الكتاب: روضة الطالبين
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ٢
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ، الشيخ علي محمد معوض
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

روضة الطالبين
للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي
المتوفى سنة 676
ومعه
المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي
منتقى الينبوع
فيما زاد على الروضة من الفروع
للحافظ جلال الدين السيوطي
تحقيق
الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ على محمد معرض
الجزء الثاني
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
1

جميع الحقوق محفوظة
الدار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
يطلب من: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
صرب: 9424 / 11 تلكس: 41245
هائف: 366135 - 810073
2

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب الزكاة هي أحد أركان الاسلام، فمن جحدها، كفر، إلا أن يكون حديث عهد
بالاسلام لا يعرف وجوبها، فيعرف. ومن منعها وهو يعتقد وجوبها، أخذت منه
قهرا. فان امتنع قوم بقوم، قاتلهم الامام عليها.
فصل فيمن تجب عليه الزكاة وهو كل مسلم حر، أو بعضه حر
، فتجب في مال الصبي والمجنون، ويجب على الولي إخراجها من مالهما، فان
3

لم يخرج، أخرج الصبي بعد بلوغه، والمجنون بعد الإفاقة زكاة ما مضى، ولا تجب
في المال المنسوب إلى الجنين وإن انفصل حيا على المذهب. وقيل:
وجهان. أحدهما: هذا، والثاني: تجب. وأما الكافر الأصلي، فليس بمطالب
بإخراج الزكاة في الحال، ولا زكاة عليه بعد الاسلام عن الماضي.
وأما المرتد، فلا يسقط عنه ما وجب في الاسلام. وإذا حال الحول على ماله
في الردة، فطريقان.
أحدهما، قاله ابن سريج: تجب الزكاة قطعا، كالنفقات والغرامات.
والثاني: وهو الذي قاله الجمهور: يبنى على الأقوال في ملكه، إن قلنا: يزول
بالردة، فلا زكاة، وإن قلنا: لا يزول، وجبت، وإن قلنا: موقوف، فالزكاة موقوفة
أيضا. فإذا قلنا: تجب، فالمذهب أنه إذا أخرج في حال الردة، أجزأه، كما لو أطعم عن الكفارة. وقال
صاحب التقريب: لا يبعد أن يقال: لا يخرجها ما دام مرتدا. وكذا الزكاة
الواجبة قبل الردة، فإن عاد إلى الاسلام، أخرج الواجبة في الردة وقبلها. وإن مات
مرتدا، بقيت العقوبة في الآخرة. قال إمام الحرمين: هذا خلاف ما قطع به
الأصحاب، لكن يحتمل أن يقال: إذا أخرج في الردة ثم أسلم، هل يعيد الاخراج؟
وجهان، كالوجهين في أخذ الزكاة من الممتنع. ولا تجب الزكاة على المكاتب،
فإن عتق وفي يده مال، ابتدأ له حولا. وإن عجز نفسه وصار ماله لسيده، ابتدأ
الحول عليه. وأما العبد القن، فلا يملك بغير تمليك السيد قطعا، ولا بتمليكه
4

على المشهور. فإن ملكه السيد مالا زكويا وقلنا: لا يملك، فالزكاة على سيده.
وإن قلنا: يملك، فلا زكاة على العبد قطعا، لضعف ملكه، ولا على السيد على
الأصح، لعدم ملكه. والثاني: تجب، لأنه ينفذ تصرفه فيه. والمدبر وأم الولد
كالقن. ومن بعضه حر، تلزمه زكاة ما يملكه بحريته على الصحيح، لتمام ملكه.
والثاني: لا يلزمه، كالمكاتب.
فصل قال الأصحاب: الزكاة نوعان.
زكاة الأبدان، وهي زكاة الفطر، ولا تتعلق بالمال، إنما يراعى فيها إمكان
الأداء.
والثاني: زكاة الأموال، وهي ضربان. أحدهما: يتعلق بالمالية والقيمة،
وهي زكاة التجارة.
والثاني: يتعلق بالعين. والأعيان التي تتعلق بها الزكاة،
ثلاثة: حيوان، وجوهر، ونبات، فيختص من الحيوان بالنعم، ومن الجواهر
بالنقدين، ومن النبات بما يقتات. واقتصر بعض الأصحاب عن المقاصد فقال:
الزكاة ستة أنواع: النعم، والمعشرات، والنقدان، والتجارة، والمعدن،
و (زكاة) الفطر.
5

باب زكاة النعم
النعم لها ستة شروط.
أحدها: كون المال نعما متمحضة.
والثاني: كونه نصابا.
والثالث: الحول.
والرابع: دوام الملك فيه جميع الحول.
الخامس: السوم.
السادس: كمال الملك.
الأول: النعم، وهي الإبل والبقر والغنم، فلا زكاة في حيوان غيرها،
كالخيل والرقيق، إلا أن يكون للتجارة، فتجب زكاة التجارة. ولا تجب الزكاة فيما
تولد من الغنم والظباء، سواء كانت الغنم فحولا أو إناثا.
الشرط الثاني: النصاب، فلا زكاة في الإبل حتى تبلغ خمسا. فإذا
6

بلغتها، ففيها شاة، ولا تزيد حتى تبلغ عشرا، ففيها شاتان. وفي خمسة عشر:
ثلاث شياه، وفي عشرين: أربع شياه، وفي خمس وعشرين: بنت مخاض، وفي
ست وثلاثين بنت لبون، وفي ست وأربعين: حقة، وفي إحدى وستين: جذعة،
وفي ست وسبعين: بنتا لبون، وفي إحدى وتسعين: حقتان. ولا يجب بعدها شئ
حتى تجاوز مائة وعشرين، فإن زادت على مائة وعشرين واحدة، وجب ثلاث
بنات لبون. وإن زادت بعض واحدة، فوجهان. قال الإصطخري: يجب ثلاث
بنات لبون. والصحيح: لا يجب إلا حقتان. وإذا زادت واحدة، وأوجبنا ثلاث
بنات لبون، فهل للواحدة قسط من الواجب؟ وجهان. قال الإصطخري: لا، وقال
الأكثرون: نعم، فعلى هذا لو تلفت الواحدة بعد الحول وقبل التمكن، سقط من
الواجب جزء من مائة وأحد وعشرين جزءا. وعلى قول الإصطخري: لا يسقط
شئ. ثم بعد مائة وإحدى وعشرين يستقر الامر. فيجب في كل أربعين بنت لبون،
وفي كل خمسين حقة، وإنما يتغير الواجب بزيادة عشر عشر مثاله في مائة
وثلاثين: بنتا لبون وحقة، وفي مائة وأربعين: حقتان وبنت لبون، وفي مائة
وخمسين: ثلاث حقاق، وفي مائة وستين: أربع بنات لبون، وفي مائة وسبعين:
ثلاث بنات لبون وحقة، وفي مائة وثمانين: بنتا لبون وحقتان، وعلى هذا أبدا.
فرع ولد الناقة يسمى بعد الولادة: ربعا، والأنثى ربعة، ثم هبعا
وهيعة، بضم أول الجميع وفتح ثانيه. ثم فصيلا إلى تمام سنة، فإذا
طعن في السنة الثانية، سمي ابن مخاض، والأنثى بنت مخاض، فإذا طعن في
7

الثالثة، فابن لبون وبنت لبون، فإذا طعن في الرابعة، فحق وحقة، فإذا طعن في
الخامس، فجذع وجذعة، وذلك آخر أسنان الزكاة.
فصل لا شئ في البقر حتى تبلغ ثلاثين. فإذا بلغتها، ففيها تبيع، ولا
زيادة حتى تبلغ أربعين ففيها مسنة، ثم لا شئ حتى تبلغ ستين، ففيها تبيعان.
واستقر الحساب في كل ثلاثين تبيع، وفي كل أربعين مسنة. ويتغير الفرض بعشر
عشر، ففي سبعين: تبيع ومسنة، وفي ثمانين: مسنتان، وفي تسعين: ثلاثة
أتبعة، وفي مائة: مسنة وتبيعان، وهكذا أبدا. والتبيع: الذي طعن في السنة
الثانية، والأنثى تبيعة. والمسنة: التي طعنت في الثالثة، والذكر مسن، هذا هو المذهب
المشهور. وحكى جماعة وجهان. التبيع له ستة أشهر، والمسنة سنة.
فصل لا زكاة في الغنم، حتى تبلغ أربعين. فإذا بلغتها، ففيها شاة، ثم لا
زيادة حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين، ففيها شاتان، ثم لا زيادة حتى تبلغ مائتين
وواحدة، ففيها ثلاث شياه، ثم لا زيادة حتى تبلغ أربع مائة، ففيها أربع شياه، ثم
استقر الحساب في كل مائة شاة. والشاة الواجبة فيها: الجذعة من الضأن، أو الثنية
من المعز، واختلف أصحابنا في تفسيرهما على أوجه، أصحها: الجذعة: ما دخلت
في السنة الثانية، والثنية: ما دخلت في السنة الثالثة، سواء كانتا من الضأن أو المعز. والثاني: الجذعة لها
ستة أشهر، والثنية سنة. والثالث: يقال إذا بلغ الضأن ستة أشهر وهو من شابين، فهو جذع، وإن كان من هرمين، فلا يسمى جذعا
حتى يبلغ ثمانية أشهر.
فرع ما بين الفريضتين يسمى وقصا - منهم من يفتح قافه، ومنهم من
يسكنها - والشنق بمعنى الوقص، وقيل: الوقص في البقر والغنم خاصة، والشنق
في الإبل خاصة.
8

قلت: الفصيح في الوقص، فتح القاف وهو المشهور في كتب اللغة،
والمشهور في كتب الفقه عند الفقهاء إسكانها، وقد لحنهم فيه الإمام ابن بري،
وليس تلحينه بصحيح، بل هما لغتان أوضحتهما في كتاب تهذيب الأسماء
واللغات وشرح المهذب والشنق - بالشين المعجمة والنون المفتوحتين
والقاف - قال جمهور أهل اللغة: الشنق كالوقص سواء. وقال الأصمعي: الشنق
يختص بأوقاص الإبل، والوقص بالبقر والغنم، ويقال فيه: وقس - بالسين المهملة -
والمشهور استعماله فيما بين الفريضتين، وقد استعملوه فيما دون النصاب. والله
أعلم.
فصل الشاة الواجبة فيما دون خمسة وعشرين من الإبل: هي الجذعة من
الضأن، أو الثنية من المعز، كالشاة الواجبة في الغنم، وهل يتعين أحد النوعين من
الضأن والمعز؟ فيه أوجه. أحدها: يتعين نوع غنم صاحب الإبل المزكي.
والثاني: يتعين غالب غنم البلد، قطع به صاحب المهذب ونقل عن نص
الشافعي، فان استويا تخير بينهما. والثالث: وهو الصحيح: أنه يخرج ما شاء
من النوعين، ولا يتعين الغالب. صححه الأكثرون، وربما لم يذكروا سواه، ونقل
صاحب التقريب نصوصا للشافعي تقتضيه، ورجحها. والمذهب: أنه لا يجوز
العدول عن غنم البلد. وقيل: وجهان. فعلى المذهب: لو أخرج غير غنم البلد
وهي في القيمة خير من غنم البلد أو مثلها، أجزأه، وإنما يمتنع دونها، وهل يجزئ
الذكر منهما، أم يتعين الأنثى؟ وجهان. أصحهما: يجزئ كالأضحية، وسواء
9

كانت الإبل ذكورا كلها، أو إناثا، أو مختلطة. وقيل: الوجهان يختصان بما إذا
كانت كلها ذكورا، وإلا فلا يجزئ في الذكر قطعا. والأصح، الاجزاء مطلقا.
فرع إذا وجبت شاة عن خمس من الإبل، فأخرج بعيرا، أجزأه، وإن كان
قيمته أقل من قيمة الشاة. هذا هو المذهب الصحيح، وفي وجه: لا يجزئه إن
نقصت قيمته عن قيمة الشاة، قاله القفال، وأبو محمد. ووجه ثالث: أنه إن كانت
الإبل مراضا، أو قليلة القيمة لعيب، أجزأ البعير الناقص عن قيمة الشاة، وإن كانت
صحاحا سليمة، لم يجزئ الناقص. فعلى المذهب، إذا أخرج بعيرا عن خمس،
هل نقول: كله فرض، أم خمسة فرض، والباقي تطوع؟ وجهان كالوجهين في
المتمتع إذا ذبح بدنة بدل الشاة، هل الفرض كلها، أم سبعها، وفيمن مسح في
الوضوء جميع رأسه، هل الجميع فرض، أم البعض؟ وقالوا: القول بأن الجميع
ليس بفرض في مسألتي الاستشهاد، أوجه، لان الاقتصار على سبع بدنة، وبعض
الرأس، جائز، ولا يجزئ هنا خمس بعير بالاتفاق، وذكر قوم، منهم صاحب
التهذيب أن الوجهين مبنيان على أصل، وهو أن الشاة الواجبة في الإبل أصل
بنفسها، أم بدل عن الإبل؟ وفيه وجهان. فإن قلنا: الشاة أصل، كان البعير كله
فرضا كالشاة، وإلا، فالواجب خمس البعير.
قلت: الأصح، أن جميع البعير فرض. قال أصحابنا: وصورة المسألة إذا
كان البعير يجزئ عن خمسة وعشرين، وإلا فلا يقبل بدل الشاة بلا خلاف. والله
أعلم.
10

ولو أخرج بعيرا عن عشر من الإبل، أو عن خمس عشرة، أو عن عشرين،
أجزأه على المذهب. وقيل: لا بد في العشر من حيوانين، شاتين أو بعيرين، أو
شاة وبعير، وفي الخمس عشرة، ثلاث حيوانات، وفي العشرين أربع شياه، أو
أبعرة، أو شاة وثلاثة أبعرة، أو عكسه، أو اثنين واثنين. وإذا قلنا بالمذهب، أجزأه
البعير، وإن كان ناقص القيمة عن الشاة، وفيه الوجهان الضعيفان المتقدمان، قول
القفال، والآخر. فإذا فرعنا عليهما، اعتبر أن لا ينقص البعير في العشر عن قيمة
شاتين، وفي الخمس عشرة عن قيمة ثلاث، وفي العشرين عن قيمة أربع.
فرع الشاة الواجبة في الإبل يشترط كونها صحيحة، وإن كانت الإبل
مراضا، لأنها في الذمة، ثم فيها وجهان. أحدهما وبه قطع كثيرون وهو قول ابن
خيران: يؤخذ عن المراض صحيحة تليق بها.
مثاله: خمس من الإبل مراض قيمتها خمسون، ولو كانت صحاحا كان
قيمتها مائة، وقيمة الشاة المخرجة ستة دراهم، فيؤمر بإخراج شاة صحيحة تساوي
11

ثلاثة دراهم، فإن لم يوجد بها شاة صحيحة، قال صاحب الشامل: فرق
الدراهم. والوجه الثاني: يجب فيها ما يجب في الإبل الصحاح بلا فرق. قال في
المهذب: وهو ظاهر المذهب.
فصل إذا ملك خمسا وعشرين من الإبل، فقد وجب بنت مخاض،
فإن وجدها، لم يعدل إلى ابن لبون، وإن لم يجدها وعنده ابن لبون، جاز دفعه
عنها، سواء قدر على تحصيلها، أم لا، وسواء كانت قيمته أقل من قيمتها، أم لا،
ولا جبران معه، فإن لم يكن في إبله بنت مخاض، ولا ابن لبون، فالأصح أن
يشتري أيهما شاء ويخرجه. والثاني: يتعين بنت المخاض، ولو كان عنده بنت
مخاض معيبة، فكالمعدومة، ولو كانت كريمة وإبله مهزولة، لم يكلف إخراجها،
فإن تطوع بها، فقد أحسن، وإن أراد اخراج ابن لبون، فوجهان. أحدهما: لا
يجوز، لأنه واجد، وبهذا قطع الشيخ أبو حامد، وأكثر شيعته، ورجحه إمام
الحرمين والغزالي، والأكثرون. والثاني: يجوز كالمعدومة، وهذا هو الراجح عند
صاحبي المهذب والتهذيب وحكي عن نصه. ولو لم تكن عنده بنت
مخاض، فأخرج خنثى من أولاد اللبون، أجزأه على الأصح، ولا جبران للمالك
لاحتمال الأنوثة ما لم نتحققها. ولو وجد بنت لبون، وابن لبون، فأراد اخراج
بنت اللبون، وأخذ الجبران، لم يكن له على الأصح. ولو لزمه بنت مخاض وهي
عنده، فأراد اخراج خنثى من أولاد اللبون، لم يجزئه، لاحتمال أنه ذكر، فلا
12

يجزئ مع وجود بنت المخاض. ولو أخرج حقا عن بنت مخاض عند فقدها، فلا
شك في جوازه، فإنه أولى من ابن اللبون، ولو لزمته بنت لبون فأخرج حقا عند
عدمها، لم يجزه على المذهب، وبه قطع الجمهور، وحكت طائفة. فيه
وجهان.
فصل إذا بلغت ماشيته حدا، يخرج فرضه بحسابين كمائتين من الإبل،
فهل الواجب خمس بنات لبون، أو أربع حقاق؟ قال في القديم: الحقاق، وفي
الجديد: أحدهما. قال الأصحاب: فيه طريقان. أحدهما: على قولين.
أظهرهما: الواجب، أحدهما. والثاني: الحقاق. والطريق الثاني: القطع
بالجديد، وتأولوا القديم. فإن أثبتنا القديم وفرعنا عليه، نظر، إن وجد الحقاق
بصفة الاجزاء، لم يجز غيرها، وإلا نزل منها إلى بنات اللبون، أو صعد إلى
الجذاع مع الجبران، وإن فرعنا على المذهب وهو أحدهما، فللمسألة أحوال.
أحدهما: أن يوجد في المال، القدر الواجب من أحد الصنفين بكماله دون
الآخر، فيؤخذ ولا يكلف تحصيل الصنف الآخر، وإن كان أنفع للمساكين، ولا
يجوز الصعود ولا النزول مع الجبران، إذ لا ضرورة إليه، وسواء عدم جميع الصنف الآخر،
أم بعضه، فهو كالمعدوم. وكذا لو وجد الصنفان، وأحدهما معيب،
فكالمعدوم.
الحال الثاني: أن لا يوجد في ماله شئ من الصنفين، أو يوجد، أو هما
معيبان. فإذا أراد تحصيل أحدهما بشراء أو غيره، فالأصح أن له أن يحصل أيهما
شاء. والثاني: يجب تحصيل الأغبط للمساكين، وله أن لا يحصل الحقاق ولا بنات
اللبون، بل ينزل أو يصعد مع الجبران، فان شاء جعل الحقاق أصلا، وصعد إلى
13

أربع جذاع فأخرجها وأخذ أربع جبرانات، وإن شاء جعل بنات اللبون أصلا، ونزل
إلى خمس بنات مخاض، فأخرجها ودفع معها خمس جبرانات، ولا يجوز أن يجعل
الحقاق أصلا، وينزل إلى أربع بنات مخاض، ويدفع ثماني جبرانات، ولا أن
يجعل بنات اللبون أصلا، ويصعد إلى خمس جذاع، ويأخذ عشر جبرانات،
لامكان تقليل الجبران. وفي وجه شاذ: أنه يجوز الصعود والنزول المذكوران،
وليس بشئ.
الحال الثالث: أن يوجد الصنفان بصفة الاجزاء، فالمذهب والذي نص عليه
الشافعي رحمه الله، وقاله جمهور الأصحاب: يجب الأغبط للمساكين. وقال
ابن سريج: المالك بالخيار فيهما، لكن يستحب له إخراج الأغبط، إلا أن يكون
ولي يتيم، فيراعي حظه. وإذا قلنا بالمذهب، فأخذ الساعي غير الأغبط، ففيه
أوجه. الصحيح الذي اعتمده الأكثرون: أنه إن كان بتقصير، إما من الساعي بأن
أخذه مع علمه، أو أخذه بلا اجتهاد، وظن أنه الأغبط، وإما من المالك، بأن دلس
وأخفى الأغبط، لم يقع المأخوذ من الزكاة. وإن لم يقصر واحد منهما وقع عن
الزكاة. والوجه الثاني، قاله ابن خيران، وقطع به في التهذيب: إن كان باقيا في
يد الساعي بعينه، لم يقع عن الزكاة وإن لم يقصر واحد منهما، وإلا وقع.
والثالث: يقع عنهما بكل حال. والرابع: لا يقع بحال. والخامس: إن فرقه على
المستحقين، ثم ظهر الحال،, حسب عن الزكاة بكل حال، وإلا لم يحسب.
والسادس: إن دفع المالك مع علمه بأنه الأدنى، لم يجزه، وإن كان الساعي هو
الذي أخذه، جاز. وحيث قلنا: لا يقع المأخوذ عن الزكاة، فعليه إخراجها، وعلى
الساعي رد ما أخذه إن كان باقيا، وقيمته إن كان تالفا. وحيث قلنا: يقع، فهل
يجب إخراج قدر التفاوت؟ وجهان. أصحهما: يجب. والثاني: يستحب كما إذا
أدى اجتهاد الامام إلى أخذ القيمة، وأخذها، لا يجب شئ آخر. قال أصحابنا:
وإنما يعرف التفاوت بالنظر إلى القيمة، فإذا كانت قيمة الحقاق أربعمائة وقيمة بنان
14

اللبون أربعمائة وخمسين، وقد أخذ الحقاق، فالتفاوت خمسون، فلو كان التفاوت
يسيرا لا يحصل به شقص ناقة، دفع الدراهم للضرورة، وأشار صاحب التقريب
إلى أنه يتوقف إلى وجود شقص، وليس بشئ، فإن يحصل به شقص، فوجهان.
أحدهما: يجب شراؤه. وأصحهما: يجوز دفع الدراهم لضرر المشاركة، ولأنه قد
يعدل إلى غير الجنس الواجب للضرورة، كمن وجب عليه شاة في خمس من
الإبل، فلم يجد شاة، فإنه يخرج قيمتها، وكمن لزمته بنت مخاض، فلم يجدها
ولا ابن لبون، لا في ماله ولا بالثمن، فإنه يعدل إلى القيمة. فإذا جوزنا الدراهم،
فأخرج شقصا، جاز. قال في النهاية: وفيه أدنى نظر، لما فيه من العسر على
المساكين وإن أوجبنا الشقص، فيكون من الأغبط، أم من المخرج؟ فيه أوجه.
أصحها: من الأغبط، لأنه الأصل. والثاني: من المخرج، لئلا يتبعض.
والثالث: يتخير بينهما. ففي المثال المتقدم، يخرج على الأصح خمسة أتساع بنت
لبون. وعلى الثاني: نصف حقة، ثم إذا أخرج شقصا، وجب صرفه إلى الساعي
على قولنا: يجب الصرف إلى الامام في الأموال الظاهرة، وإذا أخرج الدراهم،
فوجهان. أحدهما: لا يجب الصرف إليه، لأنها من الباطنة. والثاني: يجب،
لأنها جبران الظاهرة.
قلت: هذا الثاني أصح. والله أعلم.
وإطلاق الأصحاب الدراهم في هذا الفصل، يشبه أن يكون مرادهم به نقد
البلد، دراهم كان، أو دنانير، كما صرح به الشيخ إبراهيم المروذي.
قلت: مرادهم نقد البلد قطعا، وصرح به جماعة، منهم القاضي حسين
وغيره، وعليه يحمل قول صاحب الحاوي وإمام الحرمين وغيرهما: دراهم أو
دنانير، يعنيان أيهما كان نقد البلد. والله أعلم.
الحال الرابع: أن يوجد بعض كل صنف، بأن يجد ثلاث حقاق وأربع بنات
لبون، فهو بالخيار، إن شاء جعل الحقاق أصلا فدفعها مع بنت لبون وجبران، وإن
شاء جعل بنات اللبون أصلا فدفعها مع حقة، وأخذ جبرانا، وهل يجوز أن يدفع
15

حقة مع ثلاث بنات لبون، وثلاث جبرانات؟ وجهان. ويجري الوجهان فيما إذا لم
يجد إلا أربع بنات لبون وحقة، فدفع الحقة مع ثلاث بنات لبون، وثلاث جبرانات
ونظائره. والأصح الجواز. قال في التهذيب: ويجوز في الصورة الأولى أن
يعطي الحقاق مع جذعة ويأخذ جبرانا، وأن يعطي بنات اللبون وبنت مخاض مع
جبران.
الحال الخامس: أن يوجد بعض أحد الصنفين ولا يوجد من الآخر شئ، كما
إذا لم يجد إلا حقتين، فله إخراجهما مع جذعتين، ويأخذ جبرانين، وله أن يجعل
بنات اللبون أصلا، فيخرج بدلهن خمس بنات مخاض مع خمس جبرانات. ولو لم
يجد إلا ثلاث بنات لبون، فله إخراجهن مع بنتي مخاض وجبرانين، وله أن يجعل
الحقاق أصلا، ويخرج أربع جذعات بدلها، ويأخذ أربع جبرانات. كذا ذكر في
التهذيب الصورتين، ولم يحك خلافا، وينبغي أن يكون فيه الوجهان السابقان،
ولعله فرعه على الأصح.
فرع إذا بلغت البقر مائة وعشرين، ففيها أربعة أتبعة، أو ثلاث مسنات،
وحكمها حكم بلوغ الإبل مائتين في جميع الخلاف والتفريع المتقدم.
فرع لو أخرج صاحب المائتين من الإبل حقتين وبنتي لبون ونصفا،
لم يجز، ولو ملك أربع مائة، فعليه ثمان حقاق، أو عشر بنات لبون، ويعود فيها
جميع ما في المائتين من الخلاف والتفريع. ولو أخرج عنها أربع حقاق، وخمس
بنات لبون، جاز على الصحيح الذي قطع به الجمهور، ومنعه الإصطخري لتفريق
الفرض، كما لو فرقه في المائتين. قال الجمهور: كل مائتين أصل منفرد، فهو
ككفارتين، يطعم في إحداهما، ويكسو في الأخرى. وأما المائتان، فالتفريق
فيهما كالتفريق في الكفارة الواحدة، على أن المانع في المائتين، ليس هو مجرد
التفريق، بل المانع التشقيص، ألا ترى أنه لو أخرج حقتين وثلاث بنات لبون، أو
16

أربع بنات لبون وحقة، جاز. ويجري هذا الخلاف متى بلغ المال ما يخرج منه بنات
اللبون والحقاق بلا تشقيص.
فإن قيل: ذكرتم أن الساعي يأخذ الأغبط، ويلزم من ذلك أن يكون أغبط
الصنفين هو المخرج، فكيف يخرج البعض من هذا، والبعض من ذاك؟
فالجواب، ما أجاب به ابن الصباغ. قال: يجوز أن لهم حظ ومصلحة في
اجتماع النوعين، وفي هذا، أن جهة الغبطة غير منحصرة في زيادة القيمة، لكن إذا
كان التفاوت لا من جهة القيمة، يتعذر إخراج قدر التفاوت.
فصل من وجبت عليه بنت مخاض وليست عنده، جاز أن يخرج بنت لبون
ويأخذ من الساعي شاتين، أو عشرين درهما، ومن وجبت عليه بنت لبون وليست
عنده، جاز أن يخرج حقة ويأخذ ما ذكرنا، ومن وجبت عليه حقة وليست عنده، جاز
أن يخرج جذعة، ويأخذ ما ذكرنا، ولو وجبت عليه جذعة وليست عنده، جاز أن
يخرج حقة مع شاتين، أو عشرين درهما، ولو وجبت عليه حقة وليست عنده جاز
أن يخرج بنت لبون مع ما ذكرنا، ولو وجبت بنت لبون، وليست عنده، جاز أن
يخرج بنت مخاض مع ما ذكرنا. ثم صفة شاة الجبران هذه، صفة الشاة المخرجة
فيما دون خمس وعشرين من الإبل. وفي اشتراط الأنوثة إذا كان المالك هو
المعطي، الوجهان المذكوران في تلك الشاة، والدراهم التي يخرجها، هي
النقرة. قال في النهاية: وكذا دراهم الشريعة حيث وردت. وإن احتاج الامام
إلى إعطاء الجبران ولم يكن في بيت المال دراهم، باع شيئا من مال المساكين
وصرفه في الجبران، وإلى من تكون الخيرة في تعيين الشاتين، أو الدراهم؟ فيه
17

طريقان. المذهب وبه قطع الأكثرون: أن الخيرة للدافع، سواء إن كان الساعي أو
رب المال، لكن الساعي يراعي مصلحة المساكين.
والثاني: على قولين أظهرهما: هذا. والثاني: الخيار للساعي. وأما الخيرة
في الصعود والنزول، فإلى المالك على الأصح، وإلى الساعي على الثاني.
والوجهان فيما إذا دفع المالك غير الأغبط، فإن أراد دفع الأغبط، لزم الساعي أخذه
قطعا، هذا عند سلامة المال، فإن كان الواجب مريضا أو معيبا، لكن إبله مراضا
أو معيبة، فأراد الصعود وطلب الجبران، فإن قلنا: الخيار للساعي، ورأي الغبطة
فيه، جاز. وإن قلنا: الخيار للمالك، لم يفوض ذلك إليه، ويستثنى هذه
الصورة. ولو أراد أن ينزل من السن المعيبة أو المريضة إلى ناقص دونها، ويبذل
الجبران قبل، فإنه تبرع بزيادة.
فرع إذا وجبت عليه جذعة، فأخرج بدلها ثنية، ولم يطلب جبرانا،
جاز، وقد زاد خيرا، ولو طلب الجبران، فوجهان، أرجحهما عند العراقيين وهو
ظاهر النص: الجواز، وأرجحهما عند الغزالي وصاحب التهذيب: المنع.
قلت: الأول أصح عند الجمهور. والله أعلم. واعلم
أنه كما يجوز الصعود والنزول بدرجة، يجوز بدرجتين، بأن يعطي بدل
18

بنت اللبون جذعة عند فقدها وفقد الحقة، ويأخذ جبرانين، أو يعطي بدل الحقة
بنت مخاض مع جبرانين، وكذلك ثلاث درجات، بأن يعطي بدل الجذعة عند فقدها
وفقد الحقة وبنت اللبون، بنت مخاض مع ثلاث جبرانات، أو يعطي بدل بنت
المخاض، الجذعة عند فقد ما بينهما، ويأخذ ثلاث جبرانات، وهل يجوز الصعود
والنزول بدرجتين مع القدرة على الدرجة القربى، كما إذا لزمه بنت لبون، فلم
يجدها، ووجد حقة وجذعة فصعد إلى الجذعة. الأصح عند الجمهور: لا يجوز.
والخلاف فيما إذا صعد وطلب جبرانين، فأما إذا رضي بجبران، فلا خلاف في
الجواز، ويجري الخلاف في النزول من الحقة إلى بنت مخاض مع وجود بنت
اللبون. أما إذا لزمته بنت لبون فلم يجدها، ولا حقة، ووجد جذعة وبنت مخاض، فهل له ترك بنت
المخاض ويخرج الجذعة؟ فيه وجهان مرتبان، وأولى
بالجواز، وبه قطع الصيدلاني، لان بنت المخاض وإن كانت أقرب، لكن ليست
في الجهة المعدول إليها.
فرع لو أخرج المالك عن جبرانين شاتين وعشرين درهما، جاز، ولو
أخرج عن جبران شاة وعشرة دراهم، لم يجز، فلو كان المالك أخذ ورضي بالتفريق، جاز.
فرع لو لزمه بنت لبون فلم يجدها، ووجد ابن لبون وحقة، وأراد دفع ابن
اللبون مع الجبران، فوجهان. أصحهما: المنع. والثاني: الجواز، لان الشرع
جعله كبنت المخاض.
19

قلت: لو وجب عليه بنت مخاض، فلم يجدها، ووجد ابن
لبون وبنت لبون، فأخرجها وطلب الجبران، لم يقبل على الأصح، بل عليه دفع ابن اللبون بلا
جبران، لأنه بدل بنت المخاض بالنص، ولو وجبت حقة، فأخرج بدلها بنتي لبون،
أو وجبت جذعة، فأخرج بدلها حقتين، أو بنتي لبون، جاز على الصحيح، لأنهما
يجزئان عما زاد، ولو ملك إحدى وستين بنت مخاض، فأخرج واحدة منها،
فالصحيح الذي قاله الجمهور: أنه يجب معها ثلاث جبرانات. وفي الحاوي
وجه: أنها تكفيه وحدها حذرا من الاجحاف، وليس بشئ. والله أعلم.
فرع لا يدخل الجبران في زكاة الغنم والبقر.
فصل في صفة المخرج في الكمال والنقصان أسباب النقص في هذا
الباب خمسة.
أحدها: المرض، فإن كانت ماشيته كلها مراضا، أجزأته مريضة متوسطة،
ولو كان بعضها صحيحا، وبعضها مريضا، فإن كان الصحيح قدر الواجب فأكثر، لم
تجز المريضة إن كان الواجب حيوانا واحدا، فإن كان اثنين ونصف ماشيته
صحاح، ونصفها مراض، كبنتي لبون في ست وسبعين، وكشاتين في مائتين، فهل يجوز
أن يخرج صحيحة ومريضة؟ وجهان حكاهما في التهذيب. أصحهما
عنده: يجوز، وأقربهما إلى كلام الأكثرين: لا. وإن كان الصحيح من ماشيته دون
قدر الواجب، كشاتين في مائتين ليس فيها صحيحة إلا واحدة، فالمذهب: أنه
يجزئه صحيحة ومريضة، وبه قطع العراقيون والصيدلاني. وقيل: وجهان.
ثانيهما: يجب صحيحتان، قاله الشيخ أبو محمد.
فرع: إذا أخرج صحيحة من المال المنقسم إلى الصحاح والمراض، لم
يجب أن يكون من صحاح ماله، ولا مما يساويها في القيمة، بل يجب صحيحة
لائقة بماله.
مثاله: أربعون شاة، نصفها صحاح، وقيمة كل صحيحة ديناران، وكل
مريضة دينار، فعليه صحيحة بقيمة نصف صحيحة، ونصف مريضة، وذلك دينار
ونصف، ولو كانت الصحاح ثلاثين، فعليه صحيحة بثلاثة أرباع قيمة صحيحة،
وربع مريضة، وهو دينار ونصف وربع، ولو لم يكن فيها إلا صحيحة، فعليه
20

صحيحة وقيمته تسعة وثلاثون جزءا من أربعين من قيمة مريضة، وجزء من أربعين
من صحيحة، وذلك دينار وربع عشر دينار، وجميع ذلك ربع عشر المال، ومتى قوم
جملة النصاب، وكانت الصحيحة المخرجة ربع عشر القيمة، كفى. فلو ملك مائة
وإحدى وعشرين شاة، فينبغي أن يكون قيمة الشاتين المأخوذتين، جزء من مائة
وأحد وعشرين جزءا من قيمة الجملة، وإن ملك خمسا وعشرين من الإبل، يكون
قيمة الناقة المأخوذة جزءا من خمسة وعشرين جزءا من قيمة الجملة، وقس على هذا
سائر النصب وواجباتها، ولو ملك ثلاثين من الإبل، نصفها صحاح، ونصفها
مراض، وقيمة كل صحيحة أربعة دنانير، وقيمة كل مريضة ديناران، وجبت صحيحة بقيمة نصف
صحيحة ونصف مريضة، وهو ثلاثة دنانير، ذكره صاحب
التهذيب وغيره. ولك أن تقول: هلا كان هذا ملتفتا إلى أن الزكاة تتعلق
بالوقص، أم لا، فإن تعلقت فذاك، وإلا قسط المأخوذ عن الخمس والعشرين.
النقص الثاني: العيب، والكلام فيه كالمرض، سواء تمحضت الماشية معيبة،
أو انقسمت سليمة ومعيبة. والمراد بالعيب في هذا الباب، ما يثبت الرد في البيع على
الأصح. وعلى الثاني: هذا مع ما يمنع الاجزاء في الأضحية. ولو ملك خمسا
وعشرين بعيرا معيبة، وفيها بنتا مخاض، إحداهما: من أجود المال مع عيبها، والثانية
دونها، فهل يأخذ الأجود كالأغبط في الحقاق وبنات اللبون، أم الوسط؟ وجهان.
الصحيح: الثاني. وأما قول الشافعي رحمه الله في المختصر: ويأخذ خير
المعيب، فاتفق الأصحاب على أنه مؤول، والمراد: يأخذ من وسطه.
النقص الثالث: الذكورة، فإذا تمحضت الإبل إناثا، أو انقسمت ذكورا
وإناثا، لم يجزئ عنها الذكر إلا في خمسة وعشرين، فإنه يجزئ فيها ابن لبون عند
فقد بنت المخاض، وإن تمحضت ذكورا، فثلاثة أوجه. أصحها وهو المنصوص:
جوازه، كالمريضة من المراض، وعلى هذا يؤخذ في ست وثلاثين ابن لبون أكثر
قيمة من ابن لبون، يؤخذ من خمس وعشرين، ويعرف بالتقويم أو النسبة.
21

والثاني: المنع، فعلى هذا لا يؤخذ أنثى كانت تؤخذ لو تمحضت إناثا، بل تقوم ماشيته لو
كانت إناثا، وتقوم الأنثى المأخوذة منها، ويعرف نسبتها من الجملة، وتقوم ماشيته
الذكور، وتؤخذ أنثى قيمتها ما تقتضيه النسبة، وكذلك الأنثى المأخوذة من الإناث
والذكور، يكون دون المأخوذة من محض الإناث بطريق التقسيط المذكور في
المراض والثالث: إن أدى أخذ الذكر إلى التسوية بين النصابين، لم يؤخذ، وإلا
أخذ.
مثاله: يؤخذ ابن مخاض من خمس وعشرين، وحق من ست وأربعين،
وجذع من إحدى وستين، وكذا يؤخذ الذكر إذا زادت الإبل، واختلف الفرض بزيادة
العدد، ولا يؤخذ ابن لبون من ست وثلاثين، لأنه مأخوذ عن خمس وعشرين.
وأما البقر، فالتبيع مأخوذ منها في مواضع وجوبه، وحيث وجبت المسنة،
تعينت إن تمحضت إناثا أو انقسمت، فإن تمحضت ذكورا، ففيه الوجهان الأولان
في الإبل، ولو أخرج عن أربعين من البقر، أو خمسين تبيعين، جاز على
الصحيح، لأنهما يجزئان عن ستين، فعما دونها أولى.
وأما الغنم، فإن تمحضت إناثا أو انقسمت، تعينت الأنثى، وإن تمحضت
ذكورا، فطريقان. المذهب وبه قطع الأكثرون: يجزئ الذكر. والثاني: على
الوجهين في الإبل.
النقص الرابع: الصغر، وللماشية في هذا الفصل ثلاثة أحوال. أحدها: أن
تكون كلها أو بعضها في سن الفرض، فيؤخذ لواجبها سن الفرض، ولا يؤخذ ما
دونه، ولا يكلف ما فوقه. الثاني: أن تكون كلها فوق سن الفرض، فلا يكلف
الاخراج منها، بل يحصل السن الواجبة ويخرجها، وله الصعود والنزول في الإبل
كما سبق. الثالث: أن يكون الجميع في سن دونها، وقد يستبعد تصور هذا، فإن
أحد شروط الزكاة الحول، وإذا حال الحول، فقد بلغت الماشية حد الاجزاء. وقد
22

صورها الأصحاب فيما إذا حدثت من الماشية في أثناء الحلول فصلان، أو عجول،
أو سخال، ثم ماتت الأمهات، وتم حولها والنتاج صغار بعد، وهذا تفريع على
المذهب أن النتاج يبنى على حولها. وأما على قول الأنماطي: إنه ينقطع الحول
بموت الأمهات، بل بنقصانها عن النصاب، فلا تجئ هذه الصورة بهذا الطريق،
ويمكن أن تصور ذلك فيما إذا ملك نصابا من صغار المعز، ومضى عليها حول،
فتجب الزكاة وإن لم تبلغ سن الاجزاء، لان الثنية من المعز على الأصح، هي التي
استكملت سنتين كما تقدم. إذا عرف التصوير ففيما يؤخذ؟ وجهان. وقال
صاحب التهذيب وغيره: قولان. القديم: لا يؤخذ إلا كبيرة، لكن دون الكبيرة
المأخوذة من الكبار في القيمة. وكذا إذا انقسم ماله إلى صغار وكبار، يؤخذ كبيرة
بالقسط كما سبق في نظائره، فإن لم توجد كبيرة بما يقتضيه التقسيط، أخذت القيمة
للضرورة. ذكره المسعودي في الايضاح والقول الجديد: لا يتعين الكبيرة، بل
تجوز الصغيرة كالمريضة من المراض. فعلى هذا، هل تؤخذ الصغيرة مطلقا، أم
كيف الحال؟ قطع الجمهور بأخذ الصغيرة من صغار الغنم. وذكروا في الإبل
والبقر، ثلاثة أوجه. أصحها: يجوز أخذ الصغار مطلقا كالغنم، ولكن يجتهد الساعي
ويحترز عن التسوية بين القليل والكثير، فيأخذ من ست وثلاثين فصيلا فوق الفصيل
المأخوذ في خمس وعشرين، ومن ست وأربعين فصيلا فوق المأخوذ من ست
وثلاثين، وعلى هذا، القياس. والوجه الثاني: لا تجزئ الصغيرة، لئلا تؤدي إلى
التسوية بين القليل والكثير، لكن يؤخذ كبيرة بالقسط كما سبق في نظائره. والثالث:
لا يؤخذ فصيل من أحد وستين فما دونها، ويؤخذ مما فوقها، وكذا من البقر. قال
الأصحاب: هذا الوجه ضعيف لشيئين. أحدهما: أن التسوية التي تلزم في أحد
وستين فما دونها، تلزم في أحد وتسعين، فإن الواجب في ست وسبعين، بنتا
لبون، وفي إحدى وتسعين، حقتان، فإن أخذنا فصيلين في هذا، وفي ذلك،
23

سوينا، فإن وجب الاحتراز عن التسوية، فليحترز عن
هذه الصورة. الثاني: أن هذه التسوية تلزم في البقر، في ثلاثين وأربعين، وقد عبر قوم من الأصحاب عن هذا
الوجه بعبارة تدفع هذين الشيئين فقالوا: تؤخذ الصغيرة حيث لا تؤدي إلى التسوية،
ومنهم من خص المنع على هذا الوجه بست وثلاثين فما فوقها، وجوز إخراج فصيل
عن خمس وعشرين، إذ لا تسوية في تجويزه وحده.
النقص الخامس: رداءة النوع، الماشية إن اتحد نوعها، بأن كانت إبله كلها
أرحبية أو مهرية، أو كانت غنمه كلها ضأنا أو معزا، أخذ الفرض منها، وذكر
في التهذيب ثلاثة أوجه في أنه هل يجوز أخذ ثنية من المعز، باعتبار القيمة عن
أربعين ضأنا، أو جذعة من الضأن عن أربعين معزا؟ أصحها: الجواز، لاتفاق
الجنس كالمهرية مع الأرحبية. والثاني: المنع كالبقر عن الغنم. والثالث: لا يؤخذ
المعز عن الضأن، ويجوز العكس، كما يؤخذ في الإبل المهرية عن المجيدية،
ولا عكس، وكلام إمام الحرمين قريب من هذا الثالث، فإنه قال: لو ملك أربعين
من الضأن الوسط، فأخرج ثنية من المعز الشريفة تساوي جذعة من الضأن التي
يملكها، فهذا محتمل، والظاهر إجزاؤها. أما إذا اختلف النوع كالمهرية والأرحبية
من الإبل، والعراب والجواميس من البقر، والضأن والمعز من الغنم، فيضم البعض
إلى البعض في إكمال النصاب لاتحاد الجنس، وفي كيفية أخذ الزكاة قولان.
أحدهما: يؤخذ من الأغلب، فإن استويا، فكاجتماع الحقاق وجنات اللبون في
مائتين، فيؤخذ الأغبط للمساكين على المذهب. وعلى وجه: الخيرة للمالك.
والقول الثاني وهو الأظهر: يؤخذ من كل نوع بقسطه، وليس معناه أن يؤخذ من هذا
شقص، ومن هذا شقص، فإنه لا يجزئ بالاتفاق، ولكن المراد، النظر إلى
الأصناف، وباعتبار القيمة، فإذا اعتبرت القيمة والتقسيط، فمن أي نوع كان
24

المأخوذ، جاز. كذا قاله الجمهور. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يكون المأخوذ من
أعلى الأنواع، كما لو انقسمت إلى صحاح ومراض، ويجاب عما قال بأنه ورد النهي
عن المريضة والمعيبة، فلم نأخذ إلا ما وجدنا صحيحة، بخلاف ما نحن فيه.
وحكي قول ثالث: أنه إذا اختلف الأنواع، أخذ من الوسط، ولا يجئ هذا في
نوعين فقط، ولا في ثلاثة متساوية. وحكي وجه: أنه يؤخذ الأجود، فخرج من
نصه في اجتماع الحقاق وبنات اللبون. وحكي عن أبي إسحاق: أن القولين فيما
إذا لم تحتمل الإبل أخذ واجب كل نوع وحده، فإن احتمل، أخذ بلا خلاف، بأن
ملك مائتين، مائة أرحبية، ومائة مهرية، فيؤخذ حقتان من هذه، وحقتان من هذه.
25

والمشهور في المذهب: طرد الخلاف مطلقا، ونوضح القولين الأولين بمثالين.
أحدهما: له خمس وعشرون من الإبل، عشرة مهرية، وعشرة أرحبية، وخمسة
مجيدية، فعلى القول الأول يؤخذ بنت مخاض أرحبية، أو مهرية، بقيمة نصف
أرحبية، ونصف مهرية، لان هذين النوعين أغلب. وعلى الثاني: يؤخذ بنت
مخاض من أي الأنواع أعطى بقيمة خمسي مهرية، وخمسي أرحبية، وخمس
مجيدية. فإذا كانت قيمة بنت مخاض مهرية عشرة، وقيمة بنت مخاض أرحبية
خمسة، وبنت مخاض مجيدية دينارين ونصف، أخذ بنت مخاض من أي أنواعها
شاء، قيمتها ستة ونصف. الثاني: له ثلاثون من المعز، وعشر من الضأن، فعلى
القول الأول: يأخذ ثنية من المعز كما لو كانت كلها معزا، وعكسه، لو كان الضأن
ثلاثين، أخذنا جذعة من الضأن. وعلى القول الثاني: يخرج ضائنة، أو عنزا بقيمة
ثلاثة أرباع عنز، وربع ضائنة في الصورة الأولى، وبقيمة ثلاثة أرباع ضائنة، وربع
ماعزة في الصورة الثانية، ولا يجئ قول اعتبار الوسط هنا. وعلى وجه: اعتبار
الأشرف يؤخذ من أشرفها.
26

باب الخلطة
هي نوعان، خلطة اشتراك، وخلطة جوار، وقد يعبر عن الأول بخلطة
الأعيان، وبخلطة الشيوع. وعن الثاني: بخلطة الأوصاف. والمراد بالأول أن لا
يتميز نصيب أحد الرجلين أو الرجال عن نصيب غيره، كماشية ورثها قوم أو ابتاعوها
معا، فهي شائعة بينهم. وبالثاني: أن يكون مال كل واحد متعينا متميزا عن مال
غيره، ولكن يجاوره مجاورة المال الواحد على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، ولكل
واحدة من الخلطتين أثر في الزكاة، فيجعلان مال الشخصين أو الأشخاص، بمنزلة
مال الواحد. ثم قد توجب الزكاة أو تكثرها، كرجلين خلطا عشرين بعشرين، يجب
شاة، ولو انفردا، لم يجب شئ.
قلت: وصورة تكثيرها، خلط مائة وشاة بمثلها، وجب على كل واحد شاة
ونصف، ولو انفرد، لزمه شاة فقط، أو خلط خمسا وخمسين بقرة بمثلها،. لزم كل
واحد مسنة ونصف تبيع، ولو انفرد كفاه مسنة. والله أعلم.
وقد يقللها، كرجلين خلطا أربعين بأربعين، يجب عليهما شاة، ولو انفردا،
وجب على كل واحد شاة. وحكى الحناطي وجها غريبا: أن خلطة الجوار لا أثر
لها، وليس بشئ.
فصل نوعا الخلطة يشتركان في اعتبار شروط، وتختص خلطة الجوار
بشروط، فمن المشترك كون المجموع نصابا، فلو ملك زيد عشرين شاة، وعمرو
عشرين شاة، فخلطا تسع عشرة بتسع عشرة، وتركا شاتين منفردتين، فلا أثر
لخلطتهما، فلا زكاة أصلا.
ومنها: أن يكون المختلطان من أهل وجوب الزكاة، فلو كان أحدهما ذميا أو
27

مكاتبا، فلا أثر للخلطة، بل إن كان نصيب الحر المسلم نصابا، زكاه زكاة
الانفراد، وإلا فلا شئ عليه.
ومنها: دوام الخلطة في جميع السنة على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما
الشروط المختصة بخلطة الجوار، فمجموعها عشرة، متفق على اشتراطه،
ومختلف فيه.
أحدها: اتحاد المراح، وهو مأواها ليلا.
والثاني: اتحاد المشرب، بأن تسقى غنمهما من ماء واحد، نهر، أو عين،
أو بئر، أو حوض، أو من مياه متعددة، بحيث لا تختص غنم أحدهما بالشرب من
موضع، وغنم الآخر من غيره.
الثالث: اتحاد المسرح، وهو الموضع الذي تجمع فيه، ثم تساق إلى
المرعى.
الرابع: اتحاد المرعى، وهو المرتع الذي ترعى فيه، فهذه الأربعة متفق
عليها.
الخامس: اتحاد الراعي، الأصح: اشتراطه. ومعناه: أن لا يختص غنم
أحدهما براع، ولا بأس بتعدد الرعاة لهما قطعا.
28

السادس: اتحاد الفحل، المذهب: أنه شرط، وبه قطع الجمهور. وقيل:
وجهان. أصحهما: اشتراطه. والمراد أن تكون الفحول مرسلة بين ماشيتهما،
لا يختص أحدهما بفحل، سواء كانت الفحول مشتركة أو مملوكة لأحدهما، أو
مستعارة. وفي وجه: يشترط أن تكون مشتركة بينهما. واتفقوا على ضعفه. وإذا
قلنا: لا يشترط اتحاد الفحل، اشترط كون الانزاء في موضع واحد. السابع:
اتحاد الموضع الذي تحلب فيه، لا بد منه، كالمراح. فلو حلب هذا ماشيته في
أهله، وذلك ماشيته في أهله، فلا خلطة. الثامن: اتحاد الحالب، وهو
الشخص الذي يحلب، فيه وجهان. أصحهما: ليس بشرط. والثاني: يشترط
بمعنى أنه لا ينفرد أحدهما بحالب يمتنع عن حلب ماشية الآخر.
التاسع: اتحاد الاناء الذي يحلب فيه، وهو المجلب، فيه وجهان.
أصحهما: لا يشترط، كما لا يشترط اتحاد آلة الجز. والثاني: يشترط فلا ينفرد
29

أحدهما بمحلب، أو محالب ممنوعة من الآخر. وعلى هذا، هل يشترط جلط
اللبن؟ وجهان. أصحهما: لا. والثاني: يشترط ويتسامحون في قسمته، كما
يخلطوا المسافرون أزوادهم ثم يأكلون، وفيهم الزهيد والرغيب.
العاشر: نية الخلطة هل تشترط؟ وجهان. أصحهما: لا يشترط. ويجري
الوجهان فيما لو افترقت الماشية في شئ مما يشترط الاجتماع فيه بنفسها، أو فرقها
الراعي ولم يعلم المالكان إلا بعد طول الزمان، هل تنقطع الخلطة، أم لا؟ أما لو
فرقاها، أو أحدهما قصدا في شئ من ذلك، فتنقطع الخلطة وإن كان يسيرا. وأما
التفرق اليسير من غير قصد، فلا يؤثر، لكن لو اطلعا عليه فأقراها على تفرقها
ارتفعت الخلطة. ومهما ارتفعت الخلطة، فعلى من نصيبه نصاب زكاة، الانفراد إذا
تم الحول من يوم الملك، لا من يوم ارتفاعها.
فصل الخلطة تؤثر في المواشي بلا خلاف. وهل تؤثر في الثمار،
والزروع، والنقدين، وأموال التجارة؟ أما خلطة الاشتراك، ففيها قولان. القديم:
لا يؤثر. والجديد: يؤثر. فأما خلطة الجوار، فلا تثبت على القديم. وفي
الجديد: وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: يثبت. إذا اختصرت، قلت: في
الخلطتين ثلاثة أقوال: الأظهر: ثبوتهما. والثاني: لا. والثالث: تثبت خلطة
الاشتراك فقط. وصورة الخلطة في هذه الأشياء، أن يكون لكل واحد منهما
رصف نخيل، أو زرع في حائط واحد، أو لكل واحد كيس درهم في صندوق
واحد، أو أمتعة تجارة في خزانة واحدة. وفرع الأصحاب على إثبات الخلطتين
مسائل.
منها: نخيل موقوفة على جماعة معينين في حائط واحد، أثمرت خمسة
أوسق، تجب فيها الزكاة.
ومنها: لو استأجر أجيرا لتعهد نخيله بثمرة نخلة بعينها بعد خروج ثمرها وقبل
30

بدو صلاحها، وشرط القطع، فلم يتفق القطع حتى بدا الصلاح وبلغ ما في الحائط
نصابا، وجب على الأجير عشر ثمرة تلك النخلة وإن قلت.
ومنها لو وقف أربعين شاة على جماعة معينين، إن قلنا: الملك في الموقوف لا
ينتقل إليهم، فلا زكاة. وإن قلنا: يملكونه، فوجهان. الأصح: لا زكاة أيضا
لضعف ملكهم.
فصل أخذ الزكاة من مال الخليطين قد يقتضي التراجع بينهما، وقد
يقتضي رجوع أحدهما على صاحبه دون الآخر، ثم الرجوع والتراجع يكثران في
خلطة الجوار، وقد يتفقان قليلا في خلطة المشاركة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فأما خلطة الجوار، فتارة يمكن الساعي أن يأخذ من نصيب كل واحد منهما ما
يخصه، وتارة لا يمكنه. فإن لم يمكنه، فله أن يأخذ فرض الجميع من نصيب أيهما
شاء. وإن لم يجد سن الفرض إلا من نصيب أحدهما، أخذه.
مثاله: أربعون شاة، لكل واحد عشرون، يأخذ الشاة من أيهما شاء. ولو
وجبت بنت لبون فلم يجدها إلا في أحدهما، أخذها منه. ولو كانت ماشية أحدهما
مراضا، أو معيبة، أخذ الفرض من الآخر. أما إذا أمكنه، فوجهان. قال أبو
إسحاق: يأخذ من مال كل واحد ما يخصه، ولا يجوز غير ذلك ليغنيهما عن
التراجع. وأصحهما وبه قال ابن أبي هريرة والجمهور: يأخذ من جنب المال ما
اتفق، ولا حجر عليه، بل لو أخذ كما قال أبو إسحاق، ثبت التراجع، لان المالين
كواحد.
مثال صورة الامكان: لكل واحد مائة شاة، وأمكن أن يأخذ من مال كل واحد
شاة. وكذا لو كان لأحدهما أربعون من البقر، وللآخر ثلاثون، وأمكن أخذ مسنة
31

من الأربعين، وتبيع من الثلاثين. وكذا لو كان لواحد مائة من الإبل، وللآخر ثمانون
وأمكن أخذ حقتين من المائة وبنتي لبون من الثمانين.
فرع في كيفية الرجوع فإذا خلطا عشرين من الغنم بعشرين، فأخذ
الساعي شاة من نصيب أحدهما، رجع على صاحبه بنصف قيمتها، لا بنصف شاة،
لأنها غير مثلية. فلو كان لأحدهما ثلاثون شاة، وللآخر عشر، فأخذها الساعي من
صاحب الثلاثين، رجع بربعها على الآخر. وإن أخذها من الآخر، رجع بثلاثة
أرباعها على صاحب الثلاثين. ولو كان لأحدهما مائة، وللآخر خمسون، فيأخذ
الساعي الشاتين الواجبتين من صاحب المائة، رجع على الآخر بثلث قيمتهما، ولا
يقول: بقيمة ثلثي شاة، وإن أخذهما من صاحب الخمسين، رجع بثلثي
قيمتهما. ولو أخذ من كل واحد شاة، رجع صاحب المائة على صاحب الخمسين
بثلث قيمة شاته، وصاحب الخمسين على صاحب المائة بثلثي قيمة شاته. ولو كان
نصف الشياه لهذا، ونصفها للآخر، رجع كل واحد بقيمة نصف شاته. فإن تساوت
القيمتان، خرج على أقوال التقاص عند تساوي الدينين قدرا وجنسا. ولو كان
لأحدهما ثلاثون من البقر، وللآخر أربعون، فواجبهما تبيع ومسنة، على صاحب
الأربعين أربعة أسباعهما، وعلى صاحب الثلاثين ثلاثة أسباعهما. فلو أخذهما
الساعي من صاحب الأربعين، رجع على الآخر بثلاثة أسباع قيمتهما، وإن أخذهما
من الآخر، رجع بأربعة أسباعهما. ولو أخذ التبيع من صاحب الأربعين، والمسنة
من الآخر، رجع صاحب المسنة بأربعة أسباعها، وصاحب التبيع بثلاثة أسباعه. ولو أخذ الساعي التبيع من صاحب الأربعين،
والمسنة من الآخر، رجع صاحب المسنة بثلاثة أسباعها، وصاحب التبيع بأربعة أسباعه.
قلت: هذا الذي ذكره في التبيع والمسنة قاله إمام الحرمين وغيره، وأنكر
عليهم بنص الشافعي رحمه الله. والذي نقله عنه صاحب جمع الجوامع في
منصوصات الشافعي. قال الشافعي: ولو كان غنماهما سواء، وواجبهما شاتان،
32

فأخذ من غنم كل واحد شاة، وكانت قيمة الشاتين المأخوذتين مختلفة، لم يرجع
واحد منهما على صاحبه بشئ، لأنه لم يؤخذ منه إلا ما عليه في غنمه لو كانت
منفردة. هذا نصه، وفيه تصريح بمخالفة المذكور، وأنه يقتضي أن على صاحب
الثلاثين تبيعا، وعلى الآخر مسنة، والتراجع يثبت على حسب ذلك، وكذلك في
الشياه. وهذا هو الظاهر في الدليل أيضا فليعتمد. والله أعلم.
فرع لو ظلم الساعي فأخذ من أحد الخليطين شاتين، والواجب شاة، أو
أخذ ماخضا، أو (شاة حبلى) ربى رجع المأخوذ منه بنصف قيمة الواجب، لا قيمة
المأخوذ، ويرجع المظلوم على الظالم، فإن كان المأخوذ باقيا في يد الساعي،
استرده، وإلا استرد الفضل، والفرض ساقط. ولو أخذ القيمة في الزكاة، أو أخذ
من السخال كبيرة، رجع على الأصح، لأنه مجتهد فيه. وقيل: يرجع في مسألة
الكبيرة قطعا.
فرع جميع ما قدمناه في هذا الفصل، في خلطة الجوار. أما خلطة
الاشتراك، فإن كان الواجب من جنس المال، فأخذه الساعي منه، فلا تراجع،
وإن كان من غيره، كالشاة فيما دون خمس وعشرين من الإبل، رجع المأخوذ منه
على صاحبه بنصف قيمتها، فلو كان بينهما عشرة، فأخذ من كل واحد شاة،
تراجعا، فإن تساوت القيمتان، خرج على أقوال التقاص.
فرع متى ثبت الرجوع، وتنازعا في قيمة المأخوذ، فالقول قول المرجوع
عليه، لأنه غارم.
فصل في اجتماع الخلطة والانفراد في حول واحد فإذا لم يكن لهما
حالة انفراد، بأن ورثا ماشية، أو ابتاعاها دفعة واحدة، شائعة أو مخلوطة، وأداما
الخلط سنة، زكيا زكاة الخلطة بلا خلاف، وكذا لو ملك كل واحد دون النصاب،
33

وبلغ بالخلط نصابا، زكيا زكاة الخلطة قطعا. أما إذا انعقد الحول على الانفراد، ثم
طرأت الخلطة، فإما إن يتفق ذلك في حق الخليطين جميعا، وإما في حق أحدهما،
فإن اتفق في حقهما، فتارة يتفق حولاهما، وتارة يختلفان، فإن اتفقا، بأن ملك كل
واحد منهما أربعين شاة غرة المحرم، ثم خلطا غرة صفر، فقولان. الجديد: أنه لا
تثبت الخلطة في السنة الأولى، فإذا جاء المحرم، وجب على كل واحد شاة.
والقديم: تثبت، فيجب في المحرم على كل واحد نصف شاة، وعلى القولين
جميعا في الحول الثاني فما بعده يزكيان زكاة الخلطة لوجودها في جميع السنة.
قلت: الأظهر: الجديد، ويجري القولان متى خلطا قبل انقضاء الحول
بزمن، لو علفت السائمة فيه، سقط حكم السوم. وفيه خلاف يأتي إن شاء الله
تعالى. واختار صاحب البيان في كتابه مشكلات المذهب أنه ثلاثة أيام.
والمراد، التقريب. وقد اتفقوا على أنه لا جريان للقديم إذا لم يبق من الحول إلا يوم
أو يومان، ونحو ذلك. والله أعلم.
وإن اختلف حولاهما، بأن ملك هذا غرة المحرم، وذلك غرة شهر صفر،
وخلطا غرة شهر ربيع، بني على القولين عند اتفاق الحول. فعلى الجديد: إذا
جاء المحرم، على الأول شاة، وإذا جاء صفر، فعلى الثانية شاة. وعلى القديم:
على كل واحد نصف شاة عند انقضاء حوله من حين ملك. ثم في سائر الأحوال يتفق
القولان على ثبوت حكم الخلطة، فيكون على الأول عند غرة كل محرم، نصف
34

شاة. وعلى الثاني: عند غرة كل صفر، نصف شاة. ولنا وجه: أن الخلطة في
جميع الأحوال لا تثبت. واتفق الأصحاب على ضعفه، ونسب الجمهور هذا الوجه
إلى تخريج ابن سريج. وقال المحاملي: ليس هذا لابن سريج، بل هو لغيره.
أما إذا اتفق في حق أحدهما، بأن ملك أربعين في غرة المحرم، وملك الثاني
أربعين غرة صفر، وخلطاها عند الملك، أو خلط الأول أربعينه غرة صفر بأربعين
لغيره، ثم باع الثاني أربعينه غرة صفر بأربعين لغيره ثم باع الثاني لثالث، فقد
ثبت للأول حكم الانفراد شهرا، والثاني لم ينفرد أصلا، ويبني على حاله
المتقدمة، فإذا جاء المحرم، فعلى الأول شاة في الجديد، ونصف شاة
في القديم، وإذا جاء صفر، فعلى الثاني نصف شاة في القديم، وعلى الجديد
وجهان. أصحهما: نصف شاة. والثاني: شاة، وثبت حكم الخلطة في باقي
الأحوال على المذهب، وعلى الوجه المنسوب إلى ابن سريج: لا يثبت.
فرع في صور بناها الأصحاب على هذه الاختلافات منها: لو ملك
أربعين شاة غرة المحرم، ثم أربعين غرة صفر، فعلى الجديد: إذا جاء المحرم لزمه
الأربعين الأول شاة، وإذا جاء صفر لزمه الأربعين الثانية نصف شاة على الأصح،
وقيل: شاة. وعلى القديم: يلزمه نصف شاة لكل أربعين في حولها، ثم يتفق
القولان في سائر الأحوال، وعلى الوجه المنسوب إلى ابن سريج: يجب في
الأربعين الأولى شاة عند تمام حولها، وفي الثانية شاة عند تمام حولها. وهكذا أبدا
ما لم ينقص النصاب، والغرض أنه كما تمتنع الخلطة في ملك الشخصين عند
اختلاف التاريخ، يمتنع في ملكي الواحد.
ومنها: لو ملك الرجل أربعين غرة المحرم، ثم ملك
أربعين غرة صفر، ثم أربعين غرة شهر ربيع، فعلى القديم: يجب في كل أربعين ثلث شاة عند
لتمام حولها. وعلى الجديد: يجب في الأولى لتمام حولها شاة. وفي ما يجب في الثانية لتمام حولها، وجهان. أصحهما: نصف شاة. والثاني: شاة. وفيما يجب في
35

الثالثة لتمام حولها وجهان. أصحهما: ثلث شاة. والثاني: شاة، ثم يتفق القولان
في سائر الأحوال. وعلى وجه ابن سريج: يجب في كل أربعين لتمام حولها شاة
أبدا.
ومنها: لو ملك أربعين غرة المحرم، وملك آخر عشرين غرة صفر، وخلطا
عند ملك الثاني، فإذا جاء المحرم، لزم الأول شاة في الجديد، وثلثاها في
القديم، وإذا جاء صفر، لزم الثاني ثلث شاة على القولين، لأنه خالط في جميع
حوله. وعلى وجه ابن سريج: يجب على الأول شاة أبدا، ولا شئ على صاحب
العشرين أبدا لاختلاف التاريخ، ولو ملك مسلم وذمي ثمانين شاة من أول المحرم،
ثم أسلم الذمي غرة صفر، كان المسلم كمن انفرد بماله شهرا، ثم طرأت الخلطة.
فرع جميع ما قدمناه في الفصل المتقدم وفرعه، هو في طريان خلطة
الجوار، فلو طرأت خلطة الشيوع، بأن ملك أربعين شاة ستة أشهر، ثم باع نصفها
مشاعا، ففي انقطاع حول البائع، طريقان.
أحدهما: قول ابن خيران: إنه على القولين فيما إذا انعقد حولهما على
الانفراد ثم خلطا، إن قلنا: يزكيان زكاة الخلطة، لم ينقطع حوله، وإن قلنا: زكاة
الانفراد، انقطع لنقصان النصاب.
والطريق الثاني، وبه قطع الجمهور ونقله المزني والربيع عن نصه: أن الحول
لا ينقطع، لاستمرار النصاب بصفة الانفراد، ثم بصفة الاشتراك، فعلى هذا إذا
مضت ستة أشهر من يوم الشراء، لزم البائع نصف شاة لتمام حوله. وأما المشتري،
فينظر، إن أخرج البائع واجبه وهو نصف شاة من المشترك، فلا شئ عليه، لنقصان
المجموع عن النصاب قبل تمام حوله، وإن أخرج من غيره، بنى على تعلق الزكاة
بالعين أو بالذمة، إن قلنا: بالذمة، لزمه نصف شاة عند تمام حوله، وإن قلنا:
بالعين، ففي انقطاع حول المشتري، قولان. أظهرهما عند العراقيين: الانقطاع.
ومأخذهما، أن إخراج الزكاة من موضع آخر يمنع زوال الملك عن قدر الزكاة، أو
يفيد عوده بعد الزوال، ولو ملك ثمانين شاة، فباع نصفها مشاعا في أثناء الحول،
لم ينقطع حول البائع في النصف الثاني قطعا. وفي واجبه لتمام حوله وجهان.
36

أصحهما: نصف شاة. والثاني: شاة، ولو أن مالك الأربعين باع بعضها،
نظر، إن ميزها قبل البيع أو بعده وأقبضها، فقد زالت الخلطة إن كثر زمن التفريق،
فإذا خلطا، استأنف الحول، وإن كان زمن التفريق يسيرا، ففي انقطاع الحول
وجهان. أوفقها لكلام الأكثرين: الانقطاع، فلو لم يميزا، ولكن أقبض البائع
المشتري جميع الأربعين لتصير العشرين مقبوضة، فالحكم كما لو باع النصف
مشاعا، فلا ينقطع حول الباقي على المذهب. وفيه وجه: أنه ينقطع بالانفراد
بالبيع. والطارئ هنا: خلطة جوار، وإن ذكرناها ها هنا. ولو كان لهذا أربعون،
ولهذا أربعون، فباع أحدهما جميع غنمه بغنم صاحبه في أثناء الحول، انقطع
حولاهما واستأنفا من وقت المبايعة، ولو باع أحدهما نصف غنمه شائعا بنصف غنم
صاحبه شائعا، والأربعونان مميزتان، فحكم الحول فيما بقي لكل واحد منهما من
أربعينه، كما إذا كان للواحد أربعون، فباع نصفها شائعا. والمذهب: أنه لا
ينقطع، فإذا تم حول ما بقي لكل واحد منهما، فهذا مال ثبت له الانفراد أولا،
والخلطة في آخر الحول، ففيه القولان السابقان. القديم: أنه يجب على كل واحد
ربع شاة. والجديد: على كل واحد نصف شاة، وإذا مضى حول من وقت التبايع،
لزم كل واحد للقدر الذي ابتاعه ربع شاة على القديم. وفي الجديد وجهان.
أصحهما: ربع شاة. والثاني: نصفها.
فرع إذا طرأ الانفراد على الخلطة، زكى من بلغ نصيبه نصابا زكاة الانفراد
من وقت الملك، ولو كان بينهما أربعون مختلطة، فخالطهما ثالث بعشرين في أثناء
حولهما، ثم ميز أحد الأولين ماله قبل تمام الحول، فلا شئ عليه عند تمام
الحول، ويجب على الثاني نصف شاة عند تمام حوله، وكذا على الثالث نصف شاة
عند تمام حوله. ووجه ابن سريج ينازع فيه، ولو كان بينهما ثمانون مشتركة،
فاقتسماها بعد ستة أشهر، فإن قلنا: القسمة إفراز حق، فعلى كل واحد عند تمام
حوله، شاة، وإن قلنا: بيع، لزم كل واحد عند تمام باقي الحول نصف شاة. ثم
37

إذا مضى حول من وقت القسمة، لزم كل واحد نصف شاة لما تجدد ملكه، وهكذا
في كل ستة أشهر، كما لو كان بينهما أربعون شاة، فاشترى أحدهما نصف الآخر
بعد مضي ستة أشهر، يجب عليه عند مضي كل ستة أشهر نصف شاة.
فصل إذا اجتمع في ملك الواحد ماشية مختلطة، وغير مختلطة من
جنسها، بأن ملك ستين شاة، خالط بعشرين منها عشرين لغيره خلطة جوار أو
شيوع، وانفرد بالأربعين، فكيف يزكيان؟ قولان. أظهرهما، وعليه فرع في
المختصر واختاره ابن سريج، وأبو إسحاق والأكثرون: أن الخلطة خلطة ملك،
أي كل ما في ملكه ثبت فيه حكم الخلطة، لن الخلطة تجعل مال الاثنين كمال
الواحد، ومال الواحد يضم بعضه إلى بعض وإن تفرق، فعلى هذا، في الصورة
المذكورة، كان صاحب الستين قد خلطها بعشرين، فعليهما شاة، ثلاثة أرباعها
عليه، وربعها على صاحب العشرين. والقول الثاني: أن الخلطة خلطة عين، أي
يقصر حكمها على المخلوط، فتجب بعشرين، على صاحب العشرين نصف شاة
بلا خلاف، لأنه خليط عشرين. وفي صاحب الستين أوجه. أصحها، وهو
المنصوص: يلزمه شاة. والثاني: ثلاثة أرباع شاة، كما لو خالط بالجميع.
والثالث: خمسة أسداس شاة، ونصف سدس، يخص الأربعين منها ثلثان كأنه
انفرد بجميع الستين، ويخص العشرين ربع كأنه خالط بالجميع. والرابع: شاة
وسدس، يخص الأربعين ثلثان، والعشرين نصف. والخامس: شاة ونصف كأنه
انفرد بأربعين، وخالط بعشرين، وهذا ضعيف أو غلط. أما إذا خلط عشرين
بعشرين لغيره، ولكل واحد منهما أربعون منفردة، ففي واجبهما القولان، فإن قلنا:
خلطة ملك، فعليهما شاة، على كل واحد نصف، لان الجميع مائة وعشرون، وإن
قلنا: خلطة عين، فسبعة أوجه. أصحها: على كل واحد شاة تغليبا للانفراد.
والثاني: على كل واحد ثلاثة أرباع شاة، لان له ستين مخالطة عشرين. والثالث:
على كل واحد نصف شاة، وكان الجميع مختلطا. والرابع: على كل واحد خمسة
أسداس ونصف سدس حصة الأربعين ثلثان، كأنه انفرد بماله، وحصة العشرين
ربع. كأنه خالط الستين بالعشرين. والخامس: خمسة أسداس، حصة العشرين
سدس، كأنه خلطها بالجميع. والسادس: على كل واحد شاة وسدس، ثلثان عن
الأربعين، ونصف عن العشرين. والسابع: على كل واحد شاة ونصف. ولا فرق
38

في هاتين المسألتين بين أن يكون الأربعون المنفردة في بلد المال المختلط، أم في
غيره، ويجري القولان المذكوران سواء اتفق حول صاحب الستين، وحول الآخر،
أم اختلفا، لكن إن اختلفا، زاد النظر في التفاصيل المذكورة في الفصل السابق.
وقال ابن كج: الخلاف فيما إذا اختلف حولاهما، فإن اتفقا، فلا خلاف أن عليهما
شاة، ربعها على صاحب العشرين، وباقيها على الآخر، وهذا شاذ. والمذهب:
أنه لا فرق.
فرع فيما إذا خالط ببعض ماله واحدا. وببعضه آخر ولم يخالط
أحد خليطيه الآخر فإذا ملك أربعين شاة، فخلط عشرين بعشرين، لمن لا
يملك غيرها، والعشرين الأخرى بعشرين لآخر، فإن قلنا: الخلطة خلطة ملك،
فعلى صاحب
الأربعين نصف. وأما الآخران، فمال كل واحد مضموم إلى الأربعين، وهل يضم إلى العشرين التي لخليط الخليط؟ وجهان. أصحهما وبه قطع
العراقيون: نعم، فعلى كل واحد ربع شاة. والثاني: لا، فعليه ثلث شاة. وإن
قلنا: خلطة عين، فعلى كل واحد من صاحبي العشرينين نصف شاة. وأما صاحب
الأربعين، ففيه الأوجه المتقدمة في فصل حق صاحب الستين، لكن الذي ينجمع
منها ها هنا ثلاثة. أصحها هنا: نصف شاة. والثاني: شاة. والثالث: ثلثا شاة.
ولو ملك ستين، خلط كل عشرين بعشرين لرجل، فإن قلنا: بخلطة الملك، فعلى
صاحب الستين نصف شاة، وفي أصحاب العشرينات وجهان. إن ضممنا إلى خليط
خليطه، فعلى كل واحد سدس شاة، وإلا فربع. وإن قلنا: بخلطة العين،
فعلى كل واحد من أصحاب العشرينات نصف شاة، وفي صاحب الستين أوجه.
أحدها: يلزمه شاة، والثاني: نصف. والثالث: ثلاثة أرباع شاة. والرابع: شاة
ونصف، وفي عشرين: نصف. ولو ملك خمسا وعشرين من الإبل، فخالط
بكل خمس خمسا لآخر، فإن قلنا: بخلطة الملك، فعلى صاحب الخمس
والعشرين نصف حقة، وفي واجب كل واحد من خلطائه وجهان. أصحهما: عشر
حقة. والثاني: سدس بنت مخاض. وإن قلنا بخلطة العين، فعلى كل واحد من
39

خلطائه شاب، وفي صاحب الخمس والعشرين الأوجه. على الأول: بنت مخاض.
وعلى الثاني: نصف حقة. وعلى الثالث: خمسة أسداس بنت مخاض. وعلى
الرابع: خمس شياه. ولو ملك عشرا من الإبل، فخلط خمسا بخمس عشرة لغيره،
وخمسا بخمس عشرة لآخر، فإن قلنا: بخلطة الملك، فعلى صاحب العشر ربع
بنت لبون. وفي صاحبيه وجهان. إن ضممناه إلى خليطه فقط، لزمه ثلاثة أخماس
بنت مخاض، وإن ضممناه أيضا إلى خليط خليطه، لزمه ثلاثة أثمان بنت لبون.
وإن قلنا: بخلطة العين، فعلى كل واحد من صاحبيه ثلاث شياه، وفي صاحب
العشر، الأوجه. على الأول: يلزمه شاتان، وعلى الثاني: ربع بنت لبون، وعلى
الثالث: خمسا بنت مخاض، وعلى الرابع: شاتان كالوجه الأول. ولو ملك
عشرين من الإبل، خلط كل خمسة بخمس وأربعين لرجل. فإن قلنا: بخلطة
الملك، لزمه الأغبط من نصف بنت لبون، وخمسي حقة على المذهب بناء على ما
تقدم، أن الإبل إذا بلغت مائتين، فالمذهب: أن واجبها الأغبط من خمس بنات
لبون، وأربع حقاق، وجملة الأموال هنا مائتان، وفيما يجب على كل واحد من
الخلطاء، وجهان، إن ضممناه إلى خليط خليطه أيضا، لزمه بنت لبون وثمنها،
أو تسعة أعشار حقة، وإن لم تضم إلا إلى خليطه، لزمه تسعة أجزاء من ثلاثة عشر
جزءا من جذعة. وإن قلنا: بخلطة العين، لزم كل واحد من الخلطاء تسعة أعشار
حقة، وفي صاحب العشرين، الأوجه. على الأول: أربع شياه، وعلى الثاني:
الأغبط من نصف بنت لبون، وخمسي حقة، وعلى الثالث: أربعة أجزاء من ثلاثة
عشر جزءا من جذعة، وعلى الرابع: أربع شياه كالأول. وكل هذه المسائل،
مفروضة فيما (إذا) اتفقت أوائل الأحوال، فإن اختلفت، انضم إلى هذه
الاختلافات ما سبق من الخلاف عند اختلاف الحول.
مثاله: في الصورة الأخيرة اختلف الحول، فيزكون في السنة الأولى زكاة
الانفراد كل لحوله، وفي باقي السنين، يزكون كلهم زكاة الخلطة، هذا هو
40

المذهب. وعلى القديم: يزكون في السنة الأولى أيضا بالخلطة، وعلى وجه ابن
سريج: لا تثبت لهم الخلطة أبدا ولو خلط خمس عشرة من الغنم بخمس عشرة
لغيره، ولأحدهما خمسون منفردة، فإن قلنا: بخلطة العين، فلا شئ على صاحب
الخمس عشرة، لان المختلط دون نصاب، وعلى الآخر، شاة عن الخمس
والستين، كمن خالط ذميا. وإن قلنا: بخلطة الملك، فوجهان. أحدهما: لا أثر
لهذه الخلطة لنقصان المختلط عن النصاب. والثاني: تثبت الخلطة ويضم
الخمسون إلى الثلاثين، فيجب شاة، منها على صاحب الخمسين ستة أثمان ونصف
ثمن، والباقي على الآخر.
قلت: أصحهما: تثبت. والله أعلم.
الشرط الثالث لوجوب زكاة النعم: الحول.
فلا زكاة حتى يحول عليه الحول، إلا النتاج، فإنه يضم إلى الأمهات
بشرطين.
أحدهما: أن يحدث قبل تمام الحول وإن قلت البقية، فلو حدث بعد
الحول والتمكن من الأداء، لم يضم إلى الأمهات في الحول الأول قطعا، ويضم في
الثاني، وإن حدث بعد الحول وقبل إمكان الأداء، لم يضم في الحول الماضي على
المذهب. وقيل: في ضمه قولان.
41

الشرط الثاني: أن يحدث النتاج بعد بلوغ الأمهات نصابا، فلو ملك دون
النصاب، فتوالدت وبلغت نصابا، فابتداء الحول من حين بلوغه، وإذا وجد
الشرطان، فماتت الأمهات كلها أو بعضها، والنتاج نصاب، زكى النتاج بحول
الأمهات على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه قاله الأنماطي: لا
يزكي بحول الأمهات إلا إذا بقي منها نصاب. ووجه ثالث: يشترط بقاء شئ من
الأمهات ولو واحدة،
وفائدة ضم النتاج إلى الأمهات، إنما يظهر إذا بلغت به نصابا آخر، بأن ملك
مائة شاة فولدت إحدى وعشرين، فيجب شاتان، ولو تولدت عشرون فقط، لم يكن فيه فائدة.
أما المستفاد بشراء أو هبة أو إرث، فلا يضم إلى ما عنده في الحول، ولكن
يضم إليه في النصاب على الصحيح وبيانه بصور.
منها: ملك ثلاثين بقرة ستة أشهر، ثم اشترى عشرا، فعليه عند تمام حول
42

الأصل تبيع، وعند تمام حول العشر، ربع مسنة، فإذا جاء حول ثان للأصل، لزمه
ثلاثة أرباع مسنة، وإذا تم حول ثان للعشر، لزمه ربع مسنة، وهكذا أبدا. وعن
ابن سريج: أن المستفاد لا يضم إلى الأصل في النصاب، كما لا يضم إليه في
الحول. فعلى هذا: لا ينعقد الحول على العشر حتى يتم حول الثلاثين، ثم
يستأنف حول الجميع.
ومنها: لو ملك عشرين من الإبل ستة أشهر، ثم اشترى عشرا، لزمه عند تمام
حول العشرين أربع شياه، وعند تمام حول العشر، ثلث بنت مخاض، فإذا حال
حول ثان على العشرين، ففيها ثلثا بنت مخاض، وإذا حال الحول الثاني على
العشر، فثلث بنت مخاض، وهكذا يزكي أبدا. وعلى المحكي عن ابن سريج:
عليه أربع شياه عند تمام حول العشرين. ولا نقول هنا: لا ينعقد الحول على
العشر، حتى يستفتح حول العشرين، لان العشر من الإبل نصاب، بخلاف العشر
من البقر، ولو كانت المسألة بحالها، واشترى خمسا، فإذا تم حول العشرين،
فعليه أربع شياه، فإذا تم حول الخمس، فعليه خمس بنت مخاض، وإذا تم
حول الثاني على الأصل، فأربعة أخماس بنت مخاض، وعلى هذا القياس.
وعند ابن سريج: في العشرين أربع شياه أبدا عند تمام حولها، وفي الخمس: شاة
أبدا. وحكي وجه: أن الخمس لا تجزئ في الحول حتى يتم حول الأصل، ثم
ينعقد الحول على جميع المال، وهذا يطرد في العشر في الصورة السابقة.
ومنها: ملك أربعين من الغنم غرة المحرم، ثم اشترى أربعين غرة صفر، ثم
أربعين غرة شهر ربيع، وقد تقدمت مع أشباهها في باقي باب الخلطة.
فرع الاعتبار في النتاج بالانفصال، فلو خرج بعض الجنين وتم الحول قبل
انفصاله، فلا حكم له، ولو اختلف الساعي والمالك، فقال المالك: حصل النتاج
بعد الحول، وقال الساعي: قبله. أو قال: حصل من غير النصاب. وقال
الساعي: بل من نفس النصاب، فالقول قول المالك، فإن اتهمه، حلفه.
قلت: قال أصحابنا: لو كان عنده نصاب فقط، فهلك منه واحدة، وولدت
واحدة في حالة واحدة، لم ينقطع الحول، لأنه لم يخل من نصاب. قال صاحب
43

البيان: ولو شك، هل كان التلف والولادة دفعة واحدة، أو سبق أحدهما، لم ينقطع
الحول، لان الأصل بقاؤه.
والله أعلم.
الشرط الرابع: بقاء الملك في الماشية جميع الحول، فلو زال الملك في
خلال الحول، انقطع الحول، ولو بادل ماشيته بماشية من جنسها أو من غيره،
استأنف كل واحد منهما الحول، وكذا لو بادل الذهب بالذهب، أو بالورق،
استأنف الحول إن لم يكن صيرفيا يقصد التجارة به، فإن كان، فقولان. وقيل:
وجهان. أظهرهما: ينقطع. والثاني: لا. هذا كله في المبادلة الصحيحة. أما
الفاسدة، فلا تقطعه سواء اتصل بها القبض، أم لا. ثم لو كانت سائمة وعلفها
المشتري، قال في التهذيب: هو كعلف الغاصب، وفي قطعه الحول،
وجهان. قال ابن كج: عندي أنه ينقطع، لأنه مأذون له، فهو كالوكيل، بخلاف
الغاصب، ولو باع معلوفة بيعا فاسدا، فأسامها المشتري، فهو كإسامة الغاصب.
فرع لو باع النصاب، أو بادل قبل تمام الحول، ووجد المشتري به عيبا
قديما، نظر، إن لم يمض عليه حول من يوم الشراء، فله الرد بالعيب، والمردود
عليه يستأنف الحول، سواء رد قبل القبض أو بعده، وإن مضى حول من يوم
الشراء، ووجبت فيه الزكاة، نظر، إن لم يخرجها بعد، فليس له الرد، سواء إن
قلنا: الزكاة تتعلق بالعين، أو بالذمة، لان للساعي أخذ الزكاة من عينها لو تعذر
أخذها من المشتري، وذلك عيب حادث، ولا يبطل حق الرد بالتأخير إلى أن يؤدي
44

الزكاة، لأنه غير متمكن منه قبله، وإنما يبطل بالتأخير مع التمكن، ولا فرق في ذلك
بين عروض التجارة والماشية التي تجب زكاتها من غير جنسها، وهي الإبل دون
خمس وعشرين، وبين سائر الأموال. وفي كلام ابن الحداد: تجويز الرد قبل إخراج
الزكاة، ولم يثبتوه وجها. وإن أخرج الزكاة، نظر، إن أخرجها من مال آخر، بني
جواز الرد على أن الزكاة تتعلق بالعين، أم بالذمة؟ وفيه خلاف يأتي إن شاء الله
تعالى. فإن قلنا: بالذمة والمال مرهون به، فله الرد، كما لو رهن ما اشتراه، ثم
انفك الرهن، ووجد به عيبا. وإن قلنا: المساكين شركاء، فهل له الرد؟ فيه
طريقان. أحدهما، وهو الصحيح عند الشيخ أبي علي وقطع به كثيرون: له الرد.
والثاني، وبه قطع العراقيون والصيدلاني وغيره: أنه على وجهين، كما لو اشترى
شيئا وباعه وهو غير عالم بعيب، ثم اشتراه أو ورثه، هل له رده؟ فيه خلاف. ولنا
وجه: أنه ليس له الرد على غير قول الشركة أيضا، لان ما أخرجه عن الزكاة، قد
يظهر مستحقا فيتبع الساعي عين النصاب. ومنهم من خص الوجه بقدر الزكاة،
وجعل الزائد على قولي تفريق الصفقة، وهذا الوجه شاذ منكر، وإن أخرج الزكاة من
نفس المال، فإن كان الواجب من جنس المال أو من غيره، فباع منه بقدر الزكاة،
فهل له رد الباقي؟ فيه ثلاثة أقوال. المنصوص عليه في الزكاة: ليس له ذلك، وهذا
إذا لم نجوز تفريق الصفقة. وعلى هذا، هل يرجع بالأرش؟ وجهان. أحدهما: لا
يرجع إن كان المخرج باقيا في يد المساكين، فإنه قد يعود إلى ملكه فيرد الجميع،
وإن كان تالفا، رجع. والثاني: يرجع مطلقا وهو ظاهر النص، لان نقصانه كعيب
حادث، فلو حدث عيب، رجع بالأرش ولم ينتظر زوال العيب. والقول الثاني:
يرد الباقي بحصته من الثمن، وهذا إذا جوزنا تفريق الصفقة. والقول الثالث: يرد
الباقي وقيمة المخرج في الزكاة، ويسترد جميع الثمن ليحصل غرض الرد، ولا
تتبعض الصفقة، ولو اختلفا في قيمة المخرج على هذا القول، فقال البائع:
ديناران، وقال المشتري: دينار، فقولان. أحدهما: القول قول المشتري، لأنه
غارم. والثاني: قول البائع، لان ملكه ثابت على الثمن، فلا يسترد منه إلا ما أقر
به.
45

فرع حكم الإقالة، حكم الرد بالعيب في جميع ما ذكرنا، ولو باع
النصاب في أثناء الحول بشرط الخيار، وفسخ البيع، فإن قلنا: الملك في زمن
الخيار للبائع أو موقوف، بنى على حوله. وإن قلنا: الملك للمشتري، استأنف
البائع بعد الفسخ.
فرع لو ارتد في أثناء الحول، إن قلنا: يزول ملكه بالردة، انقطع
الحول، فإن أسلم، استأنف. وفيه وجه: أنه لا ينقطع، بل يبني كما يبني الوارث
على قول. وإن قلنا: لا يزول، فالحول مستمر وعليه الزكاة عند تمامه. وإن قلنا:
ملكه موقوف، فإن هلك على الردة، تبينا الانقطاع من وقت الردة، وإن أسلم، تبينا
استمرار الملك. ووجوب الزكاة على المرتد في الأحوال الماضية في الردة مبني على
هذا الخلاف.
فرع إذا مات في أثناء الحول، وانتقل المال إلى وارثه، هل يبنى على
حول الميت؟ قولان. القديم: نعم، والجديد: لا، بل يبتدئ حولا، وقيل:
يبتدئ قطعا، وأنكر القديم.
قلت: المذهب: أنه يبتدئ حولا، سواء أثبتنا الخلاف، أم لا. والله أعلم.
فإذا قلنا: لا يبني فكان مال تجارة، لم ينعقد الحول عليه حتى يتصرف
الوارث بنية التجارة، وإن كان سائمة ولم يعلم الوارث الحال حتى حال الحول،
فهل تلزمه الزكاة، أم يبتدئ الحول من وقت علمه؟ فيه خلاف مبني على أن قصد
السوم، هل يعتبر؟ وسيأتي إن شاء الله تعالى.
فرع لا فرق في انقطاع الحول بالمبادلة والبيع في أثنائه بين أن يكون
محتاجا إليه، وبين أن لا يكون، بل قصد الفرار من الزكاة، إلا أنه يكره الفرار
كراهة تنزيه، وقيل: تحريم، وهو خلاف المنصوص، وخلاف ما قطع به
الجمهور.
46

الشرط الخامس: السوم، فلا تجب الزكاة في النعم، إلا أن تكون سائمة،
فإن علفت في معظم الحول ليلا ونهارا، فلا زكاة، وإن علفت قدرا يسيرا لا يتمول،
فلا أثر له قطعا. والزكاة واجبة، وإن أسيمت في بعض الحول، وعلفت دون
معظمه، فأربعة أوجه. أحدها، وهو الذي قطع به الصيدلاني وصاحب
المهذب وكثير من الأئمة: إن علفت قدرا تعيش الماشية بدونه، لم يؤثر،
ووجبت الزكاة، وإن كان قدرا تموت لو لم ترع معه، لم تجب الزكاة، قالوا:
والماشية تصبر اليومين، ولا تصبر الثلاثة. قال إمام الحرمين: ولا يبعد
أن يلحق الضرر البين بالهلاك على هذا الوجه، والوجه الثاني: إن علفت قدرا يعد
مؤونة بالإضافة إلى رمق السائمة، فلا زكاة، وإن احتقر بالإضافة إليه، وجبت
الزكاة، وفسر الرمق بدرها، ونسلها، وأصوافها، وأوبارها، ويجوز أن يقال:
المراد رمق إسامتها. والثالث: لا ينقطع الحول ولا تمتنع زكاة إلا بالعلف في أكثر
السنة. وقال إمام الحرمين: على هذا الوجه لو استويا، ففيه تردد.
والظاهر السقوط. والرابع: كل ما يتمول من العلف، وإن قل، يقطع السوم، فإن
أسيمت بعده، استأنفت الحول. ولعل الأقرب تخصيص هذه الأوجه بما إذا لم
يقصد بعلفه شيئا، فإن قصد به قطع السوم، انقطع الحول لا محالة، كذا
47

ذكره صاحب العدة وغيره: ولا أثر لمجرد نية العلف، ولو كانت تعلف ليلا
وترعى نهارا في جميع السنة، كان على الخلاف.
قلت: ولو أسيمت في كلا مملوك، فهل هي سائمة، أم معلوفة؟ وجهان
حكاهما في البيان وأصح الأوجه الأربعة: أولها، وصححه في المحرر.
والله أعلم.
فرع السائمة التي تعمل كالنواضح وغيرها، فيها وجهان. أصحهما: لا
زكاة فيها، وبه قطع معظم العراقيين، لأنها كثياب البدن، ومتاع الدار،
والثاني: تجب.
فرع هل يعتبر القصد في العلف والسوم؟ وجهان يتفرع عليهما مسائل.
منها: لو اعتلفت السائمة بنفسها القدر المؤثر، ففي انقطاع الحول وجهان،
الموافق منهما لاختيار الأكثرين في نظائرها أنه ينقطع، لأنه فات شرط السوم،
فصار كفوات سائر شروط الزكاة، لا فرق بين فقدها قصدا أو اتفاقا، ولو سامت
الماشية بنفسها، ففي وجوب الزكاة الوجهان. وقيل: لا تجب هنا قطعا، ولو علف
ماشيته لامتناع الرعي بالثلج، وقصد ردها إلى الإسامة عند الامكان، انقطع الحول
على الأصح لفوات الشرط. ولو غصب سائمة فعلفها، فلنا خلاف يأتي إن شاء
48

الله تعالى في أن المغصوب هل فيه زكاة، أم لا؟ إن قلنا: لا زكاة فيه، فلا شئ،
وإلا فأوجه، أصحها عند الأكثرين: لا زكاة لفوات الشرط. والثاني: تجب، لان
فعله كالعدم. والثالث: إن علفها بعلف من عنده، لم ينقطع، وإلا انقطع. ولو
غصب معلوفة فأسامها، وقلنا: تجب الزكاة في المغصوب، فوجهان. أصحهما: لا تجب. والثاني: تجب، كما لو غصب حنطة وبذرها، يجب العشر فيما
ينبت، فإن أوجبناها، فهل تجب على الغاصب لأنها مؤونة وجبت بفعله، أم على
المالك لان نفع حقه في المؤونة عائد إليه؟ فيه وجهان. فإن قلنا: على المالك،
ففي رجوعه بها على الغاصب طريقان. أحدهما: القطع بالرجوع. وأشهرهما:
على وجهين. أصحهما: الرجوع. فإن قلنا: يرجع، فيرجع قبل إخراج الزكاة،
أم بعده؟ وجهان. وقياس المذهب: أن الزكاة إن وجبت، كانت على المالك، ثم
يغرم الغاصب. أما إيجاب الزكاة على غير المالك، فبعيد.
الشرط السادس: كمال الملك، وفي هذا الشرط خلاف يظهر بتفريع
مسائله. فإذا ضل ماله، أو غصب، أو سرق، وتعذر انتزاعه، أو أودعه فجحد، أو
وقع في بحر، ففي وجوب الزكاة فيه ثلاثة طرق. أصحها: أن المسألة على قولين.
أظهرهما وهو الجديد: وجوبها، والقديم: لا تجب. والطريق الثاني: القطع
بالوجوب، والثالث: إن عادت بتمامها، وجبت، وإلا فلا. فإن قلنا بالطريق
49

الأول، فالمذهب: أن القولين جاريان مطلقا. وقيل: موضعهما إذا عاد المال بلا
نماء، فإن عاد معه، وجب الزكاة قطعا. وعلى هذا التفصيل، لو عاد بعض
النماء، كان كما لو لم يعد معه شئ. ومعنى العود بلا نماء: أن يتلفه الغاصب
ويتعذر تغريمه. فأما إن غرم، أو تلف في يده شئ كان يتلف في يد المالك أيضا،
فهو كما لو عاد النماء بعينه، هذا كله إذا عاد المال إليه، ولا خلاف أنه لا يجب
إخراج الزكاة قبل عود المال إليه، فلو تلف في الحيلولة بعد مضي أحوال، سقطت
الزكاة على قول الوجوب، لأنه لم يتمكن، والتلف قبل التمكن يسقط الزكاة.
وموضع الخلاف في الماشية المغصوبة إذا كانت سائمة في يد المالك والغاصب،
فان علفت في يد أحدهما، عاد النظر المتقدم قريبا في إسامة الغاصب وعلفه هل
يؤثران؟ وزكاة الأحوال الماضية، إنما تجب على قول الوجوب إذا لم تنقص الماشية
عن النصاب بما تجب الزكاة، بأن كان فيها وقص. أما إذا كانت نصابا فقط،
ومضت الأحوال، فالحكم على هذا القول كما لو كانت في يده ومضت الأحوال ما
يخرج منها زكاة، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
فرع لو كان له أربعون شاة، فضلت واحدة، ثم وجدها، إن قلنا: لا
زكاة في الضال، استأنف الحول، سواء وجدها قبل تمام الحول أو بعده، فإن
أوجبناها في الضال ووجدها قبل تمام الحول، بنى، وإن وجدها بعده زكى
الأربعين.
50

فرع لو دفن ماله بموضع ثم نسيه، ثم تذكر، فهذا ضال، ففيه الخلاف
سواء دفن في داره أو في غيرها، وقيل: تجب الزكاة هنا قطعا لتقصيره.
فرع لو أسر المالك، وحيل بينه وبين ماله، وجبت الزكاة على المذهب،
لنفوذ تصرفه. وقيل: فيه الخلاف، ولو اشترى مالا زكويا فلم يقبضه حتى مضى
حول في يد البائع، فالمذهب وجوب الزكاة على المشتري، وبه قطع الجمهور.
وقيل: لا تجب قطعا، لضعف الملك. وقيل: فيه الخلاف في المغصوب، ولو
رهن ماشية أو غيرها من أموال الزكاة، فالمذهب وبه قطع الجمهور: وجوب
الزكاة. وقيل: وجهان بناء على المغصوب لامتناع التصرف. والذي قاله
الجمهور، تفريع على أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة، وهو الراجح. ولنا فيه
خلاف يأتي قريبا إن شاء الله تعالى. وإذا أوجبنا الزكاة في المرهون، فمن أين
يخرج؟ فيه كلام يأتي قبيل زكاة المعشرات.
فرع الدين الثابت على الغير، له أحوال. أحدها: أن لا يكون لازما ك‍:
مال الكتابة، فلا زكاة فيه. والثاني: أن يكون لازما، وهو ماشية، فلا زكاة أيضا.
الثالث: أن يكون دراهم أو دنانير، أو عروض تجارة، فقولان. القديم: لا زكاة
في الدين بحال. والجديد وهو المذهب الصحيح المشهور: وجوبها في الدين على
الجملة. وتفصيله: أنه إن تعذر الاستيفاء لاعسار من عليه الدين أو جحوده ولا بينة، أو
مطله، أو غيبته، فهو كالمغصوب تجب الزكاة على المذهب. وقيل: تجب في
الممطول، وفي الدين على ملئ غائب قطعا، ولا يجب الاخراج قبل حصوله
51

قطعا، وإن لم يتعذر استيفاؤه، بأن كان على ملئ باذل، أو جاحد عليه بينة، أو
يعلمه القاضي، وقلنا: يقضى بعلمه، فإن كان حالا، وجبت الزكاة، ولزم
إخراجها في الحال، وإن كان مؤجلا، فالمذهب أنه على القولين في المغصوب.
وقيل: تجب الزكاة قطعا. وقيل: لا تجب قطعا. فإن أوجبناها، لم يجب الاخراج
حتى يقبضه على الأصح. وعلى الثاني: تجب فيه الحال.
فرع المال الغائب، إن لم يكن مقدورا عليه لانقطاع الطريق أو انقطاع
خبره، فكالمغصوب. وقيل: تجب قطعا، ولا يجب الاخراج حتى يصل إليه، وإن
كان مقدورا عليه، وجب إخراج زكاته في الحال، ويخرجها في بلد المال، فإن
أخرجها في غيره، ففيه خلاف نقل الزكاة. وهذا إذا كان المال مستقرا في بلد، فإن
كان سائرا، قال في العدة: لا يخرج زكاته حتى يصل إليه، فإذا وصل إليه،
زكى لما مضى بلا خلاف.
فصل إذا باع مالا زكويا قبل تمام الحول بشرط الخيار، فتم الحول في مدة
الخيار، أو اصطحبا في مدة خيار المجلس فتم فيها الحول، بني على أن ملك
المبيع في مدة الخيار لمن؟ فإن قلنا: للبائع، فعليه زكاته، وإن قلنا:
للمشتري، فلا زكاة على البائع، ويبتدئ المشتري حوله من وقت الشراء. وإن
قلنا: موقوف، فإن تم البيع، كان للمشتري، وإلا فللبائع. وحكم الحالين ما
تقدم، هكذا ذكره الجمهور، ولم يتعرضوا لخلاف بعد البناء المذكور. قال إمام
الحرمين: إلا صاحب التقريب فإنه قال: وجوب الزكاة على المشتري يخرج
على القولين في المغصوب، بل أولى، لعدم استقرار الملك، وهكذا إذا كان
52

الخيار للبائع، أو لهما. أما إذا كان المشتري وحده، وقلنا: الملك له، فملكه
ملك زكاة بلا خلاف، لكمال ملكه وتصرفه. وعلى قياس هذه الطريقة يجري
الخلاف في جانب البائع أيضا إذا قلنا: الملك له وكان الخيار للمشتري.
فرع اللقطة في السنة الأولى، باقية على ملك المالك، فلا زكاة فيها على
الملتقط. وفي وجوبها على المالك الخلاف في المغصوب والضال، ثق إن لم
يعرفها حولا، فهكذا الحكم في جميع السنين، وإن عرفها، بني حكم الزكاة على
أن الملتقط، متى تملك اللقطة؟ بمضي سنة التعريف، أم باختيار التملك، أم
بالتصرف؟ فيه خلاف يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، فإن قلنا: يملك
بانقضائها، فلا زكاة على المالك، وفي وجوبها على الملتقط وجهان. وإن قلنا:
يملك باختيار التملك وهو المذهب، نظر، إن لم يتملكها، فهي باقية على ملك
المالك. وفي وجوب الزكاة عليه طريقان. أصحهما على قولين: كالسنة الأولى.
والثاني: لا زكاة قطعا، لتسلط الملتقط عليها. وإن تملكها الملتقط، لم تجب
زكاتها على المالك، لكنه تستحق قيمتها على الملتقط، ففي وجوب زكاة القيمة
عليه خلاف من وجهين. أحدهما: كونها دينا. والثاني: كونها مالا ضالا. ثم
الملتقط مديون بالقيمة، فإن لم يملك غيرها، ففي وجوب الزكاة عليه الخلاف الذي
نذكره إن شاء الله تعالى أن الدين هل يمنع وجوب الزكاة؟ وإن ملك غيرها وما بقي
بالقيمة، وجبت الزكاة على الأصح. وإن قلنا: يملك بالتصرف ولم يتصرف،
فحكمه كما إذا لم يتملك، وقلنا: لا يملك إلا به.
واعلم أن الملتقط لو وجد المالك بعد تملكها، فرد اللقطة إليه، تعين عليه
القبول، وفي تمكن المالك من استردادها قهرا، وجهان، وهذا يوجب أن تكون
القيمة الواجبة معرضة للسقوط، وحينئذ لا يبعد التردد في امتناع الزكاة، وإن قلنا:
الدين يمنع الزكاة كالتردد في وجوب الزكاة على الملتقط مع الحكم بثبوت تملكه،
لكونه معرضا للزوال.
فصل الدين هل يمنع وجوب الزكاة؟ فيه ثلاثة أقوال. أظهرها، وهو
المذهب والمنصوص في أكثر الكتب الجديدة: لا يمنع، والثاني: يمنع، قاله
53

في القديم، واختلاف العراقيين، والثالث: يمنع في الأموال الباطنة، وهي الذهب
والفضة، وعروض التجارة، ولا يمنع في الظاهرة، وهي الماشية، والزرع،
والثمر، والمعدن، لأن هذه نامية بنفسها، وهذا الخلاف جار، سواء كان الدين
حالا، أو مؤجلا، وسواء كان من جنس المال، أم لا، هذا هو المذهب، وقيل:
إن قلنا: يمنع عند اتحاد الجنس، فعند اختلافه وجهان. فإذا قلنا: الدين يمنع،
فأحاطت بالرجل ديون وحجر عليه القاضي، فله ثلاثة أحوال. أحدها: أن يحجر
عليه ويفرق ماله بين الرماء، فيزول ملكه ولا زكاة، والثاني: أن يعين لكل غريم
شيئا من ملكه، ويمكنهم من أخذه، فحال الحول قبل أخذهم، فالمذهب الذي
قطع به الجمهور: لا زكاة عليه أيضا، لضعف ملكه، وقيل: فيه خلاف
المغصوب، وقيل: خلاف اللقطة في السنة الثانية، قاله القفال. الثالث: أن لا
يفرق ماله، ولا يعين لكل واحد شيئا، ويحول الحول في دوام الحجر، ففي وجوب
الزكاة ثلاثة طرق. أصحها: أنه على الخلاف في المغصوب، والثاني: القطع
بالوجوب، والثالث: القطع بالوجوب في المواشي، لان الحجر لا يؤثر في نمائها.
وأما الذهب والفضة، فعلى الخلاف، لان نماءهما بالتصرف وهو ممنوع منه.
فرع إذا قلنا: الدين يمنع الزكاة، ففي علته وجهان. أصحهما: ضعف
ملك المديون، والثاني: أن مستحق الدين تلزمه الزكاة. فلو أوجبناها على المديون
أيضا، أدى ذلك إلى تثنية الزكاة في المال الواحد. ويتفرع على الوجهين مسائل.
أحدها: لو كان مستحق الدين ممن لا زكاة عليه كالذمي، فعلى الوجه
54

الأول: لا تجب. وعلى الثاني: تجب.
الثانية: لو كان الدين حيوانا، بأن ملك أربعين شاة سائمة، وعليه أربعون شاة
سلما، فعلى الأول لا تجب، وعلى الثاني: تجب. ومثله: لو أنبتت أرضه نصابا
من الحنطة، وعليه مثله سلما.
الثالثة: لو ملك نصابا والدين الذي عليه دون نصاب، فعلى الأول: لا
زكاة، وعلى الثاني: تجب، كذا أطلقوه. ومرادهم: إذا لم يملك صاحب الدين
غيره من دين أو عين، فلو ملك ما يتم النصاب، فعليه الزكاة باعتبار هذا المال.
وقطع الأكثرون في هذه الصورة بما يقتضيه الأول. ولو ملك بقدر الدين مما لا زكاة
فيه كالعقار وغيره، وجبت الزكاة في النصاب الزكوي على هذا القول أيضا على
المذهب، وقيل: لا تجب بناء على علة التثنية. ولو زاد المال الزكوي على الدين،
فإن كان الفاضل نصابا، وجبت الزكاة فيه. وفي الباقي القولان، وإلا لم تجب على
هذا القول، لا في قدر الدين ولا في الفاضل.
فرع ملك أربعين شاة، فاحتاج من يرعاها، فحال الحول، فإن
استأجره بشاة معينة من الأربعين مختلطة بباقيها، وجب شاة على الراعي، منها جزء
من أربعين جزءا، والباقي على المستأجر. وإن كانت منفردة، فلا زكاة على واحد
منهما. وإن استأجره بشاة في الذمة، فإن كان للمستأجر مال آخر يفي بها، وجبت
الزكاة في الأربعين، وإلا، فعلى القولين في أن الدين هل يمنع وجوبها؟
فرع إذا ملك مالين زكويين، كنصاب من الغنم، ونصاب من البقر،
وعليه دين، نظر، إن لم يكن الدين من جنس ما يملكه، قال في التهذيب:
يوزع عليهما. فإن خص كل واحد ما ينقص به عن النصاب، فلا زكاة على القول
الذي تفرع عليه. وذكر أبو القاسم الكرخي وصاحب الشامل أنه يراعى الأغبط
للمساكين، كما لو ملك مالا آخر غير زكوي، صرفنا الدين إليه رعاية لحقهم.
55

وحكي عن ابن سريج ما يوافق هذا. وإن كان الدين من جنس أحد المالين. فإن
قلنا: الدين يمنع الزكاة فيما هو من غير جنسه، فالحكم كما لو لم يكن من جنس
أحدهما، وإلا اختص بالجنس.
فرع إذا قلنا: الدين يمنع الزكاة، فسواء دين الله عز وإلا اختص بالجنس وجل، ودين
الآدمي، فلو ملك نصاب ماشية أو غيرها، فنذر التصدق بهذا المال، أو بكذا من
هذا المال، فمضى الحول قبل التصدق، فطريقان. أصحهما: القطع بمنع
الزكاة، لتعلق النذر بعين المال. والثاني: أنه على الخلاف في الدين. ولو قال:
جعلت هذا المال صدقة، أو هذه الأغنام ضحايا، أو لله علي أن أضحي
بهذه الشاة، وقلنا: تتعين للتضحية بهذه الصيغة، فالمذهب: لا زكاة،
وقيل: على الخلاف. ولو نذر التصدق بأربعين من الغنم، أو بمائة درهم ولم يضف
إلى ماشيته ودراهمه، فإن قلنا: دين الآدمي لا يمنع، فهذا أولى، وإلا،
فوجهان. أصحهما: عند الامام لا يمنع، لان هذا الدين لا مطالبة به في الحال،
فهو أضعف ولان النذر يشبه التبرعات، فإن الناذر مخير في ابتداء نذره، فالوجوب
به أضعف. ولو وجب عليه الحج وتم الحول على نصاب في ملكه، هل يكون
وجوب الحج دينا مانعا من الزكاة؟ حكمه حكم دين النذر الذي تقدم.
فرع إذا قلنا: الدين لا يمنع الزكاة، فمات قبل الأداء، واجتمع الدين
والزكاة في تركته، ففيه ثلاثة أقوال. أظهرها: أن الزكاة تقدم كما تقدم في حال
الحياة، ثم يصرف الباقي إلى الغرماء. والثاني: يقدم دين الآدمي، كما يقدم
القصاص على حد السرقة. والثالث: يستويان فيوزع عليهما. وقيل: تقدم الزكاة
المتعلقة بالعين قطعا، والأقوال في اجتماع الكفارات وغيرها، فيما يسترسل في
الذمة مع حقوق الآدميين. وقد تكون الزكاة من هذا القبيل، بأن يتلف ماله بعد
الوجوب والامكان، ثم يموت وله مال، فإن الزكاة هنا متعلقة بالذمة.
56

فصل إذا أحرز الغانمون الغنيمة، فينبغي للامام أن يعجل قسمتها، ويكره
له التأخير من غير عذر، فإذا قسم، فكل من أصابه مال زكوي وهو نصاب، أو بلغ
مع غيره من ملكه نصابا، ابتدأ من حينئذ حوله، ولو تأخرت القسمة بعذر أو غيره
حولا، فإن لم يختاروا التملك، فلا زكاة، لأنها غير مملوكة للغانمين، أو مملوكة
ملكا في غاية من الضعف، يسقط بالاعراض. وللامام في قسمتها أن يخص
بعضهم ببعض الأنواع، أو بعض الأعيان إن اتحد النوع، ولا يجوز هذا في سائر
القسم إلا بالتراضي، وإن اختاروا التملك، ومضى حول من وقت الاختيار، فإن
كانت الغنيمة أصنافا، فلا زكاة، سواء كانت مما تجب الزكاة في جميعها أو بعضها،
لان كل واحد لا يدري ما يصيبه وكم يصيبه، وإن لم يكن إلا صنف زكوي، وبلغ
نصيب كل واحد نصابا، فعليهم الزكاة، وإن بلغ مجموع أنصبائهم نصابا، وكانت.
ماشية، وجبت الزكاة وهم خلطاء، وكذا لو كانت غير ماشية وأثبتنا الخلطة فيه، ولو
كانت أنصباؤهم تتم بالخمس نصابا، فلا زكاة عليهم، لان الخلطة مع أهل الخمس
لا تثبت، لأنه لا زكاة فيه بحال، لأنه لغير معين، فأشبه مال بيت المال،
والمساجد، والربط. هذا حكم الغنيمة على ما ذكره الجمهور من العراقيين،
والخراسانيين، وهو المذهب، ولنا وجه قطع به في التهذيب: أنه لا زكاة قبل
إفراز الخمس بحال، ووجه: أنه تجب الزكاة في حال عدم اختيار الملك، وقال
إمام الحرمين والغزالي: إن قلنا: الغنيمة لا تملك قبل القسمة، فلا زكاة، وإن
قلنا: تملك، فثلاثة أوجه. أحدها: لا زكاة، لضعف الملك، والثاني: تجب،
لوجود الملك، والثالث: إن كان فيها ما ليس زكويا فلا زكاة، وإلا وجبت.
فصل إذا أصدقها أربعين شاة سائمة بأعيانها، لزمها الزكاة إذا تم حولها من
57

يوم الاصداق، سواء دخل بها، أم لا، وسواء قبضتها، أم لا، وفي قول مخرج:
أنه إذا لم يدخل بها، فحكمه حكم الأجرة، كما سيأتي في الفصل الذي بعد هذا
إن شاء الله تعالى، ولنا وجه: أنها ما لم تقبضها، لا زكاة عليها، ولا على الزوج،
تفريعا على أن الصداق مضمون ضمان العقد، فيكون على الخلاف في المبيع قبل
القبض، والمذهب: القطع بالوجوب عليها مطلقا، فلو طلقها قبل الدخول، نظر، فإن
كان قبل الحول، عاد نصفها إلى الزوج. فإن لم يكن متميزا، فهما خليطان،
فعليها عند تمام الحول من يوم الاصداق نصف شاة، وعليه عند تمام الحول من
يوم الطلاق نصف شاة، وإن طلق بعد تمام الحول، ففيه ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يكون قد أخرجت الزكاة من نفس الماشية، ففيما يرجع به الزوج
ثلاثة أقوال. أحدها: نصف الجملة، فإن تساوت قيمة الغنم، أخذ منها عشرين،
وإن اختلفت، أخذ النصف بالقيمة، والثاني: نصف الغنم الباقية، ونصف قيمة
الشاة المخرجة، والثالث: أنه بالخيار بين ما ذكرنا فق القول الثاني، وبين أن يترك
الجميع ويرجع بنصف القيمة.
قلت: أصحهما: الثاني، كذا صححه جماعة، منهم الرافعي في كتاب
الصداق. والله أعلم.
الحال الثاني: أن يكون أخرجها من موضع آخر، قال العراقيون وغيرهم:
يأخذ نصف الأربعين، وقال الصيدلاني وجماعة: فيه وجهان. أحدهما: هذا،
والثاني: يرجع إلى نصف القيمة.
الحال الثالث: أن لا يخرجها أصلا. فالمذهب: أن نصف الأربعين يعود إلى
الزوج شائعا، فإذا جاء الساعي وأخذ من عينها شاة، رجع الزوج عليها بنصف
قيمتها.
58

فصل إذا أجر دارا أربع سنين بمائة دينار معجلة وقبضها، ففي كيفية
إخراج زكاتها قولان. أحدهما: يلزمه عند تمام السنة الأولى زكاة جميع المائة، لان
ملكه تام، وهذا هو الراجح عند صاحبي المهذب والشامل، والثاني: وهو
الراجح عند الجمهور: لا يلزمه عند تمام كل سنة إلا زكاة القدر الذي استقر ملكه
عليه، فإذا قلنا بالثاني، أخرج عند تمام السنة الأولى زكاة ربع المائة، وهو خمسة
أثمان دينار، فإذا مضت السنة الثانية، فقد استقر ملكه على خمسين دينارا سنتين،
فعليه زكاتها للسنتين، وهي ديناران ونصف، لكنه أخرج في السنة الأولى خمسة
أثمان دينار، فيسقط ويجب الباقي، وهو دينار وسبعة أثمان، فإذا مضت السنة
الثالثة، استقر ملكه على خمسة وسبعين دينارا ثلاث سنين، وزكاتها فيها خمسة
دنانير وخمسة أثمان دينار، أخرج منها في السنتين دينارين ونصفا، فيخرج الباقي،
فإذا مضت الرابعة، استقر ملكه على المائة أربع سنين، وزكاتها فيها عشرة دنانير،
أخرج منها خمسة وخمسة أثمان، فيخرج الباقي، هذا إذا أخرج من غير المائة،
فإن أخرج منها واجب السنة الأولى، فعند تمام الثانية يخرج زكاة الخمسة والعشرين
الأولى سوى ما أخرج في السنة الأولى، وزكاة خمسة وعشرين أخرى لسنتين، وعند
الثالثة والرابعة، يقاس بما ذكرناه، وأما إذا قلنا بالقول الأول، فإنه يخرج عند تمام
السنة الأولى زكاة المائة، وكذلك كل سنة إن أخرج من غيرها، فإن أخرج من عينها،
زكى كل سنة ما بقي. واختلف العراقيون في هذين القولين، فقال القاضي أبو
الطيب وطائفة: هما في نفس الوجوب، وقال أبو حامد وشيعته: الوجوب ثابت
قطعا، وإنما القولان في كيفية الاخراج، وهذا مقتضى كلام الأكثرين.
وصورة المسألة: إذا كانت أجرة السنتين متساوية، فإن تفاوتت، زاد القدر
المستقر في بعض السنتين على ربع المائة، ونقص في بعضها، فإن قيل: هل
صورة المسألة فيما إذا كانت المائة في الذمة ثم نقدها، أو فيما إذا كانت الإجارة
بمائة معينة، أم لا فرق؟
59

الجواب، أن كلام نقله المذهب يشمل الحالتين، ولم أر فيها نصا وتفصيلا
إلا في فتاوي القاضي حسين، فإنه قال في الحالة الأولى: الظاهر أنه يجب زكاة كل
المائة، إذا حال الحول، لان ملكه مستقر على ما أخذ، حتى لو انهدمت الدار، لا
يلزمه رد المقبوض، بل له رد مثله، وفي الحالة الثانية، قال: حكم الزكاة حكم
المبيع قبل القبض، لأنه معرض لان يعود إلى المستأجر بانفساخ الإجارة، وبالجملة
الصورة الثانية أحق بالخلاف من الأولى، وما ذكره القاضي اختيار للوجوب في
الحالتين جميعا.
فرع إذا باع شيئا بنصاب من النقد وقبضه، ولم يقبض المشتري المبيع
حتى حال الحول، فهل يجب على البائع إخراج الزكاة؟ فيه القولان في الأجرة،
لان الثمن قبل قبض المبيع غير مستقر، وخرجوا على القولين أيضا إذا ما أسلم نصابا
في ثمرة أو غيرها، وحال الحول قبل قبض المسلم فيه، وقلنا: إن تعذر المسلم
فيه، يوجب انفساخ العقد، وإن قلنا: يوجب الخيار، فعليه إخراج الزكاة قطعا.
فرع إذا أوصى لانسان بنصاب، ومات الموصي، ومضى حول من وقت موته
قبل القبول، إن قلنا: الملك في الوصية يحصل بالموت، فعلى الموصى له
الزكاة، ولا يضر كونه يرتد برده، وإن قلنا: يحصل بالقبول، فلا زكاة عليه. ثم إن
أبقيناه على ملك الموصي، فلا زكاة على أحد، وإن قلنا: إنه للوارث فهل تلزمه
الزكاة؟ وجهان. أصحهما: لا، وإن قلنا: موقوف، فقبل، بان أنه ملكه
بالموت، ولا زكاة عليه على الأصح، لعدم استقرار ملكه.
باب أداء الزكاة
وهو واجب على الفور بعد التمكن،
ثم الأداء يفتقر إلى فعل ونية.
أما الفعل، فثلاثة أضرب.
60

أحدها: أن يفرق المالك بنفسه، وهو جائز في الأموال الباطنة، وهي
الذهب، والفضة، وعروض التجارة، والركاز، وزكاة الفطر.
قلت: وفي زكاة الفطر وجه، أنها من الأموال الظاهرة، حكاه في البيان
ونقله في الحاوي عن الأصحاب مطلقا، واختار أنها باطنة وهو ظاهر نص
الشافعي وهو المذهب. والله أعلم.
وأما الأموال الظاهرة وهي المواشي، والمعشرات، والمعادن، ففي جواز
تفريقها بنفسه قولان. أظهرهما وهو الجديد: يجوز، والقديم: لا يجوز، بل يجب
صرفها إلى الامام إن كان عادلا، فإن كان جائرا، فوجهان. أحدهما: يجوز ولا يجب، وأصحهما:
يجب الصرف إليه لنفاذ حكمه وعدم انعزاله، وعلى هذا
القول: لو فرق بنفسه لم تحسب، وعليه أن يؤخر ما دام يرجو مجئ الساعي، فإذا
أيس، فرق بنفسه.
الضرب الثاني: أن يصرف إلى الامام وهو جائز.
الثالث: أن يوكل في الصرف إلى الامام، أو التفرقة على الأصناف حيث
تجوز التفرقة بنفسه، وهو جائز. وأما أفضل هذه الأضرب، فتفرقته بنفسه أفضل من
التوكيل بلا خلاف، لان الوكيل قد يخون، فلا يسقط الفرض عن الموكل، وأما
الأفضل من الضربين الآخرين، فإن كانت الأموال باطنة، فوجهان. أصحهما
عند جمهور الأصحاب من العراقيين وغيرهم، وبه قطع الصيدلاني: الدفع إلى
61

الامام أفضل، لأنه يتيقن سقوط الفرض به، بخلاف تفرقته بنفسه، فإنه قد يدفع
إلى غير مستحق، والثاني: بنفسه أفضل، لأنه أوثق، وليباشر العبادة، وليخص
الأقارب والجيران والأحق، وإن كانت الأموال ظاهرة، فالصرف إلى الامام أفضل
قطعا، هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور، وطرد الغزالي فيه الخلاف. ثم
حيث قلنا: الصرف إلى الامام أولى، فذاك إذا كان عادلا، فإن كان جائرا،
فوجهان. أحدهما: أنه كالعادل، وأصحهما: التفريق بنفسه أفضل، ولنا وجه:
أنه لا يجوز الصرف إلى الجائر، وهذا غريب ضعيف مردود.
قلت: والدفع إلى الامام أفضل من الوكيل قطعا، صرح به صاحب
الحاوي ووجهه على ما تقدم. والله أعلم.
ولو طلب الامام زكاة الأموال الظاهرة، وجب التسليم إليه بلا خلاف، بذلا
للطاعة، فان امتنعوا، قاتلهم الامام، وإن أجابوا إلى إخراجها بأنفسهم، فإن لم
يطلبها الامام ولم يأت الساعي، أخرها رب المال ما دام يرجو مجئ الساعي، فإذا
أيس، فرق بنفسه، نص عليه الشافعي. فمن الأصحاب من قال: هذا تفريع
62

على جواز تفرقته بنفسه، ومنهم من قال: هذا جائز على القولين، صيانة لحق
المستحقين عن التأخير، ثم إذا فرق بنفسه وجاء الساعي مطالبا، صدق رب المال
بيمينه، واليمين واجبة، أو مستحبة؟ وجهان. فان قلنا: واجبة، فنكل، أخذت
منه الزكاة لا بالنكول، بل لأنها كانت واجبة والأصل بقاؤها.
قلت: الأصح أن اليمين مستحبة. والله أعلم.
وأما الأموال الباطنة، فقال الماوردي: ليس للولاة نظر في زكاتها، وأربابها
أحق بها، فإن بذلوها طوعا، قبلها الوالي، فإن علم الإمام من رجل أنه لا يؤديها
بنفسه، فهل له أن يقول: إما أن تدفع بنفسك، وإما أن تدفع إلي حتى أفرق؟ فيه
وجهان يجريان في المطالبة بالنذور والكفارات.
قلت: الأصح وجوب هذا القول إزالة للمنكر، ولو طلب الساعي زيادة على
الواجب، لا يلزم تلك الزيادة، وهل يجوز الامتناع من دفع الواجب لتعديه، أم لا
يجوز خوفا من مخالفة ولاة الامر؟ وجهان. أصحهما: الثاني. والله أعلم.
وأما النية، فواجبة قطعا، وهل تتعين بالقلب، أم يقوم النطق باللسان مقامها؟
فيه طريقان. أحدهما: يتعين كسائر العبادات، وأشهرهما على وجهين، وقيل:
على قولين. أصحهما: تتعين، والثاني: يتخير بين القلب، والاقتصار على
63

اللسان. ثم صفة النية أن ينوي: هذا فرض زكاة مالي، أو فرض صدقة مالي، أو
زكاة مالي المفروضة، أو الصدقة المفروضة، ولا يكفي التعرض لفرض
المال، لان ذلك. قد يكون كفارة ونذرا، ولا يكفي مطلق الصدقة على الأصح، ولو نوى
الزكاة دون الفرضية، أجزأه على المذهب، وقيل: وجهان، كما لو نوى الظهر
فقط، وهذا ضعيف، فإن الظهر قد تقع نفلا، ولا تقع الزكاة إلا فرضا، ولا يجب
تعيين المال المزكى، فلو ملك مائتي درهم حاضرة، ومائتين غائبة، فأخرج عشرة
بلا تعيين، جاز، وكذا لو ملك أربعين شاة وخمسة أبعرة، فأخرج شاتين بلا تعيين،
أجزأه، ولو أخرج خمسة دراهم مطلقا، ثم جان تلف أحد المالين، أو تلف أحدهما
بعد الاخراج، فله أن يجعل المخرج عن الباقي، فلو عين مالا، لم ينصرف إلى
غيره، كما لو أخرج الخمسة عن الغائب، فبان تالفا، لم يكن له صرفه إلى
الحاضر على الأصح، ولو قال: هذه عن مالي الغائب، إن كان باقيا، فبان تالفا، لم يكن له
صرفه إلى الحاضر على الأصح، ولو قال: هذه عن الغائب، فإن كان تالفا، فهي
صدقة، أو قال: إن كان الغائب باقيا، فهذه زكاته، وإلا فهي صدقة، جاز، لأن هذه
صفة إخراج زكاة الغائب لو اقتصر على زكاة الغائب، حتى لو بان تالفا، لا يجوز
له الاسترداد إلا إذا صرح فقال: هذه عن مالي الغائب، فإن بان تالفا استرددتها،
وليست هذه الصورة كما لو أخرج الخمسة فقال: إن كان مورثي مات وورثت ماله،
فهذه زكاته، فبان أنه ورثه، لا يحسب المخرج زكاة، لان الأصل عدم الإرث،
وهنا الأصل بقاء المال، والتردد اعتضد بالأصل، ونظيره أن يقول في آخر
رمضان: أصوم غدا، إن كان من رمضان، يصح، ولو قال في أوله: أصوم غدا،
إن كان من رمضان، لم يجزئه، وهو نظير مسألة الإرث. أما إذا قال: هذه زكاة
الغائب، فإن كان تالفا فعن الحاضر، فالمذهب الذي قطع به الجمهور: إن كان
64

الغائب باقيا، وقع عنه، وإلا وقع عن الحاضر، ولا يضر التردد، لان التعيين ليس
بشرط، حتى لو قال: هذه عن الحاضر أو الغائب، أجزأه، وعليه خمسة للآخر.
بخلاف ما لو نوى الصلاة عن فرض الوقت إن كان دخل وإلا فعن الفائتة،
لا تجزئه، لان التعيين شرط، وعن صاحب التقريب تردد في إجزائه عن الحاضر،
ولو قال: هذه عن الغائب إن كان باقيا، وإلا فعن الحاضر، أو هي صدقة، وكان
الغائب تالفا، لم يقع عن الحاضر، كما قال الشافعي رحمه الله: لو قال: إن
كان مالي الغائب سالما فهذه زكاته، أو نافلة وكان سالما، لم يجزئه، لأنه لم
يخلص القصد عن الفرض، وقولنا في هذه المسائل: مال غائب، يتصور إذا كان
غائبا في بلد آخر، وجوزنا نقل الصدقة، أو معه في البلد وهو غائب عن مجلسه.
فرع إذا ناب في إخراج الزكاة عن المالك غيره، فله صور. منها: نيابة الولي عن الصبي والمجنون، فيجب
عليه أن ينوي، قال
القاضي ابن كج: فلو دفع بلا نية، لم يقع الموقع، وعليه الضمان.
ومنها: أن يتولى السلطان قسم زكاة انسان، وذلك بأن يدفعها إلى السلطان
طوعا، أو يأخذها منه كرها، فإن دفع طوعا ونوى عند الدفع، كفى، ولا تشترط نية
السلطان عند التفريق، لأنه نائب المساكين، فإن لم ينو المالك، ونوى
السلطان، أو لم ينو، فوجهان. أحدهما: تجزئه، وهو ظاهر نصه في المختصر
وبه قطع كثير من العراقيين، والثاني: لا تجزئه، لأنه نائب المساكين، ولو دفع
المالك إلى المساكين بلا نية، لم يجزئه، فكذا نائبهم، وهذا الثاني هو الأصح عند
65

القاضي أبي الطيب، وصاحبي المهذب والتهذيب وجمهور المتأخرين،
وحملوا كلام الشافعي على الممتنع: يجزئه المأخوذ وإن لم ينو. لكن نص في
الام: أنه يجزئه وإن لم ينو طائعا كان أو كارها، وأما إذا امتنع من دفع الزكاة،
فيأخذها منه السلطان كرها، ولا يأخذ إلا قدر الزكاة على الجديد، وقال في
القديم: يأخذ مع الزكاة شطر ماله.
قلت: المشهور، هو الجديد، والحديث الوارد في سنن أبي داود
وغيره يأخذ شطر ماله ضعفه الشافعي رحمة الله عليه، ونقل أيضا عن أهل العلم
بالحديث أنهم لا يثبتونه وهذا الجواب هو المختار. وأما جواب من أجاب من أصحابنا بأنه
منسوخ، فضعيف، فإن النسخ يحتاج إلى دليل، ولا قدرة لهم عليه هنا. والله
أعلم.
ثم إن نوى الممتنع حال الاخذ منه، برئت ذمته ظاهرا وباطنا، ولا حاجة إلى
66

نية الامام، وإلا فإن نوى الامام، أجزأه في الظاهر، ولا يطالب ثانيا، وهل يجزئه
باطنا؟ وجهان. أصحهما: يجزئه كولي الصبي، تقوم نيته مقام نيته، وإن لم ينو
الامام، لم يسقط الفرض في الباطن قطعا، ولا في الظاهر على الأصح،
والمذهب: أنه تجب النية على الامام، وأنه تقوم نيته مقام نية المالك، وقيل: إن
قلنا: لا تبرأ ذمة المالك باطنا، لم تجب النية على الامام، وإلا فوجهان.
أحدهما: تجب، كالولي، والثاني: لا، لئلا يتهاون المالك فيما هو متعبد به.
ومنها: أن يوكل من يفرق زكاته، فإن نوى الموكل عند الدفع إلى الوكيل،
ونوى الوكيل عند الدفع إلى المساكين، فهو الأكمل، وإن لم ينو واحد منهما، أو لم
ينو الموكل، لم يجزئه، وإن نوى الموكل عند الدفع، ولم ينو الوكيل، فطريقان.
أحدهما: القطع بالجواز، وأصحهما: أنه على الوجهين فيما إذا فرق بنفسه،
هل يجزئه تقديم النية على التفرقة؟ والأصح الاجزاء كالصوم للعسر، ولان القصد
سد حاجة الفقير، وعلى هذا يكفي نية الموكل عند الدفع إلى الوكيل، وعلى
الثاني: يشترط نية الوكيل عند الدفع إلى المساكين، ولو وكل وكيلا وفوض النية
إليه، جاز، كذا ذكر في النهاية والوسيط.
فرع لو تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة، لم تسقط عنه الزكاة.
فصل ينبغي للامام أن يبعث السعاة لأخذ الزكوات، والأموال ضربان،
ما يعتبر فيه الحول، وما لا يعتبر، كالزرع والثمار، فهذا يبعث السعاة فيه لوقت
وجوبه، وهو إدراك الثمار واشتداد الحب. وأما الأول، فالحول مختلف في حق
67

الناس، فينبغي للساعي أن يعين شهرا فيأتيهم فيه. واستحب الشافعي رحمه الله،
أن يكون ذلك الشهر المحرم، صيفا كان أو شتاء، فإنه أول السنة الشرعية.
قلت: هذا الذي ذكرنا من تعيين الشهر على الاستحباب على
الصحيح، وفي وجه: يجب. ذكره صاحب الكتاب في آخر قسم الصدقات. والله
أعلم.
وينبغي أن يخرج قبل المحرم ليصلهم في أوله، ثم إذا جاءهم، فمن تم حوله،
أخذ زكاته، ومن لم يتم، يستحب له أن يعجل، فإن لم يفعل، استناب من
يأخذ زكاته، وإن شاء أخر إلى مجيئه من قابل، فإن وثق به، فوض التفريق إليه، ثم
إن كانت الماشية ترد الماء، أخذ زكاتها على مياههم ولا يكلفهم ردها إلى البلد، ولا
يلزمه أن يتبع المراعي، فإن كان لرب المال ماءان، أمر بجمعها عند أحدهما، وإن
اكتفت الماشية بالكلأ في وقت الربيع، ولم ترد الماء، أخذ الزكاة في بيوت أهلها
وأفنيتهم. هذا لفظ الشافعي، ومقتضاه تجويز تكليفهم الرد إلى الأفنية. وقد صرح
به المحاملي وغيره، وإذا أراد معرفة عددها، فأخبره المالك، وكان ثقة،
صدقه، وإلا عدها، والأولى أن تجمع في حظيرة أو نحوها، وينصب على الباب
خشبة معترضة، وتساق لتخرج واحدة واحدة، وتثبت كل شاة إذا بلغت المضيق،
فيقف المالك أو نائبه من جانب، والساعي أو نائبه من جانب، وبيد كل واحد منهما
قضيب يشيران به إلى كل شاة، أو يصيبان به ظهرها فهو أضبط، فإن اختلفا بعد
العد، فإن كان الواجب يختلف به، أعاد العد.
فرع يستحب للساعي أن يدعو لرب المال، ولا يتعين دعاء. واستحب
68

الشافعي رحمه الله أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت، وجعله لك طهورا، وبارك
لك فيما أبقيت. ولنا وجه شاذ: أنه يجب الدعاء، حكاه الحناطي. وكما يستحب
للساعي الدعاء، يستحب أيضا للمساكين إذا فرق عليهم المالك. قال الأئمة:
وينبغي أن لا يقول: اللهم صل عليه، وإن ورد في الحديث، لان الصلاة صارت
مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه. وكما أن قولنا.
عز وجل. صار مخصوصا بالله تعالى. فكما لا يقال: محمد عز وجل وإن كان
عزيزا جليلا، لا يقال: أبو بكر، أو علي، صلى الله عليه، وإن صح المعنى.
وهل ذلك مكروه كراهة تنزيه، أم هو مجرد ترك أدب؟ فيه وجهان. الصحيح
الأشهر: أنه مكروه، لأنه شعار أهل البدع، وقد نهينا عن شعارهم. والمكروه: هو
ما ورد فيه نهي مقصود، ولا خلاف أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا لهم، فيقال:
اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، وأصحابه وأزواجه، وأتباعه، لان
السلف لم يمتنعوا منه. وقد أمرنا به في التشهد وغيره. قال الشيخ أبو محمد:
والسلام في معنى الصلاة، فإن الله تعالى قرن بينهما، فلا يفرد به غائب غير
الأنبياء. ولا بأس به على سبيل المخاطبة للاحياء والأموات من المؤمنين، فيقال:
سلام عليكم.
قلت: قوله: لا بأس به، ليس بجيد، فإنه مسنون للاحياء والأموات
69

بلا شك، وهذه الصيغة لا تستعمل في المسنون، وكأنه أراد: لا منع منه في
المخاطبة، بخلاف الغيبة، وأما استحبابه في المخاطبة، فمعروف. والله أعلم.
باب تعجيل الزكاة
التعجيل جائز في الجملة، هذا هو الصواب المعروف. وحكى الموفق أبو
طاهر، عن أبي عبيد بن حربويه من أصحابنا منع التعجيل، وليس بشئ، ولا
تفريع عليه.
ثم مال الزكاة ضربان، متعلق بالحول، وغير متعلق.
فالأول: يجوز تعجيل زكاته قبل الحول، ولا يجوز قبل تمام النصاب، في
الزكاة العينية. أما إذا اشترى عرضا للتجارة، يساوي مائة درهم، فعجل زكاة
مائتين، وحال الحول وهو يساوي مائتين، فيجزئه المعجل عن الزكاة على
المذهب، لأن الاعتبار في العروض بآخر الحول، ولو ملك أربعين شاة معلوفة،
فعجل شاة عازما أن يسميها حولا، لم يقع عن الزكاة إذا أسامها، لان المعلوفة ليست
مال زكاة، فهي كما دون النصاب. وإنما يعجل بعد انعقاد حول. فلو عجل زكاة
عامين فصاعدا، لم يجزئه عما عدا السنة الأولى على الأصح عند الأكثرين. منهم
70

معظم العراقيين وصاحب التهذيب وحملوا الحديث الوارد في تسلف صدقة
عامين، من العباس على التسلف دفعتين. فإن جوزنا ما زاد، فذلك إذا بقي معه في
بعد التعجيل نصاب كامل، بأن ملك ثنتين وأربعين، فعجل شاتين. فإن لم يبق
نصاب كامل، بأن ملك إحدى وأربعين، فعجل شاتين منها، فوجهان. أصحهما:
لا يجوز، فإن جوزنا صدقة عامين، فهل يجوز أن ينوي تقديم زكاة للسنة الثانية على
الأولى؟ وجهان كتقديم صلاة الثانية على الأولى في الجمع في وقت الثانية. حكاه
أبو الفضل بن عبدان. ولو ملك نصابا. فعجل زكاة نصابين، فإن كان
التجارة، بأن اشترى للتجارة عرضا بمائتين، فعجل زكاة أربعمائة، فجاء الحول وهو
يساوي أربعمائة، أجزأه على المذهب. وقيل: في المائتين الزائدتين وجهان. فإن
كان زكاة عين، بأن ملك مائتي درهم، وتوقع حصول مائتين من جهة أخرى، فعجل
زكاة أربعمائة، فحصل ما توقعه، لم يجزئه ما أخرجه عن الحادث. وإن توقع
حصوله من عين ما عنده، بأن ملك مائة وعشرين شاة، فعجل شاتين ثم حدثت
سخلة، أو ملك خمسا من الإبل، فعجل شاتين، فبلغت بالتوالد عشرا، فهل
يجزئه ما أخرجه عن النصاب الذي كمل الآن؟ وجهان. أصحهما عند الأكثرين من
العراقيين وغيرهم: لا يجزئه. ولو عجل شاة عن أربعين، فولدت أربعين، فهلكت
الأمهات، فهل يجزئه ما أخرج من السخال؟ وجهان.
قلت: أصحهما: لا يجزئه. والله أعلم.
71

الضرب الثاني: ما لا يتعلق وجوب الزكاة فيه بالحول، فمنه زكاة الفطر،
فيجوز تعجيلها بعد دخول رمضان، هذا هو الصحيح. وفي وجه: يجوز في أول يوم
من رمضان، لا من أول ليلة. وفي وجه: يجوز قبل رمضان. وأما زكاة الثمار،
فتجب ببدو الصلاح، وزكاة الزرع باشتداد الحب. وليس المراد وجوب الأداء، بل
المراد أن حق الفقراء، يثبت حينئذ، والاخراج يجب بعد الجفاف وتنقية
الحبوب. وإذا ثبت هذا، فالاخراج بعد مصير الرطب تمرا، والعنب زبيبا، ليس
بتعجيل، بل هو واجب حينئذ، ولا يجوز التقديم قبل خروج الثمرة، وفيما بعده
أوجه. الصحيح: أنه يجوز التعجيل بعد بدو الصلاح لا قبله، والثاني: يجوز قبله
من حين خروج الثمرة، والثالث: لا يجوز قبل الجفاف. وأما الزروع، فالاخراج
بعد التنقية واجب وليس بتعجيل، ولا يجوز التعجيل قبل التسنبل وانعقاد الحب.
وبعده، ثلاثة أوجه، الصحيح: جوازه بعد الاشتداد والادراك، ومنعه قبله.
والثاني: جوازه بعد التسنبل وانعقاد الحب. والثالث: لا يجوز قبل التنقية.
فرع عد الأئمة ما يقدم على وقت وجوبه من الحقوق المالية، وما لا يقدم،
في هذا الباب.
فمنها: كفارة اليمين، والقتل، والظهار، وجزاء الصيد، وهي مذكورة في
أبوابها.
72

ومنها: لا يجوز للشيخ الهرم، والحامل، والمريض، تقديم الفدية على
رمضان. ولا يجوز تقديم الأضحية على يوم النحر قطعا، ولا كفارة الوقاع في
شهر رمضان على الأصح، ولو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي عتق رقبة،
فأعتق قبل الشفاء، لا يجزئه على الأصح، ولا يجوز تقديم زكاة المعدن،
والركاز على الحصول.
فصل شرط كون المعجل مجزئا، بقاء القابض بصفة الاستحقاق في آخر الحول، فلو ارتد، أو مات قبل
الحول، لم تحسب عن الزكاة، وإن استغنى
بالمدفوع إليه، أو به، وبمال آخر، لم يضر، وإن استغنى بغيره، لم يحسب عن
الزكاة، وإن عرض مانع، ثم زال وصار بصفة الاستحقاق عند تمام الحول، لم يضر على
الأصح. ويشترط في الدافع بقاؤه إلى آخر الحول، بصفة من تجب عليه الزكاة،
فلو ارتد وقلنا: الردة تمنع وجوب الزكاة، أو مات، أو تلف جميع ماله، أو باعه،
أو نقص عن النصاب، لم يكن المعجل زكاة، وإن أبقينا ملك المرتد، وجوزنا
إخراج الزكاة في حال الردة، أجزأه المعجل، وهل يحسب في صورة الموت عن
زكاة الوارث؟ قال الأصحاب: إن قلنا بالقديم: إن الوارث يبنى على حول
الموروث، أجزأه، وإلا لم يجزئه على الأصح، لأنه تعجيل قبل ملك النصاب،
فإن قلنا: يحسب فتعددت الورثة، ثبت حكم الخلطة بينهم إن كان المال ماشية أو
73

غير ماشية، وقلنا: بثبوت الخلطة فيه. فأما إن قلنا: لا يثبت، ونقص نصيب كل
واحد عن النصاب، أو اقتسموا، ونقص نصيب كل واحد عن النصاب، فينقطع
الحول، ولا تجب الزكاة على الأصح. وعن صاحب التقريب وجه آخر:
أنهم يصيرون كشخص واحد، وعلى الثاني: يصيرون كشخص واحد.
فرع إذا أخذ الامام من المالك قبل أن يتم حوله مالا للمساكين، فله
حالان.
أحدهما: يأخذه بحكم الفرض، فينظر، إن استقرضه بسؤال المساكين، فهو
من ضمانهم، سواء تلف في يده، أو بعد أن سلمه إليهم، وهل يكون الامام
طريقا في الضمان، حتى يؤخذ منه ويرجع هو على المساكين، أم لا؟ نظر، إن
علم المقرض أنه يستقرض للمساكين بإذنهم؟ لم يكن طريقا على الأصح، وإن ظن
أنه يستقرض لنفسه، أو للمساكين من غير سؤالهم، فله الرجوع على الامام، ثم
الامام يقضيه من مال الصدقة، أو يحسبه عن زكاة المقترض، وإذا أقرضه
المالك للمساكين ابتداء من غير سؤالهم، فتلف في يد الامام، فلا ضمان على
المساكين، ولا على الامام، لأنه وكيل المالك. ولو استقرض الامام بسؤال
المالك والمساكين جميعا، فهل هو من ضمان المالك، أو المساكين؟ وجهان يأتي
بيانهما في الحال الثاني إن شاء الله تعالى. ولو استقرض بغير سؤال المالك
والمساكين، نظر، إن استقرض ولا حاجة بهم إلى القرض، وقع القرض للامام،
وعليه ضمانه من خالص ماله، سواء تلف في يده، أو دفعه إلى المساكين، ثم إن
74

دفع إليهم متبرعا، فلا رجوع، وإن أقرضهم، فقد أقرضهم مال نفسه، وإن كان
استقرض لهم، وبهم حاجة، وهلك في يده، فوجهان. أحدهما: أنه من ضمان
المساكين، يقضيه الامام من مال الصدقة، كالولي، إذا استقرض لليتيم،
فهلك في يده، يكون الضمان في مال اليتيم، وأصحهما: يكون الضمان من
خالص مال الإمام، لان المساكين غير متعينين، وفيهم أو أكثرهم أهل رشد، لا
ولاية عليهم، ولهذا لا يجوز منع الصدقة عنهم بلا عذر، ولا التصرف في مالهم
بالتجارة، وإنما يجوز الاستقراض لهم بشرط سلامة العاقبة، بخلاف اليتيم. فأما
إن دفع المستقرض إليهم، فالضمان عليهم، والامام طريق، فإذا أخذ زكوات،
والمدفوع إليه بصفة الاستحقاق، فله أن يقضيه من الزكوات، وله أن يحسبه عن زكاة
المقرض، وإن لم يكن المدفوع إليه بصفة الاستحقاق عند تمام حلول الزكوات،
لم يجز قضاؤه منها، بل يقضي من مال نفسه، ثم يرجع على المدفوع إليه إن وجد
له مالا.
الحال الثاني: أن يأخذ الامام المال ليحسبه عن زكاة المأخوذ منه عند تمام
حوله، وفيه أربع مسائل كالقرض.
إحداها: أن يأخذ بسؤال المساكين، فإن دفع إليهم قبل الحول، وتم
75

الحول وهم بصفة الاستحقاق، والمالك بصفة الوجوب، وقع الموقع، وإن خرجوا
عن الاستحقاق، فعليهم الضمان، وعلى المالك الاخراج ثانيا، وإن تلف في يده
قبل تمام الحول بغير تفريط له، نظر، إن خرج المالك عن أن تجب عليه الزكاة، فله الضمان
على المساكين، وهل يكون الامام طريقا؟ وجهان، كما في الاستقراض، وإلا فهل
يقع المخرج عن زكاته؟ وجهان. أصحهما: يقع، وبه قطع في الشامل
و التتمة، والثاني: لا، فعلى هذا له تضمين المساكين، وفي تضمين الامام
الوجهان، فإن لم يكن للمساكين مال، صرف الامام إذا اجتمعت الزكوات عنده ذلك
القدر إلى قوم آخرين عن جهة الذي تسلف منه.
المسألة الثانية: أن يتسلف بسؤال المالك، فإن دفع إلى المساكين، وتم
الحول وهم بصفة الاستحقاق، وقع الموقع، وإلا رجع المالك على المساكين دون
الامام، وإن تلف في يد الامام، لم يجزئ المالك، سواء تلف بتفريط الامام، أو
بغير تفريطه، كالتلف في يد الوكيل، ثم إن تلف بتفريط الامام، فعليه ضمانه
للمالك، وإلا فلا ضمان عليه، ولا على المساكين.
الثالثة: أن يتسلف بسؤال المالك والمساكين جميعا، فالأصح عند صاحب
الشامل والأكثرين: أنه من ضمان المساكين، والثاني: من ضمان المالك.
الرابعة: أن يتسلف بغير سؤال المالك والمساكين، لما رأى من حاجتهم،
فهل تكون حاجتهم كسؤالهم؟ وجهان. أصحهما: لا، فعلى هذا إن دفعه إليهم،
وخرجوا عن الاستحقاق قبل تمام الحول، استرده الامام منهم ودفعه إلى غيرهم،
وإن خرج الدافع عن أهلية الوجوب، استرده ورد إليه، فإن لم يكن للمدفوع إليه
مال، ضمنه الامام من مال نفسه، فرط، أم لم يفرط، وعلى المالك إخراج الزكاة
ثانيا، وفي وجه ضعيف: لا ضمان على الامام ثم الوجهان في تنزل الحاجة منزلة
سؤالهم، هما في حق البالغين، أما إذا كانوا أطفالا، فيبنى على أن الصبي تدفع
76

إليه الزكاة من سهم الفقراء أو المساكين، أم لا؟ فإن كان له من يلزمه نفقته كأبيه
وغيره، فالأصح أنه لا يدفع إليه، وإن لم يكن، فالصحيح أنه يدفع له إلى قيمه،
والثاني: لا، لاستغنائه بسهم من الغنيمة، فإن جوزنا التصرف إليه، فحاجة
الأطفال كسؤال البالغين، فتسلف الامام الزكاة واستقراضه لهم، كاستقراض قيم
اليتيم. هذا إذا كان الذي يلي أمرهم الامام، فإن كان وليا مقدما على الامام،
فحاجتهم كحاجة البالغين، لان لهم من يسأل التسلف لو كان صلاحهم فيه. أما إذا
قلنا: لا يجوز الصرف إلى الصبي، فلا تجئ هذه المسألة في سهم الفقراء
والمساكين، ويجوز أن تجئ في سهم الغارمين ونحوه.
ثم في المسائل كلها لو تلف المعجل في يد الساعي أو الامام بعد تمام
الحول، سقطت الزكاة عن المالك، لان الحصول في يدهما بعد الحول، كالوصول
إلى يد المساكين، كما لو أخذ بعد الحول، ثم إن فرط في الدفع إليهم، ضمن من
مال نفسه لهم، وإلا فلا ضمان على أحد، وليس من التفريط أن ينتظر انضمام غيره
إليه لقلته، فإنه لا يجب تفريق كل قليل يحصل عنده، والمراد بالمساكين في هذه
المسائل، أهل السهمين جميعا، وليس المراد جميع آحاد الصنف، بل سؤال طائفة
منهم وحاجتهم.
فصل إذا دفع الزكاة المعجلة إلى الفقير وقال: إنها معجلة، فإن عرض
مانع، استرددت منك، فله الاسترداد إن عرض مانع، وإن اقتصر على قوله: هذه
زكاة معجلة، أو علم القابض ذلك، ولم يذكر الرجوع، فله الاسترداد على
الأصح الذي قطع به الجمهور، وهذا إذا كان الدافع المالك. أما إذا دفعها
77

الامام، فلا حاجة إلى شرط الرجوع، بل يثبت الاسترداد قطعا، ولو دفع المالك أو
الامام، ولم يتعرض للتعجيل، ولا علم به القابض، فالمذهب: أنه لا يثبت
الرجوع مطلقا، وقيل: إن دفع الامام ثبت الرجوع، وإن دفع المالك فلا، وبه قطع
جمهور العراقيين، وقيل: فيهما قولان. فإن أثبتنا الرجوع، فقال المالك: قصدت
بالمدفوع التعجيل، وأنكر القابض، فالقول قول المالك مع يمينه، ولو ادعى
المالك علم القابض بالتعجيل، فالقول قول القابض، وإذا قلنا: لا رجوع إذا لم
يذكر التعجيل، ولم يعلم القابض به، فتنازعا في ذكره، أو قلنا: يشترط في
الرجوع التصريح به، فتنازعا فيه، فالقول قول المسكين على الأصح مع يمينه،
وقول المالك على الثاني، ويجري الوجهان في تنازع الامام والمسكين إذا قلنا:
الامام محتاج إلى الاشتراط. هذا كله إذا عرض مانع من استحقاقه الزكاة. أما إذا لم
يعرض، فليس له الاسترداد بلا سبب، لأنه تبرع بالتعجيل، فهو كمن عجل دينا
مؤجلا لا يسترده.
فرع قال إمام الحرمين وغيره: لا يحتاج مخرج الزكاة إلى لفظ أصلا،
بل يكفيه دفعها وهو ساكت، لأنها في حكم دفع حق إلى مستحق. قال: وفي صدقة
التطوع تردد، والظاهر الذي عمل به الناس كافة، أنه لا يحتاج إلى اللفظ أيضا.
فرع إذا قال: هذه زكاتي، أو صدقتي المفروضة، فطريقان. أحدهما:
أنه كما لو ذكر التعجيل، ولم يذكر الرجوع، وأصحهما: كما لو لم يذكر شيئا
أصلا. وقطع العراقيون بأن المالك لا يسترد، بخلاف الامام. قالوا: ولو كان
78

الطارئ موت المسكين، هل للمالك أن يستخلف ورثته على نفي العلم بأنها
معجلة؟ وجهان.
فرع من موانع المعجل أن تكون زكاة تلف النصاب، فحيث يثبت
الاسترداد بهذا السبب، هل يثبت إذا أتلفه المالك، أو أتلف منه ما نقص به النصاب
لغير حاجة؟ وجهان. أصحهما: يثبت، ولو أتلفه بالانفاق وغيره من وجوه
الحاجات، ثبت الرجوع قطعا.
فصل متى ثبت الاسترداد، فإن كان المعجل تالفا، فعليه ضمانه بمثله إن
كان مثليا، وإلا فقيمته، وتعتبر قيمته يوم القبض على الأصح، وعلى الثاني: يوم
التلف، والثالث: أقصى القيم، خرجه إمام الحرمين. فإن مات القابض،
فالضمان في تركته، وإن كان باقيا على حاله، استرده ودفعه أو مثله إلى المستحق
إن بقي بصفة الوجوب. وإن كان الدافع هو الامام، آخذه، وهل يصرفه إلى
المستحقين بغير إذن جديد من المالك؟ وجهان. أصحهما: وبه قطع في
التهذيب: يجوز. وإن أخذ القيمة فهل يجوز صرفها إلى المستحقين؟ وجهان،
لان دفع القيمة لا يجزئ، فإن جوزناه وهو الأصح، ففي افتقاره إلى إذن جديد
الوجهان. وإن حدثت فيه زيادة متصلة، كالسمن، والكبر، أخذه مع الزيادة، وإن
كانت منفصلة، كالولد، واللبن، فالمذهب والذي قطع به الجمهور، ونص عليه
الشافعي: أنه يأخذ الأصل بلا زيادة. وقيل: وجهان. أصحهما: هذا. والثاني:
يأخذه مع الزيادة، وإن كان ناقصا، فهل له أرشه معه؟ وجهان. الصحيح، وظاهر
النص: لا أرش له. والمذهب: أن القابض يملك المعجل. وفي وجه شاذ:
79

أنه موقوف، فإن عرض مانع، تبين عدم الملك، وإلا تبين. فلو باعه
القابض، ثم طرأ المانع، فإن قلنا بالمذهب: استمرت صحة البيع، وإلا تبينا
بطلانه. ولو كانت العين باقية، فأراد القابض رد بدلها، فإن قلنا بالوقف، لزم ردها
بعينها، وإن قلنا بالمذهب، ففي جواز الابدال الخلاف في مثله في القرض بناء على
أنه يملكه بالقبض أو بالتصرف.
فرع المعجل مضموم إلى ما عند المالك، نازل منزلة ما لو كان في
يده، فلو عجل شاة من أربعين، ثم حال الحول، ولم يطرأ مانع، أجزاه ما عجل،
وكانت تلك الشاة بمنزلة الباقيات عنده. ولو عجل شاة عن مائة وعشرين، ثم ولدت
واحدة، أو عن مائة، فولدت عشرين وبلغت غنمه بالمعجلة مائة وإحدى وعشرين،
لزمه شاة أخرى وإن كان القابض أتلف تلك المعجلة. ولو عجل شاتين عن مائتين،
ثم حدثت سخلة قبل الحول، فقد بلغت غنمة مائتين وواحدة بالمعجلة، فعليه عند
تمام الحول شاة ثالثة، فلو كانت المعجلة في هاتين الصورتين معلوفة، أو كان
المالك اشتراها فأخرجها، لم يجب شئ زائد، لان المعلوفة والمشتراة، لا يتم بها
النصاب، وإن جاز اخراجهما عن الزكاة، ثم إن تم الحول، والمعجل على
السلامة، أجزأه ما أخرج، ثم في تقديره إذا كان الباقي دون النصاب، بأن أخرج
شاة من أربعين، وجهان. الصحيح الذي قطع به الأصحاب: أن المعجل منزل
منزلة الباقي في ملك الدافع حتى يكمل به النصاب ويجزئ، وليس بباق في ملكه
حقيقة. وقال صاحب التقريب: يقدر كأن صاحب الملك لم يزل لينقضي الحول
وفي ملكه نصاب. واستبعد إمام الحرمين هذا، وقال: تصرف القابض نافذ بالبيع
والهبة وغيرهما، فكيف نقول ببقاء ملك الدافع، وهذا الاستبعاد صحيح إن أراد
صاحب التقريب بقاء ملكه حقيقة، وإن أراد ما قاله الأصحاب، فقوله صواب.
أما إذا طرأ مانع من كون المعجل زكاة، فينظر، إن كان المخرج أهلا للوجوب وبقي
في يده نصاب، لزمه الاخراج ثانيا. وإن كان دون النصاب، فحيث لا يثبت
الاسترداد لا زكاة، وكأنه تطوع بشاة قبل الحول. وحيث ثبت فاسترد، قال
80

العراقيون: فيه ثلاثة أوجه. أحدها: يستأنف الحول، ولا زكاة للماضي، لنقص
ملكه عن النصاب. والثاني: إن كان ماله نقدا، زكاه لما مضى. وإن كان ماشية،
فلا، لان السوم شرط في زكاة الماشية، وذلك ممتنع في الحيوان في الذمة.
وأصحها عندهم: تجب الزكاة لما مضى مطلقا، لان المخرج كالباقي في
ملكه. وبهذا قطع في التهذيب، بل لفظه يقتضي وجوب الاخراج ثانيا قبل
الاسترداد إذا كان المخرج بعينه باقيا في يد القابض. وقال صاحب التقريب: إذا
استرد وقلنا: كأن ملكه زال، لم يزك لما مضى، وإن قلنا: يتبين أن ملكه لم يزل،
زكى لما مضى. قال إمام الحرمين: وعلى هذا التقدير الثاني: الشاة المقبوضة
حصلت الحيلولة بين المالك وبينها، فيجئ فيها الخلاف في المغصوب
والمجحود. وكلام العراقيين يشعر بجريان الأوجه بعد تسليم زوال الملك عن
المعجل. وكيف كان، فالأصح عند المعظم وجوب تجديد الزكاة للماضي. أما إذا
كان المخرج تالفا في يد القابض، فقد صار الضمان دينا عليه، فإن أوجبنا تجديد
الزكاة، إذا كان باقيا، جاء هنا قولا وجوب الزكاة في الدين. هذا إذا كان المزكى
نقدا، فإن كان ماشية، لم تجب الزكاة بحال، لان الواجب على القابض القيمة،
فلا يكمل هنا نصاب الماشية. وقال أبو إسحاق: تقام القيمة مقام العين هنا،
نظرا للمساكين، والصحيح: الأول.
فرع لو عجل بنت مخاض عن خمس وعشرين من الإبل، فبلغت بالتوالد
ستا وثلاثين قبل الحول، لم يجزئه بنت المخاض معجلة وإن صارت بنت لبون في يد
القابض، بل يستردها ويخرجها ثانيا، أو بنت لبون أخرى. قال صاحب
التهذيب لنفسه: فإن كان المخرج تالفا، والنتاج لم يزد على أحد عشر، فلم
81

تكن إبله ستا وثلاثين إلا بالمخرج، وجب أن لا يجب بنت لبون، لأنا إنما نجعل
المخرج كالقائم إذا وقع محسوبا عن الزكاة. أما إذا لم يقع، فلا، بل هو كهلاك
بعض المال قبل الحول، وفيما قدمناه في الوجه الثالث عن العراقيين ما ينازع في
هذا.
باب حكم تأخير الزكاة
إذا تم حول المال الذي يشترط في زكاته الحول، وتمكن من الأداء، وجب
على الفور كما قدمناه. فإن أخر، عصى ودخل في ضمانه. فلو تلف المال بعد
ذلك، لزمه الضمان، سواء تلف بعد مطالبة الساعي أو الفقراء، أو قبل ذلك، ولو
تلف بعد الحول وقبل التمكن، فلا شئ عليه. وإن أتلفه المالك، لزمه الضمان.
وإن أتلفه أجنبي، بني على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، أن التمكن شرط في
الوجوب، أو في الضمان، إن قلنا بالأول، فلا زكاة. وإن قلنا بالثاني، وقلنا:
الزكاة تتعلق بالذمة، فلا زكاة، وإن قلنا: تتعلق بالعين، انتقل حق المستحقين إلى
القيمة، كما إذا قتل العبد الجاني أو المرهون، ينتقل الحق إلى القيمة.
فرع إمكان الأداء شرط في الضمان قطعا، وهل هو شرط في الوجوب
أيضا؟ قولان. أظهرهما: ليس بشرط، والثاني: شرط كالصلاة والصوم والحج،
واحتجوا للأظهر بأنه لو تأخر الامكان، فابتدأ الحول الثاني، يحسب من تمام
الأول، لا من (حصول) الامكان.
82

فرع الأوقاص التي بين النصب، فيها قولان. أظهرهما: أنها عفو،
والفرض يتعلق بالنصاب خاصة، والثاني: ينبسط الفرض عليها وعلى النصاب،
فإذا ملك تسعا من الإبل، فعلى الأول، عليه شاة في خمس منها، لا بعينها، وعلى
الثاني: الشاة واجبة في الجميع. قال إمام الحرمين: الوجه عندي أن تكون الشاة
متعلقة بالجميع قطعا، وأن القولين في أن الوقص إنما يجعل وقاية للنصاب، كما
يجعل الربح في القراض وقاية لرأس المال، وهذا الذي قاله حسن، لكن المذهب
المشهور ما قدمناه.
فرع لو تم الحول على خمس من الإبل، فتلف واحد قبل التمكن، فلا زكاة
للتالف، وأما الأربعة، فإن قلنا: التمكن شرط في الوجوب، فلا شئ فيها،
وإن قلنا: للضمان فقط، وجب أربعة أخماس شاة. ولو تلف أربع، فعلى الأول:
لا شئ، وعلى الثاني: يجب خمس شاة، ولو ملك ثلاثين من البقر، فتلف خمس
قبل الامكان وبعد الحول، فإن قلنا بالأول، فلا شئ، وإن قلنا بالثاني، وجب
خمسة أسداس تبيع، ولو تم الحول على تسع من الإبل، فتلف أربع قبل التمكن،
فإن قلنا: الامكان شرط للوجوب، فعليه شاة، وإن قلنا: للضمان والوقص عفو،
فشاة أيضا، وإن قلنا: ينبسط، فالصحيح الذي قطع به الجمهور: يجب خمسة
أتساع شاة، وقال أبو إسحاق: يجب شاة كاملة. ولو كانت المسألة بحالها، وتلفت
خمس، فإن قلنا: الامكان شرط للوجوب، فلا شئ، وإن قلنا: للضمان،
وقلنا: الوقص عفو، فأربعة أخماس شاة، وإن قلنا بالبسط، فأربعة أتساع شاة،
ولا يجئ وجه أبي إسحاق. ولو ملك ثمانين من الغنم، فتلف بعد الحول وقبل
التمكن أربعون، فإن قلنا: التمكن شرط للوجوب، أو للضمان والوقص عفو،
فعليه شاة، وإن قلنا: بالضمان والبسط، فنصف شاة، وعلى وجه أبي إسحاق:
شاة.
فرع إمكان الأداء، ليس المراد به مجرد تمكنه من إخراج الزكاة، بل يعتبر
معه وجوب الاخراج، وذلك بأن تجتمع شرائطه.
83

فمنها: أن يكون المال حاضرا عنده، فإن كان غائبا، لم يجب الاخراج من موضع آخر وإن جوزنا نقل الزكاة.
ومنها: أن يجد المصروف إليه، وقد تقدم أن الأموال ظاهرة وباطنة، فالباطنة
يجوز صرف زكاتها إلى السلطان ونائبه، ويجوز أن يفرقها بنفسه، فيكون واجدا
للمصروف إليه، سواء وجد أهل السهمان، أو الامام، أو نائبه، يفرقها، وأما
الأموال الظاهرة، فكذلك إن جوزنا تفرقتها بنفسه، وإلا، فلا إمكان حتى يجد
الامام أو نائبه، وإذا وجد من يجوز الصرف إليه، فأخر لطلب الأفضل، بأن وجد
الامام أو نائبه، فأخر ليفرق بنفسه حيث قلنا: إنه أفضل، أو وجد أهل السهمان،
فأخر ليدفع إلى الامام أو نائبه، حيث قلنا: إنه أفضل، أو أخر لانتظار قريب أو
جار، أو من هو أحوج، ففي التأخير وجهان. أصحهما: جوازه، فعلى هذا لو أخر
فتلف، كان ضامنا في الأصح. قال إمام الحرمين: الوجهان لهما شرطان.
أحدهما: أن يظهر استحقاق الحاضرين، فإن تردد في استحقاقهم فأخر ليتروى،
جاز بلا خلاف، والثاني: أن لا يشتد ضرر الحاضرين وفاقتهم، فإن تضرروا
بالجوع، لم يجز التأخير للقريب وشبهه بلا خلاف، وفي هذا الشرط الثاني نظر،
فإن إشباعهم لا يتعين على هذا الشخص، ولا من هذا المال، ولا من مال الزكاة.
قلت: هذا النظر ضعيف، أو باطل. والله أعلم.
84

قال صاحب التهذيب وغيره: ويشترط في إمكان الأداء أن لا يكون مشتغلا
بشئ يهمه من أمر دينه أو دنياه.
فصل في كيفية تعلق الزكاة بالمال قال الجمهور: فيه قولان.
القديم: يتعلق بالذمة، والجديد الأظهر: بالعين، ويصير المساكين شركاء لرب
المال في قدر الزكاة. هكذا صححه الجمهور، وزاد آخرون قولا ثالثا: أنها تتعلق
بالعين تعلق الدين بالمرهون، وقولا رابعا: تتعلق بالعين تعلق الأرش برقبة الجاني،
وممن زاد القولين إمام الحرمين، والغزالي. وأما العراقيون، والصيدلاني،
والروياني، والجمهور، فجعلوا قول الذمة وتعلق الدين بالمرهون شيئا واحدا،
فقالوا: تتعلق بالذمة، والمال مرتهن بها، وجمع صاحب التتمة بين الطريقين،
فحكى وجهين، في أنا إذا قلنا: تتعلق بالذمة، فهل المال خلو، أم هو رهن بها؟
وإذا قلنا كتعلق الرهن، إما قولا برأسه، وإما جزءا من قول الذمة، فهل يجعل جميع
المال مرهونا بها، أم يخص قدر الزكاة بالرهن؟ وجهان، وكذا إذا قلنا: كتعلق
الأرش، فهل يتعلق بالجميع، أم بقدرها؟ فيه الوجهان. قال إمام الحرمين:
والتخصيص بقدر الزكاة هو الحق الذي قاله الجمهور، وما عداه هفوة. هذا كله إذا
كان الواجب من جنس المال. أما إذا كان من غيره، كالشاة الواجبة في الإبل،
فطريقان. أحدهما: القطع بتعلقها بالذمة، وأصحهما: أنه على الخلاف
السابق، فعلى الاستئناف لا يختلف، وعلى الشركة يشاركون بقيمة الشاة.
فرع إذا باع مال الزكاة بعد الحول قبل إخراجها، فإن باع جميعه، فهل
يصح البيع في قدر الزكاة؟ يبنى على الأقوال. فإن قلنا: الزكاة في الذمة والمال خلو
85

منها، صح، وإن قلنا: مرهون، فقولان. أظهرهما عند العراقيين وغيرهم: يصح
أيضا، لأن هذه العلقة، تثبت بغير اختيار المالك، وليست لمعين، فسومح فيهد بما
لا يسامح به في الرهن، وإن قلنا: بالشركة، فطريقان. أحدهما: القطع
بالبطلان، وأصحهما وبه قطع أكثر العراقيين: في صحته قولان. أظهرهما وبه قطع
صاحب التهذيب وعامة المتأخرين: البطلان، وإن قلنا: تعلق الأرش، ففي
صحته القولان في بيع الجاني، فإن صححناه، صار البيع ملتزما للفداء، ومتى
حكمنا بالصحة في قدر الزكاة، فما سواه أولى، ومتى حكمنا فيه بالبطلان، فهل
يبطل فيما سواه؟ وأما على قول الشركة ففيما سواه قولا تفريق الصفقة، وإن قلنا:
بالاستيثاق في الجميع، بطل البيع في الجميع، وإن قلنا: بالاستيثاق في قدر
الزكاة، ففي الزائد قولا تفريق الصفقة، وحيث منعنا البيع، وكان المال ثمرة،
فذلك قبل الخرص، فأما بعده، فلا منع إن قلنا: الخرص تضمين.
والحاصل من جميع هذا الخلاف، ثلاثة أقوال. أحدها: البطلان في
الجميع، والثاني: الصحة في الجميع، وأظهرها: البطلان في قدر الزكاة،
والصحة في الباقي. فإن صححنا البيع في الجميع، نظر، إن أدى البائع الزكاة من
موضع آخر، فذلك، وإلا فللساعي أن يأخذ من عين المال من يد المشتري قدر
الزكاة على جميع الأقوال بلا خلاف. فإن أخذ، انفسخ البيع في قدر الزكاة، وهل
ينفسخ في الباقي؟ فيه الخلاف في تفريق الصفقة في الدوام. فإن قلنا: ينفسخ،
استرد الثمن، وإلا فله الخيار إن كان جاهلا، فإن فسخ، فذاك، وإن أجاز في
الباقي، فيأخذه بقسطه من الثمن، أم بالجميع؟ فيه قولان. أظهرهما: بقسطه،
86

ولو لم يأخذ الساعي الواجب منه، ولم يؤد البائع الزكاة من موضع آخر، فالأصح أن
للمشتري الخيار إذا علم الحال، والثاني: لا خيار له. فإن قلنا: بالأصح، فأدى
البائع الواجب من موضع آخر، فهل يسقط الخيار؟ وجهان. الصحيح: أنه يسقط
كما لو اشترى معيبا، فزال عيبه قبل الرد، فإنه يسقط، والثاني: لا يسقط،
لاحتمال أن يخرج ما دفعه إلى الساعي مستحقا، فيرجع الساعي إلى عين المال،
ويجري الوجهان فيما إذا باع السيد الجاني ثم فداه، هل يبقى للمشتري الخيار؟ أما
إذا أبطلنا البيع في قدر الزكاة، وصححناه في الباقي، فللمشتري الخيار في فسخ
البيع في الباقي وإجازته، ولا يسقط خياره بأداء البائع الزكاة من موضع آخر، وإذ
أجاز فيجيز بقسطه، أم بجميع الثمن؟ فيه القولان المقدمان، وقطع بعض
الأصحاب، بأنه يجيز بالجميع في المواشي، والصحيح الأول. هذا كله إذا باع
جميع المال، فإن باع بعضه، فإن لم يبق قدر الزكاة، فهو كما لو باع الجميع، وإن
بقي قدر الزكاة، إما بنية صرفه إلى الزكاة، وإما بغيرها، فإن فرعنا على قول
الشركة، ففي صحة البيع وجهان. قال ابن الصباغ: أقيسهما: البطلان، وهما
مبنيان على كيفية ثبوت الشركة، وفيها وجهان. أحدهما: أن الزكاة شائعة في
87

الجميع، متعلقة بكل واحدة من الشياه بالقسط، والثاني: أن محل الاستحقاق
قدر الواجب، ويتعين بالاخراج. أما إذا فرعنا على قول الرهن، فيبنى على أن
الجميع مرهون، أم قدر الزكاة فقط؟ فعلى الأول: لا يصح، وعلى الثاني:
يصح، وإن فرعنا على تعلق الأرش، فإن صححنا بيع الجاني، صح هذا البيع،
وإلا، فالتفريع، كالتفريع على قول الرهن، وجميع ما ذكرناه هو في بيع المال الذي *
تجب الزكاة في عينه. فأما بيع مال التجارة بعد وجوب الزكاة، فسيأتي في بابها
إن شاء الله تعالى.
فرع إذا ملك أربعين شاة، فحال عليها الحول، ولم يخرج زكاتها حتى
حال آخر، فإن حدث منها في كل حول سخلة فصاعدا، فعليه لكل حول شاة بلا
خلاف، وإلا فعليه شاة عن الحول الأول، وأما الثاني: فإن قلنا: تجب الزكاة في
الذمة، وكان يملك سوى الغنم ما يفي بشاة، وجب شاة للحول الثاني، وإن لم
يملك شيئا غير النصاب، يبنى على أن الدين يمنع وجوب الزكاة، أم لا؟ إن قلنا:
يمنع، لم يجب للحول الثاني شئ، وإلا وجبت شاة، وإن قلنا: يتعلق بالعين
تعلق الشركة، لم يجب للحول الثاني شئ، لان المساكين ملكوا شاة نقص بها
النصاب، ولا تجب زكاة الخلطة، لان المساكين لا زكاة عليهم، فمخالطتهم
كمخالطة المكاتب والذمي، وإن قلنا: يتعلق بالعين تعلق الرهن أو الأرش، قال
إمام الحرمين: فهو كالتفريع على قول الذمة، وقال الصيدلاني: هو كقول الشركة،
وقياس المذهب ما قاله الامام، لكن يجوز أن يفرض خلاف في وجوب الزكاة من
جهة تسلط الغير عليه، وإن قلنا: الدين لا يمنع الزكاة، وعلى هذا التقدير يجري
الخلاف على قول الذمة، أيضا. ولو ملك خمسا وعشرين من الإبل حولين ولا
نتاج، فإن علقنا الزكاة بالذمة، وقلنا: الدين لا يمنعها، أو كان له مال آخر يفي بها،
فعليه بنتا مخاض، وإن قلنا: بالشركة، فعليه للحول الأول بنت مخاض،
وللثاني: أربع شياه، وتفريع الجرش والرهن على قياس ما سبق. ولو ملك خمسا من
الإبل حولين بلا نتاج، فالحكم كما في الصورتين السابقتين. لكن قد ذكرنا أن من
88

الأصحاب من لم يثبت قول الشركة إذا كان الواجب من غير جنس الأصل، فعلى هذا
يكون الحكم في هذه الصورة مطلقا، كالحكم في الأوليين، تفريعا على قول
الذمة، والمذهب وهو اختيار المزني: أنه لا فرق بين أن يكون الواجب من جنس
المال أو من غيره، ولهذا يجوز للساعي أن يبيع جزءا من الإبل في الشياه، فدل على
تعلق الحق بعينها.
فرع إذا رهن مال الزكاة، فتارة يرهنه بعد تمام الحول، وتارة قبله، فإن
رهنه بعد الحول، فالقول في صحة الرهن في قدر الزكاة كالقول في صحة بيعه،
فيعود فيه جميع ما قدمناه، فإذا صححنا في قدر الزكاة، فما زاد أولى، وإن أبطلناه
فيه، فالباقي يرتب على البيع. إن صححناه، فالرهن أولى، وإلا فقولا تفريق
الصفقة في الرهن إذا جمع حلالا وحراما، فإذا صححنا الرهن في الجميع فلم يؤد
الزكاة من موضع آخر، فللساعي أخذها منه. فإذا أخذ، انفسخ الرهن فيه، وفي
الباقي الخلاف كما تقدم في البيع، وإذا أبطلناه في الجميع، أو في قدر الزكاة،
وكان الرهن مشروطا في بيعه، ففي فساد البيع قولان، فإن لم يفسد، فللمشتري
الخيار، ولا يسقط خياره بأداء الزكاة من موضع آخر، أما إذا رهن قبل تمام الحول
فتم، ففي وجوب الزكاة خلاف قدمناه، والرهن لا يكون إلا بدين، وفي كون
الدين مانعا من الزكاة الخلاف المعروف، فإن قلنا: الرهن لا يمنع الزكاة، وقلنا:
الدين لا يمنع أيضا، أو قلنا: يمنع، فكان له مال آخر يفي بالدين، وجبت الزكاة،
وإلا فلا. ثم إن لم يملك الراهن مالا آخر، أخذت الزكاة من عين المرهون على
الأصح، ولا تؤخذ منه على الثاني. فعلى الأصح: لو كانت الزكاة من غير جنس
المال، كالشاة من الإبل، بيع جزء من المال فيها، وقيل: الخلاف فيما إذا كان
الواجب من غير جنس المال، فإن كان من جنسه، أخذ من المرهون قطعا، ثم إذا
أخذت الزكاة من عين المرهون، فأيسر الراهن بعد ذلك، فهل يؤخذ منه قدرها
ليكون رهنا عند المرتهن؟ إن علقنا الزكاة بالذمة، أخذ، وإلا فلا على الأصح. فإذا
89

قلنا بالأخذ، وكان النصاب مثليا، أخذ المثل، وإلا فالقيمة على قاعدة الغرامات.
أما إذا ملك مالا آخر، فالمذهب والذي قطع به الجمهور: أن الزكاة تؤخذ من سائر
أمواله، ولا تؤخذ من عين المرهون، وقال جماعة: تؤخذ من عينه إن علقناها
بالعين، وهذا هو القياس، كما لا يجب على السيد فداء المرهون إذا جنى.
باب زكاة المعشرات
تجب الزكاة في الأقوات، وهي من الثمار: النخل والعنب، ومن الحبوب:
الحنطة والشعير، والأرز والعدس، والحمص والباقلاء، والدخن
والذرة، واللوبياء والماش، والهرطمان وهو الجلبان. وأما ما سوى
الأقوات، فلا تجب الزكاة في معظمها بلا خلاف، وفي بعضها خلاف. فمما لا زكاة
فيه بلا خلاف: التين، والسفرجل، والخوخ، والتفاح، والجوز، واللوز،
والرمان، وغيرها من الثمار، وكالقطن، والكتان، والسمسم، والإسبيوش،
90

وهو بزر القطونا، والثفاء وهو حب الرشاد، والكمون، والكزبرة،
والبطيخ، والقثاء، والسلق، والجزر، والقنبيط، وحبوبها وبزورها.
ومن المختلف فيه: الزيتون. فالجديد المشهور: لا زكاة فيه، والقديم:
تجب ببدو صلاحه، وهو نضجه واسوداده، ويعتبر فيه النصاب عند الجمهور،
وخرج ابن القطان اعتبار النصاب فيه وفي سائر ما يختص القديم بإيجاب الزكاة فيه
على قولين. ثم إن كان الزيتون مما لا يجئ منه الزيت، كالبغدادي، أخرج عشره
زيتونا، وإن كان مما يجئ منه الزيت كالشامي، فثلاثة أوجه. الصحيح
المنصوص في القديم: أنه إن شاء الزيت، وإن شاء الزيتون، والزيت أولى،
والثاني: يتعين الزيت، والثالث: يتعين الزيتون، بدليل أنه يعتبر النصاب بالزيتون
دون الزيت بالاتفاق.
ومنها: الزعفران، والورس، وهو شجر يخرج شيئا كالزعفران، فلا زكاة
91

فيهما على الجديد المشهور، وقال في القديم: تجب إن صح الحديث في
الورس. فإن أوجبنا فيه، ففي الزعفران قولان، فإن أوجبنا فيهما، فالمذهب: أنه
لا يعتبر النصاب، بل تجب في القليل والكثير، وقيل: فيه قولان.
ومنها: العسل، لا زكاة فيه على الجديد، وعلق القول فيه على القديم،
وقطع أبو حامد وغيره بنفي الزكاة فيه قديما وجديدا. فإن أوجبنا، فاعتبار النصاب
كما سبق.
ومنها: القرطم وهو حب العصفر، الجديد: لا زكاة فيه، والقديم:
تجب. فعلى هذا، المذهب: اعتبار النصاب كسائر الحبوب، وفي العصفر نفسه
طريقان. قيل: كالقرطم، وقيل: لا تجب قطعا.
ومنها: الترمس، الجديد: لا زكاة فيه، والقديم: تجب.
ومنها: حب الفجل، حكى ابن كج وجوب الزكاة فيه على القديم، ولم
92

أره لغيره.
فرع لا يكفي في وجوب الزكاة، كون الشئ مقتاتا على الاطلاق، بل
المعتبر أن يقتات في حال الاختيار، فقد يقتات الشئ في حال الضرورة، فلا زكاة
فيه، كالفث، وحب الحنظل، وسائر بزور البرية. واختلف في تفسير الفث،
فقال المزني وطائفة: هو حب الغاسول، وهو الأشنان، وقال آخرون: هو حب
أسود يابس، يدفن فيلين قشره، فيزال ويطحن، ويخبز، تقتاته أعراب طيئ.
واعلم أن الأئمة ضبطوا ما يجب فيه العشر بقيدين. أحدهما: أن يكون قوتا،
والثاني: أن يكون من جنس ما ينبته الآدميون. قالوا: فإن فقد الأول كالإسبيوش،
أو الثاني كالفث، أو كلاهما كالثفاء، فلا زكاة، وإنما يحتاج إلى ذكر القيدين من
أطلق القيد الأول. فأما من قيده فقال: يكون قوتا في حال الاختيار، فلا يحتاج إلى
الثاني، إذ ليس فيما يستنبت إلا ما يقتات اختيارا، واعتبر العراقيون مع القيدين،
قيدين آخرين. أحدهما: أن يدخر، والآخر: أن ييبس، ولا حاجة إليهما، فإنهما
لازمان لكل مقتات مستنبت.
فصل النصاب معتبر في المعشرات، وهو خمسة أوسق، والوسق: ستون
صاعا، والصاع: خمسة أرطال وثلث بالبغدادي. فالخمسة، هي ألف وستمائة رطل
93

بالبغدادي، والأصح عند الأكثرين: أن هذا القدر تحديد، وقيل:
تقريب. فعلى التقريب يحتمل نقصان القليل كالرطلين، وحاول إمام الحرمين ضبطه فقال:
الأوسق: الأوقار، والوقر المقتصد: ثلاثمائة وعشرون رطلا، فكل نقص لو وزع
على الأوسق الخمسة لم تعد منحطة عن حد الاعتدال، لا يضر، وإن عدت
منحطة، ضر، وإن أشكل فيحتمل أن يقال: لا زكاة حتى تحقق الكثرة، ويحتمل
أن يقال: تجب لبقاء الأوسق. قال: وهذا أظهر. ثم قال إمام الحرمين: الاعتبار
فيما علقه الشرع بالصاع والمد بمقدار موزون يضاف إلى الصاع والمد، لا لما
يحوي المد ونحوه، وذكر الروياني وغيره: أن الاعتبار بالكيل لا بالوزن، وهذا هو
الصحيح. قال أبو العباس الجرجاني: إلا العسل إذا أوجبنا فيه الزكاة، فالاعتبار فيه
بالوزن، وتوسط صاحب العدة فقال: هو على التحديد في الكيل، وعلى
التقريب في الوزن، وإنما قدره العلماء بالوزن استظهارا.
قلت: الصحيح: اعتبار الكيل كما صححه، وبهذا قطع الدارمي، وصنف
في هذه المسألة تصنيفا، وسيأتي في إيضاحه زيادة في زكاة الفطر إن شاء الله تعالى،
وهناك نذكر الخلاف في قدر رطل بغداد، والأصح: أنه مائة وثمانية وعشرون
درهما، وأربعة أسباع درهم. فعلى هذا، الأوسق الخمسة بالرطل الدمشقي:
ثلاثمائة واثنان وأربعون رطلا ونصف رطل وثلث رطل وسبعا أوقية. والله أعلم.
94

فصل لا فرق بين ما تنبته الأرض المملوكة والمستأجرة في وجوب العشر،
فيجب على مستأجر الأرض العشر مع الأجرة، وكذا يجب عليه العشر والخراج في الأرض
الخراجية. قال أصحابنا: وتكون الأرض خراجية في صورتين.
إحداهما: أن يفتح الامام بلدة قهرا، ويقسمها بين الغانمين، ثم يعوضهم
عنها، ثم يقفها على المسلمين ويضرب عليها خراجا، كما فعل عمر رضي الله عنه
بسواد العراق، على ما هو الصحيح فيه.
الثانية: أن يفتح بلدة صلحا، على أن تكون الأرض للمسلمين، ويسكنها
الكفار بخراج معلوم، فالأرض تكون فيئا للمسلمين، والخراج عليها أجرة لا تسقط
بإسلامهم، وهكذا إذا انجلى الكفار عن بلدة وقلنا: إن الأرض تصير وقفا على
مصالح المسلمين، يضرب عليها خراجا يؤديه من يسكنها مسلما كان أو ذميا. فأما
إذا فتحت صلحا ولم يشرط كون الأرض للمسلمين، ولكن سكنوا فيها بخراج، فهذا
يسقط بالاسلام، فإنه جزية، وأما البلاد التي فتحت قهرا وقسمت بين الغانمين،
وبقيت في أيديهم، وكذا التي أسلم أهلها عليها، والأرض التي أحياها المسلمون،
فكلها عشرية، وأخذ الخراج منها ظلم.
فرع النواحي التي يؤخذ منها الخراج، ولا يعرف كيف كان حالها في
95

الأصل، حكى الشيخ أبو حامد عن نص الشافعي رحمة الله عليه: أنه يستدام
الاخذ منها، فإنه يجوز أن يكون الذي فتحها صنع بها كما صنع عمر
رضي الله عنه بسواد العراق، والظاهر: أن ما جرى لطول الدهر، جرى بحق. فإن
قيل: هل يثبت فيها حكم أرض السواد من امتناع البيع والرهن؟ قيل: يجوز أن
يقال: الظاهر في الاخذ كونه حقا، وفي الأيدي الملك، فلا نترك واحدا من
الظاهرين، إلا بيقين.
فرع الخراج المأخوذ ظلما، لا يقوم مقام العشر، فإن أخذه السلطان
على أن يكون بدلا عن العشر، فهو كأخذ القيمة بالاجتهاد، وفي سقوط الفرض به
وجهان. أحدهما وبه قطع في التتمة: السقوط، فإن لم يبلغ قدر العشر، أخرج
الباقي، وذكر في النهاية: أن بعض المصنفين حكى قريبا من هذا عن أبي زيد
واستبعده.
قلت: الصحيح: السقوط، وهو نصه في الام وبه قطع جماهير
الأصحاب، كالشيخ أبي حامد، والمحاملي، والماوردي، والقاضي أبي الطيب،
ومن المتقدمين ابن أبي هريرة، ومنعه أبو إسحاق. والله أعلم.
فصل ثمار البستان وغلة القرية الموقوفين على المساجد، أو الرباطات، أو
القناطر، أو الفقراء، أو المساكين، لا زكاة فيها، إذ ليس لها مالك معين، هذا هو
المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور، ونقل ابن المنذر عن الشافعي رحمه الله تعالى
96

وجوب الزكاة فيها. فأما الموقوف على جماعة معينين، فتقدم بيانه في باب
الخلطة.
فصل في الحال الذي يعتبر فيه بلوغ المعشر خمسة أوسق إن كان
نخلا أو عنبا، اعتبر تمرا وزبيبا، فإن كان رطبا لا يتخذ منه تمر، فوجهان.
أصحهما: يوسق رطبا، والثاني: يعتبر بحالة الجفاف، وعلى هذا وجهان.
أحدهما: يعتبر بنفسه بلوغه نصابا وإن كان حشفا، والثاني: بأقرب الأرطاب إليه،
وهذا إذا كان يجئ منه تمر ردئ، فأما إذا كان يفسد بالكلية، فيقتصر على الوجه
الأصح، وهو توسيقه رطبا. والعنب الذي لا يتزبب، كالرطب الذي لا يتتمر، ولا
خلاف في ضم ما لا يجفف منهما إلى ما يجفف في تكميل النصاب. ثم في أخذ
الواجب من الذي لا يجفف إشكال ستعرفه مع الخلاص منه في مسألة إصابة النخل
العطش إن شاء الله تعالى. وأما الحبوب، فيعتبر بلوغها نصابا بعد التصفية من
التبن، ثم قشورها أضرب. أحدها: قشر لا يدخر الحب فيه، ولا يؤكل معه، فلا
يدخل في النصاب، والثاني: قشر يدخر الحب فيه، ويؤكل معه كالذرة، فيدخل
القشر في الحساب، فإنه طعام وإن كان قد يزال كما تقشر الحنطة. وفي دخول
القشرة السفلى من الباقلاء في الحساب، وجهان. قال في العدة: المذهب لا
يدخل الثالث: قشر يدخر الحب فيه ولا يؤكل معه، فلا يدخل في حساب
النصاب، ولكن يؤخذ الواجب فيه كالعلس والأرز. أما العلس، فقال الشافعي
رحمه الله عنه في الام: يبقى بعد دياسه على كل حبتين منه كمام لا يزول إلا بالرحى
الخفيفة، أو بمهراس، وادخاره في ذلك الكمام أصلح له، وإذا أزيل، كان
97

الصافي نصف المبلغ، فلا يكلف صاحبه إزالة ذلك الكمام عنه، ويعتبر بلوغه بعد
الدياس عشرة أوسق ليكون الصافي منه خمسة. وأما الأرز، فيدخر أيضا مع قشره،
فإنه أبقى له، ويعتبر بلوغه مع القشر عشرة أوسق كالعلس، وعن الشيخ أبي حامد:
أنه قد يخرج منه الثلث، فيعتبر بلوغه قدرا يكون الخارج منه نصابا.
فصل لا يضم التمر إلى الزبيب في إكمال النصاب، ويضم أنواع التمر
بعضها إلى بعض، وأنواع الزبيب بعضها إلى بعض، ولا تضم الحنطة إلى
الشعير، ولا سائر أجناس الحبوب بعضها إلى بعض، ويضم العلس إلى
الحنطة، لأنه نوع منها، وأكمته يحوي الواحد منها حبتين، وإذا نحيت الأكمة،
خرجت الحنطة الصافية، وقبل التنحية إذا كان له وسقان من العلس، وأربعة حنطة،
تم نصابه. فلو كانت الحنطة ثلاثة أوسق، لم يتم النصاب إلا بأربعة أوسق علسا،
وعلى هذا القياس. وأما السلت، فقال العراقيون وصاحب التهذيب: هو حب
يشبه الحنطة في اللون والنعومة، والشعير في برودة الطبع، وعكس الصيدلاني
وآخرون فقالوا: هو في صورة الشعير، وطبعه حار كالحنطة.
قلت: الصحيح، بل الصواب ما قاله العراقيون، وبه قطع جماهير
الأصحاب، وهو الذي ذكره أهل اللغة. والله أعلم.
ثم فيه ثلاثة أوجه. أصحها، وهو نصه في البويطي: أنه أصل بنفسه لا
يضم إلى غيره، والثاني: يضم إلى الحنطة، والثالث: إلى الشعير.
98

فرع تقدم في الخلطة خلاف في ثبوتها في الثمار والزروع، وأنها إن ثبتت، فهل
تثبت خلطتا الشيوع والجوار، أم الشيوع فقط، والمذهب ثبوتهما معا؟
فإن قلنا: لا تثبتان، لم يكمل ملك رجل بملك غيره في إتمام النصاب، وإن
أثبتناهما، كمل بملك الشريك والجار. ولو مات إنسان وخلف ورثة، ونخيلا مثمرة
أو غير مثمرة، وبدا الصلاح في الحالين في ملك الورثة، فإن قلنا: لا تثبت الخلطة
في الثمار، فحكم كل واحد منقطع عن غيره، فمن بلغ نصيبه نصابا، زكى، ومن
لا، فلا، وسواء اقتسموا، أم لا. وإن قلنا: نثبت، قال الشافعي رحمه الله: إن
اقتسموا قبل بدو الصلاح، زكوا زكاة الانفراد، فمن لم يبلغ نصيبه نصابا، فلا شئ
عليه، وهذا إذا لم تثبت خلطة الجوار، أو أثبتناها وكانت متباعدة. أما إذا كانت
متجاورة وأثبتناها، فيزكون زكاة الخلطة، كما قبل القسمة، وإن اقتسموا بعد بدو
الصلاح، زكوا زكاة الخلطة، لاشتراكهم حالة الوجوب. ثم هنا اعتراضان.
أحدهما للمزني قال: القسمة بيع، وبيع الربوي بعضه ببعض جزافا لا
يجوز، وبيع الرطب على رؤوس النخل بالرطب بيع جزاف، وأيضا فبيع الرطب
بالرطب عند الشافعي لا يجوز بحال. أجاب الأصحاب بجوابين. أحدهما: قالوا:
الامر على ما ذكر إن قلنا: القسمة بيع، ولكن فرع الشافعي رحمه الله على القول
الآخر أنها إفراز الثاني، وإن قلنا: القسمة بيع، فتتصور القسمة هنا من وجوه.
منها: أن يكون بعض النخيل مثمرا، وبعضها غير مثمر، فيجعل هذا هما،
وذاك سهما، ويقسمه قسمة تعديل، فيكون بيع نخيل ورطب بنخل متمحض،
وذلك جائز.
ومنها: أن تكون التركة نخلتين، والورثة شخصين، اشترى أحدهما نصيب
صاحبه من إحدى النخلتين أصلها وثمرها بعشرة دراهم، وباع نصيبه من الأخرى
لصاحبه بعشرة، وتقاصا. قال الأصحاب: ولا يحتاج إلى شرط القطع وإن كان قبل
بدو الصلاح، لأن المبيع جزء شائع من الثمرة والشجرة معا، فصار كما لو باعها
كلها بثمرتها صفقة، وإنما يحتاج إلى شرط القطع إذا أفرد الثمرة بالبيع.
99

ومنها: أن يبيع كل واحد نصيبه من ثمرة إحدى النخلتين بنصيب صاحبه من
جذعها، فيجوز بعد بدو الصلاح، ولا يكون ربا، ولا يجوز قبل بدوه إلا بشرط
القطع، لأنه بيع ثمرة تكون للمشتري على جذع البائع. وقال بعض الأصحاب:
قسمة الثمار بالخرص تجوز على أحد القولين. قال: والذي ذكره الشافعي هنا تفريع
على ذلك القول. ولك أن تقول: هذا يدفع إشكال البيع جزافا، ولا يدفع إشكال
منع بيع الرطب بالرطب.
الاعتراض الثاني: قال العراقيون: جواز القسمة قبل إخراج الزكاة، هو بناء
على أن الزكاة في الذمة. فإن قلنا: إنها تتعلق بالعين، لم تصح القسمة.
واعلم أنه يمكن تصحيح القسمة مع التفريع على قول العين، بأن تخرص
الثمار عليهم، ويضمنوا حق المساكين، فلهم التصرف بعد ذلك، وأيضا فإنا حكينا
في قول البيع قولين تفريعا على التعلق بالعين، فكذلك القسمة إن جعلناها بيعا، وإن
قلنا: إفراز، فلا منع، وجميع ما ذكرناه إذا لم يكن على الميت دين، فإن مات
وعليه دين، وله نخيل مثمرة، فبدا الصلاح فيها بعد موته وقبل أن تباع، فالمذهب
والذي قطع به الجمهور: وجوب الزكاة على الورثة، لأنها ملكهم ما لم تبع في
الدين، وقيل: قولان. أظهرهما: هذا، والثاني: لا تجب لعدم استقرار الملك
في الحال، ويمكن بناؤه على الخلاف في أن الدين هل يمنع الإرث، أم لا؟ فعلى
المذهب: حكمهم في كونهم يزكون زكاة خلطة، أم انفراد؟ على ما سبق إذا لم
يكن دين. ثم إن كانوا موسرين، أخذت الزكاة منهم، وصرفت النخيل والثمار إلى
100

دين الغرماء، وإن كانوا معسرين، فطريقان. أحدهما: أنه على الخلاف في أن
الزكاة تتعلق بالذمة، أم بالعين؟ إن قلنا: بالذمة والمال مرهون بها، خرج على
الأقوال الثلاثة في اجتماع حق الله تعالى وحق الآدمي. فإن سوينا، وزعنا المال على
الزكاة والغرماء، وإن قلنا: بالعين، أخذت، سواء قلنا: تعلق الأرش، أو تعلق
الشركة. والطريق الثاني وهو الأصح: تؤخذ الزكاة بكل حال لشدة تعلقها بالمال.
ثم إذا أخذت من العين ولم يف الباقي بالدين، غرم الورثة قدر الزكاة لغرماء الميت
إذا أيسروا، لان وجوب الزكاة عليهم، وبسببه خرج ذلك القدر عن الغرماء. قال
صاحب التهذيب: هذا إذا قلنا: الزكاة تتعلق بالذمة. فإن علقناها بالعين، لم
يغرموا كما ذكرنا في الرهن. أما إذا كان اطلاع النخل بعد موته، فالثمرة محض حق
الورثة، لا تصرف إلى دين الغرماء، إلا إذا قلنا بالضعيف: إن الدين يمنع الإرث،
فحكمها كما لو حدثت قبل موته.
فصل لا تضم ثمرة العام الثاني إلى ثمرة العام الأول في إكمال النصاب بلا
خلاف وإن فرض اطلاع ثمرة العام الثاني قبل جداد ثمرة الأول. ولو كانت له نخيل
تحمل في العام الواحد مرتين، لم يضم الثاني إلى الأول. قال الأصحاب: هذا لا
يكاد يقع في النخل والكرم، لأنهما لا يحملان في السنة حملين، وإنما يقع ذلك في
التين وغيره مما لا زكاة فيه، ولكن ذكر الشافعي رحمه الله المسألة بيانا لحكمها لو
تصورت. ثم إن القاضي ابن كج فصل فقال: إن أطلعت النخل الحمل الثاني بعد
جداد الأول، فلا يضم، وإن أطلعت قبل جداده وبعد بدو الصلاح، ففيه الخلاف
الذي سنذكره إن شاء الله تعالى في حمل نخلتين، وهذا الذي قاله، لا يخالف
إطلاق الجمهور عدم الضم، لان السابق إلى الفهم من الحمل الثاني، هو الحادث بعد جداد الأول. ولو كان له نجيل أو أعناب يختلف إدراك ثمارها في العام،
لاختلاف أنواعها أو بلادها، فإن أطلع المتأخر قبل بدو صلاح الأول، ضم إليه،
وإن أطلع بعد جداد الأول، فوجهان. قال ابن كج وأصحاب القفال: لا يضم،
وقال أصحاب الشيخ أبي حامد: يضم، وفي ظاهر نص الشافعي ما يدل
لهم.
101

قلت: هذا هو الراجح، ورجحه في المحرر. والله أعلم.
وإن كان اطلاعه قبل جداد الأول وبعد بدو صلاحه، فإن قلنا: فيما بعد
الجداد يضم، فهنا أولى، وإلا فوجهان. أصحهما في التهذيب: لا يضم،
وإذا قلنا بقول أصحاب القفال، فهل يقام وقت الجداد مقام الجداد؟ وجهان.
أوفقهما: يقام، فإن الثمار بعد وقت الجداد كالمجدودة، ولهذا لو أطلعت النخلة
للعام الثاني وعليها بعض ثمرة الأول، لم يضم قطعا. فعلى هذا قال إمام الحرمين:
لجداد الثمار أول وقت ونهاية يكون ترك الثمار إليها أولى، وتلك النهاية هي
المعتبرة.
فرع: من مواضع اختلاف إدراك الثمر نجد، وتهامة. فتهامة حارة يسرع
إدراك الثمرة بها، بخلاف نجد، فإذا كانت لرجل نخيل تهامية، ونخيل نجدية،
فأطلعت التهامية ثم النجدية لذلك العام، واقتضى الحال ضم النجدية إلى التهامية
على ما سبق بيانه، فضمها ثم أطلعت التهامية ثمرة أخرى، فلا يضم ثمرة هذه المرة
إلى النجدية. وإن أطلعت قبل بدو صلاحها، لأنا لو ضممناها إلى النجدية، لزم
ضمها إلى التهامية الأولى، وذلك لا يجوز. هكذا ذكره الأصحاب. قال الصيدلاني
وإمام الحرمين: ولو لم تكن النجدية مضمومة إلى التهامية الأولى، بأن أطلعت بعد
جدادها، ضممنا التهامية الثانية إلى النجدية، لأنه لا يلزم المحذور الذي ذكرناه،
وهذا الذي قالاه قد لا يسلمه سائر الأصحاب، لأنهم حكموا بضم ثمرة العام الواحد
بعضها إلى بعض، وبأنه لا تضم ثمرة عام إلى ثمرة عام آخر، والتهامية الثانية حمل
عام آخر.
فصل لا يضم زرع عام إلى زرع عام آخر، في إكمال النصاب
واختلاف أوقات الزراعة، لضرورة التدريج، كالذي يبتدئ الزراعة، ويستمر فيها
شهرا أو شهرين، لا يقدح، بل يعد زرعا واحدا، ويضم قطعا. ثم الشئ قد يزرع
102

في السنة مرارا، كالذرة تزرع في الخريف، والربيع، والصيف، ففي ضم بعضها
إلى بعض عشرة أقوال، أكثرها منصوصة، وأرجحها عند الأكثرين: إن وقع
الحصادان في سنة واحدة، ضم، وإلا فلا.
الثاني: إن وقع الزرعان في سنة، ضم، وإلا فلا، ولا يؤثر اختلاف الحصاد
واتفاقه.
والثالث: إن وقع الزرعان والحصادان في سنة، ضم، وإلا فلا.
واجتماعهما في سنة: أن يكون بين زرع الأول وحصد الثاني، أقل من اثني عشر
شهرا عربية. كذا قاله صاحب النهاية والتهذيب.
والرابع: إن وقع الزرعان والحصادان، أو زرع الثاني وحصد الأول في سنة،
ضم، وهذا بعيد عند الأصحاب.
والخامس: الاعتبار بجميع السنة أحد الطرفين، إما الزرعين، وإما
الحصادين.
والسادس: إن وقع الحصادان في فصل واحد، ضم، وإلا فلا.
والسابع: إن وقع الزرعان في فصل، ضم، وإلا فلا.
والثامن: إن وقع الزرعان والحصادان في فصل واحد، ضم، وإلا فلا، والمراد
بالفصل: أربعة أشهر.
والتاسع: أن المزروع بعد حصد الأول، لا يضم كحملي الشجرة،
والعاشر خرجه أبو إسحاق: أن ما يعد زرع سنة، يضم، ولا أثر لاختلاف الزرع والحصاد. قال: ولا أعني بالسنة اثني عشر شهرا، فان
الزرع لا يبقى هذه
المدة، وإنما أعني بها ستة أشهر إلى ثمانية. هذا كله إذا كان زرع الثاني بعد حصد
الأول، فلو كان زرع الثاني بعد اشتداد حب الأول، فطريقان. أصحهما: أنه على
هذا الخلاف، والثاني: القطع بالضم لاجتماعهما في الحصول في الأرض. ولو
وقع الزرعان معا، أو على التواصل المعتاد، ثم أدرك أحدهما والثاني بقل لم ينعقد
103

حبه، فطريقان. أصحهما: القطع بالضم، والثاني: على الخلاف،
لاختلافهما في وقت الوجوب، بخلاف ما لو تأخر بدو الصلاح في بعض الثمار، فإنه
يضم إلى ما بدا فيه الصلاح قطعا، لان الثمرة الحاصلة، هي متعلق الزكاة بعينها،
والمنتظر فيها صفة الثمرة، وهنا متعلق الزكاة الحب، ولم يخلق بعد، والموجود
حشيش محض.
فرع قال الشافعي رضي الله عنه: الذرة تزرع مرة فتخرج فتحصد، ثم
تستخلف في بعض المواضع، فتحصد أخرى، فهو زرع واحد وإن تأخرت حصدته
الأخرى.
واختلف أصحابنا في مراده على ثلاثة أوجه. أحدها: مراده إذا سنبلت
واشتدت، فانتثر بعض حباتها بنفسها، أو بنقر العصافير، أو بهبوب الرياح، فنبتت
الحبات المنتثرة في تلك السنة مرة أخرى وأدركت، والثاني: مراده إذا نبتت
والتقت، وعلا بعض طاقاتها فغطى البعض، وبقي المغطى مخضرا تحت العالي،
فإذا حصد العالي أثرت الشمس في المخضر، فأدرك، والثالث: مراده الذرة
الهندية، تحصد سنابلها، وتبقى سوقها، فتخرج سنابل أخر. ثم اختلفوا في الصور
الثلاث بحسب اختلافهم في المراد بالنص، واتفق الجمهور على أن ما نص عليه،
قطع منه بالضم، وليس تفريعا على بعض الأقوال السابقة في الفرع الماضي.
فذكروا في الصورة الأولى طريقين. أحدهما: القطع بالضم، والثاني: أنه على
الأقوال في الزرعين المختلفين في الوقت، ومقتضى كلام الغزالي والبغوي، ترجيح
هذا. وفي الصورة الثانية أيضا طريقان. أصحهما: القطع بالضم، والثاني: على
الخلاف. وفي الثالث: طرق. أصحها: القطع بالضم، والثاني: القطع بعدم
الضم، والثالث: على الخلاف.
فصل يجب فيما سقي بماء السماء من الثمار والزروع العشر، وكذا
104

البقل، وهو الذي يشرب بعروقه لقربه من الماء، وكذا ما يشرب من ماء ينصب إليه
من جبل، أو نهر، أو عين كبيرة، ففي هذا كله العشر، وما سقي بالنضح، أو
الدلاء، أو الدواليب، ففيه نصف العشر، وكذا ما سقي بالدالية وهي المنجنون
يديرها البقر، وما سقي بالناعور وهو ما يديره الماء بنفسه.
وأما القنوات والسواقي المحفورة من النهر العظيم، ففيها العشر كماء السماء.
هذا هو المذهب المشهور الذي قطع به طوائف الأصحاب من العراقيين وغيرهم،
وادعى إمام الحرمين، اتفاق الأئمة عليه، لان مؤنة القنوات، إنما تتحمل لاصلاح
الضيعة، والأنهار تشق لاحياء الأرض، وإذا تهيأت، وصل الماء إلى الزرع بنفسه
مرة بعد أخرى، بخلاف النواضح ونحوها، فمؤنتها فيها لنفس الزرع، ولنا
وجه أفتى به أبو سهل الصعلوكي: أنه يجب نصف الشعر في السقي بماء القناة، وقال صاحب التهذيب: إن كانت
القناة أو العين كثيرة المؤنة، بأن لا
تزال تنهار وتحتاج إلى إحداث حفر، وجب نصف العشر. وإن لم يكن لها مؤنة أكثر
من مؤنة الحفر الأول، وكسحها في بعض الأوقات، فالعشر، والمذهب ما
قدمناه.
فرع قال القاضي ابن كج: لو اشترى الماء، كان الواجب نصف العشر،
وكذا لو سقاه بماء مغصوب، لان عليه ضمانه، وهذا حسن جار على كل مأخذ،
فإنه لا يتعلق بصلاح الضيعة، بخلاف القناة. ثم حكى ابن كج عن ابن القطان
105

وجهين فيما لو وهب له الماء، ورجح إلحاقه بالمغصوب للمنة العظيمة، وكما لو
علف ماشيته بعلف موهوب.
قلت: الوجهان إذا قلنا: لا تقتضي الهبة ثوابا. صرح به الدارمي، قال:
فإن قلنا: تقتضيه، فنصف العشر قطعا. والله أعلم.
فرع إذا اجتمع في الزرع الواحد السقي بماء السماء والنضح، فله
حالان.
أحدهما: أن يزرع عازما على السقي بهما، ففيه قولان. أظهرهما: يقسط
الواجب عليهما، فإن كان ثلثا السقي بماء السماء، والثلث بالنضح، وجب خمسة
أسداس العشر. ولو سقي على التساوي، وجب ثلاثة أرباع العشر،
والثاني: الاعتبار بالأغلب، فإن كان ماء السماء أغلب، وجب العشر، وإن
غلب النضح، فنصف العشر، فإن استويا، فوجهان. أصحهما: يقسط كالقول
الأول، وبهذا قطع الأكثرون، والثاني: يجب العشر، نظرا للمساكين. ثم سواء
قسطنا، أو اعتبرنا الأغلب، فالنظر إلى ماذا؟ وجهان. أحدهما: النظر إلى عدد
السقيات، والمراد: السقيات النافعة دون ما لا ينفع.
والثاني وهو أوفق لظاهر النص: الاعتبار بعيش الزرع أو الثمر ونمائه، وعبر
بعضهم عن هذا الثاني بالنظر إلى النفع، وقد تكون السقية الواحدة أنفع من سقيات
كثيرة. قال إمام الحرمين: والعبارتان متقاربتان، إلا أن صاحب الثانية لا ينظر إلى
المدة، بل يعتبر النفع الذي يحكم به أهل الخبرة، وصاحب الأولى يعتبر المدة.
واعلم أن اعتبار المدة هو الذي قطع به الأكثرون، تفريعا على الوجه الثاني،
وذكروا في المثال: أنه لو كانت المدة من يوم الزرع إلى يوم الادراك ثمانية أشهر،
واحتاج في ستة أشهر زمن الشتاء والربيع إلى سقيتين، فسقى بماء السماء، وفي
شهرين من الصيف إلى ثلاث سقيات، فسقى بالنضح، فإن اعتبرنا عدد
106

السقيات، فعلى قول التوزيع: يجب خمسا العشر وثلاثة أخماس نصف العشر،
وعلى اعتبار الأغلب: يجب نصف العشر، وإن اعتبرنا المدة، فعلى قول التوزيع:
يجب ثلاثة أرباع العشر وربع نصف العشر، وعلى اعتبار الأغلب: يجب العشر.
ولو سقي بماء السماء والنضح جميعا، وجهل المقدار، وجب ثلاثة أرباع العشر على
الصحيح الذي قطع به الجمهور، وحكى ابن كج وجها: أنه يجب نصف العشر،
لان الأصل براءة الذمة مما زاد.
الحال الثاني: أن يزرع ناويا السقي بأحدهما، ثم يقع الآخر، فهل
يستصحب حكم ما نواه أولا، أم يتغير الحكم؟ وجهان. أصحهما: الثاني. ثم
في كيفية اعتبارهما، الخلاف المتقدم.
فرع لو اختلف المالك والساعي في أنه بماذا سقى؟ فالقول قول المالك،
لان الأصل عدم وجوب الزيادة.
فرع لو سقى زرعا بماء السماء، وآخر بالنضح، ولم يبلغ واحد منهما
نصابا، ضم أحدهما إلى الآخر لتمام النصاب وإن اختلف قدر الواجب.
فصل إذا كان الذي يملكه من الحبوب والثمار نوعا واحدا، أخذت منه
الزكاة، فإن أخرج أعلى منه أجزأه، ودونه لا يجوز. وإن اختلفت أنواعه، فإن لم
يتعسر أخذ الواجب من كل نوع بالحصة، أخذ بالحصة، بخلاف نظيره في
المواشي، فقد قدمنا فيه خلافا، لان التشقيص محذور في الحيوان، دون الثمار،
وطرد ابن كج القولين هنا، والمذهب: الفرق. فإن عسر أخذ الواجب من كل
نوع، بأن كثرت وقل ثمرها، ففيه أوجه. الصحيح: أنه يخرج من الوسط رعاية
للجانبين، والثاني: يؤخذ من كل نوع بقسطه، والثالث: من الغالب، وقيل:
يؤخذ الوسط قطعا. وإذا قلنا بالوسط، فتكلف وأخرج من كل نوع بقسطه، جاز،
107

ووجب على الساعي قبوله.
فرع إذا حضر الساعي لاخذ العشر، كيل لرب تسعة، وأخذ
الساعي العاشر، وإنما بدأ بالمالك، لان حقه أكثر، وبه يعرف حق المساكين. فإن
كان الواجب نصف العشر، كيل لرب المال تسعة عشر، ثم للساعي واحد، وإن
كان ثلاثة أرباع العشر، كيل للمالك سبعة وثلاثون، وللساعي ثلاثة، ولا يهز
المكيال، ولا يزلزل، ولا توضع اليد فوقه، ولا يمسح، لان ذلك يختلف، بل
يصب فيه ما يحتمله، ثم يفرغ.
فصل وقت وجوب زكاة النخل والعنب، الزهو، وهو بدو الصلاح.
ووقت الوجوب في الحبوب، اشتدادها، هذا هو المذهب والمشهور. وحكي
قول: أن وقت الوجوب الجفاف والتصفية، ولا يتقدم الوجوب على الامر بالأداء،
وقول قديم: أن الزكاة تجب عند فعل الحصاد.
ثم الكلام في معنى بدو الصلاح، وأن بدو الصلاح في البعض كبدوه في
الجميع على ما هو مذكور في كتاب البيع. ولا يشترط تمام اشتداد الحب، كما لا
يشترط تمام الصلاح في الثمار.
ويتفرع على المذهب: أنه لو اشترى نخيلا مثمرة، أو ورثها قبل بدو
الصلاح، ثم بدا، فعليه الزكاة. ولو اشترى بشرط الخيار، فبدا الصلاح في زمن
الخيار، فإن قلنا: الملك للبائع، فعليه الزكاة وإن تم البيع، وإن قلنا:
للمشتري، فعليه الزكاة وإن فسخ، وإن قلنا: موقوف، فالزكاة موقوفة، ولو باع
المسلم النخلة المثمرة قبل بدو الصلاح لذمي أو مكاتب، فبدا الصلاح في ملكه،
فلا زكاة على أحد. فلو عاد إلى ملك المسلم بعد بدو الصلاح، ببيع مستأنف، أو
بهبة، أو تقايل، أو رد بعيب، فلا زكاة عليه، لأنه لم يكن في ملكه حال الوجوب.
108

ولو باع النخيل لمسلم قبل بدو الصلاح، فبدا في ملك المشتري، ثم وجد بها
عيبا، فليس له الرد إلا برضى البائع، لتعلق الزكاة بها، وهو كعيب حدث في يده،
فإن أخرج المشتري الزكاة من نفس الثمرة، أو من غيرها، فحكمه على ما ذكرنا في
الشرط الرابع من زكاة النعم. أما إذا باع الثمرة وحدها قبل بدو الصلاح، فلا يصح
البيع إلا بشرط القطع، فإن شرطه ولم يتفق القطع حتى بدا الصلاح، فقد وجب
العشر. ثم ينظر، فإن رضيا بإبقائها إلى أوان الجداد، جاز، والعشر
على المشتري، وحكي قول: أنه ينفسخ البيع، كما لو اتفقا على الابقاء عند
البيع، والمشهور الأول. وإن لم يرضيا بالابقاء، لم تقطع الثمرة، لان فيه إضرارا
بالمساكين. ثم فيه قولان. أحدهما: ينفسخ البيع لتعذر إمضائه. وأظهرهما:
لا ينفسخ، لكن إن لم يرض البائع بالابقاء، يفسخ، وإن رضي به، وأبى المشتري
إلا القطع، فوجهان. أحدهما: يفسخ، وأصحهما: لا يفسخ. ولو رضي البائع
ثم رجع، كان له ذلك، لان رضاه إعارة، وحيث قلنا: يفسخ البيع، ففسخ،
فعلى من تجب الزكاة؟ قولان. أحدهما: على البائع، وأظهرهما: على المشتري
كما لو فسخ بعيب، فعلى هذا لو أخذ الساعي من عين الثمرة، رجع البائع على
المشتري.
فرع إذا قلنا بالمذهب: إن بدو الصلاح واشتداد الحب وقت الوجوب،
لم يكلف الاخراج في ذلك الوقت، لكن ينعقد سببا لوجوب الاخراج إذا صار تمرا أو
زبيبا أو حبا مصفى، وصار للفقراء في الحال حق يدفع إليهم، إجزاء، فلو أخرج
الرطب في الحال، لم يجز، فلو أخذ الساعي الرطب، لم يقع الموقع ووجب رده
إن كان باقيا، وإن تلف، فوجهان. الصحيح الذي قطع به الأكثرون ونص عليه
الشافعي رحمة الله عليه: أنه يرد قيمته، والثاني: يرد مثله. والخلاف مبني على
109

أن الرطب والعنب مثليان، أم لا؟ ولو جف عند الساعي، فإن كان قدر الزكاة،
أجزأ، وإلا رد التفاوت، أو أخذه، كذا قاله العراقيون، والأولى: وجه آخر ذكره
ابن كج: أنه لا يجزئ بحال، لفساد القبض من أصله، ومؤونة تجفيف الثمر،
وجداده، وحصاد الحب، وتصفيته، تكون من خلاص مال المالك لا يحسب شئ
منها من مال الزكاة، وجميع ما ذكرنا، هو في الرطب الذي يجئ منه تمر، فإن كان
لا يجئ شئ منه، فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فصل خرص الرطب والعنب اللذين تجب فيهما الزكاة، مستحب. ولنا
وجه شاذ حكاه صاحب البيان عن حكاية الصيمري: أنه واجب، ولا يدخل
الخرص في الزرع. ووقت خرص الثمرة بدو الصلاح، وصفته أن يطوف بالنخلة
ويرى جميع عناقيدها ويقول: خرصها كذا رطبا، ويجئ منه من التمر كذا، ثم
يفعل بالنخلة الأخرى كذلك، وكذا باقي الحديقة. ولا يقتصر على رؤية البعض
وقياس الباقي، لأنها تتفاوت، وإنما تخرص رطبا ثم تمرا، لان الأرطاب تتفاوت،
فإن اتحد النوع، جاز أن يخرص الجميع رطبا، ثم تمرا، ثم المذهب الصحيح
المشهور: أنه يخرص جميع النخل، وحكي قول قديم: أنه يترك للمالك نخلة أو
نخلات يأكلها أهله، ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل في كثرة عياله وقلتهم.
قلت: هذا القديم، نص عليه أيضا في البويطي ونقله البيهقي عن نصه
في البويطي والبيوع والقديم. والله أعلم.
فرع هل يكفي خارص، أم لا بد من خارصين؟ فيه
110

طريقان. أحدهما: القطع بخارص، وبه قال ابن سريج والاصطخري،
وأصحهما: على ثلاثة أقوال. أظهرها: واحد، والثاني: لا بد من اثنتين،
والثالث: إن خرص على صبي أو مجنون أو غائب، فلا بد من اثنين، وإلا كفى
واحد، وسواء اكتفينا بواحد، أم اشترطنا اثنين، فشرط الخارص كونه مسلما عدلا،
عالما بالخرص. وأما اعتبار الذكورة والحرية، فقال صاحب العدة: إن اكتفينا
بواحد، اعتبرا، وإلا جاز عبد وامرأة، وذكر الشاشي في اعتبار الذكورة وجهين
مطلقا. ولك أن تقول: إن اكتفينا بواحد، فسبيله سبيل الحكم، فتشترط الحرية
والذكورة، وإن اعتبرنا اثنين، فسبيله سبيل الشهادات، فينبغي أن تشترط الحرية،
وأن تشترط الذكورة في أحدهما، وتقام امرأتان مقام الآخر.
قلت: الأصح: اشتراط الحرية والذكورة، وصححه في المحرر ولو
اختلف الخارصان، توقفنا حتى يتبين المقدار منهما، أو من غيرهما. قاله
الدارمي، وهو ظاهر. والله أعلم.
فرع هل الخرص عبرة، أو تضمين؟ قولان. أظهرهما: تضمين،
ومعناه: ينقطع حق المساكين من عين الثمرة، وينتقل إلى ذمة المالك.
111

والثاني: عبرة، ومعناه: أنه مجرد اعتبار للقدر، ولا يضر حق المساكين في ذمة
المالك. وفائدته على هذا، جواز التصرف كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومن
فوائده أيضا: لو أتلف المالك الثمار، أخذت منه الزكاة بحساب ما خرص، ولولا
الخرص لكان القول قوله في ذلك. فإذا قلنا: عبرة، فضمن الخارص للمالك،
حق المساكين تضمينا صريحا وقبله المالك، كان لغوا، ويبقى حقهم على ما كان.
وإذا قلنا: تضمين، فهل نفس الخرص تضمين، أم لا بد من تصريح الخارص
بذلك؟ فيه طريقان. أحدهما: على وجهين. أحدهما: نفسه تضمين، والثاني:
لا بد من التصريح. قال إمام الحرمين: وعلى هذا فالذي أراه: أنه يكفي تضمين
الخارص، ولا يحتاج إلى قبول المالك. والطريق الثاني وهو المذهب الذي عليه
الاعتماد وقطع به الجمهور: أنه لا بد من التصريح بالتضمين وقبول المالك، فإن لم
يضمنه أو ضمنه، فلم يقبل المالك، بقي حق المساكين على ما كان، وهل يقوم
وقت الخرص مقام الخرص؟ إن قلنا: لا بد من التصريح بالتضمين، لم يقم،
وإلا، فوجهان.
قلت: الأصح: لا يقوم. والله أعلم.
فرع إذا أصابت الثمار آفة سماوية، أو سرقت في الشجرة، أو في الجرين
قبل الجفاف، فإن تلف الجميع، فلا شئ على المالك باتفاق الأصحاب لفوات
الامكان، والمراد إذا لم يقصر. فأما إذا أمكن الدفع، فأخر، أو وضعها في غير
حرز، فإنه يضمن. وإن تلف بعض الثمار، فإن كان الباقي نصابا، زكاه، وإن
كان قبل دونه، بني على أن الامكان شرط في الوجوب، أو للضمان. فإن قلنا
بالأول، فلا شئ، وإلا زكى الباقي بحصته. أما إذا أتلف المالك الثمرة أو أكلها،
فإن كان قبل بدو الصلاح، فلا زكاة، لكنه مكروه إن قصد الفرار منها، وإن قصد
الاكل أو التخفيف عن الشجرة، أو غرضا آخر، فلا كراهة، وإن كان بعد الصلاح،
ضمن للمساكين.
ثم له حالان.
112

أحدهما: أن يكون ذلك بعد الخرص. فإن قلنا: الخرص تضمين، ضمن
لهم عشر الثمن، لأنه ثبت في ذمته بالخرص، وإن قلنا: عبرة، فهل يضمن عشر
الرطب، أو قيمة عشره؟ فيه وجهان بناء على أنه مثلي، أم لا؟ والصحيح الذي
قطع به الأكثرون: عشر القيمة.
الحال الثاني: أن يكون الاتلاف قبل الخرص، فيعزر، والواجب ضمان
الرطب، إن قلنا: لو جرى الخرص لكان عبرة. وإن قلنا: تضمين، فوجهان.
أصحهما: ضمان الرطب، والثاني: التمر. ولنا وجه: أنه يضمن في هذه
الحال أكثر الامرين من عشر الثمن، وقيمة عشر الرطب. والحالان مفروضان في
رطب يجئ منه تمر، وعنب يجئ منه زبيب. فإن لم يكن كذلك، فالواجب في
الحالين ضمان الرطب بلا خلاف.
فرع تصرف المالك فيما خرص عليه بالبيع والاكل وغيرهما، مبني على
قولي التضمين، والعبرة. فإن قلنا: بالتضمين، تصرف في الجميع، وإن قلنا:
بالعبرة، فنفوذ تصرفه في قدر الزكاة يبنى على أن الخلاف في أن الزكاة تتعلق بالعين
أو بالذمة، وقد سبق. وأما ما زاد على قدر الزكاة، فنقل إمام الحرمين والغزالي
(أن) الأصحاب قطعوا بنفوذه. ولكن الموجود في كتب العراقيين: أنه لا يجوز
113

البيع ولا سائر التصرفات، في شئ من الثمار إذا لم يصر الثمن في ذمته بالخرص.
فإن أرادوا نفي الإباحة دون الفساد، فذاك، وإلا فدعوى القطع غير مسلمة. وكيف
كان، فالمذهب جواز التصرف في الأعشار التسعة، سواء أفردت بالتصرف أو تصرف
في الجميع، لأنا وإن قلنا بالفساد في قدر الزكاة، فلا يعديه إلى الباقي على
المذهب. أما إذا تصرف المالك قبل الخرص، فقال في التهذيب: لا يجوز أن
يأكل ولا يتصرف في شئ، فإن لم يبعث الحاكم خارصا، أو لم يكن حاكم،
يحاكم إلى عدلين يخرصان عليه.
فرع إذا ادعى المالك هلاك الثمار المخروصة عليه، أو بعضها، نظر،
إن أسنده إلى سبب يكذبه الحس، كقوله: هلك بحريق وقع في الجرين،
وعلمنا أنه لم يقع في الجرين حريق، لم نبال بكلامه، وإن أسنده إلى سبب خفي،
كالسرقة، لم يكلف بينة، ويقبل قوله بيمينه. وهل يمينه واجبة، أم مستحبة؟
وجهان. أصحهما: مستحبة، وإن أسنده إلى سبب ظاهر، كالبرد، والنهب،
والجراد، ونزول العسكر، فإن عرف وقوع ذلك السبب وعموم أثره، صدق بلا
يمين. فإن اتهم في هلاك ثماره به، حلف، وإن لم يعرف وقوع، فالصحيح وبه
قال الجمهور: يطالب بالبينة، لامكانها. ثم القول قوله في الهلاك به،
114

والثاني: القول قوله بيمينه، والثالث: يقبل بلا يمين إذا كان ثقة. وحيث حلفناه،
فاليمين مستحبة لا واجبة على الأصح كما سبق. أما إذا اقتصر على دعوى الهلاك من
غير تعرض لسبب، فالمفهوم من كلام الأصحاب قبوله مع اليمين.
فرع إذا ادعى المالك إجحافا في الخرص، فإن زعم أن الخارص تعمد
ذلك، لم يلتفت إليه، كما لو ادعى ميل الحاكم، أو كذب الشاهد، لا يقبل إلا
ببينة. وإن ادعى أنه غلط، فإن لم يبين القدر، لم تسمع، وإن بينه وكان يحتمل
الغلط في مثله، كخمسة أوسق في مائة، قبل. فإن اتهم، حلف وحط عنه. هذا
إذا كان المدعى فوق ما يقع بين الكيلين. وأما إذا بعد الكيل غلطا يسيرا في
الخرص بقدر ما يقع في الكيلين، فهل يحط؟ وجهان. أحدهما: لا، لاحتمال
أن النقص وقع في الكيل، ولو كيل ثانيا وفى، والثاني: يحط، لان الكيل يقين،
والخرص تخمين فالإحالة عليه أولى.
قلت: هذا أقوى، وصحح إمام الحرمين الأول. والله أعلم.
وإن ادعى نقصا فاحشا، لا يجوز أهل الخبرة الغلط بمثله، لم يقبل في حط جميعه،
وهل يقبل في حط الممكن؟ وجهان. أصحهما: يقبل، كما لو ادعت
معتدة بالأقراء انقضاءها قبل زمن الامكان، وكذبناها، وأصرت على الدعوى حتى
جاء زمن الامكان، فإنا نحكم بانقضائها لأول زمن الامكان.
115

فصل إذا أصاب النخل عطش، ولو تركت الثمار عليها إلى أوان الجداد لأضرت بها، جاز قطع ما يندفع به الضرر، إما كلها، وإما بعضها. وهل يستقل
المالك بقطعها، أم يحتاج إلى استئذان الامام أو الساعي؟ قال الصيدلاني،
وصاحب التهذيب وطائفة: يستحب الاستئذان. وقال آخرون: ليس له
الاستقلال، فإن استقل عزر إن كان عالما.
قلت: هذا أصح، وبه قطع العراقيون والسرخسي. والله أعلم.
فأما إذا علم الساعي قبل القطع، وأراد القسمة بأن يخرص الثمار ويعين حق
المساكين في نخلة أو نخلات بأعيانها، فقولان منصوصان. قال الأصحاب: هما
بناء على أن القسمة بيع أو إفراز حق. فان قلنا: إفراز، جاز، ثم للساعي أن يبيع
نصيب المساكين للمالك أو غيره، وأن يقطع ويفرقه بينهم، يفعل ما فيه الحظ لهم،
وإن قلنا: إنها بيع، لم يجز، وعلى هذا الخلاف تخرج القسمة بعد قطعها. إن
قلنا: إفراز، جازت، وإلا، ففي جوازها خلاف مبني على جواز بيع الرطب الذي
لا يتتمر بمثله. فإن جوزناه، جازت القسمة بالكيل، وإلا فوجهان. أحدهما:
تجوز مقاسمة الساعي، لأنها ليست بمعاوضة، فلا يراعى فيها تعبدات الربا، ولان
الحاجة داعية إليها، وأصحهما عند الأكثرين: لا تجوز. فعلى هذا، له في الاخذ
مسلكان. أحدهما: يأخذ قيمة عشر الرطب المقطوع، وجوز بعضهم القيمة
للضرورة كما قدمناه في شقص الحيوان، والثاني: يسلم عشرا مشاعا إلى الساعي،
ليتعين حق المساكين، وطريق تسليم العشر تسليم الجميع. فإذا سلمه، فللساعي
بيع نصيب المساكين للمالك أو غيره، أو يبيع هو والمالك ويقسمان الثمن، وهذا
المسلك جائز بلا خلاف، وهو متعين عند من لم يجوز القسمة، وأخذ
القيمة. وخير بعض الأصحاب الساعي بين القسمة وأخذ القيمة، وقال كل واحد
منهما خلاف القاعدة، واحتمل للحاجة، فيفعل ما فيه الحظ للمساكين. ثم ما
ذكرناه هنا من الخلاف، والتفصيل في إخراج الواجب، يجري بعينه في إخراج
116

الواجب عن الرطب الذي لا يتتمر، والعنب الذي لا يتزبب. وفي المسألتين
مستدرك حسن لإمام الحرمين. قال: إنما يثور الاشكال على قولنا: المساكين
شركاء في النصاب بقدر الزكاة، وحينئذ ينتظم التخريج على القولين في القسمة.
فأما إذا لم نجعلهم شركاء، فليس تسليم جزء إلى الساعي قسمة حتى يأتي فيه
القولان في القسمة، بل هو توفية حق إلى مستحق.
قلت: لو اختلف الساعي والمالك في جنس التمر بعد تلفه تلفا مضمنا،
فالقول قول المالك. فإن أقام الساعي شاهدين، أو شاهدا وامرأتين، قضي له،
وإن أقام شاهدا، فلا، لأنه لا يحلف معه، قاله الدارمي. وإذا خرص عليه، فتلف
بعضه تلفا يسقط الزكاة، وأكل بعضه، وبقي بعضه، ولم يعرف الساعي ما تلف،
فإن عرف المالك ما أكل، زكاه مع ما بقي. فإن اتهمه، حلفه استحبابا على
الأصح، ووجوبا على الآخر، وإن قال: لا أعرف قدر ما أكلته، ولا ما تلف. قال
الدارمي: قلنا له: إن ذكرت قدرا ألزمناك بما أقررت به، فإن اتهمناك حلفناك، وإن
ذكرت مجملا، أخذنا الزكاة بخرصنا. قال أصحابنا: ولو خرص، فأقر المالك
بأنه زاد على المخروص، أخذنا الزكاة من الزيادة، سواء كان ضمن، أم لا. والله
أعلم.
باب
زكاة الذهب والفضة
لا زكاة فيهما فيما دون النصاب. ونصاب الفضة: مائتا درهم. والذهب:
117

عشرون مثقالا، وزكاتهما ربع العشر، ويجب فيما زاد على النصاب منهما بحسابه،
قل أم كثر، وسواء فيهما المضروب والتبر، وغيره، والاعتبار بوزن مكة. فأما
المثقال فمعروف، ولم يختلف قدره في الجاهلية ولا في الاسلام.
وأما الفضة: فالمراد دراهم الاسلام، وزن الدرهم ستة دوانيق، وكل عشرة
دراهم، سبعة مثاقيل ذهب.
وقد أجمع أهل العصر الأول على هذا التقدير. قيل: كان في زمن بني أمية،
وقيل: كان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ولو نقص عن النصاب حبة أو
بعض حبة، فلا زكاة، وإن راج رواج التام، أو زاد على التام بجودة نوعه. ولو
نقص في بعض الموازين، وتم في بعضها، فوجهان. الصحيح: أنه لا زكاة، وبه
قطع المحاملي وغيره. ويشترط ملك النصاب بتمامه حولا كاملا. ولا يكمل نصاب
أحد النقدين بالآخر، كما لا يكمل التمر بالزبيب، ويكمل الجيد بالردئ من الجنس
الواحد، كأنواع الماشية.
والمراد بالجودة: النعومة، والصبر على الضرب ونحوهما. وبالرداءة:
بالخشونة، والتفتت عند الضرب.
وأما إخراج زكاة الجيد والردئ، فإن لم تكثر أنواعه، أخرج من كل
بقسطه، وإن كثرت وشق اعتبار الجميع، أخرج من الوسط. ولو أخرج الجيد عن
الردئ، فهو أفضل، وإن أخرج الردئ عن الجيد، لم يجزئه على الصحيح الذي
قطع به الأصحاب. وقال الصيدلاني: يجزئه، وهو غلط. ويجوز إخراج الصحيح
عن المكسر، ولا يجوز عكسه، بل يجمع المستحقين ويصرف إليهم الدينار
الصحيح، بأن يسلمه إلى واحد بإذن الباقين، هذا هو الصحيح المعروف. وحكي
118

وجه: أنه يجوز أن يصرف إلى كل واحد حصته مكسرا. ووجه: أنه يجوز ذلك،
لكن مع التفاوت بين الصحيح والمكسر. ووجه: أنه يجوز إذا لم يكن بين الصحيح
والمكسر فرق في المعاملة.
فرع إذا كان له دراهم أو دنانير مغشوشة، فلا زكاة فيها حتى يبلغ خالصها
نصابا، فإذا بلغه، أخرج الواجب خالصا، أو أخرج من المغشوش ما يعلم اشتماله
على خالص بقدر الواجب. ولو أخرج عن ألف مغشوشة، خمسة وعشرين خالصة،
أجزأه، وقد تطوع بالفضل، ولو أخرج خمسة مغشوشة عن مائتين خالصة، لم
تجزئه. وهل له الاسترجاع؟ حكوا عن ابن سريج فيه قولين. أحدهما: لا، كما لو
أعتق رقبة عن كفارة معيبة، يكون متطوعا بها، وأظهرهما: نعم، كما لو عجل
الزكاة فتلف ماله. قال ابن الصباغ: وهذا إذا كان قد بين عند الدفع، أنه يخرج عن
هذا المال.
فرع يكره للامام ضرب الدراهم المغشوشة، ويكره للرعية ضرب
الدراهم وإن كانت خالصة، لأنه من شأن الامام. ثم الدراهم المغشوشة، إن
كانت معلومة العيار، صحت المعاملة بها على عينها الحاضرة، وفي الذمة. وإن
كان مقدار النقرة فيها مجهولا، ففي جواز المعاملة على عينها وجهان.
أصحهما: الجواز، لان المقصود رواجها، ولا يضر اختلاطها بالنحاس
كالمعجونات، والثاني: لا يجوز كتراب المعدن. فإن قلنا: بالأصح، فباع بدراهم
مطلقا، ونقد البلد مغشوش، صح العقد، ووجب من ذلك النقد، وإن قلنا
بالثاني، لم يصح العقد.
فرع لو كان له إناء من ذهب وفضة وزنه ألف، من أحدهما ستمائة، ومن
الآخر أربعمائة، ولا يعرف أيهما الأكثر، فإن احتاط فزكى ستمائة ذهبا، وستمائة
فضة، أجزأه، فإن لم يحتط، ميزهما بالنار. قال الأئمة: ويقوم مقامه الامتحان
119

بالماء، بأن يوضع قدر المخلوط من الذهب الخالص في ماء، ويعلم على الموضع
الذي يرتفع إليه الماء، ثم يخرج ويوضع مثله من الفضة الخالصة، ويعلم على
موضع الارتفاع، وهذه العلامة تقع فوق الأولى، لان أجزاء الذهب أكثر اكتنازا، ثم
يوضع فيه المخلوط، وينظر ارتفاع الماء به، أهو إلى علامة الفضة أقرب، أم إلى
علامة الذهب؟ ولو غلب على ظنه الأكثر منهما، قال الشيخ أبو حامد ومن تابعه: إن
كان يخرج الزكاة بنفسه، فله اعتماد ظنه، وإن دفعها إلى الساعي، لم يقبل ظنه،
بل يلزمه الاحتياط أو التمييز، وقال إمام الحرمين: الذي قطع به أئمتنا: أنه لا يجوز
اعتماد ظنه. قال الامام: ويحتمل أن يجوز له الاخذ بما شاء من التقديرين، لان
اشتغال ذمته بغير ذلك غير معلوم، وجعل الغزالي في الوسيط هذا الاحتمال
وجها.
فرع لو ملك مائة درهم في يده، وله مائة مؤجلة على ملئ، فكيف
يزكي؟ يبني على أن المؤجل تجب فيه زكاة، أم لا؟ والمذهب وجوبها.
وإذا أوجبناها، فالأصح: أنه لا يجب الاخراج في الحال، وسبق بيانه.
فإن قلنا: لا زكاة في المؤجل، فلا شئ عليه في مسألتنا، لعدم النصاب.
وإن أوجبنا إخراج زكاة المؤجل في الحال، زكى المائتين في الحال، وإن أوجبناها
ولم نوجب الاخراج في الحال، فهل يلزمه إخراج حصة المائة التي في يده في
الحال، أم يتأخر إلى قبض المؤجلة؟ فيه وجهان. أصحهما: يجب في الحال،
وهما بناء على أن الامكان شرط للوجوب، أو الضمان، إن قلنا بالأول، لم يلزمه،
120

لاحتمال أن لا يحصل المؤجل، وإن قلنا بالثاني، أخرج، ومن كان في يده دون
نصاب، وتمامه مغصوب، أو دين، ولم نوجب فيهما زكاة، ابتدأ الحول من حين
يقبض ما يتم به النصاب.
فصل لا زكاة فيما سوى الذهب والفضة من الجواهر، كالياقوت،
واللؤلؤ، وغيرهما، ولا في المسك والعنبر.
فصل هل تجب الزكاة في الحلي المباح؟ قولان. أظهرهما: لا
تجب، كالعوامل من الإبل والبقر.
أما الجلي المحرم، فتجب الزكاة فيه بالاجماع.
وهو نوعان: محرم لعينه، كالأواني، والملاعق، والمجامر من الذهب
والفضة. ومحرم بالقصد، بأن يقصد الرجل بحلي النساء الذي يملكه، كالسوار
والخلخال، أن يلبسه غلمانه، أو قصدت المرأة بحلي الرجل،
كالسيف والمنطقة، أن تلبسه هي، أو تلبسه جواريها أو غيرهن من النساء، أو أعد
121

الرجل حلي الرجال لنسائه وجواريه، أو أعدت المرأة حلي النساء لزوجها وغلمانها،
فكل ذلك حرام. ولو اتخذ حليا ولم يقصد به استعمالا مباحا ولا محرما، بل قصد
كنزه، فالمذهب: وجوب الزكاة فيه، وبه قطع الجمهور. وقيل: فيه خلاف.
وهل يجوز إلباس حلي الذهب الأطفال الذكور، فيه ثلاثة أوجه كما ذكرنا في إلباسهم
الحرير.
قلت: الأصح المنصوص: جوازه ما لم يبلغوا. والله أعلم.
فرع إذا قلنا: لا زكاة في الحلي، فاتخذ حليا مباحا في عينه، لم يقصد
به استعمالا ولا كنزا، أو اتخذه ليؤجره ممن له استعماله، فلا زكاة على الأصح.
كما لو اتخذه ليعيره. ولا اعتبار بالأجرة، فأجرة الماشية العامل.
فرع حكم القصد الطارئ بعد الصياغة في جميع ما ذكرنا، حكم
للمقارب. فلو اتخذه قاصدا استعمالا محرما، ثم غير قصده إلى مباح، بطل
الحول. فلو عاد القصد المحرم، ابتدأ الحول، وكذا لو قصد الاستعمال ثم قصد
كنزا، ابتدأ الحول، وكذا نظائره.
فرع إذا قلنا: لا زكاة في الحلي، فانكسر، فله أحوال.
أحدها: أن ينكسر بحيث لا يمنع الاستعمال، فلا تأثير لانكساره.
الثاني: ينكسر بحيث يمنع الاستعمال ويحوج إلى سبك وصوغ، فتجب
122

الزكاة، وأول الحول، وقت الانكسار.
الثالث: ينكسر بحيث يمنع الاستعمال، لكن لا يحتاج إلى صوغ، ويقبل
الاصلاح بالالحام، فإن قصد جعله تبرا أو دراهم، أو قصد كنزه، انعقد الحول عليه
من يوم الانكسار. وإن قصد إصلاحه، فوجهان. أصحهما: لا زكاة وإن تمادت
عليه أحوال، لدوام صورة الحلي وقصد الاصلاح، وإن لم يقصد هذا ولا ذاك،
ففيه خلاف. قيل: وجهان، وقيل: قولان. أرجحهما: الوجوب.
فصل فيما يحل ويحرم من الحلي وإنما ذكرناها ها هنا ليعلم موضع
القطع بوجوب الزكاة، وموضع القولين. فالمذهب: أصله التحريم في حق
الرجال، وعلى الإباحة للنساء،
ويستثنى من التحريم على الرجال موضعان.
أحدهما: يجوز لمن قطع أنفه اتخاذ أنف من ذهب وإن تمكن من اتخاذه
فضة، وفي معنى الانف: السن والأنملة، فيجوز اتخاذهما ذهبا، وما جاز من
الذهب فمن الفضة أولى، ولا يجوز لمن قطعت يده أو أصبعه أن يتخذهما من ذهب
ولا فضة.
قلت: وفيه وجه: أنه يجوز، ذكره القاضي حسين وغيره. والله أعلم.
الموضع الثاني: هل يجوز للرجل تمويه الخاتم والسيف وغيرهما تمويها لا
يحصل منه شئ؟ فيه وجهان، وقطع العراقيون بالتحريم. وأما اتخاذ سن أو أسنان
123

من ذهب للخاتم، فقطع الأكثرون بتحريمه. وقال إمام الحرمين: لا يبعد تشبيهه
بالضبة الصغيرة في الاناء، وكل حلي حرمناه على الرجال، حرمناه على الخنثى على
المذهب، وعليه زكاته على المذهب، وقيل: في وجوبها القولان في الحلي
المباح، وأشار في التتمة إلى أن له لبس حلي النساء والرجال، لأنه كان له لبسها
في الصغر فتبقى. وأما الفضة: فيجوز للرجال التختم بها، وهل له لبس ما سوى الخاتم
من حلي الفضة، كالدملج، والسوار، والطوق؟ قال الجمهور: يحرم، وقال
صاحب التتمة والغزالي في فتاويه: يجوز، لأنه لم يثبت في الفضة إلا تحريم
الأواني، وتحريم التحلي على وجه يتضمن التشبيه بالنساء. ويجوز للرجل تحلية
آلات الحرب بالفضة كالسيف، والرمح، وأطراف السهام، والدرع، والمنطقة،
والرانين، والخف وغيرها، لأنه يغيظ الكفار. وفي تحلية السرج واللجام والثفر،
وجهان. أصحهما: التحريم، ونص عليه الشافعي في رواية
البويطي والربيع، وموسى بن أبي جارود، وأجروا هذا الخلاف في الركاب،
وبرة الناقة من الفضة. وقطع كثيرون من الأئمة بتحريم القلادة للدابة، ولا يجوز
تحلية شئ مما ذكرنا بالذهب قطعا.
ويحرم على النساء تحلية آلات الحرب بالفضة والذهب جميعا، لان
استعمالهن ذلك تشبها بالرجال وليس لهن التشبه، كذا قاله الجمهور، واعترض
عليهم صاحب المعتمد، بأن آلات الحرب من غير تحلية، إما أن يجوز لبسها
واستعمالها للنساء، أو لا، والثاني: باطل، لان كونه من ملابس الرجال، إنما
يقتضي الكراهة دون التحريم، ألا ترى أنه قال في الام: ولا أكره للرجل لبس
اللؤلؤ إلا للأدب، وأنه من زي النساء، لا للتحريم، فلم يحرم زي النساء على
الرجال، وإنما كرهه، وكذا عكسه، ولان المحاربة جائزة للنساء في الجملة، وفي
124

جوازها جواز لبس آلاتها، وإذا جاز استعمالها غير محلاة، جاز مع التحلية، لان
التحلي لهن أجوز منه للرجال، وهذا هو الحق إن شاء الله تعالى.
قلت: الصواب: أن تشبه النساء بالرجال وعكسه، حرام، للحديث الصحيح
لعن الله المتشبهين بالنساء من الرجال، والمتشبهات من النساء بالرجال وقد
صرح الرافعي بتحريمه بعد هذا بأسطر. وأما نصه في الام فليس مخالفا لهذا،
لان مراده أنه من جنس زي النساء. والله أعلم.
ويجوز للنساء لبس أنواع الحلي من الذهب والفضة، كالطوق، والخاتم،
والسوار، والخلخال، والتعاويذ. وفي اتخاذهن النعال من الذهب والفضة،
وجهان. أصحهما: الجواز كسائر الملبوسات، والثاني: لا، للاسراف. وأما
التاج، فقالوا: إن جرت عادة النساء بلبسه، جاز، وإلا فهو لباس عظماء الفرس،
فيحرم. وكأن معنى هذا، أنه يختلف بعادة أهل النواحي، فحيث جرت عادة النساء
بلبسه، جاز، وحيث لم تجر، لا يجوز، حذارا من التشبه بالرجال، وفي الدراهم
والدنانير التي تثقب وتجعل في القلادة، وجهان. أصحهما: التحريم. وفي
لبس الثياب المنسوجة بالذهب أو الفضة، وجهان. أصحهما: الجواز، وذكر ابن
عبدان: أنه ليس لهن اتخاذ زر القميص والجبة والفرجية منهما، ولعله جواب على
الوجه الثاني. ثم كل حلي أبيح للنساء، فذلك إذا لم يكن فيه سرف، فإن كان
كخلخال وزنه مائتا دينار، فوجهان. الصحيح الذي قطع به معظم العراقيين:
التحريم، ومثله إسراف الرجل في آلات الحرب، ولو اتخذ خواتيم كثيرة، أو المرأة خلاخل
كثيرة، ليلبس الواحد منهما بعد الواحد، جاز على
125

المذهب، وقيل: فيه الوجهان.
فرع جميع ما سبق، هو فيما يتحلى به لبسا، فأما الأواني من الذهب
والفضة، فيحرم على النساء والرجال جميعا استعمالها، ويحرم اتخاذها أيضا على
الأصح، وقد سبق ذلك مع غيره في باب الأواني، وفي تحلية سكاكين الخدمة
وسكين المقلمة بالفضة للرجال، وجهان. أصحهما: التحريم، والمذهب:
تحريمها على النساء. وفي تحلية المصحف بالفضة وجهان. وقيل: قولان.
أصحهما: الجواز، ونقل عن نصه في القديم والجديد وحرملة، ونقل التحريم عن
نصه في سير الواقدي. وفي تحليته بالذهب أربعة أوجه. أصحها عند الأكثرين: إن
كان المصحف لامرأة، جاز، وإن كان لرجل، حرم، والثاني: يحرم مطلقا،
والثالث: يحل مطلقا، والرابع: يجوز تحلية نفس المصحف دون غلافه المنفصل
عنه، وهو ضعيف، وأما تحلية سائر الكتب، فحرام بالاتفاق. وأما تحلية الدواة،
والمقلمة، والمقراض، فحرام على الأصح، وأشار الغزالي إلى طرد الخلاف في
سائر الكتب. وفي تحلية الكعبة والمساجد بالذهب والفضة، وتعليق قناديلها فيها،
وجهان. أصحهما: التحريم، فإنه لا ينقل عن السلف، والثاني: الجواز كما
يجوز ستر الكعبة بالديباج، وحكم الزكاة مبني على الوجهين، لكن لو جعل المتخذ
وقفا فلا زكاة بحال.
فرع إذا أوجبنا الزكاة في الحلي المباح، فاختلف قيمته ووزنه، بأن كان
لها خلاخل وزنها مائتان، وقيمتها ثلاثمائة، أو فرض متله في المناطق المحلاة
للرجل، فالاعتبار في الزكاة بقيمتها، أو وزنها؟ فيه وجهان. أصحهما عند
الجماهير: بقيمتها، فعلى هذا يتخير بين أن يخرج ربع عشر الحلي مشاعا، ثم
يبيعه الساعي ويفرق الثمن على المساكين، وبين أن يخرج خمسة دراهم مصوغة
قيمتها ستة ونصف، ولا يجوز أن يكسره فيخرج خمسة مكسرة، لان فيه ضررا
عليه وعلى المساكين. ولو أخرج عنه عن الذهب ما يساوي سبعة ونصفا، لم يجز
عند الجمهور، لامكان تسليم ربع العشر مشاعا وبيعه بالذهب، وجوزه ابن سريج
126

للحاجة ولو كان له إناء وزنه مائتان، ويرغب فيه بثلاثمائة، فإن جوزنا اتخاذه،
فحكمه ما سبق في الحلي، وإن حرمنا، فلا قيمة لصنعته شرعا، فله إخراج خمسه
من غيره، وله كسره وإخراج خمسه منه، وله إخراج ربع عشره مشاعا، ولا يجوز
إخراج الذهب بدلا. وكل حلي لا يحل لاحد من الناس، فحكم صنعته حكم صنعة
الاناء، ففي ضمانها على كاسرها وجهان. وما يحل لبعض الناس، فعلى كاسره
ضمانه، وما يكره من التحلي كالضبة الصغيرة على الاناء للزينة، قال الأصحاب:
له حكم الحرام في وجوب الزكاة قطعا. وقال صاحب التهذيب من عند نفسه:
الأولى أن يكون كالمباح.
قلت: ولو وقف حليا على قوم يلبسونه، أو ينتفعون بأجرته، فلا زكاة فيه
قطعا. والله أعلم.
باب زكاة التجارة
زكاة التجارة واجبة، نص عليه في الجديد، ونقل عن القديم ترديد قول،
فمنهم من قال: له في القديم قولان، ومنهم من لم يثبت خلاف الجديد.
ومال التجارة: كل ما قصد الاتجار فيه عند اكتساب الملك بمعاوضة محضة.
وتفصيل هذه القيود: أن مجرد نية التجارة لا تصير المال مال تجارة، فلو كان
له عرض قنية ملكه بشراء أو غيره، فجعله للتجارة، لم يصر على الصحيح الذي
قطع به الجماهير، وقال الكرابيسي من أصحابنا: يصير. وأما إذا اقترنت نية التجارة
بالشراء، فإن المشترى يصير مال تجارة، ويدخل في الحول، سواء اشتري
بعرض، أو نقد، أو دين حال، أو مؤجل. وإذا ثبت حكم التجارة، لا تحتاج كل
معاملة إلى نية جديدة. وفي معنى الشراء، لو صالح عن دين له في ذمة إنسان على
127

عرض بنية التجارة، صار للتجارة، سواء كان الدين قرضا، أو ثمن مبيع، أو ضمان
متلف. وكذلك الاتهاب بشرط الثواب إذا نوى به التجارة. وأما الهبة المحضة،
والاحتطاب، والاحتشاش، والاصطياد، والإرث، فليس من أسباب التجارة، ولا
أثر لاقتران النية بها. وكذا الرد بالعيب والاسترداد، حتى لو باع عرض
قنية بعرض قنية، ثم وجد بما أخذه عيبا فرده، واسترد الأول على قصد التجارة، أو وجد صاحبه
بما أخذ عيبا، فرده، فقصد المردود عليه بأخذ التجارة، لم يصر مال تجارة. ولو
كان عنده ثوب قنية، فاشترى به عبدا للتجارة، ثم رد عليه الثوب بالعيب، انقطع
حول التجارة، ولم يكن الثوب المردود مال تجارة، بخلاف ما لو كان الثوب للتجارة
أيضا، فإنه يبقى حكم التجارة فيه. وكذا لو تبايع تاجران، ثم تقايلا، يستمر حكم
التجارة في المالين. ولو كان عنده ثوب للتجارة، فباعه بعبد للقنية، فرد عليه الثوب
بالعيب، لم يعد إلى حكم التجارة، لان قصد القنية قطع حول التجارة. والرد
والاسترداد، ليسا من التجارة، كما لو قصد القنية بمال التجارة الذي عنده، فإنه
يصير قنية. ولو نوى بعد ذلك جعله للتجارة، لا يؤثر حبى تقترن النية بتجارة
جديدة. ولو خالع وقصد بعوض الخلع التجارة، أو زوج أمته، أو نكحت الحرة ونويا
التجارة في الصداق، فوجهان. أحدهما: لا يكون مال تجارة، لأنهما ليسا من
عقود التجارات والمعاوضات المحضة، وأصحهما ولم يذكر أكثر العراقيين سواه:
أنه يكون مال تجارة، لأنها معاوضة تثبت فيها الشفعة. وطردوا الوجهين في المال
المصالح عليه عن الدم، والذي أجر به نفسه أو ماله إذا نوى به التجارة، وفيما
إذا كان تصرفه في المنافع، بأن كان يستأجر المستغلات، ويؤجرها على قصد
التجارة.
فصل الحول معتبر في زكاة التجارة بلا خلاف، والنصاب معتبر أيضا بلا
128

خلاف. لكن في وقت اعتباره، ثلاثة أوجه، وعبر عنها إمام الحرمين والغزالي
بأقوال، والصحيح: أنها أوجه. الأول منها منصوص، والآخران مخرجان،
فالأول: الأصح: أنه يعتبر في آخر الحول فقط، والثاني: يعتبر في أوله وآخره
دون وسطه، والثالث: يعتبر في جميع الحول، حتى لو نقصت قيمته عن
النصاب في لحظة، انقطع الحول، فإن كمل بعد ذلك، ابتدأ الحول من يومئذ.
فإذا قلنا بالأصح، فاشترى عرضا للتجارة بشئ يسير، انعقد الحول عليه، ووجبت
فيه الزكاة إذا بلغت قيمته نصابا آخر الحول، وإذا احتملنا نقصان النصاب في غير
آخر الحول، فذلك في حق من تربص بسلعته حتى تم الحول وهي نصاب. فأما لو
باعها بسلعة أخرى في أثناء الحول، فوجهان. أحدهما: ينقطع الحول ويبتدئ
حول السلعة الأخرى من حين ملكها، وأصحهما: أن الحكم كما لو تربص
بسلعته، ولا أثر للمبادلة في أموال التجارة. ولو باعها في أثناء الحول بنقد دون
النصاب، ثم اشترى به سلعة فتم الحول وقيمتها نصاب، فوجهان. قال الامام:
والخلاف في هذه الصورة أمثل منه في الأولى لتحقق النقصان حسا،
ورأيت المتأخرين يميلون إلى انقطاع الحول. ولو باعها بالدراهم، والحال تقتضي
التقويم بالدنانير، فهو كبيع السلعة بالسلعة.
فرع لو تم الحول وقيمة سلعته دون النصاب، فوجهان. أصحهما:
يسقط حكم الحول الأول، ويبتدئ حولا ثانيا، والثاني: لا ينقطع، بل متى بلغت
قيمته نصابا، وجبت الزكاة، ثم يبتدئ حولا ثانيا.
129

فرع في بيان ابتداء حول التجارة مال التجارة تارة يملكه بنقد، وتارة
بغيره، فإن ملكه بنقد، نظر، إن كان نصابا بأن اشترى بعشرين دينارا أو بمائتي
درهم، فابتداء الحول من حين ملك ذلك النقد، ويبنى حول التجارة عليه، هذا إذا
اشترى بعين النصاب، أما إذا اشترى بنصاب في الذمة، ثم نقده في ثمنه، فينقطع
حول النقد، ويبتدئ حول التجارة من حين الشراء،
وإن كان النقد الذي هو رأس المال دون النصاب، ابتدأ الحول من حين ملك
عرض التجارة إذا قلنا: لا يعتبر النصاب في أول الحول، ولا خلاف أنه لا يحسب
الحول قبل الشراء للتجارة، لان المشترى به لم يكن مال زكاة لنقصه. أما إذا ملك
بغير نقد، فله حالان. أحدهما: أن يكون ذلك العرض مما لا زكاة فيه، كالثياب
والعبيد، فابتداء الحول من حين ملك مال التجارة إن كان قيمة العرض نصابا، أو
كانت دونه وقلنا بالأصح: إن النصاب لا يعتبر إلا في آخر الحول، والثاني: أن
يكون مما تجب فيه الزكاة، بأن ملكه بنصاب من السائمة، فالصحيح الذي قطع به
جماهير الأصحاب: أن حول الماشية ينقطع، ويبتدئ حول التجارة من حين ملك
مال التجارة، ولا يبني، لاختلاف الزكاتين قدرا ووقتا، وقال الإصطخري: يبنى
على حول السائمة، كما لو ملك بنصاب من النقد. ثم زكاة التجارة والنقد، يبني
حول كل واحد منهما على الأخرى، فإذا باع مال تجارة بنقد بنية القنية، بنى حول
النقد على حول التجارة، كما يبني التجارة على النقد.
فصل ربح مال التجارة، ضربان
حاصل من غير نضوض المال،
وحاصل مع نضوضه.
130

فالأول: مضموم إلى الأصل في الحول، كالنتاج. قال إمام الحرمين:
حكى الأئمة القطع بذلك. لكن من يعتبر النصاب في جميع الحول، قد لا يسلم
وجوب الزكاة في الربح في آخر الحول،
ومقتضاه أن يقول: ظهور الربح في أثنائه كنضوضه، وسيأتي الخلاف في
الضرب الثاني إن شاء الله تعالى. قال الامام: وهذا لا بد منه، والمذهب
الصحيح: ما سبق. فعلى المذهب: لو اشترى عرضا بمائتي درهم، فصارت قيمته
في أثناء الحول ثلاثمائة، زكى ثلاثمائة في آخر الحول وإن كان ارتفاع القيمة قبل
آخر الحول بلحظة. ولو ارتفعت بعد الحول، فالربح مضموم إلى الأصل في الحول
الثاني كالنتاج.
الضرب الثاني: الحاصل مع النضوض، فينظر، إن صار ناضا من غير جنس
رأس المال، فهو كما لو أبدل عرضا بعرض، لأنه لم يقع به التقويم، هذا هو
المذهب، وقيل: هو على الخلاف الذي نذكره إن شاء الله تعالى فيما إذا نض من
الجنس. أما إذا صار ناضا من جنسه، فتارة يكون ذلك في أثناء الحول، وتارة
بعده، وعلى التقدير الأول، قد يمسك الناض إلى أن يتم الحول، وقد يشتري به
سلعة.
الحال الأول: أن يمسك الناض إلى تمام الحول، فإن اشترى عرضا
بمائتي درهم، فباعه في أثناء الحول بثلاثمائة، وتم الحول وهي في يده،
ففيه طريقان. أصحهما وبه قال الأكثرون: على قولين. أظهرهما: يزكي الأصل
بحوله، ويفرد الربح بحول، والثاني: يزكي الجميع بحول الأصل، والطريق
الثاني: القطع بافراد الربح. وإذا أفردناه، ففي ابتداء حوله وجهان. أصحهما:
من حين النضوض، والثاني: من حين الظهور.
131

الحال الثاني: أن يشتري بها عرضا قبل تمام الحول، فطريقان. أصحهما:
أنه كما لو أمسك الناض، والثاني: القطع بأنه يزكي الجميع بحول الأصل.
الحال الثالث: إذا نض بعد تمام الحول، فإن ظهرت الزيادة قبل تمام
الحول، زكى الجميع بحول الأصل بلا خلاف، وإن ظهرت بعد تمامه، فوجهان.
أحدهما: هكذا، وأصحهما: يستأنف للربح حولا. وجميع ما ذكرناه فيما إذا
اشترى العرض بنصاب من النقد، أو بعرض قيمة نصاب. فأما إذا اشترى بمائة
درهم مثلا، وباعه بعد ستة أشهر بمائتي درهم، وبقيت عنده إلى تمام الحول من
حين الشراء، فان قلنا بالأصح: إن النصاب لا يشترط إلا في الحول، بني
على القولين في أن الربح من الناض هل يضم إلى الأصل في الحول؟ إن قلنا:
نعم، فعليه زكاة المائتين، وإن قلنا: لا، لم يزك مائة الربح إلا بعد ستة أشهر
أخرى، وإن قلنا: النصاب يشترط في جميع الحول، أو في طرفيه، فابتداء الحول
الجميع من حين باع ونض، فإذا تم، زكى المائتين.
فرع ملك عشرين دينارا، فاشترى بها عرضا للتجارة ثم باعه بعد ستة أشهر
من ابتداء الحول بأربعين دينارا، واشترى بها سلعة أخرى ثم باعها بعد تمام
الحول بمائة، فان قلنا: الربح من الناض لا يفرد بحول، فعليه زكاة جميع
المال، وإلا فعليه زكاة خمسين دينارا، لأنه اشترى السلعة الثانية بأربعين، منها
عشرون رأس ماله الذي مضى عليه ستة أشهر، وعشرون ربح استفاده يوم باع
الأول. فإذا مضت ستة أشهر، فقد تم الحول على نصف السلعة، فيزكيه بزيادته،
وزيادته ثلاثون دينارا، لأنه ربح على العشرينتين ستين، وكان ذلك كامنا وقت تمام
الحول. ثم إذا مضت ستة أشهر أخرى، فعليه زكاة العشرين الثانية، فان حولها
حينئذ تم، ولا يضم إليها ربحها، لأنه صار ناضا قبل تمام حولها، فإذا مضت ستة
أشهر أخرى، فعليه زكاة ربحها، وهو الثلاثون الباقية، فان كانت الخمسون التي
أخرج زكاتها في الحول الأول باقية عنده، فعليه زكاتها أيضا للحول الثاني مع
الثلاثين، هذا الذي ذكرناه هو قول ابن الحداد تفريعا على أن الناض لا يفرد ربحه
بحول، وحكى الشيخ أبو علي وجهين آخرين ضعيفين.
أحدهما: يخرج عند البيع الثاني زكاة عشرين. وإذا مضت ستة أشهر،
أخرج زكاة عشرين أخرى، وهي التي كانت ربحا في الحول الأول. فإذا مضت ستة
132

أشهر، أخرج زكاة الستين الباقية، لأنها إنما استقرت عند البيع الثاني، فمنه يبتدئ
حولها.
والوجه الثاني: أنه عند البيع الثاني، يخرج زكاة عشرين، ثم إذا مضت ستة
أشهر، زكى الثمانين الباقية، لان الستين التي هي الربح، حصلت في حول
العشرين التي هي الربح الأول، فضمت إليها في الحول. ولو كانت المسألة بحالها،
لكنه لم يبع السلعة الثانية، فيزكي عند تمام الحول الأول خمسين كما ذكرنا، وعند
تمام الثاني الخمسين الباقية، لان الربح الأخير لم يصر ناضا،
ولو اشترى بمائتين عرضا، فباعه بعد ستة أشهر بثلاثمائة، واشترى بها عرضا
وباعه بعد تمام الحول بستمائة، إن لم نفرد الربح بحول، أخرج زكاة ست
المال، وإلا فزكاة أربعمائة، فإذا مضت ستة أشهر، زكى مائة، فإذا مضت ستة
أشهر أخرى، زكى المائة الباقية، هذا على قول ابن الحداد. وأما على الوجهين
الآخرين، فيزكي عند البيع الثاني مائتين، ثم على الوجه الأول، إذا مضت ستة
أشهر، زكى مائة، ثم إذا مضت ستة أشهر أخرى، زكى ثلاثمائة. وعلى الوجه
الثاني: إذا مضت ستة أشهر من البيع الثاني، زكى أربع المائة الباقية.
فصل إذا كان مال التجارة حيوانا، فله حالان. أحدهما: أن يكون مما
تجب الزكاة في عينه كنصاب الماشية، ويأتي حكمه بعد هذا الفصل إن شاء الله
133

تعالى. والثاني: أن لا تجب في عينه، كالخيل، والجواري، والمعلوفة
من النعم من الماشية، فهل يكون نتاجها مال تجارة؟ وجهان. أصحهما: يكون، لان الولد
له حكم أمه، والوجهان فيما إذا لم تنقص قيمة الام بالولادة، فإن نقصت، بأن
كانت قيمة الام ألفا، فصارت بالولادة ثمانمائة، وقيمة الولد مائتان، جبر نقص الام
بالولد، وزكى الألف. ولو صارت قيمة الام، تسعمائة، جبرت المائة من قيمة
الولد، كذا قاله ابن سريج وغيره، قال الامام: وفيه احتمال ظاهر، ومقتضى قولنا:
إنه ليس مال تجارة، أن لا تجبر به الام كالمستفادات بسبب آخر. وأثمار أشجار
التجارة كأولاد حيوانها، ففيها الوجهان. فإن لم نجعل الأولاد والثمار مال تجارة،
فهل تجب فيها في السنة الثانية، ففيها بعدها زكاة؟ قال إمام الحرمين: الظاهر أنا لا
نوجب، لأنه منفصل عن تبعية الام، وليس أصلا في التجارة، وأما إذا ضممناها إلى الأصل، وجعلناها مال تجارة، ففي حولها طريقان. أصحهما: حولها حول
الأصل، كنتاج السائمة، وكالزيادة المنفصلة، والثاني: على قولي ربح الناض،
فعلى أحدهما ابتداء حولها من انفصال الولد وظهور الثمار.
فصل لا خلاف أن قدر زكاة التجارة ربع العشر كالنقد، ومن أين يخرج؟
فيه ثلاثة أقوال.
المشهور الجديد: يخرج من القيمة، ولا يجوز أن يخرج من عين
العرض، والثاني: يجب الاخراج من العين، ولا يجوز من القيمة، والثالث:
يتخير بينهما، فلو اشترى بمائتي درهم مائتي قفيز حنطة، أو بمائة وقلنا:
يعتبر النصاب آخر الحول فقط، وحال الحول وهي تساوي مائتي درهم، فعلى
134

المشهور: عليه خمسة دراهم، وعلى الثاني: خمسة أقفزة وعلى الثالث: يتخير
بينهما. فلو أخر إخراج الزكاة حتى نقصت قيمتها فعادت إلى مائة، نظر، إن كان
ذلك قبل إمكان الأداء وقلنا: الامكان شرط للوجوب، فلا زكاة. وإن قلنا: شرط
للضمان، لزمه على المشهور درهمان ونصف، وعلى الثاني: خمسة أقفزة، وعلى
الثالث: يتخير بينهما، وإن كان بعد الامكان، لزمه على المشهور: خمسة
دراهم، لان النقصان من ضمانه، وعلى الثاني: خمسة أقفزة، ولا يضمن نقصان
القيمة مع بقاء العين كالغاصب، وعلى الثالث: يتخير بينهما. ولو أخر فبلغت
القيمة أربعمائة درهم، فإن كان قبل إمكان الأداء وقلنا: هو شرط للوجوب، لزمه على
المشهور عشرة دراهم، وعلى الثاني: خمسة أقفزة، وعلى الثالث: يتخير
بينهما، وإن قلنا: شرط الضمان، لزمه على المشهور خمسة دراهم، وعلى
الثاني: خمسة أقفزة قيمتها خمسة دراهم، لأن هذه الزيادة في ماله ومال
المساكين، وقال ابن أبي هريرة: يكفيه على هذا القول: خمسة أقفزة قيمتها خمسة
دراهم، لأن هذه الزيادة حدثت بعد وجوب الزكاة، وهي محسوبة في الحول
الثاني، وعلى الثالث: يتخير بين الامرين. ولو أتلف الحنطة بعد وجوب الزكاة
وقيمتها مائتا درهم، فصارت أربعمائة، لزمه على المشهور خمسة دراهم، لأنها
القيمة يوم الاتلاف، وعلى الثاني: خمسة أقفزة قيمتها عشرة دراهم، وعلى
الثالث، يتخير بينهما.
فرع فيما يقوم به مال التجارة لرأس المال أحوال.
أحدها: أن يكون نقدا نصابا، بأن يشتري عرضا بمائتي درهم، أو عشرين
دينارا، فيقوم في آخر الحول به، فإن بلغ به نصابا، زكاه، وإلا، فلا. وإن كان
الثاني غالب نقد البلد، ولو قوم به لبلغ نصابا، حتى لو اشترى بمائتي درهم عرضا،
فباعه بعشرين دينارا وقصد التجارة مستمر، فتم الحول والدنانير في يده، ولا تبلغ
قيمتها مائتي درهم، فلا زكاة. هذا هو المذهب المشهور. وعن صاحب
135

التقريب حكاية قول: أن التقويم أبدا يكون بغالب نقد البلد، ومنه يخرج
الواجب، سواء كان رأس المال نقدا أم غيره، وحكى الروياني هذا عن ابن
الحداد.
الحال الثاني: أن يكون نقدا دون النصاب، فوجهان. أصحهما: يقوم بذلك
النقد، والثاني: بغالب نقد البلد كالعرض. وموضع الوجهين ما إذا لم يملك من
جنس النقد الذي اشترى به ما يتم به النصاب، فإن ملك ما يتم به النصاب، بأن
اشترى بمائة درهم عرضا وهو يملك مائة أخرى، فلا خلاف أن التقويم بجنس ما
ملك به، لأنه اشترى ببعض ما انعقد عليه الحول، وابتدأ الحول من حين ملك
الدراهم.
قلت: لكن يجري فيه القول الذي حكاه صاحب التقريب. والله أعلم.
الحال الثالث: أن يملك بالنقدين جميعا، وهو على ثلاثة أضرب.
أحدها: أن يكون كل واحد نصابا، فيقوم بهما على نسبة التقسيط يوم
الملك. وطريقه: تقويم أحد النقدين بالآخر. مثاله، اشترى بمائتي درهم وعشرين
دينارا، فينظر، إن كان قيمة المائتين عشرين دينارا، فنصف العرض مشترى
بدراهم، ونصفه بدنانير. وإن كانت قيمتها عشرة دنانير، فثلثه مشرى بدراهم،
وثلثاه بدنانير. وهكذا يقوم في آخر الحول، ولا يضم أحدهما إلى الآخر، فلا تجب
الزكاة إذا لم يبلغ واحد منهما نصابا وإن كانت بحيث لو قوم الجميع بأخذ النقدين
لبلغ نصابا، وحول كل واحد من المبلغين من حين ملك ذلك النقد.
136

الضرب الثاني: أن يكون قل واحد منهما دون النصاب، فإن قلنا: ما دون
النصاب، كالعرض، قوم الجميع بنقد البلد، وإن قلنا: كالنصاب، قوم ما
ملكه بالدراهم بدراهم، وما ملكه بالدنانير بدنانير.
الضرب الثالث: أن يكون أحدهما نصابا، والآخر دونه، فيقوم ما ملكه بالنقد الذي
هو نصاب بذلك النقد، وما ملكه بالنقد الآخر على الوجهين، وكل واحد
من المبلغين يقوم في آخر حوله، وحول المملوك بالنصاب، من حين ملك ذلك
النقد، وحول المملوك بما دونه، من حين ملك العرض. وإذا اختلف جنس المقوم
به، فلا ضم كما سبق.
الحال الرابع: أن يكون رأس المال غير نقد، بأن ملك بعرض قنية، أو ملك
بخلع أو نكاح بقصد التجارة وقلنا: يصير مال تجارة، فيقوم في آخر الحول بغالب
نقد البلد من الدراهم، أو الدنانير. فإن بلغ به نصابا، زكاه، وإلا فلا وإن كان
يبلغ بغيره نصابا. فلو جرى في البلد نقدان متساويان، فإن بلغ بأحدهما نصابا دون
الآخر، قوم به، وإن بلغ بهما، فأوجه. أصحها: يتخير المالك فيقوم بما شاء
منهما، والثاني: يراعي الأغبط للمساكين، والثالث: يتعين التقويم بالدراهم،
لأنها أرفق، والرابع: يقوم بالنقد الغالب في أقرب البلاد إليه.
الحال الخامس: أن يملك بالنقد وغيره، بأن اشترى بمائتي درهم وعرض
قنية، فما قابل الدراهم يقوم بها، وما قابل العرض، يقوم بنقد البلد. فإن كان النقد
137

دون النصاب، عاد الوجهان. كما يجري التقسيط
عند اختلاف الجنس، يجري عند اختلاف الصفة، كما لو اشترى بنصاب من الدنانير بعضها صحيح وبعضها
مكسر، وبينهما تفاوت، فيقوم ما يخص الصحيح بالصحاح، وما يخص المكسر
بالمكسر.
فصل تصرف التاجر في مال التجارة بالبيع، بعد وجوب الزكاة، وقبل
الأداء، قيل: هو على الخلاف في بيع سائر الأموال بعد وجوب الزكاة فيها. وقيل:
إن قلنا: يؤدي الزكاة من عين العرض، فهو على ذلك الخلاف، وإن قلنا: يؤدي
من القيمة، فهو كما لو وجبت شاة في خمس من الإبل، فباعها. وهذان الطريقان
شاذان. والمذهب الصحيح الذي قطع به الجمهور: القطع بجواز البيع، ثم سواء
باع بقصد التجارة، أو بقصد اقتناء العرض، لان تعلق الزكاة به لا يبطل وإن صار
مال قنية، فهو كما لو نوى الاقتناء من غير بيع. فلو وهب مال التجارة، أو أعتق
عبدها، فهو كبيع الماشية بعد وجوب الزكاة فيها، لان الهبة والاعتاق يبطلان
متعلق زكاة التجارة. كما أن البيع يبطل متعلق زكاة العين. ولو باع مال التجارة
محاباة، فقدر المحاباة كالموهوب، فإن لم نصحح الهبة، بطل في ذلك القدر،
وخرج في الباقي على تفريق الصفقة.
فصل فيما إذا كان مال التجارة تجب الزكاة في عينه فإن كان عبيد تجارة، وجبت فطرتهم مع زكاة التجارة. ولو كان مال
التجارة نصابا من السائمة،
لم تجمع فيه زكاة التجارة والعين. وفيما تقدم منهما قولان. أظهرهما وهو
الجديد، وأحد قولي القديم: تقدم زكاة العين، والثاني: زكاة التجارة. فإن قلنا
بالأظهر، أخرج السن الواجبة من السائمة، وتضم السخال إلى الأمهات. وإن قدمنا
138

زكاة التجارة، قال في التهذيب: تقوم مع درها، ونسلها، وصوفها، وما اتخذ
من لبنها، وهذا تفريع على أن النتاج مال تجارة، وقد سبق فيه الخلاف، ولا عبرة
بنقصان النصاب في أثناء الحول، تفريعا على الأصح في وقت اعتبار نصاب
التجارة. ولو اشترى نصابا من السائمة التجارة، ثم اشترى بها عرضا بعد ستة أشهر
مثلا، فعلى القول الثاني: لا ينقطع الحول، وعلى الأول: ينقطع، ويبتدئ
حول زكاة التجارة من يوم شراء العرض. ثم القولان فيما إذا كمل نصاب الزكاتين
واتفق الحولان. وأما إذا لم يكمل نصاب أحدهما، بأن كان أربعين من الغنم، لا
تبلغ قيمتها نصابا عند تمام الحول، أو كان تسعا وثلاثين فما دونها، وقيمتها
نصاب، فالمذهب: وجوب زكاة ما بلغ به نصاباه. هكذا قطع به العراقيون،
والقفال، والجمهور. وقيل: في وجوبها وجهان. وإذا غلبنا زكاة العين في
نصاب السائمة، فنقصت في خلال السنة عن النصاب، ونقلناها إلى زكاة التجارة،
فهل يبني حول التجارة على حول العين، أم يستأنفه؟ وجهان، كالوجهين فيمن
ملك نصاب سائمة لا للتجارة، فاشترى به عرضا للتجارة، هل يبنى حول التجارة
على حول السائمة؟ وإذا أوجبنا زكاة التجارة لنقصان الماشية المشتراة للتجارة عن
النصاب، ثم بلغت في أثناء الحول نصابا بالنتاج، ولم تبلغ بالقيمة نصابا في آخر
الحول، فوجهان. أحدهما: لا زكاة، لان الحول انعقد للتجارة، فلا يتغير،
والثاني: ينتقل إلى زكاة العين. فعلى هذا، هل يعتبر الحول من تمام النصاب
بالنتاج، أم من وقت نقص القيمة عن النصاب؟ وجهان.
قلت: الأصح: لا زكاة. والله أعلم.
أما إذا كمل نصاب الزكاتين، واختلف الحولان، بأن اشترى بمتاع التجارة
بعد ستة أشهر نصاب سائمة، أو اشترى به معلوفة للتجارة، ثم أسامها بعد ستة
أشهر، فطريقان. أصحهما: أنه على القولين في تقديم زكاة العين أو التجارة،
139

والثاني: أن القولين مخصوصان بما إذا اتفق الحولان، بأن يشتري بعروض القنية
نصاب سائمة للتجارة. فعلى هذا، فيه طريقان. أصحهما وبه قطع المعظم: أن
المتقدم يمنع المتأخر قولا واحدا، فعليه زكاة التجارة في الصورة المذكورة.
والطريق الثاني: على وجهين. أحدهما: هذا، والثاني: أن المتقدم يرفع حكم
المتأخر، ويتجرد. وإذا طردنا القولين فيما إذا تقدم حول التجارة، فإن غلبنا زكاة
التجارة، فذاك، وإن غلبنا العين، فوجهان. أحدهما: تجب عند تمام حولها،
وما سبق من حول التجارة يبطل. وأصحهما: تجب زكاة التجارة عند تمام حولها،
لئلا يبطل بعض حولها، ثم يستفتح حول زكاة العين من منقرض حولها، وتجب زكاة
العين في سائر الأحوال.
فرع لو اشترى نخيلا للتجارة، فأثمرت، أو أرضا مزروعة، فأدرك
الزرع، وبلغ الحاصل نصابا، عاد القولان في أن الواجب زكاة العين، أم التجارة؟
فإن لم يكمل أحد النصابين، أو كملا ولم يتفق الحولان، استمر التفصيل الذي
سبق. ثم هذا الذي ذكرناه، فيما إذا كانت الثمرة حاصلة عند المشتري، وبدا
الصلاح في ملكه. أما إذا أطلعت بعد الشراء، فهذه ثمرة حدثت من شجر التجارة،
وفي ضمها إلى مال التجارة، وجهان تقدما، فإن ضممناها، فهي كالحاصلة عند
الشراء، وتنزل منزلة زيادة متصلة، أو أرباح متجددة في قيمة العرض، ولا تنزل
منزلة ربح بنض، ليكون حولها على الخلاف السابق فيه. فإن قلنا: ليست مال
تجارة، فمقتضاه وجوب زكاة العين فيها بلا خلاف، وتخصيص زكاة التجارة بالأرض
والأشجار.
التفريع: إن غلبنا زكاة العين، أخرج العشر أو نصفه من الثمار والزرع، وهل
تسقط به زكاة التجارة
عن قيمة جذع النخل، وتبن الزرع؟ وجهان. أصحهما:
140

لا يسقط. وفي أرض النخل والزرع طريقان. أحدهما: على الوجهين في
الجذع والتبن، والثاني: القطع بالوجوب لبعد الأرض عن التبعة. قال إمام
الحرمين: وينبغي أن يعتبر ذلك بما يدخل في الأرض المتخللة بين النخيل في
المساقاة، وما لا يدخل. فما لا يدخل، تجب فيه زكاة التجارة قطعا، وما يدخل،
فهو على الخلاف. وإذا أوجبنا زكاة التجارة في هذه الأشياء، فلم تبلغ قيمتها
نصابا، فهل يضم قيمة الثمرة والحب إليها، ليكمل النصاب؟ وجهان.
قلت: أصحهما: لا ضم، وما ذكره الامام جزم به الماوردي. والله أعلم.
وعلى هذا القول لا يسقط اعتبار التجارة في المستقبل، بل تجب زكاة التجارة
في الأحوال المستقبلة. ويكون ابتداء حول التجارة، من وقت إخراج العشر، لا من
بدو الصلاح، لان عليه بعد بدو الصلاح تربية الثمار للمساكين، فلا يجوز أن يكون
زمان التربية محسوبا عليه. فأما إذا غلبنا زكاة التجارة، فتقوم الثمرة والجذع، وفي
الزرع الحب والتبن. وتقوم الأرض أيضا فيهما، وسواء اشتراها مزروعة للتجارة، أو
اشترى بذرا وأرضا للتجارة وزرعها به في جميع ما ذكرنا. ولو اشترى الثمار وحدها،
وبدا الصلاح في يده، جرى القولان في أنه يخرج العشر، أم زكاة التجارة؟.
فرع لو اشترى أرضا للتجارة وزرعها ببذر للقنية، وجب العشر في الزرع
وزكاة التجارة في الأرض بلا خلاف فيهما.
فصل في زكاة مال القراض عامل القراض لا يملك حصته من الربح إلا
بالقسمة على الأظهر، وعلى الثاني: يملكها بالظهور. فإذا دفع إلى غيره نقدا
قراضا، وهما جميعا من أهل الزكاة، فحال عليه الحول، فإن قلنا: العامل لا
يملك الربح بالظهور، وجب على المالك زكاة رأس المال والربح جميعا، لان
141

الجميع ملكه، كذا قاله الجمهور. ورأي الامام تخريج الوجوب في نصيب العامل
على الخلاف في المغصوب والمحجور، لتأكد حقه في حصته.
وحول الربح مبني على حول الأصل، إلا إذا رد إلى النضوض، ففيه الخلاف
السابق. ثم إن أخرج الزكاة من موضع آخر، فذاك وإن أخرجها من هذا المال،
ففي حكم المخرج أوجه، أصحها عند الأكثرين وهو المنصوص: يحسب
من الربح كالمؤن التي تلزم المال، وكما أن فطرة عبيد التجارة، وأرش جناياتهم
من الربح، والثاني: من رأس المال، والثالث: أنه لطائفة من المال، يستردها
المالك، لأنه مصروف إلى حق لزمه. فعلى هذا يكون المخرج من الربح ورأس
المال جميعا بالتقسيط.
مثاله: رأس المال مائتان، والربح مائة، فثلثا المخرج من رأس المال، وثلثه
من الربح. قال في التهذيب: الوجهان مبنيان على تعلق الزكاة، هل هو بالعين، أو بالذمة؟ إن قلنا:
بالعين، فكالمؤن، وإلا فهو استرداد. وقيل: إن
قلنا: بالعين، فكالمؤن، وإلا ففيه الوجهان. واستبعد إمام الحرمين هذا البناء.
أما إذا قلنا: يملك حصته بالظهور، فعلى المالك زكاة رأس المال، ونصيبه من
الربح. وهل على العامل زكاة نصيبه؟ فيه طرق. أحدها: أنه على قولين
كالمغصوب، لأنه غير متمكن من كمال التصرف، والثاني: القطع بالوجوب لتمكنه
من التوصل بالمقاسمة، والثالث: القطع بالمنع لعدم استقرار ملكه لاحتمال
الخسران. والمذهب: الايجاب، سواء أثبتنا الخلاف، أم لا، فعلى هذا،
فابتداء حول حصته من حين الظهور على الأصح المنصوص، والثاني: من حين
تقوم المال على المالك لاخذ الزكاة، والثالث: من حين القسمة، لأنه وقت
الاستقرار، والرابع: حوله حول رأس المال. ثم إذا تم حوله، ونصيبه لا يبلغ
نصابا، لكن مجموع المال يبلغ نصابا، فإن أثبتنا الخلطة في النقدين، فعليه
142

الزكاة، وإلا، فلا، إلا أن يكون له من جنسه ما يتم به النصاب، وهذا إذا لم نجعل
ابتداء الحول من المقاسمة. فإن جعلناه منها، سقط النظر إلى الخلطة. وإذا أوجبنا
الزكاة على العامل، لم يلزمه إخراجها قبل القسمة على المذهب، فإذا اقتسما،
زكى ما مضى. وحكي وجه: أنه يلزمه الاخراج في الحال، لتمكنه من القسمة. ثم
إن أخرج الزكاة من موضع آخر، فذاك، فإن أراد إخراجها من مال القراض، فهل
يستبد به، أم للمالك منعه؟ وجهان. أصحهما: يستبد، قال الروياني: وهو
المنصوص. والثاني: لا يستبد، وللمالك منعه. أما إذا كان المالك من أهل
وجوب الزكاة دون العامل، وقلنا: الجميع له ما لم يقسم، فعليه زكاة الجميع.
وإن قلنا بالقول الآخر، فعليه زكاة رأس المال ونصيب من الربح، ولا يكمل نصيب
المالك إذا لم يبلغ نصابا بنصيب العامل، لأنه ليس من أهل الزكاة. أما إذا كان
العامل من أهل الزكاة، دون المالك فإن قلنا: الجميع للمالك قبل القسمة، فلا
زكاة. وإن قلنا: للعامل حصة من الربح، ففي وجوب الزكاة عليه الخلاف السابق.
فإذا أوجبناه، فذاك إذا بلغت حصته نصابا، أو كان له ما يتم به النصاب. ولا تثبت
الخلطة، ولا يجئ في اعتبار الحول هنا إلا الوجه الأول والثالث، وليس له إخراج
الزكاة من عين المال بلا خلاف، لان المالك لم يدخل في العقد على أن يخرج من
المال زكاة، هكذا ذكروه، ولمانع أن يمنع ذلك، لأنه عامل من عليه الزكاة.
باب
زكاة المعدن والركاز
اجتمعت الأمة على وجوب الزكاة في المعدن، ولا زكاة فيما يستخرج من
143

المعدن، إلا في الذهب والفضة. هذا هو المذهب المشهور الذي قطع به
الأصحاب. وحكي وجه: أنه تجب زكاة كل مستخرج منه، منطبعا كان، كالحديد
والنحاس، أو غيره، كالكحل والياقوت، وهذا شاذ منكر. وفي واجب النقدين
المستخرجين منه، ثلاثة أقوال. أظهرها: ربع العشر، والثاني: الخمس،
والثالث: إن ناله بلا تعب ومؤونة، فالخمس، وإلا فربع العشر. ثم الذي اعتمده
الأكثرون على هذا القول في ضبط الفرق، الحاجة إلى الطحن، والمعالجة بالنار،
والاستغناء عنهما، فما احتاج، فربع العشر، وما استغنى عنهما، فالخمس.
والمذهب: أنه يشترط كونه نصابا. وقيل: في اشتراطه قولان. والمذهب
المنصوص عليه في معظم كتب الشافعي رحمة الله عليه: أنه لا يشترط الحول.
وقيل: في اشتراطه قولان. ووجه المذهب فيهما القياس على المعشرات، ولان ما
دون النصاب لا يحتمل المواساة، وإنما يعتبر الحول للتمكن من تنمية المال، وهذا
نما في نفسه.
فرع إذا اشترطنا النصاب، فليس من شرطه أن ينال في الدفعة الواحدة
نصابا، بل ما ناله بدفعات ضم بعضه إلى بعض إن تتابع العمل وتواصل النيل.
قال في التهذيب: ولا يشترط بقاء ما استخرج في ملكه. فلو تتابع
العمل، ولم يتواصل النيل، بل حفر المعدن زمانا، ثم عاد النيل، فإن كان زمن
الانقطاع يسيرا، ضم أيضا، وإلا، فقولان. الجديد: الضم. والقديم: لا
ضم. وإن قطع العمل ثم عاد إليه، فإن كان القطع لغير عذر، فلا ضم، طال
الزمان أم قصر، لاعراضه. وإن قطع لعذر، فالضم ثابت إن قصر الزمان، وإن
طال، فكذلك عند الأكثرين. وفي وجه: لا ضم. وفي حد الطول أوجه.
أصحها: الرجوع إلى العرف، والثاني: ثلاثة أيام، والثالث: يوم كامل. ثم
إصلاح الآلات وهرب العبيد والأجراء من الاعذار بلا خلاف. وكذلك السفر
144

والمرض على المذهب. وقيل: فيهما وجهان. أصحهما: عذران، والثاني:
لا. ومتى حكمنا بعدم الضم، فمعناه أن الأول لا يضم إلى الثاني. فأما الثاني
فيكمل بالأول قطعا، كما يكمل بما يملكه من غير المعدن.
فرع إذا نال من المعدن دون نصاب، وهو يملك من جنسه نصابا
فصاعدا، فأما أن يناله في آخر جزء من حول ما عنده، أو مع تمام حوله، أو
قبله، ففي الحالين الأولين يصير النيل مضموما إلى ما عنده، وعليه في ذلك النقد
حقه، وفيما ناله حقه على اختلاف الأقوال فيه. وأما إذا ناله قبل تمام الحول، فلا
شئ فيما عنده حتى يتم حوله. وفي وجوب حق المعدن فيما ناله، وجهان.
أصحهما: يجب، وهو ظاهر نصه في الام والثاني: لا يجب. فعلى هذا،
يجب فيما عنده ربع العشر عند تمام حوله، وفيما ناله ربع العذر عند تمام حوله.
ولو كان يملك من جنسه دون نصاب، بأن ملك مائة درهم، فنال من المعدن
مائة، نظر، إن نال بعد تمام حول ما عنده، ففي وجوب حق المعدن فيما ناله
الوجهان. فعلى الأول: يجب في المعدن حقه، ويجب فيما عنده ربع العشر إذا
مضى حول من حين كمل النصاب بالنيل، وعلى الثاني: لا يجب شئ حتى يمضي
حول من يوم النيل، فيجب في الجميع ربع العشر. وعن صاحب الافصاح
وجه: أنه يجب فيما ناله حقه، وفيما كان عنده ربع العشر في الحال، لأنه كمل
بالنيل، وقد مضى عليه الحول. وأما إن ناله قبل تمام حول المائة، فلا يجئ
وجه صاحب الافصاح، ويجئ الوجهان الآخران. وهذا التفصيل مذكور في
145

بعض طرق العراقيين، وقد نقل معظمه الشيخ أبو علي، ونسبه الامام إلى
السهو وقال: إذا كان يملكه دون النصاب، فلا ينعقد عليه حول حتى يفرض له
وسط وآخر، ويحكم بوجوب الزكاة فيه يوم النيل. ولا شك في القول بوجوب
الزكاة فيه للنيل، لكن الشيخ لم ينفرد بهذا النقل، ولا صار إليه حتى يعترض عليه،
وإنما نقله متعجبا منه، منكرا له.
وأما إذا كان ما عنده مال تجارة، فتنتظم فيه الأحوال الثلاثة وإن كان دون
النصاب بلا إشكال، لان الحول ينعقد عليه، ولا يعتبر النصاب إلا في آخر الحول
على الأصح. فإن نال من المعدن في آخر حول التجارة، ففيه حق المعدن، وفي
مال التجارة زكاة التجارة إن كان نصابا، وكذا إن كان دونه وبلغ بالمعدن نصابا،
واكتفينا بالنصاب في آخر الحول. وإن نال قبل تمام الحول، ففي وجوب حق
المعدن الوجهان السابقان، وإن نال بعد تمام الحول، نظر، إن كان مال التجارة
نصابا في آخر الحول، وجب في النيل حق المعدن، لانضمامه إلى ما وجبت فيه
الزكاة، وإن لم يبلغ نصابا ونال بعد مضي شهر من الحول الثاني مثلا، بني ذلك
على الخلاف في أن سلعة التجارة إذا قومت في آخر الحول فلم تبلغ نصابا، ثم
ارتفعت القيمة بعد شهر، هل تجب فيها الزكاة، أم ينتظر آخر الحول الثاني؟ فإن
قلنا بالأول، وجبت زكاة التجارة في مال التجارة، وحينئذ يجب حق المعدن في
النيل قطعا. وإن قلنا بالثاني، ففي وجوب حق المعدن الوجهان، وجميع ما ذكرناه
مفرع على المذهب أن الحول ليس بشرط في حق المعدن. فإن شرطناه، انعقد
الحول عليه من حين وجده.
فرع لا يمكن ذمي من حفر معادن دار الاسلام والاخذ منها، كما لا يمكن
146

من الاحياء فيها، ولكن ما أخذه قبل إزعاجه يملكه، كما لو احتطب. وهل عليه
حق المعدن؟ يبنى على أن مصرف حق المعدن ماذا؟ فان أوجبنا فيه ربع العشر،
فمصرفه مصرف الزكوات، وإن أوجبنا الخمس، فطريقان. المذهب والذي قطع
به الأكثرون: مصرف الزكوات، والثاني: على قولين. أظهرهما: هذا، والثاني:
مصرف خمس خمس الفيئ. فإن قلنا: بهذا، أخذ من الذمي الخمس، وإن قلنا
بالمذهب، لم يؤخذ منه شئ. وعلى المذهب تشترط النية فيه. وعلى قول مصرف
الفيئ، لا تشترط النية. ولو كان المستخرج من المعدن مكاتبا، لم يمنع ولا
زكاة. ولو نال العبد من المعدن شيئا، فهو لسيده وعليه واجبة. ولو أمره السيد بذلك
ليكون النيل له، فقد بناه صاحب الشامل على القولين في ملك العبد بتمليك
السيد، وحظ الزكاة من القولين ما قدمناه.
واعلم أن السلطان والحاكم، يزعج الذمي عن معدن دار الاسلام. وينقدح
جواز إزعاجه لكل مسلم، لأنه صاحب حق فيه.
فرع لو استخرج اثنان من معدن نصابا، فوجوب الزكاة يبنى على ثبوت الخلطة في غير المواشي.
فرع إذا قلنا بالمذهب: إن الحول لا يعتبر، فوقت وجوب حق المعدن
حصول النيل في يده، ووقت الاخراج، التخليص والتنقية. فلو أخرج قبل التنقية
من التراب والحجر، لم يجز، وكان مضمونا على الساعي، يلزمه رده. فلو اختلفا
في قدره بعد التلف، أو قبله، فالقول قول الساعي مع يمينه، ومؤونة التخليص
والتنقية على المالك، كمؤونة الحصاد والدياس. فلو تلف بعضه قبل التمييز، فهو
كتلف بعض المال قبل الامكان.
قلت: وإذا امتنع من تخليصه، أجبر. والله أعلم.
فصل الركاز دفين الجاهلية، ويجب فيه الخمس، ويصرف مصرف
147

الزكوات على المذهب. وحكي قول، وقيل: وجه: أنه يصرف مصرف خمس
خمس الفيئ، ولا يشترط الحول فيه بلا خلاف. والمذهب: اشتراط النصاب
وكون الموجود ذهبا أو فضة. وقيل: في اشتراط ذلك، قولان. الجديد:
الاشتراط.
فرع لو كان الموجود على ضرب الاسلام، بأن كان عليه شئ من
القرآن، أو اسم ملك من ملوك الاسلام، لم يملكه الواحد بمجرد الوجدان، بل
يرده إلى مالكه إن علمه، فإن لم يعلمه، فوجهان. الصحيح الذي قطع به
الجمهور: هو لقطة يعرفه الواجد سنة، ثم له تملكه إن لم يظهر مالكه. وقال الشيخ
أبو علي: هو مال ضائع يمسكه الآخذ للمالك أبدا، أو يحفظه الامام له في بيت
المال، ولا يملك بحال، كما لو ألقت الريح ثوبا في حجره، أو مات مورثه عن
ودائع وهو لا يعرف مالكها. وإنما يملك بالتعريف ما ضاع من المارة، دون ما حصنه
المالك بالدفن. ونقل البغوي عن القفال نحو هذا. قال الامام: ولو انكشفت
الأرض عن كنز بسيل ونحوه، فما أدري ما قول الشيخ فيه، والمال البارز ضائع،
قال: واللائق بقياسه، أن لا يثبت فيه حق التمليك اعتبارا بأصل الموضع، ولو لم
يعرف أن الموجود من ضرب الجاهلية أو الاسلام، فقولان. أظهرهما وأشهرهما:
ليس بركاز، والثاني: ركاز فيخمس. وعلى الأظهر: يكون لقطة على قول
الجمهور. وعن الشيخ أبي علي موافقة الجمهور هنا. وعنه أيضا وجهان.
أحدهما: الموافقة، والثاني: أنه مال ضائع كما قال في الصورة السابقة. ثم يلزم
من كون الركاز على ضرب الاسلام، كونه دفن في الاسلام، ولا يلزم من كونه على
ضرب الجاهلية كونه دفن في الجاهلية، لاحتماله أنه وجده مسلم بكنز جاهلي،
148

فكنزه ثانيا، فالحكم مدار على كونه من دفن الجاهلية، لا على كونه ضرب
الجاهلية.
فرع الكنز الموجود بالصفة المتقدمة، تارة يوجد في دار الاسلام، وتارة
في دار الحرب. فالذي في دار الاسلام، إن وجد في موضع لم يعمره مسلم ولا ذو
عهد، فهو ركاز، سواء كان مواتا أو من القلاع العادية التي عمرت في الجاهلية.
فإن وجد في طريق مسلوكة، فالمذهب والذي قطع به العراقيون والقفال: أنه لقطة.
وقيل: ركاز. وقيل: وجهان، والموجود في المسجد لقطة على المذهب.
ويجئ فيه الوجه الذي في الطريق: أنه ركاز. وما عدا هذه المواضع، ينقسم إلى
مملوك، وموقوف، فالمملوك، إن كان لغيره ووجد فيه كنزا، لم يملكه الواجد،
بل إن ادعاه مالكه، فهو له بلا يمين، كالأمتعة في الدار، وإلا فهو لمن تلقى
صاحب الأرض الملك منه. وهكذا إلى أن ينتهي إلى الذي أحيا الأرض فيكون له
وإن لم يدعه، لأنه بالاحياء ملك ما في الأرض، وبالبيع لم يزل ملكه عنه، فإنه
مدفون منقول. فإن كان من تلقى الملك عنه هالكا، فورثته قائمون مقامه. فإن قال
بعض ورثته: هو لمورثنا، وأباه بعضهم، سلم نصيب المدعي إليه، وسلك بالباقي
ما ذكرناه. هذا كله كلام الأئمة صريحا وإشارة. ومن المصرحين بملك الركاز باحياء
الأرض، القفال. ورأي الامام تخريج ملك الركاز بالاحياء على ما لو دخلت ظبية
دارا، فأغلق صاحبها الباب لا على قصد ضبطها. وفيه وجهان. أصحهما:
لا يملكها، ولكن يصير أولى بها. كذلك المحيي يصير أولى بالكنز. ثم إذا قلنا:
الكنز يملك بالاحياء، وزالت رقبة الأرض عن ملكه، فلا بد من طلبه ورده إليه.
وإن قلنا: لا يملكه، ولكن يصير أولى به، فلا يبعد أن يقال: إذا زال ملكه عن رقبة
149

الأرض، بطل اختصاصه. كما أن في مسألة الظبية إذا قلنا: لا يملكها، ففتح
الباب وأفلتت، ملكها من اصطادها.
التفريع: إن قلنا: المحيي لا يملك بالاحياء، فإذا دخل في ملكه، أخرج
الخمس، وإلا فإذا احتوت يده على الكنز نفسه وقد مضى سنون، فلا بد من إخراج
الخمس الذي لزمه يوم ملكه. وفيما مضى من السنين، يبنى وجوب ربع العشر في
الأخماس الأربعة على الخلاف في الضال والمغصوب، وفي الخمس كذلك إن
قلنا: تتعلق الزكاة بالعين، وإلا فعلى ما ذكرنا إذا لم يملك إلا نصابا وتكرر الحول
عليه.
أما إذا كان الموضع الذي وجد فيه الكنز للواجد، فإن كان أحياه، فما وجده
ركاز، وعليه خمسه في وقت دخوله في ملكه كما سبق. وقال الغزالي: فيه
وجهان، بناء على ما قاله الامام، وإن كان انتقل إليه من غيره، لم يحل له أخذه،
بل عليه عرضه على من ملكه عنه. وهكذا حتى ينتهي إلى المحيي كما سبق. وإن
كان الموضع موقوفا، فالكنز لمن في يده الأرض، كذا قاله في التهذيب. هذا
كله إذا وجد في دار الاسلام، فلو وجد في دار الحرب في موات، نظر، إن كانوا لا
يذبون عنه، فهو كموات دار الاسلام، وإن كانوا يذبون عنه ذبهم عن العمران،
فالصحيح الذي قطع به الأكثرون: أنه كمواتهم الذي لا يذبون عنه. وقال الشيخ أبو
علي: هو كعمرانهم. وإن وجد في موضع مملوك لهم، نظر، إن أخذ بقهر وقتال،
فهو غنيمة، كأخذ أموالهم ونقودهم من بيوتهم، فيكون خمسه لأهل الخمس،
وأربعة أخماسه لمن وجده. وإن أخذ بغير قتال ولا قهر، فهو فيئ، ومستحقه أهل
150

الفيئ. كذا قاله في النهاية وهو محمول على ما إذا دخل دار الحرب بغير
أمان، لأنه إذا دخل بأمان لا يجوز له أخذ كنزهم لا بقتال ولا بغيره. كما ليس له أن
يخونهم في أمتعة بيوتهم، وعليه الرد إن أخذ. وقد نص على هذا، الشيخ أبو
علي. ثم في كونه فيئا إشكال، لان من دخل بغير أمان، وأخذ مالهم بلا قتال، إما
أن يأخذه خفية، فيكون سارقا، وإما جهارا، فيكون مختلسا، وهما خاص ملك
السارق والمختلس. ويتأيد هذا الاشكال بأن كثيرا من الأئمة أطلقوا القول بأنه
غنيمة، منهم ابن الصباغ، والصيدلاني.
فرع إذا تنازع بائع الدار ومشتريها في ركاز وجد فيها، فقال المشتري:
لي وأنا دفنته، وقال البائع مثل ذلك، أو قال: ملكته بالاحياء، أو تنازع المعير
والمستعير، أو المكري والمستأجر هكذا، فالقول قول المشتري والمستعير
والمستأجر مع أيمانهم، لان, اليد لهم، وهو كالنزاع في متاع الدار. وهذا إذا
احتمل صدق صاحب اليد، ولو على بعد. فأما إذا لم يحتمل لكون مثله لا يمكن
دفنه في مدة جديدة، فلا يصدق صاحب اليد. ولو وقع النزاع بين المكري
والمستأجر، أو المعير والمستعير بعد رجوع الدار، إلى يد المالك، فان قال
المكري أو المعير: أنا دفنته بعد عود الدار إلي، فالقول قوله بشرط الامكان. وإن
قال: دفنته قبل خروج الدار من يدي، فوجهان. أحدهما: القول قوله أيضا،
وأصحهما: القول قول المستأجر والمستعير، لان المالك سلم له حصول الكنز في
يده، فيده تنسخ اليد السابقة. ولهذا لو تنازعا قبل الرجوع، كان القول قوله.
فرع إذا اعتبرنا النصاب في الزكاة، لم يشترط كون الموجود نصابا، بل
151

يكمله بما يملكه من جنس النقد الموجود. وفيه من التفصيل والخلاف ما سبق في
المعدن، وإذا كملنا، ففي الركاز الخمس.
فرع حكم الذمي في الركاز، حكمه في المعدن، فلا يمكن من أخذه في
دار الاسلام، فإن وجده وأخذه، ملكه على المذهب المعروف. قال الحمام: وفيه
احتمال عندي، لأنه كالحاصل في قبضة المسلمين، فهو كما لهم الضال. وإذا قلنا
بالمذهب فأخذه، ففي أخذ حق الزكاة منه، الخلاف السابق في المعدن.
قلت: إذا وجد معدنا، أو ركازا، وعليه دين، ففي منع الدين زكاتهما
القولان المتقدمان في سائر الزكوات. وإذا أوجبنا زكاة الركاز في عين الذهب
والفضة، أخذ خمس الموجود لا قيمته، ولو وجد في ملكه ركاز فلم يدعه، وادعاه
اثنان، فصدق أحدهما، سلم إليه. وإذا وجد من الركاز دون النصاب، وله دين
تجب فيه الزكاة، فبلغ به نصابا، وجب خمس الركاز في الحال، وإن كان ماله
غائبا، أو مدفونا، أو غنيمة، والركاز ناقص، لم يخمس، حتى يعلم سلامة ماله،
فحينئذ يخمس الركاز الناقص عن النصاب، سواء بقي المال، أو تلف إذا علم
وجوده يوم حصل الركاز. والله أعلم.
باب زكاة الفطر
هي واجبة، وقال ابن اللبان من أصحابنا: غير واجبة.
152

قلت: قول ابن اللبان شاذ منكر، بل غلط صريح. والله أعلم.
وفي وقت وجوبها أقوال. أظهرها وهو الجديد: تجب بغروب الشمس ليلة العيد، والثاني: وهو القديم: تجب بطلوع الفجر يوم
العيد، والثالث: تجب
بالوقتين معا، خرجه صاحب التلخيص واستنكره الأصحاب، فلو ملك عبدا،
أو أسلم عبده الكافر، أو نكح امرأة، أو ولد له ولد ليلة العيد، لم تجب فطرتهم
على الجديد، وعلى المخرج، وتجب على القديم. ولو مات ولده أو عبده، أو
زوجته، أو طلقها بائنا ليلة العيد، أو ارتد العبد، أو الزوجة، لم تجب على القديم
والمخرج، وتجب على الجديد، وكذا الحكم لو أسلم الكافر قبل الغروب،
ومات بعده. ولو حصل الولد أو الزوجة، أو العبد بعد الغروب، وماتوا قبل الفجر،
فلا فطرة على الأقوال كلها. ولو زال الملك في العبد بعد الغروب وعاد قبل الفجر،
وجبت على الجديد والقديم. وأما على المخرج، فوجهان كالوجهين في أن الواهب
هل يرجع في ما زال ملك المتهب عنه ثم عاد إليه؟ ولو باع العبد بعد الغروب واستمر
ملك المشتري، فعلى الجديد: الفطرة على البائع، وعلى القديم: على
المشتري، وعلى المخرج، لا تجب على واحد منهما، ولو مات مالك العبد ليلة
العيد، فعلى الجديد: الفطرة في تركته، وعلى القديم: تجب على الوارث،
153

وعلى المخرج: لا فطرة أصلا، وفيه وجه: أنها تجب على الوارث على هذا القول
بناء على القديم أن الوارث يبنى على حول الموروث.
فصل الفطرة يجوز تعجيلها من أول شهر رمضان على المذهب. وتقدم
بيانه في باب التعجيل، فإذا لم يعجل، فيستحب أن لا يؤخر إخراجها عن صلاة
العيد، ويحرم تأخيرها عن يوم العيد، فإن أخر قضى.
فصل الفطرة قد يؤديها عن نفسه، وقد يؤديها عن غيره. وجهات التحمل
ثلاث: الملك، والنكاح، والقرابة. وكلها تقتضي وجوب الفطرة في الجملة،
فمن لزمه نفقة بسبب منها، لزمه فطرة المنفق عليه، ولكن يشترط في ذلك أمور،
ويستثنى عنه صور، منها: متفق عليه. ومنها: مختلف فيه، ستظهر بالتفريع
إن شاء الله تعالى
وقال ابن المنذر من أصحابنا: تجب فطرة الزوجة في مالها، لا على الزوج.
فمن المستثنى: أن الابن تلزمه نفقة زوجة أبيه، تفريعا على المذهب في وجوب
154

الاعفاف، وفي وجوب فطرتها عليه وجهان. أصحهما عند الغزالي في طائفة:
وجوبها. وأصحهما عند صاحبي التهذيب والعدة وغيرهما: لا تجب.
قلت: هذا الثاني هو الأصح، وجزم الرافعي في المحرر
بصحته. والله أعلم.
ويجري الوجهان في فطرة مستولدته. ثم من عدا الأصول والفروع من
الأقارب، كالأخوة والأعمام: لا تجب فطرتهم، كما لا تجب نفقتهم. وأما الأصول
والفروع، فإن كانوا موسرين، لم تجب نفقتهم، وإلا فكل من جمع منهم إلى
الاعسار الصغر، أو الجنون، أو الزمانة وجبت نفقته، ومن تجرد في حقه الاعسار،
ففي نفقته قولان. ومنهم من قطع بالوجوب في الأصول. وحكم الفطرة حكم النفقة
اتفاقا واختلافا. إذا ثبت هذا، فلو كان الابن الكبير في نفقة أبيه، فوجد قوته ليلة
العيد ويومه فقط، لم تجب فطرته على الأب لسقوط نفقته، ولا على الابن،
لإعساره. وإن كان الابن صغيرا، والمسألة بحالها، ففي سقوط الفطرة عن الأب
وجهان. أصحهما: السقوط كالكبير، والثاني: لا تسقط لتأكدها.
فرع الفطرة الواجبة على الغير، هل تلاقي المؤدى عنه، ثم يتحمل عن
المؤدي، أم تجب على المؤدي ابتداء؟ فيه خلاف. يقال: وجهان. ويقال:
قولان مخرجان. أصحهما: الأول. ثم الأكثرون طردوا الخلاف في كل مؤد عن
غيره من الزوج والسيد والقريب. قال الامام: وقال طوائف من المحققين: هذا
155

الخلاف في فطرة الزوجة فقط. أما فطرة المملوك والقريب، فتجب على المؤدي
ابتداء قطعا، لان المؤدى عنه، لا يصلح للايجاب لعجزه. ثم حيث فرض الخلاف
وقلنا بالتحمل، فهو كالضمان، أم كالحوالة؟ قولان حكاهما أبو العباس الروياني في
المسائل الجرجانيات فلو كان الزوج معسرا، والزوجة أمة، أو حرة موسرة،
فطريقان. أصحهما: فيهما قولان بناء على الأصل المذكور. إن قلنا: الوجوب
يلاقي المؤدى عنه أولا، وجبت الفطرة على الحرة وسيد الأمة، وإلا فلا تجب على
أحد، والطريق الثاني: تجب على سيد الأمة، ولا تجب على الحرة، وهو
المنصوص. والفرق، كمال تسليم الحرة نفسها، بخلاف الأمة.
قلت: الطريق الثاني: أصح. والله أعلم.
أما إذا نشزت، فتسقط فطرتها عن الزوج قطعا. قال الامام: والوجه عندي
القطع بإيجاب الفطرة عليها وإن قلنا: لا يلاقيها الوجوب، لأنها بالنشوز خرجت عن
إمكان التحمل. ولو كان زوج الأمة موسرا، ففطرتها كنفقتها، وبيانها في بابها. وأما
خادم الزوجة، فان كانت مستأجرة، لم تجب فطرتها، وإن كانت من إماء الزوج،
فعليه فطرتها، وإن كانت من إماء الزوجة، والزوج ينفق عليها، لزمها فطرتها، لأنه
يمونها، نص عليه الشافعي رحمه الله في المختصر وقال الامام: الأصح
عندي: أنها لا تلزمه.
فرع لو أخرجت الزوجة فطرة نفسها مع يسار الزوج بغير إذنه، ففي
إجزائها وجهان. إن قلنا: الزوج متحمل، أجزأ، وإلا، فلا، ويجري الوجهان
فيما لو تكلف من فطرته على قريبه، باستقراض أو غيره، وأخرج بغير إذنه.
والمنصوص في المختصر: الاجزاء. ولو أخرجت الزوجة أو القريب بإذن من
عليه، أجزأ بلا خلاف، بل لو قال الرجل لغيره: أد عني فطرتي، ففعل، أجزأه،
كما لو قال: اقض ديني.
156

فرع تجب فطرة الرجعية كنفقتها. وأما البائن: فإن كانت حائلا، فلا
فطرة، كما لا نفقة، وإن كانت حاملا، فطريقان. أحدهما: تجب كالنفقة،
وهذا هو الراجح عند الشيخ أبي علي، والامام، والغزالي، والثاني وبه قطع
الأكثرون: أن وجوب الفطرة مبني على الخلاف في أن النفقة للحامل، أم للحمل؟
إن قلنا بالأول، وجبت، وإلا، فلا، لان الجنين لا تجب فطرته. هذا إذا كانت
الزوجة حرة، فإن كانت أمة، ففطرتها بالاتفاق مبنية على ذلك الخلاف. فإن قلنا:
النفقة للحمل، فلا فطرة، كما لا نفقة، لأنه لو برز الحمل، لم تجب نفقته على
الزوج، لأنه ملك سيدها، وإن قلنا: للحامل، وجبت، وسواء رجحنا الطريق
الأول أو الثاني، فالمذهب: وجوب الفطرة، لان الأظهر: أن النفقة للحامل.
فرع لا تجب على المسلم فطرة عبده، ولا زوجته، ولا قريبه،
الكفار.
فرع تجب فطرة العبد المشترك، وفطرة من بعضه حر. فإن لم يكن
مهايأة، فالوجوب عليهما، وإن كانت مهايأة بين الشريكين، أو بين السيد ومن بعضه
حر، فهل تختص الفطرة بمن وقع زمن الوجوب في نوبته، أم توزع بينهما؟ يبنى
ذلك على أن الفطرة هل هي من المؤن النادرة، أم من المتكررة، وأن النادرة هل
تدخل في المهايأة، أم لا؟ وفي الامرين خلاف. فأما الأول، فالمذهب: أن
الفطرة من النادرة، وبه قطع الجمهور. وقيل: فيها وجهان. وأما الثاني: ففيه
وجهان مشهوران. أصحهما: دخول النادر.
فرع المدبر، وأم الولد، والمعلق عتقه على صفة، تجب فطرتهم على
السيد، وتجب فطرة المرهون، والجاني، والمستأجر. وقال إمام الحرمين والغزالي:
يحتمل أن يجري في المرهون الخلاف المذكور في زكاة المال المرهون، وهذا
157

الذي قالاه، لا نعرفه لغيرهما، بل قطع الأصحاب بالوجوب هنا وهناك. وأما العبد
المغصوب والضال، فالمذهب: وجوب فطرته. وقيل: قولان، كزكاة
المغصوب. وطرد ابن عبدان هذا الخلاف فيما إذا حيل بينه وبين زوجته وقت
الوجوب. وأما العبد الغائب، فان علم حياته وكان في طاعته، وجبت فطرته، وإن
كان آبقا، ففيه الطريقان، كالمغصوب. وإن كان لم يعلم حياته، وانقطع خبره مع
تواصل الرفاق، فطريقان. أحدهما: القطع بوجوبها، والثاني: على قولين.
والمذهب: على الجملة وجوبها. والمذهب: أن هذا العبد لا يجزئ عتقه عن
الكفارة. ثم إذا أوجبنا الفطرة في هذه الصور، فالمذهب: وجوب إخراجها في
الحال. ونص في الاملاء على قولين فيه.
فرع العبد ينفق على زوجته من كسبه، ولا يخرج الفطرة عنها حرة كانت
أو أمة، لأنه ليس أهلا لفطرة نفسه، فكيف يحمل عن غيره؟ بل تجب على الزوجة
فطرة نفسها إن كانت حرة، وعلى السيد إن كانت أمة على المذهب فيهما.
وقيل: فيهما القولان السابقان فيما إذا كان الزوج حرا معسرا. ولو ملك السيد عبده
شيئا، وقلنا: يملكه، لم يكن له إخراج فطرة زوجته استقلالا، لأنه ملك ضعيف،
فلو صرح في الاذن بالصرف إلى هذه الجهة (فوجهان) فإن قلنا: له ذلك،
فليس للسيد الرجوع عن الاذن بعد دخول الوقت، لان الاستحقاق إذا ثبت فلا مدفع له.
فرع إذا أوصى بمنفعة عبد لرجل، وبرقبته لآخر، ففطرته على الموصى
له بالرقبة قطعا. وهل تجب نفقته عليه، أم على الآخر، أو في بيت المال؟
(فيه) ثلاثة أوجه.
قلت: الأصح: أنها على مالك الرقبة، وأن الفطرة كالنفقة وهي معادة في
158

الوصية. والله أعلم.
وعبد بيت المال، والموقوف على مسجد، لا فطرة فيهما على الصحيح.
والموقوف على رجل بعينه، المذهب: أنه إن قلنا: الملك في رقبته للموقوف
عليه، فعليه فطرته. وإن قلنا: لله تعالى، فوجهان. وقيل: لا فطرة فيه قطعا، وبه قطع
في التهذيب.
قلت: الأصح: لا فطرة إذا قلنا: لله تعالى. والله أعلم.
فرع إذا مات المؤدى عنه بعد دخول الوقت وقبل إمكان الأداء، لم تسقط
الفطرة على الأصح. وبه قطع في الشامل.
فصل يشترط في مؤدي الفطرة، ثلاثة أمور.
الأول: الاسلام.
فلا فطرة على الكافر عن نفسه، ولا عن غيره، إلا إذا كان له عبد مسلم، أو
قريب مسلم، أو مستولدة مسلمة، ففي وجوب الفطرة عليه وجهان، بناء على أنها
تجب على المؤدي ابتداء، أو على المؤدى عنه، ثم يتحمل المؤدي؟.
قلت: أصحهما: الوجوب، وصححه الرافعي في المحرر وغيره. وهو
مقتضى البناء. والله أعلم.
فإن قلنا بالوجوب، فقال إمام الحرمين: لا صائر إلى أن المتحمل عنه ينوي.
ولو أسلمت ذمية تحت ذمي، ودخل وقت الفطرة في تخلف الزوج، ثم أسلم قبل
انقضاء العدة، ففي وجوب نفقتها مدة التخلف خلاف يأتي. في موضعه إن شاء الله
تعالى. فإن لم نوجبها، فلا فطرة. وإن أوجبناها، فالفطرة على هذا الخلاف في عبده
المسلم.
الأمر الثاني: الحرية.
159

فليس على الرقيق فطرة نفسه، ولا فطرة زوجته. ولو ملكه السيد عبدا،
وقلنا: يملكه، سقطت فطرته عن سيده، لزوال ملكه، ولا تجب على المتملك
لضعف ملكه. وفي المكاتب ثلاثة أقوال، أو أوجه. أصحها: لا فطرة عليه،
ولا على سيده عنه، والثاني: تجب على سيده، والثالث: تجب عليه في كسبه
كنفقته. والخلاف في أن المكاتب عليه فطرة نفسه يجري في أن عليه فطرة زوجته
وعبيده. والمدبر، والمستولدة، كالقن. ومن بعضه حر، سبق حكمه.
الأمر الثالث: اليسار.
فالمعسر لا فطرة عليه، وكل من لم يفضل عن قوته وقوت من في نفقته، ليلة
العيد ويومه، ما يخرجه في الفطرة، فهو معسر، ومن فضل عنه ما يخرجه في الفطرة
من أي جنس كان من المال، فهو موسر. ولم يذكر الشافعي وأكثر الأصحاب في
ضبط اليسار والاعسار، إلا هذا القدر. وزاد الامام: فاعتبر كون الصاع فاضلا عن
مسكنه وعبده الذي يحتاج إليه في خدمته. وقال: لا يحسب عليه في هذا الباب ما
لا يحسب في الكفارة. وإذا نظرت كتب الأصحاب لم تجد ما ذكره، وقد يغلب على
ظنك أنه لا خلاف في المسألة، وأن الذي ذكره، كالبيان والاستدراك لما أهمله
الأولون، وربما استشهدت بكونهم لم يذكروا دست ثوب يلبسه، ولا شك في
اعتباره، فإن الفطرة ليست بأشد من الدين، وهو مبقى عليه في الدين، لكن
الخلاف ثابت، فان الشيخ أبا علي حكى وجها، أن عبد الخدمة لا يباع في
الفطرة، كما لا يباع في الكفارة، ثم أنكر عليه وقال: لا يشترط في الفطرة كونه
فاضلا عن كفايته، بل المعتبر قوت يومه كالدين، بخلاف الكفارة، فإن لها بدلا،
160

وذكر في التهذيب ما يقتضي وجهين. والأصح عنده: موافقة الامام، واحتج له
بقول الشافعي رضي الله عنه: أن الابن الصغير إذا كان له عبد يحتاج إلى خدمته،
لزم الأب فطرته كفطرة الابن، فلولا أن العبد غير محسوب، لسقط بسببه فطرة الابن
أيضا. وإذا شرطنا كون المخرج فاضلا عن العبد والمسكن، إنما نشترطه في
الابتداء، فلو ثبتت الفطرة في ذمة انسان، بعنا خادمه ومسكنه فيها، لأنها بعد
الثبوت التحقت بالديون. واعلم أن الدين على الآدمي يمنع وجوب الفطرة
بالاتفاق، كما أن الحاجة إلى صرفه في نفقة القريب تمنعه. كذا قاله الامام. قال:
ولو ظن ظان أن لا يمنعه على قول كما لا يمنع وجوب الزكاة، كان مبعدا. هذا
لفظه، وفيه شئ نذكره في آخر الباب إن شاء الله تعالى. فعلى هذا، يشترط مع
كون المخرج، فاضلا عما سبق، كونه فاضلا عن قدر ما عليه من الدين. واعلم أن
اليسار إنما يعتبر وقت الوجوب، فلو كان معسرا عنده ثم أيسر، فلا شئ عليه.
فرع لو فضل معه عما لا يجب عليه بعض صاع، لزمه إخراجه على
الأصح، ولو فضل صاع وهو يحتاج إلى إخراج فطرة نفسه وزوجته وأقاربه، فأوجه.
أصحها: يلزمه تقديم فطرة نفسه، والثاني: يلزمه تقديم الزوجة، والثالث:
يتخير، إن شاء أخرجه عن نفسه، وإن شاء عن غيره. فعلى هذا، لو أراد توزيعه
عليهم، لم يجز على الأصح. والوجهان على قولنا: من وجد بعض صاع فقط،
لزمه إخراجه، فإن لم يلزمه، لم يجز التوزيع بلا خلاف. ولو فضل صاع وله عبد،
صرفه عن نفسه، وهل يلزمه أن يبيع في فطرة العبد جزءا منه؟ فيه أوجه. أصحها:
إن كان يحتاج إلى خدمته، لم يلزمه، وإلا لزم والثاني: يلزمه مطلقا. والثالث:
لا يلزمه مطلقا. ولو فضل صاعان وفي نفقته جماعة، فالأصح: أنه يقدم نفسه
بصاع، وقيل: يتخير.
وأما الصاع الآخر، فإن كان من في نفقته أقارب، قدم منهم من يقدم نفقته،
161

ومراتبهم وفاقا وخلافا، وموضعها كتاب النفقات، فإن استووا فيتخير، أو يسقط
وجهان. ولم يتعرضوا للاقراع، وله مجال في نظائره.
قلت: الأصح: التخيير. والله أعلم.
ولو اجتمع مع الأقارب زوجة، فأوجه. أصحها: تقدم الزوجة. والثاني،
القريب. والثالث: يتخير، فعلى الأصح، لو فضل صاع ثالث، فاخراجه عن
أقاربه على ما سبق فيما إذا تمحضوا.
والمذهب من الخلاف الذي ذكرناه، والذي أخرناه، إلى كتاب النفقات:
أنه يقدم نفسه، ثم زوجته، ثم ولده الصغير، ثم الأب، ثم الام، ثم الولد الكبير.
فصل الواجب في الفطرة صاع من أي جنس أخرجه، وهو خمسة
أرطال وثلث بالبغدادي، وهي ستمائة درهم وثلاثة وتسعون درهما وثلث درهم.
قلت: هذا الذي قاله على مذهب من يقول: رطل بغداد مائة وثلاثون
درهما، ومنهم من يقول: مائة وثمانية وعشرون درهما، ومنهم من يقول: مائة
وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم، وهو الأرجح، وبه الفتوى. فعلى
هذا الصاع: ستمائة درهم وخمسة وثمانون وخمسة أسباع درهم، والله أعلم.
قال ابن الصباغ وغيره: الأصل فيه الكيل، وإنما قدره العلماء بالوزن
استظهارا.
قلت: قد يستشكل ضبط الصاع بالأرطال، فإن الصاع المخرج به في زمن
162

النبي (ص)، مكيال معروف، ويختلف قدره وزنا باختلاف جنس ما يخرج، كالذرة
والحمص وغيرهما، وفيه كلام طويل، فمن أراد تحقيقه راجعه في شرح
المهذب ومختصره: أن الصواب ما قاله الإمام أبو الفرج الدارمي من أصحابنا، أن
الاعتماد في ذلك على الكيل، دون الوزن، وأن الواجب أن يخرج بصاع معاير
بالصاع الذي كان يخرج به في عصر رسول الله (ص)، وذلك الصاع موجود، ومن لم
يجده، وجب عليه إخراج قدر يتيقن أنه لا ينقص عنه. وعلى هذا، فالتقدير بخمسة
أرطال وثلث تقريبا. وقال جماعة من العلماء: الصاع: أربع حفنات بكفي رجل
معتدل الكفين. والله أعلم.
فرع كل ما يجب فيه العشر، فهو صالح لاخراج الفطرة. وحكي قول
قديم: أنه لا يجزئ فيها الحمص، والعدس. والمذهب المشهور: هو الأول.
وفى الأقط، طريقان. أحدهما: القطع بجوازه، والثاني: على قولين.
أظهرهما: جوازه.
قلت: ينبغي أن يقطع بجوازه لصحة الحديث فيه من غير معارض.
163

والله أعلم.
فإن جوزناه، فالأصح: أن اللبن والجبن في معناه، والثاني: لا يجزئان.
والوجهان في إخراج من قوته الأقط، واللبن، والجبن. واتفقوا على أن إخراج
المخيض والمصل والسمن، لا يجزئ، وكذلك الجبن المنزوع الزبد.
فرع لا يجزئ المسوس والمعيب. وإذا جوزنا الأقط، لم يجز إخراج
المملح الذي أفسد كثرة الملح جوهره. فإن كان الملح ظاهرا عليه، فالملح غير
محسوب، والشرط أن يخرج قدرا يكون محض الأقط منه صاعا. ويجزئ الحب
القديم وإن قلت قيمته إذا لم يتغير طعمه ولونه. ولا يجزئ الدقيق ولا
السويق، ولا الخبز، كما لا تجزئ القيمة. وقال الأنماطي: يجزئ الدقيق. قال
ابن عبدان: مقتضى قوله، إجزاء السويق والخبز، قال: وهذا هو الصحيح، لان
المقصود إشباع المساكين في هذا اليوم. والمعروف في المذهب: ما قدمناه.
وأما الأقوات النادرة التي لا زكاة فيها، كالفث والحنظل، فلا تجزئ قطعا،
نص عليه، وكذا لو اقتاتوا ثمرة لا عشر فيها.
فرع في الواجب من الأجناس المجزئة، ثلاثة أوجه. أصحها عند
164

الجمهور: غالب قوت البلد، والثاني: قوت نفسه، وصححه ابن عبدان،
والثالث: يتخير في الأجناس، وهو الأصح عند القاضي أبي الطيب. ثم إذا
أوجبنا قوت نفسه أو البلد، فعدل إلى ما دونه، لم يجز، وإن عدل إلى أعلى
منه، جاز بالاتفاق. وفيما يعتد به الاعلى والأدنى، وجهان. أصحهما: الاعتبار
بزيادة صلاحية الاقتيات، والثاني: بالقيمة. فعلى هذا يختلف باختلاف الأوقات
والبلاد، إلا أن تعتبر زيادة القيمة في الأكثر. وعلى الأول، البرر خير من التمر
والأرز، ورجح في التهذيب الشعير على التمر، وعكسه الشيخ أبو محمد وله في
الزبيب والشعير، وفي التمر والزبيب، تردد. قال الامام: والأشبه تقديم التمر على
الزبيب. وإذا قلنا: المعتبر قوت نفسه، وكان يليق به البر وهو يقتات الشعير بخلا،
لزمه البر، ولو كان يليق به الشعير، فكان يتنعم ويقتات البر، فالأصح: أنه يجزئه
الشعير، والثاني: يتعين البر.
فرع قد يخرج الواحد الفطرة عن شخصين من جنسين، ويجزئه أن يخرج
عن أحد عبديه، أو قريبيه من قوت البلد إن اعتبرناه، أو قوته إن اعتبرناه، وعن
الآخر جنس أعلى منه. وكذا لو ملك نصفين من عبدين، فأخرج نصف صاع من المعتبر
عن نصف أحدهما، ونصفا عن الآخر من أعلى منه.
165

وإذا خيرنا بين الأجناس، فله إخراجهما من جنسين بكل حال، ولا يجوز عن
شخص واحد فطرة من جنسين وإن كان أحدهما أعلى من الواجب. هذا هو
المعروف، ورأيت لبعض المتأخرين تجويزه. ولو ملك رجلان عبدا، فإن خيرنا بين
الأجناس، أخرجا ما شاءا بشرط اتحاد الجنس، وإن أوجبنا غالب قوت البلد، وكانا
هما والعبد في بلد، أخرجا عنه من قوت البلد، فإن كان العبد في بلد آخر، بني
على أن الفطرة تجب على المالك ابتداء، أم يتحمل؟ فإن كان السيدان في بلدين
مختلفي القوت، واعتبرنا قوت الشخص بنفسه، واختلف قوتهما، فأوجه.
أصحها: يخرج كل واحد نصف صاع من قوت بلده أو نفسه، لأنهما إذا أخرجا
هكذا، فقد أخرج كل شخص (كل) واجبه من جنس، كثلاثة محرمين قتلوا ظبية،
فذبح أحدهم ثلث شاة، وأطعم آخر بقيمة ثلث شاة، وصام الثالث عدل ذلك،
أجزأهم، والثاني: يخرجان من أدنى القوتين، والثالث: من أعلاهما، والرابع:
من قوت بلد العبد. ولو كان الأب في نفقة ولدين، فالقول في إخراجهما الفطرة عنه
كالسيدين، وكذا من نصفه حر، ونصفه مملوك، إذا أوجبنا نصف الفطرة كما سبق،
فالأصح: يخرجان من جنسين، والثاني: من جنس.
فرع إذا أوجبنا غالب قوت البلد وكانوا يقتاتون أجناسا لا غالب فيها،
أخرج ما شاء، والأفضل أن يخرج من الأعلى.
واعلم أن الغزالي قال في الوسيط: المعتبر غالب قوت البلد وقت وجوب
الفطرة، لا في جميع السنة. وقال في الوجيز: غالب قوت البلد يوم الفطر،
وهذا التقييد لم أظفر به في كلام غيره.
فصل في مسائل مهمة منها: باع عبدا بشرط الخيار، فوقع وقت الوجوب
في زمن الخيار،
166

إن قلنا: الملك في زمن الخيار للبائع، فعليه فطرته وإن أمضي البيع، وإن
قلنا: للمشتري، فعليه فطرته وإن فسخ، وإن توقفنا، فإن تم البيع، فعلى
المشتري، وإلا، فعلى البائع، وإن صادف وقت الوجوب خيار المجلس، فهو
كخيار الشرط.
ومنها: لو مات عن رقيق، ثم أهل شوال، فإن لم يكن عليه دين، أخرج
ورثته الفطرة عن الرقيق كل بقدر حصته. فإن كان عليه دين يستغرق التركة، بني
ذلك على أن الدين هل يمنع انتقال الملك في التركة إلى الوارث؟ والصحيح
المنصوص: أنه لا يمنع. وقال الإصطخري: يمنع. فإن قلنا بالصحيح، فعليهم
فطرته، سواء بيع في الدين، أو لم يبع. وفي كلام الامام: أنه يجئ فيه خلاف
المرهون والمغصوب. وإذا قلنا بقول الإصطخري، فإن بيع في الدين، فلا شئ
عليهم، وإلا، فعليهم الفطرة. وفي الشامل وجه: أنه لا تجب عليهم
مطلقا. وعن القاضي أبي الطيب: أن فطرته تجب في تركة السيد على أحد
القولين، كالموصى بخدمته. هذا إذا مات السيد قبل هلال شوال، فلو مات بعده،
ففطرة العبد على السيد كفطرة نفسه، وتقدم على الميراث والوصايا. وفي تقديمها
على الدين طرق. أصحها: أنه على الأقوال الثلاثة التي قدمناها في زكاة المال،
والثاني: القطع بتقديم فطرة العبد لتعلقها به، كأرش جنايته. وفي فطرة نفسه،
الأقوال. والثالث: القطع بتقديم فطرة نفسه أيضا لقلتها في الغالب، وسواء أثبتنا
الخلاف، أم لا، فالمنصوص في المختصر: تقديم الفطرة على الدين، لأنه
قال: ولو مات بعد ما أهل شوال وله رقيق، فالفطرة عنه وعنهم في ماله مقدمة على
167

الديون. ولك أن تحتج بهذا النص على خلاف ما قدمناه، وعن إمام الحرمين، لان
سياقه يفهم منه أن المراد ما إذا طرأت الفطرة على الدين الواجب، وإذا كان كذلك،
لم يكن الدين مانعا. وبتقدير أن لا يكون كذلك، فاللفظ مطلق يشمل ما إذا طرأت
الفطرة على الدين، والعكس، فاقتضى ذلك أن لا يكون الدين مانعا.
ومنها: أوصى لانسان بعبد، ومات الموصي بعد وقت الوجوب، فالفطرة في
تركته. فإن مات قبله وقبل الموصى له الوصية قبل الهلاك، فالفطرة عليه، وإن لم
يقبل حتى دخل وقت الوجوب، فعلى من تجب الفطرة؟ يبنى على أن الموصى له
متى يملك الوصية؟ إن قلنا: يملكها بموت الموصي، فقبل، فعليه الفطرة، وإن
رد، فوجهان. أصحهما: الوجوب، لأنه كان مالكا،
والثاني: لا، لعدم استقرار الملك. وإن قلنا: يملكها بالقبول، بني على أن
الملك قبل القبول لمن؟ فيه وجهان. أصحهما: للورثة. فعلى هذا في الفطرة
وجهان. أصحهما: عليهم، والثاني: لا، والثاني من الأولين، أنه باق على ملك
الميت. فعلى هذا، لا تجب فطرته على أحد على المذهب، وحكى في
التهذيب وجها: أنها تجب في تركته. وإن قلنا بالتوقف، فإن قبل، فعليه
الفطرة، وإلا، فعلى الورثة. هذا كله إذا قبل الموصى له، فلو مات قبل القبول،
وبعد وقت الوجوب، فقبول وارثه قائم مقام قبوله، والملك يقع له. فحيث أوجبنا
عليه الفطرة إذا قبلها بنفسه، فهي من تركته إذا قبل وارثه. فإن لم يكن له تركة سوى
العبد، ففي بيع جزء منه للفطرة ما سبق. ولو مات قبل وقت الوجوب أو معه،
فالفطرة على الورثة إذا قبلوا، لان وقت الوجوب كان في ملكهم.
قلت: قال الجرجاني في المعاياة: ليس عبد مسلم لا يجب إخراج
الفطرة، إلا ثلاثة. أحدهم: المكاتب، والثاني: إذا ملك عبده عبدا، وقلنا:
يملك، لا فطرة على المولى الأصلي، لزوال ملكه، ولا على العبد المملك، لضعف
168

ملكه والثالث: عبد مسلم لكافر إذا قلنا: تجب على المؤدي ابتداء.
ويجئ رابع على (قول) الإصطخري وغيره، فيما إذا مات قبيل هلال شوال وعليه
دين، وله عبد، كما سبق. ولو أخرج الأب من ماله فطرة ولدك الصغير الغني، جاز
كالأجنبي إذا أذن، بخلاف الابن الكبير، ولو كان نصفه مكاتبا حيث يتصور ذلك
في العبد المشترك، إذا جوزنا كتابة بعضه بإذن الشريك، وجب نصف صاع على
مالك لنصفه القن، ولا شئ في النصف المكاتب، ومثله عبد مشترك بين معسر
وموسر، يجب على الموسر نصف صاع، ولا يجب غيره.
باب قسم الصدقات
اعلم أن الامام الرافعي رحمه الله آخر هذا الباب إلى آخر ربع المعاملات
فعطفه على قسم الفيئ والغنيمة، وهناك ذكره المزني رحمه الله والأكثرون. وذكره
169

ها هنا الإمام الشافعي رضي الله عنه في الام وتابعه عليه جماعات، فرأيت هذا
أنسب وأحسن فقدمته. والله أعلم.
أصناف الزكاة ثمانية.
الأول: الفقير، وهو الذي لا مال له ولا كسب، يقع موقعا من حاجته،
فالذي لا يقع موقعا، كمن يحتاج عشرة ولا يملك إلا درهمين أو ثلاثة، فلا يسلبه
ذلك اسم الفقير. وكذا الدار التي يسكنها، والثوب الذي يلبسه متجملا به، ذكره
صاحب التهذيب وغيره. ولم يتعرضوا لعبده الذي يحتاج إلى خدمته، وهو في
سائر الأمور ملحق بالمسكن.
قلت: قد صرح ابن كج في كتابه التجريد: بأنه كالمسكن وهو متعين.
والله أعلم.
ولو كان عليه دين، فيمكن أن يقال: القدر الذي يؤدى به الدين لا عبرة به في
منع الاستحقاق، كما لا عبرة له في وجوب نفقة القريب، وكذا في الفطرة كما
سبق. وفي فتاوى صاحب التهذيب: أنه لا يعطى سهم الفقراء حتى يصرف ما
عنده إلى الدين. قال: ويجوز أخذ الزكاة - لمن ماله على مسافة القصر - إلى أن
170

يصل إلى ماله. ولو كان له دين مؤجل، فله أخذ كفايته إلى حلول الأجل. وقد
يتردد الناظر في اشتراط مسافة القصر.
فرع المعتبر في عجزه عن الكسب، عجزه عن كسب يقع موقعا من
حاجته، لا عن أصل الكسب. والمعتبر كسب يليق بحاله ومروءته. ولو قدر على
الكسب، إلا أنه مشتغل ببعض العلوم الشرعية، ولو أقبل على الكسب، لانقطع
عن التحصيل، حلت له الزكاة. أما المعطل المعتكف في المدرسة، ومن لا يتأتى
منه التحصيل، فلا تحل لهما الزكاة مع القدرة على الكسب.
قلت: هذا الذي ذكره في المشتغل بالعلم، هو المعروف في كتب أصحابنا. وذكر الدارمي فيه ثلاثة أوجه. أحدها: يستحق، والثاني: لا، والثالث: إن كان نجيبا يرجى تفقهه ونفع الناس به، استحق، وإلا، فلا. والله أعلم.
ومن أقبل على نوافل العبادات، والكسب يمنعه منها، أو استغراق الوقت
بها، لا تحل له الصدقة، وإذا لم يجد الكسوب من يستعمله، حلت الزكاة له.
فرع لا يشترط في الفقر الزمانة والتعفف عن السؤال على المذهب، وبه
قطع المعتبرون. وقيل: قولان. الجديد: كذلك، والقديم: يشترط.
فرع المكفي بنفقة أبيه أو غيره، ممن تلزمه نفقته، والفقيرة التي ينفق
عليها زوج غني، هل يعطيان من سهم الفقراء؟ يبنى على مسألة، وهي لو وقف
على فقراء أقاربه، أو أوصى لهم، وكانا في أقاربه، هل يستحقان سهما من الوقف
والوصية؟ فيه أربعة أوجه. أصحها: لا، قاله أبو زيد والخضري، وصححه الشيخ
أبو علي وغيره، والثاني: نعم، قاله ابن الحداد، والثالث: يستحق القريب دون
الزوجة، لأنها تستحق عوضها، وتستقر في ذمة الزوج، قاله الأودني، والرابع:
171

عكسه، والفرق أن القريب تلزم كفايته من كل وجه، حتى الدواء وأجرة الطبيب،
فاندفعت حاجاته، والزوجة ليس لها إلا مقدر، وربما لا يكفيها. وأما مسألة الزكاة،
فإن قلنا: لا حق لهما في الوقف والوصية، فالزكاة أولى، وإلا فيعطيان على
الأصح. وقيل: لا يعطيان، وبه قال ابن الحداد. والفرق أن الاستحقاق في
الوقف، باسم الفقر، ولا يزول اسم الفقر بقيام غيره بأمره. وفي الزكاة الحاجة،
ولا حاجة مع توجه النفقة، فأشبه من يكسب كل يوم كفايته، حيث لا يجوز له الاخذ
من الزكاة، وإن كان معدودا في الفقراء. والخلاف في مسألة القريب إذا أعطاه غير
من تلزمه نفقته من سهم الفقراء أو المساكين، ويجوز أن يعطيه من غيرهما بلا
خلاف. وأما المنفق عليه، فلا يجوز أن يعطيه من سهم الفقراء والمساكين، لغناه
بنفقته، ولأنه يدفع عن نفسه النفقة، وله أن يعطيه من سهم العامل، والغارم،
والغازي، والمكاتب، إذا كان بتلك الصفة، وكذا من سهم المؤلفة، إلا أن
يكون فقيرا، فلا يعطيه، لأنه يسقط النفقة عن نفسه. ويجوز أن يعطيه من سهم ابن
السبيل مؤنة السفر دون ما يحتاج إليه سفرا وحضرا، فإن هذا القدر هو المستحق
عليه. وأما في مسألة الزوجة، فالوجهان يجريان في الزوج كغيره، لأنه
بالصرف إليها لا يدفع عن نفسه النفقة، بل نفقتها عوض لازم، غنية كانت أم فقيرة،
فصار كمن استأجر فقيرا، فله دفع الزكاة إليه مع الأجرة. فإن منعنا، فلو كانت
ناشزة، ففي التهذيب. أنه يجوز إعطاؤها، لأنه لا نفقة لها. والصحيح الذي
قطع به الشيخ أبو حامد والأكثرون: المنع، لأنها قادرة على النفقة بترك النشوز،
فأشبهت القادر على الكسب. وللزوج أن يعطيها من سهم المكاتب والغارم قطعا،
ومن سهم المؤلفة على الأصح، وبه قطع في التتمة. وقال الشيخ أبو حامد: لا
تكون المرأة من المؤلفة، وهو ضعيف، ولا تكون المرأة عاملة ولا غازية. وأما سهم
172

ابن السبيل، فإن سافرت مع الزوج، لم تعط منه، سواء سافرت بإذنه أو بغير إذنه،
لان نفقتها عليه في الحالين، لأنها في قبضته، ولا تعطى مؤنة السفر إن سافرت معه
بغير إذنه، لأنها عاصية.
قلت: قال أصحابنا: مؤنة سفرها معه إن كان بإذنه، فهي عليه، فلا
تعطى، وإن كان بغير إذنه، فلا تعطى الحمولة على الأصح، لأنها عاصية. وقال
الشيخ أبو حامد: تعطى. والله أعلم.
وإن سافرت وحدها، فإن كان بإذنه، وأوجبنا نفقتها، أعطيت مؤنة السفر فقط
من سهم ابن السبيل، وإن لم نوجبها، أعطيت جميع كفايتها، وإن خرجت بغير
إذنه، لم تعط منه، لأنها عاصية. ويجوز أن تعطى هذه من سهم الفقراء والمساكين،
بخلاف الناشزة، لأنها تقدر على العود إلى طاعته، والمسافرة لا تقدر. فإن تركت
سفرها وعزمت على العود إليه، أعطيت من سهم ابن السبيل.
الصنف الثاني: المسكين،
وهو الذي يملك ما يقع موقعا من كفايته ولا يكفيه، بأن احتاج إلى عشرة وعنده
سبعة أو ثمانية. وفي معناه، من يقدر على كسب ما يقع موقعا، ولا يكفي،
وسواء كان ما يملكه من المال نصابا أو أقل، أو أكثر، ولا يعتبر في المسكين
السؤال، قطع به أكثر الأصحاب، ومنهم من نقل عن القديم اعتباره. وإذا عرفت
الفقير والمسكين، عرفت أن الفقير أشد حالا من المسكين. هذا هو الصحيح،
وعكسه أبو إسحاق المروزي.
173

فرع المعتبر من قولنا، يقع موقعا من كفايته وحاجته، المطعم،
والمشرب، والملبس، والمسكن، وسائر ما لا بد منه على ما يليق بالحال، من غير
إسراف ولا تقتير للشخص، ولمن هو في نفقته.
فرع سئل الغزالي رحمه الله عن القوي من دهل البيوتات، الذين لم
تجر عادتهم بالتكسب بالبدن، هل له أخذ الزكاة؟ قال: نعم، وهذا جار على ما
سبق، أن المعتبر حرفة تليق به.
قلت: بقيت مسائل تتعلق بالفقير والمسكين.
إحداها: قال الغزالي في الاحياء: لو كان له كتب فقه، لم تخرجه عن
المسكنة، ولا تلزمه زكاة الفطر. وحكم كتبه حكم أثاث البيت، لأنه محتاج إليها،
لكن ينبغي أن يحتاط في مهم الحاجة إلى الكتاب. فالكتاب يحتاج إليه لثلاثة
أغراض، من التعليم، والتفرج بالمطالعة، والاستفادة. فالتفرج لا يعد حاجة،
كاقتناء كتب الشعر والتواريخ ونحوها مما لا ينفع في الآخرة، ولا في الدنيا، فهذا
يباع في الكفارة وزكاة الفطر، ويمنع اسم المسكنة. وأما حاجة التعليم، فإن كان
للتكسب، كالمؤدب، والمدرس بأجرة، فهذه آلته، فلا تباع في الفطرة كآلة
الخياط، وإن كان يدرس للقيام بفرض الكفاية، لم يبع، ولا تسلبه اسم المسكنة،
لأنها حاجة مهمة. وأما حاجة الاستفادة والتعليم من الكتاب، كادخاره كتاب طب
ليعالج به نفسه، أو كتاب وعظ ليطالعه ويتعظ به، فإن كان في البلد طبيب وواعظ،
فهو مستغن عن الكتاب. وإن لم يكن، فهو محتاج. ثم ربما لا يحتاج إلى مطالعته إلا بعد
مدة، فينبغي أن تضبط فيقال: ما لا يحتاج إليه في السنة، فهو مستغن عنه. فتقدر
حاجة أثاث البيت وثياب البدن بالسنة، فلا تباع ثياب الشتاء في الصيف، ولا ثياب
الصيف في الشتاء، والكتب بالثياب أشبه. وقد يكون له من كتاب نسختان، فلا
174

حاجة له إلى إحداهما فإن قال: إحداهما أصح، والأخرى أحسن، قلنا: اكتف
بالأصح، وبع الأحسن، وإن كان نسختان من علم واحد، إحداهما مبسوطة،
والأخرى وجيزة، فإن كان مقصوده الاستفادة، فليكتف بالبسيط، وإن كان
التدريس احتاج إليهما. هذا آخر كلام الغزالي، وهو حسن، إلا قوله في كتاب
الوعظ أنه يكتفي بالواعظ، فليس بمختار، لأنه ليس كل واحد ينتفع بالواعظ كانتفاعه
في خلوته وعلى حسب إرادته.
ولو كان له عقار ينقص دخله عن كفايته، فهو فقير أو مسكين، فيعطى من
الزكاة تمامها، ولا يكلف بيعه. ذكره الجرجاني في التحرير والشيخ نصر وآخرون. والله أعلم.
الصنف الثالث: العامل، يجب على الامام بعث السعاة لاخذ الصدقات،
ويدخل في اسم العامل، الساعي، فالكاتب، والقسام، والحاشر، وهو الذي
يجمع أرباب الأموال، والعريف، وهو كالنقيب للقبيلة، والحاسب وحافظ
المال، قال المسعودي: وكذا الجندي، فهؤلاء لهم سهم من الزكاة، ولا حق فيها
للامام، ولا لوالي الإقليم والقاضي، بل رزقهم إذا لم يتطوعوا، في خمس
الخمس المرصد للمصالح العامة، وإذا لم تقع الكفاية بعامل واحد من ساع وكاتب
وغيرهما، زيد قدر الحاجة. وفي أجرة الكيال، والوزان، وعاد الغنم وجهان.
أحدهما: من سهم العاملين، وأصحهما: أنها على المالك، لأنها لتوفية ما عليه،
فهي كأجرة الكيال في البيع، فإنها على البائع.
175

قلت: هذا الخلاف في الكيال ونحوه، ممن يميز نصيب الفقراء من نصيب
المالك. فأما الذي يميز بين الأصناف، فأجرته من سهم العاملين بلا خلاف. وأما
أجرة الراعي والحافظ بعد قبضها، فهل هي من سهم العاملين، أو في جملة
الصدقات؟ وجهان حكاهما في المستظهري. أصحهما: الثاني، وبه قطع
صاحب العدة. وأجرة الناقل والمخزن، في الجملة. وأما مؤنة إحضار
الماشية ليعدها الساعي، فعلى المالك. والله أعلم.
الصنف الرابع: المؤلفة، وهم ضربان، كفار ومسلمون، فالكفار قسمان،
قسم يميلون إلى الاسلام ويرغبون فيه بإعطاء مال، وقسم يخاف شرهم، فيتألفون
لدفع شرهم، فلا يعطى القسمان من الزكاة قطعا، ولا من غيرها على الأظهر.
وفي قول: يعطون من خمس الخمس. وأشار بعضهم إلى أنهم لا يعطون إلا
إن نزل بالمسلمين نازلة.
وأما مؤلفة المسلمين فأصناف، صنف دخلوا في الاسلام ونيتهم ضعيفة،
فيتألفون ليثبتوا، وآخرون لهم شرف في قومهم يطلب بتألفهم إسلام نظرائهم، وفي
هذين الصنفين ثلاثة أقوال. أحدها: لا يعطون، والثاني: يعطون من سهم
المصالح، والثالث: من الزكاة. وصنف يراد بتألفهم أن يجاهدوا من يليهم من
الكفار، أو من مانعي الزكاة، ويقبضوا زكاتهم، فهؤلاء لا يعطون قطعا، ومن أين
يعطون؟ فيه أقوال. أحدها: من خمس الخمس، والثاني: من سهم المؤلفة،
والثالث: من سهم الغزاة. والرابع: قال الشافعي رضي الله عنه: يعطون من سهم
المؤلفة، وسهم الغزاة، فقال طائفة من الأصحاب على هذا الرابع: يجمع بين
السهمين للشخص الواحد، وقال بعضهم: المراد إن كان التألف لقتال الكفار، فمن
سهم الغزاة، وإن كان لقتال مانعي الزكاة، فمن سهم المؤلفة، وقال آخرون:
معناه، يتخير الامام إن شاء من ذا السهم، وإن شاء من ذلك، وربما قيل: إن شاء
176

جمع السهمين، وحكي وجه: أن المتألف لقتال مانعي الزكاة وجمعها يعطى من
سهم العاملين.
وأما الأظهر من هذا الخلاف في الأصناف، لم يتعرض له الأكثرون، بل
أرسلوا الخلاف، وقال الشيخ أبو حامد في طائفة: الأظهر من القولين في الصنفين
الأولين أنهم لا يعطون،
وقياس هذا أن لا يعطى الصنفان الآخران من الزكاة، لان الأولين أحق باسم
المؤلفة من الآخرين، لان في الآخرين معنى الغزاة والعاملين، وعلى هذا فيسقط
سهم المؤلفة بالكلية، وقد صار إليه من المتأخرين، الروياني وجماعة، لكن
الموافق لظاهر الآية، ثم لسياق الشافعي رضي الله عنه والأصحاب، إثبات سهم
المؤلفة، وأن يستحقه الصنفان، وأنه يجوز صرفه إلى الآخرين أيضا، وبه أفتى
أقضى القضاة الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية.
الصنف الخامس: الرقاب، وهم المكاتبون، فيدفع إليهم ما يعينهم على
العتق، بشرط أن لا يكون معه ما يفي بنجومه، وليس له صرف زكاته إلى مكاتب
نفسه على الصحيح، لعود الفائدة إليه. وجوزه ابن خيران، ويشترط كون الكتابة
صحيحة، ويجوز الصرف قبل حلول النجم على الأصح، ويجوز الصرف إلى
المكاتب بغير إذن السيد، والأحوط الصرف إلى السيد بإذن المكاتب. ولا يجزئ
بغير إذن المكاتب، لأنه المستحق، لكن يسقط عن المكاتب بقدر المصروف، لان
177

من أدى دين غيره بغير إذنه، برئت ذمته.
قلت: هذا الذي ذكره من كون الدفع إلى السيد أحوط وأفضل، هو الذي
أطلقه جماهير الأصحاب. وقال الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي الزاهد من
أصحابنا: إن كان هذا الحاصل آخر النجوم، ويحصل العتق بالدفع إلى السيد بإذن
المكاتب، فهو أفضل، وإن حصل دون ما عليه، لم يستحب دفعه إلى السيد، لأنه
إذا دفعه إلى المكاتب، أتجر فيه ونماه، فهو أقرب إلى العتق. والله أعلم.
فرع إذا استغنى المكاتب عما أعطيناه، أو عتق بتبرع السيد باعتاقه، أو
بابرائه، أو بأداء غيره عنه، أو بأدائه هو من مال آخر، وبقي مال الزكاة في يده،
فوجهان. وقيل: قولان. أحدهما: لا يسترد منه، كالفقير يستغني، وأصحهما:
يسترد لعدم حصول المقصود بالمدفوع. ويجري الوجهان في الغارم إذا استغنى عن
المأخوذ بإبراء ونحوه، وإن كان قد تلف المال في يده بعد العتق، غرمه، وإن
أتلفه قبله، فلا، على الصحيح. وقال في الوسيط: وكذا لو تلفه. وإذا عجز
المكاتب، فإن كان المال في يده، استرد. وإن كان تالفا، لزمه غرمه على
الأصح. وهل يتعلق بذمته، أم برقبته؟ فيه وجهان.
قلت: أصحهما: بذمته. والله أعلم.
ولو دفعه إلى السيد وعجز عن بقية النجوم، ففي الاسترداد من السيد الخلاف
السابق في الاسترداد من المكاتب، فان تلف عنده، ففي الغرم الخلاف السابق
أيضا، ولو ملكه السيد شخصا، لم يسترد منه، بل يغرم السيد إن قلنا بتغريمه.
قلت: وإذا لم يعجز نفسه واستمر في الكتابة، فتلف ما أخذ، وقع الموقع.
والله أعلم.
فرع للمكاتب أن يتجر بما أخذه طلبا للزيادة، وحصول الأداء،
178

والغارم، كالمكاتب.
فرع نقل بعض الأصحاب للامام، أن للمكاتب أن ينفق ما أخذ ويؤدي
النجوم من كسبه. ويجب أن يكون الغارم كالمكاتب.
قلت: قد قطع صاحب الشامل بأن المكاتب يمنع من إنفاق ما أخذ.
ونقله أيضا صاحب البيان عنه. ولم يذكره غيره، وهذا أقيس من قول الإمام. والله
أعلم.
فرع قال البغوي في الفتاوى: لو اقترض ما أدى به النجوم فعتق، لم
يصرف إليه من سهم الرقاب، ولكن يصرف إليه من سهم الغارمين، كما لو قال لعبده:
أنت حر على ألف، فقبل، عتق، ويعطى الألف من سهم الغارمين.
الصنف السادس: الغارمون، والديون ثلاثة أضرب.
الأول: دين لزمه لمصلحة نفسه، فيعطى من الزكاة ما يقضي به بشروط.
أحدها: أن يكون به حاجة إلى قضائه منها، فلو وجد ما يقضيه من نقد أو
عرض، فقولان. القديم: يعطى للآية، وكالغارم لذات البين. والأظهر: المنع،
كالمكاتب وابن السبيل. فعلى هذا، لو وجد ما يقضي به بعض الدين، أعطي البقية
فقط، فلو لم يملك شيئا، ولكن يقدر على قضائه بالاكتساب، فوجهان. أحدهما:
لا يعطى كالفقير، وأصحهما: يعطى، لأنه لا يقدر على قضائه إلا بعد زمن.
والفقير يحصل حاجته في الحال، ويجري الوجهان في المكاتب إذا لم يملك شيئا،
لكنه كسوب. وأما معنى الحاجة المذكورة، فعبارة الأكثرين، تقتضي كونه فقيرا لا
يملك شيئا، وربما صرحوا به. وفي بعض شروح المفتاح، أنه لا يعتبر المسكن،
والملبس، والفراش، والآنية. وكذا الخادم، والمركوب إن اقتضاهما حاله، بل
179

يقضى دينه وإن ملكها. وقال بعض المتأخرين: لا يعتبر الفقر والمسكنة هنا، بل لو
ملك قدر كفايته، وكان لو قضى دينه لنقص ماله عن كفايته، ترك معه ما يكفيه،
وأعطي ما يقضي به الباقي، وهذا أقرب.
الشرط الثاني: أن يكون دينه لنفقة في طاعة أو مباح، فإن كان في معصية،
كالخمر، والاسراف في النفقة، لم يعط قبل التوبة على الصحيح، فإن تاب،
ففي إعطائه وجهان. أصحهما في الشامل والتهذيب: لا يعطى، وبه قال
ابن أبي هريرة. وأصحهما عند أبي خلف السلمي والروياني: يعطى، وقطع به في
الافصاح وهو قول أبي إسحاق.
قلت: جزم الامام الرافعي في المحرر بالوجه الأول. والله أعلم.
الأصح: الثاني. وممن صححه غير المذكورين، المحاملي في المقنع
وصاحب التنبيه، وقطع به الجرجاني في التحرير ولم يتعرض
الأصحاب هنا لاستبراء حاله، ومضي مدة بعد توبته يظهر فيها صلاح الحال، إلا أن
الروياني قال: يعطى على أحد الوجهين إذا غلب على الظن صدقه في توبته،
فيمكن أن يحمل عليه.
الشرط الثالث: أن يكون حالا، فإن كان مؤجلا، ففي إعطائه أوجه. ثالثها:
إن كان الاجل تلك السنة، أعطي، وإلا، فلا يعطى من صدقات تلك
السنة.
قلت: الأصح: لا يعطى، وبه قطع في البيان. والله أعلم.
الضرب الثاني: ما استدانه لاصلاح ذات البين، مثل أن يخاف فتنة بين
180

قبيلتين أو شخصين، فيستدين طلبا للاصلاح وإسكان الثائرة، فينظر، إن كان ذلك
في دم تنازع فيه قبيلتان ولم يظهر القاتل، فتحمل الدية، قضي دينه من سهم
الغارمين إن كان فقيرا أو غنيا بعقار قطعا. وكذا إن كان غنيا بنقد على الصحيح.
والغنى بالعروض، كالغني بالعقار على المذهب. وقيل: كالنقد، ولو تحمل قيمة
مال متلف، أعطي مع الغنى على الأصح.
الضرب الثالث: ما التزمه بضمان، فله أربعة أحوال.
أحدها: أن يكون الضامن والمضمون عنه معسرين، فيعطى الضامن ما يقضي
به الدين. قال المتولي: ويجوز صرفه إلى المضمون عنه، وهو أولى، لان الضامن
فرعه، ولان الضامن إذا أخذ وقضى الدين بالمأخوذ، ثم رجع على المضمون عنه،
احتاج الامام أن يعطيه ثانيا، وهذا الذي قاله ممنوع، بل إذا أعطيناه لا يرجع، إنما
يرجع الضامن إذا غرم من عنده.
الحال الثاني: أن يكونا موسرين، فلا يعطى، لأنه إذا غرم رجع على
الأصيل، وإن ضمن بغير إذنه، فوجهان.
الحال الثالث: إذا كان المضمون عنه موسرا، والضامن معسرا، فإن ضمن
بإذنه، لم يعط، لأنه يرجع، وإلا أعطي في الأصح.
الحال الرابع: أن يكون المضمون عنه معسرا، والضامن موسرا، فيجوز أن
يعطي المضمون عنه، وفي الضامن وجهان. أصحهما: لا يعطى.
فرع إنما يعطى الغارم عند بقاء الدين، فأما إذا أداه من ماله، فلا يعطى،
لأنه لم يبق غارما. وكذا لو بذل ماله ابتداء فيه، لم يعط فيه، لأنه ليس غارما.
فرع قال أبو الفرج السرخسي: ما استدانه لعمارة المسجد
181

وقرى الضيف، حكمه حكم ما استدانه لمصلحة نفسه. وحكى الروياني عن بعض
الأصحاب: أنه يعطى هذا مع الغنى بالعقار، ولا يعطى مع الغنى بالنقد. قال
الروياني: هذا هو الاختيار.
فرع يجوز الدفع إلى الغريم، بغير إذن صاحب الدين، ولا يجوز إلى
صاحب الدين بغير إذن المديون، لكن يسقط من الدين بقيمة قدر المصروف كما سبق في
المكاتب. ويجوز الدفع إليه بإذن المديون، وهو أولى، إلا إذا لم يكن وافيا وأراد
المديون أن يتجر فيه.
فرع لو أقام بينة أنه غرم وأخذ الزكاة، ثم بان كذب الشهود، ففي سقوط
الفرض، القولان، فيمن دفعها إلى من ظنه فقيرا، فبان غنيا، قاله إمام الحرمين.
ولو دفع إليه، وشرط أن يقضيه ذلك عن دينه، لم يجزئه قطعا، ولا يصح قضاء
الدين بها.
قلت: ولو نويا ذلك ولم يشرطاه، جاز. والله أعلم.
قال في التهذيب: ولو قال المديون: ادفع إلي زكاتك حتى أقضيك
دينك، ففعل، أجزأه عن الزكاة، ولا يلزم المديون دفعه إليه عن دينه. ولو قال
صاحب الدين: اقض ما عليك، لأرده عليك من زكاتي، ففعل، صح القضاء،
ولا يلزمه رده. قال القفال: ولو كان له عند الفقير حنطة وديعة، فقال: كل لنفسك
كذا، ونواه زكاة، ففي إجزائه عن الزكاة وجهان. ووجه المنع أن المالك لم يكله.
فلو كان وكله بشراء ذلك القدر، فاشتراه فقبضه، وقال الموكل: خذه لنفسك، ونواه
زكاة، أجزأه، لأنه لا يحتاج إلى كيله.
قلت: ذكر صاحب البيان: أنه لو مات رجل عليه دين ولا وفاء له، ففي
قضائه من سهم الغارمين وجهان، ولم يبين الأصح. والأصح الأشهر: لا يقضى
منه، ولو كان له عليه دين، فقال: جعلته عن زكاتي، لا يجزئه على الأصح
182

حتى يقبضه، ثم يرده إليه إن شاء، وعلى الثاني: يجزئه كما لو كان وديعة،
حكاه في البيان ولو ضمن دية مقتول عن قاتل لا يعرف، أعطي مع الفقر والغنى
كما سبق. وإن ضمن عن قاتل معروف، لم يعط مع الغني، كذا حكاه في
البيان عن الصيمري، وفي هذا التفصيل نظر. والله أعلم.
الصنف السابع: في سبيل الله،
وهم الغزاة الذين لا رزق لهم في الفيئ، ولا يصرف شئ من الصدقات
إلى الغزاة المرتزقة، كما لا يصرف شئ من الفيئ إلى المطوعة. فإن لم يكن مع
الامام شئ للمرتزقة، واحتاج المسلمين إلى من يكفيهم شر الكفار، فهل يعطى
183

المرتزقة من الزكاة من سهم سبيل الله؟ فيه قولان. أظهرهما: لا، بل تجب
إعانتهم على أغنياء المسلمين، ويعطى الغازي غنيا كان، أو فقيرا.
الصنف الثامن: ابن السبيل،
وهو شخصان. أحدهما: من أنشأ سفرا من بلده، أو من بلد كان مقيما به.
والثاني: الغريب المجتاز بالبلد. فالأول: يعطى قطعا، وكذا الثاني على
المذهب. وقيل: إن جوزنا نقل الصدقة، جاز الصرف إليه، وإلا، فلا. ويشترط
أن لا يكون معه ما يحتاج إليه في سفره، فيعطى من لا مال له أصلا، وكذا من له مال
في غير البلد المنتقل إليه منه. ويشترط أن لا يكون سفره معصية، فيعطى في سفر
الطاعة قطعا، وكذا في المباح كالتجارة، وطلب الآبق على الصحيح. وعلى
الثاني: لا يعطى، فعلى هذا يشترط كون السفر طاعة، فإذا قلنا: يعطى في
المباح، ففي سفر النزهة وجهان، لأنه ضرب من الفضول. والأصح: أنه يعطى.
فصل في الصفات المشترطة في جميع الأصناف فمنها: أن لا يكون
المدفوع إليه كافرا، ولا غازيا مرتزقا كما سبق، وأن لا يكون هاشميا ولا مطلبيا
قطعا، ولا مولى لهم على الأصح. فلو استعمل هاشمي أم مطلبي، لم يحل لهم
سهم العامل على الأصح. ويجري الخلاف فيما إذا جعل بعض المرتزقة عاملا. ولو
انقطع خمس الخمس عن بني هاشم وبني المطلب لخلو بيت المال عن الفيئ
والغنيمة، أو لاستيلاء الظلمة عليهما، لم يعطوا الزكاة على الأصح الذي عليه
الأكثرون، وجوزه الإصطخري، واختاره القاضي أبو سعد الهروي، ومحمد بن
يحيى رحمهم الله.
184

فصل في كيفية الصرف إلى المستحقين وما يتعلق به
فيه مسائل.
إحداها: فيما يعول عليه في صفات المستحقين.
قال الأصحاب: من طلب الزكاة، وعلم الإمام أنه ليس مستحقا، لم يجز
الصرف إليه. وإن علم استحقاقه، جاز، ولم يخرجوه على القضاء بعلمه. وإن لم
يعرف حاله،
فالصفات قسمان. خفية وجلية،
فالخفي: الفقر والمسكنة، فلا يطالب مدعيهما ببينة، لعسرهما. لكن إن
عرف له مال، فادعى هلاكه، طولب بالبينة لسهولتها،
ولم يفرقوا بين دعواه الهلاك بسبب خفي كالسرقة، أو ظاهر كالحريق. وإن
قال: لي عيال لا يفي كسبي بكفايتهم، طولب ببينة على العيال على الأصح. ولو
قال: لا كسب لي وحاله تشهد بصدقه، بأن كان شيخا كبيرا، أو زمنا، أعطي بلا
بينة ولا يمين. وإن كان قويا جلدا، أو قال: لا مال لي، واتهمه الامام، فهل
يحلف؟ فيه وجهان. أصحهما: لا، فإن حلفناه، فهل هو واجب، أم مستحب؟
وجهان. فإن نكل وقلنا: اليمين واجبة، لم يعط. وإن قلنا: مستحبة، أعطي.
وأما الصفة الجلية، فضربان.
أحدهما: يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في المستقبل، وهو الغازي، وابن
السبيل، فيعطيان بقولهما بلا بينة ولا يمين. ثم إن لم يحققا الموعود ويخرجا في
السفر، استرد نهما. ولم يتعرض الجمهور لبيان القدر الذي يحتمل تأخير الخروج
فيه، وقدره السرخسي في أماليه بثلاثة أيام، فإن انقضت ولم يخرج، استرد
منه. ويشبه أن يكون هذا على التقريب، وأن يعتبر ترصده للخروج، وكون التأخير
لانتظار الرفقة وتحصيل أهبة وغيرهما.
الضرب الثاني: يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في الحال، وتدخل فيه بقية
الأصناف. فإذا ادعى العامل العمل، طولب بالبينة لسهولتها، ويطالب بها المكاتب
والغارم. ولو صدقهما المولى، وصاحب الدين، كفى على الأصح، ولو كذبه
المقر له، لغا الاقرار.
185

وأما المؤلف قلبه، فإن قال: نيتي في الاسلام ضعيفة، قبل قوله، لان كلامه
يصدقه، وإن قال: أنا شريف مطاع في قومي، طولب بالبينة، كذا فصله جمهور
الأصحاب، ومنهم من أطلق: أنه لا يطالب بالبينة، ويقوم مقام البينة الاستفاضة
باشتهار الحال بين الناس، لحصول العلم، أو غلبة الظن، ويشهد لما ذكرناه من
اعتبار غلبة الظن ثلاثة أمور.
أحدها: قال بعض الأصحاب: لو أخبر عن الحال واحد يعتمد قوله، كفى.
الثاني: قال الامام: رأيت للأصحاب رمزا إلى تردد في أنه لو حصل الوثوق
بقول من يدعي الغرم، وغلب على الظن صدقه، هل يجوز اعتماده؟
الثالث: حكى بعض المتأخرين ما لا بد من معرفته، وهو أنه لا يعتبر
في هذه المواضع سماع القاضي، والدعوى والانكار والاشهاد، بل المراد إخبار
عدلين.
واعلم أن كلامه في الوسيط يوهم أن إلحاق الاستفاضة بالبينة مختص
بالمكاتب والغارم، ولكن الوجه تعميم ذلك في كل مطالب بالبينة من الأصناف.
المسألة الثانية: في قدر المعطى، فالمكاتب والغارم، يعطيان قدر دينهما،
فإن قدرا على بعضه، أعطيا الباقي. والفقير والمسكين يعطيان ما تزول به
حاجتهما، وتحصل كفايتهما. ويختلف ذلك باختلاف الناس والنواحي، فالمحترف
الذي لا يجد آلة حرفته، يعطى ما يشتريها به قلت قيمتها، أو كثرت. والتاجر يعطى
رأس مال ليشتري ما يحسن التجارة فيه، ويكون قدر ما يفي ربحه بكفايته
غالبا، وأوضحوه بالمثال فقالوا: البقلي يكتفي بخمسة دراهم، والباقلاني بعشرة،
والفاكهي بعشرين، والخباز بخمسين، والبقال بمائة، والعطار بألف، والبزاز
بألفي درهم، والصيرفي بخمسة آلاف، والجوهري بعشرة آلاف.
186

فرع من لا يحسن الكسب بحرفة ولا تجارة، قال العراقيون وآخرون:
يعطى كفاية العمر الغالب. وقال آخرون، منهم الغزالي والبغوي: يعطى كفاية
سنة، لان الزكاة تتكرر كل سنة.
قلت: وممن قطع بالمسألة صاحب التلخيص، والرافعي في
المحرر، ولكن الأصح ما قاله العراقيون، وهو نص الشافعي رضي الله عنه،
ونقله الشيخ نصر المقدسي عن جمهور أصحابنا، قال: وهو المذهب. والله أعلم.
وإذا قلنا: يعطى كفاية العمر، فكيف طريقه؟ قال في التتمة وغيره:
يعطى ما يشتري به عقارا يستغل منه كفايته. ومنهم من يشعر كلامه بأنه يعطى ما ينفق
عينه في حاجاته، والأول أصح.
فرع وأما ابن السبيل، فيعطى ما يبلغه مقصده، أو موضع ماله إن كان
له في طريقه مال، فيعطى النفقة والكسوة إن احتاج إليهما بحسب الحال شتاء
وصيفا، ويهيأ له المركوب إن كان السفر طويلا والرجل ضعيفا لا يستطيع المشي.
وإن كان السفر قصيرا، أو الرجل قويا، لم يعط، ويعطى ما ينقل زاده ومتاعه، إلا
أن يكون قدرا يعتاد مثله أن يحمله بنفسه، ثم قال السرخسي في الأمالي: إن
كان ضاق المال، أعطي كراء المركوب. وإن اتسع، اشتري له مركوب. فإذا تم
سفره، استرد منه المركوب على الصحيح الذي قاله الجمهور. ثم كما يعطى
لذهابه، يعطى لايابه إن أراد الرجوع ولا مال له في مقصده. هذا هو الصحيح.
وفي وجه: لا يعطى للرجوع في ابتداء السفر، لأنه سفر آخر، وإنما يعطى إذا
أراد للرجوع، ووجه ثالث: أنه إن كان على عزم أنه يصل الرجوع بالذهاب، أعطي
للرجوع أيضا. وإن كان على أن يقيم هناك مدة، لم يعط، ولا يعطى لمدة الإقامة
إلا مدة إقامة المسافرين، بخلاف الغازي، حيث يعطى للمقام في الثغر وإن طال،
187

لأنه قد يحتاج إليه لتوقع فتح الحصن، وإنه لا يزول عنه الاسم لطول المقام،
هذا هو الصحيح. وعن صاحب التقريب، أنه إن أقام لحاجة يتوقع زوالها،
أعطي وإن زادت إقامته على إقامة المسافرين.
فرع هل يدفع إلى ابن السبيل جميع كفايته، أو ما زاد بسبب السفر؟
وجهان. أصحهما: الأول.
فرع وأما الغازي، فيعطى النفقة والكسوة مدة الذهاب والرجوع، ومدة
المقام في الثغر وإن طال. وهل يعطى جميع المؤنة، أم ما زاد بسبب السفر؟ فيه
الوجهان كابن السبيل، ويعطى ما يشتري به الفرس إن كان يقاتل فارسا، وما يشتري
به السلاح وآلات القتال، ويصير ذلك ملكا له. ويجوز أن يستأجر له الفرس
والسلاح. ويختلف الحال بحسب كثرة المال وقلته. وإن كان يقاتل راجلا، فلا
يعطى لشراء الفرس. وأما ما يحمل عليه الزاد ويركبه في الطريق، فكابن السبيل.
فرع إنما يعطى الغازي إذا حضر وقت الخروج، ليهيئ به أسباب
سفره. فإن أخذ ولم يخرج، فقد سبق أنه يسترد. فإن مات في الطريق، أو امتنع
من الغزو، استرد ما بقي، وإن غزا فرجع ومعه بقية، فإن لم يقتر على نفسه، وكان
الباقي شيئا صالحا، رده. وإن قتر على نفسه أو لم يقتر، إلا أن الباقي شئ يسير،
لم يسترد قطعا. وفي مثله في ابن السبيل، يسترد على الصحيح، لأنا دفعنا إلى
الغازي لحاجتنا، وهي أن يغزو وقد فعل، وفي ابن السبيل يدفع لحاجته وقد زالت.
فرع في بعض شروح المفتاح: أنه يعطى الغازي نفقته ونفقة عياله
188

ذهابا ومقاما ورجوعا. وسكت الجمهور عن نفقة العيال، لكن أخذها ليس
ببعيد.
فرع للامام الخيار، إن شاء دفع الفرس والسلاح إلى الغازي تمليكا،
وإن شاء استأجر له مركوبا، وإن شاء اشترى خيلا من هذا السهم ووقفها في سبيل الله
تعالى، فيعيرهم إياها وقت الحاجة، فإذا انقضت، استرد. وفيه وجه: أنه لا
يجوز أن يشتري لهم الفرس والسلاح قبل وصول المال إليهم.
فرع وأما المؤلف، فيعطى ما يراه الامام. قال المسعودي: يجعله على
قدر كلفتهم وكفايتهم.
فرع وأما العامل، فاستحقاقه بالعمل، حتى لو حمل صاحب الأموال
زكاتهم إلى الامام، أو إلى البلد قبل قدوم العامل، فلا شئ له، كما يستحق أجرة
المثل لعمله. فإن شاء الامام بعثه بلا شرط ثم أعطاه أجرة مثل عمله، وإن شاء سمى
له قدر أجرته إجارة أو جعالة، ويؤديه من الزكاة. ولا يستحق أكثر من أجرة المثل.
فإن زاد، فهل تفسد التسمية، أم يكون قدر الأجرة من الزكاة والزائد في خالص مال الإمام
؟ فيه وجهان.
قلت: أصحهما: الأول. والله أعلم.
فإن زاد سهم العاملين على أجرته، رد الفاضل على سائر الأصناف. وإن
نقص، فالمذهب: أنه يكمل من مال الزكاة ثم يقسم. وفي قول: من خمس
الخمس، وقيل: يتخير الامام بينهما بحسب المصلحة، وقيل: إن بدأ بالعامل
كمله من الزكاة، وإلا فمن الخمس لعسر الاسترداد من الأصناف. وقيل: إن فضل
189

عن حاجة الأصناف، فمن الزكاة، وإلا، فمن بيت المال. والخلاف في
جواز التكميل من الزكاة، واتفقوا على جواز التكميل من سهم المصالح مطلقا، بل لو
رأى الامام أن يجعل أجرة العامل كلها في بيت المال، جاز، ويقسم الزكاة على
سائر الأصناف.
فرع إذا اجتمع في شخص صفتان، فهل يعطى بهما، أم بأحدهما فقط؟
فيه طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: بإحداهما، فيأخذ بأيتهما شاء.
والطريق الثاني: القطع بهذا. والثالث: إن اتحد جنس الصفتين، أعطي
بإحداهما، وإن اختلف فيهما، فيعطى بهما. فالاتحاد، كالفقر مع الغرم لمصلحة
نفسه، لأنهما يأخذان لحاجتهما إلينا. وكالغرم للاصلاح مع الغزو، فإنهما لحاجتنا
إليهما. والاختلاف، كالفقر والغزو. فإن قلنا بالمنع، فكان العامل فقيرا،
فوجهان. بناء على أن ما يأخذه العامل أجرة، لأنه إنما يستحق بالعمل، أم صدقة
لكونه معدودا في الأصناف؟ وفيه وجهان. وإذا جوزنا الاعطاء بمعنيين، جاز
بمعان، وفيه احتمال للحناطي.
قلت: قال الشيخ نصر: إذا قلنا: لا يعطى إلا بسبب، فأخذ بالفقر، كان
لغريمه أن يطالبه بدينه، فيأخذ ما حصل له. وكذا إن أخذه بكونه غارما، فإذا بقي
بعد أخذه منه فقيرا، فلا بد من إعطائه من سهم الفقراء، لأنه الآن محتاج. والله
أعلم.
المسألة الثالثة: يجب استيعاب الأصناف الثمانية عند القدرة عليهم،
فإن فرق بنفسه، أو فرق الامام، وليس هناك عامل، فرق على السبعة. وحكي
قول: أنه إذا فرق بنفسه، سقط أيضا نصيب المؤلفة. والمشهور: ما سبق.
190

ومتى فقد صنف فأكثر، قسم المال على الباقين. فإن لم يوجد أحد من
الأصناف، حفظت الزكاة حتى يوجدوا، أو يوجد بعضهم. وإذا قسم الامام،
لزمه استيعاب آحاد كل صنف، ولا يجوز الاقتصار على بعضهم، لان الاستيعاب لا
يتعذر عليه، وليس المراد أنه يستوعبهم بزكاة كل شخص، بل يستوعبهم من
الزكوات الحاصلة في يده، وله أن يخص بعضهم بنوع من المال، وآخرين
بنوع.
وإن قسم المالك، فإن أمكنه الاستيعاب، بأن كان المستحقون في البلد
محصورين يفي بهم المال، فقد أطلق في التتمة: أنه يجب الاستيعاب،
وفي التهذيب: أنه يجب إن جوزنا نقل الصدقة، وإن لم نجوزه، لم يجب، لكن يستحب، وإن
لم يمكن، سقط الوجوب والاستحباب، ولكن لا ينقص الذين ذكرهم الله تعالى
بلفظ الجمع من الفقراء وغيرهم عن ثلاثة، إلا العامل، فيجوز أن يكون واحدا
وهل يكتفى في ابن السبيل بواحد؟ فيه وجهان. أصحهما: المنع، كالفقراء. قال
بعضهم: ولا يبعد طرد الوجهين في الغزاة لقوله تعالى: * (وفي سبيل الله) *
[التوبة 60] بغير لفظ الجمع. فلو صرف ما عليه إلى اثنين مع القدرة على
الثالث، غرم للثالث. وفي قدره قولان. المنصوص في الزكاة: أنه يغرم ثلث
191

نصيب ذلك الصنف. والقياس: أنه يغرم قدرا لو أعطاه في الابتداء، أجزأه، لأنه
الذي فرط فيه، ولو صرفه إلى واحد، فعلى الأول: يلزمه الثلثان، وعلى الثاني:
أقل ما يجوز صرفه إليهما.
قلت: هكذا قال أصحابنا رحمهم الله تعالى: إن الأقيس هو الثاني، ثم
الجمهور أطلقوا القولين هكذا. قال صاحب العدة: إذا قلنا: يضمن الثلث،
ففيه وجهان. أحدهما: أن المراد إذا كانوا سووا في الحاجة، حتى لو كان حاجة
هذا الثالث حين استحق التفرقة مثل حاجة الآخرين جميعا. ضمن له نصف السهم
ليكون معه مثلهما، لأنه يستحب التفرقة على قدر حوائجهم. والثاني: أنه لا فرق.
والله أعلم.
ولو لم يوجد إلا دون الثلاثة من صنف، يجب إعطاء ثلاثة منهم، وهذا هو
الصحيح، ومراده: إذا كان الثلاثة متعينين، أعطى من وجد. وهل يصرف باقي
السهم إليه إذا كان مستحقا، أم ينقل إلى بلد آخر؟ قال المتولي: هو كما لو لم
يوجد بعض الأصناف في البلد. وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
قلت: الأصح، أن يصرف إليه. وممن صححه الشيخ نصر المقدسي،
ونقله هو وصاحب العدة وغيرهما عن نص الشافعي رحمة الله عليه ودليله
ظاهر. والله أعلم.
فرع التسوية بين الأصناف واجبة. وإن كانت حاجة بعضهم أشد، إلا أن
العامل لا يزاد على أجرة عمله كما سبق. وأما التسوية بين آحاد الصنف، سواء
استوعبوا، أو اقتصر على بعضهم، فلا يجب، لكن يستحب عند تساوي
الحاجات. هذا إذا قسم المالك. قال في التتمة: فأما إن قسم الامام، فلا
يجوز تفضيل بعضهم عند تساوي الحاجات، لان عليه التعميم، فتلزمه التسوية،
192

والمالك لا تعميم عليه، فلا تسوية.
قلت: هذا التفصيل الذي في التتمة وإن كان قويا في الدليل، فهو خلاف
مقتضى إطلاق الجمهور استحباب التسوية.
وحيث لا يجب الاستيعاب،
قال أصحابنا: يجوز الدفع إلى المستحقين من المقيمين بالبلد والغرباء،
ولكن المستوطنون أفضل، لأنهم جيرانه. والله أعلم.
فرع إذا عدم في بلد جميع الأصناف، وجب نقل الزكاة إلى أقرب البلاد
إليه. فان نقل إلى أبعد، فهو على الخلاف في نقل الزكاة. وإن عدم بعضهم،
فإن كان العامل، سقط سهمه. وإن عدم غيره، فان جوزنا نقل الزكاة، نقل نصيب
الباقي، وإلا فوجهان: أحدهما: ينقل. وأصحهما: يرد على الباقين. فان قلنا:
ينقل، نقل إلى أقرب البلاد. فان نقل إلى غيره، أو لم ينقل، ورده على الباقي،
ضمن، وإن قلنا: لا ينقل فنقل، ضمن. ولو وجد الأصناف فقسم، فنقص سهم
بعضهم عن الكفاية، وزاد سهم بعضهم عليها، فهل يصرف ما زاد إلى من نقص
نصيبه، أم ينقل إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد؟ فيه هذا الخلاف. وإذا قلنا: يرد
على من نقص سهمهم، رد عليهم بالسوية. فان استغنى بعضهم ببعض المردود،
قسم الباقي بين الآخرين بالسوية. ولو زاد نصيب جميع الأصناف على الكفاية، أو
نصيب بعضهم، ولم ينقص نصيب الآخرين، نقل ما زاد إلى ذلك الصنف.
المسألة الرابعة: في جواز نقل الصدقة إلى بلد آخر، مع وجود المستحقين
في بلده خلاف. وتفصيل المذهب فيه عند الأصحاب: أنه يحرم النقل، ولا
193

تسقط به الزكاة، وسواء كان النقل إلى مسافة القصر أو دونها، فهذا مختصر ما يفتى
به. وتفصيله، أن في النقل قولين. أظهرهما: المنع. وفي المراد بهما، طرق.
أصحها: أن القولين في سقوط الفرض، ولا خلاف في تحريمه، والثاني: أنهما
في التحريم والسقوط معا، والثالث: أنهما في التحريم، ولا خلاف أنه يسقط. ثم
قيل: هما في النقل إلى مسافة القصر فما فوقها، فإن نقل إلى دونها، جاز،
والأصح: طرد القولين.
قلت: وإذا منعنا النقل، ولم نعتبر مسافة القصر، فسواء نقل إلى قرية بقرب
البلد، أم بعيدة. صرح به صاحب العدة وهو ظاهر. والله أعلم.
فرع إذا أوصى للفقراء والمساكين وسائر الأصناف، أو وجب عليه كفارة،
أو نذر، فالمذهب في الجميع جواز النقل، لان الأطماع لا تمتد إليها امتدادها
إلي للزكاة.
فرع صدقة الفطر كسائر الزكوات في جواز النقل ومنعه،
وفي وجوب استيعاب الأصناف، فإن شقت القسمة، جمع جماعة فطرتهم ثم
قسموها. وقال الإصطخري: يجوز صرفها إلى ثلاثة من الفقراء، ويروى: من
الفقراء والمساكين. ويروى: من أي صنف اتفق. واختار أبو إسحاق
الشيرازي، جواز الصرف إلى واحد.
قلت: اتفق أصحابنا المتأخرون أو جماهيرهم: على أن مذهب
الإصطخري، جواز الصرف إلى ثلاثة من المساكين والفقراء. قال أكثرهم:
194

وكذلك يجوز عنده الصرف إلى ثلاثة من أي صنف كان. وصرح المحاملي
والمتولي: بأنه لا يجوز عنده الصرف إلى غير المساكين والفقراء. قال المتولي: ولا
يسقط الفرش، واختار الروياني في الحلية صرفها إلى ثلاثة. وحكي اختياره عن
جماعة من أصحابنا. والله أعلم.
فرع حيث جاز النقل أو وجب، فمؤنته على رب المال، ويمكن
تخريجه على الخلاف السابق في أجرة الكيال.
فرع الخلاف في جواز النقل وتفريعه، ظاهر فيما إذا فرق رب المال
زكاته. أما إذا فرق الامام، فربما اقتضى كلام الأصحاب طرد الخلاف فيه، وربما
دل على جواز النقل له، والتفرقة كيف شاء، وهذا أشبه.
قلت: قد قال صاحب التهذيب والأصحاب: يجب على الساعي نقل
الصدقة إلى الامام إذا لم يأذن له في تفريقها، وهذا نقل. والله أعلم.
فرع لو كان المال ببلد، والمالك ببلد، فالاعتبار ببلد المال، لأنه
سبب الوجوب، ويمتد إليه نظر المستحقين، فيصرف العشر إلى فقراء بلد الأرض،
التي حصل منها المعشر، وزكاة النقدين والمواشي والتجارة إلى فقراء البلد الذي
تم فيه حولها، فإن كان المال عند تمام الحول في بادية، صرف إلى فقراء أقرب
البلاد إليه.
قلت: ولو كان تاجرا مسافرا، صرفها حيث حال الحول. والله أعلم.
ولو كان ماله في مواضع متفرقة، قسم زكاة كل طائفة من مال ببلدها، ما لم
يقع تشقيص، فان وقع، بأن ملك أربعين من الغنم، عشرين ببلد، وعشرين
بآخر، فأدى شاة في أحد البلدين. قال الشافعي رحمه الله: كرهته، وأجزأه. وهذا
195

هو المذهب، وقطع به جمهور الأصحاب. سواء جوزنا نقل الصدقة، أم لا. وقال
أبو حفص ابن الوكيل: هذا جائز، إن جوزنا نقل الصدقة، وإلا فيؤدي في كل بلد
نصف شاة. والصواب: الأول. وعللوه بعلتين. إحداهما: أن له في كل بلد مالا، فيخرج
فيها شاة منها، والثانية: أن الواجب شاة، فلا تشقيص.
ويتفرع عليهما، ما لو ملك مائة ببلد، ومائة ببلد آخر، فعلى الأول، له
إخراج الشاتين في أيهما شاء، وعلى الثاني: لا يجزئه ذلك، وهو الأصح. وأما
زكاة الفطر، إذا كان ماله ببلد، وهو بآخر، فأيهما يعتبر؟ وجهان. أصحهما: ببلد
المالك.
قلت: ولو كان له من تلزمه فطرته وهو ببلد، فالظاهر أن الاعتبار ببلد المؤدى
عنه. وقال في البيان: الذي يقتضي المذهب، أنه يبنى على الوجهين في أنها
تجب على المؤدي ابتداء، أم على المؤدى عنه فتصرف في بلد من تجب عليه
ابتداء. والله أعلم.
فرع أرباب الأموال صنفان.
أحدهما: المقيمون في بلد، أو قرية، أو موضع من البادية فلا يظعنون عنه
شتاء ولا صيفا، فعليهم صرف زكاتهم إلى من في موضعهم من الأصناف، سواء فيه
المقيمون والغرباء.
الثاني: أهل الخيام المنتقلون من بقعة إلى بقعة، فينظر، إن لم يكن لهم
قرار، بل يطوفون البلاد أبدا، صرفوها إلى من معهم من الأصناف. فإن لم يكن
معهم مستحق، نقلوه إلى أقرب البلاد إليهم عند تمام الحول. وإن كان لهم موضع
يسكنونه وربما انتقلوا عنه منتجعين ثم عادوا إليه، فإن لم يتميز بعضهم عن بعض في
الماء والمرعى، صرفوها إلى من هو دون مسافة القصر من موضع المال. والصرف
إلى الذين يقيمون من هؤلاء بإقامتهم ويظعنون بظعنهم، أفضل لشدة جوارهم. وإن
تميزت الحلة عن الحلة، وانفرد بالماء والمرعى، فوجهان. أحدهما: أنه كغير
المتميزة. وأصحهما: أن كل حلة كقرية، فلا يجوز النقل عنها.
196

فصل يشترط في الساعي كونه مسلما، مكلفا، عدلا، حرا، فقيها
بأبواب الزكاة. هذا إذا كان التفويض عاما، فإن عين الامام شيئا يأخذه، لم يعتبر
الفقه. قال الماوردي: وكذا لا يعتبر الاسلام والحرية.
قلت: عدم اشتراط الاسلام، فيه نظر. والله أعلم.
وفي جواز كون العامل هاشميا، أو من المرتزقة، خلاف سبق. وفي
الأحكام السلطانية للماوردي: أنه يجوز أن يفوض إلى من تحرم عليه الزكاة من
ذوي القربى، ولكن يكون رزقه من المصالح. وإذا قلد الاخذ وحده، أو القسمة
وحدها، لم يتول إلا ما قلد، وإن أطلق التقليد تولى الامرين. وإنه إذا كان العامل
جائزا في أخذ الصدقة، عادلا في قسمتها، جاز كتمها عنه، وجاز دفعها إليه، وإن
كان عادلا في الاخذ، جائزا في القسمة، وجب كتمها عنه. فإن أخذها طوعا أو
كرها، لم تجزئ، وعلى أرباب الأموال إخراجها بأنفسهم. وهذا خلاف ما في
التهذيب: أنه إذا دفع إلى الامام الجائر، سقط عنه الفرض، وإن لم يوصله
المستحقين، إلا أن يفرق بين الدفع إلى الامام وإلى العامل.
قلت: لا فرق، والأصح: الاجزاء فيهما. والله أعلم.
فصل وسم النعم جائز في الجملة ووسم نعم الزكاة والفيئ، لتتميز،
وليردها من وجدها ضالة، وليعرف المتصدق ولا يمتلكها، لأنه يكره أن يتصدق
بشئ، ثم يشتريه، هكذا قاله الشافعي رحمه الله. وليكن الوسم على موضع صلب ظاهر، لا يكثر الشعر عليه. والأولى في الغنم: الآذان. وفي الإبل والبقر:
الأفخاذ. ويكره الوسم على الوجه.
قلت: هكذا قال صاحب العدة وغيره: أنه مكروه. وقال صاحب
197

التهذيب: لا يجوز، وهو الأقوى. وقد صح في صحيح مسلم لعن فاعله،
وهو دال على التحريم. والله أعلم.
ويكون ميسم الغنم، ألطف من ميسم البقر، وميسم البقر، ألطف من ميسم
الإبل. وتميز نعم الزكاة من نعم الفئ، فيكتب على الجزية: جزية، أو صغار.
وعلى الزكاة: زكاة، أو صدقة، أو لله تعالى. ونص الشافعي رحمه الله على سمة
لله تعالى.
فرع ويجوز خصاء ما يؤكل لحمه في صغره لطيب لحمه، ولا يجوز في
كبره، ولا خصاء ما لا يؤكل.
فصل في مسائل متفرقة أحدها: ينبغي للامام والساعي، وكل من يفوض
إليه أمر تفريق الصدقات، أن يعتني بضبط المستحقين، ومعرفة أعدادهم، وأقدار
حاجاتهم، بحيث يقع الفراغ من جميع الصدقات بعد معرفتهم، أو معها ليتعجل
حقوقهم، وليأمن هلاك المال عنده.
198

الثانية: ينبغي أن يبدأ في القسمة بالعالمين، لان استحقاقهم أقوى، لكونهم
يأخذون معاوضة.
قلت: هذا التقديم مستحب. والله أعلم.
الثالثة: لا يجوز للامام ولا للساعي أن يبيع شيئا من الزكاة، بل يوصلها بحالها
إلى المستحقين، إلا إذا وقعت ضرورة، بأن أشرفت بعض الماشية على الهلاك، أو
كان في الطريق خطر، أو احتاج إلى رد جيران، أو إلى مؤنة نقل، فحينئذ يبيع.
ولو وجبت ناقة أو بقرة أو شاة، فليس للمالك أن يبيعها ويقسم الثمن، بل يجمعهم
ويدفعها إليهم، وكذا حكم الامام عند الجمهور، وخالفهم في التهذيب فقال:
إن رأى الامام ذلك، فعله، وإن رأى أن يبيع، باع وفرق الثمن عليهم.
قلت: وإذا باع في الموضع الذي لا يجوز، فالبيع باطل، ويسترد المبيع،
فإن تلف، ضمنه. والله أعلم.
الرابعة: إذا دفع الزكاة إلى من ظنه مستحقا، فبان غير مستحق، ككافر،
وعبد، وغني، وذي قربى، فالفرض يسقط عن المالك بالدفع إلى الامام، لأنه
نائب المستحقين. ولا يجب الضمان على الامام إذا بان غنيا، لأنه لا تقصير،
ويسترد، سواء أعلمه أنها زكاة، أم لا، فإن كان قد تلف، غرمه وصرف الغرم إلى
المستحقين. وفي باقي الصور المذكورة قولان. أظهرهما: لا يضمن، وقيل: لا يضمن قطعا. وقيل:
يضمن قطعا، لتفريطه، فإنها لا تخفى غالبا، بخلاف
الغني، ولأنها أشد منافاة، فإنها تنافي الزكاة بكل حال، بخلافه. ولو دفع المالك
بنفسه، فبان المدفوع إليه غنيا، لم يجزه على الأظهر، بخلاف الامام، لأنه نائب
الفقراء. وإن بان كافرا، أو عبدا، أو ذا قربى، لم يجزه على الأصح.
قلت: ولو دفع سهم المؤلفة، أو الغازي إليه، فبان المدفوع إليه امرأة، فهو
كما لو بان عبدا. والله أعلم.
199

وإذا لم يسقط الفرض، فإن بين أن المدفوع زكاة، استرد إن كان باقيا، وغرم
المدفوع إليه إن كان تالفا. ويتعلق بذمه العبد إذا دفع إليه. وإن لم يذكر أنه زكاة،
لم يسترد، ولا غرم، بخلاف الامام، يسترد مطلقا، لان ما يفرقه الامام على
الأصناف، هو الزكاة غالبا، وغيره قد يتطوع. والحكم في الكفارة متى بان
المدفوع إليه غير مستحق، كحكم الزكاة.
الخامسة: في وقت استحقاق الأصناف الزكاة. قال الشافعي رحمه الله:
يستحقون يوم القسمة، إلا العامل، فإنه يستحق بالعمل. وقال في موضع آخر:
يستحقون يوم الوجوب. قال الأصحاب: ليس في المسألة خلاف. بل النص الثاني
محمول على ما إذا لم يكن في البلد إلا ثلاثة، أو أقل، ومنعنا نقل الصدقة،
فيستحقون يوم الوجوب، حتى لو مات واحد منهم، دفع نصيبه إلى ورثته، وإن
غاب أو أيسر، فحقه بحاله، وإن قدم غريب، لم يشاركهم، والنص الأول، فيما
إذا لم يكونوا محصورين في ثلاثة، أو كانوا، وجوزنا نقل الزكاة، فيستحقون
بالقسمة، حتى لا حق لمن مات أو غاب أو أيسر بعد الوجوب وقبل القسمة، وإن
قدم غريب، شاركهم.
السادسة: في فتاوى القفال: أن الامام لو لم يفرق ما اجتمع عنده من مال
الزكاة من غير عذر، فتلف، ضمن. والوكيل بالتفريق لو أخر، فتلف، لم
يضمن، لان الوكيل لا يجب عليه التفريق، بخلاف الامام.
قلت: قال أصحابنا: لو جمع الساعي الزكاة، فتلفت في يده قبل أن تصل
إلى الامام، استحق أجرته من بيت المال. والله أعلم.
السابعة: قال صاحب البحر: لو دفع الزكاة إلى فقير وهو غير عارف
بالمدفوع، بأن كان مشدودا في خرقة ونحوها، لا يعرف جنسه وقدره، وتلف في يد
200

المسكين، ففي سقوط الزكاة احتمالان. لان معرفة القابض لا تشترط، فكذا معرفة
الدافع.
قلت: الأرجح: السقوط. وبقيت من الباب مسائل تقدمت في باب أداء
الزكاة وغيره. وبقيت مسائل، لم يذكرها الامام الرافعي هنا.
منها: قال الصيمري: كان الشافعي رحمه الله في القديم، يسمي ما يؤخذ من
الماشية صدقة، ومن النقدين زكاة، ومن المعشرات عشرا فقط. ثم رجع عنه
وقال: يسمى الجميع زكاة وصدقة.
ومنها: الاختلاف. قال أصحابنا: اختلاف رب المال والساعي على
ضربين. أحدهما: أن يكون دعوى رب المال لا تخالف الظاهر، والثاني:
تخالفه. وفي الضربين، إذا اتهمه الساعي، حلفه، واليمين في الضرب الأول
مستحبة بلا خلاف. فان امتنع عن اليمين، ترك ولا شئ.
وأما الضرب الثاني: فاليمين فيه مستحبة أيضا على الأصح، وعلى الثاني:
واجبة، فإن قلنا: مستحبة، فامتنع، فلا شئ عليه، وإلا أخذت منه لا بالنكول،
بل بالسبب السابق. فمن الصور التي لا يكون قوله فيها مخالفا للظاهر، أن يقول:
لم يحل الحول بعد.
ومنها: أن يقول الساعي: كانت ماشيتك نصابا ثم توالدت، فيضم الأولاد
إلى الأمهات، ويقول رب المال: لم تكن نصابا، وإنما تمت نصابا بالأولاد، فابتدأ
الحول من حين التولد.
ومنها: أن يقول الساعي: هذه السخال توالدت من نفس النصاب قبل
الحول، فقال: بل بعد الحول، أو من غير النصاب. ومن الصور التي تخالف فيها
الظاهر، أن يقول الساعي: مضى عليك حول، فقال المالك: كنت بعته في أثناء
الحول، ثم اشتريته، أو قال: أخرجت زكاته، وقلنا: يجوز أن يفرق بنفسه. وقد
سبقت هذه المسألة في باب أداء الزكاة، ولو قال: هذا المال وديعة، فقال
201

الساعي: بل ملكك، فوجهان. أصحهما: أنه مخالف للظاهر، وبه قطع
الأكثرون، والثاني: لا.
ومنها: الأفضل في الزكاة إظهار إخراجها، ليراه غيره، فيعمل عمله،
ولئلا يساء الظن به.
ومنها: قال الغزالي في الاحياء: يسأل الآخذ دافع الزكاة عن قدرها،
فيأخذ بعض الثمن، بحيث يبقى من الثمن ما يدفعه إلى اثنين من صنفه. فإن دفع
إليه الثمن بكماله، لم يحل له الاخذ. قال: وهذا السؤال واجب في أكثر الناس،
فإنهم لا يراعون هذا، إما لجهل، وإما لتساهل، وإنما يجوز ترك السؤال عن مثل
هذا، إذا لم يغلب الظن احتمال التحريم. والله أعلم.
باب صدقة التطوع
هي مستحبة، وفي شهر رمضان آكد.
قلت: وكذا عند الأمور المهمة، وعند الكسوف، والمرض، والسفر،
وبمكة، والمدينة، وفي الغزو، والحج، والأوقات الفاضلة، كعشر ذي الحجة،
وأيام العيد، ففي كل هذا الموضع آكد من غيرها. قال في الحاوي:
ويستحب أن يوسع في رمضان على عياله، ويحسن إلى ذوي أرحامه وجيرانه،
لا سيما في العشر الأواخر. والله أعلم.
فصل وكانت محرمة على رسول الله (ص) على الأظهر تشريفا له، وهي
202

حلال لذوي القربى على المشهور. وتحب للأغنياء والكفار، وصرفها سرا
أفضل، وإلى الأقارب والجيران أفضل. وكذا الزكاة والكفارة وصرفهما إليهم أفضل
إذا كانوا بصفة استحقاقهما. والأولى أن يبدأ بذي الرحم المحرم، كالأخوة
والأخوات، والأعمام والأخوال، ويقدم الأقرب فالأقرب. وقد ألحق
الزوج والزوجة بهؤلاء، ثم بذي الرحم غير المحرم، كأولاد العم والخال، ثم
المحرم بالرضاع، ثم بالمصاهرة، ثم المولى من أعلى وأسفل، ثم الجار. فإذا
كان القريب بعيد الدار في البلد، قدم على الجار الأجنبي. فإن كان الأقارب
خارجين عن البلد، فإن منعنا نقل الزكاة، قدم الأجنبي، وإلا، فالقريب. وكذا
أهل البادية، فحيث كان القريب والأجنبي الجار، بحيث يجوز الصرف إليهما، قدم
القريب.
فصل يكره التصدق بالردئ، وبما فيه شبهة.
فصل ومن فضل عن حاجته وحاجة عياله وعن دينه مال، هل يستحب له
التصدق بجميع الفاضل؟ فيه أوجه. أحدهما: نعم، والثاني: لا، وأصحهما: إن
صبر على الإضافة، فنعم، وإلا، فلا. وأما من يحتاج إليه لعياله الذين تلزمه
نفقتهم وقضاء دينه، فلا يستحب له التصدق، وربما قيل: يكره.
قلت: هذه العبارة موافقة لعبارة الماوردي، والغزالي، والمتولي، وآخرين.
وقال القاضي أبو الطيب، وأصحاب الشامل والمهذب والتهذيب
والبيان والدارمي، والروياني في الحلية وآخرون: لا يجوز أن يتصدق بما
يحتاج إليه لنفقته أو نفقة عياله، وهذا أصح في نفقة عياله، والأول أصح في نفقة
نفسه، وأما الدين، فالمختار أنه إن غلب على ظنه حصول وفائه من جهة أخرى،
فلا بأس بالتصدق، وإلا، فلا يحل.
203

واعلم أنه بقي من الباب مسائل كثيرة.
منها، قال أبو علي الطبري: يقصد بصدقته من أقاربه أشدهم له عداوة، ليتألف
قلبه، ولما فيه من سقوط الرياء وكسر النفس. ويستحب للغني التنزه عنها،
ويكره له التعرض لاخذها. قال في البيان: ولا يحل للغني أخذ صدقة التطوع
مظهرا للفاقة. وهذا الذي قاله حسن، وعليه حمل قول النبي (ص) في الذي مات من
أهل الصفة، فوجدوا له دينارين، فقال: كيتان من نار. فأما إذا سأل
الصدقة، فقال صاحب الحاوي وغيره: إن كان محتاجا، لم يحرم السؤال،
وإن كان غنيا بمال أو صنعة، فسؤاله حرام، وما يأخذه حرام عليه. هذا لفظ
صاحب الحاوي. ولنا وجه ضعيف، ذكره صاحب الكتاب وغيره في كتاب
النفقات: أنه لا يحرم. قال أصحابنا وغيرهم: ينبغي أن لا يمتنع من الصدقة
بالقليل احتقارا له. قال الله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) * [الزلزال:
7] وفي الحديث الصحيح: اتقوا النار ولو بشق تمرة ويستحب أن يخص
بصدقته أهل الخير والمحتاجين. وجاءت أحاديث كثيرة بالحث على الصدقة
بالماء. ومن دفع إلى غلامه أو ولده ونحوهما شيئا ليعطيه لسائل، لم يزل ملكه عنه
204

حتى يقبضه السائل، فإن لم يتفق دفعه إلى ذلك السائل، استحب له أن لا يعود
فيه، بل يتصدق به، ومن تصدق بشئ، كره له أن يتملكه من جهة من دفعه إليه
بمعاوضة أو هبة. ولا بأس به بملكه منه بالإرث، ولا بتملكه من غيره. وينبغي أن
يدفع الصدقة بطيب نفس وبشاشة وجه، ويحرم المن بها، وإذا من، بطل ثوابها.
ويستحب أن يتصدق مما يحبه. قال صاحب المعاياة: لو نذر صوما أو صلاة في
وقت بعينه، لم يجز فعله قبله، ولو نذر التصدق في وقت بعينه، جاز التصدق قبله،
كما لو عجل الزكاة.
ومما يحتاج إليه، مسائل ذكرها الغزالي في الاحياء.
منها: اختلف السلف في أن المحتاج، هل الأفضل له، أن يأخذ من الزكاة أو
صدقة التطوع؟ فكان الجنيد، والخواص، وجماعة يقولون: الاخذ من
الصدقة أفضل، لئلا يضيق على الأصناف، ولئلا يخل بشرط من شروط الاخذ.
وأما الصدقة، فأمرها هين. وقال آخرون: الزكاة أفضل، لأنه إعانة على واجب،
205

ولو ترك أهل الزكاة كلهم أخذها، أثموا، ولان الزكاة لا منة فيها. قال الغزالي:
والصواب. أنه يختلف بالاشخاص. فإن عرض له شبهة في استحقاقه، لم يأخذ
الزكاة، وإن قطع باستحقاقه، نظر، إن كان المتصدق إن لم يأخذ هذا، لا
يتصدق، فليأخذ الصدقة، فإن إخراج الزكاة لا بد منه، وإن كان لا بد من إخراج
تلك الصدقة ولم يضيق بالزكاة، تخير. وأخذ الزكاة أشد في كسر, النفس. وذكر
أيضا اختلاف الناس في إخفاء أخذ الصدقة وإظهاره، أيهما أفضل؟ وفي كل واحد
فضيلة ومفسدة. ثم قال: وعلى الجملة الاخذ في الملاء، وترك الاخذ في الخلاء،
أحسن. والله أعلم.
206

كتاب الصيام
يجب صوم رمضان باستكمال شعبان ثلاثين، أو رؤية هلاله، فمن رأى
الهلال بنفسه لزمه الصوم. ومن لم يره وشهد بالرؤية عدلان، لزمه. وكذا إن شهد
207

عدل على الأظهر المنصوص في أكثر كتبه. وقيل: يلزم بقول الواحد قطعا.
والثاني: لا بد من اثنين. فإن قلنا: لا بد من اثنين، فلا مدخل لشهادة النساء
والعبيد فيه. ولا بد من لفظ الشهادة، ويختص بمجلس القضاء، ولكنها شهادة
حسية، لا ارتباط لها بالدعوى، وإن قبلنا الواحد، فهل هو بطريق الرواية، أم
الشهادة؟ وجهان. أصحهما: شهادة، فلا يقبل قول العبد والمرأة. نص عليه في
الام: وإذا قلنا: رواية، قبلا. وهل يشترط لفظ الشهادة؟ قال الجمهور:
هو على الوجهين في كونه رواية أو شهادة. وقيل: يشترط قطعا. وإذا قلنا: رواية،
ففي الصبي المميز الموثوق به طريقان. أحدهما: أنه على الوجهين في قبول رواية
الصبي، والثاني: وهو المذهب الذي قطع به الأكثرون: القطع بأنه لا تقبل. وقال
الامام، وابن الصباغ تفريعا على أنه رواية: إذا أخبره موثوق به بالرؤية، لزم قبوله
وإن لم يذكره عند القاضي، وقالت طائفة: يجب الصوم بذلك إذا اعتقد صدقه.
208

ولم يفرعوه على شئ. ومن هؤلاء، ابن عبدان، والغزالي في الاحياء وصاحب
التهذيب. واتفقوا على أنه لا يقبل قول الفاسق على القولين جميعا. ولكن إن
اعتبرنا العدد، اشترطنا العدالة الباطنة، وإلا فوجهان جاريان في رواية المستور.
ولا فرق على القولين بين أن تكون السماء مصحية أو مغيمة.
فرع إذا صمنا بقول واحد تفريعا على الأظهر، ولم نر الهلال بعد ثلاثين،
فهل نفطر؟ فيه وجهان. أصحهما عند الجمهور: نفطر، وهو نصه في الام. ثم
الوجهان جاريان، سواء كانت السماء مصحية، أو مغيمة. هذا مقتضى كلام
الجمهور.
وقال صاحب العدة وحكاه صاحب التهذيب: الوجهان إذا كانت السماء
مصحية، فإن كانت مغيمة، أفطرنا قطعا.
ولو صمنا بقول عدلين، ولم نر الهلال بعد ثلاثين، فإن كانت مغيمة، أفطرنا
قطعا، وإن كانت مصحية، أفطرنا أيضا على المذهب الذي قطع به الجماهير،
ونص عليه في الام وحرملة.
وقال ابن الحداد: لا نفطر، ونقل عن ابن سريج أيضا.
وفرع بعضهم على قول ابن الحداد فقال: لو شهد اثنان على هلال شوال،
ولم نر الهلال، والسماء مصحية بعد ثلاثين، قضينا أول يوم أفطرناه، لأنه بان كونه من
رمضان، لكن لا كفارة على من جامع فيه، لان الكفارة تسقط بالشبهة، وعلى
المذهب: لا قضاء.
209

فرع هل يثبت هلال رمضان بالشهادة على الشهادة؟ فيه طريقان.
أحدهما: على قولين كالحدود، لأنه من حقوق الله تعالى، وأصحهما: القطع
بثبوته كالزكاة وإتلاف حصر المسجد، وإنما القولان في الحدود المبنية على
الاسقاط. فعلى هذا عدد الفروع مبني على الأصول، فإن اعتبرنا العدد في
الأصول، فحكم الفروع حكمهم في سائر الشهادات، ولا مدخل فيه للنساء
والعبيد، وإن لم نعتبر العدد، فإن قلنا: طريقه الرواية، فوجهان. أحدهما:
يكفي واحد كرواية الاخبار، والثاني: لا بد من اثنين. قال في التهذيب: وهو
الأصح، لأنه ليس بخبر من كل وجه، بدليل أنه لا يكفي أن يقول: أخبرني فلان
عن فلان أنه رأى الهلال، فعلى هذا، هل يشترط إخبار حرين ذكرين، أم يكفي
امرأتان أو عبدان؟ وجهان. أصحهما: الأول، ونازع الامام في أنه لا يكفي قوله:
أخبرني فلان عن فلان على قولنا: رواية. وإذا قلنا: طريقه الشهادة، فهل يكفي
واحد، أم يشترط اثنان؟ وجهان. وقطع في التهذيب باشتراط اثنين.
فرع لا يجب مما يقتضيه حساب المنجم، الصوم عليه، ولا على
210

غيره. قال الروياني: وكذا من عرف منازل القمر، لا يلزمه الصوم به على الأصح.
وأما الجواز، فقال في التهذيب: لا يجوز تقليد المنجم في حسابه، لا في
الصوم، ولا في الفطر، وهل يجوز له أن يعمل بحساب نفسه؟ وجها. وجعل
الروياني الوجهين فيما إذا عرف منازل القمر وعلم به وجود الهلال. وذكر أن الجواز
اختيار ابن سريج، والقفال، والقاضي الطبري. قال: فلو عرف بالنجوم، لم
يجز الصوم به قطعا. ورأيت في بعض المسودات، تعدية الخلاف في جواز العمل
به إلى غير المنجم.
فرع إذا قبلنا قول الواحد في الصوم، قال في التهذيب: لا نوقع به
الطلاق والعتق المعلقين بهلال رمضان، ولا نحكم بحلول الدين المؤجل إليه.
211

فرع لا يثبت هلال شوال، إلا بعدلين، وقال أبو ثور: يقبل فيه قول
واحد. قال صاحب التقريب: ولو قلت به لم أكن مبعدا.
فرع إذا رئي هلال رمضان في بلد، ولم ير في الآخر، فان تقارب البلدان،
فحكمها حكم البلد الواحد، وإن تباعدا، فوجهان. أصحهما: لا يجب
الصوم على أهل البلد الآخر. وفي ضبط البعد ثلاثة أوجه. أحدها وبه قطع
العراقيون والصيدلاني وغيرهم: أن التباعد: أن تختلف المطالع، كالحجاز،
والعراق، وخراسان. والتقارب: أن لا تختلف، كبغداد، والكوفة، والري،
وقزوين. والثاني: اعتباره باتحاد الإقليم واختلافه. والثالث: التباعد مسافة
القصر. وبهذا قطع إمام الحرمين، والغزالي، وصاحب التهذيب وادعى الامام
الاتفاق عليه.
قلت: الأصح: هو الأول، فإن شك في اتفاق المطالع، لم يجب الصوم
على الذين لم يروا، لان الأصل عدم الوجوب. والله أعلم.
ولو شرع في الصوم في بلد، ثم سافر إلى بلد بعيد لم ير فيه الهلال في يومه
الأول، واستكمل ثلاثين، فان قلنا: لكل بلد حكم نفسه، لزمه أن يصوم معهم
على الأصح، لأنه صار من جملتهم، والثاني: يفطر، لأنه التزم حكم الأول. وإن
قلنا: يعم الحكم جميع البلاد، لزم أهل البلد المنتقل إليه موافقته إن ثبت عندهم
212

حال البلد الأول بقوله، أو بطريق آخر، وعليهم قضاء اليوم الأول. ولو سافر من
البلد الذي لم ير فيه الهلال إلى بلد رئي فيه، فعيدوا اليوم التاسع والعشرين من
صومه، فإن عممنا الحكم، أو قلنا: له حكم البلد المنتقل إليه، عيد معهم، وقضى يوما.
وإن لم نعم الحكم وقلنا: له حكم المنتقل منه، فليس له الفطر. ولو رأى الهلال
في بلد فأصبح معيدا، فسارت به السفينة إلى بلد في حد البعد، فصادف أهلها
صائمين، فقال الشيخ أبو محمد: يلزم إمساك بقية النهار إذا قلنا: لكل بلد حكمه.
واستبعد الامام والغزالي إيجابه.
وتتصور هذه المسألة في صورتين:
إحداهما: أن يكون ذلك اليوم يوم الثلاثين من صوم أهل البلدين، لكن
المنتقل إليهم لم يروه.
والثانية: أن يكون التاسع والعشرين للمنتقل إليهم لتأخر صومهم بيوم.
وإمساك بقية اليوم في الصورتين، إن لم نعمم الحكم كما ذكرنا. وجواب الشيخ أبي
محمد، كما أنه مبني على أن لكل بلد حكمه، فهو مبني أيضا على أن للمنتقل حكم
المنتقل إليه. وإن عممنا الحكم، فأهل البلد المنتقل إليه إذا عرفوا في أثناء اليوم أنه
العيد، فهو شبيه بما إذا شهد الشهود على رؤية الهلال يوم الثلاثين. وقد سبق بيانه
في صلاة العيد. وإن اتفق هذا السفر لعدلين وقد رأيا الهلال بأنفسهما، وشهدا في
المنتقل إليه، فهذا عين الشهادة برؤية الهلال في اليوم الثلاثين في الصورة الأولى.
وأما الثانية، فإن عممنا الحكم جميع البلاد، لم يبعد أن يكون الاصغاء إلى كلامهما
على ذلك التفصيل، فإن قبلوا قضوا يوما. وإن لم نعمم الحكم، لم يلتفت إلى
قولهما. ولو كان الامر بالعكس، فأصبح صائما، فسارت به السفينة إلى قوم
عيدوا، فإن عممنا الحكم، وقلنا: له حكم المنتقل إليه، أفطر، وإلا، لم يفطر.
213

وإذا أفطر، قضى يوما، إذ لم يصم إلا ثمانية وعشرين يوما.
فرع إذا رأى الهلال بالنهار يوم الثلاثين، فهو لليلة المستقبلة، سواء كان
قبل الزوال، أو بعده.
فصل لا يصح الصوم إلا بالنية، ومحلها القلب. ولا يشترط النطق بلا
خلاف. وتجب النية لكل يوم. فلو نوى صوم الشهر كله، فهل يصح صوم اليوم
الأول بهذه النية؟ المذهب: أنه يصح، وبه قطع ابن عبدان، وتردد فيه الشيخ أبو
محمد. ويجب تعيين النية في صوم الفرض، سواء فيه صوم رمضان، والنذر،
والكفارة، وغيرها. ولنا وجه حكاه صاحب التتمة عن الحليمي: أنه يصح صوم
رمضان بنية مطلقة، وهو شاذ. وكمال النية في رمضان: أن ينوي صمم غد عن أداء
فرض رمضان هذه السنة لله تعالى. فأما الصوم وكونه عن رمضان، فلا بد منهما بلا
خلاف، إلا وجه الحليمي. وأما الأداء والفرضية والإضافة إلى الله تعالى، ففيها
الخلاف المذكور في الصلاة. وأما رمضان هذه السنة، فالمذهب: أنه لا يشترط. وحكى
الامام في اشتراطه وجها وزيفه، وحكى صاحب التهذيب وجهين في أنه يجب
أن ينوي من فرض هذا الشهر، أم يكفي فرض رمضان؟ والصواب ما تقدم. فإنه لو
وقع التعرض لليوم، لم يضر الخطأ في أوصافه. فلو نوى ليلة الثلاثاء صوم الغد وهو
214

يعتقد أنه يوم الاثنين، أو نوى رمضان السنة التي هو فيها وهو يعتقدها سنة ثلاث،
وكانت سنة أربع، صح صومه، بخلاف ما لو نوى صوم يوم الثلاثاء ليلة الاثنين، أو
رمضان سنة ثلاث في سنة أربع، فإنه لا يصح، لأنه لا يعين الوقت. ثم إن لفظ
الغد، أشهر في كلام الأصحاب في تفسير التعيين، وهو في الحقيقة ليس من حد
التعيين، وإنما وقع ذلك من نظرهم إلى التبييت. ولا يخفى مما ذكرناه قياس التعيين
في القضاء، والكفارة.
وأما صوم التطوع، فيصح بنية مطلق الصوم، كما في الصلاة.
فرع قال القاضي أبو المكارم في العدة: لو قال: أتسحر لأقوى على
الصوم، لم يكف هذا في النية. ونقل بعضهم عن نوادر الاحكام لأبي العباس
الروياني: أنه لو قال: أتسحر للصوم، أو شرب لدفع العطش نهارا، أو امتنع من
الأكل والشرب والجماع مخافة الفجر. كان ذلك نية للصوم. وهذا هو الحق إن خطر
بباله الصوم بالصفات التي يشترط التعرض لها، لأنه إذا تسحر ليصوم صوم كذا، فقد
قصده.
فرع تبييت النية شرط في صوم الفرض، فلو نوى قبل غروب الشمس
صوم الغد، لم يصح. ولو نوى مع طلوع الفجر لم يصح على الأصح. ولا
تختص النية بالنصف الأخير من الليل على الصحيح، ولا تبطل بالاكل
والجماع بعدها على المذهب. وحكي عن أبي إسحاق بطلانها، ووجوب
تجديدها. وأنكر ابن الصباغ نسبة هذا إلى أبي إسحاق، وقال الامام: رجع أبو
215

إسحاق عن هذا عام حج، وأشهد على نفسه. فإن ثبت أحد هذين، فلا خلاف
في المسألة.
ولو نوى ونام وانتبه والليل باق، لم يجب تجديد النية على الصحيح. قال
الامام: وفي كلام العراقيين تردد في كون الغفلة، كالنوم، وكل ذلك مطرح.
فرع يصح صوم النفل بنية قبل الزوال. وقال المزني وأبو يحيى
البلخي: لا يصح إلا من الليل، وهل يصح بعد الزوال؟ قولان. أظهرهما وهو
المنصوص في معظم كتبه: لا يصح. وفي حرملة: أنه يصح.
قلت: وعلى نصه في حرملة: يصح في جميع ساعات النهار. والله أعلم.
ثم إذا نوى قبل الزوال أو بعده، وصححناه، فهل هو صائم من أول النهار
حتى ينال ثواب جميعه، أم من وقت النية؟ وجهان. أصحهما عند الأكثرين: أنه
صائم من أول النهار. كما إذا أدرك الامام في الركوع، يكون مدركا لثواب جميع
الركعة. فإذا قلنا بهذا، اشترط جميع شروط الصوم من أول النهار، وإذا قلنا: يثاب
من حين النية، ففي اشتراط خلو الأول عن الاكل والجماع وجهان. الصحيح:
الاشتراط، والثاني: لا، وينسب إلى ابن سريج، وأبي زيد، ومحمد بن جرير
الطبري. وهل يشترط خلو أوله عن الكفر والحيض والجنون، أم يصح صوم من
أسلم، أو أفاق، أو طهرت من الحيض ضحوة؟ وجهان. أصحهما: الاشتراط.
فرع ينبغي أن تكون النية جازمة، فلو نوى ليلة الثلاثين من شعبان أن
يصوم غدا إن كان من رمضان، فله حالان.
216

الأول: أن لا يعتقده من رمضان، فينظر، إن ردد نيته فقال: أصوم غدا عن
رمضان إن كان منه، وإلا، فأنا مفطر، أو فأنا متطوع، لم يقع صومه عن رمضان إذا
بان منه، لجنه صام شاكا.
وقال المزني: يقع عن رمضان. ولو نوى ليلة الثلاثين من رمضان صوم غد إن
كان من رمضان، وإلا فهو مفطر، أجزأه، لان الأصل بقاء رمضان. ولو قال:
أصوم غدا من رمضان، أو تطوعا، أو أصوم، أو أفطر، لم يصح صومه لا في الأول
ولا في الآخر. أما إذا لم يردد نيته، بل جزم بالصوم عن رمضان، فلا يصح صومه،
لأنه ذا لم يعتقده من رمضان، لم يتأت منه الجزم بصوم رمضان حقيقة، وإنما
يحصل حديث نفس لا اعتبار به. وعن صاحب التقريب حكاية وجه: أنه يصح.
الحال الثاني: أن يعتقد كونه من رمضان، فإن لم يستند اعتقاده إلى ما يثير
ظنا، فلا اعتبار به، وإن استند إليه، بأن اعتمد قول من يثق به، من حر،
أو عبد،
أو امرأة، أو صبيين ذوي رشد، ونوى صومه عن رمضان، أجزأه إذا بان من
رمضان. فإن قال في نيته والحالة هذه: أصوم عن رمضان، فإن لم يكن من
رمضان، فهو تطوع، فظاهر النص: أنه لا يصح صومه إذا بان من رمضان،
للتردد. وفيه وجه: أنه يصح، لاستناده إلى أصل. ورأي الامام طرد هذا الخلاف
فيما إذا جزم. ويدخل في قسم استناد الاعتقاد إلى ما يثير ظنا، بناء الامر على
الحساب حيث جوزناه على التفصيل السابق.
ومنها: إذا حكم الحاكم بشهادة عدلين، أو واحد، إذا جوزناه، وجب الصوم،
ولا يضر ما قد تبقى من الارتياب.
ومنها: المحبوس إذا اشتبه عليه رمضان، فاجتهد، صام شهرا بالاجتهاد.
217

ولا يكفيه صوم شهر بلا اجتهاد وإن وافق رمضان. ثم إذا اجتهد فصام شهرا،
فإن وافق رمضان، فذاك، وإن تأخر عنه، أجزأه قطعا، ويكون قضاء على
الأصح، وعلى الثاني: أداء.
ويتفرع على الوجهين ما إذا كان ذلك الشهر ناقصا، ورمضان تاما. إن قلنا:
قضاء، لزمه يوم آخر، وإن قلنا: أداء، فلا، كما لو كان رمضان
ناقصا. وإن كان الامر بالعكس، فإن قلنا: قضاء، فله إفطار اليوم الآخر. وإن
قلنا: أداء، فلا، وإن وافق صومه شوالا، حصل منه تسعة وعشرون إن كمل، أو ثمانية
وعشرون إن نقص، فإن جعلناه قضاء، وكان رمضان ناقصا، فلا شئ عليه على
التقدير الأول، ويقضي يوما على التقدير الثاني. وإن كان رمضان كاملا، قضى يوما
على التقدير الأول، ويومين على التقدير الثاني. وإن جعلناه أداء، فعليه قضاء يوم
بكل حال. وإن وافق ذا الحجة، حصل منه ستة وعشرون يوما إن كمل، وخمسة
وعشرون إن نقص. فإن جعلناه قضاء، وكان رمضان ناقصا، قضى ثلاثة أيام على
التقدير الأول، وأربعة على التقدير الثاني. وإن كان كاملا، قضى أربعة على
التقدير الأول، وخمسة على التقدير الثاني. وإن جعلناه أداء، قضى أربعة بكل حال
. وهذا مبني على أن صوم أيام التشريق لا يصح بحال، فإن صححنا صومها
لغير المتمتع، فذو الحجة كشوال. أما إذا اجتهد فوافق صيامه ما قبل رمضان،
218

فينظر، إن أدرك رمضان بعد بيان الحال، لزمه صومه بلا خلاف. وإن لم يبن الحال إلا بعد مضي رمضان،
فطريقان. أشهرهما: على قولين. الجديد الأظهر: وجوب القضاء، والقديم: لا
قضاء، والطريق الثاني: القطع بوجوب القضاء. فإن بان الحال في بعض رمضان،
فطريقان. أحدهما: القطع بوجوب قضاء ما مضى. وأصحهما: أن في إجزائه
الخلاف فيما إذا بان بعد مضي جميع رمضان.
فرع إذا نوت الحائض صوم الغد قبل انقطاع دمها، ثم انقطع في
الليل، فإن كانت مبتدأة يتم لها بالليل أكثر الحيض، أو معتادة عادتها أكثر الحيض،
وهو يتم بالليل، صح صومها. وإن كانت عادتها دون أكثره، ويتم بالليل،
فوجهان. أصحهما: يصح، لأن الظاهر استمرار عادتها. وإن لم يكن لها عادة،
ولا يتم أكثر الحيض في الليل، أو كان لها عادات مختلفة، لم يصح.
فرع إذا نوى الانتقال من صوم إلى صوم، لم ينتقل إليه، وهل يبطل
صومه، أم يبقى نفلا؟ وجهان. وكذا لو رفض نية الفرض عن الصوم الذي هو فيه.
قلت: الأصح: بقاؤه على ما كان.
واعلم أن انقلابه نفلا على أحد الوجهين، إنما يصح في غير رمضان، وإلا،
فرمضان لا يقبل النفل عندنا ممن هو من أهل الفرض بحال. والله أعلم.
فرع لو قال: إذا جاء فلان، خرجت من صومي، فهل يخرج عند
مجيئه؟ وجهان. فإن قلنا: يخرج، فهل يخرج في الحال؟ وجهان. والمذهب:
لا يبطل في الحالين، كما سبق بيانه في صفة الصلاة.
فصل لا بد للصائم من الامساك عن المفطرات، وهي أنواع.
منها: الجماع، وهو مفطر بالاجماع.
219

ومنها: الاستمناء، وهو مفطر.
ومنها: الاستقاءة، فمن تقيأ عمدا، أفطر. ومن ذرعه القئ، لم يفطر. ثم
اختلفوا في سبب الفطر إذا تقيأ عمدا، فالأصح: أن نفس الاستقاءة مفطرة
كالانزال، والثاني: أن المفطر رجوع شئ مما خرج وإن قل. فلو تقيأ منكوسا، أو
تحفظ، فاستيقن أنه لم يرجع شئ إلى جوفه، ففي فطره الوجهان. قال الامام:
فلو استقاء عمدا، أو تحفظ جهده، فغلبه القئ ورجع شئ، فإن قلنا: الاستقاءة
مفطرة بنفسها، فهنا أولى، وإلا فهو كالمبالغة في المضمضة إذا سبق الماء إلى
جوفه.
فرع من المفطرات دخول شئ في جوفه - وقد ضبطوا الداخل المفطر
بالعين الواصلة - الظاهر إلى الباطن في منفذ مفتوح عن قصد مع ذكر الصوم.
وفيه قيود:
منها الباطن الواصل إليه. وفيما يعتبر به وجهان. أحدهما: أنه ما يقع عليه
اسم الجوف، والثاني: يعتبر معه أن يكون فيه قوة تحيل الواصل إليه من غذاء أو
دواء. والأول هو الموافق لكلام الأكثرين، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ويدل
220

عليه أنهم جعلوا الحلق كالجوف في بطلان الصوم بوصول الواصل إليه. وقال
الامام: إذا جاوز الشئ الحلقوم، أفطر. وعلى الوجهين جميعا باطن الدماغ
والبطن والأمعاء والمثانة، مما يفطر الوصول إليه، حتى لو كان على بطنه جائفة،
أو برأسه مأمومة، فوضع عليها دواء فوصل جوفه أو خريطة دماغه، أفطر وإن لم يصل
باطن الأمعاء أو باطن الخريطة، وسواء كان الدواء رطبا أو يابسا. ولنا وجه: أن
الوصول إلى المثانة لا يفطر، وهو شاذ. والحقنة تفطر على الصحيح. وقال
القاضي حسين: لا تفطر، وهو غريب. والسعوط إن وصل الدماغ، فطر. وما
جاوز الخيشوم في الأسعاط، فقد حصل في حد الباطن وداخل الفم والأنف إلى
منتهى الغلصمة. والخيشوم له حكم الظاهر من بعض الوجوه، حتى لو خرج إليه
القئ وابتلع منه نخامة، أفطر، ولو أمسك فيه شيئا، لم يفطر، ولو نجس، وجب
غسله، وله حكم الباطن من حيث أنه لو ابتلع منه الريق لا يفطر، ولا يجب غسله
على الجنب.
فرع لا بأس بالاكتحال للصائم، سواء وجد في حلقه منه طعما، أم لا،
لأن العين ليست بجوف، ولا منفذ منها إلى الحلق. ولو قطر في أذنه شيئا فوصل إلى
221

الباطن، أفطر على الأصح عن الأكثرين، كالسعوط، والثاني: لا يفطر
كالاكتحال، قاله الشيخ أبو علي، والقاضي حسين، والفوراني. ولو قطر في
إحليله شيئا لم يصل إلى المثانة، فأوجه. أصحها: يفطر، والثاني: لا،
والثالث: إن جاوز الحشفة، أفطر، وإلا، فلا. ولا يفطر الفصد والحجامة،
لكن يكرهان للصائم. وقال ابن المنذر وابن خزيمة من أصحابنا: يفطر بالحجامة.
فرع لو أوصل الدواء إلى داخل لحم الساق، أو غرز فيه السكين فوصلت
مخه، لم يفطر، لأنه لم يعد عضوا مجوفا. ولو طلى رأسه أو بطنه بالدهن فوصل
جوفه بشرب المسام، لم يفطر، لأنه لم يصل من منفذ مفتوح، كما لا يفطر
بالاغتسال والانغماس في الماء وإن وجد له أثرا في باطنه. ولو طعن نفسه، أو طعنه
غيره بإذنه، فوصل السكين جوفه، أفطر، سواء كان بعض السكين خارجا، أو
لم يكن. وكذا لو ابتلع طرف خيط وطرفها لآخر بارز، أفطر بوصول الطرف
الواصل، ولا يعتبر الانفصال من الظاهر. وحكى الحناطي وجها فيمن أدخل طرف
خيط في دبره أو جوفه، وبعضه خارج: أنه لا يفطر.
فرع لو ابتلع طرف خيط بالليل، وطرفه الآخر خارج، فأصبح
كذلك، فإن تركه لم تصح صلاته، وإن نزعه أو ابتلعه لم يصح صومه. فينبغي أن
يبادر غيره إلى نزعه وهو غافل، فإن لم يتفق ذلك، فالأصح: أن يحافظ على
الصلاة فينزعه أو يبتلعه، والثاني: يتركه محافظة على الصوم، ويصلي على
حاله.
قلت: ويجب إعادة الصلاة على الصحيح. والله أعلم.
222

فرع من قيود المفطر وصوله بقصد، فلو طارت ذبابة إلى حلقه، أو
وصل غبار الطريق، أو غربلة الدقيق إلى جوفه، لم يفطر. فلو فتح فاه عمدا
حتى دخل الغبار جوفه، قال في التهذيب: لم يفطر على الأصح. ولو ربطت
المرأة ووطئت، أو طعن أو أوجر بغير اختياره، لم يفطر. ونقل الحناطي وجهين فيما
إذا أوجر بغير اختياره، وهذا غريب. فلو كان مغمى عليه فأوجر معالجة وإصلاحا
له، وقلنا: لا يبطل الصوم بمجرد الاغماء، ففي بطلانه بهذا الايجار وجهان.
أصحهما: لا يفطر. ونظير الخلاف إذا عولج المحرم المغمى عليه بدواء فيه
طيب، هل تجب الفدية؟.
فرع ابتلاع الريق لا يفطر بشروط.
أحدها: أن يتمحض الريق، فلو اختلط بغيره وتغير به، أفطر بابتلاعه، سواء
كان الغير طاهرا، كمن فتل خيطا مصبوغا تغير به ريقه، أو نجسا كمن دميت لثته
وتغير ريقه، فلو ذهب الدم، وابيض الريق، ولم يبق تغير، هل يفطر بابتلاعه؟
223

وجهان. أصحهما عند الأكثرين: يفطر، لأنه نجس لا يجوز ابتلاعه. وعلى هذا،
لو تناول بالليل شيئا نجسا، ولم يغسل فمه حتى أصبح، فابتلع الريق، أفطر.
الشرط الثاني: أن يبتلعه من معدته، فلو خرج عن فيه ثم رده بلسانه أو بغيره
وابتلعه، أفطر. ولو أخرج لسانه وعليه الريق، ثم رده وابتلع ما عليه، لم يفطر على
الأصح. ولو بل الخياط الخيط بالريق، ثم رده إلى فيه على ما يعتاد عند الفتل،
فإن لم يكن عليه رطوبة تنفصل، فلا بأس، وإن كانت وابتلعها، فوجهان. قال
الشيخ أبو محمد: لا يفطر، كما لا يفطر بالباقي من ماء المضمضة. وقال
الجمهور: يفطر، لأنه لا ضرورة إليه، وقد ابتلعه بعد مفارقته معدته. وخص
صاحب التتمة الوجهين بما إذا كان جاهلا تحريم ذلك، قال: فإن كان عالما،
أفطر بلا خلاف.
الشرط الثالث: أن يبتلعه على هيئته المعتادة، فان جمعه ثم ابتلعه،
فوجهان. أصحهما: لا يفطر.
فرع النخامة إن لم تحصل في حد الظاهر من الفم، فلا تضر، وإن
حصلت فيه بانصبابها من الدماغ في الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم،
نظر، إن لم يقدر على صرفها ومجها حتى نزلت إلى الجوف. لم تضر، وإن ردها
إلى فضاء الفم، أو ارتدت إليه ثم ابتلعها، أفطر. وإن قدر على قطعها من
مجراها، فتركها حتى جرت بنفسها، فوجهان حكاهما الامام، أوفقهما
224

لكلام الأئمة: أنه يفطر لتقصيره.
فرع إذا تمضمض فسبق الماء إلى جوفه، أو استنشق فسبق إلى دماغه،
فالمذهب: أنه إن بالغ فيهما، أفطر، وإلا، فلا. وقيل: يفطر مطلقا، وقيل:
عكسه. هذا إذا كان ذاكرا للصوم، فإن كان ناسيا، لم يفطر بحال. وسبق
الماء عند غسل الفم لنجاسة، كسبقه في المضمضة، والمبالغة هنا للحاجة ينبغي أن
تكون كالمضمضة بلا مبالغة. ولو سبق الماء عند غسل تبرد، أو من المضمضة في
المرة الرابعة قال في التهذيب: إن بالغ، أفطر، وإلا فهو مرتب على
المضمضة، وأولى بالافطار، لأنه غير مأمور به.
قلت: المختار في المرة الرابعة، الجزم بالافطار كالمبالغة، لأنها منهي عنها.
ولو جعل الماء في فمه لا لغرض، فسبق، فقيل: يفطر. وقيل بالقولين. ولو أصبح
ولم ينو صوما، فتمضمض ولم يبالغ، فسبق الماء إلى جوفه ثم نوى صوم تطوع،
صح على الأصح. قال القاضي حسين في فتاويه: إن قلنا: هذا السبق لا
يفطر، صح، وإلا، فلا. قال: والأصح: الصحة في الموضعين. والله أعلم.
فرع: إذا بقي طعام في خلل أسنانه، فابتلعه عمدا، أفطر. وإن جرى به
الريق بغير قصد، فنقل المزني: أنه لا يفطر. والربيع: أنه يفطر. وقيل: قولان.
والأصح حملها على حالتين، فحيث قال: لا يفطر، أراد به ما إذا لم يقدر
على تمييزه ومجه. وحيث قال: يفطر، أراد به ما إذا قدر فلم يفعل وابتلعه. وقال
إمام الحرمين والغزالي: إن نقى أسنانه بالخلال على العادة، (فهو) كغبار
225

الطريق، وإلا، أفطر لتقصيره، كالمبالغة في المضمضة. ولقائل أن ينازعهما في
إلحاقه بالمبالغة التي ورد النص بكراهتها، ولان ماء المبالغة أقرب إلى الجوف.
فرع المني إذا خرج بالاستمناء، أفطر، وإن خرج بمجرد فكر ونظر
بشهوة، لم يفطر، وإن خرج بمباشرة فيما دون الفرج، أو لمس أو قبلة، أفطر.
هذا هو المذهب، وبه قال الجمهور. وحكى إمام الحرمين عن شيخه: أنه حكى
وجهين فيما إذا ضم امرأة إلى نفسه وبينهما حائل، فأنزل. قال: وهو عندي كسبق
ماء المضمضة، فإن ضاجعها متجردا، فكالمبالغة في المضمضة.
فرع تكره القبلة لمن حركت شهوته ولا يأمن على نفسه، وهي كراهة
تحريم على الأصح، والثاني: كراهة تنزيه، ولا تكره لغيره، ولكن الأولى
تركها.
فرع لو اقتلع نخامة من باطنه ولفظها، لم يفطر على المذهب الذي قطع
به الحناطي وكثيرون. وحكى الشيخ أبو محمد فيه وجهين. ثم إن الغزالي جعل
مخرج الحاء المهملة من الباطن، والخاء المعجمة من الظاهر. ووجهه لائح، فإن
المهملة تخرج من الحلق، والحلق باطن، والمعجمة تخرج مما قبل الغلصمة،
226

لكن يشبه أن يكون قدر مما بعد مخرج المهملة من الظاهر أيضا.
قلت: المختار أن المهملة أيضا من الظاهر، وعجب كونه ضبطه بالمهملة
التي هي من وسط الحلق، ولم يضبطه بالهاء أو الهمزة، فإنهما من أقصى الحلق.
وأما المعجمة، فمن أدنى الحلق، وهذا معروف مشهور لأهل
العربية. والله أعلم.
فرع قدمنا أنه لا يفطر بالايجار مكرها على المذهب، فلو أكره على
الاكل، لم يفطر على الأظهر. ويجري الوجهان فيما لو أكرهت على الوطئ، أو
أكره الرجل، وقلنا: يتصور إكراهه، ولكن لا كفارة وإن حكمنا بالفطر للشبه.
وإن قلنا: لا يتصور الاكراه، أفطر، ولزمته الكفارة.
وإن أكل ناسيا، فإن كان قليلا، لم يفطر قطعا، وإن كثر، فوجهان
كالوجهين في الكلام الكثير في الصلاة ناسيا.
قلت: الأصح هنا: أنه لا يفطر. والله أعلم.
وإن أكل جاهلا بكونه مفطرا، فإن كان قريب عهد بالاسلام، أو نشأ ببادية
وكان يجهل مثل ذلك، لم يفطر، وإلا أفطر. ولو جامع ناسيا، لم يفطر على
المذهب. وقيل قولان: كجماع المحرم ناسيا. ولو أكل ظانا غروب الشمس،
227

فبانت طالعة، أو ظن أن الفجر لم يطلع، فبان طالعا، أفطر على الصحيح
المنصوص، وبه قطع الجمهور. وقيل: لا يفطر فيهما، قاله المزني وابن خزيمة من
أصحابنا. وقيل: يفطر في الأولى دون الثانية لتقصيره في الأولى.
فرع الأحوط للصائم، أن لا يأكل حتى يتيقن غروب الشمس، فلو غلب
على ظنه الغروب باجتهاد بورد أو غيره، جاز له الاكل على الصحيح. وقال الأستاذ
أبو إسحاق الأسفراييني: لا يجوز، لقدرته على اليقين بالصبر. وأما في آخر
الليل، فيجوز الاكل بالاجتهاد دون الظن. فلو هجم في الطرفين، فأكل بلا
ظن، فإن تبين الخطأ، فحكمه ما سبق في الفرع قبله، وإن تبين الصواب.
استمرت صحة الصوم، وإن لم يبن الخطأ ولا الصواب، فإن كان ذلك في آخر
النهار، وجب القضاء، وإن كان في أوله، فلا قضاء، استصحابا للأصل فيهما.
ولو أكل في آخر النهار بالاجتهاد، وقلنا: لا يجوز الاكل، كان كمن أكل بالاجتهاد.
قلت: والاكل هجوما بلا ظن حرام في آخر النهار قطعا، وجائز في أوله.
وقال الغزالي في الوسيط: لا يجوز، ومثله في التتمة، وهو محمول على أنه
ليس مباحا مستوي الطرفين، بل الأولى تركه. وقد صرح به الماوردي والدارمي
وخلائق بأنه لا يحرم على الشاك الاكل وغيره، ولا خلاف في هذا القول، لقول الله
تعالى: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض...) *. [البقرة 187]
228

وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما كل ما شككت حتى يتبين لك. والله
أعلم.
فرع إذا طلع الفجر وفي فيه طعام، فليلفظه، ويصح صومه، فإن
ابتلعه، أفطر. فلو لفظ في الحال، فسبق شئ إلى جوفه بغير اختياره، فوجهان
مخرجان من سبق الماء في المضمضة.
قلت: الصحيح: لا يفطر. والله أعلم.
ولو طلع وهو مجامع، فنزع في الحال، صح صومه، نص عليه في
229

المختصر ولهذه المسألة ثلاثة صور.
أحدها: أن يحس بالفجر وهو مجامع، فنزع بحيث يوافق آخر نزعه الطلوع.
والثانية: يطلع الفجر وهو مجامع، ويعلم بالطلوع في أوله، فينزع في
الحال.
والثالثة: أن يمضي زمن بعد الطلوع، ثم يعلم بن.
أما هذه الثالثة، فليست مرادة بالنص، بل يبطل فيها الصوم على المذهب،
ويجئ فيها الخلاف السابق فيمن أكل ظانا أن الصبح لم يطلع، فبان خلافه، فعلى
المذهب: لو مكث في هذه الصورة، فلا كفارة عليه، لان مكثه مسبوق ببطلان
الصوم.
وأما الصورتان الأوليان، فمرادتان بالنص، فلا يبطلان الصوم فيهما. وفي
الثانية منهما وجه شاذ: أنه يبطل. وأما إذا طلع الفجر وعلم بمجرد الطلوع، فمكث،
فيبطل صومه قطعا، ويلزمه الكفارة على المذهب. وقيل: فيهما قولان. ولو جامع
ناسيا ثم تذكر فاستدام، فهو كالماكث بعد الطلوع. فإن قيل: كيف يعلم الفجر
بمجرد طلوعه وطلوعه الحقيقي يتقدم على علمنا به؟ فأجاب الشيخ أبو محمد
بجوابين. أحدهما: أنها مسألة علمية على التقدير، ولا يلزم وقوعها. والثاني: أنا
تعبدنا بما نطلع عليه، ولا معنى للصبح إلا ظهور الضوء للناظر، وما قبله لا حكم
له. فإذا كان الشخص عارفا بالأوقات ومنازل القمر، فترصده بحيث لا حائل، فهو
أول الصبح المعتبر.
قلت: هذا الثاني هو الصحيح، بل إنكار تصوره غلط. والله أعلم.
فصل في شروط الصوم
وهي أربعة.
الأول: النقاء من الحيض والنفاس، فلا يصح صوم الحائض ولا النفساء.
230

الثاني: الاسلام، فلا يصح صوم كافر أصليا كان أو مرتدا، ويعتبر الشرطان
في جميع النهار. فلو طرأ الحيض أو ردة، بطل صومه.
والثالث: العقل، فلا يصح صوم المجنون. فلو جن في أثناء النهار،
بطل صومه على المذهب. وقيل: هو كالاغماء. ولو نام جميع النهار، صح صومه
على الصحيح المعروف. وقال أبو الطيب بن سلمة، والاصطخري:
لا يصح صومه. ولو نوى من الليل، ثم أغمي عليه، فالمذهب: أنه إن كان
مفيقا في جزء من النهار، صح صومه، وإلا، فلا، وهذا هو المنصوص في
المختصر في باب الصيام. وفيه قول: أنه تشترط الإفاقة من أول النهار. وفي
قول: يبطل بالاغماء ولو لحظة في النهار كالحيض، ومنهم من أنكر هذا القول.
وفي قول مخرج: أنه لا يبطل بالاغماء وإن استغرق كالنوم. وفي قول خرجه ابن
سريج: تشترط الإفاقة في طرف النهار، ومنهم من قطع بالمذهب، ومنهم من قطع
بالقول الثاني. ولو نوى بالليل، ثم شرب دواء فزال عقله نهارا، فقال في
التهذيب إن قلنا: لا يصح الصوم في الاغماء، فهنا أولى، وإلا فوجهان.
والأصح: أنه لا يصح، لأنه بفعله. قال في التتمة: ولو شرب المسكر ليلا
231

وبقي سكره جميع النهار، لزمه القضاء، وإن صحا في بعضه، فهو كالاغماء في
بعض النهار. وأما الغفلة، فلا أثر لها في الصوم بالاتفاق.
الشرط الرابع: الوقت قابل للصوم. وأيام السنة كلها - غير يومي العيدين،
وأيام الشريق، ويوم الشك - قابلة للصوم مطلقا.
فأما يوما العيدين، فلا يقبلانه. وأما أيام التشريق، فلا تقبل على الجديد.
وقال في القديم: يجوز للمتمتع، وللعادم للهدي، صومها عن الثلاثة الواجبة في
الحج. فعلى هذا، هل يجوز لغير المتمتع صومها؟ وجهان. الصحيح وبه قال
الأكثرون: لا يجوز.
قلت: وإذا جوزنا لغير المتمتع، فهو مختص بصوم له سبب من واجب أو
نفل. فأما ما لا سبب له، فلا يجوز عند الجمهور ممن ذكر هذا الوجه وقال إمام
الحرمين: هو كيوم الشك، وهذا القديم هو الراجح دليلا، وإن كان مرجوحا عند
الأصحاب. والله أعلم.
وأما يوم الشك، فلا يصح صومه عن رمضان، ويجوز صومه عن قضاء، أو
نذر، أو كفارة. ويجوز إذا وافق وردا صومه تطوعا بلا كراهة. وقال القاضي أبو
الطيب: يكره صومه عما عليه (من) فرض. قال ابن الصباغ: هذا خلاف
القياس، لأنه إذا لم يكره فيه ماله سبب من التطوع، فالفرض أولى. ويحرم أن
يصوم فيه تطوعا لا سبب له، فإن صامه، لم يصح على الأصح. وإن نذر صومه،
ففي صحة نذره هذان الوجهان. فإن صححنا، فليصم يوما غيره، فإن صامه،
خرج عن نذره.
232

ويوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان، إذا وقع في الألسن أنه رئي ولم يقل
عدل: أنا رأيته، أو قاله ولم يقبل الواحد، أو قاله عدد من النساء أو العبيد أو الفساق
وظن صدقهم. وأما إذا لم يتحدث برؤيته أحد، فليس بيوم شك، سواء كانت
السماء مصحية، أو طبق الغيم، هذا هو الصحيح المعروف. وفي وجه لأبي محمد
البافي - بالباء الموحدة وبالفاء - إن كانت السماء مصحية ولم ير الهلال، فهو شك.
وفي وجه لأبي طاهر: يوم الشك: ما تردد بين الجائزين من غير ترجيح، فإن شهد
عبد، أو صبي، أو امرأة، فقد ترجح أحد الجانبين، فليس بشك. ولو كان في
السماء قطع سحاب يمكن أن يرى الهلال من خللها، وأن يخفى تحتها ولم يتحدث
برؤيته. فقال الشيخ أبو محمد: هو يوم شك. وقال غيره: ليس بشك. وقال إمام
الحرمين: إن كان في بلد يستقل أهله بطلب الهلال، فليس بشك، وإن كانوا في
سفر، ولم تبعد رؤية أهل القرى، فيحتمل أن يجعل يوم الشك.
قلت: الأصح: ليس بشك. والله أعلم.
فصل في سنن الصوم من سنن الصوم،
تعجيل الفطر إذا تحقق غروب الشمس، وأن يفطر على تمر، فإن لم يجد،
فعلى الماء وقال الروياني: يفطر على تمر، فإن لم يجد، فعلى حلاوة أخرى،
فإن لم يجد، فعلى الماء. وقال القاضي حسين: الأولى في زماننا أن يفطر على ما
يأخذه بكفه من النهر ليكون أبعد عن الشبهة. ويسن السحور وأن يؤخره ما لم
233

يقع في مظنة الشك. والوصال مكروه كراهة تحريم على الصحيح، وهو ظاهر
نص الشافعي رحمه الله، والثاني: كراهة تنزيه. وحقيقة الوصال: أن يصوم
يومين فصاعدا ولا يتناول شيئا بالليل. والجود والافضال مستحب في جميع
الأوقات، وفي رمضان آكد. والسنة كثرة تلاوة القرآن فيه، والمدارسة به، وهو أن
يقرأ على غيره، ويقرأ غيره عليه. ويسن الاعتكاف فيه، لا سيما في العشر الأواخر
لطلب ليلة القدر. ويصون الصائم لسانه عن الكذب والغيبة والمشاتمة ونحوها،
ويكف نفسه عن الشهوات، فهو سر الصوم والمقصود الأعظم منه. وأن يترك السواك
بعد الزوال، وإذا استاك فلا فرق بين الرطب واليابس، بشرط أن يحترز عن ابتلاع
شئ منه أو من رطوبته. ولنا وجه: أنه لا يكره السواك بعد الزوال في النفل، ليكون
أبعد من الرياء، قاله القاضي حسين، وهو شاذ. ويستحب تقديم غسل الجنابة
عن الجماع، والاحتلام على الصبح. ولو طهرت الحائض ليلا، ونوت الصوم، ثم
اغتسلت في النهار، صح صومها. والسنة أن يقول عند فطره: اللهم لك صمت،
وعلى رزقك أفطرت وأن يفطر الصائمين معه، فإن عجز عن عشائهم، أعطاهم ما
يفطرون به من شربة أو تمرة أو غيرهما. ويستحب أن يحترز عن الحجامة،
والعلك، والقبلة، والمعانقة، إذا لم نحرمهما. وذوق الشئ، ومضغ الطعام
للطفل، وكل ذلك لا يبطل الصوم.
فصل في مبيحات الفطر في رمضان وأحكامه فالمرض والسفر،
مبيحان بالنص والاجماع، وكذلك من غلبه الجوع أو العطش، فخاف الهلاك، فله
الفطر وإن كان مقيما صحيح البدن. ثم شرط كون المرض مبيحا، أن يجهده
234

الصوم معه، فيلحقه ضرر يشق احتماله على ما ذكرنا من وجوه المضار في التيمم.
ثم المرض إن كان مطبقا، فله ترك النية بالليل، وإن كان يحم وينقطع، نظر، إن
كان محموما وقت الشروع، فله ترك النية، وإلا، فعليه أن ينوي من الليل، ثم إن
عاد واحتاج إلى الافطار، أفطر. وشرط كون السفر مبيحا، كونه طويلا ومباحا. ولو
أصبح صائما، ثم مرض في أثناء النهار، فله الفطر. ولو أصبح مقيما صائما ثم
سافر، لم يجز له فطر ذلك اليوم. وقال المزني: يجوز، وبه قال غيره من
أصحابنا. فعلى الصحيح: لو أفطر بالجماع، لزمته الكفارة. ولو نوى المقيم
بالليل، ثم سافر ليلا، فإن فارق العمران قبل الفجر، فله الفطر، وإلا، فلا. ولو
أصبح المسافر صائما، ثم أقام في أثناء النهار، لم يجز له الفطر على الصحيح.
ونقل صاحب الحاوي عن حرملة: أن له الفطر. ولو أصبح المريض صائما، ثم
برأ في النهار، فقطع كثيرون بتحريم الفطر عليه. وطرد صاحب المهذب فيه
الوجهين، ولعله الأولى. ولو أصبح صائما في السفر، ثم أراد الفطر، جاز. وفيه
احتمال لإمام الحرمين وصاحب المهذب: أنه لا يجوز. وإذا قلنا بالمذهب،
ففي كراهة الفطر وجهان.
قلت: هذا الاحتمال الذي ذكراه، نص عليه الشافعي رضي الله عنه في
البويطي لكن قال: لا يجوز الفطر إن لم يصح الحديث بالفطر. وقد صح
الحديث. والله أعلم.
واعلم، أن للمسافر الصوم والفطر. ثم إن كان لا يتضرر بالصوم، فهو
235

أفضل، وإلا، فالفطر أفضل. وذكر في التتمة: أنه لو لم يتضرر في الحال،
لكن يخاف الضعف لو صام، أو كان سفر حج، أو غزو، فالفطر أولى. وقد تقدم
أصل هذه المسألة في صلاة المسافر.
فرع في أحكام الفطر كل من ترك النية الواجبة عمدا أو سهوا، فعليه
القضاء. وكذا كل من أفطر، لكن لو كان إفطاره يوجب الكفارة، ففيه خلاف نذكره
إن شاء الله تعالى. وما فات بسبب الكفر الأصلي، لا قضاء فيه، ويجب القضاء
على المرتد. والمسافر، والمريض إذا أفطرا، قضيا. وما فات بالاغماء، يجب
قضاؤه، سواء استغرق جميع الشهر، أم لا، لأنه نوع مرض، بخلاف الجنون.
ولهذا يجوز الاغماء على الأنبياء عليهم السلام، ولا يجوز عليهم الجنون. وعن ابن
سريج: أن الاغماء إذا استغرق، فلا قضاء. وما فات بالحيض والنفاس، وجب
قضاؤه، ولا يجب على الصبي والمجنون صوم، ولا قضاء، سواء استغرق الجنون
النهار، أو الشهر، أم لا. وحكي قول شاذ: أن الجنون كالاغماء، فيجب
القضاء. وقول: أنه إذا أفاق في أثناء الشهر، لزمه قضاء ما مضى من الشهر. هذا
في الجنون المطلق، أما إذا ارتد ثم جن، أو سكر ثم جن، ففي وجوب القضاء
وجهان. ولعل الظاهر: الفرق بين اتصاله بالردة، وبين اتصاله بالسكر كما سبق في
الصلاة.
فرع لا يجب التتابع في قضاء رمضان، لكن يستحب.
فصل في الامساك تشبها بالصائمين وهو من خواص رمضان، كالكفارة،
فلا إمساك على متعد بالفطر في نذر أو قضاء. ثم من أمسك تشبها، ليس
في صوم، بخلاف المحرم إذا أفسد إحرامه، ويظهر أثره في أن المحرم لو ارتكب
محظورا، لزمه الفدية، ولو ارتكب الممسك محظورا، لا شئ عليه سوى الاثم.
ثم الامساك يجب على كل متعد بالفطر في رمضان، سواء أكل أو ارتد، أو نوى
236

الخروج من الصوم وقلنا: يخرج. ويجب على من نسي النية من الليل.
فرع لو أقام المسافر أو برأ المريض اللذان يباح لهما الفطر في أثناء
النهار، فلهما ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يصبحا صائمين وداما عليه إلى زوال العذر، فقد تقدم في الفصل
السابق أن المذهب: لزوم اتمام الصوم.
الثاني: أن يزول بعدما أفطرا، فلا يجب الامساك، لكن يستحب. فإن
أكلا، أخفياه لئلا يتعرضا للتهمة وعقوبة السلطان، ولهما الجماع بعد زوال العذر إذا
لم تكن المرأة صائمة، بأن كانت صغيرة، أو طهرت من الحيض ذلك اليوم.
وحكى صاحب الحاوي وجهين، في أن المريض إذا أفطر، ثم برأ، هل يلزمه
الامساك؟ قال: أوجبه البغداديون دون البصريين. والمذهب: ما قدمنا.
الثالث: أن يصبحا غير ناويين، ويزول العذر قبل أن يأكلا، فان قلنا في
الحال الأول: يجوز الاكل، فهنا أولى، وإلا، ففي لزوم الامساك وجهان.
الأصح: لا يلزم.
فرع إذا أصبح يوم الشك مفطرا، ثم ثبت أنه من رمضان، فقضاؤه
واجب، ويجب إمساكه على الأظهر. قال في التتمة: القولان، فيما إذا بان
أنه من رمضان قبل الاكل، فإن بان بعده، فإن قلنا: هناك لا يجب الامساك، فهنا
أولى، وإلا، فوجهان. أصحهما: الوجوب.
فرع إذا بلغ صبي، أو أفاق مجنون، أو أسلم كافر، في أثناء يوم من
رمضان، فهل يلزمهم إمساك بقية النهار؟ فيه أوجه. أصحها: لا، والثاني:
نعم، والثالث: يلزم الكافر دونهما، لتقصيره، والرابع: يلزم الكافر والصبي،
237

لتقصيرهما دون المجنون. وهل يلزمهم قضاء اليوم الذي زال العذر في أثنائه؟.
أما الصبي فينظر، إن بلغ صائما، فالصحيح: أنه يلزمه إتمامه ولا قضاء.
فلو جامع بعد البلوغ فيه، لزمته الكفارة. وفيه وجه حكي عن ابن سريج: أنه
يستحب إتمامه، ويجب القضاء، لأنه لم ينو الفرض. وإن أصبح مفطرا،
فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: لا قضاء، لعدم تمكنه، والثاني: يلزمه
القضاء، كمن أدرك جزءا من وقت الصلاة.
وأما المجنون إذا أفاق، والكافر إذا أسلم، فالمذهب: أنهما كالصبي
المفطر، فلا قضاء على الأصح. وقيل: يقضي الكافر دون المجنون، وصححه
صاحب التهذيب. قال الأصحاب: الخلاف في القضاء في هؤلاء الثلاثة،
متعلق بالخلاف في إمساكهم تشبها. ثم اختلفوا في كيفية تعلقه، فقال الصيدلاني:
من أوجب التشبه، لم يوجب القضاء، ومن يوجب القضاء، لا يوجب التشبه. وقال
غيره: من أوجب القضاء، أوجب الامساك، ومن لا، فلا. وقال آخرون: من
أوجب الامساك، أوجب القضاء، ومن لا، فلا.
فرع الحائض والنفساء، إذا طهرتا في أثناء النهار، المذهب: أنه لا
يلزمهما الامساك. ونقل الامام الاتفاق عليه. وحكى صاحب المعتمد: طرد
الخلاف فيهما.
فصل أيام رمضان متعينة لصومه، فللمريض والمسافر، الترخص
بالفطر، ولهما الصيام عن رمضان، وليس لهما الصوم فيه عن فرض آخر، ولا
تطوعا. وهكذا قطع به الأصحاب، وحكى إمام الحرمين خلافا فيمن أصبح في يوم
من رمضان غير ناو، فنوى التطوع قبل الزوال، قال: قال الجماهير: لا يصح.
وقال أبو إسحاق: يصح. قال: فعلى قياسه يجوز للمسافر التطوع به.
فصل تجب الكفارة على من أفسد صوم يوم من رمضان بجماع تام
238

أثم به لأجل الصوم، وفي الضابط قيود.
منها: الافساد، فمن جامع ناسيا، لا يفطر على المذهب، فلا كفارة. وإن
قلنا: يفطر، ففي لزوم الكفارة وجهان. أصحهما: لا تلزم، لعدم الاثم.
ومنها: كونه من رمضان، فلا كفارة بافساد التطوع، والنذر، والقضاء،
والكفارة. وأما المرأة الموطوءة، فإن كانت مفطرة بحيض أو غيره، أو صائمة، ولم
يبطل صومها، لكونها نائمة مثلا، فلا كفارة عليها، وإن مكنت طائعة صائمة،
فقولان. أحدهما: يلزمها كفارة، كما يلزم الزوج، لأنها عقوبة، فاشتركا فيها كحد
الزنا. وأظهرهما: لا يلزمها، بل تجب على الزوج. فعلى الأول: لو لم تجب
الكفارة على الزوج لكونه مفطرا، أو لم يبطل صومه لكونه ناسيا، أو استدخلت ذكره
نائما، لزمتها الكفارة، ويعتبر في كل واحد منهما حاله في اليسار والاعسار. وإذا
قلنا بالأظهر، فهل الكفارة التي يخرجها عنه خاصة، ولا يلاقيها الوجوب، أو هي
عنه وعنها ويتحملها عنها فيه قولان مستنبطان من كلام الشافعي رضي الله عنه،
وربما قيل: وجهان. أصحهما: الأول.
239

ويتفرع عليهما صور.
إحداها: إذا أفطرت بزنا، أو وطئ شبهة، فإن قلنا بالأول، فلا شئ عليها،
وإلا، فعليها الكفارة، لان التحمل بالزوجية. وقيل: تلزمها قطعا.
الثانية: إذا كان الزوج مجنونا، فعلى الأول: لا شئ عليها، وعلى الثاني:
وجهان. أصحهما: تلزمها، لأنه ليس أهلا للتحمل، كما لا يكفر عن نفسه،
والثاني: يجب في ماله الكفارة عنها، لان ماله صالح للتحمل. وإن كان مراهقا،
فكالمجنون. وقيل: هو كالبالغ تخريجا من قولنا: عمده عمد، وإن كان ناسيا أو
نائما، فاستدخلت ذكره، فكالمجنون.
الثالثة: إذا كان مسافرا والزوجة حاضرة، فإن أفطر بالجماع بنية الترخص، فلا كفارة عليه. وكذا إن لم يقصد
الترخص على الأصح. وكذا
حكم المريض الذي يباح له الفطر إذا أصبح صائما ثم جامع. وكذا الصحيح، إذا
مرض في أثناء النهار ثم جامع، فحيث قلنا بوجوب الكفارة، فهو كغيره. وحكم
التحمل، كما سبق. وحيث قلنا: لا كفارة، فهو كالمجنون. وذكر أصحابنا
العراقيون: فيما لو قدم المسافر مفطرا، فأخبرته بفطرها وكانت صائمة، أن الكفارة
عليها، إذا قلنا: الوجوب يلاقيها، لأنها غرته، وهو معذور، ويشبه أن يكون هذا
تفريعا على قولنا: لا يتحمل المجنون، وإلا، فليس العذر هنا أوضح منه في
المجنون.
قلت: قال صاحب المعاياة: فيمن وطئ زوجته ثلاثة أقوال. أحدها:
تلزمه الكفارة دونها، والثاني: تلزمه كفارة عنهما، والثالث: تلزم كل واحد كفارة،
ويتحمل الزوج ما دخله التحمل من العتق والاطعام. فإذا وطئ أربع زوجات في
يوم، لزمه على القول الأول كفارة فقط عن الوطئ الأول، ولا يلزمه شئ بسبب باقي
240

الوطئات، ويلزمه على الثاني، أربع كفارات، كفارة عن وطئه الأول عنه وعنها،
وثلاث عنهن لا تتبعض، إلا في موضع يوجد تحمل الباقي، ويلزمه على
الثالث خمس كفارات، كفارتان عنه وعنها بالوطئ الأول، وثلاث عنهن. قال: ولو
كان له زوجتان، مسلمة وذمية، فوطئهما في يوم، فعلى الأول: عليه كفارة واحدة
بكل حال. وعلى الثاني: إن قدم وطئ المسلمة، فعليه كفارة، وإلا، فكفارتان،
وعلى الثالث: كفارتان بكل حال، لأنه إن قدم المسلمة، لزمه كفارتان عنه
وعنها، ولا يلزمه للذمية شئ. وإن قدم الذمية، لزمه لنفسه كفارة، ثم للمسلمة
أخرى. هذا كلامه، وفيه نظر. والله أعلم.
الرابعة: إذا قلنا: الوجوب يلاقيها، اعتبرنا حالهما جميعا، وقد تتفق، وقد
تختلف. فإن اتفق، نظر، إن كانا من أهل الاعتاق أو الاطعام، أجزأ المخرج
عنها، وإن كان من أهل الصيام لكونهما معسرين أو مملوكين، لزم كل واحد صوم
شهرين، لان العبادة البدنية لا تتحمل. وإن اختلف حالهما، فإن كان أعلى حالا
منها، نظر، إن كان من أهل العتق وهي من أهل الصيام أو الاطعام، فوجهان. الصحيح
وبه قطع العراقيون: أنه يجزئ الاعتاق عنهما، لان من فرضه الصوم أو الاطعام،
يجزئه العتق، إلا أن تكون أمة، فعليها الصوم، لان العتق لا يجزئ عنها. قال في
المهذب: إلا إذا قلنا: العبد يملك بالتمليك، فإن الأمة كالحرة المعسرة.
قلت: هذا الذي قاله في المهذب غريب، والمعروف، أنه لا يجزئ
العتق عن الأمة. وقد قال في المهذب في باب العبد المأذون: لا يصح اعتاق
العبد، سواء قلنا: يملك، أم لا، لأنه يتضمن الولاء، وليس هو من أهله. والله
أعلم.
والوجه الثاني: لا يجزئ عنها، لاختلاف الجنس. فعلى هذا، يلزمها
الصوم إن كانت من أهله. وفيمن يلزمه الاطعام إن كانت من أهله، وجهان.
241

أصحهما: على الزوج. فإن عجز، ثبت في ذمته إلى أن يقدر، لان الكفارة على
هذا القول، معدودة من مؤن الزوجة الواجبة على الزوج، والثاني: يلزمها وإن
كان من أهل الصيام وهي من أهل الاطعام. قال الأصحاب: يصوم عن نفسه ويطعم عنها. ومقتضى قول من قال في الصورة السابقة: يجزئ العتق
عن الصيام، أن يجزئ هنا الصيام عن الاطعام. أما إذا كانت أعلى حالا منه،
فينظر، إن كانت من أهل الاعتاق، وهو من أهل الصيام، صام عن نفسه وأعتق عنها
إذا قدر، وإن كانت من أهل الصيام، وهو من أهل الاطعام، صامت عن نفسها وأطعم عن نفسه.
واعلم أن جماع المرأة إذا قلنا: لا شئ عليها والوجوب لا يلاقيها، مستثنى
عن الضابط.
فرع تجب الكفارة بالزنا، وجماع أمته، واللواط، وإتيان البهيمة، وسواء
أنزل أم لا، وفي البهيمة والآتيان في الدبر وجه، وهو شاذ منكر. ولو أفسد صومه
بغير الجماع، كالأكل، والشرب، والاستمناء، والمباشرات المفضية إلى الانزال،
فلا كفارة، لان النص ورد في الجماع، وما عداه ليس في معناه، هذا هو المذهب
الصحيح المعروف. وفي وجه قاله أبو خلف الطبري وهو من تلامذة القفال:
تجب الكفارة بكل ما يأثم بالافطار به. وفي وجه حكاه في الحاوي عن ابن أبي
هريرة: أنه يجب بالأكل والشرب، كفارة فوق كفارة الحامل والمرضع، ودون كفارة
المجامع. وهذان الوجهان غلط. وذكر الحناطي، أن ابن عبد الحكم، روي
242

عنه وجوب الكفارة فيما إذا جامع فيما دون الفرج وأنزل، وهذا شاذ.
فرع: إذا ظن أن الصبح لم يطلع، فجامع، ثم بان خلافه، فحكم الافطار
سبق، ولا كفارة لعدم الاثم. قال الامام: ومن أوجب الكفارة على الناسي بالجماع،
يقول مثله هنا لتقصيره في البحث. ولو ظن غروب الشمس، فجامع، فبان خلافه،
ففي التهذيب وغيره: أنه لا كفارة، لأنها تسقط بالشبهة. وهذا ينبغي أن يكون
مفرعا على تجويز الافطار والحالة هذه، وإلا فتجب الكفارة وفاء بالضابط المذكور
لوجوب الكفارة. ولو أكل الصائم ناسيا، فظن بطلان صومه، فجامع، فهل يفطر؟
وجهان. أحدهما: لا، كما لو سلم من الظهر ناسيا وتكلم عامدا، لا تبطل
صلاته. وأصحهما وبه قطع الجمهور: يفطر، كما لو جامع وهو يظن أن الفجر لم
يطلع فبان خلافه. وعلى هذا، لا كفارة لأنه وطئ وهو يعتقد أنه غير صائم، وعن
القاضي أبي الطيب: أنه يحتمل وجوبها، لأنه ظن لا يبيح الوطئ. ولو أفطر المسافر
بالزنا مترخصا، فلا كفارة، لأنه وإن أثم بهذا الوطئ، لكنه لم يأثم به بسبب
الصوم، فان الافطار جائز له. ولو زنا المقيم ناسيا للصوم، وقلنا: الصوم يفسد
بالجماع ناسيا، فلا كفارة على الأصح، لأنه لم يأثم بسبب الصوم، لأنه ناس له.
فرع من رأى هلال رمضان وحده، لزمه صومه. فان صامه فأفطر
بالجماع، فعليه الكفارة. ولو رأى هلال شوال وحده، لزمه الفطر، ويخفيه لئلا يتهم،
وإذا رؤي رجل يأكل يوم الثلاثين من رمضان بلا عذر، عزر. فلو شهد أنه رأى
الهلال، لم يقبل، لأنه متهم في إسقاط التعزير، بخلاف ما لو شهد أولا فردت
شهادته، ثم أكل، لم يعزر.
فرع لو أفطر بجماع، ثم جامع ثانيا في ذلك اليوم، فلا كفارة للجماع
الثاني، لأنه لم يفسد صوما. فلو جامع في يومين أو أيام، فعليه لكل يوم كفارة،
سواء كفر عن الأول، أم لا.
فرع لو أفسد صومه بجماع، ثم أنشأ سفرا طويلا في يومه، لم تسقط
243

الكفارة على المذهب. وقيل: كما لو طرأ المرض. ولو جامع، ثم مرض،
فقولان. أظهرهما: لا تسقط الكفارة. وقيل: لا تسقط قطعا. ولو طرأ بعد الجماع
جنون، أو موت، أو حيض، فقولان. أظهرهما: السقوط. والمسألة في الحيض
مفرعة على أن المرأة إذا أفطرت بالجماع، لزمتها الكفارة.
فرع كمال صفة الكفارة، مستقصى في كتاب الكفارات. والقول
الجملي، أن هذه الكفارة مرتبة ككفارة الظهار، فيجب عتق رقبة. فإن لم يجد،
فصيام شهرين متتابعين. فإن لم يستطع، فإطعام ستين مسكينا. وهل يلزمه مع
الكفارة قضاء صوم اليوم الذي أفسده بالجماع؟ فيه ثلاثة أوجه. وقيل: قولان،
ووجه. أصحهما: يلزم. والثاني: لا، والثالث: إن كفر بالصيام، لم يلزم، وإلا
لزم. قال الامام: ولا خلاف أن المرأة يلزمها القضاء إذا لم تلزمها كفارة. وهل
تكون شدة الغلمة عذرا في العدول عن الصيام إلى الاطعام؟ وجهان. أصحهما:
أنها عذر، وبه قطع صاحب التهذيب، وهو مقتضى كلام الأكثرين، ورجح
الغزالي المنع.
فرع لو كان من لزمته هذه الكفارة فقيرا، فهل له صرفها إلى أهله وأولاده؟
وجهان. أحدهما: يجوز، لحديث الأعرابي المشهور. وأصحهما: لا يجوز،
كالزكاة وسائر الكفارات. وأما قصة الأعرابي، فلم يدفع إلى أهله عن الكفارة.
244

فرع إذا عجز عن جميع خصال الكفارة، فهل تستقر في ذمته؟ قال
الأصحاب: الحقوق المالية الواجبة لله تعالى، ثلاثة أضرب. ضرب يجب لا بسبب
مباشرة من العبد، كزكاة الفطر. فإذا عجز وقت الوجوب، لم تثبت في ذمته.
وضرب يجب بسبب على جهة البدل، كجزاء الصيد، فإذا عجز وقت وجوبه، ثبت
245

في ذمته تغليبا لمعنى الغرامة. وضرب يجب بسبب لا على جهة البدل، ككفارة
الجماع، واليمين، والقتل، والظهار، ففيها قولان. أظهرهما: يثبت في الذمة
عند العجز، فمتى قدر على إحدى الخصال، لزمته. والثاني: لا يثبت.
فصل في الفدية وهي مد من الطعام، لكل يوم من أيام رمضان. وجنسه
جنس زكاة الفطر. فيعتبر غالب قوت البلد على الأصح. ولا يجزئ الدقيق
والسويق، كما سبق. ومصرفها، الفقراء أو المساكين. وكل مد منها ككفارة تامة.
فيجوز صرف عدد منها إلى مسكين واحد، بخلاف أمداد الكفارة، فإنه يجب صرف
كل مد منها إلى مسكين، وتجب الفدية بثلاثة طرق.
الأول: فوات نفس الصوم، فمن فاته صوم يوم من رمضان ومات قبل قضائه
فله حالان. أحدهما: أن يموت بعد تمكنه من القضاء، سواء ترك الأداء بعذر أم
بغيره، فلا بد من تداركه بعد موته. وفي صفة التدارك قولان. الجديد: أنه يطعم
من تركته عن كل يوم مد. والقديم: أنه يجوز لوليه أن يصوم عنه، ولا يلزمه. فعلى
القديم: لو أمر الولي أجنبيا فصام عنه بأجرة أو بغيرها، جاز كالحج. ولو استقل به
الأجنبي، لم يجزه على الأصح. وهل المعتبر على القديم الولاية، أم مطلق
القرابة، أم تشترط العصوبة، أم الإرث؟ توقف فيه الامام وقال: لا نقل فيه
عندي. قال الرافعي: وإذا فحصت عن نظائره، وجدت الأشبه اعتبار الإرث.
قلت: المختار، أن المراد مطلق القرابة. وفي صحيح مسلم: أن
النبي (ص) قال: لامرأة تصوم عن أمها وهذا يبطل احتمال العصوبة. والله أعلم.
ولو مات وعليه صلاة أو اعتكاف، لم يقض عنه وليه، ولا يسقط عنه
246

بالفدية. ونقل البويطي: أن الشافعي رحمه الله قال في الاعتكاف: يعتكف عنه
وليه. وفي رواية: يطعم عنه. قال صاحب التهذيب: ولا يبعد تخريج هذا في
الصلاة، فيطعم عن كل صلاة مد. وإذا قلنا بالاطعام في الاعتكاف، فالقدر المقابل
بالمد اعتكاف يوم بليلته. هكذا ذكره الامام عن رواية شيخه قال: وهو مشكل، فإن
اعتكاف لحظة، عبادة تامة.
قلت: لم يصحح الامام الرافعي واحدا من الجديد والقديم في صوم الولي،
وكأنه تركه لاضطراب الأصحاب فيه، فإن المشهور في المذهب: تصحيح
الجديد. وذهب جماعة من محققي أصحابنا، إلى تصحيح القديم. وهذا هو
الصواب. بل ينبغي أن يجزم بالقديم، فإن الأحاديث الصحيحة ثبتت فيه. وليس
للجديد حجة من السنة. والحديث الوارد بالاطعام، ضعيف، فيتعين القول
بالقديم. ثم من جوز الصيام، جوز الاطعام. والله أعلم.
وحكم صوم الكفارة والنذر، حكم صوم رمضان.
الحال الثاني: أن يكون موته قبل التمكن من القضاء، بأن لا يزال مريضا، أو
مسافرا من أول شوال حتى يموت، فلا شئ في تركته ولا على ورثته.
قلت: قال أصحابنا: ولا يصح الصيام من أحد في حياته بلا خلاف، سواء
247

كان عاجزا أو غيره. والله أعلم.
فرع الشيخ الهرم الذي لا يطيق الصوم، أو تلحقه به مشقة شديدة، لا
صوم عليه. وفي وجوب الفدية عليه، قولان. أظهرهما: الوجوب. ويجري
القولان في المريض الذي لا يرجى برؤه. ولو نذر في خلال العجز صوما، ففي
انعقاده وجهان.
قلت: أصحهما: لا ينعقد. والله أعلم.
وإذا أوجبنا الفدية على الشيخ، فكان معسرا، هل تلزمه إذا قدر؟ قولان،
كالكفارة. ولو كان رقيقا فعتق، ففيه خلاف مرتب على المعسر، والأولى: بأن لا
تجب، لأنه لم يكن أهلا. ولو قدر الشيخ على الصوم بعدما أفطر، فهل يلزمه
الصوم قضاء؟ نقل صاحب التهذيب: أنه لا يلزمه، لأنه لم يكن مخاطبا
بالصوم، بل كان مخاطبا بالفدية، بخلاف المعضوب إذا حج عنه غيره، ثم قدر،
يلزمه الحج في قول، لأنه كان مخاطبا به. ثم قال صاحب التهذيب من عند
نفسه: إذا قدر قبل أن يفدي، فعليه أن يصوم، وإن قدر بعد الفدية، فيحتمل أن
يكون كالحج، لأنه كان مخاطبا بالفدية على توهم أن عذره غير زائل، وقد بان
خلافه.
واعلم أن صاحب التتمة في آخرين نقلوا خلافا في أن الشيخ يتوجه عليه
الخطاب بالصوم، ثم ينتقل إلى الفدية بالعجز، أم يخاطب بالفدية ابتداء؟
وبنوا عليه الوجهين في انعقاد نذره.
الطريق الثاني: لوجوب الفدية ما يجب لفضيلة الوقت، وذلك في صور. فالحامل والمرضع، إن خافتا على أنفسهما، أفطرتا وقضتا، ولا
248

فدية كالمريض. وإن لم تخافا من الصوم، إلا على الولد، فلهما الفطر وعليهما
القضاء. وفي الفدية أقوال. أظهرها: تجب، والثاني: تستحب، والثالث:
تجب على المرضع دون الحامل. فعلى الأظهر: لا تتعدد الفدية بتعدد الأولاد على
الأصح، وبه قطع في التهذيب. وهل يفرق بين المرضع ولدها، أو غيره،
بإجارة أو غيرها؟ قال في التتمة: لا فرق، فتفطر المستأجرة وتفدي. كما أن
السفر لما أفاد الفطر، يستوي فيه المسافر لغرض نفسه وغيره. وقال الغزالي في
الفتاوى: المستأجرة لا تفطر، ولا خيار لأهل الصبي.
قلت: الصحيح قول صاحب التتمة وقطع به القاضي حسين في فتاويه
فقال: يحل لها الافطار، بل يجب إن أضر الصوم بالرضيع. وفدية الفطر، على من
تجب؟ قال: يحتمل وجهين، بناء على ما لو استأجر للتمتع، فعلى من يجب
دمه؟ فيه وجهان. قال: ولو كان هناك مراضع، فأرادت أن ترضع صبيا، تقربا
إلى الله تعالى، جاز الفطر لها. والله أعلم.
ولو كانت الحامل أو المرضع، مسافرة أو مريضة، فأفطرت بنية الترخص
بالمرض أو السفر، فلا فدية عليها. وإن لم تقصد الترخص، ففي وجوب الفدية
وجهان، كالوجهين في فطر المسافر بالجماع.
فرع إذا أفطر بغير الجماع عمدا في نهار رمضان، هل تلزمه الفدية مع
القضاء؟ وجهان. أصحهما: لا.
فرع لو رأى مشرفا على الهلاك بغرق أو غيره، وافتقر في تخليصه إلى
249

الفطر، فله ذلك، ويلزمه القضاء، وتلزمه الفدية على الأصح أيضا، كالمرضع.
قلت: قوله: فله ذلك، فيه تساهل. ومراده: أنه يجب عليه ذلك، وقد
صرح به أصحابنا. والله أعلم.
الطريق الثالث: ما يجب لتأخير القضاء، فمن عليه قضاء رمضان، وأخره
حتى دخل رمضان السنة القابلة، نظر، إن كان مسافرا أو مريضا، فلا شئ عليه،
فإن تأخير الأداء بهذا العذر جائز فتأخير القضاء أولى. وإن لم يكن، فعليه مع
القضاء لكل يوم مد. وقال المزني: لا تجب الفدية. ولو أخر حتى مضى رمضانان
فصاعدا، فهل تكرر الفدية؟ وجهان. قال في النهاية: الأصح، التكرر. ولو
أفطر عدوانا، وألزمناه الفدية، فأخر القضاء، فعليه لكل يوم فديتان، واحدة
للافطار، وأخرى للتأخير. هذا هو المذهب. وقال إبراهيم المروذي: إن عددنا
الفدية بتعدد رمضان، فهنا أولى، وإلا فوجهان. وإذا أخر القضاء مع الامكان،
فمات قبل أن يقضي وقلنا: الميت يطعم عنه، فوجهان. أصحهما: يخرج لكل يوم من
تركته مدان. والثاني قاله ابن سريج: يكفي مد واحد. وأما إذا قلنا: يصام
عنه، فصام الولي، فيحصل تدارك أصل الصوم، ويفدي للتأخير. وإذا قلنا
بالأصح وهو التكرر، فكان عليه عشرة أيام، فمات، ولم يبق من شعبان إلا خمسة
أيام، أخرج من تركته خمسة عشر مدا، عشرة لأصل الصوم، وخمسة للتأخير، لأنه
لو عاش لم يمكنه إلا قضاء خمسة. ولو أفطر بلا عذر، وأوجبنا به الفدية فأخر حتى
دخل رمضان آخر، ومات قبل القضاء، فالمذهب وجوب ثلاثة أمداد. فإن تكررت
السنون، زادت الامداد. وإذا لم يبق بينه وبين رمضان السنة الثانية ما يتأتى فيه قضاء
جميع الفائت، فهل يلزمه في الحال الفدية عما لا يسعه الوقت، أم لا يلزمه إلا بعد
دخول رمضان؟ فيه وجهان كالوجهين فيمن حلف ليأكلن هذا الرغيف غدا، فتلف
250

قبل الغد، هل يحنث في الحال، أم بعد مجئ الغد؟ ولو أراد تعجيل فدية التأخير
قبل مجئ رمضان الثاني ليؤخر القضاء مع الامكان، ففي جوازه وجهان كالوجهين
في تعجيل الكفارة عن الحنث المحرم.
قلت: إذا أخر الشيخ الهرم المد عن السنة الأولى، فالمذهب أنه لا شئ
عليه. وقال الغزالي في الوسيط: في تكرر مد آخر للتأخير وجهان. وهذا شاذ
ضعيف. وإذا أراد الشيخ الهرم إخراج الفدية قبل دخول رمضان، لم يجز، وإن
أخرجها بعد طلوع الفجر من يوم من رمضان، أجزأه عن ذلك اليوم. وإن أداها قبل
الفجر، ففيه احتمالان حكاهما في البحر عن والده، وقطع الدارمي بالجواز،
وهو الصواب. قال الامام الزيادي: ويجوز للحامل تقديم الفدية على الفطر، ولا
يقدم إلا فدية يوم واحد. وقد تقدم بعض هذه المسائل في باب تعجيل الزكاة. والله
أعلم.
باب صوم التطوع
من شرع في صوم تطوع، أو صلاة تطوع، لم يلزمه الاتمام، لكن
يستحب. فلو خرج منهما، فلا يجب القضاء، لكن يستحب، ثم إن خرج لعذر،
لم يكره، وإلا كره على الأصح.
ومن العذر، أن يعز على من ضيفه امتناعه من الاكل. ولو شرع في صوم
القضاء الواجب، فإن كان على الفور، لم يجز الخروج منه، وإلا فوجهان.
أحدهما: يجوز، قاله القفال، وقطع به الغزالي، وصاحب التهذيب وطائفة.
وأصحهما: لا يجوز، وهو المنصوص في الام وبه قطع الروياني في الحلية
وهو مقتضى كلام الأكثرين، لأنه صار متلبسا بالفرض ولا عذر، فلزمه إتمامه، كما
لو شرع في الصلاة أول الوقت. وأما صوم الكفارة، فما لزم منه بسبب
251

محرم، فهو كالقضاء الذي على الفور. وما لزم بسبب غير محرم، كقتل الخطأ،
فهو كالقضاء الذي على التراخي. وكذا النذر المطلق. وهذا كله مبني على
المذهب، وهو انقسام القضاء إلى واجب على الفور، وعلى التراخي. فالأول: ما
تعدى فيه بالافطار، فيحرم تأخير قضائه. قال في التهذيب: حتى يحرم عليه
التأخير بعذر السفر. وأما الثاني: فما لم يتعد به، كالفطر بالحيض والسفر
والمرض، فقضاؤه على التراخي ما لم يحضر رمضان السنة المقبلة. وقال بعض
أصحابنا العراقيين: القضاء على التراخي في المتعدي وغيره.
فصل صوم التطوع، منه ما يتكرر بتكرر السنين، ومنه ما يتكرر بتكرر
الشهور، ومنه ما يتكرر بتكرر الأسبوع. فمن الأول، يوم عرفة، فيستحب صومه
لغير الحجيج، وينبغي للحجيج فطره. وأطلق كثيرون كراهة صومه لهم. فإن
كان شخص لا يضعف بالصوم عن الدعاء وأعمال الحج، ففي التتمة أن الأولى له
الصوم. وقال غيره: الأولى أن لا يصوم بحال.
قلت: قال البغوي وغيره: يوم عرفة، أفضل أيام السنة. وسيأتي إن شاء الله
تعالى في كتاب الطلاق التصريح بذلك مع غيره، في تعليق الطلاق على أفضل
الأيام. والله أعلم.
ومنه يوم عاشوراء، وهو عاشر المحرم، ويستحب أن يصوم معه تاسوعاء،
وهو التاسع. وفيه معنيان. أحدهما: الاحتياط حذرا من الغلط في العاشر.
والثاني: مخالفة اليهود فإنهم يصومون العاشر فقط. فعلى هذا، لو لم يصم
التاسع معه، استحب أن يصوم الحادي عشر.
ومنه ستة أيام من شوال، والأفضل، أن يصومها متتابعة متصلة بالعيد.
252

ومن الثاني: أيام البيض، وهي: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس
عشر.
قلت: هذا هو المعروف فيها. ولنا وجه غريب حكاه الصيمري،
والماوردي، والبغوي، وصاحب البيان: أن الثاني عشر، بدل الخامس عشر،
فالاحتياط صومهما. والله أعلم.
ومن الثالث: يوم الاثنين والخميس. ويكره إفراد الجمعة بالصوم، وإفراد
السبت.
فرع أطلق صاحب التهذيب في آخرين أن صوم الدهر مكروه. وقال
الغزالي: هو مسنون، وقال الأكثرون: إن خاف منه ضررا، أو فوت به حقا، كره.
وإلا، فلا. والمراد: إذا أفطر أيام العيد والتشريق. ولو نذر صوم الدهر، لزم
وكانت الأعياد و (أيام) التشريق وشهر رمضان وقضاؤه مستثناة. فإن فرض فوات
بعذر أو بغيره، فهل تجب الفدية لما أخل به من النذر بسبب القضاء؟ قال أبو القاسم
الكرخي: فيه وجهان، وقطع به في التهذيب: بأنه لا فدية. ولو نذر صوما آخر
بعد هذا النذر، لم ينعقد. ولو لزمه صوم كفارة، صام عنها وفدى عن النذر. ولو أفطر
يوما من الدهر، لم يمكن قضاؤه، ولا فدية إن كان بعذر، وإلا فتجب الفدية. ولو
نذرت المرأة صوم الدهر، فللزوج منعها، ولا قضاء ولا فدية، وإن أذن لها، أو
253

مات فلم تصم، لزمها الفدية.
قلت: ومن المسنون، صوم عشر ذي الحجة، غير العيد، والصوم من آخر
كل شهر. وأفضل الأشهر للصوم بعد رمضان، الأشهر الحرم، ذو القعدة، وذو
الحجة، والمحرم، ورجب. وأفضلها: المحرم، ويلي المحرم في الفضيلة،
شعبان. وقال صاحب البحر: رجب أفضل من المحرم، وليس كما قال.
قال أصحابنا: لا يجوز للمرأة صوم تطوع وزوجها حاضر، إلا بإذنه. وممن صرح
به: صاحبا المهذب والتهذيب. والله أعلم.
254

كتاب الاعتكاف
الاعتكاف سنة مؤكدة، ويستحب في جميع الأوقات، وفي العشر الأواخر من
رمضان آكد، اقتداء برسول الله (ص)، وطلبا لليلة القدر. ومن أراد هذه السنة،
فينبغي أن يدخل المسجد قبل غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين، حتى لا يفوته
شئ، ويخرج بعد غروب الشمس ليلة العيد. ولو مكث ليلة العيد إلى أن يصلي،
أو يخرج منه إلى العيد، كان أفضل.
فرع ليلة القدر أفضل ليالي السنة، خص الله تعالى بها هذه الأمة، وهي
255

باقية إلى يوم القيامة. ومذهبنا ومذهب جمهور العلماء: أنها في العشر الأواخر من
رمضان، وفي أوتارها أرجى. وميل الشافعي إلى أنها ليلة الحادي
والعشرين. وقال في موضع: إلى ثلاث وعشرين. وقال ابن خزيمة من أصحابنا:
هي ليلة منتقلة في ليالي العشر، تنتقل كل سنة إلى ليلة، جمعا بين الاخبار.
قلت: وهذا منقول عن المزني أيضا، وهو قوي. ومذهب الشافعي: أنها
تلزم ليلة بعينها. والله أعلم.
وعلامة هذه الليلة، أنها طلقة، لا حارة ولا باردة، وأن الشمس تطلع في
صبيحتها بيضاء، ليس لها كثير شعاع. ويستحب أن يكثر فيها من قول: اللهم
إنك عفو تحب العفو فاعف عني.
قلت: قال صاحب البحر: قال الشافعي رحمه الله في القديم: أستحب
أن يكون اجتهاده في يومها، كاجتهاده في ليلتها. وقال في القديم: من شهد العشاء
والصبح ليلة القدر، فقد أخذ بحظه منها. والله أعلم.
ولو قال لزوجته: أنت طالق ليلة القدر. قال أصحابنا: إن قاله قبل
رمضان، أو فيه قبل مضي أول ليالي العشر، طلقت بانقضاء ليالي العشر، وإن
قاله بعد مضي بعض لياليها، لم تطلق إلى مضي سنة. هكذا نقل الشيخ أبو إسحاق
في المهذب، وإمام الحرمين وغيرهما. وأما قول الغزالي: لو قال لزوجته في
256

منتصف رمضان: أنت طالق ليلة القدر، لم تطلق حتى تمضي سنة، لان الطلاق
لا يقع بالشك. ونقل في الوسيط هذا عن نص الشافعي. فاعلم أنه لا يعرف
اعتبار مضي سنة في هذه المسألة إلا في كتب الغزالي.
وقوله: الطلاق لا يقع بالشك، مسلم، لكن يقع بالظن الغالب. قال إمام
الحرمين: الشافعي رحمه الله متردد في ليالي العشر، ويميل إلى بعضها ميلا لطيفا،
وانحصارها في العشر ثابت عنده بالظن القوي، وإن لم يكن مقطوعا به، والطلاق
يناط وقوعه بالمذاهب المظنونة.
واعلم أن الغزالي قال: وقيل: إن ليلة القدر في جميع شهر رمضان. وهذا لا
تكاد تجده في شئ من كتب المذهب.
قلت: قد قال المحاملي وصاحب التنبيه: تطلب ليلة القدر في جميع
شهر مضان. وقول الإمام الرافعي في أول المسألة: طلقت بانقضاء ليالي
العشر، فيه تجوز تابع فيه صاحب المهذب وغيره. وحقيقته: طلقت في أول
الليلة الأخيرة من العشر. وكذا قوله: إن قاله بعد مضي بعض لياليها، لم تطلق إلى
مضي سنة، فيه تجوز، وذلك أنه قد يقول لها في آخر اليوم الحادي والعشرين،
فلا يقف وقوع الطلاق على سنة كاملة، بل يقع في أول الليلة الحادي والعشرين.
والله أعلم.
فصل أركان الاعتكاف، أربعة، اللبث في المسجد، والنية،
والمعتكف، والمعتكف فيه.
الأول: اللبث، وفي اعتباره وجهان حكاهما في النهاية. أصحهما:
لا بد منه، والثاني: يكفي مجرد الحضور، كما يكفي مجرد الحضور بعرفة. ثم
فرع على الوجهين فقال: إن اكتفينا بالحضور، حصل الاعتكاف بالعبور. حتى لو
دخل من باب، وخرج من باب، ونوى، فقد اعتكف. وإن اعتبرنا اللبث، لم
257

يكف ما يكفي في الطمأنينة في الصلاة، بل لا بد من زيادة عليه بما يسمى عكوفا
وإقامة. ولا يعتبر السكون، بل يصح اعتكافه قائما، أو قاعدا، أو مترددا في أطراف
المسجد. ولا يقدر اللبث بزمان، حتى لو نذر اعتكاف ساعة، انعقد نذره. ولو نذر
اعتكافا مطلقا، خرج من عهدة النذر، بأن يعتكف لحظة. واستحب الشافعي رحمه
الله، أن يعتكف يوما للخروج من الخلاف، فإن مالكا وأبا حنيفة رحمهما الله، لا
يجوزان اعتكاف أقل من يوم. ونقل الصيدلاني وجها: أنه لا يصح الاعتكاف إلا
يوما، أو ما يدنو من يوم.
قلت: ولو كان يدخل ساعة ويخرج ساعة، وكلما دخل نوى الاعتكاف، صح
على المذهب. وحكى الروياني في خلافا ضعيفا. والله أعلم.
فصل يحرم على المعتكف الجماع، وجميع المباشرات بالشهوة، فإن
جامع ذاكرا للاعتكاف، عالما بتحريمه، بطل اعتكافه، سواء جامع في المسجد،
أو جامع عند خروجه لقضاء الحاجة. فأما إذا جامع ناسيا للاعتكاف، أو جاهلا
بتحريمه، فهو كنظيره في الصوم. وروى المزني عن نصه في بعض المواضع: أنه
لا يفسد الاعتكاف من الوطئ إلا ما يوجب الحد. قال الامام: مقتضى هذا، أن لا
يفسد بإتيان البهيمة، والآتيان في غير المأتي إذا لم نوجب فيهما الحد. والمذهب:
الأول.
قلت: نصه محمول على أنه لا يفسد بالوطئ فيما دون الفرج. والله أعلم.
أما إذا لمس، أو قبل بشهوة، أو باشر فيما دون الفرج معتمدا، ففيه نصوص
وطرق مختلفة، مختصرها ثلاثة أقوال، أو أوجه. أصحها عند الجمهور: إن
258

أنزل، بطل اعتكافه، وإلا، فلا. والثاني: يبطل
مطلقا. والثالث: لا يبطل مطلقا. وإن استمنى بيده، فإن قلنا: إذا لمس فأنزل، لا يبطل، فهنا أولى،
وإلا فوجهان، لان كمال اللذة باصطكاك البشرتين. ولا بأس على المعتكف بأن
يقبل على سبيل الشفقة والاكرام.
ولا بأن يلمس بغير شهوة.
فرع للمعتكف أن يرجل رأسه ويتطيب، ويتزوج ويزوج، ويتزين بلبس
الثياب، ويأمر بإصلاح معاشه، وتعهد ضياعه، وأن يبيع ويشتري، ويخيط
ويكتب، وما أشبه ذلك، ولا يكره شئ من هذه الأعمال إذا لم تكثر. فإن أكثر، أو
قعد يحترف بالخياطة ونحوها، كره ولم يبطل اعتكافه. ونقل عن القديم: أنه إذا
اشتغل بحرفة، بطل اعتكافه، وقيل: بطل اعتكافه المنذور. والمذهب ما قدمناه.
قلت: الأظهر، كراهة البيع والشراء في المسجد وإن قل، للمعتكف وغيره،
إلا بحاجة. وهو نصه في البويطي وفيه حديث صحيح في النهي. والله
أعلم.
وإن اشتغل بقراءة القرآن ودراسة العلم، فزيادة خير.
فرع يجوز أن يأكل في المسجد، والأولى أن يبسط سفرة أو نحوها. وله
غسل يده فيه، والأولى غسلها في طست ونحوها لئلا يبتل المسجد فيمتنع غيره من
الصلاة والجلوس فيه، ولأنه قد يتقذر. ولهذا قال في التهذيب: يجوز
نضح المسجد بالماء المطلق، ولا يجوز بالمستعمل وإن كان طاهرا لان النفس قد
259

تعافه. ويجوز الفصد والحجامة في المسجد في إناء، بشرط أن يأمن التلويث،
والأولى تركه. وفي البول في الطست احتمالان لصاحب الشامل والأصح:
المنع، وبه قطع صاحب التتمة، لأنه أقبح من الفصد. ولهذا لا يمنع من الفصد
مستقبل القبلة، بخلاف البول.
فصل يصح الاعتكاف بغير صوم، ويصح في الليل وحده، وفي يوم العيد
وأيام التشريق، هذا هو المذهب والمشهور. وحكى الشيخ أبو محمد وغيره قولا
قديما: أن الصوم شرط، فلا يصح الاعتكاف في العيد، و (أيام) التشريق،
والليل المجرد.
فرع إذا نذر أن يعتكف يوما هو فيه صائم، أو أياما هو فيها صائم، لزمه
الاعتكاف في أيام الصوم، وليس له إفراد أحدهما عن الآخر بلا خلاف. ولو اعتكف
في رمضان، أجزأه، لأنه لم يلتزم بهذا النذر صوما، وإنما نذر الاعتكاف بصفة وقد
وجدت. ولو نذر أن يعتكف صائما، أو يعتكف بصوم، لزمه الاعتكاف والصوم.
وهل يلزمه الجمع بينهما؟ وجهان. أحدهما: لا، لأنهما عبادتان مختلفتان، فأشبه
إذا نذر أن يصلي صائما. وأصحهما: يلزمه، وهو نصه في الام كالمسألة
260

السابقة. فعلى هذا، لو شرع في الاعتكاف صائما، ثم أفطر، لزمه استئناف الصوم
والاعتكاف. وعلى الأول: يكفيه استئناف الصوم. ولو نذر اعتكاف أيام وليال
متتابعة صائما، فجامع ليلا، ففيه هذان الوجهان. ولو اعتكف في رمضان، أجزأه
عن الاعتكاف في الوجه الأول، وعليه الصوم، وعلى الثاني: لا يجزئه الاعتكاف
أيضا. ولو نذر أن يصوم معتكفا، فطريقان. أصحهما: طرد الوجهين، أصحهما
عند الأكثرين: لزوم الجمع. والثاني: القطع بأنه لا يجب الجمع. والفرق، أن
الاعتكاف لا يصلح وصفا للصوم، بخلاف عكسه، فإن الصوم من مندوبات
الاعتكاف. ولو نذر أن يعتكف مصليا، أو يصلي معتكفا، لزمه الاعتكاف
والصلاة. وفي لزوم الجمع، طريقان. المذهب: لا يجب. وقيل: بطرد
الوجهين. والفرق، أن الصوم والاعتكاف متقاربان، لاشتراكهما في الكف،
والصلاة أفعال مباشرة لا تناسب الاعتكاف. فلو نذر أن يعتكف محرما بالصلاة، فإن
لم نوجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة، فالذي يلزمه من الصلاة، هو الذي
يلزمه لو أفرد الصلاة بالنذر، وإلا لزمه ذلك القدر في يوم اعتكافه، ولا يلزمه
استيعاب اليوم بالصلاة. وإن نذر اعتكاف أيام مصليا، لزمه ذلك القدر في كل يوم،
هكذا ذكره صاحب التهذيب وغيره. ولك أن تقول: ظاهر اللفظ يقتضي
الاستيعاب، فإن تركنا الظاهر، فلم يعتبر تكرير القدر الواجب من الصلاة كل يوم؟
وهلا اكتفي به مرة في جميع المدة؟ ولو نذر أن يصلي صلاة يقرأ فيها سورة كذا،
ففي وجوب الجمع، الخلاف الذي في الجمع بين الصوم والاعتكاف، قاله
القفال، وهو ظاهر.
الركن الثاني: النية، فلا بد منها في ابتداء الاعتكاف، ويجب التعرض في
المنذور منه للفرضية. ثم إذا نوى الاعتكاف وأطلق، كفاه ذلك وإن طال
261

مكثه. فإن خرج من المسجد، ثم عاد، احتاج إلى استئناف النية، سواء خرج
لقضاء الحاجة، أم لغيره، فإن ما مضى عبادة تامة، والثاني: اعتكاف جديد قال
في التتمة: فلو عزم عند خروجه أن يقضي حاجته ويعود، كانت هذه العزيمة
قائمة مقام النية، وفيه نظر، فإن اقتران النية بأول العبادة شرط. فكيف يكتفي
بعزيمة سابقة؟ أما إذا عين زمانا، بأن نوى اعتكاف شهر، أو يوم، فهل
يشترط تجديد النية إذا خرج وعاد؟ فيه أوجه. أصحهما: إن خرج لقضاء
الحاجة، لم يجب التجديد، لأنه لا بد منه، وإن خرج لغرض آخر، فلا بد من
التجديد، وسواء طال الزمان، أم قصر. والثاني: إن طالت مدة الخروج، وجب
التجديد، وإلا، فلا، وسواء خرج لقضاء الحاجة، أم لغيره. والثالث: لا حاجة
إلى التجديد مطلقا. والرابع: هو ما ذكره صاحب التهذيب: إن خرج لأمر
يقطع التتابع في الاعتكاف المتتابع، وجب التجديد. وإن خرج لأمر لا يقطعه ولم
يكن منه بد، كقضاء الحاجة، والغسل للاحتلام، لم يجب التجديد. وإن كان منه
بد، أو طال الزمان، ففي التجديد على هذا وجهان. وهذا الخلاف مطرد فيما إذا
نوى مدة لاعتكاف تطوع، وفيما إذا نذر أياما ولم يشرط فيها التتابع، ثم دخل
المسجد بقصد الوفاء بالنذر. أما إذا شرط التتابع، أو كانت المنذورة متواصلة،
فسيأتي حكم التجديد فيها إن شاء الله تعالى.
فرع لو نوى الخروج من الاعتكاف، لم يبطل على الأصح كالصوم.
الركن الثالث: المعتكف، شرطه: الاسلام، والعقل، والنقاء عن
الحيض، والجنابة. فيصح اعتكاف الصبي، والرقيق، والزوجة كصيامهم. ولا
يجوز للعبد أن يعتكف بغير إذن سيده، ولا للمرأة بغير إذن زوجها، فإن اعتكفا
262

بغير إذن، جاز للزوج والسيد إخراجهما. وكذا لو اعتكفا بإذنهما تطوعا، فإنه لا يلزم
بالشروع. ولو نذرا اعتكافا، نظر، إن نذرا بغير إذن، فلهما المنع من الشروع
فيه، فإن أذنا في الشروع وكان الزمان متعينا أو غير متعين، ولكن شرطا التتابع، لم
يجوز لهما الرجوع. وإن لم يشرطا، فلهما الرجوع على الأصح، وإن نذرا
بالاذن، نظر، إن تعلق بزمان معين، فلهما الشروع فيه بغير إذن، وإلا لم يشرعا
بغير إذن، وإن شرعا بالاذن، لم يكن لهما المنع من الاتمام، هكذا ذكره
أصحابنا العراقيون، وهو مبني على أن النذر المطلق إذا شرع فيه، لزمه إتمامه.
وفيه خلاف سبق في آخر كتاب الصوم. ويستوي في جميع ما ذكرناه، القن،
والمدبر، وأم الولد. وأما المكاتب، فله أن يعتكف بغير إذن السيد على الأصح.
ومن بعضه رقيق، كالقن إن لم يكن مهايأة، فإن كانت، فهو في نوبته كالحر، وفي
نوبة السيد كالقن.
فرع لا يصح اعتكاف الكافر، والمجنون، والمغمى عليه، والسكران،
إذ لا نية لهم. ولو ارتد في أثناء اعتكافه، فالنص في الام: أنه لا يبطل
اعتكافه. فإذا أسلم، بنى. ونص أنه لو سكر في اعتكافه، ثم أفاق، يستأنف.
واختلف الأصحاب فيهما على طرق. المذهب: بطلان اعتكافهما، فإن ذلك أشد
من الخروج من المسجد، ونصه في المرتد محمول على أنه اعتكاف غير متتابع.
فإذا أسلم، بنى، لان الردة لا تحبط ما سبق عندنا، إلا إذا مات مرتدا. ونصه في
263

السكران في اعتكاف متتابع. والطريق الثاني: تقرير النصين. والفرق بأن السكران
يمنع المسجد بكل حال، بخلاف المرتد. واختار أصحاب الشيخ أبي حامد هذا
الطريق، وذكروا أنه المذهب. والثالث: فيهما قولان. والرابع: لا يبطل فيهما.
والخامس: يبطل السكر لامتداد زمنه، وكذا الردة إن طال زمنها، وإن قصر، بنى.
والسادس: يبطل بالردة دون السكر، لأنه كالنوم، والردة تنافي العبادة. وهذا
الطريق حكاه الامام الغزالي، ولم يذكره غيرهما. وهذا الخلاف، أنه هل يبقى
ما تقدم على الردة والسكر معتدا به فيبنى عليه، أم يبطل فيحتاج إلى الاستئناف إن
كان الاعتكاف متتابعا؟ فأما زمن الردة والسكر فغير معتد به قطعا. وفي وجه شاذ:
يعتد بزمن السكر. وأشار إمام الحرمين والغزالي، إلى أن الخلاف في الاعتداد بزمن
الردة، والسكر. والمذهب ما سبق. ولو أغمي عليه، أو جن في زمن
الاعتكاف، فإن لم يخرج من المسجد، لم يبطل اعتكافه، لأنه معذور. وإن
أخرج، نظر، إن لم يمكن حفظه في المسجد، لم يبطل، لأنه لم يحصل الخروج
باختياره، فأشبه ما لو حمل العاقل مكرها. وإن أمكن ولكن شق، ففيه الخلاف
الآتي في المريض إذا أخرج. قال في التتمة: ولا يحسب زمن الجنون من
الاعتكاف، ويحسب زمن الاغماء على المذهب.
فرع لا يصح اعتكاف الحائض، ولا الجنب. ومتى طرأ الحيض على
المعتكفة، لزمها الخروج. فإن مكثت، لم يحسب عن الاعتكاف. وهل يبطل ما
سبق، أم يبنى عليه؟ فيه كلام يأتي إن شاء الله تعالى. وإن طرأت الجنابة بما يبطل
الاعتكاف، لم يخف الحكم. وإن طرأت بما لا يبطله، كالاحتلام، والجماع
ناسيا، والانزال بالمباشرة دون الفرج، إذا قلنا: لا يبطله، لزمه أن يبادر بالغسل
كيلا يبطل تتابعه، وله الخروج للغسل، سواء أمكنه الغسل في المسجد، أم لا،
لأنه أصون لمروءته وللمسجد. ولا يحسب زمن الجنابة من الاعتكاف على
الصحيح.
264

الركن الرابع: المعتكف فيه وهو المسجد، فيختص بالمساجد، ويجوز
في جميعها، والجامع أولى. وأومأ في القديم إلى اشتراط الجامع، والمذهب
المشهور ما سبق. ولو اعتكفت المرأة في مسجد بيتها - وهو المعتزل المهيأ للصلاة -
لم يصح على الجديد، ويصح على القديم. فإن صححناه، ففي جواز اعتكاف
الرجل فيه، وجهان. وهو أولى بالمنع. وعلى الجديد: كل امرأة يكره لها الخروج
إلي للجماعة، يكره لها الخروج للاعتكاف، ومن لا، فلا.
قلت: قد أنكر القاضي أبو الطيب وجماعة هذا القديم. وقالوا: لا يجوز في
مسجد بيتها قولا واحدا، وغلطوا من قال: قولان. والله أعلم.
فرع إذا نذر الاعتكاف في مسجد بعينه، فإن عين المسجد الحرام، تعين
على المذهب الذي قطع به الجماهير. وقيل: في تعيينه قولان. وإن عين مسجد
النبي (ص)، أو مسجد الأقصى، تعين على الأظهر. وإن عين غير هذه الثلاثة،
لم يتعين على الأصح. وقيل: الأظهر يتعين كما لو عينه للصلاة. وقيل: لا
يتعين قطعا. وإذا حكمنا بالتعيين، فإن عين المسجد الحرام، لم يقم غيره مقامه.
وإن عين مسجد المدينة، لم يقم مقامه إلا المسجد الحرام. وإن عين الأقصى، لم
يقم مقامه إلا المسجد الحرام، ومسجد المدينة. وإذا حكمنا بعدم التعيين، فليس
له الخروج بعد الشروع لينتقل إلى مسجد آخر، لكن لو كان ينتقل في خروجه لقضاء
الحاجة إلى مسجد آخر على مثل تلك المسافة، جاز على الأصح. أما إذا عين زمن
الاعتكاف في نذره، ففي تعيينه وجهان. الصحيح: أنه يتعين، فلا يجوز التقديم
عليه، ولو تأخر كان قضاء. والثاني: لا يتعين، كما لا يتعين في الصلاة والصدقة
265

ويجري الوجهان في تعيين زمن الصوم.
فصل من نذر اعتكاف مدة وأطلق، نظر، إن شرط التتابع، لزمه كما لو
شرط التتابع في الصوم، وإن لم يشرط، بل قال: علي شهر أو عشرة أيام، فلا
يلزمه التتابع على المذهب، لكن يستحب. وخرج ابن سريج قولا: أنه يلزمه، وهو
شاذ. فعلى المذهب: لو نوى التتابع بقلبه، ففي لزومه وجهان. أصحهما: لا
يلزم. ولو شرط تفريقه، فهل يجزئه المتتابع؟ وجهان. أصحهما: يجزئه، لأنه
أفضل. ولو نذر اعتكاف يوم، فهل يجوز تلفيق ساعاته من أيام؟ وجهان. أصحهما
وبه قال الأكثرون: لا، لان المفهوم من اليوم، المتصل. وقد حكي عن الخليل،
أن اليوم: اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس. ولو دخل المسجد في أثناء
النهار وخرج بعد الغروب، ثم عاد قبل الفجر ومكث إلى مثل لك الوقت، فهو على
هذين الوجهين. فلو لم يخرج بالليل، فقال الأكثرون: يجزئه، سواء جوزنا التفريق
أو منعناه، لحصول التواصل. قال أبو إسحاق تفريعا على الأصح: لا يجزئه، لأنه
لم يأت بيوم متواصل الساعات، والليلة ليست من اليوم، وهذا هو الوجه. ولو قال
في أثناء النهار: لله علي أن أعتكف يوما من هذا الوقت، فقد اتفق الأصحاب على
أنه يلزمه دخول المعتكف من ذلك الوقت إلى مثله من اليوم الثاني، ولا يجوز
الخروج بالليل ليتحقق التتابع. وفيه نظر، فإن الملتزم يوم وليست الليلة منه، فلا
يمنع التتابع. والقياس: أن يجعل فائدة التقييد في هذه الصورة، القطع بجواز
التفريق لا غير. ثم حكى الامام عن الأصحاب تفريعا على جواز تفريق الساعات:
أنه يكفيه ساعات أقصر الأيام، لأنه لو اعتكف أقصر الأيام، جاز. ثم قال: إن فرق
على ساعات أقصر الأيام في سنين، فالامر كذلك. وإن اعتكف في أيام متباينة في
الطول والقصر، فينبغي أن ينسب اعتكافه في كل يوم بالجزئية إليه، إن كان ثلثا،
فقد خرج عن ثلث ما عليه. وعلى هذا القياس، نظرا إلى اليوم الذي يقع فيه
الاعتكاف. ولهذا، لو اعتكف من يوم طويل بقدر ساعات أقصر الأيام، لم يكفه،
وهذا استدراك حسن، وقد أجاب عنه بما لا يشفي. أما إذا عين المدة المنذورة،
266

بأن نذر اعتكاف عشرة أيام من الآن، أو هذه العشرة، أو شهر رمضان، أو هذا
الشهر، فعليه الوفاء. فلو أفسد آخره بخروج أو غيره، لم يجب الاستئناف. ولو
فاته الجميع، لم يجب التتابع في القضاء، كقضاء رمضان. هذا إذا لم يتعرض
للتتابع، فلو صرح به فقال: أعتكف هذه العشرة متتابعة، فهل يجب الاستئناف
لفساد آخره، أو التتابع في قضائه؟ وجهان. أصحهما: يجبان، لتصريحه،
والثاني: لا، لان التتابع يقع ضرورة، فلا أثر لتصريحه.
فصل في استتباع الليالي الأيام وعكسه فإذا نذر اعتكاف شهر، لزمه
الليالي والأيام، إلا أن يقول: أيام شهر، أو نهاره، فلا تلزم الليالي. وكذا لو
قال: ليالي هذا الشهر، لا تلزمه الأيام. ولو لم يلفظ بالتقييد، لكن نواه بقلبه،
فالأصح: أنه لا أثر لنيته. ثم إذا أطلق الشهر، فدخل المسجد قبل الهلال، كفاه
ذلك الشهر تم أو نقص. فإن دخل في أثناء الشهر، استكمل بالعدد. ولو نذر
اعتكاف يوم، لم يلزمه ضم الليلة إليه، إلا أن ينويها، فتلزمه. وحكي قول: أن
الليلة تدخل، إلا أن ينوي يوما بلا ليلة. ولو نذر اعتكاف يومين، ففي لزوم الليلة
التي بينهما، ثلاثة أوجه. أحدها: لا تلزم، إلا إذا نواها، والثاني: تلزم، إلا أن
يريد بياض النهار فقط، والثالث: إن نوى التتابع، أو صرح به، لزمت، ليحصل
التواصل، وإلا، فلا. وهذا الثالث أرجح عند الأكثرين. ورجح صاحب
المهذب وآخرون: الأول. والوجه: التوسط. فإن كان المراد بالتتابع توالي
اليومين، فالحق ما قاله صاحب المهذب وإن كان المراد تواصل الاعتكاف،
فالحق ما ذكره الأكثرون. ولو نذر اعتكاف ليلتين، ففي النهار المتخلل بينهما هذا
الخلاف. ولو نذر ثلاثة أيام، أو عشرة، أو ثلاثين، ففي لزوم الليالي المتخللة هذا
الخلاف. والخلاف إنما هو في الليالي المتخللة، وهي تنقص عن عدد الأيام
بواحد أبدا، ولا خلاف أنه لا يلزمه ليالي بعدد الأيام. ولو نذر اعتكاف العشر الأخير
من شهر، دخل فيه الأيام والليالي، وتكون الليالي هنا بعدد الأيام كما في الشهر،
267

فيدخل قبل غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين، ويخرج إذا استهل الهلال تم
الشهر أو نقص، لأنه مقتضاه. ولو نذر عشرة أيام من آخر الشهر، ودخل قبيل
الحادي والعشرين، فنقص الشهر، لزمه يوم من الشهر الآخر، وفي دخول الليالي
هنا الخلاف.
فرع نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه زيد، فقدم ليلا، لم يلزمه شئ،
وإن قدم نهارا، لزمه بقية النهار، ولا يلزمه قضاء ما مضى على الأظهر، وعلى
الثاني: يلزمه، فيقضي بقدر ما مضى من يوم آخر. قال المزني: الأولى أن يستأنف
اعتكاف يوم، ليكون اعتكافه متصلا. ولو كان الناذر وقت القدوم مريضا أو
محبوسا، قضى عند زوال العذر. إما ما بقي، وإما يوما كاملا على اختلاف
القولين. وفي وجه: أنه لا شئ عليه لعجزه وقت الوجوب، كما لو نذرت صوم يوم
بعينه فحاضت فيه.
فصل إذا نذر اعتكافا متتابعا، وشرط الخروج إن عرض عارض، صح
شرطه على المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى صاحب التقريب والحناطي -
بالحاء المهملة والنون - قولا: أنه لا يصح، لأنه شرط مخالف لمقتضاه، فبطل،
كما لو شرط الخروج للجماع، فإذا قلنا بالمذهب، نظر، إن عين نوعا فقال: لا
أخرج إلا لعيادة المرضى، أو لعيادة زيد، أو تشييع جنازته، خرج لما عينه دون غيره
وإن كان غيره أهم منه. وإن أطلق وقال: لا أخرج إلا لشغل أو عارض، جاز
الخروج لكل شغل، ديني أو دنيوي. فالأول: كالجمعة، والجماعة، والعيادة،
والثاني: كلقاء السلطان، واقتضاء الغريم، ولا يبطل التتابع بشئ من هذا.
ويشترط في الشغل الدنيوي، كونه مباحا. وفي وجه شاذ: لا يشترط. وليست
النظارة والنزهة من الشغل. ولو قال: إن عرض عارض، قطعت الاعتكاف،
فالحكم كما لو شرط الخروج، إلا أن في شرط الخروج، يلزمه العود عند قضاء تلك
الحاجة. وفيما إذا شرط القطع، لا يلزمه ذلك. وكذا لو قال: علي أن أعتكف
رمضان، إلا أن أمرض أو أسافر، فإذا مرض، أو سافر، فلا شئ عليه. ولو نذر
صلاة وشرط الخروج منها إن عرض عارض، أو نذر صوما وشرط الخروج منه إن
268

جاع أو أضيف، فوجهان. أصحهما وبه قطع الأكثرون: يصح الشرط، والثاني:
لا ينعقد النذر، بخلاف الاعتكاف، فإن ما يتقدم على الخروج منه عبادة، وبعض
الصلاة والصوم ليس بعبادة، بخلاف الصوم والصلاة. ولو فرض ذلك في
الحج، انعقد النذر، كما ينعقد الاحرام المشروط. لكن في جواز الخروج قولان
معروفان في كتاب الحج. والصوم، والصلاة، أولى بجواز الخروج عند أصحابنا
العراقيين. وقال الشيخ أبو محمد: الحج أولى. ولو نذر التصدق بعشرة دراهم،
أو بهذه الدراهم، إلا أن يعرض حاجة ونحوها، فعلى الوجهين، والأصح: صحة
المشروط أيضا. فإذا احتاج، فلا شئ عليه. ولو قال في هذه القربات كلها:
إلا أن يبدو لي، فوجهان. أحدهما: يصح الشرط، ولا شئ عليه إذا بدا له كسائر
العوارض. وأصحهما: لا يصح، لأنه علقه بمجرد الخيرة. وذلك يناقض
الالتزام. وإذا لم يصح الشرط في هذه الصور، فهل يقال: الالتزام باطل، أم
صحيح ويلغو الشرط؟ قال صاحب التهذيب: لا ينعقد النذر على قولنا: لا
يصح شرط الخروج من الصوم والصلاة. ونقل الامام وجهين في صورة تقارب
هنا، وهي إذا نذر اعتكافا متتابعا، وشرط الخروج مهما أراد، ففي وجه: يبطل
التزام التتابع. وفي وجه: يلزم التتابع، ويبطل الاستثناء.
فرع إذا شرط الخروج لغرض، وصححناه فخرج له، فهل يجب تدارك
الزمن المصروف إليه؟ ينظر، إن نذر مدة غير معينة، كشهر مطلق، وجب
التدارك، لتتم المدة الملتزمة، وتكون فائدة الشرط تنزيل ذلك لغرض منزلة قضاء
الحاجة، في أن التتابع لا ينقطع به. وإن نذر مدة معينة، كشهر رمضان، أو هذه
العشرة، لم يجب التدارك.
269

فرع فيما يقطع التتابع في الاعتكاف المتتابع، ويخرج إلى
الاستئناف
وهو أمران.
أحدهما: فقد بعض شروط الاعتكاف، وهي الأمور التي لا بد منها، كالكف
عن الجماع، ومقدماته في قول. ويستثنى عن هذا، عروض الحيض والاحتلام،
فإنهما لا يقطعانه.
الأمر الثاني: الخروج بكل البدن عن كل المسجد بلا عذر، فهذه ثلاثة قيود،
احترزنا بالأول عما إذا أخرج رأسه، أو يده، أو إحدى رجليه، أو كلتيهما وهو قاعد
مادهما، فلا يبطل اعتكافه. فإن اعتمد عليهما، فهو خارج. واحترزنا بالثاني،
عمن صعد المنارة للاذان، ولها حالان.
أحدهما: أن يكون بابها في المسجد أو رحبته المتصلة به، فلا يضر
صعودها للاذان أو غيره كسطح المسجد، وسواء كانت في نفس المسجد والرحبة،
أو خارجة عن سمت البناء وتربيعه. وأبدى الامام احتمالا في الخارجة عن سمته
قال: لأنها حينئذ لا بعد من المسجد، ولا يصح الاعتكاف فيها. وكلام
الأصحاب، ينازعه فيما وجه به.
الحال الثاني: أن لا يكون بابها في المسجد، ولا في رحبته المتصلة به، فلا
يجوز الخروج إليها لغير الاذان. وفي المؤذن أوجه. أصحها: لا يبطل الاعتكاف
في المؤذن الراتب، ويبطل في غيره. والثاني: لا يبطل فيهما. والثالث: يبطل
فيهما. ثم إن الغزالي، فرض الخلاف فيما إذا كان بابها خارج المسجد وهي
ملتصقة بحريمه. ولم يشرط الجمهور في صورة الخلاف، سوى كون بابها خارج
المسجد. وزاد أبو القاسم الكرخي، فنقل الخلاف فيما إذا كانت في رحبة منفصلة
عن المسجد، بينها وبينه طريق.
قلت: لكن شرطوا كونها مبنية للمسجد، احترازا من البعيدة. والله أعلم.
وأما العذر فمراتب.
منها: الخروج لقضاء الحاجة، وغسل الاحتلام، فلا يضر قطعا. ويجوز
270

الخروج للاكل على الصحيح المنصوص. وإن عطش فلم يجد الماء في
المسجد فله الخروج. وإن وجده، لم يجز الخروج على الأصح، لأنه لا
يستحيى منه، ولا يعد ترك مروءة. ثم أوقات الخروج لقضاء الحاجة لا يجب
تداركها لعلتين. إحداهما: أن الاعتكاف مستمر فيها، ولهذا لو جامع في ذلك،
بطل اعتكافه على الأصح، والثانية: أن زمن الخروج لقضاء الحاجة مستثنى، لأنه
لا بد منه. ثم إذا فرغ وعاد، لم يجب تجديد النية. وقيل: إن طال الزمان، ففي
لزوم وجوب التجديد وجهان والمذهب: الأول. ولو كان للمسجد سقاية، لم نكلفه
قضاء الحاجة فيها. وكذا لو كان بجنبه دار صديق له، وأمكنه دخولها، لم نكلفه،
بل له الخروج إلى داره وإن بعدت، إلا إذا تفاحش البعد، فإنه لا يجوز على
الأصح، إلا أن لا يجد في طريقه موضعا، أو كان لا يليق بحاله أن يدخل لقضاء
الحاجة غير داره. ولو كانت له داران، وكل واحدة بحيث لو انفردت، جاز الخروج
إليها، وإحداهما أقرب، ففي جواز الخروج إلى الأخرى وجهان. أصحهما: لا
يجوز. ولا يشترط لجواز الخروج شدة الحاجة، وإذا خرج، لا يكلف الاسراع،
بل يمشي على سجيته المعهودة.
قلت: فلو تأنى أكثر من عادته، بطل اعتكافه على المذهب، ذكره في
البحر. والله أعلم.
ولو كثر خروجه للحاجة لعارض يقتضيه، فوجهان - حكاهما إمام الحرمين.
أصحهما وهو مقتضى إطلاق كلام المعظم: أنه لا يضر، نظرا إلى جنسه، والثاني:
يضر، لندوره.
فرع لا يجوز الخروج لعيادة المريض، ولا لصلاة الجنازة. ولو خرج
271

لقضاء الحاجة، فعاد في طريقه مريضا، نظر، إن لم يقف، ولا عدل عن الطريق،
بل اقتصر على السؤال والسلام، فلا بأس. وإن وقف وأطال، بطل اعتكافه. وإن
لم يطل، لم يبطل علق الصحيح. وادعى إمام الحرمين إجماع الأصحاب عليه.
ولو أزور عن الطريق قليلا، فعاده، بطل على الأصح. ولو كان المريض في بيت
من الدار التي يدخلها لقضاء الحاجة، فالعدول لعيادته قليل، وإن كان في دار
أخرى، فكثير. ولو خرج لقضاء الحاجة، فصلى في الطريق على جنازة ولم
ينتظرها، ولا أزور، لم يضر على المذهب. وقيل: فيه الوجهان فيما لو وقف قليلا
للعيادة. وقيل: إن تعينت، لم يضر، وإلا فوجهان. وجعل الامام، والغزالي،
قدر صلاة الجنازة حدا للوقفة اليسيرة، واحتمالها لجميع الأغراض. ومنها: أن يأكل
لقما، إذا لم نجوز الخروج للاكل. ولو جامع في مروره، بأن كان في هودج، أو
جامع في وقفة يسيرة، بطل اعتكافه على الأصح، لأنه أشد إعراضا عن العبادة ممن
أطال الوقوف لعيادة المريض. وعلى الثاني: لا يبطل، لأنه غير معتكف في تلك
الحال، ولم يصرف إليه زمنا.
فرع إذا فرغ من قضاء الحاجة واستنجى، فله أن يتوضأ خارج المسجد،
لان ذلك يقع تابعا، بخلاف ما لو احتاج إلى الوضوء من غير قضاء حاجة، فإنه لا
يجوز له الخروج على الأصح إذا أمكن الوضوء في المسجد.
فرع إذا حاضت المرأة المعتكفة، لزمها الخروج، وهل ينقطع تتابعها؟
إن كانت المدة طويلة لا تنفك عن الحيض غالبا، لم ينقطع، بل تبني إذا طهرت
كالحيض في صوم الشهرين المتتابعين. وإن كانت تنفك، فقولان. وقيل:
وجهان. أظهرهما: ينقطع.
فرع المرض العارض للمعتكف، أقسام.
أحدها: خفيف لا يشق معه المقام في المسجد، كالصداع الخفيف، والحمى
الخفيفة، فلا يجوز الخروج من المسجد بسببه. فإن خرج، بطل التتابع.
272

والثاني: يشق معه المقام لحاجته إلى الفراش، والخادم، وتردد الطبيب،
فيباح الخروج، ولا ينقطع به التتابع على الأظهر.
الثالث: مرض يخاف منه تلويث المسجد، كالاسهال، وإدرار البول،
فيخرج. والمذهب الذي قطع به الجمهور: أنه لا ينقطع التتابع. وقيل: على
القولين.
فرع لو خرج ناسيا أو مكرها، لم ينقطع تتابعه على المذهب. وقيل:
قولان.
فإن قلنا بالمذهب: فلم يتذكر الناسي إلا بعد طول الزمان، فوجهان، كما
لو أكل الصائم كثيرا ناسيا. ومن أخرجه السلطان ظلما، لمصادرة، أو غيرها، أو
خاف من ظالم فخرج واستتر، فكالمكره. وإن أخرجه لحق وجب عليه وهو
يماطل، بطل، لتقصيره. وإن حمل وأخرج، لم يبطل. وقيل: كالمكره، لوجود
المفارقة بنادر.
فرع إذا دعي لأداء شهادة، فخرج لها، فإن لم يتعين عليه أداؤها، بطل
تتابعه، سواء كان التحمل معينا، أم لا، لأنه ليس له الخروج لحصول الاستغناء
عنه، وإن تعين أداؤها، نظر، إن لم يتعين عند التحمل، بطل على المذهب.
وقيل: قولان، وإن تعين، فإن قلنا: إذا لم يتعين لا ينقطع، فهنا أولى، وإلا،
فوجهان.
قلت: أصحهما: لا يبطل. والله أعلم.
ولو خرجت المعتكفة للعدة، لم ينقطع على المذهب. وقيل: قولان، وإن
خرج لإقامة حد عليه، فإن ثبت بإقراره، انقطع. وإن ثبت بالبينة، لم يبطل على
المذهب. نص عليه، وقطع به كثير من العراقيين. ولو لزمها عدة طلاق، أو وفاة
، لزمها الخروج لتعتد في مسكنها. فإذا خرجت، فهل يبطل اعتكافها، أم تبني بعد
انقضاء القضاء؟ فيه الطريقان كما في الشهادة. لكن المذهب هنا، البناء. فإن
273

كان اعتكافها بإذن الزوج وقد عين مدة، فهل يلزمها العود إلى المسكن عند الطلاق أو
الوفاة قبل استكمال المدة؟ قولان مذكوران في كتاب العدة. فإن قلنا: لا،
فخرجت، بطل اعتكافها بلا خلاف.
فرع يجب الخروج لصلاة الجمعة، ويبطل به الاعتكاف على الأظهر،
لامكان الاعتكاف في الجامع. وعلى هذا، لو كان اعتكافه المنذور أقل من
أسبوع، ابتدأ به من أول الأسبوع، حيث شاء من المساجد. وإن كان في
الجامع، فمتى شاء. وإن كان أكثر من أسبوع، وجب أن يبتدأ في الجامع.
فإن عين غير الجامع، وقلنا بالتعيين، لم يخرج عن نذره، إلا بأن يمرض فتسقط
عنه الجمعة، أو بأن يتركها عاصيا ويدوم على اعتكافه. ولو أحرم المعتكف، فإن
أمكنه إتمام الاعتكاف ثم الخروج، ويدرك، لزمه ذلك. وإن خاف فوت الحج،
خرج إليه وبطل اعتكافه، فإذا فرغ، استأنف.
فرع كل ما قطع التتابع، يحوج إلى الاستئناف بنية جديدة. وكل عذر لم
يجعله قاطعا، فعند الفراغ منه يجب العود. فلو أخر، انقطع التتابع وتعذر البناء،
ولا بد من قضاء الأوقات المصروفة إلى ما عدا قضاء الحاجة. وهل يجب تجديد
النية عند العود؟ أما الخروج لقضاء الحاجة، فقد سبق بيانه قريبا. وفي معناه ما
لا بد منه، كالاغتسال. وكذا الاذان إذا جوزنا الخروج له. أما ما له منه بد،
فوجهان. أحدهما: يجب تجديدها. وأصحهما: لا يجب، لشمول النية جميع
المدة. وطرد الشيخ أبو علي، الخلاف فيما إذا خرج لغرض استثناه، ثم عاد. ولو
عين مدة، ولم يتعرض للتتابع، ثم جامع، أو خرج بلا عذر، ففسد اعتكافه، ثم
عاد ليتم الباقي، ففيه الخلاف في وجوب التجديد. قال الامام: لكن المذهب هنا
وجوب التجديد.
قلت: لو قال: لله علي اعتكاف شهر نهارا، صح، فيعتكف بالنهار دون
الليل. نص عليه في الام. ولو قال: لله علي اعتكاف شهر بعينه، فبان أنه
274

أنقضي، فلا شئ عليه. قال الروياني: قال أصحابنا: لو نذر اعتكافا وقال:
إن اخترت جامعت، أو إن اتفق لي جماع، جامعت، لم ينعقد نذره. والله أعلم.
275

كتاب الحج
لا يجب الحج بأصل الشرع إلا مرة واحدة. وقد يجب زيادة لعارض،
كالنذر، أو القضاء، أو لدخول مكة على قول. ومن حج، ثم ارتد، ثم أسلم،
لم يلزمه الحج، لان الردة إنما تحبط العمل إذا اتصل بها الموت.
فصل ينقسم الناس في الحج إلى من يصح له الحج، ومن يصح منه
بالمباشرة، ومن يقع له عن حجة الاسلام، ومن يجب عليه.
فأما الصحة المطلقة فشرطها: الاسلام فقط. فلا يصح حج كافر، ولا
276

يشترط التكليف. فيجوز للولي أن يحرم عن الصبي الذي لا يميز وعن المجنون.
وأما صحة المباشرة، فشرطها: الاسلام، والتمييز. فلا تصح مباشرة المجنون
والصبي الذي لا يميز، وتصح من الصبي المميز والعبد. وسيأتي هذا كله في باب
حج الصبي إن شاء الله تعالى.
وأما وقوعه عن حجة الاسلام، فله شرطان زائدان: البلوغ، والحرية. ولو
تكلف الفقير الحج، وقع عن الفرض.
وأما وجوب حجة الاسلام، فشروطه خمسة: الاسلام، والبلوغ،
والعقل، والحرية، والاستطاعة.
فرع الاستطاعة نوعان: استطاعة مباشرة بنفسه، واستطاعة تحصيله
بغيره.
فالأولى، تتعلق بخمسة أمور: الراحلة، والزاد، والطريق، والبدن،
وإمكان السير.
277

فالأول: الراحلة. والناس فيها قسمان.
أحدهما: من بينه وبين مكة مسافة القصر، فلا يلزمه الحج إلا إذا وجد
راحلة، سواء قدر على المشي، أم لا، لكن يستحب للقادر الحج. وهل
الحج راكبا أفضل، أم ماشيا؟ فيه قولان سنوضحهما في كتاب النذر إن شاء الله
تعالى.
قلت: المذهب: أن الركوب أفضل. اقتداء برسول الله (ص)، ولأنه أعون له
على المحافظة على مهمات العبادة. والله أعلم.
ثم إن كان يستمسك على الراحلة من غير محمل، ولا يلحقه مشقة
شديدة، لم يعتبر في حقه إلا وجدان الراحلة، وإلا فيعتبر معها وجدان المحمل.
قال في الشامل: ولو لحقه مشقة عظيمة في ركوب المحمل، اعتبر في حقه
278

الكنيسة. وذكر المحاملي وغيره من العراقيين: أن المرأة يعتبر في حقها
المحمل، وأطلقوا، لأنه أستر لها. ثم العادة جارية بركوب اثنين في المحمل،
فإذا وجد مؤنة محمل، أو شق محمل، ووجد شريكا يركب في الشق الآخر، لزمه
الحج. وإن لم يجد الشريك، فلا يلزمه، سواء وجد مؤنة المحمل، أو الشق،
كذا قاله في الوسيط وكان لا يبعد تخريجه على الخلاف في لزوم أجرة
البذرقة. وفي كلام الامام، إشارة إليه.
القسم الثاني: من ليس بينه وبين مكة مسافة القصر. فإن كان قويا على
المشي، لزمه الحج، ولا تعتبر الراحلة، وإن كان ضعيفا لا يقوى للمشي، أو
يناله به ضرر ظاهر، اشترطت الراحلة والمحمل أيضا إن لم يمكنه الركوب بدونه.
ولنا وجه: أن القريب كالبعيد منه مطلقا، وهو شاذ منكر، ولا يؤمر بالزحف
بحال، وإن أمكنه.
قلت: وحكى الدارمي وجها ضعيفا عن حكاية ابن القطان: أنه يلزمه الحبو.
والله أعلم.
وحيث اعتبرنا وجود الراحلة والمحمل، فالمراد أن يملكهما أو يتمكن من
تملكهما أو استئجارهما بثمن المثل، أو أجرة المثل، ويشترط أن يكون ما يصرفه
فيهما من المال، فاضلا عما يشترط كون الزاد فاضلا عنه، وسيأتي بيانه إن شاء الله
تعالى.
279

الأمر الثاني: الزاد.
فيشترط لوجوب الحج أن يجد الزاد، وأوعيته، وما يحتاج إليه في السفر.
فإن كان له أهل، أو عشيرة، اشترط ذلك لذهابه ورجوعه، وإن لم يكونوا،
فكذلك على الأصح. وعلى الثاني: لا يشترط للرجوع. ويجري الوجهان في
اشتراط الراحلة للرجوع، وهل يخص الوجهان بما إذا لم يملك ببلده مسكنا، أم
لا؟ فيه احتمالان للامام. أصحهما عنده: التخصيص. وحكى الحناطي وجها:
أنه لا يشترط للرجوع في حق من له عشيرة وأهل. وهذا شاذ منكر، وليس المعارف
والأصدقاء كالعشيرة، لان الاستبدال بهم متيسر.
فرع يشترط كون الزاد والراحلة، فاضلا عن نفقة من لزمه نفقتهم،
وكسوتهم، مدة ذهابه ورجوعه. وفي اشتراط كونهما فاضلين عن مسكن وخادم
يحتاج إلى خدمته، لزمانته أو منصبه، وجهان. أصحهما عند الأكثرين: يشترط كما
يشترط في الكفارة، وكدست ثوب يليق بمنصبه وعلى هذا، لو كان معه نقد،
280

جاز صرفه إليهما. وهذا فيما إذا كانت الدار مستغرقة بحاجته، وكانت سكنى مثله،
والعبد عبد مثله. فأما إذا أمكن بيع بعض الدار ووفى ثمنه بمؤنة الحج، أو كانا
نفيسين لا يليقان بمثله، ولو أبدلهما لوفى التفاوت بمؤنة الحج، فإنه يلزمه ذلك.
هكذا أطلقوه هنا. لكن في بيع الدار والعبد النفيسين المألوفين في الكفارة وجهان.
ولا بد من جريانهما هنا.
قلت: ليس جريانهما بلازم، والفرق ظاهر، فإن للكفارة بدلا. ولهذا،
اتفقوا على ترك الخادم، والمسكن في الكفارة، واختلفوا فيهما هنا. والله أعلم.
فرع لو كان له رأس مال يتجر فيه وينفق من ربحه، ولو نقص، بطلت
تجارته، أو كانت له مستغلات يحصل منها نفقته، فهل يكلف بيعها؟ وجهان:
أصحهما: يكلف، كما يكلف بيعها في الدين، ويخالف المسكن والخادم، فإنه
محتاج إليهما في الحال، وما نحن فيه يتخذه ذخيرة.
فرع لو ملك فاضلا عن الوجوه المذكورة، واحتاج إلى النكاح لخوفه
العنت، فصرف المال إلى النكاح أهم من صرفه إلى الحج. هذه عبارة الجمهور.
وعللوه بأن حاجة النكاح ناجزة، والحج على التراخي. والسابق إلى الفهم منه:
281

أنه لا يجب الحج والحالة هذه، ويصرف ما معه في النكاح. وقد صرح الامام
بهذا، ولكن كثير من العراقيين وغيرهم قالوا: يجب الحج على من أراد التزوج،
لكن له أن يؤخره لوجوبه على التراخي. ثم إن لم يخف العنت، فتقديم الحج
أفضل، وإلا، فالنكاح أفضل.
قلت: هذا الذي نقله عن كثير من العراقيين وغيرهم، هو الصحيح في
المذهب، وبه قطع الأكثرون. وقد بينت ذلك واضحا في شرح المهذب. والله
أعلم.
فرع لو لم يجد ما يصرفه إلى الزاد، لكنه كسوب يكسب ما يكفيه، ووجد
نفقة أهله، فهل يلزمه الحج، تعويلا على الكسب؟ حكى الامام عن أصحابنا
العراقيين: أنه إن كان السفر طويلا أو قصيرا، ولا يكسب في كل يوم إلا كفاية
يومه، لم يلزمه، لأنه ينقطع عن الكسب في أيام الحج. وإن كان السفر قصيرا،
ويكسب في يوم كفاية أيام، لزمه الخروج. قال الامام: وفيه احتمال، فإن القدرة
على الكسب في يوم الفطر لا تجعل كملك الصاع.
فرع ويعتبر أن يكون ماله مع ما ذكرنا فاضلا عن قضاء دين عليه، مؤجلا
كان أم حالا. وفيه وجه: أنه إذا كان الاجل بحيث ينقضي بعد رجوعه من الحج،
لزمه، وهو شاذ ضعيف. ولو كان ماله دينا يتيسر تحصيله في الحال، بأن كان حالا
على ملئ مقر، أو عليه بينة، فهو كالحاصل في يده. وإن لم يتيسر، بأن كان
مؤجلا أو على معسر، أو جاحد لا بينة عليه، فكالمعدوم.
الأمر الثالث: الطريق.
فيشترط فيه الامن في ثلاثة أشياء: النفس، والبضع، والمال. قال
282

الامام: وليس الامن المطلوب قطعيا، ولا يشترط الامن الغالب في الحضر، بل
الامن في كل مكان بحسب ما يليق به.
فأحد الأشياء الثلاثة، النفس. فمن خاف على نفسه من سبع، أو عدو، لم
يلزمه الحج، إن لم يجد طريقا آخر آمنا. فإن وجده، لزمه، سواء كان مثل مسافة
طريقه أو أبعد، إذا وجد ما يقطعه به. وفيه وجه شاذ: أنه لا يلزمه سلوك الأبعد. ولو
كان في الطريق بحر، فإن كان في البر طريق أيضا، لزمه الحج قطعا، وإلا،
فالمذهب: أنه إن كان الغالب منه الهلاك، إما لخصوص ذلك البحر، وإما لهيجان
الأمواج، لم يجب. وإن غلبت السلامة، وجب. وإن استويا، فوجهان.
قلت: أصحهما: لا يجب. والله أعلم.
وقيل: يجب مطلقا. وقيل: لا يجب. وقيل: قولان. وقيل: إن كانت
عادته ركوبه، وجب، وإلا، فلا. وإذا قلنا: لا يجب، استحب على الأصح إن
غلبت السلامة. وإن غلب الهلاك، حرم. وإن استويا، ففي التحريم وجهان.
قلت: أصحهما: التحريم، وبه قطع الشيخ أبو محمد. والله أعلم.
ولو توسط البحر وقلنا: لا يجب ركوبه، فهل يلزمه التمادي، أم يجوز له
الرجوع؟ نظر، إن كان ما بين يديه أكثر، فله الرجوع قطعا، وإن كان أقل، لزمه
التمادي قطعا. وإن استويا، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: يلزمه
التمادي. والوجهان فيما إذا كان له في الرجوع طريق غير البحر. فإن لم يكن،
فله الرجوع قطعا، لئلا يتحمل زيادة الاخطار. هذا كله في الرجل. فأما المرأة،
283

ففيها خلاف مرتب. وأولى بعدم الوجوب، لضعفها عن احتمال الأهوال، ولكونها
عورة معرضة للانكشاف وغيره، لضيق المكان. فإن لم نوجب عليها، لم يستحب
لها. وقيل بطرد الخلاف. وليست الأنهار العظيمة كجيحون في حكم البحر، لان
المقام فيها لا يطول، والخطر فيها لا يعظم. وفي وجه شاذ: أنها كالبحر.
وأما البضع، فلا يجب على المرأة الحج حتى تأمن على نفسها بزوج، أو
محرم بنسب، أو بغير نسب، أو نسوة ثقات. وهل يشترط أن يكون مع
إحداهن محرم؟ وجهان. أصحهما: لا، لان الأطماع تنقطع بجماعتهن. فإن لم
يكن أحد هذه الثلاثة، لم يلزمها الحج على المذهب. وفي قول: يلزمها إذا
وجدت امرأة واحدة. وفي قول اختاره جماعة، ونقله الكرابيسي: أنه يلزمها أن
تخرج وحدها إذا كان الطريق مسلوكا، كما يلزمها الخروج إذا أسلمت في دار
الحرب إلى دار الاسلام وحدها. وجواب المذهب عن هذا، أن الخوف في دار
الحرب أكثر من الطريق. هذا في حج الفرض، وهل لها الخروج إلى سائر الاسفار
مع النساء الخلص؟ فيه وجهان. الأصح: لا يجوز.
أما المال، فلو خاف على ماله في الطريق من عدو، أو رصدي، لم يجب
الحج وإن كان الرصدي يرضى بشئ يسير، إذا تعين ذلك الطريق، وسواء كان
284

الذي يخافه مسلمين أو كفارا. لكن إذا كانوا كفارا وأطاقوا مقاومتهم، يستحب لهم
الخروج للحج، ويقاتلونهم لينالوا الحج والجهاد جميعا، وإن كانوا مسلمين، لم
يستحب الخروج والقتال. ويكره بذل المال للرصديين، لأنهم يحرصون على
التعرض للناس بسبب ذلك. ولو بعثوا بأمان الحجيج، وكان أمانهم موثوقا، أو
ضمن لهم ما يطلبونه، وأمن الحجيج، لزمهم الحج. ولو وجدوا من يخفرهم بأجرة
ويغلب على الظن أمنهم به، ففي لزوم استئجاره وجهان. قال الامام: أصحهما:
لزومه، لأنه من أهب الطريق كالراحلة. ولو امتنع محرم المرأة من الخروج
معها، إلا بأجرة، قال الامام: فهو مرتب على أجرة الخفير، واللزوم في المحرم،
أظهر، لان الداعي إلى الأجرة معني في المرأة، فأشبه مؤنة المحمل في حق
المحتاج إليه.
فرع يشترط لوجوب الحج، وجود الزاد والماء في المواضع التي جرت
العادة بحمل الزاد والماء منها. فإن كانت سنة جدت، وخلا بعض تلك المنازل من
أهلها، أو انقطعت المياه، لم يجب الحج. وكذا لو كان يجد فيها الزاد والماء،
لكن بأكثر من ثمن المثل، وهو القدر اللائق في ذلك الزمان والمكان. وإن وجدهما
بثمن المثل، لزم التحصيل، سواء كانت الأسعار رخيصة أو غالية إذا وفى ماله به.
ويجب حملها بقدر ما جرت العادة به في طريق مكة زادها الله تعالى شرفا، كحمل
الزاد من الكوفة إلى مكة، وحمل الماء من مرحلتين أو ثلاثا إذا قدر عليه، ووجد
آلات الحمل.
أما علف الدابة، فيشترط وجوده في كل مرحلة، لان المؤنة تعظم بحمله
285

لكثرته. ذكره صاحبا التهذيب والتتمة وغيرهما.
قلت: إذا ظن كون الطريق فيه مانع من عدو، أو عدم ماء، أو علف، أو غير
ذلك، فترك الحج، ثم بان أن لا مانع، فقد لزمه الحج، صرح به الدارمي. ولو
لم يعلم وجود المانع ولا عدمه، قال الدارمي: إن كان هناك أصل، عمل عليه،
وإلا وجب الحج. والله أعلم.
فرع قال صاحب التهذيب وغيره: يشترط أن يجد رفقة يخرج معهم
في الوقت الذي جرت عادة أهل بلده بالخروج فيه. فإن خرجوا قبله، لم يلزمه
الخروج معهم. وإن أخروا الخروج بحيث لا يبلغون إلا بأن يقطعوا في كل يوم أكثر
من مرحلة، لم يلزمه أيضا. فإن كانت الطريق بحيث لا يخاف الواحد فيها، لزمه
ولا حاجة إلى الرفقة.
الأمر الرابع: البدن.
ويشترط فيه لاستطاعة المباشرة قوة يستمسك بها على الراحلة. والمراد: أن
يثبت على الراحلة بلا مشقة شديدة، فإن وجد مشقة شديدة لمرض أو غيره، فليس
مستطيعا. والأعمى إذا وجد مع الزاد والراحلة قائدا، لزمه الحج بنفسه. والقائد
له، كالمحرم للمرأة. والمحجور عليه لسفه، كغيره في وجوب الحج عليه،
لكن لا يدفع المال إليه، بل يصحبه الولي لينفق عليه في الطريق بالمعروف، أو
ينصب قيما ينفق عليه من مال السفيه. قال في التهذيب: وإذا شرع السفيه في
حج الفرض، أو حج نذره قبل الحجر بغير إذن الولي، لم يكن للولي تحليله، بل
يلزمه الانفاق عليه لن مال السفيه إلى فراغه. ولو شرع في حج تطوع، ثم حجر
عليه، فكذلك. ولو شرع فيه بعد الحجر، فللولي تحليله إن كان ما يحتاج إليه
للحج يزيد على نفقته المعهودة، ولم يكن له كسب. فإن لم يزد، أو كان له كسب
يفي مع قدر النفقة المعهودة، وجب إتمامه، ولم يكن للولي تحليله.
286

الأمر الخامس: إمكان السير.
وهو أن يبقى من الزمان عند وجود الزاد والراحلة، ما يمكن السير فيه إلى الحج
السير المعهود. فإن احتاج إلى أن يقطع في كل يوم أو في بعض الأيام، أكثر من
مرحلة، لم يلزمه الحج. وهذا الامر شرطه الأئمة في وجوب الحج، وقد أهمله
الغزالي.
قلت: أنكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح على الامام الرافعي - رحمهما الله -
[تعالى] اعتراضه على الغزالي، وجعله إمكان السير ركنا لوجوب الحج،
وقال: إنما هو شرط استقرار الحج في ذمته، ليجب قضاؤه من تركته لو مات قبل
الحج، وليس شرطا لأصل وجوب الحج. بل متى وجدت الاستطاعة من مسلم
مكلف حر، لزمه الحج في الحال، كالصلاة تجب بأول الوقت قبل مضي زمن
يسعها. ثم استقرارها في الذمة يتوقف على مضي الزمان والتمكن من فعلهما.
والصواب: ما قاله الرافعي، وقد نص عليه الأصحاب كما نقل، لان الله
تعالى قال: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * وهذا غير
مستطيع، فلا حج عليه. وكيف يكون مستطيعا وهو عاجز حسا؟! وأما الصلاة،
فإنما تجب في أول الوقت لامكان تتميمها. والله أعلم.
النوع الثاني: الاستطاعة بغيره. يجوز أن يحج عن الشخص غيره، إذا
287

عجز عن الحج، بموت، أو كسر، أو زمانة، أو مرض لا يرجى زواله، أو كان
كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أصلا، أو لا يثبت إلا بمشقة شديدة. فمقطوع
اليدين أو الرجلين، إذا أمكنه الثبوت على الراحلة من غير مشقة شديدة، لا
يجوز له الاستنابة، ولا يجوز أيضا لمن لا يثبت على الراحلة لمرض يرجى زواله.
وكذا من وجب عليه الحج ثم جن، ليس للولي أن يستنيب عنه، لأنه قد يفيق فيحج
بنفسه. فلو استناب عنه فمات قبل الإفاقة، ففي إجزائه القولان في استنابة المريض
الذي يرجى برؤه إذا مات.
هذا كله في حجة الاسلام، والقضاء، والنذر. أما حج التطوع، فلا يجوز
الاستنابة فيه عن القادر قطعا. وفي استنابة المعضوب عن نفسه، والوارث عن
الميت، قولان. أظهرهما: الجواز، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد. ولو لم يكن
الميت حج، ولا وجب عليه لعدم الاستطاعة، ففي جواز الاحجاج عنه طريقان.
أحدهما: طرد القولين، لأنه لا ضرورة إليه. والثاني: القطع بالجواز. لوقوعه عن
حجة الاسلام، فإن استأجر للتطوع وجوزناه، فللأجير الأجرة المسماة. ويجوز أن
يكون الأجير عبدا، أو صبيا، بخلاف حجة الاسلام، فإنه لا يجوز
استئجارهما فيها، لأنهما ليسا من أهلها.
وفي المنذورة، الخلاف المشهور، في أنه يسلك بالنذر مسلك
الواجبات، أم لا؟ وإن لم نجوز الاستئجار للتطوع، وقع الحج عن الأجير، ولم
يستحق المسمى. وهل يستحق أجرة المثل؟ قولان: أظهرهما: يستحق.
قلت: قال المتولي: هذا الخلاف إذا جهل الأجير فساد الإجارة. فإن علم،
لم يستحق شيئا بلا خلاف. قال: والمسألة مفروضة في المعضوب، فإن أوضي
288

الميت بحجة تطوع، وقلنا: لا تدخله النيابة، فحج الأجير، وقع عن نفسه، ولا
أجرة له بلا خلاف، لا على الوصي، ولا على الوارث، ولا في التركة. والله
أعلم.
فرع من به علة يرجى زوالها، ليس له أن يستنيب من يحج عنه. فإن
استناب فحج النائب فشفي، لم يجزئه قطعا. وإن مات، فقولان. أظهرهما: لا
يجزئه، ولو كان غير مرجو الزوال، فأحج عنه ثم شفي، فطريقان. أصحهما: طرد
القولين. والجاني: القطع بعدم الاجزاء.
فإن قلنا في الصورتين: يجزئه، استحق الأجير الأجرة المسماة، وإلا، فهل
يقع عن تطوع المستأجر، ويكون هذا عذرا في جواز وقوع التطوع قبل الفرض،
كالرق، والصبا، أم لا يقع عنه أصلا؟ وجهان. أصحهما عند الجمهور: الثاني،
وصحح الغزالي الأول.
فإن قلنا: لا يقع عنه أصلا، فهل يستحق الأجير أجرة؟ قولان. أظهرهما:
لا، لان المستأجر لم ينتفع بها. والثاني: نعم، لأنه عمل له في اعتقاده فعلى
هذا، هل يستحق المسمى، أم أجرة المثل؟ وجهان. وإذا قلنا: يقع عن تطوعه،
استحق الأجير الأجرة. وهل هي أجرة المثل، أم المسماة؟ قال الشيخ أبو محمد:
لا يبعد تخريجه على الوجهين.
قلت: الأصح هنا: المسمى. والله أعلم.
فرع لا يجزئ الحج عن المعضوب بغير إذنه، بخلاف قضاء الدين عن
غيره، لان الحج يفتقر إلى النية، وهو أهل للاذن. وفيه وجه: أنه يجوز بغير إذنه،
وهو شاذ ضعيف.
ويجوز الحج عن الميت، ويجب عند استقراره عليه، سواء أوصى به، أم
لا. ويستوي فيه الوارث والأجنبي كالدين. وسيأتي تفصيله في كتاب الوصايا إن شاء
الله تعالى.
وأما المعضوب، فتلزمه الاستنابة في الجملة، سواء طرأ العضب بعد
الوجوب أو بلغ معضوبا واجدا للمال. ثم لوجوب الاستنابة عليه طريقان.
289

أحدهما: أن يجد مالا يستأجر به من يحج عنه. وشرطه: أن يكون فاضلا عن
الحاجات المذكورة فيمن يحج بنفسه، إلا أنا اعتبرنا هناك، أن يكون المصروف إلى
الزاد والراحلة فاضلا عن نفقة عياله إلى الرجوع. وهنا يعتبر كونه فاضلا عن نفقتهم
وكسوتهم يوم الاستئجار، ولا يعتبر بعد فراغ الأجير من الحج. وهل تعتبر مدة
الذهاب؟ وجهان. أصحهما: لا، كما في الفطرة والكفارة، بخلاف ما لو حج
بنفسه، فإنه إذا لم يفارق أهله، أمكنه تحصيل نفقتهم. ثم إن وفى ما يجده بأجرة
راكب، فذاك. وإن لم يف إلا بأجرة ماش، ففي وجوب الاستئجار وجهان.
أصحهما: يجب، إذ لا مشقة عليه في مشي الأجير، بخلاف ما إذا حج بنفسه. ولو
طلب الأجير أكثر من أجرة المثل، لم يجب الاستئجار، ولو رضي بأقل منها،
وجب. ولو امتنع من الاستئجار، فهل يستأجر عنه الحاكم؟ وجهان. أصحهما:
لا.
الطريق الثاني: أن لا يجد المال، لكن يجد من يحصل له الحج، وفيه
صور.
إحداها: أن يبذل له أجنبي مالا ليستأجر له، ففي لزوم قبوله وجهان.
الصحيح: لا يلزم.
الثانية: أن يبذل واحد من بنيه أو بناته أو أولادهم الطاعة في الحج، فيلزمه
القبول والحج قطعا، بشرط أن يكون المطيع قد حج عن نفسه، وموثوقا به، وأن لا
يكون معضوبا.
قلت: وحكى السرخسي في الأمالي وجها واهيا: أنه لا يلزمه. والله
أعلم.
ولو توسم أثر الطاعة فيه، فهل يلزمه الامر؟ وجهان. الأصح المنصوص:
يلزمه، لحصول الاستطاعة. ولو بذل المطيع الطاعة، فلم يأذن المطاع، فهل ينوب
الحاكم عنه؟ وجهان. أصحهما: لا، لان مبنى الحج على التراخي، وإذا
290

اجتمعت الشرائط، فمات المطيع قبل أن يأذن له، فإن مضى وقت إمكان الحج،
استقر الوجوب في ذمته، وإلا، فلا. ولو كان له من يطيع ولم يعلم بطاعته، فهو
كما لو كان لن مال موروث ولم يعلم به. وشبهه صاحب الشامل بمن نسي الماء
في رحله وتيمم، لا يسقط الفرض على المذهب. وشبهه صاحب المعتمد
بالمال الضال في الزكاة. والمذهب: وجوبها فيه. ولك أن تقول: لا يجب الحج
بحال، فإنه متعلق بالاستطاعة، ولا استطاعة مع عدم العلم بالمال والطاعة. ولو
بذل الولد الطاعة، ثم أراد الرجوع، فإن كان بعد إحرامه، لم يجز، وإلا جاز على
الأصح.
قلت: وإذا كان رجوعه الجائز قبل أن يحج أهل بلده، تبينا أنه لم يجب على الأب،
وقد ذكر الامام الرافعي في كتاب الرهن هذه المسألة في مسائل بيع العدل
الرهن. والله أعلم.
الثالثة: أن يبذل الأجنبي الطاعة، فيلزم قبولها على الأصح. والأخ كالأجنبي
قطعا، لان استخدامه يثقل. وكذا الأب على المذهب الذي قطع به الجمهور.
وحكي في بعض التعاليق وجه: أنه كالابن، لاستوائهما في النفقة.
الرابعة: أن يبذل الولد المال، فلا يلزم قبوله على الأصح لعظم المنة فيه.
وبذل الأب المال، كبذل الابن، أو كبذل الأجنبي، فيه احتمالان ذكرهما الامام،
أصحهما: الأول.
فرع جميع المذكور في بذل الطاعة، هو فيما إذا كان الباذل راكبا. فلو
بذل الابن الطاعة ليحج ماشيا، ففي لزوم القبول وجهان. قال الشيخ أبو محمد:
هما مرتبان على الوجهين في لزوم استئجار الماشي، وهنا أولى بالمنع، لأنه يشق
عليه مشي ولده. وفي معناه، الوالد إذا أطاع وأوجبنا قبوله. ولا يجئ الترتيب إذا
كان المطيع الأجنبي.
قلت: الأصح: أنه لا يجب القبول، إذا كان الولد، أو الوالد ماشيا. والله
أعلم.
291

وإذا أوجبنا القبول والمطيع ماش، فهو فيما إذا ملك الزاد. فإن عول على
الكسب في الطريق، ففي وجوب القبول وجهان. لان الكسب قد ينقطع. فإن لم يكن
مكتسبا، وعول على السؤال، فأولى بالمنع. فإن كان يركب مفازة ليس بها كسب
ولا سؤال، لم يجب القبول بلا خلاف، لأنه يحرم التغرير بالنفس.
قلت: إذا أفسد الباذل حجه، انقلب إليه كما سيأتي في الأجير إن شاء الله
تعالى. قال الدارمي: ولو بذل لأبويه فقبلا، لزمه، ويبدأ بأيهما شاء، قال: وإذا
قبل الأب البذل، لم يجز له الرجوع. وإذا كان على المعضوب حجة نذر، فهي
كحجة الاسلام. والله أعلم.
فصل في العمرة في العمرة قولان. الأظهر الجديد: أنها فرض كالحج.
والقديم: سنة.
وإذ أوجبناها، فهي في شرط مطلق الصحة. وصحة المباشرة والوجوب
والاجزاء عن عمرة الاسلام، على ما ذكرنا في الحج، والاستطاعة الواحدة كافية
لهما جميعا.
فصل في الاستئجار للحج يجوز الاستئجار عليه، لدخول النيابة فيه
كالزكاة. ويجوز بالرزق، كما يجوز بالإجارة. وذلك بأن يقول: حج عني
292

شرطنا التعيين، فسدت الإجارة بإهماله. لكن يقع الحج عن المستأجر، لوجود
الاذن، ويلزمه أجرة المثل. وإن كانت الإجارة للحج والعمرة، فلا بد من بيان
أنه يفرد، أو يقرن، أو يتمتع، لاختلاف الغرض بها.
فرع نقل المزني عن نصه في المنثور: أنه لو قال المعضوب: من حج
عني، فله مائة درهم، فحج عنه إنسان، استحق المائة. وللأصحاب فيه
وجهان. أصحهما وإليه ميل الأكثرين: أن هذا النص على ظاهره. وتصح الجعالة
على كل عمل يضح الاستئجار عليه، لان الجعالة تجوز على العمل المجهول،
فعلى المعلوم أولى. والثاني: أن النص مخالف أو مؤول، ولا تجوز الجعالة على
ما تجوز الإجارة عليه، إذ لا ضرورة إليها لامكان الإجارة. فعلى هذا لو حج عنه
إنسان، وقع الحج عن المعضوب للاذن، وللعامل أجرة المثل لفساد العقد.
وفيه وجه: أنه يفسد الاذن، لأنه غير متوجه إلى إنسان بعينه. فهو كما لو
قال: وكلت من أراد بيع داري، فلا يصح التوكيل، وهذا شاذ ضعيف.
قلت: لو قال: من حج عني، أو أول من يحج عني، فله ألف درهم،
فسمعه رجلان فأحرما عنه أحدهما بعد الآخر، وقع الأول عن القائل، وله الألف،
ووقع حج الثاني عن نفسه، ولا شئ له. وإن وقعا معا وشك في وقوعهما معا، وقع
حجهما عنهما ولا شئ لهما على القائل، لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر، صرح
به القاضي حسين والأصحاب. والله أعلم.
فرع مقتضى كلام إمام الحرمين والغزالي، تجويز تقديم الإجارة على
خروج الناس للحج، وأن للأجير انتظار خروجهم، ويخرج مع أول رفقة. والذي
ذكره جمهور الأصحاب على اختلاف طبقاتهم، ينازع فيه. ويقتضي اشتراط وقوع
العقد في زمن خروج الناس من ذلك البلد. حتى قال صاحب التهذيب: لا
تصح إجارة العين، إلا في وقت خروج القافلة من ذلك البلد، بحيث يشتغل عقيب
العقد بالخروج أن بأسبابه من شراء الزاد ونحوه. فإن كان قبله، لم يصح. وبنوا
293

على ذلك، أنه لو كان الاستئجار بمكة، لم يجز إلا في أشهر الحج، ليمكنه
الاشتغال بالعمل عقيب العقد. وعلى ما قاله الامام والغزالي: لو جرى العقد في
وقت تراكم الأنداء والثلوج، فوجهان.
أحدهما: يجوز، وبقطع الغزالي في الوجيز، وصححه في الوسيط
لان توقع زوالها مضبوط.
والثاني: لا، لتعذر الاشتغال بالعمل في الحال، بخلاف انتظار خروج
الرفقة، فإن خروجها في الحال غير متعذر، وهذا كله في إجارة العين. أما إجارة
الذمة، فيجوز تقديمها على الخروج بلا شك.
قلت: أنكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح على الامام الرافعي هذا النقل عن
جمهور الأصحاب قال: وما ذكره عن صاحب التهذيب يمكن التوفيق بينه وبين
كلام الامام، أو هو شذوذ من صاحب التهذيب لا ينبغي أن يضاف إلى جمهور
الأصحاب، فإن الذي رأيناه في التتمة والشامل والبحر وغيرها،
مقتضاه: أنه يصح العقد في وقت يمكن فيه الخروج والسير على العادة، أو
الاشتغال بأسباب الخروج. قال صاحب البحر: أما عقدها في أشهر الحج،
فيجوز في كل موضع، لامكان الاحرام في الحال، هذا كلام الشيخ أبي عمرو.
والله أعلم.
فرع إذا لم يشرع الأجير في الحج في السنة الأولى لعذر أو لغيره، فإن
كانت الإجارة على العين، انفسخت. وإن كانت على الذمة، نظر، إن لم يعينا
سنة، فقد سبق أنه كتعيين السنة الأولى. وذكر في التهذيب: أنه يجوز التأخير
عن السنة الأولى والحالة هذه، لكن يثبت للمستأجر الخيار. وإن عينا الأولى أو
غيرها، فأخر عنها، فطريقان. أصحهما: على قولين، كما لو انقطع المسلم فيه
294

وأعطيك نفقتك. ولو استأجر بالنفقة، لم تصح، لجهالتها.
فرع الاستئجار في جميع الأعمال ضربان.
استئجار عين الشخص،
وإلزام ذمته العمل.
مثال الأول من الحج، أن يقول المعضوب: استأجرتك لتحج عني، أو
يقول الوارث: لتحج عن ميتي. ولو قال: لتحج بنفسك، كان تأكيدا.
ومثال الثاني: ألزمت ذمتك تحصيل الحج. ويفترق الضربان، في أمور ستراها إن شاء تعالى.
ثم لصحة الاستئجار شروط. وله آثار وأحكام، موضعها كتاب الإجارة
والذي نذكر هنا، ما يتعلق بخصوص الحج. فكل واحد من ضربي الإجارة،
قد يعين فيه زمن العمل، وقد لا يعين. وإذا عين، فقد يعين السنة الأولى. وقد
يعين غيرها فأما في إجارة العين، فإن عينا السنة الأولى، جاز بشرط أن يكون
الخروج والحج فيما بقي منها مقدورا للأجير. فلو كان مريضا لا يمكنه الخروج، أو
كان الطريق مخوفا، أو كانت المسافة بحيث لا تنقطع في بقية السنة، لم يصح
العقد، للعجز عن المنفعة. وإن عينا غير السنة الأولى، لم يصح العقد - كاستئجار
الدار للشهر المستقبل - لكن لو كانت المسافة بعيدة لا يمكن قطعها في سنة، لم يضر
التأخير. والمعتبر السنة الأولى من سني الامكان من ذلك البلد. وإن أطلقا ولم يعينا
زمنا حمل على السنة الأولى. فيعتبر فيها ما سبق. وأما الإجارة الواردة على
الذمة، فيجوز فيها تعيين السنة الأولى وغيرها. فإن أطلق، حمل على الأولى، ولا
295

يقدح فيها مرض الأجير، لامكان الاستنابة، ولا خوف الطريق، ولا ضيق الوقت،
إن عين غير السنة الأولى. وليس للأجير أن يستنيب في إجارة العين بحال.
وأما إجارة الذمة ففي التهذيب وغيره: أنه إن قال: ألزمت ذمتك
تحصيل حجة لي، جاز أن يستنيب، وإن قال: لتحج بنفسك، لم يجز، لان
الغرض يختلف باختلاف أعيان الاجراء. وهذا قد حكاه الامام عن الصيدلاني وخطأه
فيه، وقال ببطلان الإجارة في الصورة الثانية، لان الدينية مع الربط بمعين
تتناقضان. كمن أسلم في ثمرة بستان معين بعينه. وهذا إشكال قوي.
فرع أعمال الحج معروفة، فإن علمها المتعاقدان عند العقد، فذاك.
وإن جهلها أحدهما، لم يصح العقد. وهل يشترط تعيين الميقات الذي يحرم منه الأجير؟ فيه طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: لا يشترط، ويحمل على
ميقات تلك البلدة في العادة الغالبة. والثاني: يشترط.
الطريق الثاني: إن كان للبلد طريقان مختلفا الميقات، أو طريق يفضي إلى ميقاتين كالعقيق، وذات عرق، اشترط. وان لم يكن له إلا ميقات واحد، لم
يشترط.
والطريق الثالث: إن كان الاستئجار عن حي، اشترط، وإلا، فلا. فإن
296

في محله. أظهرهما: لا تنفسخ.
والثاني: تنفسخ.
والطريق الثاني: القطع بأنه لا تنفسخ.
فإذا قلنا: لا تنفسخ، فإن كان المستأجر هو المعضوب، فله الخيار، إن شاء فسخ، وإن شاء أخر ليحج في السنة الأخرى.
وإن كان الاستئجار عن منيت من ماله، قال أصحابنا العراقيون: لا خيار
للمستأجر. وتوقف الامام في هذا. وذكر صاحب " التهذيب " وغيره: أن على الولي أن يراعي النظر للميت، فإن كانت المصلحة في فسخ العقد لخوف إفلاس
الأجير أو هربه فلم يفعل، ضمن، وهذا هو الأصح.
ويجوز أن يحمل المنسوب إلى العراقيين على أحد أمرين رأيتهما للأئمة.
أحدهما: صور بعضهم المنع، فيما إذا كان الميت أوصى بأن يحج عنه
إنسان بمائة مثلا، ووجهه: بأن الوصية مستحقة الصرف إليه.
الثاني: قال أبو إسحاق في الشرح: للمستأجر لميت، أن يرفع الامر إلى القاضي ليفسخ العقد إن كانت المصلحة تقتضيه، وإن كان لا يستقل به، فإذا نزل من
ذكروه على المعنى الأول، ارتفع الخلاف. وإن نزل على الثاني، هان أمره.
ولو استأجر المعضوب لنفسه، فمات وأخر الأجير الحج عن السنة، فلم نر هذه المسألة مسطورة، وظاهر كلام الغزالي: أنه ليس للوارث فسخ الإجارة.
والقياس: ثبوت الخيار للوارث، كالرد بالعيب ونحوه.
قلت: الظاهر المختار: أنه ليس له الفسخ، إذ لا ميراث في هذه الأجرة،
297

بخلاف الرد بالعيب. والله أعلم.
فرع: لو استأجر إنسان عن الميت من مال نفسه تبرعا، فهو كاستئجار
المعضوب لنفسه، فله الخيار.
فرع: لو قدم الأجير الحج على السنة المعينة، جاز، وقد زاد خيرا
فرع: إذا انتهى الأجير إلى الميقات المتعين، إما بشرطهما إن اعتبرناه،
وإما بتعيين الشرع، فلم يحرم عن المستأجر، بل أحرم عن نفسه بعمرة،
فلما فرغ منها، أحرم عن المستأجر بالحجج، فله حالان.
أحدهما: أن لا يعود إلى الميقات، فيصح الحج عن المستأجر للاذان
ويحط شئ من الأجرة المسماة لاخلاله بالاحرام من الميقات الملتزم. وفي قدر
المحطوط، خلاف يتعلق بأصل، وهو أنه إذا سار الأجير من بلد الإجارة وحج،
فالأجرة تقع في مقابلة أعمال الحج وحدها، أم تتوزع على اليسير
والأعمال، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فإن خصصناها بالأعمال، وزعت
الأجرة المسماة على حجة من الميقات، وحجة من مكة، لان المقابل بالأجرة على
هذا، هو الحج من الميقات، فإذا كانت أجرة الحجة المنشأة من مكة دينارين،
والمنشأة من الميقات خمسة، فالتفاوت ثلاثة أخماس، فتحط ثلاثة أخماس
المسمى.
فإن وزعنا الأجرة على السير والأعمال وهو المذهب، فقولان.
298

أحدهما: لا تحسب له المسافة هنا، لأنه صرفها إلى غرض نفسه لاحرامه
بالعمرة من الميقات. فعلى هذا، يوزع المسمى على حجة تنشأ من بلد الإجارة ويقع
الاحرام بها من الميقات، وعلى حجة تنشأ من مكة، فيحط من المسمى بنسبته.
فإذا كانت أجرة المنشأة من البلد مائة، والمنشأة من مكة عشرة، حط تسعة أعشار
المسمى.
و أظهرهما: يحتسب قطع المسافة إلى الميقات، لجواز أن يكون قصد الحج
منه، إلا أنه عرض له العمرة. فعلى هذا يوزع المسمى على منشأة من بلد الإجارة
إحرامها من الميقات، وعلى منشأة من البلد إحرامها من مكة، فإذا كانت أجرة
الأولى: مائة، والثانية: تسعين، حط عشر المسمى، فحصل في الجملة ثلاثة
أقوال. المذهب منها. هذا الأخير.
ثم الأجير في مسألتنا: يلزمه دم لاحرامه بالحج بعد تجاوزه الميقات، وسنذكر
إن شاء الله تعالى خلافا في غير صورة الاعتمار أن إساءة المجاوزة، هل تنجبر
بإخراج الدم حتى لا يحط شئ من الأجرة، أم لا؟ وذلك الخلاف يجئ هنا
صرح به ابن عبدان وغيره، فإذا الخلاف في قدر المحظوظ.
فرع للقول بإثبات أصل الحط ويجوز أن يفرق بين الصورتين، ويقطع
بعدم الانجبار هنا، لأنه ارتفق بالمجاوزة حيث أحرم بالعمرة لنفسه.
الحال الثاني: أن يعود إلى الميقات بعد الفراغ من العمرة، فيحرم بالحج
منه، فهل يحط شئ من الأجرة؟ يبني على الخلاف المتقدم. إن قلنا: الأجرة
موزعة على العمل والسير، ولم يحسب السير لانصرافه إلى عمرته، وزعت الأجرة المسماة
على حجة منشأة من بلد الإجارة إحرامها من الميقات، وعلى منشأة من
الميقات بغير قطع مسافة، ويحط بالنسبة من المسمى. وإن قلنا: الأجرة في
مقابلة العمل فقط، أو وزعناها عليه وعلى السير، واحتسبنا المسافة، فلا حط،
فتجب الأجرة كلها، وهذا هو المذهب، ولم يذكر كثيرون غيره.
299

فرع إذا جاوز الميقات المتعين بالشرط، أو الشرع، غير محرم، ثم أحرم
بالحج عن المستأجر، نظر، إن عاد إليه وأحرم منه، فلا دم عليه، ولا يحط من الأجرة شئ،
وإن أحرم من جوف مكة، أو بين الميقات ومكة ولم يعد، لزم دم الإساءة
بالمجاوزة، وهل ينجبر به الخلل حتى لا يحط شئ من الأجرة؟ فيه طريقان.
أصحهما: على قولين. أحدهما: ينجبر، ويصير كأن لا مخالفة،
فتجب جميع الأجرة. وأظهرهما وهو نصه في المختصر: يحط. والطريق
الثاني: القطع بالحط.
فإن قلنا بالانجبار فهل نعتبر قيمة الدم، ونقابلها بالتفاوت؟ وجهان.
أحدهما: نعم، فلا ينجبر ما زاد على قيمة الدم. وأصحهما: لا، لان
المعول في هذا القول على جبر الخلل، والشرع قد حكم به من غير نظر إلى
القيمة. وإذا قلنا بالمذهب وهو الحط، ففي قدره الوجهان بناء على الأصل
السابق، وهو أن الأجرة في مقابلة ماذا؟ فإن قلنا: في مقابلة العمل فقط، وزعنا
المسمى على حجة من الميقات، وحجة من حيث أحرم. وإن وزعنا على العمل
والسير وهو المذهب، وزعنا المسمى على حجة من بلدة إحرامها من الميقات،
وعلى حجة من بلدة إحرامها من حيث أحرم. وعلى هذا، يقل المحطوط. ثم
حكى الشيخ أبو محمد وجهين، في أن النظر إلى الفراسخ وحدها، أم يعتبر مع ذلك
السهولة والخشونة؟ والأصح: الثاني.
ولو عدل الأجير عن طريق الميقات المعتبر إلى طريق آخر ميقاته مثل المعتبر،
300

فالمذهب: أنه لا شئ عليه، هذا كله في الميقات الشرعي. أما إذا عينا موضعا
آخر، فإن كان أقرب إلى مكة من الشرعي، فالشرط فاسد مفسد الإجارة، إذا لا
يجوز لمريد النسك مجاوزة الميقات غير محرم. وإن كان أبعد، بأن عينا الكوفة،
فهل يلزم الأجير الدم لمجاوزتها غير محرم؟ وجهان. الأصح المنصوص: نعم.
فإن قلنا: لا يلزم السلام، حط قسط الأجرة قطعا، وإلا، ففي حصول الانجبار به
الطريقان.
وكذلك لو لزمه الدم لترك مأمور، كالرمي والمبيت. فإن لزمه بفعل مخطور
كاللبس والقلم، لم يحط شئ من الأجرة، لأنه لم ينقص العمل. ولو شرط
الاحرام في أول شوال، فأخره، لزمه الدم، وفي الانجبار الخلاف. وكذا لو شرط
أن يحج ماشيا فحج راكبا، لأنه ترك مقصودا. هكذا نقلت المسألتان عن القاضي
حسين، ويشبه أن تكونا مفرعتين على أن الميقات المشروط، كالشرعي، وإلا،
فلا يلزم الدم، كما في مسألة تعيين الكوفة.
فرع إذا استأجره للقران، فتارة يمتثل، وتارة يعدل إلى جهة أخرى،
فإن امتثل فقرن، وجب دم القرآن. وعلى من يجب؟ وجهان. وقيل: قولان.
أصحهما: على المستأجر. والثاني: على الأجير. فعلى الأول: لو شرط أن
يكون على الأجير، فسدت الإجارة، لأنه جمع بين إجارة وبيع مجهول، فإن الدم
مجهول الصفة، فلو كان المستأجر معسرا، فالصوم على الأجير، لان بعض
الصوم، ينبغي أن يكون في الحج. والذي منهما في الحج، هو الأجير. كذا
301

ذكره في التهذيب. وقال في التتمة: هو كالعاجز عن الهدي والصوم جميعا.
وعلى الوجهين: يستحق الأجرة بكمالها.
فأما إذ عدل، فينظر، إن عدل إلى الافراد فحج ثم اعتمر، فإن كانت الإجارة
على العين، لزمه أن يرد من الأجرة حصة العمرة، نص عليه في المناسك الكبير
لأنه لا يجوز تأخير العمل في هذه الإجارة عن الوقت المعين. وإن كانت في الذمة، نظر إن عاد إلى الميقات للعمرة، فلا شئ عليه، لأنه زاد خيرا، ولا شئ (عليه) ولا
على المستأجر أيضا، لأنه لم يقرن. وإن لم يعد، فعلى الأجير دم، لمجاوزته
الميقات للعمرة. وهل يحط شئ من الأجرة، أم تنجبر الإساءة بالدم؟ فيه الخلاف
السابق.
وإن عدل إلى التمتع، فقد أشار صاحب التتمة إلى أنه إن كانت إجارة
عين، لم يقع الحج عن المستأجر، لوقوعه في غير الوقت المعين، وهذا هو قياس
ما تقدم. وإن كانت على الذمة، نظر، إن عاد إلى الميقات للحج، فلا دم عليه ولا
على المستأجر، وإلا، فوجهان.
أحدهما: لا يجعل مخالفا لتقارب الجهتين، فيكون حكمه كما لو امتثل.
وفي كون الدم على الأجير أو المستأجر، الوجهان. وأصحهما. يجعل مخالفا،
فيجب الدم على الأجير، لإساءته. وفي حط شئ من الأجرة، الخلاف. وذكر
أصحاب الشيخ أبي حامد: أنه يجب على الأجير دم لتركه الاحرام من الميقات،
وعلى المستأجر دم آخر، لان القران الذي أمر به، يتضمنه. واستبعده ابن الصباغ
وغيره.
فرع إذا استأجره للتمتع فامتثل، فهو كما لو أمره بالقران فامتثل. وإن
أفرد، نظر، إن قدم العمرة وعاد للحج إلى الميقات، فقد زاد خيرا. وإن أخر
العمرة، فإن كانت إجارة عين، انفسخت في العمرة، لفوات وقتها المعين، فيرد
حصتها من المسمى. وإن كانت على الذمة وعاد إلى الميقات للعمرة، لم يلزمه
شئ، وإلا فعليه دم، لتركه الاحرام بالعمرة من الميقات، وفي حط شئ من
الأجرة الخلاف، وإن قرن، فقد زاد خيرا، نص عليه، لأنه قد أحرم بالنسكين من
302

الميقات، وكان مأمورا بأن يحرم بالحج من مكة. ثم إن عدد الأفعال للنسكين، فلا
شئ عليه، وإلا، فهل يحط شئ من الأجرة لاختصاره في الأفعال؟
وجهان. وكذا الوجهان في أن الدم على المستأجر، أم الأجير؟.
فرع لو استأجره للافراد فامتثل، فذاك. فلو قرن، نظر، إن كانت الإجارة
على العين، فالعمرة واقعة في غير وقتها، فهو كما لو استأجره للحج وحده فقرن،
وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في الفصل الثاني من الفصلين الآتيين،
وإن كانت في الذمة، وقعا عن المستأجر، وعلى الأجير الدم، وهل يحط
شئ من الأجرة للخلل، أم يتخير بالدم؟ فيه الخلاف. وإن تمتع، فإن كانت
الإجارة على العين وقد أمره بتأخير العمرة، وفقد وقعت في غير وقتها، فيرد ما يخصها
من الأجرة. وإن أمره بتقديمها، أو كانت على الذمة، وقعا عن المستأجر، ولزم
الأجير دم إن لم يعد الحج إلى الميقات، وفي حط شئ من الأجرة الخلاف.
فرع إذا جامع الأجير، فسد حجه وانقلب له، فيلزمه الكفارة، والمضي
في فاسده، والقضاء. هذا هو المشهور، والذي قطع به الأصحاب. وحكي قول:
أنه لا ينقلب، ولا قضاء، لان العبادة للمستأجر، فلا يفسد بفعل غيره. وحكي هذا
عن المزني أيضا.
فعلى المشهور، إن كان إجارة عين، انفسخت والقضاء الذي يأتي به الأجير
يقع عنه. وإن كانت على الذمة، لم تنفسخ. وعمن يقع القضاء؟ وجهان.
وقيل: قولان. أحدهما: عن المستأجر، لأنه قضاء الأول. وأصحهما: عن
303

الأجير، لان الأداء وقع عنه، فعلى هذا يلزمه سوى القضاء حجة أخرى
للمستأجر، فيقضي عنه نفسه، ثم يحج عن المستأجر في سنة أخرى، أو يستنيب
من يحج عنه في تلك السنة. وإذا لم تنفسخ الإجارة، فللمستأجر خيار الفسخ،
لتأخير المقصود.
وفرق أصحابنا العراقيون بين أن يستأجر المعضوب، أو تكون الإجارة لميت
في ثبوت الخيار. وقد سبق نظيره.
فرع إذا أحرم الأجير عن المستأجر، ثم صرف الاحرام إلى نفسه ظنا منه
أنه ينصرف، وأتم الحج على هذا الظن، فالحج للمستأجر. وفي استحقاق الأجير الأجرة
قولان: أحدهما: لا، لاعراضه عنها.
وأظهرهما: يستحق، لحصول الغرض فيستحق المسمى على الأصح.
وقيل: أجرة المثل.
فرع إذا مات الحاج عن نفسه في أثنائه، فهل يجوز البناء على حجه؟
قولان. الأظهر الجديد: لا يجوز، كالصوم والصلاة.
والقديم: يجوز. فعلى الجديد: يبطل المأتي به إلا في الثواب، ويجب
الاحجاج عنه من تركته إن كان استقر في ذمته. وعلى القديم: تارة يموت وقد
بقي وقت الاحرام، وتارة لا يبقى، فإن بقي، أحرم النائب بالحج، ويقف بعرفة إن
لم يقف الميت، ولا يقف إن كان وقف ويأتي بباقي الأعمال، ولا بأس بوقوع إحرام
النائب داخل الميقات، فإنه يبني على إحرام أشئ منه.
وإن لم يبق وقت الاحرام، ففيما يحرم به النائب؟ وجهان. أحدهما:
304

بعمرة، ثم يطوف ويسعى، فيجزءانه عن طواف الحج وسعيه. ولا يبيت، ولا
يرمي، فإنهما ليسا من أعمال العمرة، ولكن يجبران بالدم.
وأصحهما: يحرم بالحج، ويأتي ببقية الأعمال، وإنما يمتنع إنشاء
الاحرام بعد أشهر الحج إذا ابتدأه،
وهذا يبنى على ما سبق. وعلى هذا، لو مات بين التحللين، أحرم النائب
إحراما لا يحرم اللبس والقلم، وإنما يحرم النساء كما لو بقي الميت. هذا كله، إذا
مات قبل التحللين، فإن مات بعدهما، فلا خلاف أنه لا يجوز البناء، لأنه يمكن
جبر ما بقي بالدم. وأوهم بعضهم إجراء الخلاف فيه.
فرع إذا مات الأجير في أثناء الحج، فله أحوال.
أحدها: أن يكون بعد الشروع في الأركان، وقبل الفراغ منها، فهل يستحق
شيئا من الأجرة؟ قولان. أظهرهما: يستحق، وسواء مات بعد الوقوف بعرفة،
أو قبله. هذا هو المذهب. وقيل: يستحق بعده قطعا، وهو شاذ.
فإذا قلنا: يستحق، فهل يقسط الأجرة على الأعمال فقط، أم عليها مع
السير؟ قولان. أظهرهما: الثاني. وقال ابن سريج رحمه الله: إن قال: استأجرتك لتحج
عني، قسط على العمل فقط. وإن قال: لتحج من بلد كذا، قسط عليهما، وحمل
القولين على الحالين. ثم هل يبنى على ما فعله الأجير؟ ينظر، إن كانت الإجارة
على العين، انفسخت ولا بناء لورثة الأجير، كما لم يكن له أن ينتسب، وهل
للمستأجر أن يستأجر من يبني؟ فيه القولان في جواز البناء. وإن كانت على الذمة
305

فإن قلنا: لا يجوز البناء، فلورثة الأجير أن يستأجروا من يستأنف الحج عن المستأجر
له. فإن أمكنهم في تلك السنة لبقاء الوقت، فذاك، وإن تأخر إلى السنة الثانية،
ثبت الخيار كما سبق. وإن جوزنا البناء، فلورثة الأجير أن يبنوا. ثم القول فيما
يحرم به النائب، وفي حكم إحرامه بين التحللين، على ما سبق.
الحال الثاني: أن يموت بعد الاخذ في السير، وقبل الاحرام، فالصحيح
المنصوص في كتب الشافعي رضي الله عنه، والذي قطع به الجماهير: لا
يستحق شيئا من الأجرة. وقال الإصطخري، والصيرفي: يستحق بقسطه. وقال
ابن عبدان: إن قال: استأجرتك لتحج عني، لم يستحق. وإن قال: لتحج من بلد
كذا، استحق بقسطه.
الحال الثالث: أن يموت بعد فراغ الأركان، وقبل فراغ باقي الأعمال،
فينظر، إن فات وقتها، أو لم يفت، ولكن لم نجوز البناء، جبر بالدم من مال
الأجير، وهل يرد شيئا من الأجرة؟ فيه الخلاف السابق. وإن جوزنا البناء، فإن
كانت الإجارة على العين، انفسخت في الأعمال الباقية، ووجب رد قسطها من
الأجرة، ويستأجر المستأجر من يرمي ويبيت، ولا دم على الأجير. وإن كانت على
الذمة، استأجر وارث الأجير من يرمي ويبيت، ولا حاجة إلى الاحرام، لأنهما
عملان يؤتى بهما بعد التحللين، ولا يلزم الدم، ولا رد شئ من الأجرة، ذكره في
التتمة.
فرع إذا أحصر الأجير، فله التحلل. فإن تحلل، فعمن يقع ما أتى
به؟ وجهان. أصحهما: عن المستأجر، كما لو مات، إذ لا تقصير.
والثاني: عن الأجير كما لو أفسده.
فعلى هذا، دم الاحصار على الأجير، وعلى الأول: هو على المستأجر.
وفي استحقاقه شيئا من الأجرة، الخلاف المذكور في الموت. وإن لم يتحلل وأقام
306

على الاحرام حتى فاته الحج، انقلب إليه، كما في الافساد، ثم يتحلل بعمل
عمرة، وعليه دم الفوات. ولو حصل الفوات بنوم، أو تأخر عن القافلة، أو غيرهما
من غير إحصار، انقلب المأتي به إلى الأجير أيضا، كما في الافساد، ولا شئ
للأجير على المذهب. وقيل: فيه الخلاف المذكور في الموت.
فصل إذا اجتمعت شرائط وجوب الحج، وجب على التراخي. وقال
أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، والمزني: على الفور. ثم عندنا يجوز لمن وجب
عليه الحج بنفسه أو بغيره، أن يؤخره بعد سنة الامكان. فلو خشي العضب، وقد
وجب عليه الحج بنفسه، لم يجز التأخير على الأصح. وإذا تأخر بعد الوجوب فمات
قبل حج الناس، تبين عدم الوجوب لتبين عدم الامكان، وإن مات بعد حج الناس،
استقر الوجوب ولزم الاحجاج من تركته. قال في التهذيب ورجوع القافلة ليس
بشرط، حتى لو مات بعد انتصاف ليلة النحر، ومضي إمكان السير إلى منى والرمي
بها، وإلى مكة والطواف بها، استقر الفرض عليه، وإن مات، أو جن قبل ذلك،
لم يستقر عليه. وإن هلك ماله بعد رجوع الناس، أو مضي إمكان الرجوع، استقر
الحج، وإن هلك بعد حجهم، وقبل الرجوع وإمكانه، فوجهان. أصحهما: لا
يستقر. هذا حيث نشرط أن يملك نفقة الرجوع. فإن لم نشرطها، استقر قطعا. ولو
أحصر الذين أمكنه الخروج معهم، فتحللوا، لم يستقر الحج عليه. فلو سلكوا
طريقا آخر فحجوا، استقر، وكذا لو حجوا في السنة التي بعدها إذا عاش وبقي
ماله. وإذا دامت الاستطاعة وتحقق الامكان فلم يحج حتى مات، فهل يموت
عاصيا؟ فيه أوجه. أصحهما: نعم. والثاني: لا، والثالث: يعصي الشيخ دون
الشاب، والخلاف جار فيما لو كان صحيح البدن فلم يحج حتى صار زمنا.
والأصح: العصيان أيضا. فإذا زمن وقلنا بالعصيان، فهل تجب عليه الاستنابة على
الفور لخروجه بالتقصير عن استحقاق البر فيه، أم له تأخير الاستنابة كما لو بلغ
307

معضوبا؟ فإن استنابته على التراخي، فيه وجهان. أصحهما: الأول. وعلى هذا لو
امتنع وأخر، فهل يجيزه القاضي على الاستنابة، أو يستأجر عليه؟ وجهان.
أحدهما: نعم كزكاة الممتنع. وأصحهما: لا. وإذا قلنا: يموت عاصيا، فمن أي
وقت يعصي؟ فيه أوجه. أصحها: من السنة الآخرة من سني الامكان لجواز التأخير
إليها. والثاني: من السنة الأولى، لاستقرار الفرض فيها. والثالث: يموت
عاصيا، ولا يسند العصيان إلى سنة بعينها. ومن فوائد موته عاصيا، أنه لو شهد
شهادة ولم يحكم بها حتى مات، لم يحكم، لبيان فسقه. ولو قضي بشهادته بين
السنة الأولى والأخيرة من سني الامكان، فإن عصيناه من الأخيرة، لم ينقض ذلك
الحكم بحال. وإن عصيناه من الأول، ففي نقضه القولان، فيما إذا بان فسق
الشهود.
فصل حجة الاسلام في حق من يتأهل لها، تقدم على حجة القضاء.
وصورة اجتماعهما، أن يفسد العبد حجه، ثم يعتق، فعليه القضاء، ولا
تجزئه عن حجة الاسلام. وتقدم أيضا حجة الاسلام على النذر. فلو اجتمعت
حجة الاسلام، والقضاء، والنذر، قدمت حجة الاسلام، ثم القضاء، ثم النذر.
وأشار الامام إلى تردد في تقديم القضاء على النذر. والمذهب: ما قدمناه. ومن
عليه حجة الاسلام، أو قضاء، أو نذر، لا يجوز أن يحج عن غيره.
فلو قدم ما يجب تأخيره، لغت نيته، ووقع على الترتيب المذكور.
والعمرة، إذا أوجبناها، كالحج في جميع ذلك.
ولو استأجر المعضوب من يحج عن نذره، وعليه حجة الاسلام، فنوى الأجير
308

النذر، وقع عن حجة الاسلام. ولو استأجر أجيرا لم يحج عن نفسه، فنوى الحج
عن المستأجر، لغت نيته، ووقع الحج عن الأجير. ولو نذر من لم يحج أن يحج في
هذه السنة، ففعل، وقع عن حجة الاسلام، وخرج عن نذره، وليس في نذره إلا
تعجيل ما كان له تأخيره. ولو استؤجر من لم يحج للحج في الذمة، جاز، وطريقه:
أن يحج عن نفسه، ثم عن المستأجر. وإجارة العين باطلة، لأنها تتعين للسنة
الأولى. فإذا بطلت، نظر، إن ظنه حج فبان أنه لم يحج، لم يستحق أجره،
لتغريره، وإن علم أنه لم يحج وقال: يجوز في اعتقادي أن يحج عن غيره من لم
يحج، فحج الأجير، وقع عن نفسه.
وفي استحقاقه أجرة المثل قولان، أو وجهان تقدمت نظائرهما.
أما إذا استأجر للحج من حج ولم يعتمر، أو للعمرة من اعتمر ولم يحج،
فقرن الأجير وأحرم بالنسكين عن المستأجر، أو أحرم بما استؤجر له عن المستأجر،
وبالآخر عن نفسه، فقولان. الجديد: أنهما يقعان عن الأجير، لان نسكي
القران لا يفترقان، لاتحاد الاحرام، ولا يمكن صرف ما لم يأمر به المستأجر إليه.
والثاني: أن ما استؤجر له يقع عن المستأجر، والآخر عن الأجير. ولو
استأجر رجلان شخصا، أحدهما: ليحج عنه، والآخر ليعتمر عنه، فقرن عنهما،
فعلى الجديد: يقعان عن الأجير. وعلى الثاني: يقع عن كل واحد ما استأجر له.
ولو استأجر المعضوب رجلين ليحجا عنه في سنة واحدة، أحدهما: حجة
الاسلام، والآخر: حجة قضاء أو نذر، فوجهان.
أصحهما: يجوز، وهو المنصوص في الام، لان غير حجة الاسلام لم
تتقدم عليها. والثاني: لا يجوز. فعلى الثاني: إن أحرم الأجيران معا، انصرف
إحرامهما إلى أنفسهما. وإن سبق إحرام أحدهما، وقع ذلك عن حجة الاسلام عن
المستأجر، وانصرف إحرام الآخر إلى نفسه.
309

فرع لو أحرم الأجير عن المستأجر، ثم نذر حجا، نظر، إن نذره بعد
الوقوف، لم ينصرف حجه إليه، بل يقع عن المستأجر. وإن نذر قبله فوجهان.
أصحهما: انصرافه إلى الأجير. ولو أحرم الرجل بحج تطوع، ثم نذر حجا بعد
الوقوف، لم ينصرف إليه. وقبل الوقوف، على الوجهين.
فرع لو استأجر المعضوب من يحج عنه تلك السنة، فأحرم الأجير عن
نفسه تطوعا، فوجهان. قال الشيخ أبو محمد: ينصرف إلى المستأجر. وقال سائر
الأصحاب: يقع تطوعا للأجير.
قلت: لو حج بمال مغضوب أو نحوه، أجزأه الحج وإن كان عاصيا
بالغصب. ولو كان يجن ويفيق، فإن كانت مدة إفاقته يتمكن فيها من الحج،
ووجدت الشرائط الباقية، وجب عليه الحج، وإلا فلا. وإذا كان عليه دين حال لا
يفضل عنه ما يحج به، فقال صاحب الدين، أمهلتك به إلى ما بعد الحج، لم يلزمه
الحج. والله أعلم.
باب مواقيت الحج
ميقات الحج والعمرة، زماني ومكاني. أما الزماني، فوقت الاحرام
بالحج: شوال، وذو القعدة، وعشر ليال من ذي الحجة، آخرها آخر ليلة
310

النحر، وفي وجه: لا يجوز الاحرام في ليلة النحر، وهو شاذ مردود. وحكى
المحاملي قولا عن الاملاء أنه يصح الاحرام به في جميع ذي الحجة، وهذا
أشذ وأبعد. وأما العمرة، فجميع السنة وقت للاحرام بها، ولا تكره في وقت منها،
ويستحب الاكثار منها في العمر، وفي السنة الواحدة. وقد يمتنع الاحرام بالعمرة لا
بسبب الوقت، بل لعارض، كالمحرم بالحج، لا يصح إحرامه بالعمرة على الأظهر
كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه. وإذا تحلل عن الحج التحللين، وعكف بمنى
للمبيت والرمي، لم ينعقد إحرامه بالعمرة، لعجزه عن التشاغل بعملها، نص
عليه. فإن نفر النفر الأول، فله الاحرام بها، لسقوط بقية الرمي، والمبيت عنه.
فرع لو أحرم بالحج في غير أشهره، لم ينعقد حجا. وهل ينعقد عمرة؟
فيه طرق. المذهب: أنه ينعقد ويجزئه عن عمرة الاسلام. وعلى قول: يتحلل
بعمل عمرة، ولا تحسب عمرة. ومنهم من قطع بهذا القول. وقيل: ينعقد إحرامه
مبهما، فإن صرفه إلى عمرة، كان عمرة صحيحة، وإلا تحلل بعمل عمرة.
ولو أحرم قبل أشهر الحج إحراما مطلقا، فالمذهب، والذي قطع به
الجمهور: أنه لا ينعقد إحرامه بعمرة. وقيل: فيه وجهان: أحدهما: هذا.
311

والثاني: وهو محكي عن الخضري: ينعقد مبهما. فإذا دخلت أشهر الحج، صرفه
إلى ما شاء، من حج، أو عمرة، أو قران.
فصل في الميقات المكاني أما المقيم بمكة مكيا كان أو غيره، ففي
ميقاته للحج وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: نفس مكة. والثاني: مكة وسائر
الحرم. فعلى الأول: لو فارق بنيان مكة وأحرم في الحرم، فهو مسئ، يلزمه الدم
وإن لم يعد كمجاوزة سائر المواقيت. وعلى الثاني: حيث أحرم في الحرم، فلا
إساءة. أما إذا أحرم خارج الحرم، فمسئ قطعا، فيلزمه الدم، إلا أن يعود قبل
الوقوف بعرفة إلى مكة على الأصح، أو الحرم على الثاني. ثم من أي موضع أحرم
من مكة، جاز. وفي الأفضل: قولان. أحدهما: أن يتهيأ للاحرام، ويحرم من
المسجد قريبا من البيت. وأظهرهما: الأفضل أن يحرم من باب داره، ويأتي
المسجد محرما.
وأما غير المقيم بمكة، فتارة يكون مسكنه فوق الميقات الشرعي، ويسمى
هذا الأفقي، وتارة يكون بينه وبين مكة.
والمواقيت الشرعية خمسة.
أحدها: ذو الحليفة، وهو ميقات من توجه من المدينة، وهو على نحو عشر
مراحل من مكة.
الثاني: الجحفة، ميقات المتوجهين من الشام ومصر والمغرب.
الثالث: يلملم، وقيل: ألملم، ميقات المتوجهين من اليمن.
الرابع: قرن، وهو ميقات المتوجهين من نجد اليمن، ونجد الحجاز.
312

والخامس: ذات عرق، ميقات المتوجهين من العراق وخراسان.
والمراد بقولنا: يلملم ميقات اليمن، أي: ميقات تهامته، فإن اليمن يشمل
نجدا وتهامة. والأربعة الأولى، نص عليها النبي (ص) بلا خلاف. وفي ذات عرق
وجهان. أحدهما وإليه مال الأكثرون: أنه منصوص كالأربعة. والثاني: أنه باجتهاد
313

عمر بن الخطاب رضي الله عنه. والأفضل في حق أهل العراق: أن يحرموا من
العقيق، وهو واد وراء ذات عرق مما يلي المشرق.
فرع إذا انتهى الأفقي إلى الميقات وهو يريد الحج، والعمرة، أو
القران، حرم عليه مجاوزته غير محرم. فإن جاوزه، فهو مسئ، ويأتي حكمه
إن شاء الله تعالى وسواء كان من أهل تلك الناحية، أم من غيرها، كالشامي، يمر
بميقات أهل المدينة.
فرع إذا مر الأفقي بالميقات غير مريد نسكا، فإن لم يكن على قصد
التوجه إلى مكة، ثم عن له قصد النسك بعد مجاوزة الميقات، فميقاته حيث عن
له. وإن كان على قصد التوجه إلى مكة لحاجة، فعن له النسك بعد المجاوزة،
فإن قلنا: من أراد دخول الحرم لحاجة يلزمه الاحرام، فهذا يأثم بمجاوزته غير
محرم، وهو كمن جاوزه غير محرم على قصد النسك. وإن قلنا: لا يلزمه، فهذا
كمن جاوز غير قاصد دخول مكة.
فرع من مسكنه بين الميقات ومكة، فميقاته القرية التي يسكنها، أو الحلة
التي ينزلها البدوي.
فرع يستحب لمن يحرم من ميقات شرعي، أو من قريته، أو حلته، أن
يحرم من طرفه الأبعد من مكة. فلو أحرم من الطرف الآخر، جاز لوقوع الاسم
314

عليه. والاعتبار بالمواقيت الشرعية، بتلك المواضع، لا بالقرى والأبنية، فلا يتغير
الحكم لو خرب بعضها، ونقلت العمارة إلى موضع قريب منه وسمي بذلك الاسم.
فرع لو سلك البحر أو طريقا في البر لا ينتهي إلى شئ من المواقيت
المعينة، فميقاته محاذاة المعين. فإن اشتبه، تحرى. وطريق الاحتياط لا
يخفى. ولو حاذى ميقاتين طريقه بينهما، فإن تساويا في المسافة إلى مكة، فميقاته
ما يحاذيهما. وإن تفاوتا فيها، وتساويا في المسافة إلى طريقه، فوجهان.
أحدهما: يتخير، إن شاء أحرم من المحاذي لأبعد الميقاتين، وإن شاء لأقربهما.
وأصحهما: يتعين محاذاة أبعدهما. وقد يتصور في هذا القسم محاذاة ميقاتين
دفعة واحدة، وذلك بانحراف أحد الطريقين والتوائه، أو لو عورة وغيرها، فيحرم من
المحاذاة. وهل هو منسوب إلى أبعد الميقاتين، أم إلى أقربهما؟ وجهان حكاهما
الامام، قال: وفائدتهما، أنه لو جاوز موضع المحاذاة بغير إحرام، وانتهى إلى
موضع يفضي إليه طريقا الميقاتين، وأراد العود لرفع الإساءة، ولم يعرف موضع
المحاذاة، هل يرجع إلى هذا الميقات، أم إلى ذاك؟ ولو تفاوت الميقاتان في
المسافة إلى مكة، وإلى طريقه، فالاعتبار بالقرب إليه، أم إلى مكة؟ وجهان.
أصحهما: الأول.
315

فرع لو جاء من ناحية لا يحاذي في طريقها ميقاتا، لزمه أن يحرم إذا لم
يبق بينه وبين مكة إلا مرحلتان.
فصل إذا جاوز موضعا - وجب الاحرام منه - غير محرم، أثم، وعليه العود
إليه، والاحرام منه إن لم يكن له عذر. فإن كان له عذر، كخوف الطريق، أو
الانقطاع عن الرفقة، أو ضيق الوقت، أحرم ومضى، وعليه دم إذا لم يعد. فإن
عاد، فله حالان.
أحدهما: يعود قبل الاحرام فيحرم منه. فالمذهب والذي قطع به الجمهور:
أنه لا دم عليه، سواء كان دخل مكة، أم لا. وقال إمام الحرمين والغزالي، إن عاد
قبل أن يبعد عن الميقات بمسافة القصر، سقط الدم. وإن عاد بعد دخول مكة،
وجب الدم. وإن عاد بعد مسافة القصر، فوجهان. أصحهما: يسقط، وهذا
التفصيل شاذ.
الحال الثاني: أن يحرم، ثم يعود إلى الميقات محرما. فمنهم من أطلق
316

في سقوط الدم وجهين. وقيل: قولان. والمذهب والذي قاله الجمهور: أنه
يفصل. فإن عاد فبل التلبس بنسك، سقط الدم، وإلا فلا، سواء كان النسك
ركنا، كالوقوف، أو سنة، كطواف القدوم. وقيل: لا أثر للتلبس بالسنة. ولا فرق
في لزوم الدم في كل هذا بين المجاوز عامدا عالما، والجاهل والناسي. لكن
يفترقون في الاثم، فلا إثم على الناس والجاهل.
فصل هل الاحرام من الميقات أفضل، أم من فوقه؟ نص في البويطي
والجامع الكبير للمزني، أنه من الميقات أفضل، وقال في الاملاء: الأفضل
من دويرة أهله. وللأصحاب طرق. أصحهما: على قولين. أظهرهما: الأفضل
من دويرة أهله. والثاني: من الميقات. بل أطلق جماعة الكراهة على تقديم
317

الاحرام على الميقات. والطريق الثاني: القطع بدويرة أهله. والثالث: إن أمن
على نفسه من ارتكاب محظورات الاحرام، فدويرة أهله، وإلا، فالميقات.
قلت: الأظهر عند أكثر أصحابنا، وبه قطع كثيرون من محققيهم: أنه من
الميقات أفضل، وهو المختار أو الصواب، للأحاديث الصحيحة فيه، ولم يثبت
لها معارض. والله أعلم.
فصل في ميقات العمرة إن كان المعتمر خارج الحرم، فميقات عمرته
ميقات حجه بلا فرق. وإن كان في الحرم، مكيا كان أو مقيما بمكة، فله ميقات
واجب، وأفضل. أما الواجب، فأن يخرج إلى أدنى الحل ولو خطوة من أي
جانب شاء، فيحرم بها. فإن خالف وأحرم بها في الحرم، انعقد إحرامه. ثم له
حالان.
أحدهما: أن لا يخرج إلى الحل، بل يطوف ويسعى ويحلق بها، فهل يجزئه
ذلك عن عمرته. قولان نص عليهما في الام، أظهرهما: يجزئه، ويلزمه دم،
لتركه الاحرام من الميقات. والثاني: لا يجزئه ما أتى به، بل يشترط أن يجمع في
عمرته بين الحل والحرم، كما في الحج. فعلى الأول: لو وطئ بعد الحلق، فلا
318

شئ عليه، لوقوعه بعد التحلل. وعلى الثاني: الوطئ واقع قبل التحلل، لكنه
يعتقد أنه تحلل، فهو كوطئ الناسي. وفي كونه مفسدا، قولان. فإن جعلناه
مفسدا، فعليه المضي في فاسده بأن يخرج إلى الحل ويعود، فيطوف ويسعى،
ويحلق، ويلزمه القضاء وكفارة الافساد ودم الحلق لوقوعه قبل التحلل.
الحال الثاني: أن يخرج إلى الحل ثم يعود، فيطوف ويسعى ويحلق، فيعتد
بما أتى به قطعا. وهل يسقط عنه دم الإساءة؟ فيه طريقان. المذهب وبه قطع
الجماهير: سقوطه. والثاني: على طريقين. أصحهما: القطع بسقوطه،
والثاني: تخريجه على الخلاف في عود من جاوز الميقات غير محرم. فإذا قلنا
بالمذهب، فالواجب خروجه إلى الحل قبل الأعمال، إما في ابتداء الاحرام، وإما
بعده. وإن قلنا: لا يسقط الدم، فالواجب هو الخروج في ابتداء الاحرام.
فرع أفضل البقاع من أطراف الحل لاحرام العمرة: الجعرانة، ثم
التنعيم، ثم الحديبية.
319

قلت: هذا هو الصواب. وأما قول صاحب التنبيه: والأفضل أن يحرم بها
من التنعيم، فغلط. والله أعلم.
باب بيان وجوه الاحرام وما يتعلق بها
اتفقوا على جواز إفراد الحج عن العمرة، والتمتع، والقران. وأفضلها:
الافراد، ثم التمتع، ثم القران، هذا هو المذهب، والمنصوص في عامة كتبه.
وفي قول: التمتع أفضل، ثم الافراد. وحكي قول: أن الأفضل:
الافراد، ثم القران، ثم التمتع. وقال المزني، وابن المنذر، وأبو إسحاق
المروزي: أفضلها: القران.
فأما الافراد، فمن صوره أن يحرم بالحج وحده ويفرغ منه، ثم يحرم
بالعمرة. وسيأتي باقي صوره إن شاء الله تعالى في شروط التمتع. ثم تفضيل الافراد
على التمتع والقران، شرطه أن يعتمر تلك السنة. فلو أخر العمرة عن سنته، فكل
واحد من التمتع والقران أفضل منه، لان تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه.
وأما القران، فصورته الأصلية، أن يحرم بالحج والعمرة معا. فتندرج أفعال
العمرة في أعمال الحج، ويتحد الميقات والفعل.
ولو أحرم بالعمرة، ثم أدخل عليها الحج، نظر، إن أدخله في غير أشهر
الحج، لغا إدخاله ولم يتغير إحرامه بالعمرة. وإن أدخله في أشهره، نظر، إن كان
320

أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج، ففي صحة إدخاله وجهان. أحدهما، وهو اختيار
الشيخ أبي علي، وحكاه عن عامة الأصحاب: لا يصح الادخال، لأنه يؤدي إلى
صحة الاحرام بالحج قبل أشهره. والثاني: يصح، وهو اختيار القفال، وبه قطع
صاحب الشامل وغيره، لأنه إنما يصير محرما بالحج وقت إدخاله، وهو وقت
صالح للحج.
قلت: هذا الثاني أصح. والله أعلم.
وإن أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ثم أدخله عليها في أشهره، فإن لم يكن
شرع في طوافها، صح وصار قارنا، وإلا لم يصح إدخاله. وفي علة عدم
الصحة، أربعة معان.
أحدها: لأنه اشتغل بعمل من أعمال العمرة.
والثاني: لأنه أتى بفرض من فروضها.
والثالث: لأنه أتى بمعظم أفعالها.
والرابع: لأنه أخذ في التحلل، وهذا هو الذي ذكره أبو بكر الفارسي في
عيون المسائل. وحيث جوزنا الادخال عليها، فذاك إذا كانت عمرة
صحيحة. فإن أفسدها، ثم أدخل عليها الحج، ففيه خلاف سيأتي إن شاء الله
تعالى.
أما لو أحرم بالحج في وقته، ثم أدخل عليه لعمرة، فقولان. القديم: أنه
يصح، ويصير قارنا. والجديد: لا يصح. فإذا قلنا بالقديم، فإلى متى يجوز
الادخال؟ فيه أربعة أوجه مفرعة على المعاني السابقة.
أحدها: يجوز ما لم يشرع في طواف القدوم. وقال في التهذيب: هذا
أصحها.
321

والثاني: يجوز بعد طواف القدوم ما لم يشرع في السعي أو غيره من فروض
الحج، قاله الخضري.
والثالث: يجوز وإن اشتغل بفرض ما لم يقف بعرفة.
فعلى هذا، لو كان سعى، فعليه إعادة السعي ليقع عن النسكين جميعا، كذا
قاله الشيخ أبو علي.
والرابع: يجوز، وإن وقف ما لم يشتغل بشئ من أسباب التحلل من الرمي
وغيره.
وعلى هذا لو كان سعى، فعلى قياس ما ذكره الشيخ أبو علي: وجوب
إعادته. وحكى الامام فيه وجهين، وقال: المذهب أنه لا يجب.
فرع يجب على القارن دم كدم التمتع، وحكى الحناطي قولا قديما:
أنه يجب بدنة.
فصل أما المتمتع، فهو الذي يحرم بالعمرة من ميقات بلده، ويدخل مكة
ويفرغ من أفعال العمرة، ثم ينشئ الحج من مكة، سمي متمتعا لاستمتاعه
بمحظورات الاحرام بينهما، فإنه يحل له جميع المحظورات، إذا تحلل من
العمرة، سواء ساق هديا، أم لا، ويجب عليه دم.
ولوجوب الدم شروط.
أحدها: أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام، وهم من مسكنه دون
مسافة القصر من الحرم. وقيل: من نفس مكة. فإن كان مسافة القصر، فليس
بحاضره. فإن كان له مسكنان، أحدهما في حد القرب، والآخر بعيد، فإن كان
مقامه بأحدهما أكثر، فالحكم له. فإن استوى مقامه بهما وكان أهله وماله في أحدهما
322

دائما أو أكثر، فالحكم له. فإن استويا في ذلك، وكان عزمه الرجوع إلى أحدهما،
فالحكم له. فإن لم يكن له عزم، فالحكم للذي خرج منه. ولو استوطن غريب
مكة، فهو حاضر. وإن استوطن مكي العراق، فغير حاضر. ولو قصد الغريب
مكة فدخلها متمتعا ناويا الإقامة بها بعد الفراغ من النسكين، أو من العمرة، أو نوى
الإقامة بها بعد ما اعتمر، فليس بحاضر، فلا يسقط عنه الدم.
فرع ذكر الغزالي رحمه الله مسألة، وهي من مواضع التوقف، ولم أجدها
لغيره بعد البحث. قال: والأفقي إذا جاوز الميقات غير مريد النسك، فاعتمر عقب
دخوله مكة، ثم حج، لم يكن متمتعا، إذ صار من الحاضرين، إذ ليس يشترط
فيه قصد الإقامة، وهذه المسألة تتعلق بالخلاف في أن من قصد مكة هل يلزمه الاحرام
بحج أو عمرة أم لا؟ ثم ما ذكره من اعتبار اشتراط الإقامة، ينازعه فيه كلام
الأصحاب ونقلهم عن نصه في الاملاء والقديم، فإنه ظاهر في اعتبار الإقامة،
بل في اعتبار الاستيطان. وفي النهاية والوسيط حكاية وجهين في صورة
تداني هذه. وهي أنه لو جاوز الغريب الميقات، وهو لا يريد نسكا، ولا دخول
الحرم، ثم بدا له بقرب مكة أن يعتمر، فاعتمر منه وحج بعدها على صورة التمتع، هل
يلزمه الدم؟ أحد الوجهين: لا يلزمه لأنه حين بدا له، كان على مسافة الحاضر.
وأصحهما: يلزمه، لأنه وجدت صورة التمتع، وهو غير معدود من الحاضرين.
323

قلت: المختار في الصورة التي ذكرها الغزالي أولا: أنه متمتع ليس بحاضر،
بل يلزمه الدم. والله أعلم.
فرع لا يجب على حاضر المسجد الحرام دم القران، كما لا يجب عليه
دم التمتع. هذا هو المذهب. وحكى الحناطي وجها: أنه يلزمه. ويشبه أن يكون
هذا الخلاف مبنيا على وجهين نقلهما صاحب العدة في أن دم القران، دم
جبر، أم دم نسك؟ المذهب المعروف: أنه دم جبر.
فرع هل يجب على المكي إذا قرن، إنشاء الاحرام من أدنى الحل كما لو
أفرد العمرة، أم يجوز أن يحرم من جوف مكة، إدراجا للعمرة تحت الحج؟
وجهان. أصحهما: الثاني. ويجريان في الأفقي إذا كان بمكة وأراد القران.
الشرط الثاني: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. فلو أحرم وفرغ منها قبل
أشهره، ثم حج، لم يلزمه الدم. فلو أحرم بها قبل أشهره، وأتى بجميع أفعالها
في أشهره، ثم حج، فقولان. أظهرهما: نصه في الام: لا دم.
والثاني: نصه في القديم والاملاء: يجب الدم. وقال ابن سريج: ليست
على قولين، بل على حالين. إن أقام بالميقات محرما بالعمرة حتى دخلت أشهر
الحج، أو عاد إليه في الأشهر محرما بها، وجب الدم. وإن جاوزه قبل الأشهر ولم
يعد إليه، فلا دم.
ولو سبق الاحرام بها وبعض أعمالها في أشهره، فالخلاف مرتب إن لم نوجب
إذا لم يتقدم إلا الاحرام، فهنا أولى، وإلا فوجهان. الأصح: لا يجب. وإذا لم
نوجب دم المتمتع في هذه الصورة،
324

ففي وجوب دم الإساءة وجهان. أحدهما: يجب، لأنه أحرم بالحج من
مكة. وأصحهما: لا، لان المسئ من ينتهي إلى الميقات على قصد النسك
ويجاوزه غير محرم، وهذا جاوز محرما.
الشرط الثالث: أن تقع العمرة والحج في سنة واحدة. فلو اعتمر ثم حج في
السنة القابلة، فلا دم، سواء أقام بمكة إلى أن حج، أو رجع وعاد.
الشرط الرابع: أن لا يعود إلى الميقات، بأن أحرم بالحج من نفس مكة
واستمر. فلو عاد إلى الميقات الذي أحرم بالعمرة منه، أو إلى مسافة مثله وأحرم
بالحج، فلا دم. ولو أحرم به من مكة، ثم ذهب إلى الميقات محرما، ففي
سقوطه الخلاف السابق فيمن جاوز الميقات غير محرم ثم عاد إليه محرما. ولو عاد
إلى ميقات أقرب منه إلى مكة من ميقات عمرته وأحرم منه، بأن كان ميقات عمرته
الجحفة فعاد إلى ذات عرق، فهل هو كالعود إلى ميقات عمرته؟ وجهان.
أحدهما: لا، وعليه دم. وأصحهما: نعم، لأنه أحرم من موضع ليس ساكنوه
من حاضري المسجد الحرام، وهذا اختيار القفال والمعتبرين.
فرع لو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة، ثم عاد إلى الميقات،
فالمذهب، أنه لا دم، نص عليه في الاملاء وصححه الحناطي. وقال الامام:
إن قلنا: المتمتع إذا أحرم بالحج ثم عاد إليه، لا يسقط عنه الدم، فهنا أولى،
وإلا، فوجهان والفرق، أن اسم القران لا يزول بالعود، بخلاف التمتع.
الشرط الخامس: مختلف فيه، وهو أنه، هل يشترط وقوع النسكين عن
شخص واحد؟ وجهان. قال الخضري: يشترط. وقال الجمهور: لا يشترط.
325

ويتصور فوات هذا الشرط في صور.
إحداها: أن يستأجره شخص لحج، وآخر لعمرة. الثانية: أن يكون أجيرا لعمرة،
فيفرغ ثم يحج لنفسه.
الثالثة: أن يكون أجيرا لحج، فيعتمر عن نفسه، ثم يحج للمستأجر. فإن
قلنا بقول الجمهور، فقد ذكروا أن نصف دم التمتع على من يقع له الحج، ونصفه
على من تقع له العمرة. وليس هذا الاطلاق على ظاهره، بل هو محمول على
تفصيل ذكره صاحب التهذيب.
أما في الصورة الأولى فقال: إن أذنا في التمتع، فالدم عليهما نصفان، وإلا
فعلى الأجير. وعلى قياسه: إن أذن أحدهما فقط، فالنصف على الآذن، والنصف
على الأجير. وأما في الصورتين الآخرتين، فقال: إن أذن له المستأجر في التمتع،
فالدم عليهما نصفان، وإلا، فالجميع على الأجير.
واعلم بعد هذا أمورا.
أحدها: أن إيجاب الدم على المستأجرين، أو أحدهما، مفرع على
الأصح، وهو أن دم التمتع والقران على المستأجر، وإلا فهو على الأجير بكل حال.
الثاني: إذا لم يأذن المستأجران أو أحدهما في الصورة الأولى، أو المستأجر
في الثالثة، وكان ميقات البلد معينا في الإجارة، أو نزلنا المطلق عليه، لزمه مع دم
التمتع دم الإساءة لمجاوزة ميقات نسكه.
الثالث: إذا أوجبنا الدم على المستأجرين فكانا معسرين، لزم كل واحد منهما
خمسة أيام، لكن صوم التمتع، بعضه في الحج، وبعضه في الرجوع، وهما
لم يباشرا حجا. وقد قدمنا - في فروع الإجارة، فيمن استأجره ليقرن فقرن أو ليتمتع
فتمتع، وكان المستأجر معسرا، وقلنا: الدم عليه - خلافا بين صاحبي
التهذيب والتتمة. فعلى قياس قول صاحب التهذيب: الصوم على
326

الأجير. وعلى قياس صاحب التتمة: هو كما لو عجز المتمتع عن الهدي والصوم
جميعا. ويجوز أن يكون الحكم كما سيأتي في المتمتع إذا لم يصم في الحج،
كيف يقضي؟ فإذا أوجبنا التفريق، فتفريق الخمسة بنسبة الثلاثة والسبعة، يبعض
القسمين فيكملان، ويصوم كل واحد منهما ستة أيام، وقس على هذا. أما إذا
أوجبنا الدم في الصورتين الآخرتين على الأجير والمستأجر، وإذا فرعنا على قول
الخضري، فإذا اعتمر عن المستأجر، ثم حج عن نفسه، ففي كونه مسيئا،
الخلاف السابق فيمن اعتمر قبل أشهر الحج ثم حج من مكة، لكن الأصح هنا:
أنه مسئ، لامكان الاحرام بالحج حين حضر الميقات.
قال الامام: فإن لم يلزمه الدم، ففوات هذا الشرط لا يؤثر إلا في فوات فضيلة
التمتع على قولنا: إنه أفضل من الافراد. وإن ألزمناه الدم، فله أثران.
أحدهما: هذا.
والثاني: أن المتمتع لا يلزمه العود إلى الميقات. وإن عاد وأحرم منه، سقط
عنه الدم بلا خلاف. والمسئ، يلزمه العود. وإذا عاد، ففي سقوط الدم عنه،
خلاف. وأيضا، فالدمان يختلف بدلهما.
الشرط السادس: مختلف فيه، وهو نية التمتع. والأصح: أنها لا تشترط،
كما لا تشترط نية القران. فإن شرطناها، ففي وقتها أوجه.
أحدها: حالة الاحرام بالعمرة.
والثاني: ما لم يفرغ من العمرة.
والثالث: ما لم يشرع في الحج.
الشرط السابع: أن يحرم بالعمرة من الميقات. فلو جاوزه مريدا للنسك، ثم
أحرم بها، فالمنصوص: أنه ليس عليه دم التمتع، لكن يلزمه دم الإساءة، فأخذ
327

بإطلاق هذا النص آخرون. وقال الأكثرون: هذا إذا كان الباقي بينه وبين مكة دون
مسافة القصر. فإن بقيت مسافة القصر، فعليه الدمان جميعا.
الشرط الثامن: مختلف فيه. حكي عن ابن خيران: اشتراط وقوع النسكين
في شهر واحد، وخالفه عامة الأصحاب.
فرع الشروط المذكورة معتبرة لوجوب الدم وفاقا وخلافا. وهل يعتبر في
نفس التمتع؟ فيها وجهان. أحدهما: نعم. فلو فات شرط، كان مفردا.
وأشهرهما: لا تعتبر. ولهذا قال الأصحاب: يصح التمتع والقران من المكي،
خلافا لأبي حنيفة رحمه الله.
فرع إذا اعتمر ولم يرد العود إلى الميقات، لزمه أن يحرم بالحج من
مكة، وهي في حقه كهي في حق المكي. والكلام في الموضع الذي هو أفضل
لاحرامه، وفيما لو خالف فأحرم خارج مكة في الحرم أو خارجه، ولم يعد إلى
الميقات، ولا إلى مسافته على ما ذكرنا في المكي. وإذا اقتضى الحال وجوب دم
الإساءة، وجب أيضا مع دم التمتع.
فصل المتمتع، يلزمه دم شاة بصفة الأضحية. ويقوم مقامها سبع بدنة،
أو سبع بقرة. ووقت وجوبه، الاحرام بالحج. وإذا وجب، جاز إراقته، ولم يتوقت
بوقت كسائر دماء الجبرانات، لكن الأفضل إراقته يوم النحر. وهل يجوز إراقته بعد
التحلل من العمرة وقبل الاحرام بالحج؟ قولان. وقيل: وجهان. أظهرهما:
الجواز. فعلى هذا، هل يجوز قبل التحلل من العمرة؟ وجهان. أصحهما: لا،
وقيل: لا يجوز قطعا، ولا يجوز قبل الشروع في العمرة بلا خلاف.
فرع إذا عدم المتمتع الدم في موضعه، لزمه صوم عشرة أيام، سواء كان
له مال غائب في بلده، أو غيره، أم لم يكن، بخلاف الكفارة، فإنه يعتبر في
الانتقال إلى الصوم فيها العدم مطلقا.
328

والفرق أن بدل الدم موقت بكونه في الحج، ولا توقيت في الكفارة. ثم إن
الصوم يقسم، ثلاثة أيام، وسبعة. فالثلاثة يصومها في الحج، ولا يجوز تقديمها
على الاحرام بالحج، ولا يجوز صوم شئ منها في يوم النحر. وفي أيام التشريق
قولان تقدما في كتاب الصيام. ويستحب أن يصوم جميع الثلاثة قبل يوم عرفة،
لأنه يستحب للحاج فطر يوم عرفة، وإنما يمكنه هذا إذا تقدم إحرامه بالحج على
اليوم السادس من ذي الحجة. قال الأصحاب: المستحب للمتمتع الذي هو من
أهل الصوم، أن يحرم بالحج قبل السادس. وحكى الحناطي وجها: أنه إذا لم
يتوقع هديا، وجب تقديم الاحرام بالحج على السابع، ليمكنه صوم الثلاثة قبل يوم
النحر.
وأما واجد الهدي، فيستحب أن يحرم بالحج يوم التروية، وهو الثامن من ذي
الحجة، ويتوجه بعد الزوال إلى منى. وإذا فات صوم الثلاثة في الحج، لزمه
قضاؤها، ولا دم عليه. وعن ابن سريج، وأبي إسحاق تخريج قول: أنه يسقط
الصوم ويستقر الهدي في ذمته.
واعلم أن فواتها يحصل بفوات يوم عرفة إن قلنا: إن أيام التشريق لا يجوز
صومها، وإلا حصل الفوات بخروج أيام التشريق. ولا خلاف أنها تفوت بفوات أيام
التشريق. حتى لو تأخر طواف الزيارة عن أيام التشريق، كان بعد في الحج، وكان
صوم الثلاثة بعد التشريق قضاء وإن بقي الطواف، لان تأخره بعيد في العادة، فلا
يقع مرادا من قول الله تعالى: * (ثلاثة أيام في الحج) *
هكذا حكاه الامام وغيره. وفي التهذيب حكاية وجه ضعيف ينازع فيه.
فرع وأما السبعة، فوقتها إذا رجع. وفي المراد بالرجوع، قولان.
أظهرهما: الرجوع إلى الأهل والوطن، نص عليه في المختصر وحرملة.
والثاني: أنه الفراغ من الحج. فإن قلنا بالأول، فإن توطن مكة بعد فراغه من
329

الحج، صام بها. وإن لم يتوطنها، لم يجز صومه بها. وهل يجوز في الطريق إذا
توجه إلى وطنه؟ فيه طريقان. المذهب: لا يجوز، وبه قطع العراقيون. والثاني:
وجهان. أصحهما: لا يجوز. وإذا قلنا: إنه الفراغ، فلو أخره حتى يرجع إلى
وطنه، جاز. وهل هو أفضل، أم التقديم؟ قولان. أظهرهما: التأخير أفضل،
للخروج من الخلاف. والثاني: التقديم مبادرة إلى الواجب.
ولا يصح صوم شئ من السبعة في أيام التشريق بلا خلاف وإن قلنا: إنها
قابلة للصوم، سواء قلنا: المراد بالرجوع الفراغ، أو الوطن، لأنه بعد في الحج
وإن حصل التحلل. وحكي قول: إن المراد بالرجوع، الرجوع إلى مكة من
منى. وجعل إمام الحرمين والغزالي هذا قولا سوى قول الفراغ من الحج،
ومقتضى كلام كثير من الأئمة: أنهما شئ واحد، وهو الأشبه. وعلى تقدير كونه
قولا آخر، يتفرع عليه، أنه لو رجع من منى إلى مكة، صح صومه وإن تأخر طواف
الوداع.
فرع إذا لم يصم الثلاثة في الحج، ورجع، لزمه صوم العشرة. وفي الثلاثة، القول المخرج الذي سبق. فعلى المذهب: هل يجب التفريق في القضاء
بين الثلاثة والسبعة؟ قولان. وقيل: وجهان. أصحهما عند الجمهور: يجب.
والأصح عند الامام: لا يجب.
فعلى الأول، هل يجب التفريق بقدر ما يقع تفريق الأداء؟ قولان. أحدهما:
لا، بل يكفي التفريق بيوم، نص عليه في الاملاء. وأظهرهما: يجب.
وفي قدره أربعة أقول تتولد من أصلين سبقا، وهما صوم المتمتع أيام
330

التشريق، وأن الرجوع ماذا؟
فإن قلنا: ليس للمتمتع صوم التشريق، وأن الرجوع إلى الوطن، فالتفريق
بأربعة أيام. ومدة إمكان السير إلى أهله، على العادة الغالبة. وإن قلنا: ليس له
صومها، وأن الرجوع، الفراغ، فالتفريق بأربعة فقط. وإن قلنا: له صومها، وأن
الرجوع إلى الوطن، فالتفريق بمدة إمكان السير. وإن قلنا: له صومها، والرجوع،
الفراغ، فوجهان. أصحهما: يجب التفريق. والثاني: لا بد من التفريق
بيوم. فإن أردت حصر الأقوال التي تجئ فيمن لم يصم الثلاثة في الحج مختصرا،
حصلت ستة.
أحدها لا صوم، بل ينتقل إلى الهدي.
والثاني: عليه صوم عشرة، متفرقة أو متتابعة.
والثالث: عشرة، ويفرق بيوم فصاعدا.
والرابع: يفرق بأربعة ومدة إمكان السير إلى الوطن.
والخامس: يفرق بأربعة فقط.
والسادس: بمدة إمكان السير فقط.
قلت: المذهب منها: هو الرابع. والله أعلم.
ولو صام عشرة متوالية، وقلنا بالمذهب، وهو وجوب قضاء الثلاثة، أجزأه إن
لم نشترط التفريق. فإن شرطناه واكتفينا بيوم، لم يعتد باليوم الرابع، ويحسب ما
بعده، فيصوم يوما آخر. هذا هو الصحيح المعروف. وفي وجه: لا يعتد بشئ
سوى الثلاثة. وفي وجه للإصطخري: لا يعتد بالثلاثة أيضا إذا نوى التتابع، وهما
شاذان. وإن شرطنا التفريق بأكثر من يوم، لم يعتد بذلك القدر.
331

فرع كل واحد من صوم الثلاثة، والسبعة، لا يجب فيه التتابع، لكن
يستحب. وحكي في وجوب التتابع قول مخرج من كفارة اليمين، وهو شاذ
ضعيف.
فرع إذا شرع في صوم الثلاثة أو السبعة، ثم وجد الهدي، لم يلزمه
الهدي، لكن يستحب. وقال المزني: يلزمه.
ولو أحرم بالحج ولا هدي، ثم وجده قبل الشروع في الصوم، بني على أن
المعتبر في الكفارة حال الوجوب، أم الأداء، أم أغلظهما؟ إن اعتبرنا حال
الوجوب، أجزأه الصوم، وإلا لزم الهدي، وهو نصه في هذه المسألة.
فرع المتمتع الواجد للهدي، إذا مات قبل فراغ الحج، هل يسقط عنه
الدم؟ قولان. أظهرهما: لا يسقط، بل يخرج من تركته، لوجود سبب
الوجوب. ولو مات بعد فراغ الحج، أخرج من تركته بلا خلاف. فأما الصوم،
فإن مات قبل التمكن منه، فقولان. أظهرهما: يسقط، لعدم التمكن، كصوم
رمضان. والثاني: يهدى عنه، وهذا القول يتصور فيما إذا لم يجد الهدي في
موضعه، وله ببلده مال، أو وجده بثمن غال. وإن تمكن من الصوم، فلم يصم
حتى مات، فهل هو كصوم رمضان؟ فيه طريقان. أصحهما: نعم، فيصوم عنه وليه
على القديم. وفي الجديد: يطعم عنه من تركته لكل يوم مد. فإن كان تمكن من
الأيام العشرة، فعشرة أمداد، وإلا فبالقسط. وهل يتعين صرفه إلى فقراء الحرم، أم
332

يجوز إلى غيرهم أيضا؟ قولان. أظهرهما: الثاني.
والطريق الثاني: لا يكون كصوم رمضان. فعلى هذا قولان. أظهرهما:
الرجوع على الدم، لأنه أقرب إلى هذا الصوم من الامداد، فيجب في ثلاثة أيام إلى
العشرة شاة، وفي يوم ثلث شاة، وفي يومين ثلثاها. وعن أبي إسحاق إشارة إلى أن
اليوم واليومين، كإتلاف الشعرة والشعرتين من المحرم.
وفي الشعرة، ثلاثة أقوال. أحدها: مد. والثاني: درهم. والثالث: ثلث
شاة. والقول الثاني: لا يجب شئ أصلا.
وأما التمكن المذكور، فصوم الثلاثة، يتمكن منه بأن يحرم بالحج لزمن يسع
صومها قبل الفراغ، ولا يكون عارض من مرض وغيره. وذكر الامام: أنه لا يجب
شئ في تركته ما لم ينته إلى الوطن، لان دوام السفر كدوام المرض، فلا يزيد تأكد
الثلاثة على صوم رمضان. وهذا الذي قاله، غير واضح، لان صوم الثلاثة،
يتعين إيقاعه في الحج بالنص. وإن كان مسافرا، فلا يكون السفر عذرا فيه،
بخلاف رمضان. وأما السبعة، فإن قلنا: الرجوع إلى الوطن، فلا تمكن قبله. وإن
قلنا: الفراغ من الحج، فلا تمكن قبله. ثم دوام السفر عذر على ما قاله الامام.
وقال القاضي حسين: إذا استحببنا التأخير إلى أن يصل الوطن تفريعا على قول
الفراغ، فهل يفدى عنه إذا مات؟ وجهان.
333

باب الاحرام
ينبغي لمريد الاحرام، أن ينوي ويلبي. فإن لبى ولم ينو، فنص في رواية
الربيع: أنه يلزمه ما لبى به. وقال في المختصر: وإن لم يرد حجا ولا عمرة،
فليس بشئ.
واختلف الأصحاب على طريقين. المذهب: القطع بأنه لا ينعقد إحرامه.
وتأويل نقل الربيع، على ما إذا أحرم مطلقا، ثم تلفظ بنسك معين ولم ينوه، فيجعل
لفظه تعيينا للاحرام المطلق. والطريق الثاني: على قولين. أظهرهما: لا ينعقد
إحرامه، لان الأعمال بالنيات. والثاني: يلزمه ما سمى، لأنه التزمه بقوله. وعلى
هذا، لو أطلق التلبية، انعقد الاحرام مطلقا، يصرفه إلى ما شاء من كلا النسكين،
أو أحدهما.
قلت: هذا القول، ضعيف جدا، والتأويل المذكور، أضعف منه، لأنا
سنذكر قريبا - إن شاء الله تعالى - أن الاحرام المطلق، لا يصح صرفه إلا بنية
القلب. والله أعلم.
واعلم أن نصه في المختصر يحتاج إلى قيد آخر، يعني: لم يرد حجا ولا
عمرة، ولا أصل الاحرام، هذا كله إذا لبى ولم ينو. فلو نوى ولم يلب، انعقد
إحرامه على الصحيح الذي قاله الجمهور. وقال أبو علي بن خيران وابن أبي
هريرة، وأبو عبد الله الزبيري: لا ينعقد إلا بالتلبية. وحكى الشيخ أبو محمد
334

وغيره قولا للشافعي رحمة الله عليه: أنه لا ينعقد إلا بالتلبية، لكن يقوم مقامها سوق
الهدي، وتقليده، والتوجه معه. وحكى الحناطي هذا القول في الوجوب دون
الاشتراط، وذكر تفريعا عليه: أنه لو ترك التلبية، لزمه دم.
قلت: صفة النية: أن ينوي الدخول في الحج أو العمرة أو فيهما والتلبس به.
والواجب: أن ينوي هذا بقلبه. فإن ضم إلى نية القلب التلفظ، كان أفضل. والله
أعلم.
فرع إذا قلنا بالمذهب: إن المعتبر هو النية، فلو لبى بالعمرة ونوى
الحج، فهو حاج، وبالعكس معتمر. ولو تلفظ بأحدهما، ونوى القران، فقارن.
ولو تلفظ بالقران، ونوى أحدهما، فهو لما نوى.
فرع الاحرام حالان. أحدهما: ينعقد معينا، بأن ينوي أحد النسكين
بعينه، أو كليهما. فلو أحرم بحجتين، أو عمرتين، انعقدت واحدة فقط،
ولم يلزمه الأخرى. الثاني: ينعقد مطلقا، بأن ينوي نفس الاحرام، ولا يقصد
القران، ولا أحد النسكين، وهذا جائز بلا خلاف. ثم ينظر، إن أحرم في أشهر
الحج، فله صرفه إلى ما شاء، من حج، أو عمرة، أو قران، ويكون التعيين
بالنية، لا باللفظ، ولا يجزئه العمل قبل النية. وإن أحرم قبل الأشهر، فإن صرفه إلى العمرة، صح، وإن
صرفه إلى الحج بعد دخول الأشهر، فوجهان.
الصحيح: لا يجوز، بل انعقد إحرامه. والثاني: ينعقد مبهما، وله صرفه بعد
دخول الأشهر، إلى حج، أو قران. فإن صرفه إلى الحج قبل الأشهر، كان كمن
أحرم بالحج قبل الأشهر، وقد سبق بيانه.
فرع هل الأفضل إطلاق الاحرام، أم تعيينه؟ قولان. قال في
الاملاء: الاطلاق أفضل. وفي الام: التعيين أفضل، وهو الأظهر.
335

فعلى هذا، هل يستحب التلفظ في تلبيته بما عينه؟ وجهان. الصحيح
المنصوص: لا، بل يقتصر على النية. والثاني: يستحب، لأنه أبعد عن
النسيان.
فصل إذا أحرم عمرو بما أحرم به زيد، جاز.
ثم لزيد أحوال.
أحدها: أن يكون محرما، ويمكن معرفة ما أحرم به، فينعقد لعمرو مثل
إحرامه، إن كان حجا، فحج. وإن كان عمرة، فعمرة. وإن كان قرانا، فقران.
قلت: وإن كان زيد أحرم بعمرة بنية التمتع، كان عمرو محرما بعمرة، ولا
يلزمه التمتع. والله أعلم.
وإن كان مطلقا، انعقد إحرام عمرو مطلقا أيضا، ويتخير كما يتخير زيد، ولا
يلزمه الصرف إلى ما يصرف إليه زيد. وحكي وجه: أنه يلزمه، وهو شاذ
ضعيف. قال في التهذيب: إلا إذا أراد إحراما كإحرام زيد بعد تعيينه. وإن
كان إحرام زيد فاسدا، فهل ينعقد إحرام عمرو مطلقا، أم لا ينعقد أصلا؟ وجهان.
قلت: الأصح: انعقاده. قال القاضي أبو الطيب: وهذان الوجهان كالوجهين
فيمن نذر صلاة فاسدة، هل ينعقد نذره بصلاة صحيحة، أم لا. ينعقد؟ والأصح:
لا ينعقد. والله أعلم.
وإن كان زيد أحرم مطلقا، ثم عينه قبل إحرام عمرو، فوجهان. أصحهما:
336

ينعقد إحرام عمرو مطلقا. والثاني: معينا، ويجري الوجهان فيما لو أحرم زيد
بعمرة، ثم أدخل عليها الحج، فعلى الأول: يكون عمرو معتمرا، وعلى الثاني:
قارنا، والوجهان فيما إذا لم يخطر له التشبيه بإحرام زيد في الحال، ولا في أوله،
فإن خطر التشبيه بأوله، أو بالحال، فالاعتبار بما خطر بلا خلاف.
ولو أخبره زيد بما أحرم به، ووقع في نفسه خلافه، فهل يعمل بخبره، أو بما
وقع في نفسه؟ وجهان.
قلت: أصحهما: بخبره. والله أعلم.
ولو قال له: أحرمت بالعمرة، فعمل بقوله، فبان أنه كان محرما بالحج، فقد
بان أن إحرام عمرو كان منعقدا بحج. فإن فات الوقت، تحلل وأراق دما. وهل
الدم في ماله، أو مال زيد، للتغرير؟ وجهان.
قلت: أصحهما: في ماله. والله أعلم.
الحال الثاني: أن لا يكون زيد محرما أصلا، فينظر إن كان عمرو جاهلا به،
انعقد إحرامه مطلقا، لأنه جزم بالاحرام. وإن كان عالما بأنه غير محرم، بأن علم
موته، فطريقان. المذهب الذي قطع به الجمهور: أنه ينعقد إحرام عمرو مطلقا.
والثاني: على الوجهين. أصحهما: هذا. والثاني: لا ينعقد أصلا، كما لو
قال: إن كان زيد محرما، فقد أجرمت، فلم يكن محرما. والصواب: الأول.
ويخالف قوله: إن كان زيد محرما فإنه تعليق لأصل الاحرام. فلهذا يقول: إن
كان زيد محرما، فهذا المعلق محرم، وإلا، فلا.
وأما هنا، فأصل الاحرام محزوم به. واحتجوا للمذهب بصورتين نص
عليهما في الام.
337

أحدهما: لو استأجره رجلان ليحج عنهما، فأحرم عنهما، لم ينعقد عن واحد
منهما، وانعقد عن الأجير، لان الجمع بينهما متعذر، فلغت الإضافة، وسواء كانت
الإجارة في الذمة، أم على العين، لأنه وإن كانت إحدى إجارتي العين فاسدة، إلا
أن الاحرام عن غيره لا يتوقف على صحة الإجارة.
الصورة الثانية: لو استأجره رجل ليحج عنه، فأحرم عن نفسه وعن
المستأجر، لغت الإضافتان، وبقي الاحرام للأجير. فلما لغت الإضافة في
الصورتين، وبقي أصل الاحرام، جاز أن يلغو هنا التشبيه، ويبقى أصل الاحرام.
الحال الثالث: أن يكون زيد محرما، وتتعذر مراجعته، لجنون، أو غيبة،
338

أو موت. ولهذه المسألة مقدمة، وهي لو أحرم بأحد النسكين، ثم نسيه، قال في
القديم: أحب أن يقرن. وإن تحرى، رجوت أن يجزئه. وقال في الجديد: هو
قارن. وللأصحاب فيه طريقان. أحدهما: القطع بجواز التحري. وتأويل الجديد
على ما إذا شك، هل أحرم بأحد النسكين، أم قرن؟ وأصحهما وبه قطع
الجمهور: أن المسألة على قولين. القديم: جواز التحري، ويعمل بظنه.
والجديد: لا يتحرى. فإن قلنا بالقديم، فتحرى، مضى فيما ظنه من النسكين،
وأجزأه على الصحيح. وقيل: لا يجزئه الشك.
وفائدة التحري: الخلاص من الاحرام، وهذا شاذ ضعيف. وإن قلنا
بالجديد، فللشك صورتان.
إحداهما: أن يعرض قبل الاتيان بشئ من الأعمال، فلفظ النص: أنه
قارن. وقال الأصحاب: معناه: أن ينوي القران، ويجعل نفسه قارنا. وحكي قول
أنه يصير قارنا بلا نية، وهو شاذ ضعيف. ثم إذا نوى القران وأتى بالاعمال، تحلل
وبرئت ذمته عن الحج بيقين، وأجزأه عن حجة الاسلام، لأنه إن كان محرما
بالحج، لم يضر تجديد العمرة بعده، سواء قلنا: يصح إدخالها عليه، أم لا. وإن
كان محرما بالعمرة، فإدخال الحج عليها قبل الشروع في أعمالها، جائز.
وأما العمرة، فإن جوزنا إدخالها على الحج، أجزأته عن عمرة الاسلام، وإلا
فوجهان. أصحهما: لا تجزئه، لاحتمال تأخر العمرة. والثاني: تجزئه، قاله أبو
إسحاق.
ويكون الاشتباه عذرا في جواز تأخيرها. فإن قلنا: تجزئ، لزمه دم القران،
فإن لم يجد، صام عشرة أيام، ثلاثة في الحج، وسبعة إذا رجع. وإن قلنا: لا
تجزئه العمرة، لم يجب الدم على الأصح. وقولنا: يجعل نفسه قارنا، ليس على
سبيل الالزام. قال الامام: لم يذكر الشافعي رحمة الله عليه القران على معنى أنه
340

لا بد منه، بل ذكره على أنه ليستفيد منه الشاك التحلل مع براءة الذمة من النسكين.
فلو اقتصر بعد النسيان على الاحرام بالحج، وأتى بأعماله، حصل التحلل قطعا،
وتبرأ ذمته عن الحج، ولا تبرأ عن العمرة، لاحتمال أنه أحرم ابتداء بعمرة بالحج. وعلى
هذا القياس: لو اقتصر على الاحرام بالعمرة، وأتى بأعمال القران، حصل
التحلل، وبرئت ذمته من العمرة إن جوزنا إدخالها على الحج، ولا تبرأ عن الحج،
لاحتمال أنه أحرم ابتداء ولم يغيرها. ولو لم يجدد إحراما بعد النسيان،
واقتصر على الاتيان بعمل الحج، حصل التحلل، ولا تبرأ ذمته عن واحد من
النسكين، لشكه فيما أتى به. ولو اقتصر على عمل العمرة، لم يحصل التحلل،
لاحتمال أنه أحرم بالحج ولم يتم أعماله.
الصورة الثانية: أن يعرض الشك بعد الاتيان بشئ من الأعمال،
وله أحوال.
أحدها: أن يعرض بعد الوقوف بعرفة، وقبل الطواف، فإذا نوى القران،
فيجزئه الحج، لأنه إن كان محرما به، فذاك. وإن كان بالعمرة، فقد أدخله
عليها قبل الطواف، وذلك جائز. ولا تجزئه العمرة إذا قلنا بالمذهب: إنه لا
يجوز إدخالها على الحج بعد الوقوف وقبل الشروع في التحلل.
وهذا الحال مفروض فيما إذا كان وقت الوقوف باقيا عند مصيره قارنا ثم وقف
ثانيا، وإلا، فيحتمل أنه كان محرما بالعمرة، فلا يجزئه ذلك الوقوف عن الحج.
الحال الثاني: أن يعرض بعد الطواف وقبل الوقوف، فإذا نوى القران،
وأتى بأفعال القارن، لم يجزئه الحج، لاحتمال أنه كان محرما بالعمرة، فيمتنع
إدخال الحج عليها بعد الطواف.
341

وأما العمرة، فإن قلنا بجواز إدخالها على الحج بعد الطواف، أجزأته، وإلا،
فلا، وهو المذهب. وذكر ابن الحداد في هذه الحال أنه يتم أعمال العمرة، بأن
يصلي ركعتي الطواف، ويسعى، ويحلق أو يقصر، ثم يحرم بالحج، ويأتي
بأعماله. فإذا فعل هذا، صح حجه، لأنه إن كان محرما بالحج، لم يضر تجديد
إحرامه. وإن كان بالعمرة، فقد تمتع، ولا تصح عمرته، لاحتمال أنه كان
محرما بالحج، ولا تدخل العمرة عليه إذا لم ينو القران. قال الشيخ أبو زيد،
وصاحب التقريب والأكثرون: إن فعل هذا، فالجواب ما ذكره. لكن لو
استفتانا، لم نفته به، لاحتمال أنه كان محرما بالحج وإن كان هذا الحلق يقع في غير
أوانه. وهذا، كما لو ابتلعت دجاجة إنسان جوهرة لغيره، لا يفتى صاحب
الجوهرة بذبحها وأخذ الجوهرة. فلو ذبح، لم يلزمه إلا قدر التفاوت بين قيمتها حية
ومذبوحة، وكذا لو تقابلت دابتان لشخصين على شاهق، وتعذر مرورهما، لا
يفتى أحدهما بإهلاك دابة الآخر، لكن لو فعل، خلص دابته، ولزمه قيمة دابة
صاحبه، واختار الغزالي قول ابن الحداد. ووجهه الشيخ أبو علي: بأن الحلق في
غير وقته، يباح بالعذر، كمن به أذى من رأسه، فضرر الاشتباه لو لم يحلق أكثر،
فإنه يفوت الحج، وسواء أفتيناه بما قاله ابن الحداد، أم لم نفته، ففعل، لزمه دم،
لأنه إن كان محرما بحج، فقد حلق في غير وقته، وإن كان بعمرة، فقد تمتع،
فيريق دما عن الواجب عليه، ولا يعين الجهة كما في الكفارة. فإن كان معسرا لا
يجد دما ولا طعاما، صام عشرة أيام كصوم المتمتع. فإن كان الواجب دم المتمتع،
فذاك، وإن كان دم الحلق، أجزأه ثلاثة أيام، الباقي تطوع. ولا يعنى الجهة في
صوم الثلاثة، ويجوز تعيين التمتع في صوم السبعة. ولو اقتصر على صوم ثلاثة،
هل تبرأ ذمته؟ مقتضى كلام الشيخ أبي علي: أنه لا تبرأ. قال الامام: ويحتمل أن
تبرأ، وعبر الغزالي في الوسيط عن هذين بوجهين. ويجزئه الصوم مع وجود
342

الطعام، لأنه لا مدخل للطعام في التمتع. وفدية الحلق على التخيير. ولو أطعم،
هل تبرأ ذمته؟ فيه كلاما الشيخ والامام. هذا كله إذا استجمع الرجل شروط
وجوب دم التمتع، فإن لم يستجمعها، كالمكي، لم يجب الدم، لان دم التمتع
مفقود، والأصل، عدم الحلق. وإذا جوز أن يكون إحرامه أولا بالقران، فهل يلزمه
دم آخر مع الدم الذي
وصفناه؟ فيه الوجهان السابقان.
الحال الثالث: أن يعرض الشك بعد الطواف والوقوف. فإن أتى ببقية أعمال
الحج، لم يحصل له حج ولا عمرة.
أما الحج، فلجواز أنه كان محرما بعمرة، فلا ينفعه الوقوف. وأما العمرة،
فلجواز أنه كان محرما بحج، ولم يدخل عليه العمرة. فإن نوى القران، ولبى،
وأتى بأعمال القران، فإجزاء العمرة يبنى على أنها، هل تدخل على الحج بعد
الوقوف؟ ثم قياس المذكور في الحال السابق. ثم لو أتم أعمال العمرة، وأحرم
بالحج، وأتى بأعماله مع الوقوف، أجزأه الحج، وعليه دم كما سبق. ولو أتم
أعمال الحج، ثم أحرم بعمرة، وأتى بأعمالها، أجزأته العمرة.
فرع لو تمتع بالعمرة إلى الحج، فطاف للحج طواف الإفاضة، ثم بان له
أنه كان محدثا في طواف العمرة، لم يصح طوافه ذلك، ولا سعيه بعده، وبان أن
حلقه وقع في غير وقته، ويصير بإحرامه بالحج مدخلا الحج على العمرة قبل
الطواف، فيصير قارنا، ويجزئه طوافه وسعيه في الحج عن الحج، وعليه
دمان، دم القران، ودم الحلق. وإن بان أنه كان محدثا في طواف الحج، توضأ
وأعاد الطواف والسعي، وليس عليه إلا دم التمتع إذا استجمعت شروطه.
فلو شك في أي الطوافين كان حدثه، فعليه إعادة الطواف والسعي. فإذا
أعادهما، صح حجه وعمرته، وعليه دم، لأنه قارن أو متمتع، وينوي بإراقته
343

الواجب عليه، ولا تعين الجهة. وكذا لو لم يجد الدم فصام.
والاحتياط: أن يريق دما آخر، لاحتمال أنه حالق قبل الوقت. فلو لم يحلق
في العمرة، وقلنا: الحلق استباحة محظور، فلا حاجة إليه. وكذا لا يلزمه عند تبين
الحدث في طواف العمرة، إلا دم واحد. ولو كانت المسألة بحالها، لكن جامع بعد
العمرة، ثم أحرم بالحج، فهذه المسألة تفرع على أصلين.
أحدهما: جماع الناسي، هل يفسد النسك ويجب الفدية كالعمد؟ فيه
قولان.
الثاني: إذا أفسد العمرة بجماع، ثم أدخل الحج عليها، هل يدخل ويصير
محرما بالحج؟ وجهان. أصحهما عند الأكثرين: يصير محرما بالحج، وبه قال ابن
سريج، والشيخ أبو زيد. فعلى هذا، هل يكون الحج صحيحا مجزءا؟ وجهان.
أحدهما: نعم، لان المفسد متقدم. وأصحهما: لا. فعلى هذا، هل ينعقد
فاسدا، أو صحيحا ثم يفسد؟ وجهان. أحدهما: ينعقد صحيحا ثم يفسد، كما لو
أحرم مجامعا. وأصحهما: ينعقد فاسدا. ولو انعقد صحيحا، لم يفسد، إذ لم
يوجد بعد انعقاده مفسد. فإن قلنا: ينعقد فاسدا، أو صحيحا ثم يفسد، مضى في
النسكين وقضاهما. وإن قلنا: ينعقد صحيحا ولا يفسد، قضى العمرة دون الحج.
وعلى الأوجه الثلاثة: يلزمه دم القران، ولا يجب للافساد إلا بدنة واحدة، كذا قاله
الشيخ أبو علي. وحكى الامام: وجهين آخرين، إذا حكمنا بانعقاد حجه فاسدا.
أحدهما: يلزمه بدنة أخرى، لفساد الحج. والثاني: يلزمه البدنة للعمرة، وشاة
للحج، كما لو جامع، ثم جامع. إذا عرفت هذين الأصلين، فانظر، إن كان
الحدث في طواف العمرة، فالطواف والسعي فاسدان، والجماع واقع قبل التحلل،
لكن لا يعلم كونه قبل التحلل، فهل يكون كالناسي؟ فيه طريقان. أحدهما: نعم،
وبه قطع الشيخ أبو علي. والثاني: لا. فإن لم تفسد العمرة به، صار قارنا وعليه دم
للقران، ودم للحلق قبل وقته إن كان حلق كما سبق. وإن أفسدنا العمرة، فعليه
للافساد بدنة، وللحلق شاة. وإذا أحرم بالحج، فقد أدخله على عمرة فاسدة،
344

فإن لم يدخل، فهو في عمرته كما كان، فيتحلل منها ويقضيها. وإن دخل وقلنا
بفساد الحج، فعليه بدنة للافساد، ودم للحلق قبل وقته، ودم للقران، ويمضي في
فاسدهما ثم يقضيهما. وإن قال: كان الحدث قبل طواف الحج، فعليه إعادة
الطواف والسعي، وقد صح نسكاه، وليس عليه إلا دم التمتع. وإن قال: لا أدري
في أي الطوافين كان، أخذ في كل حكم باليقين، فلا يتحلل ما لم يعد الطواف
والسعي، لاحتمال أن حدثه كان في طواف الحج، ولا يخرج عن عهدة الحج
والعمرة، إن كانا واجبين عليه، لاحتمال كونه محدثا في طواف العمرة، وتأثير
الجماع في إفساد النسكين على المذهب، فلا تبرأ ذمته بالشك. وإن كان متطوعا،
فلا قضاء، لاحتمال أن لا فساد، وعليه دم إما للتمتع إن كان الحدث في طواف
الحج. وإما للحلق إن كان في طواف العمرة. ولا تلزمه البدنة لاحتمال أنه لم يفسد
العمرة، لكن الاحتياط ذبح بدنة وشاة إذا جوزنا إدخال الحج على العمرة الفاسدة،
لاحتمال أنه صار قارنا بذلك.
هذا آخر المقدمة.
فإذا تعذرت معرفة إحرام زيد، فطريقان. أحدهما: يكون عمرو كمن نسي ما
أحرم به. وفيه القولان: القديم والجديد. والطريق الثاني وهو المذهب، وبه قال
الأكثرون: لا يتحرى بحال، بل ينو القران. وحكوه عن نصه في القديم. والفرق،
أن الشك في مسألة النسيان وقع في فعله، فله سبيل إلى التحري، بخلاف إحرام
زيد.
فرع هذا الذي ذكرناه من الأحوال الثلاثة لزيد، هو فيما إذا أحرم عمرو في
الحال بإحرام كإحرام زيد. أما لو علق إحرامه فقال: إذا أحرم زيد، فأنا محرم، فلا
يصح إحرامه، كما لو قال: إذا جاء رأس الشهر، فأنا محرم. هكذا نقله صاحب
التهذيب وغيره. ونقل في المعتمد في صحة الاحرام المعلق بطلوع الشمس
ونحوه وجهين. وقياس تجويز تعليق أصل الاحرام بإحرام الغير، تجويز هذا، لان التعليق موجود في الحالين، إلا أن هذا
تعليق بمستقبل، وذلك تعليق بحاضر، وما
يقبل التعليق من العقود، يقبلهما جميعا.
قلت: قال الروياني: لو قال أحرمت كإحرام زيد وعمرو، فإن كانا محرمين
345

بنسك متفق، كان كأحدهما. وإن كان أحدهما بعمرة، والآخر بحج، كان هذا
المعلق قارنا، وكذا إن كان أحدهما قارنا. قال: ولو قال: كإحرام زيد الكافر،
وكان الكافر قد أتى بصورة إحرام، فهل ينعقد له ما أحر به الكافر، أم ينعقد
مطلقا؟ وجهان، وهذا ضعيف أو غلط، بل الصواب انعقاده مطلقا. قال الروياني:
قال أصحابنا: لو قال: أحرمت يوما أو يومين، انعقد مطلقا كالطلاق. ولو قال:
أحرمت بنصف نسك، انعقد بنسك كالطلاق. وفيما نقله، نظر. والله أعلم.
فصل في سنن الاحرام من سننه: الغسل إذا أراده. يستوي في
استحبابه، الرجل، والصبي، والحائض، والنفساء. ولو أمكن الحائض المقام
بالميقات حتى تطهر، فالأفضل أن تؤخر الاحرام حتى تطهر، فتغتسل ليقع إحرامها
في أكمل أحوالها. وحكي قول أن: الحائض والنفساء، لا يسن لهما الغسل، وهو
شاذ ضعيف. وإذا اغتسلتا، نوتا. ولإمام الحرمين في نيتهما احتمال. فإن عجز
المحرم عن الماء، تيمم، نص عليه في الام. وذكرنا في غسل الجمعة
346

احتمالا للامام، أنه لا تيمم، وذاك عائد هنا. وإذا وجد ماء لا يكفيه للغسل،
توضأ، قاله في التهذيب.
قلت: هذا الذي قاله في التهذيب قاله أيضا المحاملي. فإن أراد أنه
يتوضأ، ثم يتيمم، فحسن. وإن أراد الاقتصار على الوضوء، فليس بجيد لان
المطلوب هو الغسل، فالتيمم يقوم مقامه دون الوضوء. والله أعلم.
ويسن الغسل للحاج في مواطن.
أحدها: عند الاحرام. والثاني: لدخول مكة. والثالث: للوقوف بعرفة.
والرابع: للوقوف بمزدلفة بعد الصبح يوم النحر. والخامس، والسادس، والسابع:
ثلاثة أغسال لرمي جمار أيام التشريق. وهذه الأغسال، نص عليها الشافعي،
رحمة الله عليه، قديما وجديدا. ويستوي في استحبابها، الرجل والمرأة.
وحكم الحائض ومن لم يجد ماء، كما سبق في غسل الاحرام. وزاد في القديم
ثلاثة أغسال: لطواف الإفاضة، والوداع، وللحلق، ولم يستحبه لرمي جمرة
العقبة، اكتفاء بغسل العيد، ولان وقته متسع، بخلاف رمي أيام التشريق.
قلت: قال الشافعي رحمه الله في الام: أكره ترك الغسل للاحرام. وهذا
الذي ذكره في الغسل الرابع: أنه للوقوف بمزدلفة، هو الذي ذكره الجمهور، وكذا
نص عليه في الام. وجعل المحاملي في كتبه، وسليم الرازي، والشيخ نصر
المقدسي، الغسل الرابع للمبيت بالمزدلفة، ولم يذكروا غسل الوقوف بها. والله
أعلم.
فرع يستحب أن يتأهب للاحرام بحلق العانة، ونتف الإبط، وقص
347

الشارب، وقلم الأظفار، وغسل الرأس بسدر أو خطمي ونحوه.
فرع يستحب أن يتطيب للاحرام. وسواء الطيب الذي يبقى له أثر وجرم
بعد الاحرام، والذي لا يبقى، وسواء الرجل والمرأة، هذا هو المذهب. وحكي
وجه: أن التطيب مباح، ليس بمستحب. وقول: أنه لا يستحب للنساء بحال.
ووجه: أنه يحرم عليهن التطيب بما تبقي عينه. ثم إذا تطيب، فله استدامته بعد
الاحرام، بخلاف المرأة إذا تطيبت ثم لزمتها عدة، تلزمها إزالة الطيب في وجه،
لأن العدة حق آدمي، فالمضايقة فيه أكثر. ولو أخذ الطيب من موضعه بعد الاحرام
ورده إليه، أو إلى موضع آخر، لزمه الفدية على المذهب. وقيل: قولان. ولو
انتقل من موضع إلى موضع آخر بالعرق، فالأصح: أنه لا شئ عليه. والثاني:
عليه الفدية إن تركه. هذا كله في تطييب البدن. وفي تطييب إزار الاحرام وردائه
وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: الجواز كالبدن. والثاني: التحريم، لأنه
يلبس مرة بعد أخرى. ووجه ثالث: إن بقي عينه بعد الاحرام، لم يجز، وإلا،
جاز. وهذا الخلاف، فيمن قصد تطييب الثوب. أما من طيب بدنه فتعطر ثوبه
تبعا، فلا بأس بلا خلاف. فإن جوزنا تطييب الثوب للاحرام، فلا بأس باستدامة ما
عليه بعد الاحرام، كالبدن. فلو نزعه ثم لبسه، لزمه الفدية على الأصح كما لو
أخذ الطيب من بدنه، ثم رده إليه، أو ابتدأ لبس ثوب مطيب.
فرع يستحب للمرأة أن تخضب يديها إلى الكوعين بالحناء قبل
الاحرام، وتمسح وجهها أيضا بشئ من الحناء لتستر البشرة، فإنها تؤمر بكشفهما،
ولا فرق في استحباب الخضاب للمحرمة بين المزوجة وغيرها. وأما في غير
الاحرام، فيستحب للمزوجة الخضاب، ويكره لغيرها. وحيث استحببناه، فإنما
يستحب تعميم اليد دون النقش، والتسويد، والتطريف، وهو خضب أطراف
348

الأصابع. ويكره لها الخضاب بعد الاحرام.
قلت: سواء في استحباب الخضاب، العجوز والشابة. ولا تختضب
الخنثى، كما لا يختضب الرجل. والله أعلم.
فرع فإذا أراد الاحرام، نزع المخيط، ولبس إزارا ورداء ونعلين.
ويستحب أن يكون الإزار والرداء أبيضين جديدين، وإلا فمغسولين، ويكره
المصبوغ.
فرع يستحب أن يصلي قبل الاحرام ركعتين. فإن أحرم في وقت
فريضة فصلاها، أغنته عن ركعتي الاحرام. وإن كان في وقت الكراهة، لم يصلهما
على الأصح.
قلت: والمستحب، أن يقرأ فيهما: * (قل يا أيها الكافرون) * و * (قل هو الله
أحد) *.
قال أصحابنا: فإن كان في الميقات مسجد، استحب أن يصليهما فيه. والله
أعلم.
فرع فإذا صلى، نوى ولبى. وفي الأفضل قولان. أظهرهما: أن ينوي
ويلبي حين تنبعث به دابته إلى صوب مكة، إن كان راكبا، أو حين يتوجه إلى
349

الطريق، إن كان ماشيا. والثاني: أن ينوي ويلبي عقب الصلاة وهو قاعد، ثم
يسير.
قلت: وعلى القولين: يستحب أن يستقبل القبلة عند الاحرام. والله أعلم.
فرع السنة، أن يكثر من التلبية في دوام الاحرام. وتستحب قائما،
وقاعدا، وراكبا، وماشيا، وجنبا، وحائضا. ويتأكد استحبابها، في كل صعود،
وهبوط، وحدوث أمر، من ركوب أو نزول، أو اجتماع رفاق، أو فراغ من صلاة،
وعند إقبال الليل والنهار، ووقت السحر. وتستحب التلبية في المسجد الحرام،
ومسجد الخيف بمنى، ومسجد إبراهيم (ص) بعرفة، فإنها مواضع نسك. وفي سائر
المساجد قولان. الجديد: يلبي. والقديم: لا يلبي، لئلا يشوش على المصلين
والمتعبدين. ثم قال الجمهور: القولان في أصل التلبية، فإن استحببناهما،
استحببنا رفع الصوت بها، وإلا، فلا. وجعلهما إمام الحرمين في استحباب رفع
الصوت، ثم قال: إن لم تستحب رفعه في سائر المساجد، ففي الرفع في المساجد
الثلاثة، وجهان. وهل تستحب التلبية في طواف القدوم والسعي بعده؟ قولان.
الجديد: لا، لان لهما أذكارا. والقديم: يستحب. ولا يجهر بها، ولا يلبي في
طوافي الإفاضة والوداع بلا خلاف، لخروج وقت التلبية. ويستحب للرجل رفع
صوته بالتلبية، بحيث لا يضر بنفسه، ولا تجهر بها المرأة، بل تقتصر على إسماع
350

نفسها. قال الروياني: فإن رفعت صوتها، لم يحرم، لأنه ليس بعورة على
الصحيح.
قلت: لكن يكره، نص عليه الدارمي. ويستحب أن يكون صوت الرجل في
صلاته على النبي (ص) عقب التلبية دون صوته بها. والله أعلم.
ويستحب للملبي، أن لا يزيد على تلبية رسول الله (ص)، بل يكررها، وهي:
لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لك
لا شريك لك. ويجوز كسر همزة - إن - وفتحها.
قلت: الكسر أصح وأشهر. والله أعلم.
فإن زاد على هذه التلبية، لم يكره. ويستحب إذا رأى شيئا يعجبه، أن
يقول: لبيك إن العيش عيش الآخرة. ويستحب إذا فرغ من التلبية، أن
يصلي على رسول الله (ص)، وأن يسأل الله تعالى رضوانه والجنة ويستعيذ به من
النار، ثم يدعو بما أحب، ولا يتكلم في أثناء تلبيته بأمر، أو نهي أو غيرهما
لكن لو سلم عليه، رد، نص عليه.
351

قلت: ويكره التسليم عليه في حال التلبية. والله أعلم.
ومن لا يحسن التلبية بالعربية، يلبي بلسانه.
باب دخول مكة زادها الله شرفا وما يتعلق به السنة أن يدخل المحرم بالحج مكة قبل الوقوف بعرفة. ولدخوله سنن.
منها: الغسل بذي طوى، وأن يدخل من ثنية كداء - بفتح الكاف
352

والمد - وهي بأعلى مكة. وإذا خرج، خرج من ثنية كدى - بضم الكاف - بأسفل
مكة. والذي يشعر به كلام الأكثرين: أنها بالمد أيضا. ويدل عليه أنهم كتبوها
بالألف، ومنهم من قالها بالياء.
قلت: الصواب الذي أطبق عليه المحققون من أهل الضبط: أن الثنية
السفلى - بالقصر وتنوين الدال - ولا اعتداد بشياع خلافه عند غيرهم. وأما كتابته
بالألف، فليست ملازمة للمد. والثنية: الطريق الضيق بين جبلين، وهذه الثنية عند
جبل قعيقعان. والله أعلم. قال الأصحاب: وهذه السنة في حق من جاء من طريق المدينة والشام. فأما
الآتي من غيرها، فلا يؤمر أن يدور حول مكة ليدخل من ثنية كداء، وكذا الغسل
بذي طوى. قالوا: وإنما دخل النبي (ص) من تلك الثنية، اتفاقا، لا قصدا.
ومقتضى هذا: أن لا يتعلق نسك بالدخول منها للآتي من جهة المدينة. وكذا قاله
الصيدلاني، وقال الشيخ أبو محمد: ليست الثنية على طريق المدينة، بل عدل إليها
النبي (ص). قال: فيستحب الدخول منها لكل آت. ووافق إمام الحرمين الجمهور،
وسلم للشيخ بأن موضع الثنية على ما ذكره.
353

قلت: الصحيح: أن يستحب الدخول من الثنية لكل آت من أي جهة.
والله أعلم.
فرع هل الأفضل دخول مكة ماشيا، أم راكبا؟ وجهان. فإن دخل ماشيا،
فقيل: الأولى أن يكون حافيا.
قلت: الأصح: ماشيا أفضل، وله دخول مكة ليلا ونهارا بلا كراهة، فقد
ثبتت السنة فيهما. والأصح: أن النهار أفضل، وبه قال أبو إسحاق، واختاره
صاحب التهذيب وغيره. وقال القاضي أبو الطيب وغيره: هما سواء في
الفضيلة. والله أعلم.
فرع يستحب إذا وقع بصره على البيت، أن يرفع يديه ويقول: اللهم زد
هذا البيت تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة، وزد من شرفه وعظمه ممن حجه، أو
اعتمره، تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا. ويضيف إليه: اللهم أنت السلام ومنك
السلام، فحينا ربنا بالسلام. ويدعو بما أحب من مهمات الآخرة والدنيا، وأهمها
سؤال المغفرة. واعلم أن بناء البيت رفيع يرى قبل دخول المسجد، في موضع يقال
له: رأس الردم، إذا دخل من أعلى مكة. وحينئذ يقف ويدعو بما ذكرنا. فإذا فرغ
من الدعاء، قصد المسجد ودخله من باب بني شيبة، وهذا مستحب لكل قادم بلا
354

خلاف. ويبتدئ عند دخوله بطواف القدوم، ويؤخر اكتراء منزله، وتغيير ثيابه،
إلى أن يفرع طوافه. فلو دخل والناس في مكتوبة، صلاها معهم أولا. وكذا لو
أقيمت الجماعة وهو في أثناء الطواف، قدم الصلاة، وكذا لو خاف فوت فريضة أو
سنة مؤكدة. ولو قدمت المرأة نهارا وهي جميلة، أو شريفة لا تبرز للرجال، أخرت
الطواف إلى الليل، وليس في حق من دخل مكة بعد الوقوف، طواف قدوم، إنما
هو لمن دخلها أولا. ويسمى طواف القدوم أيضا، طواف الورود، وطواف التحية،
لأنه التحية البقعة. ويأتي به كل من دخلها، سواء كان تاجرا، أو حاجا، أو غيرهما.
ولو كان معتمرا فطاف للعمرة، أجزأه عن طواف القدوم، كما تجزئ الفريضة عن
تحية المسجد.
فصل من قصد مكة لا لنسك، له حالان.
أحدهما: أن لا يكون ممن يتكرر دخوله، بأن دخلها لزيارة، أو تجارة، أو
رسالة، وكالمكي إذا دخلها عائدا من سفره، هل يلزمه أن يحرم بالحج، أو
العمرة؟ فيه طريقان. أصحهما: على قولين. أحدهما: يلزمه، وهو الأظهر عند
المسعودي، وصاحب التهذيب وغيرهما في آخرين، واختاره صاحب
355

التلخيص. والثاني: يستحب، وهو الأظهر عند الشيخ أبي حامد ومتابعيه،
والشيخ أبي محمد والغزالي. والطريق الثاني: القطع بالاستحباب.
قلت: الأصح في الجملة: استحبابه، وقد صححه الرافعي في
المحرر. والله أعلم.
الحال الثاني: أن يكون ممن يتكرر دخوله، كالحطابين والصيادين
ونحوهم، فإن قلنا في الحال الأول: لا يلزمه، فهنا أولى، وإلا، فالمذهب:
أنه لا يلزمه أيضا. وقيل: قولان. وفي وجه ضعيف: يلزمهم الاحرام كل سنة
مرة. وحيث قلنا بالوجوب، فله شروط.
أحدها: أن يجئ الداخل من خارج الحرم، فأما أهل الحرم، فلا إحرام
عليهم بلا خلاف.
الثاني: أن لا يدخلها لقتال، ولا خائفا. فإن دخلها لقتال باغ، أو قاطع
طريق، أو غيرهما، أو خائفا من ظالم أو غريم يحبسه وهو معسر لا يمكنه الظهور
لأداء النسك، لم يلزمه الاحرام بلا خلاف.
الثالث: أن يكون حرا. فالعبد لا إحرام عليه. وقيل: إن أذن سيده في
الدخول محرما، فهو كحر، والمذهب: الأول. وإذا اجتمعت شرائط الوجوب،
فدخل غير محرم، فطريقان. أصحهما وبه قطع الأكثرون: لا قضاء عليه.
والثاني: على وجهين. وقيل: قولين. أحدهما: هذا. والثاني: يلزمه القضاء،
تداركا للواجب. وسبيله على هذا، أن يخرج ثم يعود محرما. وعللوا عدم القضاء
بعلتين. إحداهما: أنه لا يمكن القضاء، لان الدخول الثاني يقتضي إحراما آخر،
356

فصار كمن نذر صوم الدهر فأفطر يوما. وفرع صاحب التلخيص على هذه العلة،
أنه لو لم يكن ممن يتكرر دخوله كالحطابين، ثم صار منهم، قضى، لتمكنه.
وربما نقل عنه: أنه يوجب عليه أن يجعل نفسه منهم. والعلة الثانية وهي
الصحيحة، وبها قال العراقيون والقفال: أنه تحية للبقعة، فلا تقضى، كتحية
المسجد. وأبطلوا العلة الأولى. قال ابن كج تفريعا على قول الوجوب: إنه إذا
انتهى إلى الميقات على قصد دخول مكة، لزمه أن يحرم من الميقات. فلو أحرم
بعد مجاوزته، فعليه دم، بخلاف ما لو ترك الاحرام من أصله. وهل ينزل دخول
الحرم منزلة دخول مكة فيما ذكرناه؟ قال بعض الشارحين: نعم، والمراد بمكة في
هذا، الحرم. ولا يبعد تخريجه على خلاف سبق في نظائره.
قلت: الصواب: القطع بأن الحرم كمكة في هذا. وقد اتفق الأصحاب
عليه، وصرح به خلائق، منهم، صاحب الحاوي والمحاملي في المقنع
وغيره، والجرجاني في التحرير والشاشي في المستظهري والروياني في
الحلية وغيرهم. وعجب قول الرافعي: قال بعض الشارحين، مع شهرة هذه
الكتب. والله أعلم.
فصل في أحكام الطواف للطواف بأنواعه وظائف واجبة، وأخرى
مسنونة.
فالواجب: ثمانية، مختلف في بعضها.
الأول: الطهارة عن الحدث، والنجس، وستر العورة، كما في
357

الصلاة. فلو طاف محدثا، أو عاريا، أو على بدنه، أو ثوبه، نجاسة غير معفو
عنها، لم يصح طوافه، وكذا لو كان يطأ في مطافه النجاسة. ولم أر للأئمة تشبيه
مكان الطواف بالطريق في حق المتنفل ماشيا، أو راكبا، وهو تشبيه لا بأس به. ولو
أحدث في أثناء طوافه عمدا، لزمه الوضوء. وهل يبني على ما مضى من طوافه، أم
يستأنف؟ قولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: له البناء. والثاني: يجب
الاستئناف. فلو سبقه الحدث، فإن قلنا: يبني العامد، فهذا أولى، وإلا
فقولان، أو وجهان. الأصح: البناء. هذا كله إذا لم يطل الفصل. فإن طال،
فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وحيث لا نوجب الاستئناف، نستحبه.
الواجب الثاني: الترتيب، وهو أن يبتدئ من الحجر الأسود، فيحاذيه
358

بجميع بدنه، ويمر تلقاء وجهه والبيت على يساره. فلو جعل البيت على يمينه، ومر
من الحجر الأسود إلى الركن اليماني، لم يصح طوافه. فلو لم يجعله على يمينه ولا
على يساره، بل استقبله بوجهه معترضا، أو جعل البيت على يمينه، ومشى قهقرى
نحو الباب، فوجهان. أصحهما: لا يصح، وهو الموافق لعبارة الأكثرين.
والقياس جريان هذا الخلاف فيما لو مر معترضا مستدبرا.
قلت: الصواب: القطع بأنه لا يصح الطواف في هذا الصورة، فإنه منابذ لما
ورد الشرع به. والله أعلم.
359

ولو ابتدأ من غير الحجر الأسود، لم يعتد بما فعله حتى ينتهي إلى الحجر
الأسود، فيكون منه ابتداء الطواف. وينبغي أن يمر في الابتداء بجميع بدنه على
جميع الحجر الأسود، فلا يقدم جزءا من بدنه على جزء من الحجر الأسود. فلو حاذاه
ببعض بدنه، وكان بعضه مجاوزا إلى جانب الباب، فقولان. الجديد: أنه لا يعتد
بتلك الطوفة. والقديم: يعتد بها. وجعل إمام الحرمين والغزالي هذا الخلاف
وجهين، وليس كما قالا، بل هما قولان منصوصان، حكاهما الأصحاب. ولو
حاذى بجميع البدن بعض الحجر دون بعضه، أجزأه، ذكره أصحابنا العراقيون.
كما يجزئه أن يستقبل في الصلاة بجميع بدنه بعض الكعبة.
الواجب الثالث: أن يكون خارجا بجميع بدنه عن جميع البيت. فلو مشى
على الشاذروان، لم يصح طوافه، فإنه جزء من البيت. وينبغي أن يدور في
360

طوافه حول الحجر وهو المحوط بين الركنين الشاميين بجدار قصير، بينه وبين كل
واحد من الركنين فتحة. وكلام كثير من الأصحاب يقتضي كون جميعه من البيت،
وهو ظاهر نصه في المختصر. لكن الصحيح: أنه ليس كذلك، بل الذي هو من
البيت، قدر ست أذرع تتصل بالبيت. وقيل: ست أذرع، أو سبع. ولفظ
المختصر محمول على هذا. فلو دخل إحدى الفتحتين، وخرج من الأخرى،
لم يحسب له ذلك، ولا ما بعده حتى ينتهي إلى الفتحة التي دخل منها بلا خلاف.
ولو لم يدخل الفتحة، وخلف القدر الذي من البيت، ثم اقتحم الجدار، وقطع
الحجر على السمت، صح طوافه.
قلت: الأصح: أنه لا يصح الطواف في شئ من الحجر، وهو ظاهر
المنصوص، وبه قطع معظم الأصحاب تصريحا وتلويحا. ودليله: أن النبي (ص)
طاف خارج الحجر. والله أعلم.
ولو كان يطوف ويمس الجدار بيده في موازاة الشاذروان أو غيره من أجزاء
البيت، ففي صحة طوافه وجهان. الصحيح باتفاق فرق الأصحاب: أنه لا
يصح، لان بعض بدنه في البيت، فهو كما لو كان يضع إحدى رجليه أحيانا على
الشاذروان، ويقفز بالأخرى.
الواجب الرابع: أن يقع الطواف في المسجد الحرام، ولا بأس بالحائل فيه
بين الطائف والبيت، كالسقاية والسواري. ويجوز في أخريات المسجد، وأروقته،
وعند باب المسجد من داخله، ويجوز على سطوحه إذا كان البيت أرفع بناء كما هو
اليوم. فإن جعل سقف المسجد أعلى، فقد ذكر في العدة: أنه لا يجوز الطواف
على سطحه. ولو صح قوله، لزم أن يقال: لو انهدمت الكعبة - والعياذ بالله - لم
361

يصح الطواف حول عرصتها، وهو بعيد.
فرع لو وسع المسجد، اتسع المطاف، وقد جعلته العباسية أوسع مما
كان في عصر رسول الله (ص).
قلت: أول من وسع المسجد الحرام بعد رسول الله (ص)، عمر بن الخطاب
رضي الله عنه، اشترى دورا وزادها فيه، واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون القامة.
وكان عمر أول من اتخذ الجدار للمسجد الحرام، ثم وسعه عثمان بن عفان رضي الله
عنه كذلك، واتخذ له الأروقة، وكان أول من اتخذها، ثم وسعه عبد الله بن الزبير
في خلافته، ثم وسعه الوليد بن عبد الملك، ثم المنصور، ثم المهدي. وعليه
استقر بناؤه إلى وقتنا هذا. والله أعلم.
الواجب الخامس: العدد. وهو أن يطوف سبعا.
الواجب السادس: مختلف فيه. وهو، أنه إذا فرغ من الطواف، صلى
ركعتين. وهل هما واجبتان، أم سنة؟ قولان. أظهرهما: سنة، هذا إذا كان
الطواف فرضا. فإن كان سنة، فطريقان. أحدهما: طرد القولين. والثاني: القطع
بأن الصلاة سنة. وقيل: تجب الصلاة في الطواف المفروض قطعا. ويستحب أن
يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: * (قل يا أيها الكافرون) * وفي الثانية: * (قل هو الله
أحد) *: وأن يصليها خلف المقام. فإن لم يفعل، ففي الحجر، وإلا ففي
المسجد، وإلا ففي أي موضع شاء من الحرم وغيره. ويجهر فيهما بالقراءة ليلا،
ويسر نهارا. وإذا قلنا: هما سنة، فصلى فريضة بعد الطواف، أجزأه عنها، كتحية
المسجد، نص عليه في القديم، وحكاه الامام عن الصيدلاني، لكنه استبعده.
362

وتمتاز هذه الصلاة عن غيرها، بجريان النيابة فيها إذ الأجير يؤديها عن المستأجر.
قلت: اختلف أصحابنا في صلاة الأجير هذه، فقيل: تقع عنه. وقيل: تقع
عن المستأجر، وهو الأشهر. والله أعلم.
فرع ركعتا الطواف وإن أوجبناهما، فليستا بشرط في صحته، ولا ركنا
منه، بل يصح بدونهما. وفي تعليل جماعة من الأصحاب، ما يقتضي اشتراطهما.
قلت: الصواب: أنهما ليستا شرطا ولا ركنا. والله أعلم.
ولا تفوت هذه الصلاة ما دام حيا، ولا يجبر تأخيرها، ولا تركها بدم، لكن
حكى صاحب التتمة عن نص الشافعي رضي الله عنه: أنه إذا أخر، تستحب
له إراقة دم. وقال الامام: لو مات قبل الصلاة، لم يمتنع جبرها بالدم.
قلت: وإذا أراد أن يطوف طوافين أو أكثر، استحب أن يصلي عقيب كل
طواف ركعتيه. فلو طاف طوافين أو أكثر بلا صلاة، ثم صلى لكل طواف ركعتيه،
جاز. والله أعلم.
الواجب السابع: مختلف فيه، وهو النية. وفي وجوبها في الطواف،
363

وجهان. أصحهما: لا تجب، لان نية الحج تشمله. وهل يشترط أن لا يصرفه إلى
غرض آخر من طلب غريم ونحوه؟ وجهان. أصحهما: نعم. ولو نام في الطواف أو
بعضه على هيأة لا ينتقض الوضوء. قال الامام: هذا يقرب من صرف الطواف إلى
طلب الغريم. ثم قال: ويجوز أن يقطع بوقوعه موقعه.
قلت: الأصح: صحة طوافه. والله أعلم.
فرع لو حمل رجل محرما، من صبي، أو مريض، أو غيرهما،
وطاف به، فإن كان الحامل حلالا، أو قد طاف عن نفسه، حسب الطواف للمحمول
بشرطه، وإلا، فإن قصد الطواف عن المحمول، فثلاثة أوجه. أصحها: يقع
للمحمول فقط، تخريجا على قولنا: يشترط أن لا يصرفه إلى غرض آخر.
والثاني: يقع عن الحامل فقط، تخريجا على قولنا: لا يشترط ذلك، فإن الطواف
حينئذ يكون محسوبا له، فلا ينصرف عنه، بخلاف ما إذا حمل محرمين وطاف بهما
وهو حلال أو محرم قد طاف، فإنه يجزئهما جميعا، لان الطواف غير محسوب
للحامل، فيكون المحمولان كراكبي دابة. والثالث: يقع عنهما جميعا. ولو قصد
الطواف عن نفسه، وقع عنه، ولا يحسب عن المحمول، قاله الامام، وحكى اتفاق
الأصحاب عليه. قال: وكذا لو قصد الطواف لنفسه، وللمحمول. وحكى صاحب
التهذيب وجهين في حصوله للمحمول، مع الحامل. ولو لم يقصد شيئا من
الأقسام الثلاثة، فهو كما لو قصد نفسه أو كليهما. وسواء في الصبي المحمول،
حمله وليه الذي أحرم عنه أو غيره.
قلت: لو طاف المحرم بالحج معتقدا أنه محرم بعمرة، أجزأه عن الحج،
كما لو طاف عن غيره، وعليه طواف، ذكره الروياني. والله أعلم.
الواجب الثامن: مختلف فيه، وهو الموالاة بين الطوفات السبع، وفيها
قولان. أظهرهما: أنها سنة، فلا تبطل بالتفريق الكثير. والثاني: واجبة، فتبطل
بالتفريق الكثير بلا عذر. فإن فرق يسيرا أو كثيرا بعذر، فهو كما قلنا في الوضوء.
قال الامام: والكثير ما يغلب على الطن تركه الطواف. ولو أقيمت المكتوبة وهو في
أثناء الطواف، فالتفريق بها، تفريق بعذر. وقطع الطواف المفروض لصلاة الجنازة
أو الرواتب، مكروه، إذ لا يحسن ترك فرض العين لفرض الكفاية.
364

أما سنن الطواف، فخمس.
الأولى:
أن يطوف ماشيا، ولا يركب إلا لعذر مرض أو نحوه، أو كان ممن
يحتاج إلى ظهوره ليستفتي. ولو طاف راكبا بلا عذر، جاز بلا كراهة، كذا قاله
الأصحاب. قال الامام: وفي القلب من إدخال البهيمة التي لا يؤمن تلويثها
المسجد شئ. فإن أمكن الاستيثاق، فذاك، وإلا، فإدخالها مكروه.
الثانية: أن يستلم الحجر الأسود بيده في ابتداء الطواف، ويقبله،
ويضع جبهته عليه. فإن منعته الزحمة من التقبيل، اقتصر على الاستلام. فإن لم
يمكن، اقتصر على الإشارة باليد، ولا يشترط بالفم إلا التقبيل. ولا يقبل الركنين
الشاميين، ولا يستلمهما. ويستلم الركن اليماني، ولا يقبله. ويستحب، أن
365

يقبل اليد بعد استلام اليماني، وبعد استلام الحجر الأسود إذا اقتصر على استلامه
للزحمة. وذكر إمام الحرمين: أنه مخير بين أن يستلم ثم يقبل اليد، وبين أن يقبل
اليد، ثم يستلم. والمذهب: القطع بتقديم الاستلام، ثم تقبيلها، وبهذا قطع
الجمهور. ولو لم يستلم بيده، فوضع عليه خشبة، ثم قبل طرفها، جاز.
قلت: الاستلام بالخشبة ونحوها، مستحب إذا لم يتمكن من الاستلام باليد.
والله أعلم.
ويستحب تقبيل الحجر، واستلامه، واستلام اليماني عند
محاذاتهما في كل طوفة، وهو في الأوتار آكد، لأنها أفضل.
قلت: ولا يستحب للنساء استلام، ولا تقبيل، إلا عند خلو المطاف في الليل
أو غيره. والله أعلم.
الثالثة: الدعاء، فيستحب أن يقول في ابتداء الطواف: بسم الله، والله
أكبر، اللهم إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء بعهدك، واتباعا لسنة نبيك
محمد (ص). ويقول بين الركنين اليمانيين: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي
366

الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ويدعو في جميع طوافه بما شاء. وقراءة القرآن في
الطواف أفضل من الدعاء غير المأثور. وأما المأثور، فهو أفضل منها على
الصحيح. وعلى الثاني: أنها أفضل منه.
الرابعة: الرمل - بفتح الميم والراء - وهو الاسراع في المشي مع تقارب
الخطى دون الوثوب والعدو. ويقال له: الخبب. وغلط الأئمة من ظن أنه دون
الخبب.
ويسن الرمل في الطوفات الثلاث الأول. ويسن المشي على الهينة في الأربعة
الأخيرة. ثم هل يستوعب البيت بالرمل؟ قولان. المشهور: يستوعب. والثاني:
لا يرمل بين الركنين اليمانيين. ولا خلاف أن الرمل لا يسن في كل طواف، بل فيما
يسن فيه قولان. أظهرهما عند الأكثرين: إنما يسن في طواف يستعقب السعي.
والثاني: يسن في طواف القدوم. فعلى القولين: لا رمل في طواف الوداع. ويرمل
من قدم مكة معتمرا لوقوع طوافه مجزئا عن القدوم واستعقابه السعي. ويرمل أيضا
الحاج الأفقي إن لم يدخل مكة إلا بعد الوقوف، وإن دخلها قبل الوقوف، فهل يرمل
في طواف القدوم؟ ينظر، إن كان لا يسعى عقبه، فعلى القول الثاني: يرمل.
وعلى الأول: لا يرمل، وإنما يرمل في طواف الإفاضة. وإن كان يسعى عقبه،
يرمل فيه على القولين. وإذا رمل فيه، وسعى بعده، فلا يرمل في طواف الإفاضة إن
لم يرد السعي عقبه، وكذا إن أراده على الأظهر. وإذا طاف للقدوم، وسعى بعده ولم
يرمل، فهل يقضيه في طواف الإفاضة؟ وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: لا.
367

ولو طاف ورمل ولم يسع، قال الأكثرون: يرمل في طواف الإفاضة هنا، لبقاء
السعي، والظاهر أنهم فرعوا على القول الأول، وإلا، فالقول الثاني لا يعتبر
السعي. وهل يرمل المكي المنشئ حجه من مكة؟ إن قلنا بالقول الثاني، فلا، إذ
لا قدوم في حقه، وإلا، فنعم، لاستعقابه السعي.
فرع لو ترك الرمل في الطوفات الثلاث، لم يقضه في الأربع الأخيرة، لان
هيئتها السكينة فلا يغير.
فرع القرب من البيت مستحب للطائف، ولا ينظر إلى كثرة الخطى لو تباعد.
فلو تعذر الرمل مع القرب للزحمة، فإن كان يرجو فرجة، وقف ليرمل فيها،
وإلا، فالمحافظة على الرمل مع البعد عن البيت أفضل، لان القرب فضيلة تتعلق
بموضع العبادة، والرمل فضيلة تتعلق بنفس العبادة، والمتعلق بنفس العبادة أولى
بالمحافظة. ألا ترى أن الصلاة بالجماعة في البيت، أفضل من الانفراد في
المسجد. ولو كان في حاشية المطاف نساء، ولم يأمن ملامستهن لو تباعد، فالقرب
بلا رمل أولى من البعد مع الرمل، حذرا من انتقاض الطهارة وكذا لو كان بالقرب
أيضا نساء، وتعذر الرمل في جميع المطاف، لخوف الملامسة، فترك الرمل في
هذه الحالة أولى. ومتى تعذر الرمل، استحب أن يتحرك في مشيه، ويرى من نفسه
أنه لو أمكنه الرمل، لرمل. وإن طاف راكبا أو محمولا، قولان. أظهرهما: يرمل
به الحامل ويحرك الدابة. وقيل: القولان في المحمول البالغ. ويرمل حامل الصبي
قطعا.
فرع ليكن من دعائه في الرمل: اللهم اجعله حجا مبرورا، وذنبا مغفورا، وسعيا مشكورا.
368

الخامسة: الاضطباع. وهو أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن،
وطرفيه على عاتقه الأيسر، ويبقي منكبه الأيمن مكشوفا. وكل طواف سن فيه
الرمل، سن فيه الاضطباع، وما لا، فلا. لكن الرمل مخصوص بالطوفات الثلاث
الأول، والاضطباع يعم جميعها. ويسن أيضا في السعي بين الصفا والمروة على
المذهب الذي قطع به الجمهور. وحكي وجه: أنه لا يسن فيه. ولا يسن في ركعتي
الطواف على الأصح، لكراهة الاضطباع في الصلاة. فعلى هذا، إذا فرغ من
الطواف، أزال الاضطباع ثم صلى الركعتين، ثم أعاد الاضطباع وخرج للسعي.
فرع لا ترمل المرأة، ولا تضطبع. وأما الصبي، فيضطبع على
الصحيح.
قلت: ومتى كان عليه طواف الإفاضة، فنوى غيره عن غيره، أو عن نفسه،
تطوعا، أو قدوما، أو وداعا، وقع عن طواف الإفاضة، كما في واجب الحج
والعمرة. ولو نذر أن يطوف، فطاف عن غيره، قال الروياني: إن كان زمن النذر
معينا، لم يجز أن يطوف فيه عن غيره. وإن طاف في غيره، أو كان زمانه غير
معين، فهل يصح أن يطوف عن غيره والنذر في ذمته؟ وجهان. أصحهما: لا يجوز
كالإفاضة. والله أعلم.
فصل في السعي إذا فرغ من ركعتي الطواف، استحب أن يعود إلى
369

الحجر الأسود ويستلمه، ثم يخرج من باب الصفا، ليسعى بين الصفا والمروة،
فيبدأ بالصفا، ويرقى على الصفا بقدر قامة رجل، حتى يتراءى البيت،
ويقع بصره عليه، فإذا رقي عليه، استقبل البيت، وهلل وكبر، وقال:
الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أولانا،
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، بيده
الخير، وهو على كل شئ قدير، لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، صدق وعده،
ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له
الدين ولو كره الكافرون.
ثم يدعو بما أحب من أمر الدين والدنيا، ثم يعيد هذا الذكر والدعاء ثانيا، ثم
يعيد الذكر ثالثا، ولا يدعو.
قلت: ولنا وجه: أنه يدعو بعد الثالثة، وبه قطع الروياني، وصاحب
التنبيه، والماوردي وغيرهم، وهو الصحيح. وقد صح ذلك في صحيح
مسلم عن رسول الله (ص). والله أعلم.
370

ثم ينزل من الصفا، ويمشي إلى المروة، ويرقى عليها بقدر قامة رجل، ويأتي
بالذكر والدعاء كما فعل على الصفا. ثم المستحب في قطع هذه المسافة، أن
يمشي من الصفا على عادته حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر المعلق بركن المسجد
على يساره قدر ست أذرع، ثم يسعى سعيا شديدا حتى يتوسط بين الميلين
الأخضرين. أحدهما: في ركن المسجد. والآخر: متصل بدار العباس رضي الله
عنه. ثم يمشي على عادته حتى يصعد المروة. وإذا عاد من المروة إلى الصفا مشى
في موضع مشيه، وسعى في موضع رعيه أولا. ويستحب أن يقول في سعيه: رب
اغفر، وارحم، وتجاوز عما تعلم، إنك أنت الأعز الأكرم.
فرع الرقي على الصفا والمروة سنة، والواجب هو السعي بينهما،
ويحصل ذلك بغير رقي، بأن يلصق العقب بأصل ما يذهب منه، ويلصق رؤوس
أصابع رجليه بما يذهب إليه من الصفا والمروة. وفيه وجه ضعيف: أنه يجب الرقي
عليهما بقدر قامة رجل. وأما الذكر، والدعاء، والاسراع في السعي، وعدم
الاسراع، فسنة. والموالاة في مرات السعي، سنة، وكذا الموالاة بين الطواف
والسعي، سنة، فلو تخلل بينهما فصل طويل، لم يضر، بشرط أن لا يتخلل ركن.
فلو طاف للقدوم، ثم وقف بعرفة، لم يصح سعيه بعد الوقوف، بل عليه أن يسعى
بعد طواف الإفاضة. وذكر في التتمة: أنه إذا طال الفصل بين مرات السعي، أو
بين الطواف والسعي، ففي صحة السعي قولان وإن لم يتخلل ركن، والمذهب ما
سبق.
فرع في واجبات السعي وشروطه فيشترط وقوعه بعد طواف صحيح،
سواء طواف القدوم والإفاضة. ولا يتصور وقوعه بعد طواف الوداع، لان طواف
الوداع هو المأتي به بعد الفراغ، وإذا بقي السعي، لم يكن المأتي به طواف وداع.
ولو سعى عقيب طواف القدوم، لم تستحب إعادته بعد طواف الإفاضة، بل قال
371

الشيخ أبو محمد: تكره إعادته. ويشترط الترتيب: وهو أن يبدأ بالصفا. فإن بدأ
بالمروة، لم يحسب مروره منها إلى الصفا.
قلت: ويشترط في المرة الثانية: أن يبدأ بالمروة. فلو أنه لما وصل المروة
ترك العود في طريقه، وعدل إلى المسجد، وابتدأ المرة الثانية من الصفا أيضا، لم
يصح أيضا على الصحيح. وفيه وجه شاذ في البحر وغيره. والله أعلم.
ويجب أن يسعى بينهما سبعا، ويحسب الذهاب بمرة، والعود بأخرى. فيبدأ
بالصفا، ويختم بالمروة. وقال أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي،
وابن الوكيل، وأبو بكر الصيرفي: يحسب الذهاب والعود مرة واحدة، والصحيح ما
قدمناه، وعليه العمل، ولا يشترط فيه الطهارة، ولا ستر العورة، ولا سائر شروط
الصلاة. ويجوز السعي راكبا، والأفضل ماشيا.
فرع لو طاف أو سعى، وشك في العدد، أخذ بالأقل. ولو كان عنده أنه
أتمهما، فأخبره ثقة عن بقاء شئ، لم يلزمه الاتيان به، لكن يستحب. والسعي
ركن، لا يحبر بدم، ولا يتحلل بدونه.
قلت: الأفضل: أن يتحرى لسعيه زمن خلو المسعى. وإذا عجز عن السعي
الشديد للزحمة، فليتشبه بالساعي كما قلنا في الرمل. والله أعلم.
والمرأة تمشي، ولا تسعى.
قلت: وقيل: إن سعت في الخلوة بالليل سعت كالرجل والله أعلم.
فصل في الوقوف وما يتعلق به له مقدمة.
فيستحب للامام إذا لم يحصر بنفسه الحج، أن ينصب أميرا على الحجيج،
فيطيعونه فيما ينوبهم. ويستحب للحجيج أن يدخلوا مكة قبل الوقوف. فمن كان
منهم مفردا أو قارنا، أقام بعد طواف القدوم على إحرامه إلى أن يخرج إلى عرفة.
ومن كان متمتعا، طاف وسعى وحلق، فيحل من عمرته، ثم يهل بالحج من مكة
على ما سبق في صورة التمتع، وكذا يفعل المقيم بمكة. ويستحب للامام أو
372

منصوبه أن يخطب بمكة في اليوم السابع من ذي الحجة بعد صلاة الظهر خطبة
واحدة، يأمر الناس بالغدو فيها إلى منى، ويخبرهم بما بين أيديهم من
المناسك، ويأمر المتمتعين أن يطوفوا للوداع قبل الخروج. ولو كان السابع يوم
جمعة، خطب لها وصلاها، ثم خطب هذه الخطبة، لان السنة فيها التأخير عن
الصلاة. ثم يخرج بهم في اليوم الثامن، وهو يوم التروية إلى منى، ويكون
خروجهم بعد صلاة الصبح، بحيث يصلون الظهر بمنى، هذا هو المشهور. وفي
قول: يصلون الظهر بمكة، ثم يخرجون، فإن كان يوم التروية يوم جمعة، استحب
أن يخرجوا قبل طلوع الفجر، لان السفر يوم الجمعة إلى حيث لا تصلى الجمعة،
حرام أو مكروه كما سبق، وهم لا يصلون الجمعة بمنى. وكذا لو كان يوم عرفة يوم
جمعة، لا يصلونها، لان الجمعة شرطها دار الإقامة. قال الشافعي رضي الله عنه:
فإن بني بها قرية، واستوطنها أربعون من أهل الكمال، أقاموا الجمعة والناس
معهم. فإذا خرجوا إلى منى، صلوا بها الصلوات مع الامام، وباتوا بها. وهذا
373

المبيت، سنة، وليس بنسك مجبور بالدم. فإذا طلعت الشمس يوم عرفة على
ثبير، ساروا إلى عرفات. فإذا وصلوا نمرة، ضربت بها قبة الامام، فإذا زالت
الشمس، ذهب الامام والناس إلى مسجد إبراهيم (ص) فيخطب فيه الامام
خطبتين، يبين لهم في الأولى ما بين أيديهم من المناسك، ويحرضهم على إكثار
الدعاء والتهليل بالموقف، ويخفف هذه الخطبة، لكن لا يبلغ تخفيفها تخفيف
الثانية. وإذا فرغ منها، جلس بقدر سورة (الاخلاص) ثم يقوم إلى الخطبة الثانية،
ويأخذ المؤذن في الاذان، ويخفف الخطبة بحيث يفرغ منها مع فراغ المؤذن من
الإقامة. وقيل: مع فراغه من الاذان.
قلت: الأصح: مع فراغه من الاذان، وبه قطع الجمهور. والله أعلم.
ثم ينزل فيصلي بالناس الظهر، ثم يقيم المؤذن فيصلي بهم العصر جمعا.
فإن كان الامام مسافرا، فالسنة له القصر، ولا يقصر المكيون والمقيمون حولها.
فإذا سلم الإمام قال: أتموا يا أهل مكة، فإنا قوم سفر. وهل يختص الجمع
بالمسافرين من الحجيج، أم يجوز لغيرهم؟ فيه كلام تقدم في صلاة المسافر.
وأشار جماعة: إلى أنه يخطب ويصلي بنمرة. وصرح الجمهور: بأنه يخطب
ويصلي بمسجد إبراهيم (ص) كما سبق.
فرع في الحج أربع خطب مسنونة إحداها: بمكة في اليوم السابع.
والثانية: يوم عرفة، وقد ذكرناهما. والثالثة: يوم النحر بمنى. والرابعة: يوم النفر
الأول بمنى. ويخبرهم في كل خطبة بما بين أيديهم من المناسك وأحكامها إلى
الخطبة الأخرى، وكلهن أفراد، وبعد صلاة الظهر، إلا يوم عرفة، فإنها خطبتان،
وقبل الصلاة.
374

فرع ثم بعد الصلاتين، يذهبون إلى الموقف. والسنة، أن يقفوا عند
الصخرات، ويستقبلوا الكعبة - والوقوف راكبا أفضل على الأظهر. والثاني: هو
والماشي سواء - ويذكروا الله تعالى ويدعوه حتى تغرب الشمس، ويكثروا التهليل
فإذا غربت الشمس، دفعوا من عرفات منصرفين إلى مزدلفة - ويؤخروا المغرب
ليصلوها مع العشاء بمزدلفة، ويذهبوا بسكينة ووقار. فمن وجد فرجة أسرع. فإذا
وصلوا المزدلفة، مع بهم الامام المغرب والعشاء.
وحكم الأذان والإقامة، سبق في باب الاذان. ولو انفرد بعضهم بالجمع
بعرفة، أو بمزدلفة، أو صلى إحدى الصلاتين مع الامام، والأخرى وحده، جاز.
ويجوز أن يصل المغرب بعرفة، وفي الطريق. قال الشافعي رضي الله عنه: ولا
يتنفلون بين الصلاتين إذ جمعوا، ولا على أثرهما. فأما بينهما، فلمراعاة الموالاة.
وأما على أثرهما، فقال ابن كج: لا يتنفل الامام، لأنه متبوع. فلو اشتغل بالنفل،
لاقتدى به الناس، وانقطعوا عن المناسك. وأما المأموم، ففيه وجهان. أحدهما:
لا يتنفل كالامام. والثاني: الامر واسع له، لأنه غير متبوع. هذا في النافلة
دون الرواتب. ثم أكثر الأصحاب، أطلقوا القول بتأخير الصلاتين إلى المزدلفة.
وقيل: يؤخرهما ما لم يخش فوت وقت الاختيار للعشاء. فإن خافه، لم يؤخر، بل
يجمع بالناس في الطريق. والسنة: أن ينصرفوا من عرفة إلى المزدلفة عن طريق
المأزمين، وهو الطريق بين الجبلين.
فرع من مكة إلى منى، فرسخان. ومزدلفة متوسطة بين منى وعرفات،
منها إلى كل واحدة منهما فرسخ.
قلت: المختار: أن المسافة بين مكة ومنى، فرسخ فقط. كذا قاله جمهور
العلماء المحققين، منهم الأزرقي، وغيره ممن لا يحصى. والله أعلم.
فرع في بيان الوقوف بعرفة المعتبر فيه، الحضور بعرفة لحظة، بشرط
كونه أهلا للعبادة، سواء حضرها ووقف، أو مر بها. وفي وجه: لا يكفي المرور
المجرد، وهو شاذ. ولو حضر بها، ولم يعلم أنها عرفة، أو حضر مغمى عليه، أو
نائما، أو دخلها قبل وقت الوقوف، ونام حتى خرج الوقت، أجزأه على الصحيح.
375

وفي الجميع وجه: أنه لا يجزئه قال في التتمة: هو مبني على أن كل ركن
من أركان الحج يجب إفراده بالنية.
قلت: الأصح عند الجمهور: لا يصح وقوف مغمى عليه. والله
أعلم.
ولو حضر في طلب غريم، أو دابة شاردة، أجزأه قطعا، قال الامام: ولم
يذكروا فيه الخلاف السابق في صرف الطواف إلى جهة أخرى. ولعل الفرق، أن
الطواف قربة مستقلة، قال: ولا يمتنع طرد الخلاف. ولو حضر مجنون، لم
يجزئه، قال في التتمة: لكن يقع نفلا، كحج الصبي الذي لا يميز. ومنهم
من طرد في الجنون الوجه المنقول في الاغماء.
فرع في أي موضع وقف من عرفة، أجزأه. وأما حد عرفة، فقال
الشافعي رحمة الله عليه: هي ما جاوز حد عرنة - بضم العين وفتح الراء وبعدها نون -
إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين ابن عامر، وليس وادي عرنة، من عرفات، وهو
على منقطع عرفات مما يلي منى ومسجد إبراهيم (ص)، صدره من عرنة، وآخره من
عرفات. ويميز بينهما صخرات كبار فرشت هناك، فمن وقف في صدره، فليس
بواقف في عرفات. قال في التهذيب: وهناك يقف الامام للخطبة والصلاة. وأما
نمرة، فقال صاحب الشامل وطائفة: هي من عرفات. وقال الأكثرون: ليست
من عرفات، بل بقربها، وجبل الرحمة في وسط عرصة عرفات، وموقف
رسول الله (ص) عنده معروف.
قلت: الصواب: أن نمرة، ليست من عرفات.
وأما مسجد إبراهيم (ص) فقد قال الشافعي رحمه الله: إنه ليس من عرفة،
فلعله زيد بعده في آخره. وبين هذا المسجد وموقف النبي (ص) بالصخرات نحو
376

ميل. قال إمام الحرمين: ويطيف بمنعرجات عرفات جبال، وجوهها المقبلة من
عرفة. والله أعلم.
فرع وقت الوقوف من زوال الشمس يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر،
ولنا وجه: أنه يشترط كون الوقوف بعد الزوال، وبعد مضي زمان إمكان صلاة
الظهر، وهذا شاذ ضعيف جدا. فلو اقتصر على الوقوف ليلا، صح حجه على
المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: في صحته قولان. ولو اقتصر على الوقوف
نهارا، وأفاض قبل الغروب. صح وقوفه بلا خلاف. ثم إن عاد إلى عرفة وبقي بها
حتى غربت الشمس، فلا دم. وإن لم يعد حتى طلع الفجر، أراق دما. وهل هو
واجب أو مستحب؟ فيه ثلاثة طرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: مستحب.
والثاني: واجب. والطريق الثاني: مستحب قطعا. والثالث: إن أفاض مع
الامام، فمعذور، وإلا، فعلى القولين. وإذا قلنا بالوجوب، فعاد ليلا، فلا دم
على الأصح.
فرع إذا غلط الحجاج، فوقفوا في غير يوم عرفة، فإما أن يغلطوا بالتأخير،
وإما بالتقديم.
الحال الأول: إن غلطوا بالتأخير، فوقفوا في اليوم العاشر من ذي الحجة،
377

أجزأهم، وتم حجهم، ولا قضاء. هذا إذا كان الحجيج على العادة. فإن قلوا،
أو جاءت شرذمة يوم النحر فظنت أنه يوم عرفة، وأن الناس قد أفاضوا، فوجهان.
أحدهما، يدركون، ولا قضاء. وأصحهما: لا يدركون، فيجب القضاء. وإذا لم
يجب القضاء، فلا فرق بين أن تبين الحال بعد يوم الوقوف، أو في حال الوقوف.
فلو بان قبل الزوال، فوقفوا بعده، قال في التهذيب: المذهب: أنه لا
يجزئهم، لأنهم وقفوا على يقين الفوات، وهذا غير مسلم، لان عامة الأصحاب
قالوا: لو قامت بينة برؤية الهلال ليلة العاشر وهم بمكة لا يتمكنون من الوقوف
بالليل، وقفوا من الغد، وحسب لهم، كما لو قامت البينة بعد الغروب اليوم الثلاثين
من رمضان على رؤية الهلال ليلة الثلاثين، نص على أنهم يصلون من الغد العيد.
فإذا لم يحكم بالفوات لقيام البينة ليلة العاشر، لزم مثله في اليوم العاشر. هذا إذا
شهد واحد أو عدد برؤية هلال ذي الحجة فردت شهادتهم، فيلزم الشهود الوقوف في
التاسع عندهم وإن كان الناس يقفون بعدهم. أما إذا غلطوا فوقفوا في الحادي
عشر، فلا يجزئهم بحال.
الحال الثاني: أن يغلطوا بالتقديم، فيقفوا في الثمن. فإن بان الحال قبل
فوات وقت الوقوف، لزمهم الوقوف في وقته. وإن بان بعده، فوجهان. أحدهما:
378

لا قضاء. وأصحهما عند الأكثرين: وجوب القضاء. ولو غلطوا في المكان، فوقفوا
في غير عرفة، لم يصح حجهم بحال.
قلت: ومما يتعلق بالوقوف: أنه يستحب أن يرفع يديه في الدعاء، بحيث لا
تجاوزان رأسه، ولا يفرط في الجهر في الدعاء، فإنه مكروه، وأن يقف متطهرا. والله أعلم.
فصل في المبيت بالمزدلفة وما يتعلق به المزدلفة، ما بين مأزمي
عرفة، ووادي محسر. وقد سبق، أنهم يفيضون من عرفة بعد الغروب، فيأتون
مزدلفة، فيجمعون الصلاتين. وينبغي أن يبيتوا بها، وهذا المبيت ليس بركن. قال
أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي، وأبو بكر بن خزيمة من أصحابنا: هو ركن.
والصحيح: الأول. ثم المبيت نسك. فإن دفع بعد منتصف الليل لعذر، أو لغيره،
أو دفع قبل نصف الليل، وعاد قبل طلوع الفجر، فلا شئ عليه. وإن ترك المبيت
من أصله، أو دفع قبل نصف الليل، ولم يعد، أراق دما. وهل هو واجب، أم
مستحب؟ فيه طرق. أصحها: على قولين كالإفاضة من عرفة قبل الغروب.
والثاني: القطع بالايجاب. والثالث: بالاستحباب.
قلت: لو لم يحضر مزدلفة في النصف الأول، وحضرها ساعة في النصف
الثاني، حصل المبيت، نص عليه في الام، وفي قول ضعيف نص عليه في
الاملاء والقديم: يحصل بساعة بين نصف الليل وطلوع الشمس. وفي قول:
يشترط معظم الليل. والأظهر: وجوب الدم بترك المبيت. والله أعلم.
والأولى، تقديم النساء والضعفة بعد نصف الليل إلى منى. وأما غيرهم،
فيمكثون حتى يصلوا الصبح بها، ويغلسون بالصبح. والتغليس هنا، أشد استحبابا
من باقي الأيام.
فرع يستحب أن يأخذوا حصى الجمار من المزدلفة. ولو أخذوا من موضع
آخر، جاز، لكن يكره من المسجد والحش والمرمى. وقد قدر المأخوذ وجهان.
أحدهما: سبعون حصاة لرمي يوم النحر والتشريق، قاله في المفتاح وهو، ظاهر
379

نصه في المختصر. والثاني: سبع حصيات لرمي يوم النحر فقط، وبهذا قال
الجمهور: ونقلوه عن نصه، وجعلوه بيانا لما أطلقه في المختصر. وجمع
بعضهم بينهما فقال: يستحب الاخذ للجميع، لكن ليوم النحر أشد. ثم قال
الجمهور: يتزودوا الحصى بالليل. وفي التهذيب: يتزودوها بعد صلاة الصبح.
فصل في الدفع إلى منى وما يتعلق به ثم بعد صلاة الصبح، يدفعون
إلى منى. فإذا انتهوا إلى قزح، وهو جبل مزدلفة، وقفوا فذكروا الله تعالى ودعوا
إلى الاسفار مستقبلين الكعبة. ولو وقفوا في موضع آخر من المزدلفة، حصل
أصل هذه السنة، لكن أفضله، ما ذكرناه. ولو فاتت هذه السنة، لم تجبر بدم كسائر
الهيئات. فإذا أسفروا، ساروا إلى منى وعليهم السكينة، ومن وجد فرجة، أسرع.
فإذا بلغوا وادي محسر، استحب للراكب تحريك دابته، وللماشي الاسراع قدر رمية
حجر. وفي وجه: لا يسرع الماشي، وهو ضعيف شاذ. ثم يسيرون وعليهم
السكينة، ويصلون منى بعد طلوع الشمس، فيرمون سبع حصيات إلى جمرة
العقبة، وهي أسفل الجبل مرتفعة عن الجادة، على يمين السائر إلى مكة، ولا ينزل
الراكبون حتى يرموا. والسنة، أن يكبر مع كل حصاة، ويقطع التلبية إذ بدأ
بالرمي. وقال القفال: إذا رحلوا من مزدلفة، خلطوا التلبية بالتكبير في مسيرهم.
380

فإذا افتتحوا الرمي محضوا التكبير. قال الامام: ولم أر هذا لغيره. فإذا رمى، نحر
إن كان معه هدي، ثم حلق أو قصر. فإذا فرغ منه، دخل مكة وطاف طواف
الإفاضة، وهو الركن. وسعى بعده أن لم يكن سعى بعد طواف القدوم، ثم يعود
إلى منى للمبيت بها والرمي أيام التشريق. ويستحب أن يعود إليها قبل أن يصلي
الظهر.
فرع الحلق في وقته في الحج والعمرة، فيه قولان. أحدهما: أنه
استباحة محظور، وليس بنسك. وأظهرهما: أنه نسك، وهو ركن لا يجبر بالدم.
حتى لو كانت برأسه علة لا يمكنه بسببها التعرض للشعر، صبر إلى الامكان، ولا
يفدي بخلاف من لا شعر على رأسه، فإنه لا يؤمر بالحلق بعد نباته، لان النسك
حلق شعر يشتمل الاحرام عليه. ويقوم التقصير مقام الحلق، لكن الحلق
أفضل. والمرأة لا تؤمر بالحلق، بل تقصر. ويستحب أن يكون
381

تقصيرها بقدر أنملة من جميع جوانب رأسها. ويختص الحلق والتقصير بشعر
الرأس. ويستحب أن يبدأ بحلق الشق الأيمن، ثم الأيسر، وأن يستقبل القبلة، وأن
يدفن شعره. والأفضل، أن يحلق أو يقصر جميع الرأس. وأقل ما يجزئ حلق
ثلاث شعرات أو تقصيرها. ولنا وجه بعيد: أن الفدية تكمل في الشعرة الواحدة في
الحلق المحظور، وذلك الوجه عائد في حصول النسك بحلق الشعرة الواحدة. ولو
حلق ثلاث شعرات في دفعات، أو أخذ من شعرة واحدة شيئا، ثم عاد ثانيا فأخذ
منها، ثم عاد ثالثا وأخذ منها، فإن كملنا الفدية بها، لو كان محظورا حصل به
النسك، وإلا، فلا. وإذا قصر، فسواء أخذ مما يحاذي الرأس أو مما استرسل
عنه، وفي وجه شاذ: لا يجزئ المسترسل. ولا يتعين للحلق والتقصير آلة، بل
حكم النتف، والاحراق، والاخذ بالموسى أو النورة أو المقصدين واحد. ومن
لا شعر على رأسه، لا شئ عليه. ويستحب له إمرار الموسى على رأسه. قال
الشافعي رحمه الله: ولو أخذ من شاربه أو شعر لحيته شيئا، كان أحب إلي. وجميع
ما ذكرناه، فيمن لم يلتزم الحلق. أما من نذر الحلق في وقته، يلزمه، ولا يجزئه
التقصير، ولا النتف والاحراق. وفي استئصال الشعر بالمقصين وإمرار الموسى من
غير استئصال، تردد للامام. والظاهر: المنع، لعدم اسم الحلق. ولو لبد رأسه في
الاحرام، فهل هو كالنذر؟ قولان. الجديد: لا. وفي وجه غريب: لا يلزم الحلق
بالنذر إذا لم نجعله نسكا.
فرع وقت حلق المعتمر، إذا فرغ من السعي. فلو جامع بعد السعي وقبل
الحلق، فسدت عمرته إذا قلنا: الحلق نسك، لوقوع جماعه قبل التحلل.
فصل أعمال الحج يوم النحر أربعة كما سبق، وهي: رمي جمرة العقبة،
382

والذبح، والحلق، والطواف، وهذا يسمى: طواف الإفاضة، والزيارة، والركن،
وقد يسمى أيضا: طواف الصدر، والأشهر: أن طواف الصدر طواف الوداع.
وترتيب الأربعة على ما ذكرناه، ليس بواجب، بل مسنون. فلو طاف قبل أن يرمي،
أو ذبح في وقته قبل أن يرمي، فلا بأس، ولا فدية. ولو حلق قبل الرمي
والطواف. فإن قلنا: الحلق استباحة محظور، لزمه الفدية، وإلا، فلا، على
الصحيح. وإذا أتى بالطواف قبل الرمي، أو بالحلق، وقلنا: نسك، قطع التلبية
بشروعه فيه، لأنه أخذ في أسباب التحلل. وكذا المعتمر، يقطع التلبية بأخذه في
الطواف. ويستحب في هذه الأعمال: أن يرمي بعد طلوع الشمس، ثم يأتي
بباقيها، فيقطع الطواف في ضحوة، ويدخل وقت جميعها بانتصاف ليلة النحر.
ومتى يخرج؟ أما الرمي: فيمتد إلى غروب الشمس يوم النحر. وهل يمتد تلك
الليلة؟ فيه وجهان. أصحهما: لا. وأما الذبح، فالهدي لا يختص بزمن، لكن
يختص بالحرم. بخلاف الضحايا، فإنها تختص بالعيد وأيام التشريق، ولا تختص
بالحرم.
قلت: كذا جزم الامام الرافعي هنا: بأن الهدايا لا تختص بزمن.
والصحيح: أنها كالأضحية، تختص بالعيد والتشريق. وقد ذكره هو على الصواب
في باب الهدي، وسيأتي بيانه فيه إن شاء الله تعالى قريبا. والله أعلم.
383

وأما الحلق والطواف، فلا يتوقت أحدهما لكن ينبغي أن يطوف قبل خروجه من
مكة. فإن طاف للوداع وخرج وقع عن طواف الإفاضة، وإن خرج ولم يطف
أصلا، لم تحل له النساء وإن طال الزمان. ثم مقتضى كلام الأصحاب: لا يتوقت
آخر الطواف، وأنه لا يصير قضاء. وفي التتمة: أنه إذا تأخر عن أيام التشريق،
صار قضاء.
فرع للحج تحللان، وللعمرة تحلل واحد. قال الأصحاب: لان الحج
يطول زمنه، وتكثر أعماله. بخلاف العمرة، فأبيح بعض محرماته في وقت،
وبعضها في وقت. ثم أسباب تحلل الحج: الرمي، والطواف، والحلق إن
قلنا: هو نسك، وإلا، فالرمي والطواف. إن قلنا: ليس بنسك، حصل التحلل
الأول بأحدهما، والتحلل الثاني بالآخر، وإلا حصل التحلل الأول باثنين من
الثلاثة، إما الرمي والحلق، وإما الحلق والطواف، وإما الرمي والطواف، وحصل
التحلل الثاني بالثالث. ولا بد من السعي مع الطواف وإن لم يكن سعى. هذا الذي
ذكرنا، هو المذهب المعروف الذي قطع به معظم الأصحاب. وفي وجه
للإصطخري: دخول وقت الرمي، كالرمي في حصول التحلل. ووجه للداركي:
أنا إن جعلنا الحلق نسكا، حصل التحللان جميعا بالحلق مع الطواف، أو بالطواف
والرمي، ولا يحصل بالرمي والحلق إلا أحدهما. ووجه: أنه يحصل التحلل الأول
بالرمي فقط، أو الطواف فقط، وإن قلنا: الحلق نسك. ولو فاته الرمي، فهل
يتوقف تحلله على الاتيان ببدله؟ فيه ثلاثة أوجه. أصحها: نعم. والثالث: إن
افتدى بالدم، توقف. وإن افتدى بالصوم، فلا، لطول زمنه.
وأما العمرة: فتحللها بالطواف والسعي، ويضم إليهما الحلق إن قلنا:
نسك. ويحل بالتحلل الأول في الحج: اللبس، والقلم، وستر الرأس، والحلق
384

إن لم نجعله نسكا. ولا يحل الجماع إلا بالتحللين بلا خلاف. والمستحب: أن لا
يطأ حتى يرمي في أيام التشريق. وفي عقد النكاح، والمباشرة فيما سوى الفرج،
كالقبلة، والملامسة، قولان. أظهرهما عند الأكثرين: لا يحل إلا بالتحللين،
وأظهرهما عند صاحب المهذب وطائفة: يحل بالأول، ويحل الصيد بالأول على الأظهر
باتفاقهم. والمذهب: حل الطيب بالأول، بل هو مستحب بين التحللين.
فصل مبيت أربع ليال، نسك في الحج: ليلة النحر بمزدلفة، وليالي
التشريق بمنى. لكن الليلة الثالثة، إنما تكون نسكا لمن لم ينفر النفر الأول. وفي
قدر الواجب من المبيت، قولان حكاهما الامام عن نقل شيخه، وصاحب
التقريب. أظهرهما: معظم الليل. والثاني: المعتبر كونه حاضرا حال طلوع
الفجر.
قلت: المذهب: ما نص عليه الشافعي رحمه الله في الام وغيره: أن
الواجب في مبيت المزدلفة، ساعة في النصف الثاني من الليل، وقد سبق بيانه
قريبا. والله أعلم.
ثم هذا المبيت، مجبور بالدم. وهل هو واجب، أم مستحب؟ أما ليلة
المزدلفة، فسبق حكمه. وأما الباقي، فقولان. أظهرهما: الاستحباب. والثاني:
الايجاب. وقيل: مستحب قطعا.
قلت: الأظهر: الايجاب. والله أعلم.
ثم إن ترك ليلة مزدلفة وحدها، أراق دما. وإن ترك الليالي الثلاث، فكذلك
على المذهب. وحكى صاحب التقريب قولا: أن في كل ليلة دما، وهو شاذ.
وإن ترك ليلة، فأقوال: أظهرها: تجبر بمد. والثاني: بدرهم. والثالث: بثلث
دم. وإن ترك ليلتين، فعلى هذا القياس. وإن ترك الليالي الأربع، فقولان.
أظهرهما: دمان، دم للمزدلفة، ودم للباقي. والثاني: دم للجميع. هذا في حق
من كان بمنى وقت الغروب. فإن لم يكن حينئذ، ولم يبت، وأفردنا المزدلفة بدم،
فوجهان، لأنه لم يترك إلا ليلتين. أحدهما: مدان، أو درهمان، أو ثلثا دم.
والثاني: دم كامل لتركه جنس المبيت بمنى، وهذا أصح، وهو جار فيما لو ترك
ليلتين من الثلاث دون المزدلفة. هذا كله في غير المعذور. أما من ترك مبيت مزدلفة
385

أو منى لعذر، فلا دم عليه. وهم أصناف، منهم، رعاء الإبل، وأهل سقاية
العباس، فلهم إذا رموا جمرة العقبة يوم النحر أن ينفروا ويدعوا المبيت بمنى ليالي
التشريق، وللصنفين جميعا أن يدعوا رمي يوم، ويقضوه في اليوم الذي يليه قبل رمي
ذلك اليوم، وليس لهم أن يدعوا رمي يومين متواليين. فإن تركوا رمي اليوم الثاني،
بأن نفروا اليوم الأول بعد الرمي، عادوا في اليوم الثالث. وإن تركوا رمي اليوم
الأول، بأن نفروا يوم النحر بعد الرمي، عادوا في الثاني. ثم لهم أن ينفروا مع
الناس، هذا هو الصحيح. وفي وجه: ليس لهم ذلك. وإذا غربت الشمس والرعاء
بمنى، لزمهم المبيت تلك الليلة، والرمي من الغد، ولأهل السقاية أن ينفروا بعد
الغروب على الصحيح، لان عملهم بالليل، بخلاف الرعي. ورخصة أهل
السقاية، لا تختص بالعباسية على الصحيح. وفي وجه: تختص بهم، وفي وجه:
تختص ببني هاشم. ولو أحدثت سقاية الحاج، فللمقيم بسببها ترك المبيت، قاله
في التهذيب. وقال ابن كج وغيره: ليس له.
قلت: الأصح: قوله في التهذيب. والله أعلم.
ومن المعذورين، من انتهى إلى عرفة ليلة النحر، واشتغل بالوقوف عن مبيت
المزدلفة، فلا شئ عليه، وإنما يؤمر بالمبيت المتفرغون. ولو أفاض من عرفة إلى
مكة، وطاف للإفاضة بعد نصف الليل، ففاته المبيت، قال القفال: لا شئ عليه
لاشتغاله بالطواف. وقال الامام: وفيه احتمال. ومن المعذورين، من له مال يخاف
ضياعه. ولو اشتغل بالمبيت، أو له مريض يحتاج إلى تعهده، أو يطلب آبقا، أو
يشتغل بأمر آخر يخاف فوته ففي هؤلاء وجهان. الصحيح المنصوص: أنه لا شئ
عليهم بترك المبيت، ولهم أن ينفروا بعد الغروب.
فصل فيما يتعلق بالرمي إذا فرغ الحجاج من طواف الإفاضة، عادوا
إلى منى وصلوا بها الظهر، ويخطب الامام بها بعد الظهر خطبة، ويعلمهم فيها سنة
الرمي والإفاضة، ليتدارك من أخل بشئ منها، ويعلمهم رمي أيام التشريق، وحكم
المبيت، والرخصة للمعذورين. وفي وجه: تكون هذه الخطبة بمكة. والصحيح:
أنها بمنى. ويخطب بهم في الثاني من أيام التشريق. ويعلمهم جواز النفر فيه.
ويودعهم، ويأمرهم بختم الحج بطاعة الله تعالى. واعلم أن مجموع الرمي سبعون
386

حصاة. لجمرة العقبة يوم النحر سبعة. ولكل يوم من أيام التشريق إحدى وعشرين
إلى الجمرات الثلاث، لكل جمرة سبع. ومن أراد النفر في اليوم الثاني قبل غروب
الشمس، فله ذلك، ويسقط عنه مبيت الليلة الثالثة، ورمي الغد، ولا دم عليه. ومن لم ينفر حتى غربت الشمس، لزمه مبيت الليلة الثالثة، ورمي يومها. ولو
ارتحل فغربت الشمس قبل انفصاله من منى، فله النفر ولو غربت وهو في شغل
الارتحال، أو نفر قبل الغروب فعاد لشغل قبل الغروب أو بعده، جاز النفر على
الأصح.
قلت: فلو تبرع في هذه الحالة بالمبيت، لم يلزمه الرمي في الغد، نص عليه
الشافعي رحمه الله. والله أعلم.
ومن نفر وقد بقي معه شئ من الحصى التي تزودها، طرحها أو دفعها إلى
غيره. قال الأئمة: ولم يؤثر شئ فيما يعتاده الناس من دفنها. أما وقت رمي يوم
النحر، فسبق، وأما أيام التشريق، فيدخل بزوال الشمس، ويبقى إلى غروبها.
وهل يمتد إلى الفجر؟ أما في اليوم الثالث، فلا، لخروج وقت المناسك، وأما
اليومان، فوجهان. أصحهما: لا يمتد.
فرع اليوم الأول من أيام التشريق، يسمى: يوم القر - بفتح القاف وتشديد
الراء - لأنهم قارون بمنى. واليوم الثاني: النفر الأول. والثالث: النفر الثاني.
فإذا ترك رمي يوم القر عمدا أو سهوا، هل يتداركه في اليوم الثاني أو الثالث؟ أو ترك
رمي الثاني، أو رمي اليومين الأولين، هل يتدارك في الثالث؟ قولان. أظهرهما:
نعم. فإن قلنا: لا يتدارك في بقية الأيام، فهل يتدارك في الليلة الواقعة بعده من
ليالي التشريق؟ وجهان تفريعا على الأصح: أن وقته لا يمتد تلك الليلة. وإن قلنا
387

بالتدارك، فتدارك، فهل هو أداء، أم قضاء؟ قولان. أظهرهما: أداء، كأهل السقاية
والرعاء. فإن قلنا: أداء، فجملة أيام منى في حكم الوقت الواحد، فكل يوم للقدر
المأمور به وقت اختيار، كأوقات الاختيار للصلوات. ويجوز تقديم رمي يوم التدارك
على الزوال. ونقل الامام، أن على هذا القول، لا يمتنع تقديم رمي يوم إلى يوم،
لكن يجوز أن يقال: إن وقته يتسع من جهة الآخر دون الأول، فلا يجوز التقديم.
قلت: الصواب: الجزم بمنع التقديم، وبه قطع الجمهور تصريحا ومفهوما.
والله أعلم.
وإذا قلنا: جنه قضاء، فتوزيع الاقدار المعينة على الأيام مستحق، ولا سبيل
إلى تقديم رمي يوم إلى يوم، ولا إلى تقديمه على الزوال. وهل يجوز بالليل؟
وجهان. أصحهما: نعم، لان القضاء لا يتوقت. والثاني: لا، لان الرمي عبادة
النهار كالصوم. وهل يجب الترتيب بين الرمي المتروك ورمي يوم التدارك؟ قولان،
ويقال: وجهان. أظهرهما: نعم كالترتيب في المكان، وهما مبنيان على أن
المتدارك قضاء، أم أداء؟ إن قلنا: أداء، وجب الترتيب، وإلا، فلا. فإن لم
نوجب الترتيب، فهل يجب على أهل العذر كالرعاء؟ وجهان. قال المتولي: نظيره
أن من فاتته الظهر، لا يلزمه ترتيب بينها وبين العصر. ولو أخرها للجمع،
فوجهان. ولو رمى إلى الجمرات كلها عن اليوم قبل أن يرمي إليها عن أمسه، أجزأه إن لم
نوجب الترتيب، وإلا، فوجهان. أصحهما: يجزئه ويقع عن القضاء. والثاني: لا
يجزئه أصلا. قال الامام: ولو صرف الرمي إلى غير النسك، بأن رمى إلى شخص أو
دابة في الجمرة، ففي انصرافه عن النسك الخلاف المذكور في صرف الطواف.
فإن لم ينصرف، وقع عن أمسه، ولغا قصده. وإن انصرف، فإن شرطنا الترتيب،
لم يجزئه أصلا، وإلا أجزأه عن يومه. ولو رمى إلى كل جمرة أربع عشرة حصاة،
سبعا عن أمسه، وسبعا عن يومه، جاز، إن لم نعتبر الترتيب، وإلا، فلا. وهو
نصه في المختصر. هذا كله في رمي اليوم الأول أو الثاني من أيام التشريق. أما
إذا ترك رمي يوم النحر، ففي تداركه في أيام التشريق طريقان. أصحهما: أنه على
القولين. والثاني: القطع بعدم التدارك، للمغايرة بين الرميين قدرا ووقتا وحكما،
فإن رمي النحر يؤثر في التحلل.
388

فرع يشترط في رمي التشريق، الترتيب في المكان، بأن يرمي الجمرة
التي تلي مسجد الخيف، ثم الوسطى، ثم جمرة العقبة. ولا يعتد برمي الثانية،
قبل تمام الأولى، ولا بالثالثة، قبل تمام الأوليين. ولو ترك حصاة ولم يدر من أين
تركها، جعلها من الأولى، فرمى إليها حصاة وأعاد الأخريين. وفي اشتراط الموالاة
بين رمي الجمرات، ورميات الجمرة الواحدة، الخلاف السابق في الطواف.
فرع السنة أن يرفع يده عند الرمي، وأن يرمي أيام التشريق مستقبل
القبلة، ويوم النحر مستدبرها، وأن يكون نازلا في رمي اليومين الأولين، وراكبا في
اليوم الأخير، فيرمي، وينفر عقيبه. كما أنه يوم النحر، يرمي، ثم ينزل، هكذا
قاله الجمهور. ونص عليه في الاملاء. وفي التتمة: أن الصحيح ترك
الركوب في الأيام الثلاثة.
قلت: هذا الذي في التتمة ليس بشئ والصواب: ما تقدم.
وأما جزم الرافعي، بأنه يستدبر القبلة يوم النحر، فهو وجه، قاله الشيخ أبو حامد
وغيره. ولنا وجه: أنه يستقبلها. والصحيح: أنه يجمل القبلة على يساره، وعرفات
على يمينه، ويستقبل الجمرة، فقد ثبتت فيه السنة الصحيحة. والله أعلم.
والسنة، إذا رمى الأولى، أن يتقدم قليلا بحيث لا يبلغه حصى الرامين،
فيقف مستقبلا القبلة، ويدعو، ويذكر الله تعالى طويلا قدر سورة (البقرة) وإذا رمى
الجمرة الثانية، فعل مثل ذلك، ولا يقف إذا رمى الثالثة.
فرع لو ترك رمي بعض الأيام وقلنا: يتدارك، فتدارك، فلا دم عليه على
المشهور. وفي قول: يجب دم مع التدارك، كمن أخر قضاء رمضان حتى دخل
389

رمضان آخر، يقضي ويفدي. ولو نفر يوم النحر، أو يوم القر قبل أن يرمي، ثم عاد
ورمى قبل الغروب، أجزأه ولا دم. ولو فرض ذلك يوم النفر الأول، فكذا على
الأصح. والثاني: يلزمه الدم، لان النفر في هذا اليوم جائز في الجملة، فإذا نفر
فيه، خرج عن الحج، فلا يسقط الدم بعوده. وحيث قلنا: لا يتدارك، أو قلنا به،
فلم يتدارك، وجب الدم، وكم قدره؟ فيه صور. فإن ترك رمي يوم النحر وأيام
التشريق، والصورة فيمن توجه عليه رمي اليوم الثالث، فثلاثة أقوال أحدها: دم.
والثاني: دمان. والثالث: أربعة دماء، وهذا الأخير أظهرها عند صاحب
التهذيب. لكن مقتضى كلام الجمهور: ترجيح الأول. ولو ترك رمي يوم النحر
أو يوما من التشريق، وجب دم. وإن ترك رمي بعض يوم من التشريق، ففيه
طريقان. أحدهما: الجمرات الثلاث كالشعرات الثلاث، فلا يكمل الدم في
بعضها. بل إن ترك جمرة، ففيها الأقوال الثلاثة، فيمن حلق شعرة. أظهرها:
مد. والثاني: درهم. والثالث: ثلث دم. وإن ترك جمرتين، فعلى هذا القياس.
390

وعلى هذا لو ترك حصاة من جمرة، قال صاحب التقريب: إن قلنا: في الجمرة
ثلث دم، ففي الحصاة جزء من أحد وعشرين جزءا من دم، وإن قلنا: في الجمرة مد أو درهم، فيحتمل أن نوجب سبع مد، أو سبع درهم، ويحتمل أن لا
نبعضهما.
والطريق الثاني: يكمل الدم في وظيفة الجمرة الواحدة، كما يكمل في جمرة
النحر. وفي الحصاة والحصاتين الأقوال الثلاثة، وهذا الخلاف في الحصاة، أو
الحصاتين، من آخر أيام التشريق.
فأما لو تركها من الجمرة الأخيرة يوم القر، أو النفر الأول، ولم ينفر، فإن
قلنا: لا يجب الترتيب بين التدارك ورمي الوقت، صح رميه، لكنه ترك حصاة،
ففيه الخلاف، وإلا، ففيه الخلاف السابق في أن الرمي بنية اليوم، هل يقع عن
الماضي؟ إن قلنا: نعم، تم المتروك بما أتى به في اليوم الذي بعده، لكنه يكون
تاركا للجمرة الأولى والثانية في ذلك اليوم، فعليه دم. وإن قلنا: لا، كان تاركا
رمي حصاة ووظيفة يوم، فعليه دم إن لم نفرد كل يوم بدم، وإلا فعليه لوظيفة اليوم
دم. وفي ما يجب لترك الحصاة، الخلاف. وإن تركها من إحدى الجمرتين الأوليين
من أول يوم كان، فعليه دم، لان ما بعدها غير صحيح، لوجوب الترتيب في
المكان. هذا كله إذا ترك بعض يوم من التشريق، فإن ترك بعض رمي النحر، فقد
ألحقه في التهذيب بما إذا ترك من الجمرة الأخيرة من اليوم الأخير. وقال في
التتمة: يلزمه دم ولو ترك حصاة، لأنها من أسباب التحلل، فإذا ترك شيئا
منها، لم يتحلل إلا ببدل كامل. وحكى في النهاية وجها غريبا ضعيفا: أن الدم
يكمل في حصاة واحدة مطلقا.
فرع قال في التتمة: لو ترك ثلاث حصيات من جملة الأيام لم يعلم
موضعها، أخذ بالأسوأ، وهو أنه ترك حصاة من يوم النحر، وحصاة من الجمرة
الأولى يوم القر، وحصاة من الجمرة الثانية يوم النفر الأول. فإن لم نحسب ما يرميه
بنية وظيفة اليوم عن الفائت، فالحاصل ست حصيات من رمي يوم النحر، سواء
391

شرطنا الترتيب بين التدارك ورمي الوقت، أم لا. وإن حسبناه، فالحاصل رمي يوم
النحر وأحد أيام التشريق لا غير، سواء شرطنا الترتيب، أم لا، ودليله يعرف مما
سبق من الأصول.
فرع في بيان ما يرمى شرطه كونه حجرا، فيجزئ المرمر، والبرام،
والكذان، وسائر أنواع الحجر. ويجزئ حجر النورة قبل أن يطبخ ويصير نورة.
وأما حجر الحديد، فتردد فيه الشيخ أبو محمد. والمذهب: جوازه، لأنه حجر في
الحال، إلا أن فيه حديدا كامنا يستخرج بالعلاج وفي ما تتخذ منه الفصوص،
كالفيروزج، والياقوت، والعقيق، والزمرد، والبلور، والزبرجد، وجهان.
أصحهما: الاجزاء، لأنها أحجار. ولا يجزئ اللؤلؤ، وما ليس بحجر من طبقات
الأرض، كالنورة، والزرنيخ، والإثمد، والمدر، والجص، والجواهر المنطبعة،
كالتبرين وغيرهما. والسنة أن يرمي بمثل حصى الخذف، وهو دون الأنملة طولا
وعرضا في قدر الباقلاء، يضعه على بطن الابهام، ويرميه برأس السبابة. ولو رمى
بأصغر من ذلك، أو أكبر، كره وأجزأه. ويستحب أن يكون الحجر طاهرا.
قلت: جزم الامام الرفاعي رحمه الله، بأن يرميه على هيأة الخذف،
فيضعه على بطن الابهام، وهذا وجه ضعيف. والصحيح المختار: أن يرميه على
غير هيأة الخذف. والله أعلم.
فرع في حقيقة الرمي الواجب، ما يقع عليه اسم الرمي. فلو وضع
الحجر في المرمى، لم يعتد به على الصحيح. ويشترط قصد المرمى. فلو رمى في
الهواء فوقع في المرمى، لم يعتد به. ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى، فلا يضر
تدحرجه وخروجه بعد الوقوع، لكن ينبغي أن يقع فيه. فإن شك في وقوعه فيه،
فقولان. الجديد: لا يجزئه. ولا يشترط كون الرامي خارج الجمرة. فلو وقف في
الطرف، ورمى إلى الطرف الآخر، جاز. ولو انصدمت الحصاة المرمية بالأرض
خارج الجمرة، أو بمحمل في الطريق، أو عنق بعير، أو ثوب إنسان، ثم ارتدت
فوقعت في المرمى، اعتد بها، لحصولها في المرمى بفعله من غير معاونة. ولو
حرك صاحب المحمل المحمل فنفضها، أو صاحب الثوب، أو تحرك البعير فدفعها
392

فوقعت في المرمى، لم يعتد بها. ولو وقعت على المحمل أو عنق البعير، ثم
تدحرجت إلى المرمى، ففي الاعتداد بها وجهان. لعل أشبههما المنع، لاحتمال
تأثرها به. ولو وقعت في غير المرمى، ثم تدحرجت إلى المرمى، أو ردتها الريح
إليه، فوجهان. قال في التهذيب: أصحهما: الاجزاء، لحصولها فيه لا بفعل
غيره. ولا يجزئ الرمي عن القوس، ولا الدفع بالرجل. ويستحب أن يرمي
الحصيات في سبع دفعات. فلو رمى حصاتين أو سبعا دفعة، فإن وقعن في الرمي
معا، حسبت واحدة فقط، وإن ترتبت في الوقوع، حسبت واحدة على الصحيح.
ولو أتبع حجرا حجرا. ووقعت الأولى قبل الثانية، فرميتان. وإن تساوتا، أو وقعت
الثانية قبل الأولى، فرميتان على الأصح. ولو رمى بحجر قد رمى به غيره، أو رمى
هو به إلى جمرة أخرى، أو إلى هذه الجمرة في يوم آخر، جاز. وإن رمى به هو
تلك الجمرة في ذلك اليوم، فوجهان. أصحهما: الجواز، كما لو دفع إلى فقير مدا
في كفارة، ثم اشتراه ودفعه إلى آخر، وعلى هذا تتأدى جميع الرميات بحصاة
واحدة.
فرع العاجز عن الرمي بنفسه لمرض أو حبس، يستنيب من يرمي عنه.
ويستحب أن يناول النائب الحصى إن قدر، ويكبر هو. وإنما تجوز النيابة لعاجز بعلة
لا يرجى زوالها قبل خروج وقت الرمي، ولا يمنع الزوال بعده. ولا يصح رمي
النائب عن المستنيب إلا بعد رميه عن نفسه، فلو خالف وقع عن نفسه كأصل
الحج. ولو أغمي عليه ولم يأذن لغيره في الرمي عنه، لم يجز الرمي عنه. وإن
أذن، جاز الرمي عنه على الصحيح.
قلت: شرطه أن يكون أذن قبل الاغماء، في حال تصح الاستنابة فيه، صرح به
الماوردي وآخرون، ونقله الروياني عن الأصحاب. والله أعلم.
وإذا رمى النائب، ثم زال عذر المستنيب والوقت باق، فالمذهب: أنه ليس
عليه إعادة الرمي، وبهذا قطع الأكثرون. وفي التهذيب: أنه على القولين فيما
إذا حج المعضوب عن نفسه ثم برئ.
فصل ثم إذا فرغ الحاج من رمى اليوم الثالث من أيام التشريق، استحب
أن يأتي المحصب، فينزل به ويصلي فيه الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ويبيت به
393

ليلة الرابع عشر. ولو ترك النزول به، فلا شئ عليه. وحد المحصب: ما بين
الجبلين إلى المقبرة.
فصل في طواف الوداع قولان. أظهرهما: يجب. والثاني: يستحب. وقيل
يستحب قطعا. فإن تركه،
جبره بدم. فإن قلنا: إنه واجب، كان جبره واجبا، وإلا، مستحبا. والمذهب: أن طواف القدوم، لا يجبر. وعن
صاحب التقريب: أنه كالوداع في وجوب الجبر، وهو شاذ. وإذا خرج بلا
وداع، وقلنا: يجب الدم، فعاد قبل بلوغه مسافة القصر، سقط عنه الدم. وإن عاد
بعد بلوغها، فوجهان. أصحهما: لا يسقط، ولا يجب العود في الحالة الثانية.
وأما الأولى، فستأتي إن شاء الله تعالى. وليس على الحائض طواف وداع. فلو
طهرت قبل مفارقة خطة مكة، لزمها العود والطواف. وإن طهرت بعد, بلوغها مسافة
القصر، فلا. وإن لم تبلغ مسافة القصر، فنص أنه لا يلزمها العود، ونص أن
المقصر بالترك يلزمه العود. فالمذهب: الفرق، كما نص عليه. وقيل: فيهما
قولان. فإن قلنا: لا يلزم العود، فالنظر إلى نفس مكة أو الحرم؟ وجهان.
أصحهما: مكة. ثم إن أوجبنا العود، فعاد وطاف سقط الدم، وإن لم يعد، لم
يسقط. وإن لم نوجبه، فلم يعد، فلا دم على الحائض، ويجب على المقصر.
فرع ينبغي أن يقع طواف الوداع بعد جميع الاشغال، ويعقبه الخروج بلا
مكث. فإن مكث، نظر، إن كان لغير عذر أو لشغل غير أسباب الخروج، كشراء
متاع، أو قضاء دين، أو زيارة صديق أو عيادة مريض، فعليه إعادة الطواف. وإن
اشتغل بأسباب الخروج، كشراء الزاد، وشد الرحل ونحوهما، فهل يحتاج إلى
إعادته؟ فيه طريقان. قطع الجمهور بأنه لا يحتاج. وفي النهاية: وجهان.
قلت: لو أقيمت الصلاة فصلاها، لم يعده. والله أعلم.
فرع حكم طواف الوداع، حكم سائر أنواع الطواف في الأركان
394

والشرائط. وفيه وجه لأبي يعقوب الأبيوردي: أنه يصح بلا طهارة، وتجبر الطهارة
بالدم.
فرع هل طواف الوداع من جملة المناسك؟ فيه خلاف، قال الامام،
والغزالي: هو من المناسك، وليس على الخارج من مكة وداع، لخروجه منها.
وقال صاحبا التتمة و التهذيب وغيرهما: ليس طواف الوداع من المناسك، بل
يؤمر به من أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر، سواء كان مكيا أو أفقيا، وهذا أصح،
تعظيما لحرم، وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الاحرام، ولأنهم
اتفقوا على أن المكي إذا حج وهو على أنه يقيم بوطنه، لا يؤمر بطواف الوداع، وكذا
الأفقي إذا حج وأراد الإقامة بمكة، لا وداع عليه، ولو كان من جملة المناسك، لعم
الحجيج.
قلت: ومما يستدل به من السنة لكونه ليس من المناسك، ما ثبت في
صحيح مسلم وغيره، أن النبي (ص) قال: يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء
نسكه ثلاثا، ووجه الدلالة: أن طواف الوداع يكون عند الرجوع، فسماه قبله:
قاضيا للمناسك، وحقيقته: أن يكون قضاها كلها. والله أعلم.
فرع استحب الشافعي رحمه الله للحاج إذا طاف للوداع، أن يقف بحذاء
الملتزم بين الركن والباب ويقول: اللهم البيت بيتك، والعبد عبدك، وابن أمتك،
حملتني على ما سخرت لي من خلقك، حتى سيرتني في بلادك، وبلغتني
بنعمتك، حتى أعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني، فازدد عني
رضى، وإلا فالآن قبل أن تنأى عن بيتك داري، هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير
مستبدل بك ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم اصحبني العافية في
بدني، والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني طاعتك ما أبقيتني، قال:
وما زاد فحسن، وقد زيد فيه: واجمع لي خير الدنيا والآخرة، إنك قادر على
395

ذلك، ثم يصلي على النبي (ص) وينصرف. وينبغي أن يتبع نظره البيت ما أمكنه،
ويستحب أن يشرب من زمزم، وأن يزور بعد الفراغ قبر رسول الله (ص).
قلت: يستحب للحاج دخول البيت حافيا ما لم يؤذ أو يتأذ بزحام أو غيره.
ويستحب أن يصلي فيه، ويدعو في جوانبه، وأن يكثر الاعتمار والطواف تطوعا
قال صاحب الحاوي: الطواف أفضل من الصلاة. وظاهر عبارة صاحب
المهذب وآخرين في قولهم: أفضل عبادات البدن الصلاة، أنها أفضل منه، ولا
ينكر هذا. ويقال: الطواف صلاة، لان الصلاة عند الاطلاق لا تنصرف إليه،
لا سيما في كتب المصنفين الموضوعة للايضاح، وهذا أقوى في الدليل. والله
أعلم.
فصل أعمال الحج ثلاثة أقسام: أركان، وأبعاض، وهيئات. فالأركان
خمسة: الاحرام، والوقوف، والطواف، والسعي، والحلق إن قلنا: هو
396

نسك. وهذه هي أركان العمرة سوى الوقوف، ولا مدخل للجبران في الأركان.
والترتيب يعتبر في معظمها، فلا بد من تقديم الاحرام والوقوف على الطواف
والحلق. ولا بد من تأخير السعي عن طواف. وينبغي أن يعد الترتيب من الأركان،
كما عدوه من أركان الصلاة والوضوء. ولا يقدح في ذلك عدم الترتيب بين الطواف
والحلق كما لا يقدح عدم الترتيب بين القيام والقراءة في الصلاة. وأما الابعاض،
فمجاوزة الميقات قبل الاحرام والرمي، مجبوران بالدم قطعا. وفي الجمع بين الليل
والنهار بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنى وطواف الوداع، قولان. أحدهما: الايجاب،
فيكون من الابعاض المجبورة بالدم وجوبا. والثاني: الاستحباب، فيكون من
الهيئات، وما سواها هيئات وتقدم وجه ضعيف: وجوب جبر طواف القدوم.
باب حج الصبي ومن في معناه
حج الصبي صحيح، فإن كان مميزا، أحرم بإذن وليه. فإن استقل،
فوجهان. أصحهما: لا يصح. والثاني: يصح، ولوليه تحليله. ولو أحرم عنه
وليه، فإن قلنا: يصح استقلاله، لم يصح، وإلا، فوجهان. أصحهما: يصح.
وإن لم يكن مميزا، أحرم عنه وليه، سواء كان حلالا أو محرما، حج عن نفسه أم
لا. ولا يشترط حضور الصبي ومواجهته على الأصح. والمجنون، كصبي لا يميز،
يحرم عنه وليه. وفيه وجه غريب ضعيف: أنه لا يجوز الاحرام عنه، إذ ليس له
أهلية العبادات. والمغمى عليه، لا يحرم عنه غيره. وأما الولي الذي يحرم عن
الصبي، أو يأذن له، فالأب يتولى ذلك، وكذا الجد وإن علا عند عدم الأب، ولا
يتولاه عند وجود الأب على الصحيح. وفي الوصي والقيم، طريقان. قطع
العراقيون بالجواز، وقال آخرون: وجهان. أرجحهما عند الامام: المنع. وفي
397

الأخ والعم، وجهان. أصحهما: المنع. وفي الام، طريقان. أحدهما: القطع
بالجواز. وأصحهما، وبه قال الأكثرون: أنه مبني على ولايتها التصرف في ماله.
فعلى قول الإصطخري: تليه. وعلى قول الجمهور: لا تلي.
قلت: ولو أذن الأب لمن يحرم عن الصبي، ففي صحته وجهان حكاهما
الروياني. الصحيح: صحته، وبه قطع الدارمي. والله أعلم.
فصل متى صار الصبي محرما بإحرامه، أو بإحرام وليه، فعل ما قدر عليه
بنفسه، وفعل به الولي ما عجز عنه. فإن قدر على الطواف، علمه فطاف، وإلا
طيف به على ما سبق. والسعي كالطواف. ويصلي عنه وليه ركعتي الطواف إن لم
يكن مميزا، وإلا صلاهما بنفسه على الصحيح. وفي الوجه الضعيف: لا بد أن
يصليهما الولي بكل حال. ويشترط إحضاره عرفة، ولا يكفي حضور غيره عنه.
وكذا يحضر المزدلفة والمواقف. ويناول الأحجار فيرميها إن قدر، وإلا رمي عنه من
لا رمي عليه. ويستحب أن يضعها في يده أولا، ثم يأخذها فيرمي.
قلت: لو أركبه الولي دابة وهو غير مميز، فطافت به، قال الروياني: لم
يصح إلا أن يكون الولي سائقا أو قائدا. والله أعلم.
فصل القدر الزائد من النفقة بسبب السفر، هل في مال الصبي أو الولي؟
وجهان. ويقال: قولان. أصحهما: في مال الولي. فعلى هذا، لو أحرم بغير
إذنه، وصححناه، حلله. فإن لم يفعل، أنفق عليه.
فصل يمنع الصبي المحرم من محظورات الاحرام. فلو تطيب، أو لبس
ناسيا، فلا فدية عليه. وإن كان عامدا، فقد بنوه على أصل مذكور في الجنايات،
398

وهو أن عمده عمد، أو خطأ؟ إن قلنا: خطأ، فلا. وإن قلنا: عمد، وهو
الأظهر، وجبت. قال الامام: وبهذا قطع المحققون، لان عمده في العبادات
كعمد البالغ، ألا ترى أنه إذا تعمد الكلام، بطلت صلاته، أو الاكل، بطل صومه؟
ونقل الداركي قولا فارقا، بين أن يكون الصبي ممن يلتذ بالطيب واللباس، أم لا؟
ولو حلق، أو قلم، أو قتل صيدا، وقلنا: عمد هذه الأفعال وسهوها سواء، وجبت
الفدية، وإلا، فهي كالطيب واللباس. ومتى وجبت الفدية، فهي على الولي، أم
في مال الصبي؟ قولان. أظهرهما: في مال الولي، هذا إذا أحرم بإذنه. فإن أحرم
بغير إذنه وجوزناه، فالفدية في مال الصبي بلا خلاف، قاله في التتمة. وفي
وجه: إن أحرم به الأب أو الجد، ففي مال الصبي. وإن أحرم به غيرهما، فعليه.
ومتى وجبت في مال الصبي؟ إن كانت. مرتبة، فحكمها حكم كفارة القتل، وإلا،
فهل يجزئ أن يفتدي بالصوم في حال الصبي؟ وجهان مبنيان على صحة قضائه
الحج الفاسد في الصبي، وليس للولي والحالة هذه أن يفدي عنه بالمال، لأنه غير
متعين.
فرع لو جامع الصبي ناسيا، أو عامدا، وقلنا: عمده خطأ، ففي فساد
حجه قولان، كالبالغ إذا جامع ناسيا، أظهرهما: لا يفسد. وإن قلنا: عمده
عمد، فسد حجه. وإذا فسد، هل عليه القضاء؟ قولان. أظهرهما: نعم لأنه
إحرام صحيح، فوجب فإفساده القضاء كحج التطوع. فعلى هذا، هل يجزئه
القضاء في حال الصبي؟ قولان. ويقال: وجهان. أظهرهما: نعم، اعتبارا
بالأداء. والثاني: لا، لأنه ليس أهلا لأداء فرض الحج. فعلى هذا، إذا بلغ، نظر
في الحجة التي أفسدها، فإن كانت بحيث لو سلمت من الفساد أجزأته عن حجة
الاسلام بأن بلغ قبل فوات الوقوف، تأدت حجة الاسلام بالقضاء، وإلا، فلا،
وعليه أن يبدأ بحجة الاسلام، ثم يقضي. فإن نوى القضاء أولا، انصرف إلى حجة
الاسلام. وإذا جوزنا القضاء في حال الصبي، فشرع فيه، وبلغ قبل الوقوف،
انصرف إلى حجة الاسلام، وعليه القضاء. ومهما فسد حجه وأوجبنا القضاء،
وجبت الكفارة أيضا، وإلا، ففي الكفارة وجهان. أصحهما: الوجوب. وإذا
وجبت، ففي مال الصبي أو الولي؟ فيه الخلاف السابق.
399

فرع حكم المجنون، حكم الصبي الذي لا يميز في جميع المذكور.
ولو خرج الولي بالمجنون بعد استقرار فرض الحج عليه، وأنفق من ماله، نظر، إن لم
ينفق حتى فات الوقوف، غرم له الولي زيادة نفقة السفر. وإن أفاق، وأحرم،
وحج، فلا غرم، لأنه قضى ما عليه. وتشترط إفاقته عند الاحرام، والوقوف،
والطواف، والسعي. ولم يتعرضوا لحالة الحلق. وقياس كونه نسكا، اشترط
الإفاقة فيه، كسائر الأركان.
فصل لو بلغ الصبي في أثناء الحج، نظر، إن بلغ بعد خروج وقت
الوقوف بعرفة، لم يجزئه عن حجة الاسلام. ولو بلغ بعد الوقوف وقبل خروج وقته،
ولم يعد إلى الموقف، لم يجزئه عن حجة الاسلام على الصحيح. ولو عاد فوقف
في الوقت، أو بلغ قبل وقت الوقوف، أو في حال الوقوف، أجزأه عن حجة
الاسلام، لكن يجب إعادة السعي إن كان سعى عقيب طواف القدوم قبل البلوغ على
الأصح، ويخالف الاحرام، فإنه مستدام في حال البلوغ. وإذا وقع حجه عن
الاسلام، فهل يلزمه الدم؟ فيه طريقان. أصحهما: على قولين. أظهرهما: لا
إذ لا إساءة. والثاني: نعم، لفوات الاحرام الكامل من الميقات. والطريق الثاني:
القطع بأن لا دم. والخلاف فيمن لم يعد بعد البلوغ إلى الميقات، فإن عاد، فلا دم
على الصحيح والطواف في العمرة، كالوقوف في الحج. فإذا بلغ قبله، أجزأته
عمرته عن عمرة الاسلام. وعتق العبد في أثناء الحج والعمرة، كبلوغ الصبي في
أثنائهما.
400

فرع ذمي أتى الميقات يريد النسك، فأحرم منه، لم ينعقد إحرامه، فإن
أسلم قبل فوات الوقوف، ولزمه الحج، فله أن يحج من سنته، وله التأخير، لان
الحج على التراخي. فإن حج من سنته، وعاد إلى الميقات فأحرم منه، أو عاد
محرما، فلا دم عليه. وإن لم يعد، لزمه دم كالمسلم إذا جاوزه بقصد النسك.
وقال المزني: لا دم.
فصل إذا طيب الولي الصبي، أو ألبسه، أو حلق رأسه، نظر، إن فعله
لحاجة الصبي، فطريقان. أصحهما: أنه كمباشرة الصبي ذلك، فيكون فيمن
تجب عليه الفدية القولان المتقدمان. والثاني: القطع بأنها على الولي. ولو طيبه لا
لحاجة، فالفدية عليه، وكذا لو طيبه أجنبي. وهل يكون الصبي طريقا؟ فيه
وجهان.
قلت: أصحهما: لا يكون. والله أعلم.
باب محرمات الاحرام وهي سبعة أنواع.
الأول: اللبس. أما رأس الرجل، فلا يجوز ستره لا بمخيط كالقلنسوة، ولا
بغيره كالعمامة، والإزار والخرقة، وكل ما يعد ساترا. فإن ستر، لزمه الفدية.
ولو توسد وسادة، أو وضع يده على رأسه، أو انغمس في ماء، أو استظل بمحمل أو
هودج، فلا بأس، سواء مس المحمل رأسه، أم لا. وقال في التتمة: إذا مس
المحمل رأسه، وجبت الفدية. ولم أر هذا لغيره، وهو ضعيف. ولو وضع على
401

رأسه زنبيلا أو حملا، فلا فدية على المذهب. وقيل: قولان. ولو صلى رأسه
بطين، أو حناء، أو مرهم، أو نحوهما، فإن كان رقيقا لا يستر، فلا فدية. وإن كان
ثخينا ساترا، وجبت على الأصح. ولا يشترط لوجوب الفدية ستر جميع الرأس،
كما لا يشترط في فدية الحلق الاستيعاب، بل تجب بستر قدر يقصد ستره لغرض،
كشد عصابة، أو إلصاق لصوق لشجة ونحوها، وكذا ضبطه الامام والغزالي. واتفق
الأصحاب على أنه لو شد خيطا على رأسه، لم يضر، ولا فدية. وهذا ينقض ما
ضبطا به، فإن ستر المقدار الذي يحويه شد الخيط، قد يقصد لمنع الشعر من
الانتشار وغيره. فالوجه: الضبط بتسميته ساترا كل الرأس أو بعضه.
قلت: تجب الفدية بتغطية البياض الذي وراء الاذن، قاله الروياني وغيره،
وهو ظاهر. ولو غطى رأسه بكف غيره، فالمذهب: أنه لا فدية، ككف نفسه.
وفي الحاوي والبحر وجهان لجواز السجود على كف غيره. والله أعلم.
أما غير الرأس، فيجوز ستره. لكن لا يجوز لبس القميص، ولا السراويل،
والتبان، والخف، ونحوها. فإن لبس شيئا من هذا مختارا، لزمه الفدية، قصر
الزمان، أم طال ولو لبس القباء، لزمه الفدية، سواء أخرج يده من الكمين، أم
لا. وفيه وجه قاله في الحاوي: أنه إن كان من أقبية خراسان ضيق الأكمام قصير
الذيل، لزمت الفدية وإن لم يدخل يده في الكم. وإن كان من أقبية العراق واسع
الكم طويل الذيل، لم يجب حتى يدخل يديه في كميه. والصحيح المعروف: ما
سبق. ولو ألقى على نفسه قباء، أو فرجيه، وهو مضطجع. قال الامام: إن أخذ
من بدنه ما إذا قام عد لابسه، لزمه الفدية. وإن كان بحيث لو قام أو قعد لم
يستمسك عليه إلا بمزيد أمر، فلا. والليس مرعي في وجوب الفدية على ما يعتاد في
كل ملبوس. فلو ارتدى بقميص، أو قباء، أو التحف بها، أو اتزر بسراويل، فلا
فدية. كما لو اتزر بإزار لفقه من رقاع. ولا يتوقف التحريم والفدية في الملبوس على
المخيط، بل لا فرق بين المخيط والمنسوج، كالزرد، والمعقود، كجبة اللبد،
402

والملفق بعضه ببعض، سواء المتخذ من القطن والجلد وغيرهما. ويجوز أن يعقد
الإزار ويشد عليه خيطا، وأن يجعل له مثل الحجزة، ويدخل فيها التكة، وأن يشد
طرف إزاره في طرف ردائه، ولا يعقد رداءه، وله أن يغرزه في طرف إزاره. ولو
اتخذ لردائه شرجا وعرى، وربط الشرج بالعرى، وجبت الفدية على الأصح.
قلت: المذهب والمنصوص: أنه لا يجوز عقد الرداء، وكذا لا يجوز خله
بخلال أو مسلة، ولا ربط طرفه إلى طرفه بخيط ونحوه. والله أعلم.
ولو شق الإزار نصفين، ولف على كل ساق نصفا وعقده، فالذي نقله
الأصحاب: وجوب الفدية، لأنه كالسراويل. وقال إمام الحرمين: لا فدية لمجرد
اللف والعقد، وإنما تجب إن كانت خياطة أو شرجا وعرى. وله أن يشتمل بالإزار
والرداء طاقين، وثلاثة، وأكثر، بلا خلاف. وله أن يتقلد المصحف والسيف،
ويشد الهميان والمنطقة على وسطه.
أما المرأة، فالوجه في حقها، كرأس الرجل. وتستر جميع رأسها وسائر بدنها
بالمخيط، كالقميص والسراويل والخف، وتستر من الوجه القدر اليسير الذي يلي
الرأس، إذ لا يمكن استيعاب ستر الرأس إلا به. والمحافظة على ستر الرأس
بكماله لكونه عورة، أولى من المحافظة على كشف ذلك الجزء من الوجه. ولها أن
تسدل على وجهها ثوبا متجافيا عنه بخشبة ونحوها، سواء فعلته لحاجة من حر أو
403

برد، أو فتنة ونحوها، أم لغير حاجة. فإن وقعت الخشبة، فأصاب الثوب وجهها
بغير اختيارها، ورفعته في الحال، فلا فدية. وإن كا عمدا، أو استدامته، لزمتها
الفدية. وإذا ستر الخنثى المشكل رأسه فقط، أو وجهه فقط، فلا فدية، وإن
سترهما، وجبت.
فرع يحرم على الرجل لبس القفازين، وفي تحريمه على المرأة،
قولان. أظهرهما عند الأكثرين: يحرم، نص عليه في الام والاملاء،
وتجب به الفدية. والثاني: لا يحرم، فلا فدية. ولو اختضبت ولفت على يديها
خرقة فوق الخضاب، أو لفتها بلا خضاب، فالمذهب: أنه لا فدية. وقيل:
قولان كالقفازين. وقال الشيخ أبو حامد: إن لم تشد الخرقة، فلا فدية، وإلا،
فالقولان. فإن أوجبنا الفدية، فهل تجب بمجرد الحناء؟ فيه ما سبق في الرجل إذا
خضب رأسه بالحناء. ولو اتخذ الرجل لساعده، أو لعضو آخر شيئا مخيطا، أو
404

للحيته خريطة يغلفها بها إذا خضبها، فهل يلحق بالقفازين؟ فيه تردد عن الشيخ أبي
محمد. والأصح: الالحاق، وبه قطع كثيرون. ووجه المنع: أن المقصود اجتناب
الملابس المعتادة، وهذا ليس بمعتاد.
فرع أما المعذور، ففيه صور.
إحداها: لو احتاج الرجل إلى ستر الرأس، أو لبس المخيط لعذر، كحر، أو
برد، أو مداواة، أو احتاجت المرأة إلى ستر الوجه، جاز، ووجبت الفدية،
الثانية: لو لم يجد الرجل الرداء، لم يجز لبس القميص، بل يرتدي به. ولو
لم يجد الإزار ووجد السراويل، نظر، إن لم يتأت منه إزار لصغره، أو لفقد آلة
الخياطة، أو لخوف التخلف عن القافلة، فله لبسه، ولا فدية. وإن تأتى، فلبسه
على حاله، فلا فدية أيضا على الأصح. وإذا لبسه في الحالتين، ثم وجد الإزار،
وجب نزعه. فإن أخر، وجبت الفدية.
الثالثة: لو لم يجد نعلين، لبس المكعب، أو قطع الخف أسفل من الكعب
ولبسه. ولا يجوز لبس المكعب والخف المقطوع مع وجود التعين، على الأصح.
فعلى هذا، لو لبس المقطوع لفقد النعلين، ثم وجدهما، وجب نزعه. فإن أخر،
وجبت الفدية. وإذا جاز لبس الخف المقطوع، لم يضر استتار ظهر القدم بما بقي
منه. والمراد بفقد الإزار والنعل: أن لا يقدر على تحصيله، إما لفقده، وإما لعدم
بذل مالكه، وإما لعجزه عن ثمنه أو أجرته. ولو بيع بغبن، أو نسيئة، أو وهب
له، لم يلزمه قبوله. وإن أعير، وجب قبوله.
النوع الثاني: التطيب فتجب الفدية باستعمال الطيب قصدا. فأما
الطيب، فالمعتبر فيه أن يكون معظم الغرض منه التطيب، واتخاذ الطيب منه، أو
يظهر فيه هذا الغرض. فالمسك، والكافور، والعود، والعنبر، والصندل، طيب.
وأما ما له رائحة طيبة من نبات الأرض، فأنواع.
405

منها: ما يطلب للتطيب واتخاذ الطيب منه، كالورد، والياسمين،
والزعفران، والخيري، والورس، فكله طيب. وحكي وجه شاذ في الورد
والياسمين والخيري.
ومنها: ما يطلب للاكل، أو للتداوي غالبا، كالقرنفل، والدارصيني،
والسنبل، وسائر الأبازير الطيبة، والتفاح، والسفرجل، والبطيخ، والأترج،
والنارنج، ولا فدية في شئ منها.
ومنها: ما يتطيب به ولا يؤخذ منه الطيب، كالنرجس، والريحان الفارسي،
وهو الضيمران، والمرزنجوش، ونحوها، ففيها قولان. القديم لا فدية.
والجديد: وجوبها. وأما البنفسج، فالمذهب: أنه طيب. وقيل: لا. وقيل:
قولان. والنيلوفر، كالنرجس. وقيل: طيب قطعا.
ومنها: ما ينبت بنفسه، كالشيخ، والقيصوم، والشقائق، وفي معناها نور
الأشجار، كالتفاح والكمثرى وغيرهما، وكذا العصفر، والحناء ولا فدية في شئ
من هذا. وحكى بعض الأصحاب وجها: أنه تعتبر عادة كل ناجية فيما يتخذ طيبا،
وهذا غلط نبهنا عليه.
فرع الادهان ضربان. دهن ليس بطيب، كالزيت، والشيرج، وسيأتي
في النوع الثالث إن شاء الله تعالى. ودهن هو طيب، فمنه دهن الورد، والمذهب:
وجوب الفدية فيه، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. ومنه دهن البنفسج، فإن
لم نوجب الفدية في نفس البنفسج، فدهنه أولى، وإلا، فكدهن الورد. ثم اتفقوا
على أن ما طرح فيه الورد والبنفسج، فهو دهنهما. ولو طرحا على السمسم فأخذ
رائحة، ثم استخرج منه الدهن، قال الجمهور: لا يتعلق به فدية، وخالفهم الشيخ
أبو محمد. ومنه ألبان ودهنه، أطلق الجمهور: أن كل واحد منهما طيب. ونقل
الامام عن نص الشافعي رحمه الله: أنهما ليس بطيب، وتابعه الغزالي، ويشبه أن لا
406

يكون خلافا محققا، بل هما محمولان على توسط حكاه صاحبا المهذب
والتهذيب، وهو أن دهن ألبان المنشوش، وهو المغلي في الطيب، طيب
وغير المنشوش، ليس بطيب.
قلت: وفي كون دهن الأترج طيبا، وجهان حكاهما الماوردي، والروياني.
وقطع الدارمي: بأنه طيب. والله أعلم.
فرع ولو أكل طعاما فيه زعفران، أو طيب آخر، أو استعمل مخلوطا
بالطيب لا بجهة الاكل، نظر إن استهلك الطيب فلم يبق له ريح ولا طعم ولا
لون، فلا فدية. وإن ظهرت هذه الصفات، أو بقيت الرائحة فقط وجبت الفدية.
وإن بقي اللون وحده، فقولان. أظهرهما: لا فدية. وقيل: لا فدية قطعا. وإن
بقي الطعم فقط، فكالرائحة على الأصح. وقيل: كاللون. ولو أكل الخلنجين
المربى بالورد، نظر في استهلاك الورد فيه عدمه، وخرج على هذا التفصيل.
قلت: قال صاحب الحاوي والروياني: لو أكل العود، فلا فدية عليه،
لأنه لا يكون متطيبا به، إلا بأن يتبخر به، بخلاف المسك. والله أعلم.
فرع لو خفيت رائحة الطيب، أو الثوب المطيب، لمرور الزمان، أو لغبار
وغيره، فإن كان بحيث لو أصابه الماء فاحت رائحته، حرم استعماله. وإن بقي
اللون، لم يحرم على الأصح. ولو انغمر شئ من الطيب في غيره كماء ورد
انمحق في ماء كثير، لم تجب الفدية باستعماله على الأصح. فلو انغمرت الرائحة
وبقي اللون أو الطعم، ففيه الخلاف السابق.
فرع في بيان الاستعمال هو أن يلصق الطيب ببدنه، أو ملبوسه، على
الوجه المعتاد في ذلك الطيب. فلو طيب جزءا من بدنه بغالية، أو مسك مسحوق،
أو ماء ورد، لزمه الفدية، سواء الالصاق بظاهر البدن، أو باطنه، بأن أكله، أو
احتقن به، أو استعط. وقيل: لا فدية في الحقنة والسعوط. ولو عبق به الريح دون
العين، بأن جلس في دكان عطار، أو عند الكعبة وهي تبخر، أو في بيت تبخر
ساكنوه، فلا فدية. ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة، لم يكره، وإلا،
407

كره على الأظهر. وقال القاضي حسين: يكره قطعا. والقولان في وجوب الفدية،
والمذهب: الأول ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه، أو ثيابه، لزمه
الفدية. فلو مس طيبا فلم يعلق به شئ من عينه، لكن عبقت به الرائحة، فلا فدية
على الأظهر. ولو شد المسك، أو العنبر، أو الكافور في طرف ثوبه، أو وضعته
المرأة في جيبها، أو لبست الحلي المحشو بشئ منها، وجبت الفدية، لأنه
استعماله.
قلت: ولو شد العود، فلا فدية، لأنه لا يعد تطيبا، بخلاف شد المسك.
والله أعلم.
ولو شم الورد، فقد تطيب. ولو شم ماء الورد، فلا، بل استعماله أن يصبه
على بدنه أو ثوبه. ولو حمل مسكا أو طيبا غيره، في كيس، أو خرقة مشدودة، أو
قارورة مصممة الرأس، أو حمل الورد في ظرف، فلا فدية، نص عليه في
الام. وفي وجه شاذ: أنه إن كان يشم قصدا، لزمه الفدية. ولو حمل مسكا في
فأرة غير مشقوقة، فلا فدية على الأصح. ولو كانت الفأرة مشقوقة، أو القارورة
مفتوحة الرأس، قال الأصحاب: وجبت الفدية، وفيه نظر، لأنه لا يعد تطيبا. ولو
جلس على فراش مطيب، أو أرض مطيبة، أو نام عليها مفضيا ببدنه أو ملبوسه
إليها، لزمه الفدية. فلو فرش فوقه ثوبا، ثم جلس عليه، أو نام، لم تجب الفدية.
لكن إن كان الثوب رقيقا، كره. ولو داس بنعله طيبا، لزمه الفدية.
فرع في بيان القصر فلو تطيب ناسيا لاحرامه، أو جاهلا بتحريم
الطيب، فلا فدية. وقال المزني: تجب ولو علم تحريم الاستعمال، وجهل وجوب
الفدية. ولو علم تحريم الطيب، وجهل كون الممسوس طيبا، فلا فدية على
المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: وجهان. ولو مس طيبا رطبا وهو يظنه يابسا لا
يعلق به شئ منه، ففي وجوب الفدية قولان. رجح الامام وغيره: الوجوب.
ورجحت طائفة: عدم الوجوب، وذكر صاحب التقريب: أنه القول الجديد.
ومتى لصق الطيب بدنه أو ثوبه على وجه لا يوجب الفدية، بأن كان ناسيا، أو ألقته
الريح عليه، لزمه أن يبادر إلى غسله، أو ينحيه، أو يعالجه بما يقطع ريحه.
408

والأولى أن يأمر غيره بإزالته، فإن باشره بنفسه، لم يضر، فإن أخر إزالته مع الامكان، فعليه الفدية، فإن كان زمنا لا يقدر على الإزالة، فلا فدية، كمن أكره
على التطيب، قاله في التهذيب.
قلت: ولو لصق به طيب يوجب الفدية، لزمه أيضا المبادرة إلى إزالته. والله
أعلم.
النوع الثالث: دهن شعر الرأس واللحية، قد سبق، أن الدهن مطيب
وغيره. فالمطيب: سبق. وأما غيره: كالزيت، والشيرج، والسمن، والزبد،
ودهن الجوز، واللوز، فيحرم استعماله في الرأس واللحية. فلو كان أقرع، أو
أصلع، فدهن رأسه. أو أمرد، فدهن ذقنه، فلا فدية. وإن كان محلوق الرأس،
وجبت الفدية على لأصح. ويجوز استعمال هذا الدهن في سائر البدن، شعره
وبشره، ويجوز أكله. ولو كان على رأسه شجة، فجعل هذا الدهن في داخلها، فلا
فدية.
فرع للمحرم أن يغتسل، ويدخل الحمام، ويزيل الوسخ عن نفسه، ولا
كراهة في ذلك على المشهور، وبه قطع الجمهور. وقيل: يكره على القديم. وله
غسل رأسه بالسدر والخطمي، لكن المستحب أن لا يفعله. ولم يذكر الجمهور
409

كراهته، وحكى الحناطي كراهته على القديم. وإذا غسله، فينبغي أن يرفق، لئلا
ينتف شعره.
فرع يحرم الاكتحال بما فيه طيب، ويجوز بما لا طيب فيه. ثم نقل
المزني: أنه لا بأس به. وفي الاملاء: أنه يكره. وتوسط قوم فقالوا: إن لم
يكن فيه زينة، كالتوتياء الأبيض، لم يكره. وإن كان فيه زينة كالإثمد، كره، إلا
لحاجة الرمد ونحوه.
فرع نقل الامام عن الشافعي رحمه الله: اختلاف قول، في وجوب الفدية
إذا خضب الرجل لحيته، وعن الأصحاب طرقا في مأخذه.
أحدها: التردد في أن الحناء طيب، أم لا؟ وهذا غريب ضعيف.
والأصحاب قاطعون: بأنه ليس بطيب كما سبق.
الثاني: أن من يخضب، قد يتخذ لموضع الخضاب غلافا يحيط به، فهل
يلحق بالملبوس المعتاد؟ وقد سبق الخلاف فيه.
الثالث وهو الصحيح: أن الخضاب تزيين للشعر، فتردد القول في إلحاقه
بالدهن. والمذهب: أنه لا يلتحق، ولا تجب الفدية في خضاب اللحية. قال
الامام: فعلى المأخذ الأول: لا شئ على المرأة إذا خضبت يدها بعد الاحرام.
وعلى الثاني والثالث: يجري التردد. وقد سبق بيان خضاب يدها وشعر الرجل.
فرع للمحرم أن يفتصد ويحتجم ما لم يقطع شعرا. ولا بأس بنظره في
المرآة. ونقل أن الشافعي رحمه الله، كرهه في بعض كتبه.
قلت: المشهور من القولين: أنه لا يكره. ويجوز للمحرم إنشاد الشعر الذي
يجوز للحلال إنشاده. والسنة: أن يلبد رأسه عند إرادة الاحرام، وهو أن يعقص
شعره ويضرب عليه الخطمي، أو الصمغ، أو غيرهما، لدفع القمل وغيره. وقد
صحت في استحبابه الأحاديث واتفق أصحابنا عليه وصرحوا باستحبابه، ونقله
410

صاحب البحر أيضا عن الأصحاب. والله أعلم.
النوع الرابع: الحلق والقلم، فتحرم إزالة الشعر قبل وقت التحلل، وتجب
فيه الفدية، سواء فيه شعر الرأس والبدن، وسواء الإزالة بالحلق، أو التقصير، أو
النتف، أو الاحراق، أو غيرها. وإزالة الظفر، كإزالة الشعر، سواء قلمه أو كسره،
أو قطعه. ولو قطع يده أو بعض أصابعه وعليها شعر أو ظفر، فلا فدية، لأنهما تابعان
غير مقصودين. ولو كشط جلدة الرأس، فلا فدية، والشعر تابع. وشبهوه بما إذا
أرضعت امرأته الكبيرة الصغيرة، بطل النكاح ولزمها مهر الصغيرة. ولو قتلتها، فلا
مهر عليها، لاندراج البضع في القتل. ولو مشط لحيته، فنتف شعرا، فعليه
الفدية. فإن شك هل كان منسلا، أو انتتف بالمشط؟ فلا فدية على الصحيح.
وقيل: الأظهر.
فرع سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الدماء، أن فدية الحلق والقلم، لها
خصال. إحداها: إراقة دم، فلا يتوقف وجوب كمال الدم على حلق جميع
الرأس، ولا على قلم جميع الأظفار بالاجماع، بل يكمل الدم في ثلاث شعرات،
أو ثلاثة أظفار، سواء كانت من أظفار اليد أو الرجل، أو منهما. هذا إذا أزالها دفعة
في مكان. فإن فرق زمانا أو مكانا، فسيأتي بعد النوع السابع إن شاء الله تعالى. فإن
حلق شعرة أو شعرتين، فأقوال. أظهرها وهو نصه في أكثر كتبه: أن في الشعرة،
مدا من طعام، وفي شعرتين، مدين. والثاني: في شعرة، درهم، وفي
411

شعرتين، درهمان. والثالث: في شعرة، ثلث دم، وفي شعرتين، ثلثاه.
والرابع: في الشعرة الواحدة، دم كامل. والظفر، كالشعرة، والظفران،
كالشعرتين. ولو قلم دون المعتاد، فكتقصير الشعر. ولو أخذ من بعض جوانبه،
ولم يستوعب رأس الظفر، فإن قلنا: في الظفر الواحد دم أو درهم، وجب بقسطه.
وإن قلنا: مد، لم يبعض.
فرع هذا الذي سبق في الحلق لغير عذر. فأما الحلق لعذر، فلا إثم
فيه. وأما الفدية، ففيها صور.
إحداها: لو كثر القمل في رأسه، أو كان به جراحة أحوجه أذاها إلى الحلق،
أو تأذى بالحر لكثرة شعره، فله الحلق، وعليه الفدية.
الثانية: لو نبتت شعرة أو شعرات داخل جفنه، وتأذى بها، قلعها، ولا فدية
على المذهب. وقيل: وجهان. ولو طال شعر حاجبه أو رأسه, وغطى عينه، قطع
قدر المغطى، ولا فدية. وكذا لو انكسر بعض ظفره، وتأذى به، قطع المنكسر،
ولا يقطع معه من الصحيح شيئا.
412

الثالثة: ذكرنا أن النسيان يسقط الفدية في الطيب واللباس، وكذا حكم ما عدا
الوطئ من الاستمتاعات، كالقبلة، واللمس بشهوة. وفي وطئ الناسي، خلاف يأتي
إن شاء الله تعالى. وهل تجب الفدية بالحلق والقلم ناسيا؟ وجهان. أصحهما:
تجب، وهو المنصوص. والثاني: مخرج في أحد قولين له في المغمى عليه إذا
حلق، والمجنون. والصبي الذي لا يميز، كمغمى عليه. ولو قتل الصيد ناسيا،
قال الأكثرون: فيه القولان كالحلق. وقيل: تجب قطعا.
فرع للمحرم حلق شعر الحلال. ولو حلق المحرم أو الحلال شعر
المحرم، أثم. فإن حلق بإذنه، فالفدية على المحلوق، وإلا، فإن كان نائما، أو
مكرها، أو مغمى عليه، فقولان. أظهرهما: الفدية على الحالق، والثاني: على
المحلوق. فعلى الأول: لو امتنع الحالق من الفدية مع قدرته، فهل للمحلوق
مطالبته بإخراجها؟ وجهان: أصحهما، وبه قال الأكثرون: نعم. ولو أخرج
المحلوق الفدية بإذن الحالق، جاز وبغير إذنه، لا يجوز على الأصح، كما لو
أخرجها أجنبي بغير إذنه. وإن قلنا: الفدية على المحلوق، نظر، إن فدى بالهدي
أو الاطعام، رجع بأقل الامرين من الاطعام وقيمة الشاة على الحالق. وإن فدى
بالصوم، فأوجه. أصحها: لا يرجع. والثاني: يرجع بثلاثة أمداد من طعام، لأنها
بدل صومه. والثالث: يرجع بما يرجع به لو فدى بالهدي، أو الاطعام. وإذا قلنا:
يرجع، فإنما يرجع بعد الاخراج على الأصح. وعلى الثاني: له أن يأخذ منه ثم
يخرج. وهل للحالق أن يفدي على هذا القول؟ أما بالصوم، فلا، وأما بغيره،
فنعم، لكن بإذن المحلوق. وإن لم يكن نائما، ولا مكرها، ولا مغمى عليه، لكنه
سكت فلم يمنعه من الحلق، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: هو كما لو حلق
بإذنه، والثاني: كما لو حلقه نائما. ولو أمر حلال حلالا بحلق شعر محرم نائم،
فالفدية على الآمر إن لم يعرف الحالق الحال، وإلا، فعليه على الأصح.
قلت: ولو طارت نار إلى شعره فأحرقته، قال الروياني: إن لم يمكنه
إطفاؤها، فلا شئ عليه، وإلا، فهو كمن حلق رأسه وهو ساكت. والله أعلم.
النوع الخامس: الجماع. وهو مفسد للحج إن وقع قبل التحللين، سواء
413

قبل الوقوف وبعده. وإن وقع بينهما، لم يفسد على المذهب: وحكي وجه: أنه
يفسد. وقول قديم: أنه يخرج إلى أدنى الحل، ويجدد منه إحراما، ويأتي بعمل
عمرة. وتفسد العمرة أيضا بالجماع قبل التحلل. وقد قدمنا إنه ليس لها إلا تحلل واحد
فإن قلنا: الحلق نسك، فهو مما يقف التحلل عليه، وإلا فلا. واللواط،
كالجماع. وكذا إتيان البهيمة على الصحيح.
فرع ما سوى الحج والعمرة من العبادات، لا حرمة لها، بعد الفساد.
ويخرج منها بالفساد. وأما الحج والعمرة، فيجب المضي في فاسدهما، وهو إتمام
ما كان يعمله لولا الفساد.
فرع يجب على مفسد الحج بالجماع بدنة. وعلى مفسد العمرة أيضا بدنة على الصحيح، و
على الثاني: شاة. ولو جامع بين التحللين، وقلنا: لا يفسد،
لزمه شاة على الأظهر، وبدنة على الثاني. وفيه وجه: أنه لا شئ عليه، وهو شاذ
منكر. ولو أفسد حجه بالجماع، ثم جامع ثانيا، ففيه خلاف تجمعه أقوال.
أظهرها: يجب بالجماع الثاني شاة. والثاني: بدنة. والثالث: لا شئ فيه.
والرابع: إن كان كفر عن الأول، فدى الثاني، وإلا، فلا. والخامس: إن طال
الزمان بين الجماعين، أو اختلف المجلس، فدى عن الثاني، وإلا، فلا.
فرع يجب على مفسد الحج، القضاء بالاتفاق، سواء كان الحج فرضا أو
تطوعا، ويقع القصاء عن المفسد. فإن كان فرضا، وقع عنه، وإن كان تطوعا،
فعنه. ولو أفسد القضاء بالجماع، لزمه الكفارة، ولزمه قضاء واحد. ويتصور
القضاء في عام الافساد، بأن يحصر بعد الافساد ويتعذر عليه المضي في الفاسد،
414

فيتحلل ثم يزول الحصر والوقت باق، فيشتغل بالقضاء. وفي وقت القضاء،
وجهان. أصحهما: على الفور. والثاني: على التراخي. فإن كان أحرم في الأداء
قبل الميقات من دويرة أهله أو غيرها، لزمه أن يحرم في القضاء من ذلك الموضع.
فإن جاوزه غير محرم، لزمه دم. كالميقات الشرعي. وإن كان أحرم من الميقات،
أحرم منه في القضاء. وإن كان أحرم بعد مجاوزة الميقات، نظر، إن جاوزه مسيئا،
لزمه في القضاء الاحرام من الميقات الشرعي، وليس له أن يسئ ثانيا. وهذا معنى
قول الأصحاب: يحرم في القضاء من أغلظ الموضعين، من الميقات، أو من حيث
أحرم في الأداء. وإن جاوزه غير مسئ، بأن لم يرد النسك، ثم بدا له، فأحرم،
ثم أفسد، فوجهان. أصحهما، وبه قطع صاحب التهذيب وغيره: أن عليه أن
يحرم في القضاء من الميقات الشرعي. والثاني: له أن يحرم من ذلك الموضع
ليسلك بالقضاء مسلك الأداء. ولهذا لو اعتمر من الميقات، ثم أحرم بالحج من
مكة، وأفسده، كفاه في القضاء أن يحرم من نفس مكة. ولو أفرد الحج، ثم أحرم
بالعمرة من أدنى الحل، ثم أفسدها، كفاه أن يحرم في قضائها من أدنى الحل.
والوجهان فيمن لم يرجع إلى الميقات. أما لو رجع ثم عاد، فلا بد من الاحرام من
الميقات. ولا يجب أن يحرم بالقضاء في الزمن الذي أحرم منه بالأداء، بل له
التأخير عنه، بخلاف المكان.
والفرق أن اعتناء الشرع بالميقات المكاني أكمل، فإن مكان الاحرام يتعين
بالنذر، وزمانه لا يتعين. حتى لو نذر الاحرام في شوال، له تأخيره. وأظن أن هذا
الاستشهاد لا يخلو من نزاع.
قلت: ولا يلزمه في القضاء، أن يسلك الطريق الذي سلكه في الأداء بلا
خلاف، لكن يشترط إذا سلك غيره أن يحرم من قدر مسافة الاحرام في الأداء. والله
أعلم.
فرع لو كانت المرأة محرمة أيضا، نظر، إن جامعها مكرهة أو نائمة، لم
يفسد حجها. وإن كانت طائعة عالمة، فسد. وحينئذ، هل يجب على كل واحد
منهما بدنة؟ أم يجب على الزوج فقط بدنة عن نفسه؟ أم عليه بدنة عنه وعنها؟ فيه
ثلاثة أقوال، كالصوم. وقطع قاطعون بإلزامها البدنة. وإذا خرجت الزوجة للقضاء،
فهل يلزم الزوج ما زاد من النفقة بسبب السفر؟ وجهان. أصحهما: يلزمه. وإذا
415

خرجا للقضاء معا، استحب أن يفترقا من حين الاحرام. فإذا وصلا إلى الموضع
الذي أصابها فيه، فقولان. قال في الجديد: لا تجب المفارقة. وقال في القديم:
تجب.
فرع ذكرنا في كون القضاء على الفور وجهين. قال القفال: هما جاريان
في كل كفارة وجبت بعدوان، لأن الكفارة في وضع الشرع، على التراخي كالحج.
والكفارة بلا عدوان، على التراخي قطعا. وأجرى الامام الخلاف في المتعدي بترك
الصوم. وقد سبق في كتاب الصوم انقسام قضاء الصوم إلى الفور والتراخي. قال
الامام: والمتعدي بترك الصلاة، لزمه قضاؤها على الفور بلا خلاف. وذكر غيره
وجهين. أصحهما: هذا. والثاني: أنها على التراخي. وربما رجحه العراقيون.
وأما غير المتعدي، فالمذهب: أنه لا يلزمه القضاء على الفور، وبهذا قطع
الأصحاب. وفي التهذيب وجه: أنه يلزمه على الفور، لقوله (ص): فليصلها
إذا ذكرها.
فرع يجوز للمفرد بأحد النسكين إذا أفسده، أن يقضيه مع الآخر قارنا، وأن يتمتع. ويجوز للمتمتع والقارن القضاء على سبيل الافراد. ولا يسقط دم القران
بالقضاء على سبيل الافراد. وإذا جامع القارن قبل التحلل الأول، فسد نسكاه،
وعليه بدنة واحدة، لاتحاد الاحرام، ويلزمه دم القران مع البدنة على المذهب، وبه
قطع الجمهور. وقيل: وجهان. ثم إذا اشتغل بقضائهما، فإن قرن أو تمتع،
فعليه دم آخر، وإلا، فقد أشار الشيخ أبو علي إلى خلاف فيه، ومال إلى أنه لا
يجب شئ آخر.
قلت: المذهب: وجوب دم آخر إذا أفرد في القضاء، وبه قطع الجمهور.
وممن قطع به، الشيخ أبو حامد، والماوردي والمحاملي، والقاضي أبو الطيب
في كتابيه، والمتولي، وخلائق آخرون، وهو مراد الامام الرافعي بقوله في أوائل
هذا الفرع: لا يسقط دم القران، لكنه ناقضه بهذه الحكاية عن أبي علي. والله
أعلم.
416

وإن جامع بعد التحلل الأول، لم يسقط واحد من نسكيه، سواء كان أتى
بأعمال العمرة، أم لا. وفيه وجه قاله الأودني: أنه إذا لم يأت بشئ من أعمال
العمرة، كسدت عمرته. وهذا شاذ ضعيف، لأن العمرة في القران تتبع الحج.
ولهذا يحل للقارن معظم محظورات الاحرام بعد التحلل الأول وإن لم يأت بأعمال
العمرة ولو قدم القارن مكة، وطاف، وسعى، ثم جامع، بطل نسكاه وإن كان
بعد أعمال العمرة.
فرع إذا فات القارن الحج، لفوات الوقوف، فهل يحكم بفوات عمرته؟
قولان. أظهرهما: نعم، تبعا للحج، كما تفسد بفساده. والثاني: لا، لأنه
يتحلل بعملها. فإن قلنا بفواتها، فعليه دم واحد للفوات، ولا يسقط دم القران.
وإذا قضاهما، فالحكم على ما ذكرناه في قضائهما عند الافساد. إن قرن، أو
تمتع، فعليه الدم، وإلا، فعلى الخلاف.
فرع جميع ما ذكرناه، هو في جماع العامد العالم بالتحريم. فأما إذا
جامع ناسيا، أو جاهلا بالتحريم، فقولان. الأظهر: الجديد: لا يفسد.
والقديم: يفسد. ولو أكره على الوطئ، فقيل: وجهان، بناء على الناسي، وقيل:
يفسد قطعا، بناء على أن إكراه الرجل على الوطئ ممتنع. ولو أحرم عاقلا، ثم
جن، فجامع، فيه القولان في الناسي.
فرع لو أحرم مجامعا. فأوجه. أحدها: ينعقد صحيحا. فإن نزع في
الحال، فذاك، وإلا، فسد نسكه، وعليه البدنة، والمضي في فاسده، والقضاء.
والثاني: ينعقد فاسدا، وعليه القضاء والمضي في فاسده، سواء مكث، أو
نزع. ولا تجب البدنة إن نزع في الحال وإن مكث، وجبت شاة في قول، وبدنة
في قول كما سبق في نظائره. والثالث: لا ينعقد أصلا، كما لا تنعقد الصلاة مع
الحدث.
417

قلت: هذا الثالث: أصحها. والله أعلم.
فصل إذا ارتد في أثناء حجه أو عمرته، فوجهان. أصحهما: يفسد،
كالصوم والصلاة. والثاني: لا يفسد، لكن لا يعتد بالمفعول في الردة. ولا فرق
على الوجهين بين طول زمنها وقصره. فإذا قلنا بالفساد، فوجهان. أصحهما: يبطل
النسك من أصله، ولا يمضي فيه، لا في الردة، ولا بعد الاسلام. والثاني: أنه
كالافساد بجماع، فيمضي في فاسده إن أسلم، لكن لا كفارة.
النوع السادس: مقدمات الجماع. فيحرم على المحرم المباشرة بشهوة،
كالمفاخذة، والقبلة، واللمس باليد بشهوة قبل التحلل الأول. وفي حكمها بين
التحللين ما سبق من الخلاف. ومتى ثبت التحريم، فباشر عمدا، لزمه الفدية.
وإن كان ناسيا، فلا شئ عليه بلا خلاف، لأنه استمتاع محض. ولا يفسد شئ
منها نسكه، ولا يوجب الفدية بحال وإن كان عمدا، سواء أنزل، أم لا.
والاستمناء باليد، يوجب الفدية على الأصح. ولو باشر دون الفرج، ثم جامع، هل
تدخل الشاة في البدنة، أم تجبان معا؟ وجهان.
قلت: الأصح: تدخل. ولا يحرم اللمس بغير شهوة. وأما قوله في
الوسيط والوجيز: تحرم كل مباشرة تنقض الوضوء، فشاذ، بل غلط. والله
أعلم.
فرع لا ينعقد نكاح المحرم، ولا إنكاحه، ولا نكاح المحرمة.
والمستحب ترك الخطبة للمحرم والمحرمة. وتمام هذه المسألة في كتاب النكاح.
النوع السابع: الاصطياد. فيحرم عليه كل صيد
418

مأكول، أو في أصله مأكول ليس مائيا، وحشيا كان، أو في أصله وحشي. ولا فرق بين المستأنس
وغيره، ولا بين المملوك وغيره. ويجب في المملوك مع الجزاء ما بين قيمته حيا
ومذبوحا لمالكه، إذا رده إليه مذبوحا.
قلت: قال أصحابنا: هذا إذا قلنا: ذبيحة المحرم حلال، فإن قلنا: ميتة،
لزمه له كل القيمة. وقد ذكره الرافعي بعد هذا بقليل. وقال الماوردي
وغيره: وإذا قلنا: ميتة، فالجلد للمالك. والله أعلم.
وقال المزني: لا جزاء في المملوك. ولو توحش حيوان إنسي، لم يحرم،
لأنه ليس بصيد. ويحرم التعرض لاجزاء الصيد، بالجرح والقطع. ولو جرحه
فنقصت قيمته، فسيأتي بيان ما يجب بنقصه إن شاء الله تعالى. وإن برأ ولم يبق
نقص ولا أثر، فهل يلزمه شئ؟ وجهان، كالوجهين في جراحة الآدمي إذا اندملت
ولم يبق نقص ولا شين، ويجريان فيما لو نتف ريشه فعاد كما كان. وبيض الطائر
المأكول، مضمون بقيمته، فإن كانت مذرة، فلا شئ عليه بكسرها، إلا بيضة
النعامة، ففيها قيمتها، لان قشرها قد ينتفع به. ولو نفر صيدا عن بيضته التي
419

حضنها، ففسدت، لزمه قيمتها. ولو أخذ بيض دجاجة، فأحضنه صيدا، ففسد
بيض الصيد، أو لم يحضنه، ضمنه، لأن الظاهر أن فساد بيضه بسبب ضم بيض
الدجاجة إليه. ولو أخذ بيض صيد وأحضنه دجاجة، فهو في ضمانة حتى يخرج
الفرخ ويسعى. فلو خرج ومات قبل الامتناع، لزمه مثله من النعم. ولو كسر بيضة
فيها فرخ له روح، فطار وسلم، فلا شئ عليه. وإن مات، فعليه مثله من النعم
ولو حلب لبن صيد، ضمنه، قاله كثيرون من أصحابنا العراقيين وغيرهم. وقال
الروياني: لا يضمن.
فصل ما ليس بمأكول من الدواب والطيور، ضربان. ما ليس له أصل
مأكول، وما أحد أصليه مأكول.
فالأول: لا يحرم التعرض له بالاحرام، ولا جزاء على المحرم بقتله
ثم من هذا الضرب: ما يستحب قتله للمحرم وغيره، وهي المؤذيات،
420

كالحية، والعقرب، والفأرة، والكلب العقور، والغراب، والحدأة، والذئب،
والأسد، والنمر، والدب، والنسر، والعقاب، والبرغوث، والبق، والزنبور. ولو
ظهر القمل على بدن المحرم أو ثيابه، لم يكره تنحيته. ولو قتله، لم يلزمه شئ.
ويكره له أن يفلي رأسه ولحيته. فإن فعل فأخرج منهما قملة وقتلها، تصدق ولو
بلقمة، نص عليه الشافعي رحمه الله. قال الأكثرون: هذا التصدق مستحب.
وقيل: واجب، لما فيه من إزالة الأذى عن الرأس.
قلت: قال الشافعي رحمه الله تعالى: وللصئبان حكم القمل، وهو بيض
القمل. والله أعلم
ومنه: ما فيه منفعة ومضرة، كالفهد، والصقر، والبازي، فلا يستحب
قتلها، لنفعها، ولا يكره، لضررها.
ومنه: ما لا يظهر فيه منفعة ولا ضرر، كالخنافس، والجعلان، والسرطان،
والرخم والكلب الذي ليس بعقور، فيكره قتلها. ولا يجوز قتل النمل، والنحل،
والخطاف، والضفدع. وفي وجوب الجزاء بقتل الهدهد والصرد، خلاف مبني
على الخلاف في جواز أكلهما.
421

قلت: قوله: إن الكلب الذي ليس بعقور يكره قتله، مراده كراهة تنزيه. وفي
كلام غيره، ما يقتضي التحريم. والمراد: الكلب الذي لا منفعة فيه مباحة. فأما ما
فيه منفعة مباحة، فلا يجوز قتله بلا شك، سواء في هذا، الكلب الأسود، وغيره.
والامر بقتل الكلاب منسوخ. والله أعلم.
الضرب الثاني: ما أحد أصليه مأكول، كالمتولد بين الذئب والضبع، وبين
حماري الوحش والإنس، فيحرم التعرض له، ويجب الجزاء فيه.
قلت: قال الشافعي رحمه الله: فإن شك في شئ من هذا، فلم يدر أخالطه
وحشي مأكول، أم لا، استحب فداؤه. والله أعلم.
فرع الحيوان الإنسي: كالنعم، والخيل، والدجاج، يجوز للمحرم
ذبحها، ولا جزاء. والمتولد بين الإنسي والوحشي، كالمتولد بين الظبي والشاة،
أو بين اليعقوب والدجاجة، يجب فيه الجزاء كالمتولد بين المأكول وغيره.
فرع صيد البحر حلال للمحرم، وهو ما لا يعيش إلا في البحر. أما ما
يعيش في البر والبحر، فحرام كالبري. وأما الطيور المائية التي تغوص في الماء
وتخرج، فبرية. والجراد بري على المشهور.
فصل جهات ضمان الصيد ثلاث. المباشرة، والتسبب، واليد.
فالمباشرة، معروفة. وأما التسبب، فموضع ضبطه كتاب الجنايات. ويذكر هنا
صور.
إحداها: لو نصب الحلال شبكة في الحرم، أو نصبها المحرم حيث كان،
فتعقل بها صيد وهلك، فعليه الضمان، سواء نصبها في ملكه أو غيره.
قلت: ولو نصب الشبكة، أو الأحبولة وهو حلال، ثم أحرم فوقع بها صيد،
لم يلزمه شئ، ذكره القفال، وصاحب البحر وغيرهما. وهو معنى نص
422

الشافعي رحمه الله تعالى. والله أعلم.
الثانية: لو أرسل كلبا، أو حل رباطه ولم يرسله، فأتلف صيدا، لزمه
ضمانه. ولو انحل الرباط لتقصيره فيه، ضمن على المذهب، هذا إذا كان هناك
صيد. فإن لم يكن، فأرسل الكلب أو حل رباطه، فظهر صيد، ضمنه أيضا على
الأصح.
قلت: قال القاضي أبو حامد وغيره: يكره للمحرم حمل البازي وكل صائد.
فإن حمله فأرسله على صيد فلم يقتله، فلا جزاء، لكن يأثم. ولو انفلت بنفسه
فقتله. فلا ضمان. والله أعلم.
الثالثة: لو نفر المحرم صيدا فعثر وهلك به، أو أخذه سبع، أو انصدم
بشجرة، أو جبل، لزمه الضمان، سواء قصده تنفيره، أم لا، ويكون في عهدة
التنفير حتى يعود الصيد إلى عادته في السكون. فإن هلك بعد ذلك، فلا ضمان
. ولو هلك قبل سكون النفار بآفة سماوية، فلا ضمان على الأصح، إذ لم يتلف بسببه
ولا في يده. ووجه الثاني: استدامة أثر النفار.
الرابعة: لو حفر المحرم بئرا حيث كان، أو حفرها حلال في الحرم في محل
عدوان، فهلك فيها صيد، لزمه الضمان. ولو حفرها في ملكه أو في موات، فثلاثة
أوجه. أصحها: يضمن في الحرم دون الاحرام.
قلت: وقيل: إن حفرها للصيد، ضمن، وإلا، فلا، واختاره صاحب الحاوي. والله أعلم.
فرع لو دل الحلال محرما على صيد فقتله، وجب الجزاء على المحرم،
ولا ضمان على الحلال، سواء كان في يده، أم لا، لكنه يأثم.
423

ولو دل المحرم حلالا على صيد فقتله، فإن كان في يد المحرم، لزمه
الجزاء، لأنه ترك حفظه وهو واجب، فصار كالمودع إذا دل السارق، وإلا، فلا
جزاء على واحد منهما. ولو أمسك محرم صيدا حتى قتله غيره، فإن كان القاتل
حلالا، وجب الجزاء على المحرم وهل يرجع به على الحلال؟ وجهان. قال
الشيخ أبو حامد: لا، لأنه غير حرام عليه. وقال القاضي أبو الطيب: نعم، وبه
قطع في التهذيب كما لو غصب شيئا فأتلفه إنسان في يده.
قلت: الأصح: الأول، لأنه غير مضمون في حقه بخلاف شيئا فأتلفه إنسان في يد المغصوب.
والله أعلم.
وإن كان محرما أيضا، فوجهان. أصحهما: الجزاء كله على القاتل.
والثاني: عليهما نصفين. وقال صاحب العدة: الأصح: أن الممسك يضمنه
باليد، والقاتل بالاتلاف. فإن أخرج الممسك الضمان، رجع به على المتلف،
وإن أخرج المتلف، لم يرجع على الممسك.
قلت: قال صاحب البحر: لو رمى حلال صيدا، ثم أحرم، ثم أصابه،
ضمنه على الأصح. ولو رمى محرم ثم تحلل، بأن قصر شعره، ثم أصابه،
فوجهان. ولو رمى صيدا، فنفذ منه إلى صيد آخر، فقتلهما، ضمنهما. والله
أعلم.
الجهة الثالثة: اليد. فيحرم على المحرم إثبات اليد على الصيد ابتداء، ولا
يحصل به الملك، وإذا أخذه، ضمنه كالغاصب. بل لو حصل التلف بسبب في
يده، بأن كان راكب دابة، فتلف صيد بعضها، أو رفسها، أو بالت في الطرق،
424

فزلق به صيد فهلك، لزمه الضمان. ولو انفلت بعيره فأتلف صيدا، فلا شئ
عليه. نص على هذا كله. ولو تقدم ابتداء اليد على الاحرام، بأن كان في يده صيد
مملوك له، لزمه إرساله على الأظهر. والثاني: لا يلزمه. وقيل: لا يلزمه قطعا،
بل يستحب. فإن لم نوجب الارسال، فهو لي ملكه، له بيعه وهبته، لكن لا يجوز
له قتله. فإن قتله، لزمه الجزاء. كما لو قتل عبده، تلزمه الكفارة. ولو أرسله
غيره، أو قتله، لزمه قيمته للمالك، ولا شئ على المالك. وإن أوجبنا الارسال،
فهل يزول ملكه عنه؟ قولان. أظهرهما: يزول. فعلى هذا، لو أرسله غيره، أو
قتله، فلا شئ عليه. ولو أرسله المحرم، فأخذه غيره، ملكه. ولو لم يرسله حتى
تحلل، لزمه إرساله على الأصح المنصوص. وحكى الامام على هذا القول
وجهين: في أنه يزول ملكه بنفس الاحرام، أم الاحرام يوجب عليه الارسال، فإذا
أرسل، زال حينئذ؟ وأولهما: أشبه بكلام الجمهور. وإن قلنا: لا يزول ملكه،
فليس لغيره أخذه، فلو أخذه، لم يملكه. ولو قتله، ضمنه. وعلى القولين: لو
مات في يده بعد إمكان الارسال، لزمه الجزاء، لأنهما مفرعان على وجوب
الارسال، وهو مقصر بالامساك. ولو مات الصيد قبل إمكان الارسال، وجب الجزاء
على الأصح. ولا يجب تقديم الارسال على الاحرام بلا خلاف.
فرع لو اشترى المحرم صيدا، أو اتهبه، أو أوصي له به، فقبل، فهو
مبني على ما سبق. فإن قلنا: يزول ملكه عن الصيد بالاحرام، لم يملكه بهذه
الأسباب، وإلا، ففي صحة الشراء والهبة قولان، كشراء الكافر عبدا مسلما
فإن لم نصحح هذه العقود، فليس له القبض. فإن قبض فهلك في يده، لزمه الجزاء، ولزمه القيمة للبائع. فإن رده عليه، سقطت القيمة، ولم يسقط ضمان
425

الجزاء إلا بالارسال. وإذا أرسل، كان كمن اشترى عبدا مرتدا فقتل في يده. وفيمن
يتلف من ضمانه، خلاف موضعه كتاب البيع.
قلت: كذا ذكر الامام الرافعي هنا، أنه إذا هلك في يده، ضمنه بالقيمة
للآدمي مع الجزاء، وهذا في الشراء صحيح، أما في الهبة، فلا يضمن القيمة على
الأصح، لأن العقد الفاسد كالصحيح في الضمان، والهبة غير مضمونة، وقد ذكر
الرافعي هذا الخلاف في كتاب الهبة: وسيأتي إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
فرع لو مات للمحرم قريب يملك صيدا، ورثه على المذهب. وقيل: هو
كالشراء. فإن قلنا: يرث، قال الامام، والغزالي: يزول ملكه عقب ثبوته، بناء
على أن الملك زول عن الصيد بالاحرام. وفي التهذيب وغيره، خلافه.
لأنهم قالوا: إذا ورثه، لزمه إرساله. فإن باعه، صح بيعه ولا يسقط عنه ضمان
الجزاء. حتى لو مات في يد المشتري، وجب الجزاء على البائع. وإنما يسقط
عنه، إذا أرسله المشتري. وإن قلنا: لا يرث، فالملك في الصيد لباقي الورثة.
وإحرامه بالنسبة إلى الصيد، مانع من موانع الإرث، كذا قاله في التتمة. وقال
الشيخ أبو القاسم الكرخي على هذا الوجه: إنه أحق به، فيوقف حتى يتحلل
فيتملكه.
قلت: هذا المنقول عن أبي القاسم الكرخي، هو الصحيح، بل الصواب
المعروف على المذهب، وبه قطع الأصحاب في الطريقين. فممن صرح به الشيخ
أبو حامد، والدارمي وأبو علي البندنيجي، والمحاملي في كتابيه، والقاضي أبو
الطيب في المجرد، وصاحب الحاوي، والقاضي حسين، وصاحبا العدة
والبيان. قال الدارمي: فإن مات الوارث قبل تحلله، قام وارثه مقامه. والله
أعلم.
فرع لو اشترى صيدا، فوجده معيبا وقد أحرم البائع، فإن قلنا: يملك
الصيد بالإرث، رده عليه، وإلا، فوجهان، لان منع الرد إضرار بالمشتري. ولو
باع صيدا وهو حلال،، فأحرم ثم أفلس المشتري بالثمن، لم يكن له الرجوع على
426

الأصح كالشراء، بخلاف الإرث، فإنه قهري.
فرع لو استعار المحرم صيدا، أو أودع عنده، كان مضمونا عليه
بالجزاء، وليس له التعرض له. فإن أرسله، سقط عنه الجزاء وضمن القيمة
للمالك. فإن رد إلى المالك، لم يسقط عنه الجزاء ما لم يرسله المالك.
قلت: نقل صاحب البيان في باب العارية، عن الشيخ أبي حامد: أن
المحرم إذا استودع صيدا لحلال، فتلف في يده، لم يلزمه الجزاء، لأنه لم يمسكه
لنفسه. والله أعلم.
فرع حيث صار الصيد مضمونا على المحرم بالجزاء، فإن قتله حلال في
يده، فالجزاء على المحرم. وإن قتله محرم آخر، فهل الجزاء عليهما، أم على
القاتل ومن في يده طريق؟ فيه وجهان.
قلت: أصحهما: الثاني. والله أعلم.
فرع لو خلص المحرم صيدا من فم سبع، أو هرة، أو نحوهما، وأخذه
ليداويه ويتعهده، فمات في يده، لم يضمن على الأظهر.
فرع الناسي، كالعامد في وجوب الجزاء، ولا أثم. وقيل: في
وجوب الجزاء عليه قولان. والمذهب: الوجوب. ولو أحرم ثم جن، فقتل صيدا،
427

ففي وجوب الجزاء قولان نص عليهما.
قلت: أظهرهما: لا تجب. والله أعلم.
فرع لو صال صيد على محرم، أو في الحرم، فقتله دفعا، فلا ضمان،
ولو ركب إنسان صيدا، وصال على محرم، ولا يمكنه دفعه إلا بقتل الصيد، فقتله،
فالمذهب: وجوب الجزاء على المحرم، وبه قطع الأكثرون، لان الأذى ليس من
الصيد. وحكى الامام أن القفال ذكر فيه وجهين. أحدهما: الضمان على الراكب،
ولا يطالب به المحرم. والثاني: يطالب المحرم، ويرجع بما غرم على الراكب.
فرع لو ذبح صيدا في مخمصة وأكله، ضمن، لأنه أهلكه لمنفعته من غير
إيذاء من الصيد. ولو أكره محرم على قتل صيد، فقتله، فوجهان. أحدهما:
الجزاء على الآمر. والثاني: على المحرم ويرجع به على الآمر، سواء صيد الحرم
أو الاحرام.
قلت: الثاني: أصح. والله أعلم.
فرع ذكرنا أن الجراد وبيضه مضمونان بالقيمة. فلو وطئه عامدا أو جاهلا،
ضمن. ولو عم المسالك ولم يجد بدا من وطئه، فوطئه، فالأظهر: أنه لا
ضمان. وقيل: لا ضمان قطعا، ولو باض صيد في فراشه ولم يمكنه رفعه إلا
بالتعرض للبيض، ففسد بذلك، ففيه هذا الخلاف.
فرع إذا ذبح المحرم صيدا، لم يحل له الاكل منه. وهل يحل لغيره،
أم يكون ميتة؟ فيه قولان. الجديد: أنه ميتة. فعلى هذا، إن كان مملوكا،
428

وجب مع الجزاء، قيمته للمالك. والقديم: لا يكون ميتة، فيحل لغيره. فإن كان
مملوكا، لزمه مع الجزاء ما بين قيمته مذبوحا وحيا. وهل يحل له بعد زوال
الاحرام؟ وجهان. أصحهما: لا. وفي صيد الحرم إذا ذبح: طريقان.
أصحهما: طرد القولين. والثاني: القطع بالمنع، لأنه محرم على جميع الناس،
وفي جميع الأحوال.
قلت: قال صاحب البحر: قال أصحابنا: إذا كسر بيض صيد، فحكم
البيض حكم الصيد إذا ذبحه، فيحرم عليه قطعا. وفي غيره، القولان. وكذا إذا
كسره في الحرم. قال أصحابنا: وكذا لو قتل المحرم الجراد، قال: وقيل: يحل
البيض لغيره قطعا، بخلاف الصيد المذبوح على أحد القولين، لان إباحته تقف على
الذكاة، بخلاف البيض. وعلى هذا، لو بلعه إنسان قبل كسره، لم يحرم. وهذا
اختيار الشيخ أبي حامد، والقاضي الطبري. قال الروياني: وهو الصحيح. والله
أعلم.
فصل في بيان الجزاء الصيد ضربان، مثلي، وهو ما له مثل من النعم،
وغير مثلي. فالمثلي: جزاؤه على التخيير والتعديل، فيتخير بين أن يذبح مثله
فيتصدق به على مساكين الحرم، إما بأن يفرق اللحم عليهم، وإما بأن يملكهم
جملته مذبوحا. ولا يجوز أن يدفعه حيا، وبين أن يقوم المثل دراهم. ثم لا يجوز
أن يتصدق بالدراهم، لكن إن شاء اشترى بها طعاما وتصدق به على مساكين
الحرم، وإن شاء صام عن كل مد من الطعام يوما حيث كان. وأما غير المثلي، ففيه
قيمته، ولا يتصدق بها دراهم، بل يجعلها طعاما، ثم إن شاء تصدق به، وإن شاء
صام عن كل مد يوما. فان انكسر مد في الضربين، صام يوما. فحصل من هذا أنه
في المثلي مخير بين الحيوان، والطعام، والصيام وفي غيره مخير بين الطعام،
429

والصوم، هذا هو المذهب، والمقطوع به في كتب الشافعي والأصحاب. وروى أبو
ثور قولا: أنها على الترتيب. وإذا لم يكن الصيد مثليا، فالمعتبر قيمته بمحل
الاتلاف، وإلا، فقيمته بمكة ويومئذ، لان محل ذبحه مكة. فإذا عدل عن ذبحه،
وجبت قمته بمحل الذبح. هذا نصه في المسألتين، وهو المذهب. وقيل:
فيهما قولان. وحيث اعتبرنا محل الاتلاف، فللامام احتمالان، في أنه يعتبر في
العدول إلى الطعام سعر الطعام في ذلك المكان، أم سعره بمكة؟ والظاهر منهما:
الثاني.
فرع في بيان المثلي اعلم أن المثل ليس معتبرا على التحقيق، بل يعتبر
على التقريب. وليس معتبرا في القيمة، بل في الصورة والخلقة. والكلام في
الدواب ثم الطيور.
أما الدواب: فما ورد فيه نص - أو حكم فيه صحابيان، أو عدلان من
التابعين، أو من بعدهم - من النعم أنه مثل الصيد المقتول، اتبع، ولا حاجة إلى
تحكيم غيرهم. وقد حكم النبي (ص) في الضبع بكبش وحكمت الصحابة رضي الله
عنهم في النعامة ببدنه، وفي حمار الوحش وبقرته، ببقرة، وفي الغزال، بعنز،
وفي الأرنب، بعناق، وفي اليربوع بجفرة. وعن عثمان رضي الله عنه: أنه حكم في
430

أم حبين بحلان. وعن عطاء، ومجاهد: أنهما حكما في الوبر بشاة. قال
الشافعي رحمه الله تعالى: إن كانت العرب تأكله، ففيه جفرة، لأنه ليس أكبر بدنا
منها. وعن عطاء: في الثعلب شاة. وعن عمر رضي الله عنه: في الضب جدي.
وعن بعضهم: في الإبل، بقرة.
أما العناق: فالأنثى من المعز من حين تولد، إلى حين ترعى. والجفرة:
الأنثى من ولد المعز تفطم وتفصل عن أمها، فتأخذ في الرعي، وذلك بعد أربعة
أشهر. والذكر جفر، هذا معناها في اللغة. لكن يجب، أن يكون المراد بالجفر
هنا، ما دون العناق، فإن الأرنب، خير من اليربوع.
أما أم حبين، فدابة على خلقة الحرباء عظيمة البطن. الأرنب، خير من اليربوع وفي حل أكلها،
خلاف مذكور في الأطعمة. ووجوب الجزاء، يخرج على الخلاف.
وأما الحلان، ويقال الحلام. فقيل: هو الجدي. وقيل: الخروف. ووقع
في بعض كتب الأصحاب: في الظبي كبش. وفي الغزال عنز. وكذا قاله أبو القاسم
الكرخي، وزعم أن الظبي: ذكر الغزلان، وأن الأنثى غزال. قال الامام: هذا
وهم، بل الصحيح: أن في الظبي عنزا، وهو شديد الشبه بها، فإنه أجرد الشعر،
متقلص الذنب.
وأما الغزال، فولد الظبي، فجب فيه ما يجب في الصغار.
قلت: قول الإمام، هو الصواب. قال أهل اللغة: الغزال: ولد الظبية إلى
حين يقوى ويطلع قرناه، ثم هي ظبية، والذكر: ظبي. والله أعلم.
هذا بيان ما فيه حكم. أما ما لا نقل فيه عن السلف، فيرجع فيه إلى قول
عدلين فقيهين فطنين. وهل يجوز أن يكون قاتل الصيد أحد الحكمين، أو يكون
قاتلاه الحكمين؟ نظر، إن كان القتل عدوانا، فلا، لأنه يفسق. وإن كان خطأ، أو
431

مضطرا إليه، جاز على الأصح، ولو حكم عدلان أن له مثلا، وعدلان أن لا مثل
له، فهو مثلي.
قلت: ولو حكم عدلان بمثل، وعدلان بمثل آخر، فوجهان في الحاوي
والبحر. أصحهما: يتخير. والثاني: يلزمه الاخذ بأعظمهما، وهما مبنيان
على اختلاف المفتيين. والله أعلم.
وأما الطيور فحمام وغيره. فالحمامة، فيها شاة وغيرها إن كان أصغر منها
جثة، كالزرزور، والصعوة، والبلبل، والقبرة، والوطواط ففيه القيمة. وإن
كان أكبر من الحمام، أو مثله، فقولان. الجديد، وأحد قولي القديم: الواجب
القيمة. والثاني: شاة،
والمراد بالحمام: كل ما عب في الماء، وهو أن يشربه جرعا، وغير الحمام
يشرب قطر قطرة. وكذا نص الشافعي رضي الله عنه في عيون المسائل، ولا حاجة
في وصف الحمام، إلى ذكر الهدير مع العب، فإنهما متلازمان. ولهذا اقتصر
الشافعي رضي الله عنه على العب، ويدخل في اسم الحمام، اليمام التي تألف
البيوت، والقمري، والفاختة، والدبسي، والقطاة.
فرع يفدى الكبير من الصيد بالكبير من مثله من النعم، والصغير
بالصغير، والمريض بالمريض، والمعيب بالمعيب، إذا اتحد جنس العيب،
كالعور والعور. وإن اختلف، كالعور والجرب، فلا. وإن كان عور أحدهما في
اليمين، والآخر في اليسار، ففي إجزائه، وجهان. الصحيح: الاجزاء، وبه قطع
العراقيون، لتقاربهما. ولو قابل المريض بالصحيح، أو المعيب بالسليم، فهو
432

أفضل. وإن فدى الذكر بالأنثى، فطرق. أصحها: على قولين. أظهرهما: الاجزاء. والطريق الثاني: القطع بالجواز. والثالث: إن أراد الذبح، لم يجز.
وإن أراد التقويم، جاز، لان قيمة الأنثى أكثر، ولحم الذكر أطيب. والرابع: إن لم
تلد الأنثى، جاز، وإلا، فلا. فإن جوزنا الأنثى فهل هي أفضل؟ فيه وجهان.
قلت: أصحهما: تفضيل الذكر، للخروج من الخلاف. والله أعلم.
وإن فدى الأنثى بالذكر، فوجهان. وقيل: قولان
قلت: أصحهما الاجزاء، وصححه البندنيجي. والله أعلم.
فإذا تأملت ما ذكرنا من كلام الأصحاب، وجدتهم طاردين الخلاف مع نقص
اللحم. وقال الامام: الخلاف فيما إذا لم ينقص اللحم في القيمة ولا في الطيب،
فإن كان واحد من هذين النقصين، لم يجز بلا خلاف.
فرع لو قتل صيدا حاملا، قابلناه بمثله حاملا. ولا يذبح الحامل، بل
يقوم لمثل حاملا ويتصدق بقيمته طعاما. وفيه وجه: أنه يجوز ذبح حائل نفيسة
بقيمة حامل وسط، ويجعل التفاوت بينهما، كالتفاوت بين الذكر والأنثى ولو
ضرب بطن صيد حامل، فألقى جنبنا ميتا، نظر، إن ماتت الام أيضا، فهو كقتل
الحامل، وإلا، ضمن ما نقصت الام، ولا يضمن الجنين، بخلاف جنين
الأمة، يضمن بعشر قيمة الام، لان الحمل يزيد في قيمة البهائم، وينقص
الآدميات، فلا يمكن اعتبار التفاوت في الآدميات، وإن ألقت جنينا حيا، ثم ماتا،
ضمن كل واحد منهما بانفراده. وإن مات الولد وعاشت الام، ضمن الولد بانفراد،
وضمن نقص الام.
فرع قال الشافعي رحمه الله في المختصر: إن جرح ظبيا نقص عشر
433

قيمته، فعليه عشر قيمة شاة. وقال المزني تخريجا عليه: عشر شاة. قال جمهور
الأصحاب: الحكم ما قاله المزني، وإنما ذكر الشافعي القيمة، لأنه قد لا يجد
شريكا في ذبح شاة، فأرشده إلى ما هو أسهل، فإن جزاء الصيد على التخيير.
فعلى هذا، هو مخير، إن شاء أخرج العشر، وإن شاء صرف قيمته في طعام
وتصدق به، وإن شاح صام عن كل مد يوما. ومنهم من جرى على ظاهر النص
وقال: الواجب عشر القيمة. وجعل في المسألة قولين: المنصوص، وتخريج
المزني. فعلى هذا إذا قلنا بالمنصوص، فأوجه، أصحها: تتعين الصدقة
بالدراهم. والثاني، لا تجزئه الدراهم، بل يتصدق بالطعام، أو يصوم. والثالث:
يتخير بين عشر المثل، وبين إخراج الدراهم. والرابع: إن وجد شريكا في الدم،
أخرجه ولم تجزئه الدراهم، وإلا، أجزأته. هذا في الصيد المثلي. وأما غير
المثلي، فالواجب ما نقص من قيمته قطعا.
قلت: لو قتل نعامة فأراد أن يعدل عن البدنة إلى بقرة، أو سبع شياه، لم يجز
على الأصح ذكره في البحر. والله أعلم.
فرع لو جرح صيدا، فاندمل جرحه وصار زمنا، فوجهان. أصحهما:
يلزمه جزاء كامل، كما لو أزمن عبدا، لزمه كل قيمته. والثاني: أرش النقص.
وعلى هذا، يجب قسط من المثل، أو من قيمة المثل؟ فيه الخلاف السابق في
الفرع قبله. ولو جاء محرم آخر، فقتله بعد الاندمال، أو قبله، فعليه جزاؤه زمنا،
ويبقي الجزاء على الأول بحاله. وقيل: إن أوجبنا جزاء كاملا، عاد هنا إلى قدر
النقص، لأنه يبعد إيجاب جزائين لمتلف واحد. ولو عاد المزمن فقتله، نظر، إن
قتله قبل الاندمال، لزمه جزاء واحد. كما لو قطع يدي رجل ثم قتله، فعليه دية.
وفي وجه: أن أرش الطرف ينفرد عن دية النفس، فيجئ مثله هنا. وإن قتله بعد
الاندمال، أفرد كل واحد بحكمه. ففي القتل جزاؤه زمنا، وفيما يجب بالأزمان،
الخلاف السابق. وإذا أوجبنا بالأزمان جزاءا كاملا، وكان للصيد امتناعان،
كالنعامة، تمتنع بالعدو وبالجناح، فأبطل أحد امتناعيه، فوجهان. أحدهما: يتعدد
الجزاء، لتعدد الامتناع. وأصحهما: لا، لاتحاد الممتنع. وعلى هذا، فما
الواجب؟ قال الامام: الغالب على الظن، أنه يعتبر ما نقص، لان امتناع النعامة في
434

الحقيقة واحد، إلا أنه يتعلق بالرجل والجناح، فالزائل، بعض الامتناع.
فرع جرح صيدا فغاب، ثم وجد ميتا ولم يدر أمات بجراحته أم
بحادث فهل يلزمه جزاء كامل، أم أرش الجرح فقط؟ قولان.
قلت: أظهرهما: الثاني. والله أعلم.
فرع إذا اشترك محرمون في قتل صيد، حرمي أو غيره، لزمهم جزاء
واحد. ولو قتل القارن صيدا، لزمه جزاء واحد. وكذا لو ارتكب محظورا آخر،
فعليه فدية واحدة. ولو اشترك محرم وحلال في قتل صيد، لزم المحرم نصف
الجزاء، ولا شئ على الحلال.
فرع قد سبق، أنه يحرم على المحرم أكل الصيد الذي ذبحه، وكذا يحرم
عليه أكل ما اصطاده له حلال، أو بإعانته، أو بدلالته بلا خلاف. فإن أكل منه،
فقولان. الجديد: لا جزاء عليه. والقديم: يلزمه القيمة بقدر ما أكل. ولو أكل
المحرم ما ذبحه بنفسه، لم يلزمه لاكله بعد الذبح شئ آخر بلا خلاف، كما لا
يلزمه في أكل صيد المحرم بعد الذبح شئ آخر.
فرع يجوز للمحرم أكل صيد ذبحه الحلال إذا لم يصده له، ولا
كان بدلالته أو إعانته، ولا جزاء عليه قطعا.
فصل صيد حرم مكة، حرام على المحرم والحلال.
وبيان المحرم منه وما يجب به الجزاء وقدر الجزاء، يقاس بما سبق في صيد
الاحرام. ولو أدخل حلال الحرم صيدا مملوكا، كان له إمساكه وذبحه والتصرف فيه
كيف شاء كالنعم، لأنه صيد حل. ولو رمى من الحل صيدا في الحرم، أو من
الحرم صيدا في الحل، أو أرسل كلبا في الصورتين، أو رمى صيدا بعضه في الحل
وبعضه في الحرم - والاعتبار بقوائمه لا بالرأس - أو رمى حلال إلى صيد فأحرم قبل
أن يصيبه، أو رمى محرم إليه، فتحلل قبل أن يصيبه، لزمه الضمان في كل ذلك.
قلت: هذا الذي ذكره، فيما إذا كان بعضه في الحرم، هو الأصح. وذكر
435

الجرجاني في المعاياة فيه ثلاثة أوجه. أحدها: لا يضمنه، لأنه لم يكمل حرميا.
والثاني: إن كان أكثره في الحرم، ضمنه، وإن كان أكثره في الحل، فلا.
والثالث: إن كان خارجا من الحرم إلى الحل، ضمنه، وإن كان عكسه، فلا.
والله أعلم.
ولو رمى من الحل صيدا في الحل، فقطع السهم في مروره هواء الحرم،
فوجهان. أحدهما: لا يضمن، كما لو أرسل كلبا في الحل على صيد في الحل،
فتخطى طرف الحرم، فإنه لا يضمن. وأصحهما: يضمن، بخلاف الكلب، لان
للكلب اختيارا، بخلاف السهم. ولهذا قال الأصحاب: لو رمى صيدا في الحل
فعدا الصيد، فدخل الحرم، فأصابه السهم، وجب الضمان. وبمثله، لو أرسل
كلبا، لا يجب. ولو رمى صيدا في الحل فلم يصبه، وأصاب صيدا في الحرم،
وجب الضمان. وبمثله لو أرسل كلبا، لا يجب. ثم في مسألة إرسال الكلب
وتخطيه طرف الحرم، إنما لا يجب الضمان إذا كان للصيد مفر آخر. فأما إذا تعين
دخوله الحرم عند الهرب، فيجب الضمان قطعا، سواء كان المرسل عالما بالحال،
أو جاهلا، غير أنه لا يأثم الجاهل.
فرع لو أخذ حمامة في الحل، أو أتلفها، فهلك فرخها في الحرم،
ضمنه، ولا يضمنها. ولو أخذ الحمامة من الحرم، أو قتلها، فهلك فرخها في
الحل، ضمن الحمامة والفرخ جميعا، كما لو رمى من الحرم إلى الحل. ولو نفر
صيدا حرميا، عامدا، أو غير عامد، تعرض للضمان. حتى لو مات بسبب التنفير
بصدمة، أو أخذ سبع، لزمه الضمان. وكذا لو دخل الحل فقتله حلال، فعلى
436

المنفر الضمان. بخلاف ما لو قتله محرم، فإن الجزاء عليه، تقديما للمباشرة.
فرع لو دخل الكافر الحرم، وقتل صيدا، لزمه الضمان. وقال صاحب
المهذب: يحتمل أن لا يلزمه.
فصل قطع نبات الحرم حرام، كاصطياد صيده. وهل يتعلق به
الضمان؟ قولان. أظهرهما: نعم. والقديم: لا. ثم النبات: شجر وغيره. أما
الشجر، فيحرم التعرض بالقلع والقطع لكل شجر رطب غير مؤذ حرمي. فيخرج
بقيد الرطب اليابس، فلا شئ في قطعه، كما لو قد صيدا ميتا نصفين. وبقيد غير
مؤذ: العوسج، وكل شجرة ذات شوك، فإنها كالحيوان المؤذي، فلا يتعلق
437

بقطعها ضمان على الصحيح الذي قطع به الجمهور. وفي وجه اختاره صاحب
التتمة: أنها مضمونة، لاطلاق الخبر، ويخالف الحيوان، فإنه يقصد بالأذية.
ويخرج بقيد الحرمي أشجار الحل، فلا يجوز أن يقلع شجرة من أشجار الحرم،
وينقلها إلى الحل، محافظة على حرمتها. ولو نقل، فعليه ردها، بخلاف ما لو نقل
من بقعة من الحرم إلى أخرى، لا يؤمر بالرد. وسواء نقل أشجار الحرم، أو
أغصانها، إلى الحل، أو إلى الحرم، ينظر، إن يبست، لزمه الجزاء. وإن نبتت
في الموضع المنقول إليه، فلا جزاء عليه. فلو قلعها قالع، لزمه الجزاء إبقاء لحرمة
الحرم. ولو قلع شجرة من الحل وغرسها في الحرم فنبتت، لم يثبت لها حكم
الحرم، بخلاف الصيد يدخل الحرم، فيجب الجزاء بالتعرض له، لان الصيد ليس
بأصل ثابت، فاعتبر مكانه. والشجر أصل ثابت، فله حكم منبته.
حتى لو كان أصل الشجرة في الحرم، وأغصانها في الحل، فقطع من
أغصانها شيئا، وجب الضمان للغصن. ولو كان عليه صيد فأخذه، فلا ضمان.
وعكسه: لو كان أصلها في الحل، وأغصانها في الحرم، فقطع غصنا منها، فلا
شئ عليه. ولو كان عليه صيد فأخذه، لزمه ضمانه.
قلت: قال صاحب البحر: لو كان بعض أصل الشجرة في الحل، وبعضه
في الحرم، فلجميعها حكم الحرم. قال بعض أصحابنا: لو انتشرت أغصان
الشجرة الحرمية، ومنعت الناس الطريق، أو آذتهم، جاز قطع المؤذي منها. والله
أعلم.
فرع إذا أخذ غصنا من شجرة حرمية، ولم يخلف، فعليه ضمان
النقصان، وسبيله سبيل جرح الصيد. وإن أخلف في تلك السنة لكون الغصن
لطيفا، كالسواك، وغيره، فلا ضمان. وإذا أوجبنا الضمان، فنبت وكان المقطوع
مثله، ففي سقوط الضمان قولان، كالقولين في السن إذا نبت بعد القلع.
438

فرع يجوز أخذ أوراق الأشجار، لكن لا يخبطها، مخافة من أن يصيب
قشورها.
فرع يضمن الشجرة الكبيرة ببقرة، وإن شاء ببدنة، وما دونها بشاة،
والمضمونة بشاة ما كانت قريبة من سبع الكبيرة، فإن صغرت جدا، فالواجب
القيمة. ثم ذلك كله على التعديل والتخيير كالصيد.
فرع هل يعم التحريم والضمان من الأشجار، ما ينبت بنفسه، وما
يستنبت، أم يختص بالضرب الأول؟ فيه طريقان. أصحهما: على قولين.
أظهرهما عند العراقيين والأكثرين من غيرهم: التعميم. والثاني: التخصيص، وبه
قطع الامام، والغزالي. والطريق الثاني: القطع بالتعميم. فإذا قلنا: بالتخصيص
زاد قيد آخر، وهو كون الشجر مما ينبت بنفسه. وعلى هذا، يحرم الأراك والطرفاء
وغيرهما من أشجار البوادي. وأدرج الامام فيه العوسج، لكنه ذو شوك، وقد سبق
بيانه. ولا تحرم المستنبتات، مثمرة كانت، كالنخل والعنب، أو غير مثمرة،
كالخلاف. وعلى هذا القول، لو نبت ما يستنبت أو عكسه، فالصحيح الذي قاله
الجمهور: أن الاعتبار بالجنس، فيجب الضمان في الثاني دون الأول. وقيل:
الاعتبار بالقصد، فينعكس. أما غير الأشجار، فكلا الحرم يحرم قطعه. فإن
قلعه، لزمه القيمة، إن لم يخلف. فإن أخلف، فلا قيمة قطعا، لان الغالب هنا
الاخلاف كسن الصبي. فلو كان يابسا، فلا شئ في قطعه كما سبق في الشجر.
فلو قلعه، لزمه الضمان، لأنه لو لم يقلع، لنبت ثانيا، ذكره في التهذيب.
ويجوز تسريح البهائم في حشيشه لترعى. ولو أخذ الحشيش لعلف البهائم، جاز
على الأصح. ويستثنى من المنع، الإذخر، فإنه يجوز لحاجة السقوف وغيرها،
للحديث الصحيح.. ولو احتيج إلى شئ من نبات الحرم للدواء، جاز قطعه على
الأصح.
439

فرع يكره نقل تراب الحرم وأحجاره إلى سائر البقاع، ولا يكره نقل ماء
زمزم. قال الشيخ أبو الفضل بن عبدان: ولا يجوز قطع شئ من ستر الكعبة،
ونقله، وبيعه، وشراؤه، خلاف ما تفعله العامة، يشترونه من بني شيبة، وربما
وضعوه في أوراق المصاحف. ومن حمل منه شيئا، لزمه رده.
قلت: الأصح: أنه لا يجوز إخراج تراب الحرم، ولا أحجاره إلى الحل.
ويكره إدخال تراب الحل وأحجاره الحرم. وبهذا قطع صاحب المهذب
والمحققون من أصحابنا.
وأما ستر الكعبة، فقد قال الحليمي، رحمه الله، أيضا: لا ينبغي أن يؤخذ
منها شئ. وقال صاحب التلخيص: لا يجوز بيع أستار الكعبة. وقال الشيخ أبو
عمرو بن الصلاح رحمه الله بعد أن ذكر قول ابن عبدان والحليمي: الامر فيها إلى
الامام، يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعا وعطاء، واحتج بما رواه الأزرقي
صاحب كتاب مكة: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان ينزع كروة البيت
كل سنة، فيقسمها على الحاج. وهذا الذي اختاره الشيخ، حسن متعين، لئلا
يتلف بالبلى، وبه قال ابن عباس، وعائشة، وأم سلمة رضي الله عنهم قالوا:
ويلبسها من صارت إليه من جنب وحائض وغيرهما. ولا يجوز أخذ طيب الكعبة،
فإن أراد التبرك، أتى بطيب من عنده فمسحها به، ثم أخذه. والله أعلم.
فصل لا يتعرض لصيد حرم المدينة وشجره، وهو حرام على
المذهب. وحكي قول ووجه: أنه مكروه. فإذا حرمناه، ففي الضمان قولان.
الجديد: لا يضمن. والقديم: يضمن. وفي ضمانه وجهان. أحدهما: كحرم
مكة. وأصحهما: أخذ سلب الصائد وقاطع الشجر. وفي المراد بالسلب:
وجهان. الصحيح وبه قطع الأكثرون: كسلب القتيل من الكفار. والثاني: ثيابه
440

فقط. وفي مصرفه: أوجه. الصحيح: أنه للسالب كالقتيل. والثاني: لفقراء
المدينة. والثالث: لبيت المال.
واعلم أن ظاهر الحديث، وكلام الأئمة: أنه يسلب إذا اصطاد، ولا يشترط
الاتلاف. وقال إمام الحرمين: لا أدري أيسلب إذا أرسل الصيد، أم لا يسلب حتى
يتلفه؟
قلت: ذكر صاحب البحر وجهين: في أنه هل يترك للمسلوب من ثيابه ما
يستر عورته؟ واختار: أنه يترك، وهو قول صاحب الحاوي، وهو الأصوب.
والله أعلم.
فصل وج: واد بصحراء الطائف، وصيده حرام على المذهب. وقيل:
في تحريمه وكراهته خلاف. فعلى التحريم، قيل: حكمه في الضمان كحرم
المدينة. والصحيح الذي قطع به صاحب التلخيص والأكثرون: أنه لا ضم فيه
قطعا.
فصل النقيع - بالنون وقيل: بالباء - ليس بحرم، ولكن حماه
رسول الله (ص)، لإبل الصدقة، ونعم الجزية، فلا يحرم صيده، لكن لا
441

تملك أشجاره ولا حشيشه. وفي وجوب ضمانهما على متلفهما، وجهان.
أحدهما: لا، كصيده. وأصحهما: يجب، لأنه ممنوع، بخلاف الصيد. فعلى
هذا، ضمانهما بالقيمة، ومصرفهما مصرف نعم الجزية والصدقة.
قلت: ينبغي أن يكون مصرفه بيت المال. والله أعلم.
فصل المحظورات، تنقسم إلى استهلاك، كالحلق، وإلى استمتاع،
كالطيب.
وإذا باشر محظورين. فله أحوال. أحدها: أن يكون
أحدهما استهلاكا، والآخر استمتاعا، فينظر، إن لم يستند
إلى سبب واحد، كحلق الرأس، ولبس القميص، تعددت الفدية كالحدود
المختلفة. وإن استند إلى سبب، كمن أصابت رأسه شجة واحتاج إلى حلق جوانبها
وسترها بضماد فيه طيب، تعددت أيضا على الأصح. والثاني: تتداخل.
الحال الثاني: أن يكونا استهلاكا، وهذا ثلاثة أضرب.
أحدها: أن يكون مما يقابل بمثله، وهو الصيود فتعدد الفدية، سواء فدى
عن الأول، أم لا، اتحد المكان، أو اختلف، وإلى بينهما، أو فرق، كضمان
المتلفات.
الضرب الثاني: أن يكون أحدهما مما يقابل بمثله، والآخر ليس مقابلا،
كالصيد والحلق، فحكمه حكم الضرب الأول بلا خلاف.
الضرب الثالث: أن لا يقابل واحد منهما، فينظر، إن اختلف نوعهما،
كالحلق والقلم، تعددت، سواء فرق أو والى في مكان أو مكانين، بفعلين أم
بفعل، كمن لبس ثوبا مطيبا، فإنه يلزمه فديتان. وفي هذه الصورة وجه ضعيف:
أنه فدية واحدة.
442

قلت: الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور: أن من لبس ثوبا مطيبا
وطلى رأسه بطيب ستره بكفيه، فعليه فدية واحدة، لاتحاد الفعل وتبعية الطيب.
والله أعلم.
وإن اتحد النوع، بأن حلق فقط، فقد سبق، أن حلق ثلاث شعرات، فيه
فدية كاملة. ولو حلق جميع الرأس دفعة في مكان واحد، ففديه فقط. ولو حلق
شعر رأسه وبدنه متواصلا، ففدية على الصحيح. وقال الأنماطي: فديتان. ولو
حلق رأسه في مكانين أو مكان، في زمانين متفرقين، فالمذهب: التعدد. وقيل:
هو كما لو اتحد نوع الاستمتاع، واختلف المكان أو الزمان، وسيأتي بيانه إن شاء الله
تعالى.
ولو حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أمكنة، أو ثلاثة أزمنة متفرقة، فإن قلنا: كل
شعرة تقابل بثلث دم، فلا فرق بين حلقها دفعة أو دفعات. وإن قلنا: الشعرة بمد أو
درهم، والشعرتان بمدين أو درهمين، بني على الخلاف الذي ذكرناه الآن. فإن لم
نعدد الفدية فيما إذا حلق الرأس في دفعات، ولم نجعل لتفرق الزمان أثرا، فالواجب
دم. وإن عددنا وجعلنا التفريق مؤثرا، قطعنا حكم كل شعرة عن الأخريين، وأوجبنا
ثلاثة أمداد في قول، وثلاثة دراهم في قول.
الحال الثالث: أن يكون استمتاعا. فإن اتحد النوع، بأن تطيب بأنواع من
الطيب، أو ليس أنواعا، كالعمامة، والقميص، والسراويل، والخف، أو نوعا
واحدا مرة بعد أخرى، نظر، إن فعل ذلك في مكان على التوالي، لم تتعدد
الفدية، ولا يقدح في التوالي طول الزمان في مضاعفة القمص وتكوير العمامة. وإن
فعل ذلك في مكانين، أو مكان، وتخلل زمان، نظر، إن لم يتخلل التكفير،
فقولان. الجديد: يجب للثاني فدية أخرى. والقديم: يتداخل. فإن قلنا
بالجديد فجمعهما سبب واحد، بأن تطيب، أو لبس مرارا لمرض واحد،
فوجهان. أصحهما: التعدد. وإن تحلل، وجبت فدية أخرى بلا خلاف. فإن كان
نوى بما أخرجه الماضي والمستقبل جميعا، بني على جواز تقديم الكفارة على
الحنث المحظور. إن قلنا: لا يجوز، فلا أثر لهذه النية. وإن جوزناه، فوجهان.
أحدهما: أن الفدية كالكفارة في جواز التقديم، فلا يلزمه للثاني شئ. والثاني:
443

المنع. أما إذا اختلف النوع، بأن لبس وتطيب، فالأصح: التعدد، وإن اتحد
الزمان، والمكان، والسبب. والثاني: التداخل. والثالث: إن اتحد السبب،
تداخل، وإلا، فلا. هذا كله في غير الجماع، فإن تكرر الجماع، فقد سبق
حكمه.
قلت: لا يتعدد الجزاء، بتعدد جهة التحريم إذا اتحد الفعل كما سبق في
محرم قتل صيدا حرميا وأكله، لزمه جزاء واحد. ولو باشر امرأته مباشرة توجب شاة
لو انفردت، ثم جامعها، ففي وجه: يكفيه البدنة عنهما. ووجه: تجب شاة
وبدنة. ووجه: إن قصد بالمباشرة الشروع في الجماع، فبدنة، وإلا فشاة وبدنة.
ووجه: إن طال الفصل، فشاة وبدنة، وإلا فبدنة. والأول: أصح. والله أعلم.
باب موانع إتمام الحج بعد الشروع فيه
هي ستة أنواع.
الأول: الاحصار، فإذا أحصر العدو المحرمين عن المضي في الحج من
جميع الطرق، كان لهم أن يتحللوا. فإن كان الوقت واسعا، فالأفضل أن لا يعجل
التحلل، فربما زال المنع فأتم الحج. وإن كان الوقت ضيقا، فالأفضل تعجيل
التحلل، لئلا يفوت الحج. ويجوز للمحرم بالعمرة، التحلل عند الاحصار. ولو
444

منعوا ولم يتمكنوا من المضي إلا ببذل مال، فلهم التحلل، ولا يبذلون المال وإن
قل، بل يكره البذل إن كان الطالبون كفارا، لما فيه من الصغار. وإن احتاجوا إلى
قتال ليسيروا، نظر، إن كان المانعون مسلمين، فلهم التحلل، ولا يلزمهم القتال
وإن قدروا عليه. وإن كانوا كفارا، فقيل: يلزمهم قتالهم إن لم يزد عدد الكفار على
الضعف. وقال إمام الحرمين: هذا الاطلاق ليس بمرضي، بل شرطه وجدانهم
السلاح، وأهبة القتال. فإن وجدوا، فلا سبيل إلى التحلل. والصحيح الذي قاله
الأكثرون: أنه لا يجب القتال، وإن كان في مقابلة كل مسلم أكثر من كافرين، لكن
إن كان بالمسلمين قوة، فالأولى أن يقاتلوهم، نصرة للاسلام، وإتماما للحج. وإن
كان بالمسلمين ضعف، فالأولى أن يتحللوا، وعلى كل حال لو قاتلوا، فلهم لبس
الدروع والمغافر، وعليهم الفدية كمن لبس لحر أو برد.
فرع ما ذكرناه من جواز التحلل بلا خلاف، هو فيما إذا منعوا المضي،
دون الرجوع. فأما لو أحاط بهم العدو من الجوانب كلها، فوجهان. وقيل:
قولان. أصحهما: جواز التحلل أيضا. والثاني: لا، إذ لا يحصل به أمن.
فصل ليس للمحرم التحلل بعذر المرض، بل يصبر حتى يبرأ. فإن
كان محرما بعمرة، أتمها. وإن كان بحج وفاته، تحلل بعمل عمرة، لأنه لا
يستفيد بالتحلل زوال المرض، بخلاف المحصر. هذا إذا لم يشرط التحلل
بالمرض. فإن شرط أنه إذا مرض تحلل، فطريقان. قال الجمهور: يصح الشرط
في القديم. وفي الجديد: قولان. أظهرهما: الصحة. والثاني: المنع.
والطريق الثاني قاله الشيخ أبو حامد وغيره: القطع بالصحة، لصحة الحديث
فيه ولو شرط التحليل لغرض آخر، كضلال الطريق. وفراغ النفقة، والخطأ في
445

العدد، فهو كالمرض على المذهب. وقيل: لا يصح قطعا وحيث صححنا
الشرط، فتحلل، فإن كان اشترط التحلل بالهدي، لزمه الهدي. وإن كان شرط
التحلل بلا هدي، لم يلزمه الهدي. وإن أطلق، لم يلزمه على الأصح. ولو شرط
أن يقلب حجه عمرة عند المرض، فهو أولى بالصحة من شرط التحلل، ونص
عليه. ولو قال: إذا مرضت، فأنا حلال، فيصير حلالا بنفس المرض، أم لا بد من
التحلل؟ فيه وجهان. المنصوص: الأول
فصل يلزم من تحلل بالاحصار، دم شاة إن لم يكن سبق منه شرط.
فإن كان شرط عند إحرامه، أنه يتحلل إذا أحصر، ففي تأثير هذا الشرط في إسقاط
الدم طريقان. أحدهما: على وجهين كما سبق فيمن تحلل بشرط المرض.
وأصحهما: القطع بأنه لا يؤثر، لان التحلل بالاحصار جائز بلا شرط، فشرطه
لاغ.
فرع اختلف القول في أن دم الاحصار، هل له بدل وما بدله؟ وهو
على الترتيب، أم التخيير؟ وسيأتي إيضاح هذا كله في الباب الآتي إن شاء الله
تعالى. فإن قلنا: لا بدل، وكان واجدا لدم، ذبحه، ونوى التحلل عنده. وإنما
اشترطت النية، لان الذبح قد كون للتحلل ولغيره، فيشترط قصد صارف. وإن لم
يجد الهدي لاعساره أو غير ذلك، فهل يتحلل في الحال، أم يتوقف التحلل على
وجوده؟ قولان. أظهرهما: التحلل في الحال، ولا بد من نية التحلل. وهل يجب
الحلق؟ إن قلنا: هو نسك، فنعم، وإلا، فلا. والحاصل: أنا إن اعتبرنا الذبح
والحلق مع النية، فالتحلل بالثلاثة. وإن لم نعتبر الذبح، حصل بالنية مع الحلق
على الأظهر، وبالنية وحدها على الآخر، وهو قولنا: الحلق ليس بنسك. وإن
قلنا: لدم الاحصار بدل، فإن كان يطعم، توقف التحلل عليه، كتوقفه على
446

الذبح. وإن كان يصوم، فكذلك مع ترتب الخلاف. ومنع التوقف هنا أولى للمشقة
في الصبر على الاحرام، لطول مدة الصوم.
فرع لا يشترط بعث دم الاحصار إلى الحرم، بل يذبحه حيث أحصر
ويتحلل، وكذا ما لزمه من دماء المحظورات قبل الاحصار، وما معه من هدي،
ويفرق لحومها على مساكين ذلك الموضع. هذا إن صد عن الحرم. فإن صد عن
البيت دون أطراف الحرم، فهل له الذبح في الحل؟ وجهان. أصحهما: الجواز.
المانع الثاني: الحصر الخاص الذي يتفق لواحد، أو شرذمة من الرفقة.
فينظر، إن لم يكن المحرم معذورا فيه، كمن حبس في دين يتمكن من أدائه، فليس
له التحلل، بل عليه أن يؤدي ويمضي في حجه. فإن فاته الحج في الحبس، لزمه
أن يسير إلى مكة ويتحلل بعمل عمرة. وإن كان معذورا، كمن حبسه السلطان
ظلما، أو بدين لا يتمكن من أدائه، جاز له التحلل على المذهب، وبه قطع
العراقيون، وقال المراوزة: في جواز التحلل قولان. أظهرهما: الجواز.
المانع الثالث: الرق. فإحرام العبد ينعقد بإذن سيده وبغير إذنه. فإن أحرم
بإذنه، لم يكن له تحليله، سواء بقي نسكه صحيحا أو أفسده. ولو باعه والحالة
هذه، لم يكن للمشتري تحليله، وله الخيار إن جهل إحرامه، فإن أحرم بغير إذنه،
فالأولى أن يأذن له في إتمام نسكه. فإن حلله، جاز على المذهب، وبه قطع
الجمهور. وحكى ابن كج وجها: أنه ليس له تحليله، لأنه يلزمه بالشروع، تخريجا
من أحد القولين في الزوجة إذا أحرمت بحج التطوع، وهذا شاذ منكر.
قلت: قال الجرجاني في المعاياة: ولو باعه والحالة هذه،، فللمشتري تحليله
كالبائع، ولا خيار له. والله أعلم.
ولو أذن له في الاحرام، فله الرجوع قبل الاحرام. فإن رجع ولم يعلم العبد،
فأحرم، فله تحليله على الأصح. ولو أذن له في العمرة، فأحرم بالحج، فله
تحليله، ولو كان بالعكس، لم يكن له تحليله. قاله في التهذيب. وظني أنه لا
يسلم عن الخلاف.
447

قلت: ذكر الدارمي في الصورتين وجهين، لكن الأصح قول صاحب التهذيب. والله أعلم.
ولو أذن له في التمتع، فله منعه من الحج بعد تحلله من العمرة، وليس له
تحليله عن العمرة، ولا عن الحج، بعد الشروع. ولو أذن في الحج أو التمتع،
فقرن، لم يجز تحليله. ولو أذن أن يحرم في ذي القعدة، فأحرم في شوال، فله
تحليله قبل دخول ذي القعدة، وبعد دخوله، فلا. وإذا أفسد العبد حجه بالجماع،
لزمه القضاء. وهل يجزئه القضاء في الرق؟ فيه قولان كما سبق في الصبي. فإن قلنا:
يجزئ، لم يلزم السيد أن يأذن له فيه إن كان إحرامه الأول من غير إذنه، وكذا إن
كان بإذنه على الأصح. وكل دم لزمه بفعل محظور، كاللباس، والصيد، أو
بالفوات، لم يلزمه السيد بحال سواء أحرم بإذنه أم بغير إذنه. ثم العبد، لا ملك له
حتى يتحلل بذبح. فإن ملكه السيد، فعلى القديم: يملك، فيلزم إخراجه. وعلى
الجديد، لا يملك، ففرضه الصوم، وللسيد منعه منه في حال الرق إن كان أحرم
بغير إذنه، وكذا بإذنه على الأصح، لأنه لم يأذن في موجبه. ولو قرن، أو تمتع بغير
إذن سيده، فحكم دم القران والتمتع حكم دماء المحظورات. وإن قرن أو تمتع
بإذنه، فهل يجب الدم على السيد؟ الجديد: أنه لا يجب. وفي القديم قولان،
بخلاف ما لو أذن له في النكاح، فإن السيد يكون ضامنا للمهر على القديم قولا
واحدا، لأنه لا بدل للمهر، وللدم بدل، وهو الصوم، والعبد من أهله. وعلى
هذا، لو أحرم بإذن السيد، فأحصر وتحلل، فإن قلنا: لا بدل لدم الاحصار، صار
السيد ضامنا على القديم قولا واحدا. وإن قلنا: له بدل، ففي صيرورته ضامنا له
في القديم، قولان. وإذا لم نوجب الدم على السيد، فالواجب على العبد الصوم،
وليس لسيده منعه منه على الأصح، لاذنه في سببه. ولو ملك السيد هديا، وقلنا:
يملكه، أراقه، وإلا، لم تجز إراقته. ولو أراقه السيد عنه فهو على هذين
القولين. ولو أراق عنه بعد موته، جاز قولا واحدا، لأنه حصل اليأس من تكفيره.
والتمليك بعد الموت، ليس بشرط. ولهذا، لو تصدق عن ميت جاز. ولو عتق
العبد قبل صومه ووجد هديا، فعليه الهدي إن اعتبرنا في الكفارة حال الأداء أو
الأغلظ. وإن اعتبرنا حال الوجوب، فله الصوم. وهل له الهدي؟ قولان.
فرع حيث جوزنا للسيد تحليله، أردنا أنه يأمره بالتحلل، لا أنه يستقل بما
448

يحصل به التحلل، إذ غايته أن يستخدمه ويمنعه المضي، ويأمره بفعل
المحظورات، أو يفعلها به، ولا يرتفع الاحرام بشئ من هذا. وإذا جاز للعبد
تحليله، جاز للعبد التحلل. ثم إن ملكه السيد هديا، وقلنا: يملك، ذبح ونوى
التحلل، أو حلق ونوى التحلل، وإلا فطريقان. أحدهما: أنه كالحر، فيتوقف
تحلله على وجود الهدي، إن قلنا: لا بدل لدم الاحصار، أو على الصوم، إن
قلنا: له بدل. كل هذا على أحد القولين. وعلى أظهرهما: لا يتوقف، بل يكفيه
نية التحلل والحلق إن قلنا: نسك. والطريق الثاني، القطع بهذا القول الثاني.
وهذا الطريق، هو الأصح عند الأصحاب، لعظم المشقة في انتظار العتق، ولان
منافعه لسيده، وقد يستعمله في محظورات الاحرام.
فرع أم الولد، والمدبر، والمعلق عتقه بصفة، ومن بعضه حر،
كالقن. ولو أحرم المكاتب بغير إذن المولى، فقيل: في جواز تحليله قولان،
كمنعه من سفر التجارة. وقيل: له تحليله قطعا، لان للسيد منفعة في سفر
التجارة.
فرع ينعقد نذر الحج من العبد وإن لم يأذن له السيد على الأصح، فيكون
في ذمته. فلو أتى به في حال الرق، هل يجزئه؟ وجهان.
قلت: الأصح. يجزئه. والله أعلم.
المانع الرابع: الزوجية. يستحب للمرأة أن لا تحرم بغير إذن زوجها،
449

ويستحب له الحج بها. فلو أرادت أداء فرض حجها، فللزوج منعها على الأظهر.
والثاني: ليس له، بل لها أن تحرم بغير إذنه. ومنهم من قطع بهذا، والمذهب:
الأول. ولو أحرمت بغير إذنه، إن قلنا: ليس له منعها، لم يملك تحليلها، وإلا،
فيملكه على الأظهر. وأما حج التطوع، فله منعها منه. فإن أحرمت به، فله
تحليلها على المذهب، وقيل: قولان. وحيث قلنا: يحللها. فمعناه: يأمرها به
كما سبق في العبد. وتحللها كتحلل الحر المحصر سواء. ولو لم تتحلل، فللزوج
أن يستمتع بها، والاثم عليها، كذا حكاه الامام عن الصيدلاني، ثم توقف فيه
الامام.
فرع لو كانت مطلقة، فعليه حبسها للعدة، وليس لها التحلل، إلا أن
تكون رجعية، فيراجعها ويحللها.
فرع الأمة المزوجة، ليس لها الاحرام إلا بإذن الزوج والسيد جميعا.
المانع الخامس: منع الأبوين، فمن له أبوان، أو أحدهما، يستحب أن لا
يحج إلا بإذنهما، أو بإذنه. ولكل منهما منعه من الاحرام بالتطوع على المذهب.
وحكي فيه وجه شاذ. وهل لهما تحليله؟ قولان سبق نظيرهما. وأما حج الفرض،
فليس لهما منعه من الاحرام به على المذهب، وبه قطع الجمهور. وقيل: قولان
كالزوجة، فإن أحرم به، فلا منع بحال، وحكي فيه وجه شاذ منكر.
المانع السادس: الدين. فمن عليه دين حال وهو موسر، يجوز لمستحق
الدين منعه من الخروج وحبسه. فإن أحرم، فليس له التحلل كما سبق، بل عليه
قضاء الدين والمضي فيه. وإن كان معسرا، فلا مطالبة ولا منع، وكذا لا منع لو كان
الدين مؤجلا، لكن يستحب أن لا يخرج حتى يوكل من يقضي الدين عند حلوله.
فصل إذا تحلل المحصر، فإن كان نسكه تطوعا، فلا قضاء، وإلا، فإن
لم يكن مستقرا كحجة الاسلام في السنة الأولى من سني الامكان، فلا حج عليه،
إلا أن تجتمع شروط الاستطاعة بعد ذلك. وإن كان مستقرا كحجة الاسلام فيما بعد
السنة الأولى من سني الامكان، وكالقضاء والنذر، فهو باق في ذمته. ثم ما ذكرناه
من نفي القضاء، هو في الحصر العام. فأما الخاص، فالأصح: أنه كالعام.
وقيل: يجب فيه القضاء.
450

فرع لو صد عن طريق، وهناك طريق آخر، نظر، إن تمكن من سلوكه،
بأن وجد شرائط الاستطاعة فيه، لزمه سلوكه، سواء طال هذا الطريق، أم قصر،
سواء رجا الادراك، أم خاف الفوات، أم تيقنه، بأن أحصر في ذي الحجة وهو
بالعراق مثلا، فيجب المضي والتحلل بعمل عمرة، ولا يجوز التحلل بحال، وإذا
سلكه كما أمرناه، ففاته الحج لطول الطريق الثاني، أو خشونته، أو غيرهما مما
يحصل الفوات بسببه، لم يلزمه القضاء على الأظهر، لأنه محصر، ولعدم تقصيره.
والثاني: يلزمه كما لو سلكه ابتداء ففاته بضلال الطريق ونحوه. ولو استوى الطريقان
من كل وجه، وجب القضاء قطعا، لأنه فوات محض. وإن لم يتمكن من سلوك
الطريق الآخر، فهو كالصد المطلق. ولو أحصر، فصابر الاحرام متوقعا زواله،
ففاته الحج، والاحصار دائم، تحلل بعمل عمرة، وفي القضاء، طريقان.
أصحهما: طرد القولين فيمن فاته لطول الطريق الثاني. والطريق الثاني: القطع
بوجوب القضاء، فإنه تسبب بالمصابرة في الفوات.
فرع لا فرق في جواز التحلل بالاحصار بين أن يتفق قبل الوقوف أو بعده،
ولا بين الاحصار عن البيت فقط، أو عن الموقف فقط، أو عنهما. ثم إن كان قبل
الوقوف، وأقام على إحرامه إلى أن فاته الحج، فإن أمكنه التحلل بالطواف
والسعي، لزمه وعليه القضاء والهدي، للفوات. وإن لم يزل الحصر، تحلل
بالهدي، وعليه مع القضاء هديان. أحدهما: للفوات، والآخر: للتحلل. وإن
كان الاحصار بعد الوقوف، فإن تحلل، فذاك. وهل يجوز البناء لو انكشف الاحصار؟ فيه الخلاف السابق.
الجديد: لا يجوز. والقديم: يجوز. ويحرم
إحراما ناقصا ويأتي ببقية الأعمال. وعلى هذا، لو لم يبن مع الامكان، وجب
القضاء. وقيل: فيه وجهان. وإن لم يتحلل حتى فاته الرمي والمبيت، فهو فيما
يرجع إلى وجوب الدم لفواتهما، كغير المحصر. وبماذا يتحلل؟ بني على أن
الحلق نسك، أم لا؟ وأن فوات زمن الرمي كالرمي، أم لا؟ وقد سبق بيانهما. فإن
قلنا: فوات وقت الرمي كالرمي، وقلنا: الحلق نسك، حلق وتحلل التحلل
الأول. وإن قلنا: ليس بنسك، حصل التحلل الأول بمضي زمن الرمي، وعلى
451

التقديرين، فالطواف باق عليه. فمتى أمكنه طاف، فيتم حجه. ثم إذا تحلل
بالاحصار الواقع بعد الوقوف، فالمذهب: أنه لا قضاء عليه، وبه قطع العراقيون.
وحكى صاحب التقريب في وجوب القضاء قولين، وطردهما في كل صورة أتى
فيها بعد الاحرام بنسك لتأكد الاحرام بذلك النسك. ولو صد عن عرفات ولم يصد
عن مكة، فيدخل مكة ويتحلل بعمل عمرة. وفي وجوب القضاء قولان سبقا.
فصل في حكم فوات الحج فواته بفوات الوقوف، وإذا فات تحلل
بالطواف والسعي والحلق، والطواف لا بد منه قطعا. وكذا السعي على المذهب إن
لم يكن سعي عقيب طواف القدوم. وفي قول: لا حاجة إلى السعي. ومنهم من
أنكر هذا القول. وأما الحلق، فيجب إن قلنا: هو نسك، وإلا، فلا. ولا يجب
الرمي والمبيت بمنى وإن بقي وقتهما. وقال المزني والاصطخري: يجب. ثم إذا
تحلل بأعمال العمرة، لا ينقلب حجه عمرة، ولا يجزئه عن عمرة الاسلام. وفي
وجه: ينقلب عمرة، وهو شاذ. ثم من فاته الحج، إن كان حجه فرضا، فهو باق
في ذمته كما كان. وإن كان تطوعا، لزمه قضاؤه كما لو أفسده. وفي وجوب الفور
في القضاء، الخلاف السابق في الافساد. ولا يلزمه قضاء عمرة مع الحج عندنا،
ويلزم مع القضاء للفوات دم واحد، وفيه قول مخرج: أنه يلزمه دمان.
أحدهما: للفوات. والآخر: لأنه في معنى المتمتع من حيث أنه تحلل بين
النسكين. ولا فرق بين أن يكون سبب الفوات مما يعذر فيه كالنوم، أم فيه تقصير.
باب الدماء
الدماء الواجبة في المناسك، سواء تعلقت بترك واجب، أو ارتكاب منهي،
452

إذا أطلقناها، أردنا شاة. فإن كان الواجب غيرها، كالبدنة في الجماع، نصصنا
عليها. ولا يجزئ فيها جميعها إلا ما يجزئ في الأضحية، إلا في جزاء
الصيد، فيجب المثل، في الصغير صغير، وفي الكبير كبير. وكل من لزمه
شاة، جاز له ذبح بقرة أو بدنة مكانها، إلا في جزاء الصيد. وإذا ذبح بدنة أو بقرة
مكان الشاة، فهل الجميع فرض حتى لا يجوز أكل شئ منها، أم الفرض سبعها
حتى يجوز له أكل الباقي؟ فيه وجهان.
قلت: الأصح: أنه سبعها، صححه صاحب البحر وغيره. والله
أعلم. ولو ذبح بدنة ونوى التصدق بسبعها عن الشاة الواجبة عليه، وأكل الباقي،
جاز. وله أن ينحر البدنة عن سبع شياه لزمته. ولو اشترك جماعة في ذبح بدنة أو
بقرة، وأراد بعضهم الهدي، وبعضهم الأضحية، وبعضهم اللخم، جاز، ولا
يجوز أن يشترك اثنان في شاتين، لامكان الانفراد
فصل في كيفية وجوب الدماء وما يقوم مقامها وفيه نظران. لامكان الانفراد
أحدهما: النظر في أي دم يجب على الترتيب، وأي دم يجب على التخيير
453

وهاتان الصفتان متقابلتان، فمعنى الترتيب: أن يتعين عليه الذبح، ولا يجوز
العدول إلى غيره، إلا إذا عجز عنه. ومعنى التخيير: أنه يجوز العدول إلى غيره مع
القدرة.
والنظر الثاني: في أنه، أي دم يجب على سبيل التقدير، وأي دم يجب على
سبيل التعديل؟ وهاتان الصفتان متقابلتان. فمعنى التقدير: أن الشرع قدر البدل
المعدول إليه ترتيبا أو تخييرا بقدر لا يزيد ولا ينقص. ومعنى التعديل: أنه أمر فيه
بالتقويم والعدول إلى غيره بحسب القيمة. فكل دم بحسب الصفات المذكورة، لا
يخلو من أحد أربعة أوجه. أحدها: الترتيب والتقدير. والثاني: الترتيب
والتعديل. والثالث: التخيير والتقدير. والرابع: التخيير والتعديل. وتفصيلها
بثمانية أنواع.
أحدها: دم التمتع، وهو دم ترتيب وتقدير، كما ورد به نص القرآن العزيز.
وقد سبق شرحه، وذكرنا أن دم القران في معناه. وفي دم الفوات، طريقان.
أصحهما وبه قطع الجمهور: أنه كدم التمتع في الترتيب والتقدير وسائر الأحكام.
والثاني: على قولين. أحدهما: هذا. والثاني: أنه كدم الجماع في الاحكام، إلا
أن هذا شاة، والجماع بدنة، لاشترك الصورتين في وجوب القضاء.
الثاني: جزاء الصيد، وهو دم تخيير وتعديل، ويختلف بكون الصيد مثليا أو
غيره، وسبق إيضاحه. وجزاء شجر الحرم، كجزاء الصيد. وسبق حكاية قول عن
رواية أبي ثور، أن دم الصيد على الترتيب، وهو شاذ.
الثالث: دم الحلق والقلم، وهو دم تخيير وتقدير.
فإذا حلق جميع شعره،
أو ثلاث شعرات، يخير بين أن يذبح شاة، وبين أن يتصدق بثلاثة آصع من طعام على
ستة مساكين، وبين أن يصوم ثلاثة أيام. وإذا تصدق بالأصع، وجب أن يعطي كل
مسكين نصف صاع. هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى في العدة
وجها: أنه لا يتقدر ما يعطى كل مسكين.
الرابع: الدم المنوط بترك المأمورات، كالاحرام من الميقات، والرمي
454

والمبيت بمزدلفة ليلة النحر، وبمنى ليالي التشريق، والدفع من عرفة قبل الغروب،
وطواف الوداع. وفي هذا الدم أربعة أوجه. أصحها وبه قطع العراقيون وكثيرون من
غيرهم: أنه كدم التمتع في الترتيب والتقدير. فإن عجز عن الدم، صام ثلاثة أيام
في الحج، وسبعة إذا رجع إلى أهله. والثاني: أنه ترتيب وتعديل، لان التعديل هو
القياس، وإنما يصار إلى التقدير بتوقيف. فعلى هذا، يلزمه ذبح شاة. فإن عجز،
قومها دراهم واشترى بها طعاما وتصدق به. فإن عجز، صام عن كل مد يوما. وإذا
ترك حصاة، فقد ذكرنا أقوالا في أن الواجب مد، أو درهم، أو ثلث شاة؟ فإن
عجز، فالطعام، ثم الصوم على ما يقتضيه التعديل بالقيمة. والثالث: أنه دم
ترتيب. فإن عجز، لزمه صوم الحلق. والرابع: دم تخيير وتعديل، كجزاء
الصيد، وهذان الوجهان شاذان ضعيفان.
الخامس: دم الاستمتاع، كالتطيب والادهان واللبس ومقدمات الجماع، فيه
أربعة أوجه. الأصح: أنه دم تخيير، وتقدير، كالحلق، لاشتراكهما في الترفه.
والثاني: تخيير وتعديل، كالصيد. والثالث: ترتيب وتعديل. والرابع: ترتيب
وتقدير، كالتمتع.
السادس: دم الجماع، وفيه طرق للأصحاب، واختلاف منتشر، المذهب
منه: أنه دم ترتيب وتعديل، فيجب بدنة. فإن عجز عنها، فبقرة. فإن عجز،
فسبعة من الغنم. فإن عجز، قوم البدنة بدراهم، والدراهم بطعام، ثم يتصدق به.
فإن عجز، صام عن كل مد يوما. وقيل: إذا عجز عن الغنم، قوم البدنة وصام.
فإن عجز، أطعم، فيقدم الصيام على الاطعام، ككفارة القتل ونحوها، وقيل: لا
مدخل للاطعام والصيام هنا، بل إذا عجز عن الغنم، ثبت الهدي في ذمته إلى أن
يجد تخريجا من أحد القولين في دم الاحصار. ولنا قول: وقيل وجه: أنه يتخير بين
البدنة، والبقرة، والغنم. فإن عجز عنها، فالاطعام ثم الصوم. وقيل: يتخير بين
البدنة، والبقرة، والسبع من الغنم، والاطعام، والصيام.
السابع: دم الجماع الثاني، أو الجماع بين التحللين. وقد سبق الخلاف،
أن واجبهما بدنة، أم شاة؟ إن قلنا: بدنة، فهي في الكيفية كالجماع الأول قبل
التحللين، وإلا، فكمقدمات الجماع.
455

الثامن: دم الاحصار، فمن تحلل بالاحصار، فعليه شاة، ولا عدول عنها إذا وجدها. وإن لم جدها، فهل له بدل؟ قولان. أظهرهما: نعم، كسائر
الدماء. والثاني: لا، إذ لم يذكر في القرآن بدله، بخلاف غيره. فإن قلنا بالبدل،
ففيه أقوال. أحدها: بدله الاطعام بالتعديل. فإن عجز، صام عن كل مد يوما.
وقيل: يتخير على هذا، بين صوم الحلق وإطعامه. والقول الثاني: بدله الاطعام
فقط، وفيه وجهان. أحدهما: ثلاثة آصع، كالحلق. والثاني: يطعم ما يقتضيه
التعديل. والقول الثالث: بدله الصوم فقط،، وفيه ثلاثة أقوال. أحدها: عشرة
أيام. والثاني: ثلاثة. والثالث: بالتعديل عن كل مد يوما. ولا مدخل للطعام على
هذا القول، غير أنه يعتبر به قدر الصيام. والمذهب على الجملة: الترتيب
والتعديل.
فصل في بان زمان إراقة الدماء ومكانها أما الزمان: فالدماء الواجبة
في الاحرام لارتكاب محظور أو ترك مأمور، لا تختص بزمان، بل تجوز في يوم
النحر وغيره. وإنما تختص بيوم النحر والتشريق الضحايا، ثم ما سوى دم الفوات
يراق في النسك الذي هو فيه. وأما دم الفوات، فيجوز تأخيره إلى سنة القضاء.
وهل تجوز إراقته في سنة الفوات؟ قولان. أظهرهما: لا، بل يجب تأخيره إلى سنة
456

القضاء. والثاني، نعم، كدماء الافساد. فعلى هذا، وقت الوجوب سنة
الفوات. وإن قلنا بالأظهر، ففي وقت الوجوب وجهان. أصحهما: وقته إذا أحرم
بالقضاء، كما يجب دم التمتع بالاحرام بالحج. ولهذا نقول: لو ذبح قبل تحلله من
الفائت، لم يجزه على الصحيح كما لو ذبح المتمتع قبل الفراغ من العمرة، هذا
إذا كفر بالدم، أما إذا كفر بالصوم، فإن قلنا: وقت الوجوب أن يحرم بالقضاء، لم
يقدم صوم الثلاثة على القضاء، ويصوم السبعة إذا رجع، وإن قلنا: تجب
بالفوات، ففي جواز صوم الثلاثة في حجة الفوات وجهان. ووجه المنع: أنه إحرام
ناقص.
وأما المكان، فالدماء الواجبة على المحرم ضربان. واجب على المحصر
بالاحصار، أو بفعل محظور. وقد سبق بيانه في الاحصار. وواجب على غيره،
فيختص بالحرم، ويجب تفريق لحمه على مساكين الحرم، سواء الغرباء
الطارئون والمستوطنون، لكن الصرف إلى المستوطنين أفضل. وهل يختص ذبحه
بالحرم؟ قولان. أظهرهما: نعم. فلو ذبح في طرف الحل، لم يجزه. والثاني:
يجوز ذبحه خارج الحرم، بشرط أن ينقل ويفرق في الحرم قبل تغير اللحم، وسواء
في هذا كله دم التمتع والقران، وسائر ما يجب بسبب في الحل أو الحرم، أو بسبب
مباح، كالحلق للأدنى، أو بسبب محرم. وفي القديم قولان. ما أنشئ بسببه في الحل، يجوز ذبحه وتفرقته في
الحل، كدم الاحصار. وفي وجه: ما وجب بسبب
مباح، لا يختص ذبحه وتفرقته بالحرم. ووجه: أنه لو حلق قبل وصوله الحرم وذبح
وفرق حيث حلق، جاز. وكل هذا شاذ ضعيف. وأفضل الحرم للذبح في حق
الحاج، منى. وفي حق المعتمر، المروة، لأنهما محل تحللهما. وكذا حكم ما
يسوقانه من الهدي.
قلت: قال القاضي حسين في الفتاوي: ولو لم يجد في الحرم مسكينا،
457

لم يجز نقل الدم إلى موضع آخر، سواء جوزنا نقل الزكاة، أم لا، لأنه وجب
لمساكين الحرم، كمن نذر الصدقة على مساكين بلد فلم
يجدهم، يصبر إلى أن يجدهم، ولا يجوز نقلها، ويخالف الزكاة على قول، لأنه ليس فيها نص صريح
بتخصيص البلد، بها، بخلاف هذا. والله أعلم.
فرع لو كان يتصدق بالاطعام بدلا عن الذبح، وجب تخصيصه بمساكين
الحرم، بخلاف الصوم، يأتي به حيث شاء، إذ لا غرض للمساكين فيه.
قلت: قال صاحب البحر: أقل ما يجزئ أن يدفع الواجب إلى ثلاثة من
مساكين الحرم إن قدر. فإن دفع إلى اثنين مع قدرته على ثالث، ضمن. وفي
قدر الضمان، وجهان. أحدهما: الثلث والثاني: أقل ما يقع عليه الاسم،
وتلزمه النية عند التفرقة، قال: فإن فرق الطعام، فهل يتعين لكل مسكين مد
كالكفارة، أم لا؟ وجهان. الأصح: لا يتقيد، بل تجوز الزيادة على مد، والنقص
منه. والثاني: لا يجوز أقل منه ولا أكثر. والله أعلم.
فرع لو ذبح الهدي في الحرم، فسرق منه، لم يجزئه عما في ذمته،
وعليه إعادة الذبح، وله شراء اللحم والتصدق به بدل الذبح. وفي وجه ضعيف:
يكفيه التصدق بالقيمة.
فصل الأيام المعلومات: هن العشر الأول من ذي الحجة، آخرها يوم
النحر. والأيام المعدودات: أيام التشريق.
باب الهدي
يستحب لمن قصد مكة بحج أو عمرة، أن يهدي إليها شيئا من النعم، ولا
يجب ذلك إلا بالنذر. وإذا ساق هديا تطوعا أو منذورا، فإن كان بدنة أو بقرة،
استحب أن يقلدها نعلين، وليكن لهما قيمة ليتصدق بهما، وأن يشعرها أيضا،
والاشعار الاعلام. والمراد هنا: أن يضرب صفحة سنامها الأيمن بحديدة وهي
مستقبلة القبلة فيدميها ويلطخها بالدم، ليعلم من رآها أنها هدي، فلا يتعرض لها.
458

وإن ساق غنما، استحب تقليدها بخرب القرب، وهي عراها وآذانها، لا بالنعل، ولا يشعرها.
قلت: وفي الأفضل مما يقدم من الاشعار والتقليد، وجهان. أحدهما: يقدم
الاشعار، وقد صح فيه حديث في صحيح مسلم والثاني: يقدم التقليد،
وهو المنصوص. وصح ذلك من فعل ابن عمر رضي الله عنهما. قال صاحب
البحر: وإن قرن هديين في حبل، أشعر أحدهما في سنامه الأيمن، والآخر في
الأيسر، ليشاهدا، وفيما قاله احتمال. والله أعلم.
وإذا قلد النعم وأشعرها، لم تصر هديا واجبا على المشهور، كما لو كتب
الوقف على باب داره. وإذا عطب الهدي في الطريق، فإن كان تطوعا، فعل به ما
شاء من بيع أو أكل وغيرهما. وإن كان واجبا، لزمه ذبحه. فلو تركه حتى هلك
ضمنه. وإذا ذبحه، غمس النعل التي قلده في دمه، وضرب بها سنامه، وتركه
ليعلم من مر به أنه هدي، يأكل منه. وهل تتوقف الإباحة على قوله: أبحته لمن
يأكل منه؟ قولان. أظهرهما: لا تتوقف، لأنه بالنذر زال ملكه وصار للمساكين.
ولا يجوز للمهدي، ولا لأغنياء الرفقة، الاكل منه قطعا، ولا لفقراء الرفقة على
الصحيح.
459

قلت: الأصح الذي يقتضيه ظاهر الحديث وقول الأصحاب: أن المراد
بالرفقة: جميع القافلة. وحكى الروياني في البحر وجها استحسنه: أنهم الذين
يخالطونه في الاكل وغيره، دون باقي القافلة. والله أعلم.
وفي وقت ذبح الهدي، وجهان. الصحيح، أنه يختص بيوم النحر وأيام
التشريق، كالأضحية. وبهذا قطع العراقيون وغيرهم. والثاني: لا يختص بزمن،
كدماء الجبران. فعلى الأول، لو أخر الذبح حتى مضت مدة هذه الأيام، فإن كان
الهدي واجبا، ذبحه قضاء، وإن كان تطوعا، فقد فات. فإن ذبحه، قال الشافعي
رحمه الله: كان شاة لحم.
قلت: وإذا عطب هدي التطوع، فذبحه، قال صاحب الشامل وغيره: لا
يصير مباحا للفقراء إلا بلفظه، وهو أن يقول: أبحته للفقراء أو المساكين. قال:
ويجوز لمن سمعه الاكل. وفي غيره، قولان. قال في الاملاء: لا يحل حتى
يعلم الإذن. وقال في القديم والأم: يحل، وهو الأظهر. والله أعلم.
460

كتاب الضحايا
اعلم أن الامام الرافعي رحمه الله، ذكر كتاب الضحايا، والصيد والذبائح،
والعقيقة، والأطعمة، والنذور، في أواخر الكتاب بعد المسابقة. وهناك ذكرها
المزني، وأكثر الأصحاب. وذكرها طائفة منهم هنا، وهذا أنسب، فاخترته. والله
أعلم.
التضحية، سنة مؤكدة، وشعار ظاهر، ينبغي لمن قدر أن يحافظ عليها.
وإذا التزمها بالنذر، لزمته. ولو اشترى بدنة أو شاة تصلح للضحية بنية التضحية،
أو الهدي، لم تصر بمجرد الشراء ضحية ولا هديا. وفي تتمة التتمة وجه: أنها
تصير، وهو غلط حصل عن غفلة. وموضع الوجه، النية في دوام الملك، كما
سيأتي إن شاء الله تعالى. قال صاحب البحر: لو قال: إن اشتريت شاة، فلله
علي أن أجعلها نذرا، فهو نذر مضمون في الذمة. فإذا اشترى شاة، فعليه أن
يجعلها ضحية، ولا تصير بالشراء ضحية، فلو عين فقال: إن اشتريت هذه الشاة،
461

فعلي أن أجعلها ضحية، فوجهان. أحدهما: لا يلزمه جعلها ضحية، تغليبا
لحكم التعيين، وقد أوجبها قبل الملك. والثاني: يلزم، تغليبا للنذر.
فصل للتضحية شروط وأحكام. أما الشروط، فأربعة.
أحدها: أن يكون المذبوح من النعم، وهي الإبل، والبقر، والغنم، سواء
الذكر والأنثى، وكل هذا مجمع عليه. ولا يجزئ من الضأن إلا الجذع أو
الجذعة، ولا من الإبل والبقر والمعز إلا الثني أو الثنية. وفي وجه: يجزئ الجذع
من المعز، وهو شاذ. ثم الجذع: ما استكمل سنة على الأصح. وقيل: ما
استكملت ستة أشهر. وقيل: ثمانية. فعلى الأول، قال أبو الحسن العبادي: لو
أجذع قبل تمام السنة، كان مجزئا، كما لو تمت السنة قبل أن يجذع. ويكون
ذلك، كالبلوغ بالسن، أو الاحتلام، فإنه يكفي فيه أحدهما، وبهذا صرح صاحب
التهذيب فقال: الجذعة: ما استكملت سنة، أو أجذعت قبلها، أي: أسقطت
سنها. وأما الثني من الإبل، فهو ما استكمل خمس سنين، وطعن في السادسة.
وروى حرملة عن الشافعي رحمه الله: أنه الذي استكمل ستا ودخل في السابعة.
قال الروياني: وليس ذلك قولا آخر، وإن توهمه بعض أصحابنا، ولكنه إخبار عن
نهاية سن الثني. وما ذكره الجمهور، بيان ابتداء سنه. وأما الثني من البقر، فما
استكمل سنتين ودخل في الثالثة. وروى حرملة: أنه ما استكمل ثلاث سنين ودخل
في الرابعة. والمشهور المعروف، هو الأول. وأما الثني من المعز، فالأصح: أنه
الذي استكمل سنتين ودخل في الثالثة. وقيل: ما استكمل سنة.
فصل في صفتها وفيه مسائل.
إحداها: المريضة، إن كان مرضها يسيرا، لم يمنع الاجزاء وإن كان بينا
يظهر بسببه الهزال وفساد اللحم، منع الاجزاء، وهذا هو المذهب. وحكى ابن كج
462

قولا: أن المرض لا يمنع بحال، وأن المرض المذكور في الحديث المراد به
الجرب. وحكي وجه: أن المرض يمنع الاجزاء وإن كان يسيرا، وحكاه في
الحاوي قولا قديما. وحكي وجه في الهيام خاصة، أنه يمنع الاجزاء، وهو من
أمراض الماشية، وهو أن يشتد عطشها، فلا تروى من الماء.
قلت: هو - بضم الهاء - قال أهل اللغة: هو داء يأخذها، فتهيم في الأرض لا
ترعى. وناقة هيماء - بفتح الهاء والمد -. والله أعلم.
الثانية: الجرب، يمنع الاجزاء، كثيره وقليله، كذا قاله الجمهور، ونص
عليه في الجديد، لأنه يفسد اللحم والودك. وفي وجه: لا يمنع إلا كثيره،
كالمرض، واختاره الامام، والغزالي. والصحيح: الأول، وسواء في المرض
والجرب، ما يرجى زواله، وما لا يرجى.
الثالثة: العرجاء، إن اشتد عرجها، بحيث تسبقها الماشية إلى الكلأ الطيب
وتتخلف عن القطيع، لم تجزئ. وإن كان يسيرا لا يخلفها عن الماشية، لم
يضر. فلو انكسر بعض قوائمها فكانت تزحف بثلاث لم تجزئ. ولو أضجعها
ليضحي بها وهي سليمة، فاضطربت وانكسرت رجلها، أو عرجت تحت السكين،
لم تجزئه على الأصح، لأنها عرجاء عند الذبح، فأشبه ما لو انكسرت رجل شاة فبادر
إلى التضحية بها، فإنها لا تجزئ.
الرابعة: لا تجزئ العمياء، ولا العوراء التي ذهبت حدقتها، وكذا إن بقيت حدقتها
على الأصح. وتجزئ العشواء على الأصح، وهي التي تبصر بالنهار دون الليل،
لأنها تبصر وقت الرعى.
وأما العمش وضعف بصر العينين جميعا، فقطع الجمهور بأنه لا يمنع. وقال
463

الروياني إن غطى بياض، أذهب أكثره منع وإن أذهب أقله، لم يمنع
على الصحيح.
الخامسة: العجفاء التي ذهب مخها من شدة هزالها، لا تجزئ، وإن كان
بها بعض الهزال ولم يذهب مخها، أجزأت، كذا أطلقه كثيرون. وقال في
الحاوي: إن كان خلقيا، فالحكم كذلك، وإن كان لمرض، منع، لأنه داء.
وقال إمام الحرمين: كما لا يعتبر السمن البالغ للاجزاء، لا يعتبر العجف البالغ
للمنع. وأقرب معتبر أن يقال: إن كان لا ترغب في لحمها الطبقة العالية من طلبة
اللحم في سني الرخاء، منعت.
السادسة: ورد النهي عن الثولاء، وهي المجنونة التي تستدير في الرعي ولا
ترعى إلا قليلا فتهزل.
السابعة: يجزئ الفحل وإن كثر نزوانه، والأنثى وإن كثرت ولادتها، وإن
لم يطلب لحمها، إلا إذا انتهيا إلى العجف البين.
الثامنة: لا تجزئ مقطوعة الأذن، فإن قطع بعضها، نظر، فإن لم يبن منها
شئ، بل شق طرفها وبقي متدليا، لم يمنع على الأصح، وقال القفال: يمنع.
وإن أبين، فإن كان كثيرا بالإضافة إلى الاذن، منع قطعا، وإن كان يسيرا، منع
أيضا على الأصح، لفوات جزء مأكول. وقال الامام: وأقرب ضبط بين الكثير
واليسير: أنه إن لاح النقص من البعد، فكثير، وإلا فقليل.
التاسعة: لا يمنع الكي في الاذن وغيرها على المذهب، وقيل: وجهان،
لتصلب الموضع، وتجزئ صغيرة الاذن، ولا تجزئ التي لم يخلق لها أذن.
العاشرة: لا تجزئ التي أخذ الذئب مقدارا بينا من فخذها بالإضافة إليه، ولا
464

يمنع قطع الفلقة اليسيرة من عضو كبير ولو قطع الذئب أو غيره أليتها أو ضرعها، لم
تجزئ على المذهب، وتجزئ التي خلقت بلا ضرع أو بلا ألية على الأصح، كما
يجزئ الذكر من المعز، بخلاف التي لم يخلق لها أذن، لان الاذن عضو لازم
غالبا. والذنب كالألية، وقطع بعض الألية أو الضرع كقطع كله، ولا تجوز مقطوعة
بعض اللسان.
الحادية عشرة: يجزئ الموجوء والخصي، كذا قطع به الأصحاب، وهو
الصواب. وشذ ابن كج، فحكى في الخصي قولين، وجعل المنع: الجديد.
الثانية عشرة: تجزئ التي لا قرن لها والتي انكسر قرنها، سواء دمي قرنها
بالانكسار، أم لا. قال القفال: إلا أن يؤثر ألم الانكسار في اللحم، فيكون
كالجرب وغيره، وذات القرن أفضل.
الثالثة عشرة: تجزئ التي ذهب بعض أسنانها، فإن انكسر أو تناثر جميع
أسنانها، فقد أطلق صاحب التهذيب وجماعة: أنها لا تجزئ، وقال الامام:
قال المحققون: تجزئ. وقيل: لا تجزئ. وقال بعضهم: إن كان ذلك لمرض
أو كان يؤثر في الاعتلاف وينقص اللحم، منع، وإلا، فلا، وهذا حسن، ولكنه
يؤثر بلا شك، فيرجع الكلام إلى المنع المطلق.
قلت: الأصح: المنع. وفي الحديث نهي عن المشيعة. قال في
البيان: هي المتأخرة عن الغنم، فإن كان ذلك لهزال أو علة، منع، لأنها
عجفاء، وإن كان عادة وكسلا، لم يمنع. والله أعلم.
فرع في صفة الكمال فيه مسائل.
إحداها: يستحب للتضحية الأسمن الأكمل، حتى أن التضحية بشاة سمينة،
أفضل من شاتين دونها. قال الشافعي رحمه الله تعالى: استكثار القيمة في
465

الأضحية أحب من استكثار العدد، وفي العتق عكسه، لان المقصود هنا اللحم.
والسمين أكثر، وأطيب، والمقصود في العتق التخليص من الرق، وتخليص عدد،
أولى من واحد وكثرة اللحم أفضل من كثرة الشحم، إلا أن يكون لحما رديئا.
الثانية: أفضلها البدنة، ثم البقرة، ثم الضأن، ثم المعز. وسبع من
الغنم، أفضل من بدنة أو بقرة على الأصح. وقيل: البدنة أو البقرة أفضل، لكثرة
اللحم، والتضحية بشاة، أفضل من المشاركة في بدنة.
الثالثة: أفضلها البيضاء، ثم العفراء، وهي التي لا يصفو بياضها، ثم
السوداء.
الرابعة: التضحية بالذكر أفضل من الأنثى على المذهب، وهو نصه في
البويطي. وحكي عن نص الشافعي رحمه الله، أن الأنثى أفضل، فقيل: ليس
مراده تفضيل الأنثى في الأضحية، وإنما أراد تفضيلها في جزاء الصيد، إذا قومت
لاخراج الطعام، فالأنثى أكثر قيمة. وقيل: المراد أن أنثى لم تلد أفضل من الذكر
إذا كثر نزوانه، فإن فرضنا ذكرا لم ينز، وأنثى لم تلد، فهو أفضل منها.
فصل الشاة الواحدة لا يضحى بها إلا عن واحد، لكن إذا ضحى بها واحد
من أهل بيت، تأدى الشعار والسنة لجميعهم، وعلى هذا حمل ما روي عن
النبي (ص) أنه ضحى بكبش وقال: اللهم تقبل من محمد وآل محمد.
وكما أن الفرض ينقسم إلى فرض عين، وفرض كفاية، فقد ذكروا أن التضحية
466

كذلك، وأن التضحية مسنونة لكل أهل بيت.
قلت: وقد حمل جماعة الحديث على الاشراك في الثواب، وسيأتي بيانه إن
شاء الله تعالى. والله أعلم.
فرع البدنة تجزئ عن سبعة، وكذا البقرة، سواء كانوا أهل بيت، أو
بيوت، سواء كانوا متقربين بقربة متفقة أو مختلفة، واجبة أم مستحبة، أم كان
بعضهم يريد اللحم. وإذا اشتركوا، فالمذهب أن قسمة لحمها تبنى على أن القسمة
بيع، أم إفراز؟ إن قلنا: إفراز، جازت. وإن قلنا: بيع، فبيع اللحم الرطب
بمثله، لا يجوز، فالطريق أن يدفع المتقربون نصيبهم إلى الفقراء مشاعا، ثم
يشتريها منهم من يريد اللحم بدراهم، أو يبيع مريد اللحم نصيبه للمتقربين بدراهم.
وإن شاءوا جعلوا اللحم إجزاء باسم كل واحد جزء، ثم يبيع صاحب الجزء نصيبه من
باقي الاجزاء بدراهم، ويشتري من أصحابه نصيبهم في ذلك الجزء بالدراهم، ثم
يتقاصون. وقال صاحب التلخيص: تصح القسمة، قطعا للحاجة. وكما يجوز
تضحية سبعة ببدنة أو بقرة، يجوز أن يقصد بعضهم التضحية، وبعضهم الهدي،
ويجوز أن ينحر الواحد البدنة أو البقرة عن سبع شياه لزمته بأسباب مختلفة،
كالتمتع، والقران، والفوات، ومباشرة محظورات الاحرام، ونذر التصدق بشاة،
والتضحية بشاة، لكن في جزاء الصيد، تراعى المماثلة ومشابهة الصورة، فلا
تجزئ البدنة عن سبعة من الظباء. ولو وجب شاتان على رجلين في قتل صيدين،
لم يجز أن يذبحا عنهما بدنة، ويجوز أن يذبح الواحد بدنة أو بقرة، سبعها عن شاة
لزمته، ويأكل الباقي كمشاركة من يريد اللحم. ولو جعل جميع البدنة أو البقرة مكان
الشاة، فهل يكون الجميع واجبا حتى لا يجوز أكل شئ منه، أم الواجب السبع فقط
حتى يجوز الاكل من الباقي؟ فيه وجهان، كالوجهين في ماسح جميع رأسه في
الوضوء، هل يقع جميعه فرضا، أم الفرض ما يقع عليه الاسم؟
قلت: قيل: الوجهان في المسح فيما إذا مسح دفعة واحدة، فإن مسح شيئا
فشيئا، فالثاني سنة قطعا، وقيل: الوجهان في الحالين، ومثلهما إذا طول الركوع
والسجود والقيام زيادة على الواجب، وفائدته في زيادة الثواب في الواجب،
467

والأرجح في الجميع أن الزيادة تقع تطوعا. والله أعلم.
ولو اشترك رجلان في شاتين، لم تجزئهما على الأصح، ولا يجزئ بعض
شاة بلا خلاف بكل حال.
الشرط الثاني: الوقت.
فيدخل وقت التضحية إذا طلعت الشمس يوم النحر، ومضى قدر ركعتين
وخطبتين خفيفات على المذهب. وفي وجه: تعتبر صلاة رسول الله (ص) وخطبته.
وقرأ رسول الله (ص) ب‍ ق و * (اقتربت الساعة) * وخطب خطبة متوسطة. وقالت
المراوزة: الخلاف في طول الصلاة فقط، والخطبة مخففة قطعا، فإنه السنة. قال
الامام: وما أرى من يعتبر ركعتين خفيفتين، يكتفي بأقل ما يجزئ، وظاهر كلام
صاحب الشامل خلافه. وفي وجه: يكفي مضي ما يسع ركعتين بعد خروج وقت
الكراهة، ولا تعتبر الخطبتان. ويخرج وقت التضحية بغروب الشمس في اليوم
الثالث من أيام التشريق. ويجوز ليلا ونهارا، لكن تكره التضحية والذبح مطلقا في
الليل، فإن ذبح قبل الوقت، لم تكن أضحية، فإن لم يضح حتى خرج الوقت،
فاتت، فإن ضحى في السنة الثانية في الوقت، وقع عن الوقت، لا عن الماضي،
وهذا كله في أضحية التطوع فأما المنذورة، ففي توقيتها خلاف يأتي إن شاء الله
تعالى.
الشرط الثالث: أهلية الذابح. وفيه مسائل:
إحداها: يستحب أن يذبح ضحيته وهديه بنفسه. وله أن يوكل في ذبحها
من تحل ذبيحته، والأولى أن يوكل مسلما فقيها، لعلمه بشروطها. ولا يجوز توكيل
المجوسي والوثني، بخلاف الكتابي. وإذا وكل فيستحب أن يحضر الذبح.
468

ويكره توكيل الصبي في ذبحها. وفي كراهة توكيل الحائض، وجهان. قلت: الأصح: لا يكره، لأنه لم يصح فيه نهي. والله أعلم.
والحائض أولى من الصبي والصبي المسلم أولى من الكتابي.
الثانية: النية شرط في التضحية. وهل يجوز تقديمها على الذبح، أم يجب
أن تكون مقرونة به؟ وجهان. أصحهما: الجواز. ولو قال: جعلت هذه الشاة
ضحية، فهل يكفيه التعيين والقصد عن نية الذبح؟ وجهان. أصحهما عند
الأكثرين: لا يكفيه، لان التضحية قربة في نفسها، فوجبت النية فيها، واختار
الامام، والغزالي: الاكتفاء.
ولو التزم ضحية في ذمته، ثم عين شاة عما في ذمته، بني على الخلاف في
أن المعينة، هل تتعين عن المطلقة في الذمة؟ إن قلنا: لا فلا بد من النية عند الذبح،
وإلا، فعلى الوجهين، ولو وكل ونوى عند ذبح الوكيل، كفى ولا حاجة إلى نية
الوكيل، بل لو لم يعلم أنه مضح، لم يضر. وإن نوى عند الدفع إلى الوكيل فقط،
فعلى الوجهين في تقديم النية.
ويجوز أن يفوض النية إلى الوكيل إن كان مسلما، وإن كان كتابيا، فلا.
الثالثة: العبد القن، والمدبر، والمستولدة، لا يجوز لهم التضحية إن قلنا
بالمشهور: إنهم لا يملكون بالتمليك، فإن أذن السيد، وقعت التضحية عن السيد.
فإن قلنا: يملكون، لم يجز تضحيتهم بغير إذنه، لان له حق الانتزاع. فإن أذن،
وقعت عنهم، كما لو أذن لهم في التصدق، وليس له الرجوع بعد الذبح ولا بعد
جعلها ضحية. والمكاتب لا تجوز تضحيته بغير إذن السيد، فإن أذن، فعلى القولين
469

في تبرعه بإذنه. ومن بعضه رقيق، له أن يضحي بما ملكه بحريته، ولا يحتاج إلى
إذن.
الرابعة: لو ضحى عن الغير بغير إذنه، لم يقع عنه. وفي التضحية عن
الميت، كلام يأتي في الوصية إن شاء الله تعالى.
قلت: إذا ضحى عن غيره بلا إذن، فإن كانت الشاة معينة بالنذر، وقعت عن
المضحي، وإلا، فلا، كذا قاله صاحب العدة وغيره. وأطلق الشيخ إبراهيم
المروروذي: أنها تقع عن المضحي، قال هو وصاحب العدة: لو أشرك غيره في
ثواب أضحيته وذبح عن نفسه، جاز، قالا: وعليه يحمل الحديث المتقدم:
اللهم تقبل من محمد وآل محمد. والله أعلم.
الشرط الرابع: الذبح.
فالذبح الذي يباح به الحيوان المقدور عليه، إنسيا كان أو وحشيا، ضحية كان
أو غيرها، هو التذفيف بقطع جميع الحلقوم والمرئ من حيوان فيه حياة مستقرة بآلة
ليست عظما ولا ظفرا، فهذه قيود. أما القطع، فاحتراز مما لو اختطف رأس عصفور
أو غيره، بيده، أو ببندقة، فإنه ميتة. وأما الحلقوم، فهو مجرى النفس خروجا
ودخولا، والمرئ مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحلقوم، وراءهما عرقان
في صفحتي العنق يحيطان بالحلقوم، وقيل: بالمرئ، ويقال لهما: الودجان،
ويقال للحلقوم والمرئ معهما: الأوداج. ولا بد من قطع الحلقوم والمرئ، على
الصحيح المنصوص. وقال الإصطخري: يكفي أحدهما، لان الحياة لا تبقى
470

بعده. قال الأصحاب: هذا خلاف نص الشافعي رحمه الله، وخلاف مقصود
الذكاة، وهو الازهاق بما يوحي - لا يعذب. ويستحب معهما قطع الودجين، لأنه
أوحى، والغالب أنهما ينقطعان بقطع الحلقوم والمرئ، فإن تركهما، جاز. ولو
ترك من الحلقوم أو المرئ شيئا يسيرا، أو مات الحيوان، فهو ميتة. وكذا لو انتهى
إلى حركة المذبوح، فقطع المتروك، فميتة. وفي الحاوي وجه: إن بقي اليسير، فلا يضر، واختاره الروياني في الحلية، والصحيح: الأول. ولو قطع
من القفا حتى وصل الحلقوم والمرئ، عصى، لزيادة الايلام. ثم ينظر، إن وصل
إلى الحلقوم والمرئ وقد انتهى إلى حركة المذبوح، لم يحل بقطع الحلقوم
والمرئ بعد ذلك، وإن وصلهما وفيه حياة مستقرة، فقطعهما، حل، كما لو قطع
يده ثم ذكاه. قال الامام: ولو كان فيه حياة مستقرة عند ابتداء قطع المرئ، ولكن
لما قطعه مع بعض الحلقوم انتهى إلى حركة المذبوح لما ناله بسبب قطع القفا، فهو
حلال، لان أقصى ما وقع التعبد به أن يكون فيه حياة مستقرة عند ابتداء قطع
المذبح. والقطع من صفحة العنق، كالقطع من القفا. ولو أدخل السكين في أذن
الثعلب ليقطع المرئ والحلقوم من داخل الجلد، ففيه هذا التفصيل. ولو أمر
السكين ملصقا باللحيين فوق الحلقوم والمرئ، وأبان الرأس، فليس هو بذبح،
لأنه لم يقطع الحلقوم والمرئ. وأما كون التذفيف حاصلا بقطع الحلقوم
والمرئ، ففيه مسألتان.
إحداهما: لو أخذ الذابح في قطع الحلقوم والمرئ، وأخذ آخر في نزع
حشوته، أو نخس خاصرته، لم يحل، لان التذفيف لم يتمخض بالحلقوم
والمرئ. وسواء كان ما يجري به قطع الحلقوم مما يذفف لو انفرد، أو كان يعين
على التذفيف. ولو اقترن قطع الحلقوم بقطع رقبة الشاة من قفاها، بأن كان يجري
سكينا من القفا، وسكينا من الحلقوم حتى التقتا، فهي ميتة، بخلاف ما إذا تقدم
قطع القفا وبقيت الحياة مستقرة إلى وصول السكين المذبح.
المسألة الثانية: يجب أن يسرع الذابح في القطع، ولا يتأنى بحيث يظهر
انتهاء الشاة قبل استتمام قطع المذبح إلى حركة المذبوح، وهذا قد يخالف ما
471

سبق: أن المتعبد به، كون الحياة مستقرة عند الابتداء، فيشبه أن المقصود هنا، إذا
تبين مصيره إلى حركة المذبوح، وهناك، إذا لم يتحقق الحال.
قلت: هذا الذي قاله الامام الرافعي، خلاف ما سبق تصريح الامام به، بل
الجواب: أن هذا مقصر في الثاني، فلم تحل ذبيحته، بخلاف الأول فإنه لا
تقصير، ولو لم يحلله، أدى إلى حرج. والله أعلم.
وأما كون الحيوان عند القطع فيه حياة مستقرة، ففيه مسائل.
إحداها: لو جرح السبع صيدا، أو شاة، أو انهدم سقف على بهيمة أو
جرحت هرة حمامة، ثم أدركت حية فذبحت، فإن كان فيها حياة مستقرة، حلت
وإن تيقن هلاكها بعد يوم ويومين، وإن لم يكن فيها حياة مستقرة، لم تحل، هذا هو
المذهب والمنصوص، وبه قطع الجمهور. وحكي قول: أنها تحل في الحالين،
وقول: أنها لا تحل فيهما، وهذا بخلاف الشاة إذا مرضت، فصارت إلى أدنى الرمق
فذبحت، فإنها تحل قطعا، لأنه لم يوجد سبب يحال الهلاك عليه. ولو أكلت الشاة
نباتا مضرا، فصارت إلى أدنى الرمق فذبحت، قال القاضي حسين مرة: فيها
وجهان، وجزم مرة بالتحريم، لأنه وجد سبب يحال الهلال عليه، فصار كجرح
السبع. ثم كون الحيوان منتهيا إلى حركة المذبوح، أو فيه حياة مستقرة، تارة
يستيقن، وتارة يظن بعلامات وقرائن لا تضبطها العبارة، وشبهوه بعلامات الخجل
والغضب ونحوهما. ومن أمارات بقاء الحياة المستقرة: الحركة الشديدة بعد قطع
الحلقوم والمرئ، وانفجار الدم وتدفقه. قال الامام: ومنهم من قال: كل واحد
منهما يكفي دليلا على بقاء الحياة المستقرة. قال: والأصح: أن كلا منهما لا
يكفي، لأنهما قد يحصلان بعد الانتهاء إلى حركة المذبوح، لكن قد ينضم إلى
أحدهما أو كليهما قرائن أو أمارات أخر تفيد الظن أو اليقين، فيجب النظر والاجتهاد.
قلت: اختار المزني وطوائف من الأصحاب: الاكتفاء بالحركة الشديدة، وهو
الأصح. والله أعلم.
وإذا شككنا في الحياة المستقرة، ولم يترجح في ظننا شئ، فوجهان.
472

أصحهما: التحريم، للشك في المبيح. وأما كون الآلة ليست عظما، فمعناه: أنه
يجوز بكل قاطع إلا الظفر والعظم، سواء من الآدمي وغيره، المتصل والمنفصل.
وحكي وجه في عظم الحيوان المأكول، وهو شاذ، وستأتي هذه المسألة مستوفاة في
الصيد والذبائح إن شاء الله تعالى.
فصل في سنن الذبح وآدابه سواء ذبح الأضحية وغيرها.
إحداها: تحديد الشفرة. الثانية:
إمرار السكين بقوة وتحامل ذهابا وعودا، ليكون أوحى وأسهل.
الثالثة: استقبال الذابح القبلة، وتوجيه الذبيحة إليها، وذلك في الهدي
والأضحية أشد استحبابا، لان الاستقبال مستحب في القربات. وفي كيفية
توجيهها ثلاثة أوجه. أصحها: يوجه مذبحها إلى القبلة، ولا يوجه وجهها، ليمكنه
هو أيضا الاستقبال. والثاني: يوجهها بجميع بدنها. والثالث: يوجه قوائمها.
الرابعة: التسمية مستحبة عند الذبح، والرمي إلى الصيد، وإرسال الكلب.
فلو تركها عمدا أو سهوا، حلت الذبيحة، لكن تركها عمدا، مكروه على
الصحيح. وفي تعليق الشيخ أبي حامد: أنه يأثم به. وهل يتأدى الاستحباب
بالتسمية عند عض الكلب وإصابة السهم؟ وجهان. أصحهما: نعم. وهذا
الخلاف في كمال الاستحباب. فأما إذا ترك التسمية عند الارسال فيستحب أن
يتداركها عند الإصابة قطعا، كمن ترك التسمية في أول الوضوء والاكل، يستحب أن
473

يسمي في أثنائهما. ولا يجوز أن يقول الذابح والصائد: باسم محمد ولا باسم
الله واسم محمد، بل من حق الله تعالى أن يجعل الذبح باسمه، واليمين باسمه،
والسجود له، ولا يشاركه في ذلك مخلوق. وذكر في الوسيط: أنه لا يجوز أن
يقول: باسم الله ومحمد رسول الله، لأنه تشريك. قال: ولو قال: بسم الله ومحمد
رسول الله، بالرفع، فلا بأس. ويناسب هذه المسائل ما حكاه في الشامل
وغيره عن نص الشافعي رحمه الله: أنه لو كان لأهل الكتاب ذبيحة يذبحونها باسم
غير الله تعالى، كالمسيح، لم تحل. وفي كتاب القاضي ابن كج: أن اليهودي لو
ذبح لموسى، والنصراني لعيسى صلى الله عليهما وسلم، أو للصليب، حرمت ذبيحته، وأن المسلم لو
ذبح للكعبة أو للرسول (ص)، فيقوى أن يقال: يحرم، لأنه ذبح لغير الله تعالى.
قال: وخرج أبو الحسين وجها آخر: أنها تحل، لان المسلم يذبح لله تعالى، ولا
يعتقد في رسول الله (ص) ما يعتقده النصراني في عيسى. قال: وإذا ذبح للصنم، لم
تؤكل ذبيحته، سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا. وفي تعليقة للشيخ إبراهيم
المروروذي رحمه الله: أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه، أفتى أهل
بخارى بتحريمه، لأنه مما أهل به لغير الله تعالى.
واعلم أن الذبح للمعبود وباسمه، نازل منزلة السجود له، وكل واحد منهما
نوع من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو المستحق للعبادة،
فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة، لم تحل
ذبيحته، وكان فعله كفرا، كمن سجد لغيره سجد عبادة، وكذا لو ذبح له ولغيره
على هذا الوجه، فأما إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه، بأن ضحى أو ذبح للكعبة
تعظيما لها لأنها بيت الله تعالى، أو الرسول لأنه رسول الله (ص)، فهذا لا يجوز
أن يمنع حل الذبيحة، وإلى هذا المعنى، يرجع قول القائل: أهديت للحرم، أو
474

للكعبة، ومن هذا القبيل، الذبح عند استقبال السلطان، فإنه استبشار بقدومه،
نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب الكفر، وكذا السجود
للغير تذللا وخضوعا. وعلى هذا، إذا قال الذابح: باسم الله وباسم محمد،
وأراد: أذبح باسم الله، وأتبرك باسم محمد، فينبغي أن لا يحرم. وقول من قال:
لا يجوز ذلك، يمكن أن يحمل على أن اللفظة مكروهة، لان المكروه، يصح نفي
الجواز والإباحة المطلقة عنه.
ووقعت منازعة بين جماعة ممن لقيناهم من فقهاء قزوين في أن من ذبح باسم
الله واسم رسول الله (ص)، هل تحل ذبيحته؟ وهل يكفر بذلك؟ وأفضت تلك المنازعة
إلى فتنة، والصواب ما بيناه. وتستحب الصلاة على النبي (ص) عند الذبح، نص
عليه في الام، قال ابن أبي هريرة: لا تستحب ولا تكره.
قلت: أتقن الامام الرافعي رحمه الله هذا الفصل، ومما يؤيد ما قاله، ما ذكره
الشيخ إبراهيم المروروذي في تعليقه، قال: وحكى صاحب التقريب عن
الشافعي رحمه الله: أن النصراني إذا سمى غير الله تعالى، كالمسيح، لم تحل
ذبيحته، قال صاحب التقريب: معناه أنه يذبحها له، فأما إن ذكر المسيح على
معنى الصلاة على رسول الله (ص)، فجائز. قال: وقال الحليمي: تحل مطلقا، وإن
سمى المسيح. والله أعلم.
الخامسة: المستحب في الإبل النحر، وهو قطع اللبة أسفل العنق، وفي
البقر والغنم الذبح، وهو قطع الحلق أعلى العنق. والمعتبر في الموضعين، قطع
الحلقوم والمرئ. فلو ذبح الإبل ونحر البقر والغنم، حل، ولكن ترك المستحب،
وفي كراهته قولان، المشهور: لا يكره.
السادسة: يستحب أن ينحر البعير قائما على ثلاث قوائم معقول الركبة،
475

وإلا فباركا، وأن تضجع البقرة والشاة على جنبها الأيسر، وتترك رجلها اليمنى
وتشد قوائمها الثلاث.
السابعة: إذا قطع الحلقوم المرئ، فالمستحب أن يمسك ولا يبين رأسه في
الحال، ولا يزيد في القطع، ولا يبادر إلى سلخ الجلد، ولا يكسر الفقار، ولا
يقطع عضوا، ولا يحرك الذبيحة، ولا ينقلها إلى مكان، قبل يترك جميع ذلك حتى
تفارق الروح، ولا يمسكها بعد الذبح مانعا لها من الاضطراب. والأولى أن تساق
إلى المذبح برفق، وتضجع برفق، ويعرض عليها الماء قبل الذبح، ولا يحد الشفرة
قبالتها، ولا يذبح بعضها قبالة بعض.
الثامنة: يستحب عند التضحية أن يقول: اللهم منك وإليك، تقبل مني.
وفي الحاوي وجه ضعيف: أنه لا يستحب. ولو قال: تقبل مني كما تقبلت من
إبراهيم خليلك ومحمد عبدك ورسولك صلى الله عليهما، لم يكره ولم يستحب،
كذا نقله في البحر عن الأصحاب. قال في الحاوي: يختار في الأضحية أن
يكبر الله تعالى قبل التسمية وبعدها ثلاثا فيقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله
الحمد.
فصل قدمنا أن النية شرط في التضحية، وأن الشاة إذا جعلها أضحية،
هل يكفيه ذلك عن تجديد النية عند الذبح؟ وجهان. الأصح: لا يكفيه. فإن
قلنا: يكفيه، استحب التجديد. ومهما كان في ملكه، بدنة أو شاة، فقال:
جعلت هذا ضحية، أو هذه ضحية، أو علي أن أضحي بها، صارت ضحية معينة.
وكذا لو قال: جعلت هذه هديا، أو هذا هدي، أو علي أن أهدي هذه، صار
هديا. وشرط بعضهم أن يقول مع ذلك: لله تعالى، والمذهب: أنه ليس بشرط.
وقد صرح الأصحاب بزوال الملك عن الهدي والأضحية المعينين، كما سيأتي
تفريعه إن شاء الله تعالى. وكذا لو نذر أن يتصدق بمال معين زال ملكه عنه، بخلاف
ما لو نذر إعتاق عبد بعينه، لا يزول ملكه عنه ما لم يعتقه، لان الملك في الهدي،
476

والأضحية، والمال المعين، ينتقل إلى المساكين، وفي العبد لا ينتقل الملك إليه،
بل ينفك الملك بالكلية.
أما إذا نوى جعل هذه الشاة هديا، أو أضحية، ولم يتلفظ بشئ، فالمشهور
الجديد: أنها لا تصير. وقال في القديم: تصير، واختاره ابن سريح
والاصطخري.
وعلى هذا، فيما يصير به هديا، أو أضحية، أوجه.
أحدها: بمجرد النية، كما يدخل في الصوم بالنية، وبهذا قال ابن سريج.
والثاني: بالنية والتقليد أو الاشعار، لتنضم الدلالة الظاهرة إلى النية، قاله
الإصطخري.
والثالث: بالنية والذبح، لان المقصود به كالقبض في الهبة.
والرابع: بالنية والسوق إلى المذبح.
ولو لزمه هدي أو أضحية بالنذر، فقال: عينت هذه الشاة لنذري، أو جعلتها
عن نذري، أو قال: لله علي أن أضحي بها عما في ذمتي، ففي تعينها وجهان:
الصحيح، التعين وبه قطع الأكثرون. وحكى الامام هذا الخلاف في صور رتب
بعضها على بعض، فلنوردها بزوائد.
فلو قال ابتداء: علي التضحية بهذه البدنة أو الشاة، لزمه التضحية قطعا،
وتتعين تلك الشاة على الصحيح. ولو قال: علي أن أعتق هذا العبد، لزمه العتق،
وفي تعيين هذا العبد، وجهان مرتبان على الخلاف في مثل هذه الصورة من
الأضحية، والعبد أولى بالتعيين، لأنه ذو حق في العتق، بخلاف الأضحية. فلو
نذر إعتاق عبد، ثم عين عبدا عما التزم، فالخلاف مرتب على الخلاف في مثله في
الأضحية. ولو قال: جعلت هذا العبد عتيقا، لم يخف حكمه،
ولو قال: جعلت هذا المال، أو هذه الدراهم صدقة، تعينت على الأصح
كشاة الأضحية، وعلى الثاني، لا، إذ لا فائدة في تعيين الدراهم لتساويها،
بخلاف الشاة. ولو قال: عينت هذه الدراهم عما في ذمتي من زكاة أو نذر، لغا
477

التعيين باتفاق أصحاب، كذا نقله الامام، لان التعيين في الدراهم ضعيف، وتعيين
ما في الذمة ضعيف، فيجتمع سببا ضعف. قال: وقد يقاس بتعيين الدراهم،
كديون الآدميين، وقال: لا تخلو الصورة عن احتمال.
فرع سبق بيان وقت ضحية التطوع، فلو أراد التطوع بالذبح وتفريق اللحم
بعد أيام التشريق، لم يحصل له أضحية ولا ثوابها، لكن يحصل ثواب صدقة.
ولو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، فوقتها وقت المتطوع بها.
ولو قال: لله علي أن أضحي بشاة، فهل تتوقت بذلك الوقت؟ وجهان.
أحدهما: لا، لأنها في الذمة كدماء الجبران. وأصحهما: نعم، لأنه التزم ضحية
في الذمة، والضحية مؤقتة، وهذا موافق، نقل الروياني عن الأصحاب: أنه لا
تجوز التضحية بعد أيام التشريق، إلا واحدة، وهي التي أوجبها في أيام التشريق أو
قبلها، ولم يذبحها حتى فات الوقت، فإنه يذبحها قضاء. فإن قلنا: لا تتوقت،
فالتزم بالنذر ضحية، ثم عين واحدة عن نذره، وقلنا: إنها تتعين، فهل تتوقت
التضحية بها؟ وجهان. أصحهما: لا.
فصل من أراد التضحية فدخل عليه عشر ذي الحجة، كره أن يحلق شعره
أو يقلم ظفره حتى يضحي. وفيه وجه: أنه يحرم، حكاه صاحب الرقم، وهو
شاذ. والحكمة فيه أن يبقى كامل الاجزاء لتعتق من النار، وقيل: للتشبيه بالمحرم،
وهو ضعيف، فإنه لا يترك الطيب ولبس المخيط وغيرهما.
وحكي وجه: أن الحلق والقلم، لا يكرهان إلا إذا دخل العشر واشترى
ضحية، أو عين شاة من مواشيه للتضحية. وحكي قول: أنه لا يكره القلم.
قلت: قال الشيخ إبراهيم المروروذي في تعليقه: حكم سائر أجزاء البدن
كالشعر. والله أعلم.
478

فصل وأما أحكام الأضحية، فثلاثة أنواع.
الأول: فيما يتعلق بتلفها وإتلافها، وفيه مسائل.
إحداها: الأضحية المعينة، والهدي المعين، يزول ملك المتقرب عنهما
بالنذر، فلا ينفذ تصرفه فيهما ببيع ولا هبة، ولا إبدال بمثلهما، ولا بخير منهما.
وحكي وجه: أنه لا يزول ملكه حتى يذبح ويتصدق باللحم، كما لو قال: لله علي
أن أعتق هذا العبد، لا يزول ملكه عنه إلا بإعتاق. والصحيح: الأول. والفرق: ما
سبق.
ولو نذر إعتاق عبد بعينه، لم يجز بيعه وإبداله وإن لم يزل الملك عنه. ولو
خالف فباع الأضحية أو الهدي المعين، استرد إن كانت العين باقية، ويرد الثمن.
فإن أتلفها المشتري، أو تلفت عنده، لزمه قيمتها أكثر ما كانت من يوم القبض إلى
يوم التلف، ويشترى الناذر بتلك القيمة مثل التالفة، جنسا ونوعا وسنا. فإن لم يجد
بالقيمة المثل لغلاء حدث، ضم إليها من ماله تمام الثمن. وهذا معنى قول
الأصحاب: يضمن ما باع بأكثر الامرين من قيمته ومثله، وإن كانت القيمة أكثر من
ثمن المثل، لرخص حدث، فعلى ما سنذكره إن شاء الله تعالى في نظيره. ثم إن
اشترى المثل بعين القيمة، صار المشترى ضحية بنفس الشراء. وإن اشتراه في
الذمة، ونوى عند الشراء أنها أضحية، فكذلك، وإلا فليجعله بعد الشراء ضحية.
المسألة الثانية: كما لا يصح بيع الأضحية المعينة، لا يصح إجارتها، ويجور
إعارتها، لأنها إرفاق، فلو أجرها فركبها المستأجر فتلفت، لزم المؤجر قيمتها،
والمستأجر الأجرة. وفي الأجرة، وجهان. أصحهما: أجرة المثل. والثاني:
الأكثر من أجرة المثل والمسمى. ثم هل يكون مصرفها مصرف الضحايا، أم الفقراء
فقط؟ وجهان.
479

قلت: أصحهما: الأول. والله أعلم.
الثالثة: إذا قال: جعلت هذه البدنة، أو هذه الشاة، ضحية، أو نذر أن
يضحي ببدنة أو شاة عينها، فماتت قبل يوم النحر، أو سرقت قبل تمكنه من ذبحها
يوم النحر، فلا شئ عليه. وكذا الهدي المعين، إذا تلف قبل بلوغ المنسك أو
بعده قبل التمكن من ذبحه.
الرابعة: إذا كان في ذمته دم عن تمتع، أو قران. أو أضحية، أو هدي عن
نذر مطلق، ثم عين بدنة أو شاة عما في ذمته، فقد سبق خلاف في تعيينه،
والأصح، التعيين. وحينئذ المذهب: زوال الملك عنها كالمعينة ابتداء، لكن لو
تلفت، ففي وجوب الابدال طريقان. قطع الجمهور بالوجوب، لان ما التزمه ثبت
في ذمته، والمعين وإن زال الملك عنه، فهو مضمون عليه، كما لو كان له دين على
رجل، فاشترى منه سلعة بذلك الدين، فتلفت السلعة قبل القبض في يد بائعها،
فإنه ينفسخ البيع، ويعود الدين كما كان، فكذا هنا يبطل التعيين، ويعود ما في
ذمته كما كان. والطريق الثاني: فيه وجهان نقلهما الامام. أحدهما: لا يجب
الابدال، لأنها متعينة، فهي كما لو قال: جعلت هذه أضحية.
الخامسة: إذا أتلفها أجنبي، لزمه القيمة، بأخذها المضحي، ويشترى بها
مثل الأولى، فإن لم يجد بها مثلها، اشترى دونها، بخلاف ما لو نذر إعتاق عبد
بعينه فقتل، فإنه يأخذ القيمة لنفسه، ولا يلزمه أن يشترى بها عبدا يعتقه، لان ملكه
هنا لم يزل عنه ومستحق العتق هو العبد، وقد هلك، ومستحقو الأضحية باقون.
فإن لم يجد بالقيمة ما يصلح للهدي والأضحية، ففي الحاوي: أنه يلزم
المضحي أن يضم من عنده إلى القيمة ما يحصل به أضحية، لأنه التزمها. ومن قال
بهذا، يمكن أن يطرده في اللف. وهذا
الذي في الحاوي شاذ. والصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا شئ عليه، لعدم تقصيره. فعلى هذا إن أمكن أن
يشترى بها شقص هدي، أو أضحية، ففيه ثلاثة أوجه. الأصح: أنه يلزمه شراؤه
والذبح مع الشريك، ولا يجوز إخراج القيمة، كأصل الأضحية، والثاني: يجوز
480

إخراج القيمة دراهم. فعلى هذا أطلق مطلقون: أنه يتصدق بها. وقال الامام:
يصرفها مصرف الضحايا، حتى لو أراد أن يتخذ منه خاتما يقتنيه ولا يبيعه، فله
ذلك، وهذا أوجه. ويشبه أن لا يكون فيه خلاف محقق، بل المراد: أن لا يجب
شقص، ويجوز إخراج الدراهم، وقد يتساهل في ذكر المصرف في مثل هذا.
قلت: هذا الذي حكاه عن الامام، من جواز اتخاذ الخاتم، تفريع على جواز الأكل
من الأضحية الواجبة. والله أعلم.
والوجه الثالث: يشترى بها لحما، ويتصدق به. وأما إذا لم يمكن أن يشترى
بها شقص، لقلتها، ففيه الوجه الثاني والثالث. ورتب صاحب الحاوي هذه
الصور ترتيبا حسنا، فقال: إن كان المتلف ثنية ضأن مثلا، ولم يمكن أن يشترى
بالقيمة مثلها، وأمكن شراء جذعة ضأن وثنية معز، تعين الأول رعاية للنوع، وإن
أمكن ثنية معز ودون جذعة ضأن، تعين الأول، لان الثاني لا يصلح للضحية، وإن
أمكن دون الجذعة، وشراء سهم في ضحية، تعين الأول، لان التضحية لا تحصل
بواحد منهما، وفي الأول إراقة دم كامل. وإن أمكن شراء لحم، وشراء سهم،
تعين الأول، لان فيه شركة في إراقة دم. وإن لم يمكن إلا شراء اللحم وتفرقة
الدراهم، تعين الأول، لأنه مقصود الأضحية.
السادسة: إذا أتلفها المضحي فوجهان. أحدهما: يلزمه قيمتها يوم
الاتلاف كالأجنبي. وأصحهما: يلزمه أكثر الامرين من قيمتها وتحصيل مثلها، كما
لو باع الأضحية المعينة وتلفت عند المشتري. فعلى هذا لو كانت قيمتها يوم
الاتلاف أكثر، وأمكن شراء مثل الأولى ببعضها، اشترى بها كريمة أو شاتين
فصاعدا. فإن لم توجد كريمة، وفضل ما لا يفي بأخرى، فعلى ما ذكرنا فيما إذا
أتلفها أجنبي ولم تف القيمة بشاة. وهنا وجه آخر: أن له صرف ما فضل عن شاة إلى
غير المثل، لان الزيادة بعد حصول المثل كابتداء تضحية. ووجه: أنه يملك ما
فضل.
السابعة: إذا تمكن من ذبح الهدي بعد بلوغه المنسك، أو من ذبح الأضحية
481

يوم النحر، فلم يذبح حتى هلك، فهو كالاتلاف لتقصيره بتأخيره.
الثامنة: استحب الشافعي رحمه الله، أن يتصدق بالفاضل الذي لا يبلغ شاة
أخرى، ولا يأكل منه شيئا. وفي معناه: البدل الذي يذبحه. وفي وجه لأبي علي
الطبري: لا يجوز أكله منه، لتعديه بالاتلاف.
التاسعة: إذا جعل شاته أضحية، أو نذر أن يضحي بمعينة، ثم ذبحها قبل
يوم النحر، لزمه التصدق بلحمها، ولا يجوز له أكل شئ منه، ويلزمه ذبح مثلها يوم
النحر بدلا عنها. وكذا لو ذبح الهدي المعين قبل بلوغ المنسك، تصدق بلحمه،
وعليه البدل.
ولو باع الهدي أو الأضحية المعينين، فذبحها المشتري، واللحم باق، أخذه
البائع وتصدق به، وعلى المشترى أرش ما نقص بالذبح، ويضم البائع إليه ما
يشترى به البدل. وفي وجه: لا يغرم المشتري شيئا، لان البائع سلطه.
والصحيح: الأول.
ولو ذبح أجنبي الأضحية المعينة قبل يوم النحر لزمه ما نقص من القيمة بسبب
الذبح. ويشبه أن يجئ خلاف في أن اللحم يصرف إلى مصارف الضحايا، أم
ينفك عن حكم الأضحية ويعود ملكه، كما سنذكر مثله إن شاء الله تعالى، فيما لو
ذبح الأجنبي يوم النحر، وقلنا: لا يقع ضحية؟ ثم ما حصل من الأرش من اللحم،
إن عاد ملكا له، اشترى به أضحية يذبحها يوم النحر.
ولو نذر أضحية، ثم عين شاة عما في ذمته، فذبحها أجنبي قبل يوم النحر،
أخذ اللحم ونقصان الذبح، وملك الجميع، وبقي الأصل في ذمته.
العاشرة: لو ذبح أجنبي أضحية معينة ابتداء في وقت التضحية، أو هديا
معينا بعد بلوغه المنسك، فالمشهور: أنه يقع الموقع، فيأخذ صاحب الأضحية
لحمها ويفرقه، لأنه مستحق الصرف إلى هذه الجهة فلا يشترط فعله كرد الوديعة،
482

ولان ذبحها لا يفتقر إلى النية. فإذا فعله غيره، أجزأ كإزالة النجاسة.
وحكي قول عن القديم: أن لصاحب الأضحية أن يجعلها عن الذابح، ويغرمه
القيمة بكمالها بناء على وقف العقود. فإذا قلنا بالمشهور، فهل على الذابح أرش ما
نقص بالذبح؟ فيه طريقان. أحدهما: على قولين. وقيل: وجهين. أحدهما:
لا، لأنه لم يفوت مقصودا، بل خفف مؤنة الذبح. وأصحهما، وهو المنصوص،
وهو الطريق الثاني، وبه قطع الجمهور: نعم، لان إراقة الدم مقصودة وقد فوتها،
فصار كما لو شد قوائم شاته ليذبحها، فجاء آخر فذبحها بغير إذنه، فإنه يلزمه أرش
النقص.
وقال الماوردي: عندي أنه إذا ذبحها وفي الوقت سعة، لزمه الأرش، وإن لم
يبق إلا ما يسع ذبحها فذبحها، فلا أرش، لتعين الوقت. وإذا أوجبنا الأرش، فهل
هو للمضحي لأنه ليس من عين الأضحية ولا حق للمساكين في غيرها؟ أم للمساكين
لأنه بدل نقصها وليس للمضحي إلا الاكل؟ أم سلك به مسلك الضحايا؟ فيه
أوجه. أصحها: الثالث. فعلى هذا، يشترى به شاة. فإن لم تتيسر، عاد الخلاف
السابق أنه يشترى به جزء ضحية أو لحم، أو يفرق نفسه، هذا كله إذا ذبح الأجنبي
واللحم باق، فإن أكله أو فرقه في مصارف الضحية، وتعذر استرداده، فهو كالاتلاف
بغير ذبح، لان تعيين المصروف إليه، إلى المضحي، فعليه الضمان، والمالك
يشترى بما يأخذه أضحية.
وفي وجه: تقع التفرقة عن المالك، كالذبح. والصحيح: الأول. وفي
الضمان الواجب، قولان. المشهور، واختيار الجمهور: أنه يضمن قيمتها عند
الذبح، كما لو أتلفها بلا ذبح. والثاني: يضمن الأكثر من قيمتها وقيمة اللحم لأنه
فرق اللحم متعديا. وقيل: يغرم أرش الذبح وقيمة اللحم وقد يزيد الأرش مع قيمة
اللحم على قيمة الشاة، وقد ينقص، وقد يتساويان. ولا اختصاص لهذا الخلاف
بصورة الضحية، بل يطرد في كل من ذبح شاة إنسان ثم أتلف لحمها. هذا كله
تفريع على أن الشاة التي ذبحها الأجنبي تقع ضحية. فإن قلنا: لا تقع، فليس على
الذابح إلا أرش النقص. وفي حكم اللحم، وجهان. أحدهما: أنه مستحق لجهة
الأضحية. والثاني: يكون ملكا له. ولو التزم ضحية أو هديا بالنذر، ثم عين شاة
483

عما في ذمته، فذبحها أجنبي يوم النحر، أو في الحرم، فالقول في وقوعها عن
صاحبها وفي أخذه اللحم وتصدقه به، وفي غرامة الذابح أرش ما نقص بالذبح،
على ما ذكرنا إذا كانت معينة في الابتداء. فإن كان اللحم تالفا، قال صاحب
التهذيب وغيره: يأخذ القيمة ويملكها، ويبقى الأصل في ذمته. وفي هذا اللفظ
ما يبين أن قولنا في صورة الاتلاف: يأخذ القيمة ويشترى بها مثل الأول، يريد به:
أن يشترى بقدرها، فإن نفس المأخوذ ملكه، فله إمساكه.
النوع الثاني من أحكام الأضحية: في عيبها. وفيه مسائل.
إحداها: لو قال: جعلت هذه الشاة ضحية، أو نذر التضحية بشاة معينة،
فحدث بها قبل وقت التضحية عيب يمنع ابتداء التضحية، لم يلزمه شئ بسببه
كتلفها. ولا تنفك هي عن حكم الأضحية، بل تجزئه عن التضحية، ويذبحها في
وقتها. وفي وجه: لا تجزئه، بل عليه التضحية بسليمة، وهو شاذ ضعيف. فعلى
الصحيح: لو خالف فذبحها قبل يوم النحر، تصدق باللحم، ويلزمه أيضا التصدق
بقيمتها، ولا يلزمه أن يشتري بها ضحية أخرى، لأنها بدل حيوان لا يجوز التضحية
به ابتداءا. ولو تعيبت يوم النحر قبل التمكن من الذبح، ذبحها وتصدق بلحمها،
وإن تعيبت بعد التمكن، ذبحها وتصدق بلحمها، وعليه ذبح بدلها، وتقصيره
بالتأخير كالتعييب.
الثانية: لو لزم ذمته ضحية بنذر، أو هدي عن قران، أو تمتع، أو نذر، فعين
شاة عما في ذمته، فحدث بها عيب قبل وقت التضحية، أو قبل بلوغ المنسك،
جرى الخلاف السابق، في أنها هل تتعين؟ إن قلنا: لا، فلا أثر لتعيينها. وإن
قلنا: تتعين، وهو الأصح، فهل عليه ذبح سليمة؟ فيه طريقان. وقيل: وجهان.
وقطع الجمهور بالوجوب، لان الواجب في ذمته سليم، فلا يتأدى بمعيب. وهل
تنفك تلك المعينة عن الاستحقاق؟ وجهان. أحدهما: يلزمه ذبحها والتصدق
بلحمها، لأنه التزمها بالتعيين. وأصحهما وهو المنصوص: لا تلزمه، بل له تملكها
وبيعها، لأنه لم يلتزم التصدق بها ابتداء، إنما عينها لأداء ما عليه، وإنما يتأدى بها
بشرط السلامة. ويقرب الوجهان من وجهين فيمن عين أفضل مما عليه ثم تعيب،
484

هل يلزمه رعاية تلك الزيادة في البدل؟ ففي وجه: يلزم، لالتزامه تلك الزيادة
بالتعيين. والأصح: لا يلزم، كما لو التزم معيبة ابتداء، فهلكت بغير تعد منه.
الثالثة: إذا تعيب الهدي بعد بلوغ المنسك، فوجهان. أحدهما: يجزئ
ذبحه، لأنه لما وصل موضع الذبح، صار كالحاصل في يد المساكين، ويكون كمن
دفع الزكاة إلى الامام، فتلفت في يده، فإنه يقع زكاة. وأصحهما: لا يجزئ،
لأنه في ضمانه ما لم يذبح. وقال في التهذيب: إن تعيب بعد بلوغ المنسك
والتمكن من الذبح، فالأصل في ذمته وهل يتملك المعين، أم يلزمه ذبحه؟ فيه
الخلاف. وإن تعيب قبل التمكن، فوجهان. أصحهما: أنه كذلك. والثاني:
يكفيه ذبح المعيب والتصدق به. ويقرب من الوجهين الأولين الوجهان السابقان فيمن
شد قوائم الشاة للتضحية، فاضطربت وانكسرت رجلها. ورأي الامام تخصيصهما
بمن عين عن نذر في الذمة، والقطع بعدم الاجزاء إن كانت تطوعا.
قلت: قال صاحب البحر: لو مات، أو سرق بعد وصوله الحرم، أجزأه
على الوجه الأول. والله أعلم.
الرابعة: لو قال لمعيبة بعور ونحوه: جعلت هذه ضحية، أو نذر أن يضحي
بها ابتداء، وجب ذبحها، لالتزامه، كمن أعتق عن كفارته معيبا، يعتق، ويثاب
عليه وإن كان لا يجزئ عن الكفارة، ويكون ذبحها قربة، وتفرقة لحمها صدقة
ولا تجزئ عن الهدايا والضحايا المشروعة، لان السلامة معتبرة فيها. وهل يختص
ذبحها بيوم النحر، وتجري مجرى الضحايا في المصرف؟ وجهان. أحدهما: لا،
لأنها ليست أضحية، بل شاة لحم. وأصحهما: نعم، لأنه أوجبها باسم
الأضحية، ولا محمل لكلامه إلا هذا. فعلى هذا، لو ذبحها قبل يوم النحر، تصدق
بلحمها ولا يأكل منه شيئا، وعليه قيمتها يتصدق بها، ولا يشتري أخرى لان
المعيب لا يثبت في الذمة، قاله في التهذيب.
ولو أشار إلى ظبية وقال: جعلت هذه ضحية، فهو لاغ.
485

ولو أشار إلى فصيل أو سخلة وقال: هذه أضحية، فهل هو كالظبية، أم
كالمعيب؟ وجهان. أصحهما: الثاني.
وإذا أوجبه معيبا ثم زال العيب، فهل يجزئ ذبحه عن الأضحية؟ وجهان.
أصحهما: لا، لأنه زال ملكه عنه وهو ناقص، فلا يؤثر الكمال بعده، كمن أعتق
أعمى عن كفارته، ثم عاد بصره. والثاني: يجوز، لكماله وقت الذبح، وحكى
هذا قولا قديما.
الخامسة: لو كان في ذمته أضحية، أو هدي، بنذر أو غيره، فعين معينة عما
عليه، لم تتعين، ولا تبرأ ذمته بذبحها. وهل يلزمه بالتعيين ذبح المعينة؟ نظر، إن
قال: عينت هذه عما في ذمتي، لم يلزمه، وإن قال: لله علي أن أضحي بهذه عما
في ذمتي، أو أهدي هذه، أو قال: لله علي ذبحها عن الواجب في ذمتي، لزمه
على الأصح كالتزامه ابتداء ذبح معيبة، ويكون كإعتاقه الأعمى عن الكفارة، ينفذ
ولا يجزئ. فعلى هذا، هل يختص ذبحها بوقت التضحية إن كانت ضحية؟ فيه
الوجهان السابقان. ولو زال عيب المعينة المعيبة قبل ذبحها، فهل تحصل البراءة؟
فيه الوجهان السابقان.
السادسة: هذا الذي سبق، كله فيما إذا تعيبت لا بفعله. فلو تعيبت المعينة
ابتداء، أو عما في الذمة بفعله، لزمه ذبح صحيحة. وفي انفكاك المعيبة عن حكم
الالتزام، الخلاف السابق.
السابعة: لو ذبح الأضحية المنذورة يوم النحر، أو الهدي المنذور بعد بلوغ
المنسك، ولم يفرق لحمه حتى فسد، لزمه قيمة اللحم، ويتصدق بها، ولا
486

يلزمه شراء أخرى، لأنه حصلت إراقة الدم. وكذا لو غصب اللحم غاصب وتلف
عنده، أو أتلفه متلف، يأخذ القيمة ويتصدق بها.
الثامنة: لو نذر التضحية بمعيبة غير معينة، كقوله: لله علي أن أضحي بشاة
عرجاء، فثلاثة أوجه: أصحها فيما يقتضيه كلام الغزالي:
يلزمه ما التزم. والثاني: يلزمه صحيحة. والثالث: لا يلزمه شئ. ويشبه أن يكون الحكم في لزوم ذبحها،
والتصدق بلحمها، وفي أنها ليست من الضحايا وفي أن مصرفها، هل هو مصرف
الضحايا، على ما سبق فيمن قال: جعلت هذه المعيبة ضحية. ولو التزم التضحية
بظبية، أو فصيل، ففيه الترتيب الذي تقدم في المعينة. ويشبه أن يجئ الخلاف
في قوله: لله على أن أضحي بظبية، وإن لم يذكر خلاف في قوله: جعلت هذه
الظبية ضحية.
النوع الثالث: في ضلالها، وفيه مسائل.
إحداها: إذا ضل هديه، أو ضحيته المتطوع بها، لم يلزمه شئ.
قلت: لكن يستحب ذبحها إذا وجدها، والتصدق بها. ممن نص عليه
القاضي أبو حامد. فإن ذبحها بعد أيام التشريق، كانت شاة لحم يتصدق بها. والله
أعلم.
الثانية: الهدي الملتزم معينا، يتعين ابتداءا، إذا ضل بغير تقصيره، لم يلزمه
ضمانه، فإن وجده، ذبحه. والأضحية، إن وجدها في وقت التضحية، ذبحها،
وإن وجدها بعد الوقت، فله ذبحها قضاء، ولا يلزمه الصبر إلى قابل. وإذا ذبحها،
صرف لحمها مصارف الضحايا. وفي وجه لابن أبي هريرة: يصرفه إلى المساكين
فقط، ولا يأكل، ولا يدخر، وهو شاذ ضعيف.
الثالثة: مهما كان الضلال بغير تقصيره، لم يلزمه الطلب إن كان فيه مؤنة،
فإن لم تكن، لزمه. وإن كان بتقصيره، لزمه الطلب. فإن لم يجد، لزمه
الضمان. فإن علم أنه لا يجدها في أيام التشريق، لزمه ذبح بدلها في أيام
التشريق. وتأخير الذبح إلى مضي أيام التشريق بلا عذر، تقصير يوجب الضمان.
وإن مضى بعض أيام التشريق، ثم ضلت، فهل هو تقصير؟ وجهان.
قلت: الأرجح: أنه ليس بتقصير، كمن مات في أثناء وقت الصلاة الموسع،
487

لا يأثم على الأصح. والله أعلم.
الرابعة: إذا عين هديا أو أضحية عما في ذمته، فضلت المعينة، قال الامام:
هو كما لو تلفت هذه المعينة. وفي وجوب البدل، وجهان. وذكرنا هناك حال هذا
الخلاف، وما في إطلاق لفظ البدل من التوسع.
وقال الجمهور: يلزم إخراج البدل الملتزم. فإن ذبح واحدة عما عليه، ثم
وجد الضالة، فهل يلزم ذبحها؟ وجهان. وقيل: قولان. أصحهما في
التهذيب: لا يلزمه، بل يتملكها كما سبق فيما لو تعيبت.
والثاني: يلزمه، وقطع به في الشامل، لإزالة ملكه بالتعيين، ولم يخرج
عن صفة الاجزاء، بخلاف المعيبة. فلو عين عن الضالة واحدة، ثم وجدها قبل
ذبح البدل، فأربعة أوجه.
أحدها: يلزمه ذبحهما معا. والثاني: يلزمه ذبح البدل فقط. والثالث: ذبح
الأول فقط. والرابع: يتخير فيهما.
قلت: الأصح: الثالث. والله أعلم.
فرع لو عين شاة عن أضحية في ذمته، وقلنا: تتعين، فضحى بأخرى
عما في ذمته، قال الامام: يخرج على أن المعينة لو تلفت، هل تبرأ ذمته؟ إن
قلنا: نعم، لم تقع الثانية عما عليه، كما لو قال: جعلت هذه أضحية، ثم ذبح
بدلها. وإن قلنا: لا، وهو الأصح، ففي وقوع الثانية ما عليه تردد. فإن قلنا:
تقع عنه، فهل تنفك الأولى عن الاستحقاق؟ فيه الخلاف السابق.
فرع لو عين من عليه كفارة عبدا عنها، ففي تعيينه خلاف، وقطع الشيخ
488

أبو حامد بالتعيين.
قلت: الأصح: التعيين. والله أعلم.
فإن تعيب المعين، لزمه إعتاق سليم. ولو مات المعين، بقيت ذمته مشغولة
بالكفارة. وإن أعتق عبدا أجزأ عن كفارته مع التمكن من إعتاق المعين، فالظاهر:
براءة ذمته. قوله: الظاهر، أي: من الوجهين.
النوع الرابع: في الاكل من الأضحية والهدي وفيه فصلان.
الأول: في الاكل من الواجب، فكل هدي وجب ابتداء من غير التزام، كدم
التمتع والقران وجبرانات الحج، لا يجوز الاكل منه. فلو أكل منه، غرم، ولا
تجب إراقة الدم ثانيا. وفيما يغرمه، أوجه. أصحها وهو نصه في القديم: يغرم
قيمة اللحم كما لو أتلفه غيره. والثاني: يلزمه مثل - ذلك اللحم. والثالث: يلزمه
شراء شقص من حيوان مثله، ويشارك في ذبحه، لان ما أكله بطل حكم إراقة الدم
فيه، فصار كما لو ذبحه وأكل الجميع، فإنه يلزمه دم آخر.
وأما الملتزم بالنذر من الضحايا والهدايا، فإن عين بالنذر عما في ذمته من دم
حلق وتطيب أو غيرهما شاة، لم يجز له الاكل منها، كما لو ذبح شاة بهذه النية بغير نذر، وكالزكاة. وإن
نذر نذر مجازاة، كتعليقه التزام الهدي، أو الأضحية بشفاء
المريض ونحوه، لم يجز الاكل أيضا، كجزاء الصيد. ومقتضى كلامهم: أنه لا
فرق بين كون الملتزم معينا، أو مرسلا في الذمة، ثم يذبح عنه. فإن أطلق
الالتزام، فلم يعلقه بشئ، وقلنا بالمذهب: إنه يلزمه الوفاء، فإن كان الملتزم
معينا، بأن قال: لله علي أن أضحي بهذه، أو أهدي هذه، ففي جواز الأكل منها
489

قولان، ووجه، أو ثلاث أوجه. الثالثة: يجوز الاكل من الأضحية دون الهدي،
حملا لكل واحد على المعهود الشرعي.
ومن هذا القبيل، ما إذا قال: جعلت هذه الشاة ضحية من غير تقدم التزام.
أما إذا التزم في الذمة، ثم عين شاة عما عليه، فإن لم نجوز الاكل في المعينة
ابتداء، فهنا أولى، وإلا، فقولان، أو وجهان.
هكذا فصل حكم الاكل في الملتزم كثيرون من المعتبرين، وهو المذهب.
وأطلق جماعة وجهين، ولم يفرقوا بين نذر المجازاة وغيره، ولا بين الملتزم المعين
والمرسل، وبالمنع قال أبو إسحاق. قال المحاملي: وهو المذهب، والجواز اختيار
القفال، والامام. قال في العدة: وهو المذهب. ويشبه أن يتوسط فيرجح في
المعين: الجواز، وفي المرسل: المنع، سواء عينه عنه ثم ذبح، أو ذبح بلا
تعيين، لأنه عن دين في الذمة، فأشبه الجبرانات. وإلى هذا ذهب صاحب
الحاوي، وهو مقتضى سياق الشيخ أبي علي. وحيث منعنا الاكل في المنذور
فأكل، ففيما يغرمه، الأوجه الثلاثة السابقة في الجبرانات. وحيث جوزنا، ففي قدر
ما يأكله، القولان في أضحية التطوع. هكذا قاله في التهذيب. ولك أن تقول
ذاك الخلاف في قدر المستحب أكله، ولا يبعد أن يقال: لا يستحب الاكل، وأقل
ما في تركه: الخروج من الخلاف.
الفصل الثاني: في الاكل من الأضحية والهدي المتطوع بهما. وليس له أن
يتلف منهما شيئا، بل يأكل ويطعم، ولا يجوز بيع شئ منهما، ولا أن يعطي
الجزار شيئا منهما أجرة له، بل مؤنة الذبح على المضحي والمهدي كمؤنة الحصاد.
ويجوز أن يعطيه منهما شيئا لفقره، جو يطعمه إن كان غنيا. ولا يجوز تمليك الأغنياء
490

منهما، وإن جاز إطعامهم. ويجوز تمليك الفقراء منهما، ليتصرفوا فيه بالبيع
وغيره. بل لو أصلح الطعام ودعا إليه الفقراء، قال الامام: الذي ينقدح عندي - إذا
أوجبنا التصدق بشئ -: أنه لا بد من التمليك كما في الكفارات، وكذا صرح به
الروياني فقال: لا يجوز أن يدعو الفقراء ليأكلوه مطبوخا، لان حقهم في تملكه فإن
دفع مطبوخا، لم يجز، بل يفرقه نيئا، فإن المطبوخ، كالخبز في الفطرة.
وهل يشترط التصدق بشئ منهما، أم يجوز أكل الجميع؟ وجهان.
أحدهما: يجوز أكل الجميع، قاله ابن سريج، وابن القاص، والاصطخري، وابن
الوكيل، وحكاه ابن القاص عن نصه. قالوا: ويحصل الثواب بإراقة الدم بنية
القربة، وأصحهما: يجب التصدق بقدر ينطلق عليه الاسم، لان المقصود إرفاق
المساكين. فعلى هذا، إن أكل الجميع، لزمه ضمان ما ينطلق عليه الاسم، وفي
قول، أو وجه: يضمن القدر الذي يستحب أن لا ينقص في التصدق عنه، وسيأتي
فيه قولان، هل هو النصف، أم الثلث؟ وحكى ابن كج والماوردي وجها: أنه
يضمن الجميع بأكثر الامرين من قيمتها أو مثلها، لأنه بأكله الكل، عدل عن حكم
الضحية، فكأنه أتلفها. وينسب هذا إلى أبي إسحاق، وابن أبي هريرة. وعلى
هذا، يذبح البدل في وقت التضحية. فإن أخره أيام التشريق، ففي إجزائه
وجهان. وفي جواز الأكل من البدل وجهان. وهذا الوجه المذكور عن ابن كج، وما
تفرع عليه، شاذ ضعيف. والمعروف، ما سبق من الخلاف. ثم ما يضمنه على
الخلاف السابق، لا يتصدق به ورقا. وهل يلزمه صرفه إلى شقص أضحية، أم
يكفي صرفه إلى اللحم وتفرقته؟ وجهان. وعلى الوجهين: يجوز تأخير الذبح
والتفريق عن أيام التشريق، لان الشقص ليس بأضحية، فلا يعتبر فيه وقتها، ولا
يجوز أن يأكل منه.
فرع الأفضل والأحسن في هدي التطوع وأضحيته، التصدق بالجميع
491

إلا لقمة، أو لقما يتبرك بأكلها، فإنها مسنونة. وحكى في الحاوي عن أبي
الطيب بن سلمة: أنه لا يجوز التصدق بالجميع، بل يجب أكل شئ. وفي القدر
الذي يستحب أن لا نقص التصدق عنه، قولان. القديم: يأكل النصف، ويتصدق
بالنصف، واختلفوا في التعيين عن الجديد. فنقل جماعة عنه: أنه يأكل الثلث،
ويتصدق بالثلثين. ونقل آخرون عنه: أنه يأكل الثلث، ويهدي إلى الأغنياء الثلث،
ويتصدق بالثلث. وكذا حكاه الشيخ أبو حامد، ثم قال: ولو تصدق بالثلثين كان
أحب. ويشبه أن لا يكون اختلاف في الحقيقة، لكن من اقتصر على التصدق
بالثلثين، ذكر الأفضل، أو توسع فعد الهدية صدقة.
والمفهوم من كلام الأصحاب: أن الهدية لا تغني عن التصدق بشئ إذا
أوجبناه، وأنها لا تحسب من القدر الذي يستحب التصدق به، ويجوز صرف القدر
الذي لا بد منه إلى مسكين واحد، بخلاف الزكاة.
فرع يجوز أن يدخر من لحم الأضحية، وكان ادخارها فوق ثلاثة أيام قد
نهى عنه رسول الله (ص)، ثم أذن فيه. قال الجمهور: كان نهي تحريم. وقال أبو
علي الطبري: يحتمل التنزيه. وذكروا على الأول وجهين، في أن النهي كان عاما،
ثم نسخ، أم كان مخصوصا بحالة الضيق الواقع في تلك السنة، فلما زالت، انتهى
التحريم؟ ووجهين على الثاني: في أنه لو حدث مثل ذلك في زماننا وبلادنا، هل
يحكم به؟ والصواب المعروف: أنه لا يحرم اليوم بحال. وإذا أراد الادخار،
فالمستحب أن يكون من نصيب الاكل، لا من نصيب الصدقة والهدية. وأما قول
الغزالي في الوجيز: يتصدق بالثلث، ويأكل الثلث، ويدخر الثلث، فبعيد منكر
نقلا ومعنى، فإنه لا يكاد يوجد في كتاب متقدم ولا متأخر، والمعروف الصواب: ما
قدمناه.
492

قلت: قال الشافعي رحمه الله في المبسوط: أحب أن لا يتجاوز بالاكل
والادخار الثلث، أن يهدي الثلث، ويتصدق بالثلث، هذا نصه بحروفه، وقد نقله
أيضا القاضي أبو حامد في جامعه، ولم يذكر غيره. وهذا تصريح بالصواب،
ورد لما قاله الغزالي. والله أعلم.
النوع الخامس: الانتفاع بها، وما في معناه أو يخالفه، وفيه مسائل.
إحداها: لا يجوز بيع جلد الأضحية، ولا جعله أجرة للجزار وإن كانت
تطوعا، بل يتصدق به المضحي، أو يتخذ منه ما ينتفع بعينه من خف أو نعل أو
دلو، أو فرو، أو يعيره لغيره ولا يؤجره. وحكى صاحب التقريب قولا غربيا:
أنه يجوز بيع الجلد، ويصرف ثمنه مصرف الأضحية
وحكي وجه: أنه لا يجوز أن ينفرد بالانتفاع بالجلد، لأنه نوع يخالف الانتفاع
باللحم، فيجب التشريك فيه، كالانتفاع باللحم. والمشهور: الأول. ولا فرق في
تحريم البيع، بين بيعه بشئ ينتفع به في البيت وغيره.
الثانية: التصدق بالجلد لا يكفي إذا أوجبنا التصدق بشئ من الأضحية،
والقرن كالجلد.
الثالثة: لا يجز صوفها إن كان في بقائه مصلحة، لدفع حر، أو برد، أو كان
وقت الذبح قريبا ولم يضر بقاؤه، وإلا، فيجزه، وله الانتفاع به. والأفضل:
التصدق. وفي التتمة: أن صوف الهدي يستصحبه ويتصدق به على مساكين
الحرم، كالولد.
الرابعة: إذا ولدت الأضحية أو الهدي المتطوع بهما، فهو ملكه كالأم. ولو
ولدت المعينة بالنذر ابتداء، تبعها الولد، سواء كانت حاملا عند التعيين، أم حملت
بعده. فإن ماتت الام، بقي الولد أضحية، كولد المدبرة لا يرتفع تدبيره بموتها. ولو
عينها بالنذر على ما في ذمته، فالصحيح: أن حكم ولدها كولد المعينة بالنذر
ابتداء. وفي وجه: لا يتبعها، بل هو ملك للمضحي أو المهدي، لان ملك
493

الفقراء غير مستقر في هذه، فإنها لو عابت عادت إلى ملكه. وفي وجه: يتبعها
ما دامت حية. فإن ماتت، لم يبق حكم الأضحية في الولد. والصحيح: بقاؤه،
والخلاف جار في ولد الأمة المبيعة إذا ماتت في يد البائع. وإذا لم يطق ولد الهدي
المشي، يحمل على أمه أو غيرها ليبلغ الحرم. ثم إذا ذبح الام والولد، ففي تفرقة
لحمهما أوجه. أحدها: لكل واحد منهما حكم ضحية، فيتصدق من كل واحد
بشئ، لأنهما ضحيتان.
والثاني: يكفي التصدق من أحدهما، لأنه بعضها.
والثالث: لا بد من التصدق من لحم الام، لأنها الأصل، وهذا هو الأصح
عند الغزالي. وقال الروياني: الأول: أصح ويشترك الوجهان الأخيران في جواز
أكل جميع الولد. ولو ذبحها، فوجد في بطنها جنينا، فيحتمل أن يطرد فيه هذا
الخلاف، ويحتمل القطع بأنه بعضها.
قلت: ينبغي أن يبنى على الخلاف المعروف، في أن الحمل له حكم،
وقسط من الثمن، أم لا؟ إن قلنا: لا، فهو بعض، كيدها، وإلا، فالظاهر: طرد
الخلاف، ويحتمل القطع بأنه بعض. والأصح على الجملة: أنه يجوز أكل
جميعه. والله أعلم.
الخامسة: لبن الأضحية والهدي، لا يحلب إن كان قدر كفاية ولدها. فإن
حلبه فنقص الولد، ضمن النقص. وإن فضل عن ري الولد، حلب. ثم قال
الجمهور: له شربه، لأنه يشق نقله، ولأنه يستخلف، بخلاف الولد. وفي وجه:
لا يجوز شربه.
494

وقال صاحب التتمة: إن لم نجوز أكل لحمها، لم يشربه. وينقل لبن
الهدي إلى مكة إن تيسر أو أمكن تجفيفه، وإلا، فيتصدق به على الفقراء هناك.
وإن جوزنا اللحم، شربه.
السادسة: يجوز ركوبهما وإركابهما بالعارية، والحمل عليهما من غير
إجحاف. فإن نقصا بذلك ضمن. ولا تجوز إجارتهما.
السابعة: لو اشترى شاة فجعلها ضحية، ثم وجد بها عيبا قديما، لم يجز
ردها لزوال الملك عنها، كمن اشترى عبدا فأعتقه ثم علم به عيبا، لكن يرجع على
البائع بالأرش. وفيما يفعل به، وجهان. أحدهما: يصرف مصرف الأضحية،
فينظر، أيمكنه أن يشتري به ضحية، أو جزءا، أم لا؟ ويعود فيه ما سبق في
نظائره، وفرقوا بينه وبين أرش العيب بعد إعتاق العبد، فإنه للذي أعتقه، بأن
المقصود من العتق تكميل الاحكام، والعيب لا يؤثر فيه. والمقصود من الأضحية
اللحم، ولحم المعيب ناقص. والوجه الثاني: أنه للمضحي، لا يلزمه صرفه
للأضحية، لان الأرش بسبب سابق للتعيين. وبالوجه الأول قاله الأكثرون، لكن
الثاني أقوى، ونسبه الامام إلى المراوزة وقال لا: يصح غيره، وإليه ذهب ابن
الصباغ، والغزالي، والروياني.
قلت: قد نقل في الشامل هذا الثاني عن أصحابنا مطلقا، ولم يحك فيه
خلافا، فهو الصحيح. والله أعلم.
فصل في مسائل منثورة إحداها: قال ابن المرزبان: من أكل بعض لحم
الأضحية، وتصدق ببعضها، هل يثاب على الكل، أو على ما تصدق به؟ وجهان
كالوجهين فيمن نوى صوم التطوع ضحوة، هل يثاب من أول النهار أم من وقته؟
وينبغي أن يقال: له ثواب التضحية بالكل، والتصدق بالبعض.
495

قلت: هذا الذي قاله الرافعي، هو الصواب الذي تشهد به الأحاديث
والقواعد. وممن جزم به تصريحا، الشيخ الصالح إبراهيم المروروذي. والله
أعلم.
الثانية: في جواز الصرف من الأضحية إلى المكاتب وجهان، في وجه:
يجوز كالزكاة.
قلت: الأصح: الجواز. والله أعلم.
الثالثة: قال ابن كج: من ذبح شاة، وقال: أذبح لرضى فلان، حلت
الذبيحة، لأنه لا يتقرب إليه، بخلاف من تقرب بالذبح إلى الصنم. وذكر
الروياني: أن من ذبح للجن وقصد به التقرب إلى الله تعالى ليصرف شرهم عنه، فهو
حلال، وإن قصد الذبح لهم، فحرام.
الرابعة: قال في البحر: قال أبو إسحاق: من نذر الأضحية في عام،
فأجر، عصى، ويقضي كمن أخر الصلاة.
الخامسة: قال الروياني: من ضحى بعدد، فرقه على أيام الذبح، فإن كان
شاتين، ذبح شاة في اليوم الأول، والأخرى في آخر الأيام.
قلت: هذا الذي قاله، وإن كان أرفق بالمساكين، إلا أنه خلاف السنة، فقد
نحر النبي (ص) في يوم واحد مائة بدنة أهداها، فالسنة: التعجيل والمسارعة إلى
الخيرات، والمبادرة بالصالحات، إلا ما ثبت خلافه. والله أعلم.
السادسة: محل التضحية، بلد المضحي، بخلاف الهدي. وفي نقل
الأضحية، وجهان، تخريجا من نقل الزكاة.
496

السابعة: الأفضل أن يضحي في بيته بمشهد أهله. وفي الحاوي: أنه
يختار للامام أن يضحي للمسلمين كافة من بيت المال ببدنة، ينحرها في المصلى.
فإن لم يتيسر، فشاة، وأنه يتولى النحر بنفسه، وإن ضحى من ماله، ضحى حيث
شاء.
قلت: قال الشافعي رحمه الله في البويطي: الأضحية سنة على كل من
وجد السبيل من المسلمين من أهل المدائن والقرى، والحاضر والمسافر، والحاج
من أهل مني وغيرهم، من كان معه هدي، ومن لم يكن. هذا نصه
بحروفه. وفيه رد على ما حكاه العبدري في كتابه الكفاية: أن الأضحية سنة،
إلا في حق الحاج بمنى، فإنه لا أضحية عليهم، لان ما ينحر بمنى هدي، وكما لا
يخاطب الحاج في منى بصلاة العيد، فكذا الأضحية. وهذا الذي قاله، فاسد
مخالف للنص الذي ذكرته. وقد صرح القاضي أبو حامد في جامعه وغيره من
أصحابنا: بأن أهل منى كغيرهم في الأضحية، وثبت في صحيحي البخاري
ومسلم: أن النبي (ص) ضحى في منى عن نسائه بالبقر. والله أعلم.
باب العقيقة
هي سنة، والمستحب ذبحها يوم السابع من يوم الولادة، ويحسب من السبعة
497

يوم الولادة على الأصح.
قلت: وإن ولد ليلا، حسب اليوم الذي يلي تلك الليلة قطعا، نص عليه في
البويطي، ونص أنه لا يحسب اليوم الذي ولد في أثنائه. والله أعلم.
ويجزئ ذبحها قبل فراغ السبعة، ولا يحسب قبل الولادة، بل تكون شاة
لحم. ولا تفوت بتأخيرها عن السبعة، لكن الاختيار أن لا تؤخر إلى البلوغ. قال أبو
عبد الله البوشنجي من أصحابنا: إن لم تذبح في السابع، ذبحت في الرابع عشر،
وإلا ففي الحادي والعشرين. وقيل: إذا تكررت السبعة ثلاث مرات، فات وقت
الاختيار. فإن أخرت حتى بلغ، سقط حكمها في حق غير المولود، وهو مخير في
العقيقة عن نفسه. واستحسن القفال والشاشي: أن يفعلها. ويروى عن النبي (ص):
أنه عق عن نفسه بعد النبوة. ونقلوا عن نصه في البويطي: أنه لا يفعل ذلك،
واستغربوه.
قلت: قد رأيت نصه في نفس كتاب البويطي قال: ولا يعق عن كبير.
هذا لفظه، وليس مخالفا لما سبق، لان معناه: لا يعق عن غيره، وليس فيه نفي
عقه عن نفسه. والله أعلم.
فصل إنما يعق عن المولود من تلزمه نفقته. وأما عق النبي (ص) عن
الحسن والحسين رضي الله عنهما، فمؤول.
قلت: تأويله: أنه (ص) أمر أباهما بذلك، أو أعطى أبويهما ما عق به أو
498

: أن أبويهما كانا عند ذلك معسرين، فيكونان في نفقة جدهما رسول الله (ص). والله
أعلم.
ولا يعق عن المولود من ماله، فلو كان المنفق عاجزا عن العقيقة، فإن يسر في
السبعة،. استحب له العق. وإن أيسر بعدها، أو بعد مدة النفاس، فهي ساقطة
عنه وإن أيسر في مدة النفاس، ففيه احتمالان للأصحاب، لبقاء أثر الولادة.
فصل العقيقة جذعة ضأن، أو ثنية معز، كالأضحية. وفي
الحاوي: أنه يجزئ ما دونهما، ويشترط سلامتهما من العيب المانع في
الأضحية. وفي العدة: إشارة إلى وجه مسامح، قال بعض الأصحاب: الغنم
أفضل من الإبل والبقر، والصحيح خلافه، كالأضحية. وينبغي أن تتأدى السنة
بسبع بدنة أو بقرة.
فصل حكم العقيقة في التصدق منها، والاكل، والهدية، والادخار،
وقدر المأكول، وامتناع البيع، وتعيين الشاة إذا عينت للعقيقة، كما ذكرنا في
الأضحية. وقيل: إن جوزنا دون الجذعة، لم يجب التصدق منها، وجاز تخصيص
الأغنياء بها.
فصل ينوي عند ذبحها، أنها عقيقة. لكن إن جعلها عقيقة من قبل، ففي
الحاجة إلى النية عند الذبح، ما ذكرنا في الأضحية.
فصل يستحب أن لا يتصدق بلحمها نيئا، بل يطبخه.
وفي الحاوي: أنا إذا لم نجوز ما دون الجذعة والثنية، وجب التصدق
بلحمها نيئا. وكذا قال الامام: إن أوجبنا التصدق بمقدار، وجب تمليكه وهو
نيئ. والصحيح: الأول. وفيما يطبخه به، وجهان. أحدهما: بحموضة، ونقله
499

في التهذيب عن النص. وأصحهما: بحلو تفاؤلا بحلاوة أخلاق المولود. وعلى
هذا، لو طبخ بحامض، ففي كراهته وجهان. أصحهما: لا يكره. ويستحب أن لا
يكسر عظام العقيقة ما أمكن، فإن كسر، لم يكره على الأصح. والتصدق بلحمها
ومرقها على المساكين، بالبعث إليهم، أفضل من الدعوة إليها. ولو دعا إليها قوما،
فلا بأس.
فصل يعق عن الجارية شاة، وعن الغلام شاتان، ويحصل أصل السنة
بواحدة. ويستحب أن تكون الشاتان متساويتين، وأن يكون ذبح العقيقة في صدر
النهار، وأن يعق عمن مات بعد الأيام السبعة والتمكن من الذبح. وقيل: يسقط
بالموت. وأن يقول الذابح بعد التسمية: اللهم لك وإليك عقيقة فلان. ويكره لطخ
رأس الصبي بدم العقيقة، ولا بأس بلطخه بالزعفران والخلوق. وقيل باستحبابه.
فصل يستحب أن يسمى المولود في اليوم السابع، ولا بأس بأن يسمى
قبله. واستحب بعضهم أن لا يفعله، ولا يترك تسمية السقط، ولا من مات قبل
تمام السبعة، ولتكن التسمية باسم حسن، وتكره الأسماء القبيحة وما يتطير بنفيه،
كنافع، ويسار، وأفلح، ونجيح، وبركة.
فصل يستحب أن يحلق رأس المولود يوم السابع، ويتصدق بوزن شعره
ذهبا. فإن لم يتيسر، ففضة، سواء فيه الذكر والأنثى. قال في التهذيب:
500

يحلق بعد الذبح العقيقة. والذي رجحه الروياني، ونقله عن النص: أنه يكون قبل الذبح.
قلت: وبهذا قطع المحاملي في المقنع، وبالأول قطع صاحب
المهذب والجرجاني في التحرير، وفي الحديث إشارة إليه، فهو أرجح. والله
أعلم.
فصل يستحب أن يؤذن من ولد له ولد في أذنه. وكان عمر بن عبد العزيز
رحمه الله، إذا ولد له ولد، أذن في أذنه اليمنى، وأقام في اليسرى، واستحبه بعض
أصحابنا. ويستحب أن يقول في أذنه: * (إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان
الرجيم) *، وأن يحنكه بتمر، بأن يمضغه ويدلك به حنكه، فإن لم يكن تمر، حنكه
بشئ آخر حلو، وأن يهنأ الوالد بالمولود، ويستحب أن يعطي القابلة رجل
العقيقة.
فصل في الحديث عن النبي (ص): لا فرع ولا عتيرة. فالفرع -
بفتح الفاء والراء وبالعين المهملة - أول نتاج البهيمة كانوا يذبحونه ولا يملكونه رجاء
البركة في الام وكثرة نسلها. والعتيرة - بفتح العين المهملة - ذبيحة كانوا يذبحونها في
العشر الأول من رجب. ويسمونها: الرجبية أيضا. وذكر ابن كج وغيره فيهما
وجهين. أحدهما: تكرهان للخبر. والثاني: لا كراهة فيهما، والمنع راجع إلى
ما كانوا يفعلونه، وهو الذبح لآلهتهم، أو أن المقصود نفي الوجوب، أو أنهما ليستا
كالأضحية في الاستحباب، أو في ثواب إراقة الدم. فأما تفرقة اللحم على
501

المساكين، فبر وصدقة. وحكي أن الشافعي رحمه الله قال: إن تيسر ذلك كل
شهر، كان حسنا.
قلت: هذا النص للشافعي رحمه الله في سنن حرملة،
والحديث المذكور في
أول الفصل في صحيح البخاري وغيره، وفي سنن أبي داود وغيره حديث آخر
يقتضي الترخيص فيهما، بل ظاهره الندب، فالوجه الثاني يوافقه، وهو الراجح.
واعلم أن الامام الرافعي رحمه الله، ترك مسائل مهمة تتعلق بالباب.
إحداها: يكره القزع، وهو حلق بعض الرأس، سواء كان متفرقا أو من موضع
واحد، لحديث الصحيحين بالنهي عنه. وقد اختلف في حقيقة القزع،
والصحيح: ما ذكرته. وأما حلق جميع الرأس، فلا بأس به لمن لا يخف عليه
تعاهده، ولا بأس بتركه لمن خف عليه.
الثانية: يستحب فرق شعر الرأس.
الثالثة: يستحب الادهان غبا، أي: وقتا بعد وقت، بحيث يجف الأول.
الرابعة: يستحب الاكتحال وترا. والصحيح في معناه: ثلاثا في كل عين.
والخامسة: تقليم الأظفار، وإزالة شعر العانة، بحلق، أو نتف،
أو قص، أو نورة، أو غيرها، والحلق أفضل. ويستحب إزالة شعر الإبط بأحد هذه
الأمور، والنتف أفضل لمن قوي عليه.
ويستحب قص الشارب، بحيث يبين طرف الشفة بيانا ظاهرا. ويبدأ في
502

هذه كلها، باليمين، ولا يؤخرها عن وقت الحاجة، ويكره كراهة شديدة، تأخيرها
عن أربعين يوما، للحديث في صحيح مسلم بالنهي عن ذلك.
السادسة: من السنة غسل البراجم، وهي عقد الأصابع ومفاصلها، ويلتحق
بها إزالة ما يجتمع من الوسخ في معاطف الاذن وصماخها، وفي الانف وسائر
البدن.
السابعة: خضاب الشعر الشائب بحمرة أو صفرة، سنة، وبالسواد حرام.
وقيل: مكروه. وأما خضاب اليدين والرجلين، فمستحب في حق النساء، كما سبق
في باب الاحرام، وحرام في حق الرجال إلا لعذر.
الثامنة: يستحب ترجيل الشعر، وتسريح اللحية، ويكره نتف الشيب.
التاسعة: ذكر الغزالي وغيره، في اللحية عشر خصال مكروهة: خضابها
بالسواد إلا للجهاد، وتبييضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة، ونتفها أول
طلوعها إيثارا للمرودة وحسن الصورة، ونتف الشيب، وتصفيفها طاقة فوق طاقة
تحسنا، والزيادة فيها، والنقص منها بالزيادة في شعر العذارين من الصدغين، أو
أخذ بعض العذار في حلق الرأس، ونتف جانبي العنفقة، وغير ذلك، وتركها شعثة
إظهارا لقلة المبالاة بنفسه، والنظر في بياضها وسوادها إعجابا وافتخارا، ولا بأس
بترك سباليه، وهما طرفا الشارب.
العاشرة: في صحيح مسلم عن النبي (ص): إن أحب أسمائكم إلى الله عز وجل، عبد
الله، وعبد الرحمن، وإذا سمي إنسان باسم قبيح، فالسنة
503

تغييره. وينبغي للولد والتلميذ والغلام، أن لا يسمي أباه ومعلمه وسيده باسمه.
ويستحب تكنية أهل الفضل من الرجال والنساء، سواء كان له ولد، أم لا، وسواء
كني بولده، أم بغيره. ولا بأس بكنية الصغيرة، وإذا كني من له أولاد، فالسنة أن
يكنى بأكبرهم، ونص الشافعي رحمه الله، أنه لا يجوز التكني بأبي القاسم، سواء
كان اسمه محمدا، أم غيره، للحديث الصحيح في ذلك، وسنوضحه في أول
النكاح إن شاء الله تعالى. ولا بأس بمخاطبة الكافر والمبتدع والفاسق بكنيته إذا لم
يعرف بغيرها، أو خيف من ذكره باسمه فتنة، وإلا فينبغي أن لا يزيد على الاسم.
وا لأدب، أن لا يذكر الانسان كنيته في كتابه ولا غيره، إلا أن لا يعرف بغيرها أو
كانت أشهر من اسمه. ولا بأس بترخيم الاسم إذا لم يتأذ صاحبه، ولا بتلقيب
الانسان بلقب لا يكره. واتفقوا على تحريم تلقيبه بما يكرهه، سواء كان صفة له،
كالأعمش والأعرج، أو لأبيه، أو لامه، أو غير ذلك. ويجوز ذكره بذلك للتعريف،
لمن لا يعرفه بغيره، ناويا التعريف فقط. وثبت في صحيح مسلم وغيره:
أن رسول الله (ص) قال: إذا كان جنح الليل أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن
الشيطان ينتشر حينئذ، فإذا ذهب ساعة من الليل، فخلوهم، وأغلقوا الباب،
واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا، وأوكوا قربكم واذكروا اسم الله،
وخمروا آنيتكم واذكروا اسم الله، ولو أن تعرضوا عليها شيئا، وأطفئوا مصابيحكم
وفي رواية: لا ترسلوا فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس، حتى تذهب فحمة
العشاء وفي رواية: لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون.
فهذه سنن ينبغي المحافظة عليها، وجنح الليل بضم الجيم وكسرها:
ظلامه. وقوله (ص): تعرضوا عليها شيئا - بضم الراء - على المشهور. وقيل:
بكسرها، أي: تجعلوه عرضا. وقوله (ص): لا ترسلوا فواشيكم هي - بالفاء
جمع فاشية - وهو كل ما ينشر من المال كالبهائم وغيرها، وفحمة العشاء:
ظلمتها. والله أعلم.
504

كتاب الصيد والذبائح
الحيوان المأكول، إنما يصير مذكى بأحد طريقين.
أحدهما: الذبح في الحلق واللبة، وذلك في الحيوان المقدور عليه.
والثاني: العقر المزهق في أي موضع كان، وذلك في غير المقدور عليه.
ثم الذبح والعقر أربعة أركان.
الأول: الذابح، والعاقر يشترط كونه مسلما أو كتابيا. وتحل ذبيحة الكتابي،
505

سواء فيه ما يستحله الكتابي، وما لا.
وحقيقة الكتابي تأتي في كتاب النكاح إن شاء الله. تعالى.
وفي ذبيحة المتولد بين الكتابي والمجوسية، قولان، كمناكحته، والمناكحة
والذبيحة، لا يفترقان، إلا أن الأمة الكتابية، تحل ذبيحتها دون مناكحتها. ولو صاد
مجوسي سمكة، حلت، لان ميتتها حلال. وكما تحرم ذبيحة المجوسي،
والوثني، والمرتد، وغيرهم ممن لا كتاب له، يحرم صيده بسهم، أو كلب.
ويحرم ما يشارك فيه مسلما. فلو أمرا سكينا على حلق شاة، أو قطع هذا بعض
الحلقوم، وهذا بعضه، أو قتلا صيدا بسهم أو كلب، فهو حرام.
ولو رميا سهمين، أو أرسلا كلبين، فإن سبق سهم المسلم أو كلبه، فقتل
الصيد، أو أنهاه إلى حركة المذبوح، حل، كما لو ذبح مسلم شاة، ثم قدها المجوسي. وإن سبق ما أرسله
المجوسي، أو جرحاه معا، أو مرتبا، ولم يذفف
واحد منهما، فهلك بهما، أو لم يعلم أيهما قتله، فحرام. وقال صاحب
البحر: متى اشتركا في إمساكه وعقره، أو في أحدهما، وانفرد واحد بالآخر، أو
انفرد كل واحد بأحدهما، فحرام. ولو كان لمسلم كلبان معلم وغيره، أو معلمان،
ذهب أحدهما بلا إرسال، فقتلا صيدا، فكاشتراك كلبي المسلم والمجوسي. ولو
هرب الصيد من كلب المسلم، فعارضه كلب مجوسي، فرده عليه، فقتله كلب
المسلم، حل، كما لو ذبح المسلم شاة أمسكها مجوسي. ولو جرحه مسلم أولا،
ثم قتله مجوسي، أو جرحه جرحا غير مذفف، ومات بالجرحين، فحرام. فلو كان
المسلم أثخنه بجراحته، فقد ملكه. ويلزم المجوسي قيمته له، لأنه أفسده بجعله
ميتة. ويحل ما اصطاده المسلم بكلب المجوسي، كالذبح بسكينه.
قلت: لو أكره مجوسي مسلما على ذبح شاة، أو محرم حلالا على ذبح صيد، فذبح، حل، ذكره الشيخ إبراهيم المروزي في مسألة الاكراه على القتل.
والله أعلم.
فرع تحل ذبيحة الصبي المميز على الصحيح، وفي غير المميز
506

والمجنون والسكران، قولان. أحدهما: الحل، كمن قطع حلق شاة يظنه
خشبة. والثاني: المنع، كنائم بيده سكين وقعت على حلقوم شاة. وصحح
الامام، والغزالي، وجماعة، الثاني. وقطع الشيخ أبو حامد وصاحب المهذب
بالحل.
قلت: الأظهر: الحل. والله أعلم.
قال صاحب التهذيب: فإن كان للمجنون أدنى تمييز، وللسكران قصد،
حل قطعا. وتحل ذبيحة الأعمى قطعا لكن تكره. وفي صيده بالكلب والرمي،
وجهان. أصحهما: لا يحل. ومنهم من قطع به. وقيل: عكسه. والأشبه: أن
الخلاف مخصص بما إذا أخبره بصير الصيد، فأرسل السهم أو الكلب. وكذا
صورها في التهذيب، وأطلق الوجهين جماعة، ويجريان في اصطياد الصبي
والمجنون بالكلب والسهم. وقيل: يختصان بالكلب، وقطع بالحل في السهم
كالذبح.
فرع الأخرس، إن كان له إشارة مفهومة، حلت ذبيحته، وإلا،
فكالمجنون، قاله في التهذيب: ولتكن سائر تصرفاته على هذا القياس.
قلت: الأصح: الجزم بحل ذبيحة الأخرس الذي لا يفهم، وبه قطع
الأكثرون.
والله أعلم.
الركن الثاني: الذبيح.
الحيوان ثلاثة أقسام.
507

الأول: ما لا يؤكل. والثاني: مأكول يحل ميته. والثالث: مأكول، لا يحل
ميته.
فالأول: ذبحه كموته. والثاني: كالسمك والجراد، ولا حاجة إلى ذبحه.
وهل يحل أكل السمك الصغار إذا شويت ولم يشق جوفها ويخرج ما فيه؟ فيه
وجهان. وجه الجواز: عسر تتبعها، وعلى المسامحة بها جرى الأولون. قال
الروياني: بهذا أفتي، ورجيعها طاهر عندي، وهو اختيار القفال.
ولو وجدت سمكة في جوف سمكة، فهي حلال، كما لو ماتت حتف أنفها،
بخلاف ما لو ابتلعت طائرا فوجد ميتا في جوفها، لا يحل.
ولو تقطعت السمكة في جوف سمكة، وتغير لونها، لم تحل على الأصح،
لأنها كالروث والقئ. ويكره ذبح السمك، إلا أن يكون كبيرا يطول بقاؤه،
فيستحب ذبحه على الأصح، إراحة له. وقيل: يستحب تركه ليموت بنفسه. ولو
ابتلع سمكة حية، أو قطع فلقة منها، لم يحرم على الأصح، لكن يكره.
قلت: وطردوا الوجهين في الجراد. ولو ذبح مجوسي سمكة، حلت. ولو
قلى السمك قبل موته، فطرحه في الزيت المغلي وهو يضطرب، قال الشيخ أبو
حامد: لا يحل فعله، لأنه تعذيب. وهذا تفريع على اختياره في ابتلاع السمكة
حية: أنه حرام. وعلى إباحة ذلك، يباح هذا. والله أعلم.
أما القسم الثالث: فضربان،
مقدور على ذبحه، ومتوحش.
فالمقدور عليه: لا يحل إلا بالذبح في الحلق واللبة، كما سبق في كتاب
الأضحية، وسواء الإنسي والوحشي إذا ظفر به.
وأما المتوحش، كالصيد، فجميع أجزائه مذبح ما دام متوحشا. فلو رماه
بسهم، أو أرسل عليه جارحة، فأصاب شيئا من بدنه ومات، حل بالاجماع. ولو
توحش إنسي، بأن ند بعير، أو شردت شاة، فهو كالصيد، يحل بالرمي إلى غير
508

مذبحه، وبإرسال الكلب عليه. ولو تردى بعير في بئر، ولم يمكن قطع حلقومه،
فهو كالبعير الناد في حله بالرمي. وهل يحل بإرسال الكلب؟ وجهان. أصحهما عند
صاحب البحر: التحريم، واختار البصريون الحل.
قلت: الأصح: تحريمه. وصححه أيضا الشاشي. والله أعلم.
وليس المراد بالتوحش مجرد الافلات، بل متى تيسر اللحوق بعدو، أو
استعانة بمن مسك الدابة، فليس ذلك توحشا، ولا يحل إلا بالذبح في المذبح. ولو
تحقق الشرود، وحصل العجز في الحال، فقد أطلق الأصحاب: أن البعير
كالصيد، لأنه قد يريد الذبح في الحال، فتكليفه الصبر إلى القدر، يشق عليه.
قال الامام: والظاهر عندي: أنه لا يلحق بالصيد بذلك، لأنها حالة عارضة قريبة
الزوال، لكن لو كان الصبر والطلب يؤدي إلى مهلكة أو مسبعة، فهو حينئذ
كالصيد. وإن كان يؤدي إلى موضع لصوص وغصاب مترصدين، فوجهان.
والفرق أن تصرفهم وإتلافهم متدارك بالضمان. والمذهب: ما قدمناه عن
الأصحاب.
ثم في كيفية الجرح المفيد للحل في الناد والمتردي، وجهان. أصحهما وبه
أجاب الأكثرون: يكفي
جرح يفضي إلى الزهوق كيف كان.
والثاني: لا بد من جرح مذفف، واختاره القفال، والامام.
فصل إذا أرسل سلاحا، كسهم، وسيف، وغيرهما، أو كلبا معلما على
صيد، فأصابه، ثم أدرك الصيد حيا، نظر، إن لم يبق فيه حياة مستقرة، بأن كان
قطع حلقومه ومريه، أو أجافه، أو خرق أمعاءه، فيستحب أن يمر السكين على حلقه
ليريحه. فإن لم يفعل، وتركه حتى مات، فهو حلال، كما لو ذبح شاة فاضطربت
أو عدت. وإن بقيت فيه حياة مستقرة، فله حالان.
أحدهما: أن يتعذر ذبحه بغير تقصير من صائده حتى يموت، فهو حلال
أيضا، للعذر.
509

والثاني: أن لا يتعذر ذبحه، فتركه حتى مات، أو تعذر بتقصيره، فمن صور الحال الأول، فمات،
فهو حرام، كما لو تردى بعير فلم يذبحه حتى مات.
فمن صور الحال الأول أن يشغل بأخذ الآلة وسل السكين، فيموت قبل
إمكان ذبحه.
ومنها: أن يمتنع بما فيه من بقية قوة، ويموت قبل قدرته عليه.
ومنها: أن لا يجد من الزمان ما يمكن الذبح فيه.
ومن صور الثاني: أن لا يكون معه آلة ذبح، أو تضيع آلته منه، فلو نشبت في
الغمد، فلم يتمكن من إخراجها حتى مات، فهو حرام على الصحيح، لان حقه أن
يستصحب غمدا يواتيه. وقال أبو علي بن أبي هريرة، والطبري: يحل.
ولو غصبت الآلة، فالصيد حرام على الأصح. والثاني: تحل كما لو لم يصل
إلى الصيد لسبع حائل حتى مات، قال الروياني: ولو اشتغل بطلب المذبح فلم
يجده حتى مات، فهو حلال، لأنه لا بد منه، بخلاف ما لو اشتغل بتحديد
السكين، لأنه يمكن تقديمه.
ولو كان يمر ظهر السكين على حلقه غلطا، فمات، فحرام، لأنه تقصير.
ولو وقع الصيد منكسا، واحتاج إلى قلبه ليقدر على الذبح، فمات، أو اشتغل
بتوجيهه إلى القبلة، فمات، فحلال. ولو شك بعد موت الصيد، هل تمكن من
ذكاته فيحرم، أم لم يتمكن فيحل؟ فقولان. أظهرهما: يحل.
وهل يشترط العدو إلى الصيد إذا أصابه السهم أو الكلب؟ وجهان. أحدهما:
نعم، لأنه المعتاد في هذه الحالة، لكن لا يكلف المبالغة بحيث يفضي إلى ضرر
ظاهر. وأصحهما: لا، بل يكفي المشي.
وعلى هذا، فالصحيح الذي قطع به الصيدلاني، وصاحب التهذيب
وغيرهما: أنه لو كان يمشي على هينته، فأدركه ميتا، حل وإن كان لو أسرع لأدركه
حيا. وقال الامام: عندي أنه لا بد من الاسراع قليلا، لان الماشي على هينته،
خارج عن عادة الطلب. فإن شرطنا العدو، فتركه، فصادف الصيد ميتا ولم يدر
أمات في الزمن الذي يسع العدو، أم بعده، فينبغي أن يكون على القولين، فيما إذا
510

شك في التمكن من الذكاة.
فرع لو رمى صيدا فقده قطعتين متساويتين أو متفاوتتين، فهما حلال.
ولو أبان منه - بسيف أو غيره - عضوا، كيد ورجل، نظر، إن أبانه بجراحة
مذففة ومات في الحال، حل العضو وباقي البدن. وإن لم يذففه فأدركه وذبحه، أو
جرحه جرحا آخر مذففا، فالعضو حرام، لأنه أبين من حي، وباقي البدن حلال.
وإن أثبته بالجراحة الأولى، فقد صار مقدورا عليه، فتعين ذبحه، ولا تجزئ سائر
الجراحات.
ولو مات من تلك الجراحة بعد مضي زمن، ولم يتمكن من ذبحه، حل باقي
البدن، ولم يحل العضو على الأصح لأنه أبين من حي، فهو كمن قطع ألية شاة ثم
ذبحها، لا تحل الألية قطعا. والثاني: تحل، لان الجرح كالذبح للجملة، فتبعها
العضو. وإن جرحه جراحة أخرى والحالة هذه، فإن كانت مذففة، فالصيد حلال،
والعضو حرام، وإلا، فالصيد حلال أيضا، والعضو حرام على الصحيح، لان
الإبانة لم تتجرد ذكاة للصيد.
الركن الثالث: آلة الذبح والاصطياد،
هي ثلاثة أقسام.
الأول: المحددات الجارحة بحدها من الحديد، كالسيف، والسكين،
والسهم، والرمح، أو من الرصاص أو من النحاس أو الذهب أو الخشب المحدد، أو
القصب أو الزجاج أو الحجر، فيحصل الذبح بجميعها، ويحل الصيد المقتول بها،
إلا الظفر والسن وسائر العظام، فإنه لا يحل بها، سواء عظم الآدمي وغيره،
المتصل والمنفصل.
511

وفي وجه: أن عظم المأكول تحصل الذكاة به، وهو شاذ ضعيف.
ولو ركب عظما على سهم، وجعله نصلا له، فقتل به صيدا، لم يحل على
المشهور.
القسم الثاني: الآلات المثقلات، إذا أثرت بثقلها دقا أو خنقا، لم يحل
الحيوان، وكذا المحدد إذا قتل بثقله، بل لا بد من الجرح.
فيحرم الطير إذا مات ببندقة رمي بها، خدشته، أم لا، قطعت رأسه، أم لا.
ولو وقع صيد في بئر محفورة له، فمات بالانصدام، أو الخنق بأحبولة منصوبة
له، أو كان رأس الحبل بيده، فجره ومات الصيد، أو مات بسهم لا نصل فيه ولا
حد له، أو بثقل السيف، أو مات الطير الضعيف بإصابة عرض السهم، أو قتل
بسوط، أو عصا، فكله حرام.
ولو ذبح بحديدة لا تقطع، لم يحل، لان القطع هنا بقوة الذابح وشدة
الاعتماد، لا بالآلة. ولو خسق فيه العصا ونحوه، حكى الروياني: أنه إن كان
محددا يمور مور السلاح، فهو حلال. وإن كان لا يمور إلا مستكرها، نظر، إن
كان العود خفيفا قريبا من السهم، حل. وإن كان ثقيلا، لم يحل. فرع إذا لم يجرح الكلب الصيد، لكن تحامل عليه، فقتله بضغطته،
حل على الأظهر.
فرع إذا مات الصيد بشيئين: محرم، ومبيح، بأن مات بسهم وبندقة
أصاباه من رام أو راميين، أو صيب الصيد طرف من النصل، فيجرحه ويؤثر فيه
عرض السهم في مروره فيموت منهما، أو يرمي إلى صيد سهما فيقع على طرف
سطح، ثم يسقط منه، أو على جبل فيتدهور منه، أو يقع في ماء، أو على شجر
فينصدم بأغصانه، أو يقع على محدد من سكين وغيره، فكل هذ حرام.
512

ولو تدحرج المجروح من الجبل من جنب إلى جنب، حل، ولا يضر ذلك،
لأنه لا يؤثر في التلف. وإن أصاب السهم الطائر في الهواء فوقع على الأرض
ومات، حل، سواء مات قبل وصوله الأرض أو بعده، لأنه لا بد من الوقوع، فعفي
عنه، كما لو كان الصيد قائما فأصابه السهم ووقع على جنبه وانصدم بالأرض ومات،
فإنه يحل.
ولو زحف على قليلا بعد إصابة السهم، فهو كالوقوع على الأرض، فيحل. ولو لم
يجرحه السهم في الهواء، لكن كسر جناحه فوقع ومات، فحرام، لأنه لم يصبه
جرح يحال الموت عليه. ولو كان الجرح خفيفا لا يؤثر مثله، لكن عطل جناحه
فسقط ومات، فحرام.
ولو جرحه السهم في الهواء فوقع في بئر، إن كان فيها ماء، فقد سبق بيانه،
وإلا، فهو حلال، وقعر البئر كالأرض.
والمراد: إذا لم تصادمه جدران البئر. ولو كان الطائر على شجرة فأصابه
السهم فوقع على الأرض ومات، حل. وإن وقع على غصن ثم على الأرض، لم
يحل. وليس الانصدام بالأغصان، أو بأحرف الجبل عند التدهور من أعلاه،
كالانصدام بالأرض، فإن ذلك الانصدام ليس بلازم ولا غالب، والانصدام
بالأرض، لازم.
وللامام احتمال في الصورتين، لكثرة وقوع الطير على الشجر، والانصدام
بطرف الجبل إذا كان الصيد فيه.
فرع إذا رمي طير الماء، إن كان على وجه
الماء فأصابه ومات، حل، والماء له كالأرض. وإن كان خارج الماء، ووقع فيه بعد إصابة السهم، ففي حله
وجهان ذكرهما في الحاوي. وقطع في التهذيب: بالتحريم.
وفي شرح مختصر الجويني: بالحل. فلو كان الطائر في هواء البحر، قال
في التهذيب: إن كان الرامي في البر، لم يحل. وإن كان في السفينة في
البحر، حل.
فرع جميع ما ذكرنا فيما إذا لم ينته الصيد بتلك الجراحة إلى حركة
513

المذبوح. فإن انتهى إليها بقطع الحلقوم والمرئ، أو غيره، فقد تمت ذكاته، ولا
أثر لما يعرض بعده.
فرع لو أرسل كلب في عنقه قلادة محددة، فجرح الصيد بها، حل كما لو
أرسل سهما، قاله في التهذيب. وقد يفرق بأنه قصد بالسهم الصيد، ولم
يقصده بالقلادة.
القسم الثالث: الجوارح، فيجوز الاصطياد بجوارح السباع، كالكلب،
والفهد، والنمر، وغيرها. وبجوارح الطير، كالبازي، والشاهين، والصقر. وفي
وجه يحكى عن أبي بكر الفارسي: لا يجوز الاصطياد بالكلب الأسود، وهو شاذ
ضعيف.
والمراد بجواز الاصطياد بها: أن ما أخذته وجرحته وأدركه صاحبها ميتا، أو في
حركة المذبوح، حل أكله.
ويقوم إرسال الصائد وجرح الجارح في أي موضع كان، مقام الذبح في
المقدور عليه.
وأما الاصطياد بمعنى إثبات الملك، فلا يختص، بل يحصل بأي طريق
تيسر.
ثم يشترط لحل ما قتله الجوارح، كون الجارح معلما. فإن لم يكن معلما،
لم يحل ما قتله. فإن أدرك وفيه حياة مستقرة، ذكاه كغيره.
ويشترط في كون الكلب معلما، أربعة أمور.
أحدها: أن ينزجر بزجر صاحبه، كذا أطلقه الجمهور، وهو المذهب. وقال
514

الامام: يعتبر ذلك في ابتداء الامر. فأما إذا انطلق واشتد عدوه،
في اشتراطه وجهان. أصحهما يشترط.
الثاني: أن يسترسل بإرساله. ومعناه: أنه إذا أغري بالصيد هاج.
الثالث: أن يمسك الصيد فيحبسه على صاحبه، ولا يخليه.
الرابع: أن لا يأكل منه على المشهور. وفي قول شاذ: لا يضر الاكل.
هذا حكم الكلب، وما في معناه من جوارح السباع. وذكر الامام: أن ظاهر
المذهب: أنه يشترط أيضا أن ينطلق بإطلاق صاحبه، وأنه لو انطلق بنفسه، لم يكن
معلما. ورآه الامام مشكلا، من حيث أن الكلب على أي صفة كان، إذا رأى صيدا
بالقرب منه وهو على كلب الجوع، يبعد انكفافه.
وأما جوارح الطير، فيشترط فيها أن تهيج عند الاغراء أيضا.
ويشترط ترك أكلها من الصيد أيضا على الأظهر. قال الامام: ولا يطمع في
انزجارها بعد الطيران، ويبعد أيضا اشتراط انكفافها في أول الأمر.
ثم في الفصل مسائل.
إحداها: الأمور المشترطة في التعليم، يشترط تكررها ليغلب على الظن
تأدب الجارحة.
والرجوع في عدد ذلك إلى أهل الخبرة بالجوارح، على الصحيح الذي اقتضاه
كلام الجمهور. وقيل: يشترط تكرره ثلاث مرات. وقيل: مرتين.
الثانية: إذا ظهر أنه معلم، ثم أكل من صيد قبل قتله أو بعده، ففي حل ذلك
الصيد قولان. أظهرهما: لا يحل.
قال الامام: وددت لو فصل فاصل بين أن ينكف زمانا ثم يأكل، وبين أن يأكل
515

بنفس الاخذ، لكن لم يتعرضوا له.
قلت: فصل الجرجاني وغيره فقالوا: إن أكل عقيب القتل، ففيه القولان،
وإلا، فيحل قطعا. والله أعلم.
فإذا قلنا بالتحريم، فلا بد من استئناف التعليم، ولا ينعطف التحريم على ما
اصطاده من قبل. فإذا قلنا بالحل، فتكرر أكله وصار عادة له، حرم الصيد الذي
أكل منه بلا خلاف.
وفي تحريم الصيود التي أكل منها من قبل، وجهان، وقد ترجح منهما
التحريم.
قال في التهذيب: إذا أكل من الصيد الثاني، حرم،
وفي الأول، الوجهان. وإذا أكل من الثالث، حرم، وفيما قبله، الوجهان.
وهذا ذهاب إلى أن الاكل مرتين، يخرجه عن كونه معلما.
وقد ذكرنا خلافا في تكرر الصفات التي يصير بها معلما، ويجوز أن يفرق
بينهما بأن أثر التعليم في الحل، وأثر الاكل في التحريم، فعملنا بالاحتياط فيهما.
وعلى هذا، لو عرفنا كونه معلما، لم ينعطف الحل على ما سبق بلا خلاف.
وفي انعطاف التحريم، الخلاف المذكور.
ولو لعق الكلب الدم، لم يضر على المذهب.
وأشار الامام إلى وجه ضعيف.
ولو أكل حشوة الصيد، فطريقان. أصحهما: على قولي اللحم.
والثاني: القطع بالحل، لأنها غير مقصودة كالدم.
ولو لم يسترسل عند الارسال، أو لم ينزجر عند الزجر، فينبغي أن يكون في
تحريم الصيد وخروجه عن كونه معلما، الخلاف في الاكل
516

قال القفال: لو أراد الصائد أخذ الصيد منه فامتنع، وصار يقاتل دونه، فهو
كالأكل.
وجوارح الطير إذا أكلت منه، وقلنا: يشترط في التعليم تركها الاكل،
فطريقان. أصحهما: طرد القولين كالكلب. والثاني: القطع بالحل.
الثالثة: معض الكلب من الصيد نجس، يجب غسله سبعا مع التعفير كغيره.
فإذا غسل، حل أكله، هذا هو المذهب. وقيل: إنه طاهر. وقيل: نجس يعفى
عنه ويحل أكله بلا غسل. وقيل: نجس لا يطهر بالغسل، بل يجب تقوير ذلك
الموضع وطرحه، لأنه يتشرب لعابه، فلا يتخلله الماء.
قال الامام: وهذا القائل، يطرد ما ذكره في كل لحم، وما في معناه بعضه
الكلب، بخلاف موضع يناله لعابه بغير عض. وقيل: إن أصاب ناب الكلب عرقا
نضاخا بالدم، سرى حكم النجاسة إلى جميع الصيد، ولم يحل أكله. قال الامام:
هذا غلط، لأن النجاسة وإن اتصلت بالدم، فالعرق وعاء حاجز بينه وبين اللحم،
ثم الدم إذا كان يفور، امتنع غوص النجاسة فيه كالماء المتصعد من فواره، إذا
وقعت نجاسة على أعلاه، لم ينجس ما تحته.
فرع ذكرنا أن النمر والفهد، كالكلب في حل ما قتلاه. وهكذا نص عليه
الشافعي والأصحاب. وذكر الامام: أن الفهد يبعد فيه التعلم،
لأنفته وعدم انقياده. فإن تصور تعلمه على ندور، فهو كالكلب. وهذا الذي قاله،
لا يخالف ما قاله الشافعي والأصحاب. وفي كلام الغزالي ما يوهم
خلاف هذا، وهو محمول على ما ذكره الامام، فلا خلاف فيه.
الركن الرابع: نفس الذبح، وعقر الصيد.
أما نفس الذبح، فسبق في باب الأضحية.
517

وأما العقر الذي يبيح الصيد بلا ذكاة، فهو الجرح المقصود المزهق الوارد على
حيوان وحشي.
أما الجرح، فيخرج عنه الخنق والوقذ ونحوهما. وأما القصد، فله ثلاث
مراتب.
الأولى: قصد أصل الفعل الجارح. فلو كان في يده سكين، فسقط فانجرح
به صيد، ومات، أو نصب سكينا أو منجلا أو حديدة فانعقر به صيد ومات أو كان
في يده سكين فاحتكت بها شاة، فانقطع حلقومها، أو وقعت على حلقها فقطعته،
فهي حرام. وحكي وجه عن أبي إسحاق: أنه تحل الشاة في صورة وقوع السكين
من يده، ولا شك أن الصيد في معناها، وهذا الوجه شاذ ضعيف. ولو كان في يده
حديدة فحركها، وحكت الشاة أيضا حلقها بالحديدة فحصل انقطاع حلقها
بالحركتين، فهي حرام.
فرع إذا استرسل الكلب المعلم بنفسه، فقتل صيدا، فهو حرام. فلو
أكل منه، لم يقدح ذلك في كونه معلما، بلا خلاف، وإنما يعتبر الامساك إذا أرسله صاحبه. ولو زجره
صاحبه لما استرسل، فانزجر ووقف، ثم أغراه فاسترسل وقتل
الصيد، حل بلا خلاف. وإن لم ينزجر ومضى على وجهه، لم يحل، سواء زاد
عدوه وحدته، أم لا. فلو لم يزجره، بل أغراه، فإن لم يزد عدوه، فحرام. وكذا
إذا زاد على الأصح. فإن كان الاغراء وزيادة العدو بعد ما زجره، فلم ينزجر، فعلى
الوجهين، وأولى بالتحريم، وبه قطع العراقيون.
ولو أرسل مسلم كلبا، فأغراه مجوسي فازداد عدوه، فإن قلنا في الصورة
السابقة: لا ينقطع حكم الاسترسال، ولا يؤثر الاغراء، حل هنا. ولا يؤثر إغراء
المجوسي. وإن قطعناه، وأحلنا على الاغراء، لم يحل هنا، كذا ذكر الجمهور
هذا البناء. وقطع في التهذيب: بالتحريم. واختاره القاضي أبو الطيب، لأنه
قطع للأول أو مشاركة، وكلاهما يحرمه.
518

ولو أرسل مجوسي كلبا فأغراه مسلم، فازداد عدوه، فوجهان بناء على
عكس ما تقدم، ومنهم من قطع بالتحريم.
ولو أرسل مسلم كلبه، فزجره فضولي فانزجر، ثم أغراه فاسترسل، فأخذ
صيدا، فلمن يكون الصيد؟ وجهان. أصحهما: للغاصب. ولو زجره فلم ينزجر،
فأغراه، أو لم يزجره، بل أغراه وزاد عدوه، وقلنا: الصيد للغاصب، خرج على
الخلاف في أن الاغراء يوسف يقطع حكم الابتداء، أم لا؟ إن قلنا: لا، وهو الأصح،
فالصيد لصاحب الكلب، وإلا، فللغاصب الفضولي. قال الامام: ولا يمتنع
تخريج وجه باشتراكهما.
فرع لو أصاب السهم الصيد بإعانة الريح، وكان يقصر عنه لولا الريح،
حل قطعا، لأنه لا يمكن الاحتراز عن هبوبها، هكذا صرح به الأصحاب كلهم،
وأبدى الامام فيه ترددا.
ولو أصاب الأرض أو انصدم بحائط ثم ازدلف وأصاب الصيد، أو أصاب
حجرا فنبا عنه وأصاب الصيد أو نفذ فيه إلى الصيد، أو كان الرامي في نزع القوس
فانقطع الوتر وصدم الفوق فارتمى السهم وأصاب الصيد، حل على الأصح.
المرتبة الثانية: قصد جنس الحيوان، فلو أرسل سهما في الهواء، أو فضاء
من الأرض، لاختبار قوته، أو رمى إلى هدف، فاعترض صيد فأصابه وقتله، وكان
لا يخطر له الصيد، أو كان يراه، ولكن رمى إلى الهدف. أو ذئب، ولا يقصد
الصيد فأصابه، لم يحل على الأصح المنصوص، لعدم قصده. ولو كان يجيل سيفه
فأصاب عنق شاة وقطع الحلقوم والمرئ من غير علم بالحال، فقطع الامام وغيره:
بأنها ميتة قد يجئ في هذا الخلاف وأيضا الوجه المنقول فيما لو وقع السكين من
يده.
ولو أرسل كلبا حيث لا صيد، فاعترض صيد فقتله، لم يحل على المذهب.
519

وفي الكافي للروياني وغيره: فيه وجهان،
ولو رمى ما ظنه حجرا، أو جرثومة، أو آدميا معصوما، أو غير معصوم، أو
خنزيرا، أو حيوانا آخر محرما، فكان صيدا فقتله، أو ظنه صيدا غير مأكول فكان
مأكولا، أو قطع في ظلمة ما ظنه ثوبا، فكان حلق شاة، فانقطع الحلقوم والمرئ،
أو أرسل كلبا إلى شاخص يظنه حجرا، فكان صيدا، أو لم يغلب على ظنه شئ من
ذلك، أو ذبح في ظلمة حيوانا يظنه محرما، فبان أنه ذبح شاة، حل جميع ذلك على
الصحيح.
ولو رمى إلى شاته الربيطة سهما جارحا، فأصاب الحلقوم والمرئ وفاقا،
وقطعهما، ففي حل الشاة مع القدرة على ذبحها احتمال للامام، وقال: ويجوز أن
يفرق بين أن يقصد المذبح بسهمه، وبين أن يقصد الشاة فيصيب المذبح.
قلت: الأرجح: الحل. والله أعلم.
المرتبة الثالثة: قصد عين الحيوان، فإذا رمى صيدا يراه، أو لا يراه، لكن
يحس به في ظلمة، أو من وراء حجاب، بأن كان بين أشجار ملتفة وقصده، حل،
فإن لم يعلم به، بأن رمى وهو لا يرجو صيدا فأصاب صيدا، ففيه الخلاف السابق
في المرتبة الثانية. وإن كان يتوقع صيدا فبنى الرمي عليه، بأن رمى في ظلمة
الليل وقال: ربما أصبت صيدا فأصابه، فأوجه. أصحها: التحريم. والثاني:
يحل. والثالث: إن توقعه بظن غالب، حل، وإن كان مجرد تجويز، حرم. ولو
رمى إلى سرب من الظباء، أو أرسل كلبا فأصاب واحدة منها، فهي حلال قطعا.
ولو قصد منها ظبية بالرمي، فأصاب غيرها، فأوجه. أصحها: الحل مطلقا.
والثاني: التحريم. والثالث: إن كان حالة الرمي يرى المصاب حل، وإلا، فلا.
والرابع: إن كان المصاب من السرب الذي رآه ورماه، حل، وإلا، فلا. ومنهم
من قطع بالحل، وسواء عدل السهم عن الجهة التي قصدها إلى غيرها، أم لا. ولو
رمى شاخصا يعتقده حجرا، وكان حجرا، فأصاب ظبية، لم تحل على الأصح، وبه
قطع الصيدلاني وغيره. وإن كان الشاخص صيدا، ومال السهم عنه وأصاب
520

صيدا آخر، ففيه الوجهان، وأولى بالحل.
ولو رمى شاخصا ظنه خنزيرا، وكان خنزيرا، أو صيدا فلم يصبه، وأصاب
ظبية، لم يحل على الأصح فيهما، لأنه قصد محرما. والخلاف فيما إذا كان خنزيرا
أضعف. ولو رمى شاخصا ظنه صيدا، فبان حجرا أو خنزيرا، أو أصاب السهم
صيدا، قال في التهذيب: إن اعتبرنا ظنه فيما إذا رمى ما ظنه حجرا، فكان
صيدا، وأصاب السهم صيدا آخر، وقلنا بالتحريم، فهنا يحل الصيد الذي أصابه.
وإن اعتبرنا الحقيقة، وقلنا بالحل هناك، حرم هنا.
وأما إذا أرسل كلبا على صيد، فقتل صيدا أخر، فينظر، إن لم يعدل عن
جهة الارسال، بل كان فيها صيود، فأخذ غير ما أغراه عليه، حل على الصحيح كما
في السهم، وإن عدل إلى جهة أخرى، فأوجه. أصحها: الحل، لأنه تعسر تكليفه
ترك العدول، ولان الصيد لو عدل فتبعه، حل قطعا. والثاني: يحرم. والثالث وهو
اختيار صاحب الحاوي: إن خرج عادلا عن الجهة، حرم، وإن خرج إليها ففاته
الصيد، فعدل إلى غيرها وصاد، حل، لأنه يدل على حذقه حيث لم يرجع خائبا.
وقطع الامام بالتحريم إذا عدل وظهر من عدوله واختياره بأن امتد في جهة الارسال
زمانا ثم ثار صيد آخر فاستدبر المرسل إليه وقصد الآخر.
وأما كون الجرح مزهقا، فيخرج منه ما لو مات بصدمة أو افتراس سبع، أو
أعان ذلك الجرح غيره على ما بينا في نظائره، فلا يحل.
ولو غاب عنه الكلب والصيد، ثم وجده ميتا، لم يحل على الصحيح،
لاحتمال موته بسبب آخر، ولا أثر لتضمخه بدمه، فربما جرحه الكلب وأصابته
جراحة أخرى. وإن جرحه فغاب، ثم أدركه ميتا، فإن انتهى إلى حركة
المذبوح بالجرح، حل، ولا أثر لغيبته. وإن لم ينته، فإن وجد في ماء، أو وجد
عليه أثر صدمة أو جراحة أخرى، لم يحل. وإن لم يكن عليه أثر آخر، فثلاث
طرق. أحدها: يحل قطعا. والثاني: يحرم قطعا. وأصحها على قولين. أظهرهما
عند الجمهور من العراقيين وغيرهم: التحريم. وأظهرهما عند صاحب
521

التهذيب: التحليل، وتسمى هذه: مسألة الانماء.
قلت: الحل أصح دليلا. وصححه أيضا الغزالي في الاحياء: وثبتت فيه
الأحاديث الصحيحة، ولم يثبت في التحريم شئ، وعلق الشافعي الحل على
صحة الحديث. والله أعلم.
فصل تستحب التسمية عند الذبح، وعند إرسال الكلب والسهم. وقد
سبق بيان ذلك، وما يتفرع عليه، في باب الأضحية.
فصل في بيان ما يملك به الصيد يملك بطرق.
منها: أن يضبطه بيده، ولا يعتبر قصد التملك في أخذه بيده، حتى لو أخذ
صيدا لينظر إليه، ملكه. ولو سعى خلف صيد فوقف الصيد للاعياء، لم يملكه حتى
يأخذه بيده.
ومنها: أن يجرحه جراحة مذففة، أو يرميه فيثخنه ويزمنه، فيملكه، وكذا إن
كان طائرا فكسر جناحه، فعجز عن الطيران والعدو جميعا. ويكفي للتملك إبطال
شدة العدو وصيرورته بحيث يسهل لحاقه. ولو جرحه فعطش فثبت، لم يملكه إن
كان العطش لعدم الماء. وإن كان لعجزه عن الوصول إلى الماء، ملكه، لان عجزه
بالجراحة.
ومنها: وقوعه في شبكة منصوبة له. فلو طرده طارد فوقع في الشبكة، فهو
لصاحب الشبكة، لا للطارد. وفي الحاوي: أنه لو وقع في شبكة ثم تقطعت
فأفلت الصيد، فإن كان ذلك بقطع الصيد الواقع، عاد مباحا، فيملكه من صاده،
وإلا، فهو باق على ملك صاحب الشبكة، فلا يملكه غيره. وقال الغزالي في
522

الوسيط في باب النثر: لو وقع في شبكته فأفلت، لم يزل ملكه على
الصحيح.
ومنها: إذا أرسل كلبا فأثبت صيدا، ملكه، فلو أرسل سبعا آخر فعقره وأثبته،
قال في الحاوي: إن كان له يد على السبع، ملكه كإرسال الكلب، وإلا،
فلا. وإن أفلت الصيد بعد ما أخذه الكلب، ففي البحر: أن بعض الأصحاب
قال: إن كان ذلك قبل أن يدركه صاحبه، لم يملكه، وإلا، فوجهان، لأنه لم
يقبضه، ولا زال امتناعه.
قلت: أصحهما: لا يملكه. والله أعلم.
ومنها: إذا ألجأه إلى مضيق لا يقدر على الانفلات منه، ملكه. وذلك بأن
يدخله بيتا ونحوه. وقد يرجع جميز هذا إلى شئ واحد، فيقال: سبب ملك الصيد
إبطال امتناعه، وحصول الاستيلاء عليه، وذلك يحصل بالطرق المذكورة.
فرع لو توحل صيد بمزرعته وصار مقدورا عليه فوجهان. أحدهما:
يملكه كما لو وقع في شبكته. وأصحهما: لا، لان لا يقصد بسقي الأرض
الاصطياد. قال الامام: الخلاف فيما إذا لم يكن سقى الأرض بما يقصد به توحل
الصيود، فإن كان يقصد، فهو كنصب الشبكة. ولم يتعرض الروياني لمزرعة
الشخص، بل قال: لو توحل وهو في طلبه، لم يملكه، لان الطين ليس من فعله.
فلو كان هو أرسل الماء في الأرض، ملكه، لان الوحل حصل بفعله، فهو
كالشبكة. ويشبه أن يرجع هذا إلى ما ذكره الامام من قصد الاصطياد بالسقي.
ولو وقع صيد في أرضه وصار مقدورا عليه، أو عشش طائر فيها وباض وفرخ،
وحصلت القدرة على البيض والفرخ، لم يملكه على الأصح، وبه قطع في
التهذيب وقال: لو حفر حفرة لا للصيد، فوقع فيها صيد، لم يملكه. وإن حفر
للصيد، ملك ما وقع فيه.
ولو أغلق باب الدار لئلا يخرج، ملكه، قال الامام: قال الأصحاب: إذا
523

قلنا: لا يملكه صاحب الدار، فهو أولى بتملكه، وليس لغيره أن يدخل ملكه
ويأخذه. فإن فعل، فهل يملكه؟ وجهان كمن تحجر مواتا وأحياه غيره، هل
يملكه؟ وهذه الصورة أولى بثبوت الملك، لان التحجر، للاحياء، ولا يقصد ببناء
الدار تملك الصيد الواقع فيها. ولو قصد ببناء الدار، تعشيش الطائر، فعشش فيها
طير، أو وقعت الشبكة من يده بغير قصد، فتعقل بها صيد، فوجهان، لأنه وجد في الأولى قصد، لكنه ضعيف. وفي الثانية: حصل استيلاء بملكه، لكن بلا قصد.
والأصح: أنه يملك في الأولى. دون الثانية.
فرع لو اضطر سمكة إلى بركة صغيرة، أو حوض صغير على شط نهر،
ملكها كما سبق فيمن ألجأ صيدا إلى مضيق. والصغير ما يسهل أخذها منه. فلو
دخلت بنفسها، عاد الخلاف فيما إذا دخل الصيد ملكه. فإن قلنا بالأصح: إنه لا
يملك بالدخول، فسد منافذ البركة، ملكها، لأنه تسبب إلى ضبطها. ولو اضطرها
إلى بركة واسعة يعسر أخذ السمكة منها، أو دخلتها السمكة فسد منافذها، لم
يملكها، لكن يثبت له اختصاص كالمتحجر.
فرع لو دخل بستان غيره وصاد فيه طائرا، ملكه الصائد بلا خلاف.
فصل من ملك صيدا، ثم أفلت منه، لم يزل ملكه عنه. ومن أخذه،
لزمه رده إليه، وسواء كان يدور في البلد وحوله، أو التحق بالوحوش. ولو أرسله
مالكه، لم يزل عنه ملكه على الأصح المنصوص كما لو سيب دابته، ولا يجوز
ذلك، لأنه يشبه سوائب الجاهلية، لأنه قد يختلط بالمباح فيصاد. وقيل: يزول.
524

وقيل: إن قصد بإرساله التقرب إلى الله تعالى، زال، وإلا، فلا. فإن قلنا:
يزول، عاد مباحا، فمن صاده ملكه، وإن قلنا: لا يزول، لم يجز لغيره أن يصيده
إذا عرفه. فإن قال عند الارسال: أبحته لمن أخذه، حصلت الإباحة، ولا ضمان
على من أكله، لكن لا ينفذ تصرفه فيه. وإذا قلنا بالوجه الثالث، فأرسله تقربا إلى
الله تعالى، فهل يحل اصطياده لرجوعه إلى الإباحة، أم لا، كالعبد المعتق؟
وجهان.
قلت: الأصح: الحل، لئلا يصير في معنى سوائب الجاهلية. والله أعلم.
ولو ألقى كسرة خبز معرضا، فهل يملكها من أخذها؟ فيه وجهان مرتبان على
إرسال الصيد. وأولى بأن لا يملك، بل تبقى على ملك الملقي، لان سبب الملك
في الصيد، اليد، وقد أزالها. قال الامام: هذا الخلاف في زوال الملك، وما
فعله إباحة للطاعم في ظاهر المذهب، لان القرائن الظاهرة، تكفي الإباحة. هذا
لفظ الامام، ويوضحه ما نقل عن الصالحين من التقاط السنابل.
525

قلت: الأصح: أنه يملك الكسرة والسنابل ونحوها، ويصح تصرفه فيها بالبيع
وغيره، وهذا ظاهر أحوال السلف، ولم يحك أنهم منعوا من أخذ شيئا من ذلك،
من التصرف فيه. والله أعلم.
فرع لو أعرض عن جلد ميتة، فأخذ غيره ودبغه، ملكه على المذهب،
لأنه لم يكن مملوكا للأول، وإنما كان له اختصاص ضعيف زال بالاعراض.
فرع من صاد صيدا عليه أثر ملك، بأن كان موسوما، أو مقرطا، أو
مخضوبا، أو مقصوص الجناح، لم يملكه، لأنه يدل على أنه كان مملوكا فأفلت،
ولا ينظر إلى احتمال أنه صاده محرم، ففعل به ذلك ثم أرسله، فإنه تقدير بعيد.
فرع لو صاد سمكة في جوفها درة مثقوبة، لم يملك الدرة، بل
تكون لقطة. وإن كانت غير مثقوبة، فهي له مع السمكة. ولو اشترى سمكة
فوجد في جوفها ذرة غير مثقوبة، فهي للمشتري. وإن كانت مثقوبة، فهي للبائع إن
ادعاها، كذا قال في التهذيب. ويشبه أن يقال: الدرة لصائد السمكة،
كالكنز الموجود في الأرض يكون لمحييها.
فصل إذا تحول بعض حمام برجه إلى برج غيره. فإن كان المتحول ملكا
للأول، لم يزل ملكه عنه، ويلزم الثاني رده. فإن حصل بينهما بيض أو فرخ، فهو
تبع للأنثى دون الذكر. ولو ادعى تحول حمامه إلى برج غيره، لم يصدق إلا ببينة،
والورع أن يصدقه، إلا أن يعلم كذبه. وإن كان المتحول مباحا دخل برج الأول،
فعلى الخلاف السابق في دخول الصيد ملكه. فإن قلنا بالأصح: إنه لا يملكه،
فللثاني أن يتملكه ومن دخل برجه حمام وشك هل هو مباح، أم مملوك؟ فهو أولى
به، وله التصرف فيه، لأن الظاهر أنه مباح. ولو تحقق أنه اختلط بملكه ملك غيره،
526

وعسر التمييز، ففي التهذيب: أنه لو اختلطت حمامة واحدة بحماماته، فله أن
يأكل بالاجتهاد واحدة واحدة حتى تبقى واحدة. كما لو اختلطت ثمرة الغير بثمره.
والذي حكاه الروياني: أنه ليس له أن يأكل واحدة منها حتى يصالح ذلك الغير أو
يقاسمه. ولهذا قال بعض مشايخنا: ينبغي للمتقي أن يجتنب طير البروج، وأن
يجتنب بناءها. ونقل الامام وغيره: أنه ليس لواحد منهما التصرف في شئ منها
ببيع أو هبة لثالث، لأنه لا يتحقق الملك. ولو باع أحدهما أو وهب للآخر، صح
على الأصح، وتحتمل الجهالة للضرورة.
ولو باعا الحمام المختلط كله أو بعضه لثالث، ولا يعلم كل واحد منهما عين
ماله، فإن كان الاعداد معلومة كمائتين ومائة، والقيمة متساوية، ووزعا الثمن على
أعدادهما، صح البيع باتفاق الأصحاب، وإن جهلا العدد، لم يصح، لأنه لا يعلم
كل واحد حصته من الثمن. فالطريق أن يقول كل واحد: بعتك الحمام الذي لي في
هذا البرج بكذا، فيكون الثمن معلوما. ويحتمل الجهل في المبيع للضرورة. قال
في الوسيط: لو تصالحا على شئ، صح البيع واحتمل الجهل بقدر المبيع،
ويقرب من هذا، ما أطلق في مقاسمتهما.
واعلم أن الضرورة قد تجوز المسامحة ببعض الشروط المعتبرة في العقود،
كالكافر إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة ومات قبل الاختيار، يصح اصطلاحهن
على القسمة بالتساوي أو بالتفاوت مع الجهل بالاستحقاق، فيجوز أن تصح القسمة
هنا أيضا بحسب تراضيهما، ويجوز أن يقال: إذا قال كل منهما: بعت مالي من
حمام هذا البرج بكذا، والأعداد مجهولة، يصح أيضا مع الجهل بما يستحق كل واحد
منهما، والمقصود أن ينفصل الامر بحسب ما يتراضيان عليه ولو باع أحدهما
جميع حمام البرج بإذن الآخر، فيكون أصيلا في البعض ووكيلا في البعض، جاز،
ثم يقتسمان الثمن.
فرع لو اختلطت حمامة مملوكة، أو حمامات بحمامات مباحة محصورة،
لم يجز الاصطياد منها.
527

ولو اختلطت بحمام ناحية، جاز الاصطياد في الناحية. ولا يتغير حكم ما لا
يحصر في العادة باختلاط ما يحصر به. وإن اختلط حمام أبراج مملوكة لا يكاد
يحصر بحمام بلدة أخرى مباحة، ففي جواز الاصطياد منها وجهان. أصحهما:
يجوز، وإليه ميل معظم الأصحاب.
قلت: من أهم ما يجب معرفته، ضبط العدد المحصور، فإنه يتكرر في
أبواب الفقه وقل من بينه، قال الغزالي في الاحياء في كتاب الحلال والحرام:
تحديد هذا غير ممكن، وإنما يضبط بالتقريب. قال: فكل عدد لو اجتمع في صعيد
واحد، يعسر على الناظر عدهم بمجرد النظر، كالألف ونحوه، فهو غير محصور.
وما سهل كالعشرة والعشرين، فهو محصور وبين الطرفين أوساط متشابهة تلحق
بأحد الطرفين بالظن. وما وقع فيه الشك، استفتي فيه القلب. والله أعلم.
فرع إذا انثالت حنطته على حنطة غيره، أو انصب مائعه في مائعه، وجهلا
قدرهما، فليكن الحكم فيهما على ما ذكرنا في الحمام المختلط.
فرع لو ملك الماء بالاستقاء، ثم انصب في نهر، لم يزل ملكه منه، ولا
يمنع الناس من الاستقاء، وهو في حكم اختلاط المحصور بغير محصور.
قلت: ولو اختلط درهم حرام، أو درهم بدراهمه ولم تتميز، أو دهن بدهن،
أو نحو ذلك، قال الغزالي في الاحياء وغيره من أصحابنا: طريقه: أن يفصل
قدر الحرام فيصرفه إلى الجهة التي يحب صرفه إليها، ويبقى الباقي له يتصرف فيه
بما أراد. والله أعلم.
فصل في الاشتراك والازدحام على الصيد وله أربعة أحوال.
الأول: أن يتعاقب جرحان من اثنين.
فالأول منهما إن لم يكن مذففا ولا مزمنا، بل بقي على امتناعه، وكان الثاني
مذففا أو مزمنا، فالصيد للثاني، ولا شئ على الأول بجراحته. وإن كان جرح
الأول مذففا، فالصيد للأول، وعلى الثاني أرش ما نقص من لحمه وجلده. وإن
كان جرح الأول مزمنا، فله الصيد به، وينظر في الثاني، فإن ذفف بقطع
528

الحلقوم والمرئ، فهو حلال للأول، وعلى الثاني ما بين قيمته مذبوحا ومزمنا.
قال الامام: وإنما يظهر التفاوت إذا كان فيه حياة مستقرة، فإن كان متألما، بحيث لو
لم يذبح لهلك، فما عندي أنه ينقص منه بالذبح شئ. وإن ذفف الثاني لا بقطع
الحلقوم والمرئ، أو لم يذفف ومات بالجرحين، فهو ميتة. وكذا الحكم لو رمى
إلى صيد فأزمنه، ثم رمى إليه ثانيا وذفف لا بقطع المذبح، ويجب على الثاني كمال
قيمة الصيد مجروحا إن ذفف. فإن جرح بلا تذفيف، ومات بالجرحين، ففيما يجب
عليه كلام له مقدمة نذكرها أولا، وهي: إذا جنى رجل على عبد أو بهيمة، أو صيد
مملوك قيمته عشرة دنانير، جراحة أرشها دينار، ثم جرحه آخر جراحة أرشها دينار
أيضا، فمات بالجرحين، ففيما يلزم الجارحين، أوجه.
أحدها: يجب على الأول خمسة دنانير، وعلى الثاني أربعة ونصف، لان
الجرحين سريا وصارا قتلا، فلزم كل واحد نصف قيمته يوم جنايته، قاله ابن
سريج، وضعفه الأئمة، لان فيه ضياع نصف دينار على المالك.
والثاني، قاله المزني، وأبو إسحاق، والقفال: يلزم كل واحد خمسة.
وعلى هذا لو نقصت جناية الأول دينارا، والثاني دينارين، لزم الأول أربعة ونصف،
والثاني خمسة ونصف، ولو نقصت جناية الأول دينارين، والثاني دينارا، انعكس،
فيلزم الأول خمسة ونصف، والثاني أربعة ونصف. وضعفوا هذا الوجه، لأنه سوى
بينهما مع اختلاف قيمته حال جنايتهما.
والوجه الثالث، حكاه الامام عن القفال أيضا: يلزم الأول خمسة ونصف،
والثاني خمسة، لان جناية كل واحد نقصت دينارا، ثم سرتا، والأرش يسقط إذا
صارت الجناية نفسا، فيسقط عن كل واحد نصف الأرش، لان الموجود منه نصف
القتل.
واعترض عليه، بأن فيه زيادة الواجب على المتلف. وأجاب القفال، بأن
الجناية قد تنجر إلى إيجاب زيادة، كمن قطع يدي عبد فقتله آخر، وأجيب عنه،
529

بأن قاطع اليدين لا شركة له في القتل، والقتل يقطع أثر القتل، ويقع موقع
الاندمال، وهنا بخلافه.
والوجه الرابع، قال أبو الطيب بن سلمة: يلزم كل واحد نصف قيمته يوم
جنايته، ونصف الأرش، لكن لا يزيد الواجب على القيمة، فيجمع ما لزمهما
تقديرا، وهو عشرة ونصف، ويقسم القيمة وهي عشرة على العشرة والنصف،
ليراعي التفاوت بينهما، فتبسط أنصافا، فتكون أحدا وعشرين، فيلزم الأول أحد
عشر جزءا من أحد وعشرين جزءا من شرة، ويلزم الثاني عشرة من أحد وعشرين من
عشرة، وفيه ضعف، لافراد أرش الجناية عن بدل النفس.
والوجه الخامس، عن صاحب التقريب وغيره، واختاره الامام،
والغزالي: يلزم الأول خمسة ونصف، والثاني أربعة ونصف، لان الأول لو انفرد
بالجرح والسراية، لزمه العشرة، فلا يسقط عنه إلا ما يلزم الثاني، والثاني إنما جنى
على نصف ما يساوي تسعة، وفيه ضعف أيضا.
والوجه السادس، قاله ابن خيران، واختاره صاحب الافصاح، وأطبق
العراقيون على ترجيحه: أنه يجمع بين القيمتين، فيكون تسعة عشر، فيقسم عليه ما
فوتا وهو عشرة، فيكون على الأول عشرة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة،
وعلى الثاني تسعة أجزاء من تسعة عشر جزءا من عشرة.
أما إذا كان الجناة ثلاثة، وأرش كل جناية دينار والقيمة عشرة، فعلى طريقة
المزني: يلزم كل واحد منهم ثلاثة وثلث. وعلى الوجه الثالث: يلزم الأول أربعة،
منها ثلاثة وثلث هي ثلث القيمة، وثلثان وهما ثلثا الأرش. ويلزم الثاني ثلاثة
وثلثان، ثلاثة منها ثلث القيمة يوم جنايته، وثلثان هما ثلث الأرش، ويلزم الثالث،
ثلاثة، منها ديناران وثلث هي ثلث القيمة يوم جنايته، وثلثان هما ثلثا الأرش،
فالجملة عشرة وثلثان. وعلى الوجه الرابع: توزع العشرة على عشرة وثلثين.
وعلى الخامس: يلزم الأول أربعة وثلث، والثاني ثلاثة، والثالث ديناران وثلثان.
وعلى السادس: تجمع القيم، فتكون سبعة وعشرين، فتقسم العشرة عليها.
530

أما إذا جرح مالك العبد أو الصيد جراحة، وأجنبي أخرى، فينظر في جناية
المالك، أهي الأولى، أم الثانية؟ وتخرج على الأوجه، فتسقط حصته وتجب حصة
الأجنبي. وعن القاضي أبي حامد: أن المذكور في الجنايتين على العبد، هو فيما
إذا لم يكن للجناية أرش مقدر، فإن كان، فليس العبد فيها كالبهيمة والصيد
المملوك، حتى لو جنى على عبد غيره جناية ليس لها أرش مقدر، وقيمته مائة،
فنقصته الجناية عشرة، ثم جنى آخر جناية لا أرش لها، فنقصت عشرة أيضا، ومات
العبد منهما، فعلى الأول خمسة وخمسون، وعلى الثاني خمسون يدفع منها خمسة
إلى الأول. قال: فلو قطع رجل يد عبد قيمته مائة، ثم قطع آخر يده الأخرى، لزم
الأول نصف أرش اليد وهو خمسة وعشرون، ونصف قيمته يوم جنايته وهو خمسون،
ولزم الثاني نصف أرش اليد، وهو خمسة وعشرون، ونصف القيمة يوم جنايته وهو
أربعون، فالجملة مائة وأربعون جميعها للسيد، لان الجناية التي لها أرش مقدر،
يجوز أن يزيد واجبها على قيمة العبد، كما لو قطع يديه فقتله آخر.
هذا بيان المقدمة، ونعود إلى مسألة الصيد فنقول: إذا جرح الثاني جراحة غير
مذففه، ومات الصيد بالجرحين، نظر، إن مات قبل أن يتمكن الأول من ذبحه،
لزم الثاني تمام قيمته مزمنا، لأنه صار ميتة بفعله، بخلاف ما لو جرح شاة نفسه،
وجرحها آخر وماتت، فإنه لا يجب على الثاني إلا نصف القيمة، لان كل واحد من
الجرحين هناك حرام، والهلاك حصل بهما، وهنا فعل الأول اكتساب وذكاة. ثم
مقتضى كلامهم أن يقال: إذا كان الصيد يساوي عشرة غير مزمن، وتسعة مزمنا، لزم
الثاني تسعة. واستدرك صاحب التقريب فقال: فعل الأول وإن لم يكن إفسادا،
فيؤثر في الذبح وحصول الزهوق قطعا، فينبغي أن يعتبر فيقال: إذا كان غير مزمن
يساوي عشرة، ومزمنا تسعة، ومذبوحا ثمانية، لزمه ثمانية ونصف، فإن الدرهم أثر
في فواته الفعلان، فيوزع عليهما. قال الامام: وللنظر في هذا مجال، ويجوز أن
يقال: المفسد يقطع أثر فعلي الأول من كل وجه. والأصح: ما ذكره صاحب
التقريب.
وإن تمكن من ذبحه فذبحه، لزم الثاني أرش جراحته إن نقص بها، وإن لم
يذبحه وتركه حتى مات، فوجهان. أحدهما: لا شئ على الثاني سوى أرش
النقص، لان الأول مقصر بترك الذبح. وأصحهما: يضمن زيادة على الأرش، ولا
531

يكون تركه الذبح مسقطا للضمان، كما لو جرح رجل شاته فلم يذبحها مع التمكن،
لا يسقط الضمان. فعلى هذا فيما يضمن وجهان، قال الإصطخري: كمال قيمته
مزمنا، كما لو ذفف، بخلاف ما إذا جرح عبده أو شاته وجرحه غيره أيضا، لان
كل واحد من الفعل هناك إفساد، والتحريم حصل بهما، وهنا الأول إصلاح.
والأصح وقول جمهور الأصحاب: لا يضمن جميع القيمة، بل هو كمن جرح عبده
وجرحه غيره، لان الموت حصل بهما، وكلاهما إفساد. أما الثاني، فظاهر. وأما
الأول، فلان ترك الذبح مع التمكن، يجعل الجرح وسرايته إفسادا. ولهذا لو لم
يوجد الجرح الثاني فترك الذبح، كان الصيد ميتة. فعلى هذا تجئ الأوجه في كيفية
التوزيع على الجرحين، فحصة الأول تسقط، وحصة الثاني تجب.
الحال الثاني: إذا وقع الجرحان معا، نظر إن تساويا في سبب الملك،
فالصيد بينهما، وذلك بأن يكون كل واحد مذففا، أو مزمنا لو انفرد، أو أحدهما
مزمنا، والآخر مذففا، وسواء تفاوت الجرحان صغيرا وكبيرا، أو تساويا، أو كانا في
المذبح، أو غيره، أو أحدهما فيه، والآخر في غيره. وإن كان أحدهما مذففا، أو
مزمنا لو انفرد والآخر غير مؤثر، فالصيد لمن ذفف أو أزمن، ولا ضمان على
الثاني، لأنه لم يجرح ملك الغير. ولو احتمل أن يكون الأزمان بهما أو بأحدهما،
فالصيد بينهما في ظاهر الحكم، ويستحب أن يستحل كل واحد الآخر تورعا. ولو
علمنا أن أحدهما مذفف، وشككنا هل للآخر أثر في الأزمان والتذفيف، أم لا؟ قال
القفال: هو بينهما. فقيل له: لو جرح رجل جراحة مذففة، وجرحه أخر جراحة لا
ندري أهي مذففة، أم لا؟ فمات، فقال: يجب القصاص عليهما. قال الامام:
هذا بعيد، والوجه تخصيص القصاص بصاحب المذففة. وفي الصيد، يسلم نصفه
لمن جرحه مذففا، ويوقف نصفه بينهما إلى التصالح أو تبين الحال. فإن لم يتوقع
بيان، جعل النصف الآخر بينهما نصفين.
الحال الثالث: إذا ترتب الجرحان، وأحدهما مزمن لو انفرد، والآخر مذفف
وارد على المذبح، ولم يعرف السابق، فالصيد حلال. فإن اختلفا وادعى كل واحد
أنه جرحه أولا وأزمنه، وأنه له، فلكل واحد تحليف الآخر. فإن حلفا، فالصيد
بينهما، ولا شئ لأحدهما على الآخر. فإن حلف أحدهما فقط، فالصيد له، وله
على الناكل أرش ما نقص بالذبح. ولو ترتبا، وأحدهما مزمن، والآخر مذفف في
532

غير المذبح، ولم يعرف السابق، فالمذهب: أن الصيد حرام، لاحتمال تقدم
الأزمان، فلا يحل بعده إلا بقطع الحلقوم والمرئ. وقيل: فيه قولان، كمسألة
الانماء السابقة. ووجه الشبه: اجتماع المبيح والمحرم.
والفرق على المذهب: أنه يقدم هناك جرح يحال عليه. فإن ادعى كل واحد
أنه أزمنه أولا، وأن الآخر أفسده، فلكل واحد تحليف الآخر. فإن حلفا، فذاك.
وإن حلف أحدهما، لزم الناكل قيمته مزمنا. ولو قال الجارح أولا: أزمنته أنا، ثم
أفسدته بقتلك، فعليك القيمة. وقال الثاني: لم تزمنه، بل كان على امتناعه إلى أن
رميته فأزمنته أو ذففته. فإن اتفقا على عين جراحة الأول، وعلمنا أنه لا يبقى امتناع
معها، ككسر جناحه، وكسر رجل الممتنع بعدوه، فالقول قول الأول بلا يمين،
وإلا، فقول الثاني، لان الأصل بقاء الامتناع. فإن حلف، فالصيد له، ولا شئ
عليه للأول، وإن نكل، حلف الأول، واستحق قيمته مجروحا بالجراحة الأولى،
ولا يحل الصيد، لأنه ميتة بزعمه. وهل للثاني أكله؟ وجهان. قال القاضي
الطبري: لا، لان إلزامه القيمة حكم بأنه ميتة. وقيل: نعم، لان النكول في
خصومة الآدمي لا تغير الحكم فيما بينه وبين الله تعالى.
ولو علمنا أن الجراحة المذففة سابقة على التي لو انفردت لكانت مزمنة،
فالصيد حلال. فإن قال كل واحد: أنا ذففته، فلكل تحليف الآخر. فإن حلفا،
كان بينهما. وإن حلف أحدهما، فالصيد له، وعلى الآخر ضمان ما نقص.
فرع قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر: لو رماه الأول والثاني،
ولم يدر أجعله الأول ممتنعا، أم لا، جعلناه بينهما نصفين. واعترض عليه
فقيل: ينبغي أن يحرم هذا الصيد، لاجتماع ما يقتضي الإباحة والتحريم.
وبتقدير الحل، ينبغي أن لا يكون بينهما، بل لمن أثبته.
واختلف في الجواب، فقيل: النص محمول على ما إذا أصاب المذبح،
فيحل، سواء أصابه الأول أو الثاني، أو على ما إذا رمياه ولم يمت، ثم أدركه
533

أحدهما، فذكاه، ثم اختلفا فيه. وإنما كان بينهما، لأنه في أيديهما. وقد يجعل
الشئ لاثنين، وإن كنا نعلمه في الباطن لأحدهما، كمن مات عن ابنين، مسلم
ونصراني، وادعى كل واحد أنه مات على دينه. وحمل أبو إسحاق النص على ظاهره
فقال: إذا رمياه مات، ولم يدر أثبته الأول، أم الثاني، كان الأصل بقاؤه على
امتناعه إلى أن عقره الثاني، فيكون عقره ذكاة، ويكون بينهما لاحتمال الاثبات من
كليهما ولا مزية. وقيل: في حله قولان، كمسألة الانماء.
الحال الرابع: إذا ترتب الجرحان وحصل الأزمان بمجموعهما، وكل واحد لو
انفرد لم يزمن، فالأصح عند الجمهور: أن الصيد للثاني. وقيل: بينهما، ورجحه
الامام، والغزالي
فإن قلنا: إنه للثاني، أو كان الجرح الثاني مزمنا لو انفرد، فلا شئ على
الأول بسبب جرحه. فلو عاد بعد إزمان الثاني، وجرحه جراحة أخرى، نظر، إن
أصاب المذبح، فهو حلال، وعليه للثاني ما نقص من قيمته بالذبح، وإلا حرم،
وعليه إن ذفف، قيمته مجروحا بجراحته الأولى، وجراحة الثاني، وكذا إن لم يذفف
ولم يتمكن الثاني من ذبحه، فإن تمكن وترك الذبح، عاد الخلاف السابق فعلى
أحد الوجهين ليس على الأول إلا أرش الجراحة الثانية، لتقصير المالك، وعلى
أصحهما: لا يقصر الضمان عليه. وعلى هذا، ففي وجه: عليه نصف القيمة.
وخرجه جماعة على الخلاف فيمن جرح عبدا مرتدا فأسلم فجرحه سيده، ثم عاد
الأول وجرحه ثانية ومات منهما وفيما يلزمه وجهان. أحدهما: ثلث القيمة.
والثاني: ربعها، قاله القفال. فعلى هذا، يجب هنا ربع القيمة. وعن صاحب
التقريب: أنه تعود في التوزيع الأوجه السابقة. واختار الغزالي وجوب تمام
القيمة. والمذهب: التوزيع، كما سبق.
فرع الاعتبار في الترتيب والمعية بالإصابة، لا بابتداء الرمي.
534

فصل في مسائل منثورة إحداها: وقع بعيران في بئر، أحدهما فوق
الآخر، فطعن الاعلى، فمات الأسفل بثقله، حرم الأسفل. فإن نفذت الطعنة
فأصابته أيضا، حلا جميعا. فإن شك، هل مات بالثقل، أو الطعنة النافذة، وقد
علم أنها أصابته قبل مفارقة الروح؟ حل. وإن شك، هل أصابته قبل مفارقة
الروح، أم بعدها؟ قال صاحب التهذيب في الفتاوى: يحتمل وجهين بناء
على العبد الغائب المنقطع خبره، هل يجزئ إعتاقه عن الكفارة.
الثانية: رمى غير مقدور عليه فصار مقدورا عليه، ثم أصاب غير المذبح، لم
يحل. ولو رمى مقدورا عليه فصار غير مقدور عليه فأصاب مذبحه،
حل.
الثالثة: أرسل سهمين فأصابا معا، حل. وإن أصاب أحدهما بعد الآخر.
فإن أزمنه الأول ولم يصب الثاني المذبح، لم يحل. وإن أصابه، حل وإن لم
يزمنه الأول، وقتله الثاني، حل. وكذا لو أرسل كلبين، فأزمنه الأول، وقتله
الثاني، لم يحل، قطع المذبح، أم لا؟ وكذا لو أرسل سهما وكلبا، إن أزمنه
السهم ثم أصابه الكلب، لم يحل. وإن أزمنه الكلب، ثم أصاب السهم المذبح،
حل.
الرابعة: صيد دخل دار إنسان وقلنا بالصحيح: إنه لا يملكه، فأغلق أجنبي
الباب، لا يملكه صاحب الدار، ولا الأجنبي، لأنه متعد لم يحصل الصيد في يده،
بخلاف ما لو غصب شبكة واصطاد بها.
الخامسة: لو أخذ الكلب المعلم صيدا بغير إرسال، ثم أخذه أجنبي من فيه،
ملكه الآخذ على الصحيح، كما لو أخذ فرخ طائر من شجرته. وغير المعلم إذا
أرسله صاحبه فأخذ صيدا، فأخذه غيره من فيه وهو حي، وجب أن يكون للمرسل،
ويكون إرساله كنصب شبكة تعقل بها الصيد. ويحتمل خلافه، لان للكلب
اختيارا.
السادسة: تعقل الصيد بالشبكة، ثم قلعها وذهب بها، فأخذه إنسان، نظر،
إن كان يعدو ويمتنع مع الشبكة، ملكه الآخذ، وإن كان ثقل الشبكة يبطل امتناعه،
بحيث يتيسر أخذه، فهو لصاحب الشبكة لا يملكه غيره.
535

السابعة: إذا أرسل كلبه فحبس صيدا، فلما انتهى إليه، أفلت، فهل يملكه
من أخذه، أم هو ملك الأول بالحبس؟ وجهان.
قلت: أصحهما: يملكه الآخذ. والله أعلم.
الثامنة: رجلان أقام كل واحد منهما بينة أنه اصطاد هذا الصيد، ففيه القولان
في تعارض البينتين.
التاسعة: رجل في يده صيد، فقال آخر: أنا اصطدته، فقال صاحب اليد:
لا علم لي بذلك. قال ابن كج: لا يقنع منه بهذا الجواب، بل يدعيه لنفسه أو
يسلمه إلى مدعيه.
قلت: لو أخبر فاسق أو كتابي أنه ذكى هذه الشاة، قبلناه، لأنه من أهله،
ذكره في التتمة.
ولو وجد شاة مذبوحة، ولم يدر أذبحها مسلم، أو كتابي، أم مجوسي؟ فإن
كان في البلد مجوس ومسلمون، لم يحل، للشك في الذكاة المبيحة. والله أعلم.
536

كتاب الأطعمة
فيه بابان.
الأول في حال الاختيار
قال الأصحاب: ما يتأتى أكله من الجماد والحيوان، لا يمكن حصر أنواعه،
لكن الأصل في الجميع الحل، إلا ما يستثنيه أحد أصول.
الأول: نص الكتاب أو السنة على تحريمه، كالخنزير، والخمر،
والنبيذ، والميتة، والدم، والمنخنقة، والموقوذة، والنطيحة، والحمر
الأهلية. ويحل الحمار الوحشي، والخيل، والمتولد بينهما. وتحرم البغال وسائر ما
537

يتولد من مأكول وغيره، سواء كان الحرام من أصليه، الذكر أو الأنثى.
ويحرم أكل كل ذي ناب من السبا، وذي مخلب من الطائر.
والمراد: ما يعدو على الحيوان ويتقوى بنابه، فيحرم الكلب، والأسد
والذئب، والنمر، والدب، والفهد، والقرد، والفيل، والببر.
قلت: هو الببر - بباءين موحدتين - الأولى مفتوحة، والثانية ساكنة، وهو
حيوان معروف يعادي الأسد، ويقال له: الفرانق - بضم الفاء وكسر النون -.
والله أعلم.
واختار أبو عبد الله البوشنجي من أصحابنا مذهب مالك، فقال: يحل الفيل،
وقال: لا يعدو من الفيلة إلا الفحل المغتلم، كالإبل. والصحيح: تحريمه.
ويحرم من الطير: البازي، والشاهين، والنسر، والصقر،
والعقاب، وجميع جوارح الطير.
فرع يحل الضب، والضبع، والثعلب، والأرنب،
538

واليربوع. ويحرم ابن آوى، وابن مقرض على الأصح عند الأكثرين، وبه
قطع المراوزة. ويحل الوبر، والدلدل على الأصح المنصوص. والهرة الأهلية
حرام على الصحيح، وقال البوشنجي: حلال. والوحشية حرام على الأصح، وقال
الخضري: حلال. ويحل السمور، والسنجاب، والفنك، والقماقم،
والحواصل، على الأصح المنصوص.
الثاني: الامر بقتله.
قال أصحابنا: ما أمر بقتله من الحيوان، فهو حرام، كالحية، والعقرب
والفأرة، والغراب، والحدأة، وكل سبع ضار، ويدخل في هذا، الأسد والذئب
وغيرهما مما سبق. وقد يكون للشئ سببان، أو أسباب تقتضي تحريمه.
539

فرع تحرم البغاثة، والرخمة.
وأما الغراب، فأنواع.
منها: الأبقع وهو فاسق محرم بلا خلاف.
ومنها: الأسود الكبير، ويقال له: الغداف الكبير، ويقال: الغراب
الجبلي، لأنه يسكن الجبال، وهو حرام على الأصح، وبه قطع جماعة.
ومنها: غراب الزرع، وهو أسود صغير يقال له: الزاغ، وقد يكون محمر
المنقار والرجلين، وهو حلال على الأصح.
ومنها: غراب آخر صغير أسود، أو رمادي اللون. وقد يقال له: الغداف
الصغير، وهو حرام على الأصح، وكذا العقعق.
الثالث: ما نهي عن قتله، فهو حرام فيحرم النمل، والنحل،
والخطاف، والصرد، والهدهد على الصحيح في الجميع. ويحرم الخفاش قطعا،
وقد يجري فيه الخلاف. ويحرم اللقلق على الأصح.
فرع كل ذات طوق من الطير، حلال، واسم الحمام يقع على جميعها،
540

فيدخل في القمري، والدبسي، واليمام، والفواخت. وأدرج في هذا القسم،
الورشان، والقطا، والحجل، وكلها من الطيبات. وما على شكل العصفور في
حده، فهو حلال، ويدخل في ذلك الصعوة، والزرزور، والنغر، والبلبل، وتحل
الحمرة، والعندليب على الصحيح فيهما. وتحل النعامة، والدجاج، والكركي،
والحبارى. وفي البغبغاء والطاووس، وجهان. قال في التهذيب: أصحهما:
التحريم. والشقراق. قال في التهذيب: حلال. وقال الصيمري: حرام.
قال أبو عاصم: يحرم ملاعب ظله، وهو طائر يسبح في الجو مرارا، كأنه ينصب
على طائر. قال: والبوم حرام كالرخم. والضوع حرام. وفي قول: حلال. وهذا
يقتضي أن الضوع غير البوم، لكن في الصحاح: أن الضوع طائر من طير الليل
من جنس الهام. وقال المفضل: هو ذكر البوم. فعلى هذا إن كان في الضوع
قول، لزم إجزاؤه في البوم، لان الذكر والأنثى من الجنس الواحد لا يفترقان.
قلت: الضوع - بضاد معجمة مضمومة وواو مفتوحة وعين مهملة - والأشهر:
أنه من جنس الهام.
والله أعلم.
قال أبو عاصم: النهاس حرام كالسباع التي تنهس. واللقاط، حلال، إلا ما
استثناه النص، وأحل البوشنجي اللقاط بلا استثناء. قال: وما تقوت بالطاهرات،
فحلال، إلا ما استثناه النص، وما تقوت بالنجس، فحرام.
فرع أطلق مطلقون القول بحل طير الماء، فكلها حلال، إلا اللقلق،
ففيه خلاف سبق. وحكي عن الصيمري: أنه لا يؤكل لحم طير الماء الأبيض،
لخبث لحمها.
فصل الحيوان الذي لا يهلكه الماء، ضربان.
541

أحدهما: ما يعيش فيه، وإذا أخرج منه كان عيشه عيش المذبوح، كالسمك
بأنواعه، فهو حلال. ولا حاجة إلى ذبحه كما سبق، وسواء مات بسبب ظاهر،
كضغطة، أو صدمة، أو انحسار ماء، أو ضرب من الصياد، أو مات حتف أنفه.
وأما ما ليس على صورة السموك المشهورة، ففيه ثلاثة أوجه. ويقال: ثلاثة
أقوال. أصحها: يحل مطلقا، وهو المنصوص في الام، وفي رواية المزني
واختلاف العراقيين، لان الأصح أن اسم السمك يقع على جميعها. والثاني:
يحرم. والثالث: ما يؤكل نظيره في البر، كالبقر والشاء، فحلال، وما لا، كخنزير
الماء في كلبه، فحرام. فعلى هذا، ما لا نظير له، حلال.
قلت: وعلى هذا لا يحل ما أشبه الحمار، وإن كان في البر حمار الوحش
المأكول، صرح به صاحبا الشامل والتهذيب وغيرهما. والله أعلم.
وإذا أبحنا الجميع، فهل تشترط الذكاة، أم تحل ميتته؟ وجهان. ويقال:
قولان. أصحهما: تحل ميتته.
الضرب الثاني: ما يعيش في الماء وفي البر أيضا، فمنه طير الماء، كالبط،
والإوز ونحوهما، وهي حلال كما سبق، ولا تحل ميتتها قطعا. وعد الشيخ أبو
حامد والامام، وصاحب التهذيب من هذا الضرب، الضفدع، والسرطان،
وهما محرمان على المشهور. وذوات السموم حرام قطعا. ويحرم التمساح على
الصحيح، والسلحفاة على الأصح.
واعلم أن جماعة استثنوا الضفدع من الحيوانات التي لا تعيش إلا في الماء،
تفريعا على الأصح، وهو حل الجميع. وكذا استثنوا يوسف الحيات، والعقارب.
ومقتضى هذا الاستثناء أنها لا تعيش إلا في الماء. ويمكن أن يكون منها نوع كذا،
ونوع كذا.
واستثنى القاضي الطبري، النسناس على ذلك الوجه أيضا. وامتنع الروياني
وغيره من مساعدته.
قلت: ساعده الشيخ أبو حامد. والله أعلم.
الأصل الرابع: المستخبثات من الأصول المعتبرة في الباب، في التحليل
542

والتحريم، للاستطابة والاستخباث. ورآه الشافعي رحمه الله تعالى الأصل الأعظم
الأعم، ولذلك افتتح به الباب والمعتمد فيه، قوله تعالى: * (يسألونك ماذا أحل لهم،
قل أحل لكم الطيبات) *.
وليس المراد بالطيب هنا، الحلال. ثم قال الأئمة: ويبعد الرجوع في ذلك
إلى طبقات الناس، وتنزيل كل قوم على ما يستطيبونه أو يستخبثونه، لأنه يوجب
اختلاف الاحكام في الحلال والحرام، وذلك يخالف موضوع الشرع، فرأوا العرب
أولى الأمم بأن يؤخذ باستطابتهم واستخباثهم، لأنهم المخاطبون أولا، وهم جيل لا
تغلب عليهم العيافة الناشئة من التنعم فيضيقوا المطاعم على الناس. وإنما يرجع
من العرب، إلى سكان البلاد والقرى، دون أجلاف البوادي الذين يتناولون ما دب
ودرج من غير تمييز. وتعتبر عادة أهل اليسار والثروة، دون المحتاجين، وتعتبر حالة
الخصب والرفاهية، دون الجدب والشدة. وذكر جماعة: أن الاعتبار بعادة العرب
الذي كانوا في عهد رسول الله (ص)، لان الخطاب لهم. ويشبه أن يقال: يرجع في
كل زمان إلى العرب الموجودين فيه، فإن استطابته العرب، أو سمته باسم حيوان
حلال، فهو حلال. وإن استخبثته، أو سمته باسم محرم، فحرام. فإن استطابته
طائفة، واستخبثته أخرى اتبعنا الأكثرين. فأن استويا، قال صاحب الحاوي
وأبو الحسن العبادي: تتبع قريش، لأنهم قطب العرب. فإن اختلفت قريش ولا
ترجيح، أو شكوا فلم يحكموا بشئ، أو لم نجدهم ولا غيرهم من العرب اعتبرناه
بأقرب الحيوان شبها به. والشبه تارة يكون في الصورة، وتارة في طبع الحيوان من
الصيانة والعدوان، وتارة في طعم اللحم. فإن استوى الشبهان، أو لم نجد ما
يشبهه، فوجهان. أصحهما: الحل. قال الامام: وإليه ميل الشافعي رحمه الله
تعالى.
واعلم أنه إنما يراجع العرب في حيوان لم يرد فيه نص بتحليل ولا تحريم، ولا
أمر بقتله، ولا نهي عنه. فإن وجد شئ من هذه الأصول، اعتمدناه ولم نراجعهم
قطعا. فمن ذلك أن الحشرات كلها مستخبثة، ما يدرج منها وما يطير.
فمنها: ذوات السموم والإبر.
543

ومنها: الوزغ وأنواعها، كحرباء الظهيرة والعظاء، وهي ملساء تشبه سام
أبرص، وهي أحسن منه، الواحدة عظاة، وعظاية، فكل هذا حرام. ويحرم الذر،
والفأر، والذباب، والخنفساء، والقراد، والجعلان، وبنات وردان، وحمار قبان،
والديدان. وفي دود الخل والفاكهة وجه. وتحرم اللحكاء، وهي دويبة تغوص في
الرمل إذا رأت إنسانا. ويستثنى من الحشرات، اليربوع، والضب، وكذا أم
حبين، فإنها حلال على الأصح.
ويستثنى من ذوات الإبر، الجراد، فإنه حلال قطعا، وكذا القنفذ على
الأصح. والصرارة حرام على الأصح كالخنفساء.
فصل إذا وجدنا حيوانا لا يمكن معرفة حكمه من كتاب ولا سنة، ولا
استطابة، ولا استخباث، ولا غير ذلك مما تقدم من الأصول، وثبت تحريمه في
شرع من قبلنا، فهل يستصحب تحريمه؟ قولان. الأظهر: لا يستصحب، وهو
مقتضى كلام عامة الأصحاب، فإن استصحبناه، فشرطه أن يثبت تحريمه في
شرعهم بالكتاب أو السنة، أو يشهد به عدلان أسلما منهم يعرفان المبدل من غيره.
قال في الحاوي: فعلى هذا لو اختلفوا، اعتبر حكمه في أقرب الشرائع إلى
الاسلام، وهي النصرانية. فإن اختلفوا، عاد الوجهان عند تعارض الأشباه.
فصل يحرم أكل نجس العين، والمتنجس، كالدبس، والخل،
واللبن والدهن. وسبق في كتاب الطهارة وجه: أن الدهن يطهر بالغسل، فعلى
هذا إذا غسل، حل.
فرع يكره أكل لحم الجلالة كراهة تنزيه على الأصح الذي ذكره
أكثرهم، منهم العراقيون، والروياني وغيرهم وقال أبو إسحاق والقفال: كراهة
تحريم. ورجحه الامام، والغزالي، والبغوي. والجلالة: هي التي تأكل العذرة
544

والنجاسات، وسواء كانت من الإبل، أو البقر، أو الغنم، أو الدجاج. ثم قيل:
إن كان أكثر علفها النجاسة، فهي جلالة. وإن كان الظاهر أكثر، فلا. والصحيح:
أنه لا اعتبار بالكثرة، بل بالرائحة والنتن. فإن وجد في عرقها وغيره ريح النجاسة،
فجلالة، وإلا، فلا. وقيل: الخلاف فيما إذا وجدت رائحة النجاسة بتمامها، أو
قربت الرائحة من الرائحة. فإن قلت الرائحة الموجودة، لم تضر. ولو حبست بعد
ظهور النتن، وعلفت طاهرا فزالت الرائحة، ثم ذبحت، فلا كراهة فيها. ولو لم
تعلف، لم يزل المنع يغسل اللحم بعد الذبح، ولا بالطبخ وإن زالت الرائحة به،
وكذا لو زالت بمرور الزمان عند صاحب التهذيب. وقيل خلافه. وكما يمنع
لحمها، يمنع لبنها وبيضها، ويكره الركوب عليها إذا لم يكن بينها وبين الراكب
حائل. ثم قال الصيدلاني وغيره: إذا حرمنا لحمها فهو نجس، ويطهر جلدها
بالدباغ، وهذا يقتضي نجاسة الجلد أيضا. وهو نجس إن ظهرت الرائحة فيه، وكذا
إن لم تظهر على الأصح، كاللحم. ثم ظهور النتن وإن حرمنا به اللحم ونجسناه،
فلا نجعله موجبا لنجاسة الحيوان في حياته، بل إذا حكمنا بالتحريم، كان كما لا
يؤكل لحمه، لا يطهر جلده بالذكاة، ويطهر بالدباغ.
فرع السخلة المرباة بلبن الكلبة، لها حكم الجلالة. ولا يحرم الزرع
وإن كثر الزبل وسائر النجاسات في أصله، لأنه لا يظهر فيه أثر النجاسة وريحها.
قلت: وإذا عجن دقيقا بماء نجس وخبزه، فهو نجس يحرم أكله. ويجوز أن
يطعمه لشاة وبعير ونحوهما، ونص عليه الشافعي رحمه الله تعالى، ونقله البيهقي في
545

السنن الكبير في باب نجاسة الماء الدائم عن نصه، واستدل له بحديث صحيح.
وفي فتاوى صاحب الشامل: أنه يكره إطعام الحيوان المأكول نجاسة. وهذا لا
يخالف ما نص عليه الشافعي في الطعام، لأنه ليس بنجس العين.
قال ابن الصباغ: ولا يكره أكل البيض المسلوق بماء نجس، كما لا يكره
الوضوء بماء سخن بالنجاسة. والله أعلم.
فصل الحيوان المأكول، إنما يحل إذا ذبح الذبح المعتبر ويستثنى
السمك، والجراد، والجنين الذي يوجد ميتا في بطن المذكاة، فإنه حلال، سواء
أشعر، أم لا. قال الشيخ أبو محمد في كتاب الفرق: إنما يحل إذا سكن في
البطن عقيب ذبح الام، فأما لو بقي زمنا طويلا يضطرب ويتحرك، ثم سكن،
فالصحيح: أنه حرام. ولو خرج الجنين في الحال وبه حركة المذبوح، حل. وإن
خرج رأسه وفيه حياة مستقرة، قال القاضي حسين وصاحب التهذيب: لا يحل
إلا بذبحه، لأنه مقدور عليه. وقال القفال: يحل، لان خروج بعض الولد كعدم
خروجه في العدة وغيرها.
قلت: قول القفال أصح. والله أعلم.
قال صاحب التهذيب: لو أخرج رجله، فقياس ما قاله القاضي: أن
يخرج ليحل، كما لو تردى بعير في بئر. ولو وجدت مضغة لم تبن فيها الصورة، ولا
تشكل الأعضاء، ففي حلها وجهان، بناء على وجوب الغرة فيها، وثبوت الاستيلاد.
قلت: إذا ذكى الحيوان وله يد شلاء، هل تحل بالذكاة، أم هي ميتة؟
وجهان. الصحيح: الحل. وقد ذكرهما الرافعي في باب القصاص في الأطراف.
والله أعلم.
فصل كسب الحجام حلال، هذا هو المذهب المعروف. وقال ابن
546

خزيمة: حرام على الأحرار، ويجوز أن يطعمه العبيد والدواب، وهذا شاذ.
ولا يكره أكل كسب الحجام للعبيد، سواء كسبه حر أم عبد. ويكره للحر، سواء كسبه حر أم عبد.
وللكراهة معنيان. أحدهما: مخالطة النجاسة.
والثاني: دناءته. فعلى الثاني: يكره كسب الحلاق ونحوه. وعلى الأول:
يكره كسب الكناس، والزبال، والدباغ، والقصاب، والخاتن. وهذا الذي أطلقه
جمهور الأصحاب. ولا يكره كسب الفاصد على الأصح. وفي الحمامي،
والحائك، وجهان.
قلت: الأصح: لا يكره كسب الحائك. والله أعلم.
وكره جماعة كسب الصواغ.
فرع قال الماوردي: أصول المكاسب: الزراعة، والتجارة، والصنعة.
وأيها أطيب؟ فيه ثلاثة مذاهب للناس. أشبهها مذهب الشافعي:
أن التجارة أطيب. قال: والأشبه عندي: أن الزراعة أطيب، لأنها أقرب إلى
التوكل.
547

قلت: في صحيح البخاري عن النبي (ص) قال: ما أكل أحد طعاما قط،
خيرا من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود (ص)، كان يأكل من عمل
يده فهذا صريح في ترجيح الزراعة، والصنعة، لكونهما من عمل يده، لكن
الزراعة أفضلهما، لعموم النفع بها للآدمي وغيره، وعموم الحاجة إليها. والله
أعلم.
فصل كل ما ضر، كالزجاج، والحجر، والسم، يحرم.
وكل طاهر لا ضرر فيه، يحل أكله، إلا المستقذرات الطاهرة كالمني والمخاط
ونحوهما، فإنها محرمة على الصحيح، وإلا الحيوان الذي تبتلعه حيا، سوى
السمك والجراد، فإنه يحرم قطعا، وكذا ابتلاع السمك والجراد على وجه كما
سبق.
وفي جلد الميتة المدبوغ خلاف سبق في الطهارة.
ويجوز شرب دواء فيه قليل سم، إذا كان الغالب منه السلامة، واحتيج إليه.
قال الامام: ولو تصور شخص لا يضره أكل السموم الظاهرة، لم تحرم عليه. وقال
الروياني: النبات الذي يسكر وليس فيه شدة مطربة، يحرم أكله، ولا حد على
آكله، ويجوز استعماله في الدواء وإن أفضى إلى السكر إذا لم يكن منه بد. وما
يسكر مع غيره ولا يسكره بنفسه، إن لم ينتفع به في دواء وغيره، حرم أكله. وإن
كان ينتفع به في الدواء، حل التداوي به.
الباب الثاني في حال الاضطرار
فيه مسائل.
إحداها: للمضطر إذا لم يجد حلالا، أكل المحرمات، كالميتة، والدم،
ولحم الخنزير، وما في معناها. والأصح: وجوب أكلها عليه، كما يجب دفع
548

الهلاك بأكل الحلال. والثاني: يباح فقط.
الثانية: في حد الضرورة، لا خلاف أن الجوع القوي لا يكفي لتناول
الحرام، ولا خلاف أنه لا يجب الامتناع إلى أن يشرف على الموت، فإن الاكل
حينئذ لا ينفع. ولو انتهى إلى تلك الحالة، لم يحل له الاكل، فإنه غير مفيد. ولا
خلاف في الحل إذا كان يخاف على نفسه لو لم يأكل من جوع أو ضعف عن المشي
أو الركوب، وينقطع عن رفقته ويضيع، ونحو ذلك. فلو خاف حدوث مرض مخيف
جنسه، فهو كخوف الموت. وإن خاف طول المرض، فكذلك على الأصح أو
الأظهر.
ولو عيل صبره وجهده الجوع، فهل يحل له المحرم، أم لا يحل حتى يصل
إلى أدنى الرمق؟ قولان.
قلت: أظهرهما: الحل. والله أعلم.
ولا يشترط فيما يخاف منه تيقن وقوعه لو لم يأكل، بل يكفي غلبة الظن.
الثالثة: يباح للمضطر أن يأكل من المحرم ما يسد الرمق قطعا، ولا تحل
الزيادة على الشبع قطعا.
وفي حل الشبع، ثلاثة أقوال. ثالثها: إن كان قريبا من العمران، لم يحل،
وإلا، فيحل. ورجح القفال وكثير من الأصحاب المنع. ورجح صاحب
الافصاح والروياني وغيره، الحل. هكذا أطلق الخلاف أكثرهم. وفصل
الامام، والغزالي، تفصيلا حاصله: إن كان في بادية وخاف إن ترك الشبع لا يقطعها
549

ويهلك، وجب القطع بأنه يشبع. وإن كان في بلد وتوقع الطعام الحلال قبل عود
الضرورة، وجب القطع بالاقتصار على سد الرمق. وإن كان لا يظهر حصول طعام
حلال، وأمكنه الرجوع إلى الحرام مرة بعد أخرى، إن لم يجد الحلال، فهو موضع
الخلاف.
قلت: هذا التفصيل، هو الراجح. والأصح من الخلاف: الاقتصار على سد
الرمق. والله أعلم.
الرابعة: يجوز له التزود من الميتة إن لم يرج الوصول إلى الحلال. وإن
رجاه، قال في التهذيب وغيره: يحرم. وعن القفال: أن من حمل الميتة من
غير ضرورة، لم يمنع ما لم يتلوث بالنجاسة. وهذا يقتضي جواز التزود عند
الضرورة وأولى.
قلت: الأصح: جواز التزود إذا رجا. والله أعلم.
الخامسة: إذا جوزنا الشبع، فأكل ما سد رمقه، ثم وجد لقمة حلالا، لم
يجز أن يأكل من المحرم حتى يأكلها، فإذا أكلها، هل له الاتمام إلى الشبع؟
وجهان. وجه المنع: أنه باللقمة عاد إلى المنع، فيحتاج إلى عود الضرورة.
قلت: الأصح: الجواز. والله أعلم.
السادسة: لو لم يجد المضطر إلى طعام غيره وهو غائب أو ممتنع من البذل،
فهل يقتصر على سد الرمق، أم له الشبع؟ فيه طرق أصحها: طرد الخلاف
كالميتة. والثاني: له الشبع قطعا. والثالث: ليس له قطعا.
السابعة: المحرم الذي يضطر إلى تناوله قسمان، مسكر، وغيره، فيباح
جميعه ما لم يكن فيه إتلاف معصوم، فيجوز للمضطر قتل الحربي والمرتد وأكله
قطعا. وكذا الزاني المحصن، والمحارب، وتارك الصلاة على الأصح فهم. ولو
كان له قصاص على غيره، ووجده في حالة اضطرار، فله قتله قصاصا، وأكله،
وإن لم يحضره السلطان.
وأما المرأة الحربية وصبيان أهل الحرب، ففي التهذيب: أنه لا يجوز
550

قتلهم للاكل وجوزه الامام، والغزالي، لأنهم ليسوا بمعصومين. والمنع من قتلهم، ليس لحرمة أرواحهم، ولهذا لا كفارة فيهم.
قلت: الأصح: قول الإمام. والله أعلم.
والذمي، والمعاهد، والمستأمن، معصومون، فيحرم أكلهم.
ولا يجوز للوالد قتل ولده للاكل، ولا للسيد قتل عبده.
ولو لم يجد إلا آدميا معصوما ميتا، فالصحيح حل أكله قال الشيخ إبراهيم
المروذي: إلا إذا كان الميت نبيا، فلا يجوز قطعا.
قال في الحاوي: فإذا جوزنا، لا يأكل منه إلا ما يسد الرمق، حفظا
للحرمتين. قال: وليس له طبخه وشيه، بل يأكله نيئا، لان الضرورة تندفع بذلك،
وطبخه هتك لحرمته، فلا يجوز الاقدام عليه، بخلاف سائر الميتات، فإن للمضطر
أكلها نيئة ومطبوخة.
ولو كان المضطر ذميا، والميت مسلما، فهل له أكله؟ حكى فيه صاحب التهذيب وجهين.
قلت: القياس: تحريمه. والله أعلم.
ولو وجد ميتة ولحم آدمي، أكل الميتة وإن كانت لحم خنزير. وإن وجد
المحرم صيدا ولحم آدمي، أكل الصيد. ولو أراد المضطر أن يقطع قطعة من فخذه
أو غيرها ليأكلها، فإن كان الخوف منه كالخوف في ترك الأكل أو أشد، حرم،
وإلا، جاز على الأصح، بشرط أن لا يجد غيره. فإن وجد، حرم قطعا. ولا يجوز
أن يقطع لنفسه من معصوم غيره قطعا، ولا للغير أن يقطع من نفسه للمضطر.
القسم الثاني: المسكر، والمذهب عند جمهور الأصحاب: أنه لا يحل
شرب الخمر، لا للتداوي، ولا للعطش. وقيل: يجوز لهما. وقيل: لهذا دون
551

ذاك. وقيل: بالعكس. فإذا جوزنا للعطش، فوجد خمرا وبولا، شرب البول،
لان تحريمه أخف. كما لو وجد بولا وماء نجسا، شرب الماء، لان نجاسته طارئة.
وما سوى المسكر من النجاسات، يجوز التداوي به كله على الصحيح المعروف.
وقيل: لا يجوز. وقيل: لا يجوز إلا بأبوال الإبل.
وفي جواز التبخر بالند الذي فيه خمر، وجهان بسبب دخانه.
قلت: الأصح: الجواز، لأنه ليس دخان نفس النجاسة. والله أعلم.
الثامنة: إذا وجد المضطر طعاما حلالا لغيره، فله حالان.
أحدهما: أن يكون مالكه حاضرا. فإن كان مضطرا إليه، فهو أولى به،
وليس للأول أخذه منه إذا لم يفضل عن حاجته، إلا أن يكون نبيا، فإنه يجب
على المالك بذله له، فإن آثر المالك غيره على نفسه، فقد أحسن. قال الله
تعالى: * (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) *. وإنما يؤثر على نفسه
مسلما.
فأما الكافر، فلا يؤثره حربيا كان ذميا، وكذا لا يؤثر بهيمة على نفسه.
وإن لم يكن المالك مضطرا، لزمه إطعام المضطر مسلما كان أو ذميا أو
مستأمنا وكذا لو كان يحتاج إليه في ثاني الحال على الأصح.
وللمضطر أن يأخذه قهرا أو يقاتله عليه وإن أتى القتال على نفس المالك،
فلا ضمان فيه. وإن قتل المالك المضطر في الدفع عن طعامه، لزمه القصاص.
وإن منعه الطعام فمات جوعا، فلا ضمان. قال في الحاوي: ولو قيل:
يضمن، كان مذهبا.
وهل القدر الذي يجب على المالك بذله، ويجوز للمضطر أخذه قهرا والقتال
عليه ما يسد الرمق، أم قدر الشبع؟ فيه قولان، بناء على القولين في الحلال من
552

الميتة. وهل يجب على المضطر الاخذ قهرا والقتال؟ فيه خلاف مرتب على الخلاف
في وجوب الاكل من الميتة، وأولى بأن لا يجب.
قلت: المذهب: لا يجب القتال، كما لا يجب دفع الصائل وأولى. والله
أعلم. وخصص صاحب التهذيب الخلاف بما إذا لم يكن عليه خوف في الاخذ
قهرا. قال: فإن كان، لم يجب قطعا.
فرع حيث أوجبنا على المالك بذله للمضطر، ففي الحاوي وجه: أنه يلزمه بذله مجانا، ولا
يلزمه المضطر شئ، كما يأكل الميتة بلا شئ. والمذهب:
أنه لا يلزمه البذل إلا بعوض، وبهذا قطع الجمهور.
وفرقوا بينه وبين ما إذا خلص مشرفا على الهلاك بالوقوع في ماء أو نار، فإنه لا
تثبت أجرة المثل، لان هناك يلزمه التخليص، ولا يجوز التأخير إلى تقرير الأجرة،
وهنا بخلافه، وسوى القاضي أبو الطيب وغيره بينهما، فقالوا: إن احتمل الحال
هناك موافقته على أجرة يبذلها أو يلتزمها، لم يلزم تخليصه حتى يلتزمها كما في
المضطر. وإن لم يحتمل حال التأخير في صورة المضطر، فأطعمه، لم يلزمه
العوض، فلا فرق بينهما. ثم إن بذل المالك طعامه مجانا، لزمه قبوله، ويأكله إلى
أن يشبع، فإن بذله بالعوض، نظر، إن لم يقدر العوض، لزم المضطر قيمة ما أكل
في ذلك الكان والزمان، وله أن يشبع، وإن قدره، فإن لم يفرد ما يأكله فالحكم
كذلك. وإن أفرده، فإن كان المقدر ثمن المثل، فالبيع صحيح، وللمضطر ما
فضل عن الاكل.
553

وإن كان أكثر والتزمه، ففيما يلزمه أوجه. أقيسها وهو الأصح عند القاضي أبي
الطيب: يلزمه المسمى، لأنه التزمه بعقد لازم. وأصحها عند الروياني: لا لزمه
إلا ثمن المثل في ذلك الزمان والمكان، لأنه كالمكره. والثالث، وهو اختيار
صاحب الحاوي: إن كانت الزيادة لا تشق على المضطر ليساره، لزمته، وإلا،
فلا. قال أصحابنا: وينبغي للمضطر أن يحتال في أخذه منه ببيع فاسد، ليكون
الواجب القيمة قطعا، وقد يفهم من كلامهم، القطع بصحة البيع، وأن الخلاف
فيما يلزم ثمنا. لكن الوجه: جعل الخلاف في صحة العقد لمعنى الاكراه، وأن
المضطر هل هو مكره، أم لا؟ وفي تعليق الشيخ أبي حامد ما يبين ذلك. وقد صرح
به الامام، فقال: الشراء بالثمن الغالي للضرورة، هل يجعله مكروها حتى لا
يصح الشراء؟ وجهان أقيسهما: صحة البيع. قال: وكذا المصادر من جهة
السلطان الظالم، إذا باع ماله للضرورة، ولدفع الأذى الذي يناله. والأصح: صحة
البيع، لأنه لا إكراه على البيع، ومقصود الظالم تحصيل المال من أي جهة كان،
وبهذا قطع الشيخ إبراهيم المروذي، واحتج به لوجه لزوم المسمى في مسألة
المضطر.
فرع متى باع المالك بثمن المثل ومع المضطر مال، لزمه شراؤه، وصرف
ما معه إلى الثمن، حتى لو كان معه إزار فقط، لزمه صرفه إليه إن لم يخف الهلاك
بالبرد، ويصلي عاريا، لان كشف العورة أخف من أكل الميتة. ولهذا يجوز أخذ
الطعام قهرا، ولا يجوز أخذ ساتر العورة قهرا وإن لم يكن معه مال، لزمه التزامه
في ذمته، سواء كان له مال في موضع آخر، أم لا. ويلزم المالك في هذا الحال،
البيع نسيئة.
فرع ليس للمضطر الاخذ قهرا إذا بذل المالك بثمن المثل. فإن طلب
أكثر، فله أن لا يقبل ويأخذه قهرا ويقاتله عليه. فإن اشتراه بالزيادة مع إمكان أخذه
قهرا، فهو مختار في الالتزام، فيلزمه المسمى بلا خلاف.
554

والخلاف السابق إنما هو فيمن عجز عن الاخذ قهرا.
فرع لو أطعمه المالك ولم يصرح بالإباحة، فالأصح: أنه لا عوض
عليه، ويحمل على المسامحة المعتادة في الطعام. ولو اختلفا فقال: أطعمتك
بعوض فقال: بل مجانا، فهل يصدق المالك لأنه أعرف بدفعه، أم المضطر
لبراءة ذمته؟ وجهان. أصحهما: الأول. ولو أوجر المالك المضطر قهرا، أو أوجره
وهو مغمى عليه، فهل يستحق القيمة؟ وجهان. أحسنهما: يستحق، لأنه خلصه
من الهلاك، كمن عفا عن القصاص، ولما فيه من التحريض على مثل ذلك.
فرع كما يجب بذل المال لابقاء الآدمي المعصوم، يجب بذله لابقاء
البهيمة المحترمة،، وإن كان ملكا للغير.
ولا يجب البذل للحربي، والمرتد، والكلب العقور. ولو كان لرجل كلب غير
عقور جائع، وشاة، لزمه ذبح الشاة لاطعام الكلب. قال في التهذيب: وله أن
يأكل من لحمها، لأنها ذبحت للاكل.
الحال الثاني: أن يكون المالك غائبا، فيجوز للمضطر أكل طعامه ويغرم له
القيمة. وفي وجوب الاكل وقدر المأكول، ما سبق من الخلاف.
وإن كان الطعام لصبي أو مجنون، والولي غائب، فكذلك. وإن كان
حاضرا، فهو في ما لهما ككامل الحال في ماله، وهذه إحدى الصور التي يجوز فيها
بيع مال الصبي نسيئة.
المسألة التاسعة: إذا وجد المضطر ميتة، وطعام الغير وهو غائب، فثلاثة
أوجه. ويقال: أقوال. أصحها: يجب أكل الميتة. والثاني: الطعام. والثالث:
يتخير بينهما، وأشار الامام، إلى أن هذا الخلاف مأخوذ من الخلاف في اجتماع
حق الله تعالى وحق الآدمي. وإن كان صاحب الطعام حاضرا، فإن بذله بلا عوض،
أو بثمن مثله، أو بزيادة يتغابن الناس بمثلها ومعه ثمنه، أو رضي بذمته، لزمه
555

القبول. وإن لم يبعه إلا بزيادة كبيرة، فالمذهب الذي قطع به العراقيون والطبريون
وغيرهم: أنه لا يلزمه شراؤه، لكن يستحب، وإذا لم يلزمه الشراء، فهو كما لو لم
يبذله أصلا. وإذا لم يبذله، لا يقاتله عليه المضطر إن خاف من المقاتلة على
نفسه، أو خاف إهلاك المالك في المقاتلة، بل يعدل إلى الميتة. وإن كان لا يخاف
لضعف المالك وسهولة دفعه، فهو على الخلاف المذكور فيما إذا كان غائبا. وقال
في التهذيب: يشتريه بالثمن الغالي، ولا يأكل الميتة. ثم يجئ الخلاف، في
أنه يلزمه المسمى، أو ثمن المثل؟ قال: وإذا لم يبذل أصلا، وقلنا: طعام الغير
أولى من الميتة، يجوز أن يقال: يقاتله ويأخذه قهرا.
العاشرة: لو اضطر محرم ولم يجد إلا صيدا، فله ذبحه وأكله، ويلزمه
الفدية. وإن وجد صيدا وميتة، فالمذهب: أنه يلزمه أكل الميتة. وفي قول:
الصيد. وفي قول أو وجه: يتخير. وقيل: يأكل الميتة قطعا. ولو وجد المحرم
لحم صيد ذبح، وميتة، فإن ذبحه حلال لنفسه، فهذا مضطر وجد ميتة، وطعام
الغير، وإن ذبحه هذا المحرم قبل إحرامه، فهو واجد طعاما حلالا لنفسه، فليس
مضطرا. وإن ذبحه في الاحرام، أو ذبحه محرم آخر، فأوجه. أصحها: يتخير
بينهما. والثاني: تتعين الميتة. والثالث: الصيد. ولو وجد المحرم صيدا، وطعام
الغير، فهل يتعين الصيد، أم الطعام، أم يتخير؟ فيه ثلاثة أوجه، أو أقوال، سواء
جعلنا الصيد الذي يذبحه المحرم ميتة، أم لا. وإن وجد صيدا، وميتة، وطعام
الغير، فسبعة أوجه. أصحها: تتعين الميتة. والثاني: الطعام. والثالث:
الصيد. والرابع: يتخير بينها. والخامس: تخير بين الطعام والميتة. والسادس:
يتخير بين الصيد والميتة. والسابع: يتخير بين الصيد والطعام.
فرع إذا لم نجعل ما ذبحه المحرم من الصيد ميتة، فهل على المضطر
قيمة ما يأكل منه؟ وجهان، بناء على القولين في أن المحرم، هل يستقر ملكه على
الصيد.
الحادية عشرة: لو وجد ميتتين، إحداهما من جنس المأكول، دون الأخرى أو
إحداهما طاهره في الحياة دون الأخرى كشاة، وحمار أو كلب فهل يتخير بينهما، أم تتعين الشاه؟ وجهان.
556

قلت: ينبغي أن يكون الراجح ترك الكلب، والتخيير بين الثانية عشره: ليس بين الباقي. والله
أعلم.
الثانية عشرة: ليس للعاصي بسفره أكل الميتة حتى يتوب على الصحيح.
وسبق بيانه في صلاة المسافر.
الثالثة عشرة: نص الشافعي رضي الله عنه: أن المريض إذا وجد مع غيره
طعاما يضره ويزيد في مرضه، جاز له تركه وأكل الميتة، ويلزم مثله لو كان الطعام
له. وعد هذا من أنواع الضرورة، وكذا التداوي كما سبق. وسبق أيضا في أول
الكتاب، بيان الانتفاع بالنجاسات. ولو تنجس الخف بخرزه بشعر الخنزير، فغسل
سبعا إحداهن بتراب، طهر ظاهره دون باطنه، وهو موضع الخرز. وقيل: كان
الشيخ أبو زيد يصلي في الخف النوافل دون الفرائض، فراجعه القفال فيه فقال:
الامر إذا ضاق اتسع، أشار إلى كثرة النوافل.
قلت: بل الظاهر أنه أراد أن هذا القدر مما تعم به البلوى، ويتعذر أو يشق
الاحتراز منه، فعفي عنه مطلقا. وإنما كان لا يصلي فيه الفريضة احتياطا لها،
وإلا، فمقتضى قوله العفو فيهما. ولا فرق بين الفريضة والنفل في اجتناب
النجاسة ومما يدل على صحة ما تأولته، أن القفال قال في شرحه التلخيص:
سألت أبا زيد عن الخف يخرز بشعر الخنزير، هل تجوز الصلاة فيه؟ فقال: الامر
إذا ضاق اتسع، قال القفال: مراده أن بالناس حاجة إلى الخرز به، فللضرورة جوزنا ذلك.
والله أعلم.
فصل في مسائل تتعلق بالأطعمة إحداها: قال الشيخ إبراهيم المروذي
في تعليقه وردت أخبار في النهي عن أكل الطين، ولا يثبت شئ منها، وينبغي أن
نحكم بالتحريم إن ظهرت المضرة فيه.
قلت: قطع صاحب المهذب وغيره بتحريم أكل التراب. والله أعلم.
الثانية: يكره أن يأكل من الطعام الحلال فوق شبعه، ويكره أن يعيب الطعام.
ويستحب أن يأكل من أسفل الصحفة، وأن يقول بعد الفراغ: الحمد لله حمدا
كثيرا طيبا مباركا فيه.
557

الثالثة: إذا استضاف مسلم لا اضطرار به مسلما، استحب له ضيافته، ولا
تجب. والأحاديث الواردة في الباب، محمولة على الاستحباب.
الرابعة: من مر بثمر غيره أو زرعه، لم يجز له أن يأخذ منه، ولا يأكل بغير
إذن صاحبه، إلا أن يكون مضطرا، فيأكل ويضمن. وحكم الثمار الساقطة من
الأشجار، حكم سائر الثمار إن كانت داخل الجدار. فإن كانت خارجه، فكذلك إن
لم تجر عادتهم بإباحتها، فإن جرت بذلك، فهل تجري العادة المطردة مجرى
الإباحة؟ وجهان.
قلت: الأصح: تجري. والمختار: أنه يجوز أكل الانسان من طعام قريبه
وصديقه بغير إذنه إذا غلب على ظنه أنه لا يكره ذلك، فإن تشكك، فحرام بلا
خلاف. ويستحب ترك التبسط في الأطعمة المباحة، فإنه ليس من أخلاق السلف، هذا
إذا لم تدع إليه حاجة، كقرى الضيف، والتوسعة على العيال في الأوقات
المعروفة. والسنة: اختيار الحلو من الأطعمة، وتكثير الأيدي
على الطعام، والتسمية في أوله. فإن نسي وتركها في أوله، أتى بها في أثناء
الاكل. ويستحب الجهر بها ليذكره غيره،
ويستحب الحديث الحسن على الاكل
وقد بقيت آداب تتعلق بالاكل، أخرتها إلى باب الوليمة لكونه أليق بها.
والله أعلم.
558

كتاب النذر
هو التزام شئ، وفيه فصلان.
أحدهما: في أركانه، وهي ثلاثة: الناذر، والمنذور، والصيغة.
الأول: الناذر. وهو كل مكلف مسلم، فلا يصح نذر الصبي والمجنون.
وفي نذر السكران، الخلاف في تصرفاته. ولا يصح نذر الكافر لي الصحيح.
ويصح من السفيه المحجور عليه بفلس نذر القرب البدنية، ولا تصح المالية من
السفيه. وأما المفلس، فإن التزم في ذمته ولم يعين مالا، صح نذره، ويؤديه بعد
قضاء حقوق الغرماء. فإن عين مالا، بني على ما لو أعتق أو وهب، هل يوقف
صحة تصرفه، أم يكون باطلا؟ فإن أبطلناه، فكذا النذر. وإن توقفنا، توقف
النذر، قاله في التتمة. قال: ولو نذر عتق المرهون، انعقد نذره. فإن نفذنا،
عتقه في الحال، أو عند أداء المال، وإلا، فهو كمن نذر إعتاق من لا يملكه.
559

الركن الثاني: الصيغة. فلا يصح النذر إلا باللفظ. وفي قول قديم: تصير
الشاة ونحوها هديا وأضحية بالنية وحدها، أو بها مع التقليد كما سبق في بابه. ثم
النذر قسمان.
أحدهما: نذر التبرر، وهو نوعان.
أحدهما: نذر المجازاة، وهو أن يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة، أو
اندفاع بلية، كقوله: إن شفى الله مريضي، أو رزقني ولدا، فلله علي أعتاق، أو
صوم، أو صلاة. فإذا حصل المعلق عليه، لزمه الوفاء بما التزم. ولو قال: فعلي،
ولم يقل: فلله علي، فالصحيح: أنه كذلك. وقيل: لا بد من التصريح بذكر الله
تعالى، وهو قريب من الخلاف في وجوب الإضافة إلى الله تعالى في نية الوضوء
والصلاة.
النوع الثاني: أن يلتزم ابتداء من غير تعليق على شئ، فيقول: لله علي أن
أصلي أو أصوم أو أعتق، فقولان. وقيل: وجهان. أظهرهما: يصح، ويلزم الوفاء
به. والثاني: لا يصح، ولا يلزمه شئ.
فرع لو عقب النذر بالمشيئة فقال: لله علي كذا إن شاء الله تعالى، لم يلزمه
شئ، كما هو في تعقيب الايمان، والطلاق، والعقود. ولو قال: لله علي كذا
إن شاء زيد، لم يلزمه شئ وإن شاء زيد.
القسم الثاني: نذر اللجاج والغضب، وهو أن يمنع نفسه من فعل، أو
يحثها عليه بتعليق التزام قربة الفعل أو بالترك. ويقال فيه: يمين اللجاج
والغضب. ويقال له أيضا: يمين الغلق. ويقال: نذر الغلق - بفتح العين المعجمة
560

واللام - فإذا قال: إن كلمت فلانا، أو دخلت الدار، أو إن لم أخرج من البلد،
فإنه علي صوم شهر، أو صلاة، فلله أو حج، أو إعتاق رقبة، ثم كلمه، أو دخل، أو
لم يخرج، ففيما يلزمه طرق.
أشهرها: على ثلاثة أقوال.
أحدها: يلزمه الوفاء بما التزم. والثاني: يلزمه كفارة يمين. والثالث: يتخير
بينهما، وهذا الثالث هو الأظهر عند العراقيين، لكن الأظهر على ما ذكره صاحب
التهذيب، والروياني، وإبراهيم المروذي، والموفق بن طاهر، وغيرهم،
وجوب الكفارة. والطريق الثاني: القطع بالتخيير. والثالث: نفي التخيير،
والاقتصار على القولين الأولين. والرابع: الاقتصار على التخيير وقول وجوب
الكفارة، ونفي القول الأول. والخامس: الاقتصار على التخيير، ولزوم الوفاء،
ونفي وجوب الكفارة.
قلت: الأظهر: التخيير بين الجميع. والله أعلم.
فإن قلنا بوجوب الكفارة، فوفى بما التزم، لم تسقط الكفارة على الأصح،
فإن كان الملتزم من جنس ما تتأدى به الكفارة، فالزيادة على قدر الكفارة تقع تطوعا.
وإن قلنا بالتخيير، فلا فرق بين الحج والعمرة، وسائر العبادات. وخرج
قول: أنه يلزم الوفاء بهما خاصة، لعظم أمرهما، كما يلزمان بالشروع.
فرع إذا التزم على وجه اللجاج إعتاق عبد بعينه، فإن قلنا: واجبه الوفاء
بما التزم، أعتقه كيف كان. وإن قلنا: عليه كفارة يمين، فإن كان بحيث يجزئ
في الكفارة، فله أن يعتقه أو يعتق غيره، أو يطعم، أو يكسو. وإن كان بحيث لا
561

يجزئ، واختار الاعتاق، أعتق غيره. وإن قلنا: يتخير، فإن اختار الوفاء، أعتقه
كيف كان، وإن اختار التكفير، اعتبر في إعتاقه صفات الاجزاء. وإن التزم إعتاق
عبيده، فإن أوجبنا الوفاء، أعتقهم. وإن أوجبنا الكفارة، أعتق واحدا، أو أطعم،
أو كسا. وإن قال: إن فعلت كذا، فعبدي حر، وقع العتق إذا فعله بلا خلاف.
فرع لو قال: إن فعلت كذا، فعلي نذر، أو فلله علي نذر، نص
الشافعي رحمه الله: أنه يلزمه كفارة يمين، وبهذا قطع صاحب التهذيب وإبراهيم
المروذي: وقال القاضي حسين وغيره: هذا تفريع على قولنا: تجب الكفارة. فأما
إن أوجبنا الوفاء، فيلزمه قربة من القرب، والتعيين إليه، وليكن ما يعينه مما يلتزم
بالنذر. وعلى قول التخيير: يتخير بين ما ذكرنا وبين الكفارة. ولو قال: إن فعلت
كذا فعلي كفارة يمين، فالواجب كفارة على الأقوال كلها. ولو قال: فعلي يمين، أو
فلله علي يمين، فالصحيح: أنه لغو، لأنه لم يأت بنذر ولا صيغة يمين، وليست
اليمين مما يثبت في الذمة. وقيل: يلزمه كفارة يمين إذا فعله. قال الامام:
وعلى هذا، فالوجه: أن يجعل كناية ويرجع إلى نيته. ولو قال: نذرت لله لأفعلن
كذا، فإن نوى اليمين، فهو يمين. وإن أطلق، فوجهان. ولو عدد أجناس قرب
فقال: إن دخلت فعلي حج، وعتق، وصدقة، فإن أوجبنا الوفاء، لزمه ما التزمه،
وإن أوجبنا الكفارة، لزمه كفارة واحدة على المذهب. وعن الشيخ أبي محمد،
احتمال في تعددها. ولو قال ابتداء: لله علي أن أدخل الدار اليوم، قال في
التهذيب: المذهب: أنه يمين، وعليه كفارة يمين إن لم يدخل. وكذا لو قال
لامرأته: إن دخلت الدار، فلله علي أن أطلقك، فهو كقوله: إن
لأطلقنك، حتى إذا مات أحدهما قبل التطليق، لزمه كفارة يمين. ولو قال: إن
دخلت الدار فلله علي أن آكل الخبز، فدخلها، لزمه كفارة يمين على الصحيح.
وقيل: هو لغو.
فرع لو قال ابتداء: مالي صدقة، أو في سبيل الله، ففيه أوجه. أحدها
562

وهو الأصح عند الغزالي، وقطع به القاضي حسين: أنه لغو، لأنه لم يأت بصيغة
التزام. والثاني: أنه كما لو قال: لله علي أن أتصدق بمالي، فيلزمه التصدق.
والثالث: يصير ماله بهذا اللفظ صدقة، كما لو قال: جعلت هذه الشاة أضحية.
وقال في التتمة: إن كان المفهوم من اللفظ في عرفهم معنى النذر، أو نواه، فهو
كما لو قال: لله علي أن أتصدق بمالي أو أنفقه في سبيل الله، وإلا، فلغو. وأما إذا
قال: إن كلمت فلانا، أو فعلت كذا، فمالي صدقة، فالمذهب الذي قطع به
الجمهور ونص عليه الشافعي رحمه الله: أنه بمنزلة قوله: فعلي أن أتصدق بمالي،
أو بجميع مالي. وطريق الوفاء: أن يتصدق بجميع أمواله. وإذا قال: في سبيل
الله، يتصدق بجميع أمواله على الغزاة. وقال إمام الحرمين، والغزالي: يخرج هذا
على الأوجه الثلاثة في الصورة الأولى. والمعتمد، ما نص عليه وقاله الجمهور.
فرع الصيغة قد تتردد، فتحتمل نذر التبرر، وتحتمل نذر اللجاج، فيرجع
فيها إلى قصد الشخص وإرادته، وفرقوا بينهما، بأنه في نذر التبرر يرغب في
السبب، وهو شفاء المريض مثلا بالتزام المسبب، وهو القربة المسماة. وفي
اللجاج، يرغب عن السبب لكراهته الملتزم. وذكر الأصحاب في ضبطه، أن
الفعل، إما طاعة، وإما معصية، وإما مباح. والالتزام في كل واحد منهما، تارة
يعلق بالاثبات، وتارة بالنفي.
أما الطاعة، ففي طرف الاثبات يتصور نذر التبرر، بأن يقول: إن صليت،
فلله علي صوم يوم، معناه: إن وفقني الله للصلاة، صمت. فإذا وفق لها، لزمه
الصوم. ويتصور اللجاج، بأن يقال له: صل، فيقول: لا أصلي، وإن صليت
فعلي صوم أو عتق، فإذا صلى، ففيما يلزمه، الأقوال والطرق السابقة.
وأما في طرف النفي، فلا يتصور نذر التبرر، لأنه لا بر في ترك الطاعة،
ويدخله اللجاج، بأن يمنع من الصلاة، فيقول: إن لم أصل، فلله علي كذا، فإذا
لم يصل، ففيما يلزمه الأقوال.
وأما المعصية، ففي طرف النفي، يتصور نذر التبرر، بأن يقول: إن لم
563

أشرب الخمر، فلله علي كذا، ويقصد: إن عصمني الله من الشرب. ويتصور نذر
اللجاج، بأن يمنع من شربها، ويقول: إن لم أشربها، فلله علي صوم أو صلاة.
وفي طرف الاثبات لا يتصور إلا اللجاج، بأن يؤمر بالشرب، فيقول: إن شربت،
فلله علي كذا.
وأما المباح، فيتصور في طرفي النفي والاثبات فيه النوعان معا. فالتبرر في
الاثبات: أن أكلت كذا، فلله علي صوم، يريد: أن يسره الله تعالى لي.
واللجاج، أن يؤمر بأكله فيقول: إن أكلت، فلله علي كذا. والتبرر في النفي: إن
لم آكل كذا، فلله علي صوم، يريد: إن أعانني الله تعالى على كسر شهوتي
فتركته. واللجاج، أن يمنع من أكله فيقول: إن لم آكله، فلله علي كذا. وإن
قال: إن رأيت فلانا، فعلي صوم. فإن أراد: إن رزقني الله رؤيته، فهو نذر تبرر.
وإن ذكره لكراهته رؤيته، فهو لجاج. وفي الوسيط وجه في منع التبرر في
المباح.
فرع لا فرق في جميع ما ذكرناه، بين قوله: فعلي كذا، وبين قوله: فلله
علي كذا، هذا هو الصحيح. وفي وجه: لا يلزمه شئ إذا لم يذكر الله تعالى.
فرع لو قال: أيمان البيعة لازمة لي - قال أصحابنا: كانت البيعة في زمن
رسول الله (ص) بالمصافحة، فلما ولي الحجاج، رتبها أيمانا تشتمل
على ذكر اسم الله تعالى، وعلى الطلاق، والاعتاق، والحج، وصدقة المال - فإن
لم يرد القائل الايمان التي رتبها الحجاج، لم يلزمه شئ. وإن أرادها، نظر،
إن قال: فطلاقها وعتاقها لازم لي وانعقدت يمينه بهما ولا حاجة إلى النية. وإن لم
يصرح بذكرهما، لكن نواهما، فكذلك، لأنهما ينعقدان بالكناية مع النية. وإن
نوى اليمين بالله تعالى، أو لم ينو شيئا، لم تنعقد يمينه، ولا شئ عليه.
فرع نص الشافعي رضي الله عنه، في نذر اللجاج، أنه لو قال: إن فعلت
564

كذا، فلله علي نذر حج إن شاء فلان، فشاء، لم يكن عليه شئ. قال في
التتمة: هذا إذا غلبنا في اللجاج معنى في النذر. فإن قلنا: هو يمين، فهو كمن
قال: والله لا أفعل كذا إن شاء زيد، وسيأتي في الايمان إن شاء الله تعالى أن من
قال: والله لا أدخلها إن شاء فلان أن لا أدخلها. فإن شاء فلان، انعقدت يمينه عند
المشيئة، وإلا، فلا.
الركن الثالث: المنذور.
الملتزم بالنذر: معصية، أو طاعة، أو مباح.
فالمعصية، كنذر شرب الخمر، أو الزنا، أو القتل، أو الصلاة في حال
الحدث، أو الصوم في حال الحيض، أو القراءة حال الجنابة، أو نذر ذبح نفسه أو
ولده، فلا ينعقد نذره. فإن لم يفعل المعصية المنذورة، فقد أحسن، ولا كفارة
عليه على المذهب، وبه قطع جمهور الأصحاب. وحكى الربيع قولا في وجوبها.
واختاره الحافظ أبو بكر البيهقي، للحديث لا نذر في معصية، وكفارته كفارة
يمين. قال الجمهور: المراد بالحديث، نذر اللجاج. قالوا: ورواية الربيع
من كيسه. وحكى بعضهم الخلاف وجهين.
قلت: هذا الحديث بهذا اللفظ، ضعيف باتفاق المحدثين، وإنما صح
حديث عمران بن الحصين عن النبي (ص): لا نذر في معصية الله رواه
مسلم، وحديث عقبة بن عامر عن النبي (ص) كفارة النذر كفارة اليمين رواه
مسلم. والله أعلم.
565

وأما الطاعة فأنواع:
أحدها: الواجبات، فلا يصح نذرها، لأنها واجبة بإيجاب الشرع،
فلا معنى لالتزامها، وذلك كنذر الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وكذا لو نذر أن لا
يشرب الخمر، ولا يزني. وسواء علق ذلك بحصول نعمة، أو التزمه ابتداء. وإذا
خالف ما ذكره، ففي لزوم الكفارة ما سبق في قسم المعصية. وادعى صاحب
التهذيب أن الظاهر هنا، وجوبها.
النوع الثاني: العبادات المقصودة، وهي التي شرعت للتقرب بها. وعلم من
الشارع الاهتمام بتكلف الخلق إيقاعها عبادة، كالصوم والصلاة والصدقة والحج
والاعتكاف والعتق، فهذه تلزم بالنذر بلا خاف. قال الامام: وفروض الكفاية
التي يحتاج في أدائها إلى بذل مال أو مقاساة مشقة، تلزم بالنذر أيضا، كالجهاد
وتجهيز الموتى. ويجئ مما سنذكره إن شاء الله تعالى في نذر السنن الراتبة وجه:
أنها لا تلزم. وعن القفال: أن من نذر الجهاد، لا يلزمه شئ. وفي صلاة
الجنازة، والامر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وما ليس فيه بذل مال، ولا كبير
مشقة، وجهان. أصحهما: لزومها بالنذر أيضا.
فرع كما يلزم أصل العبادة بالنذر، يلزم الوفاء بالصفة المستحبة فيها إذا
شرطت في النذر، كمن شرط في الصلاة المنذورة إطالة القيام، أو الركوع، أو
السجود. أو شرط المشي في الحجة الملتزمة إذا قلنا: المشي في الحج أفضل من
الركوب، فلو أفردت الصفة بالنذر، والأصل واجب شرعا، كتطويل القراءة والركوع
والسجود في الفرائض، أو أن يقرأ في الصبح مثلا سورة كذا، أو أن يصلي الفرض
566

في جماعة، فالأصح: لزومها، لأنها طاعة. والثاني: لا، لئلا تغير عما وضعها
الشرع عليه. ولو نذر فعل السنن الراتبة، كالوتر، وسنة الفجر، والظهر، فعلى
الوجهين. ولو نذر صوم رمضان في السفر، فوجهان. أحدهما وبه قطع في
الوجيز، ونقله إبراهيم المروذي عن عامة الأصحاب: لا ينعقد نذره، وله
الفطر، لأنه التزام يبطل رخصة الشرع. والثاني، وهو اختيار القاضي حسين
وصاحب التهذيب: انعقاده ولزوم الوفاء كسائر المستحبات. ويجري
الوجهان، فيمن نذر إتمام الصلاة في السفر، إذا قلنا: الاتمام أفضل. ويجريان
فيمن نذر القيام في النوافل، أو استيعاب الرأس بالمسح، أو التثليث في الوضوء أو
الغسل، أو أن يسجد للتلاوة والشكر عند مقتضيهما. قال الامام: وعلى مساق
الوجه، لو نذر المريض القيام في الصلاة وتكلف المشقة، أو نذر صوما، وشرط أن
لا يفطر بالمرض، لم يلزم الوفاء، لان الواجب بالنذر لا يزيد على الواجب شرعا،
والمرض مرخص.
النوع الثالث: القربات التي لم تشرع لكونها عبادة، وإنما هي أعمال وأخلاق
مستحسنة رغب الشرع فيها لعظم فائدتها. وقد يبتغى بها وجه الله تعالى، فينال
الثواب فيها، كعيادة المرضى، وزيارة القادمين، وإفشاء السلام بين المسلمين،
وتشميت العاطس. وفي لزومها بالنذر، وجهان. الصحيح: اللزوم. ويلزم
567

تجديد الوضوء بالنذر على الأصح. قال في التتمة: لو نذر الاغتسال لكل
صلاة، لزمه الوفاء، وليبن هذا على أن تجديد الغسل، هل يستحب؟ قال:
ولو نذر الوضوء، انعقد نذره ولا يخرج عنه بالوضوء عن حدث، بل بالتجديد.
قلت: جزم أيضا بانعقاد نذر الوضوء، القاضي حسين. وفي التهذيب
وجه ضعيف: أنه لا يلزم. وقولهم: لا يخرج عن النذر إلا بالتجديد، معناه:
بالتجديد حيث يشرع، وهو أن يكون قد صلى بالأول صلاة ما، على الأصح. والله
أعلم.
قال: ولو نذر أن يتوضأ لكل صلاة، لزم الوضوء لكل صلاة. وإذا
توضأ لها عن حدث، لا يلزمه الوضوء لها ثانيا، بل يكفي الوضوء الواحد عن واجبي
الشرع والنذر. قال: ولو نذر التيمم، لم ينعقد على المذهب. قال: ولو نذر أن لا
يهرب من ثلاثة فصاعدا من الكفار، فإن علم من نفسه القدرة على مقاومتهم، انعقد
نذره، وإلا، فلا. وفي كلام الامام: أنه لا يلزم بالنذر انكفاف قط، حتى لو نذر أن لا
يفعل مكروها، لا ينعقد نذره. ولو نذر أن يحرم بالحج في شوال، أو من بلد
كذا، لزمه على الأصح.
وأما المباح فالذي لم يرد فيه ترغيب، كالأكل، والنوم، والقيام،
والقعود، فلو نذر فعلها أو تركها، لم ينعقد نذره. قال الأئمة: وقد يقصد بالاكل
التقوي على العبادة، وبالنوم النشاط عند التهجد، فينال الثواب، لكن الفعل غير
568

مقصود، والثواب يحصل بالقصد الجميل. وهل يكون نذر المباح يمينا توجب
الكفارة عند المخالفة؟ فيه ما سبق في نذر المعاصي والفرض. وقطع القاضي
بوجوب الكفارة في المباح، وذكر في المعصية وجهين، وعلق الكفارة باللفظ من غير
حنث، وهذا لا يتحقق ثبوته. والصواب في كيفية الخلاف ما قدمناه.
فرع لو نذر الجهاد في جهة بعينها، ففي تعيينها أوجه. قال صاحب
التلخيص: يتعين، لاختلاف الجهات. وقال أبو زيد: لا يتعين، بل يجزئه أن
يجاهد في جهة أسهل وأقرب منها. وقال الشيخ أبو علي: وهو الأصح الأعدل،
لا يتعين، لكن يجب أن تكون التي يجاهد فيها كالمعينة في المسافة والمؤنة،
وتجعل مسافات الجهات كمسافات مواقيت الحج.
فرع يشترط في القربة المالية، كالصدقة، والتضحية، والاعتاق،
أن يلتزمها في الذمة، أو يضيف إلى معين يملكه. فإن كان لغيره، لم
ينعقد نذره قطعا، ولا كفارة عليه على المذهب، وبه قطع الجمهور، وذكر في
التتمة في لزومها وجهين، وهو شاذ. قال في التتمة: لو قال: إن ملكت
عبدا فلله علي أن أعتقه، انعقد نذره. قال: ولو قال إن ملكت عبد فلان
فلله على أن أعتقه على الأظهر هذا ان قصد الشكر على حصول الملك، فإن قصد
الامتناع من تملكه فهو نذر لجاج، ولو قال إن شفى الله مريضي، فكل عبد أملكه
حر، أو فعبد فلان حر إن ملكته، لم ينعقد نذره قطعا، لأنه لم يلتزم التقرب بقربة،
لكنه علق الحرية بعد حصول النعمة بشرط، وليس هو مالكا في حال التعليق،
فلغا، كما لو قال: إن ملكت عبدا أو عبد فلان، فهو حر، فإنه لا يصح قطعا.
قال: ولو قال: إن شفى الله مريضي، فعبدي حر إن دخل الدار، انعقد، لأنه
569

مالكه، وقد علقه بصفتين، الشفاء، والدخول. قال: ولو قال: إن شفى الله
مريضي، فلله علي أن أشتري عبدا وأعتقه، انعقد.
فرع قال: في التهذيب في باب الاستسقاء: لو نذر الامام أن
يستسقي، لزمه أن يخرج في الناس ويصلي بهم. ولو نذره واحد من الناس، لزمه
أن يصلي منفردا. وإن نذر أن يستسقي بالناس، لم ينعقد، لأنهم لا يطيعونه.
ولو نذر أن يخطب وهو من أهله، لزمه. وهل له أن يخطب قاعدا مع استطاعته
القيام؟ فيه خلاف كما سنذكره إن شاء الله تعالى في الصلاة المنذورة.
فرع سئل الغزالي رحمه الله في فتاويه عما لو قال البائع للمشتري: إن
خرج المبيع مستحقا، فلله علي أن أهبك ألف دينار، فهل يصح هذا النذر، أم لا؟
وإن حكم حاكم بصحته، هل يلزمه؟ فأجاب بأن المباحات لا تلزم بالنذر، وهذا
مباح، ولا يؤثر فيه قضاء القاضي، إلا إذا نقل مذهب معتبر في لزوم ذلك
النذر.
فرع قال بعضهم: لو نذر أن يكسو يتيما لم يخرج عن نذره باليتيم
الذمي، لان مطلقه في الشرع للمسلم.
قلت: ينبغي أن يكون فيه خلاف مبني على أنه يسلك بالنذر مسلك واجب
الشرع، أو جائزه، كما لو نذر إعتاق رقبة. والله أعلم.
الفصل الثاني في أحكام النذر إذا صح النذر، لزم الوفاء به. والمعتبر
فيه: مقتضى ألفاظ الالتزام.
570

والملتزمات أنواع.
الأول: الصوم، فإن أطلق التزامه فقال: لله علي
صوم، أو أن أصوم، لزمه صوم يوم. ويجئ فيه وجه ضعيف: أنه يكفيه إمساك بعض يوم، بناء على أن النذر
ينزل على أقل ما يصح من جنسه، وأن إمساك بعض اليوم صوم، وسنذكرهما إن شاء
الله تعالى. ولو نذر صوم أيام وقدرها، فذاك. وإن أطلق ذكر الأيام، لزمه
ثلاثة. ولو قال: أصوم دهرا أو حينا، كفاه صوم يوم.
فرع هل يجب تبييت النية في الصوم المنذور، أم تكفي نيته قبل الزوال؟
يبنى ذلك على أنه إذا التزم عبادة بالنذر وأطلقها، فعلى أي شئ ينزل نذره؟ فيه
قولان مأخوذان من معاني كلام الشافعي رحمه الله. أحدهما: ينزل على أقل
واجب من جنسه يجب بأصل الشرع، لان المنذور واجب، فجعل كواجب بالشرع
ابتداء. والثاني: ينزل على أقل ما يصح من جنسه. وقد يقال: على أقل جائز
الشرع، لان لفظ الناذر لا يقتضي التزام زيادة عليه. وهذا الثاني، أصح عند
الامام، والغزالي، ولكن الأول أصح، فقد صححه العراقيون، والروياني،
وغيرهم. فإن قلنا بالقول الأول، أوجبنا التبييت، وإلا، جوزناه بنية من النهار،
هذا إذا أطلق نذر الصوم. فأما إذا نذر صوم يوم أو أيام، فصحته بنية النهار مع
التنزيل على أقل ما يصح، تنبني على أصل آخر، وهو أن صوم التطوع إذا نواه
نهارا، هل يكون صائما من وقت النية، أم من أول النهار؟ وفيه خلاف سبق في
بابه. والأصح: الثاني. فإن قلنا به، صح صوم الناذر بنية النهار، وإلا، وجب
التبييت.
وينبني على القولين في تنزيل النذر، مسائل.
منها: لو نذر أن يصلي وأطلق، إن قلنا بالقول الثاني، فركعة، وإلا،
فركعتان، وهو المنصوص.
ومنها: جواز الصلاة قاعدا مع القدرة على القيام، فيه وجهان بناء عليهما.
فلو نذر أن يصلي قاعدا، جاز القعود قطعا، كما لو صرح بنذر ركعة، أجزأته
571

قطعا. فإن صلى قائما، فهو أفضل. ولو نذر أن يصلي قائما، لزمه القيام قطعا.
ولو نذر أن يصلي ركعتين، فصلى أربعا بتسليمة واحدة بتشهد أو بتشهدين، قطع
صاحب التهذيب بجوازه. وفي التتمة: فيه وجهان. ويمكن بناؤه على
الأصل السابق: إن نزلنا على واجب الشرع، لم يجزئه كما لو صلى الصبح أربعا،
وإلا، أجزأه. وإن نذر أربع ركعات، فإن نزلنا على واجب الشرع، أمرناه
بتشهدين. فإن ترك الأول، سجد للسهو، ولا يجوز أداؤها بتسليمتين. وان نزلنا
على الجائز. تخير، إن شاء بتشهدين. ويجوز بتسليمتين،
بل هو أفضل.
قلت: الأصح: أنه يجوز بتسليمتين. والفرق بين هذه المسألة وباقي
المسائل المخرجة على هذا الأصل عليه، وقوع الصلاة مثنى، وزيادة فضلها. والله
أعلم.
ولو نذر أن يصلي ركعتين على الأرض مستقبلا القبلة، لم يجز فعلهما على
الراحلة. ولو نذر فعلهما على الراحلة، فله فعلهما على الأرض مستقبلا. وأن
أطلق، فعلى أيهما يحصل؟ فيه خلاف مبني على هذا الأصل. وأما لو نذر أن
يتصدق، فإنه لا يحمل على خمسة دراهم، أو نصف دينار، بل يجزئه أن يتصدق
بدانق ودونه مما يتمول، لان الصدقة الواجبة في الزكاة غير منحصرة في نصاب
الذهب والفضة، بل تكون في صدقة الفطر وفي الخلطة.
ومنها: إذا نذر إعتاق رقبة، فإن نزلنا على واجب الشرع، لزمه رقبة مؤمنة
سليمة، وإلا، أجزأه كافرة معيبة. قال الداركي: الأول أصح.
قلت: الأصح عند الأكثرين: الثاني. منهم المحاملي، وصاحبا التنبيه
والمستظهري، وهو الراجح في الدليل. والله أعلم.
فلو قيد فقال: لله علي إعتاق رقبة مؤمنة سليمة، لم تجزه الكافرة ولا المعيبة
قطعا. ولو قال: كافرة، أو معيبة، أجزأته قطعا. ولو أعتق مسلمة، أو سليمة
572

، فقيل: لا تجزئه، والصحيح: أنها تجزئه، لأنها أكمل، وذكر الكفر والعيب، ليس
للتقرب، بل لجواز الاقتصار على الناقص، فصار كمن نذر التصدق بحنطة رديئة،
يجوز له التصدق بالجيدة. ولو قال: علي أن أعتق هذا الكافر، أو المعيب، لم
يجزئه غيره، لتعلق النذر بعينه. أما لو نذر أن يعتكف، فليس جنس الاعتكاف واجبا
بالشرع، وقد سبق في بابه وجهان في أنه هل يشترط اللبث، أم يكفي المرور في
المسجد مع النية؟ والأول أصح. فعلى هذا لابد من لبث، ويخرج عن النذر بلبث
ساعة، ويستحب أن يمكث يوما. وإن اكتفينا بالمرور، فللامام فيه احتمالان.
أحدهما: يشترط لبث، لان لفظ الاعتكاف يشعر به. والثاني: لا، حملا له على
حقيقته شرعا.
فصل إذا لزمه صوم يوم النذر، استحب المبادرة به، ولا تجب المبادرة،
بل يخرج عن نذره بأي يوم كان ما يقبل الصوم، غير رمضان. ولو نذر صوم خميس
ولم يعين، صام أي خميس شاء. فإذا مضى خميس ولم يصمه، استقر في ذمته،
حتى لو مات قبل الصوم، فدي عنه. ولو عين في نذره يوما كأول خميس من
الشهر، أو خميس هذا الأسبوع، تعين على المذهب، وبه قطع الجمهور، فلا
يجوز الصوم قبله، وإذا تأخر عنه، صار قضاء، فإن أخر بلا ذر، أثم، وإن أخر
بعذر سفر أو مرض، لم يأثم. وقال الصيدلاني وغيره: فيه وجهان. والثاني منهما:
لا يتعين، كما لو عين مكانا، فعلى هذا يجوز الصوم قبله وبعده. ولو عين يوما من
أسبوع، والتبس عليه، فينبغي أن يكون يوم الجمعة، لأنه آخر الأسبوع، فإن لم
يكن هو المعين، أجزأه وكان قضاء. ولو نذر صوم يوم مطلق من الأسبوع المعين،
صام منه أي يوم كان.
فرع اليوم المعين بالنذر وإن عيناه، لا يثبت له خواص رمضان من الكفارة
بالفطر بالجماع فيه، ووجوب الامساك لو أفطر فيه، وعدم قبول صوم آخر من قضاء
أو كفارة، بل لو صامه عن قضاء أو كفارة، صح بلا خلاف، كذا قاله الامام. وفي
التهذيب وجه آخر: أنه لا ينعقد كأيام رمضان.
فرع الخلاف السابق في أن اليوم المعين بالنذر، هل يتعين؟ يجري مثله
في الصلاة إذا عين لها في نذرها وقتا، وفي الحج إذا عين له سنة. وجزم صاحب
573

التهذيب بالتعيين، قال: لو نذر صلاة في وقت معين غير أوقات النهي، تعين،
فلا يجوز قبله، ولا يجوز التأخير عنه، وإذا لم يصل فيه، وجب القضاء. ولو نذر
أن يصلي ضحوة، صلى في ضحوة أي يوم شاء، فلو صلى في غير الضحوة، لم
يجزه. ولو عين ضحوة، فلم يصل فيها، قضى أي وقت كان من ضحوة وغيرها.
ولو عين للصدقة وقتا، قال الصيدلاني: يجوز تقديمها على وقتها بلا خلاف.
فرع لو نذر صوم أيام، مثل أن قال: لله تعالى علي صوم عشرة أيام، فالقول
في أن المبادرة تستحب ولا تجب، وفي أنه إذا عينها هل تتعين؟ على ما ذكرناه في
اليوم الواحد. ويجري الخلاف في تعين الشهر والسنة المعينين. وحيث لا نذكره
نحن ولا الأصحاب، نقتصر على الصحيح. ويجوز صومها متتابعة ومتفرقة،
لحصول الوفاء بالمسمى. وإن قيد النذر بالتتابع، لزمه. فلو أخل به، فحكمه حكم
صوم الشهرين المتتابعين. ولو قيد بالتفريق، فوجهان. أحدهما: لا يجب
التفريق، وأقربهما: أنه يجب، وبه قطع ابن كج، وصاحب التهذيب
وغيرهما، لان التفريق معتبر في صوم التمتع. فعلى هذا، قالوا: لو صام عشرة
متتابعة، حسبت له خمسة، ويلغى بعد كل يوم يوم.
فرع لو نذر صوم شهر، نظر، إن عين كرجب أو شعبان، أو قال: أصوم
شهرا من الآن، فالصوم يقع متتابعا لتعين أيام الشهر. وليس التتابع مستحقا في
نفسه، حتى لو أفطر يوما، لا يلزمه الاستئناف. ولو فاته الجميع، لا يلزمه التتابع
في قضائه كرمضان فلو شرط التتابع، فوجهان. أحدهما: لا يلزمه، لان شرط
التتابع مع تعيين الشهر لغو. وأصحهما وبه قطع العراقيون: يجب، حتى لو أفسد
يوما، لزمه الاستئناف. وإذا فات، قضاه متتابعا. وإن أطلق وقال: أصوم شهرا،
فله التفريق والتتابع. فإن فرق، صام ثلاثين يوما. وإن تابع وابتدأ بعد مضي بعض
الشهر الهلالي، فكذلك، وإن ابتدأ في أول الشهر وخرج ناقصا، كفاه.
574

فرع إذا نذر صوم سنة، فله حالان.
أحدهما: أن يعين سنة متوالية، كقوله: أصوم سنة كذا، أو أصوم سنة من
أول شهر كذا، أو من الغد فصيامها يقع متتابعا بحق الوقت، ويصوم رمضان عن
فرضه، ويفطر العيدين، وكذا أيام التشريق، بناء على المذهب: أنه يحرم
صومها، ولا يجب قضاؤها، لأنها غير داخلة في النذر. وإذا أفطرت بحيض أو
نفاس، ففي وجوب القضاء قولان، ويقال: وجهان. أظهرهما: لا يجب كالعيد،
وبه قال الجمهور، وصححه أبو علي الطبري، وابن القطان، والروياني. ولو أفطر
بالمرض، ففيه هذا الخلاف. ورجح ابن كج وجوب القضاء، لأنه لا يصح أن تنذر
صوم أيام الحيض، ويصح أن تنذر صوم أيام المرض. ولو أفطر بالسفر، وجب
القضاء على المذهب، وقيل: على الخلاف، وبه قال ابن كج. وإذا أفطر
بعض الأيام بغير عذر، أثم ولزمه القضاء بلا خلاف. وسواء أفطر بعذر، أم
بغيره، لا يلزمه الاستئناف. وإذا فات صوم السنة، لم يجب التتابع في قضائه
كرمضان.
هذا كله إذا لم يتعرض للتتابع. فإن شرط التتابع مع التعيين للسنة، فعلى
الوجهين السابقين في الشهر. فإن قلنا: تجب رعايته فأفطر بغير عذر، وجب
الاستئناف. وإن أفطرت بالحيض، لم يجب. والافطار بالسفر والمرض، له حكم
الشهرين المتتابعين.
فإن قلنا: لا يبطل التتابع، ففي القضاء الخلاف السابق. ولو قال: لله علي
صوم هذه السنة، تناول السنة الشرعية، وهي من المحرم إلى المحرم فإن كان
مضى بعضها، لم يلزمه إلا صوم الباقي. فإن كان رمضان باقيا، لم يلزمه قضاؤه عن
575

النذر، ولا قضاء العيدين. وفي التشريق والحيض والمرض، ما ذكرنا في جميع
السنة.
الحال الثاني: نذر صوم سنة وأطلق، نظر، إن لم يشرط التتابع،
صام ثلاثمائة وستين يوما، أو اثني عشر شهرا بالهلال، وكل شهر استوعبه بالصوم
فناقصه كالكامل. وإن انكسر شهر، أتمه ثلاثين. وشوال وذو الحجة منكسران
بسبب العيد والتشريق، ولا يلزم التتابع. فإن صام سنة متوالية، قضى رمضان
والعيدين والتشريق. ولا بأس بصوم يوم الشك عن النذر، وتقضي أيام الحيض،
هذا الذي ذكرناه هو المذهب. وحكي وجه أنه لا يخرج عن نذره إلا بثلاثمائة
وستين يوما. ووجه: أنه إذا صام من المحرم إلى المحرم، أو من شهر آخر إلى
مثله، أجزاه، لأنه يقال: صام سنة، ولا يلزمه قضاء رمضان والعيدين والتشريق.
أما إذا شرط التتابع فقال: لله على أن أصوم سنة متتابعا، فيلزمه التتابع، ويصوم
رمضان عن فرضه، ويفطر العيدين والتشريق. وهل يلزمه قضاؤها للنذر؟ فيه
طريقان. المذهب وهو المنصوص، وبه قطع الجمهور: أنه يلزمه القضاء على
الاتصال بآخر المحسوب من السنة. والثاني: في وجوبه وجهان. أحدهما: لا
يلزمه كالسنة المعينة، ثم يحسب بالشهر الهلالي وإن كان ناقصا. وإذا أفطر بلا
عذر، وجب الاستئناف. وإن أفطرت بالحيض لم يجب الاستئناف. وفي السفر
والمرض، ما ذكرنا في الشهرين المتتابعين. ثم في قضاء أيام الحيض والمرض،
الخلاف المذكور في الحال الأول. وإذا نذر صوم شهر بعينه، فقضاء ما يفطره
لمرض أو حيض، على ما سبق في السنة. وكذا لو نذرت صوم يوم معين،
فحاضت، ففي وجوب القضاء القولان. ولو نذرت صوم يوم غير معين،
فشرعت في صوم، فحاضت، لزمها القضاء.
فرع لو نذر صوم ثلاثمائة وستين يوما، لزمه صوم هذا العدد، ولا يجب
576

التتابع. ولو قال: متتابعة، وجب التتابع، ويقضي لرمضان والعيدين والتشريق على
الاتصال. وحكي وجه: أن التتابع يلغو هنا، وهو شاذ.
فصل من شرع في صوم تطوع فنذر إتمامه، لزمه إتمامه على
الصحيح، ويجري الخلاف فيمن نذر أن يتم صوم كل يوم نوى فيه صوم النفل.
وإذا أصبح ممسكا ولم ينو، فهو متمكن من صوم التطوع. فلو نذر أن يصوم، فقد
أطلقوا في لزوم الوفاء قولين بناء على أن النذر ينزل على واجب الشرع، أم على ما
يصح؟ قال الامام: والذي أراه، اللزوم، قال: وقال الأصحاب: لو قال: علي
أن أصلي ركعة واحدة، لم يلزمه إلا ركعة. ولو قال: علي أن أصلي كذا قاعدا،
لزمه القيام عند القدرة إذا حملنا المنذور على واجب الشرع، وإنهم تكلفوا فرقا
بينهما، قال: ولا فرق، فيجب تنزيلهما على الخلاف.
فرع لو نذر صوم بعض يوم، لم ينعقد نذره على الأصح. وعلى الثاني،
ينعقد وعليه صوم يوم كامل. وذكر في التتمة تفريعا على الانعقاد: أنه لو أمسك
بقية نهاره عن النذر، أجزأه إن لم يكن أكل شيئا في أوله. فإن أكل، لا يجزئه على
الصحيح. وقد سبق في كتاب الصوم وجه: أنه إذا نوى التطوع بعد الاكل، أجزأه.
فعلى ذلك الوجه: يجزئه هذا عن نذره. ولو نذر أن يصلي بعض ركعة، ففي
انعقاده وجهان كالصوم. ووجه الانعقاد: أنه قد يؤمر بفعل ما دون ركعة، ويثاب
عليه، وهو ما إذا أدرك الامام بعد الركوع، حتى يدرك به فضيلة الجماعة في الركعة
الأخيرة. قال في التتمة: فعلى هذا، يلزمه ركعة كاملة إن أراد أن يأتي بالمنذور
منفردا. وإن اقتدى بإمام بعد الركوع في الركعة الأخيرة، خرج عن نذره، لأنه أتى
بما التزمه وهو قربة في نفسه. وقطع غيره، بأنه يلزمه ركعة مطلقا. ولو نذر ركوعا،
لزمه ركعة باتفاق المفرعين. ولو نذر تشهدا، ففي التتمة: أنه يأتي بركعة يتشهد
في آخرها، أو يقتدي بمن قعد للتشهد في آخر صلاته، أو يكبر ويسجد سجدة،
577

ويتشهد على طريقة من يقول: سجود التلاوة يقتضي التشهد، فيخرج به عن نذره.
ولو نذر سجدة فردة، فطريقان. في التتمة: أن السجدة قربة، بدليل سجدتي
التلاوة والشكر. فيكون في انعقاد نذره، الوجهان في نذر عيادة المريض، وتشميت
العاطس. فإن قلنا: لا ينعقد، فالحكم كما في الركوع، والطريق الثاني: لا ينعقد
نذر السجدة قطعا، وهو الأصح، وبه قطع الشيخ أبو محمد بناء على الأصح، أنها
ليست قربة بلا سبب.
فرع لو نذر أن يحج هذه السنة. وهو على مائة فرسخ، ولم يبق إلا يوم
واحد، فالمذهب: أنه لا ينعقد نذره، ولا شئ عليه. وقيل: في لزوم كفارة بذلك
خلاف سبق نظائره. وقيل: ينعقد نذره، ويقضي في سنة أخرى.
فرع لو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، ففي انعقاد نذره قولان
أظهرهما عند الأكثرين: انعقاده. فعلى هذا، إن قدم ليلا، فلا صوم على الناذر،
إذ لم يوجد يوم قدومه. ولو عنى باليوم الوقت، فالليل غير قابل للصوم، ويستحب أن
يصوم الغد، أو يوما آخر. وإن قدم نهارا، فللناذر أحوال.
أحدها: أن يكون مفطرا، فيلزمه أن يصوم عن نذره يوما. وهل نقول:
لزمه بالنذر الصوم من أول اليوم، أم من وقت القدوم؟ وجهان. ويقال: قولان.
أصحهما: الأول، وبه قال ابن الحداد. وتظهر فائدة الخلاف في صور.
منها: لو نذر اعتكاف اليوم الذي يقدم فيه فلان، فقدم نصف النهار. إن قلنا
بالأول، اعتكف باقي اليوم وقضى ما مضى. قال الصيدلاني: وله أن يعتكف يوما
مكانه. والظاهر: أنه يتعين. وإن قلنا بالثاني، اعتكف باقي اليوم، وليس عليه
شئ آخر.
578

ومنها: إذا قال لعبده: أنت حر اليوم الذي يقدم فيه فلان، فباعه ضحوة، ثم
قدم فلان في بقية يومه، فإن قلنا بالأول، بان بطلان البيع وحرية العبد، وبه قال ابن
الحداد، وإن قلنا بالثاني، فالبيع صحيح، ولا حرية. هذا إذا كان قدوم فلان بعد
تفرقهما عن المجلس ولزوم العقد. أما لو قدم قبل انقضاء الخيار، فيحصل العتق
على الوجهين، لأنه إذا وجدت الصفة المعلق عليها، والخيار ثابت، حصل العتق.
ولو مات السيد ضحوة، ثم قدم فلان، لم يورث عنه على الوجه الأول، ويورث
على الثاني. ولو أعتقه عن كفارته، ثم قدم، لم يجزه على الأول، ويجزئه على
الثاني.
ومنها: لو قال لزوجته: أنت طالق يوم يقدم فلان، فماتت، أو مات الزوج
في بعض الأيام، ثم قدم فلان في بقية ذلك اليوم، فإن قلنا بالأول، بان أن الموت
بعد الطلاق، فلا توارث بينهما إن كان الطلاق بائنا، وإن قلنا بالثاني، لم يقع
الطلاق. ولو خالعها في صدر النهار، ثم قدم فلان في آخره، فعلى الأول يتبين
بطلان الخلع إن كان الطلاق بائنا، وعلى الثاني، يصح الخلع، ولا يقع الطلاق
المعلق.
الحال الثاني: أن يقدم فلان والناذر صائم عن واجب من قضاء أو نذر، فيتم
ما هو فيه، ويصوم لهذا النذر يوما آخر. واستحب الشافعي رحمه الله، أن يعيد
الصوم الواجب الذي هو فيه، لأنه بان أنه صام يوما مستحق الصوم، لكونه يوم قدوم
فلان. قال في التهذيب: في هذا دليل على أنه إذا نذر صوم يوم بعينه، ثم
صامه عن نذر آخر أو قضاء، ينعقد، ويقضي نذر هذا اليوم.
الحال الثالث: أنه يقدم وهو صائم تطوعا، أو غير صائم، لكنه
ممسك، قال في التهذيب: ويكون ذلك قبل الزوال، فيبنى على أنه يلزمه
الصوم من أول النهار، أم من وقت القدوم؟ إن قلنا بالأول، لزمه صوم يوم آخر،
ويستحب أن يمسك بقية النهار، وإن قلنا بالثاني، ففي التتمة: أنه يبنى على
579

جواز نذر صوم بعض يوم. إن جوزناه، نوى إذا قدم، وكفاه ذلك، ويستحب أن
يعيد يوما كاملا للخروج من الخلاف. وإن لم نجوزه، فلا شئ عليه،
ويستحب أن يقضي. وقال في التهذيب: إن قلنا: يلزم الصوم من وقت
القدوم، فهنا وجهان. أصحهما: يلزمه صوم يوم آخر. والثاني: يلزمه إتمام ما هو
فيه، ويكون أوله تطوعا، وآخره فرضا. كمن دخل في صوم تطوع، ثم نذر
إتمامه، يلزمه الاتمام. هذا إذا كان صائما عن تطوع، وإن لم يكن صائما، نوى،
ويصوم بقية النهار إن كان قبل الزوال. أما إذا تبين للناذر أن فلانا يقدم غدا، فنوى
الصوم من الليل، ففي إجزائه عن نذره وجهان. أصحهما: يجزئه، وبه قطع
الأكثرون، لأنه بنى النية على أصل مظنون. وخص صاحب التتمة الوجهين بما
إذا قلنا: يلزم الصوم من أول اليوم، قال: فإن قلنا باللزوم من وقت القدوم، لم يجزه.
الحال الرابع: أن يقدم فلان يوم العيد، أو في رمضان، فهو كما لو قدم
ليلا.
فصل إذا نذر صوم يوم الاثنين أبدا، لزمه الوفاء، تفريعا على الصحيح:
أن الوقت المعين للصوم يتعين. ولو نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان أبدا، فقدم
يوم الاثنين، ففي انعقاد نذر ذلك اليوم الخلاف السابق، وسائر الأثانين تلزمه كما
لو نذر صوم الأثانين. ولا يجب قضاء الأثانين الواقعة في رمضان، لكن لو وقع فيه
خمسة أثانين، ففي قضاء الخامس قولان - وكذا لو وقع يوم عيد في يوم
الاثنين - أظهرهما: لا قضاء كالأثانين في رمضان، وأيام التشريق كالعيد، بناء على
المذهب: أنها لا تقبل الصوم. ولو صدر هذا النذر من امرأة، وأفطرت في بعض
الأثانين بحيض أو نفاس، فالمذهب: أن القضاء على القولين كالعيد، وبه قطع
580

الأكثرون. وقيل، يجب قطعا، لان واجبه شرعا يقضى، فكذا بالنذر. ثم الطريقان
فيما إذا لم يكن لها عادة غالبة، فإن كانت، فعدم القضاء فيما يقع في عادتها أظهر،
وقطع به بعضهم. وقيل: خلافه، لان العادة قد تختلف. ولو أفطر الناذر بعض
الأثانين بالمرض، فالمذهب: وجوب القضاء، وبه قطع قاطعون، وقيل: هو على
الخلاف فيمن نذر سنة بعينها. ولو لزمه صوم شهرين متتابعين عن كفارة، قدم صوم
الكفارة على الأثانين، سواء تقدم وجوب الكفارة، أو تأخر، لأنه يمكن قضاء
الأثانين. ولو عكس، لم يتمكن من الكفارة، لفوات التتابع. ثم إن لزمت الكفارة
بعد نذر الأثانين، قضى الأثانين الواقعة في الشهرين، لأنه أدخل على نفسه صوم
الشهرين بعد النذر وإن لزمت الكفارة قبله، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما
عند صاحب التهذيب وطائفة من العراقيين: يجب القضاء، ويحكى عن رواية
الربيع. والثاني: لا، وهو الأصح عند القاضيين أبي الطيب، وابن كج، وإمام
الحرمين، والغزالي.
قلت: الثاني: أصح. والله أعلم.
ولو نذر أن يصوم شهرا متتابعا، أو شهرين، أو أسبوعا، ثم نذر الأثانين، فإن
لم يعين الشهر، أو الشهرين، فهو كما لو لزمته الكفارة، ثم نذر الأثانين. وإن
عين، ففي التتمة: أنه يبنى على أنه إذا عين وقتا للصوم، هل يجوز أن يصوم فيه
عن قضاء، أو نذر آخر؟ وقد سبق فيه الخلاف. فإن جوزناه، فهو كما لو لم يعين.
وإن لم نجوزه، فحكم ذلك الشهر حكم رمضان، وبهذا قطع صاحب التهذيب.
وقال أيضا: إذا صادف نذران زمانا معينا، فيحتمل أن يقال: لا ينعقد النذر الثان،
وطرد هذا الاحتمال فيما إذا قال: إن قدم زيد، فلله علي أن أصوم اليوم التالي
لقدومه، وإن قدم عمرو، فلله علي أن أصوم أول خميس بعد قدومه، فقدما معا يوم
الأربعاء. ونقل أنه يصوم عن أول نذر نذره، ويقضي يوما للنذر الثاني. وفي تعليق
الشيخ أبي حامد وغيره: أنه لو نذر أن يصوم أول خميس بعد شفاء مريضه، ونذر أن
يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان، فشفي المريض، وأصبح الناذر في أول الخميس
581

صائما، فقدم فيه فلان، يقع صوما عما نواه، والنذر للآخر. فإن قلنا: لا ينعقد،
فلا شئ عليه. وإن قلنا: ينعقد، قضى عنه يوما آخر.
فصل إذا نذر صوم الدهر، انعقد نذره، ويستثنى عنه أيام العيد، وأيام
التشريق، وقضاء رمضان. وكذا لو كان عليه كفارة حال النذر. فلو لزمه كفارة بعد
النذر، فالمذهب: أنه يصوم عنها ويفدي عن النذر. وقال في التتمة: يبنى على
أنه يسلك بالنذر مسلك واجب الشرع، أم جائزة؟ إن قلنا بالأول، لم يصم عن
الكفارة، ويصير كالعاجز عن جميع الخصال، وإن قلنا بالثاني، صام عن الكفارة.
ثم إن لزمت بسبب هو فيه مختار، لزمه الفدية، وإلا، فلا. ولو أفطر في رمضان
بعذر أو غيره، لزمه القضاء، ويقدمه على النذر، كما يقدم الأداء. ثم أن أفطر
بعذر، فلا فدية. وإن تعدى، لزمته. ولو أفطر يوما، فلا سبيل إلى قضائه،
لاستغراق العمر. ثم إن كان بعذر مرض، أو سفر، فلا فدية. وإن تعدى، لزمته.
قال الامام: ولو نوى في بعض الأيام قضاء يوم أفطره متعديا، فالوجه: أنه يصح وإن
كان الواجب غير ما فعل، ثم يلزمه المد لما ترك من الأداء في ذلك اليوم. وينبغي أن
يكون في صحته الخلاف السابق في أن الزمن المعين لصوم النذر، هل يصح فيه
غيره لان أيام عمره متعينة للنذر؟ قال الامام: وهل يجوز أن يصوم عن المفطر
المتعدي وليه في حياته تفريعا على أنه يصوم عن الميت وليه؟ الظاهر: جوازه،
لتعذر القضاء منه. وفيه احتمال من جهة أنه قد يطرأ عذر يجوز ترك الصوم له،
ويتصور تكلف القضاء منه، وقد يستفاد مما ذكره الامام: أنه إذا سافر، قضى ما
أفطر فيه متعديا، وينساق النظر إلى أنه هل يلزمه أن يسافر ليقضى؟
فصل لو نذر صوم يوم العيد، لم ينعقد، كما لو نذرت صوم يوم
الحيض. ولو نذر صوم أيام التشريق، لم ينعقد على المذهب. وإذا جوزنا على
وجه صومها لغير المتمتع، ففي انعقادها وجهان، كنذر الصلاة في وقت الكراهة.
والأصح: أنه لا ينعقد نذر صوم يوم الشك، ولا الصلاة في الأوقات المكروهة.
النوع الثاني من الملتزمات: الحج، والعمرة.
الحج والعمرة، يلزمان بالنذر، فإذا نذرهما ماشيا، فهل يلزمه المشي، أم له
الركوب؟ فيه قولان. أظهرهما: الأول، وهما مبنيان على أن الحج ماشيا أفضل،
582

أم راكبا؟ فيه ثلاثة أقوال. أظهرها: المشي أفضل. والثاني: الركوب أفضل.
والثالث: هما سواء. وقال ابن سريج: هما سواء ما لم يحرم. فإذا أحرم، فالمشي
أفضل. قال الغزالي في الاحياء: من سهل عليه المشي، فهو أفضل في حقه،
ومن ضعف وساء خلقه لو مشى، فالركوب أفضل. فان قلنا المشي أفضل لزمه النذر وان قلنا الركوب أو سوينا لم
يلزمه المشي بالنذر
قلت: الصواب: أن الركوب أفضل وإن كان الأظهر لزوم المشي بالنذر، لأنه مقصود. والله أعلم. ويتفرع على لزوم المشي مسائل.
إحداها: لو صرح بابتداء المشي من دويرة أهله إلى الفراغ، هل يلزمه المشي
قبل الاحرام؟ وجهان. أصحهما: نعم، فلو أطلق الحج ماشيا، فإن قلنا: لا
يلزمه المشي من دويرة أهله مع التصريح به، فهنا أولى، وإلا، فوجهان.
أصحهما: يلزمه من وقت الاحرام، سواء أحرم من الميقات أو قبله، وبهذا قطع
جماعة. وبنى صاحب التتمة الوجهين على أنه من أين يلزمه الاحرام؟ فعن أبي
إسحاق: من دويرة أهله. وعن غيره: من الميقات. فعلى الأول: يمشي من دويرة
أهله. وعلى الثاني: من الميقات. ولو قال: أمشي حاجا، فالصحيح أنه كقوله:
أحج ماشيا. ومقتضى كل واحد منهما، اقتران الحج والمشي. وفيه (وجه) أن قوله:
أمشي حاجا، يقتضي أن يمشي من مخرجه إلى الحج.
الثانية: في نهاية المشي طريقان. المذهب: أنه يلزمه المشي حتى يتحلل
التحللين، وبهذا قطع الجمهور، وهو المنصوص، وله الركوب بعد التحللين وإن
بقي عليه الرمي أيام منى. والطريق الثاني: فيه وجهان حكاهما الامام. أحدهما:
هذا. والثاني: له الركوب بعد التحلل الأول. وأما العمرة، فليس لها إلا بحلل
واحد، فيمشي حتى يفرغ منها. والقياس: أنه إذا كان يتردد في خلال أعمال النسك
لغرض تجارة وغيرها، فله أن يركب، ولم يذكروه.
583

الثالثة: لو فاته الحج، لزمه القضاء ماشيا. وإذا تحلل في سنة الفوات بأعمال
عمرة، هل يلزمه المشي في تلك الأعمال؟ قولان: أظهرهما عند الأكثرين: لا
يلزمه، لأنه خرج بالفوات عن أن يجزئه عن نذره. ولو فسد الحج بعد الشروع فيه،
فهل يجب المشي في المضي في فاسده؟ فيه القولان.
الرابعة: لو ترك المشي بعذر، بأن عجز، فحج راكبا، وقع حجه عن
النذر. وهل عليه جبر المشي الفائت بإراقة الدم؟ قولان. أحدهما: لا، كما لو
نذر الصلاة قائما، فعجز، صلى قاعدا ولا شئ عليه. وأظهرهما: أعم. فعلى
هذا، يلزمه شاة على المشهور. وفي قول: بدنة، وإن ترك المشي مع القدرة،
فحج راكبا، فقد أساء. وفيه قولان: القديم. لا تبرأ ذمته من حجه، بل عليه
القضاء، لأنه لم يأت به على صفته الملتزمة. والأظهر: أنه تبرأ ذمته. فعلى هذا،
هل يلزمه الدم؟ قولان، أو وجهان. أظهرهما: نعم. وهل هو شاة، أم بدنة؟ فيه
الخلاف السابق.
فرع من نذر حجا، استحب أن يبادر إليه في أول سني الامكان. فإن مات
قبل الامكان، فلا شئ عليه كحجة الاسلام. وإن مات بعده، أحج عنه من ماله؟
وإن عين في نذره سنة، تعينت على الصحيح كالصوم، فلو حج قبلها، لم يجزئه.
ولو قال: أحج في عامي هذا، وهو على مسافة يمكن الحج منها في ذلك العام،
لزمه الوفاء تفريعا على الصحيح. فإن لم يفعل مع الامكان، صار دينا في ذمته
يقضيه بنفسه. فإن مات ولم يقض، أحج عنه من ماله. وإن لم يمكنه، قال في
التتمة: إن كان مريضا وقت خروج الناس، ولم يتمكن من الخروج معهم، أو
لم يجد رفقة، وكان الطريق مخوفا لا يتأتى للآحاد سلوكه، فلا قضاء عليه، لان
المنذور حج في تلك السنة، ولم يقدر عليه، وكما لا تستقر حجة الاسلام والحالة
هذه. ولو صده عدو أو سلطان بعد ما أحرم حتى مضى العام، قال الامام: إذا امتنع
عليه الاحرام للعدو، فالمنصوص: أنه لا قضاء. وخرج ابن سريج قولا: أنه
يجب، وبه قال المزني. كما لو قال: أصوم غدا، فأغمي عليه حتى مضى الغد،
يجب القضاء. والمذهب: الأول. ولو منعه عدو أو سلطان وحده، أو منعه رب
الدين وهو لا يقدر على وفائه، لم يلزمه القضاء على الأظهر. ولو منعه المرض بعد
الاحرام، فالمذهب وجوب القضاء، وبه قطع الجمهور، ولا ينزل منزلة الصد،
584

لأنه يتحلل بالصد ولا يتحلل بالمرض. وحكى الامام عن الأصحاب، تخريجه على
الخلاف في الصد، وكذلك حكى الخلاف فيما إذا امتنع الحج في ذلك العام بعد
الاستطاعة. وإذا رأيت كتب الأصحاب، وجدتها متفقة على أن الحجة المنذورة في
ذلك، كحجة الاسلام، إن اجتمعت في العام الذي عينه شرائط فرض الحج،
وجب الوفاء واستقر في الذمة، وإلا، فلا. والنسيان وخطأ الطريق والضلال فيه،
كالمرض. ولو كان الناذر معضوبا وقت النذر، أو طرأ العضب ولم يجد المال
حتى مضت السنة المعينة، فلا قضاء عليه. ولو نذر صلاة، أو صوما أو اعتكافا في
وقت معين، فمنعه عما نذر عدو أو سلطان، لزمه القضاء، بخلاف الحج، لان
الواجب بالنذر، كالواجب بالشرع، وقد يجب الصوم والصلاة مع العجز، فلزما
بالنذر. والحج لا يجب إلا بالاستطاعة.
فرع إذا نذر حجات كثيرة، انعقد نذره، ويأتي بهن على توالي السنين
بشرط الامكان. فإن أخر، استقر في ذمته ما أخره. فإذا نذر عشر حجات، ومات
بعد خمس سنين أمكنه الحج فيهن، قضي من ماله خمس حجات. ولو نذرها
المعضوب، ومات بعد سنة وكان يمكنه أن يحج عن نفسه الحجج العشر في تلك
السنة، قضيت من ماله. وإن لم يف ماله إلا بحجتين أو ثلاث، لم يستقر إلا
المقدور عليه.
فرع من نذر الحج، لزمه أن يحج بنفسه، إلا أن يكون معضوبا فيحج عن
نفسه.
فرع لو نذر الحج راكبا، فإن قلنا: المشي أفضل، أو سوينا بينهما، فإن شاء مشى، وإن
شاء ركب. وإن قلنا: الركوب أفضل، لزمه الوفاء. فإن مشى،
فعليه دم. وقال صاحب التهذيب: عندي أنه لا دم، لأنه عدل إلى أشق
الامرين. ولو نذر أن يحج حافيا، فله لبس النعلين، ولا شئ عليه.
فرع يخرج الناذر عن حج النذر بالافراد، وبالتمتع، وبالقران. وإذا نذر
القران، فقد التزم النسكين. فإن أتى بهما مفردين، فقد أتى بالأفضل، وخرج عن
585

نذره. وإن تمتع، فكذلك وإن نذر الحج والعمرة مفردين، فقرن، أو تمتع وقلنا
بالمذهب: إن الافراد أفضل، فهو كما لو نذر الحج ماشيا وقلنا: المشي أفضل،
فحج راكبا.
فرع من نذر أن يحج، وعليه حجة الاسلام، لزمه للنذر حجة أخرى،
كما لو نذر أن يصلي، وعليه صلاة الظهر، يلزمه صلاة أخرى.
النوع الثالث: إتيان المساجد. فإذا قال: لله علي أن أمشي إلى بيت الله
الحرام، أو آتيه، أو أمشي إلى البيت الحرام، لزمه إتيانه على المذهب.
وقيل: في لزومه قولان. ولو قال: أمشي إلى بيت الله، أو آتيه، ولم يقل:
الحرام، فوجهان، أو قولان. أحدهما: يحمل على البيت الحرام.
وأصحهما: لا ينعقد نذره، إلا أن ينوي البيت الحرام. ولو قال: أمشي إلى الحرام، أو المسجد
الحرام، أو إلى مكة، أو ذكر بقعة أخرى من بقاع الحرم،
كالصفا، والمروة، ومسجد الخيف، ومنى، ومزدلفة، ومقام إبراهيم، وقبة
زمزم، وغيرها، فهو كما لو قال: إلى بيت الله الحرام. حتى لو قال: آتي دار أبي
جهل، أو دار الخيزران، كان الحكم كذلك، لشمول حرمة الحرم في تنفير الصيد
وغيره. ولو نذر أن يأتي عرفات، فإن أراد التزام الحج وعبر عنه بشهود عرفة، أو
نوى أن يأتيها محرما، انعقد نذره بالحج. فإن لم ينو ذلك، لم ينعقد نذره، لان
عرفات من الحل، فهو كبلد آخر. وعن ابن أبي هريرة: أنه إن نذر إتيان عرفات يوم
عرفات، لزمه أن يأتيها حاجا. وقيد في التتمة هذا الوجه بما إذا قال ذلك يوم
عرفة بعد الزوال. وعن القاضي حسين: الاكتفاء بأن يحصل له شهودها يوم عرفة،
وربما قال بهذا الجواب على الاطلاق. والصحيح، ما قدمناه. ولو قال: آتي مر
586

الظهران، أو بقعة أخرى قريبا من الحرم، لم يلزمه شئ قطعا، وسواء في لزوم الاتيان، لفظ المشي،
والآتيان، والانتقال، والذهاب، والمضي، والمصير،
والمسير، ونحوها. ولو نذر أن يمس بثوبه حطيم الكعبة، فهو كما لو نوى
إتيانها. ولو نذر أن يأتي مسجد المدينة، أو المسجد الأقصى، ففي لزوم إتيانهما
قولان. قال في البويطي: يلزم، وقال في الام: لا يلزم، ويلغو النذر.
وهذا هو الأظهر عند العراقيين والروياني وغيرهم.
التفريع: إن قلنا بالمذهب: إنه يلزم إتيان المسجد الحرام بالتزامه، قال
الصيدلاني وغيره: إن حملنا النذر على الواجب شرعا، لزمه حج أو عمرة، وهذا
نص الشافعي رحمه الله في المسألة، وهو المذهب. وإن قلنا: لا يحمل على
الواجب، بني على أصل آخر، وهو أن دخول مكة هل يقتضي الاحرام بحج أو
عمرة، أم لا؟ إن قلنا: نعم، فإذا أتاه، لزمه حج أو عمرة. وإن قلنا: لا، فهو
كمسجد المدينة والأقصى، ففيه القولان في أنه هل يلزم إتيانه؟ وإذا لزم، فتفريعه
كتفريع المسجدين. أما إذا أوجبنا إتيان مسجد المدينة والأقصى، فهل يلزمه مع
الاتيان شئ آخر؟ وجهان. أحدهما: لا، إذ لم يلتزمه. وأصحهما: نعم، إذ
الاتيان المجرد ليس بقربة. فعلى هذا فيما يلزمه أوجه. أحدها: يتعين أن يصلي
في المسجد الذي أتاه. قال الامام: الذي أراه أنه لا يلزمه ركعتان، بل يكفيه ركعة
قولا واحدا. وذكر ابن الصباغ والأكثرون: أنه يصلي ركعتين. قال ابن القطان:
وهل يكفي أن يصلي فريضة، أم لا بد من صلاة زائدة؟ وجهان بناء على وجهين
فيمن نذر أن يعتكف شهرا بصوم، فهل يكفيه أن يعتكف في رمضان؟ والوجه
الثاني: يتعين أنه يعتكف فيه ولو ساعة، لان الاعتكاف أخص القربات بالمسجد.
والثالث وهو الأصح: يتخير بينهما، وبه قطع في التهذيب. وقال الشيخ أبو
علي: يكفي في مسجد المدينة أن يزور قبر النبي (ص). وتوقف فيه الامام من جهة أن
الزيارة لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه. قال: وقياسه أنه لو تصدق في المسجد، أو
587

صام يوما، كفاه. والظاهر: الاكتفاء بالزيارة. وإذا نزلنا المسجد الحرام منزلة
المسجدين، وأوجبنا ضم قربة إلى الاتيان، ففي تلك القربة أوجه. أحدها:
الصلاة. والثاني: الحج أو العمرة. والثالث: يتخير. قال الامام: ولو قيل:
يكفي الطواف، لم يبعد. ثم مهما قال: أمشي إلى بيت الله الحرام، لم يكن
له الركوب على الأصح، بل يلزمه المشي كما سبق فيما إذا قال: أحج ماشيا.
والوجه الآخر: يمشي من الميقات. وذكر القاضي أبو الطيب وكثير من العراقيين:
أنه لا خلاف بين الأصحاب أنه يمشي من دويرة أهله. لكن يحرم من دويرة أهله، أم
من الميقات؟ وجهان. قال أبو إسحاق: من دويرة أهله. وقال صاحب
الافصاح: من الميقات، وهو الأصح. ولو قال: أمشي إلى مسجد المدينة، أو
الأقصى، وأوجبنا الاتيان، ففي وجوب المشي وجهان. أصحهما: الوجوب. ولو
كان لفظ الناذر الاتيان، أو الذهاب، أو غيرهما مما سوى المشي، فله الركوب بلا
خلاف. وأما إذا نذر إتيان مسجد آخر سوى الثلاثة، فلا ينعقد نذره، إذ ليس في
قصدها قربة، وقد قال (ص): لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد...
الحديث. قال الامام: كان شيخي يفتي بالمنع من شد الرحال إلى غير هذه
588

المساجد الثلاثة، وربما كان يقول: يحرم. قال: والظاهر أنه ليس فيه تحريم ولا
كراهة، وبه قال الشيخ أبو علي،
ومقصود الحديث، تخصيص القربة بقصد المساجد الثلاثة. قال الشيخ أبو علي
واعلم أنه سبق في الاعتكاف، أن من عين بنذره مسجد المدينة، أو الأقصى
للاعتكاف، تعين على الأظهر. والفرق: أن الاعتكاف عبادة في نفسه، وهو
مخصوص بالمسجد، فإذا كان للمسجد فضل، فكأنه التزم فضيلة في العبادة
الملتزمة، والآتيان بخلافه، ويوضحه: أنه لا خلاف في أنه لو نذر إتيان سائر
المساجد، لم يلزمه، وفي مثله في الاعتكاف خلاف.
فرع إذا نذر الصلاة في موضع معين، لزمه الصلاة لا محالة، ثم إن عين
المسجد الحرام، تعين للصلاة الملتزمة. وإن عين مسجد المدينة أو الأقصى،
فطريقان. قال الأكثرون: في تعيينه القولان في لزوم الاتيان. وقطع المراوزة
بالتعين، والتعيين هنا أرجح كالاعتكاف، وإن عين سائر المساجد والمواضع، لم
يتعين. وإذا عين مسجد المدينة أو الأقصى للصلاة، وقلنا بالتعيين، فصلى في
المسجد الحرام، خرج عن نذره على الأصح، بخلاف العكس. وهل تقوم الصلاة
في أحدهما مقام الصلاة في الآخر؟ وجهان.
قلت: فيه وجه ثالث: أنه يقوم مسجد المدينة مقام الأقصى، دون عكسه.
589

وهذا هو الأصح، ونص عليه في البويطي. والله أعلم.
وذكر الامام، أنه لو قال: أصلي في مسجد المدينة، فصلى في غيره ألف
صلاة، لم يخرج عن نذره، كما لو نذر ألف صلاة، لا يخرج عن نذره بصلاة واحدة
في مسجد المدينة وإن شيخه كان يقول: لو نذر صلاة في الكعبة، فصلى في
أطراف المسجد، خرج عن نذره.
فرع قد سبق أن المذهب في نذر المشي إلى بيت الله الحرام، أنه يجب
قصده بالحج أو العمرة. فلو قال في نذره: أمشي إلى بيت الله الحرام بلا حج ولا
عمرة، فوجهان. أحدهما: ينعقد نذره ويلغو قوله: بلا حج ولا عمرة. والثاني:
لا ينعقد، ثم إذا أتاه، فإن أوجبنا إحراما لدخول مكة، لزمه حج أو عمرة. وإن
قلنا: لا، فعلى ما ذكرنا في مسجد المدينة والأقصى.
قلت: أصحهما: ينعقد. والله أعلم.
فرع لو قال: أصلي الفرائض في المسجد. قال في الوسيط: يلزمه
إذا قلنا: صفات الفرائض تفرد بالالتزام.
فرع قال القاضي ابن كج: إذا نذر أن يزور قبر النبي (ص)، فعندي أنه
يلزمه الوفاء وجها واحدا. ولو نذر أن يزور قبر غيره، فوجهان.
فرع قال في التتمة: لو قال: أمشي، ونوى بقلبه حاجا أو معتمرا،
انعقد النذر إلى ما نوى، وإن نوى إلى بيت الله الحرام، جعل ما نواه كأنه تلفظ
به.
النوع الرابع: الهدايا والضحايا. إذا نذر ذبح حيوان، ولم يتعرض لهدي ولا
أضحية، بأن قال: لله علي أن أذبح هذه البقرة، أو أنحر هذه البدنة، فإن قال مع
ذلك: وأتصدق بلحمها، أو نواه، لزمه الذبح والتصدق. وإن لم يقله ولا نواه،
فوجهان. أحدهما: ينعقد نذره، ويلزمه الذبح والتصدق. وأصحهما: لا ينعقد.
ولو نذر أن يهدي بدنة أو شاة إلى مكة، أو أن يتقرب بسوقها إليها ويذبحها ويفرق
لحمها على فقرائها، لزمه الوفاء، ولو لم يتعرض للذبح وتفرقة اللحم، لزمه الذبح
بها أيضا. وفي تفرقة اللحم بها وجهان. أحدهما: لا تجب تفرقته بها إلا أن ينوي،
590

بل له أن يفرق في موضع آخر. وأصحهما: الوجوب. ولو نذر أن يذبح خارج
الحرم ويفرق اللحم في الحرم على أهله. قال في التتمة: الذبح خارج الحرم لا
قربة فيه، فيذبح حيث شاء، ويلزمه تفرقة اللحم، وكأنه نذر أن يهدي إلى مكة
لحما. ولو نذر أن يذبح بمكة ويفرق اللحم على فقراء بلد آخر، وفى بما التزم.
ولو قال: لله علي أن أنحر أو أذبح بمكة، ولم يتعرض للفظ القربة
والتضحية، ولا التصدق باللحم، ففي انعقاد نذره وجهان. أصحهما: الانعقاد،
وبه قطع الجمهور. وعلى هذا في وجوب التصدق باللحم على فقرائها الوجهان
السابقان. ولو نذر الذبح بأفضل بلد، كان كنذر الذبح بمكة، فإنها أفضل البلاد.
ولو نذر الذبح أو النحر ببلدة أخرى ولم يقل مع ذلك: وأتصدق على فقرائها،
ولا نواه، فوجهان، أو قولان. أصحهما وهو نصه الام: لا ينعقد. والثاني:
ينعقد. فإن قلنا: ينعقد لو تلفظ مع ذلك بالتصدق أو نواه، فهل يتعين التصدق
باللحم، على فقرائها، أم يجوز نقله إلى غيرهم؟ فيه طريقان. المذهب: أنهم
يتعينون. وقيل: فيه خلاف مأخوذ من نقل الصدقة. فإن قلنا: لا يتعينون، لم
يجب الذبح بتلك البلدة، بخلاف مكة، فإنها محل ذبح الهدايا. وإن قلنا:
يتعينون، فوجهان. أحدهما: لا يحب الذبح بها، بل لو ذبح خارجها ونقل اللحم
إليها طريا، جاز، وبهذا قطع صاحب التهذيب وجماعة. والثاني: تتعين إراقة
الدم بها كمكة، وبهذا قطع العراقيون وحكوه عن نصه في الام. ولو قال:
أضحي ببلد كذا، وأفرق اللحم على أهلها، انعقد نذره، ويغني ذكر التصدق،
ونيته. وجعل الامام وجوب التفرقة على أهلها وجوب الذبح بها على الخلاف
السابق. قال: ولو اقتصر على قوله: أضحي بها، فهل يتضمن ذلك تخصيص
التفرقة بهم؟ وجهان. الصحيح الذي جرى عليه الأئمة: أنه تجب التفرقة والذبح
بها. وفي فتاوى القفال: أنه لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق
بعشرة على فلان، فشفاه الله تعالى، لزمه التصدق عليه. فإن لم يقبل، لم يلزمه
شئ. وهل لفلان مطالبته بالتصدق بعد الشفاء؟ يحتمل أن يقال: نعم، كما لو نذر
إعتاق عبد معين إن شفي، فشفي، له المطالبة بالاعتاق، وكما لو وجبت الزكاة
والمستحقون في البلد محصورون، لهم المطالبة.
فصل إذا قال: لله علي أن أضحي ببدنة أو أهدي بدنة. قال الامام:
591

البدنة في اللغة: الإبل، ثم الشرع قد يقيم مقامها بقرة، أو سبعا من الغنم. وقال
الشيخ أبو حامد وجماعة: اسم البدنة يقع على الإبل والبقر والغنم جميعا. ثم له
حالان.
أحدهما: أن يطلق التزام البدنة، فله إخراجها من الإبل. وهل له العدول إلى
بقرة أو سبع من الغنم؟ فيه ثلاثة أوجه. أحدها: لا. والثاني: نعم. والصحيح
المنصوص: أنه إن وجدت الإبل، لم يجز العدول، وإلا جاز.
الحال الثاني: أن يقيد فيقول: علي أن أضحي ببدنة من الإبل أو ينويها،
فلا يجزئه غير الإبل إذا وجدت بلا خلاف، فإن عدمت، فوجهان. أحدهما: يصبر
إلى أن يجدها ولا يجزئه غيرها. والصحيح المنصوص: أن البقرة تجزئه بالقيمة. فإن كانت قيمة البقرة دون قيمة البدنة من الإبل، فعليه إخراج الفاضل. وفي وجه:
لا تعتبر القيمة كما في حالة الاطلاق. والصحيح: الأول.
واختلفوا في كيفية إخراج الفاضل، ففي الكافي للقاضي الروياني: أنه
يشتري به بقرة أخرى إن أمكن، وإلا، فهل يشتري به شقصا، أو يتصدق به على
المساكين؟ وجهان. وفي تعليق الشيخ أبي حامد: أنه يتصدق به. وقال
المتولي: يشارك إنسانا في بدنة أو بقرة، أو يشتري به شاة. وإذا عدل إلى الغنم في
هذه الحالة، اعتبرت القيمة أيضا. ثم نقل الروياني في جمع الجوامع: أنه إذا
لم يجد الإبل في حالة التقييد، يتخير بين البقرة والغنم، لأن الاعتبار بالقيمة.
والذي ذكره ابن كج والمتولي: أنه لا يعدل إلى الغنم مع القدرة على البقرة، لأنها
أقرب. ولو وجد ثلاث شياه بقيمة البدنة، فوجهان. أصحهما: لا تجزئه، بل عليه
ان يتم السبع من عنده. والثاني: تجزئه لوفائهن بالقيمة، قاله أبو الحسين النسوي
من أصحابنا شيخ كان في زمن أبي إسحاق وابن خيران. ولو نذر شاة، فجعل بدلها
بدنة، جاز. وهل يكون الكل فرضا؟ وجهان.
فرع في الصفات المعتبرة في الحيوان المنذور مطلقا فإذا قال: لله
علي أن أهدي بعيرا، أو بقرة، أو شاة، فهل يشترط فيه السن المجزئ في
الأضحية والسلامة من العيوب؟ قولان بناء على أن مطلق النذر يحمل على أقل ما
وجب من ذلك الجنس، أو على أقل ما يتقرب به. والأول: أظهر. ولو قال:
592

أضحي ببعير، أو بقرة، ففيه مثل هذا الخلاف. قال الامام: وبالاتفاق لا يجزئ
الفصيل، لأنه لا يسمى بعيرا، ولا العجل إذا ذكر البقرة، ولا السخلة إذا ذكر
الشاة. ولو قال: أضحي ببدنة أو أهدي بدنة، جرى الخلاف. ورأي الامام هذه
الصورة أولى باشتراط السن والسلامة. ولو قال: لله علي هدي، أو أن أهدي ولم
يسم شيئا، ففيه القولان إن حملنا على أقل ما يتقرب به من جنسه، خرج عن نذره
بكل منحة حتى الدجاجة والبيضة وكل ما يتمول، لوقوع الاسم عليه. وعلى هذا،
فالصحيح: أنه لا يجب إيصاله مكة، وصرفه إلى فقرائها، بل يجوز التصدق به
على غيرهم. وينسب هذا القول إلى الاملاء والقديم. وإن حملنا على أقل ما
يجب من جنسه، حمل على ما يجزئ في الأضحية، وينسب هذا إلى الجديد.
وعلى هذا يجب إيصاله مكة، فإن محل الهدي الحرم. وفيه وجه ضعيف: أنه لا
يجب إلا أن يصرح به. فرع ولو نذر ولو قال: علي أن أهدي الهدي، حمل على المعهود
الشرعي بلا خلاف.
فرع ولو نذر أن يهدي مالا معينا، وجب صرفه إلى مساكين الحرم. وفيه
وجه ضعيف: أنهم لا يتعينون. ثم ينظر، إن كان المعين من النعم، بأن قال:
أهدي هذه البدنة أو الشاة، وجب التصدق بها بعد الذبح، ولا يجوز التصدق بها
حية، لان في ذبحها قربة، ويجب الذبح في الحرم على الأصح. وعلى الثاني:
يجوز أن يذبح خارج الحرم، بشرط أن ينقل اللحم إليه قبل أن يتغير. وإن كان من
غير النعم وتيسر نقله إلى الحرم، بأن قال: أهدي هذه الظبية، أو الطائر، أو
الحمار، أو الثوب، وجب حمله إلى الحرم. وأطلق مطلقون: أن مؤنة النقل على
الناذر، فإن لم يكن له مال، بيع بعضه لنقل الباقي. وأستحسن ما حكي عن
القفال: أنه إن قال: أهدي هذا، فالمؤنة عليه، وإن قال: جعلته هديا، فالمؤنة
فيه، يباع بعضه. لكن مقتضى جعله هديا، أن يوصل كله الحرم، فيلتزم مؤنته،
كما لو قال: أهدي. ثم إذا بلغ الحرم، فالصحيح: أنه يجب صرفه إلى مساكين
الحرم. لكن لو نوى صرفه إلى تطييب الكعبة، أو جعل الثوب سترا لها، أو قربة
أخرى هناك، صرفه إلى ما نوى. وفيه وجه: أنه وإن أطلق، فله صرفه إلى ما
يرى. ووجه أضعف منه: أن الثوب الصالح للستر، يحمل عليه عند الاطلاق. قال
الامام: قياس المذهب والذي صرح به الأئمة: أن ذلك المال المعين، يمتنع بيعه
593

وتفرقة ثمنه، بل يتصدق بعينه، وينزل تعيينه منزل تعيين الأضحية والشاة في الزكاة،
فيتصدق بالظبية والطائر وما في معناهما حيا، ولا يذبحه، إذ لا قربة في ذبحه. ولو
ذبحه فنقصت القيمة، تصدق باللحم وغرم ما نقص. وفي التتمة وجه آخر
ضعيف: أنه يذبح. وطردهما فيما إذا أطلق ذكر الحيوان وقلنا: لا يشترط أن يهدي
ما يجزئ في الأضحية. أما إذا نذر إهداء بعير معيب، فهل يذبحه؟ وجهان.
أحدهما: نعم، نظرا إلى جنسه. وأصحهما: لا، لأنه لا يصلح للتضحية
كالظبية. أما إذا كان المال المعين مما لا يتيسر نقله، كالدار، والأرض، والشجر،
وحجر الرحى، فيباع وينقل ثمنه فيتصدق به على مساكين الحرم. قال في
التهذيب: ويتولى الناذر البيع والنقل بنفسه.
فرع في مسائل من الام لو قال: أنا أهدي هذه الشاة نذرا، لزمه أن
يهديها، إلا أن تكون نيته: إني سأحدث نذرا، أو سأهديها. ولو نذر أن يهدي
هديا، ونوى بهيمة، أو جديا، أو رضيعا، أجزأه. والقولان السابقان فيما إذا أطلق
نذر الهدي، ولم ينو شيئا. ولو نذر أن يهدي شاة عوراء، أو عمياء، أو ما لا يجوز
التضحية به، أهداه، ولو أهدى تاما، كان أفضل.
فصل في مسائل منثورة إحداها: إذا نذر الصوم في بلد، لم يتعين،
بل له أن يصوم حيث شاء، سواء عين مكة أو غيرها. وفي وجه شاذ: إذا عين
الحرم، اختص به.
الثانية: ستر الكعبة وتطييبها من القربات، سواء سترها بالحرير وغيره. ولو
نذر سترها وتطييبها، صح نذره. وإذا نذر أن يجعل ما يهديه في رتاج الكعبة
وطيبها، قال إبراهيم المروذي: ينقله إليها ويسلمه إلى القيم ليصرفه في الجهة
المذكورة، إلا أن يكون ند نص في نذره أنه يتولى ذلك بنفسه. ولو نذر تطييب
مسجد المدينة، أو الأقصى، أو غيرهما من المساجد، ففيه تردد للامام. ومال الإمام
إلى تخصيصه بالكعبة، والمسجد الحرام.
الثالثة: نقل القاضي ابن كج وجهين فيمن قال: إن شفى الله مريضي، فلله
علي أن أعجل زكاة مالي، هل يصح نذره؟ ووجهين فيمن قال: إن شفى الله
مريضي، فلله علي أن أذبح عن ولدي، هل يلزمه الذبح عن ولده، لان الذبح عن
594

الأولاد مما يتقرب به؟ ووجهين فيما إذا قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن
أذبح ابني، فإن لم يجز فشاة مكانه، هل يلزمه ذبح شاة؟ ووجهين فيما إذا نذر
النصراني أن يصلي أو يصوم، ثم أسلم، هل يلزمه أن يصلي صلاة شرعنا وصومه؟
قلت: الأصح في الصورة الثانية: الصحة. وفي الباقي: البطلان. والله
أعلم.
الرابعة: في فتاوى القفال: أنه لو نذر أن يضحي بشاة، ثم عين شاة لنذره،
فلما قدمها للذبح صارت معيبة، لا تجزئ. ولو نذر أن يهدي شاة، ثم عين شاة،
وذهب بها إلى مكة، فلما قدمها للذبح تعيبت، أجزأته، لان الهدي ما يهدى إلى
الحرم، وبالوصول إليه حصل الاهداء، والتضحية لا تحصل إلا بالذبح.
الخامسة: قال صاحب التقريب: لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله
علي أن أشتري بدرهم خبزا وأتصدق به، لا يلزمه الشراء، بل يلزمه أن يتصدق بخبز
قيمته درهم.
السادسة: لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله على رجلي حج ماشيا، صح
نذره، إلا أن يريد إلزام الرجل حاجة. ولو قال: على نفسي أو رقبتي، صح.
السابعة: إذا نذر إعتاق رقبة وكان عليه رقبة عن كفارة، فأعتق رقبتين،
ونواهما عن الواجب، أجزأه وإن لم يعين، كما لو كان عليه كفارتان مختلفتان.
الثامنة: لو نذر صلاتين، لم يخرج عن نذره بأربع ركعات بتسليمة واحدة.
التاسعة: لو قال: إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق بشئ، صح
نذره، ويتصدق بما شاء من قليل وكثير. ولو قال: فعلي ألف، ولم يعين شيئا
باللفظ ولا بالنية، لم يلزمه شئ.
العاشرة: ولو نذر صوم شهر، ومات قبل إمكان الصوم، يطعم عنه عن كل يوم
مد، بخلاف ما لو لزمه قضاء رمضان لمرض، أو سفر، ومات قبل إمكان القضاء،
لا يطعم عنه، لان المنذور مستقر بنفس النذر، قاله القفال، وبنى على هذا: أنه لو
595

حلف وحنث في يمينه وهو معسر فرضه الصيام، فمات قبل الامكان، يطعم عنه.
وأنه لو نذر حجة، ومات قبل الامكان، يحج عنه، وهذا بخلاف ما قدمناه في
الحج.
الحادية عشرة: قال القفال: من التزم بالنذر أن لا يكلم الآدميين، يحتمل أن
يقال: يلزمه، لأنه مما يتقرب به، ويحتمل أن يقال: لا، لما فيه من التضييق
والتشديد، وليس ذلك من شرعنا، كما لو نذر الوقوف في الشمس.
قلت: الاحتمال الثاني أصح.
واعلم أنه ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله
عنهما، أن رسول الله (ص) نهى عن النذر.
وفي فتاوى القاضي حسين: أنها لو كانت تلد أولادا ويموتون، فقالت: إن
عاش لي ولد، فلله علي عتق رقبة، قال: يشترط للزوم العتق أن يعيش لها ولد أكثر
مما عاش أكبر أولادها الموتى، وإن قلت تلك الزيادة. وقال العبادي: متى ولدت
حيا، لزمها العتق وإن لم يعش أكثر من ساعة، لأنه عاش. والأول: أصح. وأنه لو
نذر التضحية بهذه الشاة على أن لا يتصدق بلحمها، لا ينعقد. وأنه لو قال: إن
شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق بدينار، فشفى، فأراد التصدق به على ذلك
المريض وهو فقير، فإن كان لا يلزمه نفقه، جاز، وإلا، فلا. وانه لو قال إن
شفى الله مريضي، فلله علي أن أتصدق على ولدى أو على زيد وزيد موسر
يلزمه الوفا لان الصدقة على الغني جائزة وقربه وإنه لو نذر صوم سنه معينه ثم
قال إن شفى الله مريضي، فلله علي أن أصوم الأثانين من هذه السنة. قال: لا
ينعقد نذر الثاني، لان الزمان مستحق لغيره. وقال العبادي: ينعقد ويلزمه
القضاء. قيل له: لو كان له عبد فقال: إن شفى الله مريضي، فلله علي عتقه، ثم
قال: إن قدم زيد، فعلي عتقه، قال: ينعقدان، فإن وقعا معا، أقرع بينهما، هذا
آخر المنقول من فتاوى القاضي.
596

ومما يحتاج إليه: إذا نذر زيتا، أو شمعا، أو نحوه ليسرج به في مسجد أو
غيره، إن كان بحيث ينتفع به - ولو على الندور - مصل هناك أو نائم أو غيرهما،
صح ولزم. وإن كان يغلق ولا يتمكن أحد من الدخول والانتفاع به، لم يصح.
ولو وقف شيئا ليشترى من غلته زيت أو غيره ليسرج به في مسجد أو غيره، فحكمه
في الصحة ما ذكرناه في النذور. والله أعلم. انتهى الجزء الثاني
ويليه الجزء الثالث وأوله
" كتاب البيع "
597