأول، قال ابن الرفعة: وهي أصح باتفاق الأصحاب، وصححها في أصل
الروضة، إذ قد يكون له سهم من ألف سهم، فلو ألزم نصف الأجرة لربما استوعب قيمة نصيبه، وهذا مدفوع بالمنقول.
واحترزنا بالمأخوذة عن الحصص الأصلية في قسمة التعديل، فإن الأجرة ليست على قدرها، بل على قدر المأخوذ قلة
وكثرة، لأن العمل في الكثير أكثر منه في القليل. هذا إن كانت الإجارة صحيحة وإلا فالموزع أجرة المثل.
تنبيه: تجب الأجرة في مال الصبي وإن لم يكن له في القسمة غبطة، لأن الإجابة إليها واجبة والأجرة من المؤن
التابعة لها. وعلى الولي طلب القسمة له حيث كان له فيها غبطة وإلا فلا يطلبها، وإن طلبها الشريك أجيب وإن لم يكن
للصبي فيها غبطة، وكالصبي المجنون والمحجور عليه بسفه. ولو دعا الشركاء القاسم ولم يسموا له أجرة لم يستحق شيئا،
كما لو دفع شخص ثوبه لقصار ولم يسم له أجرة أو الحاكم فله أجرة المثل. ولو استأجر جماعة كاتبا لكتابة صك
كانت الأجرة على قدر حصصهم كما جزم به الرافعي آخر الشفعة. (ثم ما) أي المشترك الذي (عظم الضرر في قسمته
كجوهرة وثوب نفيسين وزوجي) أي فردي (خف) ومصراعي باب، (إن طلب الشركاء كلهم قسمته لم يجبهم القاضي)
إليها جزما، ويمنعهم منها إن بطلت منفعته بالكلية، لأنه سفه. ونازع البلقيني في زوجي خف وقال: لم أجد للرافعي
شاهدا من نص الشافعي ولا سلفا في ذلك في الطريقين، فإنه قد ينتفع بفردة الخف كأن يكون أقطع الرجل، وبسط
الكلام في ذلك. والأصحاب لا ينظرون إلى هذه الأشياء النادرة. (ولا يمنعهم إن قسموا بأنفسهم إن لم تبطل منفعته)
أي المقسوم بالكلية، (كسيف يكسر) لامكان الانتفاع مما صار إليه منه على حاله، أو باتخاذه سكينا ونحو ذلك. ولا
يجيبهم إلى ذلك على الأصح لما فيه من إضاعة المال. فإن قيل: هذا مشكل لأنه إن لم يكن حراما لم يمتنع على القاضي
ذلك، وإن كان حراما فليس له التمكين منه. أجيب بأن إتلاف المال ممنوع منه ثم جوز لاحد الشريكين رخصة لسوء
المشاركة. فإن قيل أيضا: هذا مخالف لما ذكروه في البيع من أنه لا يصح بيع نصف معين من إناء وسيف ونحوهما،
وعللوه بأنه غير مقدور على تسليمه شرعا. أجيب بأن شرط بيع المعين أن لا يحصل هناك نقص بسبب تسليمه، وهو لو
باعه نصفا شائعا من ذلك جاز، ثم لهم القسمة بعد ذلك لما مر، فلا منافاة بين البابين. (وما يبطل) بقسمته (نفعه المقصود)
منه (كحمام وطاحونة صغيرين) طلب بعض الشركاء قسمة ما ذكر وامتنع بعضهم، (لايجاب طالب قسمته) جبرا (في
الأصح) لما فيه من الضرر على الآخر، وفي الحديث لا ضرر ولا ضرار في الاسلام رواه مالك وغيره. والثاني: يجاب
لأجل ضرر الشركة.
تنبيه: في لفظ صغيرين تغليب الأول المذكر، فإن لفظ الحمام مذكر على الثاني المؤنث، فإن الطاحونة وهي
الرحى كما في الصحاح مؤنثة. (فإن أمكن جعله) أي ما ذكر (حمامين) أو طاحونتين، (أجيب) طالب قسمة ذلك
وأجبر الممتنع، وإن احتيج إلى إحداث بئر أو مستوقد وتيسر لانتفاء الضرر مع تيسر تدارك ما احتيج إليه من ذلك
بأمر قريب. قال الأذرعي: وإنما تيسر ذلك إذا كان ما يلي ذلك مملوكا له أو مواتا، فلو كان ما يليه وقفا أو شارعا
أو ملكا لمن لا يسمح ببيع شئ منه فلا، وحينئذ يجزم بنفي الاجبار. ويعلم من هذا أن المراد بقوله المقصود أن ينتفع
به من الوجه الذي كان ينتفع به قبلها ولو بإحداث مرافق. فإن قيل: لو باع دارا لا ممر لها مع إمكان تحصيله ببيع أو
إجارة لم يصح على الصحيح فهلا كانت القسمة كذلك أجيب بأن شرط المبيع أن يكون منتفعا به في الحال ولم
420

يمكن بخلاف القسمة. (ولو كان له) مثلا (عشر دار لا يصلح) بمثناة تحتية، أي العشر، (للسكنى، والباقي لآخر)
يصلح لها ولو بضم ما يملكه بجواره، (فالأصح) المنصوص (إجبار صاحب العشر بطلب صاحبه) لأن الطالب ينتفع
بها، وضرر صاحب العشر لا ينشأ من مجرد القسمة بل سببه قلة نصيبه. والثاني: المنع لضرر شريكه. (دون عكسه)
وهو عدم إجبار صاحب الباقي بطلب صاحب العشر القسمة لأنه مضيع لماله متعنت. والثاني: يجبر ليتميز ملكه. أما إذا
صلح العشر ولو بالضم فيجبر بطلب صاحبه الآخر لعدم التعنت حينئذ.
تنبيه: لو كان نصف دار لخمسة ونصفها الآخر لواحد فطلب الآخر القسمة أجيب، وحينئذ فلكل من الخمسة
القسمة تبعا له وإن كان العشر الذي لكل منهم لا يصلح مسكنا له لأن في القسمة فائدة لبعض الشركاء. ولو بقي حق
الخمسة مشاعا ثم طلب واحد منهم القسمة لم يجبر الباقون عليها، لأنها تضر الجميع. وإن طلب أولا الخمسة نصيبهم مشاعا
لو كانت الدار لعشرة فطلب خمسة منهم إفراز نصيبهم مشاعا أجيبوا، لأنهم ينتفعون بنصيبهم كما كانوا ينتفعون به قبل
القسمة، ولم يعتبروا مطلق الانتفاع لعظم التفاوت بين أجناس المنافع. (وما لا يعظم) في قسمته (ضرر قسمته أنواع)
ثلاثة عند المراوزة: قسمة أجزاء وقسمة تعديل وقسمة رد، لأن المقسوم إما أن تتساوى الانصباء فيه إلى إعطاء
شئ غير المشترك من المتقاسمين أو لا، الأول الرد، والثاني التعديل، ونوعان عند العراقيين: قسمة رد،
وقسمة لا رد فيها، وهذا هو ظاهر عبارة صاحب التنبيه. وقد بدأ المصنف الأول من الأقسام الثلاثة، فقال: (أحدها) القسمة
(بالاجزاء) وتسمى قسمة المتشابهات، وهي التي لا يحتاج فيها إلى رد شئ من بعضهم، ولا إلى تقويم. (كمثلي) من
حب وغيره، وتقدم حد المثلي في الغصب. قال الأذرعي وغيره: وتشترط السلامة في الحبوب والنقود، فإن الحب المعيب
والنقد المغشوش معدودان من المتقومات. قال ابن شهبة: وفيه نظر فقد ذكر الرافعي أنه إذا جوزنا المعاملة بالمغشوشة
فهي مثلية، والأصح جواز المعاملة بها اه‍. وهذا ظاهر. (و) مثل (دار متفقة الأبنية، و) مثل (أرض مشتبهة الاجزاء)
وما في معناها، والثياب الغليظة التي لا تنقص بالقطع، (فيجبر الممتنع) عليها وإن كانت الانصباء متفاوتة إذ لا ضرر عليها
فيها ولينتفع الطالب بماله على الكمال ويتخلص من سوء المشاركة.
تنبيه: المراد باتفاق الأبنية في الدار كما قاله الإمام أن يكون في شرقي الدار صفة وبيت، وكذلك في غربيها. (فتعدل
السهام كيلا) في المكيل (ووزنا) في الموزون (وذرعا) في المذروع كالأرض المتساوية، أو عدا في المعدود. وقوله: (بعدد
الانصباء) متعلق بتعدل. هذا (إن استوت) تلك الانصباء، كما إذا كانت بين ثلاثة أثلاثا فتجعل ثلاثة أجزاء، ثم
يؤخذ ثلاث رقاع (ويكتب) مثلا هنا وفيما يأتي من بقية الأنواع (في كل رقعة) إما (اسم شريك) من الشركاء (أو جزءا)
من الاجزاء (مميزا) عن البقية (بحد أو جهة) أو غير ذلك، (وتدرج) الرقع (في بنادق) من نحو شمع أو طين (مستوية)
وزنا وشكلا لئلا تسبق اليد لاخراج الكبيرة وفيه ترجيح لصاحبها.
تنبيه: ظاهر كلامه وجوب التسوية في البنادق، وفيه تردد للجويني، واختار الإمام أنه على الاحتياط لا
الوجوب وجزم به الغزالي، وهو الظاهر. ونقلا في باب العتق عن الصيدلاني أنه لا يجوز الاقراع بأشياء مختلفة كدواة
وقلم وحصاة، ثم قال: وفيه وقفة، إذ لا حيف في ذلك مع الجهل بالحال. وأيده الرافعي بكلام الشافعي والإمام، وهذا
هو الظاهر. (ثم يخرج‍) - ها، أي الرقاع (من لم يحضرها) بعد أن تجعل في حجرة مثلا، وفي الروضة وأصلها: من لم
يحضر الكتاب والادراج، فكان الأولى أن يقول هنا: من لم يحضر هنالك كما عبر به في المحرر وصبي ونحوه كعجمي
421

أولى بذلك من غيره لأنه أبعد عن التهمة. (رقعة) إما (على الجزء الأول) من تلك الأجزاء (إن كتب الأسماء)
في الرقاع كزيد وبكر وخالد، (فيعطى من خرج اسمه) في تلك الرقعة ويتعين حقه في ذلك، ثم يخرج رقعة أخرى على
الجزء الذي يليه فيعطى من خرج اسمه في الرقعة الثانية ويتعين الباقي للثالث إن كانوا ثلاثة. (أو) يخرج من لم يحضرها
رقعة (على اسم زيد) مثلا (إن كتب الاجزاء) في الرقاع، أي أسماء الاجزاء، فيخرج رقعة في المثال المذكور على اسم
زيد ثم على اسم بكر، ويتعين الجزء الثالث لخالد. وما ذكره لا يختص بقسمة الاجزاء، بل يأتي في قسمة التعديل إذا
عدلت الاجزاء بالقيمة.
تنبيه: الاعتبار في البداءة بواحد من الشركاء والاجزاء منوط بنظر القسام فيقف على أي طرف شاء ويسمي
من شاء، فإن المحكم في المستحق من الاجزاء القرعة، فلا تهمة. (فإن اختلفت الانصباء) بين الشركاء (كنصف وثلث
سدس) في أرض مثلا، (جزئت الأرض على أقل السهام) وهو في هذا المثال السدس، (وقسمت) أي الأرض (كما
سبق) ومقتضى هذا أنه يخير بين كتبه أسماء الشركاء وكتبه الاجزاء، لكن المصحح كتب أسماءهم دون كتبه الاجزاء.
وهل ذلك واجب أو لا؟ وجهان، أصحهما الثاني. وبه يتبين سلوك كل من الطريقين، وحينئذ فاقتضاء كلام
المصنف صحيح. وإنما كان كتب الأسماء أولى، لأنه لو كتب الاجزاء أو أخرج على الأسماء فربما خرج
لصاحب السدس الجزء الثاني أو الخامس فيفرق ملك من له النصف أو الثلث. واحترز المصنف عن هذا بقوله: (ويحترز)
إذا كتب الاجزاء (عن تفريق حصة واحد) بأن لا يبدأ بصاحب السدس، لأن التفريق إنما جاء من قبله، بل
بصاحب النصف، فإن خرج له الأول أخذ الثلاثة ولاء، وإن خرج له الثاني أخذه وما قبله وما بعده. قال الأسنوي:
وإعطاؤه ما قبله وما بعده تحكم فلم لا أعطي اثنان بعده؟ ويتعين الأول لصاحب السدس والباقي لصاحب الثلث، أو يقال
لا يتعين هذا، بل يتبع نظر القاسم اه‍. وهذا ظاهر. أو خرج له الثالث أخذه مع اللذين قبله ثم يخرج باسم الآخرين أو
الرابع أخذه مع الذين قبله، ويتعين الأول لصاحب السدس، والأخيران لصاحب الثلث، أو الخامس أخذه مع
الذين قبله، ويتعين السادس لصاحب السدس، والاولان لصاحب الثلث. أو السادس أخذه مع الذين قبله. ثم بعد
ذلك يخرج رقعة أخرى باسم أحد الآخرين ولا يخفى الحكم، أو بصاحب الثلث، فإن خرج له الأول أو الثاني أخذهما،
أو الخامس أو السادس فكذلك. ثم يخرج باسم أحد الآخرين، فإن خرج له الثالث أخذه مع الثاني وتعين الأول
لصاحب السدس، والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف. أو الرابع أخذه مع الخامس، وتعين السادس لصاحب السدس،
والثلاثة الأول لصاحب النصف. هذا إذا كتب في ست رقاع، ويجوز أن يقتصر على ست رقاع لكل واحد رقعة فيخرج رقعة
على الجزء الأول، فإن خرج الأول لصاحب السدس أخذه، ثم إن خرج الثاني لصاحب الثلث أخذه
وما يليه وتعين الباقي لصاحب النصف. وإن خرج الأول أولا لصاحب النصف أخذ الثلاثة الأول، ثم إن خرج الرابع
لصاحب الثلث أخذه والخامس وتعين الباقي لصاحب السدس. وإن خرج الرابع لصاحب السدس أخذه وتعين الباقي
لصاحب الثلث، وإن خرج الأول لصاحب الثلث لم يخف الحكم مما مر، ولا يخرج السهام على الأسماء في هذا القسم
بلا خلاف. قالا: ولا فائدة في الطريقة الأولى زائدة على الطريقة الثانية إلا سرعة خروج اسم صاحب الأكثر
وذلك لا يوجب حيفا لتساوي السهام، لكن الطريقة الأولى هي المختارة، لأن لصاحبي النصف والثلث مزية بكثرة
الملك، فكان لهما مزية بكثرة الرقاع. النوع (الثاني): القسمة (بالتعديل) بأن تعدل السهام بالقسمة وهو
قسمان ما يعد فيه المقسوم شيئا واحدا وما يعد فيه شيئين، فالأول ما أشار إليه بقوله: (كأرض تختلف قيمة أجزائها
بحسب قوة إنبات وقرب ماء) ونحو ذلك، أو يختلف جنس ما فيها كبستان بعضه نخل وبعضه عنب، ودار بعضها حجر
422

وبها لبن. فإذا كانت لاثنين نصفين وقيمة ثلثها في المثال الأول المشتمل على ما ذكر كقيمة ثلثيها الخالي عن ذلك
جعل الثلث سهما والثلثان سهما وأقرع كما مر. ولو مثل المصنف بالبستان فهم منه ما مثل به بطريق الأولى.
وإن
اختلف الانصباء كنصف وثلث وسدس جعلت ستة أسهم بالقيمة لا بالمساحة. (ويجبر الممتنع) من الشركاء (عليها
في الأظهر) إلحاقا للتساوي في القيمة بالتساوي في الاجزاء. والثاني: المنع، لاختلاف الأغراض والمنافع، وعلى الأول
أجرة القاسم بحسب المأخوذ كما مرت الإشارة إليه، ولو أمكن قسمة الجيد وحده والردئ وحده لم يجبر على قسمة
التعديل كأرضين يمكن قسمة كل منهما بالاجزاء. ثم أشار للقسم الثاني من قسمي التعديل، وهو ما يعد فيه المقسوم
شيئين فصاعدا بقوله: (ولو استوت قيمة دارين، أو حانوتين) مثلا لاثنين بالسوية (فطلب) كل من الشريكين (جعل
كل) من الدارين أو الحانوتين (لواحد) بأن يجعل له دارا أو حانوتا ولشريكه كذلك، (فلا إجبار) في ذلك سواء أتجاورا
أم تباعدا لتفاوت الأغراض باختلاف المحال والأبنية.
تنبيه: يستثنى من الدارين ما إذا كانت الداران لهما بملك القرية المشتملة عليهما وشركتهما بالنصف وطلب أحدهما
قسمة القرية واقتضت القسمة نصفين جعل كل دار نصيبا فإنه يجبر على ذلك، وفي الحانوتين ما إذا اشتركا في دكاكين
صغار متلاصقة لا تحتمل آحادها القسمة وتسمى العضائد، فطلب أحدهما قسمة عيانها أجيب على الأصح في أصل
الروضة وإن زالت الشركة بالقسمة وينزل ذلك منزلة الخان المشتمل على البيوت والمساكن. قال الجيلي: ومحلهما
إذا لم تنقص القيمة بالقسمة، وإلا لم يجبر جزما. (أو) استوت قيمة (عبيد أو ثياب) أو دواب أو أشجار أو غيرها
من سائر العروض، (من نوع) وأمكن التسوية، ولو اختلف العدد، (أجبر) الممتنع إن زالت الشركة بالقسمة، كثلاثة
أعبد بين اثنين قيمة أحدهم مائة والآخرين مائة وكثلاثة أعبد متساوية القيمة بين ثلاثة، وذلك لعلة اختلاف الأغراض
فيها. أما إذا بقيت الشركة في البعض كعبدين بين اثنين قيمة أحدهما نصف الآخر فطلب أحدهما القسمة ليختص من
خرجت له قرعة الخسيس به ويبقى له ربع الآخر، فإنه لا إجبار في ذلك على المذهب، لأن الشركة لا ترتفع بالكلية.
وهذه الصور استثناها من إطلاق كلام المصنف الزركشي، والأولى عدم استثنائها فإن قول المصنف: أو عبيد وثياب
معطوف على دارين إذ تقديره: أو استوت قيمة عبيد أو ثياب، وحينئذ فلا استثناء. (أو) من (نوعين) كعبدين تركي وهندي
أو جنسين كما فهم بالأولى كعبد وثوب، (فلا) إجبار في ذلك وإن اختلطا وتعذر التمييز، كتمر جيد وردئ، لتفاوت
الأغراض بكل نوع وكل جنس، وإنما يقسم مثل هذا بالتراضي.
تنبيه: يجبر الممتنع على قسمة علو وسفل من دار أمكن قسمتها لا على قسمة أحدهما فقط وعلى جعله لواحد
والآخر لآخر، واللبن - بكسر الموحدة - فإن استوت قوالبه فقسمته قسمة المتشابهات، وإن اختلفت فالتعديل. النوع (الثالث):
القسمة (بالرد بأن) يحتاج في القسمة إلى رد مال أجنبي كما اقتضاه كلام الرافعي، كأن (يكون في أحد الجانبين) من أرض
مشتركة (بئر أو شجر لا يمكن قسمته) وما في الجانب الآخر لا يعادل ذلك إلا بضم شئ إليه من خارج، (فيرد من يأخذه)
بالقسمة التي أخرجتها القرعة (قسط قيمته) أي ما ذكر من البئر أو الشجر، مثاله قيمة كل جانب ألف وقيمة البئر أو
الشجر ألف فاقتسما رد آخر ما في البئر أو الشجر خمسمائة.
تنبيه: تعبير المصنف أولى من تعبير المحرر والشرحين والروضة حيث قالوا: إنه يضبط قيمة ما اختص به ذلك
الطرف ثم يقسم الأرض على أن يرد من يأخذ ذلك الجانب تلك القيمة، فإن ظاهر هذا التعبير أن يرد جميع تلك
القيمة، وليس مرادا، وإنما يرد القسط. (ولا إجبار فيه) أي نوع الرد، لأن فيه تمليك ما لا شركة فيه فكان كغير
المشترك. (وهو) أي ما ذكر من قسمة الرد (بيع) على المشهور لوجود حقيقته، وهو مقابلة المال بالمال، وقيل
423

بيع في القدر المقابل بالمردود، وفيما سواه الخلاف في قسمة التعديل. (وكذا التعديل) بيع أيضا (على المذهب) لأن
كل جزء مشترك بينهما، وإنما دخلها الاجبار للحاجة كبيع الحاكم مال المديون جبرا. والطريق الثاني طرد القولين
في قسمة الاجزاء. (وقسمة الاجزاء إفراز) تبين إن ما خرج لكل من الشريكين مثلا هو الذي كان ملكه لا بيع (في
الأظهر) لأنها لو كانت بيعا لما دخلها الاجبار ولما جاز الاعتماد فيها على القرعة. والثاني: أنها بيع، وصححه جمع من
الأصحاب والروضة كأصلها في بابي الربا وزكاة المعشرات، لأن ما من جزء من المال إلا وكان مشتركا بينهما، فإذا
اقتسما باع كل منهما ما كان له في حصة صاحبه بماله في حصته.
تنبيه: حيث قلنا القسمة ببيع ثبت فيها أحكامه من الخيارين والشفعة وغيرهما إلا أنه لا يفتقر إلى لفظ بيع أو
تملك، ويقوم الرضا مقامهما فيشترط في الربوي التقابض في المجلس، وامتنعت في الرطب والعنب وما عقدت النار أجزاءه
ونحو ذلك كما علم من باب الربا، وإن قلنا إفراز جاز ذلك. ويقسم الرطب والعنب في الافراز، ولو كانت قسمتهما على
الشجر خرصا لا غيرهما من سائر الثمار، فلا يقسم على الشجر، لأن الخرص لا يدخله، وتقسم الأرض مزروعة وحدها
ولو إجبارا سواء كان الزرع بعلا أم قصيلا أم حبا مشتدا، لأنه في الأرض بمنزلة القماش في الدار بخلاف البناء والشجر
لأن للزرع أمدا بخلافهما، أو مع الزرع قصيلا بتراضي الشركاء، لأن الزرع حينئذ معلوم مشاهد لا الزرع وحده ولا معها،
وهو بذر بعد أو بعد بدو صلاحه فلا يقسم وإن جعلناها إفرازا كما لو جعلناها بيعا، لأنها في الأولى قسمة مجهول، وفي
الأخيرين على الأول قسمة مجهول ومعلوم، وعلى الثاني بيع طعام وأرض بطعام وأرض. وتصح الإقالة في قسمة هي بيع
لا إفراز، وتصح القسمة في مملوك عن وقف إن قلنا هي إفراز، لا إن قلنا هي بيع مطلقا أو إفراز وفيها رد من المالك لا
تصح. أما في الأول فلامتناع بيع الوقف، وأما في الثاني فلان المالك يأخذ بإزاء ملكه جزءا من الوقف. فإن لم يكن
فيها رد أو كان فيها رد من أرباب الوقف صحت، ولغت على القولين قسمة وقف فقط بأن قسم بين أربابه لما فيه من
تغيير شرط الواقف. قال البلقيني: هذا إذا صدر الوقف من واحد على سبيل واحد، فإن صدر من اثنين فقد جزم
الماوردي بجواز القسمة كما تجوز قسمة الوقف مع الملك، وذلك راجح من جهة المعنى وأفتيت به. قال شيخنا: وكلامه
متدافع فيما إذا صدر من واحد على سبيلين أو عكسه. والأقرب في الأول بمقتضى ما قاله الجواز، وفي الثاني عدمه.
(ويشترط في) قسمة (الرد الرضا) في ابتداء القرعة جزما، و (بعد خروج القرعة) على الصحيح في الروضة،
لأنها بيع والبيع لا يحصل بالقرعة فافتقر إلى التراضي بعد خروجها كقبله. وقيل: يلزم بخروج القرعة، ويلزم من خرج
له الأكثر بدل ما يقابل الزائد كالقسمة المجبر عليها. وأجاب الأول بأن هذه القسمة اعتبر التراضي في ابتدائها بخلاف
الاجبار. (ولو تراضيا) أي الشريكان فأكثر (بقسمة ما لا إجبار فيه اشترط الرضا بعد) خروج (القرعة في الأصح)
وصيغة الرضا: (رضينا بهذه القسمة) أو بهذا (أو بما أخرجته القرعة) لأن الرضا أمر خفي فوجب أن يناط بأمر
ظاهر يدل عليه. وأفهم كلامه الاكتفاء بذلك، وأنه لا يشترط الاتيان بلفظ البيع أو التمليك، وهو الأصح.
تنبيه: قال الشيخ برهان الدين الفزاري وتبعه في المهمات: في كلام المصنف خلل من أوجه، أحدها: أن ما لا
إجبار فيه هو قسمة الرد فقط. وقد ذكرها قبلها بلا فاصلة، وجزم باشتراط الرضا فلزم التكرار مع جزمه أولا وحكاية
الخلاف ثانيا. ثانيها: أنه عبر بالأصح فاقتضى قوة الخلاف، وفي الروضة عبر بالصحيح فاقتضى ضعف مقابله. ثالثها: أنه
عكس ما في المحرر فإنه لم يذكر فيه هذا الخلاف إلا في قسمة الاجبار، فقال: والقسمة التي يجبر عليها إذا جرت بالتراضي
هل يعتبر تكرار الرضا بعد خروج القرعة فيها؟ وجهان، رجح منهما التكرار اه‍. وقال في التوشيح: الذي يظهر أنه
424

أراد في المنهاج أن يكتب ما فيه إجبار فكتب ما لا إجبار فيه، وأنا أرجو أن تكون عبارته ما الاجبار فيه بالألف واللام
في الاجبار، ثم سقطت الألف فقرئت ما لا إجبار فيه، وبهذا يزول التكرار والتناقض والتعاكس اه‍. وقال
الشارح:
اعترض قوله: لا إجبار فيه بأن صوابه عكسه كما في المحرر القسمة التي يجبر عليها إذا جرت بالتراضي الخ، ويجاب بأن
المراد ما انتفى فيه الاجبار مما هو محله الذي هو قسمة التعديل والاجزاء وهو أصرح في المراد مما في المحرر اه‍. فقول الشارح:
وهو أي المراد لا عبارة المصنف، وكونه أصرح لأنه مصرح فيه بالرضا وعدم الاجبار بخلاف عبارة المحرر وإن كان
عدم الاجبار لازما لها لأن الصريح أصرح من اللازم. (ولو ثبت ببينة) أو بإقرار الخصم وباليمين المردودة أو الشاهد
ويمين، (غلط) ولو غير فاحش (أو) ثبت (حيف في قسمة إجبار نقضت) تلك القسمة كما لو قامت ببينة على ظلم القاضي
أو كذب الشهود.
تنبيه: لو عبر بدل البينة بالحجة لكان أعم ليشمل ما ذكر. (فإن لم تكن بينة) ولا ثبت ذلك بغيرها مما مر، (وادعاه)
أي الغلط أو الحيف (واحد) من الشريكين فأكثر، وبين قدر ما ادعاه، (فله تحليف شريكه) لأن من ادعى على خصمه
ما لو أقر به لنفعه فأنكر كان له تحليفه، فإن حلف مضت على الصحة، وإن نكل وحلف المدعي نقضت القسمة كما لو
أقر سماع الدعوى على القاسم بذلك ولا يحلف كما لا يحلف الحاكم أنه لم يظلم، فإن اعترف به القاسم وصدقوه نقضت
القسمة، فإن لم يصدقوه لم تنقض. ورد الأجرة كالقاضي يعترف بالغلط أو الحيف في الحكم أن صدقه المحكوم له رد
المال المحكوم به إلى المحكوم عليه وإلا فلا، وغرم القاضي للمحكوم عليه بدل ما حكم به. وقول القاسم في قسمة
الاجبار حال ولايته: قسمت كقول القاضي وهو في محل ولايته: حكمت فيقبل وإلا لم يقبل، بل لا تسمع شهادته لاحد
الشريكين وإن لم يطلب أجرة إذا ذكر فعله. (ولو ادعاه) أي الغلط أو الحيف (في قسمة تراض) بأن نصبا قاسما أو اقتسما
بأنفسهما ورضيا بعد القسمة، (وقلنا هي) أي قسمة التراضي (بيع، فالأصح أنه لا أثر للغلط) وعلى هذا (فلا فائدة لهذه
الدعوى) وإن تحقق الغبن لأنه رضي بترك الزيادة له فصار كما لو اشترى شيئا بغبن. والثاني: لها أثر، فتنقض لأنهما تراضيا
لاعتقادهما أنها قسمة عدل فبان خلافه.
تنبيه: يستثنى من إطلاقه ما لو كان المقسوم ربويا وتحقق الغلط أو الحيف في كيل أو وزن، فإن القسمة باطلة
لا محالة للربا، نبه عليه الأذرعي وغيره. (قلت) كما قال الرافعي في الشرح: (وإن قلنا) إن قسمة التراضي (إفراز نقطت)
تلك القسمة بادعاء الغلط فيها (إن ثبت) الغلط ببينة، (وإلا فيحلف شريكه، والله أعلم) وهذا الحكم يؤخذ من اقتصار
المحرر على التفريع على الأصح، فصرح به المصنف إيضاحا. (ولو استحق بعض المقسوم شائعا) كالربع (
بطلت) تلك
القسمة (فيه) أي البعض المستحق، (وفي الباقي) بعده (خلاف تفريق الصفقة) كما في الروضة، ومقتضاه أن الأظهر الصحة
وثبت الخيار. والثاني: البطلان، قال في المهمات: وهذا ما صححه الأكثرون وهو المفتى به في المذهب، وبسط ذلك.
ومع هذا فالمعتمد ما اقتضاه كلام المصنف. (أو) لم يستحق بعض المقسوم شائعا (من النصيبين) قدر (معين) حالة كونه
(سواء بقيت) تلك القسمة في الباقي (وإلا) بأن كان المعين من أحد النصيبين أكثر من المعين من نصيب الآخر (بطلت)
تلك القسمة، لأن ما يبقى لكل واحد لا يكون قدر حقه، بل يحتاج أحدهما إلى الرجوع على الآخر وتعود الإشاعة.
425

تنبيه: أراد ببطلانها ظاهرا وإلا فبالاستحقاق بان أن لا قسمة. واستثنى ابن عبد السلام ما لو وقع في الغنيمة عين
لمسلم استولى الكفار عليها ولم يظهر أمرها إلا بعد القسمة، بل يعوض من وقعت في نصيبه من خمس الخمس ولا تنقض
القسمة، ثم قال: هذا إن كثر الجند، فإن كانوا قليلا كعشرة فينبغي أن تنقض، إذ لا عسر في إعادتها.
خاتمة في مسائل منثورة مهمة: تقسم المنافع بين الشريكين كما تقسم الأعيان مهايأة مياومة ومشاهرة ومسانهة، وعلى
أن يسكن أو يزرع هذا مكانا من المشترك وهذا مكانا آخر منه، لكن لا إجبار في المنقسم وغيره من الأعيان التي طلبت
قسمة منافعها فلا تقسم إلا بالتوافق لأن المهايأة تعجل حق أحدهما وتؤخر حق الآخر بخلاف قسمة الأعيان، قال البلقيني:
وهذا في المنافع المملوكة بحق الملك في العين، أما المملوكة بإجارة أو وصية فيجبر على قسمتها وإن لم تكن العين قابلة
للقسمة، إذ لا حق للشركة في العين، فإن تراضيا بالمهايأة وتنازعا في البداءة بأحدهما أقرع بينهما ولكل منهما الرجوع
عن المهايأة، فإن رجع أحدهما عنها بعد استيفاء المدة أو بعضها لزم المستوفي للآخر نصف أجرة المثل لما استوفى كما إذا
تلفت العين المستوفي أحدهما منفعتها، فإن تنازعا في المهايأة وأصرا على ذلك أجرها القاضي عليهما ولا يبيعها عليهما
لأنهما كاملان ولا حق لغيرهما فيها. ولا تجوز المهايأة في ثمر الشجر ليكون لهذا عاما ولهذا عاما، ولا في لبن الشاة مثلا
ليحلب هذا يوما وهذا يوما، لأن ذلك ربوي مجهول، وطريق من أراد ذلك أن يبيح كل منهما لصاحبه مدة، واغتفر
الجهل لضرورة الشركة مع تسامح الناس في ذلك. وليس للقاضي أن يجيب جماعة إلى قسمة شئ مشترك بينهم حتى
يقيموا عنده بينة بملكهم، سواء اتفقا على طلب القسمة أو تنازعوا فيه، لأنه قد يكون في أيديهم بإجارة أو إعارة أو
نحو ذلك، فإذا قسمه بينهم فقد يدعون الملك محتجين بقسمة القاضي. ويقبل في إثبات الملك شاهد وامرأتان،
وكذا
شاهد ويمين كما جزم به الدارمي واقتضاه كلام غيره وصوبه الزركشي، وإن خالف فيه ابن المقري. ولا تصح قسمة
الديون المشتركة في الذمم لأنها إما بيع دين بدين، أو إفراز ما في الذمة، وكلاهما ممتنع، وإنما امتنع إفراز ما في الذمة لعدم
قبضه، وعلى هذا لو تراضيا على أن يكون ما في ذمة زيد لأحدهما وما في ذمة عمرو للآخر لم يختص أحد منهما بما قبضه.
ولو تقاسم شريكان ثم تنازعا في بيت أو قطعة أرض وقال كل هذا من نصيبي ولا بينة تحالفا وفسخت القسمة، وقال الشيخ
أبو حامد: يحلف ذو اليد ولمن أطلع على عيب في نصيبه أن ينفسخ. ولو تقاسما دارا وبابها في قسم أحدهما والآخر
يستطرق إلى نصيبه من باب يفتحه إلى شارع فمنعه السلطان لم تنفسخ القسمة كما قاله ابن الأستاذ خلافا لابن الصلاح.
ولا يقاسم الولي محجوره بنفسه ولو قلنا القسمة إفراز كما صرحوا به فيما إذا كان بين الصبي ووليه حنطة.
كتاب الشهادات
جمع شهادة مصدر شهد، من الشهود بمعنى الحضور. قال الجوهري: الشهادة خبر قاطع، والشاهد حامل الشهادة
ومؤديها لأنه مشاهد لما غاب عن غيره، وقيل: مأخوذ من الاعلام، قال الله تعالى: * (شهد الله أنه لا إله إلا هو) *.
أي أعلم وبين. والأصل فيه قبل الاجماع آيات، لقوله تعالى: * (ولا تكتموا الشهادة) *، وقوله تعالى: * (واستشهدوا شهيدين
من رجالكم) * وقوله تعالى: * (وأشهدوا إذا تبايعتم) * (4) وهو أمر إرشاد لا وجوب. وأخبار كخبر الصحيحين: ليس لك
إلا شاهداك أو يمينه وخبره: أنه (ص) سئل عن الشهادة، فقال للسائل: ترى الشمس؟ قال: نعم، فقال:
على مثلها فاشهد أو دع رواه البيهقي والحاكم وصحح إسناده. وأما خبر: أكرموا الشهود، فإن الله تعالى يستخرج
بهم الحقوق ويدفع بهم الظلم فضعيف كما قاله البيهقي، وقال الذهبي في الميزان: إنه حديث منكر. وأركانها خمسة: شاهد،
ومشهود له، ومشهود عليه، ومشهود به، وصيغة. وكلها تعلم مما يأتي مع ما يتعلق بها. وقد بدأ بالشرط الأول، فقال:
426

(شرط الشاهد) أي شروطه: (مسلم) ولو بالتبعية، فلا تقبل شهادة لكافر على مسلم ولا على كافر، خلافا لأبي حنيفة
في قبوله شهادة الكافر على الكافر، ولاحمد في الوصية، لقوله تعالى: * (وأشهدوا ذوي عدل منكم) * والكافر ليس
بعدل وليس منا، ولأنه أفسق الفساق ويكذب على الله تعالى، فلا يؤمن الكذب منه على خلقه. (حر) ولو بالدار،
فلا تقبل شهادة رقيق خلافا لأحمد ولو مبعضا أو مكاتبا، لأن أداء الشهادة فيه معنى الولاية وهو مسلوب منها. (مكلف)
فلا تقبل شهادة مجنون بالاجماع ولا صبي، لقوله تعالى: * (من رجالكم) *.
تنبيه: كان الأولى أن يقول المصنف كما في المحرر والروضة وغيرها: الاسلام والحرية والتكليف. (عدل) فلا
تقبل من فاسق، لقوله تعالى: * (إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا) *. (ذو مروءة) بالهمز بوزن سهولة، وهي الاستقامة، لأن
من لا مروءة له لا حياء له، ومن لا حياء له قال ما شاء، لقوله (ص): إذا لم تستح فاصنع ما شئت
وسيأتي تفسيرها. (غير متهم) في شهادة، لقوله تعالى: * (ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أن لا ترتابوا) *
والريبة حاصلة بالتهم، ولما روى الحاكم أن النبي (ص) قال: لا تجوز شهادة ذي الظنة ولا ذي الحنة
والظنة التهمة والحنة العداوة.
تنبيه: بقي على المصنف شروط لم يذكرها: منها أن يكون ناطقا، فلا تقبل شهادة الأخرس وإن فهمت إشارته.
ومنها أن يكون يقظا كما قاله صاحب التنبيه والجرجاني وغيرهما، فلا تقبل شهادة مغفل. ومنها أن لا يكون محجورا
عليه بسفه، فلا تقبل شهادته كما نقله في أصل الروضة قبيل فصل التوبة عن الصيمري، وجزم به الرافعي في كتاب الوصية.
(وشرط) تحقق (العدالة) وهي لغة: التوسط، وشرعا: (اجتناب الكبائر) أي كل منها، (و) اجتناب (الاصرار
على صغيرة) من نوع أو أنواع. وفسر جماعة الكبيرة بأنها ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة. وقيل:
هي المعصية الموجبة للحد، وذكر في أصل الروضة أنهم إلى ترجيح هذا أميل، وأن الذي ذكرناه أولا هو الموافق
لما ذكروه عند تفصيل الكبائر اه‍. لأنهم عدوا الربا وأكل مال اليتيم وشهادة الزور ونحوها من الكبائر، ولا حد
فيها. وقال الإمام: هي كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين اه‍. والمراد بها بقرينة التعاريف المذكورة
غير الكبائر الاعتقادية التي هي البدع، فإن الراجح قبول شهادة أهلها ما لم يكفرهم كما سيأتي بيانه. هذا ضبطها بالحد،
وأما بالعد فأشياء كثيرة، قال ابن عباس: هي إلى السبعين أقرب، وقال سعيد بن جبير: إنها إلى السبعمائة أقرب،
أي باعتبار أصناف أنواعها، وما عدا ذلك من المعاصي فمن الصغائر ولا بأس بذكر شئ من النوعين، فمن الأول
تقديم الصلاة وتأخيرها عن أوقاتها بلا عذر، ومنع الزكاة وترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة،
ونسيان القرآن، واليأس من رحمة الله، وأمن مكر الله تعالى، والقتل عمدا أو شبه عمد، والفرار من الزحف، وأكل
الربا، وأكل مال اليتيم، والافطار في رمضان من غير عذر، وعقوق الوالدين، والزنا، واللواط، وشهادة الزور، وشرب
الخمر وإن قل، والسرقة والغصب، وقيده جماعة بما يبلغ ربع مثقال كما يقطع به في السرقة، وكتمان الشهادة بلا
عذر، وضرب المسلم بغير حق، وقطع الرحم، والكذب على رسول الله (ص) عمدا، وسب الصحابة، وأخذ الرشوة
والنميمة، وأما الغيبة فإن كانت في أهل العلم وحملة القرآن فهي كبيرة كما جرى عليه ابن المقري وإلا فصغيرة. ومن الصغائر
النظر المحرم، وكذب لا حد فيه ولا ضرر، والاشراف على بيوت الناس، وهجر المسلم فوق ثلاث، وكثرة الخصومات
إلا إن راعى حق الشرع فيها، والضحك في الصلاة، والنياحة وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس
بين الفساق إيناسا لهم، وإدخال مجانين وصبيان ونجاسة يغلب تنجيسهم، واستعمال نجاسة في بدن أو ثوب
لغير حاجة. فبارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة من نوع أو أنواع تنتفي العدالة، لا أن تغلب طاعاته معاصيه كما قاله
الجمهور فلا تنتفي عدالته وإن اقتضت عبارة المصنف الانتفاء مطلقا.
427

تنبيه: عطف الاصرار على الكبائر من عطف الخاص على العام، لأن الاصرار كبيرة على الأصح، وقيل
ليس بكبيرة كما أن الكبيرة لا تصير بالمواظبة كفرا.
فائدة: في البحر: لو نوى العدل فعل كبيرة غدا كزنا لم يصر بذلك فاسقا، بخلاف نية الكفر. (ويحرم اللعب)
بفتح اللام وكسر المهملة، (بالنرد على الصحيح) لخبر: من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله رواه أبو داود والحاكم،
على هذا صغيرة. (و) الثاني: يكره كما (يكره بشطرنج) وفرق الأول بأن الشطرنج - وهو بكسر أوله وفتحه
معجما ومهملا - وضع لصحة الفكر والتدبير فهو يعين على تدبير الحروب والحساب، والنرد موضوعه ما يخرجه الكعبان
أي الحصى ونحوه كالأزلام. وأما اللعب بالطاب، فأفتى السبكي بتحريمه لأن العمدة فيه على ما تخرجه الجرائد الأربع،
وقال غيره بالكراهة كالشطرنج. والأول هو الظاهر لقول الرافعي: ويشبه أن يقال ما يعتمد فيه على إخراج الكعبين
فكالنرد أو على الفكر فكالشطرنج. (فإن شرط فيه) أي اللعب بالشطرنج، (مال من الجانبين) على أن من غلب
من اللاعبين فله على الآخر كذا، (فقمار) فيحرم بالاجماع كما أشار إليه في الام فترد به الشهادة. فإن شرط من جانب
أحد اللاعبين فليس بقمار، وهو مع ذلك حرام أيضا لكونه من باب تعاطي العقود الفاسدة، ولا ترد به الشهادة لأنه
خطأ بتأويله. وإن اقترن به فحش أو تأخير فريضة عن وقتها عمدا وكذا سهوا كلعب به وتكرر ذلك منه فحرام أيضا
لما اقترن به ترد به الشهادة، وكذا إذا لعب به مع معتقد التحريم كما رجحه السبكي وغيره. وأما الحزة - وهي بفتح الحاء
المهملة وبالزاي -: قطعة خشب يحفر فيها حفر في ثلاثة أسطر يجعل فيها حصى صغار ويلعب بها وتسمى المنقلة، وقد تسمى
الأربعة عشر. والفرق - وهو بفتح القاف والراء، ويقال بكسر القاف وإسكان الراء - أن يخط في الأرض خط مربع
ويجعل في وسطه خطان كالصليب ويجعل على رؤوس الخطوط حصى صغار تقلب بها، ففيها وجهان، أوجههما كما
يقتضيه كلام الرافعي السابق الجواز، وجرى ابن المقري على أنها كالنرد. ويجوز اللعب بالخاتم، ويكره بالمراجيح
وأطلق الشافعي رضي الله تعالى عنه كراهة اللعب بالحمام، قال القاضي الحسين: هذا حيث لم يسرق اللاعب طيور
الناس، فإن فعل حرم وبطلت شهادته. واتخاذ الحمام للفراخ والبيض والانس بها وحمل البطائق على أجنحتها جائز
بلا كراهة. ويحرم كما قال الحليمي التحريش بين الديوك والكلاب وترقيص القرود ونطاح الكباش، والتفرج على
هذه الأشياء المحرمة، واللعب بالصور، وجمع الناس عليها. (ويباح الحداء) بل قال المصنف في مناسكه: مندوب، لاخبار
صحيحة وردت به، ولما فيه من تنشيط الإبل للسير وإيقاظ النائم. وهو بضم الحاء وبالمد بخطه، وكذا في المحكم والصحاح،
ويجوز كسر الحاء، ويقال فيه حدو أيضا، وهو ما يقال خلف الإبل من رجز شعر وغيره، ذكر في الاحياء عن أبي بكر
الدينوري أنه كان في البادية فأضافه رجل فرأى عنده عبدا أسود مقيدا فسأله عنه، فقال مولاه: إنه ذو صوت طيب
وكانت له عيس فحملها أحمالا ثقيلية وحدأها فقطعت مسيرة ثلاثة أيام في يوم، فلما حطت أحمالها ماتت كلها. قال:
فشفعت فيه فشفعني، ثم سألته أن يحدو لي، فرفع صوته فسقطت لوجهي من طيب صوته حتى أشار إليه مولاه بالسكوت.
(و) يباح (سماعه) أيضا واستماعه، لما روى النسائي في عمل اليوم والليلة أن النبي (ص) قال لعبد الله بن
رواحة: حرك بالقوم فاندفع يرتجزه. (ويكره الغناء) وهو بالمد وقد يقصر، وبكسر المعجمة: رفع الصوت بالشعر،
لقوله تعالى: * (ومن الناس من يشتري لهو الحديث) *. قال ابن مسعود: هو والله الغناء، رواه الحاكم، ورواه البيهقي عن
ابن عباس وجماعة من التابعين. هذا إذا كان (بلا آلة) من الملاهي المحرمة. (و) يكره (سماعه) كذلك، والمراد استماعه،
ولو عبر به كان أولى. أما مع الآلة فحرامان، واستماعه بلا آلة من الأجنبية أشد كراهة، فإن خيف من استماعه منها
أو من أمرد فتنة فحرام قطعا.
فائدة: الغناء من الصوت ممدود، ومن المال مقصور.
428

تنبيه: تحسين الصوت بالقراءة مسنون، ولا بأس بالإدارة للقراءة بأن يقرأ بعض الجماعة قطعة ثم البعض
قطعة بعدها، ولا بأس بترديد الآية للتدبر، ولا باجتماع الجماعة في القراءة، ولا بقراءته بالألحان، فإن أفرط في المد والاشباع
حتى ولد حروفا من الحركات أو أسقط حروفا حرم، ويفسق به القارئ، ويأثم المستمع لأنه عدل به عن نهجه القويم كما
نقله في الروضة عن الماوردي. ويسن ترتيل القراءة وتدبيرها والبكاء عندها، واستماع شخص حسن الصوت،
والمدارسة وهي أن يقرأ على غيره ويقرأ غيره عليه، وقد مرت الإشارة إلى بعض ذلك في باب الحدث. (ويحرم
استعمال) أو اتخاذ (آلة من شعار الشربة) جمع شارب وهم القوم المجتمعون على الشراب الحرام، واستعمال الآلة
هو الضرب بها (كطنبور) بضم الطاء، ويقال الطنبار، (وعود وصنج) وهو كما قال الجوهري: صفر يضرب
بعضها على بعض، وتسمى الصفاقتين لأنهما من عادة المخنثين. (ومزمار عراقي) بكسر الميم، وهو ما يضرب به
مع الأوتار. (و) يحرم (استماعها) أي الآلة المذكورة لأنه يطرب، ولقوله (ص) ليكونن من
أمتي أقوام يستحلون الخز والحرير والمعازف قال الجوهري وغيره: المعازف آلات اللهو، ومن المعازف الرباب
والجنك (لا) استعمال (يراع) وهو الشبابة، سميت بذلك لخلو جوفها، فلا تحرم (في الأصح) لأنه ينشط على
السير في الأصح. (قلت: الأصح تحريمه، والله أعلم) كما صححه البغوي، وهو مقتضى كلام الجمهور وترجيح الأول
تبع فيه الرافعي الغزالي، ومال البلقيني وغيره إلى الأول لعدم ثبوت دليل معتبر بتحريمه، وبحث جواز استماع المريض
إذا شهد عدلان من أهل الطب بأن ذلك ينجع في مرضه. وحكى ابن عبد السلام خلافا للعلماء في السماع بالملاهي
وبالدف والشبابة. وقال السبكي: السماع على الصورة المعهودة منكر وضلالة، وهو من أفعال الجهلة والشياطين،
ومن زعم أن ذلك قربة فقد كذب وافترى على الله، ومن قال إنه يزيد في الذوق فهو جاهل أو شيطان، ومن نسب
السماع إلى رسول الله يؤدب أدبا شديدا، ويدخل في زمرة الكاذبين عليه (ص)،
ومن كذب عليه متعمدا فليتبوأ مقعده من النار، وليس هذا طريقة أولياء الله تعالى وحزبه وأتباع رسول الله (ص)،
بل طريقة أهل اللهو واللعب والباطل، وينكر على هذا باللسان واليد والقلب. ومن قال من العلماء
بإباحة السماع فذاك حيث لا يجتمع فيه دف وشبابة ولا رجال ونساء، ولا من يحرم النظر إليه. (ويجوز دف) بضم
الدال أشهر من فتحها، سمي بذلك لتدفيف الأصابع عليه، (لعرس) لما في الترمذي وسنن ابن ماجة عن عائشة
رضي الله تعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعلنوا هذا النكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه
بالدف. (و) يجوز ل‍ (ختان) لما رواه ابن أبي شيبة عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كان إذا سمع صوت
دف بعث، فإن كان في النكاح أو الختان سكت، وإن كان في غيرهما عمل بالدرة. (وكذا غيرهما) أي العرس
والختان مما هو سبب لاظهار السرور كولادة، وعيد، وقدوم غائب، وشفاء مريض، (في الأصح) لما روى الترمذي
وابن حبان: أن النبي (ص) لما رجع المدينة من بعض مغازيه جاءته جارية سوداء فقالت: يا رسول الله
إني نذرت إن ردك الله سالما أن أضرب بين يديك بالدف فقال لها: إن كنت نذرت فأوف بنذرك ولأنه قد يراد
به إظهار السرور. قال البغوي في شرح السنة: يستحب في العرس والوليمة ووقت العقد والزفاف. والثاني: المنع، لاثر
عمر رضي الله تعالى عنه المار. واستثنى البلقيني من محل الخلاف ضرب الدف في أمر مهم من قدوم عالم أو سلطان
أو نحو ذلك. (وإن كان فيه) أي الدف (جلاجل) لاطلاق الخبر، ومن ادعى أنها لم تكن بجلاجل فعليه
الاثبات.
تنبيه: لم يبين المصنف المراد بالجلاجل، وقال ابن أبي الدم: المراد به الصنوج جمع صنج، وهي الحلق التي
تجعل داخل الدف، والدوائر العراض التي تؤخذ من صفر وتوضع في خروق دائرة الدف. ولا فرق في الجواز بين الذكور
429

والإناث كما يقتضيه إطلاق الجمهور خلافا للحليمي في تخصيصه بالنساء. (ويحرم ضرب الكوبة، وهي) بضم كافها
وسكون واوها: (طبل طويل ضيق الوسط) واسع الطرفين، لخبر إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة رواه
أبو داود وابن حبان، والمعنى فيه التشبيه بمن يعتاد ضربه وهم المخنثون. ويحرم استماعها أيضا لما مر في آلة الملاهي.
تنبيه: قضية كلامه إباحة ما عداها من الطبول من غير تفصيل كما قاله صاحب الذخائر، قال الأذرعي: لكن
مرادهم ما عدا طبول اللهو كما صرح به غير واحد. وممن جزم بتحريم طبول اللهو العمران وابن أبي عصرون
وغيرهما، قال في المهمات: تفسير الكوبة بالطبل خلاف المشهور في كتب اللغة. قال الخطابي: غلط من قال إنها
الطبل، بل هي النرد اه‍. لكن في المحكم: الكوبة: الطبل والنرد، فجعلها مشتركة بينهما فلا يحسن التغليظ. (لا الرقص)
فلا يحرم، لأنه مجرد حركات على استقامة أو اعوجاج، ولا يكره كما صرح به الفوراني وغيره، بل يباح لخبر الصحيحين:
أنه (ص) وقف لعائشة رضي الله تعالى عنها يسترها حتى تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون ويرفسون،
والرفس: الرقص، وكانت عائشة إذ ذاك صغيرة أو قبل أن تنزل آية الحجاب، أو أنها كانت تنظر إلى
لعبهم لا إلى أبدانهم. وقيل يكره، وجرى عليه القفال. وفي الاحياء التفرقة بين أرباب الأحوال الذين يقومون بوجه فيجوز،
أي بلا كراهة، ويكره لغيرهم. قال البلقيني: ولا حاجة لاستثناء أصحاب الأحوال، لأنه ليس باختيار فلا يوصف بإباحة
ولا غيرها اه‍. وهذا ظاهر إذا كانوا موصوفين بهذه الصفة، وإلا فنجد أكثر من يفعل ذلك ليس موصوفا بهذا، ولذا
قال ابن عبد السلام: الرقص لا يتعاطاه إلا ناقص العقل، ولا يصلح إلا للنساء. ثم استثنى المصنف من إباحته ما ذكره
بقوله: (إلا أن يكون فيه تكسر كفعل المخنث) وهو بكسر النون أفصح من فتحها، وبالمثلثة: من يتخلق بأخلاق
النساء في حركة أو هيئة، فيحرم على الرجال والنساء كما في أصل الروضة عن الحليمي وأقره، فإن كان ذلك خلقة
فلا إثم. ومما عمت به البلوى ما يفعل في وفاء النيل من رجل يزين بزينة امرأة ويسمونه عروسة البحر، فهذا
ملعون، فقد لعن رسول الله (ص) المتشبهين من الرجال بالنساء، فيجب على ولي الأمر وكل من كان له
قدرة على إزالة ذلك منعه منه. (ويباح قول شعر) أي إنشاؤه كما في المحرر وغيره، (وإنشاده) واستماعه لأنه (ص)
كان له شعراء يصغي إليهم: منهم حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة رواه مسلم. وكان (ص)
أهدر دم كعب بن زهير، فورد إلى المدينة مستخفيا، وقام إليه بعد صلاة الصبح ممتدحا فقال بانت سعاد إلى آخرها،
فرضي عليه وأعطاه بردة ابتاعها منه معاوية بعشرة آلاف درهم، قال الدميري: وهي التي مع الخلفاء إلى اليوم
. وقال
الأصمعي: سمعت شعر الهذليين على محمد بن إدريس الشافعي رضي الله تعالى عنه. وروى الشافعي وغيره أن النبي
(ص) قال: الشعر كلام حسنه كحسنه، وقبيحه كقبيحه. ثم استثنى المصنف صورا لا يباح فيها قول
الشعر وإنشاده في قوله: (إلا أن يهجو) ولو بما هو صادق فيه للايذاء، وعليه حمل الشافعي خبر مسلم: لأن يمتلئ
جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا.
تنبيه: محل تحريم الهجاء إذا كان لمسلم، فإن كان لكافر أي غير معصوم جاز كما صرح به الروياني وغيره،
لأنه (ص) أمر حسان بهجو الكفار، بل صرح الشيخ أبو حامد بأنه مندوب. ومثله في جواز الهجو
المبتدع كما ذكره الغزالي في الاحياء، والفاسق المعلن كما قاله العمراني، وبحثه الأسنوي. وظاهر كلامهم جواز هجو الكافر
غير المحترم المعين، وعليه فيفارق عدم جواز لعنه، فإن اللعن الابعاد من الخير، ولا عنه لا يتحقق بعده منه، فقد يختم
له بخير، بخلاف الهجو. (أو) إلا أن (يفحش) بضم أوله وكسر المهملة بخطه بأن يجاوز الشاعر الحد في المدح والاطراء
ولم يمكن حمله على المبالغة. روى الترمذي وابن ماجة عن أنس رضي الله تعالى عنهم أن النبي (ص) قال:
ما كان الفحش في شئ إلا شانه، ولا كان الحياء في شئ إلا زانه. وقال ابن عبد السلام في القواعد: لا تكاد
430

تجد مداحا إلا رذلا، ولا هجاء إلا بذلا. (أو) إلا أن (يعرض) وفي المحرر وغيره يشبب (بامرأة معينة) غير زوجته
وأمته، وهو ذكر صفاتها من طول وقصر وصدغ وغيرها فيحرم وترد به الشهادة لما فيه من الايذاء. واحترز بالمعينة
عن التشبيب بمبهمة فلا ترد شهادته بذلك، كذا نص عليه، ذكره البيهقي في سننه، ثم استشهد بحديث كعب بن
زهير وإنشاده قصيدته بين يدي النبي (ص)، ولان التشبيب صنعته وغرض الشاعر تحسين الكلام
لا تخصيص المذكور. أما حليلته من زوجته أو أمته فلا يحرم التشبيب بها كما نص عليه في الام خلافا لما بحثه الرافعي
، وهو قضية إطلاق المصنف، ونقل في البحر عدم رد الشهادة عن الجمهور. ويشترط أن لا يكثر من ذلك وإلا ردت
شهادته، قاله الجرجاني. ولو شبب بزوجته أو أمته مما حقه الاخفاء ردت شهادته لسقوط مروءته، وكذا لو وصف
زوجته أو أمته بأعضائها الباطنة كما جرى عليه ابن المقري تبعا لاصله وإن نوزع في ذلك. وإذا شبب بغلام وذكر
أنه يعشقه، قال الروياني: يفسق وإن لم يعينه، واعتبر في التهذيب وغيره التعيين كالمرأة، وهذا أولى، وليس ذكر
امرأة مجهولة كليلي تعيينا. (والمروءة) للشخص، وأحسن ما قيل في تفسيرها أنها (تخلق) للمرء (بخلق أمثاله) من
أبناء عصره ممن يراعي مناهج الشرع وآدابه (في زمانه ومكانه) لأن الأمور العرفية قلما تنضبط، بل تختلف
باختلاف الاشخاص والأزمنة والبلدان، وهذا بخلاف العدالة، فإنها لا تختلف باختلاف الاشخاص، فإن الفسق
يستوي فيه الشريف والوضيع بخلاف المروءة فإنها تختلف. وقيل: المروءة التحرز عما يسخر منه ويضحك به،
وقيل: هي أن يصون نفسه عن الأدناس، ولا يشينها عند الناس، وقيل غير ذلك. واعترض البلقيني على عبارة
المصنف بأنه قد يكون خلق أمثاله خلق الحياء كالقرندلية مع فقد المروءة فيهم، وقد أشرت إلى رد هذا بقولي:
يراعي مناهج الشرع وآدابه. (فالاكل) والشرب (في سوق) لغير سوقي كما في الروضة تبعا للقاضي حسين وغيره ولغير
من لم يغلبه جوع أو عطش. واستثنى البلقيني من الاكل في السوق من أكل داخل حانوت مستترا، وفيه كما قال ابن
شهبة نظر. (والمشي) في السوق (مكشوف الرأس) أو البدن غير العورة ممن لا به يليق مثله ولغير محرم بنسك. أما العورة
فكشفها حرام. (وقبلة زوجة أو أمة) له (بحضرة الناس) أو وضع يده على موضع الاستمتاع منها من صدر ونحوه.
والمراد جنسهم ولو واحدا، فلو عبر بحضرة أجنبي كان أولى. قال البلقيني: والمراد به بالناس الذين يستحي منهم في ذلك،
والتقبيل الذي يستحي من إظهاره، فلو قبل زوجته بحضرة جواريه أو بحضرة زوجات له غيرها فإن ذلك لا يعد من
ترك المروءة، أما تقبيل الرأس ونحوه فلا يخل بالمروءة. وقرن في الروضة بالتقبيل أن يحكي ما يجرى بينهما في الخلوة
مما يستحيا منه، وكذا صرح في النكاح بكراهته، لكن في شرح مسلم أنه حرام. وأما تقبيل ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما أمته التي وقعت في سهمه بحضرة الناس فقال الزركشي: كأنه تقبيل استحسان لا تمتع، أو فعله بيانا للجواز، أو ظن
أنه ليس ثم من ينظره، أو على أن المرة الواحدة لا تضر على ما اقتضاه نص الشافعي. ومد الرجل عند الناس بلا ضرورة
كقبلة أمته بحضرتهم، قال الأذرعي: ويشبه أن يكون محله إذا كان بحضرة من يحتشمه، فلو كان بحضرة إخوانه أو
نحوهم كتلامذته لم يكن ذلك تركا للمروءة. (وإكثار حكايات مضحكة) بينهم بحيث يصير ذلك عادة له. وخرج
بالاكثار ما لم يكثر أو كان ذلك طبعا لا تصنعا كما وقع لبعض الصحابة، وفي الصحيح: من تكلم بالكلمة يضحك
بها جلساءه يهوي بها في النار سبعين خريفا.
تنبيه: تقييده الحكايات المضحكة بالاكثار يقتضي أن ما عداها لا يتقيد بالاكثار، بل يسقط العدالة بالمرة
الواحدة. قال ابن النقيب: وفيه نظر. قال البلقيني: الذي يعتمد في ذلك لا بد من تكرره تكرارا دالا على قلة المبالاة،
وقد قال الشافعي: إذا كان الأغلب على الرجل - أي الأظهر من أمره - الطاعة والمروءة قبلت شهادته. وحكى
البيهقي في المعرفة عن ابن سريج أن العدل من لا يكون تاركا للمروءة في غالب العادة. قال البيهقي: وهذا تلخيص ما قاله
431

الشافعي، وهو يقتضي اعتبار الاكثار في الجميع. (وليس فقيه قباء) بالمد، سمي لذلك لاجتماع أطرافه، ولبس جمال
لبس القضاة، (وقلنسوة) وهو بفتح القاف واللام، وبضم القاف مع السين: ما يلبس على الرأس. هذا (حيث) أي
في بلد لا يعتاد للفقيه لبسها. وقيد في الروضة لبسهما للفقيه بأن يتردد فيهما، فأشعر بأن لبسهما في البيت ليس
كذلك. (وإكباب على لعب الشطرنج) بحيث يشغله عن مهماته وإن لم يقترن به ما يحرمه، ويرجع في قدر الاكباب
للعادة، أما القليل من لعب الشطرنج فلا يضر في الخلوة، بخلاف قارعة الطريق فإنه هادم للمروءة. والاكباب على
لعب الحمام كالاكباب على لعب الشطرنج. (أو) على (غناء أو سماعه) أي استماعه، ولو عبر به لكان أولى، سواء
اقترن بذلك ما يوجب التحريم أم لا. ومثل ما ذكر الاكباب على إنشاد الشعر واستنشاده حتى يترك مهماته، وكذا
اتخاذ جارية أو غلام للغناء للناس والكسب بالشعر. قال الرافعي بحثا: والغناء قد لا يزري بمن يليق به، فلا يكون
تاركا للمروءة. (وإدامة) أي إكثار (رقص). وقوله: (يسقطها) أي المروءة في جميع هذه الصور كما مر التنبيه عليه
خبر قوله: فالاكل وما عطف عليه. (والامر فيه) أي مسقط المروءة (يختلف بالاشخاص والأحوال والأماكن)
لأن المدار على العرف قد يستقبح من شخص دون آخر. وفي حال دون آخر وفي قطر دون آخر كما علم مما مر،
فحمل الماء والأطعمة أي إلى البيت شحا لا اقتداء بالسلف التاركين للتكلف حرم مروءة ممن لا يليق
به، بخلاف من يليق به ومن يفعله اقتداء بالسلف، والتقشف في الاكل واللبس كذلك.
تنبيه: يرجع في قدر الاكثار للعادة، وظاهر تقييدهم ما ذكر بالكثرة أنه لا يشترط فيما عداها، لكن ظاهر
نص الشافعي والعراقيين وغيرهم أن التقييد في الكل، ذكره الزركشي، ثم قال: وينبغي التفصيل بين ما يعد لها خارما
بالمرة الواحدة وغيره، فالاكل من غير السوقي مرة في السوق ليس كالمشي فيه مكشوفا. (وحرفة دنيئة) مباحة
(كحجامة وكنس) لزبل ونحوه. (ودبغ) ونحوها: كقيم حمام وحارس وقصاب وإسكاف ونخال، (ممن
لا تليق) هذه الحرفة (به). وقوله: (تسقطها) أي المروءة لاشعار ذلك بقلة مروءته خبر قوله: وحرفة وما
عطف عليه.
تنبيه: قوله: دنيئة بالهمز من الدناءة، وهي الساقطة، وبتركه من الدنو بمعنى القريب. (فإن اعتادها) مع محافظة
مخامر النجاسة على الصلاة في أوقاتها في أثواب طاهرة، (وكانت حرفة أبيه، فلا) يسقطها (في الأصح) لأنه لا يتعير
بذلك، وهي حرفة مباحة من فروض الكفايات لاحتياج الناس إليها، ولو ردت بها الشهادة لربما تركت فتعطل الناس.
والثاني: تسقطها، لأن في اختياره لها مع اتساع طرق الكسب إشعارا بقلة المروءة.
تنبيه: هذا التقييد الذي ذكره نقله الرافعي عن الغزالي واستحسنه. وقال في زيادة الروضة: لم يتعرض الجمهور
لهذا القيد، وينبغي أن لا يقيد بصنعة آبائه بل ينظر هل تليق به هو أم لا. ثم إنه هنا وافق المحرر ولم يعترض عليه،
والمعتمد التقييد عدم. واعترض جعلهم الحرفة الدنيئة مما يخرم المروءة مع قولهم: إنها من فروض الكفايات. وأجيب
بحمل ذلك على من اختارها لنفسه مع حصول الكفاية بغيره. أما الحرفة غير المباحة: كالمنجم والعراف والكاهن
والمصور فلا تقبل شهادتهم عندهم، قال الصيمري: لأن شعارهم التلبيس على العامة. ومن أكثر من أهل الصنائع الكذب
وخلف الوعد ردت شهادته. قال الزركشي: ومما عمت به البلوى التكسب بالشهادة مع أن شركة الأبدان باطلة،
وذلك قادح في العدالة، لا سيما إذا منعنا أخذ الأجرة على التحمل أو كان يأخذ ولا يكتب فإن نفوس شركائه لا تطيب
لذلك. قال بعض المتأخرين: وأسلم طريق فيه أن يشتري ورقا مشتركا ويكتب ويقسم على قدر ما لكل واحد من ثمن
ورقه فإن الشركة لا يشترط فيها التساوي في العمل. ومثل ذلك المقرئين والوعاظ.
432

فروع: المداومة على ترك السنن الراتبة ومستحبات الصلاة تقدح في الشهادة لتهاون مرتكبها بالدين وإشعاره بقلة
مبالاته بالمهمات، ومحل هذا كما قال الأذرعي في الحاضر، أما من يديم السفر كالملاح والمكاري وبعض التجار فلا.
ويقدح في الشهادة مداومة منادمته مستحل النبيذ والسفهاء، وكذا كثرة شربه إياه معهم لاخلال ذلك بالمروءة،
ولا يقدح فيها السؤال للحاجة وإن طاف مكثره بالأبواب إن لم يقدر على كسب مباح يكفيه لحل المسألة حينئذ، إلا أن
أكثر الكذب في دعوى الحاجة أو أخذ ما لا يحل له أخذه فيقدح في شهادته. نعم إن كان المأخوذ في الثانية قليلا اعتبر
التكرار كما مر نظيره. ولما قدم المصنف من شروط الشاهد كونه غير متهم بتهمة ترد شهادته بينها بقوله: (والتهمة)
بمثناة فوقية مضمومة بخطه في الشخص، (أن يجر إليه) بشهادته (نفعا أو يدفع عنه) بها (ضررا) وبما تقرر اندفع ما قيل
إن كلامه أشعر بعود ضمير إليه للشاهد، فيصير التقدير: أن يجر الشاهد إلى الشاهد، وفيه قلاقة، وأيضا فالنفع ينجر
للمسمى لا للاسم، فلو قال أن يجر إلى نفسه أو يدفع عنها كان أولى اه‍. ثم أشار المصنف لصور من جر النفع بما تضمنه
قوله: (فترد شهادته لعبده) سواء أكان مأذونا له كما في المحرر أو لا كما شمله إطلاقه، لأن ما يشهد به فهو له. (ومكاتبه)
لأن له في ماله علقة، لأنه بصدد العود إليه بعجز أو تعجيز. نعم لو شهد بشراء شقص لمشتريه وفيه شفعة لمكاتبه
قبلت، نبه عليه الزركشي. (وغريم له ميت) وإن لم تستغرق تركته الديون. (أو عليه حجر فلس) لأنه إذا أثبت للغريم
شيئا أثبت لنفسه المطالبة به. وألحق الماوردي بذلك إذا كان زوجها معسرا بنفقتها شهدت له بدين، وتقبل لغريمه الموسر
وكذا المعسر قبل الحجر والموت تعلق الحق بذمته بخلافه بعد الحجر أو الموت، لأنه يحكم بماله لغرمائه حال الشهادة.
وخرج بحجر الفلس حجر السفه والمرض ونحوهما. نعم لو شهد غريم المرتد بمال لم تقبل شهادته، لأن حاله أشد من
المفلس وقريب من الميت. (و) ترد شهادته أيضا (بما هو) ولي أو وصي أو (وكيل فيه) ولو بدون جعل،
لأنه
يثبت لنفسه سلطنة التصرف في المشهود به.
تنبيه: يلحق بمن ذكر شهادة الوديع للمودع والمرتهن للراهن لاقتضائها دوام يدهما. وقد يفهم كلامه القبول فيما
إذا عزل نفسه وشهد، ولكن محله ما لم يخاصم، فإن خاصم ثم عزل نفسه لم يقبل. وأفهم كلامه لغيره القطع بقبول شهادة
الوكيل لموكله بما ليس وكيلا فيه، ولكن حكى الماوردي فيه وجهين، وأصحهما الصحة. ولو عبر بقوله فيما هو
وكيل فيه كما فعله في المحرر وأصل الروضة كان أولى ليتناول من وكل في شئ بخصومة أو تعاطى عقدا فيه أو حفظه
أو نحو ذلك، فإنه لا تقبل شهادته لموكله في ذلك، لأنه يجر لنفسه نفعا باستيفاء ماله في ذلك من التصرف. وإن لم يشهد
بنفس ما وكل فيه. (و) ترد شهادته (ببراءة من ضمنه) بأداء أو إبراء، لأنه يدفع بها الغرم عن نفسه.
تنبيه: في معنى ذلك من ضمنه عبده أو مكاتبه أو غريمه الميت أو المحجور عليه بفلس، ومن ضمنه أصله
وفرعه. (و) ترد شهادة وارث عند الشهادة (بجراحة مورثه) قبل اندمالها كما صرح به في المتن في باب القسامة،
لأنه لو مات كان الأرش له، وليس مورثه أصله وفرعه، فإن لم يكن وارثا له عند الشهادة لحجب مثلا قبلت، ولا يضر
زوال الحجب وارثه بعد الحكم. (ولو شهد لمورث له) غير أصله وفرعه (مريض) مرض موت (أو جريح بمال
قبل الاندمال قبلت) شهادته (في الأصح). والثاني: قال: لا كالجراحة للتهمة. وفرق الأول بأن الجراحة سبب للموت
الناقل للحق إليه بخلاف المال وبعد الاندمال يقبل قطعا لانتفاء التهمة. نعم لو مات المورث قبل الحكم لم يحكم،
قاله الماوردي. ولما فرغ من الشهادة الجالبة للنفع شرع في الدافعة للضرر، فقال: (وترد شهادة عاقلة بفسق شهود قتل)
يحملونه من خطأ أو شبه عمد بخلاف شهود إقرار بذلك أو شهود عمد. فإن قيل: هذه المسألة تقدمت في باب دعوى
الدم والقسامة فما فائدة ذكرها هنا؟ أجيب بأنه أطلق هناك ما يجب تقييده في موضعين: أحدهما رد جراحة المورث
433

وهو فيما قبل الاندمال، ثانيهما: رد العاقلة، وهو فيما يتحملونه، وقد ذكره هنا على الصواب، وبأنه هناك ذكرها
لإفادة الحكم وذكرها هنا للتمثيل.
تنبيه: لو شهدا لمورثهما فمات قبل الحكم لم يحكم لأنهما الآن شاهدان لأنفسهما، قاله الماوردي. (و) ترد شهادة
(غرماء مفلس) حجر عليه (بفسق شهود دين آخر) ظهر عليه، لأنهم يدفعون بها ضرر المزاحمة.
تنبيه: استثنى البلقيني من ذلك ما إذا كان للغريم الشاهد رهن بدينه ولا مال للمفلس غيره أو له مال ويقطع بأن
الرهن يوفي الدين المرهون به فيقبل لفقد ضرر المزاحمة، قال: ولم أر من تعرض له، والقواعد تقتضيه اه‍. وهذا مأخوذ
من التعليل. ولا تقبل شهادة شخص بموت مورثه ومن أوصى له، وتقبل شهادة المديون بموت المدين. (ولو شهدا)
أي شاهدان (لاثنين بوصية) من تركة، (فشهدا) أي الاثنان (للشاهدين) لهما (بوصية من تلك التركة قبلت الشهادتان
في الأصح) لانفصال كل عن شهادة الأخرى، ولا تجر شهادته نفعا ولا تدفع عنه ضررا. والثاني: المنع، لاحتمال المواطأة.
وأجاب الأول بأن الأصل عدمها.
تنبيه: تقبل شهادة بعض القافلة لبعض على قاطع الطريق بمثل ما شهد له به البعض الآخر إذا قال كل منهم أخذ
مال فلان، فإن قال أخذ مالنا لم تقبل. ولا تقبل شهادة خنثى بمال لو كان ذكرا لاستحق فيه كوقف الذكور. (و)
مما يمنع الشهادة البعضية، وحينئذ (لا تقبل لأصل) للشاهد وإن علا، (ولا فرع) له إن سفل كشهادته لنفسه، لأنه
جزء منه، ففي الصحيح: فاطمة مني وكذا لا تقبل لمكاتب أصله وفرعه ولا لمأذونهما.
تنبيهان: أحدهما: قضية كلامه أنها لا تقبل شهادته لاحد أصليه أو فرعيه على الآخر، وهو كذلك كما جزم به الغزالي،
ويؤيد منع الحكم بين أبيه وابنه وإن خالف ابن عبد السلام في ذلك معللا بأن الوازع الطبعي قد تعارض فظهر
الصدق لضعف التهمة. ولا تقبل تزكية الوالد لولده ولا شهادته له بالرشد سواء أكان في حجره أم لا، وإن أخذنا
بإقراره برشد في حجره. ثانيهما: محل عدم قبول إشهاد الأصل لفرعه وعكسه إذا لم يكن ضمنيا، فإن كان صح، ويتضح
بصورتين، إحداهما: ما لو ادعى عليه نسب ولد فأنكر فشهد أبوه مع أجنبي على إقراره أنه ولده قبلت شهادة الأب كما
في فتاوى القاضي الحسين وإن كان في ضمنه الشهادة لحفيده احتياطا لأمر النسب. ثانيتهما: ما لو ادعى شخص شراء
عبد في يد زيد من عمرو وبعد أن اشتراه عمرو من زيد صاحب اليد وقبضه وطالبه بالتسليم فأنكر زيد جميع ذلك فشهدا
بناء للمدعي بما يقوله قبلت شهادتهما، لأن المقصود بالشهادة في الحال المدعى، وهو أجنبي عنهما. (وتقبل) الشهادة
(عليهما) أي أصله وفرعه سواء أكان في عقوبة أم لا لانتفاء التهمة، ويستثنى من ذلك ما إذا كان بينه وبين أصله أو
فرعه عداوة، فإن شهادته لا تقبل له ولا عليه كما جزم به في الأنوار. (وكذا) تقبل من فرعين (على أبيهما بطلاق ضرة
أمهما أو قذفها في الأظهر) لضعف تهمة نفع أمهما بذلك، لأنه متى أراد طلقها أو نكح عليها مع إمساكها. والثاني:
المنع، فإنها تجر نفعا إلى الام، وهو انفرادها بالأب.
تنبيه: أفهم قوله: على أبيهما أن محل الخلاف ما إذا شهدا حسبة أو بعد دعوى الضرة، أما لو ادعى الأب
الطلاق في زمن سابق لاسقاط نفقة ماضية ونحو ذلك، أو ادعى أنها سألته الطلاق على مال فشهدا له، فهنا لا تقبل الشهادة
عليها لأنها شهادة للأب لا عليه، ولكن تحصل الفرقة بقوله في دعواه الخلع كما مر في بابه. (وإذا شهد) بحق
(لفرع) أو أصل له (وأجنبي) كأن شهد برقيق لهما، كقوله: هو لأبي وفلان، أو عكسه، (قبلت) تلك
الشهادة
(للأجنبي في الأظهر) من قولي تفريق الصفقة. والثاني: لا تفرق فلا تقبل له. (قلت) ك الرافعي في الشرح: (وتقبل)
الشهادة (لكل من الزوجين) للآخر لأن الحاصل بينهما عقد يطرأ ويزول فلا يمنع قبول الشهادة، كما لو شهد الأجير
434

للمستأجر وعكسه.
تنبيه: لا يصح الاحتجاج لذلك بحكمه (ص) ل عائشة على أهل الإفك كما احتج به بعضهم، لأنه (ص)
يحكم لنفسه ولفرعه. وقيل: لا تقبل، لأن كل واحد منهما وارث لا يحجب فأشبه الأب، وهو قول الأئمة
الثلاثة. واستثنى على الأول ما إذا شهد لزوجته بأن فلانا قذفها في أحد وجهين رجحه البلقيني. واحترز المصنف بقوله:
لهما عما لو شهد أحدهما على الآخر فإنها تقبل قطعا إذ لا تهمة، لكن يستثنى شهادته عليها بزناها فلا تقبل عليها لأنه
يدعي خيانتها فراشه. (و) تقبل الشهادة (لأخ) من أخيه، وكذا من بقية الحواشي، وإن كانوا يصلونه ويبرونه. (وصديق)
من صديقه، وهو من صدق ودادك بأن يهمه ما أهمك. قال ابن قاسم: وقليل ذلك - أي في زمانه - ونادر في زماننا.
(والله أعلم) لضعف التهمة لأنهما لا يتهمان تهمة الأصل والفرع. أما شهادة كل ممن ذكر على الآخر فمقبولة جزما. (ولا
تقبل) شهادة (من عدو) على عدوه لحديث: لا تقبل شهادة ذي غمر على أخيه رواه أبو داود وابن ماجة بإسناد حسن،
والغمر بكسر الغين المعجمة الغل، وهو الحقد، ولما في ذلك من التهمة.
تنبيه: المراد بالعداوة الدنيوية الظاهرة لأن الباطنة لا يطلع عليها إلا علام الغيوب. وفي معجم الطبراني أن النبي
(ص) قال: سيأتي قوم في آخر الزمان إخوان العلانية أعداء السريرة. قيل لنبي الله أيوب (ص):
أي شئ كان أشد عليك مما مر بك؟ قال: شماتة الأعداء. وكان (ص) يستعيذ بالله منها، فنسأل الله
سبحانه وتعالى العافية من ذلك. (وهو) أي العدو (من يبغضه) أي المشهود عليه، (بحيث يتمنى زوال نعمته) سواء أطلبها
لنفسه أم لغيره أم لا. (ويحزن بسروره ويفرح بمصيبته) لشهادة العرف بذلك. وقد تكون العداوة من الجانبين، وقد
تكون من أحدهما فيختص برد شهادته على الآخر. ولو عادى من يستشهد عليه وبالغ في خصامه ولم يجبه ثم شهد عليه
لم ترد شهادته لئلا يتخذ ذلك ذريعة إلى ردها، ولو أفضت العداوة إلى الفسق ردت مطلقا.
تنبيه: هذا الضابط لخصه الرافعي من كلام الغزالي. قال البلقيني: ذكر البغض ليس في المحرر ولا في الروضة
وأصلها ولم يذكره أحد من الأصحاب ولا معنى لذكره هنا، لأن العداوة غير البغضاء، قال تعالى: * (وبدا بيننا وبينكم
العداوة والبغضاء) *، والفرق بينهما أن البغضاء بالقلب والعداوة بالفعل هي أغلظ، فلا يفسر الأغلظ بالأخف. وقال
الزركشي: الأشبه في الضابط تحكيم العرف كما أشار إليه في المطلب، فمن عده أهل العرف عدوا للمشهود
عليه ردت
شهادته عليه، إذ لا ضابط له في الشرع ولا في اللغة.
فرع: حب الرجل لقومه ليس عصبية حتى ترد شهادته لهم بل تقبل، مع أن العصبية وهي أن يبغض الرجل لكونه
من بني فلان لا تقتضي الرد بمجردها. وإن أجمع جماعة على أعداء قومه ووقع معها فيهم ردت شهادته عليهم. (وتقبل
له) أي العدو إذا لم يكن أصله أو فرعه إذ لا تهمة، والفضل ما شهدت به الأعداء. وتقبل تزكيته له أيضا لا تزكيته
لشاهد شهد عليه كما بحثه ابن الرفعة. وخرج بالعدو أصل العدو وفرعه فتقبل شهادتهما، إذ لا مانع بينهما وبين المشهود
عليه. (وكذا) تقبل (عليه) أي العدو (في عداوة دين ككافر) شهد عليه مسلم، (ومبتدع) شهد عليه سني، لأن العداوة
الدينية لا توجب رد الشهادة.
تنبيه: لو قال العالم لجماعة: لا تسمعوا الحديث من فلان فإنه يخلط أو لا تستفتوا منه فإنه لا يحسن الفتوى لم ترد
شهادته، لأن هذا نصح للناس، نص عليه في الام، قال: وليس هذا بعداوة ولا غيبة إن كان بقوله لمن يخاف أن يتبعه
ويخطئ باتباعه. (وتقبل شهادة مبتدع لا تكفره) ببدعته، قال الزركشي: ولا نفسقه بها. ولم يبين المصنف من لم يكفر
ببدعته ومن يكفر بها، وقد مر في باب الردة جملة من ذلك. ومن القسم الأول منكر صفات الله تعالى وخلقه أفعال
435

عباده وجواز رؤيته يوم القيامة لاعتقادهم أنهم مصيبون في ذلك لما قام عندهم، وقد روى أبو داود بإسناد صحيح أنه
(ص) قال: تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة فجعل الكل من أمته. ومن القسم الثاني منكرو حدوث
العالم، والبعث والحشر للأجسام وعلم الله تعالى بالمعدوم وبالجزئيات لانكار بعض ما علم مجئ الرسول (ص)
به ضرورة، فلا تقبل شهادتهم ولا شهادة من يدعو الناس إلى بدعته، ولا خطابي لمثله وهم أصحاب أبي الخطاب الأسدي
الكوفي كان يقول بإلهية جعفر الصادق، ثم ادعى الإلهية لنفسه، وهم يعتقدون أن الكذب كفر، وأن من كان على
مذهبهم لا يكذب فيصدقونه على ما يقول ويشهدون له بمجرد إخباره هذا إذا لم يذكروا في شهادتهم ما ينفي احتمال
اعتمادهم على قول المشهود له، فإن بينوا ما ينفي الاحتمال كأن قالوا سمعناه يقر له بكذا أو رأيناه يقرضه كذا قبلت في
الأصح.
تنبيه: قضية إطلاقه أنه لا فرق بين سب الصحابة رضي الله عنهم وغيره، وهو المرجح في زيادة الروضة، قال: بخلاف
من قذف عائشة رضي الله تعالى عنها فإنه كافر، أي لأنه كذب على الله تعالى. وقال السبكي في الحلبيات: في تكفير من
سب الشيخين وجهان لأصحابنا: فإن لم نكفره فهو فاسق لا تقبل شهادته، ومن سب بقية الصحابة فهو فاسق مردود
الشهادة ولا يغلط فيقال شهادته مقبولة اه. فجعل ما رجحه في الروضة غلطا. قال الأذرعي: وهو كما قال، ونقل عن
جمع التصريح به وأن الماوردي قال: من سب الصحابة أو لعنهم أو كفرهم فهو فاسق مردود الشهادة. وقضية إطلاق
الشيخين قبول شهادة أهل الأهواء غير الخطابية، وأنه لا فرق بين من يستحل المال والدم وغيرهما، ونقل في زيادة
الروضة التصريح به عن نص الام، ونقلا في باب البغاة عن المعتبرين أنه لا تقبل شهادة أهل البغي ولا ينفذ قضاء قاضيهم
إذا استحلوا دماءنا وأموالنا، وقدمنا الفرق هناك فليراجع.
فائدة: قال ابن عبد السلام: البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة، قال: والطريق في
ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الايجاب فهي واجبة كالاشتغال بعلم النحو، أو في قواعد
التحريم فمحرمة كمذهب القدرية والمرجئة والمجسمة والرافضة. قال: والرد على هؤلاء من البدع الواجبة، أي لأن
المبتدع من أحدث الشريعة ما لم يكن في عهده (ص). أو في قواعد المندوب فمندوبة كبناء الربط والمدارس
وكل إحسان لم يحدث في العصر الأول كصلاة التراويح. أو في قواعد المكروه فمكروه كزخرفة المساجد وتزويق
المصاحف. أو في قواعد المباح فمباحة كالمصافحة عقب الصبح والعصر والتوسع في المآكل والملابس. وروى البيهقي
بإسناده في مناقب الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: المحدثات ضربان: أحدهما ما خالف كتابا أو سنة أو إجماعا
فهو بدعة وضلالة. والثاني: ما أحدث من الخير فهو غير مذموم. و (لا) تقبل شهادة (مغفل لا يضبط) أصلا أو غالبا
لعدم التوثق بقوله. أما من لا يضبط نادرا والأغلب فيه الحفظ والضبط فتقبل قطعا لأن أحدا لا يسلم من ذلك، ومن
تعادل غلطه وضبطه فالظاهر كما قال الأذرعي أنه كمن غلب غلطه.
تنبيه: محل الرد فيمن غلطه وضبطه سواء إذا لم تكن الشهادة مفسرة، فإن فسرها وبين وقت التحمل ومكانه
قبلت كما جرى عليه الشيخان. قال الإمام: والاستفصال عند استشعار القاضي غفلة في الشهود حتم، وكذا إن رابه
أمر، وإذا استفصلهم ولم يفصلوا بحث عن أحوالهم، فإن تبين له أنهم غير مغفلين قضى بشهادتهم المطلقة، قال: ومعظم
شهادة العوام يشوبها غرة وسهو وجهل وإن كانوا عدولا فيتعين الاستفصال كما ذكرنا، وليس الاستفصال مقصودا
في نفسه، وإنما الغرض تبين تثبتهم في الشهادة. (و) لا تقبل شهادة (مبادر) بشهادته قبل الدعوى جزما، وكذا بعدها وقبل
أن يستشهد على الأصح للتهمة، ولخبر الصحيحين أن النبي (ص) قال: خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم
ثم الذين يلونهم ثم يجئ قوم يشهدون ولا يستشهدون فإن ذلك في مقام الذم لهم، وأما خبر مسلم ألا أخبركم بخير
الشهود
الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها فمحمول على ما تسمع فيه شهادة الحسبة.
436

تنبيه: تقبل شهادة من اختبأ وجلس في زاوية مختبأ لتحمل الشهادة لأن الحاجة قد تدعو إليه، ويسن أن يخبر
الخصم أني شهدت عليك لئلا يبادر إلى تكذيبه فيعذره القاضي. ولو قال رجلان مثلا لثالث: توسط بيننا لنتحاسب
ولا تشهد علينا بما جرى، فهذا شرط باطل وعليه أن يشهد. قال ابن القاص: وترك الدخول في ذلك أحب إليه ثم
استثنى المصنف من عدم صحة شهادة المبادر ما ذكره بقوله: (وتقبل شهادة الحسبة) من الاحتساب وهو طلب الاجر،
سواء أسبقها دعوى أم لا كانت في غيبة المشهود عليه أم لا، وهي كغيرها من الشهادات في شروطها السابقة، (في حقوق
الله تعالى) المتمحضة كالصلاة والزكاة والصوم بأن يشهد بتركها. (وفيما له) أي في الذي لله (فيه حق مؤكد) وهو
ما لا يتأثر برضا الآدمي، (كطلاق) بائن أو رجعي. وأما الخلع فنقلا عن البغوي المنع لأنه ينفك عن المال، وعن الإمام
أنها تسمع لثبوت الطلاق دون المال. قال في المهمات: والراجح ما قاله الإمام اه‍. وهذا هو الظاهر، وجرى عليه
ابن المقرى في روضه، لأن المال حق آدمي دون الفراق. (وعتق) غير ضمني، ولا فرق في العتق بين أن يكون منجزا
أو معلقا، عبدا أو أمة، وقال أبو حنيفة: تقبل في عتق الأمة دون العبد. أما الضمني كمن شهد لشخص بشراء قريبه
فلا يصح في الأصح لأنها شهادة بالملك والعتق يترتب عليه.
تنبيه: المراد بالعتق أن يشهد بخصوصه، فلو شهد بما يفضي إليه فالمنقول في الاستيلاد القبول، وأما التدبير
والتعليق بصفة والكتابة فلا يقبل فيها ففارقت الاستيلاد بأنه يفضي إلى العتق لا محالة بخلافها. وتصح شهادته بالعتق
الحاصل بشراء القريب والتدبير وتعليق العتق والكتابة. (وعفو عن قصاص) في نفس أو طرف لما فيه من سلامة
النفس، وهو حق الله تعالى أيضا. (وبقاء عدة وانقضائها) لما يترتب على الأول من صيانة الفرج واستباحته من غير
طريق شرعي، ولما في الثاني من الصيانة بقصد التعفف بالنكاح، ويلتحق بذلك تحريم الرضاع والمصاهرة. (وحد له)
تعالى كحد الزنا وقطع الطريق، وكذا حد السرقة على الصحيح بأن يشهد بموجب ذلك، والمستحب ستره إذا رأى
المصلحة فيه. (وكذا النسب على الصحيح) لأن في وصله حقا لله تعالى، إذ الشرع أكد الأنساب ومنع قطعها فضاهى
الطلاق والعتاق. والثاني: لا، لتعلق حق الآدمي فيه.
تنبيه: يلتحق بما ذكره المصنف الاحصان والتعديل والزكوات والكفارات والبلوغ والكفر
والاسلام وتحريم المصاهرة والوصية والوقف إذا عمت جهتهما، ولو أخرت الجهة العامة فيدخل نحو ما أفتى به
البغوي من أنه لو وقف دارا على أولاده ثم الفقراء فاستولى عليها ورثته وتملكوها فشهد شاهدان حسبة قبل
انقراض أولاده بوقفيتها قبلت شهادتهما لأن آخره وقف على الفقراء، لا إن خصت جهتهما فلا تقبل فيها لتعلقهما
بحظوظ خاصة. واحترز بحقوق الله تعالى عن حقوق الآدمي كالقصاص وحد القذف والبيوع والأقارير ونحوها،
لكن إذا لم يعلم صاحب الحق به أعلمه الشاهد به ليستشهده بعد الدعوى. وإنما تسمع شهادة الحسبة عند الحاجة
إليها، فلو شهد اثنان أن فلانا أعتق عبده، أو أنه أخو فلانة من الرضاع لم يكف حتى يقولا إنه يسترقه، أو أنه يريد
نكاحها. وكيفية شهادة الحسبة أن الشهود يجيئون إلى القاضي ويقولون نحن نشهد على فلان بكذا فأحضره لنشهد
عليه، فإن ابتدأوا وقالوا: فلان زنا، فهم قذفة. وما تقبل فيه شهادة الحسبة هل تسمع فيه دعواها؟ وجهان، أوجههما
كما جرى عليه ابن المقرى تبعا للأسنوي، ونسبه الإمام للعراقيين: لا تسمع، لأنه لا حق للمدعى في المشهود به، ومن له
الحق لم يأذن في الطلب والاثبات، بل أمر فيه بالاعراض والدفع ما أمكن. والوجه الثاني ورجحه البلقيني: أنها تسمع
ويجب حمله على غير حدود الله تعالى، وكذا فصل بعض المتأخرين فقال: إنها تسمع إلا في محض حدود الله تعالى.
(ومتى حكم) قاض (بشاهدين فبانا) عند أداء الشهادة أو عند الحكم بهما (كافرين، أو عبدين، أو صبيين)
437

أو امرأتين، أو خنثيين، أو بان أحدهما كذلك، (نقضه هو وغيره) لتيقن الخطأ فيه، والمراد إظهار البطلان. قال
في أصل الروضة: فإن قيل قد اختلف العلماء في شهادة العبد، فكيف نقض الحكم في محل الخلاف والاجتهاد فيه؟
قلنا: لأن الصورة مفروضة فيمن لا يعتقد الحكم بشهادة العبد وحكم بشهادة من ظنهما حرين فلا اعتداد بمثل هذا الحكم،
ولأنه حكم يخالف القياس الجلي، لأن العبد ناقص في الولايات وسائر الأحكام، فكذا في الشهادة. (وكذا فاسقان)
ظهر فسقهما عند القاضي ينقض الحكم بهما (في الأظهر) كما في المسائل المذكورة، لأن النص والاجماع دلا على اعتبار
العدالة. والثاني: لا ينقض، لأن قبولهما بالاجتهاد، وقبول بينة فسقهما بالاجتهاد، ولا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد.
وعورض بأن الحكم بالاجتهاد ينقض بخبر الواحد العدل مع أن عدالته إنما تثبت بالاجتهاد.
تنبيه: قيد القاضي الحسين والبغوي النقض بما إذا كان الفسق ظاهرا غير مجتهد فيه، فإن كان مجتهدا فيه
كشرب النبيذ لم ينقض قطعا، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. ولو شهد عدلان على فسقهما مطلقين ولم يسندا إلى
حالة الحكم لم ينقض القضاء، لاحتمال حدوثه بعد الحكم كما قاله صاحب الكافي واقتضاه كلام الرافعي في باب
القضاء على الغائب.
فرع: لو شهد شاهدان ثم فسقا أو ارتدا قبل الحكم لم يحكم بشهادتهما، لأن ذلك يوقع ريبة فيما مضى،
ويشعر بخبث كامن، ولان الفسق يخفى غالبا، فربما كان موجودا عند الشهادة. وإن عميا أو خرسا أو جنا أو ماتا حكم
بشهادتهما، لأن هذه الأمور لا توقع ريبة فيما مضى بل يجوز تعديلها بعد حدوث هذه الأمور، ويحكم بشهادتهما.
ولو فسقا أو ارتدا بعد الحكم بشهادتهما وقبل استيفاء المال استوفي، كما لو رجعا عن شهادتهما كذلك. وخرج
بالمال الحدود فلا تستوفى. ولو قال الحاكم بعد الحكم: بان لي أنهما كانا فاسقين ولم تظهر بينة بفسقهما نقض حكمه إن
جوزنا قضاءه بالعلم، وهو الأصح ولم يتهم فيه. ولو قال: أكرهت على الحكم بشهادتهما وأنا أعلم فسقهما قبل قوله
من غير بينة على الاكراه ولو بانا والدين أو ولدين للمشهود له أو عدوين للمشهود له أو عدوين للمشهود عليه
انتقض الحكم أيضا كما لو بانا فاسقين. ولو قال الحاكم: كنت يوم الحكم فاسقا فالظاهر كما قال شيخنا أنه لا يلتفت
إليه، كما لو قال الشاهدان كنا عند عقد النكاح فاسقين. فإن قيل: هلا كان هذا مثل قوله بان لي فسق الشاهدين
أجيب بأنه أعرف بصفة نفسه منه بصفة غيره فتقصيره في حق نفسه أكثر. (ولو شهد كافر) معلن بكفره أو مرتد
كما قاله القفال، (أو عبد أو صبي ثم أعادها بعد كماله) بإسلام أو عتق أو بلوغ، (قبلت شهادته) لانتفاء التهمة
لأن المتصف بذلك لا يعير برد شهادته. (أو) شهد (فاسق تاب) من فسقه أو عدو تاب من عداوته أو من لا مروءة
له ثم عادت مروءته، أو سيد لمكاتبه ثم أعادها بعد العتق، أو مخفي الكفر ثم أعادها بعد إسلامه، (فلا) تقبل
للتهمة لأن المتصف بذلك يعير برد شهادته. (وتقبل شهادته) أي الفاسق (في غيرها) أي في غير تلك الشهادة التي
شهد بها حال فسقه. وفي بعض نسخ المتن: بغيرها. (بشرط اختباره بعد التوبة مدة يظن صدق توبته) لأن التوبة من
أعمال القلوب وهو متهم بإظهارها لتزويج شهادته وعود ولايته فاعتبر الشرع ذلك ليقوى ما ادعاه، قال تعالى في
حق القذفة: * (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) *، وقال تعالى: * (فإن تابا وأصلحا) *. (وقدرها الأكثرون) من
الأصحاب (بسنة) لأن لمضيها المشتمل على الفصول الأربعة أثرا بينا في تهييج النفوس لما تشتهيه، فإذا مضت
على السلامة أشعر ذلك بحسن السريرة. وقد اعتبر الشارع السنة في العنة وفي مدة التغريب والزكاة والجزية. وهل
السنة تحديد أو تقريب؟ وجهان في الحاوي والبحر رجح البلقيني والأذرعي ومن تبعهما الثاني، وهو الظاهر وإن
كان مقتضى كلام الجمهور الأول. واستثنى من اشتراط الاختيار صور: منها مخفي الفسق إذا تاب وأقر وسلم نفسه للحد
438

لأنه لم يظهر التوبة عما كان مستورا عليه إلا عن صلاح، قاله الماوردي الروياني. ومنها ما لو عصى الولي بالعضل ثم
تاب زوج في الحال ولا يحتاج إلى استبراء كما حكاه الرافعي عن البغوي. ومنها شاهد الزنا إذا وجب عليه الحد لعدم
تمام العدد، فإنه لا يحتاج بعد التوبة إلى استبراء بل تقبل شهادته في الحال على المذهب في أصل الروضة. ومنها ناظر
الوقف بشرط الواقف إذا فسق ثم تاب عادت ولايته من غير استبراء. ومنها الممتنع من القضاء إذا تعين عليه، وقد مر
ما فيه في باب القضاء. ومنها قاذف غير المحصن، قال البلقيني: لا يحتاج إلى استبراء لمفهوم قول الشافعي في الام، فأما
من قذف محصنة فلا تقبل شهادته حتى يختبر. ومنها الصبي إذا فعل ما يقتضي فسق البالغ ثم تاب وبلغ تائبا، قال البلقيني
أيضا: لم يعتبر فيه الاختبار كما يظهر من كلام الشافعي والأصحاب. ومنها ما لو حصل خلل في الأصل ثم زال احتاج الفرع
إلى تحمل الشهادة ثانيا، قال الزركشي: ولم يذكروا هذه المدة. ومنها المرتد إذا أسلم وكان عدلا قبل الردة كما قاله
الماوردي واقتضاه كلام غيره. فإن قيل: هلا كان كالفاسق أجيب بأنه إذا أسلم فقد أتى بضد الكفر فلم يبق بعد
ذلك احتمال، وليس كذلك إذا زنا ثم تاب، لأن التوبة ليست مضافة للمعصية بحيث تنفيها. وقيد الماوردي والروياني
إسلام المرتد بما إذا أسلم مرسلا، فإن أسلم عند تقديم القتل اعتبر مضي المدة.
تنبيه: اقتصار المصنف ك الرافعي على الفسق يقتضي أنه إذا تاب عما يخرم المروءة لا يحتاج إلى استبراء، وليس
مرادا، فقد صرح صاحب التنبيه بأنه يحتاج إلى الاستبراء. قال البلقيني: وله وجه، فإن خارم المروءة صار باعتياده
سجية له، فلا بد من اختبار حاله. وذكر في المطلب أنه يحتاج إلى الاستبراء في التوبة من العداوة سواء أكانت قذفا
أم لا كالغيبة والنميمة وشهادة الزور. (ويشترط في توبة معصية قولية القول) قياسا على التوبة من الردة بكلمتي الشهادة،
(فيقول القاذف) مثلا في التوبة من القذف: (قذفي) فلانا (باطل) أو ما كنت محقا فيه ونحو ذلك، (وأنا نادم
عليه، ولا أعود إليه) ليندفع عار القذف. ولا يكلف أن يقول كذبت، فقد يكون صادقا فكيف يؤمر بالكذب؟
فإن قيل: قول المصنف قذفي باطل صريح في إكذاب نفسه، وقد نقل عن الجمهور أنه لا يكذب نفسه، فكان
الأولى إتيانه بعبارة المحرر والجمهور، وهي القذف باطل، أي قذف الناس باطل. أجيب بحمل كلامه على تجويز
نيابة المضاف إليه عن الألف واللام، كقوله تعالى: * (قل الله أعبد مخلصا له ديني) * أي الدين. وقضية إطلاقه أنه لا فرق
بين القذف على سبيل الايذاء أو على الشهادة إذا لم يتم عدد الشهود، وهو كذلك كما في الشرح والروضة. قال
الرافعي: ويشبه أن يشترط في هذا الاكذاب جريانه بين يدي القاضي انتهى. وهو كما قال ابن شهبة ظاهر فيمن
قذف بحضرة القاضي واتصل قذفه ببينة أو اعتراف، وغير ظاهر فيما إذا لم يتصل بالقاضي أصلا، بل في جواز
إتيانه القاضي وإعلامه له بالقذف نظرا لما فيه من الايذاء وإشاعة الفاحشة. (وكذا شهادة الزور) يقول الشاهد فيها
على وزان ما مر: شهادتي باطلة وأنا نادم عليها ولا أعود إليها، لأنه في معنى ما سبق. ولكن الذي في الروضة
وأصلها عن المهذب أنه يقول: كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله وأقراه. (قلت) ك الرافعي في الشرح: (و) المعصية
(غير القولية) كالسرقة والزنا والشرب (يشترط) في التوبة منها (إقلاع) عنها (وندم) عليها (وعزم أن لا
يعود)
لها (ورد ظلامة آدمي) من مال وغيره، وقصاص وحد قذف (إن تعلقت به. والله أعلم) فيؤدي الزكاة
لمستحقها، ويرد المغصوب إن بقي وبدله إن تلف لمستحقه أو يستحق منه أو من ورائه ويعلمه إن لم يعلم، فإن لم
يوجد مستحق أو انقطع خبره سلمها إلى قاض أمين، فإن تعذر تصدق بها ويؤدي الغرم أو يتركها عنده. والمعسر ينوي
العزم إذا قدر، فإن مات معسرا طولب في الآخرة إن عصي بالاستدانة، كأن استدان لإعانة على معصية وإلا فإن استدان
439

لحاجة في أمر مباح، فهو جائز إن رجا الوفاء من جهة ظاهرة أو سبب ظاهر، والظاهر أنه لا مطالبة حينئذ، والرجاء
في الله تعالى تعويض خصمه.
تنبيهات: الأول: لو عبر المصنف بالخروج من ظلامة آدمي بدل الرد لكان أولى، ليشمل الرد والابراء منها
وإقباض البدل عند التلف، ويشمل المال والعرض والقصاص، فلا بد في القصاص وحد القذف من التمكين أو طلب
العفو، فإن لم يعلم وجب إعلامه بالقصاص فيقول: أنا الذي قتلت أباك ولزمني القصاص فاقتص إن شئت، وكذلك
حد القذف. وأما الغيبة فإن بلغت المغتاب اشترط أن يأتيه ويستحل منه، فإن تعذر بموته أو تعسر لغيبته الطويلة استغفر
الله تعالى. ولا اعتبار بتحليل الورثة، وإن لم تبلغه كفى الندم والاستغفار كما قاله الحناطي في فتاويه، ويظهر أنها إذا بلغته
بعد ذلك أنه لا بد من استحلاله إن أمكن، لأن العلة موجودة وهو الايذاء. وهل يكفي الاستحلال من الغيبة
المجهولة؟ قال في زيادة الروضة: فيه وجهان سبقا في كتاب الصلح اه‍. ولكنهما إنما سبقا في كتاب الضمان ولم نرجح
منهما شيئا ورجح في الأذكار عدم الاكتفاء. والوجهان كالوجهين في الابراء من المجهول، قال الشيخ عماد الدين
الحسباني: وقد يقال بالمسامحة في ذلك بخلاف الأموال، وفي كلام الحليمي وغيره الاقتصار على الجواز، وحديث
كلام الأذكار في باب الضمان، ولكن الفرق بينهما وبين الأموال أظهر. والحسد وهو أن يتمنى زوال نعمة ذلك
الشخص ويفرح بمصيبته كالغيبة كما نقلاه عن العبادي فيأتي فيه ما مر فيها، قال في زيادة الروضة: المختار، بل الصواب،
أنه لا يجب إخبار المحسود ولو قيل بكراهته لم يبعد. التنبيه الثاني: قضية إطلاقه رد الظلامة توقف التوبة في القصاص على
تسليم نفسه، ولكن الذي نقله في زيادة الروضة عن الإمام وأقره إن القاتل إذا ندم صحت توبته في حق الله تعالى قبل
أن يسلم نفسه للقصاص، وكان تأخر ذلك معصية أخرى تجب التوبة منها ولا يقدح في الأولى. التنبيه الثالث: كان ينبغي
له أن يقول حيث أمكن لئلا يوهم أنها لا تصح عند تعذر الرد، قال الزركشي: فينبغي أن يكون قوله: إن تعلقت بآدمي
أعم مما تمحض حقا له أو لم يتمحض وفيه حق الله تعالى، كالزكاة إذا تمكن من إخراجها فلم يفعل وكذا
الكفارات،
قاله البندنيجي، والمراد التي يجب إخراجها على الفور وحينئذ فلا يقال إن تقييده بالآدمي يخرج حقوق الله تعالى
كالزكاة. التنبيه الرابع: أن مقتضى كلامه أن المعصية القولية لا يشترط فيها ذلك بل يكفي القول، وليس مرادا بل الثلاثة
الأول ركن في التوبة لكل معصية قولية كانت أو فعلية. وإذا تعلق بالمعصية حد لله تعالى كالزنا وشرب المسكر فإن
لم يظهر عليه أحد فله أن يظهره ويقربه ليستوفي منه، وله أن يستر على نفسه وهو الأفضل، فإن ظهر فقد فات الستر
فيأتي الحاكم ويقربه ليستوفي منه. التنبيه الخامس: أن كلامهم يقتضي أنه لا يكفي في انتفاء المعصية استيفاء الحد، بل
لا بد معه من التوبة، وقد قدمت الكلام على ذلك في أول كتاب الجراح فليراجع. التنبيه السادس: من مات وله
ديون أو مظالم ولم تتصل إلى الورثة طالب بها في الآخرة لا آخر وارث كما قيل، وإن دفعها إلى الوارث أو أبرأه كما قاله
القاضي خرج عن مظلمة غير المطل. التنبيه السابع: تجب التوبة من المعصية ولو صغيرة على الفور بالاتفاق، وتصح من
ذنب دون ذنب، وإن تكررت وتكرر العود لا تبطل به، بل هو مطالب بالذنب الثاني دون الأول ولا يجب عليه تجديد
التوبة كلما ذكر الذنب كما رجحه ابن المقري. التنبيه الثامن: أن من شروط التوبة زيادة على ما مر كونها لله تعالى،
فلو تاب عن معصية مالية لفقره أو شحه أو نحو ذلك لم تصح توبته، وكونها قبل وصوله إلى الغرغرة أو الاضطرار بظهور
الآيات كطلوع الشمس من مغربها، قاله البلقيني. التنبيه التاسع: أن سقوط الذنب بالتوبة مظنون لا مقطوع به. وسقوط
الكفر بالاسلام مع الندم مقطوع به وتائب بالاجماع. قال في أصل الروضة: وليس إسلام الكافر توبة من كفره،
وإن توبته ندمه على كفره، ولا يتصور إيمانه بلا ندم فيجب مقارنة الايمان للندم على الكفر اه‍. وإنما كان توبة الكافر
مقطوعا بها لأن الايمان لا يجامع الكفر والمعصية قد تجامع التوبة.
فصل: في بيان ما يعتبر فيه شهادة الرجال وتعدد الشهود وما لا يعتبر فيه ذلك مع ما يتعلق بهما: (لا يحكم بشاهد)
440

واحد (إلا في هلال) شهر (رمضان)، فيحكم به فيه (في الأظهر) لما مر في كتاب الصيام. فإن قيل: لم يذكرها
هنا مع تقدمه؟ أجيب بأنه ذكره هنا لبيان الحصر. وأورد على الحصر مسائل: منها ما لو نذر صوم رجل مثلا فشهد
واحد برؤيته فهل يجب الصوم إذا قلنا يثبت به رمضان؟ حكى ابن الرفعة فيه وجهين عن البحر، ورجح ابن المقرى
في كتاب الصيام الوجوب. ومنها ما في المجموع آخر الصلاة على الميت عن المتولي أنه لو مات ذمي فشهد عدل بإسلامه
لم يكف في الإرث، وفي الاكتفاء به في الصلاة عليه وتوابعها وجهان بناه على القولين في هلال رمضان،
ومقتضاه ترجيح
القبول، وهو الظاهر، وإن أفتى القاضي حسين بالمنع. ومنها ما سبق في المتن في باب القسامة أن شهادة العدل الواحد
لوث. ومنها ما سبق فيه أيضا في زكاة النبات الاكتفاء بخارص واحد، أي على القول بأن الخرص شهادة. ومنها ثبوت
هلال ذي الحجة بالعدل الواحد، فإن فيه وجهين حكاهما الدارمي والقاضي الحسين بالنسبة إلى الوقوف بعرفة والطواف
ونحو ذلك، قال الأذرعي: والقياس القبول، وإن كان الأشهر خلافه. ومنها ثبوت شوال بشهادة العدل الواحد
بطريق التبعية فيما إذا ثبت رمضان بشهادته ولم ير الهلال بعد الثلاثين فإنا نفطر في الأصح. ومنها ما مر في كتاب
القضاء أنه يكفي قول العون بامتناع الغريم من الحضور في التعزير. ومنها المسمع للخصم كلام القاضي أو الخصم يقبل
فيه الواحد، وهو من باب الشهادة، كذا ذكره الرافعي قبيل القضاء على الغائب. (ويشترط للزنا أربعة رجال) لقوله تعالى
: * (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء) * ولما في صحيح مسلم عن سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه:
أنه قال لرسول الله (ص): لو وجدت مع امرأتي رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال: نعم ولأنه لا يقوم إلا من
اثنين فصار كالشهادة على فعلين، ولان الزنا من أغلظ الفواحش فغلظت الشهادة ليكون أستر. وإنما تقبل
شهادتهم بالزنا إذا قالوا: حانت منا التفاتة، فرأينا أو تعمدنا النظر لإقامة الشهادة، فإن قالوا: تعمدنا لغير الشهادة فسقوا
بذلك وردت شهادتهم جزما كما قاله الماوردي، وإن أطلقوا لم أر من تعرض له، وينبغي أن يستفسروا إن تيسر، وإلا فلا
يعمل بشهادتهم كما يؤخذ من الحصر المتقدم في قبول شهادتهم. ومحل ما قاله الماوردي إذا تكرر ذلك منهم ولم تغلب
طاعاتهم على معاصيهم وإلا فتقبل شهادتهم لأن ذلك صغيرة. ولا بد أن يقولوا: رأيناه أدخل حشفته أو قدرها من فاقدها
في فرجها، وإن لم يقولوا كالمرود في المكحلة أو كالإصبع في الخاتم. والثاني: يثبت برجلين، ومقتضى كلام القاضي
أنه لا خلاف فيه. تنبيه: اللواط في ذلك كالزنا، وكذا إتيان البهيمة على المذهب المنصوص في الام، قال في زيادة الروضة
: لأنه كالجماع ونقصان العقوبة فيه لا يمنع من العدد كما في زنا الأمة. قال البلقيني: ووطئ الميتة لا يوجب الحد على الأصح،
وهو كإتيان البهيمة في أنه لا يثبت إلا بأربعة على المعتمد اه‍. وخرج بما ذكر وطئ الشبهة إذا قصد بالدعوى به
المال أو شهد به حسبة ومقدمات الزنا كقبلة ومعانقة فلا يحتاج إلى أربعة، بل الأول بقيده الأول يثبت مما يثبت به
المال، وسيأتي، ولا يحتاج فيه إلى ذكر ما يعتبر في شهادة الزنا من قول الشهود: رأيناه أدخل حشفته الخ. (و)
يشترط (للاقرار به) أي الزنا (اثنان في الأظهر) كغيره من الأقارير، ومثله ما شبه به مما ذكر. (وفي
قول أربعة)
كفعله. وأجاب الأول بأن المقر لا يتحتم حده بخلاف المعاين، فلذلك غلظت بينته. (و) يشترط (لمال) عين أو دين
(وعقد مالي) وفسخه (كبيع وإقالة وحوالة وضمان) وصلح ورهن وشفعة ومسابقة وحصول السبق، (وحق مالي
كخيار) لمجلس أو شرط (وأجل) وجناية توجب مالا (رجلان أو رجلا وامرأتان) لعموم قوله تعالى: * (واستشهدوا) *
أي فيما يقع لكم * (شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) * فكان عموم الاشخاص فيه
مستلزما لعموم الأحوال المخرج منه بدليل ما يشترط فيه الأربعة وما لا يكتفي فيه بالرجل والمرأتين، والمعنى في تسهيل
ذلك كثرة جهات المداينات وعموم البلوى بها. وفهم من التخيير قبول المرأتين مع وجود الرجلين، وحكى ابن المنذر
وغيره الاجماع وإن كان ظاهر الآية غير مراد، والخنثى هنا كالأنثى.
441

تنبيه: شمل إطلاقه الشركة والقراض، لكن رجحا في الشرح والروضة اشتراط رجلين. قال ابن الرفعة:
وينبغي أن يقال: إن رام مدعيهما إثبات التصرف فهو كالوكيل لا بد فيه من شاهدين، أو إثبات حصته من الربح ثبت
برجل وامرأتين، إذ المقصود المال. وهو تفصيل حسن. واقتصار المصنف على العقد المالي قد يوهم أن الفسوخ ليست
كذلك، وليس مرادا. وجعله الإقالة من أمثلة العقد إنما يأتي على الوجه الضعيف أنها بيع، والأصح أنها فسخ. وعطفه
الحوالة على البيع لا حاجة إليه فإنها بيع دين بدين. فلو قال وعقد مالي وزاد وفسخه كما قدرته في كلامه كان أولى. (ولغير
ذلك) أي ما ذكر من الزنا ونحوه، وما ليس بمال ولا يقصد منه المال (من) موجب (عقوبة لله تعالى) كالردة وقطع الطريق
والشرب، (أو) من عقوبة (لآدمي) كقتل نفس وقطع طرف وقذف، (و) كذا (ما يطلع عليه رجال غالبا) من غير العقوبات
(كطلاق ونكاح ورجعة) وعتاق وولاء وانقضاء عدة بالأشهر وبلوغ وإيلاء وظهار (وإسلام وردة وجرح) للشاهد
(وتعديل) له (وموت وإعسار ووكالة ووصاية وشهادة على شهادة: رجلان) لأنه تعالى نص على شهادة الرجلين في
الطلاق والرجعة والوصاية، وتقدم خبر: لا نكاح إلا بولي وشاهد عدل. وروى مالك عن الزهري: مضت السنة بأنه
لا تجوز شهادة النساء في الحدود ولا في النكاح والطلاق. وقيس بالمذكورات غيرها مما شاركها في الشرط المذكور. ولا
نظر إلى رجوع الوكالة والوصاية إلى مال، لأن القصد منها الولاية لا بالمال.
تنبيه: يستثنى من النكاح ما لو ادعت أنه نكحها وطلقها وطلبت شطر الصداق، أو أنها زوجة فلان الميت وطلبت
الإرث، فيثبت ما ادعته برجل وامرأتين وبشاهد ويمين وإن لم يثبت النكاح بذلك، لأن مقصودها المال كما حكياه في
الشرح والروضة في آخر الدعاوى عن فتاوى القفال وأقراه، وإن نازع في ذلك البلقيني وقال إنه غير معمول به. ومن
الطلاق ما لو كان بعوض وادعاه الزوج فإنه يثبت بشاهد ويمين، ويلغز به فيقال: لنا طلاق ثبت بشاهد ويمين. ومن
الاسلام ما لو ادعاه واحد من الكفار قبل أسره وأقام رجلا وامرأتين فإنه يكفيه، لأن المقصود نفي الاسترقاق والمفاداة
دون نفي القتل، ذكره الماوردي. وحكى في البحر عن الصيمري أنه يقبل شاهد وامرأتان وشاهد ويمين من الوارث أن
مورثه توفي على الاسلام أو الكفر، لأن القصد منه إثبات الميراث ثم استغربه. (وما يختص بمعرفته النساء) غالبا (أو
لا يراه رجال غالبا كبكارة) وثيوبة وقرن ورتق (وولادة وحيض ورضاع وعيوب) للنساء (تحت الثياب) كجراحة على
فرجها حرة كانت أو أمة، واستهلال ولد، (يثبت بما سبق) أي برجلين ورجل وامرأتين، (وبأربع نسوة) مفردات لما
رواه ابن أبي شيبة عن الزهري: مضت السنة بأنه تجوز شهادة النساء فيما لا يطلع عليه غيرهن من ولادة النساء وعيوبهن،
وقيس بما ذكر غيره مما شاركه في الضابط المذكور وإذا قبلت شهادتهن في ذلك منفردات، فقبول الرجلين والرجل
والمرأتين أولى.
تنبيه: تمثيل المصنف بالحيض صريح في إمكان إقامة البينة عليه، قال الزركشي: وهو الصواب بخلاف ما ذكر
في كتاب الطلاق أنه لو علق على حيضها فقالت: حضت وأنكر صدقت بيمينها لتعذر إقامة البينة عليه، فإن الدم وإن
شوهد لا يعلم أنه حيض لاحتمال أنه استحاضة، وصرحا بمثله في الديات. وينبغي كما قال ابن شهبة حمله على تعسر
إقامة البينة عليه، لا التعذر بالكلية فلا منافاة. وذكر المصنف في فتاويه أنها تقبل من النسوة لممارستهن ذلك، ونقله
عن ابن الصباغ والبغوي وأنه لا خلاف فيه، لكن قضية تعليله أنه لا يثبت برجلين، ولا برجل وامرأتين، وليس
مرادا. وقيد القفال وغيره مسألة الرضاع بما إذا كان الرضاع من الثدي، فإن كان من إناء حلب فيه اللبن لم تقبل شهادة
442

النساء به، لكن تقبل شهادتهن بأن هذا اللبن من هذه المرأة، لأن الرجال لا يطلعون عليه غالبا. واحترز بقوله: تحت
الثياب عما نقله في الروضة عن البغوي وأقره أن العيب في وجه الحرة وكفيها لا يثبت إلا برجلين، وفي وجه الأمة وما
يبدو عند المهنة يثبت برجل وامرأتين، لأن المقصود منه المال. فإن قيل: هذا وما قبله إنما يأتيان على القول بحل النظر
إلى ذلك، أما ما صححه الشيخان في الأولى والمصنف في الثانية من تحريم ذلك فتقبل النساء فيه مفردات. أجيب بأن الوجه
والكفين يطلع عليهما الرجال غالبا وإن قلنا بحرمة نظر الأجنبي، لأن ذلك جائز لمحارمها وزوجها، ويجوز
نظر الأجنبي
لوجهها لتعليم ومعاملة وتحمل شهادة. وقد قال الولي العراقي: أطلق الماوردي نقل الاجماع على أن عيوب النساء في
الوجه والكفين لا يقبل فيها إلا الرجال، ولم يفصل بين الأمة والحرة، وبه صرح القاضي حسين فيهما اه‍. أي فلا
تقبل النساء الخلص في الأمة لما مر أنه يقبل فيها رجل وامرأتان لما مر. وقول المصنف: وما يختص بمعرفته النساء غالبا
الخ يفهم أن الاقرار بما يختص بمعرفتهن لا يكفي فيه شهادة النسوة، وهو كذلك، لأن الرجال تسمعه غالبا كسائر الأقارير.
وقوله فيما سبق: وبأربع نسوة يقتضي أنه لا يثبت بشاهد ويمين، وهو كذلك كما صرح به الماوردي في الرضاع، قال
الرافعي: وهو الموافق لاطلاق عامة الأصحاب. ولو اقتصر المصنف على أربع لعلم اختصاص ذلك بالنسوة، لأن
التاء لا تثبت مع المعدود المؤنث. وأما الخنثى فيحتاط في أمره على المرجح فلا يراه بعد بلوغه رجال ولا نساء، وفي
وجه يستصحب حكم الصغر عليه. ويشترط في الشاهد بالعيوب المعرفة بالطب كما حكاه الرافعي في التهذيب. ثم أشار
المصنف لضابط يعرف به ما يثبت بشاهد ويمين وما لا يثبت بهما، فقال: (و) كل (ما لا يثبت) من الحقوق (برجل وامرأتين
لا يثبت برجل ويمين) لأن الرجل والمرأتين أقوى، وإذا لم يثبت بالأقوى لا يثبت بما دونه. فإن قيل: يرد على
المصنف اللوث في قتل عمد، فإنه يكفي فيه شاهد ويمين متعددة ولا يثبت برجل وامرأتين. أجيب بأنه أراد اليمين
المتحدة لا المتعددة. (و) كل (ما ثبت بهم) أي برجل وامرأتين، وأتى بالضمير مذكرا تغليبا له على المؤنث، (ثبت
برجل ويمين) لما رواه مسلم وغيره: أنه (ص) قضى بالشاهد واليمين، وروى البيهقي في خلافياته حديث:
أن النبي (ص) قضى بشاهد ويمين عن نيف وعشرين صحابيا، قال الزركشي وبه يندفع قول الحنفية
أنه خبر واحد فلا ينسخ القرآن اه‍. والقضاء بالشاهد واليمين قال به جمهور العلماء سلفا وخلفا منهم الخلفاء الأربعة،
وكتب به عمر بن عبد العزيز إلى عماله في جميع الأمصار، وهو مذهب الإمام مالك وأحمد، وخالف في ذلك أبو حنيفة
رضي الله تعالى عنهم أجمعين. (إلا عيوب النساء ونحوها) بنصب نحو بخطه عطفا على عيوب كرضاع، فإنها لا تثبت
بشاهد ويمين، لأنها أمور خطرة بخلاف المال.
تنبيه: ينبغي كما قال الدميري تقييد إطلاقه بالحرة، أما الأمة فيثبت فيها بذلك قطعا لأنها مال، وبذلك جزم
الماوردي وأورد على حصره الاستثناء فيما ذكره الترجمة في الدعوى بالمال أو الشهادة به فإنها تثبت برجل وامرأتين
ولا مدخل للشاهد واليمين فيها لأن ذلك ليس بمال، وإنما هو إخبار عن معنى لفظ المدعي أو الشاهد. (ولا يثبت شئ)
من الحقوق (بامرأتين ويمين) في المال جزما وفيما يقبل فيه النسوة منفردات في الأصح لعدم ورود وقيامهما
مقام
رجل في غير ذلك لوروده. ثم شرع في شرط مسألة الاكتفاء بشاهد ويمين بقوله: (وإنما يحلف المدعي) فيها (بعد شهادة
شاهد، و) بعد (تعديله) لأنه إنما يتقوى جانبه حينئذ، واليمين أبدا في جانب القوي. وفارق عدم اشتراط تقدم شهادة
الرجل على شهادة المرأتين بقيامهما مقام الرجل قطعا، ولا ترتيب بين الرجلين.
تنبيه: هل القضاء بالشاهد واليمين معا أو بالشاهد فقط واليمين مؤكدة أو بالعكس؟ أقوال أصحها أولها،
وتظهر فائدة الخلاف فيما لو رجع الشاهد، فعلى الأول يغرم النصف، وعلى الثاني الكل، وعلى الثالث لا شئ عليه.
443

(ويذكر) حتما (في حلفه صدق الشاهد) له واستحقاقه لما ادعاه، فيقول: والله شاهدي صادق فيما شهد به، وأنا
مستحق لكذا.
تنبيه: علم من تعبير المصنف بالواو أنه لا ترتيب بين الحلف على إثبات الحق وصدق الشاهد، وحكى الإمام
فيه الاتفاق، وإنما اعتبر تعرضه في يمينه لصدق شاهده لأن اليمين والشهادة حجتان مختلفتا الجنس، فاعتبر ارتباط
إحداهما بالأخرى ليصيرا كالنوع الواحد. (فإن ترك) المدعي (الحلف) بعد شهادة شاهده (وطلب يمين خصمه فله
ذلك) لأنه قد يتورع عن اليمين، فإن حلف سقطت الدعوى، وليس له أن يحلف بعد ذلك مع شاهده كما نقله الرافعي
عن ابن الصباغ، بخلاف ما لو أقام بينة بعد يمين المدعى عليه حيث تسمع، لأن البينة قد يتعذر عليه إقامتها فعذر، واليمين
إليه بعد شهادة الشاهد الواحد، فلا عذر له في الامتناع. (فإن نكل) المدعى عليه عن اليمين، (فله) أي المدعي (أن
يحلف يمين الرد في الأظهر) كما لو لم يكن له شاهد ونكل المدعى عليه لأنها غير التي امتنع عنها، لأن تلك لقوة جهته
بالشاهد وهذه لقوة جهته بنكول المدعى عليه، ولان تلك لا يقضى بها إلا في المال وهذه يقضى بها في جميع الحقوق.
والثاني: المنع، لأنه ترك الحلف فلا يعود إليه، وعورض بما مر. وعلى الأول لو لم يحلف سقط حقه من اليمين، وليس له
مطالبة الخصم كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الدعاوى. (ولو كان بيده) أي شخص (أمة وولدها) يسترقهما،
(فقال) له (رجل: هذه مستولدتي علقت) مني (بهذا) الولد (في ملكي وحلف مع شاهد) بذلك، (ثبت
الاستيلاد) لأن حكم المستولدة حكم المال فتنزع ممن هي في يده وتسلم إليه كغيرها من الأموال، وإذا مات حكم بعتقها
بإقراره لا بالشاهد واليمين كما توهمه عبارة الكتاب والروضة، لأن الاستيلاد لا يثبت بالحجة الناقصة. فإن قيل: لا بد أن
يقول في الدعوى: وهي باقية على ملكي على حكم الاستيلاد إلى الآن لاحتمال أن يكون ملكه زال عنها ببيع بعد
استيلادها بأن استولدها وهي مرهونة رهنا لازما ولم يأذن له المرتهن في الوطئ وكان معسرا فإنه لا ينفذ الاستيلاد في
حق المرتهن، وكذا الجانية. أجيب بأن هذا احتمال بعيد لا يعول عليه في الدعوى. (لا نسب الولد وحريته) فلا
يثبتان بالشاهد واليمين (في الأظهر) لأنهما حجة ناقصة. والثاني: يثبتان تبعا فينزع ممن هو في يده ويكون حرا نسبيا
بإقرار المدعي. وعلى الأول يبقى الولد في يد صاحب اليد. وفي ثبوت نسبه من المدعي بالاقرار ما مر في بابه، فقال
الرافعي: مقتضاه أنه إن كان صغيرا لم يثبت محافظة على حق الولاء للسيد، أو بالغا وصدقه ثبت في الأصح. (ولو كان بيده
غلام) يسترقه (فقال) له (رجل: كان لي) هذا الغلام (وأعتقته) وأنت تسترقه ظلما، (وحلف مع شاهد)
بذلك أو شهد له رجل وامرأتان بذلك، (فالمذهب انتزاعه) من يده (ومصيره حرا) لا بالشهادة كما هو ظاهر كلامه
بل بإقراره كما نص عليه، وإن تضمن استلحاقه الولاء لأنه تابع. ومنهم من خرج قولا من مسألة الاستيلاد بنفي ذلك
فجعل في المسألة قولين، ومنهم من قطع بالأول وهو الراجح في أصل الروضة. والفرق أن المدعي هنا يدعي ملكا وحجته
تصلح لاثباته، والعتق يترتب عليه بإقراره. (ولو ادعت ورثة) الميت كلهم أو بعضهم (مالا) عينا أو دينا أو منفعة
(لمورثهم وأقاموا) عليه (شاهدا) بالمال بعد أن أثبتوا موته ووراثتهم منه، (وحلف معه بعضهم أخذ) الحالف
(نصيبه) فقط، (ولا يشارك فيه) أي لا يشاركه أحد ممن لم يحلف لا من الغائبين ولا من الحاضرين الناكلين، لأن
الحجة تمت في حقه وحده. كذا نص عليه هنا، ونص في الصلح أنهما لو ادعيا دارا أو إرثا وصدق المدعى عليه أحدهما
444

في نصيبه وكذب الآخر شارك المكذب المصدق، فخرج بعضهم منه قولا هنا أن ما يأخذه الحالف يشارك فيه من لم
يحلف لأن الإرث يثبت على الشيوع، وقطع الجمهور بالمنصوص هنا، وفرقوا بأن الثبوت هنا بشاهد ويمين، فلو أثبتنا
الشركة لملكنا الشخص بيمين غيره وهناك الثبوت بإقرار المدعى عليه، ثم ترتب عليه إقرار المصدق بأنه إرث، وبأن
الممتنع هنا قادر على الوصول إلى حقه بيمينه، فحيث لم يفعل صار كالتارك لحقه.
تنبيه: كلام المصنف يشعر بأن بعض الورثة يحلف على حصته من المال، وليس مرادا، بل يحلف على الجميع
كما في أصل الروضة عن أبي الفرج، ثم قال: وفي كلام غيره إشعار بخلافه. (ويبطل حق من لم يحلف بنكوله) عن
اليمين مع الشاهد، (إن حضر) في البلد بحيث يمكن تحليفه (وهو كامل) ببلوغ وعقل، حتى لو مات بعد نكوله لم
يكن لوارثه أن يحلف مع ذلك الشاهد ولا مع شاهد آخر يقيمه. وهل له ضم شاهده إلى الأول ليحكم له بالبينة؟ فيه
احتمالان للإمام جاريان فيما لو أقام مدع شاهدا معه في خصومة ثم مات وأقام وارثه شاهدا آخر يجوز أن يقال له البناء،
ويجوز أن يقال عليه تجديد الدعوى وإقامة البينة الأولى؟ وقضية كلام الإمام الجزم بالأول. أما إذا مات قبل نكوله
فلوارثه الحلف، قال الماوردي والإمام: إن لم يصدر من مورثه ما يبطل حقه ولا يجب إعادة الشهادة. (فإن كان) من
لم يحلف (غائبا أو صبيا أو مجنونا فالمذهب أنه لا يقبض نصيبه) لأن الشافعي رضي الله تعالى عنه نص في المجنون على
أنه يوقف نصيبه، وفي معناه الصبي والغائب. واختلف الأصحاب في معنى النص، فقال جمهورهم: أراد التوقف
عن الحكم له إلى إفاقته فيحلف ويأخذ أو يمتنع فلا يعطى شيئا، وعلى هذا فلا ينزع من يد المدعى عليه. وقيل: أراد
أنه يأخذ نصيبه من المدعى عليه ويوقف الدفع إليه على حلفه. (فإذا زال عذره) بأن حضر الغائب وبلغ الصبي وأفاق المجنون،
(حلف وأخذ) حصته (بغير إعادة شهادة) واستئناف دعوى، لأن الدعوى والشاهد للميت قد وجدا بإقامة الكامل من
الورثة خلافة عن الميت. وهذا بخلاف ما لو كانت الدعوى لا عن جهة الإرث، كما لو ادعى أنه أوصى له ولأخيه الغائب
أو الصبي أو المجنون أو اشتريت أنا وأخي الغائب منك كذا وأقام شاهدا وحلف معه فإنه لا بد هناك من تجديد الدعوى
والشهادة إذا بلغ الصبي أو أفاق المجنون أو قدم الغائب، ولا يؤخذ نصيب الصبي أو المجنون أو الغائب قطعا، لأن الدعوى
في الميراث عن الميت وهو واحد، والوارث خليفته وفي غيره الحق لاشخاص، فلا يدعي ويقيم البينة لهم من
غير إذن ولا ولاية. قالا: وينبغي أن يكون الحاضر الكامل الذي لم يشرع في الخصومة أو لم يشعر بالحال كالصبي
ونحوه في بقاء حقه، بخلاف ما مر في الكامل.
تنبيه: محل ما ذكره المصنف من عدم الإعادة إذا لم يتغير حال الشاهد بما يقتضي رد شهادته، فإن تغير فوجهان،
أوجههما كما رجحه الأذرعي المنع، لأن الحكم قد اتصل بشهادته دون الحالف. ومحل موضع عدم الحاجة إلى إعادة
الشهادة في حالتي تغير الشاهد وعدمه كما قاله الزركشي: فيما إذا كان الأول قد ادعى بجميع الحق، أما لو كان قد ادعى
بحصته فقط فلا بد من الإعادة. ثم شرع في بيان مستند علم الشاهد من البناء على اليقين والعلم، فقال: (ولا تجوز شهادة
على فعل كزنا) وشرب خمر (وغصب وإتلاف وولادة) ورضاع واصطياد وإحياء وكون اليد على مال، (إلا بالابصار)
له مع فاعله، لأنه يصل به إلى العلم واليقين فلا يكفي فيه السماع من الغير، قال تعالى: * (ولا تقف ما ليس لك به علم) *،
وقال (ص): على مثلها فاشهد. إلا أن من الحقوق ما اكتفى فيه بالظن المؤكد لتعذر اليقين فيه وتدعو
الحاجة إلى إثباته، كالملك فإنه لا سبيل إلى معرفته يقينا، وكذلك العدالة والاعسار.
تنبيه: أورد البلقيني صورا يقبل فيها شهادة الأعمى على الفعل، الأولى: الزنا، إذا وضع يده على ذكر داخل
في فرج امرأة أو دبر صبي مثلا فأمسكهما ولزمهما حتى شهد عند الحاكم بما عرفه بمقتضى وضع اليد فهذا أبلغ من
445

الرؤية. الثانية: الغصب والاتلاف، لو جلس الأعمى على بساط لغيره فغصبه غاصب أو أتلفه فأمسكه الأعمى في تلك الحالة والبساط
وتعلق حتى شهد بما عرفه جاز. الثالثة: الولادة، إذا وضعت العمياء يدها على قبل المرأة وخرج منها الولد وهي واضعة
يده على رأسه إلى تكامل خروجه وتعلقت بهما حتى شهدت بولادتها مع غيرها قبلت شهادتها. (وتقبل) في الفعل (من
أصم) لابصاره، ويجوز تعمد النظر لفرجي الزانيين لتحمل الشهادة كما مرت الإشارة إليه، لأنهما هتكا حرمة أنفسهما.
وسكت عن الأخرس، وسبق حكم شهادته عند ذكر شروط الشاهد. (والأقوال كعقد) وفسخ وطلاق وإقرار، (يشترط)
في الشاهد بها (سمعها) فلا تقبل من أصم بها، (وإبصار قائلها) حال تلفظه بها حتى لو نطق بها من وراء حجاب وهو
يتحققه لم يكف، وما حكاه الروياني عن الأصحاب من أنه لو جلس بباب بيت فيه اثنان فقط فسمع تعاقدهما بالبيع
وغيره كفى من غير رؤية زيفه البندنيجي بأنه لا يعرف الموجب من القابل، قال الأذرعي: وقضية كلامه أنه لو عرف
هذا من هذا أنه يصح التحمل، ويتصور ذلك بأن يعرف إن المبيع ملك أحدهما كما لو كان الشاهد يسكن بيتا ونحوه
لأحدهما أو كان جاره فسمع أحدهما يقول بعني بيتك الذي يسكنه فلان الشاهد أو الذي في جواره أو علم أن القابل في
زاوية والموجب في أخرى، أو كان كل واحد منهما في بيت بمفرده والشاهد جالس بين البيتين وغير ذلك. قال الحسباني:
ولو كان أحدهما في البيت وحده والآخر معه على بابه وهو عالم أنه ليس في البيت غيره جاز له الشهادة عليه بما سمعه
من الاقرار وإن لم يشاهده حالة النطق. (ولا يقبل) شهادة (أعمى) فيما يتعلق بالبصر لجواز اشتباه الأصوات، وقد
يحاكي الانسان صوت غيره، (إلا) صورة الضبط، وهي (أن يقر) شخص (في أذنه) بنحو طلاق أو عتق أو مال
لشخص معروف الاسم والنسب، (فيتعلق) الأعمى (به) ويضبطه (حتى يشهد) عليه بما سمعه منه (عند قاض به)
فيقبل (على الصحيح) لحصول العلم بأنه المشهود عليه. والثاني: المنع حسما للباب.
تنبيه: تقدم أنه يصح أن يكون الأعمى مترجما أو مسمعا. وسيأتي أنه يصح أن يشهد بما يثبت بالتسامع إن لم
يحتج إلى تعيين. وإشارة بأن يكون الرجل مشهورا باسمه وصفته. وله أن يطأ زوجته اعتمادا على صوتها للضرورة،
ولان الوطئ يجوز بالظن. ولا يجوز أن يشهد على زوجته اعتمادا على صوتها كغيرها خلافا لما بحثه الأذرعي من قبول
شهادته عليها اعتمادا على ذلك. (ولو حملها) أي الشهادة في محتاج للبصر (بصير ثم عمي شهد إن كان المشهود له وعليه
معروفي الاسم والنسب) لامكان الشهادة عليهما، فيقول: أشهد أن فلان ابن فلان أقر لفلان ابن فلان بكذا، بخلاف مجهولهما أو
أحدهما أخذا من مفهوم الشرط. نعم لو عمي، أو يدهما ويد المشهود عليه في يده فشهد عليه في الأولى مطلقا مع
تمييزه له من خصمه، وفي الثانية لمعروف الاسم والنسب، قبلت شهادته كما بحثه الزركشي في الأولى، وصرح به
في أصل الروضة في الثانية. (ومن سمع قول شخص أو رأى فعله، فإن عرف عينه واسمه ونسبه شهد عليه في حضوره
إشارة) لا باسمه ونسبه فقط كما لو لم يعرف بهما، (وعند غيبته وموته) ودفنه (باسمه ونسبه) لحصول التمييز بذلك.
(فإن جهلهما) أي اسمه ونسبه أو أحدهما، (لم يشهد عند موته) ودفنه (وغيبته) فإن مات ولم يدفن أحضر ليشاهد
صورته ويشهد على عينه. وهذا كما قال الأذرعي إن كان بالبلد ولم يخش تغيره بإحضاره، وإلا فالوجه
حضور الشاهد إليه، فإن دفن لم يحضر إذ لا يجوز نبشه. قال الغزالي: فإن اشتدت الحاجة إليه ولم تتغير صورته جاز
نبشه اه‍. قال في أصل الروضة: وهذا احتمال ذكره الإمام، ثم قال: والأظهر أنه لا فرق. والمراد بالنسب اسم أبيه
وجده، فإن عرف اسمه واسم أبيه دون جده شهد بذلك ولم تفد شهادته به إلا إن ذكر للقاضي أمارات يتحقق بها
446

نسبه بأن يتميز بها عن غيره فله أن يحكم بشهادته حينئذ، كذا نقله في أصل الروضة عن الغزالي، ثم نقل عن غيره
ما يقتضي أنها لا تفيد لأنها شهادة على مجهول، وجمع بينهما الأسنوي بأن الأول فيما إذا حصلت المعرفة بذلك، والثاني
فيما إذا لم تحصل به. والحاصل أن المدار على المعرفة، ولو بمجرد لقب خاص به، كالشهادة على السلطان بقوله: أشهد على
سلطان الديار المصرية والشامية فلان فإنه يكفي، ولا يحتاج معه إلى شئ آخر، ولو كان بعد موته، ويدل لذلك قول
الرافعي بعد اشتراطه ذكر اسمه واسم أبيه وجده وحليته وصنعته: وإذا حصل الاعلام ببعض ما ذكرناه اكتفي به اه‍.
قال ابن شهبة: وبها يزول الاشكال في الشهادة على عتقاء السلطان والامراء وغيرهم، فإن الشهود لا تعرف أنسابهم
غالبا، فيكتفى بذكر أسمائهم مع ما يحصل التمييز به من أوصافهم، وعليه العمل عند الحكام، قال: وقد اعتمدت على
شهادة من شهد على فلان التاجر المتوفى في وقت كذا الذي كان ساكنا في الحانوت الفلاني إلى وقت وفاته وعلم أنه
لم يسكن في ذلك الحانوت في هذا الوقت غيره وحكمت بهذه الشهادة. وقال البلقيني: فالمدار على ذكر ما يعرف به كيفما
كان، قال: ومقتضى كلام الإمام أن للشهادة على مجرد الاسم قد تنفع عند الشهرة وعدم المشاركة، فلو تحملها على
من لم يعرفه وقال له: اسمي ونسبي كذا لم يعتمده، فلو استفاض اسمه ونسبه بعد تحملها عليه، فله أن يشهد
في غيبته
باسمه ونسبه كما لو عرفهما عند التحمل، وإن أخبره عدلان عند التحمل أو بعده باسمه ونسبه لم يشهد في غيبته بناء على
عدم جواز الشهادة على النسب بالسماع من عدلين كما هو الراجح كما سيأتي.
تنبيه: لو شهدا أن فلان ابن فلان وكل فلان ابن فلان كانت شهادة بالوكالة والنسب جميعا، قاله الماوردي
والروياني. (ولا يصح تحمل شهادة على متنقبة اعتمادا على صوتها) فإن الأصوات تتشابه، فمن لم يسمع صوته ولم يرها
بأن كانت من وراء ستر أولى بالمنع، ولا يمنع الحائل الرقيق على الأصح.
تنبيه: مراد المصنف والأصحاب بأنه لا يصح التحمل على المتنقبة ليؤدي ما تحمله اعتمادا على معرفة صوتها.
أما لو شهد اثنان أن امرأة متنقبة أقرت يوم كذا لفلان بكذا، فشهد آخران أن تلك المرأة التي حضرت وأقرت يوم
كذا هي هذه ثبت الحق بالبينتين، كما لو قامت بينة أن فلان ابن فلان الفلاني أقر بكذا وقامت أخرى على أن الحاضر هو
فلان ابن فلان ثبت الحق. ويستثنى من إطلاق المصنف ما لو تحقق صوتها من وراء نقاب كثيف ولازمها حتى أدى على
عينها كما أشار إليه الرافعي بحثا كنظيره من الأعمى. قال في المطلب: ولا إشكال فيه. وضبط المصنف متنقبة بمثناة
فوقية ثم نون مفتوحة ثم قاف مكسورة شديدة، وفي بعض شروح المتن ضبطه بنون ساكنة ثم مثناة فوقية
مفتوحة ثم قاف مكسورة خفيفة، وجرى على ذلك الشارح فقال: بنون ثم تاء، من انتقب كما في الصحاح. (فإن عرفها
بعينها، أو باسم ونسب جاز) التحمل عليها، ولا يضر النقاب، بل يجوز كشف الوجه حينئذ كما في الحاوي وغيره.
(ويشهد) المتحمل على المتنقبة (عند الأداء بما يعلم) مما ذكر فيشهد في العلم بعينها إن حضرت، وفي صورة
علمه باسمها ونسبها إن غابت أو ماتت ودفنت، فإن لم يعلم شيئا من ذلك كشف وجهها عند التحمل عليها وضبط
حليتها وكشفه أيضا عند الأداء. ويجوز استيعاب وجهها بالنظر للشهادة عند الجمهور، وصحح الماوردي أن ينظر
ما يعرفها به فقط فإن عرفها بالنظر إلى بعضه لم يتجاوزه. وهذا هو الظاهر، ولا يزيد على مرة، سواء قلنا بالاستيعاب
أم لا، إلا أن يحتاج للتكرار. (ولا يجوز التحمل عليها) أي المرأة متنقبة أم لا (بتعريف عدل أو عدلين) أنها
فلانة بنت فلان (على الأشهر) المعبر به في المحرر وفي الروضة وأصلها عند الأكثرين، بناء على أن المذهب في أن
التسامع لا بد فيه من جماعة يؤمن تواطؤهم على الكذب. وقيل: يجوز بتعريف عدل لأنه خبر، وقيل بتعريف
عدلين بناء على جواز الشهادة على النسب بالسماع منهما. (والعمل على خلافه) أي الأشهر وهو التحمل بما ذكر.
ولم يبين أن مراده العمل على التحمل بتعريف عدل فقط، وقد مر أنهما وجهان، وقد سبق للمصنف مثل هذه
447

العبارة في صلاة العيد، وهي تقتضي الميل إليه، ولم يصرحا بذلك في الشرح والروضة، بل نقلا عن الأكثرين المنع
وساقا الثاني مساق الأوجه الضعيفة. وقال البلقيني: ليس المراد بالعمل عمل الأصحاب، بل عمل بعض الشهود في بعض
البلدان، أي ولا اعتبار به. (ولو قامت بينة على عينه) أي المدعى عليه (بحق فطلب المدعي التسجيل) بذلك، (سجل
القاضي) عليه جوازا (بالحلية) فيكتب: حضر رجل ذكر أنه فلان ابن فلان ومن حليته كيت وكيت، ويذكر
ما يدل على المحلى من أوصافه الظاهرة كالطول والقصر والبياض والسواد والسمن والهزال وعجلة اللسان وثقله وما في العين
من الكحل والشهلة، وما في الشعر من جعودة وسبوطة وبياض وسواد ونحو ذلك. و (لا) يسجل القاضي بذلك
(بالاسم والنسب ما لم يثبتا) ببينة أو بعلمه، ولا يكفي فيهما قول المدعى، ولا إقرار من قامت عليه البينة، لأن نسب
الشخص لا يثبت بإقراره، ويثبتان ببينة حسبة، فإن ثبتا ببينة أو بعلمه سجل بهما. ونازع البلقيني في عدم ثبوت
نسب الانسان بإقراره وأطال الكلام في ذلك، ومع هذا فالمعول عليه ما ذكر. ثم شرع فيما لا يشترط فيه إبصار ثبوت
ويكفى فيه السماع، فقال: (وله الشهادة بالتسامع) أي الاستفاضة، (على نسب) لذكر أو أنثى، وإن لم يعرف عين
المنسوب إليه، (من أب) فيشهد أن هذا ابن فلان، أو أن هذه بنت فلان، (أو قبيلة) فيشهد أنه من قبيلة كذا،
لأنه لا مدخل للروية فيه، فإن غاية الممكن أن يشاهد الولادة على الفراش، وذلك لا يفيد القطع، بل الظاهر فقط،
والحاجة داعية إلى إثبات الأنساب إلى الأجداد المتوفين والقبائل القديمة فسومح فيه. قال ابن المنذر: وهذا مما لا أعلم
فيه خلافا.
تنبيه: ذكر الأب والقبيلة زائد على ما أطلقه المحرر. (وكذا أم) يثبت النسب بالتسامع (في الأصح) كالأب وإن
كان النسب في الحقيقة للأب. والثاني: المنع، لامكان رؤية الولادة.
تنبيه: صورة الاستفاضة في التحمل أن يسمع الشاهد المشهود بنسبه ينتسب إلى الشخص أو القبيلة، والناس
ينسبونه إلى ذلك، وامتد ذلك مدة، ولا يقدر بسنة، بل العبرة بمدة يغلب على الظن صحة ذلك. وإنما يكتفي بالانتساب
ونسبة الناس بشرط أن لا يعارضهما ما يورث تهمة، فإن أنكر النسب المنسوب إليه لم تجز الشهادة به، وكذا لو طعن
بعض الناس في نسبه، ولو سمعه يقول: هذا ابني لصغير أو كبير وصدقه الكبير، أو: أنا ابن فلان وصدقه فلان جاز له
أن يشهد بنسبه، ولو سكت المنسوب الكبير للشاهد أن يشهد بالاقرار لا بالنسب. (و) كذا (موت) يثبت بالتسامع
(على المذهب) كالنسب ولان أسبابه كثيرة، ومنها ما يخفى ومنها ما يظهر، وقد يعسر الاطلاع عليها، فجاز أن يعتمد
على الاستفاضة، وفي وجه من طريق المنع لأنه يمكن فيه المعاينة. و (لا) يثبت بالتسامع (عتق، و) لا (ولاء) ولا
(وقف) على جهة عامة أو معين (و) لا (نكاح، و) لا (ملك في الأصح) لأن مشاهدة هذه الصور متيسرة،
وأسبابها غير متعددة. (قلت: الأصح عند المحققين والأكثرين) من الأصحاب (في الجميع الجواز، والله أعلم) لأنها
أمور مؤبدة، فإذا طالت مدتها عسر إقامة البينة على ابتدائها فمست الحاجة إلى إثباتها بالاستفاضة، ولا يشك أحد أن
عائشة رضي الله تعالى عنها زوج النبي (ص)، وأن فاطمة رضي الله تعالى عنها بنت النبي (ص)،
ولا مستند غير السماع.
تنبيه: ما ذكر في الوقف هو بالنظر إلى أصله، وأما شروطه فقال المصنف في فتاويه: لا يثبت بالاستفاضة
شروط الوقف وتفاصيله، بل إن كان وقفا على جماعة معينين أو جهات متعددة قسمت الغلة بينهم بالسوية أو على مدرسة
مثلا وتعذرت معرفة الشروط صرف الناظر الغلة فيما يراه من مصالحها اه‍. قال الأسنوي: وهذا الاطلاق ليس بجيد،
بل الأرجح فيه ما أفتى به ابن الصلاح، فإنه قال: يثبت بالاستفاضة أن هذا وقف لأن فلانا وقفه. قال: وأما الشروط فإن
448

شهد بها منفردة لم تثبت بها، وإن ذكرها في شهادته بأصل الوقف سمعت لأنه يرجع حاصله إلى بيان كيفية الوقف اه‍.
وما قاله المصنف قال به ابن سرافة وغيره، والأوجه كما قال شيخنا حمله على ما قاله ابن الصلاح وهو شيخه كما قاله ابن
قاسم. قال الأسنوي: ولا شك أن المصنف لم يطلع عليه، أي ما قاله ابن الصلاح. وبقي مما يثبت بالاستفاضة صور
أخر: منها القضاء والجرح والتعديل والرشد والإرث واستحقاق الزكاة والرضاع، وتقدم بعض ذلك. وحيث ثبت النكاح
بالتسامع لا يثبت الصداق به، بل يرجع لمهر المثل، ولا يكفي الشاهد بالاستفاضة أن يقول: سمعت الناس يقولون هكذا،
وإن كانت شهادته مبنية عليها، بل يقول: أشهد أنه له أو أنه ابنه مثلا، لأنه قد يعلم أنه خلاف ما سمع من الناس، بل قال
ابن أبي الدم: لو صرح بذلك لم تقبل الشهادة على الأصح لأن ذكره يشعر بعدم جزمه بالشهادة. ويؤخذ من هذا التعليل
حمل هذا على ما إذا ظهر بذكره تردد في الشهادة، فإن ذكره لتقوية أو حكاية حال قبلت شهادته وهو ظاهر. وليس له
أن يقول أشهد أن فلانة ولدت فلانا وأن فلانا أعتق فلانا، لما مر أنه يشترط في الشهادة بالفعل الابصار، وبالقول
الابصار والسمع. (وشرط التسامع) الذي تستند الشهادة إليه في المشهود به، (سماعه) أي المشهود به (من جمع) كثير
(يؤمن تواطؤهم) أي توافقهم (على الكذب) بحيث يقع العلم أو الظن القوي بخبرهم كما ذكراه في الشرح
والروضة، لأن الأصل في الشهادة اعتماد اليقين، وإنما يعدل عنه عند عدم الوصول إليه إلى ظن يقرب منه على
حسب الطاقة.
تنبيه: قد يفهم كلامه أنه لا يشترط فيهم عدالة ولا حرية ولا ذكورة، وهو كذلك، كما لا يشترط في التواتر.
(وقيل يكفي) سماعه (من عدلين) فقط إذا سكن القلب إلى خبرهما، لأن الحاكم يعتمد قولهما، فكذا الشاهد،
ومال إليه الإمام. وقيل: يكفي واحد إذا سكن إليه القلب. (ولا تجوز الشهادة على ملك بمجرد يد) أو تصرف، لأن
اليد لا تستلزم الملك إذ قد يكون عن إجارة أو عارية. (ولا بيد وتصرف في مدة قصيرة) عرفا بلا استفاضة لاحتمال
أنه وكيل عن غيره. (وتجوز في) مدة (طويلة) عرفا بلا معارضة منازع (في الأصح) لأن امتداد اليد
والتصرف مع طول الزمان من غير منازع يغلب على الظن الملك. والثاني: لا يجوز، لأنهما قد يوجدان من مستأجر
ووكيل وغاصب.
تنبيه: محل الخلاف إذا لم ينضم إلى اليد والتصرف استفاضة وإلا جازت الشهادة قطعا. ويستثنى من إطلاقه
الرقيق، فليس لمن رأى صغيرا في يد من يستخدمه ويأمره وينهاه مدة طويلة أن يشهد له بملكه إلا أن يسمعه يقول: هو
عبدي أو يسمع الناس يقولون ذلك كما صححه في الروضة في أثناء باب اللقيط، قال ابن شهبة: وكان الفرق الاحتياط
في الحرية ووقع الاستخدام في الأحرار كثير. (و) التصرف المنضم إلى اليد (شرطه) في عقار (تصرف ملاك) فيه،
جمع مالك. وبين التصرف بقوله: (من سكنى وهدم وبناء) ودخول وخروج (وبيع) وفسخ بعده (ورهن) وإجارة
ونحوها، لأنها تدل على الملك مع عدم النكير.
تنبيه: لا يشترط اجتماع هذه الأمور كما يوهمه كلامه بل واحد منها كاف. قالا: ولا يكفي التصرف مرة واحدة
فإنه لا يثير الظن لقوله قبل ذلك: في مدة طويلة. (وتبنى شهادة الاعسار على قرائن) خفية من أحوال المعسر، (و)
على (مخائل الضر) جمع مخيلة من خال بمعنى ظن، أي ما يظن بها ما ذكر، والضر بالفتح خلاف النفع، وبالضم
الهزال وسوء الحال وهو المناسب هنا. (و) على مخائل (الإضافة) مصدر أضاق الرجل ذهب ماله، والضيق بالكسر
449

والفتح مصدر ضاق الشئ، وبالفتح جمع الضيقة، وهو الفقر وسوء الحال. وإنما اعتبر ذلك لأنه لا يمكن فيه التوصل
إلى اليقين، بل يكفي الاعتماد فيه على ما تدل عليه القرائن من حاله، ويعرف ذلك بمراقبته في خلواته وحالة ضمها وما
يظهر عليه من الاعسار بشدة صبره على الضرر والإضافة. ولا بد فيه من اعتبار الخبرة الباطنة كما ذكره في التفليس،
وإنما لم يذكره هنا لأنه شرط لقبول شهادته لا لجواز إقدام الشاهد.
تتمة: لا يثبت دين باستفاضة لأنها لا تقع في قدره، كذا علله ابن الصباغ. قال الزركشي: ويؤخذ منه أن ملك
الحصص من الأعيان لا يثبت بالاستفاضة، قال: وثبوت الدين بالاستفاضة قوي. وكان ينبغي للمصنف ترجيحه كما رجح
ثبوت الوقف ونحوه بها ولا فرق بينهما. وما شهد به الشاهد اعتمادا على الاستفاضة يجوز الحلف عليه اعتمادا عليها
بل أولى لأنه يجوز التحلف على خط الأب دون الشهادة.
فصل: في تحمل الشهادة وأدائها وكتابة الصك: وتطلق الشهادة على تحملها كشهدت بمعنى تحملت، وعلى
أدائها كشهدت عند القاضي بمعنى أديت، وعلى المشهود به وهو المراد هنا، كتحملت شهادة يعني المشهود به، فيكون
مصدرا بمعنى المفعول. (تحمل الشهادة فرض كفاية في النكاح) لتوقف الانعقاد عليه، ومثله ما يجب فيه الاشهاد
لتوقف الانعقاد عليه، فلو امتنع الكل أثموا، ولو طلب من اثنين وثم غيرهما لم يتعينا، بخلاف ما إذا تحمل جماعة
وطلب الأداء من اثنين وسيأتي الفرق بينهما. (وكذا الاقرار والتصرف المالي) وغيره كطلاق وعتق ورجعة،
(وكتابة الصك) وهو الكتاب، فالتحمل في كل منها فرض كفاية (في الأصح) للحاجة إلى إثبات ذلك عند
التنازع. وكتابة الصكوك يستعان بها في تحصين الحقوق، والمراد بها في الجملة لما مر أنه لا يلزم القاضي أن يكتب للخصم
بما ثبت عنده أو حكم به، ولأنها لا يستغنى عنها في حفظ الحق والمال ولها أثر ظاهر في التذكر. والثاني: المنع، لصحة
ما ذكر بدون إشهاد.
تنبيه: التقييد بالتصرف المالي لا معنى له، فإن الخلاف جار في غيره كما قدرته في كلامه كالطلاق، ولذلك
أطلق في التنبيه أن تحمل الشهادة فرض كفاية. ثم على فرضية التحمل من طلب منه لزمه إذا كان مستجمعا لشرائط
العدالة معتقدا لصحة ما يتحمله وحضره المتحمل، فإن لم يكن مستجمع الشروط فلا وجوب، قال القاضي: جزما
. أو دعي للتحمل فلا وجوب إلا أن يكون الداعي معذورا بمرض أو حبس أو كان امرأة مخدرة أو قاضيا يشهده على أمر
ثبت عنده فتلزمه الإجابة. قال البلقيني: محل كون التحمل فرض كفاية إذا كان المتحملون كثيرين، فإن لم يوجد
إلا العدد المعتبر في الحكم فهو فرض عين كما جزم به الشيخ أبو حامد والماوردي وغيرهما، وهو واضح جار على القواعد،
وفي كلام الشافعي ما يقتضيه اه‍. ومحله أيضا في غير الحدود كما صرح به الماوردي لأنها تدرأ الشبهات. وهذه المسألة
مكررة فإنها ذكرت في السير. ولا يلزم الشاهد كتابة الصك ورسم الشهادة إلا بأجرة فله أخذها كما له ذلك في تحمل
إذا ادعي له كما سيأتي. وأجرة رسم الشهادة ليست داخلة في أجرة التحمل، وله بعد كتابته حبسه عنده للأجرة كالقصار
في الثوب، وكتمان الشهادة حرام لآية: * (ولا تكتموا الشهادة) * ولأنها أمانة حصلت عنده فعليه أداؤها. (و) على
هذا (إذا لم يكن في القضية إلا اثنان) بأن لم يتحمل سواهما أو مات غيرهما أو جن أو فسق أو غاب. وجواب إذا قوله:
(لزمهما الأداء) إن دعيا له، لقوله تعالى: * (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا) *، أي للأداء، ولأنه يؤدي فرضا التزمه
في ذمته. (فلو أدى واحد) منهما (وامتنع الآخر) بلا عذر، سواء كان بعد أداء صاحبه أم قبله، (وقال) للمدعي:
(احلف معه) عصى وإن كان القاضي يرى الحكم بشاهد ويمين، لأن من مقاصد الاشهاد التورع عن اليمين فلا
يفوت عليه، وكذا لو امتنع شاهد رد لوديعة، وقالا له: احلف على ردها، عصيا. (وإن كان) في القضية (
شهود)
450

كأربعة (فالأداء فرض كفاية) عليهم لحصول الغرض بالبعض كالجهاد، فإذا قام بها اثنان منهم سقط الجرح عن الباقين،
وإن امتنع الكل عصوا سواء طلبهم المدعي مجتمعين أم متفرقين، والمدعو أولا أعظمهم إثما لأنه متبوع في الامتناع
كما لو أجاب أولا فإنه يكون أعظمهم أجرا. (فلو طلب) المدعي الأداء (من اثنين) منهم بأعيانهما، (لزمهما)
ذلك (في الأصح) لئلا يفضي إلى التواكل. والثاني: لا، كالمتحمل. وفرق الأول بأنه هناك طلبهما لتحمل أمانة وهنا
لأدائها. والخلاف جار فيما لو طلبه من واحد أيضا كما نقله في المطلب.
تنبيه: محل الخلاف كما قاله الإمام وأقراه ما إذا لم يعلم إباء الباقين وإلا فلا خلاف في اللزوم. وقضية كلام الروضة
فيما إذا علمت رغبة غيرهما أنه لا خلاف في جواز الامتناع، نبه عليه الزركشي. (وإن لم يكن) في القضية (إلا واحد
لزمه) الأداء (إن كان فيما) أي في حق يثبت بشاهد ويمين، هذا إذا كان القاضي المطلوب إليه يرى بذلك كما قيده
الماوردي. وقد يقال إن هذا معلوم من قول المصنف: يثبت بشاهد ويمين. (وإلا) بأن لم يثبت الحق بذلك أو كان
القاضي لا يرى ذلك، (فلا) يلزمه الأداء إذ لا فائدة فيه. ولو كان مع الشاهد امرأتان فالحكم فيهما كالحكم فيما ذكر،
قاله الماوردي. ولما كان مقابل الأصح السابق مفصلا بينه بقوله: (وقيل لا يلزم الأداء إلا من) أي شاهد (تحمل
قصدا لا اتفاقا) لأنه لم يوجد منه التزام. والأصح عدم الفرق لأنها أمانة حصلت عنده فلزمه أداؤها وإن لم يلتزمها كثوب
طيرته الريح إلى داره.
تنبيه: محل الخلاف كما قاله الأذرعي فيما لا يقبل فيه شهادة الحسبة كالحقوق المالية دون ما فيه خطر، كما لو سمع
من طلق امرأته ثم استفرشها، أو عفا عن قصاص ثم طلبه، فيلزمه الأداء جزما وإن لم يتحمله قصدا. (ولوجوب الأداء
شروط) أحدها: (أن يدعى) الشاهد إليه (من مسافة العدوي) فأقل، وهي التي يتمكن المبكر إليها من الرجوع إلى
أهله في يومه كما مر في الحاجة إلى الاثبات وتعذره، فلو دعي مما فوقها لم يجب للضرر وإمكان الاثبات بالشهادة على
الشهادة، قال الأذرعي: هذا إذا دعاه المستحق أو الحاكم وليس في عمله، فإن دعاه الحاكم وهو في عمله أو الإمام
الأعظم فيشبه أن يجب حضوره، وقد استحضر عمر رضي الله عنه الشهود من الكوفة إلى المدينة، وروي من الشام
أيضا. قال شيخنا: وما قاله ظاهر في الإمام الأعظم دون غيره اه‍. ولعله أخذ ذلك من قصة عمر رضي الله تعالى عنه،
ولا دليل فيه، إذ ليس فيها أن عمر أجبرهم على الحضور، فالمعتمد إطلاق الأصحاب. ومتى كان القاضي في البلد
فالمسافة قريبة كما قطع به الشيخان وغيرهما.
تنبيه: قول المصنف: يدعى يقتضي أنه لا يجب عليه من غير دعاء ومحله في غير شهادة الحسبة. أما هي فالظاهر
كما قال الأذرعي وغيره الوجوب مسارعة للنهي عن المنكر، إذ هو على الفور. (وقيل دون مسافة القصر) وهذا
مزيد على الأول بما بين المسافتين، فإن دعي من مسافة القصر لم يجب عليه الحضور للأداء لبعدها. (و) الشرط
الثاني: (أن يكون) المدعو (عدلا، فإن دعي ذو فسق مجمع عليه) كشارب خمر، ولا فرق فيه بين الظاهر للناس
والخفي كما هو قضية كلام المصنف في عدم الوجوب. قال الأذرعي: وفي تحريم الأداء مع الفسق الخفي نظر لأنها شهادة
بحق وإعانة عليه في نفس الامر. ولا إثم على القاضي إذا لم يقصر بل يتجه وجوب الأداء إذا كان فيه إنقاذ نفس
أو عضو أو بعض، قال: وبه صرح الماوردي. (قيل: أو دعي ذو فسق (مختلف فيه) كشرب نبيذ، (لم يجب)
عليه الأداء لما فيه من تعرض نفسه من إسقاط عدالته بما لا يراه مسقطا في اعتقاده. والأصح الوجوب وإن عهد من
451

القاضي رد الشهادة به لأنه قد يتغير اجتهاده. وقضية التعليل عدم اللزوم إذا كان القاضي مقلدا من يفسق بذلك، وهو
كما قال شيخنا ظاهر. فإن قيل: قد يمتنع بأنه يجوز أن يقلد غير مقلده. أجيب بأن اعتبار مثل هذا الجواز بعيد. وهل
يجوز للعدل أن يشهد ببيع عند من يرى إثبات الشفعة للجار وهو لا يراه أو لا؟ وجهان، أفقههما كما قال شيخنا الجواز،
والبيع مثال، والضابط أن يشهد بما يعلم أن القاضي يرتب عليه ما لا يعتقده.
فروع: لو كان مع المجمع على فسقه عدل لم يلزمه الأداء إلا فيما يثبت بشاهد ويمين، إذ لا فائدة فيه فيما عداه.
ولو امتنع الشاهد من الأداء حياء من المشهود عليه أو غيره عصى وردت شهادته إلى أن تصح توبته. ولو قال المدعي
للقاضي شاهدي ممتنع من أداء الشهادة لي عنادا فأحضره ليشهد لم يجبه إلى ذلك، لأنه لو شهد لم تقبل شهادته له،
لأنه فاسق بالامتناع بزعمه بخلاف ما لم يقل عنادا، لاحتمال أن يكون امتناعه لعذر شرعي. (و) الشرط الثالث (أن
لا يكون) المدعو (معذور بمرض ونحوه) كخوفه على ماله، أو تعطل كسبه في ذلك الوقت إلا إن بذل له قدر كسبه،
أو طلبه في حر أو برد شديد، وكتخدير المرأة، وكذا كل عذر يسقط عنه به الجمعة، (فإن كان) المدعو معذورا لم يلزمه
الأداء، (وأشهد على شهادته) غيره (أو بعث القاضي) إليه (من يسمعها) دفعا للمشقة عنه
تنبيه: قضية حصره الشروط الثلاثة المذكورة عدم اشتراط كون المدعو إليه قاضيا وعدم كونه أهلا للقضاء،
وهو كذلك، فلو دعي إلى أمير أو نحوه كوزير وعلم حصول الحق به وجب عليه الأداء عنده كما في زيادة الروضة.
وينبغي كما في التوضيح حمله على ما إذا علم أن الحق لا يخلص إلا عنده، وإليه يرشد قولهم: إذا علم أنه يصل به للحق
فقول المصنف في باب القضاء على الغائب أن منصب سماع البينة مختص بالقضاء، هو يقتضي أنه لا يجب في غير القاضي
محمول على غير هذا. ويجب عليه الأداء أيضا إذا دعي إلى قاض جائر، أو امتنعت في الشهادة على الأصح في زيادة
الروضة. ومن شروط الوجوب أن لا يكون في حد لله تعالى، فإن كان، قال المصنف: إن رأى المصلحة في الشهادة
شهدوا وإلا فلا، إلا إن ترتب على تركها حد على غير الشاهد مثل أن لا يكمل النصاب إلا به فإنه يجب عليه الأداء كما
قاله الماوردي. قال ابن سراقة: وربما أثم الشاهد بالأداء، مثل أن يشهد على مسلم أنه قتل كافرا والحاكم عراقي فلا يجوز
له الأداء لما في ذلك من قتل المسلم بالكافر. وإذا اجتمعت الشروط وكان في صلاة أو حمام أو على طعام أو نحو ذلك
فله التأخير إلى أن يفرغ. ولو رد قاض شهادته لجرحه ثم دعى إلى قاض آخر لا إليه لزمه أداؤها. ولو دعي في وقت
واحد لشهادتين بحقين، فإن تساويا تخير في إجابة من شاء من الداعيين، وإن اختلف قدم ما يخاف فوته، فإن لم يخف
فوته تخير، قاله ابن عبد السلام. قال الزركشي ويحتمل الاقراع وهو أوجه.
تتمة: ليس للشاهد أخذ رزق لتحمل الشهادة من الإمام أحد أو الرعية، وأما أخذه من بيت المال فهو كالقاضي،
وتقدم تفصيله، وإن قال المقري: ليس له الاخذ مطلقا، وقال غيره: له ذلك بلا تفصيل. وله بكل حال أخذ أجرة
من المشهود له على التحمل وإن تعين عليه إن دعي له، فإن تحمل بمكانه فلا أجرة له. وليس له أخذ أجرة للأداء
إن لم يتعين عليه لأنه فرض عليه فلا يستحق عوضا، ولأنه كلام يسير لا أجرة لمثله. وفارق التحمل بأن الاخذ
للأداء يورث تهمة قوية مع أن زمنه يسير ولا تفوت به منفعة متقومة، بخلاف زمن التحمل، إلا إن دعي من مسافة عدوى
فأكثر فله نفقة الطريق وأجرة المركوب وإن لم يركب. نعم لمن في البلد أخذ الأجرة إن احتاج إليها، وله صرف
ما يعطيه له المشهود له إلى غير النفقة والأجرة، وكذا من أعطى شيئا فقيرا ليكسو به نفسه للفقير أن يصرفه لغير الكسوة،
ثم إن مشى الشاهد من بلد إلى بلد مع قدرته على الركوب، قد تنخرم المروءة فيظهر امتناعه فيمن هذا شأنه، قاله
الأسنوي. قال الأذرعي: لا يتقيد ذلك ببلدين، بل قد يأتي في البلد الواحد، فيعد ذلك خرما للمروءة إلا أن تدعو
الحاجة إليه، أو يفعله تواضعا.
فصل: في جواز تحمل الشهادة على الشهادة وأدائها: (تقبل الشهادة على الشهادة) لعموم قوله تعالى: *
452

(وأشهدوا ذوي عدل منكم) * ولدعاء الحاجة إليها، لأن الأصل قد يتعذر، ولان الشهادة حق لازم فيشهد عليها
كسائر الحقوق لأنها طريق تظهر الحق كالاقرار فيشهد عليها. لكنها إنما تقبل (في غير عقوبة) لله تعالى وغير
إحصان كالأقارير والعقود والفسوخ والرضاع والولادة وعيوب النساء، سواء فيه حق الآدمي وحق الله تعالى كالزكاة
ووقف المساجد والجهات العامة وهلال رمضان للصوم وذي الحجة للحج. (وفي) إثبات (عقوبة لآدمي على المذهب)
كالقصاص وحد القذف. أما العقوبة لله تعالى كالزنا وشرب الخمر فلا يقبل فيها الشهادة على الشهادة على الأظهر.
وخرج منها قول في عقوبة الآدمي، ودفع التخريج بأن حق الله تعالى مبني على التخفيف، بخلاف حق الآدمي فلذلك
عبر المصنف فيه بالمذهب. وأما الاحصان فيمن ثبت زناه فكالحد فلا يقبل فيه الشهادة على الشهادة على الأصح كما
حكاه الرافعي عن ابن القاص.
تنبيه: يفهم من منع ثبوت إحصان من ثبت زناه منع ثبوت بلوغه، لأنه يؤول إلى العقوبة، وكذا بقية ما يعتبر
في الاحصان. قال البلقيني: وكذا لا تقبل الشهادة على الشهادة بلعان الزوج إذا أنكرته المرأة لم يترتب عن لعانه من
إيجاد الحد على المرأة إذا لم تلعن، وكذا الشهادة على الشهادة بانتقاض عهد الذمي ليخير الإمام فيه بين أمور فيها القتل،
والشهادة على الشهادة على الإمام باختيار القتل، وعلى الحاكم الذي حكم بقتل من نزل على حكمه من الرجال المكلفين،
وعلى الحاكم بإيجاد الحد على الزاني.
فرع: يجوز إشهاد الفرع على شهادته كما يفهم من إطلاق المتن وصرح به الصيمري وغيره. (وتحملها) أي الشهادة
له أسباب ثلاثة، السبب الأول: ما ذكره بقوله (بأن يسترعيه) الأصل، أي يلتمس منه رعاية الشهادة وحفظها، لأن
الشهادة على الشهادة نيابة، فاعتبر فيه الاذن. (فيقول) الأصل للفرع: (أنا شاهد بكذا) أي بأن لفلان على فلان كذا،
(وأشهدك) على شهادتي، أو أشهدتك على شهادتي. (أو) يقول: (أشهد على شهادتي) أو إذا شهدت على شهادتي فقد أذنت
لك في أن تشهد به. قال في أصل الروضة: ولا يشترط أن يقول في الاسترعاء: أشهدك على شهادتي وعن شهادتي، لكنه
أتم، فقوله: أشهدك على شهادتي تحميل، وقوله: وعن شهادتي إذن في الأداء كأنه قال: أدها عني.
تنبيه: ليس استرعاء الأصل شرطا كما يفهم كلامه، بل متى صح الاسترعاء لم يختص التحمل بالمسترعي، بل
له ولمن سمع ذلك أن يشهد على الشهادة المذكورة. وأفهم كلامه أنه يشترط لفظ الشهادة وهو كذلك، فلا يكفي أعلمك
وأخبرك بكذا ونحوهما، كما لا يكفي في أداء الشهادة عند القاضي. السبب الثاني: ما ذكره بقوله: (أو) بأن (يسمعه ويشهد عند
قاض) أن لفلان على فلان كذا فله أن يشهد على شهادته وإن لم يسترعه، كما أن للقاضي ذلك قبل الحكم، لأنه
إنما
شهد عند القاضي بعد تحقيق الوجوب. السبب الثالث: ما ذكره بقوله: (أو) بأن يسمعه (يقول: أشهد أن لفلان على فلان
ألفا عن ثمن مبيع أو غيره) كقرض، فإذا بين سبب الشهادة جاز لمن سمعه أن يشهد على شهادته وإن لم يسترعه، لأن
إسناده إلى السبب يرفع احتمال الوعد والتساهل. (وفي هذا) السبب الأخير (وجه) أنه لا يكفي لاحتمال التوسع فيه، وحكاه
الإمام عن الأكثرين وصححه البلقيني.
تنبيه: كلامه يشعر بأن ما قبل الأخير وهو الشهادة عند قاض لا خلاف فيه، وليس مرادا بل فيه وجه بعدم
الكفاية أيضا. وورد على حصره الأسباب فيما ذكره صور، منها ما إذا سمعه يؤدي عند المحكم كما قاله القاضي
والإمام ولم يفصلا بين أن يقول بجواز التحكيم أو لا، وبه صرح الفوراني والبغوي وجرى عليه الشيخان، لأنه
لا يشهد عنده إلا وهو جازم بما يشهد به. وينبغي كما قال ابن شهبة الاكتفاء بأداء الشهادة عند أمير أو وزير بناء
453

على تصحيح المصنف وجوب أدائها عنده على ما مر، لأن الشاهد لا يقدم على ذلك عند الوزير إلا وهو جازم بثبوت
المشهود به، قال البلقيني: وكذا إذا شهد عند الكبير الذي دخل في القضية بغير تحكيم، ويجوز تحمل الشهادة على
المقر وإن لم يسترعه وعلى الحاكم إذا قال في محل حكمه حكمت بكذا وإن لم يسترعه، وألحق به البغوي إقراره بالحكم.
ومنها لو كان حاكما أو محكما فشهدا عنده ولم يحكم جاز له أن يشهد على شهادتهما، لأنه إذا جاز لغيره أن يشهد عليهما
بذلك فهو أولى. (ولا يكفي) جزما (سماع قوله) أي الأصل (لفلان على فلان كذا، أو أشهد بكذا، أو عندي شهادة بكذا)
ونحو ذلك من صور الشهادة التي في معرض الاخبار، لاحتمال أن يريد أن له عليه ذلك من جهة وعد وعده إياه ويشير
بكلمة على إلا أن مكارم الأخلاق تقتضي الوفاء بها. (وليبين) الشاهد (الفرع عند الأداء) للشهادة (جهة التحمل) فإن استرعاه
الأصل قال: أشهد أن فلانا شهد أن لفلان على فلان كذا وأشهدني على شهادته، وإن لم يسترعه بين أنه شهد عند القاضي
أو المحكم، أو أنه أسند المشهود به إلى سببه ليكون مؤديا لها على الوجه الذي تحملها به فيعرف القاضي صحتها وفسادها،
إذ الغالب على الناس الجهل بجهة التحمل. (فإن لم يبين) جهة التحمل كقوله: أشهد على شهادة فلان بكذا (ووثق القاضي
بعلمه) بمعرفة شرائط التحمل، (فلا بأس) بذلك لحصول الغرض به، ولكن يندب أن يسأله بأي سبب ثبت هذا المال،
وهل أخبرك به الأصل أو لا؟ ونازع البلقيني في الاكتفاء بذلك وقال: إنه مخالف لاطلاق الأصحاب. ثم شرع المصنف
رحمه الله تعالى في صفة شاهد الأصل وما يطرأ عليه، فقال: (ولا يصح التحمل على شهادة) شخص (مردود الشهادة)
بفسق أو غيره كرق، لأنه غير مقبول الشهادة.
تنبيه: شمل إطلاقه ما لو ردت شهادته مطلقا أو بالنسبة لتلك الواقعة كما لو شهد فردت شهادته ثم أعادها فلا يصح
تحملها وإن كان كاملا في غيرها، لأنه لو أعادها بنفسه لم تقبل، وهو ظاهر (ولا تحمل النسوة) أي لا تقبل شهادتهن
على شهادة غيرهن وإن كانت الأصول أو بعضهم نساء وكانت الشهادة في ولادة أو رضاع أو مال، لأن شهادة الفرع
تثبت شهادة الأصل لا ما شهد به.
تنبيه: لم يصرح في المحرر بهذه المسألة. وقال المصنف في الدقائق: ليست بزيادة محضة فإنها تفهم من قول المحرر
قبل هذا أن ما ليس المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال غالبا لا يثبت إلا برجلين انتهى. ولا يصح أيضا تحمل
الخنثى المشكل، فإن بانت ذكورته صح تحمله. ولو تحمل فرع واحد عن أصل فيما يثبت بشاهد ويمين فأراد ذو
الحق أن يحلف مع هذا الفرع لم يجز لأن شهادة الأصل لا تثبت بشاهد ويمين، ولو شهد على أصل واحد فرعان فله الحلف
معهما، قاله الماوردي. (فإن مات الأصل أو) حدث به مانع لا يقدح، كأن (غاب أو مرض لم يمنع) ذلك (شهادة الفرع)
أي أداءها لأنه محلها، كما سيأتي بشرطه، وذكر هنا توطئة لما بعده، (وإن حدث) بالأصل مانع قادح، وهو (ردة أو
فسق أو عداوة) أو نحو ذلك، (منعت) هذه القوادح وما أشبههما شهادة الفرع، لأن هذه الأمور لا تهجم دفعة واحدة
بل الفسق يورث الريبة فيما تقدم، والردة تشعر بخبث في العقيدة، والعداوة بضغائن كانت مستكنة وليس لمدة ذلك
ضبط فيعطف إلى حالة التحمل.
تنبيه: لو حدث الفسق أو الردة بعد الشهادة وقبل الحكم امتنع الحكم، وهذا مما يلغز به فيقال: عدلان شهدا
بشئ عند القاضي وقبلت شهادتهما ثم امتنع عليه الحكم بشهادتهما لفسق غيرهما ولا أثر لحدوث ذلك بعد القضاء،
454

كذا في الروضة وأصلها، قال البلقيني: وهو مقيد في الفسق والردة بأن لا يكون في حد لآدمي أو قصاص لم يستوف،
فإن وجد بعد الحكم وقبل الاستيفاء لم يستوف كالرجوع، بخلاف حدوث العداوة بعد الحكم أو قبله وبعد الأداء فإنه
لا يؤثر. (وجنونه) أي الأصل إذا كان مطبقا وخرسه وعماه (كموته) فتقبل شهادة الفرع (على الصحيح) لأن ذلك لا يوقع
ريبة في الماضي. والثاني: يمنع كالفسق.
تنبيه: كالجنون الاغماء إلا أن يكون المغمى عليه حاضرا فلا يشهد الفرع بل ينتظر زوال الاغماء لقرب زواله،
قاله الإمام وأقره. قال الرافعي: وقضيته أن يلحق به كل مرض يتوقع قرب زواله. قال المصنف: والصواب الفرق
لبقاء أهلية المريض بخلاف المغمى عليه انتهى. واعترضه الأذرعي بأنه إذا انتظرنا إفاقة المغمى عليه مع عدم أهليته
فانتظار المريض الأهل أولى بلا شك. (ولو تحمل فرع فاسق) أو كافر (أو عبد أو صبي فأدى وهو كامل)
بعدالة في الأول
وإسلام في الثاني وحرية في الثالث وبلوغ في الرابع، (قبلت) حينئذ شهادته على الصحيح كالأصل إذا تحمل وهو
ناقص ثم أدى بعد كماله.
تنبيه: لا بد من عدد الفرع، ولو كانت الشهادة مما يقبل فيها الواحد كهلال رمضان. (ويكفي شهادة اثنين) فرعين
(على الشاهدين) الأصليين كما لو شهدا على مقرين. والمراد أن يشهد كل من الفرعين على كل من الأصلين، ولا يكفي
واحد على هذا وواحد على الآخر قطعا وإن أوهم كلامه خلافه، ولا يكفي أيضا أصل شهد مع فرع على الأصل الثاني،
لأن من قام بأحد شطري البينة لا يقوم بالآخر ولو مع غيره.
تنبيه: يكفي شاهدان على رجل وامرأتين لأنهما مقام رجل. (وفي قول) صححه جمع: (يشترط لكل رجل أو امرأة)
من الأصول (اثنان) لأن شهادتهما على واحد قائمة مقام شهادته فلا تقوم مقام شهادة غيره. (وشرط) شهادة الفرع في
(قبولها تعذر أو تعسر الأصيل بموت أو عمى) لا تسمع معه شهادة الأعمى. وهذان مثالان للتعذر، ومثلهما الجنون المطبق
والخرس الذي لا يفهم، فلو قال كالموت كان أولى. (أو مرض يشق حضوره) مشقة ظاهرة بأن يجوز لأجله ترك الجمعة
وخوف من غريم وسائر أعذار الجمعة كما في أصل الروضة لأنها جوزت للحاجة. قال الزركشي: وما ذكر من
ضابط المرض هنا نقله في أصل الروضة عن الإمام والغزالي، وهو بعيد نقلا وعقلا، وبين ذلك، ثم قال: على أن إلحاقه
سائر أعذار الجمعة بالمرض لا يمكن القول به على الاطلاق، فإن أكل ماله ريح كريهة عذر في الجمعة، ولا يقول أحد
هنا بأن أكل شهود الأصل ذلك سوغ سماع الشهادة على شهادتهم. وسبقه إلى ذلك الأذرعي. وقد يقال: المراد من
ذلك ما يشق معه الحضور. (أو غيبة لمسافة عدوة، وقيل) لمسافة (قصر) لأن ما دونها في حكم البلد.
تنبيه: قوله: لمسافة عدوى نسب فيه إلى سبق القلم، وصوابه: فوق مسافة العدوي كما هو في المحرر والروضة
وغيرهما، فإن المسوغ لشهادة الفرع غيبة الأصل فوق مسافة العدوي. وقد تقدم في الفصل قبله أن من شروط وجوب
الأداء أن يدعى من مسافة العدوي، فكيف يقبل فيها شهادة الفرع مع وجوب الأداء على الأصل؟. وليس ما ذكر
هنا تكرارا مع ما مر من أن موت الأصل وغيبته ومرضه لا يمنع شهادة الفرع، لأن ذاك في بيان طريان العذر، وهذا
في المسوغ للشهادة. ويستثنى من شروط الغيبة شهود التزكية، فإن أصحاب المسائل تقبل شهادتهم عند القاضي على شهادة
المزكي مع حضور المزكين في البلد كما ذكراه في فصل التزكية وتقدم ما فيه. ولو شهد الفرع في غيبة الأصل
ثم حضر
أو قال لا أعلم أني تحملت أو نسيت أو نحو ذلك لم يحكم بها لحصول القدرة على الأصل في الأولى والريبة فيما عداها أو بعد
الحكم بها لم يؤثر، ولو كذب به الأصل بعد القضاء لم ينقبض. قال ابن الرفعة: ويظهر أن يجئ تغريمهم والتوقف
في استيفاء العقوبة ما يأتي في رجوع الشهود بعد القضاء. قال الأذرعي وهو ظاهر إلا أن يثبت أنه كذبه قبله فينقض.
455

قال الزركشي تفقها: إلا إن ثبت أنه أشهده فلا ينقض. واستثنى الشيخان بحثا من الاعذار ما يعم الأصل والفرع كالمطر
والوحل الشديد فلا تسمع معه شهادة الفرع. قال الأسنوي أخذا من كلام ابن الرفعة: وهذا باطل، فإن مشاركة غيره
له لا تخرجه عن كونه عذرا في حقه، فلو تجشم المشقة وحضر وأدى قبلت شهادته اه‍. وقد يجاب عن كلامهما بأن
المراد من لا تسمع شهادة الفرع منه، أي لا تلزمه، فمن تجشم المشقة منهما وحضر وأدى قبلت، فإن الشيخين لا يمنعان
ذلك، وحيث أمكن حمل العبارة على معنى صحيح ولو مع العبد كان أولى من حمله على كونه باطلا خصوصا من
عظمت مرتبته في العلم. (و) يشترط (أن يسمي الأصول) وإن كانوا عدولا، ليعرف القاضي عدالتهم ويتمكن الخصم من
الجرح إن عرفه.
تنبيه: شمل إطلاق المصنف ما لو كان الأصل قاضيا، كما لو قال: أشهدني قاض من قضاء مصر أو القاضي الذي
بها ولم يسمه وليس بها سواه على نفسه في مجلس حكمه. قال الأذرعي: والصواب في وقتنا وجوب تعيين القاضي
أيضا لما لا يخفى. (ولا يشترط) في شهادة الأصول (أن يزكيهم الفروع) بل لهم إطلاق الشهادة والقاضي يبحث عن عدالة
الأصول، ولا يلزم الفرع أن يتعرض في شهادته لصدق أصله لأنه لا يعرف، بخلاف ما إذا حلف المدعي مع شاهده
حيث يتعرض لصدقه لأنه يعرف. (فإن زكوهم) وهم أهل للتعديل غير متهمين، (قبل) ذلك منهم. فإن قيل: لو شهد
اثنان في واقعة وزكى أحدهما الآخر فإنه لا يثبت عدالة الثاني، فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن تزكية الفروع للأصول
من تتمة شهادتهم، ولذلك شرط بعضهم التعرض لها، وهناك قام الشاهد المزكي بأحدى شطري الشهادة فلا يصح
قيامه بالثاني. (ولو شهدوا) أي الفروع (على شهادة عدلين أو عدول) يذكرونهم (ولم يسموهم، لم يجز) أي لم يكف لأن
القاضي قد يعرف جرحهم لو سموهم، ولأنه يسد باب الجرح على الخصم. فإن قيل: كان ينبغي ذكر هذه المسألة
عقب قوله: وأن يسمي الأصول. أجيب بأنه إنما أخرها ليفيد أن تزكية الفروع للأصول وإن جازت فلا بد من
تعيينهم
بالاسم ولو قدمه لم يكن صريحا في ذلك.
تتمة: لو اجتمع أصل وفرعا أصل آخر قدم عليهما في الشهادة كما لو كان معه ماء لا يكفيه يستعمله ثم يتيمم، قاله
صاحب الاستقصاء.
فصل: في رجوع الشهود عن شهادتهم: إذا (رجعوا عن الشهادة) أو توقفوا فيها بعد الأداء و (قبل الحكم امتنع)
الحكم بشهادتهم وإن أعادوها، سواء كانت في عقوبة أم في غيرها، لأن الحاكم لا يدري أصدقوا في الأول أو
في الثاني فينتفي ظن الصدق. وأيضا فإن كذبهم ثابت لا محالة إما في الشهادة أو الرجوع، ولا يجوز الحكم بشهادة
الكذاب، ولا يفسقون برجوعهم إلا إن قالوا تعمدنا شهادة الزور فيفسقون. ولو رجعوا عن شهادتهم في زنا حدوا حد
القذف وإن قالوا غلطنا لما فيه من التعبير وكان حقهم التثبت وكما لو رجعوا عنها بعد الحكم. والمراد بالرجوع
التصريح به فيقول: رجعت عن شهادتي، فلو قال: أبطلت شهادتي أو فسختها أو رددتها، فهل يكون الحكم كذلك فيما
قبله؟ ولو قالوا للحاكم بعد شهادتهم: توقف عن الحكم، ثم قالوا له: احكم فنحن على شهادتنا حكم، لأنه لم يتحقق
رجوعهم ولا بطلت أهليتهم. وإن شك فقد زال ولا يحتاج إلى إعادة الشهادة منهم، لأنها صدرت من أهل جازم
والتوقف الطارئ قد زال. (أو) رجعوا (بعده) أي الحكم، (وقيل استيفاء مال) في شهادة به أو عقد ولو نكاحا
نفذ الحكم به، و (استوفي) المال، لأن القضاء قد تم، وليس هذا ما يسقط بالشبهة حتى يتأثر بالرجوع. وأما الفسوخ
فتستمر على إمضائها. (أو) رجعوا بعد الحكم وقبل استيفاء (عقوبة) في شهادة بها، سواء أكانت لله تعالى أم
456

لآدمي كحد زنا وحد قذف، (فلا) يستوفى تلك العقوبة لأنها تسقط بالشبهة والرجوع شبهة. (أو بعده) أي استيفاء المحكوم
به، (لم ينقض) أي الحكم لتأكد الامر ولجواز صدقهم في الشهادة وكذبهم في الرجوع وعكسه، وليس أحدهما
بأولى من الآخر فلا ينقض الحكم بأمر مختلف. (فإن كان المستوفى) عقوبة، كأن كان (قصاصا) في نفس أو طرف، (أو
قتل ردة أو رجم زنا أو جلده) بلفظ المصدر المضاف لضمير الزنا، ولو حذفه كان أخصر وأعم ليشمل جلدة قذف
وشرب. (ومات) المجلود أو قطع سرقة أو نحوها، ثم رجعوا (وقالوا تعمدنا) شهادة، أو قال كل منهم: تعمدت ولا
أعلم حال صاحبي، مع قولهم: علمنا أنه يستوفى منه بقولنا، (فعليهم قصاص) غائلة إن جهل الولي تعمدهم، وإلا فالقصاص
عليه فقط كما أفاده كلام المتن في الجنايات وسيأتي. (أو دية مغلظة) في مالهم موزعة على عدد رؤوسهم لتسببهم إلى إهلاكه.
ولو قال كل من الشاهدين: تعمدت وأخطأ صاحبي، فلا قصاص لانتفاء تمحض العمد العدوان في حق كل منهما بإقراره،
بل يلزمهما دية مغلظة. أو قال أحدهما: تعمدت وصاحبي أخطأ. أو قال: تعمدت ولا أدري أتعمد صاحبي أم
لا، وهو
ميت أو غائب لا يمكن مراجعته. أو اقتصر على: تعمدت، وقال صاحبه: أخطأت، فلا قصاص لما مر. وإن قال: تعمدت
وتعمد صاحبي، وهو غائب أو ميت اقتص منه. ولو اعترف أحدهما بعمدهما والآخر بعمده وخطأ صاحبه اقتص
من الأول لاعترافه بتعمدهما جميعا دون الثاني، لأنه لم يعترف إلا بشركة مخطئ، ولا أثر لقولهم بعد رجوعهم لم نعلم
أنه يقتل بقولنا، بل يحدون في شهادة الزنا حد القذف ثم يرجمون، ولا يضر فيه عدم معرفة محل الجناية ولا قدر
الحجر وعدمه، قال القاضي: لأن ذلك تفاوت يسير. وقيل: يقتلون بالسيف ورجحه في المهمات إلا لقرب عهدهم
بالاسلام ونشئهم ببادية بعيدة عن العلماء فيكون شبه عمد. وإن قالوا: أخطأنا في شهادتنا، فدية مخففة موزعة على عدد رؤوسهم
إن كذبتهم العاقلة، لأن إقرارهم لا يلزم العاقلة ما لم يصدقهم، فإن صدقتهم فعليهم الدية، وكذا إن سكتت كما هو ظاهر
كلام كثير خلافا لما يفهمه كلام الروض، فإن صدقتهم لزمه الدية.
فرع: لو ادعوا أن العاقلة تعرف خطأهم هل لهم تحليفهم أو لا؟ رأيان، أوجههما أن لهم ذلك كما رجحه الأسنوي
، لأنها لو أقرت غرمت خلافا لما جرى عليه ابن المقرى من عدم التحليف. (وعلى القاضي) الراجع دون الشهود (قصاص)
أو دية مغلظة (إن قال تعمدت) الحكم بشهادة الزور، فإن قال: أخطأت، فدية مخففة عليه لا على عاقلته إن لم تصدقه.
(وإن رجع هو) أي القاضي (وهم) أي الشهود، (فعلى الجميع قصاص) أو دية مغلظة (إن قالوا تعمدنا) ذلك لاعترافهم
بالتسبب في قتله عمدا عدوانا. (فإن قالوا أخطأنا فعليه) أي القاضي (نصف دية، وعليهم) أي الشهود (نصف) منها
توزيعا على المباشرة والتسبب، قال الرافعي: كذا نقله البغوي وغيره، وقياسه أن لا يجب كمال الدية عند رجوعه وحده
كما لو رجع بعض الشهود اه‍. ورد القياس بأن القاضي قد يستقل بالمباشرة فيما إذا قضى بعلمه بخلاف الشهود، وبأنه
يقتضى أنه لا يجب كمال الدية عند رجوع الشهود وحدهم مع أنه ليس كذلك. (ولو رجع مزك) وحده عن تعديل الشهود
ولو قبل شهادتهم، (فالأصح أنه يضمن) بالقصاص أو الدية، لأنه بالتزكية يلجئ القاضي إلى الحكم المفضي إلى القتل.
والثاني: المنع، لأنه كالممسك مع القاتل.
تنبيه: ظاهر كلامهم على الأول أنه لا فرق بين قوله: علمت كذبهم وقوله: علمت فسقهم، وبه صرح الإمام، وإن
قال القفال: محله إذا قال علمت كذبهم، فإن قال: علمت فسقهم لم يلزمه شئ لأنهم قد يصدقون مع فسقهم. (أو) رجع
(ولى) للدم (وحده) دون الشهود، (فعليه قصاص أو دية) بكمالها لأنه المباشر للقتل. (أو) رجع (مع الشهود
457

فكذلك) يجب القصاص أو الدية على الولي وحده على الأصح للمباشرة وهم معه كالممسك مع القاتل. (وقيل: هو وهم
شركاء) لتعاونهم في القتل فعليهم القود. وإن آل الامر إلى الدية فعليهم النصف والنصف على الولي، وعلى هذا لو
رجع الولي والقاضي والشهود كان على كل الثلث.
تنبيه: كان الأولى للمصنف أن يقول: وقيل هو وهم كالشريكين، لأن قوله شركاء يوهم أنه كأحدهم في الضمان
مطلقا. (ولو شهدا) على شخص (بطلاق بائن) سواء أكان بعوض أم بثلاث أم قبل الدخول، (أو رضاع) محرم، (أو
لعان) أو نحو ذلك مما يترتب عليه البينونة كالفسخ بعيب، (وفرق القاضي) في كل من هذه المسائل بين الزوجين (فرجعا)
عن شهادتهما بما ذكر، (دام الفراق) لأن قولهما في الرجوع محتمل فلا يرد الحكم بقول محتمل.
تنبيه: قوله: دام الفراق لا يأتي في الطلاق البائن ونحوه بخلافه في الرضاع واللعان، فلو عبر بدل دام بنفذ، أو بقول
الروضة: لم يرتفع الفراق كان أولى. (وعليهم) أي الشهود الراجعين للزوج (مهر مثل) ولو قبل وطئ أو بعد إبراء الزوجة
زوجها من المهر، لأنه بدل ما فوتاه عليه. (وفي قول نصفه إن كان) حكم القاضي بالفراق (قبل وطئ) لأنه الذي فات
على الزوج. والأول نظر إلى بذل البضع المفوت بالشهادة النظر في الاتلاف إلى المتلف لا إلى ما قام به على المستحق
سواء أدفع إليها الزوج المهر أم لا، بخلاف نظيره في الذين لا يغرمون قبل دفعه، لأن الحيلولة هنا تحققت. فإن قيل:
لو أرضعت زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة قبل الدخول لزمها نصف مهر المثل فقط، فهلا كان هو الأصح هنا
أجيب بأن فرقة الرضاع حقيقة فلا توجب إلا النصف كالمفارقة بالطلاق، وهنا النكاح باق بزعم الزوج والشهود
لكنهم بشهادتهم حالوا بينه وبين البضع فغرموا قيمته كالغاصب الحائل بين المالك والمغصوب وخرج بالبائن الرجعي
فلا غرم فيه عليهم إذ لم يفوتوا عليه شيئا لقدرته على المراجعة، فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها غرما كما في البائن،
وإن قال البلقيني الأصح المعتمد أنهما لا يغرمان شيئا إذا أمكن الزوج الرجعة فتركها باختياره، لأن الامتناع من تدارك
دفع ما يعرض بجناية الغير لا يسقط الضمان كما لو جرح شاة غيره فلم يذبحها مالكها مع التمكن منه حتى ماتت.
تنبيه: لو قال المصنف: وعليهما بضمير التثنية كان أولى، وقول الشارح: لأن عليهم أخصر من عليهما إنما يأتي
على القول بأن أقل الجمع اثنان. ولو قالوا في رجوعهم عن شهادتهم بطلاق بائن كان رجعيا، قال البلقيني: الأرجح
عندي أنهم يغرمون لأنهم قطعوا عليه ملك الرجعة الذي هو كملك البضع، قال: وهو قضية إطلاقهم الغرم عليه بالطلاق
البائن. وشمل إطلاق المصنف البائن ما لو كان الطلاق المشهود به تكملة الثلاث، وهو أحد وجهين في الحاوي يظهر
ترجيحه، لأنهم منعوه بها من جميع البضع كالثلاث. والوجه الثاني: أنه يجب قسط الطلقة المشهود بها لأن التحريم
يحصل بالمجموع، قال البلقيني: ويستثنى من وجوب مهر المثل بالرجوع عن الطلاق البائن صور: الأول إذا قال الزوج
بعد الانكار أنهم محقون في شهادتهم فلا رجوع له سواء أكان ذلك قبل الرجوع أم بعده. الثانية: إذا لم يرجعوا
إلا بعد أن أبانها بطريق من الطرق على زعمه في بقاء عصمته فإنه لا غرم لتقصيره بالبينونة باختياره. الثالثة: إذا لم
يرجعوا إلا بعد موت الزوج فإنهم لا يغرمون لورثته شيئا لأن الغرم للحيلولة بينه وبين بضعه ولا حيلولة هنا. الرابعة: إذا
كان المشهود عليه قنا فلا غرم له، لأنه لا يملك شيئا ولا لمالكه لأنه لا تعلق له بزوجة عبده، فلو كان مبعضا غرم له
المشهود بقسط الحرية، قال: ولم أر من تعرض لشئ من ذلك اه‍. والظاهر كما استظهره بعض المتأخرين إلحاق ذلك بالأكساب
فيكون لسيده كله فيما إذا كان قنا بعضه فيما إذا كان مبعضا لأن حق البضع نشأ من فعله المأذون فيه. ثم قال:
ولو كان الرجوع عن الشهادة على مجنون أو غائب فالأرجح أن لوليه أو وكيله تغريمهم، ويحتمل خلافه لأنه لم يوجد
منه إنكار. (ولو شهدا بطلاق) بائن (وفرق) بين الزوجين بشهادتهما أو لم يفرق كما فهم بالأولى، (فرجعا) عن
458

شهادتهما، (فقامت بينة أنه كان بينهما رضاع) محرم أو نحوه كلعان أو فسخ، (فلا غرم) لأنا تبينا أن شهادتهما لم تفوت
على الزوج شيئا. ولو غرما قبل قيام البينة شيئا استردا ما غرماه.
تنبيه: لو رجعت هذه البينة بعد حكم الحاكم بالاسترداد ينبغي أن تغرم ما استرد لأنها فوتت عليه ما كان أخذه،
ولم أر من ذكره. (ولو رجع شهود مال) عين أو دين بعد الحكم به ودفعه لمستحقه، (غرموا) بدله للمحكوم
عليه (في الأظهر) وإن قالوا أخطأنا، لحصول الحيلولة بشهادتهم. والثاني: المنع، لأن الضمان باليد أو الاتلاف ولم
يوجد واحد منهما.
تنبيه: لو صدقهم الخصم في الرجوع عادت العين إلى من انتزعت منه ولا غرم. (ومتى رجعوا كلهم) معا أو
مرتبا، سواء أكانوا أقل الحجة أو زادوا عليه كخمسة في الزنا وثلاثة في القتل، (وزع عليهم الغرم) بالسوية عند اتحاد
نوعهم. (أو) رجع (بعضهم وبقى) منهم (نصاب) كأن رجع من ثلاثة واحد فيما يثبت بشاهدين كالعتق، (فلا غرم)
على من رجع لبقاء الحجة فكأن الراجع لم يشهد. (وقيل: يغرم) الراجع (قسطه) من النصاب، واختاره المزني، لأن
الحكم وقع بشهادة الجميع، وكل منهم قد فوت قسطا فيغرم ما فوت. (وإن نقص النصاب) بعد رجوع بعضهم (ولم
يزد الشهود عليه) أي النصاب كأن شهد في الزنا أربعة، وفي مال أو قتل اثنان، (فسقط) يلزم الراجع منهم، فإذا شهد
اثنان فيما يثبت بهما ثم رجع أحدهما فعليه النصف، أو أربعة فيما يثبت بهم لزوم الراجع بقسطه، فإن كان واحدا فعليه
الربع. (وإن زاد) عدد الشهور على النصاب، كما إذا رجع من الخمسة في الزنا اثنان أو من الثلاثة في غيره اثنان، (فقسط
من النصاب) في الأصح، بناء على أنه لا غرم إذا بقي نصاب فيجب النصف على الراجعين من الثلاثة لبقاء نصف الحجة.
(وقيل) قسط (من العدد) يغرمه الراجع منهم فيجب الثلثان على الراجعين من الثلاثة، وصححه ابن الصباغ، لأن
البينة إذا نقص عددها زال حكمها وصار الضمان متعلقا بالاتلاف وقد استووا فيه. (وإن شهد رجل وامرأتان) فيما يثبت
بذلك ثم رجعوا، (فعليه نصف وهما نصف) على كل واحدة ربع لأنهما كرجل.
تنبيه: الخنثى في جميع ذلك كالمرأة، قاله ابن المسلم. (أو) شهد رجل (وأربع) من نساء (في رضاع) أو نحوه
مما يثبت بمحض الإناث ثم رجعوا، (فعليه ثلث، وهن ثلثان) وتنزل كل امرأتين منزلة رجل، لأن هذه الشهادة ينفرد
بها النساء فلا يتعين الرجل للشطر. (فإن رجع هو أو ثنتان) فقط (فلا غرم) على من رجع (في الأصح) لبقاء الحجة.
والثاني: عليه أو عليهما الثلث كما لو رجع الجميع. وعلى الأول لو شهد مع عشرة نسوة ثم رجعوا غرم السدس وعلى
كل ثنتين السدس، فإن رجع منهن ثمان أو هو ولو مع ست فلا غرم على الراجح لما مر، وإن رجع مع سبعة غرموا
الربع لبطلان ربع الحجة، وإن رجع كلهن دونه أو رجع هو مع ثمان غرموا النصف لبقاء نصف الحجة فيهما، أو
مع تسع غرموا ثلاثة أرباع، وإن رجع كلهن دونه غرموا نصفا لما مر. (وإن شهد هو و) نساء (أربع بمال) ثم رجعوا
(فقيل كرضاع) فعليه ثلث الغرم وعليهن ثلثاه.
تنبيه: قد يوهم كلامه أنه لو رجع الرجل وحده على هذا القول أنه لا غرم عليه كالرضاع، ولا قاتل به كما قاله
البلقيني، لأن المال لا يثبت بالنسوة. فإن قيل: تشبيهه بالرضاع إنما هو في حال رجوع الكل، فعليه ثلث
وهن ثلث بدليل قوله: (والأصح، هو نصف وهن نصف) لأنه نصف البينة، وهن وإن كن مع الرجل بمنزلة رجل واحد.
459

أجيب بأن قوله: (سواء رجعن معه أو وحدهن) لأن المال لم يثبت بشهادة النساء المتمحضات وإن كثرن بخلاف
الرضاع ينافيه. (وإن رجع ثنتان) منهن فقط (فالأصح لا غرم) عليهما لبقاء الحجة. والثاني: عليهما ربع الغرم،
لأنهما ربع البينة.
تنبيه: لو شهد رجلان وامرأة ثم رجعوا، قال القاضي الحسين في كتاب الحدود: لا شئ على المرأة وعلى الرجلين
الغرم. وقال هنا: يجب عليها الخمس، وهذا هو الظاهر. (و) الأصح (أن شهود إحصان) إذا رجعوا بعد رجم القاضي
الزاني دون شهود الزنا كما صورها في الشرح والروضة، أو معهما كما شمله إطلاق المصنف، فإن الخلاف جار في ذلك.
(أو) شهود (صفة مع شهود تعليق طلاق، أو عتق) على صفة عليها إذا رجعوا بعد نفوذ الطلاق والعتق دون شهود
التعليق، (لا يغرمون شيئا) أما شهود الاحصان فلأنهم لم يشهدوا بموجب عقوبة، وإنما وصفوه بصفة كمال، وأما
شهود الصفة مع شهود التعليق فلأنهم لم يشهدوا بطلاق ولا عتق، وإنما أثبتوا صفة. والثاني: يغرمون، لأن الرجم يتوقف
على ثبوت الزنا والاحصان جميعا، فالقتل لم يستوف إلا بهم، وكذلك الطلاق والعتق وقع بقولهم، قال في المهمات:
وهذا هو المعروف، وقد صححه الماوردي والبندنيجي والجرجاني اه‍. وقال البلقيني: إنه أرجح. فإن قيل: قد مر أن
المزكي يغرم، فهلا كان شهود الاحصان والصفة كذلك أجيب بأن المزكي معين للشاهد المتسبب في القتل ومقوله
بخلاف الشاهد في الاحصان أو الصفة. وإذا حكم القاضي بشاهدين فبانا مردودي الشهادة فقد سبق أن حكمه يبين
بطلانه فتعود المطلقة بشهادتهم زوجة، والمعتقة بها أمة، فإن استوفي بها قتل أو قطع فعلى عاقلة القاضي الضمان. ولو
حدا لله تعالى وإن كان مالا تالفا ضمنه المحكوم له، فإن كان معسرا أو غائبا غرم القاضي للمحكوم عليه ورجع به
على المحكوم له إذا أيسر أو حضر، ولا غرم على الشهود لأنهم ثابتون على شهادتهم، ولا على المزكين، لأن الحكم غير
مبني على شهادتهم مع أنهم تابعون للشهود.
خاتمة: لو شهد اثنان بكتابة رقيق ثم رجعا بعد الحكم وعتق بالأداء ظاهرا هل يغرمان القيمة كلها لأن المؤدى
من كسبه وهو لسيده أو نقص النجوم عنها لأنه الفائت؟ وجهان، أشبههما كما قال الزركشي الثاني. أو شهد
أنه طلق زوجته، أو أعتق أمته بألف ومهرها أو قيمتها ألفان ثم رجعا بعد الحكم غرما ألفا، وقيل: يغرمون مهر المثل
أو القيمة. أو شهدا بإيلاد أو تدبير ثم رجعا بعد الحكم غرما القيمة بعد الموت، لا قبله، لأن الملك إنما يزول بعده.
أو شهدا بتعليق عتق أو طلاق بصفة ثم رجعا بعد الحكم غرما المهر أو القيمة بعد وجود الصفة لا قبله لما مر.
أو شهد أنه تزوج امرأة بألف ودخل بها ثم رجعا بعد الحكم غرما لها ما نقص عن مهر مثلها إن كان الألف دونه
كما رجحه ابن المقرى، وقيل: لا يغرمان شيئا، ورجحه الزركشي. ولو شهد اثنان بعقد نكاح في وقت واثنان بالوطئ
في وقت بعده واثنان بالتعليق بعد ذلك ورجع كل عما شهد به بعد الحكم غرم من شهد بالعقد والوطئ ما غرمه الزوج
بالسوية بينهم نصف بالعقد ونصف بالوطئ، ولا يغرم من شهد بالتعليق شيئا، ولا من أطلق الشهادة بالوطئ. ولو رجع
فروع أو أصول عن شهادتهما بعد الحكم بشهادة الفروع غرموا، وإن رجعوا كلهم فالغارم الفرع فقط، لأنهم ينكرون
إشهاد الأصول ويقولون كذبنا فيما قلنا والحكم وقع بشهادتهم. ولو شهد أربعة على شخص بأربعمائة فرجع واحد
منهم عن مائة وآخر عن مائتين والثالث عن ثلاثمائة والرابع عن أربعمائة، فالرجوع الذي لا يبقى معه حجة عن
مائتين دون المائتين الآخرين لبقاء الحجة فيهما، فمائة يغرمها الأربعة باتفاقهم، قال الشيخان: وثلاثة أربعمائة يغرمها
غير الأول بالسوية، ولاختصاصهم بالرجوع عنها، والرابع الآخر لا غرم فيه لبقاء ربع الحجة. وقال البلقيني: الصحيح
أن الثلاثة إنما يغرمون نصف المائة. وما ذكر إنما يأتي على الضعيف القائل بأن كلا منهم يغرم حصته مما رجع عنه،
وما قاله ظاهر وعليه النصف الآخر لأغرم فيه. ويغرم متعمد في شهادة الزور باعترافه إذا لم يقتص منه وإلا دخل التعزير
460

فيه إن اقتص منه، أو أقيم عليه حد. ولو استوفى المشهود له بشهادة اثنين مالا ثم وهبه للخصم، أو شهدا بإقالة من
عقد وحكم بها ثم رجعا فلا غرم عليهما، لأن الغارم عاد إليه ما غرمه. ولو لم يقل الشاهد إن رجعنا ولكن قامت
بينة برجوعهما لم يغرما شيئا، قال الماوردي: لأن الحق باق على المشهود عليه.
كتاب الدعوى
هي لغة: الطلب والتمني، ومنه قوله تعالى: * (ولهم ما يدعون) * وألفها للتأنيث، وتجمع على دعاوى بفتح الواو وكسرها،
قيل: سميت دعوى لأن المدعي يدعو صاحبه إلى مجلس الحكم ليخرج من دعواه. وشرعا: إخبار عن وجوب حق على
غيره عند حاكم. (والبينات) جمع بينة وهم الشهود، سموا بذلك لأن بهم يتبين الحق. وأفرد المصنف الدعوى وجمع
البينات لأن حقيقة الدعوى واحدة والبينات مختلفة، والأصل في ذلك قوله تعالى: * (وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم
إذا فريق منهم معرضون) *، وأخبار كخبر مسلم: لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين
على المدعى عليه. وروى البيهقي بإسناد حسن: ولكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، والمعنى فيه أن جانب المدعي
ضعيف لدعواه خلاف الأصل فكلف الحجة القوية، وجانب المنكر قوي فاكتفي منه بالحجة الضعيفة. وإنما كانت البينة
قوية واليمين ضعيفة لأن الحالف متهم في يمينه بالكذب لأنه يدفع بها عن نفسه بخلاف الشاهد. ولما كانت الخصومات
تدور على خمسة: الدعوى والجواب واليمين والنكول والبينة ذكرها المصنف كذلك وبدأ منها بالأولى، فقال: (تشترط الدعوى
عند قاض في عقوبة كقصاص) حد (قذف) فلا يستقل صاحبها باستيفائها لعظم خطرها والاحتياط في إثباتها
واستيفائها، فلو خالف واستوفى بدون ذلك وقع الموقع في القصاص دون حد القذف كما سبق للمصنف في بابه، نعم
قال الماوردي: من وجب له تعزير أو حد قذف وكان في بادية بعيدة عن السلطان كان له استيفاؤه، وقال ابن عبد السلام
في قواعده: لو انفرد بحيث لا يرى ينبغي أن لا يمنع من القود، لا سيما إذا عجز عن إثباته.
تنبيه: قوله: عند قاض قد يفهم أنها لا تصح عند غيره، وليس مرادا، بل السيد يسمع الدعوى على رقيقه وإن
لم يكن قاضيا، وكذلك المحكم إذا رضيا بحكمه، وكذا الوزير والأمير ونحوهما بناء على صحة الشهادة عندهما كما مر
في بابها. وتقييده بالعقوبة قد يفهم أنه لا يشترط الدعوى عند القاضي في غيرها، وليس مرادا، بل لا بد في كل
مجتهد فيه كعيوب النكاح والعنة والفسخ بالاعسار بالنفقة ونحوه عند التنازع والاحتياج إلى الاثبات والحكم فيها من
الرفع إلى القاضي والدعوى عنده ما خرج المال عن هذا إلا لأن المستحق قد يستقل بالوصول إلى حقه فلا يحتاج إلى
دعوى. ويستثنى من اشتراط الدعوى عند القاضي صورتان: إحداهما قتل من لا وارث له أو قذفه، إذا الحق فيه للمسلمين،
فيقتل: بشهادة الحسبة ولا يحتاج إلى دعوى حسبة بل في سماعها خلاف مر. ثانيهما: قتل قاطع الطريق الذي لم يتب قبل
القدرة عليه لا يشترط فيه دعوى لأنه لا يتوقف على طلب. وتمثيل بالقصاص والقصد يفهم التصوير بحق الآدمي وأن
حدود الله تعالى لا يشترط فيها ذلك، وليس مرادا، بل لا بد فيها من القاضي أيضا مع أنه لا تسمع فيها الدعوى أصلا لأنها ليست
حقا للمدعي، ومن له الحق لم يأذن في الطلب بل هو مأمور بالاعراض والدفع ما أمكن. نعم لو قذفه بالزنا وأراد
القاذف تحليفه أو تحليف وارثه الطالب أنه لم يزن فإنه يجاب إلى ذلك على الأصح، وقالوا: ولا تسمع دعوى بذلك ويحلف
على نفيه إلا في هذه الصورة، قاله الرافعي في باب اللعان. (وإن استحق) شخص (عينا) تحت يد عادية (فله) أو
وليه إن لم يكن كاملا كما نص عليه الشافعي (أخذها) مستقلا بالأخذ بلا رفع لقاض وبلا علم من هي تحت يده للضرورة،
(إن لم يخف) من أخذها (فتنة) أو ضررا.
461

تنبيه: قوله: استحق عينا يخرج المستأجر والموصى له بالمنفعة والموقوف عليه كما هو مقتضى عباراتهم، إذ
الاستقلال بالأخذ لمالك العين فقط لأنه يستحق العين حقيقة. وألحق به ولي غير الكامل كما مر، وصورة المسألة كما
قال الزركشي أن تكون العين تحت يد عادية كما قدرته، ولهذا قال في الشرح الصغير: أو عينا غصبت منه، وكذا
قاله في البسيط. أما لو كانت بيد من ائتمنه كالوديعة أو التي اشتراها منه وبذل الثمن فليس له الاخذ بغير إذن لما فيه
من الارعاب بظن الذهاب بل سبيله الطلب. (وإلا) بأن خاف فتنة أو ضررا، (وجب الرفع إلى قاض) أو نحوه ممن
له إلزام الحقوق كمحتسب وأمير، لا سيما إن علم أن الحق لا يتخلص إلا عنده. والرفع تقريب الشئ، فمعنى رفع الشئ
لقاض: قربه إليه.
تنبيه: ليس المراد بالوجوب تكليف المدعي الرفع حتى يأثم بتركه، بل المراد امتناع استقلاله بالأخذ في هذه
الحالة. وعبارة المحرر: وإلا فلا بد من الرفع إلى القاضي وهي أحسن. (أو) لم يستحق عينا بل (دينا)
حالا (على
غير ممتنع من الأداء) له، (طالبه به) ليؤدي ما عليه، (ولا يحل أخذ شئ له) أي المدين، لأنه مخير في الدفع من أي مال
شاء فليس للمستحق إسقاط حقه من ذلك إجبارا، فإن أخذه لم يملكه ولزمه رده، فإن تلف عنده ضمنه، فإذا اتفق
الحقان جاء التقاص. (أو) دينا استحقه (على منكر) له (ولا بينة له) به، (أخذ) جوازا (جنس حقه من ماله) إن
ظفر به استقلالا لعجزه عن أخذه إلا كذلك. (وكذا غير جنسه إن فقده) أي جنس حقه واستوفى حقه منه (على
المذهب) للضرورة، وفي قول من طريق المنع: لا يتمكن من تملكه.
تنبيه: قيد المتولي الخلاف بما إذا لم يجد أحد النقدين، فإن وجده لم يعدل إلى غيره. وينبغي كما قال الأذرعي
تقديم أخذ غير الأمة عليها احتياطا للابضاع. ولو كان المدين محجورا عليه بفلس أو ميتا وعليه دين، فلا يأخذ
إلا قدر حصته بالمضاربة إن علمها كما قاله البلقيني. (أو) دينا استحقه (على مقر ممتنع أو منكر، وله) عليه (بينة
فكذلك) يأخذ حقه استقلالا من جنس ذلك الدين إن وجده، ومن غيره إن فقد على الأصح في الصورتين. (وقيل
يجب) فيهما (الرفع إلى قاض) كما لو أمكنه تخليص الحق بالمطالبة والتقاضي. وأجاب الأول بأن في ذلك مؤنة ومشقة
وتضييع زمان. هذا كله في دين الآدمي، أما دين الله تعالى كالزكاة، إذا امتنع المالك من أدائها وظفر
المستحق بجنسها من ماله فليس له الاخذ لتوقفها على البينة بخلاف الدين. وغفل عن هذا من فصل بين أن يتعين الفقراء
أو لا إلحاقا لها بالديون. وأما المنفعة فالظاهر كما بحثه بعض المتأخرين أنها كالعين إن وردت على عين فله استيفاؤها منها
بنفسه إن لم يخش ضررا، وكالدين إن وردت على ذمة، فإن قدر على تخليصها بأخذ شئ من ماله فله ذلك بشرطه. (وإذا
جاز) للمستحق (الاخذ) من غير رفع لقاض، (فله) حينئذ (كسر باب ونقب جدار لا يصل المال) هو منصوب بنزع
الخافض، والتقدير: لا يصل إلى المال، (إلا به) لأن من استحق شيئا استحق الوصول إليه ولا يضمن ما فوته، كمن لا يقدر
على دفع الصائل إلا بإتلاف ماله فأتلفه لا يضمن.
تنبيه: محل ذلك كما قال البلقيني إن كان الحرز للدين وغير مرهون لتعلق حق المرتهن به، وأن لا يكون
محجورا عليه بفلس لتعلق حق الغرماء به، ومثل ذلك كما قال الأذرعي سائر ما يتعلق به حق الغير كإجارة ووصية
بمنفعة. ولا يجوز ذلك في ملك الصبي والمجنون، ولا في جدار غريم الغريم كما قاله الدميري قطعا، أي لأنه أحط
رتبة من الغريم، ولا أن يوكل في الكسر والنقب غيره كما قاله القاضي، فإن فعل ضمن. ويؤخذ من قوله المصنف: لا يصل
462

المال إلا به أنه لو كان مقرا ممتنعا أو منكرا وله عليه بينة أنه ليس له ذلك، وهو كذلك، فقول الأذرعي: كنت أود أن
لو خصص ذلك بما إذا لم يجد سبيلا إلى الاخذ بالحاكم كما في صورة الجحود وعدم البينة، أما إذا كان له بينة
، وقدر على
خلاص حقه بحاكم ففيه بعد لأن الاخذ بالحاكم عند المكنة أسهل وأخف كلفة من نقب الجدار وكسر الباب، وقد
تقرر أن الصائل يدفع بالأسهل فالأسهل اه‍. لا يحتاج إليه.
فرع: لو غصب منه نجاسة يختص بها كجلد ميتة وسرجين وكلب معلم وجحده، فظاهر كلام الأصحاب أنه
لا يكسر بابا ولا ينقب جدارا لأنهم إنما تكلموا في الأموال خاصة، نبه على ذلك الدميري. (ثم المأخوذ من جنسه) إلى
الحق (يتملكه) بدلا عن حقه.
تنبيه: التعبير بالتملك وقع في الشرحين والروضة، وهو يقتضي أنه لا يملك بنفس الاخذ، بل لا بد من إحداث تملك.
والذي صرح به القاضي والبغوي واقتضاء كلام غيرهما أنه يملكه بمجرد الاخذ، واعتمده الأسنوي ووجهه بأنه إنما
يجوز لمن يقصد أخذ حقه، وإذا وجد القصد مقارنا كفى ولا حاجة إلى اشتراطه بعد ذلك اه‍. وجمع شيخنا بين الكلامين
بأن كلام هؤلاء محمول على ما إذا كان المأخوذ على صفة حقه، أي أو دونه كأخذ الدراهم المكسرة عن الصحيحة،
وكلام الشيخين على ما إذا كان بغير صفته، أي كأخذ الدراهم الصحاح عن المنكسرة، فإنه حينئذ كغير الجنس، وهو
جمع حسن. (و) المأخوذ (من غيره) أي جنس حقه، أي أو أعلى من صفته، (يبيعه) بنفسه مستقلا للحاجة، وله أن يوكل
فيه كما ذكره في الروضة في آخر الطلاق. (وقيل: يجب رفعه إلى قاض يبيعه) لأنه لا يتصرف في مال غيره لنفسه.
تنبيه: محل الخلاف ما إذا لم يطلع على الحال، فإن اطلع عليه لم يبعه إلا بإذنه جزما. ومحله أيضا إذا لم
يقدر على بينة، وإلا فلا يستقل مع وجودها كما هو قضية كلام أصل الروضة. وبحثه بعضهم، قال: بل هي أولى من علم
القاضي لأن الحكم بعلمه مختلف فيه بخلافها. وخص صاحب الذخائر وغيره الخلاف به ببيعه للغير. أما لو أراد بيعه
من نفسه، فلا يجوز قطعا، ولأنه لأجل امتناع تولي الطرفين. وهو لا يجوز في غير الأب والجد، ولا يتملكه على
الصحيح، لأن امتناع من عليه الحق يسلطه على البيع كما يسلطه على الاخذ، فإذا باعه فليبعه بنقد البلد ثم يشتري به
جنس حقه إن لم يكن نقد البلد. (والمأخوذ مضمون عليه) أي الآخذ، (في الأصح، فيضمنه إن تلف قبل تملكه وبيعه)
بالأكثر من قيمته من حين أخذه إلى حين تلفه كالغاصب، لأنه أخذه بغير إذن المالك لغرض نفسه، بل أولى من المستام
لعدم إذن المالك، ولان المضطر إذا أخذ ثوب غيره لدفع الحر وتلف في يده ضمنه فكذا هنا. والثاني: لا يضمنه من غير
تفريط، لأنه أخذه للتوثق، والتوصل إلى الحق كالمرتهن، وإذن الشارع في الاخذ يقوم مقام إذن المالك. وعلى الأول
ينبغي أن يبادر إلى بيع ما أخذه بحسب الامكان، فإن قصر فنقصت قيمته ضمن النقصان، ولو انخفضت القيمة
وارتفعت
وتلف فهي مضمونة عليه بالأكثر.
تنبيه: محل الخلاف كما قاله الماوردي و الروياني إذا تلف قبل التمكن مع البيع، فإن تمكن منه فلم يفعل
ضمن قطعا. وقال البلقيني: محله في غير الجنس، أما المأخوذ من الجنس فإنه يضمنه ضمان يد قطعا لحصول ملكه
بالأخذ عن حقه كما سبق اه‍. والمصنف أطلق ذلك تبعا للرافعي بناء على وجوب تجديد تملكه، وقد تقدم ما فيه.
ويؤخذ من كونه مضمونا عليه قبل بيعه أنه لو أحدث فيه زيادة قبل البيع كانت على ملك المأخوذ منه، وبه صرح
في زيادة الروضة، فإن باع ما أخذه وتملك ثمنه، ثم وفاه المديون دينه رد إليه قيمته كغاصب رد المغصوب إلى المغصوب
منه. (ولا يأخذ) المستحق (فوق حقه إن أمكنه الاقتصار) على قدر حقه لحصول المقصود به، فإن أخذه ضمن
الزائد لتعديه بأخذه، وإن لم يمكنه بأن لم يظفر إلا بمتاع تزيد قيمته على حقه أخذه، ولا يضمن الزيادة لأنه لم يأخذها
463

بحقه من الضرر بخلاف قدر حقه. ثم إن تعذر بيع قدر حقه فقط باع الجميع وأخذ من ثمنه قدر حقه ورد ما زاد عليه
على غريمه بهبة ونحوها، وإن لم يتعذر ذلك باع منه بقدر حقه ورد ما زاد كذلك. (وله أخذ مال غريم غريمه) كأن يكون
لزيد على عمرو دين ولعمرو على بكر مثله، فلزيد أن يأخذ من بكر ما له مال على عمرو، ولا يمنع من ذلك رد عمرو
وتصرف زيد بالأخذ وعدم حسبان ذلك عن دينه على بكر، ولا إقرار بكر لعمرو، ولا جحود بكر استحقاق زيد على
عمرو.
تنبيه: للمسألة شروط، الأول: أن لا يظفر بمال الغريم. الثاني: أن يكون غريم الغريم جاحدا أو ممتنعا أيضا، وعلى
الامتناع بحمل الاقرار المذكور. الثالث: أن يعلم الآخذ الغريم أنه أخذه من مال غريمه حتى إذا طلبه الغريم بعد كان هو
الظالم. الرابع: أن يعلم غريم الغريم وحيلته أن يعلمه فيما بينه وبينه، فإذا طالبه أنكر فإنه بحق، وله استيفاء دين له على
آخر جاحدا له بشهود دين آخر له عليه قد أدى ولم يعلموا أداءه، ولاحد الغريمين إذا كان له على الآخر مثل ماله أو
أكثر منه جحد حق الآخر إن جحد الآخر حقه ليحصل التقاص، وإن اختلف الجنس ولم يكن من النقدين للضرورة
فإن كان له عليه دين دون ما للآخر عليه جحد من حقه بقدره. والمدعي لغة: من ادعى لنفسه شيئا، سواء كان في يده
أم لا. (والأظهر أن المدعي) اصطلاحا: (من يخالف قوله الظاهر) وهو براءة الذمة. (و) الأظهر أيضا أن (المدعى عليه من
يوافقه) أن يوافق قوله الظاهر. والثاني: أن المدعي من لو سكت خلي ولم يطالب بشئ، والمدعى عليه من لا
يخلى ولا
يكفيه السكوت، فإذا ادعى زيد دينا في ذمة عمرو فأنكر فزيد يخالف قوله الظاهر من براءة عمرو، ولو سكت ترك
وعمرو يوافق قوله الظاهر، ولو سكت لم يترك فهو مدعى عليه، وزيد مدع على القولين، ولا يختلف موجبهما غالبا،
وقد يختلف كالمذكور بقوله: (فإذا أسلم زوجان قبل وطئ، فقال الزوج: أسلمنا معا فالنكاح) بيننا (باق، وقالت)
أي الزوجة: أسلمنا (مرتبا) فلا نكاح بيننا، (فهو) على الأظهر (مدع) لأن وقوع الاسلامين معا خلاف الظاهر، وهي مدعى
عليها، وعلى الثاني هي مدعية وهو مدعى عليه، لأنها لو سكتت تركت وهو لا يترك لو سكت لزعمها انفساخ النكاح.
فعلى الأول تحلف الزوجة ويرتفع النكاح، وعلى الثاني يحلف الزوج ويستمر النكاح. والذي صححاه في نكاح المشرك
من أن القول قول الزوج يكون مبنيا على مرجوح. وقد يقال إنما جعل اليمين في جانبه على القول الأول لأنه لما كان
الأصل بقاء العصمة قوي جانبه فكان هو المصدق بيمينه، كما أن المدعى عليه لما كان الأصل براءة ذمته قوى جانبه
فكان هو المصدق بيمينه. ولو قال لها: أسلمت قبلي فلا نكاح بيننا ولا مهر لك، وقالت: بل أسلمنا معا صدق في الفرقة
بلا يمين، وفي المهر بيمينه على الأظهر لأن الظاهر معه، وصدقت بيمينها على الثاني لأنها لا تترك بالسكوت لأن الزوج
يزعم سقوط المهر، فإذا سكتت ولا بينة جعلت ناكلة وحلف هو وسقط المهر. والأمين في دعوى الرد مدع على الأظهر
لأنه يزعم الرد الذي هو خلاف الظاهر، لكنه يصدق بيمينه لأنه أثبت يده لغرض المالك، وقد ائتمنه فلا يحسن
تكليفه بينة الرد. وأما على القول الثاني فهو مدعى عليه لأن المالك هو الذي لو سكت ترك، وفي التحالف كل من
الخصمين مدع ومدعى عليه لاستوائهما.
تنبيه: قد تقدم في كتاب دعوى الدم والقسامة أن لصحة الدعوى ستة شروط ذكر المصنف بعضها
وذكرت باقيها في الشرح. (و) ذكر منها هنا شرطان: الأول أن تكون معلومة، فعليه (متى ادعى) شخص دينا
(نقدا) أو غيره مثليا أو متقوما، (اشترط) فيه لصحة الدعوى (بيان جنس) له كذهب وفضة، (ونوع) له كخالص
أو مغشوش، (وقدر) كمائة، وصفة يختلف بها الغرض. (و) يشترط في النقد أيضا شيئان: (صحة تكسر إن
اختلفت بهما قيمة) كمائة درهم فضة ظاهرية صحاح أو مكسرة، فلا يكفي إطلاق النقد وإن غلب، وبه صرح
464

الماوردي وغيره. وفارق البيع ونحوه بأن زمن العقد يقيد صفة الثمن بالغالب من النقود، ولا يتقيد ذلك بزمن الدعوى
لتقدمه عليها. نعم مطلق الدينار ينصرف إلى الدينار الشرعي كما صرح به في أصل الروضة، ولا يحتاج إلى بيان وزنه،
وفي معناه مطلق الدرهم. أما إذا لم تختلف قيمة النقد بالصحة والتكسر فلا يحتاج إلى بيانهما، لكن استثنى الماوردي
والروياني دين السلم فاعتبر بيانهما فيه. (أو) لم يدع الشخص دينا، بل ادعى (عينا تنضبط) بالصفة، متقومة كانت
(كحيوان) وثياب، أو مثلية كحبوب، (وصفها) وجوبا (بصفة السلم) السابقة في بابه وإن لم يذكر مع الصفة القيمة
في الأصح. (وقيل: يجب معها) أي صفة السلم (ذكر القيمة) لتلك العين الموصوفة، فإن لم تنضبط بالصفات كالجواهر
واليواقيت وجب ذكر القيمة فيقول: جوهر قيمته كذا، وبه قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم.
واستثني ما لو غصب غيره منه عينا في بلد ثم لقيه في آخر وهي باقية ولكن لنقلها مؤنة فإنه يجب ذكر قيمتها، لأنها
المستحقة في هذه الحالة، فإذا رد العين رد القيمة. ويبين في دعوى العقار الناحية والبلد والمحلة والسكة والحدود، وأنه
في يمنة داخل السكة أو يسرته أو صدرها، ذكره البلقيني. ولا حاجة لذكر القيمة كما علم مما مر. وهذا إن بقيت العين،
(فإن تلفت وهي متقومة) بكسر الواو، (وجب) مع ذلك (ذكر القيمة) لأنها الواجبة عند التلف، فلا حاجة لذكر
شئ معها من الصفات كما اقتضاه كلامهم، لكن يجب ذكر الجنس فيقول: عبد قيمته مائة، فإن كانت مثلية لم يجب
ذكر قيمته، ويكفي الضبط بالصفات.
تنبيه: لو كان التالف سيفا محلى ذكر قيمته بالذهب إن كانت حليته فضة، وبالفضة إن كانت حليته ذهبا،
وإن كان محلى بهما قوم بأحدهما للضرورة، وهذا ما جرى عليه ابن المقري في روضه هنا تبعا لاصله. واختلف كلامهما
في باب الغصب، فقال هناك: إن تبر الحلي يضمن بمثله ويبيعه بنقد البلد، وقال أصله: إن المحلى يضمن بنقد البلد وإن
كان من جنسه، قال: ولا يلزم منه الربا، فإنه إنما يجرى في العقود لا في الغرامات اه‍. ويقوم مغشوش الذهب بالفضة
كعكسه إذا قلنا إنها متقومة، فيدعى مائة دينار من نقد كذا قيمتها كذا درهما أو مائة درهم من نقد كذا قيمتها كذا دينارا.
فإن قلنا إنها مثلية، وهو الصحيح بناء على جواز المعاملة بها، وهو الأصح، فلا يشترط التعرض لقيمتها. ويستثنى
من اشتراط العلم بالمدعى به مسائل تصح الدعوى فيها بالمجهول، منها الاقرار ولو بنكاح كالاقرار به. ومنها الوصية
تحرزا عن ضياعها، ولأنها تحتمل الجهل، فكذا دعواه. ومنها فرض المفوضة لأنها تطلب من القاضي أن يفرض
لها فلا يتصور منها البيان، ومثله المتعة والحكومة والرضخ وحط الكتابة والغرة والابراء المجهول في إبل الدية بناء
على الأصح من صحة الابراء منه فيها. ومنها حق ممر أو إجراء الماء في أرض جددت اكتفاء بتحديد الأرض
كما رجحه
ابن المقري. ومنها تصح الشهادة بهذه المستثنيات لترتبها عليها.
فرع: لو أحضر ورقة فيها دعواه ثم ادعى ما في الورقة وهو موصوف بما مر، هل يكتفي بذلك أو لا؟ وجهان،
أوجههما كما أشار إليه الزركشي الأول إذا قرأه القاضي أو قرئ عليه. والشرط الثاني المذكور هنا لصحة الدعوى
ولم يتعرض له المصنف: أن تكون الدعوى تلزمه، فلو ادعى على غيره هبة أو بيعا أو دينا أو نحو ذلك مما الغرض منه
تحصيل الحق فليذكر في دعواه وجوب التسليم كأن يقول: ويلزمه التسليم إلي أو وهو ممتنع من الأداء الواجب عليه،
لأنه قد يرجع الواهب وينفسخ البيع ويكون الدين مؤجلا أو من عليه مفلسا. ولو قصد بالدعوى رفع المنازعة
لا تحصيل الحق فقال: هذه الدار لي وهو يمنعنيها سمعت دعواه وإن لم يقل هي في يده، لأنه يمكن أن ينازعه.
وإن لم تكن في يده (أو) لم يدع دينا ولا عينا، بل ادعى (نكاحا لم يكف الاطلاق) فيه (على الأصح) المنصوص،
(بل) يقيد ذلك، وحينئذ (يقول نكحتها بولي مرشد) قال البلقيني: وهذا ليس صريحا في العدالة، فينبغي
أن يقول: بولي عدل. لكن قال الزركشي: المراد بالمرشد من دخل في الرشد أي صلح للولاية، وذلك أعم
465

من العدل والمستور والفاسق إذا قلنا يلي أي أو وكانت ولايته بالشوكة. (وشاهدي عدل) قال الزركشي: وينبغي
الاكتفاء بقوله وشاهدين بغير وصفهما بالعدالة، فقد ذكروا في النكاح أنه لو رفع نكاح عقد بمستورين إلى حاكم لم
ينقض. نعم إن ادعت المرأة شيئا من حقوق الزوجية احتاج الحاكم إلى التزكية. (ورضاها إن كان يشترط) بأن كانت
غير مجبرة، لأن النكاح فيه حق لله تعالى وحق لآدمي، وإذا وقع لا يمكن استدراكه فاحتيط فيه. والثاني: يكفي الاطلاق
فيه كالمال، وكما لا يشترط انتفاء ذكر الموانع كالردة والرضاع. وأجاب الأول عن القياس الأول بما مر، وعن الثاني
بأن الشروط يعتبر وجودها ليصح العقد، والموانع يعتبر عدمها والأصل العدم، فاكتفي به، ولأنها كثيرة يعسر ضبطها.
تنبيه: قال البلقيني: يستثنى من ذلك أنكحة الكفار، فيكفي في الدعوى بها أن يقول هذه زوجتي، وإن ادعى
استمرار نكاحها بعد الاسلام ذكر ما يقتضي تقريره حينئذ، ولا بد فيما إذا كان سفيها أو عبدا من قوله: نكحتها بإذن وليي
أو مالكي، ولا يشترط تعيين الولي والشاهدين، والدعوى تكون على المرأة على وليها المجبر بناء على صحة إقرارهما
به، وهو الأصح. وسكت المصنف عن دعوى المرأة بالنكاح، ونقل الرافعي فيها عن تصحيح الغزالي أنها لا تسمع،
لأن النكاح للزوج لا لها، ثم قال: لكن الأئمة جانحون إلى ترجيح السماع اه‍. وهذا هو المعتمد. وإذا ادعت ففي اشتراط
التفصيل وعدمه ما في اشتراطه في دعوى الزوج. ولا يشترط تفصيل في إقرارها بنكاح لأنها لا تقر إلا عن تحقيق،
ويشترط تفصيل الشهود بالنكاح تبعا للدعوى، ولا يشترط قولهم: ولا نعلمه فارقها وهي إلى اليوم زوجته. (
فإن
كانت) تلك المرأة المدعى نكاحها (أمة) أو مبعضة والزوج حر، (فالأصح) يجب مع ما سبق (وجوب ذكر العجز عن
طول) أي مهر ينكح به حرة، (و) وجوب ذكر (خوف عنت) أي الزنا المشترطين في جواز نكاح من بها رق، لأن
الفروج يحتاط لها كالدماء. وقياس هذا وجوب التعرض لها في الشروط من كونه لا حرة تحته تصلح، وكون الأمة
مسلمة إن كان الزوج مسلما، وهو ظاهر. والثاني: لا يجب كما لا يجب التعرض لعدم الموانع، وقد مر الفرق. (أو) لم
يدع نكاحا، بل ادعى (عقدا ماليا كبيع وهبة) لم يشترط تفصيل، و (كفى الاطلاق في الأصح) المنصوص، لأنه
أخف حكما من النكاح، ولهذا لا يشترط فيه الاشهاد بخلافه. والثاني: يشترط كالنكاح. والثالث: إن تعلق العقد بجارية
وجب احتياطا للبضع، واختاره ابن عبد السلام.
تنبيه: مقتضى تعبير المصنف بالاطلاق أنه لا يشترط التقييد بالصحة، ولكن الأصح في الوسيط اشتراطه، وهو
قضية كلام الرافعي. ومحل الخلاف في غير بيوع الكفار، فإذا تبايعوا بيوعا فاسدة وتقابضوها بأنفسهم أو بإلزام حاكمهم
فإنا نمضيها على الأظهر كما هو مقرر في الجزية، فلا يحتاج فيها إلى ذكر الشروط. وتسمع الدعوى من المدعي على
خصمه وإن لم تعلم بينهما مخالطة ولا معاملة، ولا فرق فيه بين طبقات الناس فتصح دعوى دنئ على شريف، وإن شهدت
قرائن الحال بكذبه كأن ادعى ذمي استئجار أمير أو فقيه لعلف دوابه وكنس بيته. (ومن قامت عليه بينة) بحق ف‍ (ليس
له تحليف المدعي) على استحقاقه ما ادعاه، لأنه تكليف حجة بعد حجة، بل هو كالطعن في الشهود.
تنبيه: استثني من ذلك صورتان، الأولى: إذا أقيمت بينة بعين لشخص وقالت البينة: لا نعلمه باعها ولا وهبها،
فيحلف كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه أنها لم تخرج عن ملكه بوجه من الوجوه، ثم تدفع إليه الثانية إذا أقيمت
بينة بإعسار المديون فلصاحب الدين تحليفه في الأصح لجواز أن يكون له مال في الباطن. (فإن ادعى) بعد إقامة البينة
مسقطا له، كأن ادعى (أداء) له (أو إبراء) منه في الدين (أو شراء عين) من مدعيها (أو هبتها وإقباضها) منه،
(حلفه) خصمه (على نفيه) أي نفي ما ادعاه، وهو أنه ما تأدى منه الحق ولا أبرأه من الدين ولا باعه العين
466

ولا وهبه إياها.
تنبيه: محل ذلك إذا ادعى حدوث شئ من ذلك قبل إقامة البينة والحكم، وكذا بينهما بعد مضي زمن
إمكانه، فإن لم يمض زمن إمكانه لم يلتفت إليه. وكذا إن ادعى بعد الحكم حدوثه قبل البينة على الأصح في أصل
الروضة ليثبت المال عليه بالقضاء. ويستثنى من إطلاق المصنف الأداء ما لو قال الأجير على الحج: قد حججت فإنه
يقبل قوله، ولا يلزمه بينة ولا يمين، قاله الدبيلي، قال: كما لو طلق امرأته ثلاثا وادعت أنها تزوجت ودخل بها وطلقها
وانقضت عدتها قبل منها ولا بينة عليها ولا يمين. وشمل إطلاق المصنف الابراء ما لو ادعى أنه أبراه عن هذه الدعوى،
لكن الأصح في الشرح الصغير أنه لا يحلف لأن الابراء عن نفس الدعوى لا معنى له إلا تصوير صلح على إنكار
وهو باطل. وأشعر قوله على نفيه أنه لا يكلف توفية الدين أو لا، بل يحلف المدعي ثم يستوفى، وهو كذلك على الصحيح.
(وكذا لو ادعى) الخصم (علمه) أي المدعي (بفسق شاهده) الذي أقامه (أو كذبه) فله تحليفه أيضا على
نفي ما ادعاه (في الأصح) المنصوص، لأنه لو أقر له به بطلت شهادته. والثاني: لا، لأنه لم يدع عليه حقا، وإنما ادعى
عليه أمرا لو ثبت لنفعه. واحترز بالبينة أي فقط عما لو حلف المدعي قبل ذلك إما مع شاهد أو يمين الاستظهار، فإنه
لا يحلف بعد هذه الدعوى على نفي ذلك كما صوبه البلقيني، لأن الحلف مع ذلك قد يعرض فيه الحالف لاستحقاقه
الحق فلا يحلف بعد ذلك على نفي ما ادعاه الخصم.
تنبيه: ذكر الجيلي في الاعجاز أنه يحلف مع البينة في عشرة مواضع: إذا ادعى على الميت مالا أو قتلا وأنكر
الورثة فأقام بينة لم يحكم له حتى يحلف مع البينة أنه عليه وأنه يستحقه إلى الآن، وكذا إن ادعى على غائب أو صبي
أو مجنون. وأن يدعي على امرأة وطئا فيقيم البينة على نفي البكارة فيحلف معها لاحتمال عود البكارة. وإذا أقام على
رجل بينة بمال ادعاه فقال المدعى عليه احلف أنك تستحق هذا المال ولم يكذب الشهود، ولكن قال باطنه بخلاف
ظاهره، فإنه يحلف مع البينة أنه يستحق ذلك الآن. وإذا قال لامرأته: أنت طالق أمس وقال: أردت أنها كانت مطلقة
من غيري وأقام بينة حلف معها أنه أراد ذلك. وإذا ادعى الوديع هلاك الوديعة بسبب ظاهر وأقام البينة على السبب
حلف على الهلاك به. وفي الجراح في العضو الباطن إذا قال إنه كان صحيحا وأقام بذلك بينة حلف معها. وفي الرد بالعيب إذا
أقام بينة أنه كان كذلك حلف معها. قال الزركشي: وفي بعض هذه الصور نظر، ومنها ما الحلف فيه مستحب لا
مستحق اه‍. ولعله يشير بالنظر إلى الموضع السابع وبالاستحباب إلى الثامن. (وإذا استمهل) أي طلب الامهال من أقيمت
عليه بينة، (ليأتي بدافع) فيها، استفسر إن كان جاهلا لأنه قد يتوهم ما ليس بدافع دافعا، بخلاف ما إذا كان عارفا، فإن
عين جهة من نحو أداء أو إبراء أو كان عارفا، (أمهل ثلاثة أيام) لأنها مدة قريبة لا يعظم الضرر فيها، ومقيم البينة قد يحتاج
إلى مثلها للفحص عن الشهود. ولو أحضر بعد الثلاث الشهود ولم يعدوا أمهل ثلاثا للتعديل، لأنه استظهار لبينة في
شهادة أخرى كما حكاه الرافعي عن الروياني وأقره. ولو لم يأت ببينة ثم ادعى جهة أخرى بعد المدة لم تمهل أو
في أثنائها سمعت
دعواه. ولو حضر في الثلاث بشاهد واستمهل بالثاني أمهل ثلاثة مستقبلة كما قاله الماوردي. وذكر الرافعي في الباب الثاني
من أبواب الكتابة أن العبد لو ادعى الأداء وأنكر السيد وأراد العبد إقامة البينة أمهل ثلاثا، قال: وهل هو واجب
أو مستحب؟ وجهان اه‍. وقياس ما هنا الوجوب. ولو عاد المدعى عليه بعد الثلاث وسأل القاضي تحليف المدعي على
نحو إبراء أجابه إليه لتيسره في الحال، ولا يكلف تسليم الدين أولا (ولو ادعى رق بالغ) عاقل، (فقال أنا حر)
بالأصالة، (فالقول قوله) بيمينه وإن تداولته الأيدي وسبق من مدعي رقه قرينة تدل على الرق ظاهرا كاستخدام
وإجارة لموافقته الأصل وهو الحرية، وعلى المدعي البينة.
تنبيه: محل ما ذكر إذا لم يسبق منه إقرار يرق وإن لم يقبل قوله. وإذا حلف على نفي الرق وقد اشتراه المدعي
467

من غيره المدعى على بائعه بالثمن، ولو اعترف حالة الخصومة وقال برقه وقال إنه ذكره على وجه الخصومة، أو اعتمد
في اعترافه به ظاهر اليد. وخرج بقوله: حر أي بالأصالة كما مر ما لو قال: أعتقتني أو أعتقني الذي باعني منك أو غيره فإنه لا يقبل
إلا ببينة، وما لو قال: أنا عبد فلان فالمصدق السيد لاعتراف العبد بالرق، لأنه مال يثبت عليه اليد واليد عليه للسيد
فلا تنتقل عنه، بخلافه هنا فإنه لم يعترف بذلك والأصل الحرية. ولو أقام المدعي بينة برقه وأقام هو بينة بأنه حر فالذي
جزم به الرافعي في آخر الدعاوى تبعا للبغوي أن بينة الرق أولى لأن معها زيادة علم وهو إثبات الرق، ونقل الهروي
وغيره عن الأصحاب أن بينة الحرية أولى. (أو) ادعى (رق صغير ليس في يده لم يقبل) منه (إلا ببينة) لأن
الأصل عدم الملك، والظاهر كما قاله الأذرعي أن المجنون البالغ كالصغير. ولو كان الصغير في يد غيره وصدقه صاحب اليد
كفى تصديقه مع حلف المدعي. (أو) ادعى رق صغير (في يده حكم له به) بعد حلفه (إن لم يعرف استنادها) أي
يد المدعي (إلى التقاط) كما لو ادعى الملك في دابة أو ثوب، وإنما حلف لخطر شأن الحرية، ولا أثر لانكاره إذا
بلغ بل يستمر الرق، فإن استندت إلى التقاط لم يقبل إلا بحجة. وهذه المسألة قد ذكرها في اللقيط فهي مكررة، والفرق
أن اللقيط محكوم بحريته ظاهرا بخلاف غيره. (فلو أنكر الصغير) الرق (وهو مميز فإنكاره لغو) لأن عبارته ملغاة.
(وقيل) إنكاره (كبالغ) في إنكاره فلا يحكم برقه لمدعيه إلا ببينة، وإن أنكر بعد بلوغه في صورة عدم الاستناد لم يؤثر.
(ولا تسمع دعوى) بحال على من اعترف المدعي بإعساره، ولا دعوى (دين مؤجل) وإن كان به بينة (في الأصح)
إذ لا يتعلق بها إلزام ومطالبة في الحال فيفوت نظام الدعوى. والثاني: تسمع مطلقا ليثبت في الحال ويطالب به في الاستقبال،
وقد يموت من عليه فتتعجل المطالبة. والثالث: إن كان به بينة سمعت، وإلا فلا.
تنبيه: يستثنى على الأول صور، الأولى: إذا كان بعض الدين حالا وبعضه مؤجلا فإن الدعوى تصح به
كما قاله الماوردي، قال: ويدعي بجميعه لاستحقاقه المطالبة بالبعض ويكون المؤجل تبعا. فإن قيل: الدعوى بذلك
مشكل، لأن الحال إذا كان قليلا كدرهم من ألف مؤجلة يبعد الاستتباع فيه، وبأنه إذا أطلق الدعوى لم يفد، وإن
قال لزمه تسليم الألف إلي لم تصح الدعوى وكان كاذبا، وإن فصل وبين كان ذلك في حكم دعوتين فأين محل الاستتباع؟
أجيب بأن محل الاستتباع عند الاطلاق، ولا يضر كون للكثير تابعا للقليل للحاجة إلى ذلك. الثانية: لو كان المؤجل
في عقد كمسلم وقصد بدعواه به تصحيح العقد لأن المقصود منها مستحق في الحال، قاله الماوردي أيضا. الثالثة:
إذا ادعى على القاتل بقتل خطأ أو شبه عمد فإنها تسمع مع أن ذلك إنما يوجب دية مؤجلة، فلو ادعى ذلك على العاقلة
لم تسمع جزما، لأنه لم يتحقق لزومه لمن ادعى عليه لجواز موته في أثناء الحول وإعساره آخره، ذكره البلقيني وقال: لم
أر من تعرض له.
تتمة: تسمع الدعوى باستيلاد وتدبير وتعلق عتق بصفة ولو قيل العرض على البيع، لأنها حقوق ناجزة وجواب
من ادعى دينا مؤجلا ولم يذكر الاجل لا يلزمني تسليمه الآن، ولا يجوز إنكاره استحقاقه في أحد وجهين قال الزركشي
إنه المذهب كما حكاه الروياني عن جده. وإن أقر له خصمه بثوب مثلا وادعى تلفه فله تحليفه أنه لا يلزمه تسليمه إليه
ثم يقنع منه بالقيمة، وإن نكل حلف لنقر له على بقائه وطالبه به.
فصل: فيما يتعلق بجواب المدعى عليه: إذا (أصر المدعى عليه على السكوت عن جواب الدعوى) لغير
دهشة أو غباوة، (جعل) حكمه (كمنكر) للمدعي به (نأكل) عن اليمين، وحينئذ فترد اليمين على المدعي
بعد أن يقول له القاضي: أجب عن دعواه وإلا جعلتك ناكلا. فإن كان سكوته لنحو دهشة أو غباوة شرح له، ثم
حكم بعد ذلك عليه. وسكوت الأخرس عن الإشارة المفهمة للجواب كسكوت الناطق، ومن لا إشارة له مفهمة كالغائب
468

والأصم الذي لا يسمع أصلا إن كان يفهم الإشارة فهو كالأخرس، وإلا فكالمجنون فلا تصح الدعوى عليه. فلو كان
البصير الأصم أو الأخرس الذي لا يفهم كاتبا قال الأذرعي: يشبه أن يقال كتابته دعوى وجوابا كعبارة الناطق. أما
إذا لم يصر المدعى عليه فينظر، (فإن ادعى) عليه (عشرة) مثلا (فقال) في جوابه: هي عندي، أوليس لك
عندي شئ، فذاك ظاهر. وإن قال: (لا تلزمني العشرة، لم يكف) ذلك في الجواب (حتى يقول) مضافا لما سبق: (ولا
بعضها. وكذا يحلف) إن حلفه القاضي، لأن مدعي العشرة مدع لكل جزء منها، فاشترط مطابقة الانكار واليمين
دعواه، وقوله: لا يلزمني العشرة إنما هو نفي لمجموعها، ولا يقتضي نفي كل جزء منها، فقد تكون عشرة إلا حبة. (فإن
حلف على نفي العشرة واقتصر) في حلفه (عليه فنأكل) عما دون العشرة، (فيحلف المدعي على استحقاق دون
العشرة بجزء) وإن قل، (ويأخذه) أي ما دون العشرة وإن لم يجدد دعوى. نعم إن نكل المدعى عليه عن العشرة
وقد اقتصر القاضي في تحليف المدعى عليه على عرض اليمين عليه عن العشرة ولم يقل ولا شئ منها فليس للمدعي أن
يحلف على استحقاق ما دونها إلا بعد تجديد دعوى ونكول المدعى عليه.
تنبيه: هذا إن لم يسند المدعي إلى عقد، فإن أسنده إليه كأن ادعت امرأة نكاحا بخمسين كفاه نفي العقد
بها والحلف عليه، فإن نكل لم تحلف هي على البعض إلا بدعوى جديدة لا تناقض ما ادعته. وإن ادعى دارا بيد
غيره فأنكرها فلا بد أن يقول في حلفه: ليست لك ولا شئ منها، ولو ادعى أنه باعه إياها كفاه أن يحلف أنه لم يبعها.
ولو ادعى عليه مالا فأنكر وطلب منه اليمين فقال: لا أحلف وأعطي المال لا يجب على المدعي قبوله من غير إقرار
وله تحليفه لأنه لا يأمن من أن يدعي عليه بما دفعه بعد هذا، وكذا لو نكل عن اليمين وأراد المدعي أن يحلف يمين
الرد فقال المدعى عليه: أنا أبذل المال له بلا يمين له أن يحلف ويقول له الحاكم: إما أن تقر بالحق أو يحلف المدعى
عليه بعد نكولك، قاله البغوي والمروزي وغيرهما. (وإذا ادعى مالا مضافا إلى سبب كأقرضتك كذا كفاه في الجواب)
عن هذه الدعوى، (لا تستحق) أنت (علي شيئا) أو لا يلزمني تسليم شئ إليك، (أو) ادعى (شفعة كفاه) في الجواب:
(لا تستحق) أنت (علي شيئا، أو لا تستحق) علي (تسليم الشقص) ولا يشترط التعرض لنفي تلك الجهة لأن المدعي قد
يكون صادقا في الاقراض وغيره وعرض ما أسقط الحق من أداء أو إبراء، فلو نفى السبب كذب أو اعترف وادعى
المسقط طولب ببينة قد يعجز عنها فقبل الاطلاق للضرورة. ونازع البلقيني في جواب دعوى الشفعة، وقال: أكثر الناس
لا يعدون الشفعة مستحقة على المشترى لأنها ليست في ذمته فلا يتعلق به ضمانها كالغصب وغيره، فالجواب المعتبر لا شفعة
لك عندي كما عبر به في الروضة، وعبارة المحرر لا يستحق عليه شفعة اه‍. والمعتمد ما في المتن. ولو ادعت على زوجها
أنه طلقها كفاه في الجواب: أنت زوجتي. ويستثنى من إطلاق المصنف ما لو ادعى عليه وديعة، فلا يكفي في الجواب:
لا يلزمني التسليم، إذ لا يلزمه تسليم وإنما يلزمه التخلية، فالجواب الصحيح أن ينكر الايداع أو يقول: لا تستحق علي
شيئا أو هلكت الوديعة أو رددتها. (ويحلف) المدعى عليه (على حسب) بفتح السين بخطه، ويجوز إسكانها، أي قدر
(جوابه هذا) أو على نفي السبب، ولا يكلف التعرض لنفيه. (فإن) تبرع و (أجاب بنفي السبب المذكور) كقوله في
صورة القرض السابقة: ما أقرضتني كذا، (حلف عليه) أي نفي السبب كذلك ليطابق اليمين الانكار. (وقيل: الحلف بالنفي
المطلق) كما لو أجاب به، والأول راعى مطابقة اليمين للجواب.
469

تنبيه: قضية كلامه أنه إذا أجاب بالاطلاق ليس له الحلف على نفي السبب، وليس مرادا، بل لو حلف على نفيه
بعد الجواب المطلق جاز كما نقلاه عن البغوي وأقراه. (ولو كان بيده مرهون أو مكرى وادعاه) أي كلا منهما (مالكه)
أو نائبه، (كفاه) في الجواب: (لا يلزمني تسليمه) إليك، ولا يجب التعرض للملك، (فلو اعترف بالملك) للمدعي (و)
لكن (ادعى) بعده (الرهن والإجارة) وكذبه المدعي، (فالصحيح أنه لا يقبل) منه ذلك (إلا ببينة) لأن الأصل عدم ما ادعاه.
والثاني: يقبل قوله بدونها لأن اليد تصدقه في ذلك. (فإن عجز) على الأول (عنها وخاف أولا) أنه (إن اعترف بالملك)
للمدعي (جحده) بسكون الحاء المهملة على أنه مصدر مضاف للفاعل، أي خاف أن يجحد المدعي (الرهن والإجارة، فحيلته)
أي المدعى عليه (أن يقول) في الجواب: (إن ادعيت) علي (ملكا مطلقا) عن رهن وإجارة (فلا يلزمني تسليم) لما ادعيته
علي، (وإن ادعيت) علي ملكا (مرهونا) عندي أو مستأجرا (فاذكره لأجيب) عنه، ولا يكون مقرا بذلك. وكذا يقول
في ثمن مبيع لم يقبض. وعكس مسألة المتن لو ادعى المرتهن الدين وخاف الراهن جحود الرهن لو اعترف بالدين، قال
في الجواب: إن ادعيت ألفا لي عندك بها رهن هو كذا فاذكره حتى أجيب، وإن ادعيت ألفا مطلقا فلا يلزمني.
تنبيه: لو ذكر المصنف قوله: أولا بعد قوله: بالملك كان أولى، فإن عبارته توهم تعلق أولا بخاف، ولا معنى له.
(وإذا ادعى عليه عينا) عقارا أو منقولا، (فقال) في الجواب: (ليس هي لي) مقتصرا على ذلك ولم يضفها، (أو) أضافها
المجهول كقوله: و (هي لرجل لا أعرفه) أو لا أسميه، (أو) لمعلوم لا يمكنني مخاصمته وتحليفه كقوله: هي لابني الطفل)
أو المجنون ملك له. ولو عبر بمحجوره كان أولى. (أو) قال: هي (وقف على الفقراء، أو) على (مسجد كذا) وكان
المدعى عليه هو الناظر، (فالأصح أنه لا تنصرف الخصومة) عنه (ولا تنزع) العين (منه) لأن ظاهر اليد لذلك وما
صدر منه ليس بمزيل ولم يظهر لغيره استحقاق. (بل يحلفه المدعي أنه لا يلزمه التسليم) للعين المدعاة (إن لم يكن بينة) بها،
رجاء أن يقر، أو ينكل فيحلف المدعي وتثبت له العين في الأولتين، وفيما لو أضافها لغير معين، والبدل للحيلولة
في غير ذلك. والثاني: تنصرف عنه وينتزع الحاكم العين من يده، فإن أقام المدعي بينة على استحقاقها أخذها، وإلا
حفظها إلى أن يظهر مالكها.
تنبيه: ظاهر كلامه أنه لا يحلفه إلا إذا لم يكن بينة، قال البلقيني: وهو قيد غير معتبر، والذي في المحرر:
بل
يقسم المدعي البينة أو يحلفه أنه لا يلزمه تسليمه اه‍. وهذا معلوم مما مر أن المدعي مخير بين أن يقيم البينة أو يحلفه. ولو ادعاه
المدعى عليه بعد ما ذكر لنفسه سمعت دعواه في أحد وجهين رجحه ابن المقرى تبعا للقاضي مجلي وغيره. (وإن أقر
به) أي بالمذكور (لمعين حاضر) بالبلد (يمكن مخاصمته وتحليفه، سئل) عن ذلك، (فإن صدقه) انصرفت الخصومة
عن المدعى عليه، و (صارت الخصومة معه) أي الحاضر لصيرورة اليد له، والخصومة إنما تدور بين متنازعين.
470

تنبيهات: الأول: كان الأولى للمصنف الاقتصار على قوله: يمكن مخاصمته أو يمكن تحليفه، لأن الجمع بينهما
لا يشترط. الثاني: كلامه يفهم أنه إذا أقر به لمن لا يمكن مخاصمته وهو المحجور عليه لا تنصرف الخصومة عنه، وليس مرادا
، بل تنصرف إلى وليه، وإنما قيده المصنف بذلك لقوله بعد: وصدقه، فإن المحجور عليه لا يصح تصديقه. الثالث:
قوله: صارت الخصومة معه يفهم انصرافها عن المدعى عليه، وليس مرادا، بل للمدعي طلب يمينه بناء على أنه يغرم
له البدل لو أقر له، وهو الأظهر. (وإن كذبه ترك في يد المقر) كما مر تصحيحه في كتاب الاقرار، وأعاد المصنف المسألة
هنا لبعيد التصريح بمقابل الأصح، وهو قوله: (وقيل: تسلم إلى يد المدعي) إذ لا طالب له سواه، (وقيل: يحفظه الحاكم
لظهور مالك) له. (وإن أقر به لغائب) عن البلد ولا بينة تشهد له بملك المدعي به، (فالأصح انصراف الخصومة عنه) إليه
لما مر. وهذا بالنسبة لرقبة المدعي به، أما بالنسبة لتحليف المدعى عليه فلا ينصرف في الأصح بل له تحليفه كما مر.
(ويوقف الامر) في الاقرار بالمدعي به لغائب حيث لا بينة، (حتى يقدم) ذلك (الغائب) لأن المال بظاهر الاقرار
لغيره بدليل أن الغائب لو قدم وصدق أخذه. والثاني: لا تنصرف، وهو ظاهر نص المختصر لأن المال في يده، والظاهر
أنه له. (فإن كان للمدعي بينة قضى) له (بها) وسلمت له العين.
تنبيه: قال البلقيني: كلام المصنف متهافت لأن وقف الامر حتى يقدم الغائب ينافيه قوله: فإن كان للمدعي
بينة قضى بها، وعبارة المحرر سالمة من هذا فإنه قال: فإن لم تكن بينة يوقف الامر إلى أن يحضر الغائب وإن كان
له بينة فيقضي له اه‍. وبما قدرته يندفع الاعتراض. (وهو قضاء على غائب، فيحلف) المدعي (معها) أي البينة كما مر
في باب القضاء على الغائب، لأن المال صار له بحكم الاقرار. وهذا ما نقلاه في الروضة وأصلها عن اختيار الإمام والغزالي،
وقالا: إنه أقوى وأليق بالوجه المفرع عليه. وهذا هو المعتمد. (وقيل) بل هو قضاء (على حاضر) إذ الخصومة معه
فلا يحلف معها، وهذا ما نقلاه عن ترجيح العراقيين، وقال البلقيني: إنه المعتمد. وإن لم يكن للمدعي بينة فله
تحليف
المدعى عليه أنه لا يلزمه تسليمه إليه، فإن نكل حلف المدعي وأخذه، ثم إذا حضر الغائب وصدق المقر رد إليه بلا
حجة لأن اليد له بإقرار صاحب اليد، ثم يستأنف المدعي الخصومة معه. وإن ادعى ذو اليد أنها للغائب وأثبت أنه
وكيل للغائب قدمت بينته بذلك على بينة المدعي لزيادة قوتها إذن بإقرار ذي اليد إليه، فإن لم تقم بينة بوكالته على
الغائب وأقام بينة بالملك الغائب سمعت بينته لا لتثبت العين للغائب لأنه ليس نائبا عنه، بل ليندفع عنه اليمين وتهمة
الإضافة إلى الغائب، سواء تعرضت بينته لكونها في يده بعارية أو غيره أم لا. وهذه الخصومة للمدعي مع المدعى
عليه، وللمدعي مع الغائب خصومة أخرى. ولو قال المدعى عليه: هي معي رهن أو نحوه من الحقوق اللازمة كإجارة،
لم تسمع دعواه مع بينته لتضمنها إثبات الملك للغير بلا نيابة.
تنبيه: للمدعي تحليف المدعى عليه حيث انصرفت الخصومة عنه أنه لا يلزمه تسليمها إليه وأن ما أقر به ملك المقر
له رجاء أن يقر به له أو ينكل فيحلف ويغرمه القيمة بناء على أن من أقر لشخص بشئ بعد ما أقر به لغيره يغرم القيمة
للثاني، فإن نكل عن اليمين وحلف المدعي اليمين المردودة أو أقر له بالعين ثانيا وغرم له القيمة ثم أقام المدعي بينة
بالعين أو حلف بعد نكول المقر له رد القيمة وأخذ العين لأنه أخذها للحيلولة، وقد زالت.
فرع: لو ادعى جارية على منكرها فاستحقها بحجة ووطئها وأولدها ثم أكذب نفسه لم تكن زانية
بذلك لأنها تنكر ما يقول ولم يبطل الايلاد وحرية الولد، لأن إقراره لا يلزم غيره بأن وافقته الجارية على ذلك، إذ
لا يرفع ما حكم به برجوع محتمل فيلزمه المهر إن لم تعترف هي بالزنا ويلزمه الأرش إن نقضت ولم يولدها وقيمة الولد
وأمه إن أولدها ولا يطؤها بعد ذلك إلا بشراء جديد، فإن مات عتقت عملا بقوله الأول ووقف ولاؤها إن مات قبل
471

شرائها، وكذا الحكم وأنكر صاحب اليد وحلف أنها له وأولدها ثم أكذب نفسه فيأتي فيها جميع ما مر. واعلم
أن ما سبق هو في جواب المدعى عليه الحر، فإن كان رقيقا فحكم جواب دعواه مذكور في قاعدة أشار إليها بقوله: (و)
هي (ما قبل إقرار عبد به كعقوبة) لآدمي من حد أو قصاص، (فالدعوى) بذلك (عليه، و) كذا (عليه) أيضا
(الجواب) لها لأنه لا يقبل إقراره في ذلك دون السيد لعود أثر ذلك عليه. وخرج بالآدمي عقوبة الله تعالى، فلا تسمع
فيها الدعوى ولا يطالب الجواب كما جزما به بعد في الكلام على الحالف لأنها ليست حقا للمدعي، ومن له الحق
لم يأذن في الطلب والاثبات.
تنبيه: تصح الدعوى أيضا على الرقيق بدين معاملة تجارة أذن فيها سيده. وأورد على المصنف دعوى قتل
خطأ أو شبه عمد في محل لوث فإنها تكون على الرقيق لأنه لا يقبل إقراره به لأن الولي يقسم وتتعلق الدية برقبة
الرقيق، صرح به الرافعي في الشرط الرابع في كتاب القسامة. (وما لا) يقبل إقراره به (كأرش) لتعييب أو
إتلاف،
(فعلى السيد) الدعوى به، وعليه أيضا جوابها، لأن الرقبة التي هي متعلقها حق السيد فإقرار الرقيق فيها لا يقبل، فلو
ادعى عليه ففي سماعها وجهان، قال الرافعي: والوجه أنها تسمع لاثبات الأرش في الذمة إلا لتعلقه بالرقبة، قال تفريعا
على الأصلين: يعني أن الأرش المتعلق بالرقبة يتعلق بالذمة أيضا وأن الدعوى تسمع بالمؤجل، قاله البلقيني. فيخرج
منه أن الأصح أنها لا تسمع عليه بذلك لأن الأصح أنه لا يتعلق بالذمة ولا تسمع الدعوى بالمؤجل، وبهذا جزم
صاحب الأنوار.
تتمة: قد تكون الدعوى والجواب على كل من الرقيق وسيده كما في نكاح العبد أو المكاتبة، فإنه إنما يثبت
بإقرارهما لأنه لا بد من اجتماعهما على التزويج، فلو أقر سيد المكاتبة بالنكاح وأنكرت حلف، فإن نكلت وحلف
المدعي حكم بالزوجية، ولو أقرت فأنكر السيد حلف السيد، فإن نكل حلف المدعي وحكم له بالنكاح، ويأتي مثل
ذلك في المبعضة.
فصل: في كيفية الحلف والتغليظ فيه وفي ضابط الحالف: (تغلظ) ندبا (يمين مدع) اليمين المردودة أو مع
الشاهد واليمين، (و) تغلظ ندبا أيضا يمين (مدعى عليه) وإن لم يطلب الخصم تغليظها (فيما ليس بمال ولا يقصد به
مال) كنكاح وطلاق ولعان وقود وعتق وإيلاد ووصاية ووكالة. قال الغزالي: التغليظ يجري في كل حالة خطر مما
لا يثبت برجل وامرأتين اه‍. فإن قيل: يرد على هذا الولادة والرضاع وعيوب النساء فإنها تثبت برجل وامرأتين
ويجري فيها التغليظ. أجيب بأنه ليس قبول شهادة الرجل والمرأتين والنساء المتمحضات لقلة خطرها، بل لأن الرجال
لا يطلعون عليها غالبا، وقد صرح الشيخان بهذا الجواب بالنسبة إلى شهادة النساء المتمحضات والمعنى في التغليظ أن
اليمين موضوعة للزجر عن التعدي، فشرع التغليظ مبالغة وتأكيدا للردع، فاختص بما هو متأكد في نظر الشرع
كهذه المذكورات. وتوقف الإمام في الوكالة، وقال: التغليظ فيها إنما يكون فيما يعظم خطره، والوكالة في درهم لا تزيد
على ملك الدرهم، فلا يبعد منع التغليظ فيها، ولكن إطلاق الأصحاب كما ذكرناه اه‍. (وفي مال يبلغ نصاب زكاة)
لا فيما دونه لأنه الموصوف في نظر الشرع، ولذلك أوجب المواساة فيه. نعم للقاضي ذلك فيما دون النصاب إن رآه
لجراءة يجدها في الحالف.
تنبيه: قضية كلام المصنف التغليظ في أي نصاب كان من نعم ونبات وغيرهما، وهو وجه حكاه الماوردي،
ويلزم عليه التغليظ في خمسة أوسق من شعير وذرة وغيرهما لا يساوي خمسين درهما، والذي في الروضة وأصلها اعتبار
عشرين مثقالا ذهبا أو مائتي درهم فضة تحديدا، والمنصوص في الام والمختصر اعتبار عشرين دينار عينا أو قيمة،
وقال البلقيني: إنه المعتمد حتى لو كان المدعى به من الدراهم اعتبر بالذهب اه‍. والأوجه كما قاله شيخنا اعتبار عشرين
472

دينارا أو مائتي درهم أو ما قيمته أحدهما، وحقوق الأموال كالخيار والأجل. وحق الشفعة إن تعلقت بمال هو نصاب غلظ
فيها وإلا فلا. واحتج للتغليظ بما رواه الشافعي والبيهقي عن عبد الرحمن بن عوف: أنه رأى قوما يحلفون بين المقام والبيت،
فقال: أعلى دم؟ فقالوا: لا، فقال: أفعلى عظيم من المال؟ قالوا: لا، قال: خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام. ويستوى
فيه يمين المدعى عليه والمدعي ولو مع شاهد كما مر، وقد يقتضي الحال التغليظ من أحدهما دون الآخر كعبد خسيس
لا تبلغ قيمته نصاب الزكاة ادعى على سيده عتقا أو كتابة فأنكر ونكل فتغلظ اليمين على العبد لأن مدعاه ليس بمال،
لا على سيده إذا حلف، لأن قصده استدامة مال قليل، وتغلظ في الوقف إن بلغ نصابا على المدعي والمدعى عليه.
وأما الخلع بالقليل من المال إن ادعاه الزوج وأنكرت الزوجة وحلف أو نكلت وحلف هو فلا تغليظ على واحد منهما،
وإن ادعته وأنكر وحلف أو نكل وحلفت هي غلظ عليهما، لأن قصدها الفراق وقصده استدامة النكاح. أما الخلع
بالكثير فتغلظ فيه مطلقا، ولا تغلظ على حالف أنه لا يحلف يمينا مغلظة بناء على أن التغليظ مستحب ولو كان حلفه
بغير الطلاق كما هو قضية النص وإن قيده في الروض كأصله بالطلاق (وسبق بيان التغليظ) بالزمان والمكان وحضور
جمع (في) أثناء كتاب (اللعان) لكن لا يغلظ هنا بحضور جمع كما صوبه في زيادة الروضة.
تنبيه: قضية كلامه انحصار التغليظ فيما سبق، وليس مرادا بل يندب التغليظ بزيادة الأسماء والصفات أيضا كأن
يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم السر والعلانية، أو: بالله الطالب الغالب
المدرك المهلك الذي يعلم السر وأخفى، كذا قالاه تبعا لجمع من الأصحاب. فإن قيل: هذا لا يجوز لأن صفات الله تعالى
لا بد فيها من توقيف، ولم يرد توقيف في الطالب الغالب. أجيب بأن هذا من قبل أسماء المفاعلة الذي غلب فيه معنى الفعل
دون الصفة فالتحق بالافعال، وإضافة الافعال إلى الله تعالى لا تتوقف على توقيف، ولذلك توسع الناس في ذلك
في تحميداتهم وتمجيداتهم وغيرها. قال الأذرعي: والأحوط اجتناب هذه الألفاظ، ولهذا لم يذكره الشافعي وكثير من
الأصحاب اه‍. وهو كما قال. واستحب الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم أن يقرأ على الحالف: * (إن الذين يشترون بعهد
الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * الآية، ويحضر المصحف ويوضع في حجر الحالف، قال الشافعي: وكان ابن الزبير ومطرف
قاضي صنعاء يحلفان به، وهو حسن وعليه الحكام باليمين. وقال رضي الله عنه في باب كيفية اليمين من الام: وقد كان
من حكام الآفاق من يستحلف على المصحف، وذلك عندي حسن. وقال القاضي الحسين: وهذا التغليظ مستحب.
هذا إذا كان الحالف مسلما، فإن كان يهوديا حلفه القاضي: بالله الذي أنزل التوراة على موسى ونجاه من الغرق
، أو نصرانيا
حلفه: بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، أو مجوسيا أو وثنيا حلفه: بالله الذي خلقه وصوره. قال الدارمي: ولا يحلفهم
بما يجهل كقوله: والله الذي أرسل كذا أو أنزل كذا لرسول وكتاب لا يعرفهما. ويستثنى من إطلاق المصنف المريض
الذي به مرض شاق والزمن والحائض والنفساء، فلا يغلظ عليهم بالمكان لعذرهم. ولا يجوز لقاض أن يحلف أحدا
بطلاق أو عتق أو نذر كما قاله الماوردي وغيره. قال الشافعي ومتى بلغ الإمام أن قاضيا يستحلف الناس بطلاق أو
عتق أو نذر عزله عن الحكم لأنه جاهل. وقال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من أهل العلم يرى الاستحلاف بذلك.
ثم شرع في كيفية اليمين بقوله: (ويحلف) الشخص (على البت) بمثناة فوقية وهو القطع والجزم، (في فعله) إثباتا كان
أو نفيا لأنه يعلم حال نفسه ويطلع عليها، فيقول في البيع والشراء في الاثبات: والله لقد بعت بكذا
أو اشتريت بكذا، وفي النفي: والله ما بعت بكذا ولا اشتريت بكذا.
تنبيه: قضية التوجيه بما ذكر أنه لو صدر الفعل منه في جنونه أو إغمائه أو سكره الطافح وتوجهت اليمين
عليه بعد كماله أنه لا يحلف على البت، قال ابن شهبة: ولم أره منقولا اه‍. والظاهر أنهم جروا في ذلك على الغالب.
(وكذا فعل غيره) يحلف فيه أيضا على البت (إن كان إثباتا) كبيع وإتلاف وغصب لأنه يسهل الوقوف عليه، كما
473

أنه يشهد به. (وإن كان نفيا) مطلقا (فعلى) أي يحلف على (نفي العلم) أي أنه لا يعلم فيقول: والله ما علمت أنه فعل
كذا، لأن النفي المطلق يعسر الوقوف عليه ولا يتعين فيه ذلك، فلو حلف على البت اعتد به كما قاله القاضي أبو الطيب
وغيره، لأنه قد يعلم ذلك.
تنبيه: محل ما ذكر في النفي المطلق، أما النفي المحصور فكالاثبات في إمكان الإحاطة به كما في آخر الدعاوى من
الروضة فيحلف فيه على البت. قال الزركشي: وظاهر كلام المصنف حصر اليمين في فعله وفعل غيره، وقد يكون
اليمين على تحقيق موجود لا إلى فعل ينسب إليه ولا إلى غيره مثل أن يقول لزوجته: إن كان هذا الطائر غرابا فأنت
طالق فطار ولم يعرف فادعت أنه غراب وأنكر، وقد قال الإمام إنه يحلف على البت اه‍. قال الشيخان تبعا للبندنيجي
وغيره: والضابط أن يقال: كل يمين فهي على البت إلا على نفي فعل الغير. وأورد على الضابط المودع إذا ادعى تلف الوديعة
فلم يحلف، فإن المذهب كما قاله الإمام أن المودع يحلف على نفي العلم. وقال البلقيني في حواشي الروضة: الاختصار المعتبر
أن يقال: يحلف على البت في كل يمين إلا فيما يتعلق بالوارث فيما ينفيه، وكذلك العاقلة بناء على أن الوجوب يلاقي القاتل
ابتداء. (ولو ادعى) على شخص (دينا لمورثه فقال) المدعى عليه: (أبرأني) مورثك منه وأنت تعلم ذلك، (حلف)
المدعي (على نفي العلم بالبراءة) مما ادعاه، لأنه حلف على نفي فعل غيره.
تنبيه: لا بد أن يقول مع قوله: أبرأني منه: وأنت تعلم ذلك كما قدرته في كلامه. قالا: وكل ما يحلف المنكر فيه
على نفي العلم يشترط في الدعوى عليه التعرض للعلم. قال البلقيني: ومحله إذا علم المدعي أن المدعى عليه يعلم ذلك
فإن لم يعلم لم يسعه أن يقول وهو يعلم ذلك، ومثل دعوى البراءة دعوى الاستيفاء أو الحوالة أو الاعتياض. ثم أشار
لاستثناء مسألتين من أن الحلف على فعل الغير يكون على النفي بقوله: (ولو قال) في الدعوى على سيد بما لا يقبل فيه إقرار
العبد عليه، كقوله: (جنى عبدك علي بما يوجب كذا) وأنكر، (فالأصح حلفه) أي السيد (على البت) لأن عبده ماله
وفعله كفعله ولذلك سمعت الدعوى عليه. والثاني: على نفي العلم لتعلقه بفعل الغير.
تنبيه: محل الخلاف في العبد العاقل، فإن كان مجنونا حلف السيد على البت قطعا، لأن المجنون كالبهيمة.
قال البلقيني: ولو أمر عبده الذي لا يميز أو الأعجمي الذي يعتقد وجوب طاعة السيد في كل ما أمره به فالجاني هو السيد
فيحلف قطعا. (قلت) كما قال الرافعي في الشرح: (ولو قال جنت بهيمتك) على زرعي مثلا فعليك ضمانه فأنكر
مالكها، (حلف على البت قطعا، والله أعلم) لأنه لا ذمة لها وضمان جنايتها بتقصيره في حفظها لا بفعلها، وهذا أمر
يتعلق بنفس الحالف.
تنبيه: ما أطلقه من حلف المالك ظاهر إذا كانت وحدها أو في يد مالكها، أما إذا كانت في يد غيره ممن يتوجه عليه
الضمان بإتلافها كالمستأجر والمستعير والغاصب فالظاهر كما قال الأذرعي وغيره أن الدعوى واليمين عليه دون مالك الرقبة
، ويحلف على البت أيضا، ففي فتاوى ابن الصلاح: لو كانت الدابة بيد أجير فالدعوى واليمين عليه ويحلف على القطع فإن
فعلها منسوب إليه، ولا يشترط في الحلف على البت اليقين، (و) حينئذ (يجوز البت) في الحلف (بظن مؤكد يعتمد)
فيه الحالف (خطه أو خط أبيه) مثلا إذا وثق بخطه وأمانته كما قيده في باب القضاء، وقد يفهم ذلك من لفظ الظن،
ويقال: لا يحصل الظن إلا إذا كان بهذه الصفة.
تنبيه: قضية إطلاق المصنف جواز الحلف اعتمادا على خط نفسه وإن لم يتذكر، ولكن الذي في الروضة
وأصلها أنه لا يجوز الحلف حتى يتذكر، قال في التوشيح: وقد يقال لا يتصور الظن المؤكد في حق نفسه ما لم يتذكر
474

بخلاف خط الأب اه‍. وظاهر كلام المصنف انحصار ذلك في خطه وخط أبيه، وليس مرادا، ولهذا زدت مثلا في كلامه،
إذ نكول خصمه مما يحصل به الظن المؤكد كما جزم به في الروضة وأصلها، وإن نازع فيه البلقيني، فلو قال
: كاعتماد
خطه إلخ كان أولى. (وتعتبر) في الحلف (نية القاضي المستحلف) للخصم، سواء أكان موافقا للقاضي في مذهبه
أم لا، لحديث: اليمين على نية المستحلف رواه مسلم، وحمل على الحاكم لأنه الذي له ولاية الاستحلاف، والمعنى فيه أنه
لو اعتبرت نية الحالف لبطلت فائدة الايمان وضاعت الحقوق، إذ كل أحد يحلف على ما يقصد، فإذا ادعى حنفي على
شافعي شفعة الجوار والقاضي يعتقد إثباتها فليس للمدعى عليه أن يحلف على عدم استحقاقها عليه عملا باعتقاده، بل
عليه اتباع القاضي.
تنبيه: كان الأولى للمصنف أن يقول: من له ولاية التحليف بدل القاضي ليشمل الإمام الأعظم والمحكم
أو غيرهما ممن يصح أداء الشهادة عنده. قال البلقيني: محل ما ذكر إذ لم يكن الحالف محقا لما نواه، وإلا فالعبرة بنيته
لا بنية القاضي اه‍. ومراده بالمحق على ما يعتقده القاضي، فلا ينافيه ما مر فيما لو كان القاضي حنفيا فحكم على شافعي
بشفعة الجوار من أنه ينفذ حكمه، وأنه إن استحلف فحلف لا يستحق علي شيئا أثم. أما إذا حلفه الغريم أو غيره ممن
ليس له ولاية التحليف أو حلفه من له ذلك بغير طلبه فالعبرة بنية الحالف، وكذا لو حلف هو بنفسه ابتداء كما قاله في زيادة
الروضة. (فلو ورى) الحالف في يمينه بأن قصد خلاف ظاهر اللفظ عند تحليف من له ولاية التحليف، كقوله: لا يستحق
علي درهما ولا دينارا ولا أقل من ذلك ولا أكثر، فدرهم قبيلة ودينار رجل معروف، وماله قبلي ثوب ولا شفعة ولا قميص،
فالثوب الرجوع والشفعة العبد والقميص غشاء القلب، (أو تأول) بأن اعتقد الحالف (خلافها) أي خلاف نية القاضي،
كحنفي حلف شافعيا على شفعة الجوار فحلف أنه لا يستحقها عليه، (أو استثنى) الحالف كقوله عقب يمينه: إن شاء الله،
أو وصل باللفظ شرطا ك‍ إن دخلت الدار (بحيث لا يسمع القاضي) ذلك، (لم يدفع) ما ذكر (إثم اليمين الفاجرة)
لأن اليمين شرعت ليهاب الخصم الاقدام عليها خوفا من الله تعالى، فلو صح تأويله لبطلت هذه الفائدة، فإن كل شئ
قابل للتأويل في اللغة. فإن قيل: كيف تصوير الاستثناء هنا فإنه لا يصح في الماضي، إذ لا يقال: والله ما أتلفت أو مالك
على شئ إن شاء الله؟ أجيب بأن المراد توجيه الاستثناء إلى عقد اليمين، فيكون المعنى: تنعقد يميني إن شاء الله تعالى.
أما إذا وجه إلى نفس الفعل فإنه لا يصح، لأن الاستثناء إنما يكون في المستقبل كالشرط.
تنبيه: محل كون ما ذكر لا يدفع إثم اليمين مقيد بأمرين، أحدهما: أن يكون الحلف بالله تعالى، فإن حلفه
القاضي بالطلاق أو العتاق فحلف وورى نفعته التورية وإن كانت حراما حيث يبطل بها حق المستحق، لأنه ليس له
التحليف بهما كما قاله المصنف في شرح مسلم، وقال في المهمات: فإن كان القاضي يرى التحليف بالطلاق كالحنفي فحلفه
به نفعته التورية، كذا ذكره النووي في الأذكار في باب التورية اه‍. ونوزع بأنه ليس في كلام النووي تصويرها بأن
يرى القاضي ذلك، بل ظاهر كلامه يقتضي أن محله فيمن لا يراه، لأنه قال: لأنه لا يجوز للقاضي تحليفه بالطلاق
فهو كغيره من الناس اه‍. فعلم أن من يراه لا تنفع التورية عنده. الأمر الثاني: أن لا يكون ظالما في نفس الامر، فقد
ذكر في الوديعة أن الظالم إذا طلب منه الوديعة فينكر، فإن اكتفى باليمين فليحلف ولا إثم عليه ولو قدر على
التورية كما هو مقتضى كلامهم، ومثله لو ادعى على المعسر فقال: لا يستحق علي ونوى بالاستحقاق التسليم الآن صح
تأويله ولا يؤاخذ بيمينه لانتفاء المفسدة السابقة، بل خصمه ظالم بمطالبته إن علم ومخطئ إن جهل. واحترز المصنع
بقوله: بحيث لا يسمع عما إذا سمع فإنه يعزره ويعيد اليمين، وإن وصل بها كلاما لم يفهمه القاضي منعه وأعاد اليمين، فإن
قال: كنت أذكر الله تعالى، قيل له: ليس هذا وقته. ولما انقضى الكلام على الحلف وكيفيته شرع في ضابط الحلف
475

بقوله: (و) كل (من توجهت) أي وجبت (عليه يمين) بأن ألزم بها في دعوى صحيحة (لو أقر بمطلوبها)
أي الدعوى (لزمه) ذلك المطلوب (فأنكر حلف) بضم أوله بخطه، لخبر: البينة على المدعي واليمين على المنكر
رواه البيهقي، وفي الصحيحين خبر: اليمين على المدعى عليه.
تنبيه: قوله: يمين وقع في نسخة المصنف ونسب لسبق القلم، وصوابه دعوى كما في المحرر والشرحين والروضة.
وقوله: فأنكر بين ذلك، لأن الانكار يكون بعد الدعوى لا بعد طلب اليمين، وقد يندفع هذا الاعتراض بما قدرته
في كلامه. قال السبكي في الحلبيات: وتعبير المنهاج صحيح، وإنما عدل عن الدعوى إلى اليمين لأنه قد يطلب اليمين
من غير دعوى فيما إذا طلب القاذف يمين المقذوف أو وارثه، أي المطالب له أنه ما زنى، فإنه إذا ادعى وطلب اليمين أو
طلبها من غير دعوى أجيب إلى تحليفه على الصحيح، إذ له غرض في أن لا يدعي الزنا حتى لا يكون قاذفا ثانيا.
لكن قد يحتاج على هذا أن قوله توجهت عليه بمعنى طلبت منه، قال: لكن قوله بعد فأنكر غير متضح، فإن الانكار
يكون بعد الدعوى لا بعد طلب اليمين إلا أن يريد أنه صمم على الانكار اه‍. ثم إن حلف المقذوف أو وارثه حد القاذف،
وإن نكل وحلف القاذف سقط عنه الحد ولم يثبت الزنا بحلفه كما مرت الإشارة إليه في الزنا. وخرج بما لو أقر بمطلوبها
لزمه نائب المالك كالوصي والوكيل فلا يحلف لأنه لا يصح إقراره. وعبر في الروضة في ضابط الحلف بأنه كل من
يتوجه عليه دعوى صحيحة، ثم حكى ضابط المتن بقيل، قال الزركشي تبعا للسبكي: والظاهر أن الثاني شرح
للأول
لأن الدعوى الصحيحة تقتضي ذلك فلا اضطراب حينئذ. وما ذكره المصنف ليس ضابطا لكل حالف، فإن اليمين
مع الشاهد الواحد لا يدخل فيه ولا يمين الرد ولا إيمان القسامة واللعان وكأنه أراد الحالف في جواب دعوى أصلية،
وأيضا فهو غير مطرد لاستثنائهم منه صورا كثيرة أشار في المتن لبعضها بقوله: (ولا يحلف قاض على تركه الظلم) في حكمه،
(ولا) يحلف (شاهد أنه لم يكذب) في شهادته لارتفاع منصبهما عن ذلك. واحترزت بقوله: في حكمه عما إذا لم يتعلق
بحكمه كدعوى مال وغيره فهو كغيره، ويحكم فيه خليفته أو قاض آخر، وهذه المسألة قد تقدمت في كتاب القضاء.
(ولو قال مدعى عليه: أنا صبي) واحتمل ذلك، (لم يحلف ووقف) أمره في الخصومة (حتى يبلغ) فيدعى عليه. وإن كان
لو أقر بالبلوغ في وقت احتماله قبل، لأن حلفه يثبت صباه، وصباه يبطل حلفه، ففي تحليفه إبطال تحليفه. نعم الكافر
المسبي المنبت إذا قال: تعجلت العانة حلف وجوبا في الأظهر لسقوط القتل، بناء على أن الانبات علامة للبلوغ، فإن نكل
قتل ولو كان دعوى الصبا من غيره، كما إذا ادعى له وليه مالا، وقال المدعى عليه: من تدعي له المال بالغ فللولي طلب
يمين المدعى عليه أنه لا يعلمه صغيرا، فإن نكل لا يحلف الولي على صباه. وهل يحلف الصبي؟ وجهان في فتاوى القاضي
بناء على القولين في الأسير. ويستثنى مع استثناء المصنف مسائل: منها ما لو علق الطلاق على شئ من أفعال المرأة
كالدخول فادعته المرأة وأنكره الزوج، فالقول قوله، فلو طلبت المرأة تحليفه على أنه لا يعلم وقوع ذلك لم يحلف، نعم
إن ادعت وقوع الفرقة حلف على نفيها كما نقله الرافعي عن القفال وأقره. ومنها ما إذا ادعت الجارية الوطئ وأمية الولد
وأنكر السيد أصل الوطئ، فالصحيح في أصل الروضة أنه لا يحلف. وصوب البلقيني التحليف سواء أكان هناك ولد
أم لم يكن، وصوب السبكي حمل ما في الروضة على ما إذا كانت المنازعة لاثبات النسب، فإن كانت لامية الولد ليمتنع
من بيعها وتعتق بعد الموت فيحلف. قال: وقد قطعوا بتحليف السيد إذا أنكر الكتابة، وكذا التدبير إذا قلنا إن إنكاره
ليس برجوع. ومنها ما لو طلب الإمام الساعي بما أخذه من الزكاة فقال: لم آخذ شيئا لم يحلف وإن كان لو أقر بالأخذ
لزمه، حكاه شريح في روضته عن الأصحاب. ومنها ما لو قسم الحاكم المال بين الغرماء فظهر غريم آخر وقال لاحد
الغرماء، أنت تعلم وجوب حقي وطلب يمينه لم يلزمه، حكاه الشيخان عن العبادي. ومنها ما لو ادعى من عليه زكاة
مسقطا لم يحلف إيجابا مع أنه لو أقر بمطلوب الدعوى لزمه.
476

تنبيه: قد يفهم قول المصنف: لو أقر بمطلوبها فأنكر أن من لا يقبل إقراره لا يحلف، وهو كذلك، لكن يستثنى
منه صورتان: الأولى لو ادعى على من يستخدمه أنه عبد فأنكر فإنه يحلف وهو لو أقر بعد إنكاره الرق لم يقبل،
لكن فائدة التحليف ما يترتب على التفويت من تغريم القيمة لو نكل. الثانية: لو جرى العقد بين وكيلين فالأصح في
زوائد الروضة في اختلاف المتبايعين تحالفهما مع أن إقرار الوكيل لا يقبل، لكن فائدته الفسخ. ثم شرع في بيان فائدة
اليمين فقال: (واليمين) غير المردودة (تفيد قطع الخصومة) وعدم المطالبة (في الحال) و (لا) تفيد (براءة) لذمة
المدعى عليه، لما رواه أبو داود والنسائي والحاكم عن ابن عباس: أن النبي (ص) أمر رجلا بعد ما حلف
بالخروج من حق صاحبه كأنه (ص) علم كذبه كما رواه أحمد. على أن اليمين لا توجب براءة، (فلو
حلفه) المدعى عليه (ثم أقام) المدعي (بينة) بمدعاة شاهدين فأكثر، وكذا شاهد ويمين كما قاله ابن الصباغ وغيره،
(حكم بها) وإن نفاها المدعى حين الحلف، لقوله (ص): البينة العادلة حق من اليمين الفاجرة رواه البخاري.
فإن قيل: ينبغي أن لا يحكم بالبينة بعد اليمين، لقوله (ص): شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك، فنص على
أنه ليس له إلا أحدهما لا كلاهما. أجيب بأنه حصر حقه في النوعين، أي لا ثالث لهما وأما منع جمعهما فلا
دلالة للحديث عليه.
تنبيه: لو ردت اليمين على المدعي فنكل ثم أقام بينة حكم بها لاحتمال أن يكون نكوله للتورع عن اليمين الصادقة.
ولو قال بعد إقامة بينة بدعواه: بينتي كاذبة أو مبطلة سقطت ولم تبطل دعواه. واستثنى البلقيني ما إذا أجاب المدعى
عليه وديعة بنفي الاستحقاق وحلف عليه، فإن حلفه يفيد البراءة حتى لو أقام المدعي بينة بأنه أودعه الوديعة المذكورة لم
تؤثر فإنها لا تخالف ما حلف عليه من نفي الاستحقاق.
فرع: لو اشتملت دعوى على شخص واحد على أنواع وأراد المدعي أن يحلفه على بعضها دون بعض أجيب،
ولو أراد أن يحلفه على كل نوع منها يمينا نظر، إن فرقها في الدعوى أجيب، وإلا فلا، قاله الماوردي. (ولو قال المدعى
عليه) الذي طلب المدعي تحليفه: (قد حلفني مرة) على ما ادعاه فليس له تحليفي ثانيا (فليحلف أنه لم يحلفني) قبل ذلك،
(مكن) من تحليفه المدعي (في الأصح) لأن ما قاله محتمل غير مستبعد. والثاني: المنع، لأنه لا يؤمن أن يدعي المدعي أنه
حلف على أنه ما حلفه، وهكذا فيدور الامر ولا ينفصل. وأجيب بعدم سماع ذلك من المدعي لئلا يتسلسل. وعلى
الأول لو نكل المدعى حلف المدعى عليه وتخلص من الخصومة، فلو قصد أن يحلف يمين الأصل لا يمين التحليف
المردودة عليه فليس له ذلك إلا بعد استئناف الدعوى لأنهما الآن في دعوى أخرى.
تنبيه: هذا كله إذا قال: حلفني عند قاض آخر أو أطلق، فإن قال: حلفني عندك، فإن حفظ القاضي ذلك لم
يحلفه ومنع المدعي من طلبه، وإن لم يحفظه حلفه ولا ينفعه إقامة البينة عليه، لأن القاضي متى تذكر حكمه
أمضاه وإلا فلا
يعتمد غيره. قال الأذرعي: ويشبه أن يقال عند الاطلاق يستفسره القاضي لأنه قد يحلفه ويظن أنه كتحليف القاضي،
لا سيما إذا كان خصمه لا يتفطن لذلك. ثم شرع في بيان النكول وحكمه فقال: (وإذا نكل) المدعى عليه عن يمين
طلبت منه، (حلف المدعي) اليمين المردودة لتحول الحق إليه، (وقضى له) بمدعاه، (ولا يقضى بنكوله) أي المدعى
عليه خلافا لأبي حنيفة وأحمد لأنه (ص) رد اليمين على طالب الحق رواه الحاكم وصحح إسناده، وقال
تعالى: * (أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم) * أي بعد الامتناع من الايمان الواجبة، فدل على نقل الايمان من جهة إلى
جهة، المعنى أن النكول كما يحتمل أن يكون تحرزا عن اليمين الكاذبة يحتمل أن يكون تورعا عن اليمين الصادقة
فلا يقضى مع التردد.
477

تنبيه: ظاهر قوله: وقضى له توقف الاستحقاق على الحكم وأنه لا يثبت بمجرد الحلف، لكن الأرجح في
أصل الروضة عدم التوقف. (والنكول) لغة مأخوذ من نكل عن العدو وعن اليمين جبن، وشرعا: (أن يقول) المدعى
عليه بعد عرض القاضي اليمين عليه: (أنا نأكل) عنها، (أو يقول له القاضي: احلف، فيقول: لا أحلف) لصراحتهما
في الامتناع، فيرد اليمين وإن لم يحكم القاضي بالنكول.
تنبيه: أورد على حصر المصنف النكول فيما ذكره ما لو قال له: قل بالله فقال بالرحمن، ففي أصل الروضة أنه
نكول، ولو قال له: قل بالله، فقال: والله، أو تالله، فهل هو نكول في الصورة الأولى أو لا؟ وجهان، صحح البلقيني منهما أنه
لا يكون نكول، ونسبه للنص، وصوبه الزركشي. قال الشيخان: ويجريان فيما لو غلظ عليه باللفظ أو بالزمان أو المكان
وامتنع. وصحح البلقيني أيضا أنه لا يكون نكولا، وهو الظاهر، لأن التغليظ بذلك ليس واجبا فلا يكون الممتنع منه
ناكلا. وقال القفال في التغليظ اللفظي: الأصح أنه نأكل. وقطع بعضهم به في المكاني والزماني لا اللفظي. ولو قال له:
قل تالله - بالمثناة فوق - فقال بالموحدة، قال الشيخان عن القفال: يكون يمينا لأنه أبلغ وأشهر. (فإن سكت) بعد عرض
اليمين عليه لا لدهشة ونحوها، (حكم القاضي بنكوله) كما أن السكوت عن الجواب في الابتداء نازل منزلة الانكار،
ولا بد من الحكم هنا ليرتب عليه رد اليمين، بخلاف ما لو صرح بالنكول يرد وإن لم يحكم القاضي. وللخصم العود إلى
الحلف بعد نكوله ما لم يحكم بنكوله حقيقة أو تنزيلا على المعتمد، وإلا فليس له العود إلا برضا المدعي والمدعى عليه كقوله:
جعلتك نأكل أو نكلتك بالتشديد. ويسن القاضي أن يعرض اليمين على المدعى عليه ثلاث مرات، والاستحباب
فيما إذا سكت أكثر منه فيما إذا صرح بالنكول وبين النكول للجاهل به كان يقول له: إن نكلت عن اليمين
حلف المدعي وأخذ منك الحق، وليس هذا من تلقين الدعوى فإن لم يفعل وحكم بنكوله نفذ حكمه لتقصير
المدعى عليه بترك البحث عن حكم النكول. (وقوله) أي القاضي في صورة السكوت (للمدعي احلف حكم بنكوله) أي
المدعى عليه، وفي الروضة كأصلها منزل منزلة الحكم فليس للمدعى عليه أن يحلف بعد هذا إلا برضا المدعي كما مر،
لأن الحق له. (واليمين المردودة) برد المدعى عليه أو القاضي، (كبينة) يقيمها المدعي (وفي الأظهر كإقرار المدعى
عليه) لأنه بنكوله توصل للحق فأشبه إقراره. ويتفرع على القولين ما أشار إليه بقوله: (فلو أقام المدعى عليه بعدها
بينة أو إبراء) أو غيره من المسقطات، (لم تسمع) على الثاني وإن خالف في ذلك البلقيني لتكذيبه لها بإقرار، وتسمع
على الأول.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف أنه لا فرق في ذلك بين كون المدعى عينا أو دينا، وهو كذلك. وتوهم بعض الشراح
من قول المصنف: إبراء أن ذلك في الدين فقط وأن بينته تسمع في العين على الثاني أيضا. (فإن لم يحلف المدعي) يمين
الرد (ولم يتعلل بشئ) أي لم يبد علة ولا عذرا ولا طلب مهلة، (سقط حقه من اليمين) المردودة وغيرها لاعراضه
وليس له ردها على المدعى عليه، لأن المردودة لا ترد. (وليس له) في هذا المجلس ولا غيره (مطالبة خصمه) إلا أن
يقيم بينة، كما لو حلف المدعى عليه. (وإن تعلل بإقامة بينة) أو سؤال فقيه هل يجوز له الحلف أو لا، (أو مراجعة
حساب) أو بأن يتروى، (أمهل ثلاثة أيام) ولا يزاد عليها، لأنها مدة معتبرة شرعا، وفي الزيادة عليها إضرار
بالمدعي، فإن لم يحلف بعدها سقط حقه من اليمين. (وقيل) يمهل (أبدا) لأن اليمين حقه فله تأخيره إلى أن يشاء
478

كالبينة. وفرق الأول بأن البينة قد لا تساعده ولا تحضر واليمين إليه. وهل هذا الامهال واجب أو مندوب؟ وجهان،
والظاهر الأول. (وإن استمهل المدعى عليه حين استحلف لينظر حسابه لم يمهل) إلا برضا المدعي، لأنه مقهور على
الاقرار واليمين، بخلاف المدعي فإنه مختار في طلب حقه وتأخيره. (وقيل) يمهل (ثلاثة) من الأيام كالمدعي، واختاره
الروياني. واحترز المصنف بقوله: لينظر حسابه عما لو استمهل ليقيم بينة على دافع من أداء أو إبراء فإنه يمهل ثلاثة كما
سبق أول الباب. (ولو استمهل) المدعى عليه، أي طلب الامهال (في ابتداء الجواب) ليراجع حسابه ونحوه، (أمهل
إلى آخر المجلس). قال في الروضة: إن شاء المدعي. وقال ابن المقرى في روضه تبعا للطاوسي في التعليقة على الحاوي
والبارزي: إن شاء القاضي، وهو ظاهر كلام الرافعي. وهذا أولى، لأن المدعي له الترك بالكلية ثم يحلف بلا
تجديد دعوى، كما لو حضر موكل المدعي بعد نكول الخصم له أن يحلف بلا تجديد دعوى، ونكول المدعي مع
شاهده
كنكوله عن المردودة، فإن قال للمدعى عليه احلف سقط حقه من اليمين فلا ينفعه إلا ببينة كاملة كما قاله الإمام،
واقتضى كلام الرافعي ترجيحه. ثم أشار المصنف لمسائل تستثنى كما قال ابن القاص من القضاء بالنكول عن اليمين فقال:
(ومن طولب بزكاة) في مال نعم أوجب أو تمر، (فادعى دفعها إلى ساع آخر، أو) لم يدع دفعها، بل (ادعى غلط خارص)
بعد التزامه القدر الواجب (وألزمناه اليمين) على الوجه المرجوح في المسألتين، (فنكل وتعذر رد اليمين) بأن لم ينحصر
المستحقون في البلد ولا رد على الساعي والسلطان، (فالأصح أنها تؤخذ منه) لأن مقتضى ملك النصاب ومضى الحول
الوجوب، فإذا لم يأت بدافع أخذ الزكاة منه بمقتضى الأصل، وليس هذا حكما بالنكول خلافا لابن القاص. والثاني:
لا، إن لم تقم عليه حجة، فإن أحضر المستحقون ومنعنا نقلها وهو الأظهر لم يتعذر رد اليمين. أما إذا قلنا باستحباب
اليمين وهو الأصح المتقدم في باب زكاة النبات فإنه لا يطالب بشئ.
تنبيه: كل حق يجب لله تعالى له حكم الزكاة كما نقله الزركشي عن ابن القاص، قال: ومنه ما لو ادعى ولد
المرتزقة البلوغ بالانزال ورام إثبات اسمه في الديوان فالأصح تحليفه، فإن نكل لم يعط، وقال ابن القاص: وهو قضاء
بالنكول، وقال غيره: لا، وهو الراجح كما مر، لأن حجته اليمين ولم توجد. ولو عدل المصنف عن مثال الزكاة
إلى مثال الجزية، وهو فيما إذا قال: أسلمت قبل تمام السنة وقال العامل: بعد تمامها لكان التفريع فيه جاريا على الأصح،
فإن الأصح أنه يحلف إيجابا وأنه إذا نكل يقضى عليه بالجزية. ولو مات من لا وارث له ثم ادعى القاضي أو منصوبه
دينا له على إنسان وجده في تذكرته فأنكر الخصم ونكل عن اليمين فهل يقضى عليه بالنكول ويؤخذ منه أو يحبس
حتى يقر أو يحلف أو يترك؟ أوجه، أصحها في الروضة الثاني، وهكذا في الدعوى للمسجد أو في وقف عام إذا نكل
المدعى عليه عن اليمين. ثم أشار لما يستثنى من رد اليمين على المدعي بقوله: (ولو ادعى ولي صبي) أو مجنون (دينا)
مثلا (له) على إنسان (فأنكر ونكل) عن الحلف، (لم يحلف الولي) لأن إثبات الحق لغير الحالف بعيد فيكتب
القاضي بما جرى محضر أو يوقف الامر إلى البلوغ أو الإفاقة. (وقيل يحلف) مطلقا لم يبلغ الصبي أو يفيق المجنون،
لأنه المستوفى. (وقيل: إن ادعى مباشرة سببه) أي ادعى ثبوته بسبب باشره كما عبر به في المحرر، (حلف) لأن
العهد يتعلق به، وإلا فلا. قال في المهمات: والفتوى على هذا فقد نص عليه في الإمام اه‍. ولعله أخذه من مسألة
الصداق المتقدمة في بابه، وهي ما لو اختلف في قدره زوج وولي صغيرة أو مجنونة فإنهما يتحالفان، وقد قدمنا
الفرق هناك فيراجع. ويجري الخلاف فيما لو أقام الولي شاهدا هل يحلف معه؟ وفيما لو ادعى عليه دين في ذمة الصبي
479

فأنكر وفي قيم مسجد أو وقف ادعى شيئا فأنكر الخصم ونكل، ولو أقر القيم بما ادعاه الخصم انعزل وأقام القاضي
غيره ولو ادعى أن هذا القيم قبضه فأنكر حلف.
تتمة: يحلف السفيه المحجور عليه على ما ادعاه وليه له إذا نكل خصمه ويقول له: ويلزمك التسليم إلى وليي ولا يقل:
إلي بخلاف وليه في دعواه عنه. ومن وجب عليه يمين نقل المصنف عن البويطي أنه يجوز أن يفديها بالمال، قال الزركشي:
والمذهب المنع، والتجويز من قول البويطي لا الشافعي. ونقل المنع أيضا عن القاضي أبي الطيب، وهذا هو الظاهر.
فصل: في تعارض البينتين من شخصين: إذا (ادعيا) أي كل منهما (عينا) وهي (في يد ثالث) وهو منكر لها
(وأقام كل منهما بينة) بهما مطلقتي التاريخ، أو متفقتيه، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة، (سقطتا) لتناقض موجبيهما
فأشبه الدليلين إذا تعارضا ولا مرجح، فعلى هذا كان لا بينة ويصار إلى التحالف فيحلف لكل منهما يمينا فإن رضيا
بيمين واحدة فالأصح المنع كما في الروضة خلافا لجزم الإمام بالجواز وإن رجحه السبكي. (وفي قول تستعملان) بمثناة فوقية
أوله، أي البينتان صيانة لهما عن الالغاء بقدر الامكان، فعلى هذا تنزع العين ممن هي في يده، لاتفاق البينتين على أنها
ليست لواحد معين. ثم ما يفعل بها على هذا القول الأقوال الآتية: (ففي قول يقسم) بينهما، أي يكون لكل نصفها. (و)
في (قول يقرع) بينهما ونرجح من خرجت قرعته. (و) في (قول توقف) بمثناة فوقية، أي العين بينهما (حتى يبين)
الامر فيها، (أو يصطلحا) على شئ، لأنه أشكل الحال فيما يرجى انكشافه فيوقف كما لو طلق إحدى امرأتيه ومات قبل
البيان، فإنه يوقف الميراث. ولم يرجح المصنف شيئا من هذه الأقوال لتفريعها على القول الضعيف، ولكن قضية
كلام الجمهور ترجيح الوقف وجزم به في الروضة وأصلها في أوائل التحالف.
تنبيه: قوله: عينا في يد ثالث، قد يخرج به تعارض البينتين في النسب، فإنه على قول الاستعمال لا تجئ القسمة
ولا الوقف وكذا القرعة على الأصح، قيل: وليس لنا موضع تسقط فيه الأقوال الثلاثة إلا هذا. (ولو كانت) أي
العين التي ادعاها اثنان (في يدهما وأقاما بينتين، بقيت) في يدهما (كما كانت) أولا تفريعا على الصحيح، وهو
التساقط، إذ ليس أحدهما أولى بها من الآخر ويجعل بينهما على قول القسمة ولا يجئ الوقف إذ لا معنى له، وفي
القرعة وجهان.
تنبيه: محل الخلاف أن تشهد كل بينة بجميع العين، فأما إذا شهد بالنصف الذي هو في يد صاحبه فالبينتان
لم يتواردا على محل واحد، فلا تجئ أقوال التعارض فيحكم القاضي لكل منهما بما في يده كما كان لا بجهة
التساقط
ولا بجهة الترجيح باليد. وكلامه يقتضي أنه لا يحتاج السابق منهما إلى إعادة البينة، وليس مرادا، بل الذي أقام
البينة أولا يحتاج إلى إعادتها للنصف الذي بيده ليقع بعد بينة الخارج، وحيث لا بينة تبقى في يدهما أيضا سواء أحلف
كل منهما للآخر أم نكل. ولو أثبت أو حلف أحدهما فقد قضى له بجميعها أم بالنصف
الذي بيد الآخر. ومن حلف ثم نكل صاحبه ردت اليمين عليه، وإن نكل الأول كفى الآخر يمين للنفي والاثبات.
وسكت المصنف كالروضة وأصلها عما إذا لم تكن العين في يد ثالث، وصورها بعضهم بعقار أو متاع ملقى في طريق
وادعياها، وحكمها أنها كما لو كانت بيدهما. (ولو كانت) تلك العين (بيده) أي أحدهما ويسمى الداخل، (فأقام غيره بها
بينة و) أقام (هو) بها (بينة، قدم صاحب اليد) أي بينته، لأنهما استويا في إقامة البينة وترجحت بينته بيده، كالخبرين اللذين
مع أحدهما قياس فيقضى له بها وإن كانت شاهدا وحلف معه وبينة الآخر شاهدين.
480

تنبيه: اقتضى إطلاق المصنف أنه لا يشترط في سماع بينة صاحب اليد أن يبين سبب الملك من شراء أو غيره
كإرث كبينة الخارج، وأنه لا يشترط أن يحلف مع بينته، وهو الأصح فيهما، وما ذكره من تقديم صاحب اليد لا يخالفه
ما ذكراه فيما إذا ادعيا لقيطا في يد أحدهما وأقاما بينتين أنه لا يرجح صاحب اليد، لأن اللقيط لا يدخل تحت اليد،
فلهذا سوى بينهما. (ولا تسمع بينته) أي الداخل (إلا بعد بينة المدعي) وهو الخارج، لأنه وقت إقامتها، لأن الأصل
في جانبه اليمين فلا يعدل عنها ما دامت كافية.
تنبيه: قضية إطلاقه أن بينة الداخل تسمع مع بينة الخارج وإن لم تعدل، وهو الأصح لتعرض يده للزوال.
(ولو أزيلت يده) أي الداخل عن العين التي بيده (ببينة) أقامها الخارج وحكم له القاضي بها، (ثم أقام) الداخل
(بينة بملكه) للعين التي كانت بيده (مستندا) في الغاية (إلى ما قبل إزالة يده) مع استدامته إلى وقت الدعوى،
(واعتذر) عن ذلك (بغيبة شهوده) مثلا، (سمعت) بينته (وقدمت) على بينة الخارج، لأنها أزيلت لعدم الحجة،
فإذا ظهرت حكم بها، بخلاف ما إذا لم تستند بينته إلى ذلك أو لم يعتذر بما ذكر أو نحوه فلا تقدم بينته، لأنه الآن
مدع خارج. (وقيل لا) تسمع فلا ينقض القضاء، وإلى هذا ذهب القاضي الحسين، ونقل عنه الهروي أنه قال:
أشكلت علي هذه المسألة نيفا وعشرين سنة لما فيها من نقض الاجتهاد بالاجتهاد، وتردد فيها جوابي ثم استقر على أنه
لا ينقض. (ولو) أطلق الداخل دعوى الملك وأقام بينة و (قال) أي قيد (الخارج) الدعوى بقوله: (هو ملكي اشتريته
منك، فقال) الداخل: (بل) هو (ملكي، وأقاما بينتين) بذلك (قدم الخارج) أي بينته لزيادة علمها بالانتقال،
وكذا لو أقام الخارج بينة أن المدعى به ملكه غصبه منه الداخل أو أودعه عنده أو أجره له وأقام الداخل بينة أنه ملكه
فإنه تقدم بينة الخارج على الأصح. وعكس المتن، وهو لو قال الداخل: هو ملكي اشتريته منك وأقام كل بينة قدم
الداخل، وكذا لو قال الخارج: هو ملكي ورثته من أبي، وقال الداخلي: هو ملكي اشتريته من أبيك.
فروع: لو قال كل منهما لصاحبه: اشتريته منك، وأقام بذلك بينة وخفي التاريخ قدم الداخل، ولو تداعيا بعيرا
لأحدهما عليه متاع فالقول قول صاحب المتاع بيمينه لانفراده بالانتفاع، بخلاف ما لو تداعيا عبدا لأحدهما عليه ثوب لم
يحكم له بالعبد، لأن كون حمله على البعير انتفاع به قيده عليه، والمنفعة في لبس الثوب للعبد لا لصاحب الثوب فلا
يد له. ولو تداعيا جارية حاملا واتفقا على أن الحمل لأحدهما، قال البغوي: فهي لصاحب الحمل. (ومن أقر لغيره
بشئ) حقيقة أو حكما، (ثم ادعاه) لنفسه، (لم تسمع) دعواه به (إلا أن يذكر انتقالا) من المقر له، لأن المكلف
مؤاخذ بإقراره في المستقبل، بدليل أن من أقر أمس بشئ يطالب به اليوم، ولولا ذلك لم يكن في الاقرار كبير فائدة،
وإذا كان كذلك فيستصحب ما أقر به إلى أن يثبت الانتقال. وهل يكفي في دعوى الانتقال أن يقول: انتقل إلي بسبب
صحيح أو لا بد من بيان السبب؟ قال ابن شهبة: ينبغي أن يفصل في سماعها بين الفقيه الموافق للقاضي وبين غيره كما
ذكروه في الاخبار بتنجس الماء.
تنبيه: لو قال: وهبته له وملكه لم يكن إقرارا بلزوم الهبة لجواز اعتقاده لزومها بالعقد، ذكره في الروضة كأصلها.
ولو باع شيئا ثم ادعى أنه وقف لم تسمع بينته كما في الروضة وأصلها عن القفال وغيره. (ومن أخذ منه مال ببينة)
قامت عليه به ثم (ادعاه لم يشترط) في دعواه (ذكر الانتقال) من المدعى عليه إليه (في الأصح) لأنه قد يكون له
481

بينة بملكه فترجح باليد السابقة كما مر، وهذه المسألة من صور قوله قبل: ولو أزيلت يده الخ، فلو ذكرها عقبها كان
أولى. والثاني: يشترط كالاقرار. وأجاب الأول بأن المقر يؤاخذ بقوله في حق نفسه في المستقبل بخلاف البينة فإنها لم
تشهد إلا على التلقي في الحال فلم يتسلط أثرها على الاستقبال.
تنبيه: محل الأول كما قال البلقيني إذا شهدت البينة بالملك وأطلقت، أما لو أضافت إلى سبب لا يتعلق بالمأخوذ
منه كبيع أو هبة مقبوضة صدرت منه، فهو كالاقرار. (والمذهب أن زيادة عدد شهود أحدهما) أي المدعيين، وزيادة
وصفهم من ورع أو غيره، (لا ترجح) بينته، بل يتعارضان لكمال الحجة من الطرفين، وفي قول من طريق ترجيح
كالرواية. وفرق الأول بأن للشهادة نصابا فيتبع، ولا ضبط في الرواية فيعمل بأرجح الظنين. (وكذا لو كان لأحدهما)
أي المدعيين بينة هي (رجلان وللآخر) بينة هي (رجل وامرأتان) لا يرجح الرجلان على المذهب لقيام الحجة بكل
منهما، وفي قول من طريق: يرجحان لزيادة الوثوق بقولهما، ولذلك ثبت بهما ما لا يثبت برجل وامرأتين. (فإن كان
للآخر شاهد ويمين رجح الشاهدان في الأظهر) لأنهما حجة بإجماع، وفي الشاهد واليمين خلاف. والثاني: يتعادلان،
لأن كل واحد منهما حجة في المال عند الانفراد.
تنبيه: محل الخلاف إذا لم يكن لصاحب الشاهد واليمين يد، فإن كان قدم صاحب الشاهد واليمين على الأصح
للاعتضاد باليد المحسوسة، ويجري الخلاف في ترجيح الشاهد والمرأتين على الشاهد واليمين كما قاله الدارمي. (ولو شهدت)
بينة (لأحدهما بملك) في عين (من سنة) إلى الآن، (و) بينة (للآخر) بملك (من أكثر) من سنة إلى الآن كسنتين، (فالأظهر)
وعبر في الروضة بالمذهب، (ترجيح الأكثر) لأنها تثبت الملك في وقت لا تعارضها فيه الأخرى وفي وقت تعارضها فيه
الأخرى فيتساقطان في محل التعارض، ويثبت موجبها فيما قبل محل التعارض، والأصل في الثابت دوامه. والثاني: لا ترجيح
به، لأن مناط الشهادة الملك في الحال وقد استويا فيه.
تنبيه: صورة المسألة أن تكون العين في يدهما أو في يد ثالث، فإن كانت في يد متقدمة التاريخ رجح قطعا، أو في
يد متأخرة التاريخ فسيأتي، وصورها ابن الرفعة بما إذا شهدا مع ذلك بالملك في الحال وهو مراد المصنف وغيره ممن
أطلق المسألة، ولهذا قدرته في كلامه لما سيأتي أن الشهادة بالملك السابق لا تسمع فضلا عن أن ترجح. (و) على ترجيح
بينة الأكثر يكون (لصاحبها الأجرة والزيادة الحادثة من يومئذ) أي يوم ملكه بالشهادة لأنهما نماء ملكه. ويستثنى
من الأجرة ما لو كانت العين في يد البائع قبل القبض فلا أجرة عليه للمشترى على الأصح عند المصنف في البيع
والصداق خلافا للبلقيني. ولو أطلقت إحداهما الملك وبينت الأخرى سببه أو أن الثمرة من شجرة أو الحنطة من
بذره قدمت على المطلقة لزيادة علمها ولاثباتها ابتداء الملك لصاحبها، ومحل ذلك كما قال شيخنا إذا لم يكن أحدهما
صاحب يد وإلا فتقدم بينته كما يؤخذ مما مر. (ولو أطلقت بينة) شهادتها عن تاريخ (وأرخت) أي قيدت (أخرى) شهادتها
بتاريخ، (فالمذهب أنهما سواء) فيتعارضان، لأن المطلقة كالعامة بالنسبة إلى الأزمان ولو فسرناها ربما أرخت بأكثر
مما أرخت به المؤرخة. وقيل كما في أصل الروضة: تقدم المؤرخة، لأنها تقتضي الملك في الحال بخلاف المطلقة. قال
الأول: لكنها لا تنفيه، وفي الشرح حكاية طريقتين طارد للقولين من المسألة السابقة، وقاطع بالتسوية، وكيف فرض
فالظاهر التسوية اه‍. وعلى المذهب يستثنى ما لو شهدت إحداهما بالحق والأخرى بالابراء وأطلقت إحداهما وأرخت
الأخرى قدمت بينة الابراء كما قاله شريح في روضه، لأن البراءة إنما تكون بعد الوجوب. (و) المذهب كما يشعر
482

كلامه كغيره، وعبر في الروضة بالأصح: (أنه لو كان لصاحب متأخرة التاريخ يد قدم) على صاحب متأخرة التاريخ
لتساوي البينتين في إثبات الملك حالا فتتساقطان فيه ويبقى من أحد الطرفين اليد ومن الأخرى الملك السابق، واليد
أقوى من الشهادة على الملك السابق، ولهذا لا تزال به اليد. والثاني: يرجح السبق. والثالث: يتساقطان. وحكى
ابن الصباغ طريقة قاطعة بالأول، وبه يتم في المسألة طريقان، فلهذا عبر المصنف بالمذهب. ولو كانت اليد لصاحب
متقدمة التاريخ قدم قطعا.
تنبيه: شمل إطلاقه ما لو كانت متقدمة التاريخ شاهدة بوقف والمتأخرة التي معها يد شاهدة بملك أو وقف،
وهو ما أفتى به المصنف. قال البلقيني: وعليه جرى العمل ما لم يظهر أن اليد عادية باعتبار ترتبها على بيع صدر من أهل
الوقف أو بعضهم بغير سبب شرعي، فهناك تقدم العمل بالوقف. قال ابن شهبة: وهو متعين. ويشترط في سماع بينة
بملك سابق أن تستصحبه إلى الحال كما يشير إليه قوله: (و) المذهب (أنها) أي البينة (لو شهدت بملكه أمس)
بكسر السين، أو شهدت بملك الشهر الماضي مثلا (ولم تتعرض للحال، لم تسمع) تلك الشهادة (حتى يقولوا) مع
ذلك (ولم يزل ملكه، أو) يقولوا (ولا نعلم مزيلا له) أي الملك، لأن دعوى الملك السابق لا تسمع فكذا البينة،
ولأنها شهدت له بما لم يدعه. وفي قول: تسمع من غير هذا القول ويثبت بها الملك أمس. والطريق الثاني القطع بالأول.
تنبيه: يستثنى من إطلاق المصنف عدم السماع مسائل: الأولى: ما لو ادعى رق شخص بيده وادعى آخر أنه كان له أمس وأنه
أعتقه وأقام بذلك بينة قبلت، لأن المقصود منها إثبات العتق وذكر الملك السابق وقع تبعا. الثانية:
ما لو شهدت أن هذا المملوك وضعته أمته في ملكه أو هذه الثمرة أثمرتها نخلته في ملكه ولم يتعرض لملك الولد والثمرة
في الحال فإنها تسمع كما نص عليه وذكره في التنبيه، ثم قال: وقيل هو كالبينة بالملك. الثالثة: إذا شهدت أن هذا
الغزل من قطنه كما نص عليه في التنبيه أيضا، وذكر معه ما إذا شهدت أن هذا الطير من بيضه والآجر من طينه.
الرابعة: إذا شهدت أنها ملكه بالأمس ورثها، قال العمراني: حكم بها على الأصح، وذكر أن الربيع والمزني نقلا ذلك.
الخامسة: إذا شهدت أنها ملكه أمس اشتراها من المدعى عليه بالأمس أو أقر له بها المدعى عليه بالأمس ولم يتعرض
قبلت. السادسة: لو شهدوا أن هذه الدار اشتراها المدعي من فلان وهو يملكها ولم يقولوا وهي الآن ملك المدعي
قبلت على ما يفهم من كلام الجمهور ولو لم تشهد البينة بملك أصلا، بل شهدت على حاكم في زمن سابق أنه ثبت
عنده الملك، قال ابن قاسم: كعادة المكاتيب في هذا الزمان، قال بعضهم: لم أر فيه نقلا، ويحتمل التوقف. (وتجوز
الشهادة بملكه الآن استصحابا لما) أي لحكم (سبق من إرث وشراء وغيرهما) اعتمادا على الاستصحاب، لأن
الأصل البقاء وجاز ذلك للحاجة وإن جاز زواله، لأنه لو لم يعتمد الاستصحاب لعسرت الشهادة على الاملاك إذا تطاول
الزمن. هذا إذا أطلق الشهادة، فإن صرح في شهادته باعتماد الاستصحاب لم يقبل عند الأكثرين، وقال القاضي
حسين: يقبل. والأوجه كما قال شيخنا حمل الأول على ما إذا ظهر بذكر الاستصحاب تردد، أي وكلام القاضي على
خلافه. فإن قالا: لا ندري هل زال أو لا، لم تقبل قطعا، لأنها صيغة مرتاب بعيدة عن أداء الشهادة. (ولو شهدت) بينة
(بإقراره) أي المدعى عليه (أمس بالملك له) أي المدعي، (أستديم) الاقرار، أي حكمه وإن لم يصرح بالملك في
الحال، لأنه أسنده إلى أمر يقيني فيثبت الملك له ثم يستصحب. ولو قال له الخصم: كانت العين المدعاة ملكك أمس
وأخذناه بإقراره، فتنزع منه، كما لو قامت بينة بأنه أقر له به أمس. وفارقت ما لو شهدت بأنها كانت ملكه أمس بأن
الاقرار لا يكون إلا عن تحقيق، والشاهد بالملك قد يتساهل ويعتمد التخمين، فإذا لم ينضم إليه الجزم في الحال ضعف.
تنبيه: الأصل أن بينة المدعي المطلقة لا توجب ثبوت الملك له بل تظهره كما نص عليه، فيجب أن يكون
483

ملكه سابقا على إقامتها، ولكن لا يشترط السبق بزمن طويل يكفي لصدق الشهود لحظة لطيفة، لأن هذا تقدم صوري
لا حقيقي، ولهذا لا يستحق الثمرة والنتاج الحاصلين قبل تلك الساعة كما قال: (ولو أقامها بملك دابة أو شجرة لم يستحق
ثمرة موجودة ولا) يستحق (ولدا منفصلا) عند الشهادة المسبوقة بالملك، بل يبقيان للمدعى عليه، لأن الثمرة والولد
ليسا من أجزاء الدابة والشجرة، ولذلك لا يتبعانهما في البيع المطلق.
تنبيه: قيد البلقيني الثمرة بأن لا تدخل في البيع لكونها مؤبرة في تمر النخل أو بارزة في التين
والعنب ونحو ذلك، فإن دخلت في مطلق بيع الشجرة استحقها مقيم البينة بملك الشجرة، قال: وكلام الأصحاب
شاهد لذلك. وبسط ذلك، وأشار إلى ذلك في المطلب، وهو مقتضى تعبير الروضة بالظاهر. (ويستحق حملا) موجودا
عند الشهادة (في الأصح) تبعا للام وإن لم تتعرض له البينة. والثاني وهو احتمال للإمام: لا يستحقه لاحتمال كونه لغير
مالك الام بوصية.
تنبيه: ما ذكره المصنف في بينة مطلقة، فإن تعرضت لوقت مخصوص ادعاه المشهود له، فما يحصل من النتاج
والثمرة له وإن تقدم على وقت أداء الشهادة، ولو أقام بينة بملك جدار أو شجرة كانت شهادة بالاس لا المغرس كما
اقتضاه كلام الإمام. (ولو اشترى) شخص (شيئا فأخذ منه بحجة مطلقة) أي غير مؤرخة ولا بينة لسبب الملك، (رجع)
الشخص (على بائعه بالثمن) وإن احتمل انتقاله منه، أي المدعي، لمسيس الحاجة إليه في عهدة العقود، ولان الأصل
عدم انتقاله منه إليه فيستند الملك المشهود به إلى ما قبل الشراء. وإنما حكم ببقاء الزوائد المنفصلة للمدعي كما تقرر لاحتمال
انتقالها إليه مع كونها ليست بجزء من الأصل. (وقيل: لا) يرجع (إلا إذا ادعي) بضم الدال بخطه، (في ملك سابق على
الشراء) لاحتمال انتقال الملك من المشتري إلى المدعي، ورجحه البلقيني وقال: إنه الصواب والمذهب الذي لا يجوز
غيره، قال: وحكى القاضي الحسين الأول عن الأصحاب، وهو لا يعرف من كتب الأصحاب في الطريقتين، وهي
طريقة غير مستقيمة جامعة لأمر محال، وهو أنه يأخذ النتاج والثمرة والزوائد المنفصلة كلها، وهو قضية صحة البيع،
ويرجع على البائع بالثمن، وهو قضية فساد البيع، وهذا محال، وأجيب عنه بما تقرر.
تنبيه: احترز المصنف بقوله: مطلقة عما لو استند الاستحقاق إلى حالة العقد فيرجع قطعا. ومحل الرجوع ما لم
يصدقه على أنه ملكه، فإن صدقه أو شهدت البينة بإقرار المشتري حقيقة أو حكما لم يرجع بالثمن عليه لاعترافه بما
يقتضي أنه مظلوم. نعم، لو صدقه أو قال هو ملكي على وجه الخصومة واعتمد ظاهر اليد ثم بان خلافه رجع،
وكذا لو قال ابتداء يعني هذا الدار فإنها ملكك ثم قامت بينة بالاستحقاق، أو اشترى عبدا في الظاهر فقال: أنا حر
الأصل، وحلف فحكم بحريته وكان المشتري قد صرح في منازعته بأنه رقيق فيرجع بالثمن. واحترز بقوله: على بائعه
عما لو باعه المشتري لغيره وانتزع من المشتري الثاني فإنه ليس له مطالبة البائع الأول وإن لم يظفر ببائعه بل يرجع كل
منهما على بائعه. (ولو ادعى) شخص (ملكا مطلقا فشهدوا له) به (مع) بيان (سببه لم يضر) ما زادوه، أي
لم تبطل شهادتهم بذلك لأن سبب الملك تابع للملك وليس مقصودا في نفسه، وإنما المقصود الملك وقد وافقت
فيه البينة الدعوى.
تنبيه: لا تقدم هذه البينة بذكر السبب بناء على أن ذكر السبب مرجح، لأنهم ذكروا السبب قبل الدعوى
به والاستشهاد عليه، فإن أفاد المدعى دعوى الملك وسببه فشهدوا له بذلك قدمت ببينته حينئذ. (وإن ذكر) المدعي
(سببا) للملك، (وهم) أي الشهود ذكروا (سببا آخر) للملك، (ضر) ذلك، فترد شهادتهم للتناقض بين الدعوى
484

والشهادة. وقيل: لا يضر، بل يقبل على أصل الملك ويلغو السبب، وهو نظير المرجح فيما إذا قال له علي ألف من ثمن عبد،
فقال المقر له: لا بل من ثمن دار، فإنه لا يضر وحينئذ يحتاج إلى الفرق.
فصل: في اختلاف المتداعيين في العقود وغيرها، وأشار للأول بقوله: إذا (قال) واحد (آجرتك هذا البيت)
في هذه الدار شهر كذا (بعشرة، فقال) الآخر: (بل) آجرتني (جميع الدار) المشتملة عليه (بالعشرة،
وأقاما) بما
قالاه (بينتين) وأطلقتا أو اتفق تاريخهما وكذا إن اختلف، واتفقا على أنه لم يجر إلا عقد واحد، (تعارضتا) لتكاذبهما
فيسقطان على الأصح لأن العقد واحد، وعلى القول بالاستعمال يقرع على الأصح، ولا تأتي القسمة، لأن التنازع هنا في
العقد وهو لا يمكن أن يقسم بخلاف الملك، ولا الوقف أيضا، لأن المنافع تفوت في مدة التوقف. (وفي قول) من تخريج
ابن سريج وليس بمنصوص، ومحله في غير مختلفتي التاريخ: (تقدم بينة المستأجر) لاشتمال بينته على زيادة وهي
اكتراء غير البيت. وأجاب الأول بأن الزيادة المرجحة هي المشعرة بمزيد علم ووضوح حال أحد جانبي ما فيه التنافي
كإسناد إلى سبب وانتقال عن استصحاب، وأصل الزيادة هنا ليست كذلك، وإنما هي زيادة في المشهود به. أما إذا
اختلف تاريخهما ولم يتفقا على عقد واحد كأن شهدت إحداهما أنه أجرى كذا سنة من أول رمضان والأخرى من
أول شوال، قدم الأسبق في الأصح، لأن السابق من العقدين صحيح لا محالة، فإنه إن سبق العقد على الدار صح
ولغا العقد الوارد على البيت بعد، وإن سبق العقد على البيت صح، والعقد الوارد على الدار بعده يبطل في البيت، وفي
باقي الدار خلاف تفريق الصفقة. (ولو ادعيا) أي كل من اثنين (شيئا في يد ثالث) أنكرهما (وأقام كل منهما بينة أنه
اشتراه) من ذلك الثالث (ووزن) بفتح الزاي (له ثمنه) وطالب بتسلم ما اشتراه ذا اليد. (فإن اختلف تاريخ) كأن
شهدت إحدى البينتين أنه اشتراه في رجب، والأخرى أنه اشتراه في شعبان، (حكم للأسبق) تاريخا لعدم المعارض حال
السبق ويطالبه الآخر بالثمن.
تنبيه: وزن يتعدى باللام كما استعمله المصنف وبنفسه وهو الأفصح. (وإلا) بأن اتحد تاريخهما أو أطلقا أو
إحداهما، (تعارضتا) فعلى الأصح يتساقطان ويحلف لكل منها أنه ما باعه ولا تعارض في الثمنين فيلزمانه. هذا إذا لم
تتعرض البينة لقبض المبيع، فإن فرض التعرض له فلا رجوع بالثمن، لأن العقد قد استقر بالقبض وليس على البائع
عهدة ما يحدث بعده. ومن شهد للبائع بالملك وقت البيع أو للمشتري الآن أو بنقد الثمن دون الأخرى قدمت شهادتها
وإن كانت الأخرى سابقة لأن معها زيادة علم.
تنبيه: ما أطلقه في المتن محله حيث لم يصدق البائع أحدهما، فإن صدقه فعلى الأصح وهو سقوط البينتين يسلم
المدعى به للمصدق. ثم ذكر المصنف عكس هذه الصورة في قوله: (ولو قال كل منهما) أي المتداعيين لثالث: (بعتكه)
أي الثوب مثلا (بكذا) وهو ملكي، (وأقاماهما) أي أقام كل منهما بينة بما قاله وطالبه بالثمن، (فإن) لم يمكن الجمع
كأن (اتحد تاريخهما تعارضتا) لامتناع كونه ملكا في وقت واحد لهذا وحده ولذاك وحده وسقطتا على
الأصح فيحلف لكل منهما يمينا. (وإن اختلف) تاريخهما ومضى من الزمن ما يمكن فيه العقد الأول ثم الانتقال
من المشتري للبائع الثاني ثم العقد الثاني، (لزمه الثمنان) لجواز أن يكون اشتراه من أحدهما في التاريخ الأول ثم
باعه واشتراه من الآخر في التاريخ الثاني. أما إذا لم يمض ما يمكن فيه الانتقال فلا يلزمه الثمنان للتعارض. (وكذا إن
أطلقتا، أو) أطلقت (إحداهما) وأرخت الأخرى يلزمه أيضا الثمنان (في الأصح) لاحتمال أن يكونا في زمانين.
485

والثاني يقول بتعارضهما كمتحدي التاريخ، لأن الأصل براءة المشتري فلا يلزمه إلا بيقين. (ولو مات) رجل (عن ابنين
مسلم ونصراني فقال كل منهما مات على ديني) فأرثه، ولا بينة، (فإن عرف أنه كان نصرانيا صدق النصراني) بيمينه، لأن
الأصل بقاء كفره والمسلم يدعي انتقاله عنه والأصل عدمه. (فإن أقاما بينتين مطلقتين) بما قالاه فلا تعارض، و (قدم
المسلم) أي بينته على بينة النصراني، لأن مع بينته زيادة علم وهو انتقاله إلى الاسلام، والأخرى استصحبت الأصل،
والناقلة أولى من المستصحبة. وهذا أصل يستعمل في ترجيح البينات، كما تقدم بينة الجرح على التعديل. (وإن قيدت)
بينة المسلم (أن آخر كلامه إسلام وعكسته الأخرى) وهي بينة النصراني بأن قيدت بأن آخر كلامه النصرانية، (تعارضتا)
لتناقضهما، إذ يستحيل موته عليهما فتسقطان وكأن لا بينة فيصدق النصراني بيمينه، لأن الأصل بقاء كفر الأب،
وكذا لو قيدت بينة النصراني فقط. ويشترط في بينة النصراني بيان ما يحصل به التنصر كثالث ثلاثة، وفي اشتراط بيان
بينة المسلم كلمة الاسلام وجهان، ونقل الأذرعي عن إيراد البندنيجي المنع ثم قال: ويظهر أن يكون الأصح الاشتراط
سيما إذا لم يكن الشاهد من أهل العلم أو كان مخالفا للقاضي فيما يسلم به الكافر. (وإن) لم يعرف دينه أي الميت، (وأقام
كل) منهما (بينة أنه مات على دينه تعارضتا) فكأنه لا بينة، وسواء أطلقتا أم قيدتا بمثل ما ذكر أم قيدة بينة النصراني
فقط، وحينئذ فينظر إن كان المال في يد غيرهما فالقول قوله، وإن كان في يدهما فيحلف كل منهما لصاحبه ويجعل
بينهما، وكذا إن كان في يد أحدهما على الأصح، إذ لا أثر لليد بعد اعتراف صاحب اليد بأنه كان للميت وأنه
يأخذه إرثا.
تنبيه: هذا التعارض بالنسبة إلى الإرث خاصة، وأما بالنسبة للدفن وغيره فإنه يدفن في مقابر المسلمين ويصلى عليه
ويقول المصلي: أصلي عليه إن كان مسلما، كما لو اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار. (ولو مات نصراني عن ابنين مسلم
ونصراني، فقال المسلم) أنا (أسلمت بعد موته فالميراث) مشترك (بيننا، فقال النصراني: بل) أسلمت (قبله) فلا
ميراث لك بل هو لي، (صدق المسلم بيمينه) لأن الأصل استمراره على دينه، سواء اتفقا على وقت موت
الأب أم
أطلقا. (وإن أقاماهما) أي أقام كل منهما بينة بما قالاه، (قدم النصراني) أي النصراني بينته لأنها ناقلة وبينة المسلم مستصحبة لدينه
فمع الأول زيادة علم.
تنبيه: محل تقديم بينة النصراني ما إذا لم تشهد بينة المسلم بأنها كانت تسمع تنصره إلى ما بعد الموت، وإلا
فيتعارضان، وحينئذ يصدق المسلم بيمينه. قال البلقيني: ومحله أيضا إذا لم تشهد بينة المسلم بأنها علمت منه دين
النصرانية حين موت أبيه وبعده وأنها لم تستصحب، فإن قالت ذلك قدمت بينة المسلم، لأنا لو قدمنا بينة النصراني
للزم أن يكون مرتدا حالة موت أبيه والأصل عدم الردة. (فلو اتفقا على إسلام الابن في رمضان، وقال المسلم: مات الأب
في شعبان) فالميراث بيننا، (وقال النصراني) بل مات (في شوال) فالميراث لي، ولا بينة (صدق النصراني) بيمينه،
لأن الأصل بقاء الحياة. (وتقدم بينة المسلم) التي أقامها (على بينته) أي النصراني التي أقامها، لأن بينة المسلم ناقلة من
الحياة إلى الموت في شعبان، والأخرى مستصحبة للحياة إلى شوال. نعم إن شهدت بينة النصراني بأنها عاينته حيا
486

بعد الاسلام تعارضتا كما في الروضة وأصلها، وحينئذ فيصدق المسلم بيمينه. (ولو مات) رجل (عن أبوين كافرين،
وعن ابنين مسلمين) ومثلهما الابن الواحد وابن الابن والبنت وبنت الابن، (فقال كل) من الفريقين: (مات على ديننا،
صدق الأبوان باليمين) لأن الولد محكوم بكفره في الابتداء تبعا للأبوين فيستصحب حتى يعلم خلافه. (وفي قول) وليس
منصوصا، بل من تخريج ابن سريج: (يوقف) الامر حتى (يتبين أو يصطلحوا) على شئ لتساوي الحالين بعد البلوغ،
لأن التبعية تزول بالبلوغ.
تنبيه: لو انعكس الحال فكان الأبوان مسلمين والابنان كافرين وقال كل ما ذكر، فإن عرف للأبوين كفر
سابق وقالا: أسلمنا قبل بلوغه أو أسلم هو أو بلغ بعد إسلامنا، وقال الابنان: لا، ولم يتفقوا على وقت الاسلام في الثالثة
فالمصدق الابنان، لأن الأصل البقاء على الكفر. وإن لم يعرف لهما كفر سابق أو اتفقوا على وقت الاسلام في الثالثة
فالمصدق الأبوان عملا بالظاهر في الأولى، ولان الأصل بقاء الصبا في الثالثة.
فرع: لو مات لرجل ابن زوجة، ثم اختلف هو وأخو الزوجة فقال هو: ماتت قبل الابن فورثتها أنا وابني ثم
مات الابن فورثته وقال أخوها: بل ماتت بعد فورثت الابن قبل موتها ثم ورثتهما أنا ولا بينة، صدق الأخ في مال أخته
والزوج في مال ابنه بيمينها. فإن حلفا أو نكلا لم يرث ميت من ميت. فمال الابن لأبيه ومال الزوجة بين الزوج والأخ.
فإن أقاما بينتين بذلك تعارضتا. فإن اتفقا على موت واحد منهما يوم الجمعة مثلا واختلفا في موت الآخر قبله أو
بعده صدق من ادعاه بعد، لأن الأصل بقاء الحياة، فإن أقام بينتين بذلك قدم بينة من ادعاه قبل لأنها ناقلة. ولو
قال ورثة ميت لزوجته: كنت أمة ثم عتقت بعد موته أو كنت كافرة ثم أسلمت بعد موته وقالت هي: بل عتقت
أو أسلمت قبل صدقوا بأيمانهم، لأن الأصل بقاء الرق والكفر. وإن قالت: لم أزل حرة أو مسلمة صدقت
بيمينها دونهم، لأن الظاهر معها. (ولو شهدت) بينة على شخص (أنه أعتق في مرضه) الذي مات فيه (سالما، و)
بينة (أخرى) أنه أعتق في مرضه المذكور (غانما وكل واحد) منهما (ثلث ماله) ولم تجز الورثة ما زاد عليه. (فإن
اختلف) للبينتين (تاريخ قدم الأسبق) منهما تاريخا، لأن التصرف المنجز في مرض الموت يقدم فيه الأسبق فالأسبق،
ولان معها زيادة علم. (وإن اتحد) تاريخهما (أقرع) بينهما لعدم مزية أحدهما، فإن كان أحدهما سدس
المال وخرجت القرعة له عتق هو ونصف الآخر، وإن خرجت للآخر عتق وحده. (وإن أطلقتا) أو إحداهما
(قيل: يقرع) بينهما لاحتمال المعية والترتيب. (وفي قول) من طريق: (يعتق من كل نصفه) لاستوائهما، والقرعة
ممتنعة لأنا لو أقرعنا لم نأمن أن يخرج الرق على السابق فيلزمه منه إرقاق حر وتحرير رقيق، ولذا قال المصنف: (قلت:
المذهب يعتق من كل نصفه، والله أعلم) ولو قال: قلت المذهب الثاني لكان أخصر. ولو شهدت بينتان بتعليق عتقهما
بموته أو بالوصية بإعتاقهما، وكل واحد ثلث ماله ولم تجز الورثة، أقرع سواء أطلقتا أو إحداهما أم أرختا. (ولو شهد
أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم، وهو ثلثه) أي ثلث ماله، (و) شهد (وارثان) عدلان (حائزان) للتركة (أنه رجع
عن ذلك، ووصى بعتق غانم، وهو ثلثه ثبت) بشهادتهما الرجوع عن عتق سالم وثبوت العتق (لغانم) لأنهما
أثبتا الرجوع عن الوصية بسالم بدلا يساويه فلا تهمة ولا نظر إلى تبديل الولاء وكون الثاني أهدى لجمع المال
فيورث عنه لبعد هذا الاحتمال. وخرج بثلثه ما لو كان غانم دونه كالسدس، فلا تقبل شهادة الوارثين في القدر
487

الذي لم يعينا له بدلا، وهو نصف سالم، وفي الباقي خلاف تبعيض الشهادة، فعلى ما صححه الأصحاب من صحة التبعيض
يعتق نصف سالم مع كل غانم، والمجموع قدر الثلث. (فإن كان الوارثان) الحائزان (فاسقين لم يثبت الرجوع) عن
الوصية لسالم لعدم قبول شهادة الفاسق، (فيعتق سالم) بشهادة الأجنبيين، لأن الثلث يحتمله ولم يثبت الرجوع فيه. (و)
يعتق (من غانم) قدر ما يحتمله (ثلث ماله بعد سالم) وكأن سالما هلك أو غصب من التركة مؤاخذة للورثة بإقرارهم.
تنبيه: لو لم يتعرضا للرجوع أقرع بينهما، نعم إن كانا فاسقين عتق غانم وثلثا سالم كما بحثه بعض المتأخرين.
تتمة: لو قال السيد لعبده: إن قتلت أو إن مت في رمضان فأنت حر فأقام العبد بينة بأنه قتل في الأولى أو بأنه مات
في رمضان في الثانية، وأقام الوارث بينة بموته حتف أنفه في الأولى وبموته في شوال في الثانية قدمت بينة العبد، لأن معها
زيادة علم بالقتل في الأولى وبحدوث الموت في رمضان في الثانية، ولا قصاص في الأولى لأن الوارث منكر للقتل، فإن
أقام الوارث بينة في الثانية بموته في شعبان قدمت بينته، لأنها ناقلة. وإن علق عتق سالم بموته في رمضان أو
في مرضه
وعلق عتق غانم بموته في شوال أو بالبرء من مرضه فأقاما بينتين بموجب عتقهما، فهل يتعارضان كما قاله ابن المقري
أو تقدم بينة سالم كما قاله صاحب الأنوار أو بينة غانم كما استظهره شيخنا؟ أوجه، أظهرها آخرها.
فصل: في شروط القائف وبيان إلحاقه النسب بغيره: وذكر المصنف بعض أحكامه في بابي العدة واللقيط.
والقائف لغة متتبع الآثار، والجمع قافة كبائع وباعة. وشرعا: من يلحق النسب بغيره عند الاشتباه بما خصه الله تعالى
به من علم ذلك. والأصل في الباب خبر الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل علي النبي (ص)
مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم تري أن مجززا المدلجي دخل علي فرأى أسامة وزيدا عليهما قطيفة
قد غطيا بها رؤسهما وقد بدت أقدامهما فقال إن هذه الاقدام بعضها من بعض؟ فإقراره (ص) على
ذلك يدل على أن القافة حق. قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: فلو لم يعتبر قوله لمنعه من المجازفة، وهو (ص)
لا يقر على خطأ ولا يسر إلا بالحق اه‍. وسبب سروره (ص) بما قاله مجزز أن المنافقين كانوا
يطعنون في نسب أسامة لأنه كان طويلا أسود أفنى الانف، وكان زيد قصيرا بين السواد والبياض أخنس الانف، وكان
طعنهم مغيظة له (ص) إذ كانا حبيه، فلما قال المدلجي ذلك وهو لا يرى إلا أقدامهما سر به، نقله الرافعي
عن الأئمة. وقال أبو داود: إن زيدا كان أبيض. وروى ابن سعد أن أسامة كان أحمر أشقر وزيد مثل الليل الأسود.
وروى مالك: أن عمر دعا قائفين في رجلين تداعيا مولودا، وشك أنس في مولود له فدعا له قائفا، رواه الشافعي
رضي الله تعالى عنه. وبقولنا قال مالك وأحمد، وخالف أبو حنيفة وقال: لا اعتبار بقول القائف. وهو محجوج بما مر.
وفي عجائب المخلوقات عن بعض التجار أنه ورث من أبيه مملوكا أسود شيخا، قال: فكنت في بعض أسفاري راكبا
على بعير والمملوك يقوده فاجتاز بنا رجل من بني مدلج فأمعن فينا نظره ثم قال: ما أشبه الراكب بالقائد قال: فرجعت
إلى أمي فأخبرتها بذلك، فقالت: إن زوجي كان شيخا كبيرا ذا مال ولم يكن له ولد فزوجني بهذا المملوك فولدتك ثم
فكني واستلحقك. وكانت العرب تلحق بالقيافة وتفخر بها وتعدها من أشرف علومها، وهي الفراسة، غرائز في
الطباع يعان عليها المجبول ويعجز عنها المصروف عنها. وللقائف شروط شرع المصنف في ذكرها بقوله: (شرط القائف)
أي شروطه (مسلم) فلا يقبل من كافر، (عدل) فلا يقبل من فاسق لأنه حاكم أو قاسم.
تنبيه: كان الأولى أن يقول إسلام، وكذا ما بعده فيأتي المصدر، لأن الشرط هو الاسلام لا الشخص، ومر
التنبيه على ذلك في كتاب القضاء. وعبارة المحرر: أن يكون مسلما وهو حسن. وأهمل المصنف كونه بصيرا ناطقا وانتفاء
العداوة عن الذي ينفيه عنه وانتفاء الولاء عمن يلحقه به، فلو عبر بأهلية الشهادة كما في الروضة لكان أخصر وأعم،
488

لكن قال البلقيني: ولا أمنع قيافة الأخرس إذا فهم إشارته كل واحد، وفي المطلب اشتراط كونه سميعا. ورده
البلقيني،
وهو ظاهر. (مجرب) بفتح الراء بخطه في معرفة النسب، لحديث: لا حكم إلا ذو تجربة حسنه الترمذي، وكما لا يولى
القضاء إلا بعد معرفة علمه بالأحكام. وفسر المحرر التجربة بأن يعرض عليه ولو في نسوة ليس فيهن أمه ثم مرة أخرى
ثم مرة أخرى كذلك في نسوة فيهن أمه. فإن أصاب في الكل فهو مجرب. فإن قيل: لم حذف المصنف هذا مع أن فيه
حكمين، أحدهما: أنه لا بد من التجربة ثلاثا، والثاني: أنه لا بد أن يكون العرض مع أمه، وقد تعجب من حذقه لذلك؟
أجيب بأن الحكم الأول منازع فيه، فقد قال الإمام: لا معنى لاعتبار الثلاث، بل المعتبر غلبة الظن بأن قوله عن خبرة
لا عن اتفاق، وهذا قد يحصل بدون الثلاث اه‍. وهذا نظير ما رجحوه في تعليم جارحة الصيد. وأما الحكم الثاني: فإن
ذكر الام مع النسوة ليس للتقييد بل للأولوية إذ الأب مع الرجال كذلك، وكذا سائر العصبة والأقارب عند فقدهما.
وقال في الروضة كأصلها: كيفية التجربة أن يعرض عليه ولد في نسوة ليس فيهن أمه، ثم في نسوة ليس فيهن أمه، ثم
في نسوة ليس فيهن أمه، ثم في نسوة هي فيهن فيصيب في الكل. واستشكله البارزي بأن المجرب قد يعلم ذلك فلا تبقى
فائدة في الثلاثة الأول، وقد يصيب في الرابعة اتفاقا فلا يؤثر بالتجربة، والأولى أن يعرض مع صنف ولد الواحد
منهم أو في بعض الأصناف ولا يخص به الرابعة فإذا أصاب في الكل قبل قوله بعد ذلك، وينبغي أن يكتفي بثلاث
مرات اه‍. وقد مر أن الإمام يعتبر غلبة الظن، فمتى حصلت عمل بما في الروضة أو بما قاله البارزي. (والأصح) في
الروضة: الصحيح، (اشتراط حر ذكر) كالقاضي. والثاني: لا كالمفتي، (لا) اشتراط (عدد) فيكفي قول الواحد كالقاضي
والقاسم. والثاني: يشترط كالمزكي والمقوم. (ولو كونه مدلجيا) أي من بني مدلج، وهم رهط مجزز المدلجي، بل يجوز
كونه من سائر العرب والعجم، لأن القيافة نوع من العلم فمن تعلمه عمل به، وفي سنن البيهقي أن عمر رضي الله عنه كان
قائفا يقوف. والثاني: يشترط، لرجوع الصحابة رضي الله عنهم إلى بني مدلج في ذلك دون غيرهم، وقد خص الله تعالى
جماعة بنوع من المناصب والفضائل كما خص قريشا بالإمامة. ثم أشار المصنف لمسألتين يعرض الولد فيهما على القائف
بقوله: (فإذا تداعيا) أي شخصان أو أحدهما وسكت الآخر أو أنكرا ولدا (مجهولا) صغيرا لقيطا كان أو غيره، حيا
أو ميتا لم يتغير ولم يدفن، (عرض عليه) أي القائف ولو بعد موت أحد المتداعيين، فمن ألحقه به لحقه كما مر في باب كتاب اللقيط.
والمجنون كالصبي، قال البلقيني: وكذا لو كان مغمى عليه أو نائما أو سكران سكرا يعذر فيه، فلو كان غير المعذور
لم يعرض، لأنه بمنزلة الصاحي ولو انتسب إلى هذه الحالة عمل به.
تنبيه: قضية إطلاقه أنه لا فرق بين أن يكون لأحدهما عليه يد أو لا، والأشبه بالمذهب كما قال الرافعي تفصيل ذكره
القفال في اللقيط، وهو أنه إن كان في يده عن النقاط لم يؤثر، وإلا قدم صاحب اليد إن قدم استلحاقه، وإلا فوجهان قال
الزركشي: أصحهما يستويان فيعرض على القائف. (وكذا لو اشتركا) أي رجلان (في وطئ) لامرأة (فولدت ولدا ممكنا)
أي من كل (منهما وتنازعاه) أي ادعاه كل منهما أو أحدهما وسكت الآخر أو أنكر ولم يتخلل بين الوطأين حيضة كما سيأتي،
فإنه يعرض على القائف ولو كان بالغا مكلفا كما جزم به الماوردي. ثم بين الاشتراك في الوطئ في صور بقوله: (بأن وطئا امرأة
بشبهة) كأن وجدها كل منهما في فراشه فظنها زوجته أو أمته، (أو) بأن وطئ شريكان أمة (مشتركة لهما، أو وطئ
زوجته وطلق فوطئها آخر بشبهة أو نكاح فاسد، أو) وطئ (أمته فباعها فوطئها المشتري ولم يستبرئ واحد منهما) فإنه
يعرض على القائف. وقال أبو حنيفة: يلحق الولد في هذه الصور بها، ولا اعتبار بقوله القائف بما تقدم وبقوله تعالى *
(ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) * ولو كان له أبوان لكان له قلب إلى كل منهما، وبأن الولد لا ينعقد من ماء شخصين،
لأن الوطئ لا بد أن يكون على التعاقب، وإذا اجتمع ماء المرأة وانعقد الولد منه حصلت عليه غشاوة تمنع من اختلاط
489

ماء الثاني بماء الأول كما نقل عن إجماع الأطباء.
تنبيه: قول المصنف في وطئ ظاهره اشتراط تغييب الحشفة، قال البلقيني: وليس هذا بمعتبر عندي في هذا
المكان، بل لو لم تدخل الحشفة كلها وأنزل داخل الفرج كان كالوطئ، وكذا الانزال خارج الفرج بحيث دخل الماء في
الفرج. واستدخال الماء وقوله: بأن وطئا بشبهة أو مشتركة لهما هو من عطف الخاص على العام، لأن وطئ المشتركة
شبهة، ويشترط فيها أن يقع الوطئان في طهر، فلو تخلل بينهما حيضة فهو للثاني، ولا يغني عن ذلك ذكره له بعد، لأنه
لا يمكن عوده لجميع الصور لتعذر ذلك في بعضها. (وكذا لو وطئ) بشبهة كما في المحرر، (منكوحة) لغيره نكاحا
صحيحا وولدت ممكنا منه ومن زوجها، يعرض على القائف (في الأصح) فيلحق من ألحقه به منهما ولا يتعين الزوج
للالحاق، بل الموضع موضع الاشتباه. والثاني: يلحق بالزوج لقوة فراشه. وعلى الأول لا بد من إقامة بينة على الوطئ،
ولا يكفي اتفاق الزوجين والواطئ عليه، لأن للمولود حقا في النسب واتفاقهما ليس بحجة عليه، فإن قامت بينة به
عرض على القائف، ويعرض بتصديقه إن بلغ وإن لم تقم بينة لأن الحق له، وعلى هذا فيقيد كلام المتن بإقامة بينة
الوطئ أو تصديق الولد المكلف.
تنبيه: لو ألقت سقطا عرض على القائف، قال الفوراني: إذا ظهر فيه التخطيط دون ما لم يظهر. وفائدته فيما إذا
كانت الموطوءة أمة وباعها أحدهما من الآخر بعد الوطئ والاستبراء في أن البيع هل يصح، وأمية الولد عمن تثبت؟
وفي الحرة أن العدة تنقضي به عمن كان منهما. (فإذا ولدت) تلك الموطوءة في المسائل المذكورة (لما بين ستة أشهر
وأربع سنين)، وكذا (من وطأيهما وادعياه) أي الولد، (عرض عليه) أي القائف فيلحق من ألحقه به منهما.
تنبيه: قوله: وادعياه ليس بشرط، بل لو ادعاه أحدهما وسكت الآخر أو نكل كان الحكم كذلك كما مر. (فإن
تخلل بين وطأيهما حيضة فللثاني) من الواطئين للولد، لأن الحيض أمارة ظاهرة في حصول البراءة عن الأول فينقطع
تعلقه عنه، وإذا انقطع عن الأول تعين للثاني، لأن فراشه لم ينقطع بعد وجوده. ولا فرق بين أن يدعيه الأول أم لا،
اللهم (إلا أن يكون الأول) منهما (زوجا في نكاح صحيح) والثاني منهما واطئا بشبهة أو في نكاح فاسد فلا ينقطع
تعلق الأول، لأن إمكان الوطئ مع فراش النكاح قائم مقام نفس الوطئ، والامكان حاصل بعد الحيضة، فإن كان الأول
زوجا في نكاح فاسد انقطع تعلقه، لأن المرأة لا تصير فراشا في النكاح الفاسد إلا بحقيقة الوطئ. (وسواء فيهما) أي
المتنازعين فيما ذكر، (اتفقا إسلاما وحرية) بكونهما مسلمين حرين (أم لا) كمسلم وذمي وحر وعبد، لأن النسب
لا يختلف. وهذا تفريع على صحة استلحاق العبد، وهو الأظهر، فلو ادعاه مسلم وذمي وأقام الذمي بينة تبعه نسبا ودينا،
كما لو أقامها المسلم، أو لحقه بإلحاق القائف أو بنفسه كما بحثه شيخنا تبعا نسبا لا دينا، لأن الاسلام يعلو ولا يعلى عليه،
فلا يحضنه لعدم أهليته لحضانته. أو ادعاه حر وعبد وألحقه القائف بالعبد أو لحقه به بنفسه كما بحثه شيخنا لحقه في
النسب وكان حرا لاحتمال أنه ولد من حرة.
تنبيه: لو عدم القائف بدون مسافة القصر أو أشكل عليه الحال بأن تحير أو ألحقه بهما أو نفاه عنهما وقف
الامر حتى يبلغ عاقلا ويختار الانتساب إلى أحدهما بحسب الميل الذي يجده، ويحبس ليختار إن امتنع من الانتساب إلا
إن لم يجد ميلا إلى أحدهما فيوقف الامر، ولا يقبل رجوع قائف إلا قبل الحكم بقوله ثم لا يقبل قوله في حقه لسقوط
الثقة بقوله ومعرفته، وكذا لا يصدق لغير الآخر إلا بعد مضي إمكان تعلمه مع امتحان له بذلك.
خاتمة: لو استلحق مجهولا نسبه وله زوجة فأنكرته زوجته لحقه عملا بإقراره دونها لجواز كونه من وطئ شبهة
أو زوجة أخرى، وإن ادعته والحالة هذه امرأة أخرى وأنكره زوجها وأقام زوج المنكرة بينتين تعارضتا
فيسقطان
490

ويعرض على القائف، فإن ألحقه بها لحقها، وكذا زوجها على المذهب المنصوص كما قاله الأسنوي خلافا لما جرى
عليه ابن المقري، أو بالرجل لحقه وزوجته. فإن لم يقم واحد منهما بينة، فالأصح كما قال الأسنوي أنه ليس ولد
الواحدة منها، ولا يسقط حكم قائف بقول قائف آخر. ولو ألحقه قائف بالأشباه الظاهرة وآخر بالأشباه الخفية كالخلق
وتشاكل الأعضاء فالثاني أولى من الأول، لأن فيها زيادة حذق وبصيرة. ولو ألحق القائف التوأمين باثنين بأن ألحق
أحدهما بأحدهما والآخر بالآخر بطل قوله حتى يمتحن ويغلب على الظن صدقه فيعمل بقوله، كما لو ألحق الواحد باثنين.
ويبطل أيضا قول قائفين اختلفا في الالحاق حتى يمتحنا ويغلب على الظن صدقهما. ويلغو انتساب بالغ أو توأمين إلى
اثنين، فإن رجع أحد التوأمين إلى الآخر قبل، ويؤمر البالغ بالانتساب إلى أحدهما، ومتى أمكن كونه منهما عرض
على القائف وإن أنكره الآخر أو أنكراه، لأن للولد حقا في النسب فلا يثبت بالانكار من غيره وينفقان عليه إلى أن يعرض
على القائف أو ينتسب ويرجع بالنفقة من لم يلحقه الولد على من لحقه إن أنفق بإذن الحاكم ولم يدع الولد ويقبلان
له الوصية التي أوصى له بها في مدة التوقف، لأن أحدهما أبوه، ونفقة الحامل على المطلق فيعطيها لها ويرجع بها على
الآخر إن ألحق الولد بالآخر. فإن مات الولد قبل العرض على القائف عرض عليه ميتا، لا إن تغير أو دفن. وإن مات
مدعيه عرض على القائف مع أبيه أو أخيه ونحوه من سائر العصبة.
كتاب العتق
بمعنى الاعتاق، وهو لغة مأخوذ من قولهم: عتق الفرس إذا سبق، وعتق الفرخ إذا طار واستقل، فكأن العبد إذا
فك من الرق خلص واستقل. وشرعا: إزالة الرق عن الآدمي. والأصل في الباب قوله تعالى: * (فك رقبة) * وقوله تعالى: *
(وإذ تقول للذي أنعم الله عليه) * أي بالاسلام * (وأنعمت عليه) * أي بالعتق كما قاله المفسرون في غير موضع، *
فتحرير رقبة) *. وفي الصحيحين: من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوا من أعضائه من النار حتى الفرج بالفرج
وفي سنن أبي داود أن النبي (ص) قال: من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار. وخصت الرقبة
بالذكر في هذين الخبرين لأن ملك السيد الرقيق كالغل في رقبته، فهو محتبس به كما تحبس الدابة بالحبل في عنقها،
فإذا أعتقه أطلقه من ذلك الغل الذي كان في رقبته.
فائدة: أعتق النبي (ص) ثلاثا وستين نسمة، وعاش ثلاثا وستين سنة، ونحر بيده في حجة الوداع
ثلاثا وستين بدنة، وأعتقت عائشة تسعا وستين وعاشت كذلك، وأعتق أبو بكر كثيرا، وأعتق العباس سبعين،
وأعتق عثمان وهو محاصر عشرين، وأعتق حكيم بن حزام مائة مطوقين بالفضة، وأعتق عبد الله بن عمر ألفا،
واعتمر
ألف عمرة، وحج ستين حجة، وحبس ألف فرس في سبيل الله، وأعتق ذو الكراع الحميري في يوم ثمانية آلاف،
وأعتق عبد الرحمن بن عوف ثلاثين ألفا. وروى الحاكم عن سلمة أن النبي (ص) قال: اللهم اسق
عبد الرحمن بن عوف من سلسل الجنة رضي الله عنهم وحشرنا معهم آمين. والعتق المنجز من المسلم قربة بالاجماع،
أما المعلق ففي الصداق من الرافعي أن التعليق ليس عقد قربة وإنما يقصد به حث أو منع أي أو تحقيق خبر
بخلاف التدبير، وكلامه يقتضي أن تعليقه العاري عن قصد ما ذكر كالتدبير وهو كما قال شيخنا ظاهر. وأركانه
ثلاثة: معتق وعتيق وصيغة، وقد شرع في الركن الأول فقال: (إنما يصح من) مالك (مطلق التصرف) أهل
للتبرع والولاء مختارا من وكيل أولى في كفارة لزمت موليه، فلا يصح من غير مالك بلا إذن ولا من غير
مطلق التصرف من صبي ومجنون ومحجور عليه بسفه أو فلس، ولا من مبعض ومكاتب ومكره بغير حق. وتصور
491

الاكراه بحق في البيع بشرط العتق. ويصح من سكران، ومن كافر ولو حربيا، ويثبت ولاؤه على عتيقه المسلم سواء
أعتقه مسلما أم كافرا ثم أسلم. ولا يصح عتق موقوف لأنه غير مملوك، ولان ذلك يبطل به حق بقية البطون. وبما
تقرر علم ما في كلام المصنف من الاجحاف. (ويصح تعليقه) بصفة محققة الوقوع وغيرها كالتدبير لما فيه من التوسعة
لتحصل القربة، ويصح تعليقه بعوض أيضا. وقد يفهم من صحة تعليقه أنه لا يفسد بالشروط الفاسدة، بخلاف الوقف،
وبه صرح القفال في فتاويه. قال الزركشي: ومقتضى كلام الرافعي في كتا ب الوقف أنه يفسد به وليس كذلك، قال
في البسيط: وكذا وقته نفذ ولغا التوقيت اه‍. وإذا علق الاعتاق على صفة لم يملك الرجوع فيه بالقول ويملكه بالتصرف
كالبيع ونحوه، وإذا باعه ثم اشتراه لم تعد الصفة، وإن علقه على صفة بعد الموت فمات السيد لم تبطل الصفة.
تنبيه: كلام المصنف قد يقتضي اعتبار إطلاق التصرف في تعليق الاعتاق، وليس مرادا، فإنه يصح تعليقه من
الراهن المعسر والموسر على صفة توجد بعد الفك، أو يحتمل وجودها قبله وبعده، وكذا من مالك العبد الجاني التي
تعلقت الجناية برقبته، ومن المحجور عليه بفلس أو ردة. (و) تصح (إضافته إلى جزء) معين من الرقيق كيده أو شائع
منه كربعه، (فيعتق كله) سراية كنظيره في الطلاق، وسواء الموسر وغيره لما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي: أن
رجلا أعتق شقصا من غلام، فذكر ذلك للنبي (ص) فأجاز عتقه وقال: ليس لله شريك. هذا إذا كان باقيه له، فإن كان باقيه
لغيره فسيذكره المصنف بعد. وظاهر كلامه أن العتق يقع على الجميع دفعة، وهو أحد وجهين
في الشرح والروضة بلا ترجيح. والثاني: أنه يقع على ما أعتقه ثم علي الباقي بالسراية، وهو الصحيح كما قاله الزركشي
كما سبق في الطلاق، ولذا حملا كلام المصنف عليه وإن قال الدميري أصحهما يقع على الجميع دفعة واحدة، وكأنه
عبر عن الكل بالبعض. ومن فوائد الخلاف أنه لو قال لرقيقه: إن دخلت الدار فإبهامك حر فقطع إبهامه ثم دخل،
فإن قلنا بالتعبير عن الكل بالبعض عتق وإلا فلا. ومنها ما لو حلف لا يعتق رقيقا أعتق بعض رقيق، فإن قلنا بالتعبير
عن الكل بالبعض حنث وإلا فلا.
تنبيه: أورد على المصنف ما إذا وكل وكيلا في إعتاق عبده فأعتق الوكيل نصفه فقط مثلا، فالأصح عتق ذلك
النصف فقط كما صححه في أصل الروضة، لكن رجح البلقيني القطع بعتق الكل. واستشكل في المهمات عدم السراية بأن
في أصل الروضة أنه لو وكل شريكه في عتق نصيبه فأعتق الشريك النصف الموكل فيه سرى إلى نصيب الموكل،
قال: فإذا حكم بالسراية إلى ملك الغير في العتق الصادر من الوكيل، فلان يسري إلى ملك نفسه أولى، فكيف يستقيم
الجمع بينهما انتهى. وقد يجاب بأن الوكيل قد خالف موكله فيما مر وكان القياس عدم النفوذ بالكلية، لكن لما كان
الشارع متشوفا إلى العتق نفذناه فيما أعتقه الوكيل ولم تترتب السراية على ما يثبت عتقه على خلاف القياس، لأن عتق
السراية قد لا يقوم مقام المباشرة فيفوت غرض الموكل، لأنه قد يوكله في عتقه عن الكفارة، فلو نفذنا عتق بعضه
بالسراية لما أجزأ عن الكفارة وكان المالك يحتاج إلى نصف رقبة أخرى، بخلاف ما إذا قلنا يعتق النصف فقط،
فإن النصف الآخر يمكن عتقه بالمباشرة عن الكفارة. وأما المستشكل به فقد وافق الوكيل موكله فيما أذن
له فيه فكأنه أعتق ذلك البعض، وهو إذا أعتق ذلك البعض بنفسه سرى العتق إلى نصيب شريكه. والركن الثاني:
العتق، ويشترط فيه أن لا يتعلق به حق لازم غير عتق يمنع بيعه كمستولدة ومؤجر، بخلاف ما تعلق به ذلك كوقف
كما مر، وكرهن على تفصيل مر بيانه. والركن الثالث: الصيغة، وهي إما لفظ صريح، وإما كناية. وقد شرع في
القسم الأول فقال: (وصريحه تحرير وإعتاق) وما تصرف منها، كأنت محرر أو حررتك أو عتيق أو معتق لورودهما
في القرآن والسنة منكرين. ويستوي في ألفاظهما الهازل واللاعب، لأن هزلهما جد كما رواه الترمذي وغيره. (وكذا
فك رقبة) وما تصرف منه كمفكوك الرقبة صريح (في الأصح) لوروده في القرآن، والثاني هو كناية
لاستعماله في العتق وغيره، فقد قيل في قوله تعالى: * (فك رقبة) * أي من الأسر، وقيل باجتناب المعاصي، وورد في
492

الحديث: فك الرقبة أن تعين في ثمنها.
تنبيه: كان الأولى أن يقول: وما اشتق من التحرير والاعتاق والفك، فإنه لو قال: أنت تحرير أو إعتاق أو
فك كان كناية، كقوله لزوجته: أنت طالق.
فروع: لو كان اسم أمته قبل إرقاقها حرة فسميت بغيره فقال لها: يا حرة عتقت إن لم يقصد النداء لها باسمها
القديم، فإن كان اسمها في الحال حرة لم تعتق إلا إن قصد العتق. وإن أقر بحريته خوفا من أخذ المكس عنه إذا طالبه
المكاس به وقصد الاخبار لم يعتق باطنا، وقول الأسنوي: ولا ظاهرا كما لو قال لها أنت طالق وهو يحلها من
وثاق
ثم ادعى أنه أراد طلاقها من الوثاق مردود، فإن ذلك إنما هو قرينة على أنه إخبار ليس بإنشاء، ولا يستقيم كلامه معه
إلا إذا كان على ظاهره. ونظير مسألة الوثاق كما قال شيخنا أن يقال له: أمتك قحبة، فيقول: بل هي حرة فهو قرينة
على إرادة الصفة لا العتق. ولو قال لامرأة زاحمته: تأخري يا حرة فبانت أمته لم تعتق، وإنما أعتق الشافعي رضي الله
تعالى عنه أمته بذلك تورعا. ولو قال لعبده: افرغ من عملك وأنت حر، وقال: أردت حرا من العمل لم يقبل ظاهرا
ويدين. ولو قال: الله أعتق عتق أو أعتقك الله فكذلك كما هو مقتضى كلامهما، ورأي البوشنجي أنه كناية لاحتمال
الانشاء والدعاء. ولو قال: أنت حر مثل هذا العبد وأشار إلى عبد آخر له لم يعتق ذلك العبد كما بحثه المصنف، لأن وصفه بالعبد يمنع عتقه ويعتق المخاطب، فإن قال: مثل هذا ولم يقل: العبد عتقا كما صوبه المصنف، وإن قال الأسنوي
إنما يعتق الأول فقط. ولو قال لرجل: أنت تعلم أن عبدي حر عتق بإقراره وإن لم يكن المخاطب عالما بحريته، لا إن
قال له: أنت تظن أو ترى. ولو قال السيد لضارب عبده: عبد غيرك حر مثلك لم يحكم بعتقه لأنه لم يعينه. (ولا يحتاج)
الصريح (إلى نية) لايقاعه كسائر الصرانح لأنه لا يفهم منه غيره عند الاطلاق، فلم يحتج لتقويته بالنية، ولان هزله جد
كما مر فيقع العتق، وإن لم يقصد إيقاعه. أما قصد لفظ الصريح لمعناه، فلا بد منه ليخرج أعجمي تلفظ بالعتق ولم
يعرف معناه. وما ذكره المصنف من عدم احتياج الصريح لنية معلوم من حكم الصريح، وإنما صرح به تمهيدا لقوله:
(ويحتاج إليهما) أي النية (كنايته) بهاء الضمير أي العتق، وإن احتفت بها قرينة لاحتمالها غير العتق، فلا بد من نية
التمييز كالامساك في الصوم. (وهي) أي الكناية: (لا ملك لي عليك، لا سلطان) لي عليك، وكذا في بقية الأمثلة، وهي:
(لا سبيل، لا خدمة) لا يد لا أسر ونحوها، (أنت) بفتح التاء بخطه (سائبة، أنت مولاي) ونحو ذلك كأزلت ملكي أو
حكمي عنك، لاشعار ما ذكر بإزالة الملك مع احتمال غيره.
تنبيه: وقال لعبده يا سيدي هل هو كناية أو لا؟ وجهان، رجح الإمام أنه كناية، وجرى عليه ابن المقري، وهو
الظاهر، ورجح القاضي والغزالي أنه لغو، لأنه من السؤدد وتدبير المنزل، وليس فيه ما يقتضي العتق. وجرى عليه
الزركشي وعلله بأنه إخبار بغير الواقع أو خطاب بلفظ ولا إشعار له بالعتق. ولو قال المصنف: هي كقوله كما فعل في
الروضة كان أولى لئلا يوهم الحصر. قال القاضي الحسين: وضابط الكناية هنا كل لفظ يتضمن زوال الملك أو ينبئ
عن الفرقة كالأمثلة المتقدمة. (وكذا كل صريح أو كناية للطلاق) لاشعارها بإزالة قيد الملك. ويستثنى من ذلك
ما لو
قال لرقيقه: أنا منك طالق أو بائن ونحو ذلك ونوى إعتاقه عبدا كان أو أمة لم يعتق بخلاف نظيره من الطلاق، والفرق
أن الزوجية تشمل الزوجين، والرق خاص بالعبد. ويستثنى أيضا ما لو قال لعبده: اعتد أو استبرئ رحمك ونوى
العتق فإنه لا يعتق كما في أصل الروضة في الطلاق، ولو قال لامته فوجهان، أصحهما العتق.
تنبيه: قوله: للطلاق يخرج صرائح وكنايات غيره، لكن الظاهر صرائحه وكناياته كناية في العتق وليس
صريحا ولا كناية في الطلاق. ولو قال لعبده: يا خواجا لم يعتق، قاله المروزي. وفي الاحياء أن الزهري قال: من قال
لعبده جزاء الله عتق عليه اه‍. ولعل هذا مذهب الزهري. وفي الكشاف في سورة يس: إذا قال الرجل كل مملوك لي
493

قديم حر أو كتب ذلك في وصية عتق منهم من مضى له حول وأكثر، لأن القديم هو المحمول اه‍. (وقوله لعبد) له:
(أنت) بكسر التاء بخطه (حرة، ولامة) له: (أنت) بفتح التاء بخطه أيضا (حر، صريح) في المسألتين، ولا يضر
الخطأ في التذكير والتأنيث تغليبا للإشارة على العبارة. ثم شرع في مشابهة العتق للطلاق في التعويض والتعليق بقوله: (ولو
قال) شخص لرقيقه: (عتقك إليك) أي جعلته، (أو خيرتك) في إعتاقك بخاء معجمة من التخيير، وعبر في الروضة
بقوله: حررتك بحاء مهملة من التحرير، قال الأسنوي: وهو غير مستقيم، فإن هذه اللفظة صريحة، وصوابه حريتك
مصدرا مضافا كاللفظ المذكور قبله وهو العتق. (ونوى تفويض العتق إليه فأعتق نفسه في المجلس عتق) كما في الطلاق،
لأن العتق والطلاق يتقاربان فكل ما تقدم هناك يأتي مثله هنا.
تنبيه: عبارة المحرر: وجعلت عتقك إليك، وحذف المصنف العامل يوهم عدم الاحتياج إليه، قال البلقيني:
وهو محتمل. قال الزركشي: وليس كذلك هو لهذا قيدت العامل في عبارة المصنف. وتعبيره يقتضي اشتراط النية مع
التفويض بالصريح، لكن صرحا في الطلاق بعدم الاحتياج، وإنما يشترط ذلك في التفويض بالكناية، فعلى هذا
يكون قوله: ونوى قيدا في الأخيرة خاصة. وقوله: في المجلس يقتضي أنه لا يشترط الفور، لكن ظاهر عبارة الشرح
والروضة اشتراطه حيث قالا: فأعتق نفسه في الحال عتق واعتذر عن المصنف بأن مراده مجلس التخاطب لا الحضور.
(أو) قال لعبده في الايجاب: (أعتقك على ألف) مثلا في ذمتك، (أو أنت حر على ألف فقبل) في الحال.
(أو قال له العبد) في الاستحباب: (أعتقني على ألف) مثلا، (فأجابه) في الحال، (عتق في الحال ولزمه الألف)
في الصور الثلاث كالخلع، بل أولى لتشوف الشارع إلى تخليص الرقبة دون الفراق، فهو من جانب المالك معاوضة فيها
شوب تعليق، ومن جانب المستدعي معاوضة نازعة إلى الجعالة، ولا يقدح كونه تمليكا، إذ يغتفر في الضمني ما لا
يغتفر في المقصود.
تنبيه: قوله: في الحال تبع فيه المحرر ولا فائدة له، ولهذا لم يذكراه في الشرح والروضة، وإنما ذكراه بعد
هذه الصورة فيما لو قال: أعتقتك على كذا إلى شهر فقيل عتق في الحال والعوض مؤجل. وصورة مسألة الكتاب أن
يكون الألف في الذمة كما قدرته في كلامه، فإن كانت معينة ففي فتاوى القفال إذا كان في يد عبده ألف درهم
اكتسبها فقال السيد: أعتقتك على هذا الألف ففيه ثلاثة أوجه: أحدها يعتق ولا شئ على العبد والألف ملك السيد
لأنها كسب عبده، وثانيها: يعتق ويتراجعان بالقيمة كالكتابة الفاسدة، وثالثها: يعتق والألف ملك السيد ويرجع على
العبد بتمام قيمته، وهذا هو الظاهر. ولو أعتقه على خمر أو خنزير عتق وعليه قيمته. (ولو قال) لرقيقه: (بعتك نفسك
بألف) في ذمتك حالة أو مؤجلة ترددها بعد حريتك، (فقال: اشتريت، فالمذهب صحة البيع) كالكتابة وأولى، لأن البيع
أثبت والعتق فيه أسرع. (ويعتق في الحال وعليه الألف) عملا بمقتضى العقد وهو عقد عتاقة على الأصح لا بيع،
ولهذا لا يثبت فيه خيار المجلس، ولو كان بيعا لثبت فيه. (والولاء لسيده) لعموم خبر الصحيحين: الولاء لمن أعتق
وهذا عتق غلب شائبة العتق. وقيل: لا ولاء عليه لأنه عتق على ملك نفسه هذا باعه نفسه جميعا، فلو باعه
بعض نفسه سرى على البائع إن قلنا الولاء له كما لو أعتقه، فإن قلنا لا ولاء له لم يسر، كما لو باعه من غيره، قاله البغوي
في فتاويه.
تنبيه: أفهم سكوت المصنف في هذه وما قبلها عن حط شئ أن السيد لا يلزمه شئ، وهو المشهور
494

ولا خلاف أنه لا يجب شئ في الاعتاق بغير عوض. ولو قال لرقيقه: وهبتك نفسك ونوى العتق عتق، أو التمليك فكذلك
إن قبل فورا كما اقتضاه كلامهما في باب الكتابة. (ولو قال لحامل) أي لامته الحامل بمملوك له: (أعتقتك) وأطلق (أو
أعتقتك دون حملك عتقا) أي عتقت وتبعها في العتق حملها، ولو انفصل بعضه حتى يأتي يومان، لأنه كالجزء منها
وعتقه بالتبعية لا بالسراية، لأن السراية في الأشقاص لا في الاشخاص، ولقوة العتق لم يبطل في الأخيرة، بخلاف البيع
فيها كما مر. وظاهر عبارته أنهما يعتقان معا لا مرتبا، والتعليل يقتضيه، لكن قول الزركشي فيما لو أعتقها في مرضه
والثلث يفي بها دون الحمل فيحتمل أنها تعتق دونه، كما لو قال: أعتقت سالما ثم غانما وكان الأول ثلث ماله، إذ لا فرق
بين أن يرتب هو العتق أن يرتبه الشرع على السبيل التبعية يقتضي الترتيب، وهو الظاهر.
تنبيه: شمل إطلاقه ما لو قال لها: أنت حرة بعد موتي وفيها في الرافعي في باب الوصية وجهان، أحدهما: لا يعتق الحمل
لأن إعتاق الميت لا يسري، وأصحهما يعتق، لأنه كعضو منها. (ولو أعتقه) أي الحمل المملوك له، (عتق دونها) حكى ابن
المنذر فيه الاجماع. وقيل: تعتق بعتقه كعكسه، ورد بأن العتق إنما وقع بعتق الام تبعا لها ولا يقع العتق عليها
بعتقه، لأن
الأصل لا يتبع الفرع، وإن أعتقهما عتقا بخلاف البيع في المسألتين كما مر في محله.
(تنبيه) محل صحة إعتاقه وحده إذا نفخ فيه الروح، فإن لم ينفخ فيه الروح كمضغة كأن قال: أعتقت مضغتك فهو
لغو كما حكاه قبيل التدبير عن فتاوى القاضي وأقراه، ولا ينافي ذلك ما قالاه في باب الوصية تجوز
الوصية بالحمل كما يجوز إعتاقه، ثم الشرطان أن ينفصل لوقت يعلم وجوده عند الوصية، وأن ينفصل حيا، لأن حكم المشبه لا يعطي حكم المشبه
به من غير وجه، وأن الوصية لما كانت تصح بالمجهول وبالمعدوم وبالنجس توسعوا فيها فلم يشرطوا في الحمل نفخ الروح
بخلاف العتق. ولو قال: مضغة هذه الأمة حرة، ففي فتاوى القاضي أنه إقرار بانعقاد الولد حرا وتصير الام به أم ولد،
وقال المصنف: ينبغي أن لا تصير حتى يقر بوطئها لاحتمال أنه حر من وطئ أجنبية بشبهة. قال البلقيني: وهذا غير
كاف وصوابه حتى يقر بوطئها، وبأن هذه المضغة منه. قال: وقوله مضغة أمتي لا يتعين للاقرار فقد تكون للانشاء
كقوله: أعتقت مضغتها، أي فلم يصح كما مر. وما صوبه غير كاف أيضا، بل لا بد أن يقول: علقت به في ملكي أو
نحوه أخذا مما ذكر في الاقرار. (ولو كانت) تلك الأمة الحامل (لرجل والحمل لآخر) كأن أوصى له به، (لم يعتق
أحدهما بعتق الآخر) وإن كان المعتق موسرا، لأنه لا استتباع مع اختلاف المالكين.
فروع: لو قال لامته الحامل: إن ولدت ولدا فهو حر فولدت حيا عتق، وإن ولدت ميتا ثم حملت وولدت
حيا لم يعتق. ولو قال ذلك لحائل فحملت ووضعت حيا عتق. ولو قال لها: إن ولدت أولا ذكرا فهو حر وإن ولدت
أولا أنثى فأنت حرة فولدت ذكرا ثم أنثى عتق الذكر فقط، أو بالعكس عتقت الام والذكر، لأنه حال عتق الام كان
جنينا فتبعها، وإن ولدتهما معا أو ذكرين أو أنثيين معا فلا عتق. ولو قال: من دخل الدار أولا من عبيدي فهو حر فدخلها
واحد منهم عتق ولو لم يدخلها أحد بعده، ولو دخل اثنان ثم ثالث لم يعتق واحد منهم، إذ لا يوصف واحد منهم بأنه أول.
وأجيب عما ذكر في المسابقة أن الأول يطلق على المتعدد بأنه لا محذور من الاطلاق ثم، إذ لا يلزم المخرج زيادة على المشروط
بخلافه هنا إذ لا يلزم عليه زيادة عتق لم يلتزمها، فإن كان قال في هذه أول من يدخل وحده حر عتق الثالث، ولو قال آخر
من يدخلها من عبيدي حر فدخل بعضهم بعد بعض لم يعتق أحد منهم إلى أن يموت السيد فيتبين الآخر. (وإذا
كان بينهما) أي الشريكين سواء كانا مسلمين أم كافرين أم مختلفين (عبد فأعتق أحدهما كله أو نصيبه) أو بعضه
بنفسه أو وكيله، (عتق نصيبه) ولو كان معسرا، (فإن كان معسرا) عند الاعتاق (بقي الباقي) من العبد (لشريكه)
ولا يسري لمفهوم الحديث الآتي، (وإلا) بأن لم يكن معسرا (سرى) العتق عليه (إليه) أي نصيب شريكه.
495

والمراد بغير المعسر أن يكون موسرا بقيمة حصة شريكه فاضلا ذلك عن قوته وقوت من تلزمه نفقته في يومه
وليلته ودست
ثوب يلبسه وسكنى يوم على ما سبق في الفلس، ويصرف إلى ذلك كل ما يباع، ويصرف في الديون. (أو) سرى (إلى
ما أيسر به) من نصيب شريكه، والأصل في ذلك خبر الصحيحين: من أعتق شركا له في عبد وكان له مال يبل ثمن
العبد قوم العبد عليه قيمة العدل وأعطى شركاءه حصصهم وأعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه منه ما عتق. وفي
رواية: إذا كان العبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه وكان له مال فقد عتق كله وأما رواية: فإن لم يكن له مال
قوم العبد عليه قيمة عدل، ثم يستسعى لصاحبه في قيمته غير مشقوق عليه فمدرجة في الخبر كما قاله الحفاظ، أو محمولة
على أنه يستسعى لشريك المعتق، أي يخدمه بقدر نصيبه لئلا يظن أنه يحرم عليه استخدامه.
تنبيه: يستثنى من ذلك ما لو كان نصيب الشريك مستولدا بأن استولدها وهو معسر، فلا سراية في الأصح،
لأن السراية تتضمن من النقل. ويجرى الخلاف فيما لو استولدها أحدهما وهو معسر، ثم استولدها الآخر، ثم أعتقها
أحدهما. ولو كانت حصة الذي لم يعتق موقوفة لم يسر العتق قولا واحدا، قاله في الكفاية، وبه شمل إطلاقه ما لو كان
العيد بين ثلاثة فأعتق اثنان منهم نصيبهما معا وأحدهما معسر والآخر موسر، فإنه يقوم جميع نصيب الذي لم يعتق على
هذا الموسر كما جزما به والمريض معسر إلا في ثلث ماله كما سيأتي، فإذا أعتق نصيبه من عبد مشترك في مرض موته،
فإن خرج جميع العبد من ثلث ماله قوم عليه نصيب شريكه وعتق جميعه، وإن لم يخرج إلا نصيبه عتق بلا سراية.
(وعليه) أي الموسر على كل الأقوال الآتية (قيمة ذلك) القدر الذي أيسر به (يوم) أي وقت (الاعتاق) لأنه وقت الاتلاف
أو وقت سببه، كالجناية على العبد إذا سرت لنفسه تعتبر وقت الجناية.
تنبيه: للشريك مطالبة المعتق بدفع القيمة وإجباره عليها، فلو مات أخذت من تركته، فإن لم يطالبه الشريك
فللعبد المطالبة، فإن لم يطالب طالبه القاضي، وإن اختلفا في قدر قيمته، فإن كان العبد حاضرا قريب العهد بالعتق
ورجع أهل التقويم أو مات أو غاب أو طال العهد صدق المعتق لأنه غارم. (وتقع السراية) المذكورة (بنفس الاعتاق)
فتنتقل الحصة إلى ملك المعتق ثم تقع السراية به، ولو حذف المصنف لفظ نفس كما حذفها بعد في قوله: إن قلنا السراية
بالاعتاق كان أولى.
تنبيه: يستثنى من ذلك ما لو كاتبه الشريكان ثم أعتق أحدهما نصيبه فإنا نحكم بالسراية بعد العجز عن
أداء نصيب الشريك فإن في التعجيل ضررا على السيد بفوات الولاء. (وفي قول) قديم تقع السراية (بأداء القيمة)
أو الاعتياض عنها، لأن في إزالة ملك الشريك قبل أن يحصل العوض إضرارا به، فإنه قد يفوت لهرب أو غيره،
والضرر لا يزال بالضرر، فلا يكفي الابراء كما قاله الماوردي. (و) في (قول) السراية موقوفة (إن
دفعها) أي
القيمة (بان أنها) أي السراية (بالاعتاق) لأن حكم بالعتق يضر السيد، والتأخير إلى أداء القيمة يضر بالعبد
والتوقف أقرب إلى العدل ورعاية الجانبين، ولا تخص السراية بالاعتاق. (و) حينئذ (استيلاد أحد الشريكين الموسر)
الأمة المشتركة بينهما (يسري) إلى نصيب شريكه كالعتق بل أولى منه بالنفوذ، لأنه فعل وهو أقوى من القول،
ولهذا ينفذ استيلاد المجنون والمحجور عليه دون عتقهما، وإيلاد المرض من رأس المال وإعتاقه من الثلث. وخرج
بالموسر المعسر، فلا يسر استيلاده كالعتق. نعم إن كان الشريك المستولد أصلا لشريكه سرى كما لو استولد الجارية التي
كلها له. (وعليه قيمة نصيب شريكه) للاتلاف بإزالة ملكه. (و) عليه أيضا (حصته من مهر مثل) للاستمتاع بملك
غيره، ويجب مع ذلك أرش البكارة لو كانت بكرا، وهل يفرد أو يدخل في المهر؟ خلاف اضطراب الترجيح في نظائره،
والظاهر كما رجحه بعض المتأخرين عدم الدخول. وهذا إن تأخر الانزال عن تغييب الحشفة كما هو الغالب وإلا فلا
496

يلزمه حصة مهر على الأظهر الآتي، لأن الموجب له تغييب الحشفة في ملك غيره، وهو منتف. نعم إن أنزل مع الحشفة
وقلنا بما صححه الإمام مع أن الملك ينتقل مع العلوق فقضية كلام الأصحاب كما في المطلب الوجوب. واحترز المصنف
بالموسر عما لو كان معسرا، فإن الاستيلاد لا يسري كالعتق، فلو استولدها الثاني وهو معسر ففي مستولدتهما لمصادفة
ملكه المستقر، ويجب على كل منهما نصف مهرها للآخر ويأتي فيه أقوال النقاص. (وتجري الأقوال) السابقة (في
وقت حصول السراية) والعلوق هنا كالاعتاق، (فعلى الأول) الأظهر، وهو أنها تحصل بنفس العلوق. (و) على
(الثاني) وهو التبين (لا تجب قيمة حصته من الولد) لأنا جعلنا أمه أم ولد في الحال فيكون العلوق في ملكه، فلا
تجب قيمة الولد. أما على الثاني القائل بحصول السراية بأداء القيمة فتجب، وصححه الأسنوي ونقله عن جزم الرافعي
في آخر التدبير. (ولا يسري تدبير) فلو دبر أحد الشريكين نصيبه لم يسر، لأنه ليس بإتلاف بدليل جواز بيعه، فلا
يقتضي السراية. ولا يسري أيضا إذا مات، لأن الميت معسر. ولا يسري أيضا من بعضه إلى باقيه فيمن ملكه كله.
(ولا يمنع السراية دين مستغرق في الأظهر) لأنه مالك لما في يده نافذ التصرف فيه، ولهذا لو اشترى عبدا وأعتقه
نفذ. والثاني: تمنع، لأنه في الحقيقة غير موسر.
تنبيه: هذا إذا كان من يسري عليه غير محجور عليه، فإن حجر عليه بفلس بعد أن علق عتق حصته
على صفة ثم وجدت حال الحجر فلا سراية، وفي نظيره في حجر السفه يعتق عليه، والفرق أن المفلس لو
نفذنا عتقه أضررنا
بالغرماء، بخلاف السفيه. (ولو قال) أحد الشريكين (لشريكه الموسر: إن أعتقت نصيبك فعليك قيمة نصيبي فأنكر)
الشريك ولا بينة للمدعي، (صدق) المنكر (بيمينه) عملا بالأصل، (فلا يعتق نصيبه) إن حلف (ويعتق نصيب
المدعي بإقراره إن قلنا) بالراجح من أنه (يسري بالاعتاق) في الحال مؤاخذة له بإقراره، (ولا يسري إلى نصيب
المنكر) وإن كان المدعي موسرا، لأنه لم ينشئ عتقا فهو كما لو قال أحد الشريكين لرجل: إنك اشتريت نصيبي فأعتقته
فأنكر فإنه يعتق نصيب المدعي ولا يسري ولا يعتق على القولين الآخرين، فإن نكل عن اليمين حلف المدعي
واستحق القيمة ولم يعتق نصيب المنكر أيضا بهذا اليمين، لأن اليمين إنما توجهت عليه لأجل القيمة، واليمين المردودة
لا تثبت إلا ما توجهت الدعوى نحوه وإلا فلا معنى للدعوى على إنسان أنك أعتقت عبدك، وإنما ذلك من وظيفة
العبد. قال الرافعي: واحترز بقوله الموسر عن المعسر فإنه إذا أنكر وحلف لم يعتق من العبد شئ، فلو اشترى المدعي
نصيب المدعى عليه عتق عليه ولا سراية في الباقي. (ولو) قال (لشريكه) ولو معسرا: (إن أعتقت نصيبك فنصيبي
حر بعد نصيبك، فأعتق الشريك) المنقول له نصيبه (وهو موسر سرى إلى نصيب) الشريك (الأول إن قلنا
السراية) تحصل (بالاعتاق) وهو الأظهر، (وعليه قيمته) أي قيمة نصيب المعلق ولا يعتق التعليق، لأنه اجتمع
على النصف تعليق وسراية والسراية أقوى، لأنها قهرية لا مدفع لها، وموجب التعليق قابل للدفع بالبيع ونحوه.
تنبيه: قوله: بعد نصيبك لا حاجة إليه، فإنه لو أطلق قوله: فنصيبي حر كان حكمه كذلك، وإنما يخالفه
أن لو قال: قبله. وقوله: إن قلنا السراية بالاعتاق، وكذا إن قلنا بالتبين وأديت القيمة. واحترز بالموسر عن المعسر
فلا سراية عليه ويعتق على المعلق نصيبه. (ولو قال) لشريكه: إن أعتقت نصيبك (فنصيبي حر قبله) أي قبل عتق
497

نصيبك، (فأعتق الشريك) المقول له نصيبه، (فإن كان المعلق معسرا عتق نصيب كل) منهما (عنه) المنجز في الحال
والمعلق قبله بموجب التعليق ولا سراية. وعلم من تقييده المعلق بالمعسر أنه لا فرق في الآخر بين المعسر والموسر. (والولاء
لهما) لاشتراكهما في العتق، (وكذا إن كان) المعلق (موسرا وأبطلنا الدور) وهو الأصح فيعتق نصيب كل منهما ولا
شئ لأحدهما على الآخر. (وإلا) بأن صححنا الدور كما قاله ابن الحداد، (فلا يعتق شئ) على أحد من الشريكين،
لأنه لو نفذ إعتاق المقول له في نصيبه لعتق نصيب القائل قبله، ولو عتق لسرى عليه بناء على ترتيب السراية على العتق،
ولو سرى لبطل عتقه فيلزم من نفوذه عدم نفوذه. وفيما ذكر دور، وهو توقف الشئ على ما يتوقف عليه، أي
وجودا وعدما، وهو دور لفظي.
تنبيه: ولو قال في المسألة: نصيبي حر مع عتق نصيبك أو في حال عتق نصيبك فأعتقه وقلنا السراية بالاعتاق
ففي الأصح يعتق على كل نصيبه نظرا لاعتبار المعية المانع للسراية.
حادثة: سئل السبكي عن رجل مات وترك عبدا فادعت زوجته أنه عوضها إياه من صداقها وأنها أعتقته، فهل
يعتق ويسري إلى باقيه أو لا؟ فقال: يعتق ولا يسري، لأن الاقرار بإعتاقه يحتمل أن يكون قبل الموت وبعده. والأول
يقتضي المؤاخذة في نصيبها وعدم السراية، والثاني يقتضي السراية فيحمل على المتيقن وهو عدمها، وتؤاخذ بإقرارها
في إسقاط صداقها. ولو تعدد المعتق (ولو) مع التفات، كأن (كان عبد) مشتركا بين ثلاثة (لرجل) منهم (نصفه ولآخر
ثلثه ولآخر سدسه فأعتق الآخران) بكسر الخاء بخطه، (نصيبهما) بالتثنية، كأن تلفظا بالعتق (معا) بحيث لم يسبق أحدهما
بالفراغ منه، أو وكلا وكيلا فأعتقه بلفظ واحد، أو علقاه على صفة واحدة كدخول الدار وهما موسران، (عتقا)
بقدر الواجب، (فالقيمة) للنصف الذي سرى العتق (عليهما نصفان) على عدد رؤوسهما لا على قدر الحصص (عى المذهب)
لأن ضمان التلف يستوي فيه القليل والكثير، كما لو مات من جراحاتهما المختلفة، وكما لو وضع رجلان في ماء لغيرهما
نجاسة فإنه يستويان في ضمانه، وإن كان أحدهما قد وضع فيه جروا والآخر جروين. وفي قول من الطريق الثاني: القيمة
عليهما على قدر الملكين كما في نظيره في الشفعة. وفرق الأول بأن الاخذ بالشفعة من فوائد الملك ومرافقه كالثمرة،
وهذا سبيله سبيل ضمان المتلف.
تنبيه: محل الخلاف إذا كانا موسرين بقدر الواجب كما قدرته في كلامه، فإن كان أحدهما موسرا فقط قوم إليه
نصيب الثالث قطعا، فإن كانا موسرين بدون الواجب سرى إلى ذلك القدر بحسب يسارهما، فإن تفاوتا في اليسار سرى
على كل منهما بقدر ما يجب. وإنما ضبط المصنف الآخران بكسر الخاء ليوافق قول المحرر: فأعتق الثاني والثالث، وإلا فلو
قال: فأعتق اثنان منهما كما في الروضة وغيرها كان الحكم كذلك. (وشرط السراية) أي شروطها أربعة، ولو عبر به كان
أولى لئلا يوهم الحصر فيما ذكره فإنه لم يستوفها كما ستراه. أحدها: (إعتاقه) أي المالك ولو بنائبه (باختياره) كشراء حر
أصله أو فرعه وقبول هبته أو الوصية به.
تنبيه: ليس المراد بالاختيار مقابل الاكراه، بل المراد السبب في الاعتاق، ولا يصح الاحتراز بالاختيار عن
الاكراه، لأن الكلام فيما يعتق فيه الشقص والاكراه لا عتق فيه أصلا. وخرج باختياره ما ذكره بقوله: (فلو ورث
بعض ولده) وإن سفل، أو بعض أصله وإن علا، (لم يسر) عليه عتقه إلى باقيه، لأن التقويم سبيله سبيل ضمان المتلفات،
وعند انتفاء الاختيار لا صنع منه يعد إتلافا وما لو عجز مكاتب اشترى جزء بعض سيده فإنه يعتق عليه ولم يسر
498

سواء أعجز بتعجيز نفسه أم بتعجيز سيده لعدم اختيار السيد. فإن قيل: هو مختار في الثانية. أجيب بأنه إنما قصد
التعجيز والملك حصل ضمنا. وما لو اشترى أو انهب المكاتب بعض ابنه أو أبيه وعتق بعتقه لم يسر، لأنه لم يعتق
باختياره، بل ضمنا. وما لو ملك شخص بعض ابن أخيه وباعه بثوب مثلا ومات فورثه أخوه ورد الأخ الثوب بعيب
وجده فيه واسترد البعض عتق عليه ولم يسر كما هو مقتضى كلام الروضة ك الرافعي قبيل الخاصة الثالثة، لأن المقصود فيه
رد الثوب لا استرداد البعض. وصوبه الزركشي، ولكن المصحح في الروضة هنا السراية، وجرى عليه ابن المقري،
وهو الذي يظهر ترجيحه، لأن تسبب في ملكه بالفسخ. والفرق بينه وبين ما مر في تعجيز السيد مكاتبه بأن الرد
يستدعي حدوث ملك فأشبه الشراء بخلاف التعجيز. وما لو رد عليه ذلك البعض بعيب فإنه لم يسر، لأنه قهري كالإرث.
وما لو أوصى لزيد مثلا ببعض ابن أخيه فمات زيد قبل القبول وقتله الأخ عتق عليه ذلك البعض ولم يسر، لأنه بقبوله
يدخل البعض في ملك مورثه ثم ينتقل بالإرث. ثاني شروط السراية: أن يكون له يوم الاعتاق مال يفي بقيمة الباقي
أو بعضه كما مر، ويباع فيها ما يباع في الدين من مسكن وخادم وغيرهما على ما مر في الفلس. وإن كان المعتق
مديونا واستغرقت الديون ماله كما مر في كلام المصنف حتى يضارب الشريك بقيمة نصيبه مع الغرماء، فإن أصابه
بالمضاربة ما يفي بقيمة نصيبه فذاك، وإلا أخذ حصته، ويعتق جميع العبد بناء على حصول السراية بنفس الاعتاق
فلا يسري على معسر. (والمريض) أيضا (معسر إلا في ثلث ماله) فإنه إذا عتق في مرض موته نصيبه ولم يخرج
من الثلث غيره فلا سراية، فإن خرج نصيبه وبعض نصيب شريكه فلا سراية في الباقي. (والميت) أيضا (معسر)
مطلقا، (فلو أوصى) أحد شريكين في رقيق (بعتق نصيبه) منه فأعتق بعد موته، (لم يسر) إلى باقيه وإن خرج كله من
الثلث لانتقال المال غير الموصى به إلى الوارث. ثالث شروط السراية: أن يكون محلها قابلا للنقل، فلا سراية في نصيب
حكم بالاستيلاد فيه، ولا إلى الحصة الموقوفة، ولا إلى المنذور إعتاقه ونحوه مما لزم إعتاقه بموت المريض أو المعلق
على صفة بعد الموت إذا كان أعتق بعد الموت. ولو استولد أحد شريكين نصيبه معسرا ثم أعتقه وهو موسر سرى
إلى نصيب شريكه، وقول الزركشي نقلا عن القاضي أبي الطيب لا يسري إليه بعكسه ممنوع. ويسري العتق إلى بعض
مرهون، وإلى بعض مدبر، وإلى بعض مكاتب عجز عن أداء نصيب الشريك. رابع شروط السراية: أن يعتق نصيبه
أولا ليعتق ثم يسري العتق إلى نصيب شريكه، فلو أعتق نصيب شريكه لغا، إذ لا ملك ولا تبعية، فلو أعتق نصيبه
بعد ذلك سرى إلى حصة شريكه. وإن أعتق نصف المشترك وأطلق فهل يقع العتق على النصف شائعا لأنه لم يخصه
يملك نفسه أو على ملكه فقط لأن الانسان إنما يعتق ما يملكه؟ وجهان، أرجحهما الثاني كما جزم به صاحب الأنوار
كما في البيع والاقرار. وعلى كلا التقديرين لا يعتق جميعه إلا إن كان المعتق موسرا. قال الإمام: ولا يكاد يظهر لهذا
الخلاف فائدة إلا في تعليق طلاق أو عتق.
تتمة: أمة حامل من زوج اشتراها ابنها الحر وزوجها معا وهما موسران، فالحكم كما لو أوصى سيدها بها لهما
وقبلا الوصية معا فتعتق الأمة على الابن، والحمل يعتق عليهما ولا يقوم.
فصل: في العتق بالبعضية: (إذا ملك أهل تبرع أصله أو فرعه) الثابت النسب (عتق) عليه. أما الأصول
فلقوله تعالى: * (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) * ولا يتأتى خفض الجناح مع الاسترقاق، ولما في صحيح مسلم:
لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه أي فيعتقه الشراء لا أن الولد هو المعتق بإنشائه العتق كما فهمه
داود الظاهري، بدليل رواية: فيعتق عليه. وأما الفروع فلقوله تعالى: * (وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في
السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا) *، وقال تعالى: * (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون) *، دل على
499

نفي اجتماع الولدية والعبدية. تنبيه: شمل قوله أصله وفرعه الذكور منهما والإناث، علوا أو سفلوا، ملكوا اختيارا أو لا
، اتحد دينهما أو لا، لأنه حكم متعلق بالقرابة فاستوى فيه من ذكرناه. وخرج من عداهما من الأقارب كالاخوة والأعمام فإنهم لا يعتقدون
بالملك، لأنه لم يرد فيه نص ولا هو في معنى ما ورد فيه النص لانتفاء البعضية عنه. وأما خبر: من ملك ذا رحم محرم فقد
عتق عليه فضعيف، بل قال النسائي: إنه منكر، والترمذي: إنه خطأ. وقال أبو حنيفة وأحمد: يعتق كل ذي رحم
محرم. وقال مالك: يعتق السبعة المذكورون في آية الميراث. وقال الأوزاعي: يعتق كل قريب محرما كان أو غيره. وخرج
بقولنا: الثابت النسب ما لو ولدت المزني بها ولدا ثم ملكه الزاني لم يعتق عليه، وخرج أصله وفرعه من الرضاع فإنه
لا يعتق عليه. والتقييد بأهل التبرع تبع فيه المحرر، ولا يصح الاحتراز به عن الصبي والمجنون، فإنهما إذا ملكا ذلك
عتق عليهما كما سيأتي. ووقع هنا التقييد في الوجيز، فقال الرافعي: احترز عن الصبي ونحوه. قيل: كأنه كتبه من غير
تأمل. وقول الشارح لم يقصد لذلك مفهوم ممنوع بل يحترز به عن صور: منها المكاتب إذا ملك أصله وفرعه بهبة أو
وصية، وكان القريب كسوبا بما يقوم بكفاية نفسه، فإنه يجوز له قبوله وإذا قبله ملكه ولا يعتق عليه بل يكاتب عليه
إذ لو عتق لكان ولاؤه له ولا يتصور الولاء لرقيق. ومنها ما لو ملك المبعض ببعضه الحر أصله أو فرعه فإنه
لا يعتق
عليه لتضمنه الإرث والولاء وليس من أهلها، وإنما عتقت أم الولد المبعض بموته، لأنه حينئذ أهل للولاء لانقطاع
الرق. ومنها ما لو ملك شخص ابن أخيه ثم مات وعليه دين مستغرق وورثه أخوه فقط وقلنا الدين لا يمنع الإرث كما هو
الأصح فإن الأخ يملك ابنه ولا يعتق عليه لأنه ليس أهلا للتبرع فيه، وإذا كان في المفهوم تفصيلا يرد. ولو اشترى
الحر زوجته الحامل منه عتق عليه الحمل كما قاله الزركشي، ولو اشتراها في مرض موته ثم انفصل قبل موته أو بعده
لم يرث، أي لأن عتقه حينئذ وصية، وسيأتي الكلام على ذلك. وأورد على المصنف صور: منها مسائل المريض الآتية.
ومنها ما لو وكله في شراء عبد فاشترى من يعتق على موكله وكان معيبا فإنه لا يعتق عليه قبل رضاه بعيبه. (ولا يشتري)
الولي (لطفل) أو مجنون أو سفيه (قريبه) الذي يعتق عليه، أي لا يصح شراؤه له. ولو قال: لمحجوره كان أولى،
لأنه إنما يتصرف عليه بالغبطة ولا غبطة لأنه يعتق عليه وقد يطالب بنفقته، وفي ذلك ضرر عليه. (ولو وهب له)
أي لمن ذكر (أو) و (وصى له) به، (فإن كان) الموهوب أو الموصى به (كاسبا) بما يفي بمؤنته، (فعلى الولي) ولو
وصيا أو قيما (قبوله) إذ لا ضرر عليه مع تحصيل الكمال لاصله، ولا نظر إلى احتمال توقع وجوب النفقة بعجز يطرأ،
لأنه مشكوك فيه والأصل عدمه والمنفعة محققة. (ويعتق) على الطفل ونحوه لعموم الأدلة السابقة، (وينفق) عليه
(من كسبه) لاستغنائه عن التقريب.
تنبيه: ظاهر كلامه وجوب القبول ولو كان الصبي ونحوه موسرا، وهو مشكل فإن الأظهر في النفقات
أن من لا يكتسب من الأصول مع القدرة على الكسب تجب نفقته، فلو عبر بموجب النفقة وعدمه كما في الروضة
وغيرها لا بالكسب وعدمه لكان أولى. ولو أوصى لطفل مثلا بجده وعمه الذي هو ابن هذا الجد حي موسر لزم الولي
قبوله ولو كان الجد غير كاسب إذ لا ضرر عليه حينئذ. ومن صور الوصية بالأب أن يتزوج عبد بحرة ويولدها ولدا
فهو حر ثم يوصي سيد العبد به لابنه. ومن صور الوصية بالابن أن يتزوج حر أمة فيولدها فالولد رقيق لمالك الأمة
ثم يوصي سيد الولد به لأبيه. (وإلا) بأن يكون القريب كاسبا نظر، (فإن كان الصبي) أو نحوه (معسرا وجب)
على وليه (القبول) إذ لا ضرر على الصبي أو نحوه حينئذ ولا نظر إلى أنه قد يوسر فتجب عليه نفقته، فإن أبى
الولي قبل له الحاكم فإن أبى قبل هو الوصية إذا كمل إلا الهبة لفواتها بالتأخير. قال الأذرعي: يشبه أن الحاكم لو أبى
عن نظر واجتهاد وكان رأى أن القريب يعجز عن قرب أو أن حرفته كثيرة الكساد فليس له القبول بعد كماله اه‍.
وهو ظاهر إن أباه بالقول دون ما إذا سكت (ونفقته) إن لم يكن له من تجب نفقته عليه بزوجية أو قرابة غير الصبي
500

أو نحوه (في بيت المال) إن كان مسلما ولأنه من محاويج المسلمين. أما الكافر فلا حق له فيه ولهذا يقطع
لسرقته، لكن الإمام ينفق عليه منه عند الحاجة بشرط الضمان، ورجح الرافعي نفي الضمان على اللقيط المحكوم
بكفره. (أو) كان الصبي ونحوه (موسرا حرم) على وليه القبول لما فيه من الضرر على الصبي أو نحوه بالانفاق عليه
من ماله.
تنبيه: هذا كله إذا وهب له جميع القريب كما هو ظاهر إطلاقه، فلو وهب له بعضه وهو كسوب والمحجور
عليه موسر لم يقبله الولي، لأنه لو قبله ملكه وعتق عليه حينئذ فيسري على المحجور فتجب قيمة نصيب الشريك،
وهذا ما في الروضة وأصلها، وهو المعتمد، وإن رجح في تصحيح التنبيه أنه يقبل ويعتق ولا يسري، لأن التبعيض
للسراية بالاختيار، وهو منتف وعلله الماوردي بأنه بالحجر عليه كالمعسر. (ولو ملك) شخص (في مرض موته
قريبه) الذي يعتق عليه (بلا عوض) كأن ورثه أو وهب له، (عتق) عليه (من ثلثه) حتى لو لم يكن له غيره
لم يعتق إلا ثلثه لأنه دخل في ملكه وخرج بلا مقابل فأشبه المتبرع به، وهذا ما رجحه البغوي، وتبعه في المحرر.
(وقيل) يعتق عليه جميعه (من رأس المال) وإن لم يملك غيره، لأن الشرع أخرجه عن ملكه فكأنه لم
يدخل. وهذا هو الأصح كما صححاه في الشرحين والروضة هنا وفي كتاب الوصايا في مسألة الإرث، وقال البلقيني:
إنه الأصح الذي يقتضيه نص الشافعي على أن المحجور عليها بفلس لو أصدقها أباها عتق عليها ولم يكن للغرماء منه
شئ لأنه يعتق ساعة يتم ملكها عليه، قال: هو المعتمد في الفتوى. (أو) ملكه في مرض موته (يعوض بلا
محاباة) بل بثمن مثله (فمن ثلثه) فلا يعتق منه إلا ما يخرج من الثلث لأنه فوت على الورثة ما بذله من الثمن،
ولم يحصل لهم في مقابلته شئ، وليس للبائع الفسخ بالتفريق لو لم يخرج من الثلث إلا بعضه. وقوله: (ولا يرث)
راجع للمسألتين على اعتبار العتق من الثلث لأن عتقه حينئذ وصية، ولا يجمع بينها وبين الإرث، فالأبعد نقلهما
هذا عن الأصحاب وكأنه تفريع على بطلان الوصية للوارث، فإن قلنا بصحتها موقوفة على إجازة الورثة، أي
وهو الصحيح، لم يمتنع الجمع بينهما، فيحتمل توقف الامر إليها، ويحتمل خلافه، أي وهو الظاهر لتعذر إجازته
لتوقفها على إرثه المتوقف على عتقه المتوقف عليها، يتوقف كل من إجازته وإرثه على الآخر فيمتنع إرثه، وهذا خلاف
الذي عتق من رأس المال فيرث. أما إذا اعتبرناه من رأس المال وهو الأصح في المسألة الأولى كما مر ورث على الأصح.
هذا إذا لم يكن على المريض دين، (فإن كان عليه دين) مستغرق لما عند الموت، (فقيل: لا يصح الشراء) لأن تصحيحه
يؤدي إلى ملكه ولا يعتق عليه فلم يصح كما لا يصح شراء الكافر العبد المسلم، (والأصح صحته) إذ لا خلل فيه
(ولا يعتق) منه شئ، لأن عتقه يعتبر من الثلث، والدين يمنع منه، (بل يباع في الدين) ويلغز بهذا فيقال:
حر موسر اشترى من يعتق عليه ولا يعتق. وفي معنى هذه الصورة ما لو اشترى المأذون من يعتق على سيده بإذنه
وقد ركبه دين التجارة فإنه يصح الشراء، ولا يعتق على الأصح في تصحيح التنبيه للمصنف، وقد ذكره الرافعي في
القراض وعلله بأنه كالمرهون بالديون. وخرج بالمستغرق ما إذا لم يكن مستغرقا أو سقط عنه بإبراء أو غيره فإنه يعتق
إن خرج منه ما بقي بعد وفاء الدين في الأولى أو ثلث الباقي في الثانية أو أجازه الوارث فيهما وإلا عتق منه بقدر ما خرج
من ثلث ذلك. (أو) ملك فيه بعوض (بمحاباة) من البائع كأن اشترى بخمسين وهو يساوي مائة، (فقدرها كهبة) فيكون
قدر المحاباة وهو خمسون في هذا المثال كالموهوب له، فيجئ الخلاف السابق فيما ملكه بلا عوض هل يحسب من الثلث
أو من رأس المال؟. (والباقي) بعد قدرها يعتبر (من الثلث) جزما. وخرج بالمحاباة من البائع المحاباة من المريض،
كأن اشتراه بمائة وهو يساوي خمسين فقدرها تبرع منه، فإن استوعب الثلث لم يعتق منه شئ وإلا قدمت المحاباة على
501

العتق في أحد أوجه استظهره بعض المتأخرين. (ولو وهب لعبد بعض قريب سيده) الذي يعتق عليه (فقبل وقلنا
يستقل) العبد (به) أي القبول وهو الأصح، (عتق) القريب على السيد (وسرى) عليه (وعلى سيده قيمة باقيه)
لأن الهبة له هبة لسيده وقبوله كقبول سيده. هذا ما جزم به الرافعي هنا، وصوبه في المهمات، ولهذا صححوا
أن السيد يحلف على البت في نفي فعل عبده. وقال في الروضة: ينبغي أنه لا يسري لأنه دخل في ملكه قهرا كالإرث.
وفيها كأصلها في كتاب الكتابة تصحيحه، واعتمده البلقيني وقال: ما في المنهاج وجه ضعيف غريب لا يلتفت إليه اه‍.
وهذا هو الظاهر.
تنبيه: هذا إذا لم يكن العبد مبعضا ولا مكاتبا، فإن كان مبعضا وكان بينه وبين سيده مهايأة، فإن كان في نوبة
الحرية فلا عتق، أو في نوبة الرق فكالقن، أو لم يكن بينهما مهايأة فما يتعلق بالحرية لا يملكه السيد وما يتعلق
بالرق فيه ما مر. وإن كان مكاتبا لم يعتق من موهوبه شئ ما دامت الكتابة قائمة، فإن عجز نفسه بغير اختيار السيد
ذلك الجزء ولم يسر، وإن عجزه السيد فالأصح لا سراية أيضا لأنه إنما قصد التعجيز والملك حصل ضمنا، وقد
مرت الإشارة إليه وخالف في ذلك البلقيني.
فصل: في الاعتاق في مرض الموت وبيان القرعة: إذا (أعتق في مرض موته عبدا لا يملك غيره) عند موته
ولا دين عليه، (عتق ثلثه) ورق ثلثاه، لأن العتق تبرع معتبر من الثلث كما مر في الوصايا.
تتمة: هذا إن بقي بعد موت السيد، فإن مات في حياته فهل يموت كله رقيقا أو كله حرا أو ثلثه حرا وباقيه
رقيق؟
قال في أصل الروضة: هنا فيه أوجه، أصحها عند الصيدلاني الأول، وجرى عليه ابن المقري في روضه، لأن ما يعتق
ينبغي أن يبقى للورثة مثلاه ولم يحصل لهم هنا شئ. ونقلا في الوصايا عن الأستاذ أبي منصور تصحيح الثاني واقتصرا
عليه، وصوبه الزركشي تنزيلا له منزلة عتقه في الصحة. وإطلاق المصنف يقتضي ترجيح الثالث وهو الظاهر، وصححه
البغوي، وقال في البحر: إنه ظاهر المذهب، وقال الماوردي: إنه الظاهر من مذهب الشافعي كما لو مات بعده. قال
البغوي: ولا وجه للقول بأنه مات رقيقا، لأن تصرف المريض غير ممتنع على الاطلاق، وتبعه الأذرعي. وخص ذلك
الماوردي بما إذا مات من غير كسب، فإن كان مات عن كسب وهو مثلا قيمته عتق جميعه لأنه صار للتزكية مثلا
قيمته، وإن كان نصف قيمته كان نصفه حرا. وتظهر فائدة الخلاف فيما لو وهب في المرض عبدا لا يملك غيره
وأقبضه ومات العبد قبل السيد، فإن قلنا في مسألة العتق بموته رقيقا مات هنا على ملك الواهب ويلزمه مؤنة تجهيزه، وإن
قلنا بموته حرا مات هنا على ملك الموهوب له فعليه تجهيزه، وإن قلنا بالثالث وزعت المؤنة عليهما. (فإن كان عليه)
أي من أعتق في مرض موته عبدا لا يملك غيره (دين مستغرق لم يعتق شئ منه) لأن العتق حينئذ كالوصية والدين
مقدم عليها.
تنبيه: أراد بقوله: لم يعتق عدم النفوذ، لكن يحكم بإعتاقه في الظاهر حتى لو تبرع متبرع بأداء الدين أو إبراء
المستحق نفذ كما صرح به الرافعي فيما لو أوصى بشئ وعليه دين مستغرق. واستثنى البلقيني من ذلك صورا: منها
ما إذا أعتقه عن واجب كفارة. قيل: فالأرجح نفوذه، ولو أمكن إعتاق رقبة ببعض قيمته وصرف الباقي إلى الدين.
ومنها المنذور إعتاقه في حال الصحة إذا أعتقه في حالة مرض الموت نفذ مع الدين المستغرق. ومنها ما إذا أبرأ أصحاب
الدين من دينهم نفذ العتق لزوال المانع. وخرج بالمستغرق غيره فإنه يعتق منه ثلث باقيه. (ولو أعتق) شخص (ثلاثة)
من الأرقاء معا كأعتقتكم (لا يملك غيرهم) عند موته (وقيمتهم سواء) ولم تجز الورثة عتقهم، (عتق أحدهم
بقرعة) لأنها شرعت لقطع المنازعة فتعينت طريقا، والأصل فيها ما رواه مسلم عن عمران بن الحصين أن رجلا من
502

الأنصار أعتق ستة أعبد مملوكين له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزاهم
أثلاثا ثم أقرع بينهم فأعتق اثنين ورق أربعة والظاهر تساوي الا ثلاث في القيمة، لأن عبيد الحجاز غالبا لا تختلف
قيمتهم.
تنبيه: شمل إطلاقه ما لو مات أحدهم قبل موت السيد حتى يدخل الميت في القرعة، وهو المذهب، فإن خرجت
القرعة له رق الآخران وبان أنه مات حرا فيورث. وظاهر كلامه تعين القرعة وهو كذلك، فلو اتفقوا على أنه إن
طار غراب ففلان حر أو من وضع صبي يده عليه فهو حر لم يكف. (وكذا لو قال: أعتقت ثلثكم،
أو) قال: (ثلثكم حر) فيعتق واحد منهم بقرعة. وإنما لم يعتق ثلث كل منهم في هاتين، لأن عتق بعض الرقبة كإعتاق كله. (ولو قال:
أعتقت ثلث كل عبد) منكم (أقرع) بينهم أيضا في الأصح، وبعتق واحد بقرعة كما مر. (وقيل: يعتق من كل ثلثه)
ولا إقراع لتصريحه بالتبعيض، وهذا هو القياس، لكن تشوف الشارع إلى تكميل العتق يوجب اتباع الخبر في
إيقاع القرعة.
تنبيه: هذا كله إذا لم يضفه إلى الموت، فإن قال: ثلث كل واحد منكم حر بعد موتي عتق من كل واحد ثلثه
ولا يقرع على الصحيح، لأن العتق بعد الموت لا يسري. وفهم من أمثلة التصوير بما إذا أعتق الابعاض معا فخرج
ما إذا رتبها فيقدم الأسبق، حتى لو كان له عبدان فقط فقال نصف غانم حر وثلث سالم حر عتق ثلثا غانم ولا قرعة
ذكراه في باب الوصية. ثم شرع في بيان كيفية القرعة والتجزئة المترتبة عليها فقال: (والقرعة أن يؤخذ ثلاث رقاع
متساوية) إذا كان العبيد ثلاثة كما هو فرض في المسألة (يكتب في ثنتين) منها (رق وفي واحدة عتق) لأن الرق ضعف
الحرية، فتكون الرقاع على نسبة المطلوب في الكثرة والقلة، (وتدرج في بنادق) من نحو شمع (كما سبق) في باب القسمة،
(وتخرج واحدة باسم أحدهم، فإن خرج) له (العتق عتق ورق الآخران) بفتح الخاء المعجمة، (أو الرق) لواحد
(رق وأخرجت) رقعة (أخرى باسم آخر) فإن خرج له العتق ورق الثالث، وإن خرج له الرق رق وعتق الثالث
لأن فائدة القرعة ذلك. ثم ذكر المصنف طريقا آخر للقرعة وعبر فيها بالجواز، فقال: (ويجوز أن يكتب أسماءهم) في
الرقاع (ثم تخرج رقعة على الحرية فمن خرج اسمه عتق ورقا) أي الباقيان.
تنبيه: ظاهر كلامه أن الطريق الأولى أولى لتعبيره في الثانية بالجواز، لكن صوب القاضي والإمام وغيرهما هذه
الكيفية لأن الاخراج فيها يمكن مرة واحدة بخلاف الأولى فإنه قد يحوج إلى إعادته كما مر. ومقتضى كلامه
أنه لا يجوز الاقتصار في الصورة الأولى على رقعتين في إحداهما عتق وفي الأخرى رق، وفيه وجهان بلا ترجيح
في الروضة. قال الإمام: والأوجه أنه احتياط. وقال البلقيني: إنه الأصح، إذ ليس فيه إلا أنا إذا أخرجنا رقعة على
عبد فخرج فيها رق يحتاج إلى إدراجها في بندقها مرة أخرى فيكون ثلاث أرجح من رقعتين إلا أنه ممنوع اه‍. وقد مرت
الإشارة إلى ذلك في باب القسمة. (وإن) اختلفت قيمتهم، كأن (كانوا ثلاثة قيمة واحد) منهم (مائة، وآخر
مائتان، وآخر ثلاثمائة أقرع) بينهم (بسهمي رق وسهم عتق) بأن يكتب في رقعتين رق، وفي أخرى عتق، وتدرج
في بنادق إلى آخر ما مر. (فإن خرج العتق لذي المائتين عتق ورقا) أي الباقيان لأنه به يتم الثلث، (أو للثالث عتق
503

ثلثاه) ورق باقيه والآخران، (أو للأول عتق، ثم يقرع بين الآخرين بسهم رق وسهم عتق) في رقعتين، (فمن
خرج) العتق على اسمه منهما (تمم منه الثلث) وإن كان ذا المائتين عتق نصفه أو ذا الثلاثمائة عتق ثلثه ورق
الباقي والآخر.
تنبيه: تعبيره يوهم تعيين هذا الطريق عند اختلاف القيمة، وليس مرادا بل يجوز الطريق الآخر وإن كتب في
الرقاع أسماءهم، فإن خرج على الحرية اسم ذي المائة عتق وتمم الثلث ممن خرج اسمه بعده إلى آخر ما مر. (وإن كانوا)
أي الأرقاء (فوق ثلاثة وأمكن توزيعهم بالعدد والقيمة) معا في الاجزاء الثلاث (كستة) أو تسعة (قيمتهم سواء
جعلوا) في المثال الأول (اثنين اثنين) وفي المثال الثاني ثلاثة ثلاثة، وفعل كما سبق في الثلاثة المتساوية القيمة. وكذا الحكم
في ستة ثلاثة منهم قيمة كل واحد منهم مائة وثلاثة قيمة كل واحد خمسون، فيضم إلى كف نفيس خسيس فتستوي
الاجزاء عددا وقيمة. (أو) أمكن توزيعهم (بالقيمة دون العدد كستة قيمة أحدهم مائة، وقيمة اثنين) منهم (مائة،
و) قيمة (ثلاثة) منهم (مائة جعل الأول جزءا والاثنان جزءا والثلاثة جزءا) وأقرع بينهم كما مر.
تنبيه: تابع المصنف المحرر في هذا المثال، وهو غير مطابق فإن الستة لها ثلث صحيح، وإنما مثاله كما ذكراه
في الروضة وأصلها خمسة قيمة أحدهم مائة، وقيمة اثنين مائة، وقيمة اثنين مائة. قال ابن شهبة: وحينئذ فالعبارة
معكوسة، وإنما هو وإن أمكن توزيعهم بالعدد دون القيمة كستة قيمة أحدهم مائة وقيمة اثنين مائة
وقيمة ثلاثة مائة، وبه صرحا في الشرحين والروضة اه‍. واعتذر الشراح عن المصنف بقوله: وفي عتق الاثنين إن خرج وافق ثلث
العدد ثلث القيمة، فقوله دون العدد صادق ببعض الاجزاء في مقابلته للمثبت قبله في جمع الاجزاء، قال: ولا يتأتى التوزيع
بالعدد دون القيمة. (وإن تعذر) توزيعهم (بالقيمة) مع العدد بأن لم يكن لهم ولا لقيمتهم ثلث صحيح (كأربعة
قيمتهم سواء، ففي قول يحزمون ثلاثة أجزاء واحد) جزء (وواحد) جزء (واثنان) جزء، لأنه أقرب إلى فعله (ص).
(فإن خرج العتق لواحد عتق) كله (ثم أقرع لتتميم الثلث) بين الثلاثة أثلاثا، فمن خرج له سهم
الحرية عتق ثلثه، قال الدميري: كذا قال الرافعي، ويحتاج إلى تأمل، فإنه إن خرج للواحد فعتق ثلثه فواضح، وإن
خرج لاثنين فكيف يفعل؟ هل يعتق من كل واحد منهم سدسه أو يقرع بينهما ثانيا. فمن خرجت له عتق ثلثه؟
وقل من تعرض لذلك اه‍. وهذا لا يحتاج للتعرض له، فإن كلام الشيخين ظاهر أو صريح في أن القرعة تعاد بين الثلاثة
الباقين وأنهم يجزؤون أثلاثا كما مر فمن خرج له سهم الحرية عتق ثلثه، وقد صرح به البغوي في التهذيب كما نقله
عنه البلقيني، وحينئذ فلا وجه لما قاله. (أو) خرج العتق (للاثنين) المجموعين جزءا (رق الآخران ثم أقرع بينهما)
أي الذين خرج لهما رقعة العتق، (فيعتق من خرج له العتق وثلث الآخر) لأنه بذلك يتم الثلث، (وفي قول
يكتب اسم
كل عبد في رقة فيعتق من خرج أولا وثلث الثاني) وهو القارع ثانيا، لأن ذلك أقرب إلى فصل الامر. قال البلقيني:
وقع في بعض النسخ: وثلث الباقي بالباء الموحدة والقاف، وفي بعضها الثاني وهو الصواب.
504

تنبيه: كلام المصنف يوهم أن يعتق ثلث الباقي من غير إعادة القرعة، وليس مرادا، بل المراد أن يكتب
أسماءهم في أربع رقاع ويخرج واحدة بعد واحدة إلى أن يتم الثلث، فمن خرجت له أولا رقعة بالحرية عتق وتعاد القرعة
بين الباقين، فمن خرجت له ثانيا عتق ثلثه. (قلت) كما قال الرافعي في الشرح: (أظهرهما الأول) وهو أنهم يجزؤون
ثلاثة أجزاء بحيث يقرب من الثلث (والله أعلم) لأن النبي (ص) جزأهم ثلاثة أجزاء. (والقولان في
استحباب) لأن المقصود يحصل بكل طريق من ذلك. (وقيل) في (إيجاب) لأنه أقرب إلى فعله (ص)،
وهذا كما في الروضة وأصلها مقتضى كلام الأكثرين، والأول هو ما رجحه في المحرر وفاقا للقاضي والإمام، وهو الظاهر.
هذا كله إذا لم يظهر للميت مال، (و) حينئذ (إذا أعتقنا بعضهم بقرعة فظهر) بعدها (مال) آخر للميت جهلناه وقت
القرعة (وخرج) الأرقاء (كلهم من الثلث عتقوا) أي تبين عتقهم من حين الاعتاق، ولهذا قال: (ولهم كسبهم من
يوم الاعتاق) وكذا ما هو في معنى الكسب كولد وأرش جناية وغيرهما، وتجري عليهم أحكام الأحرار من حين
الاعتاق، حتى لو زنى أحدهم وجلد خمسين كمل حده إن كان بكرا، ورجم إن كان ثيبا، أو لو كانت أمة زوجها الوارث
بالملك بطل نكاحها، ولو وطئها الوارث بالملك لزمه مهرها، ولو كان الوارث باع أحدهم أو أجره أو وهبه بطل تصرفه
ورجع المؤجر على المستأجر بأجرة مثله. (ولا يرجع الوارث بما أنفق عليهم) لأنه أنفق على أن لا يرجع فهو كمن نكح امرأة
نكاحا فاسدا عن ظن الصحة وأنفق عليها ثم فرق القاضي بينهما لا يرجع بما أنفق. (وإن خرج) من الثلث (بما
ظهر عبد آخر) فيما إذا عتق من ثلاثة واحد، (أقرع) بينه وبين من بقي من العبيد، فمن خرجت له القرعة فهو
مع الأول.
تنبيه: لو خرج بعض عبد كان الحكم كذلك. ثم أشار إلى قاعدة (و) هي: كل (من عتق) من الأرقاء (بقرعة
حكم بعتقه من يوم الاعتاق) لا من يوم القرعة، لأنها مبنية للعتق لا مثبتة له. (وتعتبر قيمته حينئذ) أي حين الاعتاق
لأنه تبين بالقرعة أنه كان حرا قبلها، بخلاف من أوصى بعتقه فإنه يقوم حين الموت لأنه وقت الاستحقاق. (وله كسبه
من يومئذ غير محسوب من الثلث) سواء كسبه في حياة المعتق أم بعد موته لأنه حدث على ملكه بعد الحكم بحريته.
(و) كل (من بقي) أي استمر (رقيقا) من الأرقاء، (قوم يوم الموت) لأنه وقت استحقاق الوارث.
تنبيه: محل ذلك ما إذا كانت قيمة يوم الموت أقل أو لم يختلف، وإلا فالعبرة كما في الروضة وأصلها بأقل القيم
من وقت الموت إلى وقت قبض الوارث التركة، لأنه إن كانت قيمة وقت الموت أقل فالزيادة حدثت في ملكهم
أو وقت
القبض أقل فما نقص قبل ذلك لم يدخل في يدهم، فلا يحسب عليهم، كالذي يغصب أو يضيع من التركة قبل أن
يقبضوه. (وحسب) على الوارث (من الثلثين وهو وكسبه الباقي قبل الموت) للمعتق لأنه وقت استحقاق الوارث
(لا الحادث بعده) أي موت المعتق، لأنه حدث على ملك الوارث، حتى لو كان على سيده دين بيع في الدين والكسب
للوارث لا يقضى الدين منه خلافا للأصطخري. ثم فرع على ما سبق قوله: (فلو أعتق) في مرض موته (ثلاثة) معا
(لا يملك غيرهم قيمة كل) منهم (مائة وكسب أحدهم) قبل موت المعتق (مائة أقرع) بينهم، (فإن خرج
505

العتق للكاسب عتق وله المائة) التي اكتسبها لما مر أن من عتق فله كسبه من يوم الاعتاق غير محسوب من الثلث ورق
الآخران. (وإن خرج) العتق (لغيره) أي الكاسب، (عتق ثم أقرع) ثانيا بين الكاسب، والآخر لتتميم الثلث. (فإن
خرجت) أي القرعة (لغيره عتق ثلثه) وبقي ثلثاه مع الكاسب وكسبه للورثة، وهو مثلا قيمة الأول وما عتق من
الثاني. (وإن خرجت) أي القرعة (له) أي الكاسب، (عتق ربعه وتبعه ربع كسبه) لأنه يجب أن يبقى للورثة ضعف
ما عتق، ولا يبقى ذلك إلا بما ذكر فإنه يعتق ربعه وقيمته خمسة وعشرون، وتبعه من كسبه قدرها وهو غير محسوب
عليه، فيبقى من كسبه خمسة وسبعون، وبقي منه ما قيمته خمسة وسبعون، وبقي عبد قيمته مائة، فجعله التركة
المحسوبة ثلاثمائة وخمسة وسبعون، منها قيمة العبيد ثلاثمائة، ومنها كسب أحدهم خمسة وسبعون، فجملة ما عتق قيمته
مائة وخمسة وعشرون، وجملة ما بقي للورثة مائتان وخمسون، وأما ربع كسبه فغير محسوب لأنه تابع لما
عتق منه، لأن الكسب ينقسط على ما في العبد من الحرية والرق، فما قابل مائة من الحرية كان للعبد بغير وصية، وما
قابل مائة من الرق فهو للسيد فتزداد تركته بذلك، وبازديادها يزداد استحقاق العبد في الكسب فتنقص حصة التركة،
فدارت المسألة لأن معرفة ما يعتق منه متوقفة على معرفة ما يعتق منه، وطريق استخراجه بالجبر والمقابلة، وقد ذكرها
المحرر فقال: ويستخرج ذلك بطريق الجبر بأن يقال عتق من العبد الثاني شئ، وتبعه من كسبه مثله غير محسوب من
الثلث فيبقى للوارث ثلاثمائة سوى شيئين يعدل مثلي ما أعتقا وهو مائة وشئ، فمثلاه مائتان وشيئان، وذلك مقابل
ثلاثمائة سوى شيئين فتجبر وتقابل، فمائتان وأربعة أشياء مقابل ثلاثمائة يسقط المائتين بالمائتين فتبقى أربعة أشياء في مقابلة
مائة، فالشئ خمسة وعشرون، فعلمنا أن الذي عتق من العبد ربعه، وتبعه من الكسب ربعه غير محسوب من الثلث
اه‍ كلامه وهو ظاهر.
تتمة: لو قال لامته: أول ولد تلدينه حر فولدت ميتا ثم حيا لم يعتق الحي، لأن الصفة انحلت بولادة الميت.
ولو قال لعبده المجهول نسبه لا على وجه الملاطفة: أنت ابني وأمكن أن يكون ابنه بأن كان أصغر منه بما يتأتى معه أن
يكون ابنه عتق عليه وثبت نسبه إن كان صغيرا أو كبيرا وصدقه ويعتق فقط إن كذبه، وإن كان لا يمكن أن يكون منه لغا
قوله، فإن أمكن أن يكون منه وكان معروف النسب من غيره عتق عليه ولم يثبت نسبه.
فصل: في الولاء:
وهو بفتح الواو والمد لغة القرابة، مأخوذ من الموالاة وهو المعاونة والمقاربة، وشرعا: عصوبة
سببها زوال الملك عن الرقيق بالحرية، وهي متراخية عن عصوبة النسب، فيرث بها المعتق، ويلي أمر النكاح والصلاة
عليه ويعقل. والأصل فيه قبل الاجماع قوله تعالى: * (ادعوهم لآبائهم) * إلى قوله: * (ومواليكم) * وقوله (ص):
إنما الولاء لمن أعتق متفق عليه، وقوله: الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب رواه الإمام أحمد وابن
خزيمة وابن حبان. واللحمة بضم اللام لقرابة، ويجوز فتحها. ولا يورث بل يورث به، لأنه لو ورث لاشترك فيه الرجال
والنساء كسائر الحقوق، ولاختص الابن المسلم بالإرث به فيما لو مات المعتق المسلم عن ابنين مسلم ونصراني فأسلم العبد
النصراني ثم مات العتيق عنهما. (ومن عتق عليه رقيق) أو مبعض (بإعتاق) منجز، إما استقلالا أو بعوض كبيع
العبد من نفسه، أو ضمنا كقوله: أعتق عبدك عني، فأجابه، أو معلقا على صفة وجدت، (أو كتابة) بأداء نجوم، (وتدبير
واستيلاد وقرابة) كأن ورث قريبه الذي يعتق عليه، أو ملكه ببيع أو هبة أو وصية (وسراية) كما مر في عتق أحد
الشريكين الموسر نصيبه، أو بإعتاق غيره رقيقه عنه بإذنه، (فولاؤه له) أما بالاعتاق فللخبر السابق، وأما بغيره
506

فبالقياس عليه. أما إذا أعتق غيره عبده عنه بغير إذنه فإنه يصح أيضا، لكن لا يثبت له الولاء وإنما يثبت للمالك
خلافا لما وقع في أصل الروضة من أنه يثبت له لا للمالك. ولو أعتق عبده على أن لا ولاء عليه أو على أن يكون سائبة أو
على أنه لغير علم يبطل ولاؤه ولم ينتقل كنسبه، لخبر الصحيحين: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، قضاء الله أحق
وشرطه أوثق، إنما الولاء لمن أعتق. واستثنى من ذلك ما لو أقر بحرية عبد ثم اشتراه فإنه يعتق عليه، ولا يكون ولاؤه
له بل هو موقوف، لأن الملك بزعمه لم يثبت له، وإنما عتق مؤاخذة له بقوله، وما لو أعتق الكافر كافرا فلحق العتيق
بدار الحرب واسترق، ثم أعتقه السيد الثاني فولاؤه للثاني، وما لو أعتق الإمام عبدا من عبيد بيت المال فإنه يثبت الولاء
عليه للمسلمين لا للمعتق.
تنبيه: يثبت الولاء للكافر على المسلم كعكسه وإن لم يتوارثا، كما تثبت علقة النكاح والنسب بينهما وإن لم
يتوارثا، ولا يثبت الولاء بسبب آخر غير الاعتاق كإسلام شخص على يد غيره، وحديث: من أسلم على يد رجل فهو
أحق الناس بمحياه ومماته قال البخاري: اختلفوا في صحته، وكالتقاط. وحديث: تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها
ولقيطها وولدها الذي لا عنت عليه ضعفه الشافعي وغيره. وكالحلف والموالاة. (ثم لعصبته) المتعصبين بأنفسهم كما مر
في الفرائض دون سائر الورثة، ومن يعصبهم العاصب لأنه لا يورث كما مر، فلو انتقل إلى غيرهم لكان موروثا.
تنبيه: ظاهر كلامه أن الولاء لا يثبت للعاصب مع وجود المعتق، وليس مرادا بل هو ثابت لهم في حياته وهو
قضية قول الشيخين: فيما إذا مات العتيق وهو مسلم والمعتق حر كافر وله ابن مسلم فميراثه للابن المسلم، ولو قلنا
لا يثبت لكان لبيت المال، بل المتأخر لهم عنه إنما هو فوائده. وكان ينبغي للمصنف أن يقيد العصمة بما زدته في كلامه،
وكأنه استغنى عن ذلك بقوله: (ولا ترث امرأة بولاء) فلو كان للمعتق ابن وبنت ورث الذكر دونها. ثم استثنى من
ذلك قوله: (إلا من عتيقها) للخبر السابق، (وأولاده) وإن نزلوا، (وعتقائه) وإن بعدوا.
تنبيه: كان ينبغي أن يقول: إلا من معتقها أو متتم إليه بنسب أو ولاء لئلا يرد عليه ولد العتيقة الذي علقت به
بعد العتق من حر أصلي، فإن الأصح أنه لا ولاء لاحد عليه مع دخوله في عبارته. وهذه المسألة قد تقدمت للمصنف
في الفراض، وذكرها هنا توطئة لقوله: (فإن عتق عليها أبوها) كأن اشترته، (ثم أعتق عبدا فمات بعد موت الأب
بلا وارث) من النسب للأب والعبد، (فماله) أي العتيق (للبنت) لا لكونها بنت معتقة لما مر أنها لا ترث بل لأنها
معتقة للعتق.
تنبيه: محل ميراثها إذا لم يكن للأب عصبة، فإن كان كأخ وابن عم فميراث العتيق له ولا شئ لها، لأن
معتق المعتق متأخر عن عصوبة النسب، قال الشيخ أبو علي: سمعت بعض الناس يقول: أخطأ في هذه المسألة
أربعمائة قاض، فقالوا إن الميراث للبنت لأنهم رأوها أقرب وهي عصبة له بولائها عليه، ووجه الغفلة أن المقدم
في الولاء المعتق ثم عصبته ثم معتقه ثم عصباته وهكذا، ووارث العبد ههنا عصبة فكان مقدما على معتق معتقه ولا
شئ لها مع وجوده، وقد مرت الإشارة إلى بعض ذلك في كتاب الفرائض ونسبة غلط القضاة في هذه الصورة
حكاه الشيخان. قال الزركشي: والذي حكاه الإمام عن غلطهم فيما إذا اشترى أخ وأخت أباهما فأعتق الأب عبدا
ومات ثم مات العتيق، فقالوا ميراثه بين الأخ والأخت لأنهما معتقا معتقه، وهو غلط، وإنما الميراث للأخ وحده.
وقول المصنف: بلا وارث يرجع للأب والعبد كما مر، وإن ذكره في المحرر بالنسبة إلى الأب. (والولاء لاعلى العصبات)
لما رواه أبو داود وغيره عن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم: الولاء للكبر وهو بضم الكاف وسكون الباء أكبر
الجماعة في الدرجة والقرب دون السن، مثاله ابن المعتق مع ابن ابنه، فلو مات المعتق عن ابنين أو أخوين فمات
أحدهما وخلف ابنا فالولاء لعمه دونه وإن كان هو الوارث لأبيه، فلو مات الآخر وخلف تسعة بنين فالولاء بين
507

العشرة بالسوية. (ومن مسه رق) فعتق (فلا ولاء عليه) لاحد (إلا لمعتقه وعصبته) فلا ولاء عليه لمعتق
أحد من
أصوله، لأن نعمة من أعتقه عليه أعظم من نعمة من أعتق بعض أصوله فاختص بالولاء. وصورته إن ولد رقيق
رقيقا من رقيق أو حر فأعتق الولد وأعتق أبوه أو أمه، وهذا مستثنى من استرسال الولاء على أولاد المعتق وأحفاده. واستثنى
الرافعي صورة أخرى، وهي من أبوه حر أصلي فلا يثبت الولاء عليه لموالي الام على الصحيح، لأن الانتساب للأب
ولا ولاء عليه، فكذا الفرع فإن ابتداء حرية الأب تبطل دوام الولاء لموالي الام كما سيأتي فدوامها أولى بأن يمنع
ثبوتها لهم. أما عكسه وهو معتق تزوج بحرة أصلية، ففي ثبوت الولاء على الولد وجهان، أصحهما أنه يثبت تبعا
للنسب، والثاني: لا، لأنها أحد الوالدين، فحريتها تمنع الولاء على الولد كالأب. ولا ولاء على ابن حرة أصلية مات أبوه رقيقا،
فإن عتق أبوه بعد ولادته فهل عليه ولاء تبعا لأبيه أم لا لأنه لم يثبت ابتداء، فكذا بعده كما لو كان أبواه حرين؟
وجهان، رجح منهما البلقيني وصاحب الأنوار الأول. ومن ولد بين حرين ثم رق أبواه ثم زال رقهما لا ولاء عليه
لأن نعمة الاعتاق لم تشمله لحصول الحرية له قبل ذلك، نبه عليه الزركشي أخذا مما يأتي، ثم أشار لولاء الانجرار
بقوله: (ولو نكح عبد معتقة فأتت بولد فولاؤه لمولى الام) لأنه المنعم عليه فإنه عتق بإعتاق أمه، (فإن عتق الأب
انجر) الولاء من موالي الام (إلى مواليه) أي الأب لأن الولاء فرع النسب، والنسب إلى الآباء دون الأمهات، وإنما
ثبت لموالي الام لعدمه من جهة الأب فإذا أمكن عاد إلى موضعه.
تنبيه: معنى الانجرار أن ينقطع من وقت عتق الأب عن موالي الام، فإذا انجر إلى موالي الأب فلم يبق منهم أحد
لم يرجع إلى موالي الام، بل يكون الميراث لبيت المال. ولو لحق موالي الأب بدار الحرب فسبوا هل يعود الولاء
لموالي الام؟ حكى ابن كج في التجريد فيه وجهين، وينبغي أن يكون كالمسألة قبلها. ومحل الانجرار إلى موالي الأب
إذا لم يكن معتق الأب هو الابن نفسه، فإن اشترى أباه فعتق عليه فالأصح أن ولاء الابن باق لموالي أمه كما سيأتي. (ولو
مات الأب رقيقا وعتق الجد انجر) الولاء من موالي الام (إلى مواليه) أي الجد لأنه كالأب في النسب والتعصيب فإنه يستقر
بذلك ولا يتوقع فيه انجرار. (فإن أعتق الجد والأب رقيق انجر) الولاء من موالي الام إلى موالي الجد أيضا لما مر. (فإن
أعتق الأب بعده) أي الجد، (انجر) من موالي الجد (إلى مواليه) أي الأب، لأن الجد إنما جره لكون الأب كان رقيقا
فإذا عتق كان أولى بالحر لأنه أقوى من الجد في النسب، وإذا انقرض موالي الأب لا يعود إلى موالي الجد، ولا إلى
موالي الام بل يبقى لبيت المال. (وقيل) لا ينجر إلى موالي الجد بل (يبقى لموالي الام حتى يموت الأب
فينجر إلى موالي
الجد) لأنه إنما لم ينجر لبقاء الأب رقيقا، فإذا مات زال المانع.
تنبيه: المراد بالجد أبو الأب فإن الولاء لا ينجر من معتقي الام إلى معتق أبي الام بلا خلاف. (ولو ملك هذا
الولد) الذي ثبت عليه الولاء لموالي أبيه بسبب رق أمه (أباه) وعتق عليه، (جر ولاء إخوته) لأبيه من موالي أمهم
(إليه) أي الولد قطعا، لأن الأب يعتق عليه فيثبت له الولاء عليه وعلى أولاده، سواء أكانوا من أمه أم من معتقة
أخرى. (وكذا ولاء نفسه) جر من موالي أمه (في الأصح) في المحرر كإخوته كما لو أعتق الأب غيره، ثم سقط
ويصير كحر لا ولاء عليه. (قلت) كما قال الرافعي في الشرح: (الأصح المنصوص لا يجره) أي ولاء نفسه من موالي
الام إليه، بل يستمر الولاء لهم، (والله أعلم) لأنه لو جره لثبت له على نفسه، ولا يمكن أن يكون له على نفسه ولاء،
508

ولهذا لو اشترى العبد نفسه أو كاتبه سيده وأخذ النجوم يعتق ويكون الولاء لسيده. قال في المهمات: والظاهر أن ما وقع
في المحرر سهو.
خاتمة: لو أعتق عتيق أبا معتقه فلكل منهما الولاء على الآخر. وإن أعتق أجنبي أختين لأبوين أو لأب فاشتريا
أباهما فلا ولاء لواحدة منهما على الأخرى. ولو خلق حر من حرين أصليين وأجداده أرقاء، ويتصور ذلك في نكاح
المغرور، وفي وطئ الشبهة ونحوهما، فإذا عتقت أم أمه فالولاء عليه لمعتقها، فإن عتق أبو أمه انجر الولاء إلى مولاه
لأن جهة الأبوة أقوى واستقر عليه حتى لا يعوذ إلى من انجر إليه كما مر. ولو عتق كافر مسلما وله ابن مسلم وابن كافر
ثم مات العتيق بعد موت معتقه فولاؤه للمسلم فقط، ولو أسلم الآخر قبل موته فولاؤه لهما، ولو مات في حياة معتقه
فميراثه لبيت المال.
كتاب التدبير
هو لغة: النظر في عواقب الأمور. وشرعا: تعليق عتق بالموت الذي هو دبر الحياة، فهو تعليق عتق بصفة لا وصية،
ولهذا لا يفتقر إلى إعتاق بعد الموت. ولفظه مأخوذ من الدبر، لأن الموت دبر الحياة، وقيل: لأنه لم يجعل تدبيره إلى غيره،
وقيل: لأنه دبر أمر حياته باستخدامه وأمر آخرته بعتقه. وكان معروفا في الجاهلية فأقره الشرع، وقيل إنه مبتدأ في
الاسلام. ولا يستعمل التدبير في غير العتق من الوصايا. والأصل في الباب قبل الاجماع خبر الصحيحين: أن رجلا
دبر غلاما ليس له مال غيره فباعه النبي (ص) فتقريره (ص) له وعدم إنكاره يدل على
جوازه، واسم الغلام يعقوب، ومدبره مذكور الأنصاري. وفي سنن الدارقطني: أن النبي (ص) باعه
بعد الموت ونسبه إلى الخطأ. وأركانه ثلاثة: صيغة ومالك ومحل. ويشترط في الركن الأول لفظ يشعر به، وهو إما
صريح وإما كناية. وقد بدأ بالقسم الأول منهما فقال: (صريحة) الذي ينعقد به، وهو ما لا يحتمل غير التدبير، ألفاظ
كثيرة منها قوله: (أنت حر) أو حررتك (بعد موتي أو إذا مت أو متى مت فأنت حر) أو عتيق، (أو أعتقتك بعد موتي)
ونحو ذلك كأنت مفكوك الرقبة بعد موتي، لأن هذه الألفاظ لا تحتمل غيره وهو شأن الصريح. (وكذا دبرتك أو أنت
مدبر على المذهب) المنصوص لاشتهاره في معناه. وفي قول مخرج من طريق ثان مخرج من الكتابة هو كناية لخلوه عن
لفظ العتق والحرية.
تنبيه: كلامه يوهم الحصر فيما ذكره، وليس مرادا كما علم مما ذكرته. ولو قال: مثل كذا كان أولى. ثم شرع
في القسم الثاني فقال: (ويصح بكناية عتق مع نية كخليت سبيلك بعد موتي) ناويا العتق، لأنه نوع من العتق فدخلته
كنايته، ومثل ذلك: إذا مت فأنت حرام أو مسيب أو مالك نفسك ونحو ذلك من الألفاظ المحتملة. ويصح أيضا بلفظ
التحبيس الذي هو من صرائح الوقف كما نقلاه في أثناء الباب عن كلام الشافعي في الام.
تنبيه: لو دبر بعضه نظر إن كان مبهما كربعه صح، فإذا مات عتق ذلك الجزء ولا يسري كما تقدم، وإن كان
الجزء معينا كيده لغا في أحد وجهين اقتضى كلام الرافعي ترجيحه واستظهره الزركشي. وقوله: أنت حر بعد موتي
أو لست بحر لا يصح كمثله في الطلاق والعتق، وهذا كما قال الأذرعي فيما إذا أطلق أو جهلت إرادته، فإن قاله في معرض
الانشاء عتق، أو على سبيل الاقرار فلا قياسا على ما قالوه في الاقرار. (ويجوز) التدبير مطلقا كما سبق، و (مقيدا)
509

بشرط في الموت بمدة يمكن بقاء السيد إليها، (كإن) أو متى (مت في ذا الشهر أو) في ذا (المرض فأنت حر) قياسا على
المطلق، فإن مات على الصفة المذكورة عتق وإلا فلا. أما إذا لم يمكن بقاؤه إلى تلك المدة، كأن مت بعد ألف سنة
فأنت حر لا يكون تدبيرا على أصح الوجهين في البحر للقطع بأنه لا يبقى إلى هذه المدة. (و) يجوز التدبير أيضا (معلقا)
على شرط في الحياة، (كإن) أو إذا أو متى (دخلت) الدار (فأنت حر بعد موتي) لأنه دائر بين أن يكون وصية أو
تعليق عتق بصفة، وكل منهما يقبل التعليق. (فإن وجدت الصفة ومات عتق وإلا فلا) لعدم وجود الصفة، ولا
يصير مدبرا حتى يدخل.
تنبيه: أشعر كلامه بأن التدبير المعلق قسيم المقيد، وليس مرادا بل قسيمه ما قبله، وهو المطلق. (ويشترط) في
حصول العتق (الدخول قبل موت السيد) كسائر الصفات المعلق عليها، فإن مات السيد قبل الدخول فلا تدبير ويلغو
التعليق. (فإن قال) إذا دخلت الدار بعد موتي، أو (إن مت ثم دخلت) الدار (فأنت حر، اشترط) في حصول العتق (دخول
بعد الموت) عملا بمقتضى اللفظ من الترتيب في ذلك.
تنبيه: هذا تعليق عتق بصفة لا تدبير كسائر التعليقات، فلا يرجع فيه بالقول قطعا، لأن التدبير تعليق العتق بموته
وحده، وههنا علقه بموته ودخول الدار بعده، وقضية تعبيره ثم إنه لو أتى بالواو ولم يشترط فيه ترتيب الدخول،
لكن نقلا عن البغوي الاشتراط أيضا. قال الأسنوي: ونقل عنه أيضا قبيل الخلع ما يوافقه وخالف في الطلاق، فجزم
فيما لو قال إن دخلت الدار وكلمت زيدا فأنت طالق، بأنه لا فرق بين تقديم الأول وتأخره. ثم قال: وأشار في التتمة
إلى وجه في اشتراط تقدم الأول، بناء على أن الواو تقتضي الترتيب، وقال الزركشي: الصواب عدم الاشتراط هنا
كما هناك، وإلا فما الفرق اه‍. وهذا ظاهر. (وهو) أي الدخول بعد الموت (على التراخي) لاقتضاء ثم ذلك.
تنبيه: مقتضى ذلك ترك العبد على اختياره حتى يدخل وفيه ضرر على الوارث، والأوجه كما قاله بعض
المتأخرين أن محله قبل عرض الدخول عليه، فإن عرضه عليه فأبى الوارث بيعه كنظيره في المشيئة الآتية. (وليس
للوارث بيعه) وكذا كل تصرف يزيل الملك بعد الموت، و (قبل الدخول) إذ ليس له إبطال تعليق الميت، وإن كان
للميت أن يبطله، كما لو أوصى لرجل بشئ ثم مات ليس للوارث أن يبطله وإن كان للموصي إبطاله، وليس للوارث
منعه من الدخول وله كسبه قبله. (وقول قال) أنت حر بعد موتي بشهر مثلا، أو (إذا مت ومضى شهر) بعد موتي (فأنت
حر، فللوارث) كسبه، و (استخدامه) وإجارته وإعارته (في الشهر) لبقائه على ملكه (لا بيعه) لما مر من أنه ليس
له إبطال تعليق المورث. وهذا أيضا تعليق عتق بصفة لا تدبير على الأصح كما مر، وهكذا كل تعليق بصفة بعد
الموت كقوله: إذا شئت الحرية بعد موتي أو شاء فلان ثم دخلت الدار فأنت حر. (ولو قال) لعبده (إن شئت فأنت
مدبر أو أنت حر بعد موتي إن شئت اشترطت المشيئة) لصحة التدبير والتعليق في الصورتين حال كونها (متصلة)
اتصالا لفظيا، بأن يوجد في الصورة الأولى عقب اللفظ، وفي الثانية عقب الموت، لأن الخطاب يقتضي جوابا في
الحال كالبيع، ولأنه كالتمليك والتمليك يفتقر إلى القبول في الحال. (وإن قال متى) أو متى ما أو مهما (شئت) بدل إن
شئت، (فللتراخي) لأن متى موضوعة للزمان فاستوى فيها جميع الأزمان. ويشترط في الحال المشيئة قبل موت السيد كسائر
الصفات المعلق بها إلا إذا صرح بالمشيئة بعد الموت أو نواها فيشترط بعده. وفي اشتراط الفور حينئذ تفصيل، وهو إذا
510

قال: فإذا مت فشئت فأنت حر اشترط فور المشيئة بعد الموت في الأصح، وكذا سائر التعليقات المشتملة على الفاء، فإن
قال: فإذا مت فمتى شئت فأنت حر فلا يشترط قطعا. وقوله: إذا مت فأنت حر إن شئت أو إذا شئت أو أنت حر إذا
مت إن شئت أو إذا شئت أو أنت حر إذا مت إن شئت أو إذا شئت يحتمل أن يريد به المشيئة في الحياة وبعد الموت
فيعمل بنيته، فإن لم ينو حمل على المشيئة بعد الموت، وكذا سائر التعليقات التي توسط فيها الجزاء بين الشرطين،
كقوله لزوجته: إن أو إذا دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت زيدا فإنه يعمل بنيته، فإن لم ينو شيئا حمل تأخير الشرط
الثاني على الأول. وتشترط المشيئة هنا فورا بعد الموت عند الأكثرين، ومتى لم يعتبر الفور في المشيئة بعد الموت عرضت
عليه، فإن امتنع فللوارث بيعه كما مر. وشرط التدبير أن يكون التعليق بموت السيد، (و) حينئذ (لو قالا) أي
الشريكان (لعبدهما: إذا متنا فأنت حر لم يعتق حتى يموتا) معا أو مرتبا، (فإن مات أحدهما فليس لوارثه بيع نصيبه)
ولا يتصرف فيه بما يزيل الملك، لأنه صار مستحق العتق بموت الشريك وله التصرف فيه بما لا يزيل الملك
كاستخدام أو إجارة وفي كسبه بين موت الشريكين وجهان، أصحهما أنه للوارث خاصة. وهذا بخلاف ما لو أوصى
بعتق عبد فاكتسب مالا بين الموت والاعتاق، فإن الصحيح أن للعبد، والفرق أن العتق مستحق حالة الاكتساب
فإنه واجب على الفور بخلافه هنا، ثم عتقه بموتهما معا تعليق عتق بصفة لا عتق بتدبير، لأن كلا منهما لم يعلقه بموته،
بل بموته وموت غيره، وفي موتهما مرتبا يصير نصيب المتأخر موتا مدبرا دون نصيب المتقدم. ويشترط لصحة التدبير
بلوغ وعقل، (و) حينئذ (لا يصح تدبير مجنون) أطلق جنون، (و) لا تدبير (صبي لا يميز) لعدم أهليتهما للتبرع،
أما إذا تقطع جنونه ودبر في حال إفاقته يصح كما في البحر. ولو قال: أنت حر إن جننت فجن هل يعتق؟ قال صاحب
الافصاح: يحتمل وجهين، أحدهما نعم لأن الايقاع حصل في الصحة، والثاني المنع، لأن المضاف للجنون كالمبتدأ فيه
اه‍. والأول أوجه. (وكذا مميز) لا يصح تدبيره (في الأظهر) كإعتاقه. والثاني: المنع، إذ لا تضيع فيه، ولا يشترط في
صحة التدبير إطلاق التصرف. (و) حينئذ (يصح من سفيه) ولو محجورا عليه لصحة عبارته ولوليه الرجوع في
تدبيره بالبيع للمصلحة، ومن مفلس ولو بعد الحجر عليه، ومن مبعض. ولا يشترط فيه أيضا إسلام. (و) حينئذ
يصح من (كافر أصلي) ولو حربيا كما يصح استيلاده وتعليقه العتق على صفة، ومن سكران لأنه كالمكلف حكما. (وتدبير
المرتد يبنى على أقوال ملكه) فعلى الأظهر موقوف، فإن أسلم بأن صحته، وإلا فلا. وهذه المسألة مكررة فقد سبقت في
باب الردة. (ولو دبر ثم ارتد لم يبطل) تدبيره (على المذهب) صيانة لحق العبد عن الضياع ولان الردة إنما
تؤثر في
العقود المستقبلة دون الماضية بدليل أنها لا تفسد البيع والهبة السابقين عليها. والطريق الثاني: القطع بالبطلان.
والثالث: البناء على أقوال الملك. (ولو ارتد) العبد (المدبر) أو استولى عليه أهل الحرب (لم يبطل) تدبيره وإن
صار دمه يهدر لبقاء الملك فيه، كما لا يبطل الاستيلاد والكتابة بها، ثم إن مات السيد قبل عتقه عتق. ولو التحق بدار
الحرب فسبي فهو على تدبيره، ولا يجوز استرقاقه، لأنه إن كان سيده حيا فهو له، وإن مات فولاؤه له، ولا يجوز
إبطاله وإن كان سيده ميتا، ففي جواز استرقاق عتيقه خلاف سبق في محله. ولو استولى الكفار على مدبر مسلم
ثم عاد إلى يد المسلمين فهو مدبر كما كان. (والحربي) دخل دارنا بأمان (حمل مدبره) الكافر الأصلي من دارنا (إلى
دارهم) ولو جرى التدبير في دار الاسلام ولو لم يرض المدبر بالرجوع، لأن أحكام الرق باقية فيه، ويجوز له إبطال
ما أثبته له.
511

تنبيه: حكم مستولدة الحربي كمدبره فيما مر، بخلاف مكاتبه الكافر الأصلي فإنه فحكم الخارج عنه، وبخلاف
مدبره المرتد لبقاء عليه الاسلام كما يمنع الكافر من شرائه. (ولو كان لكافر عبد مسلم) ملكه بإرث أو غيره من
صور ملك الكافر للمسلم المذكورة في كتاب البيع، (فدبره نقض) أي بطل تدبيره (وبيع عليه) لما في بقاء ملكه
عليه من الاذلال.
تنبيه: قوله: نقض وبيع عليه فيه تقديم وتأخير، ومعناه بيع عليه ونقض تدبيره بالبيع، قال في المهمات:
وقوله: نقض هل معناه إبطاله بعد الحكم بصحته حتى لو مات السيد قبل إبطاله عتق العبد، أو معناه الحكم بإبطاله من
أصله؟ وعلى الأول فهل يتوقف على لفظ أم لا؟ فيه نظر اه. ولا وجه لتوقفه في ذلك كما قاله ابن شهبة فإنه لا خلاف في
صحة تدبير الكافر المسلم، وإنما الخلاف في الاكتفاء في إزالة الملك به. (ولو دبر كافر) عبدا (كافرا فأسلم) العبد
(ولم يرجع السيد في التدبير) بالقول بناء على صحة الرجوع به على القول المرجوح الآتي، (نزع) العبد (من يد سيده)
وجعل عند عدل دفعا للذل عنه ولا يباع بل يبقى مدبرا لتوقع الحرية. (وصرف كسبه) أي العبد (إليه) أي سيده،
كما لو أسلمت مستولدته وينفق عليه منه، فإن لم يكن كسب فنفقته على سيده. (وفي قول يباع) عليه وينقض التدبير
لأن العبد المسلم لا يبقى في يد الكافر. وعلى الأول لو لحق سيده بدار الحرب أنفق عليه من كسبه وبعث بالفاضل له.
تنبيه: لو أسلم مكاتب الكافر لم يبع، فإن عجز بيع. (وله) أي السيد (بيع المدبر) للخبر السابق أول الباب،
وفي معنى البيع كل تصرف يزيل الملك، ويستثنى السفيه فإنه يصح تدبيره، ولا يصح منه بيعه. قال ابن الرفعة: ولو أراد
الولي بيعه لأجل إبطال التدبير لم يجز، لأنه لا حجر عليه، كما ليس للولي أن يرجع فيه بالقول جزما. (
والتدبير) مقيدا
كان أو مطلقا (تعليق عتق بصفة) لأن الصيغة صيغة تعليق، هذا ما نقله الرافعي عن ترجيح الأكثرين. (وفي قول
وصية) للعبد بعتقه نظرا إلى اعتبار إعتاقه من الثلث، وهذا ما نص عليه في البويطي واختاره المزني والربيع وكذا
البلقيني، وقال في الام: نصوص تدل على ما قررته فوق الثلاثين نصا، ثم بسط ذلك. (فلو باعه) أي السيد مدبره، (ثم
ملكه لم يعد التدبير على المذهب) أما على القول بأنه وصية فهو كما لو أوصى بشئ ثم باعه ثم عاد إلى ملكه، وأما
على القول بأنه تعليق عتق بصفة فعلى الخلاف في عود الحنث، والأظهر أنه لا يعود، وقيل يعود على القول بعود
الحنث. (ولو رجع) عنه (بقول كأبطلته) أو (فسخته) أو (نقضته) أو (رجعت فيه صح إن قلنا) بالرجوع، وهو أن
التدبير (وصية) كما يصح الرجوع عن الوصية بذلك، (وإلا) بأن قلنا هو تعليق عتق بصفة (فلا) يصح القول
كسائر التعليقات.
تنبيه: مراده بالقول اللفظ أو المنزل منزلته كما قاله الزركشي ليدخل الأخرس المفهوم الإشارة. وحذف المصنف
حرف العطف من المعطوفات لغة بعض العرب كقولهم أكلت سمكا تمرا لحما شحما. (ولو علق مدبر) أي علق عتقه
(بصفة) كأن قال سيده بعد تدبيره المطلق: إن دخلت الدار فأنت حر، (صح) وبقي التدبير بحاله، كما لو دبر المعلق
عتقه بصفة (وعتق بالأسبق من الموت والصفة) تعجيلا للعتق، فإن وجدت الصفة قبل الموت عتق بها، وإن مات
قبلها عتق بالتدبير. (وله) أي السيد (وطئ) أمة (مدبرة) له بقاء ملكه فيها كالمستولدة، ولما روى الشافعي
عن نافع عن ابن عمر أنه دبر أمته وكان يطؤها. (ولا يكون) وطؤها لها (رجوعا) عن التدبير، سواء عزل عنها أم لا.
512

هذا إن لم يولدها، (فإن أولدها بطل تدبيره) لأن الاستيلاد أقوى منه، بدليل أنه لا يعتبر من الثلث ولا يمنع منه الدين
بخلاف التدبير فرفعه بالأقوى كما رفع ملك اليمين النكاح. (ولا يصح تدبير أم ولد) إذ لا فائدة فيه، لأنها تستحق
العتق بالموت بجهة هي أقوى منه كما مر.
تنبيه: ليس لنا ما يمتنع التدبير فيه مع وجود أهلية الملك إلا هذه الصورة. (ويصح تدبير مكاتب) كما يصح تعليق
عتقه بصفة فيكون مدبرا مكاتبا فيعتق بالأسبق من موت السيد وأداء النجوم، فإن أدى المال قبل موت السيد عتق
بالكتابة وبطل التدبير، ولو عجز نفسه أو عجزه سيده بطلت الكتابة ويبقى التدبير، وإن لم يؤد المال حتى مات السيد
عتق بالتدبير، قال الشيخ أبو حامد: وبطلت الكفاية، وقال ابن الصباغ: عندي لا تبطل، ويتبعه كسبه وولده كمن
أعتق مكاتبا له قبل الأداء فكما لا يملك إبطال الكتابة بالاعتاق فكذا بالتدبير. قال، أعني ابن الصباغ: ويحتمل أن
يريد الشيخ أبو حامد بالبطلان زوال العقد دون سقوط أحكامه اه‍. والصحيح كما قال الأسنوي ما قاله ابن الصباغ وبه
جزم صاحب البحر وأول التأويل المذكور. ويؤخذ ذلك من مسألة الاحبال بطريق الأولى حيث لم تبطل الكتابة
بالاحبال حتى يتبعها ولدها وكسبها مع كونها أقوى من التدبير. وإن لم يحتمل الثلث جميعه عتق منه بقدر الثلث بالتدبير
ويبقى ما زاد مكاتبا وسقط عنه من النجوم بقدر ما عتق، إن عتق نصفه فنصف النجوم أو ربعه فربعها. (و) تصح
(كتابة مدبر) كعكسه لاشتراكهما في العتق المقصود بهما، فيكون مدبرا مكاتبا كما مر، ويعتق بالسابق من الموت وأداء
النجوم فإن أداها عتق بالكتابة، وإن مات السيد قبل الأداء عتق بالتدبير. قال ابن المقري: وبطلت الكتابة أخذا من
كلام الشيخ أبي حامد في المسألة قبلها، والأوجه كما قال شيخنا أخذا من مقابله فيها الذي جرى عليه هو عليه أنها لا تبطل
فيتبعه كسبه وولده كما قال شيخنا، ويحتمل الفرق بأن الكتابة هنا لاحقة وفيما مر سابقة اه‍. والأوجه عدم الفرق كما مر.
ولو علق عتق المكاتب بصفة صح وعتق بالأسبق من وجود الصفة والأداء.
تتمة: تسمع الدعوى من العبد بالتدبير والتعليق على السيد في حياته وعلى ورثته بعد موته، ويحلف السيد على البت
والوارث على نفي العلم كما علم مما مر في الدعاوى، ويقبل على الرجوع شاهد ويمين. وأما التدبير فلا بد في إثباته من رجلين
لأنه ليس بمال، وهو ما يطلع عليه الرجال غالبا.
فصل: في حكم حمل المدبرة والمعلق عتقها بصفة ما يذكر معه: إذا (ولدت مدبرة) ولدا (من نكاح،
أو) من (زنا) أو من شبهة بأمة حدث بعد التدبير وانفصل قبل موت السيد، (لا يثبت للمولد حكم التدبير في الأظهر)
لأنه عقد يقبل الرفع فلا يسري إلى الولد كالرهن. والثاني: يثبت كولد المستولدة بجامع العتق بموت السيد، وبهذا قال
الأئمة الثلاثة. أما إذا لم ينفصل بأن كانت حاملا عند موت السيد فإن الحمل يتبعها قطعا، ولا يتبعها ولدها الذي ولدته
قبل التدبير قطعا. (ولو دبر حاملا) وأطلق (ثبت له) أي الحمل (حكم التدبير على المذهب) تبعا لها، لأن الحمل
بمنزلة عضو من أعضائها كما يتبعها في العتق والبيع. وفي قول من الطريق الثاني المبني على أن الحمل لا يعلم: لا يثبت.
ويعرف وجود الحمل بوضعه لدون ستة أشهر من حين التدبير، وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من حينئذ لم يتبعها
أو لما بينهما فرق بين من لها زوجها يفترشها فلا يتبعها وبين غيرها فيتبعها، وإن انفصل فيها قبل موت سيدها كما سبق
في نظائرها. (فإن ماتت) أي الام في حياة السيد بعد انفصال الحمل، (أو رجع في تدبيرها) بالقول بناء على المرجوح،
(دام تدبيره) أي الحمل، أما في الأولى فكما لو دبر عبدين فمات أحدهما قبل موت السيد، وأما في الثانية فكالرجوع
513

بعد الانفصال. (وقيل إن رجع) وأطلق (وهو) أي الحمل (متصل) بها، (فلا) يدوم تدبيره بل يتبعها في الرجوع
كما يتبعها في التدبير. وفرق الأول بأن التدبير فيه معنى العتق، والعتق له قوة. أما لو قال: رجعت عن تدبيرها دون
تدبيره فإنه يدوم فيه قطعا. (ولو دبر) الام دون حملها بأن استثناه صح كما صرح به الماوردي والروياني، وشرطا
أن تلده قبل موت السيد، فلو ولدته بعد موته بطل، لأن الحرة لا تلد إلا حرا. وإن دبر (حملا) بمفرده (صح)
أيضا كما يصح إعتاقه دونها ولا تتبعه الام، بخلاف عكسه، لأن الحمل تابع فلا يكون متبوعا. (فإن مات) السيد
(عتق) الحمل (دون الام) لما مر، (وإن باعها) مثلا حاملا (صح) البيع (وكان رجوعا منه) أي عن
تدبير الحمل قصد الرجوع أم لا، لدخول الحمل في البيع. ولو قالت بعد موت السيد: دبرني حاملا فالولد حر، أو: ولدته بعد
موت السيد فهو حر وأنكر الوارث ذلك وقال في الأولى: بل دبرك حائلا فهو قن وقال في الثانية: بل ولدته قبل الموت
أو قبل التدبير فهو قن صدق بيمينه في الصورتين، وكذا إن اختلفا في ولد المستولدة هل ولدته قبل موت السيد أو بعده
أو ولدته قبل الاستيلاد أو بعده. وتسمع دعوى المدبرة التدبير لولدها حسبة لتعلق حق الآدمي بهما حتى لو كانت
قنة وادعت على السيد ذلك سمعت دعواها. (ولو ولدت المعلق عتقها) بصفة ولدا من نكاح أو زنا وانفصل قبل
وجود الصفة، (لم يعتق الولد) بعتقها، لأنه عقد يلحقه الفسخ فلم يتعد إلى الولد كالوصية والرهن. (وفي قول إن
أعتقت بالصفة عتق) الولد، وهما كالقولين في ولد المدبرة. ولو كانت حاملا عند وجود الصفة عتق الحمل قطعا،
والحامل عند التعليق كالحامل عند التدبير فيتبعها الحمل. (ولا يتبع مدبرة ولد) المملوك لسيده، لأن الولد
يتبع الام في الرق والحرية لا أباه، فكذا في سبب الحرية. (وجنايته) أي المدبر منه، وعليه (كجناية قن) كذلك
لثبوت الملك عليه، فإن قتل بجناية فات التدبير أو بيع فيها بطل التدبير، فإن فداه السيد بقي، ولا يلزمه إن قتل
بجناية عليه أن يشتري بقيمته عبدا يدبره. ولو بيع بعضه في الجناية بقي الباقي مدبرا فإن مات السيد وقد جنى المدبر
ولم يبعه ولم يختر فداه فموته كإعتاق القن الجاني. فإن كان السيد موسر أعتق وفدى من التركة لأنه أعتقه بالتدبير
السابق ويفديه بالأقل من قيمته والأرش لتعذر تسليم المبيع، وإن كان معسرا لم يعتق منه شئ إن استغرقته الجناية،
وإلا فيعتق منه ثلث الباقي، ولو ضاق الثلث عن مال الجناية ففداه الوارث من ماله فولاؤه كله للميت، لأن تنفيذ
الوارث إجازة لا ابتداء عطية، لأنه يتم به قصد المورث. (ويعتق) المدبر كله أو بعضه (بالموت) لسيده، لكنه
محسوب (من الثلث كله) أي عتق المدبر كله إن خرج من الثلث، (أو) يعتق (بعضه) إن لم يخرج كله من
الثلث، وذلك إنما يكون (بعد الدين) وبعد التبرعات المنجزة في المرض. وإن وقع التدبير في الصحة، فإن استغرق
الدين التركة لم يعتق منه شئ، أو نصفها والتركة نفس المدبر فقط بيع نصفه في الدين وعتق ثلث الباقي منه. وإن لم
يكن عليه دين ولا مال سواء عتق ثلثه. والحيلة في عتق جميعه بعد الموت أن يقول: أنت حر قبل مرض موتي بيوم،
وإن مت فجأة فقبل موتي بيوم. فإذا مات بعد التعليق بأكثر من يوم عتق من رأس المال، ولا سبيل عليه لاحد كما
جزم به الرافعي في كتاب الوصية لتقدم عتقه في الصحة قبل موته.
تنبيه: مسألة المتن سبقت في الوصية في قوله: ويعتبر من الثلث عتق علق بالموت، وذكرت هنا توطئه لقوله:
(ولو علق عتقا على صفة تختص بالمرض) أي مرض الموت بأن لم توجد إلا فيه، (كأن دخلت) الدار (في مرض
موتى فأنت حر) ثم وجدت الصفة، (عتق من الثلث) عند وجود الصفة كما لو نجز عتقه. (وإن احتملت) الصفة
514

(الصحة) والمرض بأن لم يقيده به (فوجدت) تلك الصفة (في المرض فمن رأس المال) يكون العتق (في
الأظهر) اعتبارا بحالة التعليق، لأنه لم يكن متهما بإبطال حق الورثة. والثاني: يكون العتق من الثلث اعتبارا بوقت
وجود الصفة.
تنبيه: محل الخلاف إذا وجدت الصفة بغير اختياره كنزول المطر، فإن وجدت باختياره كدخول الدار اعتبر
من الثلث جزما، لأنه اختار العتق في مرضه، قاله الرافعي تفقها، وصرح به الماوردي.
فرع: لو علق عتق رقيقه بمرض مخوف فمرض وعاش عتق من رأس المال، وإن مات منه فمن الثلث. ولو
علق عتقه بصفة وهو مطلق التصرف فوجدت بغير اختياره وهو محجور عليه بفلس عتق اعتبارا بحال التعليق،
أو باختياره فلا. ولو وجدت الصفة وهو مجنون أو محجور عليه بسفه عتق بلا خلاف، ذكره البغوي، وفرق بأن حجر
المرض والفلس لحق الغير، وهو الورثة والغرماء، بخلاف السفه والجنون. ولو مات سيد المدبر وماله غائب أو على معسر
لم يحكم بعتق شئ منه حتى يصل للورثة من الغائب مثلا. فيتبين عتقه من الموت ويوقف كسبه، فإن استغرق التركة دين
وثلثها يحتمل المدبر فأبرئ من الدين تبين عتقه وقت الابراء. (ولو ادعى عبده التدبير فأنكره) سيده، (فليس)
إنكاره له (برجوع) عن التدبير ولو قلنا بجواز الرجوع بالقول، كما أن جحود الردة لا يكون إسلاما وجحوده الطلاق
لا يكون رجعة، (بل يحلف) السيد أنه ما دبره لاحتمال أن يقر، ولا يتعين اليمين، بل له أن يسقط اليمين عن نفسه بأن
يقول: إن كنت دبرته فقد رجعت إن جوزنا الرجوع بالقول. فإن نكل حلف العبد وثبت تدبيره. وله أيضا أن
يقيم البينة بتدبيره. (ولو وجد) بعد موت السيد (مع مدبر مال) أو نحوه في يده فتنازع هو والوارث فيه، (فقال)
المدبر: (كسبته بعد موت السيد وقال الوارث): بل كسبته (قبله، صدق المدبر بيمينه) لأن اليد له فترجح، وهذا
بخلاف ولد المدبرة إذا قالت ولدته بعد موت السيد فهو حر، وقال الوارث: بل قبله فهو قن، فإن القول قول
الوارث
لأنها تزعم حريته، والحر لا يدخل تحت اليد. (وإن أقاما) أي المدبر والوارث (بينتين) بما قالاه، (قدمت بينته) أي
المدبر على النص وقطع به لاعتضادها باليد. ولو أقام الوارث بينة أن المال كان في يده قبل عتقه فقال: كان في
يدي وديعة لرجل وملكته بعد العتق صدق بيمينه أيضا. ولو دبر رجلان أمتهما وأتت بولد وادعاه أحدهما لحقه وضمن
لشريكه نصف قيمتها ونصف مهرها وصارت أم ولد له وبطل التدبير وإن لم يأخذ شريكه نصف قيمتها، لأن
السراية لا تتوقف على أخذها كما مر، وما في الروض كأصله أن من أخذ القيمة رجوع في التدبير مبني على ضعيف،
وهو أن السراية تتوقف على أخذ القيمة، ويلغو رد المدبر التدبير في حياة السيد وبعد موته كما في المعلق عتقه بصفة.
خاتمة: لو دبر السيد عبدا ثم ملكه أمة فوطئها فأتت بولد ملكه السيد سواء أقلنا أن العبد يملك أم لا، ويثبت
نسبه من العبد ولا حد عليه للشبهة. ولو قال لامته: أنت حرة بعد موتي بعشر سنين مثلا لم تعتق إلا بمضي تلك المدة من
حين الموت، ولا يتبعها ولدها في حكم الصفة إلا إن أتت به بعد موت السيد ولو قبل مضي المدة فيتبعها في ذلك
فيعتق من رأس المال كولد المستولدة، بجامع أن كلا منهما لا يجوز إرقاقها. ويؤخذ من القياس أن محل ذلك إذا علقت
به بعد الموت. ولو قال لعبده: إذا قرأت القرآن ومت فأنت حر، فإن قرأ القرآن قبل موت سيده عتق بموته، وإن
قرأ بعضه لم يعتق بموت السيد. وإن قال: إن قرأت قرآنا ومت فأنت حر فقرأ بعض القرآن ومات السيد عتق. والفرق
التعريف والتنكير، كذا نقله الرافعي عن النص. قال الدميري: والصواب ما قال الإمام في المحصول أن القرآن
يطلق على القليل والكثير، لأنه اسم جنس كالماء والعسل لقوله تعالى: * (نحن نقص عليك أحسن القصص بما
أوحينا إليك هذا القرآن) * وهذا الخطاب كان بمكة بالاجماع، لأن السورة مكية، وبعد ذلك نزل قرآن كثير.
515

وما نقل عن الإمام الشافعي رضي الله عنه ليس على هذا الوجه، فإن القرآن بالهمز عند الشافعي يقع على القليل والكثير،
والقرآن بغير همز عنده اسم جمع كما أفاده البغوي في تفسير سورة البقرة، ولغة الشافعي بغير همزة، والواقف على كلام
الشافعي يظنه مهموزا، وإنما ينطق في ذلك بلغته المألوفة لا بغيرها، وبهذا اتضح الاشكال وأجيب عن السؤال.
كتاب الكتابة
وهي بكسر الكاف على الأشهر، وقيل بفتحها كالعتاقة لغة الضم والجمع، لأن فيها ضم نجم إلى نجم، والنجم
يطلق على الوقت الذي يحل فيه مال الكتابة كما سيأتي للعرف الجاري بكتابة ذلك في كتاب يوافقه. وشرعا: عقد عتق
بلفظها بعوض منجم بنجمين فأكثر. ولفظها إسلامي لا يعرف في الجاهلية، وهي معدولة عن قواعد المعاملات من
وجوه، الأول: أن السيد باع ماله بماله، لأن الرقبة والكسب له. ال: يثبت في ذمة العبد لمالكه مال ابتداء. الثالث:
يثبت الملك للعبد، فإن هذا العقد يقتضي تسليطه على الملك مع بقائه على الرق ولكن جوزها الشارع لمسيس
الحاجة،
فإن العتق مندوب إليه، والسيد قد لا يسمح به مجانا، والعبد لا مال له يفدي به نفسه، فإذا علق عتقه بالكتابة استفرغ
الوسع وتنامي في تحصيل الاكتساب لإزالة الرق، فاحتمل الشرع فيها ما لا يحتمل في غيرها كما احتمل الجهالة في ربح
القراض وعمل الجعالة للحاجة. والأصل فيها قبل الاجماع قوله تعالى: * (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم
فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) *، وقوله (ص): المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. وكانت الكتابة من
أعظم مكاسب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، قيل: أول من كوتب عبد لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يقال له
أبو أمية. (هي مستحبة) لا واجبة وإن طلبها الرقيق قياسا على التدبير وشراء القريب، ولئلا يتعطل الملك وتتحكم
المماليك على المالكين. وإنما تستحب (إن طلبها رقيق) كله أو بعضه كما سيأتي، (أمين قوى على كسب) وبهما فسر
الشافعي الخبر في الآية. واعتبرت الأمانة لئلا يضيع ما يحصله فلا يعتق، والقدرة على الكسب ليوثق بتحصيل النجوم.
ويفارق الايتاء حيث أجري على ظاهر الامر من الوجوب كما سيأتي، لأنه مواساة وأحوال الشرع لا تمنع
وجوبها كالزكاة.
تنبيه: قوله: على كسب قد يوهم أنه أي كسب كان، وليس مرادا، بل لا بد أن يكون قادرا على كسب يوفي
ما التزمه من النجوم. (قيل: أو) طلبها (غير قوي) إذا كان أمينا، لأنه إذا عرفت أمانته أعين بالصدقات ليعتق، والأول
قال لا يوثق بذلك. (ولا تكره) الكتابة (بحال) وإن انتفى الوصفان، بل هي مباحة حينئذ لأنها قد تفضي إلى
العتق. ويستثنى كما قال الأذرعي ما إذا كان الرقيق فاسقا بسرعة أو نحوها وعلم السيد أنه لو كاتبه مع العجز عن
الكسب لاكتسب بطريق الفسق فإنها بها تكره، بل ينبغي تحريمها لتضمنها التمكين من الفساد، ولو امتنع الرقيق منها
وقد طلبها سيده لم يجبر عليه كعكسه. وأركانها أربعة: صيغة ورقيق وسيد وعوض. وقد شرع في الأول منها فقال:
(وصيغتها) أي صيغة إيجابها الصريح من جانب السيد الناطق قوله لعبده: (كاتبتك) أو أنت مكاتب (على كذا)
كألف (منجما) مع قوله: (إذا أديته فأنت حر) لأن لفظ الكتابة يصلح لهذا وللمخارجة فلا بد من تمييزها،
فإذا قال: فإن أديته فأنت حر تعين للكتابة. أما الأخرس فتكفي إشارته المفهمة بذلك. (ويبين) وجوبا قدر
العوض وصفته، و (عدد النجوم) وقدرها (وقسط كل نجم) والنقد إن لم يكن ثم نقد غالب، لأنها عقد معاوضة
فاشترط فيه معرفة العوض كالبيع. ولا يشترط تساوي النجوم، ولا يشترط تعيين ابتداء النجوم بل يكفي الاطلاق
516

ويكون ابتداؤها من العقد على الصحيح.
تنبيه: النجم الوقت المضروب، والمراد هنا، ويطلق على المال المؤدى فيه كما سيأتي. ويكفي ذكر نجمين. وهل
يشترط في كتابة من بعضه حر التنجيم؟ وجهان، أصحهما الاشتراط، لأنه وإن كان قد يملك ببعضه الحر ما
يؤديه
فلاتباع السلف. (ولو ترك) في الكتابة الصحيحة (لفظ التعليق) للحرية على الأداء، وهو قوله: إذا أديته فأنت حر،
(ونواه) بقوله: كاتبتك على كذا الخ، (جاز) ذلك لأن المقصود منها العتق وهو يقع بالكناية مع النية جزما لاستقلال
المخاطب به. أما الفاسدة فلا بد من التصريح بقوله: فإذا أديته فأنت حر كما قاله القاضي حسين وغيره. (ولا يكفي لفظ
كتابة بلا تعليق ولا نية) له (على المذهب) المنصوص. وفي قول من طريق ثان مخرج: يكفي كالتدبير. وأجاب الأول
بأن التدبير كان معلوما في الجاهلية ولم يتغير، والكتابة تقع على هذا العقد وعلى المخارجة كما مر، فلا بد من تمييز
باللفظ أو النية. ولا يتقيد بما ذكر بل مثله قوله: فإذا برئت منه أو فرغت ذمتك فأنت حر، ولا يكفي على الصحيح
التمييز بغير ذلك إذا لم يكن معه لفظ الحرية كقوله: وتعاملني أو أضمن لك أرش الجناية أو تستحق مني الايتاء أو من
الناس سهم الرقاب. وقول الأذرعي: إنها تنعقد بذلك أو نواها به فتكون كناية فهو ظاهر. (ويقول المكاتب) فورا في صيغة
القبول: (قبلت) وبه تتم الصيغة فلا تصح بدونه كسائر العقود، ولا يغني عن القبول التعليق بالأداء.
تنبيه: قضية قوله: ويقول المكاتب قبلت أنه لو قبل أجنبي الكتابة من السيد ليؤدي عن العبد النجوم فإذا
أداها عتق أنه لا يصح، وهو ما صححه في زيادة الروضة لمخالفة موضوع الباب، فعلى هذا الوادي عتق العبد لوجود الصفة
ورجع السيد على الأجنبي بالقيمة ورد له ما أخذ منه، وتنعقد الكتابة بالاستيجاب والايجاب. ولو قال: أنت حر على
ألف فقبل عتق في الحال ولزم الألف ذمته. وقول المحرر: ويقول العبد أولى من قول المصنف: ويقول المكاتب لأنه
إنما يصير مكاتبا بعد القبول. ثم شرع في الركن الثاني والثالث وهما الرقيق والسيد، فقال: (وشرطهما تكليف) فيهما
بكونهما بالغين عاقلين، فلا يصح تكاتب الصبي والمجنون لأنهما مسلوبا العبارة، ولا يكاتبان أيضا، ولا أثر لاذن
الولي للصبي أو المجنون في ذلك.
تنبيه: محل اشتراط التكليف في العبد إن صدرت الكتابة معه، فإن صدرت عليه تبعا فلا، لما سيأتي أن ولد المكاتبة
مكاتب. وقد يفهم كلام المصنف أن السكران العاصي بسكره لا تصح كتابته لأنه يرى عدم تكليفه، وقد مر الكلام
على ذلك في الطلاق وغيره. (وإطلاق) في التصرف، فلا تصح الكتابة من محجور عليه بسفه أو فلس، ولا من مكاتب
عبد وأذن له سيده، ولا من ولي المحجور عنه أبا كان أو غيره لأنها تبرع.
تنبيه: اشتراط الاطلاق في العبد لم يذكره أحد، والذي نص عليه فيه الشافعي والأصحاب اعتبار البلوغ والعقل
لا غير، فلا يضر سفهه لأنه لم ينحصر الأداء من كسبه، فقد يؤدي من الزكاة وغيرها. وقد ذكر المصنف
ما لا يحتاج إليه وهو التكليف فإنه يستغنى عنه بإطلاق التصرف كما مر في العتق وترك ما يحتاج إليه وهو
الاختيار، فإن
أكرها أو أحدهما فالكتابة باطلة. ولا يضر كون السيد أعمى كما صححه المصنف تغليبا للعتق خلافا لصاحب الإبانة من
اشتراط البصر. ويشترط كون السيد حر الكل، فلا يصح من مبعض لأنه ليس أهلا للولاء. (وكتابة المريض)
مرض الموت تحسب (من الثلث) وإن كاتبه بأكثر من قيمته لأن كسبه له. (فإن كان له) عند الموت (مثلاه)
أي العبد بأن كانت قيمته ثلث تركته، (صحت كتابة كله) لخروجه من الثلث، سواء أكان ما خلفه مما أداه العبد
أم لا ويبقى للورثة مثلاه. (فإن لم يملك) ذلك المريض شيئا (غيره وأدى) المكاتب (في حياته) أي السيد
(مائتين) وكان كاتبه عليهما (وقيمته مائة عتق) كله، لأنه يبقى للورثة مثلاه وهما المائتان. (وإن أدى مائة) وكان
517

كاتبه عليها، (عتق ثلثاء) لأنه إذا أخذ مائة وقيمته مائة فالجملة مائتان فينفذ التبرع في ثلث المائتين وهو ثلثا المائة.
واحترز بقوله: وأدى في حياته عما لم يؤد شيئا حتى مات السيد فثلثه مكاتب، فإن أدى حصته من النجوم عتق، ولا
يزيد العتق بالأداء لبطلانها في الثلثين فلا تعود.
تنبيه: هذا كله إذا لم يجز الوارث الكتابة في جميعه، فإن أجاز في جميعها عتق كله أو في بعضها عتق ما أجاز والولاء
للميت. ولو لم يملك إلا عبدين قيمتهما سواء، فكاتب في المرض أحدهما وباع الآخر نسيئة ومات ولم يحصل بيده ثمن
ولا نجوم صحت الكتابة في ثلث هذا والبيع في ثلث ذلك إذا لم يجز الوارث، ولا يزاد في البيع والكتابة بأداء الثمن
والنجوم. (ولو كاتب) كافر أصلي رقيقه صح. وإن كاتب (مرتد) رقيقه (بنى على أقوال ملكه، فإن وقفناه) وهو
الأظهر (بطلت على الجديد) القائل بإبطال وقف العقود فلا يعتق بأداء النجوم، وعلى القديم لا تبطل بل توقف إن أسلم
تبينا صحتها وإلا بطلانها، وهذه المسألة مكررة فإنه ذكرها في آخر الردة.
تنبيه: لا يبطل طرو ردة المكاتب ولا طرو ردة السيد بعدها، وإن أسلم السيد اعتد بما أخذ حال ردته.
وتصح كتابة عبد مرتد ويعتق بالأداء ولو في زمن ردته، وإن قتل قبل الأداء فما في يده للسيد. ولو التحق سيد
المكاتب بدار الحرب مرتدا ووقف ماله نادى الحاكم نجوم مكاتبه وعتق، وإن عجز أو عجزه الحاكم رق، فإن جاء السيد
بعد ذلك بقي التعجيز. (ولا تصح كتابة مرهون) لأنه معرض للبيع والكتابة تمنع منه فتنافيا. (و) لا (مكرى) لأن
منافعه مستحقة للمستأجر فلا يتفرغ للاكتساب لنفسه، ولا الموصى بمنفعته كما فهم بالأولى، ولا كتابة المغصوب إن لم
يتمكن من التصرف في يد الغاصب، وإطلاق العمراني المنع محمول على هذا. ثم شرع في الركن الرابع فقال:
(وشرط العوض) في الكتابة (كونه دينا) نقدا كان أو عوضا موصوفا بصفات السلم، لأن الأعيان لا يملكها
حتى
يورد العقد عليها. (مؤجلا) ليحصله ويؤديه فلا تصح بالحال، لأن الكتابة عقد خالف القياس في وصفه. واتبع فيه
سنة السلف، والمأثور من الصحابة فمن بعدهم قولا وفعلا إنما هو التأجيل ولم يعقدها أحد منهم حالة، ولو جاز لم
يتفقوا على تركه مع اختلاف الأغراض خصوصا وفيه تعجيل عتقه. واختار ابن عبد السلام والروياني في حليته جواز
الحلول، وهو مذهب الإمامين مالك وأبي حنيفة. فإن قيل: لو اقتصر المصنف على الاجل لاغنى عن الدينية، فإن الأعيان
لا تقبل التأجيل، وقد اعترض الرافعي بهذا على الوجيز، ثم وقع فيه في المحرر. أجيب بأن دلالة الالتزام لا يكتفى بها
في المخاطبات وهذان وصفان مقصودان، لكن كان ينبغي أن يقول موصوفا بصفات السلم إن كان عوضا كما قدرته
في كلامه. (ولو) كان العوض (منفعة) كبناء دارين في ذمته وجعل لكل واحدة منهما وقتا معلوما كما يجوز أن تجعل
المنافع ثمنا واحدا، والمراد المنفعة التي في الذمة، أما لو كان العوض منفعة عين، فإنه لا يصح تأجيلها لأن الأعيان
لا تقبل التأجيل.
تنبيه: ظاهر كلامه الاكتفاء بالمنفعة وحدها، والمنقول أنه إن كان العوض منفعة عين حالة نحو: كاتبتك على
أن تخدمني شهرا أو تخيط لي ثوبا بنفسك فلا بد معها من ضميمة مال كقوله: وتعطيني دينارا بعد انقضائه لأن الضميمة
شرط فلم يجز أن يكون العوض منفعة عين فقط. فلو اقتصر على خدمة شهرين، وصرح بأن كل شهر نجم لم يصح،
لأنهما نجم واحد ولا ضميمة. ولو كاتبه على خدمة رجب ورمضان فأولى بالفساد، إذ يشترط في الخدمة والمنافع المتعلقة
بالأعيان أن تتصل بالعقد. (ومنجما بنجمين فأكثر) لأنه المأثور عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم فمن بعدهم،
ولو جازت على أقل من نجمين لفعلوه، لأنهم كانوا يبادرون إلى القربات والطاعات ما أمكن، ولأنها مشتقة من ضم
النجوم بعضها إلى بعض. وأقل ما يحصل به الضم نجمان، وقيل: يكفي نجم واحد، وقال في شرح مسلم: إنه قول جمهور
أهل العلم اه‍. وبه قال أبو حنيفة ومالك، ومال إليه ابن عبد السلام.
518

تنبيه: قضية إطلاقه أنها تصح بنجمين قصيرين ولو في مال كثير، وهو كذلك لامكان القدرة عليه كالسلم إلى
معسر في مال كثير إلى أجل قصير. ويؤخذ من ذلك أنه لو أسلم إلى المكاتب عقب عقد الكتابة صح، وهو أحد وجهين وجهه
الرافعي بقدرته برأس المال. قال الأسنوي: ومحل الخلاف في السلم الحال، أما المؤجل فيصح فيه جزما كما صرح
به الإمام. (وقيل إن ملك) السيد (بعضه وباقيه حر لم يشترط أجل وتنجيم) في كتابته، لأنه قد يملك ببعضه الحر
ما يؤديه فلا يتحقق العجز في الحال فتستثني هذه الصورة على هذا الوجه، والأصح عدم الاستثناء لأنه تعبد. ولو جعلا
مال الكتابة عينا من الأعيان التي ملكها ببعضه الحر قال الزركشي: فيشبه القطع بالصحة ولم يذكروه اه‍. وظاهر
كلامهم عدم الصحة.
تنبيه: يشترط بيان قدر العوض وصفته وأقدار الآجال وما يؤدى عند حلول كل نجم، فإن كان على نقد كفى
الاطلاق إن كان في البلد نقد مفرد أو غالب وإلا اشترط التبيين، وإن كان على عوض وصفه بالصفات المشروطة في السلم
كما مر. (ولو كاتب على) منفعة عين مع غيرها مؤجلا نحو (خدمة شهر) من الآن (ودينار عند انقضائه) أو خياطة
ثوب موصوف عند انقضائه، (صحت) أي الكتابة، لأن المنفعة مستحقة في الحال والمدة لتقريرها والتوفية فيها،
والدينار والخياطة إنما تستحق المطالبة بها بعد المدة التي عينها لاستحقاقه. وإذا اختلف الاستحقاق حصل تعدد النجوم،
ولا يضر كون المنفعة حالة، لأن التأجيل يشترط لحصول القدرة وهو قادر على الاشتغال بالخدمة في الحال، بخلاف
ما لو كاتب على دينارين أحدهما حال والآخر مؤجل، وبهذا يتبين أن الاجل وإن أطلقوا اشتراطه فليس ذلك بشرط
في المنفعة التي يقدر على الشروع فيها في الحال. ويشترط للصحة أن تتصل الخدمة والمنافع المتعلقة بالأعيان بالعقد
فلا تصح الكتابة على مال يؤديه آخر الشهر، وخدمة الشهر الذي بعده لعدم اتصال الخدمة بالعقد كما أن الأعيان
لا تقبل التأجيل بخلاف المنافع الملتزمة في الذمة.
تنبيه: قول المصنف: عند انقضائه يفهم منه أنه لو قال بعد انقضائه بيوم أو بيومين مثلا أنه صح بطريق الأولى،
ولهذا لم يختلفوا فيه، وفيما تقدم وجه بعدم الصحة. ولو كاتبه على خدمة شهر ودينار وفي أثنائه كقوله: ودينار بعد
العقد بيوم جاز في الأصح، ولا يشترط بيان الخدمة بل يتبع فيها كما مرت الإشارة إليه في الإجارة. ولا يكفي
إطلاق المنفعة بأن يقول: كاتبتك على منفعة شهر مثلا لاختلاف المنافع. ولو كاتبه على خدمة شهر ودينار مثلا فمرض
في الشهر وفاتت الخدمة انفسخت الكتابة في قدر الخدمة وفسخت في الباقي. وهل يشترط بيان موضع التسليم؟ فيه
الخلاف الذي في السلم، فلو خرب المكان المعين الذي أدى في أقرب المواضع إليه على قياس ما في السلم. (أو) كاتبه (على
أن يبيعه كذا) أو يشتري منه كذا كثوب بألف، (فسدت) أي الكتابة لأنه شرط عقد في عقد.
تنبيه: لو قال المصنف: على ابتياع كذا لشمل صورة البيع والشراء. (ولو قال: كاتبتك وبعتك هذا الثوب)
مثلا (بألف ونجم الألف) بنجمين مثلا، كأن قال له: يؤدى منها خمسمائة عند انقضاء النجم الأول والباقي عند انقضاء
الثاني، (وعلق الحرية بأدائه) وقبل العبد العقدين إما معا كقبلتهما أو مرتبا كقبلت الكتابة والبيع أو البيع
والكتابة. كذا قالا، وهو مخالف لما ذكره في الرهن من أن الشرط تقدم خطاب البيع على خلاف الرهن.
(فالمذهب صحة الكتابة دون البيع) فيبطل لتقدم أحد شقيه على أهلية العبد لمتابعة سيده، وفي قول تبطل الكتابة
أيضا ومال إليه البلقيني، وهما قولا تفريق الصفقة. هذه الطريقة الراجحة، والطريق الثاني فيها قول، وقول
بالبطلان، وهما قولا الجمع بين عقدين مختلفي الحكم. وعلى صحة الكتابة فقد توزع الألف على قيمتي العبد
519

والثوب، فما خص العبد يؤديه في النجمين مثلا، فإذا أداه عتق. ولو قال: كاتبتك على ألف في نجمين مثلا، وبعتك
الثوب بألف صحت الكتابة قطعا لتعدد الصفقة بتفصيل الثمن، وأما البيع فقال الزركشي: إن قدمه في العقد على
لفظ الكتابة بطل، وإن أخره فإن كان العبد قد بدأ بطلب الكتابة قبل إجابة السيد صح البيع، وإلا فلا اه‍. وهذا
ممنوع لتقدم أحد شقي البيع على أهلية العبد لمبايعة سيده. واستثنى البلقيني من عدم صحة البيع ما إذا كان المكاتب
مبعضا وبينه وبين سيده مهايأة وكان ذلك في نوبة الحرية فإنه يصح البيع أيضا لفقد المقتضى للابطال، وقد تقدم أحد
شقيه على أهلية العبد لمعاملة السيد، قال: ويجوز معاملة المبعض مع السيد في الأعيان مطلقا، وفي الذمة إذا كان بينهما
مهايأة. قال: ولم أر من تعرض لذلك وهو دقيق الفقه. (ولو كاتب عبدا) كثلاثة صفقة واحدة (على عوض) واحد
كألف (منجم) بنجمين مثلا، (وعلق عتقهم بأدائه) كما إذا قال: كاتبتكم على ألف إلى وقت كذا وكذا، فإذا أديتم فأنتم
أحرار، (فالنص صحتها) لأن مالك العوضين واحد والصادر منه لفظ واحد، فصار كما لو باع عبدين من واحد.
(ويوزع) المسمى (على قيمتهم يوم الكتابة) فإن كانت قيمة أحدهم مائة والآخر مائتين والآخر ثلاثمائة، فعلى الأول
سدس المسمى، وعلى الثاني ثلثه، وعلى الثالث نصفه. (فمن أدى حصته عتق) لوجود الأداء، ولا يتوقف على أداء الباقي.
(ومن عجز) أو مات (رق) لأنه لم يوجد الأداء منه. وإنما اعتبرت القيمة يوم الكتابة، لأنها وقت الحيلولة بين السيد
وبينهم، ومقابل النص قول مخرج ببطلان كتابتهم. (وتصح كتابة بعض من باقيه حر) لأنها تفيد الاستقلال المقصود
بالعقد، (فلو كاتب كله) أي جميع العبد الذي بعضه حر، سواء أكان عالما بحرية بعضه أم معتقدا، رق كله فبان حر البعض
(صح في الرق في الأظهر) من قولي تفريق الصفقة وبطل في الآخر منهما. وعلى الأول يعتق إذا أدى قسط الرقيق
من المسمى. ثم اعلم أن من شرط الكتابة لمن كله رقيق استيعاب الكتابة له، (و) حينئذ (لو كاتب بعض رقيق فسدت) هذه
الكتابة (إن كان باقيه لغيره ولم يأذن) في كتابته لعدم الاستقلال، ولان القيمة تنقص بذلك فيتضرر الشريك. (وكذا إن
أذن) الغير له فيها، (أو كان) ذلك البعض (له على المذهب) المنصوص، لأن المكاتب يحتاج إلى التردد حضرا وسفرا
لاكتساب النجوم، ولا يستقل بذلك إذا كان بعضه رقيقا فلا يحصل مقصود الكتابة، وأيضا لا يعطى من سهم المكاتبين
لأنه يصير بعضه ملكا لمالك الباقي فإنه من أكسابه بخلاف ما إذا كان باقيه حرا. والطريق الثاني: القطع بالأول، وهو
الراجح في الثانية.
تنبيه: استثني من الفساد في كتابة البعض صور: منها ما لو كاتب في مرض موته بعض عبده وذلك البعض
ثلث ماله فإنه يصح قطعا، قاله الماوردي. ومنها ما لو كان بعض العبد موقوفا على خدمة مسجد ونحوه من الجهات
العامة وباقيه رقيق فكاتبه مالك بعضه، قال الأذرعي: يشبه أن يصح على قولنا في الوقف أنه ينتقل إلى الله تعالى،
لأنه يستقل بنفسه في الجملة ولا يبقى عليه أحكام ملك، بخلاف ما إذا وقف بعضه على معين اه‍. والأوجه كما قال شيخنا
خلافا لمنافاته التعليلين السابقين، ولو أسلم فالبناء المذكور لا يختص بالوقف على الجهات العامة. ومنها ما إذا أوصى
بكتابة عبده فلم يخرج من الثلث إلا بعضه ولم تجز الورثة فالأصح أنه يكاتب ذلك البعض. ومنها ما لو مات عن ابنين
وخلف عبدا فأقر بأحدهما أن أباه كاتبه وأنكر الآخر كان نصيبه مكاتباه، قاله في الخصال، وفي استثناء هذه كما قال ابن
شهبة نظر. ومثله ما لو ادعى العبد على سيده أنهما كاتباه فصدقه أحدهما وكذبه الآخر. (ولو) تعدد السيد كشريكين في
520

عبد (كاتباه معا أو وكلا) من كاتبه أو وكل أحدهما الآخر، (صح إن اتفقت النجوم) جنسا وصفة وعددا وأجلا. وفي
هذا إطلاق النجم على المؤدى لقوله: (وجعل المال) المكاتب عليه (على نسبة ملكيهما) سواء صرحا باشتراط ذلك أم
لا لئلا يؤدي إلى انتفاع أحدهما بمال الآخر.
تنبيه: قوله: نسبة ملكيهما يفهم أنه لا يشترط تساوي الشريكين في ملك العبد الذي يكاتبانه وهو الصحيح، وأنه
متى اختلفت النجوم أو شرطا التفاوت في النجوم مع تساويها في الملك أو بالعكس لم يصح، وهو كذلك. (فلو عجز)
العبد (فعجزه أحدهما) وفسخ الكتابة (وأراد الآخر إبقاءه) العقد، (فكابتداء عقد) فلا يجوز بغير إذن الشريك
الآخر على المذهب، ولا بإذنه على الأظهر كما في الروضة لما مر. (وقيل: يجوز) بالاذن قطعا، لأن الدوام أقوى
من الابتداء.
تنبيه: تعبير المصنف عن هذه الطريقة بقيل مخالف لاصطلاحه، وإن كان الأصحاب كما قال الرافعي يتوسعون
في جعل طرق الأصحاب أوجها. (ولو أبرأ) واحد ممن كاتبا العبد معا (من نصيبه) من النجوم (أو أعتقه) أي نصيبه
من العبد، (عتق نصيبه) منه تنزيلا له منزلة الابتداء، (وقوم) عليه (الباقي) وسرى العتق عليه وكان الولاء له (إن
كان موسرا) أما في العتق فلما مر في بابه، وأما في الابراء فلانه أبرأه من جميع ما يستحقه فأشبه ما لو كاتب جميعه
وأبرأه عن النجوم.
تنبيه: كلامه يفهم أن التقويم والسراية في الحال وهو قول، والأظهر أنه أدى نصيب الآخر من النجوم
عتق عنه والولاء بينهما. وإن عجز وعاد إلى الرق فحينئذ يسري ويقوم ويكون كل الولاء له، وإن كان معسرا فلا
يقوم عليه. وخرج بالابراء والاعتاق ما لو قبض نصيبه فلا يعتق وإن رضي الآخر بتقديمه، إذ ليس له تخصيص أحدهما
بالقبض، وإن مات قبل التعجيز والأداء مات مبعضا. وإن ادعى أنه وفاهما وصدقه أحدهما وحلف الآخر عتق نصيب
المصدق ولم يسر، وللمكذب مطالبة المكاتب بكل نصيبه أو بالنصف منه ويأخذ نصف ما بيد المصدق ولا يرجع به
المصدق وترد شهادة المصدق على المكذب. وإن ادعى دفع الجميع لأحدهما فقال له: بل أعطيت كلا منا نصيبه عتق
نصيب المقر ولم تقبل شهادته على الآخر وصدق في أنه لم يقبض نصيب الآخر بحلفه، ثم للآخر أن يأخذ حصته من المكاتب
إن شاء أو يأخذ من المقر نصف ما أخذ ويأخذ النصف الآخر من المكاتب، ولا يرجع المقر بما غرمه على المكاتب كما
مر نظيره.
فصل: فيما يلزم السيد بعد الكتابة وما يسن له وما يحرم عليه وبيان حكم ولد المكاتبة وغير ذلك: (يلزم السيد) بعد
صحة كتابة رقيقه (أن يحط عنه جزءا من المال) المكاتب عليه، (أو يدفعه إليه) بعد أخذ النجوم ليستعين به، لقوله تعالى: *
(وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) * فسر الايتاء بما ذكر، وظاهر الامر الوجوب، وإنما خرجنا عنه في الكتابة لدليل،
ولم يقم دليل على حمل الايتاء على الاستحباب فيعمل بما اقتضاه الظاهر.
تنبيه: الألف واللام في المال للعهد، أي مال الكتابة، فأفهم أنه يحط عنه جزءا آخر من المال المعقود عليه،
أو يدفع إليه جزءا منه بعد قبضه. والأول ظاهر، وأما الثاني فالأصح أنه لا يتعين ذلك، وإنما يتعين أن يكون من
جنسه، فإن أعطاه من غير جنسه لم يلزمه قبوله ولكن يجوز، وإن كان من جنسه وجب قبوله، فإن مات السيد ولم
يؤته لزم الوارث أو وليه الايتاء، فإن كان النجم باقيا تعين منه وقدم على الدين، وإن تلف النجم قدم الواجب على
521

الوصايا، وإن أوصى بأكثر من الواجب فالزائد من الوصايا. وأفهم كلام المصنف أن السيد لو أبرأ الرقيق عن جميع
النجوم أنه لا يجب الايتاء، وهو الأصح كما اقتضاه كلامهما في الصداق لزوال مال الكتابة، وكذا لو وهبها له كما قاله
الزركشي. واستثنى المحاملي وغيره صورتين لا يلزم الايتاء فيهما: أن يكاتبه على منفعة نفسه، أو يكاتبه في مرض موته،
ولا يحتمل الثلث أكثر من قيمته، وكذا لو باعه نفسه أو أعتقه بعوض. وإذا لم يبق من النجوم إلا القدر الواجب في
الايتاء لا يسقط ولا يحصل التعارض، لأن الأصح أن الحط أصل فللسيد أن يؤتيه من غيره، وليس للسيد تعجيزه كما
سيأتي في الفصل الآتي لأن له عليه مثله، لكن يرفعه إلى الحاكم حتى يرى رأيه ويفصل الامر بينهما. (والحط)
عن المكاتب (أولى) من الدفع إليه، فإنه المنقول عن الصحابة رضي الله عنهم قولا وفعلا، ولان المقصود إعانته ليعتق،
والإعانة في الحط محققة وفي الدفع موهومة، فإنه قد ينفق المال في جهة أخرى.
تنبيه: قضية كلامه أن الواجب أحد الامرين، وليس أحدهما بدلا عن الآخر، وهو وجه الأصح المنصوص
في الام أن الحط أصل والايتاء بدل عنه. (و) الحط أو الدفع (في النجم الأخير أليق) لأنه أقرب إلى العتق، وقد روى
مالك في الموطأ عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كاتب عبدا على خمسة وثلاثين ألفا ووضع منها خمسة آلاف، وذلك من
آخر نجمه. (والأصح أنه يكفي ما يقع عليه الاسم) من المال، (ولا يختلف بحسب المال) قلة وكثرة، لأنه لم يرد فيه تقدير،
وهذا ما نقلاه عن نص الام، وعبارة الروضة: أقل متمول وهو المراد من عبارة الكتاب، قال البلقيني: إن هذا من
المعضلات، فإن إتيان فلس لمن كوتب على ألف درهم تبعد إرادته بالآية الكريمة. وأطال في ذلك. ونقل الزركشي
عن إسحاق بن راهويه أنه قال: أجمع أهل التأويل في قوله تعالى: * (وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) * أنها ربع الكتابة،
ويمكن حمل هذا على الندب كما سيأتي. والثاني: لا يكفي ما ذكر ويختلف بحسب المال، فيجب ما يليق بالحال، فإن لم يتفقا
على شئ قدره الحاكم باجتهاده.
تنبيه: لو كاتب شريكان مثلا عبدا لزم كلا منهما ما يلزم المنفرد بالكتابة كما بحثه بعض المتأخرين. (و) الأصح
(أن وقت وجوبه) أي الحط أو الدفع (قيل العتق) ليستعين به عليه، ولأنه معان بمالين: زكاة وإيتاء، فلما كانت
الزكاة قبل العتق فكذلك الايتاء. والثاني: بعده لينتفع به. وعلى الأول إنما يتعين في النجم الأخير، ويجوز من أول
عقد الكتابة لأنها سبب الوجوب كما تقول: الفطرة تجب بغروب شمس ليلة العيد، ووقت الجواز من أول رمضان
لأنه سبب الوجوب، هذا ما صرح به ابن الصباغ. وقيل: يجب بالعتق وجوبا موسعا ويتضيق عند العتق، وبهذا
صرح في التهذيب. وقيل: إنه يتضيق إذا بقي من النجم الأخير القدر الذي يحمله أو يؤتيه إياه. وعبارة المصنف صادقة
بكل من ذلك، وعلى كل لو أخر عن العتق أثم وكان قضاء، فقول الروضة: ويجوز بعد الأداء والعتق لكن يكون
قضاء فيه تسمح. (ويستحب الربع) أي حط قدر ربع مال الكتابة إن سمح به السيد، (وإلا فالسبع) روى حط الربع
النسائي وغيره عن علي رضي الله عنه، وروي عنه رفعه إلى النبي (ص)، وروى حط السبع مالك عن
ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. قال البلقيني: بقي بينهما حط السدس، رواه البيهقي عن أبي سعيد مولى أبي
أسيد.
(ويحرم) على السيد (وطئ مكاتبته) كتابة صحيحة لاختلال ملكه فيها بدليل خروج اكتسابها عنه وإن لم يقطع
ملكه عنها كالطلاق الرجعي، ولو شرط في الكتابة أن يطأها فسد العقد خلافا ل مالك حيث يصح العقد ويلغو الشرط.
(ولا حد) على السيد (فيه) أي وطئ مكاتبته وإن علم التحريم لشبهة الملك، لكن يعذر عند العلم بالتحريم على
الصحيح، وكذا هي.
تنبيه: اقتصار المصنف على الوطئ قد يفهم جواز ما عدا الاستمتاع، وليس مرادا، فقد قال في زوائد الروضة
522

في كتاب الظهار: إنه يحرم منها كل استمتاع، قال: وكذا المبعضة. وأما النظر إليهما ونظر المكاتب أي المبعض إلى
سيدته فقد مر في كتاب النكاح. (ويجب) عليها بوطئها (مهر) وإن طاوعته لشبهة الملك.
تنبيه: ظاهر إطلاقه وجوب مهر واحد وإن تكرر، وهو الأصح كما في زيادة الروضة في الصداق. هذا حيث
لم تقبض الصداق، فإن كان وطئها ثانيا بعد قبضها المهر وجب لها مهر ثان. (والولد) الحاصل من وطئ السيد (حر)
نسيب، لأنها علقت به في ملكه. (ولا تجب) عليه (قيمته على المذهب) لانعقاده حرا، لأنه من أمته. وفي قول: لها
قيمته بناء على قول يأتي أن حق الملك في ولدها من غيره. والأول مبني على مقابله الأظهر أن حق الملك فيه للسيد مع
قول آخر أنه مملوك. (وصارت) بعد وضع الولد (مستولدة مكاتبة) فيكون لعتقها سببان، ولا يبطل الاستيلاد حكم
لكتابة، لأن مقصودهما واحد وهو العتق.
تنبيه: المراد بكونها تصير مكاتبة أنها مستمرة على كتابتها، وإلا فالكتابة ثابتة لها قبل ذلك. ولو قال كالمحرر:
وهي مستولدة مكاتبة كان أولى. فإن أدت النجوم عتقت عن الكتابة وتبعها كسبها وولدها. (فإن عجزت عتقت بموته)
أي السيد عن الاستيلاد وعتق معها أولادها الحادثون بعد الاستيلاد من قبله. ولو مات قبل عجزها عتقت أيضا،
لكن الأصح أنها تعتق عن الكتابة، كما لو أعتق مكاتبه منجزا أو علقه بصفة فوجدت قبل الأداء، ويتبعها كسبها
وأولادها الحادثون بعد الكتابة.
تنبيه: وطئ أمة المكاتب حرام على السيد ولا حد عليه بوطئها. ويلزمه المهر بوطئها جزما، فإن أحبلها فالولد
حر نسيب للشبهة، ولا تجب عليه قيمته وتصير الأمة مستولدة له، ويلزمه قيمتها لسيدها. ومن كاتب أمة حرم عليه
وطئ بنتها التي تكاتبت عليها، ويلزمه المهر، ولا حد للشبهة، وينفق عليها منه ومن باقي كسبها ويوقف الباقي. فإن
عتقت مع الام فهو لها وإلا فللسيد، فإن أحبلها صارت أم ولد ويلزمه قيمتها للمكاتب، والولد حر نسيب لا تجب
قيمته لأنه قد ملك الام، ولا قيمة أمه لأنها لا تملكها، وتعتق إما بعتق أمها أو موت سيدها. (وولدها) أي المكاتبة
الحادث بعد الكتابة وقبل العتق (من نكاح أو زنا مكاتب في الأظهر يتبعها رقا وعتقا) لأن الولد من كسبها فيوقف
أمره على رقها وحريتها، لأنه يتبعها في سبب الحرية كما يتبعها في الحرية كولد المستولدة. (وليس عليه شئ) للسيد، إذ
لم يوجد منه التزام. والثاني: هو مملوك للسيد يتصرف فيه بالبيع وغيره كولد المرهونة.
تنبيه: قوله: مكاتب المراد أنه يثبت له حكم الكتابة كما عبر به في المحرر، لا أنه يصير مكاتبا، ولهذا قال في عقبه:
يتبعها رقا وعتقا، والمراد يتبعها في العتق إذا عتقت بالكتابة، أما إذا رقت ثم عتقت بجهة أخرى غير الكتابة الأولى
لا يتبعها في العتق. وقد توهم عبارته إرادة ما سبق في المكاتبة المستولدة، وليس مرادا، بل هذا في المكاتبة المجردة. ولا يلزم
من قولنا يثبت له حكم الكتابة أنه كالمكاتب من كل وجه، ولهذا قال البلقيني: ويستثنى من حكم المكاتب صور،
إحداها: أن للسيد مكاتبته كما جزم به الماوردي: لأن الحاصل كتابته تبعية. الثانية: أن أرش الجناية عليه ليس له.
الثالثة: لو كانت أنثى فوطئها السيد لم يجب عليه مهر تفريعا على الأصح أن حق الملك في الولد للسيد كما قال المصنف.
(والحق فيه) أي الولد (للسيد) كما أن حق الملك في الام له. (وفي قول: لها) أي المكاتبة، لأنه مكاتب عليه فيكون
الحق فيه لها.
تنبيه: محل هذا الترجيح ما إذا لم يكن ولدها من عبدها، فإن كان منه ففي أصل الروضة: يشبه أن يكون
كولد المكاتب من جاريته، يعني فيكون الملك فيه للام قطعا. قال البلقيني: وعندي أنه وهم، فإن المكاتب يملك
جاريته، والولد يتبعه أمه في الرق، وولد المكاتبة إنما جاءه الرق من أمه لا من رق أبيه الذي هو عبدها انتهى.
523

وهذا أوجه. ثم فرع على القولين مسائل أشار إليها بقوله: (فلو قتل) الولد (فقيمته لذي الحق) منهما، فإن قلنا
للسيد فقيمته له كقيمة الام، أو للام فلها تستعين بها في أداء النجوم. (والمذهب) - ولو عبر بالأظهر لكان أولى، لأن
الخلاف قولان - (أن أرش جنايته عليه) أي ولد المكاتبة فيما دون نفسه، (و) أن (كسبه ومهره ينفق منها عليه وما
فضل) عن ذلك (وقف، فإن عتق فله وإلا فللسيد) كما أن كسب الام إذا عتقت يكون لها، وإلا فللسيد، وفي وجه
لا يوقف، بل يصرف إلى سيدها. هذا كله على قول أن حق الملك فيه لسيدها، وعلى قول أنه لها، فيكون لها ما ذكر
من الأرش وغيره لها. فإن لم يكن له كسب أو لم يف بمؤنته فعلى السيد مؤنته في الأول وبقيتها في الثانية، ويصدق السيد
بيمينه أنه ولد قبل الكتابة حتى يكون رقيقا له وإن أمكن أنه ولد بعدها، لأنه اختلاف في وقف الكتابة فيصدق فيه
كأصلها، ولأن جواز التصرف فيما يحدث من ملكه وهي تدعي حدوث مانع منه. فإن نكل عن اليمين، قال الدارمي:
قال ابن القطان: وقف الامر حتى يبلغ الولد ويحلف. وقيل: إن الام تحلف. فإن شهد للسيد بدعواه أربع نسوة قبلن،
وإن أقاما بينتين تعارضتا. (ولا يعتق شئ من المكاتب حتى يؤدي) للسيد (الجميع) من النجوم، لحديث: المكاتب
قن ما بقي عليه درهم، وفي معنى أدائه حط الباقي عنه الواجب والابراء منه والحوالة به، ولا تصح الحوالة
عليه ولا
الاعتياض عنه.
تنبيه: لو كاتبه مطلقا وأدى بعض المال ثم أعتقه على أن يؤدي الباقي بعد العتق صح. ولو شرط السيد أنه إذا أدى
النجم الأول عتق وبقي الباقي في ذمته يؤديه بعد العتق صح أيضا كما يقتضيه كلام الروضة. (ولو أتى) المكاتب (بمال
فقال) له (السيد: هذا حرام) أي لا تملكه (ولا بينة) له بذلك (حلف المكاتب أنه حلال) مملوك له عملا بظاهر اليد
(ويقال للسيد) حينئذ: (تأخذه أو تبرئه عنه) أي عن قدره ويجبر على أحد الامرين. فإن قيل: كيف تأمر السيد بأخذه
وهو يقر بكونه حراما؟ أجيب بأنا لم نأمره بالقبض عينا بل خيرناه، فإن اختار الابراء فذاك، وإن اختار القبض
ففيه تفصيل، فإن أكذب نفسه وقال: هو للمكاتب قيل كما قاله الإمام ونفذ تصرفه فيه، وإن أقر به لغيره لزمه دفعه
إليه إن صدقه مؤاخذة له بإقراره وإن لم يقبل قوله على المكاتب، وإن لم يعين مالكا أو عينه ولم يصدقه أقر
في يده ويمنع من التصرف فيه. (فإن أبى قبضه القاضي) وعتق المكاتب إن أدى الكل. (فإن نكل المكاتب) عن
الحلف (حلف السيد) أنه ليس له ملكه لغرض امتناعه من الحرام.
تنبيه: هذا إذا لم يكن أصله على التحريم، فإن كان كما إذا أتى إليه بلحم فقال: هذا حرام لأنه غير مذكى
فقال: بل مذكى صدق السيد، لأن الأصل عدم التذكية. واحترز المصنف بقوله: ولا بينة عما لو أقام السيد بينة
على ما يقوله فلا يجبر وتسمع بينته، لأن له فيه غرضا ظاهرا وهو الامتناع من الحرام. ولا يثبت بها ولا بيمينه
ملك لمن عينه له. ولا يسقط بحلف المكاتب حق من عينه. (ولو خرج) أي ظهر في حياة المكاتب كون (المؤدى)
من النجوم أو بعضها (مستحقا) ببينة شرعية وإلزام الحاكم لا بإقراره أو يمين مردودة، (رجع السيد ببدله)
لفساد القبض.
تنبيه: المراد أنه يرجع بمستحقه ولو عبر به لكان أولى. (فإن كان في النجم الأخير بان أن العتق لم يقع) لبطلان
الأداء، فإن ظهر الاستحقاق بعد موت المكاتب بان أنه مات رقيقا وأن ما ترك للسيد دون الورثة.
524

تنبيه: لا يتقيد ذلك بالنجم الأخير، فلو كان في غيره ودفع الأخير على وجه معتبر تبين بخروج غيره مستحقا كونه
لم يعتق أيضا، ولذلك عبر في الروضة ببعض النجوم. (وإن كان) السيد (قال عند أخذه) للمكاتب: (أنت حر)
أو: فقد أعتقتك، فإنه لا يحكم بعتقه أيضا في الأصح المنصوص، لأنه بناه على ظاهر الحال وهو صحة الأداء وقد بان
خلافه فلم ينفذ العتق.
تنبيه: قوله: عند أخذه يوهم التصوير بما إذا قاله متصلا بقبض النجوم، وهو ما نقلاه عن كلام الإمام حيث قال:
وفي كلام الإمام إشعار بأن قوله وأنت حر إنما يقبل تنزيله على الحرية بموجب القبض إذا رتب على القبض، فلو انفصل
عن القرائن لم يقبل التأويل. قالا: وهذا تفصيل قويم لا بأس بالأخذ به، لكن في الوسيط لا فرق بين أن يكون جوابا
عن سؤال حريته أو ابتداء، ولا فرق بين أن يكون متصلا بقبض النجوم أو غير متصل اه‍. وقيده ابن الرفعة بما إذا
قصد الاخبار عن حاله بعد أداء النجوم، قال: فإن قصد إنشاء العتق برئ المكاتب وعتق. وقال البلقيني: محل عدم
عتقه إذا قال ذلك على وجه الخبر بما جرى، فلو قال على سبيل الانشاء أو أطلق لم يرتفع بخروج المدفوع مستحقا
بل يعتق عن جهة الكتابة ويتبعه كسبه وأولاده اه‍. وينبغي أن يكون الحكم كذلك فيما لو قال لزوجته: إن أبرأتني طلقتك
فأبرأته من مجهول، فقال لها: أنت طالق، ثم تبين أن الابراء من مجهول. ولو قال المكاتب: أعتقتني بقولك أنت حر،
وقال السيد: إنما أردت بما أديت صدق السيد بيمينه. قال الصيدلاني وغيره: وقياسه أنه لو قيل لرجل: طلقت امرأتك،
فقال: نعم طلقتها، ثم قال: إنما قلته على ظن أن اللفظ الذي جرى طلاق وقد أفتى الفقهاء بخلافه ولو نازعته صدق
بيمينه. (وإن خرج) المؤدى من النجوم (معيبا) ولم يرض السيد به، (فله رده وأخذ بدله) لأن العقد إنما يتناول السليم
فلم يلزمه أخذ المعيب.
تنبيه: قد يوهم كلامه حصول العتق بالأخذ الأول، وليس مرادا، بل الأصح أنا نتبين أن العتق لم يحصل بالأخذ
الأول، فإن رضي به وكان في النجم الأخير نفذ العتق ورضاه بالعيب كالابراء عن بعض الحق وثبت حصوله من
وقت القبض على الأصح، وقيل: من وقت الرضا. (ولا يتزوج) المكاتب (إلا بإذن سيده) لأنه عبد ما بقي عليه
درهم كما مر. (ولا يتسرى بإذنه على المذهب) لضعف ملكه وخوفا من هلاك الجارية في الطلق، فمنعه من الوطئ كمنع
الراهن من وطئ المرهونة. وما اقتضاه كلام الروضة وأصلها في نكاح العبد وزوائدها في معاملاته من ترجيح جوازه
بالاذن مبني على أنه يملك بتمليك السيد، فالمذكور هنا مبني على الجديد وهو منع ملكه. وقد صرح الرافعي هنا بأن
تسريه بإذن السيد مبني على الخلاف في تمليك العبد بتمليك سيده، فإذا لا مخالفة بين الأبواب كما يتوهم.
تنبيه: لو عبر المصنف بالوطئ كان أولى، لأن التسري أخص من الوطئ لاشتراط الانزال والحجب فيه. (وله)
أي المكاتب (شراء الجواري للتجارة) توسعا في طريق الاكتساب، (فإن وطئها) أي حل جاريته على خلاف منعه منه
(فلا حد) عليه لشبهة الملك، وكذا لا مهر لأنه لو وجب عليه لكان له، (والولد) الحاصل من وطئه (نسيب)
لا حق به لشبهة الملك. (فإن ولدته في الكتابة) أي قبل عتق أبيه أو معه، (أو بعد عتقه) لكن (لدون ستة أشهر) من
وطئه، (تبعه) الولد (رقا وعتقا) ولا يعتق في الحال في الصورة الأولى لضعف ملكه، بل يكون ملكا له، لأنه
ولد جاريته. ولا يملك خروجه عن ملكه لأنه ولده بل يتوقف عتقه على عتق أبيه، فإن عتق عتق وإلا رق وصار
للسيد، وهذا معنى قولهم إن ولده مكاتب عليه. (ولا تصير) أمه (مستولدة) للمكاتب (في الأظهر) لأنها
525

علقت بمملوك فأشبهت الأمة المنكوحة. والثاني: تصير، لأن ولدها ثبت له حق الحرية بكتابته على أبيه وامتناع بيعه فثبت
لها حرمة الاستيلاء. وهذا كله إذا ولدته في الكتابة، (و) أما (إن ولدته بعد العتق) فينظر إن ولدته (لفوق ستة أشهر) من
الوطئ كما في المحرر، أو لستة أشهر كما في الروضة، وتقدم في باب العدد أن التعبير بما فوق الستة جرى على الغالب، فكل
من العبارتين صحيح. (وكان يطؤها) ووقع الوطئ مع العتق أو بعده في صورة الأكثر وولدته لستة أشهر فصاعدا من
الوطئ، (فهو حر وهي أم ولد) لظهور العلوق في الرق بعد الحرية. ولا نظر إلى احتمال العلوق في الرق تغليبا للحرية.
فإن لم يطأها مع العتق ولا بعده أو ولدته لدون ستة من الوطئ لم تصر أم ولد. (ولو عجل) المكاتب (النجوم)
قبل محلها، (لم يجبر السيد على القبول) لما عجل (إن كان له في الامتناع) من قبضها (غرض) صحيح (كمؤنة حفظه) أي
مال النجوم إلى محله كالطعام الكثير.
تنبيه: لو أطلق المؤنة كان أخصر وأشمل لدخول مؤنة العلف، وقد ذكرها في المحرر. (أو خوف عليه) بسبب ظاهر
يتوقع زواله بأن كان زمن نهب أو إغارة، لما في الاجبار من الضرر والحالة هذه. ولو أنشأ الكتابة في زمن نهب أو إغارة
وعجل فيه أيضا، لأن ذلك قد يزول عند المحل. قال الروياني: فإن كان هذا الخوف معهودا لا يرجى زواله
لزمه القبول وجها واحدا، وبه جزم الماوردي.
تنبيه: تعبيره بالنجوم ليس بقيد. فلو أحضر النجم الأول أو غيره كان الحكم كذلك لما فيه من تمهيد بسبب
العتق ومن الأغراض ما إذا كان طعاما يريد أن يأخذه عند المحل رطبا. قال البلقيني: من الأغراض أن الدين في ذمة
المكاتب لا زكاة فيه، فإذا جاء به قبل المحل كان للملك غرض في أن لا يأخذه لئلا تتعلق به الزكاة. قال: ولم يذكره
الأصحاب، والظاهر اعتباره اه. وهو ظاهر. (وإلا) بأن يكون للسيد غرض صحيح في الامتناع من قبض النجوم، (فيجبر)
على قبضه، لأن للمكاتب غرضا ظاهرا وهو تنجيز العتق أو تقريبه، ولا ضرر على السيد في القبول.
تنبيه: أطلق المصنف الاجبار، وظاهره أنه يجبر على القبض، ولكن تقدم فيما إذا أتى المكاتب بمال فقال السيد:
هذا حرام ولا بينة أنه إذا حلف المكاتب أنه حلال أجبر السيد على أخذه أو الابراء منه، فإن أبى قبضه القاضي. ولم
يذكروا هنا الابراء فيحتمل أن يلحق به، ويحتمل أن يفرق بحلول الحق هناك بخلافه هنا، والأول أوجه،
وجرى
عليه البلقيني. (فإن أبى) قبوله والابراء منه على ما مر أو كان غائبا، (قبضه القاضي) عنه وعتق المكاتب إن أدى الكل
لأنه نائب الممتنعين والغائبين. وليس للقاضي قبض دين للغائب لأنه ليس للمؤدي غرض إلا سقوط الدين عنه.
والنظر للغائب أن يبقى المال في ذمة الملئ فإنه خير من أن يصير أمانة عند الحاكم. (ولو عجل) المكاتب (بعضها) أي
النجوم (ليبرئه) السيد (من الباقي) منها (فأبرأ) مع الاخذ، (لم يصح الدفع ولا الابراء) لفساد الشرط، وسواء أكان
الالتماس من العبد أو من السيد، لأن ذلك يشبه ربا الجاهلية المجمع على تحريمه، فقد كان الرجل إذا حل دينه يقول
لمدينه اقض أو زد، فإن قضاه وإلا زاده في الدين وفي الاجل وعلى السيد رد المأخوذ ولا عتق لعدم صحة القبض
والبراءة.
تنبيه: ما ذكره المصنف لا يختص بدين الكتابة بل سائر الديون كذلك لما مر. (ولا يصح بيع النجوم)
لأنها غير مستقرة، ولان المسلم فيه لا يصح بيعه مع لزومه من الطرفين لتطرق السقوط إليه، فالنجوم بذلك أولى.
وهذا يسقط ما قيل إن المصنف صحح في الروضة في باب المبيع قبل قبضه أن بيع الدين لغير من هو عليه صحيح، ومقتضاه
526

ترجيح بيع النجوم. (ولا الاعتياض) أي الاستبدال (عنها) من المكاتب، كأن تكون النجوم دنانير فيعطي بدلها
دراهم. وهذا ما صححاه هنا تبعا للبغوي، وهذا أوجه مما نقله الرافعي في باب الشفعة عن الأصحاب من الجواز لما
مر، وإن صوب الأسنوي ما هناك وجرى عليه شيخنا هنا في منهجه. (فلو باع) السيد النجوم (وأدى) المكاتب النجوم
(إلى المشتري لم يعتق في الأظهر) وإن تضمن البيع الاذن في قبضها، لأن الاذن في مقابلة سلامة العوض فلم تسلم فلم يبق
الاذن، ولو سلم بقاؤه لكون المشتري كالوكيل، وبه علل الوجه الثاني القائل بأنه يعتق، فالفرق بينهما أن المشتري
يقبض النجوم لنفسه بخلاف الوكيل. نعم لو باعها وأذن للمشتري في قبضها مع علمها بفساد البيع عتق بقبضه. (و)
على الأول (يطالب السيد المكاتب والمكاتب المشتري بما أخذ منه) وعلى الثاني ما أخذه يقبضه السيد لأنه كوكيله.
(ولا يصح بيع رقبته) أي المكاتب كتابة صحيحة (في الجديد) لأن البيع لا يرفع الكتابة للزومها من جهة السيد
فيبقى مستحق العتق فلم يصح بيعه كالمستولدة، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك. والقديم يصح بيع المكاتب كالعتق بصفة،
وبهذا قال أحمد.
تنبيه: محل الخلاف إذا لم يرض المكاتب بالبيع، فإن رضي به جاز وكان رضاه فسخا كما جزم به القاضي
الحسين في تعليقه، لأن الحق له وقد رضي بإبطاله. وعلى هذا تستثنى هذه الصورة من عدم صحة بيع المكاتب.
ويستثنى أيضا صور: منها ما إذا بيع بشرط العتق فإنه يصح وإن لم يرض المكاتب وترتفع الكتابة ويلزم
المشتري إعتاقه والولاء
له، ذكره البلقيني تخريجا، لأن الشافعي أطلق جواز بيع العبد بشرط العتق محتجا بحديث بريرة والحال أنها كانت
مكاتبة. ومنها البيع الضمني إذا قال: أعتق مكاتبك عني على ألف، ذكره البلقيني أيضا وقال: إنه أولى بالجواز من التي
قبلها مع اعترافه بأن المنقول في أصل الروضة البطلان. وإذا كان المنقول في هذه البطلان فالبطلان في التي قبلها بطريق
الأولى، وهو كذلك. ويحمل حديث بريرة على أنها رضيت بالبيع. ومعنى البطلان في هذه أن العتق لا يقع عن السائل،
ولكن يقع عن المعتق ولا يستحق العوض كما سيأتي. ومنها ما إذا باع المكاتب من نفسه فإنه يصح سواء أقلنا أنه عقد
عتاقه أو بيع وترتفع الكتابة فلا يتبعه كسبه ولا ولده. ومنها إذا جنى. ومنها إذا عجز نفسه. وخرج بالصحيحة
الفاسدة، فإن المنصوص في الام صحة البيع فيها إذا علم البائع بفسادها لبقائه على ملكه كالمعلق عتقه بصفة، وكذا إن
جهل على المذهب. (فلو باع) السيد رقبة مكاتبه (فأدى) المكاتب النجوم إلى (المشتري) فقبضها، (ففي عتقه القولان)
السابقان فيما إذا باع نجومه، أظهرهما المنع. (وهبته كبيعه) فيما ذكر، وأما الوصية فإن نجزها فكبيعه، وإلا فتصح إن
علقها على عجزه. (وليس له) أي السيد (بيع ما في يد مكاتبه و) لا (إعتاق عبده، و) لا (تزويج أمته) ولا التصرف
في شئ مما في يده، لأنه معه كالأجنبي.
تنبيه: مسألة النكاح مكررة سبقت في النكاح. (ولو قال له) أي السيد (رجل) مثلا: (أعتق مكاتبك على كذا)
كمائة، (ففعل عتق ولزمه ما التزم) كما لو قال: أعتق مستولدتك على كذا، وهو بمنزلة فداء الأسير.
تنبيه: محل ذلك ما إذا قال: أعتقه وأطلق، أما إذا قال: أعتقه عني على كذا، فقال: أعتقته عنك، فإنه لم يعتق عن
السائل ويعتق عن المعتق في الأصح، ولا يستحق المال.
تتمة: لو علق عتق المكاتب على صفة فوجدت عتق، ويتضمن الابراء عن النجوم حتى تتبعه أكسابه، ولو
لم يتضمن الابراء لكان عتقه غير واقع عنها فلا تتبعه الاكساب، قاله القاضي الحسين في كتاب الزكاة من تعليقه.
527

قال: والابراء لا يقبل التعليق قصدا ويقبله ضمنا.
فصل: في لزوم الكتابة وجوازها وما يعرض لها من فسخ أو انفساخ وبيان حكم تصرفات المكاتب وغيرها:
(الكتابة) الصحيحة (لازمة من جهة) أي جانب (السيد ليس له فسخها) لأنها عقدت لحظ مكاتبه لا لحظه فكان فيها
كالراهن لأنها حق عليه، أما الفاسدة فهي جائزة من جهته على الأصح.
تنبيه: قوله: ليس له فسخها لا حاجة إليه بعد ذكر اللزوم، وإنما ذكره لأجل قوله: (إلا أن يعجز) المكاتب
(عن الأداء) عند المحل لنجم أو بعضه غير الواجب في الايتاء فللسيد الفسخ في ذلك. قال الماوردي: ويشترط أن يقول:
قد عجزت عن الأداء أو يقول السيد: فسخت الكتابة، ولا حاجة فيه إلى حاكم لأنه متفق عليه كالفسخ بالعيب.
تنبيه: يرد على حصره الاستثناء صورتان: إحداهما ما إذا امتنع من الأداء مع القدرة عليه فللسيد الفسخ كما في
الروضة كأصلها. فإن قيل: إذا امتنع المشتري من أداء الثمن ليس للبائع الفسخ، فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن
المشتري عند القدرة يجبر على أداء الثمن بخلاف المكاتب. الثانية: إذا حل النجم والمكاتب غائب ولم يبعث المال كما
سيذكره المصنف، أما إذا عجز عن القدر الذي يحط عنه أو يبذل له فإنه لا يفسخ، لأن عليه مثله ولا يحصل التقاص،
لأن للسيد أن يؤتيه من غيره لكن يرفع المكاتب الامر إلى الحاكم ليفصل بينهما بأن يلزم السيد بالايتاء والمكاتب
بالأداء. (و) الكتابة (جائزة للمكاتب، فله ترك الأداء وإن كان معه وفاء) أي ما يفي بنجوم الكتابة، لأن الحظ
فيها له فأشبه المرتهن، كذا قالوه، واعترض من جهة أنه يبطل حق السيد من النجوم، بخلاف المرتهن، وقد يجاب بأن
هذا بالنسبة للمعتق كالمضمحل فلم ينظروا إليه. (فإذا عجز نفسه) أي قال أنا عاجز عن كتابتي مع ترك الأداء، (فللسيد
الصبر) عليه، (و) له (الفسخ) للكتابة على التراخي إن شاء (بنفسه) لأنه فسخ مجمع عليه لا لاجتهاد فيه فلم يشترط
فيه الحاكم. (وإن شاء بالحاكم) إن ثبتت الكتابة عنده، وحلول النجوم والعجز بإقرار أو بينة. ومتى فسخت الكتابة
فاز السيد بما أخذه، ولكن يجب عليه أن يرد ما أعطى من الزكاة، ولا يتملك لقطته كما مر في بابها خلافا للبغوي.
(وللمكاتب) أيضا (الفسخ) لها (في الأصح) وإن كان معه وفاء، كما أن للمرتهن أن يفسخ الرهن. والثاني: المنع، لأنه
لا ضرر عليه في بقائها. (ولو استمهل المكاتب) سيده (عند حلول النجم) لعجز، (استحب) له إمهاله إعانة له على
تحصيل العتق، (فإن أمهل) السيد مكاتبه (ثم أراد الفسخ) لسبب مما مر، (فله) ذلك، لأن الدين الحال لا يتأجل.
قال ابن شهبة: وقد غلط من فهم عن المصنف رجوع الضمير للعبد. (وإن كان معه) أي المكاتب
(عروض) وكانت الكتابة غيرها واستمهل لبيعها، (أمهله) وجوبا (ليبيعها) لأنها مدة قريبة، ولو لم يمهلها لفات
مقصود الكتابة. (فإن) لم يمكن بيعها فورا كأن (عرض كساد فله أن لا يزيد في المهلة على ثلاثة أيام) لتضرره بذلك،
وهذا ما جزم به في المحرر تبعا للبغوي، وجرى عليه ابن المقري وغيره، وهو المعتمد. ومقتضى كلام الإمام عدم
وجوب الامهال، فقد نقل عنه في الروضة وأصلها جواز الفسخ وصححاه. (وإن كان ماله غائبا) واستمهل لاحضاره،
(أمهله) السيد وجوبا (إلى إحضاره إن كان) غائبا فيما (دون مرحلتين) لأنه بمنزلة الحاضر، (وإلا) بأن كان على مرحلتين
فأكثر، (فلا) يجب الامهال لطول المدة.
528

تنبيه: يمهل لاحضار دين حال على ملئ مقر أو عليه بينة حاضرة وإحضار مال مودع. (ولو حل النجم وهو)
أي المكاتب (غائب) ولو بإذن السيد، أو غاب بعد حلوله بغير إذن، (فللسيد الفسخ) للكتابة لتقصيره بالغيبة بعد
المحل، والاذن قبله لا يستلزم الاذن له في استمرارها إلى ما بعده. ويفسخ بنفسه ويشهد لئلا يكذبه المكاتب، وله الفسخ
بالحاكم نظير ما مر في الفسخ لعجز بعد إقامة البينة بالكتابة بحلول النجم والتعذر لتحصيل النجم، وحلف
السيد أنه ما قبض ذلك منه ولا من وكيله ولا أبرأه منه ولا أنظره فيه كما نص عليه الشافعي والعراقيون ولا يعلم له مال
حاضر، لأن ذلك قضاء على غائب. والتحليف المذكور نقله في أصل الروضة عن الصيدلاني وأقره، وهو المعتمد، وإن
قال الأذرعي إنه غريب.
تنبيه: قال في المطلب: لم أر لهم تعرضا لحد هذه الغيبة، والأشبه أنه لا فرق بين القريبة والبعيدة. وقيدها في
الكفاية بمسافة القصر. قال الزركشي: وهو قياس تنزيل غيبته كغيبة المال. وقال شيخنا: والقياس فوق مسافة
العدوي اه‍. والأوجه ما في الكفاية. (فلو كان له مال حاضر فليس للقاضي الأداء) للنجم (منه) ويمكن القاضي
السيد من الفسخ. وإن علق المكاتب عن حضوره مرض أو خوف في الطريق، لأنه ربما عجز نفسه لو كان حاضرا
أو لم يؤد المال وربما فسخ الكتابة في غيبته. فإن قيل: قال الأسنوي: وهذا مع القول بتحليفه لا يجتمعان. أجيب
بأن المراد من قولهم يمكن القاضي السيد، أي لا يعترضه، فلا ينافي ما تقدم من التحليف، لأن القاضي إذا وفى أو أذن
فيه يحتاط كما قالوا في الحاضنة يكفي فيها العدالة الظاهرة. فإن وقع نزاع في الأهلية فلا بد من ثبوتها عند القاضي كما
أفتى به المصنف. ولو أنظره السيد بعد حلول النجم وسافر بإذنه ثم ندم على إنظاره لم يفسخ في الحال لأن المكاتب
غير مقصر، وربما اكتسب في السفر ما يفي بالواجب عليه، فلا يفسخ سيده حتى يعلمه بالحال، بل بكتاب من قاضي
بلد سيده إلى قاضي بلده، فإن عجز نفسه كتب به قاضي بلده إلى قاضي بلد السيد ليفسخ إن شاء، فإن لم يكن ببلد
السيد قاض وبعث السيد إلى المكاتب من يعلمه بالحال ويقبض منه النجوم فهل هو ككتاب القاضي فيأتي فيه ما مر؟
فيه خلاف، والأوجه كما قال شيخنا الأول، وهو ما اختاره ابن الرفعة والقمولي. (ولا تنفسخ) الكتابة (بجنون المكاتب)
كتابة صحيحة، لأن ما كان لازما من أحد الطرفين لا ينفسخ بجنون أحد المتعاقدين كالرهن، وإنما ينفسخ به العقود
الجائزة من الطرفين كالوكالة والقراض.
تنبيه: لو أراد السيد فسخها حال جنون المكاتب لم يفسخ بنفسه، بل يشترط أن يأتي الحاكم ويقيم البينة بجميع
ما مر فيما إذا أراد الفسخ على الغائب. (و) حينئذ (يؤدي القاضي إن وجد له مالا) ليعتق، لأن المجنون ليس أهلا للنظر
لنفسه فناب الحاكم عنه، بخلاف المكاتب الغائب كما مر.
تنبيه: محل تأدية القاضي عنه إذا رأى له مصلحة في الحرية كما قاله الغزالي، فإن رأى أنه يضيع بها لم يؤد.
قال في أصل الروضة: وهذا حسن، لكنه قليل النفع مع قولنا إن السيد إذا وجد ماله له أن يستقل بأخذه، إلا أن يقال
: إن الحاكم يمنعه من الاخذ والحالة هذه، أي فلا يستغل بالأخذ. فإن لم يجد له القاضي مالا فسخ السيد بإذن القاضي
وعاد بالفسخ قنا له. فإن أفاق من جنونه وظهر له مال كأن حصله من قبل الفسخ دفعه إلى السيد ونقض التعجيز وعتق.
قال في أصل الروضة: كذا أطلقوه، وأحسن الإمام إذا خص نقض نقض التعجيز بما إذا ظهر المال بيد السيد وإلا فهو
ماض، لأنه فسخ حين تعذر حقه فأشبه ما لو كان ماله غائبا فحضر بعد للفسخ اه‍. قال في الخادم: وهذا مع مصادمته
لاطلاقهم مصادم لنص الشافعي، والفرق أنه لا تقصير من الحاكم عند غيبة المال ثم حضوره، بخلاف وجوده بالبلد.
وإذا قلنا يعتق يطالبه السيد بما أنفق عليه قبل نقض التعجيز، لأنه لم يتبرع عليه به، وإنما أنفق عليه على أنه عبده.
قال الأذرعي: وقيده الدارمي بما إذا أنفق عليه بأمر الحاكم، وهو ظاهر بل متعين. نعم إن علم أن له مالا فلا يطالبه
529

بذلك. قال الرافعي: ولو أقام المكاتب بعد ما أفاق بينة أنه كان قد أدى النجوم حكم بعتقه ولا رجوع للسيد عليه لأنه
لبس وأنفق على علم بحريته متبرعا. فلو قال نسيت الأداء فهل يقبل ليرجع؟ فيه وجهان، قال الأسنوي وغيره:
الصحيح منهما عدم الرجوع أيضا. (ولا) تنفسخ الكتابة (بالحجر) على المكاتب بسفه، وارتفاع الحجر عنه كإفاقته
من الجنون. وكلام المصنف يوهم تعيين القاضي في صحة الأداء، وليس مرادا، فلو أداه المجنون له أو استقل هو بأخذه
عتق، لأن قبض النجوم مستحق. ولا تنفسخ (بجنون السيد) ولا بموته، للزومها من جهته، ولا بالحجر عليه بسفه
كالرهن. (ويدفع) المكاتب وجوبا النجوم (إلى وليه) إذا جن، وإلى وارثه إذا مات، لأنه نائب عنه شرعا. (ولا
يعتق بالدفع إليه) أي السيد المجنون، لأن قبضه فاسد، وللمكاتب استرداده، لأنه باق على ملكه، فإن تلف في يده
لم يضمنه لتقصيره بالدفع إليه. ثم إن لم يكن بيد المكاتب شئ آخر يؤديه فللولي تعجيزه، ولا ينفسخ بإغماء السيد،
ولا المكاتب. (ولو قتل) المكاتب (سيده) عمدا (فلوارثه قصاص) كجناية عمد غيره. (فإن عفا) عنه (على دية،
أو قتل) سيده (خطأ أخذها) أي الدية (مما معه) حصلت قبل الجناية أو بعدها، لأن السيد مع المكاتب في المعاملات
كالأجنبي مع الأجنبي فكذلك في الجناية.
تنبيه: ظاهر كلامه وجوب الدية بالغة ما بلغت، سواء كانت مثل قيمة العبد أو أكثر، والذي في الشرح
والروضة هل يجب تمام الأرش أو أقل الأمرين من قيمته وأرش الجناية؟ فيه القولان في الجناية على الأجنبي،
وقضيته أن الراجح وجوب الأقل. ورجح البلقيني وجوب الدية مطلقا كما اقتضاه كلام الكتاب وحكاه عن نص
الام والمختصر، وقال: القواعد تأبى الأول وبسط ذلك، وهذا هو الظاهر، وجرى عليه شيخنا في شرح منهجه،
وسيأتي الفرق بين هذا وبين الجناية على الأجنبي. ومحل الخلاف ما لم يعتقه السيد بعد الجناية فإن أعتقه بعدها وفي
يده وفاء وجب أرش الجناية على المذهب المقطوع به. (فإن لم يكن) في يده مال أو كان ولم يف بالأرش، (فله) أي
وارث سيده (تعجيزه في الأصح) المنصوص دفعا للضرر عنه، لأنه إذا عجز مورق سقط عنه الأرش فلا يطالب به
بعد العتق. والثاني: لا يعجزه، لأنه إذا عجز سقط مال الجناية، فلا فائدة للتعجيز. ودفع بأنه يستفيد به الرد إلى
الرق المحض. (أو قطع) المكاتب (طرفه) أي سيده، (فاقتصاصه والدية) للطرف (كما سبق) في قتله سيده، وقد
مر ما فيه.
تنبيه: جنايته على طرف ابن سيده كجنايته على أجنبي، فإن قبله فللسيد القصاص، فإن عفى على مال أو كان
القتل غير عمد فكجنايته على السيد. (ولو قتل) المكاتب (أجنبيا أو قطعه) عمدا (فعفي) بضم العين بخطه، أي عفا
المستحق (على مال، أو كان) قتله للأجنبي (خطأ) أو شبه عمد، (أخذه) المستحق (مما معه) الآن (ومما سيكسبه)
بعد (الأقل من قيمته والأرش) لأنه يملك تعجيز نفسه، وإذا عجزها فلا يتعلق بسوى الرقبة، قال ابن شهبة: والفرق
بين هذه وبين جنايته على سيده على ما في الكتاب أن حق السيد متعلق بذمته دون رقبته لأنها ملكه، وإذا كانت
في ذمته وجب جميع الأرش مما في يده كدين المعاملة، بخلاف جنايته على الأجنبي.
تنبيه: في إطلاق الأرش على دية النفس تغليب فلا يطالب بأكثر مما ذكر ولا يفدي به نفسه إلا بإذن سيده
ويفدى نفسه بالأقل بلا إذن. وقوله: مما سيكسبه ليس هو في الروضة ولم يذكره المصنف في جنايته على سيده. قال
ابن شهبة: فيحتاج إلى الفرق بينهما على ما في الكتاب اه‍. والظاهر أنه لا فرق، لكنه سكت عنه هناك وصرح به هنا،
530

والمراد بما ما سيكسبه ما بقيت كتابته. ولم يتعرض المصنف للقصاص هنا، وقد صرح في المحرر بوجوبه، ولعل المصنف
سكت عنه للعلم به مما مر. ويستثنى من إطلاقه ما لو أعتقه السيد بعد الجناية وفي يده وفاء، فالمنصوص الذي قطع به
الجمهور له الأرش بالغا ما بالغ. (فإن لم يكن معه) أي المكاتب (شئ) أو كان ولم يف بالواجب (وسأل المستحق) للأرش
القاضي (تعجيزه أعجزه القاضي) المسؤول (وبيع) منه (بقدر الأرش) فقط إن زادت قيمته عليه، لأنه القدر المحتاج إليه
في الفداء، وإلا فكله. هذا كلام الجمهور، وقال ابن الرفعة: كلام التنبيه يفهم أنه لا حاجة إلى التعجيز، بل يتعين
بالبيع انفساخ الكتابة، كما أن بيع المرهون في أرش الجناية لا يحتاج إلى فك الرهن اه‍. وينبغي اعتماده.
ومقتضى كلام
المصنف أنه يعجز جميعه ثم يبيع منه بقدر الأرش، قال الزركشي: والذي يفهمه كلامهم أنه يعجز البعض، ولهذا
حكموا ببقاء الباقي على كتابته، ولو كان يعجز الجميع لم يأت ذلك لانفساخ الكتابة في جميعه فيحتاج إلى تجديد عقد،
ويحتمل خلافه، ويغتفر عدم التجديد للضرورة اه‍. وما أفهمه كلامه هو الظاهر. وهذا إذا كان يتأتى منه بيع بعضه،
فإن لم يتأت لعدم راغب، قال الزركشي: فالقياس بيع الجميع للضرورة وما فضل يأخذه السيد، وبه صرح الرافعي
في الجناية على الرقيق بالنسبة للقن. (فإن بقي منه شئ بقيت فيه الكتابة) لما في ذلك من الجمع بين الحقوق، فإن أدى
حصته من النجوم عتق ذلك القدر. وهل يسري باقيه على سيده المشتري إذا كان موسرا؟ قال ابن الرفعة: فيه وجهان،
قال: وفي البحر لا يسري قولا واحدا اه‍. وما في البحر هو الظاهر. (وللسيد فداؤه) بالأقل من قيمته والأرش، (وإبقاؤه) على
حاله (مكاتبا) لما فيه من الجمع بين حقوق الثلاثة، وعلى المستحق قبول الفداء. (ولو أعتقه) السيد (بعد الجناية) ونفذناه
وهو المذهب، (أو أبرأه) بعدها من النجوم (عتق ولزمه) أي السيد (الفداء) بالأقل من قيمته والأرش، لأنه فوت عليه
الرقبة فهو كما لو قتله بخلاف ما لو عتق بأداء النجوم بعدها فلا يلزم السيد فداؤه. ولو جنى جنايات وعتق بالأداء
فدى نفسه، أو أعتقه السيد تبرعا لزمه فداؤه. (ولو قتل المكاتب) بعد اختيار سيده الفداء لزم السيد فداؤه أو قبله فلا
شئ عليه، و (بطلت) كتابته في الحالين (ومات رقيقا) لفوات محلها. وفائدة الحكم برقه أن للسيد ما يتركه بحكم الملك
لا الإرث ووجب عليه تجهيزه، وسواء خلف وفاء بالنجوم أم لا، وسواء أكان الباقي قليلا أم كثيرا. (ولسيده قصاص
على قاتله) المتعمد (المكافئ) له لبقائه على ملكه، (وإلا) بأن لم يكن مكافئا أو كان القتل غير عمد (فالقيمة) هي الواجبة له،
لأنها جناية على عبده.
تنبيه: محل ما ذكر إذا قتله أجنبي، وإن قتله سيده فلا شئ عليه إلا الكفارة. قال في المحرر: هذا إذا قتله، فإن
قطع طرفه ضمنه. قال الجرجاني: وليس لنا من لا يضمن شخصا ويضمن طرفه غيره، والفرق بطلان الكتابة بموته،
وبقاؤها مع قطع طرفه والأرش من أكسابه.
فرع: لو ملك المكاتب أباه بوصية ثم جنى على أبيه فقطع طرفه فإنه يقتص من المكاتب، لأن حكم الأب
كحكم الأجنبي، فإنه لا يملك التصرف فيه وجعلت حريته موقوفة على حريته، قاله ابن الصباغ، ثم قال: ولا يعرف
للشافعي مسألة يقتص فيها من المالك للمملوك إلا هذه. وحكى الروياني هذا في البحر عن نص الام، ثم قال:
فأوجب
القصاص على المكاتب بقتل مملوكه ولم يجعل ملكه شبهة وهو غريب اه‍. والمذهب أنه لا قصاص لشبهة الملك.
(ويستقل) المكاتب (بكل تصرف لا تبرع فيه) على غير السيد (ولا خطر) بفتح الطاء بخطه كبيع وشراء وإجارة
531

بعوض من المثل، لأن في ذلك تحصيلا للغرض المقصود من الكتابة وهو العتق. (وإلا) بأن كان فيه تبرع كصدقة أو إبراء
أو فيه خطر كقرض وبيع نسيئة، (فلا) يستقل به، لأن أحكام الرق جارية عليه. ولا فرق في منع بيعه نسيئة بين أن
يستوثق برهن أو كفيل أم لا، لأن الكفيل قد يفلس والرهن قد يتلف ويحكم القاضي المرفوع إليه بسقوط الدين، هذا
ما ذكراه هنا وهو المعتمد، وإن صححا في كتاب الرهن الجواز بالرهن والكفيل. أما إذا تبرع على سيده فإنه يصح
كما لو أذن كما يأتي.
تنبيه: استثني من التبرع ما تصدق به عليه من نحو لحم وخبز مما العادة فيه أكله وعدم بيعه له إهداؤه لغيره على
النص في الام. ومما فيه خطر ما الغالب فيه السلامة ويفعل للمصالحة كتوديج البهائم وقطع السلع منها والفصد
والحجامة وختن الرقيق وقطع سلعهم التي في قطعها خطر، لكن في بقائها أكثر. وله اقتراض وأخذ قراض
وهبة بثواب معلوم وبيع ما يساوي مائة بمائة نقد أو عشرة نسيئة وشراء النسيئة بثمن النقد ولا يرهن به. ولا يسلم
العوض قبل المعوض في البيع والشراء، ولا يقبل هبة من تلزمه نفقته إلا كسوبا كفايته فيسن قبوله ثم يكاتب عليه
ونفقته في كسبه والفاضل للمكاتب فإن مرض قريبه أو عجز لزم المكاتب نفقته، لأنه من صلاح ملكه، وإن جنى
بيع فيها ولا يفديه بخلاف عبده. (ويصح) مما معناه منه مما تقدم وغيره (بإذن سيده في الأظهر) لأن المنع إنما كان لحقه
وقد رضي به كالمرتهن. والثاني: المنع لأنه يفوت غرض العتق. ولو تبرع بأداء دين للسيد على مكاتب آخر وما قبله منه
السيد على الأصح كما لو أذن له.
تنبيه: استثني من إطلاقه الصحة العتق والكتابة كما سيأتي. (ولو اشترى) المكاتب (من يعتق على سيده)
من أصله أو فرعه، (صح) وكان الملك فيه للمكاتب كغيره من العبيد، ولا يعتق على السيد لضرورة الحاجة للاسترباح.
(فإن عجز) المكاتب ورق (وصار) الذي اشتراه من أصل سيده أو فرعه (لسيده، عتق) عليه لدخوله في ملكه.
تنبيه: هذا إذا اشترى من يعتق على سيده كله، فإذا اشترى بعضه ثم عجز نفسه أو عجز سيده عتق ذلك
البعض ولا يسري كما مرت الإشارة إليه في العتق. (أو) اشترى المكاتب من يعتق (عليه) لو كان حرا من أصله
أو فرعه، (لم يصح بلا إذن) من سيده لتضمنه العتق وإلزامه النفقة، (وبإذن فيه القولان) السابقان في تبرعه بالاذن
أظهرهما الصحة. (فإن صح) شراء المكاتب من يعتق عليه، (فمكاتب عليه) فيرق برقه ويعتق بعتقه ويمتنع عليه
بيعه. (ولا يصح إعتاقه) عن نفسه ولو عن كفارة. (و) لا (كتابته بإذن) له (على المذهب) لتضمنهما الولاء
وليس من أهله. والثاني: يصح عملا بالاذن ويوقف الولاء، والطريق الثاني القطع بالأول. أما إعتاقه عن سيده
أو أجنبي فيصح بالاذن.
تتمة: لا يصح إبراؤه عن الديون ولا هبته مجانا ولا يشترط الثواب، لأن في قدره اختلافا على القول به
بين العلماء، ولان الثواب إنما يستقر بعد قبض الموهوب وفيه خطر. ووصيته سواء أوصى بعين أو بثلث ماله
لأن ملكه غير تام.
فصل: في مشاركة الكتابة الفاسدة الصحيحة ومخالفتها لها والفرق بين الكتابة الباطلة والفاسدة وغير ذلك:
(الكتابة الفاسدة) وهي ما الخلل في صحتها (لشرط) فاسد فيها كشرط أن يبيعه كذا، (أو عوض) فاسد كأن يكاتبه
532

على خمر، (أو أجل فاسد) كأن يكاتبه على نجم واحد، حكمها (كالصحيحة في استقلاله) أي المكاتب (بالكسب)
فيتردد ويتصرف ليؤدي النجم، لأنه يعتق فيها بالأداء كالصحيحة. والأداء إنما يكون من الكسب، وليس لنا عقد
فاسد يملك به كالصحيح إلا هذا.
تنبيه: قوله: فاسد يعود إلى الثلاث كما تقرر، واحترز به عن الشرط الصحيح كشرط العتق عند الأداء، وبالفاسدة
عن الباطلة، وهي ما اختلت صحتها باختلال ركن من أركانها ككون صيغته مختلة، فإن فقد الايجاب أو القبول أو أحد
العاقدين مكرها أو صبيا أو مجنونا، أو عقدت بغير مقصود كدم أو بما لا يتمول، فإن حكمها الالغاء إلا في تعليق معتبر
ممن يصح تعليقه فلا تلغى فيه، فقد علم من ذلك الفرق بين الفاسدة والباطلة، وهما في العقود عندنا سواء إلا في مسائل
قليلة استثنيت، منها هذه، ومنها الحج، ومنها العارية، ومنها الخلع. (و) الفاسدة كالصحيحة أيضا (في أخذ أرش الجناية
عليه ومهر شبهة) في الأمة المكاتبة، لأنهما في معنى الاكتساب.
تنبيه: الشبهة مثال فالواجب بعقد من مسمى صحيح أو مهر مثل بسبب تسمية فاسدة كذلك كما قاله البلقيني.
(وفي أنه يعتق بالأداء) لسيده عند المحل لوجود الصفة، لأن مقصود الكتابة العتق، وهو لا يبطل في التعليق بفاسد، وبهذا
خالفت البيع وغيره من العقود. (و) في أنه (يتبعه) إذا عتق (كسبه) الحاصل بعد التعليق، لأنها جعلت كالصحيحة
في العتق فكذا في الكسب.
تنبيه: ولد المكاتب من جاريته ككسبه، لكن لا يجوز بيعه، لأنه يتكاتب عليه، فإذا عتق تبعه وعتق عليه.
ويتبع المكاتبة كتابة فاسدة ولدها على المذهب كالكسب. وقضية كلام المصنف أن الفاسدة كالصحيحة فيما ذكره فقط،
وليس مرادا، بل هي كالصحيحة أيضا في أن نفقته تسقط عن السيد إذا استقل بالكسب بخلاف الفطرة كما سيأتي.
(و) الكتابة الفاسدة (كالتعليق) بصفة (في حكمه، وهو أنه) أي المكاتب فيها (لا يعتق بإبراء) عن النجوم
لعدم
حصول الصفة. وفارق ذلك الكتابة بالصحيحة، لأن المغلب على عقدها المعاوضة، وحكم الاستيفاء والابراء في
المعاوضات واحد.
تنبيه: لا يختص ذلك بالابراء، بل لو أدى الغير عنه تبرعا أو عجل المكاتب النجوم كان الحكم كذلك لما مر.
(و) في أن الكتابة (تبطل بموت سيده) قبل الأداء لعدم حصول المعلق عليه فلا يعتق بالأداء إلى الوارث. وإنما بطلت الفاسدة
بموت السيد لأنها جائزة من الجانبين بخلاف الصحيحة، نعم إن قال: إن أديت إلي أو إلى وارثي بعد موتي كذا فأنت
حر فإنها حينئذ لا تبطل بموت السيد بل يعتق بالأداء إلى الوارث كما جزم به في أصل الروضة.
تنبيه: إنما ذكر المصنف حكم موت السيد دون العبد لأن الفاسدة توافق الصحيحة حيث تنفسخ الكتابة بموته
فيهما، لأن مورد العقد الرقبة وقد فاتت. (و) في أنه (تصح الوصية برقبته) وإن ظن السيد صحة كتابته، كما لو باع ملكه
ظانا أنه لغيره بخلاف الصحيحة، فإنه إذا أوصى برقبته لم تصح. نعم إن علق الوصية على عجزه صحت في الأصح.
(و) في أنه (لا يصرف إليه من سهم المكاتبين) لأنها غير لازمة، والقبص فيها غير موثوق به.
تنبيه: لا تنحصر المخالفة فيما ذكره بل تخالف الفاسدة الصحيحة في أشياء غير ذلك: منها صحة إعتاقه في
الكفارة. ومنها عدم وجوب الأرش على سيده إذا جنى عليه. ومنها أن للسيد منع الزوج من تسليمها نهارا كالقنة.
ومنها أن له منعه من صوم الكفارة إذا حلف بغير إذنه وكان يضعفه الصوم. ومنها أنه لا تنقطع زكاة التجارة فيه
فيخرج عنه زكاتها، لتمكنه من التصرف فيه. ومنها أن له منعه من الاحرام وتحليله إذا أحرم بغير إذنه، وله أن
يتحلل. ومنها جواز وطئ الأمة. ومنها أن لا يوكل السيد من يقبض النجوم ولا العبد من يؤديها عنه، رعاية للتعليق
533

بقوله: فإذا أديت إلي. ومنها أنه لا يعامل سيده كما قاله البغوي. ومنها عدم وجوب الابراء إذا عادت إليه. ومنها
عدم وجوب الايتاء. ومنها ما إذا كاتب عبدا وهبه له أصله كتابة فاسدة بعد قبضه بإذنه كان للأصل الرجوع ويكون
فسخا. ومنها الكتابة الفاسدة الصادرة في المرض ليست من الثلث لاخذ السيد القيمة عن رقبته، بل هي من رأس
المال. ومنها ما إذا زوجها بعبده لم يجب المهر. ومنها أن لا يجب لها مهر بوطئ سيدها لها. ومنها وجوب الفطرة.
ومنها تمليكه للغير فإن الصحيحة تخالف الفاسدة في ذلك كله. وقد أوصل الولي العراقي في نكته الصور المخالفة إلى
نحو ستين صورة، وما ذكر منها فيه كفاية لأولي الألباب، ومن أراد الزيادة على ذلك فليراجع النكت. (و) الفاسدة
(تخالفهما) أي الصحيحة والتعليق معا، (في أن للسيد فسخها) بالفعل كالبيع، وبالقول كأبطلت كتابته إن لم يسلم
له للعوض كما سيأتي، وله فعل ذلك بالقاضي وبنفسه دفعا للضرر. ولو أدى المكاتب المسمى بعد فسخها لم
يعتق،
لأنه وإن كان تعليقا فهو في ضمن معاوضة، فإذا ارتفعت المعاوضة ارتفع ما تضمنته من التعليق، ولا يبطلها القاضي بغير
إذن السيد.
تنبيه: كان الأولى للمصنف أن يعبر بالابطال كما عبر به الشافعي رضي الله تعالى عنه كما نقله عنه البلقيني، لأن
الفسخ إنما يكون في العقد الصحيح، ففي التعبير بالفسخ عن الابطال تجوز. وإنما قيد الفسخ بالسيد لأنه هو الذي
خالفت فيه الفاسدة كلا من الصحيحة والتعليق، بخلافه من العبد فإنه يطرد في الصحيحة أيضا على اضطراب وقع للرافعي
ولا يأتي في التعليق وإن كان فسخ السيد كذلك وعتق السيد له، لأن الكتابة فسخ فلا تستتبع كسبا ولا ولدا. (و) في
(أنه) أي السيد (لا يملك ما يأخذه) من المكاتب لفساد العقد، (بل يرجع المكاتب به) إن بقي، وببدله من مثل أو قيمة (إن)
تلف، و (كان متقوما) والمراد بالمتقوم ما له قيمة كما عبر به في المحرر، لا قسيم المثلي، واحترز بذلك عما لا قيمة له كالخمر فإن العتيق
لا يرجع على السيد بشئ إلا إن كان محترما كجلد ميتة لم يدبغ وكان باقيا فإنه يرجع به، فإن كان تالفا فلا رجوع له بشئ.
(وهو) أي السيد يرجع (عليه) أي المكاتب (بقيمته) لأن فيها معنى المعاوضة وقد تلف المعقود عليه بالعتق فهو كما لو تلف
المبيع بيعا فاسدا في يد المشتري، فيرجع على البائع بما أدى ويرجع البائع عليه بالقيمة، وتعتبر قيمته (يوم
العتق) لأنه يوم التلف. ولو كاتب كافر أصلي كافرا كذلك على فاسد مقصود كخمر وقبض في الكفر فلا تراجع. ولو أسلما وترافعا
إلينا قبل القبض أبطلناها ولا أثر للقبض بعد ذلك، أو بعد قبض البعض فكذلك. فلو قبض الباقي قبل الاسلام
وقبل إبطالها عتق ورجع السيد عليه بقيمته، أو قبض الجميع بعد الاسلام ثم ترافعا إلينا فكذلك، ولا رجوع له على
السيد بشئ للخمر ونحوه. أما المرتدان فكالمسلمين. (فإن) تلف ما أخذه السيد من الرقيق وأراد كل الرجوع على
الآخر و (تجانسا) أي واجبا السيد والعبد بأن كان ما دفعه المكاتب للسيد من جنس الواجب له على
سيده، وعلى صفته، (فأقوال التقاص) الآتية على الأثر في زيادة الكتاب. (ويرجع) منهما (صاحب الفضل) أي الذي دينه
زائد على دين الآخر (به) أي الفاضل. ولما سكت المحرر عن الأصح من هذه الأقوال بينه المصنف بقوله: (قلت)
أخذا من الرافعي في الشرح: (أصح أقوال التقاص سقوط أحد الدينين بالآخر) من الجانبين مع التساوي فيما مر
(بلا رضى) لأن مطالبة أحدهما بالآخر بمثل ما له عليه عناد لا فائدة فيه. (والثاني) من أقوال التقاص: سقوطه
(رضاهما) لأنه إبدال ما في ذمة بذمة، فأشبه الحوالة لا بد فيها من رضا المحيل والمحتال. (والثالث): سقوطه (برضا
أحدهما) لأن للمديون أن يقضي من حيث شاء، فإن رضي أحدهما فقد وجد القضاء منه. (والرابع: لا يسقط
) وإن
534

رضيا (والله أعلم) لأنه بيع دين بدين، وهو منهي عنه. ورد بأن النهي إنما هو في بيع الدين لغير من هو عليه، وهذا
ليس كذلك مع أن بيع الدين لغير من هو عليه صحيح كما مر عن الروضة.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف إجراء التقاص في النقدين وغيرهما من المثليات، ولكن المذهب في أصل الروضة
أن المثليات غير النقدين كالطعام والحبوب لا يقع التقاص فيها، وعلله الشيخ أبو حامد بأن ما عدا الأثمان تطلب فيه
المعاينة اه‍. والوجه كما قال شيخنا تقيده في غيرهما من سائر المثليات بما إذا لم يحصل به عتق، ففي الام لو أحرق السيد
لمكاتبه مائة صاع حنطة مثل حنطته والحنطة على المكاتب حالة كان تقاصا وإن كره سيده. وظاهر كلام
المصنف إجراء التقاص سواء اتفق الدينان حلولا وأجلا أم لا، ولكن الذي رجحه في أصل الروضة أنهما لو تراضيا
بجعل الحال تقاصا عن المؤجل لم يجزه كما في الحوالة، والوجه تقييده كما قال شيخنا بما إذا لم يحصل به عتق، ففي الام:
لو جنى السيد على مكاتبه وجب مثل النجوم وكانت مؤجلة ولم يكن تقاصا إلا إن شاء المكاتب دون سيده اه‍. وإذا
جاز ذلك برضا المكاتب وحده فبرضاه مع السيد أولى. ولو كانا مؤجلين بأجل واحد فوجهان، أرجحهما عند
الإمام التقاص، وعند البغوي المنع، وهو المعتمد كما اقتضاه كلام الشرح الصغير، وجزم به القاضي لانتفاء المطالبة،
ولان أجل أحدهما قد يحل بموته قبل الآخر، فلا يجوز ذلك إلا بالتراضي. وهذا خاص بغير ما يؤدي إلى العتق،
أما ما يؤدي إليه فيصح كما يؤخذ مما مر. والحاصل أن التقلص إنما يكون في النقدين فقط، بشرط أن يتحدا جنسا وصفة
من صحة وتكسر وحلول وأجل، إلا إذا كان يؤدي إلى العتق. ويشترط أيضا كما قال الأسنوي أن يكون الدينان
مستقرين، فإن كان سلمين فلا تقاص وإن تراضيا لامتناع الاعتياض عنهما، قاله القاضي والماوردي، ونص
عليه الشافعي. وإذا منعنا التقاص في الدينين وهما نقدان من جنسين كدراهم ودنانير فالطريق في وصول كل
منهما إلى حقه من غير أخذ من الجانبين أن يأخذا أحدهما ما على الآخر، ثم يجعل المأخوذ إن شاء عوضا عما عليه ويرده
إليه، لأن دفع العوض عن الدراهم والدنانير جائز، ولا حاجة حينئذ إلى قبض العوض الآخر. أو هما عرضان
من جنسين فليقبض كل منهما ما على الآخر، فإن قبض واحد منهما لم يجز رده عوضا عن الآخر، لأنه بيع عوض
قبل القبض، وهو ممتنع إلا إن استحق ذلك العوض بقرض أو إتلاف. وإن كان أحدهما عرضا والآخر نقدا وقبض
العوض مستحقه جاز له رده عوضا عن النقد المستحق عليه إن لم يكن دين سلم، لا إن قبض النقد مستحقه، فلا يجوز
له رده عوضا عن العوض المستحق عليه إلا إن استحق العوض في قرض ونحوه من الاتلاف، أو كان ثمنا. وإذا امتنع
كل من المتداينين من البداءة بالتسليم لما عليه حبسا حتى يسلما. قال الأذرعي: وقضيته أن السيد
والمكاتب يحبسان إذا امتنعا من التسليم، وهو متأيد بقولهم: إن الكتابة جائزة من جهة العبد، وله ترك الأداء
وإن قدر عليه. وأجيب بأنه إنما يتأيد بما ذكر لو لم يمتنعا من تعجيز المكاتب، أما لو امتنعا منه مع امتناعهما مما مر
فلا، وعليه يحمل كلامهم. (فإن فسخها) أي الفاسدة (السيد فليشهد) بالفسخ احتياطا لا وجوبا كما قاله الماوردي
خوف التجاحد والنزاع.
تنبيه: تخصيص السيد بذلك يفهم أن ذلك لا يجزئ في فسخ المكاتب، وليس مرادا، بل هو كالسيد
في ذلك كما قاله الزركشي. (فلو أدى) العبد فيها (المال، فقال السيد) بعد ذلك: (كنت فسخت) الكتابة قبل
أن يؤدي، (فأنكره) أي أنكر العبد أصل الفسخ أو كونه قبل الأداء، (صدق العبد) المنكر (بيمينه) لأن الأصل
عدم الفسخ، وعلى السيد البينة. (والأصح بطلان) الكتابة (الفاسدة بجنون السيد وإغمائه، والحجر عليه) بسفه.
أما الفلس فلا تبطل به الفاسد، بل تباع في الدين، فإذا بيع بطلت. و (لا) تبطل بجنون (العبد) وإغمائه لأن
الحظ في الكتابة له لا للسيد ولأنها تبرع فيؤثر فيه اختلاف عقل السيد دون عقل العبد. والثاني: بطلانها بجنونهما
535

وغمائهما لجوازها من الطرفين كالوكالة. والثالث: لا فيهما، لأن المغلب فيها التعليق، وهو لا يبطل بالجنون.
تنبيه: لفظ الاغماء من زيادته على المحرر، ولو اقتصر عليه لفهم الجنون من باب أولى. (ولو ادعى) العبد
(كتابة فأنكره سيده أو وارثه صدقا) باليمين، لأن الأصل عدمهما. (ويحلف الوارث على نفي العلم) والسيد على البت
جريا على القاعدة فيهما.
تنبيه: كان الأولى أن يقول: صدق المنكر، لأن العطف ب‍ أو يقتضي إفراد الضمير. أما عكس مسألة المتن بأن
ادعاها السيد وأنكرها العبد فإنه يصير قنا ويجعل إنكاره تعجيزا منه لنفسه، فإن قال السيد: كاتبتك وأديت المال وعتقت
عتق بإقراره. (ولو اختلفا) أي السيد والمكاتب (في قدر النجوم) أي في مقدار ما يؤدى في كل نجم، أو
في عدد النجوم أو جنسها (أو صفتها) ولا بينة أو لكل بينة، (تحالفا) على ما مر في تحالف المتبايعين. فإن اختلفا في قدر النجوم بمضي
الأوقات فالحكم كذلك، إلا إن كان قول أحدهما مقتضيا للفساد كأن قال السيد: كاتبتك على نجم، فقال: بل على
نجمين فيصدق مدعي الصحة وهو المكاتب في هذا المثال كما أشار إليه المصنف وغيره فيه. (ثم) بعد التحالف (إن لم
يكن قبض ما يدعيه) السيد (لم تنفسخ الكتابة في الأصح) قياسا على البيع، (بل إن لم يتفقا) على شئ (فسخ القاضي)
الكتابة. والثاني: ينفسخ، لأن العقد انتهى إلى التنازع فكأنه لم يكن.
تنبيه: ظاهر كلامه تعين القاضي للفسخ، وبه جزم في الروضة وأصلها هنا تبعا لجمع، لكنهما حكيا في نظيره من
التحالف في البيع التخيير بين القاضي أو المتبايعين أو أحدهما، وهو مما مال إليه هنا الأسنوي وغيره، وهو الظاهر، وإن
فرق الزركشي بأن الفسخ هنا غير منصوص عليه بل مجتهد فيه فأشبه العنه، بخلافه ثم. (وإن كان) السيد (قبضه) أي
ما ادعاه بتمامه، (وقال المكاتب: بعض المقبوض) وهو الزائد على ما اعترف به في العقد (وديعة) لي
عندك ولم أدفعه عن
جهة الكتابة، (عتق) لاتفاقهما على وقوع العتق على التقديرين، (ورجع هو) أي المكاتب (بما أدى) جميعه، (و) رجع
(السيد بقيمته) أي العبد لأنه لا يمكن رد العتق. (وقد يتقاصان) بأن يؤدي الحال إلى ذلك بتلف المؤدى، وتوجد شروط
التقاص السابقة. (ولو قال) السيد: (كاتبتك وأنا مجنون أو محجور علي) بسفه أو فلس، (فأنكر العبد) وقال: بل كنت
كاملا، (صدق السيد) بيمينه كما في المحرر (إن عرف سبق ما ادعاه) لقوة جانبه بذلك وضعف جانب العبد. فإن قيل:
قد ذكروا في النكاح أنه لو زوج بنته، ثم قال: كنت محجورا علي أو مجنونا يوم زوجتها لم يصدق وإن عهد له ذلك،
فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن الحق ثم تعلق بثالث بخلافه هنا.
تنبيه: صورة المسألة إذا كان حجر السفه طارئا، أما إذا كان مقارنا للبلوغ فلم يحتج لقوله: إن عرف سبق
ما ادعاه. (وإلا) بأن لم يعرف سبقه (فالعبد) المصدق بيمينه لضعف جانب السيد حينئذ، والأصل عدم ما ادعاه السيد
ولا قرينة. (ولو قال السيد): كنت (وضعت عنك النجم الأول، أو قال): وضعت (البعض) من النجوم، (فقال)
المكاتب: (بل) النجم (الآخر) وضعته عني، (أو الكل) أي كل النجوم، (صدق السيد) بيمينه لأنه أعرف
بإرادته وفعله.
536

تنبيه: إنما تظهر فائدة اختلافهما هنا إذا كان النجمان مختلفين، فإن تساويا فلا فائدة ترجع إلى التقدم والتأخر،
وقد نبه على ذلك أبو علي الفارقي. (ولو مات) شخص (عن ابنين وعبد فقال) العبد لهما (كاتبني أبوكما، فإن أنكرا
صدقا) بيمينهما على عدم العلم بكتابة الأب لأن الأصل معهما.
تنبيه: هذه المسألة تقدمت في قول المصنف: ولو ادعى كتابة فأنكر السيد أو وارثه، ولكن أعادها مبتدئا
للتقسيم في قوله: (وإن صدقاه) وهما أهل للتصديق، أو نكلا وحلف العبد اليمين المردودة، أو قامت بكتابة بينة،
(فمكاتب) عملا بقولهما أو بيمينه المردودة أو بينته. وإذا أراد إقامة بينة احتاج إلى شهادة عدلين، لأن مقصود الكتابة
العتق دون المال. ولو حلف أحدهما ونكل الآخر ثبت الرق في نصيب الحالف، وتردد اليمين في نصيب الناكل. (فإن
أعتق أحدهما نصيبه) منه بعد ثبوت كتابته بطريق مما مر أو أبرأه عن نصيبه من النجوم، (فالأصح لا يعتق) نصيبه لعدم
تمام ملكه، (بل يوقف) العتق فيه. (فإن أدى) المكاتب (نصيب) الابن (الآخر عتق كله، وولاؤه للأب) لأنه عتق بحكم
كتابته، ثم ينتقل إليهما بالعصوبة. ثم فرع على الوقف قوله: (وإن عجز) المكاتب عن أداء نصيب الابن الآخر، (قوم)
الباقي (على المعتق إن كان موسرا) وقت التعجز وعتق كله وولاؤه له، وبطلت كتابة الأب. (وإلا) بأن كان ابن المعتق
لنصيبه معسرا (فنصيبه) الذي أعتقه من المكاتب (حر والباقي منه قن للآخر)
(تنبيه) أشار بقوله: على المعتق إلى أنه إذا كان أبرأه عن شئ من النجوم ولم يعتق منه شئ بالعجز، لأن الكتابة
تبطل بالعجز، والعتق في غير الكتابة لا يحصل بالابراء. (قلت) أخذا من كلام الرافعي في الشرح: (بل الأظهر) ومقتضى
مما في الروضة أن يقول بل المذهب، (العتق) في نصيبه في الحال أبرأ أو أعتق (والله أعلم) ثم إن عتق نصيب الآخر بأداء
أو إعتاق أو إبراء فالولاء للأب، ثم ينتقل بالعصوبة إليهما بالمعنى السابق في أواخر كتاب العتق، وإن عجز فعجزه
الآخر عاد نصيبه قنا.
تنبيه: سكت المصنف عن السراية على هذا القول، والأظهر في الروضة لا سراية على المعتق وإن كان موسرا،
لأن الكتابة السابقة تقتضي حصول العتق لهما والميت لا سراية عليه كما مر، والابن كالتائب عنه. ووقع في تصحيح
التنبيه ترجيح السراية واعترض. ثم ذكر قسيم قوله: وإن صدقاه بقوله: (وإن صدقه أحدهما) أي الابنين، (فنصيبه)
وحده (مكاتب) مؤاخذة له بإقراره، واغتفر التبعيض للضرورة. (ونصيب المكذب قن) إذا حلف على نفي العلم بكتابة
أبيه استصحابا لأصل الرق، ويكون نصف الكسب له، ونصفه للمكاتب يصرفه إلى جهة النجوم. (فإن أعتقه المصدق)
أي أعتق نصيبه (فالمذهب) أنه يسري العتق عليه إلى نصيب المكذب، و (يقوم عليه إن كان موسرا) لأن منكر الكتابة
يقول إنه رقيق. فإذا أعتق أحدهما نصيبه ثبتت السراية بقوله. وخرج ب‍ أعتقه ما لو أبرأه عن نصيبه من النجوم أو
قبضه فإنه لا يسري، وفي قول: لا سراية، فلا يقوم عليه.
خاتمة: لو أوصى السيد للفقراء أو المساكين أو لقضاء دينه منها تعينت له، كما لو أوصى بها لانسان ويسلمها المكاتب
إلى الموصى بتفريقها أو بقضاء دينه منها، فإن لم يكن سلمها للقاضي. ولو مات السيد المكاتب ممن يعتق على الوارث
عتق عليه. ولو ورث رجل زوجته المكاتبة أو ورثت امرأة زوجها المكاتب انفسخ النكاح، لأن كلا منهما ملك
537

زوجه أو بعضه. ولو اشترى المكاتب زوجته أو بالعكس وانقضت مدة الخيار أو كان الخيار للمشتري انفسخ النكاح،
لأن كلا منهما ملك زوجه.
كتاب أمهات الأولاد
ختم المصنف رحمه الله تعالى كتابه بأبواب العتق رجاء أن الله تعالى يعتقه وقارئه وشارحه من النار، فنسأل الله تعالى
من فضله وكرمه أن يجيرنا ووالدينا ومشايخنا وأصحابنا وجميع أهلينا ومحبينا منها وآخر هذا الباب لأنه عتق قهري
مشوب بقضاء أو طار، ولذلك توقف الشيخ عز الدين في كون الاستيلاد قربة أو لا، والأولى أن يجئ فيه
التفصيل
السابق في النكاح، وهو إن قصد به مجرد الاستمتاع فلا يكون قربة أو حصول ولد ونحوه فيكون قربة. وأمهات
بضم الهمزة وكسرها مع فتح الميم وكسرها جمع أم، وأصلها أمهة بدليل جمعها على ذلك. قاله الجوهري: قال
شيخنا: ومن نقل عنه أنه قال جمع أمهة أصل أم فقد تسمح اه‍. وأشار بذلك إلى الشارح فإنه نقل ذلك عنه، ويمكن
أن نسخ الجوهري مختلفة. واختلف النحاة في أن الهاء في أمهات زائدة أو أصلية على قولين، فمذهب سيبويه أنها زائدة
لأن الواحد أم، ولقولهم الأمومة. وقيل أصلية لقولهم تأمهت. فإذا قلنا بالزيادة، فهل هذا الجمع جمع مزيد فيه
بالإضافة أو جمع مزيد فيه بعدمها؟ اختلف فيه على قولين، أحدهما أن الهاء زيدت في المفرد أو لا، فقيل أمهة، ثم
جمعت على أمهات، لأن الجمع تابع للمفرد. والثاني: أن المفرد جمع على أمات، ثم زيدت فيه الهاء. وهذا أصح على
قول الجوهري. وقال بعضهم: الأمهات للناس والامات للبهائم. وقال غيره: يقال فيها أمهات وأمات، لكن الأول
أكثر في الناس، أنشد الزمخشري في تفسير قوله تعالى: * (وعلى المولود له رزقهن) * للمأمون ابن الرشيد:
وإنما أمهات الناس أوعية مستودعات وللآباء أبناء
والثاني أكثر في غيره، ويمكن رد الأول إلى هذا. قال ابن شهبة: وهذا الجمع مخالف للقياس، لأن أم من
الأجناس المؤنثة بغير علامة، لكن جمعوه كما جمعوا سماء على سماوات. والأصل في الباب خبر: أيما أمة ولدت من
سيدها فهي حرة عن دبر منه رواه ابن ماجة والحاكم وصحح إسناده. وخبر الصحيحين عن أبي موسى: قلنا
يا رسول الله إنا نأتي السبايا ونحب أثمانهن فما ترى في العزل؟ فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا، ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة
إلا وهي كائنة. ففي قولهم: ونحب أثمانهن دليل على أن بيعهن بالاستيلاد ممتنع. وخبرهما: إن من أشراط الساعة أن تلد
الأمة ربتها وفي رواية ربها أي سيدها، فأقام الولد مقام أبيه وأبوه حر فكذا هو. واستشهد له البيهقي بقول عائشة
رضي الله عنها: لم يترك رسول الله (ص) دينارا ولا درهما ولا عبدا ولا أمة، قال: فيه دلالة على أنه لم يترك
أم إبراهيم رقيقة وأنها عتقت بموته. فإن قيل: تتوقف دلالة ذلك على أمرين، أحدهما: ثبوت حياتها بعده
(ص)، ثانيهما: كونه لم ينجز عتقها قبل موته (ص). أجيب باستمرار الأصل. (إذا أحبل)
رجل حر مسلم أو كافر أصلي (أمته) أي بأن علقت منه ولو سفيها أو مجنونا أو مكرها، أو أحبلها الكافر حال إسلامه قبل
بيعها عليه بوطئ مباح أو محرم كأن تكون حائضا أو محرما له كأخته أو زوجة باستدخالها ذكره ولو كان نائما، أو ماءه
المحترم في حال حياته، (فولدت) ولدا (حيا أو ميتا أو ما تجب فيه غرة) كمضغة ظهر فيها صورة آدمي وإن لم تظهر إلا
لأهل الخبرة ولو من غير النساء. وجواب إذا قوله: (عتقت) من رأس المال كما سيأتي، (بموت السيد) لما
مر
من الأدلة، ولما روى البيهقي عن ابن عمر أنه قال: أم الولد أعتقها ولدها أي ثبت لها حق الحرية ولو كان
سقطا. وخرج بقولنا: حر المكاتب، فإنه لو أحبل أمته ثم مات رقيقا قبل العجز أو بعده أو حرا لم تعتق بموته
538

على الأصح. وأما أمة المبعض فهل تصير أم ولد باستيلاده لها أو لا؟ حكى البلقيني في تصحيح المنهاج في مصيرها أم ولد
قولين، وأيد كونها تصير أم ولد بأن في أصل الروضة أنه لا يثبت الاستيلاد للأب المبعض بالولد المنعقد منه في أمة
فرعها، ثم فرق بينهما بأن الأصل المبعض لا تثبت له شبهة الاعفاف بالنسبة إلى ما بعضه الرقيق، ولا كذلك في المبعض
في الأمة التي استقل بملكها. ثم قال: والأصح عندنا أنه يثبت الاستيلاد في أمة المبعض التي ملكها بكسب الحرية،
وبه جزم الماوردي اه‍. وهذا هو المعتمد، وإن جرى شيخنا في شرح الروض في النكاح على التسوية بينهما في عدم
النفوذ، وأحال عليه هنا، فإنه قال هناك: لا يثبت الاستيلاد بإيلادهما، أي المكاتب والمبعض أمتهما، فإيلاد أمة ولدهما
بالأولى. ونقل ابن شهبة نفوذ استيلاده عن النص. وبقولنا: كافر أصلي المرتد، فإن إيلاده موقوف إن أسلم تبين نفوذه
وإلا فلا. وبقول المصنف: أمته أمة غيره، وستأتي. ويدخل في عبارته الأمة التي اشتراها بشرط العتق، فإنه إذا
استولدها ومات قبل أن يعتقها فإنها تعتق بموته، ولا ينافي ذلك قولهم: إن الاستيلاد لا يجزأ لأنه ليس بإعتاقها، إذ
معناه أنه لا يسقط عنه طلب العتق بذلك، لا أنها لا تعتق بموته كما قد يتوهم. وقد توهم عبارته أنه لو أحبل الجارية التي
يملك بعضها أنها لا تعتق بموته، بل يعتق نصيبه فقط، وليس مرادا، بل يثبت الاستيلاد في الكل إذا كان موسر كما مر
في العتق حيث قال: واستيلاد أحد الشريكين الموسر يسري، وقال في التنبيه: إذا وطئ جاريته أو جارية يملك بعضها
فأولدها فالولد حر والجارية أم ولد، وهو صريح في أن الحرية لا تتبعض في الولد لأنه وطئ بشبهة بسبب الملك فانعقد
حرا لوطئ أخته المملوكة له. وهذا هو المحكى عن العراقيين، وحكى الرافعي في آخر السير تصحيحه عن القاضي
أبي الطيب والماوردي وغيرهما، وصححه في الشرح الصغير وأصل الروضة. وقيل: تتبعض في الولد، وصححه في أصل
الروضة في أواخر الكتاب، وصححه الرافعي في الكلام على دية الجنين. وخرج بقولنا: ولو سفيها المحجور عليه بالفلس،
فإن المتأخرين اختلفوا في نفوذ إيلاده، فرجع نفوذه ابن الرفعة وتبعه البلقيني، ورجح السبكي خلافه وتبعه الأذرعي
والزركشي ثم قال: لكن سبق عن الحاوي والغزالي النفوذ اه‍. وكونه كاستيلاد الراهن المعسر أشبه من كونه كالمريض
، فإن من يقول بالنفوذ شبهه بالمريض، ومن يقول بعدمه يشبه بالراهن المعسر. وبقولنا: أو ماءه المحترم ما إذا كان غير
محترم فلا يثبت به ذلك. وبقولنا: في حال حياته ما إذا استدخلت منيه المنفصل في حال حياته بعد موته فلا يثبت به
أمية الولد لأنها بالموت انتقلت إلى ملك الوارث. وهل يثبت بذلك نسبه أو لا؟ ينبني على تعريف المحترم، فالذي عليه
الأكثر أن يكون محترما حال الاخراج والاستدخال. وجرى غيرهم على أن العبرة بحال الاخراج فقط وهو الظاهر،
وعلى هذا يثبت نسبه إن كان كذلك. وحكى الماوردي عن الأصحاب أن شرط وجوب العدة باستدخال المني أن
يوجد الانزال والاستدخال معا في الزوجية، فلو أنزل ثم تزوجها فاستدخلنه أو أنزل وهي زوجته ثم أبانها واستدخلته
لم تجب العدة ولم يلحقه الولد اه‍. وقياسه على هذا في السيد أن يكون الانزال والاستدخال معا في حال السيدية وإلا
فما الفرق؟ وحيث ثبت النسب ثبت الإرث. وهل ينبغي إذا كانت المدخلة أمة فرعه أن يثبت الاستيلاد كما لو أحبل
الأصل أمة فرعه؟ الأوجه عدم الثبوت إذ لا شبهة ملك حينئذ. وبقوله: فولدت حيا أو ميتا ما لو انفصل بعضه كأن
أخرج رأسه أو وضعت عضوا وباقيه محتسب ثم مات السيد فلا تعتق وإن خالف في ذلك الدارمي، فقد قالوا إنه
لا أثر لخروج بعض الولد متصلا كان أو منفصلا في انقضاء عدة ولا في غيرها من سائر أحكام الجنين لعدم تمام انفصاله
لا في وجوب الغرة بظهور شئ منه، ولا في وجوب القود إذا حز جان رقبته وهو حي ولا في وجوب الدية بالجناية
على أمه إذا مات بعد حياته. والاستثناء معيار العموم، لكن يثبت لها أمية الولد. وبقوله: أو ما يجب فيه غرة ما إذا
وضعت مضغة ليس فيها تخطيط جلي ولا خفي، فلا يثبت أمية الولد بذلك، ولو شهد أهل الخبرة أنه مبتدأ خلق آدمي،
ولو بقي لتخطيط، إذ لا تجب فيه الغرة على المنصوص بخلاف العدة فإنها تنقضي به، وهذه تسمى مسألة النصوص وقد
مر الكلام عليها في كتاب العدد. ولو اختلف أهل الخبرة هل فيها خلق آدمي أو لا فقال بعضهم فيها ذلك ونفاه
بعضهم، فالذي يظهر أن المثبت مقدم لأن معه زيادة علم. ودخل في قوله: بموته ما إذا قتلته، وبه صرح الرافعي في
أوائل الوصية كحلول الدين المؤجل بقتل رب الدين للمدين. وهذا مستثنى من قولهم: من تعجل بشئ قبل أوانه عوقب
539

بحرمانه كقتل الوارث المورث، ويثبت عليها القصاص بشرطه. وأما الدية فيظهر وجوبها أيضا لأن تمام الفعل حصل
وهي حرة، ويؤخذ من ذلك أنها لو قتلت سيدها المبعض عمدا أنه يجب عليها القصاص لأنها حال الجناية رقيقة،
والقصاص يعتبر حال الجناية، والدية بالزهوق.
تنبيه: قد علم مما تقرر ما في كلام المصنف من الاجحاف، وأنه لو عبر بحبلت كان أولى. ويستثنى من عتقها
بموت السيد مسائل: منها ما إذا تعلق بها حق الغير من رهن أو أرش جناية ثم استولدها وهو معسر ثم مات مفلسا
فإنها لا تعتق بموته، وقد ذكر المصنف حكم ذلك في محله، لكن الاستثناء من إطلاقه هنا. ولو رهن جارية ثم مات
عن أب فاستولدها الأب، قال القفال: لا تصير أم ولد، أي إذا كان معسرا لأنه خليفته فنزل منزلته. ومنها جارية
التركة التي تعلق بها حق دين إذا استولدها الوارث لم ينفذ استيلاده إذا كان معسرا. ومنها الجارية التي نذر مالكها
التصدق بها أو بثمنها لا ينفذ استيلاده لها لسبق حق النذر، ذكره البلقينيي تخريجا مما إذا نذر قبل الحول التصدق بالنصاب
أو ببعضه ومضى الحول قبل التصدق به، وفيه طريقان أحدهما القطع بعدم وجوب الزكاة والثاني تخريجه على
الخلاف في أن الدين هل يمنع وجوب الزكاة اه‍. قال ابن شهبة: واستثناء هذه الصورة من كلام المصنف عجيب وتخريجها
مما ذكر أعجب، فإن الجارية في الصورة المذكورة خرجت عن ملكه بمجرد النذر كما هو مذكور في باب الأضحية،
وعبارة الروضة: أو نذر أن يتصدق بمال فعينه زال ملكه عنه، وهذا ظاهر فيما إذا نذر أن يتصدق بها، وأما إذا
نذر أن يتصدق بثمنها فإنها لم تخرج عن ملكه لكن يلزمه بيعها والتصدق بثمنها ولا ينفذ استيلاده فيها. ومنها ما إذا
أوصى بعتق جارية تخرج من الثلث فالملك فيها للوارث، ومع ذلك لو استولدها قبل إعتاقها لم ينفذ لافضائه إلى إبطال
الوصية، قاله البلقيني أيضا، وقال: لم أر من تعرض لذلك، وقياسه كما قال بعض المتأخرين المشتراة بشرط العتق إذا
مات قبله فأولدها الوارث لم ينفذ والولد حر ولا يلزمه قيمته ولا مهرها منه. ومنها الصبي الذي استكمل تسع سنين
إذا وطئ أمته فولدت لأكثر من ستة أشهر لحقه ولد، قالوا: لكن لا يحكم ببلوغه وثبوت استيلاد أمته، فعلى كلامهم
تستثنى هذه الصورة، وعلى ما قلناه لا استثناء اه‍. والمعتمد الاستثناء. (أو) أحبل (أمة غيره) بزنا أو (بنكاح) لا غرور
فيه بحرية، (فالولد) الحاصل بذلك (رقيق) بالاجماع، لأنه يتبع الام في الرق والحرية. أما إذا غر بحرية أمة فنكحها
وأولدها فالولد حر كما ذكراه في باب الخيار والاعفاف. (ولا تصير أم ولد) لمن أحبلها (إذا ملكها) لانتفاء العلوق
بحر في ملكه، وكذا الحكم فيما لو ملكها وهي حامل من نكاحه، لكن يعتق عليه الولد ويثبت له الولاء عليه بخلاف
ولد المالك فإنه ينعقد حرا. وتظهر الفائدة في العقل، فإن المولي يعقل بخلاف الأب ولو نكح حر جارية أجنبي ثم ملكها
ابنه أو تزوج عبد جارية ابنه ثم عتق لم ينفسخ النكاح، لأن الأصل في النكاح الثابت الدوام، فلو استولدها الأب ولو
بعد عتقه في الثانية وملك ابنه لها في الأولى لم ينفذ استيلادها لأنه رضي برق ولده حين نكحها ولان النكاح حاصل محقق فيكون
واطئا بالنكاح لا بشبهة الملك بخلاف ما إذا لم يكن نكاح. وهذا ما جرى عليه الشيخان في باب النكاح، وهو المعتمد،
لأن المكاتب لو ملك زوجة سيده الأمة انفسخ نكاحه فإذا أحبلها السيد بعد ذلك صارت أم ولد كما يعلم مما سيأتي.
(أو) أحبل أمة غيره (بشبهة) منه كأن ظنها أمته أو زوجته الحرة كما قيده في المحرر، (فالولد حر) لظنه وعليه قيمته
لسيدها. أما إذا ظنها زوجته الأمة فالولد رقيق. ولو تزوج بحرة وأمة بشرطه فوطئ الأمة ظنها الحرة فالأشبه أن
الولد حر كما في أمة الغير يظنها زوجته الحرة.
تنبيه: أطلق المصنف الشبهة، ومقتضى تعليلهم شبهة الفاعل فتخرج شبهة الطريق، وهي الجهة التي أباح الوطئ
بها عالم فلا يكون الولد بها حرا، وكذا لو أكره على وطئ أمة الغير كما قاله الزركشي. وفي فتاوى البغوي: لو
استدخلت الأمة ذكر حر نائم فعلقت منه فالولد حر لأنه ليس بزنا من جهته ويجب قيمة الولد عليه ويحتمل
540

أن يرجع عليها بعد العتق كالمغرور. (ولا تصير أم ولد) لمن وطئها بشبهة (إذا ملكها في الأظهر) لأنها علقت به في غير
ملكه فأشبه ما لو علقت به في النكاح. والثاني: تصير، لأنها علقت منه بحر، والعلوق بالحر سبب للحرية بالموت.
تنبيه: محل الخلاف في الحر، أما إذا وطئ العبد جارية غيره بشبهة ثم عتق ثم ملكها فإنها لا تصير أم ولد جزما،
لأنه لم ينفصل من حر. ويستثنى من إطلاقه مسائل: منها ما لو أولد السيد أمة مكاتبه فإنه يثبت فيها الاستيلاد. ومنها
ما لو أولد الأب الحر أمة ابنه التي لم يستولدها فإنه يثبت فيها الاستيلاد وإن كان الأب معسرا أو كافرا، وإنما لم يختلف
الحكم باليسار والاعسار كما في الأمة المشتركة لأن الايلاد هنا إنما ثبت لحرمة الأبوة وشبهة الملك، وهذا المعنى لا يختلف
بذلك. ومنها ما لو أولد الشريك الأمة المشتركة إذا كان موسرا كما مر، فإن كان موسرا ثبت الاستيلاد في نصيبه خاصة،
وكذا الأمة المشتركة بين فرع الواطئ وأجنبي إذا كان الأصل موسرا. ولو أولد الأب الحر مكاتبة ولده هل ينفذ
استيلاده لأن الكتابة تقبل الفسخ أو لا لأن الكتابة لا تقبل النقل؟ وجهان: أوجههما كما جزم به القفال الأول.
ولو أولد أمة ولده المزوجة نفذ إيلاده كإيلاد السيد لها وحرمت على الزوج مدة الحمل.
فرع: جارية بيت المال كجارية الأجنبي فيحد واطؤها، وإن أولدها فلا نسب ولا استيلاد، وإن ملكها
بعد، سواء أكان فقيرا أم لا، لأن الاعفاف لا يجب من بيت المال. (وله) أي السيد (وطئ أم الولد) منه بالاجماع،
ولحديث: أمهات الأولاد لا يبعن ولا يوهبن ولا يورثن، يستمتع بها سيدها ما دام حيا فإذا مات فهي حرة
رواه الدارقطني والبيهقي، وقال ابن القطان: رواته كلهم ثقات. وليس له وطئ بنتها، وعلل ذلك لحرمتها بوطئ أمها.
وهو جرى على الغالب، فإن استدخاله المني الذي يثبت به الاستيلاد كذلك، فإنهم صرحوا في باب ما يحرم من النكاح
بثبوت المصاهرة بذلك. ولا وطئ أمة مكاتبة، فإن أحبلها صارت أم ولد كما مر ولزمه قيمتها ولا يحرم عليه وطؤها بعد
ذلك لأنه ملكها، قاله في البحر. فإن قيل: لم أفرد في الحديث ضمير الجمع في قوله: يستمتع بها ولم يقل بهن؟
أجيب بأن كلا منهما جائز، إلا أن الأكثر أن يعود للافراد على جمع الكثرة والجمع على جمع القلة، نبه على ذلك
الشيخ خالد في إعراب الألفية.
تنبيه: محل جواز الوطئ إذا لم يحصل هناك مانع منه، فمن المانع ما لو أحبل الكافر أمته المسلمة أو أسلمت
مستولدته فإنه لا يحل له وطؤها، وقيل: يجبر على إعتاقها في الحال، والأصح يحال بينه وبينها. ومنه المحرمة على المحبل
بنسب أو رضاع أو مصاهرة أو أحبلها فإنها تصير أم ولد كما مر، وليس له وطؤها. ومنه ما لو أولد مكاتبته فإنها تصير
أم ولدكما مر في باب الكتابة، ويمتنع عليه وطؤها. ومنه أمة المبعض إذا استولدها وقلنا بنفوذ استيلاده كما مر فإنه
لا يطؤها ولو بإذن مالكها، خلافا للبلقيني. ومنه لو استولد الحر موطوءة ابنه فإنه يمتنع عليه وطؤها. ومنه الجارية
المشتركة بينه وبين أجنبي إذا أحبلها الشريك المعسر أو المشتركة بين فرع الواطئ وأجنبي إذا كان الأصل موسرا كما
مر. ومنه الأمة التي لم ينفذ فيها الاستيلاد لرهن وضعي أو شرعي أو جناية فإنه يثبت الاستيلاد فيها بالنسبة للمستولد،
ولا يجوز له وطؤها.
فرع: لو شهد اثنان على إقرار سيد الأمة بإيلادها وحكم به ثم رجعا عن شهادتهما لم يغرما شيئا، لأن الملك باق
فيها ولا يفوتا إلا سلطنة البيع، ولا قيمة لها بانفرادها. وليس كإباق العبد من يد غاصبه، فإنه في غيره ضمان يد حتى
يعود إلى مستحقه، فإن مات السيد غرما للوارث، لأن هذه الشهادة لا تنحط عن الشهادة بتعليق العتق لو شهدا بتعليقه
فوجدت الصفة وحكم بعتقه ثم رجعا غرما. (و) له (استخدامها) وولدها (وإجارتها) وولدها، وإعارتهما بطريق
الأولى، (وأرش جناية عليها) وعلى ولدها التابع لها وقيمتهما إذا قتلا لبقاء ملكه عليهما. فإن قيل: قد صرح الأصحاب
بأنه لا يجوز إجارة الأضحية المعينة، كما لا يجوز بيعها إلحاقا للمنافع بالأعيان، فهلا كان هنا كذلك كما قال به الإمام
مالك أجيب بأن الأضحية خرج ملكه عنها بالكلية بخلاف المستولدة.
541

تنبيه: محل صحة إجارتها إذا كان من غيرها، أما إذا أجرها نفسها فإنه لا يصح، بخلاف بيعها من نفسها كما
سيأتي. ولو مات السيد بعد أن أجرها انفسخت الإجارة، فإن قيل: لو أعتق رقيقه المؤجر لم تنفسخ فيه الإجارة
فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن السيد في العبد لا يملك منفعة الإجارة، فإعتاقه ينزل على ما يملكه، وأم الولد
ملكت نفسها بموت سيدها فانفسخت الإجارة في المستقبل. ويؤخذ من هذا أنه لو أجرها ثم أحبلها ثم مات لا
تنفسخ
الإجارة، وهو كذلك. (وكذا) له (تزويجها بغير إذنها في الأصح) لبقاء ملكه عليها وعلى منافعها، فملك تزويجها
كالمدبرة. والثاني: لا يجوز إلا بإذنها، كالمكاتبة. والثالث: لا يجوز وإن أذنت لأنها ناقصة في نفسها وولاية السيد
ناقصة، فأشبهت الصغيرة لا يزوجها الأخ بإذنها. ولو عبر المصنف بالأظهر لكان أولى، فإن الخلاف أقوال كما ذكراه في الروضة
وأصلها. وله تزويج بنتها جبرا لما مر في أمها، ولا حاجة إلى استبرائها، بخلافه لفرشها، ولا يجبر ابنها على النكاح
، ولا له أن ينكح بلا إذن السيد، وبإذنه يجوز. وعلى الأول يستثنى الكافر فلا يزوج مستولدته المسلمة على الأصح.
وما استثناه البغوي من أن المبعض لا يزوج مستولدته ممنوع كما قاله البلقيني، لأن السيد يزوج أمته بالملك لا بالولاية.
(ويحرم) ويبطل (بيعها ورهنها وهبتها) لخبر الدارقطني السابق في الأولى والثالث، ولأنها لا تقبل النقل فيهما،
وقياسا للثاني عليهما، ولان فيه تسليطا على المبيع وقد قام الاجماع على عدم صحة بيعها. واشتهر عن علي رضي الله
عنه أنه خطب يوما على المنبر فقال في أثناء خطبته: اجتمع رأيي ورأي عمر على أن أمهات الأولاد لا يبعن، وأنا الآن
أرى بيعهن. فقال عبيدة السلماني: رأيك مع رأي عمر - وفي رواية: مع الجماعة - أحب إلينا من رأيك وحدك. فقال:
اقضوا فيه ما أنتم قاضون، فإني أكره أن أخالف الجماعة. فلو حكم حاكم بصحة بيعها نقض حكمه لمخالفته الاجماع.
وما كان في بيعها من خلاف بين القرن الأول فقد انقطع وصار مجمعا على منعه. وأما خبر أبي داود وغيره عن جابر:
كنا نبيع أمهات سرارينا أمهات الأولاد والنبي (ص) حي لا نرى بذلك بأسا الذي استدل به القديم
على جواز البيع، فأجيب عنه بجوابين: الأول أنه منسوخ، الثاني: أن هذا منسوب إلى النبي (ص) استدلالا
واجتهادا فيقدم عليه ما نسب فيه قولا ونصا وهو الحديث السابق عن الدارقطني. وقيل: إن النبي (ص)
لم يعلم بذلك كما قال ابن عمر: كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي (ص) نهى
عن المخابرة فتركناها.
فائدة: قد ناظر في هذه المسألة أبو بكر بن داود بن سريج، فقال أبو بكر: أجمعنا على أنها قبل أمية الولد كانت
تباع فيستصحب هذا الاجماع إلى أن يثبت ما يخالفه، فقال له ابن سريج: أجمعنا على أنها حين كانت حاملا بحر لا تباع
فيستصحب هذا الاجماع القريب إلى أن يثبت ما يخالفه، فأفحمه.
تنبيه: قد يقتضي كلام المصنف منع كتابته، لأن الكتابة اعتياض عن الرقبة، ونقله الروياني عن النص،
ولكن الأصح كما في الرافعي الجواز. وأشعر قرنه البيع بالهبة أنه حيث حرم بيعها حرم هبتها وعكسه، لكن استثنى منه
المرهونة والجانية فإنه يجوز بيعها ولا تجوز هبتها. ويستثنى من إطلاقه منع بيعها من نفسها بناء على أنه عقد
عتاقة، وهو
الأصح، وكبيعها في ذلك هبتها كما صرح به البلقيني بخلاف الوصية به لاحتياجها إلى القبول، وهو إنما يكون بعد الموت
وعتقها يقع عقبه. وليس له بيعها ممن تعتق عليه، ولا يشرط العتق ولا ممن أقر بحريتها، فإنا ولو قلنا هو من جهة المشترى
افتداء وبيع من جهة البائع يثبت له فيها الخيار ففيه نقل مالك كالصورتين الأولتين. ويؤخذ من البناء المار في بيعها من نفسها
أن محله إذا كان السيد حر الكل، أما إذا كان مبعضا فإنه لا يصح لأنه عقد عتاقة كما مر وهو ليس من أهل الولاء، وهذا مأخوذ
من كلامهم وإن لم أر من ذكره. والهبة كالبيع فيما ذكر. وهذا كله إذا لم يرتفع الايلاد، فإن ارتفع بأن كانت كافرة وليست
لمسلم وسبيت وصارت قنة فإنه يصح جميع التصرفات فيها، فلو عادت لملكها بعد ذلك لم يعد الاستيلاد، لأنا أبطلناه
بالكلية، بخلاف المستولدة المرهونة إذا بيعت ثم ملكها الراهن لأنا إنما أبطلنا الاستيلاد فيها بالنسبة إلى المرتهن
542

وقد زال تعلقه، وهذا هو الظاهر، وإن لم أر من تعرض له. (ولو ولدت من زوج) أو وطئ شبهة بأن ظن الواطئ فيه
أنها زوجته الأمة (أو زنا) بعد الاستيلاد، (فالولد للسيد يعتق بموته كهي) لأن الولد يتبع الام في الرق والحرية،
فكذا في سببها اللازم. ولا يتوقف عتقه على عتق الام، فلو ماتت قبل السيد بقي الاستيلاد فيه. وهذا أحد المواضع
التي يزول فيها حكم المتبوع ويبقى حكم التابع كما في نتاج الماشية في الزكاة، بخلاف المكاتبة إذا ماتت أو عجزت نفسها
تبطل الكتابة ويكون الولد رقيقا للسيد، لأنه يعتق بعتقها تبعا بلا أداء منه أو نحوه. وولد المستولدة إنما يعتق بما
تعتق هي به وهو موت السيد، ولهذا لو أعتق أم الولد أو المدبرة لم يعتق الولد كالعكس، بخلاف المكاتبة إذا أعتقها
يعتق ولدها. وولد الأضحية المنذورة والهدي له حكمها لزوال الملك عنها وولد الموصى بمنفعتها كالأم رقبته للوارث
ومنفعته للموصى له لأنه جزء من الام، والمؤجرة والمعارة لا يتعدى حكمها إلى الولد لأن العقد لا يقتضيه. وولد المرهونة
الحادث بعد الرهن غير مرهون، وولد المضمونة غير مضمون، وولد المغصوبة غير مغصوب، وولد المودعة كالثوب الذي
طيرته الريح إلى داره، وولد الجانية لا يتبعها في الجناية، وولد المرتدين مرتد، وولد العدو تصح شهادته على عدو أصله،
وولد مال القراض يفوز به المالك، وولد المستأجرة غير مستأجر، وولد الموقوفة لا يتعدى حكم الوقف إليه، لأن المقصود
بالوقف حصول الفوائد والمنافع للموقوف عليه. قال الزركشي: وضابط ما يتعدى الولد كل ما لا يقبل الرفع، كما لو نذر
عتق جاريته يجب عتق ولدها، وكذا ولد الأضحية والهدي اه. فإن قيل: يرد على المصنف صورتان، إحداهما: أنه إذا
أحبل الراهن المرهونة وهو معسر وقلنا بالأصح أنها لا تصير أم ولد فتباع في الدين، فإذا بيعت ثم ولدت عند المشتري
أولادا ثم ملكها الراهن هي وأولادها فإنها تصير مستولدة على الصحيح، وأولادها أرقاء لا يعطون حكمها، قاله
الرافعي في باب الاقرار بالنسب. قال البلقيني: وجرى مثله في الجناية وجانية التركة المتعلق بها الرهن. الثانية: ما حكاه
الرافعي قبيل الصداق عن فتاوى البغوي وأقره أن الزوج إذا كان يظن أن أم الولد حرة فالولد حر وعليه قيمته للسيد.
أجيب بأنهم في الأولى ولدوا قبل الحكم بالاستيلاد، وظاهره أن الحكم كذلك، ولو كانت حاملا به عند العود وهو
ما في فتاوى القاضي، وفي الثانية ليست أم ولده في ظنه. وقوله: كهي فيه جر الكاف للضمير وهو شاذ، والمصنف استعمله
في مواضع من المتن هذا آخرها، ولو قال كالروضة: فحكم الولد حكم أمه لكان أولى، ليشمل منع البيع وغيره من
الأحكام. واحترز بقوله: من زوج أو زنا عن ولدها من السيد فإنه حر، لكن يرد عليه ما لو وطئها أجنبي يظن أنها
زوجته الأمة، فإن حكم ولدها كذلك كما مر.
تنبيه: سكت المصنف عن حكم أولاد أولاد المستولدة، ولم أر من تعرض لهم، والظاهر أخذا من كلامهم أنهم
إن كانوا من أولادها الإناث فحكمهم حكم أولادها، أو من الذكور فلا، لأن الولد يتبع الام رقا وحرية كما مر.
فرع: لو قال لامته: أنت حرة بعد موتي بعشر سنين مثلا، فإنما تعتق إذا مضت هذه المدة من الثلث، وأولادها
الحادثون بعد موت السيد في هذه المدة كأولاد المستولدة ليس للوارث أن يتصرف فيهم بما يؤدي إلى إزالة الملك ويعتقون
من رأس المال كما ذكره في باب التدبير. (وأولادها قبل الاستيلاد من زنا أو) من (زوج لا يعتقون بموت السيد وله
بيعهم) والتصرف فيهم ببقية التصرفات، لحدوثهم قبل ثبوت سبب الحرية للام. ولو ادعت المستولدة أن هذا الولد
حدث من ذلك بعد الاستيلاد أو بعد موت السيد فهو حر وأنكر الوارث ذلك وقال: بل حدث قبل الاستيلاد فهو قن،
صدق بيمينه، بخلاف ما لو كان في يدها مال وادعت أنها اكتسبته بعد موت السيد وأنكر الوارث فإنها المصدقة،
لأن اليد لها فترجع، بخلافه في الأولى فإنها تدعي حريته والحر لا يدخل تحت اليد. (وعتق المستولدة) وأولادها
الحادثين بعد الاستيلاد (من رأس المال، والله أعلم) مقدما على الديون والوصايا، لظاهر قوله (ص): أعتقها ولدها
وسواء أحبلها أو أعتقها في المرض أم لا، أوصى بها من الثلث أم لا، بخلاف ما لو أوصى بحجة الاسلام، فإن الوصية
543

بها تحسب من الثلث، لأن هذا إتلاف حصل بالاستمتاع فأشبه إنفاق المال في الملذات والشهوات.
خاتمة: لو وطئ شريكان أمة لهما وأتت بولد وادعيا استبراء وحلفا فلا نسب ولا استيلاد، وإن لم يدعيا فله
أحوال، أحدها: أن لا يمكن كونه من أحدهما بأن ولدته لأكثر من أربع سنين من وطئ الأول ولاقل من ستة أشهر
من وطئ الثاني، أو لأكثر من أربع سنين من آخرهما وطأ فكما لو ادعيا الاستبراء، الحال الثاني: أن يمكن كونه من
الأول دون الثاني، بأن ولدته لما بين أقل من مدة الحمل وأكثرها من وطئ الأول ولما دون أقل مدة الحمل من وطئ الثاني
فيلحق بالأول ويثبت الاستيلاد في نصيبه، ولا سراية إن كان معسرا ويسري إن كان موسرا. الحال الثالث: أن
يمكن أن يكون من الثاني دون الأول بأن ولدته لأكثر من أربع سنين من وطئ الأول ولما بين ستة أشهر وأربع
سنين من وطئ الثاني فيلحق بالثاني ويثبت الاستيلاد في نصيبه، ولا سراية إن كان معسرا وإن كان موسرا سرى.
الحال الرابع: أن يمكن كونه من كل واحد بأن ولدته لما بين ستة أشهر وأربع سنين من وطئ كل واحد منهما وادعياه
أو أحدهما فيعرض على القائف، فإن تعذر أمر بالانتساب إذا بلغ، وإن أتت لكل واحد منهما بولد وهما موسران
وادعى كل منهما أن إيلاده قبل إيلاد الآخر لها ليسري إيلاده إلى بقيتها، فإن حصل اليأس من بيان القبلية عتقت بموتها
لاتفاقهما على العتق، ولا يعتق بعضها بموت أحدهما لجواز كونها مستولدة للآخر، ونفقتها في الحياة عليهما، ويوقف
الولاء بين عصبتيهما لعدم المرجح. وإن كانا معسرين يثبت الاستيلاد لكل واحد في قدر نصيبه، فإذا مات أحدهما
عتق نصيبه وأولاده لعصبته، فإذا ماتا عتقت كلها والولاء لعصبتهما بالسوية، وإن كان أحدهما موسرا فقط ثبت
إيلاده في نصيبه والنزاع في نصيب المعسر فنصف نفقتها على المعسر ونصفها الآخر بينهما. ثم إن مات الموسر أولا
عتق نصيبه وولاؤه لعصبته، فإذا مات المعسر بعده عتق نصيبه ووقف ولاؤه بين عصبتهما، وإن مات المعسر أولا
لم يعتق منها شئ، فإذا مات الموسر بعده عتقت كلها وولاء نصفها لعصبته ووقف ولاء النصف الآخر. أما لو ادعى
كل منهما سبق الآخر وهما موسران أو أحدهما موسر فقط، ففي الروضة كأصلها عن البغوي: يتحالفان ثم ينفقان عليها،
فإذا مات أحدهم في الصورة الأولى لم يعتق نصيبه لاحتمال صدقه وعتق نصيب الحي لاقراره ووقف ولاؤه، فإذا
مات عتقت كلها ووقف ولاء الكل. وإذا مات الموسر في الثانية أولا عتقت كلها نصيبه بموته وولاؤه لعصبته
ونصيب المعسر بإقراره ووقف ولاؤه. وإن مات المعسر أولا لم يعتق منها شئ لاحتمال سبق الموسر،
فإذا مات الموسر عتقت كلها وولاء نصيبه لعصبته وولاء نصيب المعسر موقوف. ولو كانا معسرين فكما لو ادعى كل منهما أنه أولدها
قبل استيلاد الآخر لها، وقد تقدم حكمه، والعبرة باليسار والاعسار بوقت الاحبال. ولو عجز السيد عن نفقة أم ولده
أجبر على تخليتها لتكسب وتنفق على نفسها أو على إيجارها، ولا يجبر على عتقها أو تزويجها، كما لا يرتفع ملك اليمين بالعجز
عن الاستمتاع، فإن عجزت عن الكسب فنفقتها في بيت المال كما مر في النفقات، والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
وهذا آخر ما يسره الله تعالى من مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج فدونك مولفا كأنه سبيكة
عسجد أو در منضد، محررا لدلائل هذا الفن، مظهرا لدقائق استعملنا الفكر فيها إذا الليل جن، فإن ظفرت بفائدة
فادع بالتجاوز والمغفرة، أو بزلة قلم أو لسان فافتح لها باب التجاوز والمعذرة:
فلا بد من عيب فإن تجدنه * فسامح وكن بالستر أعظم مفضل
فمن ذا الذي ما ساء قط ومن له * المحاسن قد تمت، سوى خير مرسل
فأسأل الله الكريم الذي به الضر والنفع، ومنه الاعطاء والمنع، أن يجعله لوجهه خالصا، وأن يتداركني بألطافه إذا
الظل أضحى في القيامة قالصا، وأن يخفف عني كل تعب ومؤنة، وأن يمدني بحسن المعونة، وأن يرحم ضعفي كما علمه، وأن يحشرني
في زمرة من رحمه، أنا ووالدي وأولادي وأقاربي ومشايخي وأحبابي وأحبائي وجميع المسلمين، بمحمد وآله وصحابته أجمعين.
ونختم هذا الشرح بما ختم به الرافعي كتابه المحرر بقوله: اللهم كما ختمنا بالعتق كتابنا، نرجو أن تعتق من النار رقابنا،
وأن تجعل إلى الجنة مآبنا، وأن تسهل عند سؤال الملكين جوابنا، وإلى رضوانك إيابنا. اللهم بفضلك حقق رجاءنا،
ولا تخيب دعاءنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
544

التعريف
بالإمام النووي
نقلا عن تذكرة الحفاظ للحافظ الذهبي
نسبه، مولده ابتداء اشتغاله، حرصه على العلم
نسبه: النووي: هو الإمام الحافظ الأوحد القدوة، شيخ الاسلام، علم الأولياء محيي الدين أبو زكريا بن شرف
ابن مري الحزامي الحواربي الشافعي صاحب التصانيف النافعة.
مولده: في شهر المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة، وقدم دمشق سنة تسع وأربعين، فسكن في الرواجية يتناول
خبز المدرسة، فحفظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع المهذب حفظا في باقي السنة على شيخه الكمال بن
أحمد، ثم حج مع أبيه وأقام بالمدينة شهرا ونصفا، ومرض أكثر الطريق، فذكر شيخنا أبو الحسن بن العطار
أن الشيخ محيي الدين ذكر له أنه كان يقرأ كل يوم اثنى عشر درسا على مشايخه شرحا وتصحيحا. درسين في الوسيط
ودرسا في المهذب، ودرسا في الجمع بين الصحيحين، ودرسا في صحيح مسلم، ودرسا في اللمع لابن جنى
ودرسا في إصلاح المنطق ودرسا في التصريف: ودرسا في أصول الفقه، ودرسا في أسماء الرجال، ودرسا في
أصول الدين.
قال: وكنت أعلق جميع ما يتعلق بها من شرح مشكل، وتوضيح عبارة، وضبط لغة " وبارك الله تعالى في
وقتي. وخطر لي أن أشتغل في الطلب، فاشتغلت في كتاب القانون، وأظلم قلبي وبقيت أياما لا أقدر على الاشتغال.
فأشفقت على نفسي وبعت القانون فنار قلبي.
شيوخه الذين تلقى منهم
سمع من الرضي بن البرهان، وشيخ الشيوخ عبد العزيز بن محمد الأنصاري، وزين الدين بن عبد الدائم، وعماد
الدين عبد الكريم الخرستاني، وزين الدين خلف بن يوسف، وتقى الدين بن أبي اليسر، وجمال الدين بن
الصيرفي،
وشمس الدين بن أبي عمر، وطبقتهم.
وسمع الكتب الستة، والمسند، والموطأ، وشرح السنة للبغوي، وسنن الدر قطني وأشياء كثيرة، وقرأ
الكمال للحافظ عبد الغني: علاء الدين، وشرح أحاديث الصحيحين، على المحدث ابن إسحاق: إبراهيم
ابن عيسى المرادي، وأخذ الأصول على القاضي التفليسي، وتفقه على الكمال إسحاق المعرى وشمس الدين
545

عبد الرحمن بن نوح " وعز الدين عمر بن سعد الأربلي، والكمال سلار الأربلي، وقرأ اللغة على الشيخ أحمد
المصري وغيره، وقرأ على ابن مالك كتابا من تصنيفه، ولازم الاشتغال والتصنيف، ونشر العلم والعبادة، والأوراد،
والصيام، والذكر، والصبر على المعيشة الخشنة، في المأكل والملبس كلية لا مزيد عليها، ملبسه ثوب خام.
وعمامته سبحانية صغيرة.
تلاميذه.
تخرج به جماعة من العلماء منهم الخطيب صدر سليمان الجعفري، وشهاب الدين أحمد بن جعران، وشهاب الدين الأربدي: وعلاء الدين بن العطار، وحدث عنه ابن أبي الفتح والمزي وابن العطار.
اجتهاده وحفظه وزهده وتصانيفه وورعه
اجتهاده وحفظه: قال ابن العطار: ذكر لي شيخنا رحمه الله تعالى، أنه كان لا يضيع له وقتا: لا في ليل
ولا في نهار حتى في الطريق، وأنه دام ست سنين، ثم أخذ في التصنيف والإفادة والنصيحة، وقول الحق.
قلت: مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه، والعمل بدقائق الورع، والمراقبة، وتصفية النفس، من
الشوائب، ومحقها من أغراضها، كان حافظا للحديث وفنونه ورجاله، وصحيحه وعليله. رأسا في معرفة
المذهب. قال شيخنا الرشيد ابن المعلم. عذلت الشيخ محيي الدين في عدم دخوله الحمام. وتضييق العيش
في مأكله، وملبسه، وأحواله، وخوفته من مرض يعطله عن الاشتغال: فقال: إن فلانا صام وعهد الله حتى
اخضر جلده.
زهده: وكان يمتنع من أكل الفواكه والخيار، ويقول: أخاف أن يرطب جسمي، ويجلب النوم،
وكان يأكل في اليوم والليلة أكلة، ويشرب شربة واحدة عند السحر. قال ابن العطار، كلمته في الفاكهة
فقال: دمشق كثيرة الأوقاف وأملاك من تحت الحجر، والتصرف لهم، ولا يجوز إلا على وجهه الغبطة لهم ثم
المعاملة فيها على وجهه المساقاة، وفيها خلاف، فكيف تطيب نفسي بأكل ذلك؟، وقد جمع ابن العطار
سيرته في ست كراريس.
تصانيفه: من تصانيفه: شرح صحيح مسلم، ورياض الصالحين، والأذكار، والأربعين، والارشاد
في علوم الحديث، والتقريب، والمبهمات، وتحرير الألفاظ للتنبيه، والعمدة في تصحيح التنبيه، الايضاح
في المناسك، وله ثلاثة مناسك سواه، والتبيان آداب حملة القرآن، والفتاوى، والروضة في أربعة أسفار،
وشرح المهذب، إلي باب المصراة في أربع مجلدات، وشرح قطعة من البخاري، وقطعة من الوسيط،
وعمل قطعة من الأحكام، وجملة كثيرة من الأسماء واللغات، ومسودة في طبقات الفقهاء، ومن التحقيق
إلى باب صلاة المسافر.
ورعه: كان لا يقبل من أحد شيئا إلا في النادر ممن لا يشتغل عليه. أهدى له فقير إبريقا فقبله، وعزم
عليه الشيخ برهان الدين الإسكندراني أن يفطر عنده. فقال: أحضر الطعام إلى هنا ونفطر جملة، فأكل
من ذلك وكان لونين، وربما جمع الشيخ بعض الأوقات بين إدامين.
546

موافقه مع الملوك في الامر بالمعروف
وكان يواجه الملوك والظلمة بالانكار، ويكتب إليهم ويخوفهم بالله تعالى.
كتب مرة: من عبد الله يحيى النووي: سلام الله ورحمته وبركاته على المولى المحسن ملك الامراء بدر الدين
أدام الله له الخيرات، وتولاه بالحسنات، وبلغه من خيرات الدنيا والآخرة كل آماله، وبارك له في جميع أحواله
آمين، وينهى إلي العلوم الشريفة أن أهل الشام في ضيق وضعف حال بسبب قلة الأمطار وذكر فصلا طويلا،
وفى طي ذلك ورقة إلي الملك الظاهر فرد جوابها ردا عنيفا مؤلما، فتكدرت خواطر الجماعة، وله غير رسالة الملك
الظاهر في الامر بالمعروف وكان شيخنا ابن فرح يشرح على الشيخ الحديث فقال نوبة: الشيخ محيي الدين قد
صار إلى ثلاث مراتب كل مرتبة لو كانت لشخص لشدت إليه الرحال: العلم، والزهد، والامر بالمعروف
والنهى عن المنكر.
وفاته
سافر الشيخ فزار بيت المقدس وعاد إلى نوى،، فمرض عند والده، فحضرته المنية، فانتقل إلى رحمة الله في الرابع
والعشرين من رجب سنة ست وسبعين وستمائة، وقبره ظاهر يزار، قاله الشيخ قطب الدين اليونيني، وقال: كان
أو حد زمانه في العلم والورع والعبادة والتقلل وخشونة العيش، واقف الملك الظاهر بدار العدل غير مرة فحكى عن
الملك الظاهر أنه قال: أنا أفزع منه، ولي مشيخة دار الحديث، قلت وليها سنة خمس وستين بعد أبي أسامة إلى أن
مات. قدس الله.
547

التعريف بالإمام الشربيني الخطيب
منقولا بتصرف من معجم المطبوعات
العربية والمصرية لسركيس
هو " شمس الدين محمد أحمد الشربيني القاهري الشافعي الخطيب المتوفى سنة 977 ه‍.
قال في الكواكب: أخذ العلم عن الشيخ أحمد البرلسي الملقب " بعميرة " والنور المحلى، والشمس الرملي وغيرهم
من جهابذة العلماء، وأجازوه بالافتاء والتدريس.
فدرس وأفتى في حياة أشياخه، وانتفع به خلق لا يحصون، وأجمع أهل مصر على صلاحه، ووصفوه
بالعلم والعمل، والزهد والورع، وله مؤلفات كثيرة أقبل الناس على كتابتها وقراءتها في حال حياته
وبعدها منها.
1 - مغنى المحتاج: إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج ج 4 (وهو هذا)
2 - الاقناع: في حل ألفاظ أبى شجاع ج 2
3 - تقريرات على المطول: في علم البلاغة.
4 - السراج المنير: في الإعانة على معرفة بعض كلام ربنا الحكيم الخيبر. ويعرف " بتفسير الخطيب
الشربيني " ج 4
5 - شرح شواهد القطر.
6 - مناسك الحج.
وغيرهما مما هو معلوم لمثل هذا الإمام الجليل، نفع الله به وبمؤلفاته، وأسكنه فسيح جناته آمين
548