الكتاب: المجموع
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ١٧
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: التكملة الثانية

التكملة الثانية
المجموع
شرح المهذب
الجزء السابع عشر
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الخلع
إذا كرهت المرأة زوجها لقبح منظر، أو سوء عشرة وخافت أن لا تؤدى
حقه، جاز أن تخالعه على عوض، لقوله عز وجل " فإن خفتم ألا يقيما حدود
الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به "
وروى أن جميلة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن الشماس وكان يضربها
فأتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت لا أنا ولا ثابت وما أعطاني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
خذ منها، فأخذ منها فقعدت في بيتها " وإن لم تكره منه شيئا وتراضيا على الخلع
من غير سبب جاز، لقوله عز وجل " فإن طبن لكم عن شئ منه نفسا فكلوه
هنيئا مريئا " ولأنه رفع عقد بالتراضي جعل لدفع الضرر فجاز من غير ضرر
كالإقالة في البيع، وإن ضربها أو منعها حقها طمعا في أن تخالعه على شئ من
مالها لم يجز، لقوله عز وجل " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا
أن يأتين بفاحشة مبينة " فإن طلقها في هذه الحال على عوض لم يستحق العوض
لأنه عقد معاوضة أكرهت عليه بغير حق فلم يستحق فيه العوض كالبيع، فإن
كان ذلك بعد الدخول فله ان يراجعها، لان الرجعة إنما تسقط بالعوض وقد
سقط العوض فتثبت الرجعة فيه، فإن زنت فمنعها حقها لتخالعه على شئ من مالها
ففيه قولان (أحدهما) يجوز ويستحق فيه العوض: لقوله عز وجل " إلا أن
يأتين بفاحشة مبينة " فدل على أنها إذا أتت بفاحشة جاز عضلها ليأخذ شيئا من
مالها (والثاني) أنه لا يجوز ولا يستحق فيه العوض، لأنه خلع أكرهت عليه
بمنع الحق فأشبه إذا منعها حقه لتخالعه من غير زنا، فأما الآية فقد، قبل إنها
منسوخة بآية الامساك في البيوت وهي قوله تعالى " فأمسكوهن في البيوت حتى
يتوفاهن الموت " ثم نسخ ذلك بالجلد والرجم، ولأنه روى عن قتادة انه فسر
الفاحشة بالنشوز، فعلى هذا إذا كان ذلك بعد الدخول فله ان يراجعها لما ذكرناه
3

(الشرح) خبر جميلة بنت سهل يؤخذ على المصنف سوقه بقوله. وروى أن جميلة.
هكذا بصيغة التمريض مع أن الخبر مروى في صحيح البخاري وسنن النسائي بلفظ
عن ابن عباس قال " جاءت امرأة ثابت بن شماس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقالت يا رسول الله إني ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكره الكفر
في الاسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتردين عليه حديقته، قالت
نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقبل الحديقة وطلقها تطليقه " ورواه ابن ماجة من
طريق أزهر بن مروان وهو صدوق مستقيم الحديث وبقية أسناده من رجال
الصحيح، وكذلك النسائي والبيهقي أخرجاه بأسانيد رجالها الصحيح ولفظه
" عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت والله
ما أعتب على ثابت في دين ولا خلق ولكن أكره الكفر في الاسلام لا أطيقه
بغضا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم أتردين عليه حديقته، قالت نعم. فأمره
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ حديقته ولا يزداد " وأخرجه النسائي عن
الربيع بنت معوذ " أن ثابت بن قيس بن شماس ضرب امرأته فكسر يدها، وهي
جميلة بنت عبد الله بن أبي فأتى أخوها يشتكيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثابت فقال له خذ الذي لها عليك وخل سبيلها، قال نعم
فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ان تتربص حيضة واحدة وتلحق بأهلها "
وفى الترمذي عن ابن عباس وقال حسن غريب ولفظه " ان امرأة ثابت بن قيس
اختلعت من زوجها، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم ان تعتد بحيضة " وأخرجه
الترمذي عن الربيع بنت معوذ، وكذلك النسائي وابن ماجة، وأخرجه الدارقطني
والبيهقي عن أبي الزبير
وروى مالك في موطئه عن حبيبة بن سهل " انها كانت تحت ثابت بن قيس
ابن شماس وان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى صلاة الصبح فوجدها
عند بابه، فقال من هذه، قالت انا حبيبة بنت سهل، قال ما شأنك، قالت لا انا
ولا ثابت بن قيس إلى آخر ما ساقه المصنف من الرواية، أخرجه أصحاب السنن
وصححه ابن خزيمة وابن حبان من هذا الوجه، وأخرجه أبو داود من حديث
عائشة ان حبيبه بنت سهل كانت عند ثابت بن قيس. واخرج البزار من حديث
4

ابن عمر نحوه، قال ابن عبد البر: اختلف في امرأة ثابت بن قيس، فذكر
البصريون أنها جميلة بنت أبي، وذكر المدنيون أنها حبيبة بنت سهل، قال الحافظ
ابن حجر: الذي يظهر لي أنهما قصتان وقعتا لامرأتين لشهرة الخبرين وصحة
الطريقين واختلاف السياقين، بخلاف ما وقع من الاختلاف في تسمية جميلة
ونسبتها، فإن سياق قصتها متقارب فأمكن رد الاختلاف فيه إلى الوفاق. اه‍
ووهم ابن الجوزي فقال: إنها سهلة بنت حبيب، وإنما هي حبيبة بنت سهل
ولكنه انقلب عليه ذلك.
وروى الشافعي عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن
حبيبة بنت سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى صلاة الصبح فوجدها على
بابه إلى آخر الرواية التي ساقها مالك في موطئه
أما اللغات فإن الخلع هو النزع، وخالعت المرأة زوجها إذا افتدت منه وطلقها
على الفدية فخلعها هو خلعا والاسم الخلع بالضم وهو استعارة من خلع اللباس
وقال ابن بطال: أصل الخلع من خلع القميص عن البدن وهو نزعه عنه وإزالته
لأنه يزيل النكاح بعد لزومه، وكذا المرأة لباس للرجل وهو لباس لها. قال تعالى
" هن لباس لكم وأنتم لباس لهن " فإذا تخالعا فقد نزع كل واحد منهما لباسه.
وقوله " فكلوه هنيئا مريئا " هنو. الشئ بالضم مع الهمز هناءة بالفتح وللمد
تيسر من غير مشقة ولا عناء فهو هنئ، ويجوز الابدال والادغام. وهنأني
الولد يهنؤني مهموز من بابي نفع وضرب، وتقول العرب في الدعاء ليهنئك
الولد بهمزة ساكنة وبإبدالها باء وحذفها عامي ومعناه سرني الطعام يهنؤني ساغ
ولذ. وأكلته هنيئا مريئا، أي بلا مشقة، ويهنوه بضم المضارع في الكل لغة.
قال بعضهم: وليس في الكلام يفعل بالضم مهموزا مما ماضيه بالفتح غير هذا
الفعل. ومرؤ الطعام مراءة مثال ضخم ضخامة فهو مرئ، ومرئ بالكسر لغة
ومرئته بالكسر أيضا يتعدى ولا يتعدى، واستمرأته وجدته مريئا، وأمرأ بي
الطعام بالألف، ويقال هنأني الطعام. ومرأني بغير ألف للازدواج، فإذا أفرد
قيل: أمرأني بالألف. ومنهم من يقول مرأني وأمرأني لغتان، فقوله هنيئا
مريئا، أي بطيب نفس ونشاط قلب، وقيل هنيئا لا إثم فيه ومريئا لا داء فيه.
5

أما الأحكام فإن الخلع ينقسم إلى ثلاثة أقسام. مباحان ومحظور، فأحد
المباحين إذا كرهت المرأة خلق الزوج أو خلقه أو دينه وخافت أن لا تؤدى حقه
فبذلت له عوضا ليطلقها جاز ذلك وحل له أخذه بلا خلاف، لقوله تعالى " فإن
خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " ولما رواه الشافعي وغيره
من خبر حبيبة بنت سهل وكانت تحت قيس بن ثابت بن شماس إلى آخر الحديث
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي هنا في المهذب جميلة بنت سهل. وروى أن الربيع
بنت معوذ بن عفراء أن جميله بنت عبد الله بن أبي اختلعت على عبد رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
القسم الثاني، من المباح أن تكون الحال مستقيمة بين الزوجين ولا يكره
أحدهما الآخر فتراضيا على الخلع فيصح الخلع، ويحل للزوج ما بذلت له، وبه
قال مالك وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم
الضرب الثالث، هو أن يضربها أو يخوفها بالقتل أو يمنعها النفقة والكسوة
لتخالعه، فهذا محظور لقوله تعالى " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن
إلا أن يأتين بفاحشة مبينة " والعضل المنع، فإن خالعته في هذه الحال وقع الطلاق
ولا يملك الزوج ما بذلته على ذلك - فإن كان بعد الدخول - كان رجعيا،
لان الرجعة إنما سقطت لأجل ملكه المال، فإذا لم يملك المال كان له الرجعة،
فإن ضربها للتأديب للنشوز فخالعته عقب الضرب صح الخلع، لان ثابت بن
قيس كان قد ضرب زوجته فخالعته مع علم النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر عليها
ولان كل عقد صح قبل الضرب صح بعده، كما لو حد الامام رجلا ثم اشترى
منه شيئا عقيبه.
قال الطبري، وهكذا لو ضربها لتفتدى منه فافتدت نفسها منه عقبيه طائعة
صح ذلك لما ذكرناه.
وإن زنت فمنعها حقها لتخالعه فخالعته فقيه قولان (أحدهما) أنه من الخلع المباح،
لقوله تعالى " ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة
مبينة " فدل على أنها إذا أتت بفاحشة جاز عضلها
6

(والثاني) انه من الخلع المحظور لأنه خلع أكرهت عليه بمنع حقها، فهو
كما لو أكرهها بذلك من غير زنا. وأما الآية فقيل إنها منسوخة بالامساك
بالبيوت. وهو قوله تعالى " واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم " ثم نسخ
ذلك بالجلد والرجم.
* * *
وقال العلامة صديق حسن خان في كتابه حسن الأسوة فيما ورد عن الله
ورسوله في النسوة، باب ما نزل في إيراث المرأة والعضل وعدم أخذ المهر منهن
وان زاد، قال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها)
أي مكرهين على ذلك
ومعنى الآية يتضح بمعرفة سبب نزولها، وهو ما أخرجه البخاري وغيره
عن ابن عباس قال: كان إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته، إن شاء
بعضهم تزوجها - وأن شاءوا لم يزوجوها - فهم أحق بها من أهلها،
فنزلت الآية.
وفى لفظ لأبي داود عنه " كان الرجل يرث امرأة ذات قرابة فيعضلها حتى
تموت أو ترد إليه صداقها "
وفى لفظ لابن جرير وابن أبي حاتم عنه " فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت
دميمة حبسها حتى تموت فيرثها "
وقد روى هذا السبب بألفاظ فمعناها " لا يحل لكم أن تأخذوهن بطريق
الإرث فتزعمون أنكم أحق بهن من غيركم وتحبسوهن لأنفسكم، ولا يحل لكم أن
تعضلوهن عن أن يتزوجكن غيركم ضرارا، لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن.
أي لتأخذوا ميراثهن إذا متن أو ليدفعن إليكم صداقهن إذا أذنتم لهن في النكاح.
وقيل الخطاب لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طمعا في إرثهن
أو يفتدين ببعض مهورهن. واختاره ابن عطية. اه‍
7

(مسألة) قال في البيان: ويصح الخلع بالمهر المسمى وبأقل منه وبأكثر منه
وبه قال الثوري ومالك وأبو حنيفة وأصحابه وأكثر أهل العلم، وقال طاوس
والزهري والشعبي وأحمد وإسحاق: لا يصح الخلع بأكثر من المهر المسمى اه‍.
قلت: وقد استدل القائلون بمنع الزيادة بحديث أبي الزبير بإسناد صحيح عند
الدارقطني وقال: سمعه أبو الزبير من غير واحد " أن ثابت بن قيس بن شماس
كانت عنده بنت عبد الله بن أبي بن سلول، وكان أصدقها حديقة فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: أتردين حديقته، قالت نعم وزيادة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
أما الزيادة فلا، ولكن حديقته، قالت نعم، فأخذها له وخلى سبيلها فلما بلغ
ذلك ثابت بن قيس قال قد قبلت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم " قالوا:
ويؤيد ذلك ما عند ابن ماجة والبيهقي من حديث ابن عباس " أن النبي صلى الله
عليه سلم أمره أن يأخذ منها ولا يزداد " وفى رواية عبد الوهاب عن سعيد قال
أيوب لا احفظ فيه ولا يزداد.
وفى رواية الثوري وكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطى، ذكر ذلك كله البيهقي
قال ووصله الوليد بن مسلم عن ابن جريج عن ابن عباس. وقال أبو الشيخ هو
غير محفوظ يعنى الصواب إرساله.
وأخرج عبد الرزاق عن علي أنه قال. لا يأخذ منها فوق ما أعطاها، وعن
طاوس وعطاء والزهري مثله، وهو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق والهادوية،
وعن ميمون بن مهران من أخذ أكثر مما أعطى لم يسرح بإحسان. وأخرج
عبد الرزاق بسند صحيح عن سعيد بن المسيب قال ما أحب أن يأخذ منها بأكثر
مما أعطاها. قال مالك لم أر أحدا ممن يقتدى به يمنع ذلك لكنه ليس من مكارم الأخلاق
، دليلنا على القائلين بالمنع قوله تعالى " فلا جناح عليهما فيما افتدت به "
ولم يفرق، وهو عوض مستفاد بعقد فلم يتقدر كالمهر والثمن، ولان ابن سعد
اخرج عن الربيع قال كان بيني وبين ابن عمى كلام، وكان زوجها، قالت، فقلت
له لك كل شئ وفارقني، قال قد فعلت، فأخذ والله كل فراشي، فجئت عثمان
وهو محصور فقال الشرط أملك خذ كل شئ حتى عقاص رأسها.
وفى البخاري عن عثمان انه أجاز الخلع دون عقاص رأسها. وروى البيهقي
8

عن أبي سعيد الخدري قال: كانت أختي تحت رجل من الأنصار فارتفعا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها أتردين حديقته؟ قالت: وأزيده، فردت
عليه حديقته وزادته، ومحصل هذا كله ان الزيادة جائزة مع عدم لياقتها بمكارم الأخلاق
فتحمل أدلة المنع على التنزيه. ويصح بالدين والعين والمنفعة كما قلنا في
المهر، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ولا يجوز للأب أن يطلق امرأة الابن الصغير بعوض وغير عوض
لما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال " إنما الطلاق بيد الذي يحل له الفرج "
ولان طريقه الشهوة فلم يدخل في الولاية، ولا يجوز أن يخلع البنت الصغيرة
من الزوج بشئ من مالها، لأنه يسقط بذلك حقها من المهر والنفقة والاستمتاع
فإن خالعها بشئ من مالها لم يستحق ذلك، وإن كان بعد الدخول فله أن يراجعها
لما ذكرناه، ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي
فله أن يخالعها بالابراء من نصف مهرها، وهذا خطأ، لأنه إنما يملك الابراء
على هذا القول بعد الطلاق، وهذا الابراء قبل الطلاق.
(فصل) ولا يجوز للسفيهة أن تخالع بشئ من مالها لأنها ليست من أهل
التصرف في مالها، فان طلقها على شئ من مالها لم يستحق ذلك. كما لا يستحق
ثمن ما باع منها، فإن كان بعد الدخول فله أن يراجعها لما ذكرناه، ويجوز
للأمة أن تخالع زوجها على عوض في ذمتها: ويجب دفع العوض من حيث يجب
دفع المهر في نكاح العبد، لان العوض في الخلع كالمهر في النكاح، فوجب
من حيث يجب المهر.
(فصل) ويصح الخلع مع غير الزوجة، وهو أن يقول رجل: طلق
امرأتك بألف على. وقال أبو ثور: لا يصح لان بذل العوض في مقابلة ما يحصل
لغيره سفه، ولذلك لا يجوز أن يقول لغيره: بع عبدك من فلان بألف على،
وهذا خطأ لأنه قد يكون له غرض، وهو أن يعلم أنهما على نكاح فاسد أو تخاصم
دائم، فيبذل العوض ليخلصهما طلبا للثواب، كما يبذل العوض لاستنقاذ أسير
9

أو حر في يد من يسترقه بغير حق، ويخالف البيع فإنه تمليك يفتقر إلى رضا
المشترى، فلم يصح بالأجنبي، والطلاق وإسقاط حق لا يفتقر إلى رضا المرأة
فصح بالمالك والأجنبي. كالعتق بمال. فان قال: طلق امرأتك على مهرها وأنا
ضامن فطلقها بانت ورجع الزوج على الضامن بمهر المثل في قوله الجديد، وببدل
مهرها في قوله القديم، لأنه أزال الملك عن البضع بمال ولم يسلم له وتعذر
الرجوع إلى البضع، فكان فيما يرجع إليه قولان كما قلنا فيمن أصدق امرأته مالا
فتلف قبل القبض،
(الشرح) الأحكام: لا يجوز للأب أن يطلق امرأة ابنه الصغير أو المجنون
بعوض ولا بغير عوض. قال الحسن وعطاء وأحمد: له أن يطلقها بعوض وبغير
عوض. وقال مالك: له أن يطلقها بعوض، ولا يصح أن يطلقها بغير عوض
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " إنما الطلاق لمن أخذ بالساق " رواه ابن ماجة
والدارقطني عن ابن عباس وفى إسناد ابن ماجة ابن لهيعة، وأخرجه ابن عدي
وفى إسناده كما في إسناد الدارقطني عصمة بن مالك، وأخرجه الطبراني وفى
إسناده يحيى الحماني.
قال الشوكاني: وطرقه يؤيد بعضها بعضا.
وقال ابن القيم: ان حديث ابن عباس وإن كان في اسناده ما فيه فالقرآن
يعضده وعليه عمل الناس. قلت ولان في ذلك اسقاط حقه من النكاح فلم يصح
من الأب كالابراء عن دينه.
(فرع) وان قال رجل لآخر: طلق ابنتي وأنت برئ من مهرها أو على
أنك براء من مهرها، فطلقها الزوج وقع الطلاق ولا يبرأ من مهرها سواء كانت
كبيرة أو صغيرة لأنها إن كانت كبيرة فلانه لا يملك التصرف في مالها وإن كانت صغيرة فلا
يجوز له التصرف في مالها بما لاحظ لها فيه ولا يلزم الآن للزوج شئ لأنه لم يضمن له
وقال أبو علي بن أبي هريرة: إذا قلنا إن الولي الذي بيده عقدة النكاح صح إذا
كانت صغيرة أو مجنونة، وهذا ليس بشئ، لان هذا الابراء قبل الطلاق، وان
قال طلقها وأنت برئ من مهرها وعلى ضمان الدرك، أو إذا طالبتك فأنا ضامن
10

فطلقها وقع الطلاق ثانيا، ولا يبرأ الزوج من المهر ويكون له الرجوع على الأب
وبماذا يرجع عليه؟ فيه قولان (أحدهما) بمهر مثلها (والثاني) بمثل مهرها
المسمى. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: إذا قال: طلقها على أنك برئ من مهرها فطلقها لم يقع
الطلاق. وأما إذا قال: وأنت برئ من صداقها وأنا ضامن: أو إذا طالبتك
فأنا ضامن ففيه وجهان بناء على القولين في من بيده عقدة النكاح. ولو خالعه
الأب بعين من الأعيان من مالها وضمن الأب دركها وقع الطلاق بائنا ولا يملك
الزوج العين، وبماذا يرجع على الأب؟ على قولين (أحدهما) بمهر مثلها (والثاني)
بقدر العين، هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي: إذا كان الزوج جاهلا بأنها من مالها فسد العوض، وفيما
ترجع به على الأب القولان، وان علم أنها من مالها، فإن نسب الأب ذلك إلى
مالها وقع الطلاق رجعيا، وان أطلق فوجهان.
(أحدهما) يقع رجعيا لأنه قد علم أنه من مالها (والثاني) يقع بائنا
ولا يملك العين، وبماذا يرجع على الأب على القولين، لأنه إذا لم يضف ذلك
إلى مالها احتمل انتقال ملكها إلى الأب.
وقال ابن قدامة من الحنابلة إذا قال الأب طلق ابنتي وأنت برئ من صداقها
فطلقها وقع الطلاق رجعيا ولم يبرأ من شئ لم يرجع على الأب ولم يضمن له لأنه
أبرأه مما ليس له الابراء منه فأشبه الأجنبي.
قال القاضي: وقال أحمد: انه يرجع على الأب، وقال وهذا محمول على أن
الزوج كان جاهلا بأن ابراء الأب لا يصح، فكان له الرجوع عليه لأنه غره
فرجع عليه كما لو غره فزوجه معيبة، وان علم أن ابراء الأب لا يصح لم يرجع
بشئ ويقع الطلاق رجعيا لأنه خلا عن العوض وفى الموضع الذي يرجع عليه
الطلاق بائنا لأنه بعوض، فإن قال الزوج هي طالق ان أبرأتني من صداقها،
فقال الأب قد أبرأتك لم يقع الطلاق لأنه لا يبرأ.
وروى عن أحمد أن الطلاق واقع، فيحتمل أنه أوقعه إذا قصد الزوج تعليق
11

الطلاق على مجرد التلفظ بالابراء دون حقيقة البراءة، وإن قال الزوج: هي
طالق إن برئت من صداقها لم يقع لأنه علقه على شرط ولم يوجد، وان قال الأب
طلقها على ألف من مالها وعلى الدرك فطلقها طلقت بائنا لأنه بعوض وهو
ما لزم الأب من ضمان الدرك ولا يملك الألف لأنه ليس له بذلها اه‍.
قوله (فصل) ولا يجوز للسفيهة إلخ. فإنه كما قال، إذ لا يجوز للسفيهة أن
تخالع بشئ من مالها ولا في ذمتها سواء أذن لها الولي أو لم يأذن، لأنه لاحظ
لها في ذلك، فإن فعلت ذلك وقع الطلاق رجعيا، لان الرجعية إنما تسقط لان
الزوج يملك العوض، ويصح خلف المحجور عليها لفلس، وبذلها للعوض صحيح،
لان لها ذمة يصح تصرفها فيها، ويرجع عليها بالعوض إذا أيسرت وفك
الحجر عنها، وليس له مطالبتها في حال حجرها كما لو استدانت منه أو باعها
شيئا في ذمتها. هذا مذهبنا ومذهب أحمد وأصحابه
قوله (فصل) ويصح الخلع مع غير الزوجة الخ. وهو كما قال إذ لو قال الرجل
لآخر: طلق امرأتك بألف على فطلقها وقع الطلاق بائنا، واستحق الزوج
الألف على السائل، وبه قال عامة أهل العلم الا أبا ثور فإنه قال: يقع الطلاق
رجعيا، ولا يستحق على السائل عوض، فيكون سفها من السائل لو بذل عوضا
فيما لا منفعة له فيه، فان الملك لا يحصل له، فأشبه ما لو قال بع عبدك لزيد على
دليلنا أنه بذل مال في مقابلة اسقاط حق عن غير فصح كما لو قال أعتق عبدك
وعلى ثمنه، ولأنه لو قال أسقط متاعك في البحر وعلى ثمنه صح ولزمه ذلك مع
أنه لا يسقط حقا عن أحد، فههنا أولى، ولأنه حق على المرأة يجوز أن يسقط
عنها بعوض فجاز لغيرها كالدين، وفارق البيع فإنه تمليك فلا يجوز بغير رضاء من
يثبت له الملك، وان قالت له طلقني وضرتي بألف فطلقهما وقع الطلاق بهما بائنا
واستحق الألف على بادلته لأن الخلع مع الأجنبي جائز، وان طلق إحداهما
فإنها تطلق طلاقا بائنا ولزم الباذلة بحصتها من الألف، وهذا مذهبنا ومذهب
أحمد، الا أن بعض أصحابنا قال يلزمه مهر مثل المطلقة. وقياس قول بعض
الأصحاب فيما إذا قالت: طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة لم يلزمها شئ
12

ووقعت بها التطليقة أن لا يلزم الباذلة ههنا شئ لأنه لم يجبها إلى ما سألت فلم
يجب عليها ما بذلت، ولأنه قد يكون غرضها في بينونتهما جميعا منه، فإذا طلق
إحداهما لم يحصل غرضها فلا يلزمها عوضها.
وان قالت طلقني بألف على أن تطلق ضرتي أو على أن لا تطلق ضرتي فالخلع صحيح والشرط
والعوض باطلان ويرجع إلى مهر المثل في قوله الجديد، وببذل مهرها في قوله القديم
لان الشرط سلف في الطلاق، والعوض بعضه في مقابلة الشرط الباطل، فيكون
الباقي مجهولا. وقال أحمد وأصحابه: الخلع صحيح والشرط والبذل لازم، لأنها
بذلت عوضا في طلاقها وطلاق ضرتها فصح، كما لو قالت طلقني وضرتي بألف،
فإن لم يف لها بشرطها فعليها الأقل من المسمى أو الألف الذي شرطته، قالوا
ويحتمل أن لا يستحق شيئا من العوض لأنها إنما بذلته بشرط لم يوجد فلا يستحقه
كما لو طلقها بغير عوض. وقال أبو حنيفة: الشرط باطل والعوض صحيح،
لأن العقد يستقل بذلك العوض
قلت: قد يكون في دخول الأجنبي للتفرقة بين المرء وزوجه تطفل وفضول
أو سفه كما يقول أبو ثور، إلا أن الذي بيده عقدة النكاح - إذا قلنا هو الزوج -
فإنه هو الموقع للطلاق. وقد يكون في فضول الأجنبي نوع من الغوث وإنقاذ
مكروبة تقع في يد من يظلمها فهو يبتغى بتخلصها من الظلم ثواب الآخرة. فإذا
صح احتمال هذا صحت القضية وتوجه تدخل الأجنبي بما التزم من البذل والشرط
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ويجوز الخلع في الحيض: لان المنع من الطلاق في الحيض للضرر
الذي يلحقها بتطويل العدة، والخلع جعل للضرر الذي يلحقها بسوء العشرة
والتقصير في حق الزوج، والضرر بذلك أعظم من الضرر بتطويل العدة، فجاز
دفع أعظم الضررين بأخفهما.
ويجوز الخلع من غير حاكم لأنه قطع عقد بالتراضي جعل لدفع الضرر، فلم
يفتقر إلى الحاكم كالإقالة في البيع.
13

(فصل) ويصح الخلع بلفظ الخلع والطلاق، فإن خالعها بصريح الطلاق
أو بالكناية مع النية فهو طلاق، لأنه لا يحتمل غير الطلاق، فإن خالعها بصريح
الخلع نظرت، فإن لم ينو به الطلاق ففيه ثلاثة أقوال
(أحدهما) أنه لا يقع به فرقة، وهو قوله في الام، لأنه كناية في الطلاق
من غير نية فلم يقع بها فرقة، كما لو عريت عن العوض
(والثاني) أنه فسخ، وهو قوله في القديم، لأنه جعل للفرقة فلا يجوز أن
يكون طلاقا، لان الطلاق لا يقع إلا بصريح أو كناية مع النية، والخلع ليس
بصريح في الطلاق ولا معه نية الطلاق، فوجب أن يكون فسخا.
(والثالث) أنه طلاق، وهو قوله في الاملاء، وهو اختيار المزني، لأنها
إنما بذلت العوض للفرقة، والفرقة التي يملك إيقاعها هي الطلاق دون الفسخ،
فوجب أن يكون طلاقا، فإن قلنا إنه فسخ صح بصريحه، وصريحه الخلع
والمفاداة، لان المفاداة ورد بها القرآن، والخلع ثبت له العرف، فإذا خالعها
بأحد هذين اللفظين انفسخ النكاح من غير نية، وهل يصح الفسخ بالكناية
كالمباراة والتحريم وسائر كنايات الطلاق، فيه وجهان
(أحدهما) لا يصح لان الفسخ لا يصح تعليقه على الصفات فلم يصح بالكناية
كالنكاح (والثاني) يصح لأنه أحد نوعي الفرقة فانقسم لفظها إلى الصريح والكناية
كالطلاق، فعلى هذا إذا خالعها بشئ من الكنايات لم ينفسخ النكاح حتى ينويا.
واختلف أصحابنا في لفظ الفسخ، فمنهم من قال هو كناية لأنه لم يثبت له عرف
في فرقة النكاح، ومنهم من قال هو صريح لأنه أبلغ في معنى الفسخ من لفظ
الخلع، وان خالع بصريح الخلع ونوى به الطلاق - فان قلنا بقوله في الاملاء -
فهو طلاق، لأنه إذا كان طلاقا من غير نية الطلاق فمع النية أولى، وان قلنا
بقوله في الام فهو طلاق، لأنه كناية في الطلاق اقترنت به نية الطلاق، وان
قلنا بقوله في القديم ففيه وجهان (أحدهما) أنه طلاق لأنه يحتمل الطلاق،
وقد اقترنت به نية الطلاق (والثاني) أنه فسخ لأنه على هذا القول صريح في فسخ
النكاح فلا يجوز أن يكون كناية في حكم آخر من النكاح كالطلاق لما كان صريحا
في فرقة النكاح لم يجز أن يكون كناية في الظهار
14

(الشرح) الأحكام: يصح الخلع في الحيض لقوله تعالى (فلا جناح عليهما
فيما افتدت به) ولم يفرق، وخالعت حبيبة بنت قيس زوجها بإذن النبي صلى الله
عليه وسلم، ولم يسألها هل هي حائض أو طاهر، فدل على أن الحكم لا يختلف،
ويصح الخلع من غير حاكم، وبه قال عامة أهل العلم. وقال الحسن البصري وابن
سيرين لا يصح إلا بالحاكم، ودليلنا قوله تعالى (فلا جناح عليهما فيما افتدت به)
ولم يفرق.
قوله: فصل ويصح الخلع بلفظ الطلاق الخ. فهو كما قال، ذلك أنه إذا خالعها
بصريح الطلاق أو بشئ من كنايات الطلاق ونوى به الطلاق فهو طلاق ينقص
به العدد في الطلاق. وإن خالعها بلفظة الخلع ولم ينو به الطلاق ففيه قولان.
(أحدهما) وهو قوله في القديم أنه فسخ، وبه قال ابن عباس وعكرمة وطاوس
وأحمد وإسحاق وأبو ثور، واختاره ابن المنذر والمسعودي، لأنه نوع فرقة
لا تثبت فيه الرجعة بحال فكان فسخا، كما لو أعتقت الأمة تحت عبد ففسخت
النكاح، فعلى هذا لا ينقص به عدد الطلاق، بل لو خالعها ثلاث مرات وأكثر
حلت له قبل زوج.
(والثاني) أنه طلاق، وبه قال عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وابن مسعود
ومالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، لأنه فرقة لا يفتقر إلى
تكرار اللفظ ولا تنفرد به المرأة فكان طلاقا كصريح الطلاق. فقولنا لا يفتقر
إلى تكرار احتراز من اللعان. وقولنا لا تنفرد به المرأة احتراز من الردة، فإذا
قلنا بهذا فهل هو صريح أو كناية؟ فيه قولان
قال في الاملاء هو صريح في الطلاق، لان دخول العوض فيه كدخول النية
في كنايات الطلاق، وقال في الام هو كناية في الطلاق، فلا يقع به الطلاق الا
بالنية كسائر كنايات الطلاق، فإذا قلنا إنه طلاق نقص به عدد الطلاق، وان
قلنا إن الخلع فسخ كان صريحه الخلع والمفاداة، لأن الخلع وردت به السنة وثبت
له عرف الاستعمال، والمفاداة ورد بها القرآن وثبت لها عرف الاستعمال، فإن
قالت افسخني على ألف، أو اسحبني بألف، فقال أسحبك أو فسختك، فهل هو
صريح في الفسخ أو كغاية فيه؟ على وجهين
15

(أحدهما) أنه كناية في الفسخ فلا يقع به الفسخ حتى ينويا الفسخ، لأنه لم
يثبت به عرف الاستعمال ولم يرد به الشرع.
(والثاني) أنه صريح فيه، فينفسخ النكاح من غير نية - قال في البيان - وهو
الأصح لأنه حقيقة فيه، ومعروف في عرف أهل اللسان، فإن قالت خلني على
ألف أو بتني أو غير ذلك من كنايات الطلاق، فقال خليتك أو بتتك ولم ينويا
الطلاق - فان قلنا إن الخلع صريح بالطلاق وبدخوله العوض - صارت هذه
الكنايات صريحة في الطلاق بدخول العوض فيها، وان قلنا إن الخلع كناية في
الطلاق - فان نويا الطلاق في هذه الكنايات - كان طلاق بائنا واستحق العوض
وان لم ينويا الطلاق لم يقع الطلاق ولم يستحق العوض، لان الكناية لا يقع
بها الطلاق من غير نية. وان نوت الطلاق ولم ينو الزوج لم يقع الطلاق لأنه هو
الموقع، وإن نوى الزوج ولم تنو هي ففيه وجهان حكاهما ابن الصباغ
(أحدهما) يقع طلقة رجعية ولا يستحق العوض لأنه نوى الطلاق ولم
يوجد منها استدعاء الطلاق
(والثاني) وهو المذهب أنه لا يقع طلاق لأنه أوقعه بعوض، فإذا لم يثبت
العوض لم يقع الطلاق، وان قلنا إن الخلع فسخ ونويا بهذه الكنايات الفسخ فهل
ينفسخ النكاح. فيه وجهان (أحدهما) لا ينفسخ، لان الفسخ لا يصح تعليقه
بالصفة فلم يصح بالكناية (والثاني) ينفسخ - وهو المذهب - لأنه أحد نوعي
الفرقة، فانقسم إلى الصريح والكناية كالطلاق، وان خالعها بصريح الخلع ونويا به
الطلاق، فان قلنا إن الخلع صريح في الطلاق أو كناية فيه وقع الطلاق. وان قلنا إنه
فسخ ففيه وجهان حكاهما المصنف
(أحدهما) لا يقع به الطلاق ويكون فسخا لأنه صريح في الفسخ فلم يجز أن
يكون كناية في حكم آخر من النكاح، كما لا يجوز أن يكون الطلاق كناية في
الظهار (والثاني) ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره أنه يقع به الطلاق لأنه يحتمل
الطلاق، وقد اقترنت به نية الطلاق
(فرع) إذا قالت خالعني على ألف ونوت الطلاق فقال طلقتك وقع الطلاق
بائنا واستحق الألف، سواء قلنا الخلع صريح في الطلاق أو كناية - لأنا ان قلنا
16

إنه صريح - فقد أجابها إلى ما سألت - وإن قلنا إنه كناية - فقد سألت كناية
وأجابها بالصريح فكان أكثر مما سألت. وإن قالت طلقني على ألف فقال خالعتك
ونوى به الطلاق. أو قلنا إنه صريح في الطلاق استحق الألف. وقال ابن خيران
إذا قلنا إنه كناية لم يقع عليها ولم يستحق الألف لأنها بذلت الألف للصريح ولم
يجبها إليه والأول أصح، لان الكناية مع النية كالصريح، وان لم ينو به الطلاق
لم يقع به طلاق ولا فسخ، لأنه لم يجبها إلى ما سألت. وان قالت اخلعني على
ألف فقال خلعتك على ألف - وقلنا الخلع فسخ - فيه وجهان
(أحدهما) لا يقع عليها طلاق، ولا يستحق عوضا لأنه لم يجبها إلى ما سألت
(والثاني) يقع عليها الطلاق ويستحق الألف، لأنه أجابها إلى أكثر مما سألت منه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ويصح الخلع منجزا بلفظ المعاوضة لما فيه من المعاوضة ويصح
معلقا على شرط لما فيه من الطلاق. فأما المنجز بلفظ المعاوضة فهو أن يوقع
الفرقة بعوض، وذلك مثل أن يقول: طلقتك أو أنت طالق بألف، وتقول
المرأة قبلت، كما تقول في البيع: بعتك هذا بألف، يقول المشترى قبلت، أو
تقول المرأة طلقني بألف، فيقول الزوج طلقتك، كما يقول المشترى بعني هذا
بألف، ويقول البائع بعتك ولا يحتاج أن يعيد في الجواب ذكر الألف، لان
الاطلاق يرجع إليه كما يرجع في البيع، ولا يصح الجواب في هذا إلا على الفور
كما نقول في البيع، ويجوز للزوج أن يرجع في الايجاب قبل القبول، وللمرأة
أن ترجع في الاستدعاء قبل الطلاق كما يجوز في البيع
وأما غير المنجز فهو أن يعلق الطلاق على ضمان مال أو دفع مال، فإن كان
بحرف (ان) بأن قال: إن ضمنت لي ألفا فأنت طالق، لم يصح الضمان إلا على
الفور، لأنه لفظ شرط يحتمل الفور والتراخي، إلا أنه لما ذكر العوض صار
تمليكا بعوض فاقتضى الجواب على الفور كالتمليك في المعاوضات
17

وان قال إن أعطيتني ألفا فأنت طالق لم تصح العطية الا على الفور، بحيث
يصلح أن تكون جوابا لكلامه لان العطية ههنا هي القبول، ويكفى أن تحضر
المال وتأذن في قبضه أخذ أو لم يأخذ، لان اسم العطية يقع عليه وان لم يأخذ،
ولهذا يقال أعطيت فلانا مالا فلم يأخذه.
وان قالت طلقني بألف، فقال أنت طالق بألف ان شئت لم يقع الطلاق حتى
توجد المشيئة: لأنه أضاف إلى ما التزمت المشيئة فلم يقع الا بها، ولا تصح
المشيئة الا بالقول وهو أن تقول على الفور شئت لان المشيئة وإن كانت بالقلب الا أنها
لا تعرف الا بالقول، فصار تقديره أنت طالق ان قلت شئت، ويصح الرجوع
قبل الضمان وقبل العطية وقبل المشيئة كما يجوز فيما عقد بلفظ المعاوضة.
وإن كان بحرف متى وأي وقت. بأن يقول متى ضمنت لي أو أي وقت ضمنت لي
ألفا فأنت طالق جاز أن يوجد الضمان على الفور وعلى التراخي. والفرق بينه
وبين قوله إن ضمنت لي ألفا أن اللفظ هناك عام في الزمانين. ولهذا لو قال إن
ضمنت لي الساعة أو ان ضمنت لي غدا جاز، فلما اقترن به ذكر العوض جعلناه
على الفور قياسا على المعاوضات. والعموم يجوز تخصيصه بالقياس. وليس
كذلك قوله متى وأي وقت. لأنه نص في كل واحد من الزمانين صريح في المنع
من التعيين في أحد الزمانين. ولهذا لو قال أي وقت أعطيتني الساعة كان محالا.
وما يقتضيه الصريح لا يترك بالقياس.
وان رجع الزوج في هذا قبل القبول لم يصح. لان حكمه حكم الطلاق المعلق
بالصفات دون المعاوضات
وإن كان بحرف (إذا) بأن قال إذا ضمنت لي ألفا فأنت طالق، فقد ذكر
جماعة من أصحابنا أن حكمه حكم قوله إن ضمنت لي في اقتضاء الجواب على الفور
وفى جواز الرجوع فيه قبل القبول. وعندي أن حكمه حكم متى. وأي وقت.
لأنه يفيد ما يفيده متى: وأي وقت. ولهذا إذا قال: متى ألقاك جاز أن يقول
إذا شئت كما يجوز أن يقول متى شئت وأي وقت شئت بخلاف ان. فإنه لو قال:
متى ألقاك لم يجز أن يقول إن شئت
18

(الشرح) الأحكام: يصح الخلع منجزا لما فيه من المعاوضة، ويصح معلقا
على شرط لما فيه من الطلاق، فالمنجز أن يوقع الفرقة بعضو مثل أن يقول
الزوج طلقتك أو خالعتك أو فاديتك بألف، فتقول الزوجة عقيب ذلك قبلت
كما يقول البائع بعتك هذا بألف ويقول المشترى: قبلت، وللزوج أن يرجع في
الايجاب قبل القبول كما قلنا في البائع، فإن قالت الزوجة طلقني بألف، فقال
الزوج عقيب استدعائها طلقتك. ولو قالت الزوجة اخلعني أو خالعني بألف،
فقال عقيب استدعائها خلعتك أو خالعتك صح كما يقول المشترى بعني هذا بألف
فيقول البائع بعتك، فان تأخرت إجابته لها على الفور بطل الاستدعاء ولها أن
ترجع قبل أن يجيبها. كما قلنا في المشترى، فان قالت الزوجة خالعتك بألف،
فقال الزوج قبلت لم يصح ولم تقع بذلك فرقة لان الايقاع إليه دونها، وقوله
قبلت ليست بايقاع، فهو كما لو قالت له طلقتك بألف فقال قبلت، وإن قالت
له إن طلقتني، أو إذا طلقتني أو متى طلقتني أو متى ما طلقتني فلك على ألف،
فقال طلقتك وقع الطلاق ثانيا واستحق الألف عليها، لان الطلاق لا يحتاج إلى
استدعائها ورضاها به، ولهذا لو طلقها بنفسه صح، وإنما الذي يحتاج إليه منها
هو التزامها للمال وقد وجد الالتزام منها، ويعتبر أن يكون جوابه على الفور،
لأنه معاوضة محضة من جهتها فاقتضى الجواب على الفور. وان قال إن بعتني هذا
فلك الف، ففيه وجهان حكاهما المسعودي.
(أحدهما) يصح كما قلنا في الخلع.
(والثاني) لا يصح - وهو المشهور - لان البيع تمليك يحتاج فيه إلى
رضى الملك.
وقوله إن بعتني، ليس بقبول ولا جار مجراه، ولهذا نذكر ما قال علماء اللغة
في حرف (ان) ووظيفتها في الاستعمال، فقال العلامة الفيومي في المصباح،
وأما ان بالسكون فتكون حرف شرط. وهو تعليق أمر على أمر نحو ان قمت
قمت. ولا يعلق بها الا ما يحتمل وقوعه، ولا تقتضي الفور. بل تستعمل في
الفور والتراخي مثبتا كان الشرط أو منفيا فقوله: ان دخلت الدار أو ان لم
تدخلي الدار فأنت طالق يعم الزمانين.
19

قال الأزهري: وسئل ثعلب: لو قال لامرأته: إن دخلت الدار أو إن لم
تدخلي الدار إن كلمت زيدا فأنت طالق متى تطلق؟ فقال: إن فعلتهما جميعا
لأنه أتى بشرطين، فقيل له: لو قال أنت طالق إن احمر البسر فقال: هذه المسألة
محال، لان البسر لابد أن يحمر، فالشرط فاسد فقيل له: لو قال إذا احمر البسر
فقال: تطلق إذا احمر، لأنه شرط صحيح ففرق بين إن وبين إذا فجعل " ان "
للممكن، و " إذا " للمحقق، فيقال: إذا جاء رأس الشهر، وان جاء رأس الشهر
وان جاء زيد، وقد تتجرد عن معنى الشرط فتكون بمعنى " لو " نحو صل وان
عجزت عن القيام، ومعنى الكلام حينئذ الحاق الملفوظ بالمسكوت عنه في الحكم
أي صل، سواء قدرت على القيام أو عجزت عنه، ومنه يقال: أكرم زيدا.
وان قعد، قالوا وللحال والتقدير، ولو في حال قعوده، وفيه نص على ادخال
الملفوظ بعد الواو تحت ما يقتضيه اللفظ من الاطلاق والعموم إذ لو اقتصر على
قوله: أكرم زيدا لكان مطلقا والمطلق جائز التقييد فيحتمل ما بعد الواو تحت
العموم، ويحتمل خروجه على إرادة التخصيص، فيتعين الدخول بالنص عليه
ويزول الاحتمال، ومعناه أكرمه سواء قعد أو لا، ويبقى الفعل على عمومه
وتمتنع إرادة التخصيص حينئذ.
قال المرزوقي في شرح الحماسة: وقد يكون في الشرط معنى الحال كما يكون
في الحال معنى الشرط.
قال الشاعر: عاود هراة وان معمورها خربا
ففي الواو معنى الحال أي ولو في حال خرابها، ومثال الحال يتضمن معنى
الشرط لأفعلنه كائنا ما كان. والمعنى إن كان هذا وإن كان غيره وتكون للتجاهل
كقولك لمن سألك، هل ولدك في الدار؟ وأنت عالم به إن كان في الدار أعليك به
وتكون لتنزيل العالم منزلة الجاهل تحريضا على الفعل أو دوامه كقولك ان كنت
ابني فأطعني، وكأنك قلت: أنت تعلم أنك ابني ويجب على الابن طاعة الأب
وأنت غير مطيع فافعل ما تؤمر به.
20

وقال بعض أصحابنا المتأخرين: وان قالت له أجزت لك ألفا لتطلقني أو على
أن تطلقني فقال أنت طالق، طلقت واستحق عليها الألف.
وقال ابن الصباغ: إذا استأجرته على أن يطلق ضرتها لم يصح. وأما المعلق
فمثل أن يعلق الطلاق على ضمان مال أو عطاء مال فينظر فيه، فإن كان بحرف
ان مثل أن قال إن ضمنت لي ألفا فأنت طالق، فإن قالت ضمنت بحيث يصح أن
يكون جوابا لكلامه وقع الطلاق، لأنه وجد الشرط، وان تأخر الضمان عن
قوله بزمان طويل أو بعد أن أخذت في كلام لم يقع الطلاق ولم يلزمها الألف
لأنه معاوضة، ومن شرط القبول فيه على الفور. وان ضمنت له في المجلس بعد
زمان ليس بطويل ففيه وجهان حكاهما الصيمري قال ظاهر النص أنه يلزم ذلك
وان قال: إن أعطيتني ألفا فأنت طالق فأعطته بحيث يصلح أن يكون جوابا
لكلامها وقع الطلاق ويكفى أن تحضر الألف وتأذن له في قبضها سواء أخذها
أو لم يأخذها لأنه يقع عليها اسم العطية. وان تأخرت العطية عن الفور بسبب
منها بأن لم تعطه إياها وبسبب منه بأن غاب أو هرب لم يقع الطلاق لأنه لم يوجد
الشرط، وإذا أخذ الألف فهل يملكها.
وقال عامة أصحابنا: يملكها لأنه معافى منه فملكها، كما لو قال: طلقتك على
هذه الألف فقالت قبلت. وحكى أبو علي الشيخي فيها وجهين (أحدهما) يملكها
لما ذكرناه (والثاني) لا يملكها وهو قول المزني وابن القاص، لأنه معاوضة فلم
يصح تعليقها على الصفة كالبيع، فعلى هذا يرد الألف إليها ويرجع عليها بمهر
مثلها، والأول هو المشهور.
فإن قال: إن قبضت منك ألفا فأنت طالق فجاءته بألف ووضعته بين يديه
وأذنت له في قبضه فلم يقبضه لم يقع الطلاق، لان الصفة لم توجد، وان أكرهها
على الاقباض فقبض.
قال المسعودي: وقع الطلاق رجعيا ورد المال إليها. قال المصنف: ويصح
رجوع الزوج عن الضمان والعطية كما قلنا فيما عقد بلفظ المعاوضة، فإن قالت
طلقني بألف، فقال أنت طالق ان شئت، فان وجدت المشيئة منها فالقول جوابا
21

لكلامه على الفور وقع الطلاق بائنا ولزمها الألف لأنه علق الطلاق بالمشيئة منها
وقد وجدت وان تأخرت مشيئتها عن الفور لم يقع الطلاق، لان الشرط لم
يوجد لأنه لم يرض بطلاقها إلا بعوض، ولا يلزم العوض الا بالقبول على
الفور: وان قالت: طلقني بألف فقال لها: طلقي نفسك ان شئت، فان قالت
طلقت نفسي لزمها الألف ولا يشترط أن تقول: شئت لان طلاقها لنفسها يدل
على مشيئتها كقوله: متى ضمنت لي ألفا فأنت طالق، أو متى ما ضمنت لي أو أي
وقت ضمنت لي أو أي حين ضمنت لي أو أي زمان، فمتى ضمنت له على الفور وعلى
التراقي وقع عليها الطلاق، لأن هذه الألفاظ تستغرق الزمان كله
وتعمه في الحقيقة بخلاف " ان " فإنه لا يعم الزمان ولا يستغرقه، وإنما هو كلمة
شرط تحتمل الفور والتراخي الا إذا قرن به العوض حمل على الفور، لان
المعاوضة تقتضي الفور، فان رجع الزوج قبل الضمان لم تصح رجعته لأنه
تعليق طلاقه بصفة فلم يصح رجوعه كما لو قال لها: ان دخلت الدار فأنت طالق
وإن كان ذلك بحرف " إذا " بأن قال: إذا أعطيتني ألفا، وإذا ضمنت لي
ألفا فأنت طالق، فقد ذكر أكثر أصحابنا أن حكمه حكم قوله: أن ضمنت
لي ألفا أو ان أعطيتني ألفا، لأنها كلمة شرط لا تستغرق الزمان، فهي كقوله:
ان ضمنت لي.
وقال المصنف: حكمه حكم قوله متى ضمنت لي أو أي وقت ضمنت لي،
لأنها تفيد ما تفيده متى وأي وقت، ولهذا لو قال: متى ألقاك جاز أن يقول:
إذا شئت، كما يجوز أن يقول متى شئت بخلاف " ان " فإنها لا تفيد ما تفيده
متى، ولهذا لو قال له متى ألقاك لم يجز أن يقول إن شئت، وهكذا ان قال: أنت
طالق أن أعطيتني ألفا بفتح الهمزة وقع الطلاق عليها، وكان مقرا بأنها أعطته
ألفا فترد إليها.
(فرع) إذا قال لها ان ضمنت لي ألفا فطلقي نفسك، فإنه يقتضى ضمانا
وتطليقا على الفور بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه، وسواء قالت ضمنت
22

الألف وطلقت نفسي أو قالت طلقت نفسي وضمنت الألف فإنه يصح لأنه تمليك
بعوض فكان القبول فيه على الفور كالبيع.
(فرع) قال الشافعي: ولو أخذ منها ألفا على أن يطلقها إلى شهر فطلقها
فالطلاق ثابت ولها الألف وعليها مهر المثل. قال أصحابنا: وهذا يحتمل
ثلاثة تأويلات.
(أحدها) أنه أراد إذا مضى الشهر طلقها فلا يصح، لأنه سلف في الطلاق.
(والثاني) أنه أراد أن يطلقها الآن ثم يرفع الطلاق بعد شهر فلا يصح،
لان الطلاق إذا وقع لم يرفع.
(الثالث) أنه أراد أن يطلقها ان شاء الساعة، وان شاء إلى شهر، فلا يصح
لأنه سلف في الطلاق، ولان وقت ايقاع الطلاق مجهول، وان قالت له إذا جاء
رأس الشهر وطلقتني فلك على ألف فطلقها عند رأس الشهر أو قال لها. إذا جاء
رأس الشهر فأنت طالق على الألف، فقالت قبلت ففيه وجهان.
(أحدهما) يصح لان الطلاق يصح تعليقه على الصفات.
(الثاني) لا يصح وهو الأصح لان المعاوضة لا يصح تعليقها على الصفات
فإذا قلنا يصح - قال ابن الصباغ - وجب تسليم العوض في الحال لأنها رضيت
بتأجيل المعوض، وان قلنا: لا يصح، فأعطته ألفا وقع عليها الطلاق وردت
الألف إليها، ورجع عليها بمهر مثلها، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجوز الخلع بالقليل والكثير والدين والعين والمال والمنفعة،
لأنه عقد على منفعة البضع فجاز بما ذكرناه كالنكاح، فان خالعها على أن تكفل
ولده عشر سنين وبين مدة الرضاع وقدر النفقة وصفتها فالمنصوص أنه يصح،
فمن أصحابنا من قال فيه قولان لأنها صفقة جمعت بيعا وإجارة، ومنهم من قال
يصح قولا واحدا لان الحاجة تدعو إلى الجمع بينهما لأنه إذا أفرد أحدهما لم يمكنه
أن يخالع على الآخر وفى غير الخلع يمكنه أن يفرد أحدهما ثم يعقد على الآخر،
وان مات الولد بعد الرضاع ففي النفقة وجهان.
23

(أحدهما) أنها تحل لأنها تأجلت لأجله وقد مات (والثاني) لا تحل لان
الدين إنما يحل بموت من عليه دون من له
(فصل) وإن خالعها خلعا منجزا على عوض ملك العوض بالعقد وضمن
بالقبض كالصداق، فإن كان عينا فهلكت قبل القبض، أو خرج مستحقا أو على
عبد فخرج حرا، أو على خل فخرج خمرا رجع إلى مهر المثل في قوله الجديد،
وإلى بدل المسمى في قوله القديم، كما قلنا في الصداق. وإن خالعها على أن ترضع
ولده فماتت فهو كالعين إذا هلكت قبل القبض، وإن مات الولد ففيه قولان
(أحدهما) يسقط الرضاع ولا يقوم غير الولد مقامه لأنه عقد على إيقاع منفعة
في عين، فإذا تلفت العين لم يقم غيرها مقامها، كما لو أكراه ظهرا للركوب فهلك
الظهر. فعلى هذا يرجع إلى مهر المثل في قوله الجديد. والى أجرة الرضاع في
قوله القديم.
(والقول الثاني) أنه لا يسقط الرضاع. بل يأتيها بولد آخر لترضعه لان
المنفعة باقية، وإن مات المستوفى قام غيره مقامه، كما لو اكترى ظهرا ومات
فان الوارث يقوم مقامه. فعلى هذا إن لم يأت بولد آخر حتى مضت المدة ففيه
وجهان (أحدهما) لا يرجع عليها لأنها مكنته من الاستيفاء فأشبه إذا أجرته
دارا وسلمتها إليه فلم يسكنها (والثاني) يرجع عليها لان المعقود عليه تحت يدها
فتلف من ضمانها كما لو باعت منه شيئا وتلف قبل أن يسلم. فعلى هذا يرجع بمهر
المثل في قوله الجديد وبأجرة الرضاع في قوله القديم. وان خالعها على خياطة
ثوب فتلف الثوب فهل تسقط الخياطة أو يأتيها بثوب آخر لتخيطه؟ فيه وجهان
بناء على القولين في الرضاع
(فصل) ويجوز رد العوض فيه بالعيب لأن اطلاق العقد يقتضى السلامة
من العيب فثبت فيه الرد بالعيب كالمبيع والصداق فإن كان العقد على عين بأن
طلقها على ثوب أو قال إن أعطيتني هذا الثوب فأنت طالق فأعطته ووجد به عيبا
فردته رجع إلى مهر المثل في قوله الجديد وإلى بدل العين سليما في قوله القديم
كما ذكرناه في الصداق. وإن كان الخلع منجزا على عوض موصوف في الذمة
فأعطته ووجده معيبا فرده طالب بمثله سليما كما قلنا فيمن أسلم في ثوب وقبضه
24

ووجده معييا فرده. وإن قال إن دفعت إلى عبدا من صفته كذا وكذا فأنت طالق
فدفعت إليه عبدا على تلك الصفة طلقت، فان وجده معيبا فرده رجع في قوله
الجديد إلى مهر المثل وإلى بدل العبد في قوله القديم لأنه تعين بالطلاق فصار كما
لو خالعها على عين فردها بالعيب، ويخالف إذا كان موصوفا في الذمة في خلع
منجز فقبضه ووجد به عيبا فرده لأنه لم يتعين بالعقد ولا بالطلاق فرجع إلى ما في
الذمة. وإن خالعها على عين على أنها على صفة فخرجت على دون تلك الصفة
ثبت له الرد كما قلنا في البيع، فإذا رده رجع إلى مهر المثل في أحد القولين وإلى
بدل المشروط في القول الآخر كما قلنا فيما رده بالعيب
(فصل) ولا يجوز الخلع على محرم ولا على ما فيه غرر كالمجهول ولا ما لم
يتم ملكه عليه ولا ما لا يقدر على تسليمه لأنه عقد معاوضة فلم يجز على ما ذكرناه
كالبيع والنكاح، فان طلقها على شئ من ذلك وقع الطلاق لان الطلاق يصح مع
عدم العوض فصح مع فساده كالنكاح ويرجع عليها بمهر المثل لأنه تعذر رد
البضع فوجب رد بدله كما قلنا فمن تزوج على خمر أو خنزير، فان خالعها شرط
فاسد بأن قالت طلقني بألف بشرط أن تطلق ضرتي فطلقها وقع الطلاق ويرجع
عليها بمهر المثل. لان الشرط فاسد فإذا سقط وجب إسقاط ما زيد في البدل
لأجله وهو مجهول فصار العوض فيه مجهولا فوجب مهر المثل فان قال إذا جاء
رأس الشهر فأنت طالق على ألف ففيه وجهان (أحدهما) يصح لأنه تعليق طلاق
بشرط (والثاني) لا يصح لأنه عقد معاوضة فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع
فعلى هذا إذا وجد الشرط وقع الطلاق ورجع عليها بمهر المثل
(الشرح) الأحكام: إذا خالع امرأته على أن ترضع ولده وتحضنه وتكفله
بعد الرضاع وبين مدة الرضاع وقدر الطعام وصفته والأدم وكم تجد منه في كل
يوم وكان الطعام والإدام مما يجوز السلم فيه وبين مدة الكفالة بعد الرضاع فالمنصوص
أنه يصح. ومن أصحابنا من قال: هل يصح العوض؟ فيه قولان لان هذا جميعه
في أصول الشافعي في كل واحد منها قولان. أحدهما البيع والإجارة لان في هذا
إجارة الرضاع وابتياعا للنفقة. والثاني: السلم على شيئين مختلفين. والثالث: فيه
السلم على شئ إلى آجال، والصحيح يصح قولا واحدا لان السلم والبيع إنما لم يصح
25

على أحد القولين لان كل واحد منهما مقصود. والمقصود ههنا هو الرضاع والباقي
بيع له. ويجوز في التابع مالا يجوز في غيره. ألا ترى أنه يجوز أن يشترى الثمرة
على الشجرة مع الشجرة قبل بدو الصلاح من غير شرط القطع. ولو اشترى
الثمرة وحدها كذلك لم يصح. وأما السلم على شئ إلى آجال وعلى شيئين إلى أجل
فإنما لم يصح لأنه لا حاجة به إليه. وههنا به إلى هذا حاجة لأنه كان يمكنه أن يسلم
على كل واحد وحده. وها هنا لا يمكنه الخلع على ذلك مرتين. إذا ثبت هذا فان
عاش الولد حتى استكمل مدة الرضاع وحل وقت النفقة فللأب أن يأخذ كل يوم
قدر ما يحل عليها من النفقة والأدم فيه. فان شاء أخذه لنفسه وأنفق على ولده
من ماله. وان شاء أنفقه على ولده. فإن كان ذلك أكثر من كفاية الولد كانت للأب
وإن كان أقل من كفاية الولد كان على الأب تمام نفقته. وان أذن لها في أنفاق ذلك
على الولد. فقد قال أكثر أصحابنا يصح ذلك كما لو كان في ذمته لغيره دين فأمره
بدفعه إلى إنسان فإنه برأ بدفعه إليه. وسواء كان المدفوع إليه ممن يصح قبضه أو
ممن لا يصح قبضه كما لو كان له في يده طير فأمره بارساله
وقال ابن الصباغ: يكون في ذلك وجهان كالملتقط إذا أذن له الحاكم في
اسقاط ماله على اللقيط
وان مات الصبي بعد استكماله الرضاع دون مدة النفقة لم يبطل العوض لأنه قد
استوفى الرضاع. ويمكن الأب أخذ النفقة. فيأخذ ما قدره من النفقة. وهل يحل
عليها ذلك بموت الولد؟ ولا يستحق الأب أخذه الا على نجومه؟ فيه وجهان
(أحدهما) يحمل عليها فيطالبها به الأب لان تأجيله إنما كان لحق الولد
(والثاني) لا يستحق أخذه الا على نجومه - وهو الأصح لأنه وجب عليها
هكذا. وإنما مات المستوفى
وان مات الصبي بعد أن رضع حولا وكانت مدة الرضاع حولين فهل تنفسخ
الإجارة في الحول الثاني أو لا تنفسخ بل يأتيها بصبي آخر لترضعه؟ قال المسعودي
ان لم يكن الصبي الميت منها لم تنفسخ الإجارة قولا واحدا. وإن كان الولد الميت
منها فهل تنفسخ الإجارة أو لا تنفسخ بل يأتيها بصبي آخر لترضعه فيه قولان. والفرق
بينهما أنها تدر على ولدها مالا تدر على غيره وسائر أصحابنا حكوا القولين من غير تفصيل
26

(أحدهما) لا ينفسخ فيأتيها بصبي آخر، لان الصبي الميت مستوفى به، فلم
تبطل الإجارة بموته كما لو اكترى دابة ليركبها إلى بلد فمات قبل استيفاء الركوب
(والثاني) ليس له أن يأتيها بغيره بل تنفسخ الإجارة، لان الرضاع يتقدر
لحاجة الصبي إليه وحاجتهم تختلف فلم يقم غيره مقامه بخلاف الركوب، ولأنه
عقد على إيقاع منفعة في عين، فإذا تلفت تلك العين لم يقم غيرها مقامها كما لو
اكترى دابة ليركبها إلى بلد فماتت، فإذا قلنا بهذا أو قلنا بالأول ولم يأت بمن يقيمه
مقامه انفسخ العقد في الحول الثاني.
وهل ينفسخ في الحول الأول وفيما بقي من العوض؟ فيه طريقان كما قلنا
فيمن استأجر عينا حولين فتلفت في أثنائها، فإن قلنا: لا يبطل العقد في الحول
الأول ولا في النفقة فقد استوفى الرضاع في الحول الأول وله أن يستوفى النفقة
وهل يحل جميعها عليها؟ أو ليستوفيها على نجومها؟ على الوجهين.
وأما الحول الثاني فقد انفسخ العقد فيه، وبماذا يرجع عليها، فيه قولان.
(أحدهما) بأجرة الحول الثاني (والثاني) بقسطه من مهر المثل، فعلى هذا يقسم
مهر المثل على أجرة الرضاع في الحولين وعلى قيمة النفقة والأدم، فما قابل أجرة
الحول الثاني أخذه، وما قابل غيره لم يستحقه عليها.
وإن قلنا: إنه يأتيها بولد آخر، فإن أتاها به فحكمه حكم الأول، وان مكنه
أن يأتي به فلم يفعل حتى مضى الحول ففيه وجهان (أحدهما) يسقط حقه من
إرضاعها في الحول الثاني، لأنه أمكنه استيفاء حقه وفوته باختياره: وهو كما لو
اكترى دابة ليركبها شهرا فحبسها حتى مضى الشهر ولم يركبها (والثاني) لا يسقط
حقه، لان المستحق بالعقد إذا تعذر تسليمه حتى تلف لم يسقط حق مستحقه
سواء كان بتفريط أو بغير تفريط، كما لو اشترى بهيمة وقدر على قبضها فلم
يقبضها حتى ماتت في يد البائع بخلاف الدابة، فان منفعتها تلفت تحت يده، وان
ماتت المرأة نظرت - فان ماتت بعد الرضاع لم يبطل العقد، بل يستوفى النفقة
من مالها، وان ماتت قبل الرضاع أو في أثنائه أو انقطع لبنها انفسخ العقد فيما
بقي من مدة الرضاع، لان المعقود عليه إرضاعها، وقد تعذر ذلك فبطل العقد
27

كما لو استأجر دابة ليركبها فماتت قبل استيفاء الركوب، وهل يبطل العقد، أو
لا يبطل العقد ويأتيها بثوب آخر لتخيطه، فيه وجهان بناء على القولين في
الصبي إذا مات.
(مسألة) وإن خالعها خلعا منجزا على عوض معلوم بينهما صح الخلع وملك
العوض بالعقد، فان هلك العوض قبل القبض رجع عليها ببدله، وفى بدله قولان
قال في الجديد: مهر المثل، وقال في القديم: مثل العوض إن كان له مثل أو قيمة
ان لم يكن له مثل كما قلنا في الصداق إذا تلف في يد الزوج قبل القبض، وإن
خالعها على خمر أو خنزير أو شاة ميتة أو ما أشبه ذلك مما لا يصح بيعه وقع
الطلاق ثابتا ورجع عليها بمهر مثلها قولا واحدا.
وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يقع الطلاق ولا يرجع عليها بشئ، دليلنا
أن هذا عقد على البضع، وإذا كان المسمى فيه فاسدا وجب مهر مثلها كما لو
نكحها على ذلك، وإن خالعها على ما في هذا البيت من المتاع، ولا شئ فيه وقع
الطلاق بائنا ورجع عليها بمهر مثلها قولا واحدا.
وقال أبو حنيفة وأحمد: يرجع عليها بمثل المتاع المسمى. دليلنا أنه عقد
على البضع بعوض فاسد فوجب مهر المثل كما لو سمى ذلك في النكاح، وإن قال
خالعتك على ما في هذه الجرة من الخل فبان خمرا وقع الطلاق بائنا.
قال الشافعي في الام: وله مهر مثلها، قال أصحابنا: ويحكى فيه القول القديم
أنه يرجع عليها بمثل الخل. قال ابن الصباغ وهذا فيه نظر، لان الخل مجهول
فلا يمكن الرجوع إليه، هذا مذهبنا، وقال أحمد يرجع عليها بقيمة الخل، دليلنا
ما مضى في التي قبلها.
(فرع) إن كان له امرأتان فقالتا له طلقنا على ألف درهم، فقال أنتما طالقتان
جوابا لكلامهما، وقع عليهما الطلاق، وهل يصح تسميتهما للألف، فيه
قولان، فإذا قلنا: تصح التسمية قسمت الألف عليهما على قدر مهر مثلها،
وان قلنا إن التسمية لا تصح، رجع عليهما بمثل الألف في القول القديم، لان
لها مثلا، فيقسم عليهما على مهر مثلهما.
28

وعلى القول الجديد: يرجع على كل واحدة منهما بمهر مثلها، وإن أقر الطلاق
على الفور ثم طلقها كان رجعيا إلا أن يقول: أنتما طالقان على ألف، فيقولان
عقيب قوله: قبلنا، فتكون كالأولة، وإن قالتا: طلقنا على ألف بيننا نصفين
فطلقهما عقيب قوليهما وقع الطلاق ثانيا واستحق على كل واحدة منهما خمسمائة
قولا واحدا، لان كل واحدة منهما استدعت الطلاق بعوض معلوم، وان قالتا
له طلقنا بألف فطلق إحداهما على الفور ولم يطلق الأخرى، وقع طلاق التي
طلقها، وهل تصح التسمية بقسطها من الألف، على القولين
فإذا قلنا: تصح قسمت الألف على مهر مثلها ومهر مثل الأخرى، فما قابل
مهر مثل المطلقة استحقه عليها عقيب استدعائهما الطلاق ثم طلقها في مجلس
الخيار، فإن كانتا غير مدخول بهما بانتا بالردة فلا يقع الطلاق ولا يلزمهما العوض
وإن كانتا مدخولا بهما فان طلاقهما موقوف على حكم نكاحهما، فان انقضت
عدتهما قبل أن يرجعا إلى الاسلام تبينا أن الفرقة حصلت بردتهما فلا يقع
عليهما الطلاق، ولا يلزمهما العوض وان رجعا إلى الاسلام قبل انقضاء عدتهما
تبينا أن الطلاق وقع عليهما ولزمهما العوض في قدر ما لزم كل واحدة منهما
ما ذكرناه في الأولة، وان رجعت إحداهما إلى الاسلام قبل انقضاء عدتها
وانقضت عدة الأخرى وهي باقية على الردة وقع الطلاق على التي رجعت إلى
الاسلام، وفى قدر ما يلزمها من العوض ما ذكرناه إذا طلق إحداهما ولم يقع
الطلاق على الأخرى ولا يلزمها عوض.
(فرع) وإن قالتا له: طلقنا بألف فقال لهما على الفور أنتما طالقان ان شئتما
فان قالتا له على الفور شئنا، طلقتا وفى قدر ما يلزم كل واحدة منهما من العوض
ما ذكرناه - وان أخرتا المشيئة على الفور لم يطلقها لأنه لم يوجد الشرط، وإن
شاءت إحداهما على الفور ولم تشأ الأخرى لم تطلق واحدة منهما، لأنه علق
طلاقهما بمشيئتهما ولم توجد مشيئتهما، وإن كانت المسألة بحالها وإحداهما بالغة
رشيدة والأخرى كبيرة محجور عليها فقالتا شئنا على الفور، وقع عليهما الطلاق
29

إلا أن البالغة الرشيدة يقع عليها بائنا، وفيما يستحقه من العوض عليها ما ذكرناه
من القولين.
وأما المحجور عليها فيقع عليها الطلاق ولا عوض عليها لأنها ليست من
أهل المعاوضة، وإن كانت من أهل المشيئة، ولهذا يرجع إليها في النكاح
وما تأكله، وإن كانت صغيرة غير مميزة فهل تصح مشيئتها فيه وجهان، أو كبيرة
مجنونة فلا مشيئة لها وجها واحدا.
(فرع) وإن قالت له: بعني سيارتك هذه وطلقني بألف، فقال: بعتك
وطلقتك، فقد جمعت بين خلع وبيع بعوض ففيه قولان، كما لو جمع بين البيع
والنكاح بعوض، فإذا قلنا: يصحان، قسم الألف على قيمة السيارة وعلى مهر
مثلها، فما قابل قيمة السيارة كان ثمنا، وما قابل مهر مثلها ان عوض خلعها،
وان وجدت بالسيارة عيبا فان قلنا: تفرق الصفقة ردت السيارة ورجعت عليه
بحصتها من الألف. وان قلنا: لا تفرق الصفقة ردت السيارة ورجعت بجميع
الألف ورجع عليها بمهر مثلها. وان قلنا: لا يصحان لم يصح البيع ولم يصح
العوض في الخلع، ولكن الخلع صحيح، وفى ماذا يرجع عليها، قولان.
(أحدهما) تقوم السيارة المبيعة وينظر إلى مهر مثلها، ويقسم الألف عليهما
(والثاني) يرجع عليها بمهر مثلها، هكذا ذكر ابن الصباغ، وذكر الشيخ
أبو حامد في التعليق، والمحاملي: أنه يرجع عليها بمهر المثل، ولعلهما أرادا على
الصحيح من القولين.
قال الشيخ أبو حامد: وهكذا الحكم فيه إذا قالت: خذ منى ألف درهم
وأعطني هذه العين المبيعة وطلقني، قال المحاملي: وهكذا إذا قالت: طلقني على
ألف على أن تعطيني الشئ الفلاني فطلقها اه‍. والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فإذا خالع امرأته لم يلحقها ما بقي من عدد الطلاق، لأنه لا يملك
بضعها فلم يلحقها طلاقه كالأجنبية، ولا يملك رجعتها في العدة. وقال أبو ثور
إن كان بلفظ الطلاق فله أن يراجعها، لان الرجعة من مقتضى الطلاق فلم يسقط
30

بالعوض كالولاء في العتق، وهذا خطأ لأنه يبطل به إذا وهب بعوض، فإن
الرجوع من مقتضى الهبة وقد سقط بالعوض، ويخالف الولاء، فان باثباته
لا يملك ما اعتاض عليه من الرق، وباثبات الرجعة يملك ما اعتاض عليه
من البضع.
(فصل) وإن طلقها بدينار على أن له الرجعة سقط الدينار وثبتت له
الرجعة، وقال المزني: يسقط الدينار والرجعة ويجب مهر المثل كما قال الشافعي
فيمن خالع امرأة على عوض، وشرطت المرأة أنها متى شاءت استرجعت العوض
وثبتت الرجعة أن العوض يسقط، ولا تثبت الرجعة، وهذا خطأ، لان الدينار
والرجعة شرطان متعارضان فسقطا وبقى طلاق مجرد فثبتت معه الرجعة، فأما
المسألة التي ذكرها الشافعي رحمه الله فقد اختلف أصحابنا فيها، فمنهم من نقل
جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى، وجعلهما على قولين ومنهم من قال:
لا تثبت الرجعة هناك، لأنه قطع الرجعة في الحال، وإنما شرطت أن تعود فلم
تعد وههنا لم يقطع الرجعة فثبتت.
(الشرح) الأحكام: إذا خالع امرأته لم يلحقها ما بقي من عدد الطلاق،
سواء قلنا الخلع طلاق أو فسخ. وسواء طلقها في العدة أو في غيرها، وسواء
طلقها بالصريح أو بالكناية مع البينة، وبه قال ابن عباس وعروة بن الزبير وأحمد
وإسحاق، وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه يلحقها الطلاق ما دامت في
العدة ولا يلحقها بعد العدة ولا يلحقها الطلاق بالكناية بحال.
وقال مالك والحسن البصري: يلحقها الطلاق عن قرب ولا يلحقها عن بعد
فالقرب عند مالك أن يكون الطلاق متصلا بالخلع والحسن البصري يقول: إذا
طلقها في مجلس الخلع لحقها. وإن طلقها بعده لم يلحقها.
دليلنا أنه لا يملك رجعتها فلم يلحقها طلاقه كالأجنبية. أو نقول: لان من
لا يصح طلاقها بالكناية مع البينة لم يصح طلاقها بالصريح. كما لو انقضت
عدتها. أو من لا يلحقها الطلاق بعضو لم يلحقها بغير عوض كالأجنبية،
(فرع) ولا يثبت للزوج الرجعة على المختلعة سواء خالعها بلفظ الخلع
31

أو بلفظ الطلاق، وبه قال الحسن البصري والنخعي ومالك والأوزاعي والثوري
وأبو حنيفة، وذهب ابن المسيب والزهري إلى أنه بالخيار إن شاء أخذ العوض
ولا رجعة له، وإن شاء ترك العوض وله الرجعة.
قال الشيخ أبو حامد: وأظنهما أرادا ما لم تنقض العدة. وقال أبو ثور إن
كان بلفظ الطلاق فله الرجعة، لان الرجعة من موجب الطلاق، كما أن الولاء من
موجب العتق، ثم لو أعتق عبده بعوض لم يسقط حقه من الولاء، فكذلك ان
صرفها بعوض. ودليلنا قوله تعالى " فلا جناح عليهما فيما افتدت به " وإنما
يكون فداء إذا خرجت عن قبضته وسلطانه: فلو أثبتنا له الرجعة لم يكن للفداء
فائدة، ولأنه ملك العوض بالخلع فلم تثبت له الرجعة، كما لو خالعها بلفظ الخلع،
ويخالف الولاء فإنه باثبات الولاء عليه لا يملك ما أخذ عليه العوض من الرق
وباثبات الرجعة له يملك ما أخذ عليه العوض من البضع
(فرع) قال الشافعي في المختصر: لو خالعها تطليقة بدينار على أن له الرجعة
فالطلاق لازم وله الرجعة والدينار مردود. وقال المزني: يسقط الدينار والرجعة
ويجب مهر مثلها، كما قال الشافعي فيمن خالع امرأته على عوض وشرطت المرأة
أنها متى شاءت استرجعت الدينار. وتثبت الرجعة أو أن العوض يسقط ولا تثبت
الرجعة، ونقل الربيع الأولة في الام كما نقلها المزني، قال الربيع وفيها قول آخر
أن له مهر مثلها ولا رجعة. وقد نقل المزني جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى
وخرجهما على قولين
وقال أكثر أصحابنا: لا يختلف المذهب في الأولة أن له الرجعة ويسقط
الدينار، وما حكاه الربيع فهو من تخريجه. وما ذكره المزني فهو مذهبه بنفسه
لأن الخلع اشتمل على العوض وشرط الرجعة، وهذان الشرطان متضادان،
فكان إثبات الرجعة أولا لأنها ثبتت بالطلاق والعوض لا يثبت الا بالشرط.
وأما الفرق بين الأولة والثانية فإنه قد قطع الرجعة في الثانية، وإنما شرط عودها
فيما بعد فلم تعد، وفى الأولة لم يقطع الرجعة في الحال، فكانت باقية
على الأصل.
32

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن وكلت المرأة في الخلع ولم تقدر العوض فخالع الوكيل بأكثر
من مهر المثل لم يلزمها إلا مهر المثل، لان المسمى عوض فاسد بمقتضى الوكالة
فسقط ولزم مهر المثل كما لو خالعها الزوج على عوض فاسد، فإن قدرت العوض
بمائة فخالع عنها على أكثر منها فيه قولان (أحدهما) يلزمها مهر المثل لما ذكرناه
(والثاني) يلزمها أكثر الامرين من مهر المثل أو المائة، فإن كان مهر المثل أكثر
وجب، لان المسمى سقط لفساده ووجب مهر المثل، وإن كانت المائة أكثر
وجبت لأنها رضيت بها، وأما الوكيل فإنه إن ضمن العوض في ذمته رجع الزوج
عليه بالزيادة لأنه ضمنها بالعقد، وإن لم يضمن بأن أضاف إلى مال الزوجة لم
يرجع عليه بشئ، فان خالع على خمر أو خنزير وجب مهر المثل، لان المسمى
سقط فوجب مهر المثل، فان وكل الزوج في الخلع ولم يقدر العوض فخالع
الوكيل بأقل من مهر المثل - فقد نص فيه على قولين - قال في الاملاء: يقع
ويرجع عليه بمهر المثل. وقال في الام الزوج بالخيار بين ان يرضى بهذا العوض
ويكون الطلاق بائنا وبين أن يرده ويكون الطلاق رجعيا. وقال فيمن وكل وقدر
العوض فخالع على أقل منه إن الطلاق لا يقع، فمن أصحابنا من نقل القولين في
الوكالة المطلقة إلى الوكالة التي قدر فيها العوض، والقول في الوكالة التي قدر فيها
العوض إلى الوكالة المطلقة وهو الصحيح عندي، لان الوكالة المطلقة تقتضي المنع
من النقصان عن مهر المثل كما تقتضي الوكالة التي قدر فيها العوض المنع من
النقصان عن المقدر، فيكون في المسئلتين ثلاثة أقوال (أحدها) أنه لا يقع الطلاق
لأنه طلاق أوقعه على غير الوجه المأذون فيه فلم يقع، كما لو وكله في الطلاق في
يوم فأوقعه في يوم آخر (والثاني) أنه يقع الطلاق بائنا ويجب مهر المثل، لان
الطلاق مأذون فيه فإذا وقع لم يرد المسمى فاسد فوجب مهر المثل كما لو خالعها
الزوج على عوض فاسد (والثالث) أن الطلاق يقع لأنه مأذون فيه وإنما قصر في البدل
فثبت له الخيار بين أن يرضى بهذا العوض ويكون الطلاق بائنا وبين أن يرد ويكون الطلاق
رجعيا لأنه لا يمكن اجبار الزوج على المسمى لأنه دون المأذون فيه، ولا يمكن
33

إجبارها على مهر المثل فيما أطلق، ولا على الذي نص عليه من المقدر لأنها لم
ترض به فخير بين الامرين ليزول الضرر عنهما. ومن أصحابنا من قال فيما قدر
العوض فيه لا يقع الطلاق لأنه خالف نصه، وفيما أطلق يقع الطلاق لأنه لم
يخالف نصه، وإنما خالفه من جهة الاجتهاد، وهذا يبطل بالوكيل في البيع فإنه
لا فرق بين أن يقدر له الثمن فباع بأقل منه وبين أن يطلق فباع بما دون ثمن المثل
وإن خالعها على خمر أو خنزير لم يقع الطلاق، لأنه طلاق غير مأذون فيه،
ويخالف وكيل المرأة فإنه لا يوقع الطلاق وإنما يقبله، فإذا كان العوض فاسدا
سقط ورجع إلى مهر المثل
(الشرح) الأحكام: يجوز التوكيل في الخلع من جهة الزوجة والزوج لأنه
عقد معاوضة فجاز التوكيل فيه كالبيع، ويجوز أن يكون الوكيل منهما مسلما
وكافرا حرا وعبدا، رشيدا ومحجورا عليه، ويجوز أن يكون الوكيل من جهة
الزوجة امرأة، وهل يجوز أن يكون وكيل الزوج امرأة؟ فيه وجهان المنصوص
أنه يصح، لان من صح منه عقد المعاوضة صح أن يكون وكيلا فيه كالبيع.
والثاني لا يصح لأنها لا تملك إيقاع الطلاق بنفسها فلم تملك في حقه غيرها. قال
الشافعي: ويجوز أن يكون وكيل واحد عنه وعنها. فمن أصحابنا من حمله على
ظاهره وقال يجوز أن يلي الواحد طرفي العقد في الخلع كما يجوز أن يوكل الرجل
امرأة في طلاقها، ومنهم من قال لا يصح كما لا يصح في النكاح أن يكون الواحد
موجبا قابلا، وحمل النص على أنه يجوز لكل واحد منهما أن يوكل وحده.
إذا ثبت هذا فان الوكالة تصح منهما مطلقا ومقيدا كما قلنا في البيع، فإذا طلقت
الوكيلة اقتضت مهر المثل كالوكيل في البيع والشراء. والمستحب أن يقدر الموكل
منهما العوض لوكيله لأنه أبعد من الغرر، فان وكلت المرأة في الخلع نظرت فان
أطلقت الوكالة فان الاطلاق يقتضى مهر المثل حالا من نقد البلد، فان خالع عنها
بذلك صح ولزمها أداء ذلك، وان خالعها بدون مهر مثلها أو مهر مثلها مؤجلا
صح لأنه زادها بذلك حيرا. قال ابن الصباغ: وهكذا ان خالع عنها بدون نقد
البلد صح لأنه زادها خيرا، وإن خالع بأكثر من مهر مثلها وقع الطلاق. قال
الشافعي في الاملاء: ويكون المسمى فاسدا فيلزمها مهر مثلها، لأنه خالع على
34

عوض لم يأذن فيه فكان فاسدا فسقط ووجب مهر مثلها، كما لو اختلعت بنفسها
على مال مغصوب. وقال في الام: عليها مهر مثلها إلى أن تبذل الزيادة على ذلك
فيجوز. قال الشيخ أبو حامد: فكأن الشافعي لم يبطل هذه الزيادة على مهر المثل
بكل حال ولكن لا يلزمها. وقال المسعودي هي على قولين (أحدهما) يجب عليها
مهر مثلها (والثاني) لها الخيار ان شاءت فسخت المسمى وكان عليها مهر مثلها.
وان شاءت أجازت ما سمى. وان قدرت له العوض بأن قالت اخلعني بمائة فان خلعها
بمائة صح لأنه فعل ما أمرته. وان خلعها بمائة مؤجلة أو بما دونها صح لأنه زادها
خيرا. وان خالعها بأكثر. فيه قولان (أحدهما) يقع الطلاق ويلزمها منه مهر
مثلها لا غير لأنه خالع بأكبر مما أمرته فكان فاسدا ووجب مهر المثل، وكما لو
اختلعت هي بخمر أو خنزير (والثاني) يلزمها أكثر الامرين من المائة أو مهر
مثلها، لان المائة إن كانت أكثر لزمتها لأنها قد أذنت فيها. وإن كان مهر المثل
أكثر لزمها لان المسمى فاسد فسقط ولزمها مهر مثلها.
إذا ثبت هذا فهل يلزم الوكيل ما زاد على مهر المثل في هذه والتي قبلها ينظر
فيه فان قال طلقها على كذا وكذا وعلى ضمانه لزمه للزوج الجميع ولأنه ضمنه،
وان قال طلقها ولم يقل من مالها بل أطلق لزمه ذلك لأن الظاهر أنه يخالع من
مال نفسه. وللوكيل أن يرجع عليها بمهر مثلها لأنه وجب عليه باذنها وما زاد
عليه يدفعه من ماله ولا يرجع عليها به لأنه وجب عليه بغير اذنها. وان قال طلقها
على كذا وكذا من مالها لزمها مهر مثلها ولم يلزم الوكيل ما زاد على مهر مثلها
لأنه أضاف ذلك إلى مالها ولم يأذن له فيه فسقط عنها. وان قيدت له أو طلقها
فخالع عنها بخمر أو خنزير وقع الطلاق بائنا ورجع عليها بمهر مثلها لان المسمى
فاسد فأسقط ووجب مهر مثلها كما لو خالعت هي بنفسها على ذلك
وقال المزني: لا يقع الطلاق لان الوكيل لم يعقد على ما هو مال فارتفع العقد
من أصله. كما لو وكله أن يبيع له عينا فباعها بخمر أو خنزير، وهذا خطأ لان
وكيل المرأة لا يوقع الطلاق وإنما يقبله فإذا قبله بعوض فاسد لم يمنع ذلك وقوع
الطلاق كما لو قبلت هي الطلاق بخمر أو خنزير. وإنما يصح هذا الذي قاله لوكيل الزوج
ان وكله الزوج في الخلع ولم يقدر العوض فان خالع عنه الوكيل بمهر المثل من نقد البلد
35

خالا صح. وإن قيد له العوض بأن قال: خالع عنى بمائة فإن خالعها جاز لأنه فعل
ما أذن له فيه، وإن خالع بأكبر منها صح، لأنه زاد خيرا، وإن خالع بما دون
المائة فنص الشافعي أن الطلاق لا يقع لأنه أذن له في ايقاع الطلاق على شئ
مقدر، فإذا أوقعه على صفة دونها لم يصح كما لو خالع بخمر أو خنزير. واختلف
أصحابنا فيها، فمنهم من قال: القولين إذا لم يقدر له العوض فخالع على أقل من
مهر المثل إلى هذه، وجوابه في هذه إلى تلك، وقال فيها ثلاثة أقوال، وهو
اختيار الشيخ أبي إسحاق.
(أحدها) يقع الطلاق فيهما بائنا ويلزمه مهر المثل.
(والثاني) يثبت للزوج فيها الخيار بين أن يرضى بالعوض المسمى في العقد
فيهما ويكون الطلاق بائنا، وبين أن لا يرضى به ويكون الطلاق رجعيا.
(والثالث) لا يقع فيهما طلاق ووجهها ما ذكرناه، لان الوكالة المطلقة
تقتضي المنع من النقصان عن مهر المثل كما أن الوكالة المقيدة تقتضي المنع من
النقصان عن العوض المقيد، ومنهم من حملهما على ظاهرهما فجعل الأولة على
قولين، والثانية على قول واحد ولم يذكر الشيخ أبو حامد في التعليق غيره، لأنه
إذا قيد له العوض في الف فخالع بأقل منه فقد خالف نص قوله، فنقض فعله
كالمجتهد إذا خالف النص، وإذا أطلق الوكالة فإنما علمنا أن الاطلاق يقتضى مهر
المثل من طريق الاجتهاد فإذا أدى الوكيل اجتهاده إلى المخالعة بأقل منه لم ينقض
كما لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد. قال ابن الصباغ وهذه الطريقة ظاهر كلام الشافعي
والأولة أقيس والأقيس من الأقوال: أن لا يقع الطلاق.
(فرع) إذا وكله أن يطلق أو يخالع يوم الجمعة، فطلق أو خالع يوم الخميس
لم يصح لأنه إذا طلقها يوم الجمعة كانت مطلقة يوم السبت، وإذا طلقها يوم
الجمعة لم تكن مطلقة يوم الخميس فكان الموكل قد رضى بطلاقها يوم السبت،
وإذا طلقها يوم الجمعة لم تكن مطلقه يوم الخميس فكأن الموكل قد رضى بطلاقها
يوم السبت ولم يرض بطلاقها يوم الخميس.
36

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإذا خالع امرأة في مرضه ومات لم يعتبر البدل من الثلث سواء
حابى أو لم يحاب لأنه لا حق للورثة في بضع المرأة ولهذا لو طلق من غير عوض
لم تعتبر قيمة البضع من الثلث، فان خالعت المرأة زوجها في مرضها وماتت فإن لم
يزد العوض على مهر المثل اعتبر من رأس المال لان الذي بذلت بقيمة ما ملكته
فأشبه إذا اشترت متاعا بثمن المثل وان زاد على مهر المثل اعتبرت الزيادة من
الثلث، لأنه لا يقابلها بدل فاعتبرت من الثلث كالهبة، فان خالعت على عبد قيمته
مائة، ومهر مثلها خمسون، فقد حابت بنصفه، فإن لم يخرج النصف من الثلث،
بأن كان عليها ديون تستغرق قيمة العبد، فالزوج بالخيار بين أن يقر العقد
في العبد فيستحق نصفه وبين أن يفسخ العقد فيه، ويستحق مهر المثل ويضرب
به مع الغرماء، لان الصفقة تبعضت عليه، وان خرج النصف من الثلث أخذ
جميع العبد نصفه بمهر المثل ونصفه بالمحاباة.
ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار بين أن يقر العقد في العبد، وبين أن يفسخ
العقد فيه ويستحق مهر المثل، لأنه تبعضت عليه الصفقة من طريق الحكم، لأنه
دخل على أن يكون جميع العبد له عوضا، وقد صار نصفه عوضا ونصفه وصيه
والمذهب الأول، لان الخيار إنما يثبت بتبعيض الصفقة لما يلحقه من الضرر
لسوء المشاركة، ولا ضرر عليه ههنا لأنه صار جميع العبد له فلم يثبت له الخيار.
(الشرح) الأحكام: يصح الخلع في مرض الموت من الزوجين كما يصح
منهما النكاح والبيع، فان خالع الزوج في مرض موته بمهر المثل أو أكثر صح
كما لو اتهبت في مرض موته، وان خالع بأقل من مهر المثل صح ولا اعتراض
للورثة عليه لأنه لا حق لهم في بضع امرأته، ولهذا طلقها بغير عوض لم
يكن لهم الاعتراض عليه، وان خالعت الزوجة في مرض موتها بمهر المثل
أو دونه كان ذلك من رأس المال.
وقال أبو حنيفة: يكون ذلك من الثلث. دليلنا أن الذي بذلته بقيمة ما تملكه
37

فهو كما لو اشترت به متاعا بقيمته، وإن خالعت بأكثر من مهر مثلها اعتبرت
الزيادة من الثلث لأنها محاباة فاعتبرت من الثلث كما لو اشترت متاعا بأكثر من
قيمته، وان خالعت في مرض موتها على سيارة قيمتها ألف ومهر مثلها خمسمائة
فقد حابته بنصف السيارة، فإن لم يخرج النصف من الثلث - فإن كان عليها دين
يستغرق مالها - فالزوج بالخيار بين أن يأخذ نصف السيارة لا غير وبين أن
يفسخ ويضرب مع الغرماء بمهر مثلها ونصفه وصية.
ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار بين أن يرضى بهذا وبين أن يفسخ ويرجع
بمهر مثلها، لان الصفقة تبعضت عليه لأنه دخل على أن يأخذ جميع السيارة
عوضا ولم يصح له بالعوض إلا نصفها ونصفها وصية. والصحيح أنه لا خيار له
لان السيارة قد سلمت له على كل حال، وإن لم يكن لها مال غير السيارة ولم يجز
الورثة كان للزوج نصف السيارة بمهر المثل وسدسها بالمحاباة فذلك ثلثا السيارة،
فيكون الزوج بالخيار بين أن يأخذ ثلثي السيارة وبين أن يفسخ ويرجع بمهر المثل
فإن قال الزوج: أنا آخذ مهر المثل نقدا وسدس السيارة بالوصية لم يكن له ذلك
لان سدس السيارة إنما يكون له وصية تبعا للنصف.
إذا ثبت هذا: فإن المزني نقل عن الشافعي أن له نصف السيارة ونصف مهر
المثل، ثم اعترض عليه وقال: هذا ليس بشئ، بل له نصف السيارة وثلث
ما بقي، قال أصحابنا: أخطأ المزني في النقل، وقد ذكرها الشافعي في الام فقال
له النصف بمهر مثلها.
(فرع) وإن خالعته في المرض الذي ماتت فيه على مائة ومهر مثلها أربعون
- ثم عاد الزوج فتزوجها على ملك المائة في مرض موته وماتا، وخلفت الزوجة
عشرة غير المائة ولم يخلف الزوج شيئا - فإن مات الزوج أولا بطلت محاباته
لها، لأنها ورثته وصحت محاباتها له، لأنه لم يرثها فيكون للزوج منها أربعون
مهر مثلها، وله شئ بالمحاباة، وإن ماتت الزوجة أولا ولم يترك غير المائة بطلت
محاباتها له، لأنه ورثها.
وأما محاباة الزوج لها - فان أصدقها المائة التي خالعته عليها بعينها لم يصح،
38

لأنه لما أصدقها المائة وهو لا يملك منها غير أربعين فكأنه أصدقها ما يملك وما لا
يملك، فبطل المسمى ورجعت إلى مهر المثل فيجب لكل واحد منهما على الآخر
مهر مثلها فيقاصان، ثم يرث الزوج نصف المائة عنها إن لم يكن لها ولد ولا ولد
ولد، فيكون ذلك لورثته، وإن أصدقها مائة في ذمتها صحت لها المحاباة وحسابه:
له أربعون مهر المثل ولا محاباة له ويرجع إليها صداقها، ولها شئ محاباة في
ذمته، فتكون تركتها مائة وشيئا، ويرث الزوج نصف ذلك وهو خمسون،
ونصف شئ، يخرج من ذلك لها شئ بالمحاباة، فيبقى في يد ورثته خمسون
إلا نصف شئ تعول شيئين فإذا خيرت عدلت الخمسون ستين، ونصفا الشئ
الكامل عشرون وهو ما كان بالمحاباة، ويجب للزوج عليها مهر مثلها، وله
عليها مهر مثلها فينقصان ويفضل لها عليه عشرون فيكون ذلك تركة لها مع
المائة فذلك مائة وعشرون، يرث الزوج نصف ذلك وهو ستون، فتأخذ المرأة
منها بالمحاباة عشرين، ويبقى لورثته أربعون، وهو مثلا محاباته لها، فيكون
لورثته ستون.
(فرع)
ولو تزوجها مرض موته على مائة درهم، ومهر مثلها خمسون، ودخل
بها، ثم خالفته في مرض موتها على مائة في ذمتها ثم ماتا ولا يملكان غير هذه
المائة ولم يجز ورثتها فحسابه للزوجة خمسون مهر مثلها من رأس المال ولها
شئ محاباة، فجميع تركتها خمسون وشئ للزوج منها خمسون مهر المثل،
وله ثلث شئ محاباة فيكون تركته مائة إلا ثلثي شئ تعدل شيئين، فإذا أخذت
عدلت المائة بشيئين وثلثي الشئ الكامل ثلاثة أثمان المائة وهو سبعة وثلاثون
ونصف، وهذا الذي صح لها بالمحاباة، فيأخذه من الزوج مع مهر المثل فذلك
سبعة وثلاثون ونصف، وهذا الذي صح لها بالمحاباة يأخذه من الزوج مع مهر
المثل فذلك سبعة وثلاثون ونصف، وهذا الذي صح لها بالمحاباة تأخذه من
الزوج مع مهر مثلها، وذلك سبعة وثمانون ونصف، فيرجع إليها مهر مثلها
بالخلع، ويبقى معها سبعة وثلاثون ونصف يستحق الزوج ثلث ذلك بالمحاباة
39

فيبقى لورثتها ثلثا ذلك، فيجتمع لورثة الزوج خمسة وسبعون وذلك مثلا
محاباته لها، فالدور وقع في فريضة الزوج لا في فريضة الزوجة، فإن تركت
الزوجة شيئا غير الصداق فإنك تضمن ثلث تركتها إلى المائة التي تركها الزوج ثم
تأخذ ثلاثة أثمان ذلك وهو الجائز بالمحاباة، وسواء مات الزوج أولا أو الزوجة
فالحكم واحد لأنهما لا يتوارثان.
قال ابن اللبان: ولو خالعته على المائة بعينها بطلت محاباتها لأنها خالعته على
ما تملك وعلى مالا تملك فبطل المسمى ووجب مهر المثل ولها بالمحاباة شئ فجميع
تركتها خمسون وشئ للزوج منها خمسون ولا محاباة لها فتركته مائه إلا شيئا
يعول شيئين للزوج منها خمسون ولا محاباة لها فتركته مائه إلا شيئا، فإذا
خيرت عولت المائة ثلاثة أشياء، الشئ ثلاثة وثلاثون وثلث يكون لها ذلك
مع مهر مثلها، فيأخذ الزوج من ذلك مهر مثلها مع ما بقي معه من المائة فذلك
سنة وستون وثلثان وذلك مثلا محاباته لها، والله الموفق للصواب وهو حسبنا
ونعم الوكيل.
قال المصنف رحمه الله:
باب جامع في الخلع
إذا قالت المرأة للزوج: طلقني على ألف، فقال: خالعتك، أو حرمتك،
أو أبنتك على ألف، ونوى الطلاق صح الخلع، وقال أبو علي بن خيران:
لا يصح لأنها سألت الطلاق بالصريح، فأجاب بالكناية، والمذهب الأول،
لأنها استدعت الطلاق، والكناية مع النية طلاق.
فان قالت: طلقني بألف فقال: خالعتك بألف ولم ينو الطلاق - وقلنا:
إن الخلع فسخ لم يستحق العوض - لأنها استدعت فرقة ينقص بها العدد ولم
يجبها إلى ذلك، فان قالت: اخلعني فقال: طلقتك - وقلنا: إن الخلع فسخ -
ففيه وجهان.
40

(أحدهما) لا يصح لأنه لم يجب إلى ما سألت، فهو كالقسم قبله (والثاني) يصح
وهو المذهب لأنها استدعت فرقة لا ينقص بها العدد، فأجاب إلى فرقة ينقص
بها العدد فحصل لها ما طلبت وزيادة.
(الشرح) الأحكام: إذا قالت المرأة طلقني ثلاثا ولك ألف، فطلقها ثلاثا
استحق آلاف عليها. وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة:
لا يستحق شيئا. دليلنا أنها استدعت منه الطلاق بالعوض فكان كما لو قالت:
طلقني وعندي ألف
وإن قالت طلقني ثلاثا ولك ألف أو بألف أو على ألف فطلقها واحدة استحق
عليها ثلث الألف، وبه قال مالك. وقال أحمد لا يستحق عليها شيئا. وقال
أبو حنيفة: إن قالت بألف استحق عليها ثلث الألف. وان قالت على ألف لم
تستحق شيئا. دليلنا أنها استدعت منه فعلا بعوض، فإذا فعل بعضه استحق
بقسطه، كما لو قالت: من رد على عبيدي الثلاثة من الإباق فله ألف فرد
واحدا منهم. وان قالت طلقني ثلاثا فطلقها واحدة ونصفا وقع عليها طلقتان.
هكذا أفاده العمراني في البيان وابن الصباغ في الشامل، وكم يستحق عليها؟ فيه
وجهان (أحدهما) يستحق ثلثي الألف، لأنه وقع عليها طلقتان
(والثاني) لا يستحق عليها إلا نصف الألف لأنه لم يوقع عليها الا نصف
الثلاث، وإنما سرت الطلقة بالشرع. وان قال: إن أعطيتني ألفا فأنت طالق
ثلاثا فأعطته ثلث الألف أو نصفها لم يقع الطلاق عليها، لان الصفة لم توجد
بخلاف ما لو استدعت منه الطلاق، فإن طريقه المعاوضة وهذا طريقه الصفة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قالت طلقني ثلاثا ولك على ألف فطلقها طلقة استحق ثلث
الألف لأنها جعلت الألف في مقابلة الثلاث، فكان في مقابلة كل طلقة ثلث
الألف. وان طلقها طلقة ونصفا ففيه وجهان (أحدهما) يستحق ثلثي الألف
لأنها طلقت طلقتين (والثاني) يستحق نصف الألف لأنه أوقع نصف الثلاث.
وإنما كملت بالشرع لا بفعله
41

فإن قال إن أعطيتني ألفا فأنت طالق ثلاثا، فأعطته بعض الألف لم يقع
شئ، لان ما كان من جهته طريقه الصفات، ولم توجد الصفة فلم يقع، وما كان
من جهتها طريقه الأعواض، فقسم على عدد الطلاق، وإن بقيت له على امرأته
طلقة فقالت له طلقني ثلاثا ولك على ألف، فطلقها واحدة، فالمنصوص أنه
يستحق الألف. واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس وأبو إسحاق: المسألة
مفروضة في امرأة علمت أنه لم يبقى لها إلا طلقة، فيكون معنى قولها طلقني ثلاثا
أي كمل لي الثلاث، كرجل أعطى رجلا نصف درهم، فقال له اعطني درهما أي
كمل لي درهما، وأما إذا ظنت أن لها الثلاث لم يجب أكثر من ثلث الألف لأنها
بذلت الألف في مقابلة الثلاث فوجب أن يكون لكل طلقة ثلث الألف.
ومن أصحابنا من قال يستحق الألف بكل حال لان القصد من الثلاث تحريمها إلى أن
تنكح زوجا عيره، وذلك يحصل بهذه الطلقة فاستحق بها الجميع، وقال المزني
رحمه الله: لا يستحق إلا ثلث الألف علمت أو لم تعلم، لان التحريم يتعلق بها
وبطلقتين قبلها، كما إذا شرب ثلاثة أقداح فسكر كان السكر بالثلاث، وإذا فقأ
عين الأعور كان العمى بفقء الباقية وبالمفقوءة قبلها، وهذا خطأ لان لكل
قدح تأثيرا في السكر، ولذهاب العين الأولى تأثيرا في العمى، ولا تأثير للأولى
والثانية في التحريم، لأنه لو كان لهما تأثير في التحريم لكمل، لأنه لا يتبعض
وان ملك عليه ثلاث تطليقات فقالت له طلقني طلقة بألف فطلقها ثلاثا
استحق الألف لأنه فعل ما طلبته وزيادة، فصار كما لو قال من رد عبدي فلانا
فله دينار فرده مع عبدين آخرين
فإن قالت طلقني عشرا بألف فطلقها واحدة ففيه وجهان (أحدهما) يجب
له عشر الألف لأنها جعلت لكل طلقة عشر الألف (والثاني) يجب له ثلث
الألف لان ما زاد على الثلاث لا يتعلق به حكم، وان طلقها ثلاثا فله على الوجه
الأول ثلاثة أعشار الألف، وعلى الوجه الثاني له جميع الألف، وان بقت له
طلقة فقالت له: طلقني ثلاثا على ألف، طلقة أحرم بها عليك وطلقتين في نكاح
آخر إذا نكحتني، فطلقها ثلاثا، وقعت طلقة ولا يصح ما زاد لأنه سلف في
42

الطلاق، ولأنه طلاق قبل النكاح، فإن قلنا إن الصفقة لا تفرق سقط المسمى
ووجب مهر المثل، وإن قلنا تفرق الصفقة ففيما يستحق قولان (أحدهما) ثلث
الألف (والثاني) جميع الألف كما قلنا في البيع
(الشرح) الأحكام: إن قال أنت طالق ثلاثا بألف فقالت قبلت واحدة
بثلث الألف. قال ابن الحداد: لم يقع الطلاق ولم يلزمها شئ لأنه لم يرض
بانقطاع رجعته عنها إلا بألف فلا ينقطع بما دونه. وإن قالت: قبلت واحدة
بألف قال ابن الحداد وقعت عليها طلقة واحدة واستحق عليها الألف لأنها
زادته خيرا. وقال بعض أصحابنا بل يقع عليه ثلاث طلقات بالألف لان
انقطاع الطلاقى إليه دونها وإنما إليها قبول العوض وقد وجد منه إيقاع الثلاث فوقعن
وإن قال أنت طالق ثلاثا بألف فقالت قبلتها بخمسمائة لم يصح الطلاق، ولم
يلزمها عوض لأنه لم يرض وقوع الطلاق عليها بأقل من ألف ولم تلتزم له
بالألف وان قالت طلقني ثلاثا بألف فقال أنت طالق ثلاثا بألف ودينار أو
بألفين لم يقع عليها الا أن تقول عقب قوله قبلت لأنها لم ترض بالتزام أكثر
من الألف، ولم يرض بإيقاع الطلاق الا بأكثر من الف
وان قالت طلقني ثلاثا بألف فقال أنت طالق ثلاثا بخمسمائة أو قالت طلقني
بألف ولم تقل ثلاثا، فقال أنت طالق بخمسمائة وقع عليها الثلاث في الأولة،
وفى الثانية ما نوى ولم يلزمها الا خمسمائة فيهما، لأنه زادها بذلك خيرا، لان
رضاها بألف رضى بما دونه، هكذا ذكر القاضي أبو الطيب وقال إذا قال طلقتك
على ألف فقالت قبلت بألفين وقع عليها الطلاق ولم يلزمها إلا ألف. وقال
المسعودي إذا قال خالعتك بألف فقالت اختلعت بألفين لم تقع الفرقة، لان من
شرط القبول أن يكون على وفق الايجاب
(فرع) إذا بقي له على امرأته طلقة فقالت طلقني ثلاثا بألف فطلقها واحدة
قال الشافعي استحق عليها الألف، واختلف أصحابنا فيه، فقال أبو العباس
وأبو إسحاق هذه مفروضة في امرأة تعلم أنه ما بقي عليها إلا واحدة، فيكون معنى
قولها طلقني ثلاثا أي أكمل لي الثلاث فيلزمها، فأما إذا كانت لا تعلم ذلك فلا
43

يستحق عليها إلا ثلث الألف لأنها بذلت الألف على الثلاث، فإذا طلقها واحدة
لم يستحق إلا ثلث الألف، كما لو كان يملك عليها ثلاثا فطلقها واحدة. ومن
أصحابنا من قال يستحق عليها الألف بكل حال، وهو ظاهر النص واختيار
القاضي أبى الطيب، لان المقصود بالثلاث قد حصل لها بهذه الطلقة. وقال المزني
لا يستحق عليها إلا ثلث الألف بكل حال، لان التحريم إنما يحصل بهذه الطلقة
وبالأولتين قبلها، كما إذا شرب ثلاثة أقداح فسكر، فإن السكر حصل بالثلاثة
أقداح، وان بقي عليها طلقتان، فقالت طلقني ثلاثا بألف، فإن قلنا بالطريقة
الأولى وكانت عالمة بأنه لم يبق عليها الا طلقتان، فإن طلقها طلقتين استحق
عليها الألف وان طلقها واحدة استحق عليها نصف الألف، وان لم تعلم
أنه بقي لها طلقتان فان طلقها طلقتين استحق عليها ثلثي الألف. وان طلقها
واحدة استحق عليها ثلث الألف، وعلى الطريقة الثانية ان طلقها طلقتين استحق
عليها الألف. وان طلقها واحدة قال ابن الصباغ فعندي أنه لا يستحق عليها الا
ثلث الألف لأن هذه الطلقة لم يتعلق بها تحريم العقد فصار كما لو كان له ثلاث
طلقات فطلقها واحدة
(مسألة) قوله وان ملك عليها ثلاث تطليقات الخ. وهو كما قال. فإن كان
يملك ثلاث طلقات فقالت له طلقني واحدة بألف فطلقها ثلاثا وقع عليها الثلاث
واستحق عليها الألف لأنه حصل لها ما سألت وزيادة. قال أبو إسحاق الألف
في مقابلة الثلاث. وقال غيره من أصحابنا بل الألف في مقابلة الواحدة والاثنتان
بغير عوض وليس تحت هذا الاختلاف فائدة
وقال القفال يقع الثلاث ويستحق عليها ثلث الألف لأنها رضيت بواحدة
عن العوض وهو جعل كل واحدة بإزاء ثلث الألف. وحكى المسعودي أن من
أصحابنا من قال يقع عليها واحدة بثلث الألف لا غير لأنه أوقع الاخر بين على
العوض ولم تقبلها فلم يقعا. والأول هو المشهور
(فرع) وان قال لها أنت طالق طلقتين إحداهما بالألف قال ابن الحداد ان
قبلت وقع عليها طلقتان ولزمها الألف. وان لم تقبل لم يقع عليها طلاق لأنه
لم يرض بإيقاع طلقتين الا بأن يحصل له الألف. فإذا لم يعتق لم يقع عليها
44

الطلاق كما لو أوصى أن يحج عنه رجل بمائة وأجرة مثله خمسون فلا يحصل له المائة
إلا أن يحج عنه. قال القاضي أبو الطيب: ويحتمل إذا لم يقبل أنه يقع عليها طلقة
ولا شئ عليها لأنه يملك إيقاعها بغير قبول وقد أوقفها. وإن قالت قبلت الطلقتين
ولم أقبل العوض كان بمنزلة ما لو لم يقبل لان الطلاق لا يفتقر إلى القبول، وإنما
الذي يحتاج إلى القبول هو العوض، فلا يقع عليها الطلاق على قول ابن الحداد
وعلى قول أبى الطيب يقع عليها الطلقة التي لا عوض فيها
(فرع) وإن قال لامرأتيه أنتما طالقتان إحداكما بألف - فإن قبلتا جميعا -
وقع عليهما الطلاق. ويقال له عين المطلقة بالألف، فإذا عين إحداهما كان له
عليها مهر مثلها، لان المسمى لا يثبت مع الجهالة بالتسمية. وإن قبلت إحداهما
ولم تقبل الأخرى قيل له عين المطلقة بالألف، فإن قال هي القابلة، وقع عليها
الطلاق ثانيا ولزمها مهر مثلها ووقع الطلاق على الأخرى بغير عوض، وإن قال
المطلقة بالألف هي التي لم تقبل وقع الطلاق على القابلة بغير عوض ولم يقع الطلاق
على التي لم تقبل، وإن لم تقبل واحدة منهما سقط الطلاق بالألف، ويقال له
عين المطلقة بغير ألف، فإذا عين إحداهما وقع الطلاق عليها بغير عوض، وان
ردتا جميعا ولم يقبلا - قال القاضي أبو الطيب: - فعلى قول ابن الحداد في
التي قبلها يجب أن لا يقع على واحدة منهما طلاقا، لأنه لم يسلم له الشرط من
الألف، قال وعلى ما ذكرته في التي قبلها يسقط الطلاق الذي شرط فيه الألف
ويقع الطلاق الذي أوقعه بغير شئ ويطالب بالتعيين
(مسألة) قوله: فان قالت طلقني عشرا بألف الخ. وهذا كما قال، فإنه إن
قالت له طلقني عشرا بألف فطلقها واحدة ففيه وجهان حكاهما الشيخ هنا
(أحدهما) يستحق عليها عشر الألف لأنها جعلت لكل طلقة عشر الألف.
(والثاني) يستحق عليها ثلث الألف لان ما زاد على الثلاث لا يتعلق به حكم.
قال فان طلقها ثلاثا استحق عليها على الوجه الأول ثلاثة أعشار الألف، وعلى
الثاني جميع الألف. وأما القاضي أبو الطيب فحكى عن ابن الحداد إذا قالت طلقني عشرا
بألف فطلقها واحدة استحق عليها عشر الألف. قال القاضي قلت أنا، وان طلقها
اثنتين استحق عليها خمس الألف وان طلقها ثلاثا استحق عليها جميع الألف.
45

وهكذا ذكر ابن الصباغ. ولم يذكر الوجه الثاني
(فرع) إذا بقيت له على امرأته طلقه فقالت: طلقني ثلاثا بألف، فقال لها
أنت طالق طلقتين، الأولى بألف، والثانية بغير شئ، فقال أبو العباس بن
القاص: وقعت الطلقة التي بقيت له بألف عليها، ولا تقع عليها الثانية، وإن
وإن قالت: الأولة بغير شئ، والثانية بألف، وقعت عليها الطلقة التي بقيت له
بغير شئ ولم تقع الثانية، فاعترض عليه بعض أصحابنا وقال: إذا قال أنت طالق
طلقتين فليس فيهما أولة ولا ثانية.
قال القاضي أبو الطيب: أخطأ هذا المعترض لان كلامه إذا لم يقطعه قبل
منه ما شرط فيه وقيده، ولهذا يقبل استثناؤه، وإن بقيت له واحدة قالت:
طلقني ثلاثا بألف، فقال أنت طالق طلقتين إحداهما بألف.
قال أبو العباس بن القاص: وقعت عليها واحدة ولزمها الألف. وقال في
شرح التلخيص يجب أن يرجع إلى بيانه، فان قال أردت بقولي إحداهما بألف
للأولى دون الأخرى فله الألف، وإن قال أردت بقولي إحداهما بألف الثانية
لم يكن له شئ.
قال القاضي أبو الطيب: الصحيح ما قاله ابن القاص، لأنه إذا لم يقل المطلق
الأولى والثانية بلفظ، لم يكن فيهما أولة ولا ثانية، فترجع الألف إلى المطلقة
التي بقيت له.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان قالت أنت طالق على ألف وطالق وطالق لم تقع الثانية والثالثة
لأنها بانت بالأولى، وان قال أنت طالق وطالق وطالق على ألف، وقال أردت
الأولى بالألف لم يقع ما بعدها لأنها بانت بالأولى. وان قال أردت الثانية بالألف
فان قلنا يصح خلع الرجعية وقعت الأولى رجعية وبانت الثانية ولم تقع الثالثة.
وإن قلنا لا يصح خلع الرجعية وقعت الأولى رجعية والثانية رجعية وبانت بالثالثة
وان قال أردت الثالثة بالألف فقد ذكر بعض أصحابنا أنه يصح ويستحق الألف
قولا واحدا لأنه يحصل بالثالثة من التحريم ما لا يحصل بغيرها وعندي أنه
لا يستحق الألف على القول الذي يقول أنه لا يصح خلع الرجعية، لأن الخلع
46

يصادف رجعية. وإن قال أردت الثلاث بالألف لم تقع الثانية والثالثة لان الأولى
وقعت بثلث الألف وبانت بها فلم يقع ما بعدها.
(فصل) وان قال أنت طالق وعليك ألف طلقت ولا يستحق عليها شيئا
لأنه أوقع الطلاق من غير عوض ثم استأنف إيجاب العوض من غير طلاق، فإن كان
ذلك بعد الدخول فله أن يراجع لأنه طلق من غير عوض، وإن قال أنت طالق على أن
عليك ألفا فقبلت صح الخلع ووجب المال لان تقديره أنت طالق على ألف فإذا
قبلت وقع الطلاق ووجب المال.
(الشرح) الأحكام: إذا قالت طلقني واحدة بألف فقال أنت طالق على ألف
وطالق وطالق، وقعت عليها الأولة بألف، ولم يقع ما بعدها، وان قال أنت
طالق وطالق وطالق على ألف قيل له أي الثلاث أردت بالألف، فإن قال أردت
الأولة بانت بالأولة ولم يقع عليها ما بعدها، وان قال أردت الثانية بالألف
وقعت الأولة رجعية.
فإن قلنا يصح خلع الرجعية وقعت الثانية أيضا بالألف ولم تقع الثالثة.
وإن قلنا لا يصح خلع الرجعية وقعت الأولة رجعية، والثانية رجعية وبانت
بالثالثة، ولا يستحق عليها عوضا، وإن قال أردت الثالثة بالألف.
قال المحاملي: صح ذلك واستحق عليها الألف قولا واحدا، لان الثالثة تقع
بها بينونة لا تحل إلا بعد زوج، فيؤخذ فيها معنى يختص بها لا يوجد في الأولة
ولا في الثانية فصح.
وقال الشيخ أبو إسحاق لا يستحق عليها الألف على القول الذي قاله لا يصح
خلع الرجعية كما قلنا في التي قبلها - إن قال أردت الثلاث بالألف - وقعت
الأولة بثلث الألف وبانت، ولم يقع ما بعدها.
(مسأله) قوله (فصل) وان قال أنت طالق وعليك ألف طلقت، وهو
كما قال، فان الشافعي رضي الله عنه قال، وان قال لها أنت طالق وعليك ألف
درهم، فهي طالق ولا شئ عليها، وإنما كان كذلك لان قوله أنت طالق ابتداء
ايقاع، وقوله وعليك ألف استئناف كلام فلم يتعلق بما قد تقدم فيكون الطلاق
47

رجعيا، فإن ضمنت له الألف لم يلزمها بهذا الضمان حق، لأنه ضمان ما لم يجب،
وإن أعطته الألف كان ابتداء هبة ولم يقطع به رجعة، وإن قال: أنت طالق
على أن عليك ألفا.
قال الشافعي في الام: فإن ضمنت في الحال وقع الطلاق، وان لم تضمن لم
يقع، لان (على) كلمة شرط، فقد علق وقوع الطلاق بشرط، فمتى وجد الشرط
وقع الطلاق، وان لم تضمن لم يقع، لان (على) كلمة شرط فقد علق وقوع
الطلاق بشرط، فمتى وجد الشرط وقع الطلاق بخلاف الأولة، فإن قوله وعليك
ألف، استئناف كلام وليس شرطا.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) إذا قال إن دفعت إلى ألف درهم فأنت طالق فان نويا صنفا من
من الدراهم صح الخلع وحمل الألف على ما نويا لأنه عوض معلوم وإن لم ينوبا
صنفا نظرت، فإن كان في موضع فيه نقد غالب حمل العقد عليه لأن اطلاق
العوض يقتضى نقد البلد كما نقول في البيع، وإن لم يكن فيه نقد غالب فدفعت إليه
ألف درهم بالعدد دون الوزن لم تطلق، لان الدراهم في عرف الشرط بالوزن،
وان دفعت إليه ألف درهم نقرة لم تطلق لأنه لا يطلق اسم الدراهم على النقرة،
وإن دفعت إليه ألف درهم فضة طلقت لوجود الصفة ويجب ردها لأن العقد
وقع على عوض مجهول ويرجع بمهر المثل لأنه تعذر الرجوع إلى المعوض فوجب
بدله، وان دفعت إليه دراهم مغشوشة، فإن كانت الفضة فيها تبلغ ألف درهم
طلقت لوجود الصفة، وإن كانت الفضة فيها ألف درهم لم تطلق، لان الدراهم
لا تطلق إلا على الفضة.
(فصل) وإن قال إن أعطيتني عبدا فأنت طالق فأعطته عبدا تملكه طلقت
سليما كان أو معيبا قنا كان أو مدبرا لان اسم العبد يقع عليه ويجب رده والرجوع
بمهر المثل لأنه عقد وقع على مجهول، وإن دفعت إليه مكاتبا أو مغصوبا لم تطلق
لأنها لا تملك العقد عليه.
48

وإن قال: إن أعطيتني هذا العبد فأنت طالق فأعطته وهو مغصوب، ففيه
وجهان (أحدهما) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة: انها تطلق كما لو خالعها
على عبد غير معين فأعطته عبدا مغصوبا (والثاني) وهو المذهب أنها تطلق
لأنها أعطته ما عينه ويخالف إذا خالعها على عبد غير معين لان هناك أطلق العقد
فحمل على ما يقتضيه العقد والعقد يقتضى رفع عبد تملكه.
(الشرح) الأحكام: إذا قال إن أعطيتني ألف درهم فأنت طالق، فأعطته
ألف درهم في الحال بحيث يكون جوابا لكلامه نظرت - فان أعطته ألف درهم
مضروبة لا زائدة ولا ناقصه، وقع عليها الطلاق لوجود الشرط، وإن أعطته
ألف درهم مضروبة وزيادة وقع الطلاق لوجود الصفة، والزيادة لا تمنعها، كما قال
إن أعطيتني ثوبا فأنت طالق، فأعطته ثوبين.
فان قيل: أليس الاعطاء عندكم بمنزله القبول، والقبول إذا خالف الايجاب
- وإن كان بالزيادة لم يصح، ألا ترى أنه لو قال: بعتك هذا بألف فقال:
قبلت بألفين، لم يصح؟
قلنا: الفرق بينهما أن القبول يقع بحكم الايجاب في العقد، فمتى خالفه لم يصح
وههنا المغلب فيه حكم الصفة، فوقع الطلاق، والذي يقتضى المذهب أن لها أن
تسترد الزيادة على الألف ويملك الزوج الألف، إذا كانت الدراهم معلومه،
وإن كانت مجهوله ردها ورجع عليها مهر المثل، وإن أعطته دارهم ناقصه، فإن كان
ت ناقصة العدد والوزن بأن أعطته دراهم عددها دون الألف، ووزنها دون
وزن ألف درهم من دراهم الاسلام، لم يقع الطلاق، لأن اطلاق الدراهم يقتضى
وزن الاسلام، وإن كانت ناقصة العدد وافية الوزن بأن أعطته تسعمائة درهم
مضروبة - الا أن وزنها وزن ألف درهم من دراهم الاسلام - وقع عليها
الطلاق لوجود الصفة، لأن الاعتبار بالوزن دون العدد، إذا لم يكن مشروطا
وان أعطته قطعة فضة نقرة وزنها ألف درهم لم يقع الطلاق، لأن اطلاق
الدراهم إنما ينصرف إلى المضروبة - والنقرة قطع كالسبائك - وان أعطته
49

ألف درهم مضروبة رديئة - فإن كانت رداءتها من جهة الجنس أو السكة، بأن
كانت فضتها خشنة أو سكنها مضطربة، وقع الطلاق لوجود الصفة.
قال الشيخ أبو حامد وابن الصباغ: وله ردها والمطالبة ببدلها سليمة من غير نقد
البلد، لان إطلاق المعاوضة يقتضى السلامة من العيوب، وإن أعطته ألف درهم
مغشوشة بغير جنسها بأن كانت مغشوشة برصاص أو نحاس - فإن كانت الفضة
لا تبلغ ألف درهم من دراهم الاسلام - لم يقع الطلاق، لان الشرط لم يوجد
وإن كانت الفضة فيها تبلغ ألف درهم من دراهم الاسلام وقع عليها الطلاق،
لوجود الصفة.
* * *
(فرع) إذا قالت: طلقني بألف فقال: أنت طالق ثلاثا، استحق الألف،
وإن طلقها واحدة أو اثنتين - قال الصيمري: - سألناها، فان قالت: أردت
ما أجابني به أو أقل لزمها الألف، وإن قالت: أردت أكثر فالقول قولها مع
يمينها وله العوض بحساب ما طلق، وإن سألت الطلاق مطلقا بعوض فقال:
أنت طالق، فان قال: أردت ثلاثا وقع عليها الثلاث، واستحق الألف، وإن
قال أردت ما دون الثلاث رجع إليها فيما سألت، وكان الحكم كالأولة.
(فرع) إذا قالت: خالعني على ألف درهم، فقال: خالعتك نظرت - فان
قيداه بدراهم من نقد البلد معلوم صح ولزم الزوجة منها، وان لم يقيدا ذلك
بنقد بلد معروف - وكانا في بلد فيه دراهم غالبه - انصرف إليها ذلك. كما قلنا في
البيع، وإن كانا في بلد لا دراهم فيها غالبه ونويا صنفا من الدراهم، أو قال:
خالعتك على ألف - ولم يقل من الدراهم ولا من الدنانير، فقالت: قبلت ونويا
صنفا من الدراهم والدنانير، واتفقا عليه، انصرف إطلاقهما إلى ما نوياه،
لأنهما إذا ذكرا ذلك واعترفا أنهما أرادا صنفا صار كما لو ذكراه، وان لم ينويا
صنفا صح الخلع، وكان العوض فاسدا فيلزمها مهر المثل.
إذا ثبت هذا: فان المصنف قال في مطلع الفصل: إذا قال: إن دفعت إلى
ألف درهم فأنت طالق - ونويا صنفا من الدراهم - صح الخلع، وحمل على ما نويا
50

والذي يقتضى المذهب أن نيتهما إنما تؤثر في الخلع المنجز على ما مضى. وأما هذا
فهو طلاق معلق على صفة. هكذا أفاده الماوردي والعمراني وابن الصباغ وغيرهم
من أصحابنا، وأي صنف من الدراهم أعطته وقع به الطلاق ولا تأثير للنية
(فرع) إذا كان له زوجتان صغيرة وكبيرة، فأرضعت الكبيرة الصغيرة
رضاعا يحرم، وخالع الزوج الكبيرة - فإن علم أن الخلع سبق الرضاع - صح
الخلع، وإن علم أن الرضاع سبق الخلع لم يصح الخلع لان النكاح انفسخ
قبل الخلع، وإن أشكل السابق منهما صح الخلع، لان الأصل بقاء الزوجية
(مسألة) إذا تخالع الزوجان الوثنيان والذميان صح الخلع لأنه معاوضة فصح
منهما كالبيع، ولان من صح طلاقه بغير عوض صح بعوض كالمسلمين، فان عقد
للخلع بعوض صحيح ثم ترافعا إلينا أمضاه الحاكم قبل التقابض وبعده لأنه يصح،
وإن تخالعا بعوض فاسد كالخمر والخنزير - فإن ترافعا إلينا قبل القبض لم نؤمن
على إقباضه بل نوجب له مهر المثل، وان ترافعا إلينا بعد التقابض للجميع حكمنا
ببراءة ذمتها، فإن ترافعا بعد أن قبض البعض فإن الحكم يمضى من ذلك ما تقابضاه
ويحكم له بمهر المثل بقسط ما بقي كما قلنا في الصداق، وإن تخالعا المشركان على خمر
أو خنزير ثم أسلما أو أحدهما قبل التقابض فان الحاكم يحكم بفساد العوض ويوجب
مهر المثل اعتبارا بحال المسلم منهما
(فرع) وان ارتد الزوجان المسلمان أو أحدهما ثم تخالعا في حال الردة كان
الخلع موقوفا، فان اجتمعا على الاسلام قبل العدة تبينا أن الخلع صحيح، لأنه
بان ان النكاح باق، وان انقضت عدتها قبل أن يجتمعا على الاسلام لم يصح الخلع
لأنه بان أن النكاح انفسخ بالردة والله أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن اختلف الزوجان فقال الزوج طلقتك على مال وأنكرت
المرأة بانت باقراره ولم يلزمها المال، لان الأصل عدمه. وان قال طلقتك
بعوض فقالت طلقتني بعوض بعد مضى الخيار بانت باقراره، والقول في العوض
قولها لان الأصل براءة ذمتها، وان اختلفا في قدر العوض، أو في عينه، أو في
51

صفته، أو في تعجيله أو في تأجيله، تحالفا لأنه عوض في عقد معاوضة فتحالفا
فيه على ما ذكرناه كالبيع، فإذا تحالفا لم يرتفع الطلاق وسقط المسمى ووجب مهر
المثل، كما لو اختلفا في ثمن السلعة بعدما تلفت في يد المشترى
وان خالعها على ألف درهم واختلفا فيما نويا، فادعى أحدهما صنفا وادعى
الآخر صنفا آخر تحالفا. ومن أصحابنا من قال لا يصح للاختلاف في النية لان
ضمائر القلوب لا تعلم، والأول هو المذهب، لأنه لما جاز أن تكون النية كاللفظ
في صحة العقد عند الاتفاق وجب أن تكون كاللفظ عند الاختلاف، ولأنه قد
يكون بينهما أمارات يعرف بها ما في القلوب، ولهذا يصح الاختلاف في كنايات
القذف والطلاق.
وان قال أحدهما خالعت على ألف درهم، وقال الآخر خالعت على ألف مطلق
تخالعا، لان أحدهما يدعى الدراهم والآخر يدعى مهر المثل، وان بقيت له طلقة
فقالت له طلقني ثلاثا على ألف فطلقها، قلنا إنها ان علمت ما بقي استحق الألف
وان لم تعلم لم يستحق الا ثلث الألف.
وان اختلفا فقالت المرأة لم أعلم، وقال الزوج بل علمت تحالفا ورجع الزوج
إلى مهر المثل لأنه اختلاف في عوض الطلقة، وهي تقول بذلت ثلث الألف في
مقابلتها، وهو يقول بذلت الألف
(فصل) وان قال خالعتك على ألف وقالت بل خالعت غيري بانت المرأة
لاتفاقهما على الخلع، والقول في العوض قولها، لأنه يدعى عليها حقا والأصل
عدمه. وان قال خالعتك على ألف، وقالت خالعتني على ألف ضمنها عنى زيد،
لزمها الألف لأنها أقرت به ولا شئ على زيد الا أن يقربه، وان قال خالعتك
على ألف في ذمتك، فقالت بل خالعتني على ألف لي في ذمة زيد، تحالفا، لان
الزوج يدعى عوضا في ذمتها وهي تدعى عوضا في ذمة غيرها، وصار كما لو ادعى
أحدهما أن العوض عنده وادعى آخر أنه عند آخر
(الشرح) الأحكام: إذا ادعت الزوجة على زوجها أنه طلقها بألف وأنكر
فإن لم يكن معها بينة فالقول قوله مع يمينه. لان الأصل عدم الطلاق. وإن كان
52

معها بينة شاهدان ذكران، واتفقت شهادتهما حكم عليه بالطلاق وانقطاع
الرجعة، قال الشيخ أبو حامد: ويستحق عليها الألف، فان شاء أخذها وان شاء
تركها، وان شهد أحدهما أنه خالعها بألف وشهد الآخر أنه خالعها بألفين لم يحكم
بالخلع لأنهما شهدا على عقدين. وان أقامت شاهدا واحدا وأرادت أن تحلف
معه أو شاهدا وامرأتين لم يحكم بصحة الخلع، لان الطلاق لا يثبت الا بشاهدين
(مسألة) وان ادعى الزوج على زوجته أنه طلقها بألف وأنكرت، فإن كان
ليس له بينة حلفت لأنه يدعى عليها دينا في ذمتها، والأصل براءة ذمتها ويحكم
عليه بالبينونة لأنه أقر على نفسه بذلك، وإن كان معه بينة، فان أقام شاهدين
ذكرين حكم له عليها بالمال، وان أقام شاهدا وحلف معه أو شاهدا وامرأتين
ثبت له المال لا دعواه بالمال. وذلك يثبت بالشاهد واليمين، والشاهد والمرأتين.
قال المسعودي: وان قالت طلقني بألف الا أنى كنت مكرهة على التزامه فالقول
قولها مع يمينها لان الأصل براءة ذمتها
(فرع) وان ادعى الزوج عليها أنها استدعت منه الطلاق بألف فطلقها عليه
فقالت قد كنت استدعيت منك الطلاق بألف ولكنك لم تطلقني على الفور بل
بعد مضى مدة الخيار، وقال بل طلقتك على الفور بانت منه باقراره، والقول قولها
مع يمينها، لان الأصل براءة ذمتها، وان قال الزوج طلقتك بعد مضى وقت
الخيار فلي الرجعة. وقالت بل طلقتني على الفور فلا رجعة لك، فالقول قول
الزوج مع يمينه، لان الأصل عدم الطلاق
(فرع) وان اختلفا في قدر العوض بأن قال خالعتك على ألفي درهم فقالت
بل على ألف، أو اختلفا في صفة العوض بأن قال خالعتك على ألف ريال سعودي
فقالت بل على ألف ريال يمنى، أو اختلفا في عين العوض فقال خالعتك على
السيارة التاكسي فقالت بل على هذه السيارة النقل، أو في تعجيله وتأجيله بأن
قال خالعتك على ألف درهم معجلة، فقالت بل على ألف درهم مؤجلة أو في عدد
الطلاق بأن قالت بذلت لك ألفا لتطلقني ثلاثا فقال بل بذلت لي ألفا لأطلقك
واحدة ولم أطلق غيرها فإنهما يتحالفان في جميع ذلك على النفي والاثبات، كما
قلنا في المتبايعين.
53

وقال أبو حنيفة القول قول المرأة. دليلنا أن الخلع معاوضة، فإذا اختلفا
في قدر عوضه أو صفته أو تعجيله أو معوضه تحالفا كالمتبايعين
إذا ثبت هذا فإنهما إذا تحالفا فان التحالف يقتضى فسخ العقد، إلا أنه لا يمكن
ههنا أن يفسخ الخلع، لأنه لا يلحقه الفسخ فيسقط العوض المسمى في العقد
ويرجع عليها بمهر مثلها كالمتبايعين إذا اختلفا بعد هلاك السلعة. وعلى قول من
قال من أصحابنا أن البائع يرجع بأقل الامرين من الثمن الذي يدعيه البائع أو قيمة
السلعة يرجع الزوج ههنا بأقل الامرين من العوض الذي يدعيه الزوج أو مهر
المثل. وإذا اختلفا في قدر الطلاق فلا يقع إلا ما أقر به الزوج
(فرع)
وإن خالعها على دراهم في موضع لا نقد فيه، فقال أحدهما نوينا من
دراهم كذا، وقال الآخر: بل نوينا من نقد بلد كذا، أو خالعها على ألف
مطلق، وقال أحدهما: نوينا من الدراهم، وقال الآخر: بل نوينا من الدنانير
ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يتحالفان، بل يجب مهر المثل، لان ضمائر القلوب لا تعلم،
(والثاني) وهو المذهب أنهما يتحالفان، لأن النية لما كانت كاللفظ في
صحة العقد كانت كاللفظ في الاختلاف، ولأنه يجوز أن يعرف كل واحد منهما
ما نواه الآخر في ذلك بإعلامه إياه أو بأمارات بينهما، فإذا اختلفا في
ذلك تحالفا.
* * *
وإن قال أحدهما: خالعت على ألف درهم من نقد بلد كذا. أو كانا
في بلد فيه دراهم غالبة، وقال الآخر: بل خالعت على ألف مطلقة غير
مقيدة بدراهم ولا دنانير تحالفا، لان أحدهما يدعى أن العوض الدراهم
المسماة، والآخر يدعى أن العوض مهر المثل فتحالفا كما قلنا لو اختلفا
في قدر العوض.
54

وإن بقيت له على امرأته طلقة فقالت طلقني ثلاثا فطلقها واحدة - وقلنا
بقول أبى العباس بن سريج وأبي إسحاق المروزي - أنها إذا علمت أنه لم يبق إلا
طلقة، وقالت: ما كنت عالمة بذلك تحالفا، لأنهما اختلفا في عدد الطلاق المبذول
به الألف فهي تقول: ما بذلت الألف إلا في مقابلة الثلاث، والزوج يقول:
بذلت الألف في مقابلة الواحدة لعلك بها، فتحالفا كما لو كان يملك عليها ثلاث
طلقات، واختلفا في عدد الطلاق، وجب عليه مهر مثلها لما ذكرناه.
(مسألة) قوله: وإن قال: خالعتك إلخ، وهذا كما قال، فإنه إذا قال:
خالعتك على ألف درهم فقالت: ما بذلت لك العوض على طلاقي، وإنما بذل
لك زيد العوض من ماله على طلاقي، فالقول قولها مع يمينها، لان الأصل
براءة ذمتها، تبين منه لاتفاقهما على طلاقها بعوض.
وان قال: خالعتك بألف في ذمتك، فقالت: خالعتني في ذمتي الا أن زيدا
ضمنها عنى، لزمها الألف، لأنها أقرت بوجوبها عليها الا أنها ادعت أن زيدا
ضمنها، وذلك لا يسقط من ذمتها. وان قالت: خالعتني بألف يعدها عنى زيد
لزمها الألف لأنها أقرت بوجوبها عليها، لان زيدا لا يعد عنها الا ما وجب
عليها، وان قال: خالعتك على ألف درهم في ذمتك، أو في يديك، وقالت:
بل خالعتني على ألف درهم في ذمة زيد لي، ففيه وجهان.
(أحدهما) أنهما يتحالفان لأنهما اختلفا في عين العوض فتحالفا كما لو قال
خالعتك على هذه الدراهم في هذا الكيس، فقالت: بل على هذه التي في الكيس
الآخر، والثاني: أنهما لا يتحالفان، لأن الخلع على ما في ذمة الغير لا يصح،
لأنه غير مقدور عليه، فهو كما لو خالعها على بهيمتها الضالة، أو عبدها الآبق
فعلى هذا يلزمها مهر مثلها، والمذهب الأول، لان بيع الدين في الذمة من غير
السلم والكتابة يصح في أحد الوجهين، وان قلنا: لا يصح؟ فلم يتفقا على أنه
خالعها عليه وإنما هي تدعى ذلك، والزوج ينكره فهو كما لو قالت: خالعني
على خمر أو خنزير فقال: بل على الدراهم أو الدنانير فإنهما يتحالفان فهذا مثله،
والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.
55

قال المصنف رحمه الله:
كتاب الطلاق
يصح الطلاق من كل زوج بالغ عاقل مختار، فأما غير الزوج فلا يصح طلاقه
وإن قال: إذا تزوجت امرأة فهي طالق لم يصح لما روى المسور بن مخرمة " أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك " وأما
الصبي فلا يصح طلاقه لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي
حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون عن يفيق " فأما من لا يعقل
فإنه ان لم يعقل بسبب يعذر فيه كالنائم والمجنون والمريض ومن شرب دواء؟؟؟؟؟؟
فزال عقله أو أكره على شرب الخمر حتى سكر، لم يقع طلاقه، لأنه نص في الخبر
على النائم والمجنون وقسنا عليهما الباقين، وان لم يعقل بسبب لا يعذر فيه كمن
شرب الخمر لغير عذر فسكر أو شرب دواء لغير حاجة فزال عقله، فالمنصوص
في السكران أنه يصح طلاقه.
وروى المزني أنه قال في القديم: لا يصح ظهاره، والطلاق والظهار واحد
فمن أصحابنا من قال: فيه قولان.
(أحداهما) لا يصح وهو اختيار المزني وأبي ثور، لأنه زائل العقل فأشبه
النائم، أو مفقود الإرادة فأشبه المكره.
(والثاني) أنه يصح، وهو الصحيح، لما روى أبو وبرة الكلبي قال " أرسلني
خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه فأتيته في المسجد ومعه عثمان وعلى
وعبد الرحمن وطلحة والزبير رضي الله عنهم، فقلت ان خالدا يقول: إن الناس
قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة، فقال عمر: هم هؤلاء عندك فأسألهم،
فقال علي عليه السلام: تراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفترى
ثمانون جلدة، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، فجعلوه كالصاحي " ومنهم من
قال: يصح طلاقه قولا واحدا، ولعل ما رواه المزني حكاه الشافعي رحمه الله
عن غيره، وفى علته ثلاثة أوجه.
56

أحدها - وهو قول أبى العباس - أن سكره لا يعلم إلا منه، وهو متهم
في دعوى السكر لفسقه، فعلى هذا يقع الطلاق في الظاهر. ويدين فيما بينه وبين
الله عز وجل.
(والثاني) أنه يقع طلاقه تغليظا عليه لمعصيته، فعلى هذا يصح ما فيه تغليظ
عليه كالطلاق والعتق والردة، وما يوجب الحد ولا يصح ما فيه تخفيف كالنكاح
والرجعة وقبول الهبات.
(والثالث) أنه لما كان سكره بمعصية أسقط حكمه فجعل كالصاحي، فعلى هذا
يصح منه الجميع، وهذا هو الصحيح، لان الشافعي رحمه الله نص على صحة رجعته
(الشرح) حديث المسور بن مخرمة في الزوائد إسناده حسن لان اسناده عند ابن ماجة
حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي ثنا علي بن الحسين بن واقد ثنا هشام بن سعد عن
الزهري عن عروة عن المسور بن مخرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" لا طلاق قبل نكاح ولا عتق قبل ملك " ففيه علي بن الحسين بن واقد مختلف
فيه فقد قال الذهبي: صدوق.
وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث، وقال النسائي وغيره: ليس به بأس،
وذكره العقيلي وقال: مرجئ، قال البخاري مات سنة إحدى عشرة ومائتين.
وكذلك هشام بن سعد هكذا في متن ابن ماجة طبعة المطبعة العلمية وعليه شرح
أبى الحسن بن عبد الهادي الحنفي يقول: وهشام بن سعيد ضعيف وكلام الاسمين
يطلقان على رجلين في كل منهما قيل كلام فهشام بن سعيد الطالقاني لقى ابن لهيعة
وأبا شهاب الحناط. وعنه أحمد بن حنبل وأحمد بن أبي خثيمة وجماعه. وثقه
أحمد وكان ابن معين لا يروى عنه.
قال الذهبي ما أدرى لأي شئ. وقال النسائي ليس به بأس. ووثقه ابن سعد
وهشام بن سعد أبو عباد المدني مولى بن مخزوم يقال له يتيم زيد بن أسلم صحبه
وأكثر عنه. وروى عن عمرو بن شعيب والمقبري ونافع. وعنه ابن وهب
والقعنبي وجماعة كثيرة. قال أحمد لم يكن بالحافظ. وكان يحيى القطان لا يحدث
عنه. وقال أحمد أيضا لم يكن من محكم الحديث. وقال ابن معين ليس بذلك القوى
57

وقال النسائي: ضعيف، وقال مرة: ليس بالقوى. وقال ابن عدي: مع
ضعفه يكتب حديثه إلى آخر ما قيل في أنه أثبت الناس في زيد بن أسلم وله
مناكير كثيرة.
وأنا أخلص من هذا بأن كلا الرجلين قيل فيه كلام فأي الرجلين هو المعنى
في الرواية هل متن السنن أم حاشية ابن عبد الهادي؟
إذا نظرنا في زمن كل من الرجلين فنجد ابن سعيد وهو من شيوخ أحمد
والذين تكلموا في ضعفه قلة فهو مختلف فيه وزمنه يمكن أن يكون من طبقة
تروى عن الزهري، فإذا عرفت أن الحفاظ قرروا أن هذا الحديث حسن عرفت
أن الاسناد كان لا يكون حسنا لو أنه هشام بن سعد لكثرة ما أخذ عليه الحفاظ
من مناكير فرجل مثله لا يكون حديثه حسنا من جهة إسناده، ومن ثم تكون
حاشية ابن عبد الهادي أضبط من متن السنن وأنه هشام بن سعيد، وقد أخرج
له مسلم في الشواهد، والحديث أخرجه أحمد وأهل السنن والبزار والبيهقي، وقال
هو أصح شئ في هذا الباب وأشهر.
عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما
لا يملك " وقال الترمذي: حديث حسن وهو أحسن شئ روى في هذا الباب.
وفى أبى داود: وقال فيه " ولا وفاء نذر إلا فيما يملك " ولابن ماجة فيه
" لا طلاق فيما لا يملك " واختلف في حديث المسور على الزهري فروى عنه
عن عروة عن المسور، وروى عنه عن عروة عن عائشة، وروى بمعنى هذا
الحديث عن أبي بكر الصديق وأبي هريرة وأبي موسى الأشعري وأبي سعيد
الخدري وعمران بن الحصين وغيرهم، وفى مستدرك الحاكم عن جابر مرفوعا
بلفظ " لا طلاق إلا بعد نكاح، ولا عتق إلا بعد ملك " قال الحاكم: صحيح،
وأنا متعجب من الشيخين كيف أهملاه، وقد صح على شرطهما من حديث ابن
عمر وعائشة وابن عباس ومعاذ بن جبل وجابر اه‍.
58

وأما حديث " رفع القلم عن ثلاثة إلخ " فقد رواه على وعائشة رضي الله عنهما
وأخرجه أبو داود والنسائي في كتاب الحدود من رواية على باسناد صحيح،
وروياه هما وابن ماجة في كتاب الطلاق من رواية عائشة، وقد كرره المصنف
في مواضع كثيرة من المهذب وقل أن يذكر راويه، وقد أورده في كتاب السير
من رواية علي كرم الله وجهه.
أما أثر أبى وبرة الكلبي فقد أخرجه الطبري والطحاوي والبيهقي وفيه " أن
رجلا من بنى كلب يقال له: ابن وبرة أخبره أن خالد بن الوليد بعثه إلى عمر،
وقال له: إن الناس قد انهمكوا في الخمر واستخفوا العقوبة، فقال عمر لمن حوله
ما ترون فقال على " وذكر ما تقدم في الفصل، وأخرج نحوه عبد الرزاق عن
عكرمة وسيأتي في كتاب الحدود مزيد من الاستقصاء لرواته وطرقه والكلام على
أحكامه هناك إن شاء الله.
أما اللغات: فإن طلق الرجل امرأته تطليقا فهو مطلق، فإن كثر تطليقه
للنساء قيل: مطليق ومطلاق، والاسم الطلاق وطلقت هي من باب قتل وفى
لغة من باب قرب فهي طالق بغير هاء. قال الأزهري: وكلهم يقول بغير هاء.
قال: وأما قول الأعشى:
أيا جارتنا بيني فإنك طالقه * كذاك أمور الناس غاد وطارقه
فقال الليث أراد طالقة غدا، وإنما اجترأ عليه لأنه يقال: طلقت فحمل
النعت على الفعل. وقال ابن فارس أيضا: امرأة طالق طلقها زوجها، وطالقة
غدا، فصرح بالفرق، لان الصفة غير واقعه، وقال ابن الأنباري إذا كان النعت
منفردا به الأنثى دون الذكر لم تدخله الهاء نحو طالق وطامث وحائض، لأنه
لا يحتاج إلى فارق لاختصاص الأنثى به.
وقال الجوهري يقال طالق وطالقة، وأنشد بيت الأعشى، وأجيب عنه
بجوابين (أحدهما) ما تقدم (والثاني) أن الهاء لضرورة التصريع على أنه
معارض بما رواه ابن الأنباري عن الأصمعي قال أنشدني أعرابي من شقى اليمامة
البيت فإنك طالق من غير تصريع، فتسقط الحجة به.
59

قال البصريون: إنما حذفت العلامة لأنه أريد النسب. والمعنى امرأة ذات
طلاق وذات حيض، أي هي موصوفة بذلك حقيقة ولم يجروه على الفعل. ويحكى
عن سيبويه أن هذه نعوت مذكرة وصف بهن الإناث كما يوصف المذكر بالصفة
المؤنثة نحو علامة ونسابة، وهي سماعي. وقال الفارابي: نعجة طالق بغير هاء
إذا كانت مخلاة ترعى وحدها، فالتركيب يدل على الحل والانحلال. يقال:
أطلقت الأسير إذا حللت أساره وخليت عنه فانطلق، أي ذهب في سبيله،
وأطلقت البينة إذا شهدت من غير تقييد بتاريخ، وأطلقت الناقة من عفالها،
وناقة طلق بضمتين بلا قيد، وناقة طالق أيضا مرسلة ترعى حيث شاءت، وقد
طلقت طلوقا من باب قعد إذا انحل وثاقها وأطلقتها إلى الماء فطلقت، والطلق
بفتحتين جرى الفرس، لا تحتبس إلى الغاية فيقال عدا الفرس طلقا أو طلقتين،
كما يقال شوطا أو شوطين، وتطلق الظبي مر لا يلوى على شئ. وطلق الوجه
بالضم طلاقة، ورجل طلق وطلق الوجه أي فرح ظاهر البشر، وهو طليق الوجه
قال أبو زيد " متهلل بسام " وهو طلق اليدين بمعنى سخي، وليلة طلقة، إذا لم
يكن فيها قر ولا حر، وكله وزان فلس وشئ طلق، وزان حمل أي حلال،
وافعل هذا طلقا لك أي حلالا
ويقال الطلق المطلق الذي يتمكن صاحبه فيه من جميع التصرفات فيكون فعل
بمعنى مفعول مثل الذبح بمعنى المذبوح، وأعطيته من طلق مالي أي من حله أو من
مطلقه وطلقت المرأة بالبناء للمفعول طلقا فهي مطلوقة إذا أخذها المخاض وهو
وجع الولادة، وطلق لسانه بالضم وطلوقة فهو طلق اللسان، وطليقه أيضا، أي
فصيح عذب المنطق، واستطلقت من صاحب الدين كذا فأطلقه، واستطاق بطنه
لازما، وأطلق الدواء، وفرس مطلق اليدين إذا خلا من النحجبل
أما قوله " انهمكوا في الخمر " فإنه يقال انهمك فلان في الامر أي جد ولج.
وكذلك تهمك في الامر. تحاقروا العقوبة استصغروها. والحقير الصغير.
ومحقرات الذنوب صغارها.
قوله " إذا سكر هذى " يقال هذى في منطقه يهذي ويهذو. وهذا هذيانا إذا
كثر كلامه وقلت فائدته. وإذا هذى افترى أي كذب والافتراء والفرية الكذب
60

وأصله الخلق، من فريت المزادة إذا خلقتها وصنعتها، كأنه اختلق الكذب أي
صنعه وابتدأه، هكذا أفاده ابن بطال في شرح غريب المهذب والفيومي في غريب
الشرح الكبير للرافعي المسمى بالمصباح المنير
أما الأحكام فإن الطلاق ملك للأزواج على زوجاتهم، والأصل فيه الكتاب
والسنة والاجماع. أما الكتاب فقوله " يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن
لعدتهن " وقوله تعالى " الطلاق مرتان " الآية. وأما السنة فروى أن النبي صلى الله عليه وسلم
طلق حفصة بنت عمر ثم راجعها. وروى عن ابن عمر أنه قال كان تحتي امرأة
أحبها وكان أبى يكرهها فأمرني أن أطلقها، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأمرني أن
أطلقها. وأجمعت الأمة على جواز الطلاق، إذا ثبت هذا فإن الطلاق لا يصح
الا بعد النكاح. فأما إذا قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق، أو إذا تزوجت امرأة
من القبيلة الفلانية فهي طالق، أو إذا تزوجت فلانة فهي طالق، أو قال لأجنبية
إذا دخلت الدار وأنت زوجتي فأنت طالق، فلا يتعلق بذلك حكم، وإذا تزوج
لم يقع عليها الطلاق. وكذلك إذا عقد العتق قبل الملك فلا يصح. هذا مذهبنا
وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب وابن عباس وعائشة. ومن التابعين شريح
وابن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس والحسن وعروة، ومن الفقهاء
أحمد وإسحاق، الا أن أحمد له في العتق روايتان.
وقال أبو حنيفة وأصحابه تنعقد الصفة في عموم النساء وخصوصهن، وكذلك
إذا قال لامرأة أجنبية إذا دخلت الدار وأنت زوجتي فأنت طالق فتزوجها
ودخلت الدار طلقت. وكذلك يقول في عقد العتق قبل الملك مثله، وحكى ذلك
عن ابن مسعود، وبه قال الزهري.
وقال مالك: ان عين ذلك في قبيلة بعينها أو امرأة بعينها انعقدت الصفة.
وان عمم لم ينعقد. وبه قال النخعي وربيعة والأوزاعي وابن أبي ليلى
دليلنا ما رواه المسور بن مخرمة مرفوعا " لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق
قبل ملك " ولان من لم ينعقد طلاقه بالمعاشرة لم ينعقد طلاقه بصفة
كالمجنون والصغير.
61

(مسأله) ولا يصح طلاق الصبي والنائم والمجنون. وقال أحمد في إحدى
الروايتين: إذا عقل الصبي الطلاق وقع. دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم رفع القلم
عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى
يفيق، ولا يصح طلاق المعتوه ومن زال عقله بمرض أو بسبب مباح لما روى
جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كل الطلاق جائز الاطلاق المعتوه والصبي
ولأنه يلفظ بالطلاق ومعه علم ظاهر يدل على قدر قصده بوجه هو معذور فيه
فلم يقع طلاقه كالطفل.
(فرع) وان شرب خمرا أو نبيذا فسكر فطلق في حال سكره فالمنصوص أن
طلاقه يقع. وحكى المزني أنه قال في القديم " في ظهار السكران قولان " فمن
أصحابنا من قال. إذا ثبت هذا كان في طلاقه أيضا قولان.
(أحدهما) لا يقع واليه ذهب ربيعة والليث وداود وأبو ثور والمزني، لأنه
زال عقله فأشبه المجنون.
(والثاني) يقع طلاقه لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة
وأنتم سكارى " فخاطبهم في حال السكر فدل على أن السكران مكلف. وروى أن
عمر رضي الله عنه استشار الصحابة رضي الله عنهم وقال إن الناس قد تباغوا في
شرب الخمر واستحقروا حد العقوبة فيه، فما ترون؟ فقال على أنه إذا شرب سكر
وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحده حد المفتري، فلولا أن لكلامه حكما
لما زيد في حده لأجل هذيانه. وقال أكثر أصحابنا: يقع طلاقه قولا واحدا
لما ذكرناه من الآية والاجماع.
واختلف أصحابنا في نيته فمنهم من قال: لان سكره لا يعلم الا من جهته وهو
متهم في دعوى السكر لفسقه، فعلى هذا يقع الطلاق في الظاهر وليس فيما بينه
وبين الله تعالى.
ومنهم من قال يقع الطلاق تغليظا عليه، فعلى هذا يقع منه كل ما فيه تغليظ
عليه كالطلاق والردة والعتق، وما يوجب الحد، ولا يقع ما فيه تخفيف كالنكاح
والرجعة وقبول الهبة، ومنهم من قال لما كان سكره معصية سقط حكمه، فجعل
كالصاحي، فصح منه الجميع.
62

قال العمراني من أصحابنا: وهذا هو الصحيح، فان شرب دواء أو شرابا غير
الخمر والنبيذ فسكر - فان شربه لحاجة - فحكمه حكم المجنون، وإن شربه
ليغيب عقله، فهو كالسكران بشرب الخمر، لأنه زال عقله بمعصية فهو كمن
شرب الخمر والنبيذ.
وقد استدل بعدم صحة إقرار السكران بقصة ماعز حين قال للنبي صلى الله
عليه وسلم: أشرب خمرا، فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر إلخ
الحديث، وقد قاس صاحب المنتقى إقرار السكران على طلاقه حين ساق حديث
ماعز في كتاب الطلاق مع أن الحديث لا صلة له بالطلاق البتة، وهو اجتهاد سليم
وقد قال الشوكاني: وقد اختلف أهل العلم في ذلك فأخرج ابن أبي شيبة بأسانيد
صحيحة عدم وقوع طلاق السكران عن أبي الشعثاء وعطاء وطاوس وعكرمة
والقاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز.
قال في الفتح: وبه قال ربيعة والليث وإسحق والمزني، واختاره الطحاوي،
واحتج بأنهم أجمعوا على أن طلاق المعتوه لا يقع، قال والسكران معتوه بسكره
وقال بوقوعه طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب والحسن وإبراهيم والزهري
والشعبي، وبه قال الأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة.
قال: وعن الشافعي قولان المصحح منهما وقوعه، والخلاف عند الحنابلة،
وقد حكى القول بالوقوع في البحر عن علي وابن عباس وابن عمر ومجاهد
والضحاك وسليمان بن يسار وزيد بن علي والهادي والمؤيد بالله، وحكى القول
بعدم الوقوع عن عثمان وجابر بن زيد، ورواية عن ابن عباس والناصر
وأبى طالب والبتي وداود بن علي اه‍.
وقد ذكرنا احتجاج القائلين بالوقوع بمفهوم التكليف في قوله تعالى (لا تقربوا
الصلاة وأنتم سكارى) وقد أجيب بأن النهى في الآية إنما هو عن أصل السكر
الذي يلزم منه قربان الصلاة كذلك، وقيل إنه نهى للثمل الذي يعقل الخطاب
وأيضا قوله في آخر الآية (حتى تعلموا ما تقولون) دليل على أن السكران يقول
مالا يعلم، ومن كان كذلك فكيف يكون مكلفا وهو غير فاهم، والفهم شرط
التكليف كما تقرر في الأصول.
63

واحتجوا ثانيا بأنه عاص بفعله فلا يزول عنه الخطاب بالسكر ولا الاثم لأنه
يؤمر بقضاء الصلوات وغيرها مما وجب عليه قبل وقوعه في السكر، وأجاب
الطحاوي بأنها لا تختلف أحكام فاقد العقل بين أن يكون ذهاب عقله بسبب من
جهته أو من جهة غيره. إذ لا فرق بين من عجز عن القيام في الصلاة بسبب من
الله أو من قبل نفسه، كمن كسر رجل نفسه فإنه يسقط عنه فرض القيام. وتعقب
بأن القيام انتقل إلى بدل وهو القعود فافترقا
وأجاب ابن المنذر عن الاحتجاج بقضاء بالصلوات بأن النائم يجب عليه قضاء
الصلاة ولا يقع طلاقه لأنه غير مكلف حال النوم بلا نزاع
واحتجوا ثالثا بأن ربط الأحكام بأسبابها أصل من الأصول المأنوسة في
الشريعة، والتطليق سبب للطلاق فينبغي ترتيبه عليه وربطه به وعدم الاعتداد
بالسكر كما في الجنايات. وأجيب بأن الاستفسار عن السبب للطلاق هل هو إيقاع
لفظه مطلقا؟ ان قلتم نعم لزمكم أن يقع من المجنون والنائم والسكران الذي لم
يعص بسكره إذا وقع من أحدهم لفظ الطلاق. وإن قلتم إنه ايقاع اللفظ من
العاقل الذي يفهم ما يقول فالسكران غير عاقل ولا فاهم، فلا يكون ايقاع لفظ
الطلاق منه سببا.
واحتجوا رابعا بأن الصحابة رضي الله عنهم جعلوه كالصاحي، ويجاب بأن
ذلك محل خلاف بين الصحابة كما بينا
واحتجوا خامسا بأن عدم وقوع الطلاق من السكران مخالف للمقاصد الشرعية
لأنه إذا فعل حراما واحدا لزمه حكمه، فإذا تضاعف جرمه بالسكر وفعل المحرم
الاخر سقط عنه الحكم، مثلا لو أنه ارتد بغير سكر لزمه حكم الردة فإذا جمع بين
السكر والردة لم يلزمه حكم الردة لأجل السكر ويجاب بأنا لم نسقط عنه حكم
المعصية الواقعة منه حال السكر لنفس فعله للمحرم الاخر وهو السكر، فإن ذلك
مما لا يقول به عاقل، وإنما أسقطنا عنه حكم الصاحي فلم يكن فعله لمعصية الشرب
هو المسقط.
ومن الأدلة الدالة على عدم الوقوع ما في صحيح البخاري وغيره أن حمزة سكر
وقال للنبي صلى الله عليه وسلم لما دخل عليه هو وعلى " وهل أنتم الا عبيد لأبي "
64

في قصة الشارفين المشهورة، فتركه صلى الله عليه وسلم وخرج ولم يلزمه حكم
تلك الكلمة، مع أنه لو قالها غير سكران لكان كفرا.
وأجيب بأن الخمر كانت إذ ذاك مباحة، والخلاف إنما هو بعد تحريمها.
وحكى الحافظ في فتح الباري عن ابن بطال أنه قال " الأصل في السكران العقل "
والسكر شئ طرأ على عقله. فمهما وقع منه من كلام مفهوم فهو محمول على الأصل
حتى يثبت فقدان عقله اه‍.
وقال القائلون يعد الوقوع " لا يقال إن ألفاظ الطلاق ليست من الأحكام التكليفية
، بل من الأحكام الوضعية، وأحكام الوضع لا يشترط فيها التكليف
لأنا نقول الأحكام الوضعية تقيد بالشروط كما تقيد الأحكام التكليفية. وأيضا
السبب الوضعي هو طلاق العاقل لا مطلق الطلاق وبالاتفاق. والا لزم وقوع
طلاق المجنون. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وأما المكره فإنه ينظر فإن كان اكراهه بحق كالمولى إذا أكرهه
الحاكم على الطلاق وقع طلاقه. لأنه قول حمل عليه بحق فصح كالحربي إذا أكره
على الاسلام. وإن كان بغير حق لم يصح لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولأنه قول حمل عليه بغير حق فلم يصح
كالمسلم إذا أكره على كلمة الكفر. ولا يصير مكرها الا بثلاثة شروط
(أحدها) أن يكون المكره قاهرا له لا يقدر على دفعه
(والثاني) أن يغلب على ظنه أن الذي يخافه من جهته يقع به
(والثالث) أن يكون ما يهدده به مما يلحقه ضرر به كالقتل والقطع والضرب
المبرح والحبس الطويل والاستخفاف بمن يغض منه ذلك من ذوي الأقدار
لأنه يصير مكرها بذلك.
وأما الضرب القليل في حق من لا يبالي به والاستخفاف بمن لا يغض منه
أو أخذ القليل من المال ممن لا يتبين عليه. أو الحبس القليل. فليس بإكراه.
65

وأما النفي فإن كان فيه تفريق بينه وبين الأهل فهو إكراه، وإن لم يكن فيه
تفريق بينه وبين الأهل ففيه وجهان
(أحدهما) أنه أكره لأنه جعل النفي عقوبة كالحد، ولأنه تلحقه الوحشة
بمفارقة الوطن (والثاني) ليس بإكراه لتساوي البلاد في حقه. وإذا أكره
على الطلاق فنوى الايقاع ففيه وجهان
(أحدهما) لا يقع لان اللفظ يسقط حكمه بالاكراه، وبقيت النية من غير
لفظ، فلم يقع بها الطلاق.
(والثاني) انه يقع لأنه صار بالنية مختارا
(فصل) وان قال الأعجمي لامرأته أنت طالق وهو لا يعرف معناه ولا
نوى موجبه لم يقع الطلاق، كما لو تكلم بكلمة الكفر وهو لا يعرف معناه ولم يرد
موجبه، وان أراد موجبه بالعربية ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول الماوردي
البصري أنه يقع لأنه قصد موجبه فلزمه حكمه (والثاني) وهو قول الشيخ أبى حامد
الأسفراييني رحمه الله أنه لا يصح كما لا يصير كافرا إذا تكلم بكلمة الكفر وأراد
موجبه بالعربية.
(الشرح) الحديث أخرجه ابن ماجة وابن حبان والدارقطني والطبراني
والحاكم في المستدرك من حديث ابن عباس بهذا اللفظ الذي ساقه المصنف " رفع
عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " وحسنه النووي، وقد أطال الحافظ
ابن حجر في باب شروط الصلاة من التلخيص الحبير
أما الأحكام فإن أكره على الطلاق فطلق - فإن كان مكرها بحكم قضائي وقع
الطلاق، كما نقول في الحربي إذا أكره على كلمة التوحد، وإن كان مكرها بغير
حق ولم ينو إيقاع الطلاق فالمنصوص أنه لا يقع طلاقه. وحكى المسعودي وابن
الصباغ وجها آخر أنه لا يقع إذا ورى بغير الطلاق، مثل أن يريد به طلاقها من
وثاق أو يريد امرأة اسمها كاسم امرأته والمذهب الأول وبه قال عمر وعلى وابن
الزبير وابن عمر وشريح والحسن وعمر بن عبد العزيز وعطاء ومجاهد وطاوس
ومالك والأوزاعي.
66

وقال أبو حنيفة والثوري والنخعي والشعبي: يقع طلاقه. دليلنا ما روى
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه " وروى عن عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: لا طلاق ولا عتاق في اغلاق " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة
وأبو يعلى والحاكم والبيهقي وصححه الحاكم، والاغلاق بكسر الهمزة وسكون الغين
فسره علماء الغريب بالاكراه، روى ذلك في التلخيص الحبير عن ابن قتيبة
والخطابي وابن السيد وغيرهم، وقيل: الجنون، واستبعده المطرزي. وقال
أبو عبيدة: الاغلاق التضييق.
وقد استدل بهذا الحديث من قال بعدم صحة طلاق المكره، وبه قال جماعة
ما أهل العلم، وحكى ذلك عمن ذكرناهم، ولأنه قول حمل عليه بغير حق، فلم
يصح كما لو أكره على الاقرار بالطلاق، وقولنا: بغير حق احتراز ممن أكرهه
الحاكم على الطلاق.
إذا ثبت هذا: فلا يكون مكرها حتى يكون المكره له قاهرا له لا يقدر على
الامتناع منه، وإن غاب على ظنه أنه إذا لم يطلق فعل به ما أوعده به، فإن
أوعده بالقتل أو قطع طرف، كان ذلك مكرها، وان أوعده بالضرب أو الحبس
أو الشتم أو أخذ المال، فاختلف أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق: إن ذلك لا يقع
به الاكراه. وقال عامة أصحابنا - وهو المذهب - ان أوعده بالضرب والحبس
والشتم - فإن كان المكره من ذوي الأقدار والمروءة ممن يؤثر ذلك تأثيرا بالغا
في حاله كان اكراها له، لان ذلك يسيئه.
وإن كان من العوام، أو سخفاء الرعاع، لم يكن ذلك اكراها في حقه، لأنه
لا يبالي به، وان أوعده بأخذه القليل من ماله مما لا يبين عليه، لم يكن اكراها،
وان أوعده بأخذ ماله أو أكثره كان مكرها، وان أوعده باتلاف الولد، ففيه
وجهان حكاهما المسعودي، وان أوعده بالنفي عن البلد، فإن كان له أهل في البلد
كان ذلك اكراها، وان لم يكن له أهل ففيه وجهان.
67

(أحدهما) أنه اكراه لأنه يستوحش بمفارقة الوطن (والثاني) ليس باكراه
لتساوي البلاد في حقه هذا مذهبنا. وقال أحمد في إحدى الروايتين ما أوعده به
فليس باكراه، لأنه لم يصبه ما يستضر به، وهذا ليس بصحيح، لان الاكراه
لا يكون الا بالتوعد، فأما ما فعله به فلا يمكن ازالته.
(فرع) إذا أكره على الطلاق ونوى بقلبه من وثاق أو نوى غيرها ممن
يشاركها في الاسم وأخبر بذلك قبل منه لموضع الاكراه من القضية، فان نوى
ايقاع الطلاق، ففيه وجهان.
(أحدهما) يقع لأنه صار مختارا لايقاعه (والثاني) لا يقع لان حكم اللفظ
سقط بالاكراه وتبقى النية، والنية لا يقع بها الطلاق.
(فرع) ويقع الطلاق في حال الرضى والغضب والجد والهزل، لما روى
أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد
النكاح والطلاق والرجعة " رواه أصحاب السنن. وقال الترمذي حسن غريب
ورواه الحاكم وصححه. وفى اسناد الدارقطني عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك
وهو مختلف فيه. قال الحافظ: فهو على هذا حسن. وقد أخرج الطبراني
وعبد الرزاق أحاديث أخرى بمعناه.
إذا ثبت هذا: فان الطلاق يقع من المسلم والكافر، والحر والعبد والمكاتب
لاجماع الأمة على ذلك، فان تزوج امرأة فنسي أنه تزوجها فقال: أنت طالق،
وقع عليها الطلاق لأنه صادف ملكه.
(مسألة) قوله: فصل. وان قال الأعجمي لامرأته: أنت طالق الخ. وهو
كما قال، فان العجمي إذا قال لامرأته: أنت طالق ولم يعرف معناه ولا نوى
موجبه لم يقع الطلاق. كما لو تكلم بالكفر ولا يعرف معناه. وان نوى موجبه
بالعربية ففيه وجهان.
(أحدهما) يقع عليها الطلاق لأنه نوى موجبه (والثاني) لا يقع كما لو تكلم
بالكفر ولا يعلم معناه ونوى موجبه. أفاده العمراني في البيان اه‍
قلت: لأننا إذا جعلنا الحكم على النية وحدها كان الحكم باطلا وإذا جعلناه
على اللفظ وحده كان مثله، واقترانهما لا يفيد التلازم بينهما لفقدان الفهم،
68

واقترانهما لا يسوغ معه اعطاء حكمهما الا إذا اقترن اللفظ بالفهم. ومن ثم
يتوجه الوجه الثاني عندي والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ويملك الحر ثلاث تطليقات. لما روى أبو رزين الأسدي قال
" جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قول الله عز وجل:
الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فأين الثلاثة؟ قال: تسريح
بإحسان الثالثة، ويملك العبد طلقتين لما روى الشافعي رحمه الله: أن مكاتبا
لام سلمة طلق امرأته وهي حرة تطليقتين، وأراد أن يراجعها فأمره أزواج
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي عثمان رضي الله عنه فيسأله، فذهب إليه
فوجده آخذا بيد زيد بن ثابت فسألهما عن ذلك، فابتدراه وقالا: حرمت عليك
حرمت عليك ".
(فصل) ويقع الطلاق على أربعة أوجه واجب ومستحب ومحرم ومكروه
فأما الواجب فهو في حالتين (أحدهما) إذا وقع الشقاق ورأي الحكمان الطلاق،
وقد بيناه في النشوز (والثاني) إذا آلى منها ولم يفئ إليها ونذكره في الايلاء
إن شاء الله تعالى.
وأما المستحب فهو في حالتين: إحداهما: إذا كان يقصر في حقها في العشرة
أو في غيرها، فالمستحب أن يطلقها لقوله عز وجل " فأمسكوهن بمعروف
أو فارقوهن بمعروف " ولأنه إذا لم يطلقها في هذه الحال لم يؤمن أو يفضى إلى
الشقاق أو إلى الفساد. والثاني أن لا تكون المرأة عفيفة فالمستحب أن يطلقها،
لما روى أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال إن امرأتي لا ترد يد لامس
فقال النبي صلى الله عليه وسلم طلقها، ولأنه لا يأمن أن تفسد عليه الفراش
وتلحق به نسبا ليس منه.
(الشرح) حديث أبي رزين الأسدي. قال ابن أبي حاتم أخبرنا يونس بن عبد الأعلى
قراءة أخبرنا ابن وهب، أخبرني سفيان الثوري حدثني إسماعيل بن
سميع قال: سمعت أبا رزين يقول " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
69

يا رسول الله أرأيت قول الله عز وجل: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان
أين الثالثة قال التسريح باحسان. ورواه عبد بن حميد في تفسيره ولفظه: أخبرنا
يزيد بن أبي حكيم عن سفيان عن إسماعيل بن سميع أن أبا رزين الأسدي يقول،
قال رجل يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى " الطلاق مرتان، فأين الثالثة؟ قال
التسريح باحسان الثالثة " ورواه الإمام أحمد أيضا، وهكذا رواه سعيد بن منصور
عن خالد بن عبد الله عن إسماعيل بن زكريا وأبى معاوية عن إسماعيل بن سميع
عن أبي رزين به، وكذا رواه ابن مردويه أيضا من طريق قيس بن الربيع عن
إسماعيل بن سميع عن أبي رزين به مرسلا، ورواه ابن مردويه أيضا من طريق
عبد الواحد بن زياد عن إسماعيل بن سميع عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم
فذكره، ثم قال حدثنا عبد الله بن أحمد بن عبد الرحيم حدثنا أحمد بن يحيى حدثنا
عبد الله بن جرير بن جبلة حدثنا ابن عائشة حدثنا حماد بن سلمة عن قتادة عن
أنس قال، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ذكر الله
الطلاق مرتين فأين الثالثة؟ قال امساك بمعروف أو تسريح باحسان، قال في
الدر المنثور وأخرجه البيهقي وابن المنذر والنحاس وأبو داود في ناسخه
ومنسوخه وابن جرير ووكيع وعبد الرزاق
قلت وأبو رزين هذا هو مسعود بن مالك الأسدي الكوفي ثقة فاضل من
الطبقة الثانية مات سنة خمس وثمانين وهو غير أبى رزين عبيد الذي قتله ابن زياد
بالبصرة ووهم من خلط بينهما، وهو أيضا غير أبى رزين الذي ترجم له ابن
عبد البر في الاستيعاب بقوله والد عبد الله بن أبي رزين الذي لم يرو عنه غير ابنه
حديثه في الصيد يتوارى، وهما مجهولان
أما حديث مكاتب أم سلمة فقد رواه الشافعي في الام، أخبر مالك قال
وحدثني ابن شهاب عن ابن المسيب أن نفيعا مكاتبا لام سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم
طلق امرأته حرة تطليقتين فاستفتى عثمان بن عفان فقال له عثمان حرمت عليك
وأخرجه الشافعي أيضا عن مالك، حدثني عبد ربه بن سعيد عن محمد بن إبراهيم
ابن الحرث أن نفيعا مكاتبا لام سلمة استفتى زيد بن ثابت فقال إني طلقت امرأة لي
70

حرة تطليقتين، فقال زيد حرمت عليك. وأخرجه أيضا عن مالك، حدثني
أبو الزناد عن سليمان بن يسار أن نفيعا مكاتبا لام سلمة أو عبد كان تحته امرأة
حرة فطلقها اثنتين ثم أراد أن يراجعها، فأمره أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
أن يأتي عثمان بن عفان فيسأله عن ذلك فذهب إليه فلقيه عند الدرج آخذا بيد
زيد بن ثابت فسألهما فابتدراه جميعا فقالا: حرمت عليك اه‍
قلت: ويعارضه ما روى عن عمر بن معتب " أن أبا حسن بنى نوفل أخبره
أنه استفتى ابن عباس في مملوك تحته أمة فطلقها تطليقتين ثم عتقا، هل يصلح أن
يخطبها. قال نعم. قضى بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه النسائي
وابن ماجة وأبو داود، إلا أن عمر بن معتب قال فيه علي بن المديني أنه منكر الحديث
وسئل عنه أيضا فقال إنه مجهول لم يرو عنه غير يحيى بن أبي كثير. وقال النسائي
ليس بالقوى. وقال الأمير أبو نصر: منكر الحديث. وقال الذهبي لا يعرف.
ومعتب بضم الميم وفتح العين وتشديد المثناة، وقد استدل بهذا الحديث من قال إن
العبد يملك من الطلاق ما يملكه الحر من ثلاث تطليقات
وقال أبو حنيفة " انه لا يملك في الأمة الا اثنتين أما في الحرة فكالحر "
واستدلوا بحديث ابن مسعود " الطلاق بالرجال والعدة بالنساء " عند الدارقطني والبيهقي
وأجيب بأنه موقوف
قالوا. أخرج الدارقطني والبيهقي أيضا عن ابن عباس نحوه، وأجيب بأنه
موقوف أيضا. وكذلك روى نحوه أحمد من حديث على، وهو أيضا موقوف.
وقد أخرج ابن ماجة والدارقطني من حديث ابن عمر مرفوعا " طلاق الأمة
اثنتان وعدتها حيضتان "
وأجيب بأن في إسناده عمر بن شبيب وعطية العوفي وهما ضعيفان. وقال
الدارقطني والبيهقي الصحيح أنه موقوف، ولكن في السنن نحو من حديث عائشة
واعترض بأن في إسناده مظاهر بن أسلم.
قال الترمذي حديث عائشة هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا الا من
حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا يعرف له في العلم غير هذا الحديث.
71

والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهو قول
سقيان والشافعي وإسحاق اه‍
وقال العمراني: عدد الطلاق معتبر بالرجال دون النساء فيملك الحر ثلاث
تطليقات، سواء كانت زوجته حرة أو أمة، ولا يملك العبد إلا طلقتين سواء
كانت زوجته حرة أو أمة. وبه قال ابن عمر وابن عباس، ومن الفقهاء مالك
وأحمد. وقال أبو حنيفة والثوري: عدد الطلاق معتبر بالنساء، فإن كانت
الزوجة حرة ملك زوجها عليها ثلاث تطليقات، سواء كان حرا أو عبدا.
وإن كانت أمة لم يملك عليها إلا طلقتين، سواء كان حرا أو عبدا، وبه قال على
ابن أبي طالب. اه‍
دليلنا ما روى عن عائشة رضي الله عنها انها قالت " كان الرجل يطلق امرأته
في صدر الاسلام ما شاء أن يطلقها وهي امرأته إذا ارتجعها وهي في العدة.
وإن طلقها مائة وأكثر حتى قال رجل لامرأته: والله لا أطلقك فتبيني مني ولا
آويك أبدا، قالت وكيف ذلك؟ قال أطلقك فكلما همت عدتك أن تنقضي
راجعتك، فذهبت المرأة حتى دخلت على عائشة فأخبرتها، فسكتت عائشة حتى
جاء النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزل
القرآن: الطلاق مرتان، فامساك بمعروف أو تسريح باحسان. قالت عائشة
فاستأنف الناس الطلاق مستقبلا من كان طلق ومن لم يكن طلق " رواه الترمذي
ورواه أيضا عن عروة مرسلا، وذكر أنه أصح، والمرفوع من طريق قتيبة عن
يعلي بن شبيب عن هشام بن عروة عن أبيه عنها، والمرسل من طريق أبى كريب
عن عبد الله بن إدريس عن هشام عن عروة ولم يذكر عائشة. وحديث الرجل
الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين الثالثة؟ فقال تسريح باحسان. وقد
مضى كلامنا عليه
وهذه الآية إنما وردت في الحر لقوله تعالى " ولا يحل لكم أن تأخذوا مما
آتيتموهن شيئا الا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله، فان خفتم ألا يقيما حدود
الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به " فأحل الله تعالى الاخذ له، والذي أحل له
الاخذ هو الحر دون المولى، ولم يفرق بين أن تكون الزوجة حرة أو أمة
72

فان قيل: الأمة تفتدي، قلنا الأمة لا تفتدي فان افتدت باذن سيدها كان
ذلك مما في يدها أو كسبها، والا كان ذلك في ذمتها.
(فرع) إذا طلق الذمي الحر امرأته طلقه فنقض الأمان ولحق بدار الحرب
فسبي واسترق ثم تزوج زوجته التي طلقها باذن سيدها
قال ابن الحداد: لم يملك عليها أكثر من طلقه واحدة، لان النكاح الثاني
يبنى على الأول في عدد الطلقات، وان طلقها طلقتين ونقض الأمان ولحق بدار
الحرب فسبي واسترق ثم تزوجها باذن سيده كانت عنده على واحدة، لان
الطلقتين الأولتين لم يحرماها عليه، فلم يتعين الحكم بالرق عليه الصارئ بعده،
كذلك إذا طلق العبد امرأته طلقة فأعتق ثم تزوجها ملك عليها تمام الثلاث
وهو طلقتان، لان الطلقة الأولى لم تحرمها عليه
ولو طلق العبد امرأته طلقتين ثم أعتق العبد لم يجز له أن يتزوجها قبل زوج
آخر لأنها حرمت عليه بالطلقتين الأولتين فلا يتعين الحكم بالعتق الطارئ.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وأما المحرم فهو طلاق البدعة وهو اثنان
(أحدهما) طلاق المدخول بها في حال الحيض من غير حمل
(والثاني) طلاق من يجوز أن تحبل في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن
يستبين الحمل.
والدليل عليه ما روى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه طلق امرأته وهي
حائض، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر،
ثم تحيض عنده مرة أخرى، ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض عنده أخرى،
ثم يمسكها حتى تطهر من حيضها، فإذا أراد أن يطلقها فليطلقها حين تطهر قبل
ان يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء " ولأنه إذا طلقها
في الحيض أضر بها في تطويل العدة، وإذا طلقها في الطهر الذي جامعها فيه
قبل أن يستبين الحمل لم يأمن أن تكون حاملا فيندم على مفارقتها مع الولد،
73

ولأنه لا يعلم هل علقت بالوطئ فتكون عدتها بالحمل، أو لم تعلق فتكون عدتها
بالأقراء. وأما طلاق غير المدخول بها في الحيض فليس بطلاق بدعة، لأنه
لا يوجد تطويل العدة.
فأما طلاقها في الحيض وهي حامل على القول الذي يقول إن الحامل تحيض
فليس ببدعة.
وقال أبو إسحاق هو بدعة لأنه طلاق في الحيض. والمذهب الأول، لما
روى سالم أن ابن عمر رضي الله عنه " طلق امرأته وهي حائض، فذكر عمر
للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: مره فليراجعها ثم ليطلقها وهي طاهر أو حامل "
ولان الحامل تعتد بالحمل فلا يؤثر الحيض في تطويل عدتها
وأما طلاق من لا تحمل في الطهر المجامع فيه وهي الصغيرة والآيسة من الحيض
فليس ببدعة لان تحريم الطلاق للندم على الولد أو للريبة بما تعتد به من الحمل.
والأقراء. وهذا لا يوجد في حق الصغيرة والآيسة
وأما طلاقها بعدما استبان حملها فليس ببدعة، لان المنع للندم على الولد
وقد علم بالولد أو للارتياب بما تعتد به وقد زال ذلك بالحمل
وإن طلقها في الحيض أو الطهر الذي جامع فيه وقع الطلاق، لان ابن عمر
رضي الله عنه طلق امرأته وهي حائض، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها
فدل على أن الطلاق وقع. والمستحب أن يراجعها لحديث ابن عمر رضي الله عنه
ولأنه بالرجعة يزول المعنى الذي لأجله حرم الطلاق، وان لم يراجعها جاز لان
الرجعة إما أن تكون كابتداء النكاح أو كالبقاء على النكاح، ولا يجب واحد منهما
* * *
(فصل) وأما المكروه فهو الطلاق من غير سنة ولا بدعة، والدليل عليه
ما روى محارب بن دثار رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أبغض الحلال إلى
الله عز وجل الطلاق " وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: إنما المرأة خلفت من ضلع، لن تستقيم لك على طريقة، فان استمتعت
بها استمتعت وبها عوج، وان ذهبت تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها "
74

(الشرح) حديث ابن عمر رواه أحمد في مسنده ومسلم وأصحاب السنن الأربعة
بلفظ " أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم
فقال: مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " وفى رواية " أنه طلق امرأة
له وهي حائض فذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال
ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها
قبل أن يمسها، فتلك العدة كما أمر الله تعالى " وفى لفظ " فتلك العدة التي أمر
الله أن يطلق لها النساء " رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن إلا الترمذي
ولمسلم والنسائي نحوه وفى آخره " قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن " وفى رواية لأحمد والشيخين
" وكان عبد الله طلق تطليقه فحسبت من طلاقها " وفى رواية عند أحمد ومسلم
والنسائي " كان ابن عمر إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم: أما إن طلقت امرأتك
مرة أو مرتين فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، وان كنت طلقت
ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت الله عز وجل فيما
أمرك به من طلاق امرأتك ".
وفى رواية عند الدارقطني وفيه تنبيه على تحريم الوطئ والطلاق قبل الغسل
" أنه طلق امرأته وهي حائض تطليقة، فانطلق عمر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال له
النبي صلى الله عليه وسلم: مر عبد الله فليراجعها، فإذا اغتسلت فليتركها حتى
تحيض، فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها، وإن شاء أن
يمسكها فليمسكها، فإنها العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ".
أما بعد - فان قوله (البدعة) فهي الحدث بعد الاكمال، وابتدع الشئ
أحدثه وابتدأه فهو مبتدع. وقوله " طلق امرأته " اسمها آمنة بنت غفار هكذا
حكاه النووي وابن باطش، وفى مسند أحمد أن اسمها النوار. وقوله (فذكر
ذلك عمر) قال ابن العربي: سؤال عمر محتمل لأن يكون ذلك لكونهم لم يروا
قبلها مثلها فسأله ليعلم.
75

ويحتمل أن يكون لما رأى في القرآن (فطلقوهن لعدتهن) ويحتمل أن يكون
سمع من النبي صلى الله عليه وسلم النهى فجاء ليسأل عن الحكم عبد ذلك. وقوله:
(مره فليراجعها).
قال ابن دقيق العبد: يتعلق بذلك مسألة أصولية وهي أن الامر بالامر
بالشئ هل هو أمر بذلك الشئ أو لا؟ فان النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر:
مره، والمسألة معروفة في كتب الأصول والخلاف فيها مشهور. وفى لفظ
لأبي داود وأحمد والنسائي عن ابن عمر أيضا " أنه طلق امرأته وهي حائض،
فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يرها شيئا، وقال: إذا طهرت
فليطلق أو ليمسك ".
وقد تضمن الحكم بموجب هذه الأخبار أن الطلاق على أربعة أوجه، حلالان
وحرامان، فالحلالان أن يطلق امرأته طاهرا من غير جماع أو يطلقها حاملا
مستبينا حملها. والحرامان أن يطلقها وهي حائض أو يطلقها في طهر جامعها
فيه هذا في طلاق المدخول بها، أما من لم يدخل بها فيجوز طلاقها حايضا
وطاهرا كما قال تعالى " لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا
لهن فريضة ".
وقال ابن القيم في زاد المعاد تضمنت النصوص أن المطلقة نوعان، مدخول
بها وغير مدخول بها، وكلاهما لا يجوز تطليقها ثلاثا مجموعة، ويجوز تطليق
غير المدخول بها طاهرا وحائضا، وأما المدخول بها فإن كانت حائضا أو نفساء
حرم طلاقها، وإن كانت طاهرا، فإن كانت مستبينة الحمل جاز طلاقها بعد الوطئ
وقبله، وإن كانت حائلا لم يجز طلاقها بعد الوطئ في طهر الإصابة، ويجوز قبله
هذا الذي سرعه الله على لسان رسوله من الطلاق.
وأجمع المسلمون على وقوع الطلاق الذي أذن الله فيه وأباحه إذا كان من
مكلف مختار عالم بمدلول اللفظ قصد له، واختلفوا في وقوع المحرم من ذلك
وفيه مسألتان.
(الأولى) الطلاق في الحيض أو في الطهر الذي واقعها فيه.
(المسألة الثانية) في جمع الثلاث، ثم ذكر المسألتين تفصيلا ورأي كل جماعة
76

من العلماء ودليل كل فريق منهم مما أثبتناه في مظانه ومواطنه من شرح المهذب،
فإذا ثبت هذا: فإن الطلاق يقع على كل زوجة كبيرة كانت أو صغيرة عاقلة كانت
أو مجنونة، مدخول بها كانت أو غير مدخول بها لعموم الآية والاجماع وينقسم
الطلاق على أربعة أضرب، واجب ومستحب ومكروه ومحرم، فأما الواجب
فهو طلاق الحكمين عند شقاق الزوجين - إذا قلنا: إنهما حكمان - وكذلك
طلاق المولى إذا انقضت مدة الايلاء وامتنع من الفئ على ما سيأتي في الايلاء
وأما المستحب فأن تقع الخصومة بين الزوجين وخافا أن لا يقيما حدود الله،
فيستحب له أن يطلقها، لما روى أن رجلا قال: يا رسول الله إن امرأتي لا ترد
يد لامس فقال: طلقها، فقال: إني أحبها، قال: أمسكها.
وأما المكروه فأن تكون الحال بينهما مستقيمة ولا يكره شيئا من خلقها
ولا دينها، فيكره أن يطلقها، لقوله صلى الله عليه وسلم أبغض الحلال إلى الله
الطلاق. وأما المحرم فهو طلاق المرأة المدخول بها في الحيض أو في الطهر الذي
جامعها فيه قبل أن يتبين حملها، ويسمى طلاق البدعة، لقوله تعالى " فطلقوهن
لعدتهن " أي لوقت عدتهن، ووقت العدة هو الطهر، كما روينا أن ابن عمر طلق
امرأته وهي حائض فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: مره
فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن أراد أن يطلقها فليطلقها
حين تطهر قبل أن يجامعها، فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء.
وفى رواية " مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا " ولأنه إذا طلقها في
حال الحيض أضر بها في تطويل العدة، وإذا طلقها في حال الطهر الذي جامعها
فيه قبل أن يتبين حملها ربما كانت حاملا فيندم على مفارقتها - فإن كانت غير
مدخول بها وطلقها في الحيض - لم يكن طلاق بدعة لأنه لا عدة عليها، وإن
طلق الصغيرة أو الآيسة في الطهر الذي جامعها فيه لم يكن طلاق بدعة: لأنها
لا تحبل فيندم على مفارقتها، وإن طلقها وهي حامل في الطهر الذي جامعها فيه
لم يكن طلاق بدعة لقوله صلى الله عليه فليطلقها طاهرا أو حاملا. فان رأت الدم
على الحمل - فان قلنا: إنه ليس بحيض - فليس بطلاق بدعه، وإن قلنا: إنه
77

حيض، فيه وجهان. قال أبو إسحاق: هو طلاق بدعة، لأنه طلقها على الحيض
والثاني - وهو المذهب - أنه ليس بطلاق بدعي لقوله صلى الله عليه وسلم:
فليطلقها طاهرا أو حاملا، ولم يفرق.
إذا ثبت هذا: فان خالف وطلقها في الحيض أو الطهر الذي جامعها فيه وقع
عليها الطلاق، وبه قال أهل العلم كافة. وذهب ابن علية وهشام بن الحكم
وبعض أهل الظاهر والشيعة والقاضي أحمد شاكر من المشتغلين بمراجعة الكتب
في عصرنا رحمه الله إلى أن الطلاق لا يقع. ويرد عليهم برواية متفق عليها في
الصحيحين في حديث طلاق ابن عمر " فحسبت من طلاقها " وفى رواية عند أحمد
ومسلم والشافعي " كان ابن عمر إذا سئل عن ذلك قال لأحدهم ان طلقت امرأتك
مرة أو مرتين فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني بهذا، وإن كنت طلقت
ثلاثا فقد حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك، وعصيت الله عز وجل فيما
أمرك به من طلاق امرأتك ".
وفى رواية للبخاري " فحسبت على بتطليقة " وأخرجه أبو نعيم كذلك " وزاد
- يعنى حين طلق امرأته - فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذهب
الجمهور إلى وقوع الطلاق البدعي، وأما القائلون بعدم الوقوع كالباقر والصادق
وابن حزم وحكاه الخطابي عن الروافض والخوارج، وحكاه ابن العربي وغيره
عن ابن علية وهو من فقهاء المعتزلة.
قال ابن عبد البر: لا يخالف في ذلك الا أهل البدع والضلال، قال: وروى
مثله عن بعض التابعين وهو شذوذ. وقد أجاب ابن حزم عن قول ابن عمر بأنه
لم يصرح بمن حسبها عليه، ولا حجة في أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتعقب بأنه مثل قول الصحابة أمرنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا
فإنه في حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال الحافظ ابن حجر: وعندي أنه لا ينبغي أن يجئ فيه الخلاف الذي فيه
قول الصحابي أمرنا بكذا، فان ذلك محله حيث يكون اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك
ليس صريحا، وليس كذلك في قصة ابن عمر هذه فان النبي صلى الله عليه وسلم
78

هو الامر بالمراجعة، وهو المرشد لابن عمر فيما يفعل إذا أراد طلاقها بعد ذلك
وإذا أخبر ابن عمر أن الذي وقع منه حسب عليه بتطليقة كان احتمال أن يكون
الذي حسبها عليه غير النبي صلى الله عليه وسلم بعيدا جدا مع احتفاف القرائن
في هذه القصة بذلك، وكيف يتخيل أن ابن عمر يفعل شيئا في القصة برأيه -
وهو ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم تغيظ من صنعه، حيث لم يشاور فيما
يفعل في القصة المذكورة.
واستدل الجمهور بما أخرجه الدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " هي واحدة " قال في الفتح: وهذا نص في محل النزاع يجب المصير إليه
وقد أورده بعض العلماء على ابن حزم فأجابه بأن قوله " هي واحدة " لعله ليس
من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، فألزمه بأنه نقض أصله، لان الأصل لا يدفع
بالاحتمال. وقد أجاب ابن القيم عن هذا الحديث بأنه لا يدرى أقاله - يعنى قوله
هي واحدة - ابن وهب من عنده أم ابن أبي دئب أم نافع، فلا يجوز أن يضاف
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مالا يتيقن أنه من كلامه.
قال الشوكاني: ولا يخفى أن هذا التجويز لا يدفع الظاهر المتبادر من الرفع،
ولو فتحنا باب دفع الأدلة بمثل هذا ما سلم لنا حديث، فالأولى في الجواب
المعارضة، ومن حجج الجمهور ما أخرجه الدارقطني أيضا " أن عمر قال يا رسول الله
أفتحتسب بتلك التطليقة؟ قال: نعم " ورجاله إلى شعبة ثقات كما قال الحافظ
ابن حجر وشعبة رواه عن أنس بن سيرين عن ابن عمر.
واحتج الجمهور أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم " مره فليراجعها " فإن الرجعة
لا تكون إلا بعد طلاق. وقد أجاب ابن القيم عن ذلك بأن الرجعة قد وقعت
في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاثة معان.
(أحدها) بمعنى النكاح، قال الله تعالى " فإن طلقها فلا جناح عليهما أن
يتراجعا " ولا خلاف بين أحد من أهل العلم أن المطلق ههنا هو الزوج الثاني،
وأن التراجع بينها وبين الزوج الأول، وذلك كابتداء النكاح.
(وثانيها) الرد الحسن إلى الحالة الأولى التي كانت عليها أولا، كقوله
79

صلى الله عليه وسلم لأبي النعمان بن بشير لما أنحل ابنه غلاما خصه به دون ولده
" ارجعه " أي رده، فهذا رد ما لم تصح فيه الهبة الجائزة
والثالث: الرجعة التي تكن بعد الطلاق، ولا يخفى أن الاحتمال يوجب سقوط
الاستدلال، ولكنه يؤيد حمل الرجعة هنا على الرجعة بعد الطلاق ما أخرجه
الدارقطني عن ابن عمر " أن رجلا قال: إني طلقت امرأتي البتة وهي حائض
فقال عصيت ربك وفارقت امرأتك. قال فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر
ابن عمر أن يراجع امرأته؟ قال إنه أمر ابن عمر ان يراجعها بطلاق بقي له.
وأنت لم تبق ما ترتجع به امرأتك "
قال ابن حجر: وفى هذا السياق رد على من حمل الرجعة في قصة ابن عمر
على المعنى اللغوي.
ومن جملة ما احتج به القائلون بعدم الوقوع أثر ابن عباس " الطلاق على أربعة
أوجه، وجهان حلال ووجهان حرام. فأما اللذان هما حلال فأن يطلق الرجل
امرأته طاهرا من غير جماع، أو يطلقها حاملا مستبينا حملها، وأما اللذان هما
حرام فأن يطلقها حائضا أو يطلقها عند الجماع لا يدرى اشتمل الرحم على ولد
أم لا " رواه الدارقطني
ولا دليل فيه على عدم الوقوع، بل إن اقتران الوقوع بالحرمة أدعى للتغليظ
عليه، ثم إنه قول غير مرفوع، ومع عدم الرفع فنحن لا نرى فيه حجة لهم.
ومن جملة ما احتج به القائلون بعدم وقوع الطلاق البدعي ما أخرجه أحمد
وأبو داود والنسائي عن ابن عمر بلفظ " طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي
حائض قال عبد الله: فردها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يرها شيئا " قال الحافظ
ابن حجر: وإسناد هذه الزيادة على شرط الصحيح، وهذا الحديث رواه أبو داود
عن أحمد بن صالح عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال: اخبرني أبو الزبير " انه
سمع عبد الرحمن بن أيمن مولى عزة يسأل ابن عمر كيف ترى في رجل طلق
امرأته حائضا؟ فقال ابن عمر، طلق ابن عمر امرأته حائضا على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال إن عبد الله - إلى أن قال - فردها على ولم يرها شيئا " وقد أخرجه أحمد
80

عن روح ابن عبادة عن ابن جريج فلم يتفرد به عبد الرزاق عن ابن جريج ولكنه
قد أعل هذا الحديث بمخالفة أبى الزبير لسائر الحفاظ.
وقال ابن عبد البر: قوله " ولم برها شيئا - منكر " ولم يقله غير أبى الزبير،
وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف إذا خالفه من هو أوثق منه، ولو صح
فمعناه عندي - والله أعلم - ولم يرها شيئا مستقيما، لكونها لم تكن عن السنة،
وقال الخطابي: قال أهل الحديث لم يقل أبو الزبير حديثا أنكر من هذا، وقد
يحتمل أن يكون معناه ولم يرها شيئا تحرم معه المراجعة، أو لم يرها شيئا جائزا في
السنة ماضيا في الاختيار. وقد حكى البيهقي عن الشافعي نحو ذلك
ويمكن أن يجاب بأن أبا الزبير غير مدفوع في الحفظ والعدالة، وإنما يخشى
من تدليسه، فإذا قال سمعت أو حدثني زال ذلك، وقد صرح هنا بالسماع،
وليس في الأحاديث الصحيحة ما يخالف حديث أبي الزبير حتى يصار إلى الترجيح
ويقال قد خالفه الأكثر، بل غاية ما هناك الامر بالمراجعة على فرض استلزامه
لوقوع الطلاق.
قالوا ويؤيد رواية أبى الزبير ما أخرجه سعيد بن منصور من طريق عبد الله
ابن مالك عن ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليس ذلك بشئ.
وقد روى ابن حزم في المحلى بسنده المتصل إلى ابن عمر من طريق عبد الوهاب
الثقفي عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته
وهي حائض: لا يعتد بذلك. وهذا إسناد صحيح. وروى ابن عبد البر عن الشعبي
أنه قال: إذا طلق امرأته وهي حائض لم يعتد بها في قول ابن عمر. وقد روى
زيادة أبى الزبير الحميدي في الجمع بين الصحيحين، وقد التزم أن لا يذكر فيه إلا
ما كان صحيحا على شرطهما.
وقال ابن عبد البر في التمهيد: إنه تابع أبا الزبير على ذلك أربعة. عبد الله
ابن عمر، ومحمد بن عبد العزيز بن أبي رواد، ويحيى بن سليم، وإبراهيم بن أبي
حسنه، ولا شك أن الصيرورة إلى الجمع، وهو ممكن بما ذكره ابن عبد البر
81

من تأويله لمعنى " ولم يرها شيئا " وكذلك الخطابي وغيره ممن ذكرنا أفضل وأخرى
من الترجيح المتعذر. قال ابن حجر وهو متعين - يعنى الجمع - وهو أولى من
تغليط بعض الثقات.
وذهب القائلون بعدم الوقوع إلى الاستدلال بقوله تعالى " يا أيها النبي إذا طلقتم
النساء فطلقوهن لعدتهن " والمطلق في حال الحيض أو الطهر الذي وطئ فيه لم
يطلق بتلك العدة التي أمر الله بتطليق النساء لها كما صرح بذلك في الحديث
المذكور. وقد تقرر في الأصول أن الامر بالشئ نهى عن ضده، والمنهى عنه
نهيا لذاته أو لجزئه أو لوصفه اللازم يقتضى الفساد، والفساد لا يثبت حكمه.
ومنها قوله تعالى " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " وليس أقبح من التسريح
الذي حرمه الله ومنها قوله تعالى " الطلاق مرتان " ولم يرد إلا المأذون فيه " فدل
على أن ما عداه ليس بطلاق لما في هذا التركيب من الحصر، أعني تعريف المسند
إليه باللام الجنسية.
قلت. وهذه كلها أدلة احتمالية وليست قاطعة حاسمة في موطن النزاع، وكما
قلنا الجمع أحرى بأهل الاحتياط.
وحديث محارب بن دثار يؤخذ على المصنف روايته هكذا بالارسال،
لان محارب بن دثار من الطبقة الرابعة من التابعين وهو من علماء الكوفة وشهد
بيعة معاوية وكان معه، ولعل المصنف عول على ترجيح أبى حاتم والدارقطني
والبيهقي الارسال. وقد رويناه في سنن أبي داود وابن ماجة والحاكم وصححه عن
ابن عمر، وفى الرواية المتصلة يحيى بن سليم وفيه مقال، والرواية المرسلة في
إسنادها عبد الله بن الوليد الوصافي، وهو ضعيف، ولكنه قد تابعه معرف بن
الواصل. ولفظ هذه الروايات كلها " أبغض الحلال إلى الله عز وجل الطلاق "
ورواه الدارقطني عن معاذ بلفظ " ما خلق الله شيئا أبغض إليه من الطلاق " قال
الحافظ بن حجر واسناده ضعيف ومنقطع، وأخرج ابن ماجة وابن حبان من
حديث أبي موسى مرفوعا " ما بال أحدكم يلعب بحدود الله يقول قد طلقت قد
راجعت " وحديث أبي هريرة متفق عليه عند البخاري وأحمد ومسلم
والحديث الأول فيه دليل على أن ليس كل حلال محبوبا، بل ينقسم إلى ما هو
82

محبوب وإلى ما هو مبغوض، وقد مضى كلامنا على المكروه. وقوله " من ضلع "
بكسر الضاد وفتح اللام وتسكن قليلا، والأكثر الفتح وهو واحد الأضلاع،
والفائدة في تشبيه المرأة بالضلع التنبيه إلى أنها معوجة فمن حاول أن يحملها على
الاعتدال كسرها، وإن تسامح معها على ما هي عليه انتفع بها، وإن أعوج شئ
في الضلع أعلاه، المبالغة في الاعوجاج والتأكيد لمعنى الاعوجاج هو المراد من
هذا اللفظ والتأكيد لمعنى الكسر
وقيل يحتمل أن يكون ذلك مثلا لا على المرأة لان أعلاها رأسها وفيه لسانها
وهو الذي ينشأ منه الاعوجاج، قيل وأعوج هنا من باب الصفة لا من باب
التفضيل، لان أفعل التفضيل لا يصاغ من الألوان والعيوب. وأجيب بأن
الظاهر ههنا أنه للتفضيل، وقد جاء ذلك على قلة مع عدم الالتباس بالصفة.
والضمير في قوله: فإن ذهبت تقيمه كسرته يرجع إلى الضلع لا إلى أعلاه، وهو
يذكر ويؤنث. ولهذا جاء في رواية " إن ذهبت تقيمها كسرتها " وفى رواية " فإن
ذهبت تقيمه كسرته "
وقوله " خلقت من ضلع " أي من ضلع آدم الذي خلقت منه حواء. قال
الفقهاء: انها خلقت من ضلع آدم، ويدل على ذلك قوله " خلقكم من نفس
واحدة وخلق منها زوجها " وقد روى ذلك من حديث ابن عباس عند ابن إسحاق
وروى من حديث مجاهد مرسلا عند ابن أبي حاتم. والحديث يرشد إلى ملاطفة
النساء والصبر على ما لا يستقيم من أخلاقهن، والتنبيه على أنهن خلقن على تلك
الصفة لي لا يفيد معها التأديب ولا ينجع عندها النصح فلم يبق إلا الصبر والمحاسنة
وترك التأنيب والمخاشنة.
وقال النووي: ضبط بعضهم قوله: استمتعت بها على عوج بفتح العين،
وضبطه بعضهم بكسرها، ولعل الفتح أكثر، وضبطه ابن عساكر وآخرون
بالكسر، قال وهو الأرجح، ثم ذكر كلام أهل اللغة في تفسير معنى المكسور
والمفتوح، وهو معروف، وقد صرح صاحب المطالع بأن أهل اللغة يقولون في
الشخص المرئي عوج، وفيما ليس بمرأى كالرأي والكلام عوج بالكسر. قال
وانفرد أبو عمرو الشيباني فقال: كلامهما بالكسر ومصدرهما بالفتح، وكسرها
83

طلاقها. وهذه العبارة ليست في الروايتين المتفق عليهما. وقد حقق الزمخشري
الكلام في تفسير قوله " لا ترى فيها عوجا ولا أمتا " والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإذا أراد الطلاق فالمستحب أن يطلقها طلقة واحدة لأنه يمكنه
تلافيها. وإن أراد الثلاث فرقها في كل طهر طلقة ليخرج من الخلاف، فإن عند أبي
حنيفة لا يجوز جمعها، ولأنه يسلم من الندم، وإن جمعها في طهر واحد جاز
لما روى " أن عويمرا العجلاني قال عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حين لاعن
امرأته: كذبت عليها ان أمسكتها فهي طالق ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
لا سبيل لك عليها " ولو كان جمع الثلاث محرما لأنكر عليه، فإن جمع الثلاث أو
أكثر بكلمة واحدة وقع الثلاث، لما روى الشافعي رحمه الله أن ركانة بن عبد يزيد
طلق امرأته سهيمة البتة، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه فقال: يا رسول الله
إني طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله ما أردت إلا واحدة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
والله ما أردت الا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت إلا واحدة، فردها
رسول الله صلى الله عليه وسلم " فلو لم يقع الثلاث إذا أرادها بهذا اللفظ لم يكن
لاستحلافه معنى.
وروى أن رجلا قال لعثمان رضي الله عنه: إني طلقت امرأتي مائة، فقال
ثلاث يحرمنها وسبعة وتسعون عدوان "
وسئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل طلق امرأته ألفا فقال " ثلاث
منهن يحرمن عليه، وما بقي فعليه وزره "
(الشرح) حديث عويمر العجلاني أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب
السنن إلا الترمذي عن سهل بن سعد " أن عويمرا العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: يا رسول الله أرأيت رجلا رأى مع امرأته رجلا أيقتله؟ فتقتلونه، أم
كيف يفعل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد نزل فيك وفى صاحبتك.
فاذهب فأت بها. قال سهل فتلاعنا - وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
84

فلما فرغ قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل
أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين "
وهذا الحديث سيأتي في كتاب اللعان. والمقصود من إيراده هنا ان الثلاث إذا
وقعت في موقف واحد وقعت كلها وبانت الزوجة
وأجاب القائلون بأنها لا تقع إلا واحدة فقط عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما
سكت عن ذلك لان الملاعنة تبين بنفس اللعان، فالطلاق الواقع من الزوج بعد
ذلك لا محل له، فكأنه. طلق أجنبيه، ولا يجب إنكار مثل ذلك فلا يكون
السكوت عنه تقريرا
وأما حديث ركانة بن عبد الله فقد أخرجه الشافعي وأبو داود والدارقطني،
وقال أبو داود: هذا حديث حسن صحيح. وكذلك أخرجه الترمذي وصححه أيضا
ابن حبان والحاكم.
وقال الترمذي: لا يعرف الا من هذا الوجه، وسألت محمدا عنه، يعنى
البخاري فقال: فيه اضطراب. اه‍
قلت: وقد جاء اسناده ضعيفا ولذلك لم يخرجه البخاري ولا مسلم لان في
اسناده الزبير بن سعيد الهاشمي. وقد ضعفه غير واحد. قال ابن كثير: لكن قد
رواه أبو داود من وجه آخر وله طرق أخر فهو حسن إن شاء الله. وقال ابن
عبد البر في التمهيد: تكلموا في هذا الحديث اه‍
وقال الشوكاني: وهو مع ضعفه مضطرب ومعارض. واما الاضطراب (فكما
تقدم) وقد أخرج أحمد انه طلق ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثا. قال قد علمت
ارجعها، ثم تلا " إذا طلقتم النساء " الآية. أخرجه أبو داود.
وأما معارضته فيما روى ابن عباس ان طلاق الثلاث كان واحدة، وسيأتي،
وهو أصح اسنادا وأوضح متنا
وروى النسائي عن محمود بن لبيد قال " أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان ثم قال: أيلعب بكتاب
الله وانا بين أظهركم، حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ " قال ابن كثير
اسناده جيد. وقال الحافظ بن حجر في بلوغ المرام: رواته موثقون
85

وقد روى حديث ركانة عن ابن عباس بلفظ " طلق أبو ركانة أم ركانة فقال
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: راجع امرأتك فقال: إني طلقتها ثلاثا قال:
قد علمت راجعها " أخرجه أبو داود رواه أحمد والحاكم وهو معلول بابن إسحاق
فإنه في سنده.
أما خبر عثمان فقد أخرجه وكيع وتابعه برواية مثلها عز على، وقد أخرج
عبد الرزاق عن عمر أنه رفع إليه أن رجلا طلق امرأته ألفا فقال له عمر: أطلقت
امرأتك؟ قال: لا، وإنما كنت ألعب، فعلاه بالدرة وقال: إنما يكفيك من
ذلك ثلاث.
وأخرج عبد الرزاق البيهقي عن ابن مسعود أنه قيل له: إن رجلا طلق
امرأته البارحة مائة، قال: قلتها مرة واحدة؟ قال: نعم، قال: تريد أن تبين
منك امرأتك؟ قال: نعم، قال: هو كما قلت، وأتاه آخر فقال: رجل طلق
امرأته عدد النجوم قال: قلتها مرة واحدة؟ قال: نعم، قال: هو كما قلت: والله
لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله عنكم
إذا ثبت هذا: فإن أصحابنا قرروا أنه يستحب لمن أراد أن يطلق امرأته أن
يطلقها واحدة، لأنه إن ندم على طلاقها أمكنه تلافى ذلك بالرجعة، وإن أراد
أن يطلقها ثلاثا فالمستحب أن يفرقها في كل طهر طلقة.
وحكى أبو علي الشيخي عن بعض أصحابنا أنه قال: لا سنة في عدد الطلاق
ولا بدعة، وإنما السنة والبدعة في الوقت، والمنصوص هو الأقل، لأنه يسلم
بذلك من الندم ويجوز أن يكون فعل الشئ سنة ولا يكون تركه بدعة كتحية المسجد
والأضحية، وما أشبه، وإن كانت صغيرة أو آيسة وأراد أن يطلقها فالمستحب
أن يطلقها في كل شهر طلقة، لان كل شهر بدل عن قرء في حقها، وإن كانت
حاملا - فقد قال بعض أصحابنا: يطلقها كل شهر طلقة.
وقال أبو علي الشيخي: يطلقها على الحمل واحدة، فإذا طهرت من النفاس
طلقها ثانية، فإذا طهرت من الحيض بعد النفاس طلقها الثالثة، وأراد أبو علي
إذا استرجعها قبل وضع الحمل، فإن خالف وطلقها ثلاثا في طهر واحد أو في
كلمة واحدة وقع عليها الثلاث وكان مباحا ولم يأتي محرما، وبه قال عبد الرحمن بن
86

عوف والحسن بن علي بن أبي طالب ومن التابعين ابن سيرين. ومن الفقهاء
أحمد بن حنبل.
وقال مالك وأبو حنيفة: جمع الثلاث في وقت واحد محرم، الا أنه يقع
كالطلاق في الحيض، وبه قال عمر وعلى وابن عباس وابن مسعود، وذهب أهل
الظاهر وكذا ابن القيم وشيخه ابن تيمية إلى أن الثلاث إذا أوقعها في وقت واحد
لا يقع وهو مذهب العترة، وقال بعضهم: يقع.
قال العمراني من أصحابنا: دليل الوقوع قوله تعالى " فطلقوهن لعدتهن "
وقوله صلى الله عليه وسلم: ثم ليطلقها طاهرا أو حاملا، ولم يفرق بين أن يطلقها
واحدة أو ثلاثا، فلو كان الحكم يختلف لبينه، ورواية عويمر العجلاني عندما
لاعن امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: إن أمسكتها فقد كذبت عليها
هي طالق ثلاثا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا سبيل لك عليها، فموضع
الدليل أن العجلاني لم يعلم أنها قد بانت منه باللعان فطلقها ثلاثا بحضرة النبي صلى
الله عليه وسلم، فلو كان محرما أو كان لا يقع لا نكره، ومعنى قوله: لا سبيل لك
عليها، أي لا سبيل لك عليها بالطلاق، لأنها قد بانت باللعان، وروى أن ركانة
ابن عبد يزيد طلق امرأته البتة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال:
ما أردت بقولك البتة؟ قال: واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والله
ما أردت الا واحدة؟ فقال: والله ما أردت الا واحدة، فردها النبي صلى الله
عليه وسلم فدل على أنه لو أراد الثلاث وقعن، إذ لو لم يقعن لم يكن لاستحلافه
معنى. وروى أن ابن عمر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت لو طلقتها ثلاثا فقال صلى
الله عليه وسلم: أبنت امرأتك وعصيت ربك. قال في البيان: وهذا يبطل قول
أهل الظاهر والشيعة. اه‍
أما بعد: فإن أصحاب الفكر من المنادين بالاصلاح الاجتماعي وأحكام بناء
الأسرة المسلمة، وتوطيد العلائق بين الأزواج يذهبون كل مذهب في سن
القوانين لتقييد حرية الأزواج في تطليق نسائهم فمن قائل بحظر الطلاق الا بين
يدي القاضي، ومن قائل ببذل تعويض للزوجة غير المتأخر من الصداق ونفقة
العدة تشبه مكافأة العامل عن مدة عمله في خدمة رب العمل إلى غير ذلك من
87

صيحات يدفعهم إليها ما فشا من استهتار بميثاق الزوجية الغليظ وانتشار الأطفال
المشردين نتيجة الشقاق بين آبائهم وأمهاتهم، ولو أنهم فطنوا إلى ما شرعه الله
تبارك وتعالى من قيود للطلاق وملابسات له لألقم هؤلاء أفواههم حجارة.
ولسكتوا إزاء ما أحاط الله به عقد النكاح من صيانة وحصانة وحفظ، فقد عرفنا
مما مضى أن الله تعالى حرم طلاق المرأة حال حيضها، وفى زمن طهرها إذا جامعها
فلو عرف الناس ما يرتكبونه من الاثم حين يفعلون ذلك لخفت وطأة هذه
الظاهرة، وما على الموثق (المأذون) إلا أن يعظ الزوج إذا جاءه بشرع الله
ويذكره بأحكام السنة، ويبغضه في هذه البدعة، وعلى خطباء الجمعة ووعاظ
الأزهر أن ينشروا بين الناس حكم الله في تحريم الطلاق في هذه الأوقات المذكورة
حتى يقلع الناس عن هذه البدعة، وليطلقوا - إذا عزموا الطلاق - وفقا للسنة
المطهرة، وهم إذا تربصوا بزوجاتهم حتى يحل الطهر ولم يمسوهن، فإن الرغبة في
التسريح قد تتحول إلى رغبة في السكن والاستقرار، وتكون النفوس حينئذ قد
هدأت والخواطر قد صفت. وكفى الله المؤمنين مآثم الطلاق. والله سبحانه
وتعالى الموفق للصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجوز أن يفوض الطلاق إلى امرأته لما روت عائشة رضي الله عنها
قالت " لما أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه بدأ بي
فقال: إني مخبرك خبرا وما أحب أن تصنعي شيئا حتى تستأمري أبويك، ثم قال
إن الله قال: قل لأزواجك (ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن
وأسرحكن سراحا جميلا) إلى قوله (منكن أجرا عظيما) فقلت: أو في هذا
أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، ثم فعل أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم ما فعلته "
وإذا فوض الطلاق إليها فالمنصوص أن لها أن تطلق ما لم يتفرقا عن المجلس
أو يحدث ما يقطع ذلك، وهو قول أبى العباس بن القاص.
وقال أبو إسحاق: لا تطلق الا على الفور، لأنه تمليك يفتقر إلى القبول
88

فكان القبول فيه على الفور كالبيع. وحمل قول الشافعي رحمه الله على أنه أراد
مجلس الخيار لا مجلس القعود، وله أن يرجع فيه قبل أن تطلق
وقال أبو علي ابن خيران: ليس له أن يرجع لأنه طلاق معلق بصفة فلم يجز
الرجوع فيه، كما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، وهذا خطأ لأنه ليس
بطلاق معلق بصفة، وإنما هو تمليك يفتقر إلى القبول يصح الرجوع فيه قبل
القبول كالبيع.
وان قال لها طلقي نفسك ثلاثا فطلقت واحدة وقعت، لان من ملك ايقاع
ثلاث طلقات ملك ايقاع طلقة كالزوج وان قال لها طلقي نفسك طلقة فطلقت
ثلاثا وقعت الطلقة، لان من ملك ايقاع طلقة إذا أوقع الثلاث وقعت الطلقة
كالزوج إذا بقيت له طلقة فطلق ثلاثا.
وان قال لوكيله: طلق امرأتي جاز أن يطلق متى شاء، لأنه توكيل مطلق
فلم يقتض التصرف على الفور كما لو وكله في بيع.
وان قال له: طلق امرأتي ثلاثا فطلقها طلقة، أو قال: طلق امرأتي واحدة
فطلقها ثلاثا ففيه وجهان (أحدهما) أنه كالزوجة في المسئلتين (والثاني) لا يقع
لأنه فعل غير ما وكل فيه
(فصل) وتصح إضافة الطلاق إلى جزء من المرأة كالثلث والربع واليد
والشعر لأنه لا يتبعض وكان اضافته إلى الجزء كالإضافة إلى الجميع كالعفو عن
القصاص، وفى كيفية وقوعه وجهان
(أحدهما) يقع على الجميع باللفظ، لأنه لما لم يتبعض كان تسمية البعض
كتسمية الجميع.
(والثاني) انه يقع على الجزء المسمى ثم يسرى، لان الذي سماه هو البعض
ولا يجوز اضافته إلى الربق والحمل لأنه ليس بجزء منها وإنما هو مجاور لها، وان
قال بياضك طالق أو سوادك طالق أو لونك طالق ففيه وجهان (أحدهما) يقع
لأنه من جملة الذات التي لا ينفصل عنها فهو كالأعضاء (والثاني) لا يقع لأنها
أعراض تحل في الذات
(فصل) ويجوز إضافة الطلاق إلى الزوج بأن يقول لها: أنا منك طالق.
89

أو يجعل الطلاق إليها فتقول: أنت طالق، لأنه أحد الزوجين فجاز إضافة
الطلاق إليه كالزوجة. واختلف أصحابنا في إضافة العتق إلى المولى، فمنهم من
قال يصح. وهو قول أبى علي بن أبي هريرة، لأنه إزالة ملك يجوز بالصريح
والكناية، فجاز إضافته إلى المالك كالطلاق
وقال أكثر أصحابنا: لا يصح، والفرق بينه وبين الطلاق أن الطلاق يحل
النكاح وهما مشتركان في النكاح، والعتق يحل الرق، والرق يختصر به العبد.
والله تعالى أعلم.
(الشرح) حديث عائشة رضي الله عنها رواه أصحاب الكتب الستة وأحمد في
مسنده بلفظ " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعدها شيئا " وفى
رواية عندهم الا أبا داود بلفظ " قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بتخيير أزواجه بدأ بي، فقال إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ان لا تعجلي حتى
تستأمري أبويك، قالت: وقد علم أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه. قالت:
ثم قال: إن الله عز وجل قال لي: يا أيها النبي قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة
الدنيا - الآية - وان كنتن تردن الله ورسوله والدار الآخرة - الآية - قالت
فقلت: في هذا استأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. قالت:
ثم فعل أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت "
قوله " خيرنا " في لفظ لمسلم " خير نساءه " وقوله " فلم يعدها شيئا " بتشديد
الدال من العدد. وفى رواية " فلم يعدد " بفك الادغام. وفى أخرى " فلم يعتد
بسكون العين فتح المثناة وتشديد الدال من الاعتداد، وفى رواية لمسلم " فلم
يعده طلاقا " وفى رواية للبخاري " أفكان طلاقا؟ " على طريقة الاستفهام
الانكاري. وفى رواية لأحمد " فهل كان طلاقا " وكذا للنسائي
وقد استدل بهذا من قال: إنه لا يقع بالتخيير شئ إذا اختارت الزوج.
وبه قال جمهور الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار، لكن اختلفوا فيما إذا
اختارت نفسها هل يقع طلقة واحدة رجعية أو بائنة، أو يقع ثلاثا؟ فحكى
90

الترمذي عن علي عليه السلام أنها إن اختارت نفسها فواحدة بائنة وعنهما رجعية
وإن اختارت زوجها فلا شئ. ويؤيد قول الجمهور من حيث المعنى أن التخيير
ترديد بين شيئين: فلو كان اختيارها لزوجها طلاقا لاتحدا، فدل على أن اختيارها
لنفسها بمعنى الفراق. واختيارها لزوجها بمعنى البقاء في العصمة.
وقد أخرج ابن أبي شيبة من طريق زادان قال " كنا جلوسا عند علي عليه
السلام فسئل عن الخيار فقال: سألني عنه عمر فقلت: إن اختارت نفسها
فواحدة رجعية. قال ليس كما قلت، إن اختارت زوجها فلا شئ. قال فلم أجد
بدأ من متابعته، فلما وليت رجعت إلى ما كنت أعرف. قال على: وأرسل عمر
إلى زيد بن ثابت قال، فذكر مثل ما حكاه عنه الترمذي
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق على نظير ما حكاه عنه زاذان من اختياره.
وأخذ مالك بقول زيد بن ثابت. واحتج بعض أتباعه لكونها إذا اختارت نفسها
يقع ثلاثا، بأن معين الخيار بت أحد الامرين أما الاخذ أو الترك يكون طلقة
رجعية لم يعمل بمقتضى اللفظ، لأنها تكون بعد في أسر الزوج وتكون كمن خير
بين شيئين فاختار غيرهما. وأخذ أبو حنيفة بقول عمر وابن مسعود فيما إذا
اختارت نفسها فواحدة بائنة
وقال الشافعي التخيير كناية، فإذا خير الزوج امرأته وأراد بذلك تخييرها
بين أن تطلق منه وبين ان تستمر في عصمته، فاختارت نفسها وأرادت بذلك
الطلاق طلقت، فلو قالت لم أرد باختيار نفسي الطلاق صدقت
وقال الخطابي يؤخذ من قول عائشة فاخترناه فلم يكن ذلك طلاقا، أنها لو
اختارت نفسها لكان ذلك طلاقا، ووافقه القرطبي في المفهم فقال في الحديث
أن المخيرة إذا اختارت نفسها أن نفسه ذلك الاختيار يكون طلاقا من غير احتياج
إلى نطق بلفظ يد على الطلاق. قال وهو مقتبس من مفهوم قول عائشة المذكور
قال الحافظ بن حجر لكن الظاهر من الآية أن ذلك بمجرده لا يكون طلاقا. بل
لابد من إنشاء الزوج الطلاق لان فيها (فتعالين أمتعكن وأسرحكن) أي بعد
الاختيار، ودلالة المنطوق مقدمة على دلالة المفهوم. قال واختلفوا في التخيير
91

هل هو بمعنى التمليك أو بمعنى التوكيل. وللشافعي فيه قولان، المصحح عند
أصحابه أنه تمليك، وهو قول المالكية بشرط المبادرة منها حتى لو تراخت بمقدار
ما ينقطع القبول عن الايجاب ثم طلقت لم يقع. وفى وجه لا يضر التأخير ما دام
المجلس، وبه جزم ابن القاص من أصحابنا وهو الراجح من مذهب مالك ومذهب
أبي حنيفة. وهو قول الثوري والليث والأوزاعي
وقال ابن المنذر الراجح أنه لا يشترط فيه الفور، بل متى طلقت نفذ، وهو
قول الحسن والزهري، وبه قال أبو عبيدة ومحمد بن نصر من أصحابنا والطحاوي
من أصحاب أبي حنيفة.
واحتجوا بحديث عائشة وفيه " إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن لا تعجلي
حتى تستأمري أبويك، وذلك يقتضى عدم اشتراط الفور في جواب التخيير،
قال الحافظ بن حجر ويمكن أن يقال يشترط الفور في جواب التخيير إلا أن يقع
التصريح من الزوج بالفسحة لأمر يقتضى ذلك فيتراخى، كما وقع في قصة عائشة
ولا يلزم ذلك أن يكون كل خيار كذلك
وقد قال الشافعي رضي الله عنه لا أعلم خلافا أنها ان طلقت نفسها قبل أن
يفترقا من المجلس ويحدثا قطعا أن الطلاق يقع عليها، فاختلف أصحابنا فيه فقال
ابن القاص إذا فوض إليها طلاق نفسها فلها أن تطلق نفسها ما دام في المجلس،
ولم تخض في حديث آخر
فإن خاضت في حديث آخر وقامت من ذلك المجلس لم يكن لها أن تطلق نفسها
وبه قال أبو حنيفة.
وقال أبو إسحاق لا يتقدر بالمجلس، بل إن طلقت نفسها عقيب قوله بحيث
يكون جوابا لكلامه وقع الطلاق، لأنه نوع تمليك، وان أخرته عن ذلك ثم
طلقت لم يقع الطلاق لأنه نوع تمليك فكان قبوله على الفور كسائر التمليكات،
وحمل النص على أنه أراد مجلس خيار القبول لا مجلس العقود - هذا ترتيب
الشيخ أبى حامد.
92

وقال المسعودي: فيه قولان بناء على أن تفويض الطلاق إليها تمليك
أو توكيل، وفيه قولان، إن قلنا: تمليك اشترط القبول فيه على الفور، وان
قلنا: توكيل بقدر بالمجلس، هذا مذهبنا، وقال الحسن البصري وقتادة: لها
الخيار أبدا، واختاره ابن المنذر.
دليلنا ما روى عن عمر وعثمان أنهما قالا: إذا خير الرجل امرأته وملكها
أمرها فافترقا من ذلك المجلس ولم تحدث شيئا فأمرها إلى زوجها، وكذلك روى
عن ابن مسعود وجابر ولا يعرف لهم مخالف، وإن قال: طلقي نفسك متى شئت
كان لها ذلك لأنه قد صرح لها بذلك.
(فرع) إذا فوض إليها الطلاق أو خيرها ثم رجع قبل أن يطلق أو يختار
بطل التفويض والتخيير. وقال ابن خيران: لا يبطل، وبه قال مالك وأبو حنيفة
كما لو قال لها: إذا اخترت فأنت طالق، ثم رجع قبل أن تختار، والمذهب الأول
لان النص إنما هو تمليك أو توكيل، وله الرجوع فيهما قبل القبول، وان قال
لها: طلقي نفسك فإن طلق بالكناية مع النية وقع الطلاق، والثاني وهو قول ابن
خيران وابن عبيد: أن من خير ونوى لم يقع، والأصح الأول لان الكناية مع
النية كالصريح، وان قال لها: طلقي نفسك ثلاثا فطلقت واحدة أو طلقتين وقع
عليها ما أوقعت، وقال أبو حنيفة: لا يقع عليها شئ.
دليلنا أن من ملك ايقاع الثلاث ملك ايقاع الواحدة والاثنتين كالزوج،
وان قال لها: طلقي نفسك واحدة فطلقت ثلاثا وقع عليها واحدة، وقال مالك
لا يقع عليها شئ، دليلنا أن الواحدة المأذون فيها داخلة في الثلاث فوقعت
دون غيرها.
وقال ابن القاص: ولو قال لها: طلقي نفسك ان شئت واحدة فطلقت ثلاثا
أو قال: طلقي نفسك ان شئت ثلاثا فطلقت واحدة لم يقع الطلاق عليها لأنه
فوض إليها الطلاق في الأولة بشرط ان شاء واحدة، وفى الثانية بشرط ان شاء
ثلاثا ولم توجد الصفة فلم يقع.
قال الطبري: فإن أخر المشيئة بأن قال: طلقي نفسك ثلاثا ان شئت فطلقت
93

واحدة، أو قال: طلقي نفسك واحدة ان شئت فطلقت ثلاثا وقع عليها واحدة
فيهما، والفرق أنه إذا قدم المشيئة كان التمليك معلقا بشرط أن يشاء العدد
المأذون فيه، فإذا أوقعت غيره فما شاءته فلم يقع عليها طلاق، وإذا أخر المشيئة
كانت المشيئة راجعة إلى الطلاق لا إلى العدد.
(فرع) وان وكل رجلا ليطلق له امرأته كان له أن يطلق متى شاء كما قلنا في
الوكيل في البيع والشراء. بخلاف إذا فوض الطلاق إليها فإنه تمليك لمنفعتها،
والتمليك يقتضى القبول في الحال، وان وكله أن يطلقها ثلاثا فطلقها واحدة،
أو وكله بطلاقها واحدة فطلقها ثلاثا ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه كالزوجة فيما ذكرناه (والثاني) لا يقع عليها طلاق فيهما
لأنه فعل غير ما أذن له فيه فلم يصح.
(مسألة) قوله: ويصح إضافة الطلاق الخ، وهذا صحيح فإنه إذا أضاف
الطلاق إلى جزء منها معلوم أو مجهول أو إلى عوض من أعضائها بأن قال: نصفك
أو بعضك أو يدك أو رجلك أو شعرك أو ظفرك طالق، فإنها تطلق، وقال
أبو حنيفة: إذا أضاف الطلاق إلى جزء منها معلوم أو مجهول أو إلى خمسة
أعضاء وهي الرأس والوجه والرقبة والظهر والفرج وقع عليها الطلاق، وان
أضاف الطلاق إلى سائر أعضائها وقع عليها الطلاق.
دليلنا ان الطلاق لا يتبعض، فكانت اضافته إلى جزء منها أو إلى عضو منها
كإضافته إلى جميعها كالعفو عن القصاص، ولأنه أشار بالطلاق إلى ما يتصل ببدنها
اتصال حلقه، فكان كالإشارة إلى جملتها كالإشارة إلى الأعضاء الخمسة، وان
أضاف الطلاق إلى ذمتها، فقد قال أصحابنا البغداديون: لا يقع عليها الطلاق
لأنه غير متصل بالبدن. وإنما هو يجرى في البدن.
وقال المسعودي: إذا أضافه إلى دمها وقع عليها الطلاق لأنه كلحمها، وان
قال: ريقك أو بولك أو عرقك طالق، فقال أصحابنا البغداديون: لا تطلق،
لأنه ليس بجزء منا، وإنما هو من فضول بدنها.
وقال المسعودي: فيه وجهان (أحدهما) هذا (والثاني) يقع عليها الطلاق،
94

وإن قال: حملك طالق - فقال البغداديون من أصحابنا: لا يقع عليها الطلاق،
لأنه غير متصل بالبدن وإنما يدور في الرحم،
وقال المسعودي: فيه وجهان، وإن قطعت أذنها وأنبتت منها ثم ألصقت
بالدم فلصقت أو أجريت لها خياطة طبية لإعادتها إلى مكانها فطلق أذنها قبل أن
تبرأ من جراحتها.
قال أصحابنا البغداديون: لا يقع عليها الطلاق، وقال المسعودي فيه وجهان
وإن قال: منيك ولبنك طالق، قال المسعودي: فمن أصحابنا من قال فيه وجهان
كالدمع والعرق، ومنهم من قال: يقع عليها الطلاق وجها واحدا كالدم، وهذا
على أصله، وان قال: سوادك أو بياضك طالق، فيه وجهان (أحدهما) يقع
عليها الطلاق لأنها أعراض تحل بالذات.
إذا ثبت هذا: وأضاف الطلاق إلى عضو منها أو إلى جزء منها فكيف يقع
عليها الطلاق؟ فيه وجهان (أحدهما) يقع على جملتها لان الطلاق لا يتبعض
(والثاني) يقع الطلاق على الذي أوقعه منها ثم يسرى اعتبارا بما سمى.
(مسألة) قوله: ويجوز إضافة الطلاق إلى الزوج إلخ، وهذا صحيح فإنه
إذا قال لامرأته: أنا منك طالق، أو قال لها: طلقي نفسك فقالت: أنت طالق،
فهو كناية في الطلاق، فإن نوى الطلاق في الأولة ونوته في الثانية وقع عليها
الطلاق، وقال أبو حنيفة: لا يقع عليها، فلو قال: على الطلاق، فإنه لا يقع
عند أبي حنيفة وأصحابه، لان الطلاق عندهم إذا لم يضف إلى المرأة فليس
بواقع لأنه من صفات المرأة، قالوا: لان الطلاق إنما يقع من الرجل على المرأة
ولا يقع على الرجل.
دليلنا: أن كل لفظ صح أن يكون طلاقا بإضافته إلى الزوجة صح أن يكون
طلاقا بإضافته إلى الزوج كالبينونة. فإن أبا حنيفة وافقنا عليها، ولأنه أحد
الزوجين فصح إضافة الطلاق إليه كالزوجة، وإن قال لعبده أو أمته أنا منك حر
ففيه وجهان.
قال أبو علي بن أبي هريرة: هو كناية في العتق فيعتق به إذا نواه لأنه إزالة
ملك يصح الصريح والكناية فجاز إضافته إلى المالك كإضافة الطلاق إلى الزوج
95

وقال أكثر أصحابنا: لا يقع به العتق لان كل واحد من الزوجين يقال له: زوج
فهما مشتركان في الاسم، فإذا جاز إضافة الطلاق إلى الزوجة جاز اضافته إلى
الزوج، وليس كذلك الحرية، لأنها تقع بملك، والذي ينفرد بملك هو السيد فلم يجز إضافة الحرية إليه والله تعالى الموفق للصواب.
قال المصنف رحمه الله:
باب ما يقع به الطلاق ومالا يقع
لا يقع الطلاق الا بصريح أو كناية مع النية، فان نوى الطلاق من غير صريح
ولا كناية لم يقع الطلاق، لان التحريم في الشرع علق على الطلاق ونية الطلاق
ليست بطلاق، ولان ايقاع الطلاق بالنية لا يثبت الا بأصل أو بالقياس على
ما ثبت بأصل، وليس ههنا أصل ولا قياس على ما ثبت بأصل فلم يثبت.
(فصل) والصريح ثلاثة ألفاظ الطلاق والفراق والسراح، لان الطلاق
ثبت له عرف الشرع واللغة، والسراح والفراق ثبت لهما عرف الشرع، فإنه
ورد بهما القرآن، فإذا قال لامرأته: أنت طالق، أو طلقتك، أو أنت مطلقه
أو سرحتك، أو أنت مسرحه، أو فارقتك، أو أنت مفارقة، وقع الطلاق من
غير نيه، فان خاطبها بأحد هذه الألفاظ، ثم قال: أردت غيرها فسبق لساني إليها
لم يقبل، لأنه يدعى خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه يحتمل
ما يدعيه، وان قال: أنت طالق وقال أردت طلاقا من وثاق، أو قال سرحتك
وقال أردت تسريحا من اليد، أو قال فارقتك، وقال أردت فراقا بالجسم،
لم يقبل في الحكم، لأنه يدعى خلاف ما يقتضيه اللفظ في العرف، ويدين فيما
بينه وبين الله تعالى، لأنه يحتمل ما يدعيه، فان علمت المرأة صدقه فيما دين فيه
الزوج جاز لها أن تقيم معه، وان رآهما الحاكم على الاجتماع ففيه وجهان.
(أحدهما) يفرق بينهما بحكم الظاهر، لقوله صلى الله عليه وسلم " أحكم بالظاهر
والله عز وجل يتولى السرائر ".
(والثاني) لا يفرق بينهما لأنهما على اجتماع يجوز اباحته في الشرع، وان قال
96

أنت طالق من وثاق، أو سرحتك من اليد، أو فارقتك بجسمي لم تطلق، لأنه
اتصل بالكلام ما يصرف اللفظ عن حقيقته. ولهذا إذا قال لفلان على عشرة
إلا خمسة لم يلزمه عشرة. وإذا قال لا إله إلا الله لم يجعل كافرا بابتداء كلامه.
وإن قال أنت طالق ثم قال قلته هازلا وقع الطلاق ولم يدين، لما روى أبو هريرة
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد
النكاح والطلاق والرجعة "
(فصل) قال في الاملاء، لو قال له رجل طلقت امرأتك؟ فقال نعم.
طلقت عليه في الحال، لان الجواب يرجع إلى السؤال، فيصير كما لو قال طلقت
ولهذا لو كان هذا جوابا عن دعوى لكان صريحا في الاقرار. وإن قال أردت به
في نكاح قبله - فإن كان لما قاله أصل - قبل منه، لان اللفظ يحتمله، وإن لم
يكن له أصل لم يقبل لأنه يسقط حكم اللفظ. وإن قال له أطلقت امرأتك فقال له
قد كان بعض ذلك وقال أردت أنى كنت علقت طلاقها بصفة، قبل منه لأنه
يحتمله اللفظ. وإن قال لامرأته أنت طالق لولا أبوك لطلقتك، لم تطلق، لان
قوله أنت طالق لولا أبوك، ليس بإيقاع طلاق، وإنما هو يمين بالطلاق، وأنه
لولا أبوها لطلقها، فتصير كما لو قال والله لولا أبوك لطلقتك.
(الشرح) الحديث الأول جزء من حديث مضى في كتاب الصلح تخريجه
وطرقه. والحديث الثاني عن أبي هريرة أخرجه أصحاب السنن إلا النسائي، وقال
الترمذي حسن غريب. وأخرجه الحاكم وصححه وأخرجه الدارقطني وفى إسناده
عبد الرحمن بن حبيب بن أزدك وقد روى الطبراني عن فضالة بن عبيد بلفظ
" ثلاث لا يجوز فيهن اللعب. الطلاق والنكاح والعتق " وفى إسناده ابن لهيعة
وعن عبادة بن الصامت عند الحرث بن أسامة في مسنده رفعه بلفظ " ثلاث
لا يجوز اللعب فيهن. الطلاق والنكاح والعتاق، فمن قالهن فقد وجبن " وإسناده
منقطع. وعن أبي ذر عند عبد الرزاق رفعه " من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز
ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز، ومن نكح وهو لاعب فنكاحه جائز " وفى
97

إسناده انقطاع أيضا، وعن علي موقوفا عند عبد الرزاق أيضا. وعن
عمر عنده أيضا.
أما غريب الفصل فقوله " يدين فيما بينه وبين الله تعالى " قال في شرح غريب
الشرح الكبير للرافعي " ودان بالاسلام دينا " بالكسر تعبد به، وتدين به كذلك
فهو دين مثل ساد فهو سيد، ودينته بالتثقيل وكلته إلى دينه وتركته وما يدين لم
أعترض عليه فيما يراه سائغا في اعتقاده، ودنته أدينه جازيته اه‍
وقوله " طلاقا من وثاق " يقال أوثقه بالوثاق إذا شده، ومنه قوله تعالى
(فشدوا الوثاق) والوثاق بالكسر لغة فيه، وقوله " قلته هازلا " أي مازحا غير
مجد، والهزل ضد الجد، قال الكميت
أرانا على حب الحياة وطولها * يجد بنا في كل يوم ونهزل
هكذا أفاده ابن بطال
اما الأحكام فإن الرجل إذا نوى طلاق امرأته ولم ينطق به لم يقع عليها
الطلاق، وقال مالك في إحدى الروايتين يقع، دليلنا ما روى أبو هريرة أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال تجاوز الله لامتي ما حدثت به نفسها ما لم يكلم أو يعمد به "
وأما الكلام الذي يقع به الطلاق فينقسم قسمين، صريح وكفاية، فالصريح
ما يقع به الطلاق، فينقسم قسمين من غير نية، وهو ثلاثة ألفاظ " الطلاق
والفراق والسراح "
وقال أبو حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق لا غير، وأما الفراق والسراح فهما
كناية في الطلاق، وقال الطبري في العدة والمحاملي وهذا قول الشافعي وشأنه في
القديم، لان العرف غير جار بها بين الطلقتين، والمشهور من المذهب هو
الأول، لان الفراق ورد بهذه الألفاظ الثلاثة على وجه الامر فقال تعالى
(فطلقوهن لعدتهن) وقال (فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف) وقال
في موضوع آخر (أو سرحوهن)
إذا ثبت هذا فالصريح من لفظة الطلاق ثلاثة وهي قوله " طلقتك، أو أنت
طالق، أو أنت مطلقة " وقال أبو حنيفة، قوله " أنت مطلقة " ليس بصريح،
وإنما هو كناية. دليلنا قوله " أنت طالق " ليس بإيقاع الطلاق، وإنما هو
98

وصف لها بالطلاق كقوله: أنت نائم، فإن كان صريحا فكذلك قوله أنت مطلقة
مثله، وأما السراح والفراق فالصريح منهما لفظتان لا غير وهو قوله. فارقتك أو
أنت مفارقة أو سرحتك أو أنت مسرحة، هذا ترتيب الشيخ أبى حامد
والبغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي: في قوله: أنت مفارقة أو أنت مسرحة وجهان، أحدهما:
أنه صريح كقوله: أنت مطلقة، والثاني: أنه كناية، لأنه لم يرد به الصريح ولا
الاستعمال، والأول هو المشهور، فان خاطبها بلفظة من الألفاظ الصريحة في
الطلاق، ثم قال: لم أقصد الطلاق، وإنما سبق لساني إليها.
قال الصيمري: فقد قيل: إن كان هناك حال يدل على ما قال بأن كان في حال
جرت العادة فيها بالدهش جاز أن يقبل منه، وقيل: لا يلتفت إليه، بل يقع عليها
وهو المشهور، لأنه يدعى خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى،
لأنه يحتمل ما يدعيه.
(فرع) وإن قال: أنت طالق، وقال أردت طلاقها من وثاق، أو قال:
فارقتك، وقال أردت به إلى المسجد، أو قال سرحتك وأردت به إلى البيت أو
إلى أهلك لم يقبل منه في الحكم، لأنه يعدل بالكلام عن الظاهر، ويدين فيما
يدعيه بينه وبين الله تعالى.
وقال مالك إن قال هذا في حال الرضى لم يقبل منه في الحكم، وقبل فيما بينه
وبين الله تعالى، وان قاله في حال الغضب لم تقبل منه في الحكم، ولا فيما بينه وبين
الله تعالى. دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " لا تحاسبوا العبد حساب الرب واعملوا
على الظاهر ودعوا الباطن " ولان اللفظ يصلح في الحالين لما ذكره فيقبل منه
فيما بينه وبين الله تعالى، وكل ما قلنا لا يقبل فيه قول الزوج من هذا وما أشبهه،
ويقبل فيما بينه وبين الله تعالى، فان الزوجة إذا صدقته على ما يقول جاز لها أن
تقيم معه، فان رآهما الحاكم على اجتماع ظاهر ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يفرق بينهما لقوله صلى الله عليه وسلم " أحكم بالظاهر والله
يتولى السرائر ".
(والثاني) لا يفرق بينهما لأنهما على اجتماع يجوز إباحته في الشرع، وإن لم
99

تصدقه الزوجة على قوله واستفتت فإنا نقول لها: امتنعي عنه ما قدرت عليه.
وإذا استفتى قلنا له: إن قدرت على وصلها في الباطن حل لك فيما بينك وبين الله
تعالى. وإن قال لها: أنت طالق من وثاق، أو فارقتك مسافرا إلى المسجد أو
سرحتك إلى أهلك لم يحكم عليه بالطلاق لأنه وصله بكلام أخرجه عن كونه
صريحا، فهو كما لو قال: لا إله وسكت كان كافرا، أو إذا قال: لا إله إلا الله
كان توحيدا، وكما لو قال: له عشرة إلا خمسة.
الخلاصة لما تقدم: يدل حديث أبي هريرة على أن من تلفظ هازلا بلفظ
نكاح أو طلاق أو رجعة أو عتاق كما في الأحاديث التي سقناها وقع منه ذلك.
أما في الطلاق فقد قال بذلك أصحابنا من الشافعية والحنفية وغيرهم، وخالف في
ذلك أحمد ومالك فقالا: إنه يفتقر اللفظ الصريح إلى النية، وبه قال جماعة من
الأئمة منهم جعفر الصادق ومحمد الباقر. واستدلوا بقوله تعالى " وان عزموا
الطلاق " فدلت على اعتبار العزم. والهازل لا عزم منه
وأجاب صاحب البحر بالجمع بين الآية والحديث فقال: يعتبر العزم في غير
الصريح لا في الصريح فلا يعتبر، والاستدلال بالآية على تلك الدعوى غير صحيح
من أصله فلا يحتاج إلى الجمع، فإنها نزلت في حق المولى
(مسألة) قوله: لو قال رجل طلقت امرأتك؟ فقال نعم إلى الخ وهو كما قال
فإنه إذا قال له رجل: طلقت امرأتك؟ أو امرأتك طالق؟ أو فارقتها أو سرحتها
فقال نعم، فيه قولان حكاهما ابن الصباغ والطبري
(إحداهما) أن هذا كناية فلا يقع به الطلاق إلا بالنية، ولان قوله نعم
ليس بلفظ صريح.
(والثاني) أنه صريح في الطلاق، وهو اختيار المزني، ولم يذكر الشيخان
غيره - أعني أبا إسحاق الأسفراييني وأبا حامد المروزي - وهو الأصح، لأنه
صريح في الجواب وتقديره نعم طلقت، كما لو قيل: لفلان عليك كذا؟ فقال
نعم، كان إقرارا.
قال الطبري، قال أصحابنا: وهذا يخرج على ما لو قال: زوجتك ابنتي بكرا؟
فقال الولي نعم، فهل يصح النكاح؟ على قولين
100

إذا ثتب هذا - وقلنا يقع الطلاق - نظرت، فإن كان صادقا فيما خبر به
من الطلاق وقع عليها الطلاق في الظاهر والباطن، وإن لم يكن طلاق قبل ذلك
وإنما كذب بقوله نعم، وقع الطلاق في الظاهر دون الباطن، فإن قال أردت أنى
كنت علقت طلاقها بصفة، قبل منه لأنه يحتمل ما يدعيه
(فرع) إذا قال لامرأته أنت طالق لولا أبوك لطلقتك، فذكر المزني في
فروعه أنها لا تطلق لأنه ليس بإيقاع للطلاق، وإنما حلف بطلاقها إنما يمسكها
لأجل أبيها وأنه لولا أبوها لطلقها، كما لو قال والله لولا أدبك لطلقتك. قال
صاحب الفروع ويحتمل أن يقع عليها الطلاق لان قوله لولا أبوك لطلقتك كلام
مبتدأ منفصل عن الأولة، ولهذا ينفرد بجواب، والأول هو المشهور. فإن كان
صادقا بأن امتنع من طلاقها لأجل أبيها لم يقع الطلاق لا ظاهرا ولا باطنا،
وإن كان كاذبا وقع الطلاق في الباطن دون الظاهر، الا أن يقر بكذبه فيقع في
الظاهر أيضا، فإن قال أنت طالق لولا أبوك أو لولا الله لم يقع عليها الطلاق.
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وأما الكناية فهي كثيرة، وهي الألفاظ التي تشبه الطلاق وتدل
على الفراق، وذلك مثل قوله أنت بائن، وخلية وبرية وبتة وبتلة وحرة وواحدة
وبيني وابعدي واغربي واذهبي واستفلحي والحقي بأهلك وحبلك على غاربك،
واستتري وتقنعي واعتدى وتزوجي وذوقي وتجرعي وما أشبه ذلك، فإن خاطبها
بشئ من ذلك ونوى به الطلاق وقع، وان لم ينو لم يقع، لأنه يحتمل الطلاق
وغيره، فإذا نوى به الطلاق صار طلاقا، وإذا لم ينو به الطلاق لم يصر طلاقا،
كالامساك عن الطعام والشراب لما احتمل الصوم وغيره، إذا نوى به الصوم صار
صوما، وإذا لم ينو به الصوم لم يصر صوما
وان قال أنا منك طالق، أو جعل الطلاق إليها فقالت طلقتك أو أنت طالق
فهو كناية يقع به الطلاق مع النية، ولا يقع من غير نية، لان استعمال هذا اللفظ
في الزوج غير متعارف، وإنما يقع به الطلاق مع النية من جهة المعنى، فلم يقع به
101

من غير نية كسائر الكنايات، وان قال له رجل: ألك زوجة؟ فقال لا، فإن
لم ينو به الطلاق لم تطلق، لأنه ليس بصريح، وان نوى به الطلاق وقع
لأنه يحتمل الطلاق
(فصل) واختلف أصحابنا في الوقت الذي تعتبر فيه النية في الكنايات،
فمنهم من قال إذا قارنت النية بعض اللفظ من أوله أو من آخره وقع الطلاق كما
أن في الصلاة إذا قارنت النية جزءا منها صحت الصلاة، ومنه من قال لا تصح
حتى تقارن النية جميعها، وهو أن ينوى ويطلق عقيبها، وهو ظاهر النص لان
بعض اللفظ لا يصلح للطلاق فلم تعمل النية معه، فأما الصلاة فلا تصح حتى
تقارن النية جميعها بأن ينوى الصلاة ويكبر عقيبها، ومتى خلا جزء من التكبير
عن النية لم تصح صلاته.
(فصل) وأما ما لا يشبه الطلاق ولا يدل على الفراق من الألفاظ، كقوله
اقعدي واقربي واطعمي واسقيني، وما أحسنك وبارك الله فيك وما أشبه ذلك
فإنه لا يقع به الطلاق وان نوى، لان اللفظ لا يحتمل الطلاق، فلو أوقعنا
الطلاق لأوقعناه بمجرد النية، وقد بينا أن الطلاق لا يقع بمجرد النية
(فصل) واختلف أصحابنا في قوله: أنت الطلاق. فمنهم من قال: هو
كناية، فإن نوى به الطلاق فهو طلاق لأنه يحتمل أن يكون معناه أنت طالق،
وأقام المصدر مقام الفاعل كقوله تعالى " أرأيتم ان أصبح ماؤكم غورا " أراد غائرا
وان لم ينو لم يقع، لان قوله أنت الطلاق لا يقتضى وقوع الطلاق. ومنهم من
قال هو صريح ويقع به الطلاق من غير نيه، لان لفظ الطلاق يستعمل في معنى
طالق، والدليل عليه قول الشاعر:
أنوهت باسمي في العالمين * وأفنيت عمري عاما فعاما
فأنت الطلاق وأنت الطلاق * وأنت الطلاق ثلاثا تماما
وقال آخر:
فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن * وان تخرقى يا هند فالخرق آلم
فأنت الطلاق والطلاق عزيمة * ثلاثا ومن يخرق أعق وأظلم
فبيني بها ان كنت غير رفيقة * فما لامرئ بعد الثلاثة مقدم
102

(فصل) واختلفوا فيمن قال لامرأته كلي واشربي ونوى الطلاق، فمنهم
من قال لا يقع وهو قول أبي إسحاق، لأنه لا يدل على الطلاق فلم يقع به الطلاق
كما لو قال أطعميني واسقيني، ومنهم من قال يقع وهو الصحيح، لأنه يحتمل معنى
الطلاق وهو أن يريد كلي ألم الفراق واشربي كأس الفراق، فوقع به الطلاق مع
النية، كقوله ذوقي وتجرعي
* * *
(الشرح) الكناية صورة تذكر يراد بها اما تكنى عنه وترمز إليه، ومع هذا
يجوز أن يراد بها معناها الأصلي، وأنواعها ثلاثة: كناية عن صفة وكناية عن
موصوف وكناية عن نسبة.
وقوله " بائن الخ " أي مفارقة من البين وهو الفراق، وخلية، أي خالية عن
الزوج فارغة منه، وبرية أي بريئة عما يجب من حقوقي وطاعتي، وبتة القطع
وبتلة مثلها، ومنه التبتل أي الانقطاع عن النكاح، وسميت البتول لانقطاعها عن
الأزواج. وقوله تعالى (وتبتل إليه تبتيلا) أي انقطع إليه انقطاعا. وأما تسمية
فاطمة عليها السلام بالبتول فقد قال ثعلب لانقطاعها عن نساء زمانها دينا وفضلا وحسبا:
وحرة أي لا سلطان لي على بضعك كما لا ملك في رقبة الحرة، وواحدة
أي أنت فردة عن الزوج، ويحتمل طلقة واحدة وبيني وهو من البعد والفراق
واغربي مثله. واستفلحي من الفلاح والفوز، أي فوزي بأمرك واستبدي برأيك
ويحتمل أن يكون من الفلح وهو القطع، أي اقطعي حبل الزواج من غير نزاع
وحبلك على غاربك، أي امضى حيث شئت: والتعبير هنا عن الدابة يكون
مقودها على غاربها، وهو ما بين السنام والعنق ولا قائد لها فتذهب حيث شاءت
بغير ممسك لها، وتقنعي، أي غطى رأسك
وقال ابن بطال: أظن معناه استتري منى ولا يحل لي نظرك. وتجرعي.
يقال: جرعه غصص الغيظ إذا أذاقه الشدة مما يكره
103

أما الأحكام: فإن الكنايات كل كلمه تدل على الطلاق وغيره كهذه الألفاظ
إلى ساقها المصنف وما أشبهها من الكلام فإن نوى بذلك الطلاق وقع عليها الطلاق
وإن لم ينو به الطلاق لم يقع عليها الطلاق سواء قال ذلك في حالة الرضا أو في
حالة الغضب، وسواء سألته الطلاق أو لم تسأله.
وقال أبو حنيفة: إذا كان ذلك في حال مذاكرة الطلاق وقال لها: أنت بائن
وبتة وبتلة وحرام وخلية وبرية والحقي بأهلك واذهبي، فلا يحتاج إلى النية، وان
قال لها: حبلك على غاربك، واعتدى، واستبرئي رحمك، وتقنعي، فإنه
يحتاج إلى النية.
وقال مالك: الكنايات الظاهرة لا تحتاج إلى النية كقوله بائن وبنة وبتلة
وحرام وخلية وبرية والفراغ والسراح في الكنايات الظاهرة، وأما الكنايات
الباطنة، فتفتقر إلى النية، وهي مثل قوله: اعتدى واستبرئي رحمك وتقنعي
واذهبي وحبلك على غاربك وما أشبه ذلك.
وقال أحمد: دلالة الحال في جميع الكنايات تقوم مقام النية. دليلنا أن هذه
الألفاظ تحتمل الطلاق وغيره ولا تتميز إلا بالنية كالامساك عن الطعام والشراب
يحتمل الصوم وغيره ولا يتميز إلا بالنية، ولأن هذه كنايات في الطلاق، فإذا لم
تقترن بها النية لم يقع بها الطلاق كالألفاظ التي سقناها.
(فرع) قال ابن القاص: إذا قال لزوجته: أغناك الله ونوى به الطلاق كان
طلاقا، فمن أصحابنا من قال: لا يقع عليها الطلاق لان هذا دعاء لها، فهو كقوله
بارك الله فيك، ومنهم من وافقه لأنه يحمل أن يريد به الغنى الذي قال الله فيه:
وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته، وإن قال لها: كلي واشربي ونوى به الطلاق
ففيه وجهان.
وقال أبو إسحاق لا يقع عليها الطلاق، وبه قال أبو حنيفة، كقوله أطعميني واسقيني
والثاني: يقع به الطلاق، وهو اختيار الشيخين أبى حامد وأبي إسحاق لأنه يحتمل
كلي ألم الفراق واشربي كأسه، وان قال لامرأته: لست بامرأتي ونوى به الطلاق
كان طلاقا، وبه قال أبو حنيفة وأحمد.
وقال أبو يوسف: لا يقع، دليلنا أنه محتمل للطلاق لأنه إذا طلقها لا تكون
104

امرأته، فهو كقوله: أنت بائن. وان قال له رجل: ألك زوجه؟ فقال: لا:
ونوى به الطلاق كان طلاقا.
قال في الفروع: ويحتمل أن لا يكون كناية ولا صريحا، والأول هو المشهور
لأنه يحتمل الطلاق.
(فرع) وان قال لامرأته: أنت حرة ونوى به الطلاق كان طلاقا، وان قال
لامته أنت طالق ونوى به العتق كان عتقا، لأنه لفظ يتضمن إزالة ملك الزوجية
فكان كناية في العتق، كقوله لا سبيل لي عليك، وان قال لامرأته أنت الطلاق
أو أنت طلاق ففيه وجهان (أحدهما) كناية فلا يقع به الطلاق الا مع النية،
لان الطلاق مصدر، والأعيان لا توصف بالمصادر، فكان مجازا (والثاني) أنه
صريح، وبه قال مالك وأبو حنيفة، لان الطلاق قد يستعمل في معنى طالق
كما في قول الشاعر:
فأنت الطلاق وأنت الطلاق * وأنت الطلاق ثلاثا ثلاثا
(مسألة) قال صاحب الهدى: ثبت في صحيح البخاري أن ابنة الجون
لما دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت: أعوذ بالله منك،
فقال لها عذت بعظيم الحقي بأهلك، وثبت في الصحيحين أن كعب بن مالك رضي الله عنه
لما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتزل امرأته قال لها الحقي
بأهلك، فاختلف الناس في هذا، فقالت طائفة ليس هذا بطلاق ولا يقع به
الطلاق نواه أو لم ينوه، وهذا قول أهل الظاهر، قالوا والنبي صلى الله عليه وسلم
لم يكن عقد على ابنة الجون وإنما أرسل إليها ليخطبها. ويدخل على ذلك ما في صحيح
البخاري من حديث حمزة بن أبي أسيد عن أبيه أنه كان مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقد أتى بالجونية فأنزلت في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل في
نخل ومعها دابتها فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لها هبي لي نفسك
فقالت وهل تهب الملكة نفسها للسوقة، فأهوى ليضع يده عليها فقالت أعوذ بالله
منك فقال: قد عذت بمعاذ، ثم خرج فقال: يا أسيد اكسها رازقتين وألحقها
بأهلها، وفى صحيح مسلم عن سهل بن سعد: ذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة
105

من العرب فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها فأرسل إليها فقدمت فنزلت في أجم بنى
ساعدة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها فلما كلها قالت: أعوذ بالله
منك قال قد أعذتك منى، فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ قالت لا، قالوا هذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك والظاهر أنها الجونية، لان سهلا
قال في حديثه: فأمر أبا أسيد أن يرسل إليها، فالقصة واحدة دارت على عائشة
رضي الله عنها وأبى أسيد وسهل بن سعد وكل منهم رواها وألفاظهم فيها متقاربة
ويبقى التعارض بين قوله: جاء ليخطبك وبين قوله: فلما دخل عليها ودنا منها،
فإما أن يكون أحد اللفظين وهما، أو الدخول ليس دخول الرجل على امرأته،
بل الدخول العام. وهذا محتمل
وحديث ابن عباس في قصة إسماعيل وإبراهيم صريح، ولم يزل هذا اللفظ
من الألفاظ التي يطلق بها في الجاهلية والاسلام، ولم يغيره النبي صلى الله عليه
وسلم بل أقرهم عليه. وقد أوقع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق
وهم القدوة بأنت حرام وأمرك بيدك واختاري ووهبتك لأهلك وأنت خلية،
وقد خلوت منى وأنت بريئة وقد أبرأتك وأنت مبرأة وحبلك على غاربك وأنت
الخروج، فقال على وابن عمر رضي الله عنهما. الخلية ثلاث. وقال عمر رضي الله عنه
: واحدة وهو أحق بها.
وفرق معاوية رضي الله عنه بين رجل وامرأته قال لها: ان خرجت فأنت
خلية، وقال على وابن عمر وزيد في البرية أنها ثلاث. وقال عمر هي واحدة وهو
أحق بها. وقال على في الخروج هي ثلاث. وقال عمر واحدة
قال: والله تعالى ذكر الطلاق ولم يعين له لفظا، فعلم أنه رد الناس إلى
ما يتعارفونه طلاقا، فأي لفظ جرى عرفهم به وقع به الطلاق مع النية،
والألفاظ التي لا تراد لعينها بل للدلالة على مقاصد لافظها، فإذا تكلم بلفظ دال
على معنى وقصد به ذلك المعنى ترتب عليه حكمه، ولهذا يقع الطلاق من العجمي
والتركي والهندي بألسنتهم، بل لو طلق أحدهم بصريح الطلاق بالعربية ولم يفهم
معناه لم يقع به شئ قطعا. فإنه تكلم بما لا يفهم معناه ولا قصده، وقد دل
حديث كعب بن مالك على أن الطلاق لا يقع بهذا اللفظ وأمثاله إلا بالنية.
106

والصواب أن ذلك جار في سائر الألفاظ صريحها وكنايتها. ولا فرق بين ألفاظ
العتق والطلاق، فلو قال غلامي غلام حر لا يأتي الفواحش، أو أمتي حرة
لا تبغى الفجور ولم يخطر بباله العتق ولا نواه لم يعتق بذلك قطعا، وكذلك
لو كان معه امرأته في طريق فقيل له أين امرأتك؟ فقال فارقتها أو سرح شعرها
وقال سرحتها ولم يردها طلاقها لم تطلق. وكذا إذا ضربها الطلق وقال لغيره اخبارا
عنها بذلك أنها طالق لم تطلق بذلك. وكذلك إذا كانت المرأة في وثاق فأطلقت
منه فقال لها: أنت طالق وأراد من الوثاق.
هذا كله مذهب مالك وأحمد في بعض هذه الصور وبعضها نظير ما نص عليه
ولا يقع به الطلاق حتى ينويه ويأتي بلفظ دال عليه، فلو تفرد أحد الامرين عن
الآخر لم يقع الطلاق ولا العتاق، وتقسيم الألفاظ إلى صريح وكناية، وإن كان
تقسيما صحيحا في أصل الوضع، لكن يختلف باختلاف الأشخاص والأزمنة
والأمكنة فليس حكما ثابتا للفظ لذاته، قرب لفظ صريح عند قوم كناية عند
آخرين أو صريح في زمان أو مكان كناية في غير ذلك الزمان والمكان، والواقع
شاهد بذلك، فهذا لفظ السراح لا يكاد أحد يستعمله في الطلاق لا صريحا ولا
كناية فلا يسوغ أن يقال: إن من تكلم به لزمه طلاق امرأته نواه أو لم ينوه
ويدعى أنه ثبت له عرف الشرع والاستعمال، فإن هذه دعوة باطلة شرعا
واستعمالا. أما الاستعمال فلا يكاد أحد يطلق به البتة. وأما الشرع فقد استعمله
في غير الطلاق كقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم
طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن
وسرحوهن سراحا جميلا) فهذا السراح غير الطلاق قطعا.
وكذلك الفراق استعمله الشرع في غير الطلاق كقوله تعالى (يا أيها النبي إذا
طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن - إلى قوله - فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن
بمعروف أو فارقوهن بمعروف " فالامساك هنا الرجعة والمفارقة ترك الرجعة
لا انشاء طلقه ثانيه. هذا مما لا خلاف فيه البتة: فلا يجوز أن يقال: إن من
تكلم به طلقت زوجته، فهم معناه أو لم يفهم، وكلاهما في البطلان سواء
وقال في البيان: ان قال له رجل: أخليت امرأتك أو أبنتها؟ وما أشبه ذلك
107

من الكنايات فقال الزوج نعم، فإن اعترف الزوج أنه نوى الطلاق بذلك كان
إقرارا منه بالطلاق، وإن لم يعترف أنه نوى بذلك الطلاق لم يلزمه شئ اه‍
(فرع) وإذا خاطبها بشئ من الكنايات التي يقع بها الطلاق بأن قال: أنت
خلية، فإن لم ينو الطلاق في اللفظ وإنما نواه قبله أو بعده لم يكن لهذه النية حكم
لأنها لم تقارن اللفظ ولا بعضه، فهو كما لو نوى الطلاق من غير لفظ، وإن نوى
الطلاق في بعض اللفظ بأن نوى الطلاق في قوله: أنت - وعريت نيته في قوله
خلية، أو نوى الطلاق في قوله خلية دون قوله أنت، أو نوى في سائر حروف
ذلك، ففيه وجهان
(أحدهما) يقع الطلاق - قال الشيخ أبو حامد وهو المذهب، لأن النية إذا
قارنت بعض الشئ عمته أو استصحب حكمها إلى آخره وإن عريت في أثنائه صح
كالعبادات من الطهارة والصلاة إذا قارنها النية في أولها، ذكرا واستصحب
حكمها في باقيها.
(والثاني) لا يطلق. قال الشيخ أبو إسحاق: وهو ظاهر النص، لأن النية
قارنت لفظا لا يصلح للطلاق. وأما الألفاظ التي لا تدل على الفراق إذا خاطبها
به، كقوله بارك الله منك وما أحسن وجهك وأطعميني واسقيني. قومي واقعدي
وما أشبه ذلك فلا يقع به الطلاق وإن نواه، لأنها لا تصلح للفرقة، فلو أوقعنا
الطلاق بذلك لأوقعنا الطلاق بمجرد النية، والطلاق لا يقع بالنية من غير لفظ،
واختلف أصحابنا هل للفارسية صريح في الطلاق؟ فذهب أكثرهم إلى أن له صريحا
في لغتهم كما نقول في لغة العرب. وقال أبو سعيد الإصطخري: لا صريح
له في لغتهم
ومثل هذا يقال في اللغة الإنجليزية كقوله " توبي دايفور سد " فإنها تحتمل
الطلاق فإذا نواه من لا يتكلم إلا بالإنجليزية أو يتكلم بغيرها مخاطبا زوجته التي
لا تفهم إلا الإنجليزية وقع الطلاق
ومثل هذا يقال في اللغة الفرنسية إذا قال من لا يتكلم الا بها " رنفوييه " أو
يتكلم بغيرها لمن لا تحسن التخاطب الا بها فإنه يقع طلاقه إذا نواه. والله أعلم
108

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا قال لامرأته اختاري أو أمرك بيدك، فقالت اخترت لم يقع
الطلاق حتى ينويا لأنه كناية لأنها تحتمل الطلاق وغيره فلم يقع به الطلاق حتى
يتفقا على نية الطلاق. وان قال اختاري ونوى اختيار الطلاق، أو قال أمرك
بيدك ونوى تمليك أمر الطلاق فقالت اخترت الزوج لم يقع الطلاق، لما روت
عائشة رضي الله عنها قالت " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه " فلم
تجعل ذلك طلاقا، ولان اختيار الزوج اختيار النكاح لا يحتمل غيره فلم يقع به
الطلاق، فإن قالت اخترت نفسي لم يقع الطلاق حتى تنوى الطلاق لأنه يحتمل
أن يكون معناه اخترت نفسي للنكاح ويحتمل اخترت نفسي للطلاق، ولهذا لو
صرحت به جاز فلم يقع به الطلاق من غير نية. وان قالت: اخترت الأزواج
ونوت الطلاق ففيه وجهان:
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق انه لا يقع لان الزوج من الأزواج.
(والثاني) يقع وهو الأظهر عندي لأنها لا تحل للأزواج الا بمفارقته، كما لو
قال لها الزوج تزوجي ونوى به الطلاق
وان قالت اخترت أبوي ونوت الطلاق ففيه وجهان (أحدهما) لا يقع
الطلاق، لان اختيار الأبوين لا يقتضى فراغ الزوج (والثاني) أنه يقع لأنه
يتضمن العود إليهما بالطلاق، فصار كقوله الحقي بأهلك. وان قال لها امرك
بيدك ونوى به ايقاع الطلاق ففيه وجهان
(أحدهما) لا يقع الطلاق لأنه صريح في تمليك الطلاق وتعليقه على قبولها
فلم يجز صرفه إلى الايقاع (والثاني) أنه يقع لان اللفظ يحتمل الايقاع فهو
كقوله حبلك على غاربك.
(الشرح) حديث عائشة رواه الستة وأحمد. وقد مضى تخريجه وألفاظه.
أما الأحكام فإنه يجوز للزوج أن يخير زوجته فيقول لها اختاري أو أمرك بيدك
لقوله تعالى " يا أيها النبي قل لأزواجك ان كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها
فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا " الآية فخير النبي صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه
109

إذا ثبت هذا فقال لزوجته اختاري، واختارت زوجها لم يقع عليها الطلاق.
وبه قال ابن عمر وابن عباس وابن مسعود وعائشة. وبه قال أكثر الفقهاء.
وروى عن علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت روايتان إحداهما كقولنا، والثانية
أنها إذا اختارت زوجها وقع عليها طلقة واحدة رجعية، وبه قال الحسن البصري
وربيعة، دليلنا ما روى أن رجلا سأل عائشة عن رجل خير زوجته فاختارته
أكان ذلك طلاقا؟ فقالت " خير رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه فاخترنه،
ولم يجعل ذلك طلاقا " وهي أعلم الناس بهذه القصة، لان النبي صلى الله عليه وسلم
بدأ بها. وإن اختارت نفسها فهو كناية في الطلاق، فإن نويا الطلاق وقع الطلاق
وإن نوى أحدهما دون الاخر لم يقع الطلاق، لان الزوج إذا لم ينو لم يقع الطلاق
لأنه لم يجعل إليها الطلاق. وإن نوى الزوج ولم تنو الزوجة لم يقع، لأنها لم
توقع الطلاق. هذا مذهبنا
وقال مالك هو صريح، فإذا اختارت الطلاق وقع سواء نويا أو لم ينويا.
وقال أبو حنيفة لا يفتقر إلى نية الزوجة. دليلنا أن قوله اختاري يحتمل الطلاق
وغيره. وكذلك قولها اخترت نفسي يحتمل الطلاق وغيره. وما كان هذا سبيله
فلابد فيه من النية كسائر الكنايات، وهل من شرط اختيارها لنفسها أن يكون
على الفور بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه؟ أو يجوز إذا وقع منها في المجلس
قبل أن تخوض المرأة في حديث غيره، على وجهين مضى ذكرهما
وإن قالت المرأة اخترت الأزواج ونوت الطلاق ففيه وجهان: أحدهما لا يقع
الطلاق، لان زوجها من الأزواج. والثاني يقع عليها الطلاق. قال الشيخ
أبو إسحاق الشيرازي: وهو الأظهر عندي، لأنها لا تحل للأزواج الا بعد
مفارقتها لهذا.
وإن قالت اخترت أبوي ونوت الطلاق ففيه وجهان (أحدهما) لا يقع
الطلاق، لان ذلك لا يتضمن فراق الزوج (والثاني) يقع لأنه يتضمن العود
إليهما بالطلاق. وإن قال لها أمرك بيدك ونوى به إيقاع الطلاق قال أصحابنا فيه
وجهان (أحدهما) يقع الطلاق قبل أن تختار، لأنه يحتمل الطلاق فكان كقوله:
حبلك على غاربك.
110

(والثاني) لا يقع عليها الطلاق لأنه صريح في تملكها الطلاق. ووقوعه
لقبولها، فلا يجوز صرفه إلى الايقاع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا قال لامرأته: أنت علي حرام ونوى به الطلاق فهو طلاق.
لأنه يحتمل التحريم بالطلاق، وإن نوى به الظهار فهو ظاهر، لأنه يحتمل
التحريم بالظهار ولا يكون ظهارا ولا طلاقا من غير نية لأنه ليس بصريح في
واحد منهما. وإن نوى تحريم عينها لم تحرم: لما روى سعيد بن جبير قال: جاء
رجل إلى ابن عباس رضي الله عنه فقال: إني جعلت امرأتي على حراما. قال
كذبت ليست عليك بحرام، ثم تلا " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى
مرضاة أزواجك والله غفور رحيم، قد فرض الله لكن تحلة أيمانكم " إلى آخر
الآية. ويجب عليه بذلك كفارة يمين، لان النبي صلى الله عليه وسلم حرم مارية
القبطية أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغى مرضاة أزواجك والله غفور رحيم. قد
فرض الله لكم تحلة أيمانكم والله مولاكم " فوجبت الكفارة في الأمة بالآية.
وقسنا الحرة عليها لأنها في معناها في تحليل البضع وتحريمه.
وإن قال أنت علي حرام ولم ينو شيئا ففيه قولان.
(أحدهما) يجب عليه الكفارة، فعلى هذا يكون هذا اللفظ صريحا في إيجاب
الكفارة، لان كل كفارة وجبت بالكناية مع النية كان لوجوبها صريح ككفارة
الظهار (والثاني) لا يجب، فعلى هذا لا يكون هذا اللفظ صريحا في شئ، لان
ما كان كناية في جنس لا يكون صريحا في ذلك الجنس، ككنايات الطلاق. وان
قال لامته: أنت علي حرام، فإن نوى به العتق كان عتقا، لأنه يحتمل أنه أراد
تحريمها بالعتق، وإن نوى الظهار لم يكن ظهارا لان الظهار لا يصح من الأمة،
وان نوى تحريم عينها لم تحرم ووجب عليه كفارة يمين لما ذكرناه، وان لم يكن
له نية ففيه طريقان، من أصحابنا من قال يجب عليه الكفارة قولا واحدا لعموم
الآية. ومنهم من قال: فيه قولان كالقولين في الزوجة لما ذكرناه،
111

وإن كان له نسوة أو إماء فقال: أنتن على حرام ففي الكفارة قولان (أحدهما) يجب
لكل واحدة كفارة (والثاني) يجب كفارة واحدة كالقولين فيمن ظاهر من نسوة
وإن قال لامرأته أنت علي كالميتة والدم، فإن نوى به الطلاق فهو طلاق، وإن
نوى به الظهار فهو ظهار، وإن نوى به تحريمها لم تحرم، وعليه كفارة يمين
لما ذكرناه في لفظ التحريم. وإن لم ينو شيئا فإن قلنا إن لفظ التحريم صريح في
إيجاب الكفارة لزمته الكفارة، لان ذلك كناية عنه. وإن قلنا إنه كناية لم يلزمه
شئ، لان الكناية لا يكون لها كناية.
(الشرح) خبر سعيد بن جبير ثبت في صحيح البخاري أنه سمع ابن عباس
يقول: إذا حرم امرأته فليس بشئ، لكم في رسول الله أسوة حسنة. قد
روى هذا عن عمر رضي الله عنه قال عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير
وأيوب السختياني كلاهما عن عكرمة عن عمر قال: هي يمين، يعنى التحريم.
وروى إسماعيل بن إسحاق حدثنا المقدمي حدثنا حماد بن زيد عن صخر بن جويرية
عن نافع عن ابن عمر قال: الحرام يمين.
أما قوله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم " الآية، فقد ثبت في الصحيحين " أنه
صلى الله عليه وسلم شرب عسلا في بيت ميمونة، فاحتالت عليه عائشة وحفصة
حتى قال: لن أعود له - وفى لفظ - وقد حلفت "
وفى سنن النسائي عن أنس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة
يطؤها فلم تزل به عائشة رضي الله عنها وحفصة حتى حرمها، فأنزل الله تعالى:
يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك "
وفى جامع الترمذي عن عائشة رضي الله عنها قالت " آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
من نسائه وحرم فجعل الحرام حلالا وجعل في اليمين كفارة. قال الترمذي:
هكذا رواه مسلم بن علقمة عن داود عن الشعبي عن مسروق عن عائشة، ورواه
علي بن مسهر وغيره عن الشعبي عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا
وهو أصح. اه‍
وقولها " جعل الحرام حلالا " أي على الذي حرمه وهو العسل أو الجارية
112

حلالا بعد تحريمه إياه. قال الواحدي: قال المفسرون: كان النبي صلى الله عليه
وسلم في بيت حفصة فزارت أباها فلما رجعت أبصرت مارية في بيتها مع النبي
صلى الله عليه وسلم فلم تدخل حتى خرجت مارية ثم دخلت. فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم
في وجه حفصة الغيرة والكآبة قال لها: لا تخبري عائشة ولك على أن لا أقربها
أبدا، فأخبرت حفصة عائشة - وكانتا متصافيتين - فغضبت عائشة، ولم تزل
بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى حلف أن لا يقرب مارية، فأنزل الله هذه
السورة (التحريم)
وقال القرطبي: أكثر المفسرين على أن الآية نزلت في حفصة (وذكر
القصة) وقال العلامة صديق خان في نيل المرام: والجمع ممكن بوقوع القصتين.
قصة العسل وقصة مارية وأن القرآن نزل فيهما جميعا
وقال الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن عبد الله بن هبيرة عن قبيصة
ابن ذؤيب قال: سألت زيد بن ثابت وابن عمر رضي الله عنهم عمن قال لامرأته
أنت علي حرام فقال جميعا كفارة يمين. وقال عبد الرزاق عن ابن عيينة عن أن
أبى نجيح عن مجاهد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال في التحريم. هي يمين
يكفرها. قال أبو محمد بن حزم: وروى ذلك عن أبي بكر الصديق وعائشة
أم المؤمنين رضي الله عنهما.
أما اللغات فقوله " مرضاة " اسم مصدر وهو الرضا. قوله " تحلة " هي
تحللة تفعلة من الحلال فأدغمت أي يحل بها ما كان حراما.
أما الأحكام: فإذا قال لزوجته أنت حرام على - فإن نوى به الطلاق كان
طلاقا، وان نوى به الظهار - وهو أن ينوى أنها محرمة كحرمة ظهر أمه كان
مظاهرا، وإن نوى تحريم عينها أو تحريم وطئها أو فرجها بلا طلاق وجب
كفارة يمين وإن لم يكن يمينا
وإن لم ينو شيئا ففيه قولان (أحدهما) يجب عليه كفارة يمين فيكون هذا
صريحا في إيجاب الكفارة (والثاني) لا يجب عليه شئ فيكون هذا كناية في
إيجاب الكفارة ويأتي توجيههما
113

وأما إذا قال لامته: أنت حرام على - فإن نوى عتقها عتقت، وان نوى
الظهار أو أراد به الطلاق أو كليهما فقد قال عامة أصحابنا: لا يلزمه شئ، لان
الطلاق والظهار لا يصحان من السيد في أمته.
وقال ابن الصباغ: عندي أنه إذا نوى الظهار لا يكون ظهارا أو يكون بمنزلة
ما لو نوى تحريمها، لان معنى الظهار أن ينوى أنها عليه كظهر أمه في التحريم،
وهذه نية التحريم المتأكد، وان نوى تحريم عينها وجب عليه كفارة اليمين.
وان طلق ولم ينو شيئا فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال فيه قولان كالزوجة،
ومنهم من قال تجب الكفارة قولا واحدا، لان النص ورود فيها والزوجة مقيسة
عليها، فهذا جملة المذهب
وقد اختلف الصحابة فيمن قال لزوجته: أنت علي حرام، واختلف فقهاء
الأمصار في هذا المسألة حتى ذهبوا فيها عشرين مذهبا. فذهب أبو بكر الصديق
رضي الله عنه وعائشة إلى أن ذلك يمين تكفر. وبه قال الأوزاعي. وقال عمر
ابن الخطاب طلقه رجعية وبه قال الزهري. وقال عثمان هو ظهار، وبه قال أحمد
وقال هو ظهار بإطلاقه نواه أو لم ينوه إن لم يصرفه بالنية إلى الطلاق أو اليمين
فينصرف إلى ما نواه.
هذا ظاهر مذهب أحمد وعنه رواية ثانيه أنه بإطلاقه يمين الا أن يصرفه
بالنية إلى الظهار أو الطلاق فينصرف إلى ما نواه. وعنه رواية ثالثه أنه ظهار
بكل حال. ولو نوى غيره، وفيه رواية رابعه حكاها أبو الحسين في فروعه أنه
طلاق بائن، ولو وصله بقوله أعني به فعنه فيه روايتان: أحداهما أنه طلاق فعلى
هذا هل تلزمه الثلاث أو واحدة على روايتين، والثانية أنه ظهار أيضا، كما لو
قال أنت علي كظهر أمي، أعني به الطلاق. هذا ملخص مذهبه كما أفاده ابن القيم
في الهدى. وقال علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وأبو هريرة: يقع به الطلاق
الثلاث. ذكر هذا العمراني في البيان، ونعى ابن القيم على ابن حزم عزوه هذا
القول إلى علي وزيد بن ثابت وابن عمر فقال: الثابت ما رواه هو من طريق
الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي هبيرة عن قبيصة انه سأل زيد بن
ثابت وابن عمر عمن قال لامرأته: أنت علي حرام، فقالا جميعا كفارة يمين،
114

ولم يصح عنهما خلاف ذلك. وأما علي كرم الله وجهه فقد روى أبو محمد من
طريق يحيى القطان حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي قال: يقول رجال في
الحرام: هي حرام حتى تنكح زوجا غيره ولا والله ما قال ذلك علي كرم الله وجهه
وإنما قال على: ما أنا بمحلها ولا بمحرمها عليك، إن شئت فتقدم وإن شئت
فأخر. وأما الحسن رضي الله عنه فقد روى أبو محمد بن حزم من طريق قتادة
عنه أنه قال: كل حلال على حرام فهو يمين، ولعل أبا محمد غلط على على وزيد
وابن عمر من مسألة الخلية والبرية والبتة: فإن أحمد حكى عنهم أنها ثلاث وقال
هو عن علي وابن عمر صحيح، فوهم أبو محمد وحكاه في أنت علي حرام وهو وهم
ظاهر، فإنهم فرقوا بين التحريم فأفتوا فيه بأنه يمين، وبين الخلية فأفتوا فيها
بثلاث، ولا أعلم أحدا قال: إنه ثلاث بكل حال اه‍
قلت: والحرام طلاق ثلاث هو المعروف من مذهب مالك وابن أبي ليلى
في المدخول بها. أما غير المدخول بها فإنه يقع ما نواه من واحدة واثنين وثلاث
فإن أطلق فواحدة. وإن قال لم أرد طلاقا، فإن كان تقدم كلام يجوز صرفه إليه
قبل منه وإن كان ابتداء لم يقبل.
وعند ابن عباس في إحدى الروايتين هو كفارة يمين. وهو قولنا. واختلف
الناس بعد الصحابة في هذه الكلمة، فقال أبو سلمة بن عبد الرحمن ومسروق:
لا يجب فيها شئ.
وقال حماد بن أبي سليمان: هو طلقة بائنة. وقال أبو حنيفة: إن نوى الطلاق
كان طلاقا، وإن نوى الظهار كان ظهارا. وان نوى طلقة كانت بائنة وإن نوى
اثنتين كانت واحدة. وان نوى الثلاث وقع الثلاث، وإن لم ينو شيئا كان مؤليا
فإن فاء في المدة كفر، وان لم يفئ حتى انقضت المدة بانت منه.
وقال سفيان الثوري: ان نوى به واحدة فهي واحدة وان نوى ثلاث فهي
ثلاث وان نوى يمينا فهي يمين، وان لم ينو شيئا فهي كذبة
دليلنا ما روى ابن عباس في صحيح مسلم: إذا حرم الرجل امرأته فهي يمين
يكفرها وتلا قوله " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة " ولان اللفظ يحتمل
115

الانشاء والاخبار، فإن أراد الاخبار فقد استعمله فيما هو صالح له فيقبل منه،
وان أراد الانشاء سئل عن السبب الذي حرمها به.
فإن قال: أردت واحدة أو اثنتين أو ثلاثا قبل منه لصلاحية اللفظ له
واقترانه بنيته، وان نوى الظهار كان كذلك لأنه صرح بموجب الظهار لان قوله
أنت علي كظهر أمي موجبه التحريم، فإذا نوى ذلك بلفظ التحريم كان ظهارا
واحتماله للطلاق بالنية لا يزيد على احتماله للظهار بها، وإن أراد تحريمها مطلقا
فهو يمين مكفرة لأنه امتناع منها بالتحريم فهو كامتناعه منها باليمين.
وروينا عن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى منزل حفصة فلم يجدها
وكانت عند أبيها، فاستدعى جاريته مارية القبطية، فأتت حفصة فقالت:
يا رسول الله في بيتي وفي نومي وعلى فراشي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أرضيك وأسر إليك سرا فاكميه، هي على حرام، فأنزل الله تعالى " يا أيها النبي
لم تحرم ما أحل الله لك؟ تبتغى مرضاة أزواجك؟ الآية " فقال: لم تحرم؟ ولم
يقل: لم تحلف؟ أو لم تطلق، أو لم تظاهر، ولم تولى، فإذا ثبت هذا في الأمة
قسنا الزوجة عليها لأنها في معناها في تحليل البضع وتحريمه.
وروى عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم على نفسه جاريته
مارية، فأنزل الله تعالى " يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك " الآية، فأمر النبي
صلى الله عليه وسلم من حرم على نفسه حلالا له أن يعتق رقبة أو يطعم عشرة
مساكين أو يكسوهم.
فإذا قلنا: إن لفظة الحرام صريح في ايجاب الكفارة فوجهه حديث ابن عباس
ولان كل كفارة وجبت بالكناية مع النية وجب أن يكون لوجوب تلك الكفارة
صريح كالظهار، وبيان هذا أنه إذا قال لامرأته: أنت علي حرام ونوى به الظهار
وجب عليه كفارة الظهار وكان كناية عن الظهار، ثم كان للظهار صريح وهو قوله
أنت علي كظهر أمي، كذلك كفارة التحريم لما وجب بالكفارة مع النية، وهو
قوله: أنت علي حرام كالميتة والدم ونوى به تحريم عينها وجب أن يكون لهذه
الكفارة صريح، وهو قوله: أنت علي حرام كالميتة
وإذا قلنا إن التحريم كناية لا يجب به شئ من غير نية فوجهه أن كل ما كان
116

كناية في جنس لم يكن صريحا في ذلك الجنس، كقوله: أنت خلية
(فرع) إذا قال لامرأته: أنت كالميتة والدم - فإن نوى به الطلاق -
كان طلاقا، وان نوى به الظهار كان ظهارا لأنه يصلح لها، وان لم ينو شيئا لم
يكن عليه شئ لأنها كناية تعرت عن النية فلم تعمل في التحريم
وإن قال نويت بها أنت علي حرام - فإن قلنا إن قوله أنت علي حرام صريح
في إيجاب الكفارة وجب عليه الكفارة، لان الصريح له كناية، وان قلنا إن
التحريم كناية في إيجاب الكفارة لم يجب عليه ههنا كفارة، لان الكناية لا تكون
لها كناية. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد
وذكر الشيخ أبو إسحاق والمحاملي أنه إذا نوى بذلك تحريم عينها لزمته الكفارة
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: وإن نوى إصابته قلنا له: أصبت وكفر
وجملة ذلك أنه إذا قال لامرأته: إصابتك على حرام أو فرجك على حرام، أو
قال أنت علي حرام ثم قال نويت به إصابتك فيجب عليه الكفارة لان موضع
الإصابة هو الفرج إلا أن ينوى به الطلاق أو الظهار فيقع ما نواه
وقول الشافعي: أصبت وكفر، أراد أن يبين أن له أن يطأها قبل أن يكفر
بخلاف المظاهرة.
وإن قال لها أنت علي حرام ثم قال نويت ان أصبتها فهي حرام، لم يقبل قوله
في الحكم لأنه يدعى خلاف الظاهر، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه
يحتمل ما يدعيه،
(فرع) إذا قال الرجل كل ما أملك على حرام - فإن كان له مال ولا
زوجات له ولا إماء لم ينعقد بهذا اللفظ يمين ولا يجب عليه شئ. وقال أبو حنيفة
يكون معناه والله لا انتفعت بمالي، فإن انتفع به حنث ووجب عليه كفارة يمين
دليلنا أن التحريم ليس بيمين فلم يجب به كفارة في الأموال كغيره من الألفاظ،
ويخالف الابضاع، فإن للتحريم تأثيرا في الابضاع بالرضاع والظهار والعتق
والطلاق فأثره التحريم
وأما إذ كان له زوجات وإماء، فإن نوى طلاق نسائه وعتق إمائه أو
117

الظهار في النساء والعتق في الإماء حمل على ما نوى، وإن نوى تحريم أعيانهن
وجب عليه الكفارة وإن أطلق.
فإن قلنا إنه صريح في إيجاب الكفارة وجب عليه الكفارة، وإن قلنا إنه
كناية في إيجاب الكفارة لم تجب عليه الكفارة
إذا ثبت هذا فإن كان له زوجة واحدة أو أمة واحدة ونوى تحريم عينها،
أو قلنا إنه صريح في إيجاب الكفارة وجب عليه كفارة واحدة، وإن كان له
زوجات وإماء ونوى الظهار عن زوجاته، فهل يجب عليه كفارة أو كفارتان؟
فيه قولان يأتي توجيهما في الظهار. وإن نوى تحريم أعيانهن فمن أصحابنا من قال
فيه قولان كالظهار. ومنهم من قال: يجب عليه كفارة واحدة قولا واحدا،
كما لو قال لأربع نسوة والله لا أصبتكن فأصابهن، فإنه لا يجب عليه إلا كفارة
واحدة. هذا نقل البغداديين
وقال المسعودي: إذا قال الرجل: حلال الله على حرام فقد قال المتقدمون
من أصحابنا: ذلك كناية. وقال المتأخرون منهم: انه صريح لأنه أكثر استعمالهم
لذلك، وكان القفال إذا استفتاه واحد عن هذا قال له: ان سمعت هذا من غيرك
قاله لامرأته ماذا كنت تفهم منه؟ فإن قال: فهمت منه الصريح، قال هو
صريح لك.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا كتب طلاق امرأته بلفظ صريح ولم ينو لم يقع الطلاق، لان
الكتابة تحتمل ايقاع الطلاق وتحتمل امتحان الخط، فلم يقع الطلاق بمجردها،
وان نوى بها الطلاق ففيه قولان، قال في الاملاء: لا يقع به الطلاق لأنه فعل
ممن يقدر على القول فلم يقع به الطلاق كالإشارة
وقال في الام هو طلاق وهو الصحيح، لأنها حروف يفهم منها الطلاق فجاز
أن يقع بها الطلاق كالنطق. فإذا قلنا بهذا فهل يقع بها الطلاق من الحاضر والغائب
فيه وجهان (أحدهما) أنه لا يقع بها الا في حق الغائب لأنه جعل في العرف لافهام
الغائب كما جعلت الإشارة لافهام الأخرس، ثم لا يقع الطلاق بالإشارة الا في
118

حق الأخرس، وكذلك لا يقع الطلاق بالكتابة الا في حق الغائب (والثاني) أنه
يقع بها من الجميع، لأنها كناية فاستوى فيها الحاضر والغائب كسائر الكنايات.
(فصل) فإن أشار إلى الطلاق - فإن كان لا يقدر على الكلام كالأخرس
صح طلاقه بالإشارة، وتكون إشارته صريحا لأنه لا طريق له إلى الطلاق الا
بالإشارة، وحاجته إلى الطلاق كحاجة غيره، فقامت الإشارة مقام العبارة،
وإن كان قادرا على الكلام لم يصح طلاقه بالإشارة، لان الإشارة إلى الطلاق
ليست بطلاق، وإنما قامت مقام العبارة في حق الأخرس لموضع الضرورة، ولا
ضرورة ههنا فلم تقم مقام العبارة
(الشرح) الأحكام: إذا كتب طلاق امرأته وتلفظ به وقع الطلاق، لأنه
لو تلفظ به ولم يكتبه وقع الطلاق، فكذلك إذا كتبه ولفظ به، وان كتب طلاقها
ولم يلفظ به ولا نواه لم يقع الطلاق، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال أحمد:
يقع به الطلاق، وحكاه أبو علي الشيخي وجها لبعض أصحابنا وليس بمشهور،
لان الكتابة قد يقصد بها الحكاية، وقد يقصد بها تجويد الخط فلم يقع به الطلاق
وبه قال أبو حنيفة وأحمد وهو الصحيح، فوجهه أن الانسان يعبر عما في نفسه
بكتابته كما يعبر عنه بلسانه، ولهذا قيل: القلم أحد اللسانين، وقد ثبت أنه لو عبر
عن الطلاق باللسان لوقع فكذلك إذا عبر عنه بالكتابة
وإذا قلنا: لا يقع به الطلاق فوجهه أنه فعل من يقدر على القول فلم يقع به
الطلاق كالإشارة، وفيه احتراز من إشارة الأخرس
إذا ثبت هذا - فان قلنا لا يقع به الطلاق - فلا تفريع عليه، وان قلنا
يقع به الطلاق - فإن كانت غائبة عنه وكتب بطلاقها - وقع، وإن كانت حاضرة
معه فهل يقع طلاقها بكتابته؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يقع لان الكتابة إنما جعلت كالعبارة في حق الغائب دون
الحاضر، كالإشارة في حق الأخرس دون الناطق (والثاني) يقع لأنه كناية في
الطلاق فصحت من الغائب والحاضر كسائر الكنايات
(فرع) إذا كتب امرأته طالق ونواه وقع عليها سواء وصلها أو لم يصلها
119

إياه، وإن كتب: إذا وصلك كتابي هذا سليما فأنت طالق. ونواه - فإن وصلها
سليما لوجود الصفة، وإن ضاع الكتاب ولم يصلها لم يقع الطلاق، لان الصفة لم
توجد، وإن أتاها الكتاب - وقد تحرقت الحواشي - وقع عليها الطلاق لان
الحرق لم يتناول الكتابة.
وإن وصلها الكتاب وقد انمحى جميع الكتاب حتى صار القرطاس أبيض أو
انطمس حتى لا يفهم منه شئ لم يقع الطلاق، لان الكتاب هو المكتوب: وإن
انمحى موضع الطلاق لم تطلق لان المقصود لم يأتها، وإن انمحى جميعه إلا موضع
الطلاق - اختلف أصحابنا - فقال أبو إسحاق المروزي: يقع الطلاق لان
المقصود من الكتاب موضع الطلاق. وقد أتاها. ومنهم من قال لا يقع لان
قوله كتابي هذا. يقتضى جميعه ولم يوجد ذلك، وإن قال إذا أتاك كتابي فأنت
طالق، وأتاها الكتاب، وقع عليها الطلاق لوجود الصفتين
(فرع) قال المسعودي: إذا قال: إذا قرأت كتابي فأنت طالق، فلا تطلق
ما لم تقرأه بنفسها إن كانت تحسن القراءة أو يقرأ عليها إن كانت أمية. وحكى
الصيمري وجها آخر: إذا قرئ عليها لم تطلق، لان حقيقة الوصف لم توجد
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه " وإذا شهد عليه أنه خطه لم يلزمه حتى
يقربه " وهذا كما قال، فإنه إذا شهد رجلان على رجل بأن هذا الكتاب خطه بطلاق
امرأته فلا يجوز لهما أن يشهدا الا إذا رأياه يكتبه ولم يغب الكتاب عن أعينهما
فأما إذا رأياه يكتبه ثم غاب الكتاب عن أعينهما لم يجز لهما أن يشهدا به، لان
الخط قد يزور على الخط. وإذا ثبت أنه خطه بالشهادة أو بالاقرار لم يحكم عليه
الطلاق الا إذا أقر أنه نوى الطلاق، لان ذلك لا يعلم الا من جهته، وهذا
مراد الشافعي بقوله: حتى يقر به
(مسألة) قوله: فان أشار إلى الطلاق الخ، وهذا كما قال، فإن أشار الناطق
إلى الطلاق ونواه لم يقع الطلاق به، لان ذلك ليس بصريح ولا كناية. هذا هو
المشهور. وقال أبو علي في الافصاح: إذا قلنا إن الكتابة كناية ففي الإشارة
وجهان (أحدهما) أنه كناية لأنه علم يعلم به المراد فهو كالكناية (والثاني) أنه
ليس بكناية لأنه ليس من الاعلام الجارية فيما بينهم في فهم المراد.
120

وان أشار الأخرس إلى الطلاق وكانت إشارته مفهومة حكم عليه بالطلاق
لان إشارته كعبارة غيره، وان كتب الأخرس بطلاق امرأته وأشار إلى أنه
نواه، فإن قلنا لا يقع الطلاق بالكتابة في الناطق لم يقع به من الأخرس، وان
قلنا إن الطلاق يقع من الناطق بالكتابة وقع أيضا من الأخرس. والله سبحانه
وتعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب عدد الطلاق والاستثناء فيه)
إذا خاطب امرأته بلفظ من ألفاظ الطلاق كقوله: أنت طالق أو بائن أو بنة
أو ما أشبهها، ونوى طلقتين أو ثلاثا، وقع لما روى " أن ركانة بن عبد يزيد قال
يا رسول الله انى طلقت امرأتي سهيمة البتة، والله ما أردت الا واحدة، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أردت الا واحدة؟ فقال ركانة: والله
ما أردت الا واحدة، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه " فدل على أنه
لو أراد ما زاد على واحدة لوقع، ولان اللفظ يحتمل العدد بدليل أنه يجوز أن
يفسره به، وهو أن يقول أنت طالق طلقتين أو ثلاثا أو بائن بطلقتين وثلاث
وما احتمله اللفظ إذا نواه وقع به الطلاق، كالكناية
وان قال أنت واحدة ونوى طلقتين أو ثلاثا ففيه وجهان
(أحدهما) يقع لأنه يحتمل أن يكون معناه أنت طالق واحدة مع واحدة
أو مع اثنتين.
(والثاني) لا يقع ما زاد على واحدة لأنه صريح في واحدة، ولا يحتمل
ما زاد، فلو أوقعنا ما زاد لكان ايقاع طلاق بالنية من غير لفظ، وذلك لا يجوز
وان قال لها اختاري وقالت المرأة اخترت - فان اتفقا على عدد ونوياه - وقع
ما نوياه. وان اختلفا فنوى أحدهما طلقة ونوى الآخر ما زاد لم يقع ما زاد على
طلقة، لان الطلاق يفتقر إلى تمليك الزوج وايقاع المرأة وإذا نوى أحدهما
طلقة ونوى الآخر ما زاد لم يقع لأنه لم يوجد الاذن والايقاع الا في طلقة
فلم يقع ما زاد.
121

(الشرح) حديث ركانة بن عبد الله رواه الشافعي وأبو داود والدارقطني
وفيه " فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلقها الثانية في زمان عمر بن
الخطاب والثالثة في زمان عثمان " وقد أخرجه أيضا بن حبان والحاكم والترمذي
وقال: لا يعرف إلا من هذا الوجه. وسألت محمدا - يعنى البخاري عنه -
فقال فيه اضطراب. اه‍
وفى إسناده الزبير بن سعيد الهاشمي وقد ضعفه غير واحد. وقيل إنه متروك
وذكر الترمذي عن البخاري أنه يضطرب فيه، تارة يقال فيه ثلاثا، وتارة قيل
واحدة وأصحها أنها طلقة البتة، وأن الثلاث ذكرت فيه على المعنى
قال ابن كثير: لكن قد رواه أبو داود من وجه آخر، وله طرق أخر فهو
حسن إن شاء الله. وقال ابن عبد البر تكلموا في هذا الحديث. وقال الشوكاني:
وهو مع ضعفه مضطرب ومعارض، أما الاضطراب فكما تقدم. وقد أخرج
أحمد أنه طلق ركانة امرأته في مجلس واحد ثلاثا فحزن عليها. وروى ابن إسحاق
عن ركانة أنه قال: يا رسول الله انى طلقتها ثلاثا. قال قد علمت ارجعها. ثم تلا
إذا طلقتم النساء " الآية. أخرجه أبو داود
وأما معارضته فبما روى ابن عباس " أن طلاق الثلاث كان واحدة على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وسنتين من خلافة عمر، فقال عمر: إن
الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم، فأمضاه عليهم "
رواه أحمد ومسلم، ورواه أبو داود بهذا المعنى، وهو أصح إسنادا وأوضح متنا
من حديث ركانة.
وروى النسائي عن محمود بن لبيد قال: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا، فقام غضبان ثم قال: أيلعب
بكتاب الله وأنا بين أظهركم - حتى قام رجل فقال: يا رسول الله ألا أقتله؟ "
قال ابن كثير إسناده جيد.
وقال الحافظ في بلوغ المرام: رواته موثقون. وفى الباب عن ابن عباس
قال " طلق أبو ركانة أم ركانة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: راجع
122

امرأتك، فقال: إني طلقتها ثلاثا، قال قد علمت، راجعها " أخرجه أبو داود
ورواه أحمد والحاكم وهو معلول بابن إسحاق فإنه في سنده
قلت: وقد أعل قوم حديث محمود بن لبيد بأن ابن وهب قد رواه عن مخرمة
ابن بكير عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد فذكره فقالوا إن مخرمة لم يسمع من
أبيه بكير بن الأشج وإنما هو كتاب. ولما كان مخرمة ثقة باتفاق المحدثين، قال
فيه أحمد بن حنبل ثقة ولم يسمع من أبيه وإنما هو كتاب مخرمة فنظر فيه كل شئ
يقول: بلغني عن سليمان بن يسار فهو من كتاب مخرمة، ولا ضير في هذا فإن
كتاب أبيه كان محفوظا عنده مضبوطا فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه
به أو رآه في كتابه، بل الاخذ عن المكتوب أحوط إذا تيقن الراوي أن هذه
نسخة الشيخ بعينها، وهذه طريقة الصحابة والسلف، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يبعث بكتبه إلى الملوك وتقوم عليهم بها الحجة. وكتب كتبه إلى عماله في بلاد
الاسلام فعملوا بها واحتجوا بها، وهو أمر مستفيض
أما الأحكام فإنه إذا قال لامرأته أنت طالق أو طلقتك - فإن لم ينو عددا -
انصرف ذلك إلى طلقه، وان نوى أكثر منها إلا أن يقول: أنت طالق أو طلقي
نفسك ثلاثا، إذا نوى بذلك ثلاثا وقعن، لان كل لفظ اقترن به لفظ الثلاث
وقعن به، فإذا اقترن به نية الثلاث وقعن كقوله: أنت الطلاق، وان خاطبها
بشئ من الكنايات ونوى به الطلاق - فإن لم ينو به العدد انصرف ذلك إلى
طلقة رجعية، وان نوى اثنتين أو ثلاثا انصرف ذلك إلى ما نواه، سواء في ذلك
الكنايات الظاهرة أو الباطنة
وقال مالك: الكنايات الظاهرة وهي قوله: أنت خلية وبرية وبته وبتلة وبائن
وحرام، وفارقتك وسرحتك يقع بها الثلاث إذا خاطب بها مدخولا بها سواء
نوى بها الطلاق أو لم ينو، وان خاطب بها غير مدخول بها فإن لم ينو الطلاق وقع
بها الثلاث. وان نوى الطلاق وقع ما نواه.
وأما الكنايات الباطنة وهو قوله: اعتدى واستبرئي رحمك وتقنعي
واذهبي وحبلك على غاربك وما أشبهها. فإن لم ينو بها العدد كانت طلقه رجعية
وان نوى بها أكثر وقع ما نواه كقولنا
123

وقال أبو حنيفة: الكنايات الظاهرة إذا نوى بها طلقة وقعت طلقة بائنة،
وان نوى بها طلقتين لم تقع الا واحدة. وان نوى بها ثلاثا وقعت الثلاث. وأما
الكنايات الباطنة فلا يقع بها الا طلقة واحدة رجعية، وان نوى بها أكثر منها
دليلنا حديث ركانة بن عبد يزيد أنه طلق امرأته البتة فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم: ما أردت بالبتة؟ قال: والله ما أردت الا واحدة فردها عليه. فدل على
أنه لو أراد ما زاد على واحدة لوقع، وعلى أنه لو وقع به الثلاث لما سأله عنه ولما
استحلفه ولا ردها عليه.
وان قال لها أنت طالق واحدة وأنت واحدة ونوى طلقتين أو ثلاث ففيه ثلاثة
أوجه (أحدها) يقع عليها ما نواه لأنه يحتل أنت طالق واحدة مع واحدة أو
مع اثنتين (والثاني) لا يقع عليها الا واحدة لأنه صريح فيها، فلو أوقعنا ما زاد
عليها لكان ايقاع طلاق بالنية من غير لفظ (والثالث) وهو اختيار القفال:
ان نوى ما زاد على واحدة عند قوله أنت وقع ما نواه. وان نوى ذلك بمجموع
الكلام لم تقع الا واحدة
(مسألة) قال الشافعي: إذا قال للمدخول بها أنت طالق واحدة بائنا وقعت
عليه طلقة رجعية. قال الصيمري: وهكذا إذا قال أنت طالق واحدة لا رجعة
لي بها، كان له الرجعة، لان الواحدة لا تبين بها المدخول بها، وله الرجعة بها
فلا يسقط ذلك بشرطه
(فرع) وان قال لامرأته: أنت طالق طلاقا، أو أنت طالق الطلاق. فإنه
لا يقع عليها الا طلقة، لان المصدر لا يزيد به الكلام، وإنما يدخل للتأكيد كقوله
ضربت زيدا ضربا، الا أن ينوى به ما زاد على واحدة فيقع ما نواه، كما لو
لم يأت المصدر.
(فرع) وان قال لامرأته أنت طالق فماتت، ثم قال ثلاثا متصلا بقوله ففيه
ثلاثة أوجه حكاها الطبري في العدة، وهو قول ابن سريج أنه يقع عليها الثلاث
لأنه قصده بقوله أنت طالق (والثاني) لا يقع عليها الا واحدة، لان الثلاث
لا تعلم الا بقوله، ولم يقل ذلك الا بعد موتها، والميتة لا يلحقها الطلاق.
(والثالث) أنه لا يقع عليها شئ لان الجملة كلها إنما تقع بجميع اللفظ ولا يتقدم
124

وقوع واحدة على الاثنتين. ألا ترى أنه لو قال العين المدخول بها: أنت طالق
ثلاثا لوقع الثلاث، وقع باللفظ أولا واحدة لبانت بها ولم يقع ما بعدها ولم
يتم الكلام إلا وهي ميتة، والميتة لا يلحقها الطلاق
وقال الطبري " والصحيح أنه لا يقع إلا واحدة، كما لو قال أنت طالق وجن
ثم قال ثلاثا.
(فرع) إذا قال لزوجته اختاري فقالت اخترت نفسي - فان نويا عددا من
الطلاق واتفقا في عدد ما نوياه وقع ما نوياه، وإن اختلفا فنوى أحدهما أكثر مما
نوى الاخر وقع العدد الأقل ويقع رجعيا
وقال أبو حنيفة لا يفتقر إلى نية الزوجة، فان نوى الزوج وقعت بائنة.
وان نوى ما زاد عليها لم يقع إلا واحدة بائنة
وقال مالك إذا نوى الطلاق وقع الثلاث إن كانت مدخولا بها، وإن لم تكن
مدخولا بها قبل منها أنها أرادت واحدة أو اثنتين.
وروى أن مروان بن الحكم أجلس زيد بن ثابت فسأله، وأجلس كاتبا يكتب
ما قال، فكان فيما سأله " إذا خير الرجل زوجته " فقال زيد " ان اختارت نفسها
فهي ثلاث، وان اختارت زوجها فهي واحدة رجعية
دليلنا أنه لم يقرن به لفظ الثلاث ولا بينها فلم يقع به الثلاث، ولا يقع بقطع
الرجعية، كقوله أنت طالق
وان ذكر الزوج لفظ الاختيار ثلاثا ونوى به واحدة كانت واحدة. وقال
أبو حنيفة " إذا قبلت وقع الثلاث "
دليلنا أنه يحتمل أنه يريد به التأكيد، فإذا قيد فيه قبل منه. كقوله أنت طالق
الطلاق. وان قال لها اختاري من الثلاث طلقات ما شئت فليس لها أن تختار
الثلاث ولها أن تختار ما دونها، وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال أبو يوسف
ومحمد لها ان تختار الثلاث.
دليلنا أن (من) للتبعيض، وقد جعل إليها بعض الثلاث فلا يكون
لها ايقاع الثلاث
125

(فرع) إذا قال لها: يا مائة طالق أو أنت مائة طالق وقع عليها ثلاث طلقات
وإن قال: أنت طالق كمائة أو أنت طالق كألف. قال ابن الصباغ: وقع عليها
الثلاث، وبه قال محمد بن الحسن وأحمد، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن لم
يكن له نية لم يقع عليها إلا واحدة، دليلنا: أنه تشبيه بالعدد خاصة فوقع العدد
كقوله: أنت طالق كعدد مائة أو ألف. اه‍
وفى هذا الفرع بحث من السنة يقتضينا المقام اثباته فقد أخرج الدارقطني
عن مجاهد عن ابن عباس " أنه سئل عن رجل طلق امرأته مائة قال: عصيت
ربك وفارقت امرأتك، لم تتق الله فيجعل لك مخرجا ".
وأخرج الدارقطني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أيضا " أنه سئل عن
رجل طلق امرأته عدد النجوم فقال: أخطأ السنة وحرمت عليه امرأته " وقد
أخرج عبد الرزاق عن عمر أنه رفع إليه رجل طلق امرأته ألفا فقال له عمر:
أطلقت امرأتك؟ قال لا، إنما كنت ألعب، فعلاه بالدرة وقال: إنما يكفيك
من ثلاث. وروى وكيع عن علي كرم الله وجهه وعثمان رضي الله عنه نحو ذلك
واخرج عبد الرزاق والبيهقي عن ابن مسعود " انه قيل له: ان رجلا طلق امرأته
البارحة مائة، قال: قلتها مرة واحدة؟ قال: نعم، قال: تريد ان تبين منك
امرأتك؟ قال: نعم، قال: هو كما قلت، واتاه آخر فقال: رجل طلق امرأته
عدد النجوم قال: قلتها مرة واحدة؟ قال نعم، قال: تريد ان تبين منك امرأتك
قال: نعم، قال هو كما قلت، والله لا تلبسون على أنفسكم ونتحمله ".
واخرج عبد الرزاق في مصنفه عن يحيى بن العلاء عن عبد الله بن الوليد
الوصافي عن إبراهيم بن عبد الله بن عبادة بن الصامت قال " طلق جدي امرأة له
ألف تطليقه فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال:
ما اتقى الله جدك اما ثلاث فله، واما تسعمائة وسبع وتسعون فعدوان وظلم إن شاء الله
عذبه وان شاء غفر له ".
وفى رواية " ان أباك لم يتق الله فيجعل له مخرجا، بانت منه بثلاث على غير
السنة، وتسعمائة وسبع وتسعون اثم في عنقه " وهذا الخبر اعترض عليه علماء
126

الحديث بأن يحيى بن العلاء ضعيف، وعبيد الله بن الوليد هالك، وإبراهيم بن
عبيد الله مجهول، فأي حجه في رواية ضعيف عن هالك عن مجهول ثم والد
عبادة بن الصامت لم يدرك الاسلام فكيف بجده؟ والله تعالى اعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن قال: أنت - وأشار بثلاث أصابع ونوى الطلاق الثلاث -
لم يقع شئ، لان قوله: أنت ليس من ألفاظ الطلاق، فلو أوقعنا الطلاق لكان
بالنية من غير لفظ، وإن قال: أنت طالق هكذا، وأشار بثلاث أصابع وقع
الثلاث، لان الإشارة بالأصابع مع قوله هكذا بمنزلة النية في بيان العدد، وان
قال: أردت بعد الإصبعين المقبوضتين قبل، لأنه يحتمل ما يدعيه، وان قال:
أنت طالق، وأشار بالأصابع ولم يقل هكذا، وقال أردت واحدة ولم أرد العدد
قبل، لأنه يحتمل ما يدعيه.
(فصل) وان قال أنت طالق واحدة في اثنتين نظرت - فإن نوى طلقة
واحدة مع اثنتين - وقعت ثلاث لان " في " تستعمل بمعنى " مع " والدليل عليه
قوله عز وجل " فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " والمراد مع عبادي فإن لم يكن
له نية نظرت - فإن لم يعرف الحساب ولا نوى مقتضاه في الحساب - طلقت
طلقة واحدة بقوله أنت طالق، ولا يقع بقوله في اثنتين شئ، لأنه لا يعرف
مقتضاه فلم يلزمه حكمه، كالأعجمي إذا طلق بالعربية وهو لا يعرف معناه، وان
نوى مقتضاه في الحساب ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبى بكر الصيرفي انه يقع طلقتان، لأنه أراد موجبه
في الحساب، وموجبه في الحساب طلقتان.
(والثاني) وهو المذهب انه لا يقع الا طلقة واحدة لأنه إذا لم يعلم مقتضاه
لم يلزمه حكمه، كالأعجمي إذا طلق بالعربية وهو لا يعلم، وقال أردت مقتضاه
في العربية، فإن كان عالما بالحساب نظرت - فإن نوى موجبه في الحساب -
طلقت طلقتين لان موجبه في الحساب طلقتان. وان قال أردت واحدة في اثنتين
باقيتين طلقت واحدة، لأنه يحتمل ما يدعيه كقوله: له عندي ثوب في منديل،
127

وأراد في منديل لي، وان لم يكن له نية فالمنصوص انه تطلق طلقة، لان هذا
اللفظ غير متعارف عند الناس، ويحتمل طلقة في طلقتين واقعتين، ويحتمل
طلقة في طلقتين باقيتين، فلا يجوز أن يوقع بالشك
وقال أبو إسحاق يحتمل أن تطلق طلقتين لأنه عالم بالحساب ويعلم أن الواحدة
في اثنتين طلقتان في الحساب
(فصل) وان قال أنت طالق طلقة بل طلقتان، ففيه وجهان
(أحدهما) يقع طلقتان، كما إذا قال له على درهم بل درهمان، لزمه درهمان
(والثاني) يقع الثلاث، والفرق بينه وبين الاقرار أن الاقرار اخبار يحتمل
التكرار، فجاز أن يدخل الدرهم في الخبرين، والطلاق ايقاع فلا يجوز أن يوقع
الطلاق الواحد مرتين، فحمل على طلاق مستأنف، ولهذا لو أقر بدرهم في يوم
ثم أقر بدرهم في يوم آخر لم يلزمه الا درهم، ولو طلقها في يوم ثم طلقها في يوم
آخر كانتا طلقتين.
(فصل) وان قال لغير المدخول بها أنت طالق ثلاثا وقع الثلاث، لان
الجميع صادف الزوجية فوقع الجميع، كما لو قال ذلك للمدخول بها. وان قال لها
أنت طالق أنت طالق أنت طالق ولم يكن له نية وقعت الأولى دون الثانية والثالثة
وحكى عن الشافعي رحمه الله في القديم أنه قال يقع الثلاث، فمن أصحابنا من جعل
ذلك قولا واحدا، وهو قول أبى علي بن أبي هريرة، لان الكلام إذا لم ينقطع
ارتبط بعضه ببعض فصار كما لو قال أنت طالق ثلاثا.
وقال أكثر أصحابنا: لا يقع أكثر من طلقة، وما حكى عن القديم إنما هو
حكاية عن مالك رحمه الله ليس بمذهب له، لأنه تقدمت الأولى فبانت بها
فلم يقع ما بعدها.
(الشرح) وإن قال لامرأته أنت، وأشار بثلاث أصابع ونوى الطلاق لم يقع
الطلاق، لان قوله أنت ليس بإيقاع، وإن قال لها أنت طالق هكذا، وأشار
بأصبع وقعت عليها طلقة، وان أشار بأصبعين وقع عليها طلقتان، وان أشار
بثلاث أصابع وقع عليها ثلاث طلقات، لأنه شبه الطلاق بأصابعه، وهي عدد،
128

وإن قال أردت بعدد الإصبعين المقبوضتين فقد ذكر الشيخ أبو إسحاق هنا
في المهذب والمحاملي في المجموع (1) وابن الصباغ في الشامل أنه يقبل في الحكم لأنه
يحتمل الإشارة بهما.
وذكر الشيخ أبو حامد الأسفراييني في التعليق: انه لا يقبل قوله في الحكم،
لأن الظاهر خلاف ما يدعيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى.
وإن قال أنت طالق، وأشار بأصبعه ولم يقل هكذا، ثم قال أردت واحدة
أو لم أرد بعدد الأصابع قبل منه في الحكم، لأنه قد يشير بالأصابع ولا يريد العدد
(مسألة) قوله: وإن قال أنت طالق واحد في اثنتين الخ نعم إذا قال لها
أنت طالق واحدة في اثنتين - فإن كان غير عالم بالحساب - أعني لا يحفظ جدول
الضرب - قلنا له ما أردت، فان قال أردت واحدة مقرونة مع اثنتين وقع عليها
الثلاث لأنه قد يعبر عن (مع) ب‍ (في) قال تعالى " فادخلي في عبادي " أي مع
عبادي وإن قال لم أنو شيئا وقع عليها طلقة واحدة بقوله أنت طالق واحدة،
ولا يلزمه حكم الحساب لأنه لا يعرفه ولا نواه، فهو كما لو تكلم العجمي بقوله:
أنت طالق ولا يعرف معناه
وإن قال نويت موجبه في الحساب ففيه وجهان. قال أبو بكر الصيرفي يلزمه
طلقتان لان هذا موجبه عندهم. وقال أكثر أصحابنا لا يلزمه إلا طلقة واحدة،
لأنه لا يعرف معناه فلا يلزمه بنية موجبه، كما لو تكلم العجمي بكلمة الكفر
بالعربية وهو لا يعرف معناها ونوى موجبها في لسان العرب
وأما إذا كان ممن يعرف الحساب - فان نوى واحدة مقرونة مع اثنتين وقع
عليها الثلاث. وان نوى موجبا في الحساب لزمه طلقتان، لان هذا موجبه في
الحساب، وان لم ينو شيئا فالمنصوص انه لا يلزمه الا طلقة لأنه غير متعارف
عند الناس.
وقال أبو إسحاق الأسفراييني: يلزمه طلقتان لأنه يعرف الحساب ويعلم أن

(1) المجموع للمحاملي وهو غير مجموعنا هذا، وللمحاملي غير المجموع الأوسط
والمقنع واللباب والتجريد
129

هذا موجبه فيلزمه وان لم ينوه. وقال أبو حنيفة لا يلزمه الا طلقة سواء نوى
موجبه في الحساب أو لم ينو.
دليلنا أن هذا موضوع في الحساب لا يتبين، فإذا نواه وهو ممن يعرفه لزمه
كما لو قال أنت طالق اثنتين. وان قال أنت طالق اثنتين في اثنتين - وليس هو
من أهل الحساب - فان نوى اثنتين مع اثنتين لزمه ثلاث، وان لم ينو ذلك ولا
غيره لزمه اثنتان، وان نوى موجبه عند أهل الحساب لزمه على قول الصيرفي
ثلاث، وعلى قول سائر أصحابنا يلزمه طلقتان، وإن كان من أهل الحساب وأراد
موجبه في الحساب ونوى مع اثنتين لزمه ثلاث، وان لم ينو شيئا فعلى المنصوص
لا يلزمه الا طلقتان، وعلى قول أبي إسحاق يلزمه ثلاث، وعلى قول أبي حنيفة
يلزمه طلقتان بكل حال، وقد مضى دليل ذلك.
(فرع) إذا قال أنت طالق طلقة بل طلقتين ففيه وجهان (أحدهما) يقع
عليها طلقتان، كما إذا قال له على درهم بل درهمان (والثاني) يلزمه الثلاث لان
الطلاق ايقاع فحملت كل لفظة على ايقاع، والاقرار اخبار فجاز ان يدخل الدرهم
في الخبر مرتين.
وان قال أنت طالق ثلاثا وقع عليها الثلاث، وبه قال جميع الفقهاء الا رواية
عطاء فإنه قال يقع عليها طلقة. دليلنا ان قوله أنت طالق اسم لجنس من الفعل
يصح للواحدة ولما زاد عليها. وقوله ثلاث مفسر له فكان وقوع الثلاث عليها
دفعة واحدة،
وان قال لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق، أو قال أنت طالق
وطالق وطالق ولم ينو بالأولة الثلاث وقع عليها بقوله الأول أنت طالق وبانت
بها ولا يلحقها ما بعدها، وبه قال الثوري وأبو حنيفة
وقال مالك والليث بن سعد والأوزاعي يقع عليها الثلاث فقال أبو علي بن
أبي هريرة للشافعي في القديم ما يدل على ذلك، فجعلها على قولين. وقال أبو علي
الطبري فيها وجهان (أحدهما) يقع عليها الثلاث، لأنه ربط الكلام بعضه
ببعض فحل محل الكلمة الواحدة (والثاني) انه يقع عليها طلقه واحدة تبين بها
ولا يقع ما بعدها، لأنه قد فرق فوقع بالأولة طلقه فبانت بها ولم يقع ما بعدها
وقال أكثر أصحابنا هي على قول واحد ولا يقع عليها الا طلقه واحدة. وما ذكره
130

في القديم فإنما حكى مذهب مالك. ووجهه ما روى عن عمر وعلى وابن مسعود
وزيد بن ثابت أنهم قالوا يقع عليها طلقة واحدة ولا يقع ما بعدها، ولا مخالف
لهم، وقد استدل القائلون بأنه لا يقع من المتعدد إلا واحدة بما وقع في حديث
ابن عباس عن ركانة " أنه طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد فحزن عليها حزنا
شديدا، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها؟ فقال ثلاثا في مجلس واحد
فقال له صلى الله عليه وسلم: إنما تلك واحدة فارتجعها " أخرجه أحمد وأبو يعلى
وصححه. وقد أجيب عن ذلك بأجوبة، منها أن في إسناده محمد بن إسحاق. ورد
بأنهم قد احتجوا في غير واحد من الأحكام بمثل هذا الاسناد. ومنها معارضته
لفتوى ابن عباس، ورد بأن المعتبر روايته لا رأيه. ومنها أن أبا داود رجع أن
ركانة إنما طلق امرأته البتة ويمكن أن يكون من روى ثلاثا حمل البتة على معنى
الثلاث، وفيه مخالفة للظاهر
واستدلوا بحديث ابن عباس " أن الطلاق كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلى آخر الحديث الذي سبق إيراده. وقد اختلف الناس في تأويله فذهب بعض
التابعين إلى ظاهره في حق من لم يدخل بها كما دلت عليه رواية أبى داود، وتأوله
بعضهم على صورة تكرير لفظ الطلاق، بأن يقول: أنت طالق أنت طالق أنت
طالق، فإنه يلزمه واحدة إذا قصدت التوكيد، وثلاث إذا قصد تكرير الايقاع
فكان الناس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر على صدقهم وسلامتهم
وقصدهم في الغالب الفضيلة والاختيار ولم يظهر فيهم خب ولا خداع فكانوا
يصدقون في إرادة التوكيد.
والقائلون بالفرق بين المدخولة وغيرها أعظم حجة لهم حديث ابن عباس
الذي لفظه عند أبي داود " أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن
يدخل بها جعلوها واحدة " الحديث. ووجهوا ذلك بأن غير المدخول بها تبين
إذا قال لها زوجها أنت طالق، فإذا قال ثلاثا لغا العدد لوقوعه بعد البينونة.
ويجاب بأن التقييد بقبل الدخول لا ينافي صدق الرواية الأخرى الصحيحة على
المطلقة بعد الدخول، وغاية ما في هذه الرواية أنه وقع فيها التنصيص على بعض
أفراد مدلول الرواية الصحيحة المذكورة في الباب، وذلك لا يوجب الاختصاص
131

بالبعض الذي وقع التنصيص عليه، وأجاب القرطبي عن ذلك التوجيه بأن قوله
أنت طالق ثلاثا كلام متصل غير منفصل فكيف يصح جعله كلمتين، وتعطى كل
كلمة حكما. هذا حاصل ما في هذه المسألة، وهكذا أفاده الشوكاني في شرح المنتقى.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال للمدخول بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق، نظرت
فإن كان أراد به التأكيد لم يقع أكثر من طلقة، لان التكرار يحتمل التأكيد،
وإن أراد الاستئناف وقع بكل لفظة طلقه لأنه يحتمل الاستئناف، وان أراد
بالثاني التأكيد وبالثالث الاستئناف وقع طلقتان، وإن لم يكن له نية ففيه قولان
قال في الاملاء: يقع طلقه، لأنه يحتمل التكرار والاستئناف، فلا يقع ما زاد
على طلقة بالشك.
وقال في الام يقع الثلاث لان اللفظ الثاني والثالث كاللفظ كالأول، فإذا وقع
بالأول طلاق وجب أن يقع بالثاني والثالث مثله، وأما إذا غاير بينها في الحروف
بأن قال أنت طالق وطالق ثم طالق ولم يكن له نية وقع بكل لفظه طلقه، لان
المغايرة بينها باللفظ تسقط حكم التأكيد، فان ادعى أنه أراد التأكيد لم يقبل في
الحكم لأنه يخالف الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه
وان قال أنت طالق وطالق وطالق وقع بالأول طلقه وبالثاني طلقه لتغاير اللفظين
ويرجع في الثالث إليه، لأنه لم يغاير بينه وبين الثاني. فهو كقوله أنت طالق أنت
طالق. وان غاير بين الألفاظ ولم يغاير بالحروف بأن قال: أنت طالق أنت
مسرحه أنت مفارقه ففيه وجهان:
(أحدهما) أن حكمه حكم المغايرة في الحروف، لأنه إذا تغير الحكم بالمغايرة
بالحروف فلان يتغير بالمغايرة في لفظ الطلاق أولى
(والثاني) أن حكمه حكم اللفظ الواحد لان الحروف هي العاملة في اللفظ،
وبها يعرف الاستئناف، ولم توجد المغايرة في الحروف
(فصل) وان قال أنت طالق بعض طلقه وقعت طلقه، لان ما لا يتبعض
من الطلاق كان تسمية بعضه كتسمية جميعه، كما لو قال بعضك طالق، وان قال
132

أنت طالق نصفي طلقة وقعت طلقة، لان نصفي طلقة هي طلقة، وإن قال أنت
طالق ثلاثة أنصاف طلقة ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يقع طلقتان، لان ثلاثة أنصاف طلقة طلقة ونصف فكمل
النصف فصار طلقتين.
(والثاني) تطلق طلقة لأنه أضاف الانصاف الثلاثة إلى طلقة وليس للطلقة
إلا نصفان فألغى النصف الثالث. وإن قال أنت طالق نصفي طلقتين وقعت طلقتان
لأنه يقع من كل طلقة نصفها ثم يسرى فيصير طلقتين. وإن قال أنت طالق نصف
طلقتين ففيه وجهان
(أحدهما) تقع طلقة واحدة، لان نصف الطلقتين طلقة (والثاني) أنه تقع
طلقتان لأنه يقتضى النصف من كل واحدة منهما ثم يكمل النصف فيصير الجميع
طلقتين. وان قال أنت طالق نصف طلقة ثلث طلقة سدس طلقة طلقت واحدة
لأنها أجزاء الطلقة. وإن قال أنت طالق نصف طلقة وثلث طلقة وسدس طلقة
وقع ثلاث طلقات، لان بدخول حروف العطف وقع بكل جزء طلقة وسرى
إلى الباقي. وإن قال أنت نصف طالق طلقت، كما لو قال نصفك طالق. وان قال
أنت نصف طلقة ففيه وجهان (أحدهما) أنه كناية فلا يقع به طلاق من غير نيه
(والثاني) أنه صريح فتقع به طلقة بناء على الوجهين فيمن قال لامرأته:
أنت الطلاق.
(الشرح) الأحكام: إذا قال للمدخول بها أنت طالق أنت طالق أنت طالق
فإن نوى بالأولة الثلاث لم يسأل عما بعدها، وان لم ينو الثلاث وقع عليها بها
طلقة. وسئل عن الكلمتين بعدها، فإن قال أردت بهما تأكيد الأولة قبل منه
ولم يلزمه الا طلقة لان التأكيد يقع بالتكرار، وان قال أردت بهما الاستئناف
لزمه ثلاث طلقات، وان قال أردت بالثانية الاستئناف وبالثالثة تأكيد الثانية
لزمه طلقتان. وان قال أردت بالثانية الاستئناف وبالثالثة التأكيد للأولة ففيه
وجهان (أحدهما) يقبل كما لو قال: أردت بهما تأكيد الأولة (والثاني) لا يقبل
لأنه قد يخلل بين الأولة والثالثة الثانية
133

وإن قال لم أنو شيئا ففيه قولان: قال في الاملاء: لا يلزمه الا طلقة لأنه
لما لم يدخل واو العطف كان الظاهر أنه أراد التأكيد كما لو قال له: على درهم درهم
درهم فلا يلزمه الا درهم، ولأنه يحتمل أنه أراد التأكيد والاستئناف فلا يلزمه
الطلاق بالشك.
وقال في الام: يلزمه ثلاث طلقات - وهو الأصح - لان الثاني والثالث
كالأول في الصيغة فكان مثله في الايقاع.
وان قال أنت طالق ثم سكت طويلا وقال أنت طالق، ثم قال أردت بالثاني
تأكيد الأول لم يقبل، لأن الظاهر أنه أراد الايقاع وان قال أنت طالق
وطالق وطالق ولم ينو بالأولة ما زاد على واحدة وقع بالأولة طلقة وبالثانية طلقه
لان الثاني عطف لا يحتمل التأكيد ورجع في الثالثة إليه، فإن قال أردت تأكيد
الثانية قبل منه، وان قال، أردت به الاستئناف لزمه ثلاث طلقات، وان قال:
أردت به تأكيد الأولة لم يقبل منه وجها واحد، كما لا يقبل إذا قال أردت
بالثانية تأكيد الأولة
وان قال لم أنو شيئا ففيه قولان كالأولة، والصحيح أنه يقع بها طلقة ثالثة،
وهكذا الحكم فيه إذا قال: أنت طالق ثم طالق ثم طالق، أو قال أنت طالق فطالق
فطالق، أو طالق بل طالق بل طالق، وان قال طالق وطالق ثم طالق، أو طالق
فطالق بل طالق لزمه بكل لفظة طلقة، فإن قال أردت التأكيد لم يقبل منه في
الحكم، لان المغايرة بينهما بحروف العطف يقتضى الاستئناف، ويدين فيما بينه
وبين الله تعالى.
وان قال أنت مطلقة أنت مفارقة وأنت مسرحة ففيه وجهان (أحدهما) حكمه
حكم ما لو قال: أنت طالق طالق طالق، لأنه لم يأت بحرف عطف، والفراق
والسراح كالطلاق (والثاني) حكمه حكم ما لو قال: أنت طالق وطالق ثم طالق،
لان الحكم إذا تغير لمغايرة حروف العطف فلان يتغير لمغايرة اللفظ أولى
(فرع) قال الشافعي في الاملاء: إذا قال لامرأته أنت طالق وطالق لا بل
طالق، ثم قال: شككت في الثانية فقلت لا بل طالق استدراكا لايقاعها قبل منه
لان " بل " للاستدراك فاحتمل ما قاله
134

وإن قال أنت طالق يا مطلقة بالأولة طلقة، وان لم ينو بها ما زاد عليها أو
سأل عن قوله يا مطلقة - فإن قال أردت به الايقاع لزمه ما نوى. وان قال:
أردت به يا مطلقة بالأولة قبل منه في الحكم. وان قال: أنت طالق البتة ولم ينو
ما زاد على واحدة وقع عليها طلقة، كقوله أنت طالق وسئل عن البتة فإن قال:
أردت به ايقاع طلاع آخر لزمه. وان قال: لم أرد به شيئا قبل منه في الحكم
لحديث ركانة بن عبد يزيد
(مسألة) قوله: وان قال أنت طالق بعض طلقة وقعت طلقة الخ. وهذا
صحيح وبه قال جميع الفقهاء الا داود فإنه قال لا يقع عليها شئ. دليلنا قوله تعالى
" فإن طلقها فلا تحل له من بعد " الآية. ولم يفرق بين أن يطلقها طلقة أو بعض
طلقة. ولان التحليل والتحريم إذا اجتمعا غلب التحريم، كما لو تزوج نصف
امرأة أو أعتق نصف أمة، ولأنه لو طلق بعض امرأته لكان كما لو طلق جميعها
كذلك إذا طلق بعض طلقة كان كما لو طلقها طلقة
وان قال أنت طالق نصفي طلقة وقعت عليها طلقة، ولان نصفي الطلقة طلقة
وان قال ثلاثة أنصاف طلقة ففيه وجهان (أحدهما) لا يقع عليها الا طلقة،
لأنه لم يوقع عليها الا طلقة، وإنما وصفها بأن لها ثلاثة أنصاف وليس لها الا
نصفان (والثاني) يقع عليها طلقتان، لان ثلاثة أنصاف طلقة ونصف فيسرى
النصف، فعلى قول الأول يتعلق الحكم بقوله طلقة ويلغى قوله ثلاثة أنصاف
طلقة. وعلى قول الثاني يلغى قوله طلقة ويتعلق الحكم بقوله ثلاثة أنصاف طلقة
قال صاحب الفروع ويحصل وقوع الثلاث، ووجهه أنه إذا ألغى قوله طلقة
وتعلق الحكم بثلاثة أنصاف سرى كل نصف فوقع عليها ثلاث
وان قال: أنت طالق نصفي طلقتين وقع عليها طلقتان، لان نصفي طلقتين
طلقتان. وان قال ثلاثة أنصاف طلقتين فعلى وجهين (أحدهما) يقع عليها طلقتان
(والثاني) يقع عليها ثلاث
وان قال أنت طالق نصف طلقتين ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه طلقه لأنها
نصف طلقتين (والثاني) يلزمه طلقتان لأنه يلزمه نصف من كل طلقه،
ثم يكمل النصفان.
135

(فرع) وان قال: أنت طالق نصف طلقه ثلث طلقه سدس طلقه لم يقع عليها
الا طلقه أجزاء الطلقة، وان قال أنت طالق نصف طلقه وثلث طلقه وسدس
طلقه وقعت ثلاثا لأنه عطف جزءا من طلقه على جزء من طلقه فظاهره يقتضى
طلقات متغايرة.
قال ابن الصباغ في الشامل: وان قال أنت طالق نصف وثلث وسدس طلقه
طلقت طلقه، لأن هذه أجزاء طلقه. وان قال أنت نصف وثلث وسدس
طلقت طلقه ويرجع إليه في النصف والثلث والسدس، فإن نوى نصفا من طلقه
وثلثا من طلقه وسدسا من طلقه وقع عليها الثلاث، وان لم ينو شيئا فلا شئ
عليه وان قال أنت نصف طلقه ففيه وجهان كما لو قال أنت طالق (أحدهما) انه
صريح فيقع عليها طلقه (والثاني) أنه كناية فلا يقع عليها شئ الا بالنية.
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان له أربع نسوة فقال: أوقعت عليكن أو بينكن طلقه
طلقت كل واحدة منهن طلقه، لأنه يخص كل واحدة منهن ربع طلقه وتكمل
بالسراية. وان قال أوقعت عليكن أو بينكن طلقتين أو ثلاثا أو أربعا وقع على
كل واحدة طلقه، لأنه إذا قسم بينهن لم يزد نصيب كل واحدة منهن على طلقه،
وان قال أردت أن يقع على كل واحدة من الطلقتين وقع على كل واحدة طلقتان
وان قال أردت أن يقع على كل واحدة من الثلاث الطلقات، وقع على كل واحدة
ثلاث طلقات، لأنه مقر على نفسه بما فيه تغليظ، واللفظ محتمل له. وان قال
أوقعت عليكن خمسا وقع على كل واحدة طلقتان. لأنه يصيب كل واحدة طلقه
وربع، وكذلك ان قال أوقعت عليكن سنا أو سبعا أو ثمانيا. وان قال أوقعت
عليكن تسعا طلقت كل واحدة ثلاثا. وان قال أوقعت بينكن نصف طلقه
وثلث طلقه وسدس طلقه، طلقت كل واحدة ثلاثا، لأنه لما عطف وجب أن
يقسم كل جزء من ذلك بينهن، ثم يكمل
(فصل) وان قال أنت طالق ملء الدنيا، أو أنت طالق أطول الطلاق،
136

أو أعرضه. وقعت طلقه لان شيئا من ذلك لا يقتضى العدد، وقد تتصف الطلقة
الواحدة بذلك كله.
(فصل) وإن قال أنت طالق أشد الطلاق وأغلظه وقعت طلقه لأنه قد
تكون الطلقة أشد وأغلظ عليه لنعجلها أو لحبه لها أو لحبها له، فلم يقع ما زاد
بالشك. وان قال أنت طالق كل الطلاق أو أكثره وقع الثلاث لأنه كل الطلاق
وأكثره.
(فصل) وإن قال للمدخول بها أنت طالق طلقه بعدها طلقه طلقت طلقتين
لان الجميع يصادف الزوجية، وإن قال أردت بعدها طلقة أوقعها لم يقبل في
الحكم لأن الظاهر أنه طلاق ناجز ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل
ما يدعيه. وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة وقعت طلقتان، وفى كيفية وقوع
ما قبلها وجهان: قال أبو علي بن أبي هريرة: يقع مع التي أوقعها لان إيقاعها فيما
قبلها أيقاع طلاق في زمان ماض فلم يعتبر كما لو قال أنت طالق أمس.
وقال أبو إسحاق يقع قبلها اعتبارا بموجب لفظه، كما لو قال أنت طالق قبل
موتى بشهر ثم مات بعد شهر، ويخالف قوله أنت طالق أمس لأنا لو أوقعناه في
أمس تقدم الوقوع على الايقاع وههنا يقع الطلاقان بعد الايقاع. وان قال أردت
بقولي قبلها طلقة في نكاح قبله، فإن كان لما قاله أصل قبل منه لأنه يحتمل ما يدعيه
وإن لم يكن له أصل لم يقبل منه لأنه يحتمل ما يدعيه
(فصل) وإن قال لها: أنت طالق طلقه قبلها طلقه وبعدها طلقه طلقت
ثلاثا على ما ذكرناه. وإن قال لها: أنت طالق طلقه وبعدها طلقه طلقت ثلاثا
لأنه يقع بقوله أنت طالق طلقه ويقع قبلها نصف طلقه وبعدها نصف طلقه ثم
يكمل النصفان فيصير الجميع ثلاثا.
(الشرح) الأحكام: إن قال لأربع نسوة له: أوقعت بينكن طلقه،
طلقت كل واحد منهن طلقة، لأنه يخص كل واحدة ربع طلقه ويكمل بالسراية
وإن قال لهن أوقعت بينكن طلقتين وقع على كل واحدة طلقه. لان ما يخص
كل واحدة لا يزيد على طلقه إلا أن يقول: أردت ان تقسم كل طلقه منهما عليهن
137

فيقع على كل واحدة طلقتان وإن قال أوقعت بينكن ثلاث طلقات أو أربع طلقات
وقع على كل واحدة طلقة إلا أن يريد قسمة كل طلقه منهن فيقع على كل واحدة
منهن ثلاث هذا هو المشهور الذي أفاده العمراني في البيان وابن الصباغ في
الشامل والماردي في الحاوي وابن القاص في التلخيص.
وقال صاحب الفروع: ويحتمل أن يقع على كل واحدة ثلاث، لان بعض
كل طلقه يكمل في حق كل واحدة منهن
وإن قال أوقعت بينكن خمس طلقات ولم يرد قسمة كل واحدة منهن وقع
على كل واحدة طلقتان، لأنه يخص كل واحدة طلقه وربع، فيكمل الربع.
وكذلك إذا قال أوقعت بينكن ستا أو سبعا أو ثمانيا. وإن قال: أوقعت بينكن
بتسع طلقات طلقت كل واحدة منهن ثلاثا، لأنه يخص كل واحدة طلقتان وربع
ويكمل الربع.
وإن قال أوقعت بينكن نصف طلقه وسدس طلقه وقع على كل واحدة ثلاث
طلقات. لأنه لما عطف قسم كل جزء بينهن وكمل
(مسألة) قوله: وإن قال أنت طالق ملء الدنيا إلخ فهو كما قال، فإنه إذا قال
أنت طالق ملء الدنيا أو ملء مكة والمدينة وقعت عليها طلقه، لان الطلاق
حكم والأحكام لا تشغل الأمكنة، فعلم أنه أراد الدنيا أو مكة ذكرا وانتشارا
وشوعا وتكون رجعية. وقال أبو حنيفة يقع بائنة
دليلنا أنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد فكان
رجعيا كقوله أنت طالق وإن قال: أنت طالق أشد الطلاق أو أكثر الطلاق
بالثاء المعجمة بثلاث نقط وقعت عليها ثلاث طلقات، لان ذلك كل الطلاق
وأكثره. وان قال أنت طالق أكمل الطلاق أو أتم الطلاق أو أكبر الطلاق
بالباء المعجمة الموحدة التحتية وقعت عليها طلقه سنيه، لان أكمل الطلاق
وأتمه طلاق السنة.
وقال صاحب الفروع: ويحتمل أن يقع عليها ثلاث طلقات في قوله: أكمل
الطلاق وأتمه، لأنه هو الأكمل والأتم، والمشهور هو الأول وتكون رجعية
138

وقال أبو حنيفة: تقع في قوله أكثر الطلاق واحدة بائنة، دليلنا عليه ما ذكرناه
في قوله: ملء مكة
(مسألة) قوله: وإن قال للمدخول بها أنت طالق طلقة بعدها طلقه الخ.
وهذا كما قال. وكذلك إذا قال للمدخول بها أنت طالق طلقه معها طلقه وقع عليها
طلقتان في الحال. وان قال أنت طالق طلقه بعدها طلقه وقع عليها
طلقتان لان الجميع صادف الزوجية. وإن قال أردت بقولي بعدها طلقه أوقعها
فيما بعد لم يقبل في الحكم لأنه يريد تأخير طلاق واقع في الظاهر. ويدين فيما
بينه وبين الله تعالى لاحتمال ما يدعيه
وإن قال أنت طالق طلقه قبلها طلقه. قال الشافعي وقع عليها طلقتان.
واختلف أصحابنا في كيفية وقوعها، فحكى الشيخ أبو إسحاق هنا في المهذب
والمحاملي أن أبا إسحاق المروزي قال. يقع عليها طلقتان (إحداهما) بقوله أنت
طالق والأخرى قبلها بالمباشرة، لان الانسان يملك أن يعلق بالصفة طلاقا فيقع
قبل الصفة. كقوله أنت طالق قبل موتى بشهر ثم يموت بعد شهر.
وحكى الشيخ أبو حامد في التعليق أن أبا إسحاق قال يقع عليها طلقه بالمباشرة
بقوله أنت طالق، وطلقه بالاخبار أنه طلقها. وقال أبو علي بن أبي هريرة:
يقع عليها طلقتان معا، لأنه لا يتقدم الوقوع على الايقاع. هكذا حكى الشيخ
أبو إسحاق الشيرازي عنه وسائر أصحابنا حكوا عنه أنه قال: يقع عليها طلقه بقوله
أنت طالق طلقه بعدها. وقوله قبلها طلقه فعلى ما حكاه الشيخ أبو حامد عن
أبي إسحاق المروزي يحكم عليه بوقوع الطلقة التي باشرها ظاهرا وباطنا
وان قال: أردت بقولي قبلها طلقه في نكاح كنت نكحتها قبل هذا النكاح
وطلقتها فيه، فإن كان لما قاله أصل قبل منه، وان لم يكن له أصل لم يقبل منه
ويدين فيما بينه وبين الله تعالى
وان قال أنت طالق طلقه قبلها وبعدها طلقه وقع عليها ثلاث طلقات، لان
كل واحدة من النصفين يسرى، وحكى المحاملي من أصحابنا من قال: لا يقع عليها
الا طلقتان. وليس بشئ
139

قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن قال لغير المدخول بها أنت طالق طلقة بعدها طلقة لم تقع
الثانية لأنها بائن بالأولى فلم تقع الثانية. وإن قال أنت طالق طلقة قبلها طلقة
ففيه وجهان (أحدهما) لا تطلق لان وقوع طلقه قبلها ووقوع طلقه عليها
يوجب وقوع ما قبلها يمنع وقوعها فتمانعا بالدور وسقطا (والثاني) وهو قول
أبى علي بن أبي هريرة أنها تطلق طلقه ليس قبلها شئ، لان وقوع ما قبلها
يوجب إسقاطها وإسقاط ما قبلها فوجب إثباتها وإسقاط ما قبلها. وان قال أنت
طالق طلقه معها طلقه، ففيه وجهان
(أحدهما) انها تطلق واحدة، وهو قول المزني لأنه أفردها فجاز، كما لو قال
أنت طالق واحدة بعدها واحدة.
والوجه الثاني: أنها تطلق طلقتين لأنهما يجتمعان في الوقوع فلا تتقدم
إحداهما على الأخرى، فهو كما لو قال: أنت طالق طلقتين. وان قال أنت طالق
طلقتين ونصفا طلقت طلقتين، لأنه جمع بين الطلقتين في الايقاع فبانت بهما ثم
أوقع النصف بعدما بانت فلم يقع
(فصل) إذا قال لامرأته أنت طالق طلقه لا تقع عليك طلقت لأنه أوقع
الطلاق ثم أراد رفعه، والطلاق إذا وقع لم يرتفع. وان قال أنت طالق أولا لم
تطلق لأنه ليس بإيقاع
(الشرح) الأحكام: إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق طلقة بعدها طلقه
وقعت الأولة وبانت بها ولم تقع الثانية. وان قال: أنت طالق طلقة قبلها طلقة
ففيه وجهان حكاهما الشيخ أبو إسحاق (أحدهما) لا يقع عليها الطلاق لان وقوع
طلقة قبلها يقع وقوعها. وما أدى ثبوته لسقوطه سقط (والثاني) وهو قول
أبى علي بن أبي هريرة أنه يقع عليها طلقه ليس قبلها شئ، لان وقوع ما قبلها
يوجب اسقاطها، ووقوعها يوجب اسقاط ما قبلها فوجب اثباتها واسقاط ما قبلها
وسببه أن يكون الأول إنما هو على ما حكاه المصنف عن أبي إسحاق المروزي في
المدخول بها.
140

فأما على ما حكاه في التعليق عنه أنه إخبار، فإنه يقع عليها الطلقة التي أخبر
بوقوعها أولا لا غير.
وان قال لغير المدخول بها أنت طالق طلقة معها طلقه ففيه وجهان:
(أحدهما) يقع عليها طلقة لا غير، لأنه أفردها فبانت بها ولم يقع ما بعدها
كما لو قال طلقة بعدها طلقة
(والثاني) يقع عليها طلقتان لأنهما يجتمعان في الوقوع، وإن قال لها أنت
طالق طلقتين ونصفا وقع عليها طلقتان لا غير، لأنه جمع بينهما فوقعتا وبانت
بهما فلم يقع ما بعدهما.
(مسألة) قوله: وإذا قال لامرأته أنت طالق طلقه لا تقع عليك طلقت الخ
فهذا صحيح إذا قال لامرأته أنت طالق طلقه لا تقع عليك وقع عليها طلقه لأنه
رفع لجميع ما أوقعه وذلك لا يصح. وإن قال لها أنت طالق طلقه لا طلقتين عليك
إحداهما، وقعت عليها واحدة لان ذلك استثناء. وان قال لها أنت طالق طلقه لا
قال أبو العباس بن سريج وقعت عليها طلقه، لان ذلك رفع لها فلم ترتفع. وان
قال لها أنت طالق طلقتين لا طلقه، فعلى قياس الأولة لا يقع عليها إلا طلقه،
وان قال لها أنت طالق أو لا لم يقع عليها طلاق، لان ذلك استفهام لا طلاق.
وان قال لها أنت طالق واحدة أو لا شئ - قال ابن الصباغ فالذي يقتضيه قياس
قوله أن لا يقع شئ. وبذلك قال أبو حنيفة وأبو يوسف واحمد. وقال محمد:
تقع واحدة، والأول أصح، لان الواحدة صفة للفظة الموقعة فما اتصل بها
يرجع إليها، فصار كقوله أنت طالق أو لا شئ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويصح الاستثناء في الطلاق لأنه لغة العرب، ونزل به القرآن
وحروفه: الا. وغير. وسوى. وخلا. وعدا، وحاشا. فإذا قال أنت طالق
ثلاثا الا طلقه، وقعت طلقتان. وان قال أنت طالق ثلاثا الا طلقتين وقعت
طلقه، وان قال أنت طالق ثلاثا الا ثلاثا طلقت ثلاثا، لان الاستثناء يرفع
المستثنى منه فيسقط وبقى الثلاث
141

وان قال أنت طالق ثلاثا الا طلقتين وطلقة ففيه وجهان أحدهما يقع الثلاث
لأنه استثنى ثلاثا من ثلاث (والثاني) تقع طلقه لان الاستثناء الثاني هو الباطل
فسقط وبقى الاستثناء الأول.
وان قال أنت طالق ثلاثا الا نصف طلقه، طلقت ثلاثا لأنه يبقى طلقتان
ونصف ثم يسرى النصف إلى الباقي فيصير ثلاثا. وان قال أنت طالق ثلاثا الا
طلقة وطلقة وقعت طلقه. لان المعطوف على الاستثناء مضموم إلى الاستثناء،
ولهذا إذا قال: له على مائه الا خمسة وعشرين ضمت الخمسة إلى العشرين في
الاستثناء ولزمه ما بقي.
وان قال أنت طالق طلقه وطلقة الا طلقة ففيه وجهان (أحدهما) تطلق طلقه
لان الواو في الاسمين المنفردين كالثنية فيصير كما لو قال أنت طالق طلقتين الا
طلقه (والثاني) وهو المنصوص انها تطلق طلقتين لان الاستثناء يرجع إلى ما يليه
وهو طلقه، واستثناء طلقه من طلقه باطل فسقط وبقى طلقتان، وان قدم
الاستثناء على المستثنى منه بأن قال أنت الا واحدة طالق ثلاثا، فقد قال بعض
أصحابنا انه لا يصح الاستثناء فيقع الثلاث، لان الاستثناء جعل لاستدراك
ما تقدم من كلامه، ويحتمل عندي انه يصح الاستثناء فيقع طلقتان، لان التقديم
والتأخير في ذلك لغة العرب قال الفرزدق يمدح هشام بن إبراهيم بن المغيرة
خال هشام بن عبد الملك:
وما مثله في الناس الا مملكا * أبو أمه حي أبوه يقاربه
تقديره وما مثله في الناس حي يقاربه الا مملكا أبو أمه أبو الممدوح
(الشرح) بيت الفرزدق الذي ساقه المصنف من قصيدة من الطويل يمدح
بها إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي خال هشام بن عبد الملك بن مروان،
ويستعمل هذا البيت عند البلاغيين شاهدا في أساليب التعقيد، وهو أن لا يكون
الكلام ظاهر الدلالة على المراد، اما لخلل في نظم الكلام فلا يتوصل منه إلى
معناه، أو لانتقال الذهن من المعنى الأول إلى المعنى الثاني الذي هو لازمه،
والمراد به ظاهرا، والأول هو الشاهد في البيت. والمعنى فيه: وما مثله يعنى
142

الممدوح في الناس حي يقاربه أي أحد يشبهه في الفضائل إلا مملكا، أي ملكا.
يعنى هشاما، أبو أمه أي أبو أم هشام أبوه، أي أبو الممدوح، فالضمير في أمه
للملك وفى أبوه للممدوح، ففصل بين أبو أمه وهو مبتدأ وأبوه وهو خبره بأجنبي
وهو حي، وكذا فصل بين حي ويقاربه وهو نعته، بأجنبي وهو أبوه، وقدم
المستثنى على المستثنى منه. فهو كما تراه في غاية التعقيد، وكان من حق الناظم
أن يقول وما مثله في الناس أحد يقاربه إلا مملك أبو أمه أبوه
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ولو قال أنت طالق ثلاثا الا
اثنتين فهي واحدة، وجملة ذلك أن الاستثناء جائز في الجملة لان القرآن ورد به
قال الله تعالى " فلبث فيهم ألف سنة الا خمسين عاما " والاستثناء ضد المستثنى
منه، فان استثنى من اثبات كان المستثنى نفيا. وان استثنى من نفى كان المستثنى
اثباتا، وسواء استثنى أقل العدد أو أكثر فإنه يصح
وقال بعض أهل اللغة: لا يصح استثناء أكثر العدد، وبه قال احمد. دليلنا
قوله تعالى حاكيا عن إبليس " لأغوينهم أجمعين، الا عبادك منهم المخلصين "
ثم قال " ان عبادي ليس لك عليهم سلطان الا من اتبعك من الغاوين " فاستثنى
العباد من الغاوين، واستثنى الغاوين من العباد، وأيهما كان أكثر فقد استثنى
من الآخر، ولا يصح أن يستثنى جميع العدد، لأنه غير مستعمل في الشرع،
ولا في اللغة.
إذا ثبت هذا فقال لامرأته أنت طالق ثلاثا الا اثنتين طلقت واحدة، لأنه
أثبت ثلاثا ثم نفى منها اثنتين فبقيت واحدة. وان قال: أنت طالق ثلاثا الا
واحدة طلقت اثنتين
وان قال أنت طالق ثلاثا الا اثنتين وواحدة، أو أنت طالق ثلاثا الا واحدة
وواحدة وواحدة. ففيه وجهان
(أحدهما) يقع عليها الثلاث. وبه قال أبو حنيفة لأنه استثناء من ثلاث
(والثاني) يقع عليها واحدة. وبه قال أبو يوسف ومحمد، لأنه لو لم يعطف
بالواحدة لصح فكان العطف بها هو الباطل فسقط
143

وإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا نصف طلقة طلقت ثلاثا، ومن أصحابنا من
قال: يقع عليها طلقتان لأنه لا يؤدى إلى استثناء صحيح، وليس بشئ، لأنه
لا يبطل الاستثناء: وإنما بقي طلقتان ونصف فسرى النصف وإن قال لها:
أنت طالق طلقتين ونصفا إلا واحدة وقع عليها ثلاث طلقات، واختلف
أصحابنا فيه، فقال ابن الحداد: لان النصف يسرى واحدة، واستثناء واحدة
من واحدة لا يصح.
وقال القاضي أبو الطيب: لأنه استثناء واحدة من نصف، لأن الاعتبار
بالمنطوق به في العدد لا ينافي الشرع، وان قال: أنت طالق طلقه وطلقة الا
طلقة ففيه وجهان، حكاهما المصنف.
(أحدهما) تطلق طلقة، لان الواو في الاسمين المنفردين كالتثنية، فصار
كما لو قال: أنت طالق طلقتين الا طلقة.
(والثاني) وهو المنصوص في الام: أنها تطلق طلقتين لان الاستثناء يرجع
إلى ما يليه وهو طلقة: واستثناء طلقة من طلقة لا يصح. قال الشيخ أبو حامد
وان قال: أنت طالق ثم طالق بل طالق الا طلقة، أو أنت طالق فطالق ثم طالق
الا طلقة، أو أنت طالق وطالق وطالق الا طلقة وقع عليها في هذه المسائل ثلاث
طلقات، لأنه إذا غاير بين الألفاظ وقع بكل لفظ طلقة واستثناء طلقة من طلقة
لا يصح. وان قال: أنت طالق خمسا الا ثلاثا ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة وأبى على الطبري: أنه يقع عليها
ثلاث، لان الاستثناء يرجع إلى ما يملك من الطلقات، والذي يملك هو الثلاث
فلم يقع من الخمس الا ثلاث، واستثناء ثلاث من ثلاث لا يصح.
وقال أكثر أصحابنا: انه يقع عليها طلقتان، لان الاستثناء يرجع في العدد
المنوطوق به، ويكون بالمستثنى منه مع الاستثناء مما بقي، فإذا استثنى ثلاثا من
خمس بقي طلقتان. وقد نص الشافعي في البويطي على أنه إذا قال: أنت طالق
ستا الا أربعا وقع عليها طلقتان، وهذا يرد قول أبى على، وان قال لها: أنت
طالق خمسا الا اثنتين وقع عليها طلقة الا على قول أبى على وعلى قول سائر أصحابنا
144

يقع عليها الثلاث، لان الاستثناء جعل لاستدراك ما تقدم، فلا يتقدم على
المستثنى منه. وقال الشيخ أبو إسحاق: تقع عليها طلقتان، لان الاستثناء يجوز
أن يتقدم على المستثنى منه. قال الشاعر:
وما لي إلا آل أحمد شيعة * ومالي إلا مشعب الحق مشعب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويصح الاستثناء من الاستثناء لقوله عز وجل " إنا أرسلنا إلى
قوم مجرمين إلا آل لوط لمنجوهم أجمعين إلا امرأته " فاستثنى آل لوط من
المجرمين واستثنى من آل لوط امرأته. وإذا قال أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين إلا
طلقة طلقت طلقتين لان تقديره أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين فلا يقعان إلا طلقة
فتقع. وإن قال أنت طالق خمسا إلا ثلاثا ففيه وجهان (أحدهما) أنها تطلق
ثلاثا لأنه لا يقع من الخمس إلا ثلاث، فصار كما لو قال أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا
(والثاني) أنها تطلق طلقتين، لأنه لما وصل بالاستثناء علم أنه قصد الحساب.
وإن قال أنت طالق خمسا إلا اثنتين، طلقت على الوجه الأول طلقه، وعلى الوجه
الثاني تطلق ثلاثا.
وإن قال أنت طالق ثلاثا الا ثلاثا الا اثنتين، ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) يقع الثلاث لان الاستثناء الأول يرفع المستثنى منه فيبطل،
والاستثناء الثاني فرع عليه فسقط وبقى الثلاث (والثاني) تطلق طلقتين لأنه لما
وصله بالاستثناء صار كأنه أثبت ثلاثا ونفى ثلاثا أثبت اثنتين (والثالث) تقع
طلقه لان الاستثناء الأول لا يصح فسقط وبقى الاستثناء الثاني فيصير كما لو قال
أنت طالق ثلاثا إلا طلقتين
(الشرح) هذا الفصل يمكن أن تشد يدك في مسائله بما ذكرناه في شرح
الفصل قبله، ونزيدك من مسائله أحكاما فنقول وبالله التوفيق: يصح الاستثناء
من الاستثناء لقوله تعالى " انا أرسلنا إلى قوم مجرمين، الا آل لوط إنا لمنجوهم
أجمعين الا امرأته " فإذا قال أنت طالق ثلاثا الا اثنتين الا واحدة طلقت
145

طلقتين لأنه أثبت ثلاثا ثم نفى اثنتين فبقيت واحدة، ثم أثبت من الطلقات
الثلاث نفى واحدة فصار مثبتا لاثنتين فوقعتا
وإن قال أنت طالق ثلاثا الا ثلاثا الا اثنتين ففيه ثلاثة أوجه (أحدهما) يقع
عليه ثلاث طلقات لان الاستثناء الأول باطل فسقط والثاني عائد إليه وتابع
له فسقطا (والثاني) من الأوجه الثلاثة يقع عليها طلقه، لان الاستثناء الأول
باطل فسقط وبقى الثاني، فكان عائدا إلى الاثبات، فكأنه قال: ثلاثا الا طلقين
(والثالث) يقع عليها طلقتان، لان استثناء الثلاث من الثلاث إنما لا يصح إذا
اقتصر عليه، فأما إذا أثبته استثناء آخر بنى عليه فكأنه أثبت ثلاثا ونفى ثلاثا،
ثم أثبت اثنتين فوقعتا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال أنت طالق ثلاثا الا أن يشاء أبوك واحدة. وقال أبوها
شئت واحدة، لم تطلق، لان الاستثناء من الاثبات نفى، فيصير تقديره أنت
طالق ثلاثا الا أن يشاء أبوك واحدة، فلا يقع طلاق
(فصل) وإن قال امرأتي طالق أو عبدي حر، أو لله على كذا، أو والله
لأفعلن كذا إن شاء الله، أو بمشيئة الله، أو ما لم يشأ الله، لم يصح شئ من ذلك
لما روى ابن عمر رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من
حلف على يمين ثم قال إن شاء الله كان له ثنيا " وروى أبو هريرة رضي الله عنه
قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث "
ولأنه علق هذه الأشياء على مشيئة الله تعالى، ومشيئته لا تعلم، فلم يلزم بالشك
شئ. وان قال أنت طالق الا أن يشاء الله ففيه وجهان (أحدهما) لا تطلق لأنه
مقيد بمشيئة الله تعالى، فأشبه إذا قال أنت طالق إن شاء الله (والثاني) وهو
المذهب انها تطلق لأنه أوقع الطلاق وعلق رفعه بمشيئة الله تعالى، ومشيئة الله
لا تعلم فسقط حكم رفعه وبقى حكم ثبوته، ويخالف إذا قال: أنت طالق إن شاء الله
، فإنه علق الوقوع على مشيئة الله تعالى
146

(فصل) ولا يصح الاستثناء في جميع ما ذكرناه الا أن يكون متصلا
بالكلام، فإن انفصل عن الكلام من غير عذر لم يصح لان العرف في الاستثناء
أن يتصل بالكلام، فإن انفصل لضيق النفس صح الاستثناء لأنه كالمتصل في
العرف ولا يصح الا أن يقصد إليه، فأما إذا كانت عادته في كلامه أن يقول:
إن شاء الله، فقال إن شاء الله على عادته لم يكن استثناء، لأنه لم يقصده،
واختلف أصحابنا في وقت نية الاستثناء فمنهم من قال: لا يصح الا أن يكون ينوى
ذلك من ابتداء الكلام، ومنهم من قال إذا نوى قبل الفراغ من الكلام جاز.
(فصل) إذا قال: يا زانية أنت طالق إن شاء الله، أو أنت طالق يا زانية
إن شاء الله رجع الاستثناء إلى الطلاق، ولا يرجع إلى قوله يا زانية لان الطلاق
ايقاع فجاز تعليقه بالمشيئة، وقوله يا زانية صفة فلا يصح تعليقها بالمشيئة، ولهذا
يصح أن يقول أنت طالق إن شاء الله ولا يصح أن يقول أنت زانية إن شاء الله
وإن كانت له امرأتان حفصة وعمرة، فقال حفصة وعمرة طالقان انشاء الله لم
تطلق واحدة منهما، وان قال حفصة طالق وعمرة طالق إن شاء الله فقد قال
بعض أصحابنا تطلق حفصة ولا تطلق عمرة، لان الاستثناء يرجع إلى ما يليه وهو
طلاق عمرة، ويحتمل عندي أن لا تطلق واحدة منهما، لان المجموع بالواو
كالجملة الواحدة.
(فصل) وان طلق بلسانه واستثنى بقلبه نظرت فإن قال أنت طالق ونوى
بقلبه إن شاء الله لم يصح الاستثناء ولم يقبل في الحكم ولا يدين فيه، لان اللفظ
أقوى من النية لان اللفظ يقع به الطلاق من غير نية، والنية لا يقع بها الطلاق
من غير لفظ، فلو أعملنا النية لرفعنا القوى بالضعيف، وذلك لا يجوز، كنسخ
الكتاب بالسنة وترك النص بالقياس.
وان قال نسائي طوالق واستثنى بالنية بعضهن دين فيه لأنه لا يسقط اللفظ
بل يستعمله في بعض ما يقتضيه بعمومه، وذلك يحتمل فدين فيه، ولا يقبل في
الحكم. وقال أبو حفص الباب بشامي: يقبل في الحكم لان اللفظ يحتمل العموم
والخصوص، وهذا غير صحيح لأنه وان احتمل الخصوص الا أن الظاهر العموم
فلا يقبل في الحكم دعوى الخصوص، فإن قال امرأتي طالق ثلاثا واستثنى بقلبه
147

الا طلقه أو طلقتين لم يقبل في الحكم لأنه يدعى خلاف ما يقتضيه اللفظ. وهل
يدين؟ فيه وجهان (أحدهما) يدين لأنه لا يسقط حكم اللفظ، وإنما يخرج بعض
ما يقتضيه فدين فيه، كما لو قال نسائي طوالق واستثنى بالنية بعضهن (والثاني) لا يدين
وهو قول الشيخ أبى حامد الأسفرايني رحمه الله، لأنه يسقط ما يقتضيه اللفظ
بصريحه بما دونه من النية، وان قال لأربع نسوة: أربعكن طالق واستثنى بعضهن
بالنية لم يقبل في الحكم، وهل يدين؟ فيه وجهان (أحدهما) يدين (والثاني) لا يدين
ووجههما ما ذكرناه في المسألة قبلها
(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه من أصحاب السنن أبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجة والدارقطني. ورجاله عندهم رجال الصحيح، ولفظه عند
أكثرهم " من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه " ولفظ " كان له ثنيا "
سيأتي في رواية أبي هريرة.
أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه أحمد والترمذي وابن ماجة وقال " فله ثنياه "
والنسائي وقال " فقد استثنى " وأخرجه أيضا ابن حبان وهو من حديث عبد الرزاق
عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة. قال البخاري: أخطأ فيه
عبد الرزاق واختصره عن معمر من حديث " أن سليمان بن داود عليه السلام قال
لأطوفن الليلة على سبعين امرأة الخ الحديث وفيه: فقال النبي صلى الله عليه وسلم
لو قال إن شاء الله لم يحنث " رواه الترمذي عن البخاري. وللحديث طرق رواها
الشافعي وأحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم من حديث ابن عمر. قال
الترمذي لا نعلم أحدا رفعه غير أيوب السختياني. وقال ابن عليه كان أيوب تارة
يرفعه وتارة لا يرفعه. قال ورواه مالك وعبيد الله بن عمر وغير واحد موقوفا.
قال الحافظ بن حجر: هو في الموطأ كما قال البيهقي. وقال لا يصح رفعه الا عن
أيوب مع أنه شك فيه وتابعه على لفظه العمرى عبد الله وموسى بن عقبه وكثير
ابن فرقد وأيوب بن موسى، وقد صححه ابن حبان وقد وردت معنى هذين
الحديثين عن عكرمة عن ابن عباس عند أبي داود من فعله صلى الله عليه وسلم " أنه
صلى الله عليه وسلم قال: والله لأغزون قريشا، ثم قال إن شاء الله، ثم قال والله
لأغزون قريشا، ثم قال إن شاء الله، ثم قال والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال
148

إن شاء الله، ثم لم يغزهم. قال أبو داود: وقد أسنده غير واحد عن عكرمة عن
ابن عباس، وقد رواه البيهقي موصولا ومرسلا. قال ابن أبي حاتم في العلل:
الأشبه الارسال، وقال ابن حبان في الضعفاء: رواه مسعر، وشريك أرسله
مرة ووصله أخرى.
أما الأحكام: فإنه إذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا أن يشاء أبوك واحدة
فقال أبوها: شئت واحدة لم يقع عليها طلاق، لأنه أوقع الطلاق بشرط أن
يشاء أبوها واحدة، فإذا شاء أبوها واحدة لم يوجد الشرط فلم يقع الطلاق،
كما لو قال: أنت طالق إلا أن تدخلي الدار أو إن لم تدخلي الدار، فدخلت الدار
فإنها لا تطلق. قال العمراني: ولا أعلم نصا في اعتبار وقت المشيئة، والذي
يقتضى القياس أن المشيئة تعتبر أن تكون عقيب إيقاع الزوج، كما لو علق إيقاع
الطلاق على مشيئة الأب.
(مسأله) قوله: وان قال امرأتي طالق الخ، فهذا كما قال، إذ لو قال لامرأته
أنت طالق إن شاء الله. أو قال لعبده: أنت حر إن شاء الله أو على كذا وكذا
أو والله لأفعلن كذا أو على لفلان كذا إن شاء الله، لم يلزمه شئ من ذلك، وبه
قال طاوس والحكم وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال مالك والليث: يدخل الاستثناء في الايمان دون الطلاق والعتق والنذر
والاقرار، وقال الأوزاعي وابن أبي ليلى: يدخل الاستثناء في اليمين والطلاق
دون غيره، وقال أحمد: يدخل الاستثناء في الطلاق دون العتق. دليلنا حديث
ابن عمر حيث لم يفرق بين أن يحلف بالله أو يحلف بالطلاق، ولأنه علق الطلاق
بمشيئة من له مشيئة فلم تقع قبل العلم بمشيئته كما لو علق بمشيئة زيد، وفى
كتاب الايمان مزيد إن شاء الله.
فإذا ثبت هذا: فقال لامرأته: أنت طالق إن شاء الله أو إذا شاء الله أو
متى شاء الله أو بمشيئة الله لم يقع الطلاق لأنه علق وقوع الطلاق بمشيئة الله،
ومشيئته بذلك لا تعلم، فإن قال: أنت طالق ان لم يشأ الله أو ما لم يشأ الله لم يقع
الطلاق، لأنه لا نعلم أنه لم يشأ، كما لا يعلم أنه شاء.
وحكى صاحب الفروع وجها آخر أنه يقع عليها الطلاق، وإنما علق دفعه
149

بمشيئة الله ونحن لا نعلمها، والمشهور هو الأول وان قال: أنت طالق الا أن
يشاء الله ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يقع عليها الطلاق، لأنه علق الطلاق بمشئية الله فلم يقع،
كما لو قال: إن شاء الله.
(والثاني) وهو المذهب: أنه يقع الطلاق، لأنه أوقع الطلاق، وإنما علق
رفعه بمشيئة الله، ومشيئة الله لا تعلم فثبت الايقاع وبطل الرفع.
(فرع) ولا يصح الاستثناء الا إن كان متصلا بالكلام لان هذا هو العرف
في الاستثناء، فان انفصل لضيق نفس كان كالمتصل لان انفصاله لعذر، ولا يصح
الا ان قصد بالنية، والتقييد بمشيئة الله مانع من الوقوع، وقد ذهب إلى ذلك
الجمهور، وادعى عليه ابن العربي الاجماع قال: أجمع المسلمون على أن قوله: إن شاء الله
يمنع انعقاد اليمين بشرط كونه متصلا، قال: ولو جاز منفصلا كما روى
بعض السلف لم يحنث أحد قط في يمين ولم يحتج إلى كفارة، قال: واختلفوا في
الاتصال، فقال مالك والأوزاعي والشافعي والجمهور: هو أن يكون قوله: إن شاء الله
متصلا باليمين من غير سكوت بينهما ولا يضر سكتة النفس.
وعن طاوس والحسن وجماعة من التابعين أن له الاستثناء ما لم يقم من مجلسه
وقال قتادة: ما لم يقم أو يتكلم. وقال عطاء: قدر حلبة ناقة. وقال سعيد بن
جبير: يصح بعد أربعة أشهر، وعن ابن عباس: له الاستثناء أبدا، ولا فرق
بين الحلف بالطلاق والحلف بالله أو الحلف بالعتاق، واستثنى أحمد رضي الله عنه
العتاق قال: لحديث " إذا قال: أنت طالق إن شاء الله لم تطلق، وان قال لعبده:
أنت حر إن شاء الله فإنه حر " وقد تفرد به حميد بن مالك وهو مجهول كما قال
البيهقي، وذهب الهادوية إلى أن التقييد بالمشيئة يعتبر فيه مشيئة الله في تلك
الحال باعتبار ما يظهر من الشريعة، فإن كان ذلك الامر الذي حلف على تركه
وقيد الحلف بالمشيئة محبوبا لله فعله لم يحنث بالفعل، وإن كان محبوبا لله تركه لم
يحنث بالترك، فإذا قال: والله ليتصدقن إن شاء الله حنث بترك الصدقة، لان
الله يشاء التصدق في الحال، وان حلف ليقطعن رحمه إن شاء الله لم يحنث بترك
القطع لان الله تعالى يشاء ذلك الترك.
150

قوله: وإن طلق بلسانه واستثنى بقلبه الخ. وهذا يدل بمفهومه على أنه إذا
استثنى بلسانه صح ولم يقع ما استثناه بقلبه، وهو قول جماعة أهل العلم.
وقال الخرقي من الحنابلة " إذا طلقها بلسانه واستثنى شيئا بقلبه وقع الطلاق
ولم ينفعه الاستثناء. وجملة ذلك أن ما يتصل باللفظ من قرينة أو استثناء منه
مالا يصح نطقا ولا نية، مثل أن يرفع حكم اللفظ كله، وهذا قد مضى بيانه.
ومنها ما يقبل لفظا ولا يقبل نية في الحكم، وهل يقبل فيما بينه وبين الله تعالى؟
وجهان (أحدهما) لا يقبل فيما بينه وبين الله تعالى، وبه قال أحمد وأكثر أصحاب
الشافعي. وهذا استثناء الأقل، فإنه لا يصح إلا لفظا لأنه من لسان العرب،
ولا يصح بالنية لان العدد نص فيما تناوله لا يحتمل غيره، فلا يرتفع بالنية ما ثبت
بنص اللفظ، فإن اللفظ أقوى من النية، فلو نوى بالثلاث اثنتين كان مستعملا
للفظ في غير ما يصلح له فوقع مقتضى اللفظ ولغت نيته
وقال بعض أصحابنا: انه يقبل فيما بينه وبين الله تعالى، كما لو قال: نسائي
طوالق واستثنى بقلبه الا فلانة، والفرق بينهما أن نسائي اسم عام يجوز التعبير به
عن بعض ما وضع له، وقد استعمل العموم بإزاء الخصوص كثيرا. فإذا أراد
به البعض صح.
وقوله " ثلاثا " اسم عدد للثلاث لا يجوز التعبير به عن عدد غيرها، ولا
يحتمل سواها بوجه من الوجوه، فإذا أراد بذلك اثنتين فقد أراد باللفظ
ما لا يحتمله. وإنما تعمل النية في صرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته.
فأما ما لا يحتمل فلا، فإنا لو عملنا به فيما لا يحتمل كان عملا بمجرد النية، ومجرد
النية لا يعمل في نكاح ولا طلاق ولا بيع.
ولو قال: نسائي الأربع طوالق، أو قال لهن: أربعتكن طوالق، واستثنى
بعضهن بالنية لم يقبل على قياس ما ذكرناه، ولا يدين فيه، لأنه عنى
باللفظ مالا يحتمل.
ومنها ما يصح نطقا إذا نواه دين فيما بينه وبين الله تعالى، مثل تخصيص
اللفظ العام أو استعمال اللفظ في مجازه مثل قوله: نسائي طوالق، يريد بعضهن
151

أو ينوى بقوله طالق، أي من وثاق، فهذا يقبل كما قررنا من قبل إذا كان لفظا
وجها واحد لأنه وصل كلامه بما بين مراده وإن كان بنيته قبل فيما بينه وبين
الله تعالى لأنه أراد تخصيص اللفظ العام واستعماله في الخصوص. وهذا سائغ في
الكلام فلا يمنع من استعماله والتكلم به، ويكون اللفظ بنيته منصرفا إلى ما أراده
دون ما لم يرده، وهل يقبل ذلك في الحكم. مذهبنا أنه لا يقبل في الحكم لأنه
خلاف الظاهر. ومن شرط هذا أن تكون النية مقارنة للفظ. وهو أن يقول:
نسائي طوالق، يقصد بهذا اللفظ بعضهن، فأما إن كانت النية متأخرة عن اللفظ
فقال نسائي طوالق ثم بعد فراغه نوى بقلبه بعضهن لم تنفعه النية ووقع الطلاق
بجميعهن، وكذلك لو طلق نساءه ونوى بعد طلاقهن أي من وثاق لزمه الطلاق
لأنه مقتضى اللفظ.
والقاعدة في ذلك كله (أولا) إرادة الخاص بالعام شائع في اللغة ومستساغ
(ثانيا) إرادة الشرط من غير ذكره غير سائغ فهو كالاستثناء. واللفظ العام
الذي لم يرد به غير مقتضاه وجب العمل بعمومه، والعمل بعموم اللفظ أولى من
خصوص السبب، لان دليل الحكم هو اللفظ، فيجب اتباعه والعمل بمقتضاه
في خصوصه وعمومه، ولذلك لو كان أخص من السبب لوجب قصره على
خصوصه واتباع صفة اللفظ دون صفة السبب. والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
باب الشرط في الطلاق
إذا علق الطلاق بشرط لا يستحيل كدخول الدار ومجئ الشهر تعلق به.
فإذا وجد الشرط وقع، وإذا لم يوجد لم يقع. لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " المؤمنون عند شروطهم " ولان الطلاق كالعتق لان لكل واحدة منهما قوة
وسراية. ثم العتق إذا علق على شرط وقع بوجوده ولم يقع قبل وجوده فكذلك
الطلاق. فإن علق الطلاق على شرط ثم قال: عجلت ما كنت علقت على الشرط
لم تطلق في الحال لأنه تعلق بالشرط ولا يتغير. وإذا وجد الشرط طلقت.
152

وإن قال أنت طالق ثم قال: أردت إذا دخلت الدار، أو إذا جاء رأس الشهر
لم يقبل في الحكم، لأنه يدعى خلاف ما يقتضيه اللفظ بظاهره. ويدين فيما بينه
وبين الله تعالى، لأنه يدعى صرف الكلام عن ظاهره إلى وجه يحتمله فدين فيه
كما لو قال أنت طاق وادعى انه أراد طلاقا من وثاق فإن قال أنت طالق ان
دخلت الدار وقال أردت الطلاق في الحال. ولكن سبق لساني إلى الشرط لزمه
الطلاق في الحال، لأنه أقر على نفسه بما يوجب التغليظ من غير تهمة.
(فصل) والألفاظ التي تستعمل في الشرط في الطلاق: من. وان. وإذا
ومتى. وأي وقت. وكلما. وليس في هذه الألفاظ ما يقتضى التكرار الا قوله
كلما فإنه يقتضى التكرار. فإذا قال من دخلت الدار فهي طالق، أو قال لامرأته
ان دخلت الدار أو إذا دخلت الدار، أو متى دخلت الدار أو أي وقت دخلت
الدار فأنت طالق، فوجد الدخول وقع الطلاق. وإن تكرر الدخول لم يتكرر
الطلاق لان اللفظ لا يقتضى التكرار.
وإن قال كلما دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت طلقت. وان تكرر الدخول
تكرر الطلاق لان اللفظ يقتضى التكرار
(الشرح) حديث " المؤمنون عند شروطهم " مضى تخريجه في غير موضع
من المجموع وتكملتيه
أما الأحكام فإنه إذا علق طلاق امرأته بشرط غير مستحيل لم يقع الطلاق
قبل وجود الشرط. سواء كان الشرط يوجد لا محالة، كقوله إذا طلعت الشمس
فأنت طالق، أو كان الشرط قد يوجد وقد لا يوجد. كقوله إذا قدم القطار من
الإسكندرية فأنت طالق، هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق
وقال الزهري وابن المسيب والحسن البصري ومالك: إذا علق الطلاق بشرط
يوجد لا محالة كمجئ الليل والنهار والشمس والقمر وما أشبههما وقع عليها الطلاق
في الحال قبل وجود الشرط.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم " ولأنه علق على
شرط غير مستحيل فلم يقع الطلاق قبل وقوع الشرط، كما لو علقه على قدوم
153

القطار. وقولنا " على شرط غير مستحيل " احتراز مما إذا علقه على صعود السماء
بدون طائرة أو أجهزة للصعود كالصواريخ والأقمار الصناعية وما إليها من وسائل
معروفة في عصرنا هذا، وكذلك احتراز مما إذا علقه على شرب جميع البحر
وإن علق طلاقها على شرط ثم قال قبل وجود الشرط: عجلت ما كنت علقت
على الشرط، لم تطلق في الحال، لأنه تعلق بالشرط فلا يتعجل بلفظ التعجيل
كالدين المؤجل.
وإن قال أنت طالق ثم قال: أردت إذا دخلت الدار لم يقبل في الحكم لأنه
يدعى خلاف الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمل ما يدعيه. وان
قال أنت طالق ان دخلت الدار، ثم قال: أردت به الطلاق في الحال وإنما سبق
لسان إلى الشرط قبل قوله لان في ذلك تغليظا عليه
قوله " من وان وإذا ومتى وأي وقت وكلما " ومن هذه تستعمل للشرط وللصلة
وان للشرط وللنفي وتأتي زائدة ومخففة من أن " وان نظنك لمن الكاذبين "
و " إذا " تأتى للشرط وللمفاجأة، ولربط الجواب بالشرط نحو " وان تصبهم
سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون " والأشهر أنها ظروف و " متى " للزمان،
ومثلهان أيان نحوا لا فقها و " كلما " تقتضي التكرار لجواب شرطها ولا ينبغي
جواب الشرط كما يفعل أكثر أهل هذا الزمان من المتعالمين فإنه يكثر في استعمالهم
تكرار كلما في الجملة، فيقولون مثلا: كلما استقمت، كلما رضى الله عنك " وهو
خطأ فادح، أو كلما أسأت إلى كلما ازددت حلما. فكلما الثانية في الجملة مقحمة
بغير مسوغ.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كانت له امرأة لا سنة في طلاقها ولا بدعة، وهي الصغيرة
التي لم تحض أو الكبيرة التي يئست من الحيض أو الحامل أو التي لم يدخل بها،
فقال لها أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة، طلقت لوجود الصفة. وان قال أنت
طالق للسنة أو للبدعة، أو أنت طالق للسنة والبدعة، طلقت لأنه وصفها صفة
لا تتصف بها، فلغت الصفة وبقى الطلاق فوقع، فإن قال للصغيرة أو الحامل
154

أو التي لم يدخل بها أنت طالق للسنة أو أنت طالق للبدعة، وقال أردت به إذا
صارت من أهل سنة الطلاق أو بدعته طلقت في الحال، ولم يقبل ما يدعيه في
الحكم، لان اللفظ يقتضى طلاقا ناجزا ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل، لأنه
يحتمل ما يدعيه.
وإن كانت له امرأة لها سنة وبدعة في الطلاق وهي المدخول بها إذا كانت من
ذوات الأقراء، فقال لها أنت طالق للسنة - فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه -
طلقت في الحال لوجود الصفة. وإن كانت في حيض أو في طهر جامعها فيه لم تطلق
في الحال لعدم الصفة، وإذا طهرت من غير جماع طلقت لوجود الصفة
وإن قال أنت طالق للبدعة - فإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه -
طلقت في الحال لوجود الصفة، وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه لم تطلق في الحال
لفقد الصفة، فإذا جامعها أو حاضت طلقت لوجود الصفة
وإن قال أنت طالق للسنة إن كنت في هذه الحالة ممن يقع عليها طلاق السنة
- فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه - طلقت لوجود الصفة، وإن كانت حائضا
أو في طهر جامعها فيه لم تطلق في الحال لعدم الصفة وان صارت في طهر لم
تجامع فيه لم تطلق أيضا لأنه شرط أن تكون للسنة وأن تكون في تلك الحال.
وذلك لا يوجد بعد انقضاء الحال
وإن قال لها أنت طالق للسنة وللبدعة، أو أنت طالق طلقة حسنة قبيحة،
طلقت في الحال طلقة، لأنه لا يمكن إيقاع طلقة على هاتين الصفتين، فسقطت
الصفتان وبقى الطلاق فوقع
وإن قال أنت طالق طلقتين طلقة للسنة وطلقة للبدعة طلقت في الحال طلقة
فإذا صارت في الحالة الثانية طلقت طلقة. وان قال أنت طالق طلقتين للسنة
وللبدعة ففيه وجهان.
(أحدهما) يقع طلقة في حال السنة وطلقة في حال البدعة، لأنه يمكن إيقاعها
على الصفتين فلم يجز إسقاطهما
(والثاني) يقع في الحال طلقتان، لأن الظاهر عود الصفتين إلى كل واحدة
من الطلقتين وإيقاع كل واحدة منهما على الصفتين لا يمكن فلغت الصفتان
155

ووقعت الطلقتان. وإن قال أنت طالق ثلاثا للسنة وقع الثلاث في طهر لم يجامعها
فيه، لان ذلك طلاق للسنة:
وإن قال أنت طالق ثلاثا بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة وقع في الحال طلقتان
لان إضافة الطلاق إليهما يقتضى التسوية. فيقع في الحال طلقة ونصف ثم يكمل
فيصير طلقتين، ويقع الباقي في الحالة الأخرى. وإن قال أردت بالبعض طلقة
في هذه الحال وطلقتين في الحالة الأخرى ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول
أبى علي بن أبي هريرة، إنه لا يقبل قوله في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله عز
وجل، لأنه يدعى ما يتأخر به الطلاق فصار كما لو قال أنت طالق وادعى أنه
أراد إذا دخلت الدار
(والثاني) وهو المذهب أنه يقبل في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل
لان البعض يقع على القليل والكثير حقيقة، ويخالف دعوى دخول الدار، فإن
الظاهر إنجاز الطلاق فلم تقبل في الحكم دعوى التأخير.
(الشرح) النساء على ضربين: ضرب لا سنة في طلاقهن ولا بدعة وهن
أربع (1) التي لم يدخل بها (2) والصغيرة (3) والآيسة من الحيض (4) والتي
استبان حملها. وضرب في طلاقهن سنة وبدعة وهي المدخول بها إذا كانت
من ذوات الأقراء.
إذا ثبت هذا فقال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعة: أنت طالق للسنة أو للبدعة
طلقت في الحال لأنه علق الطلاق بصفة لا تتصف بها المرأة، فألغيت الصفة
وصار كما لو قال أنت طالق. وان قال أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة طلقت في
الحال لوجود الصفة.
وان قال للصغيرة المدخول بها أو الحامل أنت طالق للسنة أو للبدعة ثم قال:
أردت بها إذا صارت من أهل سنة الطلاق وبدعته لم يقبل في الحكم، لأنه يريد
تأخير الطلاق من أول وقت يقتضيه فلم يقبل، كما لو قال أنت طالق ثم قال أردت
إذا دخلت الدار، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، فيقال أمسك امرأتك فيما
بينك وبين الله تعالى إلى أن تحيض الصغيرة وتلد الحامل ان علقه على البدعة،
156

والى أن تطهر إن علقه على السنة، ولا يجئ هذا في الآيسة، وهل يجئ هذا في التي
لم يدخل بها؟ اختلف الشيخان فيهما، فذكر أبو حامد أنه لا يجئ فيها. وذكر
أبو إسحاق المروزي أنه يجئ فيها هذا.
(فرع) وان قال لمن لا سنه في طلاقها ولا بدعه: أنت طالق للسنة ان كنت
في هذا الحال ممن يقع عليها طلاق السنة، أو أنت طالق للبدعة ان كنت الآن ممن
يقع عليها طلاق البدعة. قال الشافعي رضي الله عنه في الام: وقع عليها الطلاق
في الحال فحكى ابن الصباغ أن القاضي أبا الطيب قال: فيه نظر، وأن الشيخ
أبا حامد قال: لا يقع الطلاق لان الشرط لم يوجد، كقوله إن كنت علوية فأنت
طالق وليست بعلوية، ويخالف الصفة لأنها تلغى إذا لم تتصف بها
قال ابن الصباغ: وكما قال الشافعي عندي وجه آخر، وهو أن قوله: أنت
طالق للسنة إن كان عليك طلاق السنة، يقتضى طلاقا مضافا إلى السنة وهو يقع
عليها. وقوله: وصفها بصفة محال يريد إذا قال أنت طالق للسنة فإنه تلغو الصفة
هكذا أفاده العمراني في البيان
(مسأله) قوله وإن كانت له امرأة لها سنة وبدعه في الطلاق الخ فهو كما
قال، إذ لو قال لها أنت طالق للسنة - فإن كانت في طهر لم يجامعها فيه طلقت
لوجود السنة، وإن كانت في طهر جامعها أو في حيض لم تطلق لعدم الصفة، فإذا
طهرت من الحيض طلقت لوجود الصفة - وإن كانت في طهر جامعها فيه أو في
حيض لم تطلق لعدم الصفة، فإذا طهرت من الحيض طلقت بأول جزء من الطهر
وقال أبو حنيفة: ان طهرت لأكثر الحيض طلقت بأول جزء من الطهر، وان
طهرت لدون أكثر الحيض لم تطلق حتى تغتسل.
دليلنا أن كل طهر لو صادف غسلا وقع فيه الطلاق وجب أن يقع فيه الطلاق
وان لم يصادف الغسل، كما لو طهرت لأكثر الحيض
وان جامعها في آخر الحيض وانقطع الدم في حال الجماع لم يقع عليها طلاق،
لأنه طهر صادفه الجماع، وان وطئها في أثناء الحيض وطهرت بعده فإن القفال
قال: لا يطلق بالطهر إذا علقه بالسنة لاحتمال أن تكون قد علقت منه، ووجود
بقية الحيض لا يدل على براءة رحمها، كما لا يكون بعض الحيض استبراء في الأمة
157

وإن قال أنت طالق للبدعة، فإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه وقع عليها
الطلاق لوجود الصفة. وهكذا إن كانت في طهر لم يجامعها فيه، ولكنها أسند خلت
ماء الزوج، وقع عليها الطلاق لاحتمال أن تكون علقت منه، وان وطئها في
الدبر أو فيما دون الفرج ولم يتحقق وصول الماء إلى رحمها فليس بطلاق توقعه.
وإن كانت العدة واجبة عليها لأن العدة تجب مرة لبراءة الرحم ومرة للتعبد.
وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه لم يقع عليها الطلاق، فإذا طعنت في الحيض أو
غيب الحشفة في الفرج بعد ذلك وقع عليها الطلاق لوجود الصفة
(فرع) إذا تزوج امرأة حاملا من الزنا فهل يجوز له وطؤها قبل وضعها؟
فيه وجهان المشهور أنه يجوز.
إذا ثبت هذا ودخل بها ثم قال لها: أنت طالق للسنة لم تطلق حتى تلد وتطهر
من النفاس، لان هذا الحمل لا حكم له فكان وجوده كعدمه
ونخلص إلى فرع آخر ذكره الشافعي في الام: إذا قال لمن لها سنة وبدعة في
طلاق: أنت طالق للسنة ان كنت ممن يقع عليها طلاق السنة، فإن كانت في طهر
لم يجامعها فيه وقع عليها الطلاق لوجود الصفة وإن كانت في طهر جامعها فيه أو
حائضا لم يقع عليها الطلاق لعدم الصفة، فان طلقت بعد ذلك في الطهر لم يقع
عليها الطلاق لأنه شرط أن يكون حال عقد الطلاق ممن يقع عليها طلاق السنة
ولم توجد الصفة.
وان قال لها: أنت طالق للبدعة ان كنت الا ممن يقع عليها طلاق البدعة،
فإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه، وقع عليها الطلاق لوجود الصفة، وإن كانت
في طهر لم يجامعها فيه لم يقع عليها الطلاق، فإن جامعها أو حاضت لم يقع
عليها الطلاق، لأنه شرط أن يكون حال عقد الطلاق ولم يوجد الشرط، وإن كانت
في طهر لم يجامعها فيه فقال: أنت طالق للبدعة فقد قلنا: لا يقع عليها
الطلاق في الحال، فان قال أن أردت طلاق السنة، وإنما سبق لساني في البدعة،
وقع عليها الطلاق، لان فيه تغليظا عليه
ونستطرد إلى فرع آخر في المسألة هذه: إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا
للسنة وكانت في طهر لم يجامعها فيه وقع عليها الثلاث، لان السنة والبدعة للوصف
158

عندنا دون العدد، فإن قال أردت السنة على مذهب مالك وأبي حنيفة أنه يقع في
كل هذه طلقه لم يقبل في الحكم، لأنه تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه،
ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه يحتمل ما يدعيه، بدليل أنه لو صرح به في
الطلاق حمل عليه، فيقع عليها في الحال طلقه، فإن لم يراجعها فإنها إذا حاضت
ثم طهرت طلقت أخرى. ثم إذا حاضت وطهرت طلقت الثالثة وبانت وان
راجعها بعد الأولة ووطئها فإنها إذا حاضت وطهرت طلقت الثانية وبأول الطهر
فإذا راجعها ثانيا ووطئها ثم حاضت وطهرت طلقت الثالثة وبانت واستأنفت
العدة. وان راجعها ولم يطأها حتى حاضت ثم طهرت طلقت الثانية بأول الطهر
الثاني، فإن راجعها ثانيا ولم يطأها حتى حاضت وطهرت وقعت الثالثة وبانت.
وهل تبنى على عدتها أو تستأنف؟ على القولين اللذين يأتي ذكرهما. قال الشافعي
رضي الله عنه: ويسعه أن يطأها وعليها الهرب وله الطلب، لأنه يعتقدها زوجته
وهي تعتقد أنها غير زوجته.
وثم فرع آخر وهو: إن قال لمن لها سنة وبدعة في الطلاق: أنت طالق للسنة
وأنت طالق للبدعة، وقع عليها في الحال طلقه وفى الحالة الثانية طلقة أخرى.
وإن قال أنت طالق طلقتين للسنة والبدعة ففيه وجهان
(أحدهما) يقع عليها في الحال طلقتان لأن الظاهر عود الصفتين إلى كل
واحدة من الطلقتين، وإيقاع كل واحدة من الطلقتين على الصفتين لا يمكن،
فسقطت الصفتان وبقيت الطلقتان فوقعتا.
(والثاني) يقع عليها في الحال طلقه، فإذا صارت في الحالة الثانية وقعت
عليها الثانية: لأن الظاهر أنها تعود إلى غير الانقاص
وإن قال لها أنت طالق ثلاثا للسنة وثلاثا للبدعة وقع عليها في الحال ثلاث
لأنها في إحدى الحالتين وبانت بها.
وإن قال لها أنت طالق ثلاثا بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة وأطلق ذلك ولم
يقيده بلفظ ولا نيه وقع عليها في الحال طلقتان. وإذا صارت إلى الحالة الأخرى
وقع عليها الطلقة الثالثة
وقال المزني: يقع عليها في الحال الطلقة وفى الحال الثانية طلقتان، لان
159

البعض يقع على الأقل والأكثر فأوقعنا الواحدة لأنها بيقين، وما زاد مشكوك
فيه، فالمذهب الأول لأنه أضاف الثلاث إلى الحالتين وساوى بينهما في الإضافة
فالظاهر أنه أراد التسوية بينهما في الثلاث، كما لو قال بعض هذه الدار لزيد وبعضها
لعمرو فإنها تكون بينهما نصفين، وإذا كان كذلك كان للحالة الأولة طلقه
ونصف فسرى هذا النصف فوقع طلقتان
فإن قيل هلا قلتم يقع في الحال ثلاث طلقات لأنه يقتضى أن تكون بعض
كل طلقه من الثلاث للسنة وبعضها للبدعة، فيخص كل طلقه ثلاثة أبعاض من
الثلاث طلقات فنكمل الابعاض
فالجواب أنا لا نقول هذا، لان كل عدد أمكن قسمته قسمه صحيحه من غير
كسر لم يجز قسمته على الكسر. وفى مسألتنا يمكن قسم طلقتين من الثلاث جبرا
على الحالين فلم يتبعضا.
وإن قيد ذلك باللفظ بأن قال أنت طالق ثلاثا نصفها للسنة ونصفها للبدعة
وقع طلقتان وفى الحال الثانية طلقه لما ذكرناه. وان قال واحدة للسنة واثنتين
للبدعة، أو قال اثنتين للسنة وواحدة للبدعة حمل على ما قيده بقوله وان لم يقيده
باللفظ بل قال أنت طالق ثلاثا بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة، ثم قال أنا أردت
نصفهن للسنة ونصفهن للبدعة. أو أردت في الحالة الأولى طلقتين وفى الثانية
طلقه حمله على ذلك، لأنه لو لم ينو ذلك لحمل اطلاقه عليه فكذلك إذا نواه.
وان قال أردت في الحالة الأولى طلقه وفى الحالة الثانية طلقتين، فاختلف أصحابنا
فيه: فقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يقبل في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله
تعالى، لأن الظاهر أنه أراد التسوية فلا يقبل قوله فيما يخالف الظاهر ومنهم
من قال في الحكم وهو الصحيح، لان البعض يقع على الأقل والأكثر.
فإذا أخبر أنه نوى ذلك قبل منه كما لو قيده باللفظ. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال إن قدم فلان فأنت طالق، فقدم وهي في طهر لم يجامع
فيه وقع طلاق سنه، وان قدم وهي حائض أو في طهر جامعها فيه وقع طلاق بدعه
160

إلا أنه لا يأثم لأنه لم يقصد، كما إذا رمى صيدا فأصاب آدميا فقتله، فإن القتل
صادف محرما لكنه لم يأثم لعدم القصد. وان قال إن قدم فلان فأنت طالق
للسنة فقدم وهي في حال السنة طلقت. وان قدم وهي في حال البدعة لم تطلق
حتى تصير إلى السنة، لأنه علقه بعد القدوم بالسنة
(فصل) وان قال أنت طالق أحسن الطلاق وأكمله وأعدله، وما أشبهها
من الصفات الحميدة، طلقت للسنة لأنه أحسن الطلاق وأكمله وأعدله، وإن قال
أردت به طلاق البدعة، واعتقدت أن الأعدل والأكمل في حقها لسوء عشرتها
أن تطلق للبدعة نظرت، فإن كان ما يدعيه من ذلك أغلظ عليه، بأن تكون في
الحال حائضا أو في طهر جامعها فيه، وقع طلاق بدعة، لان ما ادعاه أغلظ عليه
واللفظ يحتمله فقبل منه. وإن كان أخف عليه بأن كانت في طهر لم يجامع فيه دين
فيما بينه وبين الله عز وجل، لأنه يحتمل ما يدعيه ولا يقبل في الحكم، لأنه
مخالف للظاهر.
فإن قال أنت طالق أقبح الطلاق وأسمجه وما أشبههما من صفات الذم طلقت
في حال البدعة لأنه أقبح الطلاق وأسمجه. وان قال أردت طلاق السنة واعتقدت
أن طلاقها أقبح الطلاق وأسمجه لحسن دينها وعشرتها، فإن كان ذلك أغلظ عليه
لما فيه من تعجيل الطلاق، قبل منه لأنه أغلظ عليه واللفظ يحتمله، وإن كان
أخف عليه لما فيه من تأخير الطلاق دين فيما بينه وبين الله عز وجل، لأنه
يحتمل ولا يقبل في الحكم لأنه مخالف للظاهر. وان قال أنت طالق طلاق الحرج
طلقت للبدعة، لان الحرج فيما خالف السنة وأثم به.
(الشرح) إذا قال: قدم فلان فأنت طالق، فقدم وهي في حال السنة،
طلقت طلاق السنة، وان قدم وهي في حال البدعة طلقت طلاق البدعة الا أنه
لا يأثم لأنه لم يقصد إليه
وان قال أنت طالق إذا قدم فلان للسنة - فان قدم وهي في حال السنة -
طلقت لوجود الصفة وإن كانت في حال البدعة لم تطلق لعدم الصفة، فإذا صارت
161

بعد ذلك إلى حال السنة وقع عليها الطلاق، لان الشرطين قد وجدا.
قال صاحب الفروع: ويحتمل أن لا يقع عليها الطلاق حينئذ أيضا، لان ظاهر
الشرطين أن يكونا معتبرين حالة القدوم، والمنصوص هو الأول.
وإن قال أنت طالق رأس الشهر للسنة. قال في الام: فإن كانت رأس الشهر
في طهر لم يجامعها فيه طلقت. وإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه رأس
الشهر لم تطلق، فإذا طهرت بعد ذلك من غير جماع وقع عليها الطلاق. وعلى
الوجه الذي خرجه صاحب الفروع في التي قبلها يحتمل ان لا يقع عليها الطلاق
ههنا بالطهر بعد رأس الشهر، إلا أن المنصوص الأول.
(فرع) قال في الام: إذا قال لامرأته وهي ممن تحيض قبل الدخول: أنت
طالق إذا قدم فلان للسنة، فدخل بها قبل أن يقدم فلان ثم قدم وهي طاهر غير
مجامعة وقع عليها الطلاق، وإن قدم وهي حائض أو في طهر جامعها فيه - قال
أصحابنا: فالذي يجئ على قول الشافعي أنها لا تطلق حتى تصير إلى زمان السنة،
لأنه يعتبر صفتها حين قدومه لا حين عقد الصفة، فلو لم يدخل بها وقدم فلان
طلقت لأنه ليس في طلاقها سنه ولا بدعه - فان دخل بها الزوج وقال ما أردت
بقولي طلاق سنة الزمان، وإنما أردت سنة طلاقها قبل الدخول، وقع عليها
الطلاق بقدوم فلان، سواء كانت في زمان السنة أو في زمان البدعة
(مسألة) قوله " وإن قال أنت طالق أحسن الطلاق الخ " وهذا صحيح. فإنه
إذا قال أنت طالق أعدل الطلاق أو أحسنه أو أكمله أو أفضله أو أتمه - ولم يكن
له نيه - طلقت للسنة لأنه أعدل الطلاق وأحسنه، فإن كانت في طهر لم يجامعها
فيه وقع عليها الطلاق. وإن كانت له نيه - فإن كانت نيته موافقة لظاهر قوله -
كانت تأكيدا، وان خالفت ظاهر قوله بأن قال: أردت به طلاق البدعة
واعتقدت أنه الأعدل والأحسن في طلاقها لسوء عشرتها. وهذا مثل تأويله
لقوله تعالى " ادفع بالتي هي أحسن " حين يقول: رأيت أن التي هي أحسن أن
أضرب أو أصفع من يرتكب المخالفة أو ما إلى ذلك، لأنني لو عاملته باللين
لسدر في غوايته وأمعن في ضلالته، ففي الشدة الحسنى وفى اللين السوأى
162

في بعض الأحوال، فإن كانت حال العقد في حال البدعة وقع عليها الطلاق، لان
في ذلك تغليظا عليه فقبل، وإن كانت في حال عقد الطلاق في حال السنة لم يقبل
قوله في الحكم لأنه يريد تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه فلم يقبل ويدين فيما
بينه وبين الله تعالى، لأنه يحتمل ما يدعيه، ولهذا لو صرح به حال عقد الطلاق
قبل. وإن قال أنت طالق أقبح الطلاق وأسمجه، والسماجة ضد الملاحة. ولبن
سمج لا طعم له. أو قال أفحشه أو ما أشبه ذلك كان من صفات الذم. فإن لم يكن
له نية طلقت للبدعة، فإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه طلقت لان ذلك
أقبح الطلاق وأفحشه. وإن كانت في طهر لم يجامعها فيه لم تطلق. فإذا طلقت
في الحيض أو جامعها طلقت.
وإن كانت له نيه. فان وافقت نيته ظاهر قوله. وهو أن ينوى طلاق البدعة
قبل منه وكانت نيته تأكيدا، وان خالفت ظاهر قوله بأن قال: نويت طلاق
السنة واعتقدت أن الأقبح في حقها طلاق السنة لحسن عشرتها. فإن كانت حال
عقد الطلاق في طهر لم يجامعها فيه وقع عليها الطلاق لان فيه تغليظا عليه.
وإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه لم يقبل في الحكم لأنه يدعى خلاف
الطهر. ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لاحتمال ما يدعيه
وان قالت أنت طالق أكمل الطلاق اجتنابا. قال الصيمري طلقت ثلاثا لأنه
أكمل الطلاق اجتنابا. وان قال أنت طالق طلقه حسنه قبيحة وقع عليها في الحال
طلقه، واختلف أصحابنا في علته، فمنهم من قال لأنه وصفها بصفتين لا يمكن
وجودهما معا وقد وجدت إحداهما فوقع بها الطلاق، ومنهم من قال لأنه
وصفها بصفتين متضادتين فسقطتا وبقى مجرد الطلاق فوقع
قال ابن الصباغ: وهذا أقيس. لان وقوع الطلقة بإحدى الصفتين ليس
بأولى من الأخرى
(فرع) وإن قال لامرأته، أنت طالق طلاق الحرج وقع عليها طلقه رجعية
وقال علي بن أبي طالب: يقع عليها الثلاث في الحال، دليلنا أن الحرج الضيق
والاثم، ولا يأثم إلا بطلاق البدعة
163

وان قال: أنت طالق طلاق الحرج والسنة وقع عليها في الحال طلقه، لأنه
وصفها بصفتين متضادتين فسقطتا وبقى الطلاق مجردا فوقع والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال لها وهي حائض: إذا طهرت فأنت طالق، طلقت
بانقطاع الدم لوجود الصفة، وإن قال لها ذلك وهي طاهر لم تطلق حتى تحيض
ثم تطهر، لان " إذا " اسم للزمان المستقبل فاقتضى فعلا مستأنفا، ولهذا لو قال
لرجل حاضر: إذا جئتني فلك دينار لم يستحق بهذا الحضور حتى يغيب ثم يجيئه
وإن قال لها وهي طاهر: إن حضت فأنت طالق، طلقت برؤية الدم، وإن قال
لها ذلك وهي حائض لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض لما ذكرناه في الطهر. فإن قال
لها وهي حائض: إن طهرت طهرا فأنت طالق لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض،
لأنه لا يوجد طهر كامل إلا أن تطعن في الحيض الثاني
وإن قال لها ذلك وهي طاهر لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر ثم تحيض، لان
الطهر الكامل لا يوجد إلا بما ذكرناه.
وإن قال: إن حضت حيضة فأنت طالق، فإن كانت طاهرا لم تطلق حتى
تحيض ثم تطهر، وإن كانت حائضا لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، لما
ذكرناه في الطهر.
(فصل) وإن قال أنت طالق ثلاثا في كل قرء طلقه نظرت، فإن كانت
لها سنة وبدعة في طلاقها نظرت، فإن كانت طاهرا طلقت طلقة لان ما بقي من
الطهر قرء، وإن كانت حائضا لم تطلق حتى تطهر ثم يقع في كل طهر طلقة، وان
لم يكن لها سنة ولا بدعة - نظرت فإن كانت حاملا - طلقت في الحال طلقة،
لان الحمل قرء يعتد به، وإن كانت تحيض على الحمل لم تطلق في أطهارها لأنها
ليست بأقراء، ولهذا لا يعتد بها، فإن راجعها قبل الوضع وطهرت في النفاس
وقعت طلقة أخرى، فإذا حاضت وطهرت وقعت الثالثة، وإن كانت غير
مدخول بها وقعت عليها طلقه وبانت، فإن كان صغيرة مدخولا بها طلقت في
164

الحال طلقه، فإن لم يراجعها حتى مضت ثلاثة أشهر بانت، وان راجعها لم تطلق
في الطهر بعد الرجعة لأنه هو الطهر الذي وقع فيه الطلاق.
(الشرح) إذا قال لامرأته وهي طاهر: إذا حضت فأنت طالق فرأت الدم
في زمان امكانه وقع الطلاق عليها ويكون بدعيا، فإن استمر بها الدم يوما وليلة
استقر الطلاق. وان انقطع لدون اليوم والليلة واتصل بعده طهر صحيح حكمنا
بان الطلاق لم يقع.
وان قال لها وهي حائض: إذا حضت فأنت طالق - فاختلف أصحابنا فيه -
فقال الشيخ أبو إسحاق الأسفراييني والقاضي أبو القاسم الصيمري: لا يقع الطلاق
حتى تطهر من هذا الحيض ثم تطعن في الحيضة الثانية، وبه قال أبو يوسف،
لان قوله، إذا حضت أو ان حضت، يقتضى الاستقبال. وقال ابن الصباغ يقع
عليها الطلاق بما يتجدد من حيضها، لأنه قد وجد منها الحيض فوقع الطلاق
لوجود صفته كما لو قال للصحيحة: إذا صححت فأنت طالق، فإنه يقع عليها الطلاق
في الحال. وان قال لامرأته كلما حضت فأنت طالق، فإذا رأت الدم طلقت برؤيته
فإذا انقطع الدم وطهرت طهرا كاملا ثم رأت الدم طلقت طلقه ثانيه، فإذا
طهرت ثم رأت الدم طلقت ثالثه، لان " كلما " تقتضي التكرار وتكون
الطلقات كلها بدعية.
(فرع) وان قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق - فإن كان طاهرا - لم
تطلق حتى تحيض ثم تطهر لأنه قال حيضه. وذلك لا يوجد الا بطهرها من
الحيض، وإن كانت حائضا لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ويكون الطلاق
سببا لأنه يقع بأول الطهر
وان قال: كلما حضت حيضة فأنت طالق، فإذا حاضت حيضة كاملة بعد عقد
الصفة، وقع عليها طلقه بأول جزء من الظهر بعد الحيض، ثم إذا حاضت الثانية
وطهرت منه طلقت ثانية بأول جزء من الطهر، ثم إذا حاضت الثالثة وطهرت
منه طلقت الثالثة بأول جزء من الطهر، لان " كلما " تقتضي التكرار، وتكون
الطلقات للسنة،
165

وإن قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، وإذا حضت حيضتين فأنت
طالق، فإنها إذا حاضت حيضة وقع عليها طلقة بانقطاع الدم لوجود الحيضة،
فإذا حاضت حيضة ثانية وقع عليها حيضة ثانية بانقطاع دمها من الحيضة الثانية
لأنها مع الأولة حيضتان.
وإن قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق، ثم إذا حضت حيضتين فأنت
طالق، فإذا انقطع دمها من الحيضة الأولة وقع عليها طلقة لوجود الصفة، وان
حاضت بعدها حيضة ثانية لم تطلق حتى تطهر من الحيضة الثالثة لان ثم للترتيب
والواو للجمع.
(فرع) وإن قال لامرأته وهي حائض: إذا طهرت فأنت طالق، طلقت
بانقطاع الدم لوجود الشرط ويكون الطلاق سببا، لأنه يقع في الطهر، وان قال
لها كذلك وهي طاهر، قال الشيخ أبو إسحاق هنا: لم تطلق حتى تحيض ثم تطهر
لان " إذا " اسم لزمان مستقبل، وعلى قياس قول ابن الصباغ في الحيض تطلق
عقيب قوله. وان قال لها: إذا طهرت طهرا فأنت طالق - فإن كانت حال عقد
الصفة حائضا لم تطلق حتى تطهر ثم تحيض، وإن كانت طاهرا لم تطلق حتى
تحيض ثم تطهر ثم تحيض، لأنه لا يوجد الطهر الكامل الا بذلك، ويكون الطلاق
بدعيا، لأنه يقع بأول جزء من الحيض ويأثم به.
وان قال لها: أنت طالق في كل طهر طلقة - فإن كانت طاهرا - طلقت طلقه
وان رأت الدم وانقطع طلقت الثانية، وإذا رأت الدم ثانيا وانقطع طلقت الثالثة
وإن كانت حال العقد حائضا لم تطلق حتى ينقطع الدم فتطلق، ثم بانقطاع الحيض
الثاني تطلق ثانية، ثم بانقطاع الحيض الثالث تطلق الثالثة، وان رأت الدم
على الحمل - فإن قلنا: إنه حيض - طلقت بانقطاعه، ويتكرر عليها الطلاق
في الحمل بانقطاع كل دم على هذا القول.
قوله " في كل قرء " قال ابن بطال: القرء الحيض والقرء أيضا الطهر وهو
من الأضداد. وفيه لغتان قرء بالفتح وقرء بالضم وجميعه قروء وأقراء.
قال الشاعر:
مورثة مالا وفى الحي رفعة * لما ضاع فيها من قروء نسائكا
166

وهو الوقت فقيل للحيض والطهر قرء، لأنهما يرجعان لوقت معلوم.
وأصله الجمع، وكل شئ قرأته قد جمعته اه‍.
وقال في المصباح في غريب الشرح الكبير للرافعي: والقرء فيه لغتان الفتح
وجمعه قروء وأقروء مثل فلس وفلوس وأفلس والضم ويجمع على أقراء مثل قفل
وأقفال. قال أئمة اللغة: ويطلق على الطهر والحيض، وحكاه ابن فارس أيضا
ثم قال: ويقال: إنه للطهر، وذلك أن المرأة الطاهر كأن الدم اجتمع في بدنها
وامتسك. ويقال: إنه للحيض، ويقال: أقرأت إذا حاضت، وأقرأت إذا
طهرت فهي مقرئ، وأما ثلاثة قروء، فقال الأصمعي: هذه الإضافة على غير
قياس، والقياس ثلاثة أقراء، لأنه جمع قلة مثل ثلاثة أفلس، وثلاثة رجلة،
ولا يقال: ثلاثة فلوس ولا ثلاثة رجال.
وقال النحويون: هو على التأويل والتقدير ثلاثة من قروء، لان العدد
يضاف إلى مميزه وهن من ثلاثة إلى عشرة قليل، والمميز هو المميز، فلا يميز
القليل بالكثير. قال: ويحتمل عندي أنه قد وضع أحد الجمعين في موضع الاخر
اتساعا لفهم المعنى، هذا ما نقل عنه، وذهب بعضهم إلى أن مميز الثلاثة إلى العشرة
يجوز أن يكون جمع كثرة من غير تأويل، فيقال: خمسه كلاب وستة عبيد،
ولا يجب عند هذا القائل أن يقال: خمسة أكلب ولا ستة أعبد، وقرأت
أم الكتاب في كل قومة وبأم الكتاب يتعدى بنفسه وبالباء قراءة وقرءآنا ثم
استعمل القرآن اسما مثل الشكران والكفران. وإذا أطلق انصرف شرعا إلى المعنى
القائم بالنفس ولغة إلى الحروف المقطعة لأنها هي التي تقرأ نحو كتبت القرآن
ومسسته، والفاعل قارئ، وقرأة وقراء. وقارئون مثل كافر وكفرة وكفار
وكافرون. وقرأت على زيد السلام أقرؤه عليه قراءة
أما الأحكام: فإنه ان قال لها: أنت طالق ثلاثا في كل قرء طلقه. فإن كانت
حاملا طاهرا وقع عليها في الحال طلقه. وإن كانت حاملا حائضا - فإن قلنا: إن
الدم على الحمل ليس بحيض - وقع عليها طلقه. وان قلنا: إنه حيض
فاختلف أصحابنا فيه. فقال الشيخان أبو إسحاق المروزي وأبو حامد الأسفراييني
167

يقع عليها الطلاق: لان زمان الحمل كله قرء واحد بدليل أن العدة لا تنقضي إلا
بالوضع. وقال المسعودي والقاضي أبو الطيب: لا يقع عليها الطلاق حتى تطهر
لان الأقراء عندنا الأطهار، وهذا حيض فلم يقع عليها الطلاق، وبه قال
المسعودي، وهل يتكرر الطلاق في كل طهر على الحمل؟ فيه وجهان.
(أحدهما) لا يتكرر، لأن العدة لا تنقضي بثلاثة منها.
(والثاني) يتكرر وهو الاقيس، لأنه طهر من حيض، وإذا وقع على
الحامل طلقة نظرت - فإن لم يراجعها حتى وضعت - انقضت عدتها وبانت منه
ولا يلحقها بعد ذلك طلاق، وإن استرجعها قبل أن تضع لم تطلق حتى تطهر من
النفاس، ثم إذا طهرت من الحيض بعد النفاس وقعت عليها الثالثة، وإن كانت
حاملا مدخولا بها نظرت - فإن كانت حائضا - لم يقع عليها الطلاق في الحال،
لان الحيض ليس بقرء، فإذا انقطع دمها وقعت عليها طلقة، فإذا حاضت
وانقطع دمها وقعت عليها الثانية بأول جزء من الطهر، فإذا حاضت الثالثة وانقطع
دمها بأول جزء من الطهر - ولا فرق في هذا بين أن يراجعها أو لا يراجعها -
فإن كانت طاهرا حين عقد الطلاق وقع عليها طلقة، لان بقية الطهر قرء إن كان
قد جامعها في هذا الطهر - وقعت الطلقة بدعية، وإن لم يجامعها فيه وقعت سنية
فإذا حاضت ثم طهرت طلقت الثانية بأول جزء من الطهر ثم إذا حاضت وطهرت
طلقت الثانية بأول جزء من الطهر، ولا فرق في هذا أيضا بين أن يراجعها
أو لا يراجعها، وإن كانت غير مدخول بها، فإن كانت طاهرا وقعت عليها طلقة
ولا تقع عليها الثالثة والثانية بالطهر الثاني والثالث، لأنها تبين بالأولة فلم يلحقها
ما بعدها، وإن كانت حال العقد حائضا ففيه وجهان حكاهما ابن الصباغ.
(أحدهما) تقع عليها طلقة وتبين بها لأنها ليست من أهل سنة الطلاق
وبدعته (والثاني) وهو قول القاضي أبى الطيب: أنه لا يقع عليها طلاق حتى
تطهر من حيضها، لان الأقراء هي الأطهار، فإذا طهرت وقعت عليها طلقة
بانت بها، وإن كانت صغيرة مدخولا بها وقع عليها في الحال طلقة، فإذا مضت
ثلاثة أشهر ولم يراجعها بانت ولم تلحقها الثانية ولا الثالثة، وإن راجعها قبل
168

انقضاء عدتها لم تطلق حتى ترى الحيض ثم تطهر فتقع عليها في الحال طلقة وبانت
بها ولا تلحقها الثانية والثالثة، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: هل يقع على الصغيرة طلقة في الحال؟ على وجهين بناء على
أنها إذا حاضت فهل يحتسب على فيها؟ على قولين، وإن كانت آيسة غير
مدخول بها وقعت عليها طلقة وبانت ولا تلحقها الثانية والثالثة، وإن كانت
مدخولا بها وقعت عليها طلقة، فإن لم يراجعها حتى انقضت ثلاثة أشهر بانت
ولم تلحقها الثانية والثالثة، وان راجعها قبل انقضاء الثلاثة لم تلحقها الثانية
والثالثة إلا إن عاودها الدم، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: هل يلحقها في الحال طلقة؟ على وجهين، فان عاودها الدم
علمنا أنه وقع عليها طلقة حال عقد الطلاق وجها واحدا والله تعالى أعلم بالصواب
وهو حسبي ونعم الوكيل.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال: إن حضت فأنت طالق فقالت: حضت فصدقها طلقت
وان كذبها فالقول قولها مع يمينها لأنه لا يعرف الحيض الا من جهتها، وان قال
لها قد حضت فأنكرت طلقت باقراره، وان قال: إن حضت فضرتك طالق
فقالت: حضت، فان صدقها طلقت ضرتها، وان كذبها لم تطلق، لان قولها
يقبل على الزوج في حقها ولا يقبل على غيرها الا بتصديق الزوج كالمودع يقبل
قوله في رد الوديعة على المودع، ولا يقبل في الرد على غيره.
وان قال: إذا حضت فأنت وضرتك طالقان، فقالت: حضت، فان صدقها
طلقتا، وان كذبها وحلفت طلقت هي ولم تطلق ضرتها. وان صدقتها الضرة
على حيضها لم يؤثر تصديقها، ولكن لها أن تحلف الزوج على تكذيبها، وان قال
إذا حضتما فأنتما طالقان، فان قالتا: حضنا فصدقهما طلقتا، وان كذبهما لم تطلق
واحدة منهما، لان طلاق كل واحدة منهما معلق على شرطين. حيضها وحيض
صاحبتها، ولا يقبل قول كل واحدة منهما الا في حيضها في حقها نفسها دون
صاحبتها، ولم يوجد الشرطان. وان صدق إحداهما وكذب الأخرى طلقت
169

المكذبة لأنها غير مقبولة القول على صاحبتها ومقبولة القول في حق نفسها، وقد
صدق الزوج صاحبتها فوجد الشرطان في طلاقها، فطلقت، والمصدقة مقبولة
القول في حيضها في حق نفسها، وقد صدقها الزوج، وقول صاحبتها غير مقبول
في حيضها في طلاقها ولم يوجد الشرطان في حقها فلم تطلق
(الشرح) الأحكام: إذا قال لامرأته إذا حضت فأنت طالق، فقالت حضت
فان صدقها الزوج وقع عليها الطلاق لأنه اعترف بوجود شرط الطلاق، وان
كذبها فالقول قولها مع يمينها، لان الحيض تستر به المرأة ولا يمكنها إقامة البينة
عليه فكان القول قولها.
وان قال لها ان حضت فضرتك طالق، فقالت حضت، فان صدقها وقع على
ضرتها الطلاق، وان كذبها لم يقع الطلاق على ضرتها، والفرق بينهما ان في
الأولة الحق لها فحلفت على اثبات حق نفسها. وههنا الحق لضرتها، والانسان
لا يحلف لاثبات الحق لغيره فتبقى الخصومة بين الزوج والضرة، فان قالت الضرة
قد حاضت، وقال الزوج لم تحض فالقول قول الزوج مع يمينه، لأنه يساوى
الضرة في الجهل بحيض الأخرى وللزوج ميزته عليها، لان الأصل بقاء الزوجية
فكان القول قوله، والذي يقتضى المذهب أنه يحلف: ما يعلم أنها حاضت، لأنه
يحلف على نفى فعل غيره.
وان قال لها: ان حضت فأنت وضرتك طالقان، فقالت حضت، فان صدقها
طلقتا، وان كذبها حلفت ولم تطلق ضرتها لأنها تحلف على اثبات حق نفسها ولا
تحلف لاثبات حق ضرتها. وان ادعت عليه الضرة حلف لها على ما مضى، وان
قال لهما: ان حضتما فأنتما طالقان، فان قالتا حضنا فصدقهما طلقتا، وان كذبهما
لم تطلق واحدة منهما، لان طلاق كل واحدة معلق بحيضها وحيض صاحبتها،
وقول كل واحدة منهما لا تقبل في حق غيرها فحلف لهما.
وان صدق إحداهما وكذب الأخرى طلقت المكذبة إذا حلفت دون المصدقة
لأنه قد اعترف بحيض المصدقة، والقول قول المكذبة مع يمينها في حيضتها في
حق نفسها، فوجد الشرط في طلاقها.
170

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال لامرأتين إن حضتما حيضة فأنتما طالقان، ففيه وجهان
(أحدهما) ان هذا الصفة لا تنعقد لأنه يستحيل اجتماعهما في حيضة فبطل
(والثاني) أنهما إذا حاضتا وقع الطلاق، لان الذي يستحيل هو قوله حيضه
فيلغى لاستحالتها، ويبقى قوله إن حضتما، فيصير كما لو قال: إن حضتما فأنتما
طالقتان، وقد بينا حكمه
(فصل) وان قال لأربع نسوة: إن حضتن فأنتن طوالق، فقد علق طلاق
كل واحدة منهن بأربع شرائط، وهي حيض الأربع. فإن قلن حضنا وصدقهن
طلقن، لأنه قد وجد حيض الأربع، وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن، لأنه
لم يثبت حيض الأربع، لان قول كل واحدة منهن لا يقبل إلا في حقها، وان
صدق واحدة أو اثنتين لم تطلق واحدة منهن لأنه لم يوجد الشرط، وإن صدق
ثلاثا وكذب واحدة طلقت المكذبة. لان قولها مقبول في حيضها في حق نفسها
وقد صدق الزوج صواحبها فوجد حيض الأربع في حقها فطلقت. ولا تطلق
المصدقات لان قول كل واحدة منهن مقبول في حيضها في حقها، غير مقبول في
حق صواحبها وقد بقيت واحدة منهن مكذبة فلم تطلق لأجلها.
(فصل) وإن قال لهن: كلما حاضت واحدة منكن فصواحبها طوالق فقد
جعل حيض كل واحدة منهن صفة اطلاق البواقي، فإن قلن حضنا فصدقهن
طلقت كل واحدة منهن ثلاثا، لان لكل واحدة منهن ثلاث صواحب تطلق
بحيض كل صاحبة طلقة، فطلقت كل واحدة منهن ثلاثا. وإن كذبن لم تطلق
واحدة منهن، لان كل واحدة منهن - وإن قبل قولها في حقها - إلا أنه لا يقبل
في حق غيرها. وان صدق واحدة منهن وقع على كل واحدة منهن طلقه،
لان لكل واحدة منهن صاحبه ثبت حيضها، ولا يقع على المصدقة طلاق لأنه
ليس لها صاحبه ثبت حيضها.
وان صدق اثنتين وقع على كل واحدة منهما طلقه، لان لكل واحدة منهما
صاحبه ثبت حيضها، ويقع على كل واحدة من المكذبتين طلقتان، لان لكل
171

واحدة منهما صاحبتين ثبت حيضهما، فإن صدق ثلاثا وقع على كل واحدة منهن
طلقتان، لان لكل واحدة منهن صاحبتين ثبت حيضهما ووقع على المكذبة ثلاث
تطليقات لان لها ثلاث صواحب ثبت حيضهن.
(الشرح) إن قال لامرأتين: إن حضتما حيضه فأنتما طالقتان ففيه وجهان
(أحدهما) لا تنعقد هذه الصفة، لأنه يستحيل اشتراكهما في حيضه
(والثاني) ينعقد وهو الأصح، وإذا حاضتا طلقتا، لان الذي يستحيل هو
قوله حيضه فسقط وصار كما لو قال: إن حضتما فأنتما طالقتان، هكذا ذكر أصحابنا
وذكر الشيخ أبو حامد الأسفراييني في التعليق أنه يقع عليهما الطلاق في الحال
لأنه علق الطلاق بشرط يستحيل وجوده، فألغى وقوع الطلاق في الحال كما لو
قال لمن لا سنة في طلاقها ولا بدعه: أنت طالق للسنة أو للبدعة، فإنها
تطلق في الحال.
(فرع) وإن كان له أربع زوجات فقال لهن، ان حضتن فأنتن طوالق، فقلن
حضنا وصدقهن طلقن لوجود الصفة في حقهن. وإن كذبهن لم تطلق واحدة
منهن لأنه علق طلاق كل واحدة بحيضهن، ولم توجد الصفة. وان صدق واحدة
أو اثنتين لم تطلق واحد منهن، وان صدق ثلاثا وكذب واحدة طلقت المكذبة
إذا حلفت دون المصدقات لأنه قد وجد حيض الأربعة في حقها، لأنه قد صدق
الثلاث، وقولها مقبول مع يمينها في حيضها في حق نفسها، ولا يطلقن لان حيض
المكذبة لم يوجد في حقهن بل يحلف الزوج لهن.
(فرع) وإن كان له أربع زوجات فقال لهن: أيتكن حاضت فصواحبها
طوالق، فقد علق طلاق كل واحدة بحيض صاحبتها: فإن قلن حضنا، فإن كذبهن
حلف لهن ولم تطلق واحدة منهن، لان كل واحدة منهن لا تحلف لاثبات حق
صاحبتها، إن صدقهن وقع على كل واحدة من المصدقات طلقه لأنه ما ثبت لكل
واحدة منهما الا صاحبة حاضت، ووقع على كل واحدة من المكذبات طلقتان،
لان لها صاحبتين ثبت حيضهما. وان صدق ثلاثا وكذب واحدة طلقت المكذبة
لان لها ثلاث صواحب ثبت حيضهن وطلق كل واحدة من المصدقات كل واحدة
172

طلقتين، لان لكل واحدة منهن صاحبتين ثبت حيضهما، وإن كان له ثلاث نسوة
فقال: أيتكن حاضت فصاحبتاها طالقتان، فإن قلنا حضنا فصدقهن طلقت كل
واحدة طلقتين، وإن كذبهن لم تطلق واحدة منهن. وإن صدق واحدة وكذب
اثنتين لم تطلق المصدقة وطلقت المكذبتان طلقه طلقه، وإن صدق اثنتين وكذب
واحدة طلقت المكذبة طلقتين وطلقت المصدقتان طلقه طلقه لما ذكرناه في الأولة
(فرع) قال أبو القاسم الصيمري: إذا قال لها إذا حضت يوم الجمعة فأنت
طالق فابتدأها الحيض قبل الفجر، ثم أصبحت يوم الجمعة حائضا لم يقع عليها
الطلاق. ولو بدأها الحيض بعد الفجر أو عند طلوع الشمس طلقت. ولو قالت
لا أعلم أبدأ قبل الفجر أم بعده وقع الطلاق في الظاهر لأنا على يقين من حصوله
فإن قال لها: إذا حضت في نهار يوم الجمعة فأنت طالق، فحاضت بعد طلوع
الشمس يوم الجمعة وقع عليها الطلاق. وإن حاضت بعد الفجر وقبل طلوع
الشمس ففيه وجهان حكاهما الصيمري
وإن قال: إذا رأيت دما فأنت طالق فحاضت أو استحيضت أو نفست وقع
الطلاق. فإن قال: أنا أردت دما غير هذا الذي رأيته لا يقبل منه في الحكم لأنه
يدعى خلاف الظاهر ودين فيما بينه وبين الله تعالى. لأنه يحتمل ما يدعيه، فلو
رعفت أو حكت جرحا فخرج منه دم: قال الصيمري: الظاهر أن لا يقع عليها
الطلاق، لان إطلاق الدم لا ينصرف الا إلى الحيض أو الاستحاضة والنفاس،
قال وفيه احتمال.
وإن قال لصغيرة: إذا حضت فأنت طالق لم تطلق حتى تحيض. وان قال لها
ان طهرت فأنت طالق لم تطلق حتى ترى النقاء بعد الحيض. لان حقيقة الطهر
في الاطلاق، هذا وإن قال للآيسة إذا حضت فأنت طالق لم تطلق لان الصفة
لا توجد. وأن قال لها: إن طهرت فأنت طالق. قال الصيمري لم تطلق، لان
حقيقة ذلك أن تدخل في طهر بعد حيض، وهذا لا يوجد في حقها
(مسألة) كل ما قررنا في الفروع من هذه متفق عليها بين الفقهاء إلا ما كان
من تعليق طلاقه على حيضها، إذ لو بان أن الدم ليس بحيض لانقطاعه لدون
أقل الحيض بان أن الطلاق لم يقع، وبهذا قال الثوري وأحمد وأصحاب الرأي
173

قال ابن المنذر: لا نعلم أحدا قال غير ذلك إلا مالكا فإن ابن القاسم روى
عنه أنه يحنث حين تكلم به، وكذلك ما كان من قوله للحائض: إذا طهرت فأنت
طالق طلقت بأول الطهر، أعني بانقطاع دم الحيض قبل الغسل، ونص على ذلك
أحمد في رواية إبراهيم الحربي، إلا أن أبا بكر من أصحاب أحمد في كتابه التنبيه
قال: إنها لا تطلق حتى تغتسل بناء على أن العدة لا تنقضي بانقطاع الدم حتى
تغتسل. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال لامرأته: ان لم تكوني حاملا فأنت طالق، لم يجز
وطؤها قبل الاستبراء، لان الأصل عدم الحمل ووقوع الطلاق، فإن لم يكن بها
حمل طلقت. وان وضعت حملا لأقل من ستة أشهر من وقت عقد الطلاق لم تطلق
لأنا تيقنا أنها كانت حاملا عند العقد. وان وضعته لأكثر من أربع سنين طلقت
طلقه لأنا تيقنا أنها لم تكن حاملا عند العقد
وان وضعته لما بين ستة أشهر وأربع سنين نظرت فإن لم يطأها الزوج في
هذه المدة لم يقع الطلاق لأنا حكمنا بأنها كانت حاملا عند العقد. وإن كان
وطئها نظرت. فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من وقت والوطئ ولأكثر من
ستة أشهر من وقت العقد لم يقع الطلاق لأنا حكمنا أنها كانت حاملا وقت العقد
وان وضعته لأكثر من ستة أشهر من وقت العقد والوطئ جميعا، ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق أنها تطلق لأنه يجوز أن يكون قبل الوطئ.
ويجوز أن يكون حدث من الوطئ. والظاهر أنه حدث من الوطئ. لان الأصل
فيما قبل الوطئ لعدم.
(والثاني) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة أنها لم تطلق لأنه يحتمل أن يكون
موجودا عند العقد، ويحتمل أن يكون حادثا من الوطئ بعده والأصل بقاء
النكاح. وإن قال لها ان كنت حاملا فأنت طالق يحرم وطؤها قبل الاستبراء
فيه وجهان (أحدهما) لا يحرم لان الأصل عدم الحمل وثبوت الإباحة
(والثاني) يحرم لأنه يجوز أن تكون حاملا فيحرم وطؤها، ويجوز أن
174

لا تكون حاملا فيحل وطؤها فغلب التحريم، فإن استبرأها ولم يظهر الحمل فهي
على الزوجية، وان ظهر الحمل نظر، فإن وضعت لأقل من ستة أشهر من وقت
عقد الطلاق حكم بوقوع الطلاق، لأنا تيقنا أنها كانت حاملا وقت العقد. وان
وضعته لأكثر من أربع سنين من وقت العقد لم تطلق، لأنا علمنا أنها لم تكن
حاملا، وان وضعته لأكثر من ستة أشهر ودون أربع سنين نظرت فإن كان
الزوج لم يطأها طلقت لأنا حكمنا أنها كانت حاملا وقت العقد. وان وطئها
نظرت فإن وضعته لدون ستة أشهر من وقت الوطئ وقع الطلاق. لأنا حكمنا
انها كانت حاملا وقت العقد. وان وضعته بعد ستة أشهر من بعد وطئه لم يقع
الطلاق وجها واحدا لأنه يجوز أن يكون موجودا وقت العقد ويجوز أن يكون
حدث بعده فلا يجوز أن يوقع الطلاق بالشك
واختلف أصحابنا في صفة الاستبراء ووقته وقدره، فذكر الشيخ أبو حامد
الأسفرايني رحمه الله في الاستبراء في المسئلتين ثلاثة أوجه: أحدهما ثلاثة أقراء
وهي أطهار، لأنه استبراء حرة فكان بثلاثة أطهار. والثاني بطهر لان القصد
براءة الرحم فلا يزاد على قرء. واستبراء الحرة لا يجوز الا بالطهر، فوجب
أن يكون طهرا. والثالث أنه بحيضة لان القصد من هذا الاستبراء معرفة براءة
الرحم. والذي يعرف به براءة الرحم الحيض. وهل يعتد بالاستبراء قبل عقد
الطلاق؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يعتد لان الاستبراء لا يجوز أن يتقدم على سببه
(والثاني) يعتد به لان القصد معرفة براءة الرحم. وذلك يحصل وان تقدم
ومن أصحابنا من قال في المسألة الثانية الاستبراء على ما ذكرناه. لان الاستبراء
لاستباحة الوطئ. فأما في المسألة الأولى فلا يجوز الاستبراء بدون ثلاثة أطهار
ولا يعتد بما وجد منه قبل الطلاق لأنه استبراء حرة للطلاق فلا يجوز بما دون
ثلاثة أطهار. ولا بما تقدم على الطلاق كالاستبراء في سائر المطلقات
(الشرح) إذا قال لامرأته: ان لم تكوني حاملا فأنت طالق. وان كنت
حاملا فأنت طالق حرم عليه وطؤها قبل أن يستبرئها. لان الأصل عدم الحمل
175

وبهذا قال أحمد وأصحابه. وبماذا يجب استبراؤها؟ فيه وجهان: أحدهما بثلاثة
أقراء، لان الحرة تعتد بثلاثة أقراء كذا هذه. والثاني بقرء واحد لان براءة
الرحم تعلم بذلك، فإذا قلنا يستبرئ بثلاثة أقراء كانت أطهارا. وإذا قلنا
تستبرئ بقرء ففيه وجهان (أحدهما) أنه الطهر لان القرء عندنا الطهر
(والثاني) أنه الحيض لان معرفة براءة الرحم لا تحصل إلا بالحيض، فإذا قلنا
إنه الطهر. فإن كانت حائضا وطهرت وطعنت في الحيض الثاني حصل براءة
الرحم. وإن كانت طاهرا لم يكن بقية الطهر قرءا حتى يكمل الحيض بعده، لان
بعض الطهر لا تحصل به معرفة البراءة فكمل بالحيضة بعده.
وإذا قلنا إنه الحيض، فإن كانت حائضا لم يعتد ببقية الحيض، فإذا طهرت
وأكملت الحيضة بعده حصل براءة رحمها. وإن كانت طاهرا فمتى تكمل الحيضة؟
بعده؟ وهل يكفي استبراؤها قبل أن يطلقها؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يكفي لان
الاستبراء لا يعتد به قبل وجود سببه كالمشتراة (والثاني) يعتد به لان الغرض
معرفة براءة رحمها. ولهذا لو كانت صغيرة وقع عليها الطلاق من غير استبراء.
وذلك يحصل باستبرائها قبل الطلاق
وإذا استبرأت بثلاثة أقراء أو بقرء - فإن لم تظهر بها أمارات الحمل - حكم
بوقوع الطلاق حين حلف، فإن كانت استبرأت بثلاثة أقراء بعد اليمين فقد
انقضت عدتها. وان استبرأت بقرء فقد بقي عليها من العدة قرءان، وان ظهر
بها الحمل نظرت، فان وضعت لدون ستة أشهر من حين حلف لم يقع الطلاق،
فان وضعته لأكثر من أربع سنين من حين حلف حكمنا بأنها كانت حائلا وأن
الطلاق وقع عليها، وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى تمام أربع سنين بأن لم
يطأها الزوج بعد الطلاق حكمنا بأن الحمل كان موجودا حين اليمين وان الطلاق لم
يقع، وإن كان الزوج قد راجعها بعد الطلاق ووطئها نظرت، فان وضعته لدون
ستة أشهر من حين الوطئ علمنا أن الحمل كان موجودا حين حلف وأن الطلاق
لم يقع. وان وضعته لستة أشهر فما زاد من وقت الوطئ، ففيه وجهان: قال
أبو إسحاق: يقع عليها الطلاق، لان الأصل عدم الحمل وقت اليمين. وقال أبو علي
ابن أبي هريرة: لا يقع عليها الطلاق لأنه يحتمل أنه كان موجودا وقت اليمين.
176

ويحتمل أنه حدث من الوطئ، والأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق فلا تبطل
دلالة اليقين بالشك، وقد رد العمراني قول أبي هريرة بأن هذا ليس بصحيح
لأنه ظهر لنا عدمه قبل الوطئ بدلالة
وقد نص الإمام أحمد أنه ان قال: إن لم تكوني حاملا فأنت طالق ولم تكن
حاملا طلقت، وإن أتت بولد لأقل من ستة أشهر من حين اليمين أو لأقل من
أربع سنين ولم يكن يطؤها لم تطلق، لأنا تبينا أنها كانت حاملا بذلك الولد. وان
قال: إن كنت حاملا فأنت طالق، فهي عكس المسألة قبلها ففي الموضع الذي يقع
الطلاق هناك لا يقع ههنا، وفى الموضع الذي لا يقع هناك يقع ههنا، إلا أنها
إذا أتت بولد لأكثر من ستة أشهر من حين وطئ الزوج بعد اليمين ولأقل من
أربع سنين من حين عقد الصفة لم تطلق وأن النكاح باق، والظاهر حدوث الولد
بعد الوطئ لان الأصل عدمه قبله، ولا يحل له الوطئ حتى يستبرئها. هكذا نص
أحمد كما أفاده ابن قدامة في مغنيه
(فرع) فأما إذا قال لها: ان كنت حاملا فأنت طالق، فعليه أن يستبرئها
لأنا لا نعلم الحمل وعدمه الا بالاستبراء، وفى كيفية الاستبراء ووقته ما ذكرناه
في الأولة. وهل يحرم عليه وطؤها قبل أن يعلم براءة رحمها بالاستبراء؟ فيه
وجهان (أحدهما) لا يحرم لان الأصل عدم الحمل وثبوت الإباحة (والثاني) يحرم
لأنه يجوز أن تكون حاملا فيحرم وطؤها. ويجوز أن تكون حاملا فيحل
وطؤها فغلب التحريم - فإن استبرأت ولم يظهر بها الحمل - علمنا أنها كانت
حائلا وقت الحلف ولم يقع عليها الطلاق. وإن ظهر بها الحمل نظرت. فإن وضعته
لأقل من ستة أشهر من حين حلف الطلاق - علمنا أنها كانت حاملا وقت اليمين
وأن الطلاق وقع عليها.
وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من وقت اليمين علمنا أنها كانت حاملا حين
اليمين وأن الطلاق لم يقع عليها، وإن وضعته لستة أشهر فما زاد إلى أربع سنين
أو ما دونها من حين اليمين، فإن لم يطأها الزوج بعد اليمين، فإن وضعته لدون
ستة أشهر من وقت الوطئ حكمنا بوقوع الطلاق لأنا لا نعلم أنه كان موجودا حين
177

اليمين، وان وضعته لستة أشهر فما زاد من وقت الوطئ لم يقع الطلاق وجها
واحدا، لأنه يجوز أن يكون موجودا حال اليمين، ويجوز أن يكون حدث من
الوطئ فلا يقع الطلاق بالشك. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا قال لامرأته: ان ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ولدا طلقت
حيا كان أو ميتا، لان اسم الولد يقع على الجميع، فان ولدت آخر لم تطلق لان
اللفظ لا يقتضى التكرار.
وإن قال: كلما ولدت ولدا فأنت طالق فولدت ولدين من حمل، واحدا بعد
واحد، طلقت بالأول ولم تطلق بالثاني. وان ولدت ثلاثة أولاد واحدا بعد
واحد طلقت بالأول طلقة وبالثاني طلقه ولا يقع بالثالث شئ.
وحكى أبو علي بن خيران عن الاملاء قولا آخر أنه يقع بالثالث طلقه
أخرى، والصحيح هو الأول، لأن العدة انقضت بالولد الأخير فوجدت الصفة
وهي بائن فلم يقع بها طلاق، كما لو قال: إذا مت فأنت طالق، وان ولدت ثلاثة
دفعه واحدة طلقت ثلاثا: لان صفة الثلاث قد وجدت وهو زوجة فوقع،
كما لو قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق، وان كلمت عمرا فأنت طالق، وان كلمت
بكرا فأنت طالق، فكلمتهم دفعة واحدة طلقت ثلاثا
وان قال: ولدت ذكرا فأنت طالق طلقه واحدة. وان ولدت أنثى فأنت
طالق طلقتين، فوضعت ذكرا وأنثى دفعة واحدة طلقت ثلاثا. وان وضعت
أحدهما بعد الآخر وقع بالأول ما علق عليه ولم يقع بالثاني شئ لبينونتها بانقضاء
العدة وهذا ظاهر. وان لم تعلم كيف وضعتهما طلقت طلقة لأنها يقين، والورع
أن يلتزم الثلاث.
وإن قال: يا حفصة إن كان أول ما تلدين ذكرا فعمرة طالق، وإن كان أنثى
فأنت طالق، فولدت ذكرا وأنثى دفعة واحدة لم تطلق واحدة منهما لأنه ليس
فيهما أول: وان قال إن كان في بطنك ذكر فأنت طالق طلقه، وإن كان في
بطنك أنثى فأنت طالق طلقتين فوضعت ذكرا وأنثى طلقت ثلاثا لاجتماع الصفتين
178

وإن قال: إن كان حملك أو ما في بطنك ذكرا فأنت طالق، فوضعت ذكرا
وأنثى لم تطلق، لان الصفة أن يكون جميع ما في البطن ذكرا ولم يوجد ذلك.
(الشرح) الأحكام. قوله: إذا قال لامرأته: إن ولدت ولدا فأنت طالق الخ
فجملة ذلك أنه إذا قال لها ذلك فولدت ولدا حيا كان أو ميتا وقع عليها الطلاق
لوقوع اسم الولد عليه، فإن قالت ولدت فصدقها الزوج أو كذبها فأقامت عليه
بينة حكم عليه بوقوع الطلاق. والذي يقتضى المذهب انها إذا أقامت أربع نسوة
على الولادة وقع عليها الطلاق ويثبت النسب بذلك. وان ولدت آخر لم تطلق به
لان قوله لا يقتضى التكرار
وإن قال: كلما ولدت ولدا فأنت طالق، فولدت ثلاثة أولاد واحدا بعد
واحد، بين كل ولدين دون ستة أشهر، طلقت بالأول طلقة، وطلقت بالثاني
طلقة لأنها رجعية عند وضع الثاني، والرجعية يلحقها الطلاق، وكل ما يقتضى
التكرار، فإذا ولدت الثالث لم يقع به طلاق
وحكى أبو علي بن خيران أن الشافعي قال في بعض أماليه القديمة: إنها تطلق
به طلقه ثالثة، وأنكر أصحابنا هذا وقالوا: لا نعرف هذا للشافعي في قديم ولا
جديد، لان عدتها تنقضي بوضع الثالث، فتوجد الصفة وهي ليست بزوجته.
فلم يقع عليها طلاق، كما لو قال لها: إذا مت فأنت طالق فمات فإنها لا تطلق،
وتأولوا هذه الحكاية على أنه راجعها بعد ولادة الثاني فولدت الثالث وهي زوجة
وان ولدت أربعة واحدا بعد واحد من حمل طلقت بالأول طلقة، وبالثاني طلقة
وبالثالث طلقه، وبانت وانقضت عدتها بوضع الرابع
وان وضعت الثلاثة دفعة واحدة طلقت الثلاث، لان الصفات وجدت
وهي زوجة، وان وضعت الثاني لستة أشهر فما زاد من وضع الأول طلقت
بالأول طلقه ولم تطلق بالثاني ولا بالثالث، لأنها من حمل آخر، وان ولدت
ولدين واحدا بعد الآخر من حمل واحد طلقت بالأول طلقه وانقضت عدتها
بوضع الثاني، ولم تطلق به إلا على الحكاية التي حكاها ابن خيران، وان وضعتها
دفعة واحدة طلقت بوصفها طلقتين
179

(فرع) وان قال لها: ان ولدت ذكرا فأنت طالق طلقة، وان ولدت أنثى
فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا طلقت واحدة واعتدت بالأقراء، وان
ولدت أنثى طلقت طلقتين واعتدت بالأقراء، وان ولدت ذكرا وأنثى دفعه
واحدة طلقت ثلاثا لوجود الصفتين واعتدت بالأقراء، وان ولدت الذكر أولا
ثم ولدت الأنثى بعده وبينهما أقل من ستة أشهر طلقت لولادة الذكر طلقة
وانقضت عدتها بوضع الأنثى ولم تطلق بولادتها إلا على الحكاية التي حكاها ابن
خيران، وان ولدت الأنثى أولا ثم ولدت الذكر بعده من حمل واحد طلقت
بولادة الأنثى طلقتين وانقضت عدتها بولادة الذكر ولا تطلق به الا على ما حكاه
ابن خيران. وان ولدتهما واحدا بعد واحد ولم يعلم السابق منهما طلقت واحدة
لأنه هو اليقين وما زاد مشكوك فيه، والورع يقتضيه أن يلتزم اثنتين، وان لم
يعلم هل وضعتهما معا أو واحدا بعد واحد؟ لم تطلق الا واحدة لأنه يقين،
والورع أن يلتزم الثلاث لجواز أن تكون ولدتهما معا
وإن ولدت ذكرا وأنثيين من حمل واحد نظرت فإن ولدت الذكر أولا ثم أنثى ثم أنثى طلقت
بولادة الذكر طلقة وبالأنثى طلقتين وبانت وانقضت عدتها بوضع الثانية
وان ولدت أولا أنثى ثم الذكر ثم الأنثى، طلقت بالأنثى الأولة طلقتين وبالذكر
طلقه وبانت وانقضت عدتها بوضع الثالثة
وان ولدت الأنثيين أولا واحدة بعد واحدة ثم الذكر بعدهما طلقت بالأولة
طلقتين ولم تطلق بالأنثى الثانية لئلا يقتضى التكرار، وانقضت عدتها بوضع
الذكر، ولا تطلق به على المذهب الا على ما حكاه ابن خيران
وإن ولدت الذكر أولا ثم ولدت الأنثيين بعده دفعة واحدة طلقت بالذكر
طلقة وانقضت عدتها بوضع الأنثيين ولا تطلق بهما على المذهب، وان ولدت
الذكر وأنثى بعده دفعة واحدة ثم ولدت الأنثى بعدهما طلقت بوضع الأنثى والذكر
ثلاثا وانقضت عدتها بوضع الثانية، بهذا كله قال أحمد وأصحابه وأبو ثور
وأصحاب الرأي.
(فرع) وإن قال لامرأته: إن كان أول ولد تلدينه ذكرا فأنت طالق، وإن كان
أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا وأنثى نظرت فإن ولدت الذكر
180

أولا طلقت طلقه. فإذا ولدت الأنثى بعده انقضت عدتها بولادتها ولا تطلق
بولادتها، وإن ولدت الأنثى أولا طلقت بها طلقتين وانقضت عدتها بولادة
الذكر ولا تطلق به، وإن أشكل الأول منهما طلقت واحدة لأنها يقين وما زاد
مشكوك فيه. وإن ولدتهما معا لم تطلق لأنه ليس فيهما أول
وإن قال: إن كان أول ولد تلدينه غلاما فأنت طالق طلقه، وإن كان آخر
ولد تلدينه جارية فأنت طالق ثلاثا فولدت غلاما وجاريه من حمل واحد.
واحدا بعد الآخر - فإن ولدت الغلام أولا - طلقت طلقة، لان الاسم
الأول يقع عليه وانقضت عدتها بولادة الجارية، ولا يقع عليها طلاق بولادتها
وإن ولدت الجارية أولا ثم الغلام بعدها لم تطلق، لأنه لا يقال لها آخر الا إذا
كان قبلها أول. وإذا ولدت الغلام بعدها لم تطلق لأنه ليس بأول.
وان ولدت ولدا واحدا لا يمين. قال ابن الحداد: فإن كان غلاما وقع عليها
طلقه، لان اسم الأول واقع عليه، وإن كان جارية لم يقع عليها شئ لان اسم
الآخر لا يقع عليها، لان الآخر يقتضى أن يكون قبله أول. ولا يقتضى الأول
أن يكون بعده آخر.
قال القاضي أبو الطيب: ينبغي أن يقال في الغلام مثله، لأنه لما لم يقع
اسم الآخر إلا لما قبله أولا، فكذلك لا يقع اسم الأول إلا لما بعده آخر.
(فرع) وإن قال لها: إن ولدت ولدا فأنت طالق، وإن ولدت غلاما فأنت
طالق، فإن ولدت أنثى طلقت طلقة لأنه يقع عليها اسم الولد. وإن ولدت
غلاما طلقت طلقتين لأنه توجد فيه الصفتان وهما ولد والغلام، كما لو قال لها:
إن كلمت رجلا فأنت طالق، وإن كلمت شيوعيا فأنت طالق، فكلمت رحلا
شيوعيا طلقت طلقتين.
(فرع) وان قال لها: إن كان في جوفك ذكر فأنت طالق طلقه، وإن كان
في جوفك أنثى فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت ذكرا طلقت طلقه من حين حلف
وانقضت عدتها بوضع الغلام، وان ولدت أنثى طلقت طلقتين حين حلف
وانقضت عدتها بالولادة، وان ولدت ذكرا وأنثى من حمل واحد طلقت ثلاثا
لوجود الصفتين، سواء ولدتهما واحدا بعد واحد أو ولدتهما معا لان الصفة أن
181

ما في جوفها وينبغي أن يقال إنها تطلق إذا ولدت لدون ستة أشهر من حين
عقد الصفة، سواء وطئها أو لم يطأها. وان ولدت لستة أشهر فما زاد إلى أربع
سنين من حين اليمين نظرت - فإن لم يطأها بعد اليمين - طلقت، وان وطئها
بعد اليمين - فان ولدت لستة أشهر فما زاد من وقت الوطئ - لم تطلق لجواز
أن يكون الولد حدث من الوطئ بعد اليمين، فلم يكن في جوفها وقت اليمين.
وان ولدت لدون ستة أشهر من وقت الوطئ طلقت لأنا تيقنا أنه لم يحدث من
الوطئ بعد اليمين.
وان قال لها: إن كان ما في جوفك أو حملك ذكرا فأنت طالق طلقة، وإن كان
أنثى فأنت طالق طلقتين فولدت لأقل من ستة أشهر من وقت اليمين أو لستة
أشهر فما زاد ولم يطئها أو وطئها بعد اليمين وولدته لأقل من ستة أشهر من حين
الوطئ نظرت فإن ولدت ذكرا طلقت طلقه حين العقد وانقضت عدتها بولادته
وان ولدت أنثى من حمل واحد لم تطلق سواء ولدت أحدهما بعد الاخر أو ولدتهما
معا، لأنه شرط أن يكون ما في جوفها أو جميع حملها ذكرا أو جميع حملها أنثى
ولم يوجد ذلك فلم تطلق
(فرع) وان قال لها: ان كنت حاملا بغلام فأنت طالق طلقه، وان ولدت
جاريه فأنت طالق طلقتين، فإن ولدت غلاما طلقت طلقه حين عقد الصفة
وانقضت عدتها بوضع الغلام. وان ودلت جاريه لا غير طلقت طلقتان بولادتها
واعتدت بثلاثة أقراء، وان ولدت غلاما وجاريه من حمل واحد نظرت، فإن
ولدت الغلام أولا ثم الجارية بعده، تبينا أنه وقع عليها طلقه حين عقد الصفة.
وانقضت عدتها بولادة الجارية ولا يقع عليها طلاق بولادة الجارية لان الصفة
وجدت وهي غير زوجه، الا على حكاية ابن خيران
وان ولدت الجارية ثم الغلام بعدها تبينا أنه وقع عليها طلقه حين عقد الصفة
لكونها حاملا بغلام ووقع عليها طلقتان بولادة الجارية وانقضت عدتها بولادة
الغلام. وهكذا الحكم إذا ولدتهما معا.
وان ولدت أحدهما بعد الاخر ونسي الأول منهما طلقت طلقه لأنها يقين.
وما زاد مشكوك فيه فلم يقع
182

(فرع) قال ابن الحداد: إذا قال لها: كلما ولدت فأنت طالق للسنة فولدت
ولدا وبقى في بطنها آخر طلقت بالأول طلقة لأنها حامل بعد ولادة الأول ولا
سنة في طلاقها ولا بدعة، لان عدتها تنقضي بوضع الولد الثاني، فإن لم يراجعها
قبل وضع الولد الثاني لم تطلق بولادة الثاني، لان عدتها تنقضي بولادته، فإن
راجعها قبل ولادة الثاني لم تطلق حتى تطهر من نفاسها.
وإن قال لها: إن ولدت فأنت طالق فخرج بعض الولد ومات أحد الزوجين
قبل استكمال خروج الولد لم تطلق، لأنه بخروج بعض الولد لا يقال ولدت،
بخلاف ما لو علق الطلاق على الحيض، فإنها تطلق برؤية الدم، لأنه يقال
لها: حاضت.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا قال للمدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال لها أنت
طالق وقعت طلقتان، إحداهما بقوله أنت طالق والأخرى بوجود الصفة، وإن
قال لم أرد بقولي إذا طلقتك فأنت طالق عقد الطلاق بالصفة، وإنما أردت أنى
إذا طلقتك تطلقين بما أوقع عليك من الطلاق لم يقبل قوله في الحكم لأن الظاهر أنه
عقد طلاقا على صفة ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه
وإن قال: إن طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها: ان دخلت الدار فأنت طالق،
فدخلت الدار وقعت طلقتان إحداهما بدخول الدار والأخرى بوجود الصفة،
لان الصفة أن يطلقها، وان علق طلاقها بدخول الدار فدخلت فقد طلقها.
وان قال لها مبتدئا: ان دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال إذا طلقتك فأنت طالق
فدخلت الدار وقعت طلقه بدخول الدار ولا تطلق بقوله إذا طلقتك فأنت طالق
لان هذا يقتضى ابتداء إيقاع بعد عقد الصفة، وما وقع بدخول الدار ليس
بابتداء ايقاع بعد عقد الصفة، وإنما هو وقوع بالصفة السابقة لعقد الطلاق،
فإن قال إن طلقتك فأنت طالق، ثم وكل من يطلقها فطلقها وقعت الطلقة التي
أوقعها الوكيل ولا يقع ما عقده على الصفة، لان الصفة أن يطلقها بنفسه. وان
قال إذا أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق ثم قال لها ان دخلت الدار فأنت طالق
183

فدخلت فقد قال بعض أصحابنا انها تطلق طلقه بدخول الدار ولا تطلق بقوله
إذا أوقعت عليك، لان قوله إذا أوقعت عليك يقتضى طلاقا يباشر ايقاعه،
وما يقع بدخول الدار يقع حكما
قال الشيخ الامام: وعندي أنه يقع طلقتان. إحداهما بدخول الدار والأخرى
بالصفة. كما قلنا فيمن قال: إذا طلقتك فأنت طالق، ثم قال إذا دخلت الدار
فأنت طالق فدخلت الدار.
وان قال كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها أنت طالق طلقت طلقتين.
إحداهما بقوله أنت طالق والأخرى بوجود الصفة ولا تقع الثالثة بوقوع الثانية
لان الصفة ايقاع الطلاق والصفة لم تتكرر فلم يتكرر الطلاق
(فصل) وان قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال لها أنت
طالق وقعت طلقتان، طلقه بقوله أنت طالق وطلقة بوجود الصفة. وان قال
لها بعد هذا العقد أو قبله: ان دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار طلقت
طلقتين طلقه بدخول الدار وطلقة بوجود الصفة، وان وكل وكيلا بعد هذا
العقد في طلاقها فطلقها ففيه وجهان:
(أحدهما) يقع ما أوقعه الوكيل ولا يقع ما علقه بالصفة كما قلنا فيمن قال
إذا طلقتك فأنت طالق ثم وكل من يطلق
(والثاني) أنه يقع طلقتان، طلقه بإيقاع الوكيل وطلقة بالصفة، لان الصفة
وقوع طلاق الزوج، وما وقع بإيقاع الوكيل هو طلاق الزوج. وان قال إذا
طلقتك فأنت طالق وإذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال لها أنت طالق
وقع الثلاث طلقه بقوله أنت طالق وطلقتان بالصفتين، وان قال كلما وقع عليك
طلاقي فأنت طالق ثم أوقع عليها طلقه بالمباشرة أو نصفه عقدها قبل هذا العقد
أو بعده طلقت ثلاثا واحدة بعد واحدة، لان بالطلقة الأولى توجد صفة الطلقة
الثانية وبالثانية توجد صفة الطلقة الثالثة
(الشرح) الأحكام: إذا قال لها: إذا وقع عليك الطلاق فأنت طالق ثم
قال: أنت طالق وقع عليها طلقتان، طلقه بالمباشرة وطلقة بالصفة. وهكذا
184

لو قال لها بعد عقد الصفة أو قبلها: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت وقع
عليها طلقتان بخلاف ما لو قال إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال لها بعد ذلك إذا
طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار، فإنها لا تطلق إلا طلقة، لان الصفة
ههنا وقوع طلاقه، وقد وجد، وفى تلك الصفة إحداثه الطلاق ولم يوجد.
وإن قال لها: ان دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها: إذا طلقتك فأنت
طالق ثم دخلت الدار وقع عليها طلقة بدخول الدار ولا تطلق بقوله: إذا
طلقتك فأنت طالق، لان معنى قوله: طلقتك أي إذا أحدثت طلاقك، وعقد
الطلاق بدخول الدار كان سابقا لهذا. وان قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق ثم
وكل من يطلقها وقع عليها ما أوقعه الوكيل لا غير، ولا تطلق بالصفة لأنه لم
يطلقها، وان قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق ثم أعاد هذا القول لم تطلق، لان
تعليق الطلاق ليس بشرط.
وان قال لها: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم وكل من يطلقها، ففيه
وجهان (أحدهما) يقع عليها ما أوقعه الوكيل لا غير، كما قلنا في قوله: إذا
طلقتك فأنت طالق (والثاني) يقع عليها طلقتان، طلقة بايقاع الوكيل، وطلقة
بالصفة، لان الصفة وقوع طلاق الزوج، وما أوقعه الوكيل هو طلاق الزوج.
وان قال لها: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، وإذا طلقتك فأنت طالق،
فإنه لا يقع بهذا طلاق لأنهما تعليقان للطلاق، فان أوقع عليها بعد ذلك طلقة
بالمباشرة أو بالصفة وقع عليها ثلاث طلقات، طلقه بايقاعه وطلقتان بالصفتين
وان قال لها: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم أوقع عليها طلقة بالمباشرة
أو بصفة عقدها بعد هذا القول أو قبله وقع عليها ثلاث طلقات لان " كلما " تقتضي
التكرار فإذا أوقع عليها طلقه اقتضى وقوعها وقوع طلقه ثانيه واقتضى وقوع الثانية
وقوع الثالثة. وان قال لها كلما طلقتك فأنت طالق ثم قال لها أنت طالق وقع عليها
طلقه بالمباشرة وطلقة بالصفة ولا تقع عليها الثالثة بوقوع الثانية. لان الصفة
ايقاع الطلاق، والصفة لم تكرر فلم يتكرر الطلاق.
قال ابن الصباغ: وهكذا إذا قال: كلما أوقعت عليك طلاقي فأنت طالق
185

ثم قال لها أنت طالق وقع عليها طلقتان ولا تقع الثالثة لما ذكرناه. وإن قال:
كلما أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق ثم قال لها: أنت طالق وقع عليها طلقتان
طلقة بالمباشرة وطلقة بالصفة ولا تقع الثالثة بوقوع الثانية لأنه لم يوقع الثانية،
وإنما وقعت حكما.
وإن قال: إذا أوقعت عليك أو كلما أوقعت عليك الطلاق فأنت طالق،
ثم قال لها بعد ذلك: ان دخلت الدار فأنت طالق فدخلت الدار وقع عليها طلقه
بدخول الدار، وهل تقع عليها طلقة بالصفة الأولة؟ اختلف أصحابنا فيه، فقال
الشيخ أبو حامد والمحاملي: لا يقع عليها لان الصفة إن وقع عليها الطلاق ولم
يوقع هذه الطلقة وإنما وقعت بالصفة فلم يوجد شرط الثانية.
وقال الشيخ أبو إسحاق وابن الصباغ: تقع الثانية لان الصفة توقع الطلاق
عليها، وإذا علق الطلاق بصفة فوجدت الصفة فهو الموقع للطلاق كما قلنا
فيه: إذا قال لها إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال لها: ان دخلت الدار فأنت طالق
(فرع) إن كان له زوجتان حفصة وزينب، فقال لزينب كلما طلقت حفصة
فأنت طالق وقال لحفصة كلما طلقت زينب فأنت طالق فقد جعل طلاق كل
واحدة منهما صفة للأخرى وعقد صفة طلاق زينب أولا فينظر فيه، فإن بدأ
وقال لزينب أنت طالق وقع عليها طلقه بالمباشرة ويقع على حفصة بهذه الطلقة
طلقه بالصفة وبوقوع هذه الطلقة على حفصة تقع طلقه ثانيه على زينب بالصفة
لان حفصة بهذه الطلقة طلقت بصفة تأخرت عن عقد صفة طلاق زينب فهو
محدث لطلاقها فصار كما قلنا فيه: إذا قال لها كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال
لها بعد ذلك: ان دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت الدار وقع عليها طلقه
بدخول الدار وأخرى بوجود الصفة، لأنه قد أحدث طلاقها بعد أن عقدت لها
الصفة. وإن كان أحدثه بصفة لا بمباشرة
وإن بدأ فقال لحفصة: أنت طالق وقع عليها طلقه بالمباشرة، وبوقوع هذه
الطلقة على حفصة تقع طلقه على زينب بالصفة ولا يعود الطلاق إلى حفصة لأنه
ما أحدث طلاق زينب بعد عقد صفة طلاق حفصة، وإنما هذه الصفة سابقه
لصفة طلاق حفصة فهو كما قلنا فيه: إذا قال لها ان دخلت الدار فأنت طالق،
186

ثم قال بعد ذلك: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم دخلت الدار لم تطلق الا واحدة
بدخول الدار.
وإن قال لزينب: إذا طلقتك فحفصة طالق، ثم قال لحفصة: إذا طلقتك
فزينب طالق، فان بدأ وقال لزينب أنت طالق وقع عليها طلقه بالمباشرة وبوقوع
هذه الطلقة على زينب تطلق حفصة طلقه بالصفة، وبوقوع هذه الطلقة على
حفصة لا يعود الطلاق على زينب، لأنه ما وجد شرط وقوعها، لان قوله
لحفصة: إذا طلقتك فزينب طالق، معناه إذا أحدثت طلاقك ولم يحدث طلاقها
بعد هذا العقد، وإنما طلقتك بالصفة السابقة، فهو كما قلنا فيه: إذا قال لها ان
دخلت الدار فأنت طالق، ثم قال لها: إذا طلقت فأنت طالق ثم دخلت الدار
فإنها تطلق طلقه بدخول الدار لا غير.
وان بدأ فقال لحفصة: إذا طلقت زينب أنت طالق طلقت حفصة بالمباشرة
وبوقوع هذه الطلقة بقع على زينب طلقه بالصفة، وبوقوع هذه الطلقة على
زينب تقع على حفصة طلقة بائنة بالصفة، لأنه قال لزينب إذا طلقتك فحفصة
طالق، قيل إن قال لحفصة: إذا طلقتك فزينب طالق فهو كما قلنا فيه: إذا قال
لها إذا طلقتك فأنت طالق ثم قال لها: ان دخلت الدار فأنت طالق ثم دخلت
الدار وقع عليها طلقتان، طلقه بدخول الدار وطلقة بوجود الصفة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال لغير المدخول بها إذا طلقتك فأنت طالق أو إذا وقع
عليك طلاقي فأنت طالق، أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فوقعت عليها
طلقه بالمباشرة أو بالصفة لم يقع غيرها لأنها تبين بها فلم يلحقها ما بعدها
(فصل) وان قال متى لم أطلقك أو أي وقت لم أطلقك فأنت طالق فهو
على الفور، فإذا مضى زمان يمكنه أن يطلق فيه فلم يطلق وقع الطلاق. وان
قال: إن لم أطلقك فأنت طالق فالمنصوص أنه على التراخي ولا يقع به الطلاق
الا عند فوات الطلاق وهو عند موت أحدهما
وإن قال: إذا لم أطلقك فأنت طالق فالمنصوص أنه على الفور، فإذا مضى
187

زمان يمكنه أن يطلق فلم يطلق وقع الطلاق، فمن أصحابنا من نقل جواب كل
واحدة منهما إلى الأخرى فجعلهما على قولين، ومنهم من حملهما على ظاهرهما
فجعل قوله إن لم أطلقك على التراخي، وجعل قوله إذا لم أطلقك على الفور،
وهو الصحيح، لان قوله إذا اسم لزمان مستقبل، ومعناه أي وقت ولهذا يجاب
به عن السؤال عن الوقت فيقال متى ألقاك؟ فتقول إذا شئت كما تقول أي وقت
شئت فكان على الفور، كما لو قال أي وقت لم أطلقك فأنت طالق وليس كذلك
(إن) فإنه لا يستعمل في الزمان، ولهذا لا يجوز أن يقال متى ألقاك، فتقول إن
شئت وإنما يستعمل في الفعل ويجاب بها عن السؤال عن الفعل فيقال هل ألقاك
فنقول ان شئت فيصير معناه ان فاتني أن أطلقك فأنت طالق، والفوات يكون
في آخر العمر.
وإن قال لها كلما لم أطلقك فأنت طالق فمضى ثلاثة أوقات لم تطلق فيها وقع
عليها ثلاث طلقات واحدة بعد واحدة، لان معناه كلما سكت عن طلاقك فأنت
طالق، وقد سكت ثلاث سكنات
(الشرح) الأحكام: إذا كان له امرأة غير مدخول بها. فقال لها: إذا طلقتك
فأنت طالق، أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق، أو كلما أوقعت عليك
الطلاق أو كلما طلقتك فأنت طالق، ثم قال لها بعد ذلك أنت طالق لم يقع عليها
الا الطلقة التي أوقعها لأنها بائنة بها، والبائن لا يلحقها طلاق.
وان قال لها: ان دخلت الدار فأنت طالق وطالق، فدخلت الدار فقيه وجهان
حكماهما العمراني عن القاضي أبى الطيب (أحدهما) يقع طلقتان لأنهما يقعان
بالدخول من غير ترتيب (والثاني) لا يقع الا واحدة، كما إذا قال لها أنت طالق
وطالق. قال القاضي أبو الطيب: ويحتمل أن يكون هذا الوجه على قول من
قال من أصحابنا ان الواو للترتيب: والأول أصح
(مسألة) قوله: وان قال متى لم أطلقك الخ، فقد قال الشافعي رضي الله عنه
ولو قال أنت طالق إذا لم أطلقك أو متى لم أطلقك فسكت مدة يمكنه فيها الطلاق
طلقت. قال في البيان: وجملة ذلك أن الحروف التي تستعمل في الطلاق المعلق
188

بالصفات سبعة: ان، وإذا، ومتى، ومتى ما، وأي وقت، وأي حين، وأي
زمان. وإذا استعملت في الطلاق فله ثلاثة أحوال (أحدها) أن يستعمل في
الطلاق متجردا عن العوض وعن كلمة لم (والثاني) أن تستعمل فيه مع العوض
(الثالث) أن يستعمل فيه كلمة لم، فإن استعملت في الطلاق متجردا عن
العوض وعن كلمة لم مثل ان قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو إذا دخلت
الدار أو متى أو متى ما دخلت أو أي وقت دخلت أو أي حين دخلت أو أي زمان
دخلت فجميع هذا لا يقتضى الفور، بل أي وقت دخلت الدار طلقت، لان
ذلك يقتضى دخولها الدار، فأي وقت دخلت الدار فقد وجد الشرط اه‍.
وان استعملت في الطلاق مع العوض بأن قال: إن أعطيتني أو ان ضمنت
لي ألفا فأنت طالق، فإن خمسة أحرف منها لا تقتضي الفور، بل هي على
التراخي بلا خلاف على المذهب، وهي متى ومتى ما وأي حين وأي وقت وأي
زمان ويمكن أن يدخل فيها أيما وحرف منها يقتضى الفور على المذهب بلا خلاف
وهو ان، وحرف منها اختلف أصحابنا فيه وهو إذا، فعند أكثر أصحابنا هو على
الفور. وعند الشيخ أبي إسحاق لا يقتضى الفور، وقد أو فينا ذلك في الخلع
وان استعملت في الطلاق مع كلمة لم فلا خلاف على المذهب أن خمسة أحرف
منها على الفور، وهي متى ومتى ما وأي حين وأي وقت وأي زمان. فإذا قال
متى لم تعطني ألفا فأنت طالق. أو متى لم أطلقك أو متى لم تدخلي الدار فأنت
طالق. وما أشبهه من الصفات.
فان أعطته ألفا على الفور بحيث يصلح أن يكون جوابا لكلامه أو دخلت
الدار فقد بر في يمينه ولا تطلق، وهكذا إذا قال: متى لم أطلقك فطلقها على
الفور فقد بر في يمينه ولا يقع عليها الا ما أوقعه
وان تأخرت العطية أو دخول الدار أو الطلاق عن ذلك وقع عليها الطلاق
لان تقديره أي زمان عقدت فيه العطية أو الدخول أو الطلاق فأنت طالق.
فإذا مضى زمان يمكن ايجاد هذه الصفة ولم توجد فقد وجد شرط وقوع الطلاق
المعلق بذلك فوقع.
189

وأما حروف إن وإذا فقد نص الشافعي أن إذا على الفور كالحروف الخمسة
وأن حرف إن لا يقتضى الفور، بل هو على التراخي، فمن أصحابنا من عسر عليه
الفرق بينهما، فقال: لا فرق بينهما، ولهذا إذا كان معهما العوض كانا على الفور
فنقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين، ومنهم من
حملهما على ظاهرهما، وجعل إذا على الفور، وإن على التراخي، وفرق بينهما
بأن حرف إذا يستعمل فيما يتحقق وجوده، وحرف إن يستعمل فيما يشك
بوجوده، بدليل أنه يقال: إذا طلعت الشمس، ولهذا قال تعالى " إذا السماء
انشقت " ولا يقال: إن طلعت الشمس، ويقال: إن قدم زيد، فجاز أن يكون
إذا على الفور، وإن على التراخي، فإذا قلنا بهذا وقال لها: إذا لم أطلقك فأنت
طالق، أو إذا لم تدخلي الدار فأنت طالق، فإذا مضى بعد قوله زمان يمكنه
أن يقول فيه: أنت طالق، ولم يطلق أو مضى زمان يمكنها فيه دخول الدار ولم
تدخل الدار، وقع عليها الطلاق.
وإن قال لها: إن لم أطلقك أو لم تدخلي الدار فأنت طالق، فإنها لا تطلق إلا
إذا فات الطلاق أو الدخول، وذلك بآخر جزء من أجزاء حياة الميت الأول
منهما، وان قال لها: كلما لا أطلقك فأنت طالق فمضى بعد هذا ثلاثة أوقات يمكنه
أن يطلق فيها فلم يطلق طلقت ثلاثا، لان كلما تقتضي التكرار، لان تقديره
كلما سكت عن طلاقك فأنت طالق، وقد سكت ثلاثة أوقات فطلقت ثلاثا.
(فرع) وإن كان له أربع زوجات فقال لهن: أيتكن لم أطأها اليوم
فصواحبها طوالق، فان ذهب اليوم ولم يطأ واحدة منهن طلقن ثلاثا ثلاثا،
لان لكل واحدة منهن ثلاث صواحب لم يطأهن، وتطلق كل واحدة من الثلاث
اللاتي لم يطأهن طلقة، لان لها صاحبتين لم يطأهما، وان وطئ اثنتين في اليوم
طلقت كل واحدة من الموطوءتين طلقتين لان لهما صاحبتين لم يطأهما، وتطلق
كل واحدة من التي لم يطأها طلقة لأنه ليس لها الا صاحبة لم يطأها، وان وطئ
ثلاثا منهن في اليوم طلقت كل واحدة من الثلاث اللاتي وطئهن طلقة، لأنه
ليس لهن الا صاحبة لم يطأها ولا تطلق الرابعة لأنه ليس لها صاحبة غير موطوءة
190

وان وطئهن كلهن في اليوم انحلت الصفة ولم تطلق واحدة منهن. وان قال لهن
أيتكن لم أطأها فصواحبها طوالق، ولم يقل اليوم كان ذلك للتراخي، فان مات
قبل أن يطأ واحدة منهن طلقن ثلاثا ثلاثا، وان ماتت واحدة منهن قبل أن
يطأها طلقن الباقيات طلقة طلقة، ولم تطلق هي، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان قال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال لها ان خرجت
أو ان لم تخرجي أو ان لم يكن هذا كما قلت فأنت طالق طلقت لأنه حلف
بطلاقها، وان قال إن طلعت الشمس أو ان جاء الحاج فأنت طالق لم يقع الطلاق
حتى تطلع الشمس أو يجئ الحاج لان اليمين ما قصد بها المنع من فعل أو الحث
على فعل أو التصديق على فعل وليس في طلوع الشمس ومجئ الحاج منع ولا حث
ولا تصديق، وإنما هو صفة للطلاق، فإذا وجدت وقع الطلاق بوجود الصفة
وان قال لها: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاد هذا القول وقعت طلقة
لأنه حلف بطلاقها، فان أعاد ثالثا وقعت طلقة ثانية، وان أعاد رابعا وقعت
طلقة ثالثة، لان كل مرة توجد صفة طلاق وتنعقد صفة أخرى، وان أعادها
خامسا لم يقع طلاق، لأنه لم يبق له طلاق، ولا ينعقد به يمين في
طلاق غيرها، لان اليمين بطلاق من لا يملكها لا ينعقد، وإن كانت له امرأتان
إحداهما مدخول بها والأخرى غير مدخول بها فقال: إن حلفت بطلاقكما فأنتما
طالقان، ثم أعاد هذا القول طلقت المدخول بها طلقة رجعية، وتطلق غير
المدخول بها طلقه بائنة، فان أعاد ثم تطلق واحدة منهما لان غير المدخول بها
بائن، والمدخول بها لا يوجد شرط طلاقها، لان شرط طلاقها أن يحلف
بطلاقهما ولم يحلف بطلاقهما، لان غير المدخول بها لا يصح الحلف بطلاقها.
(الشرح) قوله: وان قال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق الخ فجملة
ذلك أنه إذا قال لامرأته: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال لها: ان
دخلت الدار أو ان لم تدخلي الدار أو أخبرها بشئ أو أخبرته بشئ فقال لها:
191

ان لم يكن الامر كما أخبرتك أو كما أخبرتني فأنت طالق، طلقت لأنه قد حلف
بطلاقها. وان قال لها: إذا طلعت الشمس أو إذا قدم الحاج فأنت طالق، فإن لم
يحلف بطلاقها فلا تطلق قبل طلوع الشمس وقبل قدوم الحاج. وقال أبو حنيفة
وأحمد: كل ذلك حلف. فتطلق به، الا قوله: أنت طالق ان طهرت أو
حضت أو شئت.
دليلنا أن اليمين هو ما يقصد به المنع من شئ. كقوله إن دخلت الدار أو
التزام فعل شئ، كقوله إن لم أدخل أو ان لم تدخلي، أو التصديق كقوله:
ان لم يكن هذا الامر كما أخبرتك أو كما أخبرتني. وقوله: إذا طلعت الشمس
أو إذا قدم الحاج ليس فيه يمين، وإنما هو تعلق طلاق على صفة. فهو كقوله
ان طهرت أو حضت أو شئت
وان قال لها: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاد هذا الكلام ثانيا
طلقت طلقة. لأنه حلف بطلاقها، لأنه باليمين الأولة منع نفسه من الحلف
وقد حلف. فإن أعاد ذلك ثلاثا طلقت الثانية. فان عاد ذلك رابعا طلقت
الثالثة وبانت.
(فرع) قال ابن الصباغ الشامل (1): إذا قال لامرأته إذا لم أحلف
بطلاقك فأنت طالق وكرر ذلك ثلاث مرات. فان فرق وسكت بعد كل يمين
سكتة يمكنه أن يحلف فلم يحلف وقع عليها ثلاث طلقات. لان إذا في النفي
يقتضى الفور، وان لم يفرق بينهن لم يحنث في الأولة والثانية. لأنه حلف
عقيبهما ويحنث في الثالثة فتطلق. لأنه لم يحلف عقيبهما
فأما إذا قال: كلما لم أحلف بطلاقك فأنت طالق فمضى ثلاثة أوقات يمكنه
أنه يحلف فيها ولم يحلف طلقت ثلاثا لان كلما تقتضي التكرار. وان قال لها
كلما حلفت بطلاقك فأنت طالق. ثم قال: إذا جاء المطر ولم أكن بنيت هذا
الحائط، أو يخاط الثوب قبل مجئ المطر اه‍

(1) نسخه خطية بمكتبة المعهد الديني بثغر دمياط موقوفة من بعض الصالحين
نقل إلينا بعض الثقات من أصحابنا ما انتفعنا به في شروحنا أثابهم الله وإيانا
192

(فرع) وإن كان له امرأتان فقال: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها فغيرها طالق
قال ابن الصباغ: فمتى سكت عقب هذا القول قدرا يمكنه أن يحلف بطلاقها فلم
يحلف طلقتا لأنه جعل ترك اليمين بطلاق كل واحدة منهما شرطا لطلاق صاحبتها
فلو كرر هذا القول مرارا متصلا بعضها ببعض لم تطلق واحدة منهما ما دام
مكررا، إلا أن هذا القول منه يمين بطلاقها، فتبين الأولة بالثانية، وتبين الثانية
بالثالثة، فإذا سكت طلقتا باليمين الأخرى، فلو كرر هذا القول ثلاثا وسكت عقب
كل يمين طلقت كل واحدة ثلاثا
وقال أبو علي الشيخي: وعندي أن هذا خطأ، لان لقوله: أيما امرأة لم
أحلف بطلاقها فغيرها طالق ليس في لفظه متى يحلف بطلاقها، فيكون على
التراخي. ومعناه: إن فاتني الحلف بطلاقها فغيرها طالق، ولا يعلم الفوات إلا
بموت أحدهما، إلا أن يقول: أيما امرأة لم أحلف بطلاقها الساعة فغيرها طالق
فالجواب صحيح حينئذ.
ولو قال: متى لم أحلف أو أي وقت لم أحلف أو أي زمان، أو كلما لم أحلف
بطلاقها فغيرها طالق كان الجواب كما ذكرناه
(فرع) وإن كان له امرأتان زينب وعمرة فقال لهما: ان حلفت بطلاقكما
فعمرة طالق، فهذا تعليق طلاق عمرة بالحلف بطلاقهما جميعا، فإن أعاد هذه
الكلمة مرارا لم تطلق واحدة منهما لأنه لم يحلف بطلاقهما، وإنما كرر تعليق
طلاق عمرة. ولو قال بعد ذلك: ان دخلتما الدار فأنتما طالقان، طلقت عمرة
لأنه حلف بطلاقها.
وإن قال: إن حلفت بطلاقكما فإحداكما طالق، وكرر هذا القول لم تطلق
واحدة منهما لأنه لم يحلف بطلاقهما وإنما حلف بطلاق واحدة منهما. ولو قال
بعد ذلك: إذا حلفت بطلاقكما فأنتما طالقان، طلقت إحداهما لا بعينها لأنه حلف
بطلاقهما. ولو قال: إذا حلفت بطلاق إحداكما فأنتما طالقان، ثم أعاد هذا مرة
طلقت كل واحدة منهما طلقة، لأنه علق طلاقهما بالحلف بطلاق إحداهما لا محالة
ولو قال: إذا حلفت بطلاق إحداكما فأنتما طالقان، ثم قال: إذا حلفت بطلاقكما
193

فإحداكما طالق طلقتا جميعا، لأنه قد حلف بطلاق إحداهما فيحنث في اليمين
الأولة. وان قال: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق، وان حلفت بطلاقكما
فزينب طالق. قال ابن القاص: فإن أعاد ما قاله في زينب مرة لم تطلق، وان
أعاد ما قال في عمرة أخرى طلقت لأنه علق طلاق عمرة بصفتين، إحداهما اليمين
بطلاقهما والأخرى اليمين بطلاق زينب، فما لم يحلف بعد القول الأول بطلاقهما
معا أو مجتمعا أو متفرقا لم يحنث في طلاق عمرة. وكذا إذا قال في المرة الثانية في
طلاق زينب. فإذا كرر ما قال في زينب - وهو قوله الثاني ان حلفت بطلاقكما
فزينب طالق - فلا تطلق واحدة منهما لا زينب ولا عمرة، لأنه وجد إحدى
الصفتين دون الأخرى، فإذا أعاد في عمرة طلقت عمرة لأنه علق ابتداء الطلاق
بالحلف بطلاقهما، وقد حلف ذلك بطلاق زينب وحدها، فإن حلف بطلاق
عمرة بعد ذلك فقد اجتمع الصفتان في طلاق عمرة بعد تعليقه بهما فوقع بها،
فإذا أعاد في زينب مرة أخرى ما قال فيها بعدما أعاد في عمرة طلقت زينب أيضا
لأنه قد حلف بعد ذلك بطلاقهما جميعا، فإذا حلف بعد ذلك بطلاقهما إما مجتمعا
أو متفرقا فإنه يقع.
(فرع) وإن كانت له امرأتان مدخول بها وغير مدخول بها، فقال لهما: إذا
حلفت بطلاقكما فأنتما طالقان ثم أعاد هذا القول طلقت المدخول بها طلقة رجعية
وطلقت غير المدخول بها طلقة ثانيه، فان أعاد هذا القول ثالثا لم تطلق واحدة
منهما، لان الصفة لم توجد، إذ البائن لا يصح الحلف بطلاقها
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا كان له أربع نسوة وعبيد فقال: كما طلقت امرأة من نسائي
فعبد من عبيدي حر، وكلما طلقت امرأتين فعبدان حران، وكلما طلقت ثلاثا
فثلاثة أعبد أحرار، وكلما طلقت أربعا فأربعة أعبد أحرار، ثم طلقهن فالمذهب
أنه يعتق خمسة عشر عبدا لان بطلاق الأولى يعتق عبد بوجود صفة الواحدة
وبطلاق الثانية يعتق ثلاثة أعبد، لأنه اجتمع صفتان طلاق الواحدة وطلاق
اثنتين، وبطلاق الثالثة يعتق أربعة أعبد، لأنه اجتمع صفتان طلاق الواحدة
194

وطلاق الثلاث، وبطلاق الرابعة يعتق سبعة أعبد، لأنه اجتمع ثلاث صفات
طلاق الواحدة وطلاق اثنتين وطلاق أربع
ومن أصحابنا من قال: يعتق سبعة عشر عبدا، لان في طلاق الثالثة ثلاث
صفات، طلاق واحدة وطلاق اثنتين بعد الواحدة وطلاق الثلاث. ومنهم من
قال: يعتق عشرون عبدا، فجعل في الثلاث ثلاث صفات، وجعل في الأربع
أربع صفات، طلاق واحدة وطلاق اثنتين وطلاق ثلاث بعد الواحدة وطلاق
أربع، والجميع خطأ لأنهم عدوا الثانية مع ما قبلها من الاثنتين، وعدوا الثالثة
مع ما قبلها من الثلاث، ثم عدوهما مع ما بعدهما من الاثنتين والثلاث. وهذا
لا يجوز، لان ما عد مرة في عدد لا يعد في ذلك العدد مرة أخرى. والدليل
عليه أنه لو قال: كما أكلت نصف رمانة فعبد من عبيدي حر. ثم أكل رمانة
عتق عبدان، لان الرمانة نصفان، ثم لا يقال إنه يعتق ثلاثة لأنه إذا أكل
نصف رمانة عتق عبد، فإذا أكل الربع الثالث عتق عبد، لأنه مع الربع الثاني
نصف. وإذا أكل الربع الرابع عتق عبد لأنه مع الربع الثالث نصف فكذلك
ههنا. وقال أبو الحسن بن القطان: يعتق عشرة لان الواحدة والاثنتين والثلاث
والأربع عشر. وهذا خطأ أيضا لان قوله: كلما طلقت يقتضى التكرار،
وقد وجد طلاق الواحدة أربع مرات، وطلاق المرأتين مرتين، وطلاق الثلاث
مرة، وطلاق الأربع مرة، فأسقط ابن القطان اعتبار ما يقتضيه اللفظ من
التكرار في المرأة والمرأتين وهذا لا يجوز
(فصل) إذا كان له أربع نسوة فقال: أيتكن وقع عليها طلاقي فصواحبها
طوالق، ثم طلق واحدة منهن طلقن ثلاثا ثلاثا، لان طلاق الواحدة يوقع على
كل واحدة منهن طلقة واحدة، ووقوع هذه الطلقة على كل واحدة منهن يوقع
الطلاق على صواحبها، وهن ثلاث فطلقت كل واحدة منهن ثلاثا
(الشرح) وان قال لامرأته: إذا أكلت نصف رمانة فأنت طالق، وإذا
أكلت رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة طلقت طلقتين لأنه وجدت الصفتان فإنها
أكلت نصفها وأكلت جميعها.
195

وان قال: كلما أكلت نصف رمانة فأنت طالق، وكلما أكلت رمانة فأنت
طالق، فأكلت رمانة طلقت ثلاثا لان كلما تقتضي التكرار وقد أكلت نصفين
فوقع بها طلقتان وأكلت رمانة فوقع بها طلقة. وهذا كما لو قال: إن كلمت
رجلا فأنت طالق، وان كلمت طويلا فأنت طالق، وان كلمت شيوعيا فأنت
طالق، فكلمت رجلا طويلا شيوعيا لوجود الصفات الثلاث
* * *
(فرع) إذا قال لامرأته: أنت طالق مريضة (بالنصب أو بالرفع) لم يقع
الطلاق الا إذا مرضت، لان معنى قوله مريضة بالنصب أي في حال مرضك.
ومعنى قوله مريضة بالرفع (أي وأنت مريضة) هذا هو المشهور كما حكاه العمراني
وحكى ابن الصباغ في أهل البيد قال: إذا قال مريضة بالرفع وهو من أهل
الاعراب وقع عليها الطلاق في الحال لأنه صفة لها وليس بحال. وهذا خطأ لأنه
نكرة فلا توصف به المعرفة، وقد عرفها بالإشارة إليها فلا تكون صفة لها،
وإنما تكون حالا، وإنما لحن في اعرابه، أو على اضمار مبتدأ فيكون شرطا
قوله " إذا كان له أربع نسوة الخ " فجملة ذلك أنه إذا كان له أربع زوجات
فقال لهن: كما طلقت واحدة منكن فأنتن طوالق فطلق واحدة منهن وقع عليها
طلقتان، طلقه بالمباشرة وطلقة بالصفة، ويقع على الثلاث الباقيات طلقه طلقه
وان قال: كلما وقع على واحدة منكن طلاقي فأنتن طوالق أو أيتكن وقع عليها
طلاقي فصواحبها طالق، فطلق واحدة منهن طلقن ثلاثا ثلاثا، لأنه إذا طلق
واحدة منهن طلقة وقع على كل واحدة من الباقيات طلقه، ووقوع هذه الطلقة
على كل واحدة من الباقيات يوقع الثانية على صواحبها: ووقوع الثانية
يوقع الثالثة.
(فرع) وان قال لامرأته أنت طالق وطالق إن دخلت الدار طالقا، فقد
علق وقوع طلقتين بدخول الدار وهي طالق. فإن دخلت الدار وهي مطلقه
طلاقا رجعيا وقع عليها طلقتان بالصفة. وان دخلت الدار وهي زوجه غير
مطلقه أو بائن لم تطلق لان الصفة لم توجد
196

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان له امرأتان فقال لإحداهما أنت طالق طلقه، بل هذه
ثلاثا وقع على الأولى طلقه وعلى الثانية ثلاث، لأنه إذا أوقع على الأولى طلقه
ثم أراد رفعها فلم يرتفع، وأوقع على الثانية ثلاثا فوقعت
وإن قال للمدخول بها أنت طالق واحدة لا بل ثلاثا إن دخلت الدار، فقد
اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو بكر بن الحداد المصري: تطلق واحدة في الحال
ويقع بدخول الدار تمام الثلاث، لأنه نجز واحدة فوقعت، وعلق ثلاثا على
الشرط فوقع ما بقي منها عند وجود الشرط. ومن أصحابنا من قال: يرجع الشرط
إلى الجميع ولا تطلق حتى تدخل الدار، لان الشرط يعقب الايقاعين فرجع إليهما
(الشرح) قوله " نجز واحدة " التضعيف زيادة تجعل اللازم متعديا كالمزيد
بالهمز، فيكون قوله نجز كقوله أنجز. وهو بمعنى عجل
أما الأحكام فإنه إن كان له امرأتان فقال لإحداهما: أنت طالق واحدة لا بل
هذه ثلاثا، وقع على الأولة طلقه، وعلى الثانية ثلاثا، لأنه أوقع عل الأولة
طلقه فوقعت ثم رجع عنها، وأوقع على الثانية ثلاثا فلم يصح رجوعه عما أوقعه
على الأولة وصح ما أوقعه على الثانية
وإن قال لامرأته المدخول بها أنت طالق واحدة لا بل ثلاثا إن دخلت الدار
فاختلف أصحابنا فيه، فقال ابن الحداد: يقع عليها طلقه في الحال، ويقع باقي
الثلاث بدخول الدار. لأنه أوقع واحدة فوقعت ثم رجع وأوقع الثلاث بدخول
الدار فلم يصح رجوعه عن الأولة، ويعلق بدخول الدار باقي الثلاث. ومنهم
من قال يرجع الشرط إلى الجميع فلا يطلق حتى تدخل الدار، لان الشرط يعقب
الايقاعين فرجع إليهما. وإن كانت مدخول بها فالذي يقتضى القياس أن على
قول ابن الحداد في مولداته يقع عليها الطلقة المنجزة وتبين بها، ولا يقع ما بعدها
بدخول الدار، وعلى القول الآخر لبعض أصحابنا لا يقع عليها طلاق حتى تدخل
الدار، فإذا دخلت وقع عليها الثلاث
(فرع) وإن قال لإحدى امرأتيه أنت طالق ان دخلت الدار لا بل هذه.
197

قال ابن الحداد فإن دخلت الأولة طلقتا جميعا وان دخلت الثانية لم تطلق واحدة
منهما لأنه علق طلاق الأولة بدخولها الدار، ثم رجع عن ذلك وعلق بدخولها
طلاق الثانية فعلق به، ولم يصح رجوعه عن طلاق الأولة.
ومن أصحابنا من قال: إذا دخلت الأولة الدار طلقت وحدها، وإذا دخلت
الثانية طلقت وحدها، لأنه علق على طلاق الأولة بدخولها الدار ثم رجع عن
هذه الصفة جملة، وعلق طلاق الثانية بدخولها الدار، فلم يصح رجوعه،
وتعلق الثانية بدخولها.
(فرع) قال في البويطي: إذا قال أنت طالق في مكة أو بمكة أو في الدار أو
بالدار فهي طالق ساعة تكلم به، الا أن ينوى: إذا كنت بمكة. فإذا قال نويت
ذلك قبل منه لان لفظه يحتمله.
قال المسعودي: ولو قال إن قذفت فلانا في المسجد فأنت طالق، فيشترط
أن يكون القاذف في المسجد. وان قال: إن قتلت فلانا في الحظيرة فأنت طالق
يشترط أن يكون المقتول في الحظيرة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال لها أنت طالق إلى شهر ولم يكن له نية وقع الطلاق بعد
الشهر، لان إلى تستعمل في انتهاء الفعل، كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى
الليل) وتستعمل أيضا في ابتداء الفعل: كقولهم فلان خارج إلى شهر فلا يقع
الطلاق في الحال مع الاحتمال، كما لا يقع بالكنايات من غير نية
(فصل) وان قال أنت طالق في شهر رمضان، طلقت برؤية الهلال في
أول الشهر. وقال أبو ثور: لا تطلق الا في آخر الشهر لتستوعب الصفة التي
علق الطلاق عليها، وهذا خطأ لان الطلاق إذا علق على شئ وقع بأول جزء
منه، كما لو قال إذا دخلت الدار فأنت طالق فإنها تطلق بالدخول إلى أول جزء
من الدار. فإن قال أردت في آخر الشهر دين فيه، لأنه يحتمل ما يدعيه ولا
يقبل في الحكم لأنه يؤخر الطلاق عن الوقت الذي يقتضيه
وان قال أنت طالق في أول الشهر وقع الطلاق في أول ليلة يرى فيها الهلال
198

وإن قال أنت طالق في غرة الشهر طلقت في أوله. فإن قال أردت اليوم الثاني أو
الثالث دين، لان الثلاث من أول الشهر تسمى غررا، ولا يقبل في الحكم لأنه
يؤخر الطلاق عن أول وقت يقتضيه
وان قال أنت طالق في آخر الشهر طلقت في آخر يوم منه تاما كان الشهر أو
ناقصا. وإن قال أنت طالق في أول اخر رمضان، ففيه وجهان (أحدهما) وهو
قول أبى العباس أنها تطلق في أول ليلة السادس عشر لان اخر الشهر هو النصف
الثاني وأوله أول ليلة السادس عشر، والثاني أنها تطلق في أول اليوم الأخير من
آخر الشهر لان آخر الشهر هو اليوم الأخير فوجب أن تطلق في أوله
وإن قال أنت طالق في اخر أول الشهر طلقت على الوجه الأول في اخر اليوم
الخامس عشر، وعلى الوجه الثاني تطلق في اخر اليوم الأول. وإن قال أنت
طالق في اخر أول اخر رمضان، طلقت على الوجه الأول عند طلوع الفجر من
اليوم السادس عشر، لان أول اخر الشهر ليلة السادس عشر، واخرها عند طلوع
الفجر من يومها. وعلى الوجه الثاني تطلق بغروب الشمس من اخر يوم منه،
لان أول اخره إذا طلع الفجر من اخر يوم منه، فكان اخره عند غروب
الشمس. وإن قال أنت طالق في أول اخر أول الشهر، طلقت على الوجه الأول
بطلوع الفجر من اليوم الخامس عشر، لان اخر أوله عند غروب الشمس من
اليوم الخامس عشر، فكان أوله طلوع فجره. وعلى الوجه الآخر تطلق بطلوع
الفجر من أول يوم من الشهر، لان اخر أول الشهر غروب الشمس من أول
يوم منه، فكان أوله طلوع الفجر
(الشرح) إذا قال أنت طالق إلى شهر كذا أو سنة كذا، فهو كما لو قال في شهر
كذا أو سنة كذا، فلا يقع الطلاق إلا في أول ذلك الوقت، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة يقع في الحال، لان قوله أنت طالق إيقاع في الحال. وقوله إلى
شهر كذا تأقيت له وغاية، وهو لا يقبل التأقيت فبطل التأقيت ووقع الطلاق.
دليلنا أن ابن عباس وعطاء وجابر بن زيد والنخعي وأبى هاشم والثوري
وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وأبى عبيد وبعض أصحاب الرأي قالوا: إذا
أوقع الطلاق في زمن أو علقه بصفة تعلق بها ولم يقع حتى تأتى الصفة والزمن.
199

وقال ابن عباس في الرجل يقول لامرأته أنت طالق إلى رأس السنة، قال يطأ فيما
بينه وبين رأس السنة، وقد احتج أحمد بقول أبي ذر " إن لي إبلا يرعاها عبد لي
وهو عتيق إلى الحول " ولان هذا يحتمل أن يكون توقيتا لايقاعه، كقول الرجل
أنا خارج إلى سنة أي بعد سنة. ومن ثم نخلص إلى قول المصنف " ان قال لها أنت
طالق إلى شهر ولم يكن له نية الخ، فجملة ذلك أنه إذا لم يكن له نية لم يقع عليها
الطلاق الا بعد مضى الشهر من حين عقد الصفة، خلافا لأبي حنيفة ومالك،
ولان إلى تستعمل في انتهاء الفعل، كقوله تعالى (ثم أتموا الصيام إلى الليل)
ويستعمل في ابتداء الفعل، فإذا احتمل الامرين فلا يقع به الطلاق في الحال
بالشك. وان قال أردت أن الطلاق يقع محاكاة ويرتفع بعد شهر وقع عليها في
الحال، لأنه قيس قوله بما يحتمله، وفيه تغليظ عليه فقيل، ولا يرتفع الطلاق
بعد شهر، لان الطلاق إذا وقع لم يرتفع
(مسألة) قوله: وان قال أنت طالق في شهر رمضان طلقت برؤية الهلال في
أول الشهر، وهذا صحيح، إذ أنه يقع الطلاق في أول جزء من الليلة الأولة
من شهر رمضان.
وقال أبو ثور. لا تطلق الا في آخر جزء من شهر رمضان، وهذا خطأ لان
الطلاق إذا علق على شئ وقع بأول جزء منه، كما إذا قال لها: إذا دخلت الدار
فأنت طالق فدخلت الدار في أول جزء منها طلقت. فإن قال أردت به الطلاق
في النصف أو في اخره لم يقبل في الحكم، لان ذلك يخالف الظاهر ويدبن فيها بينه
وبين الله تعالى لان قوله يحتمل ذلك
وإن قال أنت طالق في غرة شهر رمضان أو في غرة هلال رمضان أو في غرة
رمضان أو في رأس رمضان أو في أول رمضان طلقت في أول جزء من الليلة
الأولة من رمضان، فإن قال أردت به نصف الشهر أو اخره لم يقبل في الحكم
ولا فيما بينه وبين الله تعالى لان لفظه لا يحتمل ذلك
وان قال: أردت بالغرة بعض الأولة من الشهر لم يقبل في الحكم لأنه يؤخر
الطلاق عن أول وقت يقضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه يسمى غررا
200

وإن قال أنت طالق في نهار رمضان لم تطلق إلا بأول جزء من اليوم الأول من
الشهر لأنه علقه بالنهار
(فرع) وإن قال: أنت طالق في آخر رمضان أو سلخ رمضان أو في
انفصامه أو في خروجه طلقت لغيبوبة الشمس في آخر يوم منه. وان قال أنت
طالق في أول آخر رمضان ففيه وجهان قال أبو العباس سريج: تطلق في
أول جزء من ليلة السادس عشر، لان أول الشهر هو النصف الأول وآخره
النصف الثاني، فكان أول آخره أول ليلة السادس عشر، والثاني - وهو قول
أكثر أصحابنا - وهو الأصح أنها تطلق بطلوع الفجر من اليوم الأخير من الشهر
لان اخر الشهر هو اخر يوم فيه، فأوله طلوع فجره
وإن قال أنت طالق في اخر أول رمضان، فعلى قول أبى العباس - تطلق
بغروب الشمس من اليوم الخامس عشر، لان أول الشهر عنده النصف الأول
واخر أوله غروب الشمس من اليوم الخامس عشر. وعلى قول أكثر أصحابنا
يقع الطلاق في اخر الليلة الأولة من الشهر لأنها أول الشهر. هكذا ذكر
ابن الصباغ. وأما الشيخان أبو حامد الأسفراييني وأبو إسحاق المروزي فقالا.
تطلق على هذا اخر اليوم من الشهر، وقول ابن الصباغ أقيس.
وإن قال أنت طالق في اخر أول اخر رمضان. قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي
فعلى قول أبى العباس تطلق عند طلوع الفجر من اليوم السادس عشر، لان
أول اخر الشهر ليلة السادس عشر واخرها عند طلوع الفجر من اخر يوم منه
فكان اخره عند غروب الشمس.
وان قال أنت طالق في أول اخر أول رمضان - قال المصنف: طلقت على
قول أبى العباس بطلوع الفجر من اليوم الخامس عشر، لان اخر أوله غروب
الشمس من هذا اليوم فكان أوله طلوع الفجر منه
وعلى الوجه الثاني: تطلق بطلوع الفجر من أول يوم من الشهر، لان اخر
أول الشهر غروب الشمس من أول يومه، فكان أوله أول يوم من طلوع الفجر
قال العمراني رحمه الله: وعندي أنها تطلق على هذا في أول جزء من الليلة الأولة
من الشهر. لان أول الشهر هو أول جزء من الليلة الأولة منه، واخر أوله اخر
201

جزء من هذه الليلة، فكان أول آخر أوله هو أول جزء من تلك الليلة.
(فرع) وإن قال أنت طالق في شهر قبل ما بعد قبله رمضان فاختلف أصحابنا
متى تطلق؟ فمنهم من قال تطلق في أول رجب، ومنهم من قال تطلق في أول
شعبان - ولم يذكر في الفروع غيره - لان الشهر الذي بعد قبل رمضان هو
رمضان نفسه، فالشهر الذي قبله شعبان. ومنهم من قال: تطلق في أول شوال
وهو اختيار القاضي أبو الطيب وابن الصباغ، لأنه أول وقت الطلاق في شهر
وصفه، لان قبل ما بعد قبله رمضان، ذلك لأنه يقتضى أنه قبله رمضان، لان
ما بعد قبل الشهر هو الشهر نفسه، وقبله رمضان
وقال ابن قدامة من الحنابلة في المغنى على متن الخرقي: وإذا قال أنت طالق
في آخر أول الشهر طلقت في آخر أول يوم منه لأنه أوله. وإن قال في أول آخره
طلقت في آخر يوم منه لأنه آخره. وقال أبو بكر في الأولى: تطلق بغروب
الشمس من اليوم الخامس عشر منه. وفى الثانية تطلق بدخول أول الليلة
السادسة عشرة منه، لان الشهر نصفان أول وآخر، فآخر أوله يلي أول آخره،
وهذا قول أبى العباس بن سريج - يعنى من الشافعية - وقال أكثرهم كقولنا
وهو أصح. فإن ما عدا اليوم الأول لا يسمى أول الشهر، ويصح نفيه عنه،
وكذلك لا يسمى أوسط الشهر آخره، ولا يفهم ذلك من إطلاق لفظه فوجب
أن لا يصرف كلام الحالف إليه ولا يحمل كلامه عليه اه‍
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال أنت طالق اليوم طلقت في الحال لأنه من اليوم. وإن
قال أنت طالق في غد طلقت بطلوع فجره. وإن قال أنت طالق اليوم إذا جاء غد
لم تطلق، لأنه لا يجوز أن تطلق اليوم لأنه لم يوجد شرطه، وهو مجئ الغد،
ولا يجوز أن تطلق إذا جاء غد لأنه إيقاع طلاق في يوم قبله. وان قال أنت
طالق اليوم غدا طلقت اليوم طلقه ولا تطلق غدا طلقة أخرى، لان طلاق
اليوم تعين. وقوله غدا يحتمل أن تكون طالقة بطلاقها اليوم. فلا توقع طلاقا
بالشك، وان قال أردت طلقة في اليوم وطلقة في غد طلقت طلقتين، لان اللفظ
202

يحتمل ما يدعيه وهو غير متهم فيه، لما فيه عليه من التغليظ، وان قال أردت
نصف طلقه اليوم ونصف طلقه غدا طلقت طلقتين، طلقه بالايقاع وطلقة
بالسراية، وان قال أردت نصف طلقه اليوم والنصف الباقي في غد ففيه وجهان
(أحدهما) تطلق اليوم طلقه ولا تطلق غدا، لان النصف الباقي قد وقع في اليوم
فلم يبق ما يقع غدا.
(والثاني) أنه يقع في اليوم الثاني طلقه أخرى، لان الذي وقع في اليوم
بالسراية وبقى النصف الثاني فوقع في الغد فسرى.
وان قال أنت طالق اليوم أو غدا ففيه وجهان (أحدهما) تطلق غدا لأنه يقين
(والثاني) أنها تطلق اليوم لأنه جعل كل واحد منهما محلا للطلاق فتعلق بأولهما.
(الشرح) الأحكام: إذا قال لامرأته أنت طالق اليوم طلقت في الحال لأنه
من اليوم. وان قال لها إذا مضى يوم فأنت طالق، فإن قال ذلك بالليل لم تطلق
حتى تغيب الشمس من يوم تلك الليلة. وان قال ذلك بالنهار لم تطلق حتى يمضى
باقي يومه ثم تنقضي الليلة التي يستقبلها ويبلغ من اليوم الثاني إلى الوقت الذي
عقد فيه الطلاق. وان قال أنت طالق إذا مضى اليوم، فالذي يقتضى المذهب أنه
إذا قال ذلك في النهار طلقت بغروب الشمس من ذلك اليوم، لان اليوم للتقريب
(فرع) وان قال لها أنت طالق في غد طلقت بطلوع الفجر من الغد، سواء
قال ذلك ليلا أو نهارا، أو ان قال أنت طالق اليوم إذا جاء غد، قال أبو العباس
ابن سريج لم تطلق، لأنه لا يجوز أن تطلق غدا، لأنه إيقاع طلاق في يوم قبله،
وان قال: أنت طالق اليوم غدا، رجع إليه ما أراد بذلك؟ فإن قال أردت أنها
تطلق اليوم طلقه وتكون طالقا غدا بتلك الطلقة لم يقع عليها الا طلقه، لان
قوله يحصل ذلك.
وان قال أردت انها تطلق اليوم طلقه وغدا طلقه طلقت طلقتين، لان قوله
يحتمل ذلك، وقد أقر على نفسه بما فيه تغليظ عليه، وإن قال أردت اليوم
نصف طلقه وغدا نصف طلقه أخرى طلقت طلقتين، لان كل نصف يسرى
203

طلقه. وإن قال: أردت نصف طلقه اليوم ونصفها الباقي في غد، وقع عليها في
اليوم طلقه لأنه لا يمكن إيقاع نصف طلقة فسرى إلى طلقه، وهل يقع عليها
طلقة أخرى إذا جاء غد؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يقع عليها لان النصف الذي أوقعه قد سرى في اليوم الأول
فلم يبق ما يقع في غد.
(والثاني) تطلق في غد طلقة بائنة لأنه لم يقع عليها في اليوم الأول بإيقاعه
إلا نصف طلقه، وإنما الشرع أوجب سرايتها، وقد أوقع عليها في الغد نصف
طلقه فيجب أن تقع وتسرى، وإن قان لا نية لي وقع عليها في اليوم طلقه لأنها
يقين ولا يقع عليها في الغد طلقة أخرى لأنه مشكوك فيها.
وإن قال أنت طالق اليوم أو غدا ففيه وجهان حكاهما المصنف هنا. أحدهما
لا تطلق إلا غدا لأنه يقين، والثاني أنها تطلق اليوم لأنه جعل كل واحد منهما
محلا للطلاق فتعلق بأولهما
(فرع) وإن قال لها: إذا جاء غد فأنت طالق، أو عبدي حر بعد غد لم تطلق
امرأته إذا جاء غد لأنه أوقع الطلاق غدا أو العتق بعد غد، فإذا جاء بعد غد
كان بالخيار بين أن يعين الطلاق في امرأته أو العتق في عبده، كما لو قال لامرأتيه
هذه طالق أو هذه.
(فرع) إذا قال لامرأته في يوم أنت طالق ثلاثا في كل يوم طلقه، وقع عليها
في الحال طلقه، ووقعت عليها الثانية بطلوع الفجر من اليوم الثاني، ووقعت
الثالثة بطلوع الفجر من اليوم الثالث، لان ذلك أول وقت يقتضى وقوع الطلاق
وإن قال لها أنت طالق في مجئ ثلاثة أيام فإنها تطلق إذا مضت ثلاثة أيام وقع
عليها الطلاق إذا طلع الفجر من اليوم الثالث لان ذلك أول وقت يقتضى وقوع
الطلاق. وان قال أنت طالق في مضى ثلاثة أيام فإنها تطلق إذا مضت ثلاثة أيام
قال ابن الصباغ: فإن قال ذلك بالليل طلقت إذا غربت الشمس من اليوم الثالث
فإن قال ذلك بالنهار طلقت إذا جاء إلى مثل ذلك الوقت من اليوم الرابع.
والله تعالى أعلم.
204

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا قال: إذا رأيت هلال رمضان فأنت طالق فرآه غيره طلقت
لان رؤية الهلال في عرف الشرع رؤية الناس، والدليل عليه قوله صلى الله عليه
وسلم: صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته. ويجب الصوم والفطر برؤية غيره،
وان قال أردت رؤيتي لم يقبل في الحكم لأنه يدعى خلاف الظاهر ويدين فيه،
لأنه يحتمل ما يدعيه، فإن رآه بالنهار لم تطلق، لان رؤية هلال الشهر ما يراه
في الشهر، وهو بعد الغروب، ولهذا لا يتعلق الصوم والفطر الا بما نراه بعد
الغروب، وان غم عليهم الهلال فعدوا شعبان ثلاثين يوما طلقت، لأنه قد
ثبتت الرؤية بالشرع فصار كما لو ثبتت بالشهادة. وان أراد رؤيته بعينه فلم يره
حتى صار قمرا لم تطلق، لأنه ليس بهلال حقيقة، واختلف الناس فيما يصير به
قمرا فقال بعضهم: يصير قمرا إذا استدار. وقال بعضهم: إذا بهر ضوؤه
(الشرح) الحديث أخرجه النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس. ورواه مسلم
عنه بلفظ " ان الله قد أمده لرؤيته فإن أغمي عليكم فأكملوا العدة " ورواه
الترمذي ولفظه " لا تصوموا قبل رمضان، صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته،
فإن حالت دونه غيابة فأكملوا ثلاثين يوما " قال الترمذي: حديث حسن صحيح
وللحديث طرق عند الشيخين بألفاظ أخرى مكانها كتاب الصوم وقد مضى.
أما اللغات فقوله " واختلف الناس فيما يصير به قمرا " ففي القاموس: والقمر
يكون في الليلة الثالثة، والقمراء ضوؤه.
وقال في غريب الشرح الكبير الموسوم بالمصباح المنير: قمر السماء سمى بذلك
لبياضه. وقال الأزهري: ويسمى القمر لليلتين من أول الشهر هلالا، وفى ليلة
ست وعشرين وسبع وعشرين هلالا، وما بين ذلك يسمى قمرا. وقال الفارابي
وتبعه في الصحاح: الهلال لثلاث ليال من أول الشهر ثم هو قمر بعد ذلك، وقيل
الهلال هو الشهر بعينه، وسيأتي مزيد
أما الأحكام، فإن قال لامرأته: إذا رأيت هلال رمضان فأنت طالق، فإذا
رآه آخر يوم من شعبان قبل الزوال أو بعده لم تطلق حتى تغيب الشمس من ذلك
205

اليوم، لان هلال الشهر ما كان في أوله لا قبله، وان لم يره بنفسه، وإنما رآه
غيره طلقت امرأته.
وحكى ابن الصباغ أن أبا حنيفة قال: لا تطلق إلا أن يراه بنفسه وكذا
حكى ابن قدامة ذلك عن أبي حنيفة أنه قال: لا تطلق إلا أن يراه بنفسه لأنه
علق الطلاق برؤية نفسه فأشبه ما لو علقه على رؤية زيد
دليلنا أن الرؤية للهلال في عرف الشرع العلم به برؤية نفسه أو برؤية غيره
بدليل قوله صلى الله عليه وسلم " إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا "
والمراد به رؤية البعض وحصول العلم فانصرف لفظ الحالف إلى عرف الشرع.
فحمل المطلق على ذلك العرف الشرعي، كما لو قال: إذا صليت فأنت طالق، فإنه
ينصرف إلى الصلاة الشرعية لا إلى الدعاء، وفارق رؤية زيد، فإنه لم يثبت له
عرف شرعي يخالف الحقيقة وكذلك لو لم يره أحد لكن ثبت الشهر بتمام العدد
طلقت، لأنه قد علم طلوعه بتمام العدد
وإن قال: أردت إذا رأيته بعيني لم يقبل في الحكم عندنا لان دعواه تخالف
الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه يحتمل ما يدعيه. هذا نقل أصحابنا
البغداديين. وقال المسعودي: هل يقبل في الحكم؟ فيه وجهان. وقال أصحاب
أحمد يقبل في الحكم لأنها رؤية حقيقية، فإذا غم عليهم الهلال فقد قال أبو إسحاق
المروزي: إذا عدوا شعبان ثلاثين يوما طلقت بمغيب الشمس من آخر يوم منه
لأنه بالضرورة يعلم أن بعد ذلك هلال رمضان، لان الشهر لا يكون
واحدا وثلاثين يوما.
قال الشيخ أبو حامد وان صح عند الحاكم رؤية الهلال ولم يعلم المطلق، فإن
كان شهر شعبان ناقصا لم يلزمه حكم الطلاق حتى يعلم بالرؤية، وإن كان شعبان
تاما لزمه الطلاق بغروب الشمس من آخر يوم من شعبان، لان الشهر لا يكون
أحدا وثلاثين، ولعل الشيخ أبا حامد كما يقول العمراني أراد به لا يلزمه حكم إذا
كان شعبان ناقصا قبل علمه، أي إذا وطئها قبل علمه لأنه لم يأثم. وأما الطلاق
فيحكم به عليه بأول جزء من الليلة التي رأى فيها الهلال، ويلزمه المهر ان وطئ
206

بعد ذلك، سواء علم أو لم يعلم، كما لو علقه بقدوم زيد ولم يعلم بقدومه.
(فرع) وان قال إذا رأيت الهلال بنفسي فأنت طالق، أو أطلق ذلك وقال
أردت رؤيته بنفسي فلم يره حتى صار قمرا لم تطلق عليه إذا قيد ذلك ظاهرا وباطنا
ولا يدين فيما بينه وبين الله تعالى إذا رآه لأنه ليس بهلال
واختلف الناس فيما يصير به قمرا، فمنهم من قال يصير قمرا إذا استدار. وقال
بعضهم إذا بهر ضوؤه، وقال بعضهم بعد ثالثة. وقال ابن السكيت في متن كتاب
الألفاظ: أول ما يرى القمر فهو الهلال ليلة يهل لليلة وليلتين ولثلاث ليال.
ويقال كأنه هلال ليلتين أو قمر بين سحابتين، وقد أهللنا الهلال أي رأيناه، وأهللنا
الشهر واستهللناه أي رأينا هلاله، إلى أن قال: ويقال هلال ليلة وهلال ليلتين
وهلال ثلاث ليال. ثم يقال قمر بعد ثلاث ليال وذلك حين يقمر، وليلة مقمرة
ثم هو قمر حتى يهل مرة أخرى، وهو الشهر ليلة ينظر الناس إليه فيشهرونه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا قال: إذا مضت سنة فأنت طالق اعتبر مضى السنة بالأهلة
لأنها هي السنة المعهودة في الشرع، فإن كان العقد في أول الشهر فمضى إثنا عشر شهرا
بالأهلة طلقت، فإن كان في أثناء الشهر حسب ما بقي من الشهر الهلالي، فان بقي
خمسة أيام عد بعدها أحد عشر شهرا بالأهلة ثم عد خمسة وعشرين يوما من
الشهر الثاني عشر، لأنه تعذر اعتبار الهلال في شهر فعد شهرا بالعدد، كما نقول
في الشهر الذي غم عليهم الهلال في الصوم
فإن قال أردت سنة بالعدد، وهي ثلاثمائة وستون يوما، أو سنة شمسية وهي
ثلاثمائة وخمسة وستون يوما لم يقبل في الحكم، لأنه يدعى ما يتأخر به الطلاق
عن الوقت الذي يقتضيه، لان السنة الهلالية ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما
وخمس يوم، وسدس يوم، ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل، لأنه يحتمل
ما يدعيه. وان قال: إذا مضت السنة فأنت طالق، طلقت إذا مضت بقية سنة
التاريخ وهو انسلاخ ذي الحجة. قلت البقية أو كثرت، لان التعريف بالألف
واللام يقتضى ذلك.
207

فان قال أردت سنة كاملة دين لأنه يحتمل ما يدعيه ولا يقبل في الحكم لأنه
يدعى ما يتأخر به الطلاق عن الوقت الذي يقتضيه، فان قال أنت طالق في كل
سنه طلقة حسبت السنة من حين العقد، كما إذا حلف لا يكلم فلانا سنه جعل ابتداء
السنة من حين اليمين، وكما إذا باع بثمن مؤجل اعتبر ابتداء الأجل من حين العقد
فإذا مضى من السنة بعد العقد أدنى جزء طلقت طلقه، لأنه جعل السنة محلا
للطلاق وقد دخل فيها فوقع، كما لو قال أنت طالق في شهر رمضان فدخل الشهر
(الشرح) قوله التاريخ هو لفظ معرب وقيل عربي، وهو بيان انتهاء وقته،
وسبب وضع التاريخ أول الاسلام أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى بصك
مكتوب إلى شعبان فقال: أهو شعبان الماضي أو شعبان القابل، ثم امر بوضع
التاريخ، واتفقت الصحابة على ابتداء التاريخ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم
إلى المدينة، وجعلوا أول السنة المحرم، ويعتبر التاريخ بالليالي، لان الليل عند
العرب سابق على النهار لأنهم كانوا أميين لا يحسنون الكتابة، ولم يعرفوا
حساب غيرهم من الأمم فتمسكوا بظهور الهلال، وإنما يظهر بالليل فجعلوه ابتداء
التاريخ، ثم صدق الله العظيم " يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت
للناس والحج "
أما الأحكام فإذا قال لامرأته: إذا مضت سنة فأنت طالق، اعتبر ذلك من
حين حلف، فإن كان في أول الشهر اعتبر جميع السنة بالأهلة، فإذا مضى اثنا عشر
شهرا تامة أو ناقصه طلقت، لأن الاعتبار بالسنة الهلالية لقوله تعالى " يسئلونك
عن الأهلة " الآية
وإن كانت اليمين - وقد مضى بعض الشهر بأن مضى منه خمسة أيام -
اعتد بما بقي من أيام هذا الشهر، وعد بعده أحد عشر شهرا بالأهلة: فإن كان
الشهر الذي حلف فيه تاما لم تطلق حتى يمضى بعد الأحد عشر شهرا خمسة أيام
لان الطلاق إذا كان في الشهر لم يمكن اعتباره بالهلال، فاعتبر جميعه بالعدد
بخلاف غيره من الشهور.
وان قال: أنا أردت سنة بالعدد وهي ثلاثمائة وستون يوما وسنه شمسية
208

وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يوما لم يقبل في الحكم لأنه يدعى تأخير الطلاق
عن أول وقت يقتضيه، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمل ما يدعيه.
وإن قال: إذا مضت السنة فأنت طالق، طلقت إذا انقضت سنة التاريخ، وهو
أن ينسلخ شهر ذي الحجة لان التعريف يقتضى ذلك. وان قال أنا أردت سنة
كاملة لم يقبل في الحكم لأنه يدعى تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه، ويدين
فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه يحتمل ما يدعيه
(فرع) وان قال لها أنت طالق ثلاثا في كل سنة طلقه، وقع عليها طلقه
عقب إيقاعه، لأنه جعل السنة ظرفا لوقوع الطلاق، فإذا وجد أول جزء منها
وقع الطلاق، كما لو جعل الشهر أو اليوم ظرفا للطلاق، فإن الطلاق يقع في
أوله، وهل تطلق في أول السنة الثانية والثالثة؟ ينظر فيه، فإن كانت في عدة
من هذا الطلاق بأن طالت عدتها طلقت في أول كل سنة منهما طلقه، لان
الرجعية تلحقها الطلاق، وإن كانت زوجه له في هذا النكاح بأن راجعها بعد
الأولة قبل انقضاء عدتها فمضى عليه سنه من حين اليمين الأولة طلقت طلقه ثانيه
وكذلك إذا راجعها بعد الطلقة الثانية، فجاء أول الثانية وهي زوجه له من هذا
النكاح وقعت عليها طلقه ثالثه. وان جاء أول الثانية أو الثالثة وقد بانت منه
ولم يتزوجها لم يقع عليها الطلاق، لان البائن لا يلحقها الطلاق، وان تزوجها
بعد أن بانت منه فجاء أول الثانية أو الثالثة وهي زوجه له من نكاح جديد فهل
يعود عليها حكم الصفة الأولة؟ فيه قولان يأتي بيانهما إن شاء الله
فإن قال أردت بقولي: في أول كل سنه، أي أول سنة التاريخ وهو دخول
المحرم لم يقبل في الحكم، لأنه يدعى تأخير الطلاق عن أول وقت يقتضيه ويدين
فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمل ما يدعيه
وجملة ما مضى أنه إذا قال: أنت طالق في كل سنه طلقه فهذه صفة صحيحه
لأنه يملك إيقاعه في كل سنه. فإذا جعل ذلك صفة جاز ويكون ابتداء المدة
عقيب يمينه. لان كل أجل ثبت بمطلق العقد ثبت عقيبه. كقوله: والله
لا كلمتك سنه فيقع في الحال طلقه، لأنه جعل السنة ظرفا للطلاق فتقع في أول
209

جزء منها وتقع لثانية في أول الثانية والثالثة في أول الثالثة إن دخلتا عليها وهي
في نكاحه لكونها لم تنقض عدتها أو ارتجاعها في عدة الطلقة الأولى وعدة الثانية
أو جدد نكاحها بعد أن بانت، فإن انقضت عدتها فبانت منه ودخلت السنة الثانية
وهي بائن لم تطلق لكونها غير زوجة، فان تزوجها في أثنائها اقتضى قول أكثر
أصحابنا وقوع الطلاق عقيب تزويجه لها لأنها جزء من السنة الثانية التي جعلها
ظرفا للطلاق ومحلا له، وكان سبيله أن تقع في أولها. هذا مذهبنا ومذهب
الفقهاء كافة إلا ما رواه ابن قدامة عن بعض الحنابلة حيث قال: وقال القاضي
تطلق بدخول السنة الثالثة. وعلى قول التميمي ومن وافقه تنحل الصفة بوجودها
في حال البينونة فلا تعود بحال.
وان لم يتزوجها حتى دخلت السنة الثالثة ثم نكحها طلقت عقيب تزويجها ثم
طلقت الثالثة بدخول السنة الرابعة. وعلى قول القاضي لا تطلق إلا بدخول الرابعة
ثم تطلق الثالثة بدخول الخامسة، وعلى قول التميمي قد انحلت الصفة. وقال:
واختلف في مبدأ السنة الثانية، فظاهر ما ذكره القاضي أن أولها بعد انقضاء اثنى
عشر شهرا من حين يمينه لأنه جعل ابتداء المدة حين يمينه. وكذلك قال أصحاب
الشافعي. وقال أبو الخطاب - من أصحاب أحمد - ابتداء السنة الثانية من أول
المحرم لأنها السنة المعروفة: فإذا علق ما يتكرر على تكرر السنين انصرف إلى
السنين المعروفة، كقول الله تعالى " أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام. الآية "
وإن قال: أردت بالسنة اثنى عشر شهرا قبل لأنها سنه حقيقية. وان قال نويت
أن ابتداء السنين أول السنة الجديدة من المحرم دين قال القاضي ولا يقبل في الحكم
لأنه خلاف الظاهر. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال أنت طالق في الشهر الماضي فالمنصوص أنها تطلق في
الحال، وقال الربيع فيه قول آخر أنها لا تطلق. وقال فيمن قال لامرأته: إن
طرت أو صعدت السماء فأنت طالق أنها لا تطلق، واختلف أصحابنا فيه فنقل
أبو علي بن خيران جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وجعلهما
210

على قولين (أحدهما) تطلق لأنه علق الطلاق على صفة مستحيلة فألغيت الصفة
ووقع الطلاق، كما لو قال لمن لا سنة ولا بدعة في طلاقها: أنت طالق للسنة أو
للبدعة (والثاني) لا تطلق لأنه علق الطلاق على شرط ولم يوجد فلم يقع، وقال
أكثر أصحابنا: إذا قال أنت طالق في الشهر الماضي طلقت. وإن قال: إن طرت
أو صعدت السماء فأنت طالق لم تطلق قولا واحدا، وما قاله الربيع من تخريجه،
والفرق بينهما أن الطيران وصعود السماء لا يستحيل في قدرة الله عز وجل، وقد
جعل لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه جناحان يطير بهما، وقد أسرى برسول
الله صلى الله عليه وسلم، وإيقاع الطلاق في زمان ماض مستحيل
(الشرح) إن قال أنت طالق في الشهر الماضي فإنه يسأل عن ذلك فان قال
أردت أنى أوقع الطلاق الآن في الشهر الماضي، فالمنصوص أنها تطلق في الحال
قال الربيع وفيها قول آخر أنها لا تطلق. واختلف أصحابنا فيه فقال أبو علي بن
خيران: قد نص الشافعي على أنه إذا قال لها: ان طرت أو صعدت السماء فأنت
طالق فإنها لا تطلق. وهذا تعليق طلاق بصفة محال، كإيقاع الطلاق الآن في
زمان ماض، فجعل الأولة على قولين، وهذه على وجهين (أحدهما) لا تطلق
لأنه علق الطلاق على شرط فلا يقع قبل وجوده، كما لو علقه على دخولها الدار
(والثاني) تطلق في الحال لأنه علقه على شرط مستحيل فألغى الشرط ووقع
الطلاق. كما لو قال لمن لا سنة لها ولا بدعه أنت طالق للسنة أو للبدعة
وقال أكثر أصحابنا: إذا قال أنت طالق للشهر الماضي، وقال أردت به ايقاع
الطلاق الآن في الشهر الماضي، تطلق قولا واحدا لما ذكرناه، وما حكاه الربيع
فإنه من تخريجه.
وأما أحمد بن حنبل فظاهر كلامه فيمن قال أنت طالق أمس ولا نية له أن
الطلاق لا يقع إذا كان قد تزوجها اليوم. وقال بعض أصحابه يقع الطلاق.
أما إذا قال لها أنت طالق إن طرت أو صعدت إلى السماء فعلى وجهين:
(أحدهما) تطلق لان الصعود إلى السماء أو الطيران ليس من الأمور المستحيلة
عقلا ولا شرعا في الماضي. وأما الحاضر فقد انتفت الاستحالة العرفية والعادية
211

بالطائرات والأقمار الصناعية والمحطات الفضائية. والوجه الثاني وهو المنصوص
في الام أنها لا تطلق حتى توجد الصفة، والفرق بينهما أن إيقاع الطلاق الآن في
زمان ماض مستحيل وجوده في العقل، لان الله تعالى ما أجرى العادة بمثل
ذلك، وإن كان غير مستحيل في قدرة الله تعالى.
قال العمراني في البيان: والطيران والصعود إلى السماء غير مستحيل وجوده
في العقل، لان الله تعالى قد أجرى العادة بذلك إذ جعل ذلك للملائكة، وقد
أسرى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وقد يجعل الله لها إلى ذلك سبيلا اه‍
قلت: وقد جعل الله إلى ذلك لكل الناس سبلا لا سبيلا، والناس في عصرنا
هذا يؤدون فريضة الحج، فتقفز بهم الطائرات من القاهرة لتهبط في جدة في
ساعات قليله، فقد يصلى الظهر في القاهرة ثم يدرك العصر في جدة. ومن عجب
أن المسلمين الذين يبحث فقههم في الممكنات والمستحيلات تنحط هممهم وتخور
عزائمهم عن أن يكونوا هم أصحاب القدح المعلى في ارتياد الفضاء وجوب الآفاق
وقد استفزهم كتاب الله ليبحثوا وينظروا، واستنفرهم للغوص في مظاهر الكون
واستكناه خفاياه، فتقاعسوا عن أمره، وتخلفوا عن توجيهه وهديه، فكان
ما كان، وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون
هذا ولان إيقاع الطلاق في الزمن الماضي يتضمن وقوع الآن فحكم عليه
بالطلاق الآن. وإن قال: أردت بقولي أنت طالق في الشهر الماضي، أي كنت
طلقتها في الشهر الماضي في نكاح آخر. أو طلقها زوج غيري في الشهر الماضي،
وأردت الاخبار عنه، فإن صدقته الزوجة على أنه طلقها في الشهر الماضي أو
طلقها زوج غيره في الشهر الماضي، وأنه أراد بقوله هذا الاخبار عن ذلك، فلا
يمين على الزوج ولا طلاق.
وإن صدقته على طلاقه وطلاق زوجها الأول في الشهر الماضي وكذبته أنه
أراد ذلك فالقول قوله مع يمينه أنه أراد ذلك، لان دعواه لا تخالف الظاهر،
وان كذبته أن يكون طلقها هو أو غيره في الشهر الماضي لم يقبل حتى يقيم البينة
على ذلك لأنه يمكنه إقامة البينة على ذلك، فإذا أقام البينة عليه حلف أن أراده
وان لم يقم البينة لم يقبل في الحكم لان دعواه تخالف الظاهر ويدين فيما بينه وبين
212

الله تعالى لأنه يحتمل ما يدعيه. وان قال: كنت طلقتها في هذا النكاح في الشهر
الماضي، فإن صدقته الزوجة على ذلك حكمنا بوقوع الطلاق من ذلك من الوقت،
وكانت عدتها من ذلك الوقت. وان كذبته فالقول قوله مع يمينه والفرق بينهما أن في
التي قبلها يريد أن يوقع الطلاق من هذا النكاح فلم يقبل، وههنا لا يريد أن يرفعه
وإنما يريد نقله إلى ما قبل هذا فقبل ويجب عليها العدة من الآن لأنها تقر أن هذا
ابتداء عدتها وليس للزوج أن يسترجعها بعد انقضاء عدتها من الشهر الماضي،
لأنه يقر أن ابتداء عدتها من الشهر الماضي
وإن قال: لم يكن لي نية حكم عليه بوقوع الطلاق في الحال، لأن الظاهر أنه
أراد تعليق ايقاعه الآن في الشهر الماضي. وان مات أو جن أو أخرس فلم يعقل
إشارته قبل البيان، قال الشافعي في الام: حكم عليه بوقوع الطلاق في الحال،
وهذا يدل على أن الطلاق ينصرف إلى ذلك.
(فرع) وان قال لها أنت طالق ان شربت ماء دجله أو النيل أو حملت جبل
المقطم على رأسك ففيه قولان (أحدهما) لا يقع عليها الطلاق لأنه علق الطلاق
على صفة فلم يقع قبلها (والثاني) يقع في الحال لأنه علقه على صفة مستحيلة في
العادة فألغيت الصفة ويبقى الطلاق مجردا. وهذا اختيار الشيخ أبى حامد الأسفراييني
والأول اختيار ابن الصباغ
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال إن قدم زيد فأنت طالق قبله بشهر، فقدم زيد بعد شهر
طلقت قبل قدومه بشهر، لأنه ايقاع طلاق بعد عقده وان قدم قبل شهر ففيه
وجهان (أحدهما) أنه كالمسألة قبلها، وهو إذا قال أنت طالق في الشهر الماضي
لأنه ايقاع طلاق قبل عقده (والثاني) وهو قول أكثر أصحابنا انه لا يقع الطلاق
ههنا قولا واحدا، لأنه علق الطلاق على صفة، وقد كان وجودها ممكنا فوجب
اعتباره، وايقاع الطلاق في زمان ماض غير ممكن فسقط اعتباره
(فصل) وان قال أنت طالق قبل موتى بشهر فمات قبل مضى شهر لم تطلق
لتقدم الشرط على العقد، وان مضى شهر ثم مات عقيبه لم تطلق، لان وقوع
213

الطلاق مع اللفظ، وإن مضى شهر وجزء ثم مات طلقت في ذلك الجزء. وإن
قال أنت طالق ثلاثا قبل قدوم زيد بشهر، ثم خالعها بعد يومين أو ثلاثة وقدم
زيد بعد هذا القول بأكثر من شهر لم يصح الخلع لأنها بانت بالطلاق فلم يصح
الخلع بعده، وإن قدم بعد الخلع بأكثر من شهر صح الخلع، لأنه صادف الملك
فلم يقع الطلاق بالصفة
(الشرح) الأحكام: إذا قال أنت طالق قبل قدوم زيد بشهر، فقدم زيد
بعد هذا بشهر وزيادة تبينا أن الطلاق وقع في لحظة قبل شهر من قدومه، وبه
قال زفر وأحمد بن حنبل وأصحابه
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يقع الطلاق بقدوم زيد. دليلنا أنه أوقع
الطلاق في زمان على صفة، فإذا حصلت الصفة وقع فيه، كما لو قال: أنت طالق
قبل رمضان بشهر، فإن أبا حنيفة وافقنا على ذلك، وإن قدم زيد قبل شهر من
وقت اليمين ففيه وجهان حكاهما المصنف
(أحدهما) أنها كما لو قال أنت طالق في الشهر الماضي، فيكون على قولين
عند ابن خيران أنها لا تطلق وعند سائر أصحابنا تطلق في الحال قولا واحدا لأنه
إيقاع طلاق قبل عقده.
(والثاني) وهو قول أكثر أصحابنا وهو المشهور أنها لا تطلق ههنا قولا واحدا
لأنه علق الطلاق بصفة قد كان وجودها ممكنا، فوجب اعتبارها وإيقاع الطلاق
في زمن ماض غير ممكن فسقط اعتباره، فعلى هذا إذا قال: أنت طالق قبل قدوم
زيد بشهر ثم خالعها الزوج ثم قدم زيد نظرت - فإن قدم زيد لأكثر من شهر
من حين عقد الطلاق - فإن كان بين ابتداء الخلع والقدوم شهر فما دونه تبينا
أن الخلع لم يصح، لأنه إذا كان بينهما أقل من شهر بان أن الطلاق بالصفة كان
سابقا للخلع. وإذا كان بينهما شهر لا غير بان أنها طلقت ثلاث قبل تمام الخلع
فلم يصح. وإن كان بين ابتداء الخلع والقدوم أكثر من شهر تبينا أن الخلع صحيح
لأنه بان أن الخلع وقع قبل الطلاق بالصفة
(مسألة) قوله: وإن قال أنت طالق قبل موتى بشهر الخ، فجملة ذلك أنه إذا
214

قال لامرأته أنت طالق قبل موتى طلقت في الحال، لان ذلك قبل موته وهو
أول وقت يقتضيه الطلاق، فوقع فيه الطلاق
وان قال أنت طالق قبيل موتى. قال ابن الحداد لا يقع في الحال، وإنما يقع
قبل موته بجزء يسير، لان ذلك تصغير يقتضى الجزء اليسير، وكذلك إذا قال
أنت طالق قبيل رمضان طلقت إذا بقي من شعبان جزء يسير. وإن قال لها: أنت
طالق مع موتى لم تطلق، لان تلك حال البينونة فلا يقع فيها طلاق، كما لو قال
لها أنت طالق مع انقضاء عدتك، وكانت رجعية، وكما لو قال لها أنت طالق بعد
موتى. وان قال لعبده: أنت حر مع موتى عتق من الثلث، كما يصح أن يقول:
أنت حر بعد موتى.
وان قال لامرأته: أنت طالق قبل موتى بشهر، فإن مات لأقل من شهر لم
تطلق لتقدم الشرط على العقد. وان مضى شهر بعد هذا ومات مع رأس الشهر لم
تطلق، لان الطلاق إنما يقع بعد إيقاع لا مع الايقاع، فلو حكمنا بالطلاق
ههنا لوقع معه.
* * *
وجملة ما في الفصلين أن المسألة إذا كانت بحالها فمات أحدهما بعد عقد الصفة
بيوم ثم قدم زيد بعد شهر وساعة من حين عقد الصفة لم يرث أحدهما الآخر،
لأنا تبينا أن الطلاق كان قد وقع قبل موت الميت منهما فلم يرثه صاحبه، الا أن
يكون الطلاق رجعيا فإنه لا يقطع التوارث ما دامت في العدة، فإن قدم بعد الموت
بشهر وساعة تبينا أن الفرقة وقعت بالموت ولم يقع الطلاق، فإن قال أنت طالق
قبل موتى بشهر فمات أحدهما قبل مضى شهر لم يقع طلاق، لان الطلاق لا يقع
في الماضي. وان مات بعد عقد اليمين بشهر وساعة تبينا وقوع الطلاق في تلك
الساعة، ولم يتوارثا إلا أن يكون الطلاق رجعيا ويموت في عدتها
وإن قال أنت طالق قبل ولم يزد شيئا طلقت في الحال، لان ما قبل موته من
حين انعقدت الصفة محل للطلاق فوقع في أوله. وان قال قبل موتك أو موت زيد
فكذلك. وان قال أنت طالق قبل قدوم زيد أو قبل دخولك الدار فقال بعض
الفقهاء تطلق في الحال، سواء قدم زيد أو لم يقدم، بدليل قوله تعالى (يا أيها الذين
215

أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها
على أدبارها " ولم يوجد الطمس في المأمورين
ولو قال لغلامه: اسقني قبل أن أضربك فسقاه في الحال عد ممتثلا وان لم
يضربه، ولو قال أنت طالق قبيل موتى أو قبيل قدوم زيد لم يقع في الحال، وإنما
يقع ذلك في الجزء الذي يلي الموت، لان ذلك تصغير يقتضى الجزء اليسير الذي
يبقى. وإن قال أنت طالق قبل موت زيد وعمرو بشهر. قالوا تتعلق الصفة بأولهما
موتا لأن اعتباره بالثاني يفضى إلى وقوعه بعد موت الأول، واعتباره بالأول
لا يفضى إلى ذلك فكان أولى. والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان قال أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زيد، فقدم ليلا لم
تطلق لأنه لم يوجد الشرط. وإن قال أردت باليوم الوقت قبل منه لأنه قد
يستعمل اليوم في الوقت كما قال الله عز وجل " ومن يولهم يومئذ دبره " وهو غير
متهم فيه فقبل منه.
وان ماتت المرأة في أولى اليوم الذي قدم زيد في آخره فقد اختلف أصحابنا
فيه، فقال أبو بكر بن الحداد المصري: يقع الطلاق لأنه إذا قال أنت طالق في يوم
السبت طلقت بطلوع الفجر، فإذا قال أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زيد،
فقدم وجب أن يقع بعد طلوع الفجر في اليوم الذي يقدم فيه زيد، وقد قدم
وكانت باقية بعد طلوع الفجر فوجب ان يقع الطلاق.
ومن أصحابنا من قال لا يقع لأنه جعل الشرط في وقوع الطلاق قدوم زيد
وقدوم زيد وجد بعد موت المرأة فلا يجوز أن يقع الطلاق، ويخالف قوله أنت
طالق يوم السبت فإنه علق الطلاق على شرط واحد وهو اليوم، وههنا علق على
شرطين اليوم وقدوم زيد، وقدوم زيد وجد وقد ماتت المرأة فلم يلحقها الطلاق
(الشرح) إذا قال لامرأته أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زيد - قال
المصنف ههنا - فإن قدم زيد ليلا لم تطلق لأنه لم يوجد الشرط وان قال أردت
باليوم الوقت طلقت، لان اليوم قد يستعمل في الوقت. قال الله تعالى " ومن
216

يولهم يومئذ دبره " وان ماتت المرأة في يوم ثم قدم زيد بعد موتها في ذلك اليوم
ففيه وجهان. قال ابن الحداد: ماتت مطلقة فلا يرثها إن كان الطلاق بائنا - وقد
مضى إيضاحنا لذلك في الفصل قبله - وكذلك إذا علق عنق عبده بذلك ثم باعه
بعد ذلك بيوم وقدم زيد بعد البيع في ذلك اليوم تبينا أن العتق وقع قبل البيع
وأن البيع باطل، وهو اختيار القاضي أبى الطيب، لان أول اليوم طلوع الفجر
وإنما عرفه بقدوم زيد فإذا قدم تبينا أن الصفة وجدت بطلوع الفجر، كما إذا قال
أنت طالق يوم الخميس.
ومن أصحابنا من قال لا يقع عليها الطلاق ولا يصح العتق. وبه قال ابن سريج
لان معنى قوله يوم قدوم زيد، أي في وقت قدوم زيد فلا تطلق قبله، كما لو
علقه على القدوم من غير ذكر اليوم.
(مسألة) إذا قال لامرأته: ان لم أتزوج عليك فأنت طالق، فإن قيد ذلك بمدة
- فإن لم يتزوج حتى بقي من المدة قدر لا يتسع لعقد النكاح طلقت، وإن أطلق
اقتضى التأبيد، فإن مات أحدهما قبل أن يتزوج طلقت إذا بقي من حياة الميت
أو ما لا يتسع لعقد النكاح - فإن كان الطلاق رجعيا ورث الباقي منهما، وإن كان
بائنا - فان ماتت الزوجة - لم يرثها الزوج، وان مات الزوج فهل ترثه؟ فيه
قولان. وان قال: إذا لم أتزوج عليك فأنت طالق: فمضى بعد يمينه زمان يمكنه
أن يعقد فيه النكاح فلم يعقد طلقت عند من قال من أصحابنا أن " إذا " على الفور
وان تزوج عليها بر في يمينه
وقال مالك وأحمد: لا يبر حتى يتزوج عليها من يشبهها في الجمال ويدخل بها
دليلنا أن اليمين معقودة على التزويج بها وقد وجد ذلك بالعقد، وإن كانت مما
لا يشبهها. هذا نقل البغداديين
وقال المسعودي: إذا قال لامرأته ان لم أتزوج فأنت طالق لم تطلق ما لو لم
يوأس من تزويجه، فلو مات قبل أن يتزوج - فان قال: إن لم أتزوج عليك -
طلقت قبل موته، وان أطلق لم تطلق، فان ماتت في الأولة وكان الطلاق بائنا
لم يرثها، وان مات فهل ترثه؟ فيه قولان
217

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال: إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم، فمضى اليوم
ولم يطلقها، ففيه وجهان (أحدهما) لا تطلق، لان مضى اليوم شرط في وقوع
الطلاق في اليوم، ولا يوجد شرط الطلاق الا بعد مضى محل الطلاق فلم يقع.
والثاني يقع وهو قول الشيخ أبى حامد الأسفراييني رحمه الله، لان قوله: ان لم
أطلقك اليوم معناه إن فاتني طلاقك اليوم فإذا بقي من اليوم مالا يمكنه أن يقول
فيه أنت طالق فقد فاته فوقع الطلاق في بقيته. وان قال لعبده: إن لم أبعك اليوم
فامرأتي طالق، فأعتقه طلقت المرأة، لان معناه: ان فاتني بيعك، وقد فاته
بيعه بالعتق.
(فصل) إذا تزوج بجارية أبيه ثم قال: إذا مات أبى فأنت طالق فمات أبوه
ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبى العباس بن سريج انها لا تطلق لأنه إذا
مات الأب ملكها فانفسخ النكاح، ويكون الفسخ في زمان الطلاق فوقع الفسخ
وانفسخ الطلاق، كما لو قال رجل لزوجته: ان مت فأنت طالق ثم مات، والثاني
وهو قول الشيخ أبى حامد الأسفرايني رحمه الله أنها تطلق ولا يقع الفسخ. لان
صفة الطلاق توجد عقيب الموت وهو زمان الملك، والفسخ يقع بعد الملك
فيكون زمان الطلاق سابقا لزمان الفسخ فوقع الطلاق ولم يقع الفسخ. وان قال
الأب لجاريته أنت حرة بعد موتى، وقال الابن أنت طالق بعد موت أبى، فمات
الأب وقع العتق والطلاق، لان العتق يمنع من الدخول في ملك الابن، فوقع
العتق والطلاق معا.
(الشرح) وإن قال لامرأته ان لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم فخرج اليوم
ولم يطلقها ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبى العباس انها لا تطلق، لان
الصفة توجد بخروج اليوم، فإذا خرج اليوم لم يقع الطلاق لأنه قد فات.
(والثاني) وهو قول الشيخ أبى حامد أنها تطلق في آخر جزء من اليوم لان معناه
ان فاتى طلاقك اليوم فأنت طالق، فإذا بقي من اليوم مالا يمكنا من الطلاق فيه
فقد فاتة الطلاق فوقع الطلاق في ذلك
218

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا كتب: إذا أتاك كتابي هذا فأنت طالق ونوى الطلاق فضاع
الكتاب لم يقع الطلاق لأنه لم يأتها الكتاب. وان وصل وقد ذهبت الحواشي
وبقى موضع الكتابة وقع الطلاق، لان الكتاب هو المكتوب. وإن أتاها
وقد امحي الكتاب لم تطلق أيضا. لأنه لم يأتها الكتاب. وان انطمس حتى
لا يفهم منه شئ لم تطلق لأنه ليس بكتاب، فهو كما لو جاءها كتاب فيه صورة.
وإن جاء وقد أمحى بعضه. فإن كان الذي أمحى موضع الطلاق - لم يقع، لان
المقصود لم يأتها، وان بقي موضع الطلاق وذهب الباقي فقد اختلف أصحابنا فيه،
فقال أبو إسحاق يقع لان المقصود من الكتاب قد أتاها. ومن أصحابنا من قال:
لا يقع لأنه قال: إذا جاءك كتابي هذا. وذلك يقتضى جميعه
وإذا قال: إذا أتاك كتابي فأنت طالق، فأتاها الكتاب وقد أمحى الجميع الا
موضع الطلاق وقع الطلاق، لأنه أتاها كتابه.
وإن قال: إن أتاك طلاقي فأنت طالق. وكتب إذا أتاك كتابي فأنت طالق
ونوى الطلاق وأتاها الكتاب طلقت طلقتين، طلقة بمجئ الكتاب، وطلقة
بمجئ الطلاق.
(الشرح) إذا كتب لزوجته " أنت طالق ثم استمر فكتب: إذا أتاك كتابي
أو علقه بشرط أو استثناء، وكان في حال كتابته للطلاق مريدا للشرط لم يقع
طلاقه في الحال لأنه لم ينو الطلاق في الحال بل نواه في وقت آخر، وإن كان نوى
الطلاق في الحال غير معلق بشرط طلقت للحال. وإن لم ينو شيئا وقلنا إن المطلق
يقع به الطلاق نظرنا - فإن كان استمدادا لحاجة أو عادة لم يقع طلاق قبل
وجود الشرط، لأنه لو قال: أنت طالق ثم أدركه النفس أو شئ يسكته فسكت
لذلك ثم أتى بشرط تعلق به فالكتابة أولى. وإن استمد لغير حاجة ولا عادة وقع
الطلاق، كما لو سكت بعد قوله: أنت طالق لغير حاجة ثم ذكر شرطا
وإن قال: إنني كتبته مريدا للشرط فقياس قولنا وقول أصحاب أحمد أنها
لا تطلق قبل الشرط إلا أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى، وقبوله في الحكم على
219

وجهين. وان كتب إلى امرأته: أما بعد فأنت طالق، طلقت في الحال، سواء
وصل إليها الكتاب أو لم يصل وعدتها من حين كتبه.
وان قال: كنت أمتحن القلم أو أجود الخط قبل في الحكم، ويدين فيما بينه
وبين الله تعالى. وان كتب إليها إذا وصلك كتابي هذا فأنت طالق فأتاها الكتاب
طلقت عند وصوله إليها، وان ضاع ولم يصلها لم تطلق، لان الشرط وصوله،
وان ذهبت كتابته بمحو أو غيره ووصل الصحيفة لم تطلق لان الشرط وصوله.
وان انطمس ما فيه لعرق أو غيره فكما قلنا في ذهاب كتابته: وان ذهبت حواشيه
أو تخرق منه شئ لا يخرجه عن كونه كتابا ووصل باقيه طلقت، لان الاسم
باق، فينصرف الاسم إليه، وان تخرق ما فيه ذكر الطلاق فذهب ووصل باقيه
لم تطلق لان المقصود ذاهب
فإن قال لها إذا أتاك طلاقي فأنت طالق، ثم كتب إليها: إذا أتاك كتابي فأنت
طالق. فأتاها الكتاب طلقت طلقتين لوجود الصفتين في مجئ الكتاب.
فإن قال أردت إذا أتاك كتابي فأنت طالق بذلك الطلاق الذي علقته دين. وهل
يقبل في الحكم؟ وجهان ويخرج على روايتين عند أصحاب أحمد ولا يثبت الكتاب
بالطلاق الا بشاهدين عدلين أن هذا كتابه. ولا تصح شهادة الشاهدين حتى
يشاهداه يكتبه، ثم لا يغيب عنهما حتى يؤديا الشهادة، وبهذا قال بعض أصحاب
أحمد، والأظهر عندهم أن هذا ليس بشرط، فإن كتاب القاضي لا يشترط فيه
ذلك، ولا يكفي أن يشهد شاهدان بالخيرة أن هذا خطه. لان الخط
يشبه ويزور.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال إن قدم فلان فأنت طالق فقدم به ميتا أو حمل مكرها لم
تطلق لأنه ما قدم وإنما قدم به، وان أكره حتى قدم بنفسه ففيه قولان كالقولين
فيمن أكره حتى أكل في الصوم، وان قدم مختارا وهو غير عالم باليمين، فإن كان
ممن لا يقصد الزوج منعه من القدوم بيمينه كالسلطان طلقت لأنه طلاق معلق
220

على صفة وقد وجدت الصفة وإن كان ممن يقصد الزوج منعه من القدوم بيمينه
فعلى القولين فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعله ناسيا
(فصل) وإن قال: إن خرجت إلا بإذني فأنت طالق، فخرجت بالاذن
انحلت اليمين، فإن خرجت بعد ذلك بغير الاذن لم تطلق، لان قوله إن خرجت
لا يقتضى التكرار، والدليل عليه انه لو قال لها: إن خرجت فأنت طالق فخرجت
مرة طلقت، ولو خرجت مرة أخرى لم تطلق فصار كما لو قال: إن خرجت مرة
إلا بإذني فأنت طالق وان قال: كلما خرجت إلا بإذني فأنت طالق ثم خرجت بغير
الاذن طلقت طلقة. وان خرجت مرة ثانيه بغير الاذن وقعت طلقه أخرى.
وإن خرجت مرة ثالثة وقعت طلقة أخرى لان اللفظ يقتضى التكرار. وان
قال إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذن فأنت طالق، فخرجت إلى الحمام ثم عدلت
إلى غير الحمام لم يحنث لان الخروج كان إلى الحمام. وان خرجت إلى غير الحمام ثم
عدلت إلى الحمام حنث بخروجها إلى غير الحمام بغير الاذن. وان خرجت إلى الحمام
والى غيره وجمعت بينهما في القصد عند الخروج ففيه وجهان
(أحدهما) لا يحنث لان الحنث علقه على الخروج إلى غير الحمام، وهذا
الخروج مشترك بين الحمام وغيره
(والثاني) يحنث لأنه وجد الخروج إلى غير الحمام بغير الاذن والضم إليه غيره
فوجب أن يحنث، كما لو قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق ثم كلمت زيدا وعمرا.
وإن قال إن خرجت الا بإذني فأنت طالق، فأذن لها ولم تعلم بالاذن ثم خرجت
لم تطلق لأنه علق الخلاص من الحنث بمعنى من جهته يختص به وهو الاذن وقد
وجد الاذن. والدليل عليه انه يجوز لمن عرفه أن يخير به المرأة فلم يعتبر علمها فيه
كما لو قال: إن خرجت قبل أن أقوم فأنت طالق ثم قام ولم تعلم به
(فصل) وان قال لها: إن خالفت أمري فأنت طالق، ثم قال لها لا تكلمي
أباك فكلمته لم تطلق لأنها لم تخالف أمره، وإنما خالفت نهيه وان قال إن بدأتك
بالكلام فأنت طالق، وقالت المرأة: وان بدأتك بالكلام فعبدي حر، فكلمها
لم تطلق المرأة ولم يعتق العبد، لان يمينه انحلت بيمينها بالعتق ويمينها انحلت
بكلامه. وان قال أنت طالق ان كلمتك وأنت طالق ان دخلت الدار طلقت لأنه
221

كلمها باليمين الثانية وان قال أنت طالق ان كلمتك ثم أعاد ذلك طلقت لأنه كلمها
بالإعادة. وان قال إن كلمتك فأنت طالق فاعلمي ذلك طلقت لأنه كلمها بقوله:
فاعلمي ذلك. ومن أصحابنا من قال: إن وصل الكلام باليمين لم تطلق، لأنه من
صلة الأول
(فصل) إذا قال لامرأته: ان كلمت رجلا فأنت طالق، وان كلمت فقيها،
فأنت طالق، وان كلمت طويلا فأنت طالق، فكلمت رجلا طويلا فقيها طلقت
ثلاثا، لأنه اجتمع صفات الثلاثة فوقع بكل صفة طلقة
(فصل) وان قال إن رأيت فلانا فأنت طالق فرآه ميتا أو نائما طلقت لأنه
رآه، وان رآه في مرآة أو رأى ظله في الماء لم تطلق لأنه ما رآه وإنما رأى مثاله
وان رآه من وراء زجاج شفاف طلقت لأنه رآه حقيقة
(الشرح) ان قال لها: إذا قدم فلان فأنت طالق، فمات قبل أن يقدم ثم قدم
به لم تطلق لأنه لم يقدم وإنما قدم به. وهكذا إذا أكره فقدم به محمولا لم تطلق
لأنه لا يقال له قدم، وان أكره حتى قدم بنفسه فهل تطلق، فيه قولان كما لو
أكل في الصوم مكرها على الاكل. وان قدم غير مكره والمحلوف عليه غير عالم
باليمين حنث الحالف، وإن كان غير عالم باليمين أو كان عالما ثم نسيها عند القدوم
نظرت، فإن كان القادم ممن لا يقصد الحالف منعه من القدوم كالسلطان
الحجيج، أو أجنبي لا يمتنع من القدوم لأجل يمين الحالف طلقت. لان ذلك
ليس بيمين، وإنما هو تعليق طلاق بصفة وقد وجدت فوقع الطلاق، كقوله:
ان دخل الحمار الدار وطلعت الشمس فأنت طالق، وإن كان القادم ممن يقصد
الحالف منعه من القدوم كقرابة الرجل أو قرابة المرأة أو بعض من يسوءه طلاقها
ففيه قولان كالقولين فيمن حلف لا يفعل شيئا ففعله ناسيا
وحكى ابن الصباغ أن الشيخ أبا حامد قال: ينبغي أن يقال إذا كان المحلوف
على قدومه ممن يمنعه الحالف من القدوم باليمين أن يرجع إلى قصد الحالف، فإن
قصد منعه من القدوم فهو كما مضى، وان أراد أن يجعل ذلك صفة كان ذلك صفة
قال الطبري فلو قدم المحلوف عليه وهو مجنون، فإن كان يوم عقد اليمين عاقلا
222

ثم جن بعد ذلك لم يقع الطلاق لأنه لا حكم لفعله في ذلك، وإن كان في ذلك
اليوم مجنونا وقع الطلاق لأنه يجرى مجرى الصفات.
(فرع) وإن قال لها: إذا ضربت فلانا فأنت طالق، فضربه بعد موته فقال
أكثر أصحابنا: لم تطلق لان القصد بالضرب أن يتألم به المضروب وهذا لا يوجد
في ضرب الميت. هذا هو المشهور.
وقال ابن الصباغ: وهذا يخالف أصلنا لأنا لا نراعي إلا ظاهرا من اللفظ
في اليمين دون ما يقصد به في العادة. ألا ترى أنه لو حلف: لا ابتعت هذا فابتاعه
له وكيله لم يحنث. وإن كان القصد من الابتياع هو التملك له. وحقيقة الضرب
موجود في ضرب الميت وان لم يألم به. ألا ترى أنه لو ضربه وهو نائم أو سكران
لم يألم به. وان ضربه ضربا لا يؤلمه بر في يمينه اه‍
(مسألة) قوله: وان قال: إن خرجت الخ، فجملة ذلك أنه إذا قال لها: ان
خرجت بغير إذني فأنت طالق، فإن خرجت بغير إذنه طلقت، فإن أذن لها
فخرجت انحلت اليمين، فإن خرجت بعد ذلك لم تطلق. وكذلك إذا قال: إن
خرجت إلا بإذني، أو قال إن خرجت إلا أن آذن لك، أو حتى آذن لك أو إلى
أن آذن لك فالحكم واحد.
وقال أبو حنيفة: إذا قال إلا بإذني، أو قال إن خرجت بغير إذني فإذا
خرجت بإذنه لم تنحل اليمين. ومتى خرجت بعد ذلك بغير اذنه حنث، ووافقنا
في اللفظ الثلاثة، وخالف أحمد في كلها، دليلنا أن اليمين تقدمت بخروج واحد
لأن هذه الحروف لا تقتضي التكرار فلم يحنث بما بعد الأول
وإن قال كلما خرجت الا بإذني فأنت طالق فخرجت بغير اذنه طلقت، وان
خرجت بغير اذنه ثانيا طلقت الثانية، وان خرجت بغير اذنه ثالثا طلقت ثلاثا،
لان كلما يقتضى التكرار.
وان قال إن خرجت إلى غير الحمام بغير اذني فأنت طالق، فخرجت إلى غير
الحمام بغير اذنه طلقت. وان خرجت قاصدة إلى الحمام ثم عدلت إلى غير الحمام
بغير الاذن وانضم إليه غيره فطلقت. كما لو قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق
فكلمت زيدا وعمرا معا. وان أذن لها بالخروج فخرجت ولم تعلم بالاذن لم تطلق
223

لان الصفة لم توجد لأنه شرط إذا خرجت بغير اذنه وقد وجد الاذن منه.
وان لم تعلم به. هذا هو المشهور
وحكى الطبري إذا خرجت على ظن أنها تطلق فهل تطلق؟ فيه وجهان
الظاهر أنها لا تطلق بناء على القولين في الوكيل إذا تصرف بعد العزل
وقبل العلم بالعزل.
(مسألة) إذا قال لها: ان خالفت أمري فأنت طالق، ثم قال لا تكلمي
أباك فكلمته لم تطلق لأنها لم تخالف أمره وإنما خالفت نهيه، وان قال لها: متى
نهيتني عن منفعة أمي فأنت طالق، فقالت له: لا تعط أمك مالي، لم تطلق لأنه
لا يجوز له أن يعطى أمه مال زوجته، ولا يجوز للام أن تنتفع به
(فرع) وان قال لها: ان كلمت زيدا فأنت طالق، فكلمته بحيث يسمع كلامها
طلقت، سواء سمعها أو لم يسمعها لوجود الصفة، ولهذا يقال: كلمته فلم يسمع
وان كلمته وهو منها فعلى مسافة بعيدة لا يسمع كلامها في العادة لم تطلق، لأنه
لا يقال كلمته، وإن كان أصم فكلمته بحيث يسمع لو كان سميعا ففيه وجهان.
(أحدهما) تطلق لأنها قد كلمته، وإنما لم يسمع لعارض، فهو كما لو لم يسمع
لشغل (والثاني) لا تطلق لأن الاعتبار بما يكون كلاما له. وذلك ليس بكلام له
كما يختلف الكلام في القرب والبعد. وان كلمته وهو ميت لم تطلق، لان الميت
لا يكلم. فإن قيل فقد كلم النبي صلى الله عليه وسلم قتلى بدر وهم القليب حيث
قال صلى الله عليه وسلم " يا عتبة يا شيبة يا فلان هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟
فقيل يا رسول الله أتكلم الموتى وقد ارموا؟ فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم،
ولكن لم يؤذن لهم في الجواب "
قلنا تلك معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، لان الله رد إليهم أرواحهم حتى
يسمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لان الأصل أن الميت لا يسمع. قال
الله تعالى " وما أنت بمسمع من في القبور " أنزل الكفار منزلة من في القبور،
وان كلمته وهو نائم أو مغمى عليه لم تطلق كالميت، وان كلمته وهي مجنونة،
قال ابن الصباغ لم يحنث وإن كانت سكرانة حنث، لان السكران بمنزلة الصاحي
في الحكم، وان كلمته وهو سكران، فإن كان بحيث يسمع حنث، وإن كان بحيث
224

لا يسمع لم يحنث، وإن قال لها: إن بدأتك بالكلام فأنت طالق، ثم قالت له:
إن بدأته بالكلام فعبدي حر فكلمها لم تطلق ولم يعتق العبد، لان يمينه انحلت
بيمينها ويمينها انحلت بكلامه.
وإن قال لها: إن كلمتك فأنت طالق، وإن دخلت الدار فأنت طالق، طلقت
لأنه كلمها باليمين الثانية، وإن أعاد اليمين الأولة طلقت لأنه كلمها، وإن قال: إن
كلمتك فأنت طالق فاعلمي ذلك طلقت لأنه كلمها بقوله: فاعلمي ذلك. ومن
أصحابنا من قال: إن وصله باليمين لم تطلق، لأنه من صلة الأول والأول أصح.
(فرع) وإن قال لها: أنت طالق إن كلمت زيدا وعمرا وبكر مع خالد
- برفع بكر - فكلمت زيدا وعمرا طلقت، لان اليمين على كلامهما وقد وجد
وقوله: وبكر مع خالد لا يتعلق باليمين. لأنه ليس بمعطوف على الأولين، قال
ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، لان ذلك يقتضى أن يكون لزيد وعمر وفى حال
كون بكر مع خالد مثل قوله تعالى " ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى
طائفة منكم، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم " فكانت هذه الجملة حالا من الأولة.
كذلك ههنا. فإن كلمت زيدا أو عمرا لم تطلق لان صفة الطلاق كلامهما، وإن
قال لها: أنت طالق ان كلمت زيدا وعمرا وخالدا فكلمت بعضهم لم تطلق. وإن
قال أنت طالق ان كلمت زيدا ولا عمرا ولا خالدا، فكلمت واحدا منهم طلقت
وإن قال لها: إن كلمت زيدا إلى أن يقدم عمرو أو حتى يقدم عمرو فأنت طالق
فإن كلمت زيدا قبل قدوم عمرو طلقت، وان كلمته بعد قدوم عمرو لم تطلق
لان حتى وإلى للغاية، والغاية ترجع إلى الكلام لا إلى الطلاق فتصير كقوله أنت
طالق ان كلمت زيدا إلى أن يشاء عمرو وحتى يشاء عمرو
(فرع) وان قال: إن رأيت فلانا فأنت طالق فرأته حيا أو ميتا طلقت،
لان رؤيته حاصلة وإن كان ميتا.
قال ابن الصباغ: وان رأته مكرهة فهل تطلق؟ فيه قولان على ما ذكرناه
في القدوم، وإن رأته في مرآة أو رأت ظله في الماء لم تطلق لأنها ما رأته، وإنما
رأت خياله، وان رأته من وراء زجاج شفاف طلقت لأنها رأته حقيقة
225

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كانت في ماء جار فقال لها ان خرجت منه فأنت طالق،
وان وقفت فيه فأنت طالق لم تطلق خرجت أو وقفت لان الذي كانت فيه من
الماء مضى بجريانه فلم تخرج منه ولم تقف فيه، وإن كان في فيها تمرة فقال: إن
أكلتها فأنت طالق، وان رميتها فأنت طالق، وان أمسكتها فأنت طالق، فأكلت
نصفها لم تطلق، لأنها ما أكلتها ولا رمتها ولا أمسكتها.
وإن كانت معه تمرة فقال: إن أكلتها فأنت طالق، فرماها إلى تمر كثير فأكل
جميعه وبقى تمرة لا يعلم أنها المحلوف عليها أو غيرها، لم تطلق لجواز أن تكون
هي المحلوف عليها فلم تطلق بالشك. وإن أكل تمرا كثيرا فقال لها: ان لم
تخبريني بعدد ما أكلت فأنت طالق، فعدت من واحد إلى عدد يعلم أن المأكول
دخل فيه لم تطلق لأنها أخبرته بعدد ما أكل، وان أكلا تمرا واختلط النوى
فقال: إن لم تميزي نوى ما أكلت من نوى ما أكلت فأنت طالق، فأفردت كل
نواة لم تطلق لأنها ميزت.
وان اتهمها بسرقة شئ فقال أنت طالق ان لم تصدقيني أنك سرفت أم لا؟
فقالت سرقت وما سرقت لم تطلق، لأنها صدقته في أحد الخبرين، وان قال: إن
سرقت منى شيئا فأنت طالق وسلم إليها كيسا فأخذت منه شيئا لم تطلق لان ذلك
ليس بسرقة وإنما هو خيانة
(فصل) وان قال: من بشرتني بقدوم زيد فهي طالق، فأخبرته امرأته
بقدوم زيد وهي صادقة، طلقت لأنها بشرته. وإن كانت كاذبة لم تطلق، لان
البشارة ما بشر به الانسان ولا سرور في الكذب، وان أخبرتاه بقدومه واحدة
بعد واحدة وهما صادقتان طلقت الأولى دون الثانية، لان المبشرة هي الأولى
وان أخبرتاه معا طلقتا لاشتراكهما في البشارة
وان قال: من أخبرتني بقدوم زيد فهي طالق، فأخبرته امرأته بقدوم زيد
طلقت، صادقة كانت أو كاذبة، لان الخبر يوجد مع الصدق والكذب، فإن
أخبرته إحداهما بعد الأخرى أو أخبرتاه معا طلقتا لان الخبر وجد منهما
226

(الشرح) إذا كانت في ماء جار فقال لها: إن أقمت في هذا الماء فأنت طالق
وان خرجت منه فأنت طالق، فأكثر أصحابنا قالوا لا تطلق، سواء أقامت فيه
أو خرجت منه، لان الإشارة وقعت إلى الماء الذي هي فيه، فإذا ذهب وجاء
غيره فلم تقم في الماء الذي تناولته اليمين ولم تخرج منه.
وقال القفال: عندي أنها على قولين كما لو قال لها: ان لم تشربي من هذا
الكوب اليوم فأنت طالق، فانصب ذلك أو كسر الكوب فهل تطلق؟ على قولين
فقال أبو علي الشيخي: وهذا يشبه هذا، إلا أن الشرب قد فات من كل جهة.
والمقام في ذلك الماء لم يفت بالجريان، لأنها لو جرت في ذلك الماء بجريان الماء
لكان يحنث بمكثها حتى جاوزها ذلك الماء. ألا ترى أنه لو حول ذلك الماء في
الكوب إلى دار بحيث يمكنها الذهاب إليه للشرب في هذا اليوم فلم يفعل تعلقت
به اليمين، لأن الماء قائم يمكنها شربه
ولو قال لها: إن لم تخرجي من هذا النهر الآن فأنت طالق فلم تخرج طلقت.
لان النهر اسم للمكان الذي فيه الماء والخروج منه ممكن، وإن كانت في راكد
فقال لها إن قمت في هذا الماء فأنت طالق وان خرجت منه فأنت طالق، فالخلاص
من الحنث أن تحمل منه مكرهة عقيب يمينه، وإن كانت على سلم فقال لها إن
صعدته فأنت طالق، وان نزلت منه فأنت طالق، وان أقمت عليه فأنت طالق.
فالخلاص منه أن تتحول إلى سلم آخر أو تنزل منه مكرهة
(فرع) وإن كان في فيها تمرة وقال لها ان أكلتها فأنت طالق، وان رميتها
فأنت طالق، وان أمسكتها فأنت طالق، فالخلاص من الحنث أن تأكل بعضها.
لأنها إذا فعلت ذلك فما أكلتها ولا رمتها ولا أمسكتها.
وان قال لها: ان أكلتها فأنت طالق، وان لم تأكليها فأنت طالق - فحكى
ابن الصباغ أن الشيخ أبا حامد قال: إذا أكلت بعضها لم تطلق: قال ابن الصباغ
وهذا ليس بصحيح، لأنها إذا أكلت بعضها فما أكلتها فيجب أن يحنث، والذي
قاله ابن الصباغ إنما يتصور الحنث في عدم أكلها
وان ماتت المرأة أو تلف باقي التمرة قبل موتها، فأما قبل ذلك فلا يتصور
الحنث في عدم أكلها
227

قال العمراني: والذي رأيته في التعليق عن الشيخ أبى حامد: إذا قال إذا
أكلتها فأنت طالق وان أخرجتها فأنت طالق، إذا أكلت بعضها لم يحنث، لأنها
لم تأكلها ولم تخرجها.
وان قال: إن أكلت هذه التمرة فأنت طالق فرماها في تمر كثير واختلطت ولم
تتميز وأكل الجميع الا تمرة واحدة، ولم يعلم أنها المحلوف عليها أو غيرها لم تطلق
لجواز أن يكون هي المحلوف عليها، والأصل بقاء النكاح وعدم وقوع الطلاق.
(فرع) وان أكلت تمرا كثيرا وقال: إن لم تخبريني بعدد ما أكلت فأنت
طالق، أو قال إن لم تخبريني بعدد هذه الرمانة قبل كسرها فأنت طالق، فالخلاص
من الحنث أن تقول في الأولة أكلت واحدة أكلت اثنتين أكلت ثلاثا، فلا
تزال تعدد واحدة بعد واحدة حتى يتيقن أن عدد الذي أكلته قد دخل فيما
أخبرت به. وكذلك تقول عدد حب هذه الرمانة واحدة اثنتين فتعد واحدة
واحدة حتى يعلم أن عدد حبها قد دخل فيما أخبرت به
وان أكلا تمرا واختلط النوى فقال: إن لم تميزي نوى ما أكلت أو ما أكل
كل واحد منا فأنت طالق، فميزت كل نواة لم تطلق لأنها ميزت - وان اتهمها
بسرقة شئ فقال لها أنت طالق ان لم تصدقيني أنك سرقت، فقالت سرقت وما
سرقت لم تطلق لأنها صدقته في أحد الخبرين
وان قال لها: ان سرقت منى شيئا فأنت طالق، فسلم إليها دراهم أو غيرها
فأخذت من ذلك شيئا لم تطلق، لان ذلك ليس بسرقة بدليل أن ليس في مثل ذلك
قطع على ما سنوضحه في الجنايات إن شاء الله
(مسألة) قوله: وان قال من بشرتني بقدوم زيد الخ، فجملة ذلك أنه إذا كان
له زوجات فقال لهن: من بشرتني بقدوم زيد فهي طالق، فقالت له واحدة قد
قدم وكانت صادقة، طلقت لوجود الصفة، فإن أخبرته الثانية بقدومه لم تطلق
لان البشارة ما دخل بها السرور - وقد حصل ذلك بقول الأولة - وإن كانت
الأولة كاذبة لم تطلق لأنه لا بشارة في الكذب
وان قال لهن: من أخبرتني بقدوم زيد فهي طالق، فقالت له واحدة منهن
قد قدم، طلقت، صادقة كانت أم كاذبة، لان الخبر دخله الصدق أو الكذب.
228

فإن أخبرته بقدومه بعدها ثانية وثالثة ورابعة طلقن، لأنه علق الطلاق
بإخبارهن إياه بقدوم زيد، والخبر قد يتكرر منهن فوقع الطلاق به. هذا
نقل البغداديين والشيخ أبى حامد
وقال المسعودي: إذا قال أيتكن أخبرتني بأن زيدا قد قدم فهي طالق،
فأخبرته واحدة منهن ولم يكن قادما لم تطلق. وان قال أيتكن أخبرتني بقدوم
زيد فهي طالق، فأخبرته واحدة منهن بقدومه طلقت وإن لم يك قادما. لأنه علق
الطلاق بالاخبار وقد وجد. وإن قال أيتكن بشرتني بقدوم زيد فهي طالق،
ففيه وجهان (أحدهما) انه كالاخبار على ما ذكره المسعودي (والثاني) أنه كما
ذكره البغداديون.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال أنت طالق إن شئت، فقالت في الحال شئت طلقت.
وان قالت شئت ان شئت، فقال شئت لم تطلق، لأنه علق الطلاق على مشيئتها
ولم توجد منها مشيئة الطلاق، وإنما وجد منها تعليق مشيئتها بمشيئته فلم يقع
الطلاق، كما لو قالت شئت إذا طلعت الشمس.
وإن قال أنت طالق ان شاء زيد فقال زيد شئت طلقت، وان لم يشأ زيد لم
تطلق، وان شاء وهو مجنون لم تطلق لأنه لا مشيئة له، وان شاء وهو سكران
فعلى ما ذكرناه من طلاقه، وإن شاء وهو صبي، ففيه وجهان (أحدهما) تطلق
لان له مشيئة، ولهذا يرجع إلى مشيئته في اختيار أحد الأبوين في الحضانة.
(والثاني) لا تطلق معه لأنه لا حكم لمشيئته في التصرفات، وإن كان أخرس
فأشار إلى المشيئة وقع الطلاق كما يقع طلاقه إذا أشار إلى الطلاق، وإن كان ناطقا
فخرس فأشار ففيه وجهان:
(أحدهما) لا يقع، وهو اختيار الشيخ أبى حامد الأسفرايني رحمه الله،
لان مشيئته عند الطلاق كانت بالنطق
(والثاني) أنه يقع وهو الصحيح لأنه في حال بيان المشيئة من أهل الإشارة
والاعتبار بحال البيان لا بما تقدم ولهذا لو كان عند الطلاق أخرس ثم صار
229

ناطقا كانت مشيئته بالنطق. وان قال أنت طالق إن شاء الحمار فهو كما لو قال أنت
طالق ان طرت أو صعدت إلى السماء وقد بيناه.
وإن قال أنت طالق لفلان أو لرضى فلان طلقت في الحال، لان معناه أنت
طالق ليرضى فلان، كما يقول لعبده: أنت حر لوجه الله أو لمرضاة الله. وان قال
أنت طالق لرضى فلان، ثم قال أردت ان رضى فلان على سبيل الشرط دين فيما
بينه وبين الله عز وجل لأنه يحتمل ما يدعيه، وهل يقبل في الحكم؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يقبل، لان ظاهر اللفظ يقتضى انجاز الطلاق فلم يقبل قوله في
تأخيره كما لو قال أنت طالق وادعى أنه أراد ان دخلت الدار (والثاني) أنه يقبل
لان اللفظ يصلح للتعليل والشرط، فقيل قوله في الجميع
(الشرح) وان قال لها أنت طالق إن شئت - فإن قالت في الحال شئت
وكانت صادقة وقع الطلاق ظاهرا وباطنا لوجود الصفة، وإن كانت كاذبة وقع
الطلاق في الظاهر، وهل يقع في الباطن؟ فيه وجهان، أحدهما لا يقع لان قولها
شئت إخبار عن مشيئتها بقلبها واختيارها للطلاق، فإذا لم تشأ ذلك بقلبها لم
يقع في الباطن.
(والثاني) يقع في الباطن لان الصفة قولها شئت وقد وجدت فوقع الطلاق
ظاهرا وباطنا كما لو علق الطلاق على دخولها الدار فدخلت
وإن قالت شئت ان شئت لم يقع الطلاق سواء شاء الزوج أو لم يشأ لأنه
علق الطلاق على مشيئتها ولم توجد منها المشيئة، وإنما وجد منها تعليق المشيئة
بمشيئته، فهو كما لو قالت شئت إذا طلعت الشمس
(فرع) وان قال أنت طالق ان شاء زيد، فإن قال زيد على الفور شئت وقع
الطلاق، وان لم يشأ على الفور لم يقع الطلاق. وان قال: أنت طالق ان شئت
وزيد، فإن قالا في الحال شئنا وقع الطلاق. وان شاء أحدهما دون الآخر لم تطلق
لأنه علق الطلاق بمشيئتهما. وذلك لا يوجد بمشيئة أحدهما. وان قالت شئت
ان شاء زيد، فقال زيد شئت لم تطلق لأنها لم يوجد منها المشيئة، وإنما وجد
منها تعليق المشيئة.
230

(فرع) وإن علق الطلاق على مشيئتها فشاءت وهي مجنونة لم تطلق لان
المجنونة لا مشيئة لها، وان شاءت وهي سكرى فهي كما لو طلق السكران، وإن
شاءت وهي صغيرة ففيه وجهان. قال ابن الحداد لا تطلق، لان ذلك خبر عن
مشيئتها واختيارها للطلاق والصغيرة لا يقبل خبرها (والثاني) تطلق، لان
الصفة قولها شئت وقد وجد ذلك منها، فهو كما لو علق الطلاق على دخولها الدار
فدخلت ولان لها مشيئة، ولهذا يرجع إلى اختيارها لاحد الأبوين
وإن كانت خرساء فأشارت إلى المشيئة وقع الطلاق، كما إذا أشار الأخرس
إلى الطلاق. وإن كانت ناطقة فخرست فأشارت ففيه وجهان (أحدهما) لا يقع
الطلاق، لان مشيئتها كانت بالنطق (والثاني) يقع اعتبارا بحالها وقت المشيئة.
وان قال أنت طالق ان شاء الحمار فهو كما لو قال أنت طالق ان طرت أو صعدت
وقد مضى تخريجنا لقولي الإمام الشافعي والربيع
* * *
(فرع) وان قال أنت طالق ان كنت تحبينني، أو ان كنت تبغضينني، أو ان
كنت معتقدة لكذا أو محبة لكذا، رجع في ذلك إليها لأنه لا يعلم الا من جهتها
قال الصيمري: وان قال لغريمه امرأتي طالق ان لم أجرك على الشوك، ولا نية له
فقد قيل: إذا ماطله مطالا بعد مطال بر في يمينه
وان قال أنت طالق لفلان أو لرضى فلان ولا نية له طلقت في الحال، لان
معناه لأجل فلان، ولكي يرضى فلان، فصار كقوله لعبده: أنت حر لله، أو
لرضى الله، هكذا أفاده العمراني
وان قال أردت أن رضى فلان شرط في وقوع الطلاق، فهل يقبل في الحكم؟
فيه وجهان (أحدهما) لا يقبل لأنه يعدل بالكلام عن ظاهره فلم يقبل،
كما لو قال أنت طالق ثم قال أردت إذا دخلت الدار، فعلى هذا يدين فيما بينه وبين
الله تعالى لأنه يحتمل ما يدعيه.
(والثاني) يقبل في الحكم، لان قوله أو لرضى فلان يحتمل التعليل والشرط
فإذا أخبر انه أراد أحدهما قبل منه ذلك.
231

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال: إن كلمتك أو دخلت دارك فأنت طالق، طلقت بكل
واحدة من الصفتين، وان قال إن كلمتك ودخلت دارك فأنت طالق لم تطلق الا
بوجودهما، سواء قدم الكلام أو الدخول، لان الواو تقتضي الجمع دون
الترتيب. وان قال: إن كلمتك فدخلت دارك فأنت طالق، لم تطلق الا بوجود
الكلام والدخول. والتقديم للكلام على الدخول، لان الفاء في العطف للترتيب
فيصير كما لو قال: إن كلمتك ثم دخلت دارك فأنت طالق: وان قال: إن كلمتك
وان دخلت دارك فأنت طالق طلقت بوجود كل واحدة منهما طلقة، لأنه كرر
حرف الشرط فوجب لكل واحدة منهما جزاء
وان قال لزوجتين ان دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان، فدخلت إحداهما
إحدى الدارين دخلت الثانية الدار الأخرى ففيه وجهان (أحدهما) تطلقان
لان دخول الدارين وجد منهما (والثاني) لا تطلقان وهو الصحيح: لأنه علق
طلاقه بدخول الدارين فلا تطلق واحدة منهما بدخول إحدى الدارين، كما لو
علق طلاق كل واحدة منهما بدخول الدارين بلفظ مفرد. وان قال: إن أكلتما
هذين الرغيفين فأنتما طالقان، فأكلت كل واحدة منهما رغيفا فعلى الوجهين
(فصل) وان قال أنت طالق ان ركبت ان لبست لم تطلق الا باللبس
والركوب، ويسميه أهل النحو اعتراض الشرط على الشرط، فإن لبست ثم
ركبت طلقت، وان ركبت ثم لبست لم تطلق لأنه جعل اللبس شرطا في الركوب
فوجب تقديمه.
وان قال أنت طالق إذا قمت إذا قعدت لم تطلق حتى يوجد القيام والقعود،
ويتقدم القعود على القيام لأنه جعل القعود شرطا في القيام. وان قال إن أعطيتك
ان وعدتك ان سألتني فأنت طالق لم تطلق حتى يوجد السؤال ثم الوعد ثم العطية
لأنه شرط في العطية الوعد، وشرط في الوعد السؤال، وكأن معناه ان سألتني
شيئا فوعدتك فأعطيتك فأنت طالق. وان قال إن سألتني ان أعطيتك ان وعدتك
232

فأنت طالق لم تطلق حتى تسأل ثم يعدها ثم يعطيها، لان معناه إن سألتني
فأعطيتك إن وعدتك فأنت طالق
(فصل) وإن قال أنت طالق أن دخلت الدار، بفتح الألف أو أنت طالق
أن شاء الله بفتح الألف، وممن يعرف النحو طلقت في الحال، لان معناه
أنت طالق لدخولك الدار أو لمشيئة الله عز وجل طلاقك. وان قال أنت طالق
إذ دخلت الدار، وهو ممن يعرف النحو طلقت في الحال لان إذ لما مضى
(الشرح) إن قال لها: إن كلمتك أو دخلت دارك فأنت طالق، فإن كلمها أو
دخل دارها طلقت، وان قال إن كلمتك ودخلت دارك فأنت طالق لم تطلق إلا
بالدخول والكلام، سواء تقدم الدخول أو الكلام، لان الواو تقتضي الجمع
دون الترتيب.
وان قال: إن كلمتك فدخلت دارك فأنت طالق لم تطلق حتى يكلمها ويدخل
دارها، ويكون دخوله الدار عقيب كلامها. لان حكم الفاء في العطف الترتيب
والتعقيب. وإن قال لها أنت طالق أن كلمتك ثم دخلت دارك لم تطلق حتى يكلمها
ويدخل دارها بعد كلامها بمدة، سواء طالت المدة أو لم تطل، لان ثم تقتضي
الترتيب والمهلة. وان قال: إن كلمتك وان دخلت دارك فأنت طالق طلقت بكل
واحد منهما طلقة، لأنه كرر حرف الشرط فكان لكل واحد منهما جزاؤه
(فرع) وان قال لامرأتين له ان دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان، فإن
دخلت كل واحدة منهما الدار طلقتا، وان دخلت إحداهما إحدى الدارين
والأخرى الدار الأخرى ففيه وجهان (أحدهما) يطلقان لأنهما دخلتا الدارين
(والثاني) لا تطلق واحدة منهما لأنه يقتضى دخول كل واحدة منهما
الدارين. وان قال لهما: أنتما طالقتان ان ركبتما هاتين السيارتين فركبت كل
واحدة منهما سيارة، فعلى الوجهين في الأولة.
وان قال: إن أكلتما هذين الرغيفين فأنتما طالقان، فأكلت كل واحدة منهما
رغيفا. قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان كالدارين قال ابن الصباغ: وينبغي
أن يقع الطلاق ههنا وجها واحدا، لان اليمين لا تنعقد على أن تأكل كل واحدة
233

منهما الرغيفين بخلاف دخول الدارين. وان قال لها أنت طالق ان أكلت هذا
الرغيف وأنت طالق ان أكلت نصفه، وأنت طالق ان أكلت ربعه. فإن أكلت
جميع الرغيف طلقت ثلاثا.
قال الصيمري وان أكلت نصفه طلقت ثلاثا، ولم يذكر وجهه، فيحتمل
أنه أراد لأنه وجد بأكل نصفه ثلاث صفات: أكل نصفه وأكل ربعه وأكل
ثلثه، الا أن حرف " ان " لا يقتضى التكرار، ألا ترى أنه لو قال: أنت طالق
ان أكلت ربعه فأكلت نصفه لم تطلق الا واحدة، فينبغي أن لا تطلق الا طلقتين
لأنه وجد صفتان، وهو أكل ربعه وأكل نصفه
(فرع) قال ابن الصباغ: إذا قال إن دخلت الدار وان دخلت هذه الأخرى
فأنت طالق لم تطلق الا بدخولهما، لأنه علق الطلاق بدخولهما. وان قال أنت
طالق ان دخلت هذه الدار وان دخلت الأخرى طلقت بدخول كل واحدة منهما
ويفارق الأولى. لأنه جعل جوابا لدخولهما.
(مسألة) قوله: وان قال أنت طالق ان ركبت ان لبست لم تطلق الا باللبس
والركوب الخ، فمثاله إذا قال: أنت طالق ان كلمت زيدا ان كلمت عمرا ان
ضربت بكرا، لم تطلق حتى تضرب بكرا أولا. ثم تكلم عمرا ثم تكلم زيدا،
لان الشرط دخل على الشرط فتعلق الأول بالثاني، كقوله تعالى " ولا ينفعكم
نصحي ان أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم " وتقديره إن كان الله
يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي ان أردت أن انصح لكم.
وان قال: إن أكلت ان دخلت الدار فأنت طالق، أو أنت طالق ان أكلت
متى دخلت الدار أو متى أكلت متى دخلت الدار لم تطلق حتى تدخل الدار أولا
ثم تأكل لما ذكرناه، فكذلك إذا قال لها أنت طالق ان ركبت ان ليست لم تطلق
حتى تلبس ثم تركب.
وان قال أنت طالق إذا قمت إذا قعدت لم تطلق حتى تقعد أولا ثم تقوم.
وان قال: أنت طالق ان أعطيتك ان وعدتك ان سألتني لم تطلق حتى تسأله
ثم يعدها ثم يعطيها، ويسميه النحويون اعتراض الشرط على الشرط فيقتضى
تقديم المتأخر وتأخير المتقدم لأنه جعل الثاني في اللفظ شرطا للذي قبله.
234

(مسألة) قوله: وان قال أنت طالق أن دخلت الدار الخ فجملة ذلك أن
الذي ذكره الشيخ أبو حامد أنه إن لم يكن الحالف من أهل الاعراب كان ذلك
بمنزلة قوله: إن بكسر الهمزة، وإن كان من أهل الاعراب وقع الطلاق في الحال
لان أن المفتوحة ليست للشرط، وإنما هي للتعليل، كأنه قال: أنت طالق لأنك
دخلت الدار أو لأنك كلمتني إذا قال أنت طالق أن كلمتني. وقد جاءت أن للتعليل
في القرآن في مواضع كثيرة منها على سبيل المثال قوله تعالى " يمنون عليك أن
أسلموا " " وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا " " وتخرجون الرسول وإياكم
أن تؤمنوا بالله ربكم "
وقال القاضي أبو الطيب: يقع الطلاق في الحال إلا إن كان الحالف من غير
أهل الاعراب وقال: أردت به الشرط فيقبل، لأن الظاهر أنه إذا لم يكن من
أهل الاعراب أنه لا يفرق بين المفتوحة والمكسورة. قال ابن الصباغ: وهذا
أولى، لأنه قبل أن يتبين لنا مراده يجب حمل اللفظة على مقتضاه في اللغة، فلا
يكون عدم معرفته بالكلام بصارف عما يقتضيه بغير قصده. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال إن دخلت الدار أنت طالق بحذف الفاء لم تطلق حتى
تدخل الدار لان الشرط ثبت بقوله: إن دخلت الدار، ولهذا لو قال أنت طالق
إن دخلت الدار ثبت الشرط، وان لم يأت بالفاء.
وان قال: إن دخلت الدار فأنت طالق. وقال أردت ايقاع الطلاق في الحال
قبل من غير يمين لأنه اقرار على نفسه. وان قال أردت أن أجعل دخولها الدار
وطلاقها شرطين لعتق أو طلاق آخر ثم سكت عن الجزاء قبل قوله مع اليمين،
لأنه يحتمل ما يدعيه.
وان قال أردت الشرط والجزاء وأقمت الواو مقام الفاء قبل قوله مع اليمين
لأنه يحتمل ما يدعيه وان قال: وان دخلت الدار فأنت طالق. وقال أردت
به الطلاق في الحال قبل قوله من غير يمين لأنه اقرار بالطلاق. وان قال أردت
تعليق الطلاق بدخول الدار قبل قوله مع يمينه، لأنه يحتمل ما يدعيه.
235

(فصل) إذا قال لزوجته وأجنبية إحداكما طالق، ثم قال أردت به الأجنبية
قبل قوله مع اليمين، وإن كانت له زوجة اسمها زينب وجارة اسمها زينب، فقال
زينب طالق، وقال أردت بها الجارة لم يقبل، والفرق بينهما أن قوله إحداكما
طالق صريح فيهما، وإنما يحمل على زوجته بدليل، وهو أنه لا يطلق غير زوجته
فإذا صرفه إلى الأجنبية فقد صرفه إلى مالا يقتضيه تصريحه فقبل منه، وليس
كذلك قوله زينب طالق، لأنه ليس بصريح في واحدة منهما، وإنما يتناولهما من
جهة الدليل وهو الاشتراك في الاسم، ثم يقابل هذا الدليل دليل آخر وهو أنه
لا يطلق غير زوجته، فصار اللفظ في زوجته أظهر فلم يقبل خلافه.
(فصل) وإن كانت له زوجتان اسم إحداهما حفصة واسم الأخرى عمرة
فقال يا حفصة فأجابته عمرة، فقال لها أنت طالق، ثم قال أردت طلاق حفصة
وقع الطلاق على عمرة بالمخاطبة وعلى حفصة باعترافه بأنه أراد طلاقها. وان قال
ظننتها حفصة فقلت أنت طالق طلقت عمرة ولم تطلق حفصة لأنه لم يخاطبها
ولم يعترف بطلاقها، وان رأى امرأة اسمها حفصة فقال: حفصة طالق ولم يشر
إلى التي رآها وقع الطلاق على زوجته حفصة ولم يقبل قوله لم أردها، لأن الظاهر
أنه أراد طلاق زوجته، ولم يعارض هذا الظاهر غيره
(الشرح) قال أبو العباس بن سريج: وان قال إن دخلت الدار أنت طالق
(بحذف الفاء) لم تطلق حتى تدخل الدار. وقال محمد بن الحسن يقع الطلاق في
الحال. دليلنا أن الشرط يثبت بقوله إن دخلت الدار. ولهذا لو قال: أنت طالق
ان دخلت الدار ثبت الشرط وان لم يأت بالفاء..
وان قال. ان دخلت الدار وأنت طالق، سئل فإن قال: أردت الطلاق في
الحال قبل قوله من غير يمين لأنه أقر بما هو أغلظ عليه. وان قال: أردت
دخولها الدار وطلاقها شرطين لعتق أو طلاق غيرها. وهو أنى أردت ان أقول إن
دخلت الدار وأنت طالق فامرأتي الأخرى طالق أو عبدي حر، ثم سكت عن
طلاق الأخرى عن عتق العبد قبل قوله مع يمينه، لأنه يحتمل ما يدعيه.
وان قال: أردت ان أقول: إن دخلت الدار فأنت طالق وأقمت الواو مقام
236

القاف قبل قوله مع يمينه، لأنه يحتمل ما يدعيه.
(مسألة) ان قال لامرأته وأجنبية إحداكما طالق سئل عن ذلك، فإن قال
أردت به الزوجة قبل. وان قال: أردت به الأجنبية وقالت الزوجة بل أردتني
فالقول قوله مع يمينه أنه ما أرادها وإنما أراد الأجنبية لان الطلاق إنما يقع على
امرأته بأن يشير إليها أو يصفها.
وقوله: إحداكما، ليس بإشارة إليها ولا بصفة لها فلم يقع عليها الطلاق، وإن كانت
له زوجه اسمها زينب وجارة اسمها زينب فقال زينب طالق، وقال أردت
الجارة. وقالت زوجته بل أردتني، فهل يقبل قوله في الحكم مع يمينه؟ اختلف
أصحابنا فيه، فقال القاضي أبو الطيب: يقبل قوله مع يمينه، كما لو قال لزوجته
وأجنبية إحداكما طالق.
وقال أكثر أصحابنا: لا يقبل لان هذا الاسم يتناول زوجته وجارته تناولا
واحدا، فإذا أوقع الطلاق على من هذا اسمها كان منصرفا في الظاهر إلى زوجته
ويخالف قوله إحداكما لأنه لا يتناول زوجته والأجنبية تناولا واحدا، وإنما
يتناول إحداهما دون الأخرى، فإذا أخبر انه أراد به الأجنبية دون زوجته قبل
منه لان دعواه لا تخالف الظاهر.
(مسألة) وإن كان له زوجتان زينب وعمرة، فقال يا زينب فأجابته عمرة
فقال أنت طالق سئل عن ذلك فإن قال: علمت أن التي أجابتني عمرة، ولكني
لم أرد طلاقها وإنما أردت طلاق زينب، طلقت زينب ظاهرا وباطنا، لأنه
اعترف انه طلقها. وطلقت عمرة في الظاهر لأنه خاطبها بالطلاق، فالظاهر أنه
أراد طلاقها ويدبن فيما بينه وبين الله تعالى، لان ما قاله يحتمل ذلك. وان قال: إن
التي أجابتني عمرة بل ظننتها زينب وأنا طلقت، قال الشيخ أبو حامد فالحكم
فيها كالأولة وهو أن زينب تطلق ظاهرا وباطنا لاعترافه بذلك، وتطلق عمرة
في الظاهر دون الباطن لأنه واجهها بالخطاب بالطلاق
وان قال: طلقت التي أجابتني ولكن ظننتها زينب طلقت عمرة ولم تطلق
زينب لأنه أشار إلى عمرة، وان ظنها زينب فهو كما لو قال لأجنبية أنت طالق
وقال ظننتها زوجتي لم تطلق زوجته لان الطلاق انصرف بالإشارة إلى التي أشار
237

إليها دون التي ظنها. وإن قال أردت عمرة وإنما ناديت زينب لآمرها بحاجة
طلقت عمرة لأنه خاطبها ولا تطلق زينب لان النداء لا يدل على الطلاق. وان
قال يا زينب أنت طالق وأشار إلى عمرة سئل عن ذلك، فإن قال قد علمت أن التي
أشرت إليها عمرة، ولكني لم أردها بالطلاق وإنما أردت طلاق زينب طلقت
زينب ظاهرا وباطنا لاعترافه بذلك. وطلقت عمرة في الظاهر لإشارته بالطلاق
إليها، ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، لان الحال يحتمل ما يدعيه. وإن قال لم
أعلم أن هذه التي أشرت إليها عمرة بل ظننتها زينب، ولم أرد بالطلاق إلا هذه
التي أشرت إليها طلقت عمرة ولا تطلق زينب لأنه قد أشار بالطلاق إليها ولم يرد
به غيرها، واعتقاده أن هذه المشار إليها زينب لا يضر، كما لو قال لأجنبية أنت
طالق وقال ظننتها زوجتي، فان زوجته لا تطلق
(فرع) وإن كان له زوجتان زينب وعمرة، فقال كلما ولدت إحداكما ولدا
فأنتما طالقان، فولدت زينب يوم الخميس ولدا ثم ولدت عمرة يوم الجمعة وقع على
كل واحدة منهما طلقة ثانية، فلما ولدت زينب يوم السبت وقع على عمرة طلقة
ثالثة، ولم يقع على زينب بذلك طلاق لان عدتها انقضت بوضعه إلا على الحكاية
التي حكاها ابن خيران، فلما ولدت عمرة يوم الأحد انقضت عدتها به.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) إذا قال لامرأته: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثا،
ثم قال لها أنت طالق، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال يقع عليها طلقة
بقوله أنت طالق ولا يقع من الثلاث قبلها شئ، كما إذا قال لها: إذا انفسخ
نكاحك فأنت طالق قبله ثلاثا ثم ارتدت انفسخ نكاحها ولم يقع من الثلاث شئ
ومنهم من قال يقع بقوله: أنت طالق طلقة وطلقتان من الثلاث وهو قول
أبى عبد الله الخن لأنه يقع بقوله أنت طالق طلقه ويقع ما بقي بالشرط وهو طلقتان
ومنهم من قال لا يقع عليها بعد هذا القول طلاق، وهو قول أبى العباس بن سريج
وأبى بكر بن الحداد المصري والشيخ أبى حامد الأسفرايني والقاضي أبى الطيب
الطبري. وهو الصحيح عندي
238

والدليل عليه أن إيقاع الطلاق يؤدى إلى إسقاطه، لأنا إذا أوقعنا عليها طلقة
لزمنا أن نوقع عليها قبلها ثلاثا بحكم الشرط. وإذا وقع قبلها الثلاث لم تقع الطلقة
وما أدى ثبوته إلى نفيه سقط. ولهذا قال الشافعي رحمه الله فيمن زوج عبده
بحرة بألف درهم وضمن صداقها، ثم باع العبد منها بتلك الألف قبل الدخول أن
البيع لا يصح لان صحته تؤدى إلى إبطاله، فإنه إذا صح البيع انفسخ النكاح بملك
الزوج، وإذا انفسخ النكاح سقط المهر، لان الفسخ من جهتها، وإذا سقط المهر
سقط الثمن، لان الثمن هو المهر، وإذا سقط الثمن بطل البيع. فأبطل البيع حين
أدى تصحيحه إلى إبطاله فكذلك ههنا. ويخالف الفسخ بالردة فإن الفسخ لا يقع
بإيقاعه وإنما تقع الردة والفسخ من موجباتها. والطلاق الثلاث لا ينافي الردة،
فصحت الردة وثبت موجبها وهو الفسخ، والطلاق يقع بإيقاعه، والثلاث قبله
تنافيه فمنع صحته فعلى هذا إن حلف على امرأته بالطلاق الثلاث أنه لا يفعل شيئا
وأراد أن يفعله ولا يحنث فقال: إذا وقع على امرأتي طلاقي فهي طالق قبله ثلاثا
ففيه وجهان (أحدهما) يحنث إذا فعل المحلوف عليه لان عقد اليمين صح فلا يملك
رفعه (والثاني) لا يحنث، لأنه يجوز أن يعلق الطلاق على صفة ثم يسقط حكمه
بصفة أخرى. والدليل عليه أنه إذا قال: إذا دخل رأس الشهر فأنت طالق ثلاثا
صحت هذه الصفة ثم يملك إسقاطها بأن يقول أنت طالق قبل انقضاء الشهر بيوم
(الشرح) إذا قال لامرأته: متى وقع عليك طلاقي أو إذا وقع عليك طلاقي
فأنت طالق قبله ثلاثا، ثم قال لها: أنت طالق، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم
من قال: يقع عليها الطلاق الذي باشر ايقاعه، وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي
العباس بن سريج، وحكاه العمراني عن ابن القاص (1) وقال: هو اختيار

(1) غلط ابن قدامة في المغنى من أمهات كتب الحنابلة في ذكره خلافا بين
ابن القاص وابن سريج من أصحابنا حيث قال الأول بوقوع الطلقة المباشرة وعدم
وقوع الطلاق المعلق في زمن قبله. وقال الثاني لا يقع طلاق مطلقا، لان وقوع
الواحدة تقتضي وقوع الثلاث قبلها وذلك يمنع وقوعها فإثباتها يؤدى إلى نفيها فلا
تثبت. اه‍ الجزء السابع ص 268 مطبعة الامام، والصواب ما ذكره ممحصا عن
أصحابنا هنا والله تعالى اعلم.
239

ابن الصباغ، لأنه زوج مكلف أوقع الطلاق مختارا فوجب أن يقع، ولا يقع
الثلاث قبله، لان وقوعها يوجب ارتفاع الطلاق المباشر، ولا يصح رفع طلاق
واقع، ولأنه لو قال لها: إذا انفسخ نكاحك فأنت طالق قبله ثلاثا ثم ارتد أو
أحدهما أو اشتراها لوقع الفسخ ولم تطلق الثالث قبله كذلك هذا مثله. وقال
أبو عبد الله الخنن الإسماعيلي: يقع الطلقة التي باشر إيقاعها، ويقع تمام الثلاث
من الثلاث المعلقة بالصفة، وبه قال أصحاب أبي حنيفة
وقال أكثر أصحابنا: لا يقع عليها الطلاق المباشر ولا الطلاق بالصفة، بل
هذا حيلة لمن أراد أن لا يقع على امرأته بعد ذلك الطلاق. وبه قال المزني
والشيخان أبو حامد وأبو إسحاق والقفال وابن الحداد، والقاضي أبو الطيب
والمحاملي والصيدلاني وهو ما صححه وأخذ به المصنف وتابعه العمراني في البيان
قالوا لأنه لو وقع الطلاق الذي باشر إيقاعه لوقع قبله الثلاث بالصفة، ولو وقع
الثلاث قبله لم يقع الطلاق المباشر. وما أدى إثباته إلى إسقاطه سقط قياسا على
ما قال الشافعي رضي الله عنه فيمن زوج عبده بحرة بألف في الذمة وضمنها السيد
عنه، ثم باع السيد منها زوجها بالألف قبل الدخول أن البيع لا يصح: لان
إثبات البيع يؤدى إلى إسقاطه فسقط اثباته، لأنها إذا ملكت بفسخ النكاح وإذا
انفسخ النكاح سقط المهر، لان الفسخ من جهتها. وإذا سقط المهر سقط الثمن.
وإذا سقط الثمن بطل البيع.
وأما الجواب عما ذكره الأول فمنتقض بالثلاث المعلقة بالصفة، فإنه قد
أوقعها وهو زوج مكلف مختار
وأما الفسخ فإنما وقع لان اثباته لا يؤدى إلى اسقاطه بخلاف الطلاق.
إذا ثبت هذا فقد ذكر أصحابنا في طلاقي التنافي مسائل إحداهن المسألة التي مضت
والثانية ذكرها المزني في المنثور، إذا قال لها: إذا طلقتك طلاقا أملك به عليك
الرجعة فأنت طالق قبله ثلاثا، فإن طلق المدخول بها طلقه أو طلقتين بغير عوض
لم يقع عليها طلاق، لأنه لو وقع عليها ذلك لملك عليها الرجعة، ولو ملك عليها
الرجعة لوقع الثلاث قبله، ولو وقع الثلاث قبله لم يقع ما بعده وان أوقع عليها
الثلاث أو ما دون الثلاث بعوض، أو كانت غير مدخول بها وقع عليها الطلاق
240

المباشر لأنه لا يملك به الرجعة عليها فلا توجد صفة الثلاث قبله الثالثة: إذا
قال لها: إذا طلقتك ثلاثا فأنت طالق قبله ثلاثا، فإن طلقها ثلاثا ان طلقتك
غدا، فإن طلقها غدا لم يقع عليها طلاق، وإن طلقها بعد غد وقع عليها ما أوقعه
الرابعة: إذا قال لغير المدخول بها أنت طالق طلقة قبلها طلقه فهل يقع عليها طلقه
فيه وجهان لما ذكرناه. الخامسة: رجل قال لامرأته: ان لم أحج في هذه السنة
فأنت طالق ثلاثا. ثم قال لها قبل أن يحنث: إن حنثت في هذه اليمين فأنت طالق
ثلاثا قبل حنثي.
قال القاضي أبو الطيب: وهذه تعرف بالعمانية ثم أثيرت في بغداد، واختلف
فيها القائلون بأن طلاق التنافي لا يقع، فمنهم من قال: لا تنحل اليمين الأولة.
فإن لم يحج في سنته طلقت، لان عقد اليمين قد صح فلم يرتفع. ومنهم من قال
تنحل اليمين الأولة
قال القاضي أبو الطيب: وأجبت بذلك وبه عمل، لأنه يعد هذا القول
كقوله قبله، فلو وقع الطلاق بالحنث لوقع الثلاث قبلها، ولو وقع الثلاث قبلها
لم يقع الطلاق بالحنث، والقول الأول أن عقد اليمين لم يرتفع لا يصح لأنه
يجوز أن يعلق الطلاق بصفة ثم يسقط حكمه بصفة أخرى بأن يقول: إذا جاء
رأس الشهر فأنت طالق ثلاثا، ثم يقول أنت طالق طلقه.
السادسة: إذا قال لزوجته متى دخلت جاريتي الدار وأنت زوجتي فهي حرة
ومتى عتقت فأنت طالق ثلاثا قبل عتقها بثلاثة أيام. ثم دخلت الأمة الدار لم
تعتق الأمة ولم تطلق المرأة، لأنا لو أعتقناها لوجدت الصفة بالطلاق والثلاث
لأنها عتقت، وقد قال لها: إذا عتقت فأنت طالق قبله بثلاثة أيام، وإذا وقع
الطلاق الثلاث قبله لم تكن له زوجة في حال دخولها الدار، وإذا لم توجد صفة
الحرية لم تعتق، وان لم تعتق لم يقع الطلاق.
السابعة: قال ابن الحداد: إذا كان عبد بين شريكين فقال أحدهما للآخر:
متى أعتقت نصيبك منه فنصيبي منه حر قبل عتقك إياه بثلاثة أيام وهما موسران
فأمهل المقول له ثلاثا فأكثر ثم أعتق نصيبه لم يعمل عتقه، لأنه لو عمل لدل
241

على وقوع عتق صاحبه قبله. ولو وقع عتق صاحبه قبل عتقه لما وقع عتقه.
وإذا لم يقع عتقه لم توجد الصفة في وقوع عتق الذي خاطبه.
قال القاضي أبو الطيب: لا يحتاج إلى قوله بثلاث، بل يكفي قوله قبل عتقك
ولا يحتاج إلى يسار المقول له، وإنما يحتاج إلى يسار القائل وحده. فإذا أعتق
المقول له نصيبه لم يعتق لأنه لو عتق نصيبه لعتق نصيب القائل قبله، ولو عتق
نصيب القائل لسرى إلى نصيب المقول له، لأنه موسر، وإذا سرى إلى نصيبه لم
يصح اعتاقه لنصيبه فكأن إثبات عتق نصيبه يؤدى إلى اسقاطه فسقط حكم إثباته
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا علق طلاق امرأته على صفة من يمين أو غيرها ثم بانت منه
ثم تزوجها قبل وجود الصفة ففيه ثلاثة أقوال:
(أحدها) لا يعود حكم الصفة في النكاح الثاني، وهو اختيار المزني لأنها
صفة علق عليها الطلاق قبل النكاح فلم يقع بها الطلاق، كما لو قال لأجنبية: إن
دخلت الدار فأنت طالق، ثم تزوجها ودخلت الدار
(والثاني) أنها تعود ويقع بها الطلاق وهو الصحيح، لأن العقد والصفة
وجدا في عقد النكاح فأشبه إذا لم يتخللهما بينونة.
(والثالث) أنها ان بانت بما دون الثلاث عاد حكم الصفة، وان بانت بالثلاث
لم تعد، لان بالثلاث انقطعت علائق الملك، وبما دون الثلاث لم تنقطع علائق الملك
ولهذا بنى أحد العقدين على الآخر في عدد الطلاق فيما دون الثلاث ولا يبنى بعد
الثلاث. وان علق عتق عبده على صفة ثم باعه ثم اشتراه قبل وجود الصفة ففيه
وجهان (أحدهما) أن حكمه حكم الزوجة إذا بانت بما دون الثلاث، لأنه يمكنه أن
يشتريه بعد البيع كما يمكنه أن يتزوج البائن بما دون الثلاث (والثاني) أنه كالبائن
بالثلاث، لان علائق الملك قد زالت بالبيع كما زالت في البائن بالثلاث
(فصل) وان علق الطلاق على صفه ثم أبانها ووجدت الصفة في حال
البينونة انحلت الصفة، فإن تزوجها لم يعد حكم الصفة. وكذلك إذا علق عتق
242

عبده على صفة ثم باعه ووجدت الصفة قبل أن يشتريه انحلت الصفة، فإن اشتراه
لم يعد حكم الصفة.
وقال أبو سعيد الإصطخري رحمه الله: لا تنحل الصفة لان قوله إن دخلت
الدار فأنت طالق مقدر بالزوجة. وقوله إن دخلت الدار فأنت حر مقدر بالملك
لان الطلاق لا يصح في غير الزوجية والعتق لا يصح في غير ملك فيصير كما لو
قال: إن دخلت الدار وأنت زوجتي فأنت طالق، وان دخلت الدار وأنت مملوكي
فأنت حر، والمذهب الأول. لان اليمين إذا علقت على عين تعلقت بها، ولا
نقدر فيها الملك، والدليل عليه أنه لو قال: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق،
والدار في ملكه فباعها ثم دخلها وقع الطلاق، ولا يجعل كما لو قال: إن دخلت
هذه الدار وهي في ملكي فأنت طالق، فكذلك ههنا. والله أعلم
(الشرح) قوله: إذا علق طلاق امرأته على صفة الخ، فجملة ذلك أنه إذا
علق طلاقها على صفة فبانت منه قبل وجود الصفة ثم تزوجها ثم وجدت الصفة
في النكاح الثاني فهل يعود حكم الصفة وتطلق؟ فيه قولان: قال في القديم: إن
أبانها بدون الثلاث عاد حكم الصفة قولا واحدا. وإن أبانها بالثلاث فهل يعود
حكم الصفة؟ فيه قولان
وقال في الجديد: إن أبانها بالثلاث ثم تزوجها فإن حكم الصفة لا يعود قولا
واحدا، وان أبانها بدون الثلاث فهل يعود حكم الصفة؟ فيه قولان، فالقديم
أقرب إلى عود الصفة، فحصل في المسألتين ثلاثة أقوال (أحدها) لا يعود حكم
الصفة سواء بانت بالثلاث أو بما دونها، وهو اختيار المزني وأبي إسحاق المروزي
لقوله صلى الله عليه وسلم " لا طلاق قبل نكاح " فلو قلنا يعود حكم الصفة لكان
هذا طلاقا قبل نكاح، لأنه عقد قبل هذا النكاح فلم يحكم بوقوعه، كما لو قال
لأجنبية: ان دخلت الدار فأنت طالق ثم تزوجها ثم دخلت الدار
(والثاني) يعود حكم الصفة سواء بانت بالثلاث أو بما دونها، وبه قال أحمد
قال الشيخ أبو إسحاق هنا والمحاملي: وهو الصحيح، لان عقد الطلاق والصفة
وجدا في ملك فهو كما لو لم يتحللها بثبوته
243

(والثالث) ان بانت بما دون الثلاث ثم تزوجها عاد حكم الصفة. وإن بانت
بالثلاث لم يعد حكم الصفة، وبه قال مالك وأبو حنيفة، لأنها إذا بانت بما دون
الثلاث، فإن أحد النكاحين بائنا على الآخر في عدد الطلاق، فكذلك في حكم
الصفة، وإذا بانت بالثلاث فإن أحدهما لا يبين على الآخر في عدد الطلاق
فكذلك في حكم الصفة، وإذا بانت بالثلاث فإن أحدهما لا يبين على الآخر في
عدد الطلاق فكذلك في حكم الصفة.
(فرع) وان قال لعبده: ان دخلت الدار فأنت حر فباعه ثم اشتراه ثم دخل
الدار ففيه وجهان، من أصحابنا من قال: حكمه حكم الزوجة إذا بانت بما دون
الثلاث، لأنه يمكنه أن يسترده بعد أن باعه كما يمكنه أن يتزوج البائن بما دون
الثلاث قبل زوج، فعلى حكم الصفة على قولين. ومنهم من قال حكمه حكم الزوجة
إذا بانت بالثلاث، لان علائق الملك قد زالت بالبيع كما زالت بالبينونة بالثلاث
فعلى هذا لا يعود حكم الصفة على القول الجديد قولا واحدا، وعلى القول
القديم على قولين.
(فرع) وان علق طلاق امرأته على صفة بحرف لا يقتضى التكرار، مثل
ان قال: إن كلمت زيدا فأنت طالق ثلاثا فأبانها قبل كلامها لزيد فكلمت زيدا
في حال البينونة ثم تزوجها، فإن حكم الصفة لا يعود، فإن كلمته بعد النكاح لم
تطلق، وهذه حيلة في ابطال تعليق الطلاق الثلاث بصفة بأن يخالعها بما دون
الثلاث - أو بلفظ الخلع - إذا قلنا إنه فسخ - ثم تؤخذ الصفة في حال البينونة
فإن خالف ووطئها تعلق به حكم الوطئ المحرم وانحلت الصفة، وكذلك إذا قال
لعبده: ان دخلت الدار فأنت حر فباعه ثم دخل الدار ثم اشتراه فإن حكم الصفة
لا يعود. وقال أبو سعيد الإصطخري يعود حكم الصفة، وبه قال أحمد ومالك
لان عقد الصفة مقدر بالملك فصار كما لو قال: إن دخلت الدار وأنت زوجتي
فأنت طالق أو قال لعبده: ان دخلت الدار وأنت عبدي فأنت حر. قال في
البيان: وهذا غلط، لان اليمين إذا علقت بصفة فإنها تتعلق بالصفة التي علق
بها اللفظ، لا تعتبر صفه أخرى لم يتلفظ بها، كما لو قال لها: ان دخلت هذه
244

الدار فأنت طالق، فباع الدار ودخلتها، وإن كان بحرف يقتضى التكرار بأن قال
لها: كلما دخلت الدار فأنت طالق فأبانها ودخلت الدار في حال البينونة ثم تزوجها
ودخلت الدار في النكاح الثاني لم تطلق بدخولها الدار في حال البينونة، وهل
تطلق بدخولها الدار بعد النكاح الثاني؟ على الأقوال الثلاثة في التي قبلها، والله
تعالى الموفق للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل
قال المصنف رحمه الله:
باب الشك في الطلاق واختلاف الزوجين فيه
إذا شك الرجل هل طلق امرأته أم لا لم تطلق؟ لان النكاح يقين واليقين
لا يزال بالشك. والدليل عليه ما روى عبد الله بن زيد رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يخيل إليه أنه يحد الشئ في الصلاة فقال:
لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا. والورع أن يلتزم الطلاق لقوله
صلى الله عليه وسلم " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " فإن كان بعد الدخول راجعها
وإن كان قبل الدخول جدد نكاحها، وإن لم يكن له فيها رغبة طلقها لتحل لغيره
بيقين، وإن شك في عدده بنى الامر على الأقل، لما روى عبد الرحمن بن عوف
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا شك أحدكم في صلاته
فلم يدر أواحدة صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، وان لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثا
فليبني على اثنتين، وإن لم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليبن على ثلاث، ويسجد
سجدتين قبل أن يسلم " فرد إلى الأقل. ولان الأقل يقين والزيادة مشكوك فيها
فلا يزال اليقين بالشك، والورع أن يلتزم الأكثر، فإن كان الشك الثلاث وما
دونها طلقها ثلاثا حتى تحل لغيره بيقين.
(فصل) وإن كانت له امرأتان فطلق إحداهما بعينها ثم نسيها أو خفيت
عليه عينها، بأن طلقها في ظلمة أو من وراء حجاب، رجع إليه في تعيينها لأنه
هو المطلق، ولا تحل له واحدة منهما قبل أن يعين ويؤخذ بنفقتهما إلى أن يعين
لأنهما محبوستان عليه، فإن عين الطلاق في إحداهما فكذبتاه حلف للأخرى:
245

لان المعينة لو رجع في طلاقها لم يقبل. وإن قال طلقت هذه لا بل هذه طلقتا في
الحكم، لأنه أقر بطلاق الأولى ثم رجع إلى الثانية، فقبلنا إقراره بالثانية ولم
يقبل رجوعه في الأولى، وإن كان ثلاثا فقال: طلقت هذه لا بل هذه لا بل هذه
طلقن جميعا.
وإن قال طلقت هذه أو هذه لا بل هذه طلقت الثالثة وواحدة من الأوليين
وأخذ بتعيينها لأنه أقر أنه طلق إحدى الأوليين، ثم رجع إلى أن المطلقة هي
الثالثة فلزمه ما رجع إليه ولم يقبل رجوعه عما أقر به. وإن قال طلقت هذه لا بل
هذه أو هذه طلقت الأولى وواحدة من الأخريين. وإن قال طلقت هذه أو هذه
وهذه أخذ ببيان الطلاق في الأولى والأخريين، فإن عين في الأولى بقيت
الأخريان على النكاح.
وإن قال لم أطلق الأولى طلقت الأخريان، لأن الشك في الأولى والأخريين
فهو كما لو قال: طلقت هذه أو هاتين، ولا يجوز له أن يعين بالوطئ، فإن وطئ
إحداهما لم يكن ذلك تعيينا للطلاق في الأخرى، فيطالب بالتعيين بالقول، فإن
عين الطلاق في الموطوءة لزمه مهر المثل، وإذا عين وجبت العدة من حين الطلاق
(فصل) وان طلق إحدى المرأتين بغير عينها أخذ بتعيينها ويؤخذ بنفقتهما إلى أن
يعين، وله أن يعين الطلاق فيمن شاء منهما. فإن قال هذه لا بل هذه طلقت
الأولى ولم تطلق الأخرى لان تعيين الطلاق إلى اختياره وليس له أن يختار: لا
واحدة، فإذا اختار إحداهما لم يبق له اختيار، وهل له أن يعين الطلاق بالوطئ
فيه وجهان (أحدهما) لا يعين بالوطئ، وهو قول أبى علي بن أبي هريرة، لان
إحداهما محرمة بالطلاق فلم يتعين بالوطئ كما لو طلق إحداهما بعينها ثم أشكلت
فعلى هذا يؤخذ بعد الوطئ بالتعيين بالقول، فإن عين الطلاق في الموطوءة لزمه
المهر (والثاني) يتعين. وهو قول أبي إسحاق واختيار المزني وهو الصحيح لأنه
اختيار شهوة، والوطئ قد دل على الشهوة. وفى وقت العدة وجهان
(أحدهما) من حين يلفظ بالطلاق، لأنه وقت وقوع الطلاق (والثاني) من
حين التعيين، وهو قول أبى علي بن أبي هريرة رحمه الله تعالى، لأنه وقت
تعيين الطلاق.
246

(فصل) وإن ماتت الزوجتان قبل التعيين وبقى الزوج وقف من مال كل
واحدة منهما نصف الزوج، فإن كان قد طلق إحداهما بعينها فعين الطلاق في
إحداهما أخذ من تركة الأخرى ما يخصه، وإن كذبه ورثتها فالقول قوله مع يمينه
وإن كان قد طلق إحداهما بغير عينها فعين الطلاق في إحداهما دفع إليه من مال
الأخرى ما يخصه، وإن كذبه ورثها فالقول قوله من غير يمين، لان هذا اختيار
شهوة. وقد اختار ما اشتهى.
وإن مات الزوج وبقيت الزوجتان وقف لهما من ماله نصيب زوجة إلى أن
يصطلحا لأنه قد ثبت إرث إحداهما بيقين، وليست إحداهما بأولى من الأخرى
فوجب أن يوقف إلى أن يصطلحا، لأنه قد ثبت إرث إحداهما بيقين، فإن قال
وارث الزوج أنا أعرف الزوجة منهما ففيه قولان
(أحدهما) يرجع إليه لأنه لما قام مقامه في استلحاق النسب قام مقامه في تعيين
الزوجة (والثاني) لا يرجع إليه، لان كل واحدة منهما زوجة في الظاهر، وفى
الرجوع إلى بيانه اسقاط وارث مشارك، والوارث لا يملك اسقاط من يشاركه
في الميراث. واختلف أصحابنا في موضع القولين فقال أبو إسحاق: القولان فيمن
عين طلاقها ثم أشكلت، وفيمن طلق إحداهما من غير تعيين. ومنهم من قال:
القولان فيمن عين طلاقها ثم أشكلت لأنه اخبار فجاز أن يخبر الوارث عن
الموروث. وأما إذا طلق إحداهما من غير تعيين فإنه لا يرجع إلى الوارث قولا
واحدا لأنه اختيار شهوة، فلم يقم الوارث فيه مقام الموروث كما لو أسلم تحته
أكثر من أربع نسوة ومات قبل أن يختار أربعا منهن.
(الشرح) حديث عبد الله بن زيد، وهو عبد الله بن زيد بن عاصم أبو محمد
الأنصاري النجاري المازني عم عباد بن تميم وحديثه هذا أخرجه البخاري في
الطهارة عن علي بن عبد الله وعن أبي الوليد وفى البيوع عن أبي نعيم، وأخرجه
مسلم في الطهارة عن زهير بن حرب وعمر والناقد وأبو داود فيه عن قتيبة ومحمد
ابن أحمد بن أبي خلف، وعند النسائي فيه عن قتيبة وعند ابن ماجة فيه عن محمد
ابن الصباح. وأما حديث " دع ما يريبك إلى مالا يريبك " فقد أخرجه أحمد في
مسنده عن أنس، والنسائي عن الحسن بن علي الطبراني عن وابصة بن معبد
247

والخطيب البغدادي عن ابن عمر وأخرج بن قانع في معجمه عن الحسن بن علي
مرفوعا " دع ما يريبك إلى مالا يريبك فإن الصدق ينجي "
وأخرج أحمد في مسنده والترمذي وابن حبان عن الحسن بن علي مرفوعا
" دع ما يريبك إلى مالا يريبك فان الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة " وقال في
النهاية " يريبك " يروى بالفتح وضمها قال المناوي: وفتحها أكثر.
وأما حديث عبد الرحمن بن عوف فقد رواه الترمذي وقال: حديث حسن
صحيح، وقد أخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري، ورواه البخاري عن إبراهيم
النخعي عن علقمة عن ابن مسعود بنحوه، أما الشك فإنه التجويز المرجوح والظن
هو التجويز الراجح، والوهم هو تردد الخاطر بين الظن والشك، وأما اليقين فهو
الاعتقاد الجازم المطابق للواقع فهذه هي مراتب العلم وما يعتورها من حديث النفس
أما الأحكام: فإذا شك الرجل هل طلق امرأته أم لا لم يلزمه الطلاق وهو
إجماع، لان الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق. قال الشافعي رضي الله عنه:
والورع والاحتياط أن يحدث نفسه. فإن كان يعرف من عادته أنه إذا طلق
امرأته طلق واحدة أو اثنتين راجعها. وإن كان يعرف من عادته أنه يطلق
الثلاث طلقها ثلاثا لتحل لغيره بيقين، وان تيقن أنه طلق امرأته وشك هل
طلق واحدة أو اثنتين أو ثلاثا؟ لم يلزمه إلا الأقل، والورع أن يلتزم الأكثر
وبه قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل وقال مالك وأبو يوسف:
يلزمه الأكثر. دليلنا: أن ما زاد على القدر الذي يتيقنه طلاق مشكوك فيه
فلم يلزمه، كما لو شك في أصل الطلاق،
(مسألة) إذا كان تحته زوجتان فطلق إحداهما وجهلها نظرت، فان طلق
إحداهما بعينها ثم نسيها، أو رأى شخصها في كلة (1) أو سمع كلامها فقال لها:
أنت طالق ولم يدر أيتهما هي فإنه يتوقف عن وطئهما حتى يتبين عين المطلقة منهما
لأنه قد تحقق التحريم في إحداهما فلم يحل له وطؤ واحدة منهما قبل البيان كما لو
اختلطت امرأته بأجنبية فلم يعرفها، ويرجع في البيان إليه لأنه هو المطلق،

(1) الكلة هي ما يسمى بالناموسية، وهي غلالة رقيقة تضرب فوق السرير
كالقبة ولا تحجب ما وراءه لشفافيتها.
248

فكان أعرف بعين من طلقها، وليس البيان إلى شهوته وهو أن يعين الطلاق
فيمن يشتهى منها، وإنما يرجع إلى نفسه ويتذكر من التي طلقها منهما، ويستدل
على ذلك من نفسه، فيخبر عنها، ويؤخذ بنفقتهما لأنهما محبوستان عليه. فان
قال: طلقت هذه حكم عليها بالطلاق من حين طلق، ويكون ابتداء عدتها من
ذلك الوقت، لا من حين عين، لأنه أخبر عن عين المطلقة منهما وقت طلاقه
فان كذبته المعينة لم يفد تكذيبها له، وإن كذبته الأخرى وادعت أنها هي المطلقة
حلف لها، لان الأصل عدم طلاقها، وان أقر أن التي طلقها هي الثانية بعد
الأولة حكم بطلاقهما بإقراره، فإن قال: طلقت هذه، لا: بل هذه طلقتا جميعا
في الحكم لأنه أقر بطلاق الأولة فقبل ثم رجع عن ذلك وأخبر بطلاق الثانية
فلزمه حكم اقراره الثاني ولم يقبل رجوعه عن طلاق الأولة.
وان قال: لم أطلق هذه - قال الشيخ أبو حامد: - حكم عليه بطلاق الأخرى
لأنا قد تيقنا أنه طلق إحداهما، فإذا قال: لم أطلق هذه، كان اعترافا منه بأن التي
طلقها هي الأخرى.
(فرع) وان كن ثلاث زوجات فطلق واحدة بعينها وأشكلت فقال: طلقت
هذه، لا: بل هذه، أو طلقت هذه، بل هذه هذه، طلقن جميعا، لأنه أقر
بطلاق الأولة ثم رجع عن طلاقها وأقر بطلاق الثانية ثم رجع عن طلاقها وأقر
بطلاق الثالثة فلزمه حكم اقراره، ولم يقبل رجوعه كما لو قال: على درهم بل
دينار بل ثوب.
وان قال: طلقت هذه بل هذه أو هذه، طلقت الأولة وواحدة من الأخريين
ولزمه أن يعين الطلاق في إحدى الأخريين، وان قال: طلقت هذه أو هذه لا
بل هذه طلقت الثالثة واحدى الأولتين، ويلزمه التعيين في إحدى الأولتين.
وان قال طلقت هذه وهذه أو هذه طلقت الأولتان أو الثالثة، ولزمه البيان. وان
قال: هذه أو هذه وهذه، طلقت الأولة أو الأخريان ويلزمه البيان.
وقال أبو العباس بن سريج: تطلق الثالثة. واحدى الأولتين لأنه عدل عن
لفظ الشك إلى واو العطف، فينبغي أن لا تشاركها في الشك فتكون معطوفة
249

على الجملة، وإن كن أربعا فقال طلقت هذه أو هذه بل هذه أو هذه طلقت إحدى
الأولتين وإحدى الأخرتين وأخذ ببيانهما.
وان قال: هذه ثم قال بعد ذلك: لا أدرى أن التي عينتها هي المطلقة أو غيرها
لزمه الطلاق في التي عينها ووقف عن وطئ الباقيات إلى أن يبين أن التي طلقها
هي التي عين أو غيرها وان قال: التي عينتها ليست المطلقة لم يقبل رجوعه عن
طلاقه ولزمه أن يعين واحدة من الباقيات للطلاق، لان هذا يضمن الاقرار
بأن واحدة من الباقيات مطلقة فلزمه بيانها، وان وطئ إحداهن لم يكن ذلك
تعيينا للطلاق في عين الموطوءة، لان الطلاق لا يقع بالفعل فكذلك لا يقع
بالفعل ويؤخذ بالبيان، فان عين الطلاق في عين الموطوءة علمنا أنه إنما وطئ
زوجته، وان عين الطلاق في الموطوءة، وجب عليه لها مهر المثل للوطئ بعد
الطلاق لأنه وطئ شبهة، وأما إذا طلق واحدة من نسائه لا بعينها بأن قال:
إحداكن طالق ولم يعين بقلبه واحدة بعينها منهن وقع الطلاق على واحدة منهن
لا بعينها، لان الطلاق يقع مع الجهالة.
وقال مالك: يقع على جميعهن: دليلنا أنه أضاف الطلاق إلى واحدة فلم يقع
على الجماعة كما لو عينها.
إذا ثبت هذا: فإنه يوقف عن وطئهن حتى يعين المطلقة منهن لأنا نتحقق
التحريم في واحدة منهن لا بعينها، فوقف عن وطئهن كما لو طلق واحدة بعينها
وأنسيها ويوجد تعيين المطلقة منهن لتتميز المطلقة من غير المطلقة وله أن يعين الطلاق
فيمن اشتهى منهن لأنه أوقع الطلاق على واحدة لا بعينها فكان له التعيين فيمن اختار
بخلاف الأولة، فإنه أوقع الطلاق على واحدة بعينها، وإنما أشكلت فكذلك
قلنا: لا بعينها فيمن اشتهى منهن.
إذا ثبت هذا: فإن قال: طلقت هذه تعين فيها الطلاق، وان قال: هذه التي
لم أطلقها وكانتا اثنتين طلقت الأولة، فإن ذلك اخبار منه عمن طلقها بعينها،
فإذا أخبر بطلاق واحدة ثم رجع عنها إلى الثانية لزمه حكم اقراره في الثانية، ولم
يقبل رجوعه عن الأولة، وان وطئ إحداهما، فهل يكون وطوءه لها بيانا
لامساكها واختيار الطلاق في الأخرى إذا كانتا اثنتين؟ فيه وجهان.
250

(أحدهما) لا يكون تعيينا لأنه وطئ فلم تتعين به المطلقة، كما لو طلق واحدة
بعينها وجهلهما أو أنسيها.
(والثاني) يكون تعيينا وهو الأصح، لان هذا اختيار شهرة فوقع بالوطئ
كما لو وطئ البائع الجارية المبيعة في حال الخيار. وقال أحمد بن حنبل: لا تتعين
المطلقة بالقول ولا بالوطئ، وإنما تتعين بالقرعة. دليلنا أن القرعة لا مدخل
لها في الزوجات في أصل الشرع.
إذا ثبت هذا: وعين الطلاق في واحدة فمتى وقع عليها الطلاق؟ فيه وجهان
(أحدهما) أنه يقع عليها من حين ايقاعه لان الطلاق لا يجوز أن يكون في الذمة
وإنما لم يتعين، فإذا عينها تبينا أن الطلاق وقع من حين الايقاع، فعلى هذا يكون
ابتداء عدتها من ذلك الوقت (والثاني) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة: أنه
وقع عليها من حين التعيين، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. لان الطلاق لم يوقعه
على واحدة منهن، بدليل أن له أن يختار التعيين. فعلى هذا يكون ابتداء عدتها
من وقت التعيين.
وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال: وقع الطلاق من حين الايقاع،
الا أن العدة من وقت التعيين، كما نقول فيمن نكح امرأة نكاحا فاسدا ووطئها
(فرع) إذا كان له زوجات فقال: زوجتي طالق ولم يعين واحدة بقلبه وقع
الطلاق على واحدة منهن لا بعينها وبه قال عامة العلماء، وقال أحمد: يقع الطلاق
على جميعهن، وحكى ذلك عن ابن عباس. دليلنا أنه أوقع الطلاق على واحدة
فلا يقع على جميعهن، كما لو قال: إحدى نسائي طالق.
إذا ثبت هذا: فإنه يرجع في البيان إليه على ما سبق أن قررنا أما معرفة وارث
الزوج لإحدى الزوجتين، واخبار الوارث عن الموروث فسنتناول ذلك في
الفصل بعده إن شاء الله خشية التكرار.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان طالق إحدى زوجتيه ثم مات إحداهما ثم مات الزوج قبل
البيان عزل من تركة الميتة قبله ميراث زوج لجواز أن تكون هي الزوجة،
251

ويعزل من تركة الزوج ميراث زوجة لجواز أن تكون الباقية زوجة، فإن قال
وارث الزوج: الميتة قبله مطلقه فلا ميراث لي منها والباقية زوجه فلها الميراث
معي، قبل لأنه اقرار على نفسه بما يضره.
فإن قال الميتة هي الزوجة فلي الميراث من تركتها، والباقية هي المطلقة فلا
ميراث لها معي - فان صدق على ذلك - حمل الامر على ما قال، فان كذب بأن
قال وارث الميتة انها هي المطلقة فلا ميراث لك منها، وقالت الباقية: أنا الزوجة
فلي معك الميراث، ففيه قولان
(أحدهما) يرجع إلى بيان الوارث فيحلف لورثة الميتة أنه لا يعلم أنه طلقها
ويستحق من تركتها ميراث الزوج، ويحلف للباقية أنه طلقها ويسقط ميراثها من
الزوج (والثاني) لا يرجع إلى بيان الوارث، فيجعل ما عزل من ميراث الميتة
موقوفا حتى يصطلح عليه وارث الزوج ووارث الزوجة، وما عزل من ميراث
الزوج موقوفا حتى تصطلح عليه الباقية ووارث الزوج.
(فصل) وإن كانت له زوجتان حفصة وعمرة فقال: يا حفصة إن كان أول
ولد تلدينه ذكرا فعمرة طالق، وإن كان أنثى فأنت طالق، فولدت ذكرا وأنثى
واحدا بعد واحد وأشكل المتقدم منهما، طلقت إحداهما بعينها، وحكمها حكم من
طلق إحدى المرأتين بعينها ثم أشكلت عليه، وقد بيناه
(الشرح) الأحكام: إذا طلق إحدى امرأتيه ثلاثا وجهلها أو نسيها أو طلق
إحداهما لا بعينها وماتت إحداهما قبل التعيين لم يتعين الطلاق في الأخرى، بل له
أن يعين الطلاق في إحداهما بعد الموت.
وقال أبو حنيفة يتعين الطلاق في الباقية. دليلنا أنه يملك تعيين الطلاق قبل
موتها فملك بعده كما لو كانتا باقيتين.
إذا ثبت هذا فإنه يوقف له من مال الميتة منهما ميراث، وهو النصف مع
عدم الولد وولد الولد. أو الربع مع وجود الولد أو ولد الولد، لأنا نعلم أن
إحداهما زوجته يرث منها، والأخرى أجنبيه لا يرث منها فلم يجز أن يدفع إلى
ورثة كل واحدة منهما الا ما يتيقن أنهم يستحقونه، ونحن لا نعلم أنهم يستحقون
252

قدر ميراث الزوج منها فوقف، فيقال له. بين المطلقة منهما، فإن كان قد طلق
واحدة منهما بعينها ثم جهلها أو نسيها ثم قال: التي كنت طلقتها فلانة وهي الميتة
دفع ما عزل من تركة الميتة إلى باقي ورثتها.
وإن قال التي طلقتها هي الثانية دفع إليه ما عزل له من تركة الميتة، وإن ماتتا
قبل التعيين عزل من تركة كل واحدة منهما ميراث زوج. ثم يقال له: عين المطلقة
منهما، فإن قال: التي طلقتها فلانة دفع ما عزل له من تركتها إلى باقي ورثتها لأنه
أقر أنه لا يرثها ودفع إليه ما عزل إليه من تركة الأخرى، لأنه أخبر أنها زوجته
فإن كذبه ورثتها وقالوا بل هي التي كنت طلقت فالقول قوله مع يمينه لان الأصل
بقاء نكاحها وعدم طلاقه لها إلى الموت. فإن حلف فلا كلام، وان نكل عن اليمين
فحلف ورثتها أنها هي التي طلقها سقط ميراثه عن الأولة بإقراره، وعن الثانية
بنكوله وأيمان ورثتها.
وإن كان قد طلق إحداهما لا بعينها فعين الطلاق في إحداهما دفع ما عزل له
من تركة المعينة للطلاق إلى باقي ورثتها ودفع ما عزل له من تركة الأخرى إلى
الزوج، فان كذبه ورثتها فلا يمين على الزوج، لان هذا اختيار شهوة هذا نقل
أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: إذا طلق إحداهما لا بعينها فهل له أن يعينها بعد الموت؟
فيه وجهان، بناء على أن الطلاق يقع من وقت التعيين أو من وقت الايقاع.
فان قلنا وقت الايقاع كان له، وان قلنا يقع وقت التعيين لم يكن له. فان مات
الزوج وهما باقيتان قبل أن يعين الطلاق في إحداهما - فان قال وارث الزوج:
لا أعلم المطلقة منهما - وقف من مال الزوج ميراث زوجه وهو الربع مع عدم
الولد وولد الولد، والثمن مع وجود أحدهما لا يتيقن أن إحداهما وارثته بيقين،
فلا يدفع إلى باقي ورثته الا ما يتيقن استحقاقهم له، ويوقف ذلك بين الزوجين
إلى أن يصطلحا عليه.
وإن قال وارث الزوج. أنا أعرف المطلقة منهما، فهل يرجع إلى بيانه؟ فيه
قولان. قال ابن الصباغ: ومن أصحابنا من قال: هما وجهان (أحدهما) يرجع
إلى بيان الوارث لأنه يقوم مقام الزوج في الملك والرد بالعيب. وفى استحقاق
253

النسب بالاقرار، فقام مقامه في تعيين المطلقة. فعلى هذا إذا قال: المطلقة فلانة
دفع ما عزل من تركة الزوج إلى الآخر، وان كذبته المطلقة حلف لها.
(والثاني) لا يقوم مقامه، لان في ذلك إسقاط حق وارث معه في الظاهر
بقوله. واختلف أصحابنا في موضع القولين، فقال أبو إسحاق: القولان فيمن
طلق إحداهما بعينها وفيمن طلق إحداهما لا بعينها. ومنهم من قال القولان فيمن
طلق إحداهما بعينها ثم جهلها أو نسيها.
فأما إذا طلق إحداهما لا بعينها لا يقوم مقام المورث قولا واحدا، لأنه
يمكنه التوصل إلى العلم بالمطلقة منهما إذا وقع الطلاق بواحدة بعينها بسماع من
الزوج، فإذا طلق واحدة منهما لا بعينها، فتعيين المطلقة إلى شهوة الزوج فلا
يقوم وارثه مقامه كما لو أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه، فمات قبل
أن يختار - فإن كانت بحالها وماتت واحدة منهما ثم مات الزوج قبل البيان
وبقيت الأخرى عزل من تركة الزوج ميراث زوجة لجواز أن تكون الباقية
زوجته، وعزل من تركة الميتة قبله ميراث زوج لجواز أن تكون الميتة هي زوجته
فان قال وارث الزوج الميتة قبل الزوج هي المطلقة، قبل قوله، لان في ذلك
إضرارا عليه من جهة أنه لا يرث من الميتة وترت معه الباقية
وان قال بل الميتة قبل الزوج هي الزوجة والباقية هي المطلقة، فان صدقته
الباقية وورث الأولة ورث ميراث الزوج من الأولة ولم ترث معه الباقية، وان
كذبته فهل يقبل قول الوارث؟ فيه قولان وقد مضى توجيههما، والذي يقتضى
المذهب أن يكون في موضع وجهان
فإذا قلنا لا يقبل قول وارث الزوج كان ما عزل من تركة الميت قبل الزوج
موقوفا حتى يصطلح عليه وارث الزوج والزوجة الباقية. فإذا قلنا يقوم مقام
الزوج، فإن كان الزوج قد أوقع الطلاق في إحداهما بعينها ثم نسيها أو جهلها،
فان وارث الزوج يحلف لورثة الميتة ما يعلم أنه طلقها لأنه يحلف على نفى فعل
غيره على القطع.
وإن كان الزوج طلق إحداهما لا بعينها، وقلنا يقبل قول وارث الزوج فيها،
فلا يمين على وارث الزوج، كما لا يمين على الزوج في ذلك
254

وجملة ما تقدم أنه قد نص أحمد بن حنبل أنه إذا طلق واحدة من نسائه
وأنسيها أخرجت بالقرعة فإن مات قبل ذلك أقرع الورثة وكان الميراث للبواقي
وقال أبو حنيفة: يقسم الميراث بينهن كلهن لأنهن تساوين في احتمال استحقاقه
ولا يخرج الحق عنهن.
وقال الشافعي: يوقف الميراث المختص بهن حتى يصطلحن عليه لأنه لا يعلم
المستحق منهن، وذلك نص أحمد على أنه إذا كان له أربع نسوة فطلق إحداهن
ثم نكح أخرى بعد قضاء عدتها ثم مات ولم يعلم أيتهن طلق فللتي تزوجها ربع
ميراث النسوة. وقال ابن قدامة: ثم يقرع بين الأربع فأيتهن خرجت قرعتها
خرجت وورث الباقيات. نص عليه أحمد. وذهب الشعبي والنخعي وعطاء
الخراساني وأبو حنيفة إلى أن الباقي بين الأربع. وزعم أبو عبيد أنه قول أهل
الحجاز وأهل العراق جميعا، وقال الشافعي: يوقف الباقي بينهن حتى يصطلحن
ووجه الأقوال ما تقدم.
وقال أحمد في رواية بن منصور في رجل له أربع نسوة طلق واحدة منهن
ثلاثا وواحدة اثنتين وواحدة واحدة ومات على أثر ذلك ولا يدرى أيتهن طلق
ثلاثا وأيتهن طلق اثنتين وأيتهن واحدة يقرع بينهن، فالتي أبانها تحرج ولا
ميراث لها. هذا فيما إذا مات في عدتهن وكان طلاقه في صحته فإنه لا يحرم الميراث
الا المطلقة ثلاثا، فالباقيتان رجعيتان يرثنه في العدة ويرثهن من أنقضت عدتها
منهن لم ترثه ولم يرثها، ولو كان طلاقه في مرضه الذي مات فيه لورثه
الجميع في العدة.
* * *
(مسألة) إن كانت له زوجتان فقال: يا حفصة إن كان أول ولد تلدينه ذكرا
فعمرة طالق، وإن كان أنثى فأنت طالق، فان ولدت ذكرا وأنثى أحدهما بعد
الآخر وأشكل المقدم منهما علمنا أن إحداهما قد طلقت بعينها وهي مجهولة،
فيرجع إلى بيانه، كما لو أشرعت إحداهما من موضع فقال: هذه طالق ولم يعرفها
فإنه يرجع إلى بيانه، والله تعالى أعلم
255

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال: إن كان هذا الطائر غرابا فنسائي طوالق، وإن لم يكن
غرابا فإمائي حرائر، ثم قال: كان هذا الطائر غرابا طلقت النساء، فان كذبه
الإماء حلف لهن، فان حلف ثبت رقهن، وإن نكل ردت اليمين عليهن، فان
حلفن ثبت طلاق النساء بإقراره وعتق الإماء بنكوله ويمينهن، فإن صدقنه ولم
يطلبن إحلافه ففيه وجهان
(أحدهما) يحلف لما في العتق من حق الله عز وجل (والثاني) لا يحلف لأنه
لما أسقط العتق بتصديقهن سقط اليمين بترك مطالبتهن.
وإن قال كان هذا الطائر غير غراب عتق الإماء، فإن كذبته النساء حلف لهن
وإن نكل عن اليمين ردت عليهن، فإن حلفن ثبت عتق الإماء بإقراره وطلاق
النساء بيمينهن ونكوله.
(فصل) وان رأى طائرا فقال: إن كان هذا الطائر غرابا فنسائي طوالق
وإن كان حماما فإمائي حرائر ولم يعرف لم تطلق النساء ولم تعتق الإماء، لجواز
أن يكون الطائر غيرهما، والأصل بقاء الملك والزوجية فلا يزال بالشك وإن
قال: إن كان هذا غرابا فنسائي طوالق، وإن كان غير غراب فإمائي حرائر: ولم
يعرف منع من التصرف في الإماء والنساء، لأنه تحقق زوال الملك في أحدهما،
فصار كما لو طلق إحدى المرأتين ثم أشكلت ويؤخذ بنفقة الجميع إلى أن يعين،
لان الجميع في حبسه ويرجع في البيان إليه لأنه يرجع إليه في أصل الطلاق والعنق
فكذلك في تعيينه، فإن امتنع من التعيين مع العلم به حبس حتى يعين وان لم يعلم
لم يحبس ووقف الامر إلى أن يتبين، وان مات قبل البيان فهل يرجع إلى الورثة
فيه وجهان (أحدهما) يرجع إليهم لأنهم قائمون مقامه (والثاني) لا يرجع لأنهم
لا يملكون الطلاق فلم يرجع إليهم في البيان، ومتى تعذر البيان أقرع بين النساء
والإماء، فان خرجت القرعة على الإماء عتقن وبقى النساء على الزوجية، وان
خرجت القرعة على النساء رق الإماء ولم تطلق النساء.
وقال أبو ثور: تطلق النساء بالقرعة كما تعتق الإماء. وهذا خطأ لان القرعة
256

لها مدخل في العتق دون الطلاق، ولهذا لو طلق إحدى نسائه لم تطلق بالقرعة.
ولو أعتق أحد عبيده عتق بالقرعة، فدخلت القرعة في العتق دون الطلاق كما
يدخل الشاهد والمرأتان في السرقة لاثبات المال دون القطع، ويثبت للنساء
الميراث لأنه لم يثبت بالقرعة ما يسقط الإرث.
(فصل) وإن طار طائر فقال رجل: إن كان هذا الطائر غرابا فعبدي حر
وقال الآخر: إن لم يكن غرابا فعبدي حر ولم يعرف الطائر لم يعتق واحد من
العبدين، لأنا نشك في عتق كل واحد منهما، ولا يزال يقين الملك بالشك، وإن
اشترى أحد الرجلين عبد الآخر عتق عليه، لان إمساكه للعبد إقرار بحرية عبد
الآخر، فإذا ملكه عتق عليه، كما لو شهد بعتق عبد ثم اشتراه.
(الشرح) إن رأى رجلا طائرا فقال: إن كان هذا الطائر غرابا فنسائي
طوالق، وإن كان غير غراب فإمائي حرائر، فطار الطائر ولم يعرف هل هو
غراب أو غير غراب، فقد علم أنه حنث في الطلاق أو العتق، لأنه لا يخلو إما
أن يكون غرابا أو غير غراب، فيوقف عن وطئ الجميع وعن التصرف في الإماء
لأنا نتحقق التحريم إما في الزوجات وإما في الإماء.
وإن جهلنا عين المحرم منهما فوقف عن الجميع تغليبا للتحريم، ويؤخذ بالبيان
لأنه هو الحالف، ويجوز أن يكون عنده علم، فإن أقر أن عنده علما وامتنع عن
البيان حبس وعزر إلى أن يتبين، وعليه نفقة الجميع إلى أن يتبين لأنهن في حبسه
فإن قال كان الطائر غرابا طلقت النساء، سواء صدقته أو كذبنه، فإن صدقته
الإماء على أنه كان غرابا فلا يمين عليه، وان قلن ما كان غرابا فالقول قوله مع
يمينه، لان الأصل بقاء الملك عليهن، فإن طلبن يمينه فحلف لهن لم يعتقن، وإن
كذبنه ولم يطلبن إحلافه ففيه وجهان
(أحدهما) يحلفه الحاكم كما في العتق لأنه حق الله تعالى
(والثاني) لا يحلفه لان العتق سقط بتصديقهن أن الطائر كان غرابا فسقطت
يمينه بتركه مطالبتهن، وإن نكل فحلفن عتقن بأيمانهن ونكوله وطلقت النساء
257

بإقراره السابق. وان قال ابتداء كان الطائر غير غراب، عتقت الإماء صدقنه
أو كذبنه، فان صدقته النساء أنه لم يكن غرابا فلا كلام. وان قالت النساء كان
غرابا فالقول قوله مع يمينه، لان الأصل بقاء النكاح، فان حلف بقين على
الزوجية. وان نكل فحلفن طلقن بنكوله وأيمانهن. وعتقت الإماء بإقراره.
وان قال لا أعلم هل كان غرابا أو غير غراب، فان صدقته النساء والإماء أنه
لا يعلم بقين على الوقف. وان كذبنه وقلن بل هو يعلم حلف لهن أنه لا يعلم
وبقين على الوقف. وان نكل عن اليمين حلف من ادعى منهن أنه يعلم أنه حنث
في يمينه فيه، وكان كما لو أقر
فإن مات قبل البيان فهل يرجع إلى الورثة؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ
المصنف وابن الصباغ في الشامل، ونبه أن يكونا مأخوذين من القولين في التي قبلها
(أحدهما) يرجع إليهم في البيان، لان الورثة يقومون مقامه في الملك والرد
بالعيب، فكذلك في بيان المطلقات والمعتقات
(والثاني) لا يرجع إليهم في البيان لان ذلك يؤدى إلى اسقاط بعض الورثة
لقول البعض. وعندي أن الوجهين إنما هما إذا قال الورثة كان الطائر غرابا ليطلق
النساء ولا يعتق الإماء.
فأما إذا كان الطائر غير غراب فإنه يقبل قوله وجها واحدا، لأنه أقر بما فيه
تغليظ عليه من جهتين (أحدهما) أن الإماء تعتق عليه (والثانية) أن الزوجات
يرثن معه.
إذا ثبت هذا فان قال الوارث: لا أعلم هل كان غرابا أو غير غراب، أو قال
الوارث: كان الطائر غرابا ولم تصدقه النساء والإماء، وقلنا لا يقبل قوله فإنه
يقرع بين النساء والإماء لتمييز العتق لا لتمييز الطلاق، فيجعل الزوجات جزءا
والإماء جزءا ويضرب عليهن بسهم حنث وسهم بر، فان خرج سهم الحنث على
الإماء عتقن ولم تطلق النساء، وان خرج سهم الحنث على النساء لم يطلقن
ولا تعتق الإماء.
وقال أبو ثور: تطلق النساء كما تعتق الإماء. وهذا خطأ عندنا، كما هو
منصوص في الام. وعلى ذلك الأصحاب كافة، لان الأصل عندنا أن القرعة
258

لا مدخل لها في الطلاق، ولهذا لو طلق إحدى امرأتيه ولم يقبل أن يعين المطلقة
منهما لم يقرع بينهما. ولو أعتق عبديه في مرض موته ولم يحتملهما الثلث أقرع
بينهما، فإن خرجت قرعة الحنث على الإماء حكم بعتقهن من رأس المال إن كان
قال ذلك في الصحة. ومن الثلث إن قاله في المرض الذي مات فيه، ولا يحكم
بطلاق النساء، بل تكون عدتهن بعدة الوفاة. وتكون للزوجات الميراث إلا
أن يكن قد ادعين الطلاق، وكان الطلاق مما لا يرثن معه، ولو ثبت لا يرثن،
لأنهن أقررن أنهن لسن بوارثات
وإن خرجت القرعة حنثا على الزوجات فقد ذكرن أنهن لا يطلق.
قال الشافعي رضى الله في الام في باب الشك واليقين في الطلاق: وإن مات
قبل أن يحلف أقرع بينهم، فإن وقعت القرعة على الرقيق عتقوا من رأس المال
وإن وقعت على النساء لم نطلقهن بالقرعة ولم نعتق الرقيق وورثه النساء، لان
الأصل أنهن أزواج حتى يستيقن بأنه طلقهن، ولم يستيقن، والورع أن يدعن
ميراثه، وإن كان ذلك وهو مريض
وقال في موضع آخر: والورع لهن أن يدعن الميراث، لأن الظاهر بخروج
الحنث عليهن أنه طلقهن إلا أن القرعة ليس لها مدخل في الطلاق على ما مضى اه‍
وهل تزول الشبهة في ملك الإماء؟ ويكون الملك ثابتا عليهن ظاهرا وباطنا،
فخروج قرعة الحنث على النساء فيه وجهان
(أحدهما) لا تزول الشبهة لان القرعة إنما لم تؤثر في حنث النساء، لأنه
لا مدخل لها فيهن في أصل الشرع، ولها مدخل في أصل الشرع في العتق، فعلى
هذا يكون ملك الورثة ثابتا على الإماء بلا شبهة وعلى الوجهين بصدد تصرف
الورثة فيهن بالبيع والاستمتاع وغيره، إلا أن في الأول يصح تصرفه مع الشك
وعلى الثاني من غير شك.
(فرع) وان قال: إن كان هذا الطائر غرابا فنساؤه طوالق، وإن كان حماما
فإماؤه حرائر فطار ولم يعلم لم يحكم عليه بطلاق ولا عتق لجواز أن لا يكون غرابا ولا
حماما. وان ادعى النساء أنه كان غرابا وادعى الإماء أنه كان حماما ولا بينة حلف
أنه ليس بغراب يمينا وأنه ليس بحمام يمينا، لان الأصل بقاء النكاح والملك.
259

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا اختلف الزوجان فادعت المرأة على الزوج أنه طلقها وأنكر
الزوج فالقول قوله مع يمينه لان الأصل بقاء النكاح وعدم الطلاق، وان اختلفا
في عدده فادعت المرأة أنه طلقها ثلاثا. وقال الزوج طلقتها طلقه، فالقول قول
الزوج مع يمينه، لان الأصل عدم ما زاد على طلقه
(فصل) وإن خيرها ثم اختلفا فقالت المرأة اخترت، وقال الزوج
ما اخترت، فالقول قول الزوج مع يمينه، لان الأصل عدم الاختيار وبقاء
النكاح، وان اختلفا في النية، فقال الزوج ما نويت وقالت المرأة نويت، ففيه
وجهان (أحدهما) وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله: ان القول قول
الزوج، لان الأصل عدم النية وبقاء النكاح، فصار كما لو اختلفا في الاختيار.
(والثاني) وهو الصحيح أن القول قول المرأة، والفرق بينه وبين الاختلاف في
الاختيار أن الاختيار يمكن إقامة البينة عليه، فكان القول فيه قوله. كما لو علق
طلاقها بدخول الدار فادعت أنها دخلت وأنكر الزوج، والنية لا يمكن إقامة
البينة عليها، فكان القول قولها، كما لو علق الطلاق على حيضها فادعت أنها
حاضت وأنكر.
(فصل) وان قال لها أنت طالق أنت طالق أنت طالق. وادعى أنه أراد
التأكيد وادعت المرأة أنه أراد الاستئناف، فالقول قوله مع يمينه، لأنه أعرف
بنيته وان قال الزوج أردت الاستئناف، وقالت المرأة أردت التأكيد فالقول
قول الزوج لما ذكرناه ولا يمين عليه، لان اليمين تعرض ليخاف فيرجع، ولو
رجع لم يقبل رجوعه، فلم يكن لعرض اليمين معنى
(فصل) وان قال أنت طالق في الشهر الماضي، وادعى أنه أراد من زوج
غيره في نكاح قبله، وأنكرت المرأة أن يكون قبله نكاح أو طلاق، لم يقبل قول
الزوج في الحكم حتى يقيم البينة على النكاح والطلاق، فإن صدقته المرأة على ذلك
لكنها أنكرت أنه أراد ذلك فالقول قوله مع يمينه، فإن قال: أردت أنها طالق
في الشهر الماضي بطلاق كنت طلقتها في هذا النكاح وكذبته المرأة فالقول قوله
260

مع يمينه، والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن هناك يريد أن يرفع الطلاق، وههنا
لا يرفع الطلاق، وإنما ينقله من حال إلى حال.
(الشرح) وإن ادعت المرأة على زوجها أنه طلقها فأنكر. أو ادعت أنه
طلقها ثلاثا فقال بل طلقتها واحدة أو اثنتين ولا بينة فالقول قول الزوج مع
يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم: البينة على المدعى واليمين على من أنكر " ولان
الأصل عدم الطلاق وعدم ما زاد على ما أقر به الزوج، وبه قال أحمد وأصحابه
قال في المغنى: وان اختلفا في عدد الطلاق فالقول قوله لما ذكرناه، فإذا
طلق ثلاثا وسمعت ذلك وأنكر أو ثبت ذلك عندها بقول عدلين لم يحل لها تمكينه
من نفسها، وعليها أن تفر منه ما استطاعت، وتمتنع منه إذا أرادها، وتفتدى
منه إن قدرت.
قال أحمد. لا يسعها أن تقيم معه وتفتدى منه بكل ما يمكن. وقال جابر بن
زيد وحماد بن أبي سليمان وابن سيرين بهذا، وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف
وأبو عبيد: تفر منه. وقال مالك لا تتزين له ولا تبدي له شيئا من شعرها ولا
زينتها ولا يصيبها إلا وهي مكرهة. وقال الحسن والزهري والنخعي: يستحلف
ثم يكون الاثم عليه.
(فرع) وإن خيرها الزوج فقالت قد اخترت وقال ما اخترت. فالقول
قول الزوج، لان الأصل عدم الاختيار، والذي يقتضى المذهب أنه يحلف
ما يعلم أنها اختارت، لأنه يحلف على نفى فعل غيره، وان ادعت أنها نوت
الطلاق، وقال الزوج ما نويت ففيه وجهان
(أحدهما) القول قول الزوج مع يمينه، لان الأصل عدم النية (والثاني) القول
قولها مع يمينها لأنهما اختلفا في نيتها ولا يعلم ذلك إلا من جهتها، فقيل قولها مع
يمينها: كما لو علق الطلاق على حيضها
وإن قال: أنت طالق، أنت طالق، وادعى انه أراد التأكيد، وادعت انه
أراد الاستئناف، فالقول قوله مع يمينه، لأنه أعلم بإرادته. وإن قال أردت
الاستئناف وقالت بل أردت التأكيد لزمه حكم الاستئناف. لأنه أقر بالطلاق
فلزمه ولا يمين عليه، لأنه لو رجع لم يقبل رجوعه فلا يعرض اليمين
261

قال المصنف رحمه الله:
باب الرجعة
إذا طلق الحر امرأته بعد الدخول طلقة أو طلقتين، أو طلق العبد امرأته
بعد الدخول طلقه، فله أن يراجعها قبل انتهاء العدة، لقوله عز وجل " وإذا
طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف " والمراد به إذا قاربن أجلهن.
وروى ابن عباس رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه
وسلم طلق حفصة وراجعها " وروى أن ابن عمر رضي الله عنه طلق امرأته وهي
حائض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: من ابنك فليراجعها فإن انقضت
العدة لم يملك رجعتها، لقوله عز وجل " وإذا طلقتم النساء فبلغ أجلهن فلا
تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن " فلو ملك رجعتها لما نهى الأولياء عن عضلهن
عن النكاح، فإن طلقها قبل الدخول لم يملك الرجعة لقوله عز وجل: " وإذا طلقتم
النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف، فعلت الرجعة
على الأجل، فدل على أنها لا تجوز من غير أجل، والمطلقة قبل الدخول لا عدة
عليها لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من
قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن عدة تعتدونها "
(فصل) ويجوز أن يطلق الرجعية ويلاعنها ويولي منها ويظاهر منها.
لان الزوجية باقية، وهل له أن يخالعها؟ فيه قولان:
قال في الام: يجوز لبقاء النكاح. وقال في الاملاء: لا يجوز لأن الخلع
للتحريم وهي محرمة، فإن مات أحدهما ورثه الآخر لبقاء الزوجية إلى الموت،
ولا يجوز ان يستمتع بها لأنها معتدة فلا يجوز وطؤها كالمختلعة، فإن وطئها ولم
يراجعها حتى انقضت عدتها لزمه المهر، لأنه وطئ في ملك قد تشعث فصار
كوطئ الشبهة. وان راجعها بعد الوطئ فقد قال في الرجعة: عليه المهر. وقال
في المرقد إذا وطئ امرأته في العدة ثم أسلم أنه لا مهر عليه. واختلف أصحابنا
فيه فنقل أبو سعيد الإصطخري الجواب في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما
262

على قولين (أحدهما) يجب المهر لأنه وطئ في نكاح قد تشعث (والثاني) لا يجب
لان بالرجعة والاسلام قد زال التشعث، فصار كما لو لم تطلق ولم يرتد. وحمل
أبو العباس وأبو إسحاق المسألتين على ظاهرهما فقالا في الرجعة: يجب المهر،
وفى المرتد لا يجب، لان بالاسلام صار كأن لم يرتد، وبالرجعة لا يصير كأن لم
تطلق لان ما وقع من الطلاق لم يرتفع، ولان أمر المرتد مراعى، فإذا رجع
إلى الاسلام تبينا أن النكاح بحاله، ولهذا لو طلق وقف طلاقه، فإن أسلم حكم
بوقوعه، وإن لم يسلم لم يحكم بوقوعه، فاختلف أمرها في المهر بين أن يرجع إلى
الاسلام وبين أن لا يرجع، وأمر الرجعية غير مراعى، ولهذا لو طلق لم يقف
طلاقه على الرجعة، فلم يختلف أمرها في المهر بين أن يراجع وبين أن لا يراجع
فإذا وطئها وجب عليها العدة لأنه كوطئ الشبهة. ويدخل فيه بقية العدة الأولى
لأنهما من واحد.
(الشرح) أخرج أبو داود والنسائي عن ابن عباس في قوله تعالى " والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن "
الآية. وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها، وان طلقها
ثلاثا فنسخ ذلك: الطلاق مرتان وفى إسناده علي بن الحسين بن واقد وفيه مقال
وقال الشافعي رضي الله عنه في قوله تعالى " إن أرادوا إصلاحا " فقال: إصلاح
الطلاق الرجعة والله أعلم، فمن أراد الرجعة فهي له لان الله تبارك وتعالى جعلها له
قال الشافعي: فأيما زوج حر طلق امرأته بعدما يصيبها واحدة أو اثنتين فهو
أحق برجعتها ما لم تنقض عدتها بدلالة كتاب الله عز وجل ثم سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم: فإن ركانة طلق امرأته البتة ولم يرد الا واحدة، فردها إليه
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عندنا في العدة اه‍
وقوله " قد تشعث " مأخوذ من شعث الشعر وبابه تعب أي تغير وتلبد لقلة
تعهده بالدهن. والشعث أيضا الوسخ. وهو أشعث أغبر، أي من غير استحداد
ولا تنظف. والشعث أيضا الانتشار والتفرق، وفى الدعاء " لم الله شعثكم "
أي جمع أمركم.
263

إذا ثبت هذا فإذا طلق الرجل المدخول بها ولم يستوف ما يملكه عليها من
عدد الطلاق، وكان الطلاق بغير عوض، فله أن يراجعها قبل انقضاء عدتها.
والأصل فيه قوله تعالى " والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء - إلى قوله -
وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا. فقوله: بردهن، يعنى
برجعتهن. وقوله " ان أرادوا اصلاحا " أي اصلاح ما تشعب من النكاح بالرجعة
وقوله تعالى " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " فأخبر أن
من طلق طلقتين فله الامساك وهو الرجعة وله التسريح وهي الثالثة.
وقوله تعالى " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف
- إلى - لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا " والامساك هو الرجعة
وقوله " لعله الله يحدث بعد ذلك أمرا " يعنى الرجعة، وقد طلق النبي
صلى الله عليه حفصة ثم راجعها، وطلق ابن عمر امرأته وهي حائض فأمره النبي
صلى الله عليه وسلم أن يراجعها. وروينا أن ركانة بن عبد يزيد قال: يا رسول الله
إني طلقت امرأتي سهيمة البتة. والله ما أردت الا واحدة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
والله ما أردت الا واحدة؟ فقال ركانه ما أردت الا واحدة، فردها النبي صلى الله عليه وسلم
عليه. والرد هو الرجعة. وقد أجمعت الأمة على جواز الرجعة في العدة.
إذا ثبت هذا فقد قال الله تعالى في آية " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن "
وقال في آية أخرى " فإذا بلغن أجلهن فلا تعضلوهن ان ينكحن أزواجهن "
وحقيقة البلوغ هو الوصول إلى الشئ، إلا أن سياق الكلام يدل على اختلاف
البلوغين في الاثنتين، فالمراد بالبلوغ بقوله تعالى " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن
بمعروف " أي إذا قاربن البلوغ، فسمى المقاربة بلوغ مجازا، لأنه يقل:
إذا قارب الرجل بلوغ بلد بلغ فلان بلد كذا مجازا أو بلغها إذا وصلها حقيقة
والمراد بالآية الأخرى " إذا بلغن أجلهن فلا تعضلوهن ان ينكحن أزواجهن "
إذا انقضى أجلهن.
وان انقضت عدتها لم تصح الرجعة لقوله تعالى: وبعولتهن أحق بردهن في
ذلك أن أرادوا اصلاحا. أي في وقت عدتهن، وهذا ليس بوقت عدتهن.
وقوله تعالى " فإذا بلغن أجلهن فلا تعضلوهن ان ينكحن أزواجهن " فنهى
264

الأولياء عن عضلهن عن النكاح، فلو صحت رجعتهن لما نهى الأولياء عن عضلهن
عن النكاح. وإن طلق امرأته قبل الدخول لم يملك الرجعة عليها لقوله تعالى
" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " فخص الرجعة بوقت العدة. ومن لم يدخل بها
فلا عدة عليها فلم يملك عليها الرجعة.
(مسألة) وللزوج أن يطلق الرجعية في عدتها ويولى منها ويظاهر. هذا
نقل البغداديين.
وقال المسعودي: هل يصح إيلاؤه من الرجعية؟ فيه وجهان. وهل له أن
يخالعها؟ فيه قولان (أحدهما) يصح لبقاء أحكام الزوجية بينهما (والثاني) لا يصح
لأن الخلع للتحريم وهي محرمة عليه. وإن مات أحدهما قبل انقضاء العدة ورثه
الآخر لبقاء أحكام الزوجية بينهما وهذا من أحكامها، ويحرم عليه وطؤها
والاستمتاع بها والنظر إليها بشهوة وغير شهوة. وبه قال عطاء ومالك وأكثر
الفقهاء. وقال أبو حنيفة وأصحابه يجوز له وطؤها. وعن أحمد روايتان إحداهما
كقولنا والأخرى كقول أبي حنيفة،
دليلنا ما رواه مسلم وغيره أن ابن عمر طلق امرأته وكان طريقه إلى المسجد
على مسكنها، فكان يسلك طريقا آخر حتى راجعها، ولأنه سبب وقعت به
الفرقة فوقع به التحريم كالفسخ والخلع والطلاق قبل الدخول. فإن خالف
ووطئها لم يجب عليهما الحد، سواء علما تحريمه أو لم يعلما، لأنه وطئ مختلف في
إباحته فلم يجب به الحد، كما لو تزوج امرأة بغير ولى ولا شهود ووطئها. وأما
التعزير - فإن كانا عالمين بتحريمه بأن كانا شافعيين يعتقدان تحريمه عزرا لأنهما
أتيا محرما مع العلم بتحريمه. وإن كانا غير عالمين بتحريمه بأن كانا حنفيين أو كانا
جاهلين لا يعتقدان تحريمه أو لا يريان تحريمه لم يعزرا. وإن كان أحدهما عالما
بتحريمه والآخر جاهلا بتحريمه عزر العالم بتحريمه دون الجاهل به. وإن أتت
منه بولد لحقه نسبه بكل حال للشبهة.
وأما مهر المثل فهل يلزمه؟ ينظر فيه فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها فلها
عليه مهر المثل بكل حال. وكذلك إذا أسلم أحد الحربيين بعد الدخول فوطئها
الزوج في عدتها فانقضت عدتها قبل اجتماعهما على الاسلام فلها عليه مهر مثلها
265

لهذا الوطئ، لأن العدة لما انقضت قبل اجتماعهما على النكاح تبينا أنه وطئ
أجنبية منه، فهو كما لو وطئ أجنبية بشبهة، وإن راجعها قبل انقضاء العدة أو
اجتمعا على الاسلام قبل انقضاء العدة فقد قال الشافعي: إن للرجعية مهر مثلها
وقال في الزوجية: إذا أسلم أحدهما ووطئها قبل انقضاء عدتها وقبل الاسلام ثم
أسلم الآخر قبل انقضاء العدة أنه لا مهر لها، وكذا قال في المرتد: إذا وطئ
امرأته في العدة ثم أسلم قبل انقضاء العدة لا مهر عليه، واختلف أصحابنا فيه.
فمنهم من قال في الجميع قولان
(أحدهما) يجب عليه مهر مثله لأنه وطئ في نكاح قد تشعث، فهو كما لو لم
يراجعها ولم يجتمعا على الاسلام.
(والثاني) لا يجب عليه، لان الشعث زال بالرجعة والاسلام، ومنهم من
حملها على ظاهرها، فإن راجعها في الردة من أحدهما فالصحيح من مذهبنا أنه
لا يصح، وبه قال أحمد وأصحابه، لأنه استباحة بضع مقصود فلم يصح مع الردة
كالنكاح، ولان الرجعة تقرير للنكاح والردة تنافى ذلك فلم يصح اجتماعهما،
وقال المازني ما حاصله: إن قلنا تتعجل الفرقة بالردة لم تصح الرجعة لأنها قد بانت
بها، وإن قلنا لا تتعجل الفرقة فالرجعة موقوفة إن أسلم المرتد منهما في العدة
صحت الرجعة: لأننا تبينا أن الفرقة وقعت قبل الرجعة. وهذا قول أصحاب احمد
واختيار أبى حامد الأسفراييني من أصحابنا. وهكذا ينبغي أن يكون فيما إذا راجعها
بعد إسلام أحدهما.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتصح الرجعة من غير رضاها لقوله عز وجل " وبعولتهن أحق
بردهن في ذلك " ولا تصح الرجعة إلا بالقول، فإن وطئها لم يكن ذلك رجعه
لاستباحة بضع مقصود يصح بالقول، فلم يصح بالفعل مع القدرة على القول
كالنكاح وإن قال: راجعتك أو ارتجعتك صح، لأنه وردت به السنة، وهو
قوله صلى الله عليه وسلم " مر ابنك فليراجعها " فان قال رددتك صح. لأنه ورد به
القرآن وهو قوله عز وجل " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك "
266

وإن قال أمسكتك ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبي سعيد الإصطخري
انه يصح لأنه ورد به القرآن، وهو قوله عز وجل " فأمسكوهن بمعروف "
(والثاني) انه لا يصح، لان الرجعة رد، والامساك يستعمل في البقاء
والاستدامة دون الرد.
وإن قال تزوجتك أو نكحتك ففيه وجهان (أحدهما) يصح لأنه إذا صح
به النكاح وهو ابتداء الإباحة فلان تصح به الرجعة وهو إصلاح ما تشعث منه أولى
(والثاني) لا يصح لأنه صريح في النكاح، ولا يجوز أن يكون صريحا في حكم
آخر من النكاح، كالطلاق لما كان صريحا في الطلاق لم يجز أن يكون صريحا في
الظهار. وإن قال راجعتك للمحبة وقال أردت به مراجعتك لمحبتي لك صح.
وان قال راجعتك لهوانك وقال أردت به أنى راجعتك لأهينك بالرجعة صح،
لأنه أتى بلفظ الرجعة وبين سبب الرجعة وإن قال لم أرد الرجعة وإنما أردت أنى كنت أحبك
قبل النكاح، أو كنت أهينك قبل النكاح فرددتك بالرجعة إلى المحبة التي كانت قبل
النكاح: أو الإهانة التي كانت قبل النكاح، قبل قوله لأنه يحتمل ما يدعيه.
(الشرح) تصح الرجعة من غير ولى وبغير رضاها وبغير عوض لقوله تعالى
" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك " فجعل الزوج أحق بردها، فلو افتقر إلى رضاها
لكان الحق لهما، ولا تصح الرجعة الا بالقول من القادر عليه. أو بالإشارة
من الأخرس. فأما إذا وطئها أو قبلها أو لمسها فلا يكون ذلك رجعه، سواء
نوى به الرجعة أو لم ينو.
وبه قال أبو قلابة وأبو ثور، وقال سعيد بن المسيب والحسن البصري وابن سيرين
والأوزاعي وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وبعض أصحاب احمد: تصح الرجعة
بالوطئ، سواء نوى به الرجعة أو لم ينو
وقال أبو حنيفة: إذا قبلها بشهوة أو لمسها أو نظر إلى فرجها بشهوة وقعت
به الرجعة، وقال مالك وإسحاق: إذا وطئها ونوى به الرجعة كان رجعه. وان لم
ينو به الرجعة لم يكن رجعه، دليلنا انها جاريه إلى بينونة فلم يصح امساكها بالوطئ
كما لو أسلم أحد الحربيين وجرت إلى بينونة فلم يصح امساكها بالوطئ، ولان
267

استباحة بضع مقصود يصح بالقول فلم يصح بالفعل مع القدرة على القول كالنكاح
فقولنا بضع مقصود، احتراز ممن باع جارية ووطئها في مدة الخيار. وقولنا يصح
بالقول احتراز من السبي، فإنه لا يصح بالقول وإنما يصح بالفعل وقولنا ممن
يقدر عليه احتراز ممن يكون أخرس
إذا ثبت هذا وقال رددتك صح، لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر " مر ابنك
فليراجعها " وهل من شرطه أن يقول إلى النكاح؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي
المشهور أن ذلك ليس بشرط، وإنما هو تأكيد
وإن قال أمسكتك - قال الشيخ أبو حامد: - فهل ذلك صريح في الرجعة
أو كناية؟ فيه وجهان، وحكاهما القاضي أبو الطيب قولين (أحدهما) انه صريح
في الرجعة، لان القرآن ورد به، وهو قوله تعالى " فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن
بمعروف " وأراد به الرجعة (والثاني) انه ليس بصريح إنما هو كناية لأنه استباحة
بضع مقصود في عينه فلم يصح الا بلفظتين كالنكاح.
وأما المصنف فقد جعل صحة الرجعة به على وجهين ولم يذكر الصريح ولا الكناية
وإن قال تزوجتك أو نكحتك أو عقد عليها النكاح فهل يصح؟ فيه وجهان:
(أحدهما) لا يصح لان عقد الرجعة لا يصح بالكناية والنكاح كناية. ولان
النكاح لا يعرى عن عوض والرجعة لا تتضمن عوضا فلم ينعقد أحدهما بلفظ
الآخر كالهبة لا تنعقد بلفظ البيع.
(والثاني) يصح، لان لفظ النكاح والتزويج آكد من الرجعة لأنه تستباح
به الأجنبية، فإذا استباح بضعها بلفظ الرجعة ففي لفظ النكاح والتزويج أولى.
بيد انني رأيت أن الرجعة اسم اشتهر بين أهل العرف كاشتهار اسم الطلاق فيه،
فإنهم يسمونها رجعة والمرأة رجعية، ويتخرج أن يكون لفظها هو الصريح
وحده والله أعلم
(فرع) فان قال راجعتك أمس كان إقرارا برجعتها وهو يملك الرجعة قبل
إقراره فيها. وان قال راجعتك للمحبة أو للإهانة سئل عن ذلك. فإن قال أردت
بقولي للمحبة لأني كنت أحبها في النكاح فراجعتها إلى النكاح لأردها إلى تلك
المحبة، أو كنت أهينها في النكاح فراجعتها إلى النكاح والى تلك الإهانة أو ألحقتها
268

بالطلاق إهانة فراجعتها إلى النكاح لأرفع عنها تلك الإهانة، صحت الرجعة لأنه
قد راجعها وبين العلة التي راجعها لأجلها.
وإن قال لم أرد الرجعة إلى النكاح وإنما أردت أنى كنت أحبها قبل النكاح
فلما نكحتها بغضتها فرددتها بالطلاق إلى تلك المحبة قبل النكاح، أو كنت أهينها
قبل النكاح فلما نكحتها زالت تلك الإهانة، فرددتها بالطلاق إلى تلك الإهانة،
لم تصح الرجعة، لأنه أخبر انه لم يردها إلى النكاح، وإنما المعنى الذي لأجله
طلقها، وان ماتت قبل أن يبين حكم بصحة الرجعة لأنه يحتمل الامرين،
والظاهر أنه أراد الرجعة إلى النكاح لأجل المحبة أو لأجل الإهانة، وهذا هو
مذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وهل يجب الاشهاد عليها؟ فيه قولان (أحدهما) يجب لقوله
عز وجل " فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل
منكم " ولأنه استباحة بضع مقصود فلم يصح من غير اشهاد كالنكاح (والثاني) انه
مستحب لأنه لا يفتقر إلى الولي فلم يفتقر إلى الاشهاد كالبيع
(فصل) ولا يجوز تعليقها على شرط، فإن قال راجعتك ان شئت فقالت
شئت لم يصح، لأنه استباحة بضع فلم يصح تعليقه على شرط كالنكاح، ولا
يصح في حال الردة.
وقال المزني: انه موقوف فإن أسلمت صح، كما يقف الطلاق والنكاح على
الاسلام. وهذا خطأ لأنه استباحة بضع فلم يصح الردة كالنكاح، ويخالف
الطلاق، فإنه يجوز تعليقه على الشرط، والرجعة لا يصح تعليقها على الشرط
وأما النكاح فإنه يقف فسخه على الاسلام وأما عقده فلا يقف والرجعة كالعقد
فيجب أن لا تقف على الاسلام
(فصل) وان اختلف الزوجان فقال الزوج: راجعتك وأنكرت المرأة
فإن كان ذلك قبل انقضاء العدة فالقول قول الزوج، لأنه يملك الرجعة فقبل
اقراره فيها كما يقبل قوله في طلاقها حين ملك الطلاق، وإن كان بعد انقضاء العدة
269

فالقول قولها لان الأصل عدم الرجعة ووقوع البينونة، وإن اختلفا في الإصابة
فقال الزوج أصبتك فلي الرجعة وأنكرت المرأة فالقول قولها لان الأصل عدم
الإصابة ووقوع الفرقة.
(الشرح) قوله: وهل تصح الرجعة من غير شهادة الخ، فجملة ذلك أنه فيه
قولان (أحدهما) لا تصح الرجعة إلا بحضور شاهدين لقوله تعالى " فأمسكوهن
بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عدل منكم " فأمر بالاشهاد على
الرجعة والامر يقتضى الوجوب، ولأنه استباحة بضع مقصود فكانت الشهادة
شرطا فيه كالنكاح، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد
(والقول الثاني) تصح من غير شهادة، وهو اختيار أبى بكر من الحنابلة
وإحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول مالك وأبي حنيفة، لأنها لا تفتقر إلى
قبول فلم تفتقر إلى شهادة كسائر حقوق الزوج، ولان النبي صلى الله عليه وسلم
أمر عمر أن يأمر ابنه بمراجعتها ولم يأمره بالاشهاد، فلو كان شرطا لأمر به،
ولأنه لا يفتقر إلى الولي فلم يفتقر إلى الاشهاد كالبيع والهبة وعكسه النكاح.
والآية محمولة على الاستحباب
قال ابن قدامة من الحنابلة: ولا خلاف بين أهل العلم في أن السنة الاشهاد.
فإن قلنا هي شرط فإنه يعتبر وجودها حال الرجعة، فإن ارتجع بغير شهادة لم يصح
لان المعتبر وجودها في الرجعة دون الاقرار بها، إلا أن يقصد بذلك الاقرار
الارتجاع فيصح.
(مسألة) قوله: ولا يجوز تعليقها على شرط الخ، فقد قال الشافعي رضي الله عنه
في الام: وإن قال: راجعتك إن شئت فقالت في الحال شئت، لم تصح
الرجعة، لأنه عقد يستبيح به البضع فلم يصح تعليقه على صفة كالنكاح. وقال
أيضا: وإن قال لها كلما طلقتك فقد راجعتك لم تصح الرجعة، لأنه علق الرجعة
على صفة فلم تصح، كما لو قال راجعتك إذا قدم زيد، ولأنه راجعها قبل أن يملك
الرجعة عليها فلم يصح، كما لو قال لأجنبية طلقتك إذا نكحتك.
وإن طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا فارتدت المرأة ثم راجعها الزوج في
270

حال ردتها لم تصح الرجعة، فإن انقضت عدتها قبل أن ترجع إلى الاسلام
بانت باختلاف الدين. وإن رجعت إلى الاسلام قبل انقضاء عدتها افتقر إلى
استئناف الرجعة.
وقال المزني: تكون الرجعة موقوفة كما لو طلقها في الردة. وهذا خطأ لأنه
عقد استباحة بضع مقصود فلم يصح في حال الردة كالنكاح. ويخالف الطلاق
فإنه يصح تعليقه على الحظر والغرر، وكما أنه لا تصح الرجعة في ردتها فكذلك
لا تصح في ردته كالنكاح، لان الرجعة تقرير للنكاح، والردة تنافى ذلك،
فلم يصح اجتماعهما.
(مسألة) إذا قال الزوج راجعتك وأنكرت المرأة، فإن كان قبل انقضاء
عدتها فالقول قول الزوج، لأنه يملك الرجعة فملك الاقرار بها كالزوج إذا أقر
بطلاق زوجته. وان انقضت عدتها فقال الزوج: كنت راجعتك قبل انقضاء
عدتك. وقالت الزوجة بل انقضت عدتي قبل أن يراجعني - ولا بينة للزوج -
فقد نص الشافعي على أن القول قول الزوجة مع يمينها. وكذا قال في الزوج إذا
ارتد بعد الدخول ثم رجع إلى الاسلام، وقال رجعت إلى الاسلام قبل انقضاء
عدتك، وقالت: بل انقضت عدتي قبل أن يرجع إلى الاسلام، فالقول قول
الزوجة، وقال في نكاح المشركات: إذا أسلمت الزوجة بعد الدخول وتخلف
الزوج ثم أسلم، فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء عدتك، وقالت الزوجة: بل
أسلمت بعد انقضاء عدتي فالقول قول الزوج
واختلف أصحابنا في هذه المسائل على ثلاث طرق، فمنهم من قال: في الجميع
قولان. وهو اختيار القاضيين أبى حامد وأبى الطيب، أحدهما القول قول الزوج
لان الزوجة تدعى أمرا يرفع النكاح، والزوج ينكره فكان القول قوله، لان
الأصل بقاء النكاح.
والثاني أن القول قول الزوجة، لأن الظاهر حصول البينونة وعدم الرجعة
والاسلام. والطريق الثاني: ان أظهر الزوج أولا الرجعة أو الاسلام ثم قالت
الزوجة بعد ذلك: قد كانت عدتي انقضت قبل ذلك، فالقول قول الزوج، لأنها
ما دامت لم تظهر انقضاء العدة فالظاهر أن عدتها لم تنقض.
271

وإن أظهرت الزوجة انقضاء العدة أولا ثم قال الزوج كنت راجعتك وأسلمت
قبل انقضاء العدة فالقول قولها، لأنها إذا أظهرت انقضاء عدتها في وقت يمكن
انقضاؤها فيه فالظاهر أنها بانت، فإذا ادعى الزوج الرجعة والاسلام قبله كان
القول قولها لان الأصل عدم ذلك. وإن أظهر الزوج الرجعة أو الاسلام في
الوقت الذي أظهرت فيه انقضاء العدة ولم يستو أحدهما مع الآخر ففيه وجهان
من أصحابنا من قال يقرع بينهما لاستوائهما في الدعوى. ومنهم من قال لا يقرع
بينهما بل لا تصح الرجعة ولا يجمع بينهما في النكاح، لأنه يمكن تصديق كل
واحد منهما بأن يكون قد راجعها أو أسلم في الوقت الذي انقضت فيه عدتها،
فلم يصح اجتماعهما على النكاح، كما لو قال لامرأته: إن مت فأنت طالق
فإنها لا تطلق بموته،
والطريق الثالث وهو اختيار أبى على الطبري أن قول كل واحد منهم مقبول
فيما اتفقا عليه. فان اتفقا أنه راجع أو أسلم في رمضان فقالت الزوجة إلا أن عدتي
انقضت في شعبان وأنكرها الزوج فالقول قول الزوج، لان الأصل بقاء العدة
وإن اتفقا أن عدتها انقضت في رمضان إلا أن الزوج ادعى أنه كان راجعها أو
أسلم في شعبان وأنكرت الزوجة ذلك فالقول قولها، لان الأصل عدم الرجعة
والاسلام، وإذا ادعت انقضاء عدتها في أقل من شهر لم يقبل قولها في أقل من
اثنين وثلاثين يوما ولحظتين. ولا يقبل في أقل من ذلك بحال، لأنه لا يتصور
عندنا أقل من ذلك.
وعند أحمد وأصحابه لا يقبل قولها في أقل من شهر إلا ببينة. لان شريحا
قال: إذا ادعت أنها حاضت ثلاث حيض في شهر واحد وجاءت ببينة من النساء
العدول من بطانة أهلها ممن يرضى صدقه وعدله أنها رأت ما يحرم عليها الصلاة
من الطمث وتغتسل عند كل قرء وتصلى فقد انقضت عدتها والا فهي كاذبة.
وقال له علي بن أبي طالب " قالون " ومعناه بالرومية أصبت أو أحسنت، فأخذ
أحمد بشهر على في الشهر
فان ادعت ذلك في أكثر من شهر صدقها على حديث " ان المرأة أؤتمنت على
فرجها " ولان حيضها في الشهر ثلاث حيض يندر جدا فرجح ببينة، ولا يندر
272

فيما زاد على الشهر كندرته فيه فقبل قولها من غير بينة، وقال أبو حنيفة:
لا نصدق في أقل من ستين يوما. وقال صاحباه: لا تصدق في أقل من تسعة
وثلاثين يوما، لان أقل الحيض عندهم ثلاثة أيام، فثلاث حيض تسعة أيام
وطهران ثلاثون يوما، والخلاف في هذا ينبنى على الخلاف في أقل الحيض
وأقل الطهر.
وان ادعت انقضاء عدتها بوضع الحمل فلا يخلو إما أن تدعى وضع الحمل
التام أو أنها أسقطته لم يقبل قولها في أقل من ثمانين يوما من حين إمكان الوطئ
بعد عقد النكاح، لان أقل سقط تنقضي به العدة ما أتى عليه ثمانون يوما، لأنه
يكون نطفة أربعين يوما ثم يصير مضغة بعد الثمانين ولا تنقضي به العدة قبل أن
يصير مضغة بحال، وهذا قول أحمد بن حنبل وأصحابه
(فرع) إذا طلق امرأته طلقة أو طلقتين فقال: طلقتك بعد أن أصبتك
فعليك العدة ولى عليك الرجعة ولك السكنى والنفقة وجميع المهر. وقالت الزوجة
بل طلقني قبل الإصابة، فالقول قول الزوجة مع يمينها، لأن الظاهر وقوع
الفرقة بالطلاق والأصل عدم الإصابة.
إذا ثبت هذا فإنها إذا حلفت فلا عدة عليها ولا رجعة، ولا يجب لها نفقة
ولا سكنى، لأنها لا تدعى ذلك، وإن كان مقرا لها به. وأما المهر فإن كان في يد
الزوج لم تأخذ الزوجة منه الا النصف لأنها لا تدعى أكثر منه، وإن كان الزوج
مقرا بالجميع. وإن كان الصداق في يد الزوجة لم يرجع الزوج عليها بشئ لأنه
لا يدعيه وان نكلت عن اليمين فحلف ثبت له الرجعة عليها.
فأما النفقة والسكنى فالذي يقتضى المذهب أنها لا تستحقه لأنها لا تدعيه.
وإن قال الزوج طلقتك قبل الإصابة فلا رجعة لي عليك ولا نفقة ولا سكنى لك
ولك نصف المهر. وقالت المرأة بل طلقتني بعد الإصابة فلك الرجعة ولى عليك
النفقة والسكنى وجميع المهر، فالقول قول الزوج مع يمينه، لان الأصل عدم
الإصابة. إذا ثبت هذا فإنه لا رجعة له عليها، سواء حلف أو لم يحلف، لأنه
273

أقر بأنه لا يستحق ذلك، ويجب عليها العدة لأنها مقرة بوجوبها عليها، وأما
النفقة والسكنى - فان حلف أنه طلقها قبل الإصابة - لم تستحق عليه النفقة
والسكنى، وإن نكل عن اليمين فحلفت استحقت ذلك عليه، وأما المهر فإن حلف
لم يستحق عليه إلا نصفه سواء كان بيده أو بيدها، وإن نكل عن اليمين
وحلفت استحقت جميع المهر، وهذا إذا لم يثبت بالبينة أو بإقرار الزوج انه قد
خلا بها. وأما إذا ثبتت بالبينة أو بإقرار انه قد كان خلا بها فعلى القول الجديد
لا تأثير للخلوة.
وقال في القديم: للخلوة تأثير، فمن أصحابنا من قال: أراد انه يرجح بها قول
من ادعى الإصابة منهما. ومنهم من قال: بل الخلوة كالإصابة، وقد مضى
بيان ذلك.
(فرع) قال في الام: إذا قال قد أخبرتني بانقضاء عدتها ثم قالت بعد هذا
ما كانت عدتي منقضية فالرجعة صحيحة لأنه لم يقر بانقضاء العدة، وإنما أخبر
عنها، فإذا أنكرت ذلك فقد كذبت نفسها وكانت الرجعة صحيحة،
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فإن طلقها طلقة رجعية وغاب الزوج وانقضت العدة وتزوجت
ثم قدم الزوج وادعى أنه راجعها قبل انقضاء العدة، فله أن يخاصم الزوج الثاني
وله أن يخاصم الزوجة، فإن بدأ بالزوج نظرت فإن صدقه سقط حقه من النكاح
ولا تسلم المرأة إليه، لان إقراره يقبل على نفسه دونها، وان كذبه فالقول قوله
مع يمينه، لان الأصل عدم الرجعة، فان حلف سقط دعوى الأول، وان نكل
ردت اليمين عليه، فان حلف وقلنا إن يمينه مع نكول المدعى عليه كالبينة حكمنا
بأنه لم يكن بينهما نكاح، فإن كان قبل الدخول لم يلزمه شئ، وإن كان بعد
الدخول لزمه مهر المثل وان قلنا إنه كالاقرار لم يقبل إقراره في اسقاط حقها،
فان دخل بها لزمه المسمى، وان لم يدخل بها لزمه نصف المسمى. ولا تسلم
المرأة إلى الزوج الأول على القولين، لأنا جعلناه كالبينة أو كالاقرار في حقه
دون حقها. وإن بدا بخصومة الزوجة فصدقته لم تسلم إليه، لأنه لا يقبل
274

إقرارها على الثاني كما لا يقبل إقراره عليها، ويلزمها المهر لأنها أقرت أنها
حالت بينه وبين بضعها، فان زال حق الثاني بطلاق أو فسخ أو وفاة ردت إلى
إلى الأول لان المنع لحق الثاني وقد زال. وان كذبته فالقول قولها، وهل تحلف
على ذلك؟ فيه قولان:
(أحدهما) لا تحلف لان اليمين تعرض عليها لتخاف فتقر. ولو أقرت لم
يقبل إقرارها فلم يكن في تحليفها فائدة
(والثاني) تحلف لان في تحليفها فائدة، وهو أنها ربما أقرت فيلزمها المهر
وإن حلفت سقطت دعواه، وإن نكلت ردت اليمين عليه، فإذا حلف
حكم له بالمهر.
(فصل) إذا تزوجت الرجعية في عدتها وحبلت من الزوج ووضعت
وشرعت في إتمام العدة من الأول وراجعها صحت الرجعة لأنه راجعها في عدته
فان راجعها قبل الوضع ففيه وجهان: أحدهما لا يصح لأنها في عدة من غيره فلم
يملك رجعتها، والثاني يصح بما بقي عليها من عدته لأنه حكم الزوجية باق وإنما
حرمت لعارض فصار كما لو أحرمت
(الشرح) تصح الرجعة من غير علم الزوجة، لان ما لا يفتقر إلى رضاها
لم تفتقر صحته إلى علمها كالطلاق.
إذا ثبت هذا فان انقضت عدتها فتزوجت بآخر وادعى الزوج الأول أنه كان
راجعها قبل انقضاء العدة منه، وقال الزوج الثاني بل انقضت عدتها قبل أن يراجعها
نظرت فان أقام الزوج الأول بينة أنه راجعها قبل انقضاء عدتها منه حكم بتزويجها
للأول وبطل نكاح الثاني، سواء دخل بها أو لم يدخل وبه قال علي بن أبي طالب
وأكثر الفقهاء.
وقال مالك: ان دخل بها الثاني فهو أحق بها، وان لم يدخل بها الثاني ففيه
روايتان، إحداهما أنه أحق بها، والثاني أن الأول أحق بها. وروى ذلك عن
عمر رضي الله عنه، دليلنا قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم - إلى قوله تعالى -
والمحصنات من النساء " والمحصنة من لها زوج، وهذه لها زوج وهو الأول،
275

فلم يصح نكاح الثاني. إذا ثبت هذا - فإن كان الثاني لم يدخل بها - فرق بينهما
ولا شئ عليه، وإن دخل بها فرق بينهما وعليه مهر مثلها وعليها العدة، لأنه
وطئ شبهة، ولا تحل للأول حتى تنقضي عدتها من الثاني، وإن لم يكن مع الأول
بينة فله أن يخاصم لزوج الثاني، وله أن يخاصم الزوجة الأولى أو يبتدئ
بخصومة الثاني لأنه أقرب، فإن بدأ بخصومة الثاني نظرت في الثاني فإن أنكر
وقال لم يراجعها إلا بعد انقضاء عدتها فالقول قول الثاني مع يمينه، لان الأصل
عدم رجعة الأول، وكيف يحلف؟
قال الشيخ أبو حامد في التعليق: يحلف أنه لم يراجعها في عدتها. وقال ابن
الصباغ في الشامل: يحلف أنه لم يعلم أنه راجعها في عدتها، لأنه يحلف على نفى
فعل غيره، وهذا أقيس، فان حلف الثاني سقطت دعوى الأول عنه، وإن نكل
الثاني عن اليمين ردت اليمين على الأول، فان حلف أنه راجعها قبل انقضاء عدتها
منه سقط حق الثاني من نكاحها، لان يمين الأول كبينة أقامها في أحد القولين.
أو كإقرار الثاني بصحة رجعة الأول، وذلك يتضمن إسقاط حق الثاني منهما
فان صدقت الزوجة الأول على صحة رجعته سلمت إليه، فإن كان الثاني لم يدخل
بها فلا شئ عليه وتسلم الزوجة في الحال. وإن كان الثاني دخل بها استحقت
عليه مهر مثلها ولا تسلم إلى الأول الا بعد انقضاء عدتها من الثاني.
وإن أنكرت الزوجة صحة الرجعة من الأول - فان قلنا إن يمين الأول
كبينة أقامها الأول - كان كأن لم يكن بين الثاني وبينها نكاح، فإن كان قبل
الدخول فلا شئ لها عليه، وإن كان بعد الدخول فلها عليه مهر مثلها
وان قلنا إن يمين الأول يكذبه إقرار الثاني فلا يقبل إقراره في إسقاط حقها
بل إن كان قبل الدخول لزمه نصف مهرها المسمى، وإن كان بعد الدخول لزمه
جميع المسمى، ولا تسلم المرأة إلى الأول على القولين، لان يمين الأول كبينة
أقامها أو كإقرار الثاني في حق الثاني لا في حقها.
وإن صدق الثاني الأول أنه راجعها قبل انقضاء عدته - فإن صدقته المرأة
أيضا كان كما لو أقام الأول البينة، فإن كان قبل الدخول فلا شئ لها على الثاني،
وتسلم الزوجة إلى الأول في الحال، وإن كان بعد الدخول فلها على الثاني مهر مثلها
276

وله عليها العدة ولا تسلم إلى الأول إلا بعد انقضاء عدتها من الثاني، وإن أنكرت
الزوجة صحة رجعة الأول بعد أن صدقه الثاني فالقول قولها مع يمينها، لان
الأصل عدم الرجعة، ويحكم بانفساخ نكاح الثاني، لأنه أقر بتحريمها، فإن كان
قبل الدخول لزمه نصف المسمى، وإن كان بعد الدخول لزمه جميع المسمى،
وان بدأ الزوج الأول بالخصومة مع الزوجة نظرت فإن صدقته لم يقبل إقرارها
لتعلق حق الثاني بها - وهل يلزمها المهر للأول؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ.
(أحدهما) لا يلزمها له شئ، لان إقرارها لم يقبل بحق الثاني، فلم يلزمها غرم
كما لو ارتدت أو قتلت نفسها
(والثاني) ولم يذكر المحاملي والشيخ أبو إسحاق هنا غيره أنه يلزمها للأول
المهر لأنها فوتت بضعها عليه بالنكاح الثاني، فهو كما لو شهد عليه شاهدان أنه
طلقها ثم رجعا عن شهادتهما فإنه يجب عليهما، فكذلك هذا مثله، وان أنكرت
فالقول قولها لان الأصل عدم الرجعة، وهل يلزمها أن تحلف؟ قال الشيخان
أبو حامد وأبو إسحاق: فيه قولان
(أحدهما) لا يلزمها أن تحلف، لان اليمين إنما تعرض لتخاف فتقر، ولو
أقرت لم يقبل إقرارها للأول بحق الثاني فلا فائدة في ذلك
(والثاني) يلزمها أن تحلف، لأنه ربما خافت من اليمين فأقرت بصحة رجعة
الأول فلزمها له المهر. قال ابن الصباغ. يبنى على الوجهين، إذا أقرت للأول،
فان قلنا هناك يلزمها له المهر لزمها أن تحلف له لجواز أن تخاف فتقر فيلزمها
المرة. وان قلنا لا يلزمها المهر لم يلزمها أن تحلف لأنه لا فائدة في ذلك، فان
قلنا لا يمين عليها فلا كلام. وان قلنا عليها اليمين، فان حلفت سقطت دعوى
الزوج عنها، وان نكلت ردت اليمين على الأول، فإذا حلف احتمل أن يبنى
على القولين في يمين المدعى مع نكول المدعى عليه.
فان قلنا إنها كالبينة لزمها المهر للأول، وان قلنا إنها كالاقرار فهل يلزمها
المهر للأول؟ على الوجهين اللذين حكاهما ابن الصباغ، ولا تسلم الزوجة إلى
الأول مع انكار الثاني على القولين، لأنها كالبينة أو كالاقرار في حق المدعيين
وهما الزوج الأول والزوجة لا في حق الثاني وكل موضع قلنا لا تسلم المرأة إلى
277

الأول إذا أقرت له بحق الثاني فزالت زوجية الثاني بموته أو طلاقه، وسلمت
إلى الأول بعد انقضاء عدة الثاني منها، لان المنع من تسليمها إلى الأول لحق
الثاني وقد زال.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا طلق الحر امرأته ثلاثا أو طلق العبد امرأته طلقتين حرمت
عليه ولا يحل له نكاحها حتى تنكح زوجا غيره ويطأها. والدليل عليه قوله عز
وجل (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) وروت عائشة
رضي الله عنها أن رفاعة القرظي طلق امرأته بت طلاقها فتزوجها عبد الرحمن بن
الزبير فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله انى كنت عند رفاعة
وطلقني ثلاث تطليقات فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير وإنه والله ما معه يا رسول
الله إلا مثل هذه الهدبة، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لعلك تريدين
ان ترجعي إلى رفاعة، لا والله تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك: ولا تحل إلا
بالوطء في الفرج، فإن وطئها فيما دون الفرج، أو وطئها في الموضع المكروه لم
تحل، لان النبي صلى الله عليه وسلم علق على ذوق العسيلة، وذلك لا يحصل الا
بالوطئ في الفرج، وأدنى الوطئ أن يغيب الحشفة في الفرج لان أحكام الوطئ
تتعلق به ولا تتعلق بما دونه، فإن أولج الحشفة في الفرج من غير انتشار لم تحل
لان النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم بذوق العسيلة، وذلك لا يحصل
من غير انتشار.
وإن كان بعض الذكر مقطوعا فعلى ما ذكرناه في الرد بالعيب في النكاح.
وإن كان مسلولا أحل بوطئه، لأنه في الوطئ كالفحل وأقوى منه ولم يفقد الا
الانزال، وذلك غير معتبر في الاحلال. وإن كان مراهقا أحل لأنه كالبالغ في
الوطئ، وإن وطئت وهي نائمة أو مجنونة، أو استدخلت هي ذكر الزوج وهو
نائم أو مجنون، أو وجدها على فراشه فظنها غيرها فوطئها حلت لأنه
وطئ صادف النكاح.
278

(فصل) فإن رآها رجل أجنبي فظنها زوجته فوطئها أو كانت أمة فوطئها
مولاها لم تحل لقوله عز وجل حتى تنكح زوجا غيره، وإن وطئها الزوج في
نكاح فاسد كالنكاح بلا ولى ولا شهود أو في نكاح شرط فيه أنه إذا أحلها للزوج
الأول فلا نكاح بينهما ففيه قولان
(أحدهما) أنه لا يحلها لأنه وطئ في نكاح غير صحيح فلم تحل كوطئ الشبهة
(والثاني) أنه يحلها لما روى عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لعن الله المحلل والمحلل له. فسماه محللا، ولأنه وطئ في نكاح فأشبه الوطئ في
النكاح الصحيح.
(فصل) وإن كانت المطلقة أمة فملكها الزوج قبل أن ينكحها زوجا غيره
فالمذهب أنها لا تحل لقوله عز وجل: فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره
ولان الفرج لا يجوز أن يكون محرما عليه من وجه مباحا من وجه. ومن
أصحابنا من قال يحل وطؤها لان الطلاق يختص بالزوجية فآثر التحريم في الزوجية
(فصل) وإن طلق امرأته ثلاثا وتفرقا ثم ادعت المرأة أنها تزوجت بزوج
أحلها جاز له أن يتزوجها لأنها مؤتمنة فيما تدعيه من الإباحة، فإن وقع في نفسه
أنها كاذبة فالأولى أن لا يتزوجها احتياطا
(الشرح) حديث عائشة أخرجه الشيخان وأصحاب السنن وأحمد في مسنده
بلفظ " جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: كنت
عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه
مثل هدبة الثوب، فقال أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته
ويذوق عسيلتك " وعند أبي داود من غير تسمية الزوجين واللفظ بمعناه
وقد أخرج نحوه أيضا أبو نعيم في الحلية. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه
أبو عبد الملك لم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح، ولهذا الحديث متابعات،
منها ما رواه أحمد والنسائي عن ابن عمر قال " سئل نبي الله صلى الله عليه وسلم
عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ويتزوجها آخر، فيغلق الباب ويرخي الستر ثم
يطلقها قبل أن يدخل بها، هل تحل للأول؟ قال لا حتى يذوق العسيلة " وهذا
279

الحديث من رواية سفيان الثوري عن علقمة بن مرثد عن رزين بن سليمان
الأحمري عن ابن عمر.
وروى أيضا من طريق شعبة عن علقمة بن مرثد عن سالم بن رزين عن سالم
ابن عبد الله عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر. قال النسائي: والطريق الأول
أولى بالصواب. قال الحافظ بن حجر: وإنما قال ذلك لان الثوري أتقن
وأحفظ من شعبه، وروايته أولى بالصواب من وجهين
(أحدهما) أن شيخ علقمة هو رزين بن سليمان كما قال الثوري لا سالم بن
رزين كما قال شعبه، فقد رواه جماعه عن شعبه كذلك منهم غيلان بن جامع أحد
الثقات (ثانيهما) أن الحديث لو كان عند سعيد بن المسيب عن ابن عمر مرفوعا
لم يخالفه سعيد ويقول بغيره اه‍
وعن عائشة عند أبي داود بنحو حديث ابن عمر، وعند النسائي عن ابن عباس
بنحوه أيضا، وعن أبي هريرة عند الطبراني وابن أبي شيبة بنحوه. وكذلك
أخرجه الطبراني عن أنس والبيهقي عنه. وأخرج الطبراني حديثا آخر عن عائشة
بإسناد رجاله ثقات " أن عمرو بن حزم طلق العميصاء فنكحها رجل فطلقها قبل
أن يمسها، فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا، حتى يذوق الآخر عسيلتها
وتذوق عسيلته ".
أما امرأة رفاعة فقد قيل في اسمها: تميمة. وقيل سهيمة. وقيل أميمة.
والقرظي بضم القاف وفتح الراء نسبة إلى بني قريظة. وعبد الرحمن بن الزبير
بفتح الزاي وليس بالتصغير كما في الزبير بن العوام. بل هو كأمير وهو ابن باطا.
وقوله " هدبة الثوب " بفتح الهاء وسكون المهملة بعدها باء موحدة مفتوحة هي
طرف الثوب الذي لم ينسج، مأخوذ من هدب العين وهو شعر الجفن، هكذا
أفاده ابن حجر.
وفى المصباح هدب العين ما نبت من الشعر على أشفارها والجمع أهداب مثل
قفل وأقفال: ورجل أهدب طويل الأهداب. وهدبة الثوب طرءته مثال غرفة
وضم الدال للاتباع لغة والجمع هدب مثل غرفة وغرف. وفى القاموس الهدب
بالضم وبضمتين شعر أشفار العين وخمل الثوب وأحدهما بهاء. وكذا في مجمع
280

البحار نقلا عن النووي أنها بضم هاء وسكون دال: ومرادها أن ذكره يشبه
الهدبة في الاسترخاء وعدم الانتشار
وقوله " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " العسيلة مصغرة في الموضعين
واختلف في توجيه فقيل هون تصغير العسل، لان العسل مؤنث. جزم بذلك
القزاز. قال وأحسب التذكير لغة وقال الأزهري يذكر ويؤنث وقبل لان
العرب إذا حقرت الشئ أدخلت فيه هاء التأنيث. وقيل المراد قطعة من العسل
والتصغير للتقليل إشارة إلى أن القدر القليل كاف في تحصيل ذلك بأن يقع
تغييب الحشفة في الفرج
وقيل: معنى العسيلة النطفة، وهذا يوافق قول الحسن البصري. وقال
جمهور العلماء: ذوق العسيلة كناية عن الجماع. وهو تغييب حشفة الرجل
في فرج المرأة.
أما حديث " لعن الله المحلل والمحلل له " ففي الترمذي ومسند أحمد من حديث
عبد الله بن مسعود. قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفى المسند من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا وإسناده حسن، وفيه عن علي عليه
السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وفى سنن ابن ماجة من حديث عقبه
ابن عامر قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم " ألا أخبركم بالتيس المستعار؟
قالوا بلى يا رسول الله. قال هو المحلل. لعن الله المحلل والمحلل له. فهؤلاء الأربعة
من سادات الصحابة رضي الله عنهم وقد شهدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بلعنه أصحاب التحليل وهم المحلل والمحلل له.
قال ابن القيم: وهذا إما خبر عن الله فهو خبر صدق وإما دعاء فهو مستجاب
قطعا. وهذا يفيد انه من الكبائر الملعون فاعلها
أما أحكام هذين الفصلين، فإنه إذا طلق الحر امرأته ثلاثا، أو طلق العبد
امرأته طلقتين بانت منه وحرم عليه استمتاعها والعقد عليها حتى تنقضي عدتها
عنه بتزوج غيره ويصيبها ويطلقها، أو يموت عنها وتنقضي عدتها منه، وبه قال
الفقهاء كافة إلا سعيد بن المسيب فإنه قال: إذا تزوجها وفارقها حلت للأول وان
لم يصيبها الثاني فقد قال ابن المنذر: اجمع العلماء على اشتراط الجماع لتحل للأول إلا
281

سعيد بن المسيب. ثم ساق بسنده الصحيح عنه ما يدل على ذلك. قال ولا نعلم
أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج. ولعله لم يبلغه الحديث فأخذ بظاهر
القرآن. وقد نقل أبو جعفر النحاس في معاني القرآن وعبد الوهاب الملكي في
شرح الرسالة عن سعيد بن جبير مثل قول سعيد بن المسيب
وحكى ابن الجوزي عن داود أنه وافق في ذلك سعيدا. قال القرطبي:
ويستفاد من الحديث على قول الجمهور أن الحكم يتعلق بأقل ما ينطلق عليه الاسم
خلافا لمن قال لا بد من حصول جميعه. واستدل بإطلاق الذوق لهما على اشتراط
علم الزوجين به حتى لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم يكف ذلك ولو أنزل هو.
ونقل ذلك ابن المنذر عن جميع الفقهاء
ويستدل من حديث عائشة وابن عمر وغيرهما على جواز رجوعها إلى زوجها
الأول إذا حصل الجماع من الثاني ويعقبه الطلاق منه، لكن شرط المالكية ونقل
عن عثمان وزيد بن ثابت أن لا يكون في ذلك مخادعة من الزوج الثاني، ولا
إرادة تحليلها للأول. وقال الأكثر من الفقهاء: ان شرط ذلك في العقد
فسد وإلا فلا.
قال في البيان في حديث عائشة: وإنما أراد صلى الله عليه وسلم بذلك - يعنى
بالعسيلة - لذة الجماع، وسماه العسيلة. فثبت نكاح الثاني بالآية " فإن طلقها فلا
تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره " وثبتت الإصابة بالسنة، وهو إجماع
الصحابة، لأنه روى عن عمر وعلى وابن عمر وابن عباس وجابر وعائشة، ولا
يعرف لهم مخالف اه‍
إذا ثبت هذا فإن أقل الوطئ الذي يتعلق به الاحلال للأول أن تغيب الحشفة
في الفرج، لان أحكام الوطئ من الغسل والحدود وغيرهما تتعلق بذلك. ولا
يتعلق بما دونه، فأن أولج الحشفة في الفرج وواقعها وتجاوبت معه باللذة وأنزل
فقد حصل الاحلال وزيادة، وإن غيب الحشفة في الفرج من غير انتشار أو غيبه
في الموضع المكروه أو وطئها فيما دون الفرج لم يتعلق به الاحلال. لان النبي
صلى الله عليه وسلم علقه على ذوق العسيلة، وذلك لا يحصل بما ذكرناه.
(فرع) وإن تزوجها صبي فجامعها - فإن كان صبيا غير مراهق كابن سبع
282

سنين فما دون - لا يحكم بمجامعته ولم يحللها للأول، لان هذا الجماع لا يلتذ به
فهو كما لو أدخل أصبعه في فرجها، وإن كان مراهقا ينتشر عليها أحلها للأول،
وقال مالك لا يحللها
دليلنا أنه جماع ممن يجامع مثله فأحلها للأول كالبالغ، وإن كان مشكول
الأنثيين فغيب الحشفة في الفرج أحلها للأول، لأنه جماع يلتذ به فهو كغيره
وإن كان مقطوع الذكر من أصله لم تحل للأول بجماع لأنه لا يوجد منه الجماع،
وإن قطع بعضه - فإن بقي من ذكره قدر الحشفة وأولجه - أحلها للأول،
وإن كان الذي بقي منه أو الذي أولج فيها دون الحشفة لم يحلها للأول لأنه لا يلتذ
به. وينسحب هذا الحكم على العبد والأمة لان الحديث لم يفرق بين الحر والعبد
ولا بين الحرة والأمة.
(فرع) وإن أصابها الزوج الثاني وهي محرمة لحج أو عمرة أو صائمة أو
حائض أحلها للأول، وقال مالك: لا يحلها. دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم
" لا حتى تذوق العسيلة " ولم يفرق، ولأنها إصابة يستقر بها المهر المسمى،
فوقعت بها الإباحة للأول كما إذا وطئها محلة مفطرة طاهرة
واشترط أصحاب أحمد أن يكون الوطئ حلالا، فإن وطئها في حيض أو نفاس
أو إحرام من أحدهما أو منهما، أو وأحدهما صائم فرضا لم تحل، لأنه وطئ
حرام لحق الله تعالى فلم يحصل به الاحلال كوطئ المرتدة، وقد خالفهم ابن قدامة
منهم فقال: وظاهر النص حلها، وهو قوله تعالى " حتى تنكح زوجا غيره "
وهذه قد نكحت زوجا غيره،
وأيضا قوله صلى الله عليه وسلم " حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك "
وهذا قد وجد ولأنه وطئ في نكاح صحيح في محل الوطئ على سبيل التمام فأحلها
كالوطئ الحلال. وكما لو وطئها وقد ضاق وقت الصلاة أو وطئها وهي مريضة
يضرها الوطئ وهذا أصح إن شاء الله. وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي.
وأما وطئ المرتدة فلا يحلها، سواء وطئها في حال ردتهما أو ردتهما، أو وطئ
المرتد المسلمة، لأنه ان لم يعد المرتد منهما إلى الاسلام تبين أن الوطئ في غير
283

نكاح. وإن عاد إلى الاسلام في العدة فقد كان الوطئ في نكاح غير تام، لان
سبب البينونة حاصل فيه. وهكذا لو أسلم أحد الزوجين فوطئها الزوج قبل
اسلام الآخر لم يحلها لذلك.
(فرع) وان طلق مسلم ذمية ثلاثا فتزوجت بذمي وأصابها ثم فارقها حلت
للمسلم. وقال مالك: لا تحل. دليلنا أنه إصابة من زوج في نكاح صحيح فحلت
للأول كما لو تزوجها مسلم.
وان تزوجها الثاني فجن فأصابها في حال جنونه، أو جنت فأصابها في حال
جنونها أو وجدها الزوج على فراشه فظنها أجنبية فوطئها فبان أنها زوجته حلت
للأول بعد مفارقة الثاني، لأنه ايلاج تام صادف زوجية ولم يفقد الا القصد،
وذلك غير معتبر في الإصابة كما قلنا في استقرار المسمى
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: وإن كانت الإصابة بعد ردة أحدهما
ثم رجع المرتد منهما لم تحلها الإصابة لأنها محرمة في تلك الحال. وجملة ذلك أن
المطلقة ثلاثا إذا تزوجت بآخر ثم ارتد أحدهما أو ارتدا ووطئها في حال الردة لم
يحلها للأول، لان الوطئ إنما ينتج إذا حصل في نكاح صحيح تام، والزوجية
ههنا متشعثة بالردة.
وقال المزني: هذه المسألة محال لأنهما ان ارتدا أو ارتد أحدهما قبل الدخول
انفسخ النكاح بنفس الردة، وإن ارتد أو ارتد أحدهما بعد الدخول فقد حصل
الاحلال بالوطئ قبل الردة فلا تؤثر الردة.
قال أصحابنا: ليس بمحال، بل تتصور على قوله القديم الذي يقول: إن
الخلوة كالإصابة، فإذا خلا بها ثم ارتدا أو أحدهما فعليها العدة، فما دامت في
العدة فالزوجية قائمة وتتصور على قوله الجديد بأن يطأها فيما دون الفرج فسبق
الماء إلى الفرج أو تستدخل ماءه ثم يرتد أحدهما فيجب عليها العدة لو وطأها في
الموضع المكروه فيرتدان أو أحدهما فيجب عليها العدة، فيتصور هذا في
هذه المواضع الثلاثة.
(مسألة) إذا طلقها ثلاثا فانقضت عدتها منه فوجدها رجل على فراشه فظنها
284

زوجته أو أمته فوطئها، أو كانت أمة الآخر فوطئها سيدها لم تحل للأول لقوله
تعالى " حتى تنكح زوجا غيره " هذا ليس بزوج. وإن اشتراها زوجها قبل أن
تنكح زوجا غيره فهل يحل له وطؤها بالملك؟ فيه وجهان: أحدهما يحل له وطؤها
لان الطلاق من خصائص الزوجية فأثر في تحريم الوطئ بالزوجية دون ملك
اليمين. والثاني لا تحل له وهو المذهب لقوله تعالى " حتى تنكح زوجا غيره " ولم
يفرق، ولان كل امرأة يحرم عليه نكاحها لم يجز له وطؤها بملك اليمين كالملاعنة
وإن نكحها رجل نكاحا فاسدا ووطئها فهل تحل للأول؟ فيه قولان
(أحدهما) لا يحلها لأنه وطئ في نكاح فاسد فهو كوطئ الشبهة
(والثاني) يحلها لقوله صلى الله عليه وسلم " لعن الله المحلل والمحلل له " فسماه
محللا، ولأنه وطئ في نكاح فأشبه النكاح الصحيح.
قال في الاملاء: وإذا طلق الرجل امرأته طلاقا رجعيا فانقضت عدتها
فجاءها رجل فقال: توقفي فلعل زوج قد راجعك لم يلزمها التوقف لان انقضاء
العدة قد وجد في الظاهر، والرجعة أمر محتمل فلا يترك الظاهر للمحتمل.
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان تزوجت المطلقة ثلاثا بزوج وادعت عليه أنه أصابها وأنكر
الزوج لم يقبل قولها على الزوج الثاني في الإصابة ويقبل قولها في الإباحة للزوج
الأول لأنها تدعى على الزوج الثاني حقها وهو استقرار المهر ولا تدعى على
الأول شيئا وإنما تخبره عن أمر هي فيه مؤتمنه فقبل، وان كذبها الزوج الأول
فيما تدعيه على الثاني من الإصابة ثم رجع فصدقها جاز له أن يتزوجها لأنه قد
لا يعلم أنه أصابها ثم يعلم بعد ذلك.
وان ادعت على الثاني أنه طلقها وأنكر الثاني للأول نكاحها لأنه إذا لم
يثبت الطلاق فهي باقية على نكاح الثاني فلا يحل للأول نكاحها، ويخالف إذا
اختلفا في الإصابة بعد الطلاق لأنه ليس لأحد حق في بضعها فقبل قولها
(فصل) إذا عادت المطلقة ثلاثا إلى الأول بشروط الإباحة ملك عليها
285

ثلاث تطليقات، لأنه قد استوفى ما كان يملك من الطلاق الثلاث، فوجب
أن يستأنف الثلاث، فإن طلقها طلقة أو طلقتين فتزوجت بزوج آخر فوطئها
ثم أبانها رجعت إلى الأول بما بقي من عدد الطلاق. لأنها عادت قبل استيفاء
العدد فرجعت بما بقي، كما لو رجعت قبل أن تنكح زوجا غيره.
(الشرح) إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا فجاءت إلى الذي طلقها وادعت أن
عدتها منه قد انقضت وأنها قد تزوجت بآخر وأصابها وطلقها الثاني وانقضت
عدتها، وكان قد مضى من يوم الطلاق زمان يمكن صدقها فيه. جاز للأول أن
يتزوجها لأنها مؤتمنة فيما تدعيه من ذلك، فإن وقع في نفس الزوج كذبها فالورع
له أن لا يتزوجها، فإن نكحها جاز لان ذلك مما لا يتوصل إلى معرفته إلا من
جهتها، وإن كانت عنده صادقة لم يكره له تزويجها، ويستحب له أن يبحث عن
ذلك ليعرف به صدقها، فإن لم يبحث عن ذلك جاز، فإن رجعت المرأة عما
أخبرت به نظرت - فإن كان قبل أن يعقد عليها الأول - لم يجز له العقدة عليها
وإن كان بعد ما عقد عليها لم يقبل رجوعها، لان في ذلك ابطالا للعقد الذي
لزمها في الظاهر.
(فرع) وان طلق امرأته ثلاثا فتزوجت بآخر بعد انقضاء عدتها وطلقها
الثاني فادعت الزوجة على الثاني أنه طلقها بعد أن أصابها وأنكر الثاني الإصابة،
فالقول قوله مع يمينه أنه ما أصابها، لان الأصل عدم الإصابة ولا يلزمه الا
نصف المسمى ويلزمها العقد للثاني لأنها مقرة بوجوبها، فإن صدقها الأول أن
الثاني قد أصابها في النكاح، هل له أن يتزوجها؟ لان قولها مقبول في اباحتها
للأول، وان لم يقبل على الثاني.
فإن قال الأول: أنا أعلم أن الثاني لم يصبها لم يجز له أن يتزوجها، فإن عاد
وقال علمت أن الثاني أصابها، حل له أن يتزوجها لأنه قد يظن أنه لم يصبها ثم يعلم
أنه أصابها فحلت له.
(مسألة) الفرقة التي يقع بها التحريم بين الزوجين على أربعة أضرب:
(الأول) فرقة يقع بها التحريم، ويرتفع ذلك التحريم بالرجعة وهو الطلاق
286

الرجعي على ما مضى وهذا أخفها (والضرب الثاني) فرقة يرتفع بها التحريم بعقد
نكاح مستأنف قبل زوج، وهو أن تطلق غير المدخول بها طلقة أو طلقتين أو
تطلق المدخول بها طلقة أو طلقتين بغير عوض ولا يسترجعها حتى تنقضي عدتها
أو يطلقها طلقة أو طلقتين بعوض أو يجد أحدهما بالآخر عيبا فيفسخ النكاح،
أو بعسر الزوج بالمهر والنفقة فتفسخ الزوجة النكاح فلا رجعة للزوج في هذا
كله وإنما يرتفع التحريم بعقد نكاح مستأنف ولا يشترط أن يكون ذلك بعد زوج
وإصابة، وهذا الضرب أغلظ من الأول.
(الضرب الثالث) فرقة يقع بها التحريم ولا يرتفع ذلك التحريم الا بعقد
مستأنف بعد زوج واصابه. وهو أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا، سواء كانت
مدخولا بها أو غير مدخول بها، فيحرم عليه العقد عليها الا بعد زوج واصابه
على ما سبق. وهذا أغلظ من الأوليين
(والضرب الرابع) فرقة يقع بها التحريم على التأبيد لا يرتفع بحال، فهي
الفرقة باللعان على ما يأتي في اللعان. وهذا أغلظ الفرق
إذا ثبت هذا فإن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا في عدتها، فإنها تكون
عنده على ما بقي له من عدد الطلاق، وان طلق امرأته ثلاثا ثم تزوجها بعد زوج
فإنه يملك عليها ثلاث طلقات. وهذا اجماع لا خلاف فيه،
وان أبان امرأته
بدون الثلاث حتى انقضت عدتها ثم تزوجها قبل أن تتزوج زوجا غيره فإنها
تكون عنده ما بقي من عدد الثلاث. وهذا أيضا لا خلاف فيه. وان تزوجها بعد
أن تزوجت غيره فإنها تعود إليه عندنا على ما بقي من عدد الثلاث لا غير. وبه
قال في الصحابة عمر وعلى وأبو هريرة. ومن الفقهاء مالك والأوزاعي والثوري
وابن أبي ليلى ومحمد بن الحسن وزفر.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: تعود إليه بالثلاث. وقال ابن عباس بمثل
ذلك. دليلنا أن إصابة الزوج ليست شرطا في الإباحة للأول فلم تؤثر في الطلاق
كإصابة الشبهة. والله تعالى أعلم وهو حسبنا ونعم الوكيل
287

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الايلاء
يصح الايلاء من كل زوج بالغ عاقل قادر على الوطئ، لقوله عز وجل
" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر " وأما الصبي والمجنون فلا يصح
الايلاء منهما لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ
وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق " ولأنه قول يختص بالزوجية
فلم يصح من الصبي والمجنون كالطلاق.
وأما من لا يقدر على الوطئ، فإن كان بسبب يزول كالمريض والمحبوس صح
إيلاؤه. وإن كان بسبب لا يزول كالمجبون والأشل ففيه قولان
(أحدهما) يصح ايلاؤه لان من صح ايلاؤه إذا كان قادرا على الوطئ صح
ايلاؤه إذا لم يقدر كالمريض والمحبوس
(والثاني) قاله في الام لا يصح ايلاؤه لأنه يمين على ترك ما لا يقدر عليه
بحال فلم يصح، كما لو حلف لا يصعد السماء. ولان القصد بالايلاء أن يمنع نفسه
من الجماع باليمين. وذلك لا يصح ممن لا يقدر عليه، لأنه ممنوع من غير يمين،
ويخالف المريض والمحبوس لأنهما يقدران عليه إذا زال المرض والحبس، فصح
منهما المنع باليمين، والمجبوب والأشل لا يقدران بحال.
(الشرح) قوله تعالى " للذين يؤلون من نسائهم " الآية، معناه يحلفون،
والمصدر ايلاء وألية وألوة وألوة وإلوة، وقرأ أبى وابن عباس: للذين يقسمون
ومعلوم أن يقسمون تفسير يؤلون، وقرئ " للذين آلوا " يقال: آلى يؤلى ايلاء
وتألى تأليا وائتلى ائتلاء أي حلف. ومنه " ولا يأتل أولو الفضل منكم " كذا أفاده
القرطبي وقال طرفة ابن العبد:
فآليت لا ينفك كشحي بطانة * لعضب رقيق الشفرتين مهند
وقال في الجمع: قليل الألايا حافظ ليمينه * وان سبقت منه الالية برءت
288

وقال آخر:
فأليت لا أنفك أحدو قصيدة * تكون وإياها بها مثلا بعدي
وفى الحديث " ومن يتأل على الله يكذبه " وقال ابن عباس: كان ايلاء الجاهلية
السنة والسنتين وأكثر من ذلك يقصدون بذلك ايذاء المرأة عند المساءة، فوقت
لهم أربعة أشهر. وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم عندما سأله نساؤه النفقة مما
ليس عنده. كذا في الصحيحين
وفى سنن الترمذي وابن ماجة " أن زينب ردت عليه هديته فغضب صلى الله
عليه وسلم فآلى منهن "
ويلزم الايلاء كل من يلزمه الطلاق، فالحر والعبد والسكران يلزمه الايلاء
وكذلك السفيه والمولى عليه إذا كان بالغا عاقلا. وكذلك الخصي إذا لم يكن مجبوبا
والشيخ إذا كان فيه بقية رمق ونشاط
وجملة ذلك أنه يصح الايلاء من كل زوج مكلف قادر على الوطئ. وأما الصبي
والمجنون فلا يصح ايلاؤهما، لان القلم مرفوع عنهما، ولأنه قول تجب بمخالفته
كفارة أو حق فلم ينعقد منهما كالنذر
وأما العاجز عن الوطئ فإن كان لعارض مرجو زواله كالمرض والحبس صح
ايلاؤه لأنه يقدر على الوطئ فصح منه الامتناع منه، وإن كان غير مرجو الزوال
كالجب والشلل لم يصح ايلاؤه لأنها يمين على ترك مستحيل فلم تنعقد، كما لو حلف
أن لا يقلب الحجارة ذهبا، ولان الايلاء اليمين المانعة من الوطئ وهذا لا يمنعه
يمينه فإنه متعذر منه ولا تضر المرأة يمينه.
واختلف قول الشافعي في المجبوب فقال: ولا يلزم الايلاء الا زوجا صحيح
النكاح. فأما فاسد النكاح فلا يلزمه ايلاء. وقال: وإذا آلى الخصي غير المجبوب
من امرأته فهو كغير الخصي. وهكذا لو كان مجبوبا قد بقي له ما يبلغ به من المرأة
ما يبلغ الرجل حتى تغيب حشفته كان كغير الخصي في جميع أحكامه. وأما إذا
آلى الخصي المجبوب من امرأته قيل له: فئ بلسانك لا شئ عليه غيره لأنه ممن
لا يجامع مثله، وإنما الفئ الجماع، وهو ممن لا جماع عليه. قال: ولو تزوج رجل
289

امرأة ثم آلى منها ثم خصى ولم يجب كان كالفحل، ولو جب كان له الخيار
مكانها في المقام معه أو فراقه، فإن اختارت المقام معه قيل له: إذا طلبت الوقف
ففئ بلسانك لأنه ممن لا يجامع اه‍.
قال الربيع: إن اختارت فراقه فالذي أعرف للشافعي أنه يفرق بينهما، وإن
اختارت المقام معه فالذي أعرف للشافعي أن امرأة العنين إذا اختارت المقام
معه بعد الأجل أنه لا يكون لها خيار ثانية. والمجبوب عندي مثله اه‍
قال القرطبي من المالكية وهو صاحب الجامع لأحكام القرآن: والأصح
والأقرب إلى الكتاب والسنة القول بأنه لا يصح ايلاؤه، فإن الفئ، هو الذي
يسقط اليمين: الفئ بالقول لا يسقطها
والى عدم إيلائه ذهب المالكية والحنابلة إلا أبا الخطاب فإنه قال: يحتمل
أن يصح الايلاء منه قياسا على العاجز بمرض أو حبس. وقال ابن قدامة: فأما
الخصي الذي سلت بيضتاه أو رضت فيمكن منه الوطئ وينزل ماء رقيقا فيصح
ايلاؤه. وكذلك المجبوب الذي بقي من ذكره ما يمكن الجماع به
وقالت الحنفية: إن عجز عن وطئها لجبة صح ايلاؤه، وفيؤه أن يقول:
فئت إليها.
قال المصنف رحمه تعالى:
(فصل) ولا يصح الايلاء بالله عز وجل، وهل يصح بالطلاق والعتاق
والصوم والصلاة وصدقة المال، فيه قولان: قال في القديم: لا يصح لأنه يمين
بغير الله عز وجل، فلم يصح به الايلاء كاليمين بالنبي صلى الله عليه وسلم والكعبة
وقال في الجديد يصح وهو الصحيح لأنه يمين يلزمه بالحنث فيها حق، فصح به
الايلاء كاليمين بالله عز وجل، فإذا قلنا بهذا فقال: إن وطئك فعبدي حر فهو
مول. وان قال: إن وطئتك فلله على أن أعتق رقبة فهو مول، وان قال: إن
وطئتك فأنت طالق، أو امرأتي الأخرى طالق فهو مول وان قال إن وطئتك
فعلى أن أطلقك أو أطلق امرأتي الأخرى لم يكن موليا، لأنه لا يلزمه بالوطئ
شئ وان قال: إن وطئتك فأنت زانية لم يكن موليا لأنه لا يلزمه بالوطئ حق
290

لأنه لا يصير بوطئها قاذفا، لان القذف لا يتعلق بالشرط، لأنه لا يجوز أن
تصير زانية بوطئ الزوج كما لا تصير زانية بطلوع الشمس، وإذا لم يصر قاذفا لم
يلزمه بالوطئ حق فلم يجز أن يكون موليا.
وان قال إن وطئتك فلله على صوم هذا الشهر لم يكن موليا، لان المولى هو
الذي يلزمه بالوطئ بعد أربعة أشهر حق أو يلحقه ضرر، وهذا يقدر على وطئها
بعد أربعة أشهر من غير ضرر يلحقه ولا حق يلزمه، لان صوم شهر مضى
لا يلزمه، كما لو قال: إن وطئتك فعلى صوم أمس
وان قال: إن وطئتك فسالم حر عن ظهاري وهو مظاهر فهو مول. وقال
المزني لا يصير موليا لان ما وجب عليه لا يتعين بالنذر، كما لو قال: إن وطئتك
فعلى أن أصوم اليوم الذي على من قضاء رمضان في يوم الاثنين ا، وهذا خطأ
لأنه يلزمه بالوطئ حق وهو اعتاق هذا العبد
وأما الصوم فقد حكى أبو علي بن أبي هريرة فيه وجها آخر أنه يتعين بالنذر
كالعتق. والذي عليه أكثر أصحابنا وهو المنصوص في الام أنه لا يتعين. والفرق
بينهما أن الصوم الواجب لا تتفاضل فيه الأيام، والرقاب تتفاضل أثمانها.
وان قال إن وطئتك فعبدي حر عن ظهاري ان ظاهرت، لم يكن موليا في الحال
لأنه يمكنه أن يطأها في الحال ولا يلزمه شئ، لأنه يقف العتق بعد الوطئ على
شرط آخر، فهو كما لو قال: إن وطئتك ودخلت الدار فعبدي حر، وان ظاهر
منها قبل الوطئ صار موليا، لأنه لا يمكنه أن يطأها في مدة الايلاء الا بحق يلزمه
فصار كما لو قال: إن وطئتك فعبدي حر
* * *
(الشرح) من شروط الايلاء التي لا يصح الا بها أن يحلف بالله تعالى أو
بصفة من صفاته: ولا خلاف بين أهل العلم في أن الحلف بذلك ايلاء، لقوله
صلى الله عليه وسلم " من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت "
فأما ان حلف على ترك الوطء بغير هذا، مثل ان حلف بطلاق أو عتاق
291

أو صدقة المال أو الحج أو الظهار، فعلى قوله في القديم (1) لا يكون موليا
للحديث، وفى إحدى الروايتين عن أحمد كذلك،
وقال ابن عباس: كل يمين منعت جماعا فهي إيلاء. وهو قولها الشافعي في
الجديد والرواية الأخرى عن أحمد، وذلك قال الشعبي والنخعي ومالك وأهل
الحجاز والثوري وأبو حنيفة وأهل العراق وأبو ثور وأبو عبيد وابن المنذر
والقاضي أبو بكر بن العربي، لأنها يمين منعت جماعها فكانت إيلاء كالحلف بالله
ولان تعليق الطلاق والعتاق على وطئها حلف بدليل انه لو قال: متى حلفت
بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: إن وطئتك فأنت طالق، طلقت في الحال. وقال
أبو بكر: كل يمين من حرام أو غيرها يجب بها كفارة يكون الحالف بها موليا.
وأما الطلاق والعتاق فليس الحلف به إيلاء لأنه يتعلق به حق آدمي وما أوجب
كفارة تعلق بها حق الله تعالى، والرواية الأولى هي المشهورة، لان إيلاء المطلق
إنما هو القسم، ولهذا قرأ أبى وابن عباس، يقسمون " مكان يولون. وروى
عن ابن عباس في تفسير يولون قال " يحلفون بالله "
قال ابن قدامة: والتعليق بشرط ليس بقسم، ولهذا لا يؤتى فيه بحرف
القسم ولا يجاب بجوابه ولا يذكره أهل العربية في باب القسم فلا يكون إيلاء،
وإنما يسمى حلفا تجوزا لمشاركته القسم في المعنى المشهور وهو الحث على الفعل
أو المنع منه أو توكيد الخبر، والكلام عند إطلاقه لحقيقته، ويدل على هذا
قول الله تعالى " فإن فاءوا فان الله غفور رحيم " وإنما يدخل الغفران
في اليمين بالله.
قلت: فإذا قلنا بقوله في الجديد أو بالرواية الأخرى لأحمد بن حنبل أو بما
ثبت عن مالك قولا واحدا فلانه لا يكون موليا إلا أن يحلف بما يلزمه بالحنث

(1) أخطأ القرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن إذ اختلط عليه قولا
الشافعي فجعل قوله في الجديد مكان قوله في القديم والعكس فليحرر وذلك في
الجزء الثالث بالصفحة 103 مطبوعة دار الكتب.
292

فيه حق. كقوله: إن وطئتك فأن طالق أو فأنت على كظهر أمي أو فأنت على
حرام أو فلله على صوم سنة أو الحج أو صدقة فهذا يكون ايلاء، لأنه يلزمه
بوطئها حق يمنعه من وطئها خوفه من وجوبه
وان قال: إن وطئتك فأنت زانية لم يكن موليا لأنه لا يلزمه بالوطئ حق،
ولا يصير قاذفا بالوطئ، لان القذف لا يتعلق بالشرط، ولا يجوز بالشرط أن
تصير زانية بوطئها لها كما لا زانية بطلوع الشمس. وان قال: إن وطئتك
فلله على صوم هذا الشهر لم يكن موليا لأنه لو وطئها بعد مضيه لم يلزمه حق،
فان صوم هذا الشهر لا يتصور بعد مضيه فلا يلزم بالنذر كما لو قال: إن وطئتك
فلله على صوم أمس. وان قال: إن وطئتك فلله على أن أصلى عشرين
ركعة كان موليا.
وقال أبو حنيفة: لا يكون موليا لان الصلاة لا يتعلق بها مال ولا تتعلق
بمال فلا يكون الحالف بها موليا، كما لو قال: إن وطئتك فلله على أن أمشى في
السوق. قال الشافعي رضي الله عنه في الام: وإذا قال لامرأته مالي في سبيل الله
تعالى أو على مشى إلى بيت الله أو على صوم كذا أو نحر كذا أو من الإبل إن قربتك
فهو مول لان هذا اما لزمه واما لزمته به كفارة يمين
ثم قال: وان قال والكعبة أو عرفة أو والمشاعر أو وزمزم أو والحرم أو
والمواقف أو الخنس أو والفجر أو والليل أو والنهار أو وشئ مما يشبه هذا
لا أقر بك، لم يكن موليا، لان كل هذا خارج من اليمين، ولا يتبرر ولا حق
لآدمي يلزم حتى يلزمه القائل له نفسه.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: وان قال: إن قربتك فأنت زانية فليس
بمول إذا قربها، وإذا قربها فليس بقاذف يحد حتى يحدث لها قذفا صريحا يحد
به أو يلاعن، وهكذا ان قال: إن قربتك ففلانة - لامرأة له أخرى - زانية
وقال رضي الله عنه: وان قال لامرأته: ان قربتك فعبدي فلان حر عن
ظهاري - فإن كان متظهرا - فهو مول ما لم يمت العبد أو يبعه أو يخرجه ملكه
وإن كان غير متظهر فهو مول في الحكم، لان ذلك اقرار منه بأنه متظهر.
293

وإن وصل الكلام فقال: إن قربتك فعبدي فلان حر عن ظهاري ان تظهرت
لم يكن موليا (1) حتى يتظهر، فإذا تظهر والعبد في ملكه كان موليا لأنه حلف
حينئذ بعتقه. اه‍
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو كان عليه صوم يوم فقال: لله على
أن أصوم يوم الخميس عن اليوم الذي على لم يكن عليه صومه، لأنه لم ينذر فيه
بشئ يلزمه، وأن صوم يوم لازم له فأي يوم صامه أجزأ عنه، ولو صامه بعينه
أجزأ عنه من الصوم الواجب لا من النذر.
هذا هو قول الشافعي الذي أشار إليه المصنف وعليه أكثر أصحابنا خلافا لها
حكاه أبو علي بن أبي هريرة وجها آخر انه يتعين بالنذر كالعتق. وإن قال: إن
وطئتك فأنت على كظهر أمي فإنه لا يقربها حتى يكفر. وهكذا نص أحمد بن
حنبل في تحريمها قبل التكفير. وعليه أن يتربص مدة الايلاء، لأنه لا يمكنه
أن يطأها قبل مضى المدة ولو أدى كفارة الظهار
وقال أحمد إذا واطأ في الايلاء زال حكم الايلاء وثبت الظهار وقد نوزع في هذا إذ كيف
يكون مظاهر من واطأ قبل الكفارة وأجيب بأنه إذا وطئ ههنا صار مظاهرا
من زوجته وزال حكم الايلاء، ويحتمل انه أراد إذا وطئها مرة فقد ثبت الظهار
فلا يطؤها مرة أخرى حتى يكفر لكونه صار بالوطئ مظاهر، إذ لا يصح تقدم
الكفارة على الظهار لأنه سببها، ولا يجوز تقديم الحكم على سببه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يصح الايلاء إلا على ترك الوطئ في الفرج، فإن قال والله
لا وطئتك في الدبر لم يكن موليا، لان الايلاء هو اليمين التي يمنع بها نفسه من
الجماع، والوطئ في الدبر ممنوع منه غير يمين، ولان الايلاء هو اليمين التي
يقصد بها الاضرار بترك الوطئ، الذي يلحق الضرر بتركه هو الوطئ
في الفرج.

(1) وكذلك لا يكون موليا ان حلف بالنبي أو الملائكة أو الكعبة ألا يطأها
أو قال هو يهودي أو زان ان وطئها.
294

وإن قال: والله لا وطئتك فيما دون الفرج لم يكن موليا، لأنه لا ضرر في
ترك الوطئ فيما دون الفرج،
(فصل) وإن قال والله لا أنيكك في الفرج، أو والله لا أغيب ذكرى في
فرجك، أو والله لا أفتضك بذكرى، وهي بكر، فهو مول في الظاهر والباطن
لأنه صريح في الوطئ في الفرج وان قال: والله لا جامعتك أو لا وطئتك فهو
مول في الحكم لأن اطلاقه في العرف يقتضى الوطئ في الفرج. وان قال أردت
بالوطئ وطئ القدم وبالجماع الاجتماع بالجسم دين فيه لأنه يحتمل ما يدعيه.
وان قال والله لا أفتضك ولم يقل بذكرى ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه صريح كالقسم الأول (والثاني) انه صريح في الحكم كالقسم
الثاني، لأنه يحتمل الافتضاض بغير ذكره
وإن قال والله لا دخلت عليك، أو لا تجتمع رأسي ورأسك، أو لا جمعني
وإياك بيت فهو كناية، فإن نوى به الوطئ في الفرج فهو مول، وان لم تكن له
نية فليس بمول، لأنه يحتمل الجماع وغيره، فلم يحمل على الجماع من غير نية
كالكنايات في الطلاق.
وان قال والله لا باشرتك ولا مسستك أو لا أفضى إليك ففيه قولان، قال
في القديم هو مول لأنه ورد به القرآن بهذه الألفاظ والمراد بها الوطئ، فان
نوى به غير الوطئ دين لأنه يحتمل ما يدعيه. وقال في الجديد: لا يكون موليا
الا بالنية لأنه مشترك بين الوطئ وغيره فلم يحمل على الوطئ من غير نية، كقوله
لا اجتمع رأسي ورأسك.
واختلف أصحابنا في قوله لا أصيبك أو لا لمستك أو لا غشيتك أو لا باضعتك
فمنهم من قال هو كقوله لا باشرتك أو لا مسستك فيكون على قولين. ومنهم من
قال: هو كقوله: لا اجتمع رأسي ورأسك، فإن نوى به الوطئ في الفرج فهو
مول، وان لم يكن له نيه فليس بمول.
وان قال: والله لا غيبت الحشفة في الفرج فهو مول، لان تغييب ما دون
الحشفة ليس بجماع ولا يتعلق به أحكام الجماع، فصار كما لو قال والله لا وطئتك
وان قال: والله لا جامعتك الا جماع سوء، فان أراد به لا جامعتك الا في الدبر
295

أو فيما دون الفرج فهو مول، لأنه منع نفسه من الجماع في الفرج في مدة الايلاء
وإن أراد به لا جامعتك إلا جماعا ضعيفا لم يكن موليا، لان الجماع الضعيف
كالقوى في الحكم فكذلك في الايلاء
(الشرح) قوله: لا اقتضك بالقاف هو جماع البكر والقضة بالكسر جماع
الجارية، أفاده ابن بطال.
وقال في المصباح شرح غريب الجامع الكبير للرافعي: قضضت الخشبة قضا
من باب قتل ثقبتها. ومنه القضة بالكسر وهي البكارة. يقال اقتضضتها إذا
أزلت قضتها، ويكون الاقتضاض قبل البلوغ وبعده. وأما ابتكرها واختصرها
وابتسرها بمعنى الاقتضاض، فالثلاثة مختصة بما قبل البلوغ، وكما هو معروف
من اللغة من حيث تقارب المعنى حين تتقارب مخارج الحروف وتتجاوز في نطقها
رأينا أن الافتضاض بالفاء كالاقتضاض بالقاف من فصضت الحتم فضا من باب
قتل كسرته، وفضضت البكارة أزلتها على التشبيه بالختم. قال الفرزدق:
فبتن بجانبي مصرعات * وبت أفض أغلاق الختام
مأخوذ فضضت اللؤلوة إذا خرقتها، وفض الله فاه نثر أسنانه، وفضضت
الشئ فضا فرقته فانقض، وفى التنزيل " لا نفضوا من حولك "
وقوله " لا باضعتك " قال ابن الصباغ: قال أبو حنيفة: هو مشتق من البضع
وهو الفرح فيكون صريحا، ويحتمل أن يكون من النقاء البضعة من البدن
بالبضعة منه، والبضعة القطعة من اللحم. ومنه الحديث: فاطمة بضعة منى،
وقيل البضع هو الاسم من باضع إذا جامع
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يلزمه الايلاء حتى يصرح
بأحد أسماء الجماع التي هي صريحة. وذلك: والله لا أطؤك، أو والله لا أغيب
ذكرى في فرجك، أو لا أدخله في فرجك، أو لا أجامعك. أو يقول إن كانت
عذراء: والله لا أقتضك (بالقاف) أو لأفتضك (بالفاء) أو ما في هذا المعنى.
فإن قال هذا فهو مول في الحكم، وإن قال لم أرد به الجماع نفسه كان مدينا بينه
وبين الله تعالى ولم يدين في الحكم.
296

قال الشافعي رضي الله عنه: وان قال والله لا أباشرك أو والله لا أباضعك
أو والله لا ألامسك أو لا أرشفك أو ما أشبه هذا، فإن أراد الجماع نفسه فهو
مول، وان لم يرده فهو مدين في الحكم والقول فيه قوله، ومتى قلت: القول قوله
فطلبت يمينه أحلفته لها فيه اه‍
قلت: مقتضى هذا أنه إذا قال: والله لا وطئتك في الدبر لم يكن موليا لأنه
لم يترك الوطئ الواجب عليه، ولا تتضرر المرأة بتركه، وإنما هو وطئ محرم،
وقد أكد منع نفسه منه بيمينه. وان قال: والله لا وطئتك دون الفرج لم يكن
موليا لأنه لم يحلف على الوطئ الذي يطالب به في الفيئة ولا ضرر على المرأة في
تركه. وان قال والله لا جامعتك الا جماع سوء، فقد قال الشافعي رضي الله عنه
ولو قال والله لا أجامعك إلا جماع سوء، فإن قال عنيت لا أجامعك الا في دبرك
فهو مول والجماع نفسه في الفرج لا في الدبر. ولو قال عنيت لا أجامعك الا بأن
لا أغيب فيك الحشفة فهو مول، لان الجماع الذي له الحكم إنما يكون بتغييب
الحشفة. وان قال عنيت لا أجامعك الا جماعا قليلا أو ضعيفا أو متقطعا أو ما
أشبه هذا فليس بمول اه‍
إذا ثبت هذا فإنه إذا قال: والله لا جامعتك الا جماع سوء سئل عما أراد،
فان قال أردت الجماع في الدبر فهو مول، لأنه حلف على ترك الوطئ في الفرج،
وكذلك إذا قال أردت أن لا أطأها الا دون الفرج. وان قال أردت جماعا ضعيفا
لا يزيد على النقاء الختانين لم يكن موليا، لأنه يمكنه الوطئ الواجب عليه في
الفيئة بغير حنث.
وان قال: أردت وطئا لا يبلغ التقاء الختانين فهو مول، لأنه يمكنه الوطئ
الواجب عليه في الفيئة بغير حنث، وان لم تكن له نية فليس بمول، لأنه محتمل
فلا يتعين ما يكون به موليا وان قال والله لا جامعتك جماع سوء فقد قال الشافعي
رضي الله عنه: وان قال والله لا أجامعك في دبرك فهو محسن غير مول لان الجماع
في الدبر لا يجوز، وكذلك ان قال والله لا أجامعك في كذا من جسدك غير
297

الفرج لا يكون موليا إلا بالحلف على الفرج، أو الحلف مبهما فيكون ظاهره
الجماع على الفرج اه‍
وجملة ذلك أنه إذا قال: والله لا جامعتك جماع سوء لم يكن موليا بحال لأنه
لم يحلف على ترك الوطئ وإنما حلف على ترك صفته المكروهة،
إذا ثبت هذا فإن الألفاظ التي يكون بها موليا تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول ما هو صريح في الحكم والباطن جميعا، وهو ألفاظ ثلاث وهي: والله
لا أنيك، ولا أدخل أو لا أغيب أو لا أولج ذكرى في فرجك، ولا اقتضضتك
للبكر خاصة، فهذه صريحة، ولا يدين فيها لأنها لا تحتمل غير الايلاء.
أما إذا قال للثيب: والله لا أقتضك بالقاف ولم يقل بذكرى ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه صريح كالقسم الأول هذا، والثاني أنه صريح في الحكم كالقسم
الثاني، وسيأتي.
القسم الثاني: صريح في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، وهو عشرة
ألفاظ: لا وطئتك، ولا جامعتك، ولا أصبتك، ولا باشرتك، ولا مسستك
ولا قربتك، ولا أتيتك، ولا باضعتك، ولا باعلتك، ولا اغتسلت منك،
فهذه صريحة في الحكم لأنها تستعمل في العرف في والوطئ، وقد ورد القرآن
ببعضها فقال تعالى " ولا تقربوهن حتى يطهرن، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث
أمركم الله " وقال " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " وقال " من قبل
أن تمسوهن "
وأما الجماع والوطئ فهما أشهر الألفاظ في الاستعمال، فلو قال أردت بالوطئ
الوطئ بالقدم، وبالجماع اجتماع الأجسام، وبالإصابة الإصابة باليد، دين فيما
بينه وبين الله تعالى ويقبل في الحكم، لأنه خلاف الظاهر والعرف، وقد
أختلف قول الشافعي فيما عدا الوطئ والجماع من هذه الألفاظ، يقال في الجديد
ليس بصريح في الحكم لأنه حقيقة في غير الجماع وقال في قوله: لا باضعتك
ليس بصريح لأنه يحتمل أن يكون من التقاء البضعتين، البضعة من البدن بالبضعة
منه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فاطمة بضعة منى "
وقال في القديم: هو مول لأنها ألفاظ وردت في القرآن مرادا بها الجماع.
298

قال أصحاب أحمد: انه مستعمل في الوطئ عرفا، وقد ورد به القرآن والسنة
فكان صريحا كلفظ الوطئ والجماع. وكونه حقيقة في غير الجماع يبطل بلفظ
الوطئ والجماع، وكذلك قوله باضعتك فإنه مشتق من البضع في غير الوطئ فهو
أولى أن يكون صريحا من سائر الألفاظ لأنها تستعمل في غيره، وبهذا
قال أبو حنيفة.
القسم الثالث: ما لا يكون إيلاء الا بالنية وهو ما عدا هذه الألفاظ مما يحتمل
الجماع كقوله: والله لا يجمع رأسي ورأسك شئ، لا ساقف رأسي رأسك،
لأسوءنك، لأغيظنك، لطولن غيبني عنك، لا مس جلد جلدك، لا قربت
فراشك، لا أويت معك، لا نمت عندك، فهذه ان أراد بها الجماع واعترف بذلك
كان مؤليا وإلا فلا، لأن هذه الألفاظ ليست ظاهرة في الجماع كظهور التي قبلها
ولم يرد النص باستعمالها فيه، إلا أن هذه الألفاظ منقسمة إلى ما يفتقر فيه إلى
نية الجماع والمدة معا. وهي قوله لأسوأنك أو لأغيظنك أو لتطولن غيبتي عنك
فلا يكون موليا حتى ينوى ترك الجماع في مدة تزيد على أربعة أشهر، لان غيظها
يكون بترك الجماع فيما دون ذلك، وفى سائر هذه الألفاظ يكون موليا
بنية الجماع فقط.
وإن قال: والله ليطولن تركي لجماعك أو لوطئك أو لأصابتك فهذا صريح
في ترك الجماع وتعتبر نية المدة دون نية الوطئ على ما سيأتي.
وأن قال: والله لا أدخلت جميع ذكرى في فرجك لم يكن موليا، لان الوطئ
الذي بحصل به الفئ يحصل بدون إيلاج جميع الذكر. وإن قال والله لا أولجت
حشفتي في فرجك كان موليا، لان الفيئة لا تحصل بدون ذلك.
قال الشافعي رضي الله عنه: أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريح عن عطاء
قال: الايلاء أن يحلف بالله على الجماع نفسه، وذلك أن يحلف لا يمسها فأما
أن يقول: لا أمسك ولا يحلف، أو يقول قولا غليظا ثم يهجرها
فليس ذلك بإيلاء.
299

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يصح الايلاء إلا في مدة تزيد على أربعة أشهر حرا كان
الزوج أو عبدا، حرة كانت الزوجة أو أمة، فإن آلى على ما دون أربعة أشهر لم
يكن موليا لقوله عز وجل: للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فدل
على أنه لا يصير بما دونه موليا، ولان الضرر لا يتحقق بترك الوطئ فيما دون
أربعة أشهر، والدليل عليه ما روى أن عمر رضي الله عنه كان يطوف ليلة في
المدينة فسمع امرأة تقول:
ألا طال هذا الليل وأزور جانبه * وليس إلى جنبي حليل ألاعبه
فوالله لولا الله لا شئ غيره * لزعزع من هذا السرير جوانبه
مخافة ربى والحياء يكفنى * وأكرم بعلى أن تغال مراكبه
فسأل عمر رضي الله عنه النساء كم تصبر المرأة عن الزوج؟ فقلن شهرين وفى
الثالث يقل الصبر وفى الرابع يفقد الصبر، فكتب عمر إلى أمراء الأجناد أن
لا تحبسوا الرجل عن امرأته أكثر من أربعة أشهر. وإن آلى على أربعة أشهر
لم يكن موليا، لان المطالبة بالفيئة أو الطلاق بعد أربعة أشهر، فإذا آلى على
أربعة أشهر لم يبق بعدها إيلاء فلا تصح المطالبة من غير إيلاء
(فصل) وإن قال: والله لا وطئتك فهو مول، لأنه يقتضى التأبيد.
وإن قال والله لا وطئتك مدة، أو والله ليطولن عهدك بجماعي، فإن أراد مدة
تزيد على أربعة أشهر فهو مول، وإن لم يكن له نية لم يكن موليا، لأنه يقع على
القليل والكثير فلا يجعل موليا من غير نية.
وان قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر فإذا مضت فوالله لا وطئتك سنة:
فهما ايلاءان في زمانين لا يدخل أحدهما في الآخر فيكون موليا في كل واحد منهما
لا يتعلق أحدهما بالآخر في حكم من أحكام الايلاء، وإذا تقضى حكم أحدهما بقي
حكم الاخر لأنه أفردت كل واحد منهما في زمان فانفرد كل واحدة منهما عن الاخر
في الحكم وان قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر، ثم قال والله لا وطئتك سنة
دخلت المدة الأولى في الثانية، كما إذا قال: له على مائه ثم قال: له على ألف دخلت
300

المائة في الألف فيكون ايلاء واحدا إلى سنة بيمين، فيضرب لهما مدة واحدة،
ويوقف لهما وقفا واحدا، فإن وطئ بعد الخمسة الأشهر حنث في يمين واحدة
فيجب عليه كفارة واحدة، وان وطئ في الخمسة الأشهر حنث في يمينين فيجب
عليه في أحد القولين كفارة، وفى الثاني كفارتان
وان قال والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا مضت فوالله لا وطئتك
أربعة أشهر. ففيه وجهان (أحدهما) وهو الصحيح انه ليس بمول، لان كل
واحد من الزمانين أقل من مدة الايلاء (والثاني) انه مول لأنه منع نفسه من
وطئها ثمانية أشهر فصار كما لو جمعها في يمين واحدة
(الشرح) قوله تعالى " تربص أربعة أشهر " التربص التأني والتأخر مقلوب
التصبر. قال الشاعر:
تربص بها ريب المنون لعلها * تطلق يوما أو يموت حليلها
قال القرطبي: وأما فائدة توقيت الأربعة الأشهر فيما ذكر ابن عباس عن
أهل الجاهلية (وقد تقدم قوله في أول هذه الفصول) فمنع الله من ذلك وجعل
للزوج مدة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر، لقوله تعالى " واهجروهن في
المضاجع " وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهرا تأديبا لهن، وقد
قيل الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها،
وقد روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع
امرأة تنشد - ثم ساق القصة التي أوردها المصنف.
ولا أرى لهذه القصة سندا قويا، ولان هذا من الأمور التي تعم بها البلوى
وتوقيت مدة الغزو بأربعة أشهر قد يقتضى عودة جيش برمته من جبهة العدو،
وقد يكون الجيش متقدما أو في حالة التحام واشتباك، الامر الذي لا يمكن معه
نفاذ هذا العمل واجراؤه، ثم إنه لو أجرى عمر هذا لصار من سنن الجهاد وآدابه
لان اقرار الصحابة له اجماع متبع، ولم يثبت عن أحد من الصحابة أو التابعين
من العمال والولاة والخلفاء من صنع هذا، الا أن هذا الأثر قد اشتهر عند الفقهاء
فقد أورده ابن قدامه من الحنابلة، وأورده القرطبي من المالكية في تفسيره،
301

كما أورده المصنف هنا، إلا أنه لم يورده أصحاب الصحاح ولا السنن، ويبدو أن
مصدره أصحاب المغازي وليسوا بثقات
أما الأحكام فإن هذا شرط من شروط الايلاء وهو أن يحلف على ترك
الوطئ أكثر من أربعة أشهر، وهذا قول ابن عباس وطاوس وسعيد بن جبير
ومالك والأوزاعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور وأبى عبيد
وقال عطاء والثوري وأصحاب الرأي: إذا حلف على أربعة أشهر فما زاد كان
موليا. وحكى ذلك القاضي أبو الحسين رواية عن أحمد، لأنه ممتنع من الوطئ
باليمين أربعة أشهر فكان مؤليا، كما لو حلف على ما زاد. وقال النخعي وقتادة
وحماد وابن أبي ليلى وإسحاق: من حلف على ترك الوطئ في قليل من الأوقات
أو كثير وتركها أربعة أشهر فهو مول، لقوله تعالى " للذين يؤلون من نسائهم
تربص أربعة أشهر " وهذا مؤل، فإن الايلاء الحلف وهذا حالف
دليلنا أنه لم يمنع نفسه الوطئ باليمين أكثر من أربعة أشهر فلم يكن مؤليا، كما
لو حلف على ترك قبلتها والآية حجة عليهم لأنه جعل له التربص أربعة أشهر فإذا حلف على
أربعة أشهر أو ما دونها فلا معنى للتربص لان مدة الايلاء تنقضي قبل ذلك ومع انقضائه
تقدير التربص بأربعة أشهر يقتضى كونه في مدة تناولها الايلاء، ولان المطالبة
إنما تكون بعد أربعة أشهر، فإذا انقضت المدة بأربعة فما دون لم تصح المطالبة
من غير إيلاء، وأبو حنيفة ومن وافقه بنوا ذلك على قولهم في الفيئة إنها تكون
في مدة الأربعة أشهر، وظاهر الآية خلافه، لقوله تعالى " تربص أربعة أشهر
فإن فاءوا " فعقب الفئ عقيب التربص بفاء التعقيب فيدل على تأخرها عنه.
إذا ثبت هذا فقد حكى عن ابن عباس أن المولى من يحلف على ترك الوطئ
أبدا أو مطلقا، لأنه إذا حلف على ما دون ذلك أمكنه التخلص بغير حنث فلم
يكن مؤليا، كما لو حلف لا وطئها في مدينة بعينها.
ولنا أنه لا يمكنه التخلص بعد التربص من يمينه بغير حنث فأشبه المطلقة،
بخلاف اليمين على مدينه معينة فإنه يمكن التخلص بغير حنث
قال الشافعي رضي الله عنه: وكذلك لو قال لها: والله لا أقربك خمسة أشهر
302

ثم قال في يمين أخرى: لا أقربك ستة أشهر وقف وقفا واحدا وحنث إذا بجميع
الايمان. وإن قال والله لا أقربك أربعة أشهر أو أقل ثم قال: والله لا أقربك
خمسة أشهر كان موليا بيمينه لا يقربها خمسة أشهر وغير مول باليمين التي
دون أربعة أشهر، وأربعة أشهر
وقال الشافعي: ولو كانت يمينه على أكثر من أربعة أشهر وأربعة أشهر
وتركت وقفه عند الأولى والثانية، كان لها وقفه ما بقي عليه من الايلاء شئ.
لأنه ممنوع من الجماع بعد أربعة أشهر بيمين. قال: ولو قال لها: لا أقربك
خمسة أشهر ثم قال: غلامي حر إن قربتك إذا مضت الخمسة الأشهر، فتركته
حتى مضت خمسة أشهر أو أصابها فيها، خرج من حكم الايلاء، فيها، فإن طلبت
الوقف لم يوقف لها حتى تمضي الخمسة الأشهر من الايلاء الذي أوقع آخرا ثم
أربعة أشهر بعده ثم يوقف. اه‍
(مسأله) فإن قال: والله لا وطئتك فهو ايلاء، لأنه قول يقتضى التأبيد.
وان قال: والله لا وطئتك مدة أو ليطولن تركي لجماعك - ونوى مدة تزيد على
أكثر من أربعة أشهر فهو ايلاء، لان اللفظ يحتمله فانصرف إليه بنيته، وان
نوى مدة قصيرة لم يكن ايلاء لذلك، وان لم ينو شيئا لم يكن إيلاء لأنه يقع على
القليل والكثير فلا يتعين للكثير.
فإن قال: والله لا وطئتك أربعة أشهر فإذا مضت فوالله لا وطئتك أربعة
أشهر، أو فإذا مضت فوالله لا وطئتك شهرين أو لا وطئتك شهرين فإذا مضت
فوالله لا وطئتك أربعة أشهر فقيه وجهان (أحدهما) ليس بمول لأنه حالف
بكل يمين على مدة ناقصة عن مدة الايلاء فلم يكن موليا، كما لو لم ينو إلا مدتهما
ولأنه يمكنه الوطئ بالنسبة إلى كل يمين عقيب مدتها من غير حنث فيها فأشبه
ما لو اقتصر عليها قال المصنف: وهذا الوجه هو الصحيح
(والثاني) يصير موليا لأنه منع نفسه من الوطئ بيمينه أكثر من أربعة
أشهر متوالية فكان موليا، كما لو منعها بيمين واحدة، ولأنه لا يمكنه الوطئ
بعد المدة الا بحنث في يمينه فأشبه ما لو حلف على ذلك بيمين واحدة، ولم يكن
303

هذا إيلاء أفضى إلى أن يمنع من الوطئ طول دهره باليمنى، فلا يكون موليا،
وهذا الحكم في كل مدتين متوليتين يزيد في مجموعها على أربعة كثلاثة أشهر وثلاثة
أو ثلاثة وشهرين لما ذكرنا من التعليلين، وبكل ما قلنا قال أحمد وأصحابنا.
(فرع) فإن قال: والله لا وطئتك عاما ثم قال: والله لا وطئك عاما. فهو
إيلاء واحد حلف عليه يمينين، إلا أن ينوى عاما آخر سواه وإن قال: والله
لا وطئتك عام ثم قال: والله لا وطئتك نصف عام، أو قال: والله لا وطئتك
نصف عام ثم قال: والله لا وطئتك عام دخلت المدة القصيرة في الطويلة لأنها
بعضها، ولم يجعل إحداهما بعد الأخرى، فأشبه ما لو أقر بدينار ثم أقر بنصف
دينار، أو أقر بنصف دينار ثم أقر بدينار فيكون إيلاء واحدا لهما وقت واحد
وكفارة واحدة.
وإن نوى بإحدى المدتين غير الأخرى في هذه أو في التي قبلها، أو قال والله
لا وطئتك عام ثم قال: والله لا وطئتك عاما آخر أو نصف عام آخر، فهما
إيلاءان في زمانين لا يدخل حكم أحدهما في الاخر، أحدهما منجز والاخر
متأخر، فإذا مضى حكم أحدهما بقي حكم الاخر لأنه أفرد كل واحد منهما بزمن
غير زمن صاحبه، فيكون له حكم ينفرد به
(فرع) فإن قال في المحرم: لا وطئتك هذا العام، ثم قال: والله لا وطئتك
عاما من رجب إلى تمام اثنى عشر شهر أو قال في المحرم: والله لا وطئتك عاما،
ثم قال في رجب: والله لا وطئتك عاما فهما ايلاءان في مدتين بعض إحداهما
داخل في الأخرى، فإن فاء فاء في رجب أو فيما بعده من بقية العام الأول حنث في
اليمينين وتجزئه كفارة واحدة وينقطع حكم الايلاءين وان فاء قبل رجب أو
بعد العام الأول حنث في إحدى اليمينين دون الأخرى، وان فاء في الموضعين
حنث في اليمينين وعليه كفارتان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال إن وطئتك فوالله لا وطئتك، ففيه قولان: قال في
القديم: يكون موليا في الحال، لان المولى هو الذي يمتنع من الوطئ خوف
304

الضرر، وهذا يمتنع من الوطئ خوفا من أن يطأها فيصير موليا، فعلى هذا إذا
وطئها صار موليا وذلك ضرر.
وقال في الجديد: لا يكون موليا في الحال، لأنه يمكنه أن يطأها من غير
ضرر يلحقه في الحال فلم يكن موليا، فعلى هذا إذا وطئها صار موليا لأنه يبقى
يمين يمنع الوطئ على التأبيد. وإن قال والله لا وطئتك في السنة إلا مرة صار
موليا في قوله القديم، ولا يكون موليا في الحال في قوله الجديد، فإن وطئها
نظرت - فإن لم يبق من السنة أكثر من أربعة أشهر - لم يكن موليا، وإن بقي
أكثر من أربعة أشهر صار موليا،
(الشرح) فإن قال: والله لا وطئتك، لم يكن موليا في الحال على قوله في
الجديد لأنه لا يلزمه بالوطئ حق، لكن إن وطئها صار مولى لأنها تبقى يمينا
تمنع الوطئ على التأبيد، وبهذا قال أحمد وأصحابه، لان يمينه معلقة بشرط ففيما
قبله ليس بحالف فلا يكون موليا، ولأنه يمكنه الوطئ من غير حنث فلم يكن موليا
كما لو لم يقل شيئا وكونه يصير موليا لا يلزمه به شئ، وإنما يلزمه بالحنث
ولو قال: والله لا وطئتك في السنة إلا مرة لم يصر موليا في الحال، لأنه
يمكنه الوطئ متى شاء بغير حنث فلم يكن ممنوعا من الوطئ بحكم يمينه، فإذا وطئها
وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر صار موليا. وهذا قول أبي ثور وأصحاب
الرأي، وظاهر مذهبه في القديم يكون موليا في الابتداء، وكذلك في التي قبلها
يكون موليا من الأول، لأنه لا يمكنه الوطئ الا بأن يصير موليا فيلحقه بالوطئ
ضرر. وكذلك على هذا القول إن قال: إن وطئتك فوالله لا دخلت الدار كان
موليا من الأول، فان وطئها انحل الايلاء، لأنه لم يبق ممتنعا من وطئها بيمين
ولا غيرها، وإنما بقي ممتنعا باليمين من دخول الدار، وقد سبق أن أجبنا على
ذلك بقوله في الجديد.
وإن قال: والله لا وطئتك سنة إلا يوما فهو مثله، وبهذا قال أبو حنيفة،
لان اليوم منكسر فلم يختص يوما دون يوم. ولذلك لو قال: صمت رمضان إلا
يوما، لم يختص اليوم الآخر.
305

ولو قال لا أكلمك في السنة الا يوما لم يختص يوما منها، وعلى القول الآخر
عندنا - وهو وجه عند الحنابلة - أنه يصير موليا في الحال، وهو قول زفر،
لان اليوم المستثنى يكون من آخر المدة كالتأجيل ومدة الخيار، بخلاف قوله:
لا وطئتك في السنة إلا مرة، فان المرة لا تختص وقتا بعينه، ومن نصر القول
الأول فرق بين هذا وبين التأجيل ومدة الخيار من حيث إن التأجيل ومدة الخيار
تجب الموالاة فيهما، ولا يجوز أن يتخللهما يوم لا أجل فيه ولا خيار، لأنه لو
جازت له المطالبة في أثناء الأجل لزم قضاء الدين فيسقط التأجل بالكلية، ولو
لزم العقد في أثناء مدة الخيار لم يعد إلى الجواز فتعين جعل اليوم المستثنى من
آخر المدة بخلاف ما نحن فيه، فان جواز الوطئ في يوم من أول السنة أو أوسطها
لا يمنع ثبوت حكم اليمين فيما بقي من المدة، فصار كقوله: لا وطئتك في
السنة إلا مرة، وقد حدد الشافعي في قوله الجديد المدة الباقية إذا وطئها ولم
يبق من السنة أكثر من أربعة أشهر لم يكن موليا والا صار موليا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان علق الايلاء على شرط يستحيل وجوده - بأن يقول:
والله لا وطئتك حتى تصعدي إلى السماء أو تصافحي الثريا - فهو مول، لان
معناه لا وطئتك أبدأ. وان على ما لا يتيقن أنه لا يوجد إلا بعد أربعة
أشهر، مثل أن يقول: والله لا وطئتك إلى يوم القيامة، أو إلى أن أخرج من
بغداد إلى الصين وأعود، فهو مول، لان القيامة لا تقوم الا في مدة تزيد على
أربعة أشهر، لان لها شرائط تتقدمها، ونتيقن أنه لا يقدر أن يخرج من بغداد
إلى الصين ويعود الا في مدة تزيد على أربعة أشهر
وان علق على شرط الغالب على الظن أنه لا يوجد الا في الزيادة على أربعة
أشهر، مثل أن يقول: والله لا وطئتك حتى يخرج الدجال، أو حتى يجئ زيد
من خراسان. ومن عادة زيد ان لا يجئ الا مع الحاج، وقد بقي على وقت عادته
زيادة عن أربعة أشهر، فهو مول لأن الظاهر أنه لا يوجد شئ من ذلك الا في
مدة تزيد على أربعة أشهر.
306

وإن علق على أمر يتيقن وجوده أربعة أشهر، مثل أن يقول: والله
لا وطئتك حتى يذبل هذا البقل أو يجف هذا الثوب، فليس بمول، لأنا نتيقن
أن ذلك يوجد قبل أربعة أشهر، وان علقه على الامر الغالب على الظن انه
يوجد قبل أربعة أشهر، مثل أن يقول والله لا وطئتك حتى يجئ زيد من
القرية، وعادته أنه يجئ في كل جمعة لصلاة الجمعة، أو لحمل الحطب لم يكن
موليا لأن الظاهر أنه يوجد قبل مدة الايلاء وان جاز ان يتأخر لعارض. وان
قال والله لا وطئتك حتى أموت أو تموتي فهو مول، لأن الظاهر بقاؤهما، وان
قال والله لا وطئتك حتى يموت فلان فهو مول، ومن أصحابنا من قال ليس بمول
والصحيح هو الأول لأن الظاهر بقاؤه، ولأنه لو قال: إن وطئك فعبدي
حر كان موليا على قوله الجديد، وان جاز أن يموت العبد قبل أربعة أشهر.
(فصل) وان قال والله لا وطئتك في هذا البيت لم يكن موليا لأنه يمكنه
ان يطأها من غير حنث، ولأنه لا ضرر عليها في ترك الوطئ في بيت بعينه،
وان قال والله لا وطئتك الا برضاك لم يكن موليا لما ذكرناه من التعليلين، وان
قال والله لا وطئتك ان شئت فقالت في الحال شئت، كان موليا، وان أخرت
الجواب لم يكن موليا على ما ذكرناه في الطلاق.
(الشرح) إذا علق الايلاء بشرط يستحيل وقوعه - وضرب المصنف
أمثلة لما يستحيل من ذلك - كقوله حتى تصعدي السماء، والصعود إلى السماء
اليوم ليس مستحيلا بوسائل الطيران الذي بلغت سرعة ارتفاعه إلى أعلى مئات
الألوف من الاقدام، وسرعة مسيرته أسبق من الصوت، فإنك ترى الطائرة
كالبرق الخاطف ثم تسمع صوتها بعد أن تختفي عن نظرك، ومن ثم لا يكون
الايلاء بالصعود إلى السماء داخلا في ضروب المستحيلات
واما مجموعة كواكب الثريا فمصافحتها إذا كان على حقيقة اللفظ وظاهره فهو
من المستحيل، لأنها كواكب سماوية وأجرام في الأفلاك لا تصافح بالتقاء
الأكف ولا بتعانق التحية والتسليم
وقوله " أو إلى أن اخرج من بغداد إلى الصين وأعود " فان ذلك يخرج أيضا
307

من نطاق المستحيل لما قدمنا في شأن الصعود إلى السماء قبله، وقد جاء في القرآن
الكريم صور من المستحيلات، كقوله تعالى في الكفارة، لا تفتح لهم أبواب
السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط " ومعناه لن يدخلوها أبدا
ومثل المستحيل قوله: والله لا وطئتك حتى يشيب الغراب، لان معنى ذلك ترك
وطئها، فإن ما يراد إحالة وجوده يعلق على المستحيلات. قال الشاعر:
إذا شاب الغراب أتيت أهلي * وصار القار كاللبن الحليب
وإن قال والله لا وطئت حتى تحبلي، فهو غير مول، إلا أن تكون صغيرة
يغلب على الظن أنها لا تحمل في أربعة أشهر أو آيسة. فأما إن كانت من ذوات
الأقراء فلا يكون موليا لأنه يمكن حملها.
وقال القاضي من الحنابلة: وإذا كانت الصغيرة بنت تسع سنين لم يكن موليا
لان حملها ممكن، وقال أصحاب أحمد كافة خلا القاضي وأبو الخطاب كما أفاده ابن
قدامة: ان قال والله لا وطئتك حتى تحبلي فهو مول لان حبلها بغير وطئ مستحيل
عادة وهذا ما اختاره ابن قدامة واستدل عليه بقوله تعالى عن مريم " أنى
يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا " وقولهم " يا أخت هارون ما كان
أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا " ولولا استحالة ذلك لما نسبوها إلى البغاء
لوجود الولد. وقول عمر رضي الله عنه " الرجم حق على من زنا وقد أحصن،
إذا قامت به البينة أو كان الحبل أو الاعتراف، الا أنه يرد على كلامهم هذا
امكان حدوث الحمل باستدخال المنى، ومن ثم لا يكون موليا.
وان علقه على غير مستحيل فذلك على خمسة أضرب
(أحدها) ما يعلم أنه لا يوجد قبل أربعة أشهر كقيام الساعة فإن لها علامات
تسبقها فلا يوجد ذلك في أربعة أشهر.
(الثاني) ما الغالب أنه لا يوجد في أربعة أشهر، كخروج الدجال والدابة
وغيرهما من أشراط الساعة. أو يقول حتى أموت أو تموتي أو يموت ولدك،
أو حتى يقدم زيد من مكة، ويكون زيد من عادته أن يقضى العمرة في شهر رجب
ثم ينتظر حتى يشهد وقفة عرفات ثم يتمم الحج نافلة أو فريضة بالنيابة عن غيره
308

فلا يقدم في أربعة أشهر فيكون موليا، وكذلك لو علق الطلاق على مرضها أو
مرض إنسان بعينه
(الثالث) أن يعلقه على أمر يحتمل وجوده في أربعة أشهر. ويحتمل أن
لا يوجد احتمالا متساويا، كقدوم زيد من سفر قريب أو من سفر لا يعلم قدره
فهذا ليس بإيلاء، لأنه لا يعلم حلفه على أكثر من أربعة أشهر ولا يظن ذلك
(الرابع) أن يعلق على ما يعلم أنه يوجد في أقل من أربعة أشهر أو يظن
ذلك كذبول بقل (الفجل) وجفاف ثوب ومجئ المطر في أوانه وقدوم الحاج
في زمان قدومه، وابتداء الدراسة في المدراس، وابتداء دورة المجلس، وموعد
الميزانية، إذا كان قد بقي على حدوث ذلك أقل من أربعة أشهر فلا يكون موليا
ولأنه لم يقصد الاضرار بترك وطئها أكثر من أربعة أشهر، فأشبه ما لو قال:
والله لا وطئتك شهرا
(الخامس) أن يعلقه على فعل منها هي قادرة عليه أو فعل من غيرها، وذلك
ينقسم إلى: (1) أن يعلقه على فعل مباح لا مشقة فيه. كقوله: والله لا أطؤك
حتى تدخلي الدار، أو تلبسي هذا الثوب، أو حتى أتنقل بصوم يوم، أو حتى
أكسوك، فهذا ليس بإيلاء لأنه ممكن الوجود بغير ضرر عليها فيه، فأشبه الذي
قبله (ب) أن يعلقه على فعل محرم، كقوله: والله لا أطؤك حتى تشربي الخمر
أو تزني أو تسقطي ولدك أو تتركي صلاة الفرض، أو حتى أقتل فلانا أو أزنى
بفلانة أو نحو ذلك، فهذا كله ايلاء لأنه علقه بممتنع شرعا فأشبه الممتنع حسا
(ج) أن يعلقه على ما على فاعله فيه مضرة، مثل أن يقول: والله لا أطؤك حتى
تسقطي صداقك عنى أو دينك. أو حتى تكفلي ولدى أو تهبيني دارك: أو حتى
يبيعني أبوك داره أو نحو ذلك فهذا إيلاء، لان أخذه لمالها أو مال غيرها عن
غير رضى صاحبه محرم فجرى شرب الخمر، فلو حلف عليها أن لا يطأها
حتى تخرج من بيتها (بالمينى جيب أو المكر وجيب) وهي ثياب قصيرة، الأول
فوق الركبة بخمسة عشر سنتيمترا، والثاني فوق آخر الفخذ، قريبا من أليتها
أو قال لها. والله لا أطؤك حتى تخرجي على الشاطئ (بالبكينى) وهو قطعتان
صغيرتان في قدر منديل اليد، إحداهما تكون كالشريط على الفرج، والأخرى
309

على مقدمة الثديين، كل ذلك يعد موليا، لأنه يحرم عليها الظهور بكل ما ذكر
لأنها ثياب أقبح في الرجعية من ثياب الجاهلية، وانتكاسة بالمجتمع الانساني
إلى مستوى بهيمي، ليس له في العفة أو الشرف حظ أو نصيب
فإن قال والله لا أطؤك حتى أعطيك مالا أو أصنع معك صنيعا حسنا أو أقدم
لك جميلا، لم يكن إيلاء، لان فعله لذلك ليس بمحرم ولا ممتنع فجرى
قوله: حتى أصوم يوما.
(مسألة) وإن قال: والله لا وطئتك في هذا البيت أو في هذه البلدة أو نحو
ذلك من الأمكنة المعينة لم يكن موليا. وهذا قول الشافعي وأحمد والثوري
والأوزاعي والنعمان وصاحبيه وقال ابن أبي ليلى وإسحاق: هو مول، لأنه
حلف على ترك وطئها.
وإن قال: والله لا وطئتك إلا برضاك لم يكن موليا لأنه يمكنه وطؤها بغير
حنث، ولأنه محسن في كونه ألزم نفسه اجتناب سخطها. وعلى قياس ذلك كل
حال يمكنه الوطئ فيها بغير حنث، كقوله: والله لا وطئتك مكرهة أو محزونة
ونحو ذلك، فإنه لا يكون موليا.
وإن قال: والله لا وطئتك مريضة لم يكن موليا لذلك إلا أن يكون بها
مرض لا يرجى برؤه أو لا يزول في أربعة أشهر، فينبغي أن يكون موليا لأنه
حالف على ترك وطئها أربعة أشهر، فإن قال لك لها وهي صحيحة فمرضت مرضا
يمكن برؤه قبل أربعة أشهر لم يصر موليا. وإن لم يرج برؤه فيها صار موليا،
وكذلك إن كان الغالب ان لا يزول في أربعة أشهر صار موليا، لان ذلك بمنزله
ما لا يرجى زواله:
وإن قال: والله لا وطئتك حائضا ولا نفساء ولا محرمة ولا صائمة ونحو هذا
لم يكن موليا، لان ذلك ممنوع شرعا، فقد أكد منع نفسه منه بيمينه وإن قال
والله لا وطئتك طاهرا أو لا وطئتك وطئا مباحا صار موليا، لأنه حالف على
ترك الوطئ الذي يطلب به في الفيئة فكان موليا. كما لو قال: والله لا وطئتك
في قبلك، وان قال والله لا وطئتك ليلا، أو والله لا وطئتك نهارا لم يكن موليا
لان الوطئ يمكن بدون الحنث.
310

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال لأربع نسوة والله لا وطئتكن لم يصر موليا حتى يطأ
ثلاثا منهن، لأنه لا يمكنه أن يطأ ثلاثا منهن من غير حنث فلم يكن موليا، وان
وطئ ثلاثا منهن صار موليا من الرابعة، لأنه لا يمكنه وطؤها الا بحنث،
ويكون ابتداء المدة من الوقت الذي تعين فيه الايلاء، وان طلق ثلاثا منهن كان
الايلاء موقوفا في الرابعة لا يتعين فيها، لأنه يقدر على وطئها من غير حنث
ولا يسقط منها لأنه قد يطأ الثلاث المطلقات بنكاح أو سفاح، فيتعين الايلاء
في الرابعة، لأنه يحنث بوطئها والوطئ المحظور كالمباح في الحنث، ولهذا قال
في الام: ولو قال والله لا وطئتك وفلانة الأجنبية لم يكن موليا من امرأته حتى
يطأ الأجنبية، وان ماتت من الأربع واحدة سقط الايلاء في الباقيات لأنه قد
فات الحنث في الباقيات لان الوطئ في الميتة قد فات، ولان الايلاء على الوطئ
واطلاق الوطئ لا يدخل فيه وطئ الميتة، ويدخل فيه الوطئ المحرم
وان قال لأربع نسوة: والله لا وطئت واحدة منكن وهو يريد كلهن صار
موليا في الحال، لأنه يحنث بوطئ كل واحدة منهن، ويكون ابتداء المدة من
حين اليمين، فأيتهن طالبت وقف لها، فإن طلقها وجاءت الثانية وقف لها، فإن
طلقها وجاءت الثالثة وقف لها، فإن طلقها وجاءت الرابعة وقف لها، فإن
طلبت الأولى فوطئها حنث وسقط الايلاء فيمن بقي، لأنه لا يحنث بوطئهن
بعد حنثه بوطئ الأولى
وان طلق الأولى ووطئ الثانية سقط الايلاء في الثالثة والرابعة، وان طلق
الأولى والثانية ووطئ الثانية سقط الايلاء في الرابعة وحدها
وان قال والله لا وطئت واحدة منكن وأراد واحدة بعينها تعين الايلاء فيها
دون من سواها، ويرجع في التعيين إلى بيانه لأنه لا يعرف الا من جهته، فإن
عين واحدة وصدقته الباقيات تعين فيهما، وان كذبه الباقيات حلف لهن، فإن
نكل حلفن وثبت فيهن حكم الايلاء بنكوله وأيمانهن
311

وإن قال والله لا وطئت واحدة منكن، وهو يريد واحدة لا بعينها، فله أن
يعين فيمن شاء ويؤخذ بالتعيين إذا طلبن ذلك. فإذا عين في واحدة منهن لم يكن
للباقيات مطالبة، وفى ابتداء المدة وجهان
(أحدهما) من وقت اليمين والآخر من وقت التعيين كما قلنا في العدة في
الطلاق إذا أوقعه في إحداهن لا بعينها ثم عينه في واحدة منهن. وإن قال والله
لا أصبت كل واحدة منكن فهو مول من كل واحدة منهن وابتداء لندة؟؟ من حين
اليمين، فإن وطئ واحدة منهن حنث ولم يسقط الايلاء في الباقيات لأنه يحنث
بوطئ كل واحدة منهن.
(فصل) وإن كانت له امرأتان فقال لإحداهما: والله لا أصبنك ثم قال
للأخرى أشركتك معها، لم يكن موليا من الثانية. لان اليمين بالله عز وجل
لا يصح إلا بلفظ صريح من اسم أو صفة، والتشريك بينهما كناية فلم يصح بها
اليمن بالله عز وجل. وإن قال لإحداهما: إن أصبتك فأنت طالق، ثم قال
للأخرى أشركتك معها ونوى صار موليا لان الطلاق يصح بالكناية
(الشرح) الشافعي رضي الله عنه: وإذا قال الرجل لأربع نسوة له:
والله لا أقربكن فهو مول منهن كلهن، يوقف لكل واحدة منهن، فإذا أصاب
واحدة أو اثنتين أو ثلاثا خرج من حكم الايلاء فيهن، وعليه للباقية أن يوقف
حتى يفئ أو يطلق ولا حنث عليه حتى يصيب الأربع اللاتي حلف عليهن كلهن
فإذا فعل فعليه كفارة يمين ويطأ منهن ثلاثا ولا يحنث ولا إيلاء عليه فيهن،
ويكون حينئذ في الرابعة مولى لأنه يحنث بوطئها، ولو ماتت إحداهن سقط
عنه الايلاء لأنه يجامع البواقي ولا يحنث.
ولو طلق واحدة منهم أو اثنتين أو ثلاثا كان موليا بحاله في البواقي لأنه لو
جامعهن والتي طلق حنث.
ثم قال: ولو قال لأربع نسوة له: والله لا أقرب واحدة منكن وهو يريدهن
كلهن فأصاب واحدة حنث، وسقط عنه حكم الايلاء في البواقي، ولو لم يقرب
واحدة منهن كان موليا منهن يوقف لهن، فأي واحدة أصلب منهن خرج من
312

حكم الايلاء في البواقي لأنه قد حنث بإصابة واحدة، فإذا حنث مرة لم يعد
الحنث عليه ولو قال والله لا أقرب واحدة منكن - يعنى واحدة دون غيرها
فهو مول من التي حلف لا يقربها وغير مول من غيرها اه‍
وجملة ذلك أنه إذا قال لأربع نسوة: والله لا أقربكن انبنى ذلك على أصل
وهو الحنث بفعل بعض المحلوف عليه أو لا؟ فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فإن
قلنا بقول من قال يحنث فهو مول منهن كلهن في الحال لأنه لا يمكنه وطئ واحدة
بغير حنث فصار مانعا لنفسه من وطئ كل واحدة منهن من غير حنث فصار مانعا
لنفسه من وطئ كل واحدة منهن في الحال، فإن وطئ واحدة منهن حنث
وانحلت يمينه وزال الايلاء من البواقي. وإن طلق بعضهن أو مات لم ينحل
الايلاء في البواقي.
وإن قلنا بقول من قال لا يحنث بفعل البعض لم يكن موليا منهن في الحال
لأنه يمكنه وطئ كل واحدة منهن من غير حنث، فلم يمنع نفسه بيمينه من وطئها
فلم يكن موليا منها، فإن وطئ ثلاثا صار موليا من الرابعة لأنه لا يمكنه وطؤها
من غير حنث في يمينه. وإن مات بعضهن أو طلقها انحلت يمينه وزال الايلاء
لأنه لا يحنث بوطئهن، وإنما يحنث بوطئ الأربع، فإن راجع المطلقة أو
تزوجها بعد بينونتها عاد حكم يمينه. وهذان القولان وجهان عند أصحاب أحمد
ابن حنبل رضي الله عنهم، واختار ابن قدامة منهم أنها يمين حنث فيها فوجب
ان تنحل كسائر الايمان، ولأنه إذا وطئ واحدة حنث ولزمته الكفارة فلا
يلزمه بوطئ الباقيات شئ فلم يبق ممتنعا من وطئهن بحكم يمينه فانحل الايلاء
كما لو كفرها. أما أصحابنا فقد ذهب أكثرهم إلى أنه لا يكون موليا منهن حتى يطأ
ثلاثا فيصير موليا من الرابعة.
وحكى المزني عن الشافعي أنه يكون موليا منهن كلهن يوقف لكل واحدة
منهن، فإذا أصاب بعضهن خرجت من حكم الايلاء، ويوقف لمن بقي حتى يفئ
أو يطلق، ولا يحنث حيت يطأ الأربع.
وقال أصحاب الرأي: يكون موليا منهن كلهن، فان تركهن أربعة أشهر بن
313

منه جميعا بالايلاء، وإن وطئ بعضهم سقط الايلاء في حقها ولا يحنث
إلا بوطئهن جميعا.
(فرع) فإن قال: والله لا وطئت واحدة منكن ونوى واحدة بعينها تعلقت
يمينه بها وحدها وصار موليا منها دون غيرها، وإن نوى واحدة مبهمة منهن لم
يصير موليا منهن في الحال، فإذا وطئ ثلاثا كان موليا من الرابعة ويحتمل أن
تخرج المولى منها بالقرعة كالطلاق إذا أوقعه في مبهمة من نسائه، وإن أطلق
صار موليا منهم كلهن في الحال، لأنه لا يمكنه وطئ واحدة منهم إلا بالحنث،
فإن طلق واحدة منهم أو ماتت كان موليا من البواقي، وإن وطئ واحدة منهن
حنث وانحلت يمينه وسقط حكم الايلاء في الباقيات لأنها يمين واحدة، فإذا
حنث فيها مرة لم يحنث مرة ثانية ولا يبقى حكم اليمين بعد حنثه فيها، بخلاف
ما إذا طلق واحدة أو ماتت فإنه لم يحنث ثم يبقى حكم يمينه فيمن بقي منهن،
وهذا مذهب أحمد.
وذكر بعض أصحاب أحمد أنه إذا أطلق كان الايلاء في واحدة غير معينة،
وهو اختيار بعض أصحابنا، لان لفظه تناول واحدة منكرة فلا يقتضى العموم.
ولنا أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم، كقوله تعالى " ولم يتخذ صاحبة "
وقوله " ولم يكن له كفوا أحد " وقوله " ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور "
ولو قال إنسان: والله لا شربت ماء من إداوة حنث بالشرب من أي إداوة كانت
فيجب حمل اللفظ عند الاطلاق على مقتضاه في العموم
وإن قال نويت واحدة معينة أو واحدة مبهمة قبل منه، لان اللفظ يحتمله
احتمالا غير بعيد في رأى الحنابلة، وعندنا أنه إذا أنه إذا أبهم المحلوف عليها فله أن
يعينها بقوله، كما ورد ذلك في الطلاق
(فرع) فان قال والله لا وطئت كل واحدة منكن صار موليا منهن كلهن في الحال
ولا يقبل قوله نويت واحدة منهن معينة ولا مبهمة، لان لفظ " كل " أزالت
احتمال الخصوص، ومتى حنث في البعض انحل الايلاء في الجميع كالتي قبلها.
وقال بعض أصحابنا: لا تنحل في الباقيات وقال أصحاب أحمد: انها يمين واحدة
حنث فيها فسقط حكمها كما لو حلف على واحدة، ولان اليمين الواحدة إذا حنث
314

فيها مرة لم يمكن الحنث فيها مرة أخرى فلم يبق ممتنعا من وطئ الباقيات بحكم اليمين
فلم يبق الايلاء كسائر الايمان التي حنث فيها
قلت: وفى هذه المواضع التي قلنا بكونه موليا منهن كلهن يوقف لكل واحدة
منهن عند مطالبتها. فإذا وقف للأولى وطلقها وقف للثانية، فان طلقها وقف
للثالثة فان طلقها وقف للرابعة، وكذلك من مات منهن لم يمنع من وقفه
للأخرى، لان يمينه لم تنحل، وإيلاؤه باق لعدم حنثه فيهن. وان وطئ
إحداهن حين وقف لها أو قبله انحلت يمينه وسقط حكم الايلاء في الباقيات
على ما قلنا.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو آلى رجل من امرأته ثم طلقها ثم
جامعها بعد الطلاق حنث. كذلك لو آلى من أجنبية ثم جامعها حنث باليمين
مع المأثم بالزنا، وان نكحها بعد خرج من حكم الايلاء اه‍
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: لو آلى من امرأته ثم طلق إحدى
نسائه في الأربعة الأشهر، ولم يدر أيتهن طلق، فمضت أربعة أشهر فطلبت أن
يوقف فقال: هي التي طلقت حلف للبواقي، وكانت التي طلق، ومتى راجعها
فمضت أربعة أشهر وقفته أبدا حتى يمضى طلاق الملك كما وصفت. ولو مضت
الأربعة الأشهر ثم طلبت أن يوقف فقال: لا أدرى أهي التي طلقت أم غيرها
قيل له: ان قلت هي التي طلقت فهي طالق، وان قلت ليست هي حلفت لها ان
ادعت الطلاق ثم فئت أو طلقت
وان قلت لا أدرى فأنت أدخلت منع الجماع على نفسك، فان طلقتها فهي
طالق، وان لم تطلقها وحلفت أنها ليست التي طلقت أو صدقتك هي، ففئ أو
طلق، وان أبيت ذلك كله طلق عليك بالايلاء لأنها زوجة مولى منها، عليك
أن تفئ إليها أو تطلقها
فان قلت لا أدرى لعلها حرمت عليك، فلم تحرم بذلك تحريما يبينها عليك
وأنت مانع الفيئة والطلاق فتطلق عليك، فان قامت بينة أنها التي طلقت عليك
قبل طلاق الايلاء سقط طلاق الايلاء، وان لم تقم بينه لزمك طلاق الايلاء
وطلاق الاقرار معا ثم هكذا البواقي
315

(فرع) فإن قال كلما وطئت واحدة منكن فضرائرها طوالق، فإن قلنا ليس
هذا بإيلاء فلا كلام، وإن قلنا هو إيلاء فهو مول منهن جميعا، لأنه لا يمكنه
وطئ واحدة منهن إلا بطلاق ضرائرها فيوقف لهن، فان فاء إلى واحدة طلق
ضرائرها، فإن كان الطلاق بائنا انحل الايلاء لأنه لم يبق ممنوعا من وطئها بحكم
يمينه، وإن كان رجعيا فراجعهن بقي حكم الايلاء في حقهن لأنه لا يمكنه وطئ
واحدة الا بطلاق ضرائرها، وكذلك ان راجع بعضهن لذلك إلا أن المدة
تستأنف من حين الرجعة.
ولو كان الطلاق بائنا فعاد فتزوجهن أو تزوج بعضهن عاد حكم الايلاء
واستؤنفت المدة من حين النكاح، وسواء تزوجهن في العدة أو بعدها أو بعد
زوج آخر وإصابة.
وان قال: نويت واحدة بعينها قبل منه وتعلقت يمينه بها، فإذا وطئها طلق
ضرائرها، وان وطئ غيرها لم يطلق منهن أحدا ويكون موليا من المعينة دون
غيرها لأنها التي يلزمه بوطئها الطلاق دون غيرها
(فرع) وان قال لإحدى زوجتيه: والله لا وطئتك، ثم قال للأخرى:
أشركتك معها لم يصر موليا من الثانية، لان اليمين بالله لا يصح الا بلفظ صريح
من اسم أو صفة، والتشريك بينهما كناية فلم تصح به اليمين.
وإن قال: إن وطئتك فأنت طالق ثم قال للأخرى أشركتك معها ونوى فقد
صار طلاق الثانية معلقا على وطئها أيضا، لان الطلاق يصح بالكناية. فان قلنا
إن ذلك ايلاء في الأولى صار ايلاء في الثانية لأنها صارت في معناها والا فليس
بإيلاء في واحدة منهما، وكذلك لو آلى رجل من زوجته فقال آخر لامرأته:
أنت مثل فلانه لم يكن موليا. وقال أصحاب الرأي: هو مول. وقال أحمد: انه
ليس؟ صريح في القسم فلا يكون موليا به كما لو لم يشبهها بها
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا صح الايلاء لم يطالب بشئ قبل أربعة أشهر. لقوله عز
وجل " للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر " وابتداء المدة من حين
316

اليمين لأنها ثبتت بالنص والاجماع فلم تفقر إلى الحاكم كمدة العدة، فإن آلى
منها وهناك عذب يمنع من الوطئ نظرت، فإن كان لمعنى في الزوجة بأن كانت
صغيرة أو مريضة أو ناشزة أو مجنونة أو محرمة أو صائمة عن فرض أو معتكفة
عن فرض لم تحسب المدة. وإن طرأ شئ من هذه الاعذار في أثناء المدة انقطعت
المدة لان المدة إنما نظرت لامتناع الزوج من الوطئ، وليس في هذه الأحوال
من جهته امتناع، فان زالت هذه الاعذار استؤنفت المدة لان من شأن هذه المدة
أن تكون متوالية، فإذا انقطعت استؤنفت كصوم الشهرين المتتابعين، فإن كان
ت حائضا حسبت المدة، فان طرأ الحيض في أثنائها لم تنقطع لان الحيض عذر
معتاد لا ينفك منه.
فلو قلنا إنه يمنع الاحتساب اتصل الضرر وسقط حكم الايلاء، ولهذا
لا يقطع التتابع في صوم الشهرين المتتابعين.
وإن كانت نفساء ففيه وجهان (أحدهما) أنه يحتسب المدة لأنه كالحيض في
الأحكام فكذلك في الايلاء (والثاني) لا يحتسب. وإذا طرأ قطع لأنه عذر
نادر فهو كسائر الاعذار. وإن كان العذر لمعنى في الزوج بأن كان مريضا أو
مجنونا أو غائبا أو محبوبا أو محرما أو صائما عن فرض، أو معتكفا عن فرض،
حسبت المدة، فان طرأ شئ من هذه الاعذار في أثناء المدة لم تنقطع، لان
الامتناع من جهته، والزوجية باقية فحسبت المدة عليه، وإن آلى في حال الردة
أو في عدة الرجعية لم تحتسب المدة، وان طرأت الردة أو الطلاق الرجعي في
أثناء المدة انقطعت، لان النكاح قد تشعث بالطلاق والردة، فلم يكن للامتناع
حكم، وان أسلم بعد الردة أو راجع بعد الطلاق وبقيت مدة التربص استؤنفت
المدة لما ذكرناه.
(الشرح) قوله: لم يطالب بشئ قبل أربعة أشهر الخ. هذا هو قول جمهور
الفقهاء أن الزوج لا يطالب بالفئ قبل أربعة أشهر. وقال ابن مسعود وزيد بن
ثابت وابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة: انه يطالب بالفئ فيها لقراءة ابن
مسعود (فان فاءوا فيهن) قالوا: وإذا جاز الفئ جاز الطلب، إذ هو تابع،
317

ويجاب بمنع الملازمة وبقوله تعالى (للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر)
فان الله تعالى شرع التربص هذه المدة فلا يجوز مطالبة الزوج قبلها، واختياره
للفئ قبلها ابطال لحقه من جهة نفسه، فلا يبطل بإبطال غيره
قال القاضي ابن العربي: وتحقيق الامر أن تقدير الآية عندنا: للذين يؤلون
من نسائهم تربص أربعة أشهر، فان فاءوا بعد انقضائها فان الله غفور رحيم،
وان عزموا الطلاق فان الله سميع عليم. وتقديرها عندهم: فان فاءوا فيها فان الله
غفور رحيم، وان عزموا الطلاق بترك الفيئة فيها، وهذا احتمال متساو ولأجل
تساويه توقفت فيه.
قال الشافعي رضي الله عنه: وهكذا لو ارتدت عن الاسلام لم يكن عليه طلاق
حتى ترجع إلى الاسلام في العدة، فإذا رجعت قيل له: فئ أو طلق، وان لم ترجع
حتى تنقضي العدة بانت منه بالردة ومضى العدة. قال: وإذا كان منع الجماع من
قبلها بعد مضى الأربعة الأشهر قبل الوقف أو معه لم يكن لها على الزوج سبيل
حتى يذهب منع الجماع من قبلها ثم يوقف مكانه، لان الأربعة الأشهر قد مضت
وإذا كان منع الجماع من قبلها في الأربعة الأشهر بشئ تحدثه غير الحيض الذي
خلقه الله عز وجل فيها ثم أبيح الجماع من قبلها أجل من يوم أبيح أربعة أشهر.
كما جعل الله تبارك وتعالى له أربعة أشهر متتابعة، فإذا لم تكمل له حتى يمضى
حكمها استؤنفت له متتابعه كما جعلت له أولا.
ولو كان آلى منها ثم ارتد عن الاسلام في الأربعة الأشهر أو ارتدت أو
طلقها أو خالعها ثم راجعها أو رجع المرتد منهما إلى الاسلام في العدة استأنف في
هذه الحالات كلها أربعة أشهر من يوم حل له الفرج بالمراجعة أو النكاح أو
رجوع المرتد منهما إلى الاسلام، ولا يشبه هذا الباب الأول، لأنها في هذا
الباب صارت محرمة الشعر والنظر والحبس والجماع، وفى تلك الأحوال لم
تكن محرمة بشئ غير الجماع وحده، فأما الشعر والنظر والحبس فلم يحرم منها،
وهكذا لو ارتدا. اه‍
قلت: وجملة ذلك أنه إذا آلى منها وثم عذر يمنع الوطئ من جهة الزوج
كمرضه أو حبسه أو احرامه أو صيامه حسبت عليه المدة من حين ايلائه،
318

لان المانع من جهته، وقد وجد التمكين الذي عليها، ولذلك لو أمكنته من نفسها
- وكان ممتنعا لعذر - وجبت لها النفقة، وإن طرأ شئ من هذه الاعذار بعد
الايلاء أو جن لم تنقطع المدة للمعنى الذي ذكرناه، وإن كان المانع من جهتها
نظرنا - فإن كان حيضا - لم يمنع ضرب المدة لأنه لو منع لما أمكن تحقيق ضرب
المدة، لان الحيض لا يخلو منه شهر غالبا فيؤدى ذلك إلى إسقاط حكم الايلاء،
وإن طرأ الحيض لم يقطع المدة لما ذكرنا. والنفاس كالحيض لأنه مثله في أحكامه
وقال أصحاب أحمد فيه وجهان: أحدهما كالحيض والثاني كسائر الاعذار التي
من جهتها لأنه نادر غير معتاد فأشبه سائر الاعذار.
وأما سائر الاعذار التي من جهتها، كصغرها ومرضها وحبسها وإحرامها
وصيامها المفروضين واعتكافها المنذور، ونشوزها وغيبتها، فمتى وجد منها شئ
حال الايلاء لم تضرب له المدة حتى يزول، لان المدة تضرب لامتناعه من وطئها
والمنع ههنا من قبلها. وإن جد شئ من هذه الأسباب استؤنفت المدة ولم يبن
على ما مضى، لان قوله تعالى " تربص أربعة أشهر " يقتضى متوالية، فإذا قطعتها
وجب استئنافها كمدة الشهرين في صوم الكفارة. وان حنث وهربت من يده
انقطعت المدة، وان بقيت في يده وأمكنه وطؤها احتسب عليها بها
فإن قيل فهذه الأسباب مما لا صنع لها فيه، فلا ينبغي أن تقطع المدة كالحيض
قلنا إذا كان المنع فيها فلا فرق بين كونه بفعلها أو بغير فعلها، كما أن البائع إذا
تعذر عليه تسليم المعقود عليه لم يتوجه له المطالبة بعوضه، سواء كان لعذر أو
غير عذر. وإن آلى في الردة لم تضرب له المدة إلا من حين رجوع المرتد منهما
إلى الاسلام. وان طرأت الردة في أثناء المدة انقطعت لان النكاح قد تشعث
وحرم الوطئ، فإذا عاد إلى الاسلام استؤنفت المدة، وسواء كانت الردة منهما أو
من أحدهما. وكذلك ان أسلم أحد الزوجين الكافرين أو خالعها ثم تزوجها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا طلقها في مدة التربص انقطعت المدة ولم يسقط الايلاء، فان
راجعها وقد بقيت مدد التربص استؤنفت المدة، فان وطئها حنث في اليمين
319

وسقط الايلاء، لأنه أزال الضرر. وإن وطئها وهلا نائمة أو مجنونة حنث في
يمينه وسقط الايلاء، وإن استدخلت ذكره وهو نائم لم يحنث في يمينه لارتفاع
القلم عنه، وهل يسقط حقها؟ فيه وجهان
(أحدهما) يسقط لأنها وصلت إلى حقها (والثاني) لا يسقط لان حقها في
فعله لا في فعلها، وان وطئها وهو مجنون لم يحنث لارتفاع القلم عنه، وهل
يسقط حقها؟ فيه وجهان:
(أحدهما) يسقط وهو الظاهر من المذهب لأنها قد وصلت منه إلى حقها،
وإن لم يقصد فسقط حقها، كما لو وطئها وهو يظن أنها امرأة أخرى
(والثاني) وهو قول المازني أنه لا يسقط حقها، لأنه لا يحنث به فلم
يسقط به الايلاء.
(فصل) وان وطئها وهناك مانع من إحرام أو صوم أو حيض سقط به
حقها من الايلاء لأنها وصلت منه إلى حقها، وإن كان بمحرم.
(الشرح) جملة هذا الفصل أنه إذا وطئها بعد المدة، قبل المطالبة أو بعدها،
خرج من الايلاء، وسواء وطئها وهي عاقلة أو مجنونة أو يقظانة أو نائمة، لأنه
فعل ما حلف عليه، فان وطئها وهو مجنون لم يحنث وهذا هو قول أحمد
والشعبي. وقال أبو بكر من الحنابلة: يحنث وعليه الكفارة. ولأنه فعل ما حلف
عليه. وهذا غير صحيح، لأنه غير مكلف، والقلم عنه مرفوع. ويخرج بوطئه
عن الايلاء لأنه قد وفاها حقها، وحصل منه في حقها ما يحصل من العاقل،
وإنما تسقط الكفارة عنه لرفع القلم، وهو أحد الوجهين عند أصحابنا، وهو
الظاهر من المذهب، والآخر انه يبقى موليا، فإنه إذا وطئ بعد إفاقته؟ تجب
عليه الكفارة، لان وطأه الأول ما حنث به، وإذا بقيت يمينه بقي الايلاء، كما
لو لم يطأ. وهذا هو قول المزني.
وينبغي أن يستأنف له مدة الايلاء من حين وطأ لأنه لا ينبغي أن يطالب
بالفيئة مع وجودها منه، ولا تطلق عليه لانتفائها وهي موجودة، ولكن
تضرب له مدة لبقاء حكم يمينه، وقيل تضرب له المدة إذا عقل لأنه حينئذ يمنع
320

من الوطئ بحكم يمينه، ومن قال بالأول قال قد وفاها حقها فلم يبق الايلاء، كما لو
حنث، ولا يمتنع انتفاء الايلاء مع اليمين كما لو حلف لا يطأ أجنبية ثم تزوجها.
(فرع) إذا وطئ العاقل ناسيا ليمينه فهل يحنث؟ على روايتين، فإن قلنا
يحنث انحل إيلاؤه وذهبت يمينه. وإن قلنا لا يحنث فهل ينحل إيلاؤه؟ على
وجهين قياسا على المجنون. وكذلك يخرج فيما إذا آلى من إحدى زوجتيه ثم
وجدها على فراشه فظنها الأخرى فوطئها، لأنه جاهل بها، والجاهل كالناسي في
الحنث. وكذلك إن ظنها أجنبية فبانت زوجته
(فرع) إن استدخلت ذكره وهو نائم لم يحنث لأنه لم يفعل ما حلف عليه
ولان القلم مرفوع عنه، وهل يخرج من حكم الايلاء؟ فيه وجهان أحدهما. يخرج
لأن المرأة وصلت إلى حقها فأشبه ما لو وطئ. والثاني: لا يخرج من حكم الايلاء
لأنه ما وفاها حقها، وهو باق على الامتناع من الوطئ بحكم اليمين فكان موليا
كما لو لم يفعل له ذلك، والحكم فيما إذا وطئ وهو نائم كذلك لأنه لا يحدث به
(مسألة) قوله: وإن وطئها وهناك مانع من إحرام الخ، فجملة ذلك أنه إذا
وطئها وطئا محرما مثل أن وطئها حائضا أو نفساء أو محرمة أو صائمة صوم فرض
أو كان محرما أو صائما أو مظاهرا حنث وخرج من الايلاء، وعند أحمد وأصحابه
قولان: أحدهما هذا، والثاني وهو قول القاضي أبو بكر أن قياس المذهب أن
لا يخرج من الايلاء لأنه وطئ لا يؤمر به في الفيئة فلم يخرج به من الايلاء
كالوطئ في الدبر، ولا يصح هذا لان يمينه انحلت ولم يبق ممتنعا من الوطئ بحكم
اليمين فلم يبق الايلاء، كما لو كفر يمينه أو كما لو وطئها مريضة، وقد نص أحمد
فيمن حلف ثم كفر يمينه أنه لا يبقى موليا لعدم حكم اليمين مع أنه ما وفاها حقها
فلان يزول بزوال اليمين بحنثه أولى.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان لم يطلقها ولم يطأها حتى انقضت المدة نظرت - فإن لم
يكن عذر يمنع الوطئ - ثبت لها المطالبة بالفيئة أو الطلاق، لقوله عز وجل
321

" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاءوا فان الله غفور رحيم،
وإن عزموا الطلاق فان الله سميع عليم "
وإن كانت الزوجة أمة لم يجز للمولى المطالبة، وإن كانت مجنونة لم يكن لوليها
المطالبة، لان المطالبة بالطلاق أو الفيئة طريقها الشهوة، فلا يقوم الولي فيه
مقامها، والمستحب أن يقول له في المجنونة: اتق الله في حقها فاما أن تفي إليها أو
تطلقها. وأن ثبتت لها المطالبة فعفت عنها الزوجة جاز لها أن ترجع وتطالب،
لأنها إنما ثبت لها المطالبة لدفع الضرر بترك الوطئ، وذلك يتجدد مع الأحوال
فجاز لها الرجوع، كما لو أعسر بالنفقة فعفت عن المطالبة بالفسخ. وإن طولب
بالفيئة فقال أمهلوني ففيه قولان:
(أحدهما) يمهل ثلاثة أيام لأنه قريب. والدليل عليه قوله عز وجل
" ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب، فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة
أيام ذلك وعد غير مكذوب " ولهذا قدر به الخيار في البيع
(والثاني) يمهل قدر ما يحتاج إليه للتأهب للوطئ، فإن كان ناعسا أمهل إلى
أن ينام. وإن كان جائعا أمهل إلى أن يأكل، وإن كان شبعانا أمهل إلى يخف.
وإن كان صائما أمهل إلى أن يفطر، لأنه حق حمل عليه وهو قادر على أدائه فلم
يمهل أكثر من قدر الحاجة كالدين الحال
(الشرح) إذا انقضت المدة فلها المطالبة بالفيئة ان لم يكن عذر، فان طالبته
فطلب الامهال فإن لم يكن له عذر لم يمهل، لأنه حق توجه عليه لا عذر له
فيه فلم يمهل به كالدين الحال، ولان الله تعالى جعل المدة أربعة. أشهر فلا تجوز
الزيادة عليها بغير عذر، وإنما يؤخر قدر ما يتمكن من الجماع في حكم العادة، فإنه
لا يلزمه الوطئ في مجلسه ولى ذلك بإمهال
فان قال: أمهلوني حتى أكل فاني جائع، أو ينهضم الطعام فاني كظيظ، أو
أصلى الفرض، أو أفطر من صوم ففيه وجهان:
(أحدهما) أمهل ثلاثة أيام، لقوله تعالى " تمتعوا في داركم ثلاثة أيام "
322

ولهذا قدر به الخيار في البيع (والثاني) أمهل بقدر ذلك، فإنه يعتبر أن يصير إلى
حال يجامع في مثلها في العادة، وكذلك يمهل حتى يرجع إلى بيته، لان العادة
فعل ذلك في بيته. وإن كان لها عذر يمتنع من وطئها لم يكن لها المطالبة بالفيئة
لان الوطئ ممتنع من جهتها، فلم يكن لها مطالبته بما يمنعه منه، ولان المطالبة مع
الاستحقاق وهي لا تستحق الوطئ في هذه الأحوال وليس لها المطالبة بالطلاق
لأنه إنما يستحق عند امتناعه من الفيئة الواجبة، ولم يجب عليه شئ، ولكن
تتأخر المطالبة إلى حال زوال العذر، إن لم يكن العذر قاطعا المدة كالحيض، أو
كان العذر حدث بعد انقضاء المدة
فان عفت عن المطالبة بعد وجوبها فإنه لا يسقط حقها في المطالبة متى شاءت
وعند أحمد وأصحابه وجهان: أحدهما يسقط حقها وليس له المطالبة بعده.
وقال القاضي: هذا قياس المذهب لأنها رضيت بإسقاط حقها من الفسخ لعدم
الوطئ فسقط حقها كامرأة العنين إذا رضيت بعنته، والثاني لا يسقط حقها ولها
المطالبة متى شاءت.
دليلنا أو المطالبة إنما ثبتت لرفع الضرر بترك ما يتجدد من الأحوال فكان
لها الرجوع، كما لو أعسر في النفقة فعفت عن المطالبة بالفسخ ثم طالبت، وفارق
الفسخ للعنة، فإنه فسخ لعيبه، فمتى رضيت بالعيب سقط حقها، كما لو عفا
المشترى عن عيب المبيع، وان سكتت عن المطالبة ثم طالبت بعد فلها ذلك، لان
حقها يثبت على التراخي فلم يسقط بتأخير المطالبة كاستحقاق النفقة
(فرع) الأمة كالحرة في استحقاق المطالبة، سواء عفا السيد عن ذلك أو لم
يعف، لان هذا حقها من الاستمتاع، فان تركت المطالبة لم يكن لمولاها الطلب
لأنه لا حق له.
فإن كانت المرأة صغيرة أو مجنونة فليس لهما المطالبة لان قولهما غير معتبر
وليس لوليهما المطالبة لهما، لان هذا طريقه الشهوة فلا يقوم غيرهما مقامهما فيه
فإن كانتا ممن لا يمكن وطؤهما لم يحتسب عليه بالمدة. لان المنع من جهتهما،
وإن كان وطؤهما ممكنا - فإن أفاقت المجنونة أو بلغت الصغيرة قبل انقضاء المدة
تممت المدة ثم لها المطالبة، وإن كان ذلك بعد انقضاء المدة فإنها المطالبة يومئذ،
323

لان الحق لها ثابت. وإنما تأخر لعدم امكان المطالبة. وقال الشافعي: لا تضرب
المدة في لصغيرة حق تبلغ وقال أبو حنيفة تضرب المدة سوا أمكن الوطئ أو لم يمكن
فإن لم يمكن فاء بلسانه، والا بانت بانقضاء المدة، وكذلك الحكم عنده في الناشز
والرتقاء والقرناء والتي غابت في المدة، لان هذا ايلاء صحيح فوجب ان تتعقبه
المدة كالتي يمكنه جماعها.
دليلنا أن حقها من الوطئ يسقط بتعذر جماعها فوجب أن تسقط المدة
المضروبة له كما يسقط أجل الدين بسقوطه. وأما التي أمكنه جماعها فتضرب له
المدة في حقها لأنه ايلاء صحيح ممن يمكنه جماعها فتضرب له المدة كالبالغة،
ومتى قصد الاضرار بها بترك الوطئ أثم، ويستحب أن يقال له: اتق الله.
فإما أن تفئ واما أن تطلق، فإن الله تعالى قال " وعاشروهن بالمعروف " وقال
تعالى " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " وليس الاضرار من
المعاشرة بالمعروف.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وطئها في الفرج فقد أوفاها حقها ويسقط الايلاء، وأدناه
أن تغيب الحشفة في الفرج لان أحكام الوطئ تتعلق به، وان وطئها في الموضع
المكروه أو وطئها فيما دون الفرج لم يعتد به، لان الضرر لا يزول الا بالوطئ
في الفرج، فإن وطئها في الفرج، فإن كانت اليمين بالله تعالى فهل تلزمه
الكفارة؟ فيه قولان:
قال في القديم. لا تلزمه لقوله عز وجل " فان فاءوا فان الله غفور رحيم "
فعلق المغفرة بالفيئة، فدل على أنه قد استغنى عن الكفارة.
وقال في الجديد تلزمه الكفارة. وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم:
" من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير، وليكفر عن
يمينه " ولأنه حلف بالله تعالى وحنث فلزمه الكفارة، كما لو حلف على ترك
صلاة فصلاها.
واختلف أصحابنا في موضع القولين، فمنهم من قال: القولان فيمن جامع
324

وقت المطالبة، فأما إذا وطئ في مدة التربص فإنه يجب عليه الكفارة قولا واحدا
لان بعد المطالبة الفيئة واجبة، فلا يجب بها كفارة كالحلق عند التحلل، ومنهم
من قال القولان في الحالين، ويخالف كفارة الحج فإنها تجب بالمحظور، والحلق
المحظور هو الحلق في حال الاحرام وأما الحلق عند التحلل فهو نسك، وليس
كذلك كفارة اليمين فإنها تجب بالحنث، والحنث الواجب كالحنث بالمحظور في
إيجاب الكفارة، وإن كان الايلاء على عنق وقع بنفس الوطئ لأنه عتق معلق
على شرط فوقع بوجوده وإن كان على نذر عتق أو نذر صوم أو صلاة أو التصدق
بمال فهو بالخيار بين أن بقي بما نذر وبين أن يكفر كفارة يمين، لأنه نذر نذرا
على وجه اللجاج والغضب، فيخير فيه بين الكفارة وبين الوفاء بما نذر، وإن
كان الايلاء على الطلاق الثلاث طلقت ثلاثا لأنه طلاق معلق على شرط فوقع
بوجوده. وهل يمنع من الوطئ أم لا؟ فيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبى علي بن خيران: انه يمنع من وطئها لأنها تطلق قبل
أن ينزع فمنع منه، كما يمنع في شهر رمضان أن يجامع وهو يخشى أن يطلع الفجر
قبل أن ينزع.
(والثاني) وهو المذهب أنه لا يمنع لان الايلاء ج صادف النكاح، والذي
يصادف غير النكاح هو النزع، وذلك ترك الوطئ، وما تعلق التحريم بفعله
لا يتعلق بتركه. ولهذا لو قال لرجل: ادخل داري ولا تقم فيها جاز أن يدخل
ثم يخرج، وإن كان الخروج في حال الحظر.
وأما مسألة الصوم فقد ذكر بعض أصحابنا أنها على وجهين:
(أحدهما) أنه لا يمنع فلا فرق بينها وبين مسألتنا، فعلى هذا لا يزيد على
تغييب الحشفة في الفرج ثم ينزع، فان زاد على ذلك أو استدام لم يجب عليه الحد
لأنه وطئ اجتمع فيه التحليل والتحريم فلم يجب به الحد، وهل يجب به المهر؟ فيه
وجهان (أحدهما) يجب كما تجب الكفارة على الصائم إذا أولج قبل الفجر
واستدام بعد طلوعه
(والثاني) لا يجب لان ابتداء الوطئ يتعلق به المهر الواجب بالنكاح، لان
المهر في مقابلة كل وطئ يوحد في النكاح، وقد تكون مفوضة فيجب عليه المهر
325

بتغييب الحشفة، فلو أوجبنا بالاستدامة مهرا أدى إلى إيجاب مهرين؟ إ؟ لاج
واحد، وليس كذلك الكفارة، فإنها لا تتعلق بابتداء الجماع فلا يؤدى ايجابها
في الاستدامة إلى إيجاب كفارتين بإيلاج واحد، وإن نزع ثم أولج نظرت، فإن كان
ا جاهلين بالتحريم، بأن اعتقدا أن الطلاق لا يقع إلا باستكمال الوطئ، لم
يجب عليهما الحد للشبهة، فعلى هذا يجب المهر، وإن كانا عالمين بالتحريم
ففي الحد وجهان:
(أحدهما) أنه يجب لأنه إيلاج مستأنف محرم من غير شبهة فوجب به الحد
كالايلاج في الأجنبية، فعلى هذا لا يجب المهر، لأنها زانية
(والثاني) لا يجب الحد، لان الايلاجات وطئ واحد، فإذا لم يجب في أوله
لم يجب في إتمامه، فعلى هذا يجب لها المهر. وان علم الزوج بالتحريم وجهات
الزوجة، أو علمت ولم تقدر على دفعة، لم يجب عليها الحد، ويجب لها المهر.
وفى وجوب الحد على الزوج وجهان، وإن كان الزوج جاهلا بالتحريم وهي عالمة
ففي وجوب الحد عليها وجهان (أحدهما) يجب، فعلى هذا لا يجب لها المهر،
(والثاني) لا يجب فعلى هذا يجب لها المهر.
(الشرح) قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن
الفئ الجماع لمن لا عذر له، فإن كان له عذر مرض أو سجن أو شبه ذلك فان
ارتجاعه صحيح وهي امرأته.
أما الحديث فقد رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة عن عدي بن حاتم
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا
منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وسيأتي في الايمان جميع طرفه
وألفاظه ومذاهب العلماء فيه. أما المطلوب هنا فهو أن الفيئة الجماع ليس في هذا
اختلاف. كذلك قال ابن عباس وعلى وابن مسعود. وبه قال مسروق وعطاء
والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد
وأبو عبيدة وأصحاب الرأي ومالك في المدونة والمبسوط وعبد الملك بن الماجشون
كل ذلك إذا لم يكن عذر. وأصل الفئ الرجوع، ولذلك يسمى الظل بعد الزوال
326

فيئا لأنه رجع من المغرب إلى المشرق، فسمى الجماع من المولى فيئة، لأنه رجع
إلى فعل ما تركه، وأدنى الوطئ الذي تحصل به الفيئة أن تغيب الحشفة في الفرج
فان أحكام الوطئ تتعلق به، ولو وطئ دون الفرج أو في الدبر لم يكن فيئة لأنه
ليس بمحلوف على تركه ولا يزول الضرر بفعله.
(فرع) إذا فاء لزمته الكفارة في قول أكثر أهل العلم أبو حنيفة ومالك
والشافعي في الجديد وأحمد وأصحابهم حيث أوجبوا الكفارة على المولى إذا فاء
بجماع امرأته. وقال الشافعي في القديم والحسن البصري: لا كفارة عليه لقوله
تعالى " فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم "
قال النخعي: كانوا يقولون إذا فاء لا كفارة عليه. وقال إسحاق: قال بعض
أهل التأويل في قوله تعالى " فإن فاءوا " يعنى لليمين التي حنثوا فيها، وهو مذهب
في الايمان لبعض التابعين فيمن حلف على بر أو تقوى أو باب من الخير ألا
يفعله، فإنه يفعله ولا كفارة عليه، والحجة له " فان فاءوا فان الله غفور رحيم "
ولم يذكر كفارة. وأيضا فان هذا يتركب على أن لغو اليمين ما حلف على معصية
وترك وطئ الزوجة معصية.
وقال قتادة: هذا خالف الناس - يعنى الحسن البصري -
وقد يستدل لهذا القول بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا
" لا نذر ولا يمين فيما لا تملك ولا في معصية ولا في قطيعة رحم، ومن حلف
على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فان تركها كفارتها " رواه النسائي
وأبو داود، وقد ذكر البيهقي في شعب الايمان أنه لم يثبت. وقال أبو داود:
الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم " وليكفر عن يمينه الا ما لا يعبأ به "
وقد اختلف أصحابنا في موضع القولين: فمنهم من قال وجه الخلاف فيمن جامع
وقت المطالبة. أما في وقت التربص فان الكفارة واجبة عليه قولا واحدا،
لان الفيئة واجبة بعد المطالبة فلا يجب بها كفارة كالحلق عند التحلل من
الاحرام، ومنهم من جعل القولين في الحالين بخلاف كفارة الحج، فإنها تجب
بالمحظور - يعنى الحلق في حال الاحرام - لان الحلق عند التحلل نسك. وليس
327

كذلك كفارة اليمين فإنها تجب بالحنث، والحنث الواجب كالحنث المحظور
في إيجاب الكفارة.
دليلنا في ظاهر المذهب قوله تعالى " ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان
فكفارته اطعام عشرة مساكين - الآية إلى قوله - ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم "
وقال تعالى " قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم " والحديث اتفق عليه عن عبد الرحمن
ابن سمرة " إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فائت الذي هو خير
وكفر عن يمينك " ولأنه حالف حانث في يمينه فلزمته الكفارة كما لو حلف
على ترك فريضة ثم فعلها، والمغفرة لا تنافى الكفارة: فان الله تعالى قد غفر
لرسوله صلى الله عليه وسلم ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقد كأن يقول " انى والله
لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها الا أتيت الذي هو خير وتحللتها " متفق
عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
(فرع) إذا كان الايلاء بتعليق عتق أو طلاق وقع بنفس الوطئ لأنه معلق
بصفة وقد وجدت، وإن كان على نذر أو عتق أو صوم أو صلاة أو صدفة أو
حج أو غير ذلك من الطاعات أو المباحات فهو مخير بين الوفاء وبين كفارة يمين
لأنه نذر لجاج وغضب فهذا حكمه.
إذا ثبت هذا فقد اختلف العلماء في الايلاء في حال الغضب، فقال ابن عباس
لا ايلاء الا بغضب. وروى ذلك عن علي في المشهور عنه. وقاله الليث والشعبي
والحسن وعطاء، كلهم يقولون: الايلاء لا يكون الا على وجه مغاضبة ومشارة
وحرجة ومناكدة ألا يجامعها في فرجها اضرارا بها: وسواء كان في ضمن ذلك
اصلاح ولد أم لا، فإن لم يكن عن غضب فليس بإيلاء.
وقال ابن سيرين: سواء كانت اليمين في غضب أو غير غضب هو ايلاء،
وقاله ابن مسعود والثوري ومالك وأهل العراق والشافعي وأحمد وأصحابهما،
الا أن مالكا قال: ما لم يرد اصلاح ولد
قال ابن المنذر: وهذا أصح، لأنهم لما أجمعوا أن الظهار والطلاق وسائر
الايمان سواء في حال الغضب والرضا كان الايلاء كذلك. ويدل على كلام
328

ابن المنذر عموم القرآن، وتخصيص حالة الغضب يحتاج إلى دليل ولا يؤخذ من
وجه يلزم. أفاده القرطبي
وإن علق الطلاق الثلاث بوطئها لم يؤمر بالفيئة وأمر بالطلاق في قول
بعض أصحابنا، لان الوطئ غير ممكن لكونها تبين منه بإيلاج الحشفة، فيصير
مستمتعا بأجنبية. وأكثر أصحابنا قالوا تجوز الفيئة، لان النزع ترك للوطئ،
وترك الوطئ ليس بوطئ.
وقال بعض أصحاب أحمد: إن كلام أحمد يقتضى روايتين (كهذين الوجهين)
وقال ابن قدامة " واللائق بمذهب أحمد تحريمه لوجوه: أحدها أن آخر الوطئ
حصل في أجنبية، فإن النزع يلتذ به كما يلتذ بالايلاج، وقد شبه أصحابنا ذلك بمن
طلع عليه الفجر وهو مجامع فنزع أنه يفطر، والتحريم ههنا أولى لان الفطر
بالوطئ ويمكن منع كون النزع وطئا، والمحرم ههنا الاستمتاع، والنزع استمتاع
فكان محرما ولان لمسها على وجه التلذذ بها محرم فليس الفرج بالفرج أولى بالتحريم
فإن قيل فهذا إنما يحصل ضرورة ترك الحرام كما لو اختلط لحم خنزير بلحم مباح
لا يمكنه أكله إلا بأكل لحم الخنزير حرم، ولو اشتبهت ميتة بمذكاة أو امرأته
بأجنبية حرم الكل، وهذا وجه اختاره أبو علي بن خيران. وهو الصحيح من
مذهب أحمد، والصحيح عندنا قال المصنف هو المذهب: تجوز الفيئة لان
النزع ترك للوطئ، وترك الوطئ ليس بوطئ، فإن وطئ فعليه أن ينزع حين
يولج الحشفة ولا يزيد على ذلك، ولا يلبث ولا يتحرك عند النزع لأنها أجنبية
فإذا فعل ذلك فلا حد ولا مهر لأنه تارك للوطئ، وإن لبث أو تمم الايلاج
فلا حد عليه لتمكن الشبهة منه لكونه وطئا بعضه في زوجته، وفى المهر وجهان
(أحدهما) يلزمه، لأنه حصل منه وطئ محرم في محل غير مملوك فأوجب
المهر كما لو أولج بعد النزع.
(والثاني) لا يجب، لأنه تابع الايلاج في محل مملوك فكان تابعا له في المهر
الأول، وفى إيجابه بالاستدامة يؤدى إلى إيجاب مهرين بإيلاج واحد.
وان نزع ثم أولج - وكانا جاهلين بالتحريم - فلا حد عليهما وعليه المهر لها
ويلحقه النسب. وإن كانا عالمين بالتحريم ففيه وجهان (أحدهما) عليهما الحد
329

لأنه إيلاج في أجنبية بغير شبهة فأشبه ما لو طلقها ثلاثا ثم وطئها ولا مهر لها،
لأنها مطاوعة على الزنا.
(والثاني) لا يجب الحد عليهما، لان هذا مما يخفى على كثير من الناس لان
الوطئ الواحد يشتمل على ايلاجات فما لم يجب في أوله لم يجب في اتمامه، ومن
ثم وجب لها المهر، والصحيح الأول لان الكلام في العالمين وليس هو في مظنة
الخفاء، فإن أكثر المسلمين يعلمون أن الطلاق الثلاث محرم للمرأة، ويحتمل
أن لا يقام الحد عليهما إذا تأولا ذلك باعتبار أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد كان
طلقة واحدة في عهده صلى الله عليه وسلم وخلافة الصديق وصدرا من خلافة
عمر، لقوله صلى الله عليه وسلم " ادرءوا الحدود بالشبهات "
وإن كان أحدهما عالما والآخر جاهلا نظرت - فإن كان هو العالم - فعليه
الحد ولها المهر ولا يلحقه النسب لأنه زان محدود، وإن كانت هي العالمة دونه
فعليها الحد وحدها ولا مهر لها والنسب لاحق بالزوج لان وطأه وطؤ شبهة،
هذا هو أظهر الوجهين اللذين ساقهما المصنف، وبه قال أحمد وأصحابه
قولا واحدا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان طلق فقد سقط حكم الايلاء وبقيت اليمين، فإن امتنع ولم
يف ولم يطلق ففيه قولان. قال في القديم لا يطلق عليه الحاكم، لقوله صلى الله
عليه وسلم " الطلاق لمن أخذ بالساق "، ولان ما خير فيه الزوج بين أمرين لم يقم
الحاكم فيه مقامه في الاختيار، كما لو أسلم وتحته أختان، فعلى هذا يحبس حتى
يطلق أو يفئ، كما يحبس إذا امتنع من اختيار إحدى الأختين
وقال في الجديد يطلق الحاكم عليه، لان ما دخلت النيابة فيه وتعين مستحقه
وامتنع من هو عليه قام الحاكم فيه مقامه كقضاء الدين، فعلى هذا يطلق عليه
طلقة وتكون رجعية
وقال أبو ثور: تقع طلقة بائنة، لأنها فرقة لدفع الضرر لفقد الوطئ
فكانت بائنة كفرقة العنين، وهذا خطأ لأنه طلاق صادف مدخولا بها من غير
330

عوض ولا استيفاء عدد فكان رجعيا كالطلاق من غير إيلاء، ويخالف فرقة
العنين فإن تلك الفرقة فسخ وهذا طلاق، فإذا وقع الطلاق ولم يراجع حتى بانت
ثم تزوجها والمدة باقية فهل يعود الايلاء؟ على ما ذكرناه في عود اليمين في النكاح
الثاني، فان قلنا يعود فإن كانت المدة باقية استؤنفت مدة الايلاء ثم طولب بعد
انقضائها بالفيئة أو الطلاق، فان راجعها والمدة باقية استؤنفت المدة وطولب
بالفيئة أو الطلاق. وعلى هذا إلى أن يستوفى الثلاث، فإن عادت إليه بعد استيفاء
الثلاث والمدة باقية، فهل يعود الايلاء؟ على قولين
(فصل) وإن انقضت المدة وهناك عذر يمنع الوطئ نظرت فإن كان لمعنى
فيها كالمرض والجنون الذي لا يخاف منه أو الاغماء الذي لا تمييز معه أو الحبس
في موضع لا يصل إليه، أو الاحرام أو الصوم الواجب أو الحيض أو النفاس لم
يطالب لان المطالبة تكون مع الاستحقاق. وهي لا تستحق الوطئ في هذه
الأحوال فلم تجز المطالبة به.
وإن كان العذر من جهته نظرت - فإن كان مغلوبا على عقله - لم يطالب لأنه
لا يصلح للخطاب ولا يصلح منه جواب، فإن كان مريضا مرضا يمنع الوطئ أو
حبس بغير حق حبسا يمنع الوصول إليه طولب أن يفئ فيئة المعذور بلسانه.
وهو أن يقول لست أقدر على الوطئ ولو قدرت لفعلت، فإذا قدرت فعلت
وقال أبو ثور: لا يلزمه الفيئة باللسان، لان الضرر بترك الوطئ لا يزول
بالفيئة باللسان، وهذا خطأ، لان القصد بالفيئة ترك ما قصد إليه من الاضرار،
وقد ترك القصد إلى الاضرار بما أتى به من الاعتذار، ولان القول مع العذر
يقوم مقام الفعل عند القدرة، ولهذا نقول: إن اشهاد الشفيع على طلب الشفعة
في حال الغيبة يقوم مقام الطلب في حال الحضور في اثبات الشفعة، وإذا فاء
باللسان ثم قدر طولب بالوطئ، لأنه تأخر بعذر، فإذا زال العذر طولب به.
(الشرح) الحديث أخرجه ابن ماجة والدار قطني والطبراني وابن عدي،
وفى اسناد ابن ماجة ابن لهيعة، وكلام المحدثين فيه معروف، وفى اسناد الطبراني
يحيى الحماني ضعيف، وفى اسناد ابن عدي والدار قطني عصمة بن مالك،
331

وفى التقريب أنه صحابي، وطرقه يقوى بعضها بعضا قال ابن القيم: ان حديث
ابن عباس وإن كان في اسناده ما فيه فالقرآن يعضده وعمل الصحابة، وأراد
بالقرآن قوله تعالى " إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن " وقوله تعالى " إذا
طلقتم النساء " الآية
أما الأحكام، فإنه إذا امتنع من الفيئة بعد التربص أو امتنع المعذور من
الفيئة بلسانه، أو امتنع من الوطئ بعد زوال عذره أمر بالطلاق، فان طلق وقع
طلاقه الذي أوقعه واحدة كانت أو أكثر، وليس للحاكم اجباره على أكثر
من طلقه لأنه يحصل الوفاء بحقها بها فإنه يفضى إلى البينونة والتخلص؟ من ضرره
وان امتنع من الطلاق طلق الحاكم عليه في أحد القولين. وبهذا قال مالك.
وعن أحمد رواية: ليس للحاكم الطلاق عليه لان ما خير الزوج فيه بين أمرين
لم يقم الحاكم مقامه فيه كالاختيار لبعض الزوجات في حق من أسلم وتحته أكثر
من أربع نسوة أو أختان، فعلى هذا يحبسه ويضيق عليه حتى يفئ أو يطلق،
وهذا قول آخر عندنا
دليل القول الأول أن ما دخلته النيابة ويعين مستحقه وامتنع من هو عليه
قام الحاكم مقامه فيه كقضاء الدين، وفارق الاختيار فإنه ما تعين مستحقه.
وهذا أصح في المذهب عند أحمد، وليس للحاكم أن يأمر بالطلاق ويطلق الا
أن تطلب المرأة ذلك، لأنه حق لها، وإنما الحاكم يستوفى لها الحق فلا يكون
الا عند طلبها.
(فرع) إذا انقضت المدة فادعى أنه عاجز عن الوطئ - فإذا كان قد وطئها
مرة لم تسمع دعواه العنة، كما لا تسمع دعواها عليه، ويؤخذ بالفيئة أو بالطلاق
كغيره، وان لم يكن وطئها - ولم تكن حاله معروفة - فقال القاضي تسمع دعواه
ويقبل قوله، لان التعنين من العيوب التي لا يقف عليها غيره، هذا هو ظاهر
المذهب وبه قال أحمد وأصحابه، ولها أن تسأل الحاكم فيضرب لها مدة العنة
بعد أن يفئ فيئة أهل الاعذار.
وفيه وجه آخر: أنه لا يقبل قوله لأنه متهم في دعوى ما يسقط عنه حقا
توجه عليه الطلب به والأصل سلامته
332

وإن ادعت أنه قد أصابها مرة وأنكر ذلك لم يكن لها المطالبة بضرب مدة
العنة لاعترافها بعدم عنته، والقول قوله في عدم الإصابة
(فرع) الطلاق الواجب على المولى رجعتي، سواء أوقعه بنفسه أو طلق
الحاكم عليه وعند أحمد روايتان. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله - يعنى أحمد
ابن حنبل - في المولى فإن طلقها؟ قال تكون واحدة وهو أحق بها، وذكر
أبو بكر رواية أخرى: أن فرقة الحاكم تكون بائنا.
وقال ابن قدامة: قال القاضي: المنصوص عن أحمد في فرقة الحاكم أنها
تكون بائنا، فإن في رواية الأثرم وقد سئل: إذا طلق عليه السلطان أتكون
واحدة؟ فقال: إذا طلق فهي واحدة وهو أحق بها، فأما تفريق السلطان
فليس فيه رجعة.
وقال أبو ثور: طلاق المولى بائن سواء طلق هو أو طلق عليه الحاكم لأنها
فرقة لرفع الضرر فكان بائنا كفرقة العنة، ولأنها لو كانت رجعية لم يندفع الضرر
لأنه يرتجعها فيبقى الضرر. وقال أبو حنيفة: يقع الطلاق بانقضاء العدة بائنا،
ووجه الأول أنه طلاق صادف مدخولا بها من غير عوض ولا استيفاء عدد
فكان رجعيا كالطلاق في غير الايلاء، ويفارق فرقة العنة لأنها فسخ لعيب.
وهذه طلقة. ولأنه لو أبيح له ارتجاعها لم يندفع عنها الضرر وهذه يندفع عنها
الضرر، فإنه إذا ارتجعها ضربت له مدة أخرى، ولان العنين قد يئس من وطئه
فلا فائدة في رجعته، وهذه غير عاجز ورجعته دليل على رغبته فيها وإقلاعه
عن الاضرار بها فافترقا.
ثم إن المولى إذا امتنع من الفيئة والطلاق معا وقام الحاكم مقامه فإنه لا يملك
من الطلاق الا واحدة، لان إيفاء الحق يحصل بها فلم يملك زيادة عليها كما لم
يملك الزيادة على وفاء الدين في حق الممتنع
وقال احمد وأصحابه: ان الحاكم قائم مقامه فملك من الطلاق ما يملكه فإذا
رأى طلقها واحدة وإذا رأى طلقها ثلاثا
(مسألة) وان انقضت المدة وهو محبوس بحق يمكن أداؤه طولب بالفيئة
333

لأنه قادر على أداء ما عليه نحوها، فإن لم يفعل أخذ بالطلاق، وإن كان الطريق
مخوفا أو له عذر يمنعه فاء فيئة المعذور
فإن كان مغلوبا على عقله بجنون أو إغماء لم يطالب لأنه لا يصلح للخطاب
ولا يصح منه الجواب. وتتأخر المطالبة إلى حال القدرة وزوال العذر ثم يطالب
حينئذ، وإن كان مجبوبا وقلنا يصح إيلاؤه فاء فيئة المعذور، فيقول: لو قدرت
جامعتها، فمتى قدر فلم يفعل أمر بالطلاق، لأنه إذا وقف وطولب بالفيئة وهو
قادر عليها فلم يفعل أمر بالطلاق، وهذا قول من يقول: يوقف المولى، لان
الله تعالى قال " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " فإذا امتنع من أداء الواجب
لها عليه فقد امتنع من الامساك بالمعروف، فيؤمر بالتسريح بالاحسان، وإن كان
معذورا ففاء بلسانه ثم قدر على الوطئ أمر به، فإن فعل والا أمر بالطلاق
وبهذا قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
وقال القاضي أبو بكر من أصحابه: إذا فاء بلسانه لم يطالب بالفيئة مرة أخرى
وخرج من الايلاء، وهو قول الحسن وعكرمة والأوزاعي لأنه فاء مرة فخرج
من الايلاء ولم تلزمه فيئة ثانيه، كما لو فاء بالوطئ
وقال أبو حنيفة: تستأنف له مدة الايلاء. لأنه وفاها حقها بما أمكنه من
الفيئة فلا يطالب الا بعد استئناف مدة الايلاء كما لو طلقها. دليلنا أنه أخر حقها
لعجزه عنه فإذا قدر عليه لزمه أن يوفيها إياه كالدين على المعسر إذا قدر عليه.
وما ذكروه فليس بحقها ولا يزول الضرر عنها به وإنما وعدها بالوفاء ولزمها
الصبر عليه، وانكاره كالغريم المعسر
(فرع) وليس على من فاء بلسانه كفارة ولا حنث لأنه لم يفعل المحلوف
عليه، وإنما وعد بفعله فهو كمن عليه دين حلف أن لا يوفيه ثم أعسر به فقال:
متى قدرت وفيته.
إذا ثبت هذا فإنه إذا مضت المدة وبالمولى عذر يمنع الوطئ، من مرض أو
حبس بغير حق أو غيره لزمه أن يفئ بلسانه فيقول: متى قدرت جامعتها ونحو
هذا. وممن قال يفئ بلسانه إذا كان ذا عذر ابن مسعود وجابر بن زيد والنخعي
والحسن والزهري والثوري والأوزاعي وعكرمة وأبو عبيد وأصحاب الرأي
334

وقال سعيد بن جبير: لا يكون الفئ إلا بالجماع في حال العذر وغيره. وقال
أبو ثور: إذا لم يقدر لم يوقف حتى يصح أو يصل إن كان غائبا ولا تلزمه الفيئة
بلسانه لان الضرر بترك الوطئ لا؟؟ ول بالقول، وقال بعض أصحابنا يحتاج أن
يقول: قد ندمت على ما فعلت وان قدرت وطئت
ولنا أن القصد بالفيئة ترك ما قصده من الاضرار وقد ترك قصد الاضرار
بما أتى به من الاعتذار، والاعتذار بالقول يقوم مقام فعل القادر، بدليل أن
اشهاد الشفيع على الطلب بالشفعة عند العجز عن طلبها يقوم مقام طلبها في
الحضور في إثباتها، ولا يحتاج أن يقول ندمت، لان الغرض أن يظهر رجوعه
عن المقام على اليمين وقد حصل بظهور عزمه عليه
وقال ابن قدامة وأبو الخطاب والقاضي أبو بكر من الحنابلة: ان فيئة المعذور
أن يقول فئت إليك، وهو قول الثوري وأبى عبيد وأصحاب الرأي. وقال أبو ثور
لا يلزمه الفيئة باللسان لان ذلك لا يغير من الامر شيئا ولا يفيدها في شئ أن
يعدها بالفعل عند القدرة، وهذا خطأ لان الإبانة عن القصد بترك الاضرار مع
ما فيه من نوع اعتذار والاخبار بإزالته للضرر عند إمكانه، كل ذلك يقوم مقام
الفعل عند القادر عليه، كما قلنا في إشهاد الشفيع على الطلب بالشفعة عند
العجز عن طلبها.
ونخلص من هذا أن كل عذر من فعله يمنعه الوطئ لا يمهل ويؤمر بالطلاق،
لان الامتناع بسبب منه، فلا يسقط حكما واجبا عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن انقضت المدة وهو غائب، فإن كان الطريق أمنا فلها أن توكل
من يطالبه بالمسير إليها أو بحملها إليه أو بالطلاق، وإن كان الطريق غير أمن فاء
فبئة معذور إلى أن يقدر، فإن لم يفعل أخذ بالطلاق
(فصل) وإن انقضت المدة وهو محرم قيل له: ان وطئت فسد إحرامك
وان لم تطأ أخذت بالطلاق، فإن طلقها سقط حكم الايلاء، وإن وطئها فقد
أوفاها حقها وفسد نسكه، وان لم يطأ ولم يطلق ففيه وجهان: أحدهما: يقتنع
335

منه بفيئة معذور إلى أن يتحلل، لأنه غير قادر على الوطئ، فأشبه المريض
المحبوس (والثاني) لا يقتنع منه، وهو ظاهر النص لأنه امتنع من الوطئ
بسبب من جهته.
(فصل) وان انقضت المدة وهو مظاهر قيل له: ان وطئت قبل التكفير
أثمت للظهار: وان لم تطأ أخذت بالطلاق، فإن قال أمهلوني حتى أشتري رقبة
أكفر بها أمهل ثلاثة أيام. وان قال أمهلوني حتى أكفر بالصيام لم يمهل، لان
مدة الصيام تطول، وان أراد أن يطأها قبل أن يكفر وقالت المرأة: لا أمكنك
من الوطئ لأني محرمة عليك فقد ذكر الشيخ أبو حامد الأسفراييني رحمه الله:
انه ليس لها أن تمتنع، فإن امتنع سقط حقها من المطالبة، كما نقول فيمن له
دين على رجل فأحضر مالا فامتنع صاحب الحق من أخذه وقال: لا آخذه لأنه
مغصوب أنه يلزمه أن يأخذه أو يبرئه من الدين، وعندي أن لها أن تمتنع لأنه
وطئ محرم فجاز لها أن تمتنع منه كوطئ الرجعية، ويخالف صاحب الدين فإنه
يدعى أنه مغصوب والذي عليه الدين يدعى أنه ماله، والظاهر معه. فان اليد
تدل على الملك، وليس كذلك وطئ المظاهر منها، فإنهما متفقان على تحريمه،
فنظيره من المال أن ينفقا على أنه مغصوب فلا يجبر صاحب الدين على أخذه
(فصل) وإن انقضت المدة فادعى أنه عاجز ولم يكن قد عرف حاله أنه
عنين أو قادر ففيه وجهان:
(أحدهما) وهو ظاهر النص أنه يقبل قوله لان التعنين من العيوب التي
لا يقف عليها غيره فقبل قوله فيه مع اليمين، فان حلف طولب بفيئة معذور
أو يطلق، والوجه الثاني أنه لا يقبل قوله لأنه متهم فعلى هذا يؤخذ بالطلاق.
(فصل) وإن آلى المجبوب وقلنا إنه يصح ايلاؤه أو آلى وهو صحيح الذكر
وانقضت المدة وهو مجبوب فاء فيئة معذور، وهو أن يقول: لو قدرت فعلت
فإن لم يفئ أخذ بالطلاق
(فصل) وان اختلف الزوجان في انقضاء المدة فادعت المرأة انقضاءها
وأنكر الزوج فالقول قول الزوج، لان الأصل أنها لم تنقض، ولان هذا
336

اختلاف في وقت الايلاء فكان القول فيه قوله، وان اختلفا في الإصابة فادعى
الزوج أنه أصابها وأنكرت المرأة فعلى ما ذكرناه في العنين
(الشرح) إذا انقضت المدة وهو محرم أو محبوس في حق عليه نظرت فإن
كان الطريق امنا والحق الذي عليه يمكنه أداؤه، فإن انقضت المدة وهو غائب
فلها أن توكل من يطالبه بالمسير إليها أو يحملها هي إليه أو يأمره بأداء ما عليه،
فإن لم يفعل أمر بالطلاق، فإن كان عاجزا عن أدائه أو حبس ظلما امر بفيئة
المعذور، وإن كان الطريق مخوفا أو له عذر يمنعه فاء فيئة المعذور. وقد مضى
مزيد إيضاح في الفصول قبله.
(فرع) سبق أن قلنا إن الامتناع بسبب منه لا يسقط حكما واجبا عليه،
وجملة ذلك أن الاحرام والاعتكاف المنذور وكفارة الظهار كل أولئك لا يؤمر
بالوطئ فيه لأنه محرم عليه، ولكن يؤمر الطلاق. ووجه هذا أنه عاجز عن
الوطئ بأمر لا يمكنه الخروج منه فأشبه المريض، فإن لم يطأها حين انقضاء المدة
- لخوفه من فساد نسكه - لأنه إذا وطئها فقد أوفاها حقها وارتكب إثم إفساد
نسكه، أخذ بطلاقها، فإن لم يطلقها ولم يطأها ففيه وجهان
(أحدهما) يكتفى منه بفيئة المعذور إلى أن يتحلل فيكون كالمريض
(والثاني) لا يكتفى منه، وهو ظاهر قوله في الام حيث يقول: وإذا آلى
الرجل من امرأته ثم أحرم قيل له إذا مضت أربعة أشهر فإن شئت فسد إحرامك
وخرجت من حكم الايلاء، وإن لم تفئ طلق عليك لأنك أحدثت منع الجماع
على نفسك، فان فئت فأنت عاص بالإصابة وأنت متظاهر، وليس لك أن تطأ
قبل الكفارة، وان لم تفئ فطلق أو يطلق عليك، وهكذا لو تظاهر ثم آلى لان
ذلك كله جاء منه لا منها ولم تحرم عليه بالظهار حرمة الأجنبية
(فرع) المظاهر إذا انقضت مدته يقال له: إما أن تكفر وتفئ واما أن
تطلق فإن قال أمهلوني حتى أطلب رقبة أو أطعم، فإن علم أنه قادر على التكفير
في الحال وإنما يقصد المماطلة والمدافعة والتأخير لم يمهل، لان الحق حال عليه،
337

وإنما يمهل للحاجة ولا حاجة، وان لم يعلم ذلك أمهل ثلاثة أيام لأنه قريبة،
ولا يزاد على ذلك، وإن كان فرضه الصيام فطلب الامهال ليصوم شهرين
متتابعين لم يمهل لأنه كثير، فإن أراد أن يجامعها كان لها أن لا تمكنه من نفسها
لان هذا الوطئ محرم عليهما، وهذا هو اختيار الشيخ أبي إسحاق الشيرازي هنا
واختيار ابن قدامة من الحنابلة.
وذكر الشيخ أبو حامد الأسفراييني وبعض أصحاب الإمام أحمد أنه يلزمها
التمكين، وإن امتنعت سقط حقها، لان حقها في الوطئ وقد بذله. ومتى وطئها
فقد وفاها حقها والتحريم عليه دونها كمن له على آخر دين فأحضره له فأبى اخذه
لأنه مغصوب، فهو بين أمرين إما أن يأخذه وفاء لدينه واما أن يقيله من الدين
ولنا أنه وطئ حرام فلا يلزم التمكين منه كالوطئ في الحيض والنفاس. وهذا
بخلاف الدين، فإن المال ملك من في حوزته ومن يده عليه، فكان الحكم الظاهر
أن المال ماله، وفارق الظهار فإنهما مشتركان في الاثم، ولا نسلم كون التحريم
عليه دونها، فإن الوطئ متى حرم على أحدهما حرم على الاخر لكونه فعلا واحدا
ولو جاز اختصاص أحدهما بالحريم لاختصت المرأة بتحريم الوطئ في الحيض
والنفاس، واحرامها وصيامها، لاختصاصها بسببه
ويتخرج على ذلك أنه يمكنه أن يفئ بلسانه فيئة المعذور ويمهل حتى يصوم،
كقولنا في المحرم على أحد الوجهين. وهذا ما اخترته على أصل المذهب، وهذا
أولى من ايقاع الطلاق عليه فقد تكون الثالثة فتبين منه، وإن كان المنصوص
أنها تطلق عليه ان لم يطلقها.
(فرع) مضى في الفصل قبله قولنا إذا انقضت المدة فادعى عجزه عن الوطئ
وقلنا لا تسمع دعواه كما لا تسمع دعواها، ونقول هنا انه إذا لم تكن حاله
معروفة لنا من عنة أو قدرة ففيه وجهان:
(أحدهما) تسمع دعواه ويقبل قوله، لان التعنين من العيوب التي لا يقف
عليها غيره، وهذا هو ظاهر قوله في الام، وقد نص الشافعي أن لها أن تسأل
الحاكم فيضرب له مدة العنة وقدرها سنة، الا أن يطلقها بعد الأشهر الأربعة.
338

والوجه الثاني: لا يقبل قوله لأنه متهم في دعوى ما يسقط عنه حقا توجه
عليه الطلب به والأصل سلامته منه فيؤخذ بالطلاق
(فرع) إن ادعت أنه قد أصابها مرة وأنكر ذلك لم يكن لها المطالبة بضرب
مدة العنة لاعترافها بعدم عنته، والقول قوله في عدم الإصابة
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: إذا آلى الخصي غير المجبوب من
امرأته فهو كغير الخصي، وهكذا لو كان مجبوبا قد بقي له ما يبلغ به من المرأة
ما يبلغ الرجل حتى تغيب حشفته كان كغير الخصي في جميع أحكامه. وإذا آلى
الخصي المجبوب من امرأته قيل له: فئ بلسانك لا شئ عليه غيره لأنه ممن
لا يجامع مثله، وإنما الفئ الجماع وهو ممن لا جماع عليه.
قال: ولو تزوج رجل امرأته ثم آلى منها ثم خصى ولم يجب كان كالفحل،
ولو جب كان لها الخيار مكانها في المقام المقام معه أو فراقه، فإن اختارت المقام معه
قيل له: إذا طلبت الوقف ففئ بلسانك لأنه ممن لا يجامع
قال الربيع: ان اختارت فراقه فالذي أعرف للشافعي أنه يفرق بينهما،
وإن اختارت المقام معه فالذي أعرف للشافعي أن امرأة العنين إذا اختارت
المقام معه بعد الأجل أنه لا يكون لها خيار ثانية والمجبوب عندي مثله
(مسألة) إذا اختلف الزوجان في انقضاء المدة فالقول قوله مع يمينه، وإنما
كان كذلك لان الاختلاف في مضى المدة ينبنى على الخلاف في وقت يمينه، فإنهما
لو اتفقا على وقت اليمين حسب من ذلك الوقت، فعلم هل انقضت المدة أم لا؟
وزال الخلاف، أما إذا اختلفا في وقت اليمين فقال حلفت في غرة رمضان،
وقالت بل حلفت في غرة شعبان فالقول قوله لأنه صدر من جهته، وهو أعلم به
فكان القول قوله فيه، كما لو اختلفا في أصل الايلاء. ولان الأصل عدم الحلف
في غرة شعبان فكان قوله في نفيه موافقا للأصل مع يمينه، وبهذا قال الخرقي
من الحنابلة. وقال القاضي أبو بكر منهم: لا يمين عليه. دليلنا قول النبي
صلى الله عليه وسلم " اليمين على المدعى " ولأنه حق لآدمي يجوز بذله
فيستحلف فيه كالديون
339

ولو وقفناه بعد الأربعة الأشهر فقال قد أصبتها، فإن كانت ثيبا كان القول
قوله مع يمينه، لان الأصل بقاء النكاح والمرأة تدعى ما يلزمه به رفعه،
وهو يدعى ما يوافق الأصل ويبقيه، فكان القول قوله، كما لو ادعى الوطئ
في العنة، ولان هذا أمر خفى ولا يعلم إلا من جهته فقبل قوله فيه كقول
المرأة في حيضها وتلزمه اليمين، لان ما تدعيه المرأة محتمل فوجب نفيه باليمين
ونص أحمد في رواية الأثرم أنه لا يلزمه يمين لأنه لا يقضى فيه بالنكول،
وهذا اختيار أبى بكر من أصحاب أحمد
وأما إن كانت بكرا واختلفا في الإصابة أريت النساء الثقات، فإن شهدن
بثيوبتها فالقول قوله، وإن شهدن ببكارتها فالقول قولها، لأنه لو وطئها زالت
بكارتها، فإن قلنا إن النساء الثقات بمثابة البينة فلا يمين، لان من شهدت له
البينة فلا يمين عليه
فلو كانت هذه المرأة غير مدخول بها فادعى أنه أصابها وكذبته ثم طلقها
وأراد رجعتها كان القول قولها، فنقبل قوله في الإصابة في الايلاء ولا نقبله
في اثبات الرجعة له، كما مضى في الرجعة، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب
وهو حسبنا ونعم الوكيل
340

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الظهار
الظهار محرم لقوله عز وجل " الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم
إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم، وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا "
ويصح ذلك من كل زوج مكلف لقوله عز وجل " والذين يظاهرون من نسائهم
ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة " ولأنه قول يختص به النكاح فصح من كل زوج
مكلف كالطلاق، ولا يصح من السيد في أمته لقوله عز وجل " والذين يظاهرون
من نسائهم " فخص به الأزواج، لان الظهار كان طلاقا في النساء في الجاهلية
فنسخ حكمه وبقى محله
(الشرح) الظهار مشتق من الظهر، وكل مركوب يقال له ظهر. قال
ابن قتيبة: وإنما خصوا الظهر بالتحريم دون سائر الأعضاء لأنه موضع الركوب
والمرأة مركوبة إذا غشيت، فكأنه أراد بقوله. أنت علي كظهر أمي، ركوبك
للنكاح على حرام كركوب أمي للنكاح، وهو استعارة وكناية عن الجماع. وقرأ
ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف " يظاهرون " بفتح الياء وتشديد الظاء وألف
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب " يظهرون " بحذف الألف وتشديد
الهاء والظاء وفتح الياء، وقرأ أبو العالية وعاصم وزيد بن حبيش " يظاهرون "
بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وهاء مكسورة. وفى قراءة أبى " يتظاهرون "
وهي معنى قراءة ابن عامر وحمزة
قال القرطبي: وذكر الظهر كناية عن معنى الركوب. والآدمية إنما يركب
بطنها، ولكن كنى عنه بالظهر عن الركوب اه‍
قلت: وقد علم الله من أمر الناس وأجناسهم وألوانهم وعاداتهم وتقاليدهم
ما هو أعم في مفهومه، وأشمل في مضمونه، فلا يخلو أن تكون عادة بعض
القبائل العربية أو كانت العرب كلها في زمن سابق يأتون النساء بهذه الطريقة.
يدل على ذلك قوله تعالى " نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم " فهذا الحوار
341

حول هذه الطريقة يدل على شيوعها وانتشارها، وفى عصرنا هذا عرفنا أن أمم
الأرض في أوربا وأمريكا وأكثر شعوب آسيا وأفريقيا يركبون ظهور النساء
عند إتيانهن. ومعنى أنت محرمة لا يحل لي ركوبك، وحقيقة الظهار تشبيه ظهر
بظهر، والموجب للحكم منه هو تشبيه ظهر محلل بظهر محرم
قال الشافعي رضي الله عنه: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يذكر
أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون بثلاثة: الظهار والايلاء والطلاق، فأقر الله
تعالى الطلاق طلاقا، وحكم في الايلاء بأن أمهل المولى أربعة أشهر ثم جعل عليه
أن يفئ أو يطلق، وحكم في الظهار بالكفارة، فإذا تظاهر الرجل من امرأته
قبل أن يدخل بها أو بعد ما دخل بها فهو متظاهر، وإذا طلقها فكان لا يملك
رجعتها في العدة ثم تظاهر منها لم يلزمه الظهار.
ثم قال: وإذا تظاهر من أمته أم ولد كانت أو غير أم ولد لم يلزمه الظهار،
لان الله عز وجل يقول " والذين يظاهرون من نسائهم " وليست من نسائه،
فلو آلى من أمته لم يلزمه الايلاء. وكذلك قال " والذين يرمون أزواجهم "
وليست من الأزواج فلو رماها لم يلتعن، لأنا عقلنا عن الله عز وجل أنها ليست
من نسائنا، وإنما نساؤنا أزواجنا، ولو جاز أن يلزم واحدا من هذه الأحكام
لزمها كلها لان ذكر الله عز وجل لها واحد. اه‍
فكل زوج يجوز طلاقه يجوز ظهاره. ومنه الذمي خلافا لأبي حنيفة ومالك
وهذا مبنى على أصل عندهم أن أنكحة الكفار فاسدة الأصل فلا يتعلق بها حكم
طلاق ولا ظهار، وقد استدلوا بقوله تعالى " منكم " يعنى من المسلمين، وهذا
يقتضى خروج الذمي من الخطاب، وقد اعترضنا عليهم بأن هذا استدلال بدليل
الخطاب، وليس حجة في إخراج الذمي
قال أبو حنيفة ومالك: لا تصح منه الكفارة التي هي رافعة للحرمة فلا يصح
منه التحريم. ودليل أن الكفارة لا تصح منه أنها عبادة تفتقر إلى النية فلا تصح
منه كسائر العبادات. وهذا غير صحيح، لان من صح طلاقه صح ظهاره كالمسلم
وبهذا قال أحمد وأصحابه كافة. فأما ما ذكره المالكية والحنفية فيبطل بكفارة
الصيد إذا قتله في الحرم، وكذلك الحد يقام عليه، ولا نسلم أن التكفير لا يصح
342

منه، فإنه يصح منه العتق والاطعام، وإنما لا يصح منه الصوم، فلا تمتنع صحة
الظهار بامتناع بعض أنواع الكفارة كما في حق العبد. والنية معتبرة في تعيين الفعل
للكفارة فلا يمتنع ذلك في حق الذمي، كالنية في كنايات الطلاق.
والظهار يلزم في كل زوجة مدخول بها أو غير مدخول بها من زوج يجوز
طلاقه، وعند مالك: ومن يجوز له وطؤها من إمائه إذا ظاهر منهن لزمه الظهار
فيهن. وقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد " لا يلزمه
قال القاضي أبو بكر بن العربي. وهي مسألة عسيرة جدا علينا، لان مالكا يقول
إذا قال لامته: أنت علي حرام لا يلزم، فكيف يبطل فيها صريح التحريم وتصح
كنايته. ثم قال: ولكن تدخل الأمة في عموم قوله: من نسائهم. وقال عطاء:
عليه نصف كفارة حرة، لان الأمة على النصف من الحرة، وليس عليه دليل،
والصحيح أنه ليس بظهار.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال أنت علي كظهر أمي فهو ظهار، وإن قال أنت علي
كظهر جدتي فهو ظهار، لان الجدة من الأمهات، ولأنها كالأم في التحريم،
وان قال أنت علي كظهر أبى لم يكن ظهارا، لأنه ليس بمحل الاستمتاع فلم يصر
بالتشبيه به مظاهرا كالبهيمة.
وان قال أنت علي كظهر أختي أو عمتي ففيه قولان:
قال في القديم ليس بظهار، لان الله تعالى نص على الأمهات وهن الأصل
في التحريم وغيرهن فرع لهن ودونهن، فلم يلحقن بهن في الظهار
وقال في الجديد: هو ظهار، وهو الصحيح، لأنها محرمة بالقرابة على التأبيد
فأشبهت الام، وان شبهها بمحرمة من غير ذوات المحارم نظرت، فإن كانت امرأة
حلت له ثم حرمت عليه كالملاعنة والام من الرضاع وحليلة الأب عبد ولادته،
أو محرمة تحل له في الثاني، كأخت زوجته وخالتها وعمتها. لم يكن ظهارا لأنهن
دون الام في التحريم، وان لم تحل له قط، ولا تحل له في الثاني كحليلة الأب
قبل ولادته، فعلى القولين في ذوات المحارم
343

(الشرح) في هذا الفصل أمور (أحدها) أنه إذا قال لزوجته: أنت علي
كظهر أمي فهو ظهار، لأنه شبه امرأته بمن تحرم عليه على التأبيد، وهذا التشبيه
بظهر أمه يعد ظهارا بالاجماع.
قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن تصريح الظهار أن يقول: أنت علي
كظهر أمي (ثانيها) أن يشبهها بظهر من تحرم عليه من ذوي رحمه، فإن شبهها
بجدته فهو ظهار صريح عند الشافعي قولا واحدا، وبه قال أحمد ومالك
وأصحاب الرأي وغيرهم، وان شبهها بظهر أخته أو عمته أو خالته كان ظهارا في
قوله الجديد، وفى قول أكثر أهل العلم منهم الحسن وعطاء وجابر وزيد الشعبي
والنخعي والزهري والثوري والأوزاعي ومالك وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور
واحمد، وقال الشافعي في القديم لا يكون الظهار الا بأم أو جدة لأنها أم أيضا
لان اللفظ الذي ورد به القرآن مختص بالأم، فإذا عدل عنه لم يتعلق به ما أوجبه
الله تعالى فيه.
ولنا أنهن محرمات بالقرابة فأشبهن الام، وحصول الزور المنكر واقع
وموجود في مسألتنا فجرى مجراه، وتعليق الحكم بالأم لا يمنع ثبوت الحكم في
غيرها إذا كانت مثلها.
(ثالثها) أن يشبهها بظهر من تحرم عليه على التأبيد سوى الأقارب، كالأمهات
المرضعات والأخوات من الرضاعة وحلائل الآباء والأبناء وأمهات النساء،
فقد قال الربيع بن سليمان في الام: فإن قال أنت علي كظهر أجنبية لم يكن مظاهرا
من قبل أن الأجنبية - وإن كانت في هذا الوقت محرمة - فهي تحل له لو تزوجها
والام لم تكن حلالا له قط ولا تكون حلالا أبدا
فأن قال أنت علي كظهر أختي من الرضاعة - فإن كانت قد ولدت قبل أن
ترضعه أمها فقد كانت قبل أن يكون الرضاع حلالا له ولا يكون مظاهرا بها،
وليست مثل الأخت من النسب التي لم تكن حلالا قط له، وهذه قد كانت حلالا
له قبل أن ترضعه أمها، فإن كانت أمها قد أرضعته قبل أن تلدها فهذه لم تكن قط
حلالا له في حين، لأنها ولدتها بعد أن صار ابنها من الرضاعة، وكذلك امرأة
أبيه، فإذا قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر امرأة أبى - فإن كان أبوه قد
344

قد تزوجها قبل أن يولد فهو مظاهر من قبل انها لم تكن له حلالا قط، ولم يولد
إلا وهي حرام عليه، وإن كان قد ولد قبل أن يتزوجها أبوه فقد كانت في حين
حلالا له فلا يكون بهذا متظاهرا
قال الشافعي رحمه الله: وإن قال أنت علي كظهر امرأة أبى أو امرأة ابني
أو امرأة رجل سماه أو امرأة لاعنها أو امرأة طلقها ثلاثا لم يكن ظهارا من قبل
ان هؤلاء قد كن وهن يحللن له اه‍
وقال احمد وأصحابه في الأمهات المرضعات والأخوات من الرضاعة وحلائل
الآباء والأبناء وأمهات النساء انه ظهار في كل أولئك ولم يفرق، أما إذا شبهها
بظهر من تحرم عليه تحريما موقتا كأخت امرأته وعمتها أو الأجنبية فإنه ليس
بظهار قولا واحدا، وعند احمد روايتان - إحداهما انه ظهار - وهو اختيار
الخرقي وقول أصحاب مالك، ووجه كونه ليس ظهارا إنها غير محرمة على التأبيد
فلا يكون التشبيه بها ظهارا كالحائض والمحرمة من نسائه، ووجه كونه ظهارا
عند القائلين به انه شبهها بمحرمة فأشبه ما لو شبهها بالأم، ولان مجرد قوله أنت
على حرام ظهار إذا نوى به الظهار، والتشبيه بالمحرمة تحريم فصار ظهارا
(فرع) وإن شبهها بظهر أبيه أو بظهر غيره من الرجال أو قال: أنت علي
كظهر البهيمة، أو أنت علي كالميتة، فليس بظهار قولا واحدا، وفى ذلك كله عند
أحمد بن حنبل روايتان، إحداهما ظهار
قال الميموني: قلت لأحمد: ان ظاهر من ظهر الرجل؟ قال فظهر الرجل
حرام يكون ظهارا، وبهذا قال ابن القاسم صاحب مالك فيما إذا قال: أنت علي
كظهر أبى وروى ذلك عن جابر بن زيد، والثانية ليس بظهار، وهو قول أكثر
العلماء لأنه تشبيه بما ليس بمحل للاستمتاع، أشبه ما لو قال: أنت علي كمال زيد
وهل فيه كفارة؟ ليس فيه كفارة عندنا وجها واحدا، لان الكفارة لا تكون إلا
من ظهار وهو لم يظاهر، وعلى روايتين عند احمد، إحداهما فيه كفارة لأنه نوع
تحريم، فأشبه ما لو حرم ماله، والثانية ليس فيه شئ
نقل ابن القاسم عن أحمد فيمن شبه امرأته بظهر الرجل لا يكون ظهارا ولم
أره يلزمه فيه شئ وذلك لأنه تشبيه لامرأته بما ليس بمحل للاستمتاع أشبه
345

أشبه التشبيه بمال غيره، وقد مر في كتاب الطلاق حكم من قال لامرأته أنت علي
كالميتة والدم إن نوى به الطلاق أو نوى به الظهار، وفيه وجهان، أحدهما ظهار
وهو إحدى الروايتين عن أحمد. والثاني هو يمين، وهو الرواية الأخرى لأحمد
قال ابن قدامة: ولم يتحقق عندي معين الظهار واليمين
قال القرطبي من المالكية: إن شبه امرأته بأجنبية فإن ذكر الظهر كان ظهارا
حملا على الأول، وإن لم يذكر الظهر - فاختلف فيه علماؤنا - فمنهم من قال
يكون ظهارا، ومنهم من قال يكون طلاقا. وقال أبو حنيفة والشافعي لا يكون
شيئا. انتهى.
ثم نقل قول ابن العربي في أنه تشبيه محلل بمحرم فكان مقيدا بحكمه بالظهر،
لان الأسماء بمعانيها عندهم، وعند الشافعية والحنفية بألفاظها، على أن الخلاف
في الظهار بالأجنبية قوى عند المالكية، فمنهم من لا يرى الظهار إلا بذوات
المحارم خاصة ولا يرى الظهار بغيرهن، ومنهم من لا يجعله شيئا، ومنهم من يجعله
في الأجنبية طلاقا، وهو عند مالك إذا قال كظهر ابني أو غلامي أو كظهر زيد أو
كظهر أجنبية ظهار، ولا يحل له وطؤها في حين يمينه، وقد روى عنه أيضا ان
الظهار بغير ذوات المحارم ليس بشئ كما قال أبو حنيفة والشافعي، وقال الأوزاعي
لو قال أنت علي كظهر فلان فهو يمين يكفرها
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن قال أنت عندي أو أنت منى أو أنت معي كظهر أمي فهو ظهار
لأنه يفيد ما يفيد قوله أنت علي كظهر أمي، وان شبهها بعضو من أعضاء الام
غير الظهر بأن قال أنت علي كفرج أمي أو كيدها أو كرأسها فالمنصوص انه ظهار
ومن أصحابنا من جعلها على قولين قياسا على من شبهها بذات رحم محرم منه غير
الام، والصحيح انه ظهار قولا واحدا لان غير الظهر كالظهر في التحريم وغير
الام دون الام في التحريم
وان قال أنت علي كبدن أمي فهو ظهار لأنه يدخل الظهر فيه، وان قال أنت
على كروح أمي ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) انه ظهار لأنه يعبر به عن الجملة
346

(والثاني) أنه كناية لأنه يحتمل أنها كالروح في الكرامة فلم يكن ظهارا من غير
نية (والثالث) وهو قول علي بن أبي هريرة أنه ليس بصريح ولا كناية، لان
الروح ليس من الأعيان التي يقع بها التشبيه.
وإن شبه عضوا من زوجته بظهر أمه بأن قال رأسك أو يدك على كظهر أمي
فهو ظهار، لأنه قول يوجب تحريم الزوجة، فجاز تعليقه على يدها ورأسها
كالطلاق، وعلى قول ذلك القائل يجب أن يكون ههنا قول آخر انه ليس بظهار.
(فصل) وإن قال أنت علي كأمي أو مثل أمي لم يكن ظهارا إلا بالنية،
لأنه يحتمل أنها كالأم في التحريم أو في الكرامة فلم يجعل ظهارا من غير نية
كالكنايات في الطلاق.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه والظهار أن يقول الرجل لامرأته:
أنت علي كظهر أمي، فإذا قال لها: أنت منى كظهر أمي أو أنت معي أو ما أشبه
هذا كظهر أمي فهو ظهار، وكذلك لو قال لها فرجك أو رأسك أو بدنك أو
ظهرك أو جلدك أو يدك أو رجلك على كظهر أمي كان ظهارا، وكذلك لو قال
أنت أو بدنك على كظهر أمي أو كبدن أمي أو كرأس أمي أو كيدها أو كرجلها
كان هذا ظهارا، لان التلذذ بكل أمه محرم عليه كتحريم التلذذ بظهرها اه‍
وجملة ذلك أنه إذا قال أنت عندي أو منى أو معي كظهر أمي كان ظهارا بمنزلة
على، لأن هذه الألفاظ في معناه.
وإن قال جملتك أو بدنك أو جسمك أو ذاتك أو كلك على كظهر أمي لأنه
أشار إليها فهو كقوله أنت. وإن قال أنت كظهر أمي كان ظهارا لأنه أتى بما يقتضى
تحريمها عليه فانصرف الحكم إليه، كما لو قال أنت طالق
وذهب بعض أصحابنا إلى جعلها على قولين، أحدهما هذا، والثاني ليس بظهار
لأنه فيه ما يدل على أن ذلك في حقه قياسا على على من شبهها بذات رحم محرم منه
غير الام، وليس بصحيح
وإن قال أنت علي كروح أمي ففيه ثلاثة أوجه ذكرها المصنف، ويمكن ان
نلحق بالروح قوله أنت علي كأمي أو مثل أمي، فإنه إذا نوى به الظهار فهو ظهار
347

في قول عامة العلماء منهم أبو حنيفة وصاحباه والشافعي وإسحاق وأحمد بن حنبل
وإن نوى به الكرامة والمعزة والتوقير، أو انها مثلها في الكبر أو الصفة فليس
بظهار والقول قوله في نيته
وقال أبو بكر من الحنابلة إن أطلق فهو صريح في الظهار، وهذا أحد الوجوه
الثلاثة في الروح عندنا، وهو قول مالك ومحمد بن الحسن. وقال ابن أبي موسى
فيه روايتان عن أحمد أظهرهما انه ليس بظهار حتى ينويه، وهذا قول أبي حنيفة
والشافعي، لان هذا اللفظ يستعمل في الكرامة فلم ينصرف إليه بغير نية
ككنايات الطلاق.
ووجه الأول انه شبه امرأته بجملة أمه فكان مشبها لها بظهرها فيثبت الظهار
كما لو شبهها به منفردا. والذي يصح عندي انه إن وجدت قرينة تلد على الظهار
مثل ان يخرجه مخرج الحلف، كقوله إن فعلت كذا فأنت على كروح أمي، أو قال
ذلك حال الخصومة والغضب فهو ظهار، لأنه إذا خرج مخرج الحلف فالحلف
يراد للامتناع من شئ أو الحث عليه، وإنما يحصل ذلك بتحريمها عليه، ولان
كونها مثل أمه في صلتها أو كرامتها لا يتعلق على شرط فيدل على أنه إنما أراد
الظهار، ووقوع ذلك في حال الخصومة والغضب دليل على أنه أراد به ما يتعلق
بأذاها ويوجب اجتنابها وهو الظهار. وإن عدم هذا فليس بظهار لأنه محتمل
لغير الظهار احتمالا كثيرا. فلا يتعين الظهار فيه بغير دليل
وأما قوله: أنت علي كأمي فلنرجع إلى نيته، فإن قال نويت ظهارا كان ظهارا
وإن قال نويت شيئا آخر فالقول قوله، وقال أبو ثور: لو قال أنت علي كأمي
أو قال أنت أمي أو امرأتي أمي مع الدليل الصارف له إلى الظهار كان ظهارا، إما
بنية أو ما يقوم مقامها
وإن قال أمي امرأتي أو مثل امرأتي لم يكن ظهارا لأنه تشبيه لامه ووصف
لها وليس بوصف لامرأته، قال الشافعي وإذا قال الرجل لامرأته أنت علي أو
عندي كأمي أو أنت مثل أمي أو أنت عدل أمي وأراد في الكرامة فلا ظهار،
وإن أراد ظهارا فهو ظهار
348

قال المصنف رحمه الله تعالى
وإن قال أنت طالق ونوى به الظهار لم يكن ظهارا، وان قال أنت علي كظهر
أمي ونوى به الطلاق لم يكن طلاقا، لان كل واحد منهما صريح في موجبه في
الزوجية فلا ينصرف عن موجبه بالنية، وإن قال أنت طالق كظهر أمي ولم ينو
شيئا وقع الطلاق بقوله أنت طالق ويلغى قوله كظهر أمي، لأنه ليس معه ما يصير
به ظهارا وهو قوله أنت علي أو من أو معي أو عندي، فيصير كما لو قال ابتداء
كظهر أمي. وان قال أردت أنت طالق طلاقا يحرم كما يحرم الظهار وقع الطلاق
وكان قوله كظهر أمي تأكيدا
وإن قال أردت أنت طالق وأنت علي كظهر أمي، فإن كان الطلاق رجعيا
صار مطلقا ومظاهرا، وإن كانت بائنا وقع الطلاق ولم يصح الظهار، لان الظهار
يلحق الرجعية ولا يلحق البائن
وإن قال أنت علي حرام كظهر أمي ولم ينوى شيئا فهو ظهار، لأنه اتى بصريحه
وأكده بلفظ التحريم، وإن نوى به الطلاق فقد روى الربيع انه طلاق، وروى في
بعض فسخ المزني انه ظهار، وبه قال بعض أصحابنا، لان ذكر الظهار قرينة
ظاهرة ونية الطلاق قرينة خفية، فقدمت القرينة الظاهرة على القرينة الخفية
والصحيح أنه طلاق
وأما الظهار فهو غلط وقع في بعض النسخ، لان التحريم كناية في الطلاق،
والكناية مع النية الصريح، فصار كما لو قال أنت طالق كظهر أمي، وإن قال
أردت الطلاق - والظهار فإن كان الطلاق رجعيا - صار مطلقا ومظاهرا،
وإن كان الطلاق بائنا صح الطلاق ولم يصح الظهار لما ذكرناه فيما تقدم، وعلى
مذهب ذلك القائل هو مظاهر، لان القرينة الظاهرة مقدمة، وان قال أردت
تحريم عينها وجبت كفارة يمين وعلى قول ذلك القائل هو مظاهر
(الشرح) الأحكام: إذا طلق يريد ظهارا كان طلاقا، وإن ظاهر يريد
طلاقا كان ظهارا لان كل لفظ منهما صريح في موجبه، أما إذا خلط في عبارته
بينهما فقال أنت طالق كظهر أمي، ولم ينو شيئا منهما وقع الطلاق وسقط الظهار
349

لأنه أتى بصريح الطلاق أولا وجعل قوله كظهر أمي صفة له، ولأنه لم يصنف
الظهار إلى نفسه بحرف من حروف الظهار، كقوله على أو منى أو معي أو عندي
لأنه لو قال ابتداء كظهر أمي فإنه ليس ظهارا لافتقاره إلى ضميره المجرور المتعلق
به صريح الظهار لكونه أطلق اللفظ بغير متعلقه، فإن نوى بقوله كظهر أمي
تأكيد الطلاق لم يكن ظهارا كما لو أطلق، وان نوى به الظهار وكان الطلاق بائنا
فهو كالظهار من الأجنبية لأنه اتى به بعد بينونتها بالطلاق، وإن كان رجعيا كان
ظهارا صحيحا، لان الظهار يلحق الرجعية ولا يلحق البينونة، هذا مذهبنا وبه
قال احمد وأصحابه. قال ابن قدامة لأنه اتى بلفظ الظهار فيمن هي زوجة اه‍
وإن قال أنت علي كظهر أمي طالق وقع الظهار والطلاق معا، سواء كان
الطلاق بائنا أو رجعيا لان الظهار سبق الطلاق
قال الشافعي في الام: وإذا قال أنت علي كظهر أمي يريد طلاقا واحدا أو
ثلاثا أو طلاقا بلا نية عدد لم يكن طلاقا لما وصفت من حكم الله عز وجل في
الظهار وان بينا في حكم الله تعالى ان ليس الظهار اسم الطلاق ولا ما يشبه الطلاق
مما ليس لله تبارك وتعالى فيه نص ولا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان
خارجا من هذا ما يشبه الطلاق فإنما يكون قياسا على الطلاق
وإذا قال الرجل لامرأته أنت طالق كظهر أمي يريد الظهار فهي طالق ولا
ظهار عليه لأنه صرح بالطلاق ولم يكن لكظهر أمي معنى إلا أنك حرام بالطلاق
وكظهر أمي محال لا معنى له فلزمه الطلاق وسقط الظهار اه‍
(فرع) وإن قال: أنت علي حرام ونوى الطلاق والظهار معا، فإن كان
الطلاق رجعيا كان طلاقا وظهارا، وإن كان بائنا وقع الطلاق وسقط الظهار،
وقال أصحاب احمد: إن قال أنت علي حرام ونوى الطلاق والظهار معا كان ظهارا
ولم يكن طلاقا، لان اللفظ الواحد لا يكون ظهارا وطلاقا. والظهار أولى بهذا
اللفظ فينصرف إليه
ولأصحابنا وجهان أولهما يقال له: اختر أيهما شئت، والثاني ان قال أردت
الطلاق والظهار كان طلاقا لأنه بدأ به. وإن قال أردت الظهار والطلاق كان
ظهارا لأنه بدأ به فيكون ذلك اختيارا له ويلزمه ما بدأ به
350

ولنا أن الحرام كناية في الطلاق، فإذا لم ينو الطلاق وأراد تحريم عينها كان
عليه كفارة يمين، وقد مضى حكم ذلك في كنايات الطلاق.
وقال الحنابلة: إذا أتى بلفظ الحرام ينوى الظهار كان ظهارا وليس بطلاق
لأنه زاحمت نيته نية الظهار وتعذر الجمع، والظهار أولى بهذه اللفظة لان معناهما
واحد وهو التحريم فيجب أن يغلب ما هو الأولى
أما الطلاق فهو من الاطلاق وهو حل قيد النكاح، وإنما التحريم حكم له في
بعض أحواله وقد ينفك عنه، فإن الرجعية مطلقة مباحة، وأما التخيير فلا يصح
لأن هذه اللفظة قد ثبت حكمها حين لفظ بها لكونه أهلا والمحل قابلا، وهذا
القول يوافق ما رواه المزني في بعض نسخه من المختصر
وقال الشافعي رضي الله عنه: وإن قال لامرأته أنت علي حرام كظهر أمي
يريد الطلاق فهو طلاق، وإن لم يرد الطلاق فهو متظاهر. وهذه هي رواية الربيع
وقد روى المزني في بعض النسخ " فهو ظهار "
والقول الفصل في هذا انه إذا قال أنت علي حرام كظهر أمي ولم ينو شيئا فهو
ظهار، لأنه أتى بصريحه، وكأن لفظ التحريم تأكيدا له، وإن نوى به الطلاق
كان طلاقا في أصح القولين، ووجه القائلين بأنه ظهار أن النية هنا قرينة خفية
وأن لفظ الظهار قرينة جلية، ومن ثم تقدم القرينة الجلية على الخفية، وقد غلط
أصحابنا بعض نسخ المزني المذكور فيها الظهار، لان الأصل عندنا أن التحريم
كناية في الطلاق خلافا للحنابلة فإنهم يجعلونه كناية في الظهار كما قدمنا، والكناية
مع النية تجرى مجرى الصريح بلا مراء، فصار كما لو قال: أنت طالق كظهر
أمي سواء بسواء.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ويصح الظهار مؤقتا، وهو أن يقول أنت علي كظهر أمي يوما
أو شهرا، نص عليه في الام. وقال في اختلاف العراقيين لا يصير مظاهرا لأنه
لو شبهها بمن تحرم إلى وقت لم يصر مظاهر، فكذلك إذا شبهها بأمه إلى وقت،
والصحيح هو الأول لما روى سلمة بن صخر قال " كنت امرأ أصيب من النساء
351

ما لا يصيب غيري. فلما دخل شهر رمضان خفت ان أصيب من امرأتي شيئا
يتتابع بي حتى أصبح فظاهرت منه حتى ينسلخ رمضان، فبينما هي تحدثني ذات
ليلة وتكشف لي منها شئ فلم ألبث ان نزوت عليها فانطلقت إلى رسول اله صلى الله عليه وسلم
فأخبرته، فقال " حرر رقبة " ولان الحكم إنما تعلق بالظهار لقوله المنكر والزور
وذلك موجود في المؤقت.
(فصل) ويجوز تعليقه بشرط كدخول الدار ومشيئة زيد لأنه قول
يوجب تحريم الزوجة فجاز تعليقه بالشرط كالطلاق، وإن قال إن تظاهرت من
فلانه فأنت على كظهر أمي، فتزوج فلانة وتظاهر منها صار مظاهرا من الزوجة
لأنه قد وجد شرط ظهارها
وإن قال: إن تظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت على كظهر أمي، ثم تزوج
فلانة وظاهر منها ففيه وجهان (أحدهما) لا يصير مظاهرا من الزوجة لأنه
شرط ان ظهار من الأجنبية، والشرط لم يوجد فصار كما لو قال إن تظاهرت
من فلانة وهي أجنبية فأنت على كظهر أمي ثم تزوجها وظاهر منها (والثاني) يصير
مظاهرا منها لأنه علق ظهارها بعينها ووصفها بصفة، والحكم إذا تلعق بعين على
صفة كانت الصفة تعريفا لا شرطا. كما لو قال والله لا دخلت دار زيد هذه
فباعها زيد ثم دخلها فإنه يحنث وإن لم تكن ملك زيد
(فصل) وإن قالت الزوجة لزوجها أنت علي كظهر أبى أو أنا عليك كظهر
أمك لم يلزمها شئ لأنه قول يوجب تحريما في الزوجية يملك الزوج رفعه فاختص
به الرجل كالطلاق.
(الشرح) حديث سلمة بن صخر أورده المصنف مختصرا، وقد أخرجه أحمد
وأبو داود الترمذي وقال حديث حسن وأخرجه الحاكم وصححه ابن خزيمة وابن
الجارود، وقد أعله عبد الحق بالانقطاع. وأن سليمان بن يسار لم يدرك سلمة
وقد حكى ذلك الترمذي عن البخاري.
ثم إن في إسناده أيضا محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف. ولفظ الحديث
352

عن سملة بن صخر رضي الله عنه قال " كنت امرأ قد أوتيت من جماع النساء ما لم
يؤت غيري، فلما دخل رمضان ظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ رمضان فرقا
من أن أصيب في ليلتي شيئا فأتتابع في ذلك إلى أن يدركني النهار، وأنا لا أقدر أن
أنزع، فبينا هي تخدمني من الليل إذ تكشف لي منها شئ فوثبت عليها فلما
أصبحت غدوت على قومي فأخبرتهم خبري وقلت لهم انطلقوا معي إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بأمري، فقالوا والله لا نفعل نتخوف أن ينزل فينا
قرآن. أو يقول فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالة يبقى عارها علينا. ولكن
اذهب أنت واصنع ما بدا لك. فخرجت حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم
فأخبرته خبري فقال لي أنت بذاك. قلت أنا بذاك؟ فقال أنت بذاك؟ قلت أنا
بذاك. فقال أنت بذاك؟ قلت نعم ها أنذا فأمض في حكم الله عز وجل فأنا
صابر له. قال أعتق رقبة، فضربت صفحة رقبتي بيدي وقلت لا والذي بعثك
بالحق ما أصبحت أملك غيرها. فقال صم شهرين متتابعين. قال قلت يا رسول الله
الله وهل أصابني ما أصابني الا في الصوم. قال فتصدق. قال قلت والذي بعثك
بالحق لقد بتنا ليلتنا وحشا ما لنا عشاء. قال اذهب إلى صاحب صدقة بنى زريق
فقل له فليدعها إليك فأطعم عنك منها وسقا من تمر ستين مسكينا ثم استعن بسائره
عليك وعلى عيالك. قال فرجعت إلى قومي فقلت وجدت عندكم الضيق وسوء
الرأي. ووجدت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم السعة والبركة وقد أمر لي
بصدقتكم فادفعوها إلى فدفعوها إلى "
على أن الحديث إذا كان قد رجح النسائي إرساله فإنه لا يضر ارسال ورود
الحديث من طرق بعضها متصل وبعضها مرسل لا يكون هذا ضعفا، وإنما يزيد
الحديث قوة.
وقد رواه البزار من وجه آخر عن ابن عباس وزاد فيه " كفر ولا تعد "
أورده الحافظ في بلوغ المرام. وسلمة بن صخر هو البياضي بفتح الموحدة وتخفيف
المثناة التحتية وضاد معجمة. أنصاري خزرجي. كان أحد البكائين. روى عنه
سليمان بن يسار وابن المسيب. قد أوردنا كلام الحدثين فيه. للحديث متابعات
من طرق غير سلمة. ففي رواية ابن عباس أن الرجل قال للنبي صلى الله وسلم
353

" رأيت خلخالها في ضوء القمر " وقوله شيئا يتتابع بي. يدفعني إلى اللجاج والتهافت
في الشر. وقوله " نزوت عليها " أي قفزت وطفرت
أما الأحكام فإنه يصح الظهار موقتا مثل أن يقول أنت علي كظهر أمي شهرا
أو حتى ينسلخ رمضان. فإذا مضى الوقت زال الظهار وحلت المرأة بلا كفارة.
ولا يكون عائدا بالوطئ في المدة في أحد القولين للشافعي رضي الله عنه. وهو
قول ابن عباس وعطاء وقتادة والثوري وإسحاق وأبي ثور وأحمد بن حنبل.
وقال الشافعي في اختلاف العراقيين وهما أبو حنيفة وابن أبي ليلى لا يكون ظهارا
وبه قال ابن أبي ليلى والليث. لان الشرع ورد بلفظ الظهار مطلقا. وهذا لم يطلق
فأشبه ما لو شبهها بمن تحرم عليه في وقت دون آخر
وقال طاوس إذا ظاهر في وقت فعليه الكفارة وان بر. وقال مالك في
المدونة. يسقط التأقيت ويكون ظهارا مطلقا. لان هذا لفظ يوجب تحريم الزوجة
فإذا وقته لم يتوقف كالطلاق
دليلنا حديث سلمة بن صخر وقوله " تظاهرت من امرأتي حتى ينسلخ شهر
رمضان. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه أصابها في الشهر فأمره بالكفارة.
ولم يعتبر عليه تقييده. لأنه منع نفسه بيمين لها كفارة فصح مؤقتا كالايلاء
وفارق الطلاق فإنه يزيل الملك وهو يوقع تحريما يرفعه التكفير فجاز تأقيته. ولا
يصح قول من أوجب الكفارة وان بر. لان الله تعالى إنما. أوجب الكفارة على
الذين يعودون لما قالوا. ومن بر وترك العود في الوقت الذي ظاهر فلم يعد لما قال
فلا تجب عليه كفارة. وفارق التشبيه بمن لا تحرم عليه على التأبيد لان تحريمها غير
كامل. وهذه حرمها في هذه المدة تحريما مشبها بتحريم ظهر أمه. على أننا نمنع
الحكم فيها.
وإذا ثبت هذا فإنه لا يكون عائدا الا بالوطئ في المدة. وهذا هو المنصوص
عن الشافعي. وقال بعض أصحابه ان لم يطلقها عقيب الظهار فهو عائد عليه الكفارة
وقال أبو عبيد " إذا أجمع على غشيانها في الوقت لزمته الكفارة والا فلا. لان
العود العزم على الوطئ ولكن حديث سلمة بن صخر دليل على أنه لم يوجب عليه
الكفارة الا بالوطئ. ولأنها يمين لم يحنث فيها فلا يلزمه كفارتها كاليمين بالله تعالى
354

ولان المظاهر في وقت عازم على امساك زوجته في ذك الوقت. فمن أوجب
الكفارة عليه بذلك كان قوله كقول طاوس. فلا معنى لقوله يصح الظهار مؤقتا
لعدم تأثير الوقت.
(مسألة) قوله ويجوز تعليقه بشرط كدخول الدار ومشيئة زيد. وهذا صحيح
فقد قال الشافعي في الام. فإذا قال لامرأته ان دخلت الدار فأنت على كظهر
أمي فدخلت الدار كان متظاهر حين دخلت. وكذلك ان قال إن قدم فلان أو
نكحت فلانة. اه‍
وجملة ذلك أنه يصح تعليق الظهار بالشروط. ونحو أن يقول إن دخلت الدار
فأنت على كظهر أمي. وان شاء زيد فأنت على كظهر أمي. فمتى شاء زيد أو
دخلت الدار صار مظاهرا والا فلا. وبهذا قال الشافعي وأصحاب الرأي وأحمد
ابن حنبل لأنه يمين فجاز تعليقه على شرط كالايلاء. ولان الظهار أصله كان طلاقا
والطلاق يصح تعليقه بالشرط فكذلك الظهار
(فرع) قال في الام " ولو قال لامرأة لم ينكحها إذا نكحتك فأنت علي
كظهر أمي فنكحها لم يكن متظاهرا. لأنه لو قال في تلك الحال أنت علي كظهر
أمي لم يكن متظاهرا لأنه إنما يقع التحريم من النساء على من حل ثم حرم. فأما
من لم يحل فلا يقع عليه تحريم ولا حكم تحريم لأنه محرم فلا معنى للتحريم في
التحريم. لأنه في الحالين قبل التحريم وبعد محرم بتحريم. اه‍
وجملة ذلك أنه إذا قال لأجنبية أنت علي كظهر أمي جاز له أن يطأها ولا كفارة
عليه. وبهذا قال الثوري وأبو حنيفة. ويروى ذلك عن ابن عباس لقول الله تعالى
(والذين يظاهرون من نسائهم) والأجنبية ليست من نسائه. ولان الظهار يمين
ورد الشرع بحكمها مقيدا بنسائه فلم يثبت حكمها في الأجنبية كالايلاء. فإن الله
تعالى يقول " والذين يظاهرون من نسائهم " كما يقول للذين يؤلون من نسائهم "
ولأنها ليست بزوجة فلم يصح الظهار منها كأمته. ولأنه حرم محرمة فلم يلزمه شئ
كما لو قال أنت حرام. ولأنه نوع تحريم فلم يتقدم النكاح كالطلاق
وقال أحمد وأصحابه إذا قال لامرأة أجنبية أنت علي كظهر أمي لم يطأها ان
تزوجها حتى يأتي بالكفارة
355

قال ابن قدامة يصح الظهار من الأجنبية. سواء قال ذلك لامرأة بعينها أو
قال كل النساء على كظهر أمي. وسواء أوقعه مطلقا أو علقه على التزويج فقال
كل امرأة أتزوجها فهي على كظهر أمي. ومتى تزوج التي ظهار منها لم يطأها حتى
يكفر. ويروى نحو هذا عن عمر. وبه قال سعيد بن المسيب وعروة وعطاء
والحسن ومالك وإسحاق وأبو حنيفة اه‍
وحجة هذا الفريق ما رواه أحمد في مسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أنه قال في رجل قال إن تزوجت فلانة فهي على كظهر أمي فتزوجها. قال عليه
كفارة الظهار. ولأنها يمين مقفرة فصح انعقادها قبل النكاح كاليمين بالله تعالى.
(فرع) إذا قال لامرأته ان تظاهرت من امرأتي الأخرى فأنت على كظهر
أمي ثم تظاهر من الأخرى صار مظاهرا منهما جميعا. وان قال إن تظاهرت من
فلانة الأجنبية فأنت على كظهر أمي. ثم قال للأجنبية أنت علي كظهر أمي فقد
قال الشافعي إذا قال لامرأته إذا تظاهرت من فلانه - امرأة له أخرى - فأنت
على كظهر أمي. فتظاهر منها كان من امرأته التي قال لها ذلك مظاهرا. ولو قال
لامرأته إذا تظاهرت من فلانة - امرأة أجنبية - فأنت على كظهر أمي فتظاهر
من الأجنبية لم يكن عليه ظهار. لان ذلك ليس بظهار. وكذلك لو قال لها إذا
طلقتها فأنت طالق فطلقها لم تكن امرأته طالقا لأنه طلق غير زوجته اه‍
(مسألة) ليس على النساء تظاهر. وإنما قال تعالى " والذين يظاهرون منكم
من نسائهم " ولم يقل اللائي يظهرن منكن من أزواجهن. إنما الظهار على الرجال.
قال ابن العربي. هكذا روى عن ابن القاسم وسالم ويحيى بن سعيد وربيعة وأبى الزناد
وقد أفاده مالك في المدونة وهو صحيح المعنى لان الحل والعقد والتحليل والتحريم في
النكاح بيد الرجال. ليس بيد المرأة منه شئ. وهذا اجماع
قال أبو عمر بن عبد البر ليس على النساء ظهار في قول جمهور العلماء. وقال
الحسن بن زياد هي مظاهر. وقال الثوري وأبو حنيفة ومحمد ليس ظهار المرأة من
الرجل بشئ قبل النكاح كان أو بعده
وقال الشافعي لا ظهار للمرأة من الرجل. وقال الأوزاعي إذا قالت المرأة
356

لزوجها أنت علي كظهر أمي فلانة فهي يمين تكفرها، وكذلك قال إسحاق. قال
لا تكون امرأة متظاهرة من رجل ولكن عليها يمين تكفرها. وقال الزهري
أرى أن تكفر كفارة الظهار، ولا يحول قولها هذا بينها وبين زوجها أن يصيبها
رواه معمر عنه وابن جريج عن عطاء قال حرمت ما أحل الله. عليها كفارة يمين
وهو قول أبى يوسف. وقال محمد بن الحسن لا شئ عليها
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا صح الظهار ووجد العود وجبت الكفارة لقوله عز وجل " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة " والعود هو أن
يمسكها بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فلم يفعل. وإن ماتت المرأة عقيب
الظهار أو طلقها عقيب الظهار لم تجب الكفارة. والدليل على أن العود ما ذكرناه
هو أن تشبيهها بالأم يقتضى أن لا يمسكها. فإذا أمسكها فقد عاد فيما قال، فإذا
ماتت أو طلقها عقيب الظهار لم يوجد العود فيما قال
(فصل) وان تظاهر من رجعية لم يصر عائدا قبل الرجعة، لأنه لا يوجد
الامساك وهي تجرى إلى البينونة، فإن راجعها فهل تكون الرجعة عودا أم لا؟
فيه قولان: قال في الاملاء لا تكون عودا حتى يمسكها بعد الرجعة، لان العود
استدامة الامساك، والرجعة ابتداء استباحة فلم تكن عودا.
وقال في الام: هو عود لان العود هو الامساك، وقد سمى الله عز وجل
الرجعة إمساكا فقال " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " ولأنه إذا حصل
العود باستدامة الامساك فلان يحصل بابتداء الاستباحة أولى، وان بانت منه ثم
تزوجها فهل يعود الظاهر أم لا؟ على الأقوال التي مضت في الطلاق. فإذا قلنا إنه
يعود فهل يكون النكاح عودا؟ فيه وجهان، الصحيح لا، بناء على القولين في
الرجعة. وان ظاهر الكافر من امرأته وأسلمت المرأة عقيب الظهار - فإن كان
قبل الدخول - لم تجب الكفارة لأنه لم يوجد العود، وإن كان بعد الدخول لم
يصر عائدا ما دامت في العدة لأنها تجرى إلى البينونة. وان أسلم الزوج قبل انقضاء
العدة ففيه وجهان:
357

(أحدهما) لا يصير عائدا لان العود هو الامساك على النكاح، وذلك لا يوجد
إلا بعد الاسلام.
(والثاني) يصير عائدا لان قطع البينونة بالاسلام أبلغ من الامساك فكان
العود به أولى.
(فصل) وإن كانت الزوجة أمة فاشتراها الزوج عقيب الظهار ففيه وجهان
(أحدهما) إن الملك عود لان العود أن يمسكها على الاستباحة وذلك قد وجد
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق ان ذلك ليس بعود لان العود هو الامساك على
الزوجية والشروع في الشراء تسبب لفسخ النكاح فلم يجز أن يكون عودا، وان
قذفها وأتى من اللعان بلفظ الشهادة وبقى لفظ اللعن فظاهر منها ثم أتى بلفظ اللعن
عقيب الظهار لم يكن ذلك عودا لأنه يقع به الفرقة فلم يكن عودا كما لو طلقها.
وان قذفها ثم ظاهر منها ثم أتى بلفظ اللعان ففيه وجهان
(أحدهما) أنه صار عائدا لأنه أمسكها زمانا أمكنه أن يطلقها فيه فلم يطلق.
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق أنه لا يكون عائدا لأنه اشتغل بما يوجب
الفرقة فصار كما لو ظاهر منها ثم طلق وأطال لفظ الطلاق
(فصل) وإن كان الظهار موقتا ففي عوده وجهان (أحدهما) وهو قول
المزني أن العود فيه أن يمسكها بعد الظهار زمانا يمكنه أن يطلقها فيه كما قلنا في الظهار
المطلق (والثاني) وهو المنصوص أنه لا يحصل العود فيه الا بالوطئ لان امساكه
يجوز أن يكون لوقت الظهار. ويجوز أن يكون لما بعد مدة الظهار، فلا يتحقق
العود الا بالوطئ، فإن لم يطأها حتى مضت المدة سقط الظهار ولم تجب الكفارة
لأنه لم يوجد العود
(الشرح) قوله تعالى " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا "
في هذه الآية " والذين يظاهرون " ان هذا ابتداء والخبر " فتحرير رقبة " فحذف
" عليهم " لدلالة الكلام عليه، أي فعليهم تحرير رقبة، والمجمع عليه عند العلماء
أن قوله أنت علي كظهر أمي منكر من القول وزور، فمن قال هذا القول حرم
عليه وطئ امرأته فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار لقوله تعالى " ثم يعودون لما قالوا "
358

فمن عاد لزمته الكفارة. قال القرطبي وهذا يدل على أن الكفارة لا تلزم بالقول
خاصة حتى ينضم إليه العود، وهذا حرف مشكل اختلف فيه الناس على سبعة
أقوال
(الأول) انه العزم على الوطئ. وهو مشهور قول أبي حنيفة وأصحابه.
وروى عن مالك فإن عزم على وطئها كان عودا وان لم يعزم لم يكن عودا.
(الثاني) العزم على الامساك بعد التظاهر منها. قاله مالك
(الثالث) العزم عليهما - وهو قول مالك في موطئه، قال بعد ذكر الآية
سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على اصابتها وامساكها
فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة، وان طلقها ولم يجمع بعد تظاهره
منها على امساكها واصابتها فلا كفارة عليه. قال مالك وان تزوجها بعد ذلك
لم يمسها حتى يكفر كفارة التظاهر.
(الرابع) أنه اوطئ نفسه، فإن لم يطأ لم يكن عودا، قاله الحسن ومالك أيضا.
(الخامس) وهو قول الإمام الشافعي رضي الله عنه هو أن يمسكها زوجة بعد
الظهار مع القدرة على الطلاق، لأنه لما ظاهر قصد التحريم، فإن وصل به
الطلاق فقد جرى على خلاف ما ابتدأه من ايقاع التحريم ولا كفارة عليه.
وان أمسك عن الطلاق فقد عاد إلى ما كان عليه فتجب عليه الكفارة
(السادس) أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه الا الكفارة، ومعنى العود
عند القائلين بهذا انه لا يستبيح وطؤها الا بكفارة يقدمها. قاله أبو حنيفة وأصحابه
والليث بن سعد.
(السابع) هو تكرير الظهار بلفظه، وهذا قول أهل الظاهر النافين للقياس
قال إذا كرر اللفظ بالظهار فهو العود، وان لم يكرر فليس بعود، ويسند ذلك
إلى بكير الأشج وأبى العالية وأبي حنيفة أيضا. وهو قول الفراء
وقال أبو العالية وظاهر الآية يشهد له لأنه قال ثم يعودون لما قالوا، أي إلى
قول ما قال. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى " والذين
يظاهرون. الخ " هو أن يقول لها أنت علي كظهر أمي. فإذا قال لها ذلك فليست
تحل له حتى يكفر كفارة الظهار
قال ابن العربي فأما بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح
359

عن بكير. وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه. وقد رويت قصص
المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم. وأيضا فإن
المعنى ينقضه، لان الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور فكيف يقال له
إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة. وهذا لا يعقل
ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الإعادة من قتل ووطئ في
صوم أو غيره. وقد رد القرطبي على ابن العربي فقال: قوله يشبه أن يكون من
جهالة داود وأشياعه. حمل منه عليه. وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم.
وقال بعض أهل التأويل الآية فيهما تقديم وتأخير، ثم يعودون لما كانوا عليه
من الجماع فتحرير رقبة لما قالوا، أي فعليهم تحرير من أجل ما قالوا، فالجار
والمجرور متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم. قاله الأخفش.
وقال الزجاج المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. وقيل المعنى الذين
كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية ثم يعودون لما كانوا قالوه في الجاهلية في
الاسلام فكفارة من عاد أن يحرر رقبة
وقال الفراء اللام بمعنى عن. والمعنى ثم يعودون عما قالوا ويريدون الوطئ،
وقال الأخفش لما قالوا والى ما قالوا واحد، واللام. وإلى يتعاقبان قال " الحمد الله
الذي هدانا لهذا " وقال فاهدوهم إلى صراط الجحيم " وقال " بأن ربك أوحى لها "
وقال " وأوحى إلى نوح "
قال ابن قدامة في المغنى: أوجب الله تعالى الكفارة بأمرين ظهار وعود فلا
تثبت بأحدهما، ولان الكفارة في الظهار كفارة يمين فلا يحنث بغير الحنث كسائر
الايمان، والحنث فيها هو العود. وذلك فعل ما حلف على تركه وهو الجماع،
وترك طلاقها ليس بحنث فيها، ولا فعل لما حلف على تركه فلا تجب به الكفارة
ولأنه لو كان الامساك عودا لوجبت الكفارة على المظاهر المؤقت وإن بر.
وقد نص الشافعي على أنها لا تحب عليه
قلت: وليس في كلام القرطبي ولا ابن قدامة في الرد على الشافعي ما يدفع
قوة حكمه إذ يقول متى أمسكها بعد ظهاره زمنا يمكنه طلاقها فيه فلم يطلقها فعليه
الكفارة، لان ذلك هو العود
360

وقال الشافعي رضي الله عنه الذي عقلت مما سمعت في يعودون لما قالوا " أن
المتظاهر حرم مس امرأته بالظهار، فإذا أنت عليه مدة بعد القول بالظهار لم
يحرمها بالطلاق الذي يحرم به ولا شئ يكون له مخرج من أن تحرم عليه به، فقد
وجب على كفارة الظهار، كأنهم يذهبون إلى أنه إذا أمسك ما حرم على نفسه
انه حلال فقد عاد لما قال فخالفه فأحل ما حرم. ولا أعلم له معنى أولى به من هذا
ولم أعلم مخالفا في أن عليه كفارة الظهار، وإن لم يعد بتظاهر آخر فلم يجز أن
يقال لما لم أعلم مخالفا في أنه ليس بمعنى الآية. وإذا حبس المتظاهر امرأته بعد
الظهار قدر ما يمكنه ان يطلقها ولم يطلقها فكفارة الظهار له لازمة. ولو طلقها
بعد ذلك أو لاعنها فحرمت عليه على الأبد لزمته كفارة الظهار. وكذلك لو ماتت
أو ارتدت فقتلت على لردة. ومعنى قول الله تعالى " من قبل أن يتماسا " وقت
لان يؤدى ما أوجب عليه من الكفارة فيها قبل المماسة، فإذا كانت المماسة قبل
الكفارة فذهب ا؟ قت لم تبطل الكفارة ولم يزد عليه فيها، كما يقال له أد الصلاة
في وقت كذا وقبل وقت كذا فيذهب الوقت فيؤديها لأنها فرض عليه، فإذا لم
يؤدها في الوقت أداها قضاء بعده، ولا يقال له زد فيها لذهاب الوقت
قبل أن تؤديها.
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه " ولو تظاهر منها فأتبع التظاهر طلاقا
تحل له بعده قبل زوج له عليها فيه الرجعة أو لا رجعة له لم يكن عليه بعد الطلاق
كفارة، لأنه أتبعها الطلاق مكانه، فإن راجعها في العدة فعليه الكفارة في التي
يملك رجعتها. ولو طلقها ساعة نكحها لان مراجعتها بعد الطلاق أكثر من حبسها
بعد الظهار وهو يمكنه أن يطلقها
ولو تظاهر منه ثم أتبعها طلاقا لا يملك فيه الرجعة ثم نكحها لم تكن عليه
كفا؟؟، لان هذا ملك غير الملك الأول الذي كان في الظهار. ألا ترى انه لو
تظاهر منها بعد طلاق لا يملك فيه الرجعة لم يكن فيه متظاهرا. ولو طلقها ثلاثا
أو طلاقا لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره سقط عنه الظهار اه‍
قلت إنه إذا طلق من ظاهر منها ثم تزوجها لم يكن عليه كفارة إلا إذا راجعها
361

في العدة. وقال أحمد وأصحابه لم يحل له وطؤها حتى يكفر سواء كان الطلاق ثلاثا
أو أقل منه، وسواء رجعت إليه بعد زوج آخر أو قبله. نص عليه أحمد، وهو
قول عطاء والحسن والزهري والنخعي ومالك وأبى عبيد
وقال قتادة إذا بانت سقط الظهار، فإذا عاد فنكحها فلا كفارة عليه. وللشافعي
قولان كالمذهبين. وقول ثالث إن كانت البينونة بالثلاث لم يعد الظهار، وإلا عاد
وبناه على الأقاويل في عود صفة الطلاق في النكاح الثاني وقد مضى
(فرع) إذا تظاهر المسلم من امرأته ثم ارتد أو ارتدت مع الظهار - فإن
عاد المرتد منهما إلى الاسلام في العدة فحبسها قدر ما يمكنه الطلاق - لزمه الظهار
وان طلقها مع عودة المرتد منهما إلى الاسلام أو لم يعد المرتد منهما إلى الاسلام
فلا ظهار عليه الا ان يتناكحا قبل أن تبين منه بثلاث فيعود عليه الظهار
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه " وإذا تظاهر الرجل من امرأته وهي
أمة ثم عتقت فاختارت فراقه فالظهار لازم له لأنه حبسها بعد الظهار مدة يمكنه
فيها الطلاق. ولو تظاهر منها وهي أمة فلم يكفر حتى اشتراها لم يكن له ان يقربها
حتى يكفر، لان كفارة الظهار لزمته وهي أمة زوجة - إلى أن قال - وإذا قال
الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي والله لا أقربك، أو قال والله لا أقربك وأنت
على كظهر أمي فهو مول متظاهر يؤمر بأن يكفر للظهار من ساعته، ويقال له ان
قدمت الفيئة قبل الأربعة الأشهر فهو خير لك. وان فئت كنت خارجا بها من
حكم الايلاء، وعاصيا ان قدمتها قبل كفارة الظهار، فإن اخرتها إلى أربعة أشهر
فسألت امرأتك ان توقف للايلاء وقفت، وإن فئت خرجت من الايلاء، وان
لم تفئ قيل طلق والا طلق عليك اه‍
هذا وما في الفصول من اللعان سيأتي في بابه خشية الإطالة
(مسألة) للعود في الظهار المؤقت وجهل (أحدهما) ان العود هو الامساك
بعد الظهار بقدر ما يمكنه من طلاقها كالمنصوص في الظهار المطلق. وهذا هو
اختيار المزني (والثاني) وهو المنصوص في المؤقت ان العود لا يتحقق الا بالوطئ
فإذا مضت المدة بغير وطئ سقط الظهار وسقط وجوب الكفارة لان العود لم
يوجد وهو الذي يتعلق به الكفارة
362

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن تظاهر من أربع نسوة بأربع كلمات وأمسكهن، لزمه لكل
واحد كفارة، وإن تظاهر منهن بكلمة واحدة بأن قال: أنتن على كظهر أمي
وأمسكهن ففيه قولان، قال في القديم: تلزمه كفارة واحدة لما روى ابن عباس
وسعيد بن المسيب رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه سئل عن رجل تظاهر من
أربع نسوة فقال يجزيه كفارة واحدة. وقال في الجديد: يلزمه أربع كفارات
لأنه وجد الظهار والعود في حق كل واحدة منهم، فلزمه أربع كفارات، كما لو
أفردهن بكلمات.
وإن تظاهر من امرأة ثم ظاهر منها قبل أن يكفر عن الأول نظرت - فإن
قصد التأكيد - لزمه كفارة واحدة، وإن قصد الاستئناف ففيه قولان، قال في
القديم تلزمه كفارة واحدة، لان الثاني لم يؤثر في التحريم، وقال في الجديد يلزمه
كفارتان لأنه قول يؤثر في تحريم الزوجة كرره على وجه الاستئناف، فتعلق
بكل مرة حكم الطلاق، وإن أطلق ولم ينو شيئا فقد قال بعض أصحابنا حكمه حكم
ما لو قصد التأكيد. ومنهم من قال: حكمه حكم ما لو قصد الاستئناف، كما قلنا
فيمن كرر الطلاق.
وإن كانت له امرأتان وقال لإحداهما: إن تظاهرت منك فالأخرى على
كظهر أمي، ثم تظاهر من الأولى وأمسكها لزمه كفارتان قولان واحدا لأنه أفرد
كل واحدة منهما بظهار.
(الشرح) إذا تظاهر من أربع نسوة بأربع كلمات فقال: لكل واحدة أنت
على كظهر أمي، فإن لكل يمين كفارة. وهذا قول عروة وعطاء وأحمد بن حنبل
في رواية أبى عبد الله بن حامد. وقال في رواية أبى بكر: يجزئه كفارة واحدة.
ولأنها أيمان متكررة على أعيان متفرقة فكان لكل واحدة كفارة، كما لو كفر
ثم ظاهر، ولأنها أيمان لا يحنث في إحداها بالحنث في الأخرى فلا تكفرها
كفارة واحدة كالأصل، ولان الظهار معنى يوجب الكفارة، فتعدد الكفارة
بتعدده في المحال المختلفة كالقتل، ويفارق الحد فإنه عقوبة تدرأ بالشبهات،
363

فأما ان ظاهر من امرأته مرارا ولم يكفر فإن قصد توكيده فعليه كفارة واحدة،
وإن قصد الاستئناف ففيه قولان. القديم تلزمه كفارة واحدة لعدم تأثير الثاني
في التحريم. والجديد يلزمه لكل يمين كفارة، لتعلق الطلاق بكل مرة ينطق به
على سبيل الاستئناف، فإذا لم ينو شيئا فقد ذهب بعض أصحابنا إلى إلحاقه بالتوكيد
وذهب الآخر إلى إلحاقه بالاستئناف
وقال أحمد وأصحابه ليس عليه إلا كفارة واحدة ولم يفرق لان الحنث واحد
فوجبت كفارة واحدة كما لو كانت اليمين واحدة
أما إذا تظاهر من نسائه الأربع بكلمة واحدة فقد قال في القديم تلزمه كفارة
واحدة، وهو قول على وعمر وعروة وطاوس وعطاء وربيعة ومالك والأوزاعي
وإسحاق وأبي ثور وأحمد بن حنبل. وقال الشافعي في الجديد وإذا تظاهر الرجل
من أربع نسوة له بكلمة واحدة أو بكلام متفرق فسواء وعليه في كل واحدة منهن
كفارة، لان التظاهر تحريم لكل واحدة منهم لا تحل له بعد حتى يكفر كما يطلقهن
معا في كلمة واحدة أو كلام متفرق، فتكون كل واحدة منهن طالقا. قال وإذا
تظاهر الرجل من امرأته مرتين أو ثلاثا أو أكثر يريد بكل واحدة منهن ظهارا
غير صاحبه فهل يكفر؟ فعليه في كل تظاهر كفارة كما يكون عليه في كل تطليقة تطليقة
لان التظاهر طلاق جعل المخرج منه كفارة، ولو قالها متتابعة فقال أردت ظهارا
واحدا كان واحدا، كما يكون لو أراد طلاقا واحدا وإبانة بكلمة واحدة.
وانتهى من الام.
وجملة ذلك أنه إذا تظاهر من أربع من نسائه بكلمة واحدة كان عليه لكل
واحدة كفارة. وهو قول الحسن والنخعي والزهري ويحيى الأنصاري والحكم
والثوري وأصحاب الرأي، ومفهوم كلام الخرقي من الحنابلة أنه إذا ظاهر منهن
بكلمات فقال لكل واحدة أنت علي كظهر أمي فإن لكل يمين كفارة، وهذا قول
عروة وعطاء. قال أبو عبد الله بن حامد من أصحاب أحمد المذهب رواية واحدة
في هذا، وتابعه القاضي وخالفه أبو بكر فقال فيه رواية أخرى أنه يجزئه كفارة
واحدة. قال ابن قدامة واختار هذا الذي قلناه اتباعا لعمر بن الخطاب والحسن
364

وعطاء وإبراهيم وربيعة وقبيصة وإسحاق، لان كفارة الظهار حق لله تعالى فلم
تتكرر بتكرر سببها كالحد وعليه يخرج الطلاق
(مسألة) إذا ظاهر من امرأة ثم قال لأخرى أشركتك معها أو أنت شريكتها
أو كهى ونوى المظاهرة من الثانية صار مظاهرا منها بغير خلاف علمناه، وبه
قال مالك وأحمد.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإذا وجبت الكفارة حرم وطؤها إلى أن يكفر لقوله عز وجل
" والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا
فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين
مسكينا " فشرط في العتق والصوم أن يكونا قبل المسيس، وقسنا عليهما الاطعام
وروى عكرمة أن رجلا ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم
فأخبره فقال " ما حملك على ما صنعت؟ قال رأيت بياض ساقها في القمر، قال
فاعتزلها حتى تكفر عن يمينك "
واختلف قوله في المباشرة فيما دون الفرج، فقال في القديم تحرم لأنه قول
يؤثر في تحريم الوطئ فحرم به ما دونه من المباشرة كالطلاق. وقال في الجديد
لا تحرم لأنه وطئ لا يتعلق بتحريمه مال فلم يجاوزه التحريم كوطئ الحائض.
والله تعالى أعلم.
(الشرح) حديث عكرمة هكذا ساقه المصنف مرسلا، وهي رواية النسائي
ولفظه " فلا تقربها حتى تقضى ما عليك " وقد أخرجه موصولا عن ابن عباس
أبو داود والترمذي وابن ماجة والدار قطني والحاكم وصححه، قال الحافظ بن حجر
ورجاله ثقات لكن أعله أبو حاتم والنسائي بالارسال
وقال ابن حزم رجاله ثقات ولا يضره ارسال من أرسله. وأخرج البزار
شاهدا له من طريق خصيف عن عطاء عن ابن عباس " ان رجلا قال يا رسول الله
انى ظاهرت من امرأتي فرأيت ساقها في القمر فواقعتها قبل أن أكفر، فقال
كفر ولا تعد " وقد بالغ أبو بكر بن العربي فقال ليس في الظهار حديث صحيح
365

أما الأحكام فإنه يحرم على المظاهر وطئ امرأته قبل أن يكفر وليس في ذلك
اختلاف إذا كانت الكفارة عتقا أو صوما لقوله تعالى " فتحرير رقبة من قبل أن
يتماسا " وقوله تعالى " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا "
وأكثر أهل العلم على أن التكفير بالاطعام مثلهما قياسا عليهما، وأنه يحرم وطؤها
قبل التكفير منهم عطاء والزهري وأصحاب الرأي ومالك. وذهب أبو ثور إلى
إباحة الجماع قبل التكفير بالاطعام، وعن أحمد ما يقضى ذلك، لان الله تعالى لم
يمنع المسيس قبله كما في العتق والصوم
دليلنا حديث عكرمة، ولأنه مظاهر لم يكفر فحرم عليه جماعها، كما لو كانت
كفارته العتق أو الصيام.
(فرع) التلذذ بما دون الفرج من القبلة واللمس والمباشرة، فقد ذهب في
القديم إلى تحريمه، لان الظهار قول يحرم به الوطئ فحرم به ما دونه من المباشرة
كالطلاق وهو إحدى الروايتين عن أحمد واختيار أبى بكر من أصحابه، وهو قول
الزهري ومالك والأوزاعي وأبى عبيد وأصحاب الرأي. وروى ذلك عن النخعي
لان ما يحرم به الوطئ يحرم به دواعيه كالطلاق والاحرام
وقال في الجديد: لا يحرم عليه سوى الجماع، والرواية الثانية عن أحمد حيث
يقول: أرجو أن لا يكون به بأس. وهو قول الثوري وإسحاق وأبي حنيفة.
وحكى عن مالك، وذلك لأنه وطئ يتعلق بتحريمه مال فلم يتجاوزه التحريم
كوطئ الحائض. والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل
366

قال المنصف رحمه الله تعالى:
باب كفارة الظهار
وكفارته عتق رقبة لمن وجد وصيام شهرين متتابعين لمن لم يجد الرقبة وإطعام ستين
مسكينا لمن لا يجد الرقبة ولا يطيق الصوم، والدليل عليه قوله عز وجل " والذين يظاهرون
من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا، فمن لم يجد فصيام
شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا "
وروت خولة بنت مالك بن ثعلبة قالت " ظاهر منى زوجي أوس بن الصامت
فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم
يجادلني فيه ويقول: اتق الله فإنه ابن عمك، فما برحت حتى نزل القرآن " قد سمع
الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله. الآية " فقال يعتق رقبة، فقلت
لا يجد، قال فليصم شهرين متتابعين، قلت يا رسول الله شيخ كبير ما به صيام،
قال فليطعم ستين مسكينا، قلت يا رسول الله ما عنده شئ يتصدق به، قال فأتى
بعرق من تمر، قلت يا رسول الله وأنا أعينه بعرق آخر، قال قد أحسنت فاذهبي
فأطعمي بهما عنه ستين مسكينا وارجعي إلى ابن عمك " فإن كان له مال يشترى
به رقبة فاضلا عما يحتاج إليه لقوته ولكسوته ومسكنه وبضاعة لا بد له منها
وجب عليه العتق.
وإن كان له رقبة لا يستغنى عن خدمتها، بأن كان كبيرا أو مريضا أو ممن
لا يخدم نفسه لم يلزمه صرفها في الكفارة، لان ما يستغرقه حاجته كالمعدوم في
جواز الانتقال إلى البدل، كما نقول فيمن معه ماء يحتاج إليه للعطش، وإن كان
ممن يخدم نفسه ففيه وجهان
(أحدهما) يلزمه العتق لأنه مستغن عنه
(والثاني) لا يلزمه لأنه ما من أحد الا ويحتاج إلى الترفه والخدمة، وان
وجبت عليه كفارة وله مال غائب - فإن كان لا ضرر عليه في تأخير الكفارة،
ككفارة القتل وكفارة الوطئ في رمضان - لم يجز أن ينتقل إلى الصوم لأنه
367

قادر على العتق من غير ضرر، فلا يكفر الصوم كما لو حضر المال، وإن كان عليه
ضرر في تأخير الكفارة ككفارة الظهار ففيه وجهان (أحدهما) لا يكفر بالصوم
لان له مالا فاضلا عن كفايته يمكنه أن يشترى به رقبة فلا يكفر بالصوم، كما نقول
في كفارة القتل (والثاني) له أن يكفر الصوم لان عليه ضررا في تحريم الوطئ
إلى أن يحضر المال فجاز له أن يكفر بالصوم
(فصل) وإن اختلف حاله من حين وجبت الكفارة إلى حين الأداء ففيه
ثلاثة أقوال (أحدها) أن يعتبر حال الأداء لأنها عبادة لها بدل من غير جنسها
فاعتبر فيها حال الأداء كالوضوء (والثاني) يعتبر حال الوجوب لأنه حق يجب
على وجه التطهير فاعتبر فيه حال الوجوب كالحد (والثالث) يعتبر أغلظ الأحوال
من حين الوجوب إلى حين الأداء، فأي وقت قدر على العتق لزمه لأنه حق يجب
في الذمة بوجود المال فاعتبر فيه أغلظ الأحوال كالحج
(فصل) ولا يجزئ في شئ من الكفارات إلا رقبة مؤمنة لقوله عز وجل
" ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة " فنص في كفارة القتل على رقبة مؤمنة
وقسنا عليها سائر الكفارات.
(فصل) ولا يجزئ إلا رقبة سليمة من العيوب التي تضر العمل ضررا
بينا لان المقصود تمليك العبد منفعته وتمكينه من التصرف، وذلك لا يحصل مع
العيب الذي يضر بالعمل ضررا بينا، فإن أعتق أعمى لم يجز لان العمى يضر
بالعمل الضرر البين، وإن أعتق أعور أجزأه لان العور لا يضر بالعلم ضررا
بينا لأنه يدرك ما يدرك البصير بالعينين ولا يجزئ مقطوع اليد أو الرجل لان
ذلك يضر العلم ضررا بينا، ولا يجزئ مقطوع الابهام أو السبابة أو الوسطى
لان منفعة اليد تبطل بقطع كل واحد منهما، ويجزئ مقطوع الخنصر أو البنصر
لأنه لا تبطل منفعة اليد بقطع إحداهما، فإن قطعتا جميعا - فإن كانتا من كف
واحدة - لم تجزه لأنه تبطل منفعة اليد بقطعهما، وإن كانتا من كفين أجزأه
لأنه لا تبطل منفعة كل واحد من الكفين، وان قطع منه أنملتان - فإن كانتا
من الخنصر أو البنصر - أجزاه، لان ذهاب كل واحدة منهما لا يمنع الاجزاء
فلان لا يمنع ذهاب أنملتين أولى، وإن كانا من الوسط أو السبابة لم يجزه لأنه
368

تبطل به منفعة الإصبع، وإن قطعت منه أنملة - فإن كانت من غير الابهام -
أجزأه لأنه لا تبطل به منفعة الإصبع، وإن كانت من الابهام لم يجزه لأنه تبطل
به منفعة الابهام.
(فصل) وإن كان أعرج نظرت - فإن كان عرجا قليلا - أجزأه لأنه
لا يضر بالعمل ضررا بينا، وإن كان كثيرا لم يجزه لأنه يضر بالعمل ضررا بينا
ويجزئ الأصم لان الصمم لا يضر بالعمل بل يزيد في العمل لأنه لا يسمع ما يشغله
وأما الأخرس فقد قال في موضع يجزئه، وقال في موضع لا يجزئه. فمن أصحابنا
من قال: إن كان مع الخرس صمم لم يجزه، لأنه يضر بالعمل ضررا بينا، وإن
لم يكن معه صمم أجزأه لأنه لا يضر بالعمل ضررا بينا، وحمل القولين على هذين
الحالين، ومنهم من قال: إن كان يعقل الإشارة أجزاه لأنه يبلغ بالإشارة ما يبلغ
بالنطق، وإن كان لا يعقل لم يجزه، لأنه يضر بالعمل ضررا بينا، وحمل القولين
على هذين الحالين.
وإن كان مجنونا جنونا مطبقا يمنع العمل لم يجزه، لأنه لا يصلح للعمل،
وإن كان يجن ويفيق نظرت - فإن كان زمان الجنون أكثر - لم يجزه لأنه
يضر به ضررا بينا، وإن كان زمان الإفاقة أكثر أجزأه لأنه لا يضر به ضررا
بينا، ويجزئ الأحمق، وهو الذي يفعل الشئ في غير موضعه مع العمل بقبحه.
(فصل) ويجزئ الأجدع لأنه كغيره في العمل، ويجزئ مقطوع الاذن
لان قطع الاذن لا يؤثر في العمل، وغيره أولى منه ليخرج من الخلاف، فإن
عند مالك لا يجزئه. ويجزئ ولد الزنا لأنه كغيره في العمل، وغيره أولى منه
لان الزهري والأوزاعي لا يجيزان ذلك، ويجزئ المجبوب والخصي لان الجب
والخصي لا يضران بالعمل ضررا بينا، ويجزئ الصغير لأنه يرجى من منافعه
وتصرفه أكثر مما يرجى من الكبير، ولا يجزئ عتق الحمل لأنه لم يثبت له حكم
الاحياء، ولهذا لا يجب عنه زكاة الفطر، ويجزئ المريض الذي يرجى برؤه،
ولا يجزئ من لا يرجى برؤه، لأنه لا عمل فيه، ويجزئ نضو الخلق إذا لم
369

يعجز عن العمل، ولا يجزئ إذا عجز عن العمل، وان أعتق مرهونا أو جانيا
وجوزنا عتقه أجزأه لأنه كغيره في العمل
(فصل) ولا يجزئ عبد مغصوب لأنه ممنوع من التصرف في نفسه فهو
كالزمن، وإن أعتق غائبا لا يعرف خبره فظاهر ما قاله ههنا أنه لا يجزئه. وقال
في زكاة الفطر إن عليه فطرته، فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة منهما إلى
الأخرى وجعلهما على قولين، أحدهما يجزئه عن الكفارة وتجب زكاة الفطر عنه
لأنه على يقين من حياته وعلى شك من موته، واليقين لا يزال بالشك، والثاني
لا يجزئه في الكفارة ولا تجب زكاة فطرته، لان الأصل في الكفارة وجوبها
فلا تسقط بالشك، والأصل في زكاة الفطر براءة ذمته منها، فلا تجب بالشك،
ومنهم من قال لا يجزئه في الكفارة وتجب زكاة الفطر، لان الأصل ارتهان
ذمته بالكفارة بالظهار المتحقق، وارتهانها بالزكاة بالملك المتحقق فلم تسقط
الكفارة بالحياة المشكوك فيها، ولا الزكاة بالموت المشكوك فيه
(فصل) ولا يجزئ عتق أم الولد ولا المكاتب، لأنهما يستحقان العتق
بغير الكفارة، بدليل أنه لا يجوز إبطاله بالبيع فلا يسقط بعتقهما فرض الكفارة
كما لو باع من فقير طعاما ثم دفعه إليه عن الكفارة، ويجزئ المدبر والمعتق بصفة
لان عتقهما غير مستحق بدليل انه يجوز إبطاله بالبيع
(فصل) وإن اشترى من يعتق عليه من الأقارب ونوى عتقه عن الكفارة
لم يجزه لان عتقه مستحق بالقرابة فلا يجوز أن يصرفه إلى الكفارة، كما لو
استحق عليه الطعام في النفقة في القرابة فدفعه إليه عن الكفارة. وإن اشترى
عبدا بشرط أن يعتقه فأعتقه عن الكفارة لم يجزه لأنه مستحق العتق بغير الكفارة
فلا يجوز صرفه إلى الكفارة
وإن كان مظاهرا وله عبدا فقال لامرأته: إن وطئتك فعلى أن أعتق عبدي
عن كفارة الظهار فوطئها ثم أعتق العبد عن الظهار ففيه وجهان، أحدهما: وهو
قول أبى على الطبري أنه لا يجزئه لان عتقه مستحق بالحنث في الايلاء
والثاني وهو قول أبي إسحاق أنه يجزئه، وهو المذهب لأنه لا يتعين عليه
عتقه لأنه مخير بين أن يعتقه وبين أن يكفر كفارة يمين
370

(فصل) وإن كان بينه وبين آخر عبد وهو موسر فأعتق نصيبه ونوى عتق
الجميع عن الكفارة أجزأه، لأنه عتق العبد بالمباشرة والسراية، وحكم السراية
حكم المباشرة، ولهذا إذا جرحه وسرى إلى نفسه جعل كما لو باشر قتله، وإن كان
معسرا عتق نصيبه، وإن ملك نصيب الآخر وأعتقه عن الكفارة أجزأه، لأنه
أعتق جميعه عن الكفارة. وإن كان في وقتين فأجزأه كما لو أطعم المساكين في
وقتين، وإن أعتق نصف عبدين عن كفارة ففيه ثلاثة أوجه
(أحدهما) لا يجزئه لان المأمور به عتق رقبة ولم يعتق رقبة
(والثاني) يجزئه لان أبعاض الجملة كالجملة في زكاة الفطر، وزكاة المال،
فكذلك في الكفارة.
(والثالث) أنه إن كان باقيهما حرا أجزاه، لأنه يحصل تكميل الأحكام
والتمكين من التصرف في منافعه على التمام، وإن كان مملوكا لم يجزه، لأنه لا يحصل
له تكميل الأحكام والتمكين التام.
(فصل) إذا قال لغيره أعتق عبدك عنى فأعتقه عنه دخل العبد في ملكه وعتق
عليه، سواء كان بعوض أو بغير عوض، واختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتق
عليه، فقال أبو إسحاق يقع الملك والعتق في حالة واحدة، ومن أصحابنا من قال:
يدخل في ملكه ثم يعتق عليه، وهو الصحيح، لان العتق لا يقع عنه في ملك
غيره فوجب أن يتقدم الملك ثم يقع العتق. وإن قال أعتق عبدك عن كفارتي،
فأعتقه عن كفارته أجزأه لأنه وقع العتق عنه فصار كما لو اشتره ثم أعتقه
(الشرح) حديث خولة بنت مالك بن ثعلبة رواه أبو داود وابن إسحاق وأحمد
بمعناه وفى إسناده محمد بن إسحاق، وأخرج بن ماجة والحاكم نحوه من حديث
عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شئ، انى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة
ويخفى على بعضه وهي تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكرت الحديث
وأصله في البخاري من هذا الوجه إلا أنه لم يسمها
وأخرج أبو داود والحاكم أيضا من حديث عائشة من وجه آخر قالت: كانت
جميلة امرأة أوس بن الصامت (أخي عبادة بن الصامت) وكان امرءا به لمم.
371

فإذا اشتد لممه ظاهر من امرأته، وقد أعله أبو داود بالارسال. أما خولة بنت
مالك فقد وقع في تفسير أبى حاتم خولة بنت الصامت. قال الحافظ بن حجر وهو
وهم، والصواب زوج ابن الصامت. ورجح غير واحد أنها خولة بنت الصامت
ابن ثعلبة، وروى الطبراني في الكبير والبيهقي من حديث ابن عباس أن المرأة
خولة بنت خويلد، وفى إسناده أبو حمزة اليماني، وهو ضعيف. وقال يوسف بن
عبد الله بن سلام: انها خويلة، وروى أنها بنت دليح، كذا في الكاشف، وفى
رواية لعائشة " والعرق ستون صاعا " تفرد بها معمر عن عبد الله بن حنظلة، قال
الذهبي: لا يعرف، ووثقه ابن حبان، وفيها أيضا محمد بن إسحاق وقد عنعن.
والمشهور عرفا أن العرق خمسة عشر صاعا، كما روى ذلك الترمذي بإسناد صحيح
من حديث سلمة، وأحكام هذه الفصول على وجهها على أن تراجع مقدمتنا على
كتاب العتق في الجزء الخامس عشر
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن لم يجد رقبة وقد رعى الصوم لزمه أن يصوم شهرين متتابعين
لقوله عز وجل " فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين " فإن دخل فيه في أول الشهر
صام شهرين بالأهلة، لان الأشهر في الشرع بالأهلة والدليل عليه قوله عز وجل
" يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج "
فإن دخل فيه وقد مضى من الشهر خمسة أيام صام ما بقي وصام الشهر الذي
بعده، ثم يصوم من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوما، لأنه تعذر اعتبار الهلال في
شهر فاعتبر بالعدد كما يعتبر العدد في الشهر الذي غم عليهم الهلال في صوم رمضان
وإن أفطر في يوم منه من غير عذر لزمه أن يستأنف، وإن جامع بالليل قبل أن
يكفر أثم لأنه جامع قبل التكفير، ولا يبطل التتابع لان جماعه لم يؤثر في الصوم
فلم يقطع التتابع كالأكل بالليل.
وأن كان الفطر لعذر نظرت فإن كانت امرأة فحاضت في صوم كفارة للقتل
أو الوطئ في كفارة رمضان لم ينقطع التتابع لأنه لا صنع لها في الفطر: ولأنه
لا يمكن حفظ الشهرين من الحيض إلا بالتأخير إلى أن تيأس من الحيض،
372

وفى ذلك تغرير بالكفارة لأنها ربما ماتت قبل الأياس فتفوت. وإن كان الفطر
بمرض ففيه قولان:
أحدهما يبطل التتابع لأنه أفطر باختياره فبطل التتابع، كما لو أجهده الصوم
فأفطر. والثاني لا يبطل لان الفطر بسبب من غير جهته فلم يقطع التتابع كالفطر
بالحيض. وإن كان بالسفر ففيه طريقان: من أصحابنا من قال فيه قولان كالفطر
بالمرض، لان السفر كالمرض في إباحة الفطر، فكان كالمرض في قطع التتابع.
والثاني: أنه يقطع التتابع قولا واحدا لان سببه من جهته. وإن انقطع الصوم
بالاغماء فهو كما لو أفطر بالمرض.
وإن أفطرت الحامل أو المرضع في كفارة القتل أو الجماع في رمضان خوفا
على ولديهما ففيه طريقان، أحدهما انه على قولين، لأنه فطر لعذر فهو كالفطر
بالمرض، والثاني انه ينقطع التتابع قولا واحدا لان فطرهما لعذر في غيرهما فلم
يلحقا بالمريض، ولهذا يجب عليهما الفدية مع القضاء في صوم رمضان، ولا
يجب على المريض. وإن دخل في الصوم فقطعه بصوم رمضان أو يوم النحر لزمه
أن يستأنف، لأنه ترك التتابع بسبب لا عذر فيه
(الشرح) إن لم يجد المظاهر رقبة تفضل عن كفايته، أو كان العرف القائم
يمنع الاسترقاق كهو في عصرنا، وكان قادرا على الصيام لزمه ان يصوم شهرين
متتابعين لقوله تعالى " والذين يظاهرون من نسائهم. الآية " ولما ذكرناه من
حديثي أوس بن الصامت وسلمة بن صخر
إذا ثبت هذا فإن إجماع أهل العلم على أن المظاهرة فرضه صيام شهرين متتابعين
وذلك لقوله تعالى " فمن لم يحد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا " فإن صام
من الكفارة أول ليلة من الشهر كان عليه ان يتابع الصوم شهرين هلاليين متتابعين
سواء كانا تامين أو ناقصين، لان الله أوجب عليه صوم شهرين، واطلاق الشهر
ينصرف إلى الشهر الهلالي لقوله تعالى " يسئلونك عن الأهلة قل هي مواقيت
للناس والحج "
373

وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الشهر هكذا
وهكذا، وأوما بأصابع يديه وحبس إبهام يده في الثالثة كأنه يعد خمسين " وروى
أنه قال " قد يكون الشهر هكذا وهكذا وحبس إبهامه في الثالثة " وإن ابتدأ بالصوم
وقد مضى من الشهر يوم أو أكثر صام ما بقي من هذا الشهر بالعدد وصام الشهر
الذي بعده بالهلال تاما أو ناقصا وتم عدد الأول من الثالث ثلاثين يوما تاما كان
الأول أو ناقصا، لأنه لما فاته شئ من الشهر الأول لم يصمه لم يمكن اعتباره بالهلال
فاعتبر بالعدد، واعتبر الثاني بالهلال لأنه أمكنه ذلك
(فرع) وإن أفطر في يوم أثناء الشهرين - فإن كان أفطر لغير عذر -
انقطع تتابعه ولزمه أن يستأنف صوم شهرين متتابعين لقوله تعالى " فمن لم يجد
فصيام شهرين متتابعين " ومعنى التتابع أن يوالي بالصوم أيامهما ولا يفطر فيهما
لغير عذر ولم يفعل ذلك فصار كما لو لم يصم
وأن جامع في ليلة في أثناء الشهرين عامدا عالما بالتحريم أثم بذلك ولا ينقطع
تتابعه، وإن وطئها بالنهار ناسيا لم يفسد صومه ولم ينقطع تتابعه، وبه قال
أبو يوسف، وهو إحدى الروايتين عن أحمد
وقال مالك وأبو حنيفة: ينقطع تتابعه بذلك، إلا أن مالكا يقول: إذا
وطئها بالنهار ناسيا فسد صومه، وأبو حنيفة يقول: لا يفسد إلا أن ينقطع
التتابع. دليلنا على أنه لا ينقطع التتابع أنه وطئ لم يفسد به الصوم، فلم
ينقطع التتابع كما لو وطئ امرأة أخرى، وإن كان الفطر بعذر نظرت، فإن كان
العذر حيضا، ولا يتصور ذلك في كفارة الظهار، وإنما يتصور ذلك في كفارة
القتل والجماع في رمضان، إذا قلنا تجب عليه الكفارة، فإن التتابع لا ينقطع،
لان زمن الحيض مستحق للفطر فهو كليالي الصوم، ولان الحيض حصل بغير
اختيارها ولا يمكنها الاحتراز منه.
فلو قلنا إنه ينقطع التتابع لأدى إلى أن المرأة لا يمكنها أن تكفر بالصوم
إلا بعد الأياس من الحيض، وفى ذلك تأخيرها عن وقت وجوبها، وربما بانت
قبل الأياس، فلذلك قلنا لا يقطع التتابع. وإن أفطرت للنفاس احتمل أن يكون
فيه وجهان كما قلنا في الايلاء.
374

وإن كان الفطر للمرض ففيه قولان. قال في القديم لا ينقطع التتابع وبه قال
مالك وأحمد، لان سبب الفطر حدث بغير اختياره فهو كالحيض، ولأنا لو قلنا إنه
ينقطع بالفطر في المرض لأدى ذلك إلى أن يتسلسل، لأنه لا يأمن وقوع
المرض إذا استأنف بعد البرء.
وقال في الجديد ينقطع تتابعه، وبه قال أبو حنيفة، لأنه أفطر باختياره،
فهو كما لو أفطر بغير المرض.
وان أفطر بالسفر - فإن قلنا إن المرض إذا أفطر قطع التتابع فالسفر أولى،
وان قلنا إن أفطر بالمرض لا ينقطع ففي السفر قولان. أحدهما لا ينقطع التتابع
لان السفر عذر يبيح الفطر فهو كالمرض، والثاني أنه ينقطع التتابع لأنه حدث
بسبب الفطر وهو السفر.
وإن نوى الصوم من الليل ثم أغمي عليه في أثناء النهار فهل يبطل صومه؟
فيه طريقان مضى ذكرهما في الصوم وأبانهما الامام النووي رضي الله عنه، فإن
قلنا لا يبطل لم ينقطع التتابع بذلك، وان قلنا يبطل صومه قال الشيخ أبو إسحاق
والمحاملي: هو كالفطر بالمرض على قولين، قال العمراني وفيه نظر، لأنه لم يفطر
باختياره بخلاف الفطر بالمرض فإنه أفطر باختياره اه‍
وان أفطرت المرضع والحامل في أثناء الشهرين، فإن كان خوفا على أنفسهما
فهو كالفطر للمرض، وإن كان خوفا على ولديهما فهل ينقطع التتابع؟ فيه طريقان
من أصحابنا من قال فيه قولان كالفطر للمرض. ومنهم من قال يقطع التتابع قولا
واحدا لأنهما أفطرتا لحق غيرهما بخلاف المرض
(فرع) وان صام في أثناء الشهرين تطوعا أو عن نذر أو قضاء انقطع تتابعه
بذلك. لان ذلك لا يقع عن الشهرين فانقطع تتابعه به كما لو أفطر، فإن صام
بعض الشهرين ثم تخللها زمان لا يجرى صومه عن كفارته مثل رمضان أو عيد
الأضحى انقطع تتابعه، لان رمضان مستحق لصومه، وعيد الأضحى مستحق
للفطر، وقد يمكنه أن يبتدئ صوما لا يقطعه ذلك، فإن لم يفعل ذلك فقد فرط
كما لو أفطر في أثناء الشهرين بغير عذر، ولا يجئ أن يقال تخللهما عيد الفطر ولا
أيام التشريق، لان عيد الفطر يتقدمه رمضان، وأيام التشريق يتقدمها عيد
375

الأضحى. فأما إذا ابتدأ الصوم عن الشهرين في رمضان لم يصح صومه عن رمضان
لأنه لم ينو الصيام عنه ولا عن الشهرين، لان الزمان مستحق لصوم رمضان فلا
يقع عن غيره.
وإن ابتدأ صوم الشهرين يوم عيد الفطر لم يصح لأنه مستحق للفطر ويصح
صومه باقي الشهرين، وإن ابتدأ الصوم أيام التشريق، فإن قلنا بقوله الجديد
وأن صومها لا يصح عن صوم التمتع، أو قلنا بقوله القديم أنه يصح صومها عن
صوم التمتع، وقلنا بأحد الوجهين على القديم لا يصح صومها عن التمتع لم يصح
صومه عن الشهرين، وإن قلنا يصح صومها عن التطوع صح صومها عن الشهرين
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن دخل في الصوم ثم وجد الرقبة لم يبطل صومه، وقال المزني
يبطل كما قال في المتيمم إذا رأى الماء في الصلاة، وقد دللنا عليه في الطهارة،
والمستحب أن يخرج من الصوم ويعتق، لان العتق أفضل من الصوم لما فيه من
نفع الآدمي، ولأنه يخرج من الخلاف.
(فصل) وإن لم يقدر على الصوم لكبر لا يطيق معه الصوم أو لمرض
لا يرجى برؤه منه لزمه أن يطعم ستين مسكينا للآية، والواجب أن يدفع إلى كل
مسكين مدا من الطعام، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه في حديث الجماع في شهر
رمضان " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: أطعم ستين مسكينا. قال
لا أجد، قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعا
فقال خذه وتصدق به " وإذا ثبت هذا بالجماع بالخبر ثبت في المظاهر بالقياس عليه
(الشرح) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أصله في الصحيحين بلفظين عن
أبي هريرة، ورواه أبو داود وفى إسناده رجل فيه مقال، ورواه البيهقي وغيره
مختصرا مرسلا ومتصلا، وقد مضى الكلام عليه في الصوم
أما الأحكام فإنه مما يتسق مع ما قلناه في مقدمة كتاب العتق أن الشرع الحكيم
جعل العتق هو الكفارة الأصلية، وأن الصوم بدل من الكفارة إذا لم يجد الرقبة
حتى لقد جعل الصوم يبطل في قول المزني وأبي حنيفة إذا وجد الرقبة التي يعتقها
376

كفارة. وجملة ما في الفصل أنه إذا دخل في الشهرين بالصوم ثم أيسر وقدر على
الرقبة لم يجب عليه الانتقال إلى الرقبة، وبه قال مالك وأحمد
وقال أبو حنيفة والمزني يلزمه الانتقال، ودليل المذهب أنه وجد المبدل بعد
شروعه في البدل فلم يلزمه الانتقال إليه، كما لو وجد الهدى بعد شروعه في صوم
السبع، وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه: ولو أعتق كان أفضل لأنه الأصل
وليخرج بذلك من الخلاف
(قلت) ولان في ذلك نفعا للآدمي بفك أساره من الرق كما أفاده المصنف.
(فرع) ولا يجزيه الصوم عن الكفارة حتى ينوى الصوم كل ليلة لقوله صلى
الله عليه وسلم " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل " فهذا عام في كل صوم،
وقد وافقنا أبو حنيفة على ذلك. وهل يلزمه نية التتابع؟ فيه ثلاثة أوجه
(أحدها) يلزمه نية التتابع كل ليلة، لان التتابع واجب كالصوم، فلما وجب
عليه نية الصوم كل ليلة فكذلك نية التتابع
(والثاني) يلزمه التتابع أول ليلة من الشهر لان الفرص تبيين هذا الصوم عن
غيره بالتتابع، وذلك يحصل بالنية أولى ليلة منه
(والثالث) لا يجب عليه نية التتابع وهو الأصح، لان التتابع شرط في العبادة
وعلى الانسان أن ينوى فعل العبادة دون نية شروطها، كما قال العمراني في الصلاة
أن ينوى فعل الصلاة دون نية شرطها.
(مسألة) قوله: وان لم يقدر على الصوم لكبر الخ، فجملة ذلك أنه إذا عجز لعلة
تلحقه من الجوع والظمأ وكان قادرا على الاطعام لزمه الانتقال إلى الاطعام لقوله
تعالى " فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا " ولما ذكرناه من حديث أوس بن
الصامت وسلمة بن صخر.
إذا ثبت هذا فعليه أن يطعم ستين مسكينا، كل مسكين مدا من طعام، ولا
يجرز أن ينقص من عدد المساكين ولا من ستين مدا، وبه قال أحمد، وقال
أبو حنيفة: ان أعطى الطعام كله مسكينا واحدا في ستين يوما جاز. دليلنا قوله
تعالى " فإطعام ستين مسكينا، وقوله " اطعام " مصدر يتعدى بأن والفعل، وهذا
377

وهذا لا يجيز الاقتصار على دون الستين، ولأنه مسكين استوفى قوت يوم من
كفارة، فإذا دفع إليه غيره منها لم يجزه، كما لو دفع إليه في يوم واحد
(فرع) ويجب أن يدفع إلى كل مسكين مدا في جميع الكفارات إلا كفارة
الأذى فإنه يدفع إليه مدين سواء كفر بالتمر أو الزبيب أو البر أو الشعير أو الذرة
وبه قال ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وأبو هريرة والأوزاعي. وقال
أبو حنيفة: إن كفر بالتمر أو الشعير لزمه لكل مسكين صاع، والصاع أربعة أمداد
والمد عنده رطلان. وإن كفر بالبر لزمه لكل مسكين نصف صاع، وفى الزبيب
عنه روايتان (إحداهما) أنه كالتمر والشعير (والثاني) أنه كالبر
وقال مالك في كفارة اليمين والجماع في رمضان كقولنا في كفارة الظهار يطعم
كل مسكين مدا بمد هشام، وهو مد وثلث بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل
بل هو مدان. وقال أحمد من البر مد ومن التمر والشعير مدان
دليلنا ما روى أبو هريرة أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم يضرب خده
وينتف شعره، فقال يا رسول الله هلكت، قال وما أهلكك؟ قال وقعت على
امرأتي في نهار رمضان. قال أعتق رقبة، قال لا أجد، قال صم شهرين متتابعين
قال لا أستطيع، قال أطعم ستين مسكينا، قال لا أستطيع، ثم جلس فأتى النبي
صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر قدر خمسة عشر صاعا فقال: تصدق بهذا، فقال
أعلى أفقر منا؟ فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا، فضحك النبي صلى الله
عليه وسلم ثم قال: اذهب أطعمه أهلك "
فإذا ثبت هذا في المجامع في رمضان قسنا سائر الكفارات عليها. فأما خبر
سلمة بن صخر حيث أمره النبي صلى الله عليه وسلم بوسق من تمر من صدقة
بنى زريق فمحمول على الجواز، وأن ما زاد على خمسة عشر صاعا تطوع
بدليل هذا الخبر.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب ذلك من الحبوب والثمار التي تجب فيها الزكاة لان الأبدان
بها تقوم، ويجب من غالب قوت بلده. قال القاضي أبو عبيد بن حربويه: يجب
378

من غالب قوته، لان في الزكاة الاعتبار بمال فكذلك ههنا، والمذهب الأول
لقوله تعالى " فإطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " والأوسط
الأعدل، وأعدل ما يطعم أهله قوت البلد، ويخالف الزكاة فإنها تجب من المال
والكفارة تجب في الذمة، فإن عدل إلى قوت بلد آخر، فإنك كان أجود من غالب
قوت بلده الذي هو فيه جاز لأنه زاد خيرا، فإن لم يكن أجود، فإن كان مما يجب
فيه زكاة ففيه وجهان.
(أحدهما) يجزئه لأنه قوت تجب فيه الزكاة فأشبه قوت البلد
(والثاني) لا يجزئه وهو الصحيح لأنه دون قوت البلد، فإن كان في موضع
قوتهم الاقط ففيه قولان (أحدهما) تجزئه لأنه مكيل مقتات فأشبه قوت البلد
(والثاني) لا يجزئه لأنه يجب فيه الزكاة فلم يجزئه كاللحم، وإن كان لحما أو
سمكا أو جرادا ففيه طريقان، من أصحابنا من قال فيه قولان كالأقط. ومنهم من
قال لا يجزئه قولا واحدا، ويخالف الاقط لأنه يدخله الصاع، وإن كان في
موضع لا قوت فيه وجب من غالب قوت أقرب البلاد إليه
(فصل) ولا يجوز الدقيق السويق والخبز، ومن أصحابنا من قال يجزئه
لأنه مهيا للاقتيات مستغنى عن مؤنته، وهذا فاسد، لأنه إن كان قد هيأه لمنفعة
فقد فوت فيه وجوها من المنافع، ولا يجوز إخراج القيمة لأنه أخذ ما يكفر به
فلم يجز فيه القيمة كالعتق
(فصل) ولا يجوز أن يدفع الواجب إلى أقل من ستين مسكينا للآية والخبر
فإن جمع ستين مسكينا وغداهم وعشاهم لما عليه من الطعام لم يجزه، لان ما وجب
للفقراء بالشرع وجب فيه التمليك كالزكاة، ولأنهم يختلفون في الاكل ولا يتحقق
أن كل واحد منهم يتناول قدر حقه
وإن قال لهم ملكتكم هذا بينكم بالسوية ففيه وجهان (أحدهما) لا يجزئه.
وهو قول أبي سعيد الإصطخري لأنه يلزمهم مؤنة في قسمته فلم يجزه، كما لو
سلم إليهم الطعام في السنابل (والثاني) أنه يجزئه وهو الأظهر لأنه سلم إلى كل
واحد منهم قدر حقه والمؤنة في قسمته قليلة، فلا يمنع الاجزاء
379

(الشرح) الأحكام: اختلف أصحابنا في هل يلزمه أن يخرج من غالب قوته أو
من غالب قوت البلد؟ على وجهين. قال أبو عبيد بن حربويه يلزمه من غالب قوته
وهو اختيار الشيخ أبى حامد، لان الزكاة زكاتان، زكاة المال وزكاة النفس، فلما
كانت زكاة النفس يجب إخراجها من غالب قوت البلد لقوله تعالى " من أوسط
ما تطعمون أهليكم " والأوسط الأعدل، وأعدل ما يطعم أهله قوت البلد، فإن
عدل عن قوته وقت بلده إلى قوت بلد آخر، فإن كان أعلى منها وجب عليه
إخراجه، بأن عدل عن الذرة والشعير إلى البر، أو كان في مصر وأخرج زبيبا
أجزأه لأنه أعلى مما وجب عليه، وإن كان دون ذلك بأن عدل عن البر إلى الذرة
والشعير فهل يجزئه؟ فيه قولان حكاهما الشيخ أبو حامد، وحكاهما المصنف في
المهذب هنا وجهين.
(أحدهما) يجزئه لأنه قوت تجب فيه الزكاة
(والثاني) لا تجزئه وهو الأصح لأنه دون ما وجب عليه، وإن أخرج من
قوت لا تجب فيه الزكاة - فإن كان غير الاقط - لم يجزه، وإن كان من الاقط
ففيه وجهان كما قلنا في زكاة الفطر، وإن كان في بلد لا قوت لهم تجب فيه الزكاة
وجب من قوت أقرب بلد إليه، وله يجزئه اخراج الخبز والدقيق والسويق؟
فيه وجهان (أحدهما) يجزئه لأنه مهيأ للاقتيات (والثاني) لا يجزئه وهو الأصح
لأنه قد فوت فيه وجوها من المنفعة. وان أخرج القيمة لم يجزه كما قلنا في الزكاة
وأكثر أهل المدن يقلدون من يجيز اخراج القيمة بيد أن الأولى عندنا والأقرب
إلى المذهب أن يشترى دقيقا يخرجه منه، وهو وجه صحيح عندنا، وإن كان
الأصح غيره كما تقدم.
(مسألة) قوله " ولا يجوز أن يدفع الواجب إلى أقل من ستين مسكينا الخ "
فجملة ذلك أنه إذا دفع إلى مائة وعشرين مسكينا ستين مدا لكل مسكين نصف مد
لم يجزه ذلك. وقيل له اختر له منهم ستين مسكينا وادفع إلى كل واحد منهم
نصف مد، لأنه لا يجوز أن يدفع إلى كل واحد منهم أقل من مد، فإن دفع إلى
ستين مسكينا ستين مدا إلى كل واحد منهم مدا دفعة واحدة أو في أوقات متفرقة
أجزأه لقوله تعالى " فإطعام ستين مسكينا " فعم ولم يخصص.
380

وان دفع إلى ثلاثين مسكينا ستين مدا إلى كل واحد مدين لم يجزه الا ثلاثون
لأنه لم يطعم ستين مسكينا، وعليه أن يطعم ثلاثين مسكينا ثلاثين مدا أخرى
لكل واحد مد، وهل له أن يرجع على كل واحد من الثلاثين بما زاد على المد؟
ينظر فيه فإن بين أن ذلك عن كفارة واحدة كان له أن يرجع به، لان ما زاد
على المدعى الكفارة لا يجزئ دفعه إلى واحد، وان أطلق لم يرجع لأن الظاهر
أن ذلك تطوع وقد لزم بالقبض.
وان وجب عليه كفارتان من جنس أو جنسين، فدفع إلى كل مسكين مدين
أجزأه لأنه لم يدفع إليه عن كل كفارة أكثر من مد، ويجوز الدفع إلى الكبار
من المساكين والى الصغار منهم لقوله تعالى " فإطعام ستين مسكينا " ولم يفرق
ولكن يدفع مال الصغير إلى وليه، فإن دفع إلى الصغير لم يجزه لأنه ليس من أهل
القبض، ولهذا لو كان له عليه دين فأقبضه إياه لم يبرأ بذلك
(فرع) والدفع المبرئ له هو أن يدفع إلى كل مسكين مدا يقول خذه أو
كله أو ألحقه لك
وان قدم ستين مدا إلى ستين مسكينا وقال خذوا أو كلوا أو أبحته لكم لم
يجزه ذلك، لان عليه أن يوصل إلى كل واحد منهم مدا، وهذا لم يفعل ذلك.
وان قال ملكتكم هذا بينكم بالسوية أو قبضتكم إياه فقبضوه ففيه وجهان، قال
أبو سعيد الإصطخري لا يجزيه لان عليهم مشقة في القسمة فلم يجزه، كما لو دفع
إليهم الطعام في سنابله.
وقال أبو إسحاق يجزيه. وهو الأصح. لأنه قد ملكهم إياه، ولا يلحقهم
في قسمته كبير مشقة، ويمكن كل واحد منهم بيع نصيبه مشاعا، فإن جمع ستين
مسكينا وغداهم وعشاهم لم يجزه لاختلاف كل منهم عن الآخر في القدر الذي
تناوله من الطعام وتعاطاه. وقال أبو حنيفة يجزيه. دليلنا أن الواجب عليه دفع
الحب وهذا لم يدفع الحب، ولأنه لا يتحقق أن كل واحد منهم أكل قدر حقه
وهو يشك في اسقاط الفرض عن ذمته والأصل بقاؤه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز أن يدفع إلى مكاتب لأنها تجب لأهل الحاجة والمكاتب
381

مستغن بكسبه إن كان له كسب، أو بأن يفسخ الكتابة ويرجع إلى مولاه إن لم
يكن له كسب، ولا يجوز أن يدفع إلى كافر لأنها كفارة فلا يجوز صرفها إلى كافر
كالعتق، ولا يجوز دفعها إلى من تلزمه نفقته من زوجة أو والد أو ولد، لأنه
مستغن بالنفقة، فإن دفع بعض ما عليه من الطعام ثم قدر على الصيام لم يلزمه
الانتقال إلى الصوم، كما لا يلزمه الانتقال إلى العتق إذا وجد الرقبة في أثناء الصوم
والأفضل أن ينتقل إليه لأنه أصل
(فصل) ولا يجوز أن يكفر عن الظهار قبل أن يظاهر، لأنه حق يتعلق
بسببين فلا يجوز تقديمه عليهم كالزكاة قبل أن يملك النصاب، ويجوز أن يكفر
بالمال بعد الظهار وقبل العود لأنه حق مال يتعلق بسببين، فإذا وجد أحدهما جاز
تقديمه على الآخر كالزكاة قبل الحول، وكفارة اليمين قبل الحنث
(فصل) ولا يجوز شئ من الكفارات الا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم
" إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى " ولأنه حتى يجب على سبيل الطهرة
فافتقر إلى النية كالزكاة، ولا يلزمه في النية تعيين سبب الكفارة، كما لا يلزمه في
الزكاة تعيين المال الذي يزكيه. فإن كفر بالصوم لزمه أن ينوى كل ليلة أنه صائم
غدا عن الكفارة. وهل يلزمه نية التتابع؟ فيه ثلاث أوجه
(أحدها) يلزمه أن ينوى كل ليلة، لان التتابع واجب فلزمه نيته كالصوم.
(والثاني) يلزمه أن ينوى ذلك في أوله لأنه يتميز بذلك عن غيره
(والثالث) وهو الصحيح أنه لا تلزمه نية التتابع، لان العبادة هي الصوم،
والتتابع شرط في العبادة فلم تجب نيته في أداء العبادة، كالطهارة وستر العورة
لا يلزمه نيتهما في الصلاة.
(فصل) وإن كان المظاهر كافرا كفر بالعتق أو الطعام لأنه يصح منه العتق
والاطعام في غير الكفارة فصح منه في الكفارة، ولا يكفر بالصوم لأنه لا يصح
منه الصوم في غير الكفارة فلا يصح منه في الكفارة، فإن كان المظاهر عبدا فقد
ذكرناه في باب المأذون فأغنى عن الإعادة، وبالله التوفيق
(الشرح) حديث إنما الأعمال بالنيات قال فيه الحافظ بن حجر حديث عزيز
وقال فيه الشافعي انه نصف الدين. قلت: ولهذا زعم بعض المشتغلين بالفتيا
382

والدعوة والارشاد من الأزهريين انه متواتر وصححنا لهم هذا الفهم بما كتبناه
في مجلة الأزهر في حينه. لان الحديث آحادي من طرفه الأول، إذ لم يروه من
الصحابة الا عمر، ومع أن عمر خطب به على المنبر فإنه لم يروه عنه سوى علقمة
ابن وقاص الليثي، ولم يروه عن علقمة سوى محمد بن إبراهيم التيمي، ولم يروه
عن التيمي سوى يحيى بن سعيد الأنصاري. وفى هذا الاسناد نكتة قلما تتوفر
لغيره من الأحاديث، وهي أن كلا من علقمة الليثي والتيمي والأنصاري تابعيون
متعاصرون أقران، ولم يشترك اثنان منهما في سماع الحديث من الثالث أو من عمر
أما الأحكام فإنه لا يجوز دفع الكفارة إلى عبد ولا كافر ولا إلى من يلزمه
نفقته لما ذكره النووي في كتاب الزكاة، ولا يجوز دفعها إلى مكاتب. وان جاز
دفع الزكاة إليه، لان القصد بالكفارة المواساة المحضة، والمكاتب مستغن عن
ذلك، لأنه إن كان له كسب فنفقته في كسبه. وان لم يكن له كسب فيمكنه أن
يعجز نفسه وتكون نفقته على السيد
(فرع) وان أطعم بعض المساكين ثم قدر على الصيام لم يلزمه الصيام كما قلنا
فيمن قدر على العتق بعد الشروع في الصيام. وان وطئها في خلال الاطعام أثم
بذلك ولا يلزمه الاستئناف
وقال مالك يلزمه. دليلنا أن الوطئ لا يبطل ما فعله من الاطعام فلم يلزمه
الاستئناف كما لو وطئ غيرها
(فرع) ولا يجزيه الاطعام الا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات
وإنما لكل امرئ ما نوى " متفق عليه. وهل يجب أن تكون النية
مقارنة للدفع؟ أم يجوز تقديمها على الدفع؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الزكاة
وأما التتابع فقد مضى كلامنا في نيته في هذا الباب قبل هذه الفصول بقليل
(فوائد) لو أن المظاهر أدى الكفارة بإطعام المساكين فأحضرهم وأطعم كل
واحد مدا لم يجزئه ذلك الا أن يملكه إياه. هذا هو مذهبنا به قال أحمد في
إحدى روايتيه. والأخرى أنه يجزئه إذا أطعمهم القدر الواجب لهم. وهو
قول النخعي وأبي حنيفة. وأطعم أنس في فدية الصيام. قال أحمد أطعم شيئا كثيرا
وصنع الجفان. وذكر حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس. وذلك لقول
383

الله تعالى " فإطعام ستين مسكينا " وهذا قد أطعمهم فينبغي أن يجزئه، ولأنه
أطعم المساكين فأجزأه كما لو ملكهم
ولنا أن المنقول عن الصحابة إعطاؤهم، ولأنه مال وجب للفقراء شرعا
فوجب تمليكهم إياه كالزكاة
قلنا: إنه لا يجب التتابع في الاطعام وبه قال أحمد، فلو أطعم واحد اليوم
والثاني بعد يومين والثالث بعد كذا حتى يستكمل الستين صح. وذلك لان الله
تعالى لم يشترط التتابع فيه كما قاله في الصوم. ولو وطئ في أثناء الاطعام لم تلزمه
إعادة ما مضى منه، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد. وقال مالك: يستأنف
لأنه وطئ في أثناء كفارة الظهار فوجب الاستئناف كالصيام. دليلنا انه وطئ
في أثناء ما لا يشترط التتابع فيه فلم يوجب الاستئناف كوطئ غير المظاهر منها
أو كالوطئ في كفارة اليمين، وبهذا فارق الظهار
إذا أعطى مسكينا مدين من كفارتين في يوم واحد أجزأه وهو إحدى
الروايتين عن أحمد والأخرى لا يجزئه، وهو قول أبي حنيفة لأنه استوفى قوت
يوم من كفارة فلم يجزئه الدفع إليه ثانيا في يومه كما لو دفعهما إليه من كفارة واحدة
والقيمة في الكفارة لا تجزئ عندنا ولا عند أحمد ونظرا لان الشارع الحكيم شرع
الدين للسواد من الناس وأكثر الناس أهل قرى وبادية وأقلهم يسكنون المدائن
لذلك كان الحب هو المشروع، ويجوز إخراج الدقيق على قول صحيح والأصح
الحب، وإذا كان أهل المدائن أنفع لهم أن يعطوا الدقيق كان الدقيق أولى لأنه
بالنسبة لهم هو حال الكمال وتيسير المنفعة. أما أهل القرى فحال الكمال وتيسير
المنفعة لهم هو الحب فلا يعطوا الدقيق. والله أعلم
384

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب اللعان
إذا علم الزوج أن امرأته زنت - فإن رآها بعينه وهي تزني ولم يكن نسب
يلحقه - فله أن يقذفها، وله أن يسكت لما روى علقمة عن عبد الله " أن رجلا
أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن رجل وجد مع امرأته رجلا
ان تكلم جلدتموه أو قتل قتلتموه أو سكت سكت على غيظ، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم اللهم افتح، وجعل يدعو فنزلت آية اللعان " والذي يرمون أزواجهم ولم
يكن لهم شهداء الا أنفسهم. الآية " فذكر أنه يتكلم أو يسكت ولم ينكر النبي
صلى الله عليه وسلم كلامه ولا سكوته.
وان أقرت عنده بالزنا فوقع في نفسه صدقها أو أخبره بذلك ثقة أو استفاض
أن رجلا يزني بها ثم رأى الرجل يخرج من عندها في أوقات الريب فله أن يقذفها
وله أن يسكت، لأن الظاهر أنها زنت فجاز له القذف والسكوت.
وأما إذا رأى رجلا يخرج من عندها ولم يستفض أنه يزني بها لم يجز أن
يقذفها، لأنه يجوز أن يكون قد دخل إليها هاربا أو سارقا، أو دخل ليراودها
عن نفسها ولم تمكنه، فلا يجوز قذفها بالشك. وان استفاض أن رجلا يزني بها
ولم يجده عندها ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز قذفها لأنه يحتمل أن يكون عدو قد أشاع ذلك عليهما
(والثاني) يجوز. لان الاستفاضة أقوى من خبر الثقة. ولان الاستفاضة
تثبت القسامة في القتل فثبت بها جواز القذف
(الشرح) قصة الملاعن التي ساقها المصنف هنا رويت من طرق وبأسانيد
مختلفة. منها ما رواه الشيخان وأحمد في مسنده عن سعيد بن جبير أنه قال لعبد الله
ابن عمر " يا أبا عبد الرحمن المتلاعنان أيفرق بينهما؟ قال سبحان الله. نعم.
ان أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان. قال يا رسول الله أرأيت لو وجد
أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ ان تكلم تكلم بأمر عظيم وان سكت سكت
385

على مثل ذلك. قال فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك
أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه ابتليت به، فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات
في سورة النور " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء " فتلاهن عليه
ووعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقال
لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها وأخبرها أن عذاب
الدنيا أهون من عذاب الآخرة فقالت: لا والذي بعثك بعثك بالحق انه لكاذب
فبدأ الرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه
إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله انه لمن الكاذبين
والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما "
وعند الشيخين وأحمد وأصحاب السنن إلا الترمذي عن سهل بن سعد " أن
عويمر العجلاني أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت
رجلا وجد مع امرأته رجلا أيقتله فيقتلونه، أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: قد نزل فيك وفى صاحبتك فاذهب فائت بها، قال سهل:
فتلاعنا، وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ قال عويمر
كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثا قبل أن يأمره رسول الله
قال ابن شهاب فكانت سنة المتلاعنين "
وفى رواية الشيخين وأحمد " ذاكم التفريق بين كل متلاعنين " وفى لفظ
لأحمد ومسلم " وكان فراقه إياها سنة في المتلاعنين "
أما اللغات فاللعان مصدر لاعن يلاعن لعانا وملاعنة، كقاتل يقاتل قتالا
ومقاتلة، أي لعن كل واحد الآخر، ولاعن الرجل زوجته قذفها بالفجور.
وقال ابن دريد كلمة إسلامية في لغة فصيحة. وقال في الفتح: اللعان مأخوذ من
اللعن، لان الملاعن يقول في الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين.
واختير لفظ اللعن دون الغضب في التسمية لأنه قول الرجل، وهو الذي بدئ
به في الآية، وهو أيضا يبدأ به
وقيل سمى لعانا لان اللعن الطرد والابعاد وهو مشترك بينهما، وإنما خصت
المرأة بلفظ الغضب لعظم الذنب بالنسبة إليها
386

قوله " واستفاض " أي شاع. قوله " في أوقات الريب " أي الشك في سبب
دخوله لماذا دخل إليها.
وقد اختلف العلماء فيمن وجد مع امرأته رجلا وتحقق وجود الفاحشة منهما
فقتله، هل يقتل به أم لا؟ فمنع الجمهور الاقدام، وقالوا يقتص منه إلا أن يأتي
ببينة الزنا، أو يعترف المقتول بذلك بشرط أن يكون محصنا. وقيل بل يقتل به
لأنه ليس له أن يقيم الحد بغير اذن الامام.
وقال بعض السلف: لا يقتل أصلا، ويعذر فيما فعله إذا ظهرت أمارات
صدقه. وشرط أحمد وإسحاق ومن تبعهما أن يأتي بشاهدين أنه قتله بسبب ذلك
ووافقهم ابن القاسم وابن حبيب من المالكية، لكن زاد أن يكون المقتول قد
أحصن. وعند الإمام الهادي من العترة أنه يجوز للرجل أن يقتل من وجده مع
زوجته وأمته وولده حال الفعل، وأما بعده فيقاد به إن كان بكرا. ولنعد إلى
ما في الفصل.
قال في البيان. اللعان مشتق من اللعن وهو الطرد والابعاد فسمى المتلاعنان
بذلك لان في الخامسة اللعنة. ولما يتعقب من المأثم والطرد، لأنه لابد أن يكون
أحدهما كاذبا فيكون ملعونا اه‍
إذا ثبت هذا فإن رأى الرجل امرأته تزني أو أقرت عنده بالزنا أو أخبره
بذلك ثقة واستفاض في الناس أن رجلا زنا بها ثم وجده عندها ولم يكن هناك
نسب يلحقه من هذا الزنا فله أن يقذفها بالزنا، لأنه إذا رآها فقد تحقق زناها.
وإذا أقرت عنده أو أخبره ثقة أو استفاض في الناس ووجد الرجل عندها غلب
على ظنه زناها فجاز له قذفها. ولا يجب عليه قذفها لما روى أن رجلا قال
" يا رسول الله إن امرأتي لا ترد يد لامس " تعريضا منه بزناها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم
طلقها. فقال إني أحبها. فقال أمسكها.
وللأحاديث التي سقناها في صدر هذا البحث إذ أذن النبي صلى الله عليه وسلم
للملاعن أن يتكلم أو يسكت حيث لم ينكر عليه أيهما. فأما إذا لم يظهر على المرأة
الزنا ببينة ولا سبب حرم عليه قذفها لقوله تعالى " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة
منكم - إلى قوله تعالى - سبحانك هذا بهتان عظيم " ولقوله صلى الله عليه وسلم
387

" من قذف محصنة أحبط الله عمله ثمانين عاما " وإن أخبر بزناها من لا يثق بقوله
حرم عليه قذفها، لأنه لا يغلب على الظن إلا قول الثقة، وإن وجد عندها رجلا
ولم يستفض في الناس أنه زنا بها حرم عليه قذفها لجواز أن يكون دخل إليها هاربا
أو لحاجة أو لطلب الزنا ولم تجبه، فلا يجوز قذفها بأمر محتمل
وإن استفاض في الناس أن فلانا زنى بها ولم يجده عندها فهل يجوز له أن
يقذفها؟ فيه وجهان حكاهما المصنف (أحدهما) يجوز له قذفها لان الاستفاضة
أقوى من خبر الثقة، والقسامة تثبت بالاستفاضة فيثبت بها جواز القذف.
(والثاني) لا يجوز له قذفها، ولم يذكر في التعليق والشامل غيره لجواز أن يكون
أشاع ذلك عدو لها.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ومن قذف امرأته بزنا يوجب الحد أو تعزير القذف، فطولب
بالحد أو بالتعزير فله أن يسقط ذلك بالبينة، لقوله عز وجل " والذين يرمون
المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " فدل على أنه إذا أتى
بأربعة شهداء لم يجلد. ويجوز أن يسقط باللعان، لما روى ابن عباس رضي الله عنه
" أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء فقال النبي صلى الله عليه
وسلم: البينة أو الحد في ظهرك، فقال يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلا على
امرأته يلتمس البينة؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: البينة وإلا حد في
ظهرك. فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق، ولينزلن الله عز وجل في
أمري ما يبرئ ظهري من الحد، فنزلت: والذين يرمون أزواجهم " ولان
الزوج يبتلى بقذف امرأته لنفى العار والنسب الفاسد، ويتعذر. عليه إقامة البينة
فجعل اللعان بينة له، ولهذا لما نزلت آية اللعان قال النبي صلى الله عليه وسلم " أبشر
يا هلال، فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا. قال هلال قد كنت أرجو ذلك من
ربي عز وجل "
فإن قدر على البينة ولاعن جاز لأنهما بينتان في اثبات حق، فجاز إقامة كل
واحدة منهما مع القدرة على الأخرى، كالرجلين، والرجل والمرأتين في المال.
388

وإن كان هناك نسب يحتاج إلى نفيه لم ينتف بالبينة، ولا ينتفى الا باللعان، لان
الشهود لا سبيل لهم إلى العلم بنفي النسب. وان أراد أن يثبت الزنا بالبينة ثم يلاعن
لنفى النسب جاز، وان أراد أن يلاعن ويثبت الزنا وينفى النسب باللعان جاز.
(الشرح) حديث ابن عباس أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي
وابن ماجة والدارقطني ولفظه " أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم
بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك. فقال
يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلا ينطلق يلتمس البينة؟ فجعل النبي
صلى الله عليه وسلم يقول البينة والا حد في ظهرك، فقال هلال والذي بعثك
بالحق انى لصادق، ولينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل
الله عليه (والذين يرمون أزواجهم) فقرأ حتى بلغ (إن كان من الصادقين)
فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاء هلال فشهدوا النبي صلى الله عليه وسلم
يقول إن الله يعلم أن أحدكما كاذب، فهل منكما تائب؟ ثم قامت فشهدت، فلما كان
عند الخامسة وقفوها فقالوا انها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع
ثم قالت لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم انظروها
فإن جاءت به أكحل العينين سابع الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء
فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا ما مضى من كتاب الله
لكان لي ولها شأن "
قوله " البينة أو حد في ظهرك " فيه دليل على أن الزوج إذا قذف امرأته بالزنا
وعجز عن إقامة البينة وجب عليه حد القاذف. وإذا وقع اللعان سقط وهو قول
الجمهور. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن اللازم بقذف الزوج إنما هو اللعان
فقط، ولا يلزمه الحد، والحديث وما في معناه حجة عليه
قوله فنزلت " والذين يرمون أزواجهم " فيه التصريح بأن الآية نزلت في شأن
هلال. وقد تقدم الخلاف في ذلك. وفى الحديث مشروعية تقديم الوعظ
للزوجين قبل اللعان
وقد أخرج هذا الحديث احمد ومسلم والنسائي عن أنس بلفظ " ان هلال بن
389

أمية قذف امرأته بشريك بن سحماء وكان أخا لبراء بن مالك لامه، وكان أول
رجل لاعن في الاسلام. قال فتلاعنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
أبصروها فإن جاءت به أبيض سبطا قضئ العينين فهو لهلال بن أمية، وإن جاءت
به أكحل جعدا حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء. قال فأنبئت أنها جاءت به
أكحل جعدا حمش الساقين "
وفى رواية أن أول لعان كان في الاسلام أن هلال بن أمية قذف شريك بن
السحماء بامرأته، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
أربعة شهداء وإلا حد في ظهرك، يردد ذلك عليه مرارا، فقال له هلال: والله
يا رسول الله إن الله ليعلم أنى لصادق ولينزلن الله عليك ما يبرئ ظهري من الحد
فبينما هم كذلك إذ نزلت عليه آية اللعان (والذين يرمون أزواجهم) إلى آخر الآية
وذكر الحديث. رواه النسائي ورجاله رجال الصحيح
وقوله " قضئ العينين " بفتح فكسر بعدها همزة على وزن حذر، وهو فاسد
العينين، والجعد خلاف السبط ويسميه عوام المصريين (أكرت)
قوله " حمش الساقين " أي دقيق الساقين. ورواه أحمد وأبو داود مطولا وفى
إسناده عباد بن منصور وقد تكلم فيه غير واحد. وقيل فيه إنه كان قدريا داعية
أما الأحكام فإنه إذا قدف الرجل رجلا محصنا أو امرأة أجنبية منه محصنة
وجب عليه حد القذف وحكم بفسقه وردت شهادته.
فإن أقام القاذف بينة على زنا المقذوف سقط عنه الحد وزال التفسيق وقبلت
شهادته ووجب على المقذوف حد الزنا لقوله تعالى " والذين يرمون المحصنات ثم
لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة " الآية
وإن قذف الرجل امرأته وجب عليه حد القذف إن كانت محصنة، والتعزير
إن كانت غير محصنة وحكم بفسقه، فإن طولب بالحد أو التعزير فله أن يسقط
ذلك عن نفسه بإقامة البينة على الزنا، وله ان يسقط ذلك باللعان، فإن لاعن والا
أقيم عليه الحد أو التعزير. هذا مذهبنا وبه قال مالك واحمد. وقال أبو حنيفة:
إذا قذف الرجل امرأته لم يجب عليه الحد بقذفها وإنما يجب عليه اللعان فإن لاعن
وإلا حبس حتى يلاعن.
390

دليلنا قوله تعالى " والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة
شهداء " الآية. وهذا عام في الأزواج وغير الأزواج، فأخبر الأزواج بأن
لعانهم يقوم مقام شهادة أربعة غيرهم بقوله تعالى " والذين يرمون أزواجهم ولم
يكن لهم شهداء الا أنفسهم " الآية.
وحديث ابن عباس الذي ساقه المصنف في الفصل في قصة هلال بن أمية حين
قذف امرأته بشريك بن السحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " البينة أو حد
في ظهرك " فقال والذي بعثك بالحق انى لصادق ولينزلن الله في أمري ما يبرئ
ظهري من الحد، فأنزل الله تعالى (والذين يرمون أزواجهم) الآية، فدعاه
النبي صلى الله عليه وسلم وقال " أبشر يا هلال قد جعل الله لك فرجا مخرجا "
فقال قد كنت أرجو ذلك من ربى
وحديث عويمر العجلاني الذي مضى في أول هذا البحث وفيه: قد انزل الله
فيك وفى صاحبتك اذهب فأت بها، فأتى بها فتلاعنا. فيكون المعنى قد انزل الله
فيك وفى صاحبتك، أي ما انزل في هلال بن أمية وامرأته لأنها عامة، ويجوز
أن تكون الآية نزلت في الجميع، والمشهور هو الأول، وإنما خص الأزواج
باللعان بقذف الزوجات، لان الأجنبي لا حاجة به إلى القذف فغلظ عليه ولم
يقبل منه في اسقاط الحد عنه الا بالبينة. وإذا زنت الزوجة فقد أفسدت على
الزوج فراشه وخانته فيما ائتمنها عليه، وألحقته من الغيظ مالا يلحق الأجنبي،
وربما ألحقت به نسبا ليس منه، فاحتاج إلى قذفها لنفى ذلك النسب عنه، فخفف
عنه بأن جعل لعانه يقوم مقام شهادة أربعة. وان قدر الزوج على البينة واللعان
فله أن يسقط الحد عن نفسه بأيهما شاء. وقال بعض الناس ليس له ان يلاعن.
دليلنا انهما بينتان في اثبات حق فجاز له إقامة كل واحدة منهما مع القدرة على
الأخرى، كالرجلين في الشهادة في المال والرجل والمرأتين
(فرع) وسواء قال الزوج رأيتها تزني أو قذفتها بزنى ولم يضف ذلك إلى
رؤيته فله ان يلاعن لاسقاط الحد عنه. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك ليس له
أن يلاعن الا إذا قال رأيتها تزني، لان آية اللعان نزلت في هلال بن أمية وكان
391

قال رأيت بعيني وسمعت بأذني. دليلنا قوله تعالى " والذين يرمون أزواجهم ولم
يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " الآية. ولم يفرق بين أن يقول رأيت بعين أو أطلق
ولأنه معنى يخرج به من القذف المضاف إلى المشاهدة، فصح الخروج به من
القذف المطلق كالبينة
(فرع) وإن كان هناك ولد يريد نفيه لم ينتف بالبينة وإنما ينتفى باللعان،
لان الشهود لا سبيل لهم إلى ذلك. وإن أراد أن يثبت الزنا بالبينة ويلاعن لنفى
النسب أو يلاعن لهما جاز له ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن عفت الزوجة عن الحد أو التعزير - ولم يكن نسب - لم
يلاعن، ومن أصحابنا من قال له أن يلاعن لقطع الفراش، والمذهب الأول،
لان المقصود باللعان درء العقوبة الواجبة بالقذف ونفى النسب لما يلحقه من الضرر
بكل واحد منهما، وليس ههنا واحد منهما، وأما قطع الفراش فإنه غير مقصود
ويحصل له ذلك بالطلاق فلا يلاعن لأجله
وإن لم تعف الزوجة عن الحد أو التعزير ولم تطالب به فقد روى المزني أنه
ليس عليه أن يلاعن حتى تطلب المقذوفة حدها.
وروى فيمن قذف امرأته ثم جنت أنه إذا التعن سقط الحد، فمن أصحابنا من
قال لا يلاعن لأنه لا حاجة به إلى اللعان قبل الطلب. وقال أبو إسحاق: له أن
يلاعن لان الحد قد وجب عليه فجاز أن يسقطه من غير طلب، كما يجوز أن
يقضى الدين المؤجل قبل الطلب. وقوله: ليس عليه أن يلتعن، لا يمنع الجواز
وإنما يمنع الوجوب
(فصل) وإن كانت الزوجة أمة أو ذمية أو صغيرة يوطأ مثلها فقذفها عزر
وله أن يلاعن لدرء التعزير لأنه تعزير قذف، وإن كانت صغيرة لا يوطأ مثلها
فقذفها عزر ولا يلاعن لدرء التعزير، لأنه ليس بتعزير قذف، وإنما هو تعزير
على الكذب لحق الله تعالى.
وإن قذف زوجته ولم يلاعن فحد في قذفها ثم قذفها بالزنا الذي رماها به عزر
392

ولا يلاعن لدرء التعزير لأنه تعزير لدفع الأذى، لأنا قد حددناه للقذف، فإن
ثبت بالبينة أو بالاقرار أنها زانية ثم قذفها فقد روى المزني انه لا يلاعن لدرء
التعزير. وروى الربيع انه يلاعن لدرء التعزير.
واختلف أصحابنا فيه على طريقين، فقال أبو إسحاق: المذهب ما رواه المزني
وما رواه الربيع من تخريجه لان اللعان جعل لتحقيق الزنا وقد تحقق زناها
بالاقرار أو البينة، ولان القصد باللعان إسقاط ما يجب بالقذف، والتعزير ههنا
على الشتم لحق الله تعالى لا على القذف، لأنه بالقذف لم يلحقها معرة. وقال
أبو الحسن بن القطان وأبو القاسم الداركي: وهي على قولين (أحدهما) لا يلاعن
لما ذكرناه (والثاني) يلاعن لأنه إذا جاز أن يلاعن لدرء التعزير فيمن لم يثبت
زناها، فلان يلاعن فيمن ثبت زناها أولى.
(الشرح) درء العقوبة دفعها وإزالتها، وبابه نفع، ودارأته دافعته، وفى
الحديث " ادرءوا الحدود بالشبهات " وفى الكتاب " ويدرءون بالحسنة السيئة "
وقال تعالى (فادارأتم فيها) أي تماريتم وتدافعتم، والمدارأة بالهمز المدافعة.
قال الشاعر بلسان ناقته:
تقول وقد درأت لها وضينى * أهذا دينه أبدا وديني؟
أكل الدهر حل وارتحال؟ * فما تبقى على ولا تقيني
والمداراة بغير همز الاخذ بالرفق أو المخاتلة. يقال داريته إذا لاينته،
ودريته إذا ختلته. ومنه:
فإن كنت لا أدرى الظباء فإنني * أدس لها تحت التراب الدواهيا
أما الأحكام فإن حد القذف حق للمقذوف، فإن عفا عنه سقط وان مات
قبل أن يستوفيه ورث عنه، وقال أبو حنيفة: وهو حق لله لا حق للمقذوف فيه،
فإن عفا عنه لم يسقط، وان مات لم يورث عنه. ووافقنا أنه لا يستوفى الا
بمطالبته. دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم
حرام " فأضاف العرض إلينا كإضافة الدم والمال، فوجب أن يكون ما في مقابلته
393

للمقذوف كالدم والمال، ولأنه حق على البدن إذا ثبت بالاعتراف لم يسقط
بالرجوع فكان للآدمي كالقصاص، ففي قولنا إذا ثبت بالاعتراف لم يسقط
بالرجوع، احتراز من حد الزنا والخمر والقطع في السرقة.
إذا ثبت هذا فقذف زوجته ثم عفت عما وجب لها من الحد أو التعزير ولم
يكن هناك ولد لم يكن له أن يلاعن، لأنه يلاعن لاسقاط الحد عنه، وقد سقط
بالعفو. ومن أصحابنا من قال: له أن يلاعن لأنه يستفيد به قطع الفراش والفرقة
المؤبدة. والمذهب الأول لان الفرقة يمكنه إحداثها بالطلاق الثلاث. وإن كان
هناك ولد فله أن يلاعن لنفيه، وان لم تطالبه بالحد ولم تعف عنه، فإن كان هناك
نسب فله يلاعن لنفيه عنه، وان لم يكن هناك نسب فليس له أن يلاعن. ومن
أصحابنا من قال: له أن يلاعن لقطع الفراش، والمذهب الأول، لأنه إنما يلاعن
لنفى النسب أو لاسقاط الحد عنه، وليس هناك أحدهما، وقطع الفراش يمكنه
بالطلاق الثلاث.
وجملة ما تقدم انه لا يتعرض له بإقامة الحد عليه ولا طلب اللعان منه حتى
تطالبه زوجته بذلك، فإن ذلك حق لها فلا يقام من غير طلبها كسائر حقوقها،
وليس لوليها المطالبة عنها إن كانت مجنونة أو محجورا عليها، ولا لولي الصغيرة
وسيد الأمة المطالبة بالتعزير من أجلهما، لان هذا حق ثبت للتشفي فلا يقوم غير
المستحق فيه مقام المستحق كالقصاص فإن أراد الزوج اللعان من غير مطالبة نظرنا فإن لم يكن
هناك نسب يريد نفيه لم يكن له أن يلاعن، وكذلك كل موضع سقط فيه الحد،
مثل أن أقام البينة بزناها أو أبرأته من قذفها أو حد لها ثم أراد لعانها ولا نسب
هناك ينفى فإنه لا يشرع اللعان، وهذا قول أكثر أهل العلم، ولا نعلم فيه مخالفا
الا بعض أصحابنا الذين قالوا: له الملاعنة لإزالة الفراش، ولكن الصحيح عندنا
مثل قول سائر الفقهاء لان إزالة الفراش تمكنه بالطلاق، والتحريم المؤبد ليس
بمقصود يشرع اللعان لأجله، وإنما حصل ذلك ضمنا. أفاده ابن قدامة في المغنى
فإذا قذف امرأته ثم جنت، أو قذفها في حال جنونها بزنا أضافه إلى حال
الصحة، فإنه لا يجب عليه الحد بذلك، وإنما يجب عليه التعزير، وان أراد الولي
394

أن يطالب بما وجب لها من الحد أو التعزير لم يكن له ذلك، لان طريقة التشفي
من القاذف بإقامة الحد عليه فلم يكن له ذلك كالقصاص، فإن التعن الزوج منها
فقد قال الشافعي رضي الله عنه: وقعت الفرقة
واختلف أصحابنا فيه على وجهين، فمنهم من قال إن كانت حاملا فللزوج أن
يلاعن لان اللعان يحتاج إليه لنفى الولد عنه. وإن كانت حائلا لم يكن له أن يلاعن
لان اللعان يراد لاسقاط الحد أو لنفى الولد ولا ولد ههنا فتحتاج إلى نفيه، ولا
يجب عليه الحد إلا بمطالبتها ولا مطالبة لها قبل الإفاقة، فلم يكن له أن يلاعن.
وقال أبو إسحاق المروزي: له أن يلاعن سواء كانت حاملا أو حائلا، لأنها إن
كانت حاملا احتاج إلى اللعان لنفى الولد، وإن كانت حائلا احتاج إلى اللعان
لاسقاط الحد الواجب عليه في الظاهر كمن وجب عليه دين إلى أجل فله أن يدفعه
قبل حلول الأجل، والأول أصح لان الشافعي قال " ليس على الزوج أن يلتعن
حتى تطالب المقذوفة بحدها.
(مسألة) وإن قذف زوجته الصغيرة - فإن كانت لا يوطأ مثلها - كابنة
سبع سنين يعلم يقينا أنها لا توطأ وأنه كاذب ويجب عليه التعزير للكذب، وليس
له أن يلاعن لاسقاط هذا التعزير لأنا نتحقق كذبه فلا معنى للعان. قال الشيخ
أبو حامد ولا يقام عليه التعزير إلا بعد بلوغها، لأنه لا يصح مطالبتها ولا ينوب
عنها الولي في المطالبة.
وإن كانت صغيرة يوطأ مثلها كابنة تسع سنين فما زاد صح قذفه، لان ما قاله
يحتمل الصدق والكذب، ولا يجب عليه الحد بقذفها لأنها ليس بمحصنة، وإنما
يجب عليها التعزير، وهل للزوج أن يلاعن لاسقاط التعزير؟ فيه وجهان. من
أصحابنا من قال ليس له أن يلاعن، لان اللعان يراد لنفى النسب أو لاسقاط
ما وجب عليه من الحد أو التعزير بقذفها، وذلك لا يجب قبل مطالبتها. وقال
أبو إسحاق، له أن يلاعن لاسقاط ما وجب عليه من التعزير في الظاهر وإن لم
تطالب به كما يجوز أن يقدم ما وجب عليه من الدين المؤجل قبل حلوله.
وإن كانت له زوجة كتابية فقذفها لم يجب عليه الحد لأنها ليست بمحصنة،
ويجب عليه التعزير، وحكمه حكم الحد الذي يجب عليه بقذف المحصنة يسقط عنه
395

بإقامة البينة على زناها أو باللعان، لأنه إذا سقط عنه الحد الكامل بذلك فلان
يسقط ما هو دونه بذلك أولى.
وإن كانت الزوجة أمة فقذفها لم يجب عليه الحد لأنها ليست بمحصنة، ويجب
عليه التعزير، وليس للسيد أن يطالب به لأنه ليس بمال ولا له بدل هو مال،
وحق السيد إنما يتعلق بالمال أو بما بدله المال، فإن طالبته الأمة به كان له أن
يسقط ذلك بالبينة أو باللعان كما قلنا في الحد الذي يجب عليه بقذف المحصنة.
وإن عفت الأمة عما وجب لها من التعزير سقط لأنه لا حق للسيد فيه
(مسألة) إذا قامت البينة على امرأة بالزنا أو أقرت بذلك ثم قذفها الزوج
أو أجنبي بذلك الزنا أو بغيره لم يجب عليه حد القذف لقوله تعالى " والذين
يرمون المحصنات " الآية. وهذه ليست بمحصنة، ولان القذف هو ما احتمل
الصدق والكذب. فأما ما احتمل أحدهما فإنه لا يكون قذفا، ألا ترى أنه لو
قذف الصغيرة التي لا يوطأ مثلها في العادة. أو قال الناس كلهم زناة لم يكن قذفا
ولان الحد إنما جعل دفعا للعار عن نسب المقذوفة، وهذه لا عار عليها بذلك
القذف، لان زناها قد ثبت ويجب عليه التعزير لأنه أذاها وسبها وذلك محرم
فعزر لأجله، فإن كان المؤذى لها بذلك أجنبيا لم يسقط عنه ببينة ولا بغيرها،
لان هذا تعزير أذى وليس بتعذير قذف. وإن كان المؤذي لها بذلك زوجها
فهل له إسقاطه باللعان. نقل المزني ليس له إسقاطه باللعان.
ونقل الربيع أن له إسقاطه باللعان، فاختلف أصحابنا في ذلك، فقال أبو إسحاق
الصحيح ما نقله المزني، وما نقله الربيع غلط، لان اللعان إنما يراد لتحقيق الزنا
والزنا هنا متحقق فلا فائدة في اللعان. ولان اللعان إنما أسقط حق المقذوفة،
وأما حق الله فلا يسقط، وهذا التعزير لحق الله تعالى فلم يجز إسقاطه باللعان،
كما قلنا فيمن قذف صغيرة لا يوطأ مثلها
فإن قيل لو كان هذا التعزير لحق الله تعالى لما كان يفتقر إلى مطالبتها، كما لو
قال، الناس كلهم زناة، فإن الامام يعزره من غير مطالبة. قلنا إنما افتقر إلى
مطالبتها لأنه يتعلق بحق امرأة بعينها.
وقال أبو الحسين ابن القطان وأبو القاسم الداركي هي على قولين
396

(أحدهما) لا يلاعن لما ذكرناه (والثاني) يلاعن، لأنه إذا جاز أن يلاعن
لدرء التعزير فيمن لم يثبت زناها فلان يلاعن فيمن ثبت زناها أولى. ومنهم من
قال ليست على قولين. وإنما هي على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال لا يلاعن
إذا كان قد رماها بالزنا مضافا إلى ما قبل الزوجية، مثل ان رماها بالزنا وهما
أجنبيان فأقام عليها البينة بذلك ثم تزوجها ورماها بذلك الزنا لأنه كان في الأصل
لا يجوز له اللعان لأجله فكذلك في الثاني، والموضع الذي قال: له أن يلاعن إذا
رماها بالزنا في حال الزوجية، فحققه عليها بالبينة ثم رماها به ثانيا فله أن يلاعن
لأنه كان في الأصل له إسقاط حده باللعان قبل البينة فكذلك بعد البينة
(فرع) وإن قذف امرأته بالزنا ولم يقم عليها البينة ولم يلاعن فحد ثم رماها
بذلك الزنا فإنه لا يجب عليه الحد، لان القذف هو ما احتمل الصدق والكذب
وهذا لا يحتمل إلا الكذب، ولان الحد إنما يراد لدفع العار عن نسب المقذوفة
وقد دفع عنه العار بالحد الأول فلا معنى لإقامة الحد ثانيا، ويجب عليه التعزير
لأنه آذاها بذلك، والأذى بذلك محرم ولا يلاعن لاسقاط هذا التعزير، لأنه
تعزير أذى فهو كالتعزير لأذى الصغيرة التي لا يوطأ مثلها
وإن قذف أجنبي أجنبية بالزنا ولم يقم البينة على الزنا فحد القاذف ثم رماها
القاذف بذلك ثانيا فإنه لا يجب عليه الحد وإنما يجب عليه التعزير للأذى. وقال
بعض الناس يجب عليه حد القذف
دليلنا ما روى أن أبا بكرة شهد هو ورجلان معه على المغيرة بن شبعة بالزنا
فحدهم عمر رضي الله عنه. ثم قال أبو بكرة للمغيرة: قد كنت زنيت، فهم عمر بجلده
فقال له علي رضي الله عنه: إن كنت تريد أن تحده فارجم صاحبك، فأدرك عمر
معنى قول علي عليه السلام: إن كنت تجعل هذا قذفا ثانيا فقد تمت الشهادة على
المغيرة. وإن كان هو القذف الأول فقد حددته.
(فرع) قال ابن الصباغ في الشامل: إذا قذف الرجل امرأته وثبت عليها الحد
بلعانه نظرت - فإن لاعنته - فقد عارض لعانه لعانها فلا يثبت عليها الزنا ولا
يجب عليها الحد ولا تزول حصانتها. ومتى قذفها هو أو غيره وجب عليه حد
القذف. وإن قذفها ولاعنها ولم تلاعن هي فقد وجب عليها الحد ويسقط احصانها
397

في حق الزوج. وهل تسقط حصانتها في حق الأجنبي؟ فيه وجهان (أحدهما)
تسقط حصانتها لأنه قد ثبت زناها بلعان الزوج فلا يسقط احصانها لان اللعان
حجة تختص بالزوج، ولهذا لا يسقط عن الأجنبي حد القذف به فلا يسقط
احصانها به في حقه.
وذكر الشيخ أبو إسحاق أن الزوج إذا قذفها وتلاعنا، ثم قذفها بذلك الزنا
الذي تلاعنا عليه لم يجب عليه الحد. وان قذفها بزنا آخر ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجب عليه الحد، لان اللعان لا يسقط الا ما يجب بالقذف
في الزوجية لحاجته إلى القذف. وقد زالت الزوجية فزالت الحاجة إلى القذف.
وان تلاعنا ثم قذفها أجنبي حد، فكل موضع قلنا لا يجب على الزوج الحد بقذفها
بعد الزوجية فإنه يجب عليه التعزير لأنه أذاها والأذى محرم، ولا خلاف أنه
لا يسقط هذا التعزير ولا الحد الذي يجب عليه إذا قذفها برنا آخر باللعان، لان
اللعان إنما يكون بين الزوجين وهما أجنبيان. هذا مذهبنا
وقال أبو حنيفة إذا قذفها أجنبي فإن كان الزوج لاعنها ونفى حملها وكان الولد
حيا فعلى الأجنبي الحد، وإن كان لم ينف حملها، أو نفاه وكان الولد ميتا فإنه لا
حد على الأجنبي.
دليلنا ما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين هلال بن أمية
وامرأته ففرق بينهما وقضى بأن لا يدعى الولد لأب، وأنها لا ترمى ولا ولدها
فمن رماها أو ولدها فعليه الحد ولم يفرق
وهذا حجة لما قال ابن الصباغ فإنها أجابته باللعان
وقال صلى الله عليه وسلم " فمن رماها أو ولدها فعليه الحد " ولم يفرق بين
الزوج وغيره. والله تعالى أعلم بالصواب
398

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب ما يلحق من النسب وما لا يلحق
وما يجوز نفيه باللعان وما لا يجوز
إذا تزوج امرأة وهو ممن يولد لمثله، وأمكن اجتماعهما على الوطئ، وأتت
بولد لمدة يمكن أن يكون الحمل فيها لحقه في الظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم " الولد
للفراش " ولان مع وجود هذه الشروط يمكن أن يكون الولد منه، وليس ههنا
ما يعارضه ولا ما يسقطه، فوجب أن يلحق به
(فصل) وإن كان الزوج صغيرا لا يولد لمثله لم يلحقه، لأنه لا يمكن أن
يكون منه وينتفى عنه من غير لعان، لان اللعان يمين واليمين جعلت لتحقيق ما يجوز
أن يكون، ويجوز أن لا يكون فيتحقق باليمين أحد الجائزين، وههنا لا يجوز أن
يكون الولد له فلا يحتاج في نفيه إلى اللعان.
واختلف أصحابنا في السن التي يجوز أن يولد له، فمنهم من قال يجوز أن يولد
له بعد عشر سنين، ولا يجوز أن يولد له قبل ذلك، وهو ظاهر النص. والدليل
عليه قوله صلى الله عليه وسلم " مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها
وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع "
ومنهم من قال يجوز أن يولد له بعد تسع سنين ولا يجوز أن يولد له قبله،
لأن المرأة تحيض لتسع سنين فجاز أن يحتلم الغلام لتسع، وما قاله الشافعي رحمه
الله أراد على سبيل التقريب لأنه لابد أن يمضى بعد التسع إمكان الوطئ وأقل
مدة الحمل وهو ستة أشهر، وذلك قريب من العشرة
وإن كان الزوج مجبوبا فقد روى المزني أن له أن يلاعن، وروى الربيع أنه
ينتفى من غير لعان. واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق إن كان مقطوع الذكر
والأنثيين انتفى من غير لعان لأنه يستحيل أن ينزل مع قطعهما، وإن قطع أحدهما
لحقه، ولا ينتفى إلا بلعان، لأنه إذا بقي الذكر أولج وأنزل، وإن بقي الأنثيان
ساحق وأنزل، وحمل الروايتين على هذين الحالين
399

قال القاضي أبو حامد: في أصل الذكر ثقبان إحداهما للبول والأخرى للمني
فإذا انسدت ثقبة المنى انتفى الولد من غير لعان لأنه يستحيل الانزال، وإن لم تنسد
لم ينتف إلا باللعان، لأنه يمكن الانزال. وحمل الروايتين على هذين الحالين
(الشرح) حديث " الولد للفراش " رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا
أبا داود، وقد عده السيوطي في الأحاديث المتواترة. وقال الحافظ بن حجر:
هذا الحديث رواه بضعة وعشرون نفسا (قلت) ورد هذا الحديث عن أبي هريرة
وعائشة وعثمان وعبد الله بن عمرو وعبد الله بن عمر وأبى أمامة وعمرو بن خارجة
وابن الزبير وابن مسعود وعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص
والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وعبد الله بن عباس والحسن بن علي عليهما السلام
وعبادة بن الصامت وواثلة بن الأسقع ومعاوية بن عمرو وأنس وعبد الله بن
حذافة السهمي وسودة بنت زمعة وأبى مسعود البدري وزينب بنت جحش.
وعن التابعين مرسلا سعيد بن المسيب وعبيد بن عمر والحسن البصري. وفى
لفظ للبخاري " الولد لصاحب الفراش ". أما حديث " مروهم بالصلاة " أخرجه
أبو داود والترمذي وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ومن حديث
سبرة بن معبد الجهني. قال الترمذي هو حديث حسن ولفظ رواية عمرو بن شعيب
" مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر،
وفرقوا بينهم في المضاجع "
أما اللغات، فقوله " ما يلحق من النسب " فهو من باب تعب ومصدره لحاق
بالفتح أي أدرك وألحق مثله: وألحقت زيد بعمرو أتبعته إياه فلحق به وألحق
أيضا. وفى الدعاء " ان عذابك بالكفار ملحق " يجوز اسم فاعل بالكسر أي
لاحق وبالفتح اسم مفعول لان الله ألحقه وألحق القائف الولد بأبيه واستلحقت
الشئ ادعيته. ولحقه الثمن لحوقا لزمه، فاللحوق اللزوم واختلف في معنى
الفراش فذهب الأكثر إلى أنه اسم للمرأة، وقد يعبر به عن حالة الافتراش.
وقيل إنه اسم للزوج. روى ذلك عن أبي حنيفة. وأنشد بن الاعرابي مستدلا
على هذا المعنى قول جرير.
باتت تعانقه وبات فراشها
400

وفى القاموس: إن الفراش زوجة الرجل. قيل ومنه " وفرش مرفوعة "
والجارية يفترشها الرجل. اه‍
والعاهر الزاني، يقال " عهر " أي زنى. قيل ويختص ذلك بالليل. قال في
القاموس: عهر المرأة كمنع عهرا ويكسر ويحرك، وعهارة بالفتح وعهورة،
وعاهرها عهارا أتاها ليلا للفجور أو نهارا. اه‍
ومعنى له الحجر أي الخيبة أو لا شئ له في الولد، والعرب تقول: له الحجر
وبفيه الترب، يريدون ليس له إلا الخيبة، وقيل المراد بالحجر أنه يرجم بالحجارة
إذا زنى، ولكنه يرد على هذا أنه لا يرجم كل من زنى بل المحصن فقط
أما الأحكام فإنه يمهد لذلك بأنه لا فرق أولا بين كون الزوجة مدخولا بها
أو غير مدخول بها في أنه يلاعنها. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ
عنه من علماء الأمصار، منهم عطاء والحسن والشعبي والنخعي وعمرو بن دينار
وقتادة ومالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي، فإن كانت غير
مدخول بها فقد قال أحمد وسعيد بن جبير وقتادة ومالك: لها نصف الصداق،
فإن كان أحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما على ما سيأتي بيانه، فإن كان غير
المكلف الزوج فله حالان
(أحدهما) أن يكون طفلا (والثاني) أن يكون بالغا زائل العقل، فإن كان
طفلا - فإن أتت امرأته بولد نظرنا - فإن كان لدون عشر سنين، وهي السن
التي يؤيدها ظاهر النص والحديث " اضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع "
وإن ذهب بعض الأصحاب إلى ما دون ذلك، فإن كان لدون عشر سنين لم يلحقه
الولد ويكون منفيا عنه، لان العلم يحيط به بأنه ليس منه، فإن الله عز وجل لم
يجر العادة بأن يولد له لدون ذلك فينتفى عنه، كما لو أتت به المرأة لدون ستة أشهر
منذ تزوجها كما سيأتي، ولان الولد لا يخلق الا من ماء الرجل والمرأة ولو أنزل
لبلغ. والصحيح أنه إذا تحقق إمكان الانزال فقد ثبت البلوغ وألحق به الولد.
وهذا ظاهر مذهب أحمد، لان الولد يلحق بالامكان، وإن خالف الظاهر. فإذا
ولدت ولدا يمكن كونه منه فهو ولده في الحكم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم
401

" الولد للفراش " ولا ينتفى عنه إلا بنفيه باللعان من الزوج وحده. وقال أحمد
أن يوجد اللعان منهما جميعا. ولنا أن نفى الولد إنما كان بيمينه والتعانه هو لا بيمين
المرأة على تكذيبه، ولا معنى ليمين المرأة في نفى النسب وهي تثبته وتكذب قول
من ينفيه، وإنما لعانها لدرء الحد عنها، كما قال تعالى " ويدرأ عنها العذاب أن
تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين "
وقال أحمد وأصحابه: لا يكون اللعان تاما إلا إذا التعنا جميعا، وأن تكمل
ألفاظ اللعان منهما جميعا، وأن يبدأ بلعان الزوج قبل المرأة، فإن بدأ بلعان المرأة
لم يعتد به، وبه قال أبو ثور وابن المنذر
وقال مالك وأصحاب الرأي ان فعل أخطأ السنة والفرقة جائزة وينتفي الولد
عنه، لان الله تعالى عطف لعانها على لعانه بالواو وهي لا تقتضي ترتيبها، ولان
اللعان قد وجد منهما جميعا فأشبه ما لو رتبت، وعندنا لا يتم اللعان إلا بالترتيب
إلا أنه يكفي عندنا لعان الرجل وحده لنفى الولد، وذلك حاصل مع إخلاله
بالترتيب وعدم كمال ألفاظ اللعان من المرأة. ومن شروطه أن يذكر نفى الولد في
اللعان. وهذا هو ظاهر مذهب الحنابلة. وقد خالف القاضي أبو بكر منهم فقال إنه
لا يحتاج إلى ذكر الولد ونفيه، وينتفي بزوال الفراش، ولان حديث سهل
الذي وصف فيه اللعان لم يذكر فيه الولد وقال فيه ففرق الرسول صلى الله عليه
وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ولا يرمى ولدها. رواه أبو داود
وغيره. وفى حديث مسلم عن عبد الله أن رجلا لاعن امرأته على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ففرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بأمه. دليلنا
أن من سقط حقه باللعان كان ذكره شرطا، ولان غاية ما في اللعان أن يثبت
زناها وذلك لا يوجب نفى الولد، كما لو أقرت به أو قامت به بينة
فأما حديث سهل بن سعد فقد روى فيه - وكانت حاملا فأنكر حملها -
من رواية البخاري
وروى ابن عمر أن رجلا لاعن امرأته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
وانتفى من ولدها ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة،
والزيادة من الثقة مقبولة
402

فعلى هذا لابد من ذكر الولد في كل لفظة ومع اللعن في الخامسة لأنها من
لفظات اللعان.
(مسألة) قال بعض أصحابنا يجوز أن يولد لهما لتسع سنين، ونصف السنة
وهي مدة الحمل، لان الجارية قد تحيض لتسع فكذلك الغلام. وقد عرفنا أن
عمرو بن العاص كان بينه وبين ابنه عبد الله إثنا عشر عاما
ولنا أن الزمن الذي يمكن البلوغ فيه والاحتلام منه يلحقه الولد فيه. وأما
قياس الغلام على الجارية فغير صحيح، لأننا نعلم أنه لا يمكنه الاستمتاع لتسع
(فرع) قال أصحابنا: إن ولدت امرأة مقطوع الذكر والأنثيين لم يلحق نسبه
به في قول عامة أهل العلم، لأنه يستحيل منه الايلاج والانزال. وإن قطعت
أنثياه دون ذكره فكذلك لأنه لا ينزل ما يخلق منه الولد. وقال بعضهم يلحقه
النسب لأنه يتصور منه الايلاج وينزل ماء رقيقا أو منيا من ثقبة المنى. وبهذا
قال القاضي أبو حامد المروروذي من أصحابنا
وقال أبو إسحاق إن هذا لا يخلق منه ولد عادة ولا وجد ذلك. وبه قال أكثر
أصحاب أحمد رضي الله عنه.
فأما ان قطع ذكره وحده فإنه يلحقه الولد لأنه يمكن أن يساحق فينزل ماء
يخلق منه الولد. وقال ابن اللبان لا يلحقه الولد في هاتين الصورتين في قول الجمهور
ولأصحاب أحمد اختلاف في ذلك على نحو ما ذكرنا من الخلاف عندنا، وهو
الخلاف الناشئ من روايتي الربيع والمزني، وقد حمل أصحابنا الروايتين على الحالين
اللذين أتينا عليهما.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن لم يمكن اجتماعهما على الوطئ بأن تزوجها وطلقها عقيب
العقد أو كانت بينهما مسافة لا يمكن معها الاجتماع انتفى الولد من غير لعان، لأنه
لا يمكن أن يكون منه.
(فصل) وإن أتت بولد لدون ستة أشهر بولد من وقت العقد انتفى عنه من غير
لعان، لأنا نعلم أنها علقت به قبل حدوث الفراش، وإن دخل بها ثم طلقها وهي
403

حامل فوضعت الحمل ثم أتت بولد آخر لستة أشهر لم يلحقه، وانتفى عنه من غير
لعان، لأنا قطعنا ببراءة رحمها بوضع الحمل، وأن هذا الولد الآخر علقت به بعد
زوال الفراش. وإن طلقها وهي غير حامل واعتدت بالأقراء ثم وضعت ولدا
قبل أن تتزوج بغيره لدون ستة أشهر لحقه، لأنا تيقنا أن عدتها لم تنقض، وإن
أتت به لستة أشهر أو أربع سنين أو ما بينهما لحقه.
وقال أبو العباس بن سريج لا يلحقه لأنا حكمنا بانقضاء العدة وإباحتها
للأزواج وما حكم به يجوز نقضه لأمر محتمل، وهذا خطأ لأنه يمكن أن يكون
منه، والنسب إذا أمكن إثباته لم يجز نفيه، ولهذا إذا أتت بولد بعد العقد لستة
أشهر لحقه. وإن كان الأصل عدم الوطئ وبراءة الرحم فإن وضعته لأكثر من
أربع سنين نظرت - فإن كان الطلاق بائنا - انتفى عنه بغير لعان، لان العلوق
حادث بعد زوال الفراش، وإن كان رجعيا ففيه قولان
(أحدهما) ينتفى عنه بغير لعان لأنها حرمت عليه بالطلاق تحريم المبتوتة،
فصار كما لو طلقها طلاقا بائنا
(والقول الثاني) يلحقه لأنها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق
والظهار والايلاء، فإذا قلنا بهذا فإلى متى يلحقه ولدها؟ فيه وجهان، قال
أبو إسحاق يلحقه أبدا، لأن العدة يجوز أن تمتد لان أكثر الطهر لا حد له،
ومن أصحابنا من قال يلحقه إلى أربع سنين من وقت انقضاء العدة، وهو الصحيح
لأن العدة إذا انقضت بانت وصار كالمبتوتة
(الشرح) إذا تزوج رجل امرأة في مجلس ثم طلقها فيه قبل غيبته عنهم، ثم
أتت امرأته بولد لستة أشهر من حين العقد، أو تزوج مشرقي بمغربية ثم مضت
ستة أشهر وأتت بولد لم يلحقه، وبذلك قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة يلحقه
نسبه لان الولد إنما يلحقه بالعقد ومدة الحمل، ألا ترى أنكم قلتم إذا مضى زمان
الامكان لحق الولد، وان علم أنه لم يحصل منه الوطئ
دليلنا انه لم يحصل امكان الوطئ بهذا العقد فلم يلحق به الولد، كزوجة ابن
سنة أو كما لو ولدته لدون ستة أشهر، وفارق ما قاسوا عليه، لان الامكان إذا
404

وجد لم يعلم أنه ليس منه قطعا لجواز أن يكون وطئها من حيث لا يعلم، ولا
سبيل لنا إلى معرفة حقيقة الوطئ، فعلقنا الحكم على إمكانه في النكاح، ولم يجز
حذف الامكان عن الاعتبار، لأنه إذا انتفى حصل اليقين بانتفائه عنه، فلم يجز
إلحاقة به مع يقين كونه ليس منه.
ومن ولدت امرأته ولدا لا يمكن كونه منه في النكاح لم يلحقه نسبه ولم يحتج
إلى نفيه لأنه يعلم أنه ليس منه فلم يلحقه، كما لو أتت به عقيب نكاحه لها، وذلك
مثل أن تأتى به لدون ستة أشهر من حين تزوجها فلا يلحق به في قول كل من علمنا
قوله من أهل العلم لأننا نعلم أنها علقت به قبل أن يتزوجها
(فرع) إذا طلق امرأته وهي حامل فوضعت ولدا ثم ولدت آخر قبل مضى
ستة أشهر فهما من الزوج لأننا نعلم أنهما حمل واحد، فإذا كان أحدهما منه فالآخر
منه، وإن كان بينهما أكثر من ستة أشهر لم يلحق الزوج وانتفى عنه من غير لعان
لأنه لا يمكن أن يكون الولدان حملا واحدا وبينهما مدة الحمل، فعلم أنها علقت
به بعد زوال الزوجية وانقضاء العدة: وكونها أجنبية فهي كسائر الأجنبيات،
وإن طلقها فاعتدت بالأقراء ثم ولدت ولدا قبل مضى ستة أشهر من آخر أقرائها
لحقه لأننا تيقنا أنها لم تحمله بعد انقضاء عدتها ونعلم أنها كانت حاملا به في زمن
رؤية الدم فيلزم أن لا يكون الدم حيضا فلم تنقض عدتها به، وإن أتت به لأكثر
من ذلك إلى أربع سنين لحقه.
وقال أبو العباس بن سريج لا يلحقه لأنها أتت به بعد الحكم بانقضاء عدتها
في وقت يمكن أن لا يكون منه فلم يلحقه، كما لو انقضت عدتها بوضع الحمل،
وإنما يعتبر الامكان مع بقاء الزوجية أو العدة، وأما بعدهما فلا يكتفى بالامكان
للحاقه، وإنما يكتفى بالامكان لنفيه، لان الفراش سبب، ومع وجود السبب
يكتفى بإمكان الحكمة واحتمالها، فإذا انتفى السبب وآثاره فينتفى الحكم لانتفائه
ولا يلتفت إلى مجرد الامكان، وبهذا قال أحمد وأصحابه. وهذا خطأ لأنه يمكن
أن يكون منه لان الأصل أن الولد يلحق بالامكان فلحق به
(فرع) إذا وضعته قبل انقضاء العدة لأقل من أربع سنين لحق بالزوج ولم
ينف عنه إلا باللعان، وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من حين الطلاق وكان
405

بائنا انتفى عنه بغير لعان لأننا علمنا أنها علقت به بعد زوال الفراش، وإن كان
رجعيا فوضعته لأكثر من أربع سنين منذ انقضت العدة فكذلك لأنها علقت به
بعد البينونة، وان وضعته لأكثر من أربع سنين منذ الطلاق ولأقل منها منذ
انقضت العدة ففيه قولان
(أحدهما) لا يلحقه لأنها لم تعلق به قبل طلاق فأشبهت البائن
(والثاني) يلحقه لأنها في حكم الزوجات في السكنى والنفقة والطلاق والظهار
والايلاء، وبهذا الذي قلناه عندنا فمثله عند أحمد رضي الله عنه، فالقولان عندنا
روايتان له أفادهما ابن قدامة.
قال المصنف رحمة الله تعالى
(فصل) وإن كانت له زوجة يلحقه ولدها ووطئها رجل بالشبهة وادعى
الزوج أن الولد من الواطئ عرض معهما على القافة ولا يلاعن لنفيه لأنه يمكن
نفيه بغير لعان وهو القافة فلا يجوز نفيه باللعان، فإن لم تكن قافة أو كانت
وأشكل عليها ترك حتى يبلغ السن الذي ينتسب فيه إلى أحدهما، فإن بلغ وانتسب
إلى الواطئ بشبهة انتفى عن الزوج بغير لعان، وان انتسب إلى الزوج لم ينتف
عنه الا باللعان لأنه لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان
وان قال زنى بك فلان وأنت مكرهة والولد منه ففيه قولان
(أحدهما) لا يلاعن لنفيه لان أحدهما ليس بزان فلم يلاعن لنفى الولد كما
لو وطئها رجل بشبهة وهي زانية
(والثاني) أن له أن يلاعن وهو الصحيح، لأنه نسب يلحقه من غير رضاه
لا يمكن نفيه بغير اللعان فجاز نفيه باللعان كما لو كانا زانيين
(فصل) وان أتت امرأته بولد فادعى الزوج انه من زوج قبله، وكان لها
زوج قبله، نظرت فإن وضعته لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول، ولدون
ستة أشهر من عقد الزوج الثاني فهو للأول، لأنه يمكن أن يكون منه، وينتفي
عن الزوج بغير لعان لأنه لا يمكن أن يكون منه
وان وضعته لأكثر من أربع سنين من طلاق الأول ولأقل من ستة أشهر
406

من عقد الزوج الثاني انتفى عنهما، لأنه لا يمكن أن يكون من واحد منهما، وإن
وضعته لأربع سنين فما دونها من طلاق الأول، ولستة أشهر فصاعدا من عقد
الزوج الثاني عرض على القافة، لأنه يمكن أن يكون من كل واحد منهما، فإن
ألحقته بالأول لحق به وانتفى عن الزوج بغير لعان، وإن ألحقته بالزوج لحق به
ولا ينتفى عنه إلا باللعان، وان لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها ترك إلى أن
يبلغ وقت الانتساب، فإن انتسب إلى الأول انتفى عن الزوج بغير لعان، وإن
انتسب إلى الزوج لم ينتف عنه إلا باللعان: وإن لم يعرف وقت طلاق الأول ووقت
نكاح الزوج فالقول قول الزوج مع يمينه أنه لا يعلم أنها ولدته على فراشه، لان
الأصل عدم الولادة وانتفاء النسب، فإن حلف سقطت دعواها وانتفى النسب
بغير لعان، لأنه لم يثبت ولادته على فراشه، وإن نكل رددنا اليمين عليها، وإن
حلفت لحق النسب بالزوج ولا ينتفى إلا باللعان، لأنه ثبتت ولادته على فراشه
وإن نكلت فهل توقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي فيحلب ويثبت نسبه، فيه وجهان
بناء على القولين في رد اليمين على الجارية المرهونة إذا أحبلها الراهن وادعى أن
المرتهن أذن له في وطئها وأنكر المرتهن ونكلا جميعا عن اليمين
(أحدهما) لا ترد اليمين، لان اليمين حق للزوجة، وقد أسقطته بالنكول،
فلم يثبت لغيرها.
(والثاني) ترد لأنه يتعلق بيمينها حقها وحق الولد، فإذا أسقطت حقها لم
يسقط حق الولد.
(فصل) وإن جاءت امرأة ومعها ولد وادعت أنه ولدها منه وقال الزوج
ليس هذا منى ولا هو منك بل هو لقيط أو مستعار لم يقبل قولها أنه منها من غير
بينة لان الولادة يمكن إقامة البينة عليها والأصل عدمها فلم يقبل قولها من غير
بينة، فإن قلنا إن الولد يعرض مع الام على القافة في أحد الوجهين عرض على
القافة، فإن لحقته بالأم لحق بها وثبت نسبه من الزوج لأنها أتت به على فراشه
ولا ينتفى عنه الا باللعان
وان قلنا إن الولد لا يعرض مع الام على القافة. أو لم تكن قافة. أو كانت
وأشكل عليها فالقول قول الزوج مع يمينه انه لا يعلم أنها ولدته على فراشه. فإذا
407

حلف انتفى النسب من غير لعان، لأنه لم تثبت ولادته على فراشه. وان نكل
رددنا اليمين عليها فإن حلفت لحقه نسبه ولا ينتفى عنه الا باللعان. وان نكلت
فهل توقب اليمين على بلوغ الولد ليحلب؟ على ما ذكرناه من الوجهين
في الفصل قبله.
(الشرح) ان غاب عن زوجته سنين فبلغتها وفاته فاعتدت ونكحت نكاحا
صحيحا في الظاهر ودخل بها الثاني وأولدها أولادا ثم قدم الأول فسخ نكاح الثاني
وردت إلى الأول وتعتد من الثاني ولها عليه صداق مثلها والأولاد له لأنهم ولدوا
على فراشه. روى ذلك عن علي عليه السلام. وبه قال الثوري وأهل العراق
وابن أبي ليلى ومالك وأهل الحجاز وأحمد وإسحاق وأبو يوسف وغيرهم من أهل
العلم الا أبا حنيفة فإنه قال الولد للأول لأنه صاحب الفراش لان نكاحه صحيح
ثابت ونكاح الثاني غير ثابت فأشبه الأجنبي
دليلنا أن الثاني انفرد بوطئها في نكاح يلحق النسب في مثله فكان الولد له
دون غيره. كولد الأمة من زوجها يلحقه دون سيدها. وفارق الأجنبي فإنه
ليس له نكاح.
(فرع) إذا ولدت المرأة فأنكر زوجها الولد فلا حد عليه لان هذا ليس
بقذف لاحتمال أن يكون مراده انه لا يشبهه في خلقه أو خلقه. وان قال وطئت
بشبهة والولد من الواطئ فلا حد عليه لأنه لم يقذفها ولم يقذف واطئها. وان
قال أكرهت على الزنا فهل عليه اللعان؟ فمذهب أحمد وأبي حنيفة أنه لا حد عليه
ولا لعان لأنه لم يقذفها ومن شرط اللعان القذف ويلحقه نسب الولد. ومذهبنا
أن له اللعان لأنه محتاج إلى نفى الولد بخلاف ما إذا قال وطئت بشبهة فإنه يمكن
نفى النسب بعرض الولد على القافة فيستغنى بذلك عن اللعان فلا يشرع كما لا يشرع
لعان أمته لما أمكن نفى نسب ولدها بدعوى الاستبراء
فإن قال وطئك فلان بشبهة وأنت تعلمين الحال فليس هذا بلعان وليس له نفيه
باللعان لأنه يمكنه نسبه بالقافة فأشبه ما لو قال واشتبه عليك أيضا. وقد اختار
هذا بعض أصحاب أحمد
408

وقال ابن قدامة: إنه يدخل في قوله تعالى " والذين يرمون أزواجهم " فملك
اللعان ونفى الولد، لأنه قد لا يوجد قافة، وقد لا يعترف الرجل بما نسب إليه،
أو يغيب أو يموت فلا ينتفى الولد.
(فرع) وإن أتت بولد فادعى أنه من زوج قبله نظرت - فإن كانت تزوجت
بعد انقضاء العدة - لم يلحق بالأول بحال، وإن كان بعد أربع سنين منذ بانت من
الأول لم يلحق به أيضا. وإن وضعته لأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني لم
يلحق به وينتفى عنهما. وإن كان لأكثر من ستة أشهر فهو ولده، وإن كان
لأكثر من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني ولأقل من أربع سنين من طلاق الأول
ولم يعلم انقضاء العدة عرض على القافة وألحق بمن ألحقته به منهما، فإن ألحقته
بالأول انتفى عن الزوج بغير لعان، وإن ألحقته بالزوج انتفى عن الأول ولحق
الزوج، ولا ينتفى عنه الا باللعان، وهذا إحدى الروايتين عن أحمد (رض)
(مسألة) إذا تزوج رجلان أختين فغلط بهما عند الدخول فزفت كل واحدة
منهما إلى زوج الأخرى فوطئها وحملت منه لحق الولد بالواطئ لأنه وطئ يعتقد حله
فلحق به النسب كالوطئ في نكاح فاسد
وقال أبو حنيفة وبعض أصحاب أحمد: لا يكون الولد للواطئ وإنما يكون
للزوج. وهذا الذي يقتضيه أصل أبي حنيفة لان الولد للفراش. دليلنا أن
الواطئ انفرد بوطئها فيما يلحق به النسب فلحق به، كما لو لم تكن ذات زوج،
وكما لو تزوجت امرأة المفقود عند الحكم بوفاته ثم بان حيا، والخبر مخصوص بهذا
فنقيس عليه ما كان في معناه
وان وطئت امرأة بشبهة في طهر لم يصبها فيه، فاعتزلها حتى أتت بولد لستة
أشهر من حين الوطئ لحق الواطئ وانتفى عن الزوج من غير لعان. وعلى قول
أبي حنيفة وبعض أصحاب أحمد: يلحق الولد الزوج، لان الولد للفراش. وان
أنكر الواطئ الوطئ فالقول قوله بغير يمين ويحلق نسب الولد بالزوج، لأنه
لا يمكن إلحاقه بالمنكر، ولا تقبل دعوى الزوج في قلع نسب الولد. وان أتت
بالولد لدون ستة أشهر من حين الوطئ لحق الزوج بكل حال لأننا نعلم أنه ليس
409

من الواطئ. وان اشتركا في وطئها في طهر فأتت بولد يمكن أن يكون منهما لحق
الزوج لان الولد للفراش وقد أمكن كونه منه
وان ادعى الزوج أنه من الواطئ فقال بعض أهل العلم: يعرض على القافة
معهما فيلحق بمن ألحقته منهما، فإن ألحقته بالزوج لحق ولم يملك نفيه باللعان،
وهو أصح الروايتين عن أحمد رضي الله عنه
ولنا أنه يمكن الاستعانة بالطب الشرعي في تحليل فصائل دم كل من الرجلين
والام فإن تشابهت فصائل الدم عندهما أخذ بالقافة وان اختلفت فإن كان أحدهما
(ا) والآخر (ب) والام (و) فإن جاء الولد (و) رجعنا إلى القافة. وان
جاء (ا) كان لمن فصيلته (ا) وان جاء (ب) كان كذلك، وان جاء (أب)
رجعنا إلى القافة، ويحتمل أن يلحق الزوج لان الفراش دلالته أقوى فهو مرجح
لاحد الاحتمالين فيلحق بالزوج، ويمكن أن يلحق بهما ولم يملك الواطئ نفيه
عن نفسه، وللزوج أن ينفيه باللعان. وهذا إحدى الروايتين عن أحمد (رض)
وان لم توجد القافة أو أنكر الواطئ الوطئ أو اشتبه على الطب الشرعي أو
القافة ترك إلى أن يكبر إلى وقت الانتساب فإن انتسب إلى الزوج والا نفاه باللعان
(مسألة) إذا قال: ما ولدته وإنما التقطته أو استعرته، فقالت بل هو ولدى
منك لم يقبل قول المرأة الا ببينة، وهذا هو قول احمد وأبى ثور وأصحاب الرأي
لان الولادة يمكن إقامة البينة عليها، والأصل عدمها فلم تقبل دعواها من غير
بينة كالدين، فإن قلنا بأحد الوجهين ان الولد يعرض مع الام على القافة أو على
الطب الشرعي، فإن ألحقاه بالأم لحق بها وثبت نسبه من الزوج لأنه لم يأت الا
على فراشه، وليس له ان ينفيه باللعان، لأنه لم يقذفها بالزنا، وإنما ادعى نفى
الولادة. وان قلنا بالوجه الآخر بعدم العرض على القافة كان القول قوله مع
يمينه انه لا يعلم أنها ولدته على فراشه، وكذلك إذا أشكلت القافة حين عرض
عليها أو تشابهت فصائل الدم، واحتمل أن يكون من غيرها، أو كانت فصيلته
مشابهة للزوج ويحتمل أن يكون من غيره فإن القول قول الزوج مع يمينه، فإن
حلف فلا لعان وانتفى نسبه منه، وان نكل رددناه عليها وبحلفها يلحقه الولد،
410

وليس له أن يلاعنها، فإن نكلت هي أيضا فعلى ما ذكره المصنف في الفصل قبله
من الوجهين من وقوف اليمين حتى يبلغ الولد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا تزوج امرأة وهي وهو ممن يولد له ووطئها، ولم يشاركه أحد
في وطئها بشبهة ولا غيرها، وأتت بولد لستة أشهر فصاعدا لحقه نسبه، ولا يحل
له نفيه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
حين نزلت آية الملاعنة: أيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله عنه
وفضحه الله على رؤوس الأولين والآخرين "
وإن أتت امرأته بولد يلحقه في الظاهر بحكم الامكان وهو يعلم أنه لم يصبها،
وجب عليه نفيه باللعان، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شئ،
ولن يدخلها الله تعالى جنته " فلما حرم النبي صلى الله عليه سلم على المرأة أن تدخل
على قوم من ليس منهم، دل على أن الرجل مثلها، ولأنه إذا لم ينفه جعل الأجنبي
مناسبا له ومحرما له ولأولاده ومزاحما لهم في حقوقهم. وهذا لا يجوز، ولا
يحوز أن يقذفها لجواز أن يكون من وطئ شبهة أو من زوج قبله.
(فصل) وإن وطئ زوجته ثم استبرأها لحيضة وطهرت ولم يطأها وزنت
وأتت بولد لستة أشهر فصاعدا من وقت الزنا لزمه قذفها ونفى النسب لما ذكرناه
وان وطئها في الطهر الذي زنت فيه فأتت بولد وغلب على ظنه أنه ليس منه، بأن
علم أنه كان يعزل منها أو رأى فيه شبها بالزاني لزمه نفيه باللعان، وان لم يغلب
على ظنه أنه ليس منه لم ينفه لقوله صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر "
(الشرح) عمد المصنف إلى حديث أبي هريرة فجزأه جزأين مما أوهم أنهما
حديثان، وكان يمكنه سوق الحديث برمته والاستدلال به في الموضعين بغير تجزئه
ولا تكرار، فالحديث أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان
والحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا " أيما
امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شئ، وأيما رجل جحد
411

ولده وهو ينظر إليه احتجب الله تعالى منه، وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين
يوم القيامة " وفى رواية ابن ماجة " ألحقت بقوم "
أما أحكام الفصلين فإنه يحرم على الرجل قذف زوجته، وقد جعله القرآن
الكريم من الكبائر قال تعالى " ان الذين يرمون المحصنات الغافلات لعنوا في الدنيا
والآخرة ولهم عذاب عظيم " ولقوله صلى الله عليه وسلم " أيما رجل جحد ولده
وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين "
قوله " ينظر إليه " يعنى يراه منه، فكما حرم على المرأة أن تدخل على قوم من
ليس منهم حرم على الرجل جحد ولده، ولا يجوز قذفها بخبر من لا يوثق بخبره
لأنه غير مأمون على الكذب عليها، ولا برؤيته رجلا خارجا من عندها من غير
أن يستفيض زناها لأنه يجوز أن يكون دخل سارقا أو هاربا أو لحاجة. كما قررنا
ذلك في صدر هذا البحث
(فرع) اللعان واجب إذا رأى امرأته تزني في طهر لم يطأها فيه فإنه يلزمه
اعتزالها حتى تنتهي عدتها، فإذا أتت بولد لستة أشهر من حين الزنا فأكثر لزمه
قذفها ونفى ولدها لان ذلك يجرى مجرى اليقين في أن الولد من الزاني، فإذا لم
ينفه لحقه الولد. وورثه وورث أقاربه وورثوا منه. ونظر إلى بنانه وأخواته.
وليس ذلك بجائز وسيحمل هو وزره فيجب نفيه لإزالة ذلك
وإذا أقرت له بالزنا وقع في قلبه صدقها فهو كما لو رآها. وكذلك إذا غلب
على ظنه زناها في طهر وطئها فيه ثم أتت بولد فرأى ملامح الزاني ومخايله واضحة
في الوليد. أو كان يطؤها ويعزل عنها ثم ولدت لستة أشهر من حين العزل
فصاعدا لزمه نفيه أيضا باللعان.
فإن لم يوقن أو يظن ظنا قويا انه ليس منه لم ينفه لحديث أبي هريرة رضي الله عنه
الذي أخرجاه الشيخان وأصحاب السنن الا أبا داود عن النبي صلى الله عليه
وسلم " الولد للفراش وللعاهر الحجر " وما رواه الشافعي بسنده عن ابن عمر
" ان عمر قال: ما بال رجال يطأون ولائدهم ثم يعتزلونهن. لا تأتيني وليدة
يعترف سيدها ان قد ألم بها الا ألحقت به ولدها. فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا "
412

ومقتضى هذا أن الولد يلحق الأب بعد ثبوت الفراش، وهو لا يثبت إلا بعد
إمكان الوطئ في النكاح الصحيح أو الفاسد، وإلى ذلك ذهب جمهور الفقهاء،
وقال أبو حنيفة: إنه يثبت بمجرد ال‍؟ قد، واستدل له بأن مجرد المظنة كافية،
ورد بمنع حصولها بمجرد العقد، بل لابد من إمكان الوطئ، ولا شك أن اعتبار
مجرد العقد في ثبوت الفراش جمود ظاهر
وحكى ابن القيم عن أبي حنيفة أنه يقول بأن نفس العقد وإن علم أنه لم يجتمع
بها بل لو طلقها عقبه في المجلس تصير الزوجة به فراشا، وكذلك قوله بأن العقد
يثبت به الفراش ولحوق النسب، ولو كانت بينهما م‍؟ آفة طويلة لا يمكن وصوله
إليها في مقدار مدة الحمل، وهذا كله لا دليل عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن أتت امرأته بولد أسود وهما أبيضان، أو بولد أبيض وهما
أسودان ففيه وجهان:
(أحدهما) أن له أن ينفيه لما روى ابن عباس رضي الله عنه في حديث هلال
ابن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن جاءت به أورق جعدا جماليا خدلج
الساقين سابغ الأليتين فهو للذي رميت به، فجاءت به أورق جعدا جماليا خدلج
الساقين سابغ الأليتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لولا الايمان لكان
لي ولها شأن " فجعل الشبه دليلا على أنه ليس منه
(والثاني) أنه لا يجوز نفيه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم من بنى فزارة فقال " إن امرأتي جاءت بولد أسود
ونحن أبيضان، فقال هل لك من إبل؟ قال نعم، قال ما ألوانها؟ قال حمر. قال
هل فيها من أورق؟ قال إن فيها لورقا. قال فأنى ترى ذلك؟ قال عسى أن يكون
نزعه عرق، قال وهذا عسى أن يكون نزعه عرق "
(الشرح) حديث ابن عباس رواه أحمد وأبو داود وهو مطول عنده، وفى
إسناده عباد بن منصور فيه مقال معروف. وحديث أبي هريرة أخرجه أحمد
والشيخان وأصحاب السنن الأربعة والدارقطني ولفظه " جاء رجل من بنى فزارة
413

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ولدت امرأتي غلاما أسود، وهو حينئذ
يعرض بأن ينفيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال نعم،
قال فما ألوانها؟ قال حمر، قال هل فيها من أورق؟ قال إن فيها لورقا، قال فأنى
أتاها ذلك؟ قال عسى أن يكون نزعه عرق، قال فهذا عسى أن يكون نزعه عرق
ولم يرخص له في الانتفاء منه "
ولأبي داود في رواية " إن امرأتي ولدت غلاما أسود وانى أنكره "
قوله " هلال بن أمية " هو أحد الثلاثة الذين خلفوا. قوله " جاء رجل "
اسمه ضمضم بن قتادة
أما اللغات فالأورق الأسمر، وفى المصباح ما كان لونه كلون الرماد، والاسم
الورقة كالحمرة والخضرة والصفرة. والجعد ضد السبط وقد مضى. وقال الهروي
يكون مدحا وذما، فالمدح بمعنيين، أحدهما أن يكون معضوب الخلق شديد
الأسر، والثاني أن يكون شعرا جعدا، والذم بمعنيين. أحدهما أن يكون قصيرا
مترددا، والثاني أن يكون نحيلا، يقال رجل جعد اليدين وجعد الأصابع أي
مقبضها، والجمالى بضم الجيم، الضخم الأعضاء التام الأوصال، هكذا قال ابن
بطال، وقال في المصباح: عظيم الخلق، وقيل طويل الجسم اه‍.
قالوا ناقة جمالية من بدانتها، قال الشاعر:
جمالية لم يبق سيري ورحلتي * على ظهرها من نيها غير محفدي
وخدلج الساقين أي عريض صدر القدمين خفاق القدم، وسابغا الأليتين أي
كامل واف، ومنه الدرع السابغة
أما الأحكام فإن حديث ابن عباس دليل على أنه يجوز للأب. أن ينفى ولده
بمجرد كونه مخالفا لهما في اللون، وبهذا قال القاضي وأبو الخطاب من الحنابلة،
وهو أحد الوجهين عند أصحابنا، وحديث أبي هريرة دليل على أنه لا يجوز له أن
ينفى ولده بمجرد كونه مخالفا لهما في اللون
وقد حكى القرطبي وابن رشد الاجماع على ذلك وتعقبهما الحافظ بن حجر
بأن الخلاف في ذلك ثابت عند الشافعية فقالوا: إن لم ينضم إلى المخالفة في اللون
قرينة زنا لم يجز النفي، فإن اتهمها فأتت بولد على لون الرجل الذي اتهمها به جاز
414

النفي على الصحيح عندهم. وعند الحنابلة يجوز النفي مع القرينة مطلقا. وقال
ابن قدامة: لا يجوز النفي بمخالفة الولد لون والديه أو شبههما، ولا لشبهه بغير
والديه لما روى أبو هريرة (وساق حديث الفزاري)
(قلت) ولان الناس كلهم لآدم وحواء وألوانهم وخلقهم مختلفة، فلولا
مخالفتهم شبه والديهم لكانوا على خلفة واحدة، ولان دلالة الشبه ضعيفة،
ودلالة ولادته على الفراش قوية فلا يجوز ترك القوى لمعارضة الضعيف، ولذلك
لما تنازع سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة ورأي النبي صلى الله عليه وسلم
فيه شبها بينا بعتبة ألحق الولد بالفراش وترك الشبه، وهذا اختيار أبى عبد الله
ابن حامد من أصحاب أحمد. وهو الوجه الآخر لأصحاب الشافعي
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن أتت امرأته بولد وكان يعزل عنها إذا وطئها لم يجز له نفيه،
لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إنا نصيب السبايا
ونحب الأثمان أفنعزل عنهن؟ فقال صلى الله عليه وسلم " إن الله عز وجل إذا
قضى خلق نسمة خلقها " ولأنه قد يسبق من الماء مالا يحس به فتعلق به، وإن
أتت بولد وكان يجامعها فيما دون الفرج ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز له النفي لأنه قد يسبق الماء إلى الفرج فتعلق به
(والثاني) أن له نفيه لان الولد من أحكام الوطئ، فلا يتعلق بما دونه
كسائر الأحكام. وإن أتت بولد وكان يطؤها في الدبر ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز له نفيه، لأنه قد يسبق من الماء إلى الفرج ما تعلق به.
(والثاني) له نفيه لأنه موضع لا يبتغى منه الولد.
(فصل) إذا قذف زوجته وانتفى عن الولد - فإن كان حملا - فله أن
يلاعن وينفى الولد، لان هلال بن أمية لاعن على نفى الحمل، وله أن يؤخره
إلى أن تضع، لأنه يجوز أن يكون ريحا أو غلظا فيؤخر ليلاعن على يقين،
وإن كان الولد منفصلا ففي وقت نفيه قولان (أحدهما) له الخيار في نفيه ثلاثة
415

أيام، لأنه قد يحتاج إلى الفكر والنظر فيما يقدم عليه من النفي، فجعل الثلاث
حدا لأنه قريب، ولهذا قال الله عز وجل " يا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها
تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب " ثم فسر القريب
بالثلاث، فقال " تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب "
(والثاني) وهو المنصوص في عامة الكتب أنه على الفور، لأنه خيار غير
مؤد لدفع الضرر، فكان على الفور كخيار الرد بالعيب، فإن حضرت الصلاة
فبدأ بها أو كان جائعا فبدأ بالاكل، أو له مال غير محرز واشتغل بإحرازه، أو
كان عادته الركوب واشتغل بإسراج المركوب، فهو على حقه من النفي، لأنه
تأخير لعذر. وإن كان محبوسا أو مريضا أو قيما على مريض أو غائبا لا يقدر
على المسير وأشهد على النفي فهو على حقه وان لم يشهد مع القدرة على الاشهاد
سقط حقه، لأنه لما تعذر عليه الحضور للنفي أقيم الاشهاد مقامه إلى أن يقدر
كما أقيمت الفيئة باللسان مقام الوطئ في حق المولى إذا عجز عن الوطئ إلى أن يقدر
(الشرح) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أخرجه أحمد والبخاري
ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي بألفاظ مختلفة كلها تؤدى معنى ما ساقه
المصنف هنا، وقد مضى الكلام على طرقه وأقوال العلماء فيه في أحكام العزل من
كتاب النكاح فليراجع. وروى معناه عن جابر بن عبد الله وعبد الله بن عباس
وأنس بن مالك وأسامة بن زيد وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
فإذا أتت بولد وكان يعزل عنها لم يجز له نفيه لحديث أبي سعيد، ولأنه قد
يسبق من الماء مالا يحس به فتعلق.
وأما إن كان لا يطؤها الا دون الفرج أو في الدبر فأتت بولد، فذكر أصحابنا
فيه وجهين (أحدهما) انه ليس له نفيه لأنه لا يأمن أن يسبق الماء إلى الفرج
فيعلق به، وبه قال احمد. وقال ابن قدامة: هو بعيد لأنه من أحكام الوطئ في
الفرج فلا يتعلق بما دونه كسائر الأحكام، ودلالة عدم الوطئ في الفرج على
انتفاء الولد أشد من دلالة مخالفة الولد لون أبيه اه‍. وهذا هو الوجه الثاني عندنا
وبشجب ابن قدامة لما قاله أصحابه يكون في مذهب احمد في المسألة قولان
416

وقال أبو حنيفة لا يلاعن وبناه على أصله في أن اللواط لا يوجب الحد.
وهذا فاسد لان الرمي به معرة، وقد دخل تحت عموم قوله تعالى (والذين يرمون
أزواجهم) وقد حقق القرطبي في تفسير سورتي الأعراف والمؤمنون انه يجب
الحد. وقالت المالكية: يلاعن إذا انتفى من الحمل بشرطه
(مسألة) إذا ظهر بامرأته حمل فله أن ينفيه وله أن يؤجل نفيه إلى أن تضع
واختلف أصحاب أحمد فيما إذا لاعن امرأته حاملا ونفى حملها في لعان. فقال
الخرقي وجماعة: لا ينتفى الحمل بنفيه قبل الوضع، ولا ينتفى حتى يلاعنها بعد
الوضع وينتفى الولد فيه. وهذا قول أبي حنيفة وجماعة من أهل الكوفة، لان
الحمل غير مستيقن يجوز أن يكون ريحا أو غيرها فيصير نفيه مشروطا بوجوده ولا
يجوز تعليق اللعان بشرط
ولنا أنه يصح نفى الحمل وينتفى عنه. دليلنا حديث هلال بن أمية وأنه نفى
حملها فنفاه عنه النبي صلى الله عليه وسلم وألحقه بالأول، ولا خفاء بأنه كان حملا
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم " انظروها فإن جاءت به " كذا وكذا
قال ابن عبد البر: الآثار الدالة على صحة هذا القول كثيرة - إلى أن قال -
ولان الحمل مظنون بأمارات تدل عليه، ولهذا ثبتت للحامل أحكام تخالف بها
الحائل من النفقة والفطر في الصيام وترك إقامة الحد عليها وتأخير القصاص عنها
مما يطول ذكره. اه‍
وقالت المالكية: إذا ظهر بامرأته حمل فترك أن ينفيه لم يكن له نفيه بعد
سكوته، لان سكوته بعد العلم به رضا به، كما لو أقر به ثم ينفيه فإنه لا يقبل منه
فان قال رجوت أن يكون ريحا ينفش أو تسقطه فأستريح من السقط، أو يكون
من أمراض النساء كالأورام الليفية التي تبدو معها المرأة كأنها حامل في الشهر
التاسع، وهي في حاجة إلى استئصال هذا الورم، فهل لنفيه بعد وضعه مدة ما؟
فإذا جاوزها لم يكن له ذلك، فقد اختلف في ذلك على قولين
(أحدهما) إذا لم يكن له عذر في سكوته حتى مضت ثلاثة أيام فهو راض به
ليس له نفيه. وبهذا قال المالكية
وقالت الحنابلة: إذا ولدت ولدا فسكت عن نفيه مع امكانه لزمه نسبه
417

ولم يكن له نفيه بعد ذلك، ومدة الثلاث فرصة كافيه لانعام النظر واعمال الفكر
والتدبر في الامر، فقد يكون في التريث أمن من الندم، ومدة الثلاث حكمها شائع
في خيار البيع وفى اختبار المصراة، وقد جاء في تأويل قوله تعالى " قال تمتعوا في
داركم ثلاثة أيام " أنها توضيح لمبهم " قريب " في آية الناقة من وعيدهم بالعذاب.
(والثاني) وهو المنصوص، وهو قول أبى بكر من أصحاب احمد رضي الله عنه:
لا يتقدر ذلك بثلاث، بل هو على ما جرت به العادة إن كان ليلا، فحتى يصبح
وينتشر في الناس، وإن كان جائعا أو ظمآن فحتى يأكل أو يشرب، أو ينام إن كان
ناعسا، أو يلبس ثيابه ويسرج دابته ويركب ويصلى ان حضرت الصلاة،
ويحرز ماله إن كان غير محرز، وأشباه ذلك من أشغاله، فان أخره بعد هذا كله
لم يمكن له نفيه.
وقال أبو حنيفة: له تأخير نفيه يوما ويومين استحسانا، لأن النفي عقيب
الولادة يشق فقدر باليومين لقلته. وقال أبو يوسف ومحمد يتقدر بمدة النفاس لأنها
جارية مجرى الولادة في الحكم. وحكى عن عطاء ومجاهد أن له نفيه ما لم يعترف
به فكان له نفيه كحالة الولادة.
ووجه القول الأول انه خيار لدفع الضرر المتحقق فكان على الفور كخيار
الشفعة. وقول النبي صلى الله عليه وسلم " الولد للفراش " عام خرج منه ما اتفقنا
عليه مع السنة الثابتة، فما عداه يبقى على عموم الحديث. وما ذكره أبو حنيفة
يبطل بخيار الرد بالعيب والاخذ بالشفعة، وتقديره بمدة النفاس تحكم لا دليل
عليه، وكذلك يرد هذا على ما قال عطاء، ولا يلزم القصاص لأنه لاستيفاء
حق لا لدفع ضرر ولا الحمل لأنه لم يتحقق ضرره. وقالت المالكية: ان الأيام
الثلاثة آخر حد القلة وأول حد الكثرة
(فرع) إن كان له عذر يمنعه من الحضور لنفيه كالمرض والحبس، أو
الاشتغال بحفظ مال يخاف ضيعته أو بملازمة غريم يخالف فوته أو غيبته نظرت
- فإن كانت مدة ذلك قصيرة فأخره إلى الحضور ليزول عذره - لم يبطل نفيه
لأنه بمنزلة من علم ذلك ليلا فأخره إلى الصبح
وإن كانت تطاول فأمكنه التنفيذ إلى الحاكم ليبعث إليه من يستوفى عليه اللعان
418

والنفي فلم يفعل سقط نفيه، فإن لم يمكنه أشهد على نفسه أنه ناف لولد امرأنه،
فإن لم يفعل بطل خياره، لأنه إذا لم يقدر على نفيه كان الاشهاد قائما مقامه كما يقيم
المريض الفيئة بقوله في الايلاء بدلا عن الفيئة بالجماع
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن ادعى أنه لم يعلم بالولادة فإن كان في موضع لا يجوز أن يخفى
عليه ذلك من طريق العادة، بأن كان معها في دار أو محلة صغيرة لم يقبل، لأنه
يدعى خلاف الظاهر، وإن كان في موضع يجوز أن يخفى عليه كالبلد الكبير،
فالقول قوله مع يمينه، لان ما يدعيه ظاهر
وإن قال علمت بالولادة إلا أنى لم أعلم أن لي النفي - فإن كان ممن يخالط أهل
العلم - لم يقبل قوله، لأنه يدعى خلاف الظاهر، وإن كان قريب عهد بالاسلام
أو نشأ في موضع بعيد من أهل العلم قبل قوله، لأن الظاهر أنه صادق فيما يدعيه
وإن كان في بلد فيه أهل علم إلا أنه من العامة ففيه وجهان
(أحدهما) لا يقبل كما لا يقبل قوله إذا ادعى الجهل برد المبيع بالعيب.
(والثاني) يقبل لان هذا لا يعرفه إلا الخواص من الناس بخلاف رد المبيع
بالعيب، فإن ذلك يعرفه الخاص والعام.
(فصل) وإن هنأه رجل بالولد فقال: بارك الله لك في مولودك وجعله الله
لك خلفا مباركا وأمن على دعائه، أو قال استجاب الله دعاءك سقط حقه من النفي
لان ذلك يتضمن الاقرار به، وإن قال أحسن الله جزاءك، أو بارك الله عليك
أو رزقك الله مثله، لم يسقط حقه من النفي، لأنه يحتمل أنه قال له ذلك ليقابل
التحية بالتحية.
(فصل) وإن كان الولد حملا فقال أخرت النفي حتى ينفصل ثم ألاعن على
يقين فالقول قوله مع يمينه لأنه تأخير لعذر يحتمله الحال. وان قال أخرت لأني
قلت لعله يموت فلا أحتاج إلى اللعان، سقط حقه من النفي، لأنه ترك النفي
من غير عذر.
419

(الشرح) إذا ثبت ما قدمنا من شرح الفصول فهل يتقدر الخيار في النفي
بمجلس العلم؟ أو بإمكان النفي؟ على وجهين بناء على المطالبة بالشفعة، فإن أخر
نفيه عن ذلك ثم ادعى أنه لا يعلم بالولادة وأمكن صدقه بأن يكون في موضع
يخفى عليه ذلك، مثل أن يكون في محلة أخرى فالقول قوله مع يمينه لان الأصل
عدم العلم، وان لم يمكن - مثل أن يكون معها في الدار - لم يقبل لان ذلك
لا يكاد يخفى عليه.
وإن قال علمت ولادته ولم أعلم أن لي نفيه، أو علمت ذلك ولم أعلم أنه على
الفور وكان ممن يخفى عليه ذلك كعامة الناس قبل منه، لان هذا مما يخفى عليهم
فأشبه ما لو كان حديث عهد بإسلام. وإن كان فقيها لم يقبل منه
وقال بعض الحنابلة يحتمل أن يقبل منه لان الفقيه يخفى عليه كثير من الأحكام
أفاده ابن قدامة. وقال أكثرهم كقولنا لا يقبل ذلك من الفقيه ويقبل من الناشئ
وحديث العهد بالاسلام. وهل يقبل من سائر العامة؟ على وجهين ذكرهما المصنف
(فرع) إذا قال لم أصدق الخبر عنه نظرت - فإن كان مستفيضا وكان المخبر
مشهور العدالة - لم يقبل والا قبل.
وان قال لم أعلم أن على ذلك قبل قوله لأنه مما يخفى، وان علم وهو غائب
فأمكنه السير فاشتغل به لم يبطل خياره. وإن كانت له حاجة تمنعه من السير فهو
على ما ذكرنا من قبل، وان أخر نفيه لغير عذر وقال: أخرت نفيه رجاء أن
يموت فأستر عليه وعلى بطل خياره، لأنه أخر نفيه مع الامكان لغير عذر
(مسألة) قوله " وان هنأه رجل بالولد الخ " فجملة ذلك أنه إذا هنئ به فأمن
على الدعاء لزمه في قولهم جميعا. وان قال أحسن الله جزاءك أو بارك الله عليك أو
رزقك الله مثله فإنه لا يلزمه لأنه جازاه على قصده وليس ذلك اقرارا ولا متضمنا
له. وقال أحمد وأصحابه وأبو حنيفة: يلزمه الولد، لان ذلك جواب الراضي في
العادة فكان اقرارا كالتأمين على الدعاء، وان سكت كان اقرارا. هكذا أفاده
ابن قدامة، قال لان السكوت صلح دال على الرضى في حق البكر وفى مواضع
أخرى، فههنا أولى
وهذا وما بقي من فروع في الفصول فقد مضى لنا بحثها في الفصول قبله
420

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) إذا أتت امرأته بولدين توأمين وانتفى عن أحدهما وأقر بالآخر
أو ترك نفيه من غير عذر، لحقه الولدان لأنهما حمل واحد فلا يجوز أن يلحقه
أحدهما دون الآخر، وجعلنا ما انتفى منه تابعا لما أقر به، ولم نجعل ما أقر به
تابعا لما انتفى منه، لان النسب يحتاط لاثباته ولا يحتاط لنفيه، ولهذا إذا أتت
بولد يمكن أن يكون منه ويمكن أن لا يكون منه ألحقناه به احتياطا لاثباته، ولم
ننفه احتياطا لنفيه.
وإن أتت بولد فنفاه باللعان ثم أتت بولد آخر لأقل من ستة أشهر من ولادة
الأول لم ينتف الثاني من غير اللعان، لان اللعان يتناول الأول، فإن نفاه
باللعان انتفى، وإن أقر به أو ترك نفيه من غير عذر لحقه الولدان لأنهما حمل
واحد وجعلنا ما نفاه تابعا لما لحقه، ولم نجعل ما لحقه تابعا لما نفاه، لما ذكرناه
في التوأمين. وإن أتت بالولد الثاني لستة أشهر من ولادة الأول انتفى بغير لعان
لأنها علقت به بعد زوال الفراش.
(فصل) وان لاعنها على حمل فولدت ولدين بينهما دون ستة أشهر، لم
يلحقه واحد منهما لأنهما كانا موجودين عند اللعان فانتفيا به، وإن كان بينهما
أكثر من ستة أشهر انتفى الأول باللعان، وانتفى الثاني بغير لعان، لأنا تيقنا
بوضع الأول براءة رحمها منه وأنها علقت بالثاني بعد زوال الفراش
(فصل) وإن قذف امرأته بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح - فإن لم يكن
نسب - لم يلاعن لاسقاط الحد لأنه قذف غير محتاج إليه فلم يجز تحقيقه باللعان
كقذف الأجنبية، وإن كان هناك نسب يلحقه ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق انه لا يلاعن لأنه قذف غير محتاج إليه،
لأنه كان يمكنه أن يطلق ولا يضيفه إلى ما قبل العقد
(والثاني) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة أن له أن يلاعن لأنه نسب يلحقه
من غير رضاه لا ينتفى بغير لعان فجاز له نفيه باللعان.
421

(الشرح) إذا ولدت امرأته توأمين - وهو أن يكون بينهما دون ستة أشهر -
فاستلحق أحدهما ونفى الآخر لحقا به، ولا عبرة بنفيه، لان الحمل الواحد
لا يجوز أن يكون بعضه منه وبعضه من غيره، فإذا ثبت نسب أحدهما منه ثبت
نسب الآخر ضرورة فجعلنا ما نفاه تابعا لما استلحقه، ولم نجعل ما أقر به
واستلحقه تابعا لما نفاه، لان النسب يحتاط لاثباته لا لنفيه، ولهذا لو أتت
امرأته بولد يمكن كونه منه ويمكن أن يكون من غيره ألحقناه به احتياطا، ولم
نقطعه عنه احتياطا لنفيه، ولان الشارع الحكيم يتشوف إلى ثبوت النسب مهما
أمكن ولا يحكم بانقطاع النسب الا حيث يتعذر اثباته، ولهذا ثبت بالفراش،
وبالدعوى وبالانساب التي بمثلها لا يثبت نتاج الحيوان، ولان اثبات النسب فيه
حق لله تعالى وحق للولد وحق للأب، ويترتب عليه من الأحكام في الوصل بين
العباد ما به قوام مصالحهم، فأثبته الشرع بأنواع الطرق التي لا يثبت بمثلها نتاج
الحيوان، ولهذا لو أتت امرأته بولد يمكن كونه منه ويمكن كونه من غيره
ألحقناه به احتياطا ولم نقطعه عنه احتياطا لنفيه. فلو قذف أمهما فطالبته بالحد
فليس له اسقاطه باللعان، لأنه باستلحاقه اعترف بكذبه في قذفه فلم يسمع منه
انكاره بعد ذلك.
وقالت الحنابلة: له اسقاطه باللعان. وحكى ابن قدامة قولا آخر للقاضي منهم
انه يحد ولا يملك اسقاطه باللعان.
ووجه المذهب عندنا ظاهر. أما وجه المسألة عندهم فإنه لا يلزم من كون
الولد منه انتفاء الزنا عنها كما لا يلزم من الولد وجود الزنا منها كون الولد منه.
ولذلك لو أقرت بالزنا أو قامت به بينة لم ينتف الولد عنه، فلا تنافى بين لعانه
وبين استلحاقه للولد.
(فرع) إذا استلحق أحد الولدين وسكت عن الآخر لحقه، لأنه لو نفياه
للحقه، فإذا سكت عنه كان أولى، ولان امرأته متى أتت بولد لحقه ما لم ينفه
عنه باللعان. وان نفى أحدهما وسكت عن الاخر نفيناه. وقال أصحاب أحمد
لحقاه جميعا، لان لحوق النسب مبنى على التغليب وهو يثبت بمجرد الامكان.
وإن كان لم يثبت الوطئ، ولا ينتفى الامكان للنفي فافترقا
422

ولنا أنهما كانا موجودين عند اللعان فانتفيا به. وإن أتت بولد فنفاه ولاعن
لنفيه ثم ولدت آخر لأقل من ستة أشهر انتفى الثاني باللعان الأول
وقال الحنابلة لم ينتف لان اللعان تناول الأول وحده، ويحتاج في نفى الثاني
إلى لعان ثان. ولنا أنهما حمل واحد وقد لاعن لنفيه مرة فلا يحتاج إلى لعان ثان
فأما إن نفى الولد باللعان ثم أتت بولد آخر بعد ستة أشهر فهذا من حمل آخر، فإنه
لا يجوز أن يكون بين ولدين من حمل واحد مدة الحمل وينتفى الثاني بغير لعان،
لأنها بولادتها للأول تبينا براءة رحمها، فيكون حملا آخر.
وقال الحنابلة لا ينتفى بغير اللعان لأنه حمل منفرد، فإن استلحقه أو ترك نفيه
لحقه وإن كانت قد بانت باللعان لأنه يمكن أن يكون قد وطئها بعد وضع الأول
دليلنا أنها بانت باللعان فحرم عليه وطؤها فلا يكون ولده وإنما يكون من سفاح
لا سيما وأنه جاء بعد براءة الرحم وانقضاء العدة بوضع الأول فكان حملها الثاني
في غير نكاح فلم يحتج إلى نفيه لكونها أجنبية كسائر الأجنبيات.
وقال في الام: إذا لاعن امرأته بولد فنفيناه عنه ثم جاءت بولد آخر فنفيناه
عنه ثم جاءت بولد لستة أشهر أو أكثر، وما يلزم به نسب ولد المبتوتة فهو ولده
إلا أن ينفيه بلعان فإن نفاه فذلك له.
(فرع) إذا مات أحد التوأمين أو ماتا معا فله أن يلاعن لنفى نسبهما. وبهذا
قال أحمد. وقال أبو حنيفة يلزمه نفى الحي ولا يلاعن إلا لنفى الحي، لان الميت
لا يصح نفيه باللعان، فإن نسبه قد انقطع بموته فلا حاجة إلى نفيه باللعان، كما لو
ماتت امرأته فإنه لا يلاعنها بعد موتها لقطع النكاح، لكونه قد انقطع، وإذا لم
ينتف الميت لم ينتف الحي لأنهما حمل واحد. دليلنا أن الميت ينسب إليه فيقال
ابن فلان ويلزمه تجهيزه وتكفينه فكان له نفى نسبه وإسقاط مؤنته كالحي، وكما
لو كان للميت ولد.
(فرع) إذا قذف امرأته بالزنا قبل زواجه منها لم يكن له أن يلاعن، لأنه
يأتي باللعان على غير ما ورد به القرآن والسنة، لأنه كمن يلاعن أجنبية عنه فلم
يصح ويقام عليه الحد. وهل له أن يلاعن إذا جاءت بولد ينتسب إليه؟ وجهان
قال أبو إسحاق المروزي: لا يلاعن لامكان أن يطلقها من غير حاجة إلى إضافة
423

ولدها لما قبل العقد إذ هو المفرط بنكاح حامل بالزنا فلا يشرع له نفيه. وبهذا
قال أحمد وأصحابه.
(والثاني) قول أبى علي بن أبي هريرة، لنفى ما عساه يلحقه من نسب
لا يرضاه وليس من فراشه ولا ينتفى إلا باللعان فجاز له
وقال مالك وأبو ثور وأحمد: إن قذفها بزنا أضافه إلى ما قبل النكاح حد ولم
يلاعن سواء كان ثم ولد أو لم يكن، وروى ذلك عن سعيد بن المسيب والشعبي
وقال الحسن وزرارة بن أبي أوفى وأصحاب الرأي: له أن يلاعن لأنه قذف امرأته
فيدخل في عموم قوله تعالى " والذين يرمون أزواجهم " ولأنه قذف امرأته فأشبه
ما لو قذفها ولم يضفه إلى ما قبل النكاح. وحكى الشريف أبو جعفر عن أحمد
رواية أخرى.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن أبانها ثم قذفها بزنا أضافه إلى حال النكاح - فإن لم يكن
نسب - لم يلاعن لدرء الحد لأنه قذف غير محتاج إليه، وإن كان هناك نسب
- فإن كان ولدا منفصلا - فله أن يلاعن لنفيه لأنه يحتاج إلى نفيه باللعان،
وأن كان حملا فقد روى المزني في المختصر أن له أن ينفيه. وروى في الجامع أنه
لا يلاعن حتى ينفصل الحمل
واختلف أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق لا يلاعن قولا واحدا، وما رواه
المزني في المختصر أراد إذا انفصل، وقد بين في الام، فإنه قال لا يلاعن حتى
ينفصل، ووجهه أن الحمل غير متحقق لجواز أن يكون ريحا فينفش، ويخالف
إذا قذفها في حال الزوجية، لان هناك يلاعن لدرء الحد فتبعه نفى الحمل، وههنا
ينفرد الحمل باللعان فلم يجز قبل أن يتحقق
ومن أصحابنا من قال في قولان: أحدهما لا يلاعن حتى ينفصل، لما ذكرناه
والثاني يلاعن، وهو الصحيح، لان الحمل موجود في الظهار ومحكوم بوجوده،
ولهذا أمر بأخذ الحامل في الديات ومنع من أخذها في الزكاة، ومنعت الحامل
إذا طلقت أن تتزوج حتى تضع، وهذه الطريقة هي الصحيحة، لان الشافعي
424

رحمه الله نص في مثلها على قولين وهي في نفقة المطلقة الحامل فقال فيها قولان
(أحدهما) تجب لها النفقة يوما بيوم (والثاني) لا تجب حتى ينفصل
(فصل) وإن قذف امرأته وانتفى عن حملها وأقام على الزنا بينة سقط عنه
الحد بالبينة، وهل له أن يلاعن لنفى الحمل قبل أن ينفصل؟ على ما ذكرناه من
الطريقين في الفصل قبله.
(الشرح) إذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا يا زانية في فراشي نظرت - فإن
كان هناك نسب يريد أن ينفيه، ولا يتحقق هذا إلا إذا انفصل الولد عنها -
لاعن، لأنه محتاج إلى نفيه، وبه قال مالك وأحمد، حيث نقل منها قال: سألت
أحمد عن رجل قال لامرأته أنت طالق يا زانية ثلاثا، فقال يلاعن. قلت إنهم
يقولون يحد ولا يلزمها إلا واحدة. قال بئس ما يقولون، فهذا يلاعن لأنه قذفها
قبل الحكم ببينونتها فأشبه القذف، فإن كان بينهما ولد فإنه يلاعن لنفيه وإلا حد
ولم يلاعن، لأنه يتعين إضافة القذف إلى حال الزوجية لاستحالة الزنا منها بعد
طلاقه لها فصار كأنه قال لها بعد ابانتها: زنيت ان كنت زوجتي، على ما قررناه،
وبه قال مالك.
وقال عثمان البتي: لا يلاعن بأي حال لأنها ليست بزوجة. وقال أبو حنيفة
في الوجهين لا يلاعن - يعنى في حال نفى النسب والحمل - لأنها ليست زوجة،
وينتقض عليها هذا القذف قبل الزوجية، كما ذكرنا آنفا، بل هذا أولى، لان
النكاح قد تقدم وهو يريد الانتفاء من النسب وتبرئته من ولد يلحق به فلابد من
اللعان، فإن كان هناك حمل يرجى فقد روى المزني في المختصر أن له أن ينفيه
وروى رواية أخرى أنه لا يلاعن حتى ينفصل الحمل. فاختلف أصحابنا فيه، فقال
أبو إسحاق المروزي: لا يلاعن قولا واحدا، وأول ما رواه المزني في المختصر
أن الإمام الشافعي أراد إذا انفصل
قال الشافعي رضي الله عنه في الام: ولو قال رجل لامرأته أنت طالق ثلاثا
425

أو طالق واحدة لم يبق له عليها من الطلاق الا هي أو طالق ولم يدخل، أو أي طلاق ما،
كان لا رجعة عليها بعده وأتبع الطلاق مكانه يا زانية، حد ولا لعان الا أن يكون
ينفى به ولدا أو حملا فيلاعن للولد يوقف للحمل فإذا ولدت التعن، فإن لم تلد حد
ولو بدأ فقال يا زانية أنت طالق ثلاثا التعن، لان القذف وقع وهي امرأته،
ولو قال: أنت طالق ثلاثا يا زانية حد ولا لعان، الا أن ينفى ولد ا فيلاعن به
ويسقط الحد.
ثم قال رضي الله عنه " ولو قذف رجل امرأته فصدقته ثم رجعت فلا حد
ولا لعان الا أن ينفى ولدا فيلاعن به ويسقط الحد، ولو قذف رجل امرأته
فصدقته ثم رجعت فلا حد ولا لعان الا أن ينفى ولدا فلا ينفى الا بلعان، ولو
قذف رجل امرأته ثم زنت بعد القذف أو وطئت وطئا حراما فلا حد ولا لعان
الا أن ينفى ولدا أو يريد أن يلتعن فيثبت عليها الحد ان لم يلتعن، وإذا قذف
رجل امرأته فارتدت عن الاسلام وطلبت حدها لاعن أو حد، لان القذف
كان وهي زوجة مسلمة. اه‍
فهذا القول من الشافعي قاطع في أنه يلاعن لنفى الحمل بعد أن يوقف إلى أن
تلد. قال المصنف الصحيح أن يلاعن وهي حامل لان الحمل موجود في الظاهر
ومحكوم بوجوده، ويترتب على هذا الحمل أحكام في مواطن كثيرة فمثلا لا تعطى
الحامل من الأرقاء في الدية ولا تؤخذ البهيمة الحامل في الزكاة، ولا يحل زواج
الحامل حيت تضع، فكيف ينتظر من وجد امرأته حاملا من غيره حتى تضع
فيلاعنها وقد غاظته بهذا الزنا في فراشه، ويمكن حمل قول الشافعي على ما إذا اشتبه
عليه الحمل ولم يتحقق وتردد فيه، أو كان محتملا أن يكون انتفاخا أو مرضا من
أمراض النساء فلا يلاعن حتى تلد. ويمكن حمل قوليه في النفقة على ما إذا كان
حملها غير مقطوع به فتجب نفقتها حتى تلد.
أما إذا كان حملها مقطوعا به فقد وجب لها يوما بيوم، وسنأتي على هذا في
كتاب النفقات إن شاء الله. على أن قول الشافعي يوقف حتى تلد إذا قصد به الحمل
المقطوع به كان مخالفا لحديث " ان جاءت به كذا فهو لأبيه، وان جاءت به كذا
فهو لفلان " فجاءت به على النعت المكروه، فإذا اعتمدنا أصله " إذا صح الحديث
426

فهو مذهبي، حملنا قوله على ما إذا كان الحمل غير متيقن، بدليل قوله فإن لم تلد
حد. ومن ثم يكون الحمل محتملا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قذف امرأته في نكاح فاسد - فإن لم يكن نسب - لم يلاعن
لدرء الحد، لأنه قذف غير محتاج إليه، وإن كان هناك نسب - فإن كان ولدا
منفصلا - فله أن يلاعن لنفيه، لأنه ولد يلحقه بغير رضاه لا ينتفى عنه بغير
اللعان، فجاز نفيه باللعان كالولد في النكاح الصحيح، وإن كان حملا فعلى ما ذكرناه
من الطريقين.
(فصل) وإن ملك أمة لم تصر فراشا بنفس الملك، لأنه قد يقصد بملكها
الوطئ، وقد يقصد به التمول والخدمة والتجمل، فلم تصر فراشا، فإن وطئها
صارت فراشا له، فإن أتت بولد لمدة الحمل من يوم الوطئ لحقه، لان سعدا نازع
عبد بن زمعة في ابن وليدة زمعة فقال عبد: هو أخي وابن وليدة أبى ولد على
فراشه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " هو لك، الولد للفراش وللعاهر الحجر "
وروى ابن عمر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه قال " ما بال رجال يطأون
ولائدهم ثم يعزلونهن، لا تأتيني وليدة يعترف سيدها أنه ألم بها إلا ألحقت به
ولدها، فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا "
وإن قذفها وانتفى عن ولدها فقد قال أحمد: أما تعجبون من أبى عبد الله
يقول بنفي ولد الأمة باللعان، فجعل أبو العباس هذا قولا، ووجهه أنه كالنكاح
في لحوق النسب، فكان كالنكاح في النفي باللعان
ومن أصحابنا من قال لا يلاعن لنفيه قولا واحدا لأنه يمكنه نفيه بغير اللعان
وهو بأن يدعى الاستبراء ويحلف عليه، فلم يجز نفيه باللعان بخلاف النكاح،
فإنه لا يمكنه نفى الولد فيه بغير لعان، ولعل أحمد أراد بأبي عبد الله غير الشافعي
رحمة الله عليهما.
(فصل) إذا قذف امرأته بزناءين وأراد اللعان كفاه لهما لعان واحد، لأنه
في أحد القولين يجب حد واحد، فكناه في إسقاطه لعان واحد، وفى القول
427

القول الثاني يجب حدان، إلا أنهما حقان لواحد فاكتفى فيهما بلعان واحد، كما
يكتفى في حقين لواحد بيمين واحد.
وإن قف أربع نسوة أفرد كل واحدة منهم بلعان، لأنها أيمان فلم تتداخل
فيها حقوق الجماعة، كالايمان في المال. وإن قذفهن بكلمات بدأ بلعان من بدأ
بقذفها لان حقها أسبق. وإن قذفهن بكلمة واحدة وتشاححن في البداية أقرع
بينهن، فمن خرجت لها القرعة بدأ بلعانها. وإن بدأ بلعان إحداهن من غير قرعة
جاز، لان الباقيات يصلن إلى حقوقهن من اللعان من غير نقصان
(الشرح) خبر تنازع سعد وعبد بن زمعة أخرجه أصحاب الصحاح والمسانيد
والسنن خلا الترمذي. عن عائشة قالت " اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن
زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سعد: يا رسول الله ابن أخي عتبة
ابن أبي وقاص عهد إلى أنه ابنه أنظر إلى شبهه. وقال عبد بن زمعة: هذا أخي
يا رسول الله ولد على فراش أبى، فنظر رسول الله إلى شبهه فرأى شبها بينا بعتبة
فقال: هو لك يا عبد بن زمعة. الولد للفراش وللعاهر الحجر، واحتجبي منه
يا سودة بنت زمعة، قال فلم ير سودة قط "
وفى رواية أبى داود وأخرى للبخاري " هو أخوك يا عبد " عبد بن زمعة
أخو سودة أم المؤمنين.
وقوله " الولد للفراش وللعاهر الحجر " سبق القول بتواتره
أما خبر ابن عمر فقد رواه الشافعي في الام ولم أره في مسنده في اللعان " ولم
يعزه في المنتقى إلى غيره.
ومن هذا الحديث يتضح أن النبي صلى الله عليه وسلم قد ألحق الولد بزمعة
لأنه صاحب الفراش، ودليله أقوى من دليل الشبه، وقد ذهب بعضهم إلى أن
قوله هو لك يا عبد بن زمعة، أن " لك " للتمليك، فكأنه لم يلحقه به أخا وإنما
ملكه له، بدليل أنه أمر سودة بالاحتجاب منه، فلو كان أخا لها لم تؤمر بالاحتجاب
منه. وفى رواية: احتجبي منه فإنه ليس بأخ لك. ويجاب على ذلك بأن اللام
للاختصاص لا للتمليك.
428

ويؤيد ذلك ما في رواية " هو أخوك يا عبد " أما أمره لسودة بالاحتجاب
فذلك على سبيل الاحتياط والورع والصيانة لأمهات المؤمنين لما رآه من الشبه
بعتبة بن أبي وقاص كما في حديث " كيف وقد قيل؟ " أو يكون ذلك مراعاة للشيئين
وإعمالا للدليلين، فإن الفراش دليل لحوق النسب، والشبه بغير صاحبه دليل نفيه
فأعمل أمر الفراش بالنسبة إلى المدعى، وأعمل الشبه بعتبة بالنسبة إلى ثبوت
المحرمية بينه وبين سودة.
قال ابن القيم: وهذا من أحسن الأحكام وأبينها وأوضحها، ولا يمنع ثبوت
النسب من وجه دون وجه.
وأما الرواية التي فيها " احتجبي منه فإنه ليس بأخ لك " فقد طعن البيهقي في
إسنادها. وقال فيها جرير وقد نسب في آخر عمره إلى سوء الحفظ، وفيها يوسف
مولى آل الزبير وهو غير معروف.
أما الأحكام فإنه إذا نكح امرأة نكاح فاسدا ثم قذفها، وبينهما ولد يريد نفيه
فله أن يلاعن لنفيه ولا حد عليه، وإن لم يكن بينهما ولد حد ولا لعان بينهما.
وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: يلحقه الولد وليس له نفيه ولا اللعان لأنها أجنبية فأشبهت
سائر الأجنبيات أو إذا لم يكن بينهما ولد. وهذا فاسد لان الولد يلحقه بحكم عقد
النكاح فكان له نفيه كما لو كان النكاح صحيحا، ويفارق إذا لم يكن ولد فإنه لا حاجة
إلى القذف لكونها أجنبية. ويفارق سائر الأجنبيات لأنه لا يلحقه ولدهن فلا
حاجة به إلى قذفهن. ويفارق الزوجة فإنه يحتاج إلى قذفها مع عدم الولد لكونها
خانته وغاظته وأفسدت فراشه، فإذا كان له منها ولد فالحاجة موجودة فيهما،
وإذا لاعن سقط الحد، لأنه لعان مشروع لنفى الحد، فأسقط الحد كاللعان في
النكاح الصحيح، وهل يثبت التحريم المؤبد؟ وجهان سيأتي بيانهما
وقالت المالكية يلاعن في النكاح الفاسد زوجته لأنها صارت فراشا له. أما
إذا كانت حاملا فعلى ما مضى من النكاح الصحيح
أما حكم قوله " يعترف سيدها أن قد ألم بها " فيه تقوية لمذهب الجمهور من
أنه لا يشترط في فراش الأمة الدعوة، بل يكفي مجرد ثبوت الفراش
429

وقول الإمام أحمد رضي الله عنه: أما تعجبون من قول أبى عبد الله فإن كان
يقصد بنسبة مقول القول إلى الإمام الشافعي كانت تلك رواية أخرى لم تعرف
عن الشافعي إلا عن أحمد متفردا بها، والقاعدة ان في رواية الشيخ عن شيخه مخالفا
للأقران غرابة، وقد أخذ بعض أصحابنا بصحة نسبة القول إلى الشافعي كأبي العباس
ابن سريج فاعتبره قولا ووجهه أنه كالنكاح
وقال المصنف: ولعل أحمد أراد بأي عبد الله غير الشافعي - وهذا أحسن
ما أجيب به.
(مسألة) إذا قذف امرأته قذفين بزناءين فليس عليه إلا حد واحد، ويكفيه
لعان واحد لأنه يمين، فإذا كان الحقان لواحد كفته يمين واحدة في أحد القولين،
والثاني يجب حدان لأنهما حقان، وإن لم يلزمه إلا لعان واحد، ومقتضى القول
الأول أنه يكفيه أن يقول: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزناءين
وفارق ما إذا قذف زوجتين حيث لا يكفيه لعان واحد، لان اليمين وجبت لكل
واحد منهما فلا تتداخل كسائر الايمان. وإن أقام البينة بالأول سقط عنه موجب
الثاني لأنه زال إحصانها ولا لعان إلا أن يكون فيه نسب يريد نفيه، وإن أقامها
بالثاني لم يسقط الحد الأول وله إسقاطه باللعان الا على قول القاضي، فإنه يسقط
بإقامة البينة على الثاني
وان قذفها في الزوجية ولاعنها ثم قذفها بالزنا الأول فلا حد عليه لأنه قد
حققه بلعانه، ومقتضى القول الثاني أن يحد، كما لو قذفها به أجنبي، ولو قذفها به
أجنبي أو بزنا غيره فعليه الحد في قول عامة أهل العلم. منهم ابن عباس والزهري
والشعبي والنخعي وقتادة وأحمد وأبو عبيد.
وذكر أبو عبيد عن أصحاب الرأي أنهم قالوا: إن لم ينف بلعانها ولدا حد
قاذفها، وان نفاه فلا حد على قاذفها لأنه منتف عن زوجها بالشرع
(فرع) إذا قذف امرأته وأجنبية أو أجنبيا بكلمتين فعليه حدان لهما، فيخرج
من حد الأجنبية بالبينة خاصة، ومن حد الزوجة بالبينة أو اللعان، وان قذفهما
بكلمة واحدة الا أنه إذا لم يلاعن ولم تقم بينة فهل يحد لهما حدا واحدا أو حدين؟
على قولين. قال في القديم: يحد حدا واحدا، وبه قال أبو حنيفة وزاد، سواء
430

كان بكلمة أو كلمات، لأنهما حدود من جنس فوجب أن تتداخل كحدود الزنا
وقال أحمد في إحدى روايتيه بقول الشافعي في القديم، والثاني يقام لكل واحد
حد بكل حال لأنها حقوق لآدميين فلم تتداخل كالديون. وقال أحمد في الرواية
الأخرى: إذا طالبوا مجتمعين فحد واحد، وان طالبوا متفرقين فلكل واحد حد
لأنهم إذا اجتمعوا في الطلب أمكن ايفاؤهم بالحد الواحد، وإذا تفرقوا لم يمكن
جعل الحد الواحد ايفاء لمن لم يطالب، لأنه لا يجوز إقامة الحد له قبل المطالبة منه
ولنا أنه إذا قذفهما بكلمة واحدة لا يجزئ حد واحد، لان لكل واحد حقا
فوجب لكل واحد حد، كما لو قذف الثاني بعد حد الأول، وهكذا الحكم فيما إذا
قذف أجنبيين أو أجنبيات فالتفصيل فيه على ما ذكرناه.
وان قذف أربع نسائه فالحكم في الحد كذلك، وان أراد اللعان فعليه أن
يلاعن لكل واحدة لعانا مفردا، ويبدأ بلعان التي تبدأ بالمطالبة، فان طالبن جميعا
وتشاححن بدأ بإحداهن بالقرعة، وان لم يتشاححن بدأ بلعان من شاء منهن.
ولو بدأ بواحدة منهن من غير قرعة من المشاحة صح، ويحتمل أن يجزئه لعان
واحد فيقول: أشهد بالله انى لمن الصادقين فيما رميت به كل واحدة من زوجاتي
هؤلاء الأربع من الزنا، وتقول كل واحدة أشهد بالله انه لمن الكاذبين فيما رماني
به من الزنا، لأنه يحصل المقصود بذلك، والأول أصح لان اللعان أيمان فلا
تتداخل لجماعة كالايمان في الديون
(فرع) إذا أقام البينة على زناها فقذفها آخر فلا حد عليه لأنه قد زال
احصانها، ولان هذا القذف لم يدخل المعرة عليها، وإنما دخلت المعرة بقيام البينة
ولكنه يعزر تعزير السب والأذى، وهكذا كل من قامت البينة بزناه لا حد على
قاذفه، وبه قال أحمد وأصحاب الرأي، ولكنه يعزر تعزير السب والأذى، ولا
يملك الزوج اسقاطه عن نفسه باللعان لما قدمناه
وان قذف زوجته ولاعنها ثم قذفها بزنا آخر فعليه الحد لأنها بانت منه
باللعان وصارت أجنبية الا أن يضيف الزنا إلى حال الزوجية، فعند ذلك إن كان
ثم نسب يريد نفيه فله الملاعنة لنفيه والا لزمه الحد ولا لعان بينهما، والله تعالى
أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل
431

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب من يصح لعانه وكيف اللعان وما يوجبه من الأحكام)
يصح اللعان من كل زوج بالغ عاقل مختار، مسلما كان أو كافرا، حرا كان
أو عبدا، لقوله عز وجل " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا
أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين " ولان اللعان لدرء
العقوبة الواجبة بالقذف ونفى النسب، والكافر كالمسلم، والعبد كالحر في ذلك،
فأما الصبي والمجنون فلا يصح لعانهما لأنه قول يوجب الفرقة فلم يصح من الصبي
والمجنون كالطلاق.
وأما الأخرس فإنه ان لم يكن له إشارة معقولة ولا كتابة مفهومة لم يصح
لعانه لأنه في معنى المجنون، وإن كانت له إشارة معقولة أو كتابة مفهومة صح
لعانه لأنه كالناطق في نكاحه وطلاقه، فكان كالناطق في لعانه. وأما من اعتقل
لسانه فإنه إن كان مأيوسا منه صح لعانه بالإشارة كالأخرس، وان لم يكن مأيوسا
منه ففيه وجهان:
(أحدهما) لا يصح لعانه لأنه غير مأيوس من نطقه فلم يصح لعانه بالإشارة
كالساكت (والثاني) يصح، لان أمامة بنت أبي العاص رضي الله عنها أصمتت
فقيل لها الفلان كذا ولفلان كذا؟ فأشارت أي نغم، فرفع ذلك فرأيت أنها
وصية، ولأنه عاجز عن النطق يصح لعانه بالإشارة كالأخرس
(فصل) وإن كان أعجميا، فإن كان يحسن بالعربية فيه وجهان
(أحدهما) يصح لعانه بلسانه لأنه يمين فصح بالعجمية مع القدرة على العربية
كسائر الايمان (والثاني) لا يصح لان الشرع ورد فيه بالعربية فلم يصح بغيرها
مع القدرة كأذكار الصلاة، فإن لم يحسن بالعربية لاعن بلسانه لأنه ليس بأكثر من
أذكار الصلاة وأذكار الصلاة تجوز بلسانه إذا لم يحصن بالعربية فكذلك اللعان. وإن كان
الحاكم لا يعرف لسانه أحضر من يترجم عنه. وفى عدده وجهان بناء على القولين
في الشهادة على الاقرار بالزنا (أحدهما) يحتاج إلى أربعة (والثاني) يكفيه اثنان
432

(الشرح) يستفاد من هذين الفصلين أحكام مسائل وفروع، منها أن اللعان
يصح من كل زوجين، سواء كانا مسلمين أو كافرين، عاقلين بالغين، حرين أو
عبدين. وقال أحمد في إحدى الروايتين رواها ابن منصور: جميع الأزواج
يلتعنون، الحر من الحرة والأمة إذا كانت زوجة. وكذلك المسلم من اليهودية
والنصرانية. وقال سعيد ابن المسيب وسليمان بن يسار والحسن وربيعة ومالك
وإسحاق: يصح من كل زوجين مكلفين. مسلمين أو كافرين. عدلين أو فاسقين
أو محدودين في قذف أو كان أحدهما كذلك.
وقال أحمد في روايته الأخرى: لا يصح اللعان الا من زوجين مسلمين عدلين
حرين غير محدودين في قذف
وروى هذا عن الزهري والثوري والأوزاعي وحماد وأصحاب الرأي،
ومأخذ القولين أن اللعان يجمع وصفين اليمين والشهادة، وقد سماه القرآن شهادة
وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم يمينا في حديث " لولا الايمان لكان لي ولها
شأن " فمن غلب حكم الايمان قال: يصح من كل من يصح يمينه. وهذا مذهبنا
ومذهب فقهاء الأمصار كافة الا أبا حنيفة، واحدى روايتي أحمد والزهري
والثوري والأوزاعي وحماد فإنهم اعتبروه شهادة
دليلنا قوله تعالى " والذين يرمون أزواجهم " وأنه قد سماه النبي صلى الله عليه وسلم يمينا.
ولأنه يفتقر إلى اسم الله والى ذكر القسم المؤكد وجوابه، ولأنه يستوي فيه
الذكر والأنثى - بخلاف الشهادة - ولو كان شهادة لما تكرر لفظه بخلاف
اليمين فإنه قد يشرع فيها التكرار كأيمان القسامة، ولان حاجة الزوج التي لا تصح
منه الشهادة إلى اللعان ونفى الولد كحاجة من تصح شهادته سواء، والامر الذي
نزل به مما يدعو إلى اللعان، كالذي ينزل بالعدل الحر، والشريعة الغراء لا ترفع
ضرر أحد النوعين وتجعل له مخرجا مما نزل به، وتدع النوع الآخر في الآصار
والاغلال، فلعله يكون صادقا فنقضي عليه بأن يكون تيسا أو ديوثا، ولا فرج
له ما نزل به ولا مخرج ولا مهرب
وأما احتجاج أبي حنيفة وأصحابه ومن قال بقوله من الفقهاء ممن ذكرنا آنفا
433

فاستدلوا بقوله تعالى " ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم " - " فشهادة أحدهم أربع
شهادات بالله " فاستثنى أنفسهم من الشهداء، فلا يقبل إلا من ليس من أهل
الشهادة، فردنا عليهم أن الله تعالى سماه شهادة لقوله في يمينه " أشهد بالله " فسمى
ذلك شهادة وإن كان يمينا. كما قال تعالى " إذا جاء المنافقون قالوا نشهد انك لرسول
الله " اعتبارا بلفظها، وكيف وهو مصرح فيه بالقسم وجوابه.
وكذلك لو قال أشهد بالله انعقدت يمينه بذلك، سواء نوى اليمين أو أطلق،
والعرب تعد ذلك يمينا في لغتها واستعمالها. قال قيس بن الملوح الشهير بالمجنون:
فأشهد عند الله أنى أحبها * فهذا لها عندي فما عندها ليا؟
قال ابن القيم في الهدى: وفى هذا البيت حجة لمن قال: إن قوله أشهد تنعقد
به اليمين، ولو لم يقل بالله، كما هو إحدى الروايتين عن أحمد. والثانية لا يكون
يمينا الا بالنية، وهو قول الأكثرين. كما أن قوله أشهد بالله يمين عند الأكثرين
بمطلقه. وأما استثناؤه سبحانه أنفسهم من الشهداء فيقال أولا الا ههنا صفة بمعنى
غير، والمعنى ولم يكن لهم شهداء غير أنفسهم، فإن غير وإلا يتعاوضان الوصفية
والاستثناء، فيستثنى بغر حملا على الا، ويوصف بإلا، حملا على غير، ويقال
ان أنفسهم مستثنين من الشهداء ولكن يجوز أن يكون منقطعا على لغة تميم فإنهم
يبدلون في المنقطع كما يبدل الحجازيون في المتصل. وكذلك استثنى أنفسهم من
الشهداء لأنه نزلهم منزلتهم في قبول قولهم. وهذا قوى جدا على قول من يرجم
المرأة بالتعان الزوج إذا نكلت وهو الصحيح كما سيأتي وكما مضى بعضه. والصحيح أن
لعانهم يجمع الوصفين اليمين والشهادة، فهو شهادة مؤكدة بالقسم والتكرار،
ويمين مغلظة بلفظ الشهادة والتكرار لاقتضاء الحال تأكيد الامر.
(فرع) إذا كان زائل العقل لجنون فلا حكم لقذفه لان القلم عنه مرفوع،
فإذا أتت امرأته بولد فنسبه لاحق لامكانه، ولا سبيل إلى نفيه مع زوال عقله،
فإذا عقل فله نفيه حينئذ واستلحاقه، وان ادعى انه كان ذاهب العقل حين قذفه
- وأنكرت ذلك - فالحكم لصاحب البينة منهما، والا فالقول قوله
(مسألة) الأخرس والخرساء إن كانا معلومي الإشارة والكتابة فهما كالناطقين
في القذف واللعان.
434

وحكى ابن المنذر عن أحمد وأبى عبيد وأصحاب الرأي: إذا كانت المرأة
خرساء لم تلاعن لأنه لا تعلم مطالبتها
قال ابن قدامة: وينبغي أن يكون ذلك في الأخرس، وذلك لان اللعان
يفتقر إلى الشهادة فلم يصح من الأخرس كالشهادة الحقيقية، ولان الحد يدرأ
بالشبهات، والشهادة صريحة كالنطق، فلا يخلو من احتمال وتردد فلا يجب الحد
بها كما لا يجب على أجنبي بشهادته
. وقال القاضي وأبو الخطاب كقولنا: هو كالناطق في قذفه ولعانه، ويفارق
الشهادة لأنه يمكن حصولها من غيره فلم تدع الحاجة إلى الأخرس. وفى اللعان
لا يحصل الا منه فدعت الحاجة إلى قبوله منه كالطلاق
(فرع) إذا قذف الأخرس أو لاعن ثم تكلم فأنكر القذف واللعان لم يقبل
انكاره للقذف لأنه قد تعلق به حق لغيره بحكم الظاهر فلا يقبل إنكاره، ويقبل
انكاره اللعان فيما عليه فيطالب بالحد ويلحقه النسب ولا تعود الزوجية. فإن قال
أنا ألاعن للحد ونفى النسب كان له ذلك لأنه إنما لزمه باقراره أنه لم يلاعن، فإذا
أراد أن يلاعن كان له ذلك
فإذا قذفها وهو ناطق ثم خرس وأيسنا من نطقه فحكمه حكم الأصلي، وان
رجى عود نطقه وزوال خرسه انتظر به، ويرجع في معرفة ذلك إلى قول طبيبين
عدلين من المختصين بالصحة النفسية والعصبية.
وقال بعض الأصحاب: انه لا يلاعن في الحالين بالإشارة، لان أمامة بنت أبي
العاص أصمتت، فقيل لها لفلان كذا ولفلان كذا؟ فأشارت أن نعم، فرأوا
أنها وصية والصحيح الأول. وعند أصحاب أحمد على وجهين. ذكره أبو الخطاب
(مسألة) إذا كان أحد الزوجين غير مكلف فلا لعان بينهما لأنه قول تحصل
به الفرقة ولا يصح من غير المكلف كسائر الايمان، ولا يخلو غير المكلف من
أن يكون الزوج أو الزوجة أو هما، وقد مضى لنا في الفصول قبله بحث السن
والبلوغ والامكان. فليراجع
والخلاصة أن كل موضع لا لعان فيه فالنسب لا حق فيه، ويجب بالقذف
موجبه من الحد والتعزير الا أن يكون القاذف صبيا أو مجنونا فلا ضرب فيه
435

ولا لعان، كذلك قال الثوري ومالك وأحمد وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي
وابن المنذر وقال: ولا أحفظ عن غيرهم خلافهم
(مسألة) إذا كان الزوجان يعرفان العربية لم يجز أن يلتعنا بغيرها، لان
اللعان ورد في القرآن بلفظ العربية، وإن كانا لا يحسنان ذلك جاز لهما الالتعان
بلسانهما لموضع الحاجة، فإن كان الحاكم يحسن لسانهما أجزأ ذلك، وإن لم يكن
يعرف لسانهما فلابد من ترجمان، وفى العدد المجزى للترجمة قولان
(أحدهما) يجزئ اثنان عدلان، وهو ظاهر قول الخرقي من الحنابلة لأنه
قال ولا يقبل في الترجمة عن أعجمي حاكم إليه إذا لم يعرف لسانه أقل من عدلين
يعرفان لسانه. وذكر أبو الخطاب رواية أخرى عند الحنابلة أنه يجزئ ترجمان
واحد، وهو قول أبي حنيفة
(الثاني) لا يجزئ أقل من أربعة، بناء على الشهادة في الاقرار بالزنا
ففيها هذان القولان
(فرع) لو شهد شاهد أنه أقر بالعربية أنه قذفها، وشهد آخر أنه أقر ذلك
بالعجمية، فإذا قلنا إن الشاهدين يجزئان تمت الشهادة، وان شهد شاهدان أحدهما
أنه قذفها يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة لم تتم الشهادة، وان شهد
أحدهما أنه قذفها بالعربية وشهد الآخر أنه قذفها بالعجمية لم تتم الشهادة. وان
شهد أحدهما أنه قذفها بالعربية والعجمية وشهد الآخر أنه قذفها بالعربية فقط فقد
اكتملت الشهادة إذا قلنا باجزاء الشاهدين لاتفاقهما في لغة واحدة. وعند أصحاب
أحمد فيمن شهد أحدهما بالقذف يوم الخميس والآخر بالقذف يوم الجمعة أو شهد
أحدهما بالقذف بالعربية والآخر أنه بالعجمية وجهان
(أحدهما) تكمل الشهادة، وهو قول أبى بكر ومذهب أبي حنيفة، لان
الوقت ليس ذكره شرطا في الشهادة بالقذف وكذلك اللسان، فلم يؤثر الاختلاف
كما لو شهدا أحدهما أنه قذفها يوم الخميس بالعربية، وشهد الآخر أنه قذفها
يوم الجمعة بالعجمية (الثاني) لا تكمل الشهادة
ولنا أنهما قذفان لم تتم الشهادة على واحد منهما فلم تثبت، كما لو شهد أحدهما
436

أنه تزوجها يوم الخميس وشهد الآخر أنه تزوجها يوم الجمعة، وفارق الاقرار
بالقذف فإنه يجوز أن يكون المقر به واحدا أقر به في وقتين بلسانين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يصح اللعان إلا بأمر الحاكم لأنه يمين في دعوى فلم يصح إلا
بأمر الحاكم كاليمين في سائر الدعاوي، فإن كان الزوجان مملوكين جاز للسيد أن
يلاعن بينهما، لأنه يجوز أن يقيم عليهما الحد فجاز أن يلاعن بينهما كالحاكم.
(فصل) واللعان هو أن يقول الزوج أربع مرات " أشهد بالله إني لمن
الصادقين " ثم يقول " وعلى لعنة الله إن كنت من الكاذبين " وتقول المرأة أربع
مرات " أشهد بالله إنه لمن الكاذبين " ثم تقول " وعلى غضب الله إن كان من
الصادقين " والدليل عليه قوله عز وجل " والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم
شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة
أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع
شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين "
فإن أخل أحدهما بأحد هذه الألفاظ الخمسة لم يعتد به، لان الله عز وجل علق
الحكم على هذه الألفاظ، فدل على أنه لا يتعلق بما دونها، ولأنه بينة يتحقق بها
الزنا فلم يجز النقصان عن عددها كالشهادة.
وإن أبدل لفظ الشهادة بلفظ من ألفاظ اليمين بأن قال: أحلف أو أقسم أو
أولى فيه وجهان.
(أحدهما) يجوز لان اللعان يمين فجاز بألفاظ اليمين (والثاني) أنه لا يجوز
لأنه أخل باللفظ المنصوص عليه. وإن أبدل لفظ اللعنة بالابعاد أو لفظ
الغضب بالسخط، ففيه وجهان. أحدهما يجوز لان معنى الجميع واحد، والثاني
لا يجوز لأنه ترك المنصوص عليه، وان أبدلت المرأة لفظ الغضب بلفظ اللعنة
لم يجز، لان الغضب أغلظ، ولهذا خصت المرأة به، لان المعرة بزناها أقبح،
وإثمها بفعل الزنا أعظم من إثمه بالقذف
وإن أبدل الرجل لفظ اللعنة بلفظ الغضب فيه وجهان (أحدهما) يجوز،
437

لان الغضب أغلظ (والثاني) لا يجوز لأنه ترك المنصوص عليه. وان قدم الرجل
لفظ اللعنة على لفظ الشهادة أو قدمت المرأة لفظ الغضب على لفظ الشهادة ففيه
وجهان (أحدهما) يجوز، لان القصد منه التغليظ وذلك يحصل مع التقديم.
(والثاني) لا يجوز لأنه ترك المنصوص عليه
(الشرح) الأحكام. لا يصح اللعان إلا بأمر الحاكم أو من يقوم مقامه،
وهذا مذهب أحمد رضي الله عنه، لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر هلال بن
أمية أن يستدعى زوجته إليه ولاعن بينهما، ولأنه إما يمين واما شهادة، فأيهما
كان فمن شرطه الحاكم. وان تراضى الزوجان بغير الحاكم يلاعن بينهما لم يصح ذلك
لان اللعان مبنى على التغليظ والتأكيد فلم يجز بغير الحاكم كالحد، هذا إذا كانا
حرين، وساوى أحمد بين الحرين والعبدين في وجوب اللعان بمحضر من الحاكم
أو من ينوب عنه.
أما ألفاظه فقد مضى بيانها وهي هنا على وجهها
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) والمستحب أن يكون اللعان بحضرة جماعة، لان ابن عباس
وابن عمر وسهل بن سعد رضي الله عنهم حضروا اللعان بحضرة النبي صلى الله عليه
على حداثة سنهم والصبيان لا يحضرون المجالس الا تابعين للرجال، فدل على أنه
قد حضر جماعة من الرجال فتبعهم الصبيان، ولان اللعان بنى على التغليظ للردع
والزجر وفعله في الجماعة أبلغ في الردع. والمستحب أن يكونوا أربعة لان اللعان
سبب للحد ولا يثبت الحد الا بأربعة، فيستحب أن يحضر ذلك العدد، ويستحب
أن يكون بعد العصر لا اليمين فيه أغلظ. والدليل عليه قوله عز وجل " تحبسونهما
من بعد الصلاة فيقسمان بالله " قيل هو بعد العصر.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاثة
لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولهم عذاب اليم، رجل حلف يمينا على
مال مسلم فاقتطعه، ورجل حلف يمينا بعد صلاة العصر لقد أعطى بسلعته أكثر
438

مما أعطى وهو كاذب، ورجل منع فضل الماء، فإن الله عز وجل يقول: اليوم
أمنعك فضلي كما منعت فضل ماء لم تعمله يداك "
ويستحب أن يتلاعنا من قيام، لما روى ابن عباس رضي الله عنه في حديث
هلال بن أمية " فأرسل إليهما فجاءا فقام هلال فشهد، ثم قامت فشهدت، لان
فعله من قيام أبلغ في الردع. واختلف قوله في التغليظ بالمكان فقال في أحد القولين
إنه يجب لأنه تغليظ ورد به الشرع فأشبه التغليظ بتكرار اللفظ، وقال في الآخر
يستحب كالتغليظ في الجماعة والزمان، والتغليظ بالمكان أن يلاعن بينهما في أشرف
موضع من البلد الذي فيه اللعان، فإن كان بمكة لاعن بين الركن والمقام، لان
اليمين فيه أغلظ.
والدليل عليه ما روى أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه رأى قوما
يحلفون بين الركن والمقام، فقال أعلى دم؟ قالوا لا، قال أفعلى عظيم من المال؟
فقالوا لا، فقال لقد خشيت أن يبهأ الناس بهذا المقام. وإن كان في المدينة لاعن
في المسجد لأنه أشرف البقاع بها، وهل يكون على المنبر أو عند المنبر؟ اختلفت
الرواية فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فروى أبو هريرة رضي الله عنه قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من حلف عند منبري على يمين آثمة
ولو على سواك من رطب وجبت له النار
وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حلف على
منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار، فقال أبو إسحاق إن كان الخلق كثيرا
لاعن على المنبر ليسمع الناس، وإن كان الخلق قليلا لاعن عند المنبر مما يلي قبر
النبي صلى الله عليه وسلم
وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يلاعن على المنبر، لان ذلك علو وشرف
والملاعن ليس في موضع العلو والشرف، وحمل قوله على منبري أي عند منبري
لان حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، وإن كان ببيت المقدس لاعن عند
الصخرة لأنها أشرف البقاع به وإن كان في غيرها من البلاد لاعن في الجامع، إن
كانت المرأة حائضا لاعنت على باب المسجد، لأنه أقرب إلى الموضع الشريف.
439

وإن كان يهوديا لاعن في الكنيسة، وإن كان نصرانيا لاعن في البيعة، وإن كان
مجوسيا لاعن في بيت النار، لأن هذه المواضع عندهم كالمساجد عندنا
(الشرح) حديث أبي هريرة الأول أخرجه الشيخان في صحيحيهما. قال
العزيزي في السراج المنير " والذين لا يكلمهم الله يوم القيامة لا ينحصرون في
الثلاثة، والعدد لا ينفى الزائد " اه‍
وقوله " بعد العصر " خصه لشرفه لأنه آخر النهار وقرب أفول الشمس،
فينبغي أن لا يكون آخر أعمال المرء سوءا وأشرا. لا سيما وهو وقت اجتماع
ملائكة الليل والنهار ورفع الأعمال فيه فغلظت العقوبة
وقوله " منع فضل مائه " الحاصل أنه إذا حفرها في موات بقصد الاحياء
لنفسه، أي لينتفع بمائها لم يلزمه إلا بذل ما زاد على حاجته، وان حفرها بقصد
نفع المسلمين فليس له المنع إلا إذا كان يملكه
أما حديث أبي هريرة الثاني فقد أخرجه أبو داود والإمام أحمد وابن ماجة
بلفظ " لا يحلف عند هذا المنبر عبد ولا أمة على يمين آثمة ولو على سواك رطب
إلا وجبت له النار " ورجاله ثقات وإسناده صحيح. هكذا في زوائد ابن ماجة
لابن حجر. وحديث جابر أخرجه مالك في موطئه في باب ما جاء في الحنث على
منبر النبي صلى الله عليه وسلم من كتاب الأقضية، وفيه أن زيد بن ثابت وابن مطيع
اختصما في دار كانت بينهما إلى مروان بن الحكم - وهو أمير على المدينة - فقضى
مروان على زيد باليمين على المنبر، فقال زيد أحلف له مكاني، فقال مروان " لا
والله إلا عند مقاطع الحقوق " قال فجعل زيد يحلف ان حقه لحق ويأبى أن يحلف
على المنبر، فجعل مروان يعجب من ذلك
قال مالك لا أرى أحدا يحلف على المنبر على أقل من ربع دينار وذلك ثلاثة
دراهم. اه‍ - وروى حديث جابر أبو داود في الايمان والنذور " باب ما جاء في
تعظيم اليمين عند منبر النبي صلى الله عليه وسلم " وأحمد بن حنبل في مسنده،
وأخرجه النسائي وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم وله شاهد عن أبي أمامة
ابن ثعلبة مرفوعا عند النسائي أيضا
440

أما الأحكام فإنه يستحب أن يكون اللعان بمحضر جماعة من المسلمين صغارا
كانوا أو كبارا، فقد رويت أخبار المتلاعنين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم
عن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد رواية من حضروها وسمعوا تفصيلاتها
وكانوا حدثاء السن، فإن عبد الله بن عباس ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان
ابن ثلاث عشرة سنة إذ توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا قول الواقدي
والزبير بن بكار.
قال أهل السير: ولد عبد الله بن عباس في الشعب قبل خروج بني هاشم منه
وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين
وروينا من وجوه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال توفى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأنا ابن عشر سنين، وقد قرأت المحكم - يعنى المفصل -
هذه رواية أبى بشر عن سعيد بن جبير، وقد روى عن أبي إسحاق عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ختين، أو قال
مختون. قال ابن عبد البر ولا يصح
وقال عبد الله بن أحمد، حدثنا أحمد بن حنبل، حدثنا سليمان بن داود، حدثنا
شعبة عن ابن إسحاق قال سمعت سعيد بن جبير يحدث عن ابن عباس قال، توفى
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة. قال عبد الله بن أحمد
قال أبى وهذا هو الصواب.
قال أبو عمر بن عبد البر وما قاله أهل السير والعلم بأيام الناس عندي أصح
والله أعلم - وهو قولهم إن ابن عباس كان ابن ثلاث عشرة سنة يوم توفى
رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومات ابن عباس سنة ثمان وستين في أيام ابن
الزبير وكان قد أخرجه من مكة إلى الطائف فمات بها وهو ابن سبعين سنة وصلى
عليه محمد ابن الحنفية وكبر عليه أربعا وقال اليوم مات رباني هذه الأمة وضرب
على قبره فسطاطا. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة قوله له
اللهم علمه الحكمة. اللهم علمه التأويل. اللهم فقهه في الدين
أما عبد الله بن عمر فقد أسلم مع أبيه وهو صغير لم يبلغ الحلم. وقيل إنه
441

أسلم قبل أبيه ولا يصح. وأصح من ذلك أن هجرته كانت قبل هجرة أبيه،
واجتمعوا أنه لم يشهد بدرا. واختلف في شهوده أحدا، والصحيح أن أول
مشاهده الخندق.
وقال الواقدي كان ابن عمر يوم بدر ممن لم يحتلم فاستصغره رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورده، وأجازه يوم أحد. وعن نافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رده يوم
أحد لأنه كان ابن أربع عشرة سنة، وأجازه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة
وقد عرف عنه رضي الله عنه الاتباع وشدة التحري والاحتياط والتوقي في فتواه
ويقولون انه من أعلم الصحابة بمناسك الحج، وقد كان مولعا به حتى في أيام الفتنة
حيث كان يحج كل عام.
أما سهل فهو ابن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة الساعدي الخزرجي الأنصاري
يكنى أبا العباس. روى ابن عبد البر بإسناده إلى محمد بن إسحاق عن الزهري قال
قلت لسهل بن سعد " ابن كم كنت يومئذ - يعنى يوم المتلاعنين؟ - قال ابن خمس
عشرة. وروى بإسناده عن الزهري عن سهل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
توفى وهو ابن خمس عشرة سنة، وعمر سهل حتى أدرك الحجاج وامتحن به،
وتوفى سنة ثمان وثمانين وهو ابن ست وتسعين، وقد بلغ المائة، ويقال إنه آخر
من بقي بالمدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حكى ابن عيينة عن أبي
حازم، سمعت سهل بن سعد يقول " لو مت لم تسمعوا أحدا يقول قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا قرر هذا فإن هؤلاء الصبيان إنما كانوا يحضرون تبعا للرجال، ولان
اللعان مبنى على التغليظ والمبالغة في الردع به والزجر، فإن فعله في الجماعة أبلغ
في ذلك، ويستحب أن يكون ذلك بعد العصر لتعرض من يحلف كاذبا منهما لغضب الله
لحديث " ثلاثة لا يكلمهم الله " الذي ساقه المصنف، كما يستحب أن لا ينقصوا
عن أر؟؟ ة، لان بينة الزنا الذي شرع اللعان من أجل الرمي به أربعة، وليس
شئ من هذا واجبا، كما يستحب أن يتلاعنا قياما، فيبدأ بالزوج حيث يلتعن
وهو قائم، فإذا فرغ قامت المرأة فالتعنت وهي قائمة، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال لهلال بن أمية " قم فاشهد أربع شهادات " ولأنه إذا قام شاهده الناس
442

فكان أبلغ في شهرته فاستحب كثرة الجمع وليس ذلك واجبا. وبهذا كله قال أحمد
وأبو حنيفة. قال ابن قدامة ولا أعلم فيه مخالفا. قلت إلا فيما يتعلق بالزمان فقد
خالفنا فيه أصحاب أحمد وأبو حنيفة. قالوا لان الله تعالى أطلق الامر بذلك ولم
يقيده بزمن ولا مكان فلا يجوز تقييده إلا بدليل، ولان النبي صلى الله عليه وسلم
أمر الرجل بإحضار امرأته ولم يخصه بزمن، ولو خصه بذلك لنقل ولم يهمل،
وخالفهم في ذلك أبو الخطاب من الحنابلة فقال بقولنا
ولنا أنه يستحب أن يتلاعنا في الأزمان والأماكن التي تعظم، ولان حديث
" ثلاثة لا يكلمهم الله " وقت في الوعيد على من حلف بعد العصر، فاسب أن
يراعى هذا استكمالا لكل معاني الردع والزجر.
أما المكان ففيه قولان (أحدهما) أن التغليظ به مستحب كالزمان (والثاني) أنه
واجب، لان النبي صلى الله عليه وسلم لاعن عند المنبر فكان فعله بيانا للعان،
ومعنى التغليظ بالمكان أنهما إذا كانا بمكة لاعن بينهما بين الركن والمقام فإنه أشرف
البقاع، وإن كانا في المدينة فعند منبر النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان ببيت
المقدس فعند الصخرة، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها، وإن كانا كافرين
بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه، وإن كانا يهوديين أو نصرانيين
فالكنيسة، وإن كانا غير ذلك - قال القرطبي إن كانا مجوسيين ففي بيت النار،
وإن كانا وثنيين أو لا دين لهما ففي مجلس حكمه. وإن كانت المسلمة حائضا وقلنا إن
اللعان بينهما يكون في المسجد وقفت على بابه ولم تدخله، لان ذلك
أقرب المواضع إليه.
وقال أبو علي بن أبي هريرة لا يصعد الملاعن على المنبر إذ لا يليق بالمنبر أن
يصعد عليه ملاعن لشرف المنبر وعلو مكانته، وبكل ما قررنا قال الأئمة كافة
ولم أعلم لهم مخالفا.
قال الشافعي في الام في باب " أين يكون اللعان " فإذا لاعن الحاكم بين
الزوجين بمكة لاعن بينهما بين المقام والبيت - إلى أن قال - وكذلك يلاعن
بين كل زوجين في مسجد كل بلد، ويبدأ فيقيم الرجل قائما وامرأة جالسة، فيلتعن
ثم يقيم المرأة قائمة فتلتعن، إلا أن يكون بأحدهما علة لا يقدر على القيام معها
443

فيلتعن جالسا أو مضطجعا إذا لم يقدر على الجلوس. وإن كانت المرأة حائضا
التعن الزوج في المسجد والمرأة على باب المسجد. وإن كان الزوج مسلما والزوجة
مشركة التعن الزوج في المسجد والزوجة في الكنيسة وحيث تعظم، وان شاءت
الزوجة المشركة أن يحضر الزوج المسلم في المساجد كلها حضرته الا أنها لا تدخل
المسجد الحرام لقوله تعالى " إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد
عامهم هذا "
ثم قال رضي الله عنه " وان أخطأ الامام بمكة أو المدينة أو غيرهما فلاعن
بين الزوجين في غير المسجد لم يعد اللعان عليهما لأنه قد مضى اللعان عليهما ولأنه حكم
قد مضى بينهما وكذلك ان لاعن ولم يحضر أحدهما الآخر، قال وإذا كان الزوجان مشركين
لاعن بينهما معا في الكنيسة وحيث يعظمان. وإذا كانا مشركين لا دين لهما تحاكما
إلينا لاعن بينهما في مجلس الحكم. اه‍
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإذا أرادا اللعان فالمستحب للحاكم أن يعظهما لما روى ابن عباس
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهما وأخبرهما أن عذاب الآخرة
أشد من عذاب الدنيا، فقال هلال والله لقد صدقت عليها، فقالت كذب، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لاعنوا بينهما " وإن كانت المرأة غير برزة بعث
إليها الحاكم من يستوفى عليها اللعان، ويستحب أن يبعث معه أربعة
(فصل) ويبدأ الزوج ويأمره أن يشهد، لان الله تعالى بدأ به وبدأ به
رسول الله صلى الله عليه وسلم في لعان هلال بن أمية، ولان لعانه بينة لاثبات
الحق، ولعان المرأة بينة الانكار، فقدمت بينة الاثبات
فإن بدأ بلعان المرأة لم يعتد به لان لعانها اسقاط الحد، والحد لا يجب الا
بلعان الزوج فلم يصح لعانها قبله، والمستحب إذا بلغ الزوج إلى كلمة اللعنة والمرأة
إلى كلمة الغضب أن يعظهما. لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال " لما كان في
الخامسة قيل يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وان
هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب. فقال والله لا يعذبني الله عليها كما لم
444

يحلدني عليها فشهد الخامسة، فلما كانت الخامسة قيل لها اتق الله فإن عذاب الدنيا
أهون من عذاب الآخرة، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب، فتلكأت
ساعة ثم قالت والله لا أفضح قومي فشهدت الخامسة أن غضب الله عليها إن كان
من الصادقين " ويستحب أن يأمر من يضع يده على فيه في الخامسة، لما روى
ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر رجلا أن يضع يده على فيه عند
الخامسة يقول إنها موجبة "
(فصل) وإن لاعن وهي غائبة لحيض أو موت قال أشهد بالله إني لمن
الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة، ويرفع في نسبها حتى تتميز. وإن كانت
حاضرة ففيه وجهان
أحدهما يجمع بين الإشارة والاسم، لان مبنى اللعان على التأكيد، ولهذا
تكرر فيه لفظ الشهادة، وإن حصل المقصود بمرة
والثاني أنه تكفيه الإشارة لأنها تتميز بالإشارة كما تتميز في النكاح والطلاق
(فصل) وإن كان القذف بالزنا كرره في الألفاظ الخمسة، فإن قذفها
بزناءين ذكرهما في الألفاظ الخمسة، لأنه قد يكون صادقا في أحدهما دون الآخر
فإن سمى الزاني بها ذكره في اللعان في كل مرة، لأنه ألحق به المعرة في إفساد
الفراش فكرره في اللعان كالمرأة.
فإن قذفها بالزنا وانتفى من الولد قال في كل مرة وأن هذا الولد من زنا وليس
منى، فإن قال هذا الولد ليس منى ولم يقل من زنا لم ينتف لأنه يحتمل أن يريد
أنه ليس منى في الخلق أو الخلق. وان قال هذا الولد من زنا ولم يقل وليس منى
ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول القاضي أبى حامد المروروذي أنه ينتفى منه
لان ولد الزنا لا يلحق به (والثاني) وهو قول الشيخ أبى حامد الأسفرايني أنه
لا ينتفى لأنه قد يعتقد أن الوطئ في النكاح بلا ولى زنا على قول أبى بكر الصيرفي
فوجب أن يذكر أنه ليس منى لينتفي الاحتمال
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: ويبدأ الرجل باللعان حتى يكمله، فإذا
أكمله خمسا التعنت المرأة، وإن أخطأ الحاكم فبدأ بالمرأة فالتعنت ولو لم يبق من
445

لعان الرجل إلا حرف واحد من قبل أن الله عز وجل بدأ بالرجل في اللعان فلا
يجب على المرأة لعان حتى يكمل الرجل اللعان، لأنه لا معنى لها في اللعان الا إذا
رفع الحد عن نفسها، والحد لا يجب حتى يلتعن الرجل ثم يجب لأنها تدفع الحد
عن نفسها وإلا حدت.
وإذا بدأ الرجل فالتعن قبل أن يأتي الحاكم أو بعدما أتاه قبل أن يأمره
بالالتعان أو المرأة أو هما أعاد أيهما بدأ قبل امر الحاكم إياه بالالتعان، لان
ركانة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بطلاق امرأته البتة وحلف له
فأعاد النبي صلى الله عليه اليمين على ركانة ثم رد إليه امرأته بعد حلفه بأمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولم يرد امرأته إليه قبل حلفه بأمره. اه‍
إذا تقرر هذا فإن ألفاظه خمسة في حق كل واحد منهما، وصفته أن الامام
يبدأ بالزوج فيقيمه ويقول له: قل أربع مرات ويلقنه الصيغة التي مضى ذكرها
ثم يشير إليها ويشير إلى نسبها وتسميتها، وإن كانت غائبة أسماها ونسبها فقال،
امرأتي فلانة بنت فلان ويرفع في نسبها حتى ينفى المشاركة بينها وبين غيرها، فإذا
شهد أربع مرات وقفه الحاكم وقال له: اتق الله فإنها الموجبة، وعذاب الدنيا
أهون من عذاب الآخرة وكل شئ أهون من لعنة الله، ويأمر رجلا فيضع يده
على فيه حتى لا يبادر بالخامسة قبل الموعظة، ثم يأمر الرجل فيرسل يده عن فيه
فإن رآه يمضى في ذلك قال له: قل وأن لعنة الله على أن كنت من الكاذبين فيما
رميت به زوجتي هذه من الزنا، ثم يأمر المرأة بالقيام ويقول لها: قولي أشهد
بالله أن زوجي هذا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا وتشير إليه، وإن كان غائبا
أسمته ونسبته، فإذا كررت ذلك أربع مرات وقفها ووعظها كما ذكرنا في حق
الزوج، ويأمر امرأة فتضع يدها على فيها، فإن رآها تمضي على ذلك قال لها قولي
وأن غضب الله عليها إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنا.
وسئل أحمد بن حنبل رضي الله عنه: كيف يلاعن؟ قال على ما في كتاب الله
ثم ذكر ما قررناه من صفة اللعان، فإن أبدل لفظا منها فظاهر كلام الأصحاب
أن فيه وجهين (أحدهما) أنه يعتد به، وهو ما ذهب إليه الخرقي من الحنابلة
446

أنه يجوز أن يبدل قوله: إني لمن الصادقين بقوله لقد زنت لان معناهما واحد،
ويجوز لها إبدال انه لمن الكاذبين بقولها لقد كذب. لأنه ذكر صفة اللعان كذلك
واتباع لفظ النص أول وأحسن.
وإن أبدل لفظة أشهد بلفظ من ألفاظ اليمين فقال. أحلف أو أقسم أو أولى
فكذلك مثله، وإن كان الصحيح في هذا الأخير لا يصح، لان ما اعتبر فيه لفظ
الشهادة لم يقم غيره مقامه كالشهادات في الحقوق، ولان اللعان يقصد فيه التغليظ
واعتبار لفظ الشهادات أبلغ في التغليظ فلم يجز تركه، ولهذا لم يجز أن يقسم بالله
من غير كلمة تقوم مقام أشهد.
وأما موعظة الامام لهما بعد الرابعة وقبل الخامسة فهي مستحبة في قول أكبر
أهل العلم. وكذلك وضع يد على في الملاعن لما رواه أبو إسحاق الجوزجاني بإسناده
في حديث المتلاعنين قال " فشهد أربع شهادات بالله انه لمن الصادقين، ثم أمر به
فأمسك على فيه فوعظه وقال: ويحك كل شئ أهون عليك من لعنة الله ثم أرسل
فقال: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم دعاها فقرأ عليها فشهدت أربع
شهادات بالله انه لمن الكاذبين، ثم أمر بها فأمسك على فيها وقال: ويحك كل شئ
أهون عليك من عذاب الله. وذكر الحديث "
قال الشافعي في الام: ثم تقام المرأة فتقول أشهد بالله ان زوجي فلانا وتشير
إليه إن كان حاضرا لمن الكاذبين فيما رماني به من الزنا، ثم تعود حتى تقول ذلك
أربع مرات، فإذا فرغت من الرابعة وقفها الامام وذكرها الله تبارك وتعالى
وقال لها: احذري أن تبوئي بغضب من الله عز وجل إن لم تكوني صادقة في
أيمانك، فإن رآها تمضي وحضرتها امرأة أمرها أن تضع يدها على فيها، وان لم
تحضرها فرآها تمضي قال لها: قولي وعلى غضب الله إن كان من الصادقين فيما
رماني به من الزنا، فإذا قالت ذلك فقد فرغت من اللعان، وإنما أمرت بوقفهما
وتذكيرهما أن سفيان أخبرنا عن عاصم بن كليب عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنه
ما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر رجلا حين لاعن بين المتلاعنين أن
يضع يده على فيه عند الخامسة وقال إنها موجبة
447

(مسألة) إذا كان بينهما ولد فإنه يشترط أن يقول: هذا الولد من زنا
وليس هو منى، لأنه إذا اقتصر على قوله: ليس هو منى - يعنى في الخلق أو
أو في الخلق، ولم نقتصر على قوله من زنا لأنه قد يعتقد أن الوطئ في نكاح فاسد
زنا فأكدنا بذكرهما جميعا.
وقال ابن قدامة من الحنابلة: إن نفى الولد في اللعان فاكتفى به كان كمن ذكر
اللفظين، وما ذكروه من التأكيد تحكم بغير دليل، ولا ينتفى الاحتمال بضم
إحدى اللفظتين إلى الأخرى فإنه إذا اعتقد أنه من وطئ فاسد واعتقد أن ذلك
زنا صح منه أن يقول اللفظين جميعا، وقد يرد أنه لا يشبهني خلقا وخلقا أو أنه
من وطئ فاسد، فإن لم يذكر الولد في اللعان لم ينتف عنه، وان أراد نفيه أعاد
اللعان ويذكر نفى الولد. اه‍
هذه المسألة لأصحابنا فيها وجهان (أحدهما) قول القاضي أبى حامد المروروذي
أنه إذا نسبه إلى الزنا ولم ينفه عن نفسه فقد انتفى منه، لان ولد الزنا لا يلحق به
فكان نفيه بالزنا كافيا في أن لا يلحق به
(والثاني) قول الشيخ أبى حامد الأسفراييني أن نسبته إلى الزنا لا يكفي في
نفيه لأنه قد يعتقد أن الوطئ في النكاح بلا ولى زنا، لان أبا بكر الصيرفي من
أصحابنا يقول " ان النكاح بلا ولى زنا " وبقوله هذا قال كثير من الفقهاء والمحدثين
لحديث " أيما امرأة نكحت بغير وليها فهي زانية، فهي زانية، فهي زانية "
وقد مضى تخريجه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا لاعن الزوج سقط عنه ما وجب بقذفه من الحد أو التعزير
والدليل عليه ما روى عبد الله بن عباس رضي الله عنه " أن هلال بن أمية قذف
امرأته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم البينة أو حد في ظهرك، فقال هلال
والذي بعثك بالحق انى لصادق، ولينزلن الله في أمري ما يبرئ ظهري من الحد
فنزلت " والذين يرمون أزواجهم " فسرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجا ومخرجا، فقال هلال قد كنت أرجو
448

ذلك من ربي عز وجل " وإن قذفها برجل فسماه في اللعان سقط عنه حده، لأنه
سماه في اللعان فسقط حده كالمرأة، فإن لم يسمه في اللعان فيه قولان
(أحدهما) يسقط حده لأنه أحد الزانيين فسقط حده باللعان كالزوجة
(والثاني) لا يسقط حده لأنه لم يسمه في اللعان فلم يسقط حده كالزوجة
إذا لم يسمها، فعلى هذا إذا أراد إسقاط حده استأنف اللعان وذكره وأعاد
ذكر الزوجة.
(فصل) وإن نفى باللعان نسب ولد انتفى عنه لما روى ابن عمر رضي الله عنه
" أن رجلا لاعن امرأته في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتفى عن
ولدها، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة " فإن لم يذكر النسب
في اللعان أعاد اللعان لأنه لم ينتف باللعان الأول
(الشرح) حديث عبد الله بن عباس سبق تخريجه حيث قلنا رواه البخاري
وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة والدارقطني. وحديث ابن عمر أخرجه
أحمد والشيخان وأصحاب السنن وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارقطني
أما غريبه فقوله " فسرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أي كشف، كأنه
هم كشفه الله عنه صدره.
قال ابن بطال: ومثله الحديث الآخر " فإذا مطرت السحابة سرى عنه "
أي كشف عنه الخوف.
قال ابن الصباغ في الشامل: قصة هلال بن أمية نزلت فيها الآية. وأما قوله
صلى الله عليه وسلم في قصة عويمر العجلاني " إن الله قد أنزل فيك وفى صاحبتك "
فمعناه ما نزل في قصة هلال بن أمية.
أما الأحكام فإنه إذا قذف امرأته بالزنا برجل بعينه فقد قذفهما، فان سماه
سقط عنه حده لأنه سماه وإن لم يسمه ففيه قولان. أحدهما يسقط حده، وبهذا
قال أصحاب أحمد وأبو حنيفة ومالك. والثاني لا يسقط حده لأنه لم يسمه في اللعان
فلم يسقط. فإن لم يلاعن فلكل واحد منهما المطالبة، وأيهما طالب حد له. ومن
لم يطالب قال بعض أصحابنا يجب الحد مطلقا. وقال بعض أصحاب أحمد: القذف
449

للزوجة وحدها ولا يتعلق بغيرها حق في المطالبة ولا في الحد، لان هلال بن أمية
قذف زوجته في شريك بن سحماء فلم يحده النبي صلى الله عليه وسلم ولا عزره، ولان اللعان
بينة في أحد الطرفين، ولا خلاف عندنا انه إذا لاعن وذكر الأجنبي إنه يسقط
عنه حده. وإن لم يذكره فعلى قولين مضيا
(فرع) استدل بحديث ابن عمر على أن الولد ينتفى باللعان، وأن يذكر في
صيغة اللعان، وعن أحمد أنه ينتفى بمجرد اللعان وإن لم يتعرض الرجل لذكره في
اللعان. قال الحافظ ابن حجر وفيه نظر، لأنه لو استلحقه لحقه، وإنما يؤثر
اللعان دفع حد القاذف عنه وثبوت زنا المرأة
قال الشافعي رضي الله عنه إن نفى الولد في الملاعنة انتفى، وان لم يتعرض له
فله أن يعيد اللعان لانتفائه ولا إعادة على المرأة. وان أمكنه الرفع إلى الحاكم
فأخر بغير عذر حتى ولدت لم يكن له أن ينفيه كما في الشفعة، واستدل بالحديث
أيضا على أنه لا يشترط في نفى الولد التصريح بأنها ولدته من زنا ولا بأنه استبرأها
بحيضة. وقد مضى إيضاحه. وعن المالكية أنه يشترط ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب على المرأة حد الزنا، لأنه بينة حقق بها الزنا عليها فلزمها
الحد كالشهادة، ولا يجب على الرجل الذي رماها به حد الزنا، لأنه لا يصح منه
درء الحد باللعان فلم يجب عليه الحد باللعان
(فصل) وإن كان اللعان في نكاح صحيح وقعت الفرقة لحديث ابن عمر
رضي الله عنه وحرمت عليه على التأبيد لما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه
قال " مضت السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا " فإن كان
اللعان في نكاح فاسد، أو كان اللعان بعد البينونة في زنا أضافه إلى حال الزوجية
فهل تحرم المرأة على التأبيد؟ فيه وجهان. أحدهما تحرم، وهو الصحيح، لان
ما أوجب تحريما مؤبدا إذا كان في نكاح أوجبه، وان لم يكن في نكاح كالرضاع
(والثاني) لا يحرم، لان التحريم تابع للفرقة ولم يقع بهذا اللعان فرقة فلم
يثبت به تحريم.
450

(فصل) وللمرأة أن تدرأ حد الزنا عنها باللعان لقوله عز وجل " ويدرأ
عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين " ولا تذكر المرأة
النسب في اللعان، لأنه لا مدخل لها في إثبات النسب ولا في نفيه.
(فصل) إذا لاعن الزوج ثم أكذب نفسه وجب عليه حد القذف إن كانت
المرأة محصنة، أو التعزير إن لم تكن محصنة ولحقه النسب لان ذلك حق عليه
فعاد بتكذيبه، ولا يعود الفراش ولا يرتفع التحريم، لأنه حق له فلا يعود
بتكذيبه نفسه، وإن لاعنت المرأة ثم أكذبت نفسها وجب عليها حد الزنا لأنه
لا يتعلق بلعانها أكثر من سقوط حق الزنا وهو حق عليها فعاد بإكذابها
(الشرح) حديث ابن عمر الذي ذكرناه آنفا، وحديث سهل بن سعد الذي
أخرجه أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارقطني، وقد مضى
بلفظه، وفيه قصة عويمر العجلاني، وسياق المصنف يفيد أن عبارة " مضت
السنة في المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان " من قول سهل بن سعد، بيد
أن الروايات التي في الكتب المذكورة قال ابن عمر " فكانت سنة المتلاعنين "
وفى رواية متفق عليها، أي في مسند أحمد والصحيحين " ذاكم التفريق بين كل
متلاعنين، وفى لفظ لأحمد ومسلم " وكان فراقه إياها سنة في المتلاعنين " وزاد
أبو داود عن القعنبي عن مالك فكانت تلك - وهي إشارة إلى الفرقة. وقال
مسلم إن قوله وكان فراقه إياها سنة بين المتلاعنين مدرج (1) وكذا ذكر الدارقطني
في غريب مالك اختلاف الرواة على ابن شهاب. وذكر ذلك الشافعي في الام
إلى أن نسبته إلى ابن شهاب لا تمنع نسبته إلى سهل، ويؤيد ذلك ما وقع في رواية
لأبي داود عن سهل قال " فطلقها ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأنقذه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ما صنع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) المدرج هو أن تزاد لفظة في متن الحديث من كلام الراوي فيحسبها من
يسمعها مرفوعة في الحديث فيرويها، وقد صنف الحافظ أبو بكر الخطيب في ذلك
كتابا حافلا سماه: فصل الواصل لما أدرج في النقل، وقد يكون الادراج في الاسناد
على تفصيل نذكره في مناسبته
451

سنة. وفى نسخة الصغاني قال أبو عبد الله - يعنى البخاري - قوله " ذلك تفريق
بين المتلاعنين " من قول الزهري وليس من الحديث
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ومتى التعن الزوج فعليها أن
تلتعن فإن أبت حدت - إلى أن قال - وان امتنعت من اليمين وهي مريضة
فكانت ثيبا رجمت. اه‍
(قلت) ولا يجب إقامة الحد على الرجل الذي زنى بها، لأننا إذا قلنا يجب
أن يقام الحد عليها ببينة الزنا بلعان الزوج فإنه يدرأ عنها الحد أن تلاعنه. وإذا
كان على الزوج حد القذف فإنه يدرأ عنه ذلك بلعانه. أما الذي رميت به فليس
له أن يشترك في الملاعنة ليدرأ عن نفسه فعلا يجب عليه الحد لأجله، فلم يكن
عليه حد، وبصورة أخرى نقول لما كان اللعان لدرء الحد، ولما كان لا لعان
عليه كان لا حد عليه
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه فإذا أكمل الزوج الشهادة والالتعان فقد
زال فراش امرأته ولا تحل له أبدا بحال، وان أكذب نفسه لم تعد إليه التعنت
أو لم تلتعن، حدت أو لم تحد، قال وإنما قلت هذا لان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الولد
للفراش " وكانت فراشا فلم يجز أن ينفى الولد عن الفراش الا بأن يزول الفراش
فلا يكون فراش أبدا.
ثم ساق حديث ابن عمر ثم قال " وكان معقولا في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا ألحق الولد بأمه أنه نفاه عن أبيه وأن نفيه عن أبيه بيمينه والتعانه لا بيمين
أمه على كذبه بنفيه، ومعقول في اجماع الناس أن الزوج إذا أكذب نفسه ألحق
به الولد وجلد الحد، لان لا معنى للمرأة في نفيه، وأن المعنى للزوج بما وصفت
من نفيه، وكيف يكون لها معنى في يمين الزوج ونفى الولد والحاقه، والولد بكل
حال ولدها لا ينفى عنها إنما عنه ينفى واليها ينسب إذا نسب
(فرع) سبق أن قلنا إن مذهبنا حصول الفرقة بلعان الزوج وحده وان لم
تلتعن المرأة لأنها فرقة حاصلة بالقول فتحصل بقول الزوج وحده كالطلاق.
وقال سائر الأئمة ان الشرع ان أمر بالتفريق بين المتلاعنين، وإنما فرق النبي صلى الله عليه وسلم
بينهما بعد تمام اللعان منهما. فإذا قلنا بأن اللعان منه يوجب الفرقة بينهما وتحرم
452

عليه على التأبيد إذا كان نكاحهما صحيحا. أما إذا كان النكاح فاسدا أو بعد بينونة
في زنا أضافه إلى حال الزوجية، فهل تكون محرمة على التأبيد؟ وجهان
ذكرهما المصنف.
(فرع) الفرقة باللعان فسخ عندنا. وقال أبو حنيفة: هي طلاق لأنها فرقة
من جهة الزوج تختص النكاح فكانت طلاقا كالفرقة بقوله أنت طالق. ولنا أنها
فرقة توجب تحريما مؤبدا فكانت فسخا كفرقة الرضاع، ولان اللعان ليس
بصريح في الطلاق ولا نوى به الطلاق فلم يكن طلاقا كسائر ما ينفسخ به النكاح
وبهذا قال أحمد وأصحابه، واستدلوا كذلك بكونه لو كان طلاقا لوقع بلعان الزوج
دون لعان المرأة.
(فرع) قوله " إذا لاعن الزوج ثم أكذب نفسه الخ " فجملة ذلك أن الرجل
إذا قذف امرأته ثم أكذب نفسه فلها عليه الحد، سواء أكذبها قبل لعانه أو
بعده. وقوله " أكذب نفسه " قال في المصباح شرح غريب الشرح الكبير للرافعي
وأكذب نفسه وكذبها بمعنى اعترف بأنه كذب في قوله السابق
قال الكسائي: وتقول العرب أكذبته بالألف إذا أخبرت بأن الذي حدث
كذب. انتهى
وهذا أصرح ما في النعوت من حكاية غير الواقع، وترى الفقهاء ينزهون
ألسنتهم فيما بينهم عن استعمال هذه الكلمة فيقولون عند احتمال الكذب: ليس
الامر كذلك. وعند احتمال الغلط أو التلبيس يقولون: لا نسلم ويشيرون إلى
المطالبة بالدليل تارة والى الخطأ في النقل تارة والى التوقف تارة، فإذا أغلظوا في
الرد قالوا ليس كذلك وليس بصحيح، وقد رأيت بعض من يتسمون بسمات العلم
في عصرنا يتراشقون بالتكذيب وما هو أشد منه في أمور خلافية، فيخرجون
عن آداب البحث وعن حياء أهل المجادلة من حملة العلم العاملين
ونعود فنقول وجب على الزوج حد القذف بعد الاكذاب، وبهذا قال أحمد
وأبو ثور وأصحاب الرأي ومالك ولا نعلم لهم مخالفا، وذلك لان اللعان أقيم مقام
البينة في حق الزوج فإذا أكذب نفسه بان أن لعانها كذب وزيادة في هتكها وتكرار
لقذفها فلا أقل من أن يجب الحد الذي كان واجبا بالقذف المجرد للحرة البالغة،
453

فالصبية ليست محصنة وكذلك غير الحرة، فإن عاد عن اكذاب نفسه وقال لي بينة
أقيمها بزناها أو أراد اسقاط الحد عنه باللعان لم يسمع من خلافه، وهذا فيما إذا
كانت المقذوفة محصنة، فإن كانت على محصنة فعليه التعزير، وفى ذلك كله يلحقه
نسب الولد، سواء كان الولد حيا أو ميتا، غنيا أو فقيرا، وبهذا قال أحمد
وأبو ثور. وقال الثوري: إذا استلحق الولد الميت نظرنا - فإن كان ذا مال -
لم يلحقه لأنه إنما يدعى مالا، وان لم يكن ذا مال لحقه
وقال أصحاب الرأي: إن كان الولد الميت ترك ولدا ثبت نسبه من المستلحق
وتبعه نسب ابنه، وان لم يكن ترك ولدا لم يصح استلحاقه ولم يثبت نسبه ولا
يرث منه المدعى شيئا لان نسبه منقطع بالموت فلم يصح استلحاقه، فإذا كان له
ولد كان مستلحقا لولده وتبعه نسب الميت
دليلنا أن هذا ولد نفاه باللعان فكان له استلحاقه كما لو كان حيا أو كان له ولد
ولان ولد الولد يتبع نسب الولد، وقد جعل أبو حنيفة نسب الولد تابعا لنسب
ابنه فجعل الأصل تابعا للفرع وذلك باطل
فأما قول الثوري انه إنما يدعى مالا، قلنا إنما يدعى النسب والميراث والمال
تبع له، فان قيل هو متهم في أن غرضه حصول الميراث. قلنا إن النسب لا تمنع
التهمة لحوقه، بدليل انه لو كان له أخ يعاديه فأقر بابن لرمه وسقط ميراث أخيه
ولو كان الابن حيا وهو غنى والأب فقير فاستلحقه فهو متهم في ايجاب نفقته على
ابنه ويقبل قوله، فكذلك ههنا، ثم كان ينبغي أن يثبت النسب ههنا لأنه حق
للولد ولا تهمة فيه، ولا يثبت الميراث المختص بالتهمة، ولا يلزمه من انقطاع
التبع انقطاع الأصل
ونخلص من كل ما سبق أن أربعة أحكام تعلقت باللعان، حقان عليه وحقان
له، فما عليه وجوب الحد ولحوق النسب، وما له الفرقة والتحريم المؤبد، فإذا
أكذب نفسه قبل قوله فيما عليه، فلزمه الحد والنسب فلم يقبل فيما له، فلم تزل
الفرقة أو التحريم المؤبد
وعن أحمد رواية: ان أكذب نفسه حلت له وعاد فراشه بحاله. قال ابن قدامة
هي رواية شاذة شذ بها حنبل عن أصحابه
454

(فرع) للمرأة في ملاعنته حق نفى الزنا ودرء الحد عن نفسها فإن هي أكذبت
نفسها بعد أن لاعنته وجب أن يقام الحد عليها لان حق الزنا عليها قد أضاعته
بلعانها فعاد بإكذابها.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن مات الزوج قبل اللعان وقعت الفرقة بالموت وورثته الزوجة
لان الزوجية بقيت إلى الموت، فإن كان هناك ولد ورثه، لأنه مات قبل نفيه،
وما وجب عليه من الحد أو التعزير بقذفها سقط بموته، لأنه اختص ببدنه وقد
فات، وإن ماتت الزوجة قبل لعان الزوج وقعت الفرقة بالموت وورثها الزوج،
لان الزوجية بقيت إلى الموت، وإن كان هناك ولد فله أن يلاعن لنفيه، لان
الحاجة داعية إلى نفيه، فإن طالبه ورثتها بحد القذف لاعن لاسقاطه، ولا يسقط
من الحد لو لم يلاعن شئ لحقه من الإرث كما يسقط ما لها عليه من القصاص،
لان القصاص ثبت مشتركا بين الورثة، فإذا سقط ما يخصه بالإرث سقط الباقي
وحد القذف يثبت جميعه لكل واحد من الورثة، ولهذا لو عفا بعضهم عن حقه
كان للباقين أن يستوفوا الجميع، فان مات الولد قبل أن ينفيه باللعان جاز له نفيه
باللعان، لأنه يلحقه نسبه بعد الموت فجاز له نفيه، وإذا نفاه لم يرثه لأنا تبينا
باللعان أنه لم يكن ابنه.
(فصل) إذا قذف امرأته وامتنع من اللعان فضرب بعض الحد ثم قال
أنا ألاعن سمع اللعان وسقط ما بقي من الحد، وكذلك إذا نكلت المرأة عن اللعان
فضربت بعض الحد، ثم قالت أنا ألاعن سمع اللعان وسقط بقية الحد، لان
ما أسقط جميع الحد أسقط بعضه كالبينة
(فصل) إذا قذفها ثم تلاعنا ثم قذفها نظرت - فإن كان بالزنا الذي تلاعنا
عليه - لم يجب عليه حد لان اللعان في حقه كالبينة، ولو أقام البينة على القذف
ثم أعاد القذف لم يجب الحد، فكذلك إذا لاعن
وإن قذفها بزنا آخر ففيه وجهان (أحدهما) انه لا يجب الحد، لان اللعان
في حقه كالبينة، ثم بالبينة يبطل إحصانها فكذلك باللعان (والثاني) يجب عليه
455

الحد، لان اللعان لا يسقط إلا ما يجب بالقذف في الزوجية لحاجته إلى قذف
الزوجة، وقد زالت الزوجية باللعان فزالت الحاجة إلى القذف فلزمه الحد، وان
تلاعنا ثم قذفها أجنبي حد، لان اللعان حجة يختص بها الزوج فلا يسقط به الحد
عن الأجنبي فان قذفها ولاعنها ونكلت عن اللعان فحدت فقد اختلف أصحابنا
فيها، فقال أبو العباس: لا يرتفع احصانها إلا في حق الزوج، فان قذفها أجنبي
وجب عليه الحد لان اللعان حجة اختص بها الزوج فلا يبطل به الاحصان إلا
في حقه. وقال أبو إسحاق: يرتفع احصانها في حق الزوج والأجنبي، فلا يجب
على واحد منهما الحد بقذفها، لأنها محدودة في الزنا فلم يحد قاذفها، كما لو حدت
بالاقرار أو البينة
(الشرح) الأحكام: إذا قذفها ثم مات قبل لعانها أو قبل اتمام لعانه سقط
اللعان ولحقه الولد وورثته في قول جميع الفقهاء، ولان اللعان لم يوجد فلم يثبت
حكمه. وان مات بعد أن أكمل لعانه فقد بانت بلعانه ولو لم تلاعن هي، وسقط
التوارث بينهما وانتفى الولد ولزمها الحد الا أن تلتعن
وقال أحمد: ان مات بعد أن أكمل لعانه وقبل لعانها فكمن مات قبل أن يتم
لعانه أو قبل أن يلاعن يسقط اللعان ويلحقه الولد وترثه. لان أحكام اللعان
مترتبة على اللعان عنده. وتمامه أن تلاعن هي
دليلنا قول ابن عباس رضي الله عنهما: ان التعن لم يرث. ونحو ذلك عن الشعبي
وعكرمة. لان اللعان يوجب فرقة تبين بها فيمنع التوارث. كما لو التعن في حياتها
وقال أحمد: ان مات على الزوجية فورثها كما لو لم يلتعن. ولان اللعان سبب
الفرقة فلم يثبت حكم بعد موتها كالطلاق. وفارق اللعان في الحياة فإنه يقطع
الزوجية. على أنهم قالوا: لو لاعنها ولم تلتعن هي لم تنقطع الزوجية أيضا فههنا
أولى. وقال الشافعي رضي الله عنه " إن كان ثم ولد يريد نفيه فله أن يلتعن "
وهذا ينبنى على أصل - وهو أن اللعان إنما يكون بين الزوجين - فان لعان
الرجل وحده يثبت به الحكم. وعند أحمد بخلاف ذلك. فإن كانت طالبت بالحد
في حياتها - فإن كان للمرأة وارث غير الزوج - فله اللعان ليسقط الحد عن
456

نفسه، وإلا فلا لعدم الحاجة إليه. وقال أصحاب أحمد: إن أولياءها يقومون في
الطلب به مقامها - فإن طولب به فله إسقاطه باللعان وإلا فلا، لأنه لا حاجة
إليه مع عدم الطلب فإنه لا حد عليه
(فرع) إذا مات المقذوف قبل المطالبة بالحد فإنه يورث كالمطالب سواء
بسواء، لقول النبي صلى الله عليه وسلم " من ترك حقا فلورثته " ولأنه حق ثبت
في الحياة يورث إذا طالب به فيورث وإن لم يطالب به كحق القصاص
وقال أحمد: إنه حد تعتبر فيه المطالبة فإذا لم يوجد الطلب من المالك لم يجب
كحد القطع في السرقة.
(فرع) فإن لم يكذب نفسه ولكن لم يكن له بينة ولم يلاعن أقيم عليه، فإن
أقيم عليه بعضه وقال أنا ألاعن قبل منه لان اللعان يسقط جميع الحد فيسقط بعضه
كالبينة، فإن ادعت زوجته أنه قذفها بالزنا فأنكر فأقامت عليه بينة أنه قذفها
بالزنا، فقال صدقت البينة وليس ذلك قذفا، لان القذف الرمي بالزنا كذبا وأنا
صادق فيما رميتها به لم يكن ذلك إكذابا لنفسه لأنه مصر على رميها بالزنا، وله
إسقاط الحد باللعان، ومذهب أحمد رضي الله عنه في هذا كمذهبنا
وكذلك نقول فيمن نكلت عن اللعان فضربت بعض الحد ثم قالت أنا ألاعن
فإنه يسقط ما بقي من الحد، لان اللعان يسقط الحد كله، فلان يسقط بعضه أولى
ولان اللعان قام مقام البينة فأوقف الحد وأسقط باقيه
(مسألة) إن قذفها في الزوجية ولاعنها ثم قذفها بالزنا الأول فلا حد عليه
لأنه قد حققه بلعانه، وعند أصحاب أحمد يحتمل أن يحد كما لو قذفها به أجنبي.
أما إذا قذفها بزنا آخر ففيه وجهان (أحدهما) أنه لا يجب عليه الحد، لان الله
تعالى قال " والذين يرمون المحصنات " فاشترط لإقامة الحد بالقذف أن تكون
المقذوفة منعوتة بالاحصان، فإذا لاعنها فقد زال إحصانها، لان اللعان كالبينة.
(والثاني) يجب عليه الحد، لان اللعان لا يسقط إلا ما يجب بالقذف في الزوجية
لحاجته إليه، وقد صارت باللعان أجنبية عنه فزالت الحاجة إلى القذف، وفى
القذف بغير حاجة إشاعة للفاحشة بين الذين آمنوا فوجب الحد. وبهذا قال
457

ابن عباس والزهري والشعبي والنخعي وقتادة ومالك وأبو عبيد وأحمد بن حنبل،
(فرع) إذا قذفها أجنبي بعد لعانه فإن كانت قد درأت عن نفسها الحد باللعان
أقيم على الأجنبي الحد قولا واحدا، وان نكلت فقد اختلف أصحابنا، فعلى قول
أبى العباس بن سريج يجب حده لأنه لم يرتفع احصانها الا في حق الزوج. وعلى
قول أبي إسحاق المروزي يرتفع احصانها مطلقا فلا يجب على أحد الحد بقذفها،
لأنها محدودة باللعان كما لو حدت بالاقرار أو بالبينة
قال ابن قدامة: فأما ان أقام بينة فقذفها قاذف بذلك الزنا أو بغيره فلا حد
عليه لأنه قد زال احصانها، ولان هذا القذف لم يدخل المعرة عليها، وإنما
دخلت المعرة بإقامة البينة، ولكنه يعزر تعزير السب والأذى. وهكذا كل من
قامت البينة بزناه لا حد على قاذفه.
وبه قال الشافعي وأصحاب الرأي، ولكنه يعزر تعزير الأذى والسب ولا
يملك الزوج اسقاطه عن نفسه باللعان لما قدمناه. اه‍. والله تعالى أعلم بالصواب
وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تم الجزء السابع عشر ويليه الجزء الثامن عشر
وأوله كتاب الايمان
458