الكتاب: مغني المحتاج
المؤلف: محمد بن أحمد الشربيني
الجزء: ١
الوفاة: ٩٧٧
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع: ١٣٧٧ - ١٩٥٨ م
المطبعة:
الناشر: دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات: شرح الشيخ محمد الشربيني الخطيب من أعيان علماء الشافعية في القرن العاشر الهجري على متن المنهاج لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي من أعلام علماء الشافعية في القرن السابع الهجري / ملتزم الطبع والنشر : شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر

مغني المحتاج
إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج
شرح
الشيخ محمد الشربيني الخطيب
عين أعيان علماء الشافعية في القرن العاشر الهجري
على متن المنهاج
لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي
من اعلام علماء الشافعية في قرن السابع الهجري
رحمهما الله، ونفع بعلومهما آمين
الجزء الأول
1377 ه‍ = 1958 م
ملتزم الطبع والنشر
شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الغنى المغنى الكريم الفتاح. الذي شرح صدور العلماء العاملين في المساء والصباح. بسلوك المنهاج المستقيم،
ونور بهم سبل الفلاح. وألبسهم حلل الولاية والكراهة والتعظيم، وأسبل عليهم ألوية الصلاح. والصلاة والسلام على من
أشرقت كواكب مجده وسعده في سماء الاسعاد، وكان هاديا مهديا إماما لائمة قبلة الاوشاد، المحمود في السر والاعلان.
المسعود في كل زمان ومكان، القائل: " العلماء ورثة الأنبياء ": أي ولم يورثوا المال، وعلى آله وأصحابه الذين بهم
يقتدى في الأعمال، ما أزهرت وتلالات في سماء الصحائف، ولاحت أنوار نجوم الفضال الفرائد، وأزهرت روضة
اللطائف، وفاحت أنوار نجوم المسائل والفوائد. احمد على نعمه التي لا نهاية لحدها، واشكره على مننه التي تقصر
الألسن عن حصرها وعدها. واشهد ان لا آله الا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه
وسلم، وعلى إخوانه من النبيين، وآل كل وسائر الصالحين، وتابعيهم باحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فيقول فقير رحمة ربه القريب (محمد الشربيني الخطيب) لما يسر الله سبحانه وتعالى وله الفضل والمنة الفراغ
من شرحي على التنبيه، للعلامة القطب الرباني: أبي إسحاق الشيرازي، قدس الله روحه ونور ضريحه، المشتمل على
كثير من مهمات الشروح والمصنفات، وفوائدها ونفاسها المفردات، حمدت الله سبحانه وتعالى على اتمامه، وسألته المزيد من
فضله وانعامه. ثم سألني بعض أصحابي ان اجعل مثله على منهاج الإمام الرباني، الشافعي الثاني: محيي الدين النووي،
فترددت في ذلك مدة من الزمان، لأني اعرف انى لست من أهل ذلك الشأن، حتى يسر الله لي زيارة سيد المرسلين،
صلى الله وسلم عليه وعلى سائر النبيين، والآل والصحب أجمعين، في أول عام تسعمائة وتسعة وخمسين. استخرت الله
في حضرته، بعد أن صليت ركعتين في روضة وسألته ان ييسر لي امرى، فشرح الله سبحانه وتعالى لذلك صدري.
فلما رجعت من سفري واستمر ذلك الانشراح معي، شرعت في شرح يوضح من معاني متاني منهاج الإمام للنووي ما خفا،
ويفصح عن مفهوم منطوقه بألفاظ تذهب عن الفهم جفا، وتبرز المكنون من جواهره، وتظهر المضمر في سرائره، خال
عن الحشو والتطويل، حاو للدليل والتعليل، مبين لما عليه المعول من كلام المتأخرين والأصحاب، عمدة للمفتي وغيره ممن
يتحرى الصواب، مهذب الفصول، محقق الفروع والأصول، متوسط الحجم، وخير الأمور أوساطها، لا تفريطها ولا افراطها.
هذا، ولسان التقصير في طول مدحه قصير، والله يعلم المفسد من المصلح واليه المصير.
ولما كان مطالعه بمطالعه يذهب عنه تعب وعنا، وينفى عنه فقر الحاجة عنه فقر الحاجة ويجلب له راحة وغنى. سميته:
مغنى المحتاج: إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج
واسال الله تعالى أن يجعله عملا مقرونا بالاخلاص والقبول والاقبال، وفعلا متقبلا مرضيا زكيا يعد من صالح الأعمال
وينشره ذكره كما نشر أصله في كل ناد، ويعم نفعه لكل عاكف وباد، ويبلغني وأصحابي وأحبابي والمسلمين من خيري
الدنيا والآخرة أملنا، ويختم بالسعادة قولنا وعملنا، انه قريب مجيب، وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه أنيب.
2

وقد تلقيت الكتاب المذكور رواية ودراية: عن أئمة ظهرت وبهرت مفاخرهم، واشتهرت وانتشرت مآثرهم،
جمعني الله وإياهم والمسلمين في مستقر رحمته، بمحمد وآله وصحابته. وحيث أقول شيخنا فهو: المخلص الذي طار
صيته في الآفاق، وكان تقيا نقيا زكيا، ونفع الله به وبتلامذته، ذو الفضائل والفواصل: شيخ الاسلام زكريا. أو شيخي
فهو فريد دهره، ووحيد عصره، سلطان العلماء، ولسان المتكلمين، عمدة المعلمين، وهداية المتعلمين، حسنة
الأيام والليالي شهاب الدنيا والدين: الشهير بالرملي. أو الشارح: فالجلال المحقق المدقق الحلى. أو الشيخان أو قالا أو
نقلا: فالرافعي والنووي رضى الله تعالى عنهما. وحيث أطلق الترجيح فهو في كلاهما غالبا، والا عزوته لقائله.
وأتضرع إلى الله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه ومن اجله، وان يعيدنا وأئمة الدين والمؤمنين من همزات الشيطان وخيله
ورجله، وبالله تعالى أستعين فهو نعم المعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: (بسم الله الرحمن الرحيم) أي ابتدى أو افتح أو أؤلف، وهذا أولى إذ كل فاعل
يبدأ في فعله ببسم الله يضمر ما جعل التسمية مبدأ له كما أن المسافر إذا حل أو ارتحل فقال: بسم الله كان المعنى بسم الله
أحل، أو باسم الله ارحل، ويسمى فعل الشروع: أي الفعل الذي يشرع فيه، ويصح ان يقدر مصدرا كابتدائي ولا
يضر حذفه وإبقاء عمله لأنه يتوسع في الظرف والجار والمجرور ما لا يتوسع في غيرهما، وان يقدر كل منهما مقدما أو
مؤخرا، ولكن تقديره كما قال الإمام الرازي فعلا ومؤخرا أولى كما في " إياك نعبد وإياك نستعين " ولأنه تعالى مقدم
ذاتا لأنه قديم واجب الوجود لذاته فقدم ذكرا. فإن قيل قال الله تعالى - اقرأ باسم ربك - فقدم الفعل. فالجواب انه
في مقام ابتداء القراءة وتعليمها لأنها أول سورة نزلت، فكان الامر بالقراءة أهم باعتبار هذا العارض وإن كان ذكر
الله تعالى أهم في نفسه، وذكر أجوبة غير ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة. وقيل إن الباء زائدة لا تتعلق بشئ
فاسم مبتدأ حذف خبره أو عكسه. والصحيح انه اصلى، والباء هنا للاستعانة أو للمصاحبة والملابسة على جهة التبرك.
فإن قيل من حق حروف المعاني التي جاءت على حرف واحد ان تبنى على الفاتحة التي هي أخت السكون نحو واو العطف
وفائه. فالجواب انها إنما كسرت للزومها الحرفية والجر ولتشابه حركتها عملها. والاسم مشتق من السمو وهو العلو فهو
من الأسماء المجذوفة الاعجاز كيد ودم لكثرة الاستعمال، بنيت أوائلها على السكون وادخل عليها همزة الوصل لتعذر
الابتداء بالساكن. وقيل من الوسم وهو العلامة فوزنه على الأول افع محذوف اللام وعلى الثاني أعل محذوف الفاء، وفيه
عشر لغات نظمها بعضهم في بيت فقال:
سم وسما واسم بتثليث أول * لهن سماء عاشر ثمت انجلى
والاسم إن أريد به اللفظ فغير المسمى لأنه يتألف من أصوات مقطعة غير قارة، ويختلف باختلاف الاسم والاعصار،
ويتعدد تارة ويتعدد أخرى، والمسمى لا يكون كذلك، وإن أريد به ذات الشئ فهو المسمى لكنه لم يشتهر بهذا المعنى،
وإن أريد به الصفة كما هو رأى أبى الحسن الأشعري انقسم انقسام الصفة عنده إلى ما هو نفس المسمى كالواحد والقديم،
والى ما هو غير كالخالق والرازق، وإلى ما ليس هو ولا غيره كالعلم والقدرة: أي فإنهما زائد على الذات وليسا غير
الذات، لأن المراد بالغير ما ينفك عن الذات وهما لا ينفكان. والله علم على الذات الواجب الوجود المستحق لجميع المحامد
لم يتسم به سواه، تسمى به قبل ان يسمى وأنزله على آدم في جملة الأسماء. قال تعالى " هل تعلم له سميا ": أي هل تعلم
أحدا سمى الله غير الله. وأصله إله. قال الرافعي في كتابه (العلاوة والتذنيب) كإمام ثم ادخلوا عليه الألف واللام ثم حذفت
الهمزة طلبا للخفة ونقلت حركتها إلى اللام فصار اللاه فصار اللاه بلامين متحركين سكنت الأولى وأدغمت في الثانية للتسهيل ا ه‍.
وقيل حذفت همزته وعوض عنها حرف التعريف ثم جعل علما. والاله في الأصل يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب
على المعبود بحق كما أن النجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا، وهل هو مشتق أو مرتجل؟ فيه خلاف. والحق انه
أصل بنفسه غير مأخوذ من شئ بل وضع علما ابتداء، فكما أن ذاته لا يحيط بها شئ ولا ترجع إلى شئ فكذلك اسمه
3

تعالى، وهو عربي عند الأكثر، وعند المحققين انه اسم الله الأعظم. وقد ذكر في القران العزيز في الفين وثلاثمائة وستين
موضعا. واختار المصنف تبعا لجماعة انه الحي القيوم. قال ولذلك لم يذكر في القران الا في ثلاثة مواضع: في البقرة وآل
عمران وطه. والرحمن الرحيم صفتان مشبهتان بنيتا للمبالغة من رحم بتنزيله منزلة اللازم أو بجعله لازما، ونقله إلى فعل بالضم.
والرحمة لغة: رقة في القلب تقتضي التفضل والاحسان، فالتفضل غايتها، وأسماء الله تعالى المأخوذ من نحو ذلك إنما تؤخذ
باعتبار الغايات التي هي أفعال دون المبادى التي تكون انفعالات، فرحمة الله تعالى إرادة ايصال الفضل
والاحسان أو
نفس ايصال ذلك فهي من صفات الذات على الأول ومن صفات الفعل على الثاني، والرحمن أبلغ من الرحيم لأن زيادة
البناء تدل على زيادة المعنى كما في قطع بالتخفيف وقطع بالتشديد. فإن قيل حذر أبلغ من حاذر. أجيب بان ذلك أكثري
لا كلى، وبان الكلام فيما إذا كان المتلاقيان في الاشتقاق متحدي النوع في المعنى كغرث وغرثان لا كحذر وحاذر لا اختلاف
وقدم الله عليهما لأنه اسم ذات وهما اسما صفة والذات مقدمة على الصفة، والرحمن على الرحيم لأنه خاص، إذ لا يقال
لغير الله بخلاف الرحيم، والخاص مقدم على العام، وإنما قدم والقياس يقتضى الترقي من الأدنى إلى الاعلى كقولهم: عالم
نحرير لأنه صار كالعلم من حيث إنه لا يوصف به غيره، لأن معناه المنعم الحقيقي البالغ في الزحمة غايتها وذلك لا يصدق
على غيره، ولذلك رجح جماعة انه علم ولأنه لما دل على جلائل النعم والتكميل وللمحافظة على رؤوس الآي.
(فائدة) قال النسفي في تفسيره: قيل الكتب المنزلة من السماء إلى الدنيا مائة وأربعة صحف شيث ستون، وصحف
إبراهيم ثلاثون، وصحف موسى قبل التوراة عشرة، والتوراة لموسى، والإنجيل لعيسى، والزبور لداود، والفرقان
لمحمد. ومعاني كل الكتب مجموعة في القران، ومعاني كل القران مجموعة في الفاتحة، ومعاني الفاتحة مجموعة في البسملة
ومعاني البسملة مجموعة في بائها، ومعناها: بي كان ما كان وبي يكون ما يكون، زاد بعضهم: ومعاني الباء في نقطتها.
(الحمد لله) بدا بالبسملة ثم بالحمدلة اقتداء بالكتاب العزيز، وعملا بخبر " كل أمر ذي بال - أي حال يهتم به - لا يبدأ فيه
ببسم الله الرحمن الرحيم تعالى كغيره بين الابتداءين عملا بالروايتين، وإشارة إلى أنه لا تعارض بينهما، إذ الابتداء حقيقي وإضافي
فالحقيقي حصل بالبسملة، والإضافي بالحمدلة، أو ان الابتداء ليس حقيقيا بل أمر عرفي يمتد من الاخذ في التأليف إلى
الشروع في المقصود فاكتب المصنفة مبدءها الخطبة بتمامها. والحمد اللفظي لغة الثناء باللسان على الجميل الاختياري على
جهة التبجيل: أي التعظيم سواء أتعلق بالفضائل وهي النعم القاصرة أم بالفواضل وهي النعم المتعدية، فدخل في الثناء
الحمد وغيره وخرج باللسان الثناء بغيره كالحمد النفسي، وبالجميل الثناء باللسان على غير الجميل، ان قلنا
برأي ابن
عبد السلام ان الثناء حقيقة في الخير والشر، وإن قلنا برأي الجمهور وهو الظاهر أنه حقيقة في الخير فقط، ففائدة ذلك
تحقيق الماهية أو دفع توهم إرادة الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يجوزه كالشافعي وبالاختياري المدح فإنه يعم الاختياري
وغيره، تقول: مدحت اللؤلؤة على حسنها دون حمدتها، وعلى جهة التبجيل مخرج لما كان على جهة الاستهزاء والسخرية
نحو " ذق انك أنت العزيز الكريم " ومتناول للظاهر والباطن، إذ لو تجرد الثناء على الجميل عن مطابقة الاعتقاد أو خالف
أفعال الجوارح لم يكن حمدا بل تهكم أو تمليح، وهذا لا يقتضى دخول الجوارح والجنان في التعريف لأنهما اعتبرا فيه
شرطا لا شطرا. وعرفا فعل ينبئ عن تعظيم المنعم على الحامد أو غيره، سواء كان ذكرا باللسان أم
اعتقادا ومحبة بالجنان أم عملا وخدمة بالأركان كما قيل:
أفادتكم النعماء منى ثلاثة * ولساني والضمير المحجبا
مورد اللغوي هو اللسان وحده، ومتعلقه يعم النعمة وغيرها، ومورد العرفي يعم اللسان وغيره، ومتعلقه تكون النعمة
وحدها، فاللغوي أعم باعتبار المتعلق وأخص باعتبار المورد والعرفي بالعكس. والشكر لغة هو الحمد عرفا، وعرفا صرف
4

العبد جميع ما أنعم الله تعالى به عليه من السمع وغيره إلى ما خلق لأجله، وهذا يكون لمن حفته العناية الربانية. قال الله
تعالى " وقليل من عبادي الشكور ". والمدح لغة الثناء باللسان على الجميل الاختياري مطلقا على جهة التعظيم. وعرفا ما يدل على
اختصاص الممدوح بنوع من الفضائل، فبين الحمد والشكر اللغويين عموم وخصوص من وجه، وبين الحمد والمدح اللغويين
عموم وخصوص مطلق. والشكر عرفا أخص من الحمد والمدح والشكر لغة. وجملة الحمد لله خبرية لفظا انشائية معنى لحصول
الحمد بالتكلم بها مع الاذعان لمدلولها ويجوز أن تكون موضوعة شرعا للانشاء، و الحمد مختص بالله تعالى كما إفادته الجملة
سواء أجعلت فيه أل للاستغراق كما عليه الجمهور وهو ظاهر أم للجنس كما عليه الزمخشري لأن لام لله للاختصاص فلا فرد
منه لغيره تعالى والا فلا اختصاص لتحقق الجنس في الفرد الثابت لغيره أم للعهد كالتي في قوله تعالى " إذ هما في الغار " كما
نقله ابن عبد السلام واجازه الواحدي على معنى ان الحمد الذي حمد الله به نفسه وحمده به أنبياؤه وأولياؤه
مختص به
والعبرة تحمد من ذكر فلا فرد منه لغيره، وأولى الثلاثة الجنس (البر) بفتح الياء الموحدة: أي المحسن، وقيل الصادق
فيما وعد، وقيل خالق البر بكسر الباء الذي هو اسم جامع للخير، وقيل اللطيف، وقيل هو الذي إذا عبد أثاب وإذا سئل
أجاب، وقيل هو العطوف على عباده ببره ولطفه (الجواد) بتخفيف الواو: وقد خرج الترمذي في جامعه حديثا مرفوعا ذكر
فيه عن الرب سبحانه وتعالى أنه قال: " وذلك انى جواد ماجد " ويجمع على أجود وأجاويد وجود (الذي جلت) أي
عظمت، والجليل: العظيم (نعمه) بمعنى انعامه: أي احسانه، وفي بعض النسخ نعمته بالافراد وهو الموافق لقوله تعالى
" وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " وأبلغ في المعنى، والنعمة بكسر النون وسكون العين الاحسان، وبفتح النون التنعم، وبضمها المسرة (عن الاحصاء) بكسر الهمزة: أي الضبط والإحاطة. قال تعالى " أحصاه الله ونسوه " (بالاعداد)
بفتح الهمزة جمع عدد: أي نعم الله تعالى لا يحصيها عدد للآية المتقدمة. فإن قيل الاعداد جمع قلة والشئ لا يضبطه العدد
القليل ويضبطه الكثير، ولذا قيل لو عبر بالتعداد الذي هو مصدر عد لكان أولى. أجيب بان جمع القلة المحلى بالألف
واللام يفيد العموم (المان) أي المنعم تفضلا منه لا وجوبا عليه، وقيل الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال، والحنان هو الذي
يقبل على من اعرض عنه، والمن والمنة يطلقان على النعمة. قال تعالى " لقد من الله على المؤمنين " الآية، ويطلقان على
تعداد النعم، تقول: فعلت مع فلان كذا وكذا. قال تعالى " لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى " والمان هنا يجوز أن يكون
مأخوذ من كل منهما لأنهما في حق الله تعالى صحيحان وإن كان الثنى في حق الانسان ذما (باللطف) وهو بضم اللام
وسكون الطاء: أي الرأفة والرفق، وهو من الله تعالى التوفيق والعصمة بان يخلق قدرة الطاعة في العبد. قال المصنف
في شرح مسلم وفتحهما لغة فيه.
(فائدة) قال السهيلي لما جاء البشير إلى يعقوب أعطاه في البشارة كلمات كان يرويها عن أبيه عن جده عليهم الصلاة
والسلام وهي: يا لطيفا فوق كل لطيف الطف بي في أموري كلها كما أحب ورضني في دنياي وآخرتي (والارشاد) مصدر
ارشده: أي وفقه وهداه (الهادي) أي الدال (إلى سبيل) أي طريق (الرشاد) أي الهدى والاستقامة: وهو الرشد بضم
الراء وسكون الشين وبفتحهما نقيض الغى (الموفق) أي المقدر (للتفقه) أي التفهم (في الدين) أي الشريعة، وهي ما شرعه
الله تعالى من الأحكام (من لطف به) أي أراد به الخير (واختاره) أي اصطفاه له (من العباد) أشار بذلك إلى قوله صلى
عليه وسلم " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " أي ويلهمه العمل به. وفي الاحياء ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " قليل من التوفيق خير من كثير من العلم " وفي بعض الرويات " العقل " بدل العلم، ولما كان التوفيق عزيزا لم يذكر
في القرآن الا في ثلاثة مواضع: قوله تعالى " وما توفيقي الا بالله ". و " إن يريدا اصلاحا يوفق الله بينهما ". و " إن أردنا
إلا إحسانا وتوفيقا ". قال القاضي الحسين و التوفيق المختص بالمتعلم أربعة أشياء: شدة العناية، ومعلم ذو نصيحة، وذكاء
5

القريحة، واستواء الطبيعة: أي خلوها من الميل إلى غير ذلك. والتفقه اخذ الفقه شيئا فشيئا. وهو لغة الفهم، واصطلاحا
العلم بالأحكام الشرعية العلمية المكتسب من أدلتها التفصيلية. موضوعه أفعال المكلفين من حيث عروض الأحكام لها.
واستمداده من الكتاب والسنة والاجماع والقياس وسائر الأدلة المعروفة. وفائدته امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه
المحصلان للفوائد الدنيوية والأخروية (أحمده) سبحانه وتعالى على ما أنعم به وتفضل (أبلغ حمد) أنهاه (وأكمله) أتمه
(وأزكاه) إنما (واشمله) أعمه. فإن قيل كيف يتصور ان يصدر منه عموم الحمد مع أن بعض المحمود عليه وهو النعم
لا يتصور حصرها كما مر. أجيب بان المراد ان ينسب عموم المحامد إليه تعالى على جهة الاجمال بان تعترف مثلا باشتماله
تعالى على جميع صفات الكمال، ولا شك ان هذا ينطبق عليه حد الحمد المذكور وهو أبلغ من حمده الأول لأنه حمد بجميع
الصفات برعاية الأبلغية وذاك بواحدة منها وهي المالكية وإن لم تراع الأبلغية بان يراد الثناء ببعض الصفات فذاك البعض
أعم من هذه الواحدة لصدقه بها وبغيرها الكثير، فالثناء بهذا أبلغ في الجملة أيضا، نعم الثناء بالأول من حيث تفصيله.
أي تعينه أوقع في النفس من هذا. فإن قيل كيف يكون أبلغ مع أن الأول افتتح به الكتاب العزيز. أجيب بان الحمد
فيه لمقام التعليم والتعيين له أولى (واشهد) أي اعلم وأبين (ان لا آله) أي لا معبود بحق في الوجود (الا الله
) الواجب
الوجود روى الترمذي باسناد صحيح عن إلى هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " كل خطبة ليس
فيها تشهد كاليد الجذماء " أي المقطوعة البركة. وقال صلى الله عليه وسلم " مفتاح الجنة لا آله الا الله ". وفي البخاري
" وقيل لوهب: أليس مفتاح الجنة لا آله الا الله؟ قال بلى ولكن ليس مفتاح الا وله أسنان، فإن جئت بمفتاح له أسنان
فتح لك ولا لم يفتح لك " أي مع السابقين، فإن من مات مسلما لا بد من دخوله الجنة، وذكر لابن عباس قول وهب
فقال: صدق وانا أخبركم عن الأسنان ما هي فذكر الصلاة والزكاة وشرائع الاسلام (الواحد) أي الذي لا تعدد له فلا ينقسم
بوجه ولا نظير له فلا مشابهة بينه وبين غيره بوجه (الغفار) اسم مبالغة من الغفر: وهو الستر: أي الستار لذنوب من أراد
من عباده المؤمنين فلا يظهرها بالعقاب عليها، ولم يقل بدل الغفار القهار استبشارا وترجيا، ولان معنى القهر مأخوذ مما
قبله إذ من شان الواحد في ملكه القهر.
(فائدة) قال الدميري: في كلمة لا آله الا الله اسرار: منها ان جميع حروفها جوفية ليس فيها حرف شفهي إشارة إلى
الاتيان بها من خالص الجوف وهر القلب: أي ويدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم " أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا آله
الا الله خالصا مخلصا من قلبه ". ومنها انه ليس فيها حرف معجم إشارة إلى التجرد من كل معبود سواه: أي ويدل
لذلك قوله صلى الله عليه وسلم " اتاني جبريل فبشرني ان من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت وان زنى
وان سرق؟ قال وان زنى وان سرق ". ومنها انها اثنا عشر حرفا كشهور السنة منها أربعة حرم: وهي الجلالة حرف
فرد وثلاثة سرد وهي أفضل كلماتها كما أن الحرم أفضل السنة، فمن قالها مخلصا كفرت عنه ذنوب سنة: أي كما روى عن
بعض السلف. ومنها ان الليل والنهار أربعة وعشرون ساعة وهي ومحمد رسول الله أربعة وعشرون حرفا كل حرف منها
يكفر ذنوب ساعة. (اشهد) أي واعلم وأبين (ان محمدا عبده ورسوله) ثبت هذا اللفظ في صحيح مسلم في التشهد،
ومحمد علم على نبينا صلى الله عليه وسلم منقول من اسم مفعول المضعف سمى به بالهام من الله تعالى بأنه يكثر
حمد الخلق له
محمدا وليس من أسماء آبائك ولا قومك؟ قال رجوت ان يحمد في السماء والأرض وقد حقق الله رجاءه كما سبق في علمه.
قال ابن العربي لله تعالى الف اسم ولنبيه صلى الله وسلم كذلك، ووصف بالعبودية لأنه ليس للمؤمن صفة أتم ولا أشرف
من العبودية كما قاله أبو علي الدقاق، قيل:
لا تدعني الا بيا عبدها * فإنه أشرف أسمائي
6

ولهذا دعى به النبي صلى الله عليه وسلم في أشرف الموطن كما لحمد لله الذي انزل على عبده الكتاب - سبحان الذي اسرى بعبده " والرسول
أخص من النبي، فإنه انسان أوحى إليه بشرع للعمل والتبليغ، والنبي فقط انسان أوحى إليه بشرع للعمل، خاصة، فالأول
نبي ورسول فكل رسول نبي ولا عكس (المصطفى) اسم مفعول من الصفوة وهو الخلوص. روى مسلم عن واثلة بن
الأسقع ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم
واصطفاني من بني هاشم " (المختار) اسم مفعول أصله مختير، اختاره الله تعالى على سائر خلقه ليدعوهم إلى دين الاسلام
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم " انا سيد ولد آدم ولا فخر " وحذف المصنف رحمه الله تعالى المفضل ايذانا منه بأنه أفضل المخلوقات
من أنس وجن وملك وهو كذلك لأن حذف المعمول يؤذن بالعموم وقرن الثناء على الله بالثناء على نبيه (صلى الله عليه وسلم)
لقوله تعالى " ورفعنا لك ذكرك " أي، لا أذكر وتذكر معي، كما في صحيح ابن حبان، ولقول الشافعي رضي الله عنه
أحب ان يقدم المرء بين يدي خطبته: أي بكسر الخاء وكل أمر طلبه غيرها حمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم. وجمع بين الصلاة والسلام عليه خروجا من الكراهة إذ يكره افراد الصلاة عن السلام كما قاله في
الأذكار: أي وكذا عكسه. والصلاة من الله رحمة مقرونة بتعظيم، ومن الملائكة إذ يكره استغفار ومن الآدميين أي ومن الجن
تضرع ودعاء، قاله الأزهري وغيره. واختلف في وقت وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم على أقوال: أحدها
كل صلاة، واختاره الشافعي في التشهد الأخير منها. والثاني في العمر مرة. والثالث كلما ذكر. واختاره الحليمي من
الشافعية، والطحاوي من الحنفية، واللخمي من المالكية، وابن بطة من الحنابلة. الرابع في كل مجلس. والخامس في الأول
كل دعاء وآخره لقوله صلى الله عليه وسلم " لا تجعلوني " كقدح (1) الراكب اجعلوني في أول كل دعاء وفي وسطه وفي آخره "
رواه الطبراني عن جابر (وزاده فضلا وشرعا لديه) أي عنده. والفضل: ضد النقض. والشرف: العلو. فإن قيل كيف
تطلب له زيادة وهو صلى الله عليه وسلم في غاية الكمال كما فيه:
وأحسن منك لم بر قط عيني * * وأجمل منك لم تلد النساء
خلقت مبرأ من كل عتب * * كأنك قد خلقت كما تشاء
أجيب بان قدرة الله تعالى شاملة لكل ممكن فيرقى الكامل من رتبة عليه فهو ابدا في علو.
(فائدة): استنبط بعض العلماء من محمد ثلاثمائة وأربعة عشر رسولا فقال فيه ثلاث ميمات وإذا بسطت كلا منها قلت فيه
م ى م وعدتها بحساب الجمل الكبير تسعون فيحصل منها مائتان وسبعون، وإذا بسطت الحاء والدال قلت: دال
بخمسة وثلاثين، وحاء بتسعة، فالجملة ما ذكر، والسم واحد، فتم عدد الرسل كما قيل إنهم ثلاثمائة وخمسة عشر، وأولو العزم
منهم خمسة كما قيل فيهم: محمد إبراهيم موسى كليمه * * فعيسى فنوح هم أولو العزم فاعلم
(اما بعد) أي بعد ما ذكر من الحمد والتشهد والصلاة، وهذه الكلمة يؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر ولا يجوز
الاتيان بها في أول الكلام، ويستحب الاتيان بها في الخطب والمكاتبات اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد
عقد البخاري لها بابا في كتاب الجمعة وذكر فيه أحاديث كثيرة. وفي المبتدى بها أقول: أحدها داود صلى الله عليه وسلم
وانها فصل الخطاب المشار إليه في الآية. والثاني فس بن ساعدة. والثالث كعب بن لؤي. والرابع يعرب بن قحطان.
والخامس سحبان بن وائل. ولذلك قال: لقد علم اليمانون انني * * إذا قلت اما بعد أنى خطيبها
والمشهور بناء بعد هنا على الضم فإن لها أربع حالات: إحداها أن تكون مضافة فتعرب إما نصبا على الظرفية أو خفضا
بمن. ثالثها: ان يحذف المضاف إليه وينوى ثبوت لفظه فتعرب الاعراب المذكور ولا تنون لنية الإضافة. ثالثها: ان

(1) قوله قدح: هو الاناء الذي يؤكل فيه: أي لا تؤخروني في الذكر، لأن الراكب يعلق قدحه في آخر رحله عند فراغه من ترحاله
يجعله خلفه ا ه‍ نهاية.
7

تقطع عن الإضافة لفظا ولا ينوى المضاف إليه فتعرب أيضا الاعراب المذكور ولكن تنون لأنها حينئذ اسم تام كسائر
الأسماء النكرات. ورابعها: ان يحذف المضاف إليه وينوى معناه دون لفظه فتبنى على الضم، ودخلت الفاء في حيزها
لتضمن اما معنى الشرط، والعامل فيها اما عند سيبويه لنيابتها عن الفعل، والفعل نفسه عند غيره، والأصل مهما يكن من
شئ بعد (فإن الاشتغال بالعلم) المعهود شرعا الصادق بالفقه والحديث والتفسير وما كان آلة لذلك كالنحو والصرف،
فلا يندرج في ذلك معرفة الله تعالى ولا غيرها مما يعتبر تقديمه (من أفضل الطاعات) لأنها مفروضة ومندوبة، والمفروض
أولى من المندوب، والاشتغال بالعلم من المفروض. وقد تظاهرت الآيات والاخبار والآثار وتواترت وتطابقت الدلائل
الصريحة وتوافقت على فضيلة العلم والحث على تحصيله والاجتهاد في اقتباسه وتعليمه. قال تعالى " هل يستوى الذين يعلمون
والذين لا يعلمون " وقال تعالى " وقل رب زدني علما " وقال تعالى " إنما يخشى الله من عباده العلماء " وقال تعالى " يرفع
الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات " والآيات في ذلك كثيرة معلومة، وتقدم قوله صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيرا
يفقهه في الدين " رواه البخاري ومسلم. وعن ابن مسعود رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا حسد الا في
اثنتين: رجل آتاه الله ما لا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويعلمها " والمراد بالحسد
الغبطة، وهي ان يتمنى مثله. وعن سهل بن سعد رضى الله تعالى عنه ان رسولا الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي رضى الله تعالى عنه
" فوالله لأن يهدى بك الله رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " وعن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم " من دعا إلى هدى كان له من الاجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة
كان عليه من الاثم مثل آثام من تبعه لا ينقض ذلك من آثامهم شيئا ". وعن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه أيضا ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح
يدعو له " وعنه أيضا قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول والدنيا ملعونة ملعون ما فيها الا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما "
وعن أبي الدرداء رضى الله تعالى عنه قال: سمعت رسول الله يقول: " من سلك طريقا يبتغى فيه علما سهل الله له
طريقا إلى الجنة، وان الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع، وان العالم ليستغفر له كل من في
السماوات ومن
في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وان العلماء ورثة الأنبياء،
فمن اخذه اخذ بحظ وافر ". وعن إمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ".
ثم قال صلى الله عليه وسلم " ان الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرض حتى النملة في حجرها، وحتى الحوت ليصلون
على معلمي الناس الخير " والأحاديث في الباب كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية. ومن الآثار عن علي رضى الله تعالى عنه:
كفى بالعلم شرفا ان يدعيه من لا يحسنه، ويفرح به إذا نسب إليه، وكفى بالجهل ذما ان يتبرأ منه من هو فيه كما قيل:
فلله در العلم ومن به تردى، وتعسا للجهل ومن في أوديته تردى. وقال أبو مسلم الخولاني: مثل العلماء في الأرض مثل
النجوم في السماء إذا برزت للناس اهتدوا بها، وإذا خفيت عليهم تحيروا. وعن معاذ رضى الله تعالى عنه: تعلم العلم فإن
تعلمه لك حسنة، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا بعلمه صدقة، وبذله لأهله
قربة. وقال على رضى الله تعالى عنه: العلم خير من المال، العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم
يزكو بالانفاق. وقال الشافعي رضى الله تعالى عنه: من لا يحب العلم لا خير فيه، فلا يكن بينك وبينه معرفة ولا صداقة
طلب العلم، يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم " إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا، قالوا يا رسول الله وما رياض الجنة؟ قال حلق الذكر "
قال عطاء: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام كيف تشترى وتبيع وتصلى وتصوم وتنكح وتطلق وتحج وأشباه
ذلك. وقال: من أراد الدنيا فعليه بالعلم، ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم: أي فإنه يحتاج إليه في كل منهما. وعن ابن عمر
رضي الله عنهما قال: مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة " يدل لذلك قوله صلى الله عليه وسلم " يسير الفقه خير من كثير
8

العبادة " وأقاويلهم في ذلك كثيرة لا تحصى. ثم اعلم أن ما ذكرناه في فضل العلم إنما هو فيمن طلبه مريدا به وجه الله تعالى
فمن اراده لغرض دنيوي كمال أو رياسة أو منصب أو جاه أو شهرة أو استمالة الناس إليه أو نحو ذلك فهو مذموم. قال
تعالى " من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من
نصيب "،
وقال صلى الله عليه وسلم " من تعلم علما ينتفع به في الآخرة يريد به غرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة " أي لم يجد ريحها. وقال صلى الله عليه وسلم
" من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يكاثر به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوأ مقعده من النار " وقال صلى الله عليه وسلم " أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه " وقال صلى الله عليه وسلم " شرار الناس شرار العلماء " وقال
علي رضى الله تعالى عنه: يا حملة العلم اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم
لا يجاوز تراقيهم يخالف عملهم علمهم وتخالف سريرتهم علا نيتهم يجلسون حلقا يباهى بعضهم بعضا حتى أن الرجل ليغضب
على جليسه ان يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى. وقال سفيان: ما ازداد عبد
علما فازداد في الدنيا رغبة الا ازداد من الله بعدا. والآثار في ذلك كثيرة، فنسأل الله تعالى أن يوفقنا بفضله وان يحفظنا
من الشيطان وجنده (و) إذا كان الاشتغال بالعلم بهذه المنقبة العظيمة، فيكون الاشتغال به من (أولى ما أنفقت) بالبناء
للمفعول (فيه) أي تعلمه وتعليمه (نفائس الأوقات) أي الأوقات النفسية، إذ الأوقات كلها كذلك لأنه لا يمكن تعويض
ما يفوت منها بلا عبادة، وأضف إليها صفتها للسجع، فهو من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، كقولهم: جرد قطيفة أي قطيفة مجرودة، أو من إضافة الأعم إلى الأخص كمسجد الجامع، أو ان المراد بنفائس الأوقات أزمنة الصحة والفراغ
فتكون الإضافة فيه مخصصة. قال في الدقائق: يقال في الخير أنفقت، وفي الباطل ضيعت وخسرت وغرمت والتعبير
بالانفاق مجاز، لأن انقضاء لأوقات لا يتوقف على بذله. لكنه لما اختار ان يوقع فيه الشئ دون غيره عبر عنه بالانفاق
ونفائس جمع لنفيسة. قال الأسنوي: ولا يصح أن يكون جمعا لنفيس لما تقرر في عليم العربية، وحينئذ فيكون المصنف
قد وصف الأوقات بالنفيسة ثم جمع النفيسة على النفائس، ولو عبر بما مفرده مؤنث كالساعات ونحوها لكان أظهرا
قال الشارح ولا يصح عطف أولى على من أفضل للتنافي بينهما على هذا التقدير: أي لو قدر عطف أولى على من أفضل
كان كونه أولى ما أنفقت فيه نفائس الأوقات منافيا لكونه من أفضل الطاعات لأن كونه أولى يستلزم كونه أفضل وكونه
من أفضل يستلزم كونه من أولى لا كونه أولى فالإشارة بهذا التقدير إلى تقدير عطف الولي على من أفضل (وقد أكثر
أصحابنا) أي اتباع الشافعي رضى الله تعالى عنه، فالصحبة هنا الاجتماع في اتباع الإمام المجتهد فيما يراه من الأحكام فهو
مجاز سببه الموافقة بينهم وشدة ارتباط بعضهم ببعض كالصاحب حقيقة (رحمهم الله) تعالى دعا لهم (من التصنيف) مصدر
صنف مما هو فيه عن الاخر، فالفقيه يفرد مثلا العبادات عن المعاملات ونحوها وكذلك الأبواب. قيل أول من
صنف الكتب الربيع بن صبيح. وقيل سعد بن أبي عروبة. وقيل ابن جريج (من المبسوطات) في الفقه، وهي ما كثر
لفظها ومعناها (والمختصرات) فيه، وهي ما قل لفظها وكثر معناها. قال الخليل: الكلام يبسط ليفهم، ويختصر ليحفظ
(وأتقن) أي احكم (مختصر المحرر) أي المهذب المتقى: وهو هنا علم الكتاب (للإمام) الحبر الهمام: عبد الكريم إمام الدين
(أبى القاسم) اعترض على تكنيته له بابى القاسم فإنه يحرم كما قاله الشافعي رضى الله تعالى عنه ولو لغير من اسمه محمد أو لم يكن في زمنه صلى الله عليه وسلم. وقيل إنما يحرم على من اسمه محمد، ورجحه الإمام الرافعي وقيل: يختص ذلك بزمنه صلى الله عليه وسلم
ورجحه المصنف، فذلك جائز على ما رجحاه: لكن المشهور في المذهب الأول (الرافعي) قال في الدقائق: هو منسوب
إلى رافعان بلدة معروفة من بلاد قزوين، وكان إماما بارعا في العلوم والمعارف والزهد والكرامات واللطائف لم يصنف
في المذهب مثل كتابه شرح ا ه‍. واعترضه قاضى القضاة: جلال الدين القزويني بأنه لا يعرف ببلاد قزوين بلدة يقال لها
9

رافعان، بل هو منسوب إلى جد من أجداده، وربما يقال: ان من حفظ حجة على من لم يحفظ. وقال الشارح منسوب
إلى رافع بن خديج الصحابي كما وجد بخطه فيما حكى (رحمه الله تعالى) ورضى عنه (ذي التحقيقات) الكثيرة في العلم
والتدقيقات الغزيرة في الدين: ذي الخاطر العاطر، والفهم الثاقب والمفاخر والمناقب، كان من بيت علم: أبوه وجده
وجدته. قيل إنها تفتى النساء. توفى سنة ثلاث أو أربع وعشرين وستمائة، وهو ابن ست وستين سنة، وكان
إذا خرج من المسجد أضاءت له الكروم. حكى ان شجرة أضاءت له لما فقد وقت التصنيف ما يسرحه عليه. ومن
اشعاره رضي الله عنه ورحمه وعفا عنه:
أقيما على باب الكريم أقيما * * ولا تنيا في ذكره فتهيما
هو الرب من يقرع على الصدقة بابه * * يجده رؤوفا بالعباد رحيما
فإن قيل ليس فيما ذكره المصنف كبير مدح لأن ذلك تحقيقة: وهي المرة من التحقيق وهو جمع وسلامة وهو للقلة
عند سيبويه ولو اتى بجمع كثرة لكان انسب. وأجيب بما تقدم في الاعداد من أن جمع القلة المحلى بالألف واللام يفيد العموم.
(فائدة) من كلام سيدي أبى المواهب يعرف منها الفرق بين التحقيق والتدقيق. قال: اثبات المسألة بدليلها تحقيق واثباتها
بدليل آخر تدقيق، والتعبير عنها بفائق العبارة الحلوة برقيق، وبمراعاة علم المعاني والبديع في تركيبها تنميق، والسلامة
فيها من اعترض الشرع توفيق (وهو) أي المحرر (كثير الفوائد) جمع فائدة، وهي ما استفيد من علم أو مال، وحق له
ان يصفه بذلك فإنه بحر لا يدرك قعره ولا ينزف غمره (عمدة) أي يعتمد عليه (في تحقيق المذهب) أي ما ذهب إليه الشافعي
وأصحابه من الأحكام في المسائل مجازا عن مكان الذهاب (معتمد للمفتي) أي يعتمد عليه ويرجع عند الحاجة إليه والمفتى
وارث الأنبياء وموضح الدلالة والمبين بجوابه حرام الشرع وحلاله، ويكفيه هذا الوصف تعظيما له وجلالة (وغيره) أي
المفتى ممن يصنف أو يدرس (من أولى) أي أصحاب (الرغبات) بفتح الغين جمع رغبة بسكونها. قال تعالى " ويدعوننا
رغبا ورهبا " تقول: رغبت عن الشئ بركته، ورغبت فيه أردته، وهذا من المصنف رحمه الله تعالى دليل على أنصافه
في العلم. قال قال صلى الله عليه وسلم " إنما يعرف الفضل لأهل الفضل ذو الفضل ". وقال ابن عبد البر: من بركة العلم وآدابه الانصاف
وقال مالك: ما في زماننا أقل من الانصاف. قال الدميري هذا في زمان مالك فكيف بهذا الزمان: أي وما بعده الذي
هلك فيه كل هالك (وقد التزم مصنفه رحمه الله ان ينص) في مسائل الخلاف (على ما صححه) فيها (معظم) أي أكثر
(الأصحاب) لأن نقل المذهب من باب الرواية فيرجح بالكثرة: قاله تلميذ المصنف ابن العطار: ولكن إنما يرجع إلى
قول الأكثر إذا لم يظهر دليل بخلافه، لأن العدة تقضى بان الخطأ إلى القليل أقرب (ووفى) بالتخفيف والتشديد (بما التزمه)
حسبما اطلع عليه فلا ينافي ذلك استدراكه عليه التصحيح في بعض المواضع الآتية، لكن قال السبكي: ان من فهم
عن الرافعي انه لا ينص الا ما عليه المعظم فقد أخطأ فهمه فإنه إنما قال في خطبة المحرر انه ناص على ما رجحه المعظم من
الوجوه والأقاويل ولم يقل انه لا ينص الا على ذلك، وكيف وقد صرح في مواضع كثيرة بخلاف قولهم كقوله: إن موضع
التحذيف من الوجه، وإن الجلوس بين السجدتين ركن قصير، ومنع النظر إلى وجه الحرة. كفيها، والأكثرون على خلاف
ذلك. ثم إنه قد يجزم في المحرر بشئ وهو بحث للإمام وغيره كما سيأتي في الجمعة في انصراف المعذور إذا حضر الجامع
وفي الزكاة في العلف المؤثر، بل الكتب التي لم يقف عليها مشحونة بما لا يحصيه الا الله، من النصوص والمسائل التي لم
يذكرها، وقد ذكر ابن الرفعة من ذلك ما يقتضى للناظر العجب من كثرته (وهو) أي ما التزمه (من أهم أو) هو (أهم
المطلوبات) لطالب الفقه من الوقوف على المصحح من الخلاف في مسائله وكان قائلا يقول للمصنف لما كان المحرر بهذا
الوصف فلأي شئ تختصره فاعتذر عن ذلك بقوله (لكن في حجمه) أي المحرر (كير (وحجم الشئ ملمسه الناتئ
10

تحت اليد، والكبر نقيض الصغر (يعجز عن حفظه أكثر أهل العصر) الراغبين في حفظ مختصر في الفقه لأن الهمم قد
تقاصرت عن حفظ المطولات بل والمختصرات وصارت على النذر اليسير مقتصرات (الا بعض أهل العنايات) من أهل
العصر، وهو سهل الله تعالى عليه ذلك فلا يكبر: أي يعظم غليه حفظه (فرأيت) من الرأي في الأمور المهمة لامن
الرؤية (اختصاره) بان لا يفوت شئ من مقاصده. والاختصار ايجاز اللفظ مع استيفاء المعنى، قيل ما دل قليله على كثيره
(في نحو نصف حجمه) هو صادق بما وقع في الخارج من الزيادة على النصف بيسير بل هو إلى ثلاثة أرباعه أقرب كما قيل
ولعله ظن ذلك حين شرع في اختصاره ثم احتاج إلى زيادة. وقيل إن مراده بذلك ما يتعلق بالمحرر دون الزوائد، ونون
النصف مثلثة وفيه لغة رابعة نصيف بزيادة ياء وفتح أوله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم " قوله أنفق أحدكم ملء الأرض ما بلغ مد أحدهم
ولا نصيفه " (وليسهل حفظه) أي المختصر لكل من يرغب في حفظ مختصر، وتقدم عن الخليل أنه قال: الكلام يبسط
ليفهم ويختصر ليحفظ. والحفظ نقيص النسيان (مع ما) أي مصحوبا ذلك المختصر بما (أضمه إليه) في أثنائه
(إن شاء الله
تعالى) وبذلك قرب من ثلاثة أرباع أصله كما مر (من الأصل) أي المحرر (محذوفات) أي متروكات اكتفاء بذكرها في المبسوطات
(ومنها مواضع يسيرة) نحو الخمسين موضعا اذكرها على المختار (ذكرها في المحرر على خلاف المختار في المذهب) الآتي
ذكره فيه مصححا (كما ستراها إن شاء الله تعالى) في خلافها له نظرا للمدرك (واضحات) فذكر المختار فيها هو المراد ولو
عبر به أولا كما قدرته كان أولى (ومنها ابدال ما كان من ألفاظه غريبا) أي غير مألوف الاستعمال (أو موهما) أي موقعا
في الوهم، أي الذهن (خلاف الصواب) أي الاتيان بدل ذلك (بأوضح واخصر منه بعبارات جليات) أي ظاهرات لاخفاء
فيها في أداء المراد، وادخال الباء بعد لفظ الابدال على الماتى به موافقة للاستعمال العرفي وإن كان خلاف المعروف لغة
من ادخالها على المتروك، فلو قال ومنها ابدال الأوضح والأخصر بما كان من ألفاظه غريبا أو موهما خلاف الصواب كان
أولى نحو: أبدلت الجيد بالردئ: اخذت الجيد بدل الردئ، وسيأتي تحرير ذلك في صفة الصلاة إن شاء الله تعالى.
(فائدة) قال الجوهري: الابدال قوم صالحون لا تخلو الدنيا منهم إذا مات منهم واحد ابدل الله تعالى مكانه آخر. وقال
على رضى الله تعالى عنه: الابدال بالشام والنجباء بمصر والعصائب بالعراق: أي الزهاد، وعلامة الابدال ان لا يولد لهم
وكان منهم حماد بن زيد تزوج بسبعين امرأة فلم يولد له (ومنها بيان القولين والوجهين والطريقين والنص ومراتب الخلاف)
قوة وضعفا في المسائل (في جميع الحالات) هذا الاصطلاح لم يسبق إليه المصنف أحد، وهو اصطلاح حسن بخلاف المحرر
فإنه تارة يبين نحو أصح القولين واظهر الوجهين، وتارة لا يبين نحو الأصح والأظهر. فإن قيل لم لم يوف المصنف بذلك في كثير من المواضع كما ستقف إن شاء الله تعالى على كثير من ذلك؟ وقد قال الأسنوي: ما ادعاه من بيان ذلك في جميع
المسائل مردود، فاما بيان القولين والوجهين، فيرد عليه ما عبر فيه بالمذهب فإنه لا اصطلاح له فيه كما سيأتي. واما بيان
الطريقين والنص فلم يستوعب بهما المسائل والأقارب. واما مراتب الخلاف فيرد عليه فيه أنواع سلكها المصنف في كتابه
واما ما عدا ذلك فقد استوفاه وإن كان بعضه مردودا اه‍ ملخصا. أجيب بان مراده ما ذكره فلا اعتراض عليه
لأنه سيأتي
ما لم يبين فيه مراتب الخلاف كقوله: وحيث أقول، وقيل كذا فهو وجه ضعيف والصحيح أو الأصح خلافه، أو ان
11

مراده في أغلب الأحوال بحسب طاقته وربما يكون هذا أولى (فحيث أقول في الأظهر أو المشهور فمن القولين أو الأقوال)
للإمام الشافعي رضى الله تعالى عنه (فإن قوى الخلاف) لقوة مدركه (قلت الأظهر) المشعر بظهور مقابلة (والا فالمشهور) الشعر بغرابة مقابلة لضعف مدركه (حيث أقول الأصح أو الصحيح فمن الوجهين أو الأوجه) لأصحاب يستخرجونها
من كلام الشافعي رضى الله تعالى عنه فيستخرجونها على أصله ويستنبطونها من قواعده وقد يجتهدون في بعضها وإن لم يأخذوه
من أصله (فإن قوى الخلاف قلت الأصح) المشعر بصحة مقابلة (والا) أي وإن لم يقو الخلاف (فأ) قول (الصحيح) المشعر
بفساد مقابله لضعف مدركه، ولم يعبر بذلك في الأقوال تأدبا مع الإمام الشافعي رضى الله تعالى عنه كما قال فإن الصحيح
منه مشعر بفساد مقابله كما مر (وحيث أقول المذهب فمن الطريقين أو الطرق) وهي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب كان يحكى بعضهم في المسألة قولين أو وجهين لمن تقدم ويقطع بعضهم بأحدهما. قال الأسنوي: اعلم أن مدلول هذا
الكلام ان المفتى به هو ما عبر عنه بالمذهب. واما كون الراجح طريقة القطع أو الخلاف وكون الخلاف قولين أو وجهين
فإنه لا يؤخذ منه لأنه لا اصطلاح له فيه ولا استقراء أيضا يدل على تعيين واحد منهما حتى يرجع إليه، بل الراجح تارة
يكون طريقة القطع وتارة طريقة الخلاف فاعلمه فانى استقريته (وحيث أقول النص) أي المنصوص من باب اطلاق المصدر
على اسم المفعول (فهو نص) الإمام (الشافعي رحمه الله) تعالى. وسمى ما قاله نصا لأنه مرفوع القدر لتنصيص الإمام عليه
أو لأنه مرفوع إلى الإمام، من قولك نصصت الحديث إلى فلان: إذا رفعته إليه (ويكون هناك وجه ضعيف) أي خلاف
الراجح لا المصطلح عليه قبل ذلك، وهو المذكور عند قوله، الأصح أو الصحيح أو الأظهر أو المشهور. قال الأسنوي
ويدل عليه قوله (أو قول مخرج) فإن القول المخرج ليس فيه تعريض لشئ من ذلك. على هذا فليس في هذا القسم بيان
مراتب الخلاف في القوة والضعف اه‍. قد قدمنا انه يبين ذلك في أغلب الأحوال لا مطلقا. والتخريج ان يجيب الشافعي
بحكمين مختلفين في صورتين متشابهتين ولم يظهر ما يصلح للفرق بينهما فينقل الأصحاب جوابه في كل صورة إلى الأخرى
فيحصل في كل صورة منهما قولان بالنقل والتخريج. والغالب في مثل هذا عدم إطباق الأصحاب على التخريج بل منهم
من يخرج ومنهم من يبدي فرقا بين الصورتين. والأصح ان القول المخرج لا ينسب للشافعي لأنه ربما روجع فيه، فذكر
فارقا، قاله المصنف في مقدمة شرح المهذب وفي الروضة في القضاء.
وإذ قد ذكر المصنف هنا الشافعي رضى الله تعالى عنه، فلنتعرض إلى طرف من اخباره تبركا بها فنقول: هو حبر
الأمة وسلطان الأئمة: محمد أبو عبد الله بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب عبيد بن عبد يزيد بن هاشم
ابن المطلب بن عبد مناف جد النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صلى الله عليه وسلم: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم
بتن عبد مناف. هذا نسب عظيم كما قيل:
نسب كأن عليه من شمس الضحى * * نورا ومن فلق الصباح عمودا
ما فيه إلا سيد من سيد * * حاز المكارم والتقى والجودا
وشافع بن السائب هو الذي ينسب إليه الشافعي، لقى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع، وأسلم أبوه السائب يوم فإنه كان
صاحب راية بني هاشم، فاسر في جملة من أسر وفدى نفسه ثم أسلم. عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب
ابن لؤي بالهمزة وتركه ابن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد
12

بن عدنان. والاجماع منعقد على هذا النسب إلى عدنان، وليس فيما بعده إلى آدم طريق صحيح فيما ينقل. وعن ابن
عباس رضى الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم " كان إذا انتهى في النسب إلى عدنان أمسك، ثم يقول كذب النسابون " أي
بعده. قال تعالى " وقرونا بين ذلك كثيرا ". ولد رضى الله تعالى عنه على الأصح بغزة، التي توفى فيها هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل بعسقلان. وقيل بمنى سنة خمسين ومائة، ثم حمل إلى مكة وهو ابن سنتين ونشأ بها، وحفظ وحفظ القران وهو
ابن سبع سنين، والموطأ وهو ابن عشر، وتفقه على مسلم بن خالد مفتى مكة المعروف بالزنجي لشدة شقرته، فهو من
باب أسماء الأضداد، واذن له في الافتاء وهو ابن خمس عشرة سنة مع أنه نشأ يتيما في حجر أمه في قلة من العيش وضيق
حال، وكان في صباه يجالس العلماء، ويكتب ما يستفيده في العظام ونحوها حتى ملا منها خبايا، ثم رحل إلى مالك بالمدينة
ولازمه مدة، ثم قدم بغداد سنة خمس وتسعين ومائة فأقام بها سنتين واجتمع عليه علماؤها ورجع كثير منهم عن مذاهب
كانوا عليها إلى مذهبه وصنف بها كتابه القديم، ثم عاد إلى مكة فأقام بها مدة ثم عاد إلى بغداد سنة ثمان وتسعين فأقام بها
شهرا، ثم خرج إلى مصر فلم يزل بها ناشرا للعلم ملازما للاشتغال بجامعها العتيق إلى أن اصابته ضربة شديدة فمرض بسببها
أياما على ما قيل، ثم انتقل إلى رحمة الله تعالى، وهو قطب الوجود يوم الجمعة سلخ رجب سنة أربع ومائتين، ودفن
بالقرافة بعد العصر من يومه، وانتشر علمه في جميع الآفاق، وتقدم على الأئمة في الخلاف والوفاق، فإنه أول من تكلم في أصول الفقه، وأول من قرر ناسخ الأحاديث ومنسوخها، وأول من صنف في أبواب كثيرة من الفقه معروفة، وعليه
حمل الحديث المشهور " عالم قريش يملأ الأرض علما ". قال للربيع أنت راوية كتبي فعاش بعده قريبا من سبعين سنة
حتى صارت الرواحل تشد إليه من أقطار الأرض لسماع كتب الشافعي، ومع هذا قال: وددت ان لو اخذ عنى هذا العلم
من غير أن ينسب إلى منه شئ. وكان رضي الله عنه مجاب الدعوة لا تعرف له كبيرة ولا صغيرة رضى الله
تعالى عنه:
أمت مطامعي فأرحت نفسي * * فإن النفس ما طمعت تهون
وأحييت القنوع وكان ميتا * * ففي احيائه عرضى مصون
إذا طمع يحل بقلب عبد * * علته أنت جميع امرك
وإذا قصدت لحاجة * * فاقصد لمعترف بقدرك
وقد أفرد بعض أصحابه في فضله وكرمه ونسبه واشعاره كتبا مشهورة، وفيما ذكرناه تذكرة لأولي الألباب، ولولا خوف
الملل لشحنت كتابي هذا منها بأبواب. (حيث أقول الجديد فالقديم خلافه أو القديم أو في قول قديم فالجديد خلافه)
الجديد ما قاله الشافعي بمصر تصنيفا أو إفتاء، ورواته البويطي والمزني والربيع المرادي وحرملة ويونس بن عبد الأعلى
وعبد الله بن الزبير الملكي ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم الذي انتقل أخيرا إلى مذهب أبيه وهو مذهب مالك، وغير
هؤلاء، والثلاثة الأول هم الذين تصدوا لذلك وقاموا به، والباقون نقلت عنهم أشياء محصورة على تفاوت بينهم والقديم
ما قاله بالعراق تصنيفا: وهو الحجة أو أفتى به، ورواة جماعة أشهرهم: الإمام أحمد بن حنبل والزعفراني والكرابيسي
وأبو ثور. وقد رجع الشافعي عنه وقال: لا اجعل في حل من رواه عنى. وقال الإمام لا يحل عد القديم من المذهب وقال
الماوردي في أثناء كتاب الصداق غير الشافعي جميع كتبه القديمة في الجديد الا الصداق فإنه ضرب على مواضع منه وزاد مواضع. واما ما وجد بين مصر والعراق، فالتأخر جديد، والمتقدم قديم، وإذا كان في المسألة قولان: قديم وجديد
فالجديد هو المعمول به الا في مسائل يسيرة نحو السبعة عشر أفتى فيها بالقديم. قال بعضهم: وقد تتبع ما أفتى فيه بالقديم
فوجد منصوصا عليه في الجديد أيضا، وإن كان فيها قولان جديدان فالعمل بآخرهما، فإن لم يعلم فبما رجحه الشافعي،
فإن قالهما في وقت واحد ثم عمل بأحدهما كان ابطالا للاخر عند المازني، وقال غيره: لا يكون ابطالا بل ترجيحا وهذا
13

أولى، واتفق ذلك للشافعي في نحو ستة عشر مسألة، وإن لم يعلم هل قالهما أو مرتبا لزم البحث عن أرجحهما بشرط
الأهلية، فإن أشكل توقف فيه. ونبه في شرح المهذب هنا على شيئين: أحدهما ان افتاء الأصحاب بالقديم في بعض المسائل
محمول على أن اجتهادهم أداهم إلى القديم لظهور دليله، ولا يلزم من ذلك نسبته إلى الشافعي. قال وحينئذ فمن ليس اهلا
للتخريج لها يتعين عليه العمل والفتوى بالجديد، ومن كان اهلا للتخريج والاجتهاد فالمذهب يلزمه اتباع ما اقتضاه الدليل
في العمل والفتوى به مبينا ان هذا رأيه وان مذهب الشافعي فقد صح أنه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي. الثاني ان قولهم
القديم مرجوع عنه وليس بمذهب الشافعي محلة في قديم نص الجديد على خلافه: اما قديم لم يتعرض في الجديد لما يوافقه
ولا لما يخالفه فإنه مذهبه (وحيث أقول وقيل كذا فهو وجه ضعيف. والصحيح أو الأصح خلافه) لأن الصيغة تقتضي
ذلك (وحيث أقول وفي قول كذا فالراجح خلافه) لأن اللفظ يشعر به، ويتبين قوة الخلاف وضعه من مدركه، فمراده
بالضعيف هنا خلاف الراجح، يدل عليه انه جعل مقابلة الأصح تارة والصحيح أخرى فلا يعلم مراتب الخلاف من هذين
ولا من اللذين قبلهما، وتقدم الجواب عن ذلك (ومنها مسائل نفيسة أضمها إليه) أي المختصر في مظانها (ينبغي ان لا يخلى
الكتاب) أي المختصر وما يضم إليه (منها). قال الشارح: صرح بوصفها الشامل له ما تقدم: أي في قوله من النفائس
المستحبات، وزاد عليه ينبغي الخ اظهارا للعذر في زيادتها فإنها عارية عن التنكيت بخلاف ما قبلها ا ه‍ أي انه لا ننكيت
على المصنف في زيادة فروع على ما ذكره من الفروع إذ لا سبيل إلى استيعاب الفروع الفقهية حتى ينكت عليه بأنه لم يذكر
مسألة كذا وكان ينبغي ان يذكرها بخلاف التنبيه على القيود واستدراك التصحيح، فإن التنكيت يتوجه على من اطلق في
موضع التقييد أو مشى على خلاف المصحح ونحو ذلك (وأقول في أولها قلت وفي آخرها والله أعلم) لتتميز عن مسائل
المحرر، وقد قال مثل ذلك في استدراك التصحيح عليه مع أنه ليس من المسائل المزيدة كقوله قلت الأصح تحريم ضبة
الذهب مطلقا والله أعلم، وقد زاد عليه من غير تمييز كقوله في فصل الخلاء ولا يتكلم، ومعنى والله أعلم: أي من كل عالم
(وما وجدته) أيها الناظر في هذا المختصر (من زيادة لفظة) أي بدون قلت (ونحوها على ما في المحرر فاعتمدها فلا بد منها)
كزيادة كثير وفي عضو ظاهر في قوله في التيمم إلا أن يكون بجرحه دم كثير أو الشين الفاحش في عضو ظاهر (وكذا
ما وجدته من الأذكار مخالفا لما في المحرر وغيره من كتب الفقه فاعتمده فانى حققته من كتب الحديث المعتمدة) في نقله
لأن مرجع ذلك إلى علماء الحديث وكتبه المعتمدة فإنهم يعتنون بلفظه بخلاف الفقهاء فإنهم إنما يعتنون غالبا بمعناه (وقد
أقدم بعض مسائل الفصل لمناسبة أو اختصار) مراعاة لتسهيل حفظه وترتيبه وتسهيل فهمه وتقريبه، والمناسبة المشاكلة
(وربما قدمت فصلا للمناسبة) كما فعل في باب الاحصار والفوات فإنه اخره عن الكلام على الجزاء، والمحرر قدمه عليه
وما فعله في المنهاج أحسن لأنه ذكر محرمات الاحرام واخرها عن الاصطياد، ولا شك ان فصل التخيير في جزاء الصيد
مناسب له لتعلقه بالاصطياد فتقدم الاحصار والفوات عليه غير مناسب كما لا يخفى (وأرجو ان تم هذا المختصر) وقد تم
ولله الحمد (أن يكون في معنى الشرح) وهو الكشف والتبيين (المحرر) أي لدقائقه وخفى ألفاظه وبيان صحيحه
ومراتب خلافه ومحمل خلافه هل هو قولان أو وجهان أو طريقان وما يحتاج من مسائله إلى قيد أو شرط أو
تصوير وما
14

غلط فيه من الأحكام وما صحح فيه خلاف الأصح عند الجمهور وما أخل به من الفروع المحتاج إليها ونحو ذلك، نبه على
ذلك في الدقائق، ولم يقل انه شرح للمحرر لخلوه عن الدليل والتعليل (فانى لا أحذف) بالذال المعجمة: أي لا أسقط (منه
شيئا من الأحكام أصلا ولا من الخلاف ولو كان) أي الخلاف (واهيا) أي ضعيفا جدا مجازا عن الساقط. فإن قيل قد
حذف من المحرر أشياء: منها انه بين في الحرر مجلس الخلع ولم يبينه هنا، ومنها انه حذف التفريع على القديم في ضمان
ما سيجب وذكره في المحرر وغير ذلك. أجيب بان المراد الأصول فلا ينافي حذف المفرعات أو ان ذلك بحسب الطاقة وهذا
أولى كما مر (مع ما) بفتح العين وسكونها: أي أبى بجميع ما اشتمل عليه مصحوبا بما (أشرت اله من النفائس)
المتقدمة (وقد شرعت) مع المشروع في هذا المختصر (في جمع جزء لطيف على صورة الشرح لدقائق هذا المختصر) من
حيث الاختصار لأن المقصود منه هو بيان دقائق المنهاج من هذه الحيثية ولم يبين المصنف في خطبة الكتاب تسميته على
خلاف المعروف من عادة المصنفين ولكنه سماه بالمنهاج في موضع الترجمة المعتادة التي تكتب على ظهر الخطبة. والمنهاج
والمنهج والنهج بنون مفتوحة ثم هاء ساكنة هو الطريق الواضح: قاله الجوهري (ومقصودي به التنبيه على الحكمة في العدول
عن عبارة المحرر) لأي شئ عدل عنها (وفي الحاق قيد أو حرف) أي كلمة فهو من باب اطلاق الجزء على الكل
(أو شرط المسألة ونحو ذلك) مما بينه (أكثر ذلك من الضروريات التي لا بد منها) فيخل خلوها بالمقصود، ومنها
ما ليس بضروري ولكنه حسن كما قاله في زيادة لفظة الطلاق في قوله في الحيض فإذا انقطع لم يحل قبل الغسل غير الصوم
والطلاق، فإن الطلاق لم يذكر قبل المحرمات (وعلى الله الكريم اعتمادي) في جميع أموري، ومنها اتمام هذا المختصر
بان يقدرني على اتمامه كما أقدرني على ابتدائه. قال الشارح تما تقدم على وضع الخطبة أشار بذلك إلى أن المصنف صنف
بعض المنهاج قبل خطبة كما يفهم مما مر أو إلى توفر الآلات مع التهئ فإنه كريم جواد لا يرد من سأله واعتمد عليه
وفي الحديث " ان الله كريم يحب مكارم الأخلاق " (واليه تفويضي) أي رد أموري لأن التفويض رد الامر إلى الله تعالى
والبراءة من الحول والقوة الا به (واستنادي) في ذلك وغيره فإنه لا يخيب من قصده واستند إليه ثم قدر وقوع المطلوب برجاء
الإجابة فقال (واساله النفع) وهو ضد الضر (به) أي المختصر في الدنيا والآخرة (لي) بتأليفه (ولسائر) أي باقي (المسلمين)
ويطلق سائر أيضا على الجميع ولم يذكر الجوهري غيره بان يلهمهم الاعتناء به بعضهم بالاشتغال به ككتابه وقراءة وتفهم
وشرح وبعضهم بغير ذلك كالإعانة عليه بوقف أو غير ذلك ونفعهم يستتبع نفعه أيضا لأنه سبب فيه (ورضوانه عنى) الرضا
والرضوان ضد السخط (وعن أحبائي) بالتشديد والهمز جمع حبيب: أي من أحبهم (جميع المؤمنين) من عطف العام
على بعض افراده تكرر به الدعاء لذلك البعض الذي منه المصنف رحمه الله تعالى وغاير بين الاسلام والايمان فكل ايمان
اسلام ولا ينعكس وكل مؤمن مسلم ولا ينعكس، قيل الايمان والاسلام في حكم الشرع واحد وفي المعنى والاشتقاق مختلفان
وبالجملة فلا يصح ايمان بغير اسلام ولا اسلام بغير ايمان فكل واحد منهما شرط في الاخر على الأول وشطر على الثاني،
وسؤال المصنف ان ينفع الله تعالى بكتابه مما يرغب فيه لأنه مجيب الدعوة وقد حقق الله تعالى له ذلك وجعله عمدة في المذهب، وإذ انتهى الكلام بحمد الله على ما قصدناه من ألفاظ الخطبة فنذكر طرفا من اخبار المصنف تبركا قبل الشروع في القصود
فنقول: هو الحبر الإمام قطب دائرة العلماء الأعلام الشيخ: يحيى الدين أبو زكريا بن شرف الحزامي بحاء مهملة
مكسورة بعدها زاي معجمة النواوي ثم الدمشقي محرر المذهب ومهذبه ومحققه ومرتبه المتفق على أمانته وديانته وورعه
15

وزهادته وسؤدده وسيادته كان ذا كرامات ظاهرة وآيات باهرة وسطوات قاهرة، فلذلك أحيا الله تعالى ذكره بعد مماته،
واعترف اله العلم بعظيم بركاته ونفع بتصانيفه في حياته وبعد وفاته فلا يكاد يستغنى عنها أحد من أصحاب المذاهب المختلفة
ولا تزال القلوب على محبة ما الفه مؤتلفة، قد دأب في طلب العلم حتى فاق أهل زمانه ودعا إلى الله تعالى في سره واعلانه.
حفظ التنبيه في أربعة أشهر ونصف وحفظ زبع المهذب في بقية السنة ومكث قريبا من سنتين لا يضع جنبه على الأرض،
وكان يقرا في اليوم والليلة اثنى عشر درسا في عدة من العلوم وكان يديم الصيام ولا تزال مقلته ساهرة ولا يأكل من فواكه
دمشق لما في ضمنها من الشبه الظاهرة ولا يدخل الحمام تنعما وانخرط في سلك " إنما يخشى الله من عباده العلماء " وكان
يقتات مما يأتيه من قبل أبويه كفافا ويؤثر على نفسه الذين لا يسألون الناس الحافا، فلذلك لم يتزوج إلى أن خرج من الدنيا
معافى ولا يأكل الا اكلة واحدة في اليوم والليلة بعد العشاء الآخرة ولا يشرب الأشربة واحدة عند السحر ولا يشرب الماء
المبرد الملقى فيه الثلج وكان كثير السهر في العبادة والتصنيف آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر يواجه الملوك فمن دونهم، وحج حجتين مبرورتين لا رياء فيهما ولا سمعة وطهر الله من الفواحش قلبه ولسانه وسمعه وأولى دار الحديث الأشرفية سنة
خمس وستين وستمائة فلم يأخذ من علومها شيئا إلى أن توفى وكان يلبس ثوبا قطنا وعمامة سختيانية وفي لحيته شعرات بيض
وعليه سكينة ووقار في حال البحث مع الفقهاء وفي غيره. ولد في العشر الأول من المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة بنوى
ثم انتقل إلى دمشق ثم سافر إلى بلده وزار القدس والخليل ثم عاد إليها فمرض بها عند أبويه وتوفى ليلة الأربعاء رابع عشر
شهر رجب سنة ست وسبعين وستمائة ودفن ببلده، وهذه إشارة لطيفة ذكرناها من بعض مناقبه تبركا به رضى الله تعالى
عنه وأحله رضا رضوانه، ومتعه بوجهه الكريم وبالداني من ثمار جنانه.
ولما كانت الصلاة أفضل العبادات تعد الايمان ومن أعظم شروطها الطهارة لقوله صلى الله عليه وسلم " مفتاح الصلاة
الطهور " والشرط مقدم طبعا فقدم وضعا بدا المصنف بها فقال: هذا: (كتاب) بيان أحكام (الطهارة)
اعلم أن الكتاب لغة معناه الضم والجمع، يقال: كتبت كتبا وكتابة وكتابا، ومنه قولهم: تكتبت بنو فلان، إذا
اجتمعوا، وكتب: إذا خط بالقلم لما فيه من اجتماع الكلمات والحروف، فهو إما مصدر لكن لضم مخصوص أو اسم
مفعول بمعنى مكتوب، كقولهم: هذا درهم ضرب الأمير، أي مضروبه. أو اسم فاعل بمعنى الجامع لما أضيف إليه. قال
أبو حيان: ولا يصح أن يكون مشتقا من الكتب لأن المصدر لا يشتق من المصدر. وأجيب بأن المزيد يشتق من المجرد.
واصطلاحا اسم لجملة مختصة من العلم، ويعبر عنها بالباب وبالفصل أيضا، فإن جمع بين الثلاثة قيل: الكتاب اسم لجملة
مختصة من العلم مشتملة على أبواب وفصول غالبا، والباب اسم لجملة مختصة من الكتاب مشتملة على فصول
غالبا،
والفصل اسم لجملة مختصة من الباب مشتملة على مسائل غالبا. والباب لغة: ما يتوصل منه إلى غيره، والفصل لغة: هو
الحاجز. والكتاب هنا خبر مبتدأ محذوف مضاف إلى محذوفين كما قدرته، وكذا كل كتاب وباب وفصل بحسب ما يليق
به. وإذ قد علمت ذلك فلا احتياج إلى تقدير ذلك في كل كتاب أو باب كما فعلت في شرح التنبيه بعدما ذكر اختصارا.
والطهارة بالفتح مصدر طهر بفتح الهاء وضمها، والفتح أفصح، يطهر بالضم فيهما. وهي لغة: النظافة والخلوص من
الأدناس حسية كالأنجاس أو معنوية كالعيوب، يقال: تطهر بالماء، وهم قوم يتطهرون: أي يتنزهون عن العيب. وشرعا:
تستعمل بمعنى زوال المنع المترتب على الحدث والخبث، وبمعنى الفعل الموضوع لإفادة ذلك أو لإفادة بعض آثاره كالتيمم
فإنه يفيد جواز الصلاة الذي هو من آثار ذلك، والمراد هنا الثاني لا جرم. وقد عرفها المصنف في مجموعه مدخلا فيها
الأغسال المسنونة ونحوها بأنها رفع حدث أو إزالة نجس أو ما في معناهما وعلى صورتهما. وقوله: وعلى صورتهما يعلم به
أنه لم يرد بما في معناهما ما يشاركهما في الحقيقة، ولهذا قال: وقولنا أو ما في معناهما أردنا به التيمم والأغسال المسنونة
16

وتجديد الوضوء، والغسلة الثانية والثالثة في الحدث والنجس ومسح الاذن والمضمضة ونحوها من نوافل الطهارة، وطهارة
المستحاضة وسلس البول اه‍. قال شيخنا: وبما تقرر اندفع الاعتراض عليه بأن الطهارة ليست من قسم الافعال والرفع من
قسمها فلا تعرف به، وبأن ما لا يرفع حدثا ولا نجسا ليس في معنى ما يرفعهما، وبأن التعريف لا يشمل الطهارة بمعنى الزوال اه‍.
ووجه اندفاع هذا كما قال القاياتي أن التعريف باعتبار وضع لا يعترض عليه بعدم تناوله أفراد وضع آخر. وقدم الأصحاب
العبادات على المعاملات اهتماما بالأمور الدينية، والمعاملات على النكاح وما يتعلق به لشدة الاحتياج إليها، والمناكحة على
الجنايات لأنها دونها في الحاجة، وأخروا الجنايات لقلة وقوعها بالنسبة لما قبلها. والطهارة في الترجمة شاملة للوضوء والغسل
وإزالة النجاسة والتيمم الآتية مع ما يتعلق بها. وبدأ ببيان الماء الذي هو الأصل في آلتها مفتتحا بآية دالة عليه، فقال: (قال
الله تعالى: (وأنزلنا من السماء ماء طهورا)) أي مطهرا، ويعبر عنه بالمطلق. وافتتح بهذه الآية تبركا وتيمنا بإمامه الشافعي رضي
الله تعالى عنه، إذ من عادته إذا كان في الباب آية تلاها، أو خبر رواه، أو أثر ذكره، ثم رتب عليه مسائل الباب. وتبعه
في المحرر، وحذفه المصنف في باقي الأبواب اختصارا. وإنما كان الماء أصلا في آلتها، لأن الطهارة لا بد لها من آلة،
وتلك الآلة منها أصل وهو الماء ومنها بدل وهو غيره كالتراب وأحجار الاستنجاء. فإن قيل: الدليل يكون متأخرا
عن المدلول فما باله عكس؟ أجيب بأنه لم يسقه استدلالا بل تبركا وتيمنا كما مر، وبأن هذا الدليل من القواعد الكلية
المنطبقة على غالب مسائل الباب، والدليل إذا كان بهذه الصفة كان تقديمه أولى لينطبق على جزئياته. فإن قيل: لم عدل
المصنف عن قوله تعالى: * (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) * مع أنه أصرح في الدلالة كما قيل؟ أجيب بأن ما ذكره
يفيد أن الطاهر غير الطهور، لأن قوله تعالى * (وأنزلنا من السماء ماء) * يدل على كونه طاهرا، لأن الآية سيقت في معرض
الامتنان، وهو تعالى لا يمن بنجس، وحينئذ يكون الطاهر غير الطهور وإلا لزم التأكيد، والتأسيس أولى، وهل المراد
بالسماء في الآية الجرم المعهود أو السحاب؟ قولان حكاهما المصنف في دقائق الروضة، ولا مانع أن ينزل من كل منهما. (يشترط لرفع
الحدث) وهو في اللغة: الشئ الحادث، وفي الشرع يطلق على أمر اعتباري يقوم بالأعضاء يمنع من صحة الصلاة
حيث لا مرخص، وعلى الأسباب التي ينتهي بها الطهر، وعلى المنع المترتب على ذلك. والمراد هنا الأول لأنه الذي لا يرفعه
إلا الماء، بخلاف المنع لأنه صفة الأمر الاعتباري فهو غيره، فإن المنع هو الحرمة. وهي ترتفع ارتفاعا مقيدا بنحو التيمم
بخلاف الأول. ولا فرق في الحدث بين الأصغر وهو ما نقض الوضوء، والمتوسط وهو ما أوجب الغسل من جماع أو إنزال،
والأكبر وهو ما أوجبه حيض أو نفاس. (و) لإزالة (النجس) بفتح النون والجيم، مصدر بمعنى الشئ النجس، وهو في اللغة
ما يستقذر، وفي الشرع مستقذر يمنع من صحة الصلاة حيث لا مرخص، ولا فرق فيه بين المخفف كبول صبي لم يطعم غير
لبن، والمتوسط كبول غيره من غير نحو الكلب، والمغلظ كبول نحو الكلب، ولسائر الطهارات واجبة كطهارة
دائم
الحدث، ومندوبة كالوضوء المجدد غير الاستحالة والتيمم. (ماء مطلق) أي استعماله، ولو عبر بالإزالة كما قدرته كان
أولى، لأن النجس لا يوصف بالرفع في الاصلاح، لكن سهله تقدم الحدث عليه. وإنما اقتصر على رفع الحدث
والنجس مع أن الماء المطلق يشترط لسائر الطهارات كما ذكرته، لأن رفعهما هو الأصل في الطهارة، فلذلك اقتصر عليه
على عادة المشايخ من الاقتصار على الأصول. (وهو ما يقع عليه اسم ماء بلا قيد) بإضافة كماء ورد، أو بصفة كماء دافق،
أو بلام عهد كقوله (ص): نعم إذا رأت الماء يعني المني قال الولي العراقي: ولا يحتاج لتقييد القيد بكونه لازما لأن القيد
الذي ليس بلازم كماء البئر مثلا يطلق اسم الماء عليه بدونه فلا حاجة للاحتراز عنه، وإنما يحتاج إلى القيد في جانب الاثبات
كقولنا غير المطلق هو المقيد بقيد لازم اه‍. ويدخل في التعريف ما نزل من السماء، وهو ثلاثة: المطر، وذوب الثلج
والبرد، وما نبع من الأرض هو أربعة: ماء العيون والآبار والأنهار والبحار، وما نبع من بين أصابعه (ص)
من الماء أو من ذاتها على خلاف فيه، والأرجح الثاني وهو أفضل المياه مطلقا، أو نبع من الزلال، وهو شئ ينعقد
17

من الماء على صورة حيوان، وما ينعقد ملحا لأن اسم الماء يتناوله في الحال وإن تغير بعد، أو كان رشح بخار الماء لأنه ماء
حقيقة. وينقص بقدره وهو المعتمد كما صححه المصنف في مجموعه وغيره، وإن قال الرافعي: نازع فيه عامة الأصحاب
وقالوا يسمونه بخارا ورشحا لا ماء على الاطلاق، وخرج بذلك الخل ونحوه وما لا يذكر إلا مقيدا كما مر، وتراب التيمم
وحجر الاستنجاء وأدوية الدباغ والشمس والنار والريح وغيرها حتى التراب في غسلات الكلب، فإن المزيل هو الماء
بشرط امتزاجه بالتراب في غسلة منها كما سيأتي في بابه. وإنما تعين الماء في رفع الحدث لقوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) *
والامر للوجوب، فلو رفع غير الماء لما وجب التيمم عند فقده. ونقل ابن المنذر وغيره الاجماع على اشتراطه في الحدث
وفي إزالة النجس، لقوله (ص) في خبر الصحيحين حين بال الاعرابي في المسجد: صبوا عليه ذنوبا من ماء
والذنوب بفتح الذال المعجمة: الدلو الممتلئة ماء. والامر للوجوب كما مر، فلو كفى غيره لما وجب غسل البول به.
ولا يقاس به غيره، لأن الطهر به عند الإمام تعبد وعند غيره لما فيه من الرقة واللطافة التي لا توجد في غيره،
وحمل الماء
في الآية والحديث على المطلق لتبادر الأذهان إليه.
فائدة: اعترض بعضهم على الشافعي في قوله: كل ماء من بحر عذب أو مالح فالتطهير به جائز بأنه لحن، وإنما يصح
ماء ملح، وهو مخطئ في ذلك، قال الشاعر:
فلو تفلت في البحر والبحر مالح لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا
بل فيه أربعة لغات: ملح ومالح ومليح وملاح، ولكن فهمه السقيم أداه إلى ذلك كما قال الشاعر:
وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم
ولكن تأخذ الآذان منه على قدر القريحة والفهوم
وعدل المصنف عن قول المحرر لا يجوز ليشترط، قال في الدقائق: لأنه لا يلزم من عدم الجواز الاشتراط، لكنه قال
في مجموعه بأن يجوز يستعمل تارة بمعنى يصح، وتارة بمعنى يحل، وتارة يصلح للامرين، وهو هنا يصلح لهما اه‍، أي
فيكون هو المراد، فنفي الجواز يستلزم نفي الصحة والحل معا بناء على الأصح من جواز استعمال المشترك في معنييه كما وجه
به المصنف عبارة المهذب في شرحه، أي فهو أبلغ من التعبير ب‍ يشترط لدلالته عليهما بالمنطوق، وعلى هذا فالتعبير ب‍ لا
يجوز أولى كما قيل. وأجيب بأن لفظة يشترط تقتضي توقف الرفع على الماء، ولفظة لا يجوز مترددة بين تلك المعاني ولا قرينة،
فالتعبير بيشترط أولى. ورد بمنع التردد لأنه إن حمل المشترك على جميع معانيه عموما كما قاله الإمام الشافعي رضي الله
تعالى عنه فظاهر وإلا حمل على جميعها هنا بقرينة السياق والتبويب. وأورد على التعريف المتغير كثيرا بما لا يؤثر فيه كطين
وطحلب وبما في مقره وممره، فإنه مطلق مع أنه لم يعبر عما ذكر. وأجيب بمنع بأنه مطلق، وإنما أعطي حكمه في جواز التطهر
به للضرورة فهو مستثنى من غير المطلق. على أن الرافعي قال: أهل اللسان والعرف لا يمتنعون من إيقاع اسم الماء المطلق عليه
فعليه لا إيراد، ولا يرد الماء القليل الذي وقعت فيه نجاسة ولم تغيره، ولا المستعمل لأنه غير مطلق.
فائدة: الماء ممدود على الأفصح، وأصله موه تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفا ثم أبدلت الهاء همزة. ومن عجيب
لطف الله أنه أكثر منه ولم يحوج فيه إلى كثير معالجة لعموم الحاجة إليه. (فالمتغير) بشئ (مستغنى) بفتح النون وكسرها
(عنه) طاهر مخالط، (كزعفران) وماء شجر ومنى وملح جبلي، (تغيرا يمنع) لكثرته (إطلاق اسم الماء)
عليه، (غير طهور)
سواء أكان قليلا أم كثيرا لأنه لا يسمى ماء، ولهذا لو حلف لا يشرب ماء فشرب ذلك أو وكل في زاوية أو اشتراه وكيله
لم يحنث ولم يقع الشراء له، وسواء أكان التغير حسيا أم تقديريا، حتى لو وقع في الماء مائع يوافقه في الصفات كماء الورد
المنقطع الرائحة فلم يتغير، ولو قدرناه بمخالف وسط كلون العصير وطعم الرمان وريح اللاذن لغير ضر بأن تعرض عليه جميع
هذه الصفات لا المناسب للواقع فيه فقط خلافا لبعضهم. ولا يقدر بالأشد كلون الحبر وطعم الخل وريح المسك بخلاف الخبث
لغلظه، فلو لم يؤثر فيه الخليط حسا ولا تقديرا استعمله كله، وكذا لو استهلكت النجاسة المائعة في ماء كثير. وإذا لم يكفه
18

الماء وحده ولو كمله بمائع يستهلك فيه لكفاه وجب تكميل الماء به إن لم تزد قيمته على قيمة ماء مثله. أما الملح المائي فلا
يضر التغير به وإن كثر لأنه ينعقد من الماء، والماء المستعمل كمائع فيفرض مخالفا وسطا للماء في صفاته لا في تكثير الماء، فلو
ضم إلى ماء قليل فبلغ قلتين صار طهورا وإن أثر في الماء بفرضه مخالفا. (ولا يضر تغير) يسير بطاهر (لا يمنع الاسم)، لتعذر
صون الماء عنه ولبقاء إطلاق اسم الماء عليه، وكذلك لو شك في أن تغيره كثير أو يسير. نعم إن تغير كثيرا ثم شك في أن التغير
الآن يسير أو كثير لم يطهر عملا بالأصل في الحالين، قاله الأذرعي. (ولا) يضر في الطهارة بالماء (متغير بمكث) بتثليث ميمه
مع إسكان كافه، وإن فحش التغير. (وطين وطحلب) بضم الطاء وبضم اللام وفتحها: شئ أخضر يعلو الماء من طول المكث.
(وما في مقره وممره) ككبريت وزرنيخ ونورة لتعذر صون الماء عن ذلك، ولا يضر أوراق شجر تناثرت وتفتتت واختلطت
وإن كانت ربيعية أو بعيدة عن الماء لتعذر صون الماء عنها، فلا يمنع التغير به إطلاق اسم الماء عليه وإن أشبه التغير به في
الصورة التغير الكثير بمستغنى عنه لا إن طرحت وتفتتت أو أخرج منه الطحلب أو الزرنيخ ودق ناعما وألقي فيه فغيره فإنه
يضر، أو تغير بالثمار الساقطة فيه لامكان التحرز عنها غالبا. (وكذا) لا يضر في الطهارة (متغير بمجاور) طاهر (كعود ودهن)
ولو مطيبين وكافور صلب، (أو بتراب) ولو مستعملا، (طرح) بقصد في غير تراب تطهير النجاسة الكلبية ونحوها، (في
الأظهر) لأن تغيره بذلك لكونه في غير التراب تروحا وفي التراب كدورة لا يمنع إطلاق اسم الماء عليه، نعم إن تغير حتى
صار لا يسمى إلا طينا رطبا ضر. والثاني يضر كالمتغير بنجس مجاور في الأول وبزعفران في الثاني. وفرق الأول بلغظ
أمر النجاسة وبطهورية التراب ولان تغيره به مجرد كدورة. وما تقرر في التراب المستعمل هو المعتمد وهو مقتضى التعليل
الثاني كما اعتمده شيخي وإن خالف فيه بعض المتأخرين. ولو صب المتغير بمخالط لا يضر على ما لا تغير فيه فتغير به كثيرا
ضر، لأنه تغير بما يمكن الاحتراز عنه، قاله ابن أبي الصيف، وقال الأسنوي: إنه المتجه. وعليه يقال لنا ماءان تصح الطهارة
بكل منهما منفردا ولا تصح بهما مختلطين، والمخالط هو الذي لا يتميز في رأى العين. وقيل: ما لا يمكن فصله بخلاف
المجاور فيهما. وقيل: المعتبر العرف، فالتراب مخالط على الأول ومجاور على الثاني لأنه يمكن فصله بعد رسوبه، أما التغير
بتراب تطهير النجاسة الكلبية ونحوها أو بتراب تهب به الريح أو طرح بلا قصد كأن ألقاه صبي، قال الأذرعي:
فلا يضر جزما.
تنبيه: كان الأحسن أن المصنف يحذف الميم من قوله: ولا متغير بمكث، ومن قوله: وكذا متغير بمجاور، فيقول: ولا
تغير بمكث، وكذا: تغير بمجاور، لأن المتغير لا يصح التغير به لأنه لا يضر نفسه، بل المضر التغير. ويندفع ذلك بما فائدة: الكافور نوعان: خليط ومجاور، وكذا قدرته
بقولي في الطهارة تبعا للشارح:
(فائدة) الكافور نوعان: خليط ومجاور وكذا القطران. واختلف في التغير بالكتان، والذي عليه الأكثر أنه يتغير
بشئ يتحلل منه فيكون كالتغيير بمخالط. (ويكره) شرعا تنزيها الماء (المشمس) أي ما سخنته الشمس: أي استعماله في
البدن في الطهارة وغيرها كأكل وشرب، لما روى الشافعي عن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان يكره الاغتسال به، وقال:
إنه يورث البرص. لكن بشرط أن يكون ببلاد حارة، أي تقلبه الشمس عن حالته إلى حالة أخرى - كما نقله في البحر عن
الأصحاب - في آنية منطبعة غير النقدين، وهي كل ما طرق كالنحاس ونحوه. وأن يستعمل في حال حرارته، لأن الشمس
بحدتها تفصل منه زهومة تعلو الماء فإذا لاقت البدن بسخونتها خيف أن تقبض عليه فيحتبس الدم فيحصل البرص، بخلاف
ما إذا استعمله في غير بدنه كغسل ثوبه فلا يكره لفقد العلة المذكورة، وبخلاف المسخن بالنار المعتدلة وإن سخن بنجس ولو
بروث نحو كلب وإن قال بعضهم فيه وقفة، فلا يكره لعدم ثبوت نهي عنه ولذهاب الزهومة لقوة تأثيرها، وبخلاف ما إذا
كان في بلاد باردة أو معتدلة، وبخلاف المشمس في غير المنطبع كالخزف والحياض أو في منطبع نقد لصفاء جوهره و
استعمل في البدن بعد أن برد. وأما المطبوخ به فقال الماوردي والروياني: إنه إن بقي مائعا كره وإن لم يبق مائعا كالخبز والأرز
19

المطبوخ به لم يكره. ويؤخذ من ذلك أن الماء المشمس إذا سخن بالنار لم تزل الكراهة، وهو كذلك. وظاهر كلام الجمهور
أنه يكره في الأبرص لزيادة الضرر، وكذا في الميت لأنه محترم. قال البلقيني: وغير الآدمي من الحيوان إن كان البرص
يدركه كالخيل أو يتعلق بالآدمي منه ضرر اتجهت الكراهة وإلا فلا. قال الأسنوي: وفي سقي الحيوان منه نظر اه‍.
وينبغي فيه التفصيل الذي قاله البلقيني. قال الزركشي: وغير الماء من المائعات كالماء. قال ابن عبد السيد. وإنما لم
يحرم المشمس كالسم لأن ضرره مظنون بخلاف السم. وقيل: لا يكره استعماله، واختاره المصنف في بعض كتبه، وبه قال
الأئمة الثلاثة. وقال في شرح المهذب: إنه الصواب، لأن أثر عمر لم يثبت. وقيل: إن شهد عدلان بأنه يورث البرص كره
وإلا فلا، واختاره السبكي. والمذهب هو الأول، فقد روى الأثر الدارقطني بإسناد صحيح، وأيضا فقد صح أنه (ص)
قال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك. والأثر وإن لم يثبت فقد حصل به ريب، ويجب استعماله عند فقد غيره، أي عند
ضيق الوقت. ولا يتيمم بل يجب شراؤه حيث يجب شراء الماء للطهارة، ويكره تنزيها شديد السخونة أو البرودة في الطهارة
لمنعه الاسباغ ويجب استعماله إذا فقد غيره وضاق الوقت كما مر، ويحرم إن خاف منه ضررا، ويكره مياه ثمود وكل
ماء مغضوب عليه كماء ديار قوم لوط وهي بركة عظيمة في موضع ديارهم التي خسفت. وماء البئر التي وضع فيها
السحر لرسول الله (ص)، فإن الله تعالى مسخ مياهها حتى صار كنقاعة الحناء ومسخ طلع النخيل التي من حولها حتى صار كرؤوس
الشياطين. وماء ديار بابل، لا ماء بئر الناقة ولا ماء بحر ولا ماء متغير بما لا بد منه، ولا ماء زمزم لعدم
ثبوت نهي فيه،
نعم يكره إزالة النجاسة به كما قال الماوردي، قال البلقيني: ماء زمزم أفضل من الكوثر، أي فيكون أفضل المياه،
لأن به غسل صدره (ص) ولا يكون يغسل صدره إلا بأفضل المياه، لكن تقدم أن أفضل المياه ما نبع من بين أصابعه (ص).
والمراد بالمشمس المتشمس وإن لم يقصد تشميسه كما حولت العبارة إليه وإن لم يفهم من العبارة. (و) الماء القليل (المستعمل
في فرض الطهارة) عن حدث كالغسلة الأولى فيه، (قيل ونفلها) كالغسلة الثانية والثالثة، والغسل المسنون والوضوء المجدد
طاهر (غير طهور في الجديد) لأن السلف الصالح كانوا لا يحترزون عن ذلك ولا عما يتقاطر عليهم منه، وفي الصحيحين:
أنه (ص) عاد جابرا في مرض فتوضأ وصب عليه من وضوئه. وكانوا مع قلة مياههم لم يجمعوا المستعمل للاستعمال ثانيا،
بل انتقلوا إلى التيمم، ولم يجمعوه للشرب لأنه مستقذر. والقديم أنه طهور لوصف الماء في الآية السابقة بلفظ طهور المقتضي
تكرر الطهارة به، كضروب لمن يتكرر منه الضرب. وأجيب بأن فعول يأتي اسما للآلة كسحور لما يتسحر به، فيجوز أن يكون
طهورا كذلك، ولو سلم اقتضاؤه التكرار، فالمراد جمعا بين الأدلة ثبوت ذلك لجنس الماء أو في المحل الذي يمر عليه فإنه
يطهر كل جز منه. والمراد بالفرض ما لا بد منه أثم الشخص بتركه، كحنفي توضأ بلا نية أم لا كصبي إذ لا بد لصحة
صلاتهما من وضوء، ولا أثر لاعتقاد الشافعي أن ماء الحنفي فيما ذكر لم يرفع حدثا بخلاف اقتدائه بحنفي مس فرجه حيث
لا يصح اعتبارا باعتقاده، لأن الرابط معتبر في الاقتداء دون الطهارات، ولان الحكم بالاستعمال قد يوجد من غير نية
معتبرة كما في إزالة النجاسة بخلاف الاقتداء لا بد فيه من نية معتبرة، ونية الإمام فيما ذكر غير معتبرة في ظن المأموم.
واختلف في علة منع استعمال الماء المستعمل، فقيل وهو الأصح: إنه غير مطلق، كما صححه المصنف في تحقيقه وغيره. وقيل:
مطلق، ولكن منع من استعماله تعبدا كما جزم به الرافعي. وقال المصنف في شرح التنبيه: إنه الصحيح عند الأكثرين،
وسيأتي المستعمل في النجاسة في بابها. والأصح أن المستعمل في نقل الطهارة على الجديد طهور لانتفاء العلة، وخرج بنفل
الطهارة تجديد الغسل، فالمستعمل فيه طهور قطعا لأنه لا يسن تجديده، ومن المستعمل ماء غسل بدل مسح من رأس أو
خف وماء غسل كافرة لتحل لحليلها المسلم، وماء غسل ميتة، وماء غسل مجنونة لتحل لحليلها المسلم. فإن قيل: يدخل في
فرض الطهارة الغسلة الأولى من الوضوء المجدد ومن الغسل المسنون، لأنهما طهارتان في كل منهما فرض وسنة فيصدق على
المرة الأولى منها أنها فرض الطهارة، وليست محل جزم على الجديد، بل هي من محل الوجهين فيما أدى به عبادة غير
مفروضة. أجيب بأن مراده ما قدرته تبعا للشارح، ولو صرح به المصنف كان أولى، وأورد على ضابط المستعمل ماء غسل
20

به الرجلان بعد مسح الخف وماء غسل به الوجه قبل بطلان التيمم، وماء غسل به الخبث المعفو عنه فإنها لا ترفع مع أنها
لم تستعمل في فرض. وأجاب شيخنا عن الأول بمنع عدم رفعه، لأن غسل الرجلين لم يؤثر شيئا وفيه احتمال للبغوي، وعن
الثاني بأنه استعمل في فرض وهو رفع الحدث المستفاد به أكثر من فريضة، وعن الثالث بأنه استعمل في فرض أصالة. (فإن
جمع) المستعمل على الجديد (فبلغ قلتين فطهور في الأصح) لأن النجاسة أشد من الاستعمال. وأما الماء المتنجس لو جمع
حتى بلغ قلتين، أي ولا تغير به، صار طهورا قطعا، فالمستعمل أولى. والثاني: لا يعود طهورا لأن قوته صارت مستوفاة
بالاستعمال فالتحق بماء الورد ونحوه، وهذا اختيار ابن سريج.
واعلم أن الماء ما دام مترددا على المحل لا يثبت له حكم الاستعمال ما بقيت الحاجة إلى الاستعمال بالاتفاق للضرورة،
فلو نوى جنب رفع الجنابة ولو قبل تمام الانغماس في ماء قليل أجزأه الغسل به في ذلك الحدث، وكذا في غيره ولو من
غير جنسه كما هو مقتضى كلام الأئمة وصرح به القاضي وغيره، لأن صورة الاستعمال باقية إلى الانفصال، والماء في
حال استعماله باق على طهوريته خلاف لما بحثه الرافعي وتبعه ابن المقري من أنه لا يجزئه لغير ذلك الحدث. ويؤيد الأول
ما لو كان به خبث بمحلين فمر الماء بأعلاهما ثم بأسفلهما طهرا معا كما قاله البغوي. ويؤخذ مما مر أن الجنب لو نزل في الماء
القليل ونوى رفع الجنابة قبل تمام الانغماس ثم اغترف الماء بإناء أو بيده وصبه على رأسه أو غيره لا ترتفع جنابة ذلك العضو
الذي اغترف له بلا خلاف، كما صرح به المتولي والروياني وغيرهما. وهو واضح لأنه انفصل. ولو نوى جنبان معا بعد تمام
الانغماس في ماء قليل طهرا، أو مرتبا ولو قبل تمام الانغماس فالأول فقط، أو نويا معا في أثنائه لم يرتفع حدثهما عن باقيهما.
ولو شكا في المعية، قال شيخنا: فالظاهر أنهما يطهران، لأنا لا نسلب الطهورية بالشك وسلبها في حق أحدهما فقط ترجيح بلا مرجح.
والماء المتردد على عضو المتوضئ وعلى بدن الجنب وعلى المتنجس إن لم يتغير طهور، فإن جرى الماء من عضو المتوضئ إلى
عضوه الآخر وإن لم يكن من أعضاء الوضوء كأن جاوز منكبه أو تقاطر من عضو ولو من عضو بدن الجنب صار مستعملا.
نعم ما يغلب فيه التقاذف كمن الكف إلى الساعد وعكسه لا يصير مستعملا للعذر وإن خرقه الهواء كما جزم به الرافعي،
ولو غرف بكفه جنب نوى رفع الجنابة، أو محدث بعد غسل وجهه الغسلة الأولى على ما قاله الزركشي وغيره، أو الغسلات
الثلاث كما قاله العز بن عبد السلام، وهو أوجه إن لم يرد الاقتصار على أقل من ثلاث من ماء قليل ولم ينو الاغتراف بأن
نوى استعمالا أو أطلق صار مستعملا، فلو غسل بما في كفه باقي يده لا غيرها أجزأه، وأما إذا نوى الاغتراف بأن قصد
نقل الماء من الاناء والغسل به خارجه لم يصر مستعملا، ولا يشترط لنية الاغتراف نفي رفع الحدث. (ولا تنجس قلتا الماء) الصرف،
(بملاقاة نجس) جامد أو مائع، لقوله (ص): إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، قال الحاكم: على شرط الشيخين.
وفي رواية لأبي داود وغيره بإسناد صحيح: فإنه لا ينجس وهو المراد بقوله: لم يحمل الخبث. أي يدفع النجس ولا
يقبله. وفارق كثير الماء كثير غيره فإنه ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة بأن كثيره قوي ويشق حفظه عن النجس، بخلاف
غيره وأن كثر. وخرج بقولنا الصرف ما لو وقع في الماء مائع يوافقه في الصفات وفرضناه مخالفا فلم يغيره فحكمنا بطهوريته
وكان الماء الصرف ينقص عن قلتين بقدر المائع الواقع فيه فصار قلتين ووقعت فيه بعد صيرورته قلتين نجاسة فإنه ينجس
بمجرد ملاقاتها، وإنما تدفع النجاسة قلتان من محض الماء. واستشكل بتصحيحهم جواز استعمال جميع ذلك الماء وإن
كان وحده غير كاف للطهارة، ونزلوا المائع المستهلك منزلة الماء من وجه دون وجه. وأجيب بأن رفع الحدث
وإزالة
النجس من باب الرفع، ودفع النجاسة من باب الدفع، والدفع أقوى من الرفع، والدافع لا بد أن يكون أقوى من الرافع.
ويؤيد ذلك أن الماء القليل إذا ورد على نجاسة طهرها وتجوز الطهارة به، ولا يدفع عن نفسه النجاسة إذا وقعت فيه،
وبأن المستعمل إذا بلغ قلتين كان في عوده طهورا وجهان، ولو استعمل قلتين ابتداء لم يصر مستعملا بلا خلاف، لأن
الماء إذا استعمل وهو قلتان كان دافعا للاستعمال، وإذا جمع كان رافعا، والدفع أقوى من الرفع كما مر. ويؤخذ من
الحكم بتنجيسه أنه لو انغمس فيه جنب صار مستعملا، لأنه كما لا يدفع النجاسة لا يدفع الاستعمال، نبه على ذلك الزركشي.
21

ولو شك في كونه قلتين ووقعت فيه نجاسة هل ينجس أو لا؟ المعتمد الثاني، بل قال المصنف في شرح المهذب:
الصواب أنه لا ينجس، إذ الأصل الطهارة وشككنا في نجاسة منجسة، ولا يلزم من حصول النجسة التنجيس. وصوب
في المهمات أنه إن جمع شيئا فشيئا وشك في وصوله قلتين فالأصل القلة، وإن كان كثيرا وأخذ منه فالأصل بقاء الكثرة،
وإن ورد نجس على ما يحتمل القلة والكثرة فهذا محل التردد. والصواب ما قاله المصنف، كما لو شك هل تقدم على الإمام أو
تأخر؟ والتفصيل هناك ضعيف فكذا هنا. (فإن غيره) أي غير النجس الملاقى الماء القلتين ولو يسيرا حسا أو تقديرا، (فنجس)
بالاجماع المخصص للخبر السابق. والخبر للترمذي وغيره: الماء لا ينجسه شئ كما خصه مفهوم خبر القلتين السابق،
فالتغيير الحسي ظاهر، والتقديري بأن وقعت فيه نجاسة مائعة توافقه في الصفات كبول انقطعت رائحته، ولو فرض مخالفا
له في أغلظ الصفات كلون الحبر وطعم الخل وريح المسك لغيره فإنه يحكم بنجاسته. واكتفى هنا بأدنى تغير واعتبر
الأغلظ في الصفات بخلاف ما تقدم في التغير بالطاهر فيهما لغلظ النجاسة، ولو تغير بعض الماء فالمتغير كنجاسة جامدة لا
يجب التباعد عنها بقلتين، والباقي إن قل فنجس وإلا فطاهر. فلو غرف دلوا من ماء قلتين فقط وفيه نجاسة جامدة لم تغيره
ولم يغرفها مع الماء فباطن الدلو طاهر لانفصال ما فيه عن الباقي قبل أن ينقص عن قلتين لا ظاهرها لتنجسه بالباقي المتنجس
بالنجاسة لقلته، فإن دخلت مع الماء أو قبله في الدلو انعكس الحكم. وتأنيث الدلو أفصح من تذكيره. (فإن زال تغيره)
الحسي أو التقديري، (بنفسه) بأن لم يحدث فيه شئ كأن زال بطول المكث، (أو بماء) انضم إليه بفعل أو غيره ولو نجسا ولو
أخذ منه كما قاله في المهذب، أي نقص والباقي قلتان. وصوره في شرحه بأن يكون الاناء مختنقا لا يدخله الريح، فإذا
نقص دخلته وقصرته. (طهر) بفتح الهاء أفصح من ضمها. الزوال سبب التنجيس ولا يضر عود تغيره إن خلا عن نجس
جامد، ويعرف زوال تغيره التقديري بأن يمضي عليه زمن لو كان تغيره حسيا لزال تغيره، وذلك بأن يكون بجنبه غدير
فيه ماء متغير فزال تغيره بنفسه بعد مدة أو بماء صب عليه، فيعلم أن هذا أيضا زال تغيره. (أو) زال تغيره ظاهرا كأن زال
ريحه (بمسك و) لونه بنحو (زعفران) وطعمه بنحو خل (فلا) يطهر، لأنا لا ندري أن أوصاف النجاسة زالت أو غلب عليها
المطروح فسترها، وإذا كان كذلك فالأصل بقاؤها. فإن قيل: العلة في عدم عود الطهورية احتمال أن التغير استتر ولم
يزل، فكيف يعطفه المصنف على ما جزم فيه بزوال التغير؟ وذلك تهافت. أجيب بأن المراد زواله طاهرا كما قدرته وإن أمكن
استتاره باطنا، فلو طرح مسك على متغير الطعم فزال تغيره طهر، إذ المسك ليس له طعم. وكذا يقال في الباقي. (وكذا)
لا يطهر ظاهرا إذا وقع عليه (تراب وجص) أي جبس أو أحدهما أو نحو ذلك كنورة لم تطبخ. (في الأظهر) للشك المذكور،
والثاني: يطهر بذلك، لأنه لا يغلب فيه شئ من الأوصاف الثلاثة فلا يستر التغيير. ودفع بأنه يكدر الماء، والكدرة من
أسباب الستر، فإن صفا الماء ولا تغير فيه طهر هو والتراب معه جزما.
فائدة: الجص: ما يبنى به ويطلى، وكسر جيمه أفصح من فتحها، وهو عجمي معرب، وتسميه العامة بالجبس،
وهو لحن. (ودونهما) أي الماء دون القلتين، (ينجس) هو ورطب غيره كزيت وإن كثر، (بالملاقاة) للنجاسة المؤثرة وإن لم
يتغير وإن كانت مجاورة، أما الماء فلمفهوم حديث القلتين السابق المخصص لمنطوق حديث: الماء لا ينجسه شئ السابق،
ولخبر مسلم: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده، نهاه عن
الغمس خشية النجاسة. ومعلوم أنها إذا خفيت لا تغير الماء، فلولا أنها تنجسه بوصولها لم ينهه، نعم إن ورد على النجاسة
ففيه تفصيل يأتي في بابها. وأما غير الماء فبالأولى. وفارق كثير الماء كثير غيره بأن كثيره قوي ويشق حفظه من النجس،
بخلاف غيره وإن كثر كما مر ولو تنجست يده اليسرى مثلا ثم غسل إحدى يديه وشك في المغسول أهو يده اليمنى أم
اليسرى ثم أدخل اليسرى في مائع لم ينجس المائع بغمس اليد اليسرى فيه، كما أفتى به شيخي، قال: لأن الأصل طهارته
22

وقد اعتضد باحتمال طهارة اليد اليسرى، ويعفى عما تلقيه الفئران من النجاسة في حياض الا خلية، وعن ذرق الطيور
الواقع فيها لمشقة الاحتراز عن ذلك ما لم يغيره ما ذكر. وخرج بالرطب الجامد الخالي عن رطوبة عند الملاقاة وبالمؤثرة
غيرها كما سيأتي. وقدرت الماء في عبارة المصنف تبعا للشارح لأجل موافقة سيبويه وجمهور البصريين، لأن دون عندهم
ظرف لا يتصرف فلا يصح أن يكون مبتدأ، ويجوز عند الأخفش والكوفيين. ثم اختلفوا فيما أضيف إلى مبني كالواقع
في كلام المصنف، فقال الأخفش: يجوز بناؤه على الفتح لاضافته إلى مبني، وقال غيره: يجب رفعه على الابتداء. (فإن
بلغهما) أي المتنجس قلتين، (بماء) ولو مستعملا ومتنجسا ومتغيرا بنحو زعفران، (و) الحال أنه (لا تغير به فطهور) لزوال
العلة وهي القلة، حتى لو فرق بعد ذلك لم يضر، ويكفي الضم وإن لم يمتزج صاف بكدر لحصول القوة بالضم، لكن إن
انضما بفتح حاجز اعتبر اتساعه ومكثه زمنا يزول فيه التغير لو كان، أخذا من قولهم: ولو غمس كوز ماء واسع الرأس في ماء
كمله قلتين وساواه بأن كان الاناء ممتلئا أو امتلأ بدخول الماء فيه ومكث قدرا يزول فيه تغير لو كان واحد الماءين نجس
أو مستعمل طهر، لأن تقوي أحد الماءين بالآخر إنما يحصل بذلك، فإن فقد شرط من ذلك بأن كان ضيق الرأس أو واسعه
بحيث يتحرك ما فيه بتحرك الآخر تحركا عنيفا، لكن لم يكمل الماء قلتين أو كمل لكن لم يمكث زمنا يزول فيه التغير لو
كان أو مكث، لكن لم يساوه الماء لم يطهر ولا ينجس أسفل ما يفور بتنجس أعلاه كعكسه. ولو وضع كوز على نجاسة
وماؤه خارج من أسفله لم ينجس ما فيه ما دام يخرج، فإن تراجع تنجس كما لو سد بنجس.
مهمة: إذا قل ماء البئر وتنجس لم يطهر بالنزح، لأنه وإن نزح فقعر البئر يبقى نجسا، وقد تنجس جدران البئر أيضا
بالنزح بل بالتكثير كأن يترك أو يصب عليه ماء ليكثر، ولو كثر الماء وتفتت فيه شئ نجس كفأرة تمعط شعرها فهو طهور
تعسر استعماله باغتراف شئ منه، كدلو، إذ لا تخلو مما تمعط، فينبغي أن ينزح الماء كله ليخرج الشعر معه. فإن كانت
العين فوارة وتعسر نزح الجميع نزح ما يغلب على الظن أن الشعر كله خرج معه، فإن اغترف منه قبل النزح ولم يتيقن فيما
اغترفه شعرا لم يضر. (فلو كوثر) المتنجس القليل (بإيراد) ماء (طهور) أي أورد عليه طهورا أكثر منه، (فلم يبلغهما لم يطهر)
لمفهوم حديث القلتين، لأنه ماء قليل فيه نجاسة، ولان المعهود في الماء أن يكون غاسلا لا مغسولا. (وقيل) هو (طاهر)
بشرط أن لا يكون به نجاسة جامدة قياسا للماء على غيره. وفي الكفاية وغيرها ما يقتضي أن الجمهور على هذا الوجه،
ولا فرق بين أن يكون ذلك القليل متغيرا أم لا. (لا طهور) لأنه مغسول فهو كالثوب، فلو انتفت الكثرة أو انتفى الايراد
أو الطهورية أو كان به نجاسة جامدة لم يطهر جزما، فهذه القيود شرط للقول بالطهارة لا للقول بعدمها. فلو قال: فلو لم
يبلغهما، لم يطهر، وقيل: إن كوثر إلخ فهو طاهر غير طهور، كان أولى. قال الشارح: ولا هنا اسم بمعنى غير ظهر إعرابها
فيما بعدها لكونها على صورة الحرف وهي معه صفة لما قبلها، أي لأن شرط العطف ب‍ لا أن يكون ما بعدها مغايرا لما
قبلها، كقولك: جاء رجل لا امرأة بخلاف قولك: جاء رجل لا زيد. لأن الرجل يصدق على زيد. (ويستثنى) من النجس
(ميتة لا دم لها) أصالة. (سائل) أي لا يسيل دمها عند شق عضو منها في حياتها، كزنبور بضم أوله، وعقرب ووزغ وذباب
وقمل وبرغوث، لا نحو حية وضفدع وفأرة. (فلا تنجس مائعا) ماء أو غيره بوقوعها فيه بشرط أن لا يطرحها طارح ولم تغيره،
(على المشهور) لمشقة الاحتراز عنها، ولخبر البخاري: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه كله ثم لينزعه فإن في
أحد جناحيه داء أي وهو اليسار كما قيل وفي الآخر شفاء زاد أبو داود: إنه يتقى بجناحه الذي فيه الداء وقد يفضي
غمسه إلى موته، فلو نجس المائع لما أمر به. وقد يؤخذ من ذلك أنه لو نزعها بأصبعه أو عود بعد موتها لم
يتنجس، وهو
كذلك كما يؤخذ من كلام الكمال بن أبي شريف. وعلى هذا لو رد ما نزع به في المائع ونزع به واحدة بعد واحدة لم ينجس
المائع بذلك، لأن الباقي على أصبعه أو العود محكوم بطهارته لأنه جزء من ذلك المائع انفصل عنه ثم عاد إليه. وقيس
بالذباب ما في معناه من كل ميتة لا يسيل دمها، فلو شككنا في سيل دمها امتحن بجنسها فتجرح للحاجة، قاله الغزالي في فتاويه:
23

ولو كانت مما يسيل دمها لكن لا دم فيها أو فيها دم لا يسيل لصغرها، فلها حكم ما يسيل دمها، قاله القاضي أبو الطيب.
والثاني تنجسه، قال في التنبيه: وهو القياس كسائر الميتات النجسة. ومحل الخلاف إذا لم تنشأ فيه فإن نشأت فيه وماتت
كالعلق ودود الخل لم تنجسه جزما، فإن غيرته الميتة لكثرتها أو طرحت فيه بعد موتها قصدا تنجس جزما، كما جزم به
في الشرح والحاوي الصغيرين. ومفهوم قولهما: بعد موتهما قصدا أنه لو طرحها شخص بلا قصد، أو قصد طرحها على مكان
آخر فوقعت في المائع، أو أخذ الميتة ليخرجها فوقعت فيه بعد رفعها من غير قصد إلى رميها فيه من غير تقصير بل قصد
إخراجها فوقعت فيه بغير اختياره، أو طرحها من لا يميز، أو قصد طرحها فيه فوقعت فيه وهي حية فماتت فيه أنه لا يضر،
وهو كذلك. ومن ذلك ما لو وضع خرقة على إناء وصفى بها هذا المائع الذي وقعت فيه هذه الميتة بأن صبه عليها، لأنه يضع المائع
وفيه الميتة متصلة به، ثم يتصفى عنها المائع وتبقى هي منفردة عنه، لا أنه طرح الميتة في المائع كما قد يتوهم، فلو زال التغير
من المائع أو من الماء القليل وهو باق على قلته لم يطهر كما أفاده شيخي، فإن بلغ الماء قلتين طهر. (وكذا في قول نجس لا يدركه
طرف) أي لا يشاهد بالبصر لقلته لا لموافقة لون ما اتصل به، كنقطة بول وخرء وما تعلق بنحو رجل ذبابة عند الوقوع في
النجاسات. (قلت ذا القول أظهر) من مقابله وهو التنجيس، (والله أعلم) لعسر الاحتراز عنه فأشبه دم البراغيث، ووجه
مقابله القياس على سائر النجاسات وهو ما نقله في الشرحين عن المعظم. ومجموع ما في المسألة سبع طرق: إحداها وهو
الأصح: قولان في الماء والثوب. والثانية: يؤثر فيهما قطعا، وهو رأي ابن سريج. والثالثة: لا يؤثر فيهما قطعا. والرابعة: يؤثر
في الماء، وفي الثوب قولان. والخامسة: عكس ذلك. والسادسة: يؤثر في الماء دون الثوب قطعا. والسابعة: عكسه. وقضية
ما ذكر في العفو أنه لا فرق بين أن يقع في محل واحد أو أكثر، وهو قوي، لكن قال الجيلي: صورته أن يقع في محل واحد
وإلا فله حكم ما يدركه الطرف. قال ابن الرفعة: وفي كلام الإمام إشارة إليه. قال شيخنا: والأوجه تصويره باليسير عرفا،
وهو حسن. قال الزركشي: وقياس استثناء دم الكلب من يسير الدم المعفو عنه أن يكون هذا مثله، وقد يفرق بينهما
بالمشقة والفرق أوجه. وعطف المصنف هذا على ما مر يقتضي طرد الخلاف في الماء والمائع، وهو كذلك وإن كان كلام
التنبيه يفهم تنجس المائع به جزما، ولذلك قلت في شرحه: وغير الماء في ذلك كالماء. ويعفى أيضا عن روث سمك لم يغير
الماء، وعن اليسير عرفا من شعر نجس من غير نحو كلب، وعن كثيره من مركوب، وعن قليل دخان نجس وغبار سرجين
ونحوه مما تحمله الريح كالذر، وعن حيوان متنجس المنفذ إذا وقع في المائع للمشقة في صونه، ولهذا لا يعفى عن آدمي مستجمر،
قال المصنف في شرح المهذب: بلا خلاف. وعن الدم الباقي على اللحم والعظم فإنه يعفى عنه. ولو تنجس فم حيوان
طاهر من هرة أو غيرها ثم غاب وأمكن وروده ماء كثيرا ثم ولغ في طاهر لم ينجسه مع حكمنا بنجاسة فمه، لأن الأصل
نجاسته وطهارة الماء، وقد اعتضد أصل طهارة الماء باحتمال ولوغه في ماء كثير في الغيبة فرجح. قال في التوشيح: ولا يستثنى
مسألة الهرة - أي ونحوها - وإن كان قد استثناها في أصل الروضة، لأن العفو لاحتمال أن يكون فمها طاهرا، إذ لو تحقق نجاسته
لم يعف عنه بخلاف ما نحن فيه، فإن العفو فيه وارد على محقق النجاسة اه‍. وهو حسن. واستشكل في الشرح الصغير طهارة
فم الهرة بما ذكر، لأنها تشرب بلسانها وتأخذ منه الشئ القليل ولا تلغ في الماء بحيث يطهر فمها من أكل الفأرة، أي مثلا
فلا يفيد احتمال مطلق الولوغ احتمال عود فمها إلى الطهارة. وأجاب عنه البلقيني بأن فرض المسألة فيما إذا احتمل طهارة
الفم، والاحتمال موجود بأن تكون وضعت جميع فمها في الماء أو نحو ذلك. وأجاب غيره بأن الذي لاقى الماء من فمها
ولسانها يطهر بالملاقاة، وما لا يلاقيه يطهر بإجراء الماء عليه ولا يضر ناقلته لأنه وارد. (و) الماء (
الجاري) وهو ما اندفع في
مستو أو منخفض، (كراكد) فيما مر من التفرقة بين القليل والكثير وفيما يستثنى لمفهوم حديث القلتين، فإنه لم يفصل بين
الجاري والراكد، لكن العبرة في الجاري بالجرية نفسها لا مجموع الماء، وهي كما في المجموع: الدفعة بين حافتي النهر عرضا،
والمراد بها ما يرتفع من الماء عند تموجه، أي تحقيقا أو تقديرا، فإن كبرت الجرية لم تنجس إلا بالتغير، وهي في نفسها
منفصلة عما أمامها وما خلفها من الجريات حكما وإن اتصلت بهما حسا. إذ كل جرية طالبة لما أمامها هاربة عما خلفها.
24

قال بعضهم: ولأنها لو كانت متصلة بها حكما لتنجس الماء في الكوز إذا انصب على الأرض وورد عليه نجس، فلو وقع فيها
نجس فكما لو وقع في راكد حتى لو كانت قليلة تنجست بوصوله إليها، وإن بلغت مع ما أمامها وما خلفها قلتين لتفاصل
أجزاء الجاري فلا يتقوى بعضه ببعض بخلاف الراكد والجرية إذا بلغ كل منهما قلتين، ولو وقع فيها وهي قليلة نجس
جامد، فإن كان موافقا لجريانها تنجست دون ما أمامها وما خلفها، أو واقفا أو جريها أسرع فمحله وما أمامه مما مر عليه
نجس وإن طال امتداده إلا أن يتراد أو يجتمع في نحو حفرة، وعليه يقال لنا ماء هو ألف قلة ينجس بلا تغير، والجرية
التي تعقب جرية النجس الجاري تغسل المحل فلها حكم الغسالة حتى لو كان من كلب فلا بد من سبع جريات مع كدورة الماء
بالتراب الطهور في إحداهن. ويعرف كون الجرية قلتين بأن تمسحا ويجعل الحاصل ميزانا، ثم يؤخذ قدر عمق الجرية
ويضرب في قدر طولها، ثم الحاصل في قدر عرضها بعد بسط الاقدار من مخرج الربع لوجوده في مقدار القلتين في المربع،
فمسح القلتين بأن تضرب ذراعا وربعا طولا في مثلهما عرضا في مثلهما عمقا يحصل مائة وخمسة وعشرون وهي الميزان.
أما إذا كان أمام الجاري ارتفاع يرده فله حكم الراكد. (وفي القديم لا ينجس) القليل منه، (بلا تغير) لقوة الجاري، ولان
الأولين كانوا يستنجون على شطوط الأنهار الصغيرة ثم يتوضأون منها ولا ينفك عن رشاش النجاسة غالبا. وعلله الرافعي
بأن الجاري وارد على النجاسة فلا ينجس إلا بالتغير كالماء الذي تزال به النجاسة، وقضية هذا التعليل أن يكون طاهرا
غير طهور، والظاهر أنه ليس مرادا. (والقلتان) بالوزن (خمسمائة رطل) بكسر الراء أفصح من فتحها، (بغدادي) أخذا من
رواية البيهقي وغيره: إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه شئ. والقلة في اللغة الجرة العظيمة سميت بذلك لأن الرجل
العظيم يقلها بيديه، أي يرفعها. وهجر بفتح الهاء والجيم قرية بقرب المدينة النبوية تجلب منها القلال، وقيل هي بالبحرين،
قاله الأزهري، قال في الخادم: وهو الأشبه. ثم روي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه عن ابن جريج أنه قال: رأيت
قلال هجر فإذا القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئا، أي من قرب الحجاز. فاحتاط الشافعي فحسب الشئ نصفا، إذ
لو كان فوقه لقال تسع ثلاث قرب إلا شيئا على عادة العرب فتكون القلتان خمس قرب. والغالب أن القربة لا تزيد على
مائة رطل بغدادي، وهو مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم في الأصح، فالمجموع به خمسمائة رطل. (تقريبا
في الأصح) قدم تقريبا عكس المحرر ليشمله وما قبله التصحيح فيعفى عن نقص رطل ورطلين على ما صححه في الروضة.
وصحح في التحقيق ما جزم به الرافعي أنه لا يضر نقص قدر لا يظهر بنقصه تفاوت في التغير بقدر معين من الأشياء المغيرة،
كأن تأخذ إناءين في واحد قلتان وفي الآخر دونهما ثم تضع في أحدهما فدرا من المغير وتضع في الآخر قدره، فإن لم يظهر
بينهما تفاوت في التغير لم يضر ذلك وإلا ضر، وهذا أولى من الأول لضبطه، والمقابل في قدرهما ما قيل إنهما ألف رطل
لأن القربة قد تسع مائتي رطل، وقيل هما ستمائة رطل، لأن القلة ما يقله البعير ويحمله، وبعير العرب لا يحمل غالبا أكثر
من وسق وهو ثلاثمائة وعشرون، يحط عشرون للظرف والحبل. والعدد على الثلاثة قيل تحديد فيضر نقص أي شئ
نقص، فإن قيل على ما صححه في الروضة ترجع القلتان أيضا إلى التحديد فإنه يضر نقص ما زاد على الرطلين. أجيب
بأن هذا تحديد غير المختلف فيه، وبالمساحة في المربع كما تقدم ذراع وربع طولا وعرضا وعمقا، وفي المدور ذراعان
طولا وذراع عرضا، قاله العجلي والمراد فيه بالطول العمق وبالعرض ما بين حائطي البئر من سائر الجوانب، وبالذراع
في المربع ذراع الآدمي وهو شبران تقريبا، وأما في المدور، فالمراد في الطول ذراع النجار الذي هو ذراع
الآدمي ذراع
وربع تقريبا، ووجهه أنه يبسط كل من العرض والطول ومحيط العرض وهو ثلاثة أمثاله وسبع أرباعا لوجود مخرجها
في قدر القلتين في المربع فيجعل كل واحد أرباعا، فيصير العرض أربعة والطول عشرة والمحيط اثني عشر وأربعة أسباع،
ثم يضرب نصف العرض وهو اثنان في نصف المحيط وهو ستة وسبعان تبلغ اثني عشر وأربعة أسباع، هو بسط المسطح،
فيضرب بسط المسطح في بسط الطول، وهو عشرة، تبلغ مقدار مسح القلتين في المربع وهو مائة وخمسة وعشرون ربعا مع
زيادة خمسة أسباع ربع، وبها حصل التقريب.
25

فائدة: المقدرات أربعة أقسام: أحدها: ما هو تقريب بلا خلاف، كسن الرقيق المسلم فيه أو الموكل في شرائه. ثانيها:
تحديد بلا خلاف، كتقدير مسح الخف، وأحجار الاستنجاء، وغسل الولوغ، والعدد في الجمعة، ونصب الزكوات
والأسنان المأخوذة فيها، وسن الأضحية والأوسق في العرايا، والحول في الزكاة والجزية، ودية الخطأ، وتغريب الزاني،
وإنظار المولى والعنين، ومدة الرضاع، ومقادير الحدود. ثالثها: تحديد على الأصح، فمنه أميال مسافة القصر، ومنه
تقدير خمسة أوسق بألف وستمائة رطل، الأصح أنه تحديد. ووقع للمصنف أنه صحح في رؤوس المسائل أنه تقريب، ونسب
فيه للسهو. رابعها: تقريب على الأصح، كسن الحيض والمسافة بين الصفين. (والتغير المؤثر) حسا أو تقديرا، (بطاهر أو
نجس طعم أو لون أو ريح) أي أحد الثلاثة كاف، أما النجس فبالاجماع، وأما الطاهر فعلى المذهب. ويعتبر في التغير
التقديري بالطاهر المخالف الوسط المعتدل، وبالنجس المخالف الأشد كما مر. وخرج
بالمؤثر بطاهر التغير اليسير به، وبالمؤثر بنجس التغير بجيفة على الشط قرب الماء، وهذا هو المراد إذ ليس لنا تغير بنجس لا يؤثر. (ولو اشتبه) على أحد
(ماء) أو تراب (طاهر) أي طهور (ب‍) - ماء أو تراب (نجس) أي متنجس أو بماء أو تراب مستعمل، (اجتهد) في المشتبهين
منهما لكل صلاة أرادها بعد الحدث وجوبا إن لم يقدر على طاهر بيقين، موسعا إن لم يضق الوقت، ومضيقا إن ضاق،
وجوازا إن قدر على طهور بيقين، كأن كان على شط نهر أو بلغ الماءان قلتين بالخلط بلا تغير لجواز العدول إلى المظنون
مع وجود المتيقن، لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كان بعضهم يسمع من بعض مع قدرته على المتيقن، وهو سماعه
من النبي (ص). قال الولي العراقي: ولا حاجة لهذا التفصيل بل هو محمول على الوجوب مطلقا،
ووجود متيقن لا يمنع وجوب الاجتهاد في هذين لأن كلا من خصال المخير يصدق عليه أنه أوجب اه‍. وفيما قاله كما
قال الجلال الكبري نظر، وإن كنت جريت عليه في شرح التنبيه، لأنه مع وجود الطاهر بيقين اختلف في جواز
الاجتهاد فيه كما سيأتي فضلا عن وجوبه، والأفضل عدم الاجتهاد، فمطلوب الترك كيف يوصف بوجوبه فإن قيل: لابس
الخف الأفضل له الغسل مع أن الواجب عليه أحد الامرين. قلت: لم يختلف هناك في جواز المسح مع القدرة على الغسل
بخلافه هنا. والاجتهاد والتحري والتأخي بذل الجهد في طلب المقصود. والجهد بفتح الجيم وضمها هو الطاقة، قال
تعالى: * (فأولئك تحروا رشدا) *. وقال الشاعر:
فتحريت أحسب الثغر عقدا * لسليمي وأحسب العقد ثغرا
فلثمت الجميع قطا لشكي * وكذا فعل كل من يتحرى
(وتطهر بما ظن طهارته) أي طهوريته بأمارة كاضطراب أو رشاش أو تغير أو قرب كلب، فيغلب على الظن نجاسة
هذا وطهارة غيره، وله معرفة ذلك بذوق أحد الإناءين. ولا يقال يلزم منه ذوق النجاسة، لأن الممنوع ذوق النجاسة
المتيقنة، نعم ممتنع عليه ذوق الإناءين لأن النجاسة تصير متيقنة كما أفاده شيخي، وإن خالف في ذلك بعض العصريين، فلو
هجم وأخذ أحد المشتبهين من غير اجتهاد وتطهر به لم تصح طهارته وإن وافق الطهور بأن انكشف له الحال، لتلاعبه.
(وقيل إن قدر على طاهر) أي طهور (بيقين) كأن كان على شط نهر في استعمال الماء أو في صحراء في استعمال التراب،
(فلا) يجوز له الاجتهاد كمن بمكة ولا حائل بينه وبين الكعبة، وقال (ص): دع ما يريبك إلى ما لا يريبك رواه الإمام أحمد
وصححه الحاكم والترمذي. وأجاب الأول بأن القبلة في جهة واحدة فإذا قدر عليها كان طلبه لها في غيرها عبثا، وبأن
الماء مال وفي الاعراض عنه تفويت مالية مع إمكانها بخلاف القبلة، وعن الحديث بأنه محمول على الندب. فإن قيل: كان
ينبغي للمصنف أن يقول على طاهر معين فإن أحد المشتبهين طاهر بيقين، أجيب بأنه لا حاجة إلى ذلك لأنه وإن كان
طاهرا بيقين لا يقدر عليه، وقد فرض المصنف الخلاف فيما إذا قدر على طاهر بيقين. (والأعمى) في الاجتهاد فيما ذكر،
(كبصير في الأظهر) لأنه يدرك الامارة باللمس أو الشم أو الذوق على ما تقدم أو الاستماع، كاضطراب الغطاء، وقضية التعليل بما ذكر
أن الأعمى لو فقد هذه الحواس التي يدرك بها ذلك أنه لا يجتهد. قال الأذرعي: وينبغي الجزم به وهو حسن، والثاني لا يجتهد لأن
26

النظر له أثر في حصول الظن في المجتهد فيه وقد فقده فلم يجز كالقبلة. وأجاب الأول بأن القبلة أدلتها بصرية. وبما قدرته
سقط ما قيل إنه لو قال والأعمى يجتهد في الأظهر لكان أحسن، أي لأن المراد أنه كالبصير في أصل الاجتهاد وإن خالفه في بعض
الصور، فإن الأعمى إذا تحير قلد بصيرا على الأصح. وقيل لا كالبصير، قال في المجموع: فإن لم يجد من يقلده أو وجده فتحير
تيمم. (أو) اشتبه عليه (ماء وبول) أو نحوه كأن انقطعت رائحته، (لم يجتهد) فيهما (على الصحيح) سواء أكان أعمى أم بصيرا،
لأن الاجتهاد يقوي ما في النفس من الطهارة الأصلية والبول لا أصل له فيها فامتنع الاجتهاد. فإن قيل: البول له أصل في الطهارة
فإن أصله ماء. أجيب بأنه ليس المراد بقولهم له أصل في التطهير الحالة التي كان عليها من قبل حتى يرد عليهم ذلك، بل المراد
إمكان رده إلى الطهارة بوجه، وهذا متحقق في المتنجس بالمكاثرة بخلاف البول، والثاني: يجوز كالماء المتنجس، وقال الإمام: إنه
المتجه في القياس، واختاره البلقيني. (بل يخلطان) بنون الرفع كما في خط المصنف استئنافا أو عطفا على لم يجتهد بناء على ما قاله
ابن مالك أن بل تعطف الجمل، فسقط بذلك ما قيل إن الصواب حذف النون لأنه مجزوم بحذفها عطفا على يجتهد. لكن الأصح
خلاف ما قاله ابن مالك، إذ شرط العطف ببل إفراد معطوفها، أي كونه مفردا، فإن تلاها جملة لم تكن عاطفة بل حرف
ابتداء لمجرد الاضراب، ولا يجوز عطف يخلطان على يجتهد وأن يقرأ بحذف النون كما قاله بعض الشراح لفساد المعنى، إذ
يصير التقدير: بل لم يخلطا. قال المصنف: والصب كالخلط. (ثم يتيمم) لتعذر استعمال الماء، فإن تيمم قبل ذلك لم يصح
لأنه تيمم بحضرة ماء متيقن الطهارة مع تقصيره بترك إعدامه. فما ذكر شرط لصحة التيمم كما صححه المصنف في شرح
المهذب، وقيل: شرط لعدم وجوب القضاء، وهو مقتضى كلام الرافعي في الشرحين والمصنف في الروضة
والتحقيق.
وبل هنا وفيما يأتي للانتقال من غرض إلى آخر لا للابطال. (أو) أشتبه عليه ماء (وماء ورد) كأن انقطعت رائحته، (توضأ
بكل) منهما (مرة) ليتيقن استعمال الطهور ولا يجتهد، لأن ماء الورد لا أصل له في التطهير. ويعذر في عدم الجزم بالنية
كنسيان إحدى الخمس، وإن أمكنه الجزم بها بأن يأخذ غرفة من كل منهما في يد ويستعملها في شقي الوجه دفعة واحدة
من غير خلط مقترنا بالنية ثم يعيد غسل وجهه ويكمل وضوءه بأحدهما ثم يتوضأ بالآخر للمشقة عليه في ذلك. وظاهر
كلامهم أن ذلك جائز له عند قدرته على طهور بيقين، وإن كان مقتضى العلة كما قال في المجموع لامتناع. واستشكل
الأسنوي وجوب الوضوء بالماء وماء الورد بما ذكروه فيمن معه ماء لا يكفيه لوضوئه ولو كمله بمائع يستهلك فيه كماء
ورد وغيره أنه يلزمه التكميل بشرط أن لا يزيد ثمنه على ثمن القدر الناقص، فكيف يوجبون هنا استعمال ماء كامل
وماء ورد مثله وهو يزيد على ذلك؟ فالصواب الانتقال إلى التيمم. وأجيب عنه بجوابين: الأول: أنه هنا قدر على
طهارة كاملة بالماء وقد اشتبه، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وهناك لم يقدر على الكاملة فتكليفه التكميل بأزيد
مما أوجبه الشرع عليه لا يتجه. الثاني: أن صورة المسألة هنا في ماء ورد انقطعت رائحته وصار كالماء، وذلك لا قيمة له غالبا
أو قيمته تافهة بخلاف تلك. ويؤخذ من ذلك أنه لو زادت قيمته على قيمة ماء الطهارة لم يلزمه استعماله ويتيمم كما جزم به
ابن المقري في الروضة (وقيل له الاجتهاد) فيهما كالماءين، وفرق الأول بمثل ما مر في البول. قال الماوردي: وله أن
يجتهد فيهما لشرب ماء الورد، فإذا بان له بالاجتهاد أن أحدهما ما ورد أعده للشرب وله التطهير بالآخر للحكم عليه بأنه ماء.
واستشكل بأن الشرب لا يحتاج إلى اجتهاد. وأجيب بأن الشرب وإن لم يحتج إليه لكن شرب ماء الورد في ظنه يحتاجه فيه إليه.
تنبيه: للاجتهاد شروط علم بعضها مما مر، الأول: أن يتأيد بأصل الحل فلا يجتهد فيما اشتبه ببول كما تقدم. الثاني:
أن يقع الاشتباه في متعد فلو تنجس أحد كميه أو إحدى يديه وأشكل فلا يجتهد كما سيأتي في شروط الصلاة إن شاء الله
تعالى. الثالث: أن يبقى المشتبهان، فلو تلف أحدهما لم يجتهد في الباقي بل يتيمم ولا يعيد وإن بقي الآخر، لأنه ممنوع من استعماله
غير قادر على الاجتهاد. الرابع: بقاء الوقت، فلو ضاق عن الاجتهاد تيمم وصلى وأعاد، قاله العمراني في البيان. الخامس: أن
يكون للعلامة فيه مجال بأن يتوقع ظهور الحال فيه كالثياب والأواني والأطعمة، فلا يجتهد فيما إذا اشتبهت محرمة بأجنبية
فأكثر كما سيأتي إن شاء الله تعالى في النكاح أو ميتة بمذكاة أو نحو ذلك وأسقط ابن المقرى هذا الشرط. قال شيخنا:
27

وكأنه رأى كالرافعي أن هذه الأشياء تخرج بتأييد الاجتهاد بالأصل فاكتفى به. وشرط الاخذ والعمل بالاجتهاد أن تظهر
بعده العلامة. (وإذا) اجتهد. و (استعمل ما ظنه) الطاهر كله أو بعضه من الماءين، (أراق الآخر) ندبا، وقيل وجوبا إذا لم
يخف العطش ليشربه إذا اضطر، لئلا يتغير اجتهاده فيشتبه عليه الامر كما يندب له ذلك قبل الاستعمال أيضا كما في المجموع
والتحقيق. وهو أولى لئلا يغلط فيستعمله. ويمكن حمل كلام المتن عليه على قصد الإرادة كما في قوله تعالى: * (فإذا قرأت
القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) *. (فإن تركه) أي لم يرقه وصلى بالأول الصبح مثلا ثم حضرت الظهر وهو محدث
ولم يبق من الأول شئ، لم يجب الاجتهاد لعدم التعدد. وأما جوازه فثابت على رأي الرافعي دون المصنف، فلو اجتهد على
رأي الرافعي أو قويت عنده أمارة بعد ضعفها مع استناده في القوة والضعف لاجتهاد واحد، (وتغير ظنه) فيه من النجاسة
إلى الطهارة، (لم يعمل بالثاني) من الاجتهادين على رأي الرافعي، أو ظني الاجتهاد على رأي المصنف. (على النص) لأن
الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. (بل يتيمم) لأنه لا يمكنه استعمال ما معه كما مر، ويصلي (بلا إعادة في الأصح) إذ ليس معه
ماء طاهر بيقين، والثاني: يعيد لأن معه ماء طاهر بالظن، فإن بقي من الأول شئ لم يجز لغيره أن يستعمله إلا باجتهاد، ولو
أحدث هو لزمه الاجتهاد للصلاة الثانية وإن لم يكف الباقي طهارته، أي إذا لم يكن متذكرا للعلامة الأولى، فإن تغير اجتهاده
اجتنبهما وتيمم لما مر وأعاد ما صلاه بالتيمم لبقائهما منفردين لأنه تيمم بحضرة ماء طاهر بيقين له طريق في إعدامه. أما
إذا لم يحدث بأن استمر متطهرا حتى حضرت صلاة أخرى فإنه لا يلزمه الاجتهاد وإن تغير ظنه، لأن الطهارة
لا ترفع بالظن.
وخرج ابن سريج من النص في تغير الاجتهاد في القبلة العمل بالثاني، وفرق بأن العمل به هنا يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد
إن غسل ما أصابه الأول، وإلى الصلاة بنجاسة إن لم يغسله، وهناك لا يؤدي إلى صلاة بنجاسة ولا إلى غير القبلة. ومنع
ابن الصباغ ذلك بأنه إنما يؤدي إلى نقض الاجتهاد بالاجتهاد لو أبطلنا ما مضى من طهره وصلاته ولم نبطله بل أمرناه بغسل
ما ظن نجاسته كما أمرناه باجتناب بقية الماء الأول. وأجيب بأنه يكفي في النقض وجوب غسل ما أصابه الأول واجتناب البقية.
ويؤخذ من ذلك أنه إذا اشتبه عليه ماء مستعمل بطهور أو كان غسل أعضاء الوضوء من الأول أنه يعمل بالثاني لفقد العلة،
وهو كذلك. وبما قرر ت به كلام المصنف سقط ما قيل إن ذلك لا يتأتى إلا على رأي الرافعي. ويجتهد في غير الماء أيضا
وجوبا إن اضطر، وإلا فجوازا ولو في جنسين كلبن وخل. (ولو أخبره بتنجسه) أي الماء أو غيره عدل (مقبول الرواية)
كعبد وامرأة لا فاسق ومجنون ومجهول وصبي ولو مميزا. ووقع في شرح المهذب في باب الاذان قبول إخبار المميز فيما طريقه
المشاهدة بخلاف ما طريقه النقل، والمعتمد عدم قبوله مطلقا كما صححه في زيادة الروضة ونقله عن الجمهور. نعم لو أخبر جماعة
من الفساق لا يمكن تواطؤهم على الكذب قبل خبرهم، وكذا لو أخبر الفاسق عن فعل نفسه كقوله بلت في الاناء قاله الزركشي.
ومثله الصبي المميز كما قاله بعض المتأخرين. وقد قالوا فيما وجدت شاة مذبوحة فقال ذمي - أي تحل ذبيحته - أنا ذبحتها، أنها
تحل وكفى به فاسقا. (وبين السبب) في تنجسه كولوغ كلب، (أو كان فقيها) بما ينجس، (موافقا) للمخبر في مذهبه في ذلك
وإن لم يبين السبب، (اعتمده) لأنه خبر يغلب على الظن التنجيس. ويؤخذ من ذلك أن الكلام في فقيه يغلب على الظن أنه
يعرف ترجيحات المذهب، فسقط بذلك ما قيل إن في المذهب خلافا في مسائل: كولوغ هرة في ماء قليل بعد نجاسة فمها وغيبتها،
وكوقوع فأرة أو هرة في ماء قليل إذا خرجت منه حية، ونحو ذلك. فقد يظن الفقيه الموافق ترجيح المرجوح لعدم علمه بالراجح
ولو اختلف عليه خبر عدلين فصاعدا، كأن قال أحدهما: ولغ الكلب في هذا دون ذاك، وقال الآخر: بل في ذاك دون هذا،
صدقا إن أمكن صدقهما، فيحكم بنجاسة الماءين لاحتمال الولوغ في وقتين. فلو تعارضا في الوقت أيضا بأن عيناه صدق أوثقهما،
فإن استويا فالأكثر عددا، فإن استويا سقط خبرهما لعدم الترجيح وحكم بطهارة الإنائين، كما لو عين أحدهما كلبا كأن قال:
ولغ هذا الكلب في هذا الماء وقت كذا، وقال الآخر: كان حينئذ ببلد آخر مثلا.
فروع: لو اغترف من دنين في كل منهما ماء قليل أو مائع في إناء واحد فوجد فيه فأرة ميتة لا يدري من أيهما هي، اجتهد،
28

فإن ظنها من الأول واتحدت المغرفة ولم تغسل بين الاغترافين حكم بنجاستهما، وإن ظنها من الثاني أو من الأول واختلفت
المغرفة أو اتحدت وغسلت بين الاغترافين حكم بنجاسة ما ظنها فيه، ولو اشتبه عليه إناء بول بأواني بلد أو ميتة بمذكاة أخذ
منها ما شاء بغير اجتهاد إلا واحدا، كما لو حلف لا يأكل ثمرة بعينها فاختلطت بثمر فأكل الجميع إلا ثمرة لم يحنث. ولو رفع نحو كلب رأسه من إناء وفيه ماء قليل أو مائع اخر وفمه رطب لم يضر لأن الأصل الطهارة هذا ان احتمل ترطبه من غيره والا ضر ولو غلبت
النجاسة في شئ، والأصل فيه الطهارة، كثياب مدمني الخمر ومتدينين بالنجاسة كالمجوس ومجانين وصبيان - بكسر الصاد أشهر
من ضمها وجزارين حكم له بالطهارة عملا بالأصل. وكذا ما عمت به البلوى من ذلك كعرق الدواب ولعابها، ولعاب الصبي، والحنطة
التي تداس، والثور يبول عليها، والجوخ وقد اشتهر استعماله بشحم الخنزير. ومن البدع المذمومة غسل ثوب جديد وقمح
وفم من أكل نحو خبز وترك مؤاكلة الصبيان لتوهم نجاستها - قاله في العباب - والبقل النابت في نجاسة متنجس لا مرتفع عن منبته
فإنه طاهر. ولو وجد قطعة لحم في إناء أو خرقة ببلد لا مجوس فيه فطاهرة، أو مرمية مكشوفة فنجسة، أو في إناء أو خرقة والمجوس
بين المسلمين ولم يكن المسلمون أغلب فكذلك، وإن كان المسلمون أغلب فطاهرة، وكذا إذا استويا فيما يظهر. (ويحل استعمال)
واقتناء (كل إناء طاهر) في الطهارة وغيرها بالاجماع، أي من حيث أنه طاهر فلا يرد المغصوب وجلد الآدمي، لأن تحريمهما لمعنى آخر، وهو تحريم استعمال ملك الغير إلا برضاه، وانتهاك حرمة جلد الآدمي، وقد توضأ (ص) من جلد ومن قدح من
خشب ومن مخضب من حجر ومن إناء من صفر، وكره بعضهم الأكل والشرب من الصفر. قال القزويني: اعتياد ذلك يتولد
منه أمراض لا دواء لها، وخرج بالطاهر النجس كالمتخذ من ميتة فيحرم استعماله فيما ينجس به كماء قليل ومائع لا فيما لا ينجس
به كماء كثير أو غيره مع الجفاف، لكن يكره في الثاني. فالمفهوم فيه تفصيل، فقد خالف حكمه حكم المنطوق. (إلا ذهبا وفضة)
أي إناءهما المعمول منهما أو من أحدهما، (فيحرم) استعماله على الرجل والمرأة والخنثى بالاجماع، ولقوله (ص):
لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها متفق عليه. ويقاس غير الأكل والشرب عليهما، وإنما خصا
بالذكر لأنهما أظهر وجوه الاستعمال وأغلبها. ويحرم على الولي أن يسقي الصغير بمسعط من إنائهما، ولا فرق بين الاناء الكبير
والصغير، حتى ما يخلل به أسنانه والميل إلا لضرورة كأن يحتاج إلى جلاء عينه بالميل فيباح استعماله والوضوء منه صحيح.
والمأخوذ منه من مأكول أو غيره حلال، لأن التحريم للاستعمال لا لخصوص ما ذكر. ويحرم التطيب بماء الورد ونحوه من
إناء مما ذكر، والتبخر بالاحتواء على مجمرة منه، أو إتيان رائحتها من قرب لا من بعد. قال في المجموع: وينبغي أن يكون بعدها
بحيث لا ينسب إليه أن يتطيب بها، ولو بخر ثيابه بها أو قصد تطيب البيت فمستعمل. قال في المجموع: والحيلة في الاستعمال أن
يخرج الطعام من الاناء إلى شئ بين يديه كقشرة رغيف ثم يأكله ويصب الماء في شئ ولو في يده التي لا يستعمله بها،
فيصبه أولا في يده اليسرى ثم في اليمنى ثم يستعمله ويصب ماء الورد في يساره ثم ينقله إلى يمينه ثم يستعمله، ويحرم البول في الاناء
منهما أو من أحدهما، ولا يشكل ذلك بقولهم: يجوز الاستنجاء بالذهب والفضة، لأن الكلام هناك في قطعة ذهب أو فضة،
وهنا في إناء هي منهما لذلك. واستثنى في شرح المهذب الذهب إذا صدئ، ولكن فيه التفصيل الذي في التمويه
بنحاس ونحوه. (وكذا) يحرم (اتخاذه) أي اقتناؤه من غير استعمال، (في الأصح) لأن ما لا يجوز استعماله للرجال ولا لغيرهم
يحرم اتخاذه كآلة الملاهي. والثاني: لا يحرم، لأن النهي الوارد إنما هو في الاستعمال لا الاتخاذ، وليس كآلة الملاهي، لأن اتخاذها
يدعو إلى استعمالها لفقد ما يقوم مقامها بخلاف الأواني، ولا أجرة لصنعته، ولا أرش لكسره كآلة اللهو.
فائدة: جمع الاناء: آنية كسقاء وأسقية، وجمع الآنية أوان، ووقع في الوسيط إطلاق الآنية على المفرد وليس بصحيح.
ويحرم تزيين الحوانيت والبيوت بآنية النقدين على الأصح في الروضة وشرح المهذب، ويحرم تحلية الكعبة وسائر المساجد
بالذهب والفضة. (ويحل المموه) أي المطلي بذهب أو فضة، ومنه تمويه القول: أي تلبيسه. فإن موه غير
النقد كإناء نحاس
وخاتم وآلة حرب منه بالنقد ولم يحصل منه شئ ولو بالعرض على النار، أو موه النقد بغيره أو صدئ مع حصول شئ من
المموه به أو الصدأ، حل استعماله (في الأصح) لقلة المموه به في الأولى فكأنه معدوم، ولعدم الخيلاء في الثانية، فإن حصل شئ
29

من النقد في الأولى لكثرته أو لم يحصل شئ من غيره في الثانية لقلته حرم استعماله، وكذا اتخاذه في الأصح أخذا مما سبق،
فالعلة مركبة من تضييق النقدين والخيلاء وكسر قلوب الفقراء، والثاني: يحرم ذلك للخيلاء وكسر قلوب الفقراء في الأولى
والتضييق في الثانية. ويحرم تمويه سقف البيت وجدرانه وإن لم يحصل منه شئ بالعرض على النار، وتحرم استدامته إن
حصل منه شئ بالعرض عليها وإلا فلا. (و) يحل (النفيس) بالذات من غير النقدين، أي استعماله واتخاذه، (كياقوت)
وفيروزج وبلور - بكسر الباء وفتح اللام - ومرجان وعقيق، والمتخذ من الطيب المرتفع كمسك وعنبر وعود، (في الأظهر) لأنه
لم يرد فيه نهي ولا يظهر فيه معنى السرف والخيلاء لكنه يكره، والثاني: يحرم للخيلاء وكسر قلوب الفقراء، ورد بأن ذلك
لا يعرفه إلا الخواص. أما النفيس بالصنعة كزجاج وخشب محكم الخرط والمتخذ من طيب غير مرتفع فيحل بلا خلاف.
ومحل الخلاف أيضا في غير فص الخاتم، أما هو فإنه جائز قطعا كما قاله في شرح المهذب.
فائدة: عن أنس أن النبي (ص) قال: من اتخذ خاتما فصه ياقوت نفي عنه الفقر، قال ابن الأثير: يريد أنه إذا
ذهب ماله باع خاتمه فوجد به غنى، قال: والأشبه إن صح الحديث أن يكون لخاصية فيه، كما أن النار لا تؤثر فيه ولا تغيره.
وقيل: من تختم به أمن من الطاعون وتيسرت له أسباب المعاش ويقوى قلبه وتهابه الناس ويسهل عليه قضاء الحوائج. وقيل:
إن الحجر الأسود من ياقوت الجنة، فمسحه المشركون فاسود من مسحهم. وقيل: إن النبي (ص) أعطى عليا
فصا من ياقوت وأمره أن ينقش عليه لا إله إلا الله ففعل وأتى إلى النبي (ص)، فقال له (ص): لم زدت
محمد رسول الله؟ فقال: والذي بعثك بالحق ما فعلت إلا ما أمرتني به فهبط جبريل عليه (ص) وقال: يا محمد إن الله تعالى
يقول لك أحببتنا فكتبت اسمنا ونحن أحببناك فكتبنا اسمك. (وما ضبب) من إناء (بذهب أو فضة ضبة كبيرة) وكلها
أو بعضها وإن قل، (لزينة حرم) استعماله واتخاذه. وأصل الضبة أن ينكسر الاناء فيوضع على موضع الكسر نحاس أو فضة
أو غيره لتمسكه، ثم توسع الفقهاء فأطلقوه على إلصاقه به وإن لم ينكسر. (أو صغيرة بقدر الحاجة فلا) يحرم للصغر ولا يكره
للحاجة، ولما رواه البخاري عن عاصم الأحول قال: رأيت قدح رسول الله (ص) عند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه
وكان قد انصدع - أي انشق - فسلسله بفضة أي شده بخيط فضة، والفاعل هو أنس كما رواه البيهقي، قال أنس: لقد سقيت
رسول الله (ص) في هذا القدح أكثر من كذا وكذا. (أو صغيرة) وكلها أو بعضها، (لزينة، أو كبيرة) كلها (لحاجة جاز)
مع الكراهة فيهما (في الأصح) أما في الأولى فللصغر ولقدرة معظم الناس على مثلها، وكره لفقد الحاجة، وأما في الثانية
فللحاجة وكره للكبر. والثاني يحرم نظرا للزينة في الأولى وللكبر في الثانية. (وضبة موضع الاستعمال) لنحو شرب (كغيره)
فيما ذكر من التفصيل (في الأصح) لأن الاستعمال منسوب إلى الاناء كله، ولان معنى العين والخيلاء لا يختلف بل قد تكون العين
الزينة في غير موضع الاستعمال أكثر، والثاني: يحرم إناؤها مطلقا لمباشرتها بالاستعمال. (قلت: المذهب تحريم) إناء (ضبة
الذهب) سواء أكان معه غيره أم لا (مطلقا) أي من غير تفصيل كما مر (والله أعلم) لأن الخيلاء فيه أشد من الفضة، ولان
الحديث المار في الفضة، ولا يلزم من جوازها جوازه لأنها أوسع بدليل جواز الخاتم للرجل منها. ومقابل المذهب أن الذهب
كالفضة فيأتي فيه ما مر كما نقله الرافعي عن الجمهور. ومعنى الحاجة غرض إصلاح الكسر، ولا يعتبر العجز عن التضبيب بغير
الذهب والفضة، لأن العجز عن غيرهما يبيح استعمال الاناء الذي كله ذهب أو فضة فضلا عن المضبب به. ومرجع الكبر
والصغر العرف، وقيل: الكبيرة ما تستوعب جانبا من الاناء، وقيل: ما كانت جزءا كاملا كشفة أو أذن والصغيرة دون
ذلك، وقيل: ما يلمع للناظر من بعد كبير، وما لا فصغير، فإن شك في كبرها فالأصل الإباحة، قاله في المجموع. ويشكل على
ذلك ما قالوه في باب اللباس من أنه لو شك في ثوب فيه حرير وغيره هل الأكثر حريرا أو لا، أنه يحرم استعماله، وكذا لو شك
30

في التفسير هل هو أكثر من القرآن أو لا، فإنه يحرم على المحدث مسه، وأجبت عن ذلك في شرح التنبيه.
تنبيه: قال الشارح: وتوسع المصنف في نصب الضبة بفعلها نصب المصدر، أي لأن انتصاب الضبة على المفعول
المطلق فيه توسع على خلاف الأكثر، فإن أكثر ما يكون المفعول المطلق مصدرا، وهو اسم الحدث الجاري على الفعل
كما هو معروف في محله، نحو: * (وكلم الله موسى تكليما) *. لكن قد ينوب عن المصدر في الانتصاب على المفعول المطلق
أشياء: منها ما يشارك المصدر في حروفه التي بنيت صيغته منها، ويسمى المشارك في المادة، وهو أقسام: منها ما يكون
اسم عين لا حدث كالضبة فيما نحن فيه، ونحو قوله عز وجل: * (والله أنبتكم من الأرض نباتا) * فضبة اسم عين مشارك لمصدر
ضبب، وهو التضبيب في مادته، فأنيب منابه في انتصابه على المفعول المطلق.
فائدة: سئل فقيه العرب عن الوضوء من الاناء المعوج، فقال: إن أصاب الماء، أي القليل تعويجه، لم يجز وإلا جاز.
والمراد به المضبب بالعاج، وهو ناب الفيل، ولا يسمى غيرنا به عاجا. وليس مرادهم بفقيه العرب شخصا معينا،
وإنما يذكرون ألغازا وملحا ينسبونها إليه، وهو مجهول لا يعرف ونكرة لا يتعرف.
تتمة: تسمير الدراهم في الاناء كالتضبيب فيأتي فيه التفصيل السابق، بخلاف طرحها فيه لا يحرم به استعمال الاناء
مطلقا ولا يكره، وكذا لو شرب بكفه وفي أصبعه خاتم أو في فمه دراهم أو شرب بكفه وفيها دراهم، فإن جعل للاناء
حلقة من فضة أو سلسلة منها أو رأسا جاز، وإنما جاز ذلك في الرأس لأنه منفصل عن الاناء لا يستعمل، قال الرافعي:
ولك منعه بأنه مستعمل بحسبه، وإن سلم فليكن فيه خلاف الاتخاذ، ويمنع بأن الاتخاذ يجر إلى الاستعمال المحرم بخلاف
هذا. والمراد به ما يجعل في فم الكوز فهو قطعة فضة، أما ما يجعل كالإناء ويغطى به فإنه يحرم، أما الذهب فلا يجوز منه
ذلك. ويسن إذا جن الليل تغطية الاناء ولو بعرض عود وإيكاء السقاء وإغلاق الأبواب مسميا لله تعالى في الثلاثة، وكف
الصبيان والماشية أول ساعة من الليل وإطفاء المصباح للنوم.
خاتمة: أواني المشركين إن كانوا لا يتعبدون استعمال النجاسة كأهل الكتاب فهي كآنية المسلمين، لأن النبي صلى
الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة، وتوضأ عمر من جر نصرانية، والجر والجرار جمع جرة، ويكره استعمالها
لعدم تحرزهم. وإن كانوا يتدينون باستعمال النجاسة كطائفة من المجوس يغتسلون ببول البقر تقربا، ففي جواز استعمالها
وجهان، أخذ من القولين في تعارض الأصل والغالب، ولكن يكره استعمال أوانيهم وملبوسهم وما يلي أسافهم -
أي مما يلي الجلد - أشد، وأواني مائهم أخف. ويجري الوجهان في أواني مدمني الخمر والقصابين الذين لا يحترزون من
النجاسة، والأصح الجواز، أي مع الكراهة أخذا مما مر.
(باب أسباب الحدث)
والمراد به عند الاطلاق كما هنا الأصغر غالبا. والأسباب جمع سبب، وهو كل شئ يتوصل به إلى غيره، وتقدم
تعريف الباب والحدث لغة واصطلاحا، والمراد بالحدث هنا الأسباب نفسها، ولكن إضافتها إليه تقتضي تفسير الحدث
بغير الأسباب إلا أن تجعل الإضافة بيانية، والأصح أنه مختص بالأعضاء الأربعة، لأن وجوب الغسل والمسح مختصان بها وأن كل عضو
يرتفع حدثه بغسله في المغسول وبمسحه في الممسوح، وإنما حرم مس المصحف بذلك العضو بعد غسله قبل تمام الطهارة
لأنه لا يسمى متطهرا، وقد قال تعالى: * (لا يمسه إلا المطهرون) * وتعبيره كالمحرر بالأسباب أولى من التعبير بما ينقض
الوضوء، لأن الأصح أنه لا يقال انتقض الوضوء بل انتهى، كما يقال انتهى الصوم لا بطل، قال في الدقائق. لكن المصنف عبر بعد
ذلك بالنقض بقوله: فخرج المعتاد نقض ويؤول بمعنى انتهى الطهر به. قال الزمخشري: وإنما بوب المصنفون في كل فن
من كتبهم أبوابا موشحة الصدور بالتراجم لأن القارئ إذا ختم بابا من كتاب ثم أخذ في آخر كان أنشط له وأبعث على
الدرس والتحصيل، بخلاف ما لو استمر على الكتاب بطوله، ومثله المسافر إذا علم أنه قطع ميلا أو طوى فرسخا نفس ذلك
31

عنه ونشط للمسير، ومن ثم كان القرآن الكريم سورا وجزأه القراء عشورا وأسباعا وأخماسا وأحزابا. وقدم المصنف تبعا
لاصله هذا الباب على الوضوء كما قدم موجب الغسل على الغسل، وهو ترتيب طبيعي، وخالف في الروضة فقدم الوضوء ولم
يقدم الغسل على موجبه، لأن الانسان يولد محدثا فيعرف الوضوء ثم ما ينتهي به، ولا يولد جنبا، فقدم موجب الغسل عليه. (هي) أي
الأسباب (أربعة) ثابتة بالأدلة الآتية، وعلة النقض بها غير معقولة المعنى فلا يقاس عليها غيرها، فلا نقض بالبلوغ بالسن
ولا بمس الأمرد الحسن، ولا بمس فرج البهيمة، ولا بأكل لحم الجزور على المذهب في الأربعة وإن صحح المصنف
الأخير منها من جهة الدليل، ثم أجاب من جهة المذهب فقال: أقرب ما يستروح إليه في ذلك قول الخلفاء الراشدين وجماهير
الصحابة. ومما يضعف النقض به أن القائل به لا يعديه إلى شحمه وسنامه مع أنه لا فرق، ولا بالقهقهة في الصلاة، وإلا لما اختص
النقض بها كسائر النواقض، وما روي من أنها تنقض فضعيف، ولا بالنجاسة الخارجة من غير الفرج كالفصد والحجامة لما روى
أبو داود بإسناد صحيح: أن رجلين من أصحاب النبي (ص) حرسا المسلمين في غزوة ذات الرقاع، فقام أحدهما يصلي، فرماه رجل من
الكفار بسهم فنزعه وصلى ودمه يجري، وعلم النبي (ص) به ولم ينكره. وأما صلاته مع الدم فلقلة ما أصابه منه. ولا بشفاء دائم
الحدث، لأن حدثه لم يرتفع فكيف يصح عد الشفاء سببا للحدث مع أنه لم يزل؟ ولا بنزع الخف، لأن نزعه يوجب غسل
الرجلين فقط على الأصح. (أحدها) أي الأسباب (خروج شئ) عينا كان أو ريحا، طاهرا أو نجسا، جافا أو رطبا، معتادا كبول أو
نادرا كدم انفصل، أو لا قليلا أو كثيرا طوعا أو كرها. (من قبله) أي المتوضئ الحي الواضح، ولو بخروج الولد أو أحد
ذكرين يبول بهما، أو أحد فرجين يبول بأحدهما ويحيض بالآخر، فإن بال بأحدهما أو حاض به فقط اختص الحكم به.
أما المشكل فإن خرج الخارج من فرجيه جميعا فهو محدث، وإن خرج من أحدهما فالحكم كما لو خرج من ثقبة تحت المعدة مع
انفتاح الأصلي، وسيأتي أنه لا نقض بها. (أو) خروج شئ من (دبره) أي المتوضئ الحي، والأصل في ذلك قوله تعالى: * (أو
جاء أحد منكم من الغائط) * الآية، والغائط المكان المطمئن من الأرض تقضى فيه الحاجة، سمي باسمه الخارج للمجاورة.
قال القاضي أبو الطيب: وفي الآية تقديم وتأخير ذكره الشافعي عن زيد بن أسلم رضي الله تعالى عنهما، تقديرها: إذا قمتم
إلى الصلاة من النوم أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فاغسلوا وجوهكم، إلى قوله: * (أو على سفر) * فيقال
عقبه: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * قال: وزيد من العالمين بالقرآن. والظاهر أنه قدرها توقيفا مع أن التقدير فيها لا بد منه،
فإن نظمها يقتضي أن المرض والسفر حدثان ولا قائل به اه‍. وحديث الصحيحين أنه (ص) قال في المذي: يغسل ذكره
ويتوضأ، وفيهما اشتكى إلى النبي (ص) الذي يخيل إليه أنه يجد الشئ في الصلاة، قال: لا ينصرف حتى
يسمع
صوتا أو يجد ريحا. والمراد العلم بخروجه لا سمعه ولا شمه، وليس المراد حصر الناقض في الصوت والريح، بل نفي وجوب
الوضوء بالشك في خروج الريح. ويقاس بما في الآية والاخبار كل خارج مما ذكر وإن لم تدفعه الطبيعة، كعود خرج
من الفرج بعد أن دخل فيه. وتعبير المصنف أولى من تعبير غيره بالسبيلين، إذ للمرأة ثلاثة مخارج اثنان من قبلها وواحد
من دبرها، ولشموله ما لو خلق له ذكران فإنه ينتقض بالخارج من كل منهما كما مر، وكذا لو خلق للمرأة فرجان كما
ذكره في شرح المهذب. (إلا المني) أي من الشخص نفسه الخارج منه أولا، كأن أمنى بمجرد نظر أو احتلام ممكنا مقعده
فلا ينقض الوضوء، لأنه أوجب أعظم الامرين وهو الغسل بخصوصه، أي بخصوص كونه منيا، فلا يوجب أدونهما وهو
الوضوء بعمومه، أي بعموم كونه خارجا، كزنا المحصن لما أوجب أعظم الحدين لكونه زنا المحصن فلا يوجب أدونهما لكونه
زنا. وإنما أوجبه الحيض والنفاس مع إيجابهما الغسل، لأنهما يمنعان صحة الوضوء فلا يجامعانه، بخلاف خروج المني يصح
معه الوضوء في صورة سلس المني فيجامعه. وفائدة عدم النقض تظهر فيما لو كان عليه حدث أصغر وغسل جنابة فاغتسل
للجنابة، ففي صحة صلاته خلاف، فههنا تصح قطعا، وفيما إذا فعل الوضوء قبل الغسل فإنه سنة. فإن قلنا ينقض نوى بالوضوء
رفع الحدث الأصغر وإلا نوى سنة الغسل كما سيأتي تفصيل ذلك. أما مني غيره أو منيه إذ عاد فينقض خروجه لفقد العلة،
نعم لو ولدت ولدا جافا انتقض وضوؤها كما في فتاوى شيخي أخذا من قول المصنف إن صومها يبطل بذلك، لأن الولد منعقد
32

من منيها ومني غيرها. (ولو انسد مخرجه) أي الأصلي من قبل أو دبر بأن لم يخرج شئ منه وإن لم يحتلم، (وانفتح) مخرج ند له،
(تحت معدته)، وهي بفتح الميم وكسر العين على الأفصح: مستقر الطعام، وهي من السرة إلى الصدر كما قاله الأطباء
والفقهاء واللغويون، هذا حقيقتها، والمراد بها هنا السرة. (فخرج) معه (المعتاد) خروجه كبول، (نقض) إذ لا بد للانسان
من مخرج يخرج منه ما تدفعه الطبيعة، فأقيم هذا مقامه. (وكذا نادر كدود) ودم (في الأظهر) لقيامه مقام الأصلي، فكما
ينقض الخارج النادر منه فكذلك هذا أيضا، والثاني: لا، لأنا إنما أقمناه مقام الأصلي للضرورة، ولا ضرورة في خروج
غير المعتاد. وما تقرر من الاكتفاء بأحد المخرجين هو ظاهر كلام الجمهور وهو المعتمد، وإن صرح الصيمري باشتراط
انسدادها، وقال: لو انسد أحدهما فالحكم للباقي لا غير. (أو) انفتح (فوقها) أي المعدة، والمراد فوق تحتها كما في بعض
النسخ، أو فوقه، أي فوق تحت المعدة حتى تدخل هي بأن انفتح في السرة أو بمحاذيها أو فيما فوق ذلك. (وهو) أي الأصلي
منسد أو تحتها وهو منفتح فلا ينقض الخارج منه (في الأظهر) أما في الأول فلان ما يخرج من فوق المعدة أو منها أو
من محاذيها لا يكون مما أحالته الطبيعة، لأن ما تحيله تلقيه إلى أسفل فهو بالقئ أشبه، وأما في الثانية فلا ضرورة إلى جعل
الحادث مخرجا مع انفتاح الأصلي، والثاني: ينقض فيهما ولو نادرا. أما في الأولى فلانه لا بد من مخرج، وأما الثانية فلانه
كالمخرج المعتاد، وحيث أقمنا المنفتح كالأصلي إنما هو بالنسبة للنقض بالخارج منه فلا يجزئ فيه الحجر ولا ينتقض الوضوء
بمسه، ولا يجب الغسل ولا غيره من أحكام الوطئ بالايلاج فيه، ولا يحرم النظر إليه حيث كان فوق العورة، قال الماوردي:
هذا من الانسداد العارض، أما الخلقي فينقض معه الخارج من المنفتح مطلقا والمنسد حينئذ كعضو زائد من الخنثى لا وضوء
بمسه ولا غسل بإيلاجه والايلاج فيه. قال في المجموع: ولم أر لغيره تصريحا بموافقته أو مخالفته، وقال في نكته على التنبيه:
إن تعبيرهم بالانسداد يشعر بما قاله الماوردي اه‍. وظاهر كلام الماوردي أن الحكم حينئذ للمنفتح مطلقا حتى يجب الوضوء
بمسه والغسل بإيلاجه والايلاج فيه وغير ذلك، وهو كذلك كما اعتمده شيخي وإن استبعده بعض المتأخرين. ومما يرد
الاستبعاد أن الانسان لو خلق له ذكر فوق سرته يبول منه ويجامع به ولا ذكر له سواه، ألا ترى أنا نذير الأحكام عليه؟ ولا
ينبغي أن يقال إنا نجعل له حكم النقض فقط ولا حكم له غير ذلك. وخرج بقوله انفتح ما لو خرج من المنافذ الأصلية كالفم
والاذن فإنه لا نقض بذلك كما هو ظاهر كلامهم. (الثاني: زوال العقل) أي التمييز بنوم أو غيره كإغماء وسكر وجنون، وذلك
لقوله (ص): العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ رواه أبو داود وغيره، وهو بسين مهملة مشددة مفتوحة وهاء
:
حلقة الدبر، والوكاء بكسر الواو والمد: الخيط الذي يربط به الشئ، والمعنى فيه أن اليقظة هي الحافظة لما يخرج، والنائم قد
يخرج منه الشئ ولا يشعر به، وغير منوم مما ذكر أبلغ منه في الذهول الذي هو مظنة لخروج شئ من الدبر كما أشعر به الخبر.
فإن قيل: الأصل عدم خروج شئ فكيف عدل عنه وقيل بالنقض؟ أجيب بأنه لما جعل مظنة لخروجه من غير شعور به
أقيم مقام اليقين كما أقيمت الشهادة المفيدة للظن مقام اليقين في شغل الذمة، ولهذا لم يعولوا على احتمال ريح يخرج من القبل
لأن ذلك نادر. وخرج بزوال التمييز النعاس، وحديث النفس، وأوائل نشوة السكر فلا نقض بها.
ومن علامات النوم الرؤيا، ومن علامات النعاس سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهمه. ولو شك هل نام أو انعكس أو نام ممكنا أو لا لم ينتقض، ولو تيقن
الرؤيا وشك في النوم انتقض لما مر أنها من علاماته. والعقل لغة المنع، لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب الفواحش، ولذا قيل:
إن العقل لا يعطى لكافر، إذ لو كان له عقل لآمن، إنما يعطى الذهن، لما روى الترمذي أن رجلا قال: يا رسول الله ما أعقل فلانا
النصراني فقال: مه إن الكافر لا عقل له أما سمعت قوله تعالى: * (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير) *؟
وأجاب الجمهور بحمل هذا على العقل النافع. وأما اصطلاحا فأحسن ما قيل فيه: إنه صفة يميز بها بين الحسن والقبيح، وعن
الشافعي أنه آلة التمييز. وقيل: هو غريزة يتبعها العلم بالضروريات عند سلامة الآلات، وقيل غير ذلك. واختلف في محله،
فقال أصحابنا وجمهور المتكلمين: إنه في القلب، وقال أصحاب أبي حنيفة وأكثر الأطباء: إنه في الدماغ، وسيأتي في الجنايات
33

إن شاء الله تعالى أنه لا قصاص فيه للاختلاف في محله. (إلا نوم ممكن مقعده) أي ألييه من مقره من أرض أو غيرها فلا ينقض
وضوؤه ولو مستندا إلى ما لو زال لسقط، لا من خروج شئ حينئذ من دبره. ولا عبرة باحتمال خروج ريح من قبله
لأنه نادر كما مر، ومثل ذلك ما لو نام متمكنا بالمنفتح الناقض كما يؤخذ من كلام التنبيه، ولقول أنس رضي الله تعالى عنه: كان
أصحاب رسول الله (ص) ينامون ثم يصلون ولا يتوضأون، رواه مسلم، وفي رواية لأبي داود: ينامون حتى تخفق
رؤوسهم الأرض، وحمل على نوم الممكن جمعا بين الحديثين. ودخل في ذلك ما لو نام محتبيا، وأنه لا فرق
بين النحيف وغيره،
وهو ما صرح به في الروضة وغيرها، وقال ابن الرفعة: إنه المذهب. ونقل الرافعي في الشرح الصغير عن الروياني أن النحيف
ينتقض وضوؤه، وقال الأذرعي: إنه الحق. وجمع شيخي بينهما بأن عبارة الروضة محمولة على نحيف لم يكن بين مقره
ومقعده تجاف - والشرح على خلافه - وهو جمع حسن، لكن عبارة الشرح الصغيرة: بين بعض مقعده ومقره تجاف فيكون
الفرق التجافي الكامل. ولا تمكين لمن نام على قفاه ملصقا مقعده بمقره، وكذا لو تحفظ بخرقة ونام غير قاعد. ولو نام
متمكنا فسقطت يده على الأرض لم ينتقض ما لم تزل أليته عن التمكن. ومن خصائصه (ص) أنه لا ينتقض
وضوؤه بنومه مضطجعا، كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب النكاح. ويستحب الوضوء من النوم متمكنا خروجا من
الخلاف، خرج بالنوم غيره مما ذكر معه فينتقض الوضوء به مطلقا.
فائدة: قال الغزالي: الجنون يزيل العقل، والاغماء يغمره، والنوم يستره، ولهذا قال بعضهم: لو عبر المصنف
بالغلبة على العقل ليكون الاستثناء متصلا لكان أحسن. ويندفع ذلك بما حملت عليه عبارته تبعا للشارح. (الثالث: التقاء بشرتي
الرجل والمرأة) لقوله تعالى: * (أو لامستم النساء) * أي لمستم كما قرئ به، فعطف اللمس على المجئ من الغائط، ورتب عليهما
الامر بالتيمم عند فقد الماء، فدل على أنه حدث كالمجئ من الغائط، لا جامعتم، لأنه خلاف الظاهر، إذ اللمس لا يختص بالجماع،
قال تعالى: * (فلمسوه بأيديهم) * وقال (ص): لعلك لمست؟. ولا فرق في ذلك بين أن يكون بشهوة أو إكراه أو نسيان
أو يكون الذكر ممسوحا أو خصيا أو عنينا أو المرأة عجوزا شوهاء أو كافرة بتمجس أو غيره، أو حرة أو رقيقة، أو العضو زائدا
أو أصليا سليما أو أشل أو أحدهما ميتا، لكن لا ينتقض وضوء الميت أولا. واللمس الجس باليد، والمعنى فيه أنه مظنة ثوران الشهوة،
ومثله في ذلك باقي صور الالتقاء فألحق به، بخلاف النقض بمس الفرج كما سيأتي فإنه يختص ببطن الكف، لأن المس إنما يثير
الشهوة ببطن الكف واللمس يثيرها به وبغيره، والبشرة ظاهر الجلد، وفي معناها اللحم كلحم الأسنان واللسان واللثة
وباطن العين، وخرج ما إذا كان على البشرة حائل ولو رقيقا. نعم لو كثر الوسخ على البشرة من العرق فإن لمسه ينقض
لأنه صار كالجزء من البدن بخلاف ما إذا كان من غبار، والسن والشعر والظفر كما سيأتي، وبالرجل والمرأة الرجلان والمرأتان
والخنثيان والخنثى مع الرجل أو المرأة ولو بشهوة لانتفاء مظنتها ولاحتمال التوافق في صور الخنثى والعضو المبان كما سيأتي.
والمراد بالرجل الذكر إذا بلغ حدا يشتهي لا البالغ، وبالمرأة الأنثى إذا بلغت كذلك لا البالغة. ولو لمست المرأة ذكر أجنبيا أو
الرجل امرأة أجنبية هل ينتقض وضوء الآدمي أو لا؟ ينبغي أن ينبني ذلك على صحة مناكحتهم، وفي ذلك خلاف يأتي في النكاح
إن شاء الله تعالى. (إلا محرما) له بنسب أو رضاع أو مصاهرة، فلا ينقض لمسها ولو بشهوة، (في الأظهر) لأنها ليست مظنة
للشهوة بالنسبة إليه كالرجل. وهي من حرم نكاحها على التأبيد بسبب مباح لحرمتها كما سيأتي في النكاح إن شاء الله تعالى، والثاني
تنقض لعموم الآية. والقولان مبنيان على أنه هل يجوز أن يستنبط من النص معنى يخصصه أو لا؟ والأصح الجواز، وقيل:
لا ينقض المحرم من النسب وينقض من غيره. ولا يرد على ذلك زوجات النبي (ص) لأن تحريمهن لحرمته
(ص) لا لحرمتهن، ولذلك قال بعض المتأخرين: ولا يورد ذلك على الضابط إلا قليل الفطنة. ولو شك في المحرمية لم ينتقض وضوؤه
لأن الأصل الطهارة. وظاهر كلامهم أن الحكم كذلك وإن اختلطت محرمة بأجنبيات غير محصورات، وهو كذلك، فقول
الزركشي أن اللمس في هذه الحالة ينقض، لأنه لو نكحها جاز بعيد، لأن الطهر لا يرفع بالشك ولا بالظن كما سيأتي، والنكاح
لو منع منه لا نسد عليه باب النكاح، نعم إن تزوج بواحدة منهن انتقض وضوؤه بلمسها لأن الحكم لا يتبعض، ومثل
34

ذلك ما لو تزوج بامرأة مجهولة النسب واستلحقها أبوه ولم يصدقه، فإن النسب يثبت فتصير أختا له ولا ينفسخ نكاحه
وينتقض وضوؤه بلمسها لما تقدم. وما لو شك هل رضع من هذه المرأة خمس رضعات فتصير أمه أو لا؟ وما لو شك هل
رضعت هذه المرأة على أمه خمس رضعات فتصير أخته أو لا؟ فيأتي في ذلك التفصيل المذكور، وهو أن لمسهما لا ينقض وضوءه
إن لم يتزوج بها لأنا لا ننقض الطهارة بالشك، وإذا تزوج بها لا نبعض الأحكام كما أفتى بذلك شيخي. (والملموس) وهو من لم
يوجد منه فعل اللمس رجلا كان أو امرأة، (كلامس) في نقض وضوئه (في الأظهر) لاستوائهما في لذة اللمس كالمشتركين في لذة
الجماع فهما كالفاعل والمفعول، والثاني: لا، وقوفا مع ظاهر الآية، وكما في مس ذكر غيره. وفرق المتولي بأن الملامسة مفاعلة ومن
لمس إنسانا فقد حصل من الآخر اللمس له، وأما الملموس فلم يحصل منه مس الذكر وإنما حصل له مس اليد، والشارع أناط
الحكم بمس الذكر. وأجيب عما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: فقدت رسول الله (ص) في الفراش
ليلة فالتمسته فوقعت يدي على بطن قدميه وهو في سجوده وهما منصوبتان وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك
وبمعافاتك من عقوبتك وبك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك، باحتمال الحائل. واعترض على المصنف
لأنه لم يتقدم للامس حكم ليحيل عليه، فإن الالتقاء يشمل اللامس والملموس، فإن فرض الالتقاء منها دفعة بحركتهما فإنهما
حينئذ لامسان صح، ولكنهما صورة نادرة لا شعور للفظه بها فتبعد الإحالة عليها. (ولا تنقض صغيرة) ولا صغير لم يبلغ كل منهما
حدا يشتهي عرفا. وقيل: من له سبع سنين فما دونها، لانتفاء مظنة الشهوة، بخلاف ما إذا بلغاها وإن انتفت بعد ذلك لنحو هرم كما
تقدمت الإشارة إليه. (و) لا (شعر) بفتح العين وسكونها، (وسن وظفر) بضم أوله مع إسكان الفاء وضمها وبكسره مع
إسكانها وكسرها، ويقال فيه: أظفور كعصفور، ويجمع على أظافر وأظافير. وعظم، إذا كانت هذه المذكورات متصلات.
(في الأصح) لأن معظم الالتذاذ في هذه الحالة إنما هو بالنظر دون اللمس، والثاني تنقض، أما في الصغيرة فلعموم الآية، وأما
في البواقي فقياسا على سائر أجزاء البدن. ويستحب الوضوء من لمس ذلك خروجا من الخلاف، أما إذا انفصلت فلا تنقض قطعا،
ولا ينقض العضو المبان غير الفرج. ولو قطعت المرأة نصفين هل ينقض كل منهما أو لا؟ وجهان، والأقرب عدم الانتقاض.
قال الناشري: وكان أحد الجزءين أعظم نقض دون غيره اه‍. والذي يظهر أنه إن كان بحيث يطلق عليه اسم امرأة نقض وإلا
فلا، وإن كنت جريت على كلامه في شرح التنبيه. أما الفرج فسيأتي، وتقدم أنه ينتقض الوضوء بلمس الميت، ووقع للمصنف
في رؤوس المسائل أنه رجح عدم النقض بلمس الميتة والميت وعد من السهو، ونقل ابن الرفعة في كفايته عن الرافعي عدم
النقض بلمس الميت ونسب للوهم. (الرابع: مس قبل الآدمي) ذكرا كان أو أنثى، من نفسه أو غيره، متصلا
أو منفصلا. (ببطن
الكف) من غير حائل لخبر: من مس فرجه فليتوضأ رواه الترمذي وصححه، ولخبر ابن حبان: إذا أفضى أحدكم بيده
إلى فرجه وليس بينهما ستر ولا حجاب فليتوضأ والافضاء لغة المس ببطن الكف، فثبت النقض في فرج نفسه بالنص، فيكون
في فرج غيره أولى لأنه أفحش لهتك حرمة غيره، ولهذا لا يتعدى النقض إليه. وقيل فيه خلاف الملموس، وتقدم الفرق بينهما.
وأما خبر عدم النقض بمس الفرج فقال ابن حبان وغيره: إنه منسوخ، والمراد بالمس مس جزء من الفرج بجزء من بطن الكف،
وبطن الكف الراحة مع بطون الأصابع، والإصبع الزائدة إن كانت على سنن الأصابع انتقض بالمس بها وإلا فلا، خلافا لما نقله
في المجموع عن الجمهور من إطلاق النقض بها. والكف مؤنثة، وسميت كفا لأنها تكف عن البدن الأذى. وبفرج المرأة
ملتقى الشفرين على المنفذ، فلا نقض بمس الأنثيين ولا باطن الأليين ولا ما بين القبل والدبر ولا العانة. وما أفنى به القفال من
أن من مس شعر الفرج ينقض ضعيف، ومس بعد الذكر المبان كمس كله إلا ما قطع في الختان إذ لا يقع عليه اسم الذكر، قاله
الماوردي. وأما قبل المرأة والدبر فالمتجه أنه إن بقي بعد اسمها قطعهما نقض مسهما وإلا فلا، لأن الحكم منوط بالاسم. ويؤخذ
من ذلك أن الذكر لو قطع ودق حتى صار لا يسمى ذكرا ولا بعضه أنه لا ينقض، وهو كذلك. ومن له كفان نقضتا بالمس سواء
أكانتا عاملتين أم غير عاملتين لا زائدة مع عاملة فلا تنقض على الأصح في الروضة، بل الحكم للعاملة فقط، وصحح في التحقيق النقض
35

بغير العامل أيضا وعزاه في المجموع لاطلاق الجمهور، ثم نقل الأول عن البغوي فقط. وجمع ابن العماد بين الكلامين فقال:
كلام الروضة فيما إذا كان الكفان على معصمين، وكلام التحقيق فيما إذا كانتا على معصم واحد، أي وكانت على سمت
الأصلية كالإصبع الزائدة وهو جمع حسن، ومن له ذكر أن نقض المس بكل منهما، سواء أكانا عاملين أم غير
عاملين لا زائدة مع عامل، ومحله كما قال الأسنوي نقلا عن الفوراني: إذا لم يكن مسامتا للعامل، وإلا فهو كإصبع زائدة مسامتة
للبقية فتنقض. (وكذا في الجديد حلقة دبره) أي الآدمي لأنه فرج، وقياسا على القبل بجامع النقض بالخارج منهما. والقديم
لا نقض بمسها لأنه لا يلتذ بمسها، والمراد بها ملتقى المنفذ لا ما وراءه جزما. ولام حلقة ساكنة وحكى فتحها
. (لا فرج بهيمة)
وطير، أي لا ينقض مسه في الجديد قياسا على عدم وجوب ستره وعدم تحريم النظر إليه والقديم، وحكاه جمع جديد أنه ينقض لأنه
كفرج الآدمي في وجوب الغسل بالايلاج فيه، فكذا في المس. (وينقض فرج الميت والصغير) لشمول الاسم. (ومحل الجب) أي القطع
للفرج، (والذكر الأشل) وهو كما سيأتي في الجنايات الذي ينقض ولا ينبسط أو بالعكس، وينبغي أن يكون مثل ذلك الفرج
الأشل. (وباليد الشلاء) وهي التي بطل عملها، (في الأصح) لأن محل الجب في معنى الفرج. ومحل الخلاف إذا جب الذكر
من أصله، فإن بقي منه شاخص نقض قطعا، ولشمول الاسم في الباقي. والثاني: لا تنقض المذكورات لانتفاء الفرج في محل الجب
ولانتفاء مظنة الشهوة في غيره. قال في المجموع: ولو نبت موضع الجب جلدة فمسه كمسه بلا جلدة، هذا كله إذا كان الممسوس
واضحا فإن كان مشكلا فإما أن يكون الماس له واضحا أو مشكلا، وفي ذلك تفصيل وهو أنه إن مس مشكل فرجي
مشكل أو فرجي مشكلين بأن مس آلة الرجال من أحدهما وآلة النساء من الآخر أو فرجي نفسه انتقض وضوؤه، لأنه
مس في غير الثانية ومس أو لمس في الثانية الصادقة بمشكلين غيره وبنفسه ومشكل آخر، ولكن يعتبر فيها أن لا يمنع من النقض
مانع من محرمية أو غيرها، ولا ينتقض بمس أحدهما فقط لاحتمال زيادته. ولو مس أحدهما وصلى الصبح مثلا ثم مس الآخر وصلى
الظهر مثلا أعاد الأخرى إن لم يتوضأ بين المسين عن حدث أو عن مس احتياطا ولم يظهر له الحال لأنه محدث عندها قطعا، بخلاف
الصبح، إذ لم يعارضها شئ. وإن مس رجل ذكر خنثى أو مست امرأة فرجه انتقض وضوء الماس إذا لم يكن بينهما محرمية أو
غيرها مما يمنع النقض كما علم مما مر، لأنه إن كان مثله فقد انتقض وضوؤه بالمس وإلا فباللمس بخلاف ما إذا مس الرجل فرج الخنثى
والمرأة ذكره فإنه لا نقض لاحتمال زيادته. ولو مس أحد مشكلين ذكر صاحبه والآخر فرجه أو فرج نفسه انتقض واحد
منهما لا بعينه، لأنهما إن كانا رجلين فقد انتقض لماس الذكر أو امرأتين فلماس الفرج أو مختلفين فكليهما باللمس إذا لم
يكن بينهما ما يمنع النقض كما مر، إلا أن هذا غيره متعين فلم يتعين الحدث فيهما فلكل أن يصلي. وفائدته أنه إذا اقتدت امرأة
بواحد في صلاة لا تقتدي بالآخر. (ولا ينقض رأس الأصابع وما بينها) وجرفها وحرف الكف لخروجها عن سمت الكف.
وضابط ما ينقض ما يستر عند وضع أحد اليدين على الأخرى مع تحامل يسير. وما المراد ببين الأصابع وحرفها؟ فقيل: بينهما النقر التي
بينها وحرفها وجوانبها، وقيل: حرفها جانب الخنصر والسبابة والابهام وما عداها بينها، والأول أوجه. (ويحرم بالحدث) حيث
لا عذر. (الصلاة) بأنواعها بالاجماع وحديث الصحيحين: لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ. والقبول يقال
لحصول الثواب ولوقوع الفعل صحيحا وهو المراد هنا بقرينة الاجماع، فالمعنى: لا تصح صلاة إلا بوضوء، ومنها صلاة الجنازة،
لكن فيها خلاف للشعبي وابن جرير الطبري، وفي معناها سجدتا التلاوة والشكر وخطبة الجمعة. أما عند العذر فلا تحرم بل قد تجب،
كأن فقد الماء والتراب وضاق الوقت، فالمراد بالحدث هنا المنع المترتب على ما ينتهي به الوضوء. (والطواف) فرضه ونفله
في ضمن نسك أو غيره، لقوله (ص): الطواف صلاة إلا أن الله أحل فيه الكلام فمن تكلم لا يتكلم إلا بخير
رواه الحاكم عن ابن عباس، وقال: صحيح الاسناد. وقيل: يصح طواف الوداع بلا طهارة، ووقع في الكفاية نقله في طواف
القدوم ونسب للوهم. (وحمل المصحف) بتثليث ميمه لكن الفتح غريب. (ومس ورقه) المكتوب فيه وغيره بأعضاء الوضوء
36

أو بغيرها. ولو كان فاقدا للطهورين أو مسه من وراء حائل كثوب رقيق لا يمنع وصول اليد إليه، أو مس ما كان منسوخ
الحكم دون التلاوة. قال تعالى: * (لا يمسه إلا المطهرون) * أي المتطهرون هو خبر بمعنى النهي. ولو كان باقيا على أصله لزم الخلف
في كلامه تعالى، لأن غير المطهر يمسه. وقال (ص): لا يمس القرآن إلا طاهر رواه الحاكم وقال: إسناده على
شرط الصحيح، والحمل أبلغ من المس. نعم يجوز حمله لضرورة كخوف عليه من غرق أو حرق أو نجاسة أو وقوعه في يد كافر
ولم يتمكن من الطهارة، بل يجب أخذه حينئذ كما ذكره في التحقيق وشرح المهذب، فإن قدر على التيمم وجب وخرج
بالمصحف غيره كتوراة وإنجيل ومنسوخ تلاوة من القرآن وإن لم ينسخ حكمه فلا يحرم لزوال حرمتها بالنسخ بل وبالتبديل
في الأولين. قال المتولي: فإن الظن أن في التوراة ونحوها غير مبدل كره مسه. (وكذا جلده) المتصل به يحرم مسه بما ذكر،
(على الصحيح) لأنه كالجزء منه ولهذا يتبعه في البيع. والثاني: يجوز، لأنه ليس جزءا متصلا حقيقة، فإن انفصل عنه فقضية
كلام البيان حل مسه، وبه صرح الأسنوي وفرق بينه وبين حرمة الاستنجاء بأن الاستنجاء أفحش. ونقل الزركشي
عن الغزالي أنه يحرم مسه أيضا، ولم ينقل ما يخالفه. وقال ابن العماد: إنه الأصح إبقاء لحرمته قبل انفصاله اه‍. وهذا هو
المعتمد إذا لم تنقطع نسبته عن المصحف، فإن انقطعت كأن جعل جلد كتاب لم يحرم مسه قطعا كما قاله شيخنا. (وخريطة)
وهي وعاء كالكيس من أدم وغيره. (وصندوق) وهو بضم الصاد وفتحها: وعاء معروف، معدان للمصحف كما قاله ابن
المقري. (فيهما مصحف) يحرم مسهما بما ذكر في الأصح، لأنهما لما كانا معدين له كانا كالجلد وإن لم يدخلا في بيعه،
والعلاقة كالخريطة، والثاني: يجوز مسهما لأن الأدلة وردت في المصحف وهذه خارجة عنه، ولهذا لا يجوز تحليتهما جزما
وإن جوزنا تحلية المصحف، وفرق الأول بالاحتياط في الموضعين. ومحل الخلاف في المس كما تفهمه عبارته. أما الحمل فيحرم
قطعا. أما إذا لم يكن المصحف فيهما أو هو فيهما ولم يعدا له فلا يحرم مسهما. (وما كتب لدرس قرآن) ولو بعض آية
(كلوح) يحرم مسه بما ذكر (في الأصح) لأن القرآن قد أثبت فيه للدراسة فأشبه المصحف، والثاني: يجوز مسه لأنه لا يراد
للدوام كالمصحف. أما ما كتب لغير الدراسة كالتميمة، وهي ورقة يكتب فيها شئ من القرآن وتعلق على الرأس مثلا
للتبرك، والثياب التي يكتب عليها والدراهم كما سيأتي، فلا يحرم مسها ولا حملها، لأنه (ص) كتب كتابا إلى هرقل وفيه: *
(يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * الآية، ولم يأمر حاملها بالمحافظة على الطهارة. وتكره كتابة الحروز وتعليقها
إلا إذا جعل عليها شمع أو نحوه. ويستحب التطهر لحمل كتب الحديث ومسها. (والأصح حل حمله) أي القرآن (في) متاع
كما عبر به في الروضة، أو (أمتعة) تبعا لما ذكر إذا لم يكن مقصودا بالحمل بأن قصد حمل غيره، أو لم يقصد شيئا لعدم الاخلال
بتعظيمه حينئذ. ويؤخذ من ذلك جواز حمل حامل المصحف، بخلاف ما إذا كان مقصودا بالحمل ولو مع الأمتعة فإنه يحرم، وإن
كان ظاهر كلام الشيخين يقتضي الحل في هذه الصورة كما لو قصد الجنب القراءة وغيرها. والثاني: يحرم
تغليبا للحرمة، ولأنه
ممنوع عند الانفراد فمنع مع التبعية، كحامل النجاسة في الصلاة.
فرع: لو حمل مصحفا مع كتاب في جلد واحد فحكم حمله حكم المصحف مع المتاع ففيه التفصيل، وأما مس الجلد
فيحرم مس الساتر للمصحف دون ما عداه كما أفتى بذلك شيخي. (و) في (تفسير) سواء تميزت ألفاظه بلون أم لا إذا
كان التفسير أكثر من القرآن لعدم الاخلال بتعظيمه حينئذ، وليس هو في معنى المصحف. بخلاف ما إذا كان القرآن
أكثر منه، لأنه في معنى المصحف، أو كان مساويا له كما يؤخذ من كلام التحقيق. والفرق بينه وبين الحمل فيما إذا استوى
الحرير مع غيره أن باب الحرير أوسع، بدليل جوازه للنساء وفي بعض الأحوال للرجال كبرد. قال بعض المتأخرين: والظاهر
أن العبرة بالقلة والكثرة باعتبار الحروف لا الكلمات، وأن العبرة في الكثرة وعدمها في المس بحالة موضعه وفي الحمل
بالجميع اه‍. وظاهر كلام الأصحاب حيث كان التفسير أكثر لا يحرم مسه مطلقا. قال في المجموع: لأنه ليس بمصحف، أي
ولا في معناه كما قاله شيخنا. وقياس ما قاله في الأنوار من أنه لو شك هل الحرير أكثر أو لا أنه يحرم لبسه، أنه يحرم هنا عند الشك
37

في أن القرآن أقل أو لا، بل أولى كما يؤخذ من الفرق، وحيث لم يحرم حمل التفسير ولامسه بلا طهارة كرها. (و) في دراهم
و (دنانير) كالأحدية لأنها المقصودة دونه، والثاني: يحرم لاخلاله بالتعظيم. (لا) حل (قلب ورقه) أي المصحف (بعود)
ونحوه، فإنه ممنوع في الأصح، لأنه نقل للورقة فهو كحملها، والثاني: لا يحرم لما سيأتي. واحترز بذلك عما لو لف كمه على
يده وقلب الأوراق بها فإنه يحرم قطعا. قال في المجموع: وفرقوا بينه وبين العود بأن الكم متصل به وله حكم أجزائه
في منع السجود عليه وغيره. وقال إمام الحرمين: ولان التقليب يقع باليد لا بالكم اه‍، وعلى كلام إمام الحرمين وهو
الظاهر - إذا قلبه بكمه فقط كان فتله وقلب به فهو كالعود. (و) الأصح (أن الصبي) المميز (المحدث) ولو حدثا أكبر كما في فتاوى
المصنف، (لا يمنع) من مس ولا من حمل لوح ولا مصحف يتعلم منه، أي لا يجب منعه من ذلك لحاجة تعلمه ومشقة
استمراره متطهرا، بل يستحب. وقضية كلامهم أن محل ذلك في الحمل المتعلق بالدراسة، فإن لم يكن لغرض
أو كان لغرض
آخر منع منه جزما كما قاله في المهمات، وإن نازع في ذلك ابن العماد. وأما غير المميز فيحرم تمكينه في ذلك لئلا ينتهكه.
(قلت: الأصح حل قلبه) أي ورق المصحف (بعود) ونحوه (وبه قطع العراقيون والله أعلم) قال في الروضة: لأنه ليس بحامل
ولا ماس. قال الأذرعي: والقياس أنه إن كانت الورقة قائمة فصفحها بعود جاز، وإن احتاج في صفحها إلى رفعها حرم
لأنه حامل لها اه‍. وما قاله علم من التعليل.
فوائد: يكره كتب القرآن على حائط ولو لمسجد، وثياب وطعام ونحو ذلك، ويجوز هدم الحائط ولبث الثوب وأكل
الطعام، ولا يضر ملاقاته ما في المعدة بخلاف ابتلاع قرطاس عليه اسم الله تعالى فإنه يحرم. ولا يكره كتب شئ من
القرآن في إناء ليسقى ماؤه للشفاء، خلافا لما وقع لابن عبد السلام في فتاويه من التحريم. وأكل الطعام كشرب الماء فلا
كراهة فيه. ويكره إحراق خشب نقش بالقرآن إلا إن قصد به صيانة القرآن فلا يكره، كما يؤخذ من كلام ابن عبد السلام،
وعليه يحمل تحريق عثمان رضي الله تعالى عنه المصاحف. ويحرم كتب القرآن أو شئ من أسمائه تعالى بنجس وعلى نجس
ومسه به إذا كان غير معفو عنه كما في المجموع لا بطاهر من متنجس. ويحرم الوطئ على فراش أو خشب نقش بالقرآن كما
في الأنوار، أو بشئ من أسمائه تعالى. ولو خيف على مصحف تنجس أو كافر أو تلف بنحو غرق أو ضياع ولم يتمكن
من تطهره، جاز له حمله مع الحدث في الأخيرة ووجب في غيرها، صيانة له كما مرت الإشارة إليه. ويحرم السفر به إلى
أرض الكفار إذا خيف وقوعه في أيديهم، وتوسده، وإن خاف سرقته وتوسد كتب علم محترم، إلا لخوف من نحو سرقة،
نعم إن خاف على المصحف من تلف نحو حرق أو تنجس أو كافر جاز له أن يتوسده بل يجب عليه. ويستحب كتبه
وإيضاحه ونقطه وشكله، ويجوز كتب آيتين ونحوهما إليهم في أثناء كتاب كما علم مما مر. ويمنع الكافر من مسه
لا سماعه، ويحرم تعليمه وتعلمه إن كان معاندا، وغير المعاند إن رجي إسلامه جاز تعليمه وإلا فلا. وتكره القراءة بفم
متنجس، وتجوز بلا كراهة بحمام وطريق إن لم يتله عنها وإلا كرهت. والقراءة أفضل من ذكر لم يخص بمحل
، فإن
خص به بأن ورد الشرع به فيه فهو أفضل منها. ويندب أن يتعوذ لها جهرا إن جهر بها في غير الصلاة أما في الصلاة
فيسر مطلقا. ويكفيه تعوذ واحد ما لم يقطع قراءته بكلام أو فصل طويل كالفصل بين الركعات، وأن يجلس وأن يستقبل
وأن يقرأ بتدبر وتخشع، وأن يرتل وأن يبكي عند القراءة. والقراءة نظرا في المصحف أفضل منها عن ظهر قلب إلا إن زاد
خشوعه وحضور قلبه في القراءة عن ظهر غيب فهي أفضل في حقه. وتحرم بالشاذ في الصلاة وخارجها، وهو ما نقل آحادا
قرآنا، ك‍ أيمانهما في قوله تعالى: * (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) * وهو عند جماعة - منهم المصنف ما وراء السبعة:
أبي عمرو ونافع وابن كثير وعامر وعاصم وحمزة والكسائي. وعند آخرين منهم البغوي ما وراء العشرة: السبعة السابقة
وأبي جعفر ويعقوب وخلف. قال في المجموع: وإذا قرأ بقراءة من السبع استحب أن يتم القراءة بها، فلو قرأ بعض الآيات
بها وبعضها بغيرها من السبع جاز بشرط أن لا يكون ما قرأه بالثانية مرتبطا بالأول وبعكس الآي لا بعكس السور، ولكن
38

تكره إلا في تعليم لأنه أسهل للتعليم. ويحرم تفسير القرآن بلا علم. ونسيانه أو شئ منه كبيرة، والسنة أن يقول أنسيت
كذا لا نسيته ويندب ختمه أول نهار أو ليل والدعاء بعده وحضوره والشروع بعده في ختمة أخرى وكثرة تلاوته.
وقد أفرد الكلام على ما يتعلق بالقرآن بالتصانيف، وفيما ذكرته تذكرة لأولي الألباب. (ومن تيقن طهرا أو حدثا وشك)
أي تردد باستواء أو رجحان كما في الدقائق، (في ضده) هل طرأ عليه أو لا، (عمل بيقينه) لأن اليقين لا يزول بالشك، لخبر
مسلم: إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شئ أو لا، فلا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو
يجد ريحا. فمن ظن الضد لا يعمل بظنه، لأن ظن استصحاب اليقين أقوى منه. فعلم بذلك أن المراد باليقين استصحابه،
وإلا فاليقين لا يجامعه شك. وأما قول الرافعي: يعمل بظن الطهر بعد تيقن الحدث فمراده أن الماء المظنون طهارته بالاجتهاد
مثلا يرفع يقين الحدث. وحمله على هذا وإن كان بعيدا أولى من حمله على أن ظن الطهر يرفع يقين الحدث الذي حمله
عليه ابن الرفعة وغيره، وقال: لم أره لغير الرافعي، وأسقطه المصنف من الروضة، وقال النسائي: إنه
معدود من أوهامه. (فلو
تيقنهما) أي الطهر والحدث بأن وجدا منه بعد الشمس مثلا. (وجهل السابق) منهما، (فضد ما قبلهما) يأخذ به (في الأصح)
فإن كان قبلهما محدثا فهو الآن متطهر اعتاد تجديد الطهارة أم لا، لأنه تيقن الطهارة وشك في تأخر الحدث عنها والأصل
عدمه، وإن كان قبلهما متطهرا فهو الآن محدث لأنه تيقن الحدث وشك في تأخر الطهارة عنه والأصل عدمه. هذا
إن اعتاد تجديد الطهارة وإن لم تطرد عادته، أما إذا لم يعتد التجديد فهو متطهر لأن الظاهر تأخرها عن الحدث، فإن
تذكر أنه كان قبلهما متطهرا أو محدثا أخذ بما قبل الأولين عكس ما مر، قاله في البحر، قال: وهما في المعنى سواء. والحاصل
أنه إن كان الوقت الذي وقع فيه الاشتباه وترا أخذ بالضد أو شفعا فبالمثل بعد اعتبار التجديد وعدمه، فإن جهل ما قبلهما
وجب الوضوء لتعارض الاحتمالين بلا مرجح. ولا سبيل إلى الصلاة مع التردد المحض في الطهارة، وهذا فيمن يعتاد
التجديد، أما غيره فيأخذ بالطهارة مطلقا كما مر فلا أثر لتذكره. والوجه الثاني: لا ينظر إلى ما قبلهما ويلزمه الوضوء
بكل حال احتياطا، وصححه المصنف في شرحي المهذب والوسيط، واختاره في التحقيق وغيره، وقال في الروضة: إنه الصحيح
عند جماعات من محققي أصحابنا، وقال في المهمات: إنه المفتى به لذهاب الأكثرين إليه، أي ولان ما قبل الشمس بطل
يقينا وما بعده معارض، ولا بد من طهر معلوم أو مظنون. ومع هذا فالأول هو المعتمد كما صححه في الروضة والتحقيق.
فائدة: قال القاضي حسين: إن مبنى الفقه على أربع قواعد: اليقين لا يزال بالشك، والضرر يزال، والعادة محكمة، والمشقة
تجلب التيسير. قال بعضهم: والأمور بمقاصدها. ثم قال: بني الاسلام على خمس، والفقه على خمس. وقال ابن عبد السلام:
يرجع الفقه كله إلى اعتبار المصالح ودرء المفاسد. وقال السبكي: بل إلى اعتبار المصالح فقط، لأن درء المفاسد من جملتها.
وموجب الطهارة وضوءا وغسلا هل هو الحدث أو القيام إلى الصلاة ونحوها أو هما أوجه أصحها ثالثها.
(فصل): في آداب الخلاء وفي الاستنجاء، وقد بدأ بالأول منهما فقال: (يقدم) ندبا (داخل الخلاء يساره) بفتح الياء
أفصح من كسرها. (والخارج يمينه) على العكس من المسجد، لأن كل ما كان من التكريم يبدأ فيه باليمين
وخلافه
باليسار لمناسبة اليسار للمستقذر واليمين لغيره. وقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: إن من بدأ برجله
اليمنى قبل يساره إذا دخل الخلاء ابتلي بالفقر، وفي معنى الرجل بدلها من أقطعها. والخلاء بالمد: المكان الخالي، نقل إلى
البناء المعد لقضاء الحاجة عرفا. قال الترمذي: سمي باسم شيطان فيه يقال له خلاء وأورد فيه حديثا، وقيل: لأنه يتخلى
فيه أي يتبرز، وجمعه أخلية كرداء وأردية، ويسمى أيضا المرفق والكنيف والمرحاض، وتعبيره به وبالدخول جرى على
الغالب فلا مفهوم له كما في قوله تعالى: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم) *، فيقدم يساره إلى موضع جلوسه في الصحراء ويمناه
عند منصرفه. ودناءة الموضع قبل قضاء الحاجة فيه تحصل بمجرد قصد قضائها فيه، كالخلاء الجديد قبل أن يقضي فيه أحد
حاجته، وقياس ذلك أن يكون الحكم في الصلاة في الصحراء هكذا أيضا، فيقدم اليمين للموضع الذي اختاره للصلاة. ويندب
39

أن يعد أحجار الاستنجاء إن أراد الاستنجاء بها، لخبر: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار يستطيب
بهن. أو الماء إن أراد الاستنجاء به، أو هما إن أراد الجمع. (ولا يحمل) في الخلاء (ذكر الله تعالى) أي مكتوب ذكر من
قرآن أو غيره، حتى حمل ما كتب من ذلك في درهم أو نحوه تعظيما له واقتداء به (ص)، فإنه
كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه، وكان نقشه ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، رواه ابن حبان في صحيحه عن أنس. قال الأسنوي: وفي
حفظي أنه كان يقرأ من أسفل فصاعدا ليكون اسم الله فوق الجميع اه‍. وقيل: كان النقش معكوسا ليقرأ مستقيما إذا ختم
به قال ابن حجر العسقلاني: ولم يثبت في الامرين خبر. وحمل ما عليه ذكر الله تعالى على الخلاء مكروه لا حرام، ومثل
ذلك اسم رسوله وكل اسم معظم كما في الكفاية تبعا للإمام: قال المصنف في التنقيح: ولعل المراد الأسماء المختصة بالله ونبيه
مثلا دون ما لا يختص ك‍ عزيز وكريم ومحمد وأحمد إذا لم يكن ما يشعر بأن المراد اه‍. ومثل ما يشعر بذلك ما إذا قصده به، فإن
ترك ذلك ولو عمدا حتى قعد لقضاء حاجته ضم كفه عليه أو وضعه في عمامته أو غيرها، وهذا الأدب مستحب، قال
ابن الصلاح: وليتهم قالوا بوجوبه. قال الأذرعي: والمتجه تحريم إدخال المصحف ونحوه الخلاء من غير
ضرورة إجلالا
له وتكريما اه‍. قال الأسنوي: ومحاسن كلام الشريعة يشعر بتحريم بقاء الخاتم الذي عليه ذكر الله تعالى في اليسار
حال الاستنجاء، وهو ظاهر إذا أفضى ذلك إلى تنجيسه اه‍ ملخصا. وينبغي حمل كلام الأذرعي على ما إذا خيف عليه
التنجيس. ولا يدخل المحل حافيا ولا مكشوف الرأس للاتباع، رواه البيهقي مرسلا. قال في المجموع: اتفق العلماء على أن
الحديث المرسل والضعيف والموقوف يتسامح به في فضائل الأعمال ويعمل بمقتضاه. (ويعتمد) ندبا في قضاء الحاجة، (جالسا
يساره) وينصب اليمنى تكريما لها بأن يضع أصابعها على الأرض ويرفع باقيها ويضم كما قال الأذرعي فخذيه، لأن ذلك أسهل
لخروج الخارج. ومقتضى هذا التسوية في قضاء الحاجة بين القائم والقاعد، نعم لو بال قائما فرج بينهما فيعتمدهما كما قاله
الشارح خوفا من التنجيس. ويندب له أن يرفع لقضاء الحاجة ثوبه عن عورته شيئا فشيئا إلا إن خاف تنجس ثوبه فيرفعه
بقدر حاجته ويسبله شيئا فشيئا قبل انقضاء قيامه. (ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها) ندبا إذا كان في غير المعد لذلك مع سائر
مرتفع ثلثي ذراع تقريبا فأكثر، نعم لو بال قائما لا بد من ارتفاعه إلى أن يستر عورته، ولا بد أن يكون عريضا بحيث يسترها
سواء أكان قائما أم لا، بخلاف سترة الصلاة لا يشترط فيها عرض، وأن يكون بينه وبينه ثلاثة أذرع فأقل بذراع الآدمي،
وإرخاء ذيله كاف في ذلك فهما حينئذ خلاف الأولى. (ويحرمان) في البناء غير المعد لقضاء الحاجة، (بالصحراء) بدون
الساتر المتقدم. والأصل في ذلك ما في الصحيحين أنه (ص) قال: إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها
ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا. وفيهما أنه (ص) قضى حاجته في بيت حفصة مستقبل الشام
مستدبر الكعبة. وقال جابر: نهى النبي (ص) أن تستقبل القبلة ببول، فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها
رواه الترمذي وحسنه. فحملوا الخبر الأول المفيد للحرمة على القضاء وما ألحق به لسهولة اجتناب المحاذاة فيه، بخلاف
البناء غير المذكور مع الصحراء، فيجوز فيه ذلك كما فعله (ص) بيانا للجواز وإن كان الأولى لنا تركه كما مر. أما في المعد
لذلك فلا حرمة فيه ولا كراهة ولا خلاف الأولى، قاله في المجموع. ويستثنى من الحرمة ما لو كانت الريح تهب على يمين
القبلة وشمالها فإنهما لا يحرمان للضرورة، وإذا تعارض الاستقبال والاستدبار، تعين الاستدبار. ولا يحرم ولا يكره استقبال
القبلة ولا استدبارها حال الاستنجاء أو الجماع أو إخراج الريح، إذ النهي عن استقبالها واستدبارها مقيد بحالة البول والغائط،
وذلك منتف في الثلاثة، ويكره استقبال الشمس أو القمر أو بيت المقدس، وكذا المدينة المنورة إكراما له فيما يظهر ببول
أو غائط دون استدبارها كما نقله المصنف في أصل الروضة عن الجمهور، وقال في المجموع: وهو الصحيح المشهور، وقيل: يكره
الاستدبار أيضا، وجرى عليه ابن المقري في روضه. وقيل: لا يكرهان. قال المصنف في التحقيق: إنه لا أصل للكراهة فالمختار
إباحته. (ويبعد) عن الناس في الصحراء أو ما ألحق بها من البنيان إلى حيث لا يسمع للخارج منه صوت ولا يشم له ريح،
40

فإن تعذر عليه الابعاد عنهم استحب لهم الابعاد عنه كذلك. (ويستتر) عن أعينهم بمرتفع ثلثي ذراع فأكثر، بينه وبينه ثلاثة أذرع
فأقل، لقوله (ص): من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد إلا أن يجمع كثيبا من رمل فليستتر به فإن الشيطان يلعب
بمقاعد بني آدم، من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج. قال الترمذي أنه حسن. ويحصل الستر براحلة أو وهدة أو إرخاء
ذيله: هذا إن كان بصحراء أو بناء لا يمكن تسقيفه كأن جلس في وسط مكان واسع كبستان فإن كان ببناء يمكن تسقيفه
أي عادة، كفى كما في أصل الروضة. قال في المجموع: وهذا الأدب متفق على استحبابه، ومحله كما قال شيخنا: إذا لم يكن
ثم من لا يغض بصره عن نظر عورته ممن يحرم عليه نظرها وإلا وجب الاستتار. وعليه يحمل قول المصنف في شرح مسلم:
يجوز كشف العورة في محل الحاجة في الخلوة كحالة الاغتسال والبول ومعاشرة الزوجة، أما بحضرة الناس فيحرم كشفها.
(ولا ببول) ولا يتغوط (في ماء راكد) للنهي عن البول في حديث مسلم، ومثله الغائط بل أولى، والنهي في ذلك للكراهة
وإن كان الماء قليلا لامكان طهره بالكثرة، وفي الليل أشد كراهة لأن الماء بالليل مأوى الجن. وأما الجاري ففي المجموع عن
جماعة الكراهة في القليل منه دون الكثير، أي ولكن يكره في الليل لما مر، ثم قال: وينبغي أن يحرم في القليل
مطلقا لأن فيه إتلافا عليه وعلى غيره. ورد بما تقدم من التعليل وبأنه مخالف للنص وسائر الأصحاب، فهو كالاستنجاء
بخرقة، ولم يقل أحد بتحريمه، ولكن يشكل بما مر من أنه يحرم استعمال الاناء النجس في الماء القليل. وأجيب بأن هناك
استعمالا بخلافه هنا، ومحل عدم التحريم إذا كان الماء له ولم يتعين عليه الطهر به بأن وجد غيره، أما إذا لم يكن له ذلك
كمملوك لغيره أو مسبل أوله وتعين للطهارة بأن دخل الوقت ولم يجد غيره فإنه يحرم. فإن قيل: الماء العذب ربوي
لأنه مطعوم فلا يحل البول فيه كما لا يحل في الطعام. أجيب بما تقدم. ويكره أيضا قضاء الحاجة بقرب الماء الذي يكره
قضاؤها فيه لعموم النهي عن البول في الموارد، وصب البول في الماء كالبول فيه. (و) لا في (جحر) وهو بضم الجيم
وسكون الحاء المهملة: الخرق النازل المستدير، للنهي عنه في خبر أبي داود وغيره لما يقال أنه مسكن الجن، ولأنه قد يكون
فيه حيوان ضعيف فيتأذى أو قوي فيؤذيه أو ينجسه. قيل إن سعد بن عبادة أتى سباطة قوم، فبال قائما فخر ميتا، فقالت
الجن في ذلك: نحن قتلنا سيد الخز رج سعد بن عباده ورميناه بسهم فلم يخط فؤاده
وقيل إن سبب موته أنه بال في جحر. ومثله السرب، وهو بفتح السين والراء: الشق المستطيل. قال في المجموع: ينبغي
تحريم ذلك للنهي عنه إلا أن يعد لذلك، أي لقضاء الحاجة، فلا تحريم ولا كراهة. (و) لا في (مهب ريح) أي موضع
هبوبها وإن لم تكن هابة، إذ قد تهب بعد شروعه في البول فترد عليه الرشاش. وهذا ظاهر في استقبالها، وأما استدبارها
فلا يأتي فيه ذلك، ولكن يعلل بعود الرائحة الكريهة إليه كما علل به الخطابي في غريب الحديث. ومنه المراحيض المشتركة
فينبغي البول في إناء وإفراغه فيها ليسلم من النجاسة، قاله الزركشي. ولا في مكان صلب لما ذكر، فإن لم يجد غيره دقه
بحجر أو نحوه. (و) لا في (متحدث) للناس، وهو بفتح الدال: مكان الاجتماع، للنهي عن التخلي في ظلهم كما سيأتي،
أي في الصيف. ومثله موضع اجتماعهم في الشمس في الشتاء، وشملهما قوله متحدث. (و) لا في (طريق) لهم مسلوك لقوله
(ص): اتقوا اللعانين. قالوا: وما اللعانان؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم تسببا بذلك في
لعن الناس لهما كثيرا عادة فيتسبب إليهما بصيغة المبالغة، إذ أصله اللاعنان فحول للمبالغة. والمعنى: احذروا سبب اللعن
المذكور. ولخبر أبي داود بإسناد جيد: اتقوا الملاعن الثلاث: البراز في الموارد، وقارعة الطريق، والظل،
والملاعن:
مواضع اللعن، والموارد: طرق الماء، والتخلي: التغوط، وكذا البراز، وهو بكسر الباء على المختار، وقيس بالغائط
البول، وصرح في المذهب وغيره بكراهة ذلك في المواضع الثلاثة، وفي المجموع: ظاهر كلام الأصحاب كراهته، وينبغي
حرمته للأخبار الصحيحة ولايذاء المسلمين اه‍. والمعتمد ما في المتن. وقارعة الطريق: أعلاه، وقيل: صدره،
وقيل: ما برز منه. أما الطريق المهجور فلا كراهة فيه. ولا يبول قائما لخبر الترمذي وغيره بإسناد جيد أن
41

عائشة قالت: من حدثكم أن النبي (ص) كان يبول قائما فلا تصدقوه، أي يكره له ذلك إلا لعذر فلا يكره
له ذلك، ولا خلاف الأولى، فقد ثبت أنه (ص) أتى سباطة قوم فبال قائما قيل: إن العرب كانت تستشفي به
لوجع الصلب فلعله كان به. وقيل: فعله بيانا للجواز. وقيل لغير ذلك. وفي الاحياء عن الأطباء أن بوله في الحمام في
الشتاء قائما خير من شربة دواء. (و) لا (تحت) شجرة (مثمرة) ولو كان الثمر مباحا، وفي غير وقت الثمر صيانة لها عن التلويث
عند الوقوع فتعافها النفس. ولم يحرموه لأن التنجس غير متيقن نعم إذا لم يكن عليها تمر وكان يجري عليها الماء من مطر
أو غيره قبل أن تثمر لم يكره، كما لو بال تحتها ثم أورد عليه ماء طهورا، ولا فرق في هذا وفي غيره مما تقدم بين البول والغائط
إلا في المكان الصلب ومهب الريح فيختصان بالبول، بل ينبغي فيهما التفصيل في الغائط بين الجامد والمائع، فيكون المائع
كالبول. (ولا يتكلم) حال قضاء الحاجة بذكر ولا غيره. وهذا من زيادته من غير تمييز كما مرت الإشارة إليه،
أي يكره له ذلك إلا لضرورة كإنذار أعمى فلا يكره، بل يجب لخبر: لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عن
عورتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك، رواه الحاكم وصححه. ومعنى يضربان: يأتيان. والمقت البغض، وهو
وإن كان على المجموع فبعض موجباته مكروه، فلو عطس حمد الله بقلبه ولا يحرك لسانه، أي بكلام يسمع به نفسه،
إذ لا يكره الهمس ولا التنحنح، وظاهر كلامهم أن القراءة لا تحرم حينئذ. وقول ابن كج إنها لا تجوز إن حمل على الجواز
المستوى الطرفين، أي فتكره، فهو موافق لظاهر كلام الأصحاب ولما صرح به في المجموع والتبيان من الكراهة وإلا
فضعيف، وإن قال الأذرعي اللائق بالتعظيم المنع. ويسن أن لا ينظر إلى فرجه ولا إلى الخارج منه ولا إلى
السماء ولا
يعبث بيده ولا يلتفت يمينا ولا شمالا. (ولا يستنجي بماء في مجلسه) إن لم يكن معدا لذلك، أي يكره له ذلك لئلا يعود
عليه الرشاش فينجسه، بخلاف المستنجي بالحجر والمعد لذلك للمشقة في المعد لذلك ولما سيأتي في الاستنجاء بالحجر، بل قد
يجب حيث لا ماء، ولو انتقل لتضمخ بالنجاسة وهو يريد الصلاة بالتيمم أو بالوضوء والماء لا يكفي لهما. ويكره أن يبول
في المغتسل لقوله (ص): لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه، ومحله إذا لم
يكن ثم منفذ ينفذ منه البول والماء. وعند قبر محترم احتراما له، قال الأذرعي: وينبغي أن يحرم عند قبور الأنبياء،
وتشتد الكراهة عند قبور الأولياء والشهداء. قال: والظاهر تحريمه بين القبور المتكرر نبشها لاختلاط تربتها بأجزاء الميت اه‍.
وهو حسن. ويحرم على قبر محترم وبمسجد ولو في إناء تنزيها لهما عن ذلك. (ويستبرئ من البول) ندبا عند انقطاعه
بنحو تنحنح ومشي، وأكثر ما قيل فيه سبعون خطوة ونثر ذكر. وكيفية النتر أن يمسح بيسراه من دبره إلى رأس
ذكره وينتره بلطف ليخرج ما بقي إن كان، ويكون ذلك بالابهام والمسبحة لأنه يتمكن بهما من الإحاطة بالذكر. وتضع
المرأة أطراف أصابع يدها اليسرى على عانتها. قال في المجموع: والمختار أن ذلك يختلف باختلاف الناس. والقصد
أن يظن أنه لم يبق بمجرى البول شئ يخاف خروجه، فمنهم من يحصل هذا بأدنى عصر، ومنهم من يحتاج إلى تكرره،
ومنهم من يحتاج إلى تنحنح، ومنهم من لا يحتاج إلى شئ من هذا. وينبغي لكل أحد أن لا ينتهي إلى حد الوسوسة،
وإنما لم يجب الاستبراء كما قال به القاضي والبغوي، وجرى عليه المصنف في شرح مسلم، لقوله (ص): تنزهوا
من البول فإن عامة عذاب القبر منه لأن الظاهر من انقطاع البول عدم عوده. ويحمل الحديث على ما إذا تحقق أو غلب
على ظنه بمقتضى عادته أنه إن لم يستبرئ خرج منه شئ. ويكره حشو مخرج البول من الذكر بنحو قطن، وإطالة
المكث في محل قضاء الحاجة، لما روي عن لقمان: أنه يورث وجعا في الكبد. فإن قيل: شرط الكراهة وجود نهي
مخصوص ولم يوجد. أجيب بأن هذا ليس بلازم، بل حيث وجد النهي وجدت الكراهة، لا أنها حيث وجدت وجد
لكثرة وجودها في كلام الفقهاء بلا نهي مخصوص. ويندب أن يتخذ له إناء للبول ليلا، قاله في العباب. (ويقول) ندبا
(عند) إرادة (دخوله) أو عند وصوله إلى مكان قضاء حاجته بنحو صحراء، (باسم الله) أي أتحصن من الشيطان، هكذا
42

يكتب بالألف، وإنما حذفت من بسم الله الرحمن الرحيم لكثرة تكررها. (اللهم) أي يا الله (إني أعوذ) أي أعتصم، (بك
من الخبث) بضم الخاء والباء جمع خبيث، (والخبائث) جمع خبيثة، والمراد ذكور الشياطين وإناثهم وذلك للاتباع،
رواه الشيخان. وفارق تأخير التعوذ عن البسملة هنا تعوذ القراءة حيث قدموه عليها بأنه تم لقراءة القرآن والبسملة منه
فتقدم عليه بخلافه هنا. قال الأذرعي: فإن نسي تعوذ بقلبه كما يحمد العاطس، وكذا لو تركه عمدا كما قاله الزركشي،
وفي فتاوى ابن البزري: ولا يزيد الرحمن الرحيم، أي لا يستحب له ذلك، لأن المحل ليس محل ذكر فلا يتجاوز فيه
المأثور، وزاد الغزالي: اللهم إني أعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم رواه أبو داود في
مراسيله. والاستعاذة منهم في البناء المعد لقضاء الحاجة لأنه مأواهم، وفي غيره لأنه سيصير مأوى لهم بخروج الخارج. (و)
يقول ندبا (عند) أي عقب، (خروجه) أو انصرافه: (غفرانك، الحمد لله الذي أذهب عن الأذى وعافاني) للاتباع، رواه
النسائي، ويكرر غفرانك ثلاثا. قيل: سبب سؤاله ذلك ترك ذكر الله في تلك الحالة. وقيل: سأل المسامحة بسبب ترك
الذكر في تلك الحالة. وقيل: استغفر خوفا من تقصيره في شكر نعمة الله التي أنعمها عليه فأطعمه ثم هضمه ثم سهل
خروجه، فرأى شكره قاصرا عن بلوغ حق هذه النعم فتداركه بالاستغفار. وقيل: سأل دوام نعمته بتسهيل الأذى وعدم
حبسه لئلا يؤدي إلى شهرته وانكشافه. والغفران على هذا مأخوذ من الغفر وهو الستر. وقيل: إنه لما خلص من
النجو المثقل للبدن سأل التخليص مما يثقل القلب وهو الذنب لتكمل الراحة. وفي مصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة
أن نوحا عليه الصلاة والسلام كان يقول: الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأذهب عني أذاه. (ويجب
الاستنجاء) إزالة للنجاسة من كل خارج ملوث ولو نادرا كدم ومذي وودي لا على الفور بل عند الحاجة إليه. (
بماء)
على الأصل في إزالة النجاسة، (أو حجر) لأنه (ص) جوزه به حيث فعله كما رواه البخاري، وأمر بفعله بقوله
فيما رواه الشافعي وغيره: وليستنج بثلاثة أحجار الموافق له ما رواه مسلم وغيره من نهيه (ص) عن الاستنجاء
بأقل من ثلاثة أحجار، وهو طهارة مستقلة على الأصح، فيجوز تأخيره عن الوضوء دون التيمم لأن الوضوء يرفع
الحدث وارتفاعه يحصل مع قيام المانع، والتيمم لا يرفعه وإنما يبيح الصلاة ولا استباحة مع المانع، ومقتضاه كما قال الأسنوي:
عدم صحة وضوء دائم الحدث قبل الاستنجاء لكونه لا يرفع الحدث، وهو الظاهر وإن قال بعض المتأخرين: إن الماء
أصل في رفع الحدث فكان أقوى من التراب الذي لا يرفعه أصلا. وعلم من قوله: أو حجر أن الواجب أحدهما.
(وجمعهما) بأن يقدم الحجر، (أفضل) من الاقتصار على الماء، لأن العين تزول بالحجر، والأثر يزول بالماء من غير حاجة
إلى مخامرة النجاسة، والاقتصار على الماء أفضل من الاقتصار على الحجر لأنه يزيل العين والأثر بخلاف الحجر. وقضية
التعليل أنه لا يشترط في حصول فضيلة الجمع طهارة الحجر وأنه يكفي بدون الثلاث مع الانقاء، وبالأول صرح الجيلي
نقلا عن الغزالي. وقال الأسنوي في الثاني: المعنى وسياق كلامهم يدلان عليه اه‍. والظاهر أن بهذا يحصل أصل فضيلة
الجمع، وأما كمالها فلا بد من بقية شروط الاستنجاء بالحجر. وقضية كلامهم أن فضيلة الجمع لا فرق فيها بين البول والغائط،
وبه صرح سليم وغيره وهو المعتمد، وإن جزم القفال باختصاصه بالغائط، وصوبه الأسنوي. وشمل إطلاقه الحجر حجارة
الحرم فيجوز الاستنجاء بها وهو الأصح. (وفي معنى الحجر) الوارد (كل جامد طاهر قالع غير محترم) كخشب وخزف
لحصول الغرض به كالحجر فخرج بالجامد وهو من زيادته المائع غير الماء الطهور كماء الورد والخل، وبالطاهر النجس كالبعر
والمتنجس كالماء القليل الذي وقعت فيه نجاسة، وبالقالع نحو الزجاج والقصب الأملس، والمتناثر كتراب ومدر وفحم رخوين،
بخلاف التراب والفحم الصلبين. والنهي عن الاستنجاء بالفحم ضعيف، قاله في المجموع، وإن صح حمل على الرخو، وشمل
إطلاقه حجر الذهب والفضة إذا كان كل منهما قالعا وهو الأصح. وبغير محترم المحترم كجزء حيوان متصل به كيده ورجله،
وكمطعوم آدمي كالخبز أو جني كالعظم، لما روى مسلم: أنه (ص) نهى عن الاستنجاء بالعظم وقال: إنه زاد إخوانكم
43

يعني من الجن، فمطعوم الآدمي أولى، ولان المسح بالحجر رخصة وهي لا تناط بالمعاصي. وأما مطعوم البهائم كالحشيش
فيجوز به. والمطعوم لها وللآدمي يعتبر فيه الأغلب، فإن استويا فوجهان بناء على ثبوت الربا فيه، والأصح الثبوت، قاله
الماوردي والروياني. وإنما جاز بالماء مع أنه مطعوم لأنه يدفع النجس عن نفسه بخلاف غيره، أما جزء الحيوان المنفصل
عنه كشعره فيجوز الاستنجاء به. قال الأسنوي: والقياس المنع في جزء الآدمي. وأما الثمار والفواكه فمنها ما يؤكل
رطبا لا يابسا كاليقطين فلا يجوز الاستنجاء به رطبا أو يجوز يابسا إذا كان مزيلا. ومنها ما يؤكل رطبا ويابسا، وهو
أقسام، أحدها: مأكول الظاهر والباطن كالتين والتفاح فلا يجوز برطبه ولا يابسه. والثاني: ما يؤكل ظاهره دون باطنه
كالخوخ والمشمش وكل ذي نوى فلا يجوز بظاهره ويجوز بنواه المنفصل. والثالث: ما له قشر ومأكوله في جوفه فلا
يجوز بلبه، وأما قشره فإن كان لا يؤكل رطبا ولا يابسا كالرمان جاز الاستنجاء به وإن كان حبه فيه، وإن أكل رطبا
ويابسا كالبطيخ لم يجز في الحالين، وإن أكل رطبا فقط كاللوز والباقلاء جاز يابسا لا رطبا، ذكر ذلك الماوردي مبسوطا،
واستحسنه في المجموع. ويجزئ الحجر بعد الاستنجاء بشئ محترم وغير قالع لم ينقلا النجاسة، فإن نقلاها تعين الماء كما
سيأتي. ومن المحترم ما كتب عليه اسم معظم أو علم كحديث وفقه، قال في المهمات: ولا بد من تقييد العلم بالمحترم سواء
أكان شرعيا كما مر أم لا كحساب ونحو وطب وعروض فإنها تنفع في العلوم الشرعية، أما غير المحترم كفلسفة ومنطق
مشتمل عليها كما قاله بعض المتأخرين فلا، أما غير المشتمل عليها فلا يجوز. وعلى هذا التفصيل يحمل إطلاق من جوزه،
وجوزه القاضي بورق التوراة والإنجيل، وهو محمول على ما علم تبديله منهما وخلا عن اسم الله تعالى ونحوه. وألحق بما
فيه علم محترم جلده المتصل به دون المنفصل عنه، بخلاف جلد المصحف فإنه يمتنع الاستنجاء به مطلقا. (
وجلد) بالجر عطف
على جامد وبالرفع على كل، (دبغ دون غيره في الأظهر) فيهما لأن المدبوغ انتقل بالدبغ عن طبع اللحوم إلى طبع الثياب
بدليل جواز بيع جلد بجلدين. وغير المدبوغ محترم لأنه مطعوم، ولهذا يؤكل مع الرؤوس والأكارع وغيرهما، وفيه
دسومة تمنع التنشيف أو نجس إن كان غير مأكول، وهذا التفصيل هو المنصوص عليه في الام، والثاني وهو المنصوص
عليه في البويطي: يجوز بهما، والثالث وهو المنصوص عليه في حرملة: لا يجوز بهما. ومحل المنع فيما ذكركما قال ابن القطان
وغيره: إذا استنجى به من الجانب الذي لا شعر عليه وإلا جاز، إذ لا دسومة فيه وليس بطعام. وشملت عبارة المصنف
جلد الحوت الكبير الجاف فيمتنع الاستنجاء به، وقول الأذرعي: الظاهر الجواز به لأنه صار كالمدبوغ بعيد.
تنبيه: كان ينبغي للمصنف تقديم المنع الذي هو من أمثلة المحترم فيقول: فيمتنع بجلد طاهر غير
مدبوغ دون كل مدبوغ طاهر في الأظهر، فإن كلامه الآن غير منتظم، لأنه إن كان ابتداء كلام فلا خبر له، وإن كان معطوفا على كل كما
قدرته في كلامه وقرئ بالرفع فيكون الجلد المدبوغ قسيما لكل جامد طاهر إلخ فيكون غيره، والفرض أنه بعض منه، وإن
كان مجرورا كما قدرته أيضا عطفا على جامد فكان ينبغي أن يقول: ومنه جلد دبغ. أي من أمثلة هذا الجامد جلد
دبغ دون جلد غير مدبوغ طاهر في الأظهر.
فائدة: يجوز التدلك وغسل الأيدي بالنخالة ودقيق الباقلاء ونحوه. (وشرط الحجر) وما ألحق به لأن يجزئ، (أن
لا يجف النجس) الخارج فإن جف تعين الماء، نعم لو بال ثانيا بعد جفاف بوله الأول ووصل إلى ما وصل إليه الأول
كفى فيه الحجر، والغائط المائع كالبول في ذلك. (و) أن (لا ينتقل) عن المحل الذي أصابه عند خروجه واستقر فيه، فإن انتقل
عنه بأن انفصل عنه تعين في المنفصل الماء، وأما المتصل بالمحل ففيه تفصيل يأتي. (و) أن (لا يطرأ) عليه (أجنبي) نجسا
كان أو طاهرا رطبا ولو بلل الحجر كما شمله إطلاق المصنف. أما الجاف الطاهر فلا يؤثر، وهو ما احترز عنه الشارح
بقوله نجس. فإن طرأ عليه ما ذكر تعين الماء، نعم البلل بعرق المحل لا يضر لأنه ضروري، وأن يكون الخارج المذكور من
فرج معتاد فلا يجزئ في الخارج من غيره كالخارج بالفصد ولا في منفتح تحت المعدة ولو كان الأصلي منسد،
أي إذا
كان الانسداد عارضا كما مر، لأن الاستنجاء به على خلاف القياس. ولا في بول خنثى مشكل وإن كان الخارج من أحد قبلية
44

لاحتمال زيادته، نعم إن كان له آلة فقط لا تشبه آلة الرجال ولا آلة النساء أجزأه الحجر فيها. ولا في بول ثيب تيقنته
دخل مدخل الذكر لانتشاره عن مخرجه بخلاف البكر، لأن البكارة تمنع نزول البول إلى مدخل الذكر. ولا في بول الأقلف
إذا وصل البول إلى الجلدة. ويجزئ في دم حيض أو نفاس. وفائدته فيمن أنقطع دمها وعجزت عن استعمال الماء
فاستنجت بالحجر ثم تيممت لنحو مرض فإنها تصلي ولا إعادة عليها. (ولو ندر) الخارج كالدم والودي والمذي، (أو انتشر
فوق العادة) أي عادة الناس، وقيل عادة نفسه، (ولم يجاوز) في الغائط (صفحته) وهو ما انضم من الأليين عند القيام.
(وحشفته) وهي ما فوق الختان أو قدرها من مقطوعها كما قاله الأسنوي في البول (جاز الحجر) وما في معناه، (في الأظهر)
في ذلك، أما النادر فلان انقسام الخارج إلى معتاد ونادر مما يتكرر ويعسر البحث عنه فأنيط الحكم بالمخرج. والثاني: لا يجوز
بل يتعين الماء فيه، لأن الاقتصار على الحجر على خلاف القياس. ورد فيما تعم فيه البلوى فلا يلتحق به غيره. وأما المنتشر
فوق العادة فلعسر الاحتراز عنه، ولما صح أن المهاجرين أكلوا التمر لما هاجروا ولم يكن ذلك عادتهم وهو مما يرق البطون،
ومن رق بطنه انتشر ما يخرج منه، ومع ذلك لم يؤمروا بالاستنجاء بالماء، ولان ذلك يتعذر ضبطه فنيط الحكم بالصفحة
والحشفة أو ما يقوم مقامهما. فإن جاوز الخارج ما ذكر مع الاتصال لم يجز الحجر لا في المجاوز ولا في غيره لخروجه عما
تعم به البلوى. (ويجب) في الاستنجاء بالحجر ليجزئ أمران: أحدهما (ثلاث مسحات) بفتح السين جمع مسحة بسكونها،
بأن يعم بكل مسحة جميع المحل. (ولو) كانت (بأطراف حجر) لخبر مسلم عن سلمان: نهانا رسول الله (ص)
أن نستنجئ بأقل من ثلاثة أحجار، وفي معناها ثلاثة أطراف حجر، بخلاف رمي الجمار لا يكفي حجر له ثلاثة أطراف
عن ثلاث رميات، لأن المقصود ثم عدد الرمي وهنا عدد المسحات. ولو غسل الحجر وجف جاز له استعماله ثانيا كدواء
دبغ به وتراب استعمل في غسل نجاسة نجو الكلب. فإن قيل التراب المذكور صار مستعملا فكيف يكفي ثانيا؟ أجيب بأنه
لم يزل المانع وإنما أزاله الماء بشرط مزجه بالتراب، وحينئذ فيجوز التيمم به إن كان استعمل في المرة السابعة، وإن كان قبلها فلا،
لتنجسه، فاستفدها فإنها مسألة نفيسة. ثانيها: إنقاء المحل، (فإن لم ينق) بالثلاث (وجب الانقاء) برابع فأكثر إلى أن لا يبقى،
إلا أثر لا يزيله إلا الماء أو صغار الخذف لأنه المقصود من الاستنجاء. (وسن) بعد الانقاء إن لم يحصل بوتر (الايتار)
بالمثناة بواحدة، كأن حصل برابعة فيأتي بخامسة وهكذا، لما روى الشيخان عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال:
إذا استجمر أحدكم فليستجمر وترا وصرفه عن الوجوب رواية أبي داود وهي قوله (ص): من استجمر
فليوتر، ومن فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج وقيل إنه واجب لظاهر الخبر الأول وهو شاذ. (و) سن (كل حجر) أو
نحوه مما يقوم مقامه (لكل محله) أي الخارج، فيسن في كيفية الاستنجاء في الدبر أن يضع الحجر أو نحوه على مقدم الصفحة
اليمنى عل محل طاهر قرب النجاسة وأن يديره قليلا حتى يرفع كل جزء منه جزءا منها إلى أن يصل إلى موضع ابتدائه،
وأن يعكس الثاني كذلك، وأن يمر الثالث على الصفحتين والمسربة، وهي بضم الراء وفتحها وبضم الميم: مجرى الغائط.
(وقيل يوزعن) أي الثلاث (لجانبيه والوسط) فيجعل واحدا لليمنى وآخر لليسرى، والثالث للوسط. وقيل: واحدا للوسط
مقبلا وآخر له مدبرا ويحلق بالثالث. والخلاف في الأفضل لا في الوجوب على الصحيح في أصل الروضة. وعلى كل قول
لا بد أن يعم جميع المحل بكل مسحة ليصدق أنه مسحه ثلاث مسحات. وقول ابن المقري في شرح إرشاده: الأصح
أنه لا يشترط أن يعم بالمسحة الواحدة المحل وإن كان أولى بل يكفي مسحة لصفحة وأخرى لاخرى والثالثة للمسربة مردود
كما قاله شيخنا، لأن الوجه الثاني الذي أخذ منه ذلك غلط الأصحاب كما قال في المجموع قائله من حيث الاكتفاء بما لا يعم المحل
بكل مسحة لا من حيث الكيفية، وللمسحة الزائدة على الثلاث في الكيفية حكم الثالثة، وما قررت به كلام المصنف من
أن كل حجر معطوف على قوله الايتار تبعت فيه الأسنوي، فإنه قال: تقديره وسن الايتار، وأن يكون كل حجر إلخ، قال:
45

فتستفيد منه أن الخلاف في الاستحباب ولا يستفاد ذلك من المحرر اه‍. وتبعه الشارح أيضا على ذلك. وظاهر كلام السبكي
أنه معطوف على قوله ثلاث مسحات: أي يجب ذلك. ومال إليه ابن النقيب، قال: لئلا يلزم أن التعميم سنة وهو واجب
على الأصح اه‍. ويندفع بما تقدم. (ويسن الاستنجاء) بماء أو نحو حجر، (بيساره) للاتباع، ولأنها الأليق بذلك. ويكره باليمين
لما روى مسلم عن سلمان الفارسي قال: نهانا رسول الله (ص) أن نستنجي باليمين. وقول المهذب والكافي
أنه لا يجوز الاستنجاء باليمين للنهي الصريح فيه أوله المصنف بأن الاستنجاء يقع بما في اليمين لا باليد فلا معصية في الرخصة
اه‍. أو يقال إن المراد لا يجوز جوازا مستوي الطرفين فيكره. ويسن تقديم القبل على الدبر في الاستنجاء بالماء عكس
الاستنجاء بالحجر. ويسن أن لا يستعين بيمينه في شئ من الاستنجاء بغير عذر فيأخذ الحجر بيساره، بخلاف الماء فإنه يصبه
بيمينه ويغسل بيساره، ويأخذ بها ذكره إن مسح البول على جدار أو حجر كبير أو نحوه، فإن كان الحجر صغيرا جعله
بين عقبيه أو بين إبهامي رجليه، فإن لم يتمكن بشئ من ذلك وضعه في يمينه ويضع الذكر في موضعين وضعا لتنتقل البلة
وفي الموضع الثالث مسحا ويحرك يساره وحدها، فإن حرك اليمين أو حركهما كان مستنجيا باليمين، وإنما لم يضع الحجر
في يساره والذكر في يمينه، لأن مس الذكر بها مكروه. وشرط القاضي حسين أن لا يمسح ذكره في الجدار صعودا،
قال في المجموع: وفي هذا التفصيل نظر اه‍. والظاهر أنه لا يشترط. وأما قبل المرأة فتأخذ الحجر بيسارها إن كان صغيرا
وتمسحه ثلاثا، وإلا فحكمها حكم الرجل فيما مر. وتقدم أنه يسن للمستنجي بالحجر أن يضعه أولا على مكان طاهر قرب
النجاسة وأن يديره برفق، فإن أمر الحجر ولم يدره ولم ينقل شيئا من الخارج أجزأه، فإن نقل ما لا ضرورة إليه تعين الماء.
وأما القدر المضرور إليه في ذلك فيعفى عنه. وأن ينظر إلى الحجر المستنجى به قبل رميه ليعلم هل قلع أو لا. وللمستنجى بالماء
أن يدلك يده بنحو أرض ثم يغسلها بعد الاستنجاء، وأن ينضح بعده أيضا فرجه وإزاره من داخله دفعا للوسواس، وأن
يعتمد في غسل الدبر على إصبعه الوسطى لأنه أمكن ولا يتعرض للباطن وهو ما لا يصل الماء إليه فإنه منبع الوسواس،
لكن يستحب للبكر أن تدخل أصبعها في الثقب الذي في الفرج فتغسله. (ولا استنجاء لدود وبعر) بفتح العين، (بلا
لوث) أي لا يجب الاستنجاء منه كما عبر به في المحرر، (في الأظهر) لفوات مقصود الاستنجاء من إزالة النجاسة أو
تخفيفها. والثاني: يجب، لأن ذلك لا يخلو عن رطوبة خفيت. على الأول يستحب خروجا من الخلاف. وجمع بين الدود
والبعر ليعلم أنه لا فرق بين الطاهر والنجس.
خاتمة: الواجب في الاستنجاء أن يغلب على ظنه زوال النجاسة ولا يضر شم ريحها بيده فلا يدل على بقائها على
المحل وإن حكمنا على يده بالنجاسة، لأنا لم نتحقق أن محل الريح باطن الإصبع الذي كان ملاصقا للمحل، لاحتمال أنه كان
في جوانبه فلا تنجس بالشك، أو أن هذا المحل قد خفف فيه في الاستنجاء بالحجر فخفف فيه هنا فاكتفى بغلبة ظن زوال
النجاسة. وهل يسن شم اليد أو لا؟ وجهان مبنيان على أن رائحتها تدل على نجاسة المحل أو لا، إن قلنا تدل استحب
وإلا فلا. ولا استنجاء من غير ما ذكر، فقد نقل المتولي وغيره الاجماع على أنه لا يجب الاستنجاء من النوم والريح.
قال ابن الرفعة: ولم يفرق الأصحاب بين أن يكون المحل رطبا أو يابسا. ولو قيل بوجوبه إذا كان المحل رطبا لم يبعد كما
قيل به في دخان النجاسة، وهذا مردود، فقد قال الجرجاني: إن ذلك مكروه، وصرح الشيخ نصر المقدسي بتأثيم فاعله
لأنه تنطع وعدو. والظاهر كلام الجرجاني. وقال في الاحياء: يقول بعد فراغ الاستنجاء: اللهم طهر قلبي من النفاق
وحصن فرجي من الفواحش.
(باب الوضوء)
هو بضم الواو: اسم للفعل، وهو استعمال الماء في أعضاء مخصوصة، وهو المراد هنا. وبفتحها اسم للماء الذي يتوضأ
46

به. وقيل بفتحها فيهما، وقيل بضمها كذلك وهو أضعفها. وهو اسم مصدر، إذ قياس المصدر التوضؤ بوزن التكلم
والتعلم وقد استعمل استعمال المصادر، وهو مأخوذ من الوضاءة: وهي الحسن والنظافة والضياء من ظلمة الذنوب.
وأما في الشرع فهو أفعال مخصوصة مفتتحة بالنية. قال الإمام: وهو تعبدي لا يعقل معناه، لأن فيه مسحا ولا تنظيف فيه،
وكان وجوبه مع وجوب الخمس كما رواه ابن ماجة. واختلفوا في خصوصيته بهذه الأمة، وفي موجبه أوجه: أحدها: الحدث
وجوبا موسعا. ثانيها: القيام إلى الصلاة ونحوها. ثالثها: هما. وهو الأصح في التحقيق وشرح مسلم، وكلام الرافعي في باب
الغسل يقتضي ترجيحه كما مرت الإشارة إليه. وله شروط وفروض وسنن، فشروطه وكذا الغسل ماء مطلق، ومعرفة أنه
مطلق ولو ظنا، وعدم الحائل، وجري الماء على العضو، وعدم المنافي من نحو حيض ونفاس في غير أغسال الحج ونحوها،
ومس ذكر، وعدم الصارف، ويعبر عنه بدوام النية وإسلام وتمييز. ومعرفة كيفية الوضوء كنظيره الآتي في الصلاة، وإزالة
خبث على رأي يأتي، وأن يغسل مع المغسول جزءا يتصل بالمغسول ويحيط به ليتحقق به استيعاب المغسول وتحقق المقتضي
للوضوء، فلو شك هل أحدث أو لا فتوضأ ثم بان أنه كان محدثا لم يصح وضوؤه على الأصح. وأن يغسل مع المغسول ما هو
مشتبه به، فلو خلق له وجهان أو يدان أو رجلان واشتبه الأصلي بالزائد وجب غسل الجميع. ويزيد وضوء الضرورة باشتراط
دخول الوقت ولو ظنا، وتقدم الاستنجاء والتحفظ حيث احتيج إليه. والموالاة بينهما وبينهما وبين الوضوء، وكذا في أفعال
الوضوء كما صرح به ابن المقري. وأما فروضه فذكرها بقوله: (فرضه) هو مفرد مضاف فيعم كل فرض منه، أي فروضه
كما في المحرر، (ستة) وزاد بعضهم سابعا: وهو الماء الطهور. قال في شرح المهذب: والصواب أنه شرط كما مر. واستشكل
بعد التراب ركنا في التيمم. وأجيب بأن التيمم طهارة ضرورة، بل قال بعضهم إنه لا يحسن عد التراب ركنا، لأن الآلة
جسم والفعل عرض فكيف يكون الجسم جزءا من العرض؟ والفرض والواجب بمعنى واحد، والمراد هنا الركن لا المحدود
في كتب أصول الفقه. (أحدها: نية رفع حدث) عليه، أي رفع حكمه، لأن الواقع لا يرتفع، وذلك كحرمة الصلاة ولو
لماسح الخف، لأن القصد من الوضوء رفع المانع فإذا نواه فقد تعرض للمقصود. وإنما نكر الحدث ولم يقل الحدث ليشمل
ما لو نوى من عليه أحداث رفع بعضها، فإن الأصح إنه يكفي وإن نفى بعضها لأن الحدث لا يتجزأ فإذا
ارتفع بعضه ارتفع كله. وعورض بمثله، ورجع الأول بأن الأسباب لا ترتفع وإنما يرتفع حكمها وهو واحد تعددت أسبابه ولا يجب
التعرض لها فيلغو ذكرها. وخرج بقولنا عليه ما لو نوى غيره، كأن بال ولم ينم فنوى رفع حدث النوم، فإن كان عامدا لم
يصح أو غالطا صح. وضابط ما يضر الغلط فيه وما لا يضر كما ذكره القاضي وغيره أن ما يعتبر التعرض له جملة وتفصيلا
أو جملة لا تفصيلا يضر الغلط فيه، فالأول كالغلط من الصوم إلى الصلاة وعكسه، والثاني كالغلط في تعيين الإمام. وما لا يجب
التعرض له لا جملة ولا تفصيلا لا يضر الخطأ فيه، كالخطأ هنا وفي تعيين المأموم حيث لم يجب التعرض للإمامة، أما إذا وجب
التعرض لها كإمام الجمعة فإنه يضر. والأصل في وجوب النية قوله (ص) كما في الصحيحين: إنما الأعمال بالنيات
أي الأعمال المعتد بها شرعا، ولان الوضوء عبادة محضة طريقها الافعال فلم يصح من غير نية كالصلاة، فاحترز بالعبادة عن
الأكل والشرب والنوم ونحو ذلك، وبالمحضة عن العدة، وبطريقة الافعال، قال صاحب البيان: عن الاذان والخطبة،
وقيل: عن إزالة النجاسة وستر العورة، فإن طريقها التروك. وحقيقتها لغة القصد، وشرعا قصد الشئ مقترنا بفعله، وحكمها
الوجوب كما علم مما مر، ومحلها القلب، والمقصود بها تمييز العبادة عن العادة، كالجلوس للاعتكاف تارة وللاستراحة أخرى،
أو تمييز رتبتها كالصلاة تكون للفرض تارة وللنفل أخرى. وشرطها إسلام الناوي، وتمييزه، وعلمه بالمنوي، وعدم
إتيانه بما ينافيها بأن يستصحبها حكما. وأن لا تكون معلقة، فلو قال: إن شاء الله تعالى، فإن قصد التعليق أو أطلق لم تصح،
وإن قصد التبرك صحت. ووقتها أول الفروض كأول غسل جزء من الوجه هنا كما سيأتي. وإنما لم يوجبوا المقارنة في الصوم
لعسر مراقبة الفجر وتطبيق النية عليه. وكيفيتها تختلف بحسب الأبواب، فيكفي هنا نية رفع حدث كما مر. (أو) نية
(استباحة) شئ (مفتقر) صحته (إلى طهر) أي وضوء كالصلاة والطواف ومس المصحف، لأن رفع الحدث إنما يطلب
47

لهذه الأشياء، فإذا نواها فقد نوى غاية القصد. وشمل إطلاقه ما لو نوى استباحة صلاة معينة كالظهر فإنه يصح لها ولغيرها،
وإن نفاه على الأصح كأن نوى استباحة الظهر ونفى غيرها، لأن الحدث لا يتجزأ كما مر، والتعرض لما عينه غير
واجب فيلغو ذكره. ونقل الزركشي عن فتاوى البغوي أنه لو نوى رفع حدثه في حق صلاة واحدة لا في حق
غيرها لم
يصح وضوؤه قولا واحدا، لأن ارتفاع حدثه لا يتجزأ، فإذا بقي بعضه بقي كله اه‍. ورد هذا شيخنا بما تقدم. وفرق
ابن شهبة بأن في مسألة البغوي نفي بعض حدثه الذي رفعه فيما رد به الباقي غير الحدث المرفوع، وهو لا يضر فإنه لا أثر
له إذا رفع غيره، وهذا الفرق ظاهر. وقال شيخي: المعتمد كلام البغوي، لأن النافي فيه كالمتلاعب، لأن الحدث إذا
ارتفع كان له أن يصلي به هذه وغيرها فصار كمن قال: أصلي به ولا أصلي به اه‍. وعلى الأول دائم الحدث لا يستبيح
المنفي بدل المعين وما لو يمكنه فعله، كأن نوى صلاة العيد بوضوء في رجب. وقيل: لا يصح لتلاعبه. فإن قيل: لو عبر
بالوضوء بدل طهر لكان أولى، لأن القراءة والمكث في المسجد مفتقران إلى طهر، وهو الغسل، مع أنه لا يصح الوضوء
بنيتهما. أجيب بأن مراده ما قدرته تبعا للشارح، وبأن ذلك خرج بقوله استباحة لأن نية استباحتهما تحصيل للحاصل،
وبأن ذلك علم من قوله بعد: أو ما يندب له وضوء. وشرط نية استباحة الصلاة قصد فعلها بتلك الطهارة، فلو لم يقصد فعل
الصلاة، أي أو نحوها، بوضوئه، قال في المجموع: فهو متلاعب لا يصار إليه. (أو أداء فرض الوضوء) أو فرض الوضوء
وإن كان المتوضئ صبيا، أو أداء الوضوء أو الوضوء فقط لتعرضه للمقصود، فلا يشترط التعرض للفرضية كما لا يشترط في الحج
والعمرة وصوم رمضان. قال الرافعي: والأولى اعتبار كون النية في الوضوء للتمييز لا للقربة، وإلا لما اكتفى بنية أداء الوضوء
لأن الصحيح اعتبار نية الفرضية في العبادات. قال: وإنما صح الوضوء بنية فرضه قبل الوقت مع أنه لا وضوء عليه بناء
على قول الشيخ أبي حامد أن موجبه الحدث، أو يقال: ليس المراد هنا لزوم الاتيان به وإلا لامتنع وضوء الصبي بهذه
النية، بل المراد فعل طهارة الحدث المشروط للصلاة، وشرط الشئ يسمى فرضا اه‍. وما تقرر من الاكتفاء بالأمور
السابقة محله في الوضوء غير المجدد، أما المجدد فالقياس عدم الاكتفاء فيه بنية الرفع أو الاستباحة. قال الأسنوي: وقد
يقال يكتفى بها كالصلاة المعادة، غير أن ذلك مشكل خارج عن القواعد فلا يقاس عليه. قال ابن العماد: وتخريجه
على الصلاة المعادة ليس ببعيد، لأن قضية التجديد أن يعيد الشئ بصفته الأولى اه‍. والأول أولى كما اعتمده شيخي،
لأن الصلاة اختلف فيها هل فرضه الأولى أو الثانية؟ ولم يقل أحد في الوضوء بذلك. وعلم مما مر أنه لا يشترط التعرض
للأداء والفرضية وإن كان ظاهر كلامه خلافه، وإنما اكتفى بنية الوضوء فقط دون نية الغسل، لأن الوضوء لا يكون
إلا عبادة، فلا يطلق على غيرها بخلاف الغسل فإنه يطلق على غسل الجنابة وغسل النجاسة وغيرهما. ولا تنحصر كيفية
النية فيما تقدم، فإنه لو نوى الطهارة عن الحدث صح جزما، فإن لم يقل عن الحدث لم يصح على الصحيح كما في زوائد
الروضة. وعلله في المجموع بأن الطهارة قد تكون عن حدث وقد تكون عن خبث فاعتبر التمييز. وقيل: تصح، وهو
ظاهر كلام الرافعي. وقواه في المجموع بأن نية الطهارة لأعضاء الوضوء على الوجه الخاص لا تكون عن خبث، قال:
وهذا ظاهر نص البويطي، لكن حمله الأصحاب على إرادة نية الحدث، وكذا لو نوى فرض الطهارة لم يكف لما ذكر.
ولو نوى أداء فرض الطهارة صح كما صرح به جمع منهم سليم في التقريب، وكذا لو نوى الطهارة للصلاة أو غيرها مما
يتوقف على الوضوء كما ذكره في التنبيه والمهذب، ووافقه عليه المصنف في شرحه. وفيه بحث، إذ يقال إن هذا كإطلاق
الطهارة لترددها بين الأكبر والأصغر وإزالة النجاسة، فلا يصح ذلك إلا على القول الثاني. ويجاب بأن الطهارة لما أضيفت
إلى الصلاة شملت رفع الحدث والخبث، فهي متضمنة لرفع الحدث، فصحت بخلاف فرض الطهارة أو الطهارة فإنها تصدق
بإزالة النجاسة فقط فلم تكف دون الأول. (ومن دام حدثه كمستحاضة) ومن به سلس بول أو ريح، (كفاه نية الاستباحة)
المتقدمة (دون) نية (الرفع) المار لبقاء حدثه (على الصحيح فيهما): وجه الاكتفاء فيه بنية الاستباحة القياس على التيمم
بجامع بقاء الحدث. وأما عدم الاكتفاء بنية الرفع فلبقاء حدثه كما تقدم فإنه لا يرتفع على الصحيح، والثاني: يصح فيهما،
48

والثالث: لا يصح فيهما بل لا بد أن يجمع بينهما، وعلى الأول يندب له الجمع بينهما خروجا من خلاف من أوجبه لتكون
نية الرفع للحدث السابق ونية الاستباحة أو نحوها للاحق، وبهذا يندفع ما قيل إنه قد جمع في نيته بين مبطل
وغيره.
فإن قيل: نية الاستباحة وحدها تفيد الرفع كنية رفع الحدث، فالغرض يحصل بها وحدها. أجيب بأن الغرض الخروج
من الخلاف، وهو إنما يحصل بما يؤدي المعنى مطابقة لا التزاما، وذلك إنما يحصل بجمع النيتين. ويكفيه أيضا نية الوضوء
ونحوها مما تقدم كما اعتمده الأسنوي والنسائي وصرح به في الحاوي الصغير. وقال الكمال بن أبي شريف: إنه الحقيق
بالاعتماد، وإن خالف في ذلك ابن المقري في إرشاده، لأن الوضوء لا يستلزم رفع الحدث ويصح مع الحدث في الجملة.
تنبيه: حكم نية دائم الحدث فيما يستبيحه من الصلوات حكم نية المتيمم كما ذكره الرافعي هنا وأغفله من الروضة،
فإن نوى الفرض استباحه وإلا فلا على المذهب، وسيأتي إن شاء الله تعالى بسط ذلك في التيمم. لا يشترط في النية الإضافة
إلى الله تعالى لكن تستحب كما في الصلاة وغيرها، ولو توضأ الشاك بعد وضوئه في حدثه احتياطا فبان محدثا لم يجزئه
للتردد في النية بلا ضرورة، كما لو قضى فائتة الظهر مثلا شاكا في أنها عليه ثم بان أنها عليه لا يكفي. أما إذا لم يتبين حدثه
فإنه يجزئه للضرورة، ولو توضأ الشاك وجوبا بأن شك بعد حدثه في وضوئه فتوضأ أجزأه وإن كان مترددا، لأن الأصل
بقاء الحدث، بل لو نوى في هذه إن كان محدثا فعن حدثه وإلا فتجديد صح أيضا وإن تذكر، نقله في المجموع عن البغوي
وأقره. (ومن نوى) بوضوئه (تبردا) أو شيئا يحصل بدون قصد كتنظف ولو في أثناء وضوئه، (مع نية معتبرة) أي مستحضرا
عند نية التبرد أو نحوه نية الوضوء (جاز) أي أجزأه ذلك (على الصحيح) لحصول ذلك من غير نية، كمصل نوى الصلاة
ودفع الغريم فإنها تجزئه، لأن اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى نية. والثاني: يضر، لما في ذلك من التشريك بين قربة وغيرها.
فإن فقد النية المعتبرة كأن نوى التبرد أو نحوه وقد غفل عنها لم يصح غسل ما غسله بنية التبرد ونحوه ويلزمه إعادته دون
استئناف الطهارة. قال الزركشي: وهذا الخلاف في الصحة، أما الثواب فالظاهر عدم حصوله. وقد اختار الغزالي فيما
إذا شرك في العبادة غيرها من أمر دنيوي اعتبار الباعث على العمل، فإن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر،
وإن كان القصد الديني أغلب فله بقدره وإن تساويا تساقطا. واختار ابن عبد السلام أنه لا أجر فيه مطلقا، سواء أتساوى
القصدان أم اختلفا. ويبطل بالردة التيمم ونية الوضوء والغسل. ولو نوى قطع الوضوء انقطعت النية فيعيدها للباقي، وإذا
بطل وضوءه في أثنائه بحدث أو غيره، قال في المجموع عن الروياني: يحتمل أن يثاب على الماضي كما في الصلاة، أو يقال:
إن بطل باختياره فلا أو بغير اختياره فنعم. ومن أصحابنا من قال: لا ثواب له بحال لأنه يراد لغيره بخلاف الصلاة اه‍.
والأوجه التفصيل في الوضوء والصلاة. (أو) نوى بوضوئه (ما يندب له وضوء كقراءة) لقرآن أو حديث وكدخول مسجد، (فلا) يجوز
له ذلك، أي لا يجزئه. (في الأصح) لأنه مباح مع الحدث فلا يتضمن قصده قصد رفع الحدث، فكان كزيارة الوالدين والصديق وعيادة
المريض، وكل ذلك لا يصح الوضوء بنيته، والثاني: يصح، لأن مقصوده تحصيل المستحب، وهو لا يحصل بدون رفع الحدث،
فكانت نيته متضمنة له. أما ما لا يندب له الوضوء كدخول السوق ولبس الثياب فلا يصح الوضوء بنيته جزما.
فروع: الأول: لو نوى أن يصلي بوضوئه ولا يصلي به لم يصح وضوؤه لتلاعبه وتناقضه، وكذا لو نوى به الصلاة بمكان
نجس. الثاني: لو انغرس بعض أعضاء من نوى الطهر بسقطة في ماء أو غسلها فضولي ونيته فيهما عازبة، لم يجزه لانتفاء
فعله مع النية. فقولهم لا يشترط فعله محله إذا كان متذكرا للنية بخلاف ما لو ألقاه غيره في نهر مكرها فنوى فيه رفع الحدث
صح وضوؤه كما صرح به في الروضة. الثالث: لو نسي لمعة في وضوئه أو غسله فانغسلت في الغسلة الثانية أو الثالثة بنية
التنفل أو في إعادة وضوء أو غسل لنسيان له أجزأه، أما في الأولى فلان قضية نيته الأولى كمال غسلها قبل غيرها، وتوهمه
الغسل عن غير ما لا يمنع الوقوع عنها كما لو جلس للتشهد الأخير ظانا أنه الأول فإنه يكفي وإن توهمه الأول، وأما في الثانية
فلانه أتى بذلك بنية الوجوب بخلاف ما لو انغسلت في تجديد وضوء فإنه لا يجزئه لأنه طهر مستقل بنية لم تتوجه لرفع
الحدث أصلا، وبخلاف ما لو توضأ احتياطا فانغسلت فيه فإنه لا يجزئه أيضا لما مر في تعليله. (ويجب قرنها) بسكون الراء
49

مصدر قرن بفتحها. (بأول) غسل (الوجه) لتقترن بأول الفرض كالصلاة وغيرها من العبادات ما عدا الصوم لما مر، فلا
يكفي اقترانها بما بعد الوجه قطعا لخلو أول المغسول وجوبا عنها. وأما اقترانها بما قبله من السنن ما عدا الاستنجاء ففيه
خلاف ذكره بقوله: (وقيل يكفي) قرنها (بسنة قبله) لأنها من جملة الوضوء. والأصح المنع، إذ المقصود من العبادة أركانها
والسنن توابع، أما الاستنجاء فلا يكفي اقترانها به جزما. ومحل الخلاف إذا عزبت قبل غسل الوجه فإن بقيت إلى غسله
كفى بل هو أفضل ليثاب على السنن السابقة لأنها إذا خلت عن النية لم يحصل له ثوابها. فإن قيل: من نوى صوم التنفل
في أثناء اليوم فإن النية تنعطف على الماضي ويحصل له ثواب جميع اليوم، فلم لا كان هذا كذلك؟ أجيب بأنه لا ارتباط
لصحة الوضوء بالسنن المذكورة، فإنه يصح بدونها بخلاف بقية النهار، وأيضا الصوم خصلة واحدة فإذا صح بعضها صح
كلها، والوضوء أفعال متفاصلة فالانعطاف فيها أبعد. ولو اقترنت النية بالمضمضة أو الاستنشاق وانغسل معه جزء من الوجه
أجزأ وإن عزبت النية بعده، سواء أغسله بنية الوجه وهو ظاهر أم لا لوجوب غسل جزء من الوجه مقرونا بالنية، لكن
يجب إعادة غسل الجزء مع الوجه على الأصح في الروضة لوجود الصارف. ولا تجزئ المضمضة ولا الاستنشاق في الشق
الأول لعدم تقدمها على غسل الوجه، قاله القاضي مجلي، فالنية لم تقترن بمضمضة ولا استنشاق حقيقة. ولو وجدت النية
في أثناء غسل الوجه دون أوله كفت ووجب إعادة المغسول منه قبلها، فوجب قرنها بالأول ليعتد به. ويفهم منه أنه
لا يجب استصحاب النية إلى آخر الوضوء، لكن محله في الاستصحاب الذكري، وأما الحكمي، وهو أنه لا ينوي قطعها
ولا يأتي بمنافيها كالردة، فواجب كما علم مما مر. (وله تفريقها) أي النية (على أعضائه) أي الوضوء، بأن ينوي عند كل
عضو رفع الحدث عنه كما ذكره الرافعي، لأنه يجوز تفريق أفعاله كما سيأتي، فكذلك تفريق النية على أفعاله. وجعل في مشكل
الوسيط من صور التفريق أن ينوي رفع الحدث مطلقا عند كل عضو، وتوقف في ذلك ابن الصلاح لأن النية الثانية تتضمن
قطع الأولى أي كما في نية الصلاة. قال ابن شهبة: وقد يقال هي مؤكدة ونية الوضوء ليست كنية الصلاة حتى تقطع
الثانية الأولى اه‍. وهذا حسن، لكنه ليس من التفريق لأن النية الأولى حصل بها المقصود لجميع الأعضاء.
وهل يقطع
النية نوم ممكن؟ وجهان أوجههما لا. والحدث الأصغر لا يحل كل البدن بل أعضاء الوضوء خاصة كما صححه في التحقيق
والمجموع، وإنما لم يجز مس المصحف بغيرها لأن شرط الماس أن يكون متطهرا ويرتفع حدث كل عضو بمجرد غسله
كما مرت الإشارة إليه. (الثاني) من الفروض: (غسل) ظاهر (وجهه) لقوله تعالى: * (فاغسلوا وجوهكم) * وللاجماع. والمراد
بالغسل الانغسال سواء أكان بفعل المتوضئ أم بغيره، وكذا الحكم في سائر الأعضاء. (وهو) طولا (ما بين منابت) شعر
(رأسه غالبا، و) تحت (منتهى لحييه) وهما بفتح اللام على المشهور: العظمان اللذان تنبت عليهما الأسنان السفلى. (و)
عرضا (ما بين أذنيه) لأن الوجه ما تقع به المواجهة وهي تقع بذلك، وخرج بظاهر داخل الفم والأنف والعين فإنه
لا يجب غسل ذلك قطعا، بل ولا يستحب غسل داخل العين، بل صرح بعضهم بالكراهة للضرر. ولكن يجب غسل ذلك
إن تنجس، والفرق غلظ النجاسة بدليل أنها تزال عن الشهيد إذا كانت من غير دم الشهادة. أما ماق العين فيغسل بلا
خلاف، فإن كان عليه ما يمنع وصول الماء إلى المحل الواجب كالرماص وجب إزالته وغسل ما تحته، وبغالبا الأصلع، وهو
من انحسر الشعر عن ناصيته، فإنه لا يلزمه غسلها، وقد نبه في المحرر عليه وأسقطه المصنف، ودخل موضع الغمم كما قال.
(فمنه) أي من الوجه، (موضع الغمم) لحصول المواجهة به، وهو ما ينبت عليه الشعر من الجبهة، والغمم أن يسيل الشعر حتى
يضيق الجبهة والقفا، يقال رجل أغم وامرأة غماء، والعرب تذم به وتمدح بالنزع، لأن الغمم يدل على البلادة والجبن
والبخل والنزع بضد ذلك. كما قيل: فلا تنكحي إن فرق الله بيننا أغم القفا والوجه ليس بأنزعا
بل قوله غالبا لا حاجة إليه كما قاله الإمام، لأن الجبهة ليست منبتا وإن نبت الشعر عليها لعارض، والناصية منبت وإن انحسر
50

عنها الشعر لعارض، فمنبت الشئ ما صلح لنباته، وغير منبته ما لم يصلح له، كما يقال الأرض منبت، لصلاحيتها لذلك
وإن لم يوجد فيها نبات، والحجر ليس منبتا لعدم صلاحيته وإن وجد فيه نبات، بل قال الولي العراقي: إنه لا معنى له فإن منابت
شعر رأسه شئ موجود لا غالب فيه ولا نادر. وإنما يصح الاتيان بقوله غالبا لو عبر بشعر الرأس من غير
إضافة كما فعل
غيره اه‍. ومنتهى اللحيين من الوجه كما تقرر وإن لم تشمله عبارة المصنف. (وكذا التحذيف) بالمعجمة: أي موضعه من
الوجه، (في الأصح) لمحاذاته بياض الوجه، وهو ما ينبت عليه الشعر الخفيف بين ابتداء العذار والنزعة، وسمي بذلك
لأن النساء والاشراف يحذفون الشعر عنه ليتسع الوجه. وضابطه كما قاله الإمام وجزم المصنف به في الدقائق: أن تضع طرف
خيط على رأس الاذن والطرف الثاني على أعلى الجبهة وتفرض هذا الخيط مستقيما، فما نزل عنه إلى جانب الوجه فهو موضع
التحذيف. والثاني: أنه من الرأس وسيأتي تصحيحه. (لا النزعتان) بفتح الزاي ويجوز إسكانها، ويقال فيه: رجل أنزع
ولا يقال امرأة نزعاء، بل يقال زعراء. (وهما بياضان يكتنفان الناصية) وهي مقدم الرأس من أعلى الجبين، فليستا من الوجه
لأنهما في حد تدوير الرأس. (قلت: صحح الجمهور أن موضع التحذيف من الرأس والله أعلم) لاتصال شعره بشعر الرأس.
ونقل الرافعي ترجيحه في شرحه عن الأكثرين، وتبع في المحرر ترجيح الغزالي للأول. ومن الرأس أيضا الصدغان وهما
فوق الاذنين متصلان بالعذارين لدخولهما في تدوير الرأس. ويسن غسل موضع الصلع والتحذيف والنزعتين والصدغين
مع الوجه للخلاف في وجوبها في غسله. ويجب غسل جزء من الرأس ومن الحلق ومن تحت الحنك ومن الاذنين. وتجب
أدنى زيادة في غسل اليدين والرجلين على الواجب فيهما، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومن الوجه البياض الذي
بين العذار والاذن لدخوله في حده، وما ظهر من حمرة الشفتين ومن الانف بالجدع. (ويجب غسل كل هدب) وهو بضم
الهاء وسكون الدال المهملة وضمها وبفتحهما معا: الشعر النابت على أجفان العين. (وحاجب) جمعه حواجب، وحاجب الأمير
جمعه حجاب. سمي بذلك لأنه يحجب عن العين شعاع الشمس. (وعذار) وهو بالذال المعجمة: الشعر النابت المحاذي للاذن
بين الصدغ والعارض، وقيل: هو ما على العظم الناتئ بإزاء الاذن، وهو أول ما ينبت للأمرد غالبا. (وشارب) وهو الشعر النابت
على الشفة العليا، سمي بذلك لملاقاته فم الانسان عند الشرب. (وخد) أي الشعر النابت عليه، كذا ذكره البغوي والمصنف
في شرح المهذب، ولم يذكره الرافعي في شئ من كتبه ولا المصنف في الروضة فهو من زيادته على المحرر من غير تمييز. (وعنفقة)
وهو الشعر النابت على الشفة السفلى. (شعرا) بفتح العين (وبشرا) أي ظاهرا وباطنا وإن كثف الشعر لأن كثافته نادرة
فألحق بالغالب. فإن قيل: كان ينبغي إسقاط شعر أو يقول وبشرتها، أي بشرة جميع ذلك، فقوله شعرا تكرار، فإن ما تقدم
اسم لها لا لمنابتها، وقوله وبشرا غير صالح لتفسير ما تقدم. أجيب بأنه ذكر الخد أيضا فنص على شعره كما نص على بشرة
ما ذكره من الشعر. (وقيل لا يجب) غسل (باطن عنفقة كثيفة) بالمثلثة، ولا بشرتها كاللحية. ولو قال: وقيل عنفقة كلحية
لكان أشمل وأخصر، وفي ثالث يجب إن لم تتصل باللحية. (واللحية) من الرجل، وهي بكسر اللام وحكي فتحها: الشعر
النابت على الذقن خاصة وهي مجمع اللحيين. (إن خفت كهدب) فيجب غسل ظاهرها وباطنها، (وإلا) بأن كثفت (فليغسل
ظاهرها) ولا يجب غسل باطنها لعسر إيصال الماء إليه مع الكثافة الغير النادرة، ولما روى البخاري أنه (ص)
توضأ فغرف غرفة غسل بها وجهه، وكانت لحيته الكريمة كثيفة، وبالغرفة الواحدة لا يصل الماء إلى ذلك غالبا، فإن خف بعضها
وكثف بعضها وتميز فلكل حكمه، وإن لم يتميز بأن كان الكثيف متفرقا بين أثناء الخفيف وجب غسل الكل كما قاله الماوردي،
لأن إفراد الكثيف بالغسل يشق وإمرار الماء على الخفيف لا يجزئ. وهذا هو المعتمد وإن قال في المجموع: ما قاله الماوردي
خلاف ما قاله الأصحاب. والشعر الكثيف ما يستر البشرة عن المخاطب بخلاف الخفيف. والعارضان، وهما المنحطان عن
51

القدر المحاذي للاذن كاللحية في جميع ما ذكر، وإن لم يعلم ذلك من عبارة المصنف. وخرج بالرجل المرأة، فيجب غسل ذلك
منها ظاهرا وباطنا وإن كثف لندرة كثافتها، ولأنه يسن لها إزالتها لأنها مثلة في حقها، ومثلها الخنثى في غسل ما ذكر إن لم
نجعل ذلك علامة على ذكورته، وهو المعتمد. فإن قيل: إيجاب ذلك في الكثيف عليهما مشكل لأن ذلك وإن كان نادرا
لكنه دائم، والقاعدة أن النادر الدائم كالغالب. أجيب بأن القاعدة مختصة بالأعذار المسقطة لقضاء الصلاة كالمستحاضة
وسلس البول، وأما غيرها فيلحق نادر كل جنس بغالبه مع أن الاشكال لا يأتي في المرأة للعلة الثانية، ويجب
غسل سلعة
نبتت في الوجه وإن خرجت عن حده لحصول المواجهة بها. واعلم أن التفصيل المذكور في شعور الوجه إذا كانت في حده، أما الخارجة عنه
فيجب غسل ظاهرها وباطنها مطلقا إن خفت كما في العباب، وظاهرها فقط مطلقا إن كثفت كما في الروض، بل عبارته تقتضي
أنه يكتفى بغسل ظاهرها وإن كانت خفيفة لكنه غير مراد، وبعضهم قرر في هذه الشعور خلاف ذلك فاحذره. (وفي قول
لا يجب غسل خارج عن) حد (الوجه) من لحية وغيرها كالعذار خفيفا كان أم كثيفا لا ظاهرا ولا باطنا، لخروجه عن محل
الفرض. ومن له وجهان وكان الثاني مسامتا للأول كما أفتى به شيخي وجب عليه غسلهما كاليدين على عضو واحد أو
رأسان كفى مسح بعض أحدهما، والفرق أن الواجب في الوجه غسل جميعه فتجب غسل جميع ما يسمى وجها وفي الرأس
بعض ما يسمى رأسا، وذلك يحصل ببعض أحدهما، ذكره في المجموع. (الثالث) من الفروض: (غسل يديه) من كفيه وذراعيه
للآية والاجماع. (مع) بفتح العين وتسكن بقلة، (مرفقيه) بكسر الميم وفتح الفاء أفصح من عكسه. أو قدرهما إن فقدا كما نبه
عليه في العباب، لما روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه في صفة وضوء رسول الله (ص): أنه توضأ فغسل
وجهه فأسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد ثم اليسرى حتى أشرع في العضد إلى آخره، وللاجماع، ولقوله
تعالى: * (وأيديكم إلى المرافق) * وجه دلالة الآية على ذلك أن تجعل اليد التي هي حقيقة إلى المنكب على الأصح مجازا إلى
المرفق، مع جعل إلى غاية للغسل الداخلة هنا في المغيا بقرينتي الاجماع والاحتياط للعبادة. والمعنى: اغسلوا أيديكم من رؤوس
أصابعها إلى المرافق. أو للمعية كما في قوله تعالى: * (من أنصاري إلى الله) * * (ويزدكم قوة إلى قوتكم) *. أو تجعل باقية على حقيقتها
إلى المنكب مع جعل إلى غاية إلى الترك المقدر فتخرج الغاية. والمعنى: اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق. قال البيضاوي
في تفسيره: قيل إلى بمعنى مع، أي كما تقدم، أو أن إلى متعلقة بمحذوف تقديره: وأيديكم مضافة إلى المرافق ثم قال: ولو
كان كذلك لم يكن لمعنى التحديد ولا لذكره مزيد فائدة لأن مطلق اليد يشتمل عليها أي المرافق. ثم ذكر أقوالا أخر يطول
الكلام بذكرها فلتراجع. ولا بد من غسل جزء من العضد ليتحقق غسل اليد وللحديث المذكور، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
(فإن قطع بعضه) أي بعض ما يجب غسله من اليدين، واليد مؤنثة. (وجب) غسل (ما بقي) منه لأن الميسور لا يسقط بالمعسور،
ولقوله (ص): إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. (أو) قطع (من مرفقيه) بأن سل عظم الذراع وبقي العظمان
المسميان برأس العضد. (فرأس عظم العضد) يجب غسله (على المشهور) لأنه من المرفق، بناء على أنه مجموع العظمين
والإبرة الداخلة بينهما لا الإبرة وحدها، ومقابله لا يجب غسله بناء على أنه طرف عظم الساعد فقط ووجوب غسل رأس
العضد بالتبعية. (أو) قطع من (فوقه) أي المرفق، (ندب) غسل (باقي عضده) لئلا يخلو العضو عن طهارة، ولتطويل
التحجيل كما لو كان سليم اليد. وإنما لم يسقط التابع بسقوط المتبوع كرواتب الفرائض أيام الجنون، لأن سقوط المتبوع
ثم رخصة فالتابع أولى به، وسقوطه هنا ليس رخصة بل لتعذره فحسن الاتيان بالتابع محافظة على العبادة بقدر الامكان، كإمرار
المحرم الموسى على رأسه عند عدم شعره. وإن قطع من منكبيه ندب غسل محل القطع بالماء كما نص عليه الشافعي رضي الله
تعالى عنه، وجرى عليه الشيخ أبو حامد وغيره. ويجب غسل شعر على اليدين ظاهرا وباطنا وإن كثف لندرته، وغسل
ظفر وإن طال، وغسل باطن ثقب وشقوق فيهما إن لم يكن له غور في اللحم وإلا وجب غسل ما ظهر منه فقط. ويجري
هذا في سائر الأعضاء كما يقتضيه كلام المجموع في باب صفة الغسل. وغسل يد زائدة إن نبتت بمحل الفرض ولو من المرفق
52

كإصبع زائدة وسلعة سواء جاوزت الأصلية أم لا. وإن نبتت بغير محل الفرض وجب غسل ما حاذى منها محله لوقوع
اسم اليد عليه مع محاذاته لمحل الفرض بخلاف ما لم يحاذه، فإن لم تتميز الزائدة عن الأصلية بأن كانتا أصليتين أو إحداهما زائدة
ولم تتميز بنحو فحش قصر ونقص أصابع وضعف بطش، غسلهما وجوبا سواء أخرجتا من المنكب أم من غيره، ليتحقق
الاتيان بالفرض، بخلاف نظيره من السرقة بقطع إحداهما فقط كما سيأتي إن شاء الله تعالى في بابها، لأن الوضوء مبناه على الاحتياط
لأنه عبادة، والحد على الدرء لأنه عقوبة. وتجري هذه الأحكام في الرجلين. وإن تدلت جلدة العضد منه لم
يجب غسل
شئ منها لا المحاذي ولا غيره، لأن اسم اليد لا يقع عليها مع خروجها عن محل الفرض، أو تقلصت جلدة الذراع منه وجب
غسلها لأنها منه. وإن تدلت جلدة أحدهما من الآخر بأن تقلعت من أحدهما وبلغ التقلع إلى الآخر ثم تدلت منه، فالاعتبار
بما انتهى إليه تقلعها لا بما منه تقلعها، فيجب غسلها فيما إذا بلغ تقلعها من العضد إلى الذراع دون ما إذا بلغ من الذراع
إلى العضد لأنها صارت جزءا من محل الفرض في الأول دون الثاني. ولو التصقت بعد تقلعها من أحدهما بالآخر وجب
غسل محاذي الفرض منها دون غيره. ثم إن تجافت عنه لزمه غسل ما تحتها أيضا لندرته، وإن سترته اكتفى بغسل ظاهرها. ولا
يلزمه فتقها، فلو غسله ثم زالت لزمه غسل ما ظهر من تحتها لأن الاقتصار على ظاهرها كان للضرورة وقد زالت. ولو توضأ
فقطعت يده أو تثقبت لم يجب غسل ما ظهر إلا لحدث، فيجب غسله كالظاهر أصالة. ولو عجز عن الوضوء لقطع يده مثلا
وجب عليه أن يحصل من يوضئه، والنية من الآذن ولو بأجرة مثل، فإن تعذر عليه ذلك تيمم وصلى وأعاد لندرة ذلك.
(الرابع) من الفروض: (مسمى مسح ل‍) - بعض (بشرة رأسه أو) بعض (شعر) ولو واحدة أو بعضها (في حده) أي الرأس،
بأن لا يخرج بالمد عنه من جهة نزوله، فلو خرج به عنه منها لم يكف حتى لو كان متجعدا بحيث لو مد لخرج عن الرأس
لم يجز المسح عليه، قال تعالى: * (وامسحوا برؤوسكم) *. وروى مسلم: أنه (ص) مسح بناصيته وعلى العمامة،
واكتفى بمسح البعض فيما ذكر، لأنه المفهوم من المسح عند إطلاقه. ولم يقل أحد بوجوب خصوص الناصية، وهي الشعر
الذي بين النزعتين، والاكتفاء بها يمنع وجوب الاستيعاب ويمنع وجوب التقدير بالربع أو أكثر لأنها دونه، والباء إذا دخلت
على متعدد كما في الآية تكون للتبعيض، أو على غيره، كما في قوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * فإنها تكون للالصاق.
فإن قيل: صيغة الامر بمسح الرأس والوجه في التيمم واحدة، فهلا أوجبتم التعميم أيضا؟ أجيب بأن ذلك ثبت بالسنة، و
بأن المسح ثم بدل للضرورة فاعتبر بمبدله ومسح الرأس أصل فاعتبر لفظه. فإن قيل: المسح على الخف بدل، فهلا وجب
تعميمه كمبدله؟ أجيب بقيام الاجماع على عدم وجوبه، وبأن التعميم يفسده مع أن مسحه مبني على التخفيف لجوازه مع القدرة
على الغسل، بخلاف التيمم إنما جاز للضرورة كما مر. وعلم من كلام المصنف أن كلا من البشرة والشعر أصل فإنه خير
بينهما، وهو الصحيح. فإن قيل: لو غسل بشرة الوجه وترك الشعر لم يجزه على الصحيح. أجيب بأن كلا من الشعر والبشرة يصدق
عليه مسمى الرأس عرفا، إذ الرأس اسم لما رأس وعلا، والوجه ما تقع به المواجهة وهي تقع على الشعر أيضا. فإن قيل:
هلا اكتفى بالمسح على النازل عن حد الرأس كما اكتفى بذلك للتقصير في النسك؟ أجيب بأن الماسح عليه غير ماسح
على الرأس، والمأمور به في التقصير إنما هو شعر الرأس وهو صادق بالنازل. (والأصح) وفي الروضة الصحيح (جواز
غسله) أي الرأس لأنه مسح وزيادة فأجزأ بطريق الأولى، والرأس مذكر. (و) جواز (وضع اليد) عليه (بلا مد) لحصول
المقصود من وصول البلل إليه. وأشار بالجواز إلى عدم استحباب ذلك وإلى عدم كراهته. والثاني: لا يجزئه فيهما
لأنه لا يسمى مسحا. وعلى الأول لو قطر الماء على رأسه أو تعرض للمطر. وإن لم ينو المسح خلافا لابن المقري في اشتراط
النية - أجزأه لما ذكر. ويجزئ مسح ببرد وثلج لا يذوبان لما تقدم، ويجزئ غسل بهما إذا ذابا وجريا على العضو لحصول
المقصود بذلك. ولو حلق رأسه بعد مسحه لم يعد المسح لما مر في قطع اليد. (الخامس) من الفروض: (غسل رجليه)
بإجماع من يعتد بإجماعه. (مع كعبيه) من كل رجل أو قدرهما إن فقدا كما مر في المرفقين، وهما العظمان الناتئان من
53

الجانبين عند مفصل الساق والقدم، ففي كل رجل كعبان، لما روى النعمان بن بشير أنه (ص) قال: أقيموا
صفوفكم، فرأيت الرجل منا يلصق منكبه بمنكب صاحبه وكعبه بكعبه. رواه البخاري. وفي وجه أن الكعب هو الذي
فوق مشط القدم، وهو شاذ ضعيف. قال تعالى: * (وأرجلكم إلى الكعبين) * قرئ في وجه السبع بالنصب وبالجر عطفا على الوجوه
لفظا في الأول، ومعنى في الثاني لجره على الجواز. ودل على دخول الكعبين في الغسل ما دل على دخول المرفقين فيه،
وقد مر. وما أطلقه الأصحاب هنا من أن غسل الرجلين فرض محمول كما قاله الرافعي على غير لابس الخف أو على أن
الأصل الغسل والمسح بدل عنه. ويجب إزالة ما في شقوق الرجلين من عين كشمع وحناء، قال الجويني: إن لم يصل إلى
اللحم ويحمل على ما إذا كان في اللحم غور، أخذا مما مر عن المجموع. ولا أثر لدهن ذائب ولون حناء. ويجب إزالة ما تحت
الأظفار من وسخ يمنع وصول الماء. ولو قطع بعض القدم وجب غسل الباقي، وإن قطع فوق الكعب فلا فرض عليه،
ويستحب غسل الباقي كما مر في اليد. (السادس) من الفروض: (ترتيبه هكذا) أي كما ذكره من البداءة بغسل الوجه مقرونا
بالنية ثم اليدين ثم مسح الرأس ثم غسل الرجلين، لفعله (ص) المبين للوضوء المأمور به، رواه مسلم وغيره،
ولقوله في حجته: ابدأوا بما بدأ الله به رواه النسائي بإسناد صحيح. والعبرة بعموم اللفظ. ولأنه تعالى ذكر ممسوحا بين
مغسولات، وتفريق المتجانس لا ترتكبه العرب إلا لفائدة، وهي هنا وجوب الترتيب لا ندبه بقرينة الامر في الخبر، ولان
الآية بيان للوضوء الواجب. وقيل: لا يشترط الترتيب، بل الشرط فيه عدم التنكيس، حتى لو استعان بأربعة غسلوا أعضاءه
دفعة واحدة ونوى صح وضوؤه. وعلى الأول يحصل له في هذه الحالة غسل الوجه فقط، كما لو نكس وضوءه ولو ساهيا،
فلو وضؤه بعد ذلك ثلاث مرات أخر أجزأه، كما لو نكس وضوءه أربع مرات فإنه يجزئه لحصول غسل كل عضو
في مرة. (ولو اغتسل محدث) حدثا أصغر فقط بنية رفع الحدث أو نحوه ولو متعمدا، أو بنية رفع الجنابة أو نحوها غالطا،
ورتب فيهما أجزأه، أو انغمس بنية ما ذكر. (فالأصح أنه إن أمكن تقدير ترتيب بأن غطس ومكث) قدر الترتيب (صح)
له الوضوء، لأن الترتيب حاصل بذلك، لأنه إذا لاقى الماء وجهه وقد نوى يرتفع الحدث عنه وبعده عن اليدين لدخوله
وقت غسلهما، وهكذا إلى آخر الأعضاء. والثاني: لا يصح، لأن هذا الترتيب أمر تقديري لا تحقيقي، ولهذا لا يقوم الغمس في
الماء الكثير مقام العدم في النجاسة المغلظة. (وإلا) أي: وإن لم يمكث قدر الترتيب بأن غطس وخرج في الحال، أو غسل
الأسافل قبل الأعالي، كما في المحرر. (فلا) يصح، لأن الترتيب من واجبات الوضوء، أو الواجب لا يسقط بفعل ما ليس بواجب.
ووجه مقابله أن الغسل أكمل من الوضوء فلذلك قال: (قلت الأصح الصحة بلا مكث والله أعلم) لأنه يكفي لرفع أعلى
الحدثين فللأصغر أولى، ولتقدير الترتيب في لحظات لطيفة، هذا إذا لم يغتسل منكسا بالصب عليه، وإلا لم يحصل له سوى
الوجه كما مر. وأما انغماسه فيكفي مطلقا. ولو أغفل لمعة من غير أعضاء الوضوء قطع الفاضي بأنه لا يكفي، وهو على الراجح
ممنوع وعلى غيره محمول على ما إذا لم يمكث، فإن مكث أجزأه واكتفى بنية الجنابة ونحوها مع أن المنوي طهر غير مرتب
لأن النية لا تتعلق بخصوص الترتيب نفيا وإثباتا. ولو أحدث وأجنب أجزأ الغسل عنها لاندراج الأصغر وإن لم ينوه في
الأكبر، فلو اغتسل إلا رجليه أو إلا يديه مثلا ثم أحدث ثم غسلهما عن الجنابة توضأ، ولم يجب عليه إعادة غسلهما
لارتفاع حدثهما بغسلهما عن الجنابة، وهذا وضوء خال عن غسل الرجلين أو اليدين وهما مكشوفتان بلا علة، قال ابن
القاص: وعن الترتيب، وغلطه الأصحاب بأنه غير خال عنه، بل هو وضوء لم يجب فيه غسل الرجلين أو اليدين، قال
في المجموع: وهو إنكار صحيح. ولو غسل بدنه إلا أعضاء الوضوء ثم أحدث، لم يجب ترتيبها، ولو شك في تطهير
عضو قبل الفراغ طهره وما بعده، أو بعد الفراغ لم يؤثر، ولو صلى فرضين بوضوءين عن حدث ثم تذكر ترك المسح
من أحدهما لا بعينه مسح وغسل ما بعده وأعاد الصلاتين. ولو توضأ وصلى ثم نسي الوضوء والصلاة فتوضأ وصلاها ثم على
ترك عضو وسجدة وجهل عينهما فوضوؤه تام، ويعيد الصلاة لاحتمال كون العضو من الوضوء الأول والسجدة من الصلاة
54

الثانية. ولو صلى الصبح بطهارة عن حدث ثم جدد للظهر، ثم صلى العصر بطهارة عن حدث ثم جدد للمغرب، ثم صلى
العشاء بطهارة عن حدث، ثم علم ترك مسح طهارة مهمة، أعاد صلاة طهارات الحدث وكذا غيرها. ويصح وضوء من
على بعض بدنه نجاسة لا يعرف موضعها خلافا للقاضي. ولو بان بعد فراغه ترك ظفر فقطعه وجب غسل ما ظهر بقطعه
وما بعده، وفي الحدث الأكبر يجب غسله فقط. ثم لما فرغ من ذكر الأركان شرع في بعض السنن، فقال: (وسننه) أي
الوضوء، أي ومن سننه. (السواك) وهو لغة: الدلك وآلته، وشرعا: استعمال عود أو نحوه كأشنان في الأسنان وما حولها.
والأصل في ذلك قوله (ص): لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل وضوء أي أمر إيجاب،
رواه البخاري تعليقا بصيغة الجزم، وتعليقاته هكذا صحيحة. ومحله في الوضوء على ما قاله ابن الصلاح وابن النقيب في عمدته
بعد غسل الكفين. وكلام الإمام وغيره يميل إليه وينبغي اعتماده. وقال الغزالي ك الماوردي والقفال: محله قبل التسمية،
قال ابن النقيب في نكته: أو معها، مخالفا لما في عمدته. قال الأذرعي: وإذا تركه أوله أرى أن يأتي به في أثنائه كالتسمية
وأولى. قال: ولم أره منقولا اه‍. وهو حسن. وقضية تخصيصهم الوضوء بالذكر أنه لا يطلب السواك للغسل، وإن طلب
بكل حال، قيل: ولعل سبب ذلك الاكتفاء باستحبابه في الوضوء المسنون فيه. وسن كونه (عرضا) أي في عرض الأسنان
ظاهرا وباطنا في طول الفم، لخبر: إذا استكتم فاستاكوا عرضا رواه أبو داود في مراسيله. ويجزئ طولا لكن
مع الكراهة لأنه يدمي اللثة ويفسد لحم الأسنان، وقيل إن الشيطان يستاك طولا. أما اللسان فيسن أن يستاك
فيه طولا كما ذكره ابن دقيق العيد، واستدل له بخبر في سنن أبي داود. ويحصل (بكل خشن) مزيل للقلح طاهر كعود
من أراك أو غيره أو خرقة أو أشنان لحصول المقصود بذلك، لكن العود أولى من غيره والاراك أولى من غيره من
العيدان. قال ابن مسعود: كنت أجتني لرسول الله (ص) سواكا من أراك رواه ابن حبان. وما أحسن
قول القائل:
تالله إن جزت بوادي الأراك * وقبلت أغصانه الخضر فاك
فابعث إلى المملوك من بعضها * فإنني والله ما لي سواك
وقال آخر: طلبت منك سواكا وما طلبت سواكا وما أردت أراكا لكن أردت أراكا
واليابس المندى بالماء أولى من الرطب ومن اليابس الذي لم يند ومن اليابس المندى بغير الماء كماء الورد، وعود النخل
أولى من غير الأراك كما قاله في المجموع، وقيل الأولى بعد الأراك قضبان الزيتون، ويسن غسله للاستياك. ثانيا إذا
حصل عليه وسخ أو ريح أو نحوه كما قاله في المجموع. ويكره غمسه في ماء وضوئه كما قاله الصيمري. ويستحب أن يمر
السواك على سقف فمه بلطف وعلى كراسي أضراسه، ولا بأس بالاستياك بسواك غيره بإذنه. وحرم بدونه كالاستياك بما
فيه سم، ويكره بعود وريحان يؤذي. وخرج بمزيل للقلح المبرد فلا يجزئ فإنه يزيل جزءا من السن، وبطاهر النجس فلا
يجزئ لخبر: السواك مطهرة للفم مرضاة للرب رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما، والمطهرة بفتح الميم وكسرها
كل إناء يتطهر به، أي منه. فشبه السواك به لأنه يطهر الفم. قاله في المجموع: أي فهو آلة تنظفه من الرائحة الكريهة.
وقوله: (بكل خشن) من زيادته بغير تمييز، وكذا قوله: (لا أصبعه) أي المتصلة به ولو كانت خشنة فلا تكفي (في الأصح)
لأنه لا يسمى استياكا. أما المنفصلة الخشنة فتجزئ إن قلنا بطهارتها وهو الأصح، ودفنها مستحب لا واجب. وإن قلنا
بنجاستها لم يجز كسائر النجاسات، خلافا للأسنوي، كما لا يجزئ الاستنجاء بها، وقيل: يجزئ. ويجب غسل الفم للنجاسة،
وعلى هذا يفرق بينه وبين الاستنجاء بأن الاستنجاء بالحجر رخصة. وهي لا تناط بالمعاصي مع أن الغرض منه الإباحة،
وهي لا تحصل بالنجاسة، بخلاف الاستياك فإنه عزيمة من أن الغرض منه إزالة الرائحة الكريهة، وهو حاصل. ويسن أن
يستاك باليمين من يمنى فمه، قال الزنكلوني: إلى الوسط، ويفعل بالأيسر مثل ذلك لشرف الأيمن، ولأنه (ص)
كان يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله وسواكه، رواه أبو داود. وقيل: إن كان المقصود به العبادة
55

فباليمين أو إزالة الرائحة فباليسار، وقيل: باليسار مطلقا لأنه إزالة مستقذر، فكان: كالحجر في الاستنجاء ولينو به السنة كما
أنه ينوى بالجماع النسل إن لم يكن للوضوء، وإلا فنيته تشمله. ويسن أن يعوده الصغير ليألفه. ولو قال: ومن سننه السواك
كما قدرته وعبر به في المحرر لكان أولى لئلا يوهم الحصر، فإن له سننا لم يذكرها وسأذكر شيئا منها إن شاء الله تعالى.
(ويسن للصلاة) ولو نفلا، ولكل ركعتين من نحو التراويح أو لمتيمم أو فاقد الطهورين أو صلاة جنازة ولو لم يكن الفم
متغيرا أو استاك في وضوئها لخبر الصحيحين: لولا أن أشق على أمتي لامرتهم بالسواك عند كل صلاة أي أمر إيجاب،
ولخبر: ركعتان بسواك أفضل من سبعين ركعة بلا سواك رواه الحميدي بإسناد جيد. واستشكل بأن صلاة الجماعة
بخمس أو سبع وعشرين مع أنها فرض كفاية على الأصح، وأجبت عن ذلك في شرح التنبيه بأجوبة بعضها لشيخنا.
وللطواف ولو نفلا ولسجدة تلاوة أو شكر، ولو نسي أن يستاك قبل تحرمه ثم تذكره بعده هل يسن أن يتداركه كما
قيل به في الوضوء أو لا؟ أفتى بعض المتأخرين بأنه يتدارك بأفعال خفيفة، والظاهر عدم الاستحباب، لأن
الكفء
مطلوب في الصلاة فمراعاته أولى. (وتغير الفم) بتثليث فائه، أو الأسنان بنوم أو أكل أو جوع أو سكوت طويل أم كلام
كثير أو نحو ذلك، لخبر الصحيحين: كان النبي (ص) إذا قام من النوم يشوص فاه، أي يدلكه بالسواك.
وقيس بالنوم غيره بجامع التغير. وكما أنه يتأكد فيما ذكر يتأكد أيضا لقراءة قرآن أو حديث ولعلم شرعي كما بحثه بعضهم، ولذكر الله تعالى
ولنوم وليقظة كما مر، ولدخول منزله وعند الاحتضار، ويقال إنه يسهل خروج الروح، وفي السحر، وللاكل وبعد الوتر
وللصائم قبل وقت الخلوف، كما يسن التطيب قبل الاحرام. (ولا يكره) بحال (إلا للصائم بعد الزوال) ولو نفلا، لخبر الصحيحين:
لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك والخلوف بضم الخاء تغير رائحة الفم. والمراد الخلوف بعد الزوال، لخبر:
أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا. ثم قال: وأما الثانية فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك
والمساء بعد الزوال، وأطيبية الخلوف تدل على طلب إبقائه فكرهت إزالته. وتزول الكراهة بالغروب لأنه ليس بصائم
الآن. ويؤخذ من ذلك أن من وجب عليه الامساك لعارض كأن نسي نية الصوم لا يكره له السواك بعد الزوال، وهو
كذلك لأنه ليس بصائم حقيقة. والمعنى في اختصاصها بما بعد الزوال أن تغير الفم بالصوم إنما يظهر حينئذ، قاله الرافعي.
ويلزم من ذلك كما قال الأسنوي أن يفرقوا بين من تسحر أو تناول في الليل شيئا أو لا، فيكره للمواصل قبل الزوال،
وأنه لو تغير فمه بأكل أو نحوه ناسيا بعد الزوال أنه لا يكره له السواك وهو كذلك. ولا يتوهم أنه يستاك لنحو الصلاة
بعد الزوال، لأنه يلزم منه أن لا يبقى خلوف غالبا إذ لا بد بعد الزوال من الصلاة. وأما هذه الأمور فعارضة فلا يؤخذ
منها ما ذكر. فإن قيل: لم حرم إزالة دم الشهيد مع أن رائحته كريح المسك كما ورد في الخبر إنهم: يأتون يوم القيامة وأوداجهم
تشخب دما اللون لون الدم والريح ريح المسك وكره إزالة الخلوف مع كونه أطيب من ريح المسك؟ أجيب بأن في إزالة
دم الشهيد تفويت فضيلة على الشهيد لم يؤذن في إزالتها، فإن فرض أن شخصا سوك صائما بغير إذنه حرم عليه كما هنا، أو
أن شهيدا أزال الدم عن نفسه في مرض يغلب على ظنه الموت فيه سبب القتال كره، فتفويت المكلف الفضيلة
على نفسه
جائز وتفويت غيره لها عليه لا يجوز إلا بإذنه. قال أبو الخير القزويني في كتاب خصائص السواك وغيره: فلا يجب السواك على
من أكل الميتة عند الاضطرار لإزالة الدسومة النجسة. ويؤخذ من تعليله أن الواجب إزالتها بسواك أو غيره فلا يجب السواك
عينا، وهو ظاهر. قال الترمذي الحكيم: يكره أن يزيد طول السواك على شبر. وفي البيهقي عن جابر قال: كان موضع
سواك رسول الله (ص) موضع القلم من أذن الكاتب واستحب بعضهم أن يقول في أوله: اللهم بيض
به أسناني وشد به لثاتي، وثبت به لهاتي، وبارك لي فيه يا أرحم الراحمين. قال المصنف: وهذا لا بأس به وإن لم يكن
له أصل فإنه دعاء حسن.
فائدة: قوله في الحديث: وخلوف إلخ جملة حالية مقيدة لعاملها، فيفهم منه أن ذلك في الدنيا وهو الأصح عند
ابن الصلاح والسبكي، وخصصه ابن عبد السلام بالآخرة، ولا مانع أن يكون فيهما.
56

فرع: من فوائد السواك: أنه يطهر الفم، ويرضي الرب كما مر، ويبيض الأسنان، ويطيب النكهة، ويسوي الظهر،
ويشد اللثة. ويبطئ الشيب، ويصفي الخلقة، ويذكي الفطنة، ويضاعف الاجر، ويسهل النزع كما مر، ويذكر الشهادة
عند الموت. ويسن التخليل قبل السواك وبعده، ومن أثر الطعام، وكون الخلال من عود السواك، ويكره بنحو
الحديد. (و) من سننه (التسمية أوله) أي أول الوضوء، لخبر النسائي بإسناد جيد عن أنس قال: طلب بعض أصحاب النبي
(ص) وضوءا فلم يجدوا، فقال (ص): هل مع أحد منكم ماء؟ فأتي بماء، فوضع يده في الاناء
الذي فيه الماء ثم قال: توضئوا بسم الله أي قائلين ذلك، فرأيت الماء يفور من بين أصابعه حتى توضأ نحو سبعين
رجلا. ولخبر: توضئوا بسم الله، رواه النسائي وابن خزيمة. وإنما لم تجب لآية الوضوء المبينة لواجباته. وأما خبر:
لا وضوء لمن لم يسم الله فضعيف. وأقلها بسم الله، وأكملها كمالها، ثم الحمد لله على الاسلام ونعمته والحمد لله
الذي جعل الماء طهورا، وزاد الغزالي بعدها في بداية الهداية: ربي أعوذ بك من همزات الشياطين، وأعوذ بك رب أن
يحضرون، وحكى المحب الطبري عن بعضهم التعوذ قبلها. وتسن لكل أمر ذي بال، أي حال يهتم به من عبادة وغيرها،
كغسل وتيمم وذبح وجماع وتلاوة ولو من أثناء سورة لا لصلاة وحج وذكر، وتكره لمحرم أو مكروه. والمراد
بأول الوضوء: أول غسل الكفين. فينوي الوضوء ويسمي الله عنده بأن يقرن النية بالتسمية عند أول غسلهما ثم
يتلفظ
بالنية ثم يكمل غسلهما، لأن التلفظ بالنية والتسمية سنة، ولا يمكن أن يتلفظ بهما في زمن واحد. (فإن ترك) سهوا
أو عمدا أو في أول طعام كذلك (ففي أثنائه) يأتي بها فيقول: بسم الله أوله وآخره، لخبر: إذا أكل أحدكم فليذكر اسم
الله تعالى، فإن نسي أن يذكر الله تعالى في أوله فليقل: بسم الله أوله وآخره، رواه الترمذي وقال حسن صحيح.
ويقاس بالاكل الوضوء وبالنسيان العمد. وأفهم أنه لا يأتي بها بعد فراغ الوضوء لانقضائه، وبه صرح في المجموع.
قال شيخنا: والظاهر أنه يأتي بها بعد فراغ الاكل ليتقايأ الشيطان ما أكله. وينبغي أن يكون الشرب كالأكل. (و) من
سننه (غسل كفيه) إلى كوعيه قبل المضمضة وإن تيقن طهرهما أو توضأ من نحو إبريق للاتباع، رواه الشيخان. (فإن لم
يتيقن طهرهما) بأن تردد فيه (كره غمسهما في الاناء) الذي فيه ماء قليل أو مائع ولو كثر. (قبل غسلهما) ثلاثا، لقوله
(ص): إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري أين باتت يده متفق
عليه إلا لفظ ثلاثا فلمسلم فقط. أشار بما علل به فيه إلى احتمال نجاسة اليد في النوم كأن تقع على محل الاستنجاء بالحجر،
لأنهم كانوا يستنجون به فيحصل لهم التردد. وعلى هذا حمل الحديث، لا على مطلق النوم كما ذكره المصنف في شرح
مسلم. وإذا كان هذا هو المراد فمن لم ينم واحتمل نجاسة يده كان في معنى النائم، ولهذا عبر المصنف بما ذكره ليشمل القائم
من النوم وغيره، ولكنه يشمل ما إذا تيقن نجاسة يده، ويندفع ذلك بما قدرته تبعا للشارح. وهذه الغسلات الثلاث هي
المندوبة أول الوضوء، لكن ندب تقديمها عند الشك على غمس يده، ولا تزول الكراهة إلا بغسلهما ثلاثا لأن الشارع
إذا غيا حكما بغاية إنما يخرج عن عهدته باستيعابها، فسقط ما قيل من أنه ينبغي زوال الكراهة بواحدة لتيقن الطهر بها، كما
لا كراهة إذا تيقن طهرهما ابتداء. ومن هنا يؤخذ ما بحثه الأذرعي أن محل عدم الكراهة عند تيقن طهرهما إذا كان
مستندا ليقين غسلهما ثلاثا، فلو غسلهما فيما مضى عن نجاسة متيقنة أو مشكوكة مرة أو مرتين كره غمسهما قبل
غسلهما إكمال الثلاث. ومثل المائع في ذلك كل مأكول رطب كما في العباب. فإن تعذر عليه غسلهما بالصب
لكبر الاناء ولم يجد ما يعرف به منه استعان بغيره أو أخذه بطرف ثوب نظيف أو بفيه أو نحو ذلك، أما الماء
الكثير
فلا يكره كما قال في الدقائق: احترز - أي المنهاج - بالاناء عن البركة ونحوها. (و) من سننه (المضمضة و) بعدها
(الاستنشاق) ولو ابتلع الماء أو لم يدره في فمه لحديث مسلم: ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق
ويستنثر إلا خرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء ومعنى خرت: سقطت وذهبت، ويروى جرت بالجيم، أي جرت مع
57

ماء الوضوء. وإنما لم يجبا لما مر في البسملة. وأما خبر: تمضمضوا واستنشقوا فضعيف. وعلم بما قدرته وبما سيشير إليه
بعد ذلك بقوله: ثم الأصح إلخ إن الترتيب مستحق لا مستحب، عكس تقدم اليمنى على اليسرى. وفرق الروياني بأن اليدين
مثلا عضوان متفقان اسما وصورة، بخلاف الفم والأنف، فوجب الترتيب بينهما كاليد والوجه، فلو أتى بالاستنشاق مع
المضمضة حسبت دونه، أو أتى به فقط حسب له دونها، أو قدمه عليها فقضية كلام المجموع أن المؤخر يحسب. قال بعضهم:
وهو الوجه كنظائره في الصلاة والوضوء. وقال في الروضة: لو قدم المضمضة والاستنشاق على غسل الكف لم يحسب
الكف على الأصح. قال الأسنوي: وصوابه ليوافق ما في المجموع لم يحسب المضمضة والاستنشاق على الأصح. والمعتمد
كما قاله شيخي ما في الروضة. قال: لقولهم في الصلاة: الثالث عشر ترتيب الأركان، خرج السنن فيحسب منها ما أوقعه
أولا فكأنه ترك غيره فلا يعتد بفعله بعد ذلك، كما لو تعوذ ثم أتى بدعاء الافتتاح. ومن فوائد غسل اليدين والمضمضة
والاستنشاق أولا: معرفة أوصاف الماء، وهي: اللون والطعم والرائحة هل تغيرت أو لا، ويسن أخذ الماء باليد اليمنى.
(والأظهر أن فصلهما أفضل) من جمعهما الآتي، لما رواه أبو داود: أنه (ص) فصل بينهما. (ثم الأصح) على
هذا الأفضل، (يتمضمض بغرفة ثلاثا ثم يستنشق بأخرى ثلاثا) حتى لا ينتقل من عضو إلى عضو إلا بعد كمال ما قبله، فذلك
أفضل من الفصل بست غرفات. والثاني: أن الست غرفات أفضل بأن يتمضمض بثلاث ثم يستنشق بثلاث، وهذه أنظف
الكيفيات وأضعفها. وقدم الفم على الانف لشرفه فإنه مدخل الطعام والشراب اللذين بهما قوام البدن وهو محل الأذكار
الواجبة والمندوبة، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك. (ويبالغ فيهما غير الصائم) لقوله (ص)
في رواية صحح ابن القطان إسنادها: إذا توضأت فأبلغ في المضمضة والاستنشاق ما لم تكن صائما، ولحديث لقيط
بن صبرة: أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما صححه الترمذي وغيره.
والمبالغة في المضمضة أن يبلغ الماء إلى أقصى الحنك ووجهي الأسنان واللثات، ويسن إمرار أصبع يده اليسرى على
ذلك، وفي الاستنشاق أن يصعد الماء بالنفس إلى الخيشوم، ويسن إدارة الماء في الفم ومجه، وكذا الاستنثار، وللامر به في خبر
الصحيحين، وهو أن يخرج بعد الاستنشاق ما في أنفه من ماء وأذى بخنصر يده اليسرى. وإذ بالغ في الاستنشاق فلا يستقصي
فيصير سعوطا لا استنشاقا، قاله في المجموع: وأما الصائم فلا يسن له المبالغة، بل تكره لخوف الافطار كما في المجموع. وقال
الماوردي والصيمري: يبالغ في المضمضة دون الاستنشاق، لأن المتمضمض متمكن من رد الماء عن وصوله إلى جوفه
بطبق حلقه، ولا يمكن دفعه بالخيشوم. فإن قيل: لم لم يحرم ذلك كما قالوا بتحريم القبلة إذا خشي الانزال، مع أن العلة
في كل منهما خوف الفساد، ولذا سوى القاضي أبو الطيب بينهما فجزم بتحريم المبالغة أيضا؟ أجيب بأن القبلة غير مطلوبة
بل داعية لما يضاد الصوم من الانزال، بخلاف المبالغة فيما ذكر، وبأنه هنا يمكنه إطباق الحلق ومج الماء، وهناك لا يمكنه رد
المني إذا خرج لأنه ماء دافق، وبأنه ربما كان في القبلة إفساد لعبادة اثنين. (قلت الأظهر تفضيل الجمع) بين المضمضة
والاستنشاق على الفصل بينهما، لصحة الأحاديث الصريحة في ذلك. ولم يثبت في الفصل شئ كما قاله ابن الصلاح
والمصنف في المجموع. وأما حديث أبي داود والمتقدم ففي إسناده ليث بن أبي سليم وقد ضعفه الجمهور، وعلى
تقدير صحته يحمل على بيان الجواز جمعا بين الأحاديث. و (بثلاث غرف يتمضمض من كل ثم يستنشق) أفضل
من الجمع بغرفة يتمضمض منها ثلاثا ثم يستنشق منها ثلاثا أو يتمضمض منها ثم يستنشق مرة كذلك ثانية وثالثة.
(والله أعلم) للأخبار الصحيحة في ذلك. الثاني: الأفضل أن يتمضمض منها ثم يستنشق منها ثم يفعل منها كذلك
ثانيا وثالثا، واستحسنه في الشرح الصغير، والسنة تتأدى بواحدة من هذه الكيفيات لما علم أن الخلاف في
الأفضل
منها، ولو قال: وبثلاث بالواو كما قدرته لأفاد ما صححه في المجموع من أن الجمع مطلقا أفضل من الفضل كذلك.
58

(و) من سننه (تثليث الغسل والمسح) المفروض والمندوب للاتباع، رواه مسلم وغيره. وإنما لم يجب لأنه (ص)
توضأ مرة مرة، وتوضأ مرتين مرتين. ولو أطلق المصنف التثليث كان أولى ليشمل التخليل والقول كالتسمية والتشهد
آخره، فقد روى التثليث في التخليل البيهقي، وفي القول في التشهد أحمد وابن ماجة، وصرح به الروياني، وظاهر أن غير
التشهد مما في معناها كالتسمية مثله، وسيأتي إن شاء الله تعالى أن يكره تكرير مسح الخف. قال الزركشي: والظاهر إلحاق
الجبيرة والعمامة إذا كمل بالمسح عليها بالخف. وتكره الزيادة على الثلاث، وكذا النقص عليها إلا لعذر كما سيأتي، لأنه
(ص) توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم رواه أبو داود
وغيره، وقال في المجموع: إنه صحيح، قال: نقلا عن الأصحاب وغيرهم. فمن زاد على الثلاث أو نقص عنها فقد أساء
وظلم في كل من الزيادة والنقص، وقيل: أساء في النقص وظلم في الزيادة على الثلاث، وقيل عكسه. فإن قيل: كيف
يكون النقص إساءة وظلما على الأول، أو إساءة على الثاني، أو ظلما على الثالث، وقد ثبت أنه (ص)
توضأ مرة مرة ومرتين مرتين؟ أجيب بأن ذلك كان لبيان الجواز، فكان في ذلك الحال أفضل، لأن البيان في حقه
(ص) واجب. قال ابن دقيق العيد: ومحل الكراهة في الزيادة على الثلاث إذا أتى بها على قصد نية الوضوء،
أي أو أطلق، فلو زاد عليها بنية التبرد أو مع قطع نية الوضوء عنها لم يكره. وقال الزركشي: ينبغي أن يكون موضع
الخلاف ما إذا توضأ بماء مباح أو مملوك له، فإن توضأ من ماء موقوف على من يتطهر به أو يتوضأ منه كالمدارس والربط
حرمت الزيادة بلا خلاف لأنها غير مأذون فيها اه‍. وقد يطلب ترك التثليث كأن ضاق الوقت بحيث لو اشتغل به لخرج
الوقت فإنه يحرم التثليث، أو قل الماء بحيث لا يكفيه إلا للفرض، فتحرم الزيادة لأنها تحوجه إلى التيمم مع القدرة على
الماء كما ذكره البغوي في فتاويه، وجرى عليه المصنف في التحفة، أو احتاج إلى الفاضل عنه لعطش بأن كان معه من
الماء ما يكفيه للشرب لو توضأ به مرة مرة، ولو ثلث لم يفضل للشرب شئ، فإنه يحرم التثليث كما قاله الجيلي في الاعجاز.
وإدراك الجماعة أفضل من تثليث الوضوء وسائر آدابه. ولا يجزئ تعدد قبل تمام العضو، نعم لو مسح بعض رأسه
ثلاثا حصل له التثليث، لأن قولهم: من سنن الوضوء تثليث الممسوح، شامل لذلك. وأما ما تقدم فمحله في عضو يجب
استيعابه بالتطهير ولا بعد تمام الوضوء، فلو توضأ مرة مرة، ثم توضأ ثانيا وثالثا كذلك لم يحصل التثليث كما جزم به
ابن المقري في روضه، وفي فروق الجويني ما يقتضيه وإن أفهم كلام الإمام خلافه. فإن قيل: قد مر في المضمضة
والاستنشاق أن التثليث يحصل بذلك؟ أجيب بأن الفم والأنف كعضو واحد فجاز ذلك فيهما كاليدين، بخلاف الوجه
واليد مثلا لتباعدهما، فينبغي أن يفرغ من أحدهما ثم ينتقل إلى الآخر. (ويأخذ الشاك باليقين) في المفروض وجوبا
وفي المسنون ندبا، لأن الأصل عدم ما زاد كما لو شك في عدد الركعات، فإذا شك هل غسل ثلاثا أو مرتين أخذ بالأقل
وغسل الأخرى، وقيل: يأخذ بالأكثر حذرا من أن يزيد رابعة فإنها بدعة، وترك سنة أهون من بدعة. وأجاب
الأول: بأن البدعة ارتكاب الرابعة عالما بكونها رابعة. (و) من سننه (مسح كل رأسه) للاتباع رواه الشيخان، وخروجا
من خلاف من أوجبه. والسنة في كيفيته أن يضع يديه على مقدم رأسه ويلصق سبابته بالأخرى وإبهاميه على صدغيه
ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى المكان الذي ذهب منه إذا كان له شعر ينقلب، وحينئذ يكون الذهاب والرد
مسحة واحدة لعدم تمام المسحة بالذهاب، فإن لم يقلب شعره لضفره أو قصره أو عدمه لم يرد لعدم الفائدة، فإن ردهما
لم تحسب ثانية لأن الماء صار مستعملا. فإن قيل: هذا مشكل بما انغمس في ماء قليل ناويا رفع الحدث ثم أحدث
وهو منغمس ثم نوى رفع الحدث في حال انغماسه فإن حدثه يرتفع ثانيا. أجيب بأن ماء المسح تافه فليس له قوة كقوة
هذا، ولذلك لو أعاد ماء غسل الذراع مثلا ثانيا لم تحسب له غسلة أخرى لأنه تافه بالنسبة إلى ماء الانغماس. وإذا مسح
كل رأسه هل يقع كله فرضا أو ما يقع عليه الاسم والباقي سنة؟ وجهان كنظيره من تطويل الركوع والسجود والقيام
وإخراج البعير عن خمس في الزكاة. واختلف كلامهما في كتبهما في الترجيح في ذلك، ورجح صاحب العباب
أن ما يقع
59

عليه الاسم في الرأس فرض والباقي تطوع، ومثله في ذلك ما أمكن فيه التجزي كالركوع، بخلاف ما لا يمكن كبعير الزكاة.
وجرى على هذا التفصيل شيخي، وهو تفصيل حسن. (ثم) بعد مسح الرأس يمسح (أذنيه) ظاهرهما وباطنهما بماء جديد،
لأنه (ص) مسح في وضوئه برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وأدخل أصبعيه في صماخي أذنيه ويأخذ لصماخيه
أيضا ماء جديدا. وأشار ب‍ ثم إلى اشتراط ترتيب الاذن على الرأس في تحصيل السنة كما هو الأصح في الروضة. ولو أخذ
بأصابعه ماء لرأسه فلم يمسحه بماء بعضها ومسح به الاذنين كفى لأنه ماء جديد.
فائدة: روى الدارقطني وغيره عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله (ص): إن الله
أعطاني نهرا يقال له الكوثر في الجنة لا يدخل أحد أصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر، قالت فقلت: يا رسول الله
وكيف ذلك؟ قال: أدخلي إصبعيك في أذنيك وسدي فالذي تسمعين فيهما من خرير الكوثر. وهذا النهر تتشعب منه
أنهار الجنة، وهو مختص بنبينا محمد (ص). ولا يسن مسح الرقبة، إذ لم يثبت فيه شئ، قال المصنف: بل
هو بدعة. قال: وأما خبر: مسح الرقبة أمان من الغل فموضوع، وأثر ابن عمر: من توضأ ومسح عنقه وقي الغل يوم القيامة
غير معروف. (فإن عسر رفع) نحو (العمامة) كالخمار والقلنسوة أو لم يرد رفع ذلك، (كمل بالمسح عليها) وإن لبسها على
حدث، لخبر مسلم أنه (ص) توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته سواء أعسر عليه تنحيتها أم لا، كما قررته تبعا للشارح
وصرح به في المجموع، وإن اقتضت عبارة المصنف خلافه. وأفهم قوله كمل أنه لا يكفي الاقتصار على العمامة، وهو كذلك. وهل
يشترط لتحصيل السنة أن يكون التكميل بعد أو يكفي ولو قبل؟ لم أر من تعرض له، وظاهر التعبير بالتكميل يقتضي التأخر،
والذي يظهر أنه لا فرق كما في غسل الرجل مع الساق. وظاهر التكميل يقتضي أيضا أنه يمسح ما عدا مقابل الممسوح من الرأس
فيكون محصلا للسنة بذلك وهو الظاهر. (و) من سننه (تخليل اللحية الكثة) وكل شعر يكفي غسل ظاهره بالأصابع من
أسفله، لما روى الترمذي وصححه: أنه (ص) كان يخلل لحيته، ولما روى أبو داود: أنه (ص) كان إذا
توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله تحت حنكه فخلل به لحيته وقال: هكذا أمرني ربي. أما ما يجب غسله من ذلك كالخفيف والكثيف
الذي في حد الوجه من لحية غير الرجل وعارضيه فيجب إيصال الماء إلى ظاهره وباطنه ومنابته بتخليل أو غيره. وظاهر كلام
المصنف في سن التخليل أنه لا فرق بين المحرم وغيره، وهو المعتمد، كما اعتمده الزركشي في خادمه خلافا لابن المقري في روضه
تبعا للمتولي، لكن المحرم يخلل برفق لئلا يتساقط منه شعر كما قالوه في تخليل شعر الميت. (و) من سننه تخليل (أصابعه) أي أصابع
يديه ورجليه كما قاله في الدقائق، لخبر لقيط بن صبرة السابق في المبالغة. والتخليل في أصابع اليدين بالتشبيك بينها، وفي أصابع
الرجلين يبدأ بخنصر الرجل اليمنى ويختم بخنصر الرجل اليسرى يخلل بخنصر يده اليسرى أو اليمنى كما رجحه في المجموع
من أسفل الرجل. وإيصال الماء إلى ما بين الأصابع واجب بتخليل أو غيره إذا كانت ملتفة لا يصل الماء إليها إلا
بالتخليل أو نحوه، فإن كانت ملتحمة لم يجز فتقها. قال الأسنوي: ولم يتعرض المصنف ولا غيره إلى تثليث التخليل،
وقد روى الدارقطني والبيهقي بإسناد جيد كما قاله في شرح المهذب عن عثمان رضي الله عنه: أنه توضأ فخلل بين أصابع
قدميه ثلاثا ثلاثا، وقال: رأيت رسول الله (ص) فعل كما فعلت. ومقتضى هذا استحباب تثليث التخليل اه‍.
وهذا ظاهر. (و) من سننه (تقديم اليمنى) على اليسرى من كل عضوين لا يسن غسلهما معا كاليدين والرجلين لخبر: إذا توضأتم
فابدؤا بميامنكم رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما، ولما مر أنه (ص) كان يحب التيامن في شأنه كله.
أي مما هو للتكريم: كالغسل، واللبس، والاكتحال، والتقليم، وقص الشارب، ونتف الإبط، وحلق الرأس، والسواك،
ودخول المسجد، وتحليل الصلاة، ومفارقة الخلاء، والأكل والشرب، والمصافحة، واستلام الحجر والركن اليماني، والاخذ
والاعطاء. والتياسر في ضده: كدخول الخلاء، والاستنجاء، والامتخاط، وخلع اللباس، وإزالة القذر، وقد تقدم بعض
ذلك وكره عكسه. أما ما يسن غسلهما معا كالأذنين والخدين والكفين فلا يسن تقديم اليمنى فيها، نعم من به علة لا يمكنه
60

معها ذلك كان قطعت إحدى يديه يسن له تقديم اليمنى. (و) من سننه (إطالة غرته) بغسل زائد على الواجب من الوجه من
جميع جوانبه، وغايتها غسل صفحة العنق مع مقدمات الرأس. (و) إطالة (تحجيله) بغسل زائد على الواجب من اليدين
والرجلين من جميع الجوانب، وغايته استيعاب العضدين والساقين، ولا فرق في ذلك بين بقاء محل الفرض
وسقوطه. والأصل
في ذلك خبر الصحيحين: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته
فليفعل، وخبر مسلم: أنتم الغر المحجلون يوم القيامة بإسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله. ومعنى غرا
محجلين بيض الوجوه واليدين والرجلين كالفرس الأغر، وهو الذي في وجهه بياض، والمحجل: وهو الذي قوائمه
بيض. وهذا من خصائص هذه الأمة كما يؤخذ من الحديث الثاني. وأما الوضوء ففيه خلاف تقدم، والراجح أنه ليس
من خصائصها. (و) سننه (الموالاة) بين الأعضاء في التطهير بحيث لا يجف الأول قبل الشروع في الثاني مع اعتدال
الهواء ومزاج الشخص نفسه والزمان والمكان. ويقدر الممسوح مغسولا، هذا في غير وضوء الضرورة كما تقدم وما لم يضق
الوقت، وإلا فتجب، والاعتبار بالغسلة الأخيرة. ولا يحتاج التفريق الكثير إلى تجديد نية عند عزوبها لأن حكمها باق.
(وأوجبها القديم) لخبر أبي داود: أنه (ص) رأى رجلا يصلي وفي قدميه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره أن
يعيد الوضوء والصلاة. ودليل الجديد ما روي: أنه (ص) توضأ في السوق فغسل وجهه ويديه ومسح رأسه،
فدعي إلى جنازة فأتى المسجد فمسح على خفيه وصلى عليها، قال الإمام الشافعي: وبينهما تفريق كثير. وقد صح عن ابن عمر
رضي الله تعالى عنهما التفريق ولم ينكر عليه أحد، ولأنها عبادة لا يبطلها التفريق اليسير، فكذا الكثير كالحج. وقال في المجموع:
إن الحديث الذي استند إليه في القديم ضعيف. ومحل الخلاف في التفريق بغير عذر وفي طول التفريق، أما بالعذر فلا يضر
قطعا، وقيل: يضر على القديم، وأما اليسير فلا يضر إجماعا. (و) من سننه (ترك الاستعانة) بالصب عليه لغير عذر، لأنه
الأكثر من فعله (ص)، ولأنها نوع من التنعيم والتكبر وذلك لا يليق بالمتعبد، والاجر على قدر النصب، وهي
خلاف الأولى. وقيل: تكره. وخرج بقيد الصب الاستعانة بغسل الأعضاء فهي مكروهة، والاستعانة بإحضار الماء فهي
لا بأس بها أما إذا كان ذلك لعذر كمرض فلا تكون خلاف الأولى ولا مكروهة دفعا للمشقة، بل قد تجب الاستعانة إذا
لم يمكنه التطهر إلا بها ولو ببذل أجرة مثلا. والمراد بترك الاستعانة الاستقلال بالافعال، لا طلب الإعانة فقط، حتى لو أعانه
غيره ولو ساكت كان الحكم كذلك وإن اقتضى التعبير بالاستعانة عدم ثبوت هذا الحكم حينئذ. وإذا استعان بالصب فليقف
المعين على اليسار لأنه أعون وأمكن وأحسن أدبا، قاله في المجموع. (و) من سننه ترك (النفض) للماء في الأصح، لأنه
كالتبري من العبادة فهو خلاف الأولى كما جزم به المصنف في التحقيق، وقال في شرحي مسلم والوسيط: إنه الأشهر، قال
في المهمات: وبه الفتوى، وقيل: مكروه كما جزم به الرافعي في شرحيه، وقيل: مباح تركه فعله سواء، ورجحه المصنف
في زيادة الروضة وفي المجموع ونكت التنبيه. (وكذا التنشيف) بالرفع أي تركه من بلل ماء الوضوء بلا عذر خلاف
الأولى، (في الأصح) لأنه يزيل أثر العبادة، ولأنه (ص) بعد غسله من الجنابة أتته ميمونة بمنديل
فرده وجعل يقول بالماء هكذا ينفضه، رواه الشيخان. ولا دليل في ذلك لإباحة النفض، فقد يكون فعله
(ص) لبيان الجواز. والثاني: فعله وتركه سواء، قال في شرح مسلم. وهذا هو الذي نختاره ونعمل به. والثالث: فعله
مكروه. ولو ترك قوله وكذا ليعود الخلاف إلى النفض كما قدرته لكان أولى. أما إذا كان هناك عذر كحر أو برد أو التصاق
نجاسة فلا كراهة قطعا، أو كان يتيمم عقب الوضوء لئلا يمنع البلل في وجهه ويديه التيمم، قال في المجموع: ولا يقال إنه
خلاف المستحب. قال الأذرعي: بل يتأكد استحبابه عند ذلك. فإن قيل: كان الأولى للمصنف أن يعبر بالنشف على زنة
الضرب لأن فعله نشف بكسر الشين على الأشهر كما ذكره أهل اللغة، والتعبير بالتنشيف يقتضي أن المسنون ترك المبالغة
فيه، وليس مرادا. يجيب بأن التنشيف أخذ الماء بخرقة ونحوها كما في القاموس، والتعبير به هو المناسب. وأما النشف بمعنى
الشرب فلا يظهر هنا إلا بنوع تكلف كما قاله أبو عبد الله القاياتي. وإذا نشف فالأولى أن لا يكون بذيله وطرف ثوبه
ونحوهما، قال في الذخائر: فقد قيل إن ذلك يورث الفقر. فإن كان معه من يحمل الثوب الذي يتنشف فيه وقف
61

عن يمين المتطهر، قاله في الحاوي. وقد قدمنا أن المصنف لم يحصر سنن الوضوء فيما ذكره، فنذكر منها شيئا مما تركه، من
ذلك: أن يضع المتوضئ إناء الماء عن يمينه إن كان يغترف منه، وعن يساره إن كان يصب منه على يديه كإبريق، لأن
ذلك أمكن فيهما، قاله في المجموع، وتقديم النية مع أول السنن المتقدمة على الوجه ليحصل له ثوابها كما مر. والتلفظ بالمنوي،
قال ابن المقري: سرا مع النية بالقلب، فإن اقتصر على القلب كفى، أو التلفظ فلا، أو تلفظ بخلاف ما نوى فالعبر بالنية،
واستصحابها ذكر إلى آخره، والتوجه للقبلة، وذلك أعضاء الوضوء. ويبالغ في العقب خصوصا في الشتاء، فقد ورد: ويل
للأعقاب من النار. والبداءة بأعلى الوجه، وأن يأخذ ماءه بكفيه معا، وأن يبدأ بأطراف أصابعه وإن صب عليه غيره، كما
جرى عليه في التحقيق واختاره في المجموع خلافا لما قاله الصيمري من أنه يبدأ بالمرفق إذا صب عليه غيره. وأن يقتصد
في الماء فيكره السرف فيه، وأن لا يتكلم بلا حاجة، وأن لا يلطم وجهه بالماء، وأن يتعهد موقه - وهو طرف العين الذي يلي
الانف - بالسبابة الأيمن باليمنى والأيسر باليسرى، ومثله اللحاظ - وهو الطرف الآخر - ومحل سن غسلهما إذا لم يكن فيهما
رمص يمنع وصول الماء إلى محله، وإلا فغسلهما واجب، ذكره في المجموع وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك. وكذا كل ما يخاف
إغفاله كالغضون وأن يحرك خاتما ليصل الماء تحته. وأن يتوقى الرشاش. وأن يصلي ركعتين عقب الفراغ. (ويقول بعده)
أي بعد فراغ الوضوء وهو مستقبل القبلة رافعا يديه إلى السماء كما قاله في العباب: (أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك
له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله) لخبر مسلم: من توضأ فقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلخ فتحت له
أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء. (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين) زاده الترمذي على مسلم.
(سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك) لخبر الحاكم وصححه: من توضأ ثم قال: سبحانك
اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت إلخ كتب في ورق ثم طبع بطابع، وهو بكسر الباء وفتحها: الخاتم فلم يكسر إلى يوم
القيامة أي لم يتطرق إليه إبطال. ويسن أن يقول بعده: وصلى الله - أي وسلم - على محمد وآل محمد، ذكره في المجموع.
وواو وبحمدك زائدة، فسبحانك مع ذلك جملة واحدة وقيل عاطفة، أي وبحمدك وسبحانك فذلك جملتان. (وحذفت
دعاء الأعضاء) وهو أن يقول عند غسل الكفين: اللهم احفظ يدي من معاصيك كلها، وعند المضمضة: اللهم أعني على
ذكرك وشكرك، وعند الاستنشاق: اللهم أرحني رائحة الجنة، وعند غسل الوجه: اللهم بيض وجهي يوم
تبيض وجوه
وتسود وجوه، وعند غسل اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حسابا يسيرا، وعند غسل اليد اليسرى:
اللهم لا تعطني كتابي بشمالي ولا من وراء ظهري، وعند مسح الرأس: اللهم حرم شعري وبشري على النار، وعند مسح
الاذنين: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وعند غسل رجليه: اللهم ثبت قدمي على الصراط
يوم تزل فيه الاقدام. (إذ لا أصل له) في كتب الحديث، وإن عده الرافعي في المحرر من السنن، وكذا في الشرح، وقال:
ورد به الأثر عن السلف والصالحين اه‍. ولم يذكره الشافعي والجمهور. قال المصنف في أذكاره وتنقيحه: لم يجئ فيه شئ
عن النبي (ص). قال الشارح: وفات الرافعي والنووي أنه روي عن النبي (ص) من طرق في
تاريخ ابن حبان وغيره وإن كانت ضعيفة للعمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال. ومشى شيخي على أنه مستحب،
وأفتى به لهذا الحديث.
فائدة: شرط العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال أن لا يكون شديد الضعف وأن يدخل تحت أصل عام
وأن لا يعتقد سنيته بذلك الحديث.
62

خاتمة: يندب إدامة الوضوء، ويسن لقراءة القرآن أو سماعه، أو الحديث أو سماعه أو روايته، أو حمل كتب التفسير،
أو الحديث أو الفقه وكتابتها فيكره مع الحدث، ولقراءة علم شرعي وإقرائه، ولأذان وجلوس في مسجد أو دخوله، وللوقوف
بعرفة وللسعي، ولزيارة قبر الرسول (ص) أو غيره، ولنوم ويقظة وعند أكل وشرب لنحو جنب كحائض بعد
انقطاع حيضها ووطئ الجنب، قال (ص): إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ بينهما وضوءا رواه
مسلم، وزاد البيهقي: فإنه أنشط للعود. وفي الصحيحين: كان (ص) إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه
وتوضأ وضوءه للصلاة، وكان (ص) إذا كان جنبا فأراد أن يأكل أو ينام توضأ وضوءه للصلاة. وقيس
بالجنب الحائض والنفساء إذا انقطع دمهما، وبالأكل والشرب، والحكمة في ذلك تخفيف الحدث غالبا والتنظيف، وقيل: لعله
ينشط للغسل. فلو فعل شيئا من ذلك بلا وضوء كره له، نقله في شرح مسلم عن الأصحاب، قال: وأما طوافه
(ص) على نسائه بغسل واحد فيحتمل أنه كان يتوضأ بينهما أو تركه بيانا للجواز. ويسن من مس ميت وحمله، أو من
فصد وحجم وقئ، أو أكل لحم جزور، وقهقهة مصل وكل مس ولمس أو نوم اختلف في نقضه للوضوء، ومن لمس الرجل
والمرأة بدن الخنثى أو أحد قبلية، وعند الغضب وكل كلمة قبيحة، ولمن قص شاربه أو حلق رأسه، ولخطبة
غير الجمعة.
والمراد بالوضوء الوضوء الشرعي لا اللغوي. ولا يندب للبس ثوب وصوم وعقد نكاح وخروج لسفر ولقاء قادم وزيارة
والد وصديق وعيادة مريض وتشييع جنازة وأكل وشرب لغير نحو جنب، ولا لدخول سوق ولا لدخول على نحو أمير،
وقد تقدمت الإشارة إلى بعض هذه الأمور، وكلما كرر الشئ حلا، وازداد وضوحا وانجلى.
باب مسح الخف
لما كان الواجب في الوضوء غسل الرجلين والمسح بدل عنه عقب به باب الوضوء ولم يبوب له في المحرر، وذكره
الرافعي عقب التيمم لأنهما مسحان يبيحان الصلاة، ولو عبر كالتنبيه بالخفين لكان أولى، إذ لا يجوز غسل رجل ومسح أخرى،
ولكنه أراد الجنس لا التوحيد، وأخباره كثيرة، كخبر ابني خزيمة وحبان في صحيحيهما عن أبي بكرة: أنه
(ص) أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما، وعن جرير بن عبد الله البجلي أنه
قال: رأيت رسول الله (ص) بال ثم توضأ ومسح على خفيه متفق عليه. وقال الترمذي: وكان يعجبهم - يعني أصحاب
عبد الله، حديث جرير لأن إسلامه كان بعد نزول المائدة، لأنها نزلت سنة ست، فلا يكون الامر الوارد فيها بغسل الرجلين
ناسخا للمسح كما صار إليه بعض الصحابة. وروى ابن المنذر عن الحسن البصري أنه قال: حدثني سبعون من الصحابة أن
النبي (ص) مسح على الخفين. وقال بعض المفسرين: إن قراءة الجر في قوله تعالى: * (وأرجلكم) * للمسح على الخف.
ثم النظر في شرطه وكيفيته وحكمه، وقد أخذ في بيانها فقال: (يجوز) المسح على الخفين لا على خف رجل مع غسل أخرى كما مر لو مر
ولو في الخف، كما بحثه الأسنوي. وللأقطع لبس خف في السالمة، إلا إن بقي بعض المقطوعة فلا يكفي ذلك حتى يلبس ذلك
البعض خفا. ولو كانت إحدى رجليه عليلة بحيث لا يجب غسلها لم يجز إلباس الأخرى الخف ليمسح عليه إذ يجب التيمم
عن العليلة فهي كالصحيحة. وإنما يجوز المسح (في الوضوء) بدلا عن غسل الرجلين، فالواجب على لابسه الغسل أو
المسح. وأشار ب‍ يجوز إلى أنه لا يجب ولا يسن ولا يحرم ولا يكره، وإلى أن الغسل أفضل كما قاله في الروضة في آخر صلاة
المسافر. نعم إن ترك المسح رغبة عن السنة أو شكا في جوازه، أي لم تطمئن نفسه إليه، لأنه شك هل يجوز
له فعله أو لا، أو
خاف فوت الجماعة أو عرفة أو إنقاذ أسير أو نحو ذلك، فالمسح أفضل، بل يكره تركه في الأولى، وكذا القول في سائر الرخص،
واللائق في الأخيرتين الوجوب كما بحثه الأسنوي. ولو كان لابس الخف بشرطه محدثا ودخل الوقت وعنده ما يكفي المسح
فقط، فعن الروياني وجوبه. وتفقهه ابن الرفعة - وهو فقه حسن - بخلاف ما لو أرهقه الحدث وهو متطهر ومعه ما يكفيه لو
63

مسح ولا يكفيه لو غسل لا يجب عليه لبس الخف ليمسح عليه لما فيه من إحداث فعل زائد ربما يشق عليه، وفرق أيضا بأنه
في صورة الإدامة تعلق به وجوب الطهارة، فهو قادر على أداء طهارة وجبت عليه بالماء باستصحاب حالة هو عليها، وفي
صورة اللبس لم يجب عليه الطهارة لأن الحدث لم يوجد، فلا وجه لتكليفه الاتيان بفعل مستأنف لأجل طهارة لم تجب بعد.
وخرج بالوضوء إزالة النجاسة والغسل واجبا كان أو مندوبا فلا مسح فيهما، أما الغسل الواجب فلخبر الجنابة الآتي،
وأما باقي الأغسال وغسل النجاسة فبالقياس، ولان ذلك لا يتكرر تكرر الحدث الأصغر. (للمقيم) ولو عاصيا بإقامته،
وللمسافر سفرا قصيرا أو طويلا وهو عاص بسفره، وكذا كل سفر يمتنع فيه القصر. (يوما وليلة) فيستبيح بالمسح
ما يستبيحه بالوضوء في هذه المدة. (وللمسافر) سفر قصر (ثلاثة) من الأيام (بلياليها) فيستبيح بالمسح ما يستبيحه بالوضوء
في هذه المدة، ودليل ذلك الخبر السابق أول الباب، وخبر مسلم عن شريح بن هانئ قال: سألت علي بن أبي طالب عن
المسح على الخفين، فقال: جعل رسول الله (ص) ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوما وليلة للمقيم. والمراد
بلياليها ثلاث ليال متصلة بها سواء أسبق اليوم الأول ليلته أم لا، فلو أحدث في أثناء الليل أو اليوم اعتبر قدر الماضي
منه من الليلة الرابعة أو اليوم الرابع، وعلى قياس ذلك يقال في مدة المقيم وما ألحق به. فإن قيل: كان ينبغي للمصنف
أن يقيد السفر بسفر القصر كما قيدته به. أجاب الشارح بأن مسح المسافر ثلاثة يستدعي أن يكون سفره قدرها ولو ذهابا
وإيابا اه‍. فاستغنى بذلك عن التقييد، ومعلوم أنه لا بد أن يكون السفر مباحا. ويندفع بقولي: والمراد بلياليها إلخ ما قيل
إن ليلة اليوم هي المتقدمة عليه لا المتأخرة عنه، فالمسافر يمسح ثلاثة أيام وثلاث ليال مطلقا كما يمسح المقيم
يوما وليلة
كذلك، ولا يؤخذ ذلك من التعبير بلياليها إلا على تقدير وقوع ابتداء المدة عن الغروب دون ما إذا كان عند الفجر. وشمل
إطلاقه دائم الحدث كالمستحاضة، فيجوز له المسح على الخف على الصحيح لأنه لا يحتاج إلى لبسه والارتفاق به كغيره،
ولأنه يستفيد الصلاة بطهارته فيستفيد المسح أيضا، وقيل: لا يجوز له، لأن طهارته ضعيفة والمسح ضعيف، فلا يضم
ضعيف إلى ضعيف. وعلى الأول لو أحدث بعد لبسه غير حدثه الدائم قبل أن يصلي بوضوء اللبس فرضا مسح لفريضة
ولنوافل، وإن أحدث وقد صلى بوضوء اللبس فرضا لم يمسح إلا لنفل لأن مسحه مرتب على طهره وهو لا يفيد أكثر من
ذلك، فإن أراد فريضة أخرى وجب نزع الخف والطهر الكامل لأنه محدث بالنسبة إلى ما زاد على فريضة ونوافل فكأنه
لبس على حدث حقيقة فإن طهره لا يرفع الحدث على المذهب، أما حدثه الدائم فلا يحتاج معه إلى استئناف طهر إلا إذا
أخر الدخول في الصلاة بعد الطهر لغير مصلحتها وحدثه يجري فإن طهره يبطل كما سيأتي في باب الحيض إن شاء الله تعالى. فإن
قيل: اللبس يمنع المبادرة. أجيب بأنه قد يكون في زمن الاشتغال بأسباب الصلاة، والمتحيرة تمسح عند عدم وجوب الغسل
عليها. وابتداء مدة المسح (من) تمام (الحدث بعد لبس) لأن وقت جواز المسح، أي الرافع للحدث، يدخل بذلك فاعتبرت
مدته منه، فإذا أحدث ولم يمسح حتى أنقضت المدة لم يجز المسح حتى يستأنف لبسا على طهارة، أو لم يحدث لم تحسب المدة
ولو بقي شهرا مثلا لأنها عبادة مؤقتة، فكان ابتداء وقتها من حين جواز فعلها كالصلاة، هكذا استدل بهذا الرافعي وغيره.
وربما يفهم منه أنه لا يجوز للابس الخف أن يجدد الوضوء قبل الحدث مع أنه قيل بجوازه مع الكراهة، وقيل باستحبابه،
وهو الأصح كما جزم به المصنف في التنقيح والمجموع. ويندفع هذا التوهم بما قدرته تبعا لغيري. وقال الكمال بن
أبي شريف: لما كانت مدة جواز المسح هي مدة جواز الصلاة وقبل الحدث لا يتصور استناد جواز الصلاة إلى المسح كان
ابتداء المدة ما ذكر فلا يرد المسح في الوضوء المجدد قبل الحدث، فإنه وإن جاز ليس محسوبا من المدة، لأن جواز الصلاة
ونحوها ليس مستندا إليه اه‍. وأفهم كلام المصنف أنه لو توضأ بعد حدث وغسل رجليه في الخف ثم أحدث كان ابتداء
مدته من حدثه الأول، وهو كذلك، وبه صرح الشيخ أبو علي في شرح الفروع. واختار المصنف في مجموعه أن ابتداء
المدة من المسح لأن قوة الأحاديث تعطيه. وعلم من تقدير تمام أن المدة لا تحسب من ابتداء الحدث، وهو كذلك. نعم
أفتى شيخي بأن الحدث بالنوم تكون المدة من ابتدائه لأنه ربما يستغرق غالب المدة ومثله اللمس والمس، والظاهر
إطلاق كلام الأصحاب. (فإن مسح) بعد الحدث (حضرا) على خفيه أو على أحدهما كما صححه المصنف. (ثم سافر) سفر
64

قصر، (أو عكس) أي مسح سفرا تقصر فيه الصلاة ثم أقام (لم يستوف مدة سفر) تغليبا للحضر، فيقتصر على مدة مقيم
في الأولى بقسميها خلافا للرافعي في الشق الثاني منها. ومثل ذلك ما لو مسح إحدى رجليه وهو عاص بسفره، ثم مسح الأخرى
بعد توبته فيما يظهر، وكذا في الثانية إن أقام قبل استيفائها، فإن أقام بعدها لم يمسح، ويجزئه ما مضى وإن زاد على
يوم وليلة. وعلم من كلامه أن العبرة فيما ذكر بالمسح لا باللبس لأنه أول العبادة، فمن ابتدأ بالمسح في السفر أتم مسح
مسافر، سواء ألبس في الحضر وأحدث فيه أم لا، وسواء أسافر بعد خروج الوقت أم لا، وعصيانه إنما هو بالتأخير
لا بالسفر الذي به الرخصة، ومن ابتدأه في الحضر ولو إحدى خفيه كما تقدم أتم مسح مقيم. (وشرطه) أي جواز مسح
الخف أمران: أحدهما: (أن يلبس بعد كمال طهر) من الحدثين، للحديث السابق، فلو لبسه قبل غسل رجليه وغسلهما
فيه لم يجز المسح إلا أن ينزعهما من موضع القدم ثم يدخلهما فيه، ولو أدخل إحداهما بعد غسلها ثم غسل الأخرى
وأدخلها لم يجز المسح إلا أن ينزع الأولى من موضع القدم ثم يدخلها فيه، ولو غسلهما في ساق الخف ثم أدخلهما موضع
القدم جاز المسح، ولو ابتدأ اللبس بعد غسلهما ثم أحدث قبل وصولهما إلى موضع القدم لم يجز المسح، ولو كان عليه الحدثان
فغسل أعضاء الوضوء عنها أو الجنابة وقلنا بالاندراج ولبس الخف قبل غسل باقي بدنه لم يمسح عليه لأنه لبسه
قبل كمال الطهر. فإن قيل: لفظة كمال لا حاجة إليها، لأن حقيقة الطهر أن يكون كاملا، ولذلك اعترض الرافعي على الوجيز
بأنه لا حاجة إلى قيد التمام لأن من لم يغسل رجليه أو إحداهما ينتظم أن يقال إنه ليس على طهر. أجيب بأن ذلك ذكر
تأكيدا لنفي مذهب المزني فيما إذا غسل رجلا وأدخلها الخف ثم الأخرى كذلك، ولاحتمال توهم إرادة البعض. ولا
يقال يحترز بذلك عن دائم الحدث فإنه يجوز له المسح كما مر، لأن ضد الكامل الناقص وطهارته ضعيفة لا ناقصة، وحكم
المحترز عنه إنما يكون ضد المدعي. وشمل تنكير الطهر التيمم، فالحكم فيه أنه إن كان لاعواز الماء لم يستفد به المسح،
بل إذا وجد الماء لزمه نزعه والوضوء الكامل، وإن كان لمرض ونحوه فأحدث ثم تكلف الوضوء ليمسح فكذا، ثم الحدث
وقد مر حكمه، لكن الأسنوي تردد في جواز هذا التكليف: هل هو جائز أو لا؟ والذي يظهر كما قاله شيخي أنه إن
غلب على ظنه الضرر حرم وإلا فلا، ولو شفي دائم الحدث أو المتيمم لا لفقد الماء لم يمسح لبطلان الطهارة المرتب هو
عليها، ولو لبس الخف وهو يدافع الحدث لم يكره كما في المجموع. الأمر الثاني: صلاحية الخف للمسح بثلاثة شروط:
بأن يكون كل منهما (ساترا محل فرضه) وهو القدم بكعبيه من سائر الجوانب لا من الأعلى، فلو رؤي القدم من أعلاه
كأن كان واسع الرأس لم يضر عكس ساتر العورة فإنه من الأعلى والجوانب لا من الأسفل، لأن القميص في ستر العورة
يتخذ لستر أعلى البدن والخف يتخذ لستر أسفل الرجل. فإن قصر عن محل الفرض أو كان به تخرق في محل الفرض ضر،
ولو تخرقت البطانة - بكسر الباء - أو الظهارة - بكسر الظاء - والباقي صفيق لم يضر وإلا ضر، ولو تخرقتا من موضعين غير متحاذيين
لم يضر. والمراد بالستر هنا الحيلولة لا ما يمنع الرؤية، فيكفي الشفاف عكس ساتر العورة، لأن القصد هنا منع نفوذ الماء
وثم منع الرؤية. وقال في المجموع: إن المعتبر في الخف عسر غسل الرجل بسبب الساتر وقد حصل، والمقصود بستر العورة
سترها بحرم عن العيون ولم يحصل. ومن نظائر المسألة: رؤية المبيع من وراء زجاج فإنه لا يكفي لأن المطلوب نفي الغرر
وهو لا يحصل بذلك، لأن الشئ من وراء زجاج يرى غالبا على خلاف ما هو عليه. وأن يكون (طاهرا) فلا يصح المسح
على خف اتخذ من جلد ميتة قبل الدباغ لعدم إمكان الصلاة فيه. وفائدة المسح وإن لم تنحصر فيها فالقصد
الأصلي منه
الصلاة وغيرها تبع لها، ولان الخف بدل عن الرجل وهي لا تطهر عن الحدث ما لم تزل نجاستها، فكيف يمسح على
البدل وهو نجس العين والمتنجس كالنجس كما في المجموع، خلافا لابن المقري في أنه يصح على الموضع الطاهر. ويستفيد
به مس المصحف قبل غسله والصلاة بعده، لأن الصلاة هي المقصود الأصلي من المسح وما عداها من مس المصحف
ونحوه كالتابع لها، ولان الخف بدل عن الرجل ولو كانت نجسة لم تطهر عن الحدث مع بقاء النجس عليها كما مر. نعم
لو كان على الخف نجاسة معفو عنها ومسح من أعلاه ما لا نجاسة عليه صح مسحه، فإن مسح على النجاسة زاد التلويث ولزمه
65

حينئذ غسله وغسل يده، ذكره في المجموع. ولو خرز خفه بشعر نجس والخف أو الشعر رطب طهر بالغسل ظاهره دون محل
الخرز، ويعفى عنه فلا ينجس الرجل المبتلة، ويصلى فيه الفرائض والنوافل لعموم البلوى به كما في الروضة في الأطعمة، خلافا
لما في التحقيق من أنه لا يصلى فيه. وأن يكون قويا (يمكن) لقوته (تباع المشي فيه لتردد مسافر لحاجاته) عند الحط
والترحال وغيرهما مما جرت به العادة، ولو كان لابسه مقعدا. واختلف في قدر المدة المتردد فيها، فضبطه المحاملي بثلاث
ليال فصاعدا ووافقه الأسنوي في التنقيح. وقال في المهمات: إن المعتمد ما ضبطه الشيخ أبو حامد بمسافة القصر تقريبا.
وقال ابن النقيب: لو ضبط بمنازل ثلاثة أيام ولياليهن لم يبعد، قال: وهل المراد المشي فيه بمداس أم لا؟ لم أر من ذكره اه‍.
والذي يظهر من كلامهم الثاني، إذ لو كان المراد الأول لكان غالب الخفاف يحصل به بذلك. وينبغي أن يعتبر اعتدال
الأرض سهولة وصعوبة، والأقرب إلى كلام الأكثرين كما قاله ابن العماد أن المعتبر التردد فيه بحوائج سفر يوم وليلة
للمقيم ونحوه، وسفر ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر سفر قصر، لأنه بعد انقضاء المدة يجب نزعه، فقوته تعتبر بأن يمكن التردد
فيه لذلك، وسواء في ذلك المتخذ من جلد أو غيره كلبد وزجاج وخرق مطبقة بخلاف ما لا يمكن المشي فيه لما ذكر لثقله
كالحديد، أو لتحديد رأسه المانع له من الثبوت، أو ضعفه كجورب الصوفية والمتخذ من جلد ضعيف، أو لغلظه كالخشبة
العظيمة، أو لفرط سعته أو ضيقه أو نحو ذلك، فلا يكفي المسح عليه إذ لا حاجة لمثل ذلك ولا فائدة في إدامته، قال في المجموع:
إلا إن كان الضيق يتسع بالمشي فيه. قال في الكافي: عن قرب كفى المسح عليه بلا خلاف. (قيل وحلالا) فلا يكفي
المسح على المغصوب لأنه رخصة والرخصة لا تناط بالمعاصي. والأصح لا يشترط ذلك لأن الخف يستوفي به الرخصة
لا أنه المجوز للرخصة، بخلاف منع القصر في سفر المعصية إذ المجوز له السفر، ولا يشكل ذلك بعدم صحة الاستجمار بالمحترم كما مر
لأن الحرمة ثم لمعنى قائم بالآلة، بخلافه هنا، وعلى هذا فيكفي المسح على المغصوب والديباج الصفيق والمتخذ من فضة أو
ذهب للرجل وغيره كالتيمم بتراب مغصوب. واستثنى في العباب ما لو كان اللابس للخف محرما بنسك، ووجهه ظاهر،
والفرق بينه وبين المغصوب ونحوه: أن المحرم منهي عن اللبس من حيث هو لبس فصار كالخف الذي لا يمكن متابعة
المشي عليه، والنهي عن لبس المغصوب ونحوه من حيث أنه متعد في استعمال مال الغير. واستثنى غيره جلد الآدمي إن اتخذ
منه خفا، والظاهر عدم الاستثناء كما هو ظاهر كلام الأصحاب. فإن قيل: ساتر وما بعده أحوال مقيدة لصاحبها فمن أين
يلزم الامر بها؟ إذ لا يلزم من الامر بشئ الامر بالمقيد له بدليل اضرب هندا جالسة. أجيب بأن محل ذلك إذا لم يكن الحال
من نوع المأمور به ولا من فعل المأمور كالمثال المذكور، أما إذا كانت من نوعه نحو حج مفردا أو من فعله نحو ادخل مكة
محرما فهي مأمور بها، وما هنا من هذا القبيل فيشترط في الخف جميع ما ذكر. (ولا يجزئ منسوج لا يمنع ماء) أي نفوذه
إلى الرجل من غير محل الخرز لو صب عليه لعدم صفاقته، (في الأصح) لأن الغالب من الخفاف أنها تمنع النفوذ، فتنصرف
إليها النصوص الدالة على الترخص فيبقى الغسل واجبا فيما عداها. والثاني: يجزئ كالمتخرق ظهارته من موضع وبطانته من
آخر غير متحاذيين، فإنه يجوز وإن نفذ البلل إلى الرجل لو صب عليه.
تنبيه: لو حذف المصنف لفظة منسوج وقال ولا يجزئ ما لا يمنع ماء لشمل المنسوج وغيره. فإن قيل: بقي على
المصنف من الشروط أن يسمي خفا، فلو لف قطعة أدم على رجليه وأحكمها بالشد وأمكن تباع المشي عليها لم يصح
المسح عليها كما جزم به في أصل الروضة، لعسر إزالته وإعادته على هيئته مع استيفاز المسافر فلا يحصل الارتفاق المقصود
بالمسح، فيتبع مورد النص وهو الخف. أجيب بأن ذلك يفهم من قوله أول الباب فإن الضمير في قوله يجوز عائد على المسح
على الخف فخرج غيره. (ولا) يجزئ (جرموقان) وهما خف فوق خف كل منهما صالح للمسح عليه، فلا يجوز الاقتصار
على مسح الاعلى منهما. (في الأظهر) لأن الرخصة وردت في الخف لعموم الحاجة إليه، والجرموق لا تعم الحاجة إليه،
وهو بضم الجيم والميم فارسي معرب، وهو في الأصل شئ كالخف فيه وسع يلبس فوق الخف للبرد. وأطلق الفقهاء بأنه
66

خف فوق خف وإن لم يكن واسعا لتعلق الحكم به. والثاني: يجزئ، لأن شدة البرد قد تحوج إلى لبسه، ونزعه عند
كل وضوء للمسح على الأسفل مشقة. وأجاب الأول بأنه لا مشقة عليه في ذلك، إذ يمكنه أن يدخل يده بينهما ويمسح
الأسفل، فإن لم يصح واحد منهما للمسح عليه لم يصح قطعا، وإن صلح الاعلى دون الأسفل صح المسح عليه، والأسفل كلفافة
وإن صلح الأسفل دون الاعلى، فإن لم يصل البلل للأسفل لم يصح، وإن وصل إليه لا يقصد الاعلى فقط بأن قصد
الأسفل ولو مع الاعلى أو لم يقصد شيئا كفى، ويأتي هذا التفصيل أيضا في القويين: كأن يصل إلى الأسفل من محل خرز
الاعلى، ولو تخرق الأسفل من القويين وهو على طهارة لبسهما مسح الاعلى لأنه صار أصلا لخروج الأسفل عن صلاحيته
للمسح، أو وهو محدث فلا كاللبس على حدث، أو وهو على طهارة المسح فوجهان: أظهرهما كما هو مقتضى كلام
الروضة، وعليه اختصر أبو عبد الله الحجازي كلامها أنه يمسح كما لو كان على طهارة اللبس. قال البغوي: والخف ذو
الطاقين غير الملتصقين كالجرموقين، قال: وعندي يجوز مسح الاعلى فقط لأن الجميع خف واحد، فمسح الأسفل كمسح
باطن الخف اه‍. وينبغي اعتماده. ولو لبس خفا على جبيرة لم يجز المسح عليه لأنه ملبوس فوق ممسوح فأشبه العمامة،
ويؤخذ من ذلك أنه لو تحمل المشقة وغسل رجليه ثم وضع الجبيرة ثم لبس الخف أنه يجوز له المسح لعدم ما ذكر. (ويجوز
مشقوق قدم شد) بالشرج، وهي العرا، بحيث لا يظهر شئ من محل الفرض إذا مشى، أي فيكفي المسح عليه
. (في الأصح)
لحصول الستر وتيسر المشي فيه. والثاني: لا يجوز، فلا يكفي المسح عليه، كما لو لف على قدمه قطعة أدم وأحكمها بالشد فإنه
لا يمسح عليها كما مر. وأجاب الأول بعسر الارتفاق بها فيما مر. فإن قيل: المشقوق لا يسمى خفا بل زربولا وقد مر
اشتراط كون الممسوح عليه يمسى خفا. أجيب بأنا لا نعول على مجرد التسمية فقط بل مع مراعاة العلة، لأنا إنما أخرجنا
بذلك قطعة الادم ونحوها وعللناها بعسر الارتفاق، فحيث كان فيه ذلك المعنى الموجود في الخف كفى. (ويسن مسح)
ظاهر (أعلاه) أي الساتر لمشط الرجل، (وأسفله) وعقبه وحرفه، (خطوطا) بأن يضع يده اليسرى تحت العقب واليمنى على
ظهر الأصابع ثم يمر إلى ساقه، أي إلى آخره كما صرح به الدميري. كما أنه يستحب غسله كذلك، ولكن في المجموع
أنه لا يسن مسحه، واليسرى إلى أطراف الأصابع من تحت مفرجا بين أصابع يديه، ولا يضمها لئلا يصير مستوعبا له.
ولا يسن استيعابه بالمسح، ويكره تكراره وغسله لأن ذلك مفسد للخف، ولو فعل ذلك أجزأه، ومقتضى ذلك أنه
لا كراهة وإذا كان الخف من نحو زجاج وأمكن المشي فيه. (ويكفي مسمى مسح) كمسح الرأس فيكفي بيد وعود ونحوهما،
لأن المسح ورد مطلقا ولم يصح في تقدير شئ، فتعين الاكتفاء بما ينطلق عليه الاسم. ولا بد أن يكون المسح (يحاذي) أن
يقابل (الفرض) من الظاهر لا من باطنه الملاقي للبشرة فلا يكفي اتفاقا. فإن قيل: مقتضى التشبيه بالرأس أن الخف لو كان
عليه شعر أن المسح يكفي عليه مع أنه لا يكفي الاقتصار على مسح الشعر جزما كما قاله الدميري. أجيب بأنه لا يلزم من
التشبيه أن يعطى المشبه حكم المشبه به من كل وجه. (إلا أسفل الرجل وعقبها فلا) يكفي المسح عليهما (على المذهب) لأن
الاقتصار عليهما لم يرد، وثبت الاقتصار على الاعلى، والرخصة يجب فيها الاتباع. وعن علي رضي الله تعالى عنه أنه
قال: لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله (ص) يمسح
على ظاهر خفيه. والعقب بفتح العين وكسر القاف ويجوز إسكانها مع فتح العين وكسرها: مؤخر الرجل، وهي مؤنثة
وجمعها أعقاب. وقد مر أنه (ص) قال: ويل للأعقاب من النار (قلت: حرفه كأسفله والله أعلم) لاشتراكهما
في عدم الرؤية غالبا، فلا يكفي الاقتصار عليه لقربه منه. (ولا مسح لشاك) سواء في ذلك المسافر والمقيم،
(في بقاء المدة) هل
انقضت أو لا أوشك المسافر هل ابتدأ في السفر أو في الحضر، لأن المسح رخصة بشروط: منها المدة، فإذا شك فيها رجع
إلى الأصل وهو الغسل. وظاهر كلامه أن الشك إنما يؤثر في منع المسح لا أنه يقتضي الحكم بانقضاء المدة، وهو كذلك،
فلو زال الشك وتحقق بقاء المدة جاز المسح)
67

فرع: لو شك من مسح بعد الحدث هل صلاته الرابعة أو الثالثة؟ لم يبرأ من الرابعة وحسب عليه وقتها، فلو أحدث
ومسح وصلى العصر والمغرب والعشاء وشك أتقدم حدثه ومسحه أول وقت الظهر وصلاها به أم تأخر إلى وقت العصر
ولم يصل الظهر فيلزمه قضاؤه، لأن الأصل بقاؤها عليه، وتجعل المدة من أول الزوال، لأن الأصل عدم غسل الرجلين.
ولو مسح شاكا فيما ذكر وصلى به لم تصح صلاته. فإن بان بقاء المدة أعاد المسح والصلاة، بخلاف ما لو مسح غير شاك،
كأن مسح في اليوم الأول واستمر على طهارته إلى اليوم الثالث فله أن يصلي به لأنه صحيح ولكن يعيد ما صلاه به على
الشك. (فإن أجنب) لابس الخف أو حصل منه ما يوجب الغسل من نحو حيض في أثناء المدة، (وجب تجديد لبس) بعد الغسل
إن أراد المسح، بأن ينزع ويتطهر ثم يلبس، لحديث صفوان بن غسان قال: كان رسول الله (ص) يأمرنا إذا
كنا مسافرين أو سفرا - بفتح السين وسكون الفاء: أي مسافرين - أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام بلياليهن إلا من جنابة، صححه
الترمذي وغيره. دل الامر بالنزع على عدم جواز المسح في الغسل والوضوء لأجل الجنابة فهي مانعة من المسح قاطعة
لمدته، حتى لو اغتسل لابسا لا يمسح بقيتها كما هو مقتضى كلام الرافعي، وإن اقتضى ما في الكفاية أنه يمسح بقيتها لارتفاع
المانع. وقيس بالجنابة غيرها مما هو في معناها كالحيض والنفاس والولادة كما في المجموع، والامر في الحديث للإباحة
لمجيئه في خبر النسائي: أرخص لنا. فإن قيل: الجبيرة إذا وضعت على طهر لا يجب نزعها لما ذكر مع أن في كم كل منهما مسحا
على سائر لحاجة موضوع على طهر. أجيب بأن الحاجة ثم أشد والنزع أشق. (ومن نزع) في المدة خفيه أو أحدهما، أو خرجا
أو أحدهما عن صلاحية المسح، أو انقضت المدة أو شك في بقائها، أو ظهر بعض الرجل بتخرق أو غيره كانحلال شرج
أو نحو ذلك، (وهو بطهر المسح) في جميع ذلك، (غسل قدميه) لبطلان طهرهما بما ذكر، لأن الأصل غسلهما، والمسح
بدل، فإذا زال حكم البدل رجع إلى الأصل كالتيمم بعد وجود الماء. (وفي قول يتوضأ) لأن الوضوء عبادة يبطلها الحدث،
فتبطل كلها ببطلان بعضها كالصلاة. واختار المصنف في شرح المهذب كابن المنذر أنه لا يلزمه واحد منهما ويصلي
بطهارته. وخرج بطهر المسح طهر الغسل بأن لم يحدث بعد اللبس، أو أحدث لكن توضأ وغسل رجليه في الخف فلا
حاجة فيه إلى غسل قدميه.
خاتمة: لو تنجست رجله في الخف بدم أو غيره بنجاسة غير معفو عنها وأمكن غسلها في الخف غسلها ولم يبطل
مسحه، وإن لم يمكن وجب النزع وغسل النجاسة وبطل مسحه. ولو بقي من مدة المسح ما يسع ركعة، واعتقد طريان
حدث غالب فأحرم بركعتين فأكثر انعقدت صلاته، لأنه على طهارة في الحال، وصح الاقتداء به، وعلم المقتدى بحاله
ويفارقه عند عروض المبطل، وإن كان أحرم بأكثر من ركعة في صلاة نافلة كان له الاقتصار على ركعة. قال في الاحياء:
يستحب لمن أراد أن يلبس الخف أن ينفضه لئلا يكون فيه حية أو عقرب أو شوكة، واستدل لذلك بما رواه الطبراني
عن أبي أمامة أن النبي (ص) قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس خفيه حتى ينفضهما.
باب الغسل
هو بالفتح مصدر غسل الشئ غسلا، والغسل بالكسر ما يغسل به الرأس من نحو سدر وخطمي، والغسل بالضم
اسم للاغتسال، واسم للماء الذي يغتسل به، فيجوز في الترجمة فتح الغين وضمها، والفتح أشهر كما قاله المصنف في التهذيب،
ولكن الفقهاء أو أكثرهم إنما تستعمله بالضم، وهو لغة: سيلان الماء على الشئ مطلقا، وشرعا: سيلانه على جميع البدن
مع النية. (موجبه) بكسر الجيم، خمسة أمور: أحدها: (موت) المسلم غير شهيد كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الجنائز،
68

فاستغنى بذلك عن ذكره هنا، لكن يرد على مفهومه السقط الذي لم تظهر أمارات حياته وظهر خلقه، فإنه يجب غسله مع
أنه لا يوصف بالموت على القول الأصح في تعريفه لأن الموت عدم الحياة، ويعبر عنه بمفارقة الروح الجسد، وقيل عدم
الحياة عما من شأنه الحياة، وقيل عرض يضادها لقوله تعالى: * (خلق الموت والحياة) *. ورد بأن المعنى قدر والعدم مقدر.
فإن قيل: عدم الموت من الموجبات مشكل، لأنه إن كان المراد الغسل ولو مع خلوه عن النية لزم أن يعدوا من تنجس
جميع بدنه أو بعضه واشتبه ولم يعدوه، وإن أريد الغسل الذي تجب فيه النية لزم خروج الميت، فإنه لا يجب في غسله نية
على الأصح. أجيب بجوابين: أحدهما: أن المراد الشق الأول والكلام في الغسل عن الاحداث فخرج من على بدنه
نجاسة، ودخل غسل الميت على رأي أنه عن حدث. والثاني: أن المراد الشق الأول ومنع عد تنجس البدن من الموجبات،
لأن الواجب إنما هو إزالة النجاسة، حتى لو فرض كشط جلده حصل المقصود. (و) ثانيها: (حيض) لقوله تعالى: *
(فاعتزلوا النساء في المحيض) * أي الحيض، ولخبر البخاري أنه (ص) قال لفاطمة بنت أبي حبيش: إذا أقبلت
الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي. (و) ثالثها: (نفاس) لأنه دم حيض مجتمع. ويعتبر مع خروج كل
منهما وانقطاعه القيام إلى الصلاة أي أو نحوها كما في الرافعي والتحقيق، وإن صحح في المجموع أن موجبه الانقطاع
فقط. وظاهر قول المصنف بعد ذلك: وجنابة بدخول حشفة إلخ أن الموجب الايلاج أو الانزال، ويجري ذلك في دم الحيض
والنفاس، والمعتمد الأول. فإن قيل: هل لهذا الخلاف ثمرة فقهية؟ قال إمام الحرمين: لا. وقال غيره: نعم، وهي فيما
إذا قال لزوجته: إن وجب عليك غسل فأنت طالق، وذكر له فوائد أخر لكن على ضعف. ورابعها: ما ذكره
بقوله: (وكذا ولادة) ولو علقة أو مضغة، (بلا بلل في الأصح) لأنه مني منعقد، ولأنه لا يخلو عن بلل غالبا فأقيم مقامه
كالنوم مع الخارج، وتفطر به المرأة على الأصح في التحقيق وغيره بخلاف ما لو ألقت يدا أو رجلا أو نحو ذلك فإنه لا يجب
عليها الغسل ولا تفطر به، أي بل تتخير بين الغسل والوضوء فيما يظهر. (و) خامسها: (جنابة) لقوله تعالى: * (وإن كنتم جنبا فاطهروا) *. وتحصل
لآدمي حي فاعل أو مفعول به، (بدخول حشفة) ولو بلا قصد أو كان الذكر أشل أو غير منتشر. (أو قدرها) من مقطوعها،
(فرجا) ولو غير مشتهى كأن كان من بهيمة أو ميتة أو دبر ذكر أو كان على الذكر خرقة ملفوفة ولو غليظة. أما في فرج المرأة
فلقوله (ص): إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل وإن لم ينزل رواه مسلم. وأما الأخبار الدالة على اعتبار الانزال كخبر:
إنما الماء من الماء فمنسوخة. وأجاب ابن عباس رضي الله عنهما بأن معناه أنه لا يجب الغسل بالاحتلام إلا أن ينزل،
وذكر الختان جرى على الغالب فيجب الغسل بجميع ما ذكر لأنه جماع في فرج. وليس المراد بالتقاء الختانين انضمامهما
لعدم إيجابه الغسل بالاجماع، بل تحاذيهما، يقال: التقى الفارسان إذا تحاذيا وإن لم ينضما. وذلك إنما يحصل بإدخال الحشفة
في الفرج، إذ الختانان محل القطع في الختان، وختان المرأة فوق مخرج البول، ومخرج البول فوق مدخل الذكر. ولو
أولج حيوان قرد أو غيره في آدمي ولا حشفة له فهل يعتبر إيلاج كل ذكره أو إيلاج قدر حشفة معتدلة؟ قال الإمام: فيه
نظر موكول إلى رأي الفقيه اه‍. وينبغي اعتماد الثاني. ويجنب صبي ومجنون أولجا أو أولج فيهما، ويجب عليهما الغسل
بعد الكمال. وصح من مميز ويجزئه ويؤمر به كالوضوء. وإيلاج الخنثى وما دون الحشفة لا أثر له في الغسل. وأما الوضوء
فيجب على المولج فيه بالنزع من دبره مطلقا، ومن قبل أنثى. وإيلاج الحشفة بالحائل جار في سائر الأحكام كإفساد
الصوم والحج. ويخير الخنثى بين الوضوء والغسل بإيلاجه في دبر ذكر لا مانع من النقض بلمسه أو في دبر خنثى أولج ذكره
في قبل المولج، لأنه إما جنب بتقدير ذكورته فيهما وأنوثته وذكورة الآخر في الثانية، أو محدث بتقدير أنوثته فيهما مع أنوثة
الآخر في الثانية، فخير بينهما لما سيأتي فيمن اشتبه عليه المني بغيره. وكذا يخير الذكر إذا أولج الخنثى في دبره، ولا مانع
من النقض كما هو مقتضى كلام الشيخين في باب الوضوء وإن صوب البلقيني وجوب الوضوء على الذكر وتخيير الخنثى.
أما إيلاجه في قبل خنثى أو في دبره ولم يولج الآخر في قبله فلا يوجب عليه شيئا. ولو أولج رجل في قبل خنثى فلا يجب
عليهما غسل ولا وضوء لاحتمال أنه رجل، فإن أولج ذلك الخنثى في واضح آخر أجنب يقينا وحده لأنه جامع أو جومع
69

فيه بخلاف الآخرين لا جنابة عليهما وأحدث الواضح الآخر بالنزع منه. أما لو أولج الخنثى في الرجل المولج فإن كلا منهما
يجنب. ومن أولج أحد ذكريه أجنب إن كان يبول به وحده ولا أثر للآخر في نقض الطهارة إذا لم يكن على سننه، فإن
كان على سننه، أو كان يبول بكل منهما، أو لا يبول بواحد منهما، وكان الانسداد عارضا أجنب بكل منهما. (
و)
يحصل أيضا (بخروج مني) بتشديد الياء، وسمع تخفيفها: أي مني الشخص نفسه الخارج منه أول مرة من رجل أو
امرأة، وإن لم يجاوز فرج الثيب، بل وصل إلى ما يجب غسله في الاستنجاء. أما البكر فلا بد من بروزه إلى الظاهر، كما
أنه في حق الرجل لا بد من بروزه عن الحشفة. والأصل في ذلك خبر مسلم: إنما الماء من الماء وخبر الصحيحين
عن أم سلمة قالت: جاءت أم سليم إلى رسول الله (ص) فقالت: إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا
احتلمت؟ قال: نعم إذا رأت الماء. أما الخنثى المشكل إذا خرج المني من أحد فرجيه فلا غسل عليه لاحتمال أن يكون
زائدا مع انفتاح الأصلي، فإن أمنى منهما أو من أحدهما وحاض من الآخر وجب عليه الغسل. ولا فرق في وجوب الغسل بخروج
المني بين أن يخرج (من طريقه المعتاد) وإن لم يكن مستحكما (وغيره) أي ومن غيره إذا كان مستحكما مع انسداد
الأصل وخرج من تحت الصلب، فالصلب هنا كالمعدة في باب الحدث فيفرق بين الانسداد العارض والخلقي كما فرق هناك،
هذا هو المعتمد كما صوبه في المجموع وإن أوهمت عبارة المصنف خلاف ذلك. والصلب إنما يعتبر للرجل كما قاله في المهمات،
أما المرأة فما بين ترائبها وهي عظام الصدر، قال تعالى: * (يخرج من بين الصلب والترائب) *، أي صلب الرجل وترائب
المرأة. فإن خرج غير المستحكم من غير المعتاد كأن خرج لمرض فلا يجب الغسل به بلا خلاف كما في المجموع عن الأصحاب،
ولا بخروج مني غيره منه ولا بخروج منيه منه بعد استدخاله. (ويعرف) المني (بتدفقه) بأن يخرج بدفعات، قال تعالى: *
(من ماء دافق) * وسمي منيا لأنه يمنى، أي يصب. (أو لذة) بالمعجمة، (بخروجه) مع فتور الذكر وانكسار الشهوة
عقبه وإن لم يتدفق لقلته أو خرج على لون الدم. (أو ريح عجين) لحنطة أو نحوها، أو طلع كما في المحرر. (رطبا أو)
ريح (بياض بيض) لدجاج أو نحوه، (جافا) وإن لم يلتذ ولم يتدفق كأن خرج باقي منيه بعد غسله. أما إذا خرج من
قبل المرأة مني جماعها بعد غسلها فلا تعيد الغسل إلا إن قضت شهوتها، فإن لم يكن لها شهوة كصغيرة أو كان ولم تنقض
كنائمة لا إعادة عليها. فإن قيل: إذا قضت شهوتها لم يتيقن خروج منيها، ويقين الطهارة لا يرتفع بظن الحدث إذ حدثها
وهو خروج منيها غير متيقن، وقضاء شهوتها لا يستدعي خروج شئ من منيها كما قاله في التوشيح. أجيب بأن قضاء
شهوتها منزل منزلة نومها في خروج الحدث، فنزلوا المظنة منزلة المئنة. وخرج بقبل المرأة ما لو وطئت في دبرها فاغتسلت ثم
خرج منها مني الرجل لم يجب عليها إعادة الغسل كما علم مما مر. ورطبا و جافا حالان من المني. (فإن فقدت الصفات) المذكورة
في الخارج، (فلا غسل) عليه لأنه ليس بمني. فإن احتمل كون الخارج منيا أو غيره كودي أو مذي تخير بينهما على
المعتمد، فإن جعله منيا اغتسل أو غيره توضأ وغسل ما أصابه، لأنه إذا أتى بمقتضى أحدهما برئ منه يقينا، والأصل
براءته من الآخر، ولا معارض له، بخلاف من نسي صلاة من صلاتين حيث يلزمه فعلهما لاشتغال ذمته بهما جميعا، والأصل
بقاء كل منهما، وقيل: يلزمه العمل بمقتضى كل منهما احتياطا قياسا على ما قالوه في الزكاة من وجوب الاحتياط بتزكية
الأكثر ذهبا وفضة في الاناء المختلط منها إذا جهل قدر كل منهما، وصححه المصنف في رؤوس المسائل، وقال في المجموع:
إنه الذي يظهر رجحانه. وأجاب الأول بمنع القياس، لأن اليقين ثم ممكن بسبكه بخلافه هنا. وحيث أوجبنا الوضوء أو
اختاره لزمه الترتيب وغسل ما أصابه، وإذا اختاره أحدهما وفعله اعتد به، فإن لم يفعله كان له الرجوع عنه وفعل الآخر،
إذ لا يتعين عليه باختياره. وإذا اختار أنه مني لا يحرم عليه قبل اغتساله ما يحرم على الجنب من المكث في المسجد وغيره
للشك في الجنابة كما أفتى به شيخي، قال: ولهذا من قال بوجوب الاحتياط بفعل مقتضى الحدثين لا يوجب عليه غسل ما أصاب
ثوبه، لأن الأصل طهارته. (والمرأة كرجل) بضم الجيم وإسكانها، فيما مر من حصول الجنابة بالطريقين المارين ولو
70

استدخلت ذكرا مقطوعا أو قدر الحشفة منه لزمها الغسل كما في الروضة، ومقتضاه أنه لا فرق بين استدخاله من رأسه
أو أصله أو وسطه بجمع طرفيه. قال الأسنوي: وفي ذلك نظر اه‍. والظاهر كما قال شيخي أن المعول على الحشفة حيث
وجدت. ومقتضى التشبيه أن منيها يعرف بالخواص المذكورة، وهو قول الأكثرين. وقال إمام الحرمين
والغزالي:
لا يعرف إلا بالتلذذ، وقال ابن الصلاح: لا يعرف إلا بالتلذذ والريح، وجزم به المصنف في شرح مسلم، وقال
السبكي: إنه المعتمد، والأذرعي: إنه الحق. والمعتمد الأول، ويؤيده كما قال ابن الرفعة قول المختصر: وإذا رأت
المرأة الماء الدافق.
فرع: لو رأى في فراشه أو ثوبه ولو بظاهره منيا لا يحتمل أنه من غيره لزمه الغسل وإعادة كل صلاة لا يحتمل
خلوها عنه. ويستحب إعادة كل صلاة احتمل خلوها عنه لا إعادة الغسل، فإنه لا تسن إعادته كما سيأتي. وإن احتمل
كونه من آخر نام معه في فراشه مثلا فإنه يستحب لهما الغسل والإعادة. ولو أحس بنزول المني فأمسك ذكره فلم يخرج
منه شئ فلا غسل عليه كما علم مما مر وصرح به في الروضة. (ويحرم بها) أي بالجنابة الحاصلة من دخول الحشفة أو
خروج المني. أما ما قبل ذلك فسيأتي محرماته في باب الحيض. (ما حرم بالحدث) الأصغر مما مر في بابه لأنها أغلظ منه.
(و) شيئان آخران، أحدهما: (المكث) لمسلم غير النبي (ص) (بالمسجد) أو التردد فيه لغير عذر لقوله تعالى: *
(لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل) *. قال ابن عباس وغيره: أي لا تقربوا
مواضع الصلاة لأنه ليس فيها عبور سبيل، بل في مواضعها وهو المسجد، نظيره قوله تعالى: * (لهدمت صوامع وبيع
وصلوات) * ولقوله عليه الصلاة والسلام: لا أحل المسجد لحائض ولا جنب رواه أبو داود عن عائشة رضي الله تعالى
عنها، وقال ابن القطان: إنه حسن. وخرج بالمكث والتردد العبور كما قال: (لا عبوره) للآية المذكورة. وكما لا يحرم
لا يكره إن كان له فيه غرض مثل أن يكون المسجد أقرب طريقيه، فإن لم يكن له غرض كره كما في الروضة وأصلها،
وقال المجموع إنه خلاف الأولى لا مكروه. وينبغي اعتماد الأول حيث وجد طريقا غيره، فقد قيل إن العبور يحرم
في هذه الحالة، وإلا فالثاني، وحيث عبر لا يكلف الاسراع في المشي بل يمشي على العادة. ولهواء المسجد حرمة
المسجد، نعم لو قطع بصاقه هواء المسجد ووقع خارجه لم يحرم كما لو بصق في ثوبه في المسجد، وبالمسلم الكافر فإنه يمكن
من المكث في المسجد على الأصح في الروضة وأصلها لأنه لا يعتقد حرمة ذلك، نعم الحائض والنفساء عند خوف
التلويث كالمسلمة. وليس للكافر ولو غير جنب دخول المسجد إلا أن يكون لحاجة كإسلام وسماع قرآن لا كأكل وشرب
وإن يأذن له مسلم في الدخول، إلا أن تكون له خصومة وقد قعد الحاكم للحكم فيه، وبغير النبي (ص) هو، فلا يحرم عليه،
قال صاحب التلخيص: ذكر من خصائصه (ص) دخول المسجد جنبا، ومال إليه المصنف. وبالمسجد المدارس والربط
ومصلى العيد ونحو ذلك. وكذا ما وقف بعضه مسجدا شائعا، لكن قال الأسنوي: المتجه إلحاقه بالمسجد في ذلك وفي
التحية للداخل ونحو ذلك بخلاف صحة الاعتكاف فيه. وكذا صحة الصلاة فيه للمأموم إذا تباعد عن إمامه أكثر من
ثلاثمائة ذراع، وبلا عذر ما إذا حصل له عذر كأن احتلم في المسجد وتعذر عليه الخروج لاغلاق باب أو خوف على نفسه
أو عضوه أو منفعة ذلك أو على ماله فلا يحرم عليه المكث، ولكن يجب عليه كما في الروضة التيمم أن وجد غير تراب المسجد،
ولا ينافيه قول الشرح الصغير: ويحسن أن يتيمم، لأن الواجب حسن. على إنه قيل: أن قوله يحسن مصحف عن يجب. فإن لم
يجد غيره لا يجوز له أن يتيمم به، فلو خالف وتيمم به صح تيممه كالتيمم بتراب مغصوب، والمراد بتراب المسجد الداخل
في وقفه لا المجموع من الريح ونحوه. ولو لم يجد الجنب الماء إلا في المسجد فإن وجد ترابا تيمم ودخل واغترف وخرج إن لم يشق
عليه ذلك، وإلا اغتسل فيه، ولا يكفيه التيمم على المعتمد كما بحثه المصنف في مجموعه بعد نقله عن البغوي أنه يتيمم ولا يغتسل
فيه. وإطلاق الأنوار جواز الدخول للاستقاءة والمكث لها بقدرها فقط محمول على هذا التفصيل.
فائدة: لا بأس بالنوم في المسجد لغير الجنب ولو لغير أعزب، فقد ثبت أن أصحاب الصفة وغيرهم كانوا ينامون
71

فيه في زمنه (ص). نعم إن ضيق على المصلين أو شوش عليهم حرم النوم فيه، قاله في المجموع، قال: ولا يحرم
إخراج الريح فيه لكن الأولى اجتنابه لقوله (ص): الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم. (و) ثانيهما: (القرآن) لمسلم، أي
ويحرم بالجنابة القرآن باللفظ وبالإشارة من الأخرس كما قاله القاضي في فتاويه، فإنها منزلة النطق هنا، ولو بعض آية
كحرف للاخلال بالتعظيم سواء أقصد مع ذلك غيرها أم لا، ولحديث الترمذي وغيره: لا يقرأ الجنب ولا
الحائض شيئا
من القرآن. ويقرأ روي بكسر الهمزة على النهي وبضمها على الخبر المراد به النهي، ذكره في المجموع وضعفه، لكن له متابعات
تجبر ضعفه. والحائض والنفساء في ذلك كالجنب، وسيأتي حكمهما في باب الحيض. ولمن به حدث أكبر إجراء القرآن على
قلبه ونظر في المصحف وقراءة ما نسخت تلاوته وتحريك لسانه وهمسه بحيث لا يسمع نفسه لأنها ليست بقراءة قرآن.
وفاقد الطهورين يقرأ الفاتحة وجوبا فقط للصلاة لأنه مضطر إليها، خلافا للرافعي في قوله: لا يجوز له قراءتها كغيرها. أما خارج
الصلاة فلا يجوز له أن يقرأ شيئا ولا أن يمس المصحف مطلقا ولا أن توطأ الحائض أو النفساء إذا انقطع دمها. وأما فاقد
الماء في الحضر فيجوز له إذا تيمم أن يقرأ ولو في غير الصلاة. أما الكافر فلا يمنع من القراءة لأنه لا يعتقد حرمة ذلك كما قاله الماوردي.
وإما تعليمه وتعلمه فذكرته وفوائد أخر في باب الحدث. (وتحل) لجنب (أذكاره) وغيرها كمواعظه وأخباره وأحكامه،
(لا بقصد قرآن) كقوله عند الركوب: * (سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين) * أي مطيقين، وعند المصيبة: * (إنا لله
وإنا إليه راجعون) * ولا ما جرى به لسانه بلا قصد. فإن قصد القرآن وحده أو مع الذكر حرم، وإن أطلق فلا كما نبه عليه
في الدقائق لعدم الاخلال بحرمته لأنه لا يكون قرآنا إلا بالقصد، قاله المصنف وغيره. وظاهر أن ذلك جار فيما يوجد
نظمه في غير القرآن كالآيتين المتقدمتين، والبسملة والحمدلة، وما لا يوجد نظمه إلا فيه كسورة الاخلاص وآية الكرسي،
وهو كذلك، وإن قال الزركشي: لا شك في تحريم ما لا يوجد نظمه في غير القرآن، وتبعه على ذلك بعض المتأخرين كما
شمل ذلك قول الروضة. أما إذا قرأ شيئا منه لا على قصد القرآن فيجوز، ولو عبر المصنف بها هنا كان أولى ليشمل ما قدرته،
بل أفتى شيخي بأنه لو قرأ القرآن جميعه لا بقصد القرآن جاز. (وأقله) أي غسل الواجب الذي لا يصح بدونه أمران:
أحدهما: (نية رفع جنابة) أي رفع حكمها إن كان جنبا، ورفع حدث الحيض إن كانت حائضا، أو لتوطأ كما في الروضة
وأصلها، أو الغسل من الحيض كما قاله ابن المقرئ فلو نوى رفع الجنابة وحدثه الحيض أو عكسه، أو نوى رفع جنابة
الجماع، وجنابته باحتلام أو عكسه صح مع الغلط دون العمد كنظيره في الوضوء، ذكر ذلك في المجموع، أي ولو كان
غير ما عليه لا يمكن أن يكون منه كالحيض من الرجل كما قال به شيخي خلافا لبعض المتأخرين. وقضية تعليمهم إيجاب
الغسل في النفاس لكونه دم حيض مجتمع أنه يصح نية أحدهما بالآخر عمدا أو لا، وبه جزم في البيان. وتكفي نية رفع
الحدث عن كل البدن، وكذا مطلقا في الأصح لاستلزام رفع المطلق رفع المقيد، ولأنه ينصرف إلى حدثه لوجود القرينة
الحالية، فلو نوى الأكبر كان تأكيدا، وصورة المسألة فيما إذا اجتمعا عليه إن قلنا باندراج الأصغر وإلا وجب التعيين،
قاله الماوردي وتبعه المصنف في التحقيق. فلو نوى رفع الحدث الأصغر عمدا لم ترتفع جنابته لتلاعبه، أو غلطا ارتفعت عن
أعضاء الأصغر لأن غسلها واجب في الحدثين وقد غسلها بنيته إلا الرأس فلا ترتفع عنه لأن غسله وقع عن مسحه الذي
هو فرض في الأصغر، وهو إنما نوى المسح وهو لا يغني عن الغسل، بخلاف غسل باطن لحية الرجل الكثيفة فإنه يكفي لأن
غسل الوجه هو الأصل، فإذا غسله فقد أتى بالأصل. أما غير أعضاء الأصغر فلا ترتفع جنابته لأنه لم ينوه. قال
في المجموع: ولو اجتمع على المرأة غسل حيض وجنابة كفت نية أحدهما قطعا. (أو) نية (استباحة مفتقر إليه) أي
إلى الغسل، كأن ينوي استباحة الصلاة أو الطواف مما يتوقف على غسل، فإن نوى ما لا يفتقر إليه كالغسل ليوم العيد
لم يصح، وقيل: إن ندب له صح. (أو أداء فرض الغسل) أو فرض الغسل أو الغسل المفروض أو أداء الغسل،
وكذا الطهارة للصلاة كما في الكفاية، وتقدم الاستشكال فيها والجواب عنه في باب الوضوء. فعلم من ذلك
أن الجمع بين الفرض والأداء لا يجب وإن اقتضته عبارة المصنف وأن النية لا تنحصر فيما ذكره. وأما إذا نوى
72

الغسل فقط فإنه لا يكفي، وتقدم شروط نية الغسل والفرق بينه وبين نية الوضوء في بابه. (مقرونة بأول فرض) وهو أول
ما يغسل من البدن سواء أكان من أعلاه أم من أسفله إذ لا ترتيب فيه، فلو نوى بعد غسل جزء منه وجب إعادة
غسله. وفي تقديمها على السنن وعزوبها قبل غسل شئ من المفروض ما مر في الوضوء، فإذا خلا عنها شئ من السنن
لم يثبت عليه. ولو أتى بها من أول السنن وعزبت قبل أول الفروض لم تكف. فإن قيل: السنن التي قبله من محل
الواجب، فإذا نوى عندها رفع الجنابة مثلا وقع فرضا، بخلاف سنن الوضوء التي قبله من غسل كفيه ومضمضة
ونحو ذلك، لأنه ليس محلا للفرض، فلا يتصور أن تقترن النية بسنة قبل الغسل. أجيب بأن ذلك قد يتصور، كأن ينوي عند
المضمضة ولم يمس الماء حمرة شفتيه كأن يتمضمض من إبريق. ويستحب أن يبتدئ النية مع التسمية كما صرح به
في المجموع هنا، قال: وإذا اغتسل من إناء كإبريق ينبغي له أن ينوي عند غسل محل الاستنجاء بعد فراغه منه،
لأنه إذا لم ينو عنده قد يغفل عنه أو يحتاج إلى المس فينتقض وضوؤه، أو إلى كلفة في لف خرقة على يده. قال الشارح:
ومقرونة بالرفع في خط المصنف، وقيل: بالنصب صفة نية المقدرة المنصوبة بنية الملفوظة اه‍. أما الفرع فعلى أنها صفة
لقوله نية، وأما النصب فعلى أن مقرونة صفة لمصدر محذوف عامله المصدر الملفوظ به في كلام المصنف وتقديره:
وأقله أن ينوي كذا نية مقرونة، ف‍ نية المقدرة مفعول مطلق، والعامل فيه نية الملفوظة، والمفعول المطلق مصدر وهو
ينصب بمثله الذي هو نية لأنها مصدر. (و) ثانيهما: (تعميم شعره) ظاهرا وباطنا وإن كثف، ويجب نقض الضفائر إن
لم يصل الماء إلى باطنها إلا بالنقض، لكن يعفى عن باطن الشعر المعقود، ولا يجب غسل الشعر النابت في العين والأنف
وإن كان يجب غسله من النجاسة. (وبشره) حتى الأظفار وما يظهر من صماخي الاذنين، ومن فرج المرأة عند قعودها
لقضاء الحاجة، وما تحت القلفة من الأقلف، وموضع شعر نتفه قبل غسله. قال البغوي: ومن باطن جدري اتضح.
فائدة: لو اتخذ له أنملة أو أنفا من ذهب أو فضة وجب عليه غسله من حدث أصغر أو أكبر ومن نجاسة غير معفو
عنها، لأنه وجب عليه غسل ما ظهر من الإصبع والأنف بالقطع، وقد تعذر للعذر فصارت الأنملة والأنف كالأصليين.
(ولا تجب) في الغسل (مضمضة و) لا (استنشاق) بل يسن كما في الوضوء وغسل الميت. (وأكمله) أي الغسل (إزالة القذر)
بالمعجمة، طاهرا كان كالمني أو نجسا كودي استظهارا، وإن قلنا: يكفي لهما غسلة واحدة. (ثم) بعد إزالة القذر (الوضوء)
كاملا، ومنه التسمية للاتباع، رواه الشيخان. فهو أفضل من تأخير قدميه عن الغسل. (وفي قول يؤخر غسل
قدميه)
لما روى البخاري عن ميمونة في صفة غسل النبي (ص): أنه توضأ وضوءه للصلاة غير غسل القدمين
قال في المجموع نقلا عن الأصحاب: وسواء أقدم الوضوء كله أم بعضه أم أخره أم فعله في أثناء الغسل فهو محصل للسنة،
لكن الأفضل تقديمه. ثم إن تجردت الجنابة عن الحدث كأن احتلم وهو جالس متمكن نوى سنة الغسل وإلا نوى رفع
الحدث الأصغر، وإن قلنا يندرج خروجا من خلاف من أوجبه. وإذا أخر الوضوء عن الغسل هل ينوي به رفع الحدث
خروجا من خلاف من قال بعدم الاندراج أو سنة الغسل، ولان حدثه ارتفاع على الأصح؟ لم أر من تعرض له، والذي يظهر
أخذا مما جمع به شيخي بين عبارة الكتاب وعبارة الروضة في الصلاة المعادة، وهو إن أراد الخروج من الخلاف
نوى الفرض كما في الكتاب، وإن لم يرد ذلك نوى الطهر مثلا، ولا يحتاج لنية الفرضية كما في الروضة، وأن يقال هنا: إن
أراد الخروج من الخلاف نوى رفع الحدث وإلا فسنة الغسل، فإن ترك الوضوء والمضمضة والاستنشاق كره له ويستحب
له أن يتدارك ذلك، ولو توضأ قبل غسله ثم أحدث قبل أن يغتسل ولم يحتج لتحصيل سنة الوضوء إلى إعادته، بخلاف
من غسل يديه في الوضوء ثم أحدث قبل المضمضة مثلا فإنه يحتاج في تحصيل السنة إلى إعادة غسلهما بعد نية الوضوء،
لأن تلك النية بطلت بالحدث. (ثم) بعد الوضوء (تعهد معاطفه) كأن يأخذ الماء بكفه فيجعله على المواضع التي فيها
انعطاف والتواء كالأذنين، وطبقات البطن، وداخل السرة، لأنه أقرب إلى الثقة بوصول الماء. ويتأكد في الاذن،
73

فيأخذ كفا من ماء ويضع الاذن عليه برفق ليصل الماء إلى معاطفه وزواياه. (ثم يفيض الماء على رأسه ويخلله) أي شعر
رأسه، وكذا شعر لحيته بالماء، وليست الواو في عبارته للترتيب. فيدخل أصابعه العشر فيشرب بها أصول الشعر، ثم يفيض
الماء ليكون أبعد عن الاسراف في الماء، وأقرب إلى الثقة بوصول الماء. (ثم) يفيضه على (شقه الأيمن ثم الأيسر) لأنه
عليه الصلاة والسلام كان يحب التيمن في طهوره، متفق عليه. (ويدلك) ما وصلت إليه يده من بدنه احتياطا وخروجا
من خلاف من أوجبه، وإنما لم يجب عندنا لأن الآية والأحاديث ليس فيهما تعرض لوجوبه. (ويثلث) تأسيا به
(ص) كما في الوضوء. وكيفية ذلك وإن لم تؤدها عبارة المصنف أن يتعهد ما ذكر، ثم رأسه ويدلكه ثلاثا،
ثم باقي جسده كذلك بأن يغسل ويدلك شقه الأيمن المقدم ثم المؤخر، ثم الأيسر كذلك مرة، ثم ثانية، ثم ثالثة كذلك
للأخبار الصحيحة الدالة على ذلك. قال شيخنا: وما قيل، أي ما قاله الأسنوي، أن المتجه إلحاقه بغسل الميت حتى لا ينتقل
إلى المؤخر إلا بعد الفراغ من المقدم رد بسهولة ما ذكر هنا على الحي، بخلافه في الميت لما يلزم فيه من تكرير تقليب
الميت قبل الشروع في شئ من الأيسر. ولو انغمس في ماء، فإن كان جاريا كفى في التثليث أن يمر عليه ثلاث جريات،
لكن قد يفوته الدلك، لأنه لا يتمكن منه غالبا تحت الماء إذ ربما يضيق نفسه. وإن كان راكدا انغمس فيه ثلاثا بأن
يرفع رأسه منه وينقل قدميه أو ينتقل من مقامه إلى آخر ثلاثا، ولا يحتاج إلى انفصال جملته ولا رأسه كما في التسبيع
من نجاسة الكلب فإن حركته تحت الماء كجري الماء عليه. (وتتبع) المرأة غير المحرمة والمحدة (لحيض) أو نفاس،
ولو كانت خلية أو بكرا. (أثره) أي أثر الدم (مسكا) فتجعله في قطنة وتدخلها الفرج بعد غسلها. وهو المراد بالأثر:
وهو بفتح الهمزة والمثلثة، ويجوز كسر الهمزة وإسكان الثاء، وذلك لما روى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: أن
امرأة جاءت إلى النبي (ص) تسأله عن الغسل من الحيض، فقال: خذي فرصة من مسك فتطهري بها
فقالت: كيف أتطهر بها؟ فقال (ص): سبحان الله، واستتر بثوبه - تطهري بها، فاجتذبتها عائشة فعرفتها
أنها تتبع بها أثر الدم. ويكره تركه بلا عذر كما في التنقيح. والمسك فارسي معرب: الطيب المعروف، وكانت العرب
تسميه المشموم، والنبي (ص) يسميه أطيب الطيب، رواه مسلم. (وإلا) أي وإن لم يتيسر بأن لم تجده أو لم تسمح به.
(فنحوه) مما فيه حرارة كالقسط والأظفار. فإن لم تجد طيبا فطينا، فإن لم تجده كفى الماء. أما المحرمة فيحرم عليها
الطيب بأنواعه، والمحدة تستعمل قليل أظفار أو قسط. قال المحاملي في المقنع: كل موضع أصابه الدم تتبعه بالطيب.
قال الدميري: وهو شاذ لا يعرف لغيره. والصحيح أو الصواب أن المقصود به تطبيب المحل ودفع الرائحة الكريهة
لا سرعة العلوق، فلذلك كان الأصح أنها تستعمله بعد الغسل. قال الزركشي: والمستحاضة ينبغي لها أن لا تستعمله لأنه
يتنجس بخروج الدم، فيجب غسله فلا تبقى فيه فائدة. (ولا يسن تجديده) أي الغسل لأنه لم ينقل، ولما فيه من المشقة.
(بخلاف الوضوء) فيسن تجديده إذا صلى بالأول صلاة ما كما قاله المصنف في باب النذر من زوائد الروضة وشرح المهذب
والتحقيق، وظاهره أنه لا فرق بين تحية المسجد وسنة الوضوء وغيرهما. فإن قيل: يتسلسل عليه الامر ويحصل له
مشقة. أجيب بأن هذا مفوض إليه إن أراد زيادة الاجر فعل، نعم إن عارضه فضيلة أول الوقت قدمت عليه لأنها
أولى منه كما أفتى به شيخي، أما إذا لم يصل به فلا يسن، فإن خالف وفعل لم يصح وضوؤه لأنه غير مطلوب، لما روى
أبو داود وغيره أنه (ص) قال: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات ولأنه كان في أول الاسلام يحب
الوضوء لكل صلاة فنسخ وجوبه وبقي أصل الطلب. وشمل إطلاقه تجديده لماسح الخف وتقدم في بابه، والوضوء
المكمل بالتيمم لجراحة ونحوها، وهو الظاهر كما نقله مجلي عن القفال وإن نظر فيه ابن الرفعة. (ويسن أن لا ينقص ماء
الوضوء) في معتدل الجسد (عن مد) تقريبا، وهو رطل وثلث بغدادي، (والغسل عن صاع) تقريبا وهو أربعة أمداد، لحديث
74

مسلم عن سفينة: أنه (ص) كان يغسله الصاع ويوضئه المد. أما من لم يعتدل جسده فيعتبر بالنسبة إلى جسده
(ص) كما قاله العز بن عبد السلام زيادة ونقصا. (ولا حد له) أي لماء الوضوء والغسل، فلو نقص عن ذلك
وأسبغ كفى. قال الشافعي: قد يرفق بالقليل فيكفي، ويخرق بالكثير فلا يكفي. وفي خبر أبي داود: أنه (ص)
توضأ بإناء فيه قدر ثلثي مد. وظاهر عبارة المصنف عدم النقص عن المد والصاع لا الاقتصار عليهما. وعبر آخرون بأنه
يندب المد والصاع، وقضيته أنه يندب الاقتصار عليهما. قال ابن الرفعة: ويدل له الخبر وكلام الأصحاب لأن الرفق
محبوب، وهذا هو الظاهر، وإن نازع الأسنوي، ابن الرفعة فيما نسبه للأصحاب. ولا تنحصر السنن فيما قاله المصنف، بل
يسن أن يستصحب النية إلى آخر الغسل، وأن لا يغتسل في الماء الراكد ولو كثر، أو بئر معينة كما في المجموع، بل
يكره ذلك لخبر مسلم: لا يغتسل أحدكم في الماء الراكد وهو جنب فقيل لأبي هريرة الراوي للحديث: كيف يفعل؟
قال: يتناوله تناولا. قال في المجموع: قال في البيان: والوضوء فيه كالغسل، وهو محمول كما قال شيخنا
على وضوء الجنب.
وإنما كره ذلك لاختلاف العلماء في طهورية ذلك الماء، أو لشبهه بالماء المضاف إلى شئ لازم كماء الورد، فيقال ماء
عرق أو وسخ. وينبغي أن يكون ذلك في غير المستبحر، وأن يكون اغتساله بعد بول لئلا يخرج بعده مني، وأن يأتي
بالتشهد المذكور في الوضوء عقبه. وحكم الموالاة هنا كحكمها في الوضوء، وأن يرتبه فيبدأ بعد الوضوء بأعضائه كما في
الروضة وغيرها لشرفها، ثم بالرأس، ثم بالبدن مبتدئا بأعلى ذلك بأن يفيض الماء على كل منهما مبتدئا بالأيمن من كل
منهما بالأعلى كما علم مما مر.
فائدة: قال في الاحياء: لا ينبغي أن يقلم أو يحلق أو يستحد أو يخرج دما أو يبين من نفسه جزءا وهو جنب،
إذ يرد إليه سائر أجزائه في الآخرة فيعود جنبا، ويقال: إن كل شعرة تطالب بجنابتها.
فرع: يجوز أن ينكشف للغسل في خلوة أو بحضرة من يجوز له نظره إلى عورته، والستر أفضل لقوله
(ص) لبهز بن حكيم: احفظ عورتك إلا من زوجك أو ما ملكت يمينك. قال: أرأيت إن كان أحدنا خاليا؟ قال: الله
أحق أن يستحيي منه الناس. فإن قيل: الله سبحانه وتعالى لا يحجب عنه شئ فما فائدة الستر له؟ أجيب بأن يرى
متأدبا بين يدي خالقه ورازقه. (ومن به) أي ببدنه شئ (نجس يغسله ثم يغتسل) لأنه أبلغ في التطهير. والنجس بفتح
الجيم: النجاسة. (ولا تكفي لهما غسلة) واحدة، (وكذا في الوضوء) لأنهما واجبان مختلفا الجنس فلا يتداخلان، وعلى هذا
تقديم إزالته شرط لا ركن. (قلت: الأصح تكفيه والله أعلم) كما لو اغتسل من جنابة وحيض، ولان واجبهما غسل العضو
وقد حصل، ومحل الخلاف إذا كان النجس حكميا كما في المجموع ويرفعهما الماء معا، وللسابعة في المغلظة حكم هذه الغسلة،
فإن كان النجس عينا ولم تزل بقي الحدث، أما غير السابعة في النجاسة المغلظة فلا يرتفع حدث ذلك المحل لبقاء نجاسته.
فإن قيل: قد جزم في الروضة والمنهاج تبعا للرافعي في غسل الميت بأن أقل الغسل استيعاب بدنه بالماء بعد إزالة النجاسة
مع أن الاكتفاء بالغسلة في الميت أولى، لأن النية لا تجب في غسله. أجاب الشارح في كتاب الجنائز بأنه مبني على
ما صححه الرافعي في الحي، وترك الاستدراك عليه للعلم به مما قدمه. وأجاب غيره بأن ما ذكراه في الجنائز ليس بصريح
في اشتراط تقدم إزالة النجاسة، لأن كلمة بعد لا تدل على الترتيب، فهي بمعنى مع كما في قوله تعالى: * (عتل بعد ذلك
زنيم) *، أي: مع ذلك زنيم، أي دعي في قريش. فيكون التقدير استيعاب بدنه مع إزالة النجاسة، ونظير ذلك
ما قاله المصنف في باب الوقف في قوله: وقفت على أولادي وأولاد أولادي بطنا بعد بطن أنه يقتضي التسوية بين الكل،
وهذا الجواب أظهر. وقيل: يفرق بين غسل الحي والميت بأن هذا آخر أحواله فاحتيط له فيراعى في حقه الأكمل كما
يجب تكفينه في ثلاثة أثواب لأنها حقه، حتى لو اتفق الورثة على ثوب واحد لم يجابوا إلى ذلك كما صححه في الروضة،
مع أن المصنف جزم بما جزم به الرافعي في صفة غسل الجنابة من شرح المهذب. (ومن اغتسل لجنابة) أو نحوها كحيض
75

(و) نحو (جمعة) كعيد بأن نواهما، (حصلا) أي غسلهما، كما لو نوى الفرض وتحية المسجد، وقيل: لا يحصل واحد منهما
لأن كل واحد منهما مقصود، بخلاف التحية لحصولها ضمنا، فعلى الأولى الأكمل أن يغتسل للجنابة ثم للجمعة كما نقله
في البحر عن الأصحاب. فإن قيل: قد صرحوا بأنه لو اجتمع جمعة وكسوف وقدم الكسوف ثم خطب ونوى
بخطبته خطبة الجمعة والكسوف لم يصح للتشريك بين فرض ونفل. أجيب بأن خطبة الجمعة في معنى الصلاة، ولهذا
اشترط فيها ما يشترط في الصلاة، فالتشريك بينها وبين الكسوف كالتشريك بين الظهر وسنته، بخلاف ما هنا فإن مبنى
الطهارات على التداخل. (أو لأحدهما حصل) غسله (فقط) اعتبارا بما نواه. وإنما لم يندرج النفل في الفرض لأنه مقصود
فأشبه سنة الظهر مع فرضه. فإن قيل: لو نوى بصلاته الفرض دون التحية حصلت التحية وإن لم ينوها، أو نوى رفع
الجنابة حصل الوضوء وإن لم ينوه. أجيب بأن القصد ثم إشغال البقعة بصلاة وقد حصل، وليس القصد هنا النظافة فقط
بدليل أنه يتيمم عند عجزه عن الماء ومن وجب عليه فرضه كغسلي جنابة وحيض كفاه الغسل لأحدهما، وكذا لو سن
في حقه سنتان كغسلي عيد وجمعة، ولا يضر التشريك بخلاف نحو الظهر مع سنته لأن مبنى الطهارات على التداخل
كما مر بخلاف الصلاة. (قلت: ولو أحدث ثم أجنب أو عكسه) أي أجنب ثم أحدث أو أجنب وأحدث معا، (كفى الغسل)
سواء أنوى الوضوء معه أم لا، غسل أعضاء الوضوء مرتبة أم لا. (على المذهب والله أعلم) لاندراج الوضوء في الغسل لأنه
(ص) قال: أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات فإذا أنا قد طهرت، رواه ابن ماجة وغيره عن جبير بن
مطعم. ولم يفصل (ص) مع أن الغالب أن الجنابة لا تتجرد عن الحدث فتداخلتا كالجنابة والحيض. وقد نبه
الرافعي على أن الغسل إنما يقع عن الجنابة، وأن الأصغر يضمحل معه أي لا يبقى له حكم، ولهذا عبر المصنف ب‍ كفى.
والثاني: لا يكفي وإن نوى معه الوضوء، بل لا بد من الوضوء معه. والثالث: إن نوى مع الغسل الوضوء كفى وإلا فلا.
وقيل: إن كان سبب اجتماعهما هو الجماع كفى وإلا فلا. وفي الصورة الثانية طريق قاطع بالاكتفاء لتقدم الأكبر فيها
فلا يؤثر بعده الأصغر، فقوله على المذهب إنما يأتي على اصطلاحه في الصورة الثانية فإنها ذات طرق، وأما الأولى ففيها
أوجه لا طرق. وأجاب الشارح عن هذا الاعتراض بقوله: فالطريقان في مجموع الصورتين من حيث الثانية لا في كل
منهما، أي لا في جميعهما، فيكفي في صدق كونه في المجموع كونه في بعض الافراد بخلاف كونه في الجميع.
تتمة: لو أحدث في أثناء غسله جاز أن يتمه ولا يمنع الحدث صحته، لكن لا يصلي به حتى يتوضأ، كذا في زوائد
الروضة. وهو محمول كما قال الأسنوي على ما إذا أحدث بعد فراغ أعضاء الوضوء، أما قبل الفراغ فيأتي ببقية أعضاء
الوضوء مرتبة ولا يحتاج إلى استئنافه.
خاتمة: يباح للرجال دخول الحمام ويجب عليهم غض البصر عما لا يحل لهم وصون عورتهم عن الكشف بحضرة
من لا يحل له النظر إليها وفي غير وقت الاغتسال كما علم مما مر، ونهيهم الغير عن كشف عورته وإن ظنوا أنه لا ينتهي،
وقد روي: أن الرجل إذا دخل الحمام عاريا لعنه ملكاه رواه القرطبي في تفسيره عند قوله تعالى: * (كراما كاتبين يعلمون
ما تفعلون) *. وروى النسائي والحاكم عن جابر أن النبي (ص) قال: حرام على الرجال دخول الحمام إلا بمئزر.
وأما النساء فيكره لهن بلا عذر لخبر: ما من امرأة تخلع ثيابها في غير بيتها إلا هتكت ما بينها وبين الله تعالى، رواه
الترمذي وحسنه. وروى أبو داود وغيره أنه (ص) قال: ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا
يقال لها الحمامات فلا يدخلنها الرجال إلا بالإزار وامنعوها النساء إلا مريضة أو نفساء. ولان أمرهن مبني على
المبالغة
في الستر، ولما في خروجهن واجتماعهن من الفتنة والشر. قال شيخنا: والخناثي كالنساء فيما يظهر. ويجب أن لا يزيد
في الماء على قدر الحاجة ولا العادة، وآدابه أن يقصد التطهير والتنظيف لا الترفه والتنعيم، وأن يسلم الأجرة قبل دخوله، وأن
يسمي للدخول ثم يتعوذ كما في دخول الخلاء، وكذا في تقديم رجله اليسرى دخولا واليمنى خروجا، وأن يتذكر بحرارته
حرارة نار جهنم لشبهه بها، وأن لا يدخله إذا رأى فيه عريانا، وأن لا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في الأول وأن لا يكثر
76

الكلام، وأن يدخل وقت الخلوة أو يتكلف إخلاء الحمام إن قدر على ذلك، فإنه وإن لم يكن فيه إلا أهل الدين فالنظر
إلى الأبدان مكشوفة فيه شوب من قلة الحياء، وأن يستغفر الله تعالى ويصلي ركعتين بعد خروجه منه، فقد كانوا يقولون:
يوم الحمام يوم إثم. ويكره دخوله قبيل الغروب وبين العشاءين لأنه وقت انتشار الشياطين، وللصائم. ومن جهة الطب
صب الماء البارد على الرأس وشربه عند خروجه منه، ولا بأس بدلك غيره إلا عورة أو مظنة شهوة. قال في المجموع: ولا بأس
بقوله لغيره: عافاك الله، ولا بالمصافحة. ويسن لمن يخالط الناس التنظف بالسواك وإزالة شعر وريح كريهة وحسن الأدب معهم.
باب النجاسة:
وفي الباب إزالتها، ولو ذكره في الترجمة أو اقتصر عليه كما في التنبيه لكان أولى لأنه اللائق بكتاب الطهارة. وإزالة
النجاسة متوقفة على معرفة النجاسة فتذكر تبعا، وهي لغة كل ما يستقذر، وشرعا: مستقذر يمنع من صحة الصلاة حيث
لا مرخص. وعرفها بعضهم بكل عين حرم تناولها مطلقا في حالة الاختيار مع سهولة تمييزها وإمكان تناولها لا لحرمتها
ولا لاستقذارها ولا لضررها في بدن أو عقل، فاحترز بمطلقا عما يباح قليله كبعض النباتات السمية، وبحالة الاختيار
عن حالة الضرورة فيباح فيها تناول النجاسة، وبسهولة تمييزها عن دود الفاكهة ونحوها فيباح تناوله معها، وهذان القيدان
للادخال لا للاخراج، وبإمكان تناولها عن الأشياء الصلبة كالحجر، وبالبقية عن الآدمي وعن المخاط ونحوه، وعن الحشيشة
المسكرة والسم الذي يضر قليله وكثيره والتراب فإنه لم يحرم تناولها لنجاستها، بل حرمة الآدمي واستقذار
المخاط ونحوه
وضرر البقية. قال الزركشي: واعلم أن الاخراج بعدم الاستقذار مضر، فإنه وإن أخرج المخاط ونحوه فإنه يخرج غالب
النجاسات من العذرة والبول والقئ والقيح ونحو ذلك، فإنها مستقذرة وحرمت لاستقذارها وكلها نجسة. وعرفها المصنف
كأصله بالعد فقال: (هي كل مسكر مائع) لكن ظاهره حصرها فيما عده، وليس مرادا، لأن منها أشياء لم يذكرها وسأنبه
على بعضها، فلو ذكر لها ضابطا إجماليا كما تقدم لكان أولى، بل قال ابن النقيب: فيما ذكره تجوز لأن النجاسة حكم
شرعي فكيف تفسر بالأعيان بل ما ذكر حد للنجس لا للنجاسة اه‍. وشملت عبارة المصنف الخمر، وهي المتخذة
من ماء العنب ولو محترمة وبباطن عنقود ومثلثة وهي المغلي من ماء العنب حتى صار على الثلث، والنبيذ: وهو المتخذ
من ماء الزبيب أو نحوه. أما الخمر فلقوله تعالى: * (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس) * والرجس في عرف الشرع
هو النجس صد عما عداها الاجماع فبقيت هي. واستدل على نجاستها الشيخ أبو حامد بالاجماع. وحمل على إجماع
الصحابة، ففي المجموع عن ربيعة شيخ مالك أنه ذهب إلى طهارتها، ونقله بعضهم عن الحسن والليث. واستدل بعضهم على نجاستها
بأنها لو كانت طاهرة لفات الامتنان بكون شراب الآخرة طهورا. وقد قال تعالى: * (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) *، أي طاهرا،
وعبر بطهورا للمبالغة في طهارته بخلاف خمر الدنيا. وأما النبيذ فبالقياس على الخمر مع التنفير عن المسكر، وخالف في ذلك
أبو حنيفة، ودليلنا ما ذكر. والخمر المحترمة قالا في الغصب: هي ما عصرت لا بقصد الخمرية، وفي الرهن: ما عصرت
بقصد الخلية، والأول أوجه وأعم. والخمر مؤنثة وتذكيرها لغة ضعيفة وتلحقها التاء على قلة. والتقييد بالمائع من زيادته ذكر
بغير تمييز، وخرج به البنج ونحوه من الحشيش المسكر فإنه ليس بنجس وإن كان حراما، قاله في الدقائق. فإن قيل:
كان ينبغي للمصنف أن يقيدها بالأصالة لئلا يرد عليه الخمر إذا جمدت والحشيشة إذا أذيبت. أجيب بأن الخمر مائعة
في الأصل وقد حكم بنجاستها وهي مائعة ولم يحدث ما يطهرها بخلاف الحشيش المذاب.
فائدة: قال بعض المتعنتين: إن الكشك نجس لأنه يتخمر كالبوظة، ثم قال: وهل يكون جفافه كالتخلل في الخمر
فيطهر أو يكون كالخمر المعقودة فلا يطهر؟ قال شيخي: لا اعتبار بقول هذا القائل، فإنه لو فرض أنه صار مسكرا لكان
طاهرا لأنه ليس بمائع اه‍. ويؤخذ منه أن البوظة طاهرة، وهو كذلك. فإن قيل: كان ينبغي للمصنف أن يقول مسكر الجنس
77

لئلا ترد عليه القطرة من الخمر مثلا. أجيب بأنه سيذكر في باب الأشربة أن ما أسكر كثيره حرم عليه وحد شاربه، فعلم
من ذلك نجاسة القليل كالكثير للتسوية بينهما فيما ذكر. ثم اعلم أن الأعيان جماد وحيوان، فالجماد كله طاهر لأنه خلق
لمنافع العباد ولو من بعض الوجوه، قال تعالى: * (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا. وإنما يحصل الانتفاع أو يكمل
بالطهارة إلا ما نص الشارع على نجاسته، وهو ما ذكره المصنف فيما مر بقوله: كل مسكر مائع. وكذا الحيوان كله
طاهر لما مر، إلا ما استثناه الشارع أيضا، وقد نبه المصنف على ذلك بقوله: (وكلب) ولو معلما، لخبر مسلم: طهور إناء أحدكم
إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب وجه الدلالة أن الطهارة إما لحدث أو خبث أو تكرمة، ولا
حدث على الاناء ولا تكرمة فتعين طهارة الخبث فثبتت نجاسة فمه، وهو أطيب أجزائه، بل هو أطيب الحيوان نكهة
لكثرة ما يلهث فبقيته أولى، وفي الحديث: أنه (ص) دعي إلى دار قوم فأجاب ثم دعي إلى دار أخرى فلم يجب، فقيل له في ذلك فقال:
إن في دار فلان كلبا. قيل له: وإن في دار فلان هرة، فقال: إن الهرة ليست بنجسة رواه الدارقطني والحاكم، فأفهم
أن الكلب نجس. وأدخل شيخنا فيما تقدم أو تكرمة لأجل دخول غسل الميت، وقول بعضهم وليست في كلام
الأصحاب مع أنه لا يحتاج إليها، لأن غسله من القسم الأول كما يؤخذ من كلامهم، ممنوع، بل قال في المجموع: وإنما يجب
غسل الميت تنظيفا وإكراما. (وخنزير) لأنه أسوأ حالا من الكلب لأنه لا يقتنى بحال. ونقض هذا التعليل بالحشرات
ونحوها، ولذلك قال المصنف: ليس لنا دليل واضح على نجاسته، لكن ادعى ابن المنذر الاجماع على نجاسته وعورض بمذهب مالك،
ورواية عن أبي حنيفة بأنه طاهر، ويرد النقض بأنه مندوب إلى قتله بلا ضرر فيه، ولأنه يمكن الانتفاع به بحمل شئ
عليه ولا كذلك الحشرات فيهما، وقال تعالى: * (أو لحم خنزير فإنه رجس) * والمراد جملته، لأن لحمه دخل في عموم الميتة.
(وفرعهما) أي فرع كل منهما مع الآخر أو مع غيره من الحيوانات الطاهرة ولو آدميا، كالمتولد مثلا بين ذئب وكلبة تغليبا
للنجاسة ولتولدها منها، والفرع يتبع الأب في النسب، والام في الرق والحرية، وأشرفهما في الدين وإيجاب البدل وتقرير
الجزية وأخفهما في عدم وجوب الزكاة وأخسهما في النجاسة وتحريم الذبيحة والمناكحة. (وميتة غير الآدمي والسمك
والجراد) وإن لم يسل دمها لحرمة تناولها، قال تعالى: * (حرمت عليكم الميتة) * وتحريم ما ليس بمحترم ولا مستقذر ولا ضرر
فيه يدل على نجاسته. والميتة ما زالت حياته لا بذكاة شرعية كذبيحة المجوسي والمحرم بضم الميم، وما ذبح بالعظم، وغير
المأكول إذا ذبح، ودخل الجنين فإن ذكاته بذكاة أمه، وصيد لم تدرك ذكاته والبعير الناد والمتردي إذا ماتا بالسهم.
ودخل في نجاسة الميتة جميع أجزائها من عظم وشعر وصوف ووبر وغير ذلك، لأن كلا منها تحله الحياة. ودخل في
ذلك ميتة دود نحو خل وتفاح فإنها نجسة، لكن لا تنجسه لعسر الاجتراز عنها ويجوز أكله معه لعسر تمييزه. أما الآدمي
فإنه لا ينجس بالموت على الأظهر لقوله تعالى: * (ولقد كرمنا بني آدم) * وقضية التكريم أن لا يحكم بنجاسته بالموت وسواء
المسلم وغيره. وأما قوله تعالى: * (إنما المشركون نجس) * فالمراد به نجاسة الاعتقاد أو اجتنابهم كالنجس، لا نجاسة الأبدان. وأما
خبر الحاكم: لا تنجسوا موتاكم فإن المسلم لا ينجس حيا ولا ميتا فجرى على الغالب، ولأنه لو تنجس بالموت لكان
نجس العين كسائر الميتات، ولو كان كذلك لم يؤمر بغسله كسائر الأعيان النجسة. فإن قيل: ولو كان طاهرا لم يؤمر
بغسله كسائر الأعيان الطاهرة. أجيب بأنه عهد غسل الطاهر بدليل المحدث بخلاف نجس العين. القول الثاني: أنه ينجس
لأنه طاهر في الحياة غير مأكول فأشبه سائر الميتات. ورد بما تقدم، والخلاف في غير ميتة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،
وألحق ابن العربي المالكي بهم الشهداء، وأما ميتة السمك والجراد فللاجماع على طهارتهما. ولقوله (ص):
أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد والكبد والطحال وقوله (ص) في البحر: هو الطهور ماؤه الحل ميتته
والمراد بالسمك كل ما أكل من حيوان البحر وإن لم يسم سمكا كما سيأتي إن شاء الله تعالى في باب الأطعمة، والجراد اسم
جنس واحدته جرادة تطلق على الذكر والأنثى. (و) المستحيل في باطن الحيوان نجس، وهو (دم) ولو
تحلب من كبد أو
طحال لقوله تعالى: * (حرمت عليكم الميتة والدم) * أي الدم المسفوح، لقوله تعالى: * (أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه
78

رجس) * ولخبر: اغسلي عنك الدم وصلي. وأما الدم الباقي على اللحم وعظامه فقيل إنه طاهر، وهو قضية كلام المصنف
في المجموع، وجرى عليه السبكي، ويدل له من السنة قول عائشة رضي الله عنها: كنا نطبخ البرمة على عهد رسول
الله (ص) تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ينكره. وظاهر كلام الحليمي وجماعة أنه نجس معفو عنه. وهذا هو
الظاهر لأنه دم مسفوح وإن لم يسل لقلته، ولا ينافيه ما تقدم من السنة. ولا يستثنى من ذلك المني إذا خرج دما، لأنه مني وإن
كان أحمر والصفرة والكدرة ليستا بدم وهما نجسان. (وقيح) لأنه دم مستحيل لا
يخالطه دم، وصديد: وهو ماء رقيق يخالطه دم، وماء قروح ونفاطات إن تغيرت رائحته كما سيأتي إن شاء الله تعالى في شروط الصلاة. (وقئ) وإن لم يتغير، وهو
الخارج من المعدة، لأنه من الفضلات المستحيلة كالبول. وقيل: غير المتغير متنجس لا نجس، ومال إليه الأذرعي. أما الراجع
من الطعام وغيره قبل وصوله إلى المعدة فليس بنجس. والبلغم الصاعد من المعدة نجس بخلاف النازل من الرأس أو من
أقصى الحلق والصدر فإنه طاهر. والماء السائل من فم النائم إن كان من المعدة كأن خرج منتنا بصفرة فنجس، لا إن
كان من غيرها أو شك في أنها منها أو لا فإنه طاهر، وقيل: إن كان متغيرا فنجس وإلا فطاهر. فإن ابتلي به شخص لكثرته
منه، قال في الروضة: فالظاهر العفو. والجرة نجسة، وهي بكسر الجيم ما يخرجه البعير أو غيره للاجترار، وكذا المرة وهي
بكسر الميم ما في المرارة. والزباد طاهر، قال في المجموع: لأنه إما لبن سنور جرى كما قاله الماوردي أو عرق سنور بري
كما سمعته من ثقات من أهل الخبرة بهذا، لكن يغلب اختلاطه بما يتساقط من شعره فليحترز عما وجد فيه، فإن الأصح
منع أكل البري، وينبغي العفو عن قليل شعره كما بحثه صاحب العباب، وليحترز أيضا أن يصيب النجاسة التي على دبره
فإن العرق المذكور من نقرتين عند دبره لا من سائر جسده كما أخبرني بذلك من أثق به. وأما المسك فهو أطيب الطيب كما
رواه مسلم، وفأرته طاهرة، وهي خراج بجانب سرة الظبية كالسلعة فتحتك حتى تلقيها، وقيل إنها في جوفها
كالإنفحة
تلقيها كالمشية. ولو انفصل كل من المسك والفأرة بعد الموت فنجس كاللبن والشعر. واختلفوا في العنبر، فمنهم من قال:
إنه نجس لأنه مستخرج من بطن دويبة لا يؤكل لحمها، ومنهم من قال: إنه طاهر لأنه ينبت في البحر ويلفظه، وهذا هو
الظاهر. (وروث) بالمثلثة ولو من سمك وجراد، لما روى البخاري: أنه (ص) لما جئ له بحجرين وروثة ليستنجي
بها أخذ الحجرين ورد الروثة وقال: هذا ركس والركس النجس. والعذرة والروث قيل مترادفان، وقال المصنف في
دقائقه: العذرة مختصة بفضلة الآدمي، والروث أعم، قال الزركشي: وقد يمنع، بل وهو مختص بغير الآدمي. ثم نقل عن صاحب
المحكم وابن الأثير ما يقتضي أنه مختص بذي الحافر، قال: وعليه فاستعمال الفقهاء له في سائر البهائم توسع. (وبول) للامر
بصب الماء عليه في بول الاعرابي في المسجد، رواه الشيخان. وقوله (ص) في حديث القبرين: أما أحدهما فكان
لا يستنزه من البول رواه مسلم، وقيس به سائر الأبوال. وأما أمره (ص) العرنيين بشرب أبوال الإبل فكان للتداوي،
والتداوي بالنجس جائز عند فقد الطاهر الذي يقوم مقامه. وأما قوله (ص): لم يجعل الله شفاء أمتي فيما حرم عليها
فمحمول على الخمر. (ومذي) وهو بالمعجمة: ماء أبيض رقيق يخرج بلا شهوة قوية عند ثورانها، للامر بغسل الذكر منه
في خبر الصحيحين في قصة علي رضي الله تعالى عنه. (وودي) وهو بالمهملة: ماء أبيض كدر ثخين يخرج عقب البول أو
عند حمل شئ ثقيل، قياسا على ما قبله وإجماعا. وهذه الفضلات من النبي (ص) طاهرة كما جزم به البغوي
وغيره وصححه القاضي وغيره، وأفتى به شيخي خلافا لما في الشرح الصغير والتحقيق من النجاسة، لأن بركة الحبشية
شربت بوله (ص) فقال: لن تلج النار بطنك، صححه الدارقطني. وقال أبو جعفر الترمذي: دم النبي
(ص) طاهر، لأن أبا طيبة شربه، وفعل مثل ذلك ابن الزبير وهو غلام حين أعطاه النبي (ص) دم
حجامته ليدفنه فشربه، فقال له النبي (ص): من خالط دمه دمي لم تمسه النار. واختلف المتأخرون في حصاة
تخرج عقب البول في بعض الأحيان، وتسمى عند العامة بالحصية، هل هي نجسة أو متنجسة تطهر بالغسل؟ والذي يظهر
فيها ما قال بعضهم، وهو إن أخبر طبيب عدل بأنها منعقدة من البول فهي نجسة وإلا فمتنجسة. (وكذا مني غير
الآدمي)
79

ونحو الكلب (في الأصح) كسائر المستحيلات. أما مني نحو الكلب فنجس بلا خلاف. وأما مني الآدمي فطاهر على الأظهر،
لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها: أنها كانت تحك المني من ثوب رسول الله (ص) ثم يصلي فيه متفق عليه، وفي
رواية: كنت أحكه من ثوبه وهو يصلي فيه رواها ابنا خزيمة وحبان في صحيحهما. ومعلوم أن هذا إنما يأتي على القول
بنجاسة فضلاته (ص)، أما على القول بطهارتها فلا ينهض ذلك دليلا على الخصم فلعله يقول به. والثاني: وأنه
نجس مطلقا، لأنه يستحيل في الباطن فأشبه الدم. والثالث: أن مني المرأة نجس بناء على نجاسة رطوبة فرجها، وألحق مني
الخنثى بمني المرأة على هذا القول. ولو بال الرجل ولم يغسل ذكره تنجس منيه وإن استنجى بالحجر بملاقاة المنفذ لا أن مجراهما
واحد كما قيل، فقد حكى القاضي أبو الطيب أنه قد شق ذكر بالروم فوجد مختلفا، ولو ثبت اتحادهما لم تلزم النجاسة
لأن تلاقيهما في الباطن لا يؤثر، وإنما يؤثر تلاقيهما في الظاهر. ولو استنجت المرأة بالأحجار ثم جامعها الرجل فمنيهما
متنجس ويحرم عليه ذلك لأنه ينجس ذكره. وينجس دود منيه وحب روث وقئ فيه قوة الانبات وإلا فنجس العين
كما عرف مما مر قلت: الأصح طهارة مني غير الكلب والخنزير وفرع أحدهما والله أعلم، لأنه أصل حيوان طاهر
فأشبه مني الآدمي. ويستحب غسل المني كما في المجموع، للأخبار الصحيحة فيه وخروجا من الخلاف. والثاني: أنه طاهر
من المأكول، نجس من غيره كلبنه والبيض المأخوذ من حيوان طاهر ولو من غير مأكول طاهر، وكذا المأخوذ من
ميتة إن تصلب. وبزر القز وهو البيض الذي يخرج منه دود القز ولو استحالت البيضة دما فهي طاهرة على ما صححه
المصنف في تنقيحه هنا وصحح في شروط الصلاة منه، وفي التحقيق وغيره أنها نجسة، قال شيخنا: وهو ظاهر على القول
بنجاسة مني غير الآدمي، وأما على غيره فالأوجه حمله على ما إذا لم يستحل حيوانا، والأول على خلافه.
فائدة: يقال مذرت البيضة بالذال المعجمة إذا فسدت، وفي الحديث: شر النساء المذرة الوذرة أي الفاسدة
التي لا تستحي عند الجماع. ولبن ما لا يؤكل غير لبن الآدمي كلبن الأتان لأنه يستحيل في الباطن كالدم. أما
لبن ما يؤكل لحمه كلبن الفرس وإن ولدت بغلا فطاهر، قال تعالى: * (لبنا خالصا سائغا للشاربين) * وكذا لبن الآدمي،
إذ لا يليق بكرامته أن يكون منشؤه نجسا. وكلامهم شامل للبن الميتة، وبه صرح في المجموع نقلا عن الروياني، قال: لأنه
في إناء طاهر، ولبن الذكر والصغيرة، وهو المعتمد الموافق لتعبير الصيمري بقوله: ألبان الآدميين والآدميات لم يختلف
المذهب في طهارتها وجواز بيعها، وقال الزركشي: إنه الصواب. وقول القاضي أبي الطيب وابن الصباغ: لبن الميتة والذكر
نجس، مفرع على نجاسة ميتة الآدمي كما أفاده الروياني. ولو خرج اللبن على لون الدم فالقياس طهارته، كما لو خرج المني
على هيئة الدم، هذا إذا كانت خواص اللبن موجودة فيه كما قاله في الخادم. والإنفحة: وهي بكسر الهمزة وفتح الفاء
وتخفيف الحاء على الأفصح: لبن في جوف نحو سخلة في جلدة تسمى إنفحة أيضا إن أخذت من حيوان مأكول بعد
ذبحه لم يطعم غير اللبن طاهرة للحاجة إليها في عمل الجبن، بخلاف ما إذا أخذت من ميت أو من مذبوح أكل
غير اللبن على الأصل في المستحيلات في الباطن. وقول الزركشي: أو أكل لبنا نجسا كلبن أتان مخالف لكلامهم،
قال شيخي: لأن الباطن يحيل ما يدخله بمجرد وصوله إليه، فلا فرق بين النجس وغيرها. وهل يقال إن البهيمة إذا
طعمت شيئا للتداوي لا يضر ذلك في طهارة الإنفحة كما قالوا في الصبي الذي لم يطعم غير اللبن أن ذلك لا يضر في أجزاء
الرش من بوله أو لا؟ الظاهر الثاني، لأنها تصير بذلك كرشا لا إنفحة، ولذلك لم يقيد سنها بالحولين كالصبي، لأن المعول
فيه على التغذي وعدمه، وشربه بعد الحولين يسمى تغذيا، والمعول عليه فيها ما يسمى إنفحة، وهي ما دامت تشرب اللبن
لا تخرج عن ذلك. (والجزء المنفصل من) الحيوان (الحي) ومشيمته (كميتته) أي ذلك الحي، إن طاهرا فطاهر
وإن نجسا فنجس، لخبر، ما قطع من حي فهو ميتة رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين. فالمنفصل من الآدمي
أو السمك أو الجراد طاهر ومن غيرها نجس، وسواء في المشيمة، وهي غلاف الوالد، مشيمة الآدمي وغيره. أما المنفصل
80

منه بعد موته فحكمه حكم ميتة بلا شك. (إلا شعر) أو صوف أو ريش أو وبر (المأكول فطاهر) بالاجماع، ولو نتف
منها أو انتتف، قال تعالى: * (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين) *، وهو محمول على ما إذا أخذ بعد
التذكية أو في الحياة كما هو المعهود، وذلك مخصص للخبر السابق. أما المنفصل من غير المأكول كالحمار الأهلي فنجس،
ولو شككنا فيما ذكر هل انفصل من طاهر أو من نجس حكمنا بطهارته، لأن الأصل الطهارة وشككنا في النجاسة والأصل
عدمها، بخلاف ما لو رأينا قطعة لحم وشككنا هل هي من مذكاة أو لا، لأن الأصل عدم التذكية. والشعر على العضو
المبان نجس إن كان العضو نجسا تبعا له، وشعر المأكول المنتتف الطالع بأصوله من الجلد في حال حياته طاهر، فإن انفصل
أصله مع شئ مما نبت فيه من الجلد وفيهما رطوبة، قال شيخي: فهو متنجس يطهر بغسله. (وليست العلقة) وهي الدم
الغليظ المستحيل من الدم في الرحم، سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه، (والمضغة) وهي العلقة تستحيل فتصير قطعة
لحم، وسميت بذلك لأنها صغيرة بقدر ما يمضغ، قاله الزمخشري. (ورطوبة الفرج) من حيوان طاهر ولو غير مأكول من آدمي
أو غيره. (بنجس) بفتح الجيم (في الأصح) بل طاهرة، لأن الأولين أصل حيوان طاهر كالمني، والثالث كعرقه والقائل
بالنجاسة يلحق الأولى بالدم والثانية بالميتة، ويقول: الثالثة متولدة من محل النجاسة ينجس بها ذكر المجامع والبيض الخارج
من المحل، فيجب غسل الذكر وغسل البيض، ولا يجب غسل الولد إجماعا. قال في المجموع: ورطوبة الفرج ماء أبيض
متردد بين المذي والعرق، وأما الرطوبة الخارجة من باطن الفرج فنجسة، وظاهر كلامه أنه لا فرق بين اللاصقة لقلتها وبين
غيرها، وهو كذلك وإن قيدها في الأنوار باللاصقة، وسكت عليه في شرح التنبيه. والشارح قيد الثلاثة بكونها من الآدمي ليفيد
به مع قوله آخر المقالة والثلاثة من غير الآدمي أولى بالنجاسة أن الخلاف في الثلاثة جار، سواء أكانت من الآدمي أم من غيره، وأن
مقابل الأصح في الثلاثة من غير الآدمي أقوى من مقابله فيها من الآدمي، لأن الحكم مختلف بين الآدمي وغيره من الحيوانات الطاهرة
فلا يخالف ما قررته، بل كان ينبغي للمصنف على إصلاحه أن يعبر في رطوبة الفرج بالأظهر لأن الخلاف فيها قولان منصوصان. فرع:
دخان النجاسة نجس يعفى عن قليله وعن يسيره عرفا من شعر نجس من غير نحو كلب، ويعفى عن كثيره
من مركوب لعسر الاحتراز عنه. أما شعر نحو الكلب فلا يعفى عن شئ منه، ويعفى عن روث سمك فلا ينجس الماء
لتعذر الاحتراز عنه ما لم يغيره فإن غيره نجسه. وبخار النجاسة إن تصاعد بواسطة نار نجس، لأن أجزاء النجاسة تفصلها
النار بقوتها فيعفى عن قليله وإلا بأن كان كالبخار الخارج من نجاسة الكنيف فطاهر كالريح الخارج من الدبر كالجشاء،
وبهذا جمع بعضهم بين كلامي من أطلق الطهارة كبعض المتأخرين وبين من أطلق النجاسة. وقال الحليمي: إذا خرج
من الانسان ريح وكانت ثيابه مبلولة تنجست وإن كانت يابسة فلا، قال: وكذلك دخان كل نجاسة أصاب شيئا رطبا كما
إذا دخل اصطبلا راثت فيه دواب وتصاعد دخانه فإن أصاب رطبا نجسه اه‍. والأوجه الجمع. ولما يغلب ترشحه كالدمع
والعرق والمخاط واللعاب حكم حيوانه طهارة ونجاسة لخبر مسلم: أنه (ص) ركب فرسا معرورا وركضه
ولم يجتنب عرقه ويقاس به غيره مما في معناه، والزرع النابت على نجاسة طاهر العين ويطهر ظاهره بالغسل، وإذا سنبل
فحبه طاهر بلا غسل، وكذا القثاء ونحوها وأغصان شجرة سقيت بماء نجس وثمرها. (ولا يطهر نجس العين) بغسل ولا
باستحالة، كالكلب إذا وقع في ملاحة فصار ملحا، أو احترق فصار رمادا، أما المتنجس فسيأتي. (إلا) شيئان: أحدهما (خمر)
ولو غير محترمة (تخللت) بنفسها فتطهر، لأن علة النجاسة والتحريم الاسكار وقد زال، ولان العصير غالبا لا يتخلل
إلا بعد التخمر. فلو لم نقل بالطهارة لتعذر إيجاد حل الخل وهو حلال إجماعا ويطهر دنها معها، وإن غلت حتى ارتفعت
وتنجس بها ما فوقها منه ويشرب منها للضرورة. (وكذا إن نقلت من شمس إلى ظل وعكسه) وإن كان لأجل الخلل
أو فتح رأس الدن لزوال الشدة من غير نجاسة خلفتها تطهر، (في الأصح) لما مر. والثاني: لا تطهر لما سيأتي. (فإن خللت
بطرح شئ) فيها كالبصل والخبز الحار ولو قبل التخلل، (فلا)
81

تطهر لتنجس المطروح بها فينجسها بعد انقلابها خلا، وقيل: لاستعجاله بالمعالجة المحرمة فعوقب بضد قصده، وينبغي
على العلتين الخلاف في مسألة النقل المذكورة. فإن قيل: لو عبر بالوقوع بدل الطرح لكان أولى لئلا يرد عليه ما لو وقع فيها
شئ بغير طرح كإلقاء ريح فإنها لا تطهر معه على الأصح. أجيب بأنه إنما ذكر ذلك لأجل الخلاف القائل بالمعالجة
المحرمة وإن كان الحكم فيما ذكر كذلك. نعم لو عصر العنب ووقع منه بعض حبات في عصيره لم يمكن
الاحتراز عنها
ينبغي أنها لا تضر، ولو نزع العين الطاهرة منها قبل التخلل لم يضر لفقد العلة بخلاف العين النجسة، لأن النجس يقبل
التنجيس فلا يطهر بالتخلل، ولو ارتفعت بلا غليان بل بفعل فاعل لم يطهر الدن إذ لا ضرورة، ولا الخل لاتصالها بالمرتفع
النجس. فلو غمر المرتفع بخمر طهرت بالتخلل ولو بعد جفافه خلافا للبغوي في تقييده بقبل الجفاف، ولو نقلت من دن إلى آخر
طهرت بالتخلل بخلاف ما لو أخرجت منه ثم صب فيه عصير فتخمر ثم تخلل. والخمر هي المشتدة من ماء العنب كما مر.
ويؤخذ من الاقتصار عليها أن النبيذ وهو المتخذ من غير العنب كالتمر لا يطهر بالتخلل، وبه صرح القاضي أبو الطيب،
لتنجس الماء به حالة الاشتداد فينجسه بعد الانقلاب خلا. وقال البغوي: يطهر، واختاره السبكي، لأن الماء من
ضرورته، وهذا هو المعتمد. ويدل له ما صرحوا به في باب الربا من أنه لو باع خل تمر بخل عنب أو خل زبيب بخل غالب
رطب صح، ولو اختلط عصير بخل مغلوب ضر لأنه لقلة الخل فيه يتخمر فيتنجس به بعد تخلله، أو بخل غالب فلا يضر
لأن الأصل والظاهر عدم التخمر، وأما المساوي فينبغي إلحاقه بالخل الغالب لما ذكر.
فائدة: قال الحليمي: قد يصير العصير خلا من غير تخمر في ثلاث صور: إحداها: أن يصب في الدن المعتق بالخل.
ثانيها: أن يصب الخل في العصير فيصير بمخالطته خلا من غير تخمر، لكن محله كما علم مما مر أن لا يكون العصير غالبا.
ثالثها: إذا تجردت حبات العنب من عناقيده ويملا منها الدن ويطين رأسه، ويجوز إمساك ظروف الخمر والانتفاع بها واستعمالها
إذا غسلت وإمساك المحترمة لتصير خلا، وغير المحترمة يجب إراقتها، فلو لم يرقها فتخللت طهرت على الصحيح كما مر.
(و) ثانيهما: (جلد نجس بالموت) ولو من غير مأكول، (فيطهر بدبغه) يعني باندباغه ولو بإلقاء الدابغ عليه بنحو ريح
أو إلقائه على الدابغ كذلك. (ظاهره) وهو ما لاقى الدابغ، لقوله (ص): أيما إهاب دبغ فقد طهر رواه
مسلم، وفيه وفي البخاري: هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به. (وكذا باطنه) وهو ما لم يلاق الدابغ، (على
المشهور) لظاهر الخبرين المتقدمين. والثاني: يقول آلة الدبغ لا تصل إلى الباطن، ودفع بأنها تصل إليه بواسطة الماء أو
رطوبة الجلد، فعلى الثاني لا يصلى فيه ولا يباع ولا يستعمل في الشئ الرطب. وأما على الأول فهو كالثوب
المتنجس
كما سيأتي. وخرج بالجلد الشعر لعدم تأثره بالدبغ، ويؤخذ مما مر من أنه يطهر بالدبغ باطن الجلد أنه لو نتف الشعر
بعد الدبغ صار موضعه متنجسا يطهر بالغسل وهو كذلك. قال المصنف: ويعفى عن قليله فيطهر تبعا. واستشكله
الزركشي بأن ما لا يتأثر بالدبغ كيف يطهر قليله وأجاب بأن قوله يطهر، أي يعطى حكم الطاهر اه‍. وهذا مأخوذ من قوله ويعفى،
وهذا هو الظاهر. وبعضهم وجه كلام المصنف بأنه يطهر تبعا للمشقة، وقال السبكي: الذي اختاره وأفتي به أن الشعر
يطهر مطلقا لخبر في صحيح مسلم اه‍. وينجس بالموت جلد نحو الكلب فإنه لا يطهر بالدباغ لأن الحياة في إفادة الطهارة
أبلغ من الدبغ، والحياة لا تقيد طهارته. (والدبغ نزع فضوله) وهي مائيته ورطوباته التي يفسده بقاؤها ويطيبه نزعها،
بحيث لو تقع في الماء لم يعد إليه النتن والفساد. وذلك إنما يحصل (بحريف) بكسر الحاء المهملة وتشديد الراء: ما يحرف
الفم، أي يلذع اللسان بحرافته - قاله الجوهري - كالقرظ والعفص وقشور الرمان والشث بالمثلثة، وهو شجر مر الطعم
طيب الريح يدبغ به، والشب بالموحدة من جواهر الأرض معروف يشبه الزاج يدبغ به أيضا، ولا فرق في ذلك بين
الطاهر كما مر، والنجس كذرق الطيور. (لا شمس وتراب) وتجميد وتمليح مما لا ينزع الفضول وإن جف الجلد وطابت
رائحته، لأن الفضلات لم تزل وإنما جمدت، بدليل أنه لو تقع في الماء عادت إليه العفونة. (ولا يجب الماء في أثنائه) أي
82

الدبغ (في الأصح) تغليبا لمعنى الإحالة، ولحديث مسلم: إذا دبغ الإهاب فقد طهر. والثاني: يجب، تغليبا لمعنى الإزالة،
ولقوله (ص) في الحديث الآخر: يطهرها أي الإهاب الماء والقرظ وحمله الأول على الندب. والخلاف مبني على
أن الدباغ إحالة فلا يشترط وهو الأصح، أو إزالة فيشترط. (و) يصير (المدبوغ) والمندبغ (كثوب نجس) أي متنجس
لملاقاته للأدوية النجسة أو التي تنجست به قبل طهر عينه، فيجب غسله لذلك. وإذا أوجبنا الماء في أثناء الدباغ فلم يستعمله
فإنه يكون نجس العين، وعلى هذا هل يطهر بمجرد نقعه في الماء أو لا بد من استعمال الأدوية ثانيا؟ وجهان، أصحهما
في زيادة الروضة: الثاني، والمراد نقعه في ماء كثير. وإذا لم نوجبه فيصلي فيه بعد غسله ويجوز بيعه وإن لم يغسله ما لم يمنع
من ذلك مانع. ولا يحل أكله سواء أكان من مأكول اللحم أم من غيره لخبر الصحيحين: إنما حرم من الميتة أكلها.
فإن قيل: يرد على حصر المصنف فيما ذكره المسك واللبن والمني، فإنها كانت دما نجس العين وصارت طاهرة. أجيب
بأن أصلها لا يحكم عليه بالنجاسة ما دام في الجوف وما لم يتصل بخارج، ويطهر كل نجس استحال حيوانا، كدم بيضة
استحال فرخا على القول بنجاسته ولو كان دود كلب، لأن للحياة أثرا بينا في دفع النجاسة ولهذا تطرأ بزوالها، ولان الدود
متولد فيه لا منه، ولو صار الزبل المختلط بالتراب على هيئة التراب لطول الزمان لم يطهر.
ثم اعلم أن النجاسة: إما مغلظة، أو مخففة، أو متوسطة، وقد ذكرها المصنف على هذا الترتيب فبدأ بأولها فقال: (وما نجس)
من جامد ولو بعضا من صيد أو غيره، (بملاقاة شئ من كلب) سواء في ذلك لعابه وبوله وسائر رطوباته وأجزائه الجافة
إذا لاقت رطبا. (غسل سبعا إحداهن) في غير أرض ترابية (بتراب) طهور يعم محل النجاسة، بأن يكون قدرا يكدر
الماء ويصل بواسطته إلى جميع أجزاء المحل. ولا بد من مزجه بالماء إما قبل وضعهما على المحل أو بعده بأن يوضعا ولو
مرتين ثم يمزجا قبل الغسل وإن كان المحل رطبا، إذ الطهور الوارد على المحل باق على طهوريته خلافا للأسنوي في اشتراط
المزج قبل الوضع على المحل. والأصل في ذلك قوله (ص): وإذا ولغ الكلب في الاناء فاغسلوه سبع مرات أولاهن
بالتراب رواه مسلم، وفي رواية له: وعفروه الثامنة بالتراب أي بأن يصاحب السابعة كما في رواية أبي داود: السابعة
بالتراب. وفي رواية صححها الترمذي: أولاهن أو أخراهن بالتراب. وبين روايتي مسلم تعارض في محل التراب فيتساقطان
في تعيين محله، ويكتفي بوجوده في واحد من السبع كما في رواية الدارقطني: إحداهن بالبطحاء فنص على اللعاب
وألحق به ما سواه لأن لعابه أشرف فضلاته، وإذا ثبتت نجاسته فغيره من بول وروث وعرق ونحو ذلك أولى. وفي وجه
أن غير لعابه كسائر النجاسات اقتصارا على محل النص لخروجه عن القياس. وإذا لم تزل النجاسة إلا بست غسلات
مثلا حسبت واحدة كما صححه المصنف خلافا لما صححه الرافعي من أنها ست وإن قواه الأسنوي. ولو أكل لحم نحو كلب
لم يجب تسبيع محل الاستنجاء كما نقله الروياني عن النص.
فرع: حمام غسل داخله كلب ولم يعهد تطهيره واستمر الناس على دخوله والاغتسال فيه مدة طويلة وانتشرت النجاسة
إلى حصر الحمام وفوطه ونحو ذلك، فما تيقن إصابة شئ له من ذلك فنجس وإلا فطاهر، لأنا لا ننجس بالشك. ويطهر
الحمام بمرور الماء عليه سبع مرات، إحداهن بطفل مما يغتسل به فيه، لأن الطفل يحصل به التتريب كما صرح به جماعة.
ولو مضت مدة يحتمل أنه مر عليه ذلك ولو بواسطة الطير الذي في نعال داخليه لم يحكم بنجاسته كما في الهرة إذا أكلت
نجاسة ثم غابت غيبة يحتمل فيها طهارة فمها. (وإلا ظهر تعين التراب) ولو غبار رمل وإن أفسد الثوب، جمعا بين نوعي
الطهور فلا يكفي غيره كأشنان وصابون. والثاني: لا يتعين ويقوم ما ذكر ونحوه مقامه، وجرى عليه صاحب التنبيه.
والثالث: يقوم مقامه عند فقده للضرورة ولا يقوم عند وجوده، وقيل: يقوم مقامه فيما يفسده التراب كالثياب دون ما لا يفسده.
(و) الأظهر (أن الخنزير ككلب) وكذا ما تولد منهما أو من أحدهما مع حيوان طاهر، لأن الخنزير أسوأ حالا من
الكلب كما مر، وللمتولد حكم أصله لأنه يتبع أخسهما في النجاسة كما سلف. والثاني: يكفي لذلك الغسل مرة من غير
83

تراب كغيره من النجاسات، لأن الوارد في الكلب وما ذكر لا يسمى كلبا. ويسن جعل التراب في غير الأخيرة،
والأولى أولى لعدم احتياجه بعد ذلك إلى تتريب ما يترشش من جميع الغسلات.
فروع: لو تعدد نحو الكلب وولغ في الاناء أو ولغ فيه واحد مرارا كفى له سبع مرات إحداها بالتراب، وقيل:
لكل واحد سبع، وقيل: إن تكرر من واحد كفى سبع وإلا فلكل سبع. ولو لاقى محل التنجس مما ذكر نجسا
آخر كفى له ذلك، ولو انغمس الاناء المتنجس منه في ماء كثير راكد حسب مرة وإن مكث فإن حرك فيه سبع مرات
ولو لم يظهر منه شئ بأن حرك داخل الماء حسبت سبعا، أو في جار وجرى على المحل سبع جريات حسبت سبعا. ولو
كان في إناء ماء كثير فولغ فيه نحو الكلب ولم ينقص بولوغه عن قلتين لم ينجس الماء ولا الاناء إن لم يكن أصاب جرمه
الذي لم يصله الماء مع رطوبة أحدهما، قاله في المجموع: وقضيته أنه لو أصاب ما وصله الماء مما هو فيه لم
ينجس وتكون
كثرة الماء مانعة من تنجسه، وبه صرح الإمام وغيره، وهو مقيد لمفهوم قول التحقيق لم ينجس الاناء إن لم يصب جرمه،
ولو ولغ في إناء فيه ماء قليل ثم كوثر حتى بلغ قلتين طهر الماء دون الاناء كما نقله البغوي في تهذيبه عن ابن الحداد، وأقره
وجزم به جمع، وصحح الإمام طهارته، لأنه صار إلى حالة لو كان عليها حالة الولوغ لم ينجس، وتبعه ابن عبد السلام
والدميري. والأول أوجه. وهل تجب إراقة الماء الذي تنجس بولوغه أو تندب؟ فيه وجهان، أصحهما الثاني، وحديث
الامر بإراقته محمول على من أراد استعمال الاناء أو أدخل رأسه في إناء فيه ماء قليل، فإن خرج فمه جافا لم يحكم بنجاسته
أو رطبا فكذا في أصح الوجهين عملا بالأصل، ورطوبته يحتمل أنها من لعابه. (ولا يكفي تراب) مستعمل في حدث
أو خبث ولا (نجس) في الأصح كما لا يكفي ذلك في التيمم، ولان النجس لا يزيل نجاسة. والثاني: يكفي، كالدباغ بالشئ
النجس، والمستعمل أولى منه. (ولا) يكفي (ممزوج بمائع) كخل (في الأصح) لتنصيص الحديث على أنه يغسله سبعا،
والمراد من الماء، بدليل أنه لا خلاف أنه لا يجزئ الخل في غير مرة التراب. نعم لو مزج الماء بالتراب بعد مزجه بغيره
ولم يتغير الماء بذلك تغيرا فاحشا كفى، والثاني: يكفي التراب الممزوج بالمائع، لأن المقصود من تلك الغسلة إنما هو التراب.
ولا يجب تتريب أرض ترابية إذ لا معنى لتتريب التراب فيكفي تسبيعها بماء وحده، ولو أصاب ثوبا مثلا منها شئ قبل
تمام السبع هل يجب تتريبه لأنه إنما لم يجب في الأرض للمعنى المتقدم، أو لا يجب قياسا على ما لو أصابه من غير الأرض
بعد تتريبه؟ اختلف فيه إفتاء شيخي، فأفتى أولا بالثاني وثانيا بالأول واستمر عليه. وما أفتى به أولا هو الظاهر وإن
كنت مشيت على ما أفتى به ثانيا في شرح التنبيه، لأن حكم المتنقل حكم المتنقل عنه. ثم شرع في القسم الثاني من النجاسة
وهي المخففة فقال: (وما تنجس) من جامد (ببول صبي لم يطعم) بفتح الياء: أي يتناول قبل مضي حولين، (غير لبن)
للتغذي، (نضح) بضاد معجمة وحاء مهملة، وقيل معجمة أيضا، ولو كان اللبن من غير آدمي أو من غير طاهر خلافا
للأذرعي في الأولى من التخصيص بلبن المرضع، وللزركشي في الثانية من أنه يغسل من النجس والمتنجس قياسا منه
على لبن الإنفحة، وقد تقدم ما فيه بأن يرش عليه ماء يعمه ويغلبه بلا سيلان، بخلاف الصبية والخنثى لا بد في بولهما
من الغسل على الأصل ويتحقق بالسيلان، وذلك لخبر الشيخين عن أم قيس: أنها جاءت بابن لها صغير لم يأكل الطعام
فأجلسه رسول الله (ص) في حجره فبال عليه فدعا بماء فنضحه ولم يغسله، ولخبر الترمذي وحسنه: يغسل من بول
الجارية ويرش من بول الغلام وفرق بينهما بأن الائتلاف بحمل الصبي أكثر فخفف في بوله، وبأن بوله أرق من
بولها فلا يلصق بالمحل لصوق بولها به وألحق بها الخنثى، وبأن بول الصبي من ماء وطين وبولها من لحم ودم، لأن
حواء خلقت من ضلع آدم القصير. رواه ابن ماجة في سننه عن الشافعي. وقيل: لما كان بلوغ الغلام بمائع طاهر وهو
المني، وبلوغها بمائع كذلك وبنجس وهو الحيض، جاز أن يفترقا في حكم طهارة البول، قاله الماوردي. ونظر بعضهم
في الفرق الثالث بأن المخلوق من تراب هو آدم ومن ضلع هي حواء، وأما من بعدهما فالكل مخلوق من نطفة ومتغذ
بدم الحيض فكيف يقال يرجع إلى الأصل وخرج بقيد التغذي تحنيكه بنحو تمر وتناوله نحو سفوف لاصلاح، فلا
84

يمنعان النضح كما في المجموع. وبقبل مضي الحولين ما بعدهما، إذ اللبن حينئذ كالطعام كما نقل عن النص. ولا بد مع
النضح من إزالة أوصافه كبقية النجاسات، وإنما سكتوا عن ذلك لأن الغالب سهولة زوالها خلافا للزركشي من أن بقاء
اللون والريح لا يضر. ثم شرع في القسم الثالث من النجاسة، وهي المتوسطة، فقال: (وما تنجس بغيرهما) أي الكلب ونحوه
وبول الصبي المذكور، (إن لم تكن عين) أي عينية بأن كانت حكمية، وهي ما تيقن وجودها ولا يدرك لها طعم ولا لون
ولا ريح. (كفى جري الماء) على ذلك المحل إذ ليس ثم ما يزال. والمراد بالجري وصول الماء إلى المحل بحيث يسيل عليه
زائدا على النضح. ولو عبر بما قدرته لكان أولى وأقرب إلى مراده، إذ لا يلزم من نفي العين نفي الأثر. (وإن كانت) عينية
(وجب) بعد زوال عينها (إزالة الطعم) وإن عسر، لأن بقاءه يدل على بقاء العين، ووجب محاولة إزالة غيره. (ولا يضر
بقاء لون) كلون الدم (أو ريح) كرائحة الخمر (عسر زواله) فيطهر للمشقة، بخلاف ما إذا سهل فيضر
بقاؤه لدلالة
ذلك على بقاء العين. (وفي الريح قول) أنه يضر بقاؤه كسهل الزوال. قال في البسيط: هذا في رائحة تدرك عند شم الثوب
دون ما يدرك في الهواء، وفي اللون وجه كذلك فترتكب المشقة في زوالهما. (قلت: فإن بقيا) بمحل واحد (معا ضرا على
الصحيح والله أعلم) لقوة دلالتهما على بقاء العين. والثاني: لا يضر، لاغتفارهما منفردين فكذا مجتمعين والعسر من زوال
ريح المغلظة أو لونها كغيرها كما يؤخذ من عموم كلامهم، وإن قال الزركشي: ينبغي خلافه. ولا تجب الاستعانة في زوال
الأثر بغير الماء كصابون وحت بالمثناة وقرص بالمهملة، بل تسن إلا إذا تعينت بأن لم يزل إلا بها، وعلى هذا حمل
الزركشي ما صححه المصنف في التحقيق والتنقيح من إطلاق وجوب الاستعانة.
فرع: ماء نقل من البحر فوضع في زبل فوجد فيه طعم زبل أو لونه أو رائحته حكم بنجاسته كما قاله البغوي
في تعليقه، ولا يشكل عليه قولهم: ولا يحد بريح الخمر لوضوح الفرق، وإن احتمل أن يكون ذلك من قربه جيفة لم يحكم
بنجاسته. ونظير ذلك ما مر من أنه لو رأى في فراشه أو ثوبه منيا، فإنه إن احتمل أن يكون من غيره لم يجب عليه الغسل
وإلا وجب. (ويشترط ورود الماء) على المحل إن كان قليلا في الأصح لئلا يتنجس الماء لو عكس لما علم مما سلف أنه
ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه. والثاني وهو قول ابن سريج: لا يشترط، لأنه إذا قصد بالغمس في الماء القليل إزالة
النجاسة طهر كما لو كان الماء واردا بخلاف ما إذا ألقته الريح. (لا العصر) له (في الأصح) أي فيما يمكن عصره، إذ البلل
بعض المنفصل، وقد فرض طهره. والخلاف مبني كما نبه عليه في المحرر على أن الغسالة طاهرة أو نجسة إن طهرناها لم
يجب وإلا وجب، أما ما لا يمكن عصره فلا يشترط بلا خلاف. ويسن عصر ما يمكن عصره خروجا من الخلاف. (والأظهر
طهارة غسالة) قليلة (تنفصل بلا تغير وقد طهر المحل) لأن البلل الباقي على المحل هو بعض المنفصل، فلو كان المنفصل
نجسا لكان المحل كذلك فيكون المنفصل طاهرا لا طهورا لأنه مستعمل في خبث. والثاني: أنها نجسة لانتقال المنع إليها،
فإن انفصلت متغيرة أو غير متغيرة ولم يطهر المحل فنجسة قطعا، وزيادة وزنها بعد اعتبار ما يأخذه المحل من الماء ويعطيه
من الوسخ الطاهر كالتغير. ويحكم بنجاسة المحل فيما إذا انفصلت متغيرة أو زائدة الوزن، لأن البلل الباقي على المحل هو
بعض ما انفصل كما مر. أما الكثيرة فطاهرة ما لم تتغير، وإن لم يطهر المحل كما علم مما مر في باب الطهارة. ويطهر
بالغسل مصبوغ بمتنجس انفصل عنه ولم يزد المصبوغ وزنا بعد الغسل على وزنه قبل الصبغ وإن بقي اللون لعسر زواله،
فإن زاد وزنه ضر، فإن لم ينفصل عنه لتعقده به لم يطهر لبقاء النجاسة فيه. والصقيل من سيف وسكين ونحوهما كغيره،
فلا يكفي مسحه بل لا بد من غسله. ولو صب على موضع نحو بول أو خمر من أرض ماء غمره طهر ولو لم يغمر، أما إذا صب
على نفس نحو البول فإنه لا يطهر لما علم مما مر أن شرط طهارة الغسالة أن لا يزيد وزنها، ومعلوم أن هذا يزيد وزنه. واللبن بكسر
85

الموحدة إن خالط نجاسة جامدة كالروث لم يطهر وإن طبخ بأن صار آجرا، لعين النجاسة. وإن خالطه غيرها كالبول طهر
ظاهره بالغسل، وكذا باطنه إن نقع في الماء ولو مطبوخا إن كان رخوا يصله الماء كالعجين، أو مدقوقا بحيث يصير ترابا
ولو سقيت سكين أو طبخ لحم بماء نجس كفى غسلهما، ولا يحتاج إلى سقي السكين وإغلاء اللحم بالماء ولا إلى عصره على
الأصح. فإن قيل: لما اكتفي بغسل ظاهر السكين ولم يكتف بذلك في الآجر؟ أجيب بأنه إنما لم يكتف بالماء في الآجر لأن
الانتفاع به متأت من غير ملابسة له، فلا حاجة للحكم بطهارة باطنه من غير إيصال الماء إليه بخلاف السكين. ويطهر
الزئبق المتنجس بغسل ظاهره إن لم يتخلل بين تنجسه وغسله تقطع وإلا لم يطهر كالدهن، لأنه لا ينقطع عند ملاقاة الماء
على الوجه الذي يتقطع عند إصابة النجاسة، ولا ينجس إلا بتوسط رطوبة لأنه جاف، فلو وقع فيه فأرة فماتت ولا رطوبة
لم ينجس. قاله ابن القطان: ويكفي غسل موضع نجاسة وقعت على ثوب ولو عقب عصره ولا يجب غسل جميعه، وكذا
لو صب ماء على مكانها وانتشر حولها فلا يحكم بنجاسة محل الانتشار لأن الماء الوارد على النجاسة طهور ما لم يتغير ولم
ينفصل لقوته لكونه فاعلا، فإن تغير تنجس كما مر، وإذا كان طهورا فيما ذكر، فإذا أداره في الاناء طهر. (ولو نجس
مائع) غير الماء ولو دهنا، (تعذر تطهيره) إذ لا يأتي الماء على كله لأنه بطبعه يمنع إصابة الماء. (وقيل:
يطهر الدهن بغسله)
قياسا على الثوب النجس. وكيفية تطهيره كما ذكره في المجموع أن يصب الماء عليه ويكاثره ثم يحركه بخشبة ونحوها بحيث
يظن وصوله لجميعه ثم يترك ليعلو ثم يثقب أسفله، فإذا خرج الماء سد. قال في الكفاية: ومحل الخلاف فيما إذا تنجس
الدهن بما لا دهنية فيه كالبول، فإن تنجس بما له دهنية كودك الميتة لم يطهر بلا خلاف. ودليل الأول خبر أبي داود وغيره: أنه
(ص) سئل عن الفأرة تموت في السمن، فقال: إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه
وفي رواية للخطابي: فأريقوه. فلو أمكن تطهيره شرعا لم يقل فيه ذلك لما فيه من إضاعة المال. والجامد هو الذي إذا
أخذ منه قطعة لا يتراد من الباقي ما يملا محلها عن قرب، والمائع بخلافه، ذكره في المجموع.
خاتمة: يندب أن يغسل غسلتين بعد الغسلة المزيلة لعين النجاسة لتكمل الثلاث، فإن المزيلة للنجاسة واحدة
وإن تعددت كما مر في غسلات الكلب، لاستحباب ذلك عند الشك في النجاسة في حديث: إذا استيقظ أحدكم من نومه
فعند تحققها أولى. وشمل في ذلك المغلظة، وبه صرح صاحب الشامل الصغير، فيندب مرتان بعد طهرها. وقال الجبلي في بحر
الفتاوى في نشر الحاوي: لا يندب ذلك لأن المكبر لا يكبر كما أن المصغر لا يصغر، أي فتثلث النجاسة المخففة دون المغلظة،
وهذا أوجه. وعلم مما تقرر أن النجاسة لا يشترط في إزالتها نية بخلاف طهارة الحدث، لأنها عبادة كسائر العبادات، وهذا
من باب التروك كترك الزنا والغصب. وإنما وجبت في الصوم مع أنه من باب التروك لأنه لما كان مقصودا لقمع الشهوة
ومخالفة الهوى التحق بالفعل. ويجب أن يبادر بغسل المتنجس عاص بالتنجيس كأن استعمل النجاسة في بدنه بغير عذر
خروجا من المعصية، وإن لم يكن عاصيا به فلنحو الصلاة، ويندب أن يعجل به فيما عدا ذلك. وظاهر كلامهم أنه
لا فرق بين المغلظة وغيرها، وهو كذلك، وإن قال الزركشي ينبغي وجوب المبادرة بالمغلظة مطلقا، قال الأسنوي: والعاصي
بالجنابة يحتمل إلحاقه بالعاصي بالتنجيس والمتجه خلافه، لأن الذي عصى به هنا متلبس به بخلافه، ثم وإذا غسل فمه
المتنجس فليبالغ في الغرغرة ليغسل كل ما في حد الظاهر، ولا يبلع طعاما ولا شرابا قبل غسله لئلا يكون آكلا للنجاسة، نقله
في المجموع عن الشيخ أبي محمد الجويني وأقره. ويغسل من رشاش غسلات الكلبية ستا إن أصابته في الأولى
وإلا فالباقي
من السبع، والمراد بغسلات النجاسة ما استعمل في واجب الإزالة، أما المستعمل في مندوبها فطهور، وما غسل به نجاسة
معفو عنها كقليل الدم فالظاهر، كما قال ابن النقيب، أنه كغسالة الواجب.
باب التيمم
هو لغة: القصد، يقال: تيممت فلانا ويممته وتأممته وأممته: أي قصدته، ومنه قوله تعالى: * (ولا تيمموا الخبيث منه
86

تنفقون) *، وقول الشاعر:
فما أدري إذا يممت أرضا أريد الخير أيهما يليني
أألخير الذي أنا أبتغيه أم الشر الذي هو يبتغيني
وشرعا: إيصال التراب إلى الوجه واليدين بدلا عن الوضوء والغسل أو عضو منهما بشرائط مخصوصة. وخصت
به هذه الأمة، والأكثرون على أنه فرض سنة ست من الهجرة. وهو رخصة، وقيل عزيمة، وبه جزم الشيخ أبو حامد قال:
والرخصة إنما هي إسقاط القضاء، وقيل إن تيمم لفقد الماء فعزيمة أو لعذر فرخصة. ومن فوائد الخلاف ما لو تيمم في
سفر معصية لفقد الماء، فإن قلنا رخصة وجب القضاء وإلا فلا، قاله في الكفاية. وأجمعوا على أنه مختص بالوجه واليدين وإن
كان الحدث أكبر. والأصل فيه قبل الاجماع قوله تعالى: * (وإن كنتم مرضى أو على سفر) * إلى قوله تعالى: * (فتيمموا صعيدا
طيبا) * أي ترابا طهورا، وقيل: ترابا حلالا. وخبر مسلم: جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وتربتها طهورا وغيره من
الاخبار الآتي بعضها في الباب. (يتيمم المحدث والجنب) والحائض والنفساء ومن ولدت ولدا جافا، لخبر الصحيحين:
أنه (ص) صلى ثم رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم، فقال: يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم؟ فقال: أصابتني
جنابة ولا ماء، فقال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك. وفيهما عن عمار بن ياسر قال: أجنبت فلم أجد الماء فتمعكت في
التراب. فأخبرت النبي (ص) بذلك فقال: إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا، ثم ضرب بيديه الأرض
ضربة واحدة، ثم نفضهما، ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه. قال في المجموع: ومعنى تمعكت تدلكت،
وفي رواية: تمرغت، وهو بمعنى ثدلكت اه‍. قال شيخنا: والأولى تفسير تمعكت بتمرغت إذ هو معناه لغة، ولان في هذه
الرواية: فتمرغت في الصعيد كما تمرغ الدابة. وخرج بالمحدث وما ذكر معه المتنجس، فلا يتيمم للنجاسة، لأن التيمم
رخصة فلا يتجاوز محل ورودها. ولو اقتصر المصنف على المحدث كما اقتصر عليه في الحاوي لكان أولى ليشمل جميع
ما ذكر. قال الولي العراقي: وقد يقال ذكره الجنب بعد المحدث من عطف الأخص على الأعم اه‍. وعلى كل حال إنما
اقتصر على ما ذكره لأنه الأصل وحمل النص وإلا فالمأمور بغسل مسنون كغسل جمعة وعيد يتيمم أيضا كما ذكره في
باب الجمعة وغيره. قال الأسنوي: والقياس أن المأمور بوضوء مسنون يتيمم أيضا كما في نظيره من الغسل وكذا
الميت ييمم كما سيأتي. (لأسباب) جمع سبب يعني لواحد من أسباب. والسبب ما يتوصل به إلى غيره. والمبيح للتيمم
في الحقيقة شئ واحد وهو العجز عن استعمال الماء، وللعجز أسباب، ولو عبر بما قدرته كان أولى، لكن هذا ظاهر،
ولكني ذكرته تشحينا للذهن. (أحدها: فقد الماء) حسا أو شرعا للآية، فمن الفقد الشرعي خوف طريقه إلى الماء
أو بعده عنه أو الاحتياج إلى ثمنه كما سيأتي، أو وجد ماء مسبلا للشرب، حتى قالوا: إنه لا يجوز أن يكتحل منه بقطرة ولا أن
يجعل منه في دواة ونحو ذلك لأنه لم يبح إلا لشئ مخصوص، كما أنه لا يجوز له أن يتيمم بتراب غيره. قال الدميري: وهو مشكل
لأنه يؤدي إلى أنه إذا مر بأراضي القرى الموقوفة أو المملوكة لا يجوز له التيمم بترابها، وفيه بعد، والمسامحة بذلك مجزوم بها
عرفا فلا ينبغي أن يشك في جوازه بها اه‍. وهذا من الحلال المستفاد بقرينة الحال، فقد قال الأصحاب: إنه يجوز المرور
بملك غيره إذا لم يصر طريقا للناس، وسيأتي إن شاء الله تعالى في صلح تحرير ذلك. (فإن تيقن المسافر) أو المقيم، فالتعبير
بالمسافر جرى على الغالب. (فقده) أي الماء حوله، (تيمم بلا طلب) بفتح اللام ويجوز إسكانها، لأن طلب ما علم عدمه عبث
كما إذا كان في بعض رمال البوادي، وقيل لا بد من الطلب لأنه لا يقال لمن لم يطلب لم يجد. (وإن توهمه) قال الشارح:
أي وقع في وهمه، أي ذهنه، أي جوز ذلك اه‍. يعني تجويزا راجحا وهو الظن، أو مرجوحا وهو الوهم، أو مستويا
وهو الشك، فليس المراد بالوهم هنا الثاني، بل وهو صحيح أيضا. ويفهم منه إنه يطلب عند الشك والظن
بطريق الأولى.
وإنما حول الشارع ذلك ليصير منطوقا، وليس في ذلك كبير أمر، فقد قال الله تعالى: * (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما) *
87

ويفهم منه النهي عن الضرب ونحوه بطريق الأولى. (طلبه) بعد دخول الوقت وجوبا مما توهمه فيه، لأن التيمم طهارة
ضرورة ولا ضرورة مع الامكان، وله طلبه بوكيله الموثوق به حتى لو أرسل جماعة واحدا ثقة يطلب لهم كفاهم، ولو أذن
قبل الوقت ليطلب له بعد الوقت كفى أيضا. ولو أخبره فاسق أن الماء بمكان معين لم يعتمده، وإن أخبره أنه ليس به ماء اعتمده
لأن العدم هو الأصل بخلاف الوجدان، قاله الماوردي والروياني. أما طلب غيره له بغير إذنه، أو بإذنه ليطلب له قبل
الوقت، أو أذن له قبل الوقت وأطلق فطلب له قبل الوقت، أو شاكا فيه لم يكف جزما، فإن طلب له في مسألة الاطلاق في الوقت
ينبغي أن يكفي كنظيره في المحرم يوكل رجلا ليعقد له النكاح، ثم رأيت شيخنا نبه على ذلك. (من رحله) بأن يفتش فيه
إن لم يتحقق العدم فيه، وهو منزل الشخص من حجر أو خشب أو نحو ذلك، ويطلق أيضا على ما يستصحبه الشخص
من أثاث، ويجمع في الكثرة على رحال، وفي القلة على أرحل. (ورفقته) بتثليث الراء، سموا بذلك لارتفاق بعضهم
ببعض، وهم الجماعة ينزلون جملة ويرحلون جملة، والمراد بهم المنسوبون إليه. ولا يجب أن يطلب من كل واحد بعينه
بل يكفيه أن ينادي نداء عاما فيهم بنفسه أو مأذونه كما مر بأن يقول: من معه ماء يبيعه أو يجود به أو نحو ذلك، ويستوعبهم
إذا كثروا إلا أن يضيق الوقت عن تلك الصلاة، وقيل: يستوعبهم وإن خرج الوقت، وقيل: إلا أن يضيق الوقت عن ركعة.
(ونظر حواليه) من الجهات الأربع إن لم يجده فيما ذكر إلى الحد الآتي، (إن كان بمستو) من الأرض، ويخص موضع
الخضرة وإجماع الطيور بمزيد احتياط. ولا يلزمه المشي، وقيل: يمشي قدر غلوة سهم. (فإن احتاج إلى تردد) بأن كان
ثم وهدة أو جبل أو نحو ذلك. (تردد) إن أمن نفسا ومالا وعضوا واختصاصا محترما وانقطاعا عن رفقة ولم يضق الوقت عن
تلك الصلاة إلى حد تسمع استغاثته بأن يسمعها رفقته لو استغاث بهم مع ما هم فيه من تشاغلهم بأشغالهم وتفاوضهم في
أقوالهم، وهذا هو مراد المصنف بقوله: (قدر نظره) أي في المستوى، والشرح الصغير بغلوة سهم: أي غاية رميه، وهذا
يسمى حد الغوث. قال في المجموع: وليس المراد أن يدور الحد المذكور لأن ذلك أكثر ضررا عليه من إتيان الماء في
الموضع البعيد، بل المراد أن يصعد جبلا أو نحوه بقربه ثم ينظر حواليه اه‍. ويقال حوليه بلا ألف وحوله وحواله بزيادة
ألف، وهذا هو مراد من عبر بالتردد إليه، فإنه لم يأمن على شئ مما ذكر سواء أكثر المال أم قل أو ضاق وقت الصلاة
بأن لم يبق منه ما يسعها لم يجب التردد للضرر وللوحشة في انقطاعه وإخراج بعض الصلاة عن وقتها، بخلاف واجد الماء لو خاف
فوات الوقت لو توضأ فإنه يجب عليه الوضوء ولا يتيمم لأنه ليس بفاقد للماء. (فإن لم يجد) ماء بعد البحث المذكور، (تيمم)
لحصول الفقد ولا يضر تأخير التيمم عن الطلب إذا كانا في الوقت ولم يحدث سبب يحتمل معه وجود الماء. (فلو) طلب
كما مر، و (مكث) بضم الكاف وفتحها، (موضعه) ولم يتيقن العدم ولم يحدث ما يحتمل معه وجود ماء، (فالأصح وجوب
الطلب لما يطرأ) مما يحوج إلى تيمم مستأنف كحدث وفريضة أخرى، لأنه قد يطلع على بئر خفيت عليه أو يجد من يدله عليه
وقياسا على إعادة الاجتهاد في القبلة، ولكن يكون طلبه هذا أخف من الأول. والثاني: لا يجب، لأنه لو كان هناك ماء
لظفر به بالطلب الأول، فلو تيقن العدم في موضع بالطلب ولم يحدث ما يحتمل معه وجود ماء لم يجب الطلب منه على
الصحيح، فإن انتقل إلى مكان آخر أو حدث ما يحتمل معه وجود ماء كطلوع ركب وإطباق غمامة وجب الطلب قطعا.
وقوله فلو مكث موضعه مزيد على المحرر من غير تمييز. (فلو علم) مسافر بمحل (ماء) في حد القرب، وهو ما (يصله المسافر
لحاجته) كاحتطاب واحتشاش مع اعتبار الوسط المعتدل بالنسبة إلى الوعورة والسهولة والصيف والشتاء، وهذا فوق حد
الغوث الذي يقصده عند التوهم، قال محمد بن يحيى: لعله يقرب من نصف فرسخ. (وجب قصده) أي طلبه منه، لأنه
إذا كان يسعى إليه لأشغاله الدنيوية فللعبادة أولى، هذا (إن لم يخف ضرر نفس) أو عضو (أو مال) لا يجب بذله
88

في تحصيل الماء ثمنا أو اجرة أو انقطاعه عن رفقته يتضرر بتخلفه عنهم، وكذا إن لم يتضرر على الأصح لما
يلحقه من
الوحشة أو خروج الوقت. (فإن) خاف ما ذكر، أو (كان) الماء بمحل (فوق ذلك) المحل المتقدم، وهذا يسمى حد البعد،
(تيمم) ولا يجب عليه الطلب لما فيه من المشقة والضرر. ولو كان في سفينة وخاف لو استقى من البحر على شئ مما تقدم
فإنه يتيمم، بخلاف من معه ماء ولو توضأ به خرج الوقت فإنه لا يتيمم لأنه واجد للماء كما مر. وخرج بالمال الاختصاصات
وبما لا يجب بذله إلخ ما وجب بذله فلا يمنع الطلب، وهذا بخلاف ما مر في توهم الماء لتيقن وجود الماء هنا. وبهذا
جمع بعضهم بين ما وقع في المجموع من إيجاب الطلب مع الخوف على القدر المذكور في موضع، ومن المنع في آخر. ولو
انتهى إلى المنزل في آخر الوقت والماء في حد القرب، ولو قصده خرج الوقت، لم يجب عليه قصده خلافا للرافعي في وجوبه.
أما المقيم فلا يتيمم، وعليه أن يسعى إلى الماء وإن فات به الوقت، قال في الروضة: لأنه لا بد من القضاء، أي لتيممه
مع القدرة على استعمال الماء، فلا يرد جواز التيمم للبرد مع وجوب القضاء. وظاهر هذا أنه لا فرق بين طول المسافة
وقصرها. وهو كذلك، أي حيث لا مشقة عليه في ذلك كما يؤخذ من القوت، وأن التعبير بالمسافر والمقيم فيها إذا خاف
فوت الوقت لو سعى إلى الماء جرى على الغالب، وإنما الحكم منوطب محل يغلب فيه وجود الماء كما سيأتي. (ولو تيقنه)
أي وجود الماء، (آخر الوقت) مع جواز تيممه في أثنائه، (فانتظاره أفضل) من تعجيل التيمم، لأن الوضوء هو الأصل
والأكمل، فإن الصلاة به ولو آخر الوقت أفضل منها بالتيمم أوله. ولا فرق في ذلك بين أن يتيقن وجوده في منزله،
أي بأن يأتي له الماء وهو فيه أولا خلافا للماوردي في وجوب التأخير فيما إذا تيقن وجوده في منزله. وقد يكون التعجيل
أفضل العوارض، كأن كان يصلي أول الوقت بسترة ولو أخر لم يصل بها، أو كان يصلي في أوله جماعة ولو أخر صلى منفردا،
أو كان يقدر على القيام أول الوقت ولو أخر لم يقدر على ذلك، فالتعجيل بالتيمم في ذلك أفضل. فإن شك في وجوده
آخر الوقت، (أو ظنه) بأن ترجح عنده وجوده آخره، (فتعجل التيمم أفضل) على المذهب في الأول، و (في الأظهر) في
الثانية، لأن فضيلة التقديم محققة بخلاف فضيلة الوضوء، والثاني: التأخير أفضل لما مر. ومحل الخلاف إذا اقتصر
على صلاة واحدة، فإن صلى أول الوقت بالتيمم وبالوضوء في أثنائه فهو النهاية في إحراز الفضيلة. فإن قيل: الصلاة
بالتيمم لا تستحب إعادتها بالوضوء. أجيب بأن محله فيمن لا يرجو الماء بعد قرينة سياق كلامهم، أما إذا ترجح عنده
الفقد أو تيقنه آخر الوقت فالتعجيل أفضل جزما. ومثل ذلك في هذا التفصيل ما لو صلى أول الوقت منفردا وآخر الوقت
في جماعة. وقال المصنف: ينبغي أن يقال إن فحش التأخير فالتقديم أفضل، وإن خف فالتأخير أفضل اه‍. والمعتمد
الأول، وللمسافر القصر، وأن تيقن الإقامة آخر الوقت لوجود السبب حين الفعل. ولا ينتظر مزاحم على بئر لا يمكن أن
يستقي منها إلا واحد واحد وقد تناوبها جمع، أو ثوب لا يمكن أن يلبسه إلا واحد واحد وقد تناوبه عراة، أو مقام
لا يسع إلا قائما واحدا وقد تناوبه جمع للصلاة فيه وعلم أن نوبته لا تحصل إلا بعد الوقت، بل يصلي فيه متيمما أو
عاريا أو قاعدا، ولا إعادة عليه لعجزه في الحال، وجنس عذره غير نادر، وينتظر نوبته إذا توقع انتهاءها إليه في الوقت.
وإدراك الجماعة أولى من تثليث الوضوء وسائر آدابه، فإذا خاف فوت الجماعة بسلام الإمام لو أكمل الوضوء بآدابه
فإدراكها أولى من إكماله وإدراك الركعة الأخيرة لا غيرها من الركعات أولى من إدراك الصف الأول، فلا يشتغل
بالذهاب إليه حتى تفوته الركعة الأخيرة لأنه لا يدرك الجماعة حينئذ اتفاقا. ولو ضاق الوقت أو الماء عن سنن الوضوء
وجب الاقتصار على فرائضه كما قاله المصنف في شرح التنبيه. ولا يلزم البدوي النقلة للتطهير بالماء عن التيمم. (ولو وجد
ماء) صالحا للغسل (لا يكفيه، فالأظهر وجوب استعماله) في بعض أعضائه مرتبا إن كان حدثه أصغر، أو مطلقا إن كان
غيره، كما يفعل من يغسل كل بدنه لخبر الصحيحين: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ولأنه قدر على غسل
بعض أعضائه فلم يسقط وجوبه بالعجز عن الباقي كما لو كان ذلك البعض معدما أو جريحا. والثاني: يقتصر على التيمم،
89

كما لو وجد بعض الرقبة في الكفارة فإنه لا يجب عليه إعتاقه ويعدل إلى الصوم، وفرق الأول بأن بعض الرقبة لا يسمى
رقبة، وبعض الماء يسمى ماء، لأن الله تعالى ذكر الماء في سياق النفي، فاقتضى أن لا يجد ما يسمى ماء. (ويكون)
استعماله (قبل التيمم) عن الباقي، لقوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) * وهذا واجد ماء، أما إذا لم يجد ترابا فالأظهر
القطع باستعماله. أما ما لا يصلح للغسل كثلج أو برد لا يذوب فالأصح القطع بأنه لا يجب مسح الرأس به، إذ لا يمكن
ههنا تقديم مسح الرأس، فنقرأ ماء في عبارة المصنف مهموزة منونة لا موصولة لئلا يرد عليه ذلك. ولو لم يجد إلا ترابا
لا يكفيه، فالمذهب القطع بوجوب استعماله. ومن به نجاسة ووجد ما يغسل به بعضها وجب عليه للحديث المتقدم، أو
وجد ماء وعليه حدث أصغر أو أكبر وعلى بدنه نجاسة ولا يكفي إلا لأحدهما، تعين للنجاسة، لأن إزالتها لا بدل لها،
بخلاف الوضوء والغسل. وظاهر هذا أنه لا فرق فيه بين المسافر والمقيم كما هو ظاهر كلام الروضة، وأفتى به البغوي. وقال
القاضي أبو الطيب: محل تعيينه لها في المسافر، أما المقيم فلا لأنه لا بد له من الإعادة، لكن النجاسة أولى. وجرى
على ذلك المصنف في تحقيقه ومجموعه، والأول أوجه. ويجب غسل النجاسة قبل التيمم، فلو تيمم قبل إزالتها لم يصح
كما صححه في الروضة والتحقيق في باب الاستنجاء، لأن التيمم للإباحة، ولا إباحة مع المانع فأشبه التيمم قبل الوقت.
وصحح في الروضة والمجموع هنا الجواز، والأول هو الراجح فإنه هو المنصوص في الام كما في الشامل والبيان والذخائر،
والأقيس كما في البحر. (ويجب) في الوقت (شراؤه) أي الماء وإن لم يكفه، وكذا التراب كما صرح به الحناطي. (بثمن مثله)
وهو على الأصح ما انتهى إليه الرغبات في ذلك الموضع في تلك الحالة. قال الإمام: والأقرب على هذا أنه لا تعتبر الحالة
التي ينتهي فيها الامر إلى سد الرمق، فإن الشربة قد تشترى حينئذ بدنانير، أي ويبعد في الرخص إيجاب ذلك. قال
السبكي: وهو الحق. وقيل: يعتبر بذلك الموضع في غالب الأحوال. وقيل: يعتبر بقدر أجرة نقله في الموضع الذي فيه
الشخص، هذا إذا كان قادرا عليه بنقد أو غيره، فلا يجب عليه شراؤه بزيادة على ذلك وإن قلت، لكن إن بيع
فيه لأجل بزيادة لائقة بذلك الاجل وكان موسرا والأجل ممتد إلى موضع ماله وجب الشراء، لأن ذلك لا يخرجه عن
ثمن المثل، ويندب له أن يشتريه إذا زاد على ثمن مثله وهو قادر على ذلك. وآلات الاستقاء كالدلو والرشاء إذا بيعت
أو أجرت يجب تحصيلها إذا لم تزد عن ثمن مثلها في البيع وأجرة مثلها في الإجارة. (إلا أن يحتاج إليه) أي الثمن (لدين)
عليه ولو مؤجلا كما قاله ابن الرفعة. وقوله: (مستغرق) لا حاجة إليه، لأن ما يفضل عن الدين غير محتاج إليه فيه ولكنه
ذكره زيادة إيضاح. (أو مؤنة سفره) مباحا كان أو طاعة ذهابا وإيابا، والمؤنة هي المذكورة في كتاب الحج. (أو نفقة
حيوان محترم) سواء أكان آدميا أو غيره. ولا فرق بين أن يحتاجه في الحال أو بعد ذلك، ولا بين نفسه وغيره من مملوك
وزوجة ورقيق ونحوهم مما يخاف انقطاعهم وإن لم يكونوا معه، وكالنفقة سائر المؤن حتى المسكن والخادم كما صرح بهما
ابن كج في التجريد، بخلاف الدين لا بد أن يكون عليه كما مر، إذ لا يجب عليه أداء دين غيره. ودخل في نفقة
الحيوان نفسه ورقيقه ودوابه سواء فيه الكافر والمسلم. وخرج بالمحترم الحربي والمرتد والزاني المحصن، وتارك الصلاة،
والكلب الذي لا نفع فيه. ووقع للمصنف فيه إذا لم يكن عقورا تناقض، قال في المهمات: ومذهب الشافعي جواز قتله،
فقد نص عليه في الام وجزم به ابن المقري في الأطعمة، وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى هناك.
فروع: لو احتاج واجد ثمن الماء إلى شراء سترة للصلاة قدمها لدوام النفع بها، ولو كان معه ماء لا يحتاج إليه
للعطش ويحتاج إلى ثمنه في شئ مما سبق جاز له التيمم كما في المجموع. ولو وجد ثوبا يمكن تحصيل الماء بشدة في الدلو
ولو مع شقه أو بإدلائه في البئر وعصره ونحو ذلك وجب إن لم يزد نقصانه على الأكثر من ثمن الماء وأجرة مثل الحبل.
قال في المجموع: قال الماوردي: ولو عدم الماء وعلم أنه لو حفر محله وصل إليه، فإن كان يحصل بحفر قريب لا مشقة فيه
وجب الحفر وإلا فلا. قال في المجموع: ولو كان مالكه يحتاج إليه في المنزل الثاني وثم من يحتاج إليه في الأول فهل
90

يقدم الأول لأنه المالك أو الثاني لتحقق حاجته في الحال؟ وجهان، والراجح الثاني كما يعلم مما يأتي في الأطعمة اه‍. وهل
تذبح قهرا شاة الغير التي لم يحتج إليها لكلبه المحترم المحتاج إلى الاطعام؟ وجهان، نقل في المجموع عن القاضي هنا أحدهما،
وعلى نقله عن القاضي اقتصر في الأطعمة. نعم كالماء فيلزم مالكها بذلها له. والثاني: لا، لأن للشاة حرمة لأنها ذات روح.
والأوجه الأول. (ولو وهب له ماء) أو أقرضه (أو أعير دلوا) أو نحوه من آلات الاستقاء في الوقت، (وجب) عليه (القبول
في الأصح) إذا لم يمكنه تحصيلها بشراء أو نحوه، لأن المسامحة بذلك غالبة فلا تعظم فيه المنة، فلو خالف وصلى متيمما أثم
ولزمته الإعادة إلا أن يتعذر الوصول إليه بتلف أو غيره حالة تيممه فلا تلزمه الإعادة. والثاني: لا يجب قبول الماء للمنة كالثمن
ولا قبول العارية إذا زادت قيمة المستعار على ثمن الماء لأنه قد يتلف، أي في غير المأذون فيه، فيضمن زيادة على
ثمن الماء، أما تلفه في المأذون فيه فإنه لا ضمان فيه. وعلى الأول يجب عليه سؤال الهبة والعارية على الأصح إذا لم يحتج
واهب الماء والمعير إليه وضاق الوقت عن طلب الماء، لأنه حينئذ يعد واجدا للماء ولا تعظم فيه المنة، وبهذا فارق عدم
وجوب اتهاب الرقبة في الكفارة، فإن احتاج إليه الواهب لعطش حالا أو مآلا أو لغيره حالا أو اتسع الوقت لم يجب
اتهابه كما اقتضاه كلامهم، ونقله الزركشي عن بعضهم وأقره وفي المجموع أنه لا يجب على مالك الماء الذي لا يحتاج إليه
بذله لطهارة المحتاج إليه ببيع أو هبة أو قرض في الأصح. فإن قيل: لم وجب عليه قبول قرض الماء ولم يجب عليه قبول
ثمنه وهو موسر به بمال غائب كما سيأتي؟ أجيب بأنه إنما يطالب بالماء عند الوجدان وحينئذ يهون الخروج عن العهدة،
كذا وجهه الرافعي. فإن قيل: إن أريد وجدان الماء فقد نص الشافعي على أنه إذا أتلف الماء في مفازة ولقيه ببلد أن
الواجب قيمته في المفازة، وإن أريد قيمته فقيمته وثمنه الذي يقرضه إياه سواء في المعنى، فإذن لا فرق. أجيب بأنا إنما
أوجبنا على المتلف ذلك لتعديه، وأما المقترض فلم نأخذه إلا برضا من مالكه فيرد مثله مطلقا سواء أراد في البلد أم
في المفازة وفاء بقاعدة القرض أنه يلزمه رد المثل، ولهذا يقول في عقد القرض: أقرضتك هذا، أو خذه بمثله، والمالك قد
دخل على ذلك ووطن نفسه عليه، ومع التصريح بذلك فلا يغلظ على المقترض فيما هو عقد إرفاق. وأيضا لو قلنا إنه
يلزم المقترض رد القيمة حيث تكون أكثر من المثل، لدخل ذلك في نهيه (ص) عن القرض الذي يجر منفعة. (ولو
وهب ثمنه) أي الماء أو ثمن آلة الاستقاء أو أقرض ثمن ذلك وإن كان موسرا بمال غائب، (فلا) يجب قبوله
بالاجماع
لعظم المنة ولو من الوالد لولده. (ولو نسيه) أي الماء (في رحله أو أضله فيه فلم يجده بعد) إمعان (الطلب) وغلب على ظنه
فقده، هذا تفسير إضلاله لأن النسيان لا يقال فيه ذلك وإذا غلب على ظنه فقده. (فتيمم) في الحالين وصلى ثم
تذكره في النسيان ووجده في الاضلال، (قضى في الأظهر) لأنه في الحالة الأولى واجد للماء ولكنه قصر في الوقوف عليه
فيقضي كما لو نسي ستر العورة وفي الثانية عذر نادر لا يدوم، والثاني: لا قضاء عليه في الحالين، لأن النسيان في الأولى
عذر حال بينه وبين الماء فأشبه ما لو حال بينهما سبع ولأنه لم يفرط في الثانية في الطلب، ولو نسي ثمن الماء أو بئرا
أو آلة الاستقاء كما بحثه بعض المتأخرين فالحكم كذلك. (ولو أضل رحله في رحال) بسبب ظلمة أو غيرها فتيمم وصلى ثم
وجده وفيه الماء، فإن لم يمعن في الطلب قضى لتقصيره، وإن أمعن فيه (فلا يقضي) إذ لا ماء معه حال التيمم. وفارق
إضلاله في رحله بأن مخيم الرفقة أوسع غالبا من مخيمه فلا يعد مقصرا. ويؤخذ منه كما قال شيخنا أن مخيمه إن اتسع
كما في مخيم بعض الامراء يكون كمخيم الرفقة. ولو أدرج الماء في رحله ولم يشعر به أو لم يعلم ببئر خفية هناك فلا إعادة
وكان الأولى تأخير هاتين المسألتين إلى آخر الباب عند ذكره ما يقضى من الصلاة، فإن الكلام الآن في الأسباب
المبيحة. ولو تيمم لاضلاله عن القافلة، أو عن الماء، أو لغصب مائه فلا إعادة عليه بلا خلاف، ذكره في المجموع.
فروع: لو أتلف الماء في الوقت لغرض كتبرد وتنظف وتحير مجتهد لم يعص للعذر، أو أتلفه عبثا في الوقت أو بعده
عصى لتفريطه بإتلاف ما تعين للطهارة. ولا إعادة عليه إذا تيمم في الحالين، لأنه تيمم وهو فاقد للماء، أما إذا أتلفه قبل الوقت
91

فلا يعصي من حيث إتلاف ماء الطهارة وإن كان يعصي من حيث أنه إضاعة مال، ولا إعادة أيضا لما مر. ولو باعه أو
وهبه في الوقت بلا حاجة له ولا للمشتري أو المتهب كعطش لم يصح بيعه ولا هبته لأنه عاجز عن تسليمه شرعا لتعينه
للطهر، وبهذا فارق صحة هبة من لزمته كفارة أو ديون فوهب ما يملكه، وعليه أن يسترده فلا يصح تيممه ما قدر عليه
لبقائه على ملكه، فإن عجز عن استرداده تيمم وصلى وقضى تلك الصلاة التي فوت الماء في وقتها لتقصيره دون ما سواها
لأنه فوت الماء قبل دخول وقتها. ولا يقضي تلك الصلاة بتيمم في الوقت بل يؤخر القضاء إلى وجود الماء أو حالة يسقط
الفرض فيها بالتيمم. ولو تلف الماء في يد المتهب أو المشتري ثم تيمم وصلى لا إعادة عليه لما سلف، ويضمن الماء المشتري
دون المتهب، لأن فاسد كل عقد كصحيحه في الضمان وعدمه. ولو مر بماء في الوقت وبعد عنه بحيث لا يلزمه طلبه ثم
تيمم وصلى، أجزأه ولا إعادة عليه لما تقدم. ولو عطشوا ولميت ماء شربوه ويمموه وضمنوه للوارث بقيمة لا بمثله، وإن كان
مثليا إذا كانوا ببرية للماء فيها قيمة ثم رجعوا إلى وطنهم ولا قيمة له فيه وأراد الوارث تغريمهم إذ لو ردوا الماء لكان
إسقاطا للضمان، فإن فرض الغرم بمكان الشرب أو مكان آخر للماء فيه قيمة ولو دون قيمته بمكان الشرب أو زمانه غرم
مثله كسائر المثليات، ولو أوصى بصرف ماء لاولى الناس وجب تقديم العطشان المحترم حفظا لمهجته ثم الميت لأن ذلك
خاتمة أمره، فإن مات اثنان ووجد الماء قبل موتهما قدم الأول لسبقه، فإن ماتا معا أو جهل السابق أو وجد الماء
بعدهما قدم الأفضل لأفضليته بغلبة الظن بكونه أقرب إلى الرحمة لا بالحرية والنسب ونحو ذلك، فإن استويا أقرع بينهما.
ولا يشترط قبول الوارث له كالكفن المتطوع به ثم المتنجس، لأن طهره لا بدل له، ثم الحائض أو النفساء لعدم خلوهما عن
النجس غالبا ولغلظ حدثهما، فإن اجتمعتا قدم أفضلهما، فإن استويا أقرع بينهما، ثم الجنب لأن حدثه أغلظ من حدث
المحدث حدثا أصغر، نعم إن كفى المحدث دونه فالمحدث أولى لأنه يرتفع به حدثه بكماله دون الجنب. فإن قيل: هلا فرق في
النجاسة بين المغلظة وغيرها فيقدم من عليه نجاسة مغلظة على غيرها كما تقدم الحائض على الجنب؟ أجيب بأن مانع
النجاسة شئ واحد ومانع الحيض يزيد على مانع الجنابة. (الثاني) من أسباب التيمم: (أن يحتاج) بالبناء للمفعول، (إليه)
أي الماء (لعطش) حيوان (محترم) من نفسه أو غيره، (ولو) كانت حاجته لذلك (مآلا) أي في المستقبل صونا للروح أو
غيرها عن التلف، لأن ذلك لا بد له بخلاف طهارة الحدث والعطش المبيح للتيمم معتبر بالخوف المعتبر في السبب الآتي،
فجيب عليه حينئذ أن يتيمم مع وجوده. ولو تزودوا للماء وساروا على العادة ولم يمت منهم أحد وجب القضاء كما في
فتاوى البغوي، لا إن مات منهم من لو بقي لم يفضل من الماء شئ، ولا إن جدوا في السير على خلاف العادة بحيث لو مشوا على
العادة لم يفضل منه شئ. ولا يكلف أن يستعمل الماء في الطهارة ثم يشرب المستعمل في ذلك لأن النفس تعافه، ولا أن
يشرب المستعمل النجس من الماءين ويتطهر بالطاهر، بل لا يجوز له شرب النجس كما صححه في المجموع خلافا لبعض
المتأخرين، بخلاف الدابة فإنه يكلف لها ذلك لأنها لا تعافه وخرج بالمحترم غيره كما مر. قال الولي العراقي في فتاويه:
قول الفقهاء إن حاجة العطش مقدمة على الوضوء ينبغي أن يكون مثالا ويلحق به حاجة البدن لغير الشرب كالاحتياج
للماء لعجن دقيق ولت سويق وطبخ طعام بلحم وغيره اه‍. وهذا أولى من قول ابن المقري في روضه: ولا يدخره، أي
الماء لطبخ وبل كعك وفتيت اه‍. ويجب أن يقدم شراء الماء لعطش بهيمته المحترمة على شرائه لطهره. وإن وجد من يبيعه
الماء لعطش بقيمته لزمه شراؤه، فلو امتنع البائع من بيعه إلا بزيادة على القيمة فاشتراه العطشان كارها لزمه الزائد لأنه
عقد صدر من أهله، وللعطشان أخذه من مالكه قهرا إن امتنع من بذله بيعا وغيره لا أخذه من مالك عطشان لأن
المالك أحق ببقاء مهجته. قال في المجموع: وإذا عطش العاصي بسفره ومعه ماء لم يجز له التيمم حتى يتوب. (الثالث)
من أسباب التيمم: (مرض يخاف معه من استعماله) أي الماء (على منفعة عضو) بضم العين وكسرها، أن تذهب كالعمى
والخرس، أو تنقص، كضعف البصر، أو الشم، لعموم قوله تعالى: * (وإن كنتم مرضى) * الآية. قال ابن عباس: نزلت
في المريض يتأذى بالوضوء وفي الرجل إذا كانت به جراحة في سبيل الله، أو القروح والجدري، فيجنب فيخاف إن
92

اغتسل أن يموت فيتيمم، إسناده حسن، والأصح وقفه عليه. وفهم من عبارة المصنف أن خوف فوت النفس والعضو
كذلك من باب أولى، وصرح بهما في المحرر. ولو كان مرضه يسيرا أو لم يكن به مرض فخاف حدوث مرض مخوف
من استعمال الماء تيمم على المذهب، أو يخاف شدة الضنا، قال في المجموع: هذا إن لم يعص بالمرض، فإن عصى به
لم يصح تيممه حتى يتوب. فإن قيل: قول المصنف مرض ليس وجود المرض شرطا، بل الشرط أن يخاف من استعمال
الماء ما ذكر كما تقرر. أجيب بأن الغالب أن الخوف إنما يحصل مع المرض، ومع هذا لو قال أن يخاف من استعماله،
كذا كان أولى. (وكذا بطء البرء) بفتح الباء وضمها، أي طول مدته وإن لم يزد الألم، وكذا زيادة العلة، وهو إفراط
الألم وكثرة المقدار وإن لم تطل المدة. (أو الشين الفاحش) كسواد كثير (في عضو ظاهر في الأظهر) فيهما، لأن ضرر ذلك
فوق ثمن المثل ولأنه يشوه الخلقة ويدوم ضرره. والمراد بالظاهر كما قال الرافعي ما يبدو عند المهنة غالبا كالوجه واليدين،
وقيل: ما لا يعد كشفه هتكا للمروءة، وقيل: ما عدا العورة. والشين: الأثر المستكره من تغير لون ونحول واستحشاف
وثغرة تبقى ولحمة تزيد، قاله الرافعي في أثناء الديات. والثاني: لا يتيمم لذلك لانتفاء التلف. وقد روي عن ابن عباس
موقوفا ومرفوعا تفسير المرض في الآية بالذي يخاف معه التلف. وعلى الأول إنما يتيمم إن أخبره بكونه يحصل منه ذلك
وبكونه مخوفا فيما تقدم طبيب مقبول الرواية ولو عبدا أو امرأة أو عرف هو ذلك من نفسه، وإلا فلا يتيمم كما جزم به في
التحقيق ونقله في الروضة عن أبي علي السنجي وأقره، هذا هو المعتمد، وجزم البغوي بأنه يتيمم. قال الأسنوي: ويدل
له ما في شرح المهذب في الأطعمة عن نص الشافعي أن المضطر إذا خاف من الطعام المحضر إليه أنه مسموم جاز له تركه
والانتقال إلى الميتة اه‍. وفرق شيخي بأن ذمته هنا اشتغلت بالطهارة بالماء فلا تبرأ من ذلك إلا بدليل، ولا كذلك أكل
الميتة. وخرج بالفاحش اليسير كقليل سواد أو أثر جدري، وبالظاهر الفاحش في الباطن فلا أثر لخوف ذلك. واستشكله
ابن عبد السلام بأن المتطهر قد يكون رقيقا فتنقص قيمته نقصا فاحشا، فكيف لا يباح له التيمم مع إباحته فيما لو امتنع
من بيع الماء إلا بزيادة يسيرة؟ وكذا لو كان حرا فإن الفلس مثلا أهون على النفوس من أثر الجدري على الوجه
ومن الشين الفاحش في الباطن لا سيما الشابة المقصودة للاستمتاع. وأجيب بأن الخسران في الزيادة محقق بخلافه في نقص
الرقيق، ولذا وجب استعمال الماء المشمس إذا لم يجد غيره وإن كان يخشى منه البرص، لأن حصول البرص غير محقق،
وبأن تفويت المال إنما يؤثر إذا كان سببه تحصيل الماء لا استعماله ولا لاثر نقص الثوب ببله بالاستعمال ولا قائل به.
وأما الشين فإنما يؤثر إذا كان سببه الاستعمال، والضرر المعتبر في الاستعمال فوق الضرر المعتبر في التحصيل، ويشهد له
ما مر من أنه لو خاف خروج الوقت بطلب الماء تيمم، ولو خاف خروجه بالاستعمال لا يتيمم. (وشدة البرد) في إباحة التيمم
(كمرض) إذا خيف من استعمال الماء المعجوز عن تسخينه أو عما يدثر به الأعضاء بعد استعماله ما تقدم، لأن عمرو بن العاص
تيمم عن جنابة لخوف الهلاك من البرد وأقره (ص) على ذلك، رواه أبو داود وصححه الحاكم وابن حبان. (وإذا امتنع
استعماله) أي الماء وجوبه، (في عضو) من محل الطهارة لنحو مرض أو جرح، (إن لم يكن عليه ساتر، وجب التيمم)
جزما لئلا يبقى موضع العلة بلا طهارة، فيمر التراب ما أمكن على موضع العلة إن كان بمحل التيمم. وعرف التيمم بالألف
واللام إشارة للرد على من قال من العلماء إنه يمر التراب على المحل المعجوز عنه. (وكذا) يجب (غسل الصحيح) بقدر
الامكان (على المذهب) لما رواه أبو داود وابن حبان في حديث عمرو بن العاص في رواية لهما: أنه غسل معاطفه وتوضأ
وضوءه للصلاة ثم صلى بهم قال البيهقي: معناه أنه غسل ما أمكنه وتوضأ وتيمم للباقي. والطريق الثاني في وجوب غسله
القولان فيمن وجد من الماء ما لا يكفيه، ذكر ذلك في المجموع. وذكر في الدقائق أنه عدل عن قول المحرر وغسل
الصحيح، والصحيح أنه يتيمم إلى ما في المنهاج لأنه الصواب فإن التيمم واجب قطعا، زاد في الروضة: لئلا يبقى موضع
الكسر بلا طهر. وقال: لم أر خلافا في وجوب التيمم لاحد من أصحابنا. ويتلطف في غسل الصحيح المجاور للعليل فيوضع
93

خرقة مبلولة بقربه ويتحامل عليها ليغسل بالمتقاطر منها ما حواليه من غير أن يسيل إليه، فإن لم يقدر على ذلك بنفسه
استعان ولو بأجرة، فإن تعذر ففي المجموع أنه يقضي. وفهم من كلامه أنه لا يجب مسح موضع العلة بالماء وإن لم يخف
منه، وهو كذلك كما نقله الرافعي عن الأئمة، لأن الواجب إنما هو الغسل، قال: وفيه نص بالوجوب اه‍. فينبغي أن يستحب لذلك ولا يجب عليه وضع ساتر على العليل ليمسح على الساتر، لأن المسح رخصة فلا يليق بها وجوب ذلك (ولا ترتيب
بينهما أي التيمم وغسل الصحيح، (للجنب) ونحوه كالحائض، وكذا الأغسال المسنونة، لأن التيمم بدل عن غسل
العليل والمبدل لا يجب فيه الترتيب فكذا بدله. ولو قال ولا ترتيب بينهما للمغتسل لشمل ما قدرته. فإن قيل: هلا وجب
تقديم غسل الصحيح كوجود ماء لا يكفيه أجيب بأن العاجز هناك أبيح له التيمم لفقد الماء فلا يجوز مع وجوده،
وهنا أبيح للعلة وهي موجودة، بل النص ههنا أن يندب أن يبدأ بالتيمم ليزيل الماء أثر التراب. (فإن كان) من به
العلة (محدثا) حدثا أصغر، (فالأصح اشتراط التيمم وقت غسل العليل) أي العضو العليل لاعتبار الترتيب في الوضوء،
فلا ينتقل عن العضو المعلول إلا بعد كمال طهارته أصلا وبدلا، ويقدم ما شاء من الغسل والتيمم في العضو الواحد. ويستحب
تقديم التيمم على غسله هنا أيضا كما في المجموع، والثاني: يجب تقديم غسل المقدور عليه من الأعضاء كلها لما مر في الجنب،
والثالث: يتخير كالجنب. (فإن جرح عضواه) أي المحدث، أو امتنع استعمال الماء فيهما لغير جراحة، (فتيممان) يجبان
بناء على الأصح، وهو اشتراط التيمم وقت غسل العليل لتعدد العليل، وكل من اليدين والرجلين كوضوء واحد، ويستحب
أن تجعل كل واحدة كعضو، فإن كان في أعضائه الأربعة جراحة ولم تعمها فلا بد من ثلاث تيممات: الأول للوجه،
والثاني لليدين، والثالث للرجلين، والرأس يكفي فيه مسح ما قل منه كما مر. فإن عمت الرأس فأربعة، وإن عمت الأعضاء
كلها فتيمم واحد عن الجميع لسقوط الترتيب بسقوط الغسل، قال في المجموع: فإن قيل: إذا كانت الجراحة في وجهه
ويديه وغسل صحيح الوجه أولا جاز توالي تيمميهما، فلم لا يكفيه تيمم واحد كمن عمت الجراحة أعضاءه؟ فالجواب أن
التيمم هنا في طهر تحتم فيه الترتيب، فلو كفاه تيمم واحد حصل تطهير الوجه واليدين في حالة واحدة وهو ممتنع بخلاف
التيمم عن الأعضاء كلها لسقوط الترتيب بسقوط الغسل اه‍. فيه كلام ذكرته مع الجواب عنه في شرح التنبيه. ويؤخذ
من التعليل المذكور أن الجراحة لو عمت الوجه واليدين كفاهما تيمم واحد، وكذا لو عمتهما والرأس، وهو ظاهر لسقوط
الترتيب بسقوط الغسل. (فإن كان) على العضو الذي امتنع استعمال الماء فيه ساتر (كجبيرة لا يمكن نزعها) لخوف محذور
مما تقدم بيانه، وكذا اللصوق بفتح اللام والشقوق التي في الرجل إذا احتاج إلى تقطير شئ فيها يمنع من وصول الماء.
والجبيرة بفتح الجيم والجبارة بكسرها: خشب أو قصب يسوى ويشد على موضع الكسر أو الخلع لينجبر. وقال الماوردي:
الجبيرة ما كان على كسر، واللصوق ما كان على جرح، ومنه عصابة الفصد ونحوها، ولهذا عبر المصنف بالساتر لعمومه
ومثل بالجبيرة. وإذا عسر عليه نزع ما ذكر (غسل الصحيح) على المذهب لأنها طهارة ضرورة، فاعتبر الاتيان فيها بأقصى
الممكن. (وتيمم) لما روى أبو داود والدارقطني بإسناد كل رجاله ثقات عن جابر في المشجوج الذي احتلم واغتسل فدخل
الماء شجته فمات أن النبي (ص) قال: إنما يكفيه أن يتيمم ويعصب على رأسه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل
سائر جسده. (كما سبق) في مراعاة الترتيب في المحدث وتعدد التيمم عند تعدد العلة وغير ذلك مما مر. وفهم منه أنه
إذا أمكن النزع بلا خوف وجب، وهو كذلك قطعا، ونقل عن الأئمة الثلاثة عدم الوجوب. وقد يفهم من قوله كما سبق
الجزم بوجوب التيمم كالمسألة قبلها، وليس مرادا، ففيه قولان مشهوران صرح بحكايتهما التنبيه، أظهرهما أنه يتيمم. (ويجب
مع ذلك مسح كل جبيرته) التي يضر نزعها، (بماء) استعمالا للماء ما أمكن، بخلاف التراب لا يجب مسحها به وإن كانت
في محله لأنه ضعيف، فلا يؤثر من وراء الحائل ولا يقدر المسح بمدة، بل له الاستدامة إلى الاندمال لأنه لم يرد فيه توقيت
ولان الساتر لا ينزع للجنابة بخلاف الخف فيهما. والتيمم المتقدم بدل عن غسل العضو العليل، ومسح الساتر بدل عن
94

غسل ما تحت أطرافه من الصحيح كما في التحقيق وغيره. وعليه يحمل قول الرافعي إنه بدل عما تحت الجبيرة، وقضية
ذلك أنه لو كان الساتر بقدر العلة فقط أو بأزيد وغسل الزائد كله لا يجب المسح، وهو كذلك، فإطلاقهم وجوب المسح
جرى على الغالب من أن الساتر يأخذ زيادة على محل العلة ولا يغسل. (وقيل) يكفي مسح (بعضها) كالخف والرأس،
ويمسح الجنب ونحوه متى شاء، والمحدث وقت غسل عليله، ويشترط في السائر ليكتفي بما ذكر أن لا يأخذ من الصحيح
إلا ما لا بد منه للاستمساك، ولو قدر على غسله بالتلطف المتقدم وجب لخبر: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم فإن
تعذر ذلك أمس ما حوالي الجرح ماء بلا إفاضة كما في التحقيق وغيره. والفصد كالجرح الذي يخاف من غسله ما مر، فيتيمم
له إن خاف استعمال الماء وعصابته كاللصوق ولما بين حبات الجدري حكم العضو الجريح إن خاف من غسله ما مر، فإذا ظهر
دم الفصادة من اللصوق وشق عليه نزعه وجب عليه مسحه، ويعفى عن هذا الدم المختلط بالماء تقديما لمصلحة الواجب
على دفع مفسدة الحرام. قال شيخي: كوجوب تنحنح مصلي الفرض حيث تعذرت عليه القراءة الواجبة. (فإذا تيمم)
الذي غسل الصحيح وتيمم عن الباقي وأدى فريضة (لفرض ثان) وثالث وهكذا (ولم يحدث) بعد طهارته الأولى، (لم
يعد الجنب) ونحوه (غسلا) لما غسله ولا مسحا لما مسحه. (ويعيد المحدث) غسل (ما بعد عليله) لأن التيمم بدل عن
غسل العليل. ولا ترتيب في حق الجنب بين غسل العليل وبين ما بعده بخلاف المحدث، فإذا وجب إعادة تطهير عضو
خرج ذلك العضو عن أن تكون طهارته تامة، فإذا أتمها أعاد ما بعدها كما لو نسي منه لمعة. (وقيل يستأنفان) أي الجنب
ونحوه الغسل، والمحدث الوضوء. وهذا مخرج من القول بوجوب الاستئناف على ماسح الخف إذا نزعه، لأن كلا منهما
طهارة مركبة من أصل وبدل، فإذا بطل البدل بطل الأصل. واستغرب في المجموع هذا الوجه فقال: اتفقت الطرق
على عدم وجوب استئناف الغسل. وقال الرافعي: فيه خلاف كالوضوء، وهذا ضعيف متروك. (وقيل المحدث كجنب)
فلا يحتاج إلى إعادة غسل ما بعد عليله، لأنه إنما يحتاج إليه لو بطلت طهارة العليل، وطهارة العليل باقية إذ يتنفل بها، وإنما
يعيد التيمم لضعفه عن أداء فرض ثان بخلاف من نسي لمعة، فإن طهارة ذلك العضو لم تحصل. (قلت: الثالث أصح)
لما قلناه، (والله أعلم) فيعيد كل منهما التيمم فقط. وهل إذا كان التيمم الأول متعددا هل يعيده كذلك حتى لو تيمم
في الأول أربع تيممات يعيدها كلها أو لا؟ اختلف المتأخرون في ذلك، والذي ينبغي اعتماده كما قاله شيخي أنه يتيمم تيمما
واحدا. والذي قال بالتعدد إنما يأتي على طريقة الرافعي لأجل الترتيب. وخرج بقوله ولم يحدث ما إذا أحدث، فإنه
يعيد جميع ما مر، قال في المجموع: ولو أجنب صاحب الجبيرة اغتسل وتيمم ولا يجب عليه نزعها بخلاف الخف، والفرق
أن في إيجاب النزع مشقة. ولو اغتسل الجنب وتيمم عن جراحة في غير أعضاء الوضوء ثم أحدث بعد أداء
فريضة من صلاة
أو طواف لم يبطل تيممه لأنه وقع عن غير أعضاء الوضوء، فلا يؤثر فيه الحدث، فيتوضأ ويصلي بوضوئه ما شاء من النوافل،
ولو برأ - بتثليث الراء - وهو على طهارة بطل تيممه لزوال علته ووجب غسل موضع العذر كان أو محدثا، ويجب على
المحدث أن يغسل ما بعد موضع العذر رعاية للترتيب، لأنه لما وجب إعادة تطهير عضو لبطلانه خرج عن كونه تام الطهر،
فإذا أتمه وجب إعادة ما بعده كما لو أغفل لمعة بخلاف نحو الجنب ولا يستأنفان الطهارة، وبطلان بعضها لا يقتضي بطلان كلها،
ولو توهم البرء - بفتح الباء وضمها - فرفع الساتر فبان خلافه لم يبطل تيممه بخلاف توهم الماء فإنه يبطله وإن تبين أن لا ماء
لأن توهمه يوجب الطالب، وتوهم البرء لا يوجب البحث عنه. فإن قيل: قال في المجموع: لو سقطت جبيرته في الصلاة
بطلت صلاته وإن لم يبرأ كانخلاع الخف فيشكل على ما هنا. أجيب بأن ما هنا محمول على ما إذا لم يظهر من الصحيح
ما يجب غسله بأن لم يظهر منه شئ أصلا، بأن يكون اللصوق على قدر الجراحة وإن يكون العليل بحيث لا يلزمه إن يمر
التراب عليه، وما هناك على ما إذا ظهر منه ولو كان على عضوه جبيرتان فرفع إحداهما لم يلزمه رفع الأخرى بخلاف
الخفين، لأن لبسهما جميعا شرط بخلاف الجبيرتين. ذكره في المجموع.
95

فصل: في بيان أركان التيمم وكيفيته وغير ذلك مما سيأتي. (يتيمم بكل تراب) وهو اسم جنس، وقيل: جمع،
واحدته ترابة. ومن فوائد الخلاف ما لو قال لزوجته: أنت طالق بعدد التراب، فعلى الأولى يقع طلقة، وعلى الثاني يقع
ثلاث كما سيأتي إن شاء الله تعالى في محله. (طاهر) لقوله تعالى: * (فتيمموا صعيدا طيبا) * قال ابن عباس: هو التراب
الطاهر، وقال الشافعي: تراب له غبار، وقوله حجة في اللغة، ويؤيده قوله تعالى: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) *
فإن الاتيان ب‍ من الدالة على التبعيض يقتضي أن يمسح بشئ يحصل على الوجه واليدين بعضه. وأجاب بعض الأئمة ممن
لا يشترط التراب بأن من لابتداء الغاية. وضعفه الزمخشري بأن أحدا من العرب لا يفهم من قول القائل: مسح برأسه من
الدهن ومن الماء ومن التراب إلا معنى التبعيض، والاذعان للحق أحق من المراء اه‍. ويدل له من السنة قوله
(ص): جعلت لي الأرض مسجدا وتربتها طهورا. رواه مسلم، وهذه الرواية مبينة للرواية المطلقة التي فيها: وجعلت
لي الأرض مسجدا وطهورا. واسم التراب يدخل فيه الأصفر والأعفر والأحمر والأسود والأبيض. (حتى ما)
يؤكل سفها، وهو الخراساني، أو (يداوي به) كالطين الأرمني - بكسر الهمزة وفتح الميم - إذا سحق لوقوع اسم التراب
عليه، والبطحاء: وهو تراب بمسيل الماء فيه حصى دقاق، والسبخ بكسر الموحدة: وهو ما لا ينبت إذا لم يعله الملح، فإن
علاه لم يصح التيمم به، والتراب الذي خرجت به أرضه من مدر لأنه تراب، لا من خشب، لأنه لا يسماه وإن أشبهه.
ولا أثر للعابها المختلط بالتراب، ولا أثر لتغير طين أسود ولو شوي وتسود، لأن اسم التراب لا يبطل بمجرد الشئ إلا
ما صار رمادا. وإن انتفض من نحو كلب تراب ولم يعلم ترطبه عند التصاقه به بماء أو عرق أو غيره أجزأه لأنه طاهر حقيقة
وأصالة، بخلاف ما إذا علم ذلك. (وبرمل) لا يلصق بالعضو ولو كان ناعما. (فيه غبار) منه ولو بسحقه، لأنه من طبقات
الأرض والتراب جنس له، فلا يصح برمل ولو ناعما لا غبار فيه أو فيه غبار، لكن الرمل يلصق بالعضو لمنعه وصول
التراب إلى العضو كما سيأتي في التراب المختلط بغيره. ويؤخذ من هذا شرط آخر في التراب، وهو أن يكون له غبار يعلق
بالوجه واليدين، فإن كان جرشا أو نديا لا يرتفع له غبار لم يكف. (لا بمعدن) بكسر الدال كنفط وكبريت ونورة (وسحاقة
خزف) وهو ما يتخذ من الطين ويشوى كالكيزان، إذ لا يسمى ذلك ترابا، ومثله سحاقة نحو آجر. ولا بتراب متنجس
كمقبرة تيقن نبشها لاختلاطها بصديد الموتى. (و) لا بتراب (مختلط بدقيق ونحوه) كزعفران وجص لمنعه وصول التراب
إلى العضو، بخلاف المختلط برمل لا يلصق بالعضو كما مر. ولو عجن التراب بنحو خل فتغير به ثم جف صح التيمم به. (وقيل
إن قل الخليط جاز) كالماء القليل إذا اختلط بمائع، وفرق الأول بأن الموضع الذي علق به نحو الدقيق لا يصل إليه التراب
لكثافته، بخلاف الماء فإنه لطيف فيجري على المحل الذي جرى عليه الخليط.
واختلف في ضبط القليل والكثير على هذا القول، فقال الإمام: الكثير ما يظهر في التراب، والقليل ما لا يظهر.
وقال الروياني وجماعة: تعتبر الأوصاف الثلاثة كما في الماء، وجرى على هذا المصنف في الروضة وغيرها
. (ولا ب‍) - تراب
(مستعمل على الصحيح) وبه قطع الجمهور لأنه أدي به فرض، فلم يجز استعماله ثانيا كالماء. والثاني: يجوز، لأنه
لا يرتفع الحدث، فلا يتأثر بالاستعمال، بخلاف الماء. ويجري الخلاف في الماء المستعمل في طهارة دائم الحدث، فإن
حدثه لا يرفع على الصحيح. (وهو) أي التراب المستعمل، (ما بقي بعضوه) حال التيمم، (وكذا ما تناثر) بالمثلثة
بعد مسه العضو حالة التيمم، (في الأصح) المقطوع به كالمتقاطر من الماء. والثاني: لا يكون مستعملا، لأن التراب
كثيف إذا علق منه شئ بالمحل منع غيره أن يلصق به، وإذا لم يلصق به فلا يؤثر، بخلاف الماء فإنه رقيق يلاقي جميع
المحل. وهذا الوجه ضعيف جدا أو غلط فكان التعبير بالصحيح أولى. أما ما تناثر ولم يمس العضو بل لاقى ما لصق
96

بالعضو فليس بمستعمل قطعا كالباقي بالأرض، وقول الرافعي: إنما يثبت للمتناثر حكم الاستعمال إذا انفصل بالكلية وأعرض
المتيمم عنه مراده كما قال شيخي أن ينفصل عن الماسحة والممسوحة لا ما فهمه الأسنوي من أنه لو أخذه من الهواء
قبل إعراضه عنه أنه يكفي. وعلم من حصر المستعمل فيما ذكر أنه يجوز أن يتيمم الجماعة أو الواحد مرات كثيرة من
تراب يسير في خرقة ونحوها كما يجوز الوضوء مرات من إناء واحد. (ويشترط قصده) أي التراب، لقوله تعالى: * (فتيمموا
صعيدا طيبا) * أي اقصدوا، فالآية آمرة بالتيمم: وهو القصد، والنقل طريقه. (فلو سفته ريح عليه) أي عضو من أعضاء
التيمم، (فردده) عليه (ونوى لم يجزئ) بضم أوله، وإن قصد بوقوفه في مهب الريح التيمم لانتفاء القصد من جهته
بانتفاء النقل المحقق له. والقصد المذكور لا يكفي هنا، بخلاف ما لو برز للمطر في الطهر بالماء فانغسلت أعضاؤه، لأن المأمور
به فيه الغسل واسمه مطلق ولو بغير قصد بخلاف التيمم. (ولو يمم بإذنه) بأن نقل المأذون التراب إلى العضو وردده
عليه، (جاز) على النص كالوضوء، لا بد من نية الآذن عند النقل وعند مسح الوجه كما لو كان هو المتيمم وإلا لم يصح
جزما كما لو يممه بغير إذنه فإنه يكون كتعرضه للريح. (وقيل يشترط) لجواز أن ييممه غيره بإذنه. (عذر) لأنه لم يقصد
التراب. وأجاب الأول بإقامة فعل مأذونه مقام فعله، لكن يستحب له أن لا يأذن لغيره في ذلك مع القدرة خروجا من
الخلاف، بل يكره له ذلك كما صرح به الدميري، ويجب عليه عند العجز ولو بأجرة عند القدرة عليها. (وأركانه) أي
التيمم هنا خمسة، وركن الشئ جانبه الأقوى. وعدها في الروضة سبعة، فجعل التراب والقصد ركنين، وأسقط في المجموع
التراب وعدها ستة وجعل التراب شرطا. والأولى ما في الكتاب، إذ لو حسن عد التراب ركنا لحسن عد الماء ركنا
في الطهر به، وأما القصد فداخل في النقل الواجب قرن النية به. الركن الأول: (نقل التراب) إلى العضو الممسوح بنفسه
أو بمأذونه كما مر، فلو كان على العضو تراب فردده عليه من جانب إلى جانب لم يكف. وإنما صرح بالقصد مع أن
النقل المقرون بالنية متضمن له رعاية للفظ الآية. (فلو) تلقى التراب من الريح بكمه أو يده ومسح به وجهه أو تمعك في
التراب ولو لغير عذر أجزأه. فإن قيل: إن الحدث بعد الضرب وقبل مسح الوجه يضر، وكذا الضرب قبل الوقت أو مع
الشك في دخوله، مع أن المسح بالضرب المذكور لا يتقاعد عن التمعك والضرب بما على الكم أو اليد، فينبغي جوازه
في ذلك. أجيب بأنه يجوز عند تجديد النية كما لو كان التراب على يديه ابتداء، والمنع إنما هو عند عدم تجديدها
لبطلانها وبطلان النقل الذي قارنته. ولو (نقل) التراب (من وجه إلى يد) بأن حدث عليه بعد زوال تراب مسحه عنه
تراب، (أو عكس) أي نقله من يد إلى وجه أو نقله من يد إلى أخرى أو من عضو ورده إليه ومسحه به، (كفى في
الأصح) لوجود مسمى النقل. والثاني: لا يكفي، لأنه منقول من محل الفرض، فهو كالنقل من بعض العضو إلى بعضه
بالترديد. ودفع بأنه بالانفصال انقطع حكم ذلك العضو عنه بخلاف ترديده عليه، ولو مسح بما سفته الريح على كمه مثلا
كفى لوجود النقل. (و) الركن الثاني: (نية استباحة الصلاة) ونحوها مما تفتقر استباحته إلى طهارة كطواف وحمل مصحف
وسجود تلاوة، إذ الكلام الآن في صحة التيمم وأما ما يستباح به فسيأتي. ولو تيمم بنية الاستباحة ظانا أن حدثه أصغر
فبان أكبر أو عكسه صح لأن موجبهما واحد، وإن تعمد لم يصح في الأصح لتلاعبه. فلو أجنب في سفره ونسي وكان
يتيمم وقتا ويتوضأ وقتا أعاد صلاة الوضوء فقط لما ذكر، ولو نوى الظهر مقصورة عند جوازه فله الاتمام أو عند امتناعه
لم يصح تيممه لعصيانه، قاله البغوي في فتاويه. (لا) نية (رفع حدث) أصغر أو أكبر أو الطهارة عن أحدهما، فلا يكفي
لأن التيمم لا يرفعه. فإن قيل: الحدث الذي ينوى رفعه هو المنع من الصلاة، نحوها، وهذا يرفعه التيمم. أجيب بأن
الحدث منع متعلقه كل صلاة فريضة كانت أو نافلة، وكل طواف فرضا كان أو نفلا وغير ذلك، وهذا المنع العام لا يرفعه
التيمم، وإنما يرتفع به منع خاص، وهو المنع من فريضة فقط أو ونوافل أو نوافل فقط، والخاص غير العام. ويؤخذ
97

من هذا أنه لو نوى رفع الحدث الخاص صح، وهو كذلك كما قاله شيخي. (ولو نوى فرض التيمم) أو فرض الطهارة
أو التيمم المفروض أو الطهارة عن الحدث أو الجنابة، (لم يكف في الأصح) لأن التيمم ليس مقصودا في نفسه وإنما يؤتى
به عن ضرورة فلا يجعل مقصودا بخلاف الوضوء، ولهذا يستحب تجديد الوضوء بخلاف التيمم، والثاني: يكفي كالوضوء.
وفرق الأول بما تقدم. ولو نوى التيمم لم يكف جزما، وسيأتي أنه لو تيمم عن غسل مسنون كغسل الجمعة أنه يكفيه
نية التيمم بدل الغسل. (ويجب قرنها) أي النية (بالنقل) الحاصل بالضرب إلى الوجه لأنه أول الأركان، (وكذا) يجب
(استدامتها إلى مسح شئ من الوجه على الصحيح) فلو عزبت قبل المسح لم يكف لأن النقل وإن كان ركنا فهو غير
مقصود في نفسه. قال الأسنوي: والمتجه الاكتفاء باستحضارها عندهما وإن عزبت بينهما. واستشهد له بكلام
لأبي خلف الطبري، بل وتعليل الرافعي يفهمه، وهذا هو المعتمد. والتعبير بالاستدامة كما قال شيخي جرى على الغالب لأن هذا الزمن
يسير لا تعزب فيه النية غالبا، بل لو لم ينو إلا عند إرادة مسح الوجه أجزأه ذلك أخذا من الفرق المتقدم، ولا ينافي ذلك
قول الأصحاب يجب قرنها بالنقل لأن المراد النقل المعتد به وهذا لا يعتد به، فإن النقل المعتد به الآذن هو النقل من
اليدين إلى الوجه وقد اقترنت النية به. والثاني: لا تجب الاستدامة، كما لو قارنت نية الوضوء أول غسل الوجه ثم انقطعت.
وأجاب الأول بما مر. ولو نقل التراب قبل الوقت وتيمم بعده لم يجزه، ولو يممه غيره بإذنه ونوى الآذن عند ضرب
المأذون له وأحدث أحدهما قبل المسح لم يضر، قاله القاضي حسين في فتاويه، لأن الآمر ليس بناقل فلا يبطل بحدثه،
والمأمور ليس بناقل لنفسه حتى يبطل بحدثه، وهذا هو المعتمد، وإن قال الرافعي ينبغي أن يبطل بحدث الآمر كما في تعليق
القاضي حسين. ولو تقدمت النية على المفروضات وقارنت شيئا من السنن كالتسمية والسواك فكما سبق في الوضوء.
ولو ضرب يده على بشرة تنقض وعليها تراب، فإن منع التقاء البشرتين صح تيممه وإلا فلا. ثم شرع في بيان
ما يباح له بنيته، فقال: (فإن نوى فرضا ونفلا) أي استباحتهما، (أبيحا) له عملا بنيته. وعلم من تنكيره الفرض عدم
اشتراط التعيين، وهو الأصح. فإذا أطلق صلى أي فرض شاء، وإن عين فرضا جاز أن يصلي غيره فرضا أو نفلا في الوقت
أو غيره. وله أن يصلي به الفرض المنوي في غير وقته، فإن عين فرضا وأخطأ في التعيين كمن نوى فائتة ولا شئ عليه،
أو ظهرا وإنما عليه عصر، لم يصح تيممه، لأن نية الاستباحة واجبة في التيمم وإن لم يجب التعيين. فإذا عين وأخطأ
لم يصح كما في تعيين الإمام والميت في الصلاة بخلاف مثله في الوضوء لعدم وجوب نية الاستباحة فيه فلا يضر الخطأ
فيها، كما لو عين المصلي اليوم وأخطأ، ولأنه يرفع الحدث فيستبيح ما شاء، والتيمم يبيح ولا يرفع، فنيته صادفت استباحة
ما لا يستباح. (أو) نوى (فرضا فله النفل) معه (على المذهب) لأن النوافل تابعة، وإذا صلحت طهارته للأصل فللتابع
أولى، كما إذا أعتق الام بعتق الحمل. وعبر بالمذهب لأن النوافل المتقدمة على الفرض فيها قولان، والمتأخرة تجوز قطعا،
وقيل على القولين. ويتلخص من ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: له النفل مطلقا، والثاني: لا مطلقا لأنه لم ينوها، والثالث:
له ذلك بعد الفرض لا قبله لأن التابع لا يقدم. قال السبكي: ولو قيل يستبيح النافلة التابعة لتلك الفريضة دون ما عداها
لم يبعد، ولكن لم أر من قال به. ومن ظن أو شك هل عليه فائتة فتيمم لها ثم ذكرها لم يصح تيممه لأن وقت الفائتة
بالتذكر كما سيأتي. (أو) نوى (نفلا) من الصلوات ولم يتعرض للفرض، (أو) نوى (الصلاة) وأطلق (تنفل) أي
له فعل النفل المنوي وغيره (لا الفرض على المذهب) فيهما. أما في الأولى، فلان الفرض أصل والنفل تابع فلا يجعل
المتبوع تابعا، والثاني يستبيح الفرض قياسا على الوضوء. وأما في الثانية فقياسا على ما لو تحرم بالصلاة فإن صلاته
تنعقد نفلا، والثاني يستبيح الفرض أيضا، لأن الصلاة اسم جنس يتناول النوعين فيستبيحهما كما لو نواهما. قال
98

الأسنوي: وهو المتجه لأن المفرد المحلى بأل للعموم عند الشافعي، وفي قول ثالث: له فعل الفرض في الثانية دون الأولى.
والأقوال التي تحصلت من حكاية قولين في المسألتين كما في المجموع، وطريقة قاطعة في الثانية بالجواز. وقطع بعضهم في الأولى
بعدمه، فساغ للمصنف أن يعبر بالمذهب. و الرافعي حكى الخلاف في الثانية وجهين وتبعه في الروضة. ولو نوى بتيممه
حمل المصحف أو سجود التلاوة أو الشكر أو نوى نحو الجنب الاعتكاف أو قراءة القرآن أو الحائض استباحة الوطئ كان
ذلك كله كنية النفل في أنه لا يستبيح به الفرض ولا يستبيح به النفل أيضا لأن النافلة آكد من ذلك. وظاهر كلامهم أن
ما ذكر في مرتبة واحدة حتى إذا تيمم لواحد منها جاز له فعل البقية وهو كذلك، ولو نوى بتيممه صلاة الجنازة فالأصح
أنه كالتيمم للنفل، والثاني أنه كالتيمم للفرض، والثالث حكاه في المجموع التفصيل بين أن يتعين عليه أو لا، فعلى الصحيح
يستبيح معها النفل لا الفرض ويستبيحها بالتيمم للنفل، ولو نوى فريضتين فائتتين أو فائتة ومؤداة أو منذورتين أو
منذورة وفريضة أخرى صح تيممه لواحد، لأن من نوى استباحة فرضين فقد نوى استباحة فرض. (و) الركن الثالث:
(مسح وجهه) حتى ظاهر مسترسل لحيته والمقبل من أنفه على شفته، لقوله تعالى: * (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) *.
والركن الرابع: ما ذكره بقوله: (ثم) مسح (يديه مع مرفقيه) على وجه الاستيعاب للآية، لأن الله تعالى أوجب طهارة
الأعضاء الأربعة في الوضوء أول الآية، ثم أسقط منها عضوين في التيمم في آخر الآية، فبقي العضوان في التيمم على
ما ذكر في الوضوء، إذ لو اختلفا لبينهما، كذا قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه، والقديم يكفي مسحهما إلى الكوعين.
ورجحه في شرح المهذب والتنقيح، وقال في الكفاية: إنه الذي يتعين ترجيحه اه‍. وهذا من جهة الدليل وإلا فالمرجح
في المذهب ما في المتن. والركن الخامس: الترتيب بين الوجه واليدين المستفاد من ثم، ولما مر في الوضوء، ولا فرق
في ذلك بين التيمم عن حدث أكبر أو أصغر أو غسل مسنون الوضوء مجدد أو غير ذلك مما يطلب له التيمم.
فإن
قيل: لم لم يجب الترتيب في الغسل ووجب في التيمم الذي هو بدل عنه؟ أجيب بأن الغسل لما وجب فيه تعميم جميع البدن
صار كعضو واحد، والتيمم يجب في عضوين فقط فأشبه الوضوء. (ولا يجب إيصاله) أي التراب (منبت الشعر الخفيف)
لما فيه من العسر بخلاف الوضوء، بل لا يستحب كما في الكفاية فالكثيف أولى. (ولا ترتيب) واجب (في نقله) أي
التراب إلى العضوين (في الأصح) بل هو مستحب، (فلو ضرب بيديه) التراب دفعة واحدة أو ضرب اليمين قبل اليسار، (
ومسح بيمينه وجهه وبيساره يمينه) أو عكس، (جاز) لأن الفرض الأصلي المسح والنقل وسيلة إليه، والثاني: يشترط
كما في المسح. وأجاب الأول بأنه لا يلزم من الاشتراط في المقصد الاشتراط في وسيلته. ويشترط قصد التراب لعضو
معين يمسحه، أي أو يطلق، فلو أخذ التراب ليمسح به وجهه فتذكر أنه مسحه لم يجز أن يمسح يديه بذلك التراب، وكذا
لو أخذه بيديه ظانا أنه مسح الوجه ثم تذكر أنه لم يمسحه لم يجز أن يمسح به وجهه، ذكره القفال في فتاويه. ثم لما فرغ
من أركان التيمم شرع في ذكر بعض سننه، فقال: (وتندب) للمتيمم ولو محدثا حدثا أكبر (التسمية) أوله كالوضوء
والغسل، (ومسح وجهه ويديه بضربتين) لورودهما في الاخبار، مع الاكتفاء بالضربة إذا حصل بها التعميم لحديث
عمار السابق، ولان المقصود إنما هو إيصال التراب وقد حصل. (قلت: الأصح المنصوص وجوب ضربتين وإن أمكن
بضربة بخرقة ونحوها) بأن يأخذ خرقة كبيرة فيضرب بها ثم يمسح ببعضها وجهه وببعضها يديه. (والله أعلم) لخبر الحاكم: التيمم
ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين. وروى أبو داود: أنه (ص) تيمم بضربتين مسح بإحداهما وجهه
وبأخرى ذراعيه لكن الأول موقوف على ابن عمر، والثاني فيه راو ليس بالقوي عند المحدثين، ذكره في المجموع. ومع
هذا صحح وجوب الضربتين وقال: إنه المعروف من مذهب الشافعي، أي لأن الاستيعاب غالبا لا يتأتى بدونهما فأشبها
99

الأحجار الثلاثة في الاستنجاء ولان الزيادة جائزة بالاتفاق، بل قيل: يستحب ثلاث ضربات لكل عضو ضربة، فلو
جاز أيضا النقصان لم يبق للتقييد بالعدد فائدة. فإن قيل: في حديث عمار أنه (ص) قال له: إنما كان يكفيك
أن تقول بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم نفضهما ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه،
رواه الشيخان. أجيب بأن المراد بيان صورة الضرب للتعليم، لا بيان جميع ما يحصل به التيمم، قال الزركشي: ولا
يخفى ضعفه. وتكره الزيادة كما قاله المحاملي وابن المقري على مرتين، أي إن حصل الاستيعاب بهما وإلا لم تكره بل
تجب، وظاهر عبارة المصنف أنه لو ضرب بنحو خرقة ضربة ومسح بها وجهه ويديه إلا جزءا منهما أو من أحدهما
كإصبع، ثم ضرب ضربة أخرى ومسح بها ذلك الجزء أنه يكفي لوجود الضربتين، وظاهر الحديث المتقدم يخالفه،
ولا يتعين الضرب، فلو وضع يديه على تراب ناعم وعلق بهما غبار كفى، فسقط ما قيل إنه يشكل على وجوب ضربتين
تصحيح جواز التمعك بالتراب. (ويقدم) ندبا (يمينه) على يساره (وأعلى وجهه) على أسفله كما في الوضوء، وقيل: يبدأ
بأسفله ثم يستعلي. وفارق الوضوء، لأن الماء ينحدر بطبعه فيعم الوجه، والتراب لا يجري إلا بإمراره باليد، فيبدأ بأسفل
وجهه ليقل ما يحصل في أعلاه من الغبار فيكون أسلم لعينيه. وقال في المجموع: ظاهر عبارة الجمهور أنه لا استحباب
في البداءة بشئ من الوجه دون شئ اه‍. وأسقط المصنف من المحرر ذكر كيفية التيمم المشهورة من غير تنبيه عليها في
الدقائق، وهي كما في المجموع مستحبة، وإن قال ابن الرفعة إنها غير مستحبة لأنه لم يثبت فيها شئ، لأن من حفظ
شيئا حجة على من لم يحفظ. وصورتها أن يضع بطون أصابع اليسرى سوى الابهام على ظهر أصابع اليمنى سوى الابهام
بحيث لا تخرج أنامل اليمنى عن مسبحة اليسرى ولا مسبحة اليمنى عن أنامل اليسرى ويمرها على ظهر كفه اليمنى، فإذا بلغ
الكوع ضم أطراف أصابعه إلى حرف الذراع ويمرها إلى المرفق ثم يدير بطن كفه إلى بطن الذراع فيمرها عليه رافعا
إبهامه، فإذا بلغ الكوع أمر إبهام اليسرى على إبهام اليمنى ثم يفعل باليسرى كذلك ثم يمسح إحدى الراحتين بالأخرى
ويمر التراب على العضو كالوضوء وخروجا من خلاف من أوجبه. (ويخفف الغبار) من كفيه أو ما يقوم مقامهما إن كان
كثيرا بالنفض أو النفخ بحيث يبقى قدر الحاجة، لخبر عمار وغيره، ولئلا تتشوه به خلقته. أما مسح التراب من
أعضاء
التيمم فالأحب أن لا يفعله حتى يفرغ من الصلاة كما نص عليه في الام. (وموالاة التيمم كالوضوء) فيأتي فيه القولان،
لأن كلا منهما طهارة عن حدث. وإذا اعتبرنا هناك الجفاف اعتبرناه هنا أيضا بتقديره ماء. وتسن الموالاة أيضا بين
التيمم والصلاة خروجا من خلاف من أوجبها. وتجب الموالاة بقسميها في تيمم دائم الحدث كما تجب في وضوئه تخفيفا
للمانع، لأن الحدث يتكرر، وهو مستغن عنه بالموالاة، وهذه الصورة داخلة في عبارة المصنف فإنه شبه التيمم
بالوضوء. (قلت: وكذا الغسل) أي تسن موالاته كالوضوء. (ويندب) أن لا يرفع اليد الماسحة عن عضو قبل تمامه مسحا
خروجا من خلاف من أوجبه، لأن الباقي بالماسحة يصير بالفصل مستعملا. ورد بأن المستعمل هو الباقي بالممسوحة
وأما الباقي بالماسحة ففي حكم التراب الذي تضرب عليه اليد مرتين. ويسن (تفريق أصابعه أولا) أي أول الضرب
في الضربتين. أما في الأولى فلزيادة إثارة الغبار باختلاف مواقع الأصابع إذا تفرقت، وأما في الثانية فليستغني
بالواصل عن المسح بما على الكف. فإن قيل: يلزم على التفريق في الأولى عدم صحة تيممه بمنع الغبار الحاصل فيها
بين الأصابع وصول الغبار في الثانية. أجيب بأنه لو اقتصر على التفريق في الأولى أجزأه لعدم وجوب ترتيب
النقل كما مر، فحصول التراب الثاني إن لم يزد الأول قوة لم ينقصه. وأيضا الغبار على المحل لا يمنع المسح بدليل
أن من غشيه غبار السفر لا يكلف نفضه للتيمم كما ذكره الرافعي. وقول البغوي يكلف نفض التراب محمول على
تراب يمنع وصول التراب إلى المحل كما قاله شيخنا: يندب تخليل أصابعه بعد مسح اليدين احتياطا. ويجب أن لم
يفرق أصابعه في الثانية، لأن ما وصل إليه قبل مسح الوجه غير معتد به في حصول المسح. ويندب مسح إحدى
100

الراحتين بالأخرى كما مر عند الفراغ من مسح الذراعين، وإنما لم يجب لأن فرضهما تأدى بضربهما بعد مسح الوجه.
وإنما جاز مسح الذراعين بترابهما لعدم انفصاله وللحاجة، إذ لا يمكن مسح الذراع بكفها فصار كنقل الماء من بعض
العضو إلى بعضه كما قاله في المجموع. قال شيخنا: وينبغي أن يكون مراده بنقل الماء تقاذفه الذي يغلب كما عبر به الرافعي،
وهو مراده بلا شك. (ويجب نزع خاتمه في الثانية) ليصل التراب إلى محله، ولا يكفي تحريكه، (والله أعلم
) وهذا
بخلاف الوضوء لأن التراب كثيف لا يسري إلى ما تحت الخاتم بخلاف الماء. وأفهم أنه لا يجب في الأولى، وهو كذلك،
بل هو مستحب ليكون مسح جميع الوجه باليد اتباعا للسنة. وإيجاب النزع إنما هو عند المسح لا عند النقل، وإن كان
ظاهر عبارته الثاني. وإيجابه ليس لعينه، بل لايصال التراب إلى ما تحته، لأنه لا يتأتى غالبا إلا بالنزع، فإن فرض وصوله
إلى ما تحته لوسعه مثلا لم يجب نزعه. والخاتم بفتح التاء وكسرها، قال تعالى: * (وخاتم النبيين) * قرئ بفتح التاء
وكسرها. ويقال فيه خاتام وخيتام وختم بفتح الأول والثاني، وختام على وزن كتاب. ويسن عدم تكرار المسح،
لأن المطلوب فيه تخفيف التراب، وأن يأتي بالشهادتين عقبه، وأن يستقبل القبلة كالوضوء فيهما. ولو مسح وجهه بيده
النجسة لم يجز كالمسح عليها كما لا يصح غسلها عن الحدث مع بقاء النجاسة، ولان التيمم لإباحة الصلاة ولا إباحة مع
المانع فأشبه التيمم قبل الوقت، وتقدم في آداب الخلاء وجوب تقديم الاستنجاء على التيمم، ويجب أيضا تقديم إزالة
نجس بباقي البدن كما صححه في التحقيق في باب الاستنجاء، وهو المفتى به فإنه المنصوص في الام. ولو تنجس بدنه
بعد أن تيمم لم يبطل تيممه. ويصح تيمم العريان ولو كان قادرا على السترة والتيمم قبل الاجتهاد في القبلة، قال في التحقيق:
كتيمم من عليه نجاسة، ونقله في الروضة وغيرها عن الروياني. وقضيته عدم الصحة، ويفرق بينه وبين الصحة مع
العري بأن الستر أخف من معرفة القبلة بدليل صحة الصلاة مع العري بلا إعادة بخلافها مع عدم معرفة القبلة، هذا
والأوجه الصحة كصحته قبل الستر. ويفارق إزالة النجاسة أنه أخف منها، ولهذا تصح صلاة من صلى أربع ركعات
لأربع جهات بالاجتهاد بلا إعادة بخلاف إزالة النجاسة. والتشبيه المذكور لا يستلزم إتحاد المشبه والمشبه به في الترجيح.
ثم شرع في أحكام التيمم وهي ثلاثة: أحدها: ما يبطله غير الحدث المبطل له، وقد بدأ به فقال: (من تيمم لفقد ماء فوجده
إن لم يكن في صلاة بطل) تيممه، وإن ضاق الوقت بالاجماع كما قاله ابن المنذر، ولخبر أبي ذر: التراب كافيك ولو لم تجد
الماء عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسه جلدك رواه الحاكم وصححه الترمذي وقال حسن صحيح، ولأنه لم
يشرع
في المقصود فصار كما لو رآه في أثناء التيمم. ووجود ثمن الماء عند إمكان شرائه كوجود الماء، وكذا توهم الماء وإن زال
سريعا لوجوب طلبه، بخلاف توهمه السترة لا يجب عليه طلبها، لأن الغالب عدم وجدانها بالطلب للبخل بها. ومما يبطله
أيضا الردة كما مر في الوضوء. ومن التوهم رؤية سراب وهو ما يرى نصف النهار كأنه ماء، أو رؤية غمامة مطبقة بقربه،
أو رؤية ركب طلع، أو نحو ذلك مما يتوهم معه الماء، فلو سمع قائلا يقول: عندي ماء لغائب، بطل تيممه لعلمه بالماء قبل
المانع، أو يقول: عندي لغائب ماء، لم يبطل تيممه لمقارنة المانع وجود الماء، ولو قال: عندي لحاضر ماء، وجب طلبه منه،
ولو قال: لفلان ماء ولم يعلم السامع غيبته ولا حضوره وجب السؤال عنه، أي وبطل تيممه في الصورتين لما مر من أن
وجوب الطلب يبطله. ولو سمعه يقول: عندي ماء ورد هل يبطل تيممه أو لا؟ فيه نظر، ولم أر من تعرض له، ثم رأيت
بعض المتأخرين تعرض له وجزم ببطلان التيمم، ووجود ما ذكر قبل تمام تكبير الاحرام كوجوده قبل الشروع فيها،
فإن قلت: هلا كان وجود الماء كوجود المكفر الرقبة بعد فراغه من الصوم، وكحيض المرأة بعد فراغها من العدة بالأشهر
أجيب بأن الصوم والأشهر مقصودان بخلاف التيمم، أما بعد شروعه فيها فلا بطلان بتوهم أو شك أو ظن، وسيأتي
حكم التيقن. واحترز بقوله: لفقد ماء عما إذا تيمم لمرض ونحوه فإنه
إنما يبطل تيممه بالقدرة على استعماله، ولا أثر لوجوده وإنما يبطله وجود الماء أو توهمه. (إن لم يقترن بمانع) يمنع من استعماله (كعطش) وسبع، لأن وجوده والحالة هذه
101

كالعدم، (أو) إن وجده (في صلاة، لا تسقط) أي لا يسقط قضاؤها (به) أي بالتيمم، بأن صلى في مكان يغلب فيه وجود
الماء. (بطلت) صلاته (على المشهور) إذ لا فائدة بالاشتغال بها لأنه لا بد من إعادتها، والثاني: لا تبطل محافظة على
حرمتها ويعيدها، وهو وجه ضعيف. فالخلاف كما في الروضة وغيرها وجهان، فكان التعبير بالصحيح كما في الشرحين
والروضة أولى، ولو وجه البطلان للتيمم لكان أولى إذ لا يلزم من بطلانها بطلانه بخلاف العكس مع أن الكلام في
بطلانه لا في بطلانها. (وإن أسقطها) أي أسقط التيمم قضاءها (فلا) تبطل صلاته، لأنه شرع في المقصود
فكان كما لو
وجد المكفر الرقبة بعد الشروع في الصوم، ولان وجود الماء ليس حدثا لكنه مانع من ابتداء التيمم، وليس كالمصلي
بالخف يتخرق فيها، إذ لا يجوز افتتاحها مع تخرقه بحال ولتقصيره بعدم تعهده، ولا كالمعتدة بالأشهر فتحيض فيها
لقدرتها على الأصل قبل الفراغ من البدل بخلاف المتيمم فيهما. ولا فرق في ذلك بين صلاة الفرض كظهر وصلاة
جنازة. والنفل كعيد ووتر، (وقيل يبطل النفل) لقصور حرمته عن حرفة الفرض، إذ الفرض يلزم بالشروع بخلاف
النفل. فإن قيل: هلا بطلت صلاته برؤية الماء، كما لو قلد الأعمى غيره في القبلة ثم أبصر في الصلاة فإن صلاته تبطل
مع أن الضرورة زالت فيهما أجيب بأن هذا قد فرغ من البدل، وهو التيمم، بخلافه ثم فإنه ما دام في الصلاة فإنه
مقلد. ولو رأى المسافر الماء في أثناء صلاته وهو قاصر ثم نوى الإقامة أو نوى القاصر الاتمام عند رؤية الماء بطلت
صلاته تغليبا لحكم الإقامة في الأولى ولحدوث ما لم يستبحه فيها في الثانية، لأن الاتمام كافتتاح صلاة أخرى. واندفع
بتصوير الأولى بالقصر كالثانية ما استشكله الأسنوي من أن ما ذكر فيها غير صحيح لما سيأتي أن المتيمم إن تيمم
بمحل يغلب فيه وجود الماء لزمه القضاء إن لم ينو الإقامة، أو بمحل يغلب فيه عدمه فلا، وإن نواها فلا تأثير لنيتها. فإن
قيل: هاتان الصورتان واردتان على المصنف فإنه شرع فيهما في محل لا يجب عليه القضاء فيه. أجيب بأن قوله: أسقطها
أخرج الصورتين لأنها صلاة صارت مما لا تسقط بالتيمم، وخرج بعند رؤية الماء ما لو تأخرت رؤيته عن نية الإقامة أو
الاتمام فلا تبطل صلاته، ولو قارنت الرؤية الإقامة أو الاتمام هل هي كالمتقدمة فتضر أو كالمتأخرة فلا تضر؟ مقتضى التعبير
بعند رؤية الماء كما عبرت به تبعا لابن المقري الأول واعتمده شيخي، ومقتضى التعبير ب‍ بعد رؤية الماء كما عبر به في الروضة
الثاني واعتمده شيخنا، والأول أوجه لمقارنة المانع، وشفاء المريض من مرضه في الصلاة: كوجدان المسافر
الماء فيها، فينظر إن كانت مما تسقط بالتيمم لم تبطل، وإن كانت مما لا تسقط بالتيمم كأن تيمم وقد وضع الجبيرة على
حدث بطلت. (والأصح أن قطعها) أي الفريضة التي تسقط بالتيمم (ليتوضأ) ويصلي بدلها (أفضل) من إتمامها فرضا إن
كانت الصلاة، أو نفلا كوجود المكفر الرقبة في أثناء الصوم، وليخرج من خلاف من حرم إتمامها إلا إذا ضاق وقت
الفريضة فيحرم قطعها كما جزم به في التحقيق، ونقله في المجموع عن الإمام وقال: إنه متعين ولا أعلم أحدا يخالفه،
وقضية كلام الروضة أنه وجه ضعيف. والثاني: الاتمام أفضل، لأن الخروج فيه إبطال للعضل، وقد قال تعالى: * (ولا تبطلوا
أعمالكم) *. وقيل: الأفضل أن يقلب فرضه نفلا ويسلم عن ركعتين. أما النفل فقطعه ليتوضأ أفضل جزما.
فروع: لو يمم ميت وصلى عليه ثم وجد الماء وجب غسله والصلاة عليه، سواء أكان في أثناء الصلاة أو بعدها،
ذكره البغوي في فتاويه، ثم قال: ويحتمل أن لا يجب. وما قاله محله في الحضر، أما في السفر فلا يجب شئ من ذلك كالحي،
جزم به ابن سراقة في تلقينه، لكنه فرضه في الوجدان بعد الصلاة، فعلم أن صلاة الجنازة كغيرها وأن تيمم الميت كتيمم
الحي. ولو رأى الماء في صلاته التي تسقط بالتيمم بطل تيممه بسلامه منها وإن علم تلفه قبل سلامه، لأنه ضعف برؤية الماء، وكان
مقتضاه بطلان الصلاة التي هو فيها لكن خالفناه لحرمتها، ويسلم الثانية لأنها من جملة الصلاة كما بحثه المصنف تبعا للروياني،
وإن خالف في ذلك والد الروياني. ولو رأت حائض تيممت لفقد الماء الماء وهو يجامعها حرم عليها تمكينه كما قاله القاضي
أبو الطيب وغيره، ووجب النزع كما في المجموع وغيره لبطلان طهرها. ولو رآه هو دونها لم يجب عليه النزع لبقاء طهرها،
102

خلافا لما في الأنوار من وجوب النزع. ولو رأى الماء في أثناء قراءة قد تيمم لها بطل تيممه بالرؤية، سواء أنوى قراءة قدر
معلوم أم لا لبعد ارتباط بعضها ببعض، قاله الروياني. (و) الأصح (أن المتنفل) الواجد للماء في صلاته الذي لم ينو قدرا،
(لا يجاوز ركعتين) بل يسلم منهما لأنه الاحب والمعهود في النفل، هذا إذا رأى الماء قبل قيامه للثالثة فما فوقها وإلا أتم
ما هو فيه كما صرح به القاضي أبو الطيب وغيره. وقيل: له أن يزيد ما شاء كما له تطويل الأركان. وقيل: يقتصر على ركعة
بناء على أن حمل النذر المطلق عليها، إلا من نوى شيئا عددا أو ركعة فيتمه لانعقاد نيته عليه فأشبه المكتوبة
المقدرة، ولا يزيد عليه لأن الزيادة كافتتاح نافلة بدليل افتقارها إلى قصد جديد. ولو عبر بما قدرته ليشمل الركعة لكان
أولى، فإنه لا يزيد عليها كما مر، لأن الواحد ليس بعدد وإنما هو مبدأ العدد. ولو رأى الماء في أثناء الطواف
، قال
الفوراني: إن قلنا يجوز تفريقه، أي وهو الأصح، توضأ وإلا فكالصلاة. ثم شرع في الحكم الثاني وهو ما يستباح بالتيمم،
فقال: (ولا يصلي بتيمم غير فرض) لأن الوضوء كان لكل فرض، لقوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة) * والتيمم بدل عنه،
ثم نسخ ذلك في الوضوء بأنه (ص) صلى يوم الفتح خمس صلوات بوضوء واحد فبقي التيمم على ما كان عليه، ولما
روى البيهقي بإسناد الصحيح عن ابن عمر قال: يتيمم لكل صلاة وإن لم يحدث ولأنه طهارة ضرورة. ومثل فرض
الصلاة في ذلك فرض الطواف وخطبة الجمعة، فيمتنع الجمع بتيمم واحد بين طوافين مفروضين وبين طواف فرض وفرض
صلاة وبين صلاة الجمعة وخطبتها على ما رجحاه. وهو المعتمد، لأن الخطبة وإن كانت فرض كفاية ألحقت بفرض العين،
إذ قيل إنها قائمة مقام ركعتين. فإن قيل: لم جمع بين خطبتي الجمعة بتيمم وهما فرضان؟ أجيب بأنهما في حكم شئ واحد،
ولو عبر بقوله: ولا يفعل بتيمم غير فرض كان أولى ليعم الطوافين والطواف والصلاة كما تقرر. والصبي لا يؤدي بتيممه غير
فرض كالبالغ لأن ما يؤديه كالفرض في النية وغيرها، نعم لو تيمم للفرض ثم بلغ لم يصل به الفرض لأن صلاته نفل كما صححه
في التحقيق ونقله في المجموع عن العراقيين. فإن قيل: لم جعل كالبالغ في أنه لا يجمع بتيمم فرضين ولا يصلي به الفرض إذا
بلغ؟ أجيب بأن ذلك احتياطا للعبادة في أنه يتيمم للفرض الثاني ويتيمم إذا بلغ، وهذا في غاية الاحتياط. وخرج بما
ذكر تمكين الحائض من الوطئ مرارا وجمعها بين فرض آخر بتيمم واحد، فإنهما جائزان. وقول الدميري: ويستثنى
من إطلاقه المتيمم للجنابة عند عجزه عن الماء إذا تجردت جنابته عن الحدث فإنه يصلي بتيممه فرائض ضعيف تبع فيه
صاحب الحاوي الصغير ونقله عن صاحب المصباح، وهو غير مرضي لأن الجنابة مانعة. (ويتنفل) مع الفريضة وبدونها
بتيمم، (ما شاء) لأن النوافل تكثر فيؤدي إيجاب التيمم لكل صلاة منها إلى الترك أو إلى حرج عظيم، فخفف في أمرها
كما خفف بترك القيام فيها مع القدرة، وبترك القلة في السفر. ولو نذر إتمام كل صلاة دخل فيها فله جمعها مع فرض لأن
ابتداءها نفل، ذكره الروياني. ولو صلى بالتيمم منفردا أو في جماعة ثم أراد إعادتها جماعة به جاز كما صرح به الخفاف، لأن فرضه
الأولى على الأصح كما سيأتي في محله. ثم كل صلاة أوجبناها في الوقت وأوجبنا إعادتها كمربوط على خشبة ففرضه الثانية وله
أن يعيدها بتيمم الأولى، لأن الأولى وإن وقعت نفلا فالاتيان بها فرض. فإن قيل: كيف جمعهما بتيمم مع أن كلا منهما فرض؟
أجيب بأن هذا كالمنسية من خمس يجوز جمعها بتيمم وإن كانت فروضا، لأن الفرض بالذات واحدة. ويؤخذ من ذلك
أنه لو تيمم للجمعة ولزمه إعادة الظهر كان له أن يصليه بذلك التيمم لما ذكر. (والنذر) بالمعجمة (كفرض) عيني (في
الأظهر) لتعينه على الناذر فأشبه المكتوبة، فليس له أن يجمعه مع فرض آخر مؤداة كانت أو مقضية بتيمم واحد، والثاني:
لا، لأنه واجب لعارض فلا يلحق بالفرض الأصلي فله ما ذكر. ولو تعين على ذي حدث أكبر تعلم فاتحة أو حمل مصحف
أو نحو ذلك كحائض انقطع حيضها وأراد الزوج وطأها وتيمم من ذكر لفريضة، كان له أن يجمع ذلك معها خلافا لبعض
المتأخرين من أنه كالمنذور. (والأصح صحة جنائز) أو جنازتين أو جنازة كما فهم بالأولى، (مع فرض) بتيمم واحد، وإن تعينت
عليه بأن لم يحضر غيره لأنها ليست من جنس فرائض الأعيان فهي كالنفل في جواز الترك في الجملة، وإنما تعين القيام
103

فيها مع القدرة لأن القيام قوامها لعدم الركوع والسجود فيها فتركه يمحق صورتها، والثاني: لا تصح، لأنها فرض في الجملة
والفرض بالفرض أشبه، والثالث: إن لم تتعين عليه صحت كالنفل، وإن تعينت عليه فلا كالفرض.
تنبيه: قوله مع فرض مراده أنه إذا تيمم الفرض جاز له أن يصلي به ذلك الفرض ويصلي معه أيضا على جنائز. وتقدم
أنه إذا تيمم لنافلة جاز له أن يصلي به الجنازة لأنها كالنفل كما مر، وبعض المتأخرين فصل تفصيلا غريبا فقال: صلاة الجنازة
رتبة متوسطة بين الفرائض والنوافل، أي فيصلي بتيمم الفريضة الجنازة وبتيمم الجنازة النافلة، ولا يصلي بتيمم النافلة
الجنازة ولا بتيمم الجنازة الفريضة، وهو ممنوع في الصورة الثالثة صحيح في الباقي. (و) الأصح وعبر في الروضة بالصحيح (أن
من نسي إحدى الخمس) ولم يعلم عينها وجب عليه أن يصلي الخمس لتبرأ ذمته بيقين. وإذا أراد صلاتهن بالتيمم (كفاه
تيمم لهن) لأن المقصود بهن واحدة والباقي وسيلة. ولو قدم لهن على تيمم لكان أولى لئلا يتوهم أنه إنما يكفيه تيمم إذا نوى
به الخمس، وليس مرادا بل المراد أنه إنما يتيمم تيمما واحدا للمنسية ويصلي به الخمس، نبه على ذلك السبكي. وهو ظاهر إن
علق لهن بتيمم، فإن علق ب‍ كفاه وهو أولى زال التوهم، والثاني: يجب خمس تيممات لوجوب الخمس. ولو تردد هل ترك
طواف فرض أو صلاة من الخمس، صلى الخمس وطاف بتيمم واحد لما مر، وقد علم من ذلك أن من نسي صلاة من الخمس
أن ذمته لا تبرأ إلا بالجميع. وأغرب المزني فقال: ينوي الفائتة ويصلي أربع ركعات يجهر في الأوليين ويقعد في الثلاثة الأخيرة
وحينئذ يكون آتيا بما عليه بيقين، ويعذر في زيادة القعود وتردد النية للضرورة، ويسجد للسهو لأجل ذلك اه‍. وإنما
قال يجهر في الأوليين لأن غالب الصلوات جهرية، وغلطه الأصحاب في ذلك. (وإن نسي) منهن صلاتين وعلم كونهما
(مختلفتين) كصبح وظهر، سواء أعلم أنهما من يوم أو من يومين، فإن شاء (صلى كل صلاة) منهن (بتيمم) فيصلي الخمس
بخمس تيممات، وهذه طريقة ابن القاص، (وإن شاء تيمم مرتين وصلى بالأول) من التيممين (أربعا). وقوله: (ولاء) كالصبح
والظهر والعصر والمغرب مثال لا شرط. وقوله: (وبالثاني) من التيممين (أربعا ليس منها التي بدأ بها) شرط كالظهر والعصر
والمغرب والعشاء، فيبرأ بيقين، لأن المنسيتين إما الصبح والظهر أو إحداهما مع إحدى الثلاث أو هما من الثلاث، وعلى
كل تقدير صلى كلا منهما بتيمم. أما إذا كان منها التي بدأ بها كأن صلى الظهر والعصر والمغرب والصبح فلا يبرأ بيقين،
لجواز كون المنسيتين العشاء وواحدة غير الصبح، فبالتيمم الأول تصح تلك الواحدة دون العشاء، وبالثاني لم يصل
العشاء. وهذه طريقة ابن الحداد، واستحسنها الأصحاب وفرعوا عليها ما زاد من المنسي. وفي ضبطها ثلاث عبارات:
الأولى ما ذكره المصنف كالحاوي الصغير، وهي أن يصلي بكل تيمم عدد غير المنسي وزيادة صلاة، وبيانه في مثال المصنف
أن غير المنسي ثلاثة لأن المنسي ثنتان، ويزيد على الثلاثة واحدة ويصلي بكل تيمم أربعا. الثانية: ما في شرح الصغير،
وهو أن يضرب المنسي في المنسي فيه وتزيد على الحاصل قدر المنسي، ثم تضرب المنسي في نفسه وتسقط
الحاصل من الجملة،
فالباقي عدد الصلوات، وبيانه في مثال المصنف أن تضرب اثنين في خمسة يحصل عشرة، تزيد على الحاصل اثنين ثم تضربهما
فيهما يحصل أربعة، تسقطها من الاثني عشر يبقى ثمانية. الثالثة: ما في الشرح والروضة، وهي أن يتيمم بعدد المنسي وتزيد
على قدر المنسي فيه عددا لا ينقص عما يبقى من المنسي فيه بعد إسقاط المنسي وينقسم صحيحا على المنسي، وبيانه في مثال
المصنف أن المنسي صلاتان والمنسي فيه خمس تزيد عليها ثلاثا لأنها لا تنقص عما يبقى من الخمسة بعد إسقاط الاثنين بل
تساويه. وعلى العبارات كلها يشترط أن يترك في كل مرة ما بدأ به في المرة قبلها كما عرف. (أو) نسي صلاتين وعلم كونهما
(متفقتين) ولم يعلم عينهما كظهرين، (صلى الخمس مرتين بتيممين) فيصلي بكل تيمم الخمس ليخرج عن العهدة بيقين
ولا يكونان ذلك إلا من يومين، وقيل: لا بد من عشر تيممات لكل صلاة تيمم، فإن لم يعلم اتفاقهما ولا اختلافهما
أخذ بالاتفاق احتياطا، ولا يكفيه ما تقدم وهو ثمان صلوات لاحتمال أن الذي عليه صبحان أو عشاءان، وقس ما زاد من
المنسي على صلاتين على ذلك. وحاصله أنه يتيمم بعدد المنسي ويصلي بكل تيمم الخمس.
104

تنبيه: لو تذكر المنسية بعد ذلك لم تجب إعادتها كما صرح به الروياني، ورجحه في المجموع من احتمالين، ثانيهما
تخريجه على ما لو ظن حدثا فتوضأ له ثم تيقنه، ومقتضاه وجوب الإعادة، وجزم به ابن الصلاح، والمعتمد الأول. (ولا يتيمم
لفرض قبل) دخول (وقت فعله) لقوله تعالى: * (إذا قمتم إلى الصلاة) * الآية، والقيام إليها بعد دخول الوقت. خرج
الوضوء بدليل فبقي التيمم، ولأنها طهارة ضرورة فلا تباح إلا عند وقت الضرورة. وهو قبل الوقت غير مضرور إليها
ولا بد من العلم بدخوله يقينا أو ظنا، فلو تيمم شاكا فيه لم يصح وإن صادف الوقت كما في زيادة الروضة. ويشترط
أخذ التراب المقرون بالنية في الوقت أيضا، فلو أخذه قبله ثم مسح به بعده لم يصح. وشمل إطلاق الفرض الفائتة ووقتها بالتذكر
لخبر الصحيحين: من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها، ولو تذكر فائتة فتيمم لها ثم صلى به
حاضرة أو عكسه أجزأه، لأن التيمم قد صح لما قصده فصح أن يؤدى به غيره. والمنذورة المتعلقة بوقت معين
، والجنازة
ويدخل وقتها بانقضاء طهر الميت من غسل أو تيمم وإن لم يكفن، لكن يكره التيمم لها قبل التكفين كما يؤخذ من كلام
المجموع، ولو مات شخص بعد أن تيمم لجنازة جاز له أن يصلى عليه بذلك التيمم لما مر. ويدخل في الوقت ما تجمع
فيه الثانية من وقت الأولى، فلو تيمم للظهر فصلاها ثم تيمم للعصر ليجمعها معها صح، فإن دخل وقت العصر قبل
أن يصليها بطل الجمع لزوال التبعية، قال ابن المقري تبعا لاصله: وبطل التيمم لأنه وقع قبل الوقت، ولم يذكره الرافعي،
بل كلامه يقتضي بقاءه. وإن خرج الوقت حتى لو صلى به فريضة غيرها ونافلة صح، قال الزركشي: وهو الصواب.
والأولى ما جرى عليه ابن المقري، لأن التيمم إنما صح تبعا على خلاف القياس، وقد زالت التبعية بانحلال رابطة الجمع،
ولان ذلك يستلزم أنه يستبيح بالتيمم غير ما نواه دون ما نواه، وهو بعيد. ومقتضى هذا أنه لو لم يدخل وقت العصر
ولكن بطل الجمع لطول الفصل مثلا أنه يبطل. ولو تيمم مريد تأخر الظهر للعصر في وقت العصر صح، أو في وقت
الظهر صح أيضا لأنه وقتها بالأصالة، بخلاف ما لو تيمم فيه للعصر لم يصح لأن وقتها لم يدخل. ولو نوى مقصورة ثم
أراد تامة أو نوى الصبح ثم أراد الظهر مثلا جاز كما في فتاوى البغوي. ولو تيمم لمؤداة في أول وقتها وصلاها به في آخره أو بعده
جاز. ولو تيمم غير الخطيب للجمعة بعد دخول الوقت وقبل الخطبة، وقال الترمذي: قضية إطلاقهم أنه لا يصح،
والظاهر أنه أخذه من قولهم: ولا يتيمم لفرض قبل وقت فعله، ومقتضى ما تقدم من أنه يصح تيممه قبل الستر وقبل
الاجتهاد في القبلة الصحة وهو الظاهر، وكذا لو تيمم الخطيب أو غيره قبل تمام الأربعين الذين تنعقد بهم الجمعة. وإنما
لم يصح التيمم قبل زوال النجاسة عن البدن للتضمخ بها مع كون التيمم طهارة ضعيفة لا لكون زوالها شرطا للصلاة،
وإلا لم يصح التيمم قبل زوالها عن الثوب والمكان. (وكذا النفل المؤقت) كالرواتب مع الفرائض وغيرها لا يتيمم له
قبل وقته، (في الأصح) المنصوص لما ذكر في الفرض. وأوقات النفل المؤقت معروفة في أبوابها. ووقت صلاة الاستسقاء
إن صليت جماعة فوقتها بالاجتماع، وإلا فمن أراد صلاتها تيمم لها عند إرادة فعلها. ووقت التحية بدخول المسجد. والثاني:
يصح ذلك قبل دخول الوقت لأن أمره أوسع، ولهذا جاز الجمع بين نوافل بتيمم واحد. والتعبير بالأصح يقتضي قوة
الخلاف، والذي رجحه في أصل الروضة طريقة القطع بالمنع، فقال: على المذهب، وقيل: وجهان. واحترز بالمؤقت
عن النوافل المطلقة، فيتيمم لها متى شاء إلا في وقت الكراهة فلا يصح تيممه لها. قال الزركشي: وينبغي أن يكون هذا
فيما إذا تيمم في وقتها ليصلي في وقتها، فلو تيمم فيه ليصلي مطلقا وفي غيره فلا ينبغي منعه، وهو مرادهم بلا شك.
ويؤخذ منه ما قاله شيخنا أنه لو تيمم في غير وقت الكراهة ليصلي به فيه لم يصح. قال بعض المتأخرين: ولك أن تقول
أي وقت شاء، فهو وقت المطلقة فساوت المؤقتة، إذ لم يتيمم أيضا إلا في وقتها. ثم شرع في الحكم الثالث وهو وجوب
القضاء، فقال: (ومن لم يجد ماء ولا ترابا) بأن فقدهما حسا كأن حبس في موضع ليس فيه واحد منهما، أو شرعا
كأن وجد ماء وهو محتاج إليه لنحو عطش، أو وجد ترابا نديا ولم يقدر على تجفيفه بنحو نار، (لزمه في الجديد أن يصلي الفرض)
105

المؤدي لحرمة الوقت. والظاهر كما قال الأذرعي أنه لا يجوز له أن يصلي ما رجا أحد الطهورين حتى يضيق الوقت.
وهذه الصلاة توصف بالصحة، ولهذا قال في المجموع: تبطل بالحدث والكلام ونحوهما. وظاهر كلامه أنها تبطل
بالحدث ولو سبقه، وهو كذلك. (ويعيد) إذا وجد أحدهما، لأن هذا العذر نادر ولا دوام له، قال في المجموع نقلا عن
الأصحاب: وإنما يعيد بالتيمم في محل يسقط به الفرض إذ لا فائدة في الإعادة به في محل لا يسقط به. وجزم به في التحقيق،
وإن كان في نكته ما يخالف ذلك. ولو رأى أحد الطهورين في أثناء هذه الصلاة بطلت، وظاهره أنه لا فرق في التراب
بين أن يكون في محل يغني التيمم فيه عن القضاء أو لا، خلافا للزركشي في الشق الثاني، لقوله تعالى: * (فلم تجدوا ماء فتيمموا) *
ولم يقيد بكونه يسقط القضاء. قال في العباب: قال بعضهم ويندب له التيمم على نحو الصخر خروجا من خلاف
من يجوزه، أي التيمم، ثم يقضي بالماء أو بالتيمم إن سقط فرضه به، ومن فوت صلاة عمدا وفقد الطهورين حرم
عليه قضاؤها حينئذ للتسلسل اه‍. ومقابل الجديد أقوال، أحدها: تجب الصلاة بلا إعادة، وطرد ذلك في كل صلاة وجبت
في الوقت مع خلل، وهو مذهب المزني واختاره المصنف في المجموع، قال: لأنه أدى وظيفة الوقت، وإنما يجب القضاء
بأمر جديد. ثانيها: يندب له الفعل وتجب الإعادة. ثالثها: يندب له الفعل ولا إعادة. رابعها: يحرم عليه فعلها، ففي مسلم: لا تقبل
صلاة بغير طهور لأنه عاجز عن الطهارة، فأشبه الحائض ومن على بدنه نجاسة يخاف من غسلها شيئا مما مر في مبيحات
التيمم أو حبس عليها وجب عليه أن يصلي ويومئ بالسجود فيما إذا حبس عليها، بحيث لو سجد لسجد عليها بأن ينحني له
بحيث لو زاد لأصابها، وهذا هو المعتمد كما جزم به في المجموع والتحقيق وإن كان مقتضى كلام أصل الروضة وضع
جبهته على الأرض، وعلى كلا التقديرين يلزمه القضاء. وهؤلاء الثلاثة، وهم من لم يجد ماء ولا ترابا، ومن على بدنه
نجاسة يخاف من غسلها، ومن حبس عليها، يصلون الفريضة فقط لأجل حرمة الوقت ولا يصلون النافلة، إذ لا ضرورة
إليها. وتقدم أن صلاة الجنازة كالنفل في أنها تؤدى مع مكتوبة بتيمم واحد، وقياسه أن هؤلاء لا يصلونها وهو الظاهر،
وجرى عليه الزركشي وغيره في فاقد الطهورين، ونقله في بابها عن مقتضى كلام القفال. قال في العباب: قال الجرجاني: ولا يتنفل
العاري، وفيه نظر اه‍. والمعتمد أنه يتنفل لأنه لا يلزمه الإعادة لأنه يتم ركوعه وسجوده، وإن خالف بعض المتأخرين
في ذلك. وعلم من منع هؤلاء صلاة النافلة منعهم من مس المصحف وحمله والجلوس في المسجد لمن به حدث أكبر،
ولا يقرأ من به حدث أكبر في الصلاة غير الفاتحة عند المصنف، ويمنع من قراءتها أيضا عند الرافعي كما يمنع من القراءة
خارج الصلاة. والمراد بالإعادة في كلام المصنف القضاء كما عبر به في المحرر لا المصطلح عليه عند الأصوليين وهو أن
الإعادة حقيقة: ما وقع في الوقت، والقضاء: ما وقع خارجه. وهذه لا تعاد في الوقت لما تقدم أنه لا يصليها إلا عند ضيقه.
(ويقضي المقيم المتيمم) وجوبا (لفقد الماء) لندور الفقد وعدم دوامه. وفي قول: لا يقضي، واختاره المصنف لأنه أتى بالمقدور.
وفي قول: لا تلزمه الصلاة في الحال بل يصبر حتى يجده. وعلى الأول إذا كان حدثه أكبر هل يقرأ في
الصلاة غير الفاتحة
أو لا كفاقد الطهورين بجامع وجوب القضاء على كل منهما؟ ظاهر كلام الشيخين الأول، وظاهر كلام القاضي وصاحب الكافي
الثاني، والأول أوجه. (لا المسافر) المتيمم لفقده، وإن قصر سفره على المشهور لعموم الفقد فيه. (إلا العاصي بسفره) كآبق
وناشزة، ومن سافر ليتعب نفسه أو دابته عبثا فإنه يلزمه أن يصلي بالتيمم ويقضي (في الأصح) لأنه ليس من أهل
الرخصة، والثاني: لا يقضي، لأنه لما وجب عليه صار عزيمة، وفي وجه ثالث: لا يستبيح التيمم أصلا، ويقال له: إن تبت
استبحت وإلا أثمت بترك الصلاة. وكالعاصي بسفره العاصي بإقامته فيقضي، والجمعة لا تقضى فيصليها ويقضي الظهر
كما قاله الدميري.
تنبيه: ما ذكره من القضاء في الإقامة وعدمه في السفر جرى على الغالب، فلو أقام في مفازة وطالت إقامته وصلاته
بالتيمم فلا قضاء، ولو دخل المسافر في طريقه قرية وعدم الماء وصلى بالتيمم وجب القضاء، ولو استوى الأمران
أي الوجود والعدم، فالظاهر كما بحثه بعض المتأخرين أن لا قضاء.
106

فائدة: لو تيمم في موضع يغلب فيه وجود الماء وصلى في آخر يندر فيه أو عكسه، هل العبرة بموضع الصلاة أو
التيمم؟ لم أر من صرح بذلك، وقد أفتاني شيخي بالأول، واستدل على ذلك بعبارات كتب من كلام الشيخين وغيرهما
يطول الكلام بذكرها، فاستفده فإنها مسألة نفيسة. (ومن تيمم لبرد) في السفر وصلى به، (قضى في الأظهر) لأن البرد
وإن لم يكن سببا نادرا فالعجز عما يسخن به الماء وعن ثياب يتدفأ بها نادر لا يدوم إذا وقع. والثاني: لا يقضي، لحديث
عمرو بن العاص السابق، وبه قال أبو حنيفة وأحمد ويوافقه المختار المار عن المصنف لأنه (ص) لم يأمره بالإعادة.
وأجاب الأول بأن القضاء على التراخي، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز، وبأنه يحتمل كونه عالما بوجوب القضاء
فلم يحتج لبيان. أما إذا تيمم المقيم للبرد فالمشهور كما قال الرافعي القطع بالوجوب. وقال في المجموع: إن الجمهور قطعوا به
في كل الطرق. (أو) تيمم (لمرض يمنع الماء مطلقا) أي في جميع أعضاء الطهارة، (أو) يمنعه (في عضو) من أعضائها،
(ولا ساتر) على ذلك العضو من لصوق أو نحوه، (فلا) قضاء عليه، سواء أكان حاضرا أم مسافرا، لأن المرض عذر عام
تشق معه الإعادة، وقد قال تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *. والمراد بالمرض هنا أعم من الحرج وغيره.
(إلا أن يكون بجرحه دم كثير) بحيث لا يعفى عنه ويخاف من غسله محذورا مما مر، فيصلي معه ويقضي لعدم العفو
عن الكثير فيما رجحه الرافعي كما سيأتي في شروط الصلاة، لأن العجز عن إزالته بماء مسخن ونحوه نادر لا يدوم. وزاد
المصنف لفظة كثير، وقال في الدقائق: لا بد منها، قال الشارح: أي في مراد الرافعي للعفو عن القليل في محله، وما
سيأتي له في شروط الصلاة من تشبيه بدم الأجنبي فلا يعفى عنه في الأصح محمول بقرينة التشبيه على المنتقل عن محله.
ورجح المصنف هناك العفو عن القليل والكثير. وقال شيخنا: إنما لم يعف عن الكثير هنا لأن التيمم طهارة ضرورة
فلم يغتفر فيه الدم الكثير كما لم يغتفر فيه جواز تأخير الاستنجاء عنه، بخلاف الطهر بالماء. ويمكن أيضا حمل ما هنا على
كثير جاوز محله أو حصل بفعله، فلا يخالف ما في شروط الصلاة. على أن بعضهم جعل الأصح عدم العفو أخذا مما صححه
في المجموع والتحقيق، ثم من عدم العفو خلافا لما صححه في المنهاج والروضة اه‍. وما حمله عليه الشارح أوجه، وسيأتي
تحرير محل العفو عن الكثير في محله إن شاء الله تعالى. واحترز عن اليسير فإنه لا يضر. نعم إن كان على موضع
التيمم وكان كشيفا يمنع وصول التراب إلى المحل فإنه يضر، ويجب حينئذ القضاء لا لأجل النجاسة بل لنقصان البدل
والمبدل كما سيأتي في الجبيرة إذا كانت في محل التيمم. (وإن كان) بالأعضاء أو بعضها (ساتر) كجبيرة (لم يقض في الأظهر
إن وضع) الساتر (على طهر) لأنه أولى من المسح على الخف للضرورة هنا. والثاني: يقضي، لأنه عذر نادر غير دائم.
هذا إذا لم تكن الجبيرة على محل التيمم وإلا وجب القضاء، قال في الروضة: بلا خلاف لنقص البدل والمبدل جميعا، ونقله
في المجموع ك الرافعي عن جماعة، ثم قال: وإطلاق الجمهور يقتضي أنه لا فرق اه‍. وما في الروضة أوجه لما ذكر. (فإن
وضع) الساتر (على حدث) سواء أكان في أعضاء التيمم أم في غيرها من أعضاء الطهارة، (وجب نزعه)
إن أمكن
بلا ضرر يبيح التيمم، لأنه مسح على ساتر، فاشترط فيه الوضع على طهر كالخف. وقيل: لا يجب للضرورة، والمراد طهارة
ذلك المحل فقط، ولا ينافي ذلك قولهم كالخف، إذ المشبه قد لا يعطي حكم المشبه به من كل وجه، لأن الجبيرة وضعت
للضرورة، ويجب استيعابها بالمسح، وإذا نزع إحدى الجبيرتين لا يجب عليه نزع الأخرى بخلاف الخف في ذلك. وقد
يوهم تخصيص وجوب النزع بالوضع على حدث أنه لا يجب نزعه إذا وضع على طهر ولا ضرر عليه في نزعه، وليس
مرادا بل يجب نزعه أيضا. وإنما يفترق الحال عند تعذر النزع في القضاء وعدمه كما نبه على ذلك بقوله: (فإن تعذر)
نزعه ومسح وصلى (قضى على المشهور) لفوات شرط الوضع على طهارة، فانتفى تشبيهه حينئذ بالخف، والثاني: لا يقضي
107

للعذر. وهذا كله على الجديد، أما على القديم المختار عند المصنف فلا قضاء كما سبق. وكان ينبغي أن يقول: على المذهب
فإن الأصح القطع بالقضاء. قال الشارح: لكنه استغنى عن ذلك بتعبيره ب‍ المشهور المشعر بضعف الخلاف عن تعبير المحرر كالشرح
بأصح الطريقين، أي لأن التعبير به في اصطلاحه يدل على أن مقابله ضعيف، فيغني ذلك في الدلالة على معرفة ما عليه
الفتوى وأن فيه خلافا وأنه ضعيف، وإن كان لم يستغن بذلك في إفادة كون الخلاف طريقين، فالاعتذار بما ذكر ضعيف.
خاتمة: لو تيمم عن حدث أكبر ثم أحدث حدثا أصغر انتقض طهره الأصغر لا الأكبر، كما لو أحدث بعد غسله،
فيحرم عليه ما يحرم على المحدث ويستمر تيممه عن الحدث الأكبر حتى يجد الماء بلا مانع، فلو وجد خابية ماء مسبل
تيمم، ولا يجوز الطهر منها لأنها إنما وضعت للشرب، وكذا لو لم يعلم أنه مسبل للشرب نظرا للغالب ولم يقض صلاته كما لو تيمم
بحضرة ماء يحتاج إليه لعطش وصلى به. ولو غسل نحو جنب جميع بدنه إلا رجليه ثم فقد الماء وأحدث حدثا أصغر
وتيمم له ثم وجد كافيا لرجليه فقط تعين لهما ولا يبطل تيممه. ولو تيمم أو لا لتمام غسله ثم أحدث وتيمم له ثم وجد
كافيهما بطل تيممه الأول. وللرجل جماع أهله وإن علم عدم الماء وقت الصلاة، فيتيمم ويصلي بلا إعادة. ولو منع شخص
ترتيب الوضوء وجب عليه عكس الترتيب لتمكنه من بعض الوضوء، فيحصل له غسل الوجه ويتيمم للباقي لعجزه عن الماء،
ولا إعادة عليه لأنه في معنى من غصب ماؤه، بخلاف ما لو أكره على الصلاة محدثا فإنه تلزمه الإعادة لأنه لم يأت ثم عن
وضوئه ببدل، بخلافه هنا. قال في العباب: ولو رعف في الصلاة ووجد ماء يكفي الدم فقط بطل تيممه اه‍. وفيه نظر،
والظاهر عدم البطلان.
باب الحيض:
وما يذكر معه من الاستحاضة والنفاس. وترجم الباب بالحيض لأنه مع أحكامه أغلب، وهو لغة: السيلان، تقول
العرب: حاضت الشجرة إذا سال صمغها، وحاض الوادي إذا سال. وشرعا: دم جبلة - أي تقتضيه الطباع السليمة - يخرج
من أقصى رحم المرأة بعد بلوغها على سبيل الصحة من غير سبب في أوقات معلومة. قال الجاحظ في كتاب الحيوان:
والذي يحيض من الحيوان أربعة: الآدميات، والأرنب، والضبع، والخفاش. وزاد عليه غيره أربعة أخرى، وهي: الناقة،
والكلبة، والوزغة، والحجرة، أي الأنثى من الخيل. وله عشرة أسماء حيض، وطمث بالمثلثة، وضحك، وإكبار،
وإعصار، ودراس، وعراك بالعين المهملة، وفراك بالفاء، وطمس بالسين المهملة، ونفاس. والاستحاضة دم علة
يسيل من عرق من أدنى الرحم يقال له العاذل بالذال المعجمة، ويقال بمهملة كما حكاه ابن سيده، وفي الصحاح: بمعجمة وراء.
وسواء أخرج أثر حيض أم لا. واختلف في الدم الذي تراه الصغيرة والآيسة، والأصح أنه يقال له استحاضة ودم فساد،
وقيل لا تطلق الاستحاضة إلا على دم وقع بعد حيض. والنفاس هو الدم الخارج بعد فراغ الرحم من الحمل، فخرج
بما ذكر دم الطلق والخارج مع الولد فليسا بحيض، لأن ذلك من آثار الولادة، ولا نفاس لتقدمه على خروج الولد بل ذلك
دم فساد. نعم المتصل بذلك من حيضها المتقدم حيض. والأصل في الحيض آية: * (ويسألونك عن المحيض) * أي الحيض،
وخبر الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول الله (ص) في الحيض: هذا شئ كتبه الله
على بنات آدم وفي البخاري عن بعضهم: أن بني إسرائيل أول من وقع الحيض فيهم ثم أبطله بهذا الحديث. وقيل: أول
من حاضت أمنا حواء - بالمد - لما كسرت شجرة الحنطة وأدمتها قال الله تعالى: * (وعزتي وجلالي لأدمينك كما أدميت هذه
الشجرة) *، وقدم المصنف رحمه الله تعالى على معرفة أحكام الحيض معرفة سنه وقدره وقدر الطهر، وقد شرع في بيان
ذلك، فقال: (أقل سنه) كلبن الرضاع، (تسع سنين) قمرية كما في المحرر ولو بالبلاد الباردة للوجود، لأن ما ورد في الشرع
ولا ضابط له شرعي ولا لغوي يتبع فيه الوجود كالقبض والحرز. قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: أعجل من
108

سمعت من النساء تحيض نساء تهامة، يحضن لتسع سنين - أي تقريبا لا تحديدا - فيسامح قبل تمامها بما لا يسع حيضا وطهرا
دون ما يسعهما. وقيل: أقله أول التاسعة، وقيل: مضي نصفها. ولو رأت الدم أياما بعضها قبل زمن الامكان وبعضها فيه
جعل الثاني حيضا إن وجدت شروطه الآتية. (وأقله) زمنا (يوم وليلة) أي مقدار يوم وليلة، قال الشارح: متصلا
كما يؤخذ من مسألة تأتي آخر الباب، يعني أن أقل الحيض من حيث الزمان مقدار يوم وليلة على الاتصال، وليس المراد
أنه لا بد في زمان الأقل من يوم وليلة يتوالى فيهما الدم من غير تخلل نقاء كما يوهمه لفظ الاتصال، بل المراد أنها إذا
رأت دماء ينقص كل منها عن يوم وليلة إلا أنها إذا اجتمعت كانت مقدار يوم وليلة على الاتصال كفى ذلك في حصول
أقل الحيض، والمسألة الآتية هي قوله: والنقاء بين أقل الحيض حيض، وهما أربعة وعشرون ساعة، وهذا ما قاله الشافعي
في عامة كتبه ونص في موضع على أن أقله قدر يوم فقط، وقيل: دفعة كالنفاس، وهو غريب. (وأكثره خمسة عشر)
يوما (بلياليها) وإن لم تتصل الدماء. والمراد خمس عشرة ليلة وإن لم يتصل دم اليوم الأول بليلته كأن رأت الدم أول
النهار للاستقراء، وأما خبر: أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره عشرة أيام فضعيف كما في المجموع. (وأقل طهر بين الحيضتين)
زمنا (خمسة عشر) يوما، لأن الشهر غالبا لا يخلو عن حيض وطهر، وإذا كان أكثر الحيض خمسة عشر لزم أن يكون
أقل الطهر كذلك. وخرج بقوله: بين الحيضتين الطهر بين الحيض والنفاس، فإنه يجوز أن يكون أقل من ذلك سواء
أتقدم الحيض على النفاس أم تأخر عنه، وكان طروه بعد بلوغ النفاس أكثره كما في المجموع، أما إذا طرأ قبل
بلوغ
النفاس أكثره فلا يكون حيضا إلا إذا فصل بينهما خمسة عشر يوما. وسكت المصنف عن غالب الحيض وذكر غالب
النفاس كما سيأتي، وغالب الحيض ست أو سبع وباقي الشهر غالب الطهر، لخبر أبي داود وغيره: أنه (ص) قال لحمنة بنت
جحش رضي الله تعالى عنها: تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة كما تحيض النساء ويطهرن ميقات حيضهن وطهرهن أي
التزمي الحيض وأحكامه فيما أعلمك الله من عادة النساء من ستة أو سبعة، والمراد غالبهن لاستحالة اتفاق الكل عادة.
(ولا حد لأكثره) أي الطهر بالاجماع، فقد لا تحيض المرأة في عمرها إلا مرة وقد لا تحيض أصلا، حكى القاضي أبو الطيب
أن امرأة في زمنه كانت تحيض كل سنة يوما وليلة وكان نفاسها أربعين، وأخبرني من أثق به أن والدتي كانت لا تحيض
أصلا وأن أختي منها كانت تحيض في كل سنتين مرة ونفاسها ثلاثة أيام، بعد موتهما. ولو اطردت عادة امرأة بأن تحيض
أقل من يوم وليلة أو أكثر من خمسة عشر لم يتبع ذلك على الأصح، لأن بحث الأولين أتم، واحتمال عروض
دم فاسد للمرأة أقرب من خرق العادة المستمرة. ثم شرع في أحكام الحيض فقال: (ويحرم به) أي بالحيض (ما حرم بالجنابة)
من صلاة وغيرها لأنه أغلظ، ويدل على أنه أغلظ منها أنه يحرم به ما يحرم بها. (و) أشياء أخر. أحدها: (عبور المسجد
إن خاف تلويثه) صيانة للمسجد عن النجاسة، فإن أمنته جاز لها العبور كالجنب لكن مع الكراهة كما في المجموع. ولا
خصوصية للحائض بهذا، بل كل من به نجاسة يخاف تلويث المسجد منها مثلها كمن به سلس البول واستحاضة ومن
بنعله نجاسة رطبة، فإن أراد الدخول به فليدلكه قبل دخوله. (و) ثانيها: (الصوم) للاجماع على تحريمه وعدم صحته.
قال الإمام: وكون الصوم لا يصح منها لا يدرك معناه، لأن الطهارة ليست مشروطة فيه. وهل وجب عليها ثم سقط أو
لم يجب أصلا وإنما يجب القضاء بأمر جديد؟ وجهان، أصحهما الثاني، قال في البسيط: وليس لهذا الخلاف فائدة فقهية.
وقال في المجموع: يظهر هذا وشبهه في الايمان والتعاليق بأن يقول متى وجب عليك صوم فأنت طالق. وأظهر غيره
فوائد أخر على ضعيف. (ويجب قضاؤه بخلاف الصلاة) لقول عائشة رضي الله تعالى عنها: كان يصيبنا ذلك
- أي الحيض -
فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة متفق عليه، وانعقد الاجماع على ذلك. وفيه من المعنى أن الصلاة
تكثر فيشق قضاؤها بخلاف الصوم. وقد أعاد المصنف مسألة الصلاة في أوائل الصلاة، وهل يحرم قضاؤها أو يكره؟ فيه
خلاف ذكره في المهمات، فنقل فيها عن ابن الصلاح والمصنف عن البيضاوي أنه يحرم، لأن عائشة رضي الله تعالى عنها
109

نهت السائل عن ذلك ولان القضاء محله فيما أمر بفعله. وعن ابن الصلاح والروياني و العجلي: أنه مكروه، بخلاف المجنون
والمغمى عليه فيسن لهما القضاء اه‍. والأوجه كما قاله شيخنا عدم التحريم، ولا يؤثر فيه نهي عائشة رضي الله عنها.
والتعليل المذكور منتقض بقضاء المجنون والمغمى عليه، وعلى هذا تنعقد صلاتها أو لا؟ فيه نظر، والأوجه عدم الانعقاد،
لأن الأصل في الصلاة إذا لم تكن مطلوبة عدم الانعقاد ووجوب القضاء عليها في الصوم بأمر جديد من النبي
(ص) فلم يكن واجبا حال الحيض والنفاس كما مر لأنها ممنوعة منه، والمنع والوجوب لا يجتمعان. وثالثها: الطلاق من
ممسوسة كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، لقوله عز وجل: * (إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن) * أي في الوقت
الذي يشرعن فيه في العدة، والمعنى فيه تضررها بطول المدة فإن زمن الحيض لا يحسب من العدة فإن كانت حاملا لم
يحرم طلاقها، لأن عدتها إنما تنقضي بوضع الحمل. ورابعها: الطهارة لرفع الحدث، فتحرم عليها إذا قصدت التعبد بها مع
علمها بأنها لا تصح لتلاعبها. أما الطهارة المقصودة للتنظيف كأغسال الحج، فإنها تأتي بها كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى.
(و) خامسها: أنه يحرم الوطئ في فرجها ولو بحائل والمباشرة ب‍ (- ما بين سرتها وركبتها) ولو بلا شهوة، لقوله تعالى: * (فاعتزلوا
النساء في المحيض) *، ولخبر أبي داود بإسناد جيد أنه (ص) سئل عما يحل للرجل من امرأته وهي حائض، فقال: ما فوق الإزار
وخص بمفهومه عموم خبر مسلم: اصنعوا كل شئ إلا النكاح ولان الاستمتاع بما تحت الإزار يدعو إلى الجماع فحرم لخبر:
من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه. (وقيل لا يحرم غير الوطئ) واختاره في التحقيق لخبر مسلم السابق بجعله مخصصا
لمفهوم خبر أبي داود. قال شيخنا: وما قاله الأصحاب أوجه لما فيه من رعاية الأحوط للخبر السابق. وخرج
بما بين السرة
والركبة هما وباقي الجسد فلا يحرم الاستمتاع بهما. وعبرت بالمباشرة تبعا للتحقيق والمجموع ليخرج الاستمتاع بالنظر
ولو بشهوة، فإنه لا يحرم إذ ليس هو أعظم من تقبيلها في وجهها بشهوة. وعبر الرافعي في الشرحين والمحرر وتبعه في الروضة
بالاستمتاع، وهو يشمل النظر واللمس بشهوة، قال الأسنوي: فبين التعبير بالاستمتاع والمباشرة عموم وخصوص من وجه،
أي لأن المباشرة لا تكون إلا باللمس سواء أكان بشهوة أم لا، والاستمتاع يكون باللمس والنظر ولا يكون إلا بشهوة.
قال: وسكتوا عن مباشرة المرأة للزوج، والقياس أن مسها للذكر ونحوه من الاستمتاعات المتعلقة بما بين السرة والركبة
حكمه حكم تمتعاته بها في ذلك المحل اه‍. والصواب كما قاله بعض المتأخرين في نظم القياس أن نقول: كل ما منعناه منه تمنعها
أن تلمسه به، فيجوز له أن يلمس بجميع بدنه سائر بدنها إلا ما بين سرتها وركبتها، ويحرم عليه تمكينها من لمسه بما بينهما.
ووطئ الحائض في الفرج كبيرة من العامد العالم بالتحريم المختار، يكفر مستحله كما في المجموع عن الأصحاب وغيرهم، بخلاف
الجاهل والناسي والمكره، لخبر: إن الله تعالى تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وهو حسن رواه
البيهقي وغيره. ويسن للواطئ المتعمد المختار العالم بالتحريم في أول الدم وقوته التصدق بمثقال إسلامي من الذهب الخالص،
وفي آخر الدم وضعفه بنصف مثقال لخبر: إذا واقع الرجل أهله وهي حائض إن كان دما أحمر فليتصدق بدينار وإن كان
أصفر فليتصدق بنصف دينار رواه أبو داود والحاكم وصححه. ويقاس النفاس على الحيض. ولا فرق في الواطئ بين
الزوج وغيره، فغير الزوج مقيس على الزوج الوارد في الحديث. والوطئ بعد انقطاع الدم إلى الطهر كالوطئ في آخر الدم
ذكره في المجموع، ويكفي التصدق ولو على فقير واحد، وإنما لم يجب لأنه وطئ محرم للأذى إذ لا يجب به كفارة كاللواط،
ويستثنى من ذلك المتحيرة فلا كفارة بوطئها وإن حرم، ولو أخبرته بحيضها ولم يمكن صدقها لم يلتفت إليها، وإن أمكن
وصدقها حرم وطؤها، وإن كذبها فلا لأنها ربما عائدته ولان الأصل عدم التحريم بخلاف ما لو علق به طلاقها وأخبرته به
فإنها تطلق وإن كذبها لتقصيره بتعليقه بما لا يعرف إلا من جهتها. ولا يكره طبخها ولا استعمال ما مسته من ماء أو عجين
أو نحوه. (فإذا انقطع) دم الحيض ومثله النفاس لزمن إمكانه ارتفع عنها سقوط الصلاة، و (لم يحل) مما حرم به (قبل الغسل)
أو التيمم (غير الصوم) لأن تحريمه بالحيض لا بالحدث بدليل صحته من الجنب وقد زال. (و) غير (الطلاق) المزيد على المحرر،
لزوال المعنى المقتضي للتحريم، وهو تطويل العدة وغير الطهر، فإنها مأمورة به وغير الصلاة المكتوبة إذا فقدت الطهورين،
110

وما عدا ذلك من المحرمات فهو باق إلى أن تطهر بماء أو تيمم، أما ما عدا الاستمتاع فلان المنع منه إنما هو لأجل الحدث والحدث
باق. وأما الاستمتاع فلقوله تعالى: * (ولا تقربوهن حتى يطهرن) * وقد قرئ بالتشديد والتخفيف في السبع. أما قراءة التشديد
فصريحة فيما ذكر، وأما التخفيف، فإن كان المراد به أيضا الاغتسال كما قال ابن عباس وجماعة لقرينة قوله: * (فإذا تطهرن) * فواضح،
وإن كان المراد به انقطاع الحيض، فقد ذكر بعده شرطا آخر وهو قوله تعالى: * (فإذا تطهرن) * فلا بد منهما معا.
فائدة: حكى الغزالي أن الوطئ قبل الغسل يورث الجذام في الولد. ثم لما فرغ من أحكام الحيض شرع في بيان
الاستحاضة وحكمها فقال: (والاستحاضة) وقد تقدم تعريفها ويأتي فيها مزيد بيان. فإن قيل: قوله: (حدث دائم) ليس
حد الاستحاضة وإلا لزم كون سلس البول استحاضة، وليس كذلك وإنما هو بيان لحكمها الاجمالي، أي حكم الدم
الخارج بالصفة المذكورة حكم الحدث الدائم، وقوله: (كسلس) بفتح اللام، أي سلس البول والمذي والغائط والريح، هو
للتشبيه لا للتمثيل. أجيب بعدم لزوم ما ذكر لأنه إنما حكم على الاستحاضة بأنها حدث دائم، ولا يلزم من ذلك أن سلس
البول ونحوه استحاضة، وقوله كسلس مثال للحدث الدائم. (فلا تمنع الصوم والصلاة) وغيرهما مما يمنعه الحيض كسائر
الاحداث للضرورة، ولامره (ص) حمنة بهما وكانت مستحاضة كما صححه الترمذي. ثم شرع في بيان حكمها التفصيلي
فقال: (فتغسل المستحاضة فرجها) قبل الوضوء أو التيمم إن كانت تتيمم، (و) بعد ذلك (تعصبه) بفتح التاء وإسكان العين
وتخفيف الصاد المكسورة على المشهور، بأن تشد وبعد غسله بخرقة مشقوقة الطرفين تخرج أحدها من أمامها والآخر
من خلفها وتربطهما بخرقة تشدها على وسطها كالتكة، فإن احتاجت في رفع الدم أو تقليله إلى حشو بنحو قطن وهي
مفطرة ولم تتأذ به، وجب عليها أن تحشو قبل الشد والتلجم، وتكتفي به إن لم تحتج إليهما. أما إذا كانت صائمة أو تأذت
باجتماعه فلا يجب عليها الحشو، بل يلزم الصائمة تركه إذا كان صومها فرضا. فإن قيل: لم حافظوا هنا على مصلحة الصوم
لا على مصلحة الصلاة عكس ما فعلوا فيمن ابتلع بعض خيط قبل الفجر وطلع الفجر وطرفه خارج فهلا سووا بينهما
أجيب بأن الاستحاضة علة مزمنة فالظاهر دوامها، فلو راعينا الصلاة هنا لتعذر قضاء الصوم للحشو، ولان المحذور هنا
لا ينتفي بالكلية فإن الحشو تنجس وهي حاملته بخلافه ثم.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف وغيره تعين غسل فرجها. قال الأذرعي: لكن قضية كلام المصنف في الاستنجاء
إجزاء الحجر في الأظهر، وصرح به في التنقيح هناك، قال: ولعل مرادهم هنا ما إذا تفاحش بحيث لا يجزئ الحجر في مثله
من المعتاد. (و) بعد ذلك (تتوضأ) وتجب المبادرة به أو ببدله عقب الاحتياط، ولذلك قيل: لو عبر بالفاء لكان أولى. ويكون
ذلك (وقت الصلاة) لأنه طهارة ضرورة فلا تصح قبل الوقت كالتيمم. وقد سبق بيان الأوقات في بابه فيجئ هنا جميع
ما سبق ثم، قاله في المجموع، فدخل في ذلك النوافل والمؤقتة فلا تتوضأ لها قبل وقتها، وهو كذلك. ولا يفهم من ذلك أنه يمتنع
عليها أن تجمع بين نوافل بوضوء كما قيل لما سيأتي أنه يجب الوضوء لكل فرض. (و) بعدما ذكر (تبادر بها) أي بالصلاة
وجوبا تقليلا للحدث لأنه يتكرر منها وهي مستغنية عنه بالمبادرة، بخلاف المتيمم السليم لانتفاء ما ذكر، أما غير السليم
فالحكم فيه كما هنا. (فلو أخرت لمصلحة الصلاة كستر) لعورة وأذان وإقامة (وانتظار جماعة) واجتهاد في قبلة وذهاب إلى
مسجد وتحصيل ستر، (لم يضر) لأنها لا تعد بذلك مقصرة. فإن قيل: كيف يصح التمثيل بأذان المرأة مع أنه غير مشروع
لها؟ أجيب بأنه محمول على الإجابة، وبأن تأخيرها للاذان لا يستلزم أذانها. ولو اعتادت الانقطاع بقدر ما يسع الوضوء
والصلاة فانقطع وجب عليها المبادرة، ولا يجوز لها التأخير لجماعة ولا لغيرها. (وإلا) بأن أخرت لا لمصلحة الصلاة كأكل
وشرب وغزل وحديث، (فيضر) التأخير (على الصحيح) فيبطل وضوؤها فتجب إعادته وإعادة الاحتياط
لتكرر الحدث
والنجس مع استغنائها عن احتمال ذلك بقدرتها على المبادرة، والثاني: لا يضر كالمتيمم. قال في المجموع: وحيث أوجبنا
111

المبادرة. قال الإمام: ذهب ذاهبون من أئمتنا إلى المبالغة، واغتفر آخرون الفصل اليسير وضبطه بقدر ما بين صلاتي الجمع اه‍.
وينبغي اعتماد الثاني. وخروج الدم بلا تقصير منهما لا يضر، فإن كان خروجه لتقصير في الشد ونحوه كالحشو بطل وضوؤها
وكذا صلاتها إن كانت في صلاة، ويبطل أيضا وضوؤها بالشفاء وإن اتصل بآخره. (ويجب الوضوء لكل فرض) ولو
منذورا كالمتيمم لبقاء الحدث، وإنما جوزت الفريضة الواحدة للضرورة. وخرج بالفرض النفل فلها أن تتنفل ما شاءت
بوضوء. وتقدم أن صلاة الجنازة حكمها النافلة. (وكذا) يجب لكل فرض (تجديد العصابة) وما يتعلق بها من
غسل وحشو (في الأصح) قياسا على تجديد الوضوء، والثاني: لا يجب تجديدها، لأنه لا معنى للامر بإزالة النجاسة مع استمرارها.
ومحل الخلاف إذا لم يظهر الدم على جوانب العصابة ولم تزل العصابة عن موضعها زوالا له وقع وإلا وجب التجديد بلا خلاف،
لأن النجاسة قد كثرت مع إمكان تقليلها. (ولو انقطع دمها بعد الوضوء) أو فيه وقبل الصلاة أو فيها (ولم تعتد انقطاعه وعوده)
ولم يخبرها ثقة عارف بعوده، (أو اعتادت) ذلك أو أخبرها من ذكر بعوده، (ووسع) بكسر السين، (زمن الانقطاع)
بحسب العادة أو بإخبار من ذكر (وضوءا والصلاة وجب الوضوء) وإزالة ما على الفرج من الدم. أما في الأولى فلاحتمال
الشفاء، والأصل عدم عوده. وأما في الثانية فلامكان أداء الصلاة على الكمال في الوقت، فلو خالفت وصلت بلا وضوء لم تنعقد
صلاتها سواء امتد الانقطاع أم لا لشروعها مترددة في طهرها. ولو عاد الدم فورا لم يبطل وضوؤها إذ لم يوجد الانقطاع المغني
عن الصلاة بالحدث والنجس، والمراد ببطلان وضوئها بذلك إذا خرج منها دم في أثنائه أو بعده وإلا فلا يبطل وتصلي
به قطعا، صرح به في المجموع وكذا في البسيط وغيره، ووجهه بأنه بان أن طهرها رافع حدث. وشمل كلامه كغيره ما لو
كانت عادته العود على ندور، وهو ما نقله الرافعي عن مقتضى كلام معظم الأصحاب، ثم قال: ولا يبعد أن تلحق هذه النادرة
بالمعدومة وهو مقتضى كلام الغزالي اه‍. والأول أوجه، فلو عاد الدم قبل إمكان الطهر والصلاة المتطهر لها
في الحالتين
فطهرها بحاله فتصلي به لكن تعيد ما صلت به قبل العود. ولو اعتادت العود عن قرب فامتد الزمن بحيث يسع ما ذكر
وقد صلت بطهرها، تبين بطلان الطهارة والصلاة اعتبارا بما في نفس الامر. ومن اعتادت انقطاعه في أثناء الوقت ووثقت
بانقطاعه فيه بحيث تأمن الفوات، لزمها انتظاره لاستغنائها حينئذ عن الصلاة بالحدث والنجس، وإلا ففيه التفصيل المذكور
في المتيمم الذي يرجو الماء في آخر الوقت. وجزم صاحب الشامل بوجوب التأخير، قال الزركشي: وهو الوجه، كما لو كان
على بدنه نجاسة ورجا الماء آخر الوقت فإنه يجب التأخير عن أول الوقت لإزالة النجاسة فكذا هنا اه‍. والأوجه الأول.
وإنما أوجبنا عليها التأخير فيما إذا اعتادت انقطاعه لأن العادة منزلة منزلة القدرة.
تنبيه: اختلف في العادة التي تسع الوضوء والصلاة، قال الأذرعي: هل المراد بقولهم مدة تسعهما مع سننهما
أم ما يسع أقل ما يجزئ منهما أم يفرق بين المتأكد من سننها وغيره؟ لم أر فيه نصا، وهو محتمل. وقال الأسنوي:
لم يبينا هنا مقدار الصلاة، والمتجه الجاري على القواعد اعتبار أقل ما يمكن كركعتين في ظهر المسافر، وقال في الروضة
بعد ذكر ما في الكتاب: فإن كان يسيرا لا يسع الطهارة والصلاة التي طهرت لها فلها الشروع في الصلاة اه‍. والمتجه
أن العبرة بالواجب من الوضوء ومن الصلاة التي تطهرت لها، ولو عبر المصنف بالطهارة بدل الوضوء لكان أولى ليشمل
ما زدته بعده. وطهارة المستحاضة مبيحة للصلاة وغيرها لا ترفع حدثا كما مر في الوضوء، وقيل: ترفعه، وقيل:
ترفع الماضي دون غيره. وكل من به حدث دائم حكمه حكم المستحاضة فيما ذكر، وكذا من به جرح سائل فيما عدا
الوضوء. ومن دام خروج منيه يلزمه الغسل لكل فرض، ولو استمسك السلس بالقعود دون القيام وجب عليه أن
يصلي من قعود احتياطا للطهارة ولا إعادة عليه. ولا يجوز له أن يعلق قارورة ليتقطر فيها بوله، لأنه يصير حاملا للنجاسة
في غير معدنها بلا ضرورة. ويجوز وطئ المستحاضة في الزمن المحكوم عليه بأنه طهر، ولا كراهة في ذلك
وإن كان الدم جاريا.
112

فصل: إذا (رأت) المرأة من الدماء (لسن الحيض أقله) أي الحيض فأكثر، (ولم يعبر) أي يجاوز (أكثره فكله
حيض) سواء أكان أسود أم لا، وسواء أكانت مبتدأة أم معتادة تغيرت عادتها أم لا، إلا أن يكون عليها بقية
طهر كأن
رأت ثلاثة أيام دما، ثم اثني عشر نقاء، ثم ثلاثة دما، ثم انقطع، فالثلاثة الأخيرة دم فساد لا حيض، ذكر ذلك في المجموع
مفرقا. ولو عبر بزمن إمكان الحيض قدره بدل قوله لسن الحيض أقله لشمل ما ذكر واستغنى عن زيادة فأكثر، لأن
الأقل لا يعبر الأكثر، ثم رأيت شيخنا في منهجه عبر بذلك. (والصفرة والكدرة) كل منهما (حيض في الأصح).
وفي الروضة: الصحيح، لأنه الأصل فيما تراه المرأة في زمن الامكان. والثاني: لا، لأنه ليس على لون الدم، لقول أم عطية:
كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئا. وأجاب الأول بأن هذا معارض بقول عائشة رضي الله تعالى عنها لما كانت النساء
يبعثن إليها بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة من دم الحيض: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء تريد بذلك الطهر
من الحيضة، رواه مالك. والدرجة بضم الدال وإسكان الراء وبالجيم، وروي بكسر الدال وفتح الراء. وهي نحو
خرقة كقطنة تدخلها المرأة فرجها ثم تخرجها لتنظر هل بقي شئ من أثر الدم أو لا. والكرسف: القطن. وحاصل ذلك
أنها تضع قطنة في أخرى أكبر منها أو في نحو خرقة وتدخلها فرجها، وكأنها تفعل ذلك لئلا يتلوث بدنها بالقطنة الصغرى.
والقصة بفتح القاف: الجص، شبهت الرطوبة النقية بالجص في الصفاء. ومحل الخلاف إذا رأت ذلك في غير أيام
العادة، فإن رأته في العادة، قال في الروضة: فحيض جزما، لكن في التتمة: لا بد من قوي معه. وقيل: يجب تقدم
القوي فيحسن حينئذ إطلاق الخلاف. وكلام المصنف يفهم أن الصفرة والكدرة دمان. والذي في المجموع: قال
الشيخ أبو حامد: هما ماء أصفر وماء كدر وليسا بدم، والإمام: هما شئ كالصديد تعلوه صفرة وكدرة ليسا على لون
الدماء اه‍. وكلام الإمام هو الظاهر كما جزم به في أصل الروضة. ثم أخذ في بيان ما إذا جاوز دم المرأة خمسة عشر يوما
وتسمى بالمستحاضة ولها سبعة أحوال، لأنها إما مميزة أو لا، وكل منهما إما مبتدأة أو معتادة، وغير المميزة الناسية للعادة
وهي المتحيرة إما ناسية للقدر والوقت أو للأول دون الثاني أو للثاني دون الأول. فقال مبتدئا بالمبتدأة المميزة: (فإن
عبره) أي جاوز الدم أكثر الحيض، (فإن كانت) أي من جاوز دمها أكثر الحيض (مبتدأة) وهي التي ابتدأها
الدم، (مميزة بأن ترى) في بعض الأيام دما (قويا و) في بعضها دما (ضعيفا) يعني بأن ترى ذلك في أول حيضة كالأسود
والأحمر، فهو ضعيف بالنسبة للأسود قوي بالنسبة للأشقر، والأشقر أقوى من الأصفر وهو أقوى من الاكدر،
وما له رائحة كريهة أقوى مما لا رائحة له، والثخين أقوى من الرقيق، فالأقوى ما صفاته من ثخن ونتن وقوة لون أكثر،
فيرجح أحد الدمين بما زاد منها، فإن استويا فبالسبق. والمراد بالضعيف الضعيف المحض، فلو بقي فيه خطوط مما قبله
فهو ملحق به بالشروط الآتية. (فالضعيف) من ذلك (استحاضة) وإن طال، (والقوي) منه (حيض إن لم ينقص) القوي
(عن أقله) أي الحيض وهو يوم وليلة كما مر، (ولا عبر) أي جاوز (أكثره) وهو خمسة عشر يوما كما مر أيضا
متصلة، لأن الحيض لا يزيد على ذلك. (ولا نقص الضعيف) إن استمر (عن أقل الطهر) وهو خمسة عشر يوما كما مر أيضا
متصلة فأكثر، حتى لو رأت يوما وليلة أسود ثم اتصل به الضعيف وتمادى سنين كان طهرا وإن كانت ترى الدم دائما،
لأن أكثر الطهر لا حد له كما سلف. فإن فقد شرط من ذلك كأن رأت الأسود يوما فقط أو ستة عشر أو الضعيف
أربعة عشر ورأت أبدا يوما أسود ويومين أحمر، فكغير المميزة وسيأتي حكمها، وإنما يفتقر إلى القيد الثالث إذا
استمر الدم كما قررته وصرح به المتولي للاحتراز عما لو رأت عشرة سواد ثم عشرة حمرة أو نحوها وانقطع الدم فإنها
تعمل بتمييزها مع أن الضعيف نقص عن خمسة عشر، وهذا معلوم والتنبيه عليه للايضاح، وإن اجتمع قوي وضعيف
وأضعف فالقوي مع ما يناسبه منهما وهو الضعيف حيض بشروط ثلاثة: وهي أن يتقدم القوي ويتصل به الضعيف
113

وأن يصلحا معا للحيض بأن لا يزيد مجموعهما على أكثره كخمسة سوادا ثم خمسة حمرة ثم أطبقت الصفرة، فالأولان
حيض كما رجحه الرافعي في الشرح الصغير والمصنف في تحقيقه ومجموعه، لأنهما قويان بالنسبة لما بعدهما، فإن لم يصلحا للحيض
كعشرة سوادا وستة أحمر ثم أطبقت الصفرة، أو صلحا لكن تقدم الضعيف كخمسة حمرة ثم خمسة سوادا ثم أطبقت
الصفرة، أو تأخر لكن لم يتصل الضعيف بالقوي كخمسة سوادا ثم خمسة صفرة ثم أطبقت الحمرة فحيضها في ذلك السواد
فقط، وما تقرر في الثالثة هو ما صرح به الروياني وصححه المصنف في تحقيقه وشراح الحاوي الصغير، لكنه في المجموع
كأصل الروضة جعلها كتوسط الحمرة بين سوادين، وقال في تلك: لو رأت سوادا ثم حمرة ثم سوادا كل واحد
سبعة أيام فحيضها السواد الأول مع الحمرة. وفرق شيخي بينهما بأن الضعيف في المقيس عليها توسط بين قويين فألحقناه
بأسبقهما، ولا كذلك المقيسة. ثم شرع في المستحاضة الثانية وهي المبتدأة غير المميزة، فقال: (أو) كانت من جاوز
دمها أكثر الحيض (مبتدأة لا مميزة بأن رأته بصفة) واحدة (أو) رأته بصفات مختلفة لكن (فقدت شرط تمييز) من
شروطه السابقة، فإن لم تعرف وقت ابتداء دمها فكمتحيرة وسيأتي حكمها، وإن عرفته (فالأظهر أن حيضها يوم
وليلة) من أول الدم وإن كان ضعيفا، لأن ذلك هو المتيقن، وما زاد مشكوك فيه فلا يحكم بأنه حيض. (وطهرها تسع
وعشرون) تتمة الشهر ليتم الدور ثلاثين مراعاة لغالبه، ولذا لم نحضها الغالب احتياطا للعبادة. وأما خبر حمنة السابق
فذاك لكونها كانت معتادة على الراجح، ومعناه ستة إن اعتادتها أو سبعة كذلك، أو لعلها شكت هل عادتها ستة
أو سبعة، فقال: ستة إذا لم تذكري عادتك، أو سبعة إن ذكرت أنها عادتك، أو لعل عادتها كانت مختلفة فيهما،
فقال: ستة في شهر السنة، وسبعة في شهر السبعة. والثاني: تحيض غالب الحيض ستة أو سبعة وبقية الشهر طهر. وإنما
نص المصنف على أن طهرها ما ذكره لدفع توهم أنه أقل الطهر أو غالبه، وأنه يلزمها الاحتياط فيما عدا أقل الحيض إلى
أكثره كما قيل بكل منهما. وإنما لم يقل: وطهرها بقية الشهر، لأن الشهر قد يكون ناقصا، فنص على المراد.
إذا علمت ذلك، فقوله: وطهرها تسع وعشرون يحتمل عود الأظهر إليه أيضا، أي الأظهر أن حيضها الأقل
لا الغالب. والأظهر أيضا أن طهرها تسع وعشرون لا الغالب، وحينئذ فيقرأ وطهرها بالنصب، ويحتمل أنه مفرع
على القول الأول فيقرأ بالرفع. قال الولي العراقي: والأول أقرب إلى عبارة المحرر اه‍. نعم إن طرأ لها في أثناء الدم
تمييز عادت إليه نسخا لما مضى بالتمييز.
تنبيه: ما ذكر من كون فاقدة شرط تمييز غير مميزة هو ما في الروضة أيضا، واعترضه بعضهم بأنها مميزة ولكن
تمييزها غير معتبر فلا تسمى غير مميزة، ثم أجاب بأن قوله: أو فقدت شرط معطوف على قوله
لا مميزة وتقديره: أو مبتدأة لا مميزة أو مبتدأة مميزة فقدت شرط تمييز اه‍. وهذا خلاف في مجرد التسمية وإلا فالحكم صحيح.
فرع: لو رأت المبتدأة خمسة عشر حمرة ثم مثلها سوادا تركت الصوم والصلاة وغيرهما مما تتركه الحائض شهرا،
ثم إن استمر الأسود فلا تمييز لها، وحيضها يوم وليلة من أول كل شهر وتقضي الصوم والصلاة. قالا: ولا يتصور
مستحاضة تترك الصلاة إحدى وثلاثين يوما إلا هذه، وأورد عليهما بأنها قد تؤمر بالترك أضعاف ذلك كما لو رأت
كدرة ثم صفرة ثم شقرة ثم حمرة ثم سوادا من كل شهر خمسة عشر فتؤمر بالترك في جميع ذلك لوجود العلة
المذكورة لأن دور المرأة غالبا شهر، والخمسة عشر الأولى يثبت لها حكم الحيض بالظهور، فإذا جاء بعدها ما ينسخها
للقوة رتبنا الحكم عليه، فلما جاوز الخمسة عشر علمنا أنها غير مميزة، أما المعتادة فيتصور كما قال البارزي أن تترك الصلاة
خمسة وأربعين يوما بأن تكون عادتها خمسة عشر من أول كل شهر، فرأت من أول شهر خمسة عشر حمرة ثم أطبق
السواد، فتؤمر بالترك في الخمسة عشر الأولى أيام عادتها، وفي الثانية لفوتها رجاء استمرار التمييز، وفي الثالثة لأنه لما
114

استمر السواد تبين أن مردها العادة. ثم شرع في المستحاضة الثالثة وهي المعتادة غير المميزة، فقال: (و) كانت من جاوز
دمها أكثر الحيض (معتادة) غير مميزة، (بأن سبق لها حيض وطهر) وهي تعلمهما قدرا ووقتا، (فترد إليهما قدرا ووقتا)
كخمسة أيام من كل شهر، لما روى الشافعي وغيره بأسانيد صحيحة على شرط الشيخين عن أم سلمة: أن امرأة كانت
تهراق الدم على عهد رسول الله (ص)، فاستفتيت لها رسول الله (ص) فقال: لتنظر عدد الأيام
والليالي التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتدع الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل
ثم لتستتر بثوب ثم لتصل، قال في المجموع: وتهراق بضم التاء وفتح الهاء: أي تصب، والدم منصوب بالتشبيه بالمفعول به،
أو بالتمييز على مذهب الكوفي، قال الزركشي: ولا حاجة إلى هذا التكلف، وإنما هو مفعول به، والمعنى تهريق الدم،
قاله السهيلي وغيره، قالوا: لكن العرب تعدل بالكلمة إلى وزن ما هو في معناها، وهي في معنى: تستحاض،
وتستحاض على وزن ما لم يسم فاعله. (وتثبت) العادة المرتب عليها ما ذكر إن لم تختلف (بمرة في الأصح) فلو حاضت
في شهر خمسة ثم استحيضت ردت إليها، لأن الحديث السابق قد دل على اعتبار الشهر الذي قبل الاستحاضة، ولان
الظاهر أنها فيه كالذي يليه لقربه إليها، فهو أولى مما انقضى، وهذا ما نص عليه في الام والبويطي. والثاني: إنما تثبت
بمرتين لأن العادة مشتقة من العود، وأجاب الأول بأن لفظ العادة لم يرد به نص فيتعلق به. والثالث: لا بد من ثلاث
مرات، لحديث: دعي الصلاة أيام أقرائك والأقراء جمع قرء، وأقله ثلاثة، فمن حاضت خمسة في شهر، ثم ستة في آخر،
ثم سبعة في آخر، ثم استحيضت ردت إلى السبعة على الأول، وإلى الستة على الثاني، وإلى الخمسة على الثالث، فإن
اختلفت عادتها وانتظمت كأن كانت تحيض في شهر ثلاثة، وفي الثاني خمسة، وفي الثالث سبعة، وفي الرابع ثلاثة، وفي
الخامس خمسة، وفي السادس سبعة، ثم استحيضت في الشهر السابع ردت إلى الثلاثة، أو في الثامن فإلى الخمسة، أو في
التاسع فإلى السبعة، وهكذا أبدا، وأقل ما تستقيم العادة به في المثال المذكور ستة أشهر، فلو لم تدر الدور الثاني على النظم
السابق كأن استحيضت في الشهر الرابع ردت إلى السبعة لا إلى العادات السابقة، فإن لم تنتظم بأن كانت تتقدم هذه مرة
وهذه أخرى ردت إلى ما قبل شهر الاستحاضة إن ذكرته بناء على ثبوت العادة بمرة، ثم تحتاط إلى آخر أكثر العادات
إن لم يكن هو الذي قبل شهر الاستحاضة. فإن نسيت ما قبل شهر الاستحاضة أو نسيت كيفية الدوران دون العادة
حيضناها في كل شهر ثلاثة لأنها المتيقن، وتحتاط إلى آخر أكثر العادات، وتغتسل آخر كل نوبة لاحتمال الانقطاع عنده.
ثم شرع في المستحاضة الرابعة، وهي المعتادة المميزة، فقال: (ويحكم المعتادة المميزة بالتمييز) حيث خالف العادة لم يتخلل
بينهما أقل الطهر. (لا العادة في الأصح) كما لو كان عادتها خمسة من أول كل شهر وباقيه طهر، فاستحيضت فرأت عشرة
سوادا من أول الشهر وباقيه حمرة، فحيضها العشرة السواد لحديث: دم الحيض أسود يعرف ولان التمييز علامة
في الدم، والعادة علامة في صاحبته، ولأنه علامة حاضرة، والعادة علامة قد انقضت. والثاني: يحكم بالعادة، لأن العادة
قد ثبتت واستقرت، وصفة الدم بصدد الزوال، فعلى هذا يكون حيضها الخمسة الأولى منها، والباقي بعد العشرة على
الأول، والخمسة على الثاني طهر، فإن تخلل بينهما أقل الطهر عمل بهما، كأن رأيت بعد عادتها الخمسة من أول الشهر
عشرين أحمر ثم خمسة أسود ثم أحمر، فالأصح أن كلا منهما حيض لأن بينهما طهرا كاملا. وقيل: يطرد
الخلاف،
وعند التوافق الامر واضح.
تنبيه: المبتدأة وغير المميزة والمعتادة كذلك تترك الصلاة وغيرها مما تتركه الحائض بمجرد رؤية الدم،
لأن الظاهر أنه حيض فتتربص، فإن انقطع لدون يوم وليلة فليس بحيض في حقهن لتبين أنه دم فساد، فيقضين الصلاة
وكذا الصوم إذا نوين مع العلم بالحكم لتلاعبهن. أما إذا نوين قبل وجود الدم أو علمهن به أو لظنهن أنه دم فساد أو
لجهلهن بالحكم فيصح صومهن، وانقطع ليوم وليلة فأكثر ولدون أكثر من خمسة عشر يوما فالكل حيض ولو كان قويا
115

وضعيفا وإن تقدم الضعيف على القوي، فإن جاوز الخمسة عشر ردت كل منهما إلى مردها وقضت كل منهن صلاة وصوم
ما زاد على مردها. ثم في الشهر الثاني وما بعده يتركن التربص ويصلين ويفعلن ما تفعله الطاهرات فيما زاد على مردهن،
لأن الاستحاضة علة مزمنة، فالظاهر دوامها. فإن شفين في دور قبل مجاوزة أكثر الحيض كان الجميع حيضا كما في
الشهر الأول فيعدن الغسل لتبين عدم صحته لوقوعه في الحيض. ثم شرع في المستحاضة الخامسة وهي المتحيرة، فقال:
(أو) كانت من جاوز دمها أكثر الحيض (متحيرة) سميت بذلك لتحيرها في أمرها، وتسمى المحيرة أيضا بكسر الياء لأنها
حيرت الفقيه في أمرها، وفي المستحاضة غير المميزة. ولها ثلاثة أحوال، لأنها إما أن تكون ناسية للقدر والوقت، أو
للقدر دون الوقت، أو بالعكس. وقد شرع في القسم الأول فقال: (بأن نسيت عادتها قدرا ووقتا) لنحو غفلة أو جنون،
وهي المتحيرة المطلقة، (ففي قول كمبتدأة) بجامع فقد العادة والتمييز، فيكون حيضها من أول الوقت الذي عرفت ابتداء
الدم فيه أقل الغالب أو غالبه كما سبق. وقيل: هنا ترد إلى غالبه قطعا، فإن لم نعرف وقت ابتداء الدم أو كانت مبتدأة أو
نسيت وقت ابتداء الدم كما سبق، فحيضها من أول كل هلال ودورها شهر هلالي، ومتى أطلق الشهر في المستحاضة فالمراد
ثلاثون يوما إلا في هذا الموضع. (والمشهور وجوب الاحتياط) بما يجئ، إذ كل زمن يحتمل الحيض والطهر فاشتبه
حيضها بغيره ولا يمكن التبعيض من غير معرفة أوله ولا جعلها طاهرا أبدا في كل شهر لقيام الدم ولا حائضا أبدا في كل
شهر لقيام الاجماع على بطلانه، فتعين الاحتياط للضرورة لا لقصد التشديد عليها. (فيحرم) على الحليل (الوطئ) والاستمتاع بما
بين سرتها وركبتها كما مر في الحائض لاحتمال الحيض. وقيل: يجوز ذلك، لأن الاستحاضة علة مزمنة والتحريم دائما
موقع في الفساد. وعلى الأول يستمر وجوب النفقة على الزوج وإن منع من الوطئ، ولا خيار له في فسخ النكاح، لأن
وطئها متوقع وعدتها إذا لم تكن حاملا بثلاثة أشهر في الحال لتضررها بطول الانتظار إلى سن اليأس، وإن ذكرت
الأدوار فعدتها ثلاثة منها. ولا تجمع تقديما لسفر ونحوه، لأن شرطه تقدم الأولى صحيحة يقينا أو بناء على أصل ولم
يوجد هنا. ولا تؤم في صلاتها بطاهر ولا متحيرة بناء على وجوب القضاء عليها، ولا يلزمها الفداء عن صومها إن أفطرت
للرضاع لاحتمال كونها حائضا، وسيأتي إن شاء الله تعالى التنبيه على هذه المسائل في أبوابها، وإنما جمعناها هنا لنحفظ.
(و) يحرم عليها (مس المصحف) وحمله كما علم بالأولى، (والقراءة في غير الصلاة) لاحتماله أيضا، أما في الصلاة فجائزة
مطلقا. وقيل: تباح لها القراءة مطلقا خوف النسيان بخلاف الجنب لقصر زمن الجنابة. وقيل: تحرم الزيادة على الفاتحة في الصلاة
كالجنب الفاقد للطهورين، وفرق الأول بأن الجنب مدته محقق بخلافها، وشمل كلامه تحريم المكث في المسجد عليها
وبه صرح في أصل الروضة. قال في المهمات: وهو متجه إذا كان لغرض دنيوي أو لا لغرض، فإن كان للصلاة
فكقراءة السورة فيها أو لاعتكاف أو طواف فكالصلاة فرضا أو نفلا. قال: ولا يخفى أن محل ذلك إذا أمنت
التلويث. واعتمد ذلك شيخي. وتطوف الفرض، (وتصلي الفرائض أبدا) وجوبا فيهما لاحتمال طهرها، ولا فرق في ذلك بين
المكتوب والمنذور. قال الأسنوي: والقياس أن صلاة الجنازة كذلك. (وكذا النفل) أي لها صلاته وطوافه وصيامه (في الأصح)
لأنه من مهمات الدين، فلا وجه لحرمانها منه. والثاني: لأنه لا ضرورة إليه كمس المصحف والقراءة في غير الصلاة. وقيل:
تصلي الراتبة دون غيرها. قال الدميري: واقتضى إطلاق المصنف إنه لا فرق في جواز النقل لها بين أن يبقى وقت الفريضة
أو يخرج، وهو الأصح في زوائد الروضة، وخالف في شرح المهذب والتحقيق وشرح مسلم، فصحيح الجميع عدم الجواز
بعد خروج الوقت اه‍. أي لأن حدثها يتجدد ونجاستها تتزايد، ومع هذا فما في الزوائد أوجه، وقضية سكوت المصنف
عن قضاء الصلاة بعد فعلها في الوقت وتصريحه بوجوب قضاء الصوم أنه لا يجب قضاؤها وهو ما في البحر عن النص.
وقال في المجموع: إنه ظاهر نص الشافعي، لأنه نص على وجوب قضاء الصوم دون الصلاة، قال: وبذلك صرح الشيخ
أبو حامد والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وجمهور العراقيين وغيرهم، لأنها إن كانت حائضا فلا صلاة عليها أو طاهرا فقد
116

صلت. قال في المهمات: وهو المفتى به، لكن الذي رجحه الشيخان وجوب القضاء، والتفريع عليه يطول مع مخالفته
النص وطريقة الجمهور، وستأتي الإشارة إليه في قول المصنف في صلاة الجماعة في قوله: غير المتحيرة وقد بينت التفريع
على ذلك في شرح التنبيه. (وتغتسل) وجوبا إن جهلت وقت انقطاع الدم ولم يكن دمها متقطعا، (لكل فرض) بعد
دخول وقته لاحتمال الانقطاع حينئذ، فإن علمت وقت الانقطاع كعند الغروب لم يلزمها الغسل في كل يوم وليلة إلا عقب
الغروب كما قاله المصنف في التحقيق. وقال في المجموع: إن إطلاق الأصحاب الغسل لكل فريضة محمول على هذا التفصيل،
وأما ذات التقطع فلا يلزمها الغسل زمن النقاء لأن الغسل سببه الانقطاع والدم منقطع. ولا يلزمها المبادرة إلى الصلاة
عقب الغسل على الأصح في أصل الروضة، وقيل يلزمها كما في وضوء المستحاضة. وفرق الأول بأنا إنما أوجبنا المبادرة
هناك تقليلا للحدث، والغسل إنما تؤمر به لاحتمال الانقطاع، ولا يمكن تكرر الانقطاع بين الغسل والصلاة، فإذا أخرت
وجب عليها الوضوء فقط. (وتصوم) وجوبا (رمضان) لاحتمال أن تكون طاهرا جميعه، (ثم شهرا كاملين) بأن يكون
رمضان ثلاثين وتأتي بعده بثلاثين متوالية. (فيحصل) لها (من كل) منهما (أربعة عشر) يوما إذا لم تعتد الانقطاع
ليلا بأن اعتادته نهارا، أو شكت لاحتمال أن تحيض فيهما أكثر الحيض ويطرأ الدم في أثناء يوم وينقطع في أثناء يوم
فيفسد عليها ستة عشر يوما من كل منهما، لأن وجود الحيض في بعض اليوم مبطل له. أما إذا اعتادته ليلا فلم يبق عليها
شئ، وربما ترد هذه الصورة على المصنف. وقوله كاملين حال من رمضان و شهرا وإن كان شهرا نكرة.
فإن كان رمضان
ناقصا حصل لها منه ثلاثة عشر يوما، والمقضي منه بكل حال ستة عشر يوما، فإذا صامت شهرا كاملا بعد ذلك بقي
عليها على كل من التقديرين يومان، فلو قال: وتصوم رمضان ثم شهرا كاملا ويبقى يومان، لاغنى عن كاملين وما بعده،
قاله ابن شهبة. (ثم) إذا بقي عليها قضاء صوم فلها في قضائه طريقتان: إحداهما وهي طريقة الجمهور وتجري في أربعة
عشر يوما فما دونها أن تضعف ما عليها وتزيد عليه يومين فتصوم ما عليها ولاء متى شاءت، ثم تأتي بذلك مرة أخرى من
أول السابع عشر من صومها وتأتي باليومين بينهما تواليا أو تفرقا اتصلا بالصوم الأول أو بالثاني أو لم يتصلا بواحد أو
اتصل أحدهما بالأول والآخر بالثاني، وقد نبه المصنف على هذه الطريقة بقوله: (تصوم من ثمانية عشر) يوما (ثلاثة أولها
وثلاثة) من (آخرها فيحصل اليومان الباقيان) لأنها قد ضاعفت الصوم الذي عليها وصامت يومين بينهما، لأن غاية
ما يفسده الحيض ستة عشر يوما فيحصل لها يومان على كل تقدير، لأن الحيض إن طرأ في أثناء اليوم الأول من صومها
انقطع في أثناء السادس عشر فيحصل اليومان بعده، أو في اليوم الثاني انقطع في السابع عشر فيحصل الأول والأخير، أو
في اليوم الثالث فيحصل اليومان الأولان، أو في اليوم السادس عشر انقطع اليوم الأول فيحصل لها الثاني والثالث، أو في
السابع عشر انقطع في الثاني فيحصل لها السادس عشر والثالث، أو في الثامن عشر انقطع في الثالث فيحصل لها السادس عشر
والسابع. وقد توهم عبارة المصنف أنه لا يمكن قضاء يومين بأقل من ستة أيام فإنه في معرض بيان الأقل،
وليس مرادا بل يمكن بخمسة كما يعلم من قولي. والطريقة الثانية، وهي طريقة الدارمي واستحسنها المصنف في المجموع،
وتجري في سبعة أيام فما دونها: أن تصوم بقدر ما عليها بزيادة يوم متفرق بأي وجه شاءت في خمسة عشر ثم تعيد صوم
كل يوم غير الزيادة يوم سابع عشرة، ولها تأخيره إلى خامس عشر ثانية. وقد نبه المصنف على هذه الطريقة بقوله:
(ويمكن قضاء يوم بصوم يوم، ثم الثالث) من الأول (والسابع عشر) منه، لأنها قد صامت بقدر ما عليها أولا بزيادة يوم
متفرقا في خمسة عشر يوما، وبقدر ما عليها في سابع عشرة، فيقع لها يوم من الأيام الثلاثة في الطهر على كل
تقدير، وقد
علمت كيفيته في الطريقة الأولى. وفي مثال المصنف استوى سابع عشر الأول وخامس عشر ثانيه لأنها فرقت صومها
117

بيوم فلو فرقته بأكثر تغايرا. هذا في غير الصوم المتتابع، أما المتتابع بنذر أو غيره فإن كان سبعة أيام فما دونها صامتة
ولاء ثلاث مرات، الثالثة منها من سابع عشر شروعها في الصوم بشرط أن تفرق بين كل مرتين من الثلاث بيوم فأكثر
حيث يتأتى الأكثر، وذلك فيما دون السبع، فلقضاء يومين ولاء تصوم يوما وثانيه وسابع عشره وثامن عشره ويومين
بينهما ولاء غير متصلين بشئ من الصومين فتبرأ، لأن الحيض إن فقد في الأولين صح صومهما، وإن وجد فيهما صح
الأخيران إذ لم يعد فيهما، وإلا فالمتوسطان وإن وجد في الأول دون الثاني صحا أيضا أو بالعكس. فإن انقطع قبل
السابع عشر صح مع ما بعده، وإن انقطع فيه صح الأول والثامن عشر. وتخلل الحيض لا يقطع الولاء وإن كان الصوم الذي
تخلله قدرا يسعه وقت الظهر لضرورة تحير المستحاضة، فإن كان المتتابع أربعة عشر فما دونها صامت له ستة عشر ولاء
ثم تصوم قدر المتتابع أيضا ولاء بين أفراده وبينها وبين الستة، فلقضاء ثمانية متتابعة تصوم أربعة وعشرين ولاء
فتبرأ إذ الغاية بطلان ستة عشر فيبقى لها ثمانية من الأول أو من الآخر أو منهما أو من الوسط، ولقضاء أربعة عشر تصوم
ثلاثين. وإن كان ما عليها شهرين متتابعين صامت مائة وأربعين يوما ولاء فتبرأ، إذ يحصل من كل ثلاثين أربعة عشر يوما
فيحصل من مائة وعشرين ستة وخمسون ومن عشرين الأربعة الباقية. وإنما وجب الولاء لأنها لو فرقت احتمل وقوع
الفطر في الطهر فيقطع الولاء. ثم شرع في الحالين الباقيين للمتحيرة، فقال: (وإن حفظت) من عادتها (شيئا) ونسيت شيئا،
كأن ذكرت الوقت دون القدر أو بالعكس. (فلليقين) من الحيض والطهر (حكمه) وقضية كلامه أن هذه تسمى
متحيرة. قال ابن شهبة: والجمهور على خلافه اه‍. وقد علمت مما مر أن المتحيرة لها ثلاثة أحوال، فكلام الجمهور
محمول على المتحيرة المطلقة فلا ينافي ما ذكر. (وهي) أي المتحيرة الحافظة لاحد الامرين (في) الزمن (المحتمل) للطهر
والحيض، (كحائض في الوطئ) ونحوه مما مر، (وطاهر في العبادات) لما سبق في المتحيرة المطلقة من وجوب الاحتياط.
(وإن احتمل انقطاعا وجب الغسل لكل فرض) للاحتياط أيضا، وإن لم يحتمله وجب الوضوء فقط. ويسمى محتمل الانقطاع
طهرا مشكوكا فيه، والذي لا يحتمله حيضا مشكوكا فيه، مثال الحافظة للوقت دون القدر كأن تقول: كان حيضي يبتدئ
أول الشهر فيوم وليلة منه حيض بيقين لأنه أقل الحيض، ونصفه الثاني طهر بيقين لما مر أن أكثر الحيض خمسة عشر،
وما بين ذلك يحتمل الحيض والطهر ولا انقطاع. ومثال الحافظة للقدر دون الوقت كأن تقول: حيضي خمسة في العشر
الأول من الشهر لا أعلم ابتداءها وأعلم أني في اليوم الأول طاهر، فالسادس حيض بيقين والأول طهر بيقين كالعشرين
الأخيرين، والثاني إلى آخر الخامس محتمل للحيض والطهر، والسابع إلى آخر العاشر محتمل لهما وللانقطاع.
تنبيه: قال الأصحاب: إن الحافظة للقدر إنما تخرج عن التحير المطلق إذا حفظت قدر الدور وابتداءه وقدر الحيض
كما مثلنا، فلو قالت: حيضي خمسة وأضللتها في دوري ولا أعرف غير ذلك، فلا فائدة في حفظها لاحتمال الحيض والطهر
والانقطاع في كل زمن، وكذا لو قالت: حيضي خمسة ودوري ثلاثون ولا أعرف ابتداءه، وكذا لو قالت: حيضي خمسة
وابتداؤه يوم كذا ولا أعرف قدر دوري. نعم لو صامت رمضان وكان حيضها خمسة في ثلاثين فيصح لها خمسة وعشرون
إن علمت أن حيضها كان يبتدئها في الليل وكان رمضان تاما، فإن علمت أنه كان يبتدئها بالنهار أو شكت حصل لها أربعة
وعشرون يوما وتقضي الخمسة في أحد عشر يوما، نقله في المجموع عن الأصحاب. ولو قالت: كنت أخلط شهرا بشهر حيضا،
فلحظة من أول كل شهر ولحظة من آخره حيض يقينا، وما بين الأولى ولحظة من آخر الخامس عشر يحتمل الثلاثة، وهذه
اللحظة مع لحظة من أول ليلة السادس عشر طهر يقينا، ثم إلى اللحظة من آخر الشهر يحتمل الحيض والطهر دون الانقطاع.
(والأظهر) الجديد (أن دم الحامل) حيض وإن ولدت متصلا بآخره بلا تخلل نقاء، لاطلاق الآية السابقة والاخبار، ولأنه
دم متردد بين دمي الحبلة والعلة، والأصل السلامة من العلة وإن لم تنقض به العدة لأنها لطلب براءة الرحم، وهي لا تحصل
بالأقراء مع وجود الحمل على أنها قد تنقضي بها، وذلك فيما إذا كان الحمل من زنا كأن فسخ نكاح صبي بعيب
أو غير
118

بعد دخوله بزوجته وهي حامل من زنا، أو تزوج الرجل حاملا من زنا وطلقها بعد الدخول لأن حمل الزنا كالمعدوم. ووقع
في المجموع أنه مثل لذلك بموت صبي عن زوجته وهي حامل من زنا، واعترض عليه في ذلك لأن زوجة الميت إنما
تعتد بالأشهر لا بالأقراء، والثاني هو القديم: أنه ليس بحيض بل هو حدث دائم كسلس البول، لأن الحمل يسد مخرج الحيض
وقد جعل دليلا على براءة الرحم فدل على أن الحامل لا تحيض. وأجاب الأول بأنه إنما حكم الشارع ببراءة الرحم به لأنه
الغالب. (و) الأظهر أن (النقاء بين) دماء (أقل الحيض) فأكثر (حيض) تبعا لها بشروط: وهي أن لا يجاوز ذلك خمسة
عشر يوما ولم تنقص الدماء عن أقل الحيض، وأن يكون النقاء محتوشا بين دمي حيض، فإذا كانت ترى وقتا ما
ووقتا نقاء واجتمعت هذه الشروط حكمنا على الكل بأنه حيض، وهذا يسمى قول المحب. والثاني: أن النقاء طهر،
لأن الدم إذا دل على الحيض وجب أن يدل النقاء على الطهر، وهذا يسمى قول اللفظ وقول التلفيق، أما النقاء بعد
آخر الدماء فطهر قطعا، وإن نقصت الدماء عن أقل الحيض فهي دم فساد، وإن زادت مع النقاء بينها على خمسة عشر يوما
فهي دم استحاضة. ومحل الخلاف في الصلاة والصوم ونحوهما، فلا يجعل النقاء طهرا في انقضاء العدة إجماعا وفيما إذا
زاد النقاء على الفترات المعتادة بين دفعات الحيض، أما الفترات فهي حيض قطعا. والفرق بين الفترة والنقاء كما قاله في
زوائد الروضة أن الفترة هي الحالة التي ينقطع فيها جريان دم ويبقى أثر لو أدخلت قطنة في فرجها لخرجت ملوثة، والنقاء
أن تخرج نقية لا شئ عليها، والدم بين التوأمين حيض كالخارج بعد عضو انفصل من الولد المجتن لخروجه قبل فراغ
الرحم كدم الحامل، بل أولى بكونه حيضا إذا إرخاء الدم بين الولادتين أقرب منه قبلهما لانفتاح فم الرحم بالولادة.
تنبيه: قال ابن الفركاح: إن نسخة المصنف: والنقاء بين الدم حيض ثم أصلحه بعضهم بقوله: بين أقل الحيض،
لأن الراجح أنه إنما ينسحب إذا بلغ مجموع الدماء أقل الحيض اه‍. قال الولي العراقي: وهذه النسخة التي شرح عليها
السبكي. وقال ابن النقيب: وقد رأيت نسخة المصنف التي بخطه وقد أصلحت كما قال بغير خطه. ثم لما فرغ
من ذكر
المستحاضة وأقسامها شرع في ذكر النفاس وقدره فقال: (وأقل النفاس) مجة كما عبر به في التنبيه، أي دفعة، وزمانها
(لحظة) وفي الروضة وأصلها: لا حد لأقله، أي لا يتقدر بل ما وجد منه وإن قل يكون نفاسا، ولا يوجد أقل من مجة،
فالمراد من العبارات كما قال في الاقليد واحد. وهو بكسر النون لغة: الولادة، وشرعا: ما مر أول الباب. وسمي بذلك لأنه
يخرج عقب النفس، أو من قولهم: تنفس الصبح إذا ظهر. ويقال لذات النفاس نفساء بضم النون وفتح الفاء وجمعها
نفاس، ولا نظير له إلا ناقة عشراء فجمعها عشار، قال تعالى: * (وإذا العشار عطلت) *. ويقال في فعله: نفست المرأة، بضم النون
وفتحها وبكسر الفاء فيهما، والضم أفصح. وأما الحائض فيقال فيها: نفست، بفتح النون وكسر الفاء لا غير، ذكره
في المجموع. (وأكثره ستون) يوما (وغالبه أربعون) يوما اعتبارا بالوجود في الجميع كما مر في الحيض. وأما خبر أبي داود
عن أم سلمة رضي الله تعالى عنهما: كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله (ص) أربعين يوما فلا دلالة
فيه على نفي الزيادة، أو محمول على الغالب أو على نسوة مخصوصات، ففي رواية لأبي داود: كانت المرأة من نساء النبي
(ص) تقعد في النفاس أربعين ليلة واختلف في أوله، فقيل: بعد خروج الولد، وقيل: أقل الطهر. فأوله فيما إذا تأخر خروجه
عن الولادة من الخروج لا منها، وهو ما صححه في التحقيق. وموضع من المجموع عكس ما صححه في أصل الروضة
وموضع آخر من المجموع. وقضية الاخذ بالأول أن زمن النقاء لا يحسب من الستين، لكن البلقيني صرح بخلافه، فقال:
ابتداء الستين من الولادة، وزمن النقاء لا نفاس فيه وإن كان محسوبا من الستين، ولم أر من حقق هذا اه‍. وعلى
هذا يلزمها قضاء ما فاتها من الصلوات المفروضة في هذه المدة. ويشكل على هذا قول المصنف أنها إذا ولدت ولدا جافا
أن صومها يبطل، ولا يصح ذلك إلا إذا قلنا إن هناك دما وإن خفي، وينبغي على هذا أنه يحرم على حليلها أن يستمتع بها
بما بين السرة والركبة قبل غسلها. وكلام ابن المقري يميل إلى الثاني، وينبغي اعتماده، وإن كنت جريت على الأول في
شرح التنبيه. وإن لم تر الدم إلا بعد مضي خمسة عشر يوما فأكثر، فلا نفاس لها أصلا على الأصح في شرح
المهذب،
119

وعلى هذا فيحل للزوج أن يستمتع بها قبل غسلها كالجنب. وقول المصنف في باب الصيام إنه يبطل صومها بالولد
الجاف، محله ما إذا رأت الدم قبل خمسة عشر يوما.
فائدة: أبدى أبو سهل معنى لطيفا في كون أكثر النفاس ستين: أن المني يمكث في الرحم أربعين يوما لا يتغير، ثم
يمكث مثلها علقة، ثم مثلها مضغة، ثم ينفخ فيه الروح كما جاء في الحديث الصحيح، والولد يتغذى بدم الحيض،
وحينئذ فلا يجتمع الدم من حين النفخ لكونه غذاء الولد، وإنما يجتمع في المدة التي قبلها وهي أربعة أشهر،
وأكثر الحيض خمسة عشر يوما، فيكون أكثر النفاس ستين. وقال بعض العلماء: أكثره سبعون. وقال أبو حنيفة:
أربعون، ولعله أخذ بظاهر الحديث المتقدم. (ويحرم به ما حرم بالحيض) بالاجماع، لأنه دم حيض مجتمع، فحكمه حكم
الحيض في سائر أحكامه إلا في شيئين: أحدهما أن الحيض يوجب البلوغ، والنفاس لا يوجبه لثبوته قبله بالانزال الذي
جبلت منه. الثاني: أن الحيض يتعلق به العدة والاستبراء، ولا يتعلقان بالنفاس لحصولهما قبله بمجرد الولادة. قال
ابن الرفعة نقلا عن البندنيجي: ولا يسقط بأقله الصلاة، أي لأن أقل النفاس لا يستغرق وقت الصلاة، لأنه إن وجد في
الأثناء فقد تقدم وجوبها، وإن وجد في الأول فقد لزمت بالانقطاع، بخلاف أقل الحيض فإنه يعم الوقت، وربما يقال:
قد يسقطه فيما إذا بقي من وقت الضرورة ما يسع تكبيرة الاحرام فنفست أقل النفاس فيه فإنه لا يجب قضاء تلك الصلاة،
فعلى هذا لا يستثنى ما قاله. (وعبوره) أي النفاس (ستين) يوما، (كعبوره) أي الحيض (أكثره) لأن النفاس كالحيض في
غالب أحكامه، فكذلك في الرد إليه عند الاشكال، فينظر: أمبتدأة في النفاس، أم معتادة مميزة، أم غير مميزة؟ ويقاس
بما تقدم في الحيض، فترد المبتدأة المميزة إلى التمييز بشرط أن لا يزيد القوي على ستين، ولا ضبط في الضعيف، وغير
المميزة إلى لحظة في الأظهر، والمعتادة المميزة إلى التمييز لا العادة في الأصح، وغير المميزة الحافظة إلى العادة، وتثبت
بمرة، أي إن لم تختلف في الأصح، وإلا ففيه التفصيل السابق في الحيض، والناسية إلى مرد المبتدأة في قول وتحتاط في
الآخر الأظهر في التحقيق. ولا يمكن تصور متحيرة مطلقة في النفاس بناء على المذهب أن من عادتها أن لا ترى نفاسا
أصلا إذا ولدت فرأت الدم وجاوز الستين أنها كالمبتدأة، لأنه حينئذ يكون ابتداء نفاسها معلوما وبه ينتفي التحير المطلق.
خاتمة: يجب على المرأة تعلم ما تحتاج إليه من أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس، فإن كان زوجها عالما لزمه
تعليمها وإلا فلها الخروج لسؤال العلماء بل يجب، ويحرم عليه منعها إلا أن يسأل هو ويخبرها فتستغني بذلك، وليس
لها الخروج إلى مجلس ذكر أو تعلم خير إلا برضاه. وإذا انقطع دم الحيض أو النفاس واغتسلت أو تيممت حيث يشرع
لها التيمم فللزوج أن يطأها في الحال من غير كراهة، فإن خافت عود الدم استحب لها التوقف في الوطئ احتياطا. وفي
كتب الغريب: أن رسول الله (ص) لعن الغائصة والمغوصة فالغائصة هي التي لا تعلم زوجها أنها حائض
ليجتنبها، فيجامعها وهي حائض. والمغوصة هي التي لا تكون حائضا فتكذب على زوجها وتقول: أنا حائض، ليجتنبها.
كتاب الصلاة
جمعها صلوات، وهي لغة الدعاء بخير، قال تعالى: * (وصل عليهم) *: أي ادع لهم. وتقدم بسطه أول الكتاب،
ولتضمنها معنى التعطف عديت ب‍ على، وشرعا: أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم بشرائط مخصوصة، ولا ترد
صلاة الأخرس لأن الكلام في الغالب، فتدخل صلاة الجنازة بخلاف سجدة التلاوة والشكر، وسميت بذلك لاشتمالها
على الدعاء إطلاقا لاسم الجزء على الكل. وقد بدأ بالمكتوبات لأنها أهم وأفضل، فقال: (المكتوبات) أي المفروضات
120

العينية من الصلاة في كل يوم وليلة، (خمس) معلومة من الدين بالضرورة. والأصل فيها قبل الاجماع آيات، كقوله تعالى: * (
وأقيموا الصلاة) * أي حافظوا عليها دائما بإكمال واجباتها وسننها، وقوله تعالى: * (إن الصلاة كانت على المؤمنين
كتابا موقوتا) * أي محتمة مؤقتة، وأخبار في الصحيحين كقوله (ص): فرض الله على أمتي ليلة الاسراء خمسين
صلاة فلم أزل أراجعه وأسأله التخفيف حتى جعلها خمسا في كل يوم وليلة، وقوله للاعرابي: خمس صلوات
في اليوم والليلة قال الاعرابي: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع، وقوله ل معاذ حين بعثه إلى اليمن: أخبرهم أن
الله تعالى قد فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة. وأما وجوب قيام الليل فنسخ في حقنا، وهل نسخ في حقه
(ص)؟ أكثر الأصحاب لا، والصحيح نعم، ونقله الشيخ أبو حامد عن النص، وسيأتي بيانه في باب النكاح
إن شاء الله تعالى. وخرج بقولنا العينية صلاة الجنازة، لكن الجمعة من المفروضات العينية ولم تدخل في كلامه إلا إذا
قلنا إنها بدل عن الظهر، وهو رأي والأصح أنها صلاة مستقلة. وكان فرض الخمس ليلة المعراج كما مر قبل الهجرة
بسنة، وقيل بستة أشهر.
فائدة: في شرح المسند للرافعي أن الصبح كانت صلاة آدم، والظهر كانت صلاة داود، والعصر كانت صلاة
سليمان، والمغرب كانت صلاة يعقوب، والعشاء كانت صلاة يونس، وأورد في ذلك خبرا، فجمع الله سبحانه وتعالى جميع
ذلك لنبينا (ص) ولامته تعظيما له ولكثرة الأجور له ولامته. ولما كانت الظهر أول صلاة ظهرت لأنها أول
صلاة صلاها جبريل عليه الصلاة والسلام بالنبي (ص) وقد بدأ الله تعالى بها في قوله: * (أقم الصلاة لدلوك الشمس) *
بدأ المصنف بها، فقال: (الظهر) أي صلاة الظهر، سميت بذلك لأنها تفعل في وقت الظهيرة، أي شدة الحر، وقيل: لأنها
ظاهرة وسط النهار، وقيل: لأنها أول صلاة ظهرت. فإن قيل: تقدم أن الصلوات الخمس فرضت ليلة الاسراء فلم لم يبدأ
بالصبح؟ أجيب بجوابين: الأول أنه حصل التصريح بأن أول وجوب الخمس من الظهر، قاله في المجموع. الثاني: أن الاتيان
بالصلاة متوقف على بيانها ولم يبين إلا عند الظهر، ولما صدر الأكثرون تبعا للشافعي رضي الله تعالى عنه الباب بذكر المواقيت
لأن بدخولها تجب الصلاة، وبخروجها تفوت. والأصل فيها قوله تعالى: * (فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله
الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون) * قال ابن عباس: أراد ب‍ حين تمسون صلاة المغرب والعشاء،
وبحين تصبحون صلاة الصبح، وب‍ عشيا صلاة العصر، وب‍ حين تظهرون صلاة الظهر. وخبر: أمني جبريل عند البيت
مرتين، فصلى بي الظهر حين زالت الشمس وكان الفئ قدر الشراك، والعصر حين كان ظله - أي الشئ - مثله، والمغرب
حين أفطر الصائم - أي دخل وقت إفطاره - والعشاء حين غاب الشفق، والفجر حين حرم الطعام والشراب على
الصائم. فلما كان الغد صلى بي الظهر حين كان ظله مثله والعصر حين كان ظله - مثليه والمغرب حين أفطر
الصائم
والعشاء إلى ثلث الليل، والفجر فأسفر، وقال: هذا وقت الأنبياء من قبلك والوقت ما بين هذين الوقتين رواه أبو داود
وغيره. وقوله: صلى بي الظهر حين كان ظله مثله أي فرغ منها حينئذ كما شرع في العصر في اليوم الأول حينئذ، قاله
الشافعي رضي الله تعالى عنه نافيا به اشتراكهما في وقت، ويدل له خبر مسلم: وقت الظهر إذا زالت الشمس ما لم
تحضر العصر. وتبعهم المصنف، فقال: (وأول وقته) أي الظهر (زوال الشمس) أي وقت زوالها، يعني يدخل وقتها
بالزوال كما عبر به في الوجيز وغيره، وهو ميل الشمس عن وسط السماء المسمى بلوغها إليه بحالة الاستواء إلى جهة المغرب،
لا في الواقع بل في الظاهر لأن التكليف إنما يتعلق به، وذلك بزيادة ظل الشئ على ظله حالة الاستواء أو بحدوثه إن لم
يبق عنده ظل، قال في الروضة: كأصلها، وذلك يتصور في بعض البلاد كمكة وصنعاء اليمن في أطول أيام السنة. فلو شرع
في التكبير قبل ظهور الزوال ثم ظهر الزوال عقب التكبير أو في أثنائه لم يصح الظهر وإن كان التكبير حاصلا بعد الزوال
في نفس الامر، وكذا الكلام في الفجر وغيره. (وآخره) أي وقت الظهر (مصير ظل الشئ مثله سوى ظل استواء
الشمس) الموجود عند الزوال. وإذا أردت معرفة الزوال فاعتبره بقامتك أو شاخص تقيمه في أرض مستوية وعلم على
121

رأس الظل، فما زال الظل ينقص من الخط فهو قبل الزوال، وإن وقف لا يزيد ولا ينقص فهو وقت الاستواء، وإن أخذ
الظل في الزيادة علم أن الشمس زالت. قال العلماء: وقامة كل إنسان ستة أقدام ونصف بقدمه. والشمس عند المتقدمين
من أرباب علم الهيئة في السماء الرابعة، وقال بعض محققي المتأخرين: في السادسة. وهي أفضل من القمر لكثرة نفعها. قال
الأكثرون: وللظهر ثلاثة أوقات: وقت فضيلة أوله، ووقت اختيار إلى آخره، ووقت عذر وقت العصر لمن يجمع.
وقال القاضي: لها أربعة أوقات: وقت فضيلة أوله إلى أن يصير ظل الشئ مثل ربعه، ووقت اختيار إلى أن يصير مثل
نصفه، ووقت جواز إلى آخره، ووقت عذر وقت العصر لمن يجمع. ولها وقت ضرورة وسيأتي، ووقت حرمة، وهو
آخر وقتها بحيث لا يسعها ولا عذر. وإن وقعت أداء، ويجريان في سائر أوقات الصلوات.
فائدة: الظل أصله الستر، ومنه أنا في ظل فلان. وظل الليل سواده، وهو يشمل ما قبل الزوال وما بعده.
والفئ مختص بما بعد الزوال. وقد سئل السبكي عن الرجل الذي هو آخر أهل الجنة دخولا إذا تراءت له شجرة يقول
يا رب أدنني من هذه لاستظل في ظلها الحديث، من أي شئ يستظل والشمس قد كورت؟ أجاب بقوله تعالى: *
(وظل ممدود) * وبقوله: * (هم وأزواجهم في ظلال) *، إذ لا يلزم من تكوير الشمس عدم الظل لأنه مخلوق لله تعالى
وليس بعدمي بل هو أمر وجودي له نفع بإذن الله تعالى في الأبدان وغيرها، فليس الظل عدم الشمس كما قد يتوهم.
(وهو) أي مصير ظل الشئ مثله سوى ما مر، (أول وقت العصر) للحديث السابق، والصحيح أنه لا يشترط حدوث
زيادة فاصلة بينه وبين وقت الظهر، وعبارة التنبيه: إذا صار ظل كل شئ مثله وزاد أدنى زيادة، وأشار إلى ذلك الإمام الشافعي
رضي الله تعالى عنه بقوله: فإذا جاوز ظل الشئ مثله بأقل زيادة فقد دخل وقت العصر. وليس ذلك مخالفا
لما ذكر بل هو محمول على أن وقت العصر لا يكاد يعرف إلا بها وهي من وقت العصر، وقيل: من وقت الظهر،
وقيل: فاصلة بينهما. (ويبقى) وقته (حتى تغرب) الشمس، لحديث: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع
الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر متفق عليه. وروى
ابن أبي شيبة بإسناده في مسلم: وقت العصر ما لم تغرب الشمس. (والاختيار أن لا تؤخر عن مصير الظل مثلين) بعد ظل
الاستواء إن كان لحديث جبريل المار. وسمي مختارا لما فيه من الرجحان على ما بعده. وفي الإقليد: يسمى بذلك لاختيار
جبريل إياه. وقوله فيه بالنسبة إليها: الوقت ما بين هذين محمول على وقت الاختيار. وقال الإصطخري: يخرج
وقت العصر بمصير الظل مثليه ووقت العشاء بالثلث والصبح بالاسفار لظاهر بيان جبريل السابق. وأجيب عنه
بما تقدم. وللعصر سبعة أوقات: وقت فضيلة أول الوقت، ووقت اختيار، ووقت عذر وقت الظهر لمن يجمع، ووقت
ضرورة، ووقت جواز بلا كراهة، ووقت كراهة، ووقت حرمة وهو آخر وقتها بحيث لا يسعها وإن قلنا إنها أداء.
قال بعض المتأخرين: وفي هذا نظر فإن الوقت ليس بوقت حرمة وإنما يحرم التأخير إليه، وهذا الوقت وقت إيجاب
لأنه يجب فعل الصلاة فيه فنفس التأخير هو المحرم لا نفس الصلاة في الوقت اه‍. ويأتي هذا النظر أيضا في قولهم:
وقت كراهة. وزاد بعضهم ثامنا، وهو وقت القضاء فيما إذا أحرم بالصلاة في الوقت ثم أفسده عمدا، فإنها تصير قضاء كما
نص عليه القاضي حسين في تعليقه والمتولي في التتمة والروياني في البحر، ولكن هذا رأي ضعيف في المذهب والصحيح
لا تصير قضاء. وزاد بعضهم تاسعا: وهو وقت أداء إذا بقي من وقت الصلاة ما يسع ركعة فقط. (والمغرب) يدخل
وقتها (بالغروب) لخبر جبريل، سميت بذلك لفعلها عقب الغروب. وأصل الغروب البعد، يقال غرب بفتح الراء
إذا بعد والمراد تكامل الغروب، ويعرف في العمران بزوال الشعاع من رؤوس الجبال وإقبال الظلام من المشرق. (ويبقى)
وقتها (حتى يغيب الشفق الأحمر في القديم) لما في حديث مسلم: وقت المغرب ما لم يغب الشفق وسيأتي تصحيح
هذا. وخرج بالأحمر الأصفر والأبيض، ولم يذكره في المحرر لانصراف الاسم إليه لغة، لأن المعروف في اللغة أن الشفق
122

هو الحمرة، كذا ذكره الجوهري والأزهري وغيرهما، قال الأسنوي: ولهذا لم يقع التعرض له في أكثر الأحاديث.
(وفي الجديد ينقضي) وقتها (بمضي قدر) زمن (وضوء وستر عورة وأذان وإقامة وخمس ركعات) لأن جبريل صلاها
في اليومين في وقت واحد بخلاف غيرها، كذا استدل به أكثر الأصحاب، ورد بأن جبريل إنما بين الوقت المختار،
وهو المسمى بوقت الفضيلة، وأما الوقت الجائز وهو محل النزاع فليس فيه تعرض له، وإنما استثنى قدر هذه الأمور
للضرورة. والمراد بالخمس المغرب وسنتها البعدية، وذكر الإمام سبع ركعات فزاد ركعتين قبلها، وكان ينبغي للمصنف
ترجيحه لأنه صحح في الكتاب استحباب ركعتين قبلها، واستحب أبو بكر البيضاوي أربعا بعدها، فيعتبر على هذا
تسع ركعات والاعتبار في جميع ما ذكر بالوسط المعتدل كذا أطلقه الرافعي. وقال القفال: يعتبر في حق كل إنسان الوسط
من فعل نفسه لأنهم يختلفون في ذلك، ويمكن حمل كلام الرافعي على ذلك. ويعتبر أيضا قدر أكل لقم يكسر بها حدة
الجوع كما في الشرحين والروضة، لكن صوب في التنقيح وغيره اعتبار الشبع لما في الصحيحين: إذا قدم
العشاء
فابدأوا به قبل صلاة المغرب ولا تعجلوا عن عشائكم وحمل كلامه على الشبع الشرعي، وهو أن يأكل لقيمات يقمن
صلبه، والعشاء في الحديث محمول على هذا أيضا. قال بعض السلف: أتحسبونه عشاءكم الخبيث إنما كان أكلهم لقيمات.
ولو عبر المصنف بالطهر بدل الوضوء لكان أولى ليشمل الغسل والتيمم وإزالة الخبث. وعبر جماعة بلبس الثياب بدل
ستر العورة، واستحسنه الأسنوي لتناوله التعمم والتقمص والارتداء ونحوها فإنه مستحب للصلاة. فإن قيل: يشكل
على الجديد أنه يجوز جمع المغرب والعشاء جمع تقديم، ومن شرط صحة الجمع وقوع الصلاتين في وقت المتبوعة، فكيف
ينحصر وقت المغرب فيما ذكر؟ أجيب بأن الوقت المذكور يسع صلاتين خصوصا إذا كانت الشرائط عند الوقت مجتمعة،
فإن فرض ضيقه عنهما لأجل اشتغاله بالأسباب امتنع الجمع. (ولو شرع) فيها (في الوقت) على القول الجديد (ومد)
بتطويل القراءة وغيرها، (حتى غاب الشفق الأحمر جاز على الصحيح) وإن خرج بذلك وقتها، بناء على أن له في سائر
الصلوات المد وهو الأصح، لأن الصديق رضي الله تعالى عنه طول مرة في صلاة الصبح، فقيل له: كادت الشمس
أن تطلع فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. ولكنه خلاف الأولى كما في المجموع، ولأنه (ص) كان يقرأ فيها بالاعراف في
الركعتين كلتيهما رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين، وفي البخاري نحوه، وقراءته (ص) تقرب من
مغيب الشفق لتدبره لها. والثاني: لا يجوز، لوقوع بعضها خارج الوقت، بناء على أن الصلاة إذا خرج بعضها عن الوقت
تكون قضاء كلها أو بعضها، قال الأسنوي: وإذا قلنا بجواز المد فيتجه إيقاع ركعة في وقتها الأصلي اه‍. وظاهر كلام
الأصحاب أنه لا فرق، وهو المتجه. نعم يشترط إيقاع ركعة لتسميتها أداء وإلا فتكون قضاء لكن لا إثم فيها، بخلاف
ما إذا شرع فيها في وقت لا يسعها كما سيأتي التنبيه على ذلك عند قول المصنف: ومن وقع بعض صلاته في الوقت. (قلت:
القديم أظهر والله أعلم) قال في المجموع: بل الجديد أيضا، لأن الشافعي رضي الله تعالى عنه علق القول به في الاملاء
وهو من الكتب الجديدة على ثبوت الحديث فيه، وقد ثبت فيه أحاديث في مسلم، منها الحديث المتقدم. وأما
حديث
صلاة جبريل في اليومين في وقت واحد فمحمول على وقت الاختيار كما مر، وأيضا أحاديث مسلم مقدمة عليه لأنها
متأخرة بالمدينة وهو متقدم بمكة، ولأنها أكثر رواة وأصح إسنادا منه. قال: وعلى هذا للمغرب ثلاثة أوقات: وقت
فضيلة واختياره أول الوقت، ووقت جواز ما لم يغب الشفق الأحمر، ووقت عذر وقت العشاء لمن يجمع. قال الأسنوي:
نقلا عن الترمذي: ووقت كراهة، وهو تأخيرها عن وقت الجديد اه‍. ومعناه واضح مراعاة للقول بخروج الوقت.
ولها أيضا وقت ضرورة، ووقت حرمة، ووقت أداء، وهو أن يبقى من الوقت ما يسع ركعة فقط. وعلى الأول لها
وقت فضيلة واختيار، ووقت عذر، ووقت ضرورة، ووقت حرمة. (والعشاء) يدخل وقتها (بمغيب الشفق) الأحمر لما
سبق، لا ما بعده من الأصفر ثم الأبيض خلافا للإمام في الأول، وللمزني في الثاني، ومن لا عشاء لهم بأن يكونوا بنواح
123

لا يغيب فيها شفقهم يقدرون قدر ما يغيب فيه الشفق بأقرب البلاد إليهم كعادم القوت المجزئ في الفطرة ببلده، أي فإن
كان شفقهم يغيب عند ربع ليلهم مثلا اعتبر من ليل هؤلاء بالنسبة، لأنهم يصبرون بقدر ما يمضي من ليلهم لأنه ربما
استغرق ذلك ليلهم، نبه على ذلك في الخادم. (ويبقى) وقتها (إلى الفجر) الصادق كما صرح به في المحرر، لحديث:
ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى رواه مسلم. خرجت الصبح
بدليل، فبقي على مقتضاه في غيرها، وخرج بالصادق الكاذب، وسيأتي بيانهما. (والاختيار: أن لا تؤخر عن ثلث
الليل) لخبر جبريل السابق، وقوله فيه بالنسبة إليها: الوقت ما بين هذين محمول على وقت الاختيار. (وفي قول نصفه)
لخبر: لولا أن أشق على أمتي لاخرت العشاء إلى نصف الليل صححه الحاكم على شرط الشيخين، ورجحه المصنف
في شرح مسلم، وكلامه في المجموع يقتضي أن الأكثرين عليه. فلها سبعة أوقات: وقت فضيلة، ووقت اختيار،
ووقت جواز، ووقت حرمة، ووقت ضرورة، ووقت عذر ووقت المغرب لمن يجمع، ووقت كراهة، وهو ما قاله الشيخ أبو حامد:
بين الفجرين. (والصبح) بضم الصاد وحكي كسرها: في اللغة أول النهار فلذلك سميت به هذه الصلاة، وقيل: لأنها
تقع بعد الفجر الذي يجمع بياضا وحمرة، والعرب تقول: وجه صبيح لما فيه بياض وحمرة. ويدخل وقتها (بالفجر
الصادق) لحديث جبريل، فإنه علقه على الوقت الذي يحرم فيه الطعام والشراب على الصائم، وإنما يحرمان بالفجر
الصادق. (وهو المنتشر ضوؤه معترضا بالأفق) أي نواحي السماء، بخلاف الكاذب فإنه يطلع مستطيلا بأعلاه ضوء كذنب
السرحان، أي الذئب، ثم تعقبه ظلمة. وشبه بذنب السرحان لطوله، وقيل: لأن الضوء يكون في الأعلى دون الأسفل كما
أن الشعر على أعلى ذنب السرحان دون أسفله.
تنبيه: تقييده هنا الفجر بالصادق وإهماله في خروج وقت العشاء ربما يوهم أن هذا الوصف لا يعتبر هناك، وليس
مرادا، بل إنما يخرج بالصادق كما قدرته الذي يدخل به وقت الصبح. ولو عكس فوصفه به أولا وأطلقه ثانيا بلام العهد
ليعود إليه لكان أولى. (ويبقى) وقتها (حتى تطلع الشمس) لحديث مسلم: وقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم
تطلع الشمس والمراد بطلوعها هنا طلوع بعضها بخلاف غروبها فيما مر إلحاقا لما لم يظهر بما ظهر فيهما، ولان وقت
الصبح يدخل بطلوع بعض الفجر، فناسب أن يخرج بطلوع بعض الشمس. (والاختيار: أن لا تؤخر عن الاسفار) وهو
الإضاءة، لخبر جبريل السابق، وقوله فيه بالنسبة إليها: الوقت ما بين هذين محمول على وقت الاختيار، فلها ستة أوقات:
وقت فضيلة أول الوقت، ووقت اختيار، ووقت جواز بلا كراهة إلى الاحمرار، ثم وقت كراهة، ووقت حرمة، ووقت ضرورة
وهي نهارية، لقوله تعالى: * (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم) * الآية وللأخبار الصحيحة في ذلك. وهي عند الشافعي
والأصحاب: الصلاة الوسطى، لقوله تعالى: * (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) * الآية، إذ لا قنوت إلا في الصبح،
ولخبر مسلم: قالت عائشة رضي الله عنها لمن يكتب لها مصحفا: أكتب والصلاة الوسطى وصلاة العصر ثم قالت: سمعتها
من رسول الله (ص) إذ العطف يقتضي التغاير. قال المصنف عن الحاوي الكبير: صحت الأحاديث أنها العصر لخبر:
شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ومذهب الشافعي اتباع الحديث فصار هذا مذهبه، ولا يقال فيه قولان كما
توهم فيه بعض أصحابنا. وقال في شرح مسلم: الأصح أنها العصر، كما قاله الماوردي. ولا يكره تسمية الصبح غداة كما
في الروضة، والأولى عدم تسميتها بذلك، وتسمى صبحا وفجرا لأن القرآن جاء بالثانية، والسنة بهما معا. (قلت:
يكره تسمية المغرب عشاء) وتسمية (العشاء عتمة) للنهي عن الأول في خبر البخاري: لا تغلبنكم الاعراب على
اسم صلاتكم المغرب وتقول الاعراب هي العشاء وعن الثاني في خبر مسلم: لا تغلبنكم الاعراب على اسم صلاتكم ألا
124

إنها العشاء وهم يعتمون بالإبل بفتح أوله وضمه، وفي رواية، بحلاب الإبل، قال في شرح مسلم: معناه أنهم يسمونها
العتمة لكونهم يعتمون بحلاب الإبل، أي يؤخرونه إلى شدة الظلام. والله تعالى إنما سماها في كتابه العشاء. وما ذكره
من كراهة تسمية العشاء عتمة وهو ما جزم به في التحقيق وزوائد الروضة، لكن قال في المجموع: نص في الام على أنه
يستحب أن لا تسمى بذلك، وهو مذهب محققي أصحابنا، وقالت طائفة قليلة: يكره. قال في المهمات: فظهر أن الفتوى على
عدم الكراهة. وقال في العباب: ويندب أن لا تسمى العشاء عتمة ولا يكره أن يقال للمغرب والعشاء العشاءان ولا العشاء
العشاء الآخرة. فإن قلت: قد سميت في الحديث عتمة لقوله (ص): لو تعلمون ما في الصبح والعتمة. أجيب بأنه خاطب
بالعتمة من لا يعرف العشاء، أو أنه استعمله لبيان الجواز وأن النهي للتنزيه. (و) يكره (النوم قبلها) أي صلاة العشاء بعد
دخول وقتها لأنه (ص) كان يكره ذلك، متفق عليه. والمعنى فيه خوف استمراره إلى خروج الوقت، ولهذا قال ابن
الصلاح: إن هذه الكراهة تعم سائر الصلوات، ومحله إذا ظن تيقظه في الوقت وإلا حرم عليه ولو تيقظ في الوقت إلا أنه
غلبه النوم فلا يعصي بل ولا يكره له ذلك لعذره. قال الأسنوي: وينبغي أن يكره أيضا قبل دخول العشاء، وإن كان
بعد فعل المغرب للمعنى السابق اه‍. والظاهر عدم الكراهة قبل دخول الوقت لأنه لم يخاطب بها ولا يحرم عليه إذا غلب على
ظنه استغراق الوقت لما ذكر. (و) يكره (الحديث بعدها) أي بعد فعلها لأنه (ص) كان يكره ذلك متفق عليه
. وعلل
ذلك بأن نومه يتأخر فيخاف فوت صلاة الليل وإن كان له صلاة ليل، أو فوت الصبح عن وقتها أو عن أوله، ولتقع الصلاة
التي هي أفضل الأعمال خاتمة عمله، والنوم أخو الموت، وربما مات في نومه. وقضية هذا أنه لا يكره بين الفرض والنافلة،
وعلله بعضهم بأن الله تعالى جعل الليل سكنا، وهذا يخرجه عن ذلك. والمراد الحديث المباح في غير هذا الوقت، أما
المكروه، فهو أشد كراهة. وشمل إطلاقه ما لو جمع العشاء مع المغرب تقديما، قال الأسنوي: والمتجه خلافه. والأول
أوجه لما تقدم في بعض التعاليل. ولو تحدث قبلها فمفهوم كلامهم عدم الكراهة. قال ابن النقيب: ولو قيل إنه بالكراهة
أولى لزيادة المحذور بتأخير العشاء على القول بأفضلية التقديم لكان له وجه ظاهر. (إلا في خير والله أعلم) كقراءة قرآن
وحديث، ومذاكرة فقه، وإيناس ضيف وزوجة عند زفافها، وتكلم بما دعت الحاجة إليه كحساب، ومحادثة الرجل أهله لملاطفة
أو نحوها، فلا كراهة لأن ذلك خير ناجز فلا يترك لمفسدة متوهمة. وروى الحاكم عن عمران بن حصين قال: كان النبي
(ص) يحدثنا عامة ليله عن بني إسرائيل. واستثنى بعضهم من كراهة الحديث بعدها المسافر، ومن كراهة
الحديث قبلها إذا قلنا به المنتظر لصلاة الجماعة بعد مضي وقت الاختيار لقوله (ص): لا سمر بعد العشاء
إلا لمصل أو مسافر رواه الإمام أحمد في مسنده.
فائدة: روى مسلم عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله (ص) الدجال ولبثه في الأرض
أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم، قلنا: فذلك اليوم الذي كسنة يكفينا فيه صلاة يوم؟
قال: لا، اقدروا له قدره قال الأسنوي: فيستثني هذا اليوم مما ذكر في المواقيت، ويقاس به اليومان التاليان له.
قال في المجموع: وهذه مسألة سيحتاج إليها، نص على حكمها رسول الله (ص) اه‍. واعلم أن وجوب هذه
الصلوات موسع إلى أن يبقى ما يسعها، وإذا أراد تأخيرها إلى أثناء وقتها لزمه العزم على فعلها في الوقت على الأصح في
التحقيق والمجموع، فإن أخرها مع العزم على ذلك ومات في أثناء الوقت وقد بقي منه ما يسعها قبل فعلها لم يعص، بخلاف
الحج إذا مات بعد التمكن من فعله ولم يفعله، لأن الصلاة لها وقت محدود ولم يقصر بإخراجها عنه. نعم إن غلب على ظنه
أنه يموت في أثناء الوقت بعد مضي قدرها كأن لزمه قود فطالبه ولي الدم باستيفائه، فأمر الإمام بقبله تعينت
الصلاة في
أول الوقت فيعصي بتأخيرها عنه لأن الوقت تضيق عليه بظنه، وقضية كلام التحقيق أن الشك كالظن. وأما الحج فآخر
وقته غير معلوم فأبيح له تأخيره بشرط أن يبادره الموت، فإذا لم يبادره فقد قصر بإخراجه عن وقته بموته قبل الفعل.
والأفضل أن يصليها أول وقتها كما قال: (ويسن تعجيل الصلاة لأول الوقت) إذا تيقنه ولو عشاء، لقوله (ص) في جواب
125

أي الأعمال أفضل: الصلاة في أول وقتها رواه الدارقطني وغيره، وقال الحاكم: إنه على شرط الشيخين، ولفظ
الصحيحين: الصلاة لوقتها. وعن ابن عمر مرفوعا: الصلاة في أول الوقت رضوان الله، وفي آخره عفو الله رواه الترمذي.
قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: رضوان الله إنما يكون للمحسنين، والعفو يشبه أن يكون للمقصرين، ولو اشتغل أول
الوقت بأسباب الصلاة كالطهارة والاذان والستر وأكل لقم، بل الصواب الشبع كما مر في المغرب، وتقديم سنة راتبة
أو أخر بقدر ذلك عند عدم الحاجة إليه، ثم أحرم بها حصلت له فضيلة أول الوقت ولا يكلف العجلة على خلاف العادة،
يحتمل مع ذلك شغل خفيف وكلام قصير وإخراج حدث يدافعه وتحصيل ماء ونحو ذلك. (وفي قول تأخير العشاء) ما لم
يجاوز وقت الاختيار (أفضل) لخبر الشيخين: أنه (ص) كان يستحب أن يؤخر العشاء، قال الأذرعي:
وهذا هو المنصوص في أكثر كتبه الجديدة، وقال في المجموع: إنه أقوى دليلا اه‍. قيل: والحكمة في تأخيرها إلى وقت
الاختيار لتكون وسط الليل بإزاء صلاة الظهر في وسط النهار، والمشهور استحباب التعجيل لعموم الأحاديث ولأنه هو
الذي واظب عليه (ص). وحمل بعضهم القولين على حالين، فحيث قيل التعجيل أفضل أريد ما إذا خاف النوم،
وحيث قيل التأخير أفضل أريد ما إذا لم يخف. ويستثنى من التعجيل مسائل: منها ما ذكره المصنف بقوله: (ويسن الابراد
بالظهر) أي بصلاته، أي تأخير فعلها عن أول وقتها، (في شدة الحر) إلى أن يصير للحيطان ظل يمشي فيه طالب الجماعة، لخبر
الصحيحين: إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة وفي رواية للبخاري: بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم أي هيجانها
وانتشار لهيبها، أجارنا الله تعالى منها. والحكمة فيه أن في التعجيل في شدة الحر مشقة تسلب الخشوع أو
كماله، فسن له التأخير
كمن حضره طعام يتوق إليه أو دافعه الخبث، وما ورد مما يخالف ذلك فمنسوخ، ولا تؤخر عن نصف الوقت على الصحيح.
وخرج بالصلاة الاذان، وبالظهر غيرها من الصلوات ولو جمعة فلا يسن فيها الابراد، أما غير الجمعة فلفقد العلة المذكورة،
وأما الجمعة فلخبر الصحيحين عن سلمة: كنا نجمع مع رسول الله (ص) إذا زالت الشمس، ولشدة الخطر في
فواتها المؤدي إليه تأخيرها بالتكاسل، ولان الناس مأمورون بالتبكير إليها فلا يتأذون بالحر. فإن قيل: ورد في الصحيحين:
أنه (ص) كان يبرد بها. أجيب بأنه فعله بيانا للجواز جمعا بين الأدلة، مع أن الخبر رواه الإسماعيلي في صحيحه في الظهر
فتعارضت الروايتان، فيعمل بخبر سلمة لعدم المعارض. (والأصح اختصاصه) أي الابراد (ببلد حار) قال في البويطي: كالحجاز
وبعض العراق. (وجماعة) نحو (مسجد) كرباط ومدرسة، (يقصدونه من بعد) ويمشون إليه في الشمس. فلا يسن الابراد
في غير شدة الحر ولو بقطر حار ولا في قطر معتدل أو بارد وإن اتفق فيه شدة الحر، ولا لمن يصلي منفردا أو جماعة بيته أو
بمحل حضره جماعة لا يأتيهم غيرهم أو يأتيهم غيرهم من قرب أو بعد لكن يجد ظلا يمشي فيه إذ ليس في ذلك كبير مشقة، نعم
الإمام الحاضر في المسجد الذي يقصده الجماعة من بعد يسن له الابراد اقتداء به (ص). وقضية كلامه أنه لا يسن الابراد
المنفرد يريد الصلاة في المسجد، وفي كلام الرافعي إشعار بسنه، وقال الأسنوي: إنه الأوجه، وضابط البعد ما يتأثر قاصده بالشمس.
والثاني: لا يختص بذلك، فيسن في كل ما ذكر لاطلاق الخبر. ولو عبر بمصلى بدل مسجد لشمل ما قدرته، إلا أن يراد بالمسجد موضع
الاجتماع للصلاة فيشمل ما ذكر. ومنها أنه يندب التأخير لمن يرمي الجمار، ولمسافر سائر وقت الأولى، ولمن تيقن وجود
الماء أو السترة أو الجماعة أو القدرة على القيام آخر الوقت، ولمن اشتبه عليه الوقت في يوم غيم حتى يتيقنه أو يظن فواته
لو أخره، ولدائم الحدث إذ رجا الانقطاع، وللواقف بعرفة فيؤخر المغرب وإن كان نازلا وقتها ليجمعها مع العشاء
بمزدلفة إذا كان سفره سفر قصر، وللمعذور في ترك الجمعة فيؤخر الظهر إلى اليأس من الجمعة إذا أمكن زوال عذره كما
سيأتي في الجمعة. (ومن وقع بعض صلاته في الوقت) وبعضها خارجه، (فالأصح إنه أن وقع) في الوقت
(ركعة) أو
أكثر كما فهم بالأولى (فالجميع أداء) لخبر الصحيحين: من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة أي مؤداة.
126

(وإلا) بأن وقع فيه أقل من ركعة، (فقضاء) لمفهوم الخبر المتقدم، إذ مفهومه أن من لم يدرك ركعة لا يدرك الصلاة مؤداة،
والفرق أن الركعة مشتملة على معظم أفعال الصلاة، وغالب ما بعدها كالتكرار لها فكان تابعا لها، والوجه الثاني: أن
الجميع أداء مطلقا تبعا لما في الوقت. والثالث: أنه قضاء مطلقا تبعا لما بعد الوقت. والرابع: أن ما وقع في الوقت أداء، وما
بعده قضاء وهو التحقيق. وعلى القضاء يأثم المصلي بالتأخير إلى ذلك، وكذا على الأداء نظرا للتحقيق، وقيل: لا، نظرا
إلى الظاهر. وتظهر فائدة الخلاف في مسافر شرع في الصلاة بنية القصر وخرج الوقت، وقلنا إن المسافر إذا فاتته الصلاة
لزمه الاتمام، فإن قلنا إن صلاته كلها أداء كان له القصر وإلا لزمه الاتمام، قال في الروضة ولو شرع فيها وقد بقي من
الوقت ما يسع جميعها فمدها بتطويل القراءة حتى خرج الوقت لم يأثم قطعا ولا يكره على الأصح. قلت: في تعليق القاضي
حسين وجه أنه يأثم والله أعلم اه‍. (ومن جهل الوقت) لعارض كغيم أو حبس في موضع مظلم وعدم ثقة يخبره به عن
علم، (اجتهد) جوازا إن قدر على اليقين بالصبر أو الخروج ورؤية الشمس مثلا وإلا فوجوبا، (بورد) من قرآن أو درس
ومطالعة وصلاة (ونحوه) أي الورد كخياطة وصوت ديك مجرب، وسواء البصير والأعمى، وعمل على الأغلب في ظنه وإن
قدر على اليقين بالصبر أو غيره كالخروج لرؤية الفجر، وللأعمى كالبصير العاجز تقليد مجتهد لعجزه في الجملة، أما إذا أخبره
ثقة من رجل أو امرأة ولو رقيقا بدخوله عن علم، أي مشاهدة، كأن قال: رأيت الفجر طالعا أو الشفق غاربا، فإنه يجب عليه
العمل بقوله إن لم يمكنه العلم بنفسه، وجاز إن أمكنه. وفي القبلة لا يعتمد الخبر عن علم إلا إذا تعذر علمه كما سيأتي، وفرق
بينهما بتكرر الأوقات فيعسر العلم بكل وقت بخلاف القبلة فإنه إذا علم علمها مرة اكتفى به ما دام مقيما بمحله فلا عسر.
ولا يجوز له أن يجتهد إذا أخبره ثقة عن علم بخلاف ما إذا أخبره عن اجتهاد فإنه لا يقلده، لأن المجتهد لا يقلد مجتهدا، حتى
لو أخبره باجتهاد أن صلاته وقعت قبل الوقت لم يلزمه إعادتها. وهل يجوز للأعمى والبصير تقليد المؤذن الثقة العارف
أو لا؟ قال الرافعي: يجوز في الصحو دون الغيم لأنه فيه مجتهد وهو لا يقلد مجتهدا، وفي الصحو مخبر عن عيان. وصحح
المصنف جواز تقليده فيه أيضا ونقله عن النص، فإنه لا يؤذن في العادة إلا في الوقت فلا يتقاعد عن الديك المجرب. قال
البندنيجي: ولعله إجماع المسلمين. ولو كثر المؤذنون وغلب على الظن إصابتهم جاز اعتمادهم مطلقا بلا خلاف، ولو صلى
بلا اجتهاد أعاد مطلقا لتركه الواجب. وعلى المجتهد التأخير حتى يغلب على ظنه دخول الوقت وتأخيره إلى خوف الفوات
أفضل. ويعمل المنجم بحسابه جوازا لا وجوبا ولا يقلده غيره على الأصح في التحقيق وغيره، والحاسب وهو من يعتمد
منازل النجوم وتقدير سيرها في معنى المنجم، وهو من يرى أن أول الوقت طلوع النجم الفلاني كما يؤخذ من نظيره في
الصوم. (فإن) صلى باجتهاده ثم (تيقن) أن (صلاته) وقعت (قبل الوقت) أو بعضها ولو تكبيرة الاحرام، أو أخبره
ثقة بذلك وعلم بذلك في الوقت أو قبله، أعادها بلا خلاف. أو علم به بعده. (قضا) ها (في الأظهر) لفوات شرطها، وهو
الوقت، حتى لو فرض أنه صلى الصبح مثلا سنين قبل الوقت لزمه أن يقضي صلاة فقط. وبيانه أن صلاة اليوم الأول
تقضى بصلاة اليوم الثاني والثاني بالثالث، وهكذا بناء على أنه لا يشترط نية الأداء لا نية القضاء، وأنه يصح الأداء بنية
القضاء وعكسه عند الجهل بالوقت كما سيأتي في محله، والثاني: لا قضاء اعتبارا بظنه. (وإلا) أي وإن لم يتيقن وقوعها قبل
الوقت بأن تيقنه فيه أو بعده أو لم يتبين له الحال، (فلا) قضاء عليه، لكن الواقعة بعده قضاء على الأصح، لكن لا إثم
فيها. (ويبادر بالفائت) ندبا إن فاته بعذر كنوم ونسيان، ووجوبا إن فاته بغير عذر على الأصح فيهما تعجيلا لبراءة ذمته،
وقيل: المبادرة مستحبة فيهما، وقيل: واجبة فيهما، وعن ابن بنت الشافعي أن غير المعذور لا يقضي لمفهوم قوله عليه الصلاة
والسلام: من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها متفق عليه، وحكمته التغليظ عليه، وهو مذهب
جماعة. وأيد بأن تارك الابعاض عمدا لا يسجد للسهو على وجه مع أنه أحوج إلى الجبر، وقد مر أن من أفسد
الصلاة في وقتها لا تصير قضاء خلافا للمتولي ومن تبعه لكن يجب إعادتها على الفور كما صرح به صاحب العباب. (ويسن
127

ترتيبه) أي الفائت فيقضي الصبح قبل الظهر وهكذا، خروجا من خلاف من أوجبه. (و) يسن (تقديمه على الحاضرة
التي لا يخاف فوتها) محاكاة للأداء وللخروج من خلاف من أوجب ذلك أيضا، ولأنه (ص) فاتته صلاة العصر
يوم الخندق فصلاها بعد الغروب ثم صلى المغرب، متفق عليه. فإن لم يرتب ولم يقدم الفائتة جاز، لأن كل واحدة عبادة
مستقلة. والترتيب إنما وجب في الأداء لضرورة الوقت، فإنه حين وجب الصبح لم يجب الظهر فإذا فات لم يجب الترتيب
في قضائه كصوم رمضان، وفعله (ص) المجرد إنما يدل عندنا على الاستحباب، فإن خاف فوت الحاضرة لزمه البداءة
بها لئلا تصير فائتة أيضا. وتعبيره ب‍ لا يخاف فوتها صادق بما إذا أمكنه أن يدرك ركعة من الحاضرة فيسن تقديم الفائت
عليها في ذلك أيضا، وبه صرح في الكفاية وهو المعتمد كما جرى عليه شيخنا في شرح منهجه، وإن اقتضت عبارة
الروضة كالشرحين خلافه. ويحمل إطلاق تحريم إخراج بعض الصلاة عن وقتها على غير هذا ونحوه. ولو تذكر فائتة
بعد شروعه في حاضره وجب إتمامها ضاق الوقت أو اتسع، ولو شرع في فائتة معتقدا سعة الوقت فبان ضيقه عن
إدراكها أداء وجب قطعها، ولو خاف فوت جماعة حاضرة فالأفضل عند المصنف الترتيب للخلاف في وجوبه. فإن
قيل: لم يراع الخلاف في صلاة الجماعة، فقد قيل بوجوبها أيضا، ولذلك رجحه الأسنوي ونقله عن جماعة. أجيب
بأن الخلاف في الترتيب خلاف في الصحة، بخلافه في الجماعة.
تنبيه: قد أطلقوا استحباب ترتيب الفوائت، وهو ظاهر إذا فاتت كلها بعذر أو غيره، فإن فات بعضها بعذر وبعضها
بغير عذر وجب قضاء ما فات بلا عذر على الفور كما مر. وحينئذ فقد يقال تجب البداءة به. وقد تعارض خلافان: أحدهما
قول أبي حنيفة: يجب الترتيب، والثاني قولنا: يجب قضاء الفائت بلا عذر على الفور، ومراعاة الثاني أولى فيجب تقديمها.
ويجب تقديمها أيضا على الحاضرة عند سعة وقتها كما بحثه الأذرعي، وهو ظاهر. قال في المجموع: ويسن إيقاظ النائم
للصلاة ولا سيما إذا ضاق وقتها، ففي سنن أبي داود: أن النبي (ص) خرج يوما إلى الصلاة فلم يمر بنائم إلا أيقظه. وكذا إذا
رآه أمام المصلين أو كان نائما في الصف الأول أو محراب المسجد أو كان نائما على سطح لا حجاز له لورود النهي عنه،
أو كان نائما بعضه في الشمس وبعضه في الظل، أو كان نائما بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس، أو كان نائما
قبل صلاة العشاء أو بعد صلاة العصر، أو نام خاليا وحده، أو كانت المرأة نائمة مستلقية ووجهها إلى السماء، أو نام
الرجل منبطحا فإنها ضجعة يبغضها الله. ويستحب أن يوقظ غيره لصلاة الليل وللتسحر والنائم بعرفات وقت الوقوف
لأنه وقت طلب وتضرع. قال الأسنوي: وهذا بخلاف ما لو رأى شخصا يتوضأ بماء نجس فإنه يلزمه إعلامه كما قاله
الحليمي في شعب الايمان بكسر الهمزة. (وتكره الصلاة عند الاستواء) كراهة تحريم كما صححه في الروضة والمجموع
هنا وإن صححه في التحقيق، وفي الطهارة من المجموع أنها كراهة تنزيه لما روى مسلم عن عقبة بن عامر: ثلاث ساعات
كان رسول الله (ص) ينهانا أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم
قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تضيف (الشمس) للغروب (حتى تغرب) فالظهيرة
شدة الحر، وقائمها هو البعير يكون باركا فيقوم من شدة حر الأرض، وتضيف بتاء مثناة من فوق ثم ضاد معجمة ثم مثناة من تحت مشددة: أي تميل. وتزول الكراهة
بالزوال. ووقت الاستواء لطيف لا يتسع لصلاة ولا يكاد يشعر به حتى تزول الشمس، إلا أن التحريم يمكن إيقاعه فيه فلا
تصح الصلاة (إلا يوم الجمعة) لاستثنائه في خبر أبي داود وغيره، والأصح جواز الصلاة في هذا الوقت مطلقا سواء
أحضر إلى الجمعة أم لا، وقيل: يختص بمن حضر الجمعة، وصححه جماعة، وقيل: يختص بمن حضر وغلبه النعاس
فيدفعه بركعتين. (و) تكره أيضا (بعد) طلوع الشمس صلى الصبح أم لا، وبعد صلاة (الصبح) أداء (حتى ترتفع الشمس)
فيهما (كرمح) في رأي العين وإلا فالمسافة بعيدة، (و) بعد اصفرار الشمس حتى تغرب صلى العصر أم لا، وبعد
صلاة (العصر) أداء ولو مجموعة في وقت الظهر، (حتى تغرب) للنهي عنها بعد الصلاتين في الصحيحين عن
128

أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، وعند الطلوع والاصفرار في خبر مسلم السابق، وليس فيهما ذكر الرمح، وهو تقريب.
وما قررت به عبارة المصنف من أن الأوقات خمسة هي عبارة الجمهور وتبعهم في المحرر، وهو أولى من الاقتصار على
الثلاثة المذكورة في المتن، لأن من لم يصل الصبح حتى طلعت الشمس أو العصر حتى اصفرت يكره له التنفل حتى ترتفع
أو تغرب، وهذا يفهم من عبارة الجمهور دون عبارة الكتاب، ولان حال الاصفرار يكره التنفل فيه على العبارة الأولى
بسببين، وعلى الثانية بسبب واحد. ولعل المصنف توهم اندراجهما في قوله: وبعد الصبح وبعد العصر وقد علمت
ما فيه. قال الأسنوي: والمراد بحصر الصلاة في الأوقات إنما هو بالنسبة إلى الأوقات الأصلية فستأتي كراهة التنفل في وقت
إقامة الصلاة ووقت صعود الإمام لخطبة الجمعة اه‍. وإنما ترد الأولى إذا قلنا: إن الكراهة للتنزيه، وزاد بعضهم كراهة
وقتين آخرين: وهما بعد طلوع الفجر إلى صلاته، وبعد المغرب إلى صلاته، وقال إنها كراهة تحريم على الصحيح،
ونقله عن النص اه‍. والمشهور في المذهب خلافه. قال الأصحاب: وإذا صلى في الأوقات المنهي عنها عزر، ولا
تنعقد إذا قلنا أنها كراهة تحريم، وكذا على كراهة التنزيه على الأصح. فإن قيل: يلزم من عدم الانعقاد أن الكراهة
للتحريم لا للتنزيه، لأن الاقدام على العبادة التي لا تنعقد حرام اتفاقا لكونه تلاعبا. أجيب بأنه لا يلزم من القول بعدم
الانعقاد القول بأن الكراهة للتحريم، لأن نهي التنزيه إذا رجع إلى نفس الصلاة يضاد الصحة كنهي التحريم كما هو
مقرر في الأصول. (إلا لسبب) غير متأخر فإنها تصح، (كفائتة) لأن سببها متقدم سواء أكانت فرضا أم نفلا حتى النوافل
التي اتخذها وردا، ولخبر: فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها وخبر الصحيحين: أنه (ص) صلى بعد العصر
ركعتين وقال: هما اللتان بعد الظهر وفي مسلم: لم يزل يصليهما حتى فارق الدنيا. وهذا من خصوصياته
(ص)، فليس لمن قضى في وقت الكراهة صلاة أن يداوم عليها ويجعلها وردا. (و) صلاة (كسوف) واستسقاء وطواف
(وتحية) وسنة وضوء (وسجدة شكر) وتلاوة كما ذكره في المحرر، لأن بعضها له سبب متقدم كركعتي الوضوء وتحية المسجد،
وبعضها له سبب مقارن كركعتي الطواف وصلاة الجنازة وصلاة الاستسقاء والكسوف، ولان نحو الكسوف
والتحية
معرض للفوات. وفي الصحيحين في توبة كعب بن مالك: أنه سجد سجدة للشكر بعد صلاة الصبح قبل طلوع الشمس،
وفيهما عن أبي هريرة: أنه (ص) قال لبلال: حدثني بأرجى عمل عملته في الاسلام فإني سمعت دف نعليك
بين يدي في الجنة. قال: ما عملت عملا أرجى عندي من أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك
الطهور ما كتب الله لي أن أصلي. والدف: صوت النعل وحركته على الأرض. أما ما له سبب متأخر كركعتي الاستخارة
والاحرام فإنه لا ينعقد كالصلاة التي لا سبب لها، لأن الاستخارة والاحرام سببهما متأخر عنهما. والمراد بالتقدم
وقسيميه بالنسبة إلى الصلاة كما في المجموع، أو إلى الأوقات المكروهة على ما في أصل الروضة، والأول أظهر كما
قاله الأسنوي، وعليه جرى ابن الرفعة، فعليه صلاة الجنازة وما ذكر معها سببها متقدم وعلى الثاني قد يكون
متقدما، وقد يكون مقارنا بحسب وقوعه في الوقت أو قبله. ومحل صحة ما ذكر معها إذا لم يتحر به وقت الكراهة ليوقعها
فيه، وإلا بأن قصد تأخير الفائتة أو الجنازة ليوقعها فيه، أو دخل المسجد وقت الكراهة بنية التحية فقط، أو قرأ
آية سجده ليسجدها فيه. ولو قرأ قبل الوقت لم يصح للأخبار الصحيحة كخبر: لا تحروا بصلاتكم طلوع الشمس
ولا غروبها. فإن قيل: كان ينبغي كما قال السبكي أن يكون المكروه الدخول لغرض التحية وتأخير الفائتة إلى ذلك
الوقت، أما فعلها فيه فكيف يكون مكروها وقد يكون واجبا بأن فاتته عمدا، بل العصر المؤداة تأخيرها لتفعل
وقت الاصفرار مكروه، ولا تقول بعد التأخير إن إيقاعها فيه مكروه بل واجب. أجيب بأن فعل كل من ذلك
فيما ذكر مكروه أيضا للأخبار الصحيحة كالخبر المتقدم، وإنما صحت المؤداة لوقوعها في وقتها، بخلاف التحية
والفائتة المذكورتين، وكونها قد تجب لا يقتضي صحتها فيما ذكر، لأنه بالتأخير إلى ذلك مراغم للشرع بالكلية
ولان المانع يقدم على المقتضى عند اجتماعهما. وأما مداومته (ص) على الركعتين بعد العصر فتقدم الجواب
129

عنها. أما إذا دخل المسجد لا لغرض التحية، أو لغرض غير التحية أو لغرضهما، فلا تكره بل تسن، لخبر الصحيحين:
إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين فهو مخصص لخبر النهي. فإن قيل: خبر النهي عام في
الصلوات خاص في الأوقات وخبر التحية بالعكس، فلم رجح تخصيص خبر النهي؟ أجيب بأن التخصيص دخله بما
مر من الاخبار في صلاة العصر وصلاة الصبح، وبالاجماع على جواز صلاة الجنازة بعدهما. وأما خبر التحية فهو على
عمومه، ولهذا أمر (ص) الداخل في يوم الجمعة في حال الخطبة بالتحية بعد أن قعد، ولو كانت تترك في وقت
لكان هذا الوقت لأنه يمتنع حال الخطبة من الصلاة إلا التحية، ولأنه تكلم في الخطبة وبعد أن قعد الداخل، وكل هذا
مبالغة في تعميم التحية، ذكر ذلك في المجموع. قال الروياني: ولو قرأ آية سجدة في وقت جواز الصلاة ثم سجد
في وقت الكراهة لم يجزه، أي إذا تحرى السجود فيه، وإلا فهو أولى بالجواز مما إذا قرأها وقت الكراهة. (وإلا في
حرم مكة على الصحيح) لخبر: يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو
نهار، رواه الترمذي وغيره وقال: حسن صحيح، ولما فيه من زيادة فضل الصلاة فلا تكره بحال. نعم هي خلاف
الأولى كما في مقنع المحامي خروجا من الخلاف. والثاني: أنها تكره لعموم الاخبار. وحملت الصلاة المذكورة في هذا
الحديث على ركعتي الطواف، قال الإمام: وهو بعيد لأن الطواف سببهما فلا حاجة إلى تخصيص بالاستثناء. وقيل:
الاستثناء خاص بالمسجد الحرام، وقيل: بنفس البلد. وخرج بحرم مكة حرم المدينة فإنه كغيره. ثم شرع فيمن تجب عليه
الصلاة ويعلم منه من لا تجب عليه، وترجم لذلك بفصل فقال:
فصل: إنما تجب الصلاة على كل مسلم: ذكر أو أنثى، فلا تجب على كافر أصلي وجوب مطالبة بها في الدنيا
لعدم صحتها منه، لكن تجب عليه وجوب عقاب عليها في الآخرة لتمكنه من فعلها بالاسلام. (بالغ) كذلك فلا تجب
على صغير لعدم تكليفه، (عاقل) كذلك، فلا تجب على مجنون لما ذكر، (طاهر) فلا تجب على حائض أو نفساء لعدم
صحتها منهما. فمن اجتمعت فيه هذه الشروط وجبت عليه الصلاة بالاجماع. (ولا قضاء على الكافر) إذا أسلم، لقوله تعالى: *
(قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) *. وقد يؤدي إيجاب ذلك إلى التنفير، فخفف عنه ذلك ترغيبا.
قال في المجموع: إذا أسلم أثيب على ما فعله من القرب التي لا تحتاج إلى نية كصدقة وصلة وعتق. (إلا المرتد) فيلزمه
قضاؤها بعد إسلامه تغليظا عليه، ولأنه التزمها بالاسلام فلا تسقط عنه بالجحود كحق الآدمي. ولو ارتد ثم جن قضى
أيام الجنون مع ما قبلها تغليظا عليه، بخلاف من كسر رجليه تعديا ثم صلى قاعدا لا قضاء عليه لانتهاء معصيته بانتهاء
كسره، ولاتيانه بالبدل حالة العجز. ولو سكر متعديا ثم جن قضى المدة التي ينتهي إليها سكره لا مدة جنونه
بعدها،
بخلاف مدة جنون المرتد، لأن من جن في ردته مرتد في جنونه حكما، ومن جن في سكره ليس سكران في دوام
جنونه. ولو ارتدت أو سكرت ثم حاضت أو نفست، ولو استعجلت الحيض بدواء أو استخرجت به جنينا، لم تقض
زمن الحيض والنفاس، وفارقت المجنون بأن إسقاط الصلاة عنها عزيمة لأنها مكلفة بالترك، وعنه رخصة، والمرتد والسكران
ليسا من أهلها، وما وقع في المجموع من قضاء الحائض المرتدة زمن الجنون نسب فيه إلى السهو.
تنبيه: قوله: المجموع من قضاء الحائض المرتد زمن الجنون نسب فيه إلى السهو إلا المرتد يجوز جرد على البدل ونصبه على الاستثناء، فقول الشارح بالجر على البدل على مذهب
البصريين من أن الكلام المستثنى منه إذا كان تاما غير موجب كقوله تعالى: * (ما فعلوه إلا قليل منهم) *، فالأرجح
اتباع المستثنى للمستثنى منه، ويجوز النصب لما روى سيبويه عن يونس وعيسى جميعا أن بعض العرب الموثوق بعربيتهم
يقول: ما مررت بأحد إلا زيدا، وقرئ به في السبع: * (إلا قليل منهم) * قرأ به ابن عامر. فإذا عرفت ذلك فالشارح
إنما أراد بيان الراجح من الضبط لا أنه يمنع النصب. وهذا دأبه في الضبط يقتصر على ذكر الراجح وإن كان غيره جائزا.
(ولا) على (الصبي) إذا بلغ لما مر، ولو عبر بالطفل كما في الحاوي لكان أولى لأنه يشمل الذكر والأنثى. وقد
130

اعترض المصنف في المجموع على صاحب المهذب حيث اقتصر على الصبي، فقال: لو قال الصبي والصبية لكان أولى
لأنه لا فرق بينهما بلا خلاف، لكن نقل ابن حزم أن لفظ الصبي في اللغة يتناول الذكر والأنثى فلا اعتراض إذن. (ويؤمر)
الصبي المميز (بها) ولو قضاء لما فاته بعد السبع. والتمييز (لسبع) من السنين، أي بعد استكمالها. (ويضرب عليها)
أي على تركها (لعشر) منها، لخبر: مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها
أي على تركها، صححه الترمذي وغيره. وظاهر كلامهم أنه يشترط للضرب تمام العاشرة، لكن قال الصيمري بفتح
الميم كما قاله المصنف في التبيان أنه يضرب في أثنائها، وصححه الأسنوي، وجزم به ابن المقري، وينبغي اعتماده لأن ذلك
مظنة البلوغ. ومقتضى ما في المجموع أن التمييز وحده لا يكفي في الامر، بل لا بد معه من السبع، وقال في
الكفاية:
إنه المشهور. وأحسن ما قيل في ضبط التمييز أن يصير الطفل بحيث يأكل ويشرب ويستنجي وحده. وفي أبي داود:
أنه (ص) سئل: متى يصلي الصبي؟ فقال: إذا عرف شماله من يمينه. قال الدميري: والمراد عرف ما يضره وما ينفعه.
قال في المجموع: والامر والضرب واجبان على الولي أبا كان أو جدا أو وصيا أو قيما من جهة القاضي، وفي المهمات:
والملتقط ومالك الرقيق في معنى الأب، وكذا المودع والمستعير ونحوهما كما قاله بعض المتأخرين. قال الطبري: ولا يقتصر
على مجرد صيغته، بل لا بد معه من التهديد. وقال في الروضة: يجب على الآباء والأمهات تعليم أولادهم الطهارة والصلاة
والشرائع وأجرة تعليم الفرائض في مال الطفل، فإن لم يكن فعلى من تلزمه نفقته، ويجوز أن يصرف من ماله أجرة
ما سوى الفرائض من القرآن والأدب على الأصح في زوائد الروضة، ووجهه بأنه مستمر معه وينتفع به بخلاف حجه.
وفي صحة المكتوبات من الطفل قاعدا وجهان، رجح بعض المتأخرين المنع وهو مقتضى إطلاقهم، ويجريان في الصلاة
المعادة. (ولا) قضاء على شخص (ذي حيض) إذا تطهر وإن تسبب له بدواء، وقد مرت هذه المسألة في باب الحيض
فهي مكررة، والنفساء كالحائض. ولو عبر ذات لاستغنى عن التقدير المذكور وكان أولى. وهل يحرم على الحائض قضاء
الصلاة أو يكره؟ وجهان أوجههما الثاني. (أو) ذي (جنون أو إغماء) إذا أفاق، ومثلهما المبرسم والمعتوه والسكران
بلا تعد في الجميع، لحديث: رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى
يبرأ صححه ابن حبان والحاكم. فورد النص في المجنون، وقيس عليه كل من زال عقله بسبب يعذر فيه، وسواء
قل زمن ذلك أو طال. وإنما وجب قضاء الصوم على من أغمي عليه جميع النهار لمشقة قضاء الصلاة لأنها قد تكثر، بخلاف
الصوم، نعم يسن للمجنون والمغمى عليه ونحوهما القضاء. وقد تقدم أن الجنون إذا طرأ على الردة أنه يجب قضاء
أيام الجنون الواقعة في الردة إذا لم يكن في أصوله مسلما، وأنه إذا طرأ الجنون على السكر العاصي به أنه يجب قضاء المدة التي ينتهي إليها سكره،
فمحله هنا في غير ذلك. (بخلاف) ذي (السكر) أو الجنون أو الاغماء المتعدي به إذا أفاق، فإنه يجب عليه قضاء ما فاته
من الصلوات زمن ذلك لتعديه، فإن لم يعلم كونه مسكرا أو أكره عليه فلا قضاء عليه لعذره، قال المصنف: وهذه
الحشيشة المعروفة حكمها حكم الخمر في وجوب قضاء الصلوات. ثم شرع في بيان وقت الضرورة، والمراد به وقت زوال
موانع الوجوب وهو الصبا والجنون والكفر والاغماء والحيض والنفاس، فقال: (ولو زالت هذه الأسباب) المانعة من
وجوب الصلاة، (و) قد (بقي من الوقت تكبيرة) أي قدر زمنها فأكثر، (وجبت الصلاة) لأن القدر الذي يتعلق به
الايجاب يستوي فيه قدر الركعة ودونها، كما أن المسافر إذا اقتدى بمتم في جزء من صلاته يلزمه الاتمام. وقضية كلامه
أنها لا تلزم بإدراك دون تكبيرة، وهو كذلك كما جزم به في الأنوار وإن تردد فيه الجويني. (وفي قول: يشترط ركعة)
أخف ما يقدر عليه أحد، كما أن الجمعة لا تدرك بأقل من ركعة، ولمفهوم حديث: من أدرك ركعة من الصبح قبل أن
تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر متفق عليه.
ويشترط للوجوب على القولين بقاء السلامة من الموانع بقدر فعل الطهارة، والصلاة أخف ما يمكن، فلو عاد المانع قبل
131

ذلك لم تجب الصلاة، ولا يشترط أن يدرك مع التكبيرة أو الركعة قدر الطهارة على الأظهر. (والأظهر) على الأول
(وجوب الظهر) مع العصر (بإدراك) قدر زمن (تكبيرة آخر) وقت (العصر، و) وجوب (المغرب) مع العشاء
بإدراك ذلك (آخر) وقت (العشاء) لاتحاد وقتي الظهر والعصر ووقتي المغرب والعشاء في العذر، ففي الضرورة أولى.
ويشترط للوجوب أن يخلو الشخص من الموانع قدر الطهارة، والصلاة أخف ما يجزئ كركعتين في صلاة المسافر. قال
في المهمات: ويدخل في الطهارة، أي هنا وفيما مر، الخبث والحدث أصغر أو أكبر وهو متجه، قال: والقياس اعتبار
وقت الستر والتحري في القبلة لأنهما من شروط الصلاة اه‍. والذي ينبغي اعتماده كما قاله شيخي أن ذلك لا يعتبر لأن
الستر وإن كان من شروط الصلاة لكنه لا يختص بها، والتحري في القبلة لا يشترط وقوعه في الوقت، وفي
كلام
ابن الرفعة ما يدل لذلك، فلو بلغ ثم جن بعدما لا يسع ما ذكر فلا لزوم. نعم إن أدرك ركعة آخر العصر مثلا وخلا من
الموانع قدر ما يسعها وطهرها، فعاد المانع بعد أن أدرك من وقت المغرب ما يسعها وطهرها، تعين صرفه للمغرب وما فضل لا يكفي
العصر فلا تلزمه، ذكره البغوي في فتاويه. وقال ابن العماد: محله ما لم يشرع في العصر قبل المغرب وإلا فيتعين صرفه
لها لعدم تمكنه من المغرب باشتغاله بالعصر التي شرع فيها وجوبا قبل المغرب. والوجه ما قاله البغوي لأنه أدرك زمنا
يسع الصلاة فيه كاملة فيلزمه قضاؤها ويقع له العصر نافلة، وجرى على ذلك ابن أبي شريف في شرح الارشاد. والثاني:
لا يجب الظهر والمغرب بما ذكر، بل لا بد من زيادة أربع ركعات للظهر في المقيم وركعتين للمسافر وثلاث للمغرب
على التكبيرة على القول الأول، وعلى ركعة على القول الثاني، لأن جمع الصلاتين الملحق به إنما يتحقق إذا تمت الأولى
وشرع في الثانية في الوقت. وخرج بما ذكر الصبح والعصر والعشاء، فلا يجب واحدة منها بإدراك جزء مما بعدها
لانتفاء الجمع بينهما. (ولو بلغ) الشخص (فيها) أي الصلاة بالسن كما قاله في المحرر، (أتمها) وجوبا، لأنه أدرك الوجوب
وهي صحيحة فلزمه إتمامها، كما لو بلغ بالنهار وهو صائم فإنه يجب عليه إمساك بقية النهار. (وأجزأته على الصحيح) ولو
جمعة لأنه صلى الواجب بشرطه، كالعبد إذا عتق في أثناء الظهر قبل فوت الجمعة، ووقوع أولها نفلا لا يمنع وقوع آخرها
واجبا كحج التطوع، وصوم مريض شفي في أثنائه. والثاني: لا يجب إتمامها بل يستحب، ولا يجزئه لابتدائها حال
النقصان، وعلى الأول يستحب له إعادتها خروجا من الخلاف وليؤديها حال الكمال. (أو) بلغ (بعدها) أي بعد
فعلها بالسن أو بغيره، والوقت باق أجزأته صلاته، ولو عن الجمعة وإن أمكن إداركها لأنه أداها صحيحة. (فلا إعادة)
عليه واجبة (على الصحيح) وإن تغير حاله إلى الكمال، كالأمة إذا صلت مكشوفة الرأس ثم عتقت. نعم لو صلى الخنثى
الظهر ثم بان رجلا وأمكنته الجمعة لزمته. والثاني: تجب الإعادة لأن المأتى به نفل فلا يسقط به الفرض، وهو مذهب
الأئمة الثلاثة، كما لو حج ثم بلغ. وأجاب الأول بأن الطفل مأمور بالصلاة مضروب عليها بخلاف الحج، ولأنه لما كان
وجوبه مرة في العمر اشترطنا وقوعه في حال الكمال بخلاف الصلاة. والثالث: إن بقي من الوقت ما يسع تلك الصلاة
وجبت إعادتها وإلا فلا. والرابع: إن كان المفعول ظهرا في يوم الجمعة ثم بلغ والجمعة غير فائتة وجبت إعادتها، لأن الظهر
لا يغني عن الجمعة، وإلى هذا ذهب ابن الحداد. وعلى الأول يستحب له إعادتها لما تقدم فيما إذا بلغ فيها. (ولو حاضت)
أو نفست (أو جن) أو أغمي عليه (أول الوقت) واستغرق المانع باقيه، (وجبت تلك) الصلاة لا الثانية التي تجمع معها.
(إن أدرك) من عرض له المانع قبل عروضه (قدر الفرض) أخف ممكن ولو مقصور المسافر ووقت طهر لا يصح تقديمه
عليه كتيمم لتمكنه من الفعل في الوقت، فلا يسقط بما يطرأ بعده، كما لو هلك النصاب بعد الحول وإمكان الأداء فإن
الزكاة لا تسقط، وكذا لو خلا عن الموانع في أثناء الوقت القدر المذكور، لكن لا يتأتى استثناء الطهارة التي لا يمكن
132

تقديمها في غير الصبي، ويجب الفرض الذي قبلها أيضا إن كان يجمع معها وأدرك قدره كما مر لتمكنه من فعلها. وإنما
لم تجب الصلاة الثانية التي تجمع معها إذا خلا من الموانع ما يسعها، لأن وقت الأولى لا يصلح للثانية إلا إذا صلاهما جمعا
بخلاف العكس. وأيضا وقت الأولى في الجمع وقت للثانية تبعا بخلاف العكس، بدليل عدم وجوب تقديم الثانية في
جمع التقديم وجواز تقديم الأولى، بل وجوبه على وجه في جمع التأخير. أما الطهارة التي يمكن تقديمها على الوقت
فلا يعتبر مضي زمن يسعها. (وإلا) أي وإن لم يدرك قدر الفرض كما وصفنا، (فلا) وجوب في ذمته لعدم التمكن من
فعلها كما لو هلك النصاب قبل التمكن.
تنبيه: اقتصر المصنف على ذكر الحيض ليعلم منه أن النفاس كذلك لأنه دم حيض مجتمع كما مر، وعلى الجنون ليعلم منه
الاغماء بالأولى، ولا يمكن طريان الصبا لاستحالته ولا الكفر المسقط للإعادة لأنه ردة وهو ملزوم فيها بالإعادة.
فصل: الاذان: والأذين والتأذين بالمعجمة لغة: الاعلام، قال تعالى: * (وأذن في الناس بالحج) * أي أعلمهم. وشرعا:
قول مخصوص يعلم به وقت الصلاة المفروضة. والأصل فيه قبل الاجماع قوله تعالى: * (وإذا ناديتم إلى الصلاة) * وخبر
الصحيحين: إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ثم ليؤمكم أكبركم وفي أبي داود بإسناد صحيح عن عبد الله بن زيد
بن عبد ربه الأنصاري أنه قال: لما أمر رسول الله (ص) بالناقوس ليضرب به الناس لجمع الصلوات، طاف
بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوسا في يده، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: ندعو به إلى الصلاة،
فقال: أو لا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ فقلت: بلى، فقال: تقول الله أكبر الله أكبر إلى آخر الاذان، ثم استأخر عني
غير بعيد، ثم قال: وتقول إذا قمت إلى الصلاة: الله أكبر الله أكبر إلى آخر الإقامة. فلما أصبحت أتيت النبي
(ص) فأخبرته بما رأيت فقال: إنها رؤيا حق إن شاء الله تعالى، قم إلى بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذن به فإنه أندى
صوتا منك، فقمت مع بلال فجعلت ألقيه عليه فيؤذن به، فسمع ذلك عمر بن الخطاب وهو في بيته فخرج يجر رداءه
يقول: والذي بعثك بالحق يا رسول الله لقد رأيت مثل ما رأى، فقال (ص): فلله الحمد. فإن قيل: رؤيا المنام
لا يثبت بها حكم. أجيب بأنه ليس مستند الاذان الرؤيا فقط، بل وافقها نزول الوحي، فقد روى البزار: أن النبي
(ص) أري الاذان ليلة الاسراء وأسمعه مشاهدة فوق سبع سماوات ثم قدمه جبريل فأم أهل السماء وفيهم آدم ونوح
عليهم أفضل الصلاة والسلام، فأكمل له الله الشرف على أهل السماوات والأرض.
فائدة: كانت رؤيا الاذان في السنة الأولى من الهجرة، قيل: إن عبد الله بن زيد لما مات النبي (ص) قال:
اللهم أعمني حتى لا أرى شيئا بعده، فعمي من ساعته. وقيل: إنه أذن مرة بإذن النبي (ص) وهو أول مؤذن
في الاسلام. وقيل: أول مؤذن هو بلال، ولم يؤذن لاحد بعد النبي (ص) غير مرة ل عمر حين دخل الشام فبكى الناس بكاء
شديدا. روى الحاكم أن رسول الله (ص) قال: خير السودان ثلاثة: بلال، ولقمان، ومهجع مولى عمر وهو
أول قتيل من المسلمين يوم بدر. وذكر ابن حزم أنه لا يكمل حسن الحور العين في الجنة إلا بسواد بلال، فإنه يفرق سواده
شامات في خدودهن، فسبحان من أكرم أهل طاعته. (والإقامة) في الأصل مصدر أقام، وسمي الذكر المخصوص بها
لأنه يقيم إلى الصلاة، والأذان والإقامة مشروعان بالاجماع، لكن اختلف في كيفية مشروعيتهما، فقال المصنف: كل
منهما (سنة) لأنه (ص) لم يأمر بهما في حديث الاعرابي مع ذكر الوضوء والاستقبال وأركان الصلاة،
ولقوله
(ص): لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول لاستهموا عليه رواه البخاري، ولأنهما للاعلام بالصلاة فلم يجبا
كقوله: الصلاة جامعة، حيث يشرع ذلك. لكنه ضعف هذا في المجموع بأنه ليس في ذلك إشعار ظاهر بخلاف الاذان،
وفي المهمات بأن ذاك دعاء إلى مستحب وهذا دعاء إلى واجب، وهما سنة على الكفاية كما في المجموع، أي في حق
الجماعة كما في سائر سنن الكفاية كابتداء السلام. أما المنفرد فهما في حقه سنة عين. وإنما أفرد المصنف الخبر وهو عائد
133

إلى شيئين لتأويله بالمجموع كما قدرته تبعا للشارح، ولو أتى به مثنى كما فعل في المحرر لكان أولى. (وقيل) هما (فرض كفاية)
للحديث المتقدم الفصل، ولأنهما من الشعائر الظاهرة وفي تركهما تهاون، فلو اتفق أهل البلد على تركهما قوتلوا على
هذا دون الأول. وقيل: هما فرض كفاية في الجمعة دون غيرها لأنهما دعاء إلى الجماعة، والجماعة واجبة في الجمعة مستحبة
في غيرها فيكون الدعاء إليها كذلك، وعلى هذا فالواجب في الجمعة هو الذي يقام بين يدي الخطيب. وهل يسقط بالأول؟
فيه وجهان، وينبغي السقوط. وشرط حصولهما فرضا أو سنة أن يظهرا في البلد بحيث يبلغ جميعهم لو أصغوا، فيكفي في
القرية الصغيرة في موضع وفي الكبيرة في مواضع يظهر الشعار بها، فلو أذن واحد في جانب فقط حصلت السنة فيه دون غيره.
(وإنما يشرعان لمكتوبة) دون غيرها من سائر الصلوات كالسنن وصلاة الجنازة والمنذورة لعدم ثبوتهما فيه، بل يكرهان
فيه كما صرح به صاحب الأنوار وغيره. وأما قول صاحب الذخائر: إن المنذورة يؤذن لها ويقيم إذا قلنا يسلك بها
مسلك واجب الشرع، فقال المصنف: إنه غلط منه وهو كثير الغلط، فقد اتفق الأصحاب على أنه لا يؤذن لها ولا يقيم، وبما
قررت به عبارته سقط ما قيل إنه يرد عليه أن الاذان يشرع في أذن المولود اليمنى والإقامة في اليسرى كما يأتي في العقيقة،
وأنه يشرع إذا تغولت الغيلان أي غردت الجان لخبر صحيح ورد فيه.
تنبيه: إنما عبر ب‍ يشرعان دون يسنان ليأتي ذلك على قولي السنة والفرض. (ويقال في العيد ونحوه) من كل نفل تشرع
فيه الجماعة كما صرح به في الحاوي، كالعيد والكسوف والاستسقاء والتراويح حيث يفعل ذلك جماعة، قال
شيخنا:
والوتر حيث يسن جماعة فيما يظهر اه‍. وهذا دخل في كلامهم (الصلاة جامعة) لوروده في الصحيحين في كسوف
الشمس، وقيس به الباقي، والجزءان منصوبان: الأول على الاغراء والثاني بالحالية، أي احضروا الصلاة والزموها حالة كونها
جامعة، ويجوز رفعهما على المبتدأ والخبر ورفع أحدهما على أنه مبتدأ حذف خبره أو عكسه، ونصب الآخر على الاغراء
في الجزء الأول وعلى الحالية في الثاني، وكالصلاة جامعة الصلاة كما نص عليه في الام، أو هلموا إلى الصلاة والصلاة
رحمكم الله، أو نحو ذلك كالصلاة الصلاة. وخرج بذلك الجنازة والمنذورة والنافلة التي لا تسن الجماعة فيها كالضحى، أو
سنت فيها لكن صليت فرادى فلا يسن لها ذلك. أما غير الجنازة فظاهر، وأما الجنازة فلان المشيعين لها حاضرون
فلا حاجة للاعلام. (والجديد) قال الرافعي: الذي قطع به الجمهور، (ندبه) أي الاذان (للمنفرد) في بلد أو صحراء إذا أراد
الصلاة للحديث الآتي. والقديم: لا يندب له، لانتفاء المعنى المقصود منه وهو الاعلام. وظاهر إطلاقه تبعا للمحرر مشروعية
أذان المنفرد وإن بلغه أذان غيره، وهو الأصح في التحقيق والتنقيح، وقال الأسنوي: إن العمل عليه، وهذا هو المعتمد
وإن صحح في شرح مسلم أنه لا يؤذن، وقال الأذرعي: هو الذي نعتقد رجحانه: ويكفي في أذانه إسماع نفسه بخلاف أذان
الاعلام للجماعة فيشترط فيه الجهر بحيث يسمعونه، لأن ترك ذلك يخل بالأعلام ويكفي فيه إسماع واحد. أما الإقامة فتسن
على القولين، ويكفي فيها إسماع نفسه أيضا بخلاف المقيم للجماعة كما في الاذان لكن الرفع فيها أخفض. (ويرفع) المنفرد
بديا (صوته) بالاذان. روى البخاري عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة: أن أبا سعيد الخدري قال له: إني
أراك تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك أو باديتك فأذنت للصلاة فارفع صوتك بالنداء فإنه لا يسمع مدى صوت
المؤذن جن ولا إنس ولا شئ إلا شهد له يوم القيامة، سمعته من رسول الله (ص) أي سمعت ما قلته لك،
يعني قوله: إني أراك تحب الغنم إلخ بخطاب لي، أي من النبي (ص) كما فهمه الإمام الغزالي والماوردي وأورده
باللفظ الدال على ذلك، أي لم يوردوه بلفظ الحديث بل بمعناه، فقالوا: إن النبي (ص) قال لأبي سعيد الخدري
: إنك تحب
الغنم إلخ. إنما فعلوا ذلك ليظهر الاستدلال على أذان المنفرد ورفع صوته. وقيل: إن ضمير سمعته لقوله لا يسمع إلخ
فقط. (إلا بمسجد) أو نحوه كرباط من أمكنة الجماعات كما بحثه الأسنوي، (وقعت فيه جماعة) قال في الروضة كأصلها:
وانصرفوا. قال ابن المقري: أو أذن فيه، فيسن أن لا يرفع صوته لئلا يتوهم السامعون دخول وقت الصلاة الأخرى
134

لا سيما في يوم الغيم. والتقييد بانصرافهم يقتضي سن الرفع قبله لعدم خفاء الحال عليهم. قال في المهمات: وفيه نظر لأنه
يوهم غيرهم من أهل البلد. قال: وإنما قيدوا بوقوع جماعة لأنه لا يسن له الاذان قبله لأنه مدعو بالأول ولم ينته حكمه.
(ويقيم للفائتة) المكتوبة قطعا من يريد فعلها لأنها افتتاح الصلاة وهو موجود. (ولا يؤذن) لها (في الجديد) لأن
النبي (ص) فاته يوم الخندق صلوات فقضاها ولم يؤذن لها. رواه الشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهما في مسنديهما
بإسناد صحيح كما قاله في المجموع. وإنما جاز لهم تأخير الصلاة لشغلهم بالقتال، وكان ذلك قبل نزول صلاة الخوف، والقديم:
يؤذن لها، أي حيث تفعل جماعة ليجامع القديم السابق في المؤداة، فإنه إذا لم يؤذن المنفرد لها فالفائتة أولى كما قاله
الرافعي وعلى ما تقدم عنه من اقتصار الجمهور في المؤداة على أنه يؤذن يجري القديم هنا على إطلاقه فيؤذن لها سواء أفعلت
جماعة أم لا، إذ ليس ثم قديم يقول بأن الاذان لا يندب للمنفرد في المؤداة على طريقة الجمهور. (قلت: القديم أظهر والله
أعلم) لأنه (ص) لما نام في الوادي هو وأصحابه حتى طلعت الشمس، فساروا حتى ارتفعت الشمس ثم نزل (ص) فتوضأ
ثم أذن بلال رضي الله عنه بالصلاة، فصلى (ص) ركعتين ثم صلى صلاة الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم رواه مسلم.
والاذان في الجديد حق للوقت، وفي القديم حق للفريضة وهو المعتمد، وفي الاملاء حق للجماعة. (فإن كان فوائت)
وأراد قضاءها في وقت واحد (لم يؤذن لغير الأولى) بلا خلاف كما ذكره في المحرر والشرح والروضة، لكن حكى
ابن كج فيه وجهين: في الأولى الخلاف السابق ويقيم لكل منها، فإن قضاها متفرقات ففي الاذان لكل واحدة الخلاف
السابق، ولو أتبع الفائتة بحاضرة بلا فصل طويل لم يؤذن للحاضرة إلا إن دخل وقتها بعد أذان الفائتة فيعيده للاعلام
بوقتها. نعم لو أذن لمؤداة ثم تذكر فائتة لا يسن الاذان لها إذا والى بينها وبين المؤداة، لأن هذا ليس وقتها حقيقة.
وأيضا فإنهم قالوا: لا يوالي بين أذانين إلا في هذه الصورة المذكورة، والاستثناء معيار العموم، قلت ذلك بحثا ولم أر
من ذكره. ولو جمع جمع تقديم أو جمع تأخير والى فيه، وبدأ بصاحبة الوقت أذن للأولى في الصورتين دون الثانية بلا
خلاف، وإن بدأ بغير صاحبة الوقت ووالى بينهما لم يؤذن للثانية بلا خلاف، وفي الأولى الخلاف السابق فيؤذن لها
على الراجح ويقيم للثانية فقط لأنه (ص) جمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين رواه الشيخان من رواية
جابر، ورويا من رواية ابن عمر أنه صلاهما بإقامتين وأجابوا عنه بأنه إنما حفظ الإقامة، وقد حفظ جابر الاذان فوجب
تقديمه لأن معه زيادة علم، فإن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وبأن جابر استوفى حجة النبي (ص) وأتقنها فهو
أولى بالاعتماد. (ويندب لجماعة النساء الإقامة) بأن تأتي بها إحداهن، (لا الاذان على المشهور) فيهما، لأن الاذان
يخاف من رفع المرأة الصوت به الفتنة، والإقامة لاستنهاض الحاضرين ليس فيها رفع صوت كالاذان. والثاني: يندبان
بأن تأتي بهما واحدة منهن، لكن لا ترفع صوتها فوق ما تسمع صواحبها. والثالث: لا يندبان الاذان لما تقدم والإقامة
تبع له، ويجري الخلاف في المنفردة بناء على ندب الاذان للمنفرد. أما إذا قلنا لا يندب له فلا يندب لها جزما، فلو قال:
ويندب للنساء لكان أولى. قال في المجموع: والخنثى المشكل في هذا كله كالمرأة. وعلى الأول لو أذنت لها أولهن
سرا لم يكره، وكان ذكر الله تعالى، أو جهرا بأن رفعت صوتها فوق ما تسمع صواحبها، قال شيخنا في شرح الروض:
وثم أجنبي حرم كما يحرم تكشفها بحضرة الرجال، لأنه يفتتن بصوتها كما يفتتن بوجهها. وأسقط: وثم أجنبي، من شرح
البهجة تبعا للشيخين، وذكره أولى للتعليل المذكور. فإن قيل: قد جوزوا غناءها بحضرة الأجنبي فلم لا سووا بينهما؟
أجيب بأن الغناء يكره للأجنبي استماعه وإن أمن الفتنة، والاذان يستحب له استماعه. فلو جوز للمرأة لأدى إلى
أن
يؤمر الأجنبي باستماع ما يخشى منه الفتنة وهو ممتنع. وينبغي أن تكون قراءتها كالأولى لأنه يسن استماع القرآن.
(والاذان) معظمه (مثنى) هو معدول عن اثنين اثنين. وإنما قدرت في كلامه ذلك لأن التكبير في أوله أربع،
ولا إله إلا الله في آخره مرة، والحكمة في إفرادها الإشارة إلى وحدانية الله تعالى وكلماته مشهورة، وعدتها بالترجيع
135

تسع عشرة كلمة. (والإقامة فرادى إلا لفظ الإقامة)، والأصل في ذلك حديث أنس: أمر بلال بأن يشفع الاذان ويوتر الإقامة
إلا الإقامة متفق عليه. واستثناء لفظ الإقامة من زيادته، واعتذر في الدقائق عن عدم استثنائه التكبير فإنه يثني في
أولها وآخرها بأنه على نصف لفظه في الاذان فكأنه فرد اه‍. وهذا ظاهر في التكبير أولها، وأما في آخرها فهو مساو
للاذان، فالأولى أن يقال: ومعظمها فرادى. والحكمة في تثنية لفظ الإقامة كونها المصرحة بالمقصود، وكلمات الإقامة
مشهورة وعدتها إحدى عشر كلمة. (ويسن إدراجها) أي الاسراع بها مع بيان حروفها، فيجمع بين كل كلمتين منها
بصوت والكلمة الأخيرة بصوت. (وترتيله) أي الاذان أي التأني فيه، فيجمع بين كل تكبيرتين بصوت ويفرد باقي كلماته
للامر بذلك كما أخرجه الحاكم، لأن الاذان للغائبين فكان الترتيل فيه أبلغ، والإقامة للحاضرين فكان الادراج فيه أنسب.
قال الهروي: عوام الناس يقولون أكبر بضم الراء إذا وصل، وكان المبرد يفتح الراء من أكبر الأولى ويسكن الثانية. قال المبرد:
لأن الاذان سمع موقوفا فكان الأصل إسكانها، لكن لما وقعت قبل فتحة همزة الله الثانية فتحت كقوله تعالى: * (ألم الله) *
وجرى على كلام المبرد ابن المقري. والأول كما قال شيخنا هو القياس. وما علل به المبرد ممنوع، إذ الوقف ليس على أكبر
الأول وليس هو مثل ميم ألم كما لا يخفى. (والترجيح فيه) أي الاذان، لثبوته في خبر مسلم عن أبي محذورة: وهو أن يأتي
بالشهادتين سرا قبل أن يأتي بهما جهرا، فهو اسم للأول كما صرح به المصنف في مجموعه ودقائقه وتحريره وتحقيقه وإن
قال في شرح مسلم إنه للثاني، وظاهر كلام ابن المقري كأصله أنه اسم لمجموعهما. والمراد بالاسرار بهما أن يسمع من بقربه
أو أهل المسجد، أي أو نحوه إن كان واقفا عليهم والمسجد متوسط الخطة، كما صححه ابن الرفعة ونقله عن النص وغيره،
وهذا تفسير مراد وإلا فحقيقة الاسرار هو أن يسمع نفسه لأنه ضد الجهر، ولذلك قال بعضهم: إنه يحتمل أن يكون كإسرار
القراءة في الصلاة السرية، وربما يقال إنه يتعين أن يكون الترجيح هو السر لأنه سنة ولو تركه صح الاذان بخلاف
ما إذا قلنا إنه الثاني أو هما. فإن قيل: إن السر هنا هو بحيث يسمع من بقربه فيكفي. أجيب بأن إسماع من بقربه
لا يكفي إلا إذا كان هو المصلي فالكلام أعم من ذلك، وحكمته تدبر كلمتي الاخلاص لكونهما المنجيتين من الكفر
المدخلتين في الاسلام، ويذكر خفاءهما في أول الاسلام ثم ظهورهما وفي ذلك نعمة ظاهرة. وسمي بذلك لأنه رجع إلى
الرفع بعد أن تركه، أو إلى الشهادتين بعد ذكرهما. (و) يسن (التثويب) ويقال التثوب بالمثلثة فيهما. (في) أذان
(الصبح) وهو قوله بعد الحيعلتين: الصلاة خير من النوم مرتين لوروده في خبر أبي داود وغيره بإسناد جيد كما في المجموع.
وخص بالصبح لما يعرض للنائم من التكاسل بسبب النوم. وإطلاقه شامل لاذان الفائتة إذا قلنا به، وبه صرح ابن عجيل
اليمني نظرا لاصله، وشامل لأذاني الصبح، وهو ما صححه في التحقيق، وهو المعتمد وإن قال البغوي إنه إذا ثوب
في الأول لا يثوب في الثاني على الأصح، وأقره في الروضة تبعا لأصلها. ويكره أن يثوب لغير أذان الصبح، لقوله (ص):
من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وسمي ذلك تثويبا من ثاب إذا رجع، لأن المؤذن دعا إلى الصلاة
بالحيعلتين، ثم دعا إليها بقوله: الصلاة خير من النوم، أي اليقظة للصلاة خير من الراحة التي تحصل من
النوم. ويسن أن يقول في الليلة المطيرة أو المظلمة ذات الريح بعد الاذان: ألا صلوا في رحالكم. فلو جعله بعد الحيعلتين
أو عوضا عنهما جاز، ففي البخاري الامر بذلك. (و) يسن (أن يؤذن) ويقيم (قائما) لخبر الصحيحين: قم يا بلال
فناد بالصلاة ولأنه أبلغ في الاعلام. وأن يكون متوجها (للقبلة) فيهما، لأنها أشرف الجهات، ولأنه منقول سلفا وخلفا،
فلو ترك الاستقبال أو القيام مع القدرة عليه كره وأجزأه، لأن ذلك لا يخل بالاذان، والاضطجاع فيما ذكر أشد كراهة
من القعود. ويسن الالتفات بعنقه في حيعلات الأذان والإقامة. ولا يصدره من غير انتقال عن محله ولو بمنارة محافظة على
الاستقبال يمينا مرة في قوله حي على الصلاة مرتين وشمالا مرة في قوله حي على الفلاح مرتين حتى يتمهما في الالتفاتين،
روى الشيخان: أن أبا جحيفة قال: رأيت بلالا يؤذن فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا، يقول يمينا وشمالا: حي على الصلاة
136

حي على الفلاح، ولا يلتفت في قوله الصلاة خير من النوم كما صرح به ابن عجيل اليمني. وهو مقتضى قولهم: واختصت
الحيعلتان بالالتفات، لأنه دعاء إلى الصلاة بخلاف باقي الكلمات، والفرق بين هذا وبين كراهة الالتفات في الخطبة أن
المؤذن داع للغائبين، والالتفات أبلغ في إعلامهم، والخطيب واعظ للحاضرين فالأدب أن لا يعرض عنهم. فإن قيل:
مقتضى الفرق أنه لا يستحب الالتفات في الإقامة، مع أنه يستحب الالتفات فيها كالاذان. أجيب بأن القصد منها
الاعلام أيضا، فليس فيها ترك أدب. ويسن أن يؤذن على موضع عال كمنارة وسطح، لخبر الصحيحين: كان
لرسول الله (ص) مؤذنان: بلال، وابن أم مكتوم، ولم يكن بينهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا
ولزيادة الاعلام، بخلاف الإقامة لا تسن على عال إلا في نحو مسجد كبير، فيحتاج فيه إلى علو للاعلام بها. وإذا لم يكن
ثم منارة ولا سطح استحب أن يؤذن على باب المصلى فإن أذن في صحنه جاز وكان تاركا للسنة. وأن يجعل المؤذن أصبعيه
في صماخي أذنيه لأنه روي في خبر أبي جحيفة: وإصبعاه في أذنيه، والمراد أنملتا سبابتيه ولأنه أجمع للصوت، ويستدل به
الأصم والبعيد، بخلاف الإقامة لا يسن فيها ذلك. وأن يبالغ في رفع الصوت بالاذان لخبر أبي سعيد الخدري السابق أوائل
الباب بلا إجهاد للنفس لئلا يضر بها. (ويجب ترتيبه) أي الاذان وكذا الإقامة للاتباع كما رواه مسلم وغيره، ولان تركه
يوهم اللعب ويخل بالأعلام، فإن عكس لم يصح ذلك لما ذكره. وله أن يبني على المنتظم منه والاستئناف أولى، ولو ترك بعض
الكلمات في خلالهما أتى بالمتروك وأعاد ما بعده. (و) تجب (موالاته) وكذا الإقامة، أي موالاة كلماتهما لأن تركها يخل
بالأعلام ولا يضر يسير نوم أو إغماء أو ردة أو سكوت أو كلام. ويسن أن يستأنف في غير الأخيرتين. (وفي قول لا يضر كلام
وسكوت طويلان) بين كلماتهما كغيرهما من الأذكار، وقيل: يضر كثير الكلام دون كثير السكوت. ومحل الخلاف
إذا لم يفحش الطول فإن فحش قال في المجموع: بحيث لا يسمى مع الأول أذانا أي في الاذان ولا إقامة في الإقامة استأنف جزما،
فإن عطس - بفتح الطاء - المؤذن أو المقيم في أثناء ذلك سن له أن يحمد الله في نفسه وأن يؤخر رد السلام إذا سلم عليه غيره
والتشميت إذا عطس غيره وحمد الله تعالى إلى الفراغ فيرد ويشمت حينئذ، فإن رد أو شمت أو تكلم بمصلحة لم يكره
وكان تاركا للسنة، ولو رأى أعمى مثلا يخاف وقوعه في بئر وجب إنذاره. ويشترط في الأذان والإقامة عدم بناء غيره على أذانه
أو إقامته لأن ذلك من شخصين يوقع في لبس غالبا فسقط ما قيل إنه يؤخذ منه صحة البناء إذا اشتبها صوتا. (وشرط المؤذن)
والمقيم (الاسلام) فلا يصحان من كافر لعدم أهليته للعبادة ولأنه لا يعتقد الصلاة التي هما دعاء لها فإتيانه بذلك ضرب
من الاستهزاء، ويحكم بإسلامه بالشهادتين إن لم يكن عيسويا بخلاف العيسوي، والعيسوية فرقة من اليهود تنسب إلى أبي
عيسى إسحاق بن يعقوب الأصبهاني كان في خلافة المنصور يعتقد أن محمدا رسول الله أرسل إلى العرب خاصة، وفارق اليهود
في أشياء غير ذلك: منها أنه حرم الذبائح. فإن أذن أو أقام غير العيسوي بعد إسلامه ثانيا اعتد بالثاني. ولو ارتد المؤذن
بعد فراغ الاذان، ثم أسلم ثم أقام جاز، والأولى أن يعيدهما غيره حتى لا يصلي بأذانه وإقامته لأن ردته تورث شبهة في حاله.
(و) شرط من ذكر (التمييز) فلا يصحان من غير مميز لعدم أهليته للعبادة. وفي اشتراط النية في الاذان وجهان في البحر،
والأصح عدم الاشتراط، لكن يشترط عدم الصرف، فإن قصد به تعليم غيره لم يعتد به قاله ابن كج. (و) شرط المؤذن
(الذكورة) ولو عبدا أو صبيا مميزا، فلا يصح أذان امرأة وخنثى لرجال وخناثى كما لا تصح إمامتهما لهم، وتقدم
أذانهما لغير الرجال والخناثي. وقضية كلامهم أنه لا فرق في الرجال بين المحارم وغيرهم، وهو كذلك وإن نظر فيه
الأسنوي. قال في المجموع: وشرط المرتب للاذان علمه بالمواقيت دون من أذن لنفسه أو الجماعة مرة، أي فلا يشترط
معرفته بها، بل إذا علم دخول الوقت صح أذانه بدليل صحة أذان الأعمى، وهذا كما قال شيخنا يقتضي أن الراتب إذا
لم يعلمها لم يصح أذانه، وليس مرادا بل يصح إذا عرفها بخبر ثقة كغير الراتب كما دل عليه كلام الأئمة حتى المتولي في
تتمته، فشرط المؤذن راتبا أو غيره معرفة دخول الأوقات بأمارات أو غيرها، فإن ابن أم مكتوم كان راتبا مع أنه كان لا يعرفها
137

بالامارة، فإنه كان لا يؤذن للصبح حتى يقال له أصبحت أصبحت كما رواه البخاري. ويؤخذ من ذلك ما جرت
به العادة
من أن المؤذنين لا يعرفون الوقت ولكن ينصب لهم مؤقت يخبرهم بالوقت أن ذلك يكفي كما قاله بعض المتأخرين. ولو
أذن جاهلا بدخول الوقت فصادفه اعتد به بناء على عدم اشتراط النية، وبهذا فارق التيمم والصلاة، ويؤخذ من ذلك
أن الخطبة كالاذان بناء على ما ذكر. (ويكره) الاذان (للمحدث) حدثا أصغر لخبر: كرهت أن أذكر الله إلا على طهر
أو قال: على طهارة رواه أبو داود وغيره، وقال في المجموع إنه صحيح، ولأنه يدعو إلى الصلاة فليكن بصفة من يمكنه
فعلها، وإلا فهو واعظ غير متعظ. وقضيته أنه يسن له التطهر من الخبث أيضا. (و) الكراهة (للجنب أشد) منها للمحدث
لأن الجنابة أغلظ. (والإقامة) من كل منهما (أغلظ) أي أشد كراهة من الاذان لقربها من الصلاة. وقضية كلامه
كأصله أن كراهة إقامة المحدث أغلظ من كراهة أذان الجنب، والمتجه كما قال الأسنوي تساويهما. وتقدم أن الحيض
والنفاس أغلظ من الجنابة، فتكون الكراهة معهما أغلظ من الكراهة مع الجنابة. فإن قيل: يرد على ذلك المتيمم ومن به
نحو سلس بول وفاقد الطهورين فإن الصلاة مطلوبة منهم، ولا يقال إنه يكره لهم الاذان أو الإقامة. أجيب بأن المراد بالمحدث
أو الجنب من لا تباح له الصلاة. ويجزئ أذان وإقامة مكشوف العورة والجنب وإن كان في مسجد لأن المراد حصول الاعلام
وقد حصل، والتحريم لمعنى آخر وهو حرمة المسجد وكشف العورة. ولو حصل له حدث ولو أكبر في أثناء ذلك استحب
إتمامه، ولا يستحب قطعه ليتوضأ لئلا يوهم التلاعب، فإن تطهر ولم يطل زمنه بنى والاستئناف أولى. (ويسن) للاذان مؤذن
حر لأنه أكمل من غيره. (صيت) أي عالي الصوت، لقوله (ص) في خبر عبد الله بن زيد: ألقه على بلال فإنه
أندى منك صوتا أي أبعد، ولزيادة الابلاغ. (حسن الصوت) ليرق قلب السامع ويميل إلى الإجابة، ولان الداعي
ينبغي أن يكون حلو المقال. وروى الدارمي وابن خزيمة: أن النبي (ص) أمر عشرين رجلا فأذنوا فأعجبه
صوت أبي محذورة فعلمه الاذان. (عدل) ليقبل خبره عن الأوقات، ويؤمن نظره إلى العورات. ويكره أذان فاسق
وصبي وأعمى ليس معه بصير يعرف الوقت، لأنه ربما غلط في الوقت، ولأنه يفوت على الناس فضيلة أول
الوقت، ولذلك
استحب كونه عالما بالمواقيت.
فروع: يكره تمطيط الاذان: أي تمديده والتغني به أي التطريب. ويسن أن يكون المؤذن من ولد مؤذني رسول الله
(ص) كبلال وابن أم مكتوم وأبي محذورة وسعد القرظي، فإن لم يكن فمن أولاد مؤذني أصحابه، فإن لم يكن
أحد منهم فمن أولاد الصحابة، ذكره في المجموع. ويكره الركوب فيه للمقيم لما فيه من ترك القيام المأمور به بخلاف المسافر
لا يكره إذ أنه راكبا للحاجة إلى الركوب في السفر، فإن أذن ماشيا أجزأه إن لم يبعد عن مكان ابتدائه بحيث لا يسمع
آخره من يسمع أوله وإلا لم يجزه، ويندب أن يتحول من مكان الاذان للإقامة ولا يقيم وهو يمشي. ويسن أن يفصل
المؤذن والإمام بين الأذان والإقامة بقدر اجتماع الناس في مكان الصلاة وبقدر أداء السنة التي قبل الفريضة، ويفصل
بينهما في المغرب بنحو سكتة لطيفة كقعود لطيف لضيق وقتها ولاجتماع الناس لها قبل وقتها عادة، وعلى ما صححه المصنف
من أن للمغرب سنة قبلها يفصلها بقدر أدائها أيضا. (والإمامة أفضل منه) أي الاذان (في الأصح) لمواظبته
(ص) وخلفائه رضي الله تعالى عنهم عليها، ولان القيام بالشئ أولى من الدعاء إليه. واختار هذا السبكي مع قوله إن
السلامة في تركها، ونقل في الاحياء عن بعض السلف أنه قال: ليس بعد الأنبياء أفضل من العلماء ولا بعد العلماء أفضل
من الأئمة المصلين لأنهم قاموا بين الله وبين خلقه: هؤلاء بالنبوة، وهؤلاء بالعلم، وهؤلاء بعماد الدين. (قلت: الأصح أنه)
أي الاذان (أفضل منها والله أعلم) لقوله تعالى: * (ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله) * قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: هم
المؤذنون، ولخبر: إن خيار عباد الله الذين يراعون الشمس والقمر والنجوم والأظلة لذكر الله رواه الحاكم وصحح
إسناده، ولدعائه (ص) له بالمغفرة، وللإمام بالارشاد، والمغفرة أعلى من الارشاد كما قاله الرافعي. وقال الماوردي: دعا
138

للإمام بالرشد خوف زيغه، وللمؤذن بالمغفرة لعلمه بسلامة حاله. وأجيب عن الأول بأن الاذان يحتاج إلى فراغ وكانوا
مشتغلين بمصالح الأمة، وقيل: لأنه (ص) لو أذن لوجب الحضور على من سمعه، وضعف هذا بأن قرينة
الحال تصرفه إلى الاستحباب، ولأنه (ص) أذن مرة في السفر كما رواه الترمذي بإسناد جيد، وقيل: أذن
مرتين. وصحح المصنف في نكته أن الاذان مع الإقامة أفضل من الإمامة وجرى على ذلك بعض المتأخرين،
والمعتمد
ما في الكتاب تبعا لصاحب التنبيه. وإذا كان أفضل من الإمامة فهو أفضل من الخطابة، لأن الإمامة أفضل منها، لأن الإمام
يأتي بالمشروط والخطيب يأتي بالشرط والاتيان بالمشروط أولى. وقيل: الاذان والإمامة سواء، وقيل: إن علم من نفسه
القيام بحقوق الإمامة فهي أفضل وإلا فالاذان، وحكي عن نص الام. فإن قيل: كيف فضل المصنف الاذان مع
موافقته للرافعي على تصحيحه أنه سنة وتصحيحه فرضية الجماعة، إذ يلزم من ذلك تفضيل سنة على فرض، وإنما يرجحه
عليها من يقول بسنيتها؟ أجيب بأنه لا مانع من تفضيل سنة على فرض، فقد فضل ابتداء السلام على الجواب وإبراء
المعسر على إنظاره، مع أن الأول فيهما سنة والثاني واجب.
فروع: يسن لمن صلح للاذان والإمامة الجمع بينهما، قال في الروضة: وفيه حديث حسن في الترمذي،
وقيل: يكره، وقيل: يباح. ويسن أن يتطوع المؤذن بالاذان لخبر: من أذن سبع سنين محتسبا كتب الله له براءة من النار رواه الترمذي
وغيره، وفي رواية: من أذن خمس صلوات إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. وأن يكون الاذان بقرب المسجد،
وأن لا يكتفي أهل المساجد المتقاربة بأذان بعضهم بل يؤذن في كل مسجد. ويكره أن يخرج من المسجد بعد الاذان قبل
أن يصلي إلا بعذر. ووقت الاذان منوط بنظر المؤذن ولا يحتاج فيه إلى مراجعة الإمام، والإقامة بنظر الإمام فلا يقيم إلا
بإذنه، لقوله (ص): المؤذن أملك بالاذان والإمام أملك بالإقامة رواه ابن عدي من رواية أبي هريرة، فلو أقام
المؤذن بغير إذن الإمام اعتد به. (وشرطه) أي الاذان، (الوقت) لأنه للاعلام بدخوله فلا يصح، ولا يجوز قبله بالاجماع لما
فيه من الالباس، لكن نص في البويطي على سقوط مشروعيته بفعل الصلاة، وهذا يدل على أن مشروعية الاذان للصلاة
وهو المعتمد كما مر، لا للوقت، وعلى هذا لو نوى المسافر تأخير الصلاة، فإن قلنا بالأول لم يؤذن وإلا أذن. (إلا الصبح)
أي أذانه، (فمن نصف الليل) يصح لخبر الصحيحين: إن بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم
مكتوم زاد البخاري: وكان رجلا أعمى لا ينادي حتى يقال: أصبحت أصبحت كما مر، وإنما جعل وقته في النصف الثاني
لأنه أقرب إلى الصبح إذ معظم الليل قذ ذهب وقرب الاذان من الوقت فهو منسوب إلى الصبح، ولهذا تقول العرب بعده:
أنعم صباحا. قال في الإقليد: فيستحب تقديمه قبل الوقت خلافا لما أطلقه الأكثرون من أنه يجوز، لأن وقته يدخل على
الناس وفيهم الجنب والنائم، فاستحب تقديم أذانها لينتبهوا ويتأهبوا ليدركوا فضيلة أول الوقت. وخرج بالاذان الإقامة
فلا تقدم بحال. ويشترط فيه أيضا أن لا يطول الفصل بينها وبين الصلاة كما في المجموع. قال المصنف في شرح مسلم في
كلامه على أنه لم يكن بين أذانيهما إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا، قال العلماء: معناه أن بلالا كان يؤذن قبل الفجر
ويتربص بعد أذانه للدعاء ونحوه ثم يرقب الفجر، فإذا قارب طلوعه نزل فأخبر ابن أم مكتوم فيتأهب ثم يرقى، وقيل:
يدخل وقت أذانه في الشتاء لسبع يبقى من الليل، وفي الصيف لنصف سبع، وصححه الرافعي في شرحه وضعفه المصنف في
زيادة الروضة، وقال: إن قائله اعتمد حديثا باطلا محرفا. ويدخل سبع الليل الأخير بطلوع الفجر الأول، وقيل: وقته جميع
الليل، وقيل: إذا خرج وقت اختيار العشاء. وضبط المتولي السحر بما بين الفجر الكاذب والصادق، وقال ابن أبي
الصيف: السحر هو السدس الأخير. (ويسن مؤذنان للمسجد) ونحوه تأسيا به (ص)، ومن فوائدهما أنه
(يؤذن واحد) للصبح (قبل الفجر وآخر بعده) للخبر السابق. ويزاد عليهما بقدر الحاجة والمصلحة كما صححه المصنف،
خلافا للرافعي في استحباب الاقتصار على أربعة، ويترتبون إن اتسع الوقت، ويقترعون للبداءة إن تنازعوا. فإن ضاق
الوقت والمسجد كبير تفرقوا في أقطاره، وإن صغر اجتمعوا إن لم يؤد اجتماعهم إلى اضطراب واختلاط، ويقفون عليه كلمة كلمة،
139

فإن أدى إلى ذلك أذن بعضهم بالقرعة. قال في المجموع: وعند الترتيب لا يتأخر بعضهم عن بعض لئلا يذهب أول
الوقت. فإن لم يكن إلا مؤذن واحد سن له أن يؤذن المرتين، فإن اقتصر على مرة فالأولى أن تكون بعد الفجر. والمؤذن
الأول أولى بالإقامة إلا أن يكون الراتب أولى. ويجوز للإمام أن يرزق المؤذن من مال المصالح، قال في المجموع:
ولا يجوز أن يرزق مؤذنا وهو يجد متبرعا كما نص عليه، قال القاضي حسين: لأن الإمام في بيت المال كالوصي في مال اليتيم،
والوصي لو وجد من يعمل في مال اليتيم متبرعا لم يجز أن يستأجر عليه من مال اليتيم فكذا الإمام. فإن تطوع به فاسق وثم أمين
أو أمين وثم أمين أحسن صوتا منه وأبى الأمين في الأولى والأحسن صوتا في الثانية إلا بالرزق رزقه الإمام من
سهم المصالح عند
الحاجة بقدرها. وللإمام أن يرزقهم وإن تعددوا بعدد المساجد وإن تقاربت وأمكن جمع الناس بأحدها لئلا تتعطل. ويبدأ
وجوبا إن ضاق بيت المال وندبا إن اتسع بالأهم كمؤن الجامع. وأذان صلاة الجمعة أهم من غيره لكثرة جماعتها وقصد الناس
لها، وللإمام وغيره استئجاره على الاذان لأنه عمل معلوم يرزق عليه ككتابة الصك ولرجوع نفعه إلى عموم المسلمين فهو كتعليم
القرآن، ولا يشترط بيان المدة إذا استأجره الإمام من بيت المال بل يكفي أن يقول استأجرتك كل شهر بكذا بخلاف ما إذا
استأجره من ماله أو استأجره غيره فلا بد من بيانها على الأصل في الإجارة، وتدخل الإقامة في استئجار الاذان ضمنا ويبطل
إفرادها بإجارة، إذ لا كلفة فيها وفي الاذان كلفة غالبا لرعاية الوقت، فسقط ما قيل إن هذه الصورة ليست بصافية عن الاشكال.
ولا يصح الاذان للجماعة بالعجمية وهناك من يحسن العربية بخلاف ما إذا كان هناك من لا يحسنها، فإن أذن لنفسه
وكان لا يحسن العربية صح وإن كان هناك من يحسنها، وعليه أن يتعلم، حكاه في المجموع عن الماوردي، وأقره.
(ويسن لسامعه) أي المؤذن ومستمعه كما فهم بالأولى، ومثل المؤذن المقيم. (مثل قوله) لقوله (ص): إذا سمعتم
النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن متفق عليه، ويقاس بالمؤذن المقيم. وتناولت عبارته الجنب والحائض ونحوهما، وهو
المعتمد كما جزما به خلافا للسبكي في قوله لا يجيبان لحديث: كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ولابنه في قوله ويمكن
أن يتوسط، فيقال: تجيب الحائض لطول زمنها بخلاف الجنب. وتناولت أيضا المجامع وقاضي الحاجة، لكن إنما يجيبان
بعد الفراغ كما قاله في المجموع، ومحله إذا لم يطل الفصل فإن طال لم تستحب لهما الإجابة. وفارق هذا تكبير العيد المشروع
عقب الصلاة حيث يتدارك وإن طال الفصل بأن الإجابة تنقطع مع الطول بخلاف التكبير ومن في صلاة، والأصح
أنه لا يستحب له الإجابة بل تكره، فإن قال في التثويب صدقت وبررت أو قال حي على الصلاة أو الصلاة خير من
النوم بطلت صلاته، بخلاف صدق رسول الله (ص) لا تبطل به كما صرح به في المجموع. وإن أجاب في أثناء الفاتحة
وجب استئنافها، وإذا كان السامع أو المستمع في قراءة أو ذكر استحب له أن يقطعهما ويجيب، أو في طواف أجاب
فيه كما قاله الماوردي. ويسن أن يجيب في كل كلمة عقبها بأن لا يقارن ولا يتأخر كما في المجموع، قال الأسنوي: ومقتضاه
الاجزاء في هذه الحالة وامتناعه عند التقدم. وأفهم كلام المصنف أنه لو علم أذان غيره أو إقامته ولم يسمعه لبعد أو
صمم لا تسن له الإجابة. وقال في المجموع: إنه الظاهر لأنها معلقة بالسماع في خبر: إذا سمعتم المؤذن وكما في نظيره في
تشميت العاطس قال: وإذا لم يسمع الترجيع فالظاهر أنه تسن له الإجابة فيه لقوله (ص): قولوا مثل ما يقول ولم
يقل: مثل ما تسمعون. ويؤخذ من كلام المجموع في ذلك أنه لو سمع بعض الاذان يسن له أن يجيب في الجميع، وبه صرح
الزركشي وغيره. قال في المجموع: وإذا سمع مؤذنا بعد مؤذن فالمختار أن أصل الفضيلة في الإجابة شامل للجميع إلا
أن الأول متأكد يكره تركه. وقال ابن عبد السلام: إجابة الأول أفضل إلا أذاني الصبح فلا أفضلية فيهما لتقدم الأول
ووقوع الثاني في الوقت، إلا أذاني الجمعة لتقدم الأول ومشروعية الثاني في زمنه (ص). (إلا في حيعلتيه) وهما: حي
على الصلاة حي على الفلاح. (فيقول) بدل كل منهما: (لا حول) أي عن المعصية إلا بعصمة الله، (ولا قوة) على
الطاعة (إلا بالله) أي بعون الله، فقد ثبت عن ابن مسعود أنه قال: كنت عند رسول الله (ص) فقلت: لا حول
ولا قوة إلا بالله فقال رسول الله (ص): أتدري ما تفسيرها؟ قلت: لا، قال: لا حول عن معصية الله إلا
140

بعصمة الله ولا قوة على طاعة الله إلا بعون الله ثم ضرب بيديه على منكبي وقال: هكذا أخبرني جبريل عليه السلام.
ويقول ذلك في الاذان أربعا وفي الإقامة مرتين، قاله في المجموع. وقيل: يحوقل مرتين في الاذان، واختاره ابن الرفعة،
وكلام المصنف يميل إليه. ولو عبر بحيعلاته لوافق الأول المعتمد، وإنما لم يقل في الحيعلتين مثل ما يقول لأنهما دعاء إلى
الصلاة لا يليق بغير المؤذن والمقيم، فسن للمجيب ذلك لأنه تفويض محض إلى الله تعالى ولقوله في خبر مسلم: وإذا
قال حي على الصلاة قال - أي سامعه - لا حول ولا قوة إلا بالله، وإذا قال حي على الفلاح قال لا حول ولا قوة إلا بالله
وفي آخر الحديث: من قال ذلك مخلصا من قلبه دخل الجنة. وفي الصحيحين: لا حول ولا قوة إلا بالله كنز من كنوز
الجنة. أي أجرها مدخر لقائلها كما يدخر الكنز.
فائدة: الحاء والعين لا يجتمعان في كلمة واحدة أصلية الحروف لقرب مخرجهما إلا أن تؤلف كلمة من كلمتين
كقولهم حيعل، فإنها مركبة من كلمتين: من حي على الصلاة ومن حي على الفلاح، ومن المركب من كلمتين قولهم:
حوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله هكذا قاله الجوهري. وقال الأزهري وغيره: حولق بتقديم اللام على القاف،
فهي مركبة من حاء حول وقاف قوة، وكقولهم: بسمل إذا قال بسم الله. وحمدل إذا قال الحمد لله، والهيللة إذا
قال لا إله إلا الله، و الجعفلة جعلت فداءك، والطلبقة أطال الله بقاءك، والدمعزة أدام الله عزك. والفلاح الظفر
بالمطلوب والنجاة من المطلوب. قال الأسنوي: والقياس أن السامع يقول في قول المؤذن ألا صلوا في رحالكم: لا حول
ولا قوة إلا بالله. (قلت: وإلا في التثويب) في أذاني الصبح (فيقول) بدل كلمتيه: (صدقت وبررت) بكسر الراء الأولى وسكون الثانية،
وحكي فتح الأولى، أي صرت ذا بر، أي خير كثير (والله أعلم)، لما في ذلك من المناسبة، ولخبر ورد فيه، قاله ابن
الرفعة، قال الدميري: ولا يعرف من قاله. وقيل: يقول: صدق رسول الله (ص) الصلاة خير من النوم. والمشهور
استحباب الإجابة في كلمات الإقامة كما تقرر إلا في كلمتي الإقامة، فيقول: أقامها الله وأدامها ما دامت السماوات والأرض
لما فيه من المناسبة أيضا، ولخبر رواه أبو داود ولكن بسند ضعيف. وقال الإمام: يقول: اللهم أقمها وأدمها واجعلني من صالحي
أهلها وهو أيضا مروي عن النبي (ص). وقيل: لا يجيب إلا في كلمتيها فقط. (و) يسن (لكل) من مؤذن وسامع ومستمع، قال
شيخنا: ومقيم، ولم أره لغيره. (أن يصلي على النبي (ص)) ويسلم أيضا لما مر من أنه يكره إفرادها عنه. (بعد
فراغه) من الاذان أو الإقامة على ما مر لقوله (ص): إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي
فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا. (ثم) يقول: (اللهم) أصله: يا الله، حذفت منه يا وعوض عنه الميم، ولهذا
لا يجوز الجمع بينهما. (رب هذه الدعوة) بفتح الدال، أي الاذان أو الإقامة على ما مر. (التامة) أي السالمة من تطرق نقص
إليها. (والصلاة القائمة) أي التي به تقام. (آت) أعط (محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته) لقوله
(ص): من قال ذلك حين يسمع النداء حلت له شفاعتي يوم القيامة رواه البخاري، أي حصلت. وزاد
في التنبيه بعد والفضيلة: والدرجة الرفيعة، وبعد وعدته: يا أرحم الراحمين. والوسيلة أصله ما يتوسل به إلى الشئ
والجمع وسائل، والمراد منها في الحديث القرب من الله تعالى، وقيل: منزلة في الجنة كما ثبت في صحيح مسلم. وقيل: قبتان في أعلى
عليين إحداهما من لؤلؤة بيضاء يسكنها محمدا وآله، والأخرى من ياقوتة صفراء يسكنها إبراهيم وآله. والمقام المذكور هو
المراد في قوله تعالى: * (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) * وهو مقام الشفاعة في فصل القضاء يوم القيامة يحمده فيه الأولون
والآخرون، رواه البزار من حديث أبي هريرة. وقال مجاهد والطبري: المقام المحمود أن الله تعالى يجلسه على العرش.
ووقع في المحرر والشرح المقام المحمود معرفا، ونكره في المجموع واعترض برواية النسائي وابن خزيمة وابن حبان
والبيهقي له معرفا بإسناد صحيح. فإن قيل: ما فائدة طلب ذلك له (ص) وهو واجب الوقوع بوعد الله تعالى؟ أجيب بأن
141

في ذلك إظهارا لشرفه وعظيم منزلته (ص) وزاده فضلا وشرفا لديه. وقول المصنف: الذي وعدته في محل
نصب بدل من قوله مقاما لا نعت له لأنه يجوز إبدال المعرفة من النكرة ولا يجوز نعت النكرة بالمعرفة كما لا يجوز نعت
المعرفة بالنكرة، ويجوز أن يكون منصوبا بتقدير: أعني، ومرفوعا خبرا لمبتدأ محذوف.
تتمة: يندب الدعاء بين الأذان والإقامة لخبر: الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة فادعوا رواه الترمذي وحسنه.
قال في العباب: وأكده بسؤال العافية في الدنيا والآخرة، وأن يقول المؤذن ومن سمعه بعد أذان المغرب: اللهم هذا
إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي، وبعد أذان الصبح: اللهم هذا إقبال نهارك وإدبار ليلك وأصوات
دعاتك فاغفر لي.
فصل: استقبال القبلة: بالصدر لا بالوجه، (شرط لصلاة القادر) على الاستقبال، لقوله تعالى: * (فول وجهك شطر) *
أي نحو (المسجد الحرام). والاستقبال لا يجب في غير الصلاة فتعين أن يكون فيها، وقد ورد أنه (ص) قال للمسئ صلاته،
وهو خلاد بن رافع الزرقي الأنصاري: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة رواه الشيخان، ورويا أنه
(ص) ركع ركعتين قبل الكعبة، أي وجهها، وقال: هذه القبلة مع خبر: صلوا كما رأيتموني أصلي فلا
تصح الصلاة بدونه إجماعا. والقبلة في اللغة: الجهة، والمراد هنا الكعبة، ولو عبر بها لكان أولى لأنها القبلة
المأمور
بها، ولكن القبلة صارت في الشرع حقيقة الكعبة لا يفهم منها غيرها، سميت قبلة لأن المصلي يقابلها، وكعبة لارتفاعها
وقيل: لاستدارتها. أما العاجز عنه كمريض لا يجد من يوجهه إليها ومربوط على خشبة فيصلي على حاله ويعيد وجوبا. قال
في الكفاية: ووجوب الإعادة دليل على الاشتراط، أي فلا يحتاج إلى التقييد بالقادر فإنها شرط للعاجز أيضا بدليل
القضاء، ولذلك لم يذكره في التنبيه والحاوي. واستدرك على ذلك السبكي، فقال: لو كان شرطا لما صحت الصلاة بدونه
ووجوب القضاء لا دليل فيه اه‍. وفي هذا نظر لأن الشرط إذا فقد تصح الصلاة بدونه وتعاد كفاقد الطهورين، ثم رأيت
الأذرعي تعرض لذلك. (إلا في) صلاة (شدة الخوف) فيما يباح من قتال أو غيره فرضا كانت أو نفلا، فليس التوجه
بشرط فيها لقوله تعالى: * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا) * قال ابن عمر: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها رواه البخاري في التفسير.
قال في الكفاية: نعم لو قدر أن يصلي قائما إلى غير القبلة وراكبا إلى القبلة وجب الاستقبال راكبا لأنه آكد من القيام،
لأن القيام يسقط في النافلة بغير عذر بخلاف الاستقبال. وقد أعاد المصنف المسألة مبسوطة في صلاة الخوف ونذكر
ما فيها هناك إن شاء الله تعالى. (و) إلا في (نفل السفر) المباح لقاصد محل معين، لأن النفل يتوسع فيه كجوازه قاعدا للقادر،
وخرج بذلك النفل في الحضر فلا يجوز، وإن احتيج فيه للتردد كما في السفر لعدم وروده. (فللمسافر) السفر المذكور
(التنفل راكبا) لحديث جابر قال: كان رسول الله (ص) يصلي على راحلته حيث توجهت به، أي في جهة
مقصده، فإذا أراد الفريضة نزل فاستقبل القبلة رواه البخاري. (وماشيا) قياسا على الراكب، بل أولى. والحكمة في
التخفيف في ذلك على المسافر أن الناس محتاجون إلى الاسفار فلو شرط فيها الاستقبال للنفل لأدى إلى ترك أورادهم
أو مصالح معايشهم، ويشترط ترك الأفعال الكثيرة من غير عذر كالركض والعدو. (ولا يشترط طول سفره على المشهور)
لعموم الحاجة قياسا على ترك الجمعة والسفر القصير. قال الشيخ أبو حامد وغيره: مثل أن يخرج إلى ضيعة مسيرتها ميل
أو نحوه، وقال القاضي والبغوي: أن يخرج إلى مكان لا تلزم فيه الجمعة لعدم سماع النداء، وهما متقاربان.
والثاني: يشترط
كالقصر، وفرق الأول بأن النفل أخف فيتوسع فيه ولهذا جاز من قعود في الحضر مع القدرة على القيام. (فإن
أمكن) أي سهل (استقبال الراكب) غير ملاح، (في مرقد) كمحمل واسع وهودج في جميع صلاته، (وإتمام)
الأركان كلها أو بعضها نحو (ركوعه وسجوده لزمه) ذلك لتيسره عليه كراكب السفينة، وفي قول لا يلزمه لأن الحركة
142

تضر بالدابة بخلاف السفينة. (وإلا) أي وإن لم يمكن، أي يسهل ذلك كأن كان على سرج أو قتب (فالأصح إنه إن سهل
الاستقبال) بأن تكون الدابة واقفة وأمكن انحرافه عليها أو تحريفها أو سائرة وبيده زمامها وهي سهلة (وجب)
لتيسيره عليه (وإلا) أي وإن لم يسهل بأن كانت الدابة سائرة وهي مقطورة ولم يسهل انحرافه عليها أو جموح لا يسهل
تحريفها، (فلا) يجب للمشقة واختلال أمر السير عليه، وقيل: يجب عليه مطلقا، فإن تعذر لم تصح صلاته، وقيل: لا يجب
مطلقا لأن وجوبه يشوش عليه السير. (ويختص) وجوب الاستقبال (بالتحرم) فلا يجب فيما عداه وإن سهل،
والفرق أن الانعقاد يحتاط له ما لا يحتاط لغيره لوقوع أول الصلاة بالشرط، ثم يجعل ما بعده تابعا له، ويدل لذلك
أنه (ص) كان إذا سافر فأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة فكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه رواه
أبو داود بإسناد حسن كما قاله في المجموع. (وقيل: يشترط في السلام أيضا) لأنه آخر طرفي الصلاة، فاشترط فيه ذلك
كالتحرم، والأصح المنع كما في سائر الأركان ولا يشترط فيما بينهما جزما. قال في المهمات: وقضية كلام الشيخين فيما
إذا كانت سهلة أنه لا يلزمه الاستقبال في غير التحرم أيضا وإن كانت واقفة، وهو بعيد، قال ابن الصباغ: والقياس أنه مهما
دام واقفا لا يصلي إلا إلى القبلة، وهو متعين. وفي الكفاية عن الأصحاب: أنه لو وقف لاستراحة وانتظار رفقة لزمه الاستقبال
ما دام واقفا، فإن سار أتم صلاته إلى جهة سفره إن كان سيره لأجل سير الرفقة، وإن كان مختارا له بلا ضرورة لم يجز
أن يسير حتى تنتهي صلاته، لأنه بالوقوف لزمه فرض التوجه، وفي شرح المهذب عن الحاوي نحوه اه‍. وما قاله كما قال
شيخي ظاهر في الواقفة، ولكن لا يلزمه بالوقوف إتمام التوجه لظاهر الحديث السابق. أما الماشية فلا يجب الاستقبال
عليها في غير التحرم وإن سهل. أما ملاح السفينة وهو الذي يسيرها فلا يلزمه توجه، لأن تكليفه ذلك يقطعه عن
التنفل أو عمله، بخلاف بقية من في السفينة فإنه يلزمهم ذلك، وهذا ما صححه المصنف في التحقيق وغيره، وإن صحح
الرافعي في الشرح الصغير اللزوم. (ويحرم انحرافه عن) صوب (طريقه) لأنه بدل عن القبلة، (إلا إلى القبلة) لأنها الأصل،
حتى لو انحرف بركوبه مقلوبا عن صوب مقصده إلى القبلة لم يضر سواء أكانت القبلة خلفه أم لا خلافا لما وقع في الدميري
من أنه يضر إذا كانت خلفه، فإن انحرف إلى غيرها عالما مختارا بطلت صلاته، وكذا النسيان أو خطأ طريق أو جماح
دابة إن طال الزمن وإلا فلا، ولكن يسجد للسهو، لأن عمد ذلك مبطل وفعل الدابة منسوب إليه، وهذا ما جزم به
ابن الصباغ وصححاه في الجماح، والرافعي في الشرح الصغير في النسيان، ونقله الخوارزمي فيه عن الإمام الشافعي
رضي الله تعالى عنه، وقال الأسنوي: تتعين الفتوى به. لكن المنصوص فيه كما في الروضة وأصلها أنه لا يسجد، وصححه
في المجموع وغيره. والمعتمد الأول ولو انحرفت الدابة بنفسها من غير جماح وهو غافل عنها ذاكرا للصلاة، ففي الوسيط
إن قصر الزمان لم تبطل، وإلا فوجهان اه‍. قال شيخنا: أوجههما البطلان. ولو أحرفه غيره قهرا بطلت وإن عاد عن
قرب لندرته، ولو كان لصوب مقصده طريقان: أحدهما يستقبل فيه القبلة، والآخر لا يستقبل فيه فسلكه، فهل يشترط
فيه أن يكون له غرض في سلوكه كما في مسافة القصر؟ لم أر من ذكره، والظاهر كما قال شيخي عدم الاشتراط، والفرق
بينهما أن النفل يتوسع فيه. (ويومئ) أي يكفيه الايماء (بركوعه وسجوده) ويكون سجوده (أخفض) من ركوعه،
وفي بعض النسخ: وسجوده وجوبا إن أمكن تمييزا بينهما للاتباع. ولا يجب عليه وضع الجبهة على السرج ونحوه لما فيه
من المشقة، ولا أن ينحني غاية الوسع، وذلك لما روى البخاري: أنه (ص) كان يصلي على
راحلته حيث توجهت به يومئ إيماء إلا الفرائض، وفي حديث الترمذي في صلاته (ص) على الراحلة
بالايماء يجعل السجود أخفض من الركوع. (والأظهر أن الماشي يتم) وجوبا (ركوعه وسجوده ويستقبل فيهما
143

وفي إحرامه) وجلوسه بين سجدتيه لسهولته عليه بالمكث. والثاني: يكفيه أن يومئ بالركوع والسجود كالراكب.
ويلزمه الاستقبال فيهما، ويلزمه في الاحرام على الأصح، ولا يلزمه على القولين في السلام. (و) الأظهر أنه (لا يمشي)
أي يحرم عليه المشي، (إلا في قيامه) الشامل لاعتداله (وتشهده) ولو التشهد الأول، فلا يجوز له أن يمشي في غيرهما
كجلوسه بين السجدتين. والثاني: لا يمشي إلا في القيام فقط. والثالث: لا يشترط اللبث بالأرض في شئ ويومئ بالركوع
والسجود كالراكب. فإن قيل: قيام الاعتدال ركن قصير فلم جوز تم فيه المشي دون الجلوس بين السجدتين؟ أجيب بأن
مشى القائم سهل فسقط عنه التوجه فيه ليمشي فيه شيئا من سفره قدر ما يأتي بالذكر المسنون فيه، ومشي الجالس لا يمكن
إلا بالقيام، وهو غير جائز فلزمه التوجه فيه، ولو بلغ المسافر المحط الذي ينقطع به السير أو بلغ طرف بنيان بلد تلزم
الإقامة به أو نوى وهو مستقل ماكث بمحل الإقامة به وإن لم يصلح لها، لزمه أن ينزل عن دابته إن لم يستقر في نحو
هودج ولم يمكنه أن يتمها مستقبلا وهي واقفة، لانقطاع سفره الذي هو سبب الرخصة بخلاف المار بذلك ولو بقرية له
فيها أهل فلا يلزمه النزول. فالشرط في جواز التنفل راكبا وماشيا دوام السفر والمسير، فلو نزل في أثناء صلاته لزمه
أن يتمها للقبلة قبل ركوبه. فإن ركب قبل ذلك أو ابتدأها وهو نازل للقبلة ثم ركب قبل أن يتمها بطلت صلاته إلا أن
يضطر إلى الركوب. وله العدو وركض الدابة في صلاته لحاجة تتعلق بسفره كخوف تخلفه عن الرفقة. فإن فعل ذلك
بلا حاجة أو لحاجة لا تتعلق بالسفر كصيد يريد إمساكه بطلت صلاته، وإن كان ظاهر كلام ابن المقري في الثانية أنها
لا تبطل. ولو بالت أو راثت دابته أو أوطأها نجاسة لم يضر لأنه لم يلاقها، نعم قال صاحب العباب لو دمي فم الدابة
وعنانها بيده ضر اه‍. وينبغي أن يلحق بذلك كل نجاسة اتصلت بالدابة وعنانها بيده أخذا من مسألة مسك الحبل المتصل
بساجور الكلب، وهذا ظاهر إذا صلى عليها وهي واقفة، فإن كانت سائرة لم يضر، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك.
أما الماشي فتبطل صلاته إن وطئ نجاسة عمدا ولو يابسة وإن لم يجد معدلا عن النجاسة كما جزم به ابن المقري، وهو مقتضى
كلام التحقيق، بخلاف ما لو وطئها ناسيا وهي يابسة للجهل بها مع مفارقته لها حالا، فأشبهت ما لو وقعت عليه فنحاها
في الحال وهي يابسة أو رطبة وهي معفو عنها كذرق طير عمت به البلوى كما جزم به ابن المقري أيضا. ولا
يكلف التحفظ
والاحتياط في المشي، لأن تكليفه يشوش عليه غرض السير. (ولو صلى) مميز (فرضا على دابة واستقبل وأتم ركوعه
وسجوده) وسائر أركانه بأن كان في نحو هودج (وهي واقفة) وإن لم تكن معقولة أو على سرير يحمله رجال وإن مشوا أو
في أرجوحة وفي الزورق الجاري، (جاز) وقيد في المحرر والتنبيه الدابة بالمعقولة. قال المصنف في الدقائق: الصواب حذفه.
(أو سائر فلا) يجوز، لأن سيرها منسوب إليه بدليل جواز الطواف عليها. وفرق المتولي بينها وبين الرجال السائرين
بالسرير بأن الدابة لا تكاد تثبت على حالة واحدة فلا تراعى الجهة بخلاف الرجال، قال: حتى لو كان للدابة من يلزم
لجامها ويسيرها بحيث لا تختلف الجهة جاز ذلك. ويؤخذ منه أنه لو كان الحامل للسرير غير مميز كمجنون لم يصح لما
ذكر، وشملت عبارته الصلاة المنذورة وصلاة الجنازة لسلوكهم بالأول مسلك واجب الشرع، ولان الركن الأعظم في الثانية
القيام، وفعلها على الدابة السائرة يمحو صورتها، فإن فرض إتمامها عليها فكذلك كما اقتضاه كلامهم خلافا لما صرح به
الإمام من الجواز وصوبه الأسنوي، لأن الرخصة في النفل إنما كانت لكثرته وتكرره، وهذه نادرة. ولا يجوز لمن
يصلي فرضا في سفينة ترك القيام إلا من عذر كدوران رأس ونحوه، فإن حولتها الريح فتحول صدره عن القبلة وجب
رده إليها ويبني إن عاد فورا وإلا بطلت صلاته. ويصلي المصلوب أو الغريق ونحوه حيث توجه للضرورة ويعيد. (ومن
صلى) فرضا أو نفلا (في الكعبة واستقبل جدارها أو بابها مردودا أو مفتوحا مع ارتفاع عتبته ثلثي ذراع) بذراع
الآدمي تقريبا، (أو) صلى (على سطحها) أو في عرصتها إذا انهدمت والعياذ بالله تعالى. (مستقبلا من بنائها
144

ما سبق) وهو قدر ثلثي ذراع، أو استقبل شاخصا كذلك متصلا بالكعبة وإن لم يكن منها كشجرة نابتة وعصا مسمرة
أو مبنية وإن لم يكن قدر قامته طولا وعرضا. (جاز) أي ما صلاه، لأنه متوجه إلى جزء من الكعبة أو إلى ما هو كالجزء
منها، وإن خرج بعضه عن محاذاة الشاخص لأنه مواجه ببعضه جزءا وبباقيه هواء الكعبة، بخلاف ما إذا كان الشاخص
أقل من ثلثي ذراع فلا تصح الصلاة إليه، لأنه سترة المصلي فاعتبر فيها قدرها، لأنه (ص) سئل عنها فقال: كمؤخرة
الرحل رواه مسلم. وظاهر كلامهم أنه لو استقبل الشاخص المذكور في حال قيامه دون بقية صلاته كأن استقبل خشبة
عرضها ثلثا ذراع معترضة في باب الكعبة تحاذي صدره في حال قيامه دون بقية صلاته أنها تصح، وفي ذلك وقفة، بل
الذي ينبغي أنها لا تصح في هذه الحالة إلا على الجنازة، لأنه مستقبل في جميع صلاته بخلاف غيرها، لأنه في حال
سجوده غير مستقبل لشئ منها. ولو أزيل هذا الشاخص في أثناء صلاته لم يضر، لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في
الابتداء، وبخلاف ما إذا صلى إلى متاع موضوع أو زرع نابت أو خشبة مغروزة فيها لم تصح صلاته، لأن ذلك ليس
كالجزء منها. فإن قيل: قد عدوا الأوتاد المغروزة من الدار بدليل دخولها في بيع الدار فلم لم يعدوا العصا المغروزة في
الكعبة منها؟ أجيب بأن العادة جرت بغرز الأوتاد في الدار للمصلحة فعدت من الدار لذلك، ولو وقف خارج العرصة ولو
على جبل أجزأه ولو بغير شاخص، لأنه يعد متوجها إليها بخلاف المصلي فيها، والغرض في القبلة إصابة العين في القرب
يقينا وفي البعد ظنا، فلا يكفي إصابة الجهة للأدلة السابقة أول الفصل. فلو خرج عن محاذاة الكعبة ببعض بدنه
بأن وقف بطرفها، وخرج عنه ببعضه بطلت صلاته. ولو امتد صف طويل بقرب الكعبة وخرج بعضهم عن المحاذاة
بطلت صلاته لأنه ليس مستقبلا لها، ولا شك أنهم إذا بعدوا عنها حاذوها وصحت صلاتهم وإن طال الصف، لأن صغير
الحجم كلما زاد بعده زادت محاذاته كغرض الرماة، واستشكل بأن ذلك إنما يحصل مع الانحراف. ولو استقبل الركن
صح كما قاله الأذرعي، لأنه مستقبل البناء المجاور للركن، وإن كان بعض بدنه خارجا عن الركن من الجانبين، بخلاف
ما لو استقبل الحجر - بكسر الحاء - فقط لأنه لا يكفي لأن كونه من البيت مظنون لا مقطوع به لأنه إنما ثبت بالآحاد. ولو استدبر
الكعبة ناسيا وطال الزمن بطلت صلاته، لمنافاة ذلك لها، بخلاف ما إذا قصر أو أميل عنها قهرا بطلت صلاته، وإن قصر
الزمن. وصلاة النفل في الكعبة أفضل منه خارجها، وكذا الفرض إن لم ترج جماعة خارجها، فإن رجيت فخارجها أفضل،
لأن المحافظة على فضيلة تتعلق بنفس العبادة أولى من المحافظة على فضيلة تتعلق بمكانها، كالجماعة ببيته فإنها أفضل من
الانفراد في المسجد وكالنافلة ببيته فإنها أفضل منها في المسجد، وإن كان المسجد أفضل منه، وإنما لم يراع خلاف من
قال بعدم صحة الصلاة في الكعبة لعدم احترامه بمخالفته لسنة صحيحة، فإنه (ص) صلى فيها. (ومن أمكنه علم القبلة)
بأن كان بحضرة البيت أو بمكة ولا حائل أو على جبل أبي قبيس أو على سطح بحيث يعاينها وشك فيها لظلمة أو غيرها
لم يعمل بغير علمه، و (حرم عليه التقليد) أي الاخذ بقول مجتهد (والاجتهاد) أي العمل به كالحاكم يجد النص،
وكذا يحرم عليه الاخذ بخبر الغير كما يعلم مما سيأتي. ولو عبر المصنف بقوله: حرم عليه الرجوع إلى غيره لشمله، فإن
قبول قول المخبر ليس تقليدا. ولو بنى محرابه على العيان صلى إليه أبدا ولا يحتاج في كل صلاة إلى المعاينة، وكذا لو صلى
بالمعاينة لا يحتاج إليها في كل صلاة. وفي معنى المعاين من نشأ بمكة، وتيقن إصابة القبلة وإن لم يعاينها حين يصلي. ولو
حال بين الحاضر بمكة وبين الكعبة حائل خلقي كجبل أو حادث كبناء جاز له أن يجتهد للمشقة في تكليف المعاينة كما ذكره
في التحقيق، ومحله إذا كان لحاجة فإن بنى حائلا منع المشاهدة بلا حاجة لم تصح صلاته بالاجتهاد لتفريطه، ومحله أيضا
عند فقد المخبر عن علم، فإن وجب فهو مقدم على الاجتهاد كما سيأتي. ولا يجوز له الاجتهاد في محاريب المسلمين ومحاريب
معظم طريقهم وقراهم القديمة إن نشأ بها قرون من المسلمين، وإن صغرت وخربت إن سلمت من الطعن، لأنها لم تنصب
إلا بحضرة جمع من أهل المعرفة بالأدلة، فجرى ذلك مجرى الخبر عن علم إلا تيامنا وتياسرا فيجوز إذ لا يبعد الخطأ فيهما
بخلافه في الجهة. ولا يجوز ذلك في محراب النبي (ص) ومساجده التي صلى فيها إن علمت، لأنه لا يقر (ص)
145

على خطأ، فلو تخيل حاذق فيها يمنة أو يسرة فخياله باطل. ومحاريبه كل ما ثبتت صلاته فيه إذ لم يكن في زمنه (ص) هذا
المحراب الذي هو الطاق المعروف. والمحراب لغة: صدر المجلس، سمي به لأن المصلي يحارب فيه الشيطان. وألحق بعض الأصحاب
قبلة البصرة والكوفة بموضع صلى فيه النبي (ص) لنصب الصحابة لهما. ويجوز الاجتهاد في خربة أمكن
أن يكون بناها الكفار، وكذا في طريق يندر مرور المسلمين بها أو يستوي مرور الفريقين بها. (وإلا) أي وإن لم يمكنه
علم القبلة بشئ مما ذكر، (أخذ) وجوبا (بقول ثقة) بصير مقبول الرواية ولو عبدا أو امرأة، (يخبر عن علم) بالقبلة
أو المحراب المعتمد. ولا يجوز له الاجتهاد، ويجب عليه السؤال عمن يخبره بذلك عند الحاجة إليه. فإن قيل: قد يشكل هذا بما
تقدم من أن من بمكة وبينه وبين القبلة حائل لا يكلف الصعود. أجيب بأن السؤال لا مشقة فيه بخلاف الصعود، فإن
فرض أن عليه في السؤال مشقة لبعد المكان أو نحوه كان الحكم فيها كما في تلك، نبه على ذلك الزركشي. وخرج بمقبول
الرواية غيره كفاسق وصبي مميز وكافر. ويعتمد الأعمى ومن في ظلمة المحراب بالمس وإن لم يرياه قبل ذلك كما يعتمده
البصير الذي ليس في ظلمة بالمشاهدة.
تنبيه: قد علم من عدم جواز الاجتهاد مع القدرة على الخبر عدم جواز الاخذ بالخبر مع القدرة على اليقين، وهو
كذلك، فلا يجوز للأعمى ولا لمن هو في ليلة مظلمة الاخذ به مع القدرة على اليقين باللمس، نبه على ذلك شيخنا. نعم إن
حصل له بذلك مشقة جاز له الاخذ بقول ثقة يخبر عن علم كما يؤخذ من الجواب المتقدم. (فإن فقد) ما ذكر (وأمكن
الاجتهاد) بأن كان بصيرا يعرف أدلة القبلة وهي كثيرة: أضعفها الرياح لاختلافها، وأقواها القطب، قالا: وهو نجم صغير
في بنات نعش الصغرى بين الفرقدين والجدي، وكأنهما سمياه نجما لمجاورته له، وإلا فهو كما قال السبكي وغيره: ليس
نجما بل نقطة تدور عليها هذه الكواكب بقرب النجم، ويختلف باختلاف الأقاليم ففي العراق يجعله المصلي خلف أذنه
اليمنى، وفي مصر خلف اليسرى، وفي اليمن قبالته مما يلي جانبه الأيسر، وفي الشام وراءه، وقيل: ينحرف بدمشق وما
قاربها إلى الشرق قليلا. (حرم) عليه (التقليد) وهو قبول قول المخبر عن اجتهاد، لأن المجتهد لا يقلد مجتهدا، ووجب عليه
الاجتهاد إلا إن ضاق الوقت عنه، فالأصح أنه لا يجتهد ويصلي على حسب حاله ويعيد وجوبا. (فإن تحير) المجتهد فلم
يظهر له شئ لنحو تعارض أدلة أو غيم أو ظلمة، (لم يقلد في الأظهر) لأنه مجتهد وقد يزول التحير عن قرب، (وصلى
كيف كان) لحرمة الوقت (ويقضي) وجوبا لأنه نادر، والثاني: يقلد ولا يقضي لأنه الآن عاجز عن معرفة
الصواب
فأشبه الأعمى. قال الإمام: ومحل الخلاف عند ضيق الوقت، أما قبله فيمتنع التقليد قطعا. قال في شرح الوسيط: وما
قاله الإمام شاذ، والمشهور التعميم. (ويجب تجديد الاجتهاد) أو التقليد في نحو الأعمى (لكل صلاة) مفروضة عينية
ولو منذورة أو قضاء، (تحضر على الصحيح) وعبر في الروضة بالأصح إن لم يكن ذاكرا للدليل الأول سعيا في إصابة
الحق لتأكد الظن عند الموافقة، وقوة الثاني عند المخالفة لأنها لا تكون إلا عن أمارة أقوى والأقوى أقرب إلى اليقين،
والثاني: لا يجب لأن الأصل استمرار الظن الأول. أما إذا كان ذاكرا لدليله الأول فلا يجب عليه تجديد الاجتهاد قطعا
ولا يجب للنافلة جزما، ومثلها صلاة الجنازة كما في التيمم. وعبارته شاملة لكل صلاة فلو عبر بالمفروضة العينية كما قدرته
لسلم من ذلك. (ومن عجز) بفتح الجيم أفصح من كسرها، (عن الاجتهاد في) الكعبة (و) عن (تعلم الأدلة
كأعمى) البصر أو البصيرة (قلد) وجوبا (ثقة) ولو عبدا أو امرأة (عارفا) بالأدلة، لقوله تعالى: * (فاسألوا أهل
الذكر إن كنتم لا تعلمون) * بخلاف الفاسق والمميز وغير العارف، فإن صلى بلا تقليد قضى وإن صادف القبلة، بخلاف
ما صلاه بالتقليد إذا صادف القبلة أو لم يتبين له الحال، ويعيد فيه السؤال لكل فريضة تحضر على الخلاف المتقدم في
تجديد الاجتهاد كما ذكره في الكفاية، فإن اختلف عليه مجتهدان قلد أعلمهما ندبا كما في الشرح الكبير للرافعي، ووجوبا
146

كما في الصغير له، قال بعض المتأخرين: وهو الأشبه، ونقله في الكفاية عن نص الام. فإن استويا تخير، وقيل: يصلي
مرتين. (وإن قدر) المكلف على تعلم الأدلة، (فالأصح وجوب التعلم) عند إرادة السفر لعموم حاجة المسافر إليها
وكثرة الاشتباه عليه بخلافه في الحضر ففرض كفاية، إذ لم ينقل أنه (ص) ثم السلف بعده ألزموا آحاد الناس تعلمها
بخلاف شروط الصلاة وأركانها. وما قررت به كلام المصنف وهو ما صححه في بقية كتبه وهو المعتمد، وإن كان ظاهره
هنا الاطلاق، بل قال السبكي: محله في السفر الذي يقل فيه العارفون بأدلتها دون ما يكثر فيه كركب الحجيج فهو كالحضر،
وهو تقييد حسن. (فيحرم) عليه (التقليد) ضاق الوقت عن التعلم أو اتسع، فإن ضاق صلى كيف كان
ووجبت عليه
الإعادة، والثاني: لا يجب عليه التعلم بخصوصه، بل هو فرض كفاية فيجوز له التقليد ولا يقضي ما يصليه به. (ومن صلى
بالاجتهاد) منه أو من مقلده (فتيقن الخطأ) في جهة أو تيامن أو تياسر معينا قبل الوقت أو فيه أعاد، أو بعده (قضى) وجوبا
(في الأظهر) وإن لم يظهر له الصواب لتيقنه الخطأ فيما يؤمن مثله في العادة، كالحاكم يحكم باجتهاده ثم يجد النص بخلافه،
واحترزوا بقولهم: فيما يؤمن مثله في العادة عن الاكل في الصوم ناسيا والخطأ في الوقوف بعرفة حيث لا تجب الإعادة، لأنه
لا يؤمن من مثله فيها. والثاني: لا يقضي لأنه ترك القبلة بعذر فأشبه تركها في حال القتال، ونقله الترمذي عن أكثر أهل
العلم، واختاره المزني. وخرج بتيقن الخطأ ظنه، والمراد باليقين هنا ما يمنع الاجتهاد فيدخل فيه خبر الثقة عن معاينة،
وبمعين المبهم كما في الصلاة إلى جهات أربع باجتهادات فلا قضاء فيها كما سيأتي. (فلو تيقنه فيها) أي الصلاة (وجب
استئنافها) بناء على وجوب القضاء بعد الفراغ لعدم الاعتداد بما مضى، وإلى هذا البناء أشار بقوله: فلو، وينحرف عن
مقابله إلى جهة الصواب ويتمها إن ظهر له مع ذلك جهة الصواب لأن الماضي معتد به. ودخل في عبارته تيقن الخطأ يمنة
أو يسرة، وهو كذلك. (وإن تغير اجتهاده) ثانيا فظهر له الصواب في جهة غير الجهة الأولى، (عمل بالثاني) وجوبا إن ترجح،
سواء أكان في الصلاة أم لا، لأنه الصواب في ظنه والخطأ فيه غير معين. (ولا قضاء) لأن الاجتهاد لا ينقص بالاجتهاد.
(حتى لو صلى) صلاة، (أربع ركعات لأربع جهات بالاجتهاد) أربع مرات بالشرط المتقدم، (فلا) إعادة ولا (قضاء)
لأن كل ركعة مؤداة باجتهاد ولم يتعين فيها الخطأ. فإن استويا ولم يكن في صلاة تخير بينهما إذ لا مزية لأحدهما على الآخر.
وإن كان فيهما عمل بالأول وجوبا كما نقله في أصل الروضة عن البغوي، وصوبه الأسنوي، خلافا لظاهر كلام المجموع
من تصحيح وجوب العمل بالثاني ولو مع التساوي، وفارق حكم التساوي قبلها بأنه هنا التزم بدخوله فيها جهة فلا يتحول
إلا بأرجح من أن التحول فعل أجنبي لا يناسب الصلاة فاحتيط لها، وشرط العمل بالثاني في الصلاة أن يظن الصواب
مقارنا لظهور الخطأ، فإن لم يظنه مقارنا بطلت صلاته وإن قدر على الصواب على قرب، لمضي جزء من صلاته إلى غير
قبلة محسوبة. ولو طرأ على المجتهد في أثناء صلاته شك في جهة القبلة ولم يترجح له شئ من الجهات لم يؤثر كما نقله في المجموع
عن نص الام واتفاق الأصحاب.
خاتمة: لو اجتهد اثنان في القبلة واتفق اجتهادهما وصلى أحدهما بالآخر فتغير اجتهاد أحدهما لزمه الانحراف
إلى الجهة الثانية، وينوي المأموم المفارقة وإن اختلفا تيامنا وتياسرا، والتغير المذكور عذر في مفارقة المأموم. ولو قيل
لأعمى وهو في صلاته: صلاتك إلى الشمس، وهو يعلم أن قبلته غيرها استأنف لبطلان تقليد الأول بذلك. وإن أبصر وهو
في أثنائها وعلم أنه للقبلة بخبر ثقة أو نجم أو محراب أو نحو ذلك أتمها، أو على الخطأ أو تردد بطلت لانتفاء ظن الإصابة،
وإن ظن الصواب غير جهته انحرف إلى ما ظنه، كما لو تغير اجتهاد البصير فيها. ولو قال مجتهد للمقلد وهو في صلاته: أخطأ
بك مقلدك، والمجتهد الثاني عنده أعرف من الأول، أو قال له: أنت على الخطأ قطعا، وإن لم يكن عنده أعرف من الأول،
وجب عليه أن يتحول إن بان له الصواب مقارنا للقول بأن أخبر به وبالخطأ معا لبطلان تقليد الأول بقول من هو أرجح
147

منه في الأولى وبقطع القاطع في الثانية، فلو كان الأول في الثانية أيضا قطع بأن الصواب ما ذكره ولم يكن الثاني أعلم لم يؤثر،
فإن لم يتبين له الصواب مقارنا بطلت صلاته وإن بان له الصواب عن قرب لما مر.
(باب صفة) أي كيفية (الصلاة)
وهي تشتمل على أركان: وهي المذكورة هنا، وعلى شروط: وهي المذكورة في أول الباب الآتي، وأبعاض: وهي
السنن المجبورة بسجود السهو، وهيئات: وهي السنن التي لا تجبر. والركن كالشرط في أنه لا بد منه، ويفارقه في أن الشرط
هو الذي يتقدم على الصلاة ويجب استمراره فيها كالطهر والستر. والركن: ما تشتمل عليه الصلاة كالركوع والسجود،
فخرج بتعريف الشرط التروك كترك الكلام فليست بشروط كما صوبه في المجموع بل مبطلة للصلاة كقطع النية، وقيل:
إنها شروط كما قاله الغزالي ووافقه ابن المقري كأصله في باب شرط الصلاة. ويشهد للأول أن الكلام اليسير ناسيا لا يضر
ولو كان تركه من الشروط لضر. فإن قيل: تعريف الشرط بما ذكر يخرج التوجه للقبلة عن كونه شرطا كما
قاله
ابن الرفعة، لأنه إنما يعتبر في القيام والقعود مع أن المشهور أنه شرط. أجيب بأن التوجه إليها حاصل في غيرهما أيضا
عرفا، إذ يقال على المصلي حينئذ إنه توجه إليها لا منحرف عنها مع أن التوجه إليها ببعض مقدم بدنه حاصل حقيقة أيضا،
وذلك كاف.
فائدة: قد شبهت الصلاة بالانسان، فالركن كرأسه، والشرط كحياته، والبعض كأعضائه، والهيئات كشعره.
(أركانها ثلاثة عشر) كذا في المحرر بجعل الطمأنينة كالهيئة التابعة. وجعلها في التنبيه ثمانية عشر، فزاد الطمأنينة في
الركوع والاعتدال والسجود والجلوس بين السجدتين ونية الخروج في الصلاة. وجعلها في التحقيق والروضة سبعة
عشر، لأن الأصح أن نية الخروج لا تجب. وجعلها في الحاوي الرابعة عشر، فزاد الطمأنينة إلا أنه جعلها في الأركان
الأربعة ركنا واحدا. والخلاف بينهم لفظي، فمن لم يعد الطمأنينة ركنا جعلها في كل ركن كالجزء منه وكالهيئة التابعة له،
ويؤيده كلامهم في التقدم والتأخر بركن أو أكثر، وبه يشعر خبر: إذا قمت إلى الصلاة الآتي. ومن عدها أركانا فذاك
لاستقلالها، وصدق اسم السجود ونحوه بدونها، وجعلت أركانا لتغايرها باختلاف محالها. ومن جعلها ركنا واحدا
فلكونها جنسا واحدا كما عدوا السجدتين ركنا لذلك. الأول: (النية) لأنها واجبة في بعض الصلاة، وهو أولها لا في
جميعها، فكانت ركنا كالتكبير والركوع. وقيل: هي شرط لأنها عبارة عن قصد فعل الصلاة، فتكون خارج الصلاة،
ولهذا قال الغزالي: هي بالشرط أشبه. وتظهر فائدة الخلاف فيما لو افتتح النية مع مقارنة مفسد من نجاسة أو غيرها وتمت
بلا مانع. إن قلنا إنها ركن لم تصح، أو شرط صحت، وفيها كلام للرافعي ذكرته مع زيادة في شرح التنبيه. والأصل
فيها قوله تعالى: * (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) *، قال الماوردي: والاخلاص في كلامهم النية، وقوله
(ص): إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى وأجمعت الأمة على اعتبار النية في الصلاة، وبدأ
بها لأن الصلاة لا تنعقد إلا بها. (فإن صلى) أي أراد أن يصلي (فرضا) ولو نذرا أو قضاء أو كفاية، (وجب قصد فعله)
بأن يقصد فعل الصلاة لتتميز عن سائر الأفعال، وهي هنا ما عدا النية لأنها لا تنوى للزوم التسلسل في ذلك،
ولان
ما كان من الأعمال حصول صورته كاف في حصول مصلحته لم يفتقر إلى نية، والنية كذلك لأن المقصود منها شيئان:
تمييز العبادات عن العادات وتمييز رتب العبادات، وذلك حاصل بحصولها من غير توقف على شئ آخر. (و) وجب
(تعيينه) من ظهر أو غيره ليمتاز عن سائر الصلوات، قال في العباب: وفي إجزاء نية صلاة يشرع التثويب في أذانها
والقنوت فيها أبدا عن نية الصبح تردد اه‍. وينبغي الاكتفاء، وتقدم الكلام على النية في باب الوضوء. ولو عبر
بقوله قصد فعلها وتعيينها لكان أولى، واستغنى عما قدرته تبعا للشارح، فالمراد قصد فعل الفرض من حيث كونه صلاة
148

لا من حيث كونه فرضا وإلا لتضمن قصد الفرضية، فإن من قصد فعل الفرض فقد قصد الفرضية لا شك، فلا يحسن
بعد ذلك قوله: (والأصح وجوب نية الفرضية) لأنه معنى الأول، وإنما وجبت نية الفرضية مع ما ذكر الصادق
بالصلاة المعادة ليتعين بنية الفرض للصلاة الأصلية، وفي المعادة خلاف في نية الفرضية كما سيأتي إن شاء الله تعالى في
صلاة الجماعة. والثاني: لا تجب لأن ما يعينه ينصرف إليها بدون هذه النية، بخلاف المعادة فلا ينصرف إليها إلا بقصد
الإعادة. وعلى الأول تكفي نية النذر في المنذور عن نية الفرضية كما قاله في الذخائر، ولا تجب في صلاة الصبي كما صححه
في التحقيق وصوبه في المجموع، خلافا لما في الروضة وأصلها لأن صلاته تقع نفلا، فكيف ينوي الفرضية.
فائدة: العبادات المشروط فيها النية في وجوب التعرض للفرض خمسة أقسام، الأول: يشترط بلا خلاف كالزكاة،
هكذا في الدميري، وليس كذلك، لأن نية الفرضية في المال ليست بشرط لأن الزكاة لا تقع إلا فرضا، وبه فارقت ما لو
نوى صلاة الظهر. الثاني: عكسه كالحج والعمرة. الثالث: يشترط على الأصح كالصلاة. الرابع: عكسه كصوم رمضان على
ما في المجموع من عدم الاشتراط. الخامس: عبادة لا يكفي فيها ذلك بل يضر وهي التيمم، فإنه إذا نوى فرضه لم يكف.
(دون الإضافة إلى الله تعالى) فلا تجب لأن العبادة لا تكون إلا له تعالى، وقيل: تجب، ليتحقق معنى الاخلاص،
وعلى الأول تستحب لذلك. قال الدميري: وفي تصوير عدم الإضافة إلى الله تعالى إشكال، فإن فعل الفرض لا يكون
إلا لله، فلا ينفك قصد الفرضية عن نية الإضافة إلى الله تعالى اه‍. ولا تجب نية استقبال القبلة ولا عدد الركعات
في الأصح فيهما ولكن تسن خروجا من الخلاف ولو غير العدد، كأن نوى الظهر ثلاثا أو خمسا لم ينعقد، وفرضه الرافعي
في العالم، وقضيته أنه لا يضر في الغلط، ومقتضى قولهم: أن ما وجب التعرض له جملة يضر الخطأ فيه أنه يضر لأن
الظهر يشتمل على العدد جملة فيضر الخطأ فيه، وهذا هو الظاهر. (و) الأصح (أنه يصح الأداء بنية القضاء) عند
جهل الوقت بغيم أو نحوه، كأن ظن خروج الوقت فصلاها قضاء فبان بقاؤه. (وعكسه) كأن ظن بقاء الوقت فصلاها
أداء فبان خروجه لاستعمال كل بمعنى الآخر، تقول: قضيت الدين وأديته بمعنى واحد، قال تعالى: * (فإذا قضيتم
مناسككم) * أي أديتم. والثاني: لا يصح، بل يشترطان ليتميز كل منهما عن الآخر كما في الظهر والعصر. وعلى الأول يسن
لذلك، أما إذا فعل ذلك عالما فلا تصح صلاته قطعا لتلاعبه كما نقله في المجموع عن تصريحهم. نعم إن قصد بذلك
المعنى اللغوي لم يضر كما قاله في الأنوار، وقيل: يشترط التعرض لنية القضاء دون الأداء لأن الأداء يتميز بالوقت بخلاف
القضاء، وقيل: إن كان عليه فائتة مثلها اشترط التعرض لنية الأداء وإلا فلا يشترط التعرض للوقت، فلو عين اليوم
وأخطأ، قال البغوي والمتولي: صح في الأداء لأن معرفته بالوقت المتعين للفعل بالشروع فلغا خطؤه فيه، ولا تصح
في القضاء لأن وقت الفعل غير متعين له بالشروع ولم ينو قضاء ما عليه. وقضية كلام أصل الروضة في التيمم الصحة
مطلقا، وهو الظاهر. ومن عليه فوائت لا يشترط أن ينوي ظهر يوم كذا بل يكفيه نية الظهر أو العصر أو الفائتة إن
شرطنا نية القضاء. (والنفل دون الوقت أو) ذو (السبب كالفرض فيما سبق) من اشتراط قصد فعل الصلاة وتعيينها،
كصلاة الكسوف أو الاستسقاء أو عيد الفطر والأضحى أو راتبة العشاء. قال في المجموع: كسنة الظهر التي قبلها أو
التي بعدها، وتبعه السبكي. ووجهه أن تعيينها إنما يحصل بذلك لاشتراكها في الاسم والوقت وإن لم يؤخر المقدمة، كما يجب
تعيين الظهر لئلا يلتبس بالعصر، وكما يجب تعيين عيد الفطر عن الأضحى لئلا يلتبس به، فاندفع ما قيل إن محل هذا
إذا أخر المقدمة عن الفرض. وقال ابن عبد السلام: ينبغي في صلاة العيد أن لا يجب التعرض لكونه فطرا أو نحرا
لاستوائهما في جميع الصفات فيلتحق بالكفارات، بخلاف الكسوف والخسوف لاختلافهما بالجهر والاسرار. والوتر
صلاة مستقلة فلا يضاف إلى العشاء، فإن أوتر بواحدة أو بأكثر ووصل نوى الوتر، وإن فصل نوى بالواحدة الوتر،
ويتخير في غيرها بين نية صلاة الليل ومقدمة الوتر وسنته وهي أولى أو ركعتين من الوتر على الأصح. قال الأسنوي:
149

ومحل ذلك إذا نوى عددا، فإن لم ينو فهل يلغو لابهامه أو يصح؟ ويحمل على ركعة لأنه المتيقن أو ثلاث لأنها أفضل
كنية الصلاة فإنها تنعقد ركعتين مع صحة الركعة أو إحدى عشرة لأن الوتر له غاية، فحملنا الاطلاق عليها بخلاف الصلاة
فيه نظر اه‍. والظاهر كما قال شيخنا أنه يصح، ويحمل على ما يريده من ركعة إلى إحدى عشرة وترا. ويستثنى
من ذوات السبب تحية المسجد وركعتا الوضوء والاحرام والاستخارة، فيكفي فيها نية فعلها كما في الكفاية في الأولى
والاحياء في الثانية وقياسا عليها في الثالثة والرابعة كما بحثه بعضهم، وإن قال في الكفاية إن المنقول في الثالثة أنه لا يكفي.
(وفي) اشتراط (نية النفلية وجهان) كما في اشتراط نية الفرضية في الفرض، وعبر بالتعريف في المحرر والروضة وكان في
أصل المصنف كذلك لكنه كشط الألف واللام وصحح عليه لأن فيهما إيهام اشتراطها. وقد صوب في الروضة والمجموع
الجزم بخلافه، وقال هنا: (قلت: الصحيح لا تشترط نية النفلية، والله أعلم) لأن النفلية ملازمة للنفل، بخلاف الظهر
ونحوها، فإنها قد تكون فرضا وقد لا تكون بدليل المعادة وصلاة الصبي كما سبق. وفي اشتراط نية الأداء والقضاء
والإضافة إلى الله تعالى الخلاف السابق. (ويكفي في النفل المطلق) وهو الذي لا يتقيد بوقت ولا سبب، (نية فعل الصلاة)
لأن النفل أدنى درجات الصلاة، فإذا قصدها وجب حصوله. ولم يذكروا هنا خلافا في اشتراط نية النفلية، ويمكن
مجيئه كما قال الرافعي ومجئ الخلاف في الإضافة إلى الله تعالى. (والنية بالقلب) بالاجماع لأنها القصد، فلا يكفي النطق
مع غفلة القلب بالاجماع. ونبه بذلك هنا على جميع الأبواب فإنه لم يذكره إلا هنا، ولا يضر النطق بخصف
ما في القلب كأن قصد الصبح وسبق لسانه إلى الظهر. (ويندب النطق) بالمنوي (قبل التكبير) ليساعد اللسان
القلب ولأنه أبعد عن الوسواس. قال الأذرعي: ولا دليل للندب اه‍. وهو ممنوع، بل قيل بوجوب التلفظ بالنية في كل
عبادة ولو عقب النية بلفظ: إن شاء الله أو نواها وقصد بذلك التبرك أو أن الفعل واقع بالمشيئة لم يضر، أو
التعليق، أو أطلق لم يصح للمنافاة. ولو قلب المصلي صلاته التي هو فيها صلاة أخرى عالما عامدا بطلت صلاته، أو أتى
بما ينافي الفرض دون النفل كأن أحرم القادر بالفرض قاعدا أو أحرم به الشخص قبل الوقت عامدا عالما بذلك لم
تنعقد صلاته لتلاعبه. فإن كان معذورا كمن ظن دخول الوقت فأحرم بالفرض أو قلبه نفلا مطلقا ليدرك جماعة مشروعة
وهو منفرد فسلم من ركعتين ليدركها، أو ركع المسبوق قبل تمام التكبير جاهلا، انقلبت نفلا للعذر، إذ لا يلزم من
بطلان الخصوص بطلان العموم. وخرج بذلك ما لو قلبها نفلا معينا كركعتي الضحى فلا تصح لافتقاره إلى التعيين،
وما إذا لم تشرع الجماعة، كما لو كان يصلي الظهر فوجد من يصلي العصر فلا يجوز القطع كما ذكره في المجموع في بابها،
وما لو علم أنه أحرم قبل الوقت في أثناء صلاته فإنه لا يتمها لتبين بطلانها وإنما وقعت له نافلة لقيام العذر، كمن صلى
بالاجتهاد لغير القبلة ثم تبين له الحال فإن كان ذلك بعد الفراغ منها وقعت له نافلة وإن كان في أثنائها بطلت كما
مر، ولا يجوز له أن يستمر فيها.
فروع: لو قال شخص لآخر: صل فرضك ولك علي دينارا فصلى بهذه النية لم يستحق الدينار وأجزأه صلاته،
ولو نوى الصلاة ودفع الغريم صحت صلاته لأن دفعه حاصل وإن لم ينوه بخلاف ما لو نوى بصلاته فرضا ونفلا غير نحو
تحية المسجد لتشريكه بين عبادتين لا تندرج إحداهما في الأخرى، ولو قال: أصلي لثواب الله تعالى أو للهرب من
عقابه، صحت صلاته خلافا للفخر الرازي. (الثاني) من الأركان: (تكبيرة الاحرام) في القيام أو بدله، لحديث أبي داود
والترمذي بإسناد صحيح: مفتاح الصلاة الوضوء، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم وحديث المسئ صلاته: إذا
قمت إلى الصلاة فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد
حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها رواه الشيخان، وفي رواية للبخاري:
ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تستوي قائما ثم افعل ذلك في صلاتك كلها. وفي صحيح ابن حبان بدل
150

قوله حتى تعتدل قائما، حتى تطمئن قائما.
فائدة: إنما سميت هذه التكبيرة بتكبيرة الاحرام لأنه يحرم بها على المصلي ما كان حلالا له قبلها من مفسدات
الصلاة كالأكل والشرب والكلام ونحو ذلك. (ويتعين) فيها (على القادر) على النطق بها (الله أكبر) لأنه المأثور
من فعله (ص) مع رواية البخاري: صلوا كما رأيتموني أصلي. فإن قيل: الأقوال لا ترى فكيف يستدل بذلك؟ أجيب
بأن المراد بالرؤية العلم، أي كما علمتموني أصلي، فلا يجزئ: الله الكبير لفوات مدلول أفعل، وهو التفضيل، وكذا الرحمن
أو الرحيم أكبر عن الأصح ولو قال: الرحمن أجل أو الرب أعظم لم يجز قطعا لفوات اللفظين معا. (ولا تضر زيادة لا تمنع
الاسم) أي اسم التكبير، (كالله الأكبر) بزيادة اللام، لأنه لفظ يدل على التكبير وعلى زيادة مبالغة في التعظيم،
وهو الاشعار بالتخصيص، فصار كقوله: الله أكبر من كل شئ إذ معنى الله أكبر: أي من كل شئ. (وكذا) لا يضر
الله أكبر وأجل، أو (الله الجليل أكبر في الأصح) وكذا كل صفة من صفاته تعالى إذا لم يطل بها الفصل، كقوله: الله
عز وجل أكبر لبقاء النظم والمعنى، بخلاف ما لو تخلل غير صفاته تعالى كقوله: الله هو الأكبر، أو طالت صفاته تعالى
كالله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس أكبر، أو طال سكوته بين كلمتي التكبير، أو زاد حرفا فيه يغير المعنى كمدة همزة الله
وألف بعد الباء، أو زاد واوا ساكنة أو متحركة بين الكلمتين، أو زادها قبل الكلمتين كما في فتاوى القفال. ولو شدد
الباء من أكبر، ففي فتاوى ابن رزين أنها لا تنعقد، ووجهه واضح لأنه لا يمكن تشديدها إلا بتحريك الكاف لأن الباء
المدغمة ساكنة والكاف ساكنة ولا يمكن النطق بهما، وإذا حركت تغير المعنى، لأنه يصير أكبر. ونقل عنه شيخنا
أنه قال: لو شدد الراء بطلت صلاته، واعترض عليه بأن الوجه خلافه، ولعل النقل اختلف عنه. ولو لم يجزم الراء من
أكبر لم يضر خلافا لما اقتضاه كلام ابن يونس في شرح التنبيه، واستدل له الدميري بقوله (ص): التكبير
جزم اه‍. قال الحافظ ابن حجر: إن هذا لا أصل له وإنما هو قول النخعي، نبه على ذلك في تخريج أحاديث الرافعي.
وعلى تقدير وجوده فمعناه عدم التردد فيه. والثاني: تضر الزيادة فيه بالصفات المذكورة لاستقلالها بخلاف الله أكبر،
وعلى الأول الاقتصار على الله أكبر أولى اتباعا للسنة وللخروج من الخلاف. (لا أكبر الله) فإنه يضر (على الصحيح)
لأنه لا يسمى تكبيرا، بخلاف عليكم السلام آخر الصلاة كما سيأتي لأنه يسمى سلاما، والثاني: لا يضر لأن تقديم الخبر جائز.
فائدة: همزة الجلالة همزة وصل، فلو قال المصلي مأموما الله أكبر بحذف همزة الجلالة صح كما جزم به في المجموع
لكنه خلاف الأولى. والحكمة في افتتاح الصلاة بالتكبير كما ذكره القاضي عياض استحضار المصلي عظمة من تهيأ
لخدمته والوقوف بين يديه ليمتلئ هيبة فيحضر قلبه ويخشع ولا يعبث. ويجب أن يكبر قائما حيث يلزمه القيام لظاهر
الخبر السابق، وأن يسمع نفسه إذا كان صحيح السمع لا عارض عنده من لغط أو غيره. ويسن أن لا يقصره بحيث
لا يفهم، وأن لا يمططه بأن يبالغ في مده بل يأتي به مبينا، والاسراع به أولى من مده لئلا تزول النية، وبخلاف تكبير
الانتقالات لئلا يخلو باقيها عن الذكر، وأن يجهر بتكبيرة الاحرام وتكبيرات الانتقال الإمام ليسمع المأمومين فيعلموا
صلاته بخلاف غيره من مأموم ومنفرد فالسنة في حقه الاسرار. نعم إن لم يبلغ صوت الإمام جميع المأمومين. جهر بعضهم
واحد أو أكثر بحسب الحاجة ليبلغ عنه، لخبر الصحيحين: أنه (ص) صلى في مرضه بالناس وأبو بكر رضي الله عنه
يسمعهم التكبيرة. ولو كبر للاحرام تكبيرات ناويا بكل منها الافتتاح دخل في الصلاة بالأوتار وخرج منها بالاشفاع،
لأن من افتتح صلاة ثم نوى افتتاح صلاة بطلت صلاته، هذا إن لم ينو بين كل تكبيرتين خروجا أو افتتاحا وإلا فيخرج
بالنية ويدخل بالتكبير، فإن لم ينو بغير التكبيرة الأولى شيئا لم يضر، لأنه ذكر. ومحل ما ذكر مع العمد كما قاله ابن
الرفعة، أما مع السهو فلا بطلان. (ومن عجز) وهو ناطق عن النطق بالتكبير بالعربية ولم يمكنه التعلم في الوقت، (ترجم)
لأنه لا إعجاز فيه، والأصح أنه يأتي بمدلول التكبير بأي لغة شاء، وقيل: إن عرفه بالسريانية أو العبرانية تعينت لشرفها
151

بإنزال بعض كتب الله تعالى بها. وبعدهما الفارسية أولى من التركية والهندية، وانفرد أبو حنيفة بجواز الترجمة للقادر.
(ووجب التعلم إن قدر) عليه ولو بسفر إلى بلد آخر في الأصح، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وقيل: لا يلزمه
السفر كما لا يلزمه ذلك عند عدم الماء ليتوضأ. وفرق الأول بأن هذا تعلم كلمة واحدة ينتفع بها طول عمره، بخلاف الماء
وبعد التعلم لا يجب عليه فضاء ما صلاه بالترجمة قبله إلا أن يكون أخر مع التمكن منه فإنه لا بد من صلاته بالترجمة عند
ضيق الوقت لحرمته، ويجب القضاء لتفريطه بالتأخير، وهذه الأحكام جارية فيما عدا القرآن من الواجبات.
فائدة: ترجمة التكبير بالفارسية: خداي بزركتر فلا يكفي خداي بزرك لتركه التفضيل كالله كبير. ويلزم السيد
أن يعلم غلامه العربية لأجل التكبير أو يخليه ليكتسب أجرة المعلم، فلو لم يعلمه واستكسبه عصى بذلك. وأما العاجز
لخرس فيجب عليه تحريك لسانه وشفتيه ولهاته بالتكبير قدر إمكانه. قال في المجموع: وهكذا حكم تشهده وسلامه
وسائر أذكاره. قال ابن الرفعة: فإن عجز عن ذلك نواه بقلبه كما في المريض. (ويسن) للمصلي (رفع يديه في تكبيره)
للاحرام بالاجماع كما نقله ابن المنذر وغيره ولو مضطجعا مستقبلا بكفيه القبلة مميلا أطراف أصابعهما نحوها كما قاله المحاملي -
وإن استغربه البلقيني - مفرقا أصابعهما تفريقا وسطا كما في الروضة، قال: وإن في المجموع المشهور عدم التقييد به كاشفا لهما،
فالمراد باليدين هنا الكفان. ويرفعهما (حذو) بذال معجمة، أي مقابل، (منكبيه) لحديث ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما أنه (ص) كان يرفع يديه حذو منكبيه إذا افتتح الصلاة متفق عليه. قال في شرح مسلم وغيره: معنى حذو
منكبيه أن تحاذي أطراف أصابعه أعلى أذنيه وإبهاماه شحمتي أذنيه وراحتاه منكبيه. وقال الأذرعي: بل معناه كون
رؤوس أصابعه حذو منكبيه. والمنكب مجمع عظم العضد والكف. فإن لم يمكن الرفع إلا بزيادة على المشروع أو نقص
منه أتى بالممكن منهما، فإن أمكنه الاتيان بكل منهما فالزيادة أولى، لأنه أتى بالمأمور وزيادة، فإن لم يمكنه رفع إحدى
يديه رفع الأخرى. وأقطع الكفين يرفع ساعديه، وأقطع المرفقين يرفع عضديه تشبيها برفع اليدين. (والأصح) في زمن
الرفع (رفعه مع ابتدائه) أي التكبير للاتباع كما في الصحيحين، سواء انتهى التكبير مع الحط أم لا كما ذكره الرافعي
ورجحه المصنف في الروضة وشرح مسلم. وصحح في التحقيق والمجموع وشرح الوسيط أنه يسن انتهاؤهما معا، ونقله في
الأخيرين عن نص الام، قال في المهمات: فهو المفتي به. والثاني: يرفع قبل التكبير ويكبر مع ابتداء الارسال وينهيه
مع انتهائه، وقيل: يرفع غير مكبر ثم يكبر ويداه مرتفعتان فإذا فرغ أرسلهما من غير تكبير، فإن ترك الرفع حتى شرع
في التكبير أتى به في أثنائه لا بعده لزوال سببه، وردهما من الرفع إلى تحت صدره أولى من إرسالهما بالكلية ثم استئناف
رفعهما إلى تحت صدره، قال المتولي: وينبغي أن ينظر قبل الرفع والتكبير إلى موضع سجوده ويطرق رأسه قليلا.
(ويجب قرن النية بالتكبير) أي تكبيرة الاحرام لأنها أول الأركان، وذلك بأن يأتي بها عند أولها ويستمر ذاكرا
لها إلى آخرها، كما يجب حضور شهود النكاح إلى الفراغ منه. (وقيل يكفي) قرنها (بأوله) بأن يستحضر ما ينويه قبله ولا يجب
استصحابها إلى آخره، واختار المصنف في شرح المهذب والوسيط تبعا للإمام والغزالي الاكتفاء بالمقارنة العرفية عند العوام
بحيث يعد مستحضر الصلاة اقتداء بالأولين في تسامحهم بذلك، وقال ابن الرفعة: إنه الحق، وصوبه السبكي، ولي بهما
أسوة. وعلى الأول لو عزبت قبل تمام التكبير لم تصح الصلاة لأن النية معتبرة في الانعقاد والانعقاد لا يحصل إلا بتمام
التكبيرة. وظاهر كلامهم اشتراط مقارنة النية للجليل مثلا إذا قال: الله الجليل أكبر، والظاهر كما أفتى به شيخي أن
كلامهم خرج مخرج الغالب من عدم زيادة شئ بين لفظي التكبير، فلا دلالة له على اشتراط المقارنة فيما عدا لفظي التكبير
نظرا للمعنى، إذ المعتبر اقترانها باللفظ الذي يتوقف الانعقاد عليه وهو: الله أكبر فلا يشترط اقترانها بما تخلل بينهما،
ولا يجب استصحابها بعد التكبير للعسر لكنه يسن، ويعتبر عدم المنافي كما في عقد الايمان بالله تعالى، فإن نوى الخروج
من الصلاة أو تردد في أن يخرج أو يستمر بطلت بخلاف الوضوء والاعتكاف والحج والصوم، لأنها أضيق بابا من
152

الأربعة فكان تأثيرها باختلاف النية أشد. فالعبادة في قطع النية أضرب: الأول الايمان والصلاة، يبطلان بنية الخروج
وبالتردد. الثاني: الحج والعمرة، لا يبطلان بهما. الثالث: الصوم والاعتكاف، الأصح أنهما لا يبطلان. الرابع: الوضوء، لا يبطل
بنية الخروج بعد الفراغ على المذهب ولا بالتردد فيه قطعا. ولا أثر للوساوس الطارقة للفكر بلا اختيار بأن وقع في فكره
أنه لو تردد في الصلاة كيف يكون الحال فقد يقع مثله في الايمان بالله تعالى.
فروع: لو علق الخروج من الصلاة بحصول شئ بطلت في الحال ولو لم يقطع بحصوله كتعليقه بدخول شخص،
وفارق ذلك ما لو نوى في الركعة الأولى أن يفعل في الثانية فعلا مبطلا لصلاة كتكلم وأكل حيث لا تبطل في الحال بأنه
هنا ليس بجازم وهناك جازم، والمحرم عليه إنما هو فعل المنافي للصلاة ولم يأت به. ولو شك هل أتى بتمام النية أو لا أو
هل نوى ظهرا أو عصرا، فإن تذكر بعد طول زمان أو بعد إتيانه بركن ولو قوليا كالقراءة بطلت صلاته لانقطاع
نظمها وندرة مثل ذلك في الأولى، ولتقصيره بترك التوقف إلى التذكر في الثانية وإن كان جاهلا إذا كان من حقه أن
لا يأتي به ويتوقف عن الاتيان به، بخلاف من زاد في صلاته ركنا ناسيا إذ لا حيلة في النسيان، ذكره في المجموع. وبعض
الركن القولي فيما ذكر ككله، ومحله إذا طال زمن الشك أو لم يعد ما قرأه فيه. وألحق البغوي في فتاويه قراءة السور به
فيما ذكر بقراءة الفاتحة، وفيها عن الأصحاب أنه لو ظن أنه في صلاة أخرى فأتم عليه صحت صلاته اه‍. فإن تذكر قبل
طول الزمان وإتيانه بركن لم تبطل لكثرة عروض مثل ذلك. وقول ابن المقري تبعا للقمولي أنه لو قنت في سنة الفجر
ظانا أنها الصبح وطال الزمان أو أتى بركن ثم تذكر بطلت. قال شيخي: ضعيف لمخالفته لما نقله البغوي عن الأصحاب
في المسألة التي قبل هذه، ولو شك في الطهارة وهو جالس للتشهد الأول فقام إلى الثالثة ثم تذكر الطهارة بطلت صلاته
كما لو شك في النية ثم تذكر بعد إحداث فعل، بخلاف ما لو قام ليتوضأ فتذكر فإنها لا تبطل بل يعود ويبني ويسجد
للسهو. (الثالث) من أركان الصلاة: (القيام في فرض القادر) عليه ولو بمعين بأجرة فاضلة عن مؤنته ومؤنة ممونه يومه
وليلته فيجب حالة الاحرام به، وهذا معنى قول الروضة كأصلها يجب أن يكبر قائما حيث يجب القيام، لخبر البخاري
عن عمران بن حصين: كانت بي بواسير فسألت النبي (ص) عن الصلاة، فقال: صل قائما، فإن لم تستطع
فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب، زاد النسائي: فإن لم تستطع فمستلقيا، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وأجمع الأمة
على ذلك، وهو معلوم من الدين بالضرورة. وخرج بالفرض النفل وبالقادر العاجز وسيأتي حكمهما، لكنه أفهم صحة
صلاة الصبي قاعدا مع القدرة على القيام، والأصح كما في البحر خلافه، ومثل صلاة الصبي الصلاة المعتادة. واستثنى بعضهم
من كلامه مسائل: منها ما لو خاف راكب السفينة غرقا أو دوران رأس فإنه يصلي من قعود ولا إعادة عليه. ومنها ما لو
كان به سلس بول لو قام سال بوله وإن قعد لم يسل فإنه يصلي من قعود على الأصح بلا إعادة. ومنها ما لو قال طبيب ثقة
لمن بعينه ماء: إن صليت مستلقيا أمكن مداواتك، فله ترك القيام على الأصح، ولو أمكن المريض القيام منفردا بلا مشقة ولم
يمكنه ذلك في جماعة إلا أن يصلي بعضها قاعدا فالأفضل الانفراد، وتصح مع الجماعة وإن قعد في بعضها كما في زيادة الروضة.
ومنها ما لو كان للغزاة رقيب يرقب العدو ولو قام لرآه العدو، أو جلس الغزاة في مكمن ولو قاموا لرآهم العدو وفسد تدبير
الحرب، صلوا قعودا ووجبت الإعادة على المذهب لندرة ذلك، لا إن خافوا قصد العدو لهم، فلا تلزمهم الإعادة كما صححه
في التحقيق، ونقله في الروضة عن تصحيح المتولي، وقيل: تلزمهم الإعادة كما نقله الروياني عن النص. وعلى الأول
يفرق بأن العذر هنا أعظم منه ثم، وفي الحقيقة لا استثناء، لأن من ذكر عاجز إما لضرورة التداوي،
أو خوف الغرق، أو الخوف على المسلمين، أو نحو ذلك، فتناوله كلامه. فإن قيل: لم أخر القيام عن النية والتكبير مع أنه مقدم عليهما؟
أجيب بأنهما ركنان في الصلاة مطلقا وهو ركن في الفريضة فقط، فلذا قدما عليه. (وشرطه) أي القيام، (نصب فقاره) أي المصلي، وهو
بفتح الفاء عظام من الظهر أو مفاصله، لأن اسم القيام دائر معه، لا نصب رقبته لما مر أنه يستحب إطراق الرأس. (فإن وقف
153

منحنيا) إلى قدامه أو خلفه، (أو مائلا) إلى يمينه أو يساره، (بحيث لا يسمى قائما لم يصح) قيامه لتركه الواجب بلا عذر.
والانحناء السالب للاسم أن يصير إلى الركوع أقرب كما في المجموع، ومقتضاه أنه لو كان أقرب إلى القيام أو استوى
الأمران صح، وهو كذلك وإن نظر فيه الأذرعي. ولو استند إلى شئ كجدار أجزأه مع الكراهة، ولو تحامل عليه
وكان بحيث لو رفع ما استند إليه لسقط لوجود اسم القيام، وإن كان بحيث يرفع قدميه إن شاء وهو مستند لم يصح،
لأنه لا يسمى قائما بل معلقا نفسه. (فإن لم يطق انتصابا) لنحو مرض ككبر، (وصار كراكع فالصحيح أنه يقف) وجوبا
(كذلك) لأنه إلى القيام أقرب، (ويزيد انحناءه لركوعه إن قدر) على الزيادة ليتميز الركنان. والثاني: لا، بل يقعد، فإذا
وصل إلى الركوع لزمه الارتفاع، لأن حد الركوع يفارق حد القيام، فلا يتأدى هذا بذاك. (ولو أمكنه) القيام متكئا
على شئ أو القيام على ركبتيه لزمه ذلك لأنه ميسوره، أو أمكنه (القيام دون الركوع والسجود) لعلة بظهره مثلا تمنع
الانحناء (قام) وجوبا (وفعلهما بقدر إمكانه) في الانحناء لهما بالصلب، لقوله (ص) في الحديث الصحيح: إذا
أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم. فإن عجزه فبالرقبة والرأس، فإن عجز أومأ إليهما. ولو قدر على الركوع دون السجود
أتى به مرتين: مرة للركوع ومرة للسجود، وإن قدر على زيادة على الركوع لزمه أن يقتصر في الركوع على حد الكمال
ويأتي بالزيادة للسجود. ومن قدر على القيام والاضطجاع فقط قام بدل القعود، قال في الروضة عن البغوي: لأنه قعود
وزيادة، وأومأ بالركوع والسجود إمكانه وتشهد قائما. (ولو عجز عن القيام قعد) للحديث السابق وللاجماع، (كيف
شاء) لاطلاق الحديث المذكور، ولا ينقص ثوابه عن ثواب المصلي قائما لأنه معذور. قال الرافعي: ولا نعني بالعجز عدم
الامكان فقط، بل في معناه خوف الهلاك أو الغرق وزيادة المرض، أو لخوف مشقة شديدة، أو دوران الرأس في حق
راكب السفينة كما تقدم بعض ذلك. قال في زيادة الروضة: والذي اختاره الإمام في ضبط العجز أن تلحقه مشقة
تذهب خشوعه، لكنه قال في المجموع: إن المذهب خلافه اه‍. وجمع شيخي بين كلامي الروضة والمجموع بأن إذهاب
الخشوع ينشأ عن مشقة شديدة. (و) لكن (افتراشه) وسيأتي في بيانه موضع قيامه، (أفضل من تربعه) وغيره (في الأظهر)
لأنها هيئة مشروعة في الصلاة فكانت أولى من غيرها. والثاني: تربيعه أفضل، وهو نصه في البويطي. وقيل: إن تربيع
المرأة أفضل، واختاره في الحاوي لأنه أستر لها، وقيل: التورك أفضل لأنه أعون للمصلي. فإن قيل: لا يؤخذ من
العبارة تفضيل الافتراش على سائر الهيئات بل على التربيع فقط، ولم يقيده في المحرر بالتربيع. أجيب بأنه إذا فضل على
التربيع فغيره أولى، وفيه نظر إذ لا يلزم من أفضليته على التربيع أفضليته على التورك، لأن التورك قعود
عبادة، بخلاف
التربيع، وإنما فضل الافتراش على التورك لأنه قعود يعقبه حركة فأشبه التشهد الأول، فلو أطلق كالمحرر أو زاد ما قدرته
كان أولى. (ويكره الاقعاء) هنا وفي سائر قعدات الصلاة للنهي عنه كما أخرجه الحاكم وصححه. وفسر الاقعاء بتفاسير،
أحسنها ما ذكره المصنف بقوله: (بأن يجلس) المصلي (على وركيه) وهما أصل فخذيه، (ناصبا ركبتيه) بأن يلصق ألييه بموضع
صلاته، وينصب فخذيه وساقيه كهيئة المستوفز، وضم إليه أبو عبيدة أن يضع يديه على الأرض. ووجه النهي عنه
ما فيه من التشبه بالكلب والقرد كما وقع التصريح به في بعض الروايات. ومن الاقعاء نوع مستحب عند المصنف وابن
الصلاح، وهو أن يفرش رجليه ويضع ألييه على عقبيه، وجعله الرافعي أحد الأوجه في تفسير الاقعاء المكروه، وعلى
هذا فهو تفسير ثان للمكروه، وفسر البيهقي المستحب بأن يضع أطراف أصابعه بالأرض وألييه على عقبيه، وفي البويطي
نحوه، وظاهره نصب قدميه لا فرشهما. والتفسير الثالث أن يضع يديه على الأرض ويقعد على أطراف أصابعه.
154

قال في المجموع: ويكره أيضا أن يقعد مادا رجليه. (ثم ينحني) المصلي قاعدا (لركوعه بحيث تحاذي) أي تقابل (جبهته
ما قدام ركبتيه) وهذا أقل ركوعه، (والأكمل أن تحاذي موضع سجوده) لأنه يضاهي ركوع القائم في المحاذاة في الأقل
والأكمل. (فإن عجز) المصلي (عن القعود) بأن ناله من القعود تلك المشقة الحاصلة من القيام، (صلى لجنبه) مستقبلا
القبلة بوجهه ومقدم بدنه وجوبا لحديث عمرو السابق: وكالميت في اللحد. والأفضل أن يكون على (الأيمن) ويكره على
الأيسر بلا عذر كما ذكره في المجموع. (فإن عجز) عن الجنب (فمستلقيا) على ظهره وأخمصاه للقبلة، ولا بد من وضع
نحو وسادة تحت رأسه ليستقبل بوجهه القبلة إلا أن يكون في الكعبة وهي مسقوفة، فالمتجه كما قال في المهمات:
جواز الاستلقاء على ظهره وكدا على وجهه وإن لم تكن مسقفة لأنه كيفما توجه فهو متوجه لجزء منها. ويركع ويسجد
بقدر إمكانه، فإن قدر المصلي على الركوع فقط كرره للسجود، ومن قدر على زيادة على أكمل الركوع تعينت تلك
الزيادة للسجود، لأن الفرق بينهما واجب على المتمكن. ولو عجز عن السجود إلا أن يسجد بمقدم رأسه أو صدغه
وكان بذلك أقرب إلى الأرض وجب، فإن عجز عن ذلك أومأ برأسه. والسجود أخفض من الركوع، فإن عجز فببصره،
فإن عجز أجرى أفعال الصلاة بسننها على قلبه ولا إعادة عليه، ولا تسقط عنه الصلاة وعقله ثابت لوجود مناط التكليف.
فروع: لو قدر في أثناء صلاته على القيام أو القعود أو عجز عنه أتى بالمقدور له وبنى على قراءته، ويستحب
إعادتها في الأوليين لتقع حال الكمال. وإن قدر على القيام أو القعود قبل القراءة قرأ قائما أو قاعدا، ولا تجزئه قراءته
في نهوضه لقدرته عليها فيما هو أكمل منه، فلو قرأ فيه شيئا أعاده. وتجب القراءة في هوي العاجز لأنه أكمل مما بعده.
ولو قدر على القيام بعد القراءة وجب قيام بلا طمأنينة ليركع منه لقدرته عليه، وإنما لم تجب الطمأنينة لأنه غير مقصود
لنفسه، وإن قدر عليه في الركوع قبل الطمأنينة ارتفع لها إلى حد الركوع عن قيام، فإن انتصب ثم ركع بطلت صلاته
لما فيه من زيادة ركوع، أو بعد الطمأنينة فقد تم ركوعه، ولا يلزمه الانتقال إلى حد الراكعين. ولو قدر في الاعتدال
قبل الطمأنينة قام واطمأن، وكذا بعدها إن أراد قنوتا في محله، وإلا يلزمه القيام لأن الاعتدال ركن قصير فلا يطول.
وقضية المعلل جواز القيام، وقضية التعليل منعه، وهو كما قال شيخنا أوجه، فإن قنت قاعدا بطلت صلاته.
فائدة: سئل الشيخ عز الدين عن رجل يتقي الشبهات ويقتصر على مأكول يسد الرمق من نبات الأرض
ونحوه فضعف بسبب ذلك عن الجمعة والجماعة والقيام في الفرائض. فأجاب بأنه لا خير في ورع يؤدي إلى سقاط
فرائض الله تعالى. (وللقادر) على القيام (التنفل قاعدا) بالاجماع سواء الرواتب وغيرها لأن النفل يكثر، فاشتراط القيام فيه
يؤدي إلى الحرج أو الترك، ولهذا قيل: لا يصلي العيدين والكسوفين والاستسقاء من قعود مع القدرة لندرتها. (وكذا)
له النفل (مضطجعا) مع القدرة على القيام (في الأصح) لحديث البخاري: من صلى قائما فهو أفضل، ومن صلى
قاعدا فله نصف أجر القائم، ومن صلى نائما - أي مضطجعا - فله نصف أجر القاعد والأفضل أن يكون على شقه الأيمن،
فإن اضطجع على الأيسر جاز. ويلزمه أن يقعد للركوع والسجود، وقيل: يومئ بهما أيضا، والثاني: لا يصح من
اضطجاع لما فيه من انمحاق صورة الصلاة، قال في شرح مسلم: فإن استلقى مع إمكان الاضطجاع لم يصح، وقيل:
الأفضل أن يصلي مستلقيا فإن اضطجع صح، قال: والصواب الأول. ومحل نقصان أجر القاعد والمضطجع عند القدرة
وإلا لم ينقص من أجرهما شئ. (الرابع) من أركان الصلاة: (القراءة) للفاتحة كما سيأتي. (ويسن بعد التحرم) أي
عقبه ولو للنفل (دعاء الافتتاح) وهو: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا مسلما وما أنا من المشركين،
إن صلاتي ونسكي - أي عبادتي ومحياي - بفتح الياء - ومماتي - بإسكان الياء على ما عليه الأكثر فيهما، ويجوز فيهما الاسكان
155

والفتح - لله رب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، وإن كان الذي في الآية: * (وأنا أول المسلمين) *
وذلك للاتباع، رواه مسلم إلا كلمة مسلما، فابن حبان، وفي رواية: وأنا أول المسلمين. وكان (ص) يقول بما فيها، لأنه
أول مسلمي هذه الأمة. ويسرع به لمأموم ويقتصر عليه ليسمع قراءة إمامه، ويزيد المنفرد وإمام علم رضا مقتد به:
اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي
جميعا إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وأهدني لأحسن الأخلاق لا يهديني لأحسنها إلا أنت، واصرف
عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك أي لا يتقرب به إليك، وقيل: لا يفرد
بالإضافة إليك، وقيل: لا يصعد، وإنما يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح، وقيل: ليس شرا بالنسبة إليك فإنك خلقته
لحكمة بالغة، وإنما هو شر بالنسبة إلى الخلق. أنا بك وإليك تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك. وقد صح
في دعاء الافتتاح أخبار أخر لا نطيل بذكرها. وظاهر كلام الأصحاب أنه لا فرق في التعبير بقوله: حنيفا، ومن المشركين
ومن المسلمين، بين الرجل والمرأة، وهي صحيح على إرادة الاشخاص، أي: وأنا من الاشخاص المسلمين، وأنا شخص
حنيفا مسلما، فتأتي بهما المرأة كذلك على أنهما حالان من الوجه. والمراد بالوجه: ذات الانسان وجملة بدنه، ولا يصح
كونهما حالين من تاء الضمير في وجهت لأنه كان يلزم التأنيث، ويدل له ما رواه الحاكم في مستدركه أنه
(ص) قال لفاطمة رضي الله تعالى عنها: قومي فاشهدي أضحيتك، وقولي إن صلاتي ونسكي - إلى قوله -
وأنا من المسلمين،
وقال تعالى: * (وكانت من القانتين) *: أي القوم المطيعين. ولو ترك دعاء الافتتاح عمدا أو سهوا حتى شرع في التعوذ
لم يعد إليه في الأصح. ولا يسن لمن خاف فوت القراءة خلف الإمام أو فوت وقت الصلاة أو وقت الأداء بأن لم يبق من
وقتها، إلا ما يسع ركعة، بل يأتي بالقراءة لأنها فرض، فلا يشتغل عنه بالنفل ولا فيما إذا أدرك الإمام في غير القيام إلا فيما
إذا أدرك الإمام في التشهد الأخير وسلم قبل أن يجلس، أو في التشهد وقام قبل أن يجلس، أو خرج من الصلاة بحدث
أو غيره قبل أن يوافقه، ولا في صلاة جنازة. (ثم التعوذ) قبل القراءة لقوله تعالى: * (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من
الشيطان الرجيم) * والرجيم: المطرود، وقيل: المرجوم بالشهب، ويحصل بكل ما اشتمل على التعوذ من الشيطان،
وأفضله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقيل: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. ويستثنى من استحباب
التعوذ ما تقدم استثناؤه في دعاء الافتتاح إلا في صلاة الجنازة فإنه يسن التعوذ فيها. (ويسرهما) أي الافتتاح والتعوذ
ندبا في الجهرية والسرية كسائر الأذكار المستحبة بحيث يسمع نفسه لو كان سميعا. وقيل: يستحب الجهر بالتعوذ
في الجهرية تبعا للقراءة فأشبه التأمين. (ويتعوذ في كل ركعة على المذهب) لحصول الفصل بين القراءتين بالركوع وغيره، *
(والأولى آكد) * مما بعدها للاتفاق عليها، ولان افتتاح القراءة في الصلاة إنما هو فيها. والطريق الثاني قولان: أحدهما
هذا، والثاني: يتعوذ في الأولى فقط، لأن القراءة في الصلاة واحدة كما لا يعيده لو سجد للتلاوة ثم عاد للقراءة كما صرح
به الرافعي، وصرح به المصنف في مجموعه، وعلى هذا لو تركه في الأولى عمدا أو سهوا أتى به في الثانية بخلاف دعاء الافتتاح.
تنبيه: كلام المصنف يقتضي استحباب التعوذ لمن أتى بالذكر للعجز كما أنه يأتي بدعاء الافتتاح. وقال في المهمات:
أن المتجه أنه لا يستحب، وهو ظاهره، لأن التعوذ لقراءة القرآن العظيم، ولم توجد، بخلاف دعاء الافتتاح. (وتتعين الفاتحة)
أي قراءتها حفظا، أو نظرا في مصحف أو تلقينا أو نحو ذلك. (في كل ركعة) في قيامها أو بدله للمنفرد وغيره سرية
كانت الصلاة أو جهرية فرضا أو نفلا، لقوله (ص): لا صلاة لمن لا يقرأ بفاتحة الكتاب متفق عليه، وخبر: لا تجزئ
صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب رواه ابنا خزيمة وحبان في صحيحيهما، ولفعله (ص) كما في مسلم مع خبر البخاري:
صلوا كما رأيتموني أصلي. وأما قوله تعالى: * (فاقرءوا ما تيسر منه) * فوارد في قيام الليل لا في قدر القراءة، أو محمول
مع خبر: ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن على الفاتحة أو على العاجز عنها، جمعا بين الأدلة. وتتعين الفاتحة أيضا في
القيام الثاني من صلاة الكسوفين، ويتعوذ قبل قراءتها كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
156

فائدة: نقل تعين الفاتحة الشيخ أبو زيد عن نيف وعشرين صحابيا. وسميت بذلك لافتتاح القرآن بها، وبأم
الكتاب، وبأم القرآن، والأساس لأنها أوله وأصله، كما سميت مكة أم القرى، لأنها أول الأرض وأصلها ومنها دحيت. وزيد
على ذلك أنها سميت أيضا السبع المثاني لأنها سبع آيات وتثنى في الصلاة وأنزلت مرتين مرة بمكة ومرة بالمدينة، والوافية
بالفاء، لأن تبعيضها لا يجوز، والواقية بالقاف لأنها تقي من السوء، والكافية لأنها تجزئ عن غيرها، والشفاء وورد
فيه حديث، ومعناه واضح، والكنز، والحمد لذكر الحمد فيها. قال الدميري: وفي تفسير تقي الدين بن مخلد: أن إبليس
لعنه الله تعالى رن أربع رنات: رنة حين لعن، ورنة حين هبط، ورنة حين ولد (ص)، ورنة حين أنزلت
فاتحة الكتاب. (إلا ركعة مسبوق) فإنها لا تتعين على الأصح الآتي في صلاة الجماعة. وظاهر كلامه عدم لزوم المسبوق
الفاتحة وهو وجه، والأصح أنها وجبت عليه وتحملها عنه الإمام. وتظهر فائدة الخلاف فيما لو بان إمامه محدثا أو في
خامسه أن الركعة لا تحسب له، لأن الإمام ليس أهلا للتحمل، فلعل المراد أن تعيينها لا يستقر عليه لتحمل الإمام عنه،
ويتصور سقوط الفاتحة أيضا في كل موضع حصل للمأموم فيه عذر تخلف بسببه عن الإمام بأربعة أركان طويلة وزال
عذره والإمام راكع، فيحتمل عنه الفاتحة كما لو كان بطئ القراءة أو نسي أنه في الصلاة أو امتنع من السجود بسبب زحمة
أو شك بعد ركوع إمامه في قراءة الفاتحة فتخلف لها، نبه على ذلك الأسنوي معترضا به على الحصر في ركعة المسبوق.
(والبسملة) آية (منها) أي الفاتحة، لما روي: أنه (ص) عد الفاتحة سبع آيات، وعد بسم الله الرحمن الرحيم آية منها.
رواه البخاري في تاريخه. وروي الدارقطني عن أبي هريرة أنه (ص) قال: إذا قرأتم الحمد لله فاقرءوا بسم الله الرحمن
الرحيم إنها أم الكتاب والسبع المثاني بسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها. وروى ابن خزيمة بإسناد
صحيح عن أم سلمة: أن رسول الله (ص) عد بسم الله الرحمن الرحيم آية، والحمد لله رب العالمين - أي إلى آخرها - ست آيات.
فإن قيل: يشكل وجوبها في الصلاة بقول أنس: كان النبي (ص) وأبو بكر وعمر وعثمان رضي الله تعالى عنهم يفتتحون
الصلاة بالحمد لله رب العالمين كما رواه البخاري، وبقوله: صليت مع النبي (ص) وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا
منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم كما رواه مسلم. أجيب بأن معنى الأول كانوا يفتتحون بسورة الحمد، ويبينه ما صح عن أنس
كما قال الدارقطني. إنه كان يجهر بالبسملة وقال: لا آلو أن أقتدي بصلاة النبي (ص). وأما الثاني فقال
أئمتنا: إنه رواية للفظ الأولى بالمعنى الذي عبر عنه الراوي بما ذكر بحسب فهمه، ولو بلغ الخبر بلفظه كما في البخاري
لأصاب، إذ اللفظ الأول هو الذي اتفق عليه الحفاظ. وآية من كل سورة إلا براءة لاجماع الصحابة على إثباتها في
المصحف بخطه أوائل السور سوى براءة دون الأعشار وتراجم السور والتعوذ، فلو لم تكن قرآنا لما أجازوا ذلك لأنه
يحمل على اعتقاد ما ليس بقرآن قرآنا، ولو كانت للفصل كما قيل لأثبتت في أول براءة، ولم تثبت في أول الفاتحة. فإن قيل:
القرآن إنما يثبت بالتواتر. أجيب بأن محله فيما يثبت قرآنا قطعا، أما ما يثبت قرآنا حكما فيكفي فيه الظن كما يكفي في كل ظني. وأيضا إثباتها في
المصحف بخطه من غير نكير في معنى التواتر، وأيضا قد ثبت التواتر عند قوم دون آخرين. فإن قيل: لو كانت قرآنا
لكفر جاحدها. أجيب بأنها لو لم تكن قرآنا لكفر مثبتها، وأيضا التكفير لا يكون بالظنيات. وهي آية كاملة من أول
الفاتحة قطعا، وكذا فيما عدا براءة من باقي السور على الأصح، وفي قول إنها بعض آية. والسنة أن يصلها بالحمد لله
وأن يجهر بها حيث يشرع الجهر بالقراءة.
فائدة: ما أثبت في المصحف الآن من أسماء السور والأعشار شئ ابتدعه الحجاج في زمنه. (وتشديداتها) منها
لأنها هيئات لحروفها المشددة ووجوبها شامل لهيئاتها، فالحكم على التشديد بكونه من الفاتحة فيه تجوز، ولذا عبر في المحرر
بقوله: ويجب رعاية تشديداتها، فلو عبر بها لكان أولى. وهي أربع عشر شدة، منها ثلاث في البسملة، فلو خفف منها تشديدة
بطلت قراءة تلك الكلمة لتغييره النظم، بل قال في الحاوي والبحر: لو ترك الشدة من قوله إياك متعمدا وعرف معناه
أنه يكفر، لأن الإيا ضوء الشمس فكأنه قال: نعبد ضوء الشمس، وإن كان ناسيا أو جاهلا سجد للسهو. ولو شدد
157

المخفف أساء وأجزأه كما قاله الماوردي والروياني. (ولو أبدل ضادا) منها، أي أتى بدلها، (بظاء لم تصح) قراءته لتلك
الكلمة (في الأصح) لتغييره النظم واختلاف المعنى، فإن الضاد من الضلال والظاء من قولهم: ظل يفعل كذا ظلولا
إذا فعله نهارا، وقياسا على باقي الحروف، والثاني: تصح لعسر التمييز بين الحرفين على كثير من الناس. والخلاف مخصوص
بقادر لم يتعمد أو عاجز أمكنه التعلم فلم يتعلم، أما العاجز عن التعلم فتجزئه قطعا وهو أمي، والقادر المتعمد لا تجزئه قطعا.
ولو أبدل الضاد بغير الظاء لم تصح قراءته قطعا. ولو أبدل ذال الذين المعجمة بالمهملة لم تصح كما اقتضى إطلاق الرافعي
وغيره الجزم به خلافا للزركشي ومن تبعه. ولو نطق بالقاف مترددة بينها وبين الكاف كما ينطق بها العرب صح مع
الكراهة كما جزم به الروياني وغيره، وإن قال في المجموع فيه نظر. فإن قيل: كان الصواب أن يقول: ولو أبدل ظاء
بضاد، إذ الباء مع الابدال تدخل على المتروك لا على المأتي به كما قال تعالى: * (ومن يتبدل الكفر بالايمان) * وقال
تعالى: * (وبدلناهم بجنتيهم جنتين) *. أجيب بأن الباء في التبديل والابدال إذا اقتصر فيهما على المتقابلين ودخلت على
أحدهما إنما تدخل على المأخوذ لا على المتروك، فقد نقل الأزهري عن ثعلب: بدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وسويته
حلقة، وبدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلها خاتما، وأبدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذه مكانه. قال
السبكي بعد نقله بعض ذلك عن الواحدي عن ثعلب عن الفراء: ورأيت في شعر الطفيل بن عمرو الدوسي لما أسلم
في زمن النبي (ص):
فألهمني هداي الله عنه وبدل طالعي نحسي بسعدي
ومنشأ الاعتراض توهم أن الابدال المساوي للتبديل كالاستبدال والتبدل، فإن ذينك تدخل الباء فيهما على المتروك
.
قال شيخنا: وبذلك علم فساد ما اعترض به على الفقهاء من أن ذلك لا يجوز، بل يلزم دخولها على المتروك. (ويجب
ترتيبها) بأن يأتي بها على نظمها المعروف لأنه مناط البلاغة والاعجاز، فلو بدأ بنصفها الثاني مثلا ثم أتى بالنصف الأول
لم يعتد بالنصف الثاني ويبني على الأول إن سها بتأخيره ولم يطل الفصل، ويستأنف إن تعمد ولم يغير المعنى أو طال الفصل
بين فراغه من النصف الأول وتذكره، فإن تركه عامدا ولم يغير المعنى استأنف القراءة وإن غيره بطلت صلاته. فإن
قيل: لم وجب الاستئناف هنا ولم يجب في الوضوء والاذان والطواف والسعي؟ أجيب بأن الترتيب هنا لما كان مناط
الاعجاز كما مر كان الاعتناء به أكثر فجعل قصد التكميل بالمرتب صارفا عن صحة البناء بخلاف تلك الصور، ومن صرح
بأنه يبني في ذلك مراده ما إذا لم يقصد التكميل بالمرتب، وإن تركه ساهيا ولم يطل غير المرتب بنى، وإن طال استأنف.
(و) يجب (موالاتها) بأن يصل الكلمات بعضها ببعض ولا يفصل إلا بقدر التنفس للاتباع مع خبر: صلوا كما رأيتموني
أصلي. فلو أخل بها سهوا لم يضر، كترك الموالاة في الصلاة بأن طول ركنا قصيرا ناسيا، بخلاف ما لو ترك الفاتحة سهوا فإنه
يضر، لأن الموالاة صفة والقراءة أصل. فإن قيل: نسيان الترتيب يضر مع أن كلا منهما واجب؟ أجيب بأن أمر الموالاة
أسهل من الترتيب بدليل تطويل الركن القصير ناسيا كما مر، بخلاف الترتيب إذ لا يعتد بالمقدم من سجود على ركوع مثلا،
ولو شك هل قرأها أو لا، لزمه قراءتها، لأن الأصل عدم قراءتها، أو شك هل ترك منها شيئا بعد تمامها لم يؤثر، فإن شك
في ذلك قبل تمامها استأنفها. (فإن تخلل ذكر) أجنبي لا يتعلق بالصلاة، (قطع الموالاة) وإن قل كالتحميد عند العطاس
وإجابة المؤذن والتسبيح للداخل، لأن الاشتغال به يوهم الاعراض عن القراءة فليستأنفها. هذا إن تعمد، فإن كان
سهوا فالصحيح المنصوص أنه لا يقطع كما علم مما مر بل يبني، وقيل: إن طال الذكر قطع الموالاة وإلا فلا.
فائدة: الذكر باللسان ضد الانصات، وذاله مكسورة، وبالقلب ضد النسيان وذاله مضمومة، قال الكسائي. وقال
غيره: هما لغتان بمعنى. (فإن تعلق بالصلاة كتأمينه لقراءة إمامه وفتحه عليه) إذا توقف فيها، والفتح: هو تلقين الآية
عند التوقف فيها، ومحله كما في التتمة إذا سكت فلا يفتح عليه ما دام يردد التلاوة وسجوده لتلاوته وسؤال رحمة واستعاذة
158

من عذاب لقراءة آيتهما. (فلا) يقطع الموالاة (في الأصح) لندب ذلك للمأموم في الأصح، والثاني: يقطعها لأنه ليس
مندوب كالحمد عند العطاس وغيره، ورد بأن ذلك ليس من مصلحة الصلاة والاحتياط استئنافها للخروج من الخلاف.
ومحل الخلاف في العامد، فإن كان ساهيا لم يقطع ما ذكر جزما. (ويقطع) الموالاة (السكوت) العمد (الطويل) لاشعاره
بالاعراض مختارا كان أو لعائق لاخلاله بالموالاة المعتبرة. أما الناسي فلا على الصحيح وإن أفهم كلام المصنف خلافه.
(وكذا) يقطع (يسير قصد به قطع القراءة في الأصح) لتأثير الفعل مع النية كنقل الوديعة بنية الخيانة فإنه يضمن وإن
لم يضمن بأحدهما منفردا. والثاني: لا يقطع لأن قصد القطع وحده لا يؤثر والسكوت اليسير وحده لا يؤثر أيضا فكذا
إذا اجتمعا. وجوابه كما قال الشارح المنع، فإن لم يقصد القطع ولم يطل السكوت لم يضر كثقل الوديعة بلا نية تعد، وكذا
إن نوى قطع القراءة ولم يسكت. فإن قيل: لم بطلت الصلاة بنية قطعها فقط؟ أجيب بأن نية الصلاة ركن تجب إدامتها
حكما والقراءة لا تفتقر إلى نية خاصة فلم يؤثر فيها نية قطعها، ويؤخذ من ذلك أن نية القطع لا تؤثر في الركوع وغيره من
الأركان وهو كذلك. واليسير: ما جرت به العادة كتنفس واستراحة، والطويل: ما زاد على سكتة الاستراحة كما قاله ابن
المقري أخذا من كلام المجموع، وعدل إليه عن ضبط أصله له بما أشعر بقطع القراءة أو إعراضه عنها مختارا أو لعائق، وهذا
أولى لأنه يفيد أن السكوت للاعياء لا يؤثر وإن طال لأنه معذور، ونقله في المجموع عن نص الام. ويستثنى من كل من
الضابطين ما لو نسي آية فسكت طويلا لتذكرها فإنه لا يؤثر كما قاله القاضي وغيره، ولو قرأ نصف الفاتحة مثلا وشك هل
أتى بالبسملة ثم ذكر بعد الفراغ أنه أتى بها أعاد ما قرأه بعد الشك فقط كما قاله البغوي واعتمده شيخي، خلافا لابن سريج
القائل بوجوب الاستئناف. ولو كرر آية من الفاتحة الأولى أو الأخيرة أو شك في غيرهما فكرره لم يضر، وكذا إن لم يشك
على المذهب كما قاله الإمام واعتمده في التحقيق، وقال المتولي: إن كرر الآية التي هو فيها لم يضر، وإن
أعاد بعض الآيات
التي فرغ منها بأن وصل إلى أنعمت عليهم، ثم قرأ مالك يوم الدين، فإن استمر على القرارة أجزأته، وإن اقتصر عمدا
على مالك يوم الدين ثم عاد فقرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالين لزمه استئناف القرارة لأن هذا غير معهود في التلاوة
اه‍. واعتمد ما قاله المتولي في الأنوار، والأول أوجه. ويسن أن يصل أنعمت عليهم بما بعده، إذ ليس وقفا ولا منتهى
آية. (فإن جهل الفاتحة) بكمالها بأن لم يمكنه معرفتها لعدم معلم أو مصحف أو نحو ذلك، (فسبع آيات) إن أحسنها عدد
آياتها بالبسملة، واستحب الشافعي قراءة ثمان آيات لتكون الثامنة بدلا عن السورة، نقله الماوردي. وفي اشتراط كون
البدل مشتملا على ثناء ودعاء كما في الفاتحة وجهان في شرح التنبيه للطبري، أوجههما عدم الاشتراط، فلا يجزئ دون عدد
آياتها وإن طال لرعايته فيها، ولا دون حروفها كالآي بخلاف صوم يوم قصير عن طويل لعسر رعاية الساعات، ولا الترجمة
لقوله تعالى: * (إنا أنزلناه قرآنا عربيا) * بدل على أن العجمي ليس بقرآن، بخلاف ما إذا عجز عن التكبير أو الخطبة أو
الاتيان بالشهادتين بالعربية، فإنه يترجم عنها، لأن نظم القرآن معجز. (متوالية) لأنه أشبه الفاتحة. (فإن عجز) عن
المتوالية (فمتفرقة) لأنه المقدور. (قلت: الأصح المنصوص جواز المتفرقة) من سورة أو سور، (مع حفظه متوالية والله
أعلم) كما في قضاء رمضان، قال في الروضة: وقطع به جماعة منهم القاضي أبو الطيب و البندنيجي وصاحب البيان، واعترضه
في المهمات بأن من نقل عنه جواز كونها من سورة أو سور لم يصرح بالجواز مع حفظ المتوالية بل أطلق فيمكن حمل
إطلاقه على ما قيده غيره اه‍. وظاهر إطلاقه أنه لا فرق بين أن تفيد المتفرقة معنى منظوما أم لا فثم نظر. قال في المجموع
والتنقيح: وهو المختار كما أطلقه الجمهور لاطلاق الاخبار اه‍. واختار الإمام الأول وأقره في الروضة وأصلها. قال بعضهم:
والثاني هو القياس لأنه كما يحرم قراءتها على الجنب فكذلك يعتد بقراءتها ههنا، ويلزم الإمام أنه لو كان يحفظ أوائل السور
159

خاصة كالم والر وطسم أنه لا يجب عليه قراءتها عند من يجعلها أوائل للسور، وهو بعيد لأنا متعبدون بقراءتها وهي
قرآن متواتر اه‍. وقال الأذرعي: المختار ما ذكره الإمام، وإطلاقهم محمول على الغالب ثم ما اختاره الشيخ، أي المصنف،
إنما ينقدح إذا لم يحسن غير ذلك. أما مع حفظه متوالية أو متفرقة منتظمة المعنى فلا وجه له وإن شمله إطلاقهم اه‍. هذا
يشبه أن يكون جمعا بين الكلامين، وهو جمع حسن. ومن يحسن بعض الفاتحة يأتي به ويبدل الباقي إن أحسنه وإلا
كرره في الأصح، وكذا من يحسن بعض بدلها من القرآن ويجب الترتيب بين الأصل والبدل، فإن كان يحسن الآية
في أول الفاتحة أتى بها ثم يأتي البدل، وإن كان آخر الفاتحة أتى بالبدل ثم بالآية، وإن كان في وسطها أتى ببدل الأول ثم
قرأ ما في الوسط ثم أتى ببدل الآخر. فإن قيل: كان الأولى للمصنف أن يعبر بالمرتبة لأن الموالاة تذكر في مقابلة التفرق
والمرتب يذكر في مقابلة القلب بالتقديم والتأخير، فتفريق القراءة يخل بموالاتها ولا يخل بترتيبها، وقد يأتي بالقراءة متوالية
لكن لا مع ترتيبها. أجيب بأن المراد بالمتوالية التوالي على ترتيب المصحف فيستفاد الترتيب مع التوالي جميعا، بخلاف
ما لو عبر بالمرتبة فإنه لا يستفاد منها التوالي. (فإن عجز) عن القرآن (أتى بذكر) غيره، لما روى أبو داود وغيره أن رجلا
قال: يا رسول الله إني لا أستطيع أن آخذ من القرآن شيئا فعلمني ما يجزيني عنه فقال: قل سبحان
الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قيل: يتعين هذا الذكر ويضيف إليه كلمتين، أي نوعين آخرين من الذكر
نحو: ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لتصير السبعة أنواع مقام سبع آيات، وجرى على ذلك في التنبيه. وقيل: تكفي
هذه الخمسة أنواع لذكرها في الحديث وسكوته عليها. ورد بأن سكوته لا ينفي الزيادة عليها. والأصح أنه لا يتعين شئ
من الذكر لأن القرآن بدل عن الفاتحة والذكر بدل عن القرآن وغير الفاتحة من القرآن لا يتعين فكذلك هو، بل يجب أن
يأتي بسبعة أنواع من أي ذكر كان وإما المذكور أو غيره ليقوم كل نوع مقام آية. وأمره (ص) للاعرابي
بالذكر المخصوص يحتمل أنه كان يحفظه ولا يحفظ ما سواه، قال الإمام والأشبه إجزاء دعاء يتعلق بالآخرة دون الدنيا، ورجحه
في المجموع والتحقيق. قال الإمام: فإن لم يعرف غير ما يتعلق بالدنيا أتى به وأجزأه. وهذا هو المعتمد، وإن نازع
في ذلك بعض المتأخرين كالإمام السبكي. (ولا يجوز نقص حروف البدل) من قرآن أو غيره (عن) حروف
(الفاتحة
في الأصح) كما لا يجوز النقص عن آياتها، وحروفها مائة وستة وخمسون حرفا بالبسملة، وبقراءة مالك بالألف. قال في
الكفاية: ويعد الحرف المتشدد من الفاتحة بحرفين من الذكر ولا يراعي في الذكر التشديد، والمراد أن المجموع لا ينقص
عن المجموع لا أن كل آية أو نوع من الذكر، والدعاء من البدل قدر آية من الفاتحة. والثاني: يجوز سبع آيات أو سبعة
أذكار أقل من حروف الفاتحة كما يجوز صوم يوم قصير قضاء عن صوم يوم طويل، ودفع بأن الصوم يختلف زمانه طولا
وقصرا فلم يعتبر في قضائه مساواة، بخلاف الفاتحة لا تختلف، فاعتبر في بدلها المساواة. قال ابن الأستاذ: قطعوا باعتبار
سبع آيات، واختلفوا في عدد الحروف، والحروف هي المقصود لأن الثواب عليها اه‍. ولا يشترط (فإن في الذكر والدعاء أن يقصد
بهما البدلية، بل الشرط أن لا يقصد بهما غيرها لم يحسن شيئا) بأن عجز عن ذلك كله حتى عن ترجمة الذكر
والدعاء، (ووقف) وجوبا (قدر الفاتحة) في ظنه لأنه واجب في نفسه. قال ابن النقيب: وهل يندب أن يزيد في
القيام قدر سورة؟ لم أر من ذكره، وفيه نظر اه‍. وينبغي أن يزيد ذلك. ولما كان للفاتحة سنتان سابقتان وهما دعاء
الافتتاح والتعوذ، وسنتان لاحقتان وهما التأمين وقراءة السورة، وقد فرغ من ذكر الأوليين شرع في ذكر الأخيرتين،
فقال: (ويسن عقب الفاتحة) بعد سكتة لطيفة (آمين) سواء أكان في الصلاة أم لا، ولكن في الصلاة أشد استحبابا لما
روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن وائل بن حجر قال: صليت خلف رسول الله (ص)، فلما قال:
* (ولا الضالين) * قال: آمين، ومد بها صوته، وروى البخاري عن أبي هريرة: إذا قال الإمام * (ولا الضالين) * فقالوا:
آمين، فإن من وافق قوله قول الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. وليس المراد بالعقب هنا أن يصل التأمين
160

بها كما يعلم مما قدرته، وإنما فصل بينهما بذلك ليتميز عن القراءة. ولا يفوت التأمين إلا بالشروع في غيره على الأصح كما
في المجموع، وقيل في الركوع، واختص بالفاتحة لأن نصفها دعاء فاستحب أن يسأل الله تعالى إجابته. ولا يسن عقب
بدل الفاتحة من قراءة ولا ذكر كما هو مقتضى كلامهم، وقال الغزي: ينبغي أن يقال إن تضمن ذلك دعاء استحب، وما
بحثه صرح به الروياني.
فائدة: روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها مرفوعا: حسدنا اليهود على القبلة التي هدينا إليها وضلوا عنها، وعلى
الجمعة، وعلى قولنا خلف الإمام آمين. ويجوز في عقب ضم العين وإسكان القاف، وأما قول كثير من الناس عقيب بياء
بعد القاف، فهي لغة قليلة. وآمين: اسم فعل بمعنى استجب، وهي مبنية على الفتح مثل كيف وأين. (خفيفة الميم بالمد)
هذه هي اللغة المشهورة الفصيحة. قال الشاعر:
آمين آمين لا أرضى بواحدة حتى أبلغها ألفين أمينا
(ويجوز القصر) لأنه لا يخل بالمعنى. وحكى الواحدي مع المد لغة ثالثة، وهي الإمالة، وحكي التشديد مع القصر والمد:
أي قاصدين إليك وأنت أكرم أن لا تخيب من قصدك. وهو لحن، بل قيل إنه شاذ منكر، ولا تبطل به الصلاة لقصده
الدعاء به كما صححه في المجموع. قال في الام: ولو قال آمين رب العالمين وغير ذلك من الذكر كان حسنا. (ويؤمن مع
تأمين إمامه) لا قبله ولا بعده لخبر: إذا أمن الإمام فأمنوا، فإن من وافق تأمينه الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه
وخبر: إذا قال أحدكم آمين وقالت الملائكة في السماء آمين فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه رواهما
الشيخان. وليس لنا ما تستحب فيه مقارنة الإمام سوى هذه، لأن التأمين للقراءة لا للتأمين وقد فرغ منها، وبذلك علم أن
المراد بقوله: إذا أمن الإمام إذا أراد التأمين، ومعنى موافقة الملائكة أن يوافقهم في الزمن، وقيل في الصفات من
الاخلاص وغيره. والمراد بالملائكة هنا الحفظة، وقيل غيرهم، لخبر: فوافق قوله قول أهل السماء. وأجاب الأول بأنه
إذا قالها الحفظة قالها من فوقهم حتى ينتهي إلى أهل السماء. قال شيخنا: ولو قيل بأنهم الحفظة وسائر الملائكة لكان
أقرب. فإن لم تتفق موافقته أمن عقبه، فإن لم يؤمن الإمام أو لم يسمعه أو لم يدر هل أمن أو لا، أمن هو. ولو أخر
الإمام التأمين عن وقته المندوب أمن المأموم. قال في المجموع: ولو قرأ معه وفرغا معا كفى تأمين واحد، أو فرغ قبله
قال البغوي: ينتظره، والمختار أو الصواب أنه يؤمن لنفسه ثم للمتابعة. (ويجهر به) المأموم في الجهرية (في الأظهر) تبعا
لإمامه للاتباع، رواه ابن حبان وغيره، وصححوه مع خبر: صلوا كما رأيتموني أصلي. والثاني: يسر كسائر
أذكاره، وقيل:
إن كثر الجمع جهر وإلا فلا. أما الإمام والمنفرد فيجهران قطعا، وقيل فيهما وجه شاذ. وأما السرية فيسرون فيها
جميعهم كالقراءة. قال في المجموع: ومحل الخلاف إذا أمن الإمام فإن لم يؤمن استحب للمأموم التأمين جهرا قطعا
ليسمعه الإمام فيأتي به اه‍. وجهر الأنثى والخنثى بالتأمين كجهرهما بالقراءة، وسيأتي.
فائدة: يجهر المأموم خلف الإمام في خمسة مواضع: أربعة مواضع تأمين، يؤمن مع تأمين الإمام، وفي دعائه في
قنوت الصبح، وفي قنوت الوتر في النصف الثاني من رمضان، وفي قنوت النازلة في الصلوات الخمس، وإذا فتح عليه.
(وتسن) للإمام والمنفرد (سورة) يقرؤها في الصلاة (بعد الفاتحة) ولو كانت الصلاة سرية، (إلا في الثالثة) من المغرب
وغيرها، (والرابعة) من الرباعية (في الأظهر) للاتباع في الشقين، رواه الشيخان. ومقابل الأظهر دليله الاتباع في حديث
مسلم، والاتباعان في الظهر والعصر، ويقاس عليهما غيرهما، والسورة على الثاني أقصر كما اشتمل عليه الحديث،
وسيأتي آخر الباب سن تطويل قراءة الأولى على الثانية في الأصح، وكذا الثالثة على الرابعة على الثاني. قال الشارح:
ثم في ترجيحهم الأول تقديم لدليله النافي على دليل الثاني المثبت عكس الراجح في الأصول لما قام عندهم في ذلك اه‍.
ويظهر أنهم إنما قدموه لتقويته بحديث الصحيحين عن أبي قتادة رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله (ص)
161

يقرأ في الظهر بالاوليين بأم الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخيرتين بأم الكتاب، ويسمعنا الآية أحيانا ويطول
في الركعة الأولى ما لا يطول في الثانية وكذا في العصر وهكذا في الصبح اه‍. وإنما لم تجب السورة لحديث: أم القرآن عوض
من غيرها، وليس غيرها عوض منها رواه الحاكم، وقال: إنه على شرطهما. وخرج بقوله: بعد الفاتحة ما لو قرأها قبلها
أو كرر الفاتحة، فإنه لا يجزئه لأنه خلاف ما ورد في السنة، ولان الشئ الواحد لا يؤدى به فرض ونفل في محل واحد.
نعم لو لم يحسن غير الفاتحة وأعادها يتجه كما قال الأذرعي الاجزاء، ويحمل كلامهم على الغالب. ويحصل أصل السنة بقراءة
شئ من القرآن ولو آية، والأولى ثلاث آيات لتكون قدر أقصر سورة، والسورة الكاملة أفضل من قدرها من طويلة لأن
الابتداء بها والوقف على آخرها صحيحان بالقطع بخلافهما في بعض السورة فإنهما يخفيان. ومحله في غير
التراويح، أما فيها
فقراءة بعض الطويلة أفضل كما أفتى به ابن عبد السلام وغيره. وعللوه بأن السنة فيها القيام بجميع القرآن، وعليه فلا يختص
ذلك بالتراويح، بل كل محل ورد فيه الامر بالبعض فالاقتصار عليه أفضل كقراءة آيتي البقرة وآل عمران في ركعتي
الفجر. (قلت: فإن سبق بهما) أي بالثالثة والرابعة من صلاة نفسه لأن ما يدركه المسبوق هو أول صلاته، (قرأها فيهما)
حين تداركهما (على النص، والله أعلم) لئلا تخلو صلاته من سورتين. وقيل: لا، كما لا يجهر فيهما على المشهور. وفرق
الأول بأن السنة في آخر الصلاة الاسرار بخلاف القراءة فإنه لا يقال إنه لا يسن تركها، بل لا يسن فعلها، وأيضا القراءة سنة
مستقلة، والجهر صفة للقراءة فكانت أحق. وإنما قدرت الثالثة والرابعة لا الأولتين وإن كان صحيحا أيضا لاتحاد الضميرين.
ثم محل ما تقرر على الأول كما أفهمه التعليل إذا لم يقرأ السورة في أولييه، فإن قرأها فيهما لسرعة قراءته وبطء قراءة إمامه
أو لكون الإمام قرأها فيهما لم يسن له قراءتها في الأخيرتين، ولو سقطت قراءتها عنه لكونه مسبوقا أو بطئ القراءة فلا
يقرؤها في الأخيرتين، ويستثنى من ذلك فاقد الطهورين إذا كان عليه حدث أكبر فلا يجوز له قراءة السورة كما تقدم في
التيمم. (ولا سورة للمأموم) في جهرية (بل يستمع) لقراءة إمامه، لقوله تعالى: * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له) * الآية، وقوله
(ص): إذا كنتم خلفي فلا تقرأوا إلا بأم القرآن حسن صحيح. والاستماع مستحب، وقيل واجب، وجزم به
الفارقي في فوائد المهذب. (فإن) لم يسمع قراءته كأن (بعد) المأموم عنه أو كان به صمم أو سمع صوتا لا يفهمه كما قاله
المصنف في أذكاره، (أو كانت) الصلاة (سرية) ولم يجهر الإمام فيها أو جهرية وأسر فيها، (قرأ) المأموم السورة (في الأصح)
إذ لا معنى لسكوته. أما إذا جهر الإمام في السرية فإن المأموم يستمع لقراءته كما صرح به في المجموع اعتبارا بفعل الإمام،
وصحح الرافعي في الشرح الصغير اعتبار المشروع في الفاتحة، فعلى هذا يقرأ المأموم في السرية مطلقا ولا يقرأ في الجهرية
مطلقا، ومقابل الأصح لا يقرأ مطلقا لاطلاق النهي.
فروع: يستحب للإمام والمنفرد الجهر في الصبح والأوليين من المغرب والعشاء، وللإمام في الجمعة للاتباع
والاجماع في الإمام وللقياس عليه في المنفرد، ويسر كل منهما فيما عدا ذلك، هذا في المؤداة، وأما المقضية
فيجهر فيها من
مغيب الشمس إلى طلوعها، ويسر من طلوعها إلى غروبها، ويستثنى كما قال الأسنوي صلاة العيد فإنه يجهر في قضائها
كما يجهر في أدائها. هذا كله في حق الذكر، أما الأنثى والخنثى فيجهران حيث لا يسمع أجنبي، ويكون جهرهما دون
جهر الذكر، فإن كان يسمعهما أجنبي أسرا، فإن جهرا لم تبطل صلاتهما. ووقع في المجموع والتحقيق أن الخنثى يسر بحضرة
الرجال والنساء. قال في المهمات: وهو مردود، أي لأنه بحضرة النساء إما ذكر أو أنثى، وفي الحالين يسن له الجهر.
ويمكن حمل كلامهما على أنه يسر إذا اجتمع الرجال والنساء، وهو صحيح. وأما النوافل غير المطلقة فيجهر في صلاة
العيدين وخسوف القمر والاستسقاء والتراويح والوتر في رمضان وركعتي الطواف إذا صلاهما ليلا، وسيأتي الكلام عليها
في أبوابها إن شاء الله تعالى، ويسر فيما عدا ذلك. وأما النوافل المطلقة فيسر فيها نهارا ويتوسط فيها ليلا بين الاسرار
والجهر إن لم يشوش على نائم أو مصل أو نحوه، وإلا فالسنة الاسرار، فقد نقل في المجموع عن العلماء: أن محل فضيلة
162

رفع الصوت بقراءة القرآن إذا لم يخف رياء ولم يتأذ به أحد، وإلا فالاسرار أفضل. وهذا جمع بين الاخبار المقتضية لأفضلية
الاسرار والاخبار المقتضية لأفضلية الرفع اه‍. ويقاس على ذلك من يجهر بالذكر أو القراءة بحضرة من يطالع أو يدرس
أو يصنف كما أفتى به شيخي قال: ولا يخفى أن الحكم على كل من الاسرار والجهر بكونه سنة من حيث ذاته. واختلفوا
في التوسط فقال بعضهم: يعرف بالمقايسة بين الجهر والاسرار كما أشار إليه بقوله تعالى: * (ولا تجهر بصلاتك) * الآية. وقال
بعض آخر: يجهر تارة ويسر أخرى كما ورد في فعله (ص) في صلاة الليل، والأول أولى. ويندب للإمام أن
يسكت بعد تأمينه في الجهرية قدر قراءة المأموم الفاتحة، ويشتغل حينئذ بذكر أو دعاء أو قراءة سرا، وجزم به في المجموع،
والقراءة أولى.
فائدة: السكتات المندوبة في الصلاة أربعة: سكتة بعد تكبيرة الاحرام يفتتح فيها،
وسكتة بين ولا الضالين وآمين، وسكتة للإمام بين التأمين في الجهرية وبين قراءة السورة بقدر قراءة المأموم الفاتحة، وسكتة قبل تكبيرة الركوع. قال في
المجموع: وتسمية كل من الأولى والثانية سكتة مجاز، فإنه لا يسكت حقيقة لما تقرر فيها. وعدها الزركشي خمسة: الثلاثة
الأخيرة، وسكتة بين تكبيرة الاحرام والافتتاح والقراءة، وعليه لا مجاز إلا في سكتة الإمام بعد التأمين
والمشهور الأول. (ويسن للصبح والظهر طوال المفصل) بكسر الطاء جمع، والمفرد طويل وطوال بضم الطاء وتخفيف
الواو، فإذا أفرط في الطول شددتها. (وللعصر والعشاء أوساطه) وسنية هذا في الإمام مقيدة كما في المجموع وغيره برضا
مأمومين محصورين. (وللمغرب قصاره) لخبر النسائي في ذلك. وظاهر كلام المصنف التسوية بين الصبح والظهر، ولكن
المستحب أن يقرأ في الظهر قريب من الطوال كما في الروضة كأصلها. والحكمة في ذلك أن وقت الصبح طويل، والصلاة
ركعتان فحسن تطويلهما، ووقت المغرب ضيق فحسن فيه القصار، وأوقات الظهر والعصر والعشاء طويلة لكن الصلوات
أيضا طويلة، فلما تعارض ذلك رتب عليه التوسط في غير الظهر وفيها قريب من الطوال. واستثنى الشيخ أبو محمد في
مختصره والغزالي في الخلاصة والاحياء صلاة الصبح في السفر، فالسنة فيها أن يقرأ في الأولى: * (قل يا أيها الكافرون) *، وفي
الثانية الاخلاص. والمفصل المبين المميز، قال تعالى: * (كتاب فصلت آياته) * أي جعلت تفاصيل في معان مختلفة من وعد
ووعيد وحلال وحرام وغير ذلك، وسمي بذلك لكثرة الفصول فيه بين السور، وقيل لقلة المنسوخ فيه. وآخره * (قل أعوذ
برب الناس) *، وفي أوله عشرة أقوال للسلف، قيل: الصافات، وقيل: الجاثية، وقيل: القتال، وقيل: الفتح، وقيل: الحجرات،
وقيل: قاف، وقيل: الصف، وقيل: تبارك، وقيل: سبح، وقيل: الضحى. ورجح المصنف في الدقائق والتحرير أنه
الحجرات. وعلى هذا طواله كالحجرات واقتربت والرحمن، وأوساطه كالشمس وضحاها، والليل إذا يغشى،
وقصاره كالعصر وقل هو الله أحد. وقيل: طواله من الحجرات إلى عم، ومنها إلى الضحى أوساطه، ومنها إلى آخر
القرآن قصاره.
فائدة: قال ابن عبد السلام: القرآن ينقسم إلى فاضل ومفضول كآية الكرسي وتبت، فالأول كلام الله في الله، والثاني
كلام الله في غيره، فلا ينبغي أن يداوم على قراءة الفاضل ويترك المفضول لأن النبي (ص) لم يفعله، ولأنه
يؤدي إلى هجران بعض القرآن ونسيانه. (ولصبح الجمعة في الأولى ألم تنزيل، وفي الثانية هل أتى) بكمالهما
للاتباع
رواه الشيخان. فإن ترك ألم في الأولى سن أن يأتي بها في الثانية، فإن اقتصر على بعضهما أو قرأ غيرهما خالف السنة.
قال الفارقي: ولو ضاق الوقت عنهما أتى بالممكن ولو آية السجدة وبعض * (هل أتى على الانسان) *، قال الأذرعي:
ولم أره لغيره. وعن أبي إسحاق وابن أبي هريرة: لا تستحب المداومة عليهما ليعرف أن ذلك غير واجب. وقيل للشيخ
عماد الدين بن يونس: إن العامة صاروا يرون قراءة السجدة يوم الجمعة واجبة وينكرون على من تركها فقال: تقرأ في
وقت وتترك في وقت فيعلمون أنها غير واجبة. (الخامس) من الأركان: (الركوع) لقوله تعالى: * (اركعوا) * ولخبر:
163

إذا قمت إلى الصلاة وللاجماع. (وأقله) أي الركوع في حق القائم، (أن ينحني) انحناء خالصا لا انخناس فيه، (قدر بلوغ
راحتيه) أي راحتي يدي المعتدل خلقة، (ركبتيه) إذا أراد وضعها فلا يحصل بانخناس ولا به مع انحناء، لأنه لا يسمى ركوعا.
أما ركوع القاعد فتقدم. وظاهر تعبيره بالراحة وهي بطن الكف أنه لا يكتفي بالأصابع، وهو كذلك، وإن كان مقتضى
كلام التنبيه الاكتفاء بها. فلو طالت يداه أو قصرتا أو قطع شئ منهما لم يعتبر ذلك، فإن عجز عما ذكر إلا بمعين ولو
باعتماد على شئ أو انحناء على شقه لزمه، والعاجز ينحني قدر إمكانه، فإن عجز عن الانحناء أصلا أومأ برأسه ثم بطرفه.
ويشترط في صحة الركوع أن يكون (بطمأنينة) لحديث المسئ صلاته المتقدم، وأقلها أن تستقر أعضاؤه راكعا، (بحيث
ينفصل رفعه) من ركوعه (عن هويه) بفتح الهاء أفصح من ضمها: أي سقوطه، فلا تقوم زيادة الهوي مقام الطمأنينة. (ولا
يقصد به) أي الهوي (غيره) أي الركوع قصده هو أم لا كغيره من بقية الأركان، لأن نية الصلاة منسحبة عليه. (فلو هوى
لتلاوة فجعله ركوعا لم يكف) لأنه صرفه إلى غير الواجب، بل ينتصب ليركع. ولو قرأ إمامه آية سجدة ثم ركع عقبها فظن
المأموم أنه يسجد للتلاوة فهوى لذلك فرآه لم يسجد فوقف عن السجود، فالأقرب كما قاله الزركشي أنه يحسب له، ويغتفر
ذلك للمتابعة، وإن قال بعض المتأخرين: الأقرب عندي أنه يعود إلى القيام ثم يركع. (وأكمله) أي الركوع، (تسوية ظهره
وعنقه) أي يمدهما بانحناء خالص بحيث يصيران كالصفيحة الواحدة للاتباع، رواه مسلم. فإن تركه كره، نص عليه في الام.
(ونصب ساقيه) وفخذيه، لأن ذلك أعون له، ولا يثني ركبتيه ليتم له تسوية ظهره. والساق بالهمز وتركه: ما بين القدم والركبة،
فلا يفهم منه نصب الفخذ، ولذا قال في الروضة: ونصب ساقيه إلى الحقو، فكان ينبغي للمصنف أن يزيد ذلك أو ما قدرته.
والساق مؤنثة وتجمع على أسوق وسيقان وسوق. (وأخذ ركبتيه بيديه) أي بكفيه للاتباع، رواه الشيخان. (وتفرقة أصابعه)
تفريقا وسطا للاتباع من غير ذكر الوسط، رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي. (للقبلة) أي لجهتها لأنها أشرف الجهات. قال
ابن النقيب: ولم أفهم معناه. قال الولي العراقي: احترز بذلك عن أن يوجه أصابعه إلى غير جهة القبلة من يمنة أو يسرة.
والاقطع ونحوه كقصير اليدين لا يوصل يديه ركبتيه حفظا لهيئة الركوع، بل يرسلهما إن لم يسلما معا أو يرسل إحداهما إن
سلمت الأخرى. (ويكبر في ابتداء هويه) للركوع (ويرفع يديه كإحرامه) وقد تقدم لثبوت ذلك في الصحيحين عن فعله (ص).
وقال البخاري في تصنيف له في الرد على منكري الرفع: رواه سبعة عشر من الصحابة، ولم يثبت عن أحد منهم عدم الرفع،
وقضية كلامه أن الرفع هنا كالرفع للاحرام، وأن الهوي مقارن للرفع. والأول ظاهر والثاني ممنوع، فقد قال في المجموع: قال
أصحابنا: ويبتدئ التكبير قائما ويرفع يديه ويكون ابتداء رفعه وهو قائم مع ابتداء التكبير، فإذا حاذى كفاه منكبيه
انحنى. وفي البيان وغيره نحوه، قال في المهمات: وهذا هو الصواب. قال في الإقليد: لأن الرفع حال الانحناء متعذر أو
متعسر. والجديد أنه يمد التكبير إلى آخر الركوع لئلا يخلو فعل من أفعال الصلاة بلا ذكر، وكذا في سائر انتقالات الصلاة
لما ذكر. ولا نظر إلى طول المد بخلاف تكبيرة الاحرام يندب الاسراع بها لئلا تزول النية كما مر. (ويقول سبحان ربي
العظيم) للاتباع، رواه مسلم. وعن عقبة بن عامر قال: لما نزلت * (فسبح باسم ربك العظيم) * قال رسول الله
(ص): اجعلوها في ركوعكم، قال: ولما نزلت * (سبح اسم ربك الاعلى) * قال: اجعلوها في سجودكم
رواه أبو داود وابن حبان والحاكم، وصححه الأخيران. والحكمة في تخصيص الاعلى بالسجود، أن الاعلى أفعل
تفضيل بخلاف العظيم، فإنه يدل على رجحان معناه على غيره، والسجود في غاية التواضع فجعل الأبلغ مع
الأبلغ
والمطلق مع المطلق. وزاد على ذلك في التحقيق وغيره: وبحمده (ثلاثا) للاتباع رواه أبو داود. وقد يفهم من ذلك
164

أن السنة لا تتأدى بمرة، ولكن في الروضة عن الأصحاب: أن أقل ما يحصل به الذكر في الركوع تسبيحة واحدة اه‍.
وذلك يدل على أن أصل السنة يحصل بواحدة، وعبارة التحقيق: أقله سبحانه الله أو سبحان ربي، وأدنى الكمال
سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثا، ثم للكمال درجات فبعد الثلاث خمس ثم سبع ثم تسع ثم إحدى عشرة وهو الأكمل
كما في التحقيق وغيره، واختار السبكي أنه لا يتقيد بعدد بل يزيد في ذلك ما شاء. والتسبيح لغة التنزيه والتبعيد، تقول:
سبحت في الأرض إذا أبعدت، ومعنى وبحمده: أسبحه حامدا له أو وبحمده سبحته. (ولا يزيد الإمام) على التسبيحات الثلاث،
أي يكره له ذلك تخفيفا على المأمومين. (ويزيد المنفرد) وإمام قوم محصورين راضين بالتطويل: (اللهم لك ركعت
وبك آمنت ولك أسلمت خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي) رواه مسلم، زاد ابن حبان في صحيحه:
(وما استقلت به قدمي) بكسر الميم وسكون الياء، وهي مؤنثة، قال تعالى: * (فتزل قدم بعد ثبوتها) * فيجوز في استقلت
إثبات التاء وحذفها على أنه مفرد، ولا يصح هنا التشديد على أنه مثنى لفقدان ألف الرفع. ولفظة مخي مزيدة على المحرر
وهي في الشرح والروضة، وفيهما وفي المحرر: وشعري وبشري بعد عصبي، وفي آخره: لله رب العالمين. قال في الروضة:
وهذا مع الثلاث أفضل من مجرد أكمل التسبيح. قال في المجموع: وتكره القراءة في الركوع وغيره من بقية الأركان
غير القيام اه‍. والحكمة في وجوب القراءة في القيام والتشهد في الجلوس وعدم وجوب التسبيح في الركوع والسجود
أنه في القيام والقعود ملتبس بالعادة فوجب فيهما ليتميزا عنها بخلاف الركوع والسجود. ويستحب الدعاء في الركوع،
لأنه (ص) كان يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي رواه
الشيخان. (السادس) من الأركان: (الاعتدال) لو في النافلة كما صححه في التحقيق لحديث المسئ صلاته. وأما ما حكاه
في زيادة الروضة عن المتولي من أنه لو تركه في الركوع والسجود في النافلة ففي صحتها وجهان بناء على صلاتها مضطجعا مع
القدرة على القيام لا يلزم من البناء الاتحاد في الترجيح. (قائما) إن كان قبل ركوعه، كذلك إن قدر وإلا فيعود لما كان
عليه أو يفعل مقدوره إن عجز. (مطمئنا) لما في خبر المسئ صلاته، بأن تستقر أعضاؤه على ما كان قبل ركوعه بحيث
ينفصل ارتفاعه عن عوده إلى ما كان. قال في الروضة: واعلم أنه تجب الطمأنينة في الاعتدال كالركوع. وقال إمام
الحرمين: في قلبي من الطمأنينة في الاعتدال شئ، وفي كلام غيره ما يقتضي ترددا فيها، والمعروف الصواب وجوبها اه‍.
ولو ركع عن قيام فسقط عن ركوعه قبل الطمأنينة فيه عاد وجوبا إليه واطمأن ثم اعتدل، أو سقط عنه بعدها نهض
معتدلا ثم سجد، وإن سجد ثم شك هل تم اعتداله اعتدل وجوبا ثم سجد. (ولا يقصد غيره، فلو رفع فزعا) بفتح الزاي
على أنه مصدر مفعول لأجله: أي خوفا، أو بكسرها على أنه اسم فاعل منصوب على الحال: أي خائفا. (من شئ)
كحية (لم يكف) رفعه لذلك عن رفع الصلاة، لأنه صارف كما تقدم. (ويسن رفع يديه) كما سبق في تكبيرة الاحرام،
(مع ابتداء رفع رأسه) من الركوع بأن يكون ابتداء رفعهما مع ابتداء رفعه. (قائلا) في رفعه إلى الاعتدال: (سمع
الله لمن حمده) أي: تقبل منه حمده وجازاه عليه، وقيل: غفر له للاتباع، رواه الشيخان مع خبر: صلوا كما رأيتموني
أصلي. ولو قال: من حمد الله سمع له كفى في تأدية أصل السنة، لأنه أتى باللفظ والمعنى، بخلاف أكبر الله، لكن الترتيب
أفضل، وسواء في ذلك الإمام وغيره. وأما خبر: إذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا لك الحمد فمعناه: قولوا ذلك مع
ما علمتوه من سمع الله لمن حمده، لعلمهم بقوله: صلوا كما رأيتموني أصلي مع قاعدة التأسي به مطلقا. وإنما خص
ربنا لك الحمد بالذكر لأنهم كانوا لا يسمعونه غالبا ويسمعون: سمع الله لمن حمده. ويسن الجهر بها للإمام والمبلغ
ان احتيج إليه، لأنه ذكر انتقال، ولا يجهر بقوله: ربنا لك الحمد، لأنه ذكر الرفع فلم يجهر به كالتسبيح وغيره.
165

وقد عمت البلوى بالجهر به وترك الجهر بالتسميع، لأن أكثر الأئمة والمؤذنين صاروا جهلة بسنة سيد المرسلين.
(فإذا انتصب) أرسل يديه، و (قال) كل من الإمام والمنفرد والمأموم سرا: (ربنا لك الحمد) أو: ربنا
ولك الحمد
أو: اللهم ربنا لك الحمد أو: ولك الحمد، أو: ولك الحمد ربنا، أو: الحمد لربنا. والأول أولى لورود السنة به، لكن
قال في الام: الثاني أحب إلي، أي لأنه جمع معنيين الدعاء والاعتراف، أي ربنا استجب لنا ولك الحمد على هدايتك
إيانا. وزاد في التحقيق بعده: حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ولم يذكره الجمهور، وهو في البخاري من رواية رفاعة
ابن رافع، وفيه أنه ابتدر ذلك بضعة وثلاثون ملكا يكتبونه وذلك لأن عدد حروفها كذلك. وأغرب المصنف في المجموع
فقال: لا يزيد الإمام على ربنا لك الحمد إلا برضا المأمومين وهو مخالف لما في الروضة والتحقيق. (ملء السماوات وملء
الأرض وملء ما شئت من شئ بعد) أي بعدهما كالعرش والكرسي وغيرهما مما لا يعلمه إلا هو، قال الله تعالى: * (وسع
كرسيه السماوات والأرض) *. ويجوز في ملء الرفع على الصفة والنصب على الحال، أي مالئا لو كان جسما. (ويزيد المنفرد)
وإمام قوم محصورين راضين بالتطويل سرا: (أهل) منصوب على النداء: أي يا أهل (الثناء) أي المدح، (والمجد) أي العظمة،
وقال الجوهري: الكرم. وقوله: (أحق ما قال العبد) مبتدأ. وقوله: (وكلنا لك عبد) اعتراض. وقوله: (لا مانع لما أعطيت
ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد) بفتح الجيم: أي الغني، (منك) أي عندك، (الجد) وروي بالكسر، وهو الاجتهاد خبر
المبتدأ، والمعنى: ولا ينفع ذا الحظ في الدنيا حظه في العقبى إنما ينفعه طاعتك. قال ابن الصلاح: ويحتمل كون أحق خبرا لما قبله
وهو ربنا لك الحمد، أي هذا الكلام أحق. والأصل في ذلك الاتباع رواه الشيخان إلى لك الحمد، ومسلم إلى آخره. قال المصنف:
وإثبات ألف أحق وواو وكلنا هو المشهور، ويقع في كتب الفقهاء حذفهما، والصواب إثباتهما كما رواه مسلم وسائر المحدثين.
واعترض عليه بأن النسائي روى حذفهما. (ويسن القنوت في اعتدال ثانية الصبح) بعد ذكر الاعتدال، كما ذكره البغوي
وغيره وصوبه الأسنوي، وقال الماوردي: محل القنوت إذا فرغ من قوله سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد فحينئذ يقنت،
وعليه اقتصر ابن الرفعة. وقال في الإقليد: إنه قضية القياس لأن القنوت إذا انضم إلى الذكر المشروع في
الاعتدال طال الاعتدال، وهو ركن قصير بلا خلاف، وعمل الأئمة بخلافه لجهلهم بفقه الصلاة، فإن الجمع إن
لم يكن مبطلا فلا شك أنه
مكروه اه‍. ويمكن حمل كلام الماوردي ومن ذكر معه على الإمام إذا أم قوما غير محصورين راضين بالتطويل، وكلام
الأولين على خلافه. (وهو اللهم اهدني فيمن هديت إلى آخره) كذا في المحرر وتتمته كما في الشرح: وعافني فيمن عافيت
وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت إنك تقتضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت
تبارك ربنا وتعاليت للاتباع، رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله (ص)
إذا رفع رأسه من الركوع من صلاة الصبح في الركعة الثانية رفع يديه فيدعو بهذا الدعاء: اللهم اهدني فيمن هديت
إلى آخر ما تقدم، لكن لم يذكر ربنا، وقال: صحيح. ورواه البيهقي في الصبح وفي قنوت الوتر. قال الرافعي: وزاد
العلماء فيه، أي القنوت قبل تباركت وتعاليت: ولا يعز من عاديت، وبعده: فلك الحمد على ما قضيت أستغفرك وأتوب إليك.
قال في الروضة: قال أصحابنا لا بأس بهذه الزيادة، وقال أبو حامد والبندنيجي وآخرون: وهي مستحبة. وعبر عنها في تحقيقه
بقوله: وقيل. (و) يسن أن يقنت (الإمام بلفظ الجمع) لأن البيهقي رواه في إحدى روايتيه بلفظ الجمع فحمل على الإمام
فيقول اهدنا وهكذا. وعلله المصنف في أذكاره بأنه يكره للإمام تخصيص نفسه بالدعاء لخبر: لا يؤم عبد قوما فيخص
نفسه بدعوة دونهم فإن فعل فقد خانهم رواه الترمذي وحسنه وقضية هذا طرده في سائر أدعية الصلاة، وبه صرح
166

القاضي حسين والغزالي في الاحياء في كلامه على التشهد، ونقل ابن المنذر في الاشراف عن الشافعي أنه قال: لا أحب
للإمام تخصيص نفسه بالدعاء دون القوم، والجمهور لم يذكروه إلا في القنوت. قال ابن المنذر: وقد ثبت أنه (ص) كان
إذا كبر في الصلاة يقول قبل القراءة: اللهم نقني اللهم اغسلني الدعاء المعروف، وبهذا أقول اه‍. وذكر ابن القيم أن
أدعية النبي (ص) كلها بلفظ الافراد، ولم يذكر الجمهور التفرقة بين الإمام وغيره إلا في القنوت، وكأن الفرق بين القنوت
وغيره أن الكل مأمورون بالدعاء بخلاف القنوت فإن المأموم يؤمن فقط اه‍. وهذا هو الظاهر كما أفتى به شيخي، وظاهر
كلام المصنف كأصله تعين هذه الكلمات القنوت، وهو وجه اختاره الغزالي. والذي رجحه الجمهور أنها لا تتعين، وعلى هذا
لو قنت بما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه في الوتر وهو: اللهم إنا نستعينك إلخ كان حسنا. ويسن الجمع بينهما للمنفرد
ولإمام قوم محصورين راضين بالتطويل، وأيهما يقدم؟ سيأتي في صلاة النفل إن شاء الله تعالى. ولو قرأ آية من القرآن ونوى
بها القنوت، فإن تضمنت دعاء أو شبهه كآخر البقرة أجزأته عن القنوت، وإن لم تتضمنه كتبت يدا وآية الدين أو فيها معناه
ولم يقصد بها القنوت لم تجزه، لما مر أن القراءة في الصلاة في غير القيام مكروهة. قال في المجموع عن البغوي: ويكره إطالة
القنوت، أي بغير المشروع كالتشهد الأول. وظاهره عدم البطلان وهو كذلك لأن البغوي القائل بكراهة التطويل قائل
بأن تطويل الركن القصير يبطل عمده. وقال القاضي حسين: ولو طول القنوت زائدا على العادة كره، وفي البطلان
احتمالان. وكان الشيخ أبو حامد يقول في قنوت الصبح: اللهم لا تعقنا عن العلم بعائق ولا تمنعنا عنه بمانع. (والصحيح
سن الصلاة على رسول الله (ص) في آخره) للأخبار الصحيحة في ذلك، والثاني: لا تسن بل لا تجوز حتى تبطل الصلاة
بفعلها على وجه، لأنه نقل ركنا قوليا إلى غير موضعه. وجزم في الأذكار على القول الأول بسن السلام. ويسن الصلاة
على الآل، وأنكره ابن الفركاح، وقال: هذا لا أصل له. واستدل الأسنوي لسن السلام بالآية، والزركشي لسن الآل بخبر:
كيف نصلي عليك؟. وخرج بقوله: في آخره أنها لا تسن فيما عداه، وهو كذلك، وإن قال في العدة لا بأس بها أوله وآخره لاثر
ورد فيه. وما قاله العجلي في شرحه من أنه لو قرأ آية فيها اسم محمد (ص) استحب أن يصلي عليه أفتى المصنف بخلافه.
(و) سن (رفع يديه) فيه وفي سائر الأدعية للاتباع رواه فيه البيهقي بإسناد جيد، وفي سائر الأدعية الشيخان وغيرهما، والثاني:
لا يرفع في القنوت لأنه دعاء في صلاة فلا يسن فيه الرفع قياسا على دعاء الافتتاح والتشهد. وفرق الأول بأنه ليديه فيه وظيفة
ولا وظيفة لهما هنا، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الاستسقاء أنه يسن في الدعاء أن يجعل ظهر كفيه إلى السماء إن دعا لرفع
بلاء، وعكسه إن دعا لتحصيل شئ، فهل يقلب كفيه عند قوله في القنوت وقني شر ما قضيت أو لا؟ أفتى
شيخي بأنه لا يسن
أي لأن الحركة في الصلاة ليست مطلوبة. (و) الصحيح أنه (لا يمسح) بهما (وجهه) أي لا يسن له ذلك لعدم وروده كما
قاله البيهقي، والثاني: يسن لخبر: فامسحوا بهما وجوهكم ورد بأن طرقه واهية، وظاهر كلام المصنف عدم جريان
الخلاف لولا التقدير المذكور. وعبارة المحرر ظاهرة في الخلاف فيه، فلو قال لا مسح وجهه لكان أخصر وأفاد الخلاف من
غير تقدير. وأما مسح غير الوجه كالصدر فلا يسن مسحه قطعا بل نص جماعة على كراهته. وأما مسح الوجه عقب الدعاء
خارج الصلاة، فقال ابن عبد السلام بعد نهيه عنه: لا يفعله إلا جاهل اه‍. وقد ورد في المسح بهما أخبار بعضها غريب
وبعضها ضعيف، ومع هذا جزم في التحقيق باستحبابه. (و) الصحيح (أن الإمام يجهر به) للاتباع رواه البخاري وغيره،
قال الماوردي: وليكن جهره به دون جهره بالقراءة. والثاني: لا، كسائر الأدعية المشروعة في الصلاة. أما المنفرد فيسر
قطعا. (و) الصحيح (أنه يؤمن المأموم للدعاء). للاتباع رواه أبو داود بإسناد حسن أو صحيح، ويجهر به كما في تأمين القراءة.
(ويقول الثناء) سرا وهو: فإنك تقضي... إلى آخره لأنه ثناء وذكر فكانت الموافقة فيه أليق. وفي الروضة وأصلها أنه يقول
الثناء أو يسكت، وقال المتولي: أو يقول أشهد، وقال الغزالي: أو صدقت وبررت. ولا يشكل على هذا ما تقدم في الاذان
من أن المصلي إذا أجاب به المؤذن تبطل صلاته، لأنه لا ارتباط بين المصلي والمؤذن بخلاف الإمام والمأموم. هذا والأوجه
167

البطلان فيهما. قال في المجموع وغيره: والمشاركة أولى. والصلاة على النبي (ص) دعاء فيؤمن لها كما صرح به المحب
الطبري شارح التنبيه، وقال الغزي: ويحتمل أنها ثناء، بل قيل: يشاركه، وإن قيل إنها دعاء لم يبعد، ففي الخبر: رغم
أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي اه‍، ولذا قال بعض مشايخي: الأولى أن يؤمن على إمامه ويقوله بعده، والأول
أوجه. وقيل: يؤمن في الكل، وقيل: يوافقه في الكل كالاستعاذة، وقيل: يتخير بين التأمين والقنوت. هذا كله إذا قلنا
يجهر به الإمام أو خالف السنة على القول الثاني وجهر به كما يؤخذ مما مر فيما إذا جهر بالسرية. أما إذا لم يجهر به أو جهر به
ولم يسمعه فإنه يقنت كما قال: (فإن لم يسمعه) لصمم أو بعد أو لعدم جهره به أو سمع صوتا لم يفسره (قنت) ندبا معه سرا
كسائر الدعوات والأذكار التي لا يسمعها. (ويشرع) أي يسن (القنوت) بعد التحميد (في) اعتدال أخيرة (سائر) أي باقي
(المكتوبات للنازلة) أي التي نزلت، كأن نزل بالمسلمين خوف أو قحط أو وباء أو جراد أو نحوها للاتباع، لأنه (ص)
قنت شهرا يدعو على قاتلي أصحابه القراء ببئر معونة، رواه الشيخان مع خبر صلوا كما رأيتموني أصلي. (لا مطلقا على
المشهور) لأنه (ص) لم يقنت إلا عند النازلة. وخالفت بالصبح غيرها لشرفها ولأنها أقصر الفرائض فكانت بالزيادة أليق.
والثاني: يتخير بين القنوت وعدمه ويجهر به الإمام في الجهرية والسرية ويسر به المنفرد كما في قنوت الصبح. وخرج
بالمكتوبات غيرها من نفل ومنذور وصلاة جنازة فلا يسن القنوت فيها، ففي الام: ولا قنوت في صلاة العيدين والاستسقاء،
فإن قنت لنازلة لم أكرهه وإلا كرهته. قال في المهمات: وحاصله أنه لا يسن في النفل وفي كراهته التفصيل اه‍. ويقاس
على النفل في ذلك المنذور. قال شيخنا: والظاهر كراهته مطلقا في صلاة الجنازة لبنائها على التخفيف، وقضية إطلاق النازلة
أنه لا فرق بين العامة والخاصة ببعضهم كالاسر ونحوه حتى يستحب له ولغيره، وهذا هو الظاهر وإن كان كلامهم
يشعر بخلافه. قال في المهمات: وقد يقال بالمشروعية، ويتجه أن يقال إن كان ضرره متعديا كأسر العالم والشجاع ونحوهما
قنتوا وإلا فلا. (السابع) من الأركان: (السجود) مرتين لكل ركعة، لقوله تعالى: * (اركعوا واسجدوا) * ولخبر: إذا
قمت إلى الصلاة وإنما عدا ركنا واحدا لاتحادهما كما عد بعضهم الطمأنينة في محالها الأربعة ركنا واحدا لذلك. وهو
لغة التطامن والميل، وقيل الخضوع والتذلل، (و) شرعا (أقله مباشرة بعض جبهته مصلاه) أي ما يصلي عليه من أرض
أو غيرها لخبر: إذا سجدت فمكن جبهتك ولا تنقر نقرا رواه ابن حبان في صحيحه، ولخبر خباب بن الأرت: شكونا إلى
رسول الله (ص) حر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا أي لم يزل شكوانا، رواه البيهقي بسند صحيح، ورواه
مسلم بغير جباهنا وأكفنا. فلو لم تجب مباشرة المصلي بالجبهة لأرشدهم إلى سترها. وقيل: يجب وضع
جميعها. وعلى الأول
يستحب، بل الاقتصار على بعضها مكروه. وإنما اكتفى به لصدق اسم السجود عليها بذلك، وخرج بها الجبين والأنف
فلا يكفي وضعهما ولا يجب لما سيأتي. (فإن سجد على متصل به) كطرف كمه الطويل أو عمامته، (جاز إن لم يتحرك بحركته)
لأنه في حكم المنفصل عنه، فإن تحرك بحركته في قيام أو قعود أو غيرهما كمنديل على عاتقه لم يجز، فإن كان متعمدا
عالما بطلت صلاته أو ناسيا أو جاهلا لم تبطل وأعاد السجود. ولو صلى من قعود فلم يتحرك بحركته، ولو صلى من قيام
لتحرك لم يضر إذ العبرة بالحالة الراهنة، هذا هو الظاهر وإن لم أر من تعرض له. ويؤخذ من كلامه أن الامتناع على
اليد بطريق الأولى، وخرج بمتصل به ما هو في حكم المنفصل. وإن تحرك بحركته كعود بيده فلا يضر السجود عليه كما في
المجموع في نواقض الوضوء. وفرق بين صحة صلاته فيما إذا سجد على طرف ملبوسه ولم يتحرك بحركته وعدم صحتها فيما
إذا كان به نجاسة بأن المعتبر هنا وضع جبهته على قرار للامر بتمكينها كما مر. وإنما يخرج القرار بالحركة، والمعتبر ثم أن
لا يكون شئ مما ينسب إليه ملاقيا لها لقوله تعالى: * (وثيابك فطهر) * والطرف المذكور من ثيابه ومنسوب إليه. ولو
سجد على شئ في موضع سجوده كورقة فإن التصقت بجبهته وارتفعت معه وسجد عليها ثانيا ضر، وإن نحاها ثم سجد
لم يضر. ولو سجد على عصابة جرح أو نحوه لضرورة بأن شق عليه إزالتها لم يلزمه الإعادة، لأنها إذا لم تلزمه مع الايماء
168

للعذر فهذا أولى، وكذا لو سجد على شعر نبت على جبهته لأن ما نبت عليها مثل بشرته، ذكره البغوي في فتاويه ولم
يطلع عليه الأسنوي فقال: يحتمل الاجزاء مطلقا بدليل أنه لا يلزم المتيمم نزعه، وهو متجه، ثم قال: وأوجه منه أنه إن
استوعبت الجبهة كفى وإلا وجب أن يسجد على الخالي منه لقدرته على الأصل. (ولا يجب وضع يديه وركبتيه وقدميه) في
سجوده (في الأظهر) لقوله تعالى: * (سيماهم في وجوههم من أثر السجود) *. وللخبر المتقدم: إذا سجدت فمكن
جبهتك فإفرادها بالذكر دليل على مخالفتها لغيرها، ولأنه لو وجب وضعها لوجب الايماء بها عند العجز عن وضعها،
والايماء بها لا يجب فلا يجب وضعها، ولان المقصود منه وضع أشرف الأعضاء على مواطئ الاقدام وهو خصيص بالجبهة.
ويتصور رفع جميعها كأن يصلي على حجرين بينهما حائط قصير ينبطح عليه عند سجوده ويرفعها. (قلت: الأظهر وجوبه
والله أعلم) لخبر الصحيحين: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم على الجبهة، وأشار بيده إلى أنفه واليدين والركبتين
وأطراف القدمين. وإنما لم يجب الايماء بها عند العجز وتقريبها من الأرض كالجبهة، لأن معظم السجود وغاية الخضوع
بالجبهة دونها، ويكفي وضع جزء من كل واحد من هذه الأعضاء كالجبهة. والعبرة في اليدين ببطن الكف سواء الأصابع
والراحة، قاله في المجموع، وفي الرجلين ببطن الأصابع فلا يجزئ الظهر منها ولا الحرف، ولا يجب كشفها، بل يكره
كشف الركبتين لأنه يفضي إلى كشف العورة، وقيل: يجب كشف باطن الكفين أخذا بظاهر خبر خباب السابق، وأجيب
عنه بأن قوله فيه فلم يشكنا في مجموع الجبهة والكفين، وأيد بما رواه ابن ماجة: أنه (ص) صلى في مسجد
بني الأشهل وعليه كساء ملفع به يضع يديه عليه يقيه الحصى. ويسن كشفهما خروجا من الخلاف وكشف قدميه حيث
لا خف، ويحصل توجيه أصابعهما للقبلة بأن يكون معتمدا على بطونهما. ثم محل وجوب وضع هذه الأعضاء إذا لم
يتعذر وضع شئ منها وإلا فيسقط الفرض، فلو قطعت يده من الزند لم يجب وضعه، ولا وضع رجل قطعت أصابعها
لفوت محل الفرض.
فرع: لو خلق له رأسان وأربع أيد وأربع أرجل هل يجب عليه وضع بعض كل من الجبهتين وما بعدهما
مطلقا أو يفصل بين أن يكون البعض زائدا أو لا؟ لم أر من تعرض لذلك، ولكن أفتاني شيخي فيها بأنه إن عرف
الزائد فلا اعتبار به وإلا اكتفى في الخروج عن عهدة الوجوب بسبعة أعضاء منها، أي إحدى الجبهتين ويدين وركبتين
وأصابع رجلين إذا كانت كلها أصلية للحديث، فإن اشتبه الأصلي بالزائد وجب وضع جزء من كل منها. (ويجب أن
يطمئن) لحديث المسئ صلاته، (وينال مسجده) وهو بفتح الجيم وكسرها محل سجوده، (ثقل رأسه) للخبر السابق،
وإذا سجدت فمكن جبهتك ومعنى الثقل: أن يتحامل بحيث لو فرض تحته قطن أو حشيش لا تكبس وظهر
أثره في يده لو فرضت تحت ذلك. واكتفى الإمام بإرخاء رأسه، قال: بل هو أقرب إلى هيئة التواضع من
تكلف التحامل،
وينال معناه يصيب ويحصل، ومسجده هنا منصوب، وثقل فاعل. ولا يعتبر هذا في بقية الأعضاء كما يؤخذ من
عبارة الروضة وأفتى به شيخي مخالفا فيه شيخه في شرح منهجه. وقال الزركشي: أما غير الجبهة من الأعضاء إذا
أوجبنا وضعه فلا يشترط فيها التحامل، وحكي عن الإمام أن الذي صححه الأئمة أن يضع أطراف الأصابع على الأرض
من غير تحامل عليها اه‍. وقال المصنف في تحقيقه: ويندب أن يضع كفيه حذو منكبيه وينشر أصابعهما مضمومة
للقبلة ويعتمد عليهما. (وأن لا يهوي لغيره) أي السجود بأن يهوي له أو من غير قصد كما مر في الركوع، (فلو سقط
لوجهه) أي عليه من الاعتدال (وجب العود إلى الاعتدال) ليهوي منه لانتفاء الهوي في السقوط، فإن سقط من
الهوي لم يلزمه العود بل يحسب ذلك سجودا، إلا إن قصد بوضع الجبهة الاعتماد عليها فقط فإنه يلزمه إعادة السجود
لوجود الصارف. ولو سقط من الهوي على جنبه فانقلب بنية السجود، أو بلا نية، أو بنيته ونية الاستقامة وسجد
أجزأه، فإن نوى الاستقامة فقط لم يجزه لوجود الصارف، بل يجلس ثم يسجد، ولا يقوم ثم يسجد، فإن قام عامدا
169

بطلت صلاته كما صرح به في الروضة وغيرها، وإن نوى مع ذلك صرفه عن السجود بطلت صلاته، لأنه زاد فعلا
لا يزاد مثله في الصلاة عمدا. (وأن ترتفع أسافله) أي عجيزته وما حولها (على أعاليه في الأصح) للاتباع كما أخرجه
أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان، فلو صلى في سفينة مثلا ولم يتمكن من ارتفاع ذلك لميلانها صلى على حاله ولزمه
الإعادة لأن هذا عذر نادر. والثاني ونقله الرافعي في شرح السند عن النص: أنه يجوز مساواتهما لحصول اسم السجود،
فلو ارتفعت الأعالي لم يجز جزما، كما لو أكب على وجهه ومد رجليه، نعم إن كان به علة لا يمكنه معها السجود إلا كذلك
صح، فإن أمكنه السجود على وسادة بتنكيس لزمه قطعا لحصول هيئة السجود بذلك أو بلا تنكيس لم يلزمه السجود
عليها، خلافا لما في الشرح الصغير، لفوات هيئة السجود، بل يكفيه الانحناء الممكن. ولا يشكل بما مر: من أن
المريض إذا لم يمكنه الانتصاب إلا باعتماده على شئ لزمه، لأنه هناك إذا اعتمد على شئ أتى بهيئة القيام، وهنا إذا
وضع الوسادة لا يأتي بهيئة السجود فلا فائدة في الوضع. (وأكمله) أي السجود (يكبر) المصلي (لهوية) لثبوته في
الصحيحين (بلا رفع) ليديه، لأنه (ص) كان لا يرفع ذلك في السجود، رواه البخاري. (ويضع ركبتيه ثم يديه)
أي كفيه للاتباع، رواه أبو داود وغيره وحسنه الترمذي. (ثم) يضع (جبهته وأنفه) مكشوفا للاتباع أيضا، رواه
أبو داود. فلو خالف الترتيب أو اقتصر على الجبهة كره، نص عليه في الام. ويسن أن يكون وضع الجبهة والأنف معا
كما جزم به في المحرر ونقله في المجموع عن البندنيجي وغيره، وإن قال في موضع آخر منه عن الشيخ أبي حامد: هما
كعضو واحد يقدم أيهما شاء. وإنما لم يجب وضع الأنف كالجبهة، مع أن خبر: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم
ظاهره الوجوب للأخبار الصحيحة المقتصرة على الجبهة. قالوا: وتحمل أخبار الانف على الندب. قال في المجموع:
وفيه ضعف لأن روايات الانف زيادة ثقة ولا منافاة بينهما. (ويقول) بعد ذلك الإمام وغيره: (سبحان ربي الأعلى ثلاثا)
للحديث السابق في الركوع، ولا يزيد الإمام على ذلك تخفيفا على المأمومين. (ويزيد المنفرد) وإمام قوم محصورين
راضين بالتطويل: (اللهم لك سجدت، وبك آمنت، ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره، وشق سمعه
وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين) للاتباع، رواه مسلم، زاد في الروضة قبل تبارك: بحوله وقوته، قال فيها: ويستحب
فيه: سبوح قدوس رب الملائكة والروح. ويسن للمنفرد ولإمام قوم محصورين راضين بالتطويل الدعاء فيه، وعلى ذلك
حمل خبر مسلم: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا فيه الدعاء وقد ثبت أنه (ص) كان يقول فيه:
اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، وأوله وآخره، وعلانيته وسره، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك
من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك ويأتي المأموم بما أمكنه من ذلك
من غير تخلف. (ويضع يديه) في سجوده (حذو منكبيه) أي مقابلهما للاتباع، رواه أبو داود وصححه المصنف.
(وينشر أصابعه مضمومة) ومكشوفة (للقبلة) للاتباع، رواه في الضم والنشر البخاري، وفي الباقي البيهقي. (ويفرق)
الذكر (ركبتيه) وبين قدميه قدر شبر (ويرفع بطنه عن فخذيه ومرفقيه عن جنبيه في ركوعه وسجوده) للاتباع
كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. وقوله: في ركوعه وسجوده يعود إلى الثلاث. (وتضم المرأة والخنثى) - وهو من
زيادته على المحرر - بعضها إلى بعض في ركوعهما وسجودهما بأن يلصقا بطنهما بفخذيهما لأنه أستر لها وأحوط له، وفي
المجموع عن نص الام، أن المرأة تضم في جميع الصلاة، أي المرفقين إلى الجنبين لما تقدم، والخنثى مثلها، قال
170

السبكي: وكان الأليق ذكر هذه الصفات قبل قوله: سبحان ربي الأعلى. وبرفع كل منهم ذراعيه عن الأرض،
فإن لحقه مشقة بالاعتماد على كفيه كأن طول المنفرد سجوده وضع ساعديه على ركبتيه كما قاله المتولي وغيره. (الثامن)
من الأركان: (الجلوس بين سجدتيه مطمئنا) ولو في نفل، لحديث المسئ صلاته. وفي الصحيحين: كان
(ص) إذا رفع رأسه لم يسجد حتى يستوي جالسا. وهذا فيه رد على أبي حنيفة حيث يقول: يكفي أن يرفع
رأسه عن الأرض أدنى رفع كحد السيف. (ويجب أن لا يقصد برفعه غيره) لما مر في الركوع، فلو رفع فزعا من شئ
لم يكف، ويجب عليه أن يعود إلى السجود. (وأن لا يطوله ولا الاعتدال) لأنهما ركنان قصيران ليسا مقصودين لذاتهما
بل للفصل، وسيأتي حكم تطويلهما في سجود السهو إن شاء الله تعالى. هذا أقله، (وأكمله يكبر) بلا رفع يد مع رفع
رأسه من سجوده للاتباع، رواه الشيخان. (ويجلس مفترشا) وسيأتي بيانه للاتباع، رواه الترمذي وقال حسن صحيح،
ولان جلوسه يعقبه حركة، فكان الافتراش فيه أولى لأنه على هيئة المستوفز. وروى البويطي عن الشافعي أنه يجلس
على عقبيه ويكون صدور قدميه على الأرض، وتقدم أن هذا نوع من الاقعاء مستحب، والافتراش أفضل منه.
(واضعا يديه) أي كفيه على فخذيه (قريبا من ركبتيه) بحيث تساوي رؤوس أصابعه ركبتيه. (وينشر أصابعه) إلى القبلة
قياسا على السجود وغيره، ولا يضر انعطاف رؤوسها على الركبة كما قاله الشيخان، وإن أنكره ابن يونس وقال: ينبغي
تركه لأنه يخل بتوجيهها للقبلة. وترك اليدين حواليه على الأرض كإرسالهما في القيام، وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى.
(قائلا: رب اغفر لي وارحمني وأجبرني وارفعني وارزقني وأهدني وعافني) للاتباع، روى بعضه أبو داود وباقيه ابن ماجة.
وارفعني وارحمني ليستا في المحرر والشرح، وأسقط من الروضة ذكر ارفعني، وزاد في الاحياء: واعف عني بعد
قوله: وعافني. وفي تحرير الجرجاني يقول: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم. وفي رواية
لمسلم: أن رجلا أتى النبي (ص) فقال: يا رسول الله كيف أقول حين أسأل ربي؟ قال: قل اللهم اغفر لي
وارحمني وعافني وارزقني فإن هؤلاء تجمع لك دنياك وآخرتك أي لأن الغفر الستر، والعافية: اندفاع البلاء عن البعد.
والأرزاق نوعان: ظاهرة للأبدان كالأقوات، وباطنة للقلوب والنفوس كالمعارف والعلوم. (ثم يسجد) السجدة (الثانية
كالأولى) في الأقل والأكمل كما قاله في المحرر.
فائدة: ما الحكمة في جعل السجود مرتين دون غيره؟ قيل: لأن الشارع لما أمر بالدعاء فيه وأخبر بأنه
حقيق بالإجابة سجد ثانيا شكرا لله تعالى على الإجابة كما هو المعهود فيمن سأل ملكا شيئا فأنعم عليه به. وقيل: لأنه
أبلغ في التواضع. وقيل: لأنه لما ترقى فقام ثم ركع ثم سجد وأتى بنهاية الخدمة أذن له في الجلوس فسجد ثانيا شكرا
لله على استخلاصه إياه. وقيل: لأنه لما عرج به (ص) إلى السماء، فمن كان من الملائكة قائما سلموا عليه قياما ثم
سجدوا شكرا لله تعالى على رؤيته (ص)، ومن كان منهم راكعا رفعوا رؤوسهم من الركوع وسلموا عليه، ثم سجدوا
شكرا لله تعالى على رؤيته، فلذلك صار السجود مثنى مثنى، ومن كان منهم ساجدا رفعوا رؤوسهم وسلموا عليه ثم
سجدوا شكرا لله تعالى على رؤيته، فلم يرد الله أن يكون للملائكة حال إلا وجعل لهذه الأمة حالا مثل حالهم، قاله
القرطبي. وقيل: إشارة إلى أنه خلق من الأرض وسيعود إليها، وقيل غير ذلك. وجعل المصنف للسجدتين ركنا
واحدا، وصححه في البيان، والأصح كما في الوسيط أنهما ركنان. وفائدة الخلاف كما قاله في الكفاية تظهر في المأموم
إذا تقدم على إمامه في الافعال أو تأخر عنه، وقدمت الجواب عنه عند قوله: السابع السجود. (والمشهور سن جلسة
171

خفيفة) للاستراحة (بعد السجدة الثانية في كل ركعة يقوم عنها) بأن لا يعقبها تشهد ولم يصل قاعدا، للاتباع رواه
البخاري. والثاني: لا تسن، لخبر وائل بن حجر أنه (ص) كان إذا رفع رأسه من السجود استوى قائما. وأجاب
الأول بأن الحديث غريب أو محمول على بيان الجواز. وشمل قوله كل ركعة الفرض والنفل وهو كذلك، وخرج سجدة
التلاوة والشكر إذا قام عنها كما سيأتي في بابها إن شاء الله تعالى. وهل المراد بقوله: يقوم عنها فعلا أو مشرعية؟ صرح
البغوي في فتاويه بالأول فقال: إذا صلى أربع ركعات بتشهد فإنه يجلس للاستراحة في كل ركعة منها لأنها إذا ثبتت
في الأوتار، ففي محل التشهد أولى، ولو تركها الإمام وأتى بها المأموم لم يضر تخلفه لأنه يسير، وبه فارق ما لو ترك التشهد
الأول. ويكره تطويلها على الجلوس بين السجدتين، ذكره في التتمة. ويؤخذ منه أن الصلاة لا تبطل بتطويلها كما أفتى
به شيخي وإن خالفه بعض العصريين له، والأصح أنها فاصلة بين الركعتين لا من الأولى ولا من الثانية. ويسن أن يمد
التكبير من الرفع من السجود إلى القيام لا أنه يكبر تكبيرتين. (التاسع والعاشر والحادي عشر) من الأركان: (التشهد)
سمي بذلك لأن فيه الشهادتين، فهو من باب تسمية الكل باسم الجزء. (وقعوده، والصلاة على النبي (ص)) في آخره
والقعود لها على ما سيأتي تفصيله. (فالتشهد وقعوده إن عقبهما سلام) فهما (ركنان) أما التشهد فلقول ابن مسعود:
كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبريل، السلام على ميكائيل، السلام
على فلان، فقال النبي (ص): لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله
إلخ. رواه الدارقطني والبيهقي وقالا: إسناده صحيح، والدلالة منه من وجهين: أحدهما التعبير بالفرض، والثاني:
الامر به، والمراد فرضه في جلوس آخر الصلاة لما سيأتي. وأما الجلوس له فلانه محله فيتبعه. وأما الصلاة على النبي
(ص) والجلوس لها فسيأتي الكلام عليهما. (وإلا) أي وإن لم يعقبهما سلام (فسنتان) للأخبار الصحيحة،
وصرفنا عن وجوبهما خبر الصحيحين: أنه (ص) قام من ركعتين من الظهر ولم يجلس، فلما قضى صلاته كبر
وهو جالس فسجد سجدتين قبل السلام ثم سلم دل عدم تداركهما على عدم وجوبهما. (وكيف قعد) في جلسات الصلاة
(جاز، و) لكن (يسن في) قعود التشهد (الأول الافتراش فيجلس على كعب يسراه) بعد أن يضجعها بحيث يلي
ظهرها الأرض كما صرح به في المحرر، (وينصب يمناه) أي قدمها (ويضع أطراف أصابعه) منها على الأرض متوجهة.
(للقبلة، و) يسن (في) التشهد (الآخر) وما معه (التورك وهو كالافتراش، لكن يخرج يسراه من جهة
يمينه
ويلصق وركه بالأرض) للاتباع كما أخرجه البخاري، والحكمة في المخالفة بين الأخير وغيره من بقية الجلسات أن
المصلي مستوفز فيها للحركة بخلافه في الأخير، والحركة عن الافتراش أهون. (والأصح) وفي الروضة الصحيح:
(يفترش المسبوق) في التشهد الأخير لإمامه لاستيفازه للقيام، (والساهي) في تشهده الأخير إذا لم يرد عدم سجود السهو
بأن أراد السجود أو لم يرد شيئا لاحتياجه إلى السجود بعده. أما القسم الأول فظاهر. وأما الثاني فنظرا إلى الغالب من
السجود مع قيام سببه. أما إذا أراد عدم السجود فيتورك لفقد الحركة. (ويضع فيهما) أي التشهدين وما معهما
(يسراه على طرف ركبته) اليسرى بحيث تسامت رؤوسها الركبة، (منشورة الأصابع) للاتباع، رواه مسلم، (بلا ضم)
بل يفرجها تفريجا وسطا، وهكذا كل موضع أمر فيه بالتفريج. (قلت: الأصح الضم، والله أعلم) لأن تفريجها يزيل
172

الابهام عن القبلة فيضمها ليتوجه جميعها للقبلة. وهذا جرى على الغالب، وإلا فمن يصلي داخل البيت فإنه يضم مع أنه
لو فرجها هو متوجه للقبلة، وكذا يسن لمن لا يحسن التشهد وجلس له فإنه يسن في حقه ذلك، وكذا لو صلى من
اضطجاع أو استلقاء عند جواز ذلك، ولم أر من تعرض لهذا. (ويقبض من يمناه) بعد وضعها على فخذه اليمنى (الخنصر
والبنصر) بكسر أولهما وثالثهما، (وكذا الوسطى في الأظهر) للاتباع كما رواه مسلم. والثاني: يحلق بين الوسطى والابهام
لرواية أبي داود عن فعله (ص) بذلك. وفي كيفية التحليق وجهان: أصحهما أن يحلق بينهما برأسيهما، والثاني: يضع
أنملة الوسطى بين عقدتي الابهام. (ويرسل المسبحة) على القولين، وهي بكسر الباء: التي تلي الابهام، سميت بذلك لأنه
يشار بها إلى التوحيد والتنزيه، وتسمى أيضا السبابة لأنه يشار بها عند المخاصمة والسب. (ويرفعها) مع إمالتها قليلا
كما قاله المحاملي وغيره، (عند قوله إلا الله) للاتباع، رواه مسلم من غير ذكر إمالة. ويسن أن يكون رفعها إلى القبلة
ناويا بذلك التوحيد والاخلاص، ويقيمها ولا يضعها كما قاله نصر المقدسي. وخصت المسبحة بذلك لأن لها اتصالا
بنياط القلب فكأنها سبب لحضوره. والحكمة في ذلك هي الإشارة إلى أن المعبود سبحانه وتعالى واحد ليجمع في
توحيده
بين القول والفعل والاعتقاد. وتكره الإشارة بمسبحته اليسرى ولو من مقطوع اليمنى، قال الولي العراقي: بل في تسميتها
مسبحة نظر فإنها ليست آلة التنزيه، والرفع عند الهمزة لأنه حال إثبات الوحدانية لله تعالى، وقيل: يشير بها
في جميع التشهد. (ولا يحركها) عند رفعها لأنه (ص) كان لا يفعله، رواه أبو داود من رواية عبد الله
ابن الزبير. وقيل: يحركها، لأن وائل بن حجر روى أن النبي (ص) كان يفعله. قال البيهقي: والحديثان صحيحان.
قال الشارح: وتقديم الأول النافي على الثاني المثبت لما قام عندهم في ذلك اه‍. ولعله طلب عدم الحركة في الصلاة، بل
قيل إنه حرام مبطل للصلاة. وعلى الأول يكره ولا تبطل. (والأظهر ضم الابهام إليها) أي المسبحة (كعاقد ثلاثة
وخمسين) بأن يضعها تحتها على طرف راحته، لحديث ابن عمر في مسلم: كان عليه الصلاة والسلام إذا قعد وضع يده
اليسرى على ركبته اليسرى، ووضع يده اليمنى على ركبته اليمنى وعقد ثلاثة وخمسين وأشار بالسبابة. والثاني: يضع الابهام
على الوسطى كعاقد ثلاثة وعشرين، رواه مسلم أيضا عن ابن الزبير. وإنما عبر الفقهاء بالأول دون الثاني تبعا لرواية
ابن عمر. واعترض في المجموع قولهم كعاقد ثلاثة وخمسين، فإن شرطه عند أهل الحساب أن يضع الخنصر على البنصر
وليس مرادا هنا بل مرادهم أن يضعها على الراحة كالبنصر والوسطى، وهي التي يسمونها تسعة وخمسين ولم ينطقوا
بها تبعا للخبر. وأجاب في الإقليد بأن عبرة وضع الخنصر على البنصر في عقد ثلاثة وخمسين وهي طريقة أقباط مصر،
ولم يعتبر غيرهم فيها ذلك، وقال في الكفاية: عدم اشتراط ذلك طريقة المتقدمين اه‍. وقال ابن الفركاح: إن عدم
الاشتراط طريقة لبعض الحساب وعليه يكون لتسعة وخمسين هيئة أخرى، أو تكون الهيئة الواحدة مشتركة بين
العددين فيحتاج إلى قرينة. واعلم أن الخلاف في الأفضل فكيف فعل المصلي من الهيئات كأن أرسل الابهام مع
المسبحة أو وضعه على الوسطى أو حلق بينهما بإحدى الكيفيتين المتقدمتين أو جعل رأسها بين عقدتيه، أتى بالسنة لورود
الاخبار بها جميعا، وكأنه (ص) كان يفعل مرة كذا ومرة كذا، ولعل مواظبته على الأول أكثر، فلذا كان
أفضل، وقال ابن الرفعة: وصححوا الأول لأن روايته أفقه.
فائدة: الابهام من الأصابع مؤنث ولم يحك الجوهري غيره. وحكى في شرح المجمل التذكير والتأنيث، وجمعها أباهم
على وزن أكابر، وقال الجوهري: أباهيم بزيادة ياء. وقيل: كانت سبابة قدم النبي (ص) أطول من الوسطى، والوسطى
أطول من البنصر، والبنصر أطول من الخنصر، وعبارة الدميري توهم أن ذلك في يده. (والصلاة على النبي (ص)
فرض في التشهد) الذي يعقبه سلام وإن لم يكن للصلاة تشهد أول كما في صلاة الصبح والجمعة، فقوله: (الأخير) جرى
173

على الغالب من أن أكثر الصلوات الخمس لها تشهدان لقوله تعالى: * (صلوا عليه) * قالوا: وقد أجمع العلماء على أنها لا تجب
في غير الصلاة فتعين وجوبها فيها، والقائل بوجوبها مرة في غيرها محجوج بإجماع من قبله، ولحديث: قد عرفنا كيف
نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ فقال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد إلخ، متفق عليه، وفي رواية:
كيف نصلي عليك إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا؟ فقال: قولوا إلخ، رواها الدارقطني وابن حبان في صحيحه والحاكم
في مستدركه وقال: إنه على شرط مسلم. والمناسب لها من الصلاة التشهد آخرها فتجب فيه، أي بعده، كما صرح به في
المجموع. وقد صلى النبي (ص) على نفسه في الوتر كما رواه أبو عوانة في مسنده وقال: صلوا كما رأيتموني أصلي ولم يخرجها
شئ عن الوجوب، بخلافها في التشهد الأول لما مر فيه. وأما عدم ذكرها في خبر المسئ صلاته فمحمول على أنها كانت
معلومة له، ولهذا لم يذكر له التشهد والجلوس له والنية والسلام. وإذا وجبت الصلاة عليه (ص) وجب القعود لها
بالتبعية، ولا يؤخذ وجوب القعود لها من عبارة المصنف، فلو أخر القعود فقال: والقعود لهما كان أولى. (والأظهر سنها
في الأول) أي الاتيان بها فيه، أي بعده تبعا له لأنها ذكر يجب في الأخير فيسن في الأول كالتشهد، والثاني: لا تسن
فيه لبنائه على التخفيف. (ولا تسن) الصلاة (على الآل في) التشهد (الأول على الصحيح) لبنائه على التخفيف،
والثاني: تسن فيه كالصلاة على النبي (ص) فيه إذ لا تطويل في قوله وآله أو آل محمد، وكذا اختاره الأذرعي. وقال
المصنف في التنقيح: إن التفرقة بينهما فيها نظر، فينبغي أن يسنا جميعا أو لا يسنا، ولا يظهر فرق مع ثبوت الجمع بينهما
في الأحاديث الصحيحة اه‍. والخلاف كما في الروضة وأصلها مبني على وجوبها في الأخير، فإن لم تجب فيه
وهو الراجح
كما سيأتي لم تسن في الأول جزما، وسيأتي تعريف الآل في كتاب قسم الصدقات إن شاء الله تعالى. وما رجحه المصنف من
أن الخلاف وجهان رجحه في مجموعه، ورجح في الروضة أنه قولان. (وتسن في) التشهد (الآخر، وقيل تجب) فيه لقوله
(ص) في الحديث السابق: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد والامر يقتضي الوجوب، ويجري الخلاف في
الصلاة على إبراهيم (ص) كما حكاه في البيان عن صاحب الفروع (وأكمل التشهد مشهور) ورد فيه أحاديث صحيحة
بألفاظ مختلفة، اختار الشافعي رضي الله تعالى عنه منها خبر ابن عباس رضي الله تعالى عنه قال: كان رسول الله (ص)
يعلمنا التشهد فكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام
علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله رواه مسلم على رواية ابن مسعود. وهي
التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين أشهد
أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وعلى رواية عمر، وهي: التحيات لله الزاكيات لله الطيبات لله الصلوات لله
السلام عليك إلى قوله: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله لزيادة المباركات فيه ولموافقة قوله تعالى: * (تحية من عند الله
مباركة طيبة) * ولتأخره عن تشهد ابن مسعود. قال المصنف: وكلها مجزئة يتأدى بها الكمال، وأصحها خبر ابن مسعود
ثم خبر ابن عباس وعلل بما ذكر، أي فالاختيار من حيث الأفضلية. (وأقله: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة
الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله). قال في المجموع:
لورود إسقاط المباركات وما يليها في بعض الروايات. واعترض بأن إسقاط المباركات صحيح ثبت في الصحيحين، وأما
الصلوات والطيبات فلم يرد إسقاطهما في شئ من التشهدات التي ذكرها، وصرح الرافعي بأن حذفهما لم يرد وعلل
الجواز بكونهما تابعين للتحيات، وجعل الضابط في جواز الحذف: إما الاسقاط في رواية وإما التبعية. وقد يجاب بأنها
قد تكون سقطت في غير الروايات التي ذكرها، وبأن الرافعي ناف والمصنف مثبت، والمثبت مقدم على النافي.
174

وتعريف السلام أفضل كما قال المصنف من تنكيره لكثرته في الاخبار، وكلام الشافعي، ولزيادته وموافقته التحلل،
وصحح الرافعي أنهما سواء. وقيل: تنكيره أفضل ولا يسن في أول التشهد بسم الله وبالله على الأصح، والحديث فيه
ضعيف. والتحيات جمع تحية: وهي ما يحيا بها من سلام وغيره. وقيل: الملك، وقيل: العظمة، وقيل: السلامة من الآفات
وجميع وجوه النقص، والقصد بذلك الثناء على الله تعالى بأنه مالك لجميع التحيات من الخلق، وإنما جمعت لأن كل واحد
من الملوك كان له تحية معروفة يحيا بها. ومعنى المباركات الناميات. والصلوات الصلوات الخمس، وقيل: كل الصلوات
والطيبات الأعمال الصالحة، وقيل: الثناء على الله تعالى، وقيل: ما طاب من الكلام. والسلام قيل: معناه اسم السلام، أي
اسم الله عليك. وقيل: معناه سلم الله عليك، ومن سلم الله عليه سلم. وعلينا: أي الحاضرين من إمام ومأموم وملائكة
وغيرهم. والعباد جمع عبد. والصالحين جمع صالح وهو القائم بما عليه من حقوق الله تعالى وحقوق عباده. والرسول
هو الذي يبلغ خبر من أرسله.
تنبيه: قضية كلام المصنف عدم اشتراط ترتيب التشهد لأنه ذكره بغير حرف عطف وهو الأصح، لكن محله
ما لم يغير ترك الترتيب المعنى، فإن غيره لم يصح قطعا، وتبطل صلاته إن تعمد كما في المجموع. وقضيته أيضا عدم اشتراط
الموالاة، ولكن الراجح وجوبها كما في التتمة، وقال ابن الرفعة: إنه قياس ما مر في قراءة الفاتحة. (وقيل: يحذف وبركاته)
للغني عنه برحمة الله. وقيل: يحذف (والصالحين) للغنى عنه بإضافة العباد إلى الله تعالى، لانصرافه إلى الصالحين كما في قوله
تعالى: * (عينا يشرب بها عباد الله) * واعترض البلقيني على المصنف بأن ما صححه هنا في أقل التشهد من لفظة وبركاته مخالف
لقوله: إنه لو تشهد بتشهد ابن مسعود أو غيره جاز فإنه ليس في تشهد عمر وبركاته. وأجيب عنه بأن المراد به أنه لو
تشهد بتشهد عمر بكماله أجزأه، فأما كونه يحذف بعض تشهد عمر اعتمادا على أنه ليس في تشهد غيره ويحذف وبركاته
لأنها ليست في تشهد عمر فقد لا يكفي لأنه لم يأت بالتشهد على واحدة من الكيفيات المروية. (و) قيل: (
يقول: وأن محمدا
رسوله) بدل وأشهد إلخ، لأنه يؤدي معناه. (قلت: الأصح) يقول: (وأن محمدا رسول الله وثبت في صحيح مسلم، والله
أعلم) قال الشارح: لكن بلفظ وأن محمدا عبده ورسوله، فالمراد إسقاط أشهد، أشار بذلك إلى دفع اعتراض الأسنوي، وهو
أن الثابت في ذلك ثلاث كيفيات: إحداها: وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، رواه الشيخان من حديث ابن مسعود. الثانية: وأشهد
أن محمدا رسول الله، رواه مسلم. الثالثة: وأن محمدا عبده ورسوله بإسقاط وأشهد، رواه مسلم أيضا من رواية أبي موسى،
فليس ما قاله واحدا من الثلاثة، لأن الاسقاط إنما ورد مع زيادة العبد اه‍. وأجاب عنه الغزي أيضا بأن قصد المصنف
الرد على الرافعي في تضعيفه إسقاط لفظة أشهد الثانية، فقال: هي ثابتة في صحيح مسلم، فهذا القدر هو مقصود المصنف
والباقي لم يقع عن قصد اه‍. وبالجملة فالاعتراض قوي. وقال الأذرعي: الصواب إجزاء وأن محمدا رسوله لثبوته في
تشهد ابن مسعود بلفظ عبده ورسوله، وقد حكوا الاجماع على جواز التشهد بالروايات كلها ولا أعلم أحدا اشترط لفظة عبده اه‍.
وهذا هو المعتمد كما اعتمده شيخي لما ذكر. (وأقل الصلاة على النبي (ص) وآله) حيث أوجبنا الصلاة على الآل في
التشهد الأخير أو سنناها في الأول على المرجوح فيهما أو سنناها على الراجح في الأخير: (اللهم صل على محمد وآله) لحصول
اسم الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: * (صلوا عليه وسلموا تسليما) *. فإن قيل: لم يأت بما في الآية لأن فيها اسم السلام ولم
يأت به؟ أجيب بأنه حصل بقوله: السلام عليك إلخ، وأكمل من هذا أن يقول: وعلى آل محمد، ولا يتعين هذا اللفظ
وإن كان ظاهر كلام المصنف تعين تسمية محمد، وصرح به القاضي حسين، فلو قال: صلى الله على محمد أو على رسوله
أو على النبي كفى دون عليه، وكذا على أحمد كما صححه في التحقيق والأذكار. (والزيادة) على ذلك (إلى) قوله: (حميد
175

مجيد) الواردة فيه، وهي: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد
وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وفي الأذكار، وغير الأفضل أن يقول: اللهم صلي على
محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد
النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وكذا
في التحقيق. قال في المهمات: واشتهر زيادة سيدنا قبل محمد، وفي كونها أفضل نظر، وفي حفظي أن الشيخ عز الدين
بناه على أن الأفضل سلوك الأدب أم امتثال الامر؟ فعلى الأول يستحب دون الثاني اه‍. وظاهر كلامهم اعتماد الثاني.
ونقل الرافعي عن الصيدلاني أن من الناس من يزيد: وارحم محمدا كما ترحمت على إبراهيم، وربما يقولون: كما رحمت
قال: وهذا لم يرد في الخبر، وقال المصنف: إنه بدعة. (سنة في) التشهد (الآخر) بخلاف الأول فلا تسن فيه كما لا تسن
فيه الصلاة على الآل لبنائه على التخفيف كما مر. قال الأذرعي: وهذا حسن للمنفرد وإمام الراضين بالتطويل دون
غيرهما، بل في مختصر الجويني وغيره أن السنة أن لا يزيد الإمام هنا على: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد اه‍.
وظاهر كلام الأصحاب يخالفه. وآل إبراهيم كما قال الزمخشري: إسماعيل وإسحاق وأولادهما.
فائدة: قال محمد بن أبي بكر البارزي: كل الأنبياء بعد سيدنا إبراهيم الخليل من ولد إسحاق إلا نبينا (ص) فإنه من
إسماعيل عليه السلام وعلى بقية الأنبياء. وإنما خص إبراهيم بالذكر، لأن الصلاة من الله هي الرحمة ولم تجمع الرحمة
والبركة لنبي غيره، قال تعالى: * (رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) * فسأل (ص) إعطاء
ما تضمنته هذه الآية مما سبق إعطاؤه لإبراهيم. فإن قيل: تقرر أن نبينا (ص) أفضل الأنبياء فكيف يسأل أن يصلي
عليه كما صلى على إبراهيم؟ أجيب بأن الكلام قد تم عند قوله: اللهم صل على محمد، واستأنف: وعلى آل محمد إلخ. والحميد:
الذي يحمد فعله. والمجيد: الكامل الشرف. (وكذا) يسن (الدعاء بعده) أي التشهد الآخر بما اتصل به من الصلاة المذكورة
للإمام وغيره، لخبر: إذا قعد أحدكم للصلاة فليقل التحيات لله إلى آخرها ثم ليختر من المسألة ما شاء أو ما أحب رواه
مسلم، وفي رواية للترمذي: ثم يدعو بما شاء وفي رواية للبخاري: ثم ليختر من الدعاء أحبه إليه فيدعو به بل يكره
تركه كما هو قضية النص، وقضية إطلاقه كالروضة، وأصلها أنه لا فرق في الدعاء بين الديني والدنيوي. وقال الماوردي
وغيره: إنه سنة في الديني مباح في الدنيوي، واستحسن. ولو دعا بدعاء محرم بطلت صلاته كما في الشامل. واحترز بقوله: بعده عن التشهد
الأول فإنه يكره فيه الدعاء طلبا للتخفيف. (ومأثوره) بالمثلثة: أي منقوله عن النبي (ص) (أفضل) من
غيره لتنصيص الشارع عليه. (ومنه) أي المأثور: (اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت إلى آخره) وهو: وما أسررت وما أعلنت
وما أسرفت وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت. رواه مسلم من حديث علي رضي الله تعالى
عنه، وروى أيضا من رواية أبي هريرة: إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليتعوذ بالله من أربع: من عذاب جهنم ومن عذاب القبر
ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال. وأوجب بعض العلماء هذا الدعاء. وقال أبو الوليد النيسابوري
إن المراد بالتأخر في الحديث الأول إنما هو بالنسبة لما وقع، لاستحالة الاستغفار قبل الذنب. ورد بأن الطلب قبل الوقوع أن
يغفر إن وقع لا يستحيل، بل المستحيل طلب المغفرة قبل الوقوع. والمراد بالمحيا والممات في الحديث الثاني هما: الحياة والموت.
وسمي الدجال بالمسيح لأنه يمسح الأرض كلها: أي يطوفها إلا مكة والمدينة، وقيل غير ذلك. وسمي الدجال لكذبه وتمويهه.
وروى البخاري: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا بالمثلثة في أكثر الروايات وفي بعضها بالباء الموحدة ولا يغفر الذنوب
إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم. (ويسن أن لا يزيد) الإمام في الدعاء (على قدر) أقل (التشهد
والصلاة على النبي (ص)) كما قاله العمراني نقلا عن الأصحاب لأنه تبع لهما. وقضية كلام المصنف كأصله أن المساواة
لا يطلب تركها، ولكن الأفضل كما في الروضة وأصلها أن يكون أقل منهما، وهو المنصوص في الام والمختصر، فإن زاد عليهما لم
176

يضر، لكن يكره التطويل بغير رضا المأمومين، وخرج بالإمام غيره فيطيل ما أراد ما لم يخف وقوعه به في سهو كما جزم به
جمع ونص عليه في الام، وقال: فإن لم يزد على ذلك كرهته. وممن جزم بذلك المصنف في مجموعه فإنه ذكر النص ولم يخالفه.
(ومن عجز عنهما) أي التشهد والصلاة على النبي (ص) وهو ناطق، والكلام في الواجبين لما سيأتي، (ترجم)
عنهما وجوبا لأنه لا إعجاز فيهما. أما القادر فلا يجوز له ترجمتهما وتبطل به صلاته. (ويترجم للدعاء) المندوب (الذكر
المندوب) ندبا كالقنوت وتكبيرات الانتقالات وتسبيحات الركوع والسجود، (العاجز) لعذره (لا القادر) لعدم عذره
(في الأصح) فيهما كالواجب لحيازة الفضيلة. والثاني: يجوز للقادر أيضا لقيام غير العربية مقامها في أداء المعنى. والثالث:
لا يجوز لهما إذ لا ضرورة إليهما، بخلاف الواجب. ولفظ المندوب زاده على المحرر، ولو عبر بالمأثور كان أولى، فإن
الخلاف المذكور محله في المأثور، أما غير المأثور بأن اخترع دعاء أو ذكرا بالعجمية في الصلاة فلا يجوز كما نقله الرافعي
عن الإمام تصريحا في الأولى، واقتصر عليها في الروضة وإشعارا في الثانية وتبطل به صلاته. (الثاني عشر) من الأركان:
(السلام) لخبر مسلم: تحريمها التكبير وتحليلها التسليم قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم. قال القفال الكبير:
والمعنى في السلام أن المصلي كان مشغولا عن الناس وقد أقبل عليهم. (وأقله السلام عليكم) مرة، فلا يجزئ السلام
عليهم ولا تبطل به صلاته لأنه دعاء لغائب، ولا عليك ولا عليكما ولا سلامي عليكم ولا سلام عليكم بلا تنوين، فإن تعمد
ذلك مع علمه بالتحريم بطلت صلاته، ويجزئ عليكم السلام مع الكراهة كما نقله في المجموع عن النص. (والأصح جواز
سلام عليكم) بالتنوين كما في التشهد لأن التنوين يقوم مقام الألف واللام. (قلت: الأصح المنصوص لا يجزئه والله أعلم)
لأنه لم ينقل، لأن الأحاديث قد صحت بأنه (ص) كان يقول: السلام عليكم ولم ينقل عنه خلافه،
بخلاف سلام التشهد فإنه ورد فيه التعريف والتنكير. فإن قيل عليكما السلام ولم يرد وقلتم فيه بالاجزاء، أجيب بأن
الصيغة الواردة فيه ولكنها مقلوبة ولذاكره. (و) الأصح (أنه لا تجب نية الخروج) من الصلاة قياسا على سائر
العبادات، ولان النية السابقة منسحبة على جميع الصلاة، ولكن تسن خروجا من الخلاف. والثاني: تجب مع السلام
ليكون الخروج كالدخول فيه بنية، وعلى هذا يجب قرنها بالتسليمة الأولى، فإن قدمها عليها أو أخرها عنها عامدا بطلت
صلاته. واستثنى الإمام على الأول ما إذا سلم المتطوع في أثناء صلاته قصدا، فإن قصد التحلل يفيد الاقتصار على بعض
ما نوى. وإن سلم عمدا ولم يقصد التحلل كان كلاما عمدا مبطلا، وحينئذ فلا بد من قصد التحلل في حق المتنفل الذي
يريد الاقتصار على بعض ما نواه، والفرق بينه وبين قصد التحلل في آخر الصلاة أن المتنفل المسلم في أثناء صلاته يأتي
بما لم تشتمل عليه نية عقده فلا بد من قصده. (وأكمله: السلام عليكم ورحمة الله) لأنه المأثور. ولا تسن زيادة
وبركاته كما صححه في المجموع وصوبه. (مرتين) إلا أن يعرض له عقب الأولى ما ينافي صلاته فيجب الاقتصار على
الأولى، وذلك كأن خرج وقت الجمعة بعد الأولى، أو انقضت مدة المسح أو شك فيها، أو تخرق الخف، أو نوى القاصر
الإقامة، أو انكشفت عورته، أو سقط عليه نجس لا يعفى عنه، أو تبين له خطؤه في الاجتهاد، أو عتقت أمة مكشوفة الرأس
ونحوه، أو وجد العاري سترة ذكره في الخادم. ويسن إذا أتى بهما أن يفصل بينهما كما صرح به الغزالي في الاحياء،
وأن تكون الأولى (يمينا، و) الأخرى (شمالا) للاتباع، رواه ابن حبان وغيره. (ملتفتا في) التسليمة (الأولى حتى
يرى خده الأيمن) فقط لا خداه، (وفي) التسليمة (الثانية) حتى يرى خده (الأيسر) كذلك، فيبتدئ السلام
مستقبل القبلة ثم يلتفت ويتم سلامه بتمام التفاته، لما في مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص قال: كنت أرى النبي
177

(ص) يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده، وفي رواية الدارقطني: كان يسلم عن يمينه حتى
يرى بياض خده وعن يساره حتى يرى بياض خده. (ناويا السلام) بمرة اليمين الأولى (على من عن يمينه، و) بمرة
اليسار على من عن (يساره) وبأيهما شاء على محاذيه وإن لم يفهم من عبارته قياسا على ما سيأتي. (من ملائكة و) مؤمني
(إنس وجن) إماما كان أو مأموما، وأما المنفرد فينوي بالمرتين على الملائكة كما في الروضة وأصلها، وعلى مؤمني
الإنس والجن كما يؤخذ مما مر. (وينوي الإمام) زيادة على ما مر (السلام على المقتدين) من عن يمينه بالمرة الأولى،
ومن عن يساره بالثانية، وعلى من خلفه بأيهما شاء. (وهم) أي المقتدون ينوون (الرد عليه) وعلى من سلم عليهم
من المأمومين، فينويه من عن يمين المسلم من إمام ومأموم بالتسليمة الثانية ومن على يساره بالأولى وعلى من خلفه وأمامه
بأيهما شاء. والأولى أولى لأنه قد اختلف الترجيح في الثانية هل هي من الصلاة أو لا؟ فصححا في الجمعة أنها
ليست
من الصلاة، وصححا في آخر صلاة الجماعة أنها منها، والمعتمد الأول. فإن قيل: كيف ينوي من على يسار الإمام الرد
عليه بالأولى لأن الرد إنما يكون بعد السلام والإمام إنما ينوي السلام من على يساره بالثانية، فكيف يرد عليه
قبل أن يسلم؟ أجيب بأن هذا مبني على أن المأموم إنما يسلم الأولى بعد فراغ الإمام من التسليمتين كما سيأتي، والأصل
في ذلك حديث علي رضي الله تعالى عنه: كان النبي (ص) يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن
بالتسليم على الملائكة المقربين ومن معهم من المسلمين والمؤمنين رواه الترمذي وحسنه، وحديث سمرة: أمرنا
رسول الله (ص) أن نرد على الإمام، وأن نتحاب، وأن يسلم بعضنا على بعض رواه أبو داود وغيره.
فإن قيل: قولهم ينوي السلام على المقتدين لا معنى للنية، فإن الخطاب كان في الصرف إليهم فلا معنى للنية، والصريح
لا يحتاج إلى نية كما لا يحتاج المسلم خارج الصلاة إذا سلم على قومه إلى نية في أداء السنة. أجيب بأنه لما عارض ذلك
تحلل الصلاة احتاج إلى نية بخلافه خارجها. (الثالث عشر) من الأركان: (ترتيب الأركان كما ذكرنا) في عدها المشتمل
على قرن النية بالتكبير وجعلهما مع القراءة في القيام وجعل التشهد والصلاة على النبي (ص) في القعود، فالترتيب
عند من أطلقه مراد فيما عدا ذلك، ومنه الصلاة على النبي (ص) فإنها بعد التشهد كما جزم به في المجموع
وتقدمت الإشارة إليه، فهي مرتبة وغير مرتبة باعتبارين. ودليل وجوب الترتيب الاتباع كما في الأخبار الصحيحة
مع خبر: صلوا كما رأيتموني أصلي. وعده من الأركان بمعنى الفروض كما مر أول الباب صحيح، وبمعنى الاجزاء فيه
تغليب. ولم يتعرض المصنف هنا لعد الولاء ركنا، وصوره الرافعي تبعا للإمام
بعدم تطويل الركن القصير، وابن الصلاح بعدم طول الفصل بعد سلامه ناسيا. ومن صور فقد الولاء: ما إذا شك في نية الصلاة ولم يحدث ركنا قوليا أو فعليا
ومضى زمن طويل فتبطل صلاته كما مر لانقطاع نظمها، ولم يعده الأكثرون ركنا لكونه كالجزء من الركن القصير
أو لكونه أشبه بالتروك. وقال المصنف في تنقيحه: الولاء والترتيب شرطان، وهو أظهر من عدهما ركنين اه‍.
والمشهور عد الترتيب ركنا والولاء شرطا. وأما السنن فترتيب بعضها على بعض كالاستفتاح والتعوذ، وترتيبها على
الفرائض كالفاتحة، والسورة شرط في الاعتداد بها سنة لا في صحة الصلاة. (فإن تركه) أي ترتيب الأركان (عمدا) بتقديم
ركن فعلي، ومن صوره ما ذكره المصنف بقوله: (بأن سجد قبل ركوعه) أو ركع قبل قراءته، أو سلم كأن سلم قبل
سجوده، (بطلت صلاته) إجماعا لتلاعبه. أما لو قدم ركنا قوليا غير سلام كتشهد على سجود، أو قوليا على قولي
كالصلاة على النبي (ص) على التشهد فإنها لا تبطل، لكن يعتد بما قدمه بل يعيده. ولو عبر بكأن بدل
بأن لكان أولى، لكن كثيرا ما يقع في كلامهما التعبير بأن مكان كأن وهو خلاف المصطلح عليه بينهم. (وإن سها)
178

أي ترك الترتيب سهوا، (فما) فعله (بعد المتروك لغو) لوقوعه في غير محله. (فإن تذكره) أي المتروك (قبل بلوغ) فعل
(مثله) من ركعة أخرى (فعله) بعد تذكره فورا، فإن تأخر بطلت صلاته.
تنبيه: قوله تذكره غير شرط، فلو شك في ركوعه أنه قرأ الفاتحة أو في سجوده أنه ركع أم لا وجب أن يقوم
في الحال، فلو مكث قليلا ليتذكر بطلت، بخلاف ما لو شك في القيام أنه قرأ الفاتحة أو لا فسكت ليتذكر. وقوله فعله
يستثنى منه ما لو تذكر في سجوده ترك الركوع فإنه يرجع إلى القيام ليركع منه ولا يكفيه أن يقوم راكعا، إذ الانحناء
غير معتد به، ففي هذه الصورة زيادة على المتروك. (وإلا) أي وإن لم يتذكر حتى بلغ مثله، (تمت به ركعته) المتروك
آخرها كسجدته الثانية منها، ويأتي بما بعده إن كان في أثنائها كالقراءة والركوع. (وتدارك الباقي) من صلاته لأنه ألغى
ما بينهما. هذا إذا عرف عين المترك وموضعه، فإن لم يعرف أخذ بالمتيقن وأتى بالباقي، وفي الأحوال كلها يسجد للسهو
كما سيأتي في بابه. نعم إن وجب الاستئناف بأن ترك ركنا وجوز أن يكون المتروك النية أو تكبيرة الاحرام وجب الاستئناف، أو كان المتروك
السلام وتذكر قبل طول الفصل سلم ولا سجود للسهو، وكذا إن طال كما بحثه شيخنا لأن غايته أنه سكوت طويل وتعمد
طول السكوت لا يضر كما مر فلا يسجد لسهوه، ولا تجزئ سجدة التلاوة عن سجدة من نفس الصلاة كما في المجموع
عن النص. فإن قيل: لو تشهد التشهد الأخير ظانا أنه الأول ثم علم أجزأه، وكذا لو قام عن السجود وجلس بنية
الاستراحة ظانا أنه سجد السجدة الثانية ثم تبين أنه لم يسجدها أجزأه ذلك عن الجلوس بين السجدتين وسجد الثانية،
فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن نية الصلاة لم تشمل سجدة التلاوة لأنها ليست من الصلاة بل هي سنة فيها بخلاف
ما ذكر، وتقدم أن المعتمد أن التسليمة الثانية ليست من الصلاة، وعليه إن ظن أنه سلم الأولى فسلم الثانية فتبين
له أنه لم يسلم الأولى لم تجز الثانية عنها وإن نازع في ذلك بعض المتأخرين. (فلو تيقن في آخر صلاته) أو
بعد فراغه منها
ولم يطل الفصل عرفا ولم تتصل به نجاسة، (ترك سجدة من) الركعة (الأخيرة سجدها وأعاد تشهده) لأنه وقع بعد
متروك فلم يعتد به. (أو من غيرها) أي الأخيرة (لزمه ركعة) لأن الناقصة قد تكملت بسجدة من الركعة التي بعدها
وألغي باقيها. (وكذا إن شك فيهما) أي هل ترك السجدة من الأخيرة أو من غيرها جعله من غيرها أخذا بالأحوط ولزمه
ركعة أخرى وسجد للسهو في الصورتين. (وإن علم في قيام ثانية) مثلا (ترك سجدة) من الأولى نظرت، (فإن كان جلس
بعد سجدته) التي قام عنها (سجد) من قيامه اكتفاء بجلوسه، سواء أنوى به الاستراحة أم لا، (وقيل: إن جلس بنية
الاستراحة لم يكفه) لقصده سنة، وتقدم الفرق بينه وبين سجدة التلاوة حيث لم تكف عن السجود، وقيل: لا بد أن
يجلس مطلقا ثم يسجد لينتقل من الجلوس إلى السجود لأن السجود هكذا واجب. (وإلا) أي وإن لم يكن جلس بعد
سجدته التي قام عنها، (فليجلس مطمئنا ثم يسجد) لأن الجلوس ركن فلا بد منه، وكذا الحكم في ترك سجدتين فأكثر
تذكر مكانهما أو مكانها، فإن كان قد سبق له جلوس فيما سبق له من الركعات تمت ركعته السابقة بالسجدة الأولى وإلا
فبالثانية. (وقيل يسجد فقط) اكتفاء بالقيام عن الجلوس لأن القصد به الفصل وهو حاصل بالقيام، ويسجد في الصورتين
للسهو. (وإن علم في آخر رباعية ترك سجدتين أو ثلاث جهل موضعها) أي السجدات الخمس في المسألتين، (وجب ركعتان)
أخذا بالأسوأ. أما في الأولى فلان الأسوأ تقدير سجدة من الركعة الأولى وسجدة من الثالثة، فتنجبر الركعة الأولى
بسجدة من الثانية ويلغو باقيها، وتنجبر الركعة الثالثة بسجدة من الرابعة ويلغو باقيها. وأما في الثانية فلأنك إذا قدرت
179

ما ذكر في السجدتين وقدرت معه ترك سجدة أخرى من أي ركعة شئت لم يختلف الحكم. (أو) علم ترك (أربع) من
رباعية، (فسجدة ثم ركعتان) لاحتمال ترك ثنتين من ركعة وثنتين من ركعتين غير متواليتين لم يتصلا بها كترك واحدة
من الأولى وثنتين من الثانية وواحدة من الرابعة، فالحاصل ركعتان إلا سجدة، إذ الأولى تمت بالثالثة والرابعة ناقصة
سجدة فيتمها ويأتي بركعتين، بخلاف ما إذا اتصلتا بها كترك واحدة من الأولى وثنتين من الثانية وواحدة من الثالثة
فلا يلزم فيها إلا ركعتان. وقال الشارح: لاحتمال أنه ترك سجدتين من الركعة الأولى وسجدة من الثانية وسجدة من الرابعة
فتلغو الأولى وتكمل الثانية بالثالثة اه‍، ولو قال فتكمل الأولى بسجدتين من الثانية والثالثة ويلغو باقيهما والرابعة
ناقصة سجدة لكان أولى لأن الأولى لا تلغي. (أو) علم ترك (خمس أو ست جهل موضعها فثلاث) لاحتمال ترك واحدة
من الأولى وثنتين من الثانية وثنتين من الثالثة والسادسة من الأولى أو من الرابعة فتكمل الأولى بالرابعة ويبقى ثلاث
ركعات. (أو) علم ترك (سبع) جهل موضعها، (فسجدة ثم ثلاث) إذ الحاصل له ركعة إلا سجدة، أو علم ترك ثمان
جهل موضعها فسجدتان ثم ثلاث ركعات. ويتصور ذلك بترك طمأنينة أو سجود على نحو عمامة تتحرك بحركته، وفي
كل ذلك يسجد للسهو كما مرت الإشارة إلى بعضه.
تنبيه: ذكر بعض المتأخرين كالأصفوني والأسنوي اعتراضا على الجمهور، فقال: يلزم بترك ثلاث سجدات سجدة
وركعتان، لأن أسوأ الأحوال أن يكون المتروك السجدة الأولى من الركعة الأولى والثانية من الثانية وواحدة من
الرابعة، وحينئذ فيحصل من الثانية جبرا لجلوس بين السجدتين لا جبر السجود، إذ لا جلوس محسوب في الأول فتكمل
الركعة الأولى بالسجدة الأولى من الثالثة وتفسد الثانية وتجعل السجدة الثانية متروكة من الرابعة، فيلزم سجدة وركعتان،
ويلزم بتروك أربع سجدات ثلاث ركعات لاحتمال أنه ترك السجدة الأولى من الأولى والثانية من الثانية، فيحصل
له منهما ركعة إلا سجدة، وأنه ترك ثنتين من الثالثة فلا تتم الركعة إلا بسجدة من الرابعة ويلغو ما سواها، ويلزمه
في ترك الست ثلاث وسجدة لاحتمال أنه ترك السجدة الأولى من الأولى والثانية من الثانية وثنتين من الثالثة وثنتين
من الرابعة. وأجيب عنه بأن ذلك خلاف فرض الأصحاب، فإنهم فرضوا ذلك فيما إذا أتى بالجلسات المحسوبات، بل قال
الأسنوي: إنما ذكرت هذا الاعتراض وإن كان واضح البطلان لأنه قد يختلج في صدر من لا حاصل له، وإلا فمن حق
هذا السؤال السخيف أن لا يدون في تصنيف. وحكى ابن السبكي في التوشيح أن والده وقف على رجز له في الفقه، وفيه
اعتماد هذا الاعتراض، فكتب على الحاشية:
لكنه مع حسنه لا يرد إذ الكلام في الذي لا يفقد إلا السجود فإذا ما انضم له ترك الجلوس فليعامل عمله
وإنما السجدة للجلوس وذاك مثل الواضح المحسوس
قلت: يسن إدامة نظره) أي المصلي (إلى موضع سجوده) في جميع صلاته، لأن جمع النظر في موضع أقرب
إلى الخشوع وموضع سجوده أشرف وأسهل. وخرج بموضع سجوده المصلي على جنازة فينظر إليها. واستثنى من النظر
إلى موضع السجود حالة التشهد فإن السنة إذا رفع مسبحته أن لا يجاوز بصره إشارته، ذكره في المجموع، وفيه حديث
صحيح في سنن أبي داود. وعن جماعة أن المصلي في المسجد الحرام ينظر إلى الكعبة، لكن صوب البلقيني أنه كغيره،
وقال الأسنوي: إن استحباب نظره إلى الكعبة في الصلاة وجه ضعيف، وقيل: من صلى خلف نبي نظر إليه، وقيل:
ينظر في القيام إلى موضع سجوده، وفي الركوع إلى ظهر قدميه، وفي السجود إلى أنفه، وفي القعود إلى حجره، لأن
امتداد البصر يلهي فإذا قصر كان أولى، وبهذا جزم البغوي والمتولي. (وقيل: يكره تغميض عينيه) قاله العبدري من
أصحابنا تبعا لبعض التابعين لأن اليهود تفعله، ولم ينقل فعله عن النبي (ص) ولا عن أحد من الصحابة
رضي الله تعالى عنهم. وقد ورد في النهي عنه حديث ضعيف كما أشار إليه البيهقي. (وعندي لا يكره) عبر في الروضة
180

بالمختار، (إن لم يخف) منه (ضررا) على نفسه أو غيره لعدم ورود نهي فيه كما مر، فإن خاف منه ضررا كره. قال
ابن النقيب: وينبغي أن يحرم في بعض صوره، وأفتى ابن عبد السلام بأنه إذا كان عدم ذلك يشوش عليه خشوعه
أو حضور قلبه مع ربه فالتغميض أولى من الفتح. (و) يسن (الخشوع) فيتصف به ظاهره وباطنه ويستحضر أنه واقف
بين يدي ملك الملوك يناجيه وأن صلاته معروضة عليه، ومن الجائز أن يردها عليه ولا يقبلها. والأصل في ذلك قوله تعالى:
* (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) * فسره علي رضي الله تعالى عنه بلين القلب وكف الجوارح، وخبر
مسلم: ما من عبد مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بوجهه وقلبه إلا وجبت له الجنة
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن النبي (ص) رأى رجلا يعبث بلحيته في الصلاة، فقال:
لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة، ولذلك قيل إنه شرط في جزء من الصلاة، فلو
سقط رداؤه أو طرف عمامته كره له تسويته إلا لضرورة كما ذكره في الاحياء. (و) يسن (تدبر القراءة) أي تأملها، لأن
بذلك يحصل مقصود الخشوع والأدب، قال تعالى: * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) *. ويسن ترتيل
القراءة وهو التأتي فيها، بل قال القاضي حسين: يكره تركه والاسراع في القراءة. ويسن للقارئ في الصلاة وخارجها
إذا مر بآية الرحمة أن يسأل الله الرحمة، أو بآية عذاب أن يستعيذ منه، أو بآية تسبيح أن يسبح، أو بآية مثل أن
يتفكر. وإذا قرأ: * (أليس الله بأحكم الحاكمين) * قال: بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، وإذا قرأ: * (فبأي حديث بعده
يؤمنون) * قال: آمنت بالله، وإذا قرأ: * (فمن يأتيكم بماء معين) * قال: الله رب العالمين. (و) يسن تدبر (الذكر)
قياسا على القراءة. وقد يفهم من هذا أن من قال سبحان الله مثلا غافلا عن مدلوله وهو التنزيه يحصل له ثواب
ما يقوله، وهو كذلك، وإن قال الأسنوي فيه نظر. (و) يسن (دخول الصلاة بنشاط) للذم على ترك ذلك، قال تعالى:
* (وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى) * والكسل: الفتور عن الشئ والتواني فيه وضده النشاط، وأنشد الشيخ
أبو حيان في ذم من ينتمي إلى الفلاسفة:
وما انتسبوا إلى الاسلام إلا لصون دمائهم أن لا تسألا فيأتون المناكر في نشاط ويأتون الصلاة وهم كسالى
(وفراغ قلب) من الشواغل الدنيوية، لأنه أعون على الخضوع والخشوع. وقال القاضي حسين: يكره أن يفكر
في صلاته في أمر دنيوي أو مسألة فقهية، أما التفكر في أمور الآخرة فلا بأس به، وأما فيما يقرؤه فمستحب.
فائدة فيها بشرى: روى ابن حبان في صحيحه من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا: إن العبد إذا قام يصلي
أتي بذنوبه فوضعت على رأسه أو على عاتقه فكلما ركع أو سجد تساقطت عنه، أي حتى لا يبقى منها شئ إن شاء الله
تعالى. (و) يسن (جعل يديه تحت صدره) وفوق سرته في قيامه وفي بدله، (آخذا بيمينه يساره) بأن يقبض بيمينه
كوع يساره وبعض ساعدها ورسغها للاتباع، روى بعضه مسلم وبعضه ابن خزيمة والباقي أبو داود. وقيل: يتخير بين
بسط أصابع اليمنى في عرض المفصل وبين نشرها صوب الساعد. والأصح كما في الروضة أن يحط يديه بعد التكبير تحت
صدره، وقيل: يرسلهما ثم يستأنف نقلهما إلى تحت صدره. قال الإمام: والقصد من القبض المذكور تسكين
اليدين
فإن أرسلهما ولم يعبث بهما فلا بأس كما نص عليه في الام. والكوع هو العظم الذي يلي إبهام اليد، والرسغ المفصل بين
الكف والساعد، وأما البوع فهو العظم الذي يلي إبهام الرجل كما قال بعضهم:
وعظم يلي الابهام كوع وما يلي * لخنصره الكرسوع والرسغ في الوسط
وعظم يلي إبهام رجل ملقب * ببوع فخذ بالعلم واحذر من الغلط
و) يسن (الدعاء في سجوده) لما روى مسلم أن النبي (ص) قال: أما السجود فأكثروا فيه من الدعاء
فقمن أي حقيق أن يستجاب لكم وفي رواية له: أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء
181

وفي لفظ: فاجتهدوا في الدعاء. وروى الحاكم عن علي أن النبي (ص) قال: الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين
ونور السماوات والأرض وفيه عن ثوبان عن النبي (ص) أنه قال: لا يرد القدر إلا الدعاء ولا يزيد في العمر
إلا البر وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، وفيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها: إن البلاء لينزل فيتلقاه الدعاء
فيعتلجان إلى يوم القيامة. وروى ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: من لم يسأل الله يغضب
عليه. ويبالغ المنفرد في الدعاء، ومأثور الدعاء أفضل، ومنه: اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله أوله وآخره سره
وعلانيته رواه مسلم. (و) يسن (أن يعتمد في قيامه من السجود والقعود على يديه) لأنه أشبه بالتواضع وأعون للمصلي،
ولثبوته في الصحيح عن فعله (ص). وكيفية الاعتماد أن يجعل بطن راحته وبطون أصابعه على الأرض،
وسواء فيه القوي والضعيف. وأما الحديث الذي في الوسيط عن ابن عباس: أن النبي (ص) كان إذا قام
من الصلاة وضع يده بالأرض كما يضع العاجن فليس بصحيح وإن صح حمله على ذلك، ويكون المراد بالعاجن
الشيخ الكبير لا عاجن العجين كما قيل:
فأصبحت كنيأ وأصبحت عاجنا * وشر خصال المرء كنت وعاجن
و) يسن (تطويل قراءة) الركعة (الأولى على الثانية في الأصح) للاتباع في الظهر والعصر، رواه الشيخان، وفي الصبح،
رواه مسلم، ويقاس غير ذلك عليه. وكذا يطول الثالثة على الرابعة إذا قرأ السورة فيهما كالأولى مع الثانية، والثاني: أنهما
سواء، ورجحه الرافعي ونقله في زيادة الروضة عن الجمهور ونص عليه في الام. وحملوا الحديث على أنه (ص)
أحس بداخل. ومحل الخلاف فيما لا نص فيه ولا مصلحة في خلافه، أما ما فيه نص بتطويل الأولى كصلاة الكسوف
والقراءة بالسجدة وهل أتى في صبح الجمعة أو بتطويل الثانية كسبح وهل أتاك في صلاة الجمعة أو العيد فيتبع أو
المصلحة
في خلافه كصلاة ذات الرقاع للإمام، فيسن له أن يخفف في الأولى ويطيل الثانية حتى تأتي الفرقة الثانية، ويسن للطائفتين
التخفيف في الثانية لئلا يطول في الانتظار، ويطيل الثانية في مسألة الزحام ليلحقه منتظر السجود. (و) يسن (الذكر)
والدعاء (بعدها) أي الصلاة، ثبت ذلك في الصحيحين بأنواع من الأذكار والأدعية، فمن ذلك حديث ثوبان قال: كان
رسول الله (ص) إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثا وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال
والاكرام. قيل للأذرعي وهو أحد رواته: كيف الاستغفار؟ قال يقول: أستغفر الله. ومنها ما روى مسلم عن كعب
ابن عجرة أن النبي (ص) قال: معقبات لا يخيب قائلهن دبر كل صلاة مكتوبة: ثلاثا وثلاثين تسبيحة، وثلاثا وثلاثين تحميدة
وأربعا وثلاثين تكبيرة، وفي رواية: من سبح الله في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمد الله ثلاثا وثلاثين وكبر الله ثلاثا وثلاثين (فتلك تسعة وتسعون)
ثم قال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير غفرت له خطاياه وإن كانت مثل
زبد البحر. قال المصنف: والأولى الجمع بين الروايتين، فيكبر أربعا وثلاثين ويقول لا إله إلا الله إلخ، وروي: من قال
دبر صلاة الفجر وهو ثان رجله قبل أن يتكلم لا إله إلا الله وحده ولا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل
شئ قدير عشر مرات كتب له عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات وكان في يومه ذلك في حرز (من كل مكروه وحرس)
من الشيطان رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وعن أبي أمامة أن رسول الله (ص) قال: من قرأ آية الكرسي في دبر كل
صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت رواه النسائي وابن حبان في صحيحه. والأحاديث في الباب كثيرة.
ويسن أن يبدأ من هذه الأذكار بالاستغفار، وسئل النبي (ص): أي الدعاء أسمع؟ أي أقرب إلى الإجابة،
قال: جوف الليل (الآخر) ودبر الصلوات المكتوبات رواه الترمذي. وقد ورد في ذلك أدعية مشهورة منها ما تقدم ومنها ما روى
أبو داود والنسائي بإسناد صحيح أن النبي (ص) أخذ بيد معاذ وقال: يا معاذ والله إني أحبك وأوصيك يا معاذ لا تدعن
دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. ويسن الاسرار بالذكر والدعاء إلا أن
يكون إماما يريد تعليم المأمومين فيجهر بها فإذا تعلموا أسر. قال في المجموع وغيره: ويستحب للإمام أن يقبل عليهم
182

في الذكر والدعاء، والأفضل جعل يمينه إليهم ويساره إلى المحراب، وقيل عكسه، وقال: الصيمري وغيره: يستقبلهم
بوجهه في الدعاء. وقولهم: من أدب الدعاء استقبال القبلة مرادهم غالبا لا دائما. ويسن الاكثار من الذكر والدعاء،
قال في المهمات: وقيد الشافعي رضي الله عنه استحباب إكثار الذكر والدعاء بالمنفرد والمأموم، ونقله عنه في المجموع،
لكن لقائل أن يقول يسن للإمام أن يختصر فيهما بحضرة المأمومين، فإذا انصرفوا طول، وهذا هو الحق اه‍. وهم
لا يمنعون ذلك.
فائدة: قال بعض العلماء: خاطب الله هذه الأمة بقوله: * (فاذكروني أذكركم) * فأمرهم أن يذكروه بغير واسطة،
وخاطب بني إسرائيل بقوله: * (اذكروا نعمتي) * لأنهم لم يعرفوا الله إلا بها. فأمرهم أن يتصوروا النعم ليصلوا بها إلى
ذكر المنعم. (و) يسن (أن ينتقل للنفل) أو الفرض (من موضع فرضه) أو نفله لتكثير مواضع السجود فإنها تشهد له.
ولو قال: وأن ينتقل لصلاة من محل إلى آخر لكان أشمل وأخصر واستغنى عن التقدير المذكور. قال في المجموع: فإن لم
ينتقل فليفصل بكلام إنسان. قال الشافعي والأصحاب: يستحب للإمام إذا سلم أن يقوم من مصلاه عقب سلامه إذا لم
يكن خلفه نساء، قال الأصحاب: لئلا يشك هو أو من خلفه هل سلم أو لا، ولئلا يدخل غريب فيظنه بعد في صلاته فيقتدي
به اه‍. قال الأذرعي: والعلتان تنتفيان إذا حول وجهه إليهم أو انحرف عن القبلة اه‍. وينبغي كما بحثه بعضهم أن يستثني
من ذلك ما إذا قعد مكانه يذكر الله بعد صلاة الصبح إلى أن تطلع الشمس لأن ذلك كحجة وعمرة تامة، رواه الترمذي
عن أنس، أما إذا كان خلفه نساء فسيأتي. (وأفضله) أي الانتقال للنفل من موضع صلاته، (إلى بيته) لقوله
(ص): صلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة رواه الشيخان. وسواء في هذا المسجد
الحرام ومسجد المدينة والأقصى وغيرها لعموم الحديث. والحكمة فيه بعده من الرياء ولا يلزم من كثرة الثواب التفضيل،
وفي صحيح مسلم: إذا قضى أحدكم صلاته في مسجده فليجعل لبيته نصيبا من صلاته فإن الله جاعل (في بيته)
من صلاته خيرا
والمراد صلاة النافلة، وروي: اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا وروي: مثل البيت الذي يذكر الله فيه
والبيت الذي لا يذكر الله فيه مثل الحي والميت. واستثني من ذلك النافلة يوم الجمعة لفضيلة البكور، وركعتا الطواف
وركعتا الاحرام إذا كان في الميقات مسجد أو خاف فوت الراتبة لضيق وقت، أو بعد منزله، أو خاف التهاون
بتأخيرها، أو كان معتكفا. وقال القاضي أبو الطيب: إذا أخفى نافلته في المسجد كان أفضل من البيت. وظاهر كلام
الأصحاب أنه لا فرق بين الليل والنهار ولا بين أن يكون المسجد مهجورا أو لا. (وإذا صلى وراءهم نساء مكثوا) أي مكث
الإمام بعد سلامه ومكث معه الرجال قدرا يسيرا يذكرون الله تعالى. (حتى ينصرفن) ويسن لهن أن ينصرفن عقب سلامه
للاتباع في ذلك، رواه البخاري، ولان الاختلاط بهن مظنة الفساد. أما الخناثى فالقياس انصرافهم فرادى بعد النساء
وقبل الرجال. (وأن ينصرف) المصلي بعد فراغه من صلاته (في جهة حاجته) أي جهة كانت إن كان له حاجة، (وإلا)
بأن لم يكن له حاجة أو له حاجة لا في جهة معينة، (فيمينه) أي فينصرف في جهة يمينه لأن التيامن محبوب، نقله في المجموع
عن النص والأصحاب، لكن ذكر المصنف في الرياض أنه يستحب في الحج والعمرة والصلاة وعيادة المريض وسائر
العبادات أن يذهب من طريق ويرجع من أخرى. قال الأسنوي: وبين الكلامين تناف وقد يقال إنه لا تنافي، ويحمل
قولهم أنه يرجع في جهة يمينه إذا لم يرد أن يرجع في طريق أخرى أو وافقت جهة يمينه، وإلا فالطريق الأخرى أولى
لتشهد له الطريقان. وظاهر كلامهم أنه لا يكره أن يقال انصرفنا من الصلاة، وهو كذلك، فقد نقل ابن عدي في كامله
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله (ص) كان إذا انصرف من الصلاة قال: اللهم بحمدك
انصرفت وبذنبي اعترفت وأعوذ بك من شر ما اقترفت وإن أسند الطبري عن ابن عباس أنه يكره ذلك لقوله تعالى: * (ثم
انصرفوا صرف الله قلوبهم) *. (وتنقضي القدوة بسلام الإمام) التسليمة الأولى لخروجه الصلاة بها، فلو سلم المأموم
183

قبلها عامدا بلا نية مفارقة بطلت صلاته ولا تضر مقارنته كبقية الأذكار، وفارق تكبيرة الاحرام بأنه لا يصير في الصلاة
حتى يفرغ منها فلا يربط صلاته بمن ليس في صلاة. ويسن للمأموم أن لا يسلم الأولى إلا بعد تسليمتي الإمام كما في التحقيق
والمجموع. (فللمأموم) الموافق (أن يشتغل بدعاء ونحوه) لانفراده فلا يتحمل عنه الإمام سجود السهو حينئذ فيسجد، (ثم
يسلم) وله أن يسلم في الحال. أما المسبوق فيلزمه القيام عقب التسليمتين إن لم يكن جلوسه مع الإمام محل تشهده، فإن مكث
عامدا عالما بالتحريم بطلت صلاته أو ناسيا أو جاهلا لم تبطل، فإن كان محل تشهده لم يلزمه ذلك ولكن يكره له تطويله
كما مر. (ولو اقتصر إمامه على تسليمة سلم) هو (ثنتين، والله أعلم) لاحراز فضيلة الثانية ولزوال المتابعة بالأولى، بخلاف
التشهد الأول مثلا لو تركه إمامه لا يأتي به لوجوب متابعته.
خاتمة: سئل الشيخ عز الدين هل يكره أن يسأل الله بعظيم من خلقه كالنبي والملك والولي؟ فأجاب بأنه جاء عن
النبي (ص) أنه علم بعض الناس: اللهم إني أقسم عليك بنبيك محمد نبي الرحمة إلخ فإن صح فينبغي أن
يكون مقصورا عليه عليه الصلاة والسلام لأنه سيد ولد آدم، ولا يقسم على الله بغيره من الأنبياء والملائكة لأنهم ليسوا
في درجته ويكون هذا من خواصه اه‍. والمشهور أنه لا يكره بشئ من ذلك.
باب
بالتنوين مشتمل على شروط الصلاة وموانعها. وقد شرع في القسم الأول فقال: (شروط الصلاة خمسة) والشروط
جمع شرط بسكون الراء وهو لغة العلامة، ومنه أشراط الساعة: أي علاماتها، هذا هو المشهور، وإن قال شيخنا: الشرط
بالسكون: إلزام الشئ والتزامه، لا العلامة، وإن عبر بعضهم بها فإنها إنما هي معنى الشرط بالفتح اه‍. فإن هذا من تفرداته.
واصطلاحا: ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته. والمانع لغة الحائل، واصطلاحا: ما يلزم
من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته كالكلام فيها عمدا. فإن قيل: قد تقدم أول الباب الماضي أن الشرط
هو الذي يتقدم على الصلاة ويجب استمراره فيها والركن ما تشتمل عليه الصلاة، فكان الأولى تقديم هذا الباب على الباب
الذي قبله. أجيب بأنه لما اشتمل على موانعها وهي لا تكون إلا بعد انعقادها ناسب تأخره. فإن قيل: من شروطها أيضا
الاسلام والتمييز والعلم بفرضيتها وبكيفيتها وتمييز فرائضها من سننها فلم لم يعدها؟ أجيب بأن ذلك ليس بشرط مختص
بالصلاة، فلو جهل كون أصل الصلاة أو صلاته التي شرع فيها أو الوضوء أو الطواف أو الصوم أو نحو ذلك فرضا
أو علم أن فيها فرائض وسننا ولم يميز بينهما لم يصح ما فعله لتركه معرفة التمييز الواجبة، ونقل عن الغزالي أن من لم
يميز من العامة فرض الصلاة، أي أو غيرها من سننها، تصح صلاته، أي وكذا غيرها من العبادات بشرط أن لا يقصد
النفل بالفرض، وصححه المصنف في مجموعه. قال في المهمات: وتقيده بالعامي يفهم أن العالم إن لم يميز بقصده الفرض
من السنة بطلت صلاته وهو ما في فتاوى الإمام، وفيه نظر، والظاهر الصحة فلا يعتبر إلا أن لا يقصد بفرض نفلا اه‍. بل
الظاهر ما في فتاوى الإمام. ولو اعتقد عامي أو غيره أن جميع أفعالها فرض صحت لأنه ليس فيه أكثر من أنه أدى سنة
باعتقاد الفرض وذلك لا يضر. أول الخمسة: (معرفة) دخول (الوقت) يقينا أو ظنا بالاجتهاد كما دل عليه كلامه في المجموع،
وليس المراد مدلول المعرفة الذي هو العلم بمعنى اليقين ليخرج الظن، فمن صلى بدونها لم تصح صلاته وإن وقعت في الوقت.
(و) ثانيها: (الاستقبال) وقد تقدم بيانهما في كتاب الصلاة. (و) ثالثها: (ستر العورة) عن العيون ولو كان خاليا في ظلمة
عند القدرة، لقوله تعالى: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * قال ابن عباس: المراد به الثياب في الصلاة، ولقوله
184

(ص): لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار رواه الحاكم. وقال: إنه على شرط مسلم، والمراد بالحائض:
البالغ التي بلغت سن الحيض، لأن الحائض في زمن حيضها لا تصح صلاتها بخمار ولا غيره. فإن عجز وجب أن يصلي
عاريا ويتم ركوعه وسجوده ولا إعادة عليه في الأصح، وقيل: يومئ بهما ويعيد، وقيل: يتخير بين الايماء والاتمام.
فإن قيل: ما الحكمة في السترة في الصلاة؟ أجيب بأن مريد التمثيل بين يدي كبير يتجمل بالستر والتطهر والمصلي يريد
التمثل بين يدي ملك الملوك فالتجمل له بذلك أولى ويجب ستر العورة في غير الصلاة أيضا ولو في الخلوة إلا لحاجة
كاغتسال وقال صاحب الذخائر: يجوز كشف العورة في الخلوة لأدنى غرض وقال: يشترط حصول الحاجة قال: ومن
الأغراض كشف العورة للتبريد وصيانة الثوب من الأدناس والغبار عند كنس البيت وغيره، وإنما وجب الستر في
الخلوة لاطلاق الامر بالستر، ولان الله تعالى أحق أن يستحيا منه فإن قيل: ما فائدة الستر، في الخلوة مع أن الله سبحانه
وتعالى لا يحجب عن بصره شئ؟ أجيب بأن الله سبحانه وتعالى يرى عبده المستور متأدبا دون غيره. ولا يجب
ستر عورته عن نفسه بل يكره نظره إليها من غير حاجة. والعورة لغة النقصان والشئ المستقبح، وسمي المقدار الآتي
بيانه بذلك لقبح ظهوره، والعورة تطلق على ما يجب ستره في الصلاة وهو المراد هنا، وعلى ما يحرم النظر إليه، وسيأتي
إن شاء الله تعالى في النكاح. (وعورة الرجل) أي الذكر ولو عبدا أو كافرا أو صبيا ولو غير مميز، وتظهر فائدته في الطواف
إذا أحرم عنه وليه، (ما بين سرته وركبته) لما روى الحارث بن أبي أسامة عن أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه
أن النبي (ص) قال: عورة المؤمن ما بين سرته إلى ركبته وروى البيهقي: وإذا زوج أحدكم
أمته عبده أو أجيره فلا تنظر - أي الأمة - إلى عورته والعورة ما بين السرة والركبة. (وكذا الأمة) ولو مدبرة ومكاتبة
ومستولدة ومبعضة عورتها ما بين السرة والركبة. (في الأصح) إلحاقا لها بالرجل يجامع أن رأس كل منهما ليس بعورة.
والثاني: عورتها كالحرة إلا رأسها، أي عورتها ما عدا الوجه والكفين والرأس. والثالث: عورتها ما لا يبدو منها في حال
خدمتها، بخلاف ما يبدو كالرأس والرقبة والساعد وطرف الساق، وخرج بذلك السرة والركبة فليسا من العورة على
الأصح، وقيل: الركبة منها دون السرة، وقيل عكسه، وقيل: السوأتان فقط، وبه قال مالك وجماعة.
فائدة: السرة موضع الذي يقطع من المولود والسر ما يقطع من سرته، ولا يقال له سرة لأن السرة لا
تقطع، وجمع السرة سرر وسرات. والركبة موصل بين أطراف الفخذ وأعالي الساق، والجمع ركب، وكل حيوان ذي
أربع ركبتاه في يديه وعرقوباه في رجليه. (و) عورة (الحرة ما سوى الوجه والكفين) ظهرهما وبطنهما من رؤوس
الأصابع إلى الكوعين، لقوله تعالى: * (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) *. قال ابن عباس وعائشة رضي الله تعالى
عنهم: هو الوجه والكفان. وفي قوله أو وجه أن باطن قدميها ليس بعورة. وقال المزني: ليس القدمان عورة.
والخنثى كالأنثى رقا وحرية، فإن اقتصر الحر على ستر ما بين سرته وركبته لم تصح صلاته على الأصح في الروضة، والأفقه
في المجموع للشك في الستر، وصحح في التحقيق الصحة، ونقل في المجموع في نواقض الوضوء عن البغوي وكثير القطع
به للشك في عورته، وقال الأسنوي: وعليه الفتوى. وعلى الأول يجب القضاء وإن بان ذكرا للشك حال الصلاة، ويمكن
أن يقال: إذا دخل في الصلاة مقتصرا على ذلك لم تصح صلاته للشك في الانعقاد، وإن دخل مستورا كالحرة وانكشف
شئ من غير ما بين السرة والركبة لم يضر للشك في البطلان نظير ما قالوه في صلاة الجمعة أن العدو لو كمل يخشى لم تنعقد
الجمعة للشك في الانعقاد، وإن انعقدت الجمعة بالعدد المعتبر وهناك خنثى زائد عليه ثم بطلت صلاة واحد منهم وكمل العدد
بالخنثى لم تبطل الصلاة، لأنا تيقنا الانعقاد وشككنا في البطلان. (وشرطه) أي الساتر (ما) أي جرم (منع إدراك لون البشرة)
لا حجمها، فلا يكفي ثوب رقيق ولا مهلهل لا يمنع إدراك اللون ولا زجاج يحكي اللون لأن مقصود الستر لا يحصل بذلك. أما
إدراك الحجم فلا يضر لكنه للمرأة مكروه وللرجل خلاف الأولى. قال الماوردي وغيره: فإن قيل يرد على عبارته الظلمة فإنها مانعة
185

من الادراك ولطخ العورة بنحو حبر كحناء. أجيب بأن مراده ما قدرته، إذ الكلام في الساتر وما ذكر لا يسمى ساترا
بل غير الظلمة يسمى مغيرا. (ولو) هو (طين) أو حشيش أو ورق (وماء كدر) أو نحو ذلك كماء صاف متراكم بخضرة لمنع
ما ذكر الادراك. وصورة الصلاة في الماء أن يصلي على جنازة أو يمكنه السجود فيه. قال في المجموع عن الدارمي:
ولو قدر على أن يصلي فيه ويسجد على الشط لم يلزمه، أي لما فيه من الحرج. (والأصح وجوب التطين على فاقد الثوب)
ونحوه ولو لمن هو خارج الصلاة خلافا لبعض المتأخرين لقدرته على الستر، والثاني: لا للمشقة والتلويث. (ويجب ستر أعلاه)
أي الساتر، (وجوانبه) للعورة (لا أسفله) لها، ولو كان المصلي امرأة، فستر مصدر مضاف إلى فاعله لتذكير الضمير في قوله
أعلاه وجوانبه وأسفله، ولو كان مضافا إلى مفعوله لأنثها فقال: ويجب ستر أعلاها إلخ. (فلو رؤيت عورته) أي المصلي ذكرا
كان أو أنثى أو خنثى، سواء أكان الرائي لها هو كما في فتاوى المصنف الغير المشهورة أم غيره، (من جيبه) أي طوق قميصه لسعته،
(في ركوع أو غيره لم يكف) الستر بهذا القميص (فليزره) بإسكان اللام وكسرها وضم الراء على الأحسن، ويجوز فتحها
وكسرها. (أو يشد) بفتح الدال في الأحسن، ويجوز الضم والكسر، (وسطه) بفتح السين على الأصح
ويجوز إسكانها، حتى
لا ترى عورته منه، ولو ستر بلحيته أو بشعر رأسه كفى لحصول المقصود بذلك، فإن لم يفعل شيئا من ذلك انعقدت صلاته
ثم تبطل عند وجود المفسد، وفائدته في الاقتداء به وفيما إذا ألقي عليه شئ بعد إحرامه، وقيل: لا تنعقد بالكلية. والجيب
هو المنفذ الذي يدخل فيه الرأس كما مرت الإشارة إليه. ولو رؤيت عورته من ذيله كأن كان في علو والرائي في سفل لم يضر
ذلك. ومعنى رؤيت عورته كانت بحيث ترى، وليس المراد رؤيت الفعل، ولو وقف مثلا في خابية أو حفرة ضيقي الرأس
يستران الواقف فيهما جاز لحصول المقصود بذلك، وشرط الساتر أن يشمل المستور لبسا ونحوه فلا تكفي الخيمة الضيقة
ونحوها. (وله ستر بعضها) أي عورته من غير السوأة أو منها بلا مس ناقض، (بيده في الأصح) لحصول المقصود، والثاني:
لا لأن بعضه لا يعد ساترا له. أما بيد غيره فيكفي قطعا وإن فعل محرما كما قاله في الكفاية كما لو ستر بقطعة حرير، وكذا
لو جمع الثوب المخرق وأمسكه بيده. وإذا وجد المصلي سترة نجسة ولا ماء يغسلها به، أو وجد الماء ولم يجد من يغسلها وهو
عاجز عن غسلها، أو وجده ولم يرض إلا بأجرة ولم يجدها، أو وجدها ولم يرض إلا بأكثر من أجرة المثل، أو حبس على
نجاسة واحتاج إلى فرش السترة عليها صلى عاريا وأتم الأركان كما مر، ولو أدى غسل السترة إلى خروج الوقت غسلها
وصلى خارجه ولا يصلي في الوقت عاريا كما نقل القاضي أبو الطيب الاتفاق عليه. ولو وجد المصلي بعض السترة لزمه أن
يستتر به بلا خلاف. فإن قيل: من وجد ماء لا يكفيه لطهارته جرى فيه خلاف والأصح وجوب استعماله. أجيب بأن
المقصود من الطهارة رفع الحدث وهو لا يتجزأ، والمقصود ههنا الستر وهو يتجزأ. (فإن وجد كافي سوأتيه) أي قبله ودبره،
(تعين لهما) للاتفاق على أنهما عورة ولأنهما أفحش من غيرهما، وسميا سوأتين لأن كشفهما يسوء صاحبهما، قال
تعالى: * (فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوآتهما) * أي ظهرت لهما، وكان لا يريانها من أنفسهما أو لا يرى أحدهما من
الآخر كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: ما رأيت منه (ص) ولا رأى مني. (أو) كان (أحدهما فقبله)
يستره وجوبا سواء أكان ذكرا أم غيره، لأنه بارز إلى القبلة والدبر مستور غالبا بالأليين، وبدل القبلة كالقبلة كما لو صلى صوب
مقصده. ويستر الخنثى قبلية، فإن كفى لأحدهما تخير، والأولى كما قال الأسنوي: ستر آلة الرجل إن كان هناك امرأة
وآلة النساء إن كان هناك رجل. (وقيل) يستر (دبره) وجوبا لأنه أفحش في الركوع والسجود. (وقيل يتخير) بينهما لتعارض
المعنيين، وسواء في ذلك الرجل وغيره. وقيل: تستر المرأة القبل والرجل الدبر، ومنهم من حكى بدل الوجوب الاستحباب.
والقبل والدبر بضم أولهما وثانيهما، ويجوز في ثانيهما الاسكان.
186

فروع: ليس للعاري غصب الثوب من مستحقه، بخلاف الطعام في المخمصة لأنه يمكنه أن يصلي عاريا ولا تلزمه
الإعادة إلا إن احتاج إليه لنحو دفع حر أو برد فإنه يجوز له ذلك. ويجب عليه قبول عاريته وإن لم يكن للمعير غيره، وقبول
هبة نحو الطين لا قبول هبة الثوب ولا اقتراضه لثقل المنة. ويجب شراؤه واستئجاره بثمن المثل وأجرة المثل، ولو وجد ثمن
الثوب أو الماء قدم الثوب وجوبا لدوام النفع به ولأنه لا بدل له بخلاف ماء الطهارة. ولو وصى بصرف ثوب الأولى الناس
به في ذلك الموضع أو وقفه عليه أو وكل في إعطائه وجب تقديم المرأة لأن عورتها أفحش ثم الخنثى لاحتمال الأنوثة ثم الرجل،
وقياس ما مر فيما لو أوصى بماء لاولى الناس به أنه لو كفى الثوب المؤخر دون المقدم قدم المؤخر. ولا يجوز لاحد أن
يعطي ثوبه لآخر ويصلي عاريا لكن يصلي فيه، ويستحب أن يعيره ممن يحتاج إليه. ولو وجد ثوب حرير فقط لزمه الستر
به، ولا يلزمه قطع ما زاد على العورة وإن قال الأسنوي: المتجه لزوم قطعه إذا لم ينقص أكثر من أجرة الثوب لأن لبس
الحرير يجوز لأدون من ذلك كدفع القمل. ويقدم على المتنجس للصلاة، ويقدم المتنجس عليه في الخلوة ونحوها مما
لا يحتاج إلى طهارة الثوب. ولو صلت أمة مكشوفة الرأس فعتقت في صلاتها ووجدت سترة بعيدة بحيث إن مضت
إليها احتاجت إلى أفعال كثيرة أو انتظرت من يلقيها إليها ومضت مدة في التكشف بطلت صلاتها، فإن لم تجد السترة بنت
على صلاتها، وكذا إن وجدت قريبا منها فتناولتها ولم تستدبر قبلتها وسترت بها رأسها فورا. ولو وجد عار سترته في
صلاته فحكمه حكمها فيما ذكر. ولو قال شخص لامته إن صليت صلاة صحيحة فأنت حرة قبلها فصلت بلا ستر رأسها
عاجزة عن سترها عتقت وصحت صلاتها، أو قادرة عليه صحت صلاتها ولم تعتق للدور، إذ لو عتقت بطلت صلاتها وإذا
بطلت صلاتها لا تعتق، فإثبات العتق يؤدي إلى بطلانه وبطلان الصلاة فبطل وصحت الصلاة. ويسن للرجل أن يلبس للصلاة
أحسن ثيابه ويتقمص ويتعمم ويتطيلس ويرتدي ويتزر أو يتسرول، وإن اقتصر على ثوبين فقميص مع رداء أو
إزار أو سراويل أولى من رداء مع إزار أو سراويل ومن إزار مع سراويل، وبالجملة فالمستحب أن يصلي في ثوبين
لظاهر قوله تعالى: * (خذوا زينتكم عند كل مسجد) * والثوبان أهم الزينة، ولخبر: إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه
فإن الله تعالى أحق أن يزين له، فإن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى ولا يشتمل اشتمال اليهود رواه البيهقي. فإن
اقتصر على واحد فقميص فإزار فسراويل، ويلتحف بالثوب الواحد إن اتسع ويخالف بين طرفيه، فإن ضاق اتزر
به وجعل شيئا منه على عاتقه. ويسن للمرأة ومثلها الخنثى في الصلاة ثوب سابغ لجميع بدنها وخمار وملحفة كثيفة.
وإتلاف الثوب وبيعه في الوقت كالماء، ولا يباع له مسكن ولا خادم كما في الكفارة. ويكره أن يصلي في ثوب فيه
صورة وأن يصلي عليه وإليه، وأن يصلي بالاضطجاع، وأن يغطي فاه، فإن تثاءب غطاه بيده ندبا، وأن يشتمل
اشتمال الصماء بأن يجلل بدنه بالثوب ثم يرفع طرفيه على عاتقه الأيسر، وأن يشتمل اشتمال اليهود بأن يجلل بدنه
بالثوب بدون رفع طرفيه، وأن يصلي الرجل متلثما والمرأة متنقبة. (و) رابعها: (طهارة الحدث) الأصغر وغيره
عند القدرة، لما مر في باب الحدث، فإن عجز فقد تقدم في باب التيمم. فلو لم يكن متطهرا عند إحرامه مع قدرته
على الطهارة لم تنعقد صلاته، وإن أحرم متطهرا ثم أحدث نظر، (فإن سبقه) الحدث غير الدائم (بطلت) صلاته
في الجديد كما لو تعمد الحدث لبطلان طهارته بإجماع. ويؤخذ من التعليل أن فاقد الطهورين إذا سبقه الحدث لم
تبطل صلاته، وجرى على ذلك الأسنوي، وظاهر كلام الأصحاب أنه لا فرق. والتعليل خرج مخرج الغالب، فلا مفهوم
له، كقوله تعالى: * (وربائبكم اللاتي في حجوركم) * فإن الربيبة تحرم مطلقا، فلفظ الحجور لا مفهوم له. (وفي القديم) والاملاء
وهو جديد يتطهر و (يبني) على صلاته لعذره بالسبق وإن كان حدثه أكبر، لحديث فيه لكنه ضعيف باتفاق المحدثين
كما في المجموع، وعلى هذا يجب أن يقلل الزمان والافعال بحسب الامكان. ولا يجب عليه البدار الخارج عن العادة،
فلو كان للمسجد بابان فسلك الابعد لغير عذر بطلت صلاته. ويشترط أن لا يتكلم إلا إذا احتاج إليه في تحصيل الماء،
وليس له بعد طهارته أن يعود إلى الموضع الذي كان يصلي فيه إلا لعذر كأن كان إماما لم يستخلف وانتظره المأموم
187

فله العود إليهم، وأما إذا لم ينتظروه بل أتموا صلاتهم فرادى أو قدموا واحدا منهم مثلا فلا يعود للاستغناء عن ذلك بما
ذكر، أو مأموما يبتغي فضيلة الجماعة ولم تحصل له في غير موضعه كأن يكون في الصف الأخير لما سيأتي من كراهة وقوف
المأموم فردا، فلو كانت صلاته في الصف الأول مثلا فتطهر وعاد لم يتجاوز الصف الأخير لأن فضيلة الجماعة تحصل له
في غير موضعه. أما الحدث الدائم كسلس بول فلا يضر على تفصيل مر في الحيض، وإن أحدث مختارا بطلت صلاته
قطعا سواء أكان عالما أنه في الصلاة أم ناسيا. ولو صلى ناسيا للحدث أثيب على قصده لا على فعله، إلا القراءة ونحوها مما
لا يتوقف على الوضوء فإنه يثاب على فعله أيضا، قال ابن عبد السلام: وفي إثابته على القراءة إذا كان جنبا نظر اه‍.
ويؤخذ مما تقدم عدم الإثابة. (ويجريان) أي القولان (في كل مناقض) أي مناف للصلاة (عرض) فيها (بلا تقصير)
من المصلي (وتعذر دفعه في الحال) كما لو تنجس بدنه أو ثوبه بما لا يعفى عنه واحتاج إلى غسله، أو طيرت الريح سترته
إلى مكان بعيد. (فإن أمكن) دفعه في الحال (بأن كشفته ريح) أي أظهرت عورته أو وقعت على بدنه أو ثوبه نجاسة
يابسة أو على ثوبه نجاسة رطبة، (فستر) العورة، أو ألقى النجاسة اليابسة أو ألقى الثوب في الرطبة (في الحال لم تبطل)
صلاته لانتفاء المحذور، ويغتفر هذا العارض اليسير. ولا يجوز أن ينحي النجاسة بيده أو كمه،
فإن فعل بطلت صلاته، فإن نحاها بعود فكذا في أحد وجهين هو المعتمد. (وإن قصر) في دفعه (بأن فرغت مدة خف فيها) أي الصلاة
(بطلت) قطعا لتقصيره حيث افتتحها في وقت لا يسعها، لأنه حينئذ يحتاج إلى غسل رجليه أو الوضوء على القولين
في ذلك، فلو غسل رجليه في الخف قبل فراغ المدة لم يؤثر لأن مسح الخف يرفع الحدث فلا تأثير للغسل قبل فراغ المدة،
وكذا لو غسلهما بعدها لمضي مدة وهو محدث، حتى لو وضع رجليه في الماء قبل فراغ المدة واستمر إلى انقضائها
لم تصح صلاته لأنه لا بد من حدث ثم يرتفع، وأيضا لا بد من تجديد نية لأنه حدث لم تشمله نية الوضوء الأول.
وصورة المسألة كما قاله السبكي: أن يدخل في الصلاة وهو يظن بقاء المدة إلى فراغه، فإن علم بأن المدة تنقضي فيها فينبغي
عدم انعقادها، نعم إن كان في نفل مطلق يدرك منه ركعة فأكثر انعقدت، ولو افتصد مثلا فخرج منه الدم ولم يلوث
بشرته أو لوثها قليلا لم تبطل صلاته لأن المنفصل في الأولى غير مضاف إليه وفي الثانية مغتفر. ويسن لمن أحدث
في صلاته أن يأخذ بأنفه ثم ينصرف ليوهم أنه رعف سترا على نفسه، وينبغي أن يفعل كذلك إذا أحدث وهو منتظر
للصلاة خصوصا إذا قربت إقامتها أو أقيمت. (و) خامسها: (طهارة النجس) الذي لا يعفى عنه (في الثوب والبدن)
أي بثوبه أو بدنه حتى داخل أنفه أو فمه أو عينه أو أذنه. (والمكان) أي مكانه الذي يصلي فيه، فلا تصح صلاته مع شئ
من ذلك ولو مع جهله بوجوده أو بكونه مبطلا لقوله تعالى: * (وثيابك فطهر) * ولخبر الصحيحين: إذا أقبلت الحيضة
فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي ثبت الامر باجتناب النجس وهو لا يجب بغير تضمخ في غير
الصلاة فيجب فيها، والامر بالشئ نهي عن ضده والنهي في العبادات يقتضي فسادها فلزم ما ذكر. وإنما جعل داخل
الفم والأنف هنا كظاهرهما بخلاف غسل الجنابة لغلظ أمر النجاسة، بدليل أنه لو وقعت نجاسة في عينه وجب غسلها
ولا يجب غسلها في الطهارة، فلو أكل متنجسا لم تصح صلاته ما لم يغسل فمه، ولو رأينا في ثوب من يريد الصلاة نجاسة
لا يعلم بها لزمنا إعلامه لأن الامر بالمعروف لا يتوقف على العصيان - قاله ابن عبد السلام - كما لو رأينا صبيا يزني بصبية
فإنه يجب علينا منعهما وإن لم يكن عصيانا. واستثنى من المكان ما لو كثر ذرق الطير فإنه يعفى عنه للمشقة في الاحتراز
منه. وقيد في المطلب العفو بما إذا لم يتعمد المشي عليه، قال الزركشي: وهو مقيد متعين، قال شيخي: وأن
لا يكون
رطبا، أي أو رجله مبلولة.
فرع: لو تنجس ثوبه بما لا يعفى عنه ولم يجد ماء يغسله به وجب قطع موضعها إن لم تنقص قيمته بالقطع أكثر
من أجرة ثوب يصلي فيه لو اكتراه، هذا ما قالاه تبعا للمتولي، وقال الأسنوي: يعتبر أكثر الامرين من ذلك ومن ثمن
188

الماء لو اشتراه مع أجرة غسله عند الحاجة، لأن كل منهما لو انفرد وجب تحصيله اه‍. وهذا هو الظاهر. وقيد أيضا
وجوب القطع بحصول ستر العورة بالظاهر، قال الزركشي: ولم يذكره المتولي، والظاهر أنه ليس بقيد بناء على أن من وجد
ما يستر به بعض العورة لزمه ذلك وهو الصحيح اه‍. وهذا هو الظاهر. (ولو اشتبه) عليه (طاهر ونجس) من ثوبين
أو بيتين (اجتهد) فيهما للصلاة، قال في المحرر: كما في الأواني، وتقدم الكلام على ذلك. ولو صلى فيما ظنه الطاهر
من الثوبين أو البيتين بالاجتهاد ثم حضرت صلاة أخرى لم يجب تجديد الاجتهاد في الأصح، ولا يشكل ذلك بما تقدم
في المياه من أنه يجتهد فيها لكل فرض، لأن بقاء الثوب أو المكان كبقاء الطهارة، فلو اجتهد فتغير ظنه عمل بالاجتهاد
الثاني في الأصح فيصلي في الآخر من غير إعادة كما لا تجب إعادة الأولى، إذ لا يلزم من ذلك نقض اجتهاد باجتهاد بخلاف
المياه كما مر. ولو غسل أحد الثوبين بالاجتهاد صحت الصلاة فيهما ولو جمعهما عليه، ولو اجتهد في الثوبين أو البيتين
فلم يظهر له شئ صلى عاريا أو في أحد البيتين لحرمة الوقت وأعاد لتقصيره، لعدم إدراك العلامة ولان معه ثوبا في الأولى
ومكانا في الثانية طاهرا بيقين. ولو اشتبه عليه بدنان يريد الاقتداء بأحدهما اجتهد فيهما وعمل باجتهاده، فإن صلى
خلف واحد ثم تغير ظنه إلى الآخر صلى خلفه ولا يعيد الأولى، كما لو صلى باجتهاد إلى القبلة ثم تغير اجتهاده إلى جهة أخرى
فإن تحير صلى منفردا. (ولو نجس) بفتح الجيم وكسرها، (بعض ثوب أو) بعض (بدن) أو مكان ضيق (وجهل)
ذلك البعض في جميع ما ذكر، (وجب غسل كله) لتصح الصلاة فيه، إذ الأصل بقاء النجاسة ما بقي جزء منه، فإن كان
المكان واسعا لم يجب عليه الاجتهاد ولكن يسن، فله أن يصلي فيه بلا اجتهاد. وسكتوا عن ضبط الواسع والضيق،
والأحسن في ضبط ذلك العرف، وإن قال ابن العماد: المتجه في ذلك أن يقال إن بلغت بقاع الموضع لو فاقت حد العدد
غير المحصور فواسع وإلا فضيق، وتقدر كل بقعة بما يسع المصلي اه‍. قال في المجموع عن المتولي: وإذا جوزنا الصلاة
في المتسع فله أن يصلي فيه إلى أن يبقى موضع قدر النجاسة، وهو نظير ما تقدم في الأواني. ولو أصاب شئ رطب بعض
ما ذكر لم يحكم بنجاسته لأنا لم نتيقن نجاسة موضع الإصابة، ويفارق ما لو صلى عليه حيث لا تصح صلاته وإن احتمل
أن المحل الذي صلى عليه طاهر بأن الشك في النجاسة مبطل للصلاة دون الطهارة. ولو كانت النجاسة في مقدم الثوب
مثلا وجهل موضعها وجب غسل مقدمه فقط. ولو شق الثوب المذكور نصفين لم يجز أن يجتهد فيهما لأنه ربما يكون الشق
في محل النجاسة فيكونان نجسين. (فلو ظن) بالاجتهاد (طرفا) من موضعين متميزين أو مواضع متميزة كأحد طرفي الثوب
وأحد الكمين واليدين والأصابع، (لم يكف غسله على الصحيح) وفي الروضة: الأصح لعدم جواز الاجتهاد، لأن الثوب والبدن
واحد، والاجتهاد إنما يكون في شيئين. ولو فصل كمي ثوب تنجس أحدهما وجهل أو فصل أحدهما جاز له الاجتهاد
لتعدد المشتبه فيه، فلو غسل ما ظن نجاسته بالاجتهاد جاز له أن يصلي فيهما ولو جمعهما كالثوبين. (ولو غسل) بعض
شئ متنجس، كأن غسل (نصف) ثوب (نجس ثم) غسل (باقيه فالأصح أنه إن غسل مع باقيه مجاورة) مما غسل
أولا (طهر كله، وإلا) أي وإن لم يغسل معه مجاورة (فغير المنتصف) بفتح الصاد، يطهر، وهو الطرفان فقط ويبقى المنتصف
نجسا في النجاسة المخففة فيغسله وحده، لأنه رطب ملاق لنجس، ويجتنب الثوب المتنجس بعضه الذي جهل مكان
النجاسة فيه. لا يقال في الصورة الثانية إنا لم نتيقن نجاسته، لأنا نقول: قد تيقنا نجاسة الثوب ولم نتيقن طهارته، والطهارة
لا ترفع بالشك. ولا يشكل على هذا أنه لو مس شيئا رطبا لا ينجسه لأنا لا تنجس بالشك، والثاني: لا يطهر لأنه تنجس
بالمجاور مجاورة وهكذا، وإنما يطهر بغسله دفعة واحدة. ودفع بأن نجاسة المجاور لا تتعدى إلى ما بعده كالسمن الجامد
ينجس منه ما حول النجاسة فقط، وقيل: يطهر مطلقا، وقيل: إن علق الثوب وصب الماء على أعلاه إلى
النصف ثم صب
189

على النصف الثاني طهر لأن الماء لا يتراد إلى الاعلى وإلا لم يطهر لأنه يتراد. ومحل الأول ما إذا غسله بالصب عليه في
غير إناء، فإن غسله في إناء كجفنة ونحوها بأن وضع نصفه ثم صب عليه ماء يغمره لم يطهر حتى يغسل دفعة كما هو الأصح
في المجموع خلافا لبعض المتأخرين، لأن ما في نحو الجفنة يلاقيه الثوب المتنجس وهو وارد على ماء قليل فينجس، وإذا
تنجس الماء لم يطهر الثوب. (ولا تصح صلاة ملاق بعض لباسه) أو بدنه (نجاسة) في شئ من صلاته لما مر، (وإن
لم يتحرك بحركته) كطرف عمامته الطويلة أو كمه الطويل المتصل بنجاسة. وخالف ذلك ما لو سجد على متصل به حيث
تصح إن لم يتحرك بحركته، لأن اجتناب النجاسة في الصلاة شرع للتعظيم، وهذا ينافيه. والمطلوب في السجود كونه
مستقرا على غيره لحديث: مكن جبهتك فإذا سجد على متصل به لم يتحرك بحركته حصل المقصود. (ولا) تصح صلاة
نحو (قابض) كشاد بنحو يده (طرف شئ) كحبل طرفه الآخر نجس أو موضوع (على نجس إن تحرك) ما ذكر
بحركته، (وكذا إن لم يتحرك) بها (في الأصح) لأنه حامل لمتصل بنجاسة في المسائل المذكورة فكأنه حامل لها،
والثاني: تصح لأن الطرف الملاقي للنجاسة ليس محمولا له. ولو كان طرف الحبل ملقى على ساجور نحو كلب وهو ما يجعل
في عنقه أو مشدودا بدابة أو بسفينة صغيرة بحيث تنجر بجر الحبل أو قابضه يحملان نجسا أو متصلا به لم تصح صلاته
على الأصح في الروضة والمجموع، بخلاف سفينة كبيرة لا تتحرك بجره فإنها كالدار، ولا فرق في السفينة بين أن تكون
في البر أو في البحر خلافا لما قاله الأسنوي من أنها إذا كانت في البر لم تبطل قطعا صغيرة كانت أو كبيرة اه‍.
تنبيه: لا يشترط في اتصال الحبل بساجور الكلب ولا بما ذكر معه أن يكون مشدودا به بل الالقاء عليه كاف
كما عبرت به في الساجور. قال شيخنا في شرح الروض: ولا حاجة لقول المصنف مشدود لأنه يوهم خلاف المراد، ولو كان
الحبل على موضع طاهر من نحو حمار وعليه نجاسة في موضع آخر، فعلى الخلاف في الساجور وأولى بالصحة منه، لأن
الساجور قد يعد من توابع الحبل وأجزائه بخلاف الحمار. (فلو جعله) أي طرف ما طرفه الآخر نجس أو الكائن على نجس،
(تحت رجله صحت) صلاته (مطلقا) سواء أتحرك بحركته أم لا لأنه ليس لابسا أو حاملا، فأشبه ما لو صلى على بساط طرفه
نجس أو مفروش على نجس أو على سرير قوائمه في نجس. قال في المجموع: ولو حبس في مكان نجس صلى وتجافى عن
النجس قدر ما يمكنه، ولا يجوز وضع جبهته بالأرض بل ينحني بالسجود إلى قدر لو زاد عليه لاقى النجس ثم يعيد.
(ولا يضر) في صحة الصلاة (نجس يحاذي صدره في الركوع والسجود) وغيرهما (على الصحيح) لعدم ملاقاته له. والثاني:
يضر لأنه منسوب إليه لكونه مكان صلاته، فتعين طهارته كالذي يلاقيه. أما إذا لاقاه فتبطل جزما كما علم مما مر. وشمل
ما ذكر ما لو صلى ماشيا وبين خطواته نجاسة، ولذلك قيل: لو عبر بيحاذي شيئا من بدنه لكان أشمل، وقد عبر به في
الروضة، واعترض بأنه يوهم طرد الخلاف في الأعلى والجوانب كسقف البيت وحيطانه، وليس كذلك قطعا. ورد بأن
المحب الطبري ذكر في شرح التنبيه أنه يكره استقبال الجدار النجس، وفي الكفاية عن القاضي حسين جريان الخلاف
فيما لو كان يصلي ماشيا وكان بين خطواته نجاسة كما مر، وفيما إذا جعل على النجاسة ثوبا مهلهل النسج وصلى عليه،
فإن حصلت مماسة النجاسة من الفرج بطلت صلاته. (ولو وصل عظمه) لانكساره مثلا واحتياجه إلى الوصل (بنجس
لفقد الطاهر) الصالح للوصل أو وجده، وقال أهل الخبرة: إنه لا ينفع ووصله بالنجس، (فمعذور) في ذلك فتصح صلاته
معه للضرورة، قال في الروضة كأصلها: ولا يلزمه نزعه إذا وجد الطاهر اه‍. وظاهره أنه لا يجب نزعه وإن لم يخف ضررا،
وهو كذلك، وإن قال بعض المتأخرين إن محله إذا خاف من نزعه ضررا وإلا وجب نزعه، ولو قال أهل الخبرة إن لحم
الآدمي لا ينجبر سريعا إلا بعظم نحو كلب، فيتجه كما قال الأسنوي أنه عذر، وهو قياس ما ذكروه في التيمم في بطء البرء
وعظم غيره من الآدميين في تحريم الوصل به ووجوب نزعه كالعظم النجس، وظاهر هذا أنه لا فرق بين الآدمي المحترم
190

وغيره، وهو كذلك، وإن قال الأذرعي: إن في النفس من عظم غير المحترم كالحربي والمرتد شيئا. (وإلا) أي وإن وصله
به مع وجود الطاهر الصالح أو لم يحتج إلى الوصل حرم عليه لتعديه، و (وجب) عليه نزعه وأجبر على ذلك
(إن لم يخف
ضررا ظاهرا) وهو ما يبيح التيمم. ولو اكتسى لحما لحمله نجاسة تعدى بحملها مع تمكنه من إزالتها، كوصل المرأة شعرها
بشعر نجس، فإن امتنع لزم الحاكم نزعه لأنه مما تدخله النيابة كرد المغصوب، ولا مبالاة بألمه في الحال إذا لم يخف منه
في المآل، ولا تصح صلاته معه لأنه حامل لنجاسة في غير معدنها تعدى بحملها ويمكنه إزالتها، بخلاف شارب الخمر فإنه
تصح صلاته وإن لم يتقايأ ما شربه تعديا لحصوله في معدن النجاسة. (قيل) ويجب نزعه أيضا (وإن خاف) ضررا ظاهرا
لتعديه، لأن ذلك يؤدي إلى أن يصلي بقية عمره بنجاسة تعدى بحملها ونحن نقتله بترك صلاة واحدة، والأصح عدم الوجوب
رعاية لخوف الضرر فتصح صلاته، وكذا إمامته في أحد وجهين يظهر ترجيحه كصحة صلاة الطاهرة خلف المستحاضة،
وقيل: إن استتر باللحم لم يجب نزعه، وقيل: إن خاف تلف نفس أو عضو أو منفعة لم يجب وإلا وجب، وقال الأذرعي:
إنه الذي اشتمل عليه أكثر الكتب. (فإن مات) من وجب عليه النزع، (لم ينزع على الصحيح) المنصوص لهتك
حرمته ولسقوط التعبد عنه. قال الرافعي: وقضية التعليل الأول تحريم النزع والثاني حله اه‍. والذي صرح به الماوردي
والروياني ونقله في البيان عن عامة الأصحاب تحريمه مع تعليلهم بالثاني، وهذا هو المعتمد وإن كان قضية كلام المحرر
وغيره الحل، والثاني: ينزع لئلا يلقى الله تعالى حاملا لنجاسة تعدى بحملها. فإن قيل: هذا التعليل لا يتأتى على مذهب
أهل السنة لأن الله تعالى يعيد جميع أجزاء الميت حتى ما احترق كما كانت. أجيب بأن يلقاه في القبر فإنه في معنى لقاء الله
تعالى، وقيل: إن المعاد من أجزاء الميت هو التي مات عليها، وبالجملة فالأولى أن يعلل بأنه يجب غسل الميت طلبا للطهارة
لئلا يبقى عليه نجاسة، وهذا نجس فتجب إزالته.
فروع: الوشم، وهو غرز الجلد بالإبرة حتى يخرج الدم ثم يذر عليه نحو نيلة ليرزق أو يخضر بسبب الدم الحاصل
بغرز الجلد بالإبرة حرام لخبر الصحيحين: لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والواشرة والمستوشرة، والنامصة
والمتنمصة أي فاعلة ذلك وسائلته، فتجب إزالته ما لم يخف ضررا يبيح التيمم، فإن خاف لم يجب إزالته ولا إثم
عليه
بعد التوبة. وهذا إذا فعله برضاه كما قال الزركشي: أي بعد بلوغه وإلا فلا تلزمه إزالته كما صرح به الماوردي،
أي وتصح صلاته وإمامته ولا ينجس ما وضع فيه يده مثلا إذا كان عليها وشم. ولو داوى جرحه بدواء نجس، أو خاطه
بخيط نجس أو شق موضعا في بدنه وجعل فيه دما فكالجبر بعظم نجس فيما مر. ولو غسل شارب الخمر أو نجس آخر فمه
وصلى صحت صلاته ووجب عليه أن يتقايأه إن قدر عليه بلا ضرر يبيح التيمم وإن شربه لعذر. ووصل شعر الآدمي بشعر
نجس أو شعر آدمي حرام للخبر السابق، ولأنه في الأول مستعمل للنجس العيني في بدنه، وفي الثاني مستعمل لشعر آدمي
والآدمي يحرم الانتفاع به وبسائر أجزائه لكرامته. ويحرم بغير إذن زوج أو سيد وصل شعر بغيرهما، وكالشعر الخرق
والصوف كما قاله في المجموع، قال: وأما ربط الشعر بخيوط الحرير الملونة ونحوها مما لا يشبه
الشعر فليس بمنهي عنه. وتجعيد
الشعر، ووشر الأسنان: وهو تحديدها وترقيقها، للخبر السابق أيضا، والخضاب بالسواد لخبر: يكون قوم يخضبون في
آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة رواه أبو داود وغيره. وتحمير الوجنة بالحناء ونحوه. وتطريف
الأصابع به مع السواد. والتنميص: وهو الاخذ من شعر الوجه والحاجب للحسن لما في ذلك من التغرير، أما إذا أذن
لها الزوج أو السيد في ذلك فإنه يجوز لأن له غرضا في تزيينها له وقد أذن لها فيه، هذا ما في الروضة وأصلها، وخالف في
التحقيق في الوصل والوشر فألحقهما بالوشم في المنع مطلقا، والأول أوجه. ويكره نتف الشيب من المحل الذي لا يطلب منه
إزالة شعره لخبر: لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم يوم القيامة رواه الترمذي وحسنه، وإن نقل ابن الرفعة تحريمه عن
نص الام، وقال في المجموع: ولو قيل بتحريمه لم يبعد. ونتف لحية المرأة وشاربها مستحب لأن ذلك مثلة في حقها.
ويسن خضب الشيب بالحناء ونحوه للاتباع. ويسن للمرأة المزوجة أو المملوكة خضب كفيها وقدميها بذلك تعميما لأنه زينة
191

وهي مطلوبة منها لزوجها أو سيدها. أما التطريف أو التنقيش فلا يستحب، وخرج بالمزوجة أو المملوكة غيرهما فيكره
لها، وبالمرأة الرجل والخنثى فيحرم عليهما الخضاب إلا لعذر، وسيأتي إن شاء الله تعالى في العقيقة زيادة على ذلك.
(ويعفى عن) أثر (محل استجماره) في حق نفسه قطعا لجواز الاقتصار على الحجر، ولو عرق محل الأثر وانتشر ولم يجاوز
محل الاستنجاء كما قاله في المجموع في موضع، فإن جاوزه وجب غسله قطعا، وما أطلقه في موضع آخر في المجموع وكذا
الرافعي محمول على ذلك. فلو لاقى الأثر رطبا آخر لم يعف عنه لندرة الحاجة إلى ملاقاة ذلك. (ولو حمل) في الصلاة
(مستجمرا) أو من عليه نجاسة أخرى معفو عنها كثوب فيه دم براغيث على تفصيل يأتي، أو حيوانا متنجس المنفذ
بخروج الخارج منه. (بطلت) صلاته (في الأصح) إذ العفو للحاجة ولا حاجة إلى حمله فيها، والثاني: لا تبطل في حقه،
كالمحمول للعفو عن محل الاستجمار. ويؤخذ مما مر من أنه إذا قبض طرف شئ متنجسا أنه يضر أنه لو مسك المصلي
مستجمرا أو ملبوسه أو أمسك المستجمر المصلي أو ملبوسه أنه يضر، وهو كذلك. ولو وقع الطائر الذي على منفذه نجاسة
في مائع أو ماء قليل لم ينجسه على الأصح لعسر صوته عنه، بخلاف المستجمر فإنه ينجسه ويحرم عليه ذلك لما فيه من
التضمخ بالنجاسة. ويؤخذ منه أنه لو جامع زوجته في هذه الحالة أنه يحرم عليه لما ذكر، وإن خالف في ذلك بعض
العصريين. ولو حمل المصلي حيوانا مذبوحا وإن غسل الدم عن مذبحه، أو آدميا أو سمكا أو جرادا ميتا أو بيضة مذرة
استحالت دما، أو عنبا استحال خمرا، أو قارورة ختمت على دم أو نحوه كبول ولو برصاص لم تصح صلاته، أما في
الخمسة الأول فللنجاسة التي بباطن الحيوان لأنها كالظاهرة بخلاف الحيوان الحي لأن للحياة أثرا في دفع النجاسة، وأما
في الباقي فلحمله نجاسة لا حاجة إلى حملها. (وطين الشارع المتيقن نجاسته يعفي عنه عما يتعذر) أي يتعسر (الاحتراز
منه غالبا) إذ لا بد للناس من الانتشار في حوائجهم وكثير منهم لا يملك أكثر من ثوب، فلو أمروا بالغسل كلما أصابتهم
عظمت المشقة عليهم، بخلاف ما لا يعسر الاحتراز عنه فلا يعفى عنه. (ويختلف) المعفو عنه (بالوقت وموضعه من الثوب
والبدن) فيعفى في زمن الشتاء عما لا يعفى عنه في زمن الصيف، ويعفى في الذيل والرجل عما لا يعفى عنه
في الكم واليد،
وضابط القليل المعفو عنه هو الذي لا ينسب صاحبه إلى سقطة على شئ أو كبوة على وجهه أو قلة تحفظ، فإن نسب إلى
ذلك فلا يعفى عنه. قال الزركشي: وقضية إطلاقهم العفو عنه، ولو اختلط بنجاسة كلب أو نحوه وهو المتجه لا سيما في
موضع تكثر فيه الكلاب، لأن الشوارع معدن النجاسات اه‍. ونقل عن صاحب البيان أنه لا يعفى عنه، والمتجه
الأول. واحترز بالمتيقن نجاسته عما يغلب على الظن اختلاطه بها كغالب الشوارع، فإن فيه وأمثاله كثياب الخمارين
والأطفال والجزارين والكفار الذين يتدينون باستعمال النجاسة قولين: أصحهما الطهارة عملا بالأصل، فإن لم يظن
نجاسته فطاهر قطعا.
فروع: ماء الميزاب الذي تظن نجاسته ولم تتيقن طهارته فيه الخلاف في طين الشوارع، واختار المصنف الجزم
بطهارته. وسئل ابن الصلاح عن الجوخ الذي اشتهر على ألسنة الناس أن فيه شحم الخنزير، فقال: لا يحكم بنجاسته إلا
بتحقق النجاسة، وسئل عن الأوراق التي تعمل وتبسط وهي رطبة على الحيطان المعمولة برماد نجس، فقال: لا يحكم
بنجاستها، أي عملا بالأصل. ومحل العمل به إذا كان مستند النجاسة إلى غلبتها وإلا عمل بالظن، فلو بال حيوان في ماء
كثير وتغير وشك في سبب تغيره هل هو البول أو نحو طول المكث حكم بتنجسه عملا بالظاهر لاستناده إلى سبب معين،
ولو تنجس خفه أو نعله لم يطهر بدلكه بنحو أرض كالثوب إذا تنجس. وأما خبر أبي داود: إذا أصاب خف أحدكم
أذى فليدلكه في الأرض فمحمول على المستقذر الطاهر. (و) يعفى (عن قليل دم البراغيث) والقمل والبق (وونيم
الذباب) وهو بفتح الواو وكسر النون: ذرقه وغير ذلك مما لا نفس له سائلة كما في المجموع، وكذا يعفى عن قليل بول
192

الخفاش، والقياس أن روثه وبول الذباب كذلك لأن ما ذكر مما تعم به البلوى ويشق الاحتراز عنه، قال في الصحاح:
والبق هو البعوض، لكن الظاهر كما قال شيخنا أن المراد هنا ما يشمل البق المعروف، والبراغيث جمع برغوث بالضم
والفتح قليل، ويقال له طامر بن طامر. روى أحمد والبزار والبخاري في الأدب عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النبي
(ص) سمع رجلا يسب برغوثا فقال: لا تسبه فإنه أيقظ نبيا لصلاة الفجر ودم البراغيث رشحات تمصها
من الانسان ثم تمجها وليس لها دم في نفسها، ذكره الإمام وغيره. والذباب مفرد، وجمعه ذبان بالكسر وأذبة، ولا يقال
ذبانة بنون قبل الهاء، قاله الجوهري. (والأصح لا يعفى عن كثيره) لندرته ولسهولة الاحتراز عنه، (ولا) عن (قليل
انتشر) منه (بعرق) لمجاوزته محله ولان البلوى به لا تعم. (وتعرف الكثرة) والقلة (بالعادة) فما يقع التلطخ به غالبا
ويعسر الاحتراز عنه قليل وإن زاد فكثير، ويختلف ذلك باختلاف الأوقات والأماكن، ويرجع في ذلك إلى رأي
المصلي فيجتهد في ذلك، وقيل: الكثير ما يظهر للناظر من غير تأمل وإمعان نظر، والقليل دونه، وللمشكوك في كثرته
حكم القليل. والثاني: يعفى عنهما لأن الغالب في هذا الجنس عسر الاحتراز فيلحق غير الغالب منه بالغالب كما أن المسافر
يترخص وإن لم يلحقه مشقة لهذا المعنى ولان التمييز فيه بين القليل والكثير مما يوجب المشقة لكثرة البلوى به، ولهذا
قال المصنف: (قلت: الأصح عند المحققين العفو مطلقا، والله أعلم) أي قل أو كثر انتشر بعرق أم لا لما تقدم. وقال
في المجموع: إنه الأصح باتفاق الأصحاب، ومحل ذلك في ثوب ملبوس أصابه الدم بلا تعمد، فلو حمل ثوبا فيه دم
برغوث في كمه أو فرشه وصلى عليه أو لبسه وكانت الإصابة بفعله قصدا كأن قتلها في ثوبه أو بدنه لم يعف إلا عن قليل
كما في التحقيق وغيره، وأشار إليه الرافعي في الصوم، ومثل دم البراغيث ما في معناه مما ذكر معه ومما هو آت، ومثل
حمله ما لو كان زائدا على تمام لباسه كما قاله القاضي لأنه غير مضطر إليه، قال في المهمات: ومقتضاه منع زيادة الكم
على الأصابع ولبس ثوب آخر لا لغرض من تجمل ونحوه اه‍. وهذا ظاهر في الثاني دون الأول. ثم محل العفو بالنسبة
للصلاة، فلو وقع الثوب في ماء قليل، قال المتولي: حكم بتنجيسه. (ودم البثرات) وهي بالمثلثة خراج صغير، (كالبراغيث)
أي كدمها، فيعفى عن قليله قطعا وعن كثيره على الراجح ما لم يكن بفعله لأن الانسان لا يخلو منها غالبا، فلو وجب
الغسل في كل مرة لشق عليه ذلك، أما ما خرج منها بفعله فيعفى عن قليله فقط كما يؤخذ مما مر ومن كلام الكفاية.
(وقيل إن عصره فلا) يعفى عنه لأنه مستغنى عنه. (والدماميل والقروح) أثر الخراجات، (وموضع الفصد
والحجامة
قيل كالبثرات) فيعفى عن دمها وإن كثر على ما سبق لأنها وإن لم تكن غالبة فليست بنادرة. (والأصح) أنها ليست
مثلها لأنها لا تكثر كثرتها، بل يقال في جزئيات دمها أنه (إن كان مثله يدوم غالبا فكالاستحاضة) أي كدمها فيجب
الاحتياط له بقدر الامكان بإزالة ما أصاب منه وعصب محل خروجه عند إرادة الصلاة نظير ما تقدم في المستحاضة. ويعفى
عما يشق الاحتراز منه بعد الاحتياط كما مر في موضعه، (وإلا) بأن كان مثله لا يدوم غالبا (فكدم الأجنبي) يصيبه
(فلا يعفى) عنه، أي ما لا يدوم غالبا قليلا كان أو كثيرا، كما أن دم الأجنبي كذلك. (وقيل: يعفى عن قليله) كما قيل
بذلك في دم الأجنبي. وما قررت به كلامه من أنه لا يعفى راجع إلى ما لا يدوم غالبا هو ما جرى عليه الأذرعي، وجعله
الأسنوي وغيره راجعا إلى دم الأجنبي. قال بعض المتأخرين: والأول أولى أو متعين. (قلت: الأصح أنها) أي دم الدماميل
والقروح وموضع الفصد والحجامة، (كالبثرات) فيما مر، فيعفى عن قليله وكثيره، وهذا ما في الروضة لكن خالف
في التحقيق والمجموع فصحح ما عليه الجمهور أنه كدم الأجنبي، قال شيخنا: ويمكن حمل ما في التحقيق والمجموع على طهر
193

التيمم اه‍. والأولى حمل ذلك على ما إذا كان بفعله أو انتقل عن محله كما يؤخذ من كلامه في منهجه وشرحه. (والأظهر العفو
عن قليل دم الأجنبي) من نفسه كأن انفصل منه ثم عاد إليه ومن غير نحو الكلب، (والله أعلم) لأن جنس الدم يتطرق
إليه العفو فيقع القليل منه في محل المسامحة. قال في الام: والقليل ما تعافاه الناس، أي عدوه عفوا، وعن القديم يعفى عما
دون الكف، أما دم نحو الكلب فلا يعفى عن شئ منه لغلظه كما صرح به في البيان ونقله عنه في المجموع وأقره، وكذا لو
أخذ دما أجنبيا ولطخ به بدنه أو ثوبه فإنه لا يعفى عن شئ منه لتعديه بذلك، فإن التضمخ بالنجاسة حرام. (والقيح
والصديد) وتقدم بيانهما في باب النجاسة (كالدم) فيما ذكر لأنهما دمان استحالا إلى نتن وفساد، (وكذا ماء القروح والمتنفط
الذي له ريح) كالدم قياسا على القيح والصديد، (وكذا بلا ريح في الأظهر) قياسا على الصديد الذي لا رائحة له. والثاني:
أنه طاهر لأنه كالعرق، ولذا قال المصنف: (قلت: المذهب طهارته) قطعا (والله أعلم) لما مر.
تنبيه: محل العفو عن سائر الدماء ما لم يختلط بأجنبي، فإن اختلط به ولو دم نفسه كأن خرج من عينه دم أو
دمت لثته لم يعف عن شئ منه. نعم يعفى عن ماء الطهارة إذا لم يتعمد وضعه عليها وإلا فلا يعفى عن شئ منه. قال المصنف
في مجموعه في الكلام على كيفية المسح على الخف: لو تنجس أسفل الخف بمعفو عنه لا يمسح على أسفله لأنه لو مسحه زاد
التلويث ولزمه حينئذ غسله وغسل اليد اه‍. واختلف فيما لو لبس ثوبا فيه دم نحو براغيث وبدنه رطب، فقال المتولي:
يجوز، وقال الشيخ أبو علي: لا يجوز، لأنه لا ضرورة إلى تلويث بدنه، وبه جزم المحب الطبري تفقها. ويمكن حمل كلام
الأول على ما إذا كانت الرطوبة بماء وضوء أو غسل مطلوب لمشقة الاحتراز كما لو كانت بعرق، والثاني على غير ذلك كما
علم مما مر. وينبغي أن يلحق بماء الطهارة ما يتساقط من الماء حال شربه أو من الطعام حال أكله أو جعل على جرحه
دواء، لقوله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *. (ولو صلى بنجس) لا يعفى عنه (لم يعلمه) في ابتداء صلاته ثم علم
كونه فيها، (وجب القضاء في الجديد) لأن ما أتى به غير معتد به لفوات شرطه، والقديم لا يجب القضاء لعذره، ولحديث
خلع النعلين في الصلاة، قال (ص): إن جبريل أتاني فأخبرني أن فيهما قذرا رواه أبو داود، وقال
الحاكم: إنه على شرط مسلم. وجه الدلالة منه أنه لم يستأنف الصلاة، واختار هذا في المجموع. وأجاب الأول بأنه يحتمل أن
يكون دما يسيرا، وأن يكون مستقذرا طاهرا، لأن المستقذر يطلق على النجس وعلى فعله، وفعله (ص)
تنزها. وقيل: إن اجتناب النجاسة لم يكن حينئذ واجبا أول الاسلام، ومن حينئذ وجب، ويدل عليه حديث: وضع
سلا الجزور على ظهره (ص) وهو يصلي بمكة ولم يقطعها. (وإن علم) بالنجس (ثم نسي) فصلى ثم تذكر
في الوقت أو قبله أعادها، أو بعده (وجب القضاء على المذهب) المقطوع به لتفريطه بترك التطهير لما علم به، والطريق
الثاني في وجوبه القولان لعذره بالنسيان. وحيث أوجبنا الإعادة فيجب إعادة كل صلاة تيقن فعلها مع النجاسة، فإن
احتمل حدوثها بعد الصلاة فلا شئ عليه لأن الأصل في كل حادث تقدير وجوده في أقرب زمن، والأصل عدم وجوده
قبل ذلك.
فائدة: قال في الأنوار: إذا صلى وفي ثوبه مثلا نجاسة ولم يعلم بها حتى مات، فالمرجو عن عفو الله عدم
المؤاخذة،
أي وقد مر أنه إذا صلى ناسيا للطهارة أنه يثاب على قصده لا فعله إلخ فيأتي هنا.
(فصل: تبطل) الصلاة (بالنطق) بكلام البشر بلغة العرب وبغيرها على ما سيأتي، (بحرفين) أفهما ك‍ قم ولو لمصلحة
الصلاة كقوله: لا تقم أو اقعد أم لا ك‍ عن ومن لخبر مسلم عن زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت * (وقوموا
194

لله قانتين) * فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام وعن معاوية بن الحكم السلمي قال: بينما أنا أصلي مع رسول الله
(ص) إذ عطس رجل من القوم، فقلت: له يرحمك الله فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أماه ما شأنكم
تنظرون إلي؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يصمتونني سكت، فلما صلى النبي (ص)
قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شئ من كلام الناس والحرفان من جنس الكلام لأن أقل ما ينبني عليه الكلام حرفان
للابتداء والوقف، وتخصيصه بالمفهم فقط اصطلاح حادث للنحاة. (أو حرف مفهم) نحو ق من الوقاية، وع من الوعي،
وف من الوفاء، وش من الوشي. (وكذا مدة بعد حرف في الأصح) وإن لم يفهم نحو آ والمد ألف أو واو أو ياء،
فالممدود في الحقيقة حرفان. والثاني: لا تبطل، لأن المدة قد تتفق لاشباع الحركة ولا تعد حرفا، وهذا كله يسير فبالكثير
من باب أولى. (وإلا أن التنحنح والضحك والبكاء) ولو من خوف الآخرة (والأنين) والتأوه (والنفخ) من الفم أو
الانف (إن ظهر به) أي بواحد مما ذكر (حرفان بطلت) صلاته، (وإلا فلا) تبطل لما مر، والثاني: لا تبطل بذلك مطلقا
لأنه لا يسمى كلاما في اللغة، ولا يكاد يتبين منه حرف محقق، فأشبه الصوت الغفل. وخرج بالضحك التبسم فلا تبطل
به الصلاة، لأن النبي (ص) تبسم فيها، فلما سلم قال: مر بي ميكائيل فضحك لي فتبسمت له. (ويعذر في
يسير الكلام) عرفا (إن سبق لسانه) إليه، أي لما سيأتي أن الناسي مع قصده الكلام معذور فيه، فهذا أولى لعدم قصده.
(أو نسي الصلاة) أي نسي أنه فيها للعذر، وفي الصحيحين عن أبي هريرة: صلى بنا رسول الله (ص) الظهر
أو العصر فسلم من ركعتين ثم أتى خشبة بالمسجد واتكأ عليها كأنه غضبان، فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت
يا رسول الله؟ فقال لأصحابه: أحق ما يقول ذو اليدين؟ قالوا: نعم فصلى ركعتين أخريين ثم سجد سجدتين. وجه الدلالة
أنه تكلم معتقدا أنه ليس في الصلاة وهم تكلموا مجوزين النسخ ثم بنى هو وهم عليها. (أو جهل تحريمه) أي
الكلام فيها، (
إن قرب عهده بالاسلام) أو نشأ بعيدا عن العلماء، بخلاف من بعد إسلامه وقرب من العلماء لتقصيره بترك التعلم. قال
الخوارزمي والأشبه أن الذمي الذي نشأ بين أظهرنا أنه لا يعذر وإن قرب عهده بالاسلام، لأن مثل هذا لا يخفى عليه من
ديننا اه‍. وهذا ليس بظاهر بل هو داخل في عموم كلام الأصحاب، وهو لو سلم إمامه فسلم معه ثم سلم الإمام ثانيا فقال له
المأموم قد سلمت قبل هذا فقال كنت ناسيا لم تبطل صلاة واحد منهما ويسلم المأموم، ويندب له سجود السهو لأنه تكلم
بعد انقطاع القدوة. ولو سلم من ثنتين ظانا كمال صلاته فكالجاهل كما ذكره الرافعي في كتاب الصيام. (لا) في (كثيره) فإنه
لا يعذر فيه فيما ذكر من الصور، (في الأصح) لأنه يقطع نظم الصلاة وهيئاتها، والقليل يحتمل لقلته ولان السبق والنسيان
في الكثير نادر، والفرق بين هذا وبين الصوم حيث لا يبطل بالاكل الكثير ناسيا عند المصنف أن المصلي متلبس بهيئة
مذكرة بالصلاة يبعد معها النسيان وليس كذلك الصائم. والثاني: يسوى بينهما في العذر كما سوي في العمد، ومرجع القليل
والكثير إلى العرف على الأصح، وقيل: الكلمة الكلمتان ونحوهما، وقيل: ما يسع زمانه ركعة، وصحح السبكي تبعا
للمتولي أن الكلام الكثير ناسيا لا يبطل لقصة ذي اليدين. (و) يعذر (في) اليسير عرفا من (التنحنح ونحوه) مما مر
وغيره كالسعال والعطاس، وإن ظهر به حرفان ولو من كل نفخة ونحوها. (للغلبة) إذ لا تقصير، وهي راجعة للجميع.
(وتعذر القراءة) الواجبة وكذا غيرها من الأركان القولية للضرورة. وهذا راجع إلى التنحنح فقط، أما إذا كثر
التنحنح ونحوه للغلبة كأن ظهر منه حرفان من ذلك وكثر فإن صلاته تبطل كما قالاه في الضحك والسعال، والباقي في
195

معناهما لأن ذلك يقطع نظم الصلاة. وصوب الأسنوي عدم البطلان في التنحنح والسعال والعطاس للغلبة وإن كثرت إذ
لا يمكن الاحتراز عنها اه‍. وينبغي أن يكون محل الأول ما إذا لم يصر السعال أو نحوه مرضا ملازما له. أما إذا صار السعال
ونحوه كذلك فإنه لا يضر كمن به سلس بول ونحوه بل أولى. (لا) تعذر (الجهر) فلا يعذر في يسير التنحنح له، (في الأصح)
لأنه سنة لا ضرورة إلى التنحنح له. وفي معنى الجهر سائر السنن كقراءة السورة والقنوت وتكبيرات الانتقالات
، وإن
قال الأسنوي المتجه جواز التنحنح للجهر بأذكار الانتقالات عند الحاجة إلى سماع المأمومين، إذ لا يلزمه تصحيح
صلاة غيره.
فروع: لو جهل بطلانها بالتنحنح مع علمه بتحريم الكلام فمعذور لخفاء حكمه على العوام، ولو علم تحريم الكلام
وجهل كونه مبطلا لم يعذر كما لو علم تحريم شرب الخمر دون إيجابه الحد فإنه يحد، إذ حقه بعد العلم بالتحريم الكف.
ولو تكلم ناسيا لتحريم الكلام في الصلاة بطلت كنسيان النجاسة على ثوبه، صرح به الجويني وغيره. ولو جهل تحريم
ما أتى به منه مع علمه بتحريم جنس الكلام فمعذور كما شمله كلام ابن المقري في روضه، صرح به أصله، وكذا لو سلم
ناسيا ثم تكلم عامدا، أي يسيرا كما ذكره الرافعي في الصوم. ولو تنحنح إمامه فبان منه حرفان لم يفارقه حملا على العذر
لأن الظاهر تحرزه عن المبطل، والأصل بقاء العبادة، وقد تدل كما قال السبكي قرينة حال الإمام على خلاف ذلك فتجب
المفارقة. قال الزركشي: ولو لحن في الفاتحة لحنا يغير المعنى وجب مفارقته كما لو ترك واجبا، لكن هل يفارقه في الحال
أو حتى يركع لجواز أنه لحن ساهيا وقد يتذكر فيعيد الفاتحة؟ الأقرب الأول، لأنه لا تجوز متابعته في فعل السهو اه‍. بل
الأقرب الثاني لأن إمامه لو سجد قبل ركوعه لم تجب مفارقته في الحال. (ولو أكره) المصلي (على الكلام) اليسير في صلاته
(بطلت في الأظهر) لأنه أمر نادر كالاكراه على الحدث، والثاني: لا تبطل كالناسي. أما الكثير فتبطل به جزما. (ولو نطق
بنظم القرآن بقصد التفهم ك‍ * (يا يحيى خذ الكتاب) *) مفهما به من يستأذن في أخذ شئ أن يأخذه، ومثل قوله لمن استأذن عليه
في دخول: * (ادخلوها بسلام) *، وقوله لمن ينهاه عن فعل شئ: * (يوسف أعرض عن هذا) *. (إن قصد معه) أي التفهيم (قراءة لم
تبطل) لأنه قرآن فصار كما لو قصد القرآن وحده، ولان عليا رضي الله تعالى عنه كان يصلي فدخل رجل من الخوارج
فقال: لا حكم إلا لله ورسوله، فتلا علي: * (فاصبر إن وعد الله حق) *. (وإلا) أبان قصد التفهيم فقط أو لم يقصد شيئا، (بطلت)
به لأنه فيهما بشبه كلام الآدميين فلا يكون قرآنا إلا بالقصد. قال في الدقائق: يفهم من قول المنهاج أربع مسائل
، إحداها:
إذا قصد القراءة، الثانية: إذا قصد القراءة والاعلام، الثالثة: إذا قصد الاعلام فقط، الرابعة: أن لا يقصد شيئا، ففي الأولى
والثانية لا تبطل، وفي الثالثة والرابعة تبطل، وتفهم الرابعة من قوله وإلا بطلت كما يفهم منه الثالثة، وهذه الرابعة لم يذكرها
المحرر، وهي نفيسة لا يستغنى عن بيانها، وسبق مثلها في قول المنهاج وتحل أذكاره لا بقصد قرآن اه‍. وسومح في أخذ الأولى
والرابعة من كلامه لأنه جعل الكلام فيما لو قصد التفهيم، وجعل في ذلك قسمين وهما: قصد القراءة معه، وعدم قصدها معه،
فلا يندرج في ذلك قصد القراءة فقط وعدم قصد شئ أصلا لأن ما قصد فيه التفهيم يستحيل أن يندرج فيه ما لا يقصد فيه
التفهيم. وهذا التفصيل يجري في الفتح على الإمام بالقرآن والجهر بالتكبير أو التسميع، فإنه إن قصد الرد مع القراءة أو القراءة
فقط أو قصد التكبير أو التسميع فقط أو مع الاعلام لم تبطل وإلا بطلت، وإن كان في كلام بعض المتأخرين ما يوهم خلاف ذلك.
وخرج بقوله بنظم القرآن ما لو أتى بكلمات منه متوالية مفرداتها فيه دون نظمها، ك‍ يا إبراهيم سلام كن فإن صلاته تبطل، فإن
فرقها أو قصد بها القراءة لم تبطل به، نقله في المجموع عن المتولي وأقره. وقضيته أنه لو قصد بها القراءة في الشق الأول أن صلاته
تبطل، وهو ظاهر كما قال شيخنا في شرح البهجة فيما إذا لم يقصد القراءة بكل كلمة على انفرادها وإلا لم تبطل، ونقل في المجموع
عن العبادي أنه لو قال: * (الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب النار) * بطلت صلاته إن تعمد، وإلا فلا، ويسجد للسهو.
196

ثم قال: وفيما قاله نظر. قال الأذرعي: وليس كما قال، وما قاله العبادي ظاهر اه‍. وهو كذلك. وقال القفال في فتاويه:
إنه إن قال ذلك متعمدا معتقدا كفر، ولو قال: قال الله أو النبي كذا بطلت صلاته كما شمله كلامهم، وصرح به القاضي.
وتبطل بمنسوخ التلاوة وإن لم ينسخ حكمه لا بمنسوخ الحكم دون التلاوة. (ولا تبطل) الصلاة (بالذكر والدعاء) وإن
لم يندبا، ولا بنذر، قال في المجموع: لأنه مناجاة لله تعالى فهو من جنس الدعاء، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب النذر
هل هو قربة أو لا، إلا ما علق من ذلك كقوله: اللهم اغفر لي إن أردت، أو: إن شفى الله مريضي فعلي عتق رقبة، أو
إن كلمت زيدا فعلي كذا فتبطل به صلاته، وكذا لو كان الدعاء محرما. ويشترط النطق بذلك بالعربية وإن كان لا يحسنها
كما مرت الإشارة إليه، وأن لا يكون فيه خطاب مخلوق غير النبي (ص) من إنس وجن وملك كما قال: (إلا أن يخاطب)
به (كقوله لعاطس: يرحمك الله) ونحو ذلك ك‍ سبحان ربي وربك، أو قال لعبده: لله علي أن أعتقك فتبطل به. واستثنى
الزركشي وغيره مسائل: إحداها دعاء فيه خطاب لما لا يعقل كقوله: يا أرض ربي وربك الله، أعوذ بالله من شرك وشر
ما فيك وشر ما دب عليك، وكقوله إذا رأى الهلال: آمنت بالله الذي خلقك ربي وربك الله. ثانيها: إذا أحس بالشيطان
فإنه يستحب أن يخاطبه بقوله: ألعنك بلعنة الله أعوذ بالله منك، لأنه (ص) قال ذلك في الصلاة. ثالثها: لو خاطب الميت
في الصلاة عليه فقال: رحمك الله غفر الله لك، لأنه لا يعد خطابا، ولهذا لو قال لامرأته: إن كلمت زيدا فأنت طالق
فكلمته ميتا لم تطلق، والمعتمد خلاف ما ذكر من الاستثناء. وقد ذكر المصنف في شرح مسلم الحديث الذي ورد بأنه
خاطب الشيطان بقوله: ألعنك بلعنة الله وقال: إنه إما مؤول أو كان ذلك قبل تحريم الكلام اه‍. أما خطاب الخالق
ك‍ إياك نعبد، وخطاب النبي (ص) ك‍ السلام عليك في التشهد فلا تبطل به. قال الأذرعي: وقضيته أنه لو سمع
بذكره (ص) فقال: السلام عليك أو الصلاة عليك يا رسول الله أو نحوه لم تبطل صلاته، ويشبه أن يكون الأرجح بطلانها
من العالم لمنعه من ذلك، وفي إلحاقه بما في التشهد نظر لأنه خطاب غير مشروع اه‍. والأوجه عدم البطلان إلحاقا له بما في التشهد
كما يؤخذ مما مر. قال الزركشي: والظاهر أن إجابة عيسى (ص) بعد نزوله كإجابة نبينا (ص)،
لكن مقتضى كلام الرافعي أن خطاب الملائكة وباقي الأنبياء تبطل به الصلاة اه‍. والمقتضى هو المعتمد، والمتجه كما قاله
الأسنوي أن إجابة النبي (ص) بالفعل الكثير كإجابته بالقول. ولا تجب إجابة الأبوين في الصلاة، بل تحرم في الفرض
وتجوز في النفل، والأولى الإجابة فيه إن شق عليهما عدمها كما بحثه بعض المتأخرين، وتبطل بإجابة أحدهما لا بإشارة
الأخرس وإن باع بها واشترى. ولو قال قاف أو صاد أو نون، فإن قصد كلام الآدميين بطلت صلاته، وكذا إن لم يقصد
شيئا كما بحثه بعضهم، أو القرآن لم تبطل. وعلم بذلك أن المراد بالحرف غير المفهم الذي لا تبطل الصلاة به هو مسمى
الحرف لا اسمه. ولو قرأ إمامه: * (إياك نعبد وإياك نستعين) * فقالها بطلت صلاته إن لم يقصد تلاوة أو دعاء كما في التحقيق،
فإن قصد ذلك لم تبطل، أو قال: استعنت بالله أو استعنا بالله بطلت صلاته، وإن قصد بذلك الثناء أو الذكر كما في فتاوى
شيخي، قال: إذ لا عبرة بقصد ما لم يفده اللفظ، ويقاس على ذلك ما أشبهه. (ولو سكت طويلا) عمدا في غير ركن قصير
(بلا غرض لم تبطل) صلاته (في الأصح) لأن ذلك لا يحرم هيئة الصلاة، والثاني: تبطل لاشعاره بالاعراض عنها.
أما تطويل الركن القصير فتبطل الصلاة بتطويله كما سيأتي في الباب الآتي. قال الأسنوي: واحترز بقوله طويلا عن
اليسير فإنه لا يضر جزما، وبلا غرض عن السكوت ناسيا ولتذكر شئ نسيه فالأصح فيهما القطع بعدم البطلان اه‍. ونظر في
دعواه الاحتراز بقوله: بلا غرض عن النسيان، فإن الناسي يصدق عليه بأنه سكت بلا غرض، وإنما يخرج ما قدرته تبعا
للشارح. (ويسن لمن نابه شئ) في صلاته (كتنبيه إمامه) لنحو سهو (وإذنه لداخل) استأذن في الدخول عليه
(وإنذاره أعمى) مخافة أن يقع في محذور، أو نحو ذلك كغافل وغير مميز ومن قصده ظالم أو نحو سبع، (أن يسبح
197

وتصفق المرأة) ومثلها الخنثى، (بضرب) بطن (اليمين على ظهر اليسار) أو عكسه، أو بضرب ظهر اليمين على بطن اليسار،
أو عكسه، فهذه أربع صور تناولها قول التحقيق تصفق بظهر كف على بطن أخرى ونحوه لا بطن على بطن، فتناول
كلامه أولا جواز الضرب بظهر اليمنى على بطن اليسرى وبظهر اليسرى على بطن اليمنى، وقوله: ونحوه عكسهما وهو
الضرب ببطن اليمنى على ظهر اليسرى وبطن اليسرى على ظهر اليمنى، وأما الضرب ببطن إحداهما على بطن الأخرى
فقال الرافعي: لا ينبغي فإنه لعب، ولو فعلته على وجه اللعب عالمة بالتحريم بطلت صلاتها وإن كان قليلا فإن اللعب ينافي
الصلاة اه‍. ويؤخذ من ذلك أنها إذا فعلت فعلة من الصور الأربع على وجه اللعب كان الحكم كذلك، وهو كذلك،
وإنما نصوا على هذه لأن الغالب أن اللعب لا يقصد إلا بها. وقد أفتى شيخي في شخص أقام إصبعه الوسطى
وهو في
صلاته لشخص لاعبا معه بأن صلاته تبطل، والأصل في ذلك خبر الصحيحين: من نابه شئ في صلاته فليسبح،
وإنما التصفيق للنساء ومثلهن الخناثى كما مر. وقد تقدم أنه لا بد أن يقصد بذلك الذكر مع التفهيم فإن قصد التفهيم
فقط بطلت صلاته، وإن قال في المهذب إنها لا تبطل لأنه مأمور به، وسكت عليه المصنف، وكذا إن أطلق. فإن قيل:
قد أطلق المصنف استحباب الانذار، وهو تارة يكون واجبا كإنذار الأعمى، وتارة يكون مستحبا كتنبيه إمامه إذا هم بترك
مستحب كالتشهد الأول، وتارة يكون مباحا كإذنه لداخل. أجيب بأنه إنما أراد التفرقة بين حكم الرجال والنساء بالنسبة إلى
التسبيح والتصفيق ولم يرد بيان حكم التنبيه، وعلى هذا يفوته حكم التنبيه هل هو واجب أو مندوب أو مباح؟ ولا ريب أنه
مندوب لمندوب كالمثال الأول في المتن، ومباح لمباح كالمثال الثاني، وواجب لواجب كالمثال الثالث وما ألحق به، فلو صفق الرجل
وسبحت المرأة جاز لكن خالفا السنة كما هو قضية كلام المصنف. قال الزركشي: وقد أطلقوا التصفيق للمرأة ولا شك
أن موضعه إذا كانت بحضرة رجال أجانب، فلو كانت بحضرة النساء أو الرجال المحارم فإنها تسبح كالجهر بالقراءة بحضرتهم،
والمعتمد إطلاق كلام الأصحاب، وإن وافقه شيخنا على هذا البحث في شرح الروض ولم يعزه له. وظاهر كلامهم أن
تصفيق المرأة لا يضر إذا كثر وتوالى عند الحاجة إليه، وهو كذلك كما في الكفاية، وإن قال بعض المتأخرين إنه يضر.
فإن قيل: دفع المار إذا توالى وكثر يضر فهلا كان هذا كذلك أجيب بأن هذا فعل خفيف فاغتفر فيه التوالي مع الكثرة،
كتحريك الأصابع بسبحة إن لم تحرك كفها وإلا فكتحريك الكف للجرب بجامع الحاجة وهو لا يضر، بل قال الزركشي:
إن تحريك الكف كتحريك الأصابع، وسيأتي ما فيه. وإذا لم يحصل الانذار الواجب إلا بالفعل المبطل أو بالكلام
وجب وبطلت صلاته بالأول وكذا بالثاني على الأصح في الروضة وأصلها، وهو المعتمد، وإن قال في التحقيق بالصحة
واقتضاه كلام المجموع إذا لم يمكن إلا به. (ولو فعل في صلاته غيرها) أي فعل فيها غير ما شرع فيها، (إن كان) المفعول
(من جنسها) أي من جنس أفعالها، كزيادة ركوع أو سجود أو قعود أو قيام وإن لم يطمئن لا على وجه المتابعة من
المسبوق. (بطلت) صلاته لتلاعبه، لكن لو جلس من اعتداله قدر جلسة الاستراحة ثم سجد أو جلس من سجود التلاوة
للاستراحة قبل قيامه لم يضر لأن هذه الجلسة معهودة في الصلاة غير ركن، بخلاف نحو الركوع فإنه لم يعهد فيها إلا ركنا فكان
تأثيره في تغيير نظمها أشد. نعم لو انتهى من قيامه إلى حد الركوع لقتل نحو حية لم يضر كما قاله الخوارزمي، وكذا لو فعل
ما ذكر ناسيا كما قال: (إلا أن ينسى) لأنه (ص) صلى الظهر خمسا وسجد للسهو ولم يعدها، رواه الشيخان. والجهل مع
قرب العهد بالاسلام أو البعد عن العلماء كالنسيان كما قاله الأذرعي، وقال في الأنوار: لو فعل ما لا يقتضى سجود سهو فظن
أنه يقتضيه وسجد لم تبطل إن كان جاهلا لقرب عهده بالاسلام أو لبعده عن العلماء. أما ما فعله على وجه المتابعة لإمامه
فلا يضر، كأن اقتدى بمن اعتدل من الركوع فإنه يلزمه متابعته في الزائد، ولو ركع أو سجد قبل الإمام كان له العود
ثانيا كما سيأتي في صلاة الجماعة إن شاء الله تعالى، ولا يضر ذلك وإن صدق عليه أنه زاد ركوعا أو سجودا لأجل المتابعة. ولو
قرأ في صلاته آية سجدة فهوى ليسجد حتى وصل لحد الركوع ثم بدا له فتركه جاز كقراءة بعض التشهد الأول. ولو سجد
198

على خشن فرفع رأسه لئلا تنجرح جبهته ثم سجد ثانيا بطلت صلاته، وإن كان تحامل على الخشن بثقل رأسه في أحد احتمالين
للقاضي حسين يظهر ترجيحه وإلا فتبطل، والاحتمال الثاني تبطل مطلقا. وخرج بقول المصنف: فعل القول، فلو نقل
ركنا قوليا غير السلام أو كرره عمدا فإنه لا يضر على النص كما سيأتي في الباب الآتي. أما نقل السلام إلى غير محله فإنه
يضر كما مرت الإشارة إليه. (وإلا) أي وإن لم يكن المفعول من جنس أفعالها كالمشي والضرب، (فتبطل بكثيره) ولو سهوا
لأن الحاجة لا تدعو إليه، إما إذا دعت الحاجة إليه كصلاة شدة الخوف أو المتنفل على الراحلة إذا احتاج إلى تحريك يده
أو رجله فإنه لا يضر وإن كثر. (لا قليله) ولو عمدا، وفارق الفعل القول حيث استوى قليله وكثيره في الابطال بأن الفعل
يتعذر أو يعسر الاحتراز عنه، فعفي عن القدر الذي لا يخل بالصلاة بخلاف القول، وقد ثبت أنه (ص) صلى وهو حامل
أمامة بنت بنته، فكان إذا سجد وضعها وإذا قام حملها رواه الشيخان، وأمر بقتل الأسودين في الصلاة الحية
والعقرب
وخلع نعليه في صلاته. نعم الاكل القليل العمد يبطلها كما سيأتي، وكذا الفعل القليل بقصد اللعب كما يؤخذ مما مر.
(والكثرة) والقلة (بالعرف) في الأصح، فما يعده الناس قليلا كخلع الخف ولبس الثوب الخفيف وقتل قملة ودمها عفو
فقليل، نعم إن حمل جلد القملة المقتولة بطلت صلاته، ومثل المصنف لذلك بقوله: (فالخطوتان) المتوسطتان (أو
الضربتان) كذلك أو الإشارة برد السلام (قليل) لحديث خلع النعلين. وما يعده الناس كثيرا مما ذكر أو غيره فكثير، وقد مثل له
المصنف بقوله: (والثلاث) من ذلك أو غيره (كثير إن توالت) سواء أكانت من جنس الخطوات أم أجناس كخطوة
وضربة وخلع نعل، وسواء أكانت الخطوات الثلاث بقدر خطوة واحدة أم لا كما قاله الإمام. وقيل: القليل ما لا يحتاج
فيه إلى كلتا اليدين، والكثير ما يحتاج إلى ذلك كعقد الإزار والتعمم، وقيل: الكثير ما يسع وقته ركعة، والقليل خلافه، وقيل
غير ذلك. وخرج بقوله: إن توالت ما لو أتى بالثلاث متفرقة بحيث تعد الثانية مثلا منقطعة عن الأولى أو الثانية منقطعة
عن الثالثة فإنه لا يضر لحديث حمل أمامة، وعند البغوي أن يكون بينهما قدر ركعة. ولو فعل واحدة بنية الثلاث بطلت
صلاته كما قاله العمراني، وإذا تكلم بحرف ونوى أن يأتي بحرفين هل تبطل صلاته قياسا على ذلك أو لا؟ ولم أر من تعرض
له، والظاهر الأول، ولو تردد في فعل فعله هل وصل إلى حد الكثرة أو لا لم يضر كما قاله الإمام لأن الأصل عدمه. (وتبطل
بالوثبة) لمنافاتها للصلاة، وقوله: (الفاحشة) يفهم أن لنا وثبة غير فاحشة لا تبطل الصلاة وليس مرادا، ولذلك عدل ابن
المقري عن هذه العبارة إلى قوله: ولو فحشت الفعلة كوثبة بطلت. (لا الحركات الخفيفة المتوالية كتحريك أصابعه) بلا
حركة كفه (في سبحة) أو عقد أو حل (أو حك) أو نحو ذلك، كتحريك لسانه أو أجفانه أو شفتيه أو ذكره مرارا ولاء
فلا تبطل بذلك، (في الأصح) إذ لا يخل ذلك بهيئة الخشوع والتعظيم فأشبه بالفعل القليل، والثاني: تبطل بذلك لأنها أفعال
كثيرة متوالية فأشبهت الخطوات، فإن حرك كفه في ذلك ثلاثا متوالية بطلت خلافا للزركشي، وما يفهم من كلام
الإمام من التسوية بينها وبين الأصابع. نعم إن كان معه جرب لا يقدر معه على الصبر لم تبطل بتحريك كفه
ثلاثا ولاء كما
قاله الخوارزمي في كافيه للضرورة، ولو فتح كتابا وفهم ما فيه أو قرأ في مصحف ولو قلب أوراقه أحيانا لم تبطل لأن
ذلك يسيرا وغير متوال لا يشعر بالاعراض. والقليل من الفعل الذي يبطل كثيره إذا تعمده بلا حاجة مكروه، لا في
فعل مندوب كقتل نحو حية وعقرب فلا يكره بل يندب كما مر.
فائدة: هل الخطوة نقل رجل واحدة فقط حتى يكون نقل الأخرى إلى محاذاتها خطوة أخرى، أو نقل الأخرى
إلى محاذاتها داخل في مسمى الخطوة؟ قال ابن أبي شريف في شرح الارشاد: كل منهما محتمل والثاني أقرب. أما نقل
كل من الرجلين على التعاقب إلى التقدم أو التأخر إلى الأخرى فخطوتان فلا إشكال اه‍. والمتجه ما قاله في ذلك شيخي
وهو أن نقل الرجل الأخرى خطوة ثانية مطلقا لأن الخطوة بفتح الخاء المرة الواحدة، وأما بالضم قاسم لما بين القدمين.
199

(وسهو الفعل) المبطل لفحشه أو كثرته (كعمده) في بطلان الصلاة به، (في الأصح) فيبطل كثيره وفاحشه لندور السهو ولأنه
يقطع نظم الصلاة. والثاني واختاره في التحقيق: أنه كعمد قليله، واختاره السبكي وغيره لما مر في حديث ذي اليدين، وجهل
التحريم كالسهو أخذا مما سيأتي. (وتبطل بقليل الاكل) لشدة منافاته لها لأن ذلك يشعر بالاعراض عنها، وقيل: لا تبطل به
كسائر الأفعال القليلة، أما الكثير فتبطل به قطعا، ويرجع في القلة والكثرة إلى العرف كما مر. وهل المبطل الفعل أو وصول
المفطر جوفه؟ وجهان أصحهما الثاني، وسيأتي أن المضغ أيضا من الافعال. (قلت: إلا أن يكون ناسيا) للصلاة (أو جاهلا
تحريمه) لقرب عهده بالاسلام أو لبعده عن العلماء فلا تبطل بقليله قطعا، (والله أعلم) لعدم منافاته للصلاة. أما كثيره فيبطل
مع النسيان أو الجهل في الأصح ولو مفرقا بخلاف الصوم فإنه لا يبطل بذلك. وفرقوا بأن للصلاة هيئة مذكرة بخلافه، وهذا
لا يصلح فرقا في جهل التحريم، والفرق الصالح لذلك أن الصلاة ذات أفعال منظومة والفعل الكثير يقطع نظمها بخلاف
الصوم فإنه كف، والمكره هنا كغيره لندرة الاكراه. (فلو كان بفمه سكرة) فذابت (فبلع) بكسر اللام وحكي فتحها، (ذوبها)
بمص ونحوه لا بمضغ، (بطلت) صلاته (في الأصح) لمنافاته للصلاة كما مر، والثاني: لا تبطل لعدم المضغ. ثم إن المضغ من
الافعال فتبطل بكثيره وإن لم يصل إلى الجوف شئ من الممضوغ. (ويسن للمصلي) أن يتوجه (إلى) سترة نحو (جدار أو
سارية) أي عمود كخشبة مبنية (أو) إلى نحو (عصا مغروزة) كمتاع عند عجزه عن المرتبة الأولى للاتباع في ذلك رواه الشيخان،
ولخبر: استتروا في صلاتكم ولو بسهم رواه الحاكم وقال: على شرط مسلم. (أو بسط مصلى) عند عجزه عن المرتبة الثانية
كسجادة بفتح السين. (أو خط قبالته) عند عجزه عن المرتبة الثالثة خطا طولا كما في الروضة، روى أبو داود خبر: إذا صلى
أحدكم فليجعل أمام وجهه شيئا، فإن لم يجد فلينصب عصا، فإن لم يكن معه عصا فليخط خطا، ثم لا يضره ما مر أمامه.
وقيس بالخط المصلي، وقدم على الخط لأنه أظهر في المراد. وطول المذكورات حتى الخط ثلثا ذراع فأكثر تقريبا، وبينها
وبين المصلي ثلاثة أذرع فأقل، وإذا صلى إلى شئ منها على هذا الترتيب سن له وكذا لغيره كما صرح به الأسنوي وغيره
تفقها (دفع المار) بينه وبينها. والمراد بالمصلي والخط منهما أعلاهما، وذلك لخبر الشيخين: إذا صلى أحدكم إلى شئ يستره
من الناس، فأراد أحد أن يجتاز بين يديه فليدفعه، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان أي معه شيطان، أو هو شيطان الانس.
(والصحيح تحريم المرور حينئذ) وإن لم يجد المار سبيلا آخر، لخبر: لو يعلم المار بين يدي المصلي - أي إلى السترة - ماذا عليه
من الاثم لكان أن يقف أربعين خريفا خيرا له من أن يمر بين يديه رواه الشيخان، إلا من الاثم فالبخاري، وإلا خريفا
فالبزار. وقضية هذا وجوب الدفع، وقد بحثه الأسنوي لحرمة المرور وهو قادر على إزالتها، وليس كدفع الصائل، فإن من
لم يوجبه احتج بخبر: كن عبد الله المظلوم ولا تكن عبد الله الظالم والمنقول عدم الوجوب، وبهذا يلغز، ويقال لنا حرام
لا يجب إنكاره. قال شيخنا: وكأن الصارف عن وجوبه شدة منافاته لمقصود الصلاة من الخشوع والتدبر، وأيضا
للاختلاف في تحريمه، والتحريم مقيد بما إذا لم يقصر المصلي بصلاته في المكان، وإلا كأن وقف بقارعة الطريق فلا
حرمة بل ولا كراهة كما قاله في الكفاية أخذا من كلامهم، وبما إذا لم يجد المار فرجة أمامه وإلا فلا حرمة، بل له
خرق الصفوف والمرور بينها ليسد الفرجة كما قاله في الروضة كأصلها، وفيها: لو صلى بلا سترة أو تباعد
عنها، أي أو لم
تكن بالصفة المذكورة، فليس له الدفع لتقصيره ولا يحرم المرور بين يديه، لكن الأولى تركه، فقوله في غيرها: لكن
يكره محمول على الكراهة غير الشديدة. قال: وإذا صلى إلى سترة فالسنة أن يجعلها مقابلة ليمينه أو يساره، ولا يصمد لها
- بضم الميم - أي ولا يجعلها تلقاء وجهه، وإذا دفع دفع بالأسهل فالأسهل كدفع الصائل، فإن أدى إلى موته فهدر.
200

قال الأصحاب: ويدفعه بيده هو مستقر في مكانه، ولا يحل له المشي إليه لأن مفسدة الشئ أشد من المرور، وقضية
هذا أن الخطوة أو الخطوتين حرام وإن لم تبطل بهما الصلاة وليس مرادا، أي لا يحل حلا مستوي الطرفين فيكره.
ولو دفعه ثلاث مرات متواليات بطلت صلاته كما في الأنوار، وتقدم الفرق بينه وبين التصفيق. وبما تقرر علم ما في كلام
المصنف من الاجحاف فإنه لم يذكر حكم الصلاة إلى ما ذكر من جدار وما بعده، وكلامه يوهم أن الشاخص وغيره
سواء، ولم يبين طول السترة ولا قدر ما بينه وبينها وغير ذلك مما يظهر بالتأمل.
فائدة: لو وضع سترة فأزالها الريح أو غيرها فمن علم حاله فمروره كمروره مع وجود السترة دون من لم يعلم،
ولو صلى بلا سترة فوضعها له شخص آخر فالظاهر كما قاله ابن الأستاذ تحريم المرور حينئذ نظرا لوجودها لا لتقصير
المصلي. قال في المجموع: ويكره أن يصلي وبين يديه رجل أو امرأة يستقبله ويراه اه‍. ولا تبطل صلاته بمرور شئ بين يديه
كامرأة وكلب وحمار للأخبار الصحيحة الدالة عليه، وأما خبر مسلم: يقطع الصلاة المرأة والكلب والحمار فالمراد
منه قطع الخشوع للشغل بها، والظاهر أن بعض الصفوف لا يكون سترة لبعضها كما هو ظاهر كلامهم. (قلت: يكره
الالتفات) في الصلاة بوجهه يمنة أو يسرة فإنه اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد كما صح في البخاري ولمنافاته
الخشوع. وقد روى أبو داود والنسائي: لا يزال الله مقبلا على العبد في صلاته ما لم يلتفت فإذا التفت انصرف عنه
ولهذا قال المتولي بحرمته، وقال الأذرعي: والمختار أنه إن تعمد مع علمه بالخبر حرم بل تبطل إن فعله لعبا اه‍. ومحل
الخلاف إذا لم تكن حاجة كما قال: (لا لحاجة) فلا يكره، لأنه (ص) كان في سفر فأرسل فارسا إلى شعب من
أجل الحرس، فجعل يصلي وهو يلتفت إلى الشعب رواه أبو داود بإسناد صحيح. أما صدره فإن حوله عن القبلة بطلت
صلاته كما علم من فصل الاستقبال، وخرج بما ذكر اللمح بالعين دون الالتفات فإنه لا بأس به، ففي صحيح ابن حبان
من حديث علي بن شيبان قال: قدمنا على النبي (ص) وصلينا معه فلمح بمؤخر عينه رجلا لا يقيم صلبه في الركوع
والسجود، فقال: لا صلاة لمن لا يقيم صلبه. (و) يكره (رفع بصره إلى السماء) لحديث البخاري: ما بال أقوام
يرفعون أبصارهم إلى السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال: لينتهن عن ذلك أو لتخطفن أبصارهم ولذلك
قال الأذرعي: والوجه تحريمه على العامد العالم بالنهي المستحضر له اه‍. وروي أنه (ص): كان إذا صلى رفع بصره
إلى السماء، فنزل: * (قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون) * فطأطأ رأسه رواه الحاكم من حديث أبي هريرة
وقال: إنه على شرط الشيخين. ويكره نظر ما يلهي عن الصلاة كثوب له أعلام لخبر عائشة: كان النبي (ص)
يصلي وعليه خميصة ذات أعلام، فلما فرغ قال: ألهتني هذه اذهبوا بها إلى أبي جهم وأتوني بأنبجانيته (1) رواه الشيخان.
(و) يكره (كف شعره أو ثوبه) لحديث: أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف ثوبا ولا شعرا رواه
الشيخان، واللفظ لمسلم. ومن ذلك كما في المجموع أن يصلي وشعره معقوص أو مردود تحت عمامته أو ثوبه أو كمه
مشمر، ومنه شد الوسط وغرز العذبة. والمعنى في النهي عن كف ذلك أنه يسجد معه، ولذا نص الشافعي على كراهة
الصلاة، وفي إبهامه الجلدة التي يجر بها وتر القوس، قال: لأني آمره أن يفضي ببطون كفيه إلى الأرض. (و) يكره
(وضع يده على فمه) لثبوت النهي عنه ولمنافاته لهيئة الخشوع. (بلا حاجة) فإن كان لها كما إذا تثاءب فإنه لا يكره بل
يستحب وضعها لصحة الحديث في ذلك. قال ابن الملقن: والظاهر أنه يضع اليسرى لأنها لتنحية الأذى، ويكره
التثاؤب لخبر مسلم: إذا تثاءب أحدكم وهو في الصلاة فليرده ما استطاع فإن أحدكم إذا قال ها ها ضحك الشيطان منه
قال في المجموع: ويكره التثاؤب في غير الصلاة أيضا، ويكره النفخ لأنه عبث ومسح الحصى ونحوه حيث يسجد، لخبر
أبي داود بإسناد على شرط الشيخين: لا تمسح الحصى وأنت تصلي، فإن كنت لا بد فاعلا فواحدة تسوية
للحصى

(1) الأنبجانية بكسر الباء ويروى بفتحها: كساء يتخذ من الصوف وله خمل ولا علم له وهو من أدون الثياب الغليظة اه‍ من النهاية.
201

ولأنه يخالف التواضع والخشوع. (و) يكره (القيام على رجل) واحدة لأنه تكلف ينافي الخشوع، إلا إن كان لعذر
كوجع الأخرى فلا كراهة. (و) تكره (الصلاة حاقنا) بالنون: أي مدافعا للبول، (أو حاقبا) بالموحدة: أي مدافعا للغائط،
أو حازقا بالقاف: وهو مدافع الريح، أو حاقما بهما، فيستحب أن يفرغ نفسه من ذلك إذا اتسع الوقت وإن فاتته الجماعة كما
سيأتي في بابها. وقيل: يستحب وإن فات الوقت. ونقل عن القاضي حسين أنه قال: إذا انتهى به مدافعة الأخبثين إلى أن
ذهب خشوعه لم تصح صلاته. (أو بحضرة) بتثليث الحاء المهملة (طعام) مأكول أو مشروب (يتوق) بالتاء المثناة من
فوق: أي يشتاق (إليه) لحديث مسلم: لا صلاة - أي كاملة - بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان بالمثلثة: أي البول
والغائط. والشرب كالأكل وتوقان النفس في غيبة الطعام كحضوره، قاله في الكفاية، وهو ظاهر إن كان يرجى حضوره عن
قرب كما يؤخذ من كلام ابن دقيق العيد، بل قيل: إن غيبة الطعام ليست كحضوره مطلقا لأن حضوره يوجب زيادة تشوق
وتطلع إليه. وتعبير المصنف بتوقان يفهم أنه إنما يأكل ما ينكسر به التوقان، والذي جرى عليه في شرح مسلم في الاعذار
المرخصة في ترك الجماعة أنه يأكل حاجته بكمالها، وهو الظاهر ومحل ذلك إذا اتسع الوقت. (و) يكره (أن يبصق قبل
وجهه أو عن يمينه) لحديث الشيخين: إذا كان أحدكم في الصلاة فإنما يناجي ربه فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه
زاد البخاري: فإن عن يمينه ملكا وعن يساره أو تحت قدمه. ويكره البصاق عن يمينه وأمامه وهو في غير الصلاة
أيضا كما قاله المصنف، خلافا لما رجحه الأذرعي تبعا للسبكي من أنه مباح، لكن محل كراهة ذلك أمامه إذا كان متوجها
إلى القبلة كما بحثه بعضهم إكراما لها.
فائدة: روى ابن عساكر عن عبادة بن الصامت عن معاذ بن جبل أنه قال ما بزقت عن يميني منذ أسلمت.
قال الدميري: وينبغي أن يستثنى من البصاق عن يمينه ما إذا كان بمسجد النبي (ص) فإن بصاقه عن
يمينه أولى، لأن النبي (ص) عن يساره اه‍. وهو ظاهر إذا كان القبر الشريف
عن يساره. فإن قيل: عن يساره ملك آخر فما وجه اختصاص المنع بما ذكر؟ أجيب بأن الصلاة أم الحسنات البدنية فلا دخل لكاتب
السيئات فيها، ففي الطبراني: فإنه يقوم بين يدي الله تعالى وملكه عن يمينه وقرينه عن يساره فالبصاق حينئذ
إنما يقع على القرين وهو الشيطان، ولعل ملك اليسار حينئذ يكون بحيث لا يصيبه شئ من ذلك. هذا إذا كان في
غير مسجد، فإن كان فيه بصق في ثوبه في الجانب الأيسر وحك بعضه ببعض، ولا يبصق فيه فإنه حرام كما صرح
به في المجموع والتحقيق، ويجب الانكار على فاعله وإن قال في المهمات إن المشهور الكراهة لحديث الشيخين:
البصاق في المسجد خطيئة، وكفارتها دفنها أي ولو في تراب المسجد لظاهر الخبر، بل يبصق في طرف ثوبه في
جانبه الأيسر ككمه. وبصق وبزق لغتان بمعنى. ومن رأى بصاقا أو نحوه في المسجد فالسنة أن يزيله وأن يطيب محله قاله
في المجموع. فإن قيل: لماذا لم تجب الإزالة لأن البصاق فيه حرام كما مر؟ أجيب بأنه مختلف في تحريمه كما قالوه في دفع
المار بين يدي المصلي كما مر. (و) يكره (وضع يده) أي المصلي ذكرا كان أو غيره، (على خاصرته) لغير ضرورة
أو حاجة للنهي عنه، رواه الشيخان. وفي رواية ابن حبان: الاختصار في الصلاة راحة أهل النار قال ابن حبان،
يعني اليهود والنصارى وهم أهل النار. واختلف العلماء في تفسير الاختصار على أقوال: أصحها ما ذكره المصنف،
والثاني: أن يتوكأ على عصا، والثالث: يختصر السورة فيقرأ آخرها، والرابع: أن يختصر صلاته فلا يتم حدودها،
والخامس: أن يقتصر على الآيات التي فيها السجدة ويسجد فيها، والسادس: أن يختصر السجدة إذا انتهى في قراءته
إليها ولا يسجدها. وعلى الأول اختلف في علة النهي، فقيل: لأنه فعل الكفار، وقيل: فعل المتكبرين، وقيل: فعل
الشيطان. وحكى في شرح مسلم: أن إبليس هبط من الجنة كذلك. ويكره أن يروح على نفسه في الصلاة، وأن
يفقع أصابعه أو يشبكها لأن ذلك عبث، وأن يمسح وجهه فيها وقبل الانصراف مما يتعلق بها من غبار ونحوه.
(و) تكره (المبالغة في خفض الرأس) عن الظهر (في ركوعه) لمجاوزته فعله (ص)، فإنه كان إذا ركع لم
202

يشخص رأسه: أي لم يرفعه، ولم يصوبه: أي لم يخفضه. وقضية كلام المصنف أن خفض الرأس من غير مبالغة
لا كراهة فيه، والذي دل عليه كلام الشافعي والأصحاب كما قاله السبكي وجرى عليه شيخنا في منهجه الكراهة وهو
المعتمد. (و) تكره (الصلاة في) الأسواق والرحاب الخارجة عن المسجد، قاله في الاحياء، قال: وكان
بعض الصحابة
يضرب الناس ويقيم من الرحاب. وفي (الحمام) ولو في مسلخه لحديث صحيح أسنده ابن حبان: الأرض كلها
مسجد إلا المقبرة والحمام. واختلف في علة النهي على أقوال: أصحها لأنه مأوى الشياطين، وقيل: خوف النجاسة،
وقيل: لاشتغال المصلي بدخول الناس، وقيل غير ذلك. وهو مذكر مأخوذ من الحميم وهو الماء الحار. (و) في (الطريق)
للنهي عن الصلاة في قارعة الطريق وهي أعلاه، وقيل: صدره، وقيل: ما برز منه، والكل متقارب. والمراد هنا نفس
الطريق كما قاله ابن الأثير في النهاية فلهذا عبر به المصنف. وظاهر كلامه أنه لا فرق بين البنيان والبرية، وصححه في الكفاية،
ولكن المعتمد ما صححه في التحقيق من الكراهة في البنيان دون البرية. وفي قول إن الصلاة في الشارع باطلة بناء على
تغليب الغالب الظاهر على الأصل. (و) في (المزبلة) بفتح الباء وضمها: موضع الزبل ونحوه كالمجزرة، وهي موضع ذبح الحيوان.
ومحل ذلك ما إذا بسط طاهرا وصلى عليه وإلا لم تصح لأنه مصل على نجاسة. وإنما تكره على الحائل إذا كانت النجاسة
محققة، فإن بسطه على ما غلبت فيه النجاسة لم تكره على ما يقتضيه كلام الرافعي لضعف ذلك الحائل. (و) في (الكنيسة)
وهي بفتح الكاف معبد النصارى، وفي البيعة بكسر الباء وهي معبد اليهود، ونحوهما من أماكن الكفر لأنها مأوى
الشياطين. نعم لو منعنا أهل الذمة من دخول أماكنهم حرم علينا دخولها. (و) في (عطن الإبل) ولو طاهرا وهو
الموضع الذي تنحى إليه الإبل الشاردة ليشرب غيرها، فإذا اجتمعت سيقت منه إلى المرعى، لقوله (ص): صلوا
في مرابض الغنم ولا تصلوا في أعطان الإبل فإنها خلقت من الشياطين رواه ابن ماجة وصححه ابن حبان، ولنفارها المشوش
للخشوع. والمرابض المراقد فلا تكره الصلاة فيها. وفرق الرافعي بين الإبل والغنم بأن خوف نفار الإبل يذهب الخشوع
بخلاف الغنم. ولا تختص الكراهة بالعطن، بل مأواها ومقيلها ومباركها، بل مواضعها كلها كذلك. قال الرافعي:
والكراهة في العطن أشد من مأواها لأن نفارها في العطن أكثر لازدحامها ذهابا وإيابا. والبقر كالغنم كما قاله ابن المنذر
وغيره، وإن نظر فيه الزركشي. ومعلوم أن أماكن المواشي مطلقا إن تنجست لم تصح الصلاة فيها بلا حائل،
وتصح
بالحائل مع الكراهة، لكن الكراهة في موضع الغنم ونحوها لمحاذاة النجاسة كما مر، وفي موضع الإبل لذلك ولما مر.
(و) في (المقبرة) بتثليث الموحدة (الطاهرة) وهي التي لم تنبش، (والله أعلم) لنهيه (ص) عن
الصلاة في سبعة مواطن: في المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق بيت الله العتيق
رواه الترمذي وقال: إسناده ليس بالقوي. ولنجاسة ما تحتها بالصديد. وإنما كرهت الصلاة فوق البيت لهتك حرمته.
أما المنبوشة فلا تصح الصلاة فيها بغير حائل ومعه تكره، واستثنى كما في التوشيح لابن السبكي مقابر الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام، أي إذا كانت أرضا ليس فيها مدفون إلا نبي أو أنبياء فلا تكره الصلاة فيها لأن الله تعالى حرم على
الأرض أن تأكل أجسادهم، وإنما هم أحياء في قبورهم يصلون. وينبغي كما قال بعض المتأخرين أن تكون مقابر
شهداء المعركة كذلك لأنهم أحياء، واعترض الزركشي كلام ابن السبكي بأن تجويز الصلاة في مقبرة الأنبياء ذريعة إلى
اتخاذها مسجدا، وجاء النهي عن اتخاذ مقابر الأنبياء مساجد وسد الذرائع مطلوب اه‍. وليس هذا الاعتراض بظاهر.
قال في المجموع: وتكره الصلاة في مأوى الشياطين، كالخمارة ومواضع المكس ونحو ذلك من المعاصي الفاحشة، وفي
الوادي الذي نام فيه (ص) لا في غيره من الأودية، وان أطلق الرافعي تبعا للإمام والغزالي الكراهة
في بطون الأودية مطلقا وعللوه باحتمال السيل المذهب للخشوع، ويكره استقبال القبر في الصلاة لخبر مسلم: لا تجلسوا
على القبور ولا تصلوا إليها. نعم يحرم استقبال قبره (ص) كما جزم به في التحقيق، ويقاس به سائر قبور
الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام.
203

فائدة: أجمع المسلمون إلا الشيعة على جواز الصلاة على الصوف وفيه، ولا كراهة في الصلاة على شئ من
ذلك إلا عند مالك، فإنه كره الصلاة عليه تنزيها، وقالت الشيعة: ولا يجوز ذلك لأنه ليس من نبات الأرض.
خاتمة: في أحكام المسجد يحرم تمكين الصبيان غير المميزين والمجانين والبهائم والحيض ونحوهن والسكران من
دخوله إن غلب تنجيسهم له، وإلا كره كما يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى في الشهادات. وكذا يحرم دخول الكافر له
إلا بإذن مسلم، قال الجويني: مكلف. قال الأذرعي: ولم يشترط على الكافر في عهده عدم الدخول كما صرح به الماوردي
وغيره. وإن أذن له أو قعد قاض للحكم فيه، وكان له حكومة جاز له الدخول ولو كان جنبا، لأنه لا يعتقد
حرمة ذلك.
ويستحب الاذن له فيه لسماع قرآن ونحوه، كفقه وحديث رجاء إسلامه، لا لاكل ونوم فيه فلا يستحب له الاذن
بل يستحب عدمه، وهو الظاهر، بل قال الزركشي: ينبغي تحريمه. والكلام في غير المسجد الحرام لأن في دخوله حرم مكة
تفصيلا يأتي في الجزية إن شاء الله تعالى. ويكره نقش المسجد واتخاذ الشرافات له، بل إن كان ذلك من ريع ما وقف
على عمارته فحرام. ويكره دخوله بلا ضررة لمن أكل ما له ريح كريه كثوم - بضم المثلثة - وحفر بئر وغرس شجر فيه،
بل إن حصل بذلك ضرر حرم. وعمل صناعة فيه إن كثر، هذا إذا لم تكن خسيسة تزري بالمسجد ولم يتخذه حانوتا
يقصد فيه بالعمل وإلا فيحرم، ذكره ابن عبد السلام في فتاويه. ولا بأس بإغلاقه في غير أوقات الصلاة صيانة له وحفظا
لما فيه، ومحله كما قال في المجموع: إذا خيف امتهانه وضياع ما فيه ولم تدع حاجة إلى فتحه، وإلا فالسنة عدم إغلاقه،
ولو كان فيه ماء مسبل للشرب لم يجز غلقه ومنع الناس من الشرب. ولا بأس بالنوم والوضوء والاكل فيه إذا لم يتأذ
بشئ من ذلك الناس، وما قاله البغوي من تحريم نضح المسجد بالماء المستعمل وجرى عليه ابن المقري في باب الاعتكاف،
قال المصنف في مجموعه: ضعيف، قال: والمختار الجواز كما يجوز الوضوء فيه مع أن ماءه مستعمل اه‍. وهذا هو المعتمد،
وإن فرق بعض المتأخرين بأن الوضوء محتاج إليه بخلاف النضح بالمستعمل وبأن تلويثه يحصل في الوضوء ضمنا بخلافه
في النضح، والشئ يغتفر ضمنا ما لا يغتفر مقصودا. والبصاق فيه حرام وكفارته دفنه كما مر، ولحائطه مثل حرمته
فيحرم البصاق عليها لا في هوائه، فلو رمى نخامة من داخل المسجد إلى خارجه لم يحرم. ويسن أن يقدم رجله اليمنى دخولا
واليسرى خروجا، وأن يقول: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، الحمد لله،
اللهم صل وسلم على محمد وعلى آل محمد، اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك، ثم يقول: بسم الله ويدخل. وكذا
يقول عند الخروج، إلا أنه يقول: أبواب فضلك. قال في المجموع: فإن طال عليه هذا فليقتصر على ما في مسلم: أنه
(ص) قال: إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك
من فضلك. وتكره الخصومة ورفع الصوت ونشد الضالة فيه. ولا بأس أن يعطي السائل فيه شيئا، ولا بأس
بإنشاد الشعر
فيه إذا كان مدحا للنبوة أو للاسلام أو كان حكمة أو في مكارم الأخلاق أو الزهد ونحو ذلك.
باب:
بالتنوين، في مقتضى سجود السهو وحكمه ومحله وما يتعلق به، والسجدات التي ليست من صلب الصلاة ثلاث سجود
السهو والتلاوة والشكر. وقدم الأول فقال: (سجود السهو) في الصلاة فرضا أو نفلا (سنة) للأحاديث الآتية فيه،
وليجبر خللها الحاصل على سجود التلاوة لكونه لا يفعل إلا في الصلاة، لكنه في التنبيه قدم سجود التلاوة عليه لأنه
في الصلاة سابق لسجود السهو، وقدم سجود التلاوة على سجود الشكر لكونه يفعل فيها وخارجها وسجود الشكر
لا يفعل إلا خارجها. وهو لغة: نسيان الشئ والغفلة عنه، والمراد هنا الغفلة عن شئ في الصلاة. وإنما يسن (عند ترك
مأمور به) من الصلاة (أو فعل منهي عنه) فيها ولو بالشك كما سيأتي بيانه فيهما فيما لو شك هل صلى ثلاثا أم أربعا وغير
204

ذلك، فسقط بذلك ما قيل إنه لا يسن السجود لكل ترك مأمور به ولا لكل فعل منهي عنه، وأنه أهمل سببا ثالثا وهو
إيقاع بعض الفرض مع التردد في وجوبه كما إذا شك هل صلى ثلاثا أم أربعا، فإنه يقوم إلى الرابعة ويسجد كما سيأتي،
قاله الأسنوي وغيره، ورده في الخادم أيضا بأن سبب السجود التردد في الركعة المفعولة زائدة، وهو راجع لارتكاب
المنهي ولم يجب لأنه لم ينب عن فرض، بل شرع لترك غير واجب. والبدل: إما كالمبدل أو أخف منه، وبهذا فارق جبران
الحاج لكونه بدلا عن واجب. (فالأول) من السببين وهو ترك مأمور به (إن كان ركنا وجب تداركه) بفعله ولا
يغني عنه السجود، لأن حقيقة الصلاة لا توجد بدونه. (وقد يشرع) مع تداركه (السجود كزيادة) بالكاف، (حصلت
بتدارك ركن كما سبق في) ركن (الترتيب) وهو الركن الثالث عشر من أركان الصلاة، وذلك من قوله: وإن سها
فما بعد المتروك لغو إلى آخر المسألة، ففي تلك الصور كلها إذا تدارك سجد للسهو كما مر. ومراده ب‍ ما سبق بيان الزيادة
لا السجود فإنه لم يذكره هناك. وقد لا يشرع السجود بأن لا تحصل زيادة كما إذا ترك النية أو التحريم أو احتمل ذلك فإنه
يستأنف الصلاة ولا سجود، وما لو كان المتروك السلام فتذكره عن قرب ولم ينتقل من موضعه فيسلم من غير
سجود،
فإن طال الفصل فهو مسألة السكوت الطويل، وقد مر في باب غير هذا أنه لا يبطل على الراجح. وقد يقال يسجد له
أخذا مما سيأتي في تطويل الركن القصير بالسكوت، والصحيح أنه لا يسجد، أو انتقل عن موضعه فقد مر في الباب قبل
هذا. فإن قيل: لا حاجة إلى قوله كزيادة حصلت إلخ، لعلم ذلك من قوله أو فعل منهي عنه. أجيب بأن المراد بالفعل المنهي
عنه ما ليس من أفعال الصلاة غير مسألة الشك، والزيادة الحاصلة بتدارك الركن من أفعالها لكن لا يعتد بها لعدم الترتيب.
(أو) كان المتروك من المأمور به (بعضا وهو) ستة كما قاله الشيخان، الأول: (القنوت) الراتب، وهو قنوت الصبح
وقنوت الوتر في النصف الثاني من رمضان دون قنوت النازلة لأنه سنة في الصلاة لا بعضها. والكلام فيما هو بعض
منها، وترك بعض القنوت كترك كله، قاله الغزالي. والمراد ما لا بد منه في حصوله بخلاف ما لو ترك أحد القنوتين
كأن ترك قنوت سيدنا عمر رضي الله عنه لأنه أتى بقنوت تام، وكذا لو وقف وقفة لا تسع القنوت إذا كان لا يحسنه لأنه
أتى بأصل القيام، أفادنيه شيخي رحمة الله عليه وجعل قراره الجنة، وسيأتي أن ذلك لا يكفي. (و) ثانيها: (قيامه)
أي القنوت الراتب، وإن استلزم تركه ترك القنوت. ولو ترك القنوت تبعا لإمامه الحنفي سجد للسهو لأن العبرة بعقيدة المأموم
على الأصح، خلافا للقفال في عدم السجود فإنه بناه على طريقته من أن العبرة بعقيدة الإمام. (و) ثالثها: (التشهد الأول) لأنه
(ص) ترك التشهد الأول من الظهر ناسيا وسجد قبل أن يسلم رواه الشيخان. واستثنى منه ما لو نوى أربعا
وأطلق أو قصد أن يتشهد تشهدين فلا يسجد لترك أولهما ذكره في الذخائر في الكلام على النفل المطلق، وكذا ابن
الرفعة عن الإمام، لكن فصل البغوي في فتاويه، فقال: يسجد لتركه إن كان على عزم الاتيان به فنسيه وإلا فلا، وهذا
أظهر، وترك بعضه ككله قياسا على القنوت، والمراد به اللفظ الواجب في الأخير خاصة فلا يسجد لترك ما هو فيه سنة كما نبه
على ذلك الأسنوي. ورابعها: ما ذكره بقوله: (أو قعوده) أي التشهد الأول وإن استلزم تركه ترك التشهد، لأن السجود
إذا شرع لترك التشهد شرع لترك جلوسه لأنه مقصود، ويتصور تركه وترك قيام القنوت بأن لا يحسن التشهد
أو القنوت
فإنه يسن له أن يجلس أو يقف بقدره، فإذا لم يفعل سجد للسهو. وخامسها: ما ذكره بقوله: (وكذا الصلاة على النبي
(ص) فيه) أي بعده، (في الأظهر) بناء على الأظهر أنها سنة فيه على ما مر، فقوله: (سجد) راجع للصور كلها.
والثاني: لا يسجد لترك الصلاة على النبي (ص) بناء على عدم استحبابها فيه. وقيس بالنسيان في ذلك العمد بجامع
الخلل بل خلل العمد أكثر، فكان للجبر أحوج. (وقيل: إن تركه عمدا فلا) يسجد لتقصيره بتفويت السنة على
نفسه، والناسي معذور فناسب أن يشرع له الجبر. ورد بما تقدم. وسادسها: ما أشار إليه بقوله: قلت: وكذا الصلاة على
205

الآل حيث سنناها والله أعلم) وذلك بعد التشهد الأخير على الأصح، وبعد الأول على وجه، وكذا بعد القنوت
لأنها سنة فيه على الصحيح. وزيد سابع: وهو الصلاة على النبي (ص) في القنوت كما جزم به ابن الفركاح. ويسجد
أيضا لترك القعود للصلاة على النبي (ص) بعد التشهد ولترك القعود للآل ولترك القيام للصلاة على النبي (ص) بعد
القنوت ولترك القيام للآل، ويتصور ترك الصلاة على الآل في التشهد الأخير بأن يتيقن ترك إمامه لها بعد سلامه،
وقبل: أن يسلم هو. وسميت هذه السنن أبعاضا لقربها بالجبر بالسجود من الابعاض الحقيقية، أي الأركان. (ولا تجبر سائر
السنن) أي باقيها كأذكار الركوع والسجود وقنوت النازلة إذا تركت بالسجود لعدم وروده فيها، لأن سجود السهو
زيادة في الصلاة فلا يجوز إلا بتوقيف، فلو فعله لشئ من ذلك ظانا جوازه بطلت صلاته إلا أن يكون قريب عهد بالاسلام
أو بعيدا عن العلماء. قاله البغوي في فتاويه: بخلاف الابعاض لوروده في بعضها، وهو السجود لترك التشهد الأول
كما مر، وقيس عليه الباقي. (والثاني) من السببين: وهو فعل المنهي عنه (إن لم يبطل عمده) الصلاة، (كالالتفات
والخطوتين لم يسجد لسهوه) ولا لعمده كما ذكره في التحقيق والمجموع لعدم ورود السجود له، ولان عمده في محل العفو
فسهوه أولى، وسيأتي ما يستثنى من ذلك. (وإلا) أي وإن أبطل عمده الصلاة كركعة زائدة أو ركوع أو سجود أو قليل
أكل أو كلام، (سجد) لسهوه (إن لم تبطل) الصلاة (بسهوه) كالأمثلة المذكورة، لأنه (ص) صلى الظهر خمسا
ثم سجد للسهو متفق عليه، ويقاس غير ذلك عليه. أما إذا أبطل سهوه (ككلام كثير في الأصح) كما مر وأكل
كثير وفعل كثير كثلاث خطوات ولاء فلا سجود فإنه ليس في الصلاة. وقد علم مما تقرر أن قوله في الأصح راجع إلى
التمثيل بما يبطل سهوه، وهو الكلام الكثير، لا إلى قوله سجد، ولو سكت عن المثال لكان أخصر وأبعد عن الايهام
إذ لا سجود مع الحكم بالبطلان. والمعتمد كما مر في فصل الاستقبال أن المستقبل في السفر إذا انحرف عن طريقه إلى غير
القبلة ناسيا وعاد عن قرب أنه يسجد للسهو كما صححه الرافعي في الشرح الصغير وجزم به ابن المقري في روضه واعتمده
شيخي، لأن عمده مبطل فيسجد لسهوه، إذ هو كما قال الأسنوي القياس وإن صحح في المجموع وغيره عدم السجود.
ويستثنى من ذلك ما لو سجد للسهو ثم سها قبل سلامه لم يسجد في الأصح، فلو سجد عمدا بطلت صلاته أو سهوا فلا ومع ذلك
لا يسجد للسهو. (وتطويل الركن القصير) بسكوت أو ذكر لم يشرع فيه، (يبطل عمده) الصلاة (في الأصح) لأن
تطويله تغيير لموضوعه كما لو قصر الطويل فلم يتم الواجب. قال الإمام: ولان تطويله يخل بالموالاة. (فيسجد لسهوه)
قطعا، والثاني: لا يبطل عمده لما رواه مسلم عن أنس قال: كان رسول الله (ص) إذا قال سمع الله لمن حمده قام حتى
يقول القائل قد نسي وعلى هذا ففي سجود السهو وجهان أصحهما نعم. (فالاعتدال قصير) لأنه للفصل بين الركوع
والسجود. واختار المصنف من حيث الدليل جواز تطويل كل اعتدال بذكر غير ركن، وقال الأذرعي: أنه الصحيح
مذهبا ودليلا، وأطال في ذلك، ونقله عن نص الشافعي رضي الله تعالى عنه وغيره، بخلاف تطويله بركن كالفاتحة والتشهد.
أما تطويله بمشروع كقنوت في موضعه أو تسبيح في صلاة التسبيح الآتي بيانها في صلاة النفل فلا يبطل الصلاة لوروده.
(وكذا الجلوس بين السجدتين) ركن قصير (في الأصح) لأنه للفصل بينهما فهو كالاعتدال بل أولى، لأن الذكر
المشروع فيه أقصر من المشروع في الاعتدال. والثاني: أنه طويل، لأن في صحيح مسلم ما يقتضي إطالته بالذكر. قال في
المهمات: وكان ينبغي للمصنف طرد اختياره في الجلوس بين السجدتين أيضا، على أنه في التحقيق هنا صحح أنه ركن طويل،
وعزاه في المجموع إلى الأكثرين وسبقه إليه الإمام ووافق في التحقيق والمجموع في صلاة الجماعة على أنه قصير. ومقدار
التطويل كما نقله الخوارزمي عن الأصحاب أن يلحق بالاعتدال بالقيام للقراءة والجلوس بين السجدتين بالجلوس للتشهد،
206

والمراد قراءة الواجب فقط لا قراءته مع المندوب. (ولو نقل ركنا قوليا) غير سلام وتكبيرة إحرام أو بعضه إلى ركن
طويل، (كفاتحة) أو بعضها (في) نحو (ركوع) كسجود (أو) جلوس (تشهد) أو نقل تشهدا أو بعضه في نحو قيام كركوع،
(لم تبطل بعمده في الأصح) لأنه لا يخل بصورتها بخلاف نقل الركن الفعلي، والثاني: تبطل كنقل الركن الفعلي، وفرق الأول
بما مر. أما نقل السلام فيبطل عمده الصلاة وكذا تكبيرة الاحرام كما يقتضيه كلام الروضة. وأما نقل ذلك إلى ركن قصير،
فإن طوله فمبطل كما مر وإلا ففيه الخلاف. (و) على الأصح (يسجد لسهوه) ولعمده كما في المجموع (في الأصح) لترك التحفظ
المأمور به والثاني لا كغيره مما لا يبطل عمده. (وعلى هذا) أي الأصح (تستثني هذه الصورة من قولنا) المتقدم (ما لا يبطل
عمده لا سجود لسهوه) واستثنى أيضا مسائل، منها ما لو قنت عمدا أو سهوا قبل الركوع بنية القنوت لم يحسب بل يعيده في
اعتداله ويسجد للسهو، فإن أتى به لا بنية القنوت لم يسجد، قاله الخوارزمي. ومنها ما لو قرأ غير الفاتحة كسورة الاخلاص
عمدا أو سهوا في غير محل القراءة، فإنه يسجد للسهو كما في المجموع بخلاف ما لو قرأها قبل الفاتحة فإنه لا يسجد كما قاله
ابن الصباغ، لأن القيام أو بدله محلها في الجملة. قال الأسنوي: وقياس التسبيح في القيام أن يكون كذلك أيضا، وهو مقتضى
ما في شرائط الأحكام لابن عبدان اه‍. والمعتمد عدم السجود. ومنها ما إذا قلنا اختصاص القنوت بالنصف الثاني من رمضان
وهو الصحيح، فإذا قنت في غيره سجد للسهو، ولو تعمده لم تبطل صلاته لكنه مكروه كما ذكره الرافعي في صلاة
الجماعة، وفي هذا نظر والذي ينبغي البطلان. ومنها ما لو فرقهم في الخوف أربع فرق وصلى بكل فرقة ركعة أو فرقتين
وصلى بإحداهما ثلاثا، فإنه يجوز على المشهور، لكنه يكره ويسجد للسهو للمخالفة بالانتظار في غير موضعه. ومنها ما إذا
زاد القاصر ركعتين سهوا، فإنه يسجد مع أنه يجوز له زيادتهما، هكذا استثناها ابن الصباغ، والأولى عدم
استثنائها، لأن
عمد الزيادة بلا نية إتمام مبطل. (ولو نسي التشهد الأول) مع قعوده أو وحده أو قعوده وحده فيما إذا لم يحسن التشهد،
(فذكره بعد انتصابه لم يعدله) أي يحرم عليه العود، لأنه تلبس بفرض فلا يقطعه لسنة. (فإن عاد) عامدا (عالما بتحريمه بطلت)
صلاته، لأنه زاد قعودا عمدا، وقيل: يجوز له القعود ما لم يشرع في القراءة. (أو) عاد له (ناسيا) أنه في صلاة (فلا) تبطل لعذره
ويلزمه القيام عند تذكره، (ويسجد للسهو) لأنه زاد جلوسا وترك تشهدا. (أو جاهلا) بتحريم العود (فكذا) لا تبطل (في
الأصح) كالناسي، لأنه مما يخفي على العوام، ويلزمه القيام عند العلم ويسجد للسهو. والثاني: تبطل لتقصيره بترك التعلم،
وهذا الخلاف في المنفرد والإمام، وأما المأموم فلا يجوز له أن يتخلف عن إمامه للتشهد، فإن تخلف بطلت صلاته لفحش
المخالفة. فإن قيل: قد صرحوا بأنه لو ترك إمامه القنوت فله أن يتخلف ليقنت إذا لحقه في السجدة الأولى. أجيب بأنه
في تلك لم يحدث في تخلفه وقوفا، وهذا أحدث فيه جلوس تشهد، فقول بعض المتأخرين من أنه لو جلس إمامه للاستراحة
فالأوجه أن له التخلف ليتشهد إذا لحقه في قيامه لأنه حينئذ لم يحدث جلوسا فمحل بطلانها إذا لم يجلس إمامه ممنوع لأن
جلوس الاستراحة هنا غير مطلوب، ولو قعد المأموم فانتصب الإمام ثم عاد قبل قيام المأموم حرم قعوده معه لوجوب
القيام عليه بانتصاب الإمام، ولو انتصبا معا ثم عاد الإمام لم يعد المأموم لأنه إما مخطئ به فلا يوافقه في الخطأ أو عامد
فصلاته باطلة، بل يفارقه أو ينتظره حملا على أنه عاد ناسيا، فإن عاد معه عامدا عالما بالتحريم بطلت صلاته أو ناسيا أو
جاهلا فلا. (وللمأموم) إذا انتصب ناسيا وجلس إمامه للتشهد الأول، أو نهضا سهوا معا ولكن تذكر الإمام فعاد قبل
انتصابه وانتصب المأموم، (العود لمتابعة إمامه في الأصح) لأن المتابعة فرض فرجوعه رجوع إلى فرض لا إلى سنة، والثاني:
ليس له العود بل ينتظر إمامه قائما لأنه متلبس بفرض وليس فيما فعله إلا التقدم على الإمام بركن. (قلت: الأصح
207

وجوبه) أي العود، (والله أعلم) لأن المتابعة آكد مما ذكروه من التلبس بالفرض، ولهذا سقط بها القيام والقراءة عن المسبوق،
فإن لم يعد بطلت صلاته إذا لم ينو المفارقة. فإن قيل: إذا ظن المسبوق سلام الإمام فقام لزمه العود وليس له أن ينوي المفارقة.
أجيب بأن المأموم هنا فعل فعلا للإمام أن يفعله ولا كذلك في المستشكل بها، لأنه بعد فراغ الصلاة فجاز له المفارقة هنا لذلك.
أما إذا تعمد الترك فلا يلزمه العود، وإن كان ظاهر كلام المصنف وجوبه، بل يسن كما رجحه في التحقيق وغيره، وإن
صرح الإمام بتحريمه حينئذ. وفرق الزركشي بين هذه وبين ما لو قام ناسيا حيث يلزمه العود كما مر بأن العامد انتقل إلى
واجب، وهو القيام، فخير بين العود وعدمه لأنه تخيير بين واجبين بخلاف الناسي. فإن فعله غير معتد به لأنه لما كان
معذورا كان قيامه كالعدم فتلزمه المتابعة كما لو لم يقم ليعظم أجره. والعامد كالمفوت لتلك السنة بتعمده فلا يلزمه العود
إليها. ولو ركع قبل إمامه ناسيا تخير بين العود والانتظار، ويفارق ما مر من أنه يلزمه العود فيما لو قام ناسيا بفحش المخالفة
ثم فيقيد فرق الزركشي بذلك، أو عامدا سن له العود. ولو ظن المصلي قاعدا أنه تشهد التشهد الأول فافتتح القراءة
للثالثة لم يعد إلى قراءة التشهد، وإن سبقه لسانه بالقراءة وهو ذاكر أنه لم يتشهد جاز له العود إلى قراءة التشهد، لأن تعمد
القراءة كتعمد القيام، وسبق اللسان إليها غير معتد به. (ولو تذكر) المصلي التشهد الأول (قبل انتصابه) أي قبل استوائه
معتدلا، (عاد للتشهد) الذي نسيه، أي جاز له ذلك لأنه لم يتلبس بفرض. (ويسجد) للسهو (إن كان صار إلى القيام أقرب)
منه إلى القعود، لأنه أتى بفعل غير به نظم الصلاة، ولو أتى به عمدا في غير موضعه بطلت صلاته كما سيأتي. فالسجود للنهوض مع العود، لا
للنهوض فقط خلافا للأسنوي في قوله إنه للنهوض لا للعود لأنه مأمور به. فإن قيل: لو قام الإمام
إلى خامسة سهوا ففارقه المأموم بعد بلوغه حد الراكعين فإنه يسجد مع أن هذا قيام لا عود فيه. أجيب بأن عمد هذا القيام
وحده غير مبطل بخلاف ما قالاه فإنه وحده مبطل، أما إذا كان إلى القعود أقرب أو على السواء فلا يسجد لسهوه لقلة
ما فعله حينئذ. وهذا التفصيل هو المصحح في الشرحين، وهو المعتمد، وإن صحح في التحقيق أنه لا يسجد مطلقا، وقال
في المجموع: إنه الأصح عند الجمهور، وأطلق في تصحيح التنبيه تصحيحه، وقال الأسنوي: وبه الفتوى. (ولو نهض
عمدا) أي قصد ترك التشهد الأول (فعاد) له عمدا (بطلت) صلاته (إن كان) فيها (إلى القيام أقرب) من القعود، لأنه زاد في
صلاته عمدا ما لو وقع منه سهوا جبره بالسجود فكان مبطلا. وهذا التفصيل كما قال الأذرعي جار على التفصيل المتقدم،
وهو المعتمد أيضا كما نقله الرافعي عن المهذب، وإن لم يقيد في المحرر البطلان بكونه إلى القيام أقرب بل أطلق البطلان.
تنبيه: قول المصنف عمدا قسيم لقوله أولا: ولو نسي التشهد الأول. (ولو نسي قنوتا فذكره في سجوده ولم يعد له)
لتلبسه بفرض، (أو قبله) بأن لم يضع جميع أعضاء السجود حتى لو وضع لجبهة فقط أو مع بعض أعضاء السجود، (عاد)
أي جاز له العود لعدم التلبس بالفرض، وإن كان ظاهر كلام ابن المقري أنه لو وضع الجبهة فقط لا يعود. (ويسجد للسهو
إن بلغ حد الراكع) أي أقل الركوع في هويه لأنه زاد ركوعا سهوا، والعمد به مبطل بخلاف ما إذا لم يبلغه فلا يسجد.
ولو تركه عمدا فكترك التشهد كما يقتضيه كلام الروضة.
تنبيه: قول المصنف: إن بلغ قيد في السجود للسهو خاصة لا في العود، وقد يفهم من عبارته عوده لهما.
فروع: لو تشهد سهوا في الركعة الأولى أو ثالثة الرباعية أو قعد سهوا بعد اعتداله من أولى أو غيرها وأتى بتشهد
أو بعضه أو جلس لاستراحة أو بعد اعتدال سهوا بلا تشهد فوق جلسة الاستراحة ثم تذكر تدارك ما عليه وسجد للسهو،
أما في الأخيرة فلزيادة قعود طويل، وأما في غيرها فلذلك أو لنقل ركن قولي أو بعضه. فإن كانت الجلسة في الأخيرة
كجلسة الاستراحة فلا سجود، لأن عمدها مطلوب أو مغتفر. ولو مكث في السجود يتذكر هل ركع أو لا وأطال بطلت
208

صلاته، أو هل سجد السجدة الأولى أو لا لم تبطل وإن طال، إذ لا يلزمه ترك السجود في هذه بخلافه في تلك، فلو قعد
في هذه من سجدته وتذكر أنها الثانية وكان في الركعة الأخيرة فتشهد، قال البغوي في فتاويه: إن كان قعوده على
الشك فوق القعود بين السجدتين بطلت صلاته لأن عليه أن يعود إلى السجود وإلا فلا تبطل ولا يسجد للسهو. ولو
سجد ثم ذكر في سجوده أنه لم يركع لزمه أن يقوم ثم يركع، ولا يكفيه أن يقوم راكعا لأنه قصد بالركوع غيره. ولو
قام إلى خامسة في رباعية ناسيا ثم تذكر قبل جلوسه عاد إلى الجلوس، فإن كان قد تشهد في الرابعة أو لم يتذكر
حتى قرأه
في الخامسة أجزأه، ولو ظنه التشهد الأول كما مر ثم يسجد للسهو ويسلم وإن كان لم يتشهد أتى به ثم سجد للسهو وسلم.
(ولو شك في ترك بعض) بالمعنى السابق معين كقنوت، (سجد) لأن الأصل عدم الفعل، بخلاف الشك في ترك مندوب
في الجملة، لأن المندوب قد لا يقتضي السجود، وبخلاف الشك في ترك بعض مبهم كأن شك في المتروك هل هو بعض أو لا
لضعفه بالابهام. وبهذا علم أن للتقييد بالمعين معنى خلافا لمن زعم خلافه فجعل المبهم كالمعين، وإنما يكون كالمعين
فيما إذا علم أنه ترك بعضا وشك هل هو قنوت مثلا أو تشهد أول أو غيره من الابعاض، فإنه في هذه يسجد لعلمه
بمقتضى السجود. (أو) شك (في ارتكاب منهي) عنه وإن أبطل عمده ككلام قليل، (فلا) يسجد، لأن الأصل عدمه.
ولو سها وشك هل سها بالأول أو بالثاني سجد لتيقن مقتضيه. (ولو سها وشك) أي تردد (هل سجد للسهو) أو لا،
(فليسجد) لأن الأصل عدمه، أو هل سجد واحدة أو اثنتين سجد أخرى. (ولو شك) أي تردد في رباعية، (أصلى
ثلاثا أم أربعا أتى بركعة) لأن الأصل عدم فعلها، (وسجد) للسهو للتردد في زيادتها، ولا يرجع في فعلها إلى ظنه ولا
إلى قول غيره وإن كان جمعا كثيرا لأنه تردد في فعل نفسه، فلا يأخذ بقول غيره فيه كالحاكم إذا نسي حكمه لا يأخذ
بقول الشهود عليه. فإن قيل: أنه (ص) راجع الصحابة ثم عاد للصلاة في خبر ذي اليدين. أجيب
بأن ذلك محمول على تذكره بعد مراجعته. قال الزركشي: وينبغي تخصيص ذلك بما إذا لم يبلغوا حد التواتر، وهو بحث
حسن. وينبغي أنه إذا صلى في جماعة وصلوا إلى هذا الحد أنه يكتفي بفعلهم، والأصل في ذلك خبر مسلم: إذا شك
أحدكم في صلاته ولم يدر أصلى ثلاثا أم أربعا فليطرح الشك وليبن على ما استيقن ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم،
فإن كان صلى خمسا شفعن له صلاته أي ردتها السجدتان إلى الأربع، ويحذفان الزيادة لأنهما جابران الخلل الحاصل
من النقصان تارة ومن الزيادة أخرى، لا أنهما يصيرانها ستا. وإن كان صلى إتماما لأربع كانتا رغما للشيطان. (والأصح
أنه يسجد وإن زال شكه قبل إسلامه) بأن تذكر أنها رابعة لفعلها مع التردد. والثاني: لا يسجد، إذ لا عبرة
بالتردد بعد
زواله. (وكذا حكم ما يصليه مترددا واحتمل كونه زائدا) أنه يسجد للتردد في زيادته وإن زال شكه قبل سلامه. (ولا
يسجد لما يجب بكل حال إذا زال شكه، مثاله شك) في رباعية (في) الركعة (الثالثة) في نفس الامر (أثالثة هي
أم رابعة فتذكر فيها) أي الثالثة أنها ثالثة، أي تبين له الامر بعد ذلك قبل أن يقوم إلى الرابعة، (لم يسجد) لأن ما فعله
ههنا مع التردد لا بد منه. فإن قيل: كان ينبغي أن يقول ولو شك في ركعة أثالثة هي، وإلا فقد فرضها ثالثة، فكيف
يشك أثالثة هي أم رابعة؟ أجيب بأن مراده ما قدرته، وقال الشارح بدل ذلك في الواقع، ومؤدى العبارتين
واحد. (أو) تذكر (في) الركعة (الرابعة) بأن لم يتذكر ذلك فيما قبلها، بل استمر تردده المتقدم في الثالثة حتى
قام إلى ركعة في نفس الامر رابعة، وهو إنما قام إليها احتياطا مع احتمال أنها خامسة ثم زال تردده في الرابعة أنها رابعة،
(سجد) لتردده حال قيامه إلى الرابعة هل هي رابعة أو خامسة، فقد أتى بزائد على تقدير دون تقدير. وإنما اقتضى التردد
209

في زيادتها السجود لأنها إن كانت زائدة فظاهر وإلا فلا فالتردد يضعف النية ويحوج إلى الجبر. فإن قيل: لو شك في أنه
قضى الفائتة التي كانت عليه أم لا فإنا نأمره بالقضاء بلا سجود وإن كان مترددا في أنها عليه أم لا. أجيب بأن التردد
ثم لم يقع في باطل بخلافه هنا، وبأن السجود إنما يكون للتردد الطارئ في الصلاة للسابق عليها. وقضية تعبيرهم
بقبل القيام أنه لو زال تردده بعد نهوضه وقبل انتصابه لم يسجد، إذ حقيقة القيام الانتصاب، وما قبله انتقال لا قيام.
قال شيخنا: فقول الأسنوي إنهم أهملوه مردود، وكذا قوله والقياس أنه إن صار إلى القيام أقرب سجد وإلا فلا، لأن
صيرورته إلى ما ذكر لا تقتضي السجود لأن عمده لا يبطل وإنما يبطل عمده مع عوده كما مر، نبه على ذلك ابن العماد.
(ولو شك بعد السلام في ترك فرض) غير النية وتكبيرة الاحرام، (لم يؤثر) وإن قصر الفصل (على المشهور) لأن
الظاهر وقوعه عن تمام، ولأنه لو أثر لعسر على الناس خصوصا على ذوي الوسواس. والثاني: يؤثر، لأن الأصل عدم
فعله، فيبني على اليقين ويسجد كما في صلب الصلاة إن لم يطل الفصل، فإن طال استأنف. أما إذا شك في
النية أو
تكبيرة الاحرام فإنه تلزمه الإعادة، وكذا لو شك في أنه هل نوى الفرض أو النفل كما لو شك هل صلى أم لا، ذكره
البغوي في فتاويه، قال: ولو شك أن ما أداه ظهر أو عصر وقد فاتتاه لزمه إعادتهما جميعا. فإن قيل: في زوائد الروضة
أن المكفر لو صام يوما وشك بعد فراغه في النية لا يلزمه الاستئناف على الصحيح، فهلا كان هنا كذلك أجيب بأن
تعلق النية بالصلاة أشد من تعلقها بالصوم، بدليل أنه لو شك فيها في الصلاة وطال الزمن بطلت، ولا كذلك الصوم.
وخرج بقوله فرض الشرط، وقد اختلف فيه، فقال في المجموع في موضع لو شك هل كان متطهرا أنه يؤثر فارقا
بأن الشك في الركن يكثر بخلافه في الطهر، وبأن الشك في الركن حصل بعد تيقن الانعقاد، والأصل الاستمرار على
الصحة بخلافه في الطهر، فإنه شك في الانعقاد والأصل عدمه. قال الأسنوي: ومقتضى هذا الفرق أن تكون الشروط
كلها كذلك. وقال في الخادم: وهو فرق حسن، لكن المنقول عدم الإعادة مطلقا وهو المتجه، وعلله بالمشقة، وهذا
هو المعتمد كما هو ظاهر كلام ابن المقري ونقله في المجموع بالنسبة للطهر في باب مسح الخف عن جمع، وهو الموافق لما نقله
هو عن القائلين به عن النص أنه لو شك بعد طواف نسكه هل طاف متطهرا أم لا، لا يلزمه إعادة الطواف. وقد نقل
عن الشيخ أبي حامد جواز دخول الصلاة بطهر مشكوك فيه، وظاهر أن صورته أن يتذكر أنه تطهر قبل شكه، وإلا
فلا تنعقد.
تنبيه: لا يخفى أن مرادهم بالسلام الذي لا يؤثر بعده الشك سلام لا يحصل بعده عود إلى الصلاة بخلاف غيره، فلو
سلم ناسيا لسجود السهو ثم عاد وشك في ترك ركن لزمه تداركه كما يقتضيه كلامهم، وخرج بالشك العلم، فلو تذكر بعده
أنه ترك ركنا بنى على ما فعله إن لم يطل الفصل ولم يطأ نجاسة وإن تكلم قليلا واستدبر القبلة وخرج من المسجد. وتفارق
هذه الأمور وطئ النجاسة باحتمالها في الصلاة في الجملة، والمرجع في طوله وقصره إلى العرف، وقيل: يعتبر القصر
بالقدر الذي نقل عن النبي (ص) في خبر ذي اليدين، والطول بما زاد عليه، والمنقول في الخبر أنه قام
ومضى إلى ناحية المسجد وراجع ذا اليدين وسأل الصحابة فأجابوه. (وسهوه) أي المأموم (حال قدوته) الحسية كأن
سها عن التشهد الأول، أو الحكمية كأن سهت الفرقة الثانية في ثانيتها من صلاة ذات الرقاع، (يحمله إمامه) لقوله
(ص): الإمام ضامن رواه أبو داود وصححه ابن حبان. قال الماوردي: يريد بالضمان والله أعلم أنه يتحمل سهو
المأموم كما يتحمل الجهر والسورة وغيرهما، ولان معاوية شمت العاطس وهو خلف النبي (ص) كما مر ولم
يسجد ولا أمره (ص) بالسجود. واحترز بحال القدوة عن سهو قبل القدوة، كما لو سها وهو منفرد ثم اقتدى به فلا يتحمله،
وإن اقتضى كلامهما في باب صلاة الخوف ترجيح تحمله لعدم اقتدائه به حال سهوه، وإنما لم يتحمله، كما أنه يلحقه
سهو إمامه الواقع قبل القدوة كما سيأتي، لأنه قد عهد تعدي الخلل من صلاة الإمام إلى صلاة المأموم دون عكسه، وعن
210

سهوه بعدها فإنه لا يتحمله كما سيأتي. (فلو ظن سلامه) أي الإمام (فسلم) المأموم (فبان خلافه) أي خلاف ظنه،
(سلم معه) أو بعده، وهو أولى، لأنه لا يجوز تقديمه على سلام إمامه. (ولا سجود) لسهوه حال القدوة فيتحمله إمامه.
(ولو ذكر) المأموم (في) آخر صلاته في (تشهده) أو قبله أو بعده (ترك ركن) تركه بعد القدوة، ولا يعرف
ما هو لكنه (غير النية والتكبيرة) للاحرام، لم يعد لتداركه لما فيه من ترك المتابعة الواجبة، و (قام بعد سلام إمامه
إلى ركعته) التي فاتت بفوات الركن، (ولا يسجد) لوجود سهوه حال القدوة. وخرج بذلك ما لو شك في ترك الركن
المذكور فإنه يأتي به ويسجد للسهو كما في التحقيق. وإنما لم يتحمله عنه الإمام لأنه شاك فيما أتى به بعد سلام إمامه،
كما لو شك المسبوق هل أدرك ركوع الإمام أم لا فقام وأتى بركعة فإنه يسجد للتردد فيما انفرد به، ولو تذكر بعد القيام
أنه أدرك الركوع، لأن ما فعله مع تردده فيما ذكر محتمل للزيادة، أما النية وتكبيرة الاحرام وهما من زيادته فالتدارك
لواحدة منهما ليس في صلاة. (وسهوه) أي المأموم، (بعد سلامه) أي إمامه، (لا يحمله) أي إمامه، مسبوقا كان أو
موافقا، لانتهاء القدوة كما لا يحمل الإمام سهوه قبل القدوة كما مر. (فلو سلم المسبوق بسلام إمامه) فذكره حالا (بنى)
على صلاته (وسجد) لأن سهوه بعد انقطاع القدوة. ويؤخذ من العلة أنه لو سلم معه لم يسجد، وهو كذلك كما قاله
الأذرعي، وإن ذكر فيه ابن الأستاذ احتمالين. فإن ظنه المسبوق بركعة مثلا سلم فقام وأتى بركعة قبل سلامه لم تحسب
لفعلها في غير موضعها، فإذا سلم إمامه أعادها ولم يسجد للسهو لبقاء حكم القدوة. ولو علم في القيام أنه قام قبل سلام إمامه
لزمه أن يجلس ولو جوزنا مفارقة الإمام لأن قيامه غير معتد به، فإذا جلس ووجده لم يسلم إن شاء فارقه وإن شاء
انتظر سلامه، فلو أتمها جاهلا بالحال ولو بعد سلام الإمام لم تحسب، فيعيدها لما مر ويسجد للسهو للزيادة بعد سلام
الإمام. ولو نطق بالسلام ولم ينو الخروج من الصلاة ولم يقل عليكم لم يسجد لعدم الخطاب والنية، فإن نوى الخروج ولو
لم يقل عليكم سجد، كما قال الأسنوي إنه القياس. (ويلحقه) أي المأموم، (سهو إمامه) غير المحدث، وإن أحدث
الإمام بعد ذلك لتطرق الخلل لصلاته من صلاة إمامه، ولتحمل الإمام عنه السهو. أما إذا بان إمامه محدثا فلا يلحقه
سهوه ولا يتحمل هو عنه، إذ لا قدوة حقيقة حال السهو. فإن قيل: الصلاة خلف المحدث صلاة جماعة على المنصوص
المشهور حتى لا يجب عند ظهوره في الجمعة إعادتها إذا تم العدد بغيره. أجيب بأن كونها جماعة لا يقتضي لحوق السهو،
لأن لحوقه تابع لمطلوبيته من الإمام وهي منتفية، لأن صلاة المحدث لبطلانها لا يطلب منه جبرها، فكذا صلاة المؤتم
به. (فإن سجد) إمامه (لزمه متابعته) وإن لم يعرف أنه سها حملا على أنه سها، بل لو اقتصر على سجدة سجد المأموم
أخرى حملا على أنه سها أيضا، وهذا السجود لسهو الإمام لا لمتابعته. ولو ترك المأموم المتابعة عمدا بطلت صلاته
لمخالفته حال القدوة، وهذا بخلاف ما لو قام الإمام إلى خامسة ناسيا لم يجز للمأموم متابعته حملا على أنه ترك ركنا من ركعة
وإن كان مسبوقا، لأن قيامه إلى خامسة لم يعهد، بخلاف سجوده فإنه معهود لسهو إمامه. وأما متابعة المأمومين له
(ص) في قيامه للخامسة في صلاة الظهر فلأنهم لم يتحققوا زيادتها لأن الزمن كان زمن الوحي وإمكان
الزيادة والنقصان، ولهذا قالوا: أزيد في الصلاة يا رسول الله؟ ولا يشكل ذلك بما سيأتي في باب الجمعة من أن
المسبوق إذا رأى الإمام في التشهد ينوي الجمعة لاحتمال أن يكون نسي شيئا يلزمه به ركعة، لأنه إنما يتابعه
فيما سيأتي
إذا علم ذلك كما قال شيخي، وهنا لم يعلم. واستثنى في الروضة كأصلها ما إذا تيقن غلط الإمام في ظنه بسبب سجود السهو،
كأن ظن ترك بعض بعلم المأموم فعله، قالا: فلا يوافقه إذا سجد، قال بعض المتأخرين: وهو مشكل تصويرا وحكما
واستثناء فتأمله اه‍. وجه إشكال تصويره: كيف يعلم المأموم أن الإمام يسجد لذلك؟ جوابه: أن يغلب على ظنه أنه يسجد
211

لذلك وهو كاف. ووجه إشكال حكمه: أنه إذا سجد الإمام لشئ ظنه سها به وتبين خلافه يسجد لذلك، وإذا سجد
ثانيا لزم المأموم متابعته. وجوابه أنه لا يسجد معه أولا وإن سجد ثانيا، ووجه إشكال استثنائه أن هذا الإمام
لم يسه فكيف يستثنى من سهو الإمام؟ وجوابه أنه استثناء صورة. (وإلا) أي وإن لم يسجد إمامه بأن تركه عمدا أو
سهوا أو اعتقادا منه أنه بعد السلام، (فيسجد) المأموم بعد سلام الإمام (على النص) جبرا للخلل، بخلاف تركه
التشهد الأول أو سجدة التلاوة، فلا يأتي المأمور بهما لأنهما يقعان خلال الصلاة، فلو انفرد بهما لخالف الإمام. وفي
قول مخرج لا يسجد لأنه لم يسه وإنما سها الإمام وسجوده معه كان للمتابعة، فإذا لم يسجد المتبوع فالتابع أولى. وعلى
النص لو تخلف بعد سلام إمامه ليسجد فعاد الإمام إلى السجود لم يتابعه، سواء أسجد قبل عود إمامه أم لا، لقطعه
القدوة بسجوده في الأولى وباستمراره في الصلاة بعد سلام إمامه في الثانية، بل يسجد فيهما منفردا، بخلاف ما لو
قام المسبوق ليأتي بما عليه، فالقياس كما قال الأسنوي لزوم العود للمتابعة. والفرق أن قيامه لذلك واجب وتخلفه ليسجد
مخير فيه، وقد اختاره فانقطعت القدوة، فلو سلم المأموم معه ناسيا فعاد الإمام إلى السجود لزمه موافقته فيه لموافقته له
في السلام ناسيا. فإن تخلف عنه بطلت صلاته، أي عند عدم المنافي للسجود، كما لو أحدث أو نوى الإقامة وهو قاصر،
أو بلغت سفينته دار إقامته أو نحو ذلك. وإن سلم عامدا فعاد الإمام لم يوافقه لقطعه القدوة بسلامه عمدا. (ولو اقتدى مسبوق
بمن سها بعد اقتدائه، وكذا قبله في الأصح) وسجد الإمام، (فالصحيح) في الصورتين (أنه) أي المسبوق
(يسجد معه) رعاية للمتابعة، (ثم) يسجد أيضا (في آخر صلاته) لأنه محل السهو الذي لحقه. ومقابل الصحيح
لا يسجد معه، نظرا إلى أن موضع السجود آخر الصلاة، وفي قول في الأولى، ووجه في الثانية يسجد معه
متابعة، ولا
يسجد في آخر صلاة نفسه وهو المخرج السابق، وفي وجه في الثانية هو مقابل الأصح أنه لا يسجد معه ولا في آخر صلاة
نفسه لأنه لم يحضر للسهو. ولو قام إمامه لخامسة ناسيا ففارقه بعد بلوغ حد الراكعين لا قبله سجد للسهو كالإمام، ولو كان
إمامه حنفيا فسلم قبل أن يسجد للسهو سجد المأموم قبل سلامه اعتبارا بعقيدته، ولا ينتظره ليسجد معه لأنه فارقه
بسلامه، وقيل: يتبعه في السجود بعد السلام، وقيل: لا يسلم إذا سلم الإمام بل يصبر، فإذا سجد سجد معه. هذا
إذا كان موافقا، أما المسبوق فيخرج نفسه ويتم لنفسه ويسجد آخر صلاته. وظاهر هذا أنه ينوي المفارقة إذا قام
ليأتي بما عليه. والظاهر أنه لا يحتاج إلى نية مفارقة لقولهم: وتنقضي القدوة بسلام الإمام. (فإن لم يسجد الإمام)
في الصورتين (سجد) المسبوق (آخر صلاة نفسه على النص) ومقابله القول المخرج السابق. (وسجود السهو وإن كثر) السهو
(سجدتان) لاقتصاره (ص) عليهما في قصة ذي اليدين مع تعدده، فإنه (ص) سلم من اثنتين
وتكلم ومشى. ولو أحرم منفردا برباعية وأتى منها بركعة وسها فيها ثم اقتدى بمسافر قاصر فسها إمامه ولم يسجد
ثم أتى هو بالرابعة بعد سلامه فسها فيها كفاه للجميع سجدتان وهما للجميع أو لما نواه منه، ويكون تاركا لسجود
الباقي في الثانية. وقضية كونه سجدتين أنه لو سجد واحدة بطلت صلاته، وهو ما حكي عن ابن الرفعة، لكن جزم
القفال في فتاويه بأنها لا تبطل، وهو مقتضى تعليل الرافعي الآتي فيما لو هوى لسجود تلاوة ثم بدا له فتركه بأنه مسنون
فله أن لا يتمه كما له أن لا يشرع فيه. قال شيخنا: وقد يحمل كلام ابن الرفعة على ما إذا قصد سجدة ابتداء، وكلام
القفال على ما إذا قصد الاقتصار عليها بعد فعلها بقرينة كلام الرافعي اه‍. وهو جمع حسن. وكيفيتهما (كسجود الصلاة) في
واجباته ومندوباته، كوضع الجبهة والطمأنينة والتحامل والتنكيس والافتراش في الجلوس بينهما والتورك بعدهما، ويأتي
بذكر سجود الصلاة فيهما. وحكى بعضهم أنه يندب أن يقول فيهما: سبحان من لا ينام ولا يسهو. قالا: وهو اللائق بالحال.
212

قال الزركشي: إنما يتم إذا لم يتعمد ما يقتضي السجود، فإن تعمده فليس ذلك لائقا، بل اللائق الاستغفار. قال الأذرعي:
وسكتوا عن الذكر بينهما، والظاهر أنه كالذكر بين سجدتي صلب الصلاة، فإن سجد ولم يأت بالشروط قال الأسنوي:
احتمل بطلان الصلاة لأنه زاد فيها فعلا لا يعتد به، والمتجه الصحة، ويكون ذلك رجوعا عن إتمام النفل اه‍. وما جمع به
بين كلام ابن الرفعة والقفال يقال هنا أيضا. (والجديد أن محله بين تشهده وسلامه) وذلك لخبر مسلم السابق، ولأنه (ص)
صلى بهم الظهر فقام من الأوليين ولم يجلس، فقام الناس معه حتى إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس
فسجد سجدتين قبل أن يسلم ثم سلم، رواه الشيخان. قال الزهري: وفعله قبل السلام هو آخر الامرين من فعله
(ص) ولأنه لمصلحة الصلاة، فكان قبل السلام، كما لو نسي سجدة منها. وأجابوا عن سجوده بعده في خبر ذي اليدين
بحمله على أنه لم يكن عن قصد مع أنه لم يرد لبيان حكم سجود السهو سواء أكان السهو بزيادة أم بنقص أم بهما. ومقابل
الجديد قديمان: أحدهما أنه إن سها بنقص سجد قبل السلام أو بزيادة فبعده، والثاني: أنه مخير بين التقديم والتأخير لثبوت
الامرين. وقوله: بين تشهده وسلامه، أي مع الذكر الذي بعده من الصلاة على النبي (ص) والصلاة على الآل والأدعية.
وعبارة ابن المقري: ومحلهما قبيل السلام أي بحيث لا يتخلل بينهما شئ من الصلاة كما أفاده تصغير قبل، نعم المسبوق
إذا استخلف وعلى المستخلف سجود سهو فإنه يسجد آخر صلاة الإمام سجدتي السهو، ويسجد من خلفه ثم يقوم
ويفارقونه، ذكر القاضي حسين عند كيفية الجلوس في التشهد: وتشترط له النية، لأن نية الصلاة لم تشمله ولا يطلب
بعده تشهد كما علم مما مر. (فإن سلم عمدا) أي ذاكرا للسهو، (فات) السجود (في الأصح) لأنه قطع الصلاة بالسلام. والثاني:
أن العمد كالسهو، فإن قصر الفصل سجد وإلا فلا. (أو سهوا وطال الفصل) عرفا، (فات) السجود (في الجديد) لفوات المحل
بالسلام وتعذر البناء بالطول، بخلاف القديم في السهو بالنقص، فلا يفوت عليه لأنه جبران عبادة فيجوز أن يتراخى
عنها كجبرانات الحج. (وإلا) أي وإن لم يطل الفصل ولم يرد السجود فلا سجود لعدم الرغبة فيه، فصار كالمسلم عمدا في أنه
فوته على نفسه بالسلام. فإن أراده (فلا) يفوت (على النص) لما تقدم من الحديث المحمول على ذلك، وقيل: يفوت
حذرا من إلغاء السلام بالعود إلى الصلاة. نعم لو سلم من الجمعة فخرج الوقت أو سلم القاصر فنوى الإقامة أو بلغت
سفينته دار إقامته فاته السجود فلا يأتي به لما فيه من تفويت الجمعة في الأولى وفعل بعض الصلاة بدون سببها
في الثانية
وصحت جمعته وصلاته المقصورة. ويفوت أيضا فيما لو رأى المتيمم الماء عقب السلام أو انتهت مدة المسح أو تخرق
الخف أو شفي دائم الحدث أو نحو ذلك، كما لو أحدث عقب سلامه فإنه لا يتداركه وإن أمكنه الطهر في الحال بأن كان
واقفا في ماء. (وإذا سجد) فيما إذا قرب الفصل على النص أو مع طوله على القديم، (صار عائدا إلى الصلاة) بلا إحرام (في
الأصح) كما لو تذكر بعد سلامه ركنا. والمتجه كما قال في المهمات أنه يعود إليها بالهوي بل بإرادة السجود كما أفاده كلام
الغزالي وجماعة واعتمده شيخي، فلو أحدث فيها بطلت صلاته أو نوى القاصر في سجوده الاتمام أو بلغت فيه سفينته
دار إقامته لزمه الاتمام ولا يعيد التشهد بل يعيد السلام. والثاني: لا يصير عائدا لأن التحلل حصل بالسلام.
تنبيه: قال في الخادم: هل معنى قولهم صار عائدا إلى الصلاة أنا نتبين بعوده إلى السجود أنه لم يخرج منها أصلا
أو أنه خرج منها ثم عاد إليها؟ الصواب الأول، فإنه يستحيل الخروج من الصلاة ثم العود إليها بلا نية ولا تكبيرة إحرام،
وبه صرح الإمام، ولما قدم أن سجود السهو وإن كثر سجدتان: أي لأنه يجبر ما قبله وما وقع فيه وبعده حتى لو سجد
للسهو ثم سها قبل سلامه بكلام أو غيره أو سجد للسهو ثلاثا سهوا فلا يسجد ثانيا لأنه لا يأمن وقوع مثله في السجود
ثانيا فيتسلسل. قال الدميري: وهذه المسألة التي سأل عنها أبو يوسف الكسائي، لما ادعى أن من تبحر في علم اهتدى
به إلى سائر العلوم، فقال له: أنت إمام في النحو والأدب فهل تهتدي إلى الفقه؟ فقال: سل ما شئت فقال: لو سجد سجود
213

السهو ثلاثا هل يلزمه أن يسجد؟ قال: لا، لأن المصغر لا يصغر لكنه قد يتعدد صوره، ذكره بقوله: (ولو سها إمام
الجمعة وسجدوا) للسهو (فبان فوتها أتموا ظهرا) لما يأتي في بابها، (وسجدوا) ثانيا آخر الصلاة لتبين أن السجود الأول
ليس في آخر الصلاة. (ولو ظن) أو اعتقد كما قال الإمام (سهوا فسجد فبان عدمه) أي عدم السهو، (سجد في الأصح) لأنه زاد
سجدتين سهوا. وضابط هذا أن السهو في سجود السهو لا يقتضي السجود كما مر، والسهو به يقتضيه. والثاني: لا، لأن
سجود السهو يجبر كل خلل في الصلاة فيجبر نفسه كما يجبر غيره، كإخراج شاة من أربعين تزكي نفسها
وغيرها. ولو سجد
في آخر صلاة مقصورة فلزمه الاتمام سجد ثانيا، فهذا مما يتعدد فيه السجود صورة لا حكما.
خاتمة: لو نسي من صلاته ركنا وسلم منها بعد فراغها ثم أحرم عقبها بأخرى لم تنعقد لأنه محرم بالأولى، فإن ذكر
قبل طول الفصل بين السلام وتيقن الترك بنى على الأول وإن تخلل كلام يسير، ولا يعتد بما أتى به من الثانية، أو بعد
طوله استأنفها لبطلانها بطول الفصل، فإن أحرم بالأخرى بعد طول الفصل انعقدت الثانية لبطلان الأولى بطول الفصل
وأعاد الأولى. ولو صلى الجمعة أربعا ناسيا أو أحرم بمقصورة فأتمها ناسيا ونسي من كل ركعة من كل منهما سجدة
حصلت له الركعتان ويسجد للسهو، ولا يلزمه في الثانية الاتمام لأنه لم ينوه. ولو ظن أنه سها بترك قنوت مثلا فسجد
ثم بان قبل السلام أنه سها بغيره أجزأه. ولو شرع في الظهر ثم ظن في الركعة الثانية أنه في العصر ثم في الثالثة أنه في الظهر لم
يضر كما ذكره البغوي والعمراني، قال الزركشي: وقياسه أنه لو أحرم بالعشاء قضاء ثم ظن في الركعة الأولى أنه في الصبح
وفي الثانية أنه في الظهر وفي الثالثة أنه في العصر وفي الرابعة أنه في المغرب ثم تذكر قبل السلام أنه في العشاء لم يضره، وهو
نظير ما لو نوى أن يصوم غدا بظنه أنه يوم الاثنين فكان السبت صحت نيته وصومه اه‍. ولا حاجة كما قال شيخنا لقوله
قضاء. ولو دخل في الصلاة وظن أنه لم يكبر للاحرام فاستأنف الصلاة، فإن علم بعد فراغ الصلاة الثانية أنه كان كبر
تمت بها الأولى، أو علم قبله بنى على الأولى وسجد للسهو في الحالين، لأنه بما لو فعله عامدا بطلت صلاته وهو
الاحرام الثاني. ثم شرع في السجدة الثانية فقال:
باب: بالتنوين:
(تسن سجدات) بفتح الجيم، (التلاوة) بالاجماع وبالأحاديث الصحيحة، منها خبر ابن عمر: أن النبي (ص)
كان يقرأ علينا القرآن، فإذا مر بالسجدة كبر وسجد وسجدنا معه رواه أبو داود والحاكم. ومنها ما رواه مسلم عن
أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مرفوعا: إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويلتا أمر ابن آدم
بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار ومنها ما في الصحيحين عن ابن مسعود: أنه
(ص) قرأ والنجم فسجد وسجد معه الجن والإنس إلا أمية بن خلف فقتل يوم بدر مشركا. وإنما لم تجب لأن زيد بن ثابت قرأ على النبي
(ص) والنجم فلم يسجد، رواه الشيخان، ولقول ابن عمر: أمرنا بالسجود - يعني للتلاوة - فمن سجد فقد
أصاب ومن لم يسجد فلا إثم عليه رواه البخاري. فإن قيل: قد ذم الله تعالى من لم يسجد بقوله تعالى: * (وإذا قرئ
عليهم القرآن لا يسجدون) *. أجيب بأن الآية في الكفار بدليل ما قبلها وما بعدها. (وهن) أي سجدات التلاوة، (في
الجديد أربع عشرة) سجدة (منها سجدتا الحج) واثنتا عشرة في الأعراف والرعد والنحل والاسراء ومريم والفرقان
والنمل والم تنزيل وحم السجدة والنجم والانشقاق والعلق. والأصل فيها خبر عمرو بن العاص: أقرأني رسول الله
214

(ص) خمس عشرة سجدة في القرآن، منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان رواه أبو داود والحاكم بإسناد حسن.
والسجدة الباقية منه سجدة ص، وسيأتي حكمها. وأسقط القديم سجدات المفصل لخبر ابن عباس رضي الله عنهما: ولم
يسجد النبي (ص) في شئ من المفصل منذ تحول للمدينة، رواه أبو داود. وأجيب من جهة الجديد بأن هذا
الحديث ضعيف وناف، وغيره صحيح ومثبت، وأيضا الترك إنما ينافي الوجوب دون الندب، وفي مسلم عن أبي هريرة: سجدنا
مع النبي (ص) في إذا السماء انشقت واقرأ باسم ربك، وكان إسلام أبي هريرة سنة سبع من الهجرة. ومحال هذه
السجدات معروفة، لكن اختلف في أربع منها: إحداها سجدة النحل عند قوله تعالى: * (ويفعلون ما يؤمرون) *،
وقال الماوردي: إنها عند قوله تعالى: * (وهم لا يستكبرون) * ونقله الروياني عن أهل المدينة. وثانيها: سجدة النمل عند
قوله تعالى: * (لا إله إلا هو رب العرش العظيم) *. ونقل العبدري في الكفاية أن مذهبنا أنها عند قوله تعالى: * (ويعلم
ما تخفون وما تعلنون) *. وفي المجموع أن هذا باطل مردود. وقال الأذرعي: وليس كما قال بل هو قول أكثر أهل المدينة
وابن عمر والحسن البصري وغيرهم، وبه جزم الماوردي. والمسألة محتملة ولا توقيف فيما نعلمه اه‍. وثالثها سجدة حم
السجدة عند قوله تعالى: * (وهم لا يسأمون) *. وقيل: عند قوله تعالى: * (إن كنتم إياه تعبدون) *. ورابعها سجدة إذا
السماء انشقت عند قوله تعالى: * (وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) *. وقيل: إنها في آخر السورة،
ذكره بعض
شراح البخاري. وصرح المصنف كأصله بسجدتي الحج لخلاف أبي حنيفة في الثانية، (لا) سجدة (ص) وهي عند
قوله تعالى: * (وخر راكعا وأناب) * فليست من سجدات التلاوة، لقول ابن عباس: ص ليست من عزائم السجود
رواه البخاري: أي متأكداتها، وأثبتها ابن سريج فجعلها خمس عشر لحديث عمرو المتقدم. (بل هي) أي سجدة ص
(سجدة شكر) لتوبة الله تعالى على داود عليه الصلاة والسلام، أي لقبولها، والتلاوة سبب لتذكر ذلك، لخبر أبي سعيد
الخدري: خطبنا النبي (ص) يوما فقرأ ص، فلما مر بالسجود نشرنا - أي تهيأنا - للسجود، فلما رآنا
قال: إنما هي توبة نبي، ولكن قد استعددتم للسجود فنزل وسجد. رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري.
(تستحب في غير الصلاة) عند تلاوة آيتها للاتباع كما مر، (وتحرم فيها) وتبطلها (على الأصح) لمن علم ذلك وتعمده،
أما الجاهل أو الناسي فلا تبطل صلاته لعذره، لكن يسجد للسهو. ولو سجدها إمامه وكان يعتقدها كحنفي جاز له مفارقته
وانتظاره قائما كما ينتظره قاعدا إذا قام إمامه لركعة خامسة سهوا ولا يسجد للسهو إذا انتظره، قال في الروضة: لأن المأموم
لا سجود لسهوه. فإن قيل: هذا التعليل لا يلاقي التصوير فإن المأموم لم يسه. أجيب بأن مراده لا سجود عليه في فعل
يقتضي سجود السهو، لأن الإمام يتحمله عنه فلا يسجد لانتظاره، وإن سجد لسجدة إمامه. واستشكل انتظاره مع
أن العبرة بعقيدة المأموم، وعنده أن صلاة الإمام قد بطلت، وأجبت عن ذلك في شرح التنبيه. والثاني: لا تحرم فيها
ولا تبطلها لتعلقها بالتلاوة بخلاف غيرها من سجود الشكر.
فائدة: المشهور في ص وما أشبهها من الحروف التي في أوائل السور أنها أسماء لها، وتقرأ ص بالاسكان وبالفتح
وبالكسر بلا تنوين وبه مع التنوين وإذا كتبت في المصحف كتبت حرفا واحدا، وأما في غيره فمنهم من يكتبها كذلك،
ومنهم من يكتبها (وتسن) سجدة التلاوة (للقارئ) حيث تشرع له باعتبار اسمها ثلاثة أحرف القراءة، (والمستمع)
أي قاصد السماع حيث ندب له الاستماع، ولو كان القارئ صبيا مميزا أو امرأة والمستمع رجلا كما في المجموع أو محدثا
أو كافرا لا لقراءة جنب وسكران لأنها غير مشروعة لهما، قال الأسنوي: ولا لنائم وساه لعدم قصدهما التلاوة. قال
الزركشي: وينبغي السجود لقراءة ملك وجني لا لقراءة ذرة ونحوها لعدم القصد، قال تبعا للسبكي: ولو قرأ أو سمع أول
دخوله المسجد آية سجدة فالأقرب أنه يسجد، لكن هل يكون ذلك عذرا في عدم فوات التحية أو لا؟ فيه نظر اه‍. والأقرب
215

كما قاله بعض المتأخرين أن يكون عذرا. (وتتأكد له) أي المستمع (بسجود القارئ) للاتفاق على استحبابه في هذه
الحالة للمستمع، بخلاف ما إذا لم يسجد فإنه لا يستحب له على وجه ولا يقتدى في سجودها في غير الصلاة ولا ترتبط به،
فله الرفع من السجود قبله كما صرح به في الروضة. قال الزركشي: وقضية ذلك منع الاقتداء به، لكن قضية كلام
القاضي والبغوي جوازه وينبغي اعتماده. (قلت: وتسن للسامع) وهو من لم يقصد السماع، (والله أعلم) لكنها للمستمع آكد
منه للسامع. ولو قرأ آية سجدة في غير محل القراءة كأنه قرأها في حال ركوعه أو في سجوده أو في صلاة جنازة لم يسجد
بخلاف قراءته قبل الفاتحة، لأن القيام محل القراءة في الجملة، وكذا إن قرأها في الركعة الثالثة والرابعة لأنهما محل القراءة،
بدليل أن المسبوق يتدارك القراءة فيهما، بل قيل تسن القراءة فيهما مطلقا. قال الزركشي: ويستحب تركها للخطيب
إذا قرأ آيتها على المنبر ولم يمكنه السجود مكانه إن خشي طول الفصل والانزال وسجد إن لم يكن فيه كلفة، فإن أمكنه
مكانه سجد. والأصل فيما ذكر ما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه (ص) كان يقرأ القرآن فيقرأ
السورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته. أما من لم يسمع فلا يسجد اتفاقا وإن
علم برؤية الساجدين ونحوها. (وإن قرأ في الصلاة) في محل القراءة (سجد الإمام والمنفرد) أي كل منهما، (لقراءته فقط)
فلا يسجد لقراءة غيره، فإن فعل عامدا عالما بالتحريم بطلت صلاته. (و) يسجد (المأموم لسجدة إمامه) فقط، فلو سجد
لقراءة نفسه أو غيره أو لقراءة إمامه لكن عند عدم سجوده كما سيأتي عامدا عالما بالتحريم بطلت صلاته (فإن سجد إمامه
فتخلف) هو (أو انعكس) بأن سجد دون إمامه (بطلت صلاته) للمخالفة، هذا مع استمراره مأموما، فإن
أخرج نفسه
من الجماعة لأجل السجدة فهل هي مفارقة بعذر أو بغيره؟ مقتضى ما في المجموع أنها بعذر، ويندب للمأموم عند ترك الإمام
قضاؤها بعد السلام، كذا قاله الرافعي، ومراده بالقضاء: القضاء اللغوي، وهو الأداء، إذ الواقع في هذه المسألة كما قال
الأسنوي عدم القضاء، ومعلوم أن محله إذا لم يطل الفصل وإلا فات. ويكره للمأموم قراءة أية سجدة وإصغاء لقراءة غير
إمامه لعدم تمكنه من السجود، ويكره أيضا للمنفرد والإمام الاصغاء لغير قراءتهما ولا يكره لهما قراءة آية سجدة ولو
في السرية، لكن يستحب للإمام تأخيرها فيها إلى فراغه كما في الروضة. ومحله كما قال الأسنوي عند قصر الفصل.
تنبيه: قول المصنف: الإمام والمنفرد تنازع فيه قرأ وسجد، فالقراء يعملهما فيه، والكسائي يقول: حذف فاعل الأول،
والبصريون يضمرونه، والفاعل المضمر عندهم مفرد لا مثنى إذ لو كان ضمير تثنية لبرز على رأيهم فيصير قرآ ثم
الافراد مع عوده على الاثنين بتأويل كل منهما كما تقدم، فالتركيب صحيح على مذهب البصريين كغيره من المذهبين.
قبله، وليست صحته خاصة بالمذهبين قبله نظر إلى عدم تثنية الضمير للتأويل المذكور. (ومن سجد) أي أراد السجود
(خارج الصلاة نوى) سجدة التلاوة وجوبا، لحديث: إنما الأعمال بالنيات. (وكبر للاحرام) بها كذلك للاتباع كما أخرجه
أبو داود لكن بإسناد ضعيف، وقياسا على الصلاة. (رافعا يديه) ندبا كما مر في تكبيرة الاحرام، (ثم) كبر ندبا (للهوي)
للسجود (بلا رفع) يديه، (وسجد) سجدة (كسجدة الصلاة) في الأركان والشروط والسنن، (ورفع) رأسه من
السجود بلا رفع يديه، (مكبرا) ندبا، (وسلم) وجوبا بعد القعود كالصلاة. ولا يشترط التشهد في الأصح، بل الأصح في زيادة
الروضة أنه لا يستحب. وقيل: يتشهد أيضا. وقيل وهو المنصوص في البويطي: إنه لا يتشهد ولا يسلم كما لا يسلم منه في
الصلاة ولا يستحب أن يقوم ثم يكبر على الأصوب في الروضة والأصح في المجموع لعدم ثبوت شئ فيه. (وتكبيرة
الاحرام) مع النية، كما مر (شرط) فيها (على الصحيح) وفي الروضة الأصح. والمراد بالشرط هنا ما لا بد منه، لأن
216

النية وتكبيرة الاحرام والسلام كما سيأتي أركان، والثاني: أنها سنة وهو المنصوص وصححه الغزالي. (وكذا السلام) شرط
فيها (في الأظهر) قياسا على التحرم، والثاني: لا يشترط كما لا يشترط ذلك إذا سجد في الصلاة. ومدرك الخلاف في هذه
الثلاثة أن هذه السجدة هل تلحق بالصلاة فتشترط، أو لا فلا؟ (وتشترط شروط الصلاة) قطعا كالاستقبال والستر والطهارة
والكف عن مفسدات الصلاة كالأكل ودخول وقت السجود، قال في المجموع: بأن يكون قد قرأ الآية أو سمعها.
وقضيته أن سماع الآية بكمالها شرط كالقراءة، وهو كذلك حتى لا يكفي كلمة السجدة ونحوها، فلو سجد قبل الانتهاء إلى
آخر السجدة ولو بحرف واحد لم يجز. (ومن سجد فيها) أي الصلاة (كبر للهوي) للسجود (وللرفع) منه ندبا، (ولا
يرفع يديه) فيهما: أي لا يسن له ذلك، كمن سجد في صلب الصلاة ونوى وجوبا، لأن نية الصلاة لم تشملها كما صرحوا
بذلك في ترك السجدات فقالوا: لو ترك سجدة سهوا ثم سجد للتلاوة لا تكفي عنها، لأن نية الصلاة لم تشملها، بخلاف
ما لو ترك الجلوس بين السجدتين وجلس للاستراحة فإنه يكفي لأن نية الصلاة شملته فهي كسجود السهو. كذا قيل:
والأوجه قول ابن الرفعة: ولا يجب على المصلي نيتها اتفاقا، لأن نية الصلاة تنسحب عليها بواسطة، وبهذا يفرق بينها
وبين سجود السهو اه‍. ولا ينافي ذلك ما تقدم من قولهم: إن نية الصلاة لم تشملها، أي بلا واسطة، والسنة التي تقوم
مقام الواجب ما شملته النية بلا واسطة كما مثلوا به. وقول المصنف. وللرفع مزيد على المحرر، وصرح به في المحرر في غير
الصلاة. (قلت: ولا يجلس للاستراحة) بعدها، (والله أعلم) أي لا يسن له ذلك لعدم وروده، بل يكره تنزيها ولا تبطل به
صلاته كما مرت الإشارة إليه. ويجب أن يقوم منها ثم يركع، فلو قام راكعا لم يصح لأن الهوي من القيام واجب كما مر.
ويستحب أن يقرأ قبل ركوعه في قيامه من سجوده شيئا من القرآن. (ويقول) فيها داخل الصلاة وخارجها: (سجد
وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره بحوله وقوته) فتبارك الله أحسن الخالقين. ويقول: اللهم اكتب لي
بها عندك أجرا واجعلها لي عندك ذخرا وضع عني بها وزرا واقبلها مني كما قبلتها من عبدك داود، رواهما
الحاكم وصححهما.
ويندب كما في المجموع عن الشافعي أن يقول: سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا. قال في الروضة: ولو قال ما يقوله
في سجوده جاز، أي كفى. ولو عبر به كان أولى. قال المتولي وغيره: ويسن أن يدعو بعد التسبيح، وفي الاحياء: يدعو
في سجوده بما يليق بالآية فيقول في سجدة الاسراء: اللهم اجعلني من الباكين إليك والخاشعين لك، وفي سجدة ألم
السجدة: اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك
وعلى أوليائك. (ولو كرر آية) فيها سجدة تلاوة، أي أتى بها مرتين مثلا خارج الصلاة، (في مجلسين، سجد لكل) من
المرتين عقبها لتجدد السبب بعد توفية الحكم الأول، (وكذا المجلس في الأصح) لما مر، والثاني: تكفيه السجدة الأولى
عن المرة الثانية كما لو كررها قبل أن يسجد للأولى. الثالث: إن طال الفصل سجد لكل مرة وإلا كفاه سجدة عنهما،
قال في العدة: وعليه الفتوى، لا أنه قال إن الفتوى على الثاني كما قاله المصنف في المجموع، بل نسب في ذلك إلى السهو. وقد
علم مما تقرر أن محل الخلاف إذا سجد الأولى ثم كرر الآية فيسجد ثانيا، أما لو كررها قبل السجود فإنه يقتصر على
سجدة واحدة قطعا. (وركعة كمجلس) وإن طالت، (وركعتان كمجلسين) وإن قصرتا، فيسجد فيهما. ولو قرأ آية خارج
الصلاة وسجد لها ثم أعادها في الصلاة أو عكس سجد ثانيا، (فإن لم يسجد) من طلب منه السجود عقب فراغ آية السجدة (
وطال الفصل) عرفا ولو بعذر، (لم يسجد) لأنه من توابع القراءة، ولا قضاء لأنه ذو سبب عارض كالكسوف.
فإن قصر الفصل سجد، وكذا سجدة الشكر كما قال شيخنا إنه الأوجه. فإن كان القارئ أو المستمع أو السامع أو من
217

يسجد شكرا محدثا فتطهر عن قرب سجد وإلا فلا. ولا تستحب القراءة لآية سجدة أو أكثر بقصد السجود، بل
تكره القراءة بقصده في الصلاة، ومنع ابن عبد السلام من ذلك وأفتى ببطلان الصلاة، وهو المعتمد. ومحل الخلاف
في غير صلاة صبح الجمعة، أما فيها لقراءة سجدة ألم تنزيل فإنها لا تبطل كما قاله البلقيني وأفتى به شيخي، لأن قراءة
السجدة فيها مسنونة. ولو قرأ آية سجدة ليسجد في الأوقات المكروهة حرم عليه السجود، وسواء قرأ في أوقات
الكراهة أم قبلها، وإن كان في صلاة بطلت صلاته بالسجود كما أفتى به ابن عبد السلام. وفي الروضة والمجموع: لو أراد
أن يقرأ آية سجدة أو آيتين فيهما سجدة ليسجد فلم أر فيه نقلا عندنا، وفي كراهته خلاف للسلف. ومقتضى مذهبنا
أنه إن كان في غير وقت الكراهة وفي غير الصلاة لم يكره، وإلا ففي كراهته الوجهان فيمن دخل المسجد في وقت
الكراهة لا لغرض سوى التحية، وهذا إذا لم يتعلق بالقراءة غرض سوى السجود وإلا فلا كراهة مطلقا قطعا اه‍. ثم
شرع في السجدة الثالثة فقال: (وسجدة الشكر لا تدخل الصلاة) لأن سببها ليس له تعلق بالصلاة، فلو سجدها فيها
عامدا عالما بالتحريم بطلت صلاته. (وتسن لهجوم) أي حدوث (نعمة) كحدوث ولد أو جاه أو مال أو قدوم غائب
أو نصر على عدو (أو اندفاع نقمة) كنجاة من حريق أو غرق، لما روى أبو داود وغيره: أنه (ص) كان إذا جاءه
أمر يسره خر ساجدا. وروى أبو داود بإسناد حسن أنه (ص) قال: سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني ثلث أمتي
فسجدت شكرا لربي، ثم رفعت رأسي فسألت ربي فأعطاني ثلث أمتي فسجدت شكرا لربي، ثم رفعت رأسي فسألت
ربي فأعطاني الثلث الآخر، فسجدت شكرا لربي. وخرج بالحدوث الاستمرار كالعافية والاسلام والغنى عن الناس،
لأن ذلك يؤدي إلى استغراق العمر في السجود. وقيد في التنبيه والمهذب ونقله المصنف في شرحه عن الشافعي
والأصحاب النعمة والنقمة بكونهما ظاهرتين ليخرج الباطنتين كالمعرفة وستر المساوي، وقيدهما في أصل الروضة وفي
المحرر بقوله: من حيث لا يحتسب، أي يدري، قال في المهمات: وفيه نظر، وإطلاق الأصحاب يقتضي عدم الفرق بين
أن يتسبب فيه وأن لا، ولهذا لم يذكره في المجموع اه‍. وهذا أوجه، ولهذا أسقطه ابن المقري من أصله. (أو رؤية
مبتلي) في بدنه أو غيره للاتباع، رواه البيهقي. وشكر الله على سلامته. (أو) رؤية (عاص) يجهر بمعصيته كما نقله في
الكفاية عن الأصحاب، ويفسق بها كما نقله الولي العراقي عن الحاوي، لأن المصيبة في الدين أشد منهما في الدنيا،
قال (ص): اللهم لا تجعل مصيبتنا في ديننا فعند رؤية الكافر أولى. ولو حضر المبتلي أو العاصي في ظلمة أو عند أعمى
أو سمع صوتهما سامع ولم يحضرا، فالمتجه كما قال في المهمات استحبابها أيضا. (ويظهرها) أي السجدة (للعاصي)
المتجاهر بمعصيته التي يفسق بها إن لم يخف ضرره وتعبيرا له لعله يتوب، بخلاف من لم يتجاهر بمعصيته أو لم يفسق بها
بأن كانت صغيرة ولم يصر عليها فلا يسجد لرؤيته، أو خاف منه ضررا فلا يظهرها له، بل يخفيها كما في المجموع. وفي
معنى الفاسق الكافر، وبه صرح الروياني في البحر، بل هو أولى بذلك. (لا للمبتلي) لئلا ينكسر قلبه. نعم إن كان
غير معذور كمقطوع في سرقة أظهرها له، قاله القاضي والفوراني وغيرهما، وقيده في المهمات بما إذا لم يعلم توبته، وإلا
فيسرها ويظهرها أيضا لحصول نعمة أو اندفاع نقمة كما في المجموع. قال ابن يونس: وعندي أنه لا يظهرها لتجدد
ثروة بحضرة فقير لئلا ينكسر قلبه. قال في المهمات: وهو حسن.
فرع: هل يظهرها للفاسق المجاهر المبتلى في بدنه بما هو معذور فيه يحتمل الاظهار لأنه أحق بالزجر والاخفاء
لئلا يفهم أنه على الابتلاء فينكسر قلبه؟ ويحتمل أنه يظهر ويبين السبب وهو الفسق، وهذا هو الظاهر، وإن قال
الولي العراقي: لم أر فيه نقلا. ولو شاركه في ذلك البلاء أو العصيان فهل يسجد؟ قال الولي العراقي: لم أر من تعرض
له، وظاهر إطلاقهم يقتضي السجود، والمعنى يقتضي عدمه، فقد يستثنى حينئذ اه‍. والأولى أن يقال: إن كان ذلك
البلاء من غير نوع بلائه أو منه وهو زائد، أو كان ذلك الفسق من غير نوع فسقه أو منه وهو أزيد، سجد وإلا فلا.
218

(وهي) أي سجدة الشكر، (كسجدة التلاوة) خارج الصلاة في كيفيتها وشرائطها كما قاله في المحرر لما مر في تلك،
ومر أنها لا تقضى كسجدة التلاوة. (والأصح جوازهما) أي السجدتين خارج الصلاة، (على الراحلة للمسافر) بالايماء
لمشقة النزول، وخالف الجنازة على الراجح، وإن كان في إقامة كان عليها إبطال ركنه الأعظم، وهو تمكين الجبهة
من موضع السجود والقيام في الجنازة، لأن الجنازة تندر فلا يشق النزول لها، ولان حرمة الميت تقتضي النزول.
والثاني: لا يجوز لفوات أعظم أركانها، وهو التصاق الجبهة من موضع السجود. أما لو كان في مرقد وأتم سجوده فإنه
يجوز بلا خلاف. والماشي يسجد على الأرض، (فإن سجد لتلاوة صلاة جاز) الايماء (عليها) أي الراحلة، (قطعا)
تبعا للنافلة كسجود السهو. وخرج بسجود التلاوة سجود الشكر فإنه لا يفعل في الصلاة كما مر.
خاتمة: يسن مع سجدة الشكر كما في المجموع الصدقة والصلاة للشكر. وقال الخوارزمي: لو أقام التصدق أو
صلاة ركعتين مقام السجود كان حسنا، ولو قرأ آية سجدة في الصلاة ليسجد بها للشكر لم يجز. وتبطل صلاته بسجوده
كما لو دخل المسجد في وقت النهي ليصلي التحية. وتبطل أيضا لو قصد بها التلاوة والشكر تغليبا للمبطل، بخلاف ما لو
قصد القراءة والرد على الإمام، لأن في الرد مصلحة للصلاة، ولهذا قيل: لا تبطل ولو قصد الرد فقط. ولو تقرب إلى
الله بسجدة من غير سبب حرم ولو بعد صلاة كما يحرم بركوع مفرد ونحوه، لأنه بدعة وكل بدعة ضلالة، إلا ما استثني.
ومما يحرم ما يفعله كثير من الجهلة من السجود بين يدي المشايخ ولو إلى القبلة أو قصده لله تعالى، وفي بعض صوره
ما يقتضي الكفر، عافانا الله تعالى من ذلك.
باب: في صلاة النفل.
وهو لغة: الزيادة، واصطلاحا: ما عدا الفرائض، سمي بذلك لأنه زائد على ما فرضه الله تعالى. ويرادف النفل
السنة والمندوب والمستحب والمرغب فيه والحسن، هذا هو المشهور. وقال القاضي وغيره: غير الفرض ثلاثة: تطوع،
وهو ما لم يرد فيه نقل بخصوصه، بل ينشئه الانسان ابتداء. وسنة، وهي ما واظب عليه (ص). ومستحب: وهو ما فعله
أحيانا، أو أمر به ولم يفعله. ولم يتعرضوا للبقية لعمومها للثلاثة مع أنه لا خلاف في المعنى فإن بعض المسنونات آكد
من بعض قطعا، وإنما الخلاف في الاسم. وأفضل عبادات البدن بعد الاسلام الصلاة لخبر الصحيحين: أي الأعمال
أفضل؟ فقال: الصلاة لوقتها. وقيل: الصوم، لخبر الصحيحين: قال الله: كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا
أجزي به. وقيل: إن كان بمكة فالصلاة، أو بالمدينة فالصوم. ورد ذلك بأن الصلاة تجمع ما في سائر العبادات،
وتزيد عليها بوجوب الاستقبال ومنع الكلام والمشي وغيرهما، ولأنها لا تسقط بحال، ويقتل تاركها بخلاف غيرها.
وقال القاضي: الحج أفضل. وقال ابن أبي عصرون: الجهاد أفضل. وقال في الاحياء: العبادات تختلف أفضليتها
باختلاف أحوالها وفاعلها. قال في المجموع: والخلاف في الاكثار من أحدهما مع الاقتصار على الآكد من
الآخر،
وإلا فصوم يوم أفضل من ركعتين بلا شك. وخرج بإضافة العبادات إلى البدن أمران: أحدهما عبادة القلب كالايمان
والمعرفة والصبر والرضا والخوف والرجاء، وأفضلها الايمان وهي أفضل من العبادات البدنية. والثاني: العبادات المالية،
قال الفارقي: إنها أفضل من العبادات البدنية لتعدي النفع بها. والأولى كما قاله ابن عبد السلام: إن كانت مصلحة
القاصر أرجح فهو أرجح، أو المتعدي فهو أرجح. وإذا كانت الصلاة أفضل العبادات كما مر ففرضها أفضل الفروض
وتطوعها أفضل التطوع، ولا يرد حفظه غير الفاتحة من القرآن ولا الاشتغال بالعلم حيث نص الشافعي على أنه أفضل
من صلاة التطوع، لأنهما فرضا كفاية. وهو ينقسم إلى قسمين كما قال: صلاة النفل قسمان: قسم لا يسن جماعة بالنصب
219

على التمييز المحول عن نائب الفاعل، أي لا تسن فيه الجماعة لمواظبته (ص) على فعله فرادى لا على الحال، وإلا لكان
معناه نفي السنة عنه حال كونه في جماعة وليس مرادا، وبهذا التقدير يندفع ما قيل إنه لو قال: يسن فرادى كان أحسن،
فإن السنة أن لا يكون في جماعة وإن جاز بالجماعة بلا كراهة لاقتداء ابن عباس بالنبي (ص) في بيت خالته ميمونة في
التهجد، متفق عليه. (فمنه الرواتب) وهي على المشهور التي (مع الفرائض) وقيل: هي ما له وقت. والحكمة فيها تكميل
ما نقص من الفرائض بنقص نحو خشوع كترك تدبر قراءة. (وهي ركعتان قبل الصبح، وركعتان قبل الظهر، وكذا بعدها
وبعد المغرب والعشاء) لخبر الصحيحين عن ابن عمر قال: صليت مع النبي (ص) ركعتين قبل الظهر، وركعتين
بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين بعد الجمعة. وفي بعض طرقه عن ابن عمر: وحدثتني
أختي حفصة أن النبي (ص) كان يصلي ركعتين خفيفتين بعدما يطلع الفجر. (وقيل: لا راتب للعشاء) لأن
الركعتين بعدها يجوز أن يكونا من صلاة الليل. (وقيل) من الرواتب (أربع قبل الظهر) للاتباع، رواه مسلم. (وقيل:
وأربع بعدها) لحديث: من حافظ على أربع ركعات قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على النار، رواه الترمذي
وصححه. (وقيل: وأربع قبل العصر) لخبر ابن عمر: أنه (ص) قال: رحم الله امرءا صلى قبل العصر
أربعا رواه
ابنا خزيمة وحبان وصححاه. (والجميع سنة) راتبا قطعا لورود ذلك في الأحاديث الصحيحة. ولا فرق في ذلك بين المجمع
بالمزدلفة وغيره، وما نقل عن النص من أن السنة للجامع بمزدلفة ترك التنفل له بعد المغرب والعشاء محمول كما قالاه على النافلة
المطلقة. (وإنما الخلاف في الراتب المؤكد) من حيث التأكيد. فعلى الوجه الأخير الجميع مؤكد، وعلى الراجح المؤكد
العشر الأول فقط لمواظبته (ص) عليها دون غيرها. (و) قيل: من الرواتب غير المؤكدة (ركعتان خفيفتان قبل المغرب) لما سيأتي.
(قلت: هما سنة على الصحيح، ففي صحيح البخاري الامر بهما) ولفظه: صلوا قبل صلاة المغرب، قال في الثالثة: لمن شاء
كراهة أن يتخذها الناس سنة، أي طريقة لازمة. وليس في روايته التصريح بالامر بركعتين. نعم في سنن أبي داود: صلوا
قبل المغرب ركعتين. وفي الصحيحين من حديث أنس أن كبار الصحابة كانوا يبتدرون السواري لهما - أي للركعتين -
إذا أذن المغرب وفي رواية مسلم: حتى إن الرجل الغريب ليدخل المسجد فيحسب الصلاة قد صليت. والثاني: أنهما
ليستا بسنة لقول ابن عمر: ما رأيت أحدا على عهد رسول الله (ص) يصليهما. وأجاب عنه البيهقي وغيره بأنه ناف
وغيره مثبت خصوصا من أثبت أكثر عددا ممن نفي. قال بعضهم: وفي الجواب نظر لأنه نفي محصور. وفي النظر نظر
لأنه ادعى عدم الرؤية ولا يلزم من عدم رؤيته أن لا يكون غيره رأى. والمفهوم من عبارة المصنف أنهما عند من استحبهما
ليستا من الرواتب لأنه أخرهما عن تمام الكلام في الرواتب. قال الولي العراقي: وقد يقال عطفهما على أمثلة الرواتب
يفهم أنهما منهما. قال في المجموع واستحبابهما قبل شروع المؤذن في الإقامة، فإن شرع فيها كره الشروع في غير المكتوبة.
والمتجه كما قال الأسنوي تقديم الإجابة عليهما، ولو أدى الاشتغال بهما إلى عدم إدراك فضيلة التحرم فالقياس كما قال
الأسنوي تأخيرهما إلى بعد المغرب. وفي المجموع استحباب ركعتين قبل العشاء لخبر: بين كل أذانين صلاة. والمراد
الأذان والإقامة، ونقله الماوردي عن البويطي. (وبعد الجمعة أربع) ركعتان مؤكدتان وركعتان غير مؤكدتين
كما في الظهر، لخبر مسلم: إذا صلى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعا. (وقبلها ما قبل الظهر) أي ركعتان
مؤكدتان وركعتان
غير مؤكدتين، (والله أعلم) لخبر الترمذي: أن ابن مسعود كان يصلي قبل الجمعة أربعا وبعدها أربعا، والظاهر أنه توقيف.
220

وما قررت به عبارته وهو ما صرح به في التحقيق وإن كان مقتضى عبارته أن الجمعة مخالفة للظهر فيما بعدها. ولو
قال: والجمعة كالظهر في الرواتب قبلها وبعدها لكان أولى. (ومنه) أي من القسم الذي لا يسن جماعة (الوتر) بكسر الواو
وفتحها، وليس بواجب. أما كونه مطلوبا فبالاجماع، ولقوله (ص): يا أهل القرآن أوتروا فإن الله وتر يحب الوتر،
رواه أبو داود وصححه الترمذي. فإن قيل: هذا أمر وظاهره الوجوب كما يقول به أبو حنيفة. أجيب بأنه محمول على
التأكيد لحديث الاعرابي: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع ولخبر الصحيحين في حديث معاذ: إن الله افترض
عليكم خمس صلوات في اليوم والليلة. وهو قسم من الرواتب كما في الروضة كأصلها وظاهر عبارة المحرر، وإن كان
ظاهر عبارة المصنف أنه قسيم لها، فلو عبر بقوله ومنها ليعود الضمير على الرواتب لكان أولى. (وأقله ركعة) لخبر مسلم من حديث
ابن عمر وابن عباس: الوتر ركعة من آخر الليل. وفي الكفاية عن أبي الطيب أنه يكره الايتار بركعة. وفيه وقفة إذ لا نهي.
وقد روى أبو داود وغيره من حديث أبي أيوب: من أحب أن يوتر بواحدة فليفعل. وفي صحيح ابن حبان من حديث
ابن عباس: أنه (ص) أوتر بواحدة. وأدنى الكمال ثلاث وأكمل منه خمس ثم سبع ثم تسع ثم إحدى عشرة
وهي أكثره كما قال: (وأكثره إحدى عشرة) للأخبار الصحيحة، منها خبر عائشة: ما كان رسول الله (ص)
يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة. فلا تصح الزيادة عليها كسائر الرواتب، فإن أحرم بالجميع دفعة واحدة
لم يصح، وإن سلم من كل ركعتين صح غير الاحرام السادس فلا يصح وترا. ثم إن علم المنع وتعمد فالقياس البطلان وإلا
وقع نفلا كإحرامه بالصلاة قبل وقتها غالطا. (وقيل) أكثره (ثلاث عشرة) ركعة، لاخبار صحيحة تأولها الأكثرون بأن
من ذلك ركعتين سنة العشاء، قال المصنف: وهو تأويل ضعيف مباعد للاخبار. قال السبكي: وأنا أقطع بحل الايتار بذلك
وصحته، ولكن أحب الاقتصار على إحدى عشرة فأقل لأنه غالب أحواله (ص). ويسن لمن أوتر بثلاث أن يقرأ بعد
الفاتحة في الأولى الاعلى، وفي الثانية الكافرون، وفي الثالثة الاخلاص ثم الفلق ثم الناس مرة مرة، وينبغي أن الثلاثة
الأخيرة فيما إذا زاد على الثلاثة أن يقرأ فيها ذلك. (ولمن زاد على ركعة) في الوتر (الفصل) بين الركعات بالسلام، فينوي
ركعتين مثلا من الوتر لما روى ابن حبان: أنه (ص) كان يفصل بين الشفع والوتر. (وهو أفضل) من الوصل
الآتي، لأن أحاديثه أكثر كما قاله في المجموع، ولأنه أكثر عملا لزيادته عليه السلام وغيره. وقيل: الوصل أفضل خروجا
من خلاف أبي حنيفة، فإنه لا يصحح الفصل. والقائلون بالأول قالوا: إنما يراعي الشافعي الخلاف إذا لم يؤد إلى محظور
أو مكروه، وهذا منه، فإن الوصل فيما إذا وتر بثلاث مكروه كما جزم به ابن خيران. وقال القفال: لا يصح وصلها، وبه
أفتى القاضي حسين لخبر: لا توتروا بثلاث ولا تشبهوا الوتر بصلاة المغرب. وقيل: الفصل أفضل للمنفرد دون الإمام، إذ قد
يقتدي به حنفي. وعكسه الروياني، لئلا يتوهم خلل فيما صار إليه الشافعي مع أنه ثابت. وهذا كله في الاتيان بثلاث، فإن
زاد فالفصل أفضل قطعا كما جزم به في التحقيق، وثلاث فأكثر موصولة أفضل من ركعة فردة لا شئ قبلها. (و) لمن زاد
على ركعة (الوصل بتشهد) في الأخيرة، (أو تشهدين في الأخيرتين) للاتباع رواه مسلم. وليس له غير ذلك، فلا يجوز له أن
يتشهد في غيرهما فقط أو معهما أو مع أحدهما لأنه خلاف المنقول من فعله (ص). وقد تفهم عبارته استواء التشهد
والتشهدين في الفضيلة، وهو وجه، قال الرافعي: إنه مقتضى كلام كثيرين، ولكن الأصح كما في التحقيق أن الوصل بتشهد
أفضل منه بتشهدين فرقا بينه وبين المغرب وللنهي عن تشبيه الوتر بالمغرب، ففي الخبر السابق: (ووقته بين صلاة العشاء
وطلوع الفجر) الثاني، لنقل الخلف على السلف. وروى أبو داود وغيره خبر: إن الله أمدكم بصلاة هي خير لكم من
حمر النعم، وهي الوتر، فجعلها لكم من العشاء إلى طلوع الفجر. وقال المحاملي: وقته المختار إلى نصف الليل، والباقي وقت
جواز، وهو محمود كما قاله البلقيني على من لم يرد التهجد كما يعلم مما سيأتي. وقضية كلام المصنف أنه لو جمع العشاء مع
221

المغرب جمع تقديم كان له أن يوتر وإن لم يدخل وقت العشاء وهو كذلك. (وقيل: شرط الايتار بركعة سبق
نفل بعد العشاء)
من سنتها أو غيرها بناء على أن الوتر يوتر النفل قبله، والأصح أنه لا يشترط بل يكفي كونه وترا في نفسه أو وترا لما قبله
فرضا كان أو سنة. (ويسن جعله آخر صلاة الليل) ولو نام قبله، لخبر الشيخين: اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وترا. فإن كان
له تهجد أخر الوتر إلى أن يتهجد وإلا أوتر بعد فريضة العشاء وراتبتها، هذا ما في الروضة كأصلها، وقيده في المجموع بما إذا
لم يثق بيقظته آخر الليل وإلا فتأخيره أفضل لخبر مسلم: من خاف أن لا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم
آخره فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة وذلك أفضل، وعليه يحمل خبره أيضا: بادروا الصبح بالوتر. وأما
خبر أبي هريرة: أوصاني خليلي (ص) بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام.
فمحمول على من لم يثق بيقظته آخر الليل جمعا بين الاخبار. قال بعضهم: ويمكن حمله على النومة الثانية آخر الليل
المأخوذة من قوله (ص): أفضل القيام قيام داود: كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه. (فإن أوتر ثم
تهجد) وكذا إن لم يتهجد، (لم يعده) أي الوتر ثانيا، أي لا يسن له إعادته لخبر: لا وتران في ليلة. والأصل في الصلاة
إذا لم تكن مطلوبة عدم الانعقاد فلو أوتر ثانيا لم يصح وتره. (وقيل: يشفعه بركعة) أي يصلي ركعة حتى يصير وتره شفعا
ثم يتهجد ما شاء. (ثم يعيده) كما فعل ذلك ابن عمر وغيره ليقع الوتر آخر صلاته. ويسمى هذا نقض الوتر، وفي الاحياء صحة
النهي عن نقض الوتر. والوتر نفسه تهجد إن فعل بعد نوم وإلا فوتر لا تهجد، وعلى هذا يحمل ما وقع للشيخين من
تغايرهما. ولا يكره التهجد بعد الوتر، لكن لا يستحب تعمده. وإذا أوتر ثم بدا له أن يصلي قبل أن ينام فليؤخر قليلا،
نص عليه في البويطي. وقال في اللباب: يسن أن يصلي ركعتين بعد الوتر قاعدا متربعا يقرأ في الأولى بعد الفاتحة إذا
زلزلت وفي الثانية قل يا أيها الكافرون، فإذا ركع وضع يديه على الأرض ويثني رجليه. وجزم بذلك الطبري أيضا،
وأنكر في المجموع على من اعتقد سنية ذلك وقال: إنه من البدع المنكرة. وقال في العباب: ويندب أن لا يتنفل بعد وتره،
وصلاته (ص) ركعتين بعده جالسا لبيان الجواز اه‍. (ويندب القنوت آخر وتره) بثلاث أو أكثر، وكذا لو
أوتر
بركعة وإن أفهم كلام المصنف خلافه. (في النصف الثاني من رمضان) روى أبو داود أن أبي بن كعب قنت فيه لما جمع
عمر الناس عليه فصلى بهم، أي صلاة التراويح. (وقيل) يقنت فيه في (كل السنة) لاطلاق ما مر في قنوت الصبح
واختاره المصنف في بعض كتبه. وعلى الأول لو قنت فيه في غير النصف ولم يطل به الاعتدال كره وسجد للسهو، وإن
طال به الاعتدال بطلت صلاته إن كان عامدا عالما بالتحريم وإلا لم تبطل ويسجد للسهو. (وهو كقنوت الصبح) في
لفظه ومحله والجهر به واقتضاء السجود بتركه كما مرت الإشارة إليه، وصرح به في المحرر وغير ذلك. وقيل: يقنت
في الوتر قبل الركوع ليحصل الفرق بين الفرض والنفل. ويسن أن يقتصر عليه إمام قوم غير محصورين رضوا بالتطويل.
(ويقول) غيره (قبله: اللهم إنا نستعينك ونستغفرك. إلى آخره) أي: ونستهديك، ونؤمن بك ونتوكل عليك
ونثني عليك الخير كله، نشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد،
وإليك نسعى ونحفد - بالدال المهملة: أي نسرع - نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد - بكسر الجيم: أي
ألحق بالكفار ملحق بكسر الحاء على المشهور: أي لاحق بهم، فهو كأنبت الزرع بمعنى نبت. ويجوز فتحها لأن الله
تعالى ألحقه بهم - اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون - أي يمنعون - عن سبيلك ويكذبون رسلك ويقاتلون
أولياءك - أي أنصارك - اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم - أي أمورهم
ومواصلاتهم، وألف - أجمع - بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الايمان والحكمة - وهي كل ما منع القبيح - وثبتهم
222

على ملة رسولك، وأوزعهم - أي ألهمهم - أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم إله الحق
واجعلنا منهم. قال في الروضة: وينبغي أن يقول: اللهم عذب الكفرة ليعم كل كافر. وما قاله ابن القاص واستحسنه
الروياني من أنه يزيد في القنوت: ربنا لا تؤاخذنا إلى آخر السورة، ضعفه في المجموع بأن المشهور كراهة القراءة في غير
القيام. (قلت: الأصح) أن يقول ذلك (بعده) أي بعد قنوت الصبح، لأنه ثابت عن النبي (ص) في الوتر
فكان تقديمه أولى. فإن اقتصر على أحدهما فقنوت الصبح أفضل لما ذكر. (وأن الجماعة تندب في الوتر) في
جميع
رمضان سواء أصليت التراويح أم لا، صليت فرادى أم لا، وسواء أصلاه عقبها أم لا، فقوله: (عقب التراويح جماعة والله
أعلم) ليس بقيد بل هو جرى على الغالب فلا مفهوم له. ويسن أن يقول بعد الوتر ثلاث مرات: سبحان الملك القدوس
رواه أبو داود بإسناد صحيح، وجاء في رواية أحمد والنسائي أنه كان يرفع صوته بالثالثة. وأن يقول بعده أيضا: اللهم
إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.
(ومنه) أي ومن القسم الذي لا يسن جماعة (الضحى وأقلها ركعتان) لحديث أبي هريرة السابق، ولخبر مسلم: يصبح
على كل سلامي من أحدكم صدقة، ويجزئ عن ذلك ركعتان يصليهما من الضحى. وأدنى الكمال أربع وأكمل منه ست.
واختلف في أكثرها، فقال المصنف هنا: (وأكثرها اثنتا عشرة) ركعة لخبر أبي داود: قال النبي (ص): إن
صليت الضحى ركعتين لم تكتب من الغافلين، أو أربعا كتبت من المحسنين، أو ستا كتبت من القانتين، أو ثمانيا كتبت
من الفائزين، أو عشرا لم يكتب عليك ذلك اليوم ذنب، أو ثنتي عشرة بنى الله لك بيتا في الجنة، رواه البيهقي وقال:
في إسناده نظر، وضعفه في المجموع. وقال في الروضة: أفضلها ثمان، وأكثرها ثنتا عشرة. ونقل في المجموع عن الأكثرين
أن أكثرها ثمان، وصححه في التحقيق، وهذا هو المعتمد كما جرى عليه ابن المقري. وقال الأسنوي بعد نقله ما مر:
فظهر أن ما في الروضة والمنهاج ضعيف مخالف لما عليه الأكثرون اه‍. وقالت أم هانئ: صلى النبي (ص)
سبحة الضحى ثمان ركعات يسلم من كل ركعتين. رواه أبو داود بإسناد على شرط البخاري كما قاله في المجموع،
وفي الصحيحين عنها قريب منه. والسبحة بضم السين: الصلاة. ويسن أن يسلم من كل ركعتين كما قاله القمولي،
وينوي ركعتين من الضحى، ووقتها من ارتفاع الشمس إلى الزوال كما جزم به الرافعي في الشرحين والمصنف في التحقيق
والمجموع. ووقع في زيادة الروضة أن الأصحاب قالوا: يدخل وقتها بالطلوع، وأن التأخير إلى الارتفاع مستحب،
ونسب إلى أنه سبق قلم، والاختيار فعلها عند مضي ربع النهار، لخبر مسلم: وصلاة الأوابين حين ترمض الفصال بفتح
الميم: أي تبرك من شدة الحر في خفافها، ولئلا يخلو كل ربع من النهار عن عبادة. (و) منه (تحية المسجد) لداخله غير
المسجد الحرام، وهي (ركعتان) قبل الجلوس لكل دخول، ولو تقارب ما بين الدخولات أو دخل من مسجد إلى آخر
وهما متلاصقان لخبر الصحيحين: إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ومن ثم يكره له أن يجلس
من غير تحية بلا عذر. وظاهر كلامه كغيره أنه لا فرق في سنها بين مريد الجلوس وغيره، ولا بين المتطهر وغيره إذا تطهر
في المسجد، لكن قيده شيخ نصر بمريد الجلوس، ويؤيده الخبر المذكور. قال الزركشي: لكن الظاهر أن التقييد
بذلك خرج مخرج الغالب، وهذا هو الظاهر فإن الامر بذلك معلق على مطلق الدخول تعظيما للبقعة وإقامة للشعار،
كما يسن لداخل مكة الاحرام سواء أراد الإقامة بها أم لا. قال في المجموع: وتجوز الزيادة على ركعتين إذا أتى بسلام
واحد، وتكون كلها تحية لاشتمالها على الركعتين. قال في المهمات: فإن فصل فمقتضى كلامه المنع، والجواز
محتمل اه‍. والمنع أظهر. (وتحصل بفرض أو نفل آخر) وإن لم تنو لأن القصد بها أن لا ينتهك المسجد بلا صلاة، بخلاف
غسل الجمعة أو العيد بنية الجنابة لأنه مقصود. ويحصل فضلها أيضا وإن لم تنو كما صرح به ابن الوردي في بهجته وإن
223

خالف بعضهم في ذلك. (لا بركعة) أي لا تحصل بها التحية، (على الصحيح) للحديث المار. (قلت: وكذا الجنازة وسجدة
التلاوة، و) سجدة (الشكر) فلا تحصل التحية بشئ من ذلك على الصحيح للخبر السابق. والثاني: تحصل بواحدة
من هذه الأربع لحصول الاكرام بها المقصود من الخبر. (وتتكرر) التحية، أي طلبها، (بتكرر الدخول على قرب
في الأصح والله أعلم) لوجود المقتضى كالبعد. والثانية: لا، للمشقة. وتفوت بجلوسه قبل فعلها وإن قصر الفصل إلا إن
جلس سهوا وقصر الفصل كما جزم به في التحقيق. وتفوت بطول الوقوف كما أفتى به شيخي. ولو أحرم بها قائما ثم أراد
القعود لا تمامها فالقياس عدم المنع، وكذا لو دخل زحفا فالقياس أنه مأمور بالتحية. أما إذا دخل المسجد الحرام فلا تسن له لأنه
يبدأ بالطواف، وكذا لو دخل المسجد وقد أقيمت الصلاة أو قرب إقامتها بحيث لو اشتغل بالتحية فاتته تكبيرة الاحرام، أو
دخل بعد فراغ الخطيب من خطبة الجمعة أو وهو في آخرها، قاله الشيخ أبو محمد. وربما يدعى دخول هاتين الصورتين
في قولهم: أو قرب إقامتها إلخ. أو دخل الخطيب المسجد وقد حانت الخطبة على الأصح من زوائد الروضة في باب
الجمعة، وإن اعترضه في المهمات. أو دخل والإمام في مكتوبة، أو خاف فوت سنة راتبة كما في الرونق. ويكره أن يدخل
المسجد بغير وضوء فإن دخل فليقل: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنها تعدل ركعتين في الفضل.
وفي أذكار المصنف: قال بعض أصحابنا: من دخل المسجد فلم يتمكن من صلاة التحية لحدث أو شغل أو نحوه
فيستحب له أن يقول أربع مرات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، قال: ولا بأس به، زاد ابن الرفعة:
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فائدة: إنما استحب الاتيان بهذه الكلمات الأربع لأنها صلاة سائر الخليقة من غير الآدمي من الحيوانات والجمادات
في قوله تعالى: * (وإن من شئ إلا يسبح بحمده) * أي بهذه الأربع، وهي الكلمات الطيبات والباقيات الصالحات والقرض
الحسن والذكر الكثير في قوله تعالى: * (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا) *، وفي قوله تعالى: * (واذكروا الله كثيرا
لعلكم تفلحون) *.
فرع: قال الأسنوي: التحيات أربع: تحية المسجد بالصلاة والبيت بالطواف والحرم بالاحرام ومنى بالرمي.
وزيد عليه: تحية عرفة بالوقوف، وتحية لقاء المسلم بالسلام. والخطبة بالنسبة إلى الخطيب يوم الجمعة كما مر، فتكون التحية
هنا بالخطبة كما في المسجد الحرام بالطواف. (ويدخل وقت الرواتب) التي (قبل الفرض بدخول وقت الفرض، و) وقت
التي (بعده) ولو وترا (بفعله، ويخرج النوعان) أي وقت الذي قبله والذي بعده (بخروج وقت الفرض) لأنهما
تابعان له، ففعل القبلية بعده أداء، لكن الاختيار أن لا تؤخر عنه إلا لمن حضر والصلاة تقام أو نحوه مما سيأتي، وفعل
البعدية قبله لا تنعقد وإن كانت الصلاة مقضية في أحد وجهين وهو المعتمد لأن القضاء يحكي الأداء. وقضية كلام المصنف
أنه لا يشترط وقوع الراتبة قريبا من فعل الفريضة، وهو كذلك، وإن حكي عن الشامل خلافه. ويسن فعل السنن الراتبة
في السفر سواء أقصر أم أتم، لكنها في الحضر آكد، وسيأتي في الشهادات أن من واظب على ترك الراتبة
ردت شهادته.
(ولو فات النفل المؤقت) سنت الجماعة فيه كصلاة العيد أو لا كصلاة الضحى، (ندب قضاؤه في الأظهر) لحديث
الصحيحين: من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لأنه (ص) قضى ركعتي الفجر لما نام
في الوادي عن صلاة الصبح إلى أن طلعت الشمس رواه أبو داود بإسناد صحيح، وفي مسلم نحوه، وقضى ركعتي
سنة الظهر المتأخرة بعد العصر رواه الشيخان، ولأنها صلاة مؤقتة فقضيت كالفرائض، وسواء السفر والحضر كما
صرح به ابن المقري والثاني: لا يقضي لغير المؤقت. والثالث: إن لم يتبع غيره كالضحى قضى لشبهه بالفرض في الاستقلال
وإن تبع غيره كالرواتب فلا.
224

تنبيه: قضية كلامه أن المؤقت يقضى أبدا وهو الأظهر، والثاني: يقضي فائتة النهار ما لم تغرب شمسه وفائتة
ما لم يطلع فجره، والثالث: يقضي ما لم يصل الفرض الذي بعده، وخرج بالمؤقت ما له سبب كالتحية والكسوف فإنه
لا مدخل للقضاء فيه. نعم لو ابتدأ نفلا مطلقا ثم قطعه ندب له قضاؤه كما ذكره في صوم التطوع، وكذا لو
فإنه ورد فإنه يندب له قضاؤه كما قاله الأذرعي.
تتمة: بقي من هذا القسم صلوات لم يذكرها، منها صلاة التسبيح، وهي أربع ركعات يقول فيها ثلاثمائة مرة: سبحان
الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر، بعد التحرم وقبل القراءة خمسة عشر، وبعد القراءة وقبل الركوع عشرا،
وفي الركوع عشرا، وكذلك في الرفع منه وفي السجود والرفع منه والسجود الثاني، فهذه خمس وسبعون في أربع بثلاثمائة،
وهي سنة حسنة، وحديثها في أبي داود والمستدرك وصحيح ابن حبان، وله طريق يعضد بعضه بعضا فيعمل به لا سيما
في العبادات، ووهم ابن الجوزي فعده في الموضوعات، فقد علمها النبي (ص) للعباس كما رواه ابنه عبد الله رضي
الله عنهما، وفي صحيح ابن خزيمة أنه (ص) قال للعباس: إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة فإن
لم تفعل ففي كل شهر مرة فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة فإن لم تفعل ففي عمرك مرة، وفي
معجم الطبراني: فلو كانت ذنوبك مثل زبد البحر أو رمل عالج غفر الله لك. قال المصنف في أذكاره عن ابن المبارك:
فإن صلاها ليلا فالأحب إلي أن يسلم من كل ركعتين، وإن صلاها نهارا فإن شاء سلم وإن شاء لم يسلم. وما تقرر من أنها
سنة هو المعتمد كما صرح به ابن الصلاح وغيره، وإن قال في المجموع بعد نقل استحبابها عن جمع: وفي هذا الاستحباب
نظر لأن حديثها ضعيف، وفيها تغيير لنظم صلاتها المعروف، فينبغي أن لا تفعل. ومنها صلاة الأوابين، وتسمى صلاة
الغفلة لغفلة الناس عنها بسبب عشاء أو نوم أو نحو ذلك، وهي عشرون ركعة بين المغرب والعشاء لحديث الترمذي أنه
(ص) قال: من صلى ست ركعات بين المغرب والعشاء كتب له عبادة اثنتي عشرة سنة، وقال الماوردي: كان
النبي (ص) يصليها ويقول: هذه صلاة الأوابين. ويؤخذ منه ومن خبر الحاكم السابق أن صلاة الأوابين
مشتركة بين هذه وصلاة الضحى. ومنها ركعتا الاحرام وركعتا الطواف وركعتا الوضوء وركعتا الاستخارة، روى
الترمذي: من سعادة ابن آدم استخارة الله تعالى في كل أموره ومن شقاوته ترك استخارة الله في كل أموره، وروى ابن
السني عن أنس أن النبي (ص) قال: إذا هممت بأمر فاستخر الله فيه سبع مرات ثم انظر إلى الذي سبق في
قلبك فإن الخير فيه. وركعتا الحاجة وركعتا التوبة، وركعتان عند الخروج من المنزل وعند دخوله، وعند الخروج من مسجد
رسول الله (ص)، وعند دخول أرض لم يعبد الله فيها كدار الشرك، وعند مروره بأرض لم يمر بها قط. ومنها
ركعتان عقب الخروج من الحمام. ومنها ركعتان في المسجد إذا قدم من سفره. ومنها ركعتان عند القتل إن أمكنه.
ومنها ركعتان إذا عقد على امرأة وزفت إليه، إذ يسن لكل منهما قبل الوقاع أن يصلي ركعته. وأدلة هذه السنن
مشهورة فلا نطيل بذكرها. قال في المجموع: ومن البدع المذمومة صلاة الرغائب اثنتا عشرة ركعة بين المغرب
والعشاء ليلة أول جمعة رجب وصلاة ليلة نصف شعبان مائة ركعة، ولا يغتر بمن ذكرهما، وأفضل هذا القسم الوتر
ثم ركعتا الفجر، وهما أفضل من ركعتين في جوف الليل. وأما قوله (ص): أفضل الصلاة بعد الفريضة
صلاة الليل فمحمول على النفل المطلق ثم باقي رواتب الفرائض ثم الضحى ثم ما يتعلق بفعل غير سنة الوضوء كركعتي
الطواف والاحرام والتحية، وهذه الثلاث في الأفضلية سواء كما صرح به في المجموع، ثم سنة الوضوء ثم النفل المطلق.
والمراد من التفضيل مقابلة الجنس بالجنس، ولا بعد أن يجعل الشرع العدد القليل أفضل من العدد الكثير مع اتحاد
النوع، دليله القصر في السفر، فمع اختلافه أولى، ذكره ابن الرفعة. (وقسم) من النفل (يسن جماعة) أي
تسن
الجماعة فيه، إذ فعله مستحب مطلقا صلى جماعة أو لا. (كالعيد والكسوف والاستسقاء) لما سيأتي في أبوابها.
(وهو) أي هذا القسم (أفضل مما لا يسن جماعة) لأن مشروعية الجماعة فيه تدل على تأكد أمره، والمراد
225

جنس هذه الصلاة مع جنس الأخرى من غير نظر إلى عدد مخصوص كما يؤخذ مما مر. (لكن الأصح تفضيل الراتبة)
للفرائض (على التراويح) لمواظبته (ص) على الراتبة لا التراويح كما قاله الرافعي، والثاني: تفضيل التراويح على
الراتبة لسن الجماعة فيها. ومحل الخلاف إذا قلنا تسن الجماعة في التراويح وإلا فالراتبة أفضل منها قطعا، وأفضل هذا
القسم العيدان، وقضية كلامهم تساوي العيدين في الفضيلة، وبه صرح ابن المقري في شرح إرشاده، وعن ابن عبد السلام
أن عيد الفطر أفضل، وكأنه أخذه من تفضيلهم تكبيره على تكبير الأضحى. وعن بعض السلف: أن من صلى عيد الفطر
فكأنما حج، ومن صلى عيد الأضحى فكأنما اعتمر. قال في الخادم: لكن الأرجح في النظر ترجيح عيد الأضحى
لأنه في شهر حرام وفيه نسكان: الحج والأضحية، وقيل إن عشره أفضل من العشر الأخير من رمضان اه‍. وروي:
إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر رواه أبو داود، فصلاته أفضل من صلاة الفطر وتكبير الفطر أفضل من تكبيره.
ثم بعد العيدين في الفضيلة كسوف الشمس ثم خسوف القمر ثم الاستسقاء ثم التراويح. وقد اتفقوا على سنيتها وعلى أنها
المراد من قوله (ص): من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر رواه البخاري. وقوله:
إيمانا أي تصديقا بأنه حق معتقدا فضيلته، واحتسابا أي إخلاصا. والمعروف أن الغفران مختص بالصغائر. واختلفوا
في أن الأفضل صلاتها منفردا أو في جماعة، ولذلك قال المصنف: (و) الأصح (أن الجماعة تسن في التراويح) لخبر
الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه (ص) صلاها ليالي فصلوها معه ثم تأخر وصلاها في بيته باقي
الشهر وقال: خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها. وروى ابنا خزيمة وحبان عن جابر قال: صلى بنا رسول الله
(ص) في رمضان ثمان ركعات ثم أوتر، فلما كانت الليلة القابلة اجتمعنا في المسجد ورجونا أن يخرج إلينا
حتى أصبحنا الحديث. وكان جابر إنما حضر في الليلة الثالثة والرابعة. ولان عمر جمع الناس على قيام شهر رمضان:
الرجال على أبي بن كعب، والنساء على سليمان بن أبي حثمة، رواه البيهقي. وكان وقد انقطع الناس عن فعلها جماعة في
المسجد إلى زمن عمر رضي الله تعالى عنه. وإنما صلاها (ص) بعد ذلك فرادى خشية الافتراض كما مر، وقد زال ذلك
المعنى. فإن قيل: كيف يقول (ص): خشيت أن تفرض عليكم مع قوله في حديث الاسراء: هن خمس وهن
خمسون - لا يبدل القول لدي - فكيف يقع الخوف من الزيادة؟ أجيب باحتمال أن يكون المخوف افتراض قيام الليل
بمعنى جعل التهجد في المسجد جماعة شرطا في صحة التنفل بالليل، ويومئ إليه قوله في حديث زيد بن ثابت: خشيت
أن تكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به فصلوا أيها الناس في بيوتكم فمنعهم من التجميع في المسجد إشفاقا عليهم من
اشتراطه وأمن مع أذنه في المواظبة على ذلك في بيوتهم من افتراضه عليهم. أو يكون المخوف افتراض قيام الليل على
الكفاية لا على الأعيان فلا يكون ذلك زائدا على الخمس. أو يكون المخوف افتراض قيام رمضان خاصة لأن ذلك كان
في رمضان، وعلى هذا يرتفع الاشكال لأن قيام رمضان لا يتكرر كل يوم في السنة فلا يكون ذلك قدرا زائدا على
الخمس وهي عشرون ركعة بعشر تسليمات في كل ليلة من رمضان، لما روى البيهقي بإسناد صحيح: أنهم كانوا يقومون
على عهد عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في شهر رمضان بعشرين ركعة، وروى مالك في الموطأ: بثلاث وعشرين
وجمع البيهقي بينهما بأنهم كانوا يوترون بثلاث، وما روي أنه (ص) صلى بهم عشرين ركعة كما قاله
الرافعي ضعفه البيهقي. وسميت كل أربع منها ترويحة لأنهم كانوا يتروحون عقبها: أي يستريحون. قال الحليمي: والسر
في كونها عشرين لأن الرواتب - أي المؤكدة - في غير رمضان عشر ركعات فضوعفت لأنه وقت جد وتشمير اه‍. ولأهل
المدينة الشريفة فعلها ستا وثلاثين لأن العشرين خمس ترويحات، فكان أهل مكة يطوفون بين كل ترويحتين سبعة أشواط،
فجعل أهل المدينة بدل كل أسبوع ترويحة ليساووهم. قال الشيخان: ولا يجوز ذلك لغيرهم لأن لأهلها شرفا بهجرته
وبدفنه (ص)، وهذا هو المعتمد خلافا للحليمي ومن تبعه. وفعلها بالقرآن في جميع الشهر أفضل من
تكرير سورة الاخلاص. ووقتها ما بين صلاة العشاء ولو تقديما وطلوع الفجر الثاني. قال في الروضة: ولا تصح بنية
226

مطلقة بل ينوي ركعتين من التراويح أو من قيام رمضان. ولو صلى أربعا بتسليمة لم تصح لأنه خلاف المشروع بخلاف
سنة الظهر والعصر كما أفتى به المصنف، والفرق بينهما أن التراويح لمشروعية الجماعة فيها أشبهت الفرائض فلا تغير عما
وردت، وأخذ شيخي من هذا أنه لو أخر سنة الظهر التي قبلها وصلاها بعدها كان له أن يجمعها مع سنته التي بعدها
بنية واحدة. (ولا حصر للنفل المطلق) وهو ما لا يتقيد بوقت ولا سبب، أي لا حصر لعدده ولا لعدد ركعاته. قال
(ص) لأبي ذر: الصلاة خير موضوع استكثر أو أقل رواه ابن ماجة. وروى أن ربيعة بن كعب قال: كنت
أخدم النبي (ص) وأقوم له في حوائجه نهاري أجمع، فإذا صلى عشاء الآخرة أجلس ببابه إذا دخل بيته لعله يحدث له
(ص) حاجة حتى تغلبني عيني فأرقد، فقال لي يوما: يا ربيعة سلني، فقلت: أنظر في أمري ثم أعلمك، قال: ففكرت في
نفسي وعلمت أن الدنيا زائلة ومنقطعة وأن لي فيها رزقا يأتيني، فقلت: يا رسول الله أسألك أن تشفع لي أن يعتقني الله
من النار وأن أكون رفيقك في الجنة، فقال: من أمرك بهذا يا ربيعة؟ قلت: ما أمرني به أحد، فصمت النبي
(ص) طويلا، ثم قال: إني فاعل ذلك فأعني على نفسك بكثرة السجود. فله أن يحرم بركعة وبمائة ركعة. (فإن
أحرم بأكثر من ركعة فله التشهد في) آخر صلاته، لأنه لو اقتصر عليه في الفريضة جاز. وفي (كل ركعتين)
وفي كل ثلاث وفي كل أربع أو أكثر كما في التحقيق والمجموع لأن ذلك معهود في الفرائض في الجملة (وفي كل ركعة)
لأن له أن يصلي ركعة فردة ويتحلل عنها كما مر، وإذا جاز له ذلك جاز القيام إلى الأخرى. (قلت: الصحيح منعه في
كل ركعة، والله أعلم) لأنه اختراع صورة في الصلاة لم تعهد، وإذا صلى بتشهد واحد قرأ السورة في الركعات كلها، وإن
صلى بتشهدين فأكثر قرأ في الركعات التي قبل التشهد الأول، والتشهد آخر الصلاة ركن كسائر التشهدات الأخيرة.
ولو أحرم مطلقا لم يكره له الاقتصار على ركعة في أحد وجهين يظهر ترجيحه، بل قال في المطلب: الذي يظهر استحبابه خروجا
من خلاف بعض أصحابنا وإن لم يخرج من خلاف أبي حنيفة من أنه يلزمه بالشروع ركعتان. (وإذا نوى)
قدرا في
النفل المطلق (عددا) أو ركعة (فله أن يزيد) على ما نواه (و) أن (ينقص) عنه في غير الركعة كما هو معلوم، ولعل هذا
هو الحامل للمصنف على التعبير بالعدد، إذ الركعة لا تدخل في كلامه لأن الواحدة لا تسمى عددا، إذ العدد عند جمهور
الحساب ما ساوى نصف مجموع حاشيتيه القريبتين أو البعيدتين على السواء، نعم العدد عند النحاة ما وضع لكمية الشئ
فالواحد عندهم عدد فيدخل فيه الركعة. وإنما يجوز له ذلك (بشرط تغيير النية قبلهما) أي الزيادة والنقصان إذ لا
حصر للنفل المطلق كما مر. نعم المتيمم إذ رأى الماء في أثناء عدد نواه ليس له زيادة كما علم في باب التيمم. (وإلا)
أي وإن لم يغير النية قبلهما، (فتبطل) الصلاة بذلك لأن الزيادة التي أتى بها لم تشملها نيته. (فلو نوى ركعتين) مثلا
(ثم قام إلى) ركعة (ثالثة سهوا) ثم تذكر، (فالأصح أنه يقعد ثم يقوم للزيادة إن شاء) الزيادة ثم يسجد للسهو
في آخر صلاته الزيادة القيام، والثاني: لا يحتاج إلى القعود في إرادة الزيادة، بل يمضي فيها كما لو نواها قبل القيام، وإن لم
يشأ الزيادة قعد وتشهد وسجد للسهو وسلم. أما النفل غير المطلق كالوتر فليس له أن يزيد أو ينقص عما نواه. (قلت: نفل
الليل) أي صلاة النفل المطلق فيه (أفضل) من صلاة النفل المطلق في النهار، لخبر مسلم: أفضل الصلاة بعد الفريضة
صلاة الليل وفي رواية له إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرا من أمر الدنيا والآخرة إلا
أعطاه إياه وذلك كل ليلة. ولان الليل محل الغفلة. وإنما قيدت النفل بالمطلق تبعا للشارح، مع أن مقتضى الحديث
والمعنى تفضيل رواتب الليل على رواتب النهار لتفضيلهم ركعتي الفجر على ما عدا الوتر. (وأوسطه أفضل) من طرفيه إذا
227

قسمه أثلاثا لأن الغفلة فيه أكثر والعبادة فيه أثقل، فإن أراد القيام في ثلث ما فالأفضل السدس الرابع والخامس لحديث
الصحيحين: أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه. (ثم آخره)
أفضل من أوله إن قسمه نصفين لقوله تعالى: * (وبالاسحار هم يستغفرون) * ولخبر الشيخين: ينزل ربنا تبارك وتعالى
أي ينزل أمره إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه،
ومن يستغفرني فأغفر له. (و) يستحب في النفل المطلق (أن يسلم من ركعتين) ليلا كان أو نهارا نواهما أو أطلق،
لحديث الصحيحين: صلاة الليل مثنى مثنى وفي السنن الأربعة: صلاة الليل والنهار مثنى مثنى وصححه ابن حبان
وغيره. والمراد بمثنى مثنى أن يسلم من كل ركعتين لأنه لا يقال في الظهر مثلا مثنى مثنى أما التنفل بالأوتار فلا يستحب. (ويسن
التهجد) لمواظبته (ص) عليه، ولقوله تعالى: * (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) *، وقوله تعالى: * (كانوا قليلا من الليل
ما يهجعون) *. وهو لغة: دفع النوم بالتكلف، والهجود: النوم، يقال هجد: إذا نام، وتهجد: إذا أزال النوم بالتكلف،
واصطلاحا: صلاة التطوع في الليل بعد النوم كما قاله القاضي حسين، سمي بذلك لما فيه من ترك النوم، فهو من باب قصر
العام على بعض أفراده. ويسن للمتهجد القيلولة، وهو النوم قبل الزوال، وهو بمنزلة السحور للصائم لقوله
(ص): استعينوا بالقيلولة على قيام الليل رواه أبو داود وابن ماجة.
فائدة: ذكر أبو الوليد النيسابوري أن المتهجد يشفع في أهل بيته، وروي أن الجنيد رؤي في النوم، فقيل له:
ما فعل الله بك؟ فقال: طاحت تلك الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم، وما
نفعنا إلا ركعات كنا نركعها عند السحر. (ويكره) قيام بليل يضر، ومن ذلك (قيام كل الليل دائما) لقوله
(ص) لعبد الله بن عمرو بن العاص: ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ فقال: بلى يا رسول الله، فقال: لا تفعل صم
وأفطر وقم ونم فإن لجسدك عليك حقا إلى آخر الحديث رواه الشيخان، ولأنه يضر البدن، إذ لا يمكنه نوم النهار لما
فيه من تفويت مصالحه الدينية والدنيوية، وبذلك فارق عدم كراهة صوم الدهر غير أيام النهي إذ يمكنه أن يستوفي
بالليل ما فاته من أكل النهار. وبما قررته سقط ما قيل إن التقييد بكل الليل ظاهره انتفاء الكراهة بترك ما بين المغرب
والعشاء، وفيه نظر، والمتجه تعلقها بالقدر المضر ولو بعض الليل وكلام المجموع يقتضيه اه‍. أما من لا يضره ذلك فلا يكره
في حقه. وقال المحب الطبري: إن لم يجد بذلك مشقة استحب له لا سيما المتلذذ بمناجاة الله تعالى، وإن وجد نظر إن خشي
منها محذورا كره وإلا فلا، ورفقه بنفسه أولى. واحترز بقوله دائما عن إحياء بعض الليالي كالعشر الأخير من رمضان
وليلتي العيد، فيندب إحياؤهما كما سيأتي للاتباع. (و) يكره (تخصيص ليلة الجمعة بقيام) بصلاة لخبر مسلم
: لا تخصوا
ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، أما إحياؤها بغير صلاة فلا يكره كما قاله شيخي خصوصا بالصلاة والسلام على رسول
الله (ص) فإن ذلك مطلوب فيها. وظاهر الحديث وكلام المصنف يفهم أنه لا يكره إحياؤها مضمومة إلى ما قبلها
أو بعدها، وهو نظير ما ذكروه في صوم يومها وهو كذلك. وحمل على ذلك قول الاحياء: يستحب إحياؤها. وظاهر
تخصيصهم ليلة الجمعة أنه لا يكره تخصيص غيرها وهو كذلك، وإن قال الأذرعي فيه وقفة. (و) يكره (ترك تهجد اعتاده)
بلا عذر، (والله أعلم) لقوله (ص) لعبد الله بن عمرو بن العاص: يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم
الليل ثم تركه رواه الشيخان. قال في المجموع: وينبغي أن لا يخل بصلاة الليل وإن قلت.
خاتمة: يسن أن يفصل بين سنة الفجر والفريضة باضطجاع على يمينه للاتباع، فإن لم يفصل باضطجاع فبحديث
أو تحول من مكان أو نحو ذلك. وظاهر كلامهم أنه مخير في ذلك، وإن كان الاضطجاع أفضل، وإن اختار في المجموع
إنه لا يكفي غير الاضطجاع إلا عند العذر، وأن يقرأ في أولى ركعتين الفجر والمغرب والاستخارة وتحية المسجد: * (قل
يا أيها الكافرون) * وفي الثانية الاخلاص، أو يقرأ في سنة الصبح في الأولى: * (قولوا آمنا بالله) * الآية، وفي الثانية:
228

* (قل يا أهل الكتاب تعالوا) * الآية. وأن يوقظ من يطمع في تهجده ليتهجد، فاستحباب إيقاظ النائم للراتبة أولى،
قال تعالى: * (وتعاونوا على البر والتقوى) *، وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان النبي (ص) يصلي صلاته من الليل
وأنا معترضة بين يديه فإذا بقي الوتر أيقظني فأوتر. هذا إن لم يخف ضررا وإلا فلا يستحب ذلك بل يحرم. قال في المجموع
ويستحب أن ينوي الشخص القيام عند النوم، وأن يمسح المستيقظ النوم عن وجهه، وأن ينظر إلى السماء وأن يقرأ:
* (إن في خلق السماوات والأرض) * إلى آخرها، وأن يفتتح تهجده بركعتين خفيفتين. والسنة أن يتوسط في نوافل
الليل المطلقة بين الجهر والاسرار، وإطالة القيام فيها أفضل من تكثير عدد الركعات، وأن ينام من نعس في صلاته حتى
يذهب نومه ولا يعتاد منه غير ما يظن إدامته عليه. ويتأكد إكثار الدعاء والاستغفار في جميع ساعات الليل، وفي النصف
الأخير آكد، وعند السحر أفضل.
كتاب صلاة الجماعة
الأصل فيها قبل الاجماع قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) * الآية. أمر بها في الخوف ففي الامن
أولى، والاخبار كخبر الصحيحين: صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة وفي رواية: بخمس
وعشرين درجة قال في المجموع: ولا منافاة لأن القليل لا ينفي الكثير، أو أنه أخبر أولا بالقليل ثم أعلمه الله تعالى بزيادة
الفضل فأخبر بها، أو أن ذلك يختلف باختلاف أحوال المصلين. ومكث (ص) مدة مقامه بمكة ثلاث عشرة
سنة يصلي بغير جماعة لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا مقهورين يصلون في بيوتهم، فلما هاجر إلى المدينة أقام
الجماعة وواظب عليها وانعقد الاجماع عليها. وفي الاحياء عن أبي سليمان الداراني أنه قال: لا يفوت أحد صلاة الجماعة إلا
بذنب أذنبه، قال: وكان السلف يعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى وسبعة أيام إذا فاتتهم الجماعة. وأقلها إمام
ومأموم، وسيأتي ما يدل على ذلك في مسألة الإعادة، وذكر في المجموع في باب هيئة الجمعة أن من صلى في عشرة آلاف له
سبع وعشرون درجة ومن صلى مع اثنين له ذلك لكن درجات الأول أكمل. (هي) أي الجماعة، (في الفرائض) أي المكتوبات،
(غير الجمعة سنة مؤكدة) ولو للنساء للأحاديث السالفة. وأما الجمعة فالجماعة فيها فرض عين كما سيأتي في بابها إن شاء
الله تعالى، وقوله غير بالنصب بمعنى إلا أعربت إعراب المستثنى وأضيفت إليه كما هو مذكور في علم النحو. (وقيل) هي
(فرض كفاية للرجال) لقوله (ص): ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الجماعة إلا استحوذ عليهم الشيطان - أي
غلب - فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية رواه أبو داود والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم. (فتجب
بحيث يظهر الشعار) أي شعار الجماعة بإقامتها بمحل (في القرية) الصغيرة وفي الكبيرة والبلد بمحال يظهر بها الشعار
ويسقط الطلب بطائفة، وإن قلت فلو أطبقوا على إقامتها في البيوت ولم يظهر بها شعار لم يسقط الفرض. (فإن امتنعوا
كلهم) من إقامتها على ما ذكر (قوتلوا) أي قاتلهم الإمام أو نائبه دون آحاد الناس، وهكذا لو تركها أهل محلة في القرية
الكبيرة أو البلد، وعلى السنة لا يقاتلون على الأصح. (ولا يتأكد الندب للنساء تأكده للرجال في الأصح)
لمزيتهم
عليهن، قال تعالى: * (وللرجال عليهن درجة) *، والثاني: نعم، لعموم الأدلة، فيكره تركها للرجال دون النساء على الأول
وليست في حقهن فرضا جزما. (قلت: الأصح المنصوص أنها فرض كفاية) لرجال أحرار مقيمين لا عراة في أداء مكتوبة،
229

لخبر أبي داود والنسائي السابق فلا تجب على النساء كما مر، ومثلهن الخناثى، ولا على من فيه رق لاشتغالهم بخدمة السادة،
ولا على المسافرين كما جزم به في التحقيق، وإن نقل السبكي وغيره عن نص الام أنها تجب عليهم أيضا، ولا على
العراة بل هي والانفراد في حقهم سواء إلا أن يكونوا عميا أو في ظلمة فتستحب لهم، ولا في مقضية خلف مقضية
من نوعها بل تسن، أما مقضية خلف مؤداة أو بالعكس أو خلف مقضية ليست من نوعها فلا تسن، ولا في منذورة بل
ولا تسن. وليست الجماعة فرض عين لخبر الصحيحين السابق أول الباب فإن المفاضلة تقتضي جواز الانفراد، وأهل البوادي
الساكنين بها كغيرهم بخلاف الناجعين لرعي ونحوه. (وقيل) هي (فرض عين) عند اجتماع هذه الشروط، وليست
بشرط في صحة الصلاة كما في المجموع (والله أعلم) لحديث: لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلا فيصلي
بالناس، ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار رواه
الشيخان. وأجيب بأنه بدليل السياق ورد في قوم منافقين يتخلفون عن الجماعة ولا يصلون، وبأنه (ص) لم
يحرقهم وإنما هم بتحريقهم. فإن قلت: لو لم يجز تحريقهم لما هم به. أجيب بلعله هم بالاجتهاد ثم نزل وحي بالمنع أو تغير
الاجتهاد، ذكره في المجموع. وبما تقرر علم ما في كلام المصنف من الاجحاف. (و) الجماعة (في المسجد لغير المرأة) ومثلها
الخنثى، (أفضل) منها في غير المسجد كالبيت وجماعة المرأة، والخنثى في البيت أفضل منها في المسجد لخبر الصحيحين: صلوا
أيها الناس في بيوتكم فإن أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة أي فهي في المسجد أفضل، لأن المسجد مشتمل
على الشرف والطهارة وإظهار الشعائر وكثرة الجماعة، وقال (ص): لا تمنعوا نساءكم المساجد، وبيوتهن خير
لهن رواه أبو داود وصححه الحاكم على شرط الشيخين. ومثل النساء الخناثى. ويكره لذوات الهيئات حضور المسجد مع
الرجال، ويكره للزوج والسيد والولي تمكينهن منه، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها: لو أن رسول الله
(ص) رأى ما أحدث النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل ولخوف الفتنة، أما غيرهن فلا يكره لهن ذلك.
ويندب لمن ذكر إذا استأذنه أن يأذن لهن إذا أمن المفسدة لخبر مسلم: إذا استأذنتكم نساؤكم بالليل إلى المسجد
فأذنوا لهن. فإن لم يكن لهن زوج أو سيد أو ولي ووجدت شروط الحضور حرم المنع. قال في المجموع: قال الشافعي
والأصحاب: ويؤمر الصبي بحضور المساجد وجماعات الصلاة ليعتادها، وتحصل فضيلة الجماعة للشخص بصلاته في
بيته أو نحوه بزوجة أو ولد أو رقيق أو غير ذلك، وأقلها اثنان كما مر. (وما كثر جمعه) من المساجد كما قاله الماوردي
(أفضل) مما قل جمعه منها، وكذا ما كثر جمعه من البيوت أفضل مما قل جمعه منها، أي فالصلاة في الجماعة الكثيرة
أفضل من الصلاة في الجماعة القليلة فيما ذكر. قال (ص): صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده،
وصلاته مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كان أكثر فهو أحب إلى الله تعالى رواه أبو داود وغيره وصححه
ابن حبان وغيره. وقضية كلام الماوردي أن قليل الجمع في المسجد أفضل من كثيره في البيت وهو كذلك، وإن نازع
في ذلك الأذرعي بالقاعدة المشهورة وهي أن المحافظة على الفضيلة المتعلقة بالعبادة أولى من المحافظة على الفضيلة المتعلقة
بمكانها، لأن أصل الجماعة وجد في الموضعين وامتازت هذه بالمسجد فمحل القاعدة المذكورة ما لم تشاركها الأخرى
كان يصلى في البيت جماعة وفي المسجد منفردا. نعم لو كان إذا ذهب إلى المسجد وترك أهل بيته لصلوا فرادى أو لتهاونوا
أو بعضهم في الصلاة، أو لو صلى في بيته لصلى جماعة وإذا صلى في المسجد صلى وحده فصلاته في بيته أفضل. والصلاة
في المساجد الثلاثة وإن قلت الجماعة فيها أفضل منها في غيرها وإن كثرت، بل قال المتولي: الانفراد فيها أفضل من
الجماعة في غيرها. قال الأذرعي: وتنازع فيه القاعدة السابقة، وربما يقال القاعدة المذكورة أغلبية. وأفتى الغزالي
أنه لو كان إذا صلى منفردا خشع ولو صلى في جماعة لم يخشع، فالانفراد أفضل، وتبعه ابن عبد السلام، قال الزركشي:
والمختار بل الصواب خلاف ما قالاه، وهو كما قال. (إلا لبدعة إمام) كمعتزلي وقدري ورافضي، أو كان فاسقا غير مبتدع،
230

أو كان لا يعتقد وجوب بعض الأركان أو الشروط من حنفي أو غيره، (أو تعطل مسجد قريب) أو بعيد (لغيبته) عنه
لكونه إمامه أو يحضر الناس بحضوره، فقليل الجمع أفضل من كثيره في ذلك، بل الانفراد كذلك في الأولى كما قاله
الروياني ونقله في أصل الروضة عن أبي إسحاق المروزي، لكن في مسألة الحنفي فقط ومثلها البقية بل أولى، لكن
قال السبكي: كلامهم يشعر بأن الصلاة مع هؤلاء أفضل من الانفراد. وبه جزم الدميري واعتمده شيخي، ولتكثير
الجماعات في المساجد في الثانية في المتن. ويؤخذ من هذا التعليل أنه لا فرق في المسجد بين القريب والبعيد كما زدته ونبه
عليه شيخنا. ويستثنى أيضا صور قليل الجمع فيها أولى منها ما لو كان قليل الجمع يبادر إمامه بالصلاة في أول الوقت
المحبوب فإن الصلاة معه أول الوقت أولى كما قاله في المجموع. ومنها ما لو كان الإمام سريع القراءة والمأموم بطيئها لا يدرك
معه الفاتحة، قال الغزالي: فالأولى أن يصلي خلف إمام بطئ القراءة. ومنها ما لو كان قليل الجمع ليس في أرضه شبهة
وكثير الجمع بخلافه لاستيلاء ظالم عليه فالسالم من ذلك أولى، فإن استوى المسجدان في الجماعة فالأقرب مسافة لحرمة
الجوار ثم انتفت فيه الشبهة من مال بانيه وواقفه ثم يتخير. نعم إن سمع النداء مترتبا فينبغي كما قال الأذرعي أن يكون
ذهابه إلى الأول أفضل لأن مؤذنه دعاه أولا. (وإدراك تكبيرة الاحرام) مع الإمام (فضيلة) لحديث رواه الترمذي عن
أنس أن النبي (ص) قال: من صلى لله أربعين يوما في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتب له براءتان: براءة من النار، وبراءة
من النفاق وهذا الحديث منقطع لكنه من الفضائل فيتسامح فيه، وروي: لكل شئ صفوة، وصفوة الصلاة
التكبيرة الأولى، فحافظوا عليها رواه البزار من حديث أبي هريرة وأبي الدرداء مرفوعا. (وإنما تحصل بالاشتغال بالتحرم
عقب تحرم إمامه) مع حضوره تكبيرة إحرامه، لحديث الشيخين: إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا والفاء
للتعقيب فإبطاؤه بالمتابعة لوسوسة غير ظاهرة كما في المجموع عذر بلا خلاف ما لو أبطأ لغير وسوسة ولو لمصلحة الصلاة
كالطهارة أو لم يحضر تكبيرة إحرام إمامه، أو لوسوسة ظاهرة، وهذا موافق لقولهم إن الوسوسة في القراءة غير عذر
في التخلف بتمام ركنين فعليين لطول زمنها. (وقيل) تحصل (بإدراك بعض القيام) لأنه محل التكبيرة الأولى. (وقيل
بأول ركوع) لأن حكمه حكم قيامهما بدليل إدراك الركعة بإدراكه مع الإمام، وهذان الوجهان فيمن لم يحضر إحرام
الإمام، فأما من حضره وأخر فقد فاتته فضيلة التكبيرة وإن أدرك الركعة، حكاه في زيادة الروضة عن البسيط وأقره.
ولو خاف فوت التكبيرة لو لم يسرع لم يندب له الاسراع، بل يمشي بسكينة كما لو لم يخف فوتها لخبر الصحيحين: إذا
أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا نعم
لو ضاق الوقت وخشي فواته فليسرع كما لو خشي فوت الجمعة، وكذا لو امتد الوقت وكانت لا تقوم إلا به ولو لم يسرع
لتعطلت. قاله الأذرعي: أما لو خاف فوات الجماعة فالمنقول كما في المجموع وغيره أنه لا يسرع، وإن كانت قضية كلام
الرافعي وغيره أنه يسرع. (والأصح إدراك) فضيلة (الجماعة ما لم يسلم) الإمام وإن لم يقعد معه بأن انتهى سلامه عقب
تحرمه، وإن بدأ بالسلام قبله كما صرح به بعض المتأخرين لادراكه ركنا معه، لكنه دون فضل من يدركها من أولها
ولأنه لم يدرك فضلها بذلك لمنع من الاقتداء لأنه يكون حينئذ زيادة بلا فائدة، ولا يخفى أن محل ذلك كما قال الزركشي
في غير الجمعة فإنها لا تدرك إلا بركعة كما سيأتي. أما إذا سلم مع تحرمه بأن انتهى تحرم المأموم مع انتهاء سلام الإمام
فلا تحصل له الجماعة بل تنعقد صلاته فرادى كما يؤخذ من كلام الأسنوي.
فرع: دخل جماعة المسجد والإمام في التشهد الأخير فعند القاضي حسين يستحب لهم الاقتداء به ولا يؤخرون
الصلاة جماعة ثانية، وجزم المتولي بخلافه، وكلام القاضي في موضع آخر يوافقه هو المعتمد، بل الأفضل للشخص إذا سبق
ببعض الصلاة في الجماعة، ورجا جماعة أخرى يدرك معها الصلاة جميعها في الوقت التأخير ليدركها بتمامها معها، وهذا
231

إذا اقتصر على صلاة واحدة وإلا فالأفضل له أن يصليها مع هؤلاء ثم يعيدها مع الآخرين. (وليخفف الإمام) ندبا بالصلاة
(مع فعل الابعاض والهيئات) أي السنن غير الابعاض لقوله (ص): إذا أم أحدكم الناس فليخفف فإن فيهم
الكبير
والصغير والضعيف وذا الحاجة، وإذا صلى أحدكم لنفسه فليطل ما شاء رواه الشيخان. قال في المجموع نقلا عن
الشافعي والأصحاب بأن يخفف القراءة والأذكار بحيث لا يقتصر على الأقل، ولا يستوفي الأكمل المستحب للمنفرد من
طوال المفصل وأوساطه وأذكار الركوع والسجود. ويكره التطويل كما نص عليه في الام (إلا أن يرضى بتطويله
محصورون) أي لا يصلي وراءه غيرهم وهم أحرار غير أجراء إجارة عين، فيسن له التطويل كما في المجموع عن جماعة،
وعليه يحمل ما وقع من فعله (ص) في بعض الأوقات. واستحباب التطويل في هذه الحالة لا يفهم من عبارة المصنف لأنها
تصدق باستواء الطرفين، فإن جهل حالهم أو اختلفوا لم يطول، قال ابن الصلاح: إلا إن قل من لم يرض كواحد أو اثنين
ونحوهما لمرض ونحوه، فإن كان ذلك مرة أو نحوها خفف، وإن كثر حضوره طول مراعاة لحق الراضين ولا يفوت
حقهم لهذا الفرد الملازم، قال في المجموع: وهو حسن متعين. قال الأذرعي تبعا للسبكي: وفيه نظر لتخفيفه (ص) لبكاء
الصبي ولانكاره على معاذ التطويل لما شكاه الرجل الواحد. ورد النظر بأن قضية بكاء الصبي وقضية معاذ لم يكثرا
فلا ينافي ذلك كلام ابن الصلاح، نبه على ذلك الغزي. أما الأرقاء والاجراء إجارة عين فلا عبرة برضاهم بالتطويل
إذ ليس لهم التطويل على قدر صلاتهم منفردين بغير إذن فيه من أرباب الحقوق، نبه على ذلك الأذرعي.
تنبيه: قوله: إلا أن يرضى بتطويله محصورون يفهم أنه متى رضي محصورون وإن كانوا بعض القوم أنه يندب
التطويل وليس مرادا، ولذا قلت: لا يصلي وراءه غيرهم. (ويكره التطويل ليلحق آخرون) سواء أكان عادتهم الحضور
أم لا، أو رجل شريف كما في المحرر وغيره، للاضرار بالحاضرين ولتقصير المتأخرين. ولان في عدم انتظارهم حثا لهم على
المبادرة إلى فضيلة تكبيرة الاحرام. ولا يشكل ذلك بتصريحهم باستحباب تطويل الركعة الأولى على الثانية، لأن ذلك
إنما هو في تطويل زائد على هيئات الصلاة، ومعلوم أن تطويل الأولى على الثانية من هيئاتها، فلو لم يدخل الإمام في
الصلاة، وقد جاء وقت الدخول وحضر بعض القوم ورجوا زيادة ندب له أن يعجل ولا ينتظرهم لأن الصلاة
أول الوقت
بجماعة قليلة أفضل منها آخره بجماعة كثيرة، قاله في المجموع. والمراد بآخره بعد الأول لأنه يحصل فضيلة أول الوقت،
وقد مرت الإشارة إلى ذلك عند قول المصنف: وما كثر جمعه أفضل، قال: فلو أقيمت الصلاة، قال الماوردي: لم يحل
للإمام ان ينتظر من لم يحضر، ولا يختلف المذهب فيه: أي لا يحل حلا مستوى الطرفين، بل يكره كراهة تنزيه، نبه
على ذلك شيخي. (ولو أحس في الركوع) غير الثاني من صلاة الخسوف (أو التشهد الأخير بداخل) محل الصلاة
يأتم به (لم يكره) له (انتظاره) بل يباح (في الأظهر) من أقوال أربعة ملفقة من طرق ثمانية، (إن لم يبالغ فيه)
أي في الانتظار بأن يطوله تطويلا لو وزع على جميع الصلاة لظهر أثره، نقله الرافعي عن الإمام وأقره. (ولم يفرق) بضم
الراء، (بين الداخلين) بانتظار بعضهم لصداقة أو شرف أو سيادة أو نحو ذلك دون بعض، بل يسوى بينهم في الانتظار
لله تعالى لا للتودد إليهم واستمالة قلوبهم. (قلت: المذهب استحباب انتظاره) بالشروط المذكورة، وهو القول الثاني، (والله
أعلم) إعانة لهم على إدراك الركعة في المسألة الأولى وفضل الجماعة في الثانية. والقول الثالث: أنه مكروه، كما لو طول أو فرق
والقول. الرابع: أنه مبطل للصلاة مطلقا. (ولا ينتظر في غيرهما) أي الركوع والتشهد الأخير من قيام وغيره. أما إذا أحس
بخارج عن محل الصلاة، أو لم يكن انتظاره لله تعالى، أو بالغ في الانتظار، أو فرق بين الداخلين، أو انتظره في غير
الركوع والتشهد الأخير، كأن انتظره في الركوع الثاني من صلاة الخوف، فلا يستحب قطعا بل يكره الانتظار في غير الركوع
232

والتشهد الأخير. وأما إذا خالف في غير ذلك فهو خلاف الأولى لا مكروه، نبه على ذلك شيخي، ونقل في الكفاية الاتفاق
على بطلانها إذا قصد غير وجه الله تعالى، وعلله بالتشريك مردود بأنه سبق قلم. ويستثنى من استحباب الانتظار صور
منها ما إذا خشي خروج الوقت بالانتظار، ومنها ما إذا كان الداخل لا يعتقد إدراك الركعة أو فضيلة الجماعة بإدراك
ما ذكر إذ لا فائدة في الانتظار، ومنها ما إذا كان الداخل يعتاد البطء وتأخير التحرم إلى الركوع، ومنها ما إذا كانت صلاة
المأموم يجب عليه إعادتها كفاقد الطهورين بناء على أن صلاة المحدث في جماعة كلا جماعة، والمتجه في هذه استحباب
انتظاره لأن الركعة تحسب عن المأموم في إسقاط حرمة الوقت.
فرع: وجد مصليا جالسا وشك هل هو في التشهد أو القيام لعجزه فهل له أن يقتدي به أو لا؟ وكذا لو رآه في وقت
الكسوف وشك في أنه كسوف أو غيره؟ قال الزركشي: المتجه عدم الصحة.
تنبيه: الضمير في قول المصنف: ولو أحس يعود على الإمام لتقدم ذكره، ويحتمل عوده على المصلي للعلم به ليشمل
المنفرد بل هو أولى بالانتظار من الإمام لاحتياجه إلى تحصيل الجماعة، ولم ينصوا على حكمه، وينبغي أن لا يشترط فيه
عدم التطويل إذ ليس وراءه من يتضرر بتطويله. وقوله: أحس هي اللغة المشهورة، قال الله تعالى: هل تحس منهم من
أحد) * وفي لغة غريبة بلا همز. (ويسن للمصلي) صلاة مكتوبة مؤداة (وحده، وكذا جماعة في الأصح إعادتها) مرة
فقط، (مع جماعة يدركها) في الوقت، ولو كان الوقت وقت كراهة أو كان إمام الثانية مفضولا، لأنه (ص)
صلى الصبح فرأى رجلين لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: صلينا في رحالنا، فقال: إذا صليتما في رحالكما
ثم أتيتما مسجد جماعة فصلياها معهم فإنها لكما نافلة وقال: وقد جاء بعد صلاته العصر رجل إلى المسجد فقال: من يتصدق على هذا
فيصلي معه؟ فصلى معه رجل، رواهما الترمذي وحسنهما. وقوله: صليتما يصدق بالانفراد والجماعة ومقابل الأصح يقصره
على الانفراد نظرا إلى أن المصلي في جماعة حصل فضيلة الجماعة فلا معنى للإعادة بخلاف المنفرد وجوابه منع ذلك.
تنبيه: قول المصنف: مع جماعة يفهم أنه لا يستحب أن يعيدها مع منفرد، وليس مرادا، بل يستحب إعادتها
معه جزما ولو كان صلى أولا في جماعة، وقد يستحب إعادتها منفردا فيما لو تلبس بفرض الوقت ثم تذكر أن عليه فائتة
فإنه يتم صلاته ثم يصلي الفائتة، ويستحب أن يعيد الحاضرة كما قاله القاضي حسين. وخرج بالمكتوبة المنذورة إذ لا تسن
فيها الجماعة كما مر. وصلاة الجنازة إذ لا يتنفل بها كما سيأتي، والنافلة التي لا تسن الجماعة فيها. أما ما تسن فيها فالقياس
كما في المهمات أنها كالفرض في سن الإعادة. وأما صلاة الجمعة فلا تعاد لأنها لا تقام مرة بعد أخرى، فإن فرض الجواز
لعسر الاجتماع فالقياس كما في المهمات أنها كغيرها. وكذا لو صلى بمكان ثم سافر إلى مكان آخر فوجدهم
يصلونها كان الحكم
كذلك، ومحل سن الإعادة لمن لو اقتصر عليها لأجزأته بخلاف المتيمم لبرد أو لفقد ماء بمحل يغلب فيه وجود الماء. واستثنى
الأذرعي مسألتين أيضا: إحداهما ما إذا كان الانفراد له أفضل كالعاري، الثانية: ما لو صلى معذور الظهر يوم الجمعة ثم
أدرك معذورين يصلون الظهر، قال: فيحتمل أن لا يعيد اه‍. والأولى في هذه الإعادة، وإنما تستحب إذا كان الإمام ممن
لا يكره الاقتداء به. وما تقرر من أن الإعادة لا تستحب إلا مرة واحدة هو ما أشار إليه الإمام، وقوة كلام غيره ترشد
إليه، ونص عليه الشافعي في مختصر المزني، وهو المعتمد خلافا لبعض المتأخرين. قال في المهمات: وتصويرهم بأن الإعادة
إنما تسن إذا حضر في الثانية من لم يحضر في الأولى، وهو ظاهر، وإلا لزم استغراق ذلك الوقت اه‍. وقضية كلام المجموع
وغيره عدم اعتبار ما ذكر، وينتفي اللازم بما مر عن الإمام.
تنبيه: مراد المصنف بالإعادة الإعادة اللغوية لا الاصطلاحية، وهي التي سبقت بأداء مختل. ومحل استحباب
الإعادة إذا كان الوقت باقيا، فأما بعد فواته فلا تسن قطعا، قاله صاحب المعين تبعا لصاحب المذاكرة. (وفرضه) في الصورتين
(الأولى في الجديد) للحديث السابق ولسقوط الخطاب بها والقديم ونص عليه في الاملاء أيضا أن الفرض إحداهما
ويحتسب الله تعالى ما شاء منهما، وقيل: الفرض كلاهما، والأولى مسقطة للحرج لا مانعة من وقوع الثانية فرضا، كصلاة
233

الجنازة إذا صلت طائفة سقط الحرج عن الباقين، فإذا صلت طائفة أخرى وقعت فرضا أيضا، وهكذا فروض الكفاية
كلها. وقيل: الفرض أكملها، وإنما يكون فرضه الأولى إذا أغنت عن القضاء وإلا ففرضه الثانية المغنية عنه على المذهب.
(والأصح) على الجديد (أنه ينوي بالثانية الفرض) ليحصل له ثواب الجماعة في فرض وقته حتى يكون كمن صلاها أولا
في جماعة، واستشكله الإمام بأنه كيف ينوي الفرضية مع القطع بأن الثانية ليست فرضا. قال: بل الوجه أنه ينوي الظهر
أو العصر ولا يتعرض للفرضية ويكون ظهره نفلا كظهر الصبي. وأجاب عنه السبكي بأن المراد أنه ينوي إعادة الصلاة
المفروضة حتى لا تكون نفلا مبتدأ لإعادتها فرضا. وقال الرازي: ينوي ما هو فرض على المكلف لا الفرض عليه كما
في صلاة الصبي. ورجح في الروضة ما اختاره الإمام. وجمع شيخي بين ما في الكتاب وما في الروضة بأن ما في الكتاب
إنما هو لأجل محل الخلاف، وهو هل فرضه الأولى أو الثانية أو يحتسب الله ما شاء منهما؟ وما في الروضة على القول
الصحيح، وهو أن فرضه الأولى والثانية نفل فلا يشترط فيها نية الفرضية، وهذا جمع حسن. قال في الروضة: ويستحب
لمن صلى إذا رأى من يصلي تلك الفريضة وحده أن يصليها معه ليحصل له فضيلة الجماعة، وهذا استدل عليه في المجموع
بحديث الترمذي السابق. قال المصنف في شرح الحديث المذكور: فيه استحباب إعادة الصلاة في جماعة لمن صلاها في
جماعة وإن كانت الثانية أقل من الأولى، وأنه يستحب الشفاعة إلى من يصلي مع الحاضر ممن له عذر في عدم الصلاة معه،
وأن الجماعة تحصل بإمام ومأموم، وأن المسجد المطروق لا يكره فيه جماعة بعد جماعة. ولو تذكر على الجديد خللا
في الأولى وجبت الإعادة كما نقله المصنف في رؤوس المسائل عن القاضي أبي الطيب وأقره معللا بأن الثانية تطوع محض.
وما أفتى به الغزالي وترجاه السبكي من عدم وجوب الإعادة يحمل على أن الفرض إحداهما لا بعينها. (ولا رخصة في تركها)
أي الجماعة (وإن قلنا) هي (سنة) لتأكدها (إلا بعذر) لخبر: من سمع النداء فلم يأته فلا صلاة له - أي كاملة - إلا من عذر
رواه ابن ماجة وصححه ابن حبان والحاكم على شرط الشيخين. فإن قيل: السنة يجوز تركها من غير عذر، فكيف يقال
لا رخصة في تركها وإن قلنا سنة إلا بعذر؟ أجيب: القصد تهوين أمر الجماعة مع العذر، ولذلك فوائد: منها أنا
إذا قلنا سنة قوتل تاركها على وجه لا يأتي مع العذر بل لا يقاتل قطعا. ومنها أنه لا ترد شهادة المداوم على تركها لعذر بخلاف
المداوم على تركها بغير عذر. ومنها أن الإمام إذا أمر الناس بالجماعة وجبت إلا عند قيام الرخصة فلا يجب عليهم طاعته
لقيام العذر. والرخصة بسكون الخاء ويجوز ضمها لغة: التيسير والتسهيل، واصطلاحا: الحكم الثابت على خلاف
الدليل لعذر. (عام كمطر) أو ثلج يبل الثوب ليلا كان أو نهارا لما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة عن ابن أبي المليح عن
أبيه قال: كنا مع النبي (ص) زمن الحديبية فأصابنا مطر لم يبل أسفل نعالنا فنادى منادي رسول
الله (ص): صلوا في رحالكم. ويشترط حصول مشقة بالخروج مع المطر كما صرح به الرافعي في الكلام على المرض،
فلا يعذر بالخفيف ولا بالشديد إذا كان يمشي في كن. ولو تقطر المطر من سقوف الأسواق كان عذرا في الجمعة والجماعات
لأن الغالب فيه النجاسة كما في الكفاية عن القاضي حسين. (أو ريح عاصف) أي شديدة (بالليل) لما روي أن ابن عمر رضي
الله تعالى عنهما أذن بالصلاة في ليلة ذات برد وريح، فقال: ألا صلوا في الرحال، ثم قال: إن رسول الله
(ص) كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر: ألا صلوا في رحالكم متفق عليه، وفي رواية كان يأمر مناديه في
الليلة الممطرة والليلة الباردة ذات الريح أن يقول: ألا صلوا في رحالكم رواه الشافعي، ولعظم المشقة فيه. وقضية هذا
أنه لا فرق بين أن تكون باردة أم لا، وعبر في المهذب بالباردة، وجمع الماوردي بينهما. قال في المهمات: والظاهر أن
الريح الشديدة وحدها عذر بالليل. وإنما عبر من عبر بالباردة لكونه الغالب، وقد صرح باختياره الطبري في شرح
التنبيه، فقال: المختار أن كلا من الظلمة والبرد والريح الشديدة عذر بالليل اه‍، وهذا هو الظاهر، وخرج بذلك الريح
الخفيفة ليلا والشديدة نهارا. نعم المتجه كما قال الأسنوي أن وقت الصبح كالليل لأن المشقة فيه أشد منها في المغرب. والريح
234

مؤنثة. (وكذا وحل) بفتح الحاء (شديد على الصحيح) ليلا كان أو نهارا لأنه أشق من المطر بخلاف الخفيف منه.
والشديد هو الذي لا يؤمن معه التلويث كما جزم به في الكفاية، لكن ترك في المجموع والتحقيق التقييد بالشديد، ومقتضاه
أنه لا فرق بينه وبين الخفيف، قال الأذرعي: وهو الصحيح والأحاديث دالة عليه. وجرى على التقييد ابن المقري في
روضه تبعا لاصله وينبغي اعتماده. فإن قيل: حديث ابن حبان المتقدم أصابهم مطر لم يبل أسفل نعالهم ونادى منادي رسول الله
(ص) صلوا في رحالكم أجيب بأن النداء في الحديث كان للمطر كما مر، والكلام في الوحل بلا مطر.
(أو خاص كمرض) يشق المشي معه كمشقة المشي في المطر، وإن لم يبلغ حدا يسقط القيام في الفريضة كما نقله الرافعي عن
الإمام وأقره وجزم به في الروضة، لأنه (ص) لما مرض ترك الصلاة بالناس أياما كثيرة. أما الخفيف كوجع ضرس
وصداع يسير وحمى خفيفة فليس بعذر. (وحر وبرد شديدين) لأن المشقة فيهما كالمشقة في المطر. وإطلاقه
كأصله يقتضي
أنه لا فرق بين الليل والنهار، لكن اقتصر في الروضة في شدة الحر على الظهر، وكذا أصلها في أول كلامه، لكن كلامه
بعد يقتضي عدم التقييد به وهذا هو الظاهر. قال الأذرعي: وصرح به بعضهم فقال: ليلا أو نهارا اه‍. وذكره هنا
كالمحرر من الخاص، وفي الروضة كالشرح من العام، وجمع بين الكلامين بأنهما إن أحس بهما ضعيف الخلقة دون قويها
فهما من الخاص، وإن أحس بهما قويها فهما من العام إذ يحس بهما ضعيفها من باب أولى. ومن الخاص شدة النعاس
ولو في انتظار الجماعة، ومن العام السموم، وهو بفتح السين: الريح الحارة، والزلزلة، وهي بفتح الزاي: تحريك الأرض
لمشقة الحركة فيهما ليلا كان أو نهارا. (وجوع وعطش ظاهرين) قال في الروضة: والمطعوم حاضر. قال ابن الرفعة تبعا
لابن يونس: أوليس بحاضر، أي وقرب حضوره، ونفسه تتوق بالمثناة، أي تشتاق إليه، لخبر الصحيحين: إذا وضع
عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدأوا بالعشاء ولا يعجلن حتى يفرغ منه وقول المهمات: الظاهر الاكتفاء بالتوقان وإن
لم يكن به جوع ولا عطش، فإن كثيرا من الفواكه والمشارب اللذيذة تتوق النفس إليها عند حضورها بلا جوع وعطش،
قال شيخنا: مردود بأنه يبعد مفارقتهما للتوقان إذ التوقان إلى الشئ الاشتياق إليه لا الشوق، فشهوة النفس لهذه
المذكورات بدونهما لا تسمى توقانا، وإنما تسماه إذا كانت بهما بل بشدتهما. (ومدافعة حدث) من بول أو غائط أو ريح،
لخبر مسلم: لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان فيتخلف عن الجماعة ندبا ليتفرغ عن الحدث ويكسر شهوته
في الجوع بأن يأكل لقيمات يكسر بها سورته. لكن في شرح مسلم وغيره تصويب إكمال حاجته من الاكل، قال: وما تأوله
بعض أصحابنا من أنه يأكل لقما تكسر سورة الجوع فليس بصحيح، فلو خشي بتخلفه فوات الوقت صلى وجوبا
مدافعا وجائعا وعطشانا، ولا كراهة لحرمة الوقت. (وخوف ظالم على) معصوم من (نفس) أو عضو أو منفعة (أو
مال) أو عرض أو حق له أو لمن يلزمه الذب عنه حتى على خبزه في التنور وطبيخه في القدر على النار ولا متعهد يخلفه.
قال الزركشي: وهذا إذا لم يقصد بذلك إسقاط الجماعة وإلا فليس بعذر، ولو وقع ذلك يوم الجمعة حرم عليه كالسفر يومها
إذا قصد إسقاطها ولم يمكنه في طريقه، وكذا التحية إذا دخل المسجد بقصدها في وقت الكراهة. أما خوفه ممن يطالبه
بحق هو ظالم في منعه فليس بعذر، بل عليه الحضور وتوفية الحق. (و) خوف (ملازمة) أو حبس (غريم معسر)
بإضافة غريم إلى معسر، والمراد ملازمة غريمه وهو معسر. وفهم هذا من عبارته كما قال الولي العراقي قلق، ومحل هذا
إذا عسر عليه إثبات إعساره وإلا لم يعذر كما قاله في البسيط. ولو كان الحاكم لا يسمع البينة إلا بعد الحبس فوجودها كالعدم،
هذا إذا لم يقبل قوله في الاعسار، أما إذا قبل كأن لزمه الدين لا في مقابلة مال كصداق الزوجة فإنه لا يعذر، وكذا إذا ادعى
الاعسار وعلم المدعي بإعساره وطلب يمينه على عدم علمه فرد عليه اليمين، فالمتجه أنه يكون عذرا. والغريم مأخوذ
من الغرام وهو الدوام، قال تعالى: * (إن عذابها كان غراما) * فأطلقوه هنا لدوام الطلب، ويطلق لغة على المدين
والدائن وهو المراد هنا. (و) خوف (عقوبة) كتعزير لله تعالى أو لآدمي وقود وحد قذف مما يقبل العفو، (يرجى تركها
235

إن تغيب أياما) يسكن فيها غيظ المستحق بخلاف ما لا يقبله كحد الزنا، وكذا ما يقبل إذا لم يرج الترك لو تغيب، وقد خرج
ذلك بقوله: يرجى تركها. واستشكل الإمام جواز التغيب لمن عليه قصاص، فإن موجبه كبيرة والتخفيف ينافيه. وأجاب
بأن العفو مندوب إليه والتغيب طريقه، قال الأذرعي: والاشكال أقوى.
تنبيه: قال بعضهم: يستفاد من تقييد الشيخين رجاء العفو بتغيبه أياما أن القصاص لو كان لصبي لم يجز التغيب
لأن العفو إنما يكون بعد البلوغ، فيؤدي إلى أن يترك الجمعة سنين. وقال الأذرعي: قولهما أيام لم أره إلا في كلامهما،
والشافعي والأصحاب أطلقوا، ويظهر الضبط بأنه ما دام يرجو العفو يجوز له التغيب، فإن يئس أو غلب على ظنه عدم العفو
حرم التغيب اه‍. وهذا هو الظاهر، ولذلك ترك ابن المقري هذا التقييد. (وعري) وإن وجد ما يستر عورته لأن عليه مشقة
في خروجه بغير لباس يليق به، كذا علله في المجموع. ويؤخذ منه أن من اعتاد الخروج مع ستر العورة فقط أنه لا يكون
معذورا عند فقد الزائد عليه وهو كذلك، وأن من وجد ما لا يليق به كالقباء للفقيه كالمعدوم، قال في المهمات: وبه صرح
بعضهم. (وتأهب لسفر) مباح يريده (مع رفقة ترحل) ويخاف من التخلف للجماعة على نفسه أو ماله أو
يستوحش
فقط للمشقة في التخلف عنهم، (وأكل ذي ريح كريه) كبصل أو فجل أو ثوم أو كراث نئ، لخبر الصحيحين: من أكل
بصلا أو ثوما أو كراثا فلا يقربن مسجدنا وفي رواية المساجد، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم، زاد
البخاري. قال جابر: ما أراه إلا نيئة، وزاد الطبراني: أو فجلا. هذا إن تعسر زوال ريحه بغسل ومعالجة بخلاف ما إذا لم يتعسر،
أما المطبوخ فلا يعذر به كما صرح به في المحرر لزوال ريحه. وكأن المصنف استغنى عن التصريح به بقوله كريه ولو ذكره
لكان أوضح وأحسن إذ لا بد فيه من رائحة كريهة لكنها اغتفرت لقلتها. ويؤخذ مما ذكر أنه يعذر بالبخر والصنان
المستحكم بطريق الأولى، قاله في المهمات. وتوقف في الجذام والبرص، والمتجه كما قال الزركشي أنه يعذر بهما لأن التأذي
بهما أشد منه بأكل الثوم ونحوه، قال: وقد نقل القاضي عياض عن العلماء أن المجذوم والأبرص يمنعان من المسجد ومن
صلاة الجماعة ومن اختلاطهما بالناس ودخول المسجد للذي أكل ما سبق مكروه كما في آخر شروط الصلاة من الروضة،
خلافا لما صرح به ابن المنذر وأشار إليه غيره من التحريم. وصرح ابن حبان في صحيحه بأن المعذور بأكل هذه الأشياء
للتداوي يعذر في الحضور، وإطلاق الحديث: وكلام الأصحاب يقتضي أنه لا فرق بين المعذور وغيره، والمعنى وهو التأذي
يدل عليه وهذا هو الظاهر. (وحضور) نحو (قريب) كزوجة ورقيق وصديق وصهر (محتضر) أي حضره الموت وإن
كان له متعهد، لما روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه ترك الجمعة وحضر عند قريبه سعيد بن زيد أحد العشرة
لما أخبر أن الموت قد نزل به، ولأنه يتألم بغيبته عنه أكثر مما يتألم بذهاب المال. وألحق المحب الطبري بمن ذكر الأستاذ،
وقال الأسنوي: ويتجه إلى إلحاق العتيق والمعتق بهم أيضا. (أو) حضور (مريض بلا متعهد) له لئلا يضيع، سواء أكان قريبا
أم أجنبيا إذا خاف هلاكه إن غاب عنه، وكذا لو خاف عليه ضررا ظاهرا على الأصح. (أو يأنس) القريب أو نحوه كما
في المحرر، (به) وإن اقتضت عبارته أن الانس عذر في القريب والأجنبي، ولو قال: وحضور قريب محتضر أو كان يأنس
به أو مريض بلا متعهد لكان أولى. وقال الشارح: إن قوله أو مريض عطف على محتضر فيفوت الأجنبي
الذي لا متعهد
له مع أنه يعذر لأجله، ولو كان المتعهد مشتغلا بشراء الأدوية مثلا عن الخدمة، فكما لو لم يكن متعهد.
تتمة: بقي من الاعذار السمن المفرط كما ذكره ابن حبان في صحيحه وروى فيه خبرا، وكونه منها كما نقل عن
الذخائر، وزفاف زوجة في الصلوات الليلية كما سيأتي إن شاء الله تعالى في القسم، وغلبة النعاس والنوم إن انتظر الجماعة،
والبحث عن ضالة يرجوها، والسعي في استرداد مغصوب له أو لغيره. قال الأسنوي: وإنما يتجه جعل هذه الأمور أعذارا
لمن لا يتأتى له إقامة الجماعة في بيته وإلا لم يسقط عنه طلبها لكراهة الانفراد للرجل، وإن قلنا إنها سنة. قال في المجموع
ومعنى كونها أعذارا سقوط الاثم على قول الفرض، والكراهة على قول السنة، لا حصول فضلها. ويوافقه جواب الجمهور
236

عن خبر مسلم: سأل أعمى النبي (ص) أن يرخص له في الصلاة في بيته لكونه لا قائد له فرخص له، فلما ولى
دعاه فقال: هل تسمع النداء؟ فقال: نعم، قال: فأجب بأنه سأل هل له رخصة في الصلاة ببيته منفردا تلحقه بفضيلة من
صلى جماعة؟ فقيل: لا، وجزم الروياني بأنه يكون محصلا للجماعة إذا صلى منفردا وكان قصده الجماعة لولا العذر، ونقله
في الكفاية وأقره في البحر عن القفال وارتضاه وجزم به الماوردي والغزالي. ويدل له خبر أبي موسى. إذا مرض العبد
أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله صحيحا مقيما رواه البخاري. وقال الأسنوي: وما في المجموع من عدم حصول
فضلها مردود سببه الذهول عما سبق نقلا واستدلالا. وحمل بعضهم كلام المجموع على متعاطي السبب كأكل بصل
وثوم، وكلام هؤلاء على غيره كمطر ومرض، وجعل حصولها كحصولها لمن حضرها لا من كل وجه لا بل في أصلها لئلا
ينافيه خبر الأعمى، وهو جمع حسن.
فصل: في صفات الأئمة. (لا يصح اقتداؤه بمن يعلم بطلان صلاته) كمن علم بكفره أو حدثه أو نجاسة ثوبه
لأنه ليس في صلاة فكيف يقتدي به، (أو يعتقده) أي بطلانها من حيث الاجتهاد في غير اختلاف المذاهب في الفروع، أما الاجتهاد
في الفروع فسيأتي. والمراد بالاعتقاد هنا أن يظنه ظنا غالبا، كما يفهم من المثال لا المصطلح عليه
عند الأصوليين، وهو الجزم المطابق لدليل. (كمجتهدين اختلفا في القبلة أو) في (إناءين) من الماء طاهر ونجس بأن
أدى اجتهاد أحدهما إلى غير ما أدى إليه اجتهاد الآخر في المسألتين وتوضأ كل من إنائه في الثانية فليس لواحد
منهما
أن يقتدي بالآخر في كل من المسألتين لاعتقاده بطلان صلاته. (فإن تعدد الطاهر) من الآتية: كأن كانت الأواني
ثلاثة والطاهر منها اثنان والمجتهدون ثلاثة وظن كل منهم طهارة إنائه فقط، (فالأصح الصحة) أي صحة اقتداء بعضهم
ببعض، (ما لم يتعين إناء الإمام للنجاسة) فيصح الاقتداء في مثالنا لكل منهم بواحد فقط لتعين الاناء الثالث للنجاسة
في حقه. (فإن ظن) واحد باجتهاده (طهارة إناء غيره اقتدى به) جوازا (قطعا)، أو نجاسة لم يقتد به قطعا كما في
حق نفسه. (فلو اشتبه خمسة) من الآنية (فيها نجس على خمسة) من أناس (فظن كل) منهم (طهارة إناء)
منها (فتوضأ به) ولم يظن شيئا في الأواني الأربعة، (وأم كل) منهم (في صلاة) من الخمس الباقين مبتدئين بالصبح،
(ففي) الوجه (الأصح) السابق في المسألة قبلها (يعيدون العشاء) لتعين النجاسة في إناء أمامها بزعمهم، (إلا
إمامها فيعيد المغرب) لتعين إمامها للنجاسة في حقه. وضابط ذلك أن كل واحد يعيد ما كان مأموما فيه آخرا. والوجه
الثاني: يعيد كل منهم ما صلاه مأموما، وهو أربع صلوات لعدم صحة الاقتداء لما تقدم. ولو كان في الخمسة إناءان نجسان
صح اقتداء كل منهم باثنين فقط، أو النجس منها ثلاثة فبواحد فقط. وبذلك علم أن من كان تأخر منهم تعين الاقتداء
به للبطلان كما علم من الضابط المتقدم، ولو كان النجس أربعة امتنع الاقتداء بينهم، ولو سمع صوت حدث بين جماعة
وأنكر كل منهم وقوعه منه فعلى ما ذكر في الأواني. ثم شرع في اختلاف المذاهب في الفروع، فقال: (ولو اقتدى
شافعي بحنفي) فعل مبطلا عندنا دونه، كأن (مس فرجه) أو ترك الطمأنينة أو البسملة أو الفاتحة أو بعضها، (أو)
عنده دوننا كأن (افتصد فالأصح الصحة) أي صحة الاقتداء (في الفصد دون المس) ونحوه مما تقدم (اعتبار
بنية) أي اعتقاد (المقتدي) لأنه محدث عنده بالمس دون الفصد، والثاني عكس ذلك اعتبارا باعتقاد المقتدى به
لأنه يرى أنه متلاعب في الفصد ونحوه فلا يقع منه نية صحيحة، وحينئذ فلا يتصور جزم المأموم بالنية. ولو حافظ المخالف
237

في الفروع كحنفي على واجبات الطهارة والصلاة عند الشافعي صح اقتداؤه به، وكذا لو شك في إتيانه بها تحسينا للظن
به في أنه يراعى الخلاف. ولا يضر عدم اعتقاده الوجوب وإنما ضر في الإمام الموافق لعلم المأموم ببطلانها
عندهما.
وقال الحليمي: إن اقتدى بولي الامر أو نائبه صح مع تركه الواجبات عندنا لما في المفارقة من الفتنة، واستحسناه بعد
نقلهما عن تصحيح الأكثرين، وقطع جماعة بعدم الصحة وهو المعتمد. وما استحسناه مخالف لنظائره كصحة الجمعة
السابقة وإن كان السلطان مع الأخرى. ولو ترك إمامه الحنفي القنوت في صلاة الصبح لاعتقاده عدم سنيته وأمكنه هو
أن يقنت ويدركه في السجدة الأولى ندب له أن يقنت، وإلا تابعه وسجد للسهو اعتبارا باعتقاده وله فراقه ليقنت.
وقضية كلام ابن المقري كأصله أنه إذا قنت لا يسجد، وهو مبني على أن العبرة باعتقاد الإمام، والأصح أن العبرة باعتقاد
المأموم فيسجد كما لو كان إمامه شافعيا فتركه. ولو ترك شافعي القنوت وخلفه حنفي فسجد الشافعي للسهو تابعه الحنفي،
ولو ترك السجود لم يسجد اعتبارا باعتقاده. ولو اقتدى شافعي بمن يرى تطويل الاعتدال فطوله لم يوافقه بل يسجد
وينتظره ساجدا كما ينتظره قائما إذا سجد في سجدة ص وإن اقتضى كلام القفال أنه ينتظره في الاعتدال، وكلام
شيخنا جواز كل من الامرين. وتقدم الفرق هناك بين مثل ذلك وبين المس، وهو أن ما يبطل عمده وسهوه لا ينتظره
فيه، وما أبطل عمده دون سهوه جاز انتظاره، ويأتي مثل هذا في نظيره من الجلوس بين السجدتين. فإن قيل: قصد صرحوا
في باب الجمع بين الصلاتين بأنه لو نوى مسافران شافعي وحنفي إقامة أربعة أيام بموضع انقطع بوصولهما سفر الشافعي
دون الحنفي وجاز له يكره أن يقتدي به مع اعتقاده بطلان صلاة القاصر في الإقامة؟ أجيب بأن كلامهم هنا في ترك واجب
لا يجوزه الشافعي مطلقا، بخلافه ثم فإنه يجوز القصر في الجملة، والمعتمد ما قاله الشيخ أبو حامد وغيره أن صورة ذلك إذا
لم يعلم أنه نوى القصر، فإن علم أنه نواه فمقتضى المذهب أنه لا تصح صلاته خلفه كمجتهدين اختلفا في القبلة فصلى أحدهما
خلف الآخر.
تنبيه: اعتبار نية المقتدي من زيادة المصنف على المحرر، ولو قال: اعتبارا باعتقاد المقتدي كما قدرته لكان أولى،
إذ لا معنى للنية هنا، قال ابن النقيب: إلا أن يراد جزمها وعدمه. (ولا تصح قدوة بمقتد) في حال قدوته لأنه تابع لغيره
يلحقه سهوه، ومن شأن الإمام الاستقلال، وأن يتحمل هو سهو غيره فلا يجتمعان، وهذا إجماع، وما في
الصحيحين
من أن الناس اقتدوا ب أبي بكر خلف النبي (ص) محمول على أنهم كانوا مقتدين به (ص)، وأبو بكر يسمعهم التكبير
كما في الصحيحين أيضا. وقد روى البيهقي وغيره: أنه (ص) صلى في مرض وفاته خلف أبي بكر، قال في المجموع:
إن صح هذا كان ذلك مرتين كما أجاب به الشافعي والأصحاب. أما الاقتداء به بعد انقضاء القدوة فسيأتي حكمه في
آخر الباب. ولا يمكن توهمه أو ظنه مأموما كأن وجد رجلين يصليان جماعة وتردد في أيهما الإمام، ومحله كما قال الزركشي
ما إذا هجم، فإن اجتهد في أيهما الإمام واقتدى بمن غلب على ظنه أنه الإمام، فينبغي أن يصح كما يصلي بالاجتهاد في
القبلة والثوب والأواني. وإن اعتقد كل من المصليين أنه إمام صحت صلاتهما، إذ لا مقتضى للبطلان، أو أنه مأموم بطلت
صلاتهما لأن كلا مقتد بمن يقصد الاقتداء به، وكذا لو شك فمن شك ولو بعد السلام كما في المجموع أنه إمام أو مأموم بطلت
صلاته لشكه في أنه تابع أو متبوع. فلو شك أحدهما وظن الآخر صحت للظان أنه إمام دون الآخر، وهذا من المواضع
التي فرقوا فيها بين الظن والشك. والبطلان بمجرد الشك إنما يأتي كما قال ابن الرفعة على طريق العراقيين، أما على
طريق المراوزة ففيه التفصيل في الشك في النية، وقد مر بيانه في باب صفة الصلاة. (ولا) قدوة (بمن تلزمه إعادة
كمقيم تيمم) لفقد الماء، ولا من على بدنه نجاسة يخاف من غسلها، ومحدث صلى على حسب حاله لاكراه أو لفقد
الطهورين، ولو كان المقتدي مثله لعدم الاعتداد بصلاته كالفاسدة. فإن قيل: لم يأمر (ص) من صلى
خلف عمرو بن العاص بالإعادة حيث صلى بالتيمم للبرد. أجيب بأن عدم الامر لا يقتضي عدم وجوب القضاء لأنه
على التراخي، وتأخير البيان لوقت الحاجة جائز، ولجواز أنهم كانوا عالمين أو أنهم كانوا قد قضوا. (ولا) قدوة (قارئ
238

يأتي في الجديد) وإن لم يعلم حاله لأنه بصدد أن يتحمل القراءة عن المأموم المسبوق، فإذا لم يحسنها لم يصلح للتحمل،
والقديم: يصح اقتداؤه به في السرية دون الجهرية بناء على أن المأموم لا يقرأ في الجهرية بل يتحمل الإمام عنه فيها، وهو القديم.
وذهب المزني إلى صحة الاقتداء به سرية كانت أو جهرية، ومحل الخلاف فيمن لو يطاوعه لسانه أو طاوعه
ولم يمض
زمن يمكن فيه التعلم وإلا فلا يصح الاقتداء به قطعا.
تنبيه: قوله: في الجديد يعود إلى اقتداء القارئ بالامي لا إلى ما قبله، والامي نسبة إلى الام كأنه على الحالة
التي ولدته أمه عليها. وأصله لغة لمن لا يكتب، استعمله الفقهاء مجازا في قولهم: (وهو من يخل بحرف) ظاهر بأن عجز
عن إخراجه من مخرجه، (أو تشديدة من الفاتحة) لرخاوة لسانه، وهذا تفسير الأمي. ونبه بذلك على أن من لم يحسنها
بطريق الأولى. ولو أحسن أصل التشديد وتعذرت عليه المبالغة صح الاقتداء به مع الكراهة كما في الكفاية عن
القاضي، ومن يحسن سبع آيات من غير الفاتحة مع من لم يحسن إلا الذكر كالقارئ مع الأمي قاله في المجموع. وكذا
اقتداء حافظ النصف الأول بحافظ النصف الثاني وعكسه، لأن كلا منهما يحسن شيئا لا يحسنه الآخر. (ومنه) أي الأمي
(أرت) وهو بمثناة مشددة: من (يدغم) بإبدال كما قاله الأسنوي، (في غير موضعه) أي الادغام كقارئ المستقيم
بتاء أو سين مشددة. أما الادغام بلا إبدال كتشديد اللام أو الكاف من مالك فإنه لا يضر. (و) منه (ألثغ) وهو
بمثلثة: من (يبدل حرفا بحرف) كأن يأتي بالمثلثة موضع السين أو بالغين موضع الراء، فيقول المثتقيم وغيغ المغضوب.
والادغام في غير موضعه المبطل يستلزم الابدال كما سبق إلا أنه إبدال خاص، فكل أرت ألثغ ولا عكس. فلو كانت
لثغته يسيرة بأن يأتي بالحرف غير صاف لم يؤثر. (وتصح) قدوة أمي (بمثله) إن اتفقا عجزا كحافظ النصف الأول من
الفاتحة بحافظه وكأرت بأرت وألثغ بألثغ في كلمة لاستوائهما نقصانا كالمرأتين. ولا يشكل بمنع فاقد الطهورين ونحوه
بمثله لوجوب القضاء ثم بخلاف هنا. والعبرة بالاتفاق والاختلاف بالحرف المعجوز عنه، فلو أبدل أحدهما بالسين ثاء والآخر
زايا كانا متفقين. بخلاف ما إذا اختلفا في كلمتين فلا تصح قدوة أحدهما بالآخر ولا أرت بألثغ وعكسه لأن كلا منهما
في ذلك يحسن ما لا يحسنه الآخر، ولو عجز إمامه في أثناء الصلاة عن القراءة لخرس فارقه بخلاف عجزه عن القيام لصحة
اقتداء القائم بالقاعد، بخلاف اقتداء القارئ بالأخرس قاله البغوي في فتاويه، ولو لم يعلم بحدوث الخرس حتى فرغ من
الصلاة أعاد لأن حدوث الخرس نادر بخلاف حدوث الحدث. وتصح الصلاة خلف المجهول قراءته أو إسلامه
لأن الأصل الاسلام،
والظاهر من حال المسلم المصلي أنه يحسن القراءة، فإن أسر هذا في جهرية أعادها المأموم لأن الظاهر أنه لو كان قارئا
لجهر ويلزمه البحث عن حاله كما نقله الإمام عن أئمتنا، لأن إسرار القراءة في الجهرية يخيل أنه لو كان يحسنها لجهر بها،
فإن قال بعد سلامه من الجهرية: نسيت الجهر أو تعمدت لجوازه - أي وجهل المأموم وجوب الإعادة كما قاله السبكي - لم
تلزمه الإعادة بل تستحب، كمن جهل من إمامه الذي له حالتا جنون وإفاقة وإسلام وردة وقت جنونه أوردته فإنه لا تلزمه
الإعادة بل تستحب. أما في السرية فلا إعادة عليه عملا بالظاهر ولا يلزمه البحث عن حاله كما لا يلزمه البحث
عن طهارة الإمام، نقله ابن الرفعة عن الأصحاب. (وتكره) القدوة (بالتمتام) وهو من يكرر التاء، وفي الصحاح
وغيره أنه الثأثاء وهو القياس. (والفأفاء) وهو بهمزتين ومد في آخره من يكرر الفاء، قال في البيان: وكذا من يكرر
الواو، قال في المهمات: وكذا في تكرير سائر الحروف للتطويل ونفرة الطبع عند سماع ذلك، ولهذا قال الشافعي رضي
الله عنه: الاختيار في الإمام أن يكون فصيح اللسان حسن البيان مرتلا للقرآن، ولا فرق بين أن يكون ذلك في
الفاتحة أو غيرها، إذ لا فاء فيها، وجاز الاقتداء بهم مع زيادتهم لعذرهم فيها. (و) كذا (اللاحن) بما لا يغير المعنى
كضم هاء لله تكره القدوة به لأن مدلول اللفظ باق وإن كان تعاطيه مع التعمد حراما، وضم صاد الصراط وهمزة
اهدنا ونحوه كاللحن الذي لا يغير المعنى وإن لم تسمه النحاة لحنا. (فإن) لحن لحنا (غير معنى كأنعمت بضم أو كسر) أو
239

أبطل المعنى كالمستقين كما في المحرر وحذفه المصنف لأنه يؤخذ من التغيير بطريق الأولى ولأنه يدخل في الألثغ، (أبطل
صلاة من أمكنه التعلم) ولم يتعلم وبقي من الوقت ما يسع التعليم ولأنه ليس بقرآن. أما إذا ضاق الوقت عنه فإنه يصلي
ويقضي ولا يجوز الاقتداء به، قاله في المحرر وأهمله المصنف. وظاهر كلام الشيخين يقتضي أنه لا فرق في البطلان بين أن يكون
ذلك في الفاتحة أو في غيرها، وهو كذلك في القادر العامد العالم بالتحريم، أما مع النسيان أو الجهل فإن كان في الفاتحة لا يضر
لأنها ركن، نعم أن تفطن للصواب قبل السلام فإنه يعيد ولا تبطل صلاته. وأما مع العجز فهو ما ذكره بقوله: (فإن
عجز لسانه أو لم يمض زمن إمكان تعلمه) من إسلام الكافر كما قاله البغوي وغيره، وكذا من تمييز المسلم كما
بحثه الأسنوي،
لكون الأركان والشروط لا فرق فيها بين البالغ والصبي المميز، (فإن كان في الفاتحة فكأمي) وقد مر حكمه، وإن
كان في غير الفاتحة فهو ما ذكره بقوله: (وإلا) بأن كان في غير الفاتحة كما إذا قرأ بجر اللام في قوله: * (إن الله برئ
من المشركين ورسوله) * (فتصح صلاته والقدوة به) إذا كان عاجزا أو جاهلا لم يمض زمن إمكان تعلمه أو ناسيا، لأن
الكلام اليسير بهذه الشروط لا يقدح في الصلاة. قال الإمام: ولو قيل ليس لهذا اللاحن قراءة غير الفاتحة مما يلحن فيه
لم يكن بعيدا لأنه يتكلم بما ليس بقرآن بلا ضرورة، واختاره السبكي وقال: إن مقتضاه البطلان في القادر والعاجز. (ولا
تصح قدوة) ذكر (رجل) أو صبي مميز (ولا خنثى ب‍) أنثى ا (مرأة) أو صبية مميزة، (ولا خنثى) مشكل، لأن الأنثى ناقصة عن
الرجل، والخنثى المأموم يجوز أن يكون رجلا ذكرا والإمام أنثى، وقد قال (ص): لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة
رواه البخاري، وروى ابن ماجة: لا تؤمن امرأة رجلا. ويصح اقتداء خنثى بانت أنوثته امرأة ورجل، ورجل بخنثى بانت ذكورته
مع الكراهة، قاله الماوردي، قال الأذرعي: ومحلها إذا كان الظهور بأمارة غير قطعية. وتصح قدوة المرأة بالمرأة وبالخنثى
كما تصح قدوة الرجل وغيره بالرجل. فيتخلص من ذلك تسع صور: خمسة صحيحة، وهي: قدوة رجل برجل، خنثى
برجل، امرأة برجل، امرأة بخنثى، امرأة بامرأة، وأربع باطلة، وهي: قدوة رجل بخنثى، رجل بامرأة، خنثى بخنثى، خنثى بامرأة. (وتصح)
القدوة (للمتوضئ بالمتيمم) الذي لا إعادة عليه، لأنه قد أتى عن طهارته ببدل مغن عن الإعادة. (وبماسح الخف)
لأن صلاته مغنية عن الإعادة. (وللقائم بالقاعد والمضطجع) لما روى البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه
(ص) صلى في مرض موته قاعدا وأبو بكر والناس قياما، قال البيهقي: وكان ذلك يوم السبت أو الاحد، وتوفي (ص)
ضحى يوم الاثنين فكان ناسخا لما رواه الشيخان عن أبي هريرة وعائشة: إنما جعل الإمام ليؤتم
به إلى أن قال: وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا أجمعين. ويقاس المضطجع ولو كان موميا كما صرح به المتولي على القاعد،
فقدوة القاعد والمضطجع به أولى، والمستلقي كالمضطجع فيما ذكر. (و) تصح القدوة (للكامل) وهو البالغ
الحر (للصبي)
المميز للاعتداد بصلاته، ولان عمرو بن سلمة - بكسر اللام - كان يؤم قومه على عهد رسول الله (ص) وهو ابن ست أو
سبع، رواه البخاري، ولكن البالغ أولى من الصبي وإن كان الصبي أقرأ أو أفقه للاجماع على صحة الاقتداء به بخلاف
الصبي. وقد نص في البويطي على كراهة الاقتداء بالصبي. (والعبد) أي يصح اقتداء الكامل به لأنه من أهل الفرض
ولان ذكوان مولى عائشة كان يؤمها، رواه البخاري. لكن الحر وإن كان أعمى كما قاله الماوردي أولى منه، لأن ابن
خيران قال بكراهة الاقتداء به. والعبد البالغ أولى من الحر الصبي، وفي العبد الفقيه والحر غير الفقيه ثلاثة أوجه أصحها أنهما
سواء وإن كانوا صححوا في الصلاة على الجنازة تقديم الحر لأن القصد منها الشفاعة والدعاء والحر بهما أليق، والظاهر
أن المبعض أولى من كامل الرق وأن من زادت حريته من المبعضين أولى ممن نقصت منه.
تنبيه: لو حذف المصنف الواو من قوله: والعبد لكان أولى، ليستفاد منه صحة قدوة الكامل بالصبي العبد بالمنطوق
240

وبالصبي الحر وبالعبد الكامل بطريق الأولى. (والأعمى والبصير) في الإمامة (سواء على النص) في الام لتعارض
فضيلتيهما، لأن الأعمى لا ينظر ما يشغله فهو أخشع، والبصير ينظر الخبث فهو أحفظ لتجنبه. قال الأذرعي: هذا إذا
كان الأعمى لا يبتذل، أما إذا ابتذل، أي ترك الصيانة عن المستقذرات كأن لبس ثياب البذلة كان البصير أولى منه،
وتبعه ابن المقري على ذلك. قال شيخنا: وهذا لا حاجة إليه، بل ذكره يوهم خلاف المراد، لأنه معلوم مما يأتي في
نظافة الثوب والبدن. ولا يختص ذلك بالأعمى، بل لو ابتذل البصير كان الأعمى أولى منه، وقيل: الأعمى أولى مراعاة
للمعنى الأول، وقيل: البصير أولى للمعنى الثاني. قال الماوردي: وإمامة الحر الأعمى أفضل من إمامة العبد البصير،
والأصم كالأعمى فيما ذكر، كما قاله ابن يونس. وتكره إمامة الأقلف بعد بلوغه لا قبله كما قاله ابن الصباغ. (والأصح
صحة قدوة السليم بالسلس) بكسر اللام: أي سلس البول، (والطاهر بالمستحاضة غير المتحيرة) والمستنجي بالمستجمر
والمستور بالعاري ونحو ذلك كمن به جرح سائل أو على ثوبه نجاسة معفو عنها لصحة صلاتهم من غير إعادة،
والثاني:
لا تصح لوجود النجاسة. وإنما صححنا صلاتهم للضرورة، ولا ضرورة للاقتداء بهم. أما المتحيرة فلا تصح قدوة غيرها
بها ولو متحيرة لوجوب الإعادة عليها على ما مر في الحيض من الخلاف في وجوب القضاء عليها. (ولو بان) للمأموم
(إمامه) على خلاف ما ظنه كأن علمه بعد فراغ القدوة (امرأة) أو خنثى أو مجنونا (أو كافرا معلنا) بكفره كذمي،
(قيل أو مخفيا) كفره كزنديق، (وجبت الإعادة) لأن على الأنوثة والكافر المعلن وما ذكر معهما أمارة ظاهرة،
إذ تمتاز المرأة بالصوت والهيئة وغيرهما، ومثلها الخنثى لأن أمره منتشر، وكذا المجنون. ويعرف معلن الكفر بالغيار
وغيره، فالمقتدي بهم مقصر بترك البحث عنهم بخلاف مخفي الكفر فإنه لا اطلاع عليه، فلا تجب الإعادة فيه في الأصح
وسيأتي تصحيح مقابله. ولو بان إمامه قادرا على القيام فالمنقول عن الصيمري وغيره الصحة، وهو قضية قول الروض
كأصله في خطبة الجمعة: لو خطب جالسا وبان قادرا فكمن بان جنبا، لكنه صرح هنا بأنه كالأمي فيتبين عدم
الصحة، وهذا هو المعتمد كما قاله شيخي، وفرق بين الخطبة وبين ما هنا بأنه يغتفر في الشرط ما لا يغتفر في المشروط.
(لا) إن بان إمامه (جنبا) أو محدثا كما فهم بالأولى، وذكره في المحرر. (وذا نجاسة خفية) في ثوبه أو بدنه فلا
تجب إعادة المؤتم به لانتفاء التقصير، اللهم إلا أن يكون ذلك في الجمعة ففيه تفصيل يأتي في موضعه، بخلاف الظاهرة
فتجب فيها الإعادة لتقصير المقتدي في هذه الحالة، وهذا ما جرى عليه الروياني وغيره، وحمل في المجموع وفي تصحيحه
كلام التنبيه عليه، وهو المعتمد، وإن صحح في التحقيق التسوية بين الخفية والظاهرة في عدم وجوب الإعادة، وقال
الأسنوي: إنه الصحيح المشهور. والأحسن في ضبط الخفية والظاهرة ما ذكره صاحب الأنوار: وهو أن الظاهرة
ما تكون بحيث لو تأملها المأموم لرآها، والخفية بخلافها، وقضية ذلك كما قال الأذرعي: الفرق بين المقتدي الأعمى
والبصير حتى لا يجب القضاء على الأعمى مطلقا، وهو كذلك. ولو علم أن إمامه محدث أو ذو نجاسة خفية ثم اقتدى به
ناسيا ولم يحتمل أنه تطهر وجبت الإعادة. (قلت: الأصح المنصوص هو قول الجمهور: إن مخفي الكفر هنا
كمعلنه)
وإن قال في الروضة: إن الأقوى دليلا أن القضاء لا يجب، (والله أعلم) بناء على أن العلة الصحيحة هي عدم أهليته
للإمامة، فتجب إعادة المؤتم به لنقصه بالكفر، بخلاف المحدث ونحوه لا نقص فيه بالحدث. ولو اقتدى بشخص فبان
مرتدا، أو أنه ترك تكبيرة الاحرام لا النية وإن سها بترك تكبيرة الاحرام، وجبت عليه الإعادة، لأن ذلك لا يخفى
فينسب إلى تقصير، بخلاف النية لخفائها. ولو اقتدى بمن أسلم ثم قال بعد فراغه: لم أكن أسلمت حقيقة، أو أسلمت ثم
ارتددت فلا يلزمه القضاء، لأن إمامه كافر بذلك فلا يقبل خبره بخلاف ما لو اقتدى بمن جهل إسلامه أو شك فيه ثم أخبر
241

بكفره. (والامي كالمرأة في الأصح) فيعيد القارئ المؤتم به بناء على الجديد مع منع قدوة القارئ به، والجامع بينهما
النقص، والثاني: أنه كالجنب بجامع الخفاء فلا يعيد المؤتم به. وفرق الرافعي بأن فقدان القراءة نقص بخلاف الجنابة،
وبأن الوقوف على كونه قارئا أسهل من الوقوف على كونه متطهرا، لأنه وإن شاهد طهارته فعروض الحدث بعدها
قريب، بخلاف صيرورته أميا بعدما سمع قراءته. ثم لا فرق في تبين ما سبق مما يوجب القضاء ومما لا يوجبه بين
أن يتبين في أثناء الصلاة أو بعدها، إلا أنه إذا تبين الحدث أو نحوه في الأثناء وجبت المفارقة حال علمه بذلك، قال في
المجموع: ولا يغني عنها ترك المتابعة قطعا. (ولو اقتدى) رجل أو خنثى (بخنثى) في ظنه، أو خنثى بامرأة، (فبان)
الإمام (رجلا) في الأولى، والمأموم في الثانية والثالثة امرأة، أو بانا في الثانية رجلين أو امرأتين، (لم يسقط القضاء
في الأظهر) لعدم صحة القدوة في الظاهر، لتردد المأموم في صحة صلاته عندها فلا تكون النية جازمة، والثاني: يسقط
اعتبارا بما في نفس الامر. وصور الماوردي وغيره مسألة الكتاب فيمن لم يعلم بحاله ثم علم بعد الصلاة خنوثته ثم
بان رجلا. قال الأذرعي: وهذا الطريق أصح، والوجه الجزم بالقضاء على العالم بخنوثته، إذ صلاة الرجل لا تنعقد
خلفه ولا يتصور جزم النية اه‍. وفيه نظر، بل الوجه الجزم بعدم القضاء إذا بان رجلا في تصوير الماوردي، لا سيما
إذا لم يمض قبل تبين الرجولية زمن طويل. ومقتضى التعليل بالتردد أن القضاء لا يجب عند فقده بأن ظن في ابتداء
صلاته أن إمامه رجل ثم ظهر أنه كان خنثى ثم اتضح بعد ذلك كونه رجلا. قال الأسنوي: وهو ظاهر لا سيما إذا لم
يمض قبل تبين الرجولية ركن اه‍. وفيه نظر، لأن التردد في النية لا فرق فيه بين أن يكون في الابتداء أو الدوام،
لكن في الابتداء يضر مطلقا، وفي الأثناء: إن طال الزمان أو مضى ركن على ذلك ضر وإلا فلا. ونقل الروياني
عن والده وجهين في نظير المسألة: وهو ما إذا اقتدى خنثى بامرأة معتقدا أنها رجل ثم بان أن الخنثى أنثى. ورجح
في البحر وجوب الإعادة، والذي يظهر فيها عدمها، إذ لا تردد حينئذ. (والعدل أولى) بالإمامة (من الفاسق) وإن اختص
الفاسق بصفات مرجحة ككونه أفقه أو أقرأ لأنه لا يوثق به، بل تكره الصلاة خلفه، وإنما صحت لما رواه الشيخان
أن ابن عمر كان يصلي خلف الحجاج، قال الإمام الشافعي: وكفى به فاسقا. والمبتدع الذي لا يكفر ببدعته كالفاسق بل
أولى، لأن اعتقاد المبتدع لا يفارقه بخلاف الفاسق. والأفقه في باب الصلاة الأقرأ، أي الأكثر قرآنا، أولى من غيره
بزيادة الفقه والقراءة. (والأصح أن الأفقه) في باب الصلاة وإن لم يحفظ قرآنا غير الفاتحة (أولى من الأقرأ) وإن
حفظ جميع القرآن، لأن الحاجة إلى الفقه أهم لكون الواجب من القرآن في الصلاة محصورا والحوادث فيها لا تنحصر،
ولتقديمه (ص) أبا بكر في الصلاة على غيره مع وجود من هو أحفظ منه للقرآن، لأنه لم يجمع القرآن في حياة النبي
(ص) غير أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد، كما رواه
البخاري. والثاني: هما سواء لتقابل الفضيلتين. والثالث: أن الأقرأ أولى، ونقله في المجموع عن ابن المنذر، لخبر
مسلم: إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم. وأجاب عنه الشافعي بأن الصدر الأول كانوا
يتفقهون مع القراءة، فلا يوجد قارئ إلا وهو فقيه. قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه: ما كنا نجاوز عشر آيات
حتى نعرف أمرها ونهيها وأحكامها. فإن قيل: في الحديث فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة ففيه دليل
كما قال المصنف على تقديم الأقرأ مطلقا. أجيب بأنه قد علم أن المراد بالأقرأ في الخبر الأفقه في القرآن، فإذا استووا
في القرآن فقد استووا في فقهه، فإذا زاد أحدهم بفقه السنة فهو أحق، فلا دلالة في الخبر
على تقديم الأقرأ مطلقا بل على تقديم الأقرأ الأفقه في القرآن على دونه. ولا نزاع فيه كما مر. (و) الأصح أن الأفقه أولى من (الأورع)
أي الأكثر ورعا للتعليل السابق. والورع فسره في التحقيق والمجموع بأنه اجتناب الشبهات خوفا من الله تعالى،
وفي أصل الروضة بأنه زيادة على العدالة من حسن السيرة والعفة. ويدل للأول ما رواه الطبراني في معجمه الكبير
242

عن واثلة بن الأسقع: أنه سأل النبي (ص) عن الورع، قال: الذي يقف عند الشبهات. والثاني: يقدم الأورع
على الأفقه، إذ مقصود الصلاة الخشوع ورجاء إجابة الدعاء والأورع أقرب، قال تعالى: * (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) *، وفي
الحديث: ملاك الدين الورع. وأما ما يخاف من حدوثه في الصلاة فأمر نادر فلا يفوت المحقق للمتوهم. وأما الزهد فهو
ترك ما زاد على الحاجة، وهو أعلى من الورع، إذ هو في الحلال والورع في الشبهة. قال في المهمات: ولم يذكروه
في المرجحات، واعتباره ظاهر، حتى إذا اشتركا في الورع وامتاز أحدهما بالزهد قدمناه اه‍.
تنبيه: لا يؤخذ من كلام المصنف معرفة المقدم من الأقرأ والأورع، وحكمه تقديم الأقرأ كما قاله في الروضة عن
الجمهور. (ويقدم الأفقه والأقرأ على الاسن النسيب) فعلى أحدهما من باب أولى، لأن الفقه والقراءة مختصان بالصلاة لأن
القراءة من شروطها، والفقه لمعرفة أحكامها، وباقي الصفات لا يختص بالصلاة، ويقدم الأورع أيضا عليهما لأنه أكرم
عند الله.
فرع: لو كان الأفقه أو الأقرأ أو الأورع صبيا أو مسافرا قاصرا أو فاسقا أو ولد زنا أو مجهول الأب فضده أولى،
وقد مرت الإشارة إلى بعض ذلك، نعم إن كان المسافر السلطان أو نائبه فهو أحق. وأطلق جماعة أن إمامة ولد الزنا
ومن لا يعرف أبوه مكروهة، وصورته أن يكون ذلك في ابتداء الصلاة ولم يساوه المأموم، فإن ساواه أو وجده قد أحرم
واقتدى به فلا بأس. (والجديد تقديم الاسن على النسيب) لخبر الصحيحين عن مالك بن الحويرث: ليؤمكم أكبركم ولان
فضيلة الاسن في ذاته والنسيب في آبائه، وفضيلة الذات أولى. والعبرة بالاسن في الاسلام لا للأكبر بالسن، فيقدم شاب أسلم
أمس على شيخ أسلم اليوم، فإن أسلما معا فالشيخ مقدم لعموم خبر مالك. قال البغوي: ويقدم من أسلم بنفسه على من
أسلم تبعا لاحد أبويه وإن تأخر إسلامه لأنه اكتسب الفضل بنفسه. قال ابن الرفعة: وهو ظاهر إذا كان إسلامه قبل بلوغ
من أسلم تبعا، أما بعده فيظهر تقديم التابع، ولو قيل بتساويهما حينئذ لم يبعد. والمراد بالنسيب من ينتسب إلى قريش أو
غيرهم ممن يعتبر في الكفاءة كالعلماء والصلحاء، فيقدم الهاشمي والمطلبي ثم سائر قريش، ثم العربي ثم العجمي، ويقدم
ابن العالم والصالح على ابن غيره.
تنبيه: لم يتعرض المصنف للهجرة، وهي إلى رسول الله (ص) أو إلى دار الاسلام بعده من دار
الحرب، والذي في التحقيق واختاره في المجموع، أي وهو المعتمد، تقديمها على الاسن والنسيب، لخبر مسلم عن أبي مسعود
البدري: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم
هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنا. وفي رواية سلمان: ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه، ولا يقعد في بيته
على تكرمته إلا بإذنه. وتأخيرها عن الأورع كما جرى عليه شيخنا في منهجه. وفي الروضة وأصلها عن الشيخ أبي حامد
وجماعة تأخيرها عن السن والنسب. وقياس ما مر من تقديم من أسلم بنفسه على من أسلم تبعا تقديم
من هاجر بنفسه على من هاجر أحد آبائه وإن تأخرت هجرته. ويعلم من ذلك أن المنتسب إلى من هاجر مقدم على من أنتسب لقريش مثلا. (فإن
استويا) أي الشخصان في الصفات المعتبرة، (فبنظافة الثوب والبدن) من الأوساخ، (وحسن الصوت وطيب الصنعة ونحوها)
من الفضائل كحسن وجه وسمت وذكر بين الناس لأنها تفضي إلى استمالة القلوب وكثرة الجمع.
تنبيه: لا يعلم من كلام المصنف ترتيب في ذلك، والذي في الروضة كأصلها عن المتولي وجزم به الرافعي في
الشرح الصغير - أي وهو المعتمد - أنه يقدم بالنظافة ثم بحسن الصوت ثم بحسن الصورة، وفي التحقيق: فإن استويا
قدم بحسن الذكر ثم بنظافة الثوب والبدن وطيب الصنعة وحسن الصوت ثم الوجه، وفي المجموع: تقديم أحسنهم
ذكرا ثم صوتا ثم هيئة، فإن استويا وتشاحا أقرع بينهما. والمراد بطيب الصنعة: الكسب الفاضل. ولا يحمل قول
243

المصنف: فإن استويا على استوائهما فيما ذكره، وإن كان ذلك ظاهر لفظ المحرر، لئلا يلزم منه التقديم بنظافة الثوب على
المهاجر وغيره مما لم يذكره، بل يحمل على ما قررته. قال المصنف في نكته: هذا كله إذا كانوا في موات أو مسجد ليس
له إمام راتب، أو له وأسقط حقه وجعله لاولى الحاضرين، أي وإلا فهو المقدم. (ومستحق المنفعة بملك)
للعين (ونحوه)
أي الملك كإجارة ووقف ووصية وإعارة وإذن من سيد العبد، (أولى) بالإمامة من الأفقه وغيره من جميع الصفات إذا
كان أهلا للإمامة ورضي بإقامة الصلاة في ملكه، لخبر أبي مسعود السابق. (فإن لم يكن أهلا) لإمامة الحاضرين كامرأة
أو خنثى لرجال، أو لم يكن أهلا للصلاة ككافر، (فله التقديم) استحبابا كما في شرح مسلم لمن يكون أهلا، لأنه محل سلطانه.
هذا إن كان صحيح العبارة، وإلا بأن كان صبيا أو مجنونا أو نحو ذلك استؤذن وليه، فإن أذن لهم جمعوا وإلا صلوا
فرادى.
تنبيه: في عبارة المصنف قصور فإنها لا تشمل المستعير والعبد الذي أسكنه سيده في ملكه فإنهما لا يستحقان المنفعة مع
كونهما أولى، فلو عبر كالمحرر بساكن الموضع بحق لشملهما. (ويقدم) السيد لا غيره (على عبده الساكن) في ملكه بإذنه أو في
غير ملكه كما قال الأسنوي: إنه المتجه وإن أذن له في التجارة، أو ملكه المساكن، لرجوع فائدة سكنى العبد إليه. وقد
يفهم من كلام المصنف أن المبعض يقدم على سيده فيما ملكه ببعضه الحر، وهو كذلك كما قال الأذرعي إنه الظاهر. (لا)
على (مكاتبه) كتابة صحيحة (في ملكه) أي المكاتب، لأن سيده أجنبي منه. ويؤخذ من هذا التعليل أن المكاتب لو كان
ساكنا بحق في غير ملكه كمستأجر ومستعير كان الحكم كذلك، فلو عبر بدل ملكه بمستحق المنفعة كان أولى. (والأصح
تقديم المكتري على المكري) المالك لأنه مالك للمنفعة. وفي الثاني يقدم المكري لأنه مالك للرقبة، وملك الرقبة أقوى من ملك
المنفعة. ومقتضى التعليل كما قال الأسنوي: جريان الخلاف في الموصى له بالمنفعة مع مالك الرقبة، وأن المستأجر إذا أجر
لغيره لا يقدم بلا خلاف. (و) يقدم (المعير) المالك للمنفعة ولو بدون الرقبة (على المستعير) لملكه المنفعة والرجوع فيها في كل
وقت، والثاني: يقدم المستعير للسكن له في الحال، واختاره السبكي، لحديث أبي داود: ولا يؤمن الرجل الرجل في بيته والمراد بيته
مسكنه، إذ لو حمل على الملك لزم تقديم المؤجر على المستأجر، والأصح خلافه. ولو حضر الشريكان أو أحدهما والمستعير
من الآخر فلا يتقدم غيرهما إلا بإذنهما ولا أحدهما إلا بإذن الآخر، والحاضر منهما أحق من غيره حيث يجوز
انتفاعه
بالجميع، والمستعيران من الشريكين كالشريكين، فإن حضر الأربعة كفى إذن الشريكين. (والوالي في محل ولايته أولى)
تقديما وتقدما (من الأفقه والمالك) وغيرهما ممن تقدم، وإن اختص بفضيلة إذا رضي المالك بإقامة الصلاة في ملكه كما عبر
به الإمام وغيره ونقله في المجموع عن الأصحاب، وهو أولى ممن عبر بإقامة الجماعة، وذلك لخبر: لا يؤمن الرجل الرجل
في سلطانه ولعموم سلطنته مع أن تقدم غيره بحضرته بغير إذنه لا يليق ببذل الطاعة، وتقدم أن ابن عمر كان يصلي خلف
الحجاج. ويراعى في الولاة تفاوت الدرجة، فالإمام الأعظم أولى ثم الاعلى فالأعلى من الولاة والحكام. قال الشيخان:
ويقدم الوالي على إمام المسجد، وهو أحق من غيره وإن اختص غيره بفضيلة، لخبر: لا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه
وإذا تبطأ استحب أن يبعث له ليحضر أو يأذن في الإمامة، فإن خيف فوات أول الوقت وأمنت الفتنة بتقديم غيره ندب
لغيره أن يؤم بالقوم ليحوز فضيلة أول الوقت، فإن خيف الفتنة صلوا فرادى وندب لهم إعادتها معه تحصيلا لفضيلة
الجماعة، ومحل ذلك في مسجد غير مطروق وإلا فلا بأس أن يصلوا أول الوقت جماعة. ومحل تقديم الوالي على الإمام
الراتب في غيره من مولاه السلطان أو نوابه، وإلا فهو أولى من والي البلد وقاضيه. ويكره أن تقام جماعة في مسجد
244

بغير إذن إمامه الراتب قبله أو بعده أو معه خوف الفتنة إلا إن كان المسجد مطروقا فلا يكره إقامتها فيه، وكذا لو لم
يكن مطروقا وليس له إمام راتب، أو له راتب وأذن في إقامتها، أو لم يأذن وضاق المسجد عن الجميع، ومحل الكراهة
إذا لم يخف فوات الوقت كما مر.
تتمة: يكره تنزيها أن يؤم الرجل قوما أكثرهم له كارهون لأمر مذموم شرعا، كوال ظالم أو متغلب على إمامة الصلاة
ولا يستحقها، أو لا يحترز من النجاسة، أو يمحو هيئات الصلاة، أو يتعاطى معيشة مذمومة، أو يعاشر الفسقة أو نحوهم
وإن نصبه لها الإمام الأعظم، لخبر ابن ماجة بإسناد حسن: ثلاثة لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا: رجل أم قوما
وهم له كارهون، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخط، وأخوان متصارمان. والأكثر في حكم الكل. ولا يكره
اقتداؤهم
به كما ذكره في المجموع، أما إذا كرهه دون الأكثر أو الأكثر لا لأمر مذموم فلا يكره له الإمامة. فإن قيل: إذا كانت
الكراهة لأمر مذموم شرعا فلا فرق بين كراهة الأكثر وغيرهم. أجيب بأن صورة المسألة أن يختلفوا في أنه بصفة
الكراهة أم لا، فيعتبر قول الأكثر لأنه من باب الرواية. قال في المجموع: ويكره أن يولي الإمام الأعظم على قوم رجلا
يكرهه أكثرهم، نص عليه الشافعي، وصرح به صاحب الشامل والتتمة. ولا يكره إن كرهه دون الأكثر، بخلاف
الإمامة العظمى فإنها تكره إذا كرهها البعض. ولا يكره أن يؤم من فيهم أبوه أو أخوه الأكبر، لأن الزبير كان يصلي
خلف ابنه عبد الله، و أنس كان يصلي خلف ابنه، وأمر النبي (ص) عمرو بن سلمة أن يصلي بقومه وفيهم أبوه.
فصل: يذكر فيه بعض شروط الاقتداء وآدابه. وشروطه سبعة: أحدها: (لا يتقدم) المأموم (على إمامه في الموقف) ولا
في مكان القعود أو الاضطجاع، لأن المقتدين بالنبي (ص) وبالخلفاء الراشدين لم ينقل عن أحد منهم ذلك،
ولقوله (ص): إنما جعل الإمام ليؤتم به والائتمام: الاتباع، والمتقدم غير تابع. (فإن تقدم) عليه في أثناء صلاته (بطلت
في الجديد) الأظهر، أو عند التحرم لم تنعقد، كالتقدم بتكبيرة الاحرام قياسا للمكان على الزمان، ولان المخالفة في الافعال
مبطلة كما سيأتي، وهذه المخالفة أفحش. والقديم لا تبطل مع الكراهة، كما لو وقف خلف الصف وحده، نعم يستثنى من
ذلك صلاة شدة الخوف كما سيأتي، فإن الجماعة فيها أفضل وإن تقدم بعضهم على بعض، وعلى الجديد لو شك هل هو
متقدم أو متأخر كأن كان في ظلمة صحت صلاته مطلقا، لأن الأصل عدم المفسد كما نقله المصنف في فتاويه عن النص
وصححه في التحقيق. وقال القاضي حسين: إن جاء من خلفه صحت صلاته وإن جاء من أمامه لم تصح عملا بالأصل
فيهما، والأول هو المعتمد الذي قطع به المحققون، وإن قال ابن الرفعة أن الثاني أوجه. (ولا تضر مساواته) لإمامه لعدم
المخالفة، لكن مع الكراهة كما في المجموع والتحقيق وإن استبعده السبكي. (ويندب تخلفه) أي المأموم عن الإمام (قليلا) إذا كانا
ذكرين غير عاريين بصيرين أو كان الإمام عاريا والمأموم بصيرا أو لا ظلمة تمنع النظر، استعمالا للأدب
ولتظهر رتبة الإمام
على المأموم. وأما إمامة النسوة وإمام العراة فسيأتي. (والاعتبار) في التقدم وغيره للقائم (بالعقب) وهو مؤخر القدم لا
الكعب، فلو تساويا في العقب وتقدمت أصابع المأموم لم يضر. نعم إن كان اعتماده على رؤوس الأصابع ضر كما بحثه
الأسنوي، ولو تقدمت عقبه وتأخرت أصابعه ضر، لأن تقدم العقب يستلزم تقدم المنكب. والمراد ما يعتمد عليها، فلو
اعتمد على إحدى رجليه وقدم الأخرى على رجل الإمام لم يضر، ولو قدم إحدى رجليه واعتمد عليها لم يضر كما في
فتاوى البغوي. والاعتبار للقاعد بالألية كما أفتى به البغوي، أي ولو في التشهد. أما في حال السجود فيظهر أن يكون المعتبر
رؤوس الأصابع، ويشمل ذلك الراكب، وهو الظاهر. وما قيل من أن الأقرب فيه الاعتبار بما اعتبروا به في المسابقة بعيد
إذ لا يلزم من تقدم إحدى الدابتين على الأخرى تقدم راكبها على راكب الأخرى. وفي المضطجع بالجنب، وفي المستلقي
245

بالرأس وهو أحد وجهين يظهر اعتماده، وفي المصلوب بالكتف، وفي المقطوعة رجله ما اعتمد عليه. وقال بعض المتأخرين:
الاعتبار بالكتف. (و) الجماعة (يستديرون في المسجد الحرام حول الكعبة) ندبا، لاستقبال الجميع ضاق المسجد أم لا، خلافا
للزركشي، لكن الصفوف أفضل من الاستدارة. ويندب أن يقف الإمام خلف المقام، ولو وقف صف طويل في آخر
المسجد بلا استدارة حول الكعبة جاز على ما جزم به الشيخان، وإن كانوا بحيث يخرج بعضهم عن سمتها لو قربوا خلافا
للزركشي. (ولا يضر كونه) أي المأموم (أقرب إلى الكعبة في غير جهة الإمام) منه إليها في جهته، (في الأصح) لأن رعاية
القرب والبعد في غير جهة الإمام مما يشق بخلاف جهته ولا يظهر به مخالفة منكرة، فلو توجه الإمام إلى الركن الذي فيه الحجر
مثلا فجهته مجموع جهتي جانبيه فلا يتقدم عليه المأموم المتوجه له ولا لاحدى جهتيه. (وكذا) لا يضر (لو وقفا) أي الإمام والمأموم
(في الكعبة) أي داخلها (واختلفت جهتاهما) بأن كان وجهه إلى وجهه أو ظهره إلى ظهره أو ظهره إلى جنبه أو
وجهه إلى جنبه، قياسا لداخل الكعبة على خارجها. ولا يضر كون المأموم أقرب إلى الجدار الذي توجه إليه من الإمام
إلى ما توجه إليه، أما إذا اتحدت الجهة بأن يكون ظهر المأموم إلى وجه الإمام فلا تصح في الأصح، ولو وقف الإمام فيها
والمأموم خارجها لم يضر أيضا وله التوجه إلى أي جهة شاء، ولو وقف المأموم فيها والإمام خارجها لم يضر أيضا، لكن
لا يتوجه المأموم إلى الجهة التي توجه إليها الإمام لتقدمه حينئذ عليه. (ويقف) المأموم (الذكر) ندبا ولو صبيا إذا لم يحضر
غيره (عن يمينه) أي الإمام، لما في الصحيحين: أن ابن عباس قال: بت عند خالتي ميمونة فقام النبي (ص)
يصلي من الليل فقمت عن يساره، فأخذ برأسي فأقامني عن يمينه. فإن وقف عن يساره أو خلفه سن له أن يندار مع
اجتناب الأفعال الكثيرة، فإن لم يفعل قال في المجموع: سن للإمام تحويله. (فإن حضر) ذكر (آخر أحرم) ندبا (عن
يساره ثم) بعد إحرامه وأمكن كل من التقدم والتأخر (يتقدم الإمام أو يتأخران) حالة القيام أو الركوع شيخنا
(وهو) أي تأخرهما (أفضل) من تقدم الإمام لخبر مسلم عن جابر " قال صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقمت
عن يمينه ثم جاء جابر بن صخر فقام عن يساره، فأخذ بأيدينا جميعا حتى أقامنا خلفه ولان الإمام متبوع فلا ينتقل من
مكانه، فإن لم يمكن إلا التقدم أو التأخر لضيق مكان مثلا من أحد الجانبين فعل الممكن منهما. وخرج بحالة القيام أو
الركوع غيرهما فلا يتأتى التقدم أو التأخر فيه إلا بأفعال كثيرة غالبا، فعلم أنه لا يندب للعاجزين عن القيام وأنه لا يندب
إلا بعد إحرام الثاني، وبه صرح في المجموع، لئلا يصير منفردا، ولو لم يسع الجائي الثاني الموقف الذي عن يساره أحرم خلفه
ثم يتأخر إليه الأول. (ولو حضر) مع الإمام ابتداء (رجلان) أو صبيان (أو رجل وصبي صفا) أي قاما صفا (خلفه) بحيث
لا يزيد ما بينه وبينهما على ثلاثة أذرع، وكذا ما بين كل صفين. أما الرجلان فلحديث جابر السابق، وأما الرجل والصبي فلما
في الصحيحين عن أنس: أنه عليه الصلاة والسلام صلى في بيت أم سليم فقمت أنا ويتيم خلفه وأم سليم خلفنا فلو وقفا عن
يمينه أو يساره أو أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره أو أحدهما خلفه والآخر بجنبه أو خلف الأول كره كما في المجموع عن
الشافعي. (وكذا امرأة) ولو محرما، أو زوجة، (أو نسوة) تقوم أو يقمن خلفه لحديث أنس السابق. فإن حضر معه ذكر وامرأة وقف
الذكر عن يمينه والمرأة خلف الذكر، أو امرأة وذكران وقفا خلفه وهي خلفهما، أو ذكر وامرأة وخنثى وقف الذكر عن يمينه
والخنثى خلفهما لاحتمال أنوثته والمرأة خلفه لاحتمال ذكورته. (ويقف) إذا اجتمع الرجال وغيرهم (خلفه الرجال) أي خلف الإمام
لفضلهم، (ثم الصبيان) لأنهم من جنس الرجال، ثم الخناثى كما في التنبيه لاحتمال ذكورتهم، (ثم النساء) لتحقق أنوثتهم. والأصل
246

في ذلك خبر: ليليني منكم أولو الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ثلاثا، رواه مسلم. قوله ليليني بياء مفتوحة بعد اللام
وتشديد النون وبحذف الياء وتخفيف النون روايتان. وأولو أي أصحاب. والأحلام: جمع حلم بالكسر وهو التأني
في الامر. والنهى: جمع نهية بالضم: وهي العقل، قاله في المجموع وغيره. وفي شرح مسلم: النهى: العقول، وأولو الأحلام:
العقلاء، وقيل: البالغون، فعلى القول الأول يكون اللفظان بمعنى، ولاختلاف اللفظ عطف أحدهما على الآخر تأكيدا،
وعلى الثاني معناه البالغون العقلاء. ومحل ما ذكر ما إذا حضر الجميع دفعة واحدة، فلو سبق الصبيان بالحضور لم يؤخروا للرجال
اللاحقين كما لو سبقوا إلى الصف الأول فإنهم أحق به على الصحيح، نقله في الكفاية عن القاضي حسين وغيره وأقره
لأنهم من جنسهم بخلاف الخناثى والنساء، وإنما تؤخر الصبيان على الرجال كما قال الأذرعي إذا لم يسعهم صف الرجال
وإلا كمل بهم. وقيل: إن كان الصبيان أفضل من الرجال كأن كانوا فسقة والصبيان صلحاء قدموا عليهم، قاله الدارمي.
(وتقف إمامتهن) ندبا (وسطهن) بسكون السين، لثبوت ذلك عن فعل عائشة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما، رواه
البيهقي بإسناد صحيح. أما إذا أمهن غير المرأة من رجل أو خنثى فإنه يتقدم عليهن.
فائدة: كل موضع ذكر فيه وسط إن صلح فيه بين فهو بالتسكين كما هنا وإن لم يصلح فيه ذلك كجلست وسط
الدار فهو بالفتح. قال الأزهري، وقد أجازوا في المفتوح الاسكان ولم يجيزوا في الساكن الفتح. ومثل المرأة في ذلك
عار أم بصراء في ضوء، فلو كانوا عراة فإن كانوا عميا أو في ظلمة أو في ضوء لكن إمامهم مكتس استحب أن يتقدم
إمامهم كغيرهم بناء على استحباب الجماعة لهم، وإن كانوا بصراء بحيث يتأتى نظر بعضهم بعضا، فالجماعة في حقهم وانفرادهم
سواء كما مر، فإن صلوا جماعة في هذه الحالة وقف الإمام وسطهم كما مر. قال ابن الرفعة عن الإمام
والمتولي: هذا إذا أمكن
وقوفهم صفا وإلا وقفوا صفوفا مع غض البصر، وبهذا جزم المصنف في مجموعه في باب ستر العورة. وإذا اجتمع الرجال
مع النساء والجميع عراة لا يصلين معهم لا في صف ولا في صفين بل يتنحين ويجلسن خلفهم ويستدبرون القبلة حتى تصلي
الرجال، وكذا عكسه. فإن أمكن أن يتوارى كل طائفة بمكان آخر حتى تصلي الطائفة الأخرى فهو أفضل، ذكره
في المجموع. وأفضل صفوف الرجال ولو مع غيرهم والخناثى الخلص كذلك أولها، وهو الذي يلي الإمام، وإن تخلله
منبر أو نحوه، ثم الأقرب فالأقرب إليه، وأفضلها للنساء مع الرجال أو الخناثى، وللخناثى مع الرجال آخرها، لأن ذلك أليق
وأستر. نعم الصلاة على الجنازة صفوفها كلها في الفضيلة سواء إذا اتحد الجنس، لأن تعدد الصفوف فيها مطلوب، والسنة
أن يوسطوا الإمام ويكتنفوه من جانبيه، وجهة يمينه أفضل. ويسن سد فرج الصفوف، وأن لا يشرع في صف حتى يتم الأول
وأن يفسح لمن يريده، وهذا كله مستحب لا شرط، فلو خالفوا صحت صلاتهم مع الكراهة، وقد تقدم بعض ذلك.
(ويكره وقوف المأموم فردا) عند اتحاد الجنس، أما إذا اختلف كامرأة ولا نساء أو خنثى ولا خناثى فلا كراهة، بل يندب
كما علم مما مر. والأصل في ذلك ما رواه البخاري عن أبي بكرة: أنه دخل والنبي (ص) راكع فركع قبل أن يصل
إلى الصف، فذكر ذلك له (ص) فقال: زادك الله حرصا ولا تعد ويؤخذ من ذلك عدم لزوم الإعادة، وما رواه الترمذي
وحسنه: أن النبي (ص) رأى رجلا يصلي خلف الصف فأمره أن يعيد الصلاة حملوه على الندب جمعا بين الدليلين،
على أن الشافعي ضعفه، وكان يقول في القديم: لو ثبت قلت به. وفي رواية لأبي داود بسند البخاري: فركع دون الصف
ثم مشى إلى الصف ولم يأمره بالإعادة مع أنه أتى ببعض الصلاة منفردا خلف الصف. قال الشارح: ويؤخذ من
الكراهة فوات فضيلة الجماعة على قياس ما سيأتي في المقارنة. (بل يدخل الصف إن وجد سعة) قال في الروضة كأصلها:
أو فرجة، وكتب بخطه على الحاشية: الفرجة خلاء ظاهر. والسعة أن لا يكون خلاء ويكون بحيث لو دخل بينهما لوسعه
اه‍. فتعبير المصنف بالسعة أولى من اقتصار غيره على الفرجة، إذ يفهم من السعة الفرجة ولا عكس. وفي
الروضة
كأصلها: له أن يخرق الصف إذا لم يجد فيه فرجة وكانت في صف قدامه لتقصيرهم بتركها اه‍. والسعة كالفرجة في ذلك.
وقضية إطلاق المصنف أنه يدخل لما ذكر في أي صف كان، وبه صرح ابن دقيق العيد، ولا يتقيد بصف أو صفين كما
247

زعمه الأسنوي، ونقله في المهمات عن جمع كثير وعن نصه في الام فإنه التبس عليه مسألة بمسألة، فإن من نقل عنهم
إنما فرضوا المسألة في التخطي يوم الجمعة، والتخطي: هو المشي بين القاعدين، والكلام هنا في شق الصفوف وهم قيام،
وقد صرح المتولي في التتمة بكونهما مسألتين، والفرق بينهما أن سد الفرجة التي في الصفوف مصلحة عامة له وللقوم
بإتمام صلاته وصلاتهم، فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة كما ورد في الحديث، وأمر (ص) بسد الفرج
وقال: إني رأيت الشيطان يدخل بينهما بخلاف ترك التخطي، فإن الإمام يستحب له أن لا يحرم حتى يسوي بين
الصفوف. (وإلا) أي وإن لم يجد سعة، (فليجر) ندبا في القيام (شخصا) واحدا من الصف إليه (بعد الاحرام)
خروجا من خلاف من قال من العلماء لا تصح صلاته منفردا خلف الصف. قال الزركشي وغيره: وينبغي أن يكون محله
إذا جوز أن يوافقه، وإلا فلا جر بل يمتنع لخوف الفتنة. (وليساعده المجرور) ندبا بموافقته لينال فضل المعاونة على البر
والتقوى. ولا يجر أحدا من الصف إذا كان اثنين لأنه يصير أحدهما منفردا، ولهذا كان الجر فيما ذكر بعد الاحرام،
فإن أمكنه الخرق ليصطف مع الإمام أو كان مكانه يسع أكثر من اثنين، فينبغي كما قال شيخنا أن يخرق في الأولى
ويجرهما معا في الثانية.
تنبيه: قد يفهم من قول المصنف: بعد الاحرام أنه لا يجوز قبله، وبه صرح ابن الرفعة لئلا يخرجه عن الصف لا إلى
صف. ونص في البويطي على أنه يقف منفردا ولا يجذب أحدا، قال الأذرعي: وهو المختار مذهبا ودليلا، وبسط
ذلك. (و) الثاني من شروط الاقتداء: أنه (يشترط علمه) أي المأموم (بانتقالات الإمام) ليتمكن من متابعته، (بأن
يراه) المأموم (أو) يرى (بعض صف أو يسمعه أو مبلغا) وإن لم يكن مصليا، وإن كان كلام الشيخ أبي محمد في الفروق
يقتضي اشتراط كونه مصليا. ويشترط أن يكون ثقة كما صرح به ابن الأستاذ في شرح الوسيط والشيخ أبو محمد
في الفروق،
وإن ذكر في المجموع في باب الاذان أن الجمهور قالوا: يقبل خبر الصبي فيما طريقه المشاهدة أو بأن يهديه ثقة إذا كان
أعمى أو أصم أو بصيرا في ظلمة أو نحوها. والشرط الثالث من شروط الاقتداء: أن يعدا مجتمعين ليظهر الشعار والتوادد
والتعاضد، إذ لو اكتفي بالعلم بالانتقالات فقط كما قاله عطاء لبطل السعي المأمور به والدعاء إلى الجماعة، وكان كل أحد يصلي
في سوقه أو بيته بصلاة الإمام في المسجد إذا علم بانتقالاته. ولاجتماعهما أربعة أحوال، لأنهما إما أن يكونا بمسجد أو بغيره
في قضاء أو بناء، أو يكون أحدهما بمسجد والآخر بغيره، وقد أخذ في بيانها فقال: (وإذا جمعهما مسجد صح الاقتداء
وإن بعدت المسافة) بينهما فيه، (وحالت أبنية) كبئر وسطح ومنارة تنفذ أبوابها، وإن أغلقت فلا بد أن يكون لسطح
المسجد باب من المسجد لأنه كله مبني للصلاة، فالمجتمعون فيه مجتمعون لإقامة الجماعة مؤدون لشعارها، ولا بد أن
يكون التنافذ على العادة كما قاله بعض المتأخرين. واعلم أن التسمير للأبواب يخرجها عن الاجتماع، فإن لم تتنافذ
أبوابها إليه أو لم يكن التنافذ على العادة، فلا يعد الجامع بها مسجدا واحدا وإن خالف في ذلك البلقيني فيضر الشباك.
فلو وقف من ورائه بجدار المسجد ضر، ووقع للأسنوي أنه لا يضر، قال الحصني: وهو سهو، والمنقول في الرافعي أنه
يضر، أي أخذا من شرطه تنافذ أبنية المسجد وعلو المسجد كسفله، فهما مسجد واحد كما يؤخذ مما مر، وكذا
رحبته معه وهي ما كان خارجه محجرا عليه لأجله، قال في أصل الروضة: ولم يفرقوا بين أن يكون بينهما طريق أم لا.
وقال ابن كج: إن انفصلت فكمسجد آخر، واستحسنه في الشرح الصغير. قال الزركشي: وقول المجموع: والمذهب
الأول فقد نص الشافعي والأصحاب على صحة الاعتكاف فيها لا حجة فيه، إذ لا نزاع في صحة الاعتكاف فيها، وإنما النزاع
في أنه إذا كان بينها وبين المسجد طريق يكونان كمسجد واحد أم لا، والأشبه ما قاله ابن كج، وعليه يحمل إطلاق
غيره اه‍. ومع هذا فالأوجه أنه يأتي في ذلك التفصيل الآتي بين أن يكون قديما فيضر أو حادثا فلا، وسيبين عن قريب.
وتوقف الأسنوي فيما إذا لم يدر أوقفت مسجدا أم لا هل تكون مسجدا لأن الظاهر أن لها حكم متبوعها، أم لا،
لأن
248

الأصل عدم الوقف. والمتجه الأول كما قاله بعض المتأخرين، وهو مقتضى كلام الشيخين. وخرج بالرحبة الحريم، وهو
الموضع المتصل به المهيأ لمصلحته كانصباب الماء وطرح القمامات فيه فليس له حكمه. قال الزركشي: ويلزم الواقف
تمييز الرحبة من الحريم لتعطي حكم المسجد، والمساجد المتلاصقة التي ينفذ أبواب بعضها إلى بعض كالمسجد
الواحد في صحة الاقتداء وإن بعدت المسافة واختلفت الأبنية وانفرد كل مسجد بإمام ومؤذن وجماعة، نعم إن حال
بينهما نهر قديم بأن حفر قبل حدوثها فلا تكون كمسجد واحد، بل تكون كمسجد وغيره، وسيأتي حكمه. أما النهر
الطارئ الذي حفر بعد حدوثها فلا يخرجها عن كونها كمسجد واحد، وكالنهر في ذلك الطريق، ويأتي هذا التفصيل
في المسجد الواحد إذا كان فيه نهر أو طريق. (ولو كانا) أي الإمام والمأموم (بفضاء) أي مكان واسع كصحراء،
(شرط أن لا يزيد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع) بذراع الآدمي، وهو شبران لقرب ذلك وبعدما وراءه في العادة، (تقريبا)
لعدم ورود ضابط من الشارع، (وقيل تحديدا) ونسب إلى أبي إسحاق المروزي، وقال الماوردي: إنه غلط. فعلى
الأول لا تضر زيادة ثلاثة أذرع كما في التهذيب وغيره، لأن هذا التقدير مأخوذ من عرف الناس وهم يعدونهما في ذلك
مجتمعين، وقيل: ما بين الصفين في صلاة الخوف، إذ سهام العرب لا تجاوز ذلك غالبا. وعلى الثاني يضر، أي زيادة
كانت. (فإن تلاحق) أي وقف (شخصان أو صفان) خلف الإمام أو عن يمينه أو يساره أو أحدهما وراء الآخر
أو عن يمينه أو يساره، (اعتبرت المسافة) المذكورة (بين الأخير والأول) من الشخصين أو الصفين، لأن الأول في
هذه الحالة كإمام الأخير، حتى لو كثرت الاشخاص أو الصفوف وبلغ ما بين الإمام والأخير فراسخ لم يضر. (وسواء)
فيما ذكر (الفضاء المملوك والوقف والمبعض) أي الذي بعضه ملك وبعضه وقف والموات الخالص، والمبعض: أي الذي
بعضه موات وبعضه ملك، وقد ذكره في المحرر، قال الأسنوي: ولكن نسيه المصنف. وينتظم من ذلك ست مسائل
ثلاثة في الخالص وثلاثة في المبعض بأن يأخذ كل واحد مشتركا مع ما بعده، ولا فرق في ذلك بين المحوط
والمسقف
وغيره. (ولا يضر) بين الشخصين أو الصفين، (الشارع المطروق والنهر المحوج إلى سباحة) وهي بكسر السين العوم، (
على الصحيح) فيهما، لأن ذلك لا يعد حائلا في العرف، كما لو كانا في سفينتين مكشوفتين في البحر، والثاني: يضر
ذلك، أما الشارع فقد تكثر فيه الزحمة فيعسر الاطلاع على أحوال الإمام، وأما النهر فقياسا على حيلولة الجدار.
وأجاب الأول بمنع العسر والحيلولة المذكورين. ولا يضر جزما الشارع غير المطروق والنهر الذي يمكن العبور من أحد
طرفيه إلى الآخر من غير سباحة بالوثوب فوقه أو المشي فيه أو على جسر ممدود على حافتيه. (فإن كان) أي الإمام والمأموم
(في بناءين كصحن وصفة أو بيت) من مكان واحد كالمدرسة المشتملة على هذه الأمور، أو مكانين كما دل عليه
كلام الرافعي لكن مع مراعاة بقية الشروط من محاذاة الأسفل للأعلى بجزء منهما. (فطريقان: أصحهما إن كان بناء
المأموم يمينا أو شمالا) لبناء الإمام، (وجب اتصال صف من أحد البناءين بالآخر) كأن يقف واحد بطرف الصفة وآخر
بالصحن متصلا به لأن اختلاف الأبنية يوجب الافتراق، فاشترط الاتصال ليحصل الربط بالاجتماع.
(تنبيه) المراد ببناء المأموم موقفه أي موقف المأموم عن يمين الإمام أو يساره. وفهم من قول المصنف اتصال
صف أنه لو وقف شخص واحد في البناءين وكان أحد شقيه في بناء الإمام والشق الآخر في بناء المأموم أنه لا يكفي في
حصول الاتصال، وهو كذلك كما صرح به صاحب الكافي، لأن الواحد ليس بصف، وإن كان الشرط اتصال المناكب بين
بناء المأموم وبناء الإمام فقط، فأما من على يمين هذا في بنائه وعلى يسار الآخر في بنائه فكالفضاء حتى لا يشترط اتصال
249

الواقفين بمن حصل به اتصال الصف في البناء. (ولا تضر) في الاتصال المذكور (فرجة) بفتح الفاء وضمها كغرفة،
(لا تسع واقفا) أو تسع واقفا لكن تعذر الوقوف عليها كعتبة، (في الأصح) نظرا للعرف في ذلك لأن أهل العرف
يعدونه صفا واحدا. والثاني: يضر، نظرا إلى الحقيقة. فإن وسعت واقفا فأكثر ولم يتعذر الوقوف عليها ضر. (وإن كان)
بناء المأموم (خلف بناء الإمام، فالصحيح) من وجهين: أحدهما منع القدوة لانتفاء الربط بما تقدم، (صحة القدوة)
للحاجة (بشرط) الاتصال الممكن بين أهل الصفوف، وهو (أن لا يكون بين الصفين) أو الشخصين الواقفين
بطرف البناءين (أكثر من ثلاثة أذرع) تقريبا، لأن بهذا المقدار يحصل الاتصال العرفي بين الصفين أو الشخصين
لامكان السجود. (والطريق الثاني: لا يشترط إلا القرب) بأن لا يزيد ما بين الإمام والمأموم على ثلاثمائة ذراع تقريبا، سواء
أكان بناء المأموم يمينا أم شمالا أم خلف بناء الإمام للقياس الذي ذكره بقوله: (كالفضاء) هذا (إن لم يكن حائل) يمنع
الاستطراق (أو حال) ما فيه (باب نافذ) ولا بد أن يقف بحذائه صف أو رجل كما في الروضة وأصلها. فإن قيل: قوله
حال باب نافذ معترض، فإن النافذ ليس بحائل، وصوابه كما في المحرر: فإن لم يكن بين البناءين حائل أو كان بينهما باب
نافذ. أجيب بأن مراده ما قدرته تبعا للشارح، ولكن لو عبر بما عبر به المحرر كان أولى. (فإن حال ما يمنع المرور
لا الرؤية) كالشباك أو يمنع الرؤية لا المرور كالباب المردود، (فوجهان) أصحهما في أصل الروضة عدم صحة القدوة أخذا
من تصحيحه الآتي في المسجد مع الموات.
فائدة: لم يقع في المتن ذكر خلاف بلا ترجيح سوى هذا، وقوله في النفقات: والوارثان يستويان أم يوزع
بحسبه وجهان، ولا ثالث لهما فيه إلا ما كان مفرعا على ضعيف كالأقوال المفرعة على البينتين المتعارضتين هل يفرع
أم يوقف أم يقسم؟ أقوال بلا ترجيح فيها. (أو) حال (جدار) أو باب مغلق (بطلت) أي لم تصح القدوة، (باتفاق
الطريقين) لأن الجدار معد للفصل بين الأماكن. (قلت: الطريق الثاني أصح، والله أعلم) للقياس المتقدم، وهذا
ما عليه معظم العراقيين، والأولى طريقة المراوزة. (وإذا صح اقتداؤه في بناء آخر) أي غير بناء الإمام على الطريق
الأول بشرط الاتصال أو الثاني بلا شرط، (صح اقتداء من خلفه) أو بجنبه، (وإن حال جدار بينه) أي من خلفه أو
بجنبه (وبين الإمام) ويصير من صح اقتداؤه لمن خلفه أو بجنبه كالإمام له، فلا يحرم قبل إحرامه ولا يركع قبل ركوعه
ولا يتقدم عليه وإن كان متأخرا عن الإمام، وقضية هذا أنه لو فسدت صلاة من حصل به الاتصال بحدث أو غيره لم
يكن له متابعة الإمام لانقطاع الرابطة بينهما، لكن في فتاوى البغوي أنه لو أحدث من حصل به الاتصال في خلال الصلاة
أو تركها عمدا جاز للغير متابعة الإمام لأن الاتصال شرط لابتداء الانعقاد لا للدوام، إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في
الابتداء، لأن حكم الدوام أقوى. وفيها: ولو رد الريح الباب في أثناء الصلاة فإن أمكنه فتحه حالا فتحه ودام على المتابعة
وإلا فارقه. ويجوز أن يقال انقطعت القدوة كما لو أحدث إمامه، فلو تابعه بطلت صلاته، كذا نقله الأذرعي. ونقل
الأسنوي في شرحه أن البغوي قال في فتاويه: ولو كان الباب مفتوحا وقت الاحرام فانغلق في أثناء الصلاة لم يضر اه‍.
فلعل الافتاء تعدد. وهذا الثاني هو الظاهر كنظائر المسألة، وأما الأول فهو مشكل، فلذلك قال بعض المتأخرين بأن
صورته فيما إذا لم يعلم هو وحده انتقالات الإمام بعد رد الباب وبأنه مقصر لعدم إحكامه فتحه بخلاف البقية، وبعضهم
بأن الحائل أشد من البعد، بدليل أن الحائل في المسجد يضر بخلاف البعد. (و) على الطريقة الأولى (لو وقف في علو)
250

في غير مسجد كصفة مرتفعة وسط دار مثلا (وإمامه في سفل) كصحن تلك الدار (أو عكسه) أي الوقوف، أي وقوفا
عكس الوقوف المذكور. ولو عبر بقوله: أو بالعكس كما عبر به في المحرر لكان أوضح. (شرط) مع ما مر من وجوب
اتصال صف من أحدهما بالآخر (محاذاة بعض بدنه) أي المأموم (بعض بدنه) أي الإمام، بأن يحاذي رأس الأسفل قدم
الاعلى مع اعتدال قامة الأسفل حتى لو كان قصيرا لكنه لو كان معتدلا لحصلت المحاذاة صح الاقتداء، وكذا لو كان قاعدا
ولو قام لحاذي كفى.
تنبيه: المراد بالعلو البناء ونحوه. أما الجبل الذي يمكن صعوده فداخل في الفضاء، لأن الأرض فيها عال ومستو،
فالمعتبر فيه القرب على الطريقين، فالصلاة على الصفا أو المروة أو جبل أبي قبيس بصلاة الإمام في المسجد صحيحة
وإن كان أعلى منه كما نص عليه الشافعي رضي الله تعالى عنه، وله نص آخر فيه بالمنع حمل على ما إذا بعدت المسافة أو
حالت أبنية هناك. وكلام المصنف يوهم أن اشتراط المحاذاة يأتي على الطريقين معا، فإنه ذكره مجزوما به بعد استيفاء
ذكر الطريقين، وليس مرادا، بل إنما هو يأتي على طريقة اشتراط الاتصال في البناء كما قدرته، أما من لا يشترط فإنه لا يعتبر
ذلك بل يشترط أن لا يزيد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع تقريبا. وينبغي أن تعتبر المسافة من رأس السافل إلى قدم العالي،
فلو ذكر ذلك في أثناء الطريقة الأولى لاستراح من هذا الابهام. ثم هذا الشرط المذكور المبني على الطريقة الأولى ليس
كافيا وحده بل يضم إلى ما تقدم كما قدرته أيضا، حتى لو وقف الإمام على صفة مرتفعة والمأموم في الصحن فلا بد على
الطريقة المذكورة من وقوف رجل على طرف الصفة ووقوف آخر في الصحن متصلا به كما قاله الرافعي وأسقطه من
الروضة، وخرج بقولنا في غير مسجد ما إذا كانا فيه فإنه يصح مطلقا كما سبق، ولو كانا في سفينتين مكشوفتين في البحر
فكاقتداء أحدهما بالآخر في الفضاء، فيصح بشرط أن لا يزيد ما بينهما على ثلاثمائة ذراع تقريبا وإن لم تشد إحداهما
بالأخرى، فإن كانتا مسقفتين أو إحداهما فقط فكاقتداء أحدهما بالآخر في بيتين، فيشترط مع قدر المسافة وعدم الحائل
وجود الواقف بالمنفذ إن كان بينهما منفذ، والسفينة التي فيها بيوت كالدار التي فيها بيوت والسرادقات بالصحراء، قال
في المهمات: والمراد بها هنا ما يدار حول الخيام كسفينة مكشوفة والخيام كالبيوت. (ولو وقف) المأموم (في) نحو (موات)
كشارع (وإمامه في مسجد) متصل بنحو الموات، (فإن لم يحل شئ) بين الإمام والمأموم (فالشرط التقارب) وهو ثلاثمائة
ذراع على ما مر، (معتبرا من آخر المسجد) لأن المسجد كله شئ واحد لأنه محل للصلاة فلا يدخل في الحد الفاصل. (وقيل
من آخر صف) فيه لأنه المتبوع، إن لم يكن فيه إلا الإمام فمن موقفه. قال الدارمي: ومحل الخلاف إذا لم تخرج الصفوف
عن المسجد، فإن خرجت عنه فالمعتبر من آخر صف خارج المسجد قطعا، فلو كان المأموم في المسجد والإمام خارجه اعتبرت
المسافة من طرفه الذي يلي الإمام. فإن قيل: قوله فإن لم يحل شئ، متعقب، فإنه لو كان في جدار المسجد باب ولم يقف بحذائه أحد لم
تصح القدوة. أجيب بأن هذا علم من قوله فيما مر، وإذا صح اقتداؤه في بناء صح اقتداء من خلفه. (وإن حال جدار) لا باب فيه
(أو) فيه (باب مغلق منع) الاقتداء لعدم الاتصال، (وكذا الباب المردود والشباك) يمنع (في الأصح) لحصول الحائل من
وجه، إذ الباب المردود مانع من المشاهدة، والشباك مانع من الاستطراق. والثاني: لا يمنع، لحصول
الاتصال من وجه وهو الاستطراق
في الصورة الأولى والمشاهدة في الثانية. قال الأسنوي: نعم، قال البغوي في فتاويه: لو كان الباب مفتوحا وقت الاحرام
فانغلق في أثناء الصلاة لم يضر اه‍. وقد قدمنا الكلام عليه. أما الباب المفتوح فيجوز اقتداء الواقف بحذائه والصف
المتصل به وإن خرجوا عن المحاذاة، بخلاف العادة عن محاذاته، فلا يصح اقتداؤه للحائل كما سبق. (قلت: يكره
251

ارتفاع المأموم على إمامه وعكسه) أما الثاني فللنهي عنه كما أخرجه أبو داود والحاكم، وأما الأول فقياسا على الثاني، هذا
إذا أمكن وقوفهما على مستو، وإلا فلا كراهة، ولا فرق في ذلك بين أن يكونا في مسجد أو لا. (إلا لحاجة) تتعلق بالصلاة،
كتعليم الإمام المأمومين صفة الصلاة كما ثبت في الصحيحين، وكتبليغ المأموم تكبير الإمام. (فيستحب) ارتفاعهما لذلك.
(ولا يقوم) ندبا غير المقيم من مريدي الصلاة قائما، (حتى يفرغ المؤذن) أو غيره (من الإقامة) ولو كان شيخا، لأنه ما لم
يفرغ منهما لم يحضر وقت الدخول، وهو قبل التمام مشغول بالإجابة. أما العاجز عن القيام فيقعد أو يضطجع أو نحو
ذلك حينئذ، ولذلك قال في الكفاية: ولعل المراد بالقيام التوجه ليشمل المصلي قاعدا أو مضطجعا، ومنه قوله تعالى:
* (وقوموا لله قانتين) *.
تنبيه: قد يفهم كلامه أن الداخل والمؤذن في الإقامة يجلس ليقوم إليها، وبه قال الشيخ أبو حامد، لكن الأصح
في المجموع خلافه. ولو حذف لفظ المؤذن وقال بعد الفراغ من الإقامة لكان أخصر وليشمل ما قدرته، إذ قد يقيم غير
المؤذن، لكنه جرى على الغالب فلا مفهوم له. أما المقيم فيقيم قائما إذا كان قادرا فإن القيام من سننها، نبه على ذلك المحب
الطبري، وهو ظاهر. (ولا يبتدئ) مريد فعل الفريضة المقام لها مع الجماعة الحاضرة ندبا، (نفلا بعد شروعه) أي المقيم (فيها)
أي الإقامة، بل يكره له ذلك لخبر مسلم: إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة وفي معنى الشروع قرب إقامتها. (فإن كان
فيه) أي النفل (أتمه) ندبا، (إن لم يخش) أي يخفف بإتمامه (فوت الجماعة) بسلام الإمام، (والله أعلم) لقوله تعالى: * (ولا تبطلوا
أعمالكم) * فإن خاف فوتها، فإن كانت الجماعة في غير الجمعة قطع النافلة لها ندبا وإلا فوجوبا. نعم إن علم إدراك جماعة
أخرى لتلاحق الناس، فالمتجه إتمامه، وحينئذ فيحمل لفظ الجماعة على الجنس لا المعهودة وهي التي أقيمت، نبه على
ذلك الأسنوي.
تتمة: لو أقيمت الجماعة والمنفرد يصلي حاضرة صبحا أو ثلاثية أو رباعية وقد قام في الأخيرتين إلى ثالثة أتم صلاته
ودخل في الجماعة، وإن لم يقم فيها إلى ثالثة استحب له قلبها نفلا ويقتصر على ركعتين ثم يدخل في الجماعة. نعم إن خشي
فوت الجماعة لو أتم الركعتين استحب له قطع صلاته واستئنافها جماعة، ذكره في المجموع، وجزم في التحقيق بأن محل
ذلك أيضا إذا تحقق إتمامها في الوقت. لو سلم من ركعتين وإلا حرم السلام منهما. أما إذا كان يصلي في فائتة فلا يقلبها نفلا
ليصليها جماعة في حاضرة أو فائتة أخرى، فإن كانت الجماعة في تلك الفائتة بعينها ولم يكن القضاء فوريا جاز له قطعها
من غير ندب وإلا فلا يجوز كما قاله الزركشي، ويجب قلب الفائتة نفلا إن خشي فوت الحاضرة. والشرط الرابع من
شروط الاقتداء ما ذكره بقوله:
فصل: شرط القدوة: أي شرط صحتها في الابتداء (أن ينوي المأموم مع التكبير) للاحرام (الاقتداء) أو الائتمام
(أو الجماعة) بالإمام الحاضر إما مأموما أو مؤتما به، لأن التبعية عمل فافتقرت إلى نية إذ ليس للمرء إلا ما نوى، ولا يكفي
كما قال الأذرعي إطلاق نية الاقتداء من غير إضافة إلى الإمام. واعتبر اقترانها بالتكبير كسائر ما يجب التعرض له من صفات
صلاته، وهذا في غير من أحرم منفردا ثم نوى متابعة الإمام فإنه جائز كما سيأتي. فإن قيل: الاكتفاء بنية الجماعة مشكل
إذ ليس فيها ربط فعله بفعل غيره لأنها مشتركة بين الإمام والمأموم. أجيب بأنها تتعين بالقرينة الحالية للاقتداء وللإمامة،
فإن أضاف الجماعة إلى ما قدرته في كلام المصنف زال الاشكال بالكلية. (والجمعة كغيرها) في اشتراط النية المذكورة (على
الصحيح) فيشترط مقارنتها للتكبير لتعلق صلاته بصلاة الإمام، فإن لم ينو ذلك انعقدت صلاته منفردا إلا في الجمعة
252

فلا تنعقد أصلا لاشتراط الجماعة فيها. والثاني: لا يشترط فيها ما ذكر لأنها لا تصح إلا جماعة، فكان التصريح بنية الجمعة
مغنيا عن التصريح بنية الجماعة. (فلو ترك هذه النية وتابعه في) جنس (الافعال) أو تابعه وهو شاك في
النية المذكورة
نظرت، فإن ركع معه أو سجد مثلا بعد انتظار كثير عرفا (بطلت صلاته على الصحيح) حتى لو عرض له الشك في التشهد
الأخير لم يجز أن يوقف سلامه لأنه على سلامه وقف صلاته على صلاة غيره من غير رابط بينهما، والثاني: يقول: المراد بالمتابعة
هنا أن يأتي بالفعل بعد الفعل لا لأجله وإن تقدمه انتظار كثير له. قال الشارح: فلا نزاع في المعنى، أي لأن القولين لم
يتواردا على محل واحد. وخرج بقوله: تابعه ما لو وقعت المتابعة اتفاقا، وبقولنا: بعد انتظار كثير عرفا ما لو كان الانتظار يسيرا
عرفا، فإن ذلك لا يضر لأنه في الأول لا يسمى متابعة، وفي الثانية مغتفر لقلته. ولا يؤثر شكه فيما ذكر بعد السلام كما في
التحقيق وغيره بخلاف الشك في أصل النية كما مر، لأنه شك في الانعقاد بخلافه هنا. ويستثنى مما علم من أن الشك
لا يبطل الصلاة بغير متابعة ما لو عرض في الجمعة فيبطلها إذا طال زمنه لأن نية الجماعة فيها شرط.
تنبيه: لو عبر المصنف بفعل بدل الافعال لاستغنى عن التقدير المذكور. وما ذكرته في مسألة الشك تبعا لشيخنا
هو المعتمد وإن اقتضى قول العزيز وغيره أن الشك فيها كالشك في أصل النية أنها تبطل بالانتظار الطويل وإن لم يتابع
وباليسير مع المتابعة. (ولا يجب) على المأموم (تعيين الإمام) في النية باسمه كزيد أو عمرو، بل تكفي نية الاقتداء بالإمام
أو الحاضر أو نحو ذلك، لأن مقصود الجماعة لا يختلف بالتعيين وعدمه، بل قال الإمام وغيره: الأولى أن لا يعينه في نيته
لأنه ربما عينه فبان خلافه فتبطل صلاته كما قال. (فإن عينه) ولم يشر إليه (وأخطأ) كأن نوى الاقتداء بزيد فبان عمرا
أو اعتقد أنه الإمام فبان مأموما أو غير مصل، (بطلت صلاته) أي لم تنعقد لربطه صلاته بمن لم ينو الاقتداء به، كمن عين
الميت في صلاته أو نوى العتق في كفارة ظهار وأخطأ فيهما. وقول الأسنوي بطلانها بمجرد الاقتداء غير مستقيم، بل
تصح صلاته منفردا لأنه لا إمام له، ثم إن تابعه المتابعة المبطلة بطلت، مردود بأن فساد النية مفسد للصلاة، كما لو اقتدى بمن
شك في أنه مأموم وبأن ما يجب التعرض له فيها إذا عينه وأخطأ بطلت كما مر، فإن علق القدوة بشخصه سواء أعبر عنه
بمن في المحراب أم بزيد هذا أم بهذا الحاضر أم بهذا أم بالحاضر، وظنه زيدا فبان عمرا لم يضر، لأن الخطأ لم يقع في الشخص
لعدم تأتيه فيه بل في الظن، ولا عبرة بالظن البين خطؤه، بخلاف ما لو نوى القدوة بالحاضر مثلا ولم يعلقها بشخصه لأن
الحاضر صفة لزيد الذي ظنه وأخطأ فيه، والخطأ في الموصوف يستلزم الخطأ في الصفة فبان أنه اقتدى بغير الحاضر. (ولا
يشترط للإمام) في صحة الاقتداء في غير الجمعة (نية الإمامة) لاستقلاله (بل تستحب) ليحوز فضيلة الجماعة، فإن لم ينو
لم تحصل له إذ ليس للمرء من عمله إلا ما نوى، وتصح نيته لها مع تحرمه وإن لم يكن إماما في الحال لأنه سيصير إماما وفاقا
للجويني وخلافا للعمراني في عدم الصحة حينئذ. وإذا نوى في أثناء الصلاة حاز الفضيلة من حين النية ولا تنعطف نيته
على ما قبلها، بخلاف ما لو نوى الصوم في النفل قبل الزوال فإنها تنعطف على ما قبلها، لأن النهار لا ينبعض صوما وغيره بخلاف
الصلاة فإنها تنبعض جماعة وغيرها. أما في الجمعة فيشترط أن يأتي بها فيها، فلو تركها لم تصح جمعته لعدم استقلاله فيها
سواء أكان من الأربعين أم زائدا عليهم. نعم إن لم يكن من أهل الوجوب ونوى غير الجمعة لم يشترط ما ذكر، وظاهر أن
الصلاة المعادة كالجمعة إذ لا تصح فرادى فلا بد من نية الإمام فيها (فإن أخطأ) الإمام في غير الجمعة وما ألحق بها (في
تعيين تابعه) الذي نوى الإمامة به (لم يضر) لأن غلطه في النية لا يزيد على تركها. أما إذا نوى ذلك في الجمعة أو ما ألحق بها
فيضر، لأن ما يجب التعرض له يضر الخطأ فيه كما مر. (وتصح قدوة المؤدي بالقاضي والمفترض بالمتنفل وفي الظهر بالعصر
وبالعكوس) أي القاضي بالمؤدي والمتنفل بالمفترض وفي العصر بالظهر، إذ لا يتغير نظم الصلاة باختلاف النية. واحتج
الشافعي رضي الله تعالى عنه على اقتداء المفترض بالمتنفل بخبر الصحيحين: أن معاذا كان يصلي مع النبي (ص)
253

عشاء الآخرة ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم تلك الصلاة وفي رواية للشافعي: هي له تطوع ولهم مكتوبة، ومع صحة ذلك
يسن تركه خروجا من الخلاف، لكن محله في غير الصلاة المعادة، أما فيها فيسن كفعل معاذ، نبه على ذلك شيخي.
تنبيه: تعبير المحرر بالجواز أولى من تعبير المصنف بالصحة لاستلزامه لها بخلاف العكس. (وكذا الظهر) ونحوه
كالعصر، (بالصبح والمغرب، وهو) أي المقتدي حينئذ (كالمسبوق) يتم صلاته بعد سلام إمامه. (ولا تضر
متابعة الإمام
في القنوت) في الصبح (والجلوس الأخير في المغرب) كالمسبوق، (وله فراقه) أي بالنية (إذا اشتغل بهما) بالقنوت والجلوس
مراعاة لنظم صلاته، والمتابعة أفضل من مفارقته كما في المجموع. فإن قيل: كيف يجوز للمأموم متابعة الإمام في القنوت
مع أنه ليس مشروعا للمأموم، فكيف يجوز له تطويل الركن القصير به؟ أجيب بأن ذلك اغتفر له لأجل المتابعة.
فإن قيل: قد مر أنه إذا اقتدى بمن يرى تطويل الاعتدال ليس له متابعته بل يسجد وينتظره أو يفارقه، فهلا كان هنا
كذلك أجيب بأن تطويل الاعتدال هنا يراه المأموم في الجملة وهناك لا يراه المأموم أصلا. (ويجوز الصبح خلف الظهر)
وكذا كل صلاة هي أقصر من صلاة الإمام (في الأظهر) وقطع به كعكسه بجامع الاتفاق في النظم، والثاني: لا يجوز، لأنه
يحتاج إلى الخروج عن صلاة الإمام قبل فراغه. ومحل الخلاف إذا لم يسبقه الإمام بقدر الزيادة، فإن سبقه بها انتفى كما يؤخذ
من التعليل. (فإذا قام) الإمام (للثالثة فإن شاء) المأموم (فارقه) بالنية (وسلم) لانقضاء صلاته، (وإن شاء انتظره ليسلم معه)
لغرض أداء السلام مع الجماعة. (قلت: انتظاره أفضل، والله أعلم) لما ذكر، هذا إذا لم يخش خروج الوقت قبل تخلل إمامه،
وإلا فلا ينتظره، ومحل الانتظار في الصبح كما صوره في الكتاب. أما لو صلى المغرب خلف رباعية فقام إمامه إلى الرابعة
فلا ينتظره على الأصح في التحقيق وغيره لأنه يحدث جلوس تشهد لم يفعله الإمام بخلافه في تلك، فإنه وافقه فيه ثم استدام.
وعبارة الشيخين: لأنه أحدث تشهدا، وعبارة ابن المقري: أحدث جلوسا والمراد من العبارتين ما قلناه بأن يقال مراد
الشيخين أحدث تشهدا مع جلوسه، ومراد ابن المقري أحدث جلوس تشهد، ويؤخذ من ذلك أنه لو ترك إمامه الجلوس
والتشهد في تلك أنه يلزمه مفارقته، وهو كذلك كما قال شيخي. وتصح صلاة العشاء خلف من يصلي التراويح، كما لو اقتدى
في الظهر بالصبح، فإذا سلم الإمام قام إلى باقي صلاته، والأولى أن يتمها منفردا، فإن اقتدى به ثانيا في ركعتين أخريين من
التراويح جاز كمنفرد اقتدى في أثناء صلاته بغيره. وتصح الصبح خلف من يصلي العيد والاستسقاء وعكسه لتوافقهما في
نظم أفعالهما، والأولى أن لا يوافقه في التكبير الزائد إن صلى الصبح خلف العيد أو الاستسقاء وفي تركه إن عكس اعتبارا
بصلاته، لا تضر موافقته في ذلك لأن الأذكار لا يضر فعلها وإن لم تندب ولا تركها وإن ندبت. (وإن) صلى الصبح خلف
من يصلي غيرها (وأمكنه القنوت في الثانية) بأن وقف الإمام يسيرا (قنت) ندبا تحصيلا لسنة ليس فيها مخالفة الإمام.
(وإلا) أي وإن لم يمكنه (تركه) خوفا من التخلف، ولا يسجد للسهو لأن الإمام يحمله عنه. (وله فراقه) بالنية (ليقنت)
تحصيلا للسنة، وتكون مفارقته بعذر فتركه أفضل. فإن لم ينو المفارقة وتخلف للقنوت وأدركه في السجدة الأولى لم يضر،
وقيل: هو كما لو ترك الإمام التشهد الأول فقعد هو لأجله. وفرق بأنهما هنا اشتركا في الرفع من الركوع فلم ينفرد المأموم به
بخلاف الجلوس للتشهد، ولا يشكل على الفرق ما لو جلس الإمام للاستراحة في ظنه لأن جلسة الاستراحة هنا غير مطلوبة
فلا عبرة بوجودها. والشرط الخامس من شروط الاقتداء: توافق نظم الصلاتين في الافعال الظاهرة كالركوع والسجود
وإن اختلفا في عدد الركعات. (فإن اختلفا فعلهما) أي الصلاتين (كمكتوبة وكسوف أو) مكتوبة، و (جنازة، لم
تصح) القدوة فيهما (على الصحيح) لتعذر المتابعة باختلاف فعلهما، والثاني: تصح لامكانها في البعض. ويراعى
254

ترتيب نفسه ولا يتابعه، ففي الجنازة إذا كبر الإمام الثانية يخير بين أن يفارقه أو ينتظر سلامه، ولا يتابعه في التكبير وفي
الكسوف يتابعه في الركوع الأول ثم يرفع ويفارقه أو ينتظره راكعا إلى أن يركع ثانيا فيعتدل ويسجد معه، ولا ينتظره
بعد الرفع لما فيه من تطويل الركن القصير. ومحل الأول إذا صلى الكسوف على الوجه الأكمل. أما إذا فعلت
ركعتين فقط كصلاة الصبح فتصح القدوة به، ومحله أيضا في غير ثاني قيام ثانية الكسوف، أما فيه فتصح لعدم المخالفة
بعدها. قال الأسنوي: ولا إشكال إذا اقتدى به في التشهد، قال: ومنع الاقتداء بمن يصلي جنازة أو كسوفا مشكل، بل
ينبغي أن يصح لأن الاقتداء به في القيام لا مخالفة فيه، ثم إذا انتهى إلى الافعال المخالفة فإن فارقه استمرت الصحة وإلا بطلت
كمن صلى في ثوب ترى عورته منه إذا ركع بل أولى، فينبغي حمل كلامهم على ما ذكرناه. وأجيب بأن المبطل لم يعرض
بعد الانعقاد، وهذا موجود عنده وهو اختلاف فعل الصلاتين الذي تتعذر معه المتابعة بعد الاقتداء. قال البلقيني:
وسجود التلاوة والشكر كصلاة الجنازة والكسوف. والشرط السادس من شروط الاقتداء: موافقة الإمام في أفعال الصلاة،
فإن ترك الإمام فرضا لم يتابعه في تركه لأنه إن تعمده فصلاته باطلة وإلا ففعله غير معتد به، أو ترك سنة أتى هو بها إن
لم يفحش تخلفه لها كجلسة الاستراحة وقنوت يدرك معه السجدة الأولى كما مر، لأن ذلك تخلف يسير. أما إذا فحش
التخلف لها كسجود التلاوة والتشهد الأول فلا يأتي بها، لخبر: إنما جعل الإمام ليؤتم به فلو اشتغل به بطلت صلاته
لعدوله عن فرض المتابعة إلى سنة، ويخالف سجود السهو والتسليمة الثانية لأنه يفعله بعد فراغ الإمام. والشرط السابع
من شروط الاقتداء المتابعة في أفعال الصلاة كما قال.
فصل: (تجب متابعة الإمام في أفعال الصلاة) لا في أقوالها على ما سيأتي. وكمال المتابعة يحصل (بأن يتأخر ابتداء
فعله) أي المأموم (عن ابتدائه) أي الإمام، أي ابتداء فعل الإمام، (ويتقدم) ابتداء فعل المأموم (على فراغه)
أي الإمام (منه) أي من الفعل، ففي الصحيحين: إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا وإذا ركع فاركعوا،
وأفهم تحريم التقدم في الافعال وإن لم تبطل كأن سبقه بركن. واحترز بالافعال عن الأقوال كالتشهد والقراءة، فإنه يجوز
فيها التقدم والتأخر إلا في تكبيرة الاحرام كما يعلم مما سيأتي، وإلا في السلام فيبطل تقدمه إلا أن ينوي المفارقة، ففيه
الخلاف فيمن نواها، وما وقع لابن الرفعة ومتابعيه من أنه لا يبطل خلاف المنقول. فإن قيل: تفسيره المتابعة بما ذكر
يناقضه قوله بعد: فإن قارنه لم يضر. أجيب بأن مراده بيان المتابعة الكاملة كما قدرته في كلامه، أو بأن قوله أولا: تجب
المتابعة، أي في الجملة، وهو الحكم على المجموع من أحوال المتابعة لا حكم كل فرد فرد. ولا شك أن المتابعة في كلها
واجبة والتقدم بجميعها مبطل بلا خلاف. والحكم ثانيا بأنه لا يضر إنما ذكره للحكم من حيث الافراد، والحكم على
الكل غير الحكم على الافراد، وهذا كقول الشيخ في التنبيه: من السنن الطهارة ثلاثا ثلاثا مع أن الأولى واجبة،
وإنما أراد الحكم على الجملة من حيث هي، وحيث أمكن الجمع ولو بوجه بعيد فهو أولى من التناقض. فإن قيل: يرد
الجواب الأول ذكر ما ذكر عقب قوله: تجب متابعة الإمام، وذلك يقتضي أنه أراد تفسير المتابعة الواجبة. أجيب بأن هذا
كقولنا تجب الصلاة بفعل كذا وكذا، فيذكر أولا وجوبها ثم يفسر كمالها. ولو عبر المصنف بالتبعية بدل المتابعة لكان
أولى، لأن المتابعة تقتضي المفاعلة غالبا. (فإن قارنه) في فعل أو قول (لم يضر) أي لم يأثم، لأن القدوة منتظمة
لا مخالفة فيها، نعم هي مكروهة ومفوتة لفضيلة الجماعة لارتكابه المكروه. قال الزركشي: ويجري ذلك في سائر المكروهات
أي المتعلقة بالجماعة، وضابطه أنه حيث فعل مكروها مع الجماعة من مخالفة مأمور به في الموافقة والمتابعة كالانفراد عنهم
فإن فضلها، إذ المكروه لا ثواب فيه، مع أن صلاته جماعة إذ لا يلزم من انتفاء فضلها انتفاؤها. فإن قيل: فما فائدة حصول
الجماعة مع انتفاء الثواب فيها؟ أجيب بأن فائدته سقوط الاثم على القول بوجوبها إما على العين أو على الكفاية، والكراهة
على القول بأنها سنة مؤكدة لقيام الشعار ظاهرا. وهل المراد بالمقارنة المفوتة لذلك المقارنة في جميع الأفعال أو يكتفي
255

بمقارنة البعض؟ قال الزركشي: لم يتعرضوا له، ويشبه أن المقارنة في ركن واحد لا تفوت ذلك، أي فضيلة كل الصلاة،
بل ما قارن فيه سواء أكان ركنا أو أكثر، وهذا ظاهر. وأما ثواب الصلاة فلا يفوت بارتكاب مكروه، فقد صرحوا
بأنه إذا صلى بأرض مغصوبة أن المحققين على حصول الثواب فالمكروه أولى. ولا يقال هذا الامر خارجي لأنا نقول:
وهذا المكروه كذلك، إذ لو كان لذات الصلاة لمنع انعقادها، كالصلاة في الأوقات المكروهة على القول بأنها كراهة تنزيه.
(إلا) في (تكبيرة إحرام) فإنه إن قارنه فيها أو في بعضها أو شك في أثنائها أو بعدها ولم يتذكر عن قرب هل قارنه فيها
أم لا، كما صرح به في أصل الروضة، أو ظن التأخر فبان خلافه لم تنعقد صلاته، هذا إذا نوى الاتمام مع التكبير لظاهر
الاخبار، ولأنه نوى الاقتداء بغير مصل، فيشترط تأخر جميع تكبيرته عن جميع تكبيرة الإمام. وفارق ذلك المقارنة
في بقية الأركان بانتظام القدوة فيها لكون الإمام في الصلاة. وإنما قيد البطلان بما إذا نوى الائتمام مع التكبير للاحتراز
عمن أحرم منفردا ثم اقتدى، فإنه تصح قدوته وإن تقدم تكبيره على تكبير الإمام.
تنبيه: استثناء تكبيرة الاحرام من الافعال استثناء منقطع فإنه ركن قولي، نعم يصير استثناء متصلا بما قدرته
في كلامه. وقضية الاستثناء جواز شروع المأموم في التكبير قبل فراغ الإمام منه، وليس مرادا، بل يجب تأخير جميعها
عن جميع تكبير الإمام كما مر. وتعبير المصنف بالمقارنة أولى من تعبير المحرر بالمساوقة، لأن المساوقة في اللغة مجئ
واحد بعد واحد لا معا. (وإن تخلف) المأموم (بركن) فعلي عامدا بلا عذر، (بأن فرغ الإمام منه وهو) أي المأموم
(فيما قبله) كأن ابتدأ الإمام رفع الاعتدال والمأموم في قيام القراءة، (لم تبطل) صلاته (في الأصح) لأنه تخلف يسير،
سواء أكان طويلا كالمثال المتقدم أو قصيرا كأن رفع الإمام رأسه من السجدة الأولى وهوى من الجلسة بعدها للسجود
والمأموم في السجدة الأولى. والثاني: تبطل، لما فيه من المخالفة من غير عذر. أما إذا تخلف بدون ركن كأن ركع
الإمام دون المأموم ثم لحقه قبل أن يرفع رأسه من الركوع، أو تخلف بركن بعذر لم تبطل صلاته قطعا. (أو) تخلف
(بركنين) فعليين (بأن فرغ) الإمام (منهما وهو فيما قبلهما) كأن ابتدأ الإمام هوي السجود والمأموم في قيام القراءة،
(فإن لم يكن عذر) كأن تخلف لقراءة السورة أو لتسبيحات الركوع والسجود، (بطلت) صلاته لكثرة المخالفة، سواء
أكانا طويلين كأن تخلف المأموم في السجدة الثانية حتى قام الإمام وقرأ وركع ثم شرع في الاعتدال، أو طويلا وقصيرا
كالمثال المتقدم، وأما كونهما قصيرين فلا يتصور. (وإن كان) عذر (بأن أسرع) الإمام (قراءته) مثلا أو كان المأموم
بطئ القراءة لعجز لا لوسوسة، (وركع قبل إتمام المأموم الفاتحة) ولو اشتغل بإتمامها لاعتدال الإمام وسجد قبله، (فقيل
يتبعه) لتعذر الموافقة (وتسقط البقية) للعذر فأشبه المسبوق، وعلى هذا لو تخلف كان متخلفا بغير عذر. (والصحيح)
لا يتبعه بل (يتمها) وجوبا (ويسعى خلفه) أي الإمام على نظم صلاة نفسه، (ما لم يسبق بأكثر من ثلاثة أركان) بل بثلاثة
فما دونها، (مقصودة) في نفسها (وهي الطويلة) أخذا من صلاته (ص) بعسفان، فلا يعد منها القصير وهو الاعتدال
والجلوس بين السجدتين كما مر في سجود السهو أنهما قصيران، وإن قال الرافعي في الشرح الصغير والمصنف في التحقيق
إن الركن القصير مقصود فيسعى خلفه إذا فرغ من قراءة ما لزمه قراءته قبل فراغ الإمام من السجدة الثانية، أو مع فراغه منها بأن
ابتدأ الرفع اعتبارا ببقية الركعة. (فإن سبق بأكثر) من الثلاثة بأن لم يفرغ من الفاتحة إلا والإمام قائم عن السجود
أو جالس للتشهد، (فقيل يفارقه) بالنية لتعذر الموافقة، (والأصح) لا تلزمه المفارقة بل (يتبعه فيما هو فيه ثم يتدارك
256

بعد سلام الإمام) ما فاته كالمسبوق، لما في مراعاة نظم صلاته في هذه الحالة من المخالفة الفاحشة. (ولو لم يتم) المأموم
(الفاتحة لشغله بدعاء الافتتاح) أو التعوذ وقد ركع الإمام (فمعذور) في التخلف لا تمامها كبطئ القراءة فيأتي فيه ما مر.
تنبيه: قد علم مما مر أن المراد بالفراغ من الركن الانتقال عنه لا الاتيان الواجب منه، وأنه لا فرق بين أن
يتلبس بغيره أم لا، وهو الأصح كما في التحقيق، وقيل: يعتبر ملابسة الإمام ركنا آخر. (هذا كله في) المأموم (الموافق)
وهو من أدرك مع الإمام محل قراءة الفاتحة المعتدلة. أما المسبوق وهو بخلافه فهو ما بينه بقوله: (فأما مسبوق ركع الإمام
في) أثناء قراءته (فاتحته فالأصح أنه إن لم يشتغل بالافتتاح والتعوذ) أو بأحدهما (ترك قراءته) لبقية فاتحته (وركع)
معه لأنه لم تدرك غير ما قرأه، (وهو) بالركوع مع الإمام (مدرك للركعة) كما لو أدركه في الركوع فإن الفاتحة تسقط
عنه ويركع معه ويجزئه، فإن تخلف بعد قراءة ما أدركه من الفاتحة لا تمامها وفاته الركوع معه وأدركه في الاعتدال بطلت
ركعته لأنه لم يتابعه في معظمها وكان تخلفه بلا عذر فيكون مكروها، ولو ركع الإمام قبل فاتحة المسبوق فحكمه كما لو
ركع فيها، ولو شك هل أدرك زمنا يسع الفاتحة أو لا لزمه قراءتها، لأن إسقاطها رخصة ولا يصار إليه إلا بيقين كما أفتى
به شيخي. (وإلا) بأن اشتغل بالافتتاح أو التعوذ، (لزمه قراءة بقدره) أي بقدر حروفه من الفاتحة لتقصيره بعدوله عن
فرض إلى نفل. والثاني: يوافقه مطلقا، ويسقط باقيها لحديث: وإذا ركع فاركعوا، واختاره الأذرعي تبعا لترجيح
جماعة. والثالث: يتم الفاتحة مطلقا لأنه أدرك القيام الذي هو محلها فلزمته، فإن ركع مع الإمام على هذا. والشق الثاني
من التفصيل وهو ما إذا اشتغل بالافتتاح أو التعوذ بطلت صلاته، وإن تخلف عن الإمام على الوجه الثاني وهو القائل
بأنه يترك القراءة ويركع مع الإمام مطلقا. والشق الأول من التفصيل، وهو قوله: ما إذا لم يشتغل بالافتتاح والتعوذ لاتمام الفاتحة
حتى رفع الإمام من الركوع فاتته الركعة كما مرت الإشارة إليه لأنه غير معذور، ولا تبطل صلاته إذا قلنا التخلف بركن
لا يبطل، وقيل تبطل لأنه ترك متابعة الإمام فيما فاتت به ركعة، فهو كالتخلف بها. أما المتخلف على الشق الثاني من
التفصيل، وهو ما إذا اشتغل بالافتتاح أو التعوذ ليقرأ قدر ما فاته، فقال الشيخان ك البغوي: هو معذور لالزامه بالقراءة،
و المتولي ك القاضي حسين: غير معذور لاشتغاله بالسنة عن الفرض، أي فإن لم يدرك الإمام في الركوع فاتته الركعة كما قاله
الغزالي كإمامه ولا يركع، لأنه لا يحسب له بل يتابعه في هويه للسجود كما جزم به في التحقيق. ولا ينافيه قول البغوي
بعذره في التخلف لأن معناه أنه يعذر بمعنى أنه لا كراهة ولا بطلان لتخلفه قطعا، لا بمعنى أنه إن لم يدرك الإمام في الركوع
لم تفته الركعة، اللهم إلا أن يريد أنه كبطئ القراءة فإنه لا تفوته الركعة إذا لم يدرك الإمام في الركوع. قال الفارقي:
وصورة التخلف للقراءة أن يظن أنه يدرك الإمام قبل سجوده وإلا فليتابعه قطعا ولا يقرأ، وذكر مثله الروياني في حليته
والغزالي في إحيائه. ولكنه مخالف لنص الام على أن صورتها أن يظن أنه يدركه في ركوعه وإلا فليفارقه ويتم صلاته،
نبه على ذلك الأذرعي، وهذا كما قال شيخي هو المعتمد، لكن لا تلزمه المفارقة إلا عند هويه للسجود لأنه يصير متخلفا
بركنين، قال الأذرعي: وقضية التعليل بتقصيره بما ذكر أنه إذا ظن إدراكه في الركوع فأتى بالافتتاح والتعوذ فركع
الإمام على خلاف العادة بأن اقتصر على الفاتحة وأعرض عن السنة التي قبلها والتي بعدها يركع معه وإن لم يكن قرأ
من الفاتحة شيئا، ومقتضى إطلاق الشيخين وغيرهما أنه لا فراق اه‍. وهذا المقتضى كما قال شيخنا هو المعتمد لبقاء محل
القراءة. ولا نسلم أن تقصيره بما ذكر منتف في ذلك، إذ لا عبرة بالظن البين خطؤه. (ولا يشتغل المسبوق) ندبا (بسنة
بعد التحرم) كدعاء افتتاح أو تعوذ، (بل) يشتغل (بالفاتحة) فقط، لأن الاهتمام بشأن الفرض أولى ويخفها حذرا من فواتها،
(إلا أن يعلم) أي يظن (إدراكها) مع اشتغاله بالسنة كعادة الإمام فيأتي بها ثم يأتي بالفاتحة حيازة لفضيلتهما،
فإن
257

علم أن الإمام لا يقرأ السورة أو يقرأ سورة قصيرة لا يتمكن بعد قراءته من إتمام الفاتحة، فعليه أن يقرأ الفاتحة معه كما قاله
في الأنوار في باب صفة الصلاة. ومعنى عليه: أي يسن له. (ولو علم المأموم في ركوعه) مع الإمام كما قاله الشيخان،
(أنه ترك الفاتحة) بنسيان (أو شك) في فعلها هل قرأها أم لا (لم يعد إليها) أي إلى محل قرأتها ليأتي بها،
أي يحرم عليه ذلك لفوات محل القراءة. (بل يصلي ركعة بعد سلام الإمام) تداركا كالمسبوق. أما إذا علم ذلك في
ركوعه ولم يركع الإمام بأن ركع قبله، فيجب عليه العود ليقرأها، إذ لا متابعة حينئذ فهو كالمنفرد. ولو شك بعد قيام
إمامه في أنه سجد معه أم لا يسجد ثم تابعه، فلو قام معه ثم شك في ذلك لم يعد للسجود كما أفتى بهما القاضي،
ولو سجد معه ثم شك في أنه ركع معه أم لا لم يعد للركوع قاله البلقيني تخريجا على الثانية، ولو شك بعد رفع إمامه من
الركوع في أنه ركع معه أم لا عاد للركوع تخريجا على الأول. وضابط ذلك أنه إن تيقن فوت محل المتروك لتلبسه مع الإمام
بركن لم يعد له وإلا عاد. قال الزركشي: ولو تذكر في قيام الثانية بعد أن ركع مع الإمام في الأولى وشك
هل قرأ الفاتحة أم لا ثم تذكر أنه كان قرأها حسبت له تلك الركعة، بخلاف ما لو كان منفردا أو إماما فشك في ركوعه في القراءة
فمضى ثم تذكر في قيام الثانية، أي مثلا أنه كان قد قرأها في الأولى، فإن صلاته تبطل، إذ لا اعتداد بفعله مع
الشك اه‍. ولو تعمد ترك الفاتحة حتى ركع الإمام، قال ابن الرفعة: قال القاضي: فالمذهب أنه يخرج نفسه
من متابعته اه‍. والأوجه كما قال شيخنا أنه يشتغل بقراءتها إلا أن يخاف أن يتخلف عنه بركنين فعليين فيخرج نفسه. (فلو علم)
المأموم تركها (أو شك) فيه (وقد ركع الإمام ولم يركع هو قرأها) وجوبا لبقاء محلها (وهو متخلف
بعذر) فيأتي فيه ما مر في بطئ القراءة، وقيل: بغير عذر لتقصيره بالنسيان، (وقيل): لا يقرأ بل (يركع ويتدارك)
ركعة (بعد سلام الإمام) لأجل المتابعة. ولو انتظر سكتة إمامه ليقرأ فيها الفاتحة فركع إمامه عقبها فكالناسي
خلافا للزركشي في قوله بسقوط الفاتحة عنه. (ولو سبق إمامه بالتحرم لم تنعقد) صلاته لأنه ربط صلاته بمن ليس في صلاة،
وقد فهمت من منع المقارنة بطريق الأولى، فهي في الحقيقة مكررة. وظاهر كلام المصنف أنه لا فرق بين أن
يكون متعمدا أو ظانا أن إمامه أحرم فأحرم ثم بان خلافه، وهو كذلك كما هو ظاهر نص البويطي وصرحا به،
فقالا: ولو ظن أنه متأخر فبان خلافه فلا صلاة له، وهذا هو المعتمد وإن نقل عن فتاوى البغوي أن صلاته انعقدت منفردا.
قال الزركشي: وعلم منه أنه لو لم يبين خلافه صحت صلاته، وهو كذلك، وهذه مما يفرق فيه بين الظن
والشك. (أو) سبقه
(بالفاتحة أو التشهد) بأن فرغ من ذلك قبل شروع الإمام فيه (لم يضره) ذلك في صحة الاقتداء لأنه لا يظهر به
مخالفة فاحشة، (ويجزئه) ذلك، أي يحسب له ما أتى به لما ذكر. (وقيل) لا يجزئه، و (تجب إعادته) إما مع قراءة الإمام
أو بعدها، وهو أولى إن تمكن لأنه أتى به أولا في غير محله، لأن فعله مرتب على فعل الإمام، فإن لم يعد بطلت
صلاته. (ولو تقدم) المأموم على إمامه (بفعل كركوع وسجود إن كان) ذلك (بركنين بطلت) صلاته إذا كان
عامدا عالما بالتحريم لفحش المخالفة، وسواء أكانا طويلين أم طويلا وقصيرا كما مر في التخلف. فإن كان ناسيا
أو جاهلا لم تبطل لكن لا يعتد بتلك الركعة، بل يتداركها بعد سلام الإمام. قال في أصل الروضة: ولا يخفى بيان
السبق بركنين من قياس ما ذكرناه في التخلف، ولكن مثله العراقيون بأن ركع قبله، فلما أراد أن يركع رفع، فلما أراد أن
يرفع سجد، فلم يجتمعا في الرجوع ولا في الاعتدال، وهو مخالف لما سبق في التخلف، فيجوز أن يستويا بأن
يقدر مثل ذلك هنا أو بالعكس، وأن يختص هذا بالتقدم لفحشه اه‍. والصحيح كما قال شيخي أن التقدم كالتأخر،
258

وقال النسائي: ظاهر كلام الشيخين التسوية. وأفهم كلام المصنف أنه لو تقدم أو تأخر بركنين أحدهما قولي
والآخر فعلي لا يضر، وهو كذلك، ومثله في الأنوار بالفاتحة والركوع. (وإلا) بأن كان التقدم بأقل من ركنين، سواء
أكان بركن أم بأقل أم بأكثر، (فلا) تبطل صلاته لقلة المخالفة ولو تعمد السبق به لأنه يسير كعكسه، وله انتظاره
فيما سبقه به كأن ركع قبله، فالرجوع إليه مستحب ليركع معه إن تعمد السبق جبرا لما فاته، فإن سها به تخير بين
الانتظار والعودة والسبق بركن عمدا، كأن ركع ورفع والإمام قائم حرام، لخبر مسلم: لا تبادروا الإمام إذا كبر فكبروا
وإذا ركع فاركعوا وفي رواية صحيحة رواها الشيخان: أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل رأس الإمام أن يحول الله رأسه
رأس حمار؟. ويؤخذ من ذلك أن السبق ببعض الركن، كأن ركع قبل الإمام ولحقه الإمام في الركوع أنه كالسبق بركن،
وهو كذلك كما جرى عليه شيخنا. (وقيل: تبطل بركن) تام في العمد لمناقضته الاقتداء، بخلاف التخلف، إذ لا يظهر فيه
فحش مخالفة.
فصل: في قطع القدوة وما تنقطع به وما يتبعهما. (إذا خرج الإمام من صلاته) بحدث أو غيره (انقطعت
القدوة) به لزوال الرابطة، وحينئذ فيسجد لسهو نفسه ويقتدي بغيره وغيره به. (فإن لم يخرج) أي الإمام (
وقطعها
المأموم) بنية المفارقة بغير عذر، (جاز) مع الكراهة لمفارقته للجماعة المطلوبة وجوبا أو ندبا مؤكدا، بخلاف
ما إذا فارقه لعذر فلا كراهة لعذره وصحت صلاته في الحالين لأنها إما سنة على قول فالسنن لا تلزم بالشروع إلا في الحج
والعمرة، أو فرض كفاية على الصحيح، فكذلك إلا في الجهاد وصلاة الجنازة والحج والعمرة، ولان الفرقة الأولى
فارقت النبي (ص) في ذات الرقاع كما سيأتي، وفي الصحيحين: أن معاذا صلى بأصحابه العشاء فطول عليهم، فانصرف
رجل فصلى ثم أتى النبي (ص) فأخبره بالقصة فغضب وأنكر على معاذ ولم ينكر على الرجل ولم يأمره بالإعادة.
قال المصنف: كذا استدلوا به وهو استدلال ضعيف، إذ ليس في الخبر أنه فارقه وبنى، بل في رواية أنه سلم ثم استأنفها
فهو إنما يدل على جواز الابطال لعذر. وأجيب بأن البيهقي قال: إن هذه الرواية شاذة انفرد بها محمد بن عبادة عن
سفيان، ولم يذكرها أكثر أصحاب سفيان، ثم بتقدير عدم الشذوذ، أجيب بأن الخبر يدل على المدعى أيضا، لأنه إذا
دل على جواز إبطال أصل العبادة فعلى إبطال صفتها أولى. واختلف في أي الصلاة كانت هذه القصة، ففي رواية لأبي
داود والنسائي أنها كانت في المغرب، وفي رواية الصحيحين وغيرهما أن معاذا افتتح سورة البقرة، وفي رواية للإمام أحمد
أنها كانت في العشاء، فقرأ: * (اقتربت الساعة) *. قال في المجموع: فيجمع بين الروايات بأن تحمل على أنهما قضيتان
لشخصين، ولعل ذلك كان في ليلة واحدة، فإن معاذا لا يفعله بعد النهي، ويبعد أنه نسيه. وجمع بعضهم بين روايتي
القراءة بأنه قرأ بهذه في ركعة وبهذه في أخرى. (وفي قول) قديم (لا يجوز) أن يخرج من الجماعة، لأنه التزم
القدوة في كل صلاته وفيه إبطال للعمل، وقد قال تعالى: * (ولا تبطلوا أعمالكم) *. (إلا بعذر) فتبطل الصلاة بدونه.
وضبط الإمام العذر بما (يرخص في ترك الجماعة) أي ابتداء، وقال: إنه أقرب معتبر، وألحقوا به ما ذكره المصنف
بقوله (ومن العذر تطويل الإمام) والمأموم لا يصبر على التطويل لضعف أو شغل لرواية الصحيحين في قصة معاذ أن
الرجل قال: يا رسول الله إن معاذا افتتح سورة البقرة ونحن أصحاب نواضح نعمل بأيدينا فتأخرت وصليت. (أو تركه
سنة مقصودة كتشهد) أول وقنوت فله فراقه ليأتي بتلك السنة.
تنبيه: لا يجوز قطع الجماعة في الركعة الأولى من الجمعة لما سيأتي بأن الجماعة في الركعة الأولى فيها شرط، وأما
في الثانية فليست بشرط فيها، فيجوز الخروج فيها خلافا لما في الكفاية من عدم الجواز، ولو تعطلت الجماعة بخروجه
وقلنا بأنها فرض كفاية، فينبغي كما قاله بعض المتأخرين عدم الخروج منها، لأن فرض الكفاية إذا انحصر في شخص
259

تعين عليه. ولو رأى المأموم الإمام متلبسا بما يبطل الصلاة ولو لم يعلم الإمام به كان رأى على ثوبه نجاسة غير معفو عنها
أو رأى خفه تخرق وجب عليه مفارقته. (ولو أحرم منفردا ثم نوى القدوة في خلال) أي أثناء (صلاته) قبل الركوع أو
بعده، (جاز في الأظهر) لقصة أبي بكر المشهورة لما جاء النبي (ص) والصحابة أخرجوا أنفسهم عن الاقتداء
به واقتدوا بالنبي (ص)، ولأنه يجوز أن يصلي بعض الصلاة منفردا ثم يقتدي به جماعة فيصير إماما، فكذا
يجوز أن يكون مأموما بعد أن كان منفردا. (وإن كان في ركعة أخرى) أي غير ركعة الإمام ولو متقدما عليه، لكنه مكروه
كما في المجموع عن النص واتفاق الأصحاب، والسنة أن يقلب الفريضة نفلا ويسلم من ركعتين إذا وسع الوقت كما مر،
والثاني: لا يجوز وتبطل به الصلاة، وما ذكره من جريان القولين مطلقا وهو الراجح. وقيل: محلهما إذا اتفقا في الركعة
الأولى أو ثانية، وإن كان في كل ركعة بطلت قطعا. وقيل: إن دخل قبل ركوعه صحت قطعا، والقولان فيمن دخل
بعده. وقيل: إن دخل بعد ركوعه بطلت قطعا، والقولان فيما قبله.
تنبيه: إنما قيد المصنف المسألة بما إذا أحرم منفردا لأنه إذا افتتحها في جماعة فيجوز بلا خلاف كما قاله في
المجموع، ومثله بما إذا أحرم خلف جنب جاهلا ثم نقلها عند التبين إليه بطهره أو إلى غيره أو أحدث إمامه وجوزنا
الاستخلاف فاستخلف. ولو قام المسبوقون أو المقيمون خلف مسافر لم يجز أن يقتدي بعضهم ببعض على ما في الروضة
في باب الجمعة من عدم جواز استخلاف المأمومين في الجمعة إذا تمت صلاة الإمام دونهم، وكذا في غيرها في الأصح لأن
الجماعة حصلت، فإذا أتموها فرادى نالوا فضلها، لكن مقتضى كلام أصلها هنا الجواز في غير الجمعة، وهو
المعتمد كما
صححه في التحقيق وكذا في المجموع وقال: اعتمده ولا تغتر بتصحيح الانتصار المنع. وعده في المهمات تناقضا، وجمع
غيره بينهما بأن الأول من حيث الفضيلة والثاني من حيث جواز اقتداء المنفرد، بدليل أنه في التحقيق بعد ذكره جواز
اقتداء المنفرد، قال: واقتداء المسبوق بعد سلام إمامه كغيره اه‍. وهو جمع متعين. (ثم) بعد اقتدائه به (يتبعه)
وجوبا فيما هو فيه، (قائما كان أو قاعدا) أو راكعا أو ساجدا وإن كان على غير نظم صلاته ولو لم يقتد به رعاية للمتابعة.
(فإن فرغ الإمام أولا فهو كمسبوق) فيتم صلاته، (أو) فرغ (هو) أولا، (فإن شاء فارقه) بالنية (وإن شاء انتظره)
في التشهد إن كان محل تشهد الإمام، (ليسلم معه) وانتظاره أفضل على قياس ما مر في اقتداء الصبح بالظهر. (وما أدركه
المسبوق) مع الإمام (فأول صلاته) وما يفعله بعد سلام إمامه آخرها، لقوله (ص): فما أدركتم فصلوا
وما فاتكم فأتموا متفق عليه، وإتمام الشئ لا يكون إلا بعد أوله. فإن قيل: في رواية مسلم: صل ما أدركت واقض
ما سبقك. أجيب بأن ذلك محمول على أصل الفعل كما في قوله تعالى: * (فإذا قضيتم مناسككم) * وقوله تعالى:
* (فإذا قضيت الصلاة) * إذ الجمعة لا تقضى، فلا يمكن حمل القضاء على الحقيقة الشرعية، لأنه عبارة عن
فعل الصلاة خارج وقتها. (فيعيد في الباقي القنوت) في محله إذا صلى مع الإمام الركعة الثانية من الصبح وقنت الإمام
فيها، وفعله مع الإمام مستحب للمتابعة. (ولو أدرك ركعة من المغرب) مع الإمام وأراد أن يتم صلاته، (تشهد في
ثانيته) ندبا، لأنها محل تشهده الأول، وتشهده مع الإمام للمتابعة، وهذا إجماع منا ومن المخالف، وهو حجة لنا
على أن ما يدركه هو أول صلاته. فإن قيل: لو أدرك ركعتين مع الإمام من الرباعية وفاتته قراءة السورة فيهما فإنه
يقرؤها في الأخيرتين. أجيب بأنه إنما سن له ذلك لئلا تخلو صلاته منها كما سبق في صفة الصلاة. (وإن أدركه)
أي المأموم الإمام (راكعا أدرك الركعة)، لخبر: من أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يقيم الإمام صلبه فقد
260

أدركها رواه الدارقطني وصححه ابن حبان في كتابه المسمى: وصف الصلاة بالسنة. وظاهر كلام المصنف أنه يدرك
الركعة سواء أتم الإمام الركعة فأتمها معه أم لا، كأن أحدث في اعتداله، وسواء أقصر المأموم في تحرمه حتى
ركع الإمام
ثم أحرم أم لا كما صرح به الإمام وغيره، وهو كذلك. وحكى ابن الرفعة عن بعض شروح المهذب أنه إذا قصر في التكبير
حتى ركع الإمام لا يكون مدركا للركعة. (قلت: بشرط أن يطمئن) يقينا (قبل ارتفاع الإمام عن أقل الركوع، والله أعلم)
كما ذكر الرافعي أن صاحب البيان صرح به وأن كلام كثير من النقلة أشعر به وهو الوجه، ولم يتعرض له الأكثرون اه‍.
وفي الكفاية ظاهر كلام الأئمة أنه لا يشترط اه‍. والوجه هو الأول لأن الركوع بدون الطمأنينة لا يعتد به فانتفاؤها
كانتفائه، وسيأتي في الجمعة أن من لحق الإمام المحدث راكعا لم تحسب ركعته على الصحيح، ومثله من لحق الإمام في ركوع
ركعة زائدة سهوا. والمعتبر في صلاة الكسوف إدراك الركوع الأول دون الثاني، فلو أدركه فيما بعد الركوع كاعتدال أو
فيه ولم يطمئن قبل ارتفاع الإمام عن أقل الركوع، أو اطمأن والإمام محدث أو في ركعة قام إليها سهوا، أو في ركوع زائد
كأن نسي تسبيح الركوع واعتدل ثم عاد إليه ظانا جوازه، أو أدركه في الركوع الثاني من الكسوف، لم تحسب له تلك الركعة.
ولو أتى المأموم مع الإمام الذي لم يحسب ركوعه بالركعة كاملة بأن أدرك معه قراءة الفاتحة حسبت له الركعة لأن الإمام
لم يتحمل عنه شيئا. نعم إن علم حدثه أو سهوه ونسي لزمه الإعادة لتقصيره كما علم مما مر. (ولو شك في إدراك حد الاجزاء)
المعتبر قبل ارتفاع الإمام، (لم تحسب ركعته في الأظهر) لأن الأصل عدم إدراكه، والثاني: تحسب لأن الأصل بقاء الإمام
فيه. ورجح الأول بأن الحكم بإدراك ما قبل الركوع به رخصة فلا يصار إليه إلا بيقين، قاله الرافعي وغيره: ويؤخذ منه
أنه لا يكتفي بغلبة الظن، وهو كذلك وإن نظر فيه الزركشي، وما جزم به من كون الخلاف قولين خالفه في الروضة، وصحح أنه
وجهان، وصوبه في المجموع مع تصحيحه طريقة القطع بالأول. (ويكبر) المسبوق الذي أدرك إمامه في الركوع (للاحرام)
وجوبا كغيره قائما، فإن وقع بعضه في غير القيام لم تنعقد صلاته فرضا قطعا ولا نفلا على الأصح. (ثم للركوع) ندبا لأنه
محسوب له فندب له التكبير. (فإن نواهما) أي الاحرام والركوع، (بتكبيرة لم تنعقد) صلاته للتشريك بين فرض
وسنة مقصودة. وادعى الإمام الاجماع عليه. (وقيل تنعقد نفلا) قال في المهذب: كما لو أخرج خمسة دراهم ونوى بها
الزكاة وصدقة التطوع، أي فتقع صدقة التطوع بلا خلاف كما قال المصنف في شرحه، ودفع القياس بأنه ليس فيه جامع
معتبر، بيانه كما قال شيخي بأن صدقة الفرض ليست شرطا في صحة صدقة النفل فإذا بطل الفرض صح النفل، بخلاف تكبيرة
الاحرام فإنها شرط في صحة تكبيرة الانتقال فلا جامع بينهما حينئذ. (فإن لم ينو بها شيئا لم تنعقد) صلاته (على الصحيح)
المنصوص وقول الجمهور، والثاني: تنعقد فرضا كما صرح به في المجموع لأن قرينة الافتتاح تصرفها إليه، والأول يقول
وقرينة الهوى تصرفها إليه، فإذا تعارضت القرينتان فلا بد من قصد صارف. فإن قيل: تصحيح الأول مشكل كما قاله
في المهمات، لأنه إذا أتى بالنية المعتبرة مقارنة للتكبير لم يفته إلا كون التكبير للتحرم، وقصد الأركان لا يشترط اتفاقا.
أجيب بأن محله إذا لم يوجد صارف، ولو نوى أحدهما منهما لم تنعقد أيضا. فإن نوى التحرم فقط أو الركوع فقط لم يخف
الحكم، قال في المحرر من الانعقاد في الأولى وعدمه في الثانية. (ولو أدركه) أي الإمام (في اعتداله فما بعده انتقل معه
مكبرا) وإن لم يكن محسوبا له متابعة للإمام، (والأصح أنه يوافقه) ندبا (في التشهد) والتحميد (والتسبيحات)
أيضا، والظاهر أنه يوافقه في إكمال التشهد، والثاني: لا يستحب ذلك لأنه غير محسوب له، وقيل: تجب موافقته في التشهد
الأخير كما جزم به الماوردي في صفة الصلاة لأنه بالاحرام لزمه اتباعه. (و) الأصح (أن من أدركه) أي الإمام (في سجدة)
261

من سجدتي الصلاة أو جلوس بينهما أو تشهد أول أو ثان، (لم يكبر للانتقال إليها) أي السجدة ولا إلى ما ذكر معها، لأن
ذلك غير محسوب له ولا موافقة للإمام في الانتقال إليه، بخلاف الركوع فإنه محسوب له، وبخلاف ما إذا انتقل بعد ذلك
مع الإمام من السجود أو غيره فإنه يكبر موافقة للإمام في الانتقال إليه، والثاني: يكبر كالركوع، وقد تقدم الفرق.
تنبيه: عبارة المصنف تشمل سجود التلاوة والسهو، وخرج ذلك بتقييدي لعبارته تبعا للمحرر. والأولى كما قال
الأذرعي أنه يقال إنه يكبر في سجدة التلاوة لأنها محسوبة له، أي إذا كان سمع قراءة آية السجدة. وأما سجود السهو
فينبني على الخلاف في أنه أيعيده في آخر صلاته أم لا؟ إن قلنا بالأول وهو الصحيح لم يكبر وإلا كبر. (وإذا سلم الإمام قام
المسبوق مكبرا) ندبا (إن كان) جلوسه مع الإمام (موضع جلوسه) لو كان منفردا بأن أدركه في ثانية المغرب أو
ثالثة الرباعية لأنه يكبر له المنفرد وغيره بلا خلاف. (وإلا) أي وإن لم يكن موضع جلوسه بأن أدركه في الركعة الأخيرة
من صبح أو غيره أو ثانية الرباعية، (فلا) يكبر عند قيامه (في الأصح) لأنه ليس موضع تكبيره وليس فيه موافقة
للإمام، والثاني: يكبر لئلا يخلو الانتقال عن ذكر. والسنة للمسبوق أن يقوم عقب تسليمتي الإمام، ويجوز أن يقوم عقب
الأولى ولو مكث بعدهما في موضع جلوسه لم يضر أو في غيره بطلت صلاته إن كان متعمدا عالما كما قاله في المجموع، نعم
يغتفر قدر جلسة الاستراحة كما أشار إليه الأذرعي، فإن كان ناسيا أو جاهلا لا تبطل صلاته ويسجد للسهو.
خاتمة: الجماعة في صبح الجمعة ثم صبح غيرها ثم العشاء ثم العصر أفضل. روى البيهقي في فضائل الأعمال: إن
أفضل الصلاة عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة في جماعة وروى الترمذي: من صلى العشاء في جماعة كان كقيام
نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان (له) كقيام ليلة وهو مبين لخبر مسلم: من صلى العشاء في جماعة فكأنما
قام نصف الليل، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله قال الأذرعي: وما ذكر ظاهر على المنصوص
المشهور من أن الصلاة الوسطى هي الصبح، أما إذا قلنا إنها العصر وهو الحق فيشبه أن تكون الجماعة فيها أفضل
من غيرها لتأكدها وعظم خطرها، والأوجه ما قالوه، وإن قلنا إن الوسطى هي العصر لما في القيام للصبح من
المشقة ويليها فيها العشاء بخلاف العصر. قال الزركشي: وسكتوا عن الجماعة في الظهر والمغرب فيحتمل التسوية بينهما،
ويحتمل تفضيل الظهر لأنها اختصت من بين سائر الصلوات ببدل وهو الجمعة، ويحتمل تفضيل المغرب لأن الشرع لم
يخفف فيها بالقصر اه‍. والأوجه التسوية لتقابل فضيلتهما.
(باب) كيفية (صلاة المسافر)
من حيث القصر والجمع المختص المسافر بجوازهما تخفيفا عليه لما يلحقه من مشقة السفر غالبا، وذكر في هذا الباب
الجمع بالمطر للمقيم. والأصل في القصر قبل الاجماع قوله تعالى: * (وإذا ضربتم في الأرض) * الآية،
قال يعلى بن أمية:
قلت لعمر: إنما قال الله تعالى: * (إن خفتم) * وقد أمن الناس، فقال: عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله
(ص)، فقال: صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته رواه مسلم. والأصل في الجمع أخبار تأتي. ولما كان
القصر أهم هذه الأمور بدأ المصنف به كغيره فقال: (إنما تقصر رباعية) فلا تقصر الصبح ولا المغرب بالاجماع، لأن
الصبح لو قصرت لم تكن شفعا فتخرج عن موضوعها، والمغرب لا يمكن قصرها إلى ركعتين لأنها لا تكون إلا وترا ولا
إلى ركعة لخروجها بذلك عن باقي الصلوات، ولا بد أن تكون الرباعية مكتوبة فلا تقصر المنذورة كأن نذر أن يصلي
أربع ركعات، ولا النافلة كأن نوى أربع ركعات سنة الظهر القبلية مثلا لعدم وروده. (مؤداة في السفر) فلا تقصر
فائتة الحضر في السفر كما سيأتي في كلامه. وأما فائتة السفر في السفر فسيأتي في كلامه أيضا. (الطويل) فلا تقصر في
262

القصير أو المشكوك في طوله في الامن بلا خلاف ولا في الخوف على الأصح، ولا فرق في ذلك بين الصبح وغيرها. وأما
خبر مسلم: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة فأجيب عنه بأنه يصلي
في الخوف ركعة مع الإمام وينفرد بأخرى. (المباح) أي الجائز لا مستوي الطرفين، سواء أكان واجبا كسفر حج، أو مندوبا
كزيارة قبر النبي (ص)، أو مباحا كسفر تجارة، أو مكروها كسفر منفرد، فلا قصر في سفر المعصية كما سيأتي. ولو خرج
لجهة معينة تبعا لشخص لا يعلم سبب سفره، أو لتنفيذ كتاب لا يعلم ما فيه، فالمتجه كما قال الأسنوي إلحاقه بالمباح، والاتمام
جائز كما يعلم مما سيأتي، فقد روى البيهقي بإسناد صحيح عن عائشة قالت: يا رسول الله قصرت - بفتح التاء - وأتممت - بضمها -
وأفطرت - بفتحها - وصمت - بضمها - قال: أحسنت يا عائشة وأما خبر: فرضت الصلاة ركعتين أي في السفر كما مر فمعناه
لمن المراد الاقتصار عليهما جمعا بين الأدلة. وما ضبطت به الحديث قاله بعض مشايخنا، وقال بعضهم: يجوز عكس الضبط
المذكور إذ ليس في الحديث ما يدل على الأول. ثم بين محترز قوله مؤداة فقال: (لا فائتة الحضر) أي لا تقصر إذا قضيت
في السفر لأنها ثبتت في ذمته تامة، وكذا لا تقصر في السفر فائتة مشكوك في أنها فائتة سفر أو حضر احتياطا، ولان الأصل
الاتمام. (ولو قضى فائتة السفر) الطويل المباح (فالأظهر قصره في السفر) الذي كذلك وإن كان غير سفر الفائتة، (دون
الحضر) نظرا إلى وجود السبب. والثاني: يقصر فيهما لأنه إنما يلزمه في القضاء ما كان يلزمه في الأداء. والثالث: يتم
فيهما لأنها صلاة ردت إلى ركعتين، فإذا فاتت أتى بالأربع كالجمعة. والرابع: إن قضاها في ذلك السفر قصر وإلا فلا. وقد
علم مما تقرر أن المراد من نفي الحصر للقصر في المقضية ما ذكر فيها من التفصيل على الراجح فيضم منه إلى المؤداة مقضية
فائتة السفر فيه، ولو سافر في أثناء الوقت ولو بعد مضي ما يسع تلك الصلاة قصر على النص، فإن بقي ما يسع ركعة إلى
أقل من أربع ركعات قصر أيضا إن قلنا إنها أداء وهو الأصح وإلا فلا.
تنبيه: سيأتي في الجمع أنه لو نوى التأخير وبقي من الوقت ما لا يسع الصلاة بكمالها - كما يؤخذ من كلام المجموع
وحمل الشارح عبارة الروضة عليه - أن الصلاة تصير قضاء ولا جمع، وفرق بأن النية ضعيفة بخلاف ما لو أوقع ركعة في الوقت
فإنها تكون أداء، فيؤخذ من ذلك أن صورة هذه المسألة أنه أوقع ركعة في السفر وإلا فتكون مقضية حضر فلا تقصر.
وهذا ظاهر لمن تأمله وإن لم يذكره أحد فيما علمت، وقد عرضت ذلك على شيخنا الشيخ ناصر الدين الطبلاوي فقبله
واستحسنه. (ومن سافر من بلدة) لها سور (فأول سفره مجاوزة سورها) المختص بها وإن تعدد كما قاله الإمام وغيره
أو كان داخله مزارع وخراب، لأن ما في داخل السور معدود من نفس البلد محسوب من موضع الإقامة، وإن كان لها
بعض سور وهو صوب سفره اشترط مجاوزته. (فإن كان وراءه عمارة) كدور ملاصقة له عرفا، (اشترط مجاوزتها) أيضا
(في الأصح) لأنها من مواضع الإقامة المعدودة من توابع البلد فيثبت لها حكمه. (قلت: الأصح لا يشترط) مجاوزتها (والله
أعلم) لأن ذلك لا يعد من البلد، ألا ترى أنه يقال سكن فلان خارج البلد؟ ويؤيده قول الشيخ أبي حامد: لا يجوز
لمن في البلد أن يدفع زكاته لمن هو خارج السور لأنه نقل للزكاة. وإطلاق الشيخين في الصوم اشتراط مفارقة العمران
حيث قالا: وإذا نوى ليلا ثم سافر فله الفطر إن فارق العمران قبل الفجر وإلا فلا يحمل على ما إذا سافر من بلد لا سور
لها ليوافق ما هنا، وهذا هو المعتمد، وقيل: يبقى على إطلاقه. ويفرق بأنه ثم لم يأت للعبادة ببدل بخلافه هنا. والسور
وهو بالواو لا بالهمزة الخندق كما قاله الجيلي. قال الأذرعي: وهل للسور المنهدم حكم العامر؟ فيه نظر اه‍. والأقرب كما قال شيخنا
أن له حكمه خلافا للدميري في قوله: إنه كالعدم. (فإن لم يكن) لها (سور) مطلقا أو في صوب سفره أو لها سور غير
مختص بها كأن جمع معها قرية أو أكثر ولو مع التقارب، (فأوله) أي سفره (مجاوزة العمران) وإن تخلله نهر أو بستان
أو خراب حتى لا يبقى بيت متصل ولا منفصل ليفارق محل الإقامة، (لا) مجاوزة (الخراب) الذي هجر بالتحويط على العامر
263

أو زرع أو اندرس بأن ذهبت أصول حيطانه لأنه ليس محل إقامة، بخلاف ما ليس كذلك فإنه يشترط مجاوزته كما صححه
في المجموع وإن كان ظاهر عبارة المصنف خلافه تبعا للغزالي والبغوي. (و) لا مجاوزة (البساتين) والمزارع به وإن اتصلتا
بما سافر منه أو كانتا محوطتين لأنهما لا يتخذان للإقامة. وظاهر عبارة المصنف أنه لا فرق في البساتين بين أن يكون
فيها قصور أو دور تسكن في بعض فصول السنة أو لا، وهو كذلك كما قال في المجموع إنه الظاهر، لأنها ليست من البلد، وقال
في المهمات: إن الفتوى عليه، أي وإن اشترط في الروضة مجاوزتها. وأسقط المصنف في المحرر المزارع التي زدتها لأنها لا تفهم
من البساتين بطريق الأولى. (والقرية) فيما ذكر (كبلدة) والقريتان المتصلتان يشترط مجاوزتهما والمنفصلتان ولو يسيرا
يكفي مجاوزة إحداهما. (وأول سفر ساكن الخيام) كالاعراب (مجاوزة الحلة) فقط وهي بكسر الحاء بيوت مجتمعة أو
متفرقة بحيث يجتمع أهلها للسمر في ناد واحد ويستعير بعضهم من بعض، ويدخل في مجاوزتها عرفا مرافقها كمطرح
الرماد وملعب الصبيان والنادي ومعاطن الإبل لأنها معدودة من مواضع إقامتهم. ويعتبر مع مجاوزة المرافق مجاوزة
عرض الوادي إن سافر عرضه والهبوط إن كان في ربوة والصعود إن كان في وهدة، هذا إن اعتدلت الثلاثة، فإن أفرطت
سعتها اكتفى بمجاوزة الحلة عرفا، والحلتان كالقريتين. وإن نزلوا على محتطب أو ماء فلا بد من مجاوزته إلا
أن يتسع
بحيث لا يختص بالنازلين، وظاهر أن ساكن غير الأبنية والخيام كنازل بطريق خال عنهما رحله كالحلة فيما تقرر.
فائدة: الخيمة أربعة أعواد تنصب وتسقف بشئ من نبات الأرض، وجمعها خيم كتمرة وتمر، وتجمع الخيم
على خيام فهو جمع الجمع. وأما ما يتخذ من شعر أو وبر أو نحوه فيقال له: خباء، وقد يطلق عليه خيمة تجوزا. ويعتبر
في سير البحر المتصل ساحله بالبلد جري السفينة أو الزورق إليها، قاله البغوي وأقره عليه ابن الرفعة وغيره، لكن في المجموع
إذا صار خارج البلد ترخص وإن كان ظهره ملصقا بالسور، وظاهر أن آخر عمران ما لا سور له كالسور، فيحتمل أن يقال
سير البحر يخالف سير البر أو يمنع أن آخر العمران كالسور. ويحمل كلام البغوي على ما لا سور له وهذا هو الظاهر،
ويؤيد هذا أنه لو اتصلت قرية لا سور لها بأخرى كذلك كانتا كقرية، بخلاف اتصال قرية لها سور بأخرى. وبما تقرر
علم أنه لا أثر لمجرد نية السفر لتعلق القصر في الآية بالضرب في الأرض، ويخالف نية الإقامة كما سيأتي، لأن الإقامة كالقنية
في مال التجارة كذا فرق الرافعي تبعا لبعض المراوزة، وقضيته كما قال الزركشي وغيره أنه لا يعتبر في نية الإقامة المكث
وليس مرادا كما سيأتي فالمسألتان كما قال الجمهور مستويتان في أن مجرد النية لا يكفي فلا حاجة لفارق. (وإذا) فارق ما شرط
مجاوزته ثم (رجع) إليه من دون مسافة القصر لحاجته كتطهر أو نوى الرجوع له وهو مستقل ماكث ولو بمكان لا يصلح
للإقامة، فإن كان وطنه صار مقيما بابتداء رجوعه أو نيته فلا يترخص في إقامته ولا رجوعه إلى أن يفارق وطنه تغليبا
للوطن. وحكى فيه في أصل الروضة وجها شاذا أنه يترخص إلى أن يصله اه‍. والأول هو المعتمد وإن نازع فيه البلقيني
والأذرعي وغيرهما. وإن لم يكن وطنه يترخص وإن دخله ولو كان دار إقامته لانتفاء الوطن فكانت كسائر المنازل، فإن
رجع من السفر الطويل (انتهى سفره ببلوغه ما شرط مجاوزته ابتداء) من سور أو غيره فيترخص إلى أن يصل إلى ذلك.
فإن قيل: ينبغي أن لا ينتهي سفره إلا بدخوله العمران أو السور كما لا يصير مسافرا إلا بخروجه منه، وفي نسخة من الروض
ما يدل لذلك. أجيب بأن ما في المتن هو المنقول، والفرق أن الأصل الإقامة فلا تنقطع إلا بتحقق السفر وتحققه
بخروجه
من ذلك، والسفر على خلاف الأصل فانقطع بمجرد الوصول وإن لم يدخل، فعلم أنه ينتهي بمجرد بلوغه مبتدأ سفره من
وطنه وإن كان مارا به سفره كأن خرج منه ثم رجع من بعيد قاصدا المرور به من غير إقامة لا من بلد يقصده ولا بلد له
فيها أهل وعشيرة لم ينو الإقامة بكل منهما فلا ينتهي سفره بوصوله إليهما، بخلاف ما إذا نوى الإقامة بهما ينتهي سفره
بذلك. وينتهي أيضا بما ذكره بقوله: (ولو نوى) المسافر المستقبل ولو محاربا (إقامة أربعة أيام) تامة بلياليها أو نوى
الإقامة وأطلق، (بموضع) عينه صالح للإقامة، وكذا غير صالح كمفازة على الأصح، (انقطع سفره بوصوله) أي بوصول
264

ذلك الموضع سواء أكان مقصده أم في طريقه، أو نوى بموضع وصل إليه إقامة أربعة أيام انقطع سفره بالنية مع مكثه إن
كان مستقلا. ولو أقام أربعة أيام بلا نية انقطع سفره بتمامها، لأن الله تعالى أباح القصر بشرط الضرب في الأرض، والمقيم
والعازم على الإقامة غير ضارب في الأرض، والسنة بينت أن ما دون الأربع لا يقطع السفر، ففي الصحيحين: يقيم
المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثا وكان يحرم على المهاجرين الإقامة بمكة ومساكنة الكفار، فالترخص في الثلاث يدل على
بقاء حكم السفر بخلاف الأربعة. ومنع عمر أهل الذمة الإقامة في الحجاز ثم أذن للتاجر منهم أن يقيم ثلاثة أيام، رواه مالك
بإسناد صحيح. وفي معنى الثلاث ما فوقها ودون الأربعة، وألحق بإقامة الأربعة نية إقامتها. أما لو نوى الإقامة وهو
سائر فلا يؤثر لأن سبب القصر السفر، وهو موجود حقيقة، وكذا لو نواها غير المستقل كالعبد ولو مكثا. (ولا يحسب
منها) أي الأربعة (يوما دخوله وخروجه) إذا دخل نهارا (على الصحيح) لأن في الأول الحط وفي الثاني الرحيل وهما
من أشغال السفر، والثاني: يحسبان كما يحسب في مدة مسح الخف يوم الحدث ويوم النزع. وفرق الأول بأن المسافر
لا يستوعب النهار بالسير، وإنما يسير في بعضه وهو في يومي الدخول والخروج سائر في بعض النهار بخلاف اللبث فإنه
مستوعب للمدة. وعلى القول بأنهما يحسبان إنما يحسبان بالتلفيق لا يومان كاملان، فلو دخل زوال السبت ليخرج زوال
الأربعاء أتم، أو قبله قصر، فإن دخل ليلا لم تحسب بقية الليلة ويحسب الغد، ومقامه في هذه الحالة دون ما يقيمه لو دخل
نهارا. واختار السبكي مذهب الإمام أحمد أن الرخصة لا تتعلق بعدد الأيام بل بعدد الصلوات فيترخص بإحدى وعشرين صلاة
مكتوبة لأنه المحقق من فعله (ص) حين نزل بالأبطح، وعلى الصحيح يمكنه أن يصلي ثلاثا وعشرين صلاة.
تنبيه: عبر في الروضة بالأصح فاقتضى قوة الخلاف خلافا لتعبيره هنا بالصحيح، لكنه قال في المجموع عن
الأول وبهذا قطع الجمهور. (ولو أقام ببلده) مثلا (بنية أن يرحل إذا حصلت حاجة يتوقعها كل وقت) أو حبسه الريح
بموضع في البحر، (قصر ثمانية عشر يوما) غير يومي الدخول والخروج، لأنه (ص) أقامها بمكة عام الفتح لحرب
هوازن يقصر الصلاة، رواه أبو داود عن عمران بن حصين والترمذي وحسنه وإن كان في سنده ضعف لأن له شواهد
تجبره كما قال الشهاب شيخ الاسلام ابن حجر. وروي خمسة عشر، وسبعة عشر، وتسعة عشر، وعشرين رواها
أبو داود وغيره، إلا تسعة عشر، فالبخاري عن ابن عباس، قال البيهقي: وهي أصح الروايات. وقد جمع الإمام وغيره
بين الروايات ما عدا روايتي خمسة عشر وعشرين بأن راوي تسعة عشر عد يومي الدخول والخروج، وراوي سبعة
عشر لم يعدهما، وراوي ثمانية عشر عد أحدهما فقط. وأما رواية خمسة عشر فضعيفة، ورواية عشرين وإن كانت
صحيحة فشاذة كما قاله شيخ الاسلام المذكور آنفا. قال شيخنا: وهذا الجمع يشكل على قولهم: يقصر ثمانية عشر غير
يومي الدخول والخروج. وقد يجمع بينهما ما عدا روايتي خمسة عشر وسبعة عشر بأن راوي العشرين عد اليومين
وراوي ثمانية عشر لم يعدهما وراوي تسعة عشر عد أحدهما، وبه يزول الاشكال اه‍. وهذا جمع حسن. فإن
قيل: لم قدم الشافعي رواية ثمانية عشر على تسعة عشر مع أنها أصح؟ أجيب بأن خبر عمران لم يضطرب عليه،
وأما ابن عباس ففيه تسعة عشر وسبعة عشر. (وقيل) يقصر (أربعة) غير يومي الدخول والخروج لأن الترخص إذا
امتنع بنية إقامتها فبإقامتها أولى، لأن الفعل أبلغ من النية. (وفي قول) يقصر (أبدا) أي بحسب الحاجة، لأن الظاهر أنه لو
زادت حاجته (ص) على الثمانية عشر لقصر في الزائد أيضا (وقيل: الخلاف) المذكور، وهو في الزائد على الأربعة
المذكورة (في خائف القتال) والمقاتل (لا التاجر ونحوه) كالمتفقه فلا يقصران في الزائد عليها قطعا، والفرق أن للحرب
أثرا في تغيير صفة الصلاة. وأجاب الأول بأن القتال ليس هو المرخص، وإنما المرخص السفر، والمقاتل وغيره فيه سواء،
وعلى الأول لو فارق مكانه ثم ردته الريح إليه فأقام فيه استأنف المدة، لأن إقامته فيه إقامة جديدة فلا تضم إلى الأولى
265

بل تعتبر مدتها وحدها، ذكره في المجموع وقال فيه: لو خرجوا وأقاموا بمكان ينتظرون رفقتهم، فإن نووا أنهم إن
أتوا سافروا أجمعين وإلا رجعوا ولم يقصروا لعدم جزمهم بالسفر، وإن نووا أنهم إن لم يأتوا سافروا وقصروا لجزمهم
بالسفر. وما رجحه من أن القصر إلى ثمانية عشر يوما يطرد في باقي الرخص كالجمع والفطر، ويدل له تعبير الوجيز
بالترخص، وقال الزركشي: الصواب أنه يباح له سائر الرخص لأن السفر منسحب عليه. نعم يستثنى من ذلك توجه
القبلة في النافلة لما عرف في بابها، واستثنى بعضهم أيضا سقوط الفرض بالتيمم ولا حاجة إليه، لأن العبرة أن يكون
بموضع يغلب فيه فقد الماء، إذ لا فرق بين أن يكون مسافرا أو مقيما كما علم من باب التيمم. (ولو علم) المسافر (بقاءها) أي حاجته
(مدة طويلة) وهي الأربعة المذكورة وما زاد عليها كأن كان يعلم أنه لا يتنجز شغله إلا في خمسة أيام، (فلا قصر) له (على
المذهب) لأنه ساكن مطمئن بعيد عن هيئة المسافرين، بخلاف المتوقع للحاجة في كل وقت ليرحل، ووجه القصر
القياس على عدم انعقاد الجمعة به.
تنبيه: ظاهر كلامه أنه لا فرق في جريان الخلاف بين المحارب وغيره، والمعروف في غير المحارب الجزم بالمنع،
وحكاية الخلاف فيه غلط كما قاله في الروضة.
فصل: في شروط القصر وما يذكر معه. أما شروطه فثمانية: أحدها: أن يكون السفر طويلا. (وطويل السفر)
بالاميال (ثمانية وأربعون ميلا هاشمية) لأن ابن عمر وابن عباس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد فما فوقها
ولا يعرف لهما مخالف، وأسنده البيهقي بسند صحيح. قال الخطابي: ومثل هذا لا يكون إلا عن توقيف، وعلقه
البخاري بصيغة الجزم. ويشترط أن تكون هذه المسافة غير الإياب، فلو قصد مكانا على مرحلة بنية أن لا يقيم فيه فلا قصر
له ذهابا ولا إيابا وإن نالته مشقة مرحلتين، وهي تحديد لا تقريب لثبوت التقدير بالاميال عن الصحابة، ولان
القصر
على خلاف الأصل، فيحتاط فيه بتحقق تقدير المسافة ولو ظنا بخلاف تقديري القلتين ومسافة الإمام والمأموم كما
مرت الإشارة إليه في كتاب الطهارة، لأن تقدير الأميال ثابت عن الصحابة، بخلاف تقدير القلتين فإنه لا توقيف في
تقديرهما بالأرطال، وكذا مسافة الإمام والمأموم لا تقدير فيها بالأذرع، فلذا كان الأصح فيهما التقريب.
والأربعة برد: ستة عشر فرسخا، والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل: أربعة آلاف خطوة، والخطوة: ثلاثة أقدام،
والقدمان: ذراع، والذراع: أربعة وعشرون أصبعا معترضات، والإصبع: ست شعيرات معتدلات، والشعيرة: ست
شعرات من شعر البرذون. وهاشمية: نسبة إلى بني هاشم لتقديرهم لها وقت خلافتهم بعد تقدير بني أمية لها، لا إلى
هاشم جد النبي (ص) كما وقع للرافعي.
تنبيه: ما ذكره المصنف من أن الأميال ثمانية وأربعون ميلا هو الشائع، ونص عليه الشافعي، ونص أيضا
على أنها ستة وأربعون وعلى أنها أربعون، ولا منافاة فإنه أراد بالأول الجميع، وبالثاني غير الأول والأخير، وبالثالث
الأميال الأموية الخارجة بقوله هاشمية، وهي المنسوبة لبني أمية، فالمسافة عندهم أربعون ميلا، إذ كل خمسة منها
قدر ستة هاشمية، قلت: كما قال الرافعي في الشرح. (وهو) أي السفر الطويل (مرحلتان) وهما سير يومين بلا ليلة
معتدلين، أو ليلتين بلا يوم معتدلتين، أو يوم وليلة كذلك، (بسير الأثقال) أي الحيوانات المثقلة بالأحمال، ودبيب
الاقدام على العادة المعتادة من النزول والاستراحة والاكل والصلاة ونحوها لأن ذلك مقدار أربعة برد. (والبحر)
في اعتبار المسافة المذكورة (كالبر) فيقصر فيه، (فلو قطع الأميال فيه في ساعة) مثلا لشدة جري السفينة بالهواء أو
نحوه، (قصر) فيها لأنها مسافة صالحة للقصر فلا يؤثر قطعها في زمن يسير، (والله أعلم) كما يقصر لو قطع المسافة في البر
266

كما لو قطعها على فرس جواد في بعض يوم. ولو شك في طول سفره اجتهد، فإن ظهر له أن القدر المعتبر قصر وإلا فلا،
وعليه حمل إطلاق الشافعي عدم القصر. وثاني الشروط: قصد محل معلوم كما قال: (ويشترط قصد موضع) معلوم (معين)
أو غير معين (أولا) أي أول سفره ليعلم أنه طويل فيقصر أولا، (فلا قصر للهائم) وهو من لا يدري أين يتوجه،
(وإن طال سفره) إذ شرط القصر أن يعزم على قطع مسافة القصر، ويسمى أيضا راكب التعاسيف، فقد قال أبو الفتوح
العجلي: هما عبارة عن شئ واحد. قال الدميري: وليس كذلك، بل الهائم الخارج على وجهه لا يدري أين يتوجه
وإن سلك طريقا مسلوكا، وراكب التعاسيف لا يسلك طريقا، فهما مشتركان في أنهما لا يقصدان موضعا معلوما وإن
اختلفا فيما ذكرناه اه‍. ويدل له جمع الغزالي بينهما. (ولا طالب غريم وآبق يرجع متى وجده) أي مطلوبه منهما، (ولا
يعلم موضعه) وإن طال سفره لانتفاء علمه بطوله أوله، نعم إن قصد سفر مرحلتين أولا كأن علم أنه لا يجد مطلوبه قبلهما
قصر كما في الروضة وأصلها، وكذا قصد الهائم سفر مرحلتين كما شملته عبارة المحرر. وظاهر إطلاق الروضة أنه يترخص
في هذه الحالة مطلقا، وهو كذلك كما اعتمده شيخي، وإن قال الزركشي: إنما يترخص في مرحلتين لا فيما زاد عليهما
لأنه ليس له مقصد معلوم. ولو علم الأسير أن سفره طويل ونوى الهرب إن تمكن منه لم يقصر قبل مرحلتين ويقصر
بعدهما، ولا أثر للنية بقطعه مسافة القصر وإن خالف في ذلك الأذرعي، ومثل ذلك يأتي في الزوجة والعبد إذا نوت الزوجة
أنها متى تخلصت من زوجها رجعت، والعبد أنه متى أبق رجع فلا يترخصان قبل مرحلتين. وألحق بالزوجة والعبد
الجندي، وبالفراق النشوز، وبالعتق الإباق.
فائدة: متى فات من له القصر بعد المرحلتين صلاة فيهما قصر في السفر لأنهما فائتة سفر طويل كما شمل ذلك
قولهم: تقصر فائتة في السفر، نبه على ذلك شيخي. واحترز بقوله أولا عما إذا نوى مسافة القصر ثم نوى بعد
مفارقة العمران الذي لا يقصر قبل مفارقته أو السور أنه إن وجد غرضه رجع، أو أن يقيم في طريقه ولو بمكان قريب
أربعة أيام ترخص إلى أن يجد غرضه أو يدخل المكان لأن سبب الرخصة قد انعقد فيستمر حكمه إلى أن يوجد ما غير
النية إليه، بخلاف ما إذا عرض له ذلك قبل مفارقة ما ذكر. فإن قيل: قياس ما قالوه من منع الترخص فيما لو نقل
سفره المباح إلى معصية منعه فيما لو نوى أن يقيم ببلد قريب. أجيب بأن نقله إلى معصية مناف للرخص بالكلية،
بخلاف ما نحن فيه. ودخل فيما قررت به كلام المصنف ما لو كان معلوما غير معين، بأن قصد قطع المسافة الطويلة مع
عدم تعيين المقصد كأن خرج من مكة بنية أن يصل إلى بطن مرو ثم يشرق إلى المدينة الشريفة أو يغرب إلى ينبع،
وكذا لو أخبر الزوج زوجته أو السيد عبده بأن سفره طويل ولم يعين موضعا. ولو نوى في سفره ذو السفر القصير الزيادة
في المسافة بحيث يحصل بها مسافة القصر فليس له الترخص حتى يكون من مكان نيته إلى مقصده مسافة القصر ويفارق
مكانه لانقطاع سفره بالنية، ويصير بالمفارقة مسافرا جديدا، ولو نوى قبل خروجه إلى سفر طويل إقامة أربعة
أيام في كل مرحلة لم يقصر لانقطاع كل سفرة عن الأخرى. (ولو كان لمقصده) بكسر الصاد كما ضبطه المصنف بخطه،
(طريقان طويل) يبلغ مسافة القصر (وقصير) لا يبلغها (فسلك الطويل لغرض) ديني أو دنيوي ولو مع قصد
إباحة القصر (كسهولة) الطريق (أو أمن) أو زيارة أو عيادة، أو للسلامة من المكاسين، أو لرخص سفر ولو كان
الغرض تنزها، (قصر) لوجود الشرط، وهو السفر الطويل المباح. (وإلا) بأن سلكه لمجرد القصر، أو لم يقصد شيئا
كما في المجموع، (فلا) يقصر (في الأظهر) المقطوع به، لأنه طول الطريق على نفسه من غير غرض، فهو كما لو سلك
الطريق القصير وطوله بالذهاب يمينا ويسارا حتى قطعها في مرحلتين. والثاني: يقصر لأنه طويل مباح. فإن قيل:
267

كيف يقصر إذا كان الغرض النزهة مع قولهم: إنه إذا سافر لمجرد رؤية البلاد أنه لا يقصر؟ أجيب بأن التنزه هنا
ليس هو الحامل على السفر، بل الحامل عليه غرض صحيح كسفر التجارة، لكنه سلك أبعد الطريقين للتنزه فيه،
بخلاف مجرد رؤية البلاد فإنه الحامل على السفر حتى لو لم يكن هو الحامل عليه كان كالتنزه هنا، أو كان التنزه هو الحامل
عليه كان كمجرد رؤية البلاد في تلك. وخرج بقوله: طويل وقصير ما لو كانا طويلين فسلك الأطول ولو لغرض القصر فقط
قصر فيه جزما. (ولو تبع العبد أو الزوجة أو الجندي مالك أمره) أي السيد أو الزوج أو الأمير (في السفر ولا يعرف)
كل واحد منهم (مقصده فلا قصر) لهم لأن الشرط لم يتحقق، وهذا قبل بلوغهم مسافة القصر، فإن قطعوها قصروا
كما مر في الأسير وإن لم يقصر المتبوعون لتيقن طول سفرهم، ولا ينافي ذلك ما مر من أن طالب الغريم ونحوه إذا
لم يعرف مكانه لا يقصر وإن طال سفره، لأن المسافة هنا معلومة في الجملة، إذ المتبوع يعلمها بخلافها ثم.
وإن عرفوا
أن مقصده مرحلتان وقصدوه قصروا. (فلو نووا مسافة القصر) وحدهم دون متبوعهم أو جهلوا حاله (قصر الجندي)
أي غير المثبت في الديوان (دونهما) لأنه حينئذ ليس تحت يد الأمير وقهره بخلافهما فنيتهما كالعدم. أما المثبت
في الديوان فهو مثلهما، لأنه مقهور وتحت يد الأمير، ومثله الجيش، إذ لو قيل بأنه ليس تحت قهر الأمير كالآحاد
لعظم الفساد.
تنبيه: قول المصنف: مالك أمره لا ينافيه التعليل المذكور في الجندي غير المثبت، لأن الأمير المالك لا يبالي
بانفراده عنه ومخالفته له بخلاف مخالفة الجيش أي المثبت في الديوان إذ يختل بها نظامه. (ومن قصد سفرا طويلا فسار
ثم نوى) وهو مستقل ماكث، (رجوعا) عن مقصده إلى وطنه أو غيره للإقامة، (انقطع) سفره سواء أرجع أم لا، لأن
النية التي استفاد بها الترخص قد انقطعت وانتهى سفره فلا يقصر ما دام في ذلك المنزل كما جزموا به، لكن مفهوم كلام
الحاوي الصغير ومن تبعه أنه يقصر وهو خلاف المنقول ولا يقضي ما قصره أو جمعه قبل هذه النية وإن قصرت المسافة
قبلها. (فإن سار) إلى مقصده الأول أو غيره (فسفر جديد) فإن كان طويلا قصر بعد مفارقة ما تشترط مفارقته وإلا فلا،
وكنية الرجوع في ذلك التردد فيه، نقله في المجموع عن البغوي وأقره. أما لو رجع لحاجة ففيه تفصيل تقدم، أو وهو
سائر فلا أثر لنيته كما مر. وثالث الشروط أن يكون السفر جائزا فلا قصر وغيره كما قال: (ولا يترخص العاصي
بسفره كآبق) من سيده (وناشزة) من زوجها وقاطع الطريق، لأن مشروعية الترخص للإعانة والعاصي لا يعان. وألحق
بذلك من يتعب نفسه أو يعذب دابته بالركض بلا غرض، فإن ذلك لا يحل كما حكياه عن الصيدلاني وأقراه وإن قال
في الذخائر إن ظاهر كلام الأصحاب يدل على إباحته. قال في المجموع: والعاصي بسفره يلزمه التيمم عند فقد الماء لحرمة
الوقت والإعادة لتقصيره بترك التوبة. واحترز بقوله: بسفره عن العاصي في سفره بأن يكون السفر مباحا ويعصي في سفره
فيترخص لأن السفر مباح. (فلو أنشأ) سفرا طويلا (مباحا ثم جعله معصية) كالسفر لاخذ مكس أو للزنا بامرأة، (فلا ترخص)
له (في الأصح) من حين الجعل، كما لو أنشأ السفر بهذه النية. والثاني: يترخص اكتفاء بكون السفر مباحا
في ابتدائه
ولو تاب ترخص جزما كما قاله الرافعي في باب اللقطة، أي بشرط أن يكون سفره من حين التوبة مسافة القصر كما يؤخذ
من كلام شيخنا في شرح منهجه وإن خالفه في ذلك بعض المتأخرين معللا بأن أوله وآخره مباحان. (ولو أنشأه عاصيا)
به (ثم تاب فمنشئ) بضم الميم وكسر الشين، (للسفر من حين التوبة) فإن كان بينه وبين مقصده مسافة القصر قصر
وإلا فلا. نعم العاصي بسفره يوم الجمعة بترك الجمعة لا يجوز له الترخص ما لم تفت الجمعة، ومن وقت فواتها يكون ابتداء
268

سفره كما في المجموع لا من التوبة. ولو نوى الكافر والصبي سفر قصر ثم أسلم أو بلغ في الطريق قصر في بقيته كما في زوائد
الروضة، وإن كان في فتاوى البغوي أن الصبي يقصر دون من أسلم. ورابع الشروط: عدم اقتدائه بمن جهل سفره أو بمتم
كما قال: (ولو اقتدى بمتم) مسافر أو مقيم أو بمصل صلاة جمعة أو صبح أو نافلة ولو (لحظة) أي في جزء من صلاته كأن
أدركه في آخر صلاته أو أحدث هو عقب اقتدائه به، (لزمه الاتمام) لخبر الإمام أحمد بإسناد صحيح عن ابن عباس: سئل
ما بال المسافر يصلي ركعتين إذا انفرد وأربعا إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة. فإن قيل: تعبيره بمتم يخرج الظهر خلف
مقيم يصلي الجمعة أو خلف من يصلي الصبح مع أنه يلزمه الاتمام كما مر، ولا يقال له متم. أجيب بأنه لا مانع من أن
يقال له متم، فإنه قد أتى بصلاة تامة، ويؤيد ذلك تعبير الحاوي الصغير بقوله: ولو اقتدى بمتم ولو في صبح وجمعة، فذكر
مع لفظ الاتمام الصبح والجمعة اللتين لا قصر فيهما، وبهذا يندفع ما أورده الأسنوي وغيره من أنه إذا اقتدى بالمقيم في
نافلة كمصلي عيد وراتبة فإنه يتم كما اقتضاه كلامهم. وتعبير الأسنوي بالمقيم في نافلة مثال، إذ المقتدي بمسافر في نافلة كذلك
وله قصر المعادة إن صلاها أولا مقصورة وصلاها ثانيا خلف من يصلي مقصورة أو صلاها إماما، قلت ذلك تفقها ولم
أر من تعرض له وهو ظاهر.
تنبيه: قضية كلام المصنف أن الإمام لو لزمه الاتمام بعد إخراج المأموم نفسه أنه يجب على المأموم الاتمام، وليس
مرادا، قال الأسنوي: فلو قدم لحظة على متم لكان أولى، وتنعقد صلاة القاصر خلف المتم وتلغو نية القصر
بخلاف
المقيم إذا نوى القصر فإن صلاته لا تنعقد لأنه ليس من أهل القصر والمسافر من أهله فأشبه ما لو شرع في الصلاة بنية
القصر ثم نوى الاتمام أو صار مقيما. (ولو رعف الإمام المسافر) أي سال من أنفه دم أو أحدث (واستخلف متما) من المقتدين
أو غيرهم (أتم المقتدون) به إن نووا الاقتداء به، وكذا إن لم ينووا، وقلنا بالراجح أن نية الاقتداء بالخليفة لا تجب لأنهم
بمجرد الاستخلاف صاروا مقتدين به حكما بدليل لحوقهم سهوه، نعم لو نووا فراقه حين أحسوا برعافه أو حدثه قبل
تمام الاستخلاف قصر.
فائدة: رعف مثلث العين كما قاله ابن مالك والأفصح فتح عينه، والضم ضعيف والكسر أضعف منه. حكى في
مشكل الوسيط أن هذه الكلمة كانت سبب لزوم سيبويه الخليل في الطلب للعربية، وذلك أنه سأل يوما حماد بن سلمة
فقال له: أحدثك هشام بن عروة عن أبيه عن رجل رعف في الصلاة وضم العين؟ فقال له: أخطأت، إنما هو رعف بفتحها.
فانصرف إلى الخليل ولزمه. وسيبويه لقب فارسي معناه بالعربية: رائحة التفاح، وذكرت في شرحي على القطر سبب
لقبه بذلك. (وكذا لو أعاد الإمام واقتدى به) يلزمه الاتمام لاقتدائه بمتم في جزء من صلاته. وقيل: يلزمه الاتمام وإن لم يقتد
به، لأن الخليفة فرع له، ولا يجوز أن تكون صلاة الأصل أنقص من صلاة الفرع. واحترز بقوله: واستخلف متما عما
لو استخلف قاصرا أو استخلفوه أو لم يستخلفوا أحدا فإنهم يقصرون. ولو استخلف المتمون متما والقاصرون قاصرا
فلكل حكمه. (ولو لزم الاتمام مقتديا ففسدت صلاته أو صلاة إمامه أو بأن إمامه محدثا) أو ما في حكمه (أتم) لأنها صلاة
وجب عليه إتمامها، وما ذكر لا يدفعه، ولو بان للإمام حدث نفسه لم يلزمه الاتمام. قال الأذرعي: والضابط - أي في ذلك -
أن كل موضع يصح شروعه فيه ثم يعرض الفساد يلزمه الاتمام، وحيث لا يصح الشروع لا يكون ملتزما للاتمام بذلك
اه‍. ولو أحرم منفردا ولم ينو القصر ثم فسدت صلاته لزمه الاتمام كما في المجموع. ولو فقد الطهورين فشرع فيها بنية
الاتمام ثم قدر على الطهارة، قال المتولي وغيره: قصر، لأن ما فعله ليس بحقيقة صلاة. قال الأذرعي: ولعل ما قالوه بناء
على أنها ليست بصلاة شرعية بل تشبهها والمذهب خلافه اه‍. وهذا هو الظاهر، وكذا يقال فيمن صلى بتيمم ممن تلزمه
الإعادة بنية الاتمام ثم أعادها. (ولو اقتدى بمن ظنه مسافرا) فنوى القصر الذي هو الظاهر من حال المسافر بأن ينويه
269

(فبان مقيما) فقط أو مقيما ثم محدثا أتم لزوما، أما لو بان محدثا ثم مقيما أو بانا معا فلا يلزمه الاتمام إذ لا قدوة في الحقيقة وفي
الظاهر ظنه مسافرا. (أو) اقتدى ناويا القصر (بمن جهل سفره) أي شك في أنه مسافر أو مقيم، (أتم) لزوما وإن بان مسافرا
قاصرا لظهور شعار المسافر والمقيم، والأصل: الاتمام. وقيل: يجوز له القصر فيما إذا بان كما ذكر. (ولو علمه) أو ظنه
(مسافرا وشك في نيته) القصر فجزم هو بالنية، (قصر) جوازا إن بان الامام قاصرا، لأن الظاهر من حال المسافر القصر
لأنه أقل عملا وأكثر أجرا إذا كان سفره ثلاث مراحل وليس للنية شعار تعرف به، فهو غير مقصر في الاقتداء على التردد، فإن
بان أنه متم لزمه الاتمام. واحترز بقوله: وشك في نيته عما إذا علمه مسافرا ولم يشك، كالامام الحنفي فيما دون ثلاث مراحل
فإنه يتم لامتناع القصر عنده في هذه المسافة. قال الأسنوي: ويتجه أن يلحق به ما إذا أخبر الامام قبل إحرامه بأن عزمه
الاتمام. (ولو شك فيها) أي في نية إمامه القصر (فقال) معلقا عليها في ظنه: (إن قصر قصرت، وإلا) بأن أتم (أتممت، قصر
في الأصح) إن قصر إمامه لأنه نوى ما هو في نفس الامر، فهو تصريح بالمقتضى. والثاني: لا يقصر للتردد في النية. أما لو بان
إمامه متما فإنه يلزمه الاتمام، وعلى الأصح لو خرج من الصلاة وقال: كنت نويت الاتمام لزم المأموم الاتمام أو نويت
القصر جاز للمأموم القصر، وإن لم يظهر للمأموم ما نواه الامام لزمه الاتمام احتياطا. وقيل له القصر لأنه الظاهر من حال
الامام. وخامس الشروط: نية القصر كما ذكره بقوله: (ويشترط للقصر نيته) بخلاف الاتمام لأنه الأصل فيلزمه الاتمام وإن لم ينوه،
(في الاحرام) كأصل النية. ومثل نية القصر ما لو نوى الظهر مثلا ركعتين ولم ينو ترخيصا كما قاله الامام، وما لو قال:
أؤدي صلاة السفر كما قاله المتولي. فلو لم ينو ما ذكر فيه بأن نوى الاتمام أو أطلق أتم لأنه المنوي في الأولى والأصل في
الثانية. وسادس الشروط: التحرز عما ينافيها كما قال: (والتحرز عن منافيها) أي نية القصر، (دواما) أي
في دوام الصلاة كنية
الاتمام، فلو نواه بعد نية القصر أتم. وعلم من أن الشرط التحرز عن منافيها أنه لا يشترط استدامة نية القصر وهو كذلك.
(ولو أحرم قاصرا ثم تردد في أنه يقصر أم يتم) أتم، (أو) تردد، أي شك (في أنه نوى القصر) أم لا، أتم وإن تذكر في الحال
أنه نواه لأنه أدى جزءا من صلاته حال التردد على التمام. وهاتان المسألتان من المحترز عنه ولم يصدرهما بالفاء، قال الشارح:
لضمه إليهما في الجواب ما ليس من المحترز عنه اختصارا فقال: (أو قام) وهو عطف على إحرام، (إمامه لثالثة فشك هل هو
متم أم ساه أتم) وإن بان أنه ساه كما لو شك في نية نفسه. فإن قيل: قد مر أنه لو شك في أصل النية وتذكر عن قرب لم
يضر فهلا كان هنا كذلك؟ أجيب بأن الشك في أصل النية كعدمها فزمانه غير محسوب من الصلاة، لكنه عفي عن القليل
لمشقة الاحتراز عنه، وهنا الموجود حال الشك محسوب من الصلاة على كل حال سواء أكان قد نوى القصر أم الاتمام
لوجود أصل النية فصار مؤديا لجزء من الصلاة على التمام لعدم النية فلزمه الاتمام.
تنبيه: قول المصنف: أو في أنه نوى القصر تركيب غير مستقيم لأنه جعله قسما مما لو أحرم قاصرا، وهو لا يصح
لتدافعه، فلو قال: أو شك كما قدرته في أنه نوى القصر لاستقام لأنه يصير حينئذ عطفا على أحرم. (ولو قام القاصر لثالثة
عمدا بلا موجب للاتمام) كنيته أو نية إقامة (بطلت صلاته) كما لو قام المتم إلى ركعة زائدة. (وإن كان) قيامه (سهوا)
ثم تذكر (عاد) وجوبا (وسجد له) ندبا كغيره مما يبطل عمده، (وسلم) وقول الغزي: هذا إذا بلغ حد الركوع قياسا
270

على ما تقدم في سجود السهو، ولم يذكروه هنا وهو واضح غير محتاج إليه في كلام المصنف لأنه فرض الكلام فيمن قام. (
فإن أراد) عند تذكره وهو قائم (أن يتم عاد) للقعود وجوبا (ثم نهض متما) أي ناويا الاتمام. وقيل: له أن يمضي
في قيامه، فإن لم ينو الاتمام سجد للسهو وهو قاصر، والجهل كالسهو فيما ذكره. ولو لم يتذكر حتى أتى بركعتين ثم نوى
الاتمام لزمه ركعتان وسجد للسهو ندبا. وسابع الشروط: دوام سفره في جميع صلاته كما قال: (ويشترط كونه) أي الشخص
الناوي للقصر (مسافرا في جميع صلاته، فلو نوى الإقامة) القاطعة للترخص (فيها) أو شك هل نواها أو لا
، (أو بلغت
سفينته) فيها (دار إقامته) أو شك هل بلغها أو لا، (أتم) لزوال سبب الرخصة في الأولى. والثالثة كما لو كان يصلي لمرض
فزال المرض يجب عليه أن يقوم، وللشك في الثانية والرابعة. وثامن الشروط: العلم بجواز القصر، فلو قصر جاهلا به لم تصح
صلاته لتلاعبه، ذكره في الروضة كأصلها. قال الشارح: وكأن تركه لبعد أن يقصر من لم يعلم جوازه. (والقصر أفضل
من الاتمام على المشهور إذا بلغ) سفره (ثلاث مراحل) للاتباع، رواه الشيخان، خروجا من خلاف من أوجبه ك أبي
حنيفة، إلا الملاح الذي يسافر في البحر بأهله ومن لا يزال مسافرا بلا وطن فالاتمام لهما أفضل خروجا من خلاف من أوجبه
عليهما كالإمام أحمد، وروي فيهما خلافه دون خلاف أبي حنيفة لاعتضاده بالأصل. ومقابل المشهور أن الاتمام أفضل
مطلقا لأنه الأصل والأكثر عملا، أما إذا لم يبلغها فالاتمام أفضل لأنه الأصل وخروجا من خلاف من أوجبه كأبي حنيفة،
بل قال الماوردي في الرضاع: يكره القصر، ونقله في المجموع عن الشافعي، لكن قال الأذرعي: إنه غريب ضعيف اه‍.
فالمعتمد أنه خلاف الأولى. نعم يستثنى من ذلك كما قال الأذرعي دائم الحدث إذا كان لو قصر لخلا زمن صلاته عن
جريان حدثه ولو أتم لجرى حدثه فيها فيكون القصر أفضل مطلقا، وهذا نظير ما قالوه في صلاة الجماعة أنه لو صلى منفردا
خلا عن الحدث، ولو صلى في جماعة لم يخل عنه. وكلا المسألتين يشكل ما قالوه أنه لو صلى من قيام لم يخل عن الحدث
ولو صلى من قعود خلا عنه أنه يجب عليه أن يصلي من قعود، وقد يفرق بأن صلاته من قعود فيها بدل عن القيام ولا كذلك
ما ذكر، وكذا لو أقام زيادة على أربعة أيام لحاجة يتوقعها كل وقت. وتقدم في باب مسح الخف أن من ترك
رخصة رغبة عن السنة أو شكا في جوازها، أي لم تطمئن نفسه إليها، كره له تركها. (والصوم) أي صوم رمضان
لمسافر سفرا طويلا، (أفضل من الفطر) لما فيه من تبرئة الذمة وعدم إخلاء الوقت عن العبادة، ولأنه الأكثر من فعله
(ص)، وقال تعالى: * (وأن تصوموا خير لكم) *. ولم يراع منع أهل الظاهر الصوم، لأن محققي العلماء لا يقيمون
لمذهبهم وزنا، قاله الامام. هذا (إن لم يتضرر به) أما إذا تضرر به لنحو مرض أو لم يشق معه احتماله،
فالفطر أفضل
لما في الصحيحين أنه (ص) رأى رجلا صائما في السفر قد ظلل عليه، فقال: ليس من البر أن تصوموا
في السفر. نعم إن خاف من الصوم تلف نفس أو عضو أو منفعة حرم عليه الصوم كما قاله الغزالي في المستصفي. ولو
لم يتضرر بالصوم في الحال ولكن يخاف الضعف لو صام وكان سفر حج أو غزو، فالفطر أفضل كما نقله الرافعي في
كتاب الصوم عن التتمة وأقره. ولو كان ممن يقتدى به ولا يضره الصوم، فالفطر له أفضل كما قاله الأذرعي. قال
ابن شهبة: وكأنه في ذي الرفقة لا المنفرد اه‍. وهذا مراد الأذرعي بلا شك. ويأتي أيضا هنا ما تقدم، من أنه إذا شك
في جواز الرخصة أو تركها رغبة عن السنة أنه يكره له تركها.
فصل: في الجمع بين الصلاتين. (يجوز الجمع بين الظهر والعصر تقديما) في وقت الأولى (وتأخيرا) في وقت
الثانية. والجمعة كالظهر في جمع التقديم كما نقله الزركشي واعتمده كجمعهما بالمطر بل أولى، ويمتنع تأخيرا لأن الجمعة
271

لا يتأتى تأخيرها عن وقتها. (و) بين (المغرب والعشاء كذلك) أي تقديما في وقت الأولى وتأخيرا في وقت الثانية. (في
السفر الطويل) المباح للاتباع. أما جمع التأخير فثابت في الصحيحين من حديث أنس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم،
وأما جمع التقديم فصححه ابن حبان والبيهقي من حديث معاذ وحسنه الترمذي. نعم المتحيرة لا تجمع تقديما كما قاله في
زيادة الروضة والمجموع. قال في المهمات: ووجه امتناعه أن الجمع في وقت الأولى شرطه تقدم الأولى صحيحة يقينا
أو ظنا، وهو منتف ههنا بخلاف الجمع في وقت الثانية. قال الزركشي: ومثلها في جمع التقديم فاقد الطهورين وكل من لم
تسقط صلاته بالتيمم، قال شيخنا: ولو حذف بالتيمم كان أولى، أي ليشمل غير المتيمم. (وكذا) يجوز له الجمع في
السفر (القصير في قول) قديم كالتنفل على الراحلة، ووجه مقابلة القياس على القصر، والمجموعة في وقت الأخرى أداء
كالأخرى لأن وقتيهما صارا واحدا. وخرج بما ذكر الصبح من غيرها والعصر مع المغرب فلا جمع فيهما لأنه لم يرد.
ولا في الحضر ولا في سفر قصر ولو لمكي ولا في سفر معصية. وأشار بقوله: يجوز إلى أن الأفضل ترك الجمع خروجا من
خلاف أبي حنيفة، وصرح بذلك في الروضة من غير استثناء، لكن يستثنى في الحج الجمع بعرفة كما قاله الامام،
وبمزدلفة كما بحثه الأسنوي، فإن الجمع فيهما أفضل قطعا فإنه مستحب للاتباع، وسببه السفر في الأظهر لا النسك كما سيأتي
إن شاء الله تعالى في الحج، وإن صحح المصنف في منسكه الكبير أن سببه النسك لأنه خلاف ما صححه في سائر كتبه.
ويستثنى أيضا الشاك والراغب عن الرخصة كما اقتضاه كلام البغوي في التعليق وغيره، ومن إذا جمع صلى جماعة أو خلا عن
حدثه الدائم أو كشف عورته فالجمع أفضل كما قاله الأذرعي، وكذا من خاف فوت عرفة أو عدم إدراك العدو لاستنقاذ أسير
ونحو ذلك. (فإن كان سائرا وقت الأولى) نازلا في وقت الثانية كسائر يبيت بمزدلفة، (فتأخيرها أفضل، وإلا) بأن لم يكن سائرا
وقت الأولى بأن كان نازلا فيه سائرا في وقت الثانية، (فعكسه) للاتباع، رواه الشيخان في الظهر والعصر وأبو داود وغيره في
المغرب والعشاء، ولأنه أوفق للمسافر. وما قررت به كلام المتن هو ظاهر كلامهم، وبقي ما لو كان سائرا في وقتيهما أو نازلا
فيه، فالذي يظهر أن التأخير أفضل، لأن وقت الثانية وقت للأولى حقيقة بخلاف العكس. (وشروط التقديم ثلاثة) بل
أربعة، أحدها: (البداءة بالأولى) لأن الوقت لها والثانية تبع لها، فلو صلى العصر قبل الظهر لم تصح ويعيدها بعد الظهر
إن أراد الجمع، وكذا لو صلى العشاء قبل المغرب لأن التابع لا يتقدم على متبوعه. (فلو صلاهما) مبتدئا بالأولى (فبان
فسادها) بفوات شرط أو ركن (فسدت الثانية) أيضا لانتفاء شرطها من البداءة بالأولى، والمراد بفسادها بطلان كونها
عصرا أو عشاء لا أصل الصلاة بل تنعقد نافلة على الصحيح كما نقله في الكفاية عن البحر وأقره، كما لو أحرم بالفرض قبل
وقته جاهلا بالحال. (و) ثانيها: (نية الجمع) ليتميز التقديم المشروع عن التقديم سهوا. (ومحلها) الفاضل (أول الأولى)
كسائر المنويات فلا يكفي تقديمها بالاتفاق، (وتجوز في أثنائها في الأظهر) لحصول الغرض بذلك، والثاني: لا يجوز قياسا
على نية القصر بجامع أنهما رخصتا سفر. وأجاب الأول بأن الجمع هو ضم الثانية إلى الأولى فحيث وجدت نيته وجد،
بخلاف نية القصر فإنها لو تأخرت لتأدي بعض الصلاة على التمام، وحينئذ يمتنع القصر كما مر. وعلى الأول
تجوز مع
التحلل منها أيضا في الأصح وإن أوهم تعبيره بالاثناء عدم الصحة، وقدرت الفاضل تبعا للشارح لأجل الخلاف بعدم
الصحة فيما إذا نوى في أثنائها فإنه لا فضل فيه. ولو نوى الجمع أول الأولى ثم نوى تركه ثم قصد فعله ففيه القولان في نية
الجمع في أثنائها كما نقله في الروضة عن الدارمي. ولو شرع في الظهر أو المغرب بالبلد في سفينة فسارت فنوى الجمع، فإن
لم تشترط النية مع التحرم صح لوجود السفر وقتها وإلا فلا. قال بعض المتأخرين: ويفرق بينها وبين حدوث المطر في
أثناء الأولى حيث لا يجمع به كما سيأتي بأن السفر باختياره فنزل اختياره له في ذلك منزلته بخلاف المطر حتى لو لم يكن
272

باختياره، فالوجه امتناع الجمع هنا. والمعتمد الفرق بين المسألتين، وهو أنه لا يشترط نية الجمع في أول الأولى بخلاف عذر
المطر، فإذن لا فرق في المسافر بين أن يكون السفر باختياره أو لا كما قاله شيخي. (و) ثالثها: (الموالاة بأن لا يطول بينهما
فصل) لأن الجمع يجعلهما كصلاة فوجب الولاء كركعات الصلاة، ولأنها تابعة والتابع لا يفصل عن متبوعه ولهذا تركت
الرواتب بينهما، ولأنه المأثور. (فإن طال ولو بعذر) كسهو وإغماء (وجب تأخير الثانية إلى وقتها) لفوات شرط الجمع، (ولا
يضر فصل يسير) لما في الصحيحين عن أسامة: أن النبي (ص) لما جمع بنمرة أقام الصلاة بينهما. (ويعرف طوله)
وقصره (بالعرف) لأنه لا ضابط له في الشرع ولا في اللغة، وما كان كذلك يرجع فيه إلى العرف كالحرز والقبض. وقيل:
إن اليسير يقدر بالإقامة، كما في الحديث. (وللمتيمم الجمع على الصحيح) كالمتوضئ، وقال أبو إسحاق: لا يجوز لأنه يحتاج
إلى الطلب. وأشار المصنف إلى رد ذلك بقوله: (ولا يضر تخلل طلب خفيف) لأن ذلك من مصلحة الصلاة فأشبه الإقامة،
بل أولى لأنه شرط دونها، بل ولو لم يكن الفصل اليسير لمصلحة الصلاة لم يضر، والثاني: يضر لطول الفصل به بينهما، ولا
يضر الفصل بالوضوء قطعا. ولو صلى بينهما ركعتين بنية راتبة بطل الجمع، قاله في المجموع: وغير الراتبة كالراتبة، (ولو جمع)
بين صلاتين (ثم علم) بعد الفراغ منهما أو في أثناء الثانية وطال الفصل بين سلام الأولى وعلمه، (ترك ركن من الأولى
بطلتا) الأولى لترك الركن وتعذر التدارك بطول الفصل، والثانية لفقد الترتيب. وأعيدت هذه المسألة توطئة لما
بعدها. (ويعيدهما جامعا) إن شاء عند اتساع الوقت لأنه لم يصل. أما إذا علم ذلك في أثناء الثانية ولم يطل الفصل
فإن إحرامه بالثانية لم يصح، ويبني على الأولى. وقوله: ثم علم يفهم أن الشك لا يؤثر، وهو كذلك إذ لا أثر له بعد الفراغ
من الصلاة. (أو) علم تركه (من الثانية فإن لم يطل) أي الفصل (تدارك) ومضت الصلاتان على الصحة، (وإلا)
أي وإن طال (فباطلة) أي الثانية لتركه الموالاة بتخلل الباطلة فيلزمه إعادتها في وقتها. (ولو جهل) بأن
لم يدر كون المتروك من الأولى أو من الثانية، (أعادهما لوقتيهما) لاحتمال أنه من الأولى، وامتنع الجمع تقديما لاحتمال
أنه من الثانية، فيطول الفصل بها وبالأولى المعادة بعدها، أما جمعهما تأخيرا فجائز إذ لا مانع منه. ولو شك بين الصلاتين
في نية الجمع ثم تذكر أنه نواه، فإن كان عن قرب جاز له الجمع وإلا امتنع كما قاله الزركشي. (وإذا أخر) الصلاة (الأولى)
إلى وقت الثانية، (لم يجب الترتيب) بينهما (و) لا (الموالاة، و) لا (نية الجمع) في الأولى (على الصحيح) في
المسائل الثلاث. أما عدم الترتيب فلان الوقت للثانية فلا تجعل تابعة. وأما عدم الموالاة فلان الأولى بخروج وقتها
الأصلي قد أشبهت الفائتة بدليل عدم الاذان لها وإن لم تكن فائتة، وينبني على عدم وجوب الموالاة عدم وجوب نية
الجمع، والثاني: يجب ذلك كما في جمع التقديم. وفرق الأول بما تقدم من التعليل، وعلى الأول يستحب ذلك كما
صرح به في المجموع. ووقع في المحرر الجزم بوجوب نية الجمع، وتبعه في الحاوي الصغير، قال في الدقائق: ولم يقل
به أحد، بل قال في المسألة وجهان: الصحيح أن الثلاث سنة، والثاني أنها كلها واجبة. (و) إنما (يجب) للتأخير
أمران فقط، أحدهما: (كون التأخير) إلى وقت الثانية (بنية الجمع) قبل خروج وقت الأولى بزمن لو ابتدئت فيه
كانت أداء، نقله في الروضة كأصلها عن الأصحاب. وفي المجموع وغيره عنهم: وتشترط هذه النية في وقت الأولى
بحيث يبقى من وقتها ما يسعها أو أكثر، فإن ضاق وقتها بحيث لا يسعها عصى وصارت قضاء، وهو مبين كما قال الشارح
273

إن المراد بالأداء في الروضة الأداء الحقيقي بأن يؤتى بجميع الصلاة قبل خروج وقتها، بخلاف الاتيان بركعة
منها في
الوقت والباقي بعده. فتسميته أداء بتبعية ما بعد الوقت لما فيه كما تقدم في كتاب الصلاة، ولا ينافي ذلك قول المجموع
صارت قضاء خلافا لبعض المتأخرين كما قاله شيخي، لأنه لم يوقع ركعة في الوقت لأن هذا مجرد نية فلا يؤثر. (وإلا)
أي وإن أخر من غير نية الجمع أو بنيته في زمن لا يسعها، (فيعصي وتكون قضاء) لخلو الوقت عن الفعل أو العزم.
وقول الغزالي: لو نسي النية حتى خرج الوقت لم يعص. وكان جامعا لأنه معذور، ظاهر في قوله لم يعص، وليس بظاهر
في قوله وكان جامعا لفقد النية. الشرط الرابع من شروط التقديم: دوام سفره إلى عقد الثانية كما يؤخذ من قوله: (ولو
جمع تقديما) بأن صلى الأولى في وقتها ناويا الجمع، (فصار بين الصلاتين) أو في الأولى كما فهم بالأولى، وصرح به
في المحرر، (مقيما) بنية الإقامة أو بانتهاء السفينة إلى المقصد، (بطل الجمع) لزوال سببه، فيتعين تأخير الثانية إلى
وقتها، أما الأولى فلا تتأثر بذلك.
تنبيه: تعبيره بقوله جمع فيه تساهل، وعبر في المحرر بقوله: ولو كان يجمع، ولو شك في صيرورته مقيما فحكمه
حكم تيقن الإقامة، فلو عبر بقوله فزال السبب لدخلت هذه الصورة. (وفي الثانية وبعدها) لو صار مقيما (لا يبطل في الأصح)
لانعقادها أو تمامها قبل زوال العذر، والثاني: يبطل قياسا في الأولى على القصر. وفرق الأول بأن القصر ينافي الإقامة
بخلاف الجمع، وفي الثانية على تعجيل الزكاة إذا خرج الآخذ قبل الحول عن الشرط المعتبر، وفرق الأول بأن الرخصة
هنا قد تمت، فأشبه ما لو قصر ثم طرأت الإقامة لا يلزمه الاتمام، بخلاف الزكاة فإن آخذها قد تبين أنه غير مستحق
لها. الأمر الثاني من أمري التأخير: دوام سفره إلى تمامهما كما يؤخذ من قوله: (أو) جمع (تأخيرا فأقام بعد
فراغهما لم يؤثر) ذلك بالاتفاق لتمام الرخصة في وقت الثانية، (وقبله) أي فراغهما، (يجعل الأولى قضاء) لأنها تابعة
للثانية في الأداء للعذر وقد زال قبل تمامها. وفي المجموع: إذا أقام في أثناء الثانية فينبغي أن تكون الأولى أداء
بلا خلاف. قال شيخنا: وما بحثه مخالف لاطلاقهم، قال السبكي وتبعه الأسنوي: وتعليلهم منطبق على تقديم الأولى
فلو عكس وأقام في أثناء الظهر فقد وجد العذر في جميع المتبوعة وأول التابعة، وقياس ما مر في جمع التقديم أنها أداء
على الأصح أي كما أفهمه تعليلهم. وأجرى الطاوسي الكلام على إطلاقه، فقال: وإنما اكتفى في جمع التقديم بدوام
السفر إلى عقد الثانية، ولم يكتف به في جمع التأخير بل شرط دوامه إلى تمامهما لأن وقت الظهر ليس وقت العصر
إلا في السفر، وقد وجد عند عقد الثانية فيحصل الجمع. وأما وقت العصر فيجوز فيه الظهر بعذر السفر وغيره، فلا
ينصرف فيه الظهر إلى السفر إلا إذا وجد السفر فيهما، وإلا جاز أن ينصرف إليه لوقوع بعضها فيه وأن ينصرف إلى
غيره لوقوع بعضها في غيره الذي هو الأصل اه‍. وكلام الطاووسي هو المعتمد. ثم شرع في الجمع بالمطر فقال: (ويجوز
الجمع) ولو لمقيم كما يجمع بالسفر ولو جمعة مع العصر خلافا للروياني في منعه ذلك، (بالمطر) ولو كان ضعيفا بحيث يبل
الثوب ونحوه كثلج وبرد ذائبين وشفان كما سيأتي. (تقديما) لما في الصحيحين عن ابن عباس: صلى رسول الله
(ص) بالمدينة الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، زاد مسلم: من غير خوف ولا سفر، قال
الشافعي كمالك: أرى ذلك بعذر المطر. قال في المجموع: وهذا التأويل مردود برواية مسلم: من غير خوف ولا مطر،
قال: وأجاب البيهقي بأن الأولى رواية الجمهور فهي أولى. قال - يعني البيهقي -: وقد روينا عن ابن عباس وابن عمر
الجمع بالمطر، وهو يؤيد التأويل. وأجاب غيره بأن المراد ولا مطر كثير أو لا مطر مستدام، فلعله انقطع في أثناء الثانية.
(والجديد منعه تأخيرا) لأن استدامة المطر ليست إلى الجامع، فقد ينقطع فيؤدي إلى إخراجها عن وقتها من غير عذر
274

بخلاف السفر والقديم جوازه، ونص عليه في الاملاء أيضا قياسا على السفر. (وشرط التقديم) بعد شروطه السابقة في جمعه
بالسفر (وجوده) أي المطر (أولهما) أي الصلاتين لتحقق الجمع مع العذر، (والأصح اشتراطه عند سلام الأولى) ليتصل
بأول الثانية، ويؤخذ منه اعتبار امتداده بينهما وهو ظاهر ولا يضر انقطاعه فيما عدا ذلك. والثاني: لا يشترط وجوده عند
سلام الأولى كما في الركوع والسجود. (والثلج والبرد كمطر إن ذابا) لبلهما الثوب والشفان، وهو بفتح الشين المعجمة لا بضمها
كما وقع في بعض نسخ الروضة ولا بكسرها كما وقع للقمولي، وبتشديد الفاء: برد ريح فيه بلل كالمطر. (والأظهر) وفي الروضة
الأصح، (تخصيص الرخصة بالمصلي جماعة) بمصلى (بمسجد) أو غيره (بعيد) عن باب داره عرفا، بحيث (يتأذى بالمطر في
طريقه) إليه نظرا إلى المشقة وعدمها، بخلاف من يصلي ببيته منفردا أو جماعة أو يمشي إلى المصلى في كن أو كان المصلى
قريبا فلا يجمع لانتفاء التأذي. وأما جمعه (ص) بالمطر مع أن بيوت أزواجه كانت بجنب المسجد فأجابوا
عنه بأن بيوتهن كانت مختلفة وأكثرها كان بعيدا، فلعله حين جمع لم يكن بالقريب، وبان للامام أن يجمع بالمأمومين
وإن لم يتأذ بالمطر كما صرح به ابن أبي هريرة وغيره وبخلاف من يصلي منفردا بمصلى لانتفاء الجماعة فيه. قال المحب
الطبري: ولمن اتفق له وجود المطر وهو بالمسجد، أي أو نحوه، أن يجمع وإلا لاحتاج إلى صلاة العصر، أي أو العشاء
في جماعة، وفيه مشقة في رجوعه إلى بيته ثم عوده أو في إقامته. وكلام غيره يقتضيه، والثاني: يترخص مطلقا.
تنبيه: يجمع العصر مع الجمعة في المطر كما مر وإن لم يكن موجودا حال الخطبة لأنها ليست من الصلاة، وقد علم مما مر
أنه لا جمع بغير السفر والمطر كمرض وريح وظلمة وخوف ووحل، وهو المشهور لأنه لم ينقل، ولخبر المواقيت فلا
يخالف إلا بصريح. وحكى في المجموع عن جماعة من أصحابنا جوازه بالمذكورات، وقال: وهو قوي جدا في المرض
والوحل. واختاره في الروضة، لكن فرضه في المرض، وجرى عليه ابن المقري. قال في المهمات: وقد ظفرت بنقله عن
الشافعي اه‍. وهذا هو اللائق بمحاسن الشريعة، وقد قال تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * وعلى ذلك يستحب
أن يراعي الأرفق بنفسه، فمن يحم في وقت الثانية يقدمها بشرائط جمع التقديم، أو في وقت الأولى يؤخرها بالامرين
المتقدمين، وعلى المشهور قال في المجموع: وإنما لم يلحقوا الوحل بالمطر كما في عذر الجمعة والجماعة لأن تاركهما يأتي
ببدلهما، والجامع يترك الوقت بلا بدل، ولان العذر فيهما ليس مخصوصا، بل كل ما يلحق به مشقة شديدة والوحل
منه، وعذر الجمع مضبوط بما جاءت به السنة ولم تجئ بالوحل.
تتمة: إذا جمع الظهر والعصر قدم سنة الظهر التي قبلها، وله تأخيرها سواء أجمع تقديما أم تأخيرا وتوسيطها
إن
جمع تأخيرا سواء أقدم الظهر أم العصر، وإذا جمع المغرب والعشاء أخر سنتهما، وله توسيط سنة المغرب إن جمع
تأخيرا وقدم المغرب وتوسيط سنة العشاء إن جمع تأخيرا وقدم العشاء، وما سوى ذلك ممنوع، وعلى ما مر من أن
للمغرب والعشاء سنة مقدمة، فلا يخفى الحكم مما تقرر في جمعي الظهر والعصر.
خاتمة: قد جمع في الروضة ما يختص بالسفر الطويل وما لا يختص، فقال: الرخص المتعلقة بالسفر الطويل أربع:
القصر، والفطر، والمسح على الخف ثلاثة أيام، والجمع على الأظهر. والذي يجوز في القصير أيضا أربع: ترك الجمعة،
وأكل الميتة وليس مختصا بالسفر، والتنفل على الراحلة على المشهور، والتيمم وإسقاط الفرض به على الصحيح
فيهما، ولا يختص هذا بالسفر أيضا كما مر في باب التيمم، نبه عليه الرافعي. وزيد على ذلك صور: منها ما لو سافر
المودع ولم يجد المالك ولا وكيله ولا الحاكم ولا الأمين فله أخذها معه على الصحيح. ومنها ما لو استصحب معه
ضرة زوجته بقرعة فلا قضاء عليه، ولا يختص بالطويل على الصحيح، ووقع في المهمات تصحيح عكسه. قال
الزركشي: وهو سهو.
275

باب صلاة الجمعة
بضم الميم وإسكانها وفتحها، وحكى كسرها، وجمعها جمعات وجمع، سميت بذلك لاجتماع الناس لها، وقيل: لما
جمع في يومها من الخير، وقيل: لأنه جمع فيه خلق آدم، وقيل: لاجتماعه فيه مع حواء في الأرض. وكان يسمى في الجاهلية
يوم العروبة: أي البين المعظم، وقيل: يوم الرحمة، قال الشاعر:
نفسي الفداء لأقوام هم خلطوا يوم العروبة أورادا بأوراد
وهي أفضل الصلوات، ويومها أفضل الأيام، وخير يوم طلعت فيه الشمس، يعتق الله فيه ستمائة ألف عتيق من النار،
من مات فيه كتب الله له أجر شهيد، ووقي فتنة القبر. وفي فضائل الأوقات للبيهقي من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر
مرفوعا: يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها، وأعظم عند الله من يوم الفطر ويوم الأضحى. وهي بشروطها فرض عين
لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا) * أي امضوا * (إلى ذكر الله)
* وقوله (ص):
رواح الجمعة واجب على كل محتلم. وقوله (ص): من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه رواه أبو
داود وغيره. وقوله (ص): من ترك الجمعة ثلاثا من غير عذر فقد نبذ الاسلام وراء ظهره رواه البيهقي في
الشعب عن ابن عباس مرفوعا. وفرضت الجمعة والنبي (ص) بمكة، ولم يصلها حينئذ إما لأنه لم يكمل عددها عنده، أو
لأن من شعارها الاظهار، وكان (ص) بها مستخفيا. والجديد أن الجمعة ليست ظهرا مقصورا وإن كان وقتها وقته وتتدارك صلاتها
به، بل صلاة مستقلة لأنه لا يغني عنها، ولقول عمر رضي الله تعالى عنه: الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم
(ص) وقد خاب من افترى رواه الإمام أحمد وغيره، وقال في المجموع: إنه حسن. والقديم أنها ظهر
مقصورة، ومعلوم أنها ركعتان، وهي كغيرها من الخمس في الأركان والشروط والآداب، وتختص بشروط لصحتها
وشروط للزومها وبآداب، وستأتي كلها. و (إنما تتعين) أي تجب وجوب عين لصحتها (على كل) مسلم (مكلف) أي بالغ
عاقل (حر ذكر مقيم بلا مرض ونحوه) كخوف وعري وجوع وعطش، فلا جمعة على صبي ولا على مجنون كغيرها من
الصلوات. وهذا علم من قوله: إنما تجب الصلاة على كل مكلف إلخ، ولهذا أسقط قيد الاسلام، قال في الروضة: والمغمى
عليه كالمجنون بخلاف السكران فإنه يلزمه قضاؤه ظهرا كغيرها ولا على عبد وامرأة ومسافر سفرا مباحا ولو قصيرا
لاشتغاله، وقد روي مرفوعا: لا جمعة على مسافر لكن قال البيهقي: والصحيح وقفه على ابن عمر، ولا على مريض، لحديث
الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض رواه أبو داود وغيره. وألحق
بالمرأة الخنثى لاحتمال أنه أنثى فلا تلزمه، وبالمريض نحوه، كما شملهما قوله: (ولا جمعة على معذور بمرخص في ترك الجماعة)
مما يمكن مجيئه في الجمعة، فإن الريح بالليل لا يمكن عذرها. وتوقف السبكي في قياس الجمعة على غيرها وقال: كيف
يلحق فرض العين بما هو سنة أو فرض كفاية، بل ينبغي أن كل ما ساوت مشقته مشقة المرض يكون عذرا قياسا على المرض المنصوص،
وما لا فلا إلا بدليل، لكن قال ابن عباس: الجمعة كالجماعة وهو مستند الأصحاب. ومن الاعذار الاشتغال بتجهيز الميت
كما اقتضاه كلامهم، وإسهال لا يضبط الشخص نفسه معه ويخشى منه تلويث المسجد كما في التتمة. وذكر
الرافعي في الجماعة أن الحبس عذر إذا لم يكن مقصرا فيه فيكون هنا كذلك، وأفتى البغوي بأنه يجب
إطلاقه لفعلها، والغزالي بأن القاضي إن رأى المصلحة في منعه منع وإلا فلا وهذا أولى. ولو اجتمع
في الحبس أربعون فصاعدا، قال الأسنوي: فالقياس أن الجمعة تلزمهم، وإذا لم يكن فيهم من يصلح لاقامتها
276

فهل لواحد من البلد التي لا يعسر فيها الاجتماع إقامة الجمعة لهم أم لا اه‍. والظاهر كما قاله بعض المتأخرين أن له ذلك.
(والمكاتب) لا جمعة عليه لأنه عبد ما بقي عليه درهم فهو معذور، وإن أشعر عطفه على من يعذر في ترك الجماعة أنه لا يعذر
في تركها فإنه رقيق كما مر. قال الأذرعي: وإنما خصه بالذكر ليشير إلى خلاف من أوجبها عليه دون القن. (وكذا من
بعضه رقيق) لا جمعة عليه، (على الصحيح) لعدم كماله واستقلاله، والثاني: إن كان بينه وبين سيده مهايأة ووقعت الجمعة
في نوبته فعليه الجمعة وإلا فلا. وقد يفهم من المتن أن مقابل الصحيح اللزوم مطلقا وليس مرادا. (ومن صحت ظهره)
ممن لا تلزمه الجمعة كما قال في المحرر، وذلك كالصبي والعبد والمرأة والمسافر بخلاف المجنون ونحوه، (صحت جمعته) بالاجماع
لأنها إذا أجزأت عن الكاملين الذين لا عذر لهم، فأصحاب العذر بطريق الأولى، وإنما سقطت عنهم رفقا بهم فأشبه
ما لو تكلف المريض القيام.
تنبيه: تعبير المحرر بقوله: تجزئة الجمعة أولى من تعبير المصنف بقوله: صحت جمعته لأن الاجزاء يشعر بعدم وجوب
القضاء بخلاف الصحة، بدليل صحة جمعة المتيمم بموضع يغلب فيه وجود الماء ولا تجزئه. ويستحب حضورها للمسافر والعبد
بإذن سيده والصبي المميز ليتعود إقامتها ويتمرن عليها كما يؤمر بباقي الصلوات، نص عليه في الام، والعجوز إن أذن لها
زوجها أو سيدها. (وله) أي لمن صحت جمعته ممن لا تلزمه (أن ينصرف من الجامع) ونحوه قبل إحرامه بها، لأن المانع
من الوجوب عليهم وهو النقصان لا يرتفع بحضورهم. (إلا المريض ونحوه) ممن ألحق به كأعمى لا يجد قائدا، (فيحرم
انصرافه) قبل إحرامه بها (إن دخل الوقت) قبل انصرافه لزوال المشقة بالحضور، (إلا أن يزيد ضرره بانتظاره) فعلها
ولم تقم الصلاة فيجوز انصرافه. أما إذا أقيمت فإنه لا يجوز له الانصراف كما قاله الامام إلا إذا كان ثم مشقة لا تحتمل،
كمن به إسهال ظن انقطاعه فأحس به، بل إن علم من نفسه أنه إن مكث سبقه وهو محرم في الصلاة كان له
الانصراف
كما قاله الأذرعي، ولو زاد ضرر المعذور بتطويل الامام كأن قرأ بالجمعة والمنافقين كان له الانصراف كما قاله الأسنوي.
واحترز بقوله من الجامع عن الانصراف من الصلاة فإنه يحرم سواء في ذلك العبد والمرأة والخنثى والمسافر والمريض ولو
بقلبها ظهرا لتلبسهم بالفرض. (وتلزم الشيخ الهرم والزمن إن وجدا مركبا) ملكا أو إجارة أو إعارة ولو آدميا كما قاله
في المجموع. (ولم يشق الركوب) عليهما كمشقة المشي في الوحل كما مر في صلاة الجماعة لانتفاء الضرر. وقياس ما مر في ستر
العورة أن الموهوب لا يجب قبوله لما فيه من المنة. والشيخ من جاوز الأربعين والمرأة شيخة وتصغيره شييخ، ولا يقال
شويخ، وأجازه الكوفيون. والهرم: أقصى الكبر، والزمانة: الابتلاء والعاهة. (والأعمى يجد قائدا) ولو بأجرة مثل يجدها
أو متبرعا أو ملكا، فإن لم يجده لم يلزمه الحضور وإن كان يحسن المشي بالعصا خلافا للقاضي حسين لما فيه من التعرض
للضرر. نعم إن كان قريبا من الجامع بحيث لا يتضرر بذلك ينبغي وجوب الحضور عليه، لأن المعتبر عدم الضرر وهذا
لا يتضرر. (وأهل القرية إن كان فيهم جمع تصح به الجمعة) وهو أربعون من أهل الكمال المستوطنين كما سيأتي، (أو
بلغهم صوت) من مؤذن (عال) يؤذن كعادته في علو الصوت (في هدو) أي والأصوات هادئة والرياح راكدة، (من
طرف يليهم لبلد الجمعة) مع استواء الأرض، (لزمتهم) والمعتبر سماع من أصغى إليه ولم يكن أصم ولا جاوز سمعه حد العادة
ولو لم يسمع منهم غير واحد، أما المسألة الأولى فلان القرية كالمدينة خلافا لأبي حنيفة لعموم الأدلة. وأما الثانية فلحديث
أبي داود: الجمعة على من سمع النداء ويعتبر كون المؤذن على الأرض لا على عال لأنه لا ضبط لحده، قال القاضي
أبو الطيب: قال أصحابنا: إلا أن تكون البلد في أرض بين أشجار كطبرستان، وتابعه في المجموع، فإنها بين أشجار تمنع بلوغ
277

الصوت فيعتبر فيها العلو على ما يساوي الأشجار. قال شيخنا: وقد يقال المعتبر السماع لو لم يكن مانع وفي ذلك مانع فلا
حاجة لاستثنائه اه‍. وهو حسن. ولو سمعوا النداء من بلدين فحضور الأكثر جماعة أولى، فإن استويا فمراعاة الأقرب أولى
كنظيره في الجماعة، وقيل: مراعاة الابعد لكثرة الاجر. (وإلا) أي وإن لم يكن فيها الجمع المذكور ولا بلغهم الصوت
المذكور (فلا) تلزمهم الجمعة، ولو ارتفعت قرية فسمعت ولو ساوت لم تسمع أو انخفضت فلم تسمع ولو ساوت لسمعت
لزمت الثانية دون الأولى اعتبارا بتقدير الاستواء، والخبر السابق محمول على الغالب ولو أخذ بظاهره للزمت البعيد المرتفع
دون القريب المنخفض وهو بعيد وإن صححه في الشرح الصغير. ولو وجدت قرية فيها أربعون كاملون فدخلوا بلدا
وصلوها فيها سقطت عنهم سواء سمعوا النداء أم لا، وحرم عليهم ذلك لتعطيلهم الجمعة في قريتهم، وقيل: لا يحرم لأن فيه خروجا
من خلاف أبي حنيفة. ولو وافق العيد يوم جمعة فحضر أهل القرية الذين يبلغهم النداء لصلاة العيد ولو رجعوا إلى
أهلهم فاتتهم الجمعة فلهم الرجوع وترك الجمعة يومئذ على الأصح فتستثني هذه من إطلاق المصنف. نعم لو دخل وقتها قبل
انصرافهم كأن دخل عقب سلامهم من العيد فالظاهر كما قال شيخنا أنه ليس لهم تركها. (ويحرم على من لزمته) الجمعة
بأن كان من أهلها (السفر بعد الزوال) لأن وجوبها تعلق به بمجرد دخول الوقت فلا يجوز له تفويته، فإن خالف
وسافر لم يترخص إلا إذا فاتت الجمعة، ويحسب ابتداء سفره من فواتها لانتهاء سبب المعصية، (إلا أن تمكنه الجمعة في)
مقصده أو (طريقه) لحصول المقصود. قال صاحب التعجيز في شرحه: هذا إذا لم تتعطل جمعة بلده بسببه بأن ينقص
به عدده وإلا لم يجز لأنه يفوت الجمعة على غيره. قال الأذرعي: ولم أره لغيره، أي فهو بحث له غير معتمد لأنهم بسفره
يصيرون لا جمعة عليهم كما لو جن أو مات واحد منهم، ولخبر الحاكم وصححه: لا ضرر ولا ضرار في الاسلام وإلا إذا
وجب عليه السفر فورا كما قاله الأذرعي كإنقاذ ناحية وطئها الكفار، أو أسرى اختطفوهم وجوز إدراكهم، بل الوجه
وجوب ترك الجمعة فضلا عن جوازه. فإن قيل: التعبير بالامكان غير مستقيم لصدقه مع غلبة الظن بعدم الادراك ولا شك
في التحريم ومع التردد على السواء، والمتجه التحريم أيضا كما قاله الأسنوي. أجيب بأن المراد به غلبة ظن الادراك،
وهو المراد بعبارة شرح المهذب بقوله: يشترط العلم بالادراك، فإن الأصحاب كثيرا ما يطلقون العلم ويريدون
به غلبة الظن.
(أو يتضرر بتخلفه) لها (عن الرفقة) فلا يحرم دفعا للضرر عنه.
تنبيه: مقتضى كلامه كغيره أن مجرد انقطاعه عن الرفقة بلا ضرر ليس عذرا. قال في المهمات: والصواب
خلافه لما فيه من الوحشة وكما في نظيره من التيمم، وبه جزم في الكفاية، وفرق غيره بينه وبين نظيره في التيمم بأن
الظهر يتكرر في كل يوم بخلاف الجمعة وبأنه يغتفر في الوسائل ما لا يغتفر في المقاصد والفرق أظهر. (وقبل الزوال) وأوله
الفجر (كبعده في) الحرمة في (الجديد) فإن أمكنه الجمعة في مقصده أو طريقه أو تضرر بتخلفه عن الرفقة جاز وإلا
فلا، والقديم ونص عليه في رواية حرملة من الجديد أنه يجوز لأنه لم يدخل وقت الوجوب، وهو الزوال، وكبيع النصاب
قبل تمام الحول. وأجاب الأول بأنها مضافة إلى اليوم، ولذلك يجب السعي لها قبل الزوال على بعيد الدار ويعتد بغسلها،
وفي الحديث: من سافر يوم الجمعة دعت عليه الملائكة أن لا يصحب في سفره رواه الدارقطني في الافراد، وقطع
بعضهم بالأول وبعضهم بالثاني. هذا (إن كان السفر مباحا) كسفر تجارة. ويشمل المكروه كما قاله الأسنوي كسفر منفرد،
(وإن كان طاعة) واجبا كان كسفر حج أو مندوبا كزيارة قبر النبي (ص)، (جاز) قطعا. (قلت: الأصح)
وفي الروضة الأظهر (أن الطاعة كالمباح) فيجري فيه القولان، (والله أعلم) لعدم صحة نص في التفرقة. ويكره السفر
ليلة الجمعة كما نقله المحب الطبري في شرحه عن ابن أبي الصيف وارتضاه. وفي الاحياء: من سافر ليلة الجمعة دعا عليه
278

ملكاه. (ومن لا جمعة عليهم) وهم ببلد الجمعة (تسن الجماعة في ظهرهم) في وقتها (في الأصح) لعموم الأدلة
الطالبة للجماعة. والثاني: لا، لأن الجماعة في هذا اليوم شعار الجمعة. أما إذا كانوا في غير بلد الجمعة فإنها تستحب لهم
إجماعا كما في المجموع. (ويخفونها) ندبا (إن خفي عذرهم) لئلا يتهموا بالرغبة عن صلاة الامام أو ترك الجمعة تساهلا،
بل قال المتولي وغيره: يكره لهم إظهارها، وهو كما قال الأذرعي ظاهر إذا أقاموها بالمساجد، فإن ظهر فلا تهمة فلا يندب
الاخفاء. وقيل: يندب مطلقا. (ويندب لمن أمكن زوال عذره) قبل فوات الجمعة كالمريض يتوقع الخفة والرقيق يرجو
العتق، (تأخير ظهره إلى اليأس من) إدراك (الجمعة) لأنه قد يزول عذره ويتمكن من فرض أهل الكمال، ويحصل
اليأس بأن يرفع الامام ظهره من ركوع الركعة الثانية على الأصح، وقيل: بأن يسلم الامام، وعليه جماعة، وأيد
بما سيأتي في غير المعذور من أنه لو أحرم بالظهر قبل السلام لم يصح. وأجيب بأن الجمعة ثم لازمة فلا ترفع إلا
بيقين بخلافها هنا، ثم محل الصبر إلى فوات الجمعة إذا لم يؤخرها الامام إلى أن يبقى من وقتها ما يسع أربع ركعات،
وإلا فلا يؤخر الظهر، ذكره المصنف في نكت التنبيه. ولو صلى المعذور قبل فواتها الظهر ثم زال عذره وتمكن منها
لم تلزمه، لأنه أدى فرض وقته، إلا إن كان خنثى فبان رجلا، فإنها تلزمه لتبين أنه من أهل الكمال، فإن لم يتمكن من
فعلها فلا شئ عليه لأنه أدى وظيفة الوقت. (و) يندب (لغيره) أي لمن لا يمكن زوال عذره، (كالمرأة والزمن) الذي
لا يجد مركبا، (تعجيلها) أي الظهر محافظة على فضيلة أول الوقت. قال في الروضة والمجموع: هذا اختيار الخراسانيين
وهو الأصح. وقال العراقيون: هذا كالأول، فيستحب له تأخير الظهر حتى تفوت الجمعة لأنه قد ينشط لها ولأنها
صلاة الكاملين فاستحب تقديمها، قال: والاختيار التوسط، فيقال: إن كان جازما بأنه لا يحضرها وإن تمكن منها
استحب له تقديم الظهر، وإن كان لو تمكن أو نشط حضرها استحب له التأخير. قال الأذرعي: وما ذكره المصنف
من التوسط شئ أبداه لنفسه. وقوله إن كان جازما جوابه أنه قد يعن له بعد الجزم أنه يحضر، وكم من جازم بشئ
ثم أعرض عنه اه‍. والمعتمد ما في المتن وإن قال ابن الرفعة ما قاله العراقيون: هو ظاهر النص، ونسبه القاضي للأصحاب،
وقال الأذرعي: إنه المذهب. وقد مر أنها تختص بشروط زائدة على غيرها. وقد شرع في ذلك فقال: (ولصحتها)
أي الجمعة (مع شرط غيرها) من سائر الصلوات (شروط) خمسة، (أحدها: وقت الظهر) بأن تقع كلها فيه للاتباع،
رواه الشيخان. وقال الإمام أحمد بجوازها قبل الزوال. لنا أنه (ص) كان يصلي الجمعة حين تزول
الشمس، رواه البخاري، وعلى ذلك جرى الخلفاء الراشدون فمن بعدهم، ولأنهما فرضا وقت واحد فلم يختلف وقتهما
كصلاة الحضر وصلاة السفر. (فلا تقضي) إذا فاتت (جمعة) لأنه لم ينقل، بل تقضى ظهرا بالاجماع.
تنبيه: في بعض النسخ: فلا تقضى بالفاء وفي بعضها بالواو وهي أولى، لأن عدم القضاء لا يؤخذ من اشتراط وقت
الظهر، لأن بينهما واسطة وهو القضاء في وقت الظهر من يوم آخر كما في رمي أيام التشريق. (فلو ضاق) الوقت (عنها)
بأن لم يبق منه ما يسع خطبتين وركعتين يقتصر فيهما على ما لا بد منه، (صلوا ظهرا) كما لو فات شرط القصر لزم الاتمام
ولا يجوز الشروع في الجمعة حينئذ كما نص عليه في الام، ولو شكوا في خروج الوقت قبل الاحرام بها لم يجز الشروع
فيها بالاتفاق. وحكى الروياني وجهين فيما لو مد الركعة الأولى حتى تحقق أنه لم يبق ما يسع الثانية هل تنعقد ظهرا الآن أو
عند خروج الوقت؟ ورجح منهما الأول، والأوجه الثاني، كما لو حلف ليأكلن هذا الرغيف غدا فأكله في اليوم هل يحنث
اليوم أو غدا؟ والراجح غدا. (ولو خرج) الوقت (وهم فيها) فاتت، سواء أصلى في الوقت ركعة أم لا، لأنها عبادة لا يجوز
279

الاتيان بها بعد خروج وقتها ففاتت بفواته كالحج. (وجب الظهر بناء) على ما فعل منها، فيسر بالقراءة من حينئذ لأنهما
صلاتا وقت واحد فجاز بناء أطولهما على أقصرهما كصلاة الحضر مع السفر ولا يحتاج إلى نية الظهر. (وفي قول) مخرج
(استئنافا) فينوون الظهر حينئذ. وهل ينقلب ما فعل من الجمعة ظهر أو يبطل؟ قولان أصحهما في المجموع الأول. قال
الرافعي: والقولان مبنيان على أن الجمع ظهر مقصورة أو لا؟ فعلى الأول يبني، وعلى الثاني يستأنف. وقضية هذا البناء
ترجيح الثاني، لأن الأصح أنها صلاة على حيالها كما مر، ولهذا قال الأذرعي: الأشبه أنهم إن شاءوا أتموها ظهرا
وإن شاءوا قلبوها نفلا واستأنفوا الظهر، والمعتمد وجوب البناء، ولا يلزم من البناء اتحاد الترجيح. وقد يؤخذ من
قوله: ولو خرج الوقت أن الشك في الوقت وهم فيها لا يؤثر، وهو كذلك على الأصح، لأن الأصل بقاء الوقت، وقيل:
يؤثر كالشك قبل الاحرام بها. ولو أخبرهم عدل بخروج الوقت، فالأوجه إتمامها ظهرا كما قال ابن المرزبان خلافا للدارمي
في إتمامها جمعة عملا بخبر العدل كما في غالب أبواب الفقه. هذا كله في حق الإمام والمأموم الموافق، (و) أما (المسبوق)
المدرك مع الامام ركعة فهو (كغيره) فيما تقدم، فإذا خرج الوقت قبل قيامه إلى الثانية أتمها ظهرا على الأصح، والقياس
كما قال الأسنوي أنه يجب عليه أن يفارق الامام في التشهد ويقتصر على الفرائض إذا لم يمكنه إدراك الجمعة إلا بذلك.
(وقيل يتمها جمعة) لأنه تابع لجمعة صحيحة، وهي جمعة الامام والناس، بخلاف ما إذا خرج الوقت قبل سلام الامام
ولو سلموا منها هم، أو المسبوق التسليمة الأولى خارج الوقت عالمين بخروجه بطلت صلاتهم وتعذر بناء الظهر عليها،
لأنهم بخروجه لزمهم الاتمام، فسلامهم كالسلام في أثناء الظهر عمدا. ولو قلبوها نفلا قبل السلام بطلت أيضا كما لو قلبوا
الظهر نفلا وإن سلموا جاهلين بخروجه أتموها ظهرا لعذرهم. فإن قيل: لم لم ينحط عن المسبوق الوقت فيما يتداركه
لكونه تابعا للقوم كما حط عنه القدوة والعدد لذلك كما سيأتي؟ أجيب بأن اعتناء الشارع برعايته أكثر، بدليل اختلاف
قول الشافعي رضي الله تعالى عنه في الانفضاض المخل بالجماعة وعدم اختلافه في فوات الجمعة بوقوع شئ من صلاة
الامام خارج الوقت، ولو سلم الأولى الامام وتسعة وثلاثون في الوقت وسلمها الباقون خارجه صحت جمعة الامام ومن
معه فقط دون المسلمين خارجه فلا تصح جمعتهم، وكذا جمعة المسلمين فيه لو نقصوا عن أربعين كأن
سلم الامام فيه وسلم من معه أو بعضهم خارجه فلا تصح جمعتهم. فإن قيل: لو تبين حدث المأمومين دون الامام صحت جمعته كما نقلاه
عن البيان مع عدم انعقاد صلاتهم، فهلا كان هنا كذلك؟ أجيب بأجوبة أحسنها أن المحدث تصح جمعته في الجملة بأن
لم يجد ماء ولا ترابا، بخلافها خارج الوقت. (الثاني) من الشروط: (أن تقام في خطة أبنية أوطان المجمعين) بتشديد الميم:
أي المصلين الجمعة، وإن لم تكن في مسجد لأنها لم تقم في عصر النبي (ص) والخلفاء الراشدين إلا في مواضع
الإقامة كما هو معلوم. والخطة بكسر الخاء المعجمة: الأرض التي خط عليها أعلاما بأنه اختارها للبناء. وأراد بها المصنف
الأمكنة المعدودة من البلد. ولا بد أن تكون الأبنية مجتمعة، والمرجع فيه إلى العرف. ولو انهدمت الأبنية وأقاموا
لعمارتها لم يضر انهدامها في صحة الجمعة وإن لم يكونوا في مظال لأنها وطنهم. ولا تنعقد في غير بناء إلا في هذه، وهذا
بخلاف ما لو نزلوا مكانا وأقاموا فيه ليعمروه قرية لا تصح جمعتهم فيه قبل البناء استصحابا للأصل في الحالين. وكذا لو
صلت طائفة خارج الأبنية خلف جمعة منعقدة لا تصح جمعتهم كما أفتى به شيخي لعدم وقوعها في الأبنية المجتمعة، وإن
خالف في ذلك بعض المتأخرين. وسواء في الأبنية البلاد والقرى والاسراب التي توطن، جمع سرب، وهو بفتح السين
والراء: بيت في الأرض والبناء بالخشب وغيره كطين وقصب وسعف. ويجوز إقامتها في فضاء معدود من الأبنية المجتمعة
بحيث لا تقصر فيه الصلاة كما في الكن الخارج عنها المعدود منها، بخلاف غير المعدود منها. فمن أطلق المنع في الكن
الخارج عنها أراد هذا. قال الأذرعي: وأكثر أهل القرى يؤخرون المسجد عن جدار القرية قليلا صيانة له عن نجاسة
البهائم، وعدم انعقاد الجمعة فيه بعيد. وقول القاضي أبي الطيب: قال أصحابنا: لو بنى أهل البلد مسجدهم خارجها
280

لم يجز لهم إقامة الجمعة فيه لانفصاله عن البناء محمول على انفصال لا يعد به من القرية اه‍. والضابط فيه أن لا يكون
بحيث تقصر الصلاة قبل مجاوزته أخذا مما مر. (ولو لازم أهل الخيام الصحراء) أي موضعا منها (أبدا) ولم يبلغهم النداء
من محل الجمعة، (فلا جمعة) عليهم، ولا تصح منهم (في الأظهر) لأنهم على هيئة المستوفزين، وليس لهم
أبنية المستوطنين، ولان قبائل العرب كانوا مقيمين حول المدينة، وما كانوا يصلونها، وما أمرهم النبي (ص)
بها. والثاني: تجب ويقيمونها في موضعهم لأن الصحراء وطنهم. أما إذا بلغهم النداء فإنها تجب عليهم كما علم مما مر، ولو لم
يلازموه أبدا بأن انتقلوا عنه في الشتاء أو غيره فلا جمعة عليهم ولا تصح منهم في موضعهم جزما. (الثالث)
من الشروط: (أن لا يسبقها ولا يقارنها جمعة في بلدتها) ولو عظمت كما قاله الشافعي، لأنه (ص) والخلفاء الراشدين لم
يقيموا سوى جمعة واحدة، ولان الاقتصار على واحدة أفضى إلى المقصود من إظهار شعار الاجتماع واتفاق الكلمة. قال
الشافعي: ولأنه لو جاز فعلها في مسجدين لجاز في مساجد العشائر، ولا يجوز إجماعا. (إلا إذا كبرت) أي البلدة (وعسر
اجتماعهم في مكان) بأن لم يكن في محل الجمعة موضع يسعهم بلا مشقة، ولو غير مسجد فيجوز التعدد للحاجة بحسبها،
لأن الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه دخل بغداد وأهلها يقيمون بها جمعتين وقيل ثلاثا، فلم ينكر عليهم، فحمله
الأكثرون على عسر الاجتماع. قال الروياني: ولا يحتمل مذهب الشافعي غيره. وقال الصيمري بفتح الميم: وبه أفتى
المزني بمصر. والعبرة في العسر بمن يصلي كما قاله شيخي لا بمن تلزمه ولو لم يحضر، ولا بجميع أهل البلد كما قيل بذلك.
(وقيل: لا تستثنى هذه الصورة) وتحتمل فيها المشقة في الاجتماع، وهذا ما اقتصر عليه صاحب التنبيه كالشيخ أبي حامد
ومتابعيه وهو ظاهر النص. وإنما سكت الشافعي على ذلك لأن المجتهد لا ينكر على مجتهد، وقد قال أبو حنيفة بالتعدد،
وقال السبكي: هذا بعيد، ثم انتصر له وصنف فيه وقال: إنه الصحيح مذهبا ودليلا، ونقله عن أكثر العلماء، وأنكر نسبة
الأول للأكثر، وأطنب في ذلك. فالاحتياط لمن صلى جمعة ببلد تعددت فيه الجمعة بحسب الحاجة ولم يعلم سبق جمعته أن
يعيدها ظهرا. (وقيل: إن حال نهر عظيم بين شقيها) كبغداد، (كانا) أي الشقان (كبلدين) فتقام في كل شق جمعة. (وقيل:
إن كانت) أي البلدة (قرى فاتصلت) أبنيتها، (تعددت الجمعة بعددها) فتقام في كل قرية جمعة كما كان. (فلو سبقها جمعة)
في محل لا يجوز التعدد فيه، (فالصحيحة السابقة) لاجتماع الشرائط فيها، واللاحقة باطلة لما مر أنه لا يزاد على واحدة.
(وفي قول إن كان السلطان مع الثانية) إماما كان أو مأموما (فهي الصحيحة) حذرا من التقدم على الامام
ومن تفويت الجمعة على أكثر أهل البلد المصلين معه بإقامة الأقل. قال السبكي: ويظهر أن كل خطيب
ولاه السلطان هو كالسلطان في ذلك وأنه مراد الأصحاب اه‍. وقال الجيلي: المراد به الامام الأعظم أو خليفته
في الإمامة أو الراتب من جهته، وقال البلقيني: هذا القول مقيد في الام بأن يكون وكيل الامام مع السابقة، فإن كان
معها فالجمعة هي السابقة. (والمعتبر سبق التحرم) بتمام التكبير وهو الراء، وإن سبقه الآخر بالهمزة، لأن به الانعقاد
من الامام كما صرح به في المجموع. وقيل: العبرة بأول التكبير وهو الهمزة من الله. وشمل كلامه ما إذا أحرم إمام
جمعة ثم إمام أخرى بها ثم اقتدى به تسعة وثلاثون ثم بالأول مثلهم، وهو كما في المجموع ظاهر كلام الأصحاب، إذ
بإحرامه تعينت جمعته للسبق وامتنع على غيره افتتاح جمعة أخرى. وقيل: الثانية هي الصحيحة لأن الامام لا عبرة به
مع وجود أربعين كاملين، بدليل أنه لو سلم الامام في الوقت وسلم القوم خارجه أنه لا جمعة للجميع، فدل على أن العبرة
بالعدد لا بالامام وحده. (وقيل) المعتبر سبق (التحلل) وهو تمام السلام للأمن معه من عروض فساد الصلاة
281

فكان اعتباره أولى من اعتبار ما قبله. (وقيل) السبق (بأول الخطبة) بناء على أن الخطبتين بدل عن ركعتين، ولو
دخلت طائفة في الجمعة فأخبروهم بأن طائفة سبقتهم أتموها ظهرا، كما لو خرج الوقت وهم فيها واستأنفوا الظهر وهو أفضل
ليصح ظهرهم بالاتفاق. (فلو وقعتا معا أو شك) في المعية، فلم يدر أوقعتا معا أو مرتبا، (استؤنفت الجمعة) إن اتسع
الوقت لتدافعهما في المعية، فليست إحداهما أولى من الأخرى، ولان الأصل في صورة الشك عدم جمعة مجزئة لاحتمال
المعية. قال الامام: وحكم الأئمة بأنهم إذا أعادوا الجمعة برئت ذمتهم مشكل لاحتمال تقدم إحداهما فلا تصح أخرى،
فاليقين أن يقيموا جمعة ثم ظهرا. قال في المجموع: وما قاله مستحب وإلا فالجمعة كافية في البراءة كما قالوه، لأن الأصل
عدم وقوع جمعة مجزئة في حق كل طائفة. قال غيره: ولان السبق إذا لم يعلم أو يظن لم يؤثر احتماله لأن النظر إلى علم
المكلف أو ظنه لا إلى نفس الامر. (وإن سبقت إحداهما ولم تتعين) كأن سمع مريضان أو مسافران خارج المسجد
تكبيرتين متلاحقتين وجهلا المتقدم فأخبراهم بالحال، والعدل الواحد كاف في ذلك ما استظهره شيخنا. (أو تعينت
ونسيت) بعده (صلوا ظهرا) لأنا تيقنا وقوع جمعة صحيحة في نفس الامر، ولا يمكن إقامة جمعة بعدها والطائفة
التي صحت لها الجمعة غير معلومة، والأصل بقاء الفرض في حق كل طائفة، فوجب عليهما الظهر. (وفي قول جمعة)
لأن المفعولتين غير مجزئتين، لأن الالتباس يجعل الصحيحة كالعدم فصار وجودهما كعدمهما. وفي الروضة وأصلها
ترجيح طريقة قاطعة في الثانية بالأول. وقال المزني: لا يجب عليهما شئ بالكلية، كما لو سمع من أحد الشخصين حدث
ولم يتعين.
فائدة: الجمع المحتاج إليها مع الزائد عليها كالجمعتين المحتاج إلى إحداهما، ففي ذلك التفصيل المذكور فيهما كما
أفتى به البرهان ابن أبي شريف. (الرابع) من الشروط: (الجماعة) بإجماع من يعتد به في الاجماع فلا تصح بالعدد فرادى،
إذ لم ينقل فعلها كذلك، والجماعة شرط في الركعة الأولى فقط، بخلاف العدد فإنه شرط في جميعها كما سيأتي
، فلو صلى
الامام ركعة بأربعين ثم أحدث فأتم كل منهم لنفسه أجزأتهم الجمعة. (وشرطها كغيرها) من نية الاقتداء،
والعلم بانتقالات الامام وغير ذلك مما مر في باب الجماعة إلا في نية الإمامة فتجب هنا على الأصح لتحصل له الجماعة.
(وأن تقام بأربعين) منهم الامام لما روى البيهقي عن ابن مسعود أنه (ص) جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلا. قال
في المجموع: قال أصحابنا: وجه الدلالة أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد، والأصل الظهر، فلا تجب الجمعة إلا بعدد
ثبت فيه توقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت: صلوا كما رأيتموني أصلي ولم تثبت صلاته لها بأقل من ذلك
فلا تجوز بأقل منه ولا بأربعين وفيهم أمي قصر في التعلم لارتباط صحة صلاة بعضهم ببعض، فصار كاقتداء القارئ بالامي
كما نقله الأذرعي عن فتاوى البغوي. وشرط كل واحد منهم أن يكون مسلما (مكلفا) أي بالغا عاقلا (حرا) كلا
(ذكرا) لأن أضدادهم لا تجب عليهم لنقصهم، بخلاف المريض فإنها إنما لم تجب عليه رفقا به لا لنقصه. (مستوطنا)
بمحلها، (لا يظعن) منه (شتاء ولا صيفا إلا لحاجة) كتجارة وزيارة فلا تنعقد بالكفار ولا بالنساء والخناثى، وغير
المكلفين ومن فيهم رق لنقصهم ولا بغير المستوطنين، كمن أقام على عزم عوده إلى وطنه بعد مدة ولو طويلة كالمتفقه
والتجار لعدم التوطن، ولا بالمتوطنين خارج محل الجمعة وإن سمعوا النداء لعدم الإقامة بمحلها. وهل يشترط تقدم
إحرام من تنعقد بهم الجمعة لتصح لغيرهم لأنه تبع أو لا؟ اشترط البغوي ذلك ونقله في الكفاية عن القاضي، والراجح
صحة تقدم إحرامهم كما اقتضاه إطلاق كلام الأصحاب ورجحه جماعة من المتأخرين ك البلقيني والزركشي، بل صوبه وأفتى
به شيخي. قال البلقيني: ولعل ما قاله القاضي، أي ومن تبعه من عدم الصحة مبني على الوجه الذي قال إنه القياس،
282

وهو أنه لا تصح الجمعة خلف الصبي أو العبد أو المسافر إذا تم العدد بغيره، والأصح الصحة. فإن قيل: تقدم إحرام الامام
ضروري فاغتفر فيه ما لا يغتفر في غيره. أجيب بأنه لا ضرورة إلى إمامته فيها، وللمشقة على من لا تنعقد به في تكليفه
معرفة تقدم إحرام أربعين من أهل الكمال على إحرامه. (والصحيح) من قولين (انعقادها بالمرضى) لأنهم
كاملون
وعدم الوجوب عليهم تخفيف. والثاني: لا كالمسافرين. والخلاف قولان لا وجهان، فكان الأولى أن يعبر بالأظهر.
(و) الصحيح من قولين أيضا (أن الامام لا يشترط كونه فوق أربعين) إذا كان بصفة الكمال لاطلاق الحديث
المتقدم. والثاني، ونقل عن القديم: يشترط، لأن الغالب على الجمعة التعبد، فلا ينتقل من الظهر إليها إلا بيقين. وتنعقد
بأربعين من الجن كما قاله القمولي، لكن عن النص: من ادعى أنه يرى الجن يكفر لمخالفته لقوله تعالى: * (إنه يراكم
هو وقبيله من حيث لا ترونهم) *. وقال بعضهم: يمكن حمله على من ادعى رؤيتهم على ما خلقوا عليه، ويحمل كلام
غيره على ما إذا تصوروا في صورة بني آدم ونحوهم اه‍. وهذا حسن. ولو كان في قرية أربعون أخرس فهل تنعقد
جمعتهم؟ قال ابن القطان: يحتمل وجهين اه‍. والأوجه الجزم بعدم الانقعاد لأنه لا بد من الخطبة. ويشترط العدد المذكور
من أول أركان الخطبة إلى الفراغ من الصلاة لأنه شرط في الابتداء، فكان شرطا في جميع الأجزاء كالوقت، ويشترط
أن يسمعوا أركان الخطبتين كما سيأتي. (و) على هذا (لو انفض الأربعون) الحاضرون (أو بعضهم في الخطبة لم
يحسب المفعول) من أركانها (في غيبتهم) لعدم سماعهم له، وقد قال تعالى * (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له
وأنصتوا) * قال أكثر المفسرين: المراد به الخطبة، فلا بد أن يسمع أربعون جميع أركان الخطبتين. ولا يأتي هنا
الخلاف الآتي في الانفضاض من الصلاة لأن كل واحد مصل بنفسه، فجاز أن يتسامح في نقصان العدد في الصلاة.
والمقصود من الخطبة إسماع الناس، فإذا انفض الأربعون بطل حكم الخطبة، وإذا انفض بعضهم بطل حكم العدد.
والمراد بالأربعين العدد المعتبر وهو تسعة وثلاثون على الأصح، فلو كان مع الامام الكامل أربعون فانفض واحد
منهم لم يضر، وأورد بعضهم هذه على المتن. (ويجوز البناء على ما مضى) منها (إن عاد وأقبل طول الفصل) عرفا
كما في المجموع، كما يجوز البناء لو سلم ناسيا ثم تذكر قبل طول الفصل، ولان ذلك لا يمنع الجمع بين الصلاتين في جميع التقديم.
(وكذا بناء الصلاة على الخطبة إن انفضوا بينهما) وعادوا قبل طول الفصل لما مر، (فإن عادوا بعد طوله) في المسألتين
(وجب الاستئناف) فيهما للخطبة (في الأظهر) سواء كان بعذر أم لا، لأنه عليه الصلاة والسلام لم ينقل عنه
ذلك
إلا متواليا، وكذا الأئمة من بعده، ولان الموالاة لها موقع في استمالة النفس. والثاني: لا يجب الاستئناف لأن الغرض
من ألفاظ الخطبة هو الوعظ والتذكير. ومن الصلاة إيقاع الفرض في جماعة وهو حاصل مع التفريق. وخرج بعادوا
ما لو عاد بدلهم، فلا بد من الاستئناف وإن قصر الفصل. (وإن انفضوا) أي الأربعون أو بعضهم، (في الصلاة) بأن
أخرجوا أنفسهم من الجماعة في الركعة الأولى أو أبطلوها، (بطلت) أي الجمعة لفوات العدد المشروط في دوامها فيتمها
من بقي ظهرا. وعلى هذا لو أحرم الامام وتباطأ المأمومون أو بعضهم بالاحرام عقب إحرام الامام ثم أحرموا، فإن تأخر
تحرمهم عن ركوعه فلا جمعة لهم وإن لم يتأخر عن ركوعه، فإن أدركوا الركوع مع الفاتحة صحت جمعتهم وإلا فلا
لادراكهم الركوع والفاتحة معه في الأولى دون الثاني وسبقه في الأول بالتكبير والقيام، كما لم يمنع إدراكهم الركعة لا يمنع انعقاد
الجمعة، وهذا ما جرى عليه الامام والغزالي، وقال البغوي: إنه المذهب، وجزم به صاحب الأنوار وابن المقري، وهو
المعتمد. وقال الشيخ أبو محمد الجويني: يشترط أن لا يطول الفصل بين إحرامه وإحرامهم. (وفي قول لا) تبطل (إن بقي)
283

اثنا عشر مع الامام، لحديث جابر: أنهم انفضوا عن النبي (ص) فلم يبق معه إلا اثنا عشر رجلا، فأنزل الله تعالى: * (وإذا
رأوا تجارة) * الآية، فدل على أن الأربعين لا تشترط في دوام الصلاة. وأجاب الأول بأن هذا كان في الخطبة كما ورد في
مسلم. ورجح هذه الرواية البيهقي على ما ورد في رواية أخرى في البخاري في الصلاة، وحملها بعضهم على الخطبة جمعا بين
الروايتين. وإذا كان في الخطبة فلعلهم عادوا قبل طول الفصل. وفي قول لا تبطل إن بقي (اثنان) مع الامام اكتفاء بدوام
مسمى الجمع، وفي قول قديم أنه يكفي بقاء واحد معه لوجود اسم الجماعة، وفي رابع أنه يتمها جمعة وإن بقي وحده،
وفي خامس إن حصل الانفضاض في الركعة الأولى بطلت أو في الثانية فلا ويتمها جمعة وإن بقي وحده. والمراد على الأول
انفضاض مسمى العدد لا الذين حضروا الخطبة، فلو أحرم بتسعة وثلاثين سمعوا الخطبة ثم انفضوا بعد إحرام تسعة
وثلاثين لم يسمعوها أتم بهم الجمعة، لأنهم إذا لحقوا والعدد تام صار حكمهم واحدا فسقط عنهم سماع الخطبة، وإن انفضوا
قبل إحرامهم به استأنف الخطبة بهم، فلا تصح الجمعة بدونها وإن قصر الفصل لانتفاء سماعهم ولحوقهم، وإن أحرم
بهم فانفضوا إلا ثمانية وثلاثين فكملوا أربعين بخنثى، فإن أحرم به بعد انفضاضهم لم تصح جمعتهم للشك في تمام العدد
المعتبر وإلا صحت، لأنا حكمنا بانعقادها وصحتها وشككنا في نقص العدد بتقدير أنوثته، والأصل صحة الصلاة فلا
نبطلها بالشك، كما لو شك في الصلاة هل كان مسح رأسه أم لا فإنه يمضي في صلاته. (وتصح) الجمعة (خلف العبد والصبي
والمسافر في الأظهر) أي خلف كل منهم (إذا تم العدد بغيره) لصحتها منهم كما في سائر الصلوات وإن لم تلزمهم، والعدد قد
وجد بصفة الكمال، وجمعة الامام صحيحة، والاقتداء بمن لا تجب عليه تلك الصلاة فيها جائز. والثاني: لا تصح، لأن الامام
ركن في صحة هذه الصلاة، فاشترط فيه الكمال كالأربعين بل أولى. ولو كان الامام متنفلا ففيه قولان، وأولى بالجواز
لأنه من أهل الفرض ولا نقص فيه.
تنبيه: تعبيره بالأظهر في الثلاثة مخالف لما في الشرح والروضة من وجهين: أحدهما أن الأصح في العبد والمسافر
طريقة القطع بالصحة لا طريقة الخلاف، والثاني: أن الخلاف على تقدير إثباته فيهما وجهان لا قولان. وكان الأولى
أن يقول: إذا تم العدد بغيرهم، لأن العطف إذا كان بالواو لا يفرد الضمير، أما إذا تم العدد بواحد ممن ذكر فلا تصح
جزما. (ولو بان الامام جنبا أو محدثا صحت جمعتهم في الأظهر إن تم العدد بغيره) كما في سائر الصلوات، والثاني: لا تصح
لأن الجماعة شرط في الجمعة، والجماعة تقوم بالإمام والمأموم، فإذا بان الامام محدثا بان أن لا جمعة له ولا جماعة بخلاف
غيرها. وحكى في المجموع طريقة قاطعة بالأول وصححها. (وإلا) بأن تم العدد به (فلا) تصح جمعتهم جزما، لأن الكمال شرط
في الأربعين كما مر، ولو بان حدث الأربعين المقتدين به أو بعضهم لم تصح جمعة من كان محدثا، وتصح جمعة الامام فيهما
كما صرح به الصيمري والمتولي وغيرهما ونقلاه عن صاحب البيان وأقراه، لأنه لا يكلف العلم بطهارتهم بخلاف ما لو بانوا
عبيدا أو نساء لسهولة الاطلاع على حالهم. أما المتطهر منهم في الثانية فتصح جمعته تبعا للامام كما صرح به المتولي والقمولي.
فإن قيل: كيف صحت صلاة الامام مع فوات الشرط وهو العدد فيها، ولهذا شرطناه في عكسه؟ أجيب بأنه لم يفت بل وجد
في حقه، واحتمل في حدثهم لأنه متبوع، ويصح إحرامه منفردا فاغتفر له مع عذره ما لا يغتفر في غيره، وإنما صحت
للمتطهر المؤتم به في الثانية تبعا له. (ومن لحق الإمام المحدث) أي الذي بان حدثه (راكعا لم تحسب ركعته على الصحيح)
لأن الحكم بإدراك ما قبل الركوع بإدراك الركوع خلاف الحقيقة، وإنما يصار إليه إذا كان الركوع محسوبا من صلاة
الامام ليتحمل به عن الغير، والمحدث ليس أهلا للتحمل وإن صحت الصلاة خلفه. والثاني: يحسب، كما لو أدرك معه
كل الركعة، وصححه الرافعي في باب صلاة المسافر. وأجاب الأول بأنه إذا أدركه راكعا لم يأت بالقراءة، والامام لا يتحمل
284

عن المأموم إذا كان محدثا بخلاف ما إذا قرأ بنفسه، وإن أدرك الركعة كاملة مع الامام في ركعة زائدة سهوا صحت إن لم يكن عالما بزيادتها
كمصل صلاة كاملة خلف محدث، بخلاف ما لو بان إمامه كافرا أو امرأة، لأنهما ليسا أهلا لامامة الجمعة بحال. (الخامس)
من الشروط: (خطبتان) لخبر الصحيحين عن ابن عمر: كان رسول الله (ص) يخطب يوم الجمعة خطبتين
يجلس بينهما. وكونهما (قبل الصلاة) بالاجماع إلا من شذ مع خبر: صلوا كما رأيتموني أصلي ولم يصل
(ص) إلا بعدهما. قال في المجموع: ثبت صلاته (ص) بعد خطبتين، بخلاف العيد فإن خطبتيه مؤخرتان
للاتباع، ولان الجمعة إنما تؤدى جماعة فأخرت ليدركها المتأخرون، ولان خطبة الجمعة شرط والشرط مقدم على مشروطه.
(وأركانهما خمسة): الأول: (حمد الله تعالى) للاتباع رواه مسلم. (و) الثاني: (الصلاة على رسول الله (ص)) لأنها
عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى فافتقرت إلى ذكر رسول الله (ص) كالاذان والصلاة، قال القمولي: وفي
وجوب الصلاة على رسول الله (ص) إشكال فإن الخطبة المروية عنه (ص) ليس فيها ذكر الصلاة عليه لكنه
فعل السلف والخلف، ويبعد الاتفاق على فعل سنة دائما، وقال: إن الشافعي تفرد بوجوب الصلاة على النبي (ص) في
الخطبة اه‍. ويدل له رضي الله عنه القياس المتقدم، وما في دلائل النبوة للبيهقي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي
(ص) قال: قال الله تعالى: وجعلت أمتك لا تجوز عليهم خطبة حتى يشهدوا أنك عبدي ورسولي. (ولفظهما) أي الحمد
والصلاة، (متعين) للاتباع، ولأنه الذي مضى عليه الناس في عصر النبي (ص) إلى عصرنا، فلا يجزئ الشكر
والثناء ولا إله إلا الله ولا العظمة والجلال والمدح ونحو ذلك، ولا يتعين لفظ الحمد بل يجزئ بحمد الله أو أحمد الله أو لله
الحمد أو الله أحمد كما يؤخذ من التعليقة تبعا لصاحب الحاوي في شرح اللباب، وصرح الجيلي بإجزاء أنا حامد لله، وهذا
هو المعتمد، وإن توقف في ذلك الأذرعي وقال: قضية كلام الشرحين تعين لفظ الحمد لله باللام اه‍. ويتعين لفظ الله فلا
يجزئ الحمد للرحمن أو الرحيم كما نقله الرافعي عن مقتضى كلام الغزالي، قال: ولم أره مسطورا وليس ببعيد كما في
التكبير، وجزم بذلك في المجموع. ولا يتعين لفظ: اللهم صل على محمد، بل يجزئ أصلي أو نصلي على محمد أو
أحمد أو الرسول أو النبي أو الماحي أو العاقب أو الحاشر أو الناشر أو النذير. ولا يكفي رحم الله محمدا أو صلى الله عليه
وصلى الله على جبريل ونحو ذلك.
تنبيه: قوله: ولفظهما متعين إن أراد تعيين الحمد والصلاة كما قررت به كلامه تبعا للشارح دون لفظ الله ورسول
الله. ورد عليه أن لفظ الجلالة يتعين كما مر، وإن أراد تعيين المذكور بجملته، ورد عليه أنه لا يتعين لفظ رسول الله كما
مر أيضا. وما ذكرته من أن لفظ الضمير لا يكفي هو ما أفتى به بعض المتأخرين وهو المعتمد قياسا على التشهد، وجزم به
شيخنا في شرح الروض. (و) الثالث: (الوصية بالتقوى) للاتباع رواه مسلم، ولان المقصود من الخطبة الوعظ والتحذير.
(ولا يتعين لفظها) أي الوصية بالتقوى (على الصحيح) لأن الغرض الوعظ والحمل على طاعة الله تعالى فيكفي ما دل على
الموعظة طويلا كان أو قصيرا كأطيعوا الله وراقبوه، ولا يكفي الاقتصار على التحذير من غرور الدنيا وزخرفها فقد يتواصى
به منكر البعث، بل لا بد من الحمل على الطاعة والمنع من المعصية، والحمل على الطاعة مستلزم للحمل على المنع من
المعصية. والثاني: يتعين لفظ الوصية قياسا على الحمد والصلاة.
تنبيه: قوله: ولا يتعين لفظها يحتمل أن مراده لا يتعين لفظ الوصية، وهو عبارة الروضة، فيكون لفظ التقوى لا بد
منه. وهذا أقرب إلى لفظه. ويحتمل أن مراده لا يتعين واحد من اللفظين لا الوصية ولا التقوى، وهو ما
قررت به كلامه
تبعا للشارح، وجزم الأسنوي بالاحتمال الأول ففسر به لفظ المصنف. قال بعض المتأخرين: ويمكن أن يكون مراده
في الروضة أن الخلاف في لفظ الوصية ولا يجب لفظ التقوى قطعا، ويؤيده ما نقلاه عن الامام وأقراه أنه يكفي أن يقول
285

أطيعوا الله. (وهذه الثلاثة) الأركان المذكورة (أركان في) كل من (الخطبتين) لاتباع السلف والخلف، ولان كل خطبة
منفصلة عن الأخرى. (والرابع قراءة آية) للاتباع رواه الشيخان، سواء أكانت وعدا لهم أو وعيدا أم حكما أم قصة. قال
الامام: ولا يبعد الاكتفاء بشطر آية طويلة، وينبغي كما قال شيخي اعتماده، وإن قال في المجموع: المشهور الجزم باشتراط
آية. ويعضد الأول قول البويطي ويقرأ شيئا من القرآن، ولا شك أنه لا يكفي ثم نظر أو ثم عبس أو نحو ذلك وإن كانت
آية لأنها غير مفهمة. وقال في المجموع إنه لا خلاف فيه. ويكفي كونها (في إحداهما) لأن الغالب القراءة في الخطبة دون
تعيين، ونقل الماوردي عن نصه في المبسوط أنه يجزئ أن يقرأ بين قراءتهما، قال: وكذلك قبل الخطبة أو بعد فراغه منهما،
ونقل ابن كج ذلك عن النص صريحا، وذكر الدارمي نحو ذلك، قال الأذرعي: وهو المذهب، قال في المجموع: ويسن
جعلها في الأولى. (وقيل) تتعين (في الأولى) فلا تجزئ في الثانية، وهو المنصوص في البويطي والمختصر لتكون في مقابلة الدعاء
المختص بالثانية، ولان الأولى أحق بالتطويل. (وقيل) تتعين (فيهما) أي في كل منهما. (وقيل لا تجب) في واحدة منهما بل
تستحب، وسكتوا عن محله، ويقاس بمحل الوجوب. وعلى الأول يستحب قراءة ق في الأولى للاتباع رواه مسلم،
ولاشتمالها على أنواع المواعظ. ولا يشترط رضا الحاضرين وإن توقف في ذلك الأذرعي، كما لا يشترط في قراءة الجمعة
والمنافقين في الصلاة وإن كانت السنة التخفيف، قال البندنيجي: فإن أبى قرأ: * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا
سديدا) * الآية. ولو قرأ آية سجدة نزل وسجد إن لم يكن فيه كلفة، فإن خشي من ذلك طول فصل سجد مكانه إن أمكن
وإلا تركه. ولا تجزئ آية تشتمل على الأركان كلها لأن ذلك لا يسمى خطبة، واستشكل هذا بأنه ليس لنا آية تشتمل على
الصلاة منا على النبي (ص)، وإن أتى ببعضها ضمن آية كقوله: * (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) * لم يمتنع، وأجزأه ذلك
عن البعض دون القراءة لئلا يتداخلا، وإن قصدهما بآية لم يجزه ذلك عنهما بل عن القراءة فقط كما صرح به في المجموع.
وكره جماعة تضمين شئ من آي القرآن بغيره من الخطب والرسائل وغيرهما، وخصه جماعة في الخطب والرسائل،
وهذا هو الظاهر، وقد أكثر من ذلك ابن الجوزي وابن نباتة وغيرهما. (والخامس: ما يقع عليه اسم دعاء للمؤمنين) بأخروي
لنقل الخلف له عن السلف، ويكون (في) الخطبة (الثانية) لأن الدعاء يليق بالخواتم. فإن قيل: تعبيره بالمؤمنين لا يشمل
المؤمنات. أجيب بأن المراد بهم الجنس الشامل لهن وبهما عبر في الوسيط، وفي التنزيل: * (وكانت من القانتين) *، ولو خص
به الحاضرين كقوله رحمكم الله كفى، بخلاف ما لو خص به الغائبين كما يؤخذ من كلامهم ولم أره مسطورا. (وقيل
لا يجب) لأنه لا يجب في غير الخطبة فكذا فيها كالتسبيح بل يستحب، ونص على هذا في الاملاء، وجزم به ابن
حامد. وقطع بعضهم بالأولى وبعضهم بالثاني فكان ينبغي التعبير بالمذهب، والمختار في المجموع وزيادة الروضة أنه
لا بأس بالدعاء للسلطان بعينه إن لم يكن في وصفه مجازفة، قال ابن عبد السلام: لا يجوز وصفه بالصفات الكاذبة إلا
لضرورة. ويستحب الدعاء لائمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح والإعانة على الحق والقيام بالعدل ونحو ذلك. ثم لما
فرغ من ذكر أركان الخطبتين شرع في ذكر شروطهما وهي تسعة مبتدئا بواحد منها فقال: (ويشترط كونها) أي الخطبة
أي أركانها، والمراد بها الجنس الشامل للخطبتين، (عربية) لاتباع السلف والخلف، ولأنها ذكر مفروض فيشترط فيه ذلك
كتكبيرة الاحرام، فإن أمكن تعلمها وجب على الجميع على سبيل فرض الكفاية فيكفي في تعلمها واحد منهم كما هو شأن
فروض الكفاية، فإن لم يفعل واحد منهم عصوا ولا جمعة لهم بل يصلون الظهر. فإن قيل: ما فائدة الخطبة بالعربية إذا لم يعرفها
القوم؟ أجيب بأن فائدتها العلم بالوعظ من حيث الجملة، فقد صرحوا فيما إذا سمعوا الخطبة ولم يفهموا معناها أنها تصح، فإن لم يمكن
تعلمها خطب بلغته وإن لم يفهمها القوم، فإن لم يحسن لغة فلا جمعة لهم لانتفاء شرطها. (مرتبة الأركان
الثلاثة الأولى)
286

على الترتيب السابق، فيبدأ بالحمد ثم بالصلاة ثم بالوصية كما جرى عليه الناس. وكذا أيضا صححه في الشرح الصغير ولم يصحح
في الكبير شيئا، وسيأتي تصحيح المصنف عدم اشتراط ذلك. ولا ترتيب بين القراءة والدعاء ولا بينهما وبين غيرهما،
وقيل: يشترط ذلك فيأتي بعد الوصية بالقراءة ثم الدعاء، حكاه في المجموع. (و) الشرط الثاني: كونها (بعد الزوال) للاتباع،
رواه البخاري عن السائب بن يزيد قال: كان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الامام على المنبر في عهد رسول الله
(ص) وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي البخاري عن أنس: أن النبي (ص) كان يصلي الجمعة بعد الزوال، وروي
أنه (ص) كان يخطب بعد الزوال. قال في المجموع في باب هيئة الجمعة: ومعلوم أنه (ص) كان يخرج إلى الجمعة
متصلا بالزوال، وكذا جميع الأئمة في جميع الأمصار، ولو جاز تقديمها لقدمها النبي (ص) تخفيفا على المبكرين وإيقاعا
لها في أول الوقت. (و) الشرط الثالث: (القيام فيهما إن قدر) للاتباع، رواه مسلم، فإن عجز عنه خطب قاعدا ثم مضطجعا
كالصلاة، ويصح الاقتداء به وإن لم يقل لا أستطيع لأن الظاهر أنه إنما فعل ذلك لعجزه، والأولى له أن (و) الشرط يستنيب فإن بان
أنه كان قادرا فكإمام بان محدثا وتقدم حكمه الرابع: (الجلوس بينهما) للاتباع، رواه مسلم، ولا بد من الطمأنينة
فيه كما في الجلوس بين السجدتين، فلو خطب جالسا لعجزه وجب الفصل بينهما بسكتة، ولا يكفي الاضطجاع. فإن قيل:
ما الحكمة في جعل القيام والجلوس هنا شرطين وفي الصلاة ركنين؟ أجيب بأن الخطبة ليست إلا الذكر والوعظ،
ولا ريب أن القيام والجلوس ليسا بجزئين منهما بخلاف الصلاة فإنها جملة أعمال وهي كما تكون أذكارا تكون غير أذكار.
(و) الخامس: (إسماع أربعين كاملين) أي أن يرفع صوته بأركانها بحيث يسمعها عدد من تنعقد بهم الجمعة لأن مقصودها
وعظهم وهو لا يحصل إلا بذلك، فعلم أنه يشترط الاسماع والسماع وإن لم يفهموا معناها كما مر، كالعامي يقرأ الفاتحة في الصلاة
ولا يفهم معناها فلا يكفي الاسرار كالاذان. ولا إسماع دون من تنعقد بهم الجمعة، فقوله كغيره أربعين، أي بالامام، فلو
كانوا صما أو بعضهم لم تصح كبعدهم. وقضية كلامهم أنه يشترط في الخطيب إذا كان من الأربعين أن يسمع نفسه حتى
لو كان أصم لم يكف، وهو كما قال الأسنوي بعيد، بل لا معنى له لأن الشخص يعرف ما يقول وإن لم يسمعه ولا معنى لامره
بالانصات لنفسه. ولا يشترط أن يعرف الخطيب معنى أركان الخطبة خلافا للزركشي كمن يؤم القوم ولا يعرف معنى الفاتحة.
(والجديد أنه لا يحرم عليهم الكلام) فيها، للأخبار الدالة على جوازه كخبر الصحيحين عن أنس: بينما النبي
(ص) يخطب يوم الجمعة، فقام أعرابي فقال: يا رسول الله هلك المال، وجاع العيال، فادع الله لنا فرفع يديه ودعا. وجه
الدلالة أنه لم ينكر عليه الكلام ولم يبين له وجوب السكوت، ولا يختص بالأربعين بل الحاضرون كلهم فيهم سواء. (ويسن)
للقوم السامعين وغيرهم أن يقبلوا عليه بوجوههم لأنه الأدب، ولما فيه من توجيههم القبلة، و (الانصات) له، قال تعالى:
* (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا) * ذكر كثير من المفسرين أنه ورد في الخطبة، وسميت قرآنا لاشتمالها
عليه. ويكره للحاضرين الكلام فيها لظاهر هذه الآية، وخبر مسلم: إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والامام
يخطب فقد لغوت والقديم يحرم الكلام فيها ويجب الانصات، واستدل لذلك بالآية المتقدمة. وأجاب الأول بأن الامر
في الآية للندب جمعا بين الدليلين ولا يحرم الكلام على الخطيب قطعا، والخلاف في كلام لا يتعلق به غرض مهم ناجز
فأما إذا رأى أعمى يقع في بئر أو عقربا تدب على إنسان فأنذره أو علم إنسانا شيئا من الخير أو نهاه عن منكر، فهذا
ليس بحرام قطعا بل قد يجب عليه، لكن يستحب أن يقتصر على الإشارة إن أغنت. ولا يكره الكلام قبل الخطبة ولا
بعدها ولا بين الخطبتين ولا للداخل ما لم يأخذ له مكانا ويستقر فيه، ولو سلم داخل على مستمع للخطبة والخطيب يخطب
وجب عليه الرد بناء على أن الانصات سنة كما مر مع أن السلام في هذه الحالة مكروه كما صرح به في المجموع وغيره، فكيف
يجب الرد والسلام غير مشروع وقد صحح الرافعي في الشرح الصغير عدم الوجوب، وقال الجرجاني: إن قلنا يكره الكلام
287

كره الرد اه‍. ولكن الاشكال لا يدفع المنقول. ويسن تشميت العاطس إذا حمد الله تعالى، وإنما لم يكره كسائر الكلام
لأن سببه قهري. ويجب تخفيف الصلاة على من كان فيها عند صعود الخطيب المنبر وجلوسه، ولا يباح لغير الخطيب من
الحاضرين نافلة بعد صعوده المنبر وجلوسه وإن لم يسمع الخطبة لاعراضه عنه بالكلية، ونقل فيه الماوردي الاجماع.
والفرق بين الكلام حيث لا بأس به وإن صعد الخطيب المنبر ما لم يبتدئ الخطبة، وبين الصلاة حيث تحرم حينئذ، أن
قطع الكلام هين متى ابتدأ الخطيب الخطبة، بخلاف الصلاة فإنه قد يفوته بها سماع أول الخطبة، وإذا حرمت لم تنعقد كما
قاله البلقيني لأن الوقت ليس لها، وكالصلاة في الأوقات الخمسة المكروهة، بل أولى للاجماع على تحريمها هنا كما مر
بخلافها ثم. وتستثنى التحية لداخل المسجد والخطيب على المنبر فيصليها ندبا مخففة وجوبا لخبر مسلم: جاء سليك الغطفاني
يوم الجمعة والنبي (ص) يخطب فجلس، فقال له: يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما. ثم قال: إذا جاء أحدكم يوم الجمعة
والامام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما هذا إن صلى سنة الجمعة، وإلا صلاها مخففة وحصلت التحية، ولا يزيد
على ركعتين بكل حال، فإن لم تحصل تحية كأن كان في غير مسجد لم يصل شيئا. فإطلاقهم ومنعهم من الراتبة مع قيام
سببها يقتضي أنه لو تذكر في هذا الوقت فرضا لا يأتي به، وأنه لو أتى به لم ينعقد وهو الظاهر كما قاله بعض المتأخرين. أما
الداخل في آخر الخطبة فإن غلب على ظنه أنه إن صلاها فاتته تكبيرة الاحرام مع الامام لم يصل التحية بل يقف حتى
تقام الصلاة، ولا يقعد لئلا يكون جالسا في المسجد قبل التحية، قال ابن الرفعة: ولو صلاها في هذه الحالة استحب للامام
أن يزيد في كلام الخطبة بقدر ما يكملها، قال شيخنا: وما قاله نص عليه في الام. والمراد بالتخفيف فيما ذكر الاقتصار
على الواجبات كما قاله الزركشي لا الاسراع، قال: ويدل له ما ذكروه من أنه إذا ضاق الوقت وأراد الوضوء اقتصر على
الواجبات. (قلت: الأصح أن ترتيب الأركان ليس بشرط، والله أعلم) لحصول المقصود بدونه لأن المقصود الوعظ وهو
حاصل، ولم يرد نص في اشتراط الترتيب، وهذا هو المنصوص عليه في الام والمبسوط وجزم به أكثر العراقيين، بل هو
سنة. والشرط السادس ما ذكره بقوله: (والأظهر اشتراط الموالاة) بين أركانها وبين الخطبتين وبينهما وبين
الصلاة للاتباع،
ولان لها أثرا ظاهرا في استمالة القلوب، والخطبة والصلاة شبيهتان بصلاة الجمع. والثاني: لا تشترط لأن الغرض الوعظ،
والتذكير يحصل مع تفريق الكلمات.
تنبيه: هذه المسألة قد سبقت في الكلام على الانفضاض فهي مكررة. (و) الشرط السابع: (طهارة الحدث)
الأكبر والأصغر، (والخبث) غير المعفو عنه في البدن والثوب والمكان. (و) الشرط الثامن: (الستر) للعورة، للاتباع
وكما في الصلاة، فلو أغمي عليه أو أحدث في أثناء الخطبة استأنفها، ولو سبقه الحدث وقصر الفصل، لأنها عبادة واجبة فلا تؤدى
بطهارتين كالصلاة. ولو أحدث بين الخطبة والصلاة وتطهر عن قرب لم يضر كما اقتضاه كلامهم كما في الجمع بين الصلاتين،
وأما سامعو الخطبة فلا يشترط طهارتهم ولا سترهم كما نقله الأذرعي عن بعضهم قال: وأغرب من شرط ذلك. الشرط التاسع:
تقديمها على الصلاة كما علم مما مر، ولا تجب نية الخطبة كما جزم به في المجموع في باب الوضوء، وجرى عليه ابن عبد السلام
في فتاويه قال: لأنها أذكار وأمر بمعروف ونهي عن منكر ودعاء وقراءة. ولا تشترط النية في شئ من ذلك لأنه ممتاز
بصورته منصرف إلى الله تعالى بحقيقته فلا يفتقر إلى نية تصرفه إليه. وقيل: تجب النية وفرضيتها كما في الصلاة، بجامع أن
كلا منهما فرض يشترط فيه الطهارة والستر والموالاة. وجرى على هذا القاضي وتبعه ابن المقري في روضه وصاحب الأنوار،
والمعتمد الأول، وما جرى عليه القاضي مبني كما قال في المهمات على أنها بدل عن ركعتين. ثم شرع في ذكر مستحبات
الخطبة، فقال: (وتسن على منبر) للاتباع رواه الشيخان، وهو بكسر الميم مأخوذ من النبر، وهو الارتفاع. ويسن أن
يكون المنبر على يمين المحراب، والمراد يمين مصلى الامام، قال الرافعي: هكذا وضع منبره (ص).
قال الصيمري: وينبغي أن يكون بين المنبر والقبلة قدر ذراع أو ذراعين.
288

فائدة: كان النبي (ص) يخطب إلى جذع، فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع، فأتاه النبي (ص) فالتزمه،
وفي رواية: فمسحه، وفي أخرى: فسمعنا له مثل أصوات العشار. وكان منبره (ص) ثلاث درج غير الدرجة التي
تسمى المستراح، ويستحب أن يقف على الدرجة التي تليها كما كان يفعل النبي (ص). فإن قيل: إن أبا بكر نزل عن موقف النبي
(ص) درجة، وعمر درجة أخرى، وعثمان درجة أخرى، ثم وقف على موقف رسول الله (ص).
أجيب بأن فعل بعضهم ليس حجة على بعض ولكل منهم قصد صحيح، والمختار موافقته (ص) لعموم الامر
بالاقتداء به. نعم إن طال المنبر قال الماوردي: فعلى السابعة، أي لأن مروان بن الحكم زاد في زمن معاوية على المنبر الأول
ست درج فصار عدد درجه تسعة، وكان الخلفاء يقفون على الدرجة السابعة، وهي الأولى من الأول، أي لأن الزيادة
كانت من أسفله. وظاهر كلامهم أن فعل الخطبة على المنبر مستحب وإن كان بمكة، وهو للظاهر، وإن قال السبكي: الخطابة
بمكة على منبر بدعة، وإنما السنة أن يخطب على الباب كما فعل النبي (ص) يوم الفتح، وإنما أحدث المنبر
بمكة معاوية بن أبي سفيان. ويكره منبر كبير يضيق على المصلين. ويسن التيامن في المنبر الواسع، (أو) على موضع
(مرتفع) لأنه أبلغ في الاعلام، هذا إن لم يكن منبر كما في الشرحين والروضة وإن كان مقتضى عبارة المصنف التسوية،
فإن تعذر استند إلى نحو خشبة كما كان (ص) يفعله قبل فعل المنبر. (ويسلم) عند دخول المسجد على الحاضرين
لاقباله عليهم، و (على من عند المنبر) ندبا إذا انتهى إليه كما في المحرر للاتباع رواه البيهقي، ولمفارقته إياهم. ولا يسن له
تحية المسجد كما في زوائد الروضة وإن خالفه غيره. (و) يسن (أن يقبل عليهم إذا صعد) المنبر أو نحو أو استند إلى
ما مر وانتهى إلى ما يجلس عليه أو استند إلى ما يستند إليه، (ويسلم عليهم)، للاتباع ولاقباله عليهم. قال في المجموع:
ويجب رد السلام عليه في الحالين، وهو فرض كفاية كالسلام في باقي المواضع، وإنما يسن إقباله عليهم وإن كان فيه
استدبار القبلة، لأنه لو استقبلها فإن كان في صدر المجلس كما هو العادة كان خارجا عن مقاصد الخطاب، وإن كان في آخره
ثم استدبروه لزم ما ذكرناه، وإن استقبلوه لزم ترك الاستقبال لخلق كثير وتركه لواحد أسهل. (ويجلس) بعد السلام
على المستراح ليستريح من تعب الصعود، (ثم يؤذن) بفتح الذال في حال جلوسه كما قاله الشارح. وقال الدميري:
ينبغي أن يكون بكسرها ليوافق ما في المحرر من كون الاذان المذكور يستحب أن يكون من واحد لا من جماعة
كما استحبه أبو علي الطبري وغيره. ولفظ الشافعي في ذلك: وأحب أن يؤذن مؤذن واحد إذا كان على المنبر لا جماعة
المؤذنين لأنه لم يكن لرسول الله (ص) إلا مؤذن واحد، فإن أذنوا جماعة كرهت ذلك، ولا يفسد شئ منه
الصلاة لأن الاذان ليس من الصلاة، وإنما هو دعاء إليها. وفي البخاري كان الاذان على عهد رسول الله
(ص) وأبي بكر وعمر حين يجلس الامام على المنبر، فلما كثر الناس في عهد عثمان أمرهم بأذان آخر على الزوراء واستقر
الامر على هذا. (و) يسن (أن تكون) الخطبة (بليغة) أي فصيحة جزلة، لأن ذلك أوقع في القلوب من الكلام
المبتذل الركيك، (مفهومة) لا غريبة وحشية، إذ لا ينتفع بها أكثر الناس. وقال علي رضي الله عنه: حدثوا
الناس بما يعرفون، أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟. وقال الشافعي رضي الله عنه: يكون كلامه مسترسلا مبينا معربا
من غير نعي ولا تمطيط. وقال المتولي: وتكره الكلمات المشتركة والبعيدة عن الافهام وما تنكره عقول الحاضرين.
(قصيرة) أي بالنسبة إلى الصلاة، لحديث مسلم: أطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة بضم الخاء، فتكون متوسطة كما عبر
به في الروضة وأصلها، بين الطويلة والقصيرة لخبر مسلم: كانت صلاة النبي (ص) قصدا وخطبته قصدا
ولا ينافي هذا ما مر، لأن القصر والطول من الأمور النسبية، فالمراد بإقصار الخطبة إقصارها عن الصلاة كما مر وبإطالة
الصلاة إطالتها على الخطبة، قال شيخنا: وبهذا يندفع ما قيل إن اقتصار الخطبة يشكل بقولهم يسن أن يقرأ في الأولى
ق. (ولا يلتفت يمينا، و) لا (شمالا في شئ منها) لأنه بدعة، بل يستمر على ما مر من الاقبال عليهم إلى فراغها ولا
289

يعبث بل يخشع كما في الصلاة، فلو استقبل القبلة أو استدبرها الحاضرون أجزأ ذلك وكره.
تنبيه: كان ينبغي أن يقول ولا شمالا بزيادة لا كما في الشرح والروضة، لأنه إذا التفت يمينا فقط أو شمالا فقط صدق
عليه أن يقال لم يلتفت يمينا ولا شمالا، ولو حذفهما لكان أعم وأحضر. (ويعتمد) ندبا (على سيف أو عصا ونحوه)
كقوس، لخبر أبي داود بإسناد حسن: أنه (ص) قام في خطبة الجمعة متوكئا على قوس أو عصا، وحكمته
الإشارة إلى أن هذا الدين قام بالسلاح، ولهذا يسن أن يكون ذلك في يده اليسرى كعادة من يريد الجهاد به ويشغل
يده اليمنى بحرف المنبر، فإن لم يجد شيئا من ذلك سكن يديه خاشعا بأن يجعل اليمنى على اليسرى أو يرسلهما. ويكره
في الخطبة ما ابتدعه الخطباء الجهلة من الإشارة باليد أو غيرها ومن الالتفات في الخطبة الثانية وفي دق الدرج في صعوده
المنبر بسيف أو برجله أو نحوها، وإن أفتى ابن عبد السلام باستحبابه والشيخ عماد الدين بن يونس بأنه لا بأس به وقال:
فيه تفخيم للخطبة وتحريك لهمم السامعين وإن كان بدعة، والدعاء إذا انتهى صعوده قبل الجلوس للاذان، وربما
توهموا أنها ساعة الإجابة وهو جهل لأنها بعد جلوسه. وأغرب البيضاوي، فقال: يقف في كل مرقاة وقفة خفيفة يسأل
الله فيها المعونة والتسديد. ومبالغة الاسراع في الخطبة الثانية وخفض الصوت بها، والمجازفة في وصف السلاطين في الدعاء
لهم، ولا بأس بالدعاء لهم إذا لم يكن فيه مجازفة كما مر، إذ يسن الدعاء بإصلاح ولاة الأمور. ويكره الاحتباء،
وهو أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بثوبه أو يديه أو غيرهما والامام يخطب للنهي عنه، لأنه يجلب النوم فيمنعه الاستماع.
(ويكون جلوسه بينهما) أي بين الخطبتين (نحو سورة الاخلاص) استحبابا، وقيل إيجابا، وقيل يقرأ فيها أو يذكر
أو يسكت لم يتعرضوا له، لكن في صحيح ابن حبان: أنه (ص) كان يقرأ فيها وقال القاضي: إن الدعاء
فيها مستجاب. ويسن أن يختم الخطبة الثانية بقوله: أستغفر الله لي ولكم. (وإذا فرغ) من الخطبة (شرع المؤذن
في الإقامة وبادر الامام ليبلغ المحراب مع فراغه) من الإقامة، كل ذلك مستحب كما في المجموع تحقيقا للموالاة وتخفيفا
على الحاضرين. (ويقرأ) ندبا بعد الفاتحة (في) الركعة (الأولى الجمعة، وفي الثانية) بعد الفاتحة (المنافقين) بكمالهما،
للاتباع رواه مسلم، فلو ترك الجمعة في الأولى قرأ في الثانية مع المنافقين وإن أدى إلى تطويل الثانية على الأولى لتأكيد
السورتين، ولو قرأ بالمنافقين في الأولى قرأ في الثانية. وروي أيضا أنه (ص) كان يقرأ في الجمعة:
* (سبح اسم ربك الاعلى) * و * (هل أتاك حديث الغاشية) * قال في الروضة: كان يقرأ هاتين في وقت وهاتين
في وقت. فهما سنتان، وقراءة بعض من ذلك أفضل من قراءة قدره من غيرهما إلا أن يكون ذلك الغير مشتملا
على ثناء كآية الكرسي، قاله ابن عبد السلام. ويسن أن تكون القراءة في الجمعة (جهرا) بالاجماع، وهذا من زيادة
الكتاب بلا تمييز. ويستحب للمسبوق الجهر في ثانيته كما نقله صاحب الشامل والبحر عن النص. ومن البدع في الخطبة
ذكر الشعر فيها، قاله ابن عبد السلام. قال القمولي: ومن البدع المنكرة كتب كثير من الناس الأوراق التي يسمونها
حفائظ في آخر جمعة من رمضان في حال الخطبة لما فيها من الاشتغال عن الاستماع والاتعاظ والذكر والدعاء وهو من
أشرف الأوقات، وكتابة كلام لا يعرف معناه كعسلهون، وقد يكون دالا على ما ليس بصحيح. ولم ينقل ذلك
عن أحد من أهل العلم.
فصل: في الأغسال المسنونة في الجمعة وغيرها وما نذكر معها: (يسن الغسل لحاضرها) أي لمن يريد حضورها
وإن لم تجب عليه الجمعة لحديث: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل ولخبر البيهقي بسند صحيح، من أتى الجمعة من
الرجال والنساء فليغتسل ومن لم يأتها فليس عليه غسل (وقيل) يسن (لكل أحد) حضر أم لا كالعيد، ويفارق
290

العيد على الأول حيث لم يختص بمن حضر بأن غسله للزينة وإظهار السرور، وهذا للتنظيف ودفع الأذى عن الناس،
ومثله يأتي في التزين. وروي: غسل الجمعة واجب على كل محتلم - أي متأكد - وحق على كل مسلم أن يغتسل في
كل سبعة أيام يوما زاد النسائي: هو يوم الجمعة، وهذا مما انفردت به الجمعة عن بقية المكتوبات الخمس. وصرف
هذه الأحاديث عن الوجوب خبر: من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل رواه الترمذي وحسنه.
قوله: فبها أي بالسنة أخذ، أي بما جوزته من الوضوء مقتصرا عليه. ونعمت الخصلة أو الفعلة، والغسل معها أفضل،
وخبر: من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فدنا واستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام.
وفي الصحيحين: أن عثمان دخل وعمر يخطب، فقال: ما بال رجال يتأخرون عن النداء؟ فقال عثمان: يا أمير المؤمنين
ما زدت حين سمعت النداء أن توضأت ثم جئت، فقال عمر: والوضوء أيضا؟ ألم تسمعوا رسول الله (ص) يقول: إذا
جاء أحدكم الجمعة فليغتسل؟ (ووقته من الفجر) الصادق، لأن الاخبار علقته باليوم، كقوله (ص): من اغتسل يوم
الجمعة ثم راح في الساعة الأولى الحديث، فلا يجزئ قبله. وقيل: وقته من نصف الليل كالعيد، والفرق ظاهر لبقاء
أثره إلى صلاة العيد لقرب الزمن، ولأنه لو لم يجز قبل الفجر لضاق الوقت وتأخر عن التبكير إلى الصلاة، والغرض
من ذلك أن الغسل لها سنة من بعد الفجر. (وتقريبه من ذهابه) إلى الجمعة (أفضل) لأنه أبلغ في المقصود من
انتفاء الرائحة الكريهة، ولو تعارض الغسل والتكبير فمراعاة الغسل أولى كما قاله الزركشي لأنه مختلف في وجوبه، وقيل:
إن كان بجسده ريح كريهة اغتسل وإلا بكر. ولا يبطل غسل الجمعة الحدث فيتوضأ ولا الجنابة فيغتسل، ويكره تركه
بلا عذر على الأصح. (فإن عجز) عن الماء بأن توضأ ثم عدمه أو كان جريحا في غير أعضاء الوضوء، (تيمم في الأصح)
بنية الغسل بأن ينوي التيمم عن غسل الجمعة إحرازا للفضيلة كسائر الأغسال. والثاني: لا يتيمم، لأن المقصود من الغسل
التنظيف وقطع الرائحة الكريهة والتيمم لا يفيده، وهذا احتمال للامام أثبته الغزالي وجها. (ومن المسنون غسل العيد)
الأصغر والأكبر، (والكسوف) للشمس والقمر، (والاستسقاء) لاجتماع الناس لذلك كالجمعة، وستأتي أوقات هذه
الأغسال في أبوابها. (و) الغسل (لغاسل الميت) سواء أكان الميت مسلما أم لا، وسواء أكان الغاسل طاهرا أم لا
كحائض، لقوله (ص): من غسل ميتا فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ رواه الترمذي وحسنه. وإنما لم يجب لقوله
(ص): ليس عليكم من غسل ميتكم غسل إذا غسلتموه رواه الحاكم، وقال: إنه على شرط البخاري، وقيس
بالغسل الوضوء. وقوله: ومن حمله، أي أو أراد حمله فليتوضأ ليكون على طهارة، وقيل: يتوضأ من حمله لاحتمال أنه خرج
منه شئ لم يعلم به. ويسن الوضوء من مسه (و) غسل (المجنون والمغمى عليه إذا أفاقا) ولم يتحقق منهما إنزال
للاتباع في الاغماء، رواه الشيخان. وفي معناه الجنون بل أولى، لأنه يقال كما قال الشافعي: قل من جن إلا وأنزل. فإن
قلت: لم لم يجب كما يجب الوضوء؟ أجيب بأنه لا علامة ثم على خروج الريح، بخلاف المني فإنه مشاهد، فإن تحقق
الانزال وجب الغسل. (و) الغسل ل‍ (- كافر) بعد إسلامه (إذا أسلم) تعظيما للاسلام وقد أمر (ص) قيس
ابن عاصم به لما أسلم، وكذا ثمامة بن أثال رواهما ابنا خزيمة وحبان. وإنما لم يجب لأن جماعة أسلموا ولم يأمرهم
(ص) بالغسل، هذا إن لم يعرض له في كفره ما يوجب الغسل وإلا وجب على الأصح، وقيل: يسقط، ولا عبرة بالغسل
في الكفر في الأصح. (وأغسال الحج) الآتي بيانها في بابه إن شاء الله تعالى. وأفاد التعبير بمن أنه قد بقيت أغسال
أخر مسنونة، منها الغسل من الحجامة، ومن الخروج من الحمام عند إرادة الخروج، وللاعتكاف، ولكل ليلة من
رمضان، وقيده الأذرعي بمن يحضر الجماعة - ولدخول الحرم، ولحلق العانة، ولبلوغ الصبي بالسن، ولدخول
المدينة، وعند سيلان الوادي، ولتغير رائحة البدن، وعند كل اجتماع من مجامع الخير. قال شيخنا:
كالاجتماع للكسوف.
وأما الغسل للصلوات الخمس فلا يسن لها كما مرت الإشارة إليه، وأفتى به شيخي، لما في ذلك من المشقة. (وآكدها)
291

بمد الهمزة (غسل غاسل الميت) في الجديد، لأن الغسل من غسل الميت قد اختلف في وجوبه. (ثم) غسل (الجمعة)
يليه في الفضيلة لأنه قد اختلف في وجوبه أيضا (وعكسه القديم) فقال آكدها غسل الجمعة ثم غسل غاسل الميت.
(قلت: القديم هنا أظهر) من الجديد، وصوب في الروضة الجزم به (ورجحه الأكثرون، وأحاديثه) أي غسل
الجمعة (صحيحة، كثيرة وليس للجديد) هنا (حديث صحيح) يدل له (والله أعلم) وقد اعترض عليه في هذه
الدعوى بأنه قد صحح الترمذي وابن حبان وابن السكن حديث: من غسل ميتا فليغتسل وقال الماوردي: خرج
بعض أصحاب الحديث لصحته مائة وعشرين طريقا، لكن قال البخاري: الأشبه وقفه على أبي هريرة، وما أحسن
قول الرافعي لأن أخبار الجمعة أصح وأثبت. ومن فوائد كون ذلك آكد التقديم له فيما إذا أوصى أو وكل بماء للأولى
كما مر بيانه في التيمم.
تنبيه: قال الزركشي: قال بعضهم: إذا أراد الغسل للمسنونات نوى أسبابها إلا الغسل من الجنون فإنه ينوي
الجنابة وكذا المغمى عليه، ذكره صاحب الفروع اه‍. ومحل هذا إذا جن أو أغمي عليه بعد بلوغه لقول الشافعي: قل
من جن إلا وأنزل. أما إذا جن قبل بلوغه أو أغمي عليه ثم أفاق قبله فإنه ينوي السبب كغيره. (و) يسن (التبكير إليها)
لغير الامام وغير ذي عذر يشق عليه البكور ليأخذوا مجالسهم وينتظروا الصلاة، ولخبر الصحيحين: على كل باب من
أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، ومن اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة - أي مثل غسلها - ثم راح في الساعة
الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب
كبشا أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة، فإذا
خرج الامام حضرت الملائكة يسمعون الذكر وفي رواية النسائي: أن الساعات ست قال في الأولى والثانية والثالثة
ما مر، وفي الرابعة بطة، والخامسة دجاجة، والسادسة بيضة. قال في المجموع وشرح مسلم: المراد بالساعات الساعات الفلكية
اثنا عشرة ساعة زمانية صيفا أو شتاء فمن جاء في أول ساعة منها، أي مثلا، ومن جاء في آخرها يشتركان في
تحصيل
البدنة لكن بدنة الأول أكمل من بدنة الآخر وبدنة المتوسط متوسطة. وقال في أصل الروضة: ليس المراد من الساعات
الفلكية بل ترتيب درجات السابقين. قال ابن المقري: فكل داخل بالنسبة إلى من بعده كالمقرب بدنة وبالنسبة إلى من
قبله بدرجة كالمقرب بقرة وبدرجتين كالمقرب كبشا وبثلاث دجاجة وبأربع بيضة، وعلى هذا لا حصر للساعات والأولى
الأول. أما الامام فيسن له التأخير إلى وقت الجمعة اقتداء به (ص) وبخلفائه، وكذا المعذور الذي يشق عليه
البكور. والساعات من طلوع الفجر الصادق لأنه أول النهار شرعا وبه يتعلق جواز غسل الجمعة، وإنما ذكر في الخبر
لفظ الرواح مع أنه اسم للخروج بعد الزوال كما قاله الجوهري لأنه خروج لما يؤتى به بعد الزوال، على أن الأزهري منع ذلك
وقال: إنه مستعمل عند العرب في السير أي وقت من ليل أو نهار. ويلزم البعيد السعي إلى الجمعة قبل الزوال لتوقف
أداء الواجب عليه. وقيل: وقتها من الشمس، وقيل، من الضحى، وقيل: من الزوال. ويستحب أن يأتي إليها (ماشيا)
إن قدر ولم يشق عليه لخبر: من غسل يوم الجمعة واغتسل وبكر وابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الامام فاستمع ولم
يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه، قال في المجموع: وروي
غسل بالتشديد والتخفيف وهو أرجح، وعليهما في معناه ثلاثة أوجه، أحدها: غسل ثيابه ورأسه ثم اغتسل، وإنما أفرد
الرأس بالذكر لأنهم كانوا يجعلون فيه الدهن والخطمي ونحوهما، وكانوا يغسلونه أولا ثم يغتسلون. ثانيها: غسل زوجته
بأن جامعها فألجأها إلى الغسل واغتسل هو، ولذا قالوا: يسن له الجماع في هذا اليوم ليأمن أن يرى في طريقه ما يشغل قلبه.
ثالثها: غسل أعضاء الوضوء بأن توضأ ثم اغتسل للجمعة. وروي: بكر بالتخفيف والتشديد وهو أشهر، فعلى التخفيف
292

معناه: خرج من بيته باكرا، وعلى التشديد معناه: أتى بالصلاة أول وقتها. وابتكر: أي أدرك أول الخطبة، وقيل هما
بمعنى، جمع بينهما تأكيدا، وقوله: مشى ولم يركب، قيل: هما بمعنى واحد جمع بينهما تأكيدا. قال شيخنا: والمختار أن قوله
ولم يركب أفاد نفي توهم حمل المشي على المضي وإن كان راكبا، ونفي احتمال أن يريد المشي ولو في بعض
الطريق. والسنة
أن لا يركب فيها ولا في عيد ولا في جنازة ولا في عيادة مريض ذهابا كما قاله الرافعي وغيره، إلا لعذر فيركب. أما في الرجوع
فهو مخير بين المشي والركوب، لأنه (ص) ركب في رجوعه من جنازة أبي الدحداح، رواه ابن حبان وغيره وصححوه.
(بسكينة) إذا لم يضق الوقت كما قيداه في الروضة وأصلها لحديث الصحيحين أنه (ص) قال: إذا أتيتم
الصلاة فعليكم بالسكينة وهذا ليس خاصا بالجمعة بل كل صلاة قصدها المصلي كذلك. فإن قيل: قال الله تعالى:
* (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله) * فظاهره أن السعي مطلوب. أجيب بأن
معناه: امضوا، لأن السعي يطلق على المضي والعدو، فبينت السنة المراد به. والسعي إليها ما لم يضق الوقت وإلى غيرها من
سائر العبادات مكروه، كما قاله الماوردي، أما إذا ضاق الوقت فالأولى الاسراع، وقال المحب الطبري: يجب إذا لم يدرك
الجمعة إلا به. وحكم الراكب في ذلك كالماشي فيسير الدابة بسكون ما لم يضق الوقت. ويسن أن يذهب في طريق طويل
إن أمن الفوات وأن يرجع في آخر قصير كما في العيد. (و) يسن (أن يشتغل في طريقه وحضوره) قبل الخطبة (بقراءة
أو ذكر) لقوله (ص): إن الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه تقول: اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث،
وإن أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه رواه الشيخان. وجه الدلالة منه أن شأن المصلي الاشتغال بالقراءة والذكر.
ولفظ الطريق مزيد على المحرر بل على سائر كتب المصنف والرافعي، والمختار كما قال المصنف في تبيانه أن القراءة
في الطريق جائزة غير مكروهة إذا لم يلته صاحبها فإن التهى عنها كرهت، وقال الأذرعي: ولعل الأحوط ترك القراءة
فيها فقد كرهها بعض السلف فيه ولا سيما في مواضع الزحمة والغفلة كالأسواق. (ولا يتخطى) رقاب الناس، لأنه (ص)
رأى رجلا يتخطى رقاب الناس، فقال له: اجلس فقد أذيت وأنيت أي تأخرت، رواه ابن حبان والحاكم وصححاه،
أي فيكره له ذلك كما نص عليه في الام، وقيل: يحرم، واختاره في زوائد الروضة في الشهادات. ويستثنى من ذلك صور:
منها الامام إذا لم يبلغ المنبر أو المحراب إلا بالتخطي فلا يكره له لاضطراره إليه. ومنها ما إذا وجد في الصفوف التي بين
يديه فرجة لم يبلغها إلا بالتخطي رجل أو رجلين فلا يكره له وإن وجد غيرها لتقصير القوم بإخلاء فرجة، لكن يستحب
إذا وجد غيرها أن لا يتخطى، فإن زاد في التخطي عليها ولو من صف واحد ورجا أن يتقدموا إلى الفرجة إذا أقيمت
الصلاة كره لكثرة الأذى. ومنها الرجل العظيم في النفوس إذا ألف موضعا لا يكره له لقصة عثمان المشهورة وتخطيه
ولم ينكر عليه، قاله القفال والمتولي، وينبغي كما قال الأذرعي أن محل هذا فيمن ظهر صلاحه وولايته فإن الناس يسرون
يتخطيته ويتبركون به، فإن لم يكن معظما فلا يتخطى وإن ألف موضعا يصلي فيه كما قاله البندنيجي. ومنها ما إذا سبق العبيد
والصبيان أو غير المستوطنين إلى الجامع، فإنه يجب على الكاملين إذا حضروا التخطي لسماع الخطبة إذا كانوا لا يسمعونها
مع البعد. ومنها إذا جلس داخل الجامع على طريق الناس. ومنها ما إذا أذن له القوم في التخطي، ولا يكره لهم الاذن والرضا
بإدخالهم الضرر على أنفسهم، لكن يكره لهم من جهة أخرى وهو أن الايثار بالقرب مكروه، كذا قاله ابن العماد، ويؤيده قولهم:
ويحرم أن يقيم أحدا ليجلس مكانه، ولكن يقول: تفسحوا وتوسعوا فإن قام الجالس باختياره وأجلس غيره فلا كراهة
في جلوس غيره، وأما هو فإن انتقل إلى مكان أقرب إلى الامام أو مثله لم يكره وإلا كره إن لم يكن عذر لأن الايثار بالقرب
مكروه. وأما قوله تعالى: * (ويؤثرون على أنفسهم) * فالمراد الايثار في حظوظ النفس وهذا هو الظاهر، وإن كان ظاهر
كلام المجموع أن الكراهة لا تزول بالاذن. ومنها ما إذا كان الجالسون عبيدا له أو أولادا، ولهذا يجوز أن يبعث عبده
ليأخذ له موضعا في الصف الأول فإذا حضر السيد تأخر العبد، قاله ابن العماد. ويجوز له أن يبعث من يقعد له في مكان ليقوم
عنه إذا جاء هو، ولو فرش لاحد ثوب أو نحوه فلغيره تنحيته والصلاة مكانه لا الجلوس عليه بغير رضا صاحبه، ولا يرفعه
293

بيده أو غيرها لئلا يدخل في ضمانه. (و) يسن (أن يتزين) حاضر الجمعة الذكر (بأحسن ثيابه وطيب) لحديث: من
اغتسل يوم الجمعة ولبس من أحسن ثيابه ومس من طيب إذا كان عنده ثم أتى الجمعة ولم يتخط أعناق الناس ثم صلى
ما كتب الله له ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يفرغ من صلاته كان كفارة لما بينه وبين جمعته التي قبلها رواه ابن
حبان
في صحيحه والحاكم في مستدركه وقال: إنه صحيح على شرط مسلم. وأفضل ثيابه البيض لخبر: ألبسوا من ثيابكم البياض
فإنها خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم رواه الترمذي وغيره وصححوه. ثم ما صبغ غزله قبل نسجه كالبرد لا ما صبغ منسوجا،
إذ يكره لبسه كما قاله البندنيجي وغيره، ولم يلبسه (ص) ولبس البرد، روى البيهقي عن جابر أنه (ص) كان له برد يلبسه
في العيدين والجمعة. وسيأتي حكم المعصفر والمزعفر، أي في الباب الذي يلي هذا. ويسن للامام أن يزيد في حسن الهيئة والعمة والارتداء
للاتباع، ولأنه منظور إليه، وترك لبس السواد له أولى من لبسه إلا إن خشي فتنة تترتب على تركه من سلطان أو غيره. أما
المرأة إذا أرادت حضور الجمعة فيكره لها التطيب والزينة وفاخر الثياب، نعم يستحب لها قطع الرائحة الكريهة. ومثل المرأة
فيما ذكر الخنثى. (وإزالة الظفر) إن طال، والشعر كذلك، فينتف إبطه ويقص شاربه ويحلق عانته، ويقوم مقام الحلق القص
والنتف. وأما المرأة فتنتف عانتها بل يجب عليها ذلك عند أمر الزوج لها به في الأصح، فإن تفاحش وجب قطعا. والعانة
الشعر النابت حوالي ذكر الرجل وقبل المرأة، وقيل: ما حول الدبر. قال المصنف: والأولى حلق الجميع. أما حلق الرأس
فلا يندب إلا في نسك، وفي المولود في سابع ولادته، وفي الكافر إذا أسلم. وأما في غير ذلك فهو مباح، ولذلك قال
المتولي: ويتزين الذكر بحلق رأسه إن جرت عادته بذلك. قال بعضهم: وكذا لو لم تجر عادته وكان برأسه زهومة لا تزول
إلا بالحلق. ويسن دفن ما يزيله من شعر وظفر ودم. والتوقيت في إزالة الشعر والظفر بالطول يختلف باختلاف الاشخاص
والأحوال، وعن أنس أنه قال: أقت لنا في ذلك أنه لا يترك أكثر من أربعين ليلة، وسيأتي في باب الأضحية أن من أراد أن
يضحي يكره له فعل ذلك في عشر ذي الحجة فهو مستثنى. (و) إزالة (الريح) الكريهة كالصنان، لأنه يتأذى به فيزال بالماء أو غيره.
قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: من نظف ثوبه قل همه ومن طاب ريحه زاد عقله. ويسن السواك. ثم هذه الأمور
لا تختص بالجمعة بل تستحب لكل حاضر يجمع كما نص عليه لكنها في الجمعة أشد استحبابا. (قلت: وأن يقرأ الكهف
يومها وليلتها) لقوله (ص): من قرأ الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين رواه الحاكم وقال:
صحيح الاسناد. وروى الدارمي والبيهقي: من قرأها ليلة الجمعة أضاء له من النور ما بينه وبين البيت العتيق وفي بعض
الطرق: وغفر له إلى الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام وصلى عليه ألف ملك حتى يصبح وعوفي من الداء وذات الجنب والبرص
والجذام وفتنة الدجال. والظاهر كما قال الأذرعي أن المبادرة إلى قراءتها أول النهار أولى مسارعة وأمنا من الاهمال، وقيل:
قبل طلوع الشمس، وقيل: بعد العصر، وفي الشامل الصغير: عند الرواح إلى الجامع، وعن الشافعي رضي الله تعالى عنه
أنه قال: وأحب الاستكثار في قراءة الكهف في ليلة الجمعة، وجرى عليه الجرجاني، ونقل الأذرعي عن الشافعي
والأصحاب أنه يسن الاكثار من قراءتها في يومها وليلتها. قال: وقراءتها نهارا آكد. والحكمة في قراءتها أن الساعة
تقوم يوم الجمعة كما ثبت في صحيح مسلم، والجمعة مشبهة بها لما فيها من اجتماع الخلق. وفي الكهف ذكر أهوال القيامة،
وفي الدارمي أن النبي (ص) قال: اقرءوا سورة هود يوم الجمعة، وفي الترمذي: من قرأ (حم) الدخان ليلة الجمعة غفر له،
وفي تفسير الثعلبي عن ابن عباس أن النبي (ص) قال: من قرأ آل عمران يوم الجمعة صلى الله عليه وملائكته حتى
تحجب الشمس أي تغيب. وفي الطبراني: من قرأها يوم الجمعة غربت الشمس بذنوبه. (ويكثر الدعاء) يومها وليلتها،
أما يومها فلرجاء أن يصادف ساعة الإجابة، لأنه (ص) ذكر الجمعة فقال: فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم
يصلي يسأل الله تعالى شيئا إلا أعطاه إياه وأشار بيده يقللها، رواه الشيخان. وسقط في بعض الروايات: قائم يصلي. والمراد
294

بالصلاة انتظارها، وبالقيام الملازمة. قال في الروضة: والصواب في ساعة الإجابة ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي
(ص) قال: هي ما بين أن يجلس الامام إلى أن يقضي الصلاة قال في المهمات: وليس المراد أن ساعة الإجابة
مستغرقة لما بين الجلوس وآخر الصلاة كما يشعر به ظاهر عبارته، بل المراد أن تلك الساعة لا تخرج عن هذا الوقت فإنها
لحظة لطيفة، ففي الصحيحين عند ذكره إياها: وأشار بيده يقللها وفي رواية مسلم: وهي ساعة خفيفة قال في
المجموع:
وأما خبر يوم الجمعة ثنتا عشر ساعة فيه ساعة لا يوجد فيها مسلم يسأل الله شيئا إلا أعطاها إياه فالتمسوها آخر ساعة بعد
العصر فيحتمل أن هذه الساعة منتقلة تكون يوما في وقت ويوما في وقت آخر كما هو المختار في ليلة القدر، وليس المراد
أنها مستغرقة للوقت المذكور، بل المراد أنها لا تخرج عنه لأنها لحظة لطيفة كما مر. قال ابن يونس: الطريق في إدراك
ساعة الإجابة إذا قلنا إنها تنتقل أن يقوم جماعة يوم الجمعة فيحيي كل واحد منهم ساعة منه ويدعو بعضهم لبعض. وأما
ليلتها فلقول الشافعي رضي الله تعالى عنه: بلغني أن الدعاء يستجاب في ليلة الجمعة، وللقياس على يومها، ويستحب
كثرة الصدقة وفعل الخير في ويومها وليلتها. (و) يكثر (الصلاة على رسول الله (ص)) في يومها وليلتها، لخبر:
إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة علي رواه أبو داود وغيره بأسانيد
صحيحة، وخبر: أكثروا علي من الصلاة ليلة الجمعة ويوم الجمعة فمن صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا رواه
البيهقي بإسناد جيد. وقال (ص): أقربكم مني في الجنة أكثركم صلاة علي فأكثروا من الصلاة علي في الليلة
الغراء واليوم الأزهر قال الشافعي: الليلة الغراء ليلة الجمعة واليوم الأزهر يومها. قال أبو طالب المكي: وأقل ذلك
ثلاثمائة مرة. وروى الدارقطني عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي (ص) قال: من صلى علي يوم
الجمعة ثمانين مرة غفر له ذنوب ثمانين سنة. قيل: يا رسول الله كيف الصلاة عليك؟ قال: تقول: اللهم صل على محمد
عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وتعقد واحدة. قال الشيخ أبو عبد الله النعمان: إنه حديث حسن.
فائدة: قال الأصبهاني: رأيت النبي (ص) في المنام فقلت له: يا رسول الله محمد بن إدريس الشافعي ابن
عمك هل خصصته بشئ؟ قال: نعم سألت ربي عز وجل أن لا يحاسبه، قلت: بماذا يا رسول الله؟ فقال: إنه كان يصلي علي
صلاة لم يصل علي مثلها، فقلت: وما تلك الصلاة يا رسول الله؟ فقال: كان يقول: اللهم
صل على محمد كلما ذكرك الذاكرون وصل على محمد وعلى آل محمد كلما غفل عن ذكره الغافلون اه‍. ويسن أن لا يصل صلاة الجمعة بصلاة للاتباع، رواه مسلم.
ويكفي الفصل بينهما بكلام أو تحول أو نحوه. (ويحرم على ذي الجمعة) أي من تلزمه ولمن يقعد معه كما سيأتي، (التشاغل
بالبيع وغيره) من سائر العقود والصنائع وغيرها مما فيه تشاغل عن السعي إلى الجمعة، (بعد الشروع في
الاذان بين يدي
الخطيب) حال جلوسه على المنبر، لقوله تعالى: * (إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) *، فورد
النص في البيع وقيس عليه غيره سواء أكان عقدا أم لا، ولو تبايع اثنان أحدهما فرضه الجمعة دون الآخر أثما إثما جميعا
وإن لم تفهمه عبارة المصنف، لارتكاب الأول النهي وإعانة الثاني له عليه، ونص عليه الشافعي، وما نص عليه أيضا من
أن الاثم خاص بالأول حمل على إثم التفويت، أما إثم المعاونة فعلى الثاني. قال الأذرعي وغيره: ويستثنى من تحريم
البيع ما لو احتاج إلى ماء طهارته أو ما يواري عورته أو ما يقوته عند الاضطرار. وأشار المصنف بالتشاغل إلى جوازه
وهو سائر، قال في المجموع: لأن المقصود أن لا يتأخر عن السعي إلى الجمعة، لكن يكره البيع ونحوه من العقود في المسجد
لأنه ينزه عن ذلك وبين يدي الخطيب إلى إنهاء الاذان الذي كان في زمن رسول الله (ص) وأبي بكر وعمر
كما مر. (فإن باع) من حرم عليه البيع (صح) بيعه وكذا سائر عقوده، لأن النهي لمعنى خارج عن العقد فلم يمنع الصحة
كالصلاة في الدار المغصوبة. ولو عبر بقوله: فإن عقد لشمل ما زدته. (ويكره) لمن ذكر التشاغل بما ذكر (قبل
295

الاذان) المذكور (بعد الزوال والله أعلم) لدخول وقت الوجوب، فالتشاغل عنه كالاعراض. والظاهر كما بحثه الأسنوي
عدم الكراهة في بلد يؤخرون فيها كثيرا كمكة شرفها الله تعالى، أما قبل الزوال فلا كراهة. وهذا مع نفي التحريم بعده
وقبل الاذان المذكور محمول كما قال ابن الرفعة على من لم يلزمه السعي حينئذ وإلا فيحرم ذلك.
تتمة: اتفق الأصحاب على كراهة تشبيك الأصابع في طريقه إلى المسجد وفي المسجد يوم الجمعة وغيره، وكذا سائر
أنواع العبث ما دام في الصلاة أو منتظرها لأنه في صلاة، وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
(ص) قال: إن أحدكم في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة. فإن قيل: روى البخاري أنه (ص) شبك بين أصابعه
في المسجد بعد ما سلم من الصلاة عن ركعتين في قصة ذي اليدين وشبك في غيره. أجيب بأن الكراهة إنما هي في حق المصلي
وقاصد الصلاة، وهذا كان منه (ص) بعدها في اعتقادها. ويسن إذا أتى المسجد أن يقدم رجله اليمنى في الدخول
قائلا: بسم الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك. قال المزني: ويصلي على النبي (ص) ويقول
:
اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك وأقرب من تقرب إليك وأنجح من دعاك وتضرع وأريح من طلب إليك وروى
البيهقي: إن لكم في كل جمعة حجة وعمرة فالحجة التجهيز إلى الجمعة، والعمرة انتظار العصر بعد الجمعة.
فصل: في بيان ما تدرك به الجمعة وما لا تدرك به وجواز الاستخلاف وعدمه. وقد بدأ بالقسم الأول فقال:
(من أدرك) مع إمام الجمعة (ركوع) الركعة (الثانية) المحسوب للامام لا كالمحدث ناسيا كما مر وأتم الركعة معه، (أدرك الجمعة)
أي لم تفته، قال (ص): من أدرك من صلاة الجمعة ركعة فقد أدرك الصلاة. وقال: من أدرك من الجمعة ركعة فليصل إليها
أخرى رواهما الحاكم وقال في كل منهما: إسناده صحيح على شرط الشيخين. قال في المجموع: وقوله: فليصل هو بضم
الياء وفتح الصاد وتشديد اللام. (فيصلي بعد سلام الامام ركعة) إن استمر معه إلى أن سلم، ولو فارقه في التشهد كان الحكم
كذلك، فقول المصنف (بعد سلام الامام) جرى على الغالب. فإن قيل: الركعة الأخيرة إنما تحصل بالسلام. أجيب بأن ذلك
ممنوع، فقد قال في الام: ومن أدرك ركعة من الجمعة بنى عليها ركعة أخرى وأجزأته الجمعة، وإدراك الركعة أن يدرك
الرجل قبل أن يرفع رأسه من الركعة فيركع معه ويسجد اه‍. وأيضا ما يدركه المسبوق فهو أول صلاته والتشهد ليس في
أول صلاته، فقول الشارح: واستمر معه إلى أن سلم لأجل قول المتن فيصلي بعد سلام الامام. وقيد ابن المقري إدراك
الجمعة بإدراك الركعة بقوله: إن صحت جمعة الامام أخذا من قول الأذرعي: لو خرج الامام منها قبل السلام فلا
جمعة للمأموم والمعتمد أنه ليس بقيد، فقد صرح الأسنوي وغيره بأنه لا يتقيد بذلك، بل إذا أدرك معه ركعة وأتى
بأخرى أدرك الجمعة وإن خرج منها الامام كما أن حدثه لا يمنع صحتها لمن خلفه كما مر.
تنبيه: قول المحرر: من أدرك مع الامام ركعة أدرك الجمعة أولى من قول المصنف: من أدرك ركوع الثانية أدرك
الجمعة لأن عبارة المحرر تشمل ما لو صلى مع الامام الركعة الأولى وفارقه في الثانية، فإن الجمعة تحصل له بذلك ولا تشملها
عبارة المصنف، وعبارة المصنف توهم أن الركوع وحده كاف، فيجوز لمن أدركه إخراج نفسه وإتمامها منفردا وليس
مرادا، ولذلك قلت: وأتم الركعة معه، كما صرح به في الروضة كأصلها. ويسن لمن صلى الركعة الثانية من
الجمعة منفردا
أن يجهر فيها كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في باب صفة الصلاة. (وإن أدركه) أي الامام (بعده) أي بعد ركوع إمامه،
(فاتته) أي الجمعة لمفهوم الحديث المتقدم، (فيتم بعد سلامه) أي الامام (ظهرا أربعا) من غير استئناف نية لفوات
الجمعة، (والأصح أنه) أي المدرك للامام بعد ركوع الثانية (ينوي في اقتدائه) بالامام (الجمعة) وجوبا كما هو مقتضى
296

عبارة الروضة، وهو المعتمد، وعبارة الأنوار: ينوي الجمعة جوازا، وقال ابن المقري: ندبا، والجواز لا ينافي الوجوب، والندب
يحمل على من لم تلزمه الجمعة، هكذا حمله شيخي وهو حسن. والثاني: ينوي الظهر لأنها التي يفعلها. ومحل الخلاف فيمن
علم حال الامام، وإلا بأن رآه قائما ولم يعلم أمعتدل هو أم في القيام فينوي الجمعة جزما. ثم شرع في القسم الثاني وهو حكم
الاستخلاف وشروطه، فقال: (وإذا خرج الامام من الجمعة أو غيرها) من الصلوات (بحدث) عمدا أو سهوا (أو غيره)
كرعاف وتعاطي فعل مبطل أو بلا سبب أيضا، (جاز) له وللمأمومين قبل إتيانهم بركن (الاستخلاف في الأظهر) الجديد،
لأنها صلاة بإمامين وهي جائزة، فقد صح أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه كان يصلي بالناس، فجاء رسول الله (ص)
فجلس إلى جنبه فاقتدى به أبو بكر والناس، رواه الشيخان، وقد استخلف عمر رضي الله تعالى عنه حين طعن، رواه البيهقي.
واستخلافهم أولى من استخلافه لأن الحق في ذلك لهم، فمن عينوه للاستخلاف أولى ممن عينه. ولو تقدم واحد بنفسه
جاز، ولو لم يستخلف في الجمعة وهم في الركعة الأولى من الجمعة لزمهم أن يستخلفوا فيها واحدا منهم لتدرك بها الجمعة دون
الثانية، فلا يلزمهم الاستخلاف لادراكهم مع الامام ركعة كالمسبوق فيتمونها فرادى جمعة. ولا يشكل الانفضاض فيها،
لأن البطلان به لنقص العدد لا لفقد الجماعة. وإذا قدم الامام واحدا فالظاهر كما قال ابن الأستاذ أنه لا يجب عليه أن
يمتثل، وقيل يجب لئلا يؤدي إلى التواكل. أما إذا فعلوا على الانفراد ركنا فإنه يمتنع الاستخلاف بعده كما نقلاه عن
الامام وأقراه، والثاني وهو القديم: لا يجوز الاستخلاف مطلقا لأنها صلاة واحدة، فيمتنع فيها ذلك، كما لو اقتدى بهما معا.
وعلى الأول لا يستخلف الامام إلا من يصلح للإمامة لا امرأة وخنثى مشكلا للرجال، وسكت المصنف عن هذا للاستغناء
عنه بما سبق له في صلاة الجماعة. وإذا لم يجز الاستخلاف أتم القوم صلاتهم فرادى، وإن كان الحدث في غير الجمعة أو
فيها لكن في الركعة الثانية، فإن وقع في الأولى منها فيتمونها ظهرا لأن شرطها حصول ركعة في جماعة كما علم مما مر.
(ولا يستخلف) الامام أو غيره (للجمعة إلا مقتديا به قبل حدثه) لأن في استخلاف غير المقتدي ابتداء جمعة بعد
انعقاد جمعة، وذلك لا يجوز، ولا يجوز له فعل الظهر قبل فوات الجمعة. ولا يرد المسبوق لأنه تابع لا منشئ. أما في غير الجمعة
فيجوز استخلاف غير المقتدى به في الأولى والثالثة من الرباعية لموافقته نظم صلاتهم لا في الثانية والأخيرة لأنه يحتاج
إلى القيام ويحتاجون إلى القعود، نعم إن جددوا نية الاقتداء جاز كما في الحاوي الصغير. ويؤخذ من التعليل أنه لو كان
موافقا لهم كأن حضر جماعة في ثانية منفردا أو أخيرته فاقتدوا به فيها ثم بطلت صلاته فاستخلف موافقا لهم جاز، وهو
واضح. وإطلاقهم المنع جرى على الغالب. ويجوز استخلاف اثنين وأكثر كما في المجموع يصلي بكل طائفة، والأولى الاقتصار
على واحد، ولو بطلت صلاة الخليفة جاز استخلاف ثالث وهكذا. وعلى الجميع مراعاة ترتيب صلاة الامام الأصلي. (ولا
يشترط) في جواز الاستخلاف في الجمعة (كونه) أي المقتدي (حضر الخطبة، ولا) أدرك (الركعة الأولى في الأصح
فيهما) أما في الأولى فلانه بالاقتداء صار في حكم من حضرها وسمعها، ولهذا تصح جمعته كما تصح جمعة الحاضرين
السامعين. ووجه مقابلة القياس على ما لو استخلف بعد الخطبة من لم يحضرها ليصلي بهم فإنه لا يجوز، وأما في الثانية
فلان الخليفة الذي كان مقتديا بالامام ناب مقامه باستخلاف إياه، ولو استمر الامام لصحت القدوة فكذا من ناب منابه
وإن لم توجد فيه الشرائط، ووجه مقابله أنه غير مدرك للجمعة. ويجوز الاستخلاف في أثناء الخطبة وبين الخطبة والصلاة
بشرط أن يكون الخليفة حضر الخطبة بتمامها في المسألة الثانية والبعض الفائت في المسألة الأولى على المذهب، لأن من لم
يسمع ليس من أهل الجمعة، وإنما يصير غير السامع من أهلها إذا دخل في الصلاة والسماع هنا كالاقتداء. نعم
من أغمي
عليه في أثناء الخطبة امتنع الاستخلاف فيها لخروج من أتى بالبعض عن الأهلية بالكلية، ولو استخلف من يصلي بهم
ولم يكن سمع الخطبة ممن لا تلزمه الجمعة ونوى غير الجمعة جاز.
تنبيه: المذكور في الشرحين والروضة والمجموع نقل الخلاف في الثانية قولين، وخرج بقوله: حضر الخطبة
297

سماعها فإنه لا يشترط بلا خلاف كما صرح به الرافعي. (ثم) على الأول (إن كان) الخليفة في الجمعة (أدرك) الركعة
(الأولى) من الجمعة مع الامام (تمت جمعتهم) أي جمعة الخليفة والمأمومين سواء أحدث الامام في أولى الجمعة أم ثانيتها
كما في المحرر، لأنه لما أحرم صار باستخلافه قائما مقامه. (وإلا) أي وإن لم يدرك الأولى وإن استخلف فيها كأن استخلفه
في اعتدالها، (فتتم لهم) الجمعة (دونه) أي غيره (في الأصح) فيهما، وعبر في الروضة بالصحيح المنصوص لأنهم
أدركوا ركعة مع الامام بخلافه فإنه لم يدركها معه فيتمها ظهرا، ومعلوم أنه لا بد أن يكون زائدا على الأربعين وإلا فلا
تصح جمعتهم كما نبه على ذلك الفتى تلميذ المقري، وهو واضح. وقضية كلام الشيخين أنه يتمها ظهرا وإن أدرك معه ركوع
الثانية وسجودها، لكن قال البغوي: يتمها جمعة لأنه صلى مع الامام ركعة، وهذا هو الظاهر، والثاني: أنها تتم له أيضا
لأنه صلى ركعة من الجمعة في جماعة فأشبه المسبوق. وأجاب الأول بأن المأموم يمكن جعله تبعا للامام والخليفة إمام لا يمكن
جعله تبعا للمأمومين. والثالث: يتمها القوم ظهرا أيضا لا جمعة تبعا للامام. (ويراعي) الخليفة (المسبوق) وجوبا (نظم)
صلاة (المستخلف) ليجري على نظمها فيفعل ما كان يفعله الامام، لأنه بالاقتداء به التزم ترتيب صلاته (فإذا صلى)
بهم (ركعة) قنت لهم فيها إن كانت ثانية الصبح، ولو كان هو يصلي الظهر ويترك القنوت في الظهر وإن كان هو يصلي
الصبح، و (تشهد) جالسا وسجد بهم لسهو الامام الحاصل قبل اقتدائه به وبعده، (وأشار إليهم) بعد تشهده عند قيامه
(ليفارقوه) أي ليتخير المقتدون بعد إشارته وغاية ما يفعلون بعدها أن يفارقوه بالنية ويسلموا، (أو ينتظروا) سلامه بهم
وهو أفضل كما في المجموع، أي إن لم يخشوا خروج الوقت بانتظاره، فإن خشوه وجبت المفارقة وله أن يقدم من يسلم بهم
كما ذكره الصيمري، ثم يقوم إلى ركعة أخرى حيث أتمها جمعة وإلى ثلاث حيث أتمها ظهرا. وقد اندفع بما ذكر من
الغاية المذكورة والاعتراض على المصنف بأن التخيير المذكور فيه لا يفهم بالإشارة من المصلي لا سيما مع الاستدبار وكثرة
الجماعة يمينا وشمالا وخلفا. ولا يجب التشهد على الخليفة المسبوق لأنه لا يزيد على بقائه مع إمامه ولا القعود أيضا كما قاله
الأسنوي. أما إذا لم يعرف المسبوق نظم صلاة إمامه، ففي جواز استخلافه قولان، صحح منهما في التحقيق الجواز وهو
المعتمد، ونقله ابن المنذر كما في المجموع عن نص الشافعي، وقال في المهمات: وهو الصحيح، وعليه فيراقب القوم بعد
الركعة، فإن هموا بالقيام قام وإلا قعد. قال بعضهم: وفي هذا دليل على جواز التقليد في الركعات، ويكون محل المنع
إذا اعتقد هو شيئا آخر اه‍. وهذا ممنوع فإن هذا ليس تقليدا في الركعات. والقول الثاني: لا يجوز استخلافه، وجرى
على هذا ابن المقري، وقال في الروضة: إنه أرجح القولين دليلا. (ولا يلزمهم) أي المقتدين (استئناف نية القدوة)
بالخليفة (في الأصح) في الجمعة وغيرها، لتنزيل الخليفة منزلة الأول في دوام الجماعة، ولهذا لا يراعي نظم صلاة نفسه،
ولو استمر الأول لم يحتج القوم إلى تجديد لنية فكذلك عند الاستخلاف، والثاني: يشترط لهم لأنهم بخروج الامام من
الصلاة صاروا منفردين. ولو استخلف من لا يصلح للإمامة لم تبطل صلاتهم إلا إن اقتدوا به لأن استخلافه لغو. ولو أراد
المسبوقون أو من صلاته أطول من صلاة الامام أن يستخلفوا من يتم بهم لم يجز إلا في غير الجمعة إذ لا مانع في غيرها بخلافها
لما مر أنه لا تنشأ جمعة بعد أخرى، وكأنهم أرادوا بالانشاء ما يعم الحقيقي والمجازي إذ ليس فيهما إذا كان الخليفة منهم إنشاء
جمعة، وإنما فيه ما يشبهه صورة. وما ذكر من الجواز في غير الجمعة هو ما اقتضاه كلام الشيخين في الجماعة، وصححه
المصنف في التحقيق هناك، وكذا في المجموع، وقال فيه: اعتمده ولا تغتر بما في الانتصار من تصحيح المنع فهو المعتمد،
وإن صححا هنا المنع وعللاه بأن الجماعة حصلت وهم إذا أتموها فرادى نالوا فضلها، إذ للاقتداء فوائد أخر كتحمل السهو
وتحمل السورة في الصلاة الجهرية ونيل فضل الجماعة الكامل. ولو بادر أربعون سمعوا أركان الخطبة
وأحرموا بالجمعة انعقدت
بهم لأنهم من أهلها بخلاف غيرهم. (ومن زوحم) أي منعه الزحام (عن السجود) على أرض أو نحوها مع الامام في الركعة
298

الأولى من الجمعة (فأمكنه) السجود منكسا (على) شئ من (إنسان) أو متاع أو بهيمة أو نحو ذلك، (فعل) ذلك وجوبا،
لقول عمر رضي الله تعالى عنه: إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه رواه البيهقي بإسناد صحيح. ولا يحتاج
هنا إلى إذنه لأن الامر فيه يسير كما قاله في المطلب ولا يعرف له مخالف، ولأنه متمكن من سجود يجزئه، فإن لم يفعل كان
متخلفا بغير عذر، وقد مر حكمه.
تنبيه: قد عبر في التنبيه بظهر إنسان، واعترضه المصنف في التحرير بقوله: ولو حذف لفظ إنسان لعم وقد وقع هو فيه
هنا، فلو قال على شئ كما قدرته لعم. والمزاحمة تجري في غير الجمعة من بقية الصلوات، وذكرت هنا لأن الزحام فيها
أغلب، ولان تفاريعها متشعبة مشكلة لكونها لا تدرك إلا بركعة منتظمة أو ملفقة على خلاف يأتي، ولهذا قال الامام:
ليس في الزمان من يحيط بأطرافها. (وإلا) أي وإن لم يمكنه السجود كما ذكر، (فالصحيح أنه ينتظر) تمكنه منه
(ولا يومئ به) لقدرته عليه. والثاني: يومئ أقصى ما يمكنه كالمريض لمكان العذر. والثالث: يتخير بينهما لأن
وجوب وضع الجبهة قد عارضه وجوب المتابعة. ومقتضى المتن أنه لا يجوز له إخراج نفسه من الجماعة لأن الخروج من
الجمعة قصدا مع توقع إدراكها لا وجه له، كذا نقلاه عن الامام وأقراه، وهذا ما جزم به ابن المقري في روضه، وهو
المعتمد، وإن قال في المهمات إنه مخالف لنص الشافعي والأصحاب. وإذا جوزنا له الخروج وأراد أن يتمها ظهرا فهل
تصح؟ فيه القولان فيمن يحرم بالظهر قبل فوات الجمعة كما ذكره القاضي حسين في تعليقه والامام في النهاية. أما الزحام
في الركعة الثانية من الجمعة فلا يعتبر فيه ما تقدم بل يسجد متى تمكن قبل سلام الامام أو بعده. نعم إن كان مسبوقا لحقه
في الثانية، فإن تمكن قبل سلام الامام وسجد السجدتين أدرك الجمعة وإلا فلا كما يعلم مما سيأتي. (ثم) على الصحيح
(إن تمكن) من السجود (قبل ركوع إمامه) في الثانية (سجد) وجوبا تداركا له عند زوال العذر، (فإن رفع
)
من السجود (والامام) بعد (قائم قرأ) ما أمكنه، فإن لم يدرك زمنا يسع الفاتحة فهو كمسبوق على الأصح،
فإن ركع الامام قبل إتمامه الفاتحة ركع معه، ولا يضر التخلف الماضي لأنه تخلف بعذر. (أو) رفع من السجود
(والامام) بعد (راكع، فالأصح يركع) معه، (وهو كمسبوق) لأنه لم يدرك محل القراءة، والثاني: لا يركع معه
لأنه مؤتم به بخلاف المسبوق، بل تلزمه القراءة ويسعى وراء الامام وهو متخلف بعذر. (فإن كان إمامه فرغ من
الركوع) في الثانية (ولم يسلم، وافقه فيما هو فيه) كالمسبوق (ثم صلى ركعة بعده) لفواتها كالمسبوق، وبهذا قطع
الامام، وقيل: يشتغل بترتيب صلاة نفسه. (وإن كان) الامام (سلم) منها (فاتت الجمعة) لأنه لم تتم له ركعة قبل
سلام الامام فيتمها ظهرا، بخلاف ما لو رفع رأسه من السجود فسلم الامام في الحال، فإنه يتمها جمعة. (وإن لم يمكنه
السجود حتى ركع الامام) في ثانية الجمعة (ففي قول يراعي) المزحوم (نظم) صلاة (نفسه) فيسجد الآن، (والأظهر
أنه يركع معه) لظاهر خبر: إنما جعل الامام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا ولان متابعة الامام آكد، ولهذا يتبعه
المسبوق ويترك القراءة والقيام. (ويحسب ركوعه الأول في الأصح) لأنه أتى به وقت الاعتداد بالركوع، والثاني:
لا يحسب لأنه أتى به للمتابعة. وعلى الأول (فركعته ملفقة من ركوع) الركعة (الأولى و) من (سجود الثانية)
الذي أتى به فيها. (ويدرك بها الجمعة في الأصح) لاطلاق قوله (ص): من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها
أخرى وهذا قد أدرك ركعة، والتلفيق ليس بنقص في المعذور، والثاني: لا، لنقصها بالتلفيق، وصفة الكمال معتبرة
299

في الجمعة. (فلو سجد على ترتيب) نظم صلاة (نفسه) عامدا (عالما بأن واجبه) أي الواجب عليه (المتابعة)
لامامه تفريعا على الأظهر، (بطلت صلاته) لتلاعبه حيث سجد في موضع الركوع، فيلزمه التحرم بالجمعة إن أمكنه
إدراك الامام في الركوع كما في الروضة كأصلها. وقال الأسنوي: بل يلزمه ذلك ما لم يسلم الامام، إذ يحتمل أن الامام
قد نسي القراءة مثلا فيعود إليها اه‍. وهذا هو المعتمد، وكلام الروضة محمول على الوجوب اتفاقا، وهذا على خلاف قد
تقدم وأن الأصح اللزوم فلا منافاة بينهما. وإذا علمت ذلك فقول الأسنوي إن عبارة الروضة غير مستقيمة ممنوع. (وإن
نسي) ذلك المعلوم عنده من وجوب المتابعة، (أو جهل) ذلك، (لم يحسب سجوده الأول) وهو ما أتى به على ترتيب
نظم صلاة نفسه لأنه أتى به في غير محله، ولا تبطل به صلاته لعذره. (فإذا سجد ثانيا) بعد أن قام وقرأ وركع وهو
على نسيانه أو جهله، (حسب) له وتمت به ركعته الأولى لدخول وقته وألغي ما قبله، فإن زال نسيانه أو جهله قبل السجود
الثاني وجب عليه متابعة الامام فيما هو فيه كما هو المفهوم من كلام الأكثرين كما في الروضة وأصلها. (والأصح إدراك
الجمعة بهذه الركعة) الملفقة من ركوع الأولى وسجود الثانية (إذا كملت السجدتان) فيها (قبل سلام الامام)
وإن كان في الركعة نقصانان: نقصان بالتلفيق، ونقصان بالقدوة الحكمية، فإنه لم يتابع الامام في موضع ركعته متابعة
حسية بل سجد متخلفا عنه، لكنا ألحقناه في الحكم بالاقتداء الحقيقي لكونه معذورا، بخلاف ما إذا كملتا بعد سلامه
فإنه لم يدرك الجمعة بها. والثاني: لا يدرك الجمعة بهذه الركعة. وبحث الرافعي فيما ذكر بأنه إذا لم يحسب سجوده والامام
راكع لكون فرضه المتابعة وجب أن لا يحسب والامام في ركن بعد الركوع، وأجاب عنه السبكي والأسنوي بأنا إنما لم
نحسب له سجوده والامام راكع لامكان متابعته بعد ذلك فيدرك الركعة بخلاف ما بعده، فلو لم نحسبه له لفاتت الركعة
ويكون ذلك عذرا في عدم المتابعة اه‍. فما جرى عليه في المتن هو المعتمد، وإن قال في المجموع: إن الجمهور على
خلافه. ولو فرغ من سجوده الأول فوجد الامام ساجدا فتابعه في سجوده حسب له، وتكون ركعته ملفقة، ولو زوحم
عن الركوع في الأولى ولم يتمكن منه إلا حال ركوع الثانية ركع معه وحسبت الثانية له، قال ابن المقري: غير ملفقة،
أي من الركوع وغيره وإلا فهي ملفقة من القراءة في الأولى والقيام فيها والاحرام بها ومن الثانية، لكن التلفيق الأول
هو المختلف فيه، فلو لم يتمكن المزحوم من السجود حتى سجد الإمام في الركعة الثانية سجد معه وحصلت له
ركعة ملفقة من ركوع الأولى وسجود الثانية، فإن لم يتمكن إلا في السجدة الثانية سجد معه فيها. وهل يسجد الأخرى
لأنهما ركن واحد أو يجلس معه. فإذا سلم بنى على صلاته أو ينتظره ساجدا حتى يسلم فيبني على صلاته؟
احتمالات،
والأوجه منها الأول كما اعتمده شيخي، وإن خالف في ذلك بعض المتأخرين. ثم هذا كله فيما إذا تخلف بالسجود لزحمة،
أما التخلف به لغير زحمة فأشار إليه بقوله: (ولو تخلف بالسجود) في الأولى (ناسيا) له (حتى ركع الامام للثانية)
فذكره (ركع معه) وجوبا (على المذهب) وليصل له من الركعتين ركعة ملفقة ويسقط عنه الباقي منهما، والقول
الثاني يراعي نظم صلاة نفسه كالمزحوم. وفرق الأول بأنه مقصر بالنسيان، وقطع بعضهم بالأول، وقال الروياني:
وطريق القطع أظهر. والتخلف للمرض كالتخلف للنسيان فيما ذكر.
خاتمة: ليست الجمعة ظهرا مقصورا وإن كان وقتها وتتدارك به، بل هي صلاة مستقلة لأنه لا يغني عنها،
ولقول عمر رضي الله تعالى عنه: الجمعة ركعتان تمام على لسان نبيكم (ص): * (وقد خاب من افترى) * رواه الإمام أحمد
وغيره، وقال في المجموع: إنه حسن. فإن عرض فيها ما يمنع وقوعها جمعة انقلبت ظهرا وإن لم يقصد قلبها لأنهما
فرض وقت واحد. قال في الروضة: وللمستمع للخطيب أن يصلي على النبي (ص) ويرفع بها صوته إذا قرأ
300

الخطيب: * (إن الله وملائكته يصلون على النبي) * الآية، وليس المراد كما قال الأذرعي الرفع البليغ كما يفعله بعض العوام،
فإنه لا أصل له بل هو بدعة. وظاهر كلام الروضة أن ذلك مباح مستوي الطرفين، بل الاستماع أولى، بل صرح القاضي
أبو الطيب بكراهته لأنه يقطع الاستماع. ومن قعد في مكان الامام أو في طريق الناس أمر بالقيام، وكذا من قعد مستقبلا
وجوههم والمكان ضيق عليهم، بخلاف الواسع.
باب صلاة الخوف:
أي كيفيتها. والخوف ضد الامن، وحكم صلاته كصلاة الامن، وإنما أفرد بترجمة لأنه يحتمل في الصلاة عنده في
الجماعة وغيرها ما لا يحتمل فيها عند غيره على ما سيأتي بيانه. والأصل فيها قوله تعالى: * (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) *
الآية، والأخبار الآتية مع خبر: صلوا كما رأيتموني أصلي، واستمرت الصحابة رضي الله تعالى عنهم على فعلها بعده. وأما
دعوى المزني نسخها لتركه (ص) لها يوم الخندق فأجابوا عنها بتأخر نزولها عنه لأنها نزلت سنة ست، والخندق كان سنة
أربع أو خمس. وتجوز في الحضر كالسفر خلافا لمالك. (هي أنواع) جاءت في الاخبار على ستة عشر
نوعا في صحيح مسلم
بعضها، ومعظمها في سنن أبي داود، وفي ابن حبان منها تسعة، ففي كل مرة كان (ص) يفعل ما هو أحوط للصلاة وأبلغ في
الحراسة. واختار منها الشافعي رضي الله تعالى عنه الثلاثة التي ذكرها المصنف وذكر معها الرابع الآتي وجاء به وبالثالث
القرآن الكريم. النوع (الأول) منها: الصلاة بالكيفية المذكور في قوله: (يكون العدو في) جهة (القبلة) ولا ساتر بيننا وبينهم
وفينا كثرة بحيث تقاوم كل فرقة العدو، (فيرتب الامام القوم صفين) فأكثر (ويصلي بهم) جميعا إلى اعتدال الركعة الأولى،
لأن الحراسة الآتية محلها الاعتدال لا الركوع كما يعلم من قوله: (فإذا سجد) الامام في الركعة الأولى (سجد معه صف سجدتيه
وحرس) حينئذ (صف) آخر في الاعتدال المذكور، (فإذا قاموا) أي الامام والساجدون معه (سجد من حرس) فيها
(ولحقوه وسجد معه) أي الامام (في) الركعة (الثانية من حرس أولا وحرس الآخرون) أي الفرقة الساجدة مع الامام،
(فإذا جلس) الامام للتشهد (سجد من حرس) في الركعة الثانية (وتشهد) الامام (بالصفين وسلم) بهم. (وهذه) الكيفية
المذكورة (صلاة رسول الله (ص)) أي صفة صلاته (بعسفان) بضم العين وسكون السين المهملتين، قرية
بقرب خليص، بينها وبين مكة أربعة برد، سميت به لعسف السيول فيها. وعبارته كغيره في هذا صادقة بأن يسجد الصف
الأول في الركعة الأولى والثاني في الثانية، وكل منهما فيها بمكانه أو تحول بمكان الآخر وبعكس ذلك، فهي أربع كيفيات وكلها
جائزة إذا لم تكثر أفعالهم في التحول، والذي في خبر مسلم سجود الأول في الأولى والثاني في الثانية مع التحول
فيها. وله أن يرتبهم صفوفا كما مر ثم يحرس صفان فأكثر، وإنما اختصت الحراسة بالسجود دون الركوع لأن
الراكع تمكنه المشاهدة. (و) لا يشترط أن يحرس جميع من في الصف، بل (لو حرس فيها) أي الركعتين (فرقتا صف)
على المناوبة أو دوام غيرهما على المتابعة (جاز) بشرط أن تكون الحارسة مقاومة للعدو، حتى لو كان الحارس واحدا
يشترط أو لا يزيد الكفار على اثنين. (وكذا) يجوز لو حرس فيهما (فرقة) واحدة (في الأصح) المنصوص وقطع
به جماعة لحصول الغرض بكل ذلك مع قيام العذر، ويكره أن يصلي بأقل من ثلاثة وأن يحرس أقل منها، والثاني:
301

لا تصح صلاة هذه الفرقة لزيادة التخلف فيها على ما في الخبر. ودفع بأن الزيادة لتعدد الركعة لا تضر، لكن المناوبة أفضل
لأنها الثابتة في الخبر. النوع (الثاني): الصلاة بالكيفية المذكورة في قوله: (يكون) العدو (في غيرها) أي القبلة أو فيها، وثم
ساتر وهو قليل، وفي المسلمين كثرة وخيف هجومه، فيرتب الامام القوم فرقتين، (فيصلي) بهم (مرتين كل مرة بفرقة)
جميع الصلاة سواء أكانت الصلاة ركعتين أم ثلاثا أم أربعا، وتكون الفرقة الأخرى تجاه العدو وتحرس ثم تذهب
المصلية إلى وجه العدو، وتأتي الفرقة الحارسة فيصلي بها مرة أخرى جميع الصلاة، وتكون الصلاة الثانية للامام نفلا
لسقوط فرضه بالأولى. (وهذه صلاة رسول الله (ص)) أي صفة صلاته (ببطن نخل) مكان من نجد بأرض غطفان، رواها
الشيخان. وهي وإن جازت في غير الخوف فهي مندوبة فيه بالشروط الزائدة على المتن، فقولهم يسن للمفترض أن لا يقتضي
بالمتنفل ليخرج من خلاف أبي حنيفة محله في الامن وفي غير الصلاة المعادة. والنوع الثالث: الصلاة بالكيفية المذكورة في
قوله: (أو تقف فرقة في وجهه) أي العدو تحرس وهو في غير جهة القبلة أو فيها وثم ساتر، (ويصلي) الامام (بفرقة ركعة)
من الثنائية بعد أن ينحاز بهم إلى حيث لا يبلغهم سهام العدو، (فإذا قام) الامام (للثانية فارقته) بالنية بعد الانتصاب ندبا،
وقبله بعد الرفع من السجود جوازا. (وأتمت) لنفسها (وذهبت) بعد سلامها (إلى وجهه) أي العدو. ويسن للامام تخفيف
الأولى لاشتغال قلوبهم بما هم فيه، ولهم كلهم تخفيف الثانية التي انفردوا بها لئلا يطول الانتظار. (وجاء الواقفون) للحراسة
بعد ذهاب أولئك إلى جهة العدو والامام قائم في الثانية، ويطيل القيام ندبا إلى لحوقهم. (فاقتدوا به فصلى بهم) الركعة (الثانية،
فإذا جلس) الامام (للتشهد قاموا فأتموا ثانيتهم) وهو منتظر لهم وهم غير منفردين عنه بل مقتدون به حكما، (ولحقوه وسلم
بهم) ليحوزوا فضيلة التحلل معه كما حازت الأولى فضيلة التحرم معه. (وهذه صلاة رسول الله (ص)) أي صفة صلاته،
(بذات الرقاع) مكان من نجد بأرض غطفان، رواها الشيخان أيضا، وسميت بذلك لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم لفوا
بأرجلهم الخرق لما تقرحت، وقيل: باسم شجرة هناك، وقيل: باسم جبل فيه بياض وسواد يقال له الرقاع، وقيل لترقع
صلاتهم فيها. (والأصح أنها أفضل من) صلاة (بطن نخل) للخروج من خلاف اقتداء المفترض بالمتنفل، ولأنها أخف وأعدل
بين الفريقين. وهي أفضل من صلاة عسفان أيضا للاجماع على صحتها في الجملة دونهما. وتسن عند كثرتنا فالكثرة شرط
لسنيتها لا لصحتها، خلافا لمقتضى كلام العراقي في تحريره. وفارقت صلاة عسفان بجوازها في الامن لغير الفرقة الثانية ولها إن نوت
المفارقة بخلاف تلك، والتعلل بالأول لا ينافي ما مر قبيل النوع الثالث، لأن الكلام هنا في الأفضلية، وثم في الاستحباب، ولو لم
يتم المقتدون به في الركعة الأولى، بل ذهبوا ووقفوا تجاه العدو سكوتا في الصلاة، وجاءت الفرقة الأخرى فصلى بهم ركعة وحين
سلم ذهبوا إلى وجه العدو وجاءت تلك الفرقة إلى مكان صلاتهم وأتموها لأنفسهم وذهبوا إلى العدو وجاءت تلك إلى مكان صلاتهم
وأتموها جاز، وهذه الكيفية رواها ابن عمر. وجاز ذلك مع كثرة الافعال بلا ضرورة لصحة الخبر فيه مع عدم المعارض
لأن إحدى الروايتين كانت في يوم والأخرى في يوم، ودعوى النسخ باطلة لاحتياجها إلى معرفة التاريخ وتعذر الجمع وليس
هنا واحد منهما، ولكن الكيفية الأولى هي المختارة لسلامتها من كثرة المخالفة. (ويقرأ الإمام) بعد قيامه للركعة
الثانية الفاتحة وسورة بعدها (في) زمن (انتظاره) الفرقة (الثانية) ولحوقها له، فإذا لحقته قرأ من السورة قدر فاتحة وسورة
قصيرة وركع. (ويتشهد) في جلوسه لانتظارها لأن السكوت مخالفة لهيئة الصلاة، وليس القيام موضع ذكر. (وفي قول
302

يؤخر) قراءة الفاتحة والتشهد (لتلحقه) فتدركهما معه، لأنه قرأ مع الأولى الفاتحة فيؤخرها ليقرأها مع الفرقة الثانية وعلى
هذا يشتغل بالذكر والخلاف في الأفضل، قاله في المجموع. وطريقة الخلاف في التشهد ضعيفة، والمذهب القطع بأنه يتشهد
لأنه لو صبر لاختصت به الفرقة الثانية. ولو صلى الامام الكيفية المختارة من هذا النوع في الامن صحت صلاة الامام لأن الأصح
أن الانتظار بغير عذر لا يضر وصلاة الطائفة الأولى لأن الأصح أن المفارقة بغير عذر لا تضر لا صلاة الثانية إن لم تفارقه
حال قيامهم، ولا تصح صلاة المأمومين في الكيفية الأخرى قطعا وتصح صلاة الامام.
فرع: تصح الجمعة في الخوف حيث وقع ببلد كصلاة عسفان وكذات الرقاع لا كصلاة بطن نخل إذ لا تقام جمعة
بعد أخرى، ويشترط في صلاة ذات الرقاع أن يسمع الخطبة عدد تصح به الجمعة من كل فرقة، بخلاف ما لو
خطب بفرقة
وصلى بأخرى. ولو حدث نقص في السامعين في الركعة الأولى في الصلاة بطلت، أو في الثانية فلا للحاجة مع سبق
انعقادها. وتجهر الطائفة الأولى في الركعة الثانية لأنهم منفردون ولا تجهر الثانية في الثانية لأنهم مقتدون به، ويأتي ذلك
في كل صلاة جهرية. (فإن صلى) الامام (مغربا) على كيفية ذات الرقاع، (فبفرقة) من القوم يصلي بها (ركعتين) ثم
تفارقه بعد التشهد معه لأنه موضع تشهدهم، قاله في المجموع. (وبالثانية) منه (ركعة، وهو أفضل من عكسه) الجائز
أيضا (في الأظهر) لأن التفضيل لا بد منه فالسابق أولى به، ولأنه لو عكس لزاد في الطائفة الثانية تشهدا غير محسوب لها
لوقوعه في ركعتها الأولى، واللائق بالحال هو التخفيف دون التطويل. والثاني: عكسه أفضل لتنجبر به الثانية عما فاتها
من فضيلة التحرم. (و) على الأظهر (ينتظر) الامام فراغ الأولى ومجئ الثانية، (في) جلوس (تشهده أو قيام الثالثة،
وهو) أي انتظاره في القيام (أفضل) من انتظاره في جلوس تشهده (في الأصح) لأن القيام محل للتطويل بخلاف جلوس
التشهد الأول. والثاني: أن انتظاره في التشهد أولى ليدركوا معه الركعة من أولها. وجعل الخلاف في المجموع والروضة
كأصلها قولين، ويأتي في قراءة الإمام في الانتظار في القيام أو قراءة التشهد في الانتظار في جلوسه الخلاف السابق. ولو
فرقهم في المغرب ثلاث فرق صحت صلاة الجميع على النص. (أو) صلى (رباعية فبكل) من الفرقتين يصلي (ركعتين)
لأن فيه تحصيلا للمقصود مع المساواة بين المأمومين. وهل الأفضل الانتظار في التشهد الأول أو في القيام الثالث؟ فيه
الخلاف السابق. ولو صلى بفرقة ركعة وبالأخرى ثلاثا أو عكسه صحت مع الكراهة ويسجد الإمام، والثانية للسهو
للمخالفة بالانتظار في غير محله. (فلو) فرقهم أربع فرق، و (صلى بكل فرقة ركعة) وفارقته كل فرقة من الثلاث الأول
وأتمت لنفسها وهو ينتظر فراغ الأولى في قيام الركعة الثانية وفراغ الثانية في تشهده أو قيام الثالثة وهو أفضل كما مر وفراغ
الثالثة في قيام الرابعة وفراغ الرابعة في تشهده الأخير ليسلم بها، (صحت صلاة الجميع في الأظهر) لأنه قد يحتاج إلى ذلك.
قال الامام: وشرط ذلك أن تمس الحاجة إليه واقتضاء الرأي له وإلا فهو كفعله في حال الامن، وأقراه وجزم به في المحرر،
لكنه قال في المجموع: لم يذكره الأكثرون والصحيح خلافه، وهذا هو المعتمد، فكان ينبغي للمصنف أن ينبه على ذلك
في الزوائد فإن لم يكن ففي الدقائق. والثاني: تبطل صلاة الامام لزيادته على الانتظارين في صلاة النبي (ص)
في ذات الرقاع كما سبق، وصلاة الفرقة الثالثة والرابعة إن علموا ببطلان صلاة الامام. والثالث: تبطل صلاة الفرق الثلاث
لمفارقتها قبل انتصاف صلاتها، على خلاف المفارقة في صلاته (ص) المذكورة فإنها بعد الانتصاف. والرابع: تبطل
صلاة الجميع. ويقاس بما ذكر المغرب إذا صلى بكل فرقة ركعة. (وسهو كل فرقة) فيما لو فرقهم الامام في صلاة ذات
الرقاع فرقتين، (محمول في أولاهم) أي ركعتهم الأولى لاقتدائهم فيها، (وكذا ثانية الثانية) أي الركعة الثانية للفرقة الثانية
سهوهم محمول (في الأصح) المنصوص المجزوم به عند الأكثرين كما في المجموع لاقتدائهم بالامام فيها حكما، والثاني: لا،
303

لانفرادهم بها حسا. (لا ثانية الأولى) لانفرادهم حسا وحكما. (وسهوه) أي الامام (في) الركعة (الأولى يلحق
الجميع) فيسجد المفارقون عند تمام صلاتهم وإن كان سهوه قبل اقتداء الفرقة الثانية للنقصان الحاصل في صلاته. (وفي
الثانية لا يلحق الأولين) لمفارقتهم قبل السهو، وتسجد الثانية معه آخر صلاته، ولو سها في حال انتظارهم لحقهم على
الأصح. ويقاس بذلك السهو في الثلاثية والرباعية مع أن ذلك كله معلوم من باب سجود السهو. (ويسن) للمصلي
صلاة شدة الخوف، (حمل السلاح) كسيف ورمح ونشاب وسكين، (في هذه الأنواع) السابقة احتياطا، (وفي قول
يجب) الحمل لظاهر قوله تعالى: * (وليأخذوا أسلحتهم) *. وحمل الأول الآية على الندب، إذ لو وجب لكان تركه
مفسدا كغيره مما يجب في الصلاة ولا تفسد به قطعا، ولكن يكره تركه لمن لا عذر له من مرض أو أذى من مطر أو
غيره احتياطا. ويحرم متنجس وبيضة أو نحوها تمنع مباشرة الجبهة لما في ذلك من إبطال الصلاة، ويكره رمح أو نحوه
يؤذيهم بأن يكون بوسطهم، ومحله كما قال الأذرعي: إن خيف به الأذى، وإلا فيحرم، ولو كان في ترك
الحمل تعرض
للهلاك ظاهرا وجب حمله أو وضعه بين يديه إن كان بحيث يسهل تناوله كسهولة تناوله وهو محمول، بل يتعين وضعه
إن منع حمله الصحة، ولا تبطل صلاته بترك ذلك، وإن قلنا بوجوب حمله أو وضعه كالصلاة في الدار المغصوبة. والدرع
أو الترس ليس بسلاح يسن حمله بل يكره لكونه ثقيلا يشغل عن الصلاة كالجعبة كما نقله في المجموع عن الشيخ أبي حامد
وغيره، ولا ينافي ذلك إطلاق القول بأنهما من السلاح، إذ ليس كل سلاح يسن حمله في الصلاة، إذ المراد هنا
ما يقتل، لا ما يدفع به. (الرابع) من الأنواع: الصلاة بالكيفية المذكورة في محل هذا النوع، هو (أن يلتحم القتال)
بين القوم ولم يتمكنوا من تركه، وهذا كناية عن شدة اختلاطهم بحيث يلتصق لحم بعضهم ببعض أو يقارب التصاقه،
أو عن اختلاط بعضهم ببعض كاشتباك لحمة الثوب بالسدى. (أو يشتد الخوف) وإن لم يلتحم القتال بأن لم يأمنوا هجوم
العدو لو ولوا عنه وانقسموا. (فيصلي) كل منهم (كيف أمكن راكبا وماشيا) لقوله تعالى: * (فإن خفتم فرجالا أو ركبانا)
* وليس لهم تأخير الصلاة عن وقتها * (ويعذر) * كل منهم في ترك توجه * (القبلة) * عند العجز عنه بسبب العدو للضرورة.
وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في تفسير الآية: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها - قال نافع: لا أراه إلا مرفوعا،
رواه البخاري، بل قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: إن ابن عمر رواه عن النبي (ص) - فلو انحرف عنها
بجماح الدابة وطال الزمان بطلت صلاته. ويجوز اقتداء بعضهم ببعض وإن اختلفت الجهة أو تقدموا على الامام كما
صرح به ابن الرفعة وغيره للضرورة، والجماعة أفضل من انفرادهم كما في الامن لعموم الاخبار في فضل الجماعة. (وكذا
الأعمال الكثيرة) كالضربات والطعنات المتوالية يعذر فيها، (لحاجة) إليها (في الأصح) قياسا على ما ورد من المشي
وترك الاستقبال، وهذا ما نسباه للأكثرين. والثاني: لا يعذر، لأن النص ورد في هذين فيبقى ما عداهما على الأصل.
والثالث: يعذر فيها، لدفع أشخاص دون شخص واحد لندرة الحاجة إليها في دفعه. أما القليل أو الكثير غير المتوالي فمحتمل
في غير الخوف ففي الخوف أولى. وأما الكثير المتوالي بلا حاجة فتبطل به قطعا. (لا صياح) فإنه لا يعذر فيه قطعا لعدم
الحاجة إليه، لأن الساكت أهيب، أو كذا يبطلها النطق بلا صياح كما نص عليه في الام. (ويلقي) وجوبا (السلاح
إذا دمي) دما لا يعفى عنه حذرا من بطلان الصلاة أو في معنى إلقائه جعله في قرابه تحت ركابه إلى أن يفرغ من صلاته
إن احتمل الحال ذلك. (فإن عجز) عما ذكر شرعا بأن احتاج إلى إمساكه بأن لم يكن له منه بد. (أمسكه) للحاجة،
(ولا قضاء) للصلاة حينئذ (في الأظهر) المجزوم به في الروضة كأصلها في بابي التيمم وشروط الصلاة، لأن تلطخ السلاح
304

بالدم من الاعذار العامة في حق المقاتل فأشبه المستحاضة. والثاني: يجب القضاء، وهو المعتمد المنقول في الشرحين والروضة
هنا عن الامام عن الأصحاب. وقال في المهمات: وهو ما نص عليه الشافعي فالفتوى عليه اه‍. ولو تنجس سلاحه بغير
الدم بنجاسة لا يعفى عنها أمسكه عند العجز، وعليه القضاء أخذا من ذلك. (فإن عجز عن ركوع أو سجود أومأ) بهما
للضرورة كما ثبت ذلك في صحيح مسلم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. (و) جعل (السجود أخفض) من الركوع
ليحصل التمييز بينهما، فلا يجب على الماشي وضع جبهته على الأرض كما لا يجب عليه الاستقبال ولو في التحرم والركوع
والسجود لما في تكليفه ذلك من تعرضه للهلاك، بخلاف نظيره في الماشي المتنفل في السفر كما مر، ولو أمكنه الاستقبال
بترك القيام لركوبه ركب لأن الاستقبال آكد بدليل النفل.
تنبيه: هذان اللفظان منصوبان بتقدير جعل كما قدرته، وصرح به في المحرر. (وله ذا النوع) أي صلاة شدة
الخوف حضرا أو سفرا، (في كل قتال وهزيمة مباحين) أي لا إثم فيهما، كقتال عادل ودافع عن نفسه أو غيره أو مال نفسه
أو حرمه أو مال غيره أو حرمه، ولا إعادة عليه لأن المنع منه ضرر. ولا يختص هذا النوع بالقتال كما يعلم مما مر ومن
قوله: (و) له ذلك في (هرب من) نحو (حريق وسيل وسبع) وحية لا يجد معدلا عنه بتحصين بشئ لوجود الخوف،
(و) في هرب من (غريم) وهو مستحق الدين، (عند الاعسار) أي إعساره (وخوف حبسه) دفعا لضرر الحبس.
وهذا حيث لا بينة له، ولا يصدقه المستحق ولو كان له بينة، ولكن الحاكم لا يسمعها إلا بعد الحبس، فهي
كالعدم كما بحثه بعض المتأخرين. وفي هرب من مقتص يرجو بسكون غضبه بالهرب عفوه، وخرج بذلك
العاصي بالقتال كالبغاة بغير تأويل وقطاع الطريق، والعاصي بفراره كهزيمة مسلم من كافرين في الصف، فلا
يصلون
هذه الصلاة لأن الرخص لا تناط بالمعاصي، ولا يصليها طالب لعدو منهزم منه خاف فوت العدو لو صلى متمكنا، لأنه لم
يخف فوت ما هو حاصل بل هو محصل. والرخص لا تجاوز محلها إلا إن خشي كرتهم عليه أو كمينا أو انقطاعه عن رفقته
كما صرح به الجرجاني، فله أن يصليها لأنه خائف. ويؤخذ من ذلك أنه لو خطف شخص عمامته أو مداسه مثلا وهرب
به وأمكنه تحصيله أن له هذه الصلاة لأنه خاف فوت ما هو حاصل عنده، وهذا كله إن خاف فوت الوقت، كما صرح به
ابن الرفعة وغيره. قال الأذرعي: وكما تجوز صلاة شدة الخوف كذلك تجوز أيضا صلاة الخوف من باب أولى، وبه صرح
الجرجاني، فيصلي بطائفة ويستعمل طائفة برد السيل وإطفاء الحريق ودفع السبع ونحو ذلك. (والأصح منعه لمحرم خاف
فوت الحج) بفوات وقوف عرفة لو صلى متمكنا، لأنه لم يخف فوت ما هو حاصل، بل يروم تحصيل ما ليس بحاصل،
فأشبه خوف فوات العدو عند انهزامهم كما مر. والثاني: يجوز له أن يصليها لأن الضرر الذي يلحقه بفوات الحج لا ينقص
عن ضرر الحبس أياما في حق المديون المعسر، وصحح هذا الشيخ عز الدين في قواعده. وعلى الأول يؤخر الصلاة ويحصل
الوقوف كما صوبه المصنف خلافا للرافعي لأن قضاء الحج صعب وقضاء الصلاة هين. فقد جوزنا تأخير الصلاة لأمور
لا تقارب المشقة فيها هذه المشقة كالتأخير للجمع، وعلى هذا يجب تأخير الصلاة كما ذكره ابن الرفعة في كفايته أول
كتاب الصلاة. ومحل الخلاف إذا تحقق فوات كل الصلاة، فلو علم أنه لو مضى أدرك الحج وأدرك ركعة من الوقت
وجب المضي قطعا كما حكاه البغوي في فتاويه عن شيخه القاضي حسين، ولو ضاق وقت الصلاة وهو بأرض مغصوبة
أحرم ماشيا كهارب من حريق كما قاله القاضي والجيلي.
فرع: يصلي عيد الفطر وعيد الأضحى وكسوف الشمس والقمر في شدة الخوف صلاتها لأن يخاف فوتها ويخطب
لها إن أمكن، بخلاف صلاة الاستسقاء لأنها لا تفوت، ويؤخذ من ذلك أنها تشرع في غير ذلك أيضا كسنة الفريضة
والتراويح، وأنها لا تشرع في الفائتة بعذر إلا إذا خيف فوتها بالموت. (ولو صلوا) صلاة شدة الخوف (
لسواد) كإبل
305

وشجر (ظنوه عدوا) لهم أو كثيرا، بأن ظنوا أنه أكثر من ضعفنا، (فبان) الحال (غيره) بخلافه، أو بان كما ظنوا ولكن
بان دونه حائل كخندق، أو شكوا في شئ من ذلك وقد صلوها، (قضوا في الأظهر) لتفريطهم بخطئهم أو شكهم كما لو
أخطأوا أو شكوا في الطهارة. والثاني: لا يجب القضاء، لوجود الخوف عند الصلاة. وعلى الأول يقضون بما مر لو صلوا
صلاة عسفان أو ذات الرقاع على رواية ابن عمر، وكذا الفرقة الثانية فيها على رواية غيره، بخلاف صلاتي بطن نخل
وذات الرقاع على رواية غير ابن عمر كما في الامن، ولو بان بعد صلاتهم صلاة شدة الخوف ما رأوه عدوا كما ظنوا،
ولا حائل ولا حصن، ولكن نيتهم الصلح ونحوه كالتجارة فلا قضاء، إذ لا تفريط منهم، لأن النية لا اطلاع لهم عليها،
بخلاف الخطأ فيما مر فإنهم مفرطون في تأمله. ولو ظن العدو يقصده فبان خلافه فلا قضاء قطعا كما في المهذب. ولو
صلى متمكنا على الأرض فحدث خوف ملجئ لركوبه ركب وبنى، فإن لم يلجئه بل ركب احتياطا أعاد وجوبا، فإن
أمن المصلي وهو راكب نزل حالا وجوبا وبنى إن لم يستدبر في نزوله القبلة وإلا فيلزمه لاستئناف. وكره انحرافه عن
القبلة في نزوله يمنة أو يسرة ولا تبطل به صلاته، فإن أخر النزول بعد الامن بطلت صلاته لتركه الواجب.
فصل: فيما يجوز لبسه للمحارب وغيره وما لا يجوز. (يحرم على الرجل) في حال الاختيار، وكذا الخنثى المشكل
خلافا للقفال، (استعمال الحرير) وهو ما يحل عن الدودة بعد موتها. والقز: وهو ما قطعته الدودة وخرجت منه حية
وهو كمد اللون. (بفرش وغيره) من وجوه الاستعمال إلا ما يأتي استثناؤه كلبسه والتدثر به واتخاذه سترا. أما لبسه
للرجل فمجمع على تحريمه وللخنثى احتياطا. وأما ما سواه فلقول حذيفة: نهانا رسول الله (ص) عن لبس الحرير والديباج
وأن نجلس عليه رواه البخاري، ولخبر أبي داود بإسناد صحيح: أنه (ص) أخذ في يمينه قطعة حرير وفي شماله قطعة
ذهب، وقال: هذان - أي استعمالهما - حرام على ذكور أمتي حل لإناثهم وعلل الامام والغزالي الحرمة على
الرجل بأن في الحرير خنوثة لا تليق بشهامة الرجل. وقيل: يجوز الجلوس عليه، ويرده الحديث المتقدم. (ويحل للمرأة لبسه)
وقد انعقد الاجماع بعد عبد الله بن الزبير عليه. (والأصح تحريم افتراشها) للسرف والخيلاء، بخلاف اللبس
فإنه يزينها ويدعو إلى الميل إليها ووطئها فيؤدي إلى ما طلبه الشارع، وهو كثر التناسل. والثاني: يحل كلبسه كما مر في
خبر: حل لإناثهم وسيأتي تصحيحه. (و) الأصح (أن للولي إلباسه) أي الحرير (الصبي) ولو مميزا، إذ ليس
شهامة تنافي خنوثة الحرير ولعدم تكليفه، وللولي تزيينه بالحلي من ذهب أو فضة ولو في غير يوم عيد، لما مر. والثاني: ليس
للولي إلباسه الحرير في غير يومي العيد بل يمنعه منه كغيره من المحرمات. والثالث: له إلباسه قبل سبع سنين دون ما بعدها
لئلا يعتاده. وتعبيرهم بالصبي يخرج المجنون، وتعليلهم يدخله، وهو الأوجه. وقد ألحقه بالصبي الغزالي في الاحياء.
(قلت: الأصح حل افتراشها) إياه (وبه قطع العراقيون وغيرهم، والله أعلم) لما مر، وما ذكروه من إباحة اللبس
للتزين للزوج، أي وللسيد، ممنوع، إذ لو كان كذلك لاختص بالمزوجة ونحوها دون الخلية، وقد أجمعوا أنه
لا يختص. واعترض القطع بالحل بأن الشيخ نصر المقدسي وغيره قطع بالتحريم، وعبارة الروضة، وبه قطع
العراقيون والمتولي. وأفتى المصنف تبعا لجمع بتحريم كتابة الرجل صداق المرأة في الحرير، إذ لا يجوز له استعماله، قال:
ولا يغتر بكثرة من يراه ولا ينكره. واعترضه الأسنوي وقال: المتجه خلافه لأنه عمل للمرأة كالتطريز ونحوه. وبه أفتى
البارزي تبعا لشيخه الفخر بن عساكر. قال بعضهم: وعليه قضاة الأمصار في الاعصار. وأجيب بأن الخياطة لا استعمال
فيها بخلاف الكتابة. ويؤخذ من ذلك تحريم كتابة الرجل فيه للمراسلات ونحوها. وسئل قاضي القضاة ابن رزين عمن
يفصل الكلونات والأقباع الحرير ويشتري القماش الحرير مفصلا ويبيعه للرجال، فقال: يأثم بتفصيله لهم وبخياطته وبيعه
306

وشرائه كما يأثم بصوغ الذهب للبسهم. قال: وكذا خلع الحرير يحرم بيعها والتجارة فيها. وأما اتخاذ أثواب الحرير
للرجل بلا لبس، فأفتى ابن عبد السلام بأنه حرام لكن إثمه دون إثم اللبس. ثم أخرج المصنف من حرمة الحرير على
الرجل ما تضمنه قوله: (ويحل للرجل) والخنثى (لبسه للضرورة كحر وبرد مهلكين) أو مضرين، كالخوف على
عضو أو منفعته إزالة للضرر. ويؤخذ من جواز اللبس جواز استعماله في غيره بطريق الأولى لأنه أخف. (أو فجاءة
حرب) بضم الفاء وفتح الجيم والمد وبفتح الفاء وسكون الجيم: أي بغتتها، (ولم يجد غيره) يقوم مقامه للضرورة.
وجوز ابن كج اتخاذ القباء وغيره مما يصلح للقتال وإن وجد غير الحرير مما يدفع لما فيه من الهيبة وانكسار قلوب
الكفار كتحلية السيف ونحوه، ونقله في الكفاية عن جماعة وصححه. والأوجه عدم الجواز كما هو ظاهر كلام الأصحاب.
(و) يجوز له أيضا (للحاجة كجرب وحكة) إن آذاه لبس غيره كما شرطه ابن الرقعة، لأن النبي (ص) أرخص
لعبد الرحمن بن عوف والزبير في لبسه للحكة، متفق عليه. والحكة بكسر الحاء: الجرب اليابس، وهو الحصف،
ولذلك غاير المصنف بينهما، والجوهري جعل الحكة والجرب واحدا، وكذا في شرح المهذب وتهذيب اللغات. فإن
قيل: هل من شرط جوازه لذلك أن لا يجد ما يغني عنه من دواء ونحوه كما في التداوي بالنجاسة؟ أجيب بأن
القياس عدم التسوية لأن جنس الحرير أبيح لغير ذلك، فكان أخف من النجاسة. (و) للحاجة في (دفع قمل) لأنه لم
يقمل بالخاصية. وفي الصحيح: أن الزبير وعبد الرحمن رضي الله عنهما شكيا القمل إلى رسول الله (ص)
فأرخص لهما في قميص الحرير. وظاهر كلام المصنف أنه لا فرق في ذلك بين السفر والحضر كما صرح به في المجموع، وهو
كذلك كما أطلقه البغوي وغيره إذ المعنى يقتضي عدم تقييد ذلك بالسفر وإن قال بعض المتأخرين لم أر من صرح به في
الحضر غير المصنف، وهو بعيد لأن التعهد والتفقه فيه سهل.
تنبيه: يدخل في تعبيره بالحاجة ستر العورة في الصلاة وعن عيون الناس إذا لم يجد غير الحرير، وكذا الستر في
الخلوة إن أوجبناه، وهو الأصح، وبه صرح في المجموع، ونظر الأسنوي فيما زاد على العورة عند الخروج إلى الناس.
والقمل جمع قملة، وهو القمل المرسل على بني إسرائيل في قول عطاء. وقيل: البراغيث، قاله أبو زيد. وقيل: السوس.
وقيل غير ذلك. (و) للحاجة (للقتال كديباج) بكسر الدال وفتحها، فارسي معرب مأخوذ من التدبيج وهو النقش
والتزين، أصله ديباه بالهاء، وجمعه ديابيج وديابج. (لا يقوم غيره) في دفع السلاح (مقامه) بفتح الميم لأنه من ثلاثي،
تقول: قام هذا مقام ذاك بالفتح، وأقمته مقامه بالضم صيانة لنفسه، وذلك في حكم الضرورة. أما إذا وجد ما يقوم مقامه
فإنه يحرم عليه. وهذه المسألة علمت من قوله أولا: أو فجاءة حرب فإنه إذا جاوز لمجرد المحاربة فلان يجوز للقتال بطريق
الأولى. (ويحرم) على الرجل والخنثى (المركب من إبريسم) وهو بكسر الهمزة والراء وبفتحهما وبكسر الهمزة وفتح الراء:
الحرير، وهو فارسي معرب. (وغيره) كغزل وقطن، (إن زاد وزن الإبريسم) على غيره، (ويحل عكسه) وهو مركب
نقص فيه الإبريسم عن غيره كالخز سداه حرير ولحمته صوف تغليبا لجانب الأكثر فيهما. (وكذا) يحل (إن استويا)
وزنا فيما ركب منهما، (في الأصح) لأنه لا يسمى ثوب حرير، والأصل الحل. وفي أبي داود بإسناد صحيح عن ابن
عباس قال: إنما نهى رسول الله (ص) عن الثوب المسمط من الحرير. فأما العلم وسدي الثوب فلا بأس به.
والمصمت الخالص، والعلم الطراز ونحوه، ولا أثر للظهور خلافا للقفال في قوله: إن ظهر الحرير في المركب حرم وإن قل
وزنه، وإن استتر لم يحرم وإن كثر وزنه. وينبغي على عدم الحرمة الكراهة. ولو شك هل الأكثر الحرير أو غيره أو هما
مستويان حرم كما جزم به في الأنوار. (ويحل) لمن ذكر (ما) أي ثوب (طرز) أو رقع بحرير إذا لم يجاوز كل منهما
قدر أربع أصابع مضمومة دون ما يجاوزها، لخبر مسلم عن عمر رضي الله تعالى عنه: نهى رسول الله (ص) عن
307

لبس الحرير إلا موضع إصبع أو إصبعين أو ثلاث أو أربع. ولو كثرت محالها بحيث يزيد الحرير على غيره حرم وإلا فلا
خلافا لما نقله الزركشي عن الحليمي من أنه لا يزيد على طرازين كل طراز على كم، وأن كل طراز لا يزيد على إصبعين
ليكون مجموعهما أربع أصابع، والتطريز أن يركب على الثوب طراز كله من حرير، أما المطرز بالإبرة فالأقرب كما قال
السبكي أنه كالمنسوج حتى يكون مع الثوب كالمركب من حرير وغيره لا كالطراز المذكور وإن قال الأذرعي إنه مثله.
ويحل حشو جبة أو نحوها به كالمخدة، لأن الحشو ليس ثوبا منسوجا ولا يعد صاحبه لابس حرير، وبهذا فارق تحريم
البطانة فإنه يحرم عليه أن يجعل بطانة الجبة أو نحوها حريرا. (أو) يحل ما (طرف بحرير قدر العادة) بأن يجعل طرف
ثوبه مسجفا بالحرير بقدر العادة لخبر مسلم عن أسماء بنت أبي بكر أنه (ص) كان له جبة يلبسها لها لبنة من ديباج
وفرجاها مكفوفان بالديباج واللبنة بكسر اللام وسكون الباء: رقعة في جيب القميص أي طوقه، والمكفوف الذي جعل
له كفة بضم الكاف أي سجاف. أما ما جاوز العادة فيحرم، وفرق بين هذا وبين اعتبار أربع أصابع فيما مر بأن
التطريف محل حاجة وقد تمس الحاجة للزيادة على الأربع، بخلافه فيما مر فإنه محل زينة فيتقيد بالأربع، وإن كان ظاهر
عبارة المصنف التسوية بين المطرز والمطرف. قال ابن عبد السلام: وكالتطريف طرفا العمامة إذا كان كل منهما قدر
شبر، وفرق بين كل أربع أصابع مقدار قلم من كتان أو قطن. قال الغزي: وهذا بناء منه على اعتبار العادة فيه اه‍.
فإن جرت العادة على خلافه اعتبرت، إذ العادة تختلف باختلاف الاشخاص والأزمان والأماكن. واحترز بقوله بحرير
عن التطريز والتطريف بذهب أو فضة فإنه حرام وإن قل لكثرة الخيلاء فيه. ولو جعل بين البطانة والظهارة ثوبا
حريرا أجاز لبسه كما هو ظاهر كلام الأئمة وإن قال الامام: فيه نظر، وتحل خياطة الثوب به ويحل لبسه ولا يجئ فيه تفصيل
المضبب لأن الحرير أهون من الأواني. قال في المجموع: ويحل منه خيط السبحة. قال الزركشي: ويقاس به ليقة الدواة.
وقال الفوراني: ويجوز منه كيس المصحف للرجل. ولو فرش ثوب قطن مثلا فوق ثوب ديباج وجلس عليه جاز كما قاله
القاضي حسين والبغوي، خلافا للقفال لأنه لا يعد مستعملا له، بخلاف ما لو تغطي به من فوق حائل لأنه مستعمل له. ويحرم
على الرجل والخنثى المزعفر دون المعصفر كما قاله إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه، خلافا للبيهقي في قوله: الصواب تحريمه
أيضا للأخبار الصحيحة التي لو بلغت الشافعي لقال بها، ومحل النهي عن المعصفر إذا صبغ بعد النسج لا قبله، وعليه
يحمل اختلاف الأحاديث في ذلك. ولا يكره لمن ذكره مصبوغ بغير الزعفران والمعصفر سواء الأحمر والأصفر والأخضر
وغيرها، سواء أصبغ قبل النسج أم بعده، وإن خالف فيما بعده بعض المتأخرين، إذ لم يرد في ذلك نهي. ويحل لبس
الكتان والقطن والصوف ونحوها وإن كانت غالية الأثمان لأن نفاستها بالصنعة. ويكره تزيين البيوت لرجال وغيرهم
حتى مشاهد الصلحاء والعلماء بالثياب لخبر مسلم: إن الله لم يأمرنا أن نلبس الجدران واللبن. ويحرم تزيينها بالحرير
والصور لعموم الأخبار الواردة فيها، وكذا يحرم تزيين المساجد به كما هو قضية كلام الروض كأصله في باب
زكاة الذهب
والفضة وإن أفتى الغزالي بالجواز، نعم يجوز ستر الكعبة به، وينبغي جواز ستر قبره (ص) به كما جرت به العادة
من غير نكير. (و) يحل (لبس الثوب النجس) أي المتنجس بدليل قوله بعد عطفا على المحرم: وكذا جلد الميتة في
الأصح. (في غير الصلاة) المفروضة (ونحوها) كالطواف المفروض أو خطبة الجمعة إذا لم يتنجس بدنه بواسطة رطوبة،
بخلاف لبسه في ذلك بعد الشروع فيه فيحرم سواء اتسع الوقت أم لا لقطعه الفرض، بخلاف النفل فإنه لا يحرم لجواز
قطعه. أما إذا لبسه قبل إحرامه بنفل أو فرض موسع فالحرمة على من تلبسه بعبادة فاسدة لا على لبسه، فاستفد ذلك فإنه
موضع مهم. وحيث جاز لبسه فالأقرب كما قال بعض المتأخرين أنه يحرم مكثه به في المسجد من غير حاجة إليه لأنه
يجب تنزيه المسجد عن النجاسات. (لا جلد كلب وخنزير) فلا يحل لبس جلدهما، لأن الخنزير لا ينتفع به في حال
حياته، وكذا الكلب إلا في اصطياد ونحوه، فبعد الموت أولى، وفرعهما وفرع أحدهما كذلك. (إلا لضرورة كفجأة
308

قتال) وخوف على نفسه أو عضوه من برد أو حر أو غير ذلك ولم يجد غيره فإنه يجوز كما يجوز أكل الميتة عند الاضطرار،
ويحل أن يغشى كل من الكلب والخنزير جلده وجلد الآخر. قال في المجموع: كذا أطلقوه، ولعل مرادهم كلب يقتنى
وخنزير لا يؤمر بقتله فإن فيه خلافا وتفصيلا ذكروه في السير. وما استشكله في تغشية الخنزير بامتناع اقتنائه والمغشي
مقتنى، أجيب عنه بمنع كونه مقتنى بذلك، ولو سلم فيأثم بالاقتناء لا بالتغشية، أو يحمل ذلك على خنازير أهل الذمة فإنهم
يقرون عليها، أو على مضطر تزود به ليأكله كما يتزود بالميتة. أما تغشية غير الكلب والخنزير وفروعهما وفرع أحدهما مع
الآخر بجلد واحد منهما فلا يجوز بخلاف تغشيته بغير جلدهما من الجلود النجسة فإنه جائز. (وكذا جلد الميتة) قبل الدبغ
من غيرهما لا يحل لبسه أيضا، (في الأصح) إلا لضرورة فيحل كجلد نحو الكلب، وكذا يحرم على الآدمي استعمال
نجاسة في بدنه أو شعره أو ثوبه لما عليه من التعبد في اجتناب النجاسة لإقامة العبادة ولو كان النجس مشط عاج في شعر
الرأس أو اللحية إذا كانت هناك رطوبة، وإلا فيكره كما في المجموع خلافا للأسنوي في قوله: يحرم مطلقا، فقد نص الشافعي
رضي الله تعالى عنه في البويطي على التفصيل المذكور وجزم به جمع، وكأنهم استثنوا العاج لشدة جفافه مع ظهور رونقه.
وجلد الآدمي وإن كان طاهرا يحرم استعماله إلا لضرورة. ويكره لبس الثياب الخشنة لغير غرض شرعي كما نقله المصنف
عن المتولي وإن اختار في المجموع أنه خلاف السنة. ويحرم إطالة العذبة طولا فاحشا، وإنزال الثوب ونحوه عن الكعبين
للخيلاء، ويكره ذلك لغيرها، والسنة أن تكون العذبة بين الكتفين. ويجوز لبس العمامة بإرسال طرفها وبدونه،
ولا كراهة في واحد منهما، ولكن الأفضل إرخاؤه. أما المرأة فيجوز لها إرسال الثوب على الأرض ذراعا. قال في
المجموع: والأوجه أن ابتداء الذراع من الحد المستحب للرجال وهو أنصاف الساقين، لا من الكعبين ولا من أول ما يمس
الأرض. ويجوز بلا كراهة لبس القباء والفرجية والقمص ونحوها مزرورة وغير مزرورة إذا لم تبد عورته. ويسن
تقصيرا لكم لأن كمه (ص) كان إلى الرسغ. وإفراط توسعة الثياب والاكمام بدعة وسرف وتضييع مال،
كما قاله ابن عبد السلام، قال: ولا بأس بلبس شعار العلماء ليعرفوا بذلك فيسألوا، فإني كنت محرما فأنكرت على جماعة
محرمين لا يعرفونني ما أخلوا به من أدب الطواف فلم يقبلوا، فلما لبست ثياب الفقهاء وأنكرت عليهم ذلك سمعوا
وأطاعوا، فإذا لبسها لمثل ذلك كان فيه أجر، لأنه سبب لامتثال أمر الله وللانتهاء عما نهى الله عنه. (ويحل)
مع الكراهة في غير المسجد الاستصباح (بالدهن النجس) عينه كودك ميتة أو بعارض كزيت ونحوه وقعت فيه نجاسة،
(على المشهور) لأنه (ص) سئل عن فأرة وقعت في سمن فقال: إن كان جامدا فألقوها وما حولها وإن
كان مائعا فاستصبحوا به أو فانتفعوا به، رواه الطحاوي وقال: رجاله ثقات. والثاني: لا يجوز، لأجل دخان النجاسة فإنه قد
يصيب بدنه أو ثوبه عند القرب من السراج. وعلى الأول يعفى عما يصيبه من دخان المصباح لقلته، أما في المسجد فلا
يجوز لما فيه من تنجيسه كما جزم به ابن المقري تبعا للأذرعي والزركشي وإن كان ميل الأسنوي إلى الجواز. ويستثنى
أيضا ودك نحو الكلب كما قاله في البيان ونقله الغزي عن الامام. قال الغزي: ويجوز أن يجعل الزيت المتنجس صابونا
أيضا للاستعمال، أي لا للبيع. قال في المجموع: ويجوز طلي السفن بشحم الميتة وإطعامها للكلاب والطيور وإطعام
الطعام المتنجس للدواب.
خاتمة: يكره المشي في نعل واحدة أو نحوها كخف واحد للنهي عنه، والمعنى فيه أن مشيه يخل بذلك، وقيل: لما
فيه من ترك العدل بين رجليه. وأن ينتعل قائما للنهي عنه. ويسن أن يبدأ باليمين في لبس النعل ونحوه واليسار في الخلع.
ويباح بلا كراهة لبس خاتم حديد ورصاص. ويسن للرجل لبس خاتم الفضة في خنصر يمينه أو يساره، ولبسه
في اليمين أفضل، ويجوز في اليسار وفيهما معا، وجعل الفص في باطن الكف أفضل، والضبط في قدره ما لا يعد إسرافا
في العرف. ولا يحرم استعمال النشاء وهو المتخذ من القمح في الثوب، والأولى تركه وترك دق الثياب وصقلها. قال الزركشي:
ينبغي طي الثياب، أي وذكر اسم الله تعالى عليها لما روى الطبراني: إذا طويتم ثيابكم فاذكروا اسم الله عليها لئلا
309

تلبسها الجن بالليل وأنتم بالنهار فتبلى سريعا ".
باب صلاة العيدين:
الفطر والأضحى. والعيد مشتق من العود لتكرره كل عام، وقيل: لكثرة عوائد الله تعالى فيه على عباده، وقيل:
لعود السرور بعوده. وجمعه أعياد، وإنما جمع بالياء وإن كان أصله الواو للزومها في الواحد، وقيل: للفرق بينه وبين أعواد
الخشب. والأصل في صلاته قبل الاجماع مع الاخبار الآتية قوله تعالى: * (فصل لربك وانحر) * أراد به صلاة الأضحى
والذبح. وأول عيد صلاه (ص) عيد الفطر في السنة الثانية من الهجرة ولم يتركها، فهي سنة كما قال: (هي سنة) لقوله
(ص) للسائل عن الصلاة: خمس صلوات كتبهن الله تعالى على عباده. قال له: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع.
(مؤكدة) لمواظبته (ص) عليها. (وقيل فرض كفاية) نظرا إلى أنها من شعائر الاسلام ولأنها يتوالى فيها التكبير
فأشبهت صلاة الجنازة، فإن تركها أهل البلد أثموا وقوتلوا على الثاني دون الأول. وأجمع المسلمون على أنها ليست فرض
عين. وأما قول الشافعي رضي الله تعالى عنه: إن من وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حضور العيدين، فمحمول على
التأكيد. (وتشرع جماعة) لفعله (ص)، وهي أفضل في حق غير الحاج بمنى من تركها بالاجماع، أما هو فلا يسن له صلاتها
جماعة وتسن له منفردا. (و) تشرع أيضا (للمنفرد والعبد والمرأة والمسافر) والخنثى والصغير، فلا تتوقف
على شروط
الجمعة من اعتبار الجماعة والعدد وغيرهما. ويسن الاجتماع لها في موضع واحد، ويكره تعدده بلا حاجة وللامام المنع
منه. قال الماوردي: ويأمرهم الامام بها، قال المصنف: وجوبا، أي لأنها من شعائر الدين، قال الأذرعي: ولم أره
لغيره، وقيل: ندبا. وعلى الوجهين إذا أمرهم بها وجب عليهم الامتثال. (ووقتها) ما (بين طلوع الشمس وزوالها) يوم
العيد، لأن مبنى الصلوات التي تشرع فيها الجماعة على عدم الاشتراك في الأوقات، فمتى خرج وقت صلاة دخل وقت صلاة
أخرى. وهذه الصلاة منسوبة إلى اليوم، واليوم يدخل بطلوع الفجر، وهذا اليوم ليس فيه وقت خال عن صلاة تشرع
لها الجماعة. وأما كون آخر وقتها الزوال فمتفق عليه لأنه يدخل به وقت صلاة أخرى، وسيأتي أنهم لو شهدوا يوم الثلاثين
بعد الزوال وعدلوا بعد المغرب أنها تصلى من الغد أداء. (ويسن تأخيرها لترتفع) الشمس (كرمح) أي كقدره للاتباع
وللخروج من الخلاف، فإن لنا وجها اختاره السبكي وغيره أنه إنما يدخل وقتها بالارتفاع، ففعلها قبل الارتفاع مكروه
كراهة تنزيه لذلك لا أنه من أوقات الكراهة المنهي عنه، لقول الرافعي في باب الاستسقاء: ومعلوم أن أوقات الكراهة غير
داخلة في وقت صلاة العيد. (وهي ركعتان) بالاجماع وللأدلة الآتية، وحكمها في الأركان والشرائط والسنن كسائر الصلوات.
(يحرم بهما) بنية صلاة عيد الفطر أو الأضحى كما في أصل الروضة، وقيل: لا يحتاج إلى تمييز عيد الفطر من الأضحى لاستوائهما
في مقصود الشارع. وهذا أقلها، وبيان أكملها مذكور في قوله: (ثم) بعد تكبيرة الاحرام (يأتي بدعاء الافتتاح)
كسائر الصلوات، (ثم سبع تكبيرات) لما رواه الترمذي وحسنه: أنه (ص) كبر في العيدين في الأولى سبعا قبل القراءة
وفي الثانية خمسا قبل القراءة. وعلم من عبارة المصنف أن تكبيرة الاحرام ليست من السبعة. وجعلها مالك والمزني وأبو
ثور منها، ورد عليهم بما رواه أبو عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي (ص) كان يكبر في الفطر في الأولى
سبعا وفي الثانية خمسا سوى تكبيرة الاحرام رواه أبو داود، وهو حجة على أبي حنيفة أيضا حيث قال: يكبر ثلاثا. (يقف)
ندبا (بين كل ثنتين) منهما (كآية معتدلة) لا طويلة ولا قصيرة، (يهلل) أي يقول: لا إله إلا الله، (ويكبر) أي يقول:
310

الله أكبر. (ويمجد) أي يعظم الله، روى ذلك البيهقي عن ابن مسعود قولا وفعلا. (ويحسن) في ذلك كما ذكره الجمهور أن
يقول: (سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر) لأنه لائق بالحال، وهي الباقيات الصالحات في قول ابن عباس وجماعة،
ولو زاد على ذلك جاز كما في البويطي. قال ابن الصباغ: ولو قال ما اعتاده الناس وهو: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا
وسبحان الله بكرة وأصيلا وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما كثيرا لكان حسنا. ولا يأتي به بعد التكبيرة السابعة
ولا بعد الخامسة ولا قبل الأولى من السبع جزما، ولا قبل الأولى من الخمس. (ثم) بعد التكبيرة الأخيرة (يتعوذ) لأنه
لاستفتاح القراءة، (ويقرأ) الفاتحة كغيرها من الصلوات، وسيأتي ما يقرأ بعدها. (ويكبر في) الركعة (الثانية) بعد
تكبيرة القيام (خمسا) بالصفة السابقة، (قبل) التعوذ و (القراءة) للخبر المتقدم، ويجهر (ويرفع يديه) ندبا
(في الجميع) أي السبع والخمس كغيرها من تكبيرات الصلاة. ويسن أن يضع يمناه على يسراه تحت صدره بين كل
تكبيرتين كما في تكبيرة الاحرام، ويأتي في إرسالهما ما مر ثم. ولو شك في عدد التكبيرات أخذ بالأقل كما في عدد
الركعات، ولو كبر ثمانيا وشك هل نوى الاحرام في واحدة منها استأنف الصلاة لأن الأصل عدم ذلك، أو شك في
أيها أحرم جعلها الأخيرة وأعادهن احتياطا. ولو صلى خلف من يكبر ستا أو ثلاثا مثلا تابعه ولم يزد عليها ندبا فيهما،
سواء اعتقد إمامه ذلك أم لا لخبر: إنما جعل الامام ليؤتم به، حتى لو ترك إمامه التكبيرات لم يأت بها كما صرح به الجيلي.
(ولسن) أي التكبيرات المذكورات، (فرضا ولا بعضا) بل من الهيئات كالتعوذ ودعاء الافتتاح، فلا يسجد لتركهن
عمدا ولا سهوا وإن كان الترك لكلهن أو بعضهن مكروها. ويكبر في قضاء صلاة العيد مطلقا لأنه من هيئاتها كما مر
كما اقتضاه كلام المجموع خلافا لما نقله ابن الرفعة عن العجلي وتبعه ابن المقري. (ولو نسيها) فتذكرها قبل الركوع (وشرع
في القراءة) ولو لم يتم الفاتحة، (فاتت) في الجديد، أي لم يتداركها، ولو عبر به كان أولى لأن الفائت قد يقضى فلو عاد
لم تبطل صلاته بخلاف ما لو تذكرها في الركوع أو بعده وعاد إلى القيام ليكبر، فإن صلاته تبطل إن كان عالما متعمدا،
والجهل كالنسيان والعمد أولى. ولو تركها وتعوذ ولم يقرأ كبر بخلاف ما لو تعوذ قبل الاستفتاح لا يأتي به كما مر لأنه بعد التعوذ
لا يكون مفتتحا. (وفي القديم يكبر ما لم يركع) لبقاء محله وهو القيام، وعلى هذا لو تذكره في أثناء الفاتحة قطعها وكبر ثم
استأنف القراءة، أو بعد فراغها كبر وندب إعادة الفاتحة، ولو أدرك الامام راكعا لم يكبر جزما. (ويقرأ بعد الفاتحة في)
الركعة (الأولى ق، وفي الثانية اقتربت بكمالهما) كما ثبت في صحيح مسلم، وإن لم يرض المأمومون بالتطويل. وقوله:
(جهرا) للاجماع من زيادته على المحرر. ولو قرأ في الأولى: * (سبح اسم ربك الاعلى) * وفي الثانية: * (هل أتاك حديث
الغاشية) *. كانت سنة أيضا كما في الروضة، لثبوته أيضا في صحيح مسلم. قال الأذرعي: لكن الذي نص عليه الشافعي والأصحاب
الأول. (ويسن بعدهما خطبتان) للجماعة تأسيا به (ص) وبخلفائه الراشدين، ولا فرق في الجماعة بين المسافرين
وغيرهم. ويأتي بهما وإن خرج الوقت، فلو اقتصر على خطبة فقط لم يكف، ولو قدم الخطبة على الصلاة لم يعتد بها على الصواب
في الروضة، وظاهر نص الام كالسنة الراتبة بعد الفريضة إذا قدمت. و (أركانهما) وسننهما (كهي) أي كأركانهما
وسننهما (في الجمعة) وأفهم إطلاقه كالمجموع والروضة أن الشروط كالقيام فيهما والستر والطهارة لا تعتبر فيهما وهو
المعتمد، لكن يعتبر في أداء السنة الاسماع والسماع، وكون الخطبة عربية، ويسن الجلوس قبلهما للاستراحة، قال
الخوارزمي: قدر الاذان. وعلى عدم اعتبار الشروط يستحب أن يأتي بها، ولو ذكر السنن كما زدتها كان أولى لأن إسقاطها
ربما يشعر بعدم مشابهة سنن خطبتي العيد لسنن خطبتي الجمعة، وليس مرادا، بل المشابهة حاصلة بينهما وإن زادتا على
311

خطبتي الجمعة بسنن أخرى. (ويعلمهم) ندبا (في) كل عيد أحكامه، ففي عيد (الفطر) يعلمهم أحكام (الفطرة)
بكسر الفاء كما في المجموع وبضمها كما قاله ابن الصلاح كابن أبي الدم، وهي من اصطلاح الفقهاء اسم لما يخرج، مولدة
لا عربية، ولا معربة، وكأنها من الفطرة: أي الخلقة، فهي صدقة الخلفة. (وفي) عيد (الأضحى) يعلمهم
أحكام
(الأضحية) للاتباع في بعضها في خبر الصحيحين، ولان ذلك لائق بالحال. و (يفتتح) الخطبة (الأولى بتسع تكبيرات)
ولاء إفرادا، (و) الخطبة (الثانية بسبع ولاء) إفرادا، تشبيها للخطبتين بصلاة العيد، فإن الركعة الأولى تشتمل على تسع
تكبيرات فإن فيها سبع تكبيرات وتكبيرة الاحرام وتكبيرة الركوع، والركعة الثانية على سبع تكبيرات فإن فيها
خمس تكبيرات وتكبيرة القيام وتكبيرة الركوع، والولاء سنة في التكبيرات وكذا الافراد. فلو تخلل ذكر بين كل
تكبيرتين، أو قرن بين كل تكبيرتين جاز. والتكبيرات المذكورة مقدمة للخطبة لا منها وإن أوهمت عبارة المصنف
أنها منها، لأن افتتاح الشئ قد يكون ببعض مقدماته التي ليست من نفسه. ويندب للنساء استماع الخطبتين. ويكره
تركه. ومن دخل والخطيب يخطب، فإن كان في مسجد بدأ بالتحية، ثم بعد فراغ الخطبة يصلي فيه صلاة العيد، فلو
صلى فيه بدل التحية العيد وهو أولى حصلا، لكن لو دخل وعليه مكتوبة يفعلها ويحصل بها التحية، أو في صحراء
سن به الجلوس ليستمع إذ لا تحية وأخر الصلاة إلا إن خشي فوتها فيقدمها على الاستماع، وإذا أخرها فهو مخير بين أن
يصليها في الصحراء وبين أن يصليها بغيرها إلا إن خشي الفوات بالتأخير. ويندب للامام بعد فراغه من الخطبة أن يعيدها
لمن فاته سماعها ولو نساء للاتباع، رواه الشيخان.
فرع: قال أئمتنا: الخطب المشروعة عشر: خطبة الجمعة، والعيدين، والكسوفين، والاستسقاء، وأربع في الحج،
وكلها بعد الصلاة إلا خطبتي الجمعة وعرفة فقبلها، وكل منها ثنتان إلا الثلاثة الباقية في الحج ففرادى. (ويندب الغسل)
لعيد فطر أو أضحى قياسا على الجمعة. وظاهر إطلاقه أنه لا فرق بين من يحضر الصلاة وبين غيره، وهو كذلك لأنه يوم
زينة فسن الغسل له بخلاف غسل الجمعة. (ويدخل وقته بنصف الليل) وإن كان المستحب فعله بعد الفجر لأن أهل
السواد يبكرون إليها من قراهم، فلو لم يكف الغسل لها قبل الفجر لشق عليهم فعلق بالنصف الثاني لقربه من اليوم كما قيل
في أذانه. وقيل: يجوز في جميع الليل. (وفي قول) يدخل وقته (بالفجر) كالجمعة. وفرق الأول بتأخير الصلاة هناك
وتقديمها هنا. (و) يندب (الطيب) أي التطيب الذكر بأحسن ما يجد عنده من الطيب. فإن قيل: الطيب اسم
ذات
لا يتعلق به حكم. أجيب بأن المراد ما قدرته. (والتزين) بأحسن ثيابه وبإزالة الظفر والريح الكريهة، (كالجمعة) لكن
الجمعة السنة فيها لبس البياض كما مر. ولا فرق في ذلك بين الخارج للصلاة وغيره كما مر في الغسل، نعم مريد الأضحية
لا يزيل شعره ولا ظفره حتى يضحي كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الأضحية. أما الأنثى فيكره لذات الجمال والهيئة
الحضور، ويسن لغيرها بإذن الزوج أو السيد، وتتنظف بالماء ولا تتطيب وتخرج في ثياب بذلتها. والخنثى في هذه كالأنثى،
أما الأنثى القاعدة في بيتها فيسن لها ذلك.
تنبيه: لو حذف المصنف الطيب وقال: والتزين كالجمعة لكان أخصر لأنه في الجمعة أدخل الطيب في التزين.
(وفعلها) أي صلاة العيد، (بالمسجد) عند اتساعه كالمسجد الحرام، (أفضل) لشرف المسجد على غيره. (وقيل)
فعلها (بالصحراء) أفضل لأنها أرفق بالراكب وغيره، (إلا لعذر) كمطر ونحوه فالمسجد أفضل. ومحل الخلاف
غير المسجد الحرام، أما هو فهو أفضل قطعا اقتداء بالصحابة فمن بعدهم، والمعنى فيه فضيلة البقعة ومشاهدة الكعبة.
قال الرافعي: وألحق الصيدلاني بالمسجد الحرام بيت المقدس، قال الأذرعي: وهو الصواب للفضل والسعة المفرطة اه‍.
وهذا هو الظاهر وإن مال في المجموع إلى خلافه. وألحق ابن الأستاذ مسجد المدينة بمسجد مكة، وهو الظاهر أيضا لأنه
312

اتسع الآن، ومن لم يلحقه به فذاك قبل اتساعه. (ويستخلف) الامام ندبا إذا خرج إلى الصحراء (من يصلي) في المسجد
(بالضعفة) كالشيوخ والمرضى ومن معهم من الأقوياء ويخطب لهم، لأن عليا رضي الله تعالى عنه استخلف أبا مسعود
الأنصاري في ذلك، رواه الشافعي بإسناد صحيح. فإن لم يأمره الامام بالخطبة لم يخطب كما نص عليه في الام لكونه
افتياتا على الامام، فإن خطب كره له كما في البويطي. قال الماوردي: وليس لمن ولي الصلوات الخمس حق في إمامة
العيد والخسوف والاستسقاء إلا أن يقلد جميع الصلوات فيدخل فيه. قال: وإذا قلد صلاة العيد في عام جاز له أن يصليها
في كل عام، بخلاف ما إذا قلد صلاة الخسوف والاستسقاء في عام لم يكن له أن يصليها في كل عام، والفرق أن لصلاة
العيد وقتا معينا تتكرر فيه بخلافهما. قال شيخنا: وظاهر أن إمامة التراويح والوتر مستحقة لمن ولي الصلوات الخمس
لأنها تابعة لصلاة العشاء.
تنبيه: قوله: بالضعفة تيمن بلفظ الخبر، وإلا فقد يصلي بالمسجد بعض الأقوياء، ولذا ذكرته. (ويذهب) ندبا
مصلي العيد لصلاتها إماما كان أو غيره، (في طريق ويرجع) منها (في) طريق (أخرى) للاتباع، رواه البخاري. ويخص الذهاب
بأطولهما، وذكر في حكمه ذلك وجوه أوجهها أنه كان يذهب في أطولهما تكثيرا للاجر، ويرجع في أقصرهما، وقيل:
خالف بينهما لتشهد له الطريقان، وقيل: ليتبرك به أهلهما، وقيل: ليستفتى فيهما، وقيل: ليتصدق على فقرائهما، وقيل
غير ذلك. ويسن ذلك في سائر العبادات: كالحج وعيادة المريض كما ذكره المصنف في رياضه. (ويبكر الناس) للحضور
للعيد ندبا بعد صلاتهم الصبح كما نص عليه الشافعي والأصحاب ليحصل لهم القرب من الامام وفضيلة انتظار الصلاة.
قال ابن شهبة: هذا إن خرجوا إلى الصحراء، فإن صلوا في المسجد مكثوا فيه إذا صلوا الفجر فيما يظهر. (ويحضر الامام)
متأخرا عنهم (وقت صلاته) للاتباع رواه الشيخان، ولان انتظارهم إياه أليق. (ويعجل) الحضور في (الأضحى) بحيث
يصليها في أول الوقت الفاضل، ويؤخره في عيد الفطر قليلا لامره (ص) بذلك عمرو بن حزم، رواه البيهقي،
وليتسع الوقت قبل صلاة الفطر لتفريق الفطرة، وبعد صلاة الأضحى للتضحية. (قلت) كما قاله الرافعي في الشرح
(ويأكل في عيد الفطر قبل الصلاة) والأفضل كون المأكول تمرا وترا، فإن لم يأكل ما ذكر في بيته ففي الطريق أو المصلي
إن تيسر. (ويمسك) عن الاكل (في) عيد (الأضحى) حتى يصلي للاتباع، وليتميز عيد الفطر عما قبله الذي كان الاكل
فيه حراما، وليعلم نسخ تحريم الفطر قبل صلاته فإنه كان محرما قبلها أول الاسلام بخلافه قبل صلاة عيد الأضحى،
والشرب كالأكل، ويكره له ترك ذلك كما نقله في المجموع عن نص الام. (ويذهب) للعيد (ماشيا) كالجمعة (بسكينة)
لما مر فيها، ولا بأس بركوب العاجز للعذر والراجع منها ولو قادرا ما لم يتأذ به أحد لانقضاء العبادة، فهو مخير بين
المشي والركوب. قال ابن الأستاذ: ولو كان البلد ثغرا لأهل الجهاد بقرب عدوهم فركوبهم لصلاة العيد ذهابا
وإيابا وإظهار السلاح أولى. (ولا يكره النفل قبلها) بعد ارتفاع الشمس (لغير الامام، والله أعلم) لانتفاء الأسباب المقتضية
للكراهة، فخرج بقبلها بعدها. وفيه تفصيل، فإن كان يسمع الخطبة كره له كما مر وإلا فلا، ويبعد ارتفاع الشمس قبله
فإنه وقت كراهة وقد تقدم حكمه في بابه، وبغير الامام فيكره له النفل قبلها وبعدها لاشتغاله بغير الأهم ولمخالفته فعل
النبي (ص). ويسن إحياء ليلتي العيد بالعبادة من صلاة وغيرها من العبادات لخبر: من أحيا ليلتي العيد لم
يمت قلبه يوم تموت القلوب رواه الدارقطني موقوفا، قال في المجموع: وأسانيده ضعيفة، ومع ذلك استحبوا الاحياء
لأن الحديث الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال كما مرت الإشارة إليه، ويؤخذ من ذلك كما قال الأذرعي عدم تأكد
الاستحباب. قيل: والمراد بموت القلوب شغفها بحب الدنيا، وقيل: الكفر، وقيل: الفزع يوم القيامة. ويحصل الاحياء بمعظم
313

الليل كالمبيت بمنى، وقيل: بساعة منه، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: بصلاة العشاء جماعة والعزم على صلاة الصبح
جماعة. والدعاء فيهما وفي ليلة الجمعة وليلتي أول رجب ونصف شعبان مستجاب فيستحب كما صرح به في أصل الروضة.
فصل: في التكبير المرسل والمفيد. وبدأ بالأول ويسمى بالمطلق أيضا، وهو ما لا يكون عقب صلاة فقال: (يندب
التكبير) لحاضر ومسافر وذكر وغيره، ويدخل وقته (بغروب الشمس ليلتي العيد) أي الفطر والأضحى، دليل الأول
قوله تعالى: * (ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم) * قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: سمعت من أرضاه من العلماء
بالقرآن يقول: المراد بالعدة عدة الصوم، وبالتكبير عند الاكمال، ودليل الثاني القياس على الأول ولذلك كان تكبير
الأول آكد للنص عليه. ويكبرون (في المنازل والطرق والمساجد والأسواق) جمع سوق يذكر ويؤنث، سميت بذلك لقيام
الناس فيها على سوقهم وغيرها كالزحمة ليلا ونهارا. (برفع الصوت) للرجل إظهار الشعائر العيد، وأما المرأة فلا ترفع كما
قاله الرافعي، ومحله إذا حضرت مع غير محارمها ونحوهم، ومثلها الخنثى كما بحثه بعض المتأخرين، قال أيضا: ولا يرفع صوته
بالتكبير حال إقامة الصلاة. (والأظهر إدامته) ندبا للمصلي وغيره، (حتى يحرم الامام بصلاة العيد) أي يفرغ من إحرامه بها،
إذ الكلام يباح إليه فالتكبير أولى ما يشتغل به لأنه ذكر الله تعالى وشعار اليوم، والثاني: حتى يخرج الامام لها، والثالث:
حتى يفرغ منها، قيل: ومن الخطبتين، وهذا فيمن لم يصل مع الامام، وعلى الأول لو صلى منفردا فالعبرة بإحرامه. (ولا
يكبر الحاج ليلة) عيد (الأضحى بل يلبي) لأن التلبية شعاره، والمعتمر يلبي إلى أن يشرع في الطواف وسيأتي إن شاء الله
تعالى بيان ذلك في محله. ثم أشار إلى نوع التكبير المفيد وهو المفعول عقب الصلاة بقوله: (ولا يسن ليلة الفطر عقب الصلوات
في الأصح) لعدم وروده، وهذا ما صححه الرافعي وكذا المصنف في أكثر كتبه وهو المعتمد، والثاني: يسن، واختاره في
الأذكار ونقله البيهقي في كتاب فضائل الأوقات عن نص الشافعي، وعليه عمل غالب الناس، وعلى هذا فيكبر ليلة الفطر
عقب المغرب والعشاء والصبح. (ويكبر) عقب الصلوات (الحاج من ظهر) يوم (النحر) لأنها أول صلاته بمنى ووقت انتهاء
التلبية، (ويختم) التكبير (بصبح آخر) أيام (التشريق) لأنها آخر صلاة يصليها بمنى كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في محله.
(وغيره) أي الحاج (كهو) أي كالحاج في ذلك (في الأظهر) تبعا، لأن الناس تبع للحجيج وهم يكبرون من الظهر كما مر،
ولاطلاق حديث مسلم: أيام منى أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى وروي ذلك عن عثمان وجماعة من الصحابة رضي
الله عنهم، وقال في المجموع: وهو المشهور في مذهبنا. (وفي قول) يكبر غيره (من مغرب ليلة) يوم (النحر) ويختم أيضا بصبح
آخر أيام التشريق.
تنبيه: جر الكاف للضمير قليل، والمصنف تبعا للفقهاء يكثر منه. (وفي قول من صبح) يوم (عرفة، ويختم بعصر
آخر) أيام (التشريق، والعمل على هذا) في الأمصار، وصح من فعل عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس رضي الله
تعالى عنهم من غير إنكار، واختاره المصنف في تصحيحه ومجموعه، وقال في الأذكار: إنه الأصح، وفي الروضة: إنه
الأظهر عند المحققين. (والأظهر أنه) أي الشخص ذكرا كان أو غيره، حاضرا أو مسافرا، منفردا أو غيره. (يكبر في هذه
الأيام) للجنازة، و (للفائتة والراتبة) والمنذورة (والنافلة) المطلقة أو المقيدة وذات السبب كتحية المسجد لأنه شعار
الوقت. والثاني: يكبر عقب الفرائض خاصة، سواء أكانت مؤداة أم مقضية من هذه الأيام أو من غيرها، لأن الفرائض
محصورة فلا يشق طلب ذلك فيها، كالاذان في أول الفرائض والأذكار في آخرها. والثالث: لا يكبر إلا عقب فرائض هذه
314

الأيام أداء كانت أو قضاء. وظاهر كلامهم أنه لا يكبر على الأول عقب سجدتي التلاوة والشكر لأنهما ليسا بصلاة وإن قال
صاحب الرونق إنه يكبر عقبها. واحترز بقوله: في هذه الأيام عما لو فاتته صلاة منها وقضاها في غيرها فإنه لا يكبر كما قاله
في المجموع وادعى أنه لا خلاف فيه لأن التكبير شعار الوقت كما مر. ولو نسي التكبير تداركه إن قرب الفصل، وكذا إن
طال على الأصح. وهذا كله في التكبير الذي يرفع به صوته ويجعله شعار اليوم، أما لو استغرق عمره بالتكبير في نفسه فلا
منع منه كما نقله في أصل الروضة عن الامام وأقره، ولو اختلف رأي الامام في وقت ابتداء التكبير اتبع اعتقاد
نفسه. (وصيغته المحبوبة) أي المسنونة كما في المحرر: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر) ثلاثا في الجديد، كذا ورد عن جابر وابن
عباس رضي الله تعالى عنهم. وفي القديم: يكبر مرتين، ثم يقول: (لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر) مرتين (ولله الحمد)
هكذا نقله الرافعي عن صاحب الشامل. قال في زيادة الروضة: ونقله صاحب البحر عن نص الشافعي رحمه الله تعالى
في البويطي. (ويستحب أن يزيد) بعد التكبيرة الثالثة الله أكبر (كبيرا) كما في الشرحين والروضة: أي بزيادة الله أكبر
قبل كبيرا، (والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا) كما قاله النبي (ص) على الصفا، ومعنى بكرة
وأصيلا: أول النهار وآخره، وقيل: الأصيل ما بين العصر والمغرب. ويسن أن يقول أيضا بعد هذا: لا إله إلا الله
ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب
وحده، لا إله إلا الله والله أكبر. قال المصنف في شرح مسلم: قوله: الله أكبر كبيرا، قيل هو على إضمار فعل، أي
كبرت كبيرا، وقيل على القطع، وقيل على التمييز. قال صاحب التنبيه وغيره: وإذا رأى شيئا من بهيمة الأنعام
في عشر ذي الحجة كبر. (ولو) شهدا أو (شهدوا يوم الثلاثين) من رمضان (قبل الزوال برؤية الهلال) أي هلال شوال
(الليلة الماضية أفطرنا) وجوبا (وصلينا العيد) ندبا أداء إذا بقي من الوقت ما يمكن جمع الناس فيه وإقامة الصلاة كما
قاله في الروضة، أو ركعة كما صوبه الأسنوي، بل ينبغي كما قال شيخنا إنه إذا بقي من وقتها ما يسعها أو ركعة منها دون
الاجتماع أن يصليها وحده أو بمن تيسر حضوره لتقع أداء لأنه وقتها، ومراعاة الوقت أولى من اجتماع الناس، ثم يصليها
مع الناس، وهو القياس، وإن كان قضية كلام الروضة أنه يكون كما لو شهدوا بعد الزوال. (وإن) شهدا، أو (شهدوا
بعد الغروب) أي غروب شمس يوم الثلاثين برؤية هلال شوال الليلة الماضية، (لم تقبل الشهادة) في صلاة العيد خاصة،
لأن شوالا قد دخل يقينا وصوم ثلاثين قد تم، فلا فائدة في شهادتهم إلا المنع من صلاة العيد، فلا نقبلها ونصليها من
الغد أداء. قالوا: وليس يوم الفطر أول شوال مطلقا بل يوم فطر الناس، وكذا يوم النحر يوم يضحي الناس. ويوم
عرفة اليوم الذي يظهر لهم أنه يوم عرفة، سواء التاسع والعاشر، وذلك لخبر: الفطر يوم يفطر الناس، والأضحى يوم
يضحي الناس رواه الترمذي وصححه. وفي رواية للشافعي: وعرفة يوم يعرفون. أما الحقوق والأحكام المعلقة
بالهلال كالتطليق والعدة والإجارة والعتق فتثبت قطعا.
تنبيه: لو قال المصنف: ولو شهدا بالتثنية كما قدرته وحذف أل من الهلال وأضافه لليلة كان أخصر وأعم ليدخل
فيه الشهادة برؤيته نهارا. (أو) شهدوا (بين الزوال والغروب) أو قبل الزوال بزمن لا يسع صلاة العيد أو ركعة منها
كما مر قبلت الشهادة، و (أفطرنا وفاتت الصلاة) أداء، (ويشرع قضاؤها متى شاء) في باقي اليوم وفي الغد وما بعده
ومتى اتفق (في الأظهر) كسائر الرواتب. والأفضل قضاؤها في بقية يومهم إن أمكن اجتماعهم فيه وإلا فقضاؤها في
الغد أفضل لئلا يفوت على الناس الحضور. والكلام في صلاة الامام بالناس لا في صلاة الآحاد كما يؤخذ مما مر، فاندفع
315

الاعتراض بأنه ينبغي فعلها عاجلا مع من تيسر، ومنفردا إن لم يجد أحدا، ثم يفعلها غدا مع الامام. والثاني: لا يجوز قضاؤها
بعد شهر العيد، ومسألة الكتاب سبقت في قوله: ولو فات النفل المؤقت ندب قضاؤه فهي في الحقيقة مكررة، لكنه
ذكرها توطئة لقوله: (وقيل في قول) من قولين هما أحد طريقين لا تفوت بالشهادة المذكورة، بل (تصلى من الغد
أداء) لأن الغلط في الهلال كثير، فلا يفوت به هذا الشاعر العظيم. وهذا الخلاف راجع إلى قوله: وفاتت
الصلاة كما
مر، ولو ذكره عقبه لكان أوضح. والقول الآخر تفوت كطريق القطع به الراجحة، والأثر للتعديل لا للشهادة،
فلو شهد اثنان قبل الغروب وعدلا بعده، فالعبرة بوقت التعديل لأنه وقت جواز الحكم بشهادتهما، فتصلى العيد من الغد
أداء، وقيل بوقت الشهادة، وهو ظاهر إطلاق المصنف. قال في الكفاية: وبه قال العراقيون وأيدوه بما لو شهدا بحق
وعدلا بعد موتهما فإنه يحكم بشهادتهما اه‍. وأجيب بأنه لا منافاة، إذ الحكم فيهما إنما هو بشهادتهما بشرط تعديلهما،
والكلام إنما هو في أثر الحكم في الصلاة خاصة.
خاتمة: قال القمولي: لم أر لاحد من أصحابنا كلاما في التهنئة بالعيد والأعوام والأشهر كما يفعله الناس، لكن
نقل الحافظ المنذري عن الحافظ المقدسي أنه أجاب عن ذلك بأن الناس لم يزالوا مختلفين فيه، والذي أراه أنه مباح لا سنة
فيه ولا بدعة. وأجاب الشهاب ابن حجر بعد اطلاعه على ذلك بأنها مشروعة، واحتج له بأن البيهقي عقد لذلك بابا،
فقال: باب ما روي في قول الناس بعضهم لبعض في العيد تقبل الله منا ومنك، وساق ما ذكر من أخبار وآثار ضعيفة
لكن مجموعها يحتج به في مثل ذلك. ثم قال: ويحتج لعموم التهنئة لما يحدث من نعمة أو يندفع من نقمة بمشروعية سجود
الشكر والتعزية، وبما في الصحيحين عن كعب بن مالك في قصة توبته لما تخلف عن غزوة تبوك: أنه لما بشر بقبول
توبته ومضى إلى النبي (ص) قام إليه طلحة بن عبيد الله فهنأه. ولو حضر سكان البوادي للعيد يوم جمعة فلهم الرجوع
قبل صلاتها وتسقط عنهم، وإن قربوا منها وسمعوا النداء وأمكنهم إدراكها لو عادوا إليها، لأنهم لو كفلوا بعدم الرجوع أو
بالعود إلى الجمعة لشق عليهم والجمعة تسقط بالمشاق، وقضية هذا التعليل أنهم لو لم يحضروا كأن صلوا العيد بمكانهم
لزمتهم الجمعة، وهو كذلك وإن ذكر صاحب الوافي فيه احتمالين.
باب صلاة الكسوفين:
للشمس والقمر، ويقال فيها خسوفان، والأفصح كما في الصحاح تخصيص الكسوف بالشمس والخسوف بالقمر،
وحكي عكسه، وقيل: الكسوف بالكاف أوله فيهما، والخسوف آخره، وقيل غير ذلك. واقتصار المصنف على الكسوف
مع أن الباب معقود لهما يدل على أنه يطلق على المعنيين. والكسوف مأخوذ من كسفت حاله: أي تغيرت،
كقولهم:
فلان كاسف الحال، أي متغيره. والخسوف مأخوذ من خسف الشئ خسوفا: أي ذهب في الأرض. قال علماء
الهيئة: إن كسوف الشمس لا حقيقة له لعدم تغيرها في نفسها لاستفادة ضوئها من جرمها، وإنما القمر يحول بظلمته بيننا
وبينها مع بقاء نورها، فيرى لون القمر كمدا في وجه الشمس فيظن ذهاب ضوئها. وأما خسوف القمر فحقيقة
بذهاب ضوئه، لأن ضوءه من ضوء الشمس، وكسوفه بحيلولة ظل الأرض بين الشمس وبينه فلا يبقى فيه ضوء البتة.
والأصل في الباب قبل الاجماع قوله تعالى: * (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن) * أي عند كسوفهما،
وأخبار كخبر مسلم: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلوا
وادعوا حتى ينكشف ما بكم. (هي سنة) مؤكدة لذلك في حق كل مخاطب بالمكتوبات الخمس ولو عبدا أو امرأة،
ولأنه (ص) فعلها لكسوف الشمس كما رواه الشيخان، ولخسوف القمر كما رواه ابن حبان في كتابه
316

من الثقات، ولأنها ذات ركوع وسجود ولا أذان لها كصلاة الاستسقاء. وإنما لم تجب لخبر الصحيحين: هل علي
غيرها؟ أي الخمس، قال: لا، إلا أن تطوع. وحملوا قول الشافعي في الام لا يجوز تركها على كراهته لتأكدها ليوافق
كلامه في مواضع أخر، والمكروه قد يوصف بعدم الجواز من جهة إطلاق الجائز على مستوى الطرفين. وأقل كيفيتها
ما ذكر بقوله: (فيحرم بنية صلاة الكسوف) وهذه النية قد سبقت في قول المتن في صفة الصلاة إن النفل ذا السبب
لا بد من تعيينه فهي مكررة، ولهذا أهمل النية في العيد والاستسقاء إلا أنها ذكرت هنا لبيان أقل صلاة الكسوف.
(ويقرأ) بعد الافتتاح والتعوذ (الفاتحة ويركع ثم يرفع) رأسه من الركوع ثم يعتدل، (ثم يقرأ الفاتحة) ثانيا (ثم
يركع) ثانيا، أقصر من الذي قبله، (ثم يعتدل) ثانيا ويقول في الاعتدال عن الركوع الأول والثاني: سمع الله لمن حمده
ربنا لك الحمد كما في الروضة كأصلها، زاد في المجموع: حمدا طيبا إلخ. وقال الماوردي: لا يقول ذلك في الرفع الأول، بل
يرفع مكبرا لأنه ليس اعتدالا، ولعل تعبير المصنف أولا بالرفع وثانيا بالاعتدال فيه ميل إلى هذا لأن الرفع من الركوع
الأول لا يسمى اعتدالا، والراجح الأول. (ثم يسجد) السجدتين ويأتي بالطمأنينة في محالها. (فهذه ركعة، ثم يصلي)
ركعة (ثانية كذلك) للاتباع رواه الشيخان من غير تصريح بقراءة الفاتحة. وقولهم إن هذا أقلها أي إذا شرع
فيها بنية هذه الزيادة، وإلا ففي المجموع عن مقتضى كلام الأصحاب أنه لو صلاها كسنة الظهر صحت وكان تاركا للأفضل
أو يحمل على أنه أقل الكمال. (ولا يجوز زيادة ركوع ثالث) فأكثر (لتمادي) أي طول مكث (الكسوف، ولا)
يجوز (نقصه) أي نقص ركوع، أي إسقاطه من الركوعين المنويين، (للانجلاء في الأصح) كسائر الصلوات لا يزاد
على أركانها ولا ينقص منها. والثاني: يزاد وينقص. أما الزيادة فلانه عليه الصلاة والسلام صلى ركعتين في كل ركعة
ثلاث ركوعات رواه مسلم، وفيه أربع ركوعات أيضا، وفي رواية: خمس ركوعات، أخرجها أحمد وأبو داود والحاكم،
ولا محمل للجمع بين الروايات إلا الحمل على الزيادة لتمادي الكسوف. وأجاب الجمهور بأن أحاديث الركوعين في
الصحيحين، فهي أشهر وأصح فقدمت على باقية الروايات، وهذا هو الذي اختاره الشافعي ثم البخاري. قال السبكي:
وإنما يصح هذا إذ كانت الواقعة واحدة وقد حصل اختلاف الروايات فيها، أما إذا كانت وقائع فلا تعارض فيها اه‍.
وفي ذلك خلاف، فقيل بعدم تعددها. والأحاديث كلها ترجع إلى صلاته (ص) في كسوف الشمس يوم مات
سيدنا إبراهيم ابنه، وإذا لم تتعدد الواقعة فلا تحمل الأحاديث على بيان الجواز. وقيل: إنها تعددت وصلاها مرات، فالجميع
جائز، فقد ثبت أنه (ص) صلى لخسوف القمر. قال شيخنا: وعلى هذا الأولى أن يجاب بحملها على ما إذا أنشأ الصلاة
بنية تلك الزيادة كما أشار إليه السبكي وغيره اه‍. والمعتمد ما عليه الجمهور من أن الزيادة لا تجوز مطلقا، وأما النقص
للانجلاء على الوجه الثاني فقاسه على الانجلاء. فإن قيل: قد تقدم عن المجموع جواز فعلها كسنة الظهر. أجيب بأن
ذلك بالنسبة لمن قصد فعلها ابتداء كذلك. فإن قيل: تجويز الزيادة لأجل تمادي الكسوف إنما يأتي في الركعة الثانية،
وأما الأولى فكيف يعلم فيها التمادي بعد فراغ الركوعين؟ أجيب بأنه قد يتصور بأن يكون من أهل العلم بهذا الفن
واقتضى حسابه ذلك، ويجري الوجهان في إعادة الصلاة للاستدامة، والأصح المنع، وقيل: يجوز على القول بتعدد الواقعة
جمعا بين الأدلة. نعم في المجموع عن نص الام أنه لو صلى الكسوف وحده ثم أدركها مع الامام صلاها معه كالمكتوبة،
ومحله كما قال الأذرعي فيما إذا أدركه قبل الانجلاء وإلا فهو افتتاح صلاة كسوف بعد الانجلاء. وهل يعيد المصلي جماعة
مع جماعة يدركها؟ قضية التشبيه في الام أنه يعيدها، وهو الظاهر. (والأكمل) فيها زائدا على الأقل، (أن يقرأ في
القيام الأول) كما في نص الام والمختصر والبويطي، (بعد الفاتحة) وسوابقها من افتتاح، وتعوذ، (البقرة) بكمالها
317

إن أحسنها وإلا فقدرها. (و) أن يقرأ (في) القيام (الثاني كمائتي آية منها، وفي) القيام (الثالث) مثل (مائة وخمسين)
منها (و) في القيام (الرابع) مثل (مائة) منها (تقريبا) في الجميع. والمراد الآيات المعتدلة في هذا وفيما سيأتي كما
قاله بعض المتأخرين، ونص في البويطي في موضع آخر أنه يقرأ في القيام الثاني آل عمران أو قدرها، وفي الثالث النساء
أو قدرها، وفي الرابع المائدة أو قدرها، والمحققون على أنه ليس باختلاف بل هو للتقريب، وهما متقاربان، والأكثر
على الأول. قال السبكي: وقد ثبت بالاخبار تقدير القيام الأول بنحو البقرة وتطويله على الثاني والثالث ثم الثالث على
الرابع، وأما نقص الثالث عن الثاني أو زيادته عليه فلم يرد فيه شئ فيما أعلم، فلأجله لا بعد في ذكر سورة النساء فيه
وآل عمران في الثاني. ويسن التعوذ في القومة الثانية.
فائدة: قال ابن العربي: في البقرة ألف أمر وألف نهي وألف حكم وألف خبر. (ويسبح في الركوع الأول)
من الركوعات الأربعة في الركعتين، (قدر مائة من البقرة، وفي) الركوع (الثاني) قدر (ثمانين) منها، (و) في
الركوع (الثالث) قدر (سبعين) منها بتقديم السين على الموحدة، خلافا لما في التنبيه من تقديم المثناة الفوقية على
السين. (و) في الركوع (الرابع) قدر (خمسين) منها (تقريبا) في الجميع لثبوت التطويل من الشارع بلا تقدير.
(ولا يطول السجدات في الأصح) كالجلوس بينها والاعتدال من الركوع الثاني والتشهد، وجعل في الروضة والمجموع
الخلاف قولين. (قلت: الصحيح تطويلها) كما قاله ابن الصلاح و (ثبت في الصحيحين) في صلاته (ص)
لكسوف الشمس من حديث أبي موسى. (ونص في) كتاب (البويطي) وهو يوسف أبو يعقوب بن يحيى القرشي البويطي
من بويط، قرية من صعيد مصر الأدنى، كان خليفة الشافعي رحمه الله تعالى في حلقته بعده، مات سنة اثنتين
وثلاثين ومائتين. (أنه يطولها نحو الركوع الذي قبلها، والله أعلم) قال البغوي: فالسجود الأول كالركوع
الأول،
والسجود الثاني كالركوع الثاني، واختاره في الروضة. وظاهر كلامهم استحباب هذه الإطالة وإن لم يرض بها المأمومون.
ويفرق بينها وبين المكتوبة بالندرة، وللأذرعي في ذلك ترديدات، وهذا هو الظاهر منها. (وتسن جماعة) بالنصب
على التمييز المحول عن نائب الفاعل، أي تسن الجماعة فيها للاتباع كما في الصحيحين. ولا يصح النصب على الحال
لأنه يقتضي تقييد الاستحباب بحالة الجماعة وليس مرادا، ويصح الرفع لكن يحتاج إلى تقدير: أي تسن جماعة فبها،
وينادي لها: الصلاة جامعة كما فعلها (ص) في كسوف الشمس جماعة وبعث مناديا: الصلاة جامعة رواهما
الشيخان. وتسن للمنفرد والعبد والمرأة والمسافر كما ذكره في المجموع. ويسن للنساء غير ذوات الهيئات الصلاة مع
الامام، وذوات الهيئات يصلين في بيوتهن منفردات، فإن اجتمعن فلا بأس. وتسن صلاتها في الجامع كنظيره في العيد
رواه البخاري. (ويجهر) الامام والمنفرد ندبا (بقراءة) صلاة (كسوف القمر) لأنها صلاة ليل أو ملحقة بها، وهو
إجماع. (لا الشمس) بل يسر فيها لأنها نهارية، وما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها أنه (ص)
جهر في صلاة الخسوف بقراءته، والترمذي عن سمرة قال: صلى بنا رسول الله (ص) في كسوف لا نسمع
له صوتا وقال: حسن صحيح. قال في المجموع: يجمع بينهما بأن الاسرار في كسوف الشمس والجهر في كسوف القمر.
(ثم يخطب الامام) ندبا بعد صلاتها للاتباع وكما في العيد، (خطبتين بأركانهما في الجمعة) قياسا عليها. وأما الشروط
318

والسنن فيأتي فيها هنا ما مر في خطبة العيد، وإنما تسن الخطبة للجماعة ولو مسافرين بخلاف المنفرد. وعلم من كلامه
أنه لا يكبر في الخطبة. وهو كذلك لعدم وروده، وأنه لا تجزئ خطبة واحدة وهو كذلك للاتباع. وما فهمه ابن الرفعة من
كلام حكاه البندنيجي عن البويطي وتبعه عليه جماعة مردود كما نبه عليه جماعة بأن عبارة البويطي لا تفهم ذلك. (ويحث)
فيهما السامعين (على التوبة من) الذنوب (و) على فعل (الخير) كصدقة ودعاء واستغفار وعتق للامر بذلك في البخاري
وغيره، ويحذرهم الاغترار والغفلة، ويذكر في كل وقت من الحث والزجر ما يناسبه. ويستثنى من استحباب الخطبة
كما قاله الأذرعي أنه إذا صلى الكسوف ببلد وكان به وال لا يخطب الامام إلا إذا كان بأمر الوالي وإلا فيكره،
وذكر
مثله في صلاة الاستسقاء. وتقدم في الجمعة أنه يسن الغسل لصلاة الكسوف، وأما التنظف بحلق الشعر وقلم الظفر فلا
يسن لها كما صرح به بعض فقهاء اليمن فإنه يضيق الوقت. ويظهر أنه يخرج في ثياب بذلة قياسا على الاستسقاء لأنه
اللائق بالحال، ولم أر من تعرض له. (ومن أدرك) الامام (في ركوع أول) من الركعة الأولى أو الثانية (أدرك الركعة)
كما في سائر الصلوات، (أو) أدركه (في) ركوع (ثان أو) في (قيام ثان) من أي ركعة (فلا) يدرك الركعة،
أي شيئا منها كما عبر به في المحرر، (في الأظهر) لأن الأصل هو الركوع الأول، وقيامه وركوع الثاني وقيامه في حكم
التابع، وعبر في الروضة بالمذهب، ولقول الثاني يدرك ما لحق به الامام، ويدرك بالركوع القومة التي قبله، فإذا كان
ذلك في الركعة الأولى وسلم الامام قام هو وقرأ وركع واعتدل وجلس وتشهد وسلم أو في الثانية وسلم الامام قام وقرأ وركع ثم
أتى بالركعة الثانية بركوعها. ولا يفهم هذا المقابل من إطلاق المتن، بل يفهم منه أنه يدرك الركعة بكمالها، وليس
مرادا إذ لا خلاف أنه يدرك الركعة بجملتها، ويندفع هذا بما قدرته تبعا للمحرر. وضعف هذا القول الثاني بأن الاتيان فيه
بقيام وركوع من غير سجود مخالف لنظم الصلاة. (وتفوت صلاة) كسوف (الشمس بالانجلاء) لجميع المنكسف من
كلها أو بعضها يقينا، لخبر: إذا رأيتم ذلك - أي الكسوف - فادعوا الله وصلوا حتى ينكشف ما بكم فدل على عدم
الصلاة بعد ذلك، ولان المقصود بالصلاة قد حصل بخلاف الخطبة فإنها لا تفوت إذ القصد بها الوعظ وهو لا يفوت بذلك،
فلو انجلى بعض ما كسف كان له الشروع في الصلاة للباقي كما لو لم يكسف منها إلا ذلك القدر. ولو انجلى الجميع وهو
في أثناء الصلاة أتمها سواء أدرك ركعة أم دونها إلا أنها لا توصف بأداء ولا قضاء. ولو حال سحاب وشك في الانجلاء
أو الكسوف لم يؤثر، قال ابن عبد السلام: ولو شرع فيها ظانا بقاءه ثم تبين أنه كان انجلى قبل تحرمه بها بطلت. ولا تنعقد
نفلا على قول، إذ ليس لنا نفل على هيئة صلاة الكسوف فتندرج في نيته، ولو قال المنجمون انجلت أو انكسفت لم نعتبرهم
فنصلي في الأول لأن الأصل بقاء الكسوف دون الثاني، لأن الأصل عدمه، وقول المنجمين تخمين لا يفيد اليقين.
(و) تفوت أيضا (بغروبها كاسفة) لأن الانتفاع بها يبطل بغروبها نيرة أو مكسوفة لزوال سلطانها، (و) تفوت أيضا
صلاة كسوف (القمر بالانجلاء) لحصول المقصود (وطلوع الشمس) وهو منخسف لعدم الانتفاع حينئذ بضوئه،
(لا) بطلوع (الفجر) فلا تفوت صلاة خسوفه (في الجديد) لبقاء ظلمة الليل والانتفاع به، وعلى هذا لا يضر طلوع
الشمس في صلاته كالانجلاء. والقديم: تفوت لذهاب الليل وهو سلطانه. (ولا) تفوت صلاته أيضا (بغروبه) أي القمر
(خاسفا) لبقاء محل سلطنته وهو الليل، فغروبه كغيبوبته تحت السحاب خاسفا. فإن قيل: قال ابن الأستاذ: قد اتفق
عليه الأئمة وهو مشكل لأنه قد تم سلطانه في هذه الليلة. أجيب بأنا لا ننظر إلى ليلة بخصوصها، بل ننظر إلى سلطانه وهو
الليل وما ألحق به كما أنا ننظر إلى سلطان الشمس وهو النهار، ولا ننظر فيه إلى غيم ولا إلى غيره. (ولو اجتمع) عليه
صلاتان فأكثر ولا يؤمن الفوات قدم الأخوف فواتا ثم الآكد، فعلى هذا لو اجتمع عليه (كسوف وجمعة أو فرض آخر)
319

غيرها ولو نذرا، (قدم الفرض) جمعة أو غيرها، لأن فعله متحتم فكان أهم. هذا (إن خيف فوته) لضيق وقته،
ففي الجمعة يخطب لها ثم يصليها، ثم الكسوف إن بقي أو بعضه ثم يخطب له، وفي غير الجمعة يصلي الفرض ثم يفعل
بالكسوف ما مر. (وإلا) بأن لم يخف فوت الفرض (فالأظهر) كذا في الروضة وأصلها، وفي المجموع: الصحيح، وبه
قال الأكثرون وقطعوا به. (تقديم) صلاة (الكسوف) لتعرضها للفوات بالانجلاء، ويخففها كما في المجموع، فيقرأ في كل
قيام بالفاتحة ونحو سورة الاخلاص كما نص عليه في الام. (ثم يخطب للجمعة) في صورتها (متعرضا للكسوف)
ولا يصح أن يقصده معها بالخطبة لأنه تشريك بين فرض ونفل مقصود وهو ممتنع. فإن قيل: ما يحصل ضمنا لا يضر ذكره
كما لو ضم تحية المسجد إلى الفرض. أجيب بأن خطبة الجمعة لا تتضمن خطبة الكسوف، لأنه إن لم يتعرض للكسوف
لم تكف الخطبة عنه. (ثم يصلي الجمعة) ولا يحتاج إلى أربع خطب لأن خطبة الكسوف متأخرة عن صلاته
والجمعة
بالعكس، والعيد مع الكسوف كالفرض معه لأن العيد أفضل منه كما نقله في المجموع عن الشافعي والأصحاب. لكن
يجوز أن يقصدهما معا بالخطبتين لأنهما سنتان والقصد منهما واحد. فإن قيل: السنتان إن لم تتداخلا لا يصح أن ينويهما،
ولهذا لو نوى بركعتين الضحى وقضاء سنة الصبح لم تنعقد صلاته. أجيب بأن الخطبتين تابعتان للمقصود فلا تضر نيتهما
بخلاف الصلاة. (ولو اجتمع عيد) وجنازة (أو كسوف وجنازة قدمت الجنازة) فيهما خوفا من تغيير الميت، ولا يشيعها
الامام بل يشتغل ببقية الصلوات. هذا إن حضرت وحضر الولي، فإن لم تحضر أو حضرت ولم يحضر الولي أفرد الامام لها
من ينتظرها واشتغل هو بغيرها بالباقين. وقد تفهم عبارته أنه إذا اجتمع مع الجنازة فرد أنه مقدم، وليس مرادا بل
تقدم الجنازة أيضا ولو جمعة، لكن بشرط اتساع وقت الفرض فإن ضاق وقته قدم. قال السبكي: وقد أطلق الأصحاب
تقديم الجنازة على الجمعة في أول الوقت ولم يبينوا هل ذلك على سبيل الوجوب أو الندب، وتعليلهم يقتضي الوجوب،
أي إذا خيف لغيره. قال: وقد جرت عادة الناس في هذا الزمان بتأخير الجنائز إلى بعد الجمعة، فينبغي التحذير عن
ذلك. وقد حكى ابن الرفعة أن الشيخ عز الدين بن عبد السلام لما ولي الخطابة بجامع مصر كان يصلي على الجنازة قبل الجمعة
ويفتي الحمالين وأهل الميت بسقوط الجمعة عنهم ليذهبوا بها، ولو اجتمع عليه خسوف ووتر أو تراويح قدم الخسوف
وإن خيف فوت الوتر أو التراويح لأنه آكد. واعترضت طائفة على قول الشافعي رضي الله عنه: اجتمع عيد
وكسوف، بأن العيد إما الأول من الشهر أو العاشر والكسوف لا يقع إلا في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين.
وأجاب الأصحاب عن ذلك بأجوبة: الأول أن هذا قول المنجمين ولا عبرة به، والله على كل شئ قدير. وقد صح
أن الشمس كسفت يوم مات سيدنا إبراهيم ابن النبي (ص)، وفي أنساب الزبير بن بكار أنه مات عاشر ربيع الأول،
وروي البيهقي مثله عن الواقدي. وكذا اشتهر أنها كسفت يوم قتل الحسين، وأنه قتل يوم عاشوراء. الثاني: سلمنا
أنها لا تنكسف إلا في ذلك. فقد يتصور أن تنكسف فيه بأن يشهد شاهدان بنقص رجب وشعبان ورمضان وكانت
في الحقيقة كاملة، فتنكسف في يوم عيدنا وهو الثامن والعشرون في نفس الامر، ولا يبطل بالكسوف ما ثبت بالبينة
الشرعية. الثالث: أن الفقيه قد يصور ما لا يقع ليتدرب باستخراج الفروع الدقيقة.
خاتمة: يندب لغير ذوات الهيئات حضورها مع الجماعة كالعيد وغيرهن يصلين في البيوت كما مرت الإشارة إليه
ولكن لا يخطبن، فإن وعظتهن امرأة فلا بأس. والخناثى في الحضور وعدمه كالنساء. ويسن لكل أحد أن يتضرع
بالدعاء ونحوه عند الزلازل ونحوها كالصواعق والريح الشديدة والخسف، وأن يصلي في بيته منفردا كما قاله ابن المقري
لئلا يكون غافلا، لأنه (ص) كان إذا عصفت الريح قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به،
وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به. قيل: إن الرياح أربع: التي من تجاه الكعبة الصبا، ومن
ورائها الدبور، ومن جهة يمينها الجنوب، ومن شمالها الشمال. ولكل منها طبع، فالصبا حارة يابسة، والدبور باردة
320

رطبة، والجنوب حارة رطبة، والشمال باردة يابسة، وهو ريح الجنة التي تهبه على أهلها، جعلنا الله ووالدينا ومشايخنا
وأصحابنا ومن أنتفع بشئ من هذا الكتاب ودعا لنا بالمغفرة منهم.
(باب صلاة الاستسقاء)
هو لغة: طلب السقيا، وشرعا: طلب سقيا العباد من الله تعالى عند حاجتهم إليها. والأصل في الباب قبل الاجماع
الاتباع، رواه الشيخان وغيرهما، ويستأنس لذلك بقوله تعالى: * (وإذ استسقى موسى لقومه) * الآية، ولم نقل: ويستدل لذلك
لأن شرع من قبلنا إذا ورد في شرعنا ما يقرره ليس بشرع لنا على الأصح. (وهي سنة) مؤكدة لما مر، وإنما لم تجب لخبر:
هل علي غيرها؟. وتنقسم إلى ثلاثة أنواع: أدناها يكون بالدعاء مطلقا عما يأتي فرادى أو مجتمعين. وأوسطها يكون
بالدعاء خلف الصلوات فرضها كما في شرح مسلم ونفلها كما في البيان وغيره وفي خطبة الجمعة ونحو ذلك، والأفضل أن
تكون بالصلاة والخطبة، ويأتي بيانهما، ولا فرق في ذلك بين المقيم ولو بقرية أو بادية والمسافر ولو سفر قصر لاستواء
الكل. (عند الحاجة) وذلك لانقطاع الماء أو قلته بحيث لا يكفي، أو ملوحته أو زيادته إذا كان بها نفع. ويستسقي غير المحتاج
للمحتاج، ويسأل الزيادة لنفسه، لأن المؤمنين كالعضو الواحد إذا اشتكى بعضه اشتكى كله، وروى مسلم خبر
: دعوة
المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك (موكل) كلما دعا لأخيه قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل ذلك
ويظهر كما قال الأذرعي تقييد ذلك بأن لا يكون الغير ذا بدعة وضلالة وبغي، وإلا فلا يستسقى له تأديبا وزجرا، ولان
العامة تظن بالاستسقاء له حسن طريقته والرضا بها، وفيه مفاسد. أما لو انقطع الماء ولم تمس الحاجة إليه ولا نفع به
في ذلك الوقت فلا استسقاء.
تنبيه: قد يفهم كلام المصنف أنه لا يستسقى بالصلاة لطلب زيادة فيها نفع لهم، وليس مرادا كما تقرر. (وتعاد) الصلاة
مع الخطبتين كما صرح به ابن الرفعة وغيره، (ثانيا وثالثا) وأكثركما في المجموع، (إن لم يسقوا) حتى يسقيهم الله تعالى فإن الله
يحب الملحين في الدعاء، رواه ابن عدي والعقيلي عن عائشة وضعفاه. وفي الصحيحين: يستجاب لاحدكم ما لم يعجل
يقول دعوت فلم يستجب لي وهل يتوقفون على صيام ثلاثة أيام قبل خروجهم أم لا؟ نصان حملهما الجمهور كما قال في
المجموع على حالين: الأول على ما إذا شق عليهم الخروج من الغد واقتضى الحال التأخير كانقطاع مصالحهم فحينئذ
يصومون. والثاني: على خلافه. وحكي عن أصبغ أنه قال: استسقي للنيل بمصر خمسة وعشرون يوما متوالية، وحضره ابن
القاسم وابن وهب وغيرهما، والمرة الأولى آكد في الاستحباب. ثم إذا عادوا من الغد أو بعده يندب أن يكونوا صائمين فيه. (فإن
تأهبوا للصلاة فسقوا قبلها اجتمعوا للشكر) على تعجيل ما عزموا على سؤاله بأن يثنوا على الله تعالى ويمجدوه ويحمدوه على ذلك،
قال تعالى: * (لئن شكرتم لأزيدنكم) *. (والدعاء) بالزيادة إن لم يتضرر بكثرة المطر. (ويصلون) صلاة الاستسقاء المعروفة شكرا
أيضا، (على الصحيح) كما يجتمعون للدعاء ونحوه، والثاني: لا يصلون لأنها لم تفعل إلا عند الحاجة، وصححه ابن الصلاح، وذكر
الأذرعي أنه سبق قلم، وقطع الجمهور بالأول. وهو المنصوص كما قاله في الروضة، فكان ينبغي التعبير بالمذهب. وسكت المصنف
عن الخطبة والأصح أنه يخطب بهم كما صرح به ابن المقري. أما إذا سقوا بعدها فلا يجتمعون لما ذكر، ولو سقوا في أثنائها أتموها
جزما كما يشعر به كلامه. (ويأمرهم الامام) ندبا أو من يقوم مقامه، (بصيام ثلاثة أيام أولا) متتابعة،
ويصوم معهم قبل
ميعاد يوم الخروج فهي أربعة لأن الصوم معين على الرياضة والخشوع. وروى الترمذي عن أبي هريرة خبر: ثلاثة لا ترد
دعوتهم: الصائم حتى يفطر، والإمام العادل، والمظلوم وقال: حديث حسن. ورواه البيهقي عن أنس، وقال دعوتم الصائم
321

والوالد والمسافر. ويلزمهم امتثال أمره كما أفتى به المصنف، وسبقه إلى ذلك ابن عبد السلام لقوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا
أطيعوا الله) * الآية. قال الأسنوي: والقياس طرده في جميع المأمور به هنا اه‍. ويدل له قولهم في باب الإمامة العظمى:
تجب طاعة الامام في أمره ونهيه ما لم يخالف حكم الشرع. واختار الأذرعي عدم وجوب الصوم كما لو أمرهم بالعتق وصدقة
التطوع. قال الغزي: وفي القياس نظر لأن ذلك إخراج مال، وقد قالوا: إذا أمرهم بالاستسقاء في الجدب وجبت طاعته
فيقاس الصوم على الصلاة، فيؤخذ من كلامهما أن الامر بالعتق والصدقة لا يجب امتثاله، وهذا هو الظاهر وإن كان كلامهم
في الإمامة شاملا لذلك، إذ نفس وجوب الصوم منازع فيه، فما بالك بإخراج المال الشاق على أكثر الناس وإذا قيل بوجوب
الصوم، قال الأسنوي: يشترط التبييت له حينئذ. قال الغزي: ويحسن تخريج وجوب النية على صوم الصبي رمضان أو
على صوم النذر اه‍، ويؤخذ من ذلك وجوب التبييت إذ لا يصح صوم من ذكر بغير تبييت، وهذا هو الظاهر، وإن اختار
الأذرعي عدم الوجوب وقال: يبعد عدم صحة صوم من لم ينو ليلا كل البعد. ويأمرهم أيضا بالصلح بين المتشاحنين
(والتوبة) بالاقلاع عن المعاصي والندم عليها والعزم على عدم العود إليها، (والتقرب إلى الله تعالى بوجوه البر) من عتق وصدقة
وغيرهما لأن ذلك أرجى للإجابة، قال تعالى: * (ويا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) * * (يرسل السماء عليكم مدرارا) *، وقال: * (إلا
قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي) * الآية. (والخروج من المظالم) المتعلقة بالعبادة في الدم والعرض والمال، لأن
ذلك أقرب إلى الإجابة. وقد يكون منع الغيث بترك ذلك، فقد روى الحاكم والبيهقي: ولا منع قوم الزكاة إلا حبس
عنهم المطر، وقال عبد الله بن مسعود: إذا بخس الناس المكيال منعوا قطر السماء. وقال مجاهد وعكرمة في قوله تعالى:
* (ويلعنهم اللاعنون) * تلعنهم دواب الأرض تقول: منع المطر بخطاياهم. والتوبة من الذنب واجبة على الفور أمر بها الامام
أم لا. وظاهر أن الخروج من المظالم داخل فيها، بل كل منهما داخل في التقرب إلى الله تعالى بوجوه البر، لكن لعظم
أمرهما وكونهما أرجى للإجابة أفردا بالذكر فهما من عطف خاص على عام. (ويخرجون) أي الناس مع الامام (إلى
الصحراء) بلا عذر تأسيا به (ص)، ولان الناس يكثرون فلا يسعهم المسجد غالبا، وعبارة الأكثرين تبعا للنص: إلى مصلى
العيدين، وظاهر كلامهم أنه لا فرق بين مكة وغيرها وإن استثنى بعضهم مكة وبيت المقدس لفضل البقعة وسعتها، لأنا
مأمورون بإحضار الصبيان ومأمورون بأنا نجنبهم المساجد. (في الرابع) من صيامهم (صياما) لحديث: ثلاثة لا ترد دعوتهم
المتقدم، وينبغي للخارج أن يخفف أكله وشربه تلك الليلة ما أمكن. فإن قيل: لم لم يسن فطر يوم الخروج ليقوى على
الدعاء كما يسن للحاج فطر يوم عرفة لذلك؟ أجيب بأن الحاج يجتمع عليه مشقة الصوم والسفر، وبأن محل الدعاء تم آخر
النهار، والمشقة المذكورة مضعفة حينئذ، بخلافه هنا. فإن قيل: قضيته أنهم لو كانوا هنا مسافرين وصلوا آخر النهار أن لا صوم
عليهم. أجيب بأن الامام لما أمر به صار واجبا، نعم إن تضرروا بذلك لا وجوب عليهم لأن الامر به حينئذ غير مطلوب
لكون الفطر أفضل، ويخرجون غير متطيبين ولا متزينين بل (في ثياب بذلة) بكسر الموحدة وسكون المعجمة: أي مهنة،
وهي من إضافة الموصوف إلى صفته، أي ما يلبس من الثياب في وقت الشغل، ومباشرة الخدمة وتصرف الانسان في بيته.
(و) في (تخشع) وهو حضور القلب وسكون الجوارح، ويراد به أيضا التذلل. وقد علم بما قدرته أن تخشع معطوف على
ثياب لا على بذلة كما قيل لأنه حينئذ لم يكن فيه تعرض لصفتهم في أنفسهم وهي المقصودة التي ثياب البذلة وصلة لها. ويسن
لهم التواضع في كلامهم ومشيهم وجلوسهم للاتباع، رواه الترمذي وقال حسن صحيح. ويتنظفون بالسواك، وقطع الروائح
الكريهة وبالغسل. ويخرجون من طريق ويرجعون في آخر مشاة في ذهابهم إن لم يشق عليهم، لا حفاة مكشوفين الرؤوس
وقول المتولي: لو خرج، أي الامام أو غيره، حافيا مكشوف الرأس لم يكره لما فيه من إظهار التواضع، بعيد
كما قاله الشاشي
والأذرعي. (ويخرجون) معهم ندبا (الصبيان والشيوخ) والعجائز ومن لا هيئة لها من النساء والخنثى القبيح المنظر
322

كما قاله بعض المتأخرين، لأن دعاءهم أقرب إلى الإجابة إذ الكبير أرق قلبا والصغير لا ذنب عليه، ولقوله (ص):
وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم رواه البخاري، وروي بسند ضعيف: لولا شباب خشع وبهائم رتع وشيوخ
ركع وأطفال رضع لصب عليكم العذاب صبا ونظم بعضهم ذلك فقال:
لولا عباد للاله ركع * وصبية من اليتامى رضع
ومهملات في الفلاة رتع * صب عليكم العذاب الأوجع
والمراد بالركع الذين انحنت ظهورهم من الكبر، وقيل من العبادة، ولو احتيج في حمل الصبيان ونحوهم إلى مؤنة
حسبت من مالهم كما يؤخذ من كلام الأسنوي لأن الجدب عمهم. ويسن إخراج الأرقاء بإذن ساداتهم، (وكذا البهائم)
يسن إخراجها (في الأصح) لأن الجدب قد أصابها أيضا، وفي الحديث: أن نبيا من الأنبياء خرج يستسقي فإذا هو بنملة رافعة
بعض قوائمها إلى السماء، فقال: ارجعوا فقد استجيب لكم من أجل شأن النملة رواه الدارقطني والحاكم وقال صحيح
الاسناد، وفي البيان وغيره أن هذا النبي هو سليمان عليه الصلاة والسلام، وأن النملة وقعت على ظهرها ورفعت يديها،
وقالت: اللهم أنت خلقتنا فإن رزقتنا وإلا فأهلكنا. قال: وروي أنها قالت: اللهم إنا خلق من خلقك لا غنى بنا عن رزقك
فلا تهلكنا بذنوب بني آدم. والثاني: لا يسن إخراجها ولا يكره لأنه لم ينقل. والثالث: يكره إخراجها، ونقله في المجموع
عن الجمهور لأن فيه إتعابها واشتغال الناس بها وبأصواتها، والثاني: عن نص الام مع تصحيحه ك الرافعي وغيره الأول،
أي وهو المعتمد. وتقف معزولة عن الناس، ويفرق بين الأمهات والأولاد حتى تكثر الصياح والضجة والرقة فيكون
أقرب إلى الإجابة، نقله الأذرعي عن جمع المراوزة وأقره. (ولا يمنع أهل الذمة الحضور) لأنهم يسترزقون، وفضل الله
واسع، وقد يجيبهم استدراجا وطمعا في الدنيا، قال تعالى: * (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) *. (ولا يختلطون)
أهل الذمة ولا غيرهم من سائر الكفار (بنا) في مصلانا ولا عند الخروج، أي يكره ذلك، بل يتميزون عنا في
مكان
لأنهم أعداء الله تعالى إذ قد يحل بهم عذاب بكفرهم فيصيبنا، قال تعالى: * (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) *.
ولا يجوز أن يؤمن على دعائهم كما قاله الروياني لأن دعاء الكافر غير مقبول. ومنهم من قال: يستجاب لهم كما استجيب
دعاء إبليس بالانظار. وقد يقال: لم يستجب له لأنه طلب الانظار إلى يوم البعث فلم يجب إلى ذلك، وإنما أنظره الله تعالى
إلى يوم الوقت المعلوم. ويكره إخراجهم للاستسقاء لأنهم ربما كانوا سبب القحط، وفي الروضة: يكره أيضا خروجهم. قال
الشافعي: لكن ينبغي للامام أن يحرص على أن يكون خروجهم في غير يوم خروجنا لئلا تقع المساواة والمضاهاة في
ذلك اه‍. فإن قيل: قد يخرجون وحدهم فيسقون فيظن ضعفة المسلمين بهم خيرا. أجيب بأن خروجهم معنا فيه
مفسدة محققة فقدمت على المفسدة المتوهمة، قال الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجامع الكبير: ولا أكره من
إخراج صبيانهم ما أكره من خروج كبارهم لأن ذنوبهم أقل، لكن يكره لكفرهم. قال المصنف: وهذا يقتضي كفر
أطفال الكفار. وقد اختلف العلماء فيهم إذا ماتوا، فقال الأكثر: إنهم في النار، وطائفة: لا نعلم حكمهم، والمحققون:
إنهم في الجنة، وهو الصحيح المختار لأنهم غير مكلفين وولدوا على الفطرة. وتحرير هذا كما قال شيخنا وغيره أنهم في
أحكام الدنيا كفار، أي فلا نصلي عليهم ولا يدفنون في مقابر المسلمين وفي الآخرة مسلمون فيدخلون الجنة. ويسن
لكل واحد ممن يستسقي أن يستشفع بما فعله من خير بأن يذكره في نفسه فيجعله شافعا لأن ذلك لائق بالشدائد كما في خبر
الثلاثة الذين أووا في الغار، وأن يستشفع بأهل الصلاح، لأن دعاءهم أرجى للإجابة، لا سيما أقارب النبي (ص) كما
استشفع عمر رضي الله تعالى عنه بالعباس رضي الله تعالى عنه عم النبي (ص) فقال: اللهم إنا كنا إذا قحطنا توسلنا
إليك بنبينا محمد فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا فيسقون، رواه البخاري. (وهي ركعتان) للاتباع رواه
الشيخان، (كالعيد) أي كصلاته في كيفيتها من التكبير بعد الافتتاح قبل التعوذ والقراءة سبعا في الأولى وخمسا في
الثانية يرفع يديه ووقوفه بين كل تكبيرتين كآية معتدلة، والقراءة في الأولى جهرا بسورة ق، وفي الثانية اقتربت في
323

الأصح أو بسبح والغاشية قياسا لا نصا. (لكن قيل) هنا أنه (يقرأ في الثانية) بدل اقتربت (إنا أرسلنا نوحا)
لاشتمالها على الاستغفار ونزول المطر اللائقين بالحال. ورده في المجموع باتفاق الأصحاب على أن الأفضل أن يقرأ فيها ما يقرأ
في العيد، وينادى لها: الصلاة جامعة. وفي اختصاصها بوقت أوجه، قيل: بوقت العيد، وقيل: من أول وقت العيد إلى
العصر، والأصح لا تتأقت، فقوله: (ولا تختص) صلاة الاستسقاء (بوقت العيد في الأصح) وعبر في الروضة بالصحيح
الذي نص عليه الشافعي وقطع به الأكثرون: يصدق بالأخيرين فلا يعلم منه الأصح. ويجوز فعلها متى شاء، ولو في
وقت الكراهة على الأصح، لأنها ذات سبب فدارت مع السبب كصلاة الكسوف. (ويخطب كالعيد) في الأركان
والشرائط والسنن، (لكن يستغفر الله تعالى بدل التكبير) فيقول: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب
إليه في الأولى تسعا، وفي الثانية سبعا، لأن ذلك أليق بالحال، لأن الله تعالى وعدنا بإرسال المطر عنده، وقيل: إنه
يكبر كالعيد، قال المصنف: وهو ظاهر نص الام، وقال الأذرعي: إنه قضية كلام أكثر العراقيين، ويأتي بما يتعلق
بالاستسقاء بدل ما يتعلق بالفطر والأضحية. ويجوز أن يخطب قبل الصلاة كما سيأتي. ويسن أن يختم كلامه بالاستغفار،
وأن يكثر منه في الخطبة، ومن قول * (استغفروا ربكم) * الآية، ومن دعاء الكرب، وهو: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله
إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم، ومن: يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث
ومن رحمتك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين وأصلح لنا شأننا كله لا إله إلا أنت، ويسن في كل موطن: * (اللهم آتنا
في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) * وآية آخر البقرة. (ويدعو في الخطبة الأولى) بما رواه الشافعي في الام
والمختصر عن سالم بن عبد الله بن عمر أن رسول الله (ص) كان إذا استسقى قال: (اللهم) أي يا الله (أسقنا) بقطع
الهمزة من أسقى، ووصلها من سقى، فقد ورد الماضي ثلاثيا ورباعيا، قال تعالى: * (لاسقيناهم ماء غدقا) * وقال: * (وسقاهم ربهم
شرابا طهورا) *. (غيثا) بمثلثة، أي مطرا، (مغيثا) بضم الميم، أي منقذا من الشدة بإروائه، (هنيئا) بالمد والهمزة، أي طيبا لا ينغصه
شئ، (مريئا) بوزن هنيئا، أي محمود العاقبة، (مريعا) بفتح الميم وكسر الراء وبياء مثناة من تحت، أي ذا ريع، أي
نماء، مأخوذ من المراعة، وروي بالموحدة من تحت، من قولهم أربع البعير يربع إذا أكل الربيع، وروي أيضا بالمثناة من
فوق، من قولهم رتعت الماشية إذا أكلت ما شاءت، والمعنى واحد. (غدقا) بغين معجمة ودال مهملة مفتوحة، أي كثير
الماء والخير، وقيل: الذي قطره كبار. (مجللا) بفتح الجيم وكسر اللام، يجلل الأرض، أي يعمها كجل الفرس، وقيل: هو
الذي يجلل الأرض بالنبات. (سحا) بفتح السين وتشديد الحاء المهملة، أي شديد الوقع على الأرض، يقال سح الماء
يسح إذا سال من فوق إلى أسفل، وساح يسيح إذا جرى على وجه الأرض. (طبقا) بفتح الطاء والباء الموحدة، أي
مطبقا على الأرض، أي مستوعبا لها فيصير كالطبق عليها، يقال هذا مطابق لهذا، أي مساو له. (دائما) إلى انتهاء الحاجة
إليه، فإن دوامه عذاب. (اللهم أسقنا الغيث) تقدم شرحه، (ولا تجعلنا من القانطين) أي الآيسين بتأخير المطر. اللهم
إن بالعباد والبلاد والخلق من اللاواء - بالهمز والمد: شدة الجوع - والجهد - بفتح الجيم، وهو قلة الخير وسوء الحال - والضنك
- أي الضيق - ما لا نشكو - بالنون - إلا إليك. اللهم أنبت لنا الزرع وأدر لنا الضرع وأسقنا من
بركات السماء وأنبت لنا من بركات الأرض، اللهم ارفع عنا الجهد والعري والجوع واكشف عنا من البلاء، ما لا يكشفه غيرك. (اللهم إنا نستغفرك
إنك كنت غفارا فأرسل السماء) أي المطر كما قاله الأزهري، وقال الزركشي: يجوز أن يكون المراد هنا المطر والسحاب.
(علينا مدرارا) أي درا كثيرا، أي مطرا كثيرا. وهذه الزيادة التي زيدت على المتن قد ذكر منها في المحرر إلى اللهم
324

ارفع، وذكر الباقي في التنبيه، والجميع حديث واحد فلا معنى لحذف بعضه. (ويستقبل القبلة) ندبا، (بعد صدر الخطبة
الثانية) وهو نحو ثلثها كما قاله في الدقائق وحكاه في شرح مسلم عن الأصحاب. وإذا فرغ من الدعاء استدبرها وأقبل
على الناس يحثهم على طاعة الله تعالى إلى أن يفرغ كما في الشرح والروضة لا كما يشعر به كلامه من بقاء الاستقبال إلى
فراغها، ولو استقبل في الأولى لم يعده في الثانية كما نقله في البحر عن نص الام. (ويبالغ في الدعاء) حينئذ (سرا)
ويسر القوم الدعاء أيضا، (وجهرا) ويؤمن القوم على دعائه، قال تعالى: * (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) * ويرفعون
أيديهم في الدعاء جاعلين ظهور أكفهم إلى السماء، ثبت ذلك في صحيح مسلم. قال العلماء: وهكذا السنة لكل من
دعا لرفع بلاء أن يجعل ظهر كفه إلى السماء، وإذا سأل شيئا عكس ذلك. والحكمة أن القصد رفع البلاء، بخلاف
القاصد حصول شئ فيجعل بطن كفه إلى السماء. قال الروياني: ويكره رفع اليد النجسة، قال: ويحتمل أن يقال
لا يكره بحائل. قال الشافعي رضي الله عنه: وينبغي أن يكون من دعائهم في هذه الحالة: اللهم أنت أمرتنا بدعائك
ووعدتنا إجابتك وقد دعوناك كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا، اللهم فامنن علينا بمغفرة ما قارفنا وإجابتك في سقيانا وسعة
في رزقنا، وذكره في المحرر وأسقطه المصنف اختصارا، وكان اللائق ذكره. (ويحول) الخطيب (رداءه عند استقباله)
القبلة للتفاؤل بتحويل الحال من الشدة إلى الرخاء (لحديث) كان رسول الله (ص) يحب الفأل الحسن رواه الشيخان
عن أنس بلفظ: ويعجبني الفأل: الكلمة الحسنة والكلمة الطيبة وفي رواية لمسلم: وأحب الفأل الصالح. (فيجعل يمينه)
أي يمين ردائه (يساره، وعكسه) للاتباع كما رواه أبو داود. قال السهيلي: وكان طول ردائه (ص) أربعة
أذرع وعرضه ذراعين وشبرا. (وينكسه) بفتح أوله مخففا وبضمه مثقلا عند استقباله، (على الجديد فيجعل أعلاه أسفله
وعكسه) لما في خبر أبي داود وغيره: أنه (ص) استسقى وعليه خميصة سوداء، فأراد أن يأخذ بأسفلها فيجعله
أعلاها، فلما ثقلت عليه قلبها على عاتقه وجه الدلالة أنه هم به فمنعه من فعله مانع. والقديم لا يستحب، لأنه لم يفعله.
ومتى جعل الطرف الأسفل الذي على الأيسر على الأيمن والآخر على الأيسر حصل التنكيس والتحويل جميعا. والخلاف
في الرداء المربع، أما المدور والمثلث فليس فيه إلا التحويل قطعا، قال القمولي: لأنه لا يتهيأ فيه التنكيس، وكذا
الرداء الطويل. قال شيخنا: ومراده كغيره أن ذلك متعسر لا متعذر. (ويحول الناس) وينكسون وهم جلوس كما
نقله الأذرعي عن بعض الأصحاب، (مثله) تبعا له، لما روى الإمام أحمد في مسنده: أن الناس حولوا مع النبي
(ص).
تنبيه: عبر في المحرر بقوله: ويفعل بدل يحول وهو أعم لما تقرر، ويقع في بعض نسخ الكتاب كذلك، لكن
المذكور عن نسخة المصنف يحول. (قلت: ويترك) بضم أوله، أي رداء الخطيب والناس، (محولا حتى ينزع) بفتح
أوله (الثياب) كل منهما عند رجوعهما لمنزلهما لأنه لم ينقل أنه (ص) غير رداءه قبل ذلك. (لو ترك الامام
الاستسقاء فعله الناس) كسائر السنن، لأنهم يحتاجون كما يحتاج الامام بل أشد، لكنهم لا يخرجون إلى الصحراء إذا
كان الوالي بالبلد حتى يأذن لهم كما اقتضاه كلام الشافعي لخوف الفتنة، نبه عليه الأذرعي وغيره. (ولو خطب) له (قبل
الصلاة جاز) للحديث الصحيح في سنن أبي داود وغيره: أنه (ص) خطب ثم صلى وفي الصحيحين نحوه
أيضا، لكن في حقنا خلاف الأفضل، لأن فعل الخطبتين بعد الصلاة هو الأكثر من فعله (ص). (ويسن)
لكل أحد (أن يبرز) أي يظهر (لأول مطر السنة ويكشف) من جسده (غير عورته ليصيبه) شئ من المطر تبركا،
325

وللاتباع، روى مسلم: أنه (ص) حسر عن ثوبه حتى أصابه المطر، وقال: إنه حديث عهد بربه أي بخلقه وتنزيله،
بل يسن عند أول كل مطر، كما قال الزركشي لظاهر خبر رواه الحاكم، ولكنه في الأول آكد. (وأن يغتسل أو يتوضأ في)
ماء (السيل) لما روى الشافعي رضي الله تعالى عنه في الام، لكن بإسناد منقطع: أنه (ص) كان إذا
سال السيل قال: اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا فنتطهر به ونحمد الله عليه والتعبير بأو يفيد استحباب
أحدهما بالمنطوق، وكليهما بمفهوم الأول فهو أفضل كما جزم به في المجموع، فقال: يستحب أن يتوضأ منه ويغتسل
فإن لم يجمعهما فليتوضأ. والمتجه كما في المهمات الجمع، ثم الاقتصار على الغسل، ثم على الوضوء. والغسل والوضوء
لا تشترط فيهما النية، وإن قال الأسنوي فيه نظر إلا أن يصادف وقت وضوء أو غسل، لأن الحكمة فيه هي الحكمة
في كشف البدن لينال أول مطر السنة وبركته. (ويسبح عند الرعد والبرق) فيقول: سبحان من يسبح الرعد بحمده
والملائكة من خيفته، كما رواه مالك في الموطأ عن عبد الله بن الزبير. وقيس بالرعد البرق، والمناسب أن يقول عنده:
سبحان من * (يريكم البرق خوفا وطمعا) *. ونقل الشافعي رضي الله تعالى عنه في الام عن الثقة عن مجاهد: أن الرعد
ملك والبرق أجنحته يسوق بها السحاب. وعلى هذا المسموع صوته أو صوت سوقه على اختلاف فيه. وإطلاق ذلك على الرعد
مجاز، ولا عبرة بقول الفلسفي: الرعد صوت اصطكاك أجرام السحاب، والبرق ما ينقدح من اصطكاكها. وروي
أنه (ص) قال: بعث الله السحاب فنطقت أحسن النطق وضحكت أحسن الضحك، فالرعد نطقها والبرق ضحكها. (و)
أن (لا يتبع بصره البرق) لأن السلف الصالح كانوا يكرهون الإشارة إلى الرعد والبرق ويقولون عند ذلك: لا إله إلا الله
وحده لا شريك له سبوح قدوس. قال الماوردي: فيختار الاقتداء بهم في ذلك. (و) أن (يقول عند) نزول (المطر)
كما في البخاري: (اللهم صيبا) بصاد مهملة وتشديد المثناة التحتية، أي مطرا شديدا، (نافعا) وفي رواية لابن ماجة:
سيبا بفتح السين وسكون الياء، أي عطاء نافعا، وفي رواية لأبي داود وابن ماجة: صبيا هنيئا، فيستحب الجمع بين الروايات
الثلاث، ويكرر ذلك مرتين أو ثلاثا. (و) أن (يدعو بما شاء) لما روى البيهقي: أن الدعاء يستجاب في أربعة
مواطن: عند التقاء الصفوف ونزول الغيث وإقامة الصلاة ورؤية الكعبة. (و) أن يقول (بعده) أي بعد المطر
أي في أثره كما عبر به في المجموع عن الشافعي والأصحاب، وليس المراد بعد انقطاعه كما هو ظاهر كلام المتن. (مطرنا
بفضل الله) علينا. (ورحمته) لنا. (ويكره) قول (مطرنا بنوء كذا) بفتح نونه وهمز آخره: أي بوقت النجم
الفلاني، على عادة العرب في إضافة الأمطار إلى الأنواء، لايهامه أن النوء ممطر حقيقة، فإن اعتقد أنه الفاعل له حقيقة كفر،
وعليه يحمل ما في الصحيحين حكاية عن الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل
الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب، ومن قال مطرنا بنوء كذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب وأفاد تعليق الحكم
بالباء أنه لو قال مطرنا في نوء كذا لم يكره، وهو كما قال شيخنا ظاهر. ويستثنى من إطلاقه ما نقله الشافعي عن بعض
أصحابه أنه كان يقول عند المطر: مطرنا بنوء الفتح، ثم يقرأ: * (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها) *. (و) يكره
(سب الريح) وتجمع على رياح وأرواح، بل يسن الدعاء عندها لخبر: الريح من روح الله - أي رحمته - تأتي بالرحمة
وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها واسألوا الله خيرها واستعيذوا بالله من شرها رواه أبو داود وغيره بإسناد
حسن. (ولو تضرروا بكثرة المطر) وهي ضد القلة، قال المصنف في التحرير: بفتح الكاف وكسرها. قال في المحكم:
وبضمها. (فالسنة أن يسألوا الله تعالى رفعه) بأن يقولوا كما قال (ص) لما شكى إليه ذلك: (اللهم)
اجعل المطر (حوالينا) في الأودية والمراعي (ولا) تجعله (علينا) في الأبنية والبيوت، اللهم على الآكام والظراب
326

وبطون الأودية ومنابت الشجر، رواه الشيخان. والآكام بالمد جمع أكم بضمتين جمع إكام بوزن كتاب جمع أكم
بفتحتين جمع أكمة، وهو التل المرتفع من الأرض إذا لم يبلغ أن يكون جبلا. والظراب بكسر الظاء المعجمة جمع ظرب
بفتح أوله وكسر ثانيه جبل صغير. (ولا يصلي لذلك، والله أعلم) لعدم ورود الصلاة له.
خاتمة: روى البيهقي في الشعب عن محمد بن حاتم قال: قلت لأبي بكر الوراق علمني شيئا يقربني إلى الله تعالى
ويقربني من الناس، فقال: أما الذي يقربك إلى الله تعالى فمسألته، وأما الذي يقربك من الناس فترك مسألتهم، ثم روى
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي (ص) قال: من لم يسأل
الله يغضب عليه ثم أنشد: والله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
باب:
في حكم تارك الصلاة المفروضة على الأعيان أصالة جحدا أو غيره. أخر الغزالي هذا الباب عن الجنائز، وذكره جماعة
قبل باب الاذان، وذكره المزني والجمهور هنا. قال الرافعي: ولعله أليق. (إن ترك) المكلف (الصلاة) المعهودة شرعا
الصادقة بإحدى الخمس، (جاحدا وجوبها) بأن أنكره بعد علمه به، (كفر) بالجحد فقط، لا به مع الترك. وإنما ذكره
المصنف لأجل التقسيم، لأن الجحد لو انفرد كما صلى جاحدا للوجوب كان مقتضيا للكفر لانكاره ما هو معلوم من
الدين بالضرورة، فلو اقتصر المصنف على الجحد كان أولى، لأن ذلك تكذيب لله ولرسوله فيكفر به، ونقل الماوردي
الاجماع على ذلك. وذلك جار في جحود كل مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، وسيأتي حكم المرتد في بابه إن شاء الله
تعالى. أما من أنكره جاهلا لقرب عهده بالاسلام أو نحوه ممن يجوز أن يخفى عليه كمن بلغ مجنونا ثم أفاق أو نشأ بعيدا عن
العلماء فليس مرتدا، بل يعرف الوجوب، فإن عاد بعد ذلك صار مرتدا. (أو) تركها (كسلا) أو تركها تهاونا (قتل) بالسيف
(حدا) لا كفرا، لخبر الصحيحين: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا
الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الاسلام وحسابهم على الله، وخبر
أبي داود
وغيره: خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له
عند الله عهد إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه فلو كفر لم يدخل تحت المشيئة، وأما خبر مسلم: بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة
فمحمول على تركها جحدا، أو على التغليظ، أو المراد بين ما يوجبه الكفر من وجوب القتل، جمعا بين الأدلة. ويقتل تارك الطهارة
للصلاة كما جزم به الشيخ أبو حامد، لأنه ترك لها، ويقاس بها الأركان وسائر الشروط ومحله فيما لا خلاف فيه، أو فيه خلاف
واه، بخلاف القوي، ففي فتاوى القفال لو ترك فاقد الطهورين الصلاة متعمدا أو مس شافعي الذكر أو لمس المرأة أو توضأ
ولم ينو وصلى متعمدا لا يقتل، لأن جواز صلاته مختلف فيه. (والصحيح قتله) وجوبا (بصلاة فقط) لظاهر الخبر، (بشرط
إخراجها عن وقت الضرورة) فيما له وقت ضرورة بأن تجمع مع الثانية في وقتها، فلا يقتل بترك الظهر حتى تغرب الشمس
ولا بترك المغرب حتى يطلع الفجر، ويقتل في الصبح بطلوع الشمس، وفي العصر بغروبها، وفي العشاء بطلوع الفجر، فيطالب
بأدائها إذا ضاق وقتها ويتوعد بالقتل إن أخرجها عن الوقت، فإن أصر وأخرج استوجب القتل. فقول الروضة: يقتل
بتركها إذا ضاق وقتها محمول على مقدمات القتل بقرينة كلامها بعد، وما قيل من أنه لا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي كترك
327

الصوم والزكاة والحج، ولخبر: لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه،
المفارق للجماعة ولأنه لا يقتل بترك القضاء مردود بأن القياس متروك بالنصوص، والخبر عام مخصوص بما ذكر وقتله
خارج الوقت إنما هو للترك بلا عذر. على أنا نمنع أنه لا يقتل بترك القضاء مطلقا، بل في ذلك تفصيل يأتي في خاتمة الباب.
ويقتل بترك الجمعة ولو قال أصليها ظهرا كما في زيادة الروضة عن الشاشي، واختاره ابن الصلاح، وقال في التحقيق: إنه
الأقوى لتركها بلا قضاء، إذ الظهر ليس قضاء عنها خلافا لما في فتاوى الغزالي، وجزم به في الحاوي الصغير من عدم القتل.
ويقتل بخروج وقتها بحيث لا يتمكن من فعلها إن لم يتب، فإن تاب لم يقتل، وتوبته أن يقول لا أتركها بعد ذلك كسلا.
ومحل الخلاف كما قال الأذرعي فيمن لزمه الجمعة إجماعا، فإن أبا حنيفة يقول: لا جمعة إلا على أهل مصر جامع. ومقابل
الصحيح أوجه: أحدها: يقتل إذا ضاق وقت الثانية، لأن الواحد يحتمل تركها لشبهة الجمع. والثاني: إذا ضاق وقت
الرابعة، لأن الثلاث أقل الجمع فاغتفرت. والثالث: إذا ترك أربع صلوات، قال ابن الرفعة: لأنه يجوز أن يكون قد استند
إلى تأويل من ترك النبي (ص) يوم الخندق أربع صلوات. والرابع: إذا صار الترك له عادة. والخامس: لا يعتبر
وقت الضرورة. (ويستتاب) عن الكل قبل القتل، لأنه ليس أسوأ حالا من المرتد، وهي مندوبة كما صححه في التحقيق
وإن كان قضية كلام الروضة والمجموع أنها واجبة كاستتابة المرتد. والفرق على الأول أن جريمة المرتد تقتضي الخلود
في النار فوجبت الاستتابة رجاء نجاته من ذلك، بخلاف تارك الصلاة، فإن عقوبته أخف، لكونه يقتل حدا، بل مقتضى
ما قاله المصنف في فتاويه من كون الحدود تسقط الاثم أنه لا يبقى عليه شئ بالكلية، لأنه قد حد على هذه الجريمة، والمستقبل
لم يخاطب به وتوبته على الفور، لأن الامهال يؤدي إلى تأخير صلوات. وفي قول يمهل ثلاثة أيام، والقولان في الندب،
وقيل في الوجوب. ولو قتله في مدة الاستتابة أو قبلها إنسان أثم، ولا ضمان عليه كقاتل المرتد. ولو جن أو سكر قبل
فعل الصلاة لم يقتل، فإن قتل وجب القود، بخلاف نظيره في المرتد لا قود على قاتله لقيام الكفر، ذكره في المجموع.
وقول الأذرعي: نعم إن كان قد توجه عليه القتل وعاند قبل جنونه أو سكره فإنه لا قود على قاتله مبني على أن التوبة
واجبة. (ثم) إن لم يتب ولم يبد عذرا (تضرب عنقه) بالسيف، (وقيل: ينخس بحديدة) وقيل: يضرب بخشبة أي عصا، (حتى
يصلي أو يموت) لأن المقصود حمله على الصلاة لا قتله. (و) بعد الموت حكمه حكم المسلم الذي لم يترك الصلاة من أنه
(يغسل) ثم يكفن (ويصلي عليه) بعد غسله، كما سيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى في الباب الآتي. (ويدفن مع المسلمين) في
مقابرهم، (ولا يطمس قبره) كسائر أصحاب الكبائر من المسلمين. وقيل: لا يفعل معه شئ من هذه الأشياء ويطمس
قبره إهانة له، وعلى هذا يدفن في مقبرة منفردة كما قاله بعض المتأخرين، لا في مقابر المسلمين ولا في مقابر
الكفار. فإن
أبدى عذرا كأن قال: تركتها ناسيا أو للبرد أو لعدم الماء أو لنجاسة كانت علي أو نحوها من الاعذار صحيحة كانت في
نفس الامر أو باطلة لم يقتل، لأنه لم يتحقق منه تعمد تأخيرها عن الوقت بغير عذر، لكن نأمره بها بعد ذكر العذر
وجوبا في العذر الباطل، وندبا في الصحيح، كما قاله شيخنا، بأن نقول له: صل فإن امتنع لم يقتل لذلك. فإن قال: تعمدت
تركها بلا عذر، قتل سواء أقال ولم أصلها أو سكت، لتحقق جنايته بتعمد التأخير.
تنبيه: قول المتن: ثم تضرب عنقه قيده الأسنوي وغيره بما إذا لم يتب ولا حاجة إليه، لأن الكلام فيما إذا تركها فإذا
صلاها زال الترك. فإن قيل: لم لم يقل وإن تاب فإنه يقتل حدا والحدود لا تسقط بالتوبة، والقتل على التأخير عن الوقت
عمدا كما في زيادة الروضة، وقد وجد فكيف تنفعه التوبة، فهي كمن سرق نصابا ثم رده فإن القطع لا يسقط؟ أجيب بأن
الحد إنما هو على ترك فعل الصلاة، وقد فعل الصلاة التي كان الحد لأجل تركها كما قاله الأذرعي وغيره، أو أنه أعطى
تأخير الصلاة عن الوقت عمدا مع تركها، فالعلة مركبة منهما كما قاله ابن شهبة فإذا صلى زالت العلة وهذا أولى.
خاتمة: من ترك الصلاة بعذر كنوم أو نسيان لم يلزمه قضاؤها فورا، لكن يسن له المبادرة بها أو بلا عذر لزمه
328

قضاؤها فورا لتقصيره، لكن لا يقتل بفائتة فائتة بعذر لأن وقتها موسع أو بلا عذر وقال أصليها لنوبته، بخلاف ما إذا لم
يقل ذلك كما مرت الإشارة إليه. ولو ترك منذورة مؤقتة لم يقتل كما علم من تقييد الصلاة بإحدى الخمس لأنه الذي أوجبها
على نفسه، وفيه احتمال للشيخ أبي إسحاق. قال الغزالي: ولو زعم زاعم أن بينه وبين الله حاجة أسقطت عنه الصلاة
وأحلت له شرب الخمر وأكل مال السلطان كما زعمه بعض من ادعى التصوف فلا شك في وجوب قتله وإن كان في خلوده
في النار نظر، وقتل مثله أفضل من قتل مائة كافر لأن ضرره أكثر.
كتاب الجنائز
بفتح الجيم جمع جنازة بالفتح والكسر: اسم للميت في النعش، وقيل: بالفتح اسم لذلك، وبالكسر اسم للنعش وعليه
الميت، وقيل عكسه، وقيل: هما لغتان فيها فإن لم يكن عليه الميت فهو سرير ونعش. وهي من جنزه يجنزه إذا ستره.
ولما اشتمل هذا الكتاب على الصلاة ذكر هنا دون الفرائض، وصدره بما يفعله المكلف قبل موته، فقال: (ليكثر)
ندبا المكلف صحيحا كان أو مريضا، (ذكر الموت) لأن ذلك أزجر عن المعصية وأدعى إلى الطاعة، ولخبر: أكثروا
من ذكر هاذم اللذات يعني الموت، صححه ابن حبان والحاكم، وقال: إنه على شرط مسلم، وزاد النسائي: فإنه
ما ذكر في كثير إلا قلله ولا قليل إلا كثره أي كثير من الدنيا وقليل من العمل. وهاذم بالذال المعجمة، ومعناه القاطع، وأما
بالمهملة فمعناه المزيل للشئ من أصله. وروى الترمذي بإسناد حسن أنه (ص) قال لأصحابه: استحيوا من الله
حق الحياء قالوا: نستحي يا نبي الله والحمد لله، قال: ليس كذلك، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس
وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، ومن فعل ذلك فقد
استحيا من الله حق الحياء. قال في المجموع: قال الشيخ أبو حامد: ويستحب الاكثار من ذكر هذا الحديث.
والموت مفارقة الروح للبدن، والروح عند جمهور المتكلمين جسم لطيف مشتبك بالبدن اشتباك الماء بالعود الأخضر،
وهو باق لا يفنى عند أهل السنة، وقوله تعالى: * (الله يتوفى الأنفس حين موتها) * تقديره: عند موت أجسادها، وعند
جمع منهم عرض وهو الحياة التي صار البدن بوجودها حيا. وأما الصوفية والفلاسفة فليست عندهم جسما ولا عرضا، بل
جوهر مجرد غير متحيز يتعلق بالبدن تعلق التدبير وليس داخلا فيه ولا خارجا عنه. (ويستعد) له (بالتوبة ورد المظالم)
إلى أهلها، بأن يبادر إليهما لئلا يفجأه الموت المفوت لهما، وظاهر كلامه استحبابهما لأنه معطوف على مستحب، ويؤكد
ذلك قوله بعد: والمريض آكد وهو ما صرح به في الارشاد تبعا للقمولي. والمشهور وجوبهما لأن التوبة مما تجب منه
واجبة على الفور، وكذا رد المظالم الممكن ردها. وصرح برد المظالم مع دخوله في التوبة لعظم أمره ولئلا يغفل عنه
كما مر في باب الاستسقاء، ولو عبر بالخروج منها ليتناول رد العين وقضاء الدين والابراء منه وإقامة الحدود والتعزير والابراء
منهما كان أولى. (والمريض آكد) بذلك، أي أشد طلبا لما ذكر من الصحيح لنزول مقدمات الموت به. ويسن أن
يستعد لمرضه بالصبر عليه وترك الأنين منه جهده، ولا يكره كما في المجموع وإن صرح جماعة بكراهته،
ويكره كثرة
الشكوى فيه لأنها ربما تشعر بعدم الرضا بالقضاء، قال في المجموع: ولو سأله طبيب أو قريب أو صديق أو نحوه عن حاله
فأخبره بالشدة التي هو فيها لا على صورة الجزع فلا بأس. ويسن لأهله الرفق به والصبر عليه، وللأجنبي أن يوصيهم بذلك،
وأن يحسن المريض خلقه، ويجتنب المنازعة، في أمور الدنيا، ويسترضي من له به علقة كزوجته وجيرانه ويتعهد نفسه
بالذكر وأحوال الصالحين عند الموت، ويوصي أهله بالصبر عليه وترك النوح عليه ونحوه مما جرت العادة به من البدع
في الجنائز. ويسن لغيره عيادته ولو في أول يوم إن كان مسلما، فإن كان ذميا له قرابة أو جوار ونحوه كرجاء إسلامه
329

استحب وفاء بصلة الرحم وحق الجوار، وروى البخاري عن أنس قال: كان غلام يهودي يخدم النبي (ص)، فمرض
فأتاه النبي (ص) يعوده فقعد عند رأسه، فقال: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال له: أطع أبا القاسم فأسلم، فخرج
النبي (ص) وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار، وإلا جازت. ولا فرق بين الأرمد وغيره كما في المجموع،
ولا بين الصديق وغيره، ولا بين من يعرفه وغيره لعموم الاخبار. قال الأذرعي: والظاهر أن المعاهد والمستأمن كالذمي،
قال: وفي استحباب عيادة أهل البدع المنكرة وأهل الفجور والمكوس إذا لم تكن قرابة ولا جوار ولا رجاء توبة نظر
لأنا مأمورون بمهاجرتهم اه‍. وهو ظاهر، ولتكن العيادة غبا فلا يواصلها كل يوم إلا أن يكون مغلوبا عليه، ومحل ذلك
كما في المجموع في غير القريب والصديق ونحوهما مما يستأنس بهم المريض أو يتبرك به أو يشق عليه عدم رؤيتهم كل يوم،
أما هؤلاء فيواصلونها ما لم ينهوا أو يعلموا كراهته ذلك. ويخفف العائد المكث عنده بل تكره إطالته، ويطيب عائده
نفسه، فإن خاف عليه الموت رغبه في التوبة والوصية ويدعو له وينصرف، ويسن في دعائه: أسأل الله العظيم رب
العرش العظيم أن يشفيك، سبع مرات، لخبر: من عاد مريضا لم يحضره أجله فقال ذلك عنده عافاه الله من ذلك
المرض رواه الترمذي وحسنه. ويكره عيادته إن شقت عليه، ويسن طلب الدعاء منه ووعظه بعد عافيته وتذكيره
الوفاء بما عاهد الله عليه من التوبة وغيرها من الخير، وينبغي له المحافظة على ذلك، قال الله تعالى: * (وأوفوا بالعهد
إن العهد كان مسؤولا) *. ثم شرع في آداب المحتضر، فقال: (ويضجع المحتضر) وهو من حضره الموت ولم يمت (لجنبه
الأيمن) ندبا كالموضوع في اللحد، (إلى القبلة) ندبا أيضا لأنها أشرف الجهات. وقوله: (على الصحيح) يرجع للاضطجاع
وسيأتي. مقابله. (فإن تعذر) وضعه على يمينه (لضيق مكان ونحوه) كعلة بجنبه فلجنبه الأيسر كما في المجموع لأن ذلك
أبلغ في التوجه من استلقائه. فإن تعذر (ألقي على قفاه ووجهه وأخمصاه) وهما هنا أسفل الرجلين، وحقيقتهما المنخفض
من أسفلهما، (للقبلة) بأن يرفع رأسه قليلا كأن يوضع تحت رأسه مرتفع ليتوجه ووجهه إلى القبلة، ومقابل الصحيح أن
هذا الاستلقاء أفضل، فإن تعذر اضطجع على الأيمن. (ويلقن) ندبا قبل الاضطجاع كما قاله الماوردي، (الشهادة)
وهي لا إله إلا الله فإن أمكن الجمع بين التلقين والاضطجاع فعلا معا كما قاله ابن الفركاح، وإلا بدأ بالتلقين، لخبر مسلم:
لقنوا موتاكم لا إله إلا الله قال في المجموع: أي من قرب موته، وهو من باب تسمية الشئ بما يؤول إليه، كقوله: * (
إني أراني أعصر خمرا) *. وروى أبو داود بإسناد حسن أنه (ص) قال: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله
دخل الجنة. (بلا إلحاح) عليه لئلا يضجر، ولا يقال له قل بل يذكرها بين يديه ليتذكر، أو يقول: ذكر الله تعالى
مبارك فنذكر الله جميعا، فإن قالها لم تعد عليه ما لم يتكلم بكلام الدنيا كما قاله الصيمري، بخلاف التسبيح ونحوه لأنه
لا ينافي أن آخر كلامه لا إله إلا الله، أي من أمور الدنيا. ويسن أن يكون الملقن غير متهم بإرث أو عداوة أو حسد أو
نحو ذلك، فإن لم يحضر غيره لقنه أشفق الورثة ثم غيره، وما يترك التلقين حينئذ لما ذكر. ولا تسن زيادة محمد رسول
الله لظاهر الاخبار، وقيل: تسن لأن المقصود بذلك التوحيد، ورد بأن هذا موحد. ويؤخذ منه ما بحثه الأسنوي أنه
لو كان كافرا لقن شهادتين وأمر بهما لخبر اليهودي السابق وجوبا كما قال شيخي إن رجى إسلامه وإلا فندبا. وكلامهم
يشمل غير المكلف فيسن تلقينه إذا كان مميزا ولا يسن بعد موته، قال الزركشي: لأن التلقين هنا للمصلحة، وثم لئلا
يفتن الميت في قبره وهذا لا يفتن. (ويقرأ عنده) سورة (يس) لخبر: اقرأوا على موتاكم يس رواه أبو داود
وابن حبان وصححه، وقال: المراد به من حضره الموت، يعني مقدماته، وإن أخذ ابن الرفعة بظاهر الخبر
لأن الميت لا يقرأ عليه وإنما
يقرأ عنده. والحكمة في قراءتها أن أحوال القيامة والبعث مذكورة فيها فإذا قرئت عنده تجدد له ذكر تلك الأحوال.
واستحب بعض الأصحاب أن يقرأ عنده سورة الرعد لقول جابر: فإنها تهون عليه خروج روحه. ويسن تجريعه بماء بارد
كما قاله الجيلي، فإن العطش يغلب من شدة النزع فيخاف منه إزلال الشيطان، إذ ورد أنه يأتيه بماء زلال ويقول له: قل لا إله
330

غيري حتى أسقيك نسأل الله سبحانه وتعالى من فضله الثبات لنا وللمسلمين: عند الممات. ويكره للحائض أن تحضر
المحتضر وهو في النزع لما ورد أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة ولا جنب، ويؤخذ من ذلك أن الكلب
والصورة وغير الحائض ممن وجب عليه الغسل مثلها. وعبر في الرونق واللباب ب‍ لا يجوز بدل يكره، أي لا يجوز جوازا
مستوي الطرفين فيكره. (وليحسن) المريض ندبا (ظنه بربه سبحانه وتعالى) أي يظن أن الله سبحانه وتعالى يرحمه ويغفر له
ويرجو ذلك، لما في الصحيحين: أن الله عز وجل قال: أنا عند ظن عبدي بي وفي خبر مسلم: لا يموتن أحدكم إلا وهو
يحسن الظن بالله سبحانه وتعالى. ويسن لمن عنده تحسين ظنه وتطميعه في رحمة الله تعالى، بل قد يجب كما بحثه الأذرعي
إذا رأى منه أمارات اليأس والقنوط أخذا من قاعدة النصيحة الواجبة، وهذا الحال من أهمها. قال في المجموع: ويستحب له
تعهد نفسه بتقليم الظفر وأخذ شعر الشارب والإبط والعانة، ويستحب له أيضا الاستياك والاغتسال والطيب ولبس
الثياب الطاهرة. وأما الصحيح فقيل: الأولى له أن يغلب خوفه على رجائه، والأظهر في المجموع استواؤهما إذ الغالب
في القرآن ذكر الترغيب والترهيب معا، كقوله تعالى: * (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) *. والأولى ما ذكره
في الاحياء من أنه إن غلب عليه داء القنوط فالرجاء أولى، أو داء أمن المكر فالخوف أولى. (فإذا مات غمض) ندبا لئلا
يقبح منظره، وروى مسلم: أنه (ص) دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمه، ثم قال: إن الروح إذا قبض - أي خرج - تبعه
البصر وشق بصره بفتح الشين وضم الراء شخص، قيل إن العين أول شئ يخرج منه الروح، وأول شئ يشرع إليه
الفساد. قال في المجموع: ويسن أن يقول عند إغماضه: بسم الله وعلى ملة رسول الله (ص). (وشد لحياه
بعصابة)
عريضة تعمهما ويربطها فوق رأسه لئلا يبقى فمه مفتوحا فيدخل فيه الهوام. (ولينت مفاصله) بأن يرد ساعده إلى عضده ثم ساعده ثم
يمده ويرد ساقه إلى فخذيه وفخذيه إلى بطنه ويردهما ويلين أيضا أصابعه، وذلك ليسهل غسله فإن في البدن بعد مفارقة الروح
بقية حرارة فإذا لينت المفاصل حينئذ لانت، وإلا فلا يمكن تليينها بعد ذلك. (وستر جميع بدنه) إن لم يكن محرما، (بثوب)
فقط لخبر الصحيحين: أنه (ص) سجي حين مات بثوب حبرة وهو بالإضافة وكسر الحاء المهملة وفتح الباء
الموحدة: نوع من ثياب القطن تنسج باليمن، وسجي: غطى. (خفيف) لئلا يحميه فيسرع إليه الفساد ويكون ذلك بعد نزع ثيابه، ويجعل
طرفاه تحت رأسه ورجليه لئلا ينكشف. أما المحرم فيستر منه ما يجب تكفينه منه. (ووضع على بطنه شئ ثقيل) كسيف
ومرآة ونحوهما من أنواع الحديد، ثم طين رطب ثم ما تيسر لئلا ينفتح فيقبح منظره، وقدر الشيخ أبو حامد ذلك بزنة
وعشرين درهما. قال الأذرعي: وكأنه أقل ما يوضع وإلا فالسيف يزيد على ذلك. والظاهر أن السيف ونحوه يوضع
بطول الميت، وأن الموضوع يكون فوق الثوب كما جرت به العادة. ويندب أن يصان المصحف عنه احتراما له، ويلحق
به كتب الحديث والعلم المحترم كما بحثه الأسنوي. (ووضع على سرير ونحوه) مما هو مرتفع: كدكة لئلا تصيبه نداوة
الأرض فيتغير بنداوتها، فإن كانت صلبة، قال في الكفاية: جاز وضعه عليها، يعني من غير ارتكاب خلاف الأولى،
ولا يوضع على فراش لئلا يحمي فيتغير. (ونزعت) عنه (ثيابه) المخيطة التي مات فيها بحيث لا يرى شئ من بدنه
لئلا يسرع فساده. قال الأذرعي: وهذا فيمن يغسل لا في شهيد المعركة، وينبغي أن يبقى عليه القميص الذي يغسل
فيه إذا كان طاهرا، إذ لا معنى لنزعه، ثم إعادته. نعم يشمر إلى حقوه لئلا يتنجس بما قد يخرج منه كما أشار إليه
بعضهم اه‍. ولو قدم هذا الأدب على الذي قبله كان أولى. (ووجه للقبلة) إن أمكن (كمحتضر) أي كتوجهه
وتقدم. قال الأذرعي: وقد يفهم من هذا أنه يكون على جنبه، والظاهر أن المراد هنا إلقاؤه على قفاه ووجهه وأخمصاه
إلى القبلة، ويومئ إليه قولهم: ويوضع على بطنه شئ ثقيل. (ويتولى ذلك) كله (أرفق محارمه) أي الميت لوفور
331

شفقته، ويتولاه الرجال من الرجال والنساء من النساء، فإن تولاه الرجال من نساء المحارم أو النساء من رجال المحارم
جاز، كذا في زيادة الروضة. قال الأذرعي: وفيه إشارة إلى أنه لا يتولى ذلك الأجنبي من الأجنبية ولا بالعكس، ولا
يبعد جوازه لهما مع الغض وعدم المس اه‍. وهو ظاهر، وكالمحرم فيما ذكر الزوجان بل أولى، وفي إطلاق المحرم على
الرجلين والمرأتين مسامحة. (ويبادر) بفتح الدال، ندبا، (بغسله إذا تيقن موته) بظهور شئ من أمارته، كاسترخاء
قدم وميل أنف وانخساف صدغ، لأنه عليه الصلاة والسلام عاد طلحة بن البراء، فقال: إني لا أرى طلحة إلا قد
حدث فيه الموت، فإن يؤتى به فعجلوا به، فإنه لا ينبغي لجيفة مؤمن أن تحبس بين ظهراني أهله رواه أبو داود. فإن
شك في موته أخر وجوبا كما قاله في المجموع إلى اليقين بتغير الرائحة أو غيره. (وغسله) أي الميت (وتكفينه والصلاة
عليه) وحمله (ودفنه فروض كفاية) للاجماع على ما حكاه في أصل الروضة، وللامر به في الأخبار الصحيحة في غير
الدفن. وقاتل نفسه كغيره كما مر سواء في ذلك المسلم والذمي إلا في الغسل والصلاة، فمحلهما في المسلم غير الشهيد كما
يعلم مما سيأتي. والمشهور أن المخاطب بذلك كل من علم بموته من قريب أو غيره. (وأقل الغسل تعميم بدنه) بالماء
مرة، لأن ذلك هو الفرض في الغسل من الجنابة في حق الحي، (بعد إزالة النجس) عنه إن كان عليه، كذا في
الروضة كأصلها أيضا، فلا يكفي لهما غسلة واحدة، وهو مبني على ما صححه الرافعي في الحي أن الغسلة لا تكفي عن
النجس والحدث، وصحح المصنف أنها تكفي كما مر في باب الغسل، وكأنه ترك الاستدراك هنا للعلم به من هناك،
فيتحد الحكمان، وهذا هو المعتمد. فإن قيل: إن ما هنا محمول على نجاسة تمنع وصول الماء إلى العضو، أو أن ما هناك
متعلق بنفسه فجاز إسقاطه، وما هنا بغيره فامتنع إسقاطه. أجيب بخروج الأول عن صورة المسألة. والثاني: عن المدرك،
وهو أن الماء ما دام مترددا على المحل لا يحكم باستعماله كما مر بيانه، فيكفي غسله لذلك. (ولا تجب نية الغاسل) أي
لا تشترط في صحة الغسل، (في الأصح، فيكفي) على هذا (غرقه أو غسل كافر) لأن المقصود من هذا
الغسل هو النظافة،
وهي لا تتوقف على نية. والثاني: تجب لأنه غسل واجب، فافتقر إلى النية كغسل الجنابة. وعلى هذا فلا يكفي الغرق
ولا غسل الكافر فينوي كما في المجموع الغسل الواجب أو غسل الميت. (قلت: الأصح المنصوص وجوب غسل الغريق،
والله أعلم) لأنا مأمورون بغسل الميت، فلا يسقط الفرض عنا إلا بفعلنا، حتى لو رأينا الملائكة تغسله لم يسقط عنا
بخلاف نظيره من الكفن، لأن المقصود منه الستر وقد حصل، ومن الغسل التعبد بفعلنا له، ولهذا ينبش للغسل
لا للتكفين. وهل يكفي تغسيل الجن؟ الظاهر الاكتفاء كما قيل إن الجمعة تنعقد بهم. (والأكمل وضعه بموضع خال) عن
الناس لا يكون فيه أحد إلا الغاسل ومن يعينه. وللولي الحضور وإن لم يغسل ولم يعن لحرصه على مصلحته. وقد تولى
غسله (ص) علي والفضل بن العباس وأسامة بن زيد يناول الماء والعباس واقف، ثم رواه ابن ماجة وغيره. (
مستور) عنهم كما في حال الحياة ولأنه قد يكون فيه ما لا يحب أن يطلع عليه غيره، والأفضل أن يكون تحت سقف
لأنه أستر له نص عليه في الام. (على لوح) أو سرير هئ لذلك لئلا يصيبه الرشاش، ويكون عليه مستلقيا كاستلقاء
المحتضر لأنه أمكن لغسله. (ويغسل) ندبا (في قميص) لأنه أستر له، وقد غسل (ص) في قميص، رواه أبو داود
وغيره بإسناد صحيح. والأولى أن يكون القميص خلقا أو سخيفا حتى لا يمنع وصول الماء إليه، وقيل تجريده أولى.
وقال المزني: إن الشافعي تفرد بالأول، وإن ذلك خاص بالنبي (ص) لجلالته وعظم قدره، وقيل: إن الغسل في القميص
للاشراف وذوي الهيئات. ويدخل الغاسل يده في كم القميص إن كان واسعا ويغسله من تحته، وإن كان ضيقا فتق
رؤوس الدخاريص، فإن لم يجد قميصا أو لم يتأت غسله فيه لضيقه ستر ما بين سرته وركبته. ويسن كما قال السبكي أن
332

يغطي وجهه بخرقة من أول ما يضعه على المغتسل، وقد ذكره المزني عن الشافعي، والأولى أن يكون (بماء بارد)
لأنه يشد البدن، والسخن يرخيه إلا أن يحتاج إلى السخن لوسخ أو برد أو نحوه فيسخن قليلا، ولا يبالغ في تسخينه
لئلا يسرع إليه الفساد. قال الزركشي: واستحب الصيمري والماوردي كونه مالحا على كونه عذبا، وقال أيضا: ولا
ينبغي أن يغسل الميت بماء زمزم للخلاف في نجاسته بالموت. ويكون الماء في إناء كبير، ويبعد به عن المغتسل بحيث
لا يصيبه رشاش الماء عند الغسل. (ويجلسه الغاسل على المغتسل) برفق (مائلا إلى ورائه) قليلا ليسهل خروج ما
في بطنه، (ويضع يمينه على كتفه وإبهامه في نقرة قفاه) لئلا يميل رأسه. والقفا مقصور، وجوز الفراء مده، وهو
مؤخر العنق. (ويسند ظهره إلى ركبته اليمنى) لئلا يسقط، (ويمر يساره على بطنه إمرارا بليغا ليخرج ما فيه) من
الفضلات خشية من خروجها بعد الغسل أو بعد التكفين فيفسد بدنه أو كفنه. قال الماوردي: بليغا بالتكرار لا في شدة
الاجتهاد بحيث لا يؤدي إلى هتك الميت لأن احترامه واجب. ويكون عنده حينئذ مجمرة متقدمة فائحة بالطيب، كالعود
والمعين يصب عليه ماء كثيرا لئلا تظهر رائحة ما يخرج منه. ويسن أيضا أن يبخر عند الميت من حين الموت، لأنه
ربما ظهر منه شئ فتغلبه رائحة البخور. (ثم يضجعه لقفاه) أي مستلقيا كما كان أولا، (ويغسل بيساره وعليها خرقة)
ملفوفة بها (سوأتيه) أي قبله ودبره وكذا ما حولهما كما يستنجي الحي بعد قضاء الحاجة (ثم يلف) خرقة (أخرى)
على يده اليسرى بعد إلقاء الأولى، وغسل يده بماء وأشنان أو نحوه إن تلوثت كما قاله الرافعي. وفي النهاية والوسيط:
يغسل كل مرة بخرقة، ولا شك أنه أبلغ في النظافة. (ويدخل أصبعه) السبابة من يسراه كما بحثه شيخنا مبلولة بماء، (فمه
ويمرها على أسنانه) بشئ من الماء كما يستاك الحي. فإن قيل: الحي يستاك باليمين فلم خولف في هذا؟ أجيب بأن
القذر ثم لا يتصل باليد بخلافه هنا، وبأن الميت قيل بنجاسته ففعل به ذلك للخروج من الخلاف. ولا يفتح أسنانه إذا
كانت متراصة لخوف سبق الماء إلى جوفه فيسرع فساده. (ويزيل) بأصبعه الخنصر مبلولة بماء (ما في منخريه)
بفتح الميم أشهر من كسرها، وبكسر الخاء، (من أذى) كما في مضمضة الحي واستنشاقه. (ويوضئه) بعد ما تقدم
(كالحي) ثلاثا ثلاثا بمضمضة واستنشاق قليلا، ويميل رأسه فيهما. وقيل: يستغنى عنهما بما تقدم لئلا يصل الماء
باطنه. قال في المجموع: ويتبع بعود لين ما تحت أظفاره. (ثم يغسل رأسه ثم لحيته بسدر ونحوه) كخطمي،
والسدر
أولى لأنه أمسك للبدن وأقوى للجسد وللنص عليه في الخبر. (ويسرحهما) أي شعر رأسه ولحيته إن تلبد (بمشط)
بضم أوله وكسرها مع إسكان الشين وبضمها مع الميم لإزالة ما فيهما من سدر ووسخ كما في الحي، (واسع الأسنان)
لئلا ينتتف الشعر، (برفق) لئلا ينتتف شئ أو يقل الانتتاف. (ويرد المنتتف إليه) ندبا بأن يضعه في كفنه ليدفن
معه إكراما له، وقيل: يجعل وسط شعره. وأما دفنه فسيأتي إن شاء الله تعالى. (ويغسل) بعدما سبق (شقه الأيمن)
مما يلي الوجه من عنقه إلى قدمه، (ثم الأيسر) كذلك، (ثم يحرفه إلى شقه الأيسر فيغسل شقه الأيمن مما يلي القفا
والظهر) من كتفه (إلى القدم ثم يحرفه إلى شقه الأيمن فيغسل الأيسر كذلك) أي مما يلي قفاه وظهره من كتفه
إلى القدم، وقيل: يغسل شقه الأيمن من مقدمه ثم من ظهره، ثم يغسل شقه الأيسر من مقدمه ثم من ظهره، وكل سائغ
333

والأول أولى، وهو ما نص عليه الشافعي والأكثرون. ويحرم كبه على وجهه احتراما له بخلافه في حق نفسه في الحياة
يكره ولا يحرم لأن الحق له فله فعله. (فهذه) الأغسال المذكورة مع قطع النظر عن السدر ونحوه فيها لما سيأتي أنه يمتنع
الاعتداد بها، (غسلة) واحدة. (ويستحب ثانية وثالثة) كذلك، فإن لم تحصل النظافة زيد حتى تحصل، فإن حصلت
بشفع استحب الايتار بواحدة. (و) يستحب (أن يستعان في الأول بسدر أو خطمي) بكسر الخاء وحكي
ضمها، للتنظيف والابقاء. (ثم يصب ماء قراح) بفتح القاف وتخفيف الراء: أي خالص. (من فرقه إلى قدمه بعد
زوال السدر) أو نحوه بالماء، فلا تحسب غسلة السدر ولا ما أزيل به من الثلاث لغير الماء به التغير السالب للطهورية
وإنما تحسب منها غسلة الماء القراح فيكون الأولى من الثلاث به هي المسقطة للواجب.
تنبيه: قال السبكي: لا وجه لتخصيص السدر بالأولى، بل الوجه التكرير به إلى أن يحصل النقاء على وفق
الخبر والمعنى يقتضيه، فإذا حصل النقاء وجب غسله بالماء الخالص، ويسن بعدها ثانية وثالثة كغسل الحي اه‍. قال
في تصحيح ابن قاضي عجلون: ففي المنهاج تقديم وتأخير، أي لأنه قدم، فهذه غسلة على قوله، ثم يصب ماء قراح،
وكان الأولى أن يقول: ثم يصب ماء قراح، فهذه غسلة. (و) يستحب (أن يجعل في كل غسلة) من الثلاث التي
بالماء القراح (قليل كافور) إن لم يكن الميت محرما بحيث لا يفحش التغير به لأنه يقوي البدن ويطرد الهوام، وهو في
الأخيرة آكد. ويكره تركه كما نص عليه في الام بخلاف الكثير، وهو ما يغير به فيضر إلا إذا كان صلبا فلا يضر
لأنه مجاور، والأصل في ذلك خبر الصحيحين أنه (ص) قال لغاسلات ابنته زينب رضي الله عنها: ابدأن
بميامنها ومواضع الوضوء منها واغسلنها ثلاثا أو خمسا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر، واجعلن في الأخيرة كافورا
أو شيئا من كافور، قالت أم عطية منهن: ومشطناها ثلاثة قرون. وفي رواية: فضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها.
وقوله: أو خمسا إلخ هو بحسب الحاجة في النظافة إلى الزيادة على الثلاث مع رعاية الوتر لا للتخيير، وقوله: إن رأيتن
أي إن احتجتن، وكاف ذلك بالكسر خطابا لام عطية، ومشطناها وضفرناها بالتخفيف، وثلاثة قرون: أي ضفائر
القرنين والناصية. أما المحرم فيحرم وضع الكافور في ماء غسله، ثم بعد تكميل الغسل يلين الميت مفاصله، ثم ينشف
تنشيفا بليغا لئلا تبتل أكفانه فيسرع إليه الفساد، ولا يأتي في التنشيف هنا الخلاف في تنشيف الحي. (ولو خرج)
من الميت (بعده) أي الغسل (نجس) ولو من الفرج وقبل التكفين أو وقع عليه نجس في آخر غسله أو بعده،
(وجب إزالته فقط) لسقوط الفرض بما وجد، والتنظيف يحصل بنظافة ما حدث. (وقيل) فيما إذا لم يكفن تجب إزالته مع
(الغسل إن خرج من الفرج) ليختم أمره بالأكمل. (وقيل) في الخارج منه تجب إزالته مع (الوضوء) لا الغسل كما
في الحي. وأما بعد التكفين فيجزم بغسل النجاسة فقط، بل حكى الأسنوي عن فتاوى البغوي أنه لا يجب غسلها إذا كان
بعد التكفين. ولا يجنب ميت بوطئ ولا بغيره، ولا يحدث بمس ولا بغيره لسقوط التكليف عنه.
تنبيه: قوله: الوضوء مجرور على تقدير مع كما قدرته، وهو لغة قليلة، لأن جر المضاف إليه مع حذف المضاف
قليل. ثم شرع في بيان الغاسل فقال: (ويغسل الرجل الرجل) فهو أولى به، (والمرأة المرأة) فهي أولى بها،
وسيأتي ترتيبهم.
تنبيه: قوله: الرجل الرجل و المرأة المرأة بنصب الأول فيهما بخطه، وذلك ليصح إسناد يغسل المسند للمذكر
وللمرأة لوجود الفاصل بالمفعول، كما في قولهم: أتى القاضي امرأة، ويجوز رفع الأول منهما، ويكون من عطف الجمل،
ويقدر في الجملة المعطوفة فعل مبدوء بعلامة التأنيث. (ويغسل أمته) أي يجوز له ذلك ولو مدبرة أو مكاتبة أو أم ولد
334

كالزوجة بل أولى لأنه مالك للرقبة والبضع جميعا، والكتابة تفسخ بالموت. نعم لا يغسل أمته المزوجة والمعتدة والمستبرأة
لتحريم بضعهن عليه، وكذا المشتركة والمبعضة بالأولى، وقضية التعليل أن كل أمة تحرم عليه كوثنية ومجوسية كذلك،
وهو الظاهر كما بحثه البارزي وإن قال الأسنوي: مقتضى إطلاق المنهاج جواز ذلك. فإن قيل: المستبرأة إن كانت مملوكة
بالسبي، فالأصح حل غير الوطئ من التمتعات فغسلها أولى، أو بغيره فلا يحرم عليه الخلوة بها ولا لمسها ولا النظر إليها
بغير شهوة فلا يمتنع عليه غسلها، أجيب بأن تحريم الغسل ليس لما ذكر بل لتحريم البضع كما صرح به في المجموع، فهي
كالمعتدة بجامع تحريم البضع وتعلق الحق بأجنبي. (و) يغسل (زوجته) مسلمة كانت أو ذمية وإن تزوج أختها أو أربعا
سواها، لأن حقوق النكاح لا تنقطع بالموت بدليل التوارث في الجملة. وقد قال (ص) لعائشة رضي الله تعالى عنها:
ما ضرك لو مت قبلي فغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك رواه النسائي وابن حبان. قال شيخي: وتمام الحديث:
إذا كنت تصبح عروسا. و (هي) تغسل (زوجها) بالاجماع وإن انقضت عدتها وتزوجت، ولقول عائشة
رضي الله تعالى عنها: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل رسول الله (ص) إلا نساؤه رواه أبو داود
والحاكم وصححه على شرط مسلم. (ويلفان) ندبا، أي السيد في تغسيل أمته، وأحد الزوجين في تغسيل الآخر، (خرقة)
على يدهما (ولا مس) واقع بينهما وبين الميت، أي لا ينبغي ذلك لئلا ينتقض وضوء الغاسل فقط. أما وضوء المغسول
فلا، لما مر من أنه غير مكلف. نعم المطلقة ولو رجعية ليس لأحدهما غسل الآخر وإن مات في العدة لتحريم النظر،
وفي معنى المطلقة المفسوخ نكاحها، والقياس كما قال الأذرعي في المعتدة عن وطئ الشبهة أن أحد الزوجين لا يغسل
الآخر كما لا يغسل أمته المعتدة. فإن قيل: إنهم جعلوها كالمكاتبة في جواز النظر لما عدا ما بين السرة والركبة، فلا منع
من الغسل. أجيب بأن الحق في المكاتبة لم يتعلق بأجنبي بخلافه في المعتدة. (فإن لم يحضر) ها (إلا أجنبي أو) لم يحضره
إلا (أجنبية يمم) أي الميت وجوبا (في الأصح) فيهما إلحاقا لفقد الغاسل بفقد الماء. ويؤخذ من هذا أنه لا
يزيل
النجاسة أيضا إن كانت، والأوجه كما قال شيخنا خلافه، ويفرق بأن إزالتها لا بد لها بخلاف غسل الميت، وبأن
التيمم إنما يصح بعد إزالتها كما مر، والثاني: يغسل الميت في ثيابه ويلف الغاسل على يده خرقة، ويغض طرفه ما أمكنه
فإن اضطر إلى النظر نظر للضرورة، ولو حضر الميت الذكر كافر ومسلمة أجنبية غسله الكافر، لأن له النظر
إليه دونها، وصلت عليه المسلمة. والولد الصغير الذي لا يشتهي يغسله الرجال والنساء لحل النظر والمس له. والخنثى
الكبير المشكل يغسله المحارم منهما فإن فقدوا غسله الرجال والنساء للحاجة واستصحابا لحكم الصغر كما صححه في
المجموع ونقله عن اتفاق الأصحاب، خلافا لما جرى عليه ابن المقري تبعا لمقتضى أصله من أنه ييمم ويغسل فوق ثوب
ويحتاط الغاسل في غض البصر والمس، ويفرق بينه وبين الأجنبي بأنه هنا يحتمل الاتحاد في جنس الذكورة أو الأنوثة
بخلافه ثم، ويفارق ذلك أخذهم فيه بالأحوط في النظر بأنه هنا محل حاجة. (وأولى الرجال به) أي الرجل في غسله إذا
اجتمع من أقاربه من يصلح لغسله، (أولاهم بالصلاة) عليه، وهم رجال العصبات من النسب ثم الولاء كما سيأتي بيانهم
في الفرع الآتي، ثم الزوجة بعدهم في الأصح، نعم الأفقه أولى من الاسن هنا وفي الدفن. (و) وأولى النساء (بها) أي
المرأة في غسلها إذا اجتمع من أقاربها من يصلح لغسلها (قراباتها) من النساء، محارم كن كالبنت أو لا كبنت العم لأنهن
أشفق من غيرهن.
تنبيه: قال الجوهري: تقول ذو قرابتي ولا تقول هم قرابتي، ولا هم قراباتي، لأن المصدر لا يجمع إلا عند اختلاف
النوع وهو مفقود هنا والعامة تقول ذلك. (ويقدمن على زوج في الأصح) المنصوص، لأن الأنثى بالأنثى أليق. والثاني:
يقدم عليهن لأنه ينظر إلى ما لا ينظرن إليه منها. (وأولاهن ذات محرمية) وهي كل امرأة لو كانت رجلا لم يحل له
نكاحها بسبب القرابة لأنهن أشد في الشفقة، فإن استوت اثنتان في المحرمية فالتي في محل العصوبة أولى كالعمة مع
335

الخالة، ثم ذوات الأرحام غير المحارم كبنت العم يقدم منهن الأقرب فالأقرب، ولا بد أن يكون تحريمها من جهة الرحم
فلا تقدم بنت العم البعيدة إذا كانت أما أو أختا من الرضاع مثلا على بنت العم القريبة، ولهذا لم يعتبروا الرضاع
ههنا
بالكلية. (ثم) بعد القرابات ذوات الولاء كما في المجموع. قال الأذرعي: ولم يذكروا محارم الرضاع، ويشبه أن يقدمن
على الأجنبيات اه‍. وبحثه البلقيني أيضا وزاد محارم بالمصاهرة، وعلى هذا ينبغي كما قال شيخنا تقديم
محارم الرضاع على محارم المصاهرة. ثم (الأجنبية) لأنها أليق (ثم رجال القرابة) من الأبوين أو من أحدهما (كترتيب صلاتهم) لأنهم
أشفق عليها ويطلعون غالبا على ما لا يطلع عليه الغير. (قلت: إلا ابن العم ونحوه) وهو كل قريب ليس بمحرم (فكالأجنبي
والله أعلم) أي لا حق له في غسلها جزما لأنه لا يحل له نظرها ولا الخلوة بها وإن كان له حق في الصلاة. (ويقدم عليهم)
أي رجال القرابة المحارم (الزوج) حرا كان أو عبدا، (في الأصح) لأنه ينظر إلى ما لا ينظرون إليه، والثاني: يقدمون
عليه لأن القرابة تدوم والنكاح ينتهي بالموت. وكل من تقدم شرطه الاسلام إن كان الميت مسلما، وأن لا يكون قاتلا
للميت. ولمن قدم في الغسل تفويضه لغيره بشرط اتحاد الجنس، فليس لرجل تفويضه لامرأة وعكسه، وأقارب الكافر
الكفار أولى به.
تنبيه: كلام المصنف غير مفصح عن ترتيب الزوج مع الأجنبيات، إذ أول كلامه يفهم تقديمه عليهن، فإنه قال
ويقدمن، أي القرابات على زوج في الأصح ثم الأجنبية لكونه حكى الخلاف في تقديمه على القرابات وذكره قبل
ذكر الأجنبية، وقوله بعد: ويقدم عليهم الزوج في الأصح، أي على رجال القرابة يفهم تأخره عن الأجنبيات، والمنقول
تقديم الأجنبيات عليه. (ولا يقرب المحرم طيبا) إذا مات، أي يحرم تطييبه وطرح الكافور في ماء غسله كما لا يجعل في
كفنه كما مر. (ولا يؤخذ شعره وظفره) أي يحرم إزالة ذلك منه إبقاء لاثر الاحرام، فقد ثبت في الصحيحين أنه يبعث
يوم القيامة ملبيا، ولا فدية على فاعل ذلك. وقال البلقيني: الذي اعتقده إيجابها على الفاعل كما لو حلق شعر نائم اه‍.
وفرق الأول بأن النائم بصدد عوده إلى الفهم، ولهذا ذهب جماعة إلى تكليفه، بخلاف الميت. هذا كله قبل التحلل
الأول أما بعده فهو كغيره وسيأتي حكمه. ولا بأس بالتبخر عند غسله كجلوس الحي عند العطار. وظاهر كلامهم أنه
لا يحلق رأسه إذا مات وبقي عليه الحلق ليأتي يوم القيامة محرما، وهو ظاهر لانقطاع تكليفه فلا يطلب منه حلق ولا يقوم
غيره به، كما لو كان عليه طواف أو سعي. (وتطيب المعتدة) المخدرة (في الأصح) أي لا يحرم تطييبها لأن تحريم الطيب
عليها إنما كان للاحتراز عن الرجال وللتفجع على الزوج وقد زالا بالموت. والثاني: يحرم قياسا على المحرم، ورد بأن التحريم
في المحرم كان لحق الله تعالى ولا يزول بالموت. (والجديد أنه لا يكره في غير) الميت (المحرم أخذ ظفره وشعر إبطه وعانته
وشاربه) لأنه لم يرد فيه نهي. قال الرافعي ك الروياني: ولا يستحب، وقال في الروضة عن الأكثرين أو الكثيرين: إنه
يستحب كالحي، والقديم أنه يكره لأن مصيره إلى البلاء. (قلت: الأظهر كراهته، والله أعلم) لأن أجزاء الميت محترمة
ولم يثبت فيه شئ فهو محدث، وصح النهي عن محدثات الأمور ونقل في المجموع كراهته عن نص الام والمختصر
فهو قول جديد، ولذا عبر عنا بالأظهر المفيد لأن هذا القول جديد أيضا، والصحيح في الروضة أن الميت لا يختن
إذا كان أقلف، وفي وجه يختن إن كان بالغا، وفي وجه يختن مطلقا.
فصل: في تكفين الميت وحمله. (يكفن) بعد غسله (بما) أي بشئ من جنس ما يجوز (له لبسه حيا) من
336

حرير وغيره، فيجوز تكفين المرأة بالحرير والمزعفر لكن مع الكراهة بخلاف الرجل والخنثى إذا وجد غيرهما، وأما المعصفر
فتقدم الكلام فيه في فصل اللباس. وقضية كلامهم جواز تكفين الصبي بالحرير، وهو كذلك كما صرح به المصنف في
فتاويه. وإن قال الأذرعي الأوجه المنع، ومثل الصبي المجنون كما مر في فصل اللباس. قال الأذرعي: والظاهر في الشهيد
أنه يكفن به إذا قتل وهو لابسه بشرطه، أي بأن يحتاج إليه للحرب. ولا يكفن الميت في متنجس نجاسة لا يعفى عنها
وهناك طاهر وإن جاز له لبسه خارج الصلاة ولو كان الطاهر حريرا كما اعتمده شيخي قال: لأن الميت كالمصلي، وإن
قال البغوي والقمولي إن النجس يقدم عليه. ولا يكفي التطيين مع وجود غيره ولو حشيشا كما صرح به الجرجاني،
وإن كان يكفي في السترة في الحياة لما في ذلك من الازدراء بالميت. ويجوز تكفين المحدة فيما حرم عليها لبسه في حال
الحياة كما قاله المتولي، وهو قياس ما تقدم في إباحة الطيب لها. (وأقله ثوب) واحد وهو ما يستر العورة أو جميع البدن إلا
رأس المحرم. ووجه المحرمة وجهان أصحهما في الروضة والمجموع والشرح الصغير الأول، فيختلف قدرة
بالذكورة والأنوثة
كما صرح به الرافعي، لا بالرق والحرية كما اقتضاه كلامهم وهو الظاهر في الكفاية، وصحح المصنف في مناسكه الثاني، واختار
ابن المقري في شرح إرشاده ك الأذرعي تبعا لجمهور الخراسانيين، وجمع بينها في روضه فقال: وأقله ثوب يعم البدن،
والواجب ستر العورة، فحمل الأول على أنه حق لله تعالى والثاني على أنه حق للميت، وهو جمع حسن. (ولا تنفذ)
بالتشديد (وصيته بإسقاطه) أي الثوب على الأول لأنه حق لله تعالى بخلافه على الثاني والثالث. ولو أوصى بساتر العورة
فقط ففي المجموع عن التقريب والامام و الغزالي وغيرهم: لم تصح وصيته، ويجب تكفينه بما يستر جميع بدنه اه‍.
وهل ذلك مبني على الأول أو على الثاني؟ قال الأسنوي: وهذا بناء على ما رجحه من أن الواجب ستر جميع البدن،
وتبعه على ذلك كثير من الشراح. والظاهر كما قال شيخي أن هذا ليس مبنيا عليه بل إنما هو لعدم صحة الوصية لأن
الوصية به مكروهة والوصية بالمكروه لا تنفذ، ولو لم يوص فقال بعض الورثة: يكفن بثوب يستر جميع البدن أو ثلاثة،
وقال بعضهم: بساتر العورة فقط، وقلنا بجوازه، كفن بثوب أو ثلاثة، ذكره في المجموع، أي لأنه حق للميت. ولو قال
بعضهم: يكفن بثوب، وبعضهم: بثلاثة، كفن بها لما تقدم، وقيل: بثوب. ولو اتفقوا على ثوب ففي التهذيب يجوز، وفي
التتمة أنه على الخلاف، قال المصنف: وهو أقيس، أي فيجب أن يكفن بثلاثة. ولو كان عليه دين مستغرق فقال
الغرماء يكفن في ثوب والورثة في ثلاثة، أجيب بالغرماء في الأصح لأنه إلى براءة ذمته أحوج منه إلى زيادة الستر.
قال في المجموع: ولو قال الغرماء: يكفن بساتر العورة، والورثة: بساتر جميع البدن، نقل صاحب الحاوي وغيره الاتفاق على
ساتر جميع البدن، ولو اتفقت الغرماء والورثة على ثلاثة جاز بلا خلاف. وحاصله أن الكفن بالنسبة لحق الله تعالى ستر
العورة فقط، وبالنسبة للغرماء ساتر جميع بدنه، وبالنسبة للورثة ثلاثة، فليس للوارث المنع منها تقديما لحق المالك. وفارق
الغريم بأن حقه سابق وبأن منفعة صرف المال له تعود إلى الميت بخلاف الوارث فيهما، هذا إذا كفن من تركته،
أما إذا كفن من غيرها فلا يلزم من يجهزه من قريب وسيد وزوج وبيت مال إلا ثوب واحد ساتر لجميع بدنه، بل لا تجوز
الزيادة عليه من بيت المال كما يعلم من كلام الروضة، وكذا إذا كفن مما وقف للتكفين كما أفتى به ابن الصباغ قال:
ويكون سابغا ولا يعطى القطن والحنوط فإنه من قبيل الأمور المستحبة التي لا تعطى على الأظهر. وظاهر قوله: ويكون
سابغا أنه يعطي ثوبا ساترا للبدن وإن قلنا الواجب ستر العورة، وهو كذلك لأن الزائد عليها حق للميت كما مر. (والأفضل
للرجل) أي الذكر بالغا كان أو صبيا أو محرما، (ثلاثة) لقول عائشة رضي الله تعالى عنها: كفن رسول الله
(ص) في ثلاثة أثواب بيض سحولية (من كرسف) ليس فيها قميص ولا عمامة رواه الشيخان، وسحول بلد باليمن، ولا ينافي
هذا ما تقدم من أن الثلاثة واجبة من التركة لأنها وإن كانت واجبة فالاقتصار عليها أفضل من الزائد عليها، ولذا قال:
(ويجوز) بلا كراهة (رابع وخامس) لأن ابن عمر كفن ابنا له في خمسة أثواب: قميص وعمامة وثلاث لفائف، كما
رواه البيهقي. وأما الزيادة على ذلك فهي مكروهة وإن أشعر كلام المصنف بحرمتها وبحثه في المجموع، لكن محله
337

في ورثة متبرعين ورضوا بها، فإن كان فيهم صغير أو مجنون أو محجور أو كان الوارث بيت المال فلا. (و) الأفضل (لها)
وللخنثى (خمسة) من الأثواب لزيادة الستر في حقهما وتكره الزيادة على ذلك كما مر. (ومن كفن منهما) أي من
ذكر أو أنثى، والخنثى ملحق بها كما مر، (بثلاثة فهي) كلها (لفائف) متساوية طولا وعرضا يعم كل منها جميع البدن
غير رأس المحرم ووجه المحرمة كما سيأتي، وقيل: تكون متفاوتة، فالأسفل من سرته إلى ركبته، وهو المسمى بالإزار،
والثاني من عنقه إلى كعبه، والثالث يستر جميع بدنه. (وإن كفن) ذكر (في خمسة زيد قميص) إن لم يكن محرما
(وعمامة تحتهن) أي اللفائف، اقتداء بفعل ابن عمر رضي الله تعالى عنهما. أما المحرم فإنه لا يلبس مخيطا. (وإن كفنت)
أي امرأة (في خمسة فإزار) أولا، ومر تعريفه ويقال له مئزر أيضا، (وخمار) وهو ما يغطى به الرأس، (وقميص)
قبل الخمار، (ولفافتان) بعد ذلك، لأنه (ص) كفن فيها ابنته أم كلثوم رضي الله تعالى عنها، رواه أبو داود. (وفي
قول ثلاث لفائف وإزار وخمار) فاللفافة الثالثة بدل القميص، لأن الخمسة لها كالثلاثة للرجل، والقميص لم يكن في
كفنه (ص). (ويسن) الكفن (الأبيض) لقوله (ص): البسوا من ثيابكم البياض فإنها خير ثيابكم
وكفنوا فيها موتاكم رواه الترمذي وغيره، وقال: حسن صحيح، وسيأتي أن المغسول منه أولى من الجديد. (ومحله)
أي الكفن كبقية مؤن التجهيز (أصل التركة) كما سيأتي أول الفرائض أنه يبدأ من تركة الميت بمؤن تجهيزه إلا أن
يتعلق بعين التركة حق فيقدم عليها، ويستثنى من هذا الأصل من لزوجها مال ويلزمه نفقتها فكفنها عليه في الأصح
الآتي. ولو قال بعض الورثة أكفنه من مالي وقال البعض من التركة، كفن منها دفعا للمنة. (فإن لم يكن) للميت
في غير الصورة المستثناة تركة، (فعلى من عليه نفقته من قريب) أصل أو فرع، صغير أو كبير لعجزه بالموت، (وسيد) في
رقيقه ولو مكاتبا وأم ولد اعتبارا بحال الحياة في غير المكاتب ولانفساخ الكتابة بموت المكاتب. (وكذا) محل الكفن
أيضا (الزوج) الموسر الذي يلزمه نفقتها فعليه تكفين زوجته حرة كانت أو أمة مع مؤنة تجهيزها وتجهيز خادمها،
(في الأصح) لأنها في نفقته في الحياة، فأشبه القريب والسيد سواء أكانت زوجته موسرة أم لا. وبما تقرر علم أن جملة
وكذا الزوج عطف على جملة ومحله أصل التركة، فسقط بذلك ما قيل إن ظاهره يقتضي أن وجوب الكفن على
الزوج إنما هو حيث لم يكن للزوجة تركة، وهو خلاف ما في الروضة كأصلها، والثاني: لا يجب عليه لفوات التمكين المقابل
للنفقة. ولو ماتت البائن الحامل فنقل الروياني وجوب التكفين على الزوج، وهو مبني على أن النفقة لها وهو الأصح،
فإن قلنا للحمل فلا. أما من لا تجب نفقتها في حال حياتها كصغيرة وناشزة فما ذكر في تركتها، وكذا إن لم يكن للزوج
مال فإن كان له مال لا يفي بذلك كمل من مالها. ولو امتنع الموسر من ذلك أو كان غائبا فجهز الزوجة الورثة من مالها
أو غيره رجعوا عليه بذلك إن فعلوه بإذن حاكم يراه وإلا فلا. ولو ماتت زوجاته دفعة بنحو هدم ولم يجد إلا كفنا فهل
يقرع بينهن أو تقدم المعسرة أو من يخشى فسادها؟ أو متن مرتبا هل تقدم الأولى أو المعسرة أو يقرع؟ احتمالات أقربها
أولها فيهما. وإذا لم يكن للميت مال، ولا كان له من تلزمه نفقته فمؤن تجهيزه من كفن وغيره في بيت المال
كنفقته
في الحياة، فإن لم يكن فعلى أغنياء المسلمين. قال في المجموع: ولا يشترط وقوع التكفين من مكلف حتى لو كفنه غيره
حصل التكفين لوجود المقصود، وفيه عن البندنيجي وغيره: لو مات إنسان ولم يوجد ما يكفن به إلا ثوب مع مالك
غير محتاج إليه لزمه بذل بالقيمة كالطعام للمضطر، زاد البغوي في فتاويه: فإن لم يكن له مال فمجانا لأن تكفينه لازم
للأمة ولا بدل يصار إليه. (و) إذا وقع التكفين في اللفائف الثلاث ووقع فيها تفاوت (يبسط) أولا (أحسن اللفائف
338

وأوسعها) وأطولها، (والثانية) وهي التي تلي الأولى في ذلك (فوقها، وكذا الثالثة) فوق الثانية، لأن الحي يجعل أحسن
ثيابه أعلاها، فلهذا بسط الأحسن أولا لأنه الذي يعلو على كل الكفن. وأما كونه أوسع فلامكان لفه على الضيق
بخلاف العكس. (ويذر) بالمعجمة في غير المحرم، (على كل واحدة) من اللفائف قبل وضع الأخرى، (حنوط) بفتح
الحاء، ويقال له الحناط بكسرها، وهو نوع من الطيب يجعل للميت خاصة يشتمل على الكافور والصندل وذريرة
القصب، قاله الأزهري، وقال غيره: هو كل طيب خلط للميت. (وكافور) هو من عطف الجزء على الكل لأنه حينئذ
الجزء الأعظم من الطيب لتأكد أمره، ولان المراد زيادته على ما يجعل في أصول الحنوط. ونص الامام وغيره على
استحباب الاكثار منه فيه، بل قال الشافعي: ويستحب أن يطيب جميع بدنه بالكافور لأنه يقويه ويشده، ولو كفن
في خمسة جعل بين كل ثوبين حنوط كما في المجموع. (ويوضع الميت فوقها) أي اللفائف برفق، (مستلقيا) على قفاه، وهل
تجعل يداه على صدره اليمنى على اليسرى أو يرسلان في جنبه؟ لا نقل في ذلك، فكل من ذلك حسن محصل للغرض.
(وعليه حنوط وكافور) لأن ذلك يدفع الهوام ويشد البدن ويقويه كما مر. ويسن تبخير الكفن بنحو عود أولا.
(ويشد ألياه) بخرقة بعد دس قطن حليج عليه حنوط وكافور بين ألييه حتى يصل لحلقة الدبر فيسدها، ويكره إيصاله
داخل الحلقة، وتكون الخرقة مشقوقة الطرفين، وتجعل على الهيئة المتقدمة في المستحاضة. (ويجعل على منافذ بدنه)
من أذنيه ومنخريه وعينيه، وعلى أعضاء سجوده كجبهته وقدميه (قطن) عليه حنوط وكافور ليخفى ما عساه أن
يخرج منها ويدفع عنه الهوام. (ويلف عليه) بعد ذلك (اللفائف) بأن يثنى الطرف الأيسر ثم الأيمن كما يفعل الحي
بالقباء، ويجمع الفاضل عند رأسه ورجليه، ويكون الذي عند رأسه أكثر. (وتشد) عليه اللفائف بشداد لئلا تنتشر
عند الحمل إلا إن كان محرما كما في تحرير الجرجاني لأنه شبيه بعقد الإزار، ولا يجوز أن يكتب عليها شئ من القرآن،
ولا أن يكرى للميت من الثياب ما فيه زينة كما في فتاوى ابن الصلاح. (فإذا وضع) الميت (في قبره نزع الشداد)
لزوال المقتضى. لأنه يكره أن يكون عليه في القبر شئ معقود كما نص عليه. (ولا يلبس المحرم الذكر مخيطا) ولا ما في
معناه مما يحرم على المحرم لبسه، (ولا يستر رأسه ولا وجه المحرمة) أي يحرم ذلك إبقاء لاثر الاحرام، وتقدم أن الكلام
فيما قبل التحلل الأول، أما بعده فلا. قال في المجموع: ولو نبش القبر وأخذ كفنه ففي التتمة يجب تكفينه ثانيا سواء
أكان كفن من ماله أم من مال من عليه نفقته أم من بيت المال، لأن العلة في المرة الأولى الحاجة وهي موجودة.
وفي الحاوي: إذا كفن من ماله وقسمت التركة ثم سرق كفنه استحب للورثة أن يكفنوه
ثانيا ولا يلزمهم، لأنه لو لزمهم ثانيا للزمهم إلى ما لا يتناهى اه‍. وهذا أوجه. ولا يسن أن يعد لنفسه كفنا لئلا يحاسب على اتخاذه إلا أن يكون من جهة
حل أو أثر ذي صلاح فحسن، وقد صح عن بعض الصحابة فعله، لكن لا يجب تكفينه فيه كما اقتضاه كلام القاضي
أبي الطيب وغيره، وقال الزركشي: إنه المتجه، بل للوارث إبداله وإن اقتضى كلام الرافعي المنع. ولا يكره أن يعد
لنفسه قبرا يدفن فيه، قال العبادي: ولا يصير أحق به ما دام حيا. ثم شرع في كيفية حمل الميت، وليس في حمله دناءة
ولا سقوط مروءة بل هو بر وإكرام للميت فقد فعله بعض الصحابة والتابعين، فقال: (وحمل الجنازة بين العمودين أفضل
من التربيع في الأصح) لحمل سعد بن أبي وقاص عبد الرحمن بن عوف وحمل النبي (ص) سعد بن معاذ،
رواهما الشافعي في الام، الأول بسند صحيح والثاني بسند ضعيف. والثاني: التربيع أفضل لأنه أصون للميت، بل حكي
وجوبه لأن ما دونه ازدراء بالميت. والثالث: هما سواء لحصول المقصود بكل منهما، هذا إذا أراد الاقتصار على كيفية واحدة،
339

والأفضل أن يجمع بينهما بأن يحمل تارة بهيئة الحمل بين العمودين وتارة بهيئة التربيع. ثم بين حملها بين العمودين
بقوله: (وهو أن يضع الخشبتين المتقدمتين) أي العمودين (على عاتقه) وهو ما بين المنكب والعنق، وهو
مذكر وقيل
مؤنث. (ورأسه بينهما، ويحمل) الخشبتين (المؤخرتين رجلان) أحدهما من الجانب الأيمن والآخر من الأيسر، وإنما
كان المؤخرتان لرجلين لأن الواحد لو توسطهما كان وجهه إلى الميت فلا ينظر إلى الطريق وإن وضع الميت على رأسه
لم يكن حاملا بين العمودين ويؤدي إلى ارتفاع مؤخرة النعش وتنكيس الميت على رأسه، فإن عجز عن الحمل أعانه اثنان
بالعمودين ويأخذ اثنان بالمؤخرتين في حالتي العجز وعدمه، فحاملوه بلا عجز ثلاثة وبه خمسة فإن عجزوا فسبعة أو أكثر
وترا بحسب الحاجة أخذا من كلامهم. ثم بين حملها على هيئة التربيع فقال: (والتربيع أن يتقدم رجلان) يضع أحدهما
العمود الأيمن على عاتقه الأيسر والآخر عكسه، (ويتأخر آخران) يحملان كذلك فيكون الحاملون أربعة، ولهذا
سميت الكيفية بالتربيع. فإن عجز الأربعة عنها حملها ستة أو ثمانية، وما زاد على الأربعة يحمل من جوانب السرير
أو يزاد أعمدة معترضة تحت الجنازة كما فعل ب عبد الله بن عمر فإنه كان جسيما. وأما الصغير فإن حمله واحد جاز إذ لا ازدراء
فيه. ومن أراد التبرك بالحمل بالهيئة بين العمودين بدأ بحمل العمودين من مقدمها على كتفيه، ثم بالأيسر من مؤخرها،
ثم يتقدم لئلا يمشي خلفها، فيأخذ الأيمن المؤخر، أو بهيئة التربيع بدأ بالعمود
الأيسر من مقدمها على عاتقه الأيمن ثم بالأيسر من مؤخرها كذلك، ثم يتقدم لئلا يمشي خلفها فيبدأ بالأيمن من مقدمها على عاتقه الأيسر ثم من مؤخرها
كذلك، أو بالهيئتين فيما أتى به في الثانية ويحمل المقدم على كتفيه مؤخرا أو مقدما كما بحثه بعضهم. (والمشي) للمشيع لها
وكونه (أمامها) أفضل للاتباع، رواه أبو داود بإسناد صحيح، ولأنه شفيع وحق الشفيع أن يتقدم. وأما خبر: امشوا
خلف الجنازة فضعيف. وكونه (بقربها) وهو من زيادته على المحرر بحيث يراها إذا التفت إليها، (أفضل) منه بعيدا بأن
لا يراها لكثرة الماشين معها. قال في المجموع: فإن بعد عنها فإن كان بحيث ينسب إليها بأن يكون التابعون كثيرين
حصلت الفضيلة وإلا فلا. وإطلاق المصنف يقتضي أنه لا فرق في استحباب التقدم والتأخر بين الراكب والماشي، وهو
ما صرحا به في الشرحين والروضة ونسبه في المجموع إلى الشافعي والأصحاب. وما ذكره الرافعي في شرح
المسند من أن
الراكب يكون خلفها بالاتفاق تبع فيه الخطابي، قال الأسنوي: وهو خطأ. ولو مشى خلفها حصل له فضيلة أصل المتابعة
وفاته كمالها، ولو تقدم إلى المقبرة لم يكره، ثم هو بالخيار إن شاء قام حتى توضع الجنازة وإن شاء قعد. ويكره ركوبه في ذهابه
معها لما روى الترمذي أنه (ص) رأى ناسا ركابا في جنازة فقال: ألا تستحيون؟ إن ملائكة الله على أقدامهم وأنتم
على ظهور الدواب هذا إن لم يكن له عذر كمرض فلا، ولا كراهة في الركوب في العود. (ويسرع بها)
ندبا لخبر الصحيحين: أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم.
هذا (إن لم يخف تغيره) أي الميت بالاسراع وإلا فيتأنى به. والاسراع فوق المشي المعتاد ودون الخبب لئلا تنقطع الضعفاء،
فإن خيف تغيره بالتأني زيد في الاسراع. ويكره القيام للجنازة إذا مرت به ولم يرد الذهاب معها كما صرح به في الروضة
وجرى عليه ابن المقري، خلافا لما جرى عليه المتولي من الاستحباب. قال في المجموع: قال البندنيجي: يستحب: لمن مرت به
جنازة أن يدعو لها ويثني عليها إذا كانت أهلا لذلك، وأن يقول: سبحان الحي الذي لا يموت، سبحان الملك القدوس. وروي
عن أنس أنه (ص) قال: من رأى جنازة فقال: الله أكبر صدق الله ورسوله، هذا ما وعد الله ورسوله، اللهم
زدنا إيمانا وتسليما، كتب له عشرون حسنة.
فصل: في الصلاة على الميت المسلم غير الشهيد، وهي من خصائص هذه الأمة كما قاله الفاكهاني المالكي في
شرح الرسالة. قال: وكذا الايصاء بالثلث. (لصلاته أركان) سبعة: (أحدها النية) كسائر الصلوات، وتقدم الكلام
340

عليها في باب صفة الصلاة، (ووقتها كغيرها) أي كوقت نية غيرها من الصلوات في وجوب قرن النية بتكبيرة الاحرام.
(وتكفي) فيها (نية) مطلق (الفرض) من غير ذكر الكفاية كما تكفي النية في إحدى الخمس من غير تقييد
بفرض العين. (وقيل: تشترط نية فرض كفاية) ليتميز عن فرض العين، ولعل هذا الوجه فيمن لم تتعين عليه كما
يؤخذ من التعليل. وقد علم من كلامه أن نية الفرضية لا بد منها كما في الصلوات الخمس، وفي الإضافة إلى الله تعالى
الخلاف السابق في باب صفة الصلاة. (ولا يجب تعيين الميت) الحاضر باسمه كزيد وعمرو ولا معرفته كما في المحرر. وأما
تعيينه الذي يتميز به عن غيره ك‍ أصلي على هذا، أو الحاضر، أو على من يصلي عليه الامام فلا بد منه. أما
الغائب فيجب
تعيينه في الصلاة عليه باللقب كما قاله ابن عجيل اليمني وعزي إلى البسيط. (فإن عين) الميت الحاضر أو الغائب كأن صلى
على زيد أو الكبير أو الذكر من أولاده، (وأخطأ) فبان عمرا أو الصغير أو الأنثى، (بطلت) أي لم تصح صلاته إذا لم
يشر إلى المعين، فإن أشار إليه صحت في الأصح كما في زيادة الروضة تغليبا للإشارة. (وإن حضر موتى نواهم) أي نوى
الصلاة عليهم وإن لم يعرف عددهم. قال الروياني: فلو صلى على بعضهم ولم يعينه، ثم صلى على الباقي كذلك لم تصح. قال:
ولو أعتقد أنهم عشرة فبانوا أحد عشر أعاد الصلاة على الجميع، لأن فيهم من لم يصل عليه وهو غير معين، ولو اعتقد
أنهم أحد عشر فبانوا عشرة فالأظهر الصحة. ولو أحرم الامام بالصلاة على الجنازة ثم حضرت أخرى وهم في الصلاة
تركت حتى يفرغ ثم يصلي على الثانية لأنه لم ينوها أولا، ذكره في المجموع. ولو صلى على حي وميت صحت على
الميت إن جهل الحال وإلا فلا. ويجب على المأموم نية الاقتداء، ولا يضر اختلاف نية الإمام والمأموم كما سيأتي. (الثاني)
من الأركان: (أربع تكبيرات) بتكبيرة الاحرام للاتباع، رواه الشيخان، وبالاجماع كما في المجموع. (فإن خمس)
عمدا (لم تبطل) صلاته (في الأصح) لثبوتها في صحيح مسلم، لكن الأربع أولى لتقرر الامر عليها من النبي
(ص) وأصحابه ولأنها ذكر وزيادة الذكر لا تضر، والثاني: تبطل كزيادة ركعة أو ركن في سائر الصلوات،
وأجرى جماعة الخلاف في الزائد على الأربع فلا تبطل به على الأصح لما مر من التعليل. وتشبيه التكبيرة بالركعة
فيما يأتي محله بقرينة المتابعة فقط لتأكدها. نعم لو زاد على الأربع عمدا معتقدا البطلان بطلت كما ذكره
الأذرعي، أما إذا كان ساهيا فلا تبطل جزما، ولا سجود لسهو فيها، إذ لا مدخل للسجود فيها. (ولو خمس) أي كبر
(إمامه) في صلاته خمس تكبيرات وقلنا لا تبطل (لم يتابعه) المأموم، أي لا تسن له متابعته في الزائد، (في الأصح)
وعبر في الروضة بالأظهر، وفي المجموع بالمذهب لعدم سنه للامام. (بل يسلم أو ينتظره ليسلم معه) وهو أولى لتأكد
المتابعة، والثاني: يتابعه لما ذكر، وإن قلنا بالبطلان فارقه جزما. وما قررت به كلام المصنف هو ما جرى عليه السبكي
وهو الظاهر، وقال الأسنوي: الظاهر أن الخلاف إنما هو في الوجوب لأجل المتابعة، ويحتمل أنه في
الاستحباب.
وقول الزركشي الصواب أنه في الجواز، قال شيخنا: ممنوع. (الثالث) من الأركان: (السلام) بعد التكبيرات، وهو فيها
(كغيرها) أي كسلام غيرها من الصلوات في كيفيته وتعدده. ويؤخذ من ذلك عدم سن زيادة وبركاته، وهو كذلك
خلافا لمن قال: يسن ذلك، وأنه يلتفت في سلام ولا يقتصر على تسليمة واحدة يجعلها تلقاء وجهه وإن قال في المجموع
إنه الأشهر. (الرابع) من الأركان: (قراءة الفاتحة) كغيرها من الصلوات، ولعموم خبر: لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة
الكتاب ولخبر البخاري: أن ابن عباس قرأ بها في صلاة الجنازة، وقال: لتعلموا أنها سنة وفي رواية: قرأ بأم القرآن
فجهر بها وقال: إنما جهرت بها لتعلموا أنها سنة. ومحلها (بعد) التكبيرة (الأولى) وقبل الثانية للاتباع رواه البيهقي،
341

وهذا هو ظاهر كلام الغزالي وصححه المصنف في التبيان. (قلت: تجزئ الفاتحة بعد غير الأولى) من الثانية والثالثة والرابعة،
(والله أعلم) وهذا ما جزم به في المجموع وهو المعتمد، وفي المجموع: يجوز أن يجمع في التكبيرة الثانية بين القراءة والصلاة
على النبي (ص) وفي الثالثة بين القراءة والدعاء للميت، ويجوز إخلاء التكبيرة الأولى من القراءة اه‍. ولا يشترط الترتيب
بين الفاتحة وبين الركن الذي قرئت الفاتحة فيه، ولا يجوز أن يقرأ بعضها في ركن وبعضها في ركن آخر كما يؤخذ من كلام المجموع
لأن هذه الخصلة لم تثبت، وكالفاتحة فيما ذكر عند العجز عنها بدلها. (الخامس) من الأركان: (الصلاة على رسول الله
(ص)) للاتباع كما رواه الحاكم وصححه على شرط الشيخين. ومحلها (بعد) التكبيرة (الثانية) وقيل: الثالثة، كما
صرح به في المجموع نقلا عن تصريح السرخسي لفعل السلف والخلف، فلا يجزئ في غيرها، وإن قلنا إن الفاتحة لا تتعين
في الأولى. وأقلها: اللهم صل على محمد. (والصحيح) وبه قطع في المجموع (أن الصلاة على الآل لا تجب) فيها كغيرها
وأولى لبنائها على التخفيف، بل تسن كالدعاء للمؤمنين والمؤمنات عقبها، والحمد لله قبل الصلاة على النبي (ص).
ولا يجب ترتيب بين الصلاة والدعاء والحمد لكنه أولى كما في زيادة الروضة. (السادس) من الأركان: (الدعاء للميت) بخصوصه
لأنه المقصود الأعظم من الصلاة وما قبله مقدمة له، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما رواه أبو داود وابن حبان وابن ماجة:
إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء فلا يكفي الدعاء للمؤمنين والمؤمنات، وقيل: يكفي ويندرج فيهم، وقيل: لا يجب
الدعاء مطلقا. وعلى الأول الواجب ما ينطلق عليه الاسم، كاللهم ارحمه واللهم اغفر له، وأما الأكمل فسيأتي. وقول
الأذرعي: الأشبه أن غير المكلف لا يجب الدعاء له لعدم تكليفه، قال الغزي: باطل. ويجب أن يكون الدعاء (بعد)
التكبيرة (الثالثة) وقبل الرابعة، ولا يجزئ في غيرها بلا خلاف. قال في المجموع: وليس لتخصيص ذلك إلا مجرد
الاتباع اه‍. ولا يجب بعد الرابعة ذكر كما يعلم من كلامهم، ولكن يندب كما سيأتي. (السابع) من الأركان: (القيام على
المذهب إن قدر) عليه كغيرها من الفرائض. وقيل: يجوز القعود مع القدرة كالنوافل لأنها ليست من الفرائض الأعيان.
وقيل: إن تعينت وجب القيام، وإلا فلا. (ويسن رفع يديه في التكبيرات) فيها حذو منكبيه ووضعهما بعد كل تكبيرة تحت
صدره كغيرها من الصلوات. (وإسرار القراءة) للفاتحة ولو ليلا، لقول أبي أمامة سهل بن حنيف: من السنة في صلاة الجنازة
أن يكبر، ثم يقرأ بأم القرآن مخافتة، ثم يصلي على النبي (ص)، ثم يخلص الدعاء للميت ويسلم، رواه عبد الرزاق
والنسائي بإسناد صحيح. وكثالثة المغرب بجامع عدم مشروعية السورة. وما تقدم في خبر ابن عباس من أنه جهر بالقراءة
أجيب عنه بأن خبر أبي أمامة أصح منه، وقوله فيه: إنما جهرت لتعلموا أنه سنة قال في المجموع: يعني لتعلموا أن القراءة
مأمور بها. (وقيل: يجهر ليلا) أي بالفاتحة خاصة لأنها صلاة ليل. أما الصلاة على النبي (ص) والدعاء فيندب الاسرار
بهما اتفاقا، واتفقوا على أنه يجهر بالتكبير والسلام، فتقييد المصنف القراءة أي الفاتحة لأجل الخلاف. (والأصح ندب
التعوذ) لأنه سنة للقراءة فاستحب كالتأمين ولأنه قصير، ويسر به قياسا على سائر الصلوات. (دون الافتتاح) لطوله،
والثاني: يستحبان كالتأمين، والثالث: لا يستحبان لطولهما، بخلاف التأمين وقراءة السورة بعد الفاتحة لا تسن كدعاء
الافتتاح. وظاهر كلامهم أن الحكم كذلك لو صلى على قبر أو غائب لأنها مبنية على التخفيف كما قاله شيخي.
(ويقول)
ندبا (في الثالثة: اللهم هذا عبدك وابن عبديك إلى آخره) المذكور في المحرر وغيره، ولم يذكر المصنف باقيه استغناء
بشهرته، ولكن نذكر تتمته تتميما للفائدة، وهي: خرج من روح الدنيا وسعتها بفتح أولهما، أي نسيم ريحها واتساعها
ومحبوبه وأحبائه فيها، أي ما يحبه ومن يحبه، إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك
342

ورسولك وأنت أعلم به. اللهم إنه نزل بك، أي هو ضيفك: أنت أكرم الأكرمين، وضيف الكرام لا يضام، وأنت خير
منزول به، وأصبح فقيرا إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له. اللهم إن كان محسنا
فزد في إحسانه وإن كان مسيئا فتجاوز عنه ولقه، أي أعطه برحمتك رضاك، وقه فتنة القبر وعذابه، وافسح له في قبره،
وجاف الأرض عن جنبيه، ولقه برحمتك الامن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين. جمع ذلك الشافعي
رحمة الله تعالى عليه من الاخبار، واستحسنه الأصحاب. ووجد في نسخة من الروضة ومحبوبها، وكذا هو في المجموع،
والمشهور في قوله: ومحبوبه وأحبائه بالجر، ويجوز رفعه بجعل الواو وللحال. وروى مسلم عن عوف بن مالك قال: صلى
النبي (ص) على جنازة فسمعته يقول: اللهم اغفر له وارحمه، واعف عنه وعافه، وأكرم نزله، ووسع مدخله،
واغسله بماء وثلج وبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، (وزوجا خيرا من زوجه)،
وقه فتنة القبر وعذاب النار قال عوف: فتمنيت أن لو كنت أنا الميت. هذا في البالغ الذكر، فإن كان أنثى عبر
بالأمة وأنث ما يعود عليها، وإن ذكر بقصد الشخص لم يضر كما في الروضة. وإن كان خنثى قال الأسنوي: فالمتجه
التعبير بالمملوك ونحوه، قال: فإن لم يكن للميت أب بأن كان ولد زنا، فالقياس أن يقول فيه وابن أمتك اه‍، والقياس
أنه لو لم يعرف أن الميت ذكر أو أنثى أن يعبر بالمملوك ونحوه، ويجوز أن يأتي بالضمائر مذكرة على إرادة الشخص أو
الميت ومؤنثة على إرادة لفظ الجنازة وأنه لو صلى على جمع معا يأتي فيه بما يناسبه. وأما الصغير فسيأتي ما يقال فيه. (ويقدم)
ندبا (عليه) أي الدعاء السابق (اللهم اغفر لحينا وميتنا وشاهدنا وغائبنا وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا، اللهم
من أحييته
منا فأحيه على الاسلام ومن توفيته منا فتوفه على الايمان) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما. وزاد غير الترمذي: اللهم
لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده وقدم هذا لثبوت لفظه في صحيح مسلم، وتضمنه الدعاء للميت بخلاف ذلك، فإن بعضه مروي
بالمعنى وبعضه باللفظ. وتبع المصنف في الجمع بين الدعاءين المحرر والشرح الصغير ولم يتعرض لذلك في الروضة والمجموع.
(ويقول) ندبا (في) الميت (الطفل) أو الطفلة، والمراد بهما من لم يبلغ (مع هذا) الدعاء (الثاني) في كلامه: (اللهم اجعله) أي
الميت بقسميه، (فرطا لأبويه) أي سابقا مهيئا مصالحهما في الآخرة، (وسلفا وذخرا) بالذال المعجمة، وفي القاموس: ذخره كمنعه
ذخرا بالضم: ادخره واختاره واتخذه. (وعظة) هو اسم مصدر بمعنى اسم المفعول أي موعظة، أو اسم الفاعل: أو واعظا. (واعتبارا
وشفيعا، وثقل به موازينهما، وأفرغ الصبر على قلوبهما) لأن ذلك مناسب للحال، وزاد في المجموع والروضة وأصلها على هذا:
ولا تفتنهما بعده ولا تحرمهما أجره. ويؤنث فيما إذا كان الميت أنثى، ويأتي في الخنثى ما مر، ويشهد للدعاء لهما ما في خبر المغيرة:
والسقط يصلى عليه ويدعى لوالديه بالعافية والرحمة فيكفي هذا الدعاء للطفل ولا ينافي قولهم أنه لا بد في الدعاء للميت
أن يخص به كما مر لثبوت النص في هذا بخصوصه، ولكن لو دعا بخصوصه كفى. فإن تردد في بلوغ المراهق فالأحوط أن
يدعو بهذا الدعاء ويخصصه بالدعاء بعد الثالثة. قال الأسنوي: وسواء فيما قالوه مات في حياة أبويه أم لا. وقال الزركشي:
محله في الأبوين الحيين المسلمين فإن لم يكونا كذلك أتى بما يقتضيه الحال وهذا أولى. قال الأذرعي: فلو
جهل إسلامهما فكالمسلمين بناء على الغالب والدار اه‍. والأولى أن يعلقه على إيمانهما خصوصا في ناحية يكثر فيها الكفار،
ولو علم كفرهما كتبعية الصغار للسابي حرم الدعاء لهما بالمغفرة والشفاعة ونحوهما، ولو علم إسلام أحدهما وكفر الآخر أو شك
فيه لم يخف الحكم مما مر. (ويقول) ندبا (في) التكبيرة (الرابعة) أي بعدها: (اللهم لا تحرمنا) بفتح المثناة الفوقية وضمها
343

(أجره) أي أجر الصلاة عليه، أو أجر المصيبة، فإن المسلمين في المصيبة كالشئ الواحد. (ولا تفتنا بعده) أي بالابتلاء
بالمعاصي. وزاد على ذلك جماعة منهم الشيخ في التنبيه: واغفر لنا وله. ويسن أن يطول الدعاء بعد الرابعة
لثبوته عنه
(ص) كما في الروضة، رواه الحاكم وصححه. نعم لو خشي تغير الميت أو انفجاره لو أتى بالسنن فالقياس
كما قال الأذرعي الاقتصار على الأركان. (ولو تخلف المقتدي) عن إمامه بالتكبير (بلا عذر فلم يكبر حتى كبر إمامه) تكبيرة
(أخرى) أو شرع فيها، (بطلت صلاته) لأن المتابعة لا تظهر في هذه الصلاة إلا بالتكبيرات فيكون التخلف بها فاحشا كالتخلف
بالركعة. وأفهم قوله حتى كبر أنه لو تخلف عن الرابعة حتى سلم الامام أنها لا تبطل، وهو كذلك لأنه لا يجب فيها ذكر فليست
كالركعة بخلاف ما قبلها، خلافا لما صرح به في التمييز من البطلان، فلو كان ثم عذر كبطء قراءة أو نسيان فلا تبطل بتخلفه
بتكبيرة فقط بل بتكبيرتين على ما اقتضاه كلامهم. ولا شك أن التقدم كالتخلف بل أولى كما علم مما تقدم في ترتيب
الأركان وإن كان بحث بعضهم أنه لا يضر. (ويكبر المسبوق ويقرأ الفاتحة وإن كان الامام في غيرها) كالصلاة على النبي (ص)
والدعاء، لأن ما أدركه أول صلاته فيراعى ترتيبها. (ولو كبر الامام أخرى قبل شروعه في الفاتحة) بأن كبر عقب تكبيره، (كبر
معه وسقطت القراءة) عنه كما لو ركع الامام عقب تكبيرة المسبوق فإنه يركع معه ويتحملها عنه. (وإن كبرها وهو) أي المأموم
(في) أثناء (الفاتحة تركها وتابعه) أي الامام في التكبير، (في الأصح) وتحمل عنه باقيها كما إذا ركع الامام والمسبوق في أثناء
الفاتحة. ولا يشكل هذا بما مر من أن الفاتحة لا تتعين في الأولى لأن الأكمل قراءتها فيها فيتحملها عنه الامام. ولو سلم الامام
عقب تكبيرة المسبوق لم تسقط عنه القراءة وتقدم في نظير الثانية، ثم إنه إن اشتغل بافتتاح أو تعوذ تخلف وقرأ بقدره، وإلا
تابعه، ولم يذكره الشيخان هنا. قال في الكفاية: ولا شك في جريانه هنا بناء على ندب التعوذ، أي على الأصح، والافتتاح،
أي على المرجوح، وبه صرح الفوراني. (وإذا سلم الامام تدارك المسبوق) حتما (باقي التكبيرات بأذكارها) وجوبا في الواجب
وندبا في المندوب كما يأتي في الركعات بالقراءة وغيرها. (وفي قول لا تشترط الأذكار) بل يأتي بباقي التكبيرات نسقا، لأن الجنازة
ترفع بعد سلام الامام فليس الوقت وقت تطويل. قال المحب الطبري: ومحل الخلاف إذا رفعت الجنازة، فإن اتفق
بقاؤها لسبب ما أو كانت على غائب فلا وجه للخلاف بل يأتي بالأذكار قطعا. قال الأذرعي: وكأنه من تفقهه،
وإطلاق
الأصحاب يفهم عدم الفرق اه‍. وهذا هو الظاهر، وعلى الأول يسن إبقاء الجنازة حتى يتم المقتدون صلاتهم، فلو رفعت
قبله لم يضر وإن بعدت المسافة إذ يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، كما لو أحرم الامام في سرير وحمله إنسان ومشى
به فإنه يجوز كما تجوز الصلاة خلفه وهو يصلي في سفينة سائرة، ولو أحرم على جنازة يمشي بها وصلى عليها بينه وبينها ثلاثمائة
ذراع فأقل وهو محاذ لها كالمأموم مع الامام جاز وإن بعدت بعد ذلك كما مر. (ويشترط) في صلاة الجنازة (شروط) غيرها
من (الصلاة) كستر وطهارة واستقبال لتسميتها صلاة، فهي كغيرها من الصلوات، ولها شروط أخر تأتي كتقدم غسل
الميت. (لا الجماعة) فلا تشترط فيها كالمكتوبة بل تسن لخبر مسلم: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا
لا يشركون بالله شيئا إلا شفعهم الله فيه. وإنما صلت الصحابة على النبي (ص) فرادى كما رواه البيهقي وغيره لعظم أمره
وتنافسهم في أن لا يتولى الإمامة في الصلاة عليه أحد، وقال غيره: لأنه لم يكن قد تعين إمام يؤم القوم، فلو تقدم واحد
في الصلاة لصار مقدما في كل شئ وتعين للخلافة. ومعنى صلوا فرادى قال في الدقائق: أي جماعات بعد جماعات.
344

فائدة: قيل: حصر المصلون عليه (ص) فإذا هم ثلاثون ألفا، ومن الملائكة ستون ألفا، لأن مع كل واحد
ملكين، وما وقع في الاحياء من أنه (ص) مات عن عشرين ألفا من الصحابة لم يحفظ القرآن منهم إلا ستة اختلف
في اثنين منهم. قال الدميري: لعله أراد عشرين من المدينة، وإلا فقد روى أبو زرعة المرازي أنه مات عن مائة ألف
وأربعة عشر ألفا كلهم له صحبة، وروي عنه وسمع منه. (ويسقط فرضها بواحد) لحصول الفرض بصلاته ولو صبيا
مميزا على الصحيح، لأن الجماعة لا تشترط فيها كما مر، فكذا العدد كغيرها، (وقيل يجب) لسقوط فرضها (اثنان)
أي فعلهما لأن أقل الجماعة اثنان. (وقيل ثلاثة) لخبر الدارقطني: صلوا على من قال لا آله إلا الله وأقل الجمع ثلاثة،
وهذا منصوص عليه في الام وقطع به جماعة وصححه آخرون. (وقيل) يجب (أربعة) قاله الشيخ أبو علي بناء على
معتقده في حمل الجنازة أنه لا يجوز النقصان فيه عن أربعة، لأن في أقل منها ازدراء بالميت فالصلاة أولى،
والأول
والثالث كما في الروضة قولان، والثاني والرابع وجهان. والصبيان المميزون كالبالغين على اختلاف الوجوه، وفارق ذلك
عدم سقوط الفرض بالصبي في رد السلام بأن السلام شرع في الأصل للاعلام بأن كلا منهما آمن من الآخر بخلاف
صلاته، وعلى كل وجه فلا تشترط الجماعة فيصلون فرادى إن شاءوا. وفي المجموع عن الأصحاب: لو صلى على الجنازة عدد
زائد على المشروط وقعت صلاة الجميع فرض كفاية. (ولا يسقط) فرض صلاتها (بالنساء وهناك رجال) أو رجل أو صبي
مميز، (في الأصح) لأن فيه استهانة بالميت ولان أهلية الذكر بالعبادة أكمل، فيكون دعاؤه أقرب إلى الإجابة. ولو عبر بقوله:
وهناك ذكر مميز لشمل ما ذكر وكان أخصر. والظاهر أن المراد بوجود الذكر وجوده في محل الصلاة على الميت لا
وجوده مطلقا ولا في دون مسافة القصر، ولم أر من تعرض لذلك. والثاني: يسقط بهن الفرض لصحة صلاتهن وجماعتهن.
أما إذا لم يكن هناك ذكر فإنها تجب عليهن ويسقط بهن الفرض. قال في العدة: وظاهر المذهب أنه لا يستحب لهن
الجماعة. قال المصنف: وينبغي أن تسن لهن الجماعة، وهذا هو المعتمد كما في غيرها من الصلوات. وقيل: تسن لهن في
جماعة المرأة، والخنثى كالمرأة. فإن قيل: كيف لا يسقط بالمرأة وهناك صبي مميز مع أنها المخاطبة به دونه؟ أجيب بأن الشخص
قد يخاطب بشئ ويتوقف فعله على شئ آخر لا سيما فيما يسقط عنه الشئ بفعل غيره، فيجب عليهن تقديمه ولا تجزئ
صلاتهن مع وجوده، فإن امتنع أجبرنه كالولي، قاله شيخي: وقال ابن المقري في شرح إرشاده: إن صلاتهن تجزئ مع
وجوده، وعلله بأنه غير مخاطب، والأولى أن يقال إن امتنع أجزأت صلاتهن وإلا فلا. وقضية قولهم إن الخنثى كالمرأة أنه
لو اجتمع معها سقط الفرض بصلاة كل منهما وهو ظاهر في صلاته دون صلاتها لاحتمال ذكورته، ولهذا قال ابن المقري
في شرح إرشاده: وإذا صلى سقط الفرض عنه وعن النساء، وإذا صلت المرأة سقط الفرض عن النساء، وأما عن الخنثى
فقياس المذهب يأبى ذلك اه‍. والظاهر الاكتفاء كما أطلقه الأصحاب لأن ذكورته غير محققة. (ويصلى على الغائب عن
البلد) وإن قربت المسافة ولم يكن في جهة القبلة خلافا لأبي حنيفة ومالك، لأنه (ص) أخبر الناس وهو بالمدينة بموت
النجاشي في اليوم الذي مات فيه وهو بالحبشة رواه الشيخان، وذلك في رجب سنة تسع. قال ابن القطان: لكنها
لا تسقط الفرض عن الحاضرين. قال الزركشي: ووجهه أن فيه ازدراء وتهاونا بالميت، لكن الأقرب السقوط لحصول
الفرض، وظاهر أن محله إذا علم الحاضرون ولا بد أن يعلم أو يظن أنه قد غسل وإلا لم تصح. نعم إن علق النية على
غسله بأن نوى الصلاة إن كان غسل فينبغي أن تصح كما هو أحد احتمالين للأذرعي. أما الحاضر بالبلد فلا يصلى عليه
إلا من حضر وإن كبرت البلد لتيسر حضوره، وشبهوه بالقضاء على من بالبلد مع إمكان حضوره. ولو تعذر على من في
البلد الحضور لحبس أو مرض لم يبعد الجواز كما بحثه الأذرعي وجزم به ابن أبي الدم في المحبوس. ولو كان الميت خارج
السور قريبا منه فهو كداخله، نقله الزركشي عن صاحب الوافي وأقره، أي لأن غالب المقابر تجعل خارج السور.
ولو صلى على الأموات الذين ماتوا في يومه أو سنته وغسلوا في أقطار الأرض ولا يعرف عينهم جاز، بل يسن لأن الصلاة
345

على الغائب جائزة وتعيينهم غير شرط. (ويجب تقديمها) أي الصلاة (على الدفن) وتأخيرها عن الغسل أو التيمم عند
العجز عن استعمال الماء، فإن دفن من غير صلاة أثم كل من توجه عليه فرض الصلاة إلا أن يكون عذر. ويصلى
عليه وهو في القبر ولا ينبش لذلك كما يؤخذ من قوله: (وتصح بعده) أي الدفن للاتباع لخبر الصحيحين، بشرط أن
لا يتقدم على القبر كما سيأتي في زيادة المصنف، ويسقط الفرض بالصلاة على القبر على الصحيح. وإلى متى يصلى عليه؟
فيه أوجه، أحدها: أبدا، فعلى هذا تجوز الصلاة على قبور الصحابة فمن بعدهم إلى اليوم، قال في المجموع: وقد اتفق
الأصحاب على تضعيف هذا الوجه. ثانيها: إلى ثلاثة أيام دون ما بعدها، وبه قال أبو حنيفة. ثالثها: إلى شهر، وبه قال
أحمد. رابعها: ما بقي منه شئ في القبر فإن انمحقت أجزاؤه لم يصل عليه، وإن شك في الانمحاق فالأصل البقاء.
خامسها: يختص بمن كان من أهل الصلاة عليه يوم موته، وصححه في الشرح الصغير، فيدخل المميز على
هذا دون غير
المميز. (والأصح تخصيص الصحة) أي صحة الصلاة على القبر (بمن كان من أهل فرضها وقت الموت) دون غيره
لأنه يؤدي فرضا خوطب به، وأما غيره فمتطوع. وهذه الصلاة لا يتطوع بها، قال في المجموع: معناه أنه لا يجوز الابتداء
بصورتها من غير جنازة بخلاف صلاة الظهر يأتي بصورتها ابتداء بلا سبب. ثم قال: لكن ما قالوه ينتقض بصلاة النساء
مع الرجال فإنها لهن نافلة وهي صحيحة. وقال الزركشي: معناه أنها لا تفعل مرة بعد أخرى، أي من صلاها لا يعيدها،
أي لا يطلب منه ذلك. ولكن سيأتي أنه لو أعادها وقعت له نافلة، وكأن هذا مستثنى من قولهم: إن الصلاة إذا لم تكن
مطلوبة لا تنعقد. أما لو صلى عليها من لم يصل أولا فإنها تقع له فرضا. وما صححه المصنف من اعتبار أهلية الفرض، قال
في العزيز: إنه الأظهر، ونقله في المجموع على الجمهور. قال القاضي: وقضية ذلك منع الكافر والحائض يومئذ. وصرح
به المتولي، وهو ظاهر كلام الأصحاب. ورأي الامام إلحاقهما بالمحدث وتبعه في الوسيط، وهذا هو الظاهر. قال الأسنوي:
واعتبار الموت يقتضي أنه لو بلغ أو أفاق بعد الموت وقبل الغسل لم يعتبر ذلك، والصواب خلافه، لأنه لو لم يكن ثم غيره
لزمته الصلاة اتفاقا، وكذا لو كان ثم غيره فترك الجميع فإنهم يأثمون، بل لو زال المانع بعد الغسل أو بعد الصلاة عليه
وأدرك زمنا تمكن فيه الصلاة كان كذلك اه‍. وهذا كلام متين، فينبغي الضبط بمن كان من أهل فرضها وقت الدفن
لئلا يرد ما قبل. (ولا يصلى على قبر رسول الله (ص) بحال) واستدل له الرافعي ومن تبعه بقوله (ص): أنا أكرم
على ربي أن يتركني في قبري بعد ثلاث قال الدميري: وهذا الحديث باطل لا أصل له، لكن روى البيهقي عن
أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي (ص) قال: الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة لكنهم يصلون
بين يدي الله تعالى حتى ينفخ في الصور اه‍. وكذا لا يصلى على قبر غيره من الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين لخبر الصحيحين: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد وفي الاستدلال بهذا نظر،
ولأنا لم نكن من أهل الفرض وقت موتهم. وقيل: يجوز فرادى لا جماعة.
فرع: في بيان الأولى بالصلاة على الجنازة. قال الشارح: زاد الترجمة به لطول الفصل قبله بما اشتمل عليه،
كما نقص ترجمة التعزية بفصل لقصر الفصل قبله اه‍. وبهذا يندفع ما قيل: إن ترجمة المصنف بالفرع قد تستشكل لأن
المذكور فيه، وهو بيان أولوية الولي، ليس فرعا عما قبله عن كيفية الصلاة، لأن المصلي ليس متفرعا على الصلاة.
(الجديد أو الولي) أي القريب الذكر (أولى) أي أحق (بإمامتها) أي الصلاة على الميت (من الوالي) وإن
أوصى الميت لغير الولي لأنها حقه، فلا تنفذ وصيته بإسقاطها كالإرث. وما ورد من أن أبا بكر وصى أن يصلي عليه عمر
فصلى وأن عمر وصى أن يصلي عليه صهيب فصلى ووقع لجماعة من الصحابة، ذلك محمول على أن أولياءهم أجازوا
346

الوصية. والقديم أو الولي أولى ثم إمام المسجد، ثم الولي كسائر الصلوات، وهو مذهب الأئمة الثلاثة. والفرق على
الجديد إن المقصود من الصلاة على الجنازة هو الدعاء للميت، ودعاء القريب أقرب إلى الإجابة لتألمه وانكسار قلبه.
ومحل الخلاف كما قاله صاحب المعين: إذا لم يخف الفتنة من الولي وإلا قدم قطعا، ولو غاب الولي الأقرب قدم الولي
الابعد سواء أكانت غيبته قريبة أم بعيدة، قاله البغوي. (فيقدم الأب) أو نائبه كما قاله ابن المقري، وكغير الأب
أيضا نائبه. (ثم الجد) أبو الأب (وإن علا) لأن الأصول أكثر شفقة من الفروع. (ثم الابن ثم ابنه وإن سفل)
بتثليث الفاء، وخالف ذلك ترتيب الإرث بأن معظم الغرض الدعاء للميت، فقدم الأشفق، لأن دعاءه أقرب إلى
الإجابة. (ثم الأخ) تقديما للأشفق فالأشفق. (والأظهر تقديم الأخ لأبوين على الأخ لأب) لأن الأول أشفق
لزيادة قربه، والثاني: هما سواء لأن الأمومة لا مدخل لها في إمامة الرجال فلا يرجح بها. وأجاب الأول بأنها
صالحة للترجيح وإن لم يكن لها دخل في إمامة الرجال، إذ لها دخل في الصلاة في الجملة، لأنها تصلى مأمومة ومنفردة
وإمامة للنساء عند فقد الرجال فقدم بها، ويجرى الخلاف في ابني عم أحدهما أخ لام ونحو ذلك. وكان الأولى
التعبير بالمذهب، فإن الأصح القطع بالأول. (ثم ابن الأخ لأبوين ثم لأب ثم العصبة) النسبية، أي بقيتهم، (على
ترتيب الإرث) فيقدم عم شقيق ثم لأب، ثم ابن عم شقيق ثم لأب، ثم بعد عم النسب عصبة الولاء فيقدم المعتق ثم
عصبته، فتقدم عصباته النسبية ثم معتقه ثم عصباته النسبية، وهكذا، ثم السلطان أو نائبه عند انتظام بيت المال. (ثم ذوو
الأرحام) يقدم الأقرب فالأقرب، فيقدم أبو الأم ثم الأخ للام ثم الخال ثم العم للام. والأخ للام هنا من ذوي
الأرحام، بخلافه في الإرث، والقياس هنا أن لا يقدم القاتل كما سبق في الغسل ونقله في الكفاية عن الأصحاب
.
وأشعر سكوت المصنف عن الزوج بأنه لا مدخل له في الصلاة على المرأة، وهو كذلك، بخلاف الغسل والتكفين والدفن،
ولا للمرأة أيضا. ومحل ذلك إذا وجد مع الزوج غير الأجانب ومع المرأة ذكر، وإلا فالزوج مقدم على الأجانب
والمرأة تصلي وتقدم بترتيب الذكر. قال الأذرعي: وفي تقديم السيد على أقارب الرقيق الأحرار نظر يلتفت إلى أن
الرق هل ينقطع بالموت أم لا اه‍. ويؤخذ من ذلك أن الأقارب مقدمون. (ولو اجتمعا) أي وليان (في درجة) كابنين
أو أخوين وكل منهما صالح للإمامة. (فالأسن) في الاسلام (العدل أولى) من الأفقه ونحوه، (على النص)
في المختصر، ونص في باقي الصلوات على أن الأفقه أولى من الاسن، وفي قول مخرج: إن الأفقه والأقرأ مقدمان
عليه كغيرها من الصلوات. والأصح تقرير النصين، والفرق أن الغرض من صلاة الجنازة الدعاء. ودعاء الاسن أقرب
إلى الإجابة، وأما سائر الصلوات. فمحتاجة إلى الفقه لكثرة وقوع الحوادث فيها. أما غير العدل من فاسق ومبتدع فلا مدخل
له في الإمامة. ولو استوى اثنان في السن المعتبر قدم أحقهم بالإمامة في سائر الصلوات على ما سبق تفصيله في بابه، ولو
كان أحد المستويين زوجا قدم وإن كان الآخر أسن منه كما اقتضاه نص البويطي، فقولهم لا مدخل للزوج مع الأقارب
في الصلاة إذا لم يشاركهم في القرابة، فإن استويا في الصفات كلها وتنازعا أقرع كما في المجموع، ولو صلى غير من خرجت
قرعته صح، ولو استناب أفضل المتساويين في الدرجة اعتبر رضا الآخر في أقيس الوجهين في العدة، وهذا شئ يباشره
بنفسه، وليس له أن يوكل فيه، بخلاف الأقرب إذا كان أهلا فله الاستنابة، ولا اعتراض للأبعد، قاله في المجموع.
(ويقدم الحر البعيد) كعم حر (على العبد القريب) كأخ رقيق ولو أفقه وأسن لأن الإمامة ولاية والحر أكمل
فهو بها أليق، وقيل: العبد أولى لقربه، وقيل: هما سواء لتعارض المعنيين. ويقدم الرقيق القريب على الحر الأجنبي
والرقيق البالغ على الحر الصبي لأنه مكلف فهو أحرص على تكميل الصلاة، ولان الصلاة خلفه مجمع على جوازها،
347

بخلافها خلف الصبي، ذكره في المجموع. (ويقف) المصلي ندبا من إمام ومفرد (عند رأس) الذكر (الرجل) أو الصغير،
(وعجزها) أي الأنثى، وهو بفتح العين وضم الجيم ألياها للاتباع رواه الترمذي وحسنه، ومثلها الخنثى كما في
المجموع. وحكمة المخالفة المبالغة في ستر الأنثى والاحتياط في الخنثى. أما المأموم فيقف في الصف حيث كان.
فائدة: العجيزة إنما تقال في المرأة، وغيرها يقال فيه عجز كما يقال فيها أيضا. قال بعض فقهاء اليمن: ولا يبعد
أن يأتي هذا التفصيل في الصلاة على القبر اه‍. وهو حسن، عملا بالسنة في الأصل وإن استبعده الزركشي. / (وتجوز على
الجنائز صلاة) واحدة برضا أوليائها، لأن الغرض منها الدعاء، والجمع فيه ممكن سواء أكانت ذكورا أم إناثا أم
ذكورا وإناثا، لأن أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب ماتت هي وولدها زيد بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما
فصلي عليهما دفعة واحدة، وجعل الغلام مما يلي الامام، وفي القوم جماعة من كبار الصحابة رضي الله تعالى عنهم
أجمعين، فقالوا: هذا هو السنة، رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح كما قاله البيهقي. وصلى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما
على تسع جنائز: رجال ونساء، فجعل الرجال مما يلي الامام والنساء فيما يلي القبلة، رواه البيهقي بإسناد حسن. ثم إن حضرت
الجنائز دفعة أقرع بين الأولياء، وقدم إلى الامام الرجل ثم الصبي ثم الخنثى ثم المرأة، فإن كانوا رجالا أو نساء جعلوا بين يديه
واحدا خلف واحد إلى جهة القبلة ليحاذي الجميع، وقدم إليه أفضلهم، والمعتبر فيه الورع والخصال التي ترغب
في الصلاة عليه وتغلب على الظن كونه أقرب من رحمة الله تعالى لا بالحرية لانقطاع الرق بالموت أو مرتبة قدم ولي السابقة
ذكرا كان ميته أو أنثى، وقدم إليه الأسبق من الذكور والإناث وإن كان المتأخر أفضل. ثم إن سبق رجل أو صبي
استمر أو أنثى ثم حضر رجل أو صبي أخرت عنه، ومثلها الخنثى. ولو حضر خناثى معا أو مرتبين جعلوا صفا عن يمينه
ورأس كل واحد عند رجل الآخر لئلا يتقدم أنثى على ذكر. وقوله: وتجوز يفهم الأفضل إفراد كل جنازة
بصلاة، وهو كذلك لأنه أكثر عملا وأرجى قبولا، وليس تأخيرا كثيرا، وإن قال المتولي: إن الأفضل الجمع تعجيلا
للدفن المأمور به. نعم إن خشي تغيرا أو انفجارا بالتأخير، فالأفضل الجمع. (وتحرم) الصلاة (على الكافر) حربيا كان
أو ذميا لقوله تعالى: * (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا) *، ولان الكافر لا يجوز الدعاء له بالمغفرة، لقوله تعالى: * (إن الله
لا يغفر أن يشرك به) *. (ولا يجب غسله) على أحد لأنه كرامة وتطهير، وليس هو من أهلها لكنه يجوز، لأن النبي
(ص) أمر عليا فغسل والده وكفنه، رواه أبو داود والنسائي. وسواء في الجواز القريب وغيره والمسلم وغيره،
وقال مالك وأحمد: ليس للمسلم غسله. (والأصح وجوب تكفين الذمي ودفنه) من بيت المال، فإن فقد فعلى المسلمين
هذا إذا لم يكن له مال ولا من تلزمه نفقته وفاء بذمته، كما يجب أن يطعم ويكسى في حياته إذا عجز، أما إذا كان له مال
فهو في تركته أو من تلزمه نفقته فعليه. والثاني: لا، لأن الذمة قد انتهت بالموت، وخرج بالذمي الحربي فلا يجب تكفينه
قطعا ولا دفنه على الأصح، بل يجوز إغراء الكلاب عليه، إذ لا حرمة له، والأولى دفنه لئلا يتأذى الناس برائحته.
والمرتد كالحربي، والمعاهد كالذمي وفاء بعهده وإن أشعر كلام المصنف بأنه كالحربي. (ولو وجد عضو مسلم علم موته)
بغير شهادة، ولو كان الجزء ظفرا أو شعرا، (صلي عليه) بقصد الجملة بعد غسله وجوبا كالميت الحاضر لأنها في الحقيقة
صلاة على غائب. نعم من صلى على هذا الميت دون هذا العضو نوى الصلاة على العضو وحده كما جزم به ابن شهبة،
وقال الزركشي: محل نية الصلاة على الجملة إذا علم أنها قد غسلت فإن لم تغسل نوى الصلاة على العضو فقط اه‍.
فإن شك في ذلك نوى الصلاة عليها إن كانت قد غسلت، ولا يضر التعليق في ذلك. ولا يقدح في هذه الصلاة غيبة
باقية، فقد صلى الصحابة على يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد، وقد ألقاها طائر نسر في وقعة الجمل وعرفوها بخاتمه،
رواه الشافعي بلاغا. ويشترط انفصاله من ميت ليخرج المنفصل من حي كما سيأتي، كأذنه الملتصقة إذا وجدت بعد موته،
ذكره في المجموع. نعم إن أبين من حي فمات في الحال فحكم الكل واحد يجب غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه،
348

بخلاف ما إذا مات بعد مدة، سواء اندملت جراحته أم لا. ويستثنى من الشعر الشعرة الواحدة فلا تغسل ولا يصلى عليها
لأنها لا حرمة لها كما نقله في أصل الروضة عن صاحب العدة وأقره، وإن قال بعض المتأخرين: الأوجه أنها كغيرها.
ويجب مواراة ذلك الجزء بخرقة وإن كان من غير العورة، ولو قلنا الواجب ستر العورة فقط، لأن ستر جميع
البدن حق
للميت كما مر. فمن قال: إنما يجب ستره إذا كان من العورة، غفلة منه بل القائل بأنه يقتصر على ستر العورة إنما يقول
به إذا أوصى بستر العورة فقط، وهنا لم يوص بذلك مع أنا قدمنا أن وصيته بذلك لا تنفذ، ويجب دفنه بعد الصلاة
عليه لما مر أنه كالميت الحاضر. أما ما انفصل من حي أو شككنا في موته كيد سارق وظفر وشعر وعلقة ودم فصد
ونحوه فيسن دفنه إكراما لصاحبها. ويسن لف اليد ونحوها بخرقة أيضا كما صرح به المتولي. قال السبكي: وظاهر
كلامهم كالصريح في وجوب هذه الصلاة، قال: وهو ظاهر إذا لم يصل على الميت وإلا فهل نقول يجب حرمة له كالجملة
أو لا؟ فيه احتمال يعرف من كلامهم في النية اه‍. وقضيته أنها لا تجب، وهو ظاهر إن كان قد صلي عليه بعد غسل العضو
وإلا فتجب لزوال الضرورة المجوزة للصلاة عليه بدون غسل العضو بوجداننا له، وعليه يحمل قول الكافي لو قطع
رأس إنسان ببلد وحمل إلى بلد آخر صلى عليه حيث هو وعلى الجثة حيث هي، ولا يكتفى بالصلاة على أحدهما. ولو
جهل كون العضو من مسلم صلي عليه أيضا إن كان في دار الاسلام كما لو وجد فيها ميت جهل إسلامه. (والسقط)
بتثليث السين من السقوط، (إن) علمت حياته بأن (استهل) أي صاح، (أو بكى) وهو مشتق من البكاء، وهو بالقصر
الدمع، وبالمد رفع الصوت. فإذا مات بعد ذلك فحكمه (ككبير) فيغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن لتيقن موته بعد
حياته، (وإلا) أي وإن لم يستهل أو لم يبك (فإن ظهرت أمارة الحياة كاختلاج) أو تحرك (صلي عليه في الأظهر)
لاحتمال الحياة بهذه القرينة الدالة عليها وللاحتياط. والثاني: لا، لعدم تيقنها، وقطع في المجموع بالأول. ويجب دفنه قطعا
وكذا غسله، وقيل فيه القولان. (وإن لم تظهر) أمارة الحياة (ولم يبلغ أربعة أشهر) أي لم يظهر خلقه، (لم يصل عليه)
قطعا لعدم الامارة، ولا يغسل على المذهب بل يسن ستره بخرقة ودفنه. (وكذا إن بلغها) أي أربعة أشهر، أي مائة وعشرين
يوما حد نفخ الروح فيه عادة، أي وظهر خلقه، لا يصلى عليه وجوبا ولا جوازا، (في الأظهر) لعدم ظهور حياته،
ويجب غسله وتكفينه ودفنه. وفارق الصلاة غيرها بأنه أوسع بابا منها بدليل أن الذمي يغسل ويكفن ويدفن ولا يصلى عليه،
فالعبرة فيما ذكر بظهور خلق الآدمي وعدم ظهوره كما تقرر، فالتعبير ببلوغ أربعة أشهر وعدم بلوغها جرى على الغالب
من ظهور خلق الآدمي عندها، وعبر عنه بعضهم بزمن إمكان نفخ الروح وعدمه وبعضهم بالتخطيط وعدمه، وكلها
وإن تقاربت فالعبرة بما ذكر.
فائدة: السقط هو الذي لم يبلغ تمام أشهره، أما من بلغها فيصلى عليه مطلقا كما أفتى به شيخي وفعله. (ولا
يغسل الشهيد ولا يصلى عليه) أي يحرمان لأنه حي بنص القرآن، ولما روى البخاري عن جابر: أن النبي (ص)
أمر في قتلى أحد بدفنهم بدمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم. قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه: جاءت الأحاديث
من وجوه متواترة أنه لم يصل عليهم، وأما حديث: أنه صلى عليهم عشرة عشرة، وفي كل عشرة حمزة حتى صلى
عليه سبعين صلاة فضعيف وخطأ، قال الشافعي: ينبغي لمن رواه أن يستحيي على نفسه اه‍. وما في الصحيحين من] أنه
(ص) خرج فصلى على قتلى أحد صلاته على الميت، وللبخاري بعد ثمان سنين: كالمودع للاحياء وللأموات
فالمراد أنه دعا لهم كالدعاء للميت كقوله تعالى: * (وصل عليهم) * أي ادع لهم، والاجماع يدل على هذا، لأن عندنا
لا يصلى على الشهيد، وعند المخالف وهو أبو حنيفة لا يصلى على القبر بعد ثلاثة أيام. والحكمة في ذلك إبقاء أثر
349

الشهادة عليهم والتعظيم لهم باستغنائهم عن دعاء القوم. فإن قيل: الأنبياء والمرسلون أفضل من الشهداء مع أنه يصلى
عليهم. أجيب بأن الشهادة فضيلة تكتسب فرغب فيها ولا كذلك النبوة والرسالة. (وهو) أي الشهيد الذي يحرم
عليه غسله والصلاة عليه، ضابطه أن كل (من مات) ولو امرأة أو رقيقا أو صغيرا أو مجنونا (في قتال الكفار)
أو الكافر الواحد، سواء أكانوا حربيين أم مرتدين أم أهل ذمة قصدوا قطع الطريق علينا أو نحو ذلك (بسببه) أي
القتال، سواء قتله كافر، أم أصابه سلاح مسلم خطأ، أم عاد إليه سلاحه، أم تردى في بئر أو وهدة، أم رفسته دابته
فمات، أم قتله مسلم باغ استعان به أهل الحرب كما شمله قتال الكفار، أم قتله بعض أهل الحرب حال انهزامهم انهزاما
كليا بأن تبعهم فكروا عليه فقتلوه وإن لم تشمله عبارة المصنف أو اتباعه لهم لاستئصالهم، فكأنه قتل في حال
القتال،
أم قتله الكفار صبرا، أم انكشفت الحرب عنه ولم يعلم سبب قتله وإن لم يكن عليه أثر دم، لأن الظاهر أن موته بسبب
القتال كما جزما به. فإن قيل: ينبغي أن يخرج ذلك على قول الأصل والغالب، إذ الأصل عدم الشهادة، والغالب أن
من يموت بالمعترك أنه مات بسبب من أسباب القتال. أجيب بأن السبب الظاهر يعمل به ويترك الأصل كما إذا رأينا
ظبية تبول في الماء ورأيناه متغيرا فإنا نحكم بنجاسته مع أن الأصل طهارة الماء. (فإن مات بعد انقضائه) أي القتال
بجراحة فيه يقطع بموته منها وفيه حياة مستقرة فغير شهيد في الأظهر، سواء أطال الزمان أم قصر، لأنه عاش بعد انقضاء
الحرب فأشبه ما لو مات بسبب آخر، والثاني: أنه يلحق بالميت في القتال. أما لو انقضى القتال و
حركة المجروح فيه حركة مذبوح فشهيد قطعا أو توقعت حياته فليس بشهيد قطعا. (أو) مات عادل (في قتال البغاة) له (فغير شهيد
في الأظهر) لأنه قتيل مسلم، فأشبه المقتول في غير القتال، وقد غسلت أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما ابنها
عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما ولم ينكر عليها أحد. نعم لو استعان البغاة بكفار فقتل كافر مسلما فهو شهيد
كما قاله القفال في فتاويه، والثاني وصححه السبكي: أنه شهيد لأنه كالمقتول في معركة الكفار، ولان عليا رضي الله تعالى عنه
لم يغسل من قتل معه. أما إذا كان المقتول من أهل البغي فليس بشهيد جزما، فقوله في الأظهر راجع للمسألتين كما تقرر. (وكذا)
لو مات (في القتال لا بسببه) أي القتال، كموته بمرض أو فجأة أو قتله مسلم عمدا فغير شهيد، (على المذهب) لأن الأصل
وجوب الغسل والصلاة عليه، خالفنا فيما إذا مات بسبب من أسباب القتال ترغيبا للناس فيه، فبقي ما عداه على الأصل.
وقيل إنه شهيد لأنه مات في معركة الكفار.
فائدة: الشهداء كما قال في المجموع ثلاثة: الأول: شهيد في حكم الدنيا بمعنى أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، وفي حكم
الآخرة بمعنى أن له ثوابا خاصا، وهو من قتل في قتال الكفار بسببه وقد قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وسمي بذلك
لمعان: منها أن الله سبحانه وتعالى ورسوله شهدا له بالجنة، ومنها أنه يبعث وله شاهد بقتله وهو دمه لأنه يبعث وجرحه يتفجر
دما، ومنها أن ملائكة الرحمة يشهدونه فيقبضون روحه. والثاني: شهيد في حكم الدنيا فقط، وهو من قتل في قتال
الكفار بسببه، وقد غل من الغنيمة، أو قتل مدبرا، أو قاتل رياء أو نحوه. والثالث: شهيد في حكم الآخرة فقط كالمقتول
ظلما من غير قتال، والمبطون إذا مات بالبطن، والمطعون إذا مات بالطاعون، والغريق إذا مات بالغرق، والغريب إذا
مات في الغربة، وطالب العلم إذا مات على طلبه، أو مات عشقا أو بالطلق أو بدار الحرب أو نحو ذلك. واستثنى بعضهم
من الغريب العاصي بغربته كالآبق والناشزة، ومن الغريق العاصي بركوبه البحر كأن كان الغالب فيه عدم السلامة
أو استوى الأمران أو ركبه لشرب خمر، ومن الميتة بالطلق الحامل بزنا، والظاهر كما قال الزركشي فيما عدا الأخيرة،
وفي الأخيرة أيضا أن ما ذكر لا يمنع الشهادة. نعم الميت عشقا شرطه العفة والكتمان لخبر: من عشق وعف وكتم فمات
مات شهيدا، وإن كان الأصح وقفه على ابن عباس. قال شيخنا: ويجب أن يراد به من يتصور إباحة نكاحها له شرعا
ويتعذر الوصول إليها كزوجة الملك، وإلا فعشق المرد معصية، فكيف تحصل بها درجة الشهادة اه‍. والظاهر أنه لا فرق
350

لما مر أن شرطه العفة والكمال. (ولو استشهد جنب) أو نحوه كحائض، (فالأصح أنه لا يغسل) كغيره، لأن حنظلة بن الراهب
قتل يوم أحد وهو جنب ولم يغسله النبي (ص) وقال: رأيت الملائكة تغسله رواه ابن حبان والحاكم
في صحيحيهما، فلو كان واجبا لم يسقط إلا بفعلنا، ولأنه طهر عن حدث فسقط بالشهادة كغسل الميت فيحرم، إذ لا قائل
بغير الوجوب والتحريم، ولهذا قال في المجموع: يحرم غسله لأنها طهارة حدث فلم تجز كغسل الميت. والثاني: يغسل، لأن
الشهادة إنما تؤثر في غسل وجب بالموت، وهذا الغسل كان واجبا قبله. وأجاب الأول بأنه سقط به كغسل الموت كما مر،
ولا يصلى عليه على الوجهين. (و) الأصح (أنه) أي الشهيد، (تزال) حتما (نجاسته) بغسلها، (غير الدم) المتعلق
بالشهادة، وإن أدى ذلك إلى زوال دمها، لأن النجاسة ليست من أثر الشهادة، بخلاف دمها الخالي عن النجاسة فتحرم
إزالته لأنا نهينا عن غسل الشهيد ولأنه أثر عبادة. وإنما لم تحرم إزالة الخلوف من الصائم مع أنه أثر عبادة لأنه هو المفوت
على نفسه بخلافه هنا، حتى لو فرض أن غيره أزاله بغير إذنه حرم عليه ذلك، وقد مرت الإشارة إلى ذلك في باب الوضوء.
والثاني: لا تزال، لاطلاق النهي عن غسل الشهيد. والثالث: إن أدى غسلها إلى إزالة أثر الشهادة لم تزل وإلا أزيلت. (ويكفن)
الشهيد ندبا، (في ثيابه الملطخة بالدم) لخبر أبي داود بإسناد حسن عن جابر قال: رمي رجل بسهم في صدره أو حلقه
فمات فأدرج في ثيابه كما هو ونحن مع النبي (ص). والمراد ثيابه التي مات فيها واعتيد لبسها غالبا وإن لم تكن ملطخة
بالدم، لكن الملطخة بالدم أولى، ذكره في المجموع. فالتقييد في كلام المصنف كأصله بالملطخة لبيان الأكمل. وعلم
بالتقييد بندبا أنه لا يجب تكفينه فيها كسائر الموتى، وفارق الغسل بإبقاء أثر الشهادة على البدن والصلاة عليه بإكرامه
والاشعار باستغنائه عن الدعاء. (فإن لم يكن ثوبه سابغا) أي ساترا لجميع بدنه. (تمم) وجوبا، لأنه حق للميت كما تقدم
مرارا. وقول بعض المتأخرين: تمم ندبا لأن الواجب ستر العورة ممنوع لما مر غير مرة. ولو أراد الورثة نزعها وتكفينه
من غيرها جاز، سواء أكان عليها أثر شهادة أم لا، إذ لا يجب تكفينه فيها كسائر الموتى. ولو طلب بعض الورثة النزع وامتنع
بعضهم، أجيب الممتنع في أحد احتمالين يظهر ترجيحه. ويندب نزع آلة الحرب عنه كدرع وخف وكل ما لا يعتاد لبسه
غالبا كجلد وفروة وجبة محشوة، وفي أبي داود في قتلى أحد الامر بنزع الحديد والجلود ودفنهم بدمائهم وثيابهم.
فصل: في دفن الميت وما يتعلق به: (أقل القبر حفرة تمنع) بعد ردمها (الرائحة) أن تظهر منه فتؤذي الحي.
(و) تمنع (السبع) عن نبش تلك الحفرة لاكل الميت، لأن الحكمة في وجوب الدفن عدم انتهاك حرمته بانتشار رائحته
واستقذار جيفته وأكل السباع له، وبهذا يندفع ذلك. قال الرافعي: والغرض من ذكرهما إن كانا متلازمين بيان فائدة
الدفن، وإلا فبيان وجوب رعايتهما، فلا يكفي أحدهما. والظاهر كما قال شيخنا أنهما ليسا بمتلازمين كالفساقي التي لا تكتم
رائحة مع منعها الوحش فلا يكفي الدفن فيها. وقال السبكي: في الاكتفاء بالفساقي نظر لأنها ليست على هيئة الدفن المعهود
شرعا. قال وقد أطلقوا تحريم إدخال ميت على ميت لما فيه من هتك حرمة الأول وظهور رائحته فيجب إنكار
ذلك
وقال بعض شراح هذا الكتاب: إنه لا يكفي الدفن فيما يصنع الآن ببلاد مصر والشام وغيرهما من عقد أزج واسع أو مقتصد
شبه بيت لمخالفته الخبر وإجماع السلف، وحقيقة بيت تحت الأرض فهو كوضعه في غار ونحوه ويسد بابه اه‍. وهذا ظاهر
لأنه ليس بدفن كما أشار إلى ذلك ابن الصلاح والأذرعي وغيرهما. واحترز بالحفرة عما إذا وضع الميت على وجه الأرض
ووضع عليه أحجار كثيرة أو تراب أو نحو ذلك مما يكتم رائحته ويحرسه عن أكل السباع، فلا يكفي ذلك إلا إن تعذر
الحفر لأنه ليس بدفن. (ويندب أن يوسع) بأن يزاد في طوله وعرضه، (ويعمق) بأن يزاد في نزوله، لقوله
(ص) في قتلى أحد: احفروا وأوسعوا وأعمقوا رواه الترمذي وقال حسن صحيح. وعبارة المجموع كالجمهور: يستحب
351

أن يوسع القبر من قبل رجليه ورأسه، أي فقط، وكذا رواه أبو داود وغيره. والمعنى يساعده ليصونه مما يلي ظهره من
الانقلاب ومما يلي صدره من الانكباب.
فائدة: التعميق بعين مهملة كما قاله الجوهري، وحكى غيره الاعجام، وقرئ به شاذا من كل فج عميق. (قدر
قامة وبسطة) من رجل معتدل لهما بأن يقوم باسطا يديه مرفوعتين، لأن عمر رضي الله تعالى عنه وصى بذلك ولم ينكر
عليه أحد، ولأنه أبلغ في المقصود من منع ظهور الرائحة ونبش السبع. وهما أربعة أذرع ونصف كما صوبه المصنف
خلافا للرافعي في قوله: إنهما ثلاثة أذرع ونصف تبعا للمحاملي. (واللحد) بفتح اللام وضمها وسكون الحاء فيهما أصله
الميل، والمراد أن يحفر في أسفل جانب القبر القبلي مائلا عن الاستواء قدر ما يسع الميت ويستره. (أفضل من الشق)
بفتح المعجمة بخط المصنف، وهو أن يحفر قعر القبر كالنهر أو يبني جانباه بلبن أو غيره غير ما مسه النار، ويجعل بينهما شق
يوضع فيه الميت، ويسقف عليه بلبن أو خشب أو حجارة وهي أولى، ويرفع السقف قليلا بحيث لا يمس الميت. (إن
صلبت الأرض) لقول سعد بن أبي وقاص في مرض موته: ألحدوا لي لحدا وانصبوا علي اللبن نصبا كما فعل برسول الله
(ص) رواه مسلم. أما في الرخوة فالشق أفضل خشية الانهيار. (ويوضع) ندبا (رأسه) أي الميت (عند رجل القبر)
أي مؤخره الذي سيصير عند سفله رجل الميت. (ويسل) الميت (من قبل رأسه) سلا (برفق) لا بعنف،
لما رواه أبو داود
بإسناد صحيح أن عبد الله بن يزيد الخطمي الصحابي رضي الله تعالى عنه صلى على جنازة الحارث ثم أدخله القبر من قبل
رجل القبر، وقال: هذا من السنة. وقول الصحابي من السنة كذا، حكمه حكم المرفوع. ولما رواه الشافعي رحمه الله تعالى
بإسناد صحيح: أن النبي (ص) سل من قبل رأسه سلا، وما قيل إنه أدخل من قبل القبلة فضعيف كما قاله البيهقي وغيره وإن
حسنه الترمذي، مع أنه لا يمكن إدخاله من قبل القبلة لأن شق قبره (ص) لاصق بالجدار ولحده تحت الجدار فلا
موضع هناك يوضع فيه، قاله الشافعي وأصحابه كما نقله في المجموع (ويدخله القبر الرجال) إذا وجدوا، وإن كان الميت أنثى، لخبر
البخاري أنه (ص) أمر أبا طلحة أن ينزل في قبر ابنته أم كلثوم، ووقع في المجموع تبعا لراوي الخبر أنها رقية، ورده البخاري
في تاريخه الأوسط بأنه (ص) لم يشهد موت رقية ولا دفنها، أي لأنه كان ببدر. ومعلوم أنه كان لها محارم من النساء
كفاطمة وغيرها، ولأنه يحتاج إلى قوة، والرجال أحرى بذلك بخلاف النساء لضعفهن عن ذلك غالبا، ويخشى من مباشرتهن هتك
حرمة الميت وانكشافهن. نعم يندب لهن كما في المجموع أن يلين حمل المرأة من مغتسلها إلى النعش وتسليمها إلى من في القبر
وحل ثيابها فيه، وظاهر ما في المختصر وكلام الشامل والنهاية أن هذا واجب على الرجال عند وجودهم وتمكينهم واستظهره
الأذرعي وهو ظاهر. (وأولاهم) أي الرجال بذلك، (الأحق بالصلاة) عليه درجة، وقد مر بيانه في الغسل. وخرج بدرجة
الأولى بالصلاة صفة، إذ الأفقه أولى من الاسن والأقرب البعيد الفقيه أولى من الأقرب غير الفقيه هنا عكس ما في الصلاة عليه،
والمراد بالأفقه الأعلم بذلك الباب. قلت: كما قال الرافعي في الشرح، (إلا أن تكون امرأة مزوجة فأولاهم) أي
الرجال بإدخالها القبر (الزوج) وإن لم يكن له حق في الصلاة عليها (والله أعلم) لأنه ينظر إلى ما لا ينظر إليه غيره.
ويليه الأفقه، ثم الأقرب فالأقرب من المحارم، ثم عبدها، لأنه كالمحرم في النظر ونحوه، ثم الممسوح ثم المجبوب ثم الخصي
لضعف شهوتهم. ورتبوا كذلك لتفاوتهم فيها. ثم العصبة الذين لا محرمية لهم كبني عم ومعتق وعصبته بترتيبهم في الصلاة،
ثم ذوو الرحم الذين لا محرمية لهم كذلك كبني خال وبني عمة، ثم الأجنبي الصالح لخبر أبي طلحة السابق، ثم الأفضل
فالأفضل، ثم النساء بترتيبهن السابق في الغسل، والخناثى كالنساء. فإن استوى اثنان في الدرجة والفضيلة وتنازعا
أقرع بينهما، والأوجه كما قال الأذرعي: أن السيد في الأمة التي تحل له كالزوج. وأما غيرها فهل يكون معها كالأجنبي
352

أولا؟ الأقرب نعم إلا أن يكون بينهما محرمية. وأما العبد فهو أحق بدفنه من الأجانب حتما. والوالي لا يقدم هنا على
القريب قطعا. (ويكونون) أي المدخلون للميت القبر، (وترا) ندبا واحد فأكثر بحسب الحاجة كما فعل برسول الله
(ص)، فقد روى ابن حبان أن الدافنين له كانوا ثلاثة وأبو داود أنهم كانوا خمسة. (ويوضع في اللحد) أو غيره
(على يمينه) ندبا اتباعا للسلف والخلف، وكما في الاضطجاع عند النوم. ويوجه (للقبلة) وجوبا تنزيلا له منزلة المصلي،
ولئلا يتوهم أنه غير مسلم كما يعلم مما سيأتي. فلو وجه لغيرها نبش ووجه للقبلة وجوبا إن لم يتغير وإلا فلا ينبش، أولها
على يساره كره ولم ينبش، وهو مراد المصنف في مجموعه بقوله: إنه خلاف الأفضل. ويؤخذ من قولهم إنه كالمصلي أن
الكافر لا يجب علينا أن نستقبل به القبلة، وهو كذلك، بل يجوز استقباله واستدباره. نعم لو ماتت ذمية في بطنها جنين مسلم
جعل ظهرها إلى القبلة وجوبا ليتوجه الجنين إلى القبلة إذا كان يجب دفن الجنين لو كان منفصلا، لأن وجه الجنين على
ما ذكروا لظهر الام. وتدفن هذه المرأة بين مقابر المسلمين والكفار، وقيل: في مقابر المسلمين، وقيل: في مقابر الكفار.
تنبيه: لو حذف المصنف لفظة في اللحد كان أولى ليشمل ما قدرته. وظاهر كلام التسوية بين الوضع على اليمين
والاستقبال، والمعتمد فيهما ما تقرر. (ويسند وجهه) ندبا، وكذا رجلاه (إلى جداره) أي القبر، ويجعل في باقي بدنه كالتجافي
فيكون كالقوس لئلا ينكب. (و) يسند (ظهره بلبنة ونحوها) كطين ليمنعه من الاستلقاء على قفاه، ويجعل تحت رأسه لبنة
أو حجر ويفضي بخده الأيمن إليه، أو إلى التراب. قال في المجموع: بأن ينحى الكفن عن خده ويوضع على التراب.
(ويسد فتح اللحد) بفتح الفاء وسكون التاء المثناة الفوقية وكذا غيره، (بلبن) وهو طوب لم يحرق ونحوه
كطين، لقول سعد
فيما مر: وانصبوا علي اللبن نصبا، ولان ذلك أبلغ في صيانة الميت عن النبش. ونقل المصنف في شرح مسلم أن اللبنات
التي وضعت في قبره (ص) تسع. (ويحثو) ندبا بيديه جميعا، (من دنا) من القبر (ثلاث حثيات تراب) من تراب
القبر، ويكون الحثي من قبل رأس الميت لأنه (ص) حثا من قبل رأس الميت ثلاثا رواه البيهقي وغيره بإسناد
جيد، ولما فيه من المشاركة في هذا الفرض، يقال: حثى يحثي حثيا وحثيات وحثا يحثو حثوا وحثوات، والأول أفصح. ويندب
أن يقول مع الأولى: * (منها خلقناكم) * ومع الثانية * (وفيها نعيدكم) * ومع الثالثة: * (ومنها نخرجكم تارة أخرى) *. ولم يبين الدنو وكأنه
راجع إلى العرف. وعبارة الشافعي في الام: من على شفير القبر، وعبارة الروضة: وأصلها كل من دنا. وقال في الكفاية:
إنه يستحب ذلك لكل من حضر الدفن، وهو شامل للبعيد أيضا. وهو كما قال الولي العراقي ظاهر. (ثم يهال) من الإهالة
وهي الصب: أي يصب التراب على الميت. (بالمساحي) لأنه أسرع إلى تكميل الدفن. والمساحي بفتح الميم جمع مسحاة
بكسرها، وهي آلة تمسح الأرض بها ولا تكون إلا من حديد بخلاف المجوفة، قاله الجوهري. والميم زائدة لأنها مأخوذة
من السحف أو الكشف، وظاهر أن المراد هنا هي أو ما في معناها. وإنما كانت الإهالة بعد الحثي لأنه أبعد عن وقوع اللبنات
وعن تأذي الحاضرين بالغبار. (ويرفع) ندبا (القبر شبرا) تقريبا ليعرف فيزار ويحترم، ولان قبره (ص) رفع نحو شبر، رواه ابن
حبان في صحيحه. (فقط) فلا يزاد على تراب القبر لئلا يعظم شخصه. وإن لم يرتفع بترابه شبرا فالأوجه كما قال شيخنا أن يزاد،
هذا إذا كان بدارنا. أما لو مات مسلم بدار الكفار فلا يرفع قبره بل يخفى لئلا يتعرض له الكفار إذا رجع المسلمون، قاله
المتولي وأقراه. وكذا إذا كان بموضع يخاف نبشه لسرقة كفنه أو لعداوة أو نحوها كما قاله الأسنوي، وألحق الأذرعي
بذلك أيضا ما لو مات ببلد بدعة وخشي عليه من نبشه وهتكه والتمثيل به كما صنعوا ببعض الصلحاء وأحرقوه. (والصحيح)
المنصوص (أن تسطيحه أولى من تسنيمه) كما فعل بقبره (ص) وقبري صاحبيه رضي الله تعالى عنهما، رواه أبو داود
353

بإسناد صحيح، والثاني: تسنيمه أولى لأن التسطيح شعار الروافض فيترك مخالفة لهم وصيانة للميت وأهله عن
الاتهام ببدعة.
ورد هذا بأن السنة لا تترك لموافقة أهل البدع فيها، إذ لو روعي ذلك لأدى إلى ترك سنن كثيرة. (ولا يدفن اثنان في قبر)
ابتداء، بل يفرد كل ميت بقبر حالة الاختيار للاتباع، ذكره في المجموع وقال إنه صحيح. وعبارة الروضة: المستحب في
حالة الاختيار أن يدفن كل ميت في قبر اه‍. فلو جمع اثنان في قبر واتحد الجنس كرجلين وامرأتين كره عند الماوردي وحرم
عند السرخسي، ونقله المصنف عنه في مجموعه مقتصرا عليه وعقبه بقوله: وعبارة الأكثرين ولا يدفن اثنان في قبر
قال السبكي: لكن الأصح الكراهة أو نفى الاستحباب. أما التحريم فلا دليل عليه اه‍ وسيأتي ما يقوى التحريم. (إلا لضرورة)
كأن كثروا وعسر إفراد كل ميت بقبر فيجمع بين الاثنين والثلاثة والأكثر في قبر بحسب الضرورة، وكذا في ثوب،
وذلك للاتباع في قتلى أحد، رواه البخاري. (فيقدم) حينئذ (أفضلهما) وهو الأحق بالإمامة إلى جدار القبر القبلي لأنه (ص)
كان يسأل في قتلى أحد عن أكثرهم قرآنا فيقدمه إلى اللحد، لكن لا يقدم فرع على أصله من جنسه وإن علا حتى يقدم
الجد ولو من قبل الام وكذا الجدة، قاله الأسنوي، فيقدم الأب على الابن وإن كان أفضل منه لحرمة الأبوة، وتقدم الام
على البنت وإن كانت أفضل منها، أما الابن مع الام فيقدم لفضيلة الذكورة. ويقدم الرجل على الصبي والصبي على الخنثى
والخنثى على المرأة. ولا يجمع رجل وامرأة في قبر إلا لضرورة، فيحرم عند عدمها كما في الحياة. قال ابن الصلاح: ومحله
إذا لم يكن بينهما محرمية أو زوجية وإلا فيجوز الجمع، قال الأسنوي: وهو متجه. والذي في المجموع أنه لا فرق، فقال: إنه
حرام حتى في الام مع ولدها، وهذا كما قال شيخي هو الظاهر، إذ العلة في منع الجمع الايذاء لأن الشهوة قد انقطعت فلا
فرق بين المحرم وغيره ولا بين أن يكونا من جنس واحد أو لا. والخنثى مع الخنثى أو غيره كالأنثى مع الذكر والصغير الذي
لم يبلغ حد الشهوة كالمحرم. ويحجز بين الميتين بتراب حيث جمع بينهما ندبا كما جزم به ابن المقري في شرح إرشاده، ولو
اتحد الجنس. أما نبش القبر بعد دفن الميت لدفن ثان فيه، أي في لحده، فلا يجوز ما لم يبل الأول ويصر ترابا. وأما إذا جعل
في القبر في لحد آخر من جانب القبر الآخر من غير أن يظهر من الميت الأول شئ كما يفعل الآن كثيرا فالظاهر عدم الحرمة،
ولم أر من ذكر ذلك. (ولا يجلس على القبر) المحترم ولا يتكأ عليه ولا يستند إليه. (ولا يوطأ) عليه إلا لضرورة، كأن لا يصل
إلى ميته أو من يزوره وإن كان أجنبيا كما بحثه الأذرعي، أو لا يتمكن من الحفر إلا بوطئه لصحة النهي عن ذلك. والمشهور
في ذلك الكراهة هو المجزوم به في الروضة وأصلها، وأما ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي (ص) قال:
لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر ففسر فيه الجلوس بالحدث وهو حرام بالاجماع،
وجرى المصنف في شرح مسلم وفي رياض الصالحين على الحرمة أخذا بظاهر الحديث، والمعتمد الكراهة. وأما غير المحترم
كقبر حربي ومرتد وزنديق فلا يكره ذلك، وإذا مضت مدة يتيقن أنه لم يبق من الميت في القبر شئ فلا بأس بالانتفاع به.
ولا يكره المشي بين المقابر بالنعل على المشهور لقوله (ص): إنه ليسمع خفق نعالهم، وما ورد من الامر بإلقاء السبتيتين في
أبي داود والنسائي بإسناد حسن يحتمل أن يكون لأنه من لباس المترفهين، أو أنه كان فيهما نجاسة. والنعال السبتية بكسر
السين: المدبوغة بالقرظ. (ويقرب زائره) منه (كقربه منه) في زيارته له، (حيا) أي ينبغي له ذلك كما في الروضة كأصلها
احتراما له. نعم لو كان عادته منه البعد وقد أوصى بالقرب منه قرب منه لأنه حقه كما لو أذن له في الحياة، قاله الزركشي.
وأما من كان يهاب في حال حياته لكونه جبارا كالولاة الظلمة فلا عبرة بذلك. (والتعزية) لأهل الميت صغيرهم
وكبيرهم ذكرهم وأنثاهم، (سنة) في الجملة مؤكدة، لما رواه ابن ماجة والبيهقي بإسناد حسن: ما من مسلم يعزي أخاه
بمصيبته إلا كساه الله من حلل الكرامة يوم القيامة. نعم الشابة لا يعزيها أجنبي وإنما يعزيها محارمها وزوجها، وكذا
من ألحق بهم في جواز النظر كما بحثه شيخنا وابن حيران بأنه يستحب التعزية بالمملوك، بل قال الزركشي: يستحب أن
354

يعزي بكل من يحصل له عليه وجد كما ذكره الحسن البصري حتى الزوجة والصديق. وتعبيرهم بالأهل جرى على الغالب،
وتندب البداءة بأضعفهم عن حمل المصيبة. وخرج بقولنا في الجملة تعزية الذمي بذمي فإنها جائزة لا مندوبة. وهي لغة:
التسلية عمن يعز عليه، واصطلاحا: الامر بالصبر والحمل عليه بوعد الاجر، والتحذير من الوزر بالجزع، والدعاء للميت
بالمغفرة، وللمصاب بجبر المصيبة. وتسن (قبل دفنه) لأنه وقت شدة الجزع والحزن، (و) لكن (بعده) أولى لاشتغالهم
قبله بتجهيزه إلا إن أفرط حزنهم فتقديمها أولى ليصبرهم. وغايتها (ثلاثة أيام) تقريبا من الموت لحاضر
ومثل القدوم لغائب، ومثل الغائب المريض والمحبوس، فتكره التعزية بعدها إذ الغرض منها تسكين قلب المصاب، والغالب
سكونه فيها فلا يجدد حزنه، ويكره الجلوس لها بان يجتمع أهل الميت بمكان ليأتيهم الناس للتعزية لأنه محدث، وهو بدعة و
لأنه يجدد الحزن ويكلف المعزى، وأما ما ثبت عن عائشة رضي الله تعالى عنها من أنه (ص) لما جاءه قتل
زيد بن حارثة وجعفر وابن رواحة جلس في المسجد يعرف في وجهه الحزن فلا نسلم أن جلوسه كان لأجل أن يأتيه الناس
ليعزوه. (ويعزى) بفتح الزاي (المسلم) أي يقال في تعزيته (بالمسلم: أعظم) أي جعل (الله أجرك) عظيما (وأحسن) أي جعل
الله (عزاءك) بالمد، حسنا. وزاد على المحرر قوله: (وغفر لميتك) لأنه لائق بالحال، وقدم الدعاء للمعزى لأنه المخاطب. ويسن
أن يبدأ قبله بما ورد من تعزية الخضر أهل بيت رسول الله (ص) بموته: إن في الله عزاء من كل مصيبة،
وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت، فبالله فثقوا، وإياه فارجوا، فإن المصاب من حرم الثواب. (و) يعزى
المسلم، أي يقال في تعزيته (بالكافر) الذمي: (أعظم الله أجرك وصبرك) وأخلف عليك أو جبر مصيبتك أو نحو ذلك، كما
في الروضة كأصلها، لأنه اللائق بالحال. قال أهل اللغة: إذا احتمل حدوث مثل الميت أو غيره من الأموال، يقال: أخلف
الله عليك بالهمز، لأن معناه: رد عليك مثل ما ذهب منك، وإلا: خلف عليك، أي كان الله خليفة عليك من فقده. ولا يقول
وغفر لميتك، لأن الاستغفار للكافر حرام. (و) يعزى (الكافر) المحترم جوازا، إلا إن رجي إسلامه فندبا، أي يقال في
تعزيته (بالمسلم: غفر الله لميتك وأحسن عزاءك) وقدم الدعاء للميت في هذا لأنه لمسلم والحي كافر، ولا يقال أعظم الله
أجرك لأنه لا أجر له. أما الكافر غير المحترم من حربي أو مرتد كما بحثه الأذرعي فلا يعزى، وهل هو حرام أو مكروه؟ الظاهر
في المهمات الأول، ومقتضى كلام الشيخ أبي حامد الثاني وهو الظاهر. هذا إن لم يرج إسلامه فإن رجي استحبت كما يؤخذ
من كلام السبكي ولا يعزى به أيضا. ولم يذكر المصنف تعزية الكافر بالكافر لأنها غير مستحبة كما اقتضاه كلام الشرح
والروضة، بل هي جائزة إن لم يرج إسلامه كما مرت الإشارة إلى ذلك، وإن كان قضية كلام التنبيه استحبابها مطلقا كما
نبهت على ذلك في شرحه، وصيغتها: أخلف الله عليك ولا نقص عددك بالنصب والرفع، ونحو ذلك، لأن ذلك ينفعنا في
الدنيا بكثرة الجزية وفي الآخرة بالفداء من النار. قال في المجموع: وهو مشكل لأنه دعاء بدوام الكفر، فالمختار تركه. ومنعه
ابن النقيب بأنه ليس فيه ما يقتضي البقاء على الكفر، ولا يحتاج إلى تأويله بتكثير الجزية.
فائدة: سئل أبو بكرة عن موت الأهل فقال: موت الأب قصم الظهر، وموت الولد صدع في الفؤاد، وموت
الأخ قص الجناح، وموت الزوجة حزن ساعة. ولذا قال الحسن البصري: من الأدب أن لا يعزى الرجل في زوجته
وهذا من تفرداته. ولما عزي (ص) في بنته رقية قال: الحمد لله دفن البنات من المكرمات رواه العسكري
في الأمثال. (ويجوز البكاء عليه) أي الميت (قبل الموت) بالاجماع، لكن الأولى عدمه، بحضرة المحتضر، قال في الروضة
كأصلها والبكاء قبل الموت أولى منه بعده. قال الأسنوي: ومقتضاه طلب البكاء، وبه صرح القاضي حسين فقال:
355

يستحب إظهارا لكراهة فراقه وعدم الرغبة في ماله ونقله في المهمات عن ابن الصباغ ونظر فيه. والظاهر أن المراد
أنه أولى بالجواز لما سيأتي من أنه يكون بعد الموت أسفا على ما فات. (و) يجوز (بعده) أيضا ولو بعد الدفن، لأنه
(ص) بكى على ولده إبراهيم قبل موته وقال: إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا على
فراقك يا إبراهيم لمحزونون. وبكى على قبر بنت له. وزار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله. روى الأول الشيخان والثاني
البخاري والثالث مسلم. والبكاء عليه بعد الموت خلاف الأولى لأنه حينئذ يكون أسفا على ما فات، نقله في المجموع
عن الجمهور، بل نقل في الأذكار عن الشافعي والأصحاب أنه مكروه. والمعتمد الأول كما يشعر به قول المصنف ويجوز.
قال السبكي: وينبغي أن يقال إذا كان البكاء للرقة على الميت وما يخشى عليه من عقاب الله تعالى وأهوال يوم القيامة
فلا يكره. ولا يكون خلاف الأولى، وإن كان للجزع وعدم التسليم للقضاء فيكره أو يحرم اه‍. والثاني أظهر. قال الروياني:
ويستثنى ما إذا غلبه البكاء فإنه لا يدخل تحت النهي، لأنه مما لا يملكه البشر. وهذا ظاهر، قال بعضهم: وإن كان لمحبة ورقة
كالبكاء على الطفل فلا بأس به والصبر أجمل، وإن كان لما فقد من علمه وصلاحه وبركته وشجاعته فيظهر استحبابه،
أو لما فاته من بره وقيامه بمصالح حاله فيظهر كراهته لتضمنه عدم الثقة بالله. قال الزركشي: هذا كله في البكاء بصوت،
أما بمجرد دمع العين فلا منع منه اه‍. ولفظ الأول ممدود والثاني مقصور، قال كعب بن مالك:
بكت عيني وحق لها بكاها وما يغني البكاء ولا العويل
ووهم الجوهري في نسبته لحسان. (ويحرم الندب بتعديد شمائله) جمع شمال كهلال، وهي ما اتصف به الميت من الطباع
الحسنة، كقولهم: واكهفاه، واجبلاه، لحديث: ما من ميت يموت فيقوم باكيهم فيقول واجبلاه واسنداه أو نحو ذلك إلا وكل
به ملكان يلهزانه أهكذا كنت رواه الترمذي وحسنه. هذا إذا أوصى بذلك أو كان كافرا كما سيأتي، واللهز الدفع في
الصدر باليد وهي مقبوضة. (و) يحرم (النوح) وهو رفع الصوت بالندب، قاله في المجموع. وقيده غيره بالكلام المسجع،
وليس بقيد لخبر: النائحة إذا لم تتب (قبل موتها) تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب رواه مسلم، والسربال
القميص. (و) يحرم (الجزع بضرب صدره ونحوه) كشق جيب ونشر شعر وتسويد وجه وإلقاء رماد على رأس ورفع صوت
بإفراط في البكاء، كما قاله الامام ونقله في الأذكار عن الأصحاب، لخبر الشيخين: ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب
ودعى بدعوى الجاهلية. ومن ذلك أيضا تغيير الزي ولبس غير ما جرت به العادة كما قاله ابن دقيق العيد. قال الامام:
والضابط كل فعل يتضمن إظهار جزع ينافي الانقياد والاستسلام لقضاء الله تعالى فهو محرم، ولا يعذب الميت بشئ من
ذلك ما لم يوص به، قال تعالى: * (ولا تزر وازرة وزر أخرى) * بخلاف ما إذا أوصى به، كقول طرفة بن العبد:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا ابنة معبد
وعليه حمل الجمهور الأخبار الواردة بتعذيب الميت على ذلك. فإن قيل: ذنب الميت فيما إذا أوصى الامر بذلك فلا
يختلف عذابه بامتثالهم وعدمه. أجيب بأن الذنب على السبب يعظم بوجود المسبب، وشاهده خبر: من سن سنة سيئة،
والأصح كما قاله الشيخ أبو حامد أن ما ذكر محمول على الكافر وغيره من أصحاب الذنوب. قال المتولي وغيره: ويكره
إرثاء الميت بذكر أيامه وفضائله للنهي عن المراثي، والأولى الاستغفار له، والأوجه حمل النهي عن ذلك على ما يظهر فيه
تبرم أو على فعله مع الاجتماع له أو على الاكثار منه أو على ما يجدد الحزن دون ما عدا ذلك، فما زال كثير من الصحابة
وغيرهم من العلماء يفعلونه، وقد قالت فاطمة بنت النبي (ص) فيه:
ماذا على من شم تربة أحمد أن لا يشم مدى الزمان غواليا
صبت علي مصائب لو أنها صبت على الأيام عدن لياليا
(قلت: هذه مسائل منثورة) أي متفرقة متعلقة بالباب زدتها على المحرر، والفطن يرد كل مسألة منها إلى
356

ما يناسبها مما تقدم. وإنما جمعها في موضع واحد، لأنه لو فرقها لاحتاج أن يقول في أول كل منها قلت وفي آخرها
والله أعلم فيؤدي إلى التطويل المنافي لغرضه من الاختصار. (يبادر) ندبا (بقضاء دين الميت) إن تيسر حالا قبل
الاشتغال بتجهيزه مسارعة إلى فكاك نفسه، لخبر: نفس المؤمن - أي روحه - معلقة - أي محبوسة عن مقامها الكريم -
بدينه حتى يقضى عنه رواه الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان وغيره. فإن لم يتيسر حالا سأل وليه غرماءه أن يحللوه
ويحتالوا به عليه، نص عليه الشافعي والأصحاب. واستشكل في المجموع البراءة بذلك، ثم قال: ويحتمل أنهم رأوا ذلك
مبرئا للميت للحاجة والمصلحة، وظاهر أن المبادرة تجب عند طلب المستحق حقه، ولا معنى للتأخير مع التمكن من
التركة. (و) تنفيذ (وصيته) مسارعة لوصول الثواب إليه والبر للموصى له، وذلك مندوب بل واجب عند طلب
الموصى له المعين، وكذا عند المكنة في الوصية للفقراء ونحوهم من ذوي الحاجات، أو كان قد أوصى بتعجيلها. (ويكره
تمني الموت لضر نزل به) في بدنه أو ضيق في دنياه أو نحو ذلك، ففي الصحيحين: لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه،
فإن كان لا بد فاعلا فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي وتوفني ما كانت الوفاة خيرا لي (لا لفتنة دين)
فلا يكره حينئذ كما قاله في الأذكار والمجموع. وعبر في الروضة بقوله لا بأس، وفي فتاوى المصنف غير المشهورة أنه
يستحب تمني الموت حينئذ، قال: ونقله بعضهم عن الشافعي رضي الله تعالى عنه وعمر بن عبد العزيز وغيرهما، وهو المعتمد.
ويمكن حمل كلام المجموع والأذكار عليه، أما تمنيه لغرض أخروي فمحبوب كتمني الشهادة في سبيل الله. قال ابن عباس
رضي الله عنه: لم يتمن نبي الموت غير يوسف عليه الصلاة والسلام، وقال غيره: إنما تمنى الوفاة على الاسلام لا الموت.
(ويسن) للمريض (التداوي) لخبر: إن الله لم يضع داء إلا وأنزل له دواء غير الهرم قال الترمذي: حسن صحيح
وروى ابن حبان والحاكم عن ابن مسعود: ما أنزل الله داء إلا وأنزل له دواء جهله من جهله وعلمه من علمه، فعليكم
بألبان البقر فإنها ترم من كل الشجر - أي تأكل. وفي رواية: عليكم بالحبة السوداء فإن فيها شفاء من كل داء إلا السام
يريد الموت. قال في المجموع: فإن ترك التداوي توكلا فهو أفضل. فإن قيل: إنه (ص) فعله وهو رأس المتوكلين.
أجيب بأنه فعله لبيان الجواز. وفي فتاوى ابن البرزي أن من قوي توكله فالترك له أولى، ومن ضعفت نفسه وقل صبره
فالمداواة له أفضل، وهو كما قال الأذرعي حسن، ويمكن حمل كلام المجموع عليه. ونقل القاضي عياض الاجماع على
عدم وجوبه. فإن قيل: هلا وجب كأكل الميتة للمضطر وإساغة اللقمة بالخمر أجيب بأنا لا نقطع بإفادته بخلافهما،
ويجوز استيصاف الطبيب الكافر واعتماد وصفه كما صرح به الأصحاب على دخول الكافر الحرم. (ويكره إكراهه) أي
المريض، (عليه) أي التداوي باستعمال الدواء، وكذا إكراهه على الطعام كما في المجموع لما في ذلك من التشويش عليه.
وأما حديث: لا تكرهوا مرضاكم على الطعام فإن الله يطعمهم ويسقيهم فقال في المجموع: ضعفه البيهقي وغيره
وادعى الترمذي أنه حسن. (ويجوز لأهل الميت ونحوهم) كأصدقائه، (تقبيل وجهه) لما صححه الترمذي: أنه
(ص) قبل وجه عثمان بن مظعون بعد موته. وفي صحيح البخاري: أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قبل وجه رسول الله
(ص) بعد موته. قال السبكي: وينبغي أن يندب لأهله ونحوهم، ويجوز لغيرهم، ولا يقتصر الجواز عليهم.
في زوائد الروضة في أوائل النكاح: ولا بأس بتقبيل وجه الميت الصالح، فقيده بالصالح، وأما غيره فينبغي أن يكره. (ولا
بأس بالأعلام) وهو النداء (بموته للصلاة) عليه، (وغيرها) كالمحاللة والدعاء والترحم كما في الروضة، بل يسن ذلك
كما في المجموع، لأنه (ص) نعى النجاشي في اليوم الذي مات فيه وخرج إلى المصلى فصلى وقيل: يسن
في الغريب دون غيره، وقيل: يكره مطلقا. (بخلاف نعي الجاهلية) وهو بسكون العين وبكسرها مع تشديد الياء مصدر نعاه، ومعناه
كما في المجموع: النداء بذكر مفاخر الميت ومآثره، فإنه يكره للنهي عنه كما صححه الترمذي. والمراد نعي الجاهلية لا مجرد الاعلام
357

بالموت. فإن قصد الاعلام بموته لمن لم يعلم لم يكره، وإن قصد به الاخبار لكثرة المصلين عليه فهو مستحب. (ولا ينظر
الغاسل من بدنه إلا قدر الحاجة من غير العورة) كأن يريد بنظره معرفة المغسول من غيره، وهل استوعبه بالغسل أو لا.
فإن نظر زائدا على الحاجة كره كما في زيادة الروضة وجزم به في الكفاية، وإن صحح في المجموع أنه خلاف الأولى، لأنه
قد يكون فيه شئ كان يكره اطلاع الناس عليه وربما رأى سوادا ونحوه فيظنه عذابا فيسئ به ظنا. أما العورة فنظرها
حرام، ويسن أن لا يمسه بيده فإن مسه أو نظر إليه بغير شهوة لم يحرم، وقيل: يحرم النظر إلى شئ من بدنه لأنه صار عورة
كبدن المرأة إلا لضرورة. وأما غير الغاسل من معين وغيره فيكره له النظر إلى غير العورة إلا لضرورة. (ومن تعذر
غسله) لفقد الماء أو لغيره كأن احترق أو لدغ، ولو غسل لتهرى أو خيف على الغاسل ولم يمكنه التحفظ، (يمم) وجوبا
قياسا على غسل الجنابة، ولا يغسل محافظة على جثته لتدفن بحالها. ولو وجد الماء فيما إذ يمم لفقده قبل دفنه وجب غسله،
وتقدم الكلام على ذلك وعلى إعادة الصلاة في باب التيمم. ولو كان به قروح وخيف من غسله تسارع البلى إليه بعد دفنه
غسل لأن مصير جميعه إلى البلى. (ويغسل الجنب والحائض) والنفساء (والميت بلا كراهة) لأنهما طاهران كغيرهما،
(وإذا ماتا غسلا غسلا واحدا فقط) لأن الغسل الذي كان عليهما انقطع بالموت كما تقدم في الشهيد الجنب وانفراد
الحسن البصري بإيجاب غسلين. (وليكن الغاسل أمينا) ندبا ليوثق به في تكميل الغسل وغيره من المشروع، وكذا معين
الغاسل. فإن غسله فاسق أو كافر وقع الموقع، ويجب أن يكون عالما بما لا بد منه في الغسل. (فإن رأى) الغاسل من
بدن الميت (خيرا) كاستنارة وجهه وطيب رائحته (ذكره) ندبا ليكون أدعى لكثرة المصلين عليه والدعاء له،
(أو غيره) كأن رأى سوادا أو تغير رائحة أو انقلاب صورة، (حرم ذكره) لأنه غيبة لمن لا يتأتى الاستحلال منه،
وفي صحيح مسلم: من ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة، وفي سنن أبي داود والترمذي: اذكروا محاسن موتاكم
وكفوا عن مساويهم، وفي المستدرك: من غسل ميتا وكتم عليه غفر الله له أربعين مرة. (إلا لمصلحة) كأن كان
مبتدعا مظهرا لبدعته فيذكر ذلك لينزجر الناس عنها. وهذا الاستثناء ذكره في البيان بحثا، ونقله عنه في المجموع وقال
إنه متعين. وينبغي اطراده في المتجاهر بالفسق والظالم، والوجه كما قال الأذرعي: أن يقال إذا رأى من مبتدع أمارة
خير كتمها، ولا يبعد إيجابه لئلا يجمل الناس على الاغراء بها. ويسن كتمانه من المتجاهر بالفسق والظالم لئلا يغتر بذكرها
أمثاله، ولا معنى للتفصيل في القسم الثاني دون الأول. قال الغزي: وينبغي أن يكون قول الكتاب إلا لمصلحة عائدا
للامرين اه‍، ولا بأس.
غريبة: حكي أن امرأة بالمدينة في زمن مالك غسلت امرأة فالتصقت يدها على فرجها، فتحير الناس في أمرها
هل تقطع يد الغاسلة أو فرج الميتة؟ فاستفتي مالك في ذلك فقال: سلوها ما قالت لما وضعت يدها عليها؟ فسألوها فقالت: قلت
طالما عصى هذا الفرج ربه فقال مالك: هذا قذف اجلدوها ثمانين تتخلص يدها فجلدوها ذلك فخلصت يدها. فمن ثم
قيل لا يفتى ومالك بالمدينة. (ولو تنازع أخوان) مثلا (أو زوجان) في غسل ميت لهما، ولا مرجح لأحدهما. (أقرع)
بينهما حتما، فمن خرجت قرعته غسله، لأن تقديم أحدهما ترجيح بلا مرجح. (والكافر أحق بقريبه الكافر) في
تجهيزه من قريبه المسلم لأنه وليه، ولقوله تعالى: * (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) *، فإن لم يكن تولاه المسلم. (ويكره)
للمرأة (الكفن المعصفر) والمزعفر لما في ذلك من الزينة. وأما الرجل فقد مر في باب اللباس أنه يحرم على الرجل المزعفر
دون المعصفر على خلاف في ذلك. وحينئذ فإطلاق كلام المصنف كراهة المعصفر للرجال والنساء صحيح، وأما المزعفر فإنه
358

يكره في حق المرأة بطريق الأولى، وأما الرجل فيحرم كما علم من قوله فيما مضى: يكفن بما له لبسه حيا. (و) تكره (المغالاة
فيه) أي الكفن بارتفاع ثمنه لقوله (ص): لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلبا سريعا رواه أبو داود. واحترز بالمغالاة
عن تحسينه في بياضه ونظافته وسبوغه فإنها مستحبة لما في مسلم: إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه أي يتخذه
أبيض نظيفا سابغا. وفي كامل ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي (ص) قال: حسنوا أكفان
موتاكم فإنهم يتزاورون في قبورهم. (و) الملبوس (المغسول) بأن يكفن فيه الميت (أولى من الجديد) لأنه للصديد،
والحي أحق بالجديد، فقد روى البخاري أن الصديق رضي الله عنه أوصى أن يكفن في ثوبه الخلق وزيادة ثوبين، وقال:
الحي أحق بالجديد من الميت إنما هو للصديد. وقيل الجديد أولى، لحديث مسلم السابق. وكفن (ص) في ثلاثة أثواب
سحولية جدد، قال الأذرعي: وهو الأصح مذهبا ودليلا. (و) الصغير (الصبي) أو الصبية أو الخنثى (كبالغ في
تكفينه بأثواب) ثلاثة تشبيها له بالبالغ. وأشار بقوله بأثواب إلى أن هذا بالنسبة إلى العدد لا في جنس ما يكفن فيه،
لأن ذلك تقدم في قوله: يكن بماله لبسه حيا. (والحنوط) بفتح الحاء أي ذره كما مر، (مستحب) لا واجب كما لا يجب
الطيب للمفلس وإن وجبت كسوته، (وقيل واجب) كالكفر للامر به. (ولا يحمل الجنازة إلا الرجال) ندبا، (وإن
كان) الميت (أنثى) لأن النساء يضعفن عن الحمل فيكره لهن، فإن لم يوجد غيرهن تعين عليهن. (ويحرم حملها على
هيئة مزرية) كحملها في غرارة أو قفة، وحمل الكبير على اليد أو الكتف من غير نعش بخلاف الصغير. (وهيئة يخاف
منها سقوطها) لأنه تعريض لإهانته. قال في المجموع: ويحمل على سرير أو لوح أو محمل وأي شئ حمل عليه أجزأ، وإن
خيف تغيره وانفجاره قبل أن يهيأ له ما يحمل عليه فلا بأس أن يحمل على الأيدي والرقاب للحاجة حتى يوصل إلى القبر.
(ويندب للمرأة ما يسترها كتابوت) وهو سرير فوقه خيمة أو قبة أو مكبة، لأن ذلك أستر لها. وأول من فعل له ذلك
زينب زوجة النبي (ص) وكانت قد رأته بالحبشة لما هاجرت وأوصت به. ومثلها الخنثى. (ولا يكره الركوب) أي لا بأس
به، (في الرجوع منها) لأنه (ص) ركب فرسا معرورا لما رجع من جنازة أبي الدحداح، رواه مسلم من حديث جابر
ابن سمرة. وأما في الذهاب فتقدم أنه يكره إلا لعذر كعبد المكان أو ضعف. (ولا بأس باتباع المسلم) بتشديد المثناة، (جنازة
قريبه الكافر) لأنه عليه الصلاة والسلام أمر عليا رضي الله تعالى عنه أن يواري أبا طالب كما رواه أبو داود.
قال الأسنوي: كذا
استدل به المصنف وغيره وليس فيه دليل على مطلق القرابة، لأن عليا كان يجب عليه ذلك كما يجب عليه القيام بمؤنته
في حال الحياة اه‍. وقد يفهم كلام المصنف تحريم اتباع المسلم جنازة الكافر غير القريب، وبه صرح الشاشي. قال الأذرعي
ولا يبعد إلحاق الزوجة والمملوك بالقريب، وهل يلحق به الجار كما في العيادة؟ فيه نظر اه‍. والظاهر الالحاق. ويجوز للمسلم
زيارة قبر قريبه الكافر عند الأكثرين، وقال الماوردي: لا يجوز لقوله تعالى: * (ولا تقم على قبره) *. قال في المجموع:
وهذا غلط فالأكثرون قطعوا بالجواز، أي فيكون مكروها. (ويكره اللغط) بفتح الغين وسكونها، وهو ارتفاع
الأصوات. (في) السير مع (الجنازة) لما رواه البيهقي من أن الصحابة كرهوا رفع الصوت عند الجنائز وعند القتال
وعند الذكر. قال في المجموع والمختار: بل الصواب ما كان عليه السلف من السكوت في حال السير مع الجنازة. ولا يرفع
صوته بقراءة ولا ذكر ولا غيرهما، بل يشتغل بالتفكر في الموت وما يتعلق به. وما يفعله جهلة القراء بالتمطيط وإخراج الكلام
عن موضوعه فحرام يجب إنكاره، وكره الحسن وغيره قولهم استغفروا لأخيكم، وسمع ابن عمر قائلا يقول: استغفروا له غفر
الله لكم فقال: لا غفر الله لك رواه سعيد بن منصور في سننه. (و) يكره (إتباعها) بسكون المثناة الفوقية، (بنار)
359

في مجمرة أو غيرها لما فيه من التفاؤل القبيح، ولخبر أبي داود: لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار. وقال الشيخ نصر:
لا يجوز أن يحمل معها المجامر والنار، فإن أراد التحريم فشاذ، فقد نقل ابن المنذر الاجماع على الكراهة، وفعل ذلك عند
القبر مكروه أيضا كما في المجموع. (ولو اختلط) من يصلى عليه بغيره ولم يتميز، كما لو اختلط (مسلمون) أو واحد منهم
(بكفار) وتعذر التمييز، أو غير شهيد بشهيد، أو سقط يصلى عليه بسقط لا يصلى عليه، (وجب) للخروج عن الواجب،
(غسل الجميع) وتكفينهم (والصلاة) عليهم ودفنهم، إذ لا يتم الواجب إلا بذلك. فإن قيل: يعارض ذلك بأن الصلاة
على الفريق الآخر محرمة، ولا يتم ترك المحرم إلا بترك الواجب. أجيب بأن الصلاة في الحقيقة ليست على الفريق الآخر
كما يعلم من قول المصنف. (فإن شاء صلى على الجميع) دفعة (بقصد المسلمين) منهم في الأولى وغير
الشهيد في الثانية،
وبقصد السقط الذي يصلى عليه في الثالثة. (وهو الأفضل والمنصوص) لأنه ليس فيه صلاة على غير من لم يصل عليه
والنية جازمة. (أو على واحد فواحد ناويا الصلاة عليه إن كان) ممن يصلى عليه، كأن يقول في الأولى إن كان (مسلما)،
وفي الثانية إن كان غير شهيد، وفي الثالثة إن كان هو الذي يصلى عليه. (ويقول) في الأولى: (اللهم اغفر له إن كان
مسلما) ولا يحتاج إلى ذلك في الثانية ولا الثالثة لانتفاء المحذور وهو الدعاء للكافر بالمغفرة، ويعذر في تردد النية للضرورة
كمن نسي صلاة من الخمس. وهذا التخيير متفق عليه، لكن محله كما قاله بعض المتأخرين ما إذا لم يحصل بالافراد
تغير أو انفجار، وإلا فالوجه تعين الجمع بصلاة واحدة. وإن كان التأخير إلى اجتماعهم يؤدي إلى تغير أحدهم تعين
إفراد كل بصلاة ويدفنون في المسألة الأولى بين مقابر المسلمين ومقابر الكفار. (ويشترط لصحة الصلاة) على الجنازة
زائدا على ما تقدم في فصل صلاتها شرطان، أشار إلى أحدهما بقوله: (تقدم غسله) أو تيممه بشرطه، لأنه المنقول عن
النبي (ص)، ولان الصلاة على الميت كصلاة نفسه. (وتكره) الصلاة عليه (قبل تكفينه) كما قاله في زوائد الروضة
أيضا واستشكل، لأن المعنيين السابقين موجودان فيه. قال السبكي: فالقول بأن الغسل شرط دون التكفين يحتاج
إلى دليل اه‍. وربما يقال إن ترك الستر أخف من ترك الطهارة بدليل لزوم القضاء في الثاني دون الأول. (فلو مات بهدم
ونحوه) كأن وقع في بئر أو بحر عميق (وتعذر إخراجه وغسله) وتيممه، (لم يصل عليه) لفوات الشرط كما نقله الشيخان
عن المتولي وأقراه، وقال في المجموع: لا خلاف فيه. قال بعض المتأخرين: ولا وجه لترك الصلاة عليه، لأن الميسور
لا يسقط بالمعسور، لما صح: وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ولان المقصود من هذه الصلاة الدعاء والشفاعة
للميت. وجزم الدارمي وغيره أن من تعذر غسله صلي عليه، قال الدارمي: وإلا لزم أن من أحرق فصار رمادا أو أكله سبع
لم يصل عليه، ولا أعلم أحدا من أصحابنا قال بذلك. وبسط الأذرعي الكلام في المسألة. والقلب إلى ما قاله بعض المتأخرين
أميل، لكن الذي تلقيناه عن مشايخنا ما في المتن. ثم أشار إلى الشرط الثاني بقوله: ويشترط أن لا يتقدم على
الجنازة
الحاضرة) إذا صلى عليها، (و) أن (لا) يتقدم على (القبر) إذا صلى عليه، (على المذهب فيهما) اتباعا لما جرى عليه
الأولون، ولان الميت كالامام. والثاني: يجوز التقدم عليهما، لأن الميت ليس بإمام متبوع حتى يتعين تقديمه بل هو
كعبد جاء معه جماعة يستغفرون له عند مولاه. واحترز بالحاضرة عن الغائبة عن البلد، فإنه يصلى عليها كما مر
وإن كانت خلف ظهره.
تنبيه: إنما عبر بالمذهب، لأن في المسألة على ما تلخص من كلامه طريقين أصحهما أنها على القولين في تقدم
المأموم على إمامه، والثاني: القطع بالجواز. ويشترط أيضا أن يجمعهما مكان واحد كما قاله الأذرعي، وأن لا يزيد
360

ما بينهما في غير المسجد على ثلاثمائة ذراع تقريبا تنزيلا للميت منزلة الامام. (وتجوز) بلا كراهة، بل يستحب كما في المجموع
(الصلاة عليه) أي الميت (في المسجد) إن لم يخش تلويثه، لأنه (ص) صلى فيه على سهل وسهيل ابني بيضاء
كما رواه مسلم، فالصلاة عليه في المسجد أفضل لذلك، ولأنه أشرف. قال في زيادة الروضة: وأما حديث: من صلى
على جنازة في المسجد فلا شئ له فضعيف صرح بضعفه أحمد وابن المنذر والبيهقي، وأيضا الرواية المشهورة: فلا شئ
عليه. أما إذا خيف منه تلويث المسجد فلا يجوز إدخاله. (ويسن جعل صفوفهم) أي المصلين على الميت (ثلاثة فأكثر)
لحديث صححه الحاكم: من صلى عليه ثلاثة صفوف فقد وجبت - أي حصلت له - المغفرة. وفي رواية: فقد غفر له،
وفي مسلم: ما من مسلم يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون فيه إلا شفعوا فيه. وهنا فضيلة الصف
الأول وفضيلة غيره سواء، بخلاف بقية الصلوات، للنص على كثرة الصفوف هنا.
فرع: قال في البحر: يتأكد استحباب الصلاة على من مات في وقت فضيلة كيوم عرفة والعيد ويوم الجمعة
وحضور دفنه، فقد صح عنه (ص) أن: من مات ليلة الجمعة ودفن في يومها وقي فتنة القبر. (وإذا صلي عليه) أي
الميت (فحضر من) أي شخص (لم يصل) عليه (صلى) عليه ندبا، لأنه (ص) صلى على قبور جماعة
ومعلوم أنهم إنما دفنوا بعد الصلاة عليهم. وتقع هذه الصلاة فرضا كالأولى سواء أكانت قبل الدفن أم بعده، فينوي
بها الفرض كما في المجموع عن المتولي ويثاب ثوابه. (ومن صلى) على ميت منفردا أو في جماعة (لا يعيد
) ها، أي
لا يسن له إعادتها، (على الصحيح) لأن الجنازة لا يتنفل بها، والثانية تقع نفلا. نعم فاقد الطهورين إذا صلى ثم وجد
ماء يتطهر به فإنه يعيد كما أفتى به القفال. والثاني: يسن إعادتها في جماعة سواء أصلى منفردا أم في جماعة كغيرها من
الصلوات. والثالث: إن صلى منفردا ثم وجد جماعة سن له الإعادة معهم لحيازة فضيلتها وإلا فلا. والرابع: تكره إعادتها.
والخامس: تحرم. وعلى الأول لو صلى ثانيا صحت صلاته نفلا على الصحيح في المجموع. وهذه خارجة عن القياس، لأن
الصلاة إذا لم تكن مطلوبة لا تنعقد، بل قيل: إن هذه تقع فرضا كصلاة الطائفة الثانية، ولعل وجه ذلك أنه لما كان
القصد من هذه الصلاة الدعاء للميت والشفاعة له صحت دون غيرها. وأما من لم يصل فتقع صلاته فرضا، لأن هذه الصلاة
لا يتنفل بها كما مر. فإن قيل: قد سقط الفرض بالأولى فلا تقع الثانية فرضا. أجيب بأن الساقط بالأولى عن الباقين
حرج الفرض لا هو، وقد يكون ابتداء الشئ غير فرض وبالدخول فيه يصير فرضا كحج التطوع وأحد خصال
الواجب المخير. وقد أوضح ذلك السبكي رحمه الله تعالى، فقال: فرض الكفاية إذا لم يتم به المقصود، بل تتجدد مصلحته
بتكرر الفاعلين كتعلم العلم وحفظ القرآن وصلاة الجنازة، إذ مقصودها الشفاعة، لا يسقط بفعل البعض وإن سقطا لحرج،
وليس كل فرض يأثم بتركه مطلقا. (ولا تؤخر) الصلاة (لزيادة مصلين) للخبر الصحيح: أسرعوا بالجنازة ولا بأس
بانتظار الولي عن قرب ما لم يخش تغير الميت.
تنبيه: شمل كلامه صورتين: إحداهما إذا حضر جمع قليل قبل الصلاة لا ينتظر غيرهم ليكثروا. نعم، قال الزركشي
وغيره: إذا كانوا دون أربعين فينتظر كما لهم عن قرب، لأن هذا العدد مطلوب فيها. وفي مسلم عن ابن عباس: أنه كان
يؤخر الصلاة للأربعين، قيل: وحكمته أنه لم يجتمع أربعون إلا كان لله فيهم ولي، وحكم المائة كالأربعين كما يؤخذ
من الحديث المتقدم. والصورة الثانية: إذا صلى عليه من يسقط به الفرض لا تنتظر جماعة أخرى ليصلوا عليه صلاة أخرى
بل يصلون على القبر، نص عليه الشافعي، لأن الاسراع بالدفن حق للميت، والصلاة لا تتفوت بالدفن. (وقاتل نفسه)
حكمه (كغيره في) وجوب (الغسل) له (والصلاة) عليه، لقوله (ص): الصلاة واجبة على كل مسلم برا كان
أو فاجرا وإن عمل الكبائر رواه البيهقي وقال: هو أصح ما في الباب، إلا أن فيه إرسالا، والمرسل حجة إذا اعتضد
بأحد أمور: منها قول أكثر أهل العلم وهو موجود هنا. وأما ما رواه مسلم: من أنه (ص) لم يصل على الذي
361

قتل نفسه فحمله الجمهور على الزجر عن مثل فعله، وصلت عليه الصحابة لئلا يرتكب الناس ما ارتكب. وأجاب
ابن حبان عنه في صحيحه بأنه منسوخ.
فائدة: روى أحمد في الزهد عن منذر بن جندب أن ولدا له اعتل من كثرة الاكل، فقال: إن مات لم أصل
عليه، لأنه مات عاصيا. (ولو نوى الامام صلاة غائب، و) نوى (المأموم صلاة حاضر أو عكس) كل منهما
(جاز) ذلك، لأن اختلاف نيتهما لا تضر، كما لو صلى الظهر وراء مصلي العصر، ومثل ذلك ما لو نوى الامام حاضرا
أو غائبا، والمأموم حاضرا أو غائبا آخر، فالحاصل أربع مسائل. ولو قال المصنف: ولو نوى المأموم الصلاة على
غير ما نواه الامام لشمل الأربع. (والدفن في المقبرة أفضل) منه بغيرها لما يلحقه من دعاء الزوار والمارين،
ولأنه (ص) كان يدفن أهله وأصحابه بالبقيع. وفي فتاوى القفال أن الدفن بالبيت مكروه، قال
الأذرعي: إلا أن تدعو إليه حاجة أو مصلحة. على أن المشهور أنه خلاف الأولى لا مكروه، وأما دفنه
(ص) في بيته فلان الله تعالى لم يقبض نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه. واستثنى الأذرعي وغيره الشهيد،
فيسن دفنه حيث قتل لحديث فيه، ويسن الدفن في أفضل مقبرة بالبلد كالمقبرة المشهورة بالصالحين. ولو قال بعض الورثة
يدفن في ملكي أو في أرض التركة والباقون في المقبرة، أجيب طالبها. فإن دفنه بعض الورثة في أرض نفسه لم ينقل أو في
أرض التركة فللباقين لا للمشتري نقله والأولى تركه، وله الخيار إن جهل والدفن له إن بلي الميت أو نقل منه. وإن تنازعوا
في مقبرتين ولم يوص الميت بشئ قال ابن الأستاذ: إن كان الميت رجلا أجيب المقدم في الصلاة والغسل، فإن استووا
أقرع، وإن كانت امرأة أجيب القريب دون الزوج، وهذا كما قال الأذرعي: محله عند استواء التربتين وإلا فيجب أن
ينظر إلى ما هو أصلح للميت فيجاب الداعي إليه، كما لو كانت إحداهما أقرب أو أصلح أو مجاورة الأخيار والأخرى بالضد من
ذلك، بل لو اتفقوا على خلاف الأصلح منعهم الحاكم من ذلك لأجل الميت. ولو تنازع الأب والام في دفن ولد
فقال كل
منهما أنا أدفنه في تربتي، فالظاهر كما قال بعض المتأخرين إجابة الأب. ولو كانت المقبرة مغصوبة أو اشتراها ظالم بمال خبيث
ثم سبلها، أو كان أهلها أهل بدعة أو فسق، أو كانت تربتها فاسدة لملوحة أو نحوها، أو كان نقل الميت إليها يؤدي إلى انفجاره،
فالأفضل اجتنابها بل يجب في بعض ذلك كما هو ظاهر. ولو مات شخص في سفينة وأمكن من هناك دفنه لكونهم قرب
البر ولا مانع، لزمهم التأخير ليدفنوه فيه، وإلا جعل بين لوحين لئلا ينتفخ وألقي لينبذه البحر إلى من لعله يدفنه، ولو ثقل
بشئ لينزل إلى القرار لم يأثموا. وإذا ألقوه بين لوحين أو في البحر وجب عليهم قبل ذلك غسله وتكفينه والصلاة عليه
بلا خلاف. ولا يجوز دفن مسلم في مقبرة الكفار ولا عكسه، وإذا اختلطوا دفنوا في مقبرة مستقلة كما مر. ومقبرة أهل
الحرب إذا اندرست جاز أن تجعل مقبرة للمسلمين ومسجدا، لأن النبي (ص) كان كذلك. ولو حفر شخص قبرا في مقبرة
لم يكن أحق به من ميت آخر يحضر لأنه لا يدري بأي أرض يموت، لكن الأولى أن لا يزاحم عليه. (ويكره المبيت بها)
أي المقبرة لما فيها من الوحشة، وربما رأى ما يزيل عقله. وفي كلامه ما يشعر بعدم الكراهة في القبر المفرد، قال الأسنوي:
وفيه احتمال، وقد يفرق بين أن يكون بصحراء أو في بيت مسكون اه‍. والتفرق أظهر، بل كثير من الترب مسكونة فينبغي أن
لا يكره فيها. ويؤخذ من التعليل أن الكلام فيما إذا كان منفردا، وأما إذا كانوا جماعة كما يقع الآن كثيرا في البيات
ليلة الجمعة لقراء قرآن أو زيارة فلا كراهة في ذلك. (ويندب ستر القبر بثوب) عند إدخال الميت فيه، (وإن كان)
الميت (رجلا) لأنه (ص) ستر قبر سعد بن معاذ، ولأنه أستر لما عساه أن ينكشف مما كان يجب ستره. وهو
للأنثى آكد منه لغيرها، بل قيل يختص الستر بها، وهو ظاهر النص، وللخنثى آكد من الرجل كما في الحياة. (و) يندب (أن يقول)
الذي يدخله القبر: (بسم الله وعلى ملة رسول الله (ص)) للاتباع، كما رواه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم،
362

وفي رواية: سنة بدل ملة. ويسن أن يزيد من الدعاء ما يناسب الحال. (ولا يفرش تحته) في القبر (شئ) من الفراش، (
ولا) يوضع تحت رأسه (مخدة) بكسر الميم جمعها مخاد بفتحها، سميت بذلك لكونها آلة لوضع الخد عليها، أي
يكره ذلك لأنه إضاعة مال بل يوضع بدلها حجر أو لبنة ويفضي بخده إليه أو إلى التراب كما مرت الإشارة إليه. وفي
سنن البيهقي عن أبي موسى الأشعري أنه لما احتضر أوصى أن لا يجعلوا في لحده شيئا يحول بينه وبين التراب. وأوصى
عمر أنهم إذا أنزلوه القبر يفضوا بخده إلى الأرض. وقال البغوي: لا بأس أن يبسط تحت جنبه شئ، لأنه جعل في قبره
(ص) قطيفة حمراء. وأجاب الأصحاب بأن ذلك لم يكن صادرا عن جملة الصحابة ولا برضاهم وإنما فعله شقران
كراهية أن يلبسها أحد بعده (ص)، وفي الاستيعاب أن تلك القطيفة أخرجت قبل أن يهال التراب.
تنبيه: لو عبر المصنف بقوله: ولا يتخذ له فراش ولا مخدة لاستغنى عما قدرته، لأن المخدة إن دخلت فيما يفرش
تحته فقد دخلت في لفظ الشئ، وإن لم تدخل فيه وهو الصواب لم يبق لها عامل يرفعها. (ويكره دفنه في تابوت)
بالاجماع لأنه بدعة، (إلا في أرض ندية) بسكون الدال وتخفيف التحتية، (أو رخوة) وهي بكسر الراء أفصح من
فتحها: ضد الشديدة، فلا يكره للمصلحة، ولا تنفذ وصيته به إلا في هذه الحالة. ومثل ذلك ما إذا كان في الميت تهرية
بحريق أو لذع بحيث لا يضبطه إلا التابوت، أو كانت امرأة لا محرم لها كما قاله المتولي لئلا يمسها الأجانب عند الدفن أو
غيره. وألحق في الوسيط بذلك دفنه في أرض مسبعة بحيث لا يصونه من نبشها إلا التابوت. (ويجوز) بلا كراهة (الدفن
ليلا) لأن عائشة وفاطمة والخلفاء الراشدين ما عدا عليا رضي الله تعالى عنهم دفنوا ليلا، وقد فعله (ص) كما
صححه الحاكم. ولا يخفى أن الكلام في موتى المسلمين، أما أهل الذمة فإنهم لا يمكنون من إخراج جنائزهم نهارا، وعلى
الامام منعهم من ذلك كما سيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الجزية. (و) كذا يجوز (وقت كراهة الصلاة) بلا كراهة
بالاجماع، لأن له سببا متقدما أو مقارنا، وهو الموت. (ما لم يتحره) فإن تحراه كره كما في المجموع واقتضاه كلام الروضة،
وإن اقتضى المتن عدم الجواز، وجرى عليه شيخنا في شرح منهجه. ويمكن حمله على عدم الجواز المستوي الطرفين،
وعلى الكراهة حمل خبر مسلم عن عقبة بن عامر: ثلاث ساعات نهانا رسول الله (ص) عن الصلاة فيهن،
وأن
نقبر فيهن موتانا. وذكر وقت الاستواء، والطلوع والغروب. وظاهر الخبر أنه لا يكره تحري الدفن في الوقتين المتعلقين
بالفعل، وهما بعد صلاة الصبح وبعد صلاة العصر. وجرى على ذلك الأسنوي وصوب في الخادم كراهة تحري الأوقات
كلها، وهو الظاهر. (وغيرهما) أي الليل، ووقت الكراهة (أفضل) أي فاضل بشرط أن يخاف من تأخيره إلى
غيرهما تغيرا لسهولة الاجتماع والوضع في القبر، قال الأسنوي: وما ذكر من تفضيل غير أوقات الكراهة عليها لم يتعرض
له في الروضة ولا في المجموع ولا تتجه صحته، فإن المبادرة مستحبة اه‍. ويرد ذلك الشرط المتقدم. ولو عبر بقوله والسنة
وغيرهما لاستغنى عن التأويل المذكور.
فرع: يحصل من الاجر بالصلاة على الميت المسبوقة بالحضور معه قيراط، ويحصل منه والحضور معه إلى تمام
الدفن لا للمواراة فقط قيراطان لخبر الصحيحين: من شهد الجنازة حتى يصلى عليها فله قيراط من شهدها حتى تدفن
وفي رواية البخاري: حتى يفرغ من دفنها فله قيراطان. قيل: وما القيراطان؟ قال: مثل الجبلين العظيمين. ولمسلم: أصغرهما
مثل أحد، وعلى ذلك تحمل رواية مسلم: حتى يوضع في اللحد. وهل ذلك بقيراط الصلاة أو بدونه فيكون ثلاثة
قراريط؟ فيه احتمال، لكن في صحيح البخاري في كتب الايمان التصريح بالأول، ويشهد للثاني ما رواه الطبراني
مرفوعا: من شيع جنازة حتى يقضى دفنها كتب له ثلاثة قراريط. وبما تقرر علم أنه لو صلي عليه ثم حضر وحده
ومكث حين دفن لم يحصل له القيراط الثاني كما صرح به في المجموع وغيره لكن له أجر في الجملة، ولو تعددت الجنائز
واتحدت الصلاة عليها دفعة واحدة، هل يتعدد القيراط بتعددها أو لا نظرا لاتحاد الصلاة؟ قال الأذرعي: الظاهر التعدد،
363

وبه أجاب قاضي حماه (ويكره تجصيص القبر) أي تبييضه بالجص وهو من الجبس، البارزي، وهو ظاهر وقيل الجير،
والمراد هنا هما أو أحدهما. (والبناء) عليه كقبة أو بيت، للنهي عنهما في صحيح مسلم. وخرج بتجصيصه تطيينه،
فإنه لا بأس به كما نص عليه. وقال في المجموع: إنه الصحيح وإن خالف الامام والغزالي في ذلك فجعلاه كالتجصيص.
(والكتابة عليه) سواءا أكتب اسم صاحبه أم غيره في لوح عند رأسه أم في غيره للنهي عنه، رواه الترمذي وقال:
حسن صحيح. قال الأذرعي: هكذا أطلقوه، والقياس الظاهر تحريم كتابة القرآن على القبر لتعرضه للدوس عليه،
والنجاسة والتلويث بصديد الموتى عند تكرار النبش في المقبرة المسبلة اه‍، لكن هذا غير محقق، فالمعتمد إطلاق
الأصحاب. ويكره أن يجعل على القبر مظلة، لأن عمر رضي الله تعالى عنه رأى قبة فنحاها، وقال: دعوه يظله عمله.
وفي البخاري: لما مات الحسن بن الحسن بن علي رضي الله تعالى عنهم ضربت امرأته القبة على قبره سنة، ثم رفعت،
فسمعوا صائحا يقول: ألا هل وجدوا ما فقدوا؟ فأجابه آخر: بل يئسوا فانقلبوا. ويكره تقبيل التابوت الذي يجعل على
القبر كما يكره تقبيل القبر واستلامه وتقبيل الأعتاب عند الدخول لزيارة الأولياء، فإن هذا كله من البدع التي ارتكبها
الناس: * (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا) *. (ولو بني) عليه (في مقبرة مسبلة) وهي التي جرت عادة أهل البلد بالدفن
فيها، (هدم) البناء لأنه يضيق على الناس، ولا فرق بين أن يبني قبة أو بيتا أو مسجدا أو غير ذلك. ومن المسبل كما قال
الدميري وغيره: قرافة مصر، فإن ابن عبد الحكم ذكر في تاريخ مصر أن عمرو بن العاص أعطاه المقوقس فيها مالا جزيلا،
وذكر أنه وجد في الكتاب الأول أنها تربة الجنة، فكاتب عمر بن الخطاب في ذلك، فكتب إليه: إني لا أعرف تربة الجنة
إلا لأجساد المؤمنين فاجعلوها لموتاكم وقد أفتى جماعة من العلماء بهدم ما بني فيها.
تنبيه: ظاهر كلامه أن البناء في المقبرة المسبلة مكروه، ولكن يهدم. فإنه أطلق في البناء وفصل في الهدم بين
المسبلة وغيرها، إذ لا يمكن حمل كلامه في الكراهة على التحريم لفساده، لأن التجصيص والكتابة والبناء في غير المسبلة
لا حرمة فيه، فيتعين أن يكون كراهة تنزيه. ولكنه صرح في المجموع وغيره بتحريم البناء فيها وهو المعتمد، فلو
صرح به هنا كان أولى. فإن قيل: يؤخذ من قوله هدم الحرمة. أجيب بالمنع، فقد قال في الروضة في آخر شروط
الصلاة: إن غرس الشجرة في المسجد مكروه، قال: فإن غرست قطعت. وجمع بعضهم بين كلامي المصنف بحمل الكراهة
على ما إذا بنى على القبر خاصة بحيث يكون البناء واقعا في حريم القبر، والحرمة على ما إذا بنى على القبر
قبة أو بيتا يسكن فيه،
والمعتمد الحرمة مطلقا. (ويندب أن يرش القبر بماء) لأنه (ص) فعله بقبر ولده إبراهيم، رواه أبو داود في مراسيله،
وتفاؤلا بالرحمة وتبريد المضجع الميت، ولان فيه حفظا للتراب أن يتناثر. قال الأذرعي: الأولى أن يكون طهورا باردا،
والظاهر كراهته بالنجس أو تحريمه اه‍. والذي ينبغي الكراهة، وأما التحريم ففي غاية البعد. وخرج بالماء من الورد،
فالرش به مكروه كما في زيادة الروضة لأنه إضاعة مال. قال الأسنوي: ولو قيل بتحريمه لم يبعد، وقال السبكي: لا بأس
باليسير منه إذا قصد به حضور الملائكة لأنها تحب الرائحة الطيبة، ولعل هذا هو مانع الحرمة من إضاعة المال. ويكره
أيضا أن يطلى بالخلوق. (ويوضع عليه حصى) لما رواه الشافعي مرسلا: أنه (ص) وضعه على قبر ابنه إبراهيم
وروي أنه رأى على قبره فرجة فأمر بها فسدت وقال: إنها لا تضر ولا تنفع وإن العبد إذا عمل شيئا أحب الله منه أن يتقنه.
ويسن أيضا وضع الجريد الأخضر على القبر، وكذا الريحان ونحوه من الشئ الرطب. ولا يجوز للغير أخذه من على
القبر قبل يبسه لأن صاحبه لم يعرض عنه إلا عند يبسه، لزوال نفعه الذي كان فيه وقت رطوبته وهو الاستغفار. (و) أن
يوضع (عند رأسه حجر أو خشبة) أو نحو ذلك، لأنه (ص) وضع عند رأس عثمان بن مظعون صخرة وقال: أتعلم بها
قبر أخي لأدفن إليه من مات من أهلي رواه أبو داود، وعن الماوردي استحباب ذلك عند رجليه أيضا. (و) يندب
(جمع الأقارب) للميت (في موضع) واحد من المقبرة لأنه أسهل على الزائر. قال البندنيجي: ويسن أن يقدم الأب
364

إلى القبلة ثم الاسن فالأسن على الترتيب المذكور فيما إذا دفنوا في قبر واحد كما قاله غيره. ويتجه كما قال الدميري إلحاق
الزوجين والعتقاء والأصدقاء بالأقارب. (و) يندب (زيارة القبور) التي فيها المسلمون (للرجال) بالاجماع. وكانت
زيارتها منهيا عنها، ثم نسخت لقوله (ص): كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، ولا تدخل النساء في ضمير الرجال
على المختار. وكان (ص) يخرج إلى البقيع، فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا بكم إن شاء الله لاحقون.
اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد وروي: فزوروا القبور فإنها تذكركم الموت. وإنما نهاهم أولا لقرب عهدهم بالجاهلية،
فلما استقرت قواعد الاسلام واشتهرت أمرهم بها. وذكر القاضي أبو الطيب في تعليقه ما حاصله: أنه من كان يستحب
له زيارته في حياته من قريب أو صاحب، فيسن له زيارته في الموت كما في حال الحياة، وأما غيرهم فيسن له زيارته إن قصد
بها تذكر الموت أو الترحم عليه ونحو ذلك. قال الأسنوي: وهو حسن، وذكر في البحر نحوه. قال الأذرعي: والأشبه
أن موضع الندب إذا لم يكن في ذلك سفر لزيارة القبور فقط، بل في كلام الشيخ أبي محمد أنه لا يجوز السفر لذلك، واستثنى
قبر نبينا (ص)، ولعل مراده أنه لا يجوز جوازا مستوي الطرفين، أي فيكره. ويسن الوضوء لزيارة القبور كما قاله القاضي
الحسين في شرح الفروع. أما قبور الكفار فزيارتها مباحة وإن جزم الماوردي بحرمتها. (وتكره) زيارتها (للنساء)
لأنها مظنة لطلب بكائهن ورفع أصواتهن لما فيهن من رقة القلب وكثرة الجزع وقلة احتمال المصائب، وإنما لم تحرم لأنه
(ص) مر بامرأة على قبر تبكي على صبي لها فقال لها: اتقي الله واصبري متفق عليه، فلو كانت الزيارة حراما
لنهى عنها. وعن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كيف أقول يا رسول الله؟ يعني إذا زرت القبور. قال: قولي السلام
على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون رواه مسلم.
(وقيل تحرم) لما روى ابن ماجة والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي (ص) لعن زوارات القبور
وليس هذا الوجه في الروضة، وبه قال صاحب المهذب وغيره. (وقيل تباح) جزم به في الاحياء وصححه الروياني إذا
أمن الافتنان، عملا بالأصل والخبر فيما إذا ترتب عليها بكاء ونحو ذلك. ومحل هذه الأقوال في غير زيارة قبر سيد المرسلين،
أما زيارته فمن أعظم القربات للرجال والنساء. وألحق الدمنهوري به قبور بقية الأنبياء والصالحين والشهداء، وهذا ظاهر
وإن قال الأذرعي لم أره للمتقدمين. قال ابن شهبة: فإن صح ذلك فينبغي أن يكون زيارة قبر أبويها وإخوتها وسائر
أقاربها كذلك فإنهم أولى بالصلة من الصالحين اه‍. والأولى عدم إلحاقهم بهم لما تقدم من تعليل الكراهة. (
ويسلم)
ندبا، (للزائر) للقبور من المسلمين مستقبلا وجهه قائلا ما علمه النبي (ص) لأصحابه إذا خرجوا للمقابر: السلام على
أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله تعالى بكم لاحقون أسأل الله لنا ولكم العافية أو: السلام عليكم دار
قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون كما رواهما مسلم، زاد أبو داود: اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم لكن بسند
ضعيف. وقوله: إن شاء الله للتبرك، ويجوز أن يكون للموت في تلك البقعة أو على الاسلام، أو إن بمعنى إذ كقوله تعالى:
* (وخافون إن كنتم مؤمنين) *. وقوله دار أي أهل دار، ونصبه على الاختصاص أو النداء، ويجوز جره على البدل.
والمشهور أنه يقول: السلام عليكم، وقال القاضي حسين والمتولي: لا يقل السلام عليكم لأنهم ليسوا أهلا للخطاب، بل
يقول: وعليكم السلام، فقد ورد أن شخصا قال: عليك السلام يا رسول الله فقال: لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام
تحية الموتى وأجاب الأول بأن هذا إخبار عن عادة العرب لا تعليم لهم. (ويقرأ) عنده من القرآن ما تيسر وهو سنة في
المقابر، فإن الثواب للحاضرين والميت كحاضر يرجى له الرحمة. وفي ثواب القراءة للميت كلام يأتي إن شاء الله تعالى في
الوصايا. (ويدعو) له عقب القراءة رجاء الإجابة لأن الدعاء ينفع الميت، وهو عقب القراءة أقرب إلى الإجابة. وعند الدعاء
يستقبل القبلة، وإن قال الخراسانيون باستحباب استقبال وجه الميت. قال المصنف: ويستحب الاكثار من الزيارة
وأن يكثر الوقوف عند قبور أهل الخير والفضل. (ويحرم نقل الميت) قبل أن يدفن من بلد موته، (إلى بلد آخر) ليدفن
365

فيه وإن لم يتغير لما فيه من تأخير دفنه ومن التعريض لهتك حرمته. قال الأسنوي: وتعبيرهم بالبلد لا يمكن الاخذ
بظاهره بل الصحراء كذلك، فحينئذ ينتظم منها مع البلد أربع مسائل: من بلد لبلد، من بلد لصحراء، وعكسه، ومن
صحراء لصحراء. ولا شك في جوازه في البلدتين المتصلتين أو المتقاربتين، لا سيما والعادة جارية بالدفن خارج البلد، ولعل
العبرة في كل بلدة بمسافة مقبرتها. أما بعد دفنه فسيأتي قريبا في مسألة نبشه. (وقيل) أي قال البغوي وغيره: (يكره)
لأنه لم يرد على تحريمه دليل، (إلا أن يكون بقرب مكة أو المدينة أو بيت المقدس، نص عليه) الشافعي
رضي الله تعالى
عنه لفضلها، وحينئذ يكون الاستثناء عائدا إلى الكراهة، ويلزم منه عدم الحرمة، أو عائدا إليهما معا. قال الأسنوي:
وهو أولى على قاعدتنا في الاستثناء عقب الجمل، والمعتبر في القرب مسافة لا يتغير فيها الميت قبل وصوله. والمراد بمكة جميع
الحرم لا نفس البلد، قال الزركشي: وينبغي استثناء الشهيد لخبر جابر قال: أمر النبي (ص) بقتلى أحد أن يدفنوا إلى
مصارعهم وكانوا نقلوا إلى المدينة رواه الترمذي وصححه اه‍. وتقدم ما يدل عليه. وقال المحب الطبري: لا يبعد أن تلحق
القرية التي فيها صالحون بالأماكن الثلاثة، وذكر أنه لو أوصى بنقله من بلد موته إلى الأماكن الثلاثة لزم تنفيذ وصيته،
أي عند القرب وأمن التغيير لا مطلقا كما قاله الأذرعي. وإذا جاز النقل فينبغي كما قاله ابن شهبة أن يكون بعد غسله
وتكفينه والصلاة عليه، لأن فرض ذلك قد تعلق بالبلد الذي مات فيه فلا يسقط الفرض عنهم بجواز النقل، ولو مات سني
في بلاد المبتدعة نقل إن لم يمكن إخفاء قبره، وكذا لو مات أمير الجيش ونحوه بدار الحرب ولو دفناه ثم لم يخف عليهم،
ولو تعارض القرب من الأماكن المذكورة ودفنه بين أهله فالظاهر كما قاله بعض المتأخرين إذا الأول أولى. (ونبشه بعد
دفنه) وقبل البلى عند أهل الخبرة بتلك الأرض، (للنقل وغيره) كصلاة عليه وتكفينه، (حرام) لأن فيه هتكا
لحرمته. (إلا لضرورة، بأن دفن بلا غسل) ولا تيمم بشرطه. وهو ممن يجب غسله لأنه واجب فاستدرك عند قربه، فيجب
على المشهور نبشه وغسله إن لم يتغير بنتن أو تقطع، ثم يصلى عليه. وقيل: ينبش ما بقي منه جزء، وقيل: لا ينبش مطلقا،
بل يكره للهتك. ولو قال كأن دفن كان أولى لئلا يتوهم الحصر في الصور المذكورة، وسأنبه على شئ مما تركه. (أو) دفن
(في أرض أو) في (ثوب مغصوبين) وطالب بهما مالكهما فيجب النبش ولو تغير الميت وإن كان فيه هتك حرمة
الميت ليصل المستحق إلى حقه. ويسن لصاحبهما الترك، ومحل النبش في الثوب إذا وجد ما يكفن فيه الميت وإلا فلا
يجوز النبش كما اقتضاه كلام الشيخ أبي حامد وغيره، بناء على أنا إذا لم نجد إلا ثوبا يؤخذ من مالكه قهرا ولا يدفن عريانا
وهو ما في البحر وغيره، وهو الأصح كما قاله الأذرعي. قال الرافعي: والكفن الحرير كالمغصوب، قال
المصنف: وفيه
نظر، وينبغي أن يقطع فيه بعدم النبش اه‍. وهذا هو المعتمد لأنه حق لله تعالى. (أو وقع فيه) أي القبر (مال)
وإن قل كخاتم، فيجب نبشه وإن تغير الميت، لأن تركه فيه إضاعة مال. وقيده في المهذب بطلب مالكه، وهو الذي
يظهر اعتماده قياسا على الكفن، والفرق بأن الكفن ضروري للميت لا يجدي. وأما قوله في المجموع ولم يوافقوه عليه
فقد رد بموافقة صاحبي الانتصار والاستقصاء له. وقال الأذرعي: لم يبين المصنف أن الكلام هنا في وجوب النبش أو
جوازه، ويحتمل أن يحمل كلام المطلقين على الجواز، وكلام المهذب على الوجوب عند الطلب، فلا يكون مخالفا
لاطلاقهم اه‍. ولو بلع مالا لغيره وطلبه صاحبه كما في الروضة ولم يضمن مثله أو قيمته أحد من الورثة أو غيرهم كما في
الروضة نبش وشق جوفه وأخرج منه ورد لصاحبه. قال في المجموع: والتقييد بعدم الضمان غريب، والمشهور
للأصحاب إطلاق الشق من غير تقييد. قال الزركشي: وفيما قاله نظر، فقد حكى صاحب البحر الاستثناء عن الأصحاب
وقال: لا خلاف فيه، وهذا هو الأوجه إلا إن ابتلع مال نفسه فلا ينبش ولا يشق لاستهلاكه ما له في حال حياته. (أو دفن
366

لغير القبلة) فيجب نبشه ما لم يتغير، ويوجه للقبلة استدراكا للواجب، فإن تغير لم ينبش. (لا للتكفين في الأصح) لأن غرض
التكفين الستر، وقد حصل بالتراب مع ما في النبش من الهتك. والثاني: ينبش قياسا على الغسل بجامع الوجوب.
تنبيه: قد مر أن صور النبش لا تنحصر فيما قاله، وقد ذكرت صورا زيادة عليه كما علم، وبقي صور أخر: منها ما لو
دفنت امرأة في بطنها جنين ترجى حياته بأن يكون له ستة أشهر فأكثر، نبشت وشق جوفها وأخرج تداركا للواجب، لأنه
يجب شق جوفها قبل الدفن، وإن لم ترج حياته لم تنبش، فإن لم تكن دفنت تركت حتى يموت ثم تدفن. وقول التنبيه ترك
عليه شئ حتى يموت وجه ضعيف نبهت عليه في شرحه. ومنها ما لو بشر بمولود، فقال:] إن كان ذكرا فعبدي حر أو
أنثى فأمتي حرة، فمات المولود ودفن ولم يعلم حاله، فينبش ليعتق من يستحق العتق. ومنها ما لو قال: إن ولدت ذكرا
فأنت طالق طلقة أو أنثى فطلقتين، فولدت ميتا فدفن وجهل حاله، فالأصح من زوائد الروضة في الطلاق نبشه. ومنها
ما لو ادعى شخص على ميت بعدما دفن أنه امرأته وطلب الإرث، وادعت امرأة أنه زوجها وطلبت الإرث وأقام كل
بينة، فينبش، فلو نبش فبان خنثى تعارضت البينة على الأصح وتوقف الميراث، وقال العبادي في الطبقات: إنه يقسم
بينهما، ومنها: أن يلحقه سيل أو نداوة فينبش لينقل على الأصح في المجموع، ومنها ما لو قال: إن رزقني الله ولدا ذكرا
فلله علي كذا ودفن قبل أن يعلم حاله، فينبش لقطع النزاع. ومنها ما لو شهدا على شخصه ثم دفن واشتدت الحاجة ولم تتغير
الصورة فينبش ليعرف، ذكره الغزالي في الشهادات، وسيأتي ما فيه. ومنها ما لو اختلفت الورثة في أن المدفون ذكر أم
أنثى ليعلم كل من الورثة قدر حصته، وتظهر ثمرة ذلك في المناسخات وغيرها. ومنها ما إذا تداعيا مولودا ودفن فإنه
ينبش ليلحقه القائف بأحد المتداعيين. ومنها ما لو دفن الكافر في الحرم فينبش ويخرج، أما بعد البلى عند أهل الخبرة فلا
يحرم نبشه، بل يحرم عمارته وتسوية التراب عليه إذا كان في مقبرة مسبلة لئلا يمتنع الناس من الدفن فيه لظنهم بذلك عدم البلى.
قال الموفق حمزة الحمودي في مشكل الوسيط: أن يكون المدفون صحابيا أو من اشتهرت ولايته فلا يجوز نبشه عند الانمحاق.
قال ابن شهبة: وقد يؤيده ما ذكره الشيخان في الوصايا أنه تجوز الوصية لعمارة قبور الأنبياء والصالحين لما فيه من إحياء
الزيارة والتبرك، فإن قضيته جواز عمارة قبور الصالحين، مع جزمهما هنا بأنه إذا بلي الميت لم تجز عمارة قبره وتسوية
التراب عليه في المقبرة المسبلة. (ويسن أن يقف جماعة بعد دفنه عند قبره ساعة يسألون له التثبيت) لأنه (ص) كان إذا فرغ
من دفن الميت وقف عليه وقال: استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل رواه البزار، وقال الحاكم: إنه
صحيح الاسناد. وروى مسلم عن عمرو بن العاص أنه قال: إذا دفنتموني فأقيموا بعد ذلك حول قبري ساعة قد ما تنحر
جزور ويفرق لحمها حتى أستأنس بكم وأعلم ماذا أراجع رسل ربي. ويسن تلقين الميت المكلف بعد الدفن، فيقال له:
يا عبد الله ابن أمة الله أذكر ما خرجت عليه من دار الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن
الجنة حق، وأن
النار حق، وأن البعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأنك رضيت بالله ربا وبالاسلام دينا
وبمحمد (ص) نبيا وبالقرآن إماما وبالكعبة قبلة وبالمؤمنين إخوانا. لحديث ورد فيه. قال في الروضة:
والحديث إن كان ضعيفا لكنه اعتضد بشواهد من الأحاديث الصحيحة، ولم تزل الناس على العمل به من العصر
الأول في زمن من يقتدى به، وقد قال تعالى: * (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) *، وأحوج ما يكون العبد إلى التذكير في هذه
الحالة، ويقعد الملقن عند رأس القبر. أما غير المكلف، وهو الطفل ونحوه ممن لم يتقدم له تكليف، فلا يسن تلقينه،
لأنه لا يفتن في قبره. (و) يسن (لجيران أهله) ولأقاربه الأباعد وإن كان الأهل بغير بلد الميت، (تهيئة طعام يشبعهم)
أي أهله الأقارب، (يومهم وليلتهم) لقوله (ص) لما جاء خبر قتل جعفر: اصنعوا لآل جعفر طعاما فقد جاءهم
367

ما يشغلهم حسنه الترمذي وصححه الحاكم، ولأنه بر ومعروف. قال الأسنوي: والتعبير باليوم والليلة واضح إذا مات
في أوائل اليوم، فلو مات في أواخره فقياسه أن يضم إلى ذلك الليلة الثانية أيضا لا سيما إذا تأخر الدفن عن تلك الليلة. (ويلح
عليهم) ندبا (في الاكل) منه إن احتيج إليه لئلا يضعفوا، فربما تركوه استحياء أو لفرط الحزن، ولا بأس بالقسم إذا عرف
الحالف أنهم يبرون قسمه. (ويحرم تهيئته للنائحات) والنادبات (والله أعلم) لأنها إعانة على معصية. قال ابن الصباغ وغيره:
أما إصلاح أهل الميت طعاما وجمع الناس عليه فبدعة غير مستحب، روى أحمد وابن ماجة بإسناد صحيح عن جرير بن
عبد الله قال: كنا نعد الاجتماع على أهل الميت وصنعهم الطعام النياحة.
خاتمة: صح أن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها، فقيل: المراد بالثياب العمل، واستعمله أبو سعيد
الخدري على ظاهره لما حضره الموت دعا بثياب جدد فلبسها، ومن قال بهذا يحتاج أن يجيب عن كونهم يحشرون عراة
بأن البعث غير الحشر، وصح أن موت الفجأة أخذة أسف، وروي أنه (ص) استعاذ من موت الفجأة، وروى المصنف عن
أبي السكن الهجري أن إبراهيم وداود وسليمان عليهم الصلاة والسلام ماتوا فجأة، ويقال إنه موت الصالحين. وحمل
الجمهور الأول على من له تعلقات يحتاج إلى الايصاء والتوبة، أما المتيقظون المستعدون فإنه تخفيف ورفق بهم. وعن ابن
مسعود وعائشة أن موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذة غضب للفاجر.
كتاب الزكاة
هي لغة النمو والبركة وزيادة الخير، يقال: زكا الزرع، إذا نما، وزكت النفقة إذا بورك فيها، وفلان زاك: أي كثير
الخير، وتطلق على التطهير، قال تعالى: * (قد أفلح من زكاها) * أي طهرها من الأدناس. وتطلق أيضا على المدح، قال تعالى:
* (فلا تزكوا أنفسكم) * أي تمدحوها. وشرعا اسم لقدر مخصوص من مال مخصوص يجب صرفه لأصناف مخصوصة بشرائط
ستأتي. وسميت بذلك لأن المال ينمو ببركة إخراجها ودعاء الآخذ، ولأنها تطهر مخرجها من الاثم وتمدحه حين تشهد له
بصحة الايمان. والأصل في وجوبها قبل الاجماع قوله تعالى: * (وآتوا الزكاة) *، وقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) *، وأخبار
كخبر: بني الاسلام على خمس وهي أحد أركان الاسلام لهذا الخبر يكفر جاحدها وإن أتى بها، ويقاتل الممتنع من أدائها
عليها، وتؤخذ منه قهرا كما فعل الصديق رضي الله تعالى عنه. والكلام في الزكاة المجمع عليها، أما المختلف فيها كزكاة
التجارة والركاز وزكاة الثمار والزروع في الأرض الخراجية أو الزكاة في مال غير المكلف فلا يكفر جاحدها لاختلاف
العلماء في وجوبها، وفرضت في السنة الثانية من الهجرة بعد زكاة الفطر. ووجبت الزكاة في خمسة أنواع: الأول: النعم،
وهي الإبل والبقر والغنم الانسية، الثاني: المعشرات، وهي القوت وهو ما يجب فيه العشر أو نصفه، الثالث: النقد، وهو
الذهب والفضة ولو غير مضروب فيشمل التبر، الرابع: التجارة، الخامس: الفطرة. وهذه لأنواع ثمانية أصناف من أجناس
المال: الذهب، والفضة، والإبل، والبقر، والغنم الانسية، والزرع والنخل والكرم، ولذلك وجبت لثمانية
أصناف من طبقات الناس. ولما كانت الانعام أكثر أموال العرب بدأ بها اقتداء بكتاب الصديق رضي الله تعالى عنه الآتي، فقال:
(باب زكاة الحيوان)
وبدأ منها بالإبل للبداءة بها في خبر أنس الآتي. ولزكاة الحيوان خمسة شروط: الأول: النعم كما قال: (إنما تجب)
368

الزكاة (منه) أي من الحيوان (في النعم) بالنص والاجماع، (وهي الإبل والبقر والغنم) الانسية، سميت نعما لكثرة نعم
الله تعالى فيها على خلقه، لأنها تتخذ للماء غالبا لكثرة منافعها. والنعم اسم جمع لا واحد له من لفظه يذكر
ويؤنث، قال
تعالى: * (نسقيكم مما في بطونها) * وفي موضع آخر: * (مما في بطونه) * وجمعه أنعام، وأنعام جمعه أناعم. فإن قيل: لو حذف
المصنف لفظة النعم كان أخصر وأسلم. أجيب بأنه أفاد بذكرها تسمية الثلاث نعما. (لا الخيل) وهو مؤنث اسم جمع
لا واحد له من لفظه يطلق على الذكر والأنثى، وفي باب الأطعمة من التحرير أن واحده خائل كركب وراكب. قال
الواحدي: سميت خيلا لاختيالها في مشيها. (و) لا (الرقيق) يطلق على الذكر وغيره، وعلى الواحد والأكثر، لحديث
الشيخين: ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة أي إذا لم يكونا للتجارة كما سيأتي. وأوجبها أبو حنيفة في إناث
الخيل. (و) لا (المتولد من غنم وظباء) بالمد جمع ظبي وهو الغزال، وكذا كل متولد بين زكوي وغيره، لأن الأصل
عدم الوجوب. وقال أحمد: تجب الزكاة في المتولد مطلقا، وأبو حنيفة: إن كانت الإناث غنما. أما المتولد من واحد من
النعم ومن آخر منها كالمتولد بين إبل وبقر، فقضية كلامهم أنها تجب فيه، وقال الولي العراقي في مختصر المهمات:
ينبغي القطع به، قال: والظاهر أنه يزكى زكاة أخفهما، فالمتولد بين الإبل والبقر يزكى زكاة البقر لأنه المتيقن. الشرط
الثاني: النصاب، كما ذكره بقوله: (ولا شئ في الإبل حتى تبلغ خمسا) والإبل بكسر الباء اسم جمع لا واحد له من لفظه،
وتسكن باؤه للتخفيف، ويجمع على آبال كجمل وأجمال. فإذا بلغت خمسا (ففيها شاة) لحديث الصحيحين: ليس فيما
دون خمس ذود من الإبل صدقة. وإنما وجبت الشاة وإن كان وجوبها على خلاف الأصل للرفق بالفريقين، لأن
إيجاب البعير يضر بالمالك، وإيجاب جزء من بعير وهو الخمس مضر به وبالفقراء. (وفي عشر شاتان، و) في (خمس عشرة
ثلاث) من الشياه، (و) (عشرين أربع) منها، (و) في (خمس وعشرين بنت مخاض، و) في (ست وثلاثين بنت
لبون، و) في (ست وأربعين حقة، و) في (إحدى وستين جذعة) بالذال المعجمة، (و) في (ست وسبعين بنتا لبون،
و) في (إحدى وتسعين حقتان، و) في (مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون، ثم) يستمر ذلك إلى مائة وثلاثين
فيتغير الواجب فيها وفي كل عشر بعدها، ف‍ (- في كل أربعين بنت لبون، و) في (كل خمسين حقة) لما
رواه البخاري
عن أنس أن أبا بكر رضي الله تعالى عنهما كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين على الزكاة: بسم الله
الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله (ص) على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن
سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعطه: في أربع وعشرين من الإبل فما دونها الغنم في كل
خمس شاة، فإذا بلغت خمسا وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض أنثى، فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون
ذكر، فإذا بلغت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت لبون أنثى، فإذا بلغت ستا وأربعين إلى ستين ففيها حقة
طروقة الجمل، فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين ففيها جذعة، فإذا بلغت ستا وسبعين إلى تسعين ففيها بنتا
لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل
أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة. وفيه زيادة يأتي التنبيه عليها في محالها إن شاء الله تعالى، إذ الصحيح
جواز تفريق الحديث إذا لم يختل المعنى. قوله فرض: أي قدر، قوله لا يعطه: أي الزائد بل يعطي الواجب فقط.
وتقييد بنت المخاض واللبون بالأنثى وابن اللبون بالذكر تأكيد، كما يقال: رأيت بعيني وسمعت بأذني. وإنما لم يجعل
369

بعض الواحدة كالواحدة لبناء الزكاة على تغير واجبها بالاشخاص دون الأشقاص، وفي أبي داود التصريح بالواحدة،
وفي رواية ابن عمر فهي مقيدة لخبر أنس.
تنبيه: قول المصنف: ثم في كل أربعين إلخ قد يقتضي لولا ما قدرته أن استقامة الحساب بذلك إنما تكون
فيما بعد مائة وإحدى وعشرين، وليس مرادا بل يتغير الواجب بزيادة تسع ثم بزيادة عشر كما قررت به كلامه،
ولو أخرج بنتي لبون بدلا عن الحقة في ست وأربعين، وأخرج حقتين أو بنتي لبون بدلا عن الجذعة في إحدى وستين،
جاز على الصحيح في زيادة الروضة لأنهما يجزئان عما زاد. (وبنت المخاض لها سنة) وطعنت في الثانية، سميت به
لأن أمها بعد سنة من ولادتها آن لها أن تحمل مرة أخرى فتصير من المخاض، أي الحوامل. (و) بنت (اللبون
سنتان) وطعنت في الثالثة، سميت به لأن أمها آن لها أن تلد فتصير لبونا. (والحقة) لها (ثلاث) وطعنت في الرابعة،
سميت به لأنها استحقت أن تركب ويحمل عليها، ولأنها استحقت أن يطرقها الفحل، واستحق الفحل أن يطرق.
(والجذعة) لها (أربع) وطعنت في الخامسة، سميت به لأنها أجذعت مقدم أسنانها، أي سقطته، وقيل: لتكامل
أسنانها، وقيل: لأن أسنانها لا تسقط بعد ذلك، قيل: وهو غريب. وهذا آخر أسنان الزكاة، واعتبر في الجميع الأنوثة
لما فيها من رفق الدر والنسل (والشاة) الواجبة فيما دون خمس وعشرين من الإبل. (جذعة ضأن لها سنة) أو أجذعت
وإن لم يتم لها سنة كما قاله الرافعي في الأضحية، ونزل ذلك منزلة البلوغ بالسن والاحتلام، ولا فرق بين البابين كما قاله
الأذرعي. (وقيل) لها (ستة أشهر، أو ثنية معز لها سنتان، وقيل ستة) ووجه عدم إجزاء ما دون هذه السنين الاجماع.
(والأصح) وفي الروضة: الصحيح، (أنه مخير بينهما) أي الجذعة والثنية. (ولا يتعين غالب غنم البلد) لخبر: في كل
خمس شاة والشاة تطلق على الضأن والمعز، لكن لا يجوز الانتقال إلى غنم بلد آخر إلا بمثلها في القيمة أو خير منها،
والثاني: يتعين غالب غنم البلد كما يتعين غالب قوت البلد في الكفارة، ويشترط كون المخرج صحيحا وإن كانت الإبل مراضا.
وظاهر كلام المجموع كونه كاملا، وجزم به غيره، وقيل: يكفي كونه لائقا بحسب التقسيط، فإن لم يوجد صحيح فرق دراهم
بقدر قيمتها. (و) الأصح (أنه يجزئ الذكر) أي الجزع من الضأن أو الثني من المعز كالأضحية وإن كانت الإبل إناثا
لصدق اسم الشاة عليه، والثاني: لا يجزئ مطلقا، نظرا إلى أن المراد الأنثى لما فيها من الدر والنسل، والثالث: يجزئ في
الإبل الذكور دون الإناث. (وكذا) الأصح أنه يجزئ (بعير الزكاة عن دون خمس وعشرين) أي عوضا عن الشاة الواحدة
أو الشياه المتعددة وإن لم يساو قيمة الشاة، لأنه يجزئ عن خمس وعشرين فعما دونها أولى. والثاني: لا يجزئ بل لا بد
في كل خمس من حيوان. والثالث: لا يجزئ الناقص عن قيمة شاة في خمس وشاتين في عشر وهكذا.
(تنبيه) قوله بغير الزكاة من زيادة، وأفادت إضافته إلى الزكاة اعتبار كونه أنثى بنت مخاض فما فوقها كما في
المجموع، وكونه مجزئا عن خمس وعشرين، فإن لم يجز عنها لم يقبل بدل الشاة. وهل يقع البعير المخرج عن خمس كله
فرضا وخمسة؟ فيه وجهان، ويجريان فيما إذا ذبح المتمتع بدنة أو بقرة بدل الشاة هل تقع كلها فرضا أو سبعها، وفيمن مسح
جميع رأسه في الوضوء، وفيمن أطال الركوع والسجود زيادة على القدر الواجب ونحو ذلك. وصحح بعض المتأخرين
أن ما لا يمكن فيه التمييز كبعير الزكاة أن الكل يقع فرضا، وما أمكن كمسح الرأس يقع البعض فرضا والباقي نفلا،
واعتمده شيخي وهو ظاهر. والبعير يجمع على أبعرة وأباعر وبعران. (فإن عدم بنت المخاض) بأن لم تكن في ملكه
وقت الوجوب، (فابن لبون) وإن كان أقل قيمة منها، أو كان خنثى، أو كان قادرا على شراء بنت مخاض، لأنه جاء
في رواية أبي داود: فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر وقوله ذكر أراد به التأكيد لدفع توهم الغلط، والخنثى
370

أولى، ولو أراد أن يخرج الخنثى مع وجود الأنثى لم يجزه لاحتمال ذكورته. (و) بنت المخاض (المعيبة) والمعضوبة العاجز
عن تحصيلها، والمرهونة بمؤجل أو بحال وعجز عن تحصيلها، (كمعدومة) فيؤخذ عنها ما ذكر مع وجودها، لأن المعيب
غير مجزئ، وما ذكر قبله غير قادر على تحصيله. (ولا يكلف) أن يخرج بنت مخاض (كريمة) إذا كانت إبله مهازيل،
لقوله (ص) لمعاذ: إياك وكرائم أموالهم رواه الشيخان. أما إذا كانت إبله كلها كرائم فيلزمه إخراج
كريمة كما في الروضة إذ لا تكليف. (لكن تمنع) الكريمة عنده، (ابن لبون في الأصح) لوجود بنت مخاض مجزئة
في ماله. والثاني، نص عليه في الام: يجوز إخراجه، لأن إخراج الكريمة لا يجب فهي كالمعدومة. (ويؤخذ الحق)
بكسر الحاء المهملة، (عن بنت المخاض) عند فقدها، لأنه أولى من ابن اللبون، وقيل: لا يجزئ لأنه لا مدخل له في الزكوات.
(لا) عن بنت (لبون) عند فقدها، أي فلا يجزئ عنها، (في الأصح) وبه قطع الجمهور كما في أصل الروضة، لأن
زيادة سن ابن اللبون على بنت المخاض يوجب اختصاصه بقوة ورود الماء والشجر والامتناع من صغار السباع، والتفاوت
بين بنت اللبون والحق لا يوجب اختصاص الحق بهذه القوة، بل هي موجودة فيهما جميعا. والثاني: يجزئ لانجبار
فضيلة الأنوثة بزيادة السن كابن اللبون عن بنت المخاض. وأجاب الأول بما تقدم وبورود النص ثم، ولو عبر المصنف
بالصحيح كان أولى لأن الخلاف ضعيف جدا. (ولو اتفق فرضان) في الإبل (كمائتي بعير) ففيها أربع حقائق أو خمس
بنات لبون كما قال، (فالمذهب لا يتعين أربع حقائق، بل هن أو خمس بنات لبون) لأن المائتين أربع خمسينات أو خمس
أربعينات لحديث أبي داود وغيره عن كتاب رسول الله (ص): فإذا كانت مائتين ففيها أربع حقائق أو خمس بنات لبون
أي السنين وجدت أخذت، هذا هو الجديد. وفي قول: تتعين الحقاق، إذ النظر في زيادة الإبل إلى زيادة السن مهما
أمكن. وقطع بعض الأصحاب بالجديد، وحمل القديم على ما إذا لم يوجد عنده إلا الحقاق. واعلم أن لهذه المسألة خمسة
أحوال، لأنه إما أن يوجد عنده كل الواجب بكل الحسابين، أو بأحدهما دون الآخر، أو يوجد بعضه بكل منهما، أو
بأحدهما، أو لا يوجد شئ منهما، وكلها تعلم من كلامه. وقد شرع في بيان ذلك فقال: (فإن وجد) على المذهب
الجديد، (بماله أحدهما) تاما مجزئا (أخذ) منه، وإن كان المفقود أغبط وأمكن تحصيله للحديث السابق، أو وجد
شئ من الآخر إذ الناقص والمعيب كالمعدوم، ولا يجوز الصعود ولا النزول مع الجبران لعدم الضرورة إليه.
تنبيه: قوله: أخذ قد يقتضي أنه لو حصل المفقود ودفعه لا يؤخذ، وعبارة الروضة والمحرر: لا يكلف تحصيل الآخر
وإن كان أغبط، وهي تقتضي أنه لو حصل الآخر ودفعه أجزأه لا سيما إن كان أغبط، وعليه يدل كلام جماعة منهم الامام
والغزالي وقاساه على الاكتفاء بابن لبون لفقد بنت مخاض، وهذا هو الظاهر وإن صرح جماعة بخلافه، وأن الواجب
يتعين فيه. (وإلا) أي وإن لم يوجد بماله أحدهما بصفة الاجزاء بأن لم يوجد شئ منها، أو وجد بعض كل منهما،
أو بعض أحدهما، أو وجدا أو أحدهما لا بصفة الاجزاء. (فله تحصيل ما شاء) من النوعين كلا أو بعضا منهما بشراء أو غيره
ولو غير أغبط لما في تعيين الأغبط من المشقة في تحصيله. (وقيل يجب) تحصيل (الأغبط للفقراء) لأن استواءهما في العدم
كاستوائهما في الوجود، عند وجودهما يجب إخراج الأغبط كما سيأتي.
تنبيه: أشار بقوله فله إلى جواز تركهما معا، وينزل أو يصعد مع الجبران، فإن شاء جعل الحقاق أصلا وصعد
إلى أربع جذاع، فأخرجها وأخذ أربع جبرانات، وإن شاء جعل بنات اللبون أصلا ونزل إلى خمس بنات مخاض فأخرجها
ودفع معها خمس جبرانات، وليس له جعل بنات اللبون أصلا ويصعد إلى خمس جذاع ويأخذ عشر جبرانات، ولا جعل
الحقاق أصلا وينزل إلى أربع بنات مخاض ويدفع ثمان جبرانات لكثرة الجبران مع إمكان تقليله، وله فيما إذا وجد
371

بعض كل منهما كثلاث حقاق وأربع بنات لبون أن يجعل الحقاق أصلا فيدفعها مع بنت لبون وجبران، أو يجعل بنات
اللبون أصلا فيدفعها مع حقة ويأخذ جبرانا. وله دفع حقة مع ثلاث بنات لبون وثلاث جبرانات، لإقامة الشرع بنت
اللبون مع الجبران مقام حقة، وله فيما إذا وجد بعض أحدهما كحقة دفعها مع ثلاث جذاع وأخذ ثلاث جبرانات. وله
دفع خمس بنات مخاض مع دفع خمس جبرانات. (وإن وجدهما) في ماله بصفة الاجزاء، (فالصحيح) المنصوص،
وقول الجمهور (تعين الأغبط) لقوله تعالى: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) * ولان كل واحد فرضه لو انفرد، ومبني الزكاة
على النظر للمستحقين. والمراد بالأغبط الأنفع للمستحقين بزيادة قيمة أو غيرها، وظاهر إطلاقه كأصله، وغيره تعين الأغبط
وإن كان من الكرام، وهو كذلك وإن قال الأذرعي: القياس جعلها كالمعدومة حتى يخرج من غير الأغبط، والثاني خرجه
ابن سريج إن كان يخرج عن محجور عليه فيعتبر غير الأغبط، وإن أخرج عن نفسه تخير بينهما كما لو لم يكونا عنده.
(ولا يجزئ) على الأول (غيره) أي الأغبط، (إن دلس) الدافع في إعطائه بأن أخفى الأغبط، (أو قصر الساعي) في أخذه
بأن علم الحال أو أخذ من غير اجتهاد ونظر أن الأغبط ماذا، فيلزم الدافع إخراج الأغبط وعلى الساعي رد ما أخذه
إن كان باقيا وقيمته إن كان تالفا. (وإلا) أي وإن لم يدلس الدافع ولم يقصر الساعي، (فيجزئ) عن الزكاة، أي
فيحسب عنها للمشقة الحاصلة في الرد، وليس المراد أنه يكفي كما قال: (والأصح) مع إجزائه (وجوب قدر التفاوت)
بينه وبين قيمة الأغبط، لأنه لم يدفع الفرض بكماله فوجب جبر نقصه، هذا إن اقتضت الغبطة زيادة في القيمة وإلا
فلا يجب معه شئ كما قال الرافعي، والثاني: لا يجب بل يسن المخرج محسوب من الزكاة فلا يجب معه شئ آخر، كما
إذا أدى اجتهاد الساعي إلى أخذ القيمة بأن كان حنفيا فإنه لا يجب شئ آخر. (ويجوز إخراجه دراهم) من نقد
البلد أو دنانير منه، فإذا كانت قيمة الحقاق أربعمائة وقيمة بنات اللبون أربعمائة وخمسين وأخذ الحقاق، فالتفاوت
خمسون، فإما أن يدفع الخمسين أو خمسة اتساع بنت لبون، لأن التفاوت خمسون وقيمة كل بنت لبون تسعون.
وإنما جاز له دفع النقد مع كونه من غير جنس الواجب مع تمكنه من شراء جزئه لدفع ضرر المشاركة، لأنه قد
يعدل إلى غير الجنس للضرورة. (وقيل يتعين تحصيل شقص به) أي بقدر التفاوت، لأن العدول في الزكاة إلى غير
جنس الواجب ممتنع عندنا. وعلى هذا يجب أن يشتري به من جنس الأغبط، لأنه الأصل، وقيل: من جنس المخرج، لئلا
يتبعض الواجب على المذهب.
فرع: لو بلغت إبله أربعمائة فأخرج أربع حقاق وخمس بنات لبون جاز، لأن المحذور في المائتين إنما هو
التشقيص، فلو أخرج في صورة المائتين ثلاث بنات لبون وحقتين أو أربع بنات لبون وحقة، أجزأ. (ومن لزمه) سن
من الإبل ولم يكن عنده فله الصعود إلى الاعلى بدرجة ويأخذ جبرانا، وله الهبوط ويعطيه، والجبران الواحد كما سيأتي
شاتان بالصفة المتقدمة أو عشرون درهما نقرة خالصة، وهي الدراهم الشرعية حيث وردت كما نقله الشيخان وأقراه.
وعلى هذا فمن لزمه (بنت مخاض فعدمها) في ماله حقيقة أو حكما (وعنده بنت لبون دفعها وأخذ شاتين أو عشرين
درهما، أو) لزمه (بنت لبون فعدمها) في ماله (دفع بنت مخاض مع شاتين أو عشرين درهما، أو) دفع (حقة
وأخذ شاتين أو عشرين درهما) كما رواه البخاري عن أنس في كتاب أبي بكر رضي الله تعالى عنهما، وهكذا كل من
وجب عليه سن وليس عنده ولا ما نزله الشارع منزلته فله الصعود إلى أعلى منه وأخذ الجبران وله النزول إلى أسفل منه
ودفع الجبران بشرط كون السن المنزول إليه سن زكاة، فليس لمن وجب عليه بنت مخاض أن يعدل إلى دونها عند فقدها
372

ويعطي الجبران، ولا يشترط ذلك في الصعود، فلو وجب عليها جذعة فقدها قبل منه الثنية وله الجبران كما سيأتي، أما
من وجد الواجب في ماله فليس له نزول مطلقا ولا صعود إلا أن يطلب جبرانا، لأنه زاد خيرا كما يعلم مما يأتي. ويمتنع
الصعود عن بنت المخاض إلى بنت اللبون مع جبران على من عنده ابن لبون، لأنه منزل منزلتها كما مر، ولو كان في ماله
السن الواجب لكنه معيب أو كريم لم يمنع وجوده الصعود والنزول، وإن كان وجود بنت مخاض كريمة يمنع العدول
إلى ابن اللبون في الأصح. وفرق الروياني بينهما بأن الذكر لا مدخل له في فرائض الإبل فكان الانتقال إليه أغلظ من
الصعود والنزول. (والخيار في الشاتين والدراهم لدافعها) سواء أكان مالكا أم ساعيا، لظاهر خبر أنس السابق، ولكن
يلزم الساعي العمل بالأصلح للمستحقين. ويسن لرب المال إذا كان هو الدافع اختيار الأنفع لهم، وأما ولي المحجور
عليه أو نائب الغائب فيحتاط له. (وفي الصعود والنزول) الخيرة فيهما (للمالك في الأصح) لأنهما شرعا تخفيفا عليه حتى
لا يكلف الشراء فناسب تخييره. والثاني: أن الاختيار إلى الساعي، ونص عليه في الام، وعليه أكثر العراقيين، ليأخذ
ما هو الاحظ للمستحقين. ومحل الخلاف فيما إذا دفع المالك غير الأغبط، فإن دفع الأغبط لزم الساعي أخذه قطعا. فإن
قيل: كيف يلزمه مراعاة الأصلح على الأول والخيرة إلى المالك؟ أجيب بأنه يطلب منه ذلك، فإن أجابه فذاك وإلا أخذ
منه ما يدفعه له. إلا أن تكون إبله معيبة) لمرض أو غيره فلا خيرة له في الصعود، لأن واجبه معيب، والجبران
للتفاوت بين السليمين، وهو فوق التفاوت بين المعيبين، ومقصود الزكاة إفادة المستحقين لا الاستفادة منهم. نعم إن
رأى الساعي مصلحة في ذلك جاز كما أشار إليه الامام، قال الأسنوي: وهو متجه. ولو أراد العدول إلى سليمة مع
أخذ الجبران فمقتضى التعليل السابق الجواز، وهو الظاهر، وإن اقتضى إطلاق المتن المنع إذ لا وجه له. أما هبوطه مع إعطاء
الجبران فجائز لتبرعه بالزيادة. (وله صعود درجتين وأخذ جبرانين) كما لو وجب عليه بنت لبون فصعد إلى الجذعة
عند فقد بنت اللبون بالحقة. (و) له (نزول درجتين مع) دفع (جبرانين) كما إذا أعطى بدل الحقة بنت مخاض. وإنما
يجوز له ذلك (بشرط تعذر درجة) قربى في تلك الجهة (في الأصح) فلا يصعد عن بنت المخاض إلى الحقة أو ينزل
عن الحقة إلى بنت المخاض إلا عند تعذر بنت اللبون لامكان الاستغناء عن الجبران الزائد، فأشبه ما لو صعد أو نزل مع
إمكان أداء الواجب. والثاني: يجوز، لأن الموجود الأقرب ليس واجبه فوجوده كعدمه، نعم لو صعد ورضي بجبران واحد
جاز قطعا، وحكم الصعود والنزول بثلاث درجات كدرجتين على ما سبق كأن يعطي عن جذعة فقدها والحقة وبنت
اللبون بنت مخاض ثلاث جبرانات ويدفع ثلاث جبرانات، أو يعطي بدل بنت مخاض جذعة عند فقد ما بينهما
ويأخذ ثلاث جبرانات، أما
لو كانت القربى في غير جهة المخرجة كأن لزمه بنت لبون فلم يجدها ولا حقة ووجد بنت مخاض فلا يتعين عليه إخراج
بنت مخاض مع جبران، بل يجوز له إخراج جذعة مع أخذ جبرانين كما صرح به في المجموع، لأن بنت المخاض وإن
كانت أقرب إلى بنت اللبون ليست في جهة الجذعة. (ولا يجوز أخذ جبران مع ثنية) وهي التي تم لها خمس سنين
وطعنت في السادسة، يدفعها (بدل جذعة) عليه عند فقدها (على أحسن الوجهين) لأنها ليست من أسنان الزكاة،
فأشبه ما لو أخرج عن بنت المخاض فصيلا، وهو ما له دون السنة مع الجبران، وقال في الشرح الصغير إنه الأظهر، ولم
يصحح في الكبير شيئا. (قلت: الأصح عند الجمهور الجواز، والله أعلم) لزيادة السن كما في سائر المراتب لأنها أعلى منها
بعام فجاز كالجذعة مع الحقة، ولا يلزم من انتفاء أسنان الزكاة عنها بطريق الأصالة انتفاء نيابتها. أما إذا دفعها ولم يطلب
جبرانا فجائز قطعا لأنه زاد خيرا. (ولا تجزئ شاة وعشرة دراهم) عن جبران واحد، لأن الخبر يقتضي التخيير
373

بين شاتين وعشرين درهما فلا يجوز خصلة ثالثة كما في الكفارة لا يجوز أن يطعم خمسه ويكسو خمسة. نعم لو كان المالك هو
الآخذ ورضي بالتبعيض جاز لأنه حقه وله إسقاطه بالكلية. (وتجزئ شاتان وعشرون) درهما (لجبرانين) كما
يجوز إطعام عشرة مساكين في كفارة يمين وكسوة عشرة في أخرى، ولو توجه عليه ثلاث جبرانات فأخرج عن واحدة
شاتين وعن الأخرى عشرين درهما والأخرى شاتين أو عشرين درهما جاز. (ولا) شئ في (البقر) وهو اسم جنس
واحده بقرة وباقورة للذكر والأنثى. سمي بذلك لأنه يبقر الأرض أي يشقها بالحراثة. (حتى تبلغ ثلاثين ففيها تبيع ابن
سنة) ودخل في الثانية، سمي بذلك لأنه يتبع أمه في المرعى، وقيل: لأن قرنه يتبع أذنه، أي يساويها. ولو أخرج
تبيعة أجزأته لأنه زاد خيرا. (ثم في كل ثلاثين تبيع، و) في (كل أربعين مسنة لها سنتان) ودخلت في الثالثة، سميت
بذلك لتكامل أسنانها. والأصل في ذلك ما رواه الترمذي وغيره عن معاذ رضي الله تعالى عنه قال: بعثني رسول الله
(ص) إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل أربعين بقرة مسنة، ومن كل ثلاثين تبيعا وصححه الحاكم وغيره.
ولا جبران في زكاة البقر والغنم لعدم ورود ذلك، ففي ستين تبيعان، وفي سبعين تبيع ومسنة، وفي ثمانين مسنتان،
وفي تسعين ثلاثة أتبعة، وفي مائة وعشرة مسنتان وتبيع، وفي مائة وعشرين ثلاث مسنات أو أربعة أتبعة، فحكمها
حكم بلوغ الإبل مائتين في جميع ما مر من خلاف وتفريع إلا في الجبران كما علم مما مر. وتسمى المسنة ثنية. ولو أخرج
عنها تبيعين أجزأه على الأصح، وقال البغوي: لا، لأن العدد لا يقوم مقام السن، كما لو أخرج عن ست وثلاثين بنتي
مخاض. وأجاب الأول بأن التبيعين يجزئان عن ستين، فعن أربعين أولى، بخلاف بنتي المخاض فإنهما ليسا من فرض
نصاب، وقد تلخص أن الفرض بعد الأربعين لا يتغير إلا بزيادة عشرين ثم يتغير بزيادة كل عشرة، وفي مائة وعشرين
يتفق فرضان. (ولا) شئ في (الغنم) هو اسم جنس للذكر والأنثى لا واحد له من لفظه، (حتى تبلغ أربعين) شاة
(ف‍) - فيها (شاة) جذعة ضأن أو ثنية معز وقد مر بيانهما. (وفي مائة وإحدى وعشرين شاتان، و) في (مائتين وواحدة
ثلاث) من الشياه (و) في (أربعمائة أربع، ثم في كل مائة شاة) لحديث أنس في ذلك، رواه البخاري، ونقل الشافعي
ان أهل العلم لا يختلفون في ذلك. ولو تفرقت ماشية المالك في أماكن فهي كالتي في مكان واحد، حتى لو ملك أربعين
شاة في بلدين لزمته الزكاة، ولو ملك ثمانين في بلدين في كل أربعون لا يلزمه إلا شاة واحدة وإن بعدت المسافة بينهما،
خلافا للإمام أحمد، فإنه يلزم عنده عند التباعد شاتان.
فصل: إن اتحد نوع الماشية: كأن كانت إبله كله مهرية بفتح الميم نسبة إلى أبي مهيرة، أو مجيدية نسبة إلى
فحل من الإبل يقال له مجيد بميم مضمومة وجيم، وهي دون المهرية، أو أرحبية نسبة إلى أرحب بالمهملتين والموحدة،
وهي قبيلة من همدان، أو بقرة كلها جواميس أو عرابا، أو غنمه كلها ضأنا أو معزا، وسميت ماشية لرعيها وهي تمشي.
(أخذ الفرض منه) لأنه المال المشترك، فتؤخذ المهرية من المهرية، والأرحبية من الأرحبية، والضأن من الضأن،
والمعز من المعز. نعم لو اختلفت الصفة بأن تفاوتت في السن مع اتحاد النوع ولا نقص، فعامة الأصحاب كما نقله في المجموع
عن البيان أن الساعي يختار أنفعهما كما سبق في الحقائق وبنات اللبون، وقيل يأخذ الأوسط. (فلو أخذ) الساعي (عن
ضأن) وهو جمع مفرده للمذكر ضائن وللمؤنث ضائنة بهمزة قبل النون، (معزا) وهو بفتح العين وسكونها جمع مفرده
للمذكر ماعز، وللمؤنث ماعزة، والمعزاء بمعنى المعز، وهو منون منصرف إذ ألفه للالحاق لا للتأنيث. (أو عكسه جاز في الأصح
374

بشرط رعاية القيمة) كأن تساوي ثنية المعز في القيمة جذعة الضأن وعكسه لاتحاد الجنس. والثاني المنع كالبقر عن
الغنم. والثالث: يؤخذ الضأن عن المعز لأنه خير منه بخلاف العكس. وقولهم في توجيه الأول كالمهرية مع الأرحبية يدل على
جواز أخذ إحداهما عن الأخرى جزما حيث تساويا في القيمة، وقول الشارح: ومعلوم أن قيمة الجواميس دون قيمة
العراب فلا يجوز أخذها عن العراب بخلاف العكس، ولم يصرحوا بذلك ممنوع، بل قد تزيد قيمة الجواميس عليها،
ولعل ما ذكر كأن كان كذلك في زمنه. (وإن اختلف) النوع (كضأن ومعز) من الغنم، وكالأرحبية والمهرية من
الإبل والجواميس والعراب من البقر، (ففي قول يؤخذ من الأكثر) وإن كان الاحظ خلافه اعتبارا بالغلبة. (فإن
استويا فالأغبط) للمستحقين كما في اجتماع الحقاق وبنات اللبون، وقيل: يتخير المالك. (والأظهر أنه يخرج) المالك
(ما شاء) من النوعين (مقسطا عليهما بالقيمة) رعاية للجانبين. (فإذا كان) أي وجد (ثلاثون عنزا) وهي أنثى
المعز، (وعشر نعجات) من الضأن، (أخذ) الساعي (عنزا أو نعجة بقيمة ثلاثة أرباع عنز وربع نعجة) فلو كانت
قيمة عنز مجزئة دينارا ونعجة مجزئة دينارين لزمه عنز أو نعجة قيمتها دينار وربع، وفي عكس المثال المذكور نعجة أو
عنز بقيمة ثلاثة أرباع نعجة وربع عنز.
تنبيه: لو عبر المصنف ب‍ أعطى دون أخذ لكان أولى، لأن الخيرة للمالك. ثم شرع في أسباب النقص في الزكاة
وهي خمسة: المرض، والعيب، والذكورة، والصغر، ورداءة النوع، فقال: (ولا تؤخذ مريضة ولا معيبة) مما ترد به
في البيع، لقوله تعالى: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) *. (إلا من مثلها) بأن تمحضت ماشيته منها. ومعلوم أن الخنوثة
لا تؤثر في ابن اللبون وإن كانت عيبا في المبيع، لأن المستحقين شركاء، فكانوا كسائر الشركاء، فتكفي
مريضة متوسطة
ومعيبة من الوسط. فإن اختلف ماله نقصا وكمالا واتحد جنسا أخرج واحدا كاملا أو أكثر برعاية القيمة، مثاله أربعون
شاة نصفها مراض أو معيب، وقيمة كل صحيحة ديناران وكل مريضة أو معيبة دينار، لزمه صحيحة بدينار ونصف
دينار، فإن لم يكن فيها إلا صحيحة فعليه صحيحة بتسعة وثلاثين جزءا من أربعين جزءا من قيمة مريضة أو معيبة وبجزء
من أربعين جزءا من قيمة صحيحة، وذلك دينار وربع عشر دينار، وعلى هذا فقس. وإذا كان الصحيح من ماشيته
دون قدر الواجب كان وجب شاتان في غنم ليس فيها إلا صحيحة أجزأه صحيحة بالقسط ومريضة. (ولا) يؤخذ (ذكر) لأن
النص ورد في الإناث، (إلا إذا وجب) كابن اللبون، والحق والذكر من الشياه في الإبل فيما مر، والتبيع في البقر. (وكذا
لو تمحضت) ماشيته (ذكورا في الأصح) كما يجوز أخذ المريضة والمعيبة من مثلها، فعلى هذا يؤخذ في ست وثلاثين
ابن لبون أكثر قيمة من ابن لبون يؤخذ في خمس وعشرين منها لئلا يسوى بين النصابين، ويعرف ذلك بالتقويم
والنسبة، فإذا كانت قيمة المأخوذ في خمس وعشرين خمسين درهما تكون قيمة المأخوذ في ستة وثلاثين اثنين وسبعين
درهما بنسبة زيادة الجملة الثانية على الجملة الأولى، وهي خمسان وخمس خمس. والثاني: لا يجوز إلا أنثى، للتنصيص على
الإناث في الحديث، وعلى هذا لا تؤخذ أنثى كانت تؤخذ لو تمحضت إناثا بل تؤخذ أنثى قيمتها ما تقتضي النسبة، فإذا
كانت قيمتها إناثا ألفين وقيمة الأنثى المأخوذة عنها خمسين وقيمتها ذكورا ألفا، أخذ عنها أنثى قيمتها خمسة وعشرون.
ومحل الخلاف في الإبل والبقر، أما الغنم فالمذهب القطع بإجزاء الذكر، وقيل على الوجهين. والمنقسمة من الثلاث إلى
الذكور والإناث لا تؤخذ عنها إلا الإناث كالمتمحضة إناثا، وعلى هذا يعتبر في المأخوذة كونها دون المأخوذة من
محض الأثاث بطريق التقسيط، فإن تعدد واجبه وليس له إلا أنثى واحدة أخرجها وذكرا معها. (و) يؤخذ (في الصغار
375

صغيرة في الجديد) كما تؤخذ المريضة من المراض، ولقول أبي بكر رضي الله عنه: ولو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى
رسول الله (ص) لقاتلتهم على منعها، رواه البخاري. والعناق هي الصغيرة من المعز لم تبلغ سنة، ويتصور
ذلك بموت الأمهات عنها من الثلاث فيبنى حولها على حولها كما سيأتي، أو يملك نصابا من صغار المعز ويتم
لها حول
فتجب فيها الزكاة وإن لم تبلغ سن الاجزاء لأن واجبها ما له سنتان. والقديم لا تؤخذ إلا الكبيرة، لكن دون الكبيرة
المأخوذة من الكبار في القيمة، وحكى الخلاف وجهين أيضا. وعلى الأول يجتهد الساعي في غير الغنم ويحترز عن
التسوية بين القليل والكثير، فيأخذ في ست وثلاثين فصيلا فوق المأخوذ في خمس وعشرين، وفي ست وأربعين فوق
المأخوذ في ست وثلاثين، وعلى هذا القياس. ولو تبعضت ماشيته إلى صغار وكبار فقياس ما تقدم وجوب كبيرة في الجديد
أي بالتقسيط كما تقدم، وفي القديم يؤخذ كبيرة بالقسط، فحينئذ يتحد القولان.
تنبيه: محل إجزاء الصغير إذا كان من الجنس، فإن كان من غيره كخمسة أبعرة صغار أخرج عنها شاة لم يجز
إلا ما يجزئ في الكبار. (ولا) تؤخذ (ربى) بضم الراء وتشديد الباء الموحدة والقصر، وهي الحديثة العهد بالنتاج
شاة كانت أو ناقة أو بقرة. ويطلق عليها هذا الاسم، قال الأزهري: إلى خمسة عشر يوما من ولادتها، والجوهري: إلى
شهرين. سميت بذلك لأنها تربي ولدها. (و) لا تؤخذ (أكولة) وهي بفتح الهمزة وضم الكاف على التخفيف: المسمنة
للاكل كما قاله في المحرر. (و) لا (حامل، و) لا (خيار) لقوله (ص) لمعاذ: إياك وكرائم أموالهم ولقول عمر رضي الله
تعالى عنه: ولا تؤخذ الأكولة ولا الربى ولا الماخض، أي الحامل، ولا فحل الغنم. نعم لو كانت ماشيته كلها كذلك
أخذ منها إلا الحوامل فلا يطالب بحامل منها، لأن الأربعين مثلا فيها شاة واحدة، والحامل شاتان، كذا نقله الامام عن
صاحب التقريب واستحسنه. (إلا برضا المالك) في الجميع لأنه محسن بالزيادة، وقد قال تعالى: * (ما على المحسنين من
سبيل) *. ثم شرع في زكاة الخلطة، وهي نوعان: الأول خلطة شركة وتسمى خلطة أعيان لأن كل عين مشتركة، وخلطة
شيوع. وقد ذكره بقوله: (ولو اشترك أهل الزكاة) كاثنين (في ماشية) من جنس بإرث أو شراء أو غيره، وهي نصاب
أو أقل ولأحدهما نصاب فأكثر وداما على ذلك، (زكيا كرجل) واحد، لأن خلطة الجوار تفيد ذلك كما سيأتي، فخلطة
الأعيان بطريق الأولى. وهذه الشركة قد تفيدهما تخفيفا كالاشتراك في ثمانين على السواء، أو تثقيلا كالاشتراك في أربعين،
أو تخفيفا على أحدهما وتثقيلا على الآخر كأن ملكا ستين لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها. وقد لا تفيد تخفيفا ولا تثقيلا
كمائتين على السواء. وتأتي الأقسام في خلطة الجوار أيضا، وقد شرع فيها وهي النوع الثاني فقال: (وكذا لو خلطا مجاورة)
وهو جائز بالاجماع كما نقله الشيخ أبو حامد، لقوله (ص) في خبر أنس كما رواه البخاري: لا يجمع بين متفرق ولا يفرق
بين مجتمع خشية الصدقة. نهى المالك عن التفريق وعن الجمع خشية وجوبها أو كثرتها، ونهى الساعي عنها خشية
سقوطها أو قلتها والخبر ظاهر في خلطة الجوار، ومثلها خلطة الشيوخ، بل أولى، ويسمى هذا النوع خلطة جوار،
وخلطة أوصاف.
تنبيه: قوله: أهل الزكاة قيد في الخلطتين، فلو كان أحد المالين موقوفا أو لذمي أو مكاتب أو لبيت المال لم تؤثر
الخلطة شيئا، بل يعتبر نصيب من هو من أهل الزكاة إن بلغ نصابا زكاه زكاة المنفرد وإلا فلا زكاة. وقد أهمل المصنف
ثلاثة شروط قدرتها في كلامه: الأول: كون المالين من جنس واحد لا غنم مع بقر. الثاني: كون مجموع المالين نصابا فأكثر
أو أقل ولأحدهما نصاب فأكثر، فلو ملك كل منهما عشرين من الغنم فخلطا تسعة عشر بمثلها وتركا شاتين منفردتين
فلا خلطة ولا زكاة. الثالث: دوام الخلطة سنة إن كان المال حوليا، فلو ملك كل منهما أربعين شاة في أول المحرم وخلطا
في أول صفر، فالجديد أنه لا خلطة في الحول، بل إذا جاء المحرم وجب على كل منهما شاة، وإن لم يكن حوليا اشترط بقاؤها
إلى زهو الثمر واشتداد الحب في النبات. وإنما تجب الزكاة في شركة المجاورة (بشرط أن لا تتميز) ماشية أحدهما عن
376

ماشية الآخر، (في المشرب) وهو موضع شرب الماشية، ولا في المكان الذي توقف فيه عند إرادة سقيها ولا في الذي تنحي
إليه لشرب غيرها، (و) لا في (المسرح) وهو الموضع الذي تجتمع فيه ثم تساق إلى المرعى، ولا في المرعى وهو الموضع
الذي ترعى فيه، ويشترط أيضا اتحاد الممر بينهما كما في المجموع. (و) لا في (المراح) وهو بضم الميم: مأواها ليلا (و) لا في
(موضع الحلب) وهو بفتح اللام يقال للبن وللمصدر وهو المراد هنا، وحكي سكونها لأنه إذا تميز مال كل واحد منهم
بشئ مما ذكر لم يصيرا كمال واحد، والقصد بالخلطة أن يصيرا لما لأن كمال واحد لتخف المؤنة. قال الرافعي في الشرح
الصغير: وليس المقصود أن لا يكون لها إلا مشرع أو مرعى أو مراح واحد بالذات، بل لا بأس بتعددها، ولكن ينبغي
أن لا تختص ماشية هذا بمراح ومسرح، وماشية ذاك بمراح ومسرح. (وكذا) يشترط اتحاد (الفحل والراعي في الأصح)
وفي الروضة: المذهب وبه قطع الجمهور في الفحل وكثير من الأصحاب في الراعي. ويجوز تعدد الرعاة قطعا بشرط أن
لا تنفرد هذه عن هذه براع، والثاني: لا يشترط الاتحاد في الراعي لأن الافتراق فيه لا يرجع إلى نفس المال. والمراد بالاتحاد
أن يكون الفحل أو الفحول مرسلة فيها تنزو على كل من الماشيتين بحيث لا تختص ماشية هذا بفحل عن ماشية الآخر وإن
كانت ملكا لأحدهما أو معارا له أو لهما إلا إذا اختلف النوع كضأن ومعز فلا يضر اختلافه قطعا للضرورة، وإذا قلنا
بالمذهب اشترط أن يكون الانزاء في مكان واحد كالحلب.
تنبيه: لو افترقت ماشيتهما زمانا طويلا ولو بلا قصد ضر، فإن كان يسيرا ولم يعلما به لم يضر، فإن علما به وأقراه
أو قصدا ذلك أو علمه أحدهما فقط كما قاله الأذرعي ضر. و (لا) تشترط (نية الخلطة في الأصح) لأن خفة المؤنة باتحاد
المواقف لا تختلف بالقصد وعدمه، وإنما اشترط الاتحاد فيما مر ليجتمع المالان كالمال الواحد ولتخف المؤنة على المحسن
بالزكاة، والثاني: تشترط، لأن الخلطة مغيرة لمقدار الزكاة، فلا بد من قصده دفعا لضرره في الزيادة وضرر المستحقين
في النقصان.
تنبيهات: الأول: أفهمت عبارته أنه لا يشترط اتحاد الحالب ولا الاناء الذي يحلب فيه، وهو الأصح كما لا يشترط اتحاد
آلة الجز ولا خلط اللبن على الأصح. الثاني: محل ما تقدم إذا لم يتقدم للخليطين حالة انفراد، فإن انعقد الحول على الانفراد
ثم طرأت الخلطة، فإن اتفق حولاهما بأن ملك كل واحد أربعين شاة ثم خلطا في أثناء الحول لم تثبت الخلطة في السنة
الأولى، فيجب على كل واحد عند تمامها شاة. وإن اختلف حولاهما بأن ملك هذا غرة المحرم وهذا غرة صفر وخلطا
غرة شهر ربيع، فعلى كل واحد عند انقضاء حوله شاة. وإذا طرأ الانفراد على الخلطة، فمن بلغ ماله نصابا
زكاه ومن
لا فلا. الثالث: أهمل المصنف حكم التراجع إذ يجوز للساعي الاخذ من مال أحد الخليطين وإن لم يضطر إليه، فإذا أخذ
شاة مثلا من أحدهما رجع على صاحبه بما يخصه من قيمتها لا منها لأنها غير مثلية، فلو خلطا مائة بمائة، وأخذ الساعي من
أحدهما شاتين فكذلك، فإن أخذ من كل شاة فلا تراجع وإن اختلفت قيمتها، فلو كان لزيد مائة ولعمرو خمسون وأخذ
الساعي الشاتين من عمرو رجع بثلثي قيمتها أو من زيد رجع بالثلث، وإن أخذ من كل شاة رجع زيد بثلث قيمة
شاته وعمرو بثلثي قيمته شاته، وإذا تنازعا في قيمة المأخوذة، فالقول قول المرجوع عليه لأنه غارم. ولو كان لأحدهما
ثلاثون من البقر، وللآخر أربعون منها فواجبهما تبيع ومسنة على صاحب الثلاثين ثلاثة أسباعهما، وعلى صاحب
الأربعين أربعة أسباع. فإن أخذهما الساعي من صاحب الأربعين رجع على الآخر بثلاثة أسباع قيمتهما، وإن أخذهما من
الآخر رجع بأربعة أسباع. وإن أخذ التبيع من صاحب الأربعين والمسنة من الآخر، رجع صاحب المسنة بأربعة أسباعها
وصاحب التبيع بثلاثة أسباعه. وإن أخذ المسنة من صاحب الأربعين والتبيع من الآخر، فالمنصوص أن لا رجوع لواحد
منهما على الآخر لأن كلا منهما لم يؤخذ منه إلا ما عليه، وقيل يرجع صاحب المسنة بثلاثة أسباعها وصاحب التبيع بأربعة
أسباعه. (والأظهر تأثير خلطة الثمر والزرع والنقد وعرض التجارة) باشتراك أو مجاورة كما في الماشية، لعموم قوله
377

(ص): لا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة ولان المقتضى لتأثير الخلطة في الماشية هو خفة المؤنة، وذلك موجود هنا
للاتفاق باتحاد الجرين والناطور وغيرهما. والثاني وهو القديم: لا تؤثر مطلقا، لأن المواشي فيها أوقاص، فالخلطة فيها تنفع
المالك تارة والمستحقين أخرى، ولا وقص في غير المواشي. والثالث: تؤثر في خلطة الاشتراك فقط، وعلى الأول إنما تؤثر
خلطة الجوار في المزارعة. (بشرط أن لا يتميز الناطور) وهو بالمهملة أشهر من المعجمة: حافظ الزرع والشجر. (والجرين)
وهو بفتح الجيم: موضع تجفيف الثمار، والبيدر، وهو بفتح الموحدة والدال المهملة: موضع تصفية الحنطة، قاله الجوهري.
وقال الثعالبي: الجرين للزبيب والبيدر للحنطة والمربد بكسر الميم وإسكان الراء للتمر. (و) في التجارة
بشرط أن لا يتميز
(الدكان) وهو بضم الدال المهملة: الحانوت. (والحارس) وهو معروف. (ومكان الحفظ) كخزانة وإن كان مال كل بزاوية.
(ونحوها) كالميزان والوزان والنقاد والمنادي والحراث وجذاذ النخل والكيال والجمال والمتعهد والملقح والحصاد وما
يسقى به لهما، فإذا كان لكل منهما نخيل أو زرع مجاور لنخيل الآخر أو لزرعه أو لكل
واحد كيس فيه نقد في صندوق واحد وأمتعة تجارة في مخزن واحد ولم يتميز أحدهما عن الآخر بشئ مما سبق نبتت الخلطة، لأن المالين يصيران بذلك كالمال
الواحد كما دلت عليه السنة في الماشية. (ولوجوب زكاة الماشية) أي الزكاة فيها، (شرطان) مضافان لما مر من كونهما نصابا
من النعم، ولما سيأتي من كمال الملك وإسلام المالك وحريته. وكان الأولى أن يقول ولوجوب زكاة النعم، لأن النعم هو
الأخص المتكلم عليه وهو أحد الشرطين. الشرط الثالث: (مضي الحول) سمي بذلك لأنه حال، أي ذهب وأتى غيره. (في
ملكه) لحديث: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول رواه أبو داود ولم يضعفه، ولأنه لا يتكامل نماؤه قبل تمام الحول. (
لكن ما نتج) بضم النون وكسر التاء على البناء للمفعول، (من نصاب) وتم انفصاله قبل تمام حول النصاب ولو بلحظة.
(يزكى بحوله) أي النصاب، لكن بشرط أن يكون مملوكا لمالك النصاب بالسبب الذي ملك به النصاب إن اقتضى الحال
وجوب الزكاة فيه وإن ماتت الأمهات لقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لساعيه: اعتد عليهم بالسخلة،
وهي تقع على الذكر والأنثى من الضأن والمعز ما لم تبلغ سنة، رواه مالك في الموطأ. ولان الحول إنما اعتبر لتكامل النماء
الحاصل، والنتاج نماء في نفسه، فعلى هذا إذا كان عنده مائة وعشرون من الغنم فولدت واحدة منها سخلة قبل الحول ولو
بلحظة والأمهات كلها باقية لزمه شاتان. ولو ماتت الأمهات وبقي منها دون النصاب أو ماتت كلها وبقي النتاج نصابا
في الصورة الثانية أو ما يكمل به في الصورة الأولى زكى بحول الأصل. أما لو انفصل النتاج بعد الحول أو قبله ولم يتم انفصاله
إلا بعده كجنين خرج بعضه في الحول ولم يتم انفصاله إلا بعد تمام الحول لم يكن حول النصاب حوله لانقضاء حول أصله،
لأن الحول الثاني أولى به. واحترز بقوله نتج عن المستفاد بشراء أو غيره كما سيأتي، وبقوله من نصاب عما
نتج من دونه
كعشرين شاة نتجت عشرين وفحولها من حين تمام النصاب. وبقولنا بشرط أن يكون مملوكا إلخ عما لو أوصى بالحمل لشخص
لم يضم النتاج لحول الوارث، وكذا لو أوصى الموصي له بالحمل به قبل انفصاله لمالك الأمهات ثم مات ثم حصل النتاج لم يزك
بحول الأصل كما نقله في الكفاية عن المتولي وأقره. ولو كان النتاج من غير نوع الأمهات بأن حملت الضأن بمعز أو بالعكس فعلى
الخلاف في تكميل أحد النوعين بالآخر. فإن قيل: شرط وجوب الزكاة السوم في كلا مباح فكيف وجبت الزكاة في النتاج؟ أجيب
بأن اشتراطه خاص بغير النتاج التابع لامه في الحول ولو سلم عمومه له، فاللبن كالكلأ لأنه ناشئ منه، على أنه لا يشترط في الكلأ
أن يكون مباحا على ما يأتي بيانه، ولان اللبن الذي تشربه السخلة لا يعده مؤنة في العرف لأنه يأتي من عند الله تعالى ويستخلف إذا
حلب فهو شبيه بالماء، ولان اللبن وإن عد شربه مؤنة إلا أنه قد تعلق به حق الله تعالى فإنه يجب صرفه في سقي السخلة، ولا
يجوز للمالك أن يحلب إلا ما فضل عن ولدها. وإذا تعلق به حق الله تعالى كان مقدما على حق المالك، بدليل أنه يحرم على
مالك الماء أن يتصرف فيه بالبيع وغيره بعد دخول وقت الصلاة إذا لم يكن معه غيره، ولو باعه أو وهبه بعد دخول الوقت لم
378

يصح لتعلق حق الله تعالى به ويجب صرفه إلى الوضوء، فكذا لبن الشاة يجب صرفه إلى السخلة فلا تسقط الزكاة. قال
في الروضة والمجموع: وفائدة الضم إنما تظهر إذا بلغت بالنتاج نصابا آخر، بأن ملك مائة شاة فنتجت إحدى وعشرين، فيجب
شاتان، فلو نتجت عشرة فقط لم يفد اه‍. واعترض بظهور فائدته وإن لم تبلغ نصابا آخر عند التلف بأن ملك أربعين
فولدت عشرين ثم مات من الأمهات عشرون. (ولا يضم المملوك بشراء أو غيره) كهبة وارث ووصية إلى ما عنده، (في
الحول) لأنه ليس في معنى النتاج، لأن الدليل قد قام على اشتراط الحول، خرج النتاج لما مر، فبقي ما عداه على
الأصل. واحترز بقوله في الحول عن النصاب، فإنه يضم إليه فيه على المذهب، لأنه بالكثرة فيه بلغ حدا يحتمل
المواساة، فلو ملك ثلاثين بقرة غرة المحرم ثم اشترى عشرا أو ورثها أو نحو ذلك أول رجب، فعليه عند تمام الحول
الأول في الثلاثين تبيع ولكل حول بعده ثلاثة أرباع مسنة، وعند تمام كل حول للعشر ربع مسنة. (فلو ادعى)
المالك (النتاج بعد الحول) أو أنه استفاده بنحو شراء وادعى الساعي خلافه واحتمل ما يقول كل منهما. (صدق)
المالك لأنه مؤتمن والأصل معه. (فإن اتهم حلف) استحبابا احتياطا لحق المستحقين، فإن نكل ترك، ولا يجوز
تحليف الساعي لأنه وكيل ولا المستحقين لأنهم غير معينين. الشرط الرابع: بقاء الملك في الماشية جميع الحول، كما يؤخذ
من قوله: (ولو زال ملكه في الحول) عن النصاب أو بعضه ببيع أو غيره، (فعاد) بشراء أو غيره، (أو بادل بمثله)
مبادلة صحيحة لا للتجارة بغير الصرف، كإبل بابل، أو بجنس آخر، كإبل ببقر. (استأنف) الحول لانقطاع الأول
بما فعله فصار ملكا جديدا، فلا بد له من حول للحديث المتقدم. وتعبيره بالفاء الدالة على التعقيب وبقوله بمثله يؤخذ
منه الاستئناف عند طول الزمن وعند اختلاف النوع بطريق الأولى، وكل ذلك مكروه فرارا من الزكاة كراهة تنزيه
لأنه فرار من القربة، بخلاف ما إذا كان لحاجة أو لها وللفرار أو مطلقا على ما أفهمه كلامهم. فإن قيل: يشكل عدم
الكراهة فيما إذا كان لحاجة وقصد الفرار بما إذا اتخذ ضبة صغيرة لزينة وحاجة. أجيب بأن الضبة فيها اتخاذ، فقوي
المنع بخلاف الفرار، فلو عاوض غيره بأن أخذ منه تسعة عشر دينارا بتسعة عشر دينارا من عشرين دينارا زكى
الدينار لحوله، والتسعة عشر لحولها. وقال في الوجيز: يحرم إذا قصد بذلك الفرار من الزكاة، وزاد في الاحياء أنه
لا تبرأ الذمة في الباطن وأن أبا يوسف كان يفعله، ثم قال: والعلم علمان: ضار ونافع، قال: وهذا من العلم الضار.
وقال ابن الصلاح: يكون آثما بقصده لا بفعله. أما المبادلة الفاسدة فلا تقطع الحول وإن اتصلت بالقبض لأنها لا تزيل
الملك. ويتناول كلامه ما إذا باع النقد بعضه ببعض للتجارة، كالصيارفة فإنهم يستأنفون الحول كلما بادلوا، ولذلك
قال ابن سريج: بشر الصيارفة بأن لا زكاة عليهم. ولو باع النصاب قبل تمام حوله ثم رد عليه بعيب أو إقالة استأنف
الحول من حين الرد، فإن حال الحول قبل العلم بالعيب امتنع الرد في الحال لتعلق الزكاة بالمال، فهو عيب حادث عند
المشتري، وتأخير الرد بإخراجها لا يبطل به الرد قبل التمكن من أدائها. فإن سارع إلى إخراجها أو لم يعلم بالعيب إلا
بعد إخراجها نظر، فإن أخرجها من المال أو غيره بأن باع منه بقدرها واشترى بثمنه واجبه لم يرد لتفريق الصفقة
وله الأرش، وإن أخرجها من غيره رد، إذ لا شركة حقيقة بدليل جواز الأداء من مال آخر، أي إذا باع ذهبا بذهب.
أما إذا باع فضة بذهب أو عكسه فإنه تلزمه فيه الزكاة لأنه يبني حوله على بيعه الأول ولو باع النصاب بشرط الخيار،
فإن كان الملك للبائع بأن كان الخيار له، أو موقوفا بأن كان الخيار لهما ثم فسخ العقد لم ينقطع الحول لعدم تجدد الملك
وإن كان الخيار للمشتري. فإن فسخ استأنف البائع الحول. وإن أجاز فالزكاة عليه وحوله من العقد. ولو مات المالك
في أثناء الحول استأنف الوارث حوله من وقت الموت. وملك المرتد وزكاته وحوله موقوفات، فإن عاد إلى الاسلام تبينا
بقاء ملكه وحوله ووجوب زكاته عليه عند تمام حوله، وإلا فلا. (و) الشرط الثاني في كلام المصنف، وهو الشرط
الخامس: (كونها سائمة)، أي راعية، ففي خبر أنس: وفي صدقة الغنم في سائمتها إلخ، دل لمفهومه على نفي الزكاة
379

في معلوفة الغنم، وقيس بها الإبل والبقر. وفي خبر أبي داود وغيره: في كل سائمة إبل في أربعين بنت لبون، وقال
الحاكم: صحيح الاسناد. واختصت السائمة بالزكاة لتوفر مؤنتها بالرعي في كلا مباح. (فإن علفت معظم الحول) ليلا
ونهارا ولو مفرقا (فلا زكاة) فيها لأن الغلبة لها تأثير في الأحكام، (وإلا) بأن علفت دون المعظم، (فالأصح أن
علفت قدرا تعيش بدونه بلا ضرر بين وجبت) زكاتها لخفة المؤنة، (وإلا) أي وإن كانت لا تعيش في تلك المدة
بدونه أو تعيش ولكن بضرر بين، (فلا) تجب فيها زكاة لظهور المؤنة، والماشية تصبر اليومين ولا تصبر الثلاثة
غالبا. والثاني: إن علفت قدرا يعد مؤنة بالإضافة إلى رفق الماشية فلا زكاة، وإن كان حقيرا بالإضافة إليه وجبت.
وفسر الرفق بدرها ونسلها وصوفها ووبرها. ولو أسيمت في كلا مملوك، فهل هي سائمة أو معلوفة؟ وجهان، أحدهما،
وهو المعتمد كما جزم به ابن المقري وأفتى به القفال: أنها سائمة، لأن قيمة الكلأ غالبا تافهة ولا كلفة فيه لعدم
جزه. والثاني:
أنها معلوفة لوجود المؤنة. ورجح السبكي أنها سائمة إن لم يكن للكلأ قيمة أو كانت قيمته يسيرة لا يعد مثلها كلفة في
مقابلة نمائها وإلا فمعلوفة. أما إذا جزه وأطعمها إياه ولو في المرعى فليست بسائمة كما أفتى به القفال وجزم به ابن المقري. (ولو
سامت) الماشية (بنفسها) أو بالغاصب أو المشتري شراء فاسدا لم تجب الزكاة في الأصح لعدم إسامة المالك، وإنما
اعتبر قصده دون قصد الاعتلاف، لأن السوم يؤثر في وجوب الزكاة فاعتبر فيه قصده، والاعتلاف يؤثر في سقوطها
فلا يعتبر قصده، لأن الأصل عدم وجوبها. (أو اعتلفت السائمة) بنفسها أو علفها الغاصب القدر المؤثر من العلف فيهما
لم تجب الزكاة في الأصح لعدم السوم، وكالغاصب المشتري شراء فاسدا. (أو كانت عوامل) للمالك أو بأجرة (في حرث
ونضح) وهو حمل الماء للشرب، (ونحوه) كحمل غير الماء ولو كان محرما، (فلا زكاة في الأصح) لأنها لا تقتنى
للنماء بل للاستعمال كثياب البدن ومتاع الدار، فقوله في الأصح راجع للضمير كما تقرر، ولا بد أن يستعملها القدر الذي
لو علفها فيه سقطت الزكاة كما نقله البندنيجي عن الشيخ أبي حامد، وفرق بين المستعملة في محرم وبين الحلي المستعمل
فيه بأن الأصل فيها الحل وفي الذهب والفضة الحرمة إلا ما رخص، فإذا استعملت الماشية في المحرم رجعت إلى أصلها
ولا ينظر إلى الفعل الخسيس، وإذا استعمل الحلي في ذلك فقد استعمل في أصله، ولا أثر لمجرد نية العلف. ولو قصد بالعلف
قطع السوم انقطع الحول، والكلأ المغصوب كالمملوك فيما ذكر فيه. وعلم مما تقرر أن المعتبر الاسامة من المالك أو من
يقوم مقامه، حتى لو غصبت وهي معلوفة فردها الغاصب إلى الحاكم في غيبة المالك فأسامها الحاكم وجبت فيها الزكاة كما
قاله في البحر. قال الأذرعي: والظاهر أن إسامة ولي المحجور كإسامة الرشيد، لكن لو كان الحظ للمحجور في تركها
فهذا موضع تأمل اه‍. ولا يحتاج إلى تأمل، بل ينبغي القطع بعدم صحة الاسامة في هذه الحالة. قال: والظاهر أنه لو ورث
سائمة ودامت كذلك ولم يعلم بإرثها إلا بعد لأن الزكاة تجب وإن لم يسمها بنفسه ولا بنائبه ولم أره نصا اه‍. وهذا
ممنوع، والأصح أنه لا بد من إسامة الوارث. قال في الحاوي الصغير: وإسامة المالك الماشية فلا تجب في
سائمة ورثها
وتم حولها ولم يعلم به. (وإذا وردت) أي الماشية (ماء أخذت زكاتها عنده) لأنه أسهل على المالك والساعي وأقرب
إلى الضبط من المرعى، فلا يكلفهم الساعي ردها إلى البلد كما لا يلزمه أن يتبع المراعي، وفي الحديث: تؤخذ صدقات المسلمين على
مياههم رواه الإمام أحمد في مسنده. ولو كان له ماشيتان عند ماءين أمر بجمعهما عند أحدهما إلا أن يعسر عليه ذلك.
(وإلا) أي وإن لم ترد الماء بأن استغنت عنه في زمن الربيع بالكلأ، (فعند بيوت أهلها) وأفنيتهم، وذلك لخبر
البيهقي: تؤخذ صدقات أهل البادية على مياههم وأفنيتهم وهو إشارة إلى الحالتين السابقتين. (ويصدق المالك)
380

وأولى منه المخرج ليشمل الولي والوكيل، (في عددها إن كان ثقة) لأنه أمين، وله مع ذلك أن يعدها. (وإلا) أي وإن لم يكن
ثقة أو قال لا أعرف عددها، (فتعد) والأسهل عدها (عند مضيق) تمر به، لأنه أبعد عن الغلظ، فتمر واحدة واحدة وبيد
كل من المالك والساعي أو نائبهما قضيب يشيران به إلى كل واحدة واحدة أو يصيبان به ظهرها، فإن اختلفا بعد العدد
وكان لواجب، يختلف به أعادا العد.
فائدة: إذا كانت الماشية مستوحشة وكان في أخذها وإمساكها مشقة كان على رب المال أن يأخذ السن الواجب عليه
ويسلمه إلى الساعي، فإن كان لا يمكن إمساكها إلا بعقال كان على المالك ذلك، وعلى هذا حملوا قول أبي بكر رضي الله
تعالى عنه: والله لو منعوني عقالا، لأن العقال هنا من تمام التسليم.
خاتمة: سن للساعي إذا أخذ الزكاة أن يدعو للمالك ترغيبا له في الخير وتطييبا لقلبه، فيقول: آجرك الله فيما أعطيت،
وجعله لك طهورا، وبارك لك فيما أبقيت، ولا يتعين دعاء، وفي وجه أن الدعاء واجب، وقيل: إن سأله المالك وجب.
ويكره أن يصلي عليه في الأصح، وقيل: يستحب، وقيل: خلاف الأولى، وقيل: يحرم. قال الشيخ أبو محمد: والسلام
في معنى الصلاة، فلا يفرد به غير الأنبياء، وهو سنة في المخاطبة للاحياء والأموات. قال المصنف رحمه الله تعالى: ويسن
لكل من أعطى زكاة أو صدقة أو نذرا أو كفارة أو نحوها، أي من إلقاء درس أو تصنيف أو أتى بورد، أن يقول: ربنا
تقبل منا إنك أنت السميع العليم.
باب زكاة النبات:
النبات يكون مصدرا، تقول: نبت الشئ نباتا، واسما بمعنى النابت، وهو المراد هنا. وينقسم إلى شجر وهو ما له ساق،
ونجم وهو ما لا ساق له كالزرع، قال تعالى: * (والنجم والشجر يسجدان) *. والزكاة تجب في النوعين، ولذلك عبر بالنبات
لشموله لهما، لكن قال المصنف في نكت التنبيه: إن استعمال النبات في الثمار غير مألوف. والأصل في الباب قبل
الاجماع ما يأتي قوله تعالى: * (وآتوا حقه يوم حصاده) *، وقوله تعالى: * (أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) *
وهو الزكاة، لأنه لا حق فيما أخرجته الأرض غيرها. (تختص بالقوت) لأن الاقتيات من الضروريات التي لا حياة بدونه،
فلذلك أوجب الشارع منه شيئا لأرباب الضرورات، بخلاف ما يؤكل تنعما أو تأدما كالتين والسفرجل والرمان.
والقوت أشرف النبات، وهو ما يقوم به بدن الانسان من الطعام، قيل سمي بذلك لبقاء ثقله في المعدة، ومن أسمائه
تعالى المقيت، وهو الذي يعطي أقوات الخلائق، ودعا (ص) أن يجعل الله رزق آله قوتا، أي بقدر
ما يمسك الرمق من الطعام، وقال: كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت، أي من يلزمه قوته من أهله أو عياله. وقال:
قوتوا طعامكم يبارك لكم فيه سئل الأوزاعي عنه فقال: صغر الأرغفة. (وهو من الثمار الرطب والعنب) بالاجماع،
(ومن الحب الحنطة والشعير) بفتح الشين، ويقال بكسرها. (والأرز) بفتح الهمزة وضم الراء وتشديد الزاي في
أشهر اللغات، (والعدس) بفتح الدال، ومثله البسلاء. (وسائر المقتات اختيارا) كالحمص بكسر الحاء مع كسر الميم
وفتحها، والباقلاء، وهي بالتشديد مع القصر وتكتب بالياء، وبالتخفيف مع المد وتكتب بالألف وقد تقصر:
الفول والذرة، وهي بمعجمة مضمومة ثم راء مخففة، والهاء عوض من واو أو ياء. والهرطمان، وهو بضم الهاء والطاء
الجلبان بضم الجيم، والماش: وهو بالمعجمة نوع منه. فتجب الزكاة في جميع ذلك لورودها في بعضه في الاخبار الآتية
381

وألحق به الباقي. وأما قوله (ص) لأبي موسى الأشعري ومعاذ حين بعثهما إلى اليمن فيما رواه الحاكم وصحح إسناده:
لا تؤخذ الصدقة إلا من هذه الأربعة: الشعير والحنطة والتمر والزبيب فالحصر فيه إضافي، أي بالنسبة إلى ما كان موجودا
عندهم، لما رواه الحاكم وصحح إسناده من قوله (ص): فيما سقت السماء والسيل والبعل العشر وفيما سقي
بالنضح نصف العشر. وإنما يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب، فأما القثاء والبطيخ والرمان والقضب فعفو
عفا عنه
رسول الله (ص). والقضب بسكون المعجمة: الرطب بسكون الطاء، وخرج بالقوت غيره، كخوخ ورمان وتين
ولوز وجوز هند وتفاح ومشمش، وبالاختيار ما يقتات في الجدب اضطرارا من حبوب البوادي كحب الحنظل وحب الغسول
وهو أشنان فلا زكاة فيها كما لا زكاة في الوحشيات من الظباء ونحوها. وأبدل التنبيه قيد الاختيار بما يستنبته الآدميون،
لأن ما لا يستنبتونه ليس فيه شئ يقتات اختيارا. ويستثنى من إطلاق المصنف ما لو حمل السيل حبا تجب فيه الزكاة من دار
الحرب فنبت بأرضنا فإنه لا زكاة فيه كالنخل المباح بالصحراء، وكذا ثمار البستان وغلة القرية الموقوفين على المساجد
والقناطر والربط والفقراء والمساكين لا تجب فيها الزكاة على الصحيح، إذ ليس له مالك معين. ولو أخذ الامام الخراج
على أن يكون بدلا عن العشر كان كأخذ القيمة في الزكاة بالاجتهاد فيسقط به الفرض، فإن نقص عن الواجب تممه. (وفي
القديم تجب في الزيتون) لقول عمر رضي الله تعالى عنه: في الزيتون العشر، وقول الصحابة حجة في القديم، فلذلك أوجبه،
لكن الأثر المذكور ضعيف. (و) في (الزعفران و) في (الورس) لاشتراكهما في المنفعة. روي في الزعفران أثر ضعيف،
وألحق الورس به، وهو نبت أصفر يصبغ به الثياب وهو كثير باليمن. (و) في (القرطم) وهو بكسر القاف والطاء وضمهما:
حب العصفر، لأن أبيا كان يأخذ العشر منه. (و) في (العسل) سواء كان نحله مملوكا أم أخذ من الأمكنة المباحة، لما روى
ابن ماجة عن عمرو بن شعيب: أنه (ص) أخذ منه العشر، لكن قال البخاري والترمذي: لم يصح في زكاته شئ.
فائدة: لعاب العسل النحل يذكر ويؤنث ويجمع إذا أردت أنواعه على أعسال وعسل وعسول وعسلان. ومن أسمائه
الحافظ الأمين، قال تعالى: * (فيه شفاء للناس) *. وكان (ص) يحبه ويصطفيه، وروى ابن ماجة عن أبي هريرة
رضي الله تعالى عنه أن النبي (ص) قال: من لعق العسل ثلاث غدوات في كل شهر لم يصبه عظيم من البلاء،
وفيه أيضا: عليكم بالشفاءين العسل والقرآن. فجمع في هذا القول بين الطب البشري والطب الإلهي، وبين طب الأجساد
وطب الأنفس، وبين السبب الأرضي والسبب السماوي، ولذلك قال ابن مسعود: العسل شفاء من كل داء والقرآن
شفاء لما في الصدور، فعليكم بالشفاءين القرآن والعسل. (ونصابه) أي القوت الذي تجب فيه الزكاة، (خمسة أوسق) لقوله
(ص): ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة رواه الشيخان. والوسق بالفتح على الأفصح وهو مصدر بمعنى
الجمع، سمي به هذا المقدار لأجل ما جمعه من الصيعان، قال تعالى: * (والليل وما وسق) * أي جمع. (وهي) أي الأوسق
الخمسة، (ألف وستمائة رطل بغدادية) لأن الوسق ستون صاعا كما رواه ابن حبان وغيره، فمجموع الخمسة ثلاثمائة صاع،
والصاع أربعة أمداد، فيكون النصاب ألف مد ومائتي مد، والمد رطل وثلث بالبغدادي، وذلك ألف وستمائة رطل،
وقدرت بالبغدادي لأنه الرطل الشرعي كما قاله المحب الطبري. (وبالدمشقي) وهو ستمائة درهم، (ثلاثمائة وستة
وأربعون رطلا وثلثان) لأن الرطل الدمشقي ستمائة درهم. وعند الرافعي: أن الرطل البغدادي مائة وثلاثون درهما،
فيكون المد مائة وثلاثة وسبعين درهما وثلث درهم، والصاع ستمائة وثلاثة وتسعون وثلث، فاضرب ستمائة وثلاثا وتسعين
في ثلاثمائة تبلغ مائتي ألف وثمانية آلاف، واجعل كل ستمائة رطلا يتحصل من مجموع ذلك ما ذكر. (قلت: الأصح)
أنها بالدمشقي (ثلاثمائة واثنان وأربعون رطلا وستة أسباع رطل، لأن الأصح أن رطل بغداد مائة وثمانية وعشرون
382

درهما وأربعة أسباع درهم) أي فإذا ضرب ذلك في ألف وستمائة وقسم على الرطل الدمشقي بلغ ذلك. وما صححه المصنف
في تحرير الرطل البغدادي هو الصحيح، لأنه تسعون مثقالا، والمثقال درهم وثلاثة أسباع درهم، فيضرب بسط الكسر
وهو ثلاثة في عدد تكرره وهو تسعون تبلغ مائتين وسبعين، يقسم على مخرجه وهو سبعة يخرج ثمانية وثلاثون وأربعة
أسباع، يجمع مع الدراهم يخرج ما قاله. (وقيل: بلا أسباع، وقيل: وثلاثون، والله أعلم) بيانه أن تضرب ما سقط من كل
رطل وهو درهم وثلاثة أسباع في ألف وستمائة تبلغ ألفي درهم ومائتي درهم وخمسة وثمانين درهما وخمسة أسباع درهم
تسقط ذلك من مبلغ الضرب الأول، فيكون الزائد على الأربعين بالقسمة ما ذكره المصنف، لأن الباقي بعد الاسقاط
مائتا ألف وخمسة آلاف وسبعمائة وأربعة عشر درهما وسبعا درهم فمائتا ألف وخمسة آلاف ومائتا درهم في مقابلة
ثلاثمائة واثنين وأربعين رطلا، والباقي وهو خمسمائة وأربعة عشر درهما وسبعا درهم في مقابلة ستة أسباع رطل، لأن
سبعه خمسة وثمانون وخمسة أسباع. ولم يتعرض الرافعي في المحرر إلى ضبط الأوسق بالأرطال بالكلية لا البغدادية ولا الدمشقية،
بل عبر بقوله: وهي بالمن الصغير ثمانمائة من، وبالكبير الذي وزنه ستمائة درهم ثلاثمائة من وستة وأربعون منا وثلثا من،
فاختصره المصنف بما سبق. واستفدنا من ذلك أن الرطل الدمشقي مساو للمن الكبير، والمن الصغير رطلان بالبغدادي.
والنصاب المذكور تحديد كما صححاه للاخبار السابقة، وكما في نصاب المواشي وغيرها، والعبرة فيه بالكيل على الصحيح،
وإنما قدر بالوزن استظهارا أو إذا وافق الكيل. والمعتبر في الوزن من كل نوع الوسط، فإنه يشتمل على الخفيف والرزين
فكيله بالأردب المصري، قال القمولي: ستة أرادب وربع إردب بجعل القدحين صاعا كزكاة الفطر وكفارة اليمين. وقال
السبكي خمسة أرادب ونصف إردب وثلث، فقد اعتبرت القدح المصري بالمد الذي حررته فوسع مدين وسبعا تقريبا،
فالصاع قد حان إلا سبعي مد وكل خمسة عشر مدا سبعة أقداح وكل خمسة عشر صاعا ويبة ونصف وربع فثلاثون صاعا
ثلاث ويبات ونصف فثلاثمائة صاع خمسة وثلاثون ويبة، وهي خمسة أرادب ونصف وثلث. فالنصاب على قوله خمسمائة
وستون قدحا، وعلى قول القمولي ستمائة، وقول القمولي أوجه، وإن قال بعض المتأخرين إن قول السبكي أوجه لأن
الصاع قد حان تقريبا. (ويعتبر) في الرطب والعنب بلوغه خمسة أوسق حالة كونه (تمرا) بالمثناة (أو زبيبا) هذا
(إن تتمر) الرطب (وتزبب) العنب، لقوله (ص): ليس في حب ولا تمر صدقة حتى يبلغ خمسة أوسق رواه مسلم،
فاعتبر الأوسق من التمر. (وإلا) أي وإن لم يتتمر الرطب ولم يتزبب العنب، (فرطبا وعنبا) أي فيوسق رطبا وعنبا
وتخرج الزكاة منهما في الحال، لأن ذلك أكمل أحوالهما. وإنما لم يلحق ذلك بالخضراوات. لأن جنسه مما يجف،
وهذا النوع منه نادر، ويضم ما لا يجف منهما إلى ما يجف في إكمال النصاب لاتحاد الجنس، وإذا كان يجف
إلا أن جفافه
يكون رديئا فحكمه حكم ما لا يجف بالكلية، ولو ضر ما يتجفف بأصله لامتصاص مائه لعطش قطعت وأخرج الواجب
من رطبها، ويجب استئذان العامل في قطعه كما صححه في زيادة الروضة، فإن قطع ولم يستأذن أثم وعزر، وعلى الساعي أن
يأذن له، وقيل: يسن، وصححه في الشرح الصغير. وعلى الأول لو اندفعت الحاجة بقطع البعض لم تجز الزيادة عليها.
(و) يعتبر في (الحب) بلوغه خمسة أوسق حالة كونه (مصفى من تبنه) لأنه لا يدخر فيه ولا يؤكل معه، (وما ادخر في قشره)
ولم يؤكل معه (كالأرز والعلس) وهو بفتح العين واللام: نوع من الحنطة كما سيأتي، (ف‍) - نصابه (عشرة
أوسق) اعتبارا بقشره الذي ادخاره فيه أصلح له أو أبقى بالنصف، فعلم أنه لا تجب تصفيته من قشره وأن قشره لا يدخل
في الحساب. فلو كانت الخمسة أوسق تحصل من دون العشرة اعتبرناه أولا يحصل من العشرة خمسة أوسق فلا زكاة فيها،
وإنما ذلك جرى على الغالب. قال صاحب العدة: ولا تدخل قشرة الباقلاء السفلى في الحساب لأنها غليظة غير مقصودة.
واستغربه في المجموع. قال الأذرعي: وهو كما قال، والوجه ترجيح الدخول أو الجزم به اه‍. وهذا هو المعتمد كما هو قضية
كلام ابن كج إن لم يكن المنصوص، فإنه ذكر النص في العلس ثم قال: فأما الباقلاء والحمص والشعير فيطحن في قشره
383

ويؤكل فلأجل ذلك اعتبرناه مع قشره. وسياقه يشعر بأنه من تتمة النص ولا أثر للقشرة الحمراء اللاصقة بالأرز كما
نقله في المجموع عن سائر الأصحاب غير ابن أبي هريرة.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف أن الأرز والعلس ذكرا مثالا وأنه بقي شئ من الحبوب غيرهما يدخر في قشره
وليس مرادا، إذ ليس لنا غيرهما بهذه الصفة. (ولا يكمل) في النصاب (جنس بجنس) أما التمر مع الزبيب فبالاجماع
كما نقله ابن المنذر، وأما الحنطة مع الشعير والعدس مع الحمص فبالقياس. (ويضم) فيه (النوع إلى النوع) كأنواع
الزبيب والتمر وغيرهما لاشتراكهما في الاسم، وإن تباينا في الجودة والرداءة وإن اختلف مكانهما. (ويخرج من كل) من
النوعين أو الأنواع (بقسطه) لعدم المشقة فيه بخلاف المواشي، فإن الأصح أنه يخرج نوعا منها بشرط اعتبار القيمة
والتوزيع كما مر، ولا يؤخذ البعض من هذا والبعض من هذا لما فيه من المشقة. (فإن عسر) لكثرة الأنواع
وقلة
الحاصل من كل نوع، (أخرج الوسط) منها لا أعلاها ولا أدناها رعاية للجانبين، وقيل: يجب الاخراج من الغالب
ويجعل غيره تبعا له. ومنهم من قطع بالأول، وعليه لو تكلف وأخرج من كل نوع بقسطه كان أفضل كما في المجموع.
(ويضم العلس إلى الحنطة لأنه نوع منها) وهو قوت صنعاء اليمن يكون في الكمام حبتان وثلاث. ووقع في الوسيط
أنه حنطة توجد بالشام، ورده بعضهم بأنه لا يعرف بالشام، وقد يقال: إنه كان زمنه دون زمن الراد. (والسلت) بضم
السين وسكون اللام، (جنس مستقل) فلا يضم إلى غيره. (وقيل شعير) فيضم إليه لشبهه به في برودة الطبع، (وقيل
حنطة) فيضم إليها لشبهه بها لونا وملاسة. والأول قال: اكتسب من تركب الشبهين طبعا انفرد به وصار أصلا برأسه.
(ولا يضم ثمر عام وزرعه) في إكمال النصاب (إلى) ثمر وزرع عام (آخر) ولو فرض اطلاع ثمر العام الثاني قبل
جذاذ الأول بالاجماع، (ويضم ثمر العام) الواحد (بعضه إلى بعض) في إكمال النصاب، (وإن اختلف إدراكه)
لاختلاف أنواعه وبلاده حرارة وبرودة كنجد وتهامة، فتهامة حارة يسرع إدراك الثمر بها بخلاف نجد لبردها. والمراد
بالعام هنا اثنا عشر شهرا عربية، قال شيخنا: والقول بأنه أربعة أشهر غير صحيح. أشار بذلك إلى الرد على ابن الرفعة، فإنه
نقله عن الأصحاب. والعبرة في الضم هنا باطلاعهما في عام كما صرح به ابن المقري في شرح إرشاده، خلافا لما صرح به
صاحب الحاوي الصغير من اعتبار القطع، فيضم طلع نخله إلى الآخران طلع الثاني قبل جذاذ الأول، وكذا بعده في عام
واحد. (وقيل: إن طلع الثاني بعد جذاذ الأول) بفتح الجيم وكسرها وإهمال الدالين وإعجامهما: أي قطعه. (لم يضم)
لأنه يشبه ثمر عامين، وصحح هذا في الشرح الصغير. ولو اطلع الثاني قبل بدو صلاح الأول ضم إليه جزما. ويستثنى من
الأول ما لو أثمر نخل أو كرم مرتين في عام فلا ضم بل هما كثمرة عامين. والأصح على الثاني إن وقت الجذاذ كالجذاذ.
ولو كان له نخلة تهامية تحمل في العام مرتين ونجدية تبطئ بحملها فحملت النجدية بعد جذاذ حمل التهامية في العام ضم
ثمر النجدية إلى ثمر التهامية، فإن أدرك حمل التهامية الثاني لم يضم إليها ولو أدركها قبل بدو صلاحها، لأنا لو ضممناها
إليها لزمه ضمه إلى حمل التهامية الأول، وهو ممتنع لما مر أن كل حمل كثمرة عام. (وزرعا العام يضمان) وإن اختلفت
زراعتهما في الفصول لما مر، ويتصور ذلك في الذرة لأنها تزرع في الربيع والخريف والصيف. (والأظهر) في الضم
(اعتبار وقوع حصاديهما في سنة) واحدة اثنا عشر شهر عربية كما مر، خلافا للبندنيجي من أنه سنة الزرع وإن لم
يقع الزرعان في سنة، إذ الحصاد هو المقصود، وعنده يستقر الوجوب. والثاني: الاعتبار بوقوع الزرعين في سنة وإن كان
حصاد الثاني خارجا عنها، لأن الزرع هو الأصل والحصاد فرعه وثمرته. وحكيا في الشرح والروضة في ذلك ثمانية أقوال
384

أخر، فجملة ذلك عشرة أقوال ذكرتها في شرح التنبيه. والأول عزاه الشيخان إلى الأكثرين وصححاه، وهو المعتمد، وإن
قال في المهمات إنه نقل باطل يطول القول بتفصيله. والحاصل أني لم أر من صححه فضلا عن عزوه إلى الأكثرين، بل
رجح كثيرون اعتبار وقوع الزرعين في عام منهم البندنيجي وابن الصباغ، وذكر نحوه ابن النقيب. قال شيخنا في شرح
منهجه: ويجاب بأن ذلك لا يقدح في نقل الشيخين لأن من حفظ حجة على من لم يحفظ اه‍. وهل المراد بالحصاد أن يكون
بالفعل أو بالقوة؟ قال الكمال بن أبي شريف: تعليلهم يرشد إلى الثاني، ولو وقع الزرعان معا أو على التواصل المعتاد ثم أدرك
أحدهما والآخر يقل لم يشتد حبه فالأصح القطع فيه بالضم، وقيل على الخلاف. ولو اختلف المالك والساعي في أنه زرع
عام أو عامين صدق المالك في قوله عامين، فإن اتهمه الساعي حلفه ندبا لأن ما ادعاه ليس مخالفا للظاهر. والمستخلف من
أصل كذرة سنبلت مرة ثانية في عام يضم إلى الأصل كما علم مما مر، بخلاف نظيره من الكرم والنخل كما سلف لأنهما
يردان للتأييد فجعل كل حمل كثمرة عام بخلاف الذرة ونحوها فألحق الخارج منها ثانيا بالأول كزرع تعجل إدراك بعضه.
(وواجب ما شرب بالمطر) أو بما انصب إليه من جبل أو نهر أو عين، (أو عروقه بقربه من الماء) وهو البعل، (من ثمر وزرع
العشر، و) واجب (ما سقي) منهما (بنضح) من نحو نهر بحيوان، ويسمى الذكر ناضحا، والأنثى ناضحة
، ويسمى هذا
الحيوان أيضا سانية بسين مهملة ونون مثناة من تحت. (أو دولاب) بضم أوله وفتحه، وهو ما يديره الحيوان، أو دانية
وهي البكرة، أو ناعورة وهي ما يديره الماء بنفسه، (أو بما اشتراه) أو وهب له لعظم المنة فيه أو غصبه لوجوب ضمانه، (نصفه)
أي العشر، وذلك لقوله (ص): فيما سقت السماء والعيون أو كان عثريا العشر وفيما سقي بالنضح نصف العشر
رواه البخاري من حديث ابن عمر. وفي مسلم من حديث جابر: فيما سقت الأنهار والغيم العشر وفيما سقي بالسانية نصف العشر.
وفي رواية لأبي داود: إن في البعل العشر. وانعقد الاجماع على ذلك كما قاله البيهقي وغيره. والمعنى فيه كثرة المؤنة وخفتها
كما في المعلوفة والسائمة. قال أهل اللغة: والبعل ما يشرب بعروقه والعثري بفتح المهملة والمثلثة: ما سقي بماء السيل الجاري
إليه في حفرة، وتسمى الحفرة عاثوراء لتعثر المار بها إذا لم يعلمها.
تنبيه: الأولى في قراءة ما في قول المصنف بما اشتراه مقصورة على أنها موصولة لا ممدودة اسما للماء المعروف،
فإنها على التقدير الأول تعم الثلج والبرد بخلاف الممدودة، وقول الأسنوي: وتعم على الأول الماء النجس ممنوع إذ لا يصح
شراؤه. (والقنوات) والسواقي المحفورة من النهر العظيم، (كالمطر على الصحيح) ففي المسقي بما يجري فيها منه العشر،
لأن مؤنة القنوات إنما تخرج لعمارة القرية، والأنهار إنما تحفر لاحياء الأرض، فإذا تهيأت وصل الماء إلى الزرع
بطبعه مرة بعد أخرى بخلاف السقي بالنواضح ونحوها فإن المؤنة للزرع نفسه. والثاني: يجب فيها نصف العشر
لكثرة المؤنة فيها، والأول يمنع ذلك. (و) واجب (ما سقي بهما) أي بالنوعين كالنضح والمطر، (سواء ثلاثة أرباعه)
أي العشر، عملا بواجب النوعين. (فإن غلب أحدهما ففي قول يعتبر هو) فإن غلب المطر فالعشر أو النضح فنصفه ترجيحا
لجانب الغلبة. (والأظهر يقسط) لأنه القياس كما قاله في الام، فإن كان ثلثاه بماء السماء وثلثه بالدولاب وجب خمسة
أسداس العشر ثلثا العشر للثلثين وثلث نصف العشر للثلث، وفي عكسه ثلثا العشر. والغلبة والتقسيط (باعتبار عيش
الزرع) أو الثمر (ونمائه، وقيل بعدد السقيات) أي النافعة بقول أهل الخبرة. ويعبر عن الأول وهو اعتبار
عيش الزرع
باعتبار المدة، فلو كانت المدة من يوم الزرع إلى يوم الادراك ثمانية أشهر واحتاج في ستة أشهر زمن الشتاء والربيع إلى
سقيتين فسقي بماء السماء، وفي شهرين من زمن الصيف إلى ثلاث سقيات فسقي بالنضح، فإن اعتبرنا عدد السقيات فعلى قول
التوزيع يجب خمسا العشر وثلاثة أخماس نصف العشر، وعلى قول اعتبار الأغلب يحب نصف العشر، لأن عدد السقيات
385

بالنضح أكثر، وإن اعتبر بالمدة فعلى قول التوزيع يجب ثلاثة أرباع العشر وربع نصف العشر، وعلى قول اعتبار
الأغلب يجب العشر لأن مدة السقي بماء السماء أطول. ولو سقي الزرع أو الثمر بماء السماء والنضح وجهل مقدار كل منهما
وجب فيه ثلاثة أرباع العشر أخذا بالأسوأ، وقيل نصف العشر لأن الأصل براءة الذمة من الزيادة عليه. ولو علم أن
أحدهما أكثر وجهل عينه فالواجب ينقص عن العشر ويزيد على نصف العشر فيؤخذ اليقين ويوقف الباقي إلى البيان،
ذكره الماوردي. وسواء في جميع ما ذكر في السقي بماءين أنشأ الزرع على قصد السقي بهما أم أنشأه قاصد السقي بأحدهما
ثم عرض السقي بالآخر، وقيل في الحال الثاني: يستصحب حكم ما قصده. ولو كان له زرع أو ثمر
مسقي بماء السماء وآخر مسقي بالنضح ولم يبلغ واحد منهما نصابا ضم أحدهما إلى الآخر لتمام النصاب، وإن اختلف قدر الواجب وهو العشر
في الأول ونصفه في الآخر. ولو اختلف المالك والساعي في أنه بماذا سقي؟ صدق المالك، لأن الأصل عدم وجوب الزيادة
عليه. قال في المجموع: فإن اتهمه الساعي حلفه ندبا. (وتجب) الزكاة فيما ذكر (ببدو صلاح الثمر) لأنه حينئذ ثمرة كاملة،
وهو قبل ذلك حصرم وبلح. (و) ببدو (اشتداد الحب) لأنه حينئذ طعام وهو قبل ذلك بقل. وليس المراد بوجوب
الزكاة بما ذكر وجوب إخراجها في الحال، بل انعقاد سبب وجوب إخراج التمر والزبيب والحب المصفى عند الصيرورة
كذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى ضابط الصلاح في باب الأصول والثمار، وأنه لا يشترط تمام الصلاح والاشتداد
ولا بدو صلاح الجميع واشتداده. ومؤنة الجفاف والتصفية والجذاذ والدياس والحمل وغيرها مما يحتاج إلى مؤنة على
المالك لا من مال الزكاة، فإن أخذ الساعي الزكاة مما يجف رطبا - بفتح الراء وإسكان الطاء - ردها وجوبا إن
كانت باقية،
ولو تلفت في يد الساعي لزمه رد مثلها، لأن الرطب مثلي كما صححه في الروضة في باب الغصب. وقيل: يلزمه رد قيمتها
كما نص عليه الشافعي والأكثرون بناء على أن الرطب متقوم. والقائل بالأول حمل النص على فقد المثل، فلو جففها الساعي
ونقصت عن قدر الزكاة أو لم تنقص لم تجزه كما ذكره ابن كج وجزم به ابن المقري في روضه، لفساد القبض من أصله، خلافا
للعراقيين من أنها تجزئ. ولو أخذ الساعي الحب قبل التصفية لم يقع الموقع إلا الأرز والعلس فإنه يؤخذ واجبهما في قشرهما
كما مر. ولو اشترى نخيلا وثمرتها بشرط الخيار فبدأ الصلاح في مدته فالزكاة على من له الملك وهو البائع إن كان الخيار له،
أو المشتري إن كان له، وإن لم يبق الملك له بأن أمضى البيع في الأولى وفسخ في الثانية، وإن كان الخيار لهما فالزكاة موقوفة،
فمن ثبت له الملك وجبت الزكاة عليه. وإن اشترى النخيل بثمرتها أو ثمرتها فقط كافر أو مكاتب فبدأ الصلاح في ملكه
ثم ردها بعيب أو غيره كما قاله بعد بدو الصلاح لم تجب زكاتها على أحد، أما المشتري فلانه ليس أهلا لوجوب
الزكاة، وأما البائع فلأنها لم تكن في ملكه حين الوجوب. أو اشتراها مسلم فبدأ الصلاح في ملكه ثم وجد بها عيبا
لم يردها على البائع قهرا لتعلق الزكاة بها، فهو كعيب حدث بيده، فلو أخرج الزكاة من الثمر لم يرد وله الأرش، أو من
غيرها فله الرد، أما لوردها عليه برضاه فجائز لاسقاط البائع حقه. وإن اشترى الثمرة وحدها بشرط القطع فبدأ الصلاح
حرم القطع لتعلق حق المستحقين بها، فإذا لم يرض البائع بالابقاء فله الفسخ لتضرره بمص الثمرة ماء الشجرة. ولو رضي به
وأبى المشتري إلا القطع لم يكن للمشتري الفسخ، لأن البائع قد رضي بإسقاط حقه، وللبائع الرجوع في الرضا بالابقاء لأن
رضاه على إعارة، وإذا فسخ البيع لم تسقط الزكاة عن المشترى لأن بدو الصلاح كان في ملكه فإن أجذها الساعي من الثمرة
رجع البائع على المشترى.
. فرع: قال الزركشي: لو بدأ الصلاح قبل القبض فهذا عيب حدث بيد البائع قبل القبض فينبغي أن يثبت
الخيار للمشتري. قال: وهذا إذا بدأ بعد اللزوم وإلا فهذه ثمرة استحق إبقاؤها في زمن الخيار فصار كالمشروط في زمنه
فينبغي أن ينفسخ العقدان. قلنا: الشرط في زمن الخيار يلحق بالعقد. (ويسن خرص) أي حزر (الثمر)
بالمثلثة، الذي
تجب فيه الزكاة، وهو الرطب والعنب. (إذا بدا صلاحه على مالكه) لأنه (ص) أمر أن يخرص العنب كما يخرص
النخل وتؤخذ زكاته زبيبا كما تؤخذ صدقة النخل تمرا، رواه الترمذي وقال حسن غريب، وأخرجه ابن حبان والحاكم
386

في صحيحيهما. وقيل: يجب الخرص، لظاهر الحديث. والخرص لغة: القول بالظن، ومنه قوله تعالى: * (قتل الخراصون) *
واصطلاحا ما تقرر، وحكمته الرفق بالمالك والمستحق. ولا فرق في الخرص بين ثمار البصرة وغيرها كما هو ظاهر كلام
الأصحاب، وإن استثنى الماوردي ثمار البصرة فقال: يحرم خرصها بالاجماع لكثرتها ولكثرة المؤنة في خرصها ولإباحة
أهلها الاكل منها للمجتاز، وتبعه عليه الروياني، قال: وهذا في النخل، أما الكرم فهم فيه كغيرهم، قال السبكي: وعلى هذا
ينبغي إذا عرف من شخص أو بلد ما عرف من أهل البصرة يجري عليه حكمهم اه‍. ويجوز خرص الكل إذا بدا الصلاح في
نوع دون آخر في أقيس الوجهين. وخرج بالثمر الحب فلا خرص فيه لاستتار حبه، ولأنه لا يؤكل غالبا رطبا بخلاف الثمرة،
ويبدو الصلاح ما قبله لأن الخرص لا يتأتى فيه إذ لا حق للمستحقين فيه، ولا ينضبط المقدار لكثرة العاهات قبل بدو
الصلاح. وكيفية الخرص أن يطوف بالنخلة ويرى جميع عناقيدها ويقول: عليها من الرطب أو العنب كذا، ويجئ منه تمرا
أو زبيبا كذا، ثم يفعل كذلك بنخلة بعد نخلة إن اختلف النوع. ولا يقتصر على رؤية البعض وقياس الباقي لأنها، تتفاوت
فإن أتحد النوع جاز أن يخرص الجميع رطبا أو عنبا ثم تمرا أو زبيبا. (والمشهور إدخال جميعه في الخرص) لعموم الأدلة
المقتضية لوجوب العشر أو نصفه من غير استثناء، والثاني: أنه يترك للمالك ثمر نخلة أو نخلات يأكله أهله. واحتج له بقوله
عليه الصلاة والسلام: إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع رواه أبو داود وصححه ابن حبان،
ويختلف ذلك بكثرة عياله وقلتهم. وأجاب الشافعي رضي الله تعالى عنه بحمله على أنه يترك له ذلك من الزكاة لا من
المخروص ليفرقه بنفسه على فقراء أهله وجيرانه لطمعهم في ذلك منه. (و) المشهور (أنه يكفي خارص) واحد كالحاكم، لأنه
يجتهد ويعمل باجتهاده، ولأنه (ص) كان يبعث عبد الله بن رواحة خارصا أول ما تطيب الثمرة رواه أبو داود
بإسناد حسن، والثاني: يشترط اثنان كالتقويم والشهادة، وقطع بعضهم بالأول. (وشرطه) أي الخارص واحدا كان أو اثنين:
(العدالة) في الرواية، لأن الفاسق لا يقبل قوله، ولا بد أن يكون عالما بالخرص لأنه اجتهاد، والجاهل بالشئ ليس من أهل
الاجتهاد فيه. (وكذا) شرطه (الحرية والذكورة في الأصح) لأن الخرص ولاية، وليس الرقيق والمرأة من أهلها، والثاني:
لا يشترطان كما في الكيال والوزان. ولو اختلف خارصان توقفنا حتى يتبين المقدار منهما أو من غيرهما، نقله في زيادة
الروضة عن الدارمي، ثم قال: وهو ظاهر. (فإذا خرص فالأظهر أن حق الفقراء ينقطع من عين الثمر ويصير في ذمة المالك
التمر والزبيب ليخرجهما بعد جفافه) إن لم يتلف قبل التمكن بلا تفريط، لأن الخرص يبيح له التصرف في الجميع كما سيأتي،
وذلك يدل على انقطاع حقهم عنه. والثاني: لا ينتقل حقهم إلى ذمته بل يبقى متعلقا بالعين كما كان لأنه ظن وتخمين فلا يؤثر
في نقل حق إلى الذمة. وفائدة الخرص على هذا جواز التصرف في غير قدر الزكاة، ويسمى هذا قول العبرة، أي
لاعتباره القدر، والأول قول التضمين. أما إذا تلف قبل التمكن بآفة أو سرقة من الشجر أو من الجرين قبل
الجفاف بلا تفريط فلا شئ عليه كما سيأتي. (ويشترط) في الانقطاع والصيرورة المذكورين (التصريح) من الخارص أو
من يقوم مقامه (بتضمينه) أي حق المستحقين للمالك، كأن يقول الساعي: ضمنتك نصيب المستحقين من الرطب أو
العنب بكذا تمرا أو زبيبا. (وقبول المالك) التضمين (على المذهب) بناء على الأظهر لأن الحق ينتقل من العين إلى الذمة
فلا بد من رضاهما كالبائع والمشتري، فإن لم يضمنه أو ضمنه فلم يقبله المالك بقي حق الفقراء كما كان والمضمن هو
الساعي أو الامام. وتقييده القبول بالمالك ربما يخرج الولي ونحوه، وليس مرادا. (وقيل ينقطع) حقهم (بنفس الخرص)
لأن التضمين لم يرد في الحديث. وليس هذا التضمين على حقيقة الضمان، لأنه لو تلفت الثمار جميعها بآفة سماوية أو
سرقت من الشجر أو الجرين قبل الجفاف بلا تفريط فلا شئ عليه قطعا لفوات الامكان، وإن تلف بعض الثمار
387

فإن كان الباقي نصابا زكاه، وإن كان دونه بنى على أن الامكان شرط للوجوب أو للضمان وسيأتي. فإن قلنا بالأول فلا
شئ عليه وإلا زكى الباقي بحصته. (فإذا ضمن) أي المالك (جاز تصرفه في جميع المخروص بيعا وغيره) لانقطاع التعلق عن
العين. وقد يفهم كلام المصنف أنه يمتنع عليه التصرف قبل التضمين في جميع المخروص لا بعضه، وهو كذلك، فينفذ
تصرفه فيما عدا الواجب شائعا لبقاء الحق في العين لا معينا فلا يجوز له أكل شئ منه، فإن لم يبعث الحاكم خارصا أو لم
يكن حاكم تحاكم إلى عدلين عالمين بالخرص يخرصان عليه لينتقل الحق إلى الذمة ويتصرف في الثمرة. واستشكل الأذرعي
إطلاقهم جواز التصرف بالبيع وغيره بعد التضمين إذا كان المالك معسرا ويعلم أنه يصرف الثمرة كلها في دينه أو يأكلها
عياله قبل الجفاف ويضيع حق المستحقين ولا ينفعهم كونه في ذمته الخربة. (ولو ادعى) المالك (هلاك المخروص) كله
أو بعضه، (بسبب خفي كسرقة) أو مطلقا كما قاله الرافعي، فهما من كلامهم. (أو ظاهر عرف) أي اشتهر بين الناس كحريق
أو برد أو نهب دون عمومه، أو عرف عمومه ولكن اتهم في هلاك الثمر به. (صدق بيمينه) في دعوى التلف بذلك السبب،
فإن عرف السبب الظاهر وعمومه ولم يتهم صدق بلا يمين.
تنبيه: اليمين هنا وفيما سيأتي من مسائل الفصل مستحبة على الأصح، وجعله السرقة من أمثلة الهلاك جرى على الغالب
لأن المسروق قد يكون باقيا، فلو عبر بالضائع بدل الهلاك لكان أولى. (فإن لم يعرف الظاهر طولب ببينة) على وقوعه
(على الصحيح) لسهولة إقامتها، (ثم) بعد إقامتها (يصدق بيمينه في الهلاك به) أي بذلك السبب لاحتمال سلامة ماله بخصوصه،
والثاني: يصدق بيمينه بلا بينة لأنه مؤتمن شرعا. ولو ادعى تلفه بحريق وقع في الجرين مثلا وعلمنا أنه لم يقع في الجرين حريق
لم يبال بكلامه. (ولو ادعى حيف الخارص) فيما خرصه، أي إخباره عمدا بزيادة على ما عنده قليلة كانت أو كثيرة. (أو
غلطه) فيه (بما يبعد) أي لا يقع عادة من أهل المعرفة بالخرص كالربع، (لم يقبل) إلا ببينة، أما في الأولى فقياسا على دعوى
الجور على الحاكم أو الكذب على الشاهد، وأما في الثانية فللعلم ببطلانه عادة. نعم يحط عنه القدر المحتمل وهو الذي لو
اقتصر عليه لقبل، ولو لم يدع غلط الخارص وقال لم أجد إلا هذا فإنه يصدق إذ لا تكذيب فيه لاحد لاحتمال تلفه،
قاله الماوردي وغيره.
فائدة: يقال: غلط في منطقه، وغلت بالمثناة في الحساب. (أو) ادعى غلطه (بمحتمل) بفتح الميم بعد تلف المخروص
وبين قدره، وكان مقدارا يقع عادة بين الكيلين كوسق في مائة، (قبل في الأصح) وحط عنه ما ادعاه، لأنه أمين فوجب
الرجوع إليه في دعوى نقصه عند كيله، لأن الكيل يقين والخرص تخمين فالإحالة عليه أولى. والثاني: لا يحط، لاحتمال أن
النقصان في كيله له ولعله يوفي لو كاله ثانيا، فإن كان المخروص باقيا أعيد كيله، فإن كان أكثر مما يقع بين الكيلين مما
هو محتمل أيضا كخمسة أوسق من مائة، قال البندنيجي: وكعشر الثمرة وسدسها قبل قوله، وحط عند ذلك القدر بلا
خلاف، فإن اتهم في دعواه بما ذكر حلف، ولو ادعى غلطه ولم يبين قدرا لم تسمع دعواه.
خاتمة: قال الماوردي: يستحب أن يكون الجداد نهارا ليطعم الفقراء، وقد ورد النهي عن الجداد ليلا سواء أوجبت
في المجدود الزكاة أم لا. وإذا أخرج زكاة الثمار والحبوب وأقامت عنده سنين لم يجب فيها شئ آخر بخلاف الماشية والذهب
والفضة، لأن الله تعالى علق وجوب الزكاة بحصادها ولم يتكرر فلا تتكرر الزكاة، لأنها إنما تكرر في الأموال النامية، وهذه
منقطعة النماء متعرضة للفساد. وتؤخذ الزكاة ولو كانت الأرض خراجية، والخراج المأخوذ ظلما لا يقوم مقام العشر،
فإن أخذه السلطان على أن يكون بدل العشر فهو كأخذ القيمة بالاجتهاد فيسقط به الفرض في الأصح. والنواحي التي
يؤخذ منها الخراج ولا يعلم حالها يستدام الاخذ منها فإنه يجوز أن يكون صنع بها كما صنع عمر رضي الله تعالى عنه
في خراج السواد.
388

باب زكاة النقد
وهو ضد العرض والدين. قاله القاضي عياض: فيشمل المضروب وغيره، وبهذا يندفع اعتراض الأسنوي بأن
النقد هو المضروب من الذهب والفضة خاصة، فلو عبر المصنف بهما كما عبر في الروضة لكان أولى. وقال الأزهري:
الناض من المال ما كان نقدا وهو ضد العرض، ويندفع بهذا اعتراض المصنف على التنبيه بأن الناض هو الدراهم
والدنانير خاصة، وأنه كان ينبغي أن يقول الذهب والفضة. وأصل النقد لغة الاعطاء. ثم أطلق النقد على المنقود من باب
إطلاق المصدر على اسم المفعول، والأصل في الباب قبل الاجماع مع ما يأتي قوله تعالى: * (والذين يكنزون الذهب والفضة) *
والكنز هو الذي لم تؤد زكاته. (نصاب الفضة مائتا درهم، و) نصاب (الذهب عشرون مثقالا) بالاجماع، (بوزن مكة)
لقوله (ص): المكيال مكيال المدينة والوزن وزن مكة رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح. وسواء المضروب منهما
وغيره. وهذا المقدار تحديد، فلو نقص في ميزان وتم في آخر فلا زكاة على الأصح للشك في النصاب. وقدم الفضة على
الذهب لأنها أغلب. والمثقال لم يتغير جاهلية ولا إسلاما، وهو اثنان وسبعون حبة، وهي شعيرة معتدلة لم تقشر وقطع من
طرفيها ما دق وطال. والمراد بالدراهم الدراهم الاسلامية التي كل عشرة منها سبعة مثاقيل، وكل عشرة مثاقيل أربعة عشر
درهما وسبعان، وكانت في الجاهلية مختلفة، ثم ضربت في زمان عمر وقيل عبد الملك على هذا الوزن، وأجمع المسلمون
عليه. ووزن الدرهم ستة دوانق، والدانق ثمان حبات وخمسا حبة، فالدرهم خمسون حبة وخمسا حبة، ومتى زيد
على الدرهم ثلاثة أسباعه كان مثقالا، ومتى نقص من المثقال ثلاثة أعشاره كان درهما، لأن المثقال عشرة أسباع، فإذا
نقص منها ثلاثة بقي درهم.
فائدة: كل دراهم أخذ نصفها وخمسها كان المأخوذ مثاقيل، وكذا لو أخذ خمسها ونصف خمسها كان الباقي
مثاقيل، وكل مثاقيل ضربت في عشرة وقسمت على سبعة خرجت دراهم. (وزكاتهما) أي الذهب والفضة (ربع
عشر) في النصاب، لما روى الشيخان أنه (ص) قال: ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة. وروى البخاري:
وفي الرقة ربع العشر والرقة والورق: الفضة، والهاء عوض من الواو. والأوقية بضم الهمزة وتشديد الياء على الأشهر
أربعون درهما بالنصوص المشهورة والاجماع، قاله في المجموع، قال: وروى أبو داود وغيره بإسناد صحيح أو حسن عن علي
عن النبي (ص) أنه قال: ليس في أقل من عشرين دينارا شئ وفي عشرين نصف دينار وروى أبو داود والبيهقي
بإسناد جيد: ليس عليك شئ حتى يكون عشرون دينارا، فإذا كانت لك وحال عليها الحول ففيها نصف دينار. والمعنى
في ذلك أن الذهب والفضة معدان للنماء كالماشية السائمة، وهما من أشرف نعم الله تعالى على عباده إذ بهما
قوام الدنيا
ونظام أحوال الخلق، فإن حاجات الناس كثيرة وكلها تنقضي بهما بخلاف غيرهما من الأموال، فمن كنزهما فقد أبطل
الحكمة التي خلقها لها كمن حبس قاضي البلد ومنعه أن يقضي حوائج الناس. ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه كما
صرح به في المحرر، والفرق بينه وبين المواشي ضرر المشاركة. ولا يكمل نصاب أحدهما بالآخر لاختلاف الجنس كما لا يكمل
التمر بالزبيب، ويكمل الجيد بالردئ من الجنس الواحد وعكسه كما في الماشية. والمراد بالجودة النعومة وبالرداءة الخشونة
ونحوها. ويؤخذ من كل نوع بالقسط إن سهل الاخذ بأن قلت أنواعه، فإن كثرت وشق اعتبار الجميع أخذا من الوسط
كما في المعشرات. ولا يجزئ ردئ عن جيد ولا مكسر عن صحيح كما لو أخرج مريضة عن صحاح، قالوا: ويجوز عكسه،
بل هو أفضل لأنه زاد خيرا، فيسلم مخرج الدينار الصحيح أو الجيد إلى من يوكله الفقراء منهم أو من غيرهم. قال في المجموع:
وإن لزمه نصف دينار سلم إليهم دينارا نصفه عن الزكاة ونصفه يبقى له معهم أمانة ثم يتفاصل هو وهم فيه بأن يبيعوه لأجنبي
ويتقاسموا ثمنه أو يشتروا منه نصفه أو يشتري نصفهم، لكن يكره له شراء صدقته ممن تصدق عليه سواء فيه الزكاة وصدقة
389

التطوع. (ولا شئ في المغشوش) أي المخلوط بما هو أدون منه كذهب بفضة وفضة بنحاس. (حتى يبلغ خالصه نصابا) للأحاديث
السابقة، فإذا بلغه أخرج الواجب خالصا أو مغشوشا خالصه قدر الواجب، وكان متطوعا بالنحاس. فما قيل إن هذا ظاهر على
القول بأن القسمة إفراز لا على القول بأنها بيع لامتناع بيع المغشوش بمثله مردود بأن ذلك ليس قسمة بيع بمغشوش، لأنه في
الحقيقة إنما أعطى للزكاة خالصا عن خالص والنحاس وقع تطوعا كما تقرر، لكن المتجه كما قال الأسنوي أنه يتعين على
ولي المحجور عليه إخراج الخالص حفظا للنحاس إذا كانت مؤنة السبك تنقص عن قيمة الغش. ولو أخرج رديئا عن جيد كأن
أخرج خمسة معيبة عن مائتين جيدة فله استرداده إن بين ذلك عند الدفع أنه عن ذلك المال، كما لو عجل الزكاة فتلف ما له قبل
الحول وإلا فلا يسترده. ويكره للامام ضرب المغشوش لخبر الصحيحين: من غشنا فليس منا، ولئلا يغش بها
بعض الناس بعضا، فإن علم معيارها صحت المعاملة بها معينة، وفي الذمة اتفاقا. وإن كان مجهولا ففيه أربعة
أوجه: أحدها
الصحة مطلقا كبيع الغالية والمعجونات، ولان المقصود رواجها وهي رائجة ولحاجة المعاملة بها. والثاني: لا يصح مطلقا،
كاللبن المخلوط بالماء. والثالث: إن كان الغش مغلوبا صح التعامل بها وإن كان غالبا لم يصح. والرابع: يصح التعامل بها
في العين دون الذمة، ولو كان الغش قليلا بحيث لا يأخذ حظا من الوزن فوجوده كعدمه. ويكره لغير الامام ضرب الدراهم
والدنانير ولو خالصة، لأنه من شأن الامام، ولان فيه افتياتا عليه. ومن ملك دراهم مغشوشة كره له إمساكها، بل
يسبكها ويصفيها، قال القاضي أبو الطيب إلا إن كانت دراهم البلد مغشوشة فلا يكره امساكها ذكره في المجموع ولو
اختلط إناء منهما) أي من الذهب والفضة بأن أذيبا وصيغ منهما الاناء، كأن كان وزنه ألف درهم أحدهما ستمائة والآخر
أربعمائة، (وجهل أكثرهما زكي) كل منهما بفرضه، (الأكثر ذهبا أو فضة) احتياطا إن كان رشيدا. أما غيره
فيتعين التمييز لأنه الأحوط له. ولا يجوز فرض كله ذهبا، لأن أحد الجنسين لا يجزئ عن الآخر وإن كان أعلى منه
كما مر. (أو ميز) بينهما بالنار، ويحصل ذلك بسبق قدر يسير إذا تساوت أجزاؤه، قاله في البسيط. أو امتحن بالماء فيضع
ماء في قصعة مثلا ثم يضع فيه ألفا ذهبا ويعلم ارتفاعه ثم يخرجها ثم يضع فيها ألفا فضة ويعلمه، وهذه العلامة فوق الأولى لأن
الفضة أكثر حجما من الذهب، فيزيد ارتفاع الماء بسبب ذلك، ثم يخرجها ثم يضع فيه المخلوط فإلى أيهما كان ارتفاعه أقرب
فالأكثر منه، ويكتفي بوضع المخلوط أولا وآخرا ووسطا. قال الأسنوي: وأسهل من هذا وأضبط أن تضع في الماء قدر
المخلوط منهما معا مرتين في أحدهما الأكثر ذهبا والأقل فضة، وفي الثانية بالعكس، وتعلم في كل منهما علامة، ثم
تضع المخلوط فيلحق بما وصل إليه. قال: والطريق الأول يأتي أيضا في مختلط جهل وزنه بالكلية كما قاله الفوراني، فإنك
إذا وضعت المختلط المذكور تكون علامته بين علامتي الخالص، فإن كانت نسبته إليهما سواء فنصفه ذهب ونصفه فضة،
وإن كان بينه وبين علامة الذهب شعيرتان وبينه وبين علامة الفضة شعيرة فثلثاه فضة وثلثه ذهب، أو بالعكس فبالعكس،
ومؤنة السبك على المالك. قال الرافعي: وإذا تعذر الامتحان وعسر التمييز بفقد آلات السبك أو يحتاج فيه إلى زمان
صالح وجب الاحتياط، فإن الزكاة واجبة على الفور فلا يجوز تأخيرها مع وجود المستحقين، ذكره في النهاية، ولا
يبعد أن يجعل السبك أو ما في معناه من شروط الامكان اه‍. ولا يعتمد المالك في معرفة الأكثر غلبة ظنه ولو تولى
إخراجها بنفسه، ويصدق فيه إن خبر عن علم. ولو ملك نصابا نصفه في يده وباقيه مغصوب أو دين مؤجل زكى الذي
في يده في الحال بناء على أن الامكان شرط للضمان لا للوجوب، لأن الميسور لا يسقط بالمعسور. (ويزكى المحرم) من
الذهب والفضة، (من حلى) بضم الحاء وكسر اللام وتشديد الياء جمع حلي بفتح الحاء وسكون اللام. (و) من (غيره)
كالأواني بالاجماع، وكذا المكروه كالضبة الكبيرة للحاجة والصغيرة للزينة. (لا) الحلي (المباح في الأظهر) كخلخال
لامرأة لأنه معد لاستعمال مباح فأشبه العوامل من النعم، والثاني: يزكى، لأن زكاة النقد تناط بجوهره. ورد بأن زكاته
إنما تناط بالاستغناء عن الانتفاع به لا بجوهره إذ لا غرض في ذاته، ويستثنى من إطلاقه أنه لا زكاة في الحلي المباح ما لو
390

مات عن حلي مباح، ولم يعلم به وارثه إلا بعد الحول فإنه تجب زكاته، لأن الوارث لم ينو إمساكه لاستعمال مباح، ذكره
الروياني، ثم ذكر عن والده احتمال وجه فيه إقامة نية مورثه مقام نيته. واستشكل الأول بالحلي الذي اتخذه بلا قصد
شئ بأنه لا زكاة فيه كما سيأتي. وأجيب بأن في تلك اتخاذا دون هذه. (فمن المحرم الاناء) من الذهب والفضة للذكر
وغيره كما مر في الأواني، وهو محرم لعينه، ومنه الميل للمرأة وغيرها فيحرم عليها. نعم لو اتخذ شخص ميلا من ذهب
أو فضة لجلاء عينه فهو مباح كما مر في الكلام على الأواني، ولا زكاة فيه على الأظهر. (والسوار) بكسر السين ويجوز
بضمها، (والخلخال) بفتح الخاء، (للبس الرجل) بأن يقصده باتخاذهما فهما محرمان بالقصد، والخنثى في حلي النساء
كالرجل، وفي حلي الرجال كالمرأة، احتياطا للشك في إباحته. (فلو اتخذ) الرجل (سوارا) مثلا (بلا قصد) لا للبس
ولا لغيره، (أو بقصد إجارته لمن له استعماله) بلا كراهة، (فلا زكاة) فيه (في الأصح) لانتفاء القصد
المحرم والمكروه،
والثاني: ينظر في الأولى إلى أنه ليس له لبسه، وفي الثانية إلى أنه معد للماء. أما لو اتخذه لبعيره لمن له لبسه فلا زكاة
جزما. وخرج بقول المصنف بلا قصد ما إذا قصد اتخاذه كنزا، فإن الصحيح وجوب الزكاة فيه. ولو قصد باتخاذه
مباحا ثم غيره إلى محرم أو بالعكس تغير الحكم كما جزم به في المجموع. (وكذا لو انكسر الحلي) المباح للاستعمال
بحيث يمنع الاستعمال، (وقصد إصلاحه) وأمكن بلا صوغ فلا زكاة أيضا على الأصح وإن دام أحوالا لدوام صورة
الحلي وقصد إصلاحه، والثاني: يجب فيه الزكاة لتعذر استعماله. وخرج بقوله وقصد إصلاحه ما إذا لم يقصده بأن قصد
جعله تبرا أو دراهم أو كنزه أو لم يقصد شيئا، وبقولي وأمكن بلا صوغ ما لو أحوج انكساره إلى صوغ فإن زكاته تجب
وينعقد حوله من حين انكساره، لأنه غير مستعمل ولا معد للاستعمال، ولو كان الانكسار لا يمنع الاستعمال فلا أثر له.
تنبيه: حيث أوجبنا الزكاة في الحلي واختلفت قيمته ووزنه فالعبرة بقيمته لا وزنه بخلاف المحرم لعينه كالأواني
فالعبرة بوزنه لا قيمته، فلو كان له حلي وزنه مائتا درهم وقيمته ثلاثمائة تخير بين أن يخرج ربع عشرة مشاعا ثم يبيعه
الساعي بغير جنسه ويفرق ثمنه على المستحقين، أو يخرج خمسة مصوغة قيمتها سبعة ونصف نقدا، ولا يجوز كسره
ليعطي منه خمسة مكسرة لأن فيه ضررا عليه وعلى المستحقين، أو كان له إناء كذلك تخير بين أن يخرج خمسة من غيره
أو يكسره ويخرج خمسة أو يخرج ربع عشره مشاعا. (ويحرم على الرجل حلي الذهب) ولو في آلة الحرب، لما رواه
الترمذي وصححه أنه (ص) قال: أحل الذهب والحرير لإناث أمتي وحرم على ذكورها. (إلا الانف) إذا جدع
فإنه يجوز أن يتخذ من الذهب وإن أمكن اتخاذه من فضة، لأن عرفجة بن أنس قطع أسعد يون الكلاب بضم الكاف
اسم للمكان الذي كانت الوقعة عنده في الجاهلية فاتخذ له أنفا من فضة فأنتن عليه، فأمره (ص) أن يتخذه
من ذهب، رواه الترمذي وصححه ابن حبان والحكمة في الذهب أنه لا يصدأ إذا كان خالصا بخلاف الفضة. (و)
إلا (الأنملة) فإنه يجوز اتخاذها لمن قطعت منه ولو لكل أصبع من الذهب قياسا على الانف. قال الأذرعي: ويجب
أن يقيد ذلك بما إذا كان ما تحت الأنملة سليما دون ما إذا كان أشل كما أرشد إليه تعليلهم بالعمل اه‍. وهو تقييد حسن،
وعليه ينبغي أن يكون في غير الأنملة السفلى. ثم رأيت الغزي قال: وينبغي أن يقال: الأنملة السفلى كالإصبع في المنع
لأنها لا تتحرك اه‍.
فائدة: في الأنملة تسع لغات: تثليث همزتها مع تثليث الميم، وأفصحها فتح الهمزة وضم الميم، قال جمهور أهل
اللغة: الأنامل أطراف الأصابع، أي من اليدين والرجلين، وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وأصحابه: في كل أصبع
غير الابهام ثلاث أنامل. (و) إلا (السن) فإنه يجوز لمن قلعت سنه اتخاذ سن قياسا على الانف وإن تعددت
391

كما هو ظاهر كلامهم، ويجوز أيضا شد السن به عند تحريكها. ولا زكاة فيما ذكر وإن أمكن نزعه ورده كما هو قضية
كلام الماوردي. وكل ما جاز من الذهب فهو بالفضة أولى. (لا الإصبع) فلا يجوز اتخاذها من الذهب ولا من الفضة
لأنها لا تعمل فتكون لمجرد الزينة، ولا أنملتين منه لذلك بخلاف الأنملة والسن فإنه يمكن تحريكهما، ويحرم اتخاذ اليد
بطريق الأولى. (ويحرم سن الخاتم) من الذهب اتخاذا واستعمالا على الرجل، وهي الشعبة التي يستمسك بها الفص.
(على الصحيح) لعموم أدلة التحريم، ومقابله احتمال للامام فقال: لا يبعد تشبيه القليل منه بالضبة الصغيرة في الاناء.
وفرق الرافعي بأن الخاتم ألزم للشخص من الاناء واستعماله أدوم. نعم إن صدأ بحيث لا يبين جاز استعماله، نقله في المجموع.
وأجيب عن قول القاضي بأن الذهب لا يصدأ بأن منه نوعا يصدأ وهو ما يخالطه غيره. وأجيب عن قول الأذرعي الصحيح
التحريم، لأن علة التحريم العين لا الخيلاء، بأن علة التحريم العين بشرط الخيلاء، فالصحيح عدم التحريم. (ويحل له)
أي الرجل ومثله الخنثى بل أولى، (من الفضة الخاتم) بالاجماع، ولأنه (ص) اتخذ خاتما من فضة رواه الشيخان، بل لبسه
سنة، سواء أكان في اليمين أم في اليسار، لكن اليمين أفضل على الصحيح في باب اللباس من الروضة، وقيل: اليسار أفضل لأن
اليمين صار شعارا للروافض، والسنة أن يجعل فص الخاتم مما يلي كفه كما صرح به الرافعي في الوديعة لثبوته في الصحيح.
ولا يكره للمرأة لبس خاتم الفضة خلافا للخطابي، قاله في المجموع. ولم يتعرض الأصحاب لمقدار الخاتم
المباح ولعلهم اكتفوا
فيه بالعرف أي وهو عرف تلك البلد وعادة أمثاله فيها، فما خرج عن ذلك كان إسرافا كما قالوه في خلخال المرأة.
هذا هو المعتمد وإن قال الأذرعي الصواب ضبطه بدون مثقال لما في صحيح ابن حبان وسنن أبي داود عن أبي هريرة
أن النبي (ص) قال للابس الخاتم الحديد: ما لي أرى عليك حلية أهل النار؟ فطرحه، فقال: يا رسول الله من أي شئ
أتخذه؟ قال: اتخذه من ورق ولا تتمه مثقالا، قال: وليس في كلامهم ما يخالفه اه‍. وهذا لا ينافي ما ذكر لاحتمال أن ذلك
كان عرف بلده وعادة أمثاله، وتوحيد المصنف رحمه الله الخاتم وجمع ما بعده قد يشعر بامتناع التعدد اتخاذا ولبسا،
وهو خلاف ما في المحرر فإنه عبر بقوله: ويجوز التختم بالفضة للرجال. وفي الروضة وأصلها: ولو اتخذ الرجل خواتيم
كثيرة ليلبس الواحد منها بعد الواحد جاز. فظاهره الجواز في الاتخاذ دون اللبس، وفيه خلاف منتشر، والذي ينبغي
اعتماده فيه ما أفاده شيخي من أنه جائز ما لم يؤد إلى سرف. ولو تختم الرجل في غير الخنصر ففي حله وجهان أصحهما في شرح
مسلم الحل مع كراهة التنزيه. (و) يحل للرجل من الفضة (حلية آلات الحرب كالسيف) وأطراف السهام والدرع والخوذة
(والرمح والمنطقة) بكسر الميم، ما يشد بها الوسط والترس، والخف وسكين الحرب، لأن في ذلك إرهابا للكفار، وقد ثبت
أن قبيعة سيفه (ص) كانت من فضة، وأن نعل سيفه كان من فضة، والقبيعة بفتح القاف وكسر الباء الموحدة: هي
التي تكون على رأس قائم السيف، ونعل السيف: ما يكون في أسفل غمده من حديد أو فضة ونحوهما، ولأنه (ص):
دخل مكة يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة رواه الترمذي وحسنه، لكن خالفه ابن القطان فضعفه، وهو
الموافق لجزم الأصحاب بتحريم تحلية ذلك بالذهب. وأما سكين المهنة أو المقلمة فيحرم تحليتها على الرجل وغيره كما يحرم عليهما
تحلية المرآة والدواة. (لا ما لا يلبسه كالسرج واللجام) ونحوهما مما هو منسوب إلى الفرس كالركاب والقلادة والثغر وبرة
الناقة وأطراف السيور (في الأصح) المنصوص، لأن ذلك غير ملبوس للراكب، فهو كالأواني، وكذا يحرم تحلية
المقراض ونحوه لما ذكر. والثاني: يجوز كالسيف، وصححه ابن عبد السلام. قال في الذخائر: ولا يجوز
تحلية لجام البغل
والحمار وسرجهما وجها واحدا لأنهما لا يعدان للحرب، ولا يحل له تحلية شئ مما ذكر بالذهب جزما لما فيه من زيادة
الخيلاء. ومحل الخلاف في المقاتل، أما غيره فيحرم عليه ذلك جزما. وظاهر كلامهم أنه لا فرق في تحلية آلة الحرب
بين المجاهد وغيره، وهو كذلك، لأنه بسبيل من أن يجاهد. (وليس للمرأة حلية آلة الحرب) بذهب ولا فضة وإن جاز
لهن المحاربة بآلتها، لما في ذلك من التشبيه بالرجال، وهو حرام كعكسه، للخبر الصحيح: لعن الله المتشبهين بالنساء
392

من الرجال والمتشبهات من النساء بالرجال واللعن لا يكون على مكروه. وليس قول الشافعي في الام: ولا أكره للرجل
لبس اللؤلؤ إلا للأدب وإنه من زي النساء لا للتحريم مخالفا لهذا، لأن مراده أنه من جنس زي النساء لا أنه زي لبس
يختص بهن. فإن قيل: إذا جاز للنساء المحاربة بآلتها غير محلاة جاز مع التحلية، لأن التحلي أجوز لهن من الرجال. أجيب
بأنه إنما جاز لهن لبس آلة الحرب للضرورة، ولا ضرورة ولا حاجة إلى التحلية، ومثل المرأة الخنثى احتياطا. (ولها
لبس أنواع حلي الذهب والفضة) بالاجماع للحديث السابق، كالسوار والطوق والخاتم والحلق في الآذان والأصابع والتاج
وإن لم يتعودنه كما صوبه في المجموع في باب اللباس والنعل. ولو تقلدت المرأة الدراهم والدنانير المثقوبة بأن جعلتها في
قلادتها زكيت بناء على تحريمها، وهو المعتمد كما في الروضة، وإن خالف في المجموع في باب اللباس فقد وافقها في موضع
آخر. ويحمل ما في اللباس على المعراة وهي التي جعل لها عرا وجعلت في القلادة فإنها لا زكاة فيها. (وكذا ما نسج
بهما) من الثياب لها لبسه (في الأصح) لعموم الأدلة، ولان ذلك من جنس الحلي، والثاني: لا، لزيادة السرف والخيلاء.
(والأصح تحريم المبالغة في السرف) في كل ما أبحناه، (كخلخال) للمرأة (وزنه مائتا دينار) لأن المباح ما يتزين به ولا زينة
في مثل ذلك، بل تنفر منه النفس لاستبشاعه. ويؤخذ من هذا التعليل إباحة ما تتخذه من النساء في هذا الزمان من العصائب
الذهب وإن كثر ذهبها، لأن النفس لا تنفر منه ولا تستبشع، بل هو في غاية الزينة. والثاني: لا يحرم، كما لا يحرم اتخاذ أساور
وخلاخل لتلبس الواحد منها بعد الواحد، ويأتي في لبس ذلك معا ما مر في لبس الخواتيم للرجل. وخرج بتقييده السرف
تبعا للمحرر بالمبالغة ما إذا أسرفت ولم تبالغ فإنه لا يحرم، لكنه يكره، فتجب فيه الزكاة كما يؤخذ من كلام ابن العماد.
وفارق ما سيأتي في آلة الحرب حيث لم يعتبر فيه عدم المبالغة بأن الأصل في الذهب والفضة جلهما للمرأة بخلافهما لغيرها
فاغتفر لها قليل السرف. (وكذا) يحرم (إسرافه) أي الرجل (في آلة الحرب) في الأصح، وإن لم يبالغ فيه لما مر من الفرق.
ولو اتخذ آلات كثيرة للحرب محلاة جاز كما مر في اتخاذ الخواتيم للرجل.
فائدة: السرف: مجاوزة الحد، ويقال في النفقة التبذير، وهو الانفاق في غير حق المسرف المنفق في معصية وإن قل
إنفاقه، وغيره المنفق في الطاعة وإن أفرط، قال ابن عباس: ليس في الحلال إسراف، وإنما السرف في ارتكاب المعاصي.
قال الحسن بن سهل: لا سرف في الخير كما لا خير في السرف. وقال سفيان الثوري: الحلان لا يحتمل السرف. وقال
عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته: ما نفقتك؟ قال: الحسنة بين السيئتين، ثم تلا قوله تعالى: * (والذين
إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا) * الآية. (و) الأصح (جواز تحلية المصحف بفضة) للرجل والمرأة إكراما له، والثاني: لا يجوز
كالأواني. والخلاف قولان منصوصان، وقيل وجهان كما حكاه المصنف. (وكذا) يجوز (للمرأة) فقط (بذهب)
لعموم: أحل الذهب والحرير لإناث أمتي والثاني: يجوز لهما إكراما، والثالث: المنع لهما. والطفل في ذلك كله كالمرأة.
قال الزركشي: وينبغي أن يلحق بالمصحف في ذلك اللوح المعد لكتابة القرآن. ويحل تحلية غلاف المصحف المنفصل
عنه بالفضة للرجل والمرأة، وأما بالذهب قال في المجموع: فحرام بلا خلاف، نص عليه الشافعي والأصحاب، أي وإنما
لم يجز للمرأة ذلك لأنه ليس حلية للمصحف. قال الغزالي: ومن كتب المصحف بذهب فقد أحسن، ولا زكاة
عليه، وظاهره أنه لا فرق بين أن يكتب للرجال أو للنساء، وهو كذلك، وإن نازع في ذلك الأذرعي. واحترز المصنف
بتحلية المصحف عن تحلية الكتب فلا يجوز تحليتها على المشهور، قال في الذخائر: سواء فيه كتب الحديث وغيرها.
ولو حلى المساجد أو الكعبة أو قناديلها بذهب أو فضة حرم لأنها ليست في معنى المصحف، ولان ذلك لم ينقل
عن السلف،
فهو بدعة وكل بدعة ضلالة إلا ما استثني بخلاف كسوة الكعبة بالحرير فيزكى ذلك لا إن جعل وقفا على المسجد فلا يزكى
لعدم المالك المعين. وظاهر كما قال شيخنا أن محل صحة وقفه إذا حل استعماله بأن احتيج إليه، وإلا فوقف المحرم باطل،
393

وبذلك علم أن وقفه ليس على التحلي كما توهم فإنه باطل كالوقف على تزويق المسجد ونقشه لأنه إضاعة مال. وقضية
ما ذكر أنه مع صحة وقفه لا يجوز استعماله عند عدم الحاجة إليه، وبه صرح الأذرعي نقلا له عن العمراني عن أبي إسحاق.
(وشرط زكاة النقد الحول) لخبر أبي داود وغيره: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول نعم لو ملك نصابا ستة أشهر مثلا
ثم أقرضه إنسانا لم ينقطع الحول كما ذكره الرافعي في باب زكاة التجارة في أثناء تعليل وأسقطه من الروضة. (ولا زكاة في
سائر الجواهر كاللؤلؤ) والياقوت والزبرجد والفيروزج والمرجان لعدم ورودها في ذلك، ولأنها معدة للاستعمال
فأشبهت الماشية العاملة.
خاتمة: كل حلي لا يحل لاحد من الناس حكم صنعته كحكم صنعة الاناء فلا يضمنه كاسره على الأصح، بخلاف
ما يحل لبعض الناس لا يكسر لامكان الانتفاع به، ولو كسره أحد ضمنه. ولا يجوز تثقيب الآذان للقرط وإن أبيح القرط
لأنه تعذيب بلا فائدة، ووجب القصاص على المثقب إن وجدت شروطه كما قاله في الأنوار. ويجوز ستر الكعبة بالحرير
لفعل السلف والخلف له تعظيما لها بخلاف ستر غيرها به، وأخذ بعض المتأخرين من التعليل جواز ستر قبره (ص)
به، وينبغي اعتماده. قال ابن عبد السلام: ولا بأس بتزيين المسجد بالقناديل، أي من غير النقدين والشموع التي لا توقد
لأنه نوع احترام.
باب زكاة المعدن والركاز والتجارة
بدأ المصنف بأولها، وهو بفتح الميم وكسر الدال اسم للمكان الذي خلق الله تعالى فيه الجواهر من الذهب والفضة
والحديد والنحاس، سمي بذلك لعدونه، أي إقامته، يقال عدن إذا أقام فيه، ومنه: * (جنات عدن) * أي إقامة، ويسمى
المستخرج معدنا أيضا كما في الترجمة. والأصل في زكاته قبل الاجماع قوله تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا) * أي زكوا * (من
طيبات) * أي خيار * (ما كسبتم) * أي من المال * (ومن طيبات ما أخرجنا لكم من الأرض) * أي من الحبوب والثمار، وخبر الحاكم
في صحيحه أنه (ص) أخذ من المعادن القبلية الصدقة، وهي بفتح القاف والباء الموحدة: ناحية من قرية بين مكة والمدينة
يقال لها الفرع بضم الفاء وإسكان الراء. فقال: (من استخرج) وهو من أهل الزكاة (ذهبا أو فضة) لا غيرهما كياقوت وزبرجد
ونحاس وحديد، (من معدن) من أرض مباحة أو مملوكة له، (لزمه ربع عشره) لعموم الأدلة السابقة كخبر: وفي الرقة ربع
العشر ولا تجب عليه زكاته في المدة الماضية إذا وجده في ملكه لأنه لم يتحقق كونه ملكه من حين ملك الأرض لاحتمال كون
الموجود مما يخلق شيئا فشيئا، والأصل عدم وجوب الزكاة. (وفي قول) يلزمه (الخمس) كالركاز بجامع الخفاء في الأرض. (وفي
قول إن حصل بتعب) كأن احتاج إلى طحن أو معالجة بالنار أو حفر، (فربع عشره، وإلا) بأن حصل بلا تعب (فخمسه)
لأن الواجب يزداد بقلة المؤنة وينقص بكثرتها كالمعشرات. (ويشترط) لوجوب الزكاة فيه (النصاب) لأن ما دونه لا يحتمل
المواساة كما في سائر الأموال الزكوية، (لا الحول على المذهب فيهما) وقطع به، لأن الحول إنما يعتبر لأجل تكامل النماء،
والمستخرج من المعدن نماء في نفسه فأشبه الثمار والزروع. وقيل في اشتراط كل منهما قولان، وطريق الخلاف مفرع في
النصاب على وجوب الخمس لأنه مال يجب تخميسه فلا يعتبر فيه النصاب كالفئ والغنيمة، وفي الحول على وجوب ربع
العشر لعموم: لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول. وإنما عبر بالمذهب لأن الأصح القطع باشتراط النصاب وبعدم اشتراط
الحول. (ويضم بعضه) أي المستخرج (إلى بعض إن) اتحد المعدن، أي المخرج، (وتتابع العمل) كما يضم المتلاحق
394

من الثمار، ولا يشترط بقاء الأول على ملكه، ويشترط اتحاد المكان المستخرج منه فلو تعدد لم يضم تقاربا أو تباعدا،
لأن الغالب في اختلاف المكان استئناف عمل، هكذا علل به شيخي، وكذا في الركاز نقله في الكفاية عن النص. (
ولا يشترط) في الضم (اتصال النيل على الجديد) لأنه لا يحصل غالبا إلا متفرقا، والقديم إن طال زمن الانقطاع لم
يضم كما لو قطع العمل. (وإذا قطع العمل بعذر) كإصلاح الآلة وهرب الاجراء والمرض والسفر ثم عاد إليه، (ضم) وإن
طال الزمن عرفا، لأنه لا يعد بذلك معرضا لأنه عازم على العمل إذا ارتفع العذر. (وإلا) بأن قطع العمل بلا
عذر،
(فلا يضم) سواء أطال الزمن أم لا لاعراضه. ومعنى عدم الضم أنه لا يضم (الأول إلى الثاني) في إكمال النصاب،
(ويضم الثاني إلى الأول) إن كان باقيا، (كما يضمه إلى ما ملكه بغير المعدن) كإرث وهبة وغيرهما (في إكمال النصاب)
فإذا استخرج من الفضة خمسين درهما بالعمل الأول ومائة وخمسين بالثاني فلا زكاة في الخمسين، وتجب في المائة والخمسين
كما تجب فيها لو كان مالكا لخمسين من غير المعدن، وينعقد الحول على المائتين من حين تمامهما إذا أخرج حق المعدن من
غيرهما، ولو كان الأول نصابا ضم الثاني إليه قطعا. وتقييد المصنف بقوله في إكمال النصاب لا ترد عليه هذه الصورة
لأنها بالوجوب أولى مما صرح به.
تنبيه: خرج بقولنا: وهو من أهل الزكاة المكاتب فإنه يملك ما يأخذه من المعدن ولا زكاة عليه فيه، وأما ما يأخذه
العبد فلسيده فتلزمه زكاته. ويمنع الذمي من أخذ المعدن والركاز بدار الاسلام كما يمنع من الاحياء بها لأن الدار
للمسلمين وهو دخيل فيها، والمانع له الحاكم فقط وإن صرح الغزالي بأنه يجوز لكل مسلم، فإن أخذه قبل منعه ملكه
كما لو احتطب، ويفارق ما أحياه بتأبد ضرره، ولا يلزمه شئ بناء على أن مصرف حق المعدن مصرف الزكاة لا مصرف
الفئ وهو الأصح. ووقت وجوب حق المعدن حصول النيل في يده على المذهب، ووقت الاخراج عقب التخليص
والتنقية من التراب ونحوه، كما أن وقت الوجوب في الزرع اشتداد الحب، ووقت الاخراج التنقية، ويجبر على التنقية
كما في تنقية الحبوب ومؤنتها عليه كمؤنة الحصاد والدياس فلا يجزئ إخراج الواجب قبلها لفساد القبض، فإن قبضه الساعي
قبلها ضمن فيلزمه رده إن كان باقيا، وبدله إن كان تالفا، وصدق بيمينه في قدره إن اختلفا فيه قبل التلف أو بعده
لأن الأصل براءة ذمته، وإن تلف في يده قبل التمييز وغرمه. فإن كان تراب فضة قوم بذهب، أو تراب ذهب قوم بفضة،
والمراد بالتراب في الموضعين المعدن المخرج، فإن اختلفا في قيمته صدق الساعي بيمينه لأنه غارم. قال في المجموع: فإن
ميزه الساعي فإن كان قدر الواجب أجزأه وإلا رد التفاوت أو أخذه ولا شئ للساعي بعمله لأنه متبرع، ولو تلف بعضه
في يد المالك قبل التنقية والتمكن منها ومن الاخراج سقطت زكاته لا زكاة الباقي وإن نقص عن النصاب فتكلف
بعض
المال قبل التمكن ولو استخرج اثنان من معدن نصابا زكياه للخلطة. ثم شرع في ذكر ثاني ما في الترجمة، وسيأتي
تعريفه، فقال: (وفي الركاز الخمس) رواه الشيخان، وخالف المعدن من حيث أنه لا مؤنة في تحصيله، أو مؤنته قليلة،
فكثر واجبه كالمعشرات. (يصرف) أي الخمس وكذا المعدن (مصرف الزكاة على المشهور) لأنه حق واجب في المستفاد
من الأرض فأشبه الواجب في الثمار والزروع. ورجح في أصل الروضة والمجموع القطع به، وعليه يشترط كون الواجد
من أهل الزكاة، والثاني: أنه يصرف لأهل الخمس لأنه مال جاهلي حصل الظفر به من غير إيجاف خيل ولا ركاب فكان
كالفئ، فعلى هذا يجب على المكاتب والكافر ولا يحتاج إلى نية.
تنبيه: مصرف بكسر الراء محل الصرف وهو المراد هنا، وبفتحها مصدر. (وشرطه النصاب) ولو بالضم كما مر
(والنقد) أي الذهب والفضة المضروب وغيره كالسبائك، (على المذهب) لأنه مال مستفاد من الأرض فاختص بما
395

تجب فيه الزكاة قدرا ونوعا كالمعدن. والثاني: لا يشترطان لعموم قوله (ص): وفي الركاز الخمس. والطريق الثاني
القطع بالأول (لا الحول) فلا يشترط بلا خلاف وإن جرى في المعدن خلاف للمشقة فيه، (وهو) أي الركاز بمعنى المركوز
(الموجود الجاهلي) أي دفين الجاهلية، أو المراد بالجاهلية ما قبل الاسلام، أي قبل مبعث النبي (ص) كما صرح
به الشيخ أبو علي، سمي بذلك لكثرة جهالاتهم. ويعتبر في كون الدفين الجاهلي ركازا كما قاله أبو إسحاق المروزي، أن
لا يعلم أن مالكه بلغته الدعوة، فإن علم أنها بلغته وعاند ووجد في بنائه أو بلده متى أنشأها كنز فليس بركاز بل فئ،
حكاه في المجموع عن جماعة وأقره. ولم يبين المصنف هل المراد بالجاهلي ضربا أو دفنا. لكن قوله بعد: وكذا إن لم يعلم
من أي الضربين هو يدل على إرادته الأول. وعبارة الروضة: الركاز دفين الجاهلية، قيل: وهي أولى فإن الحكم منوط
بدفنهم، إذ لا يلزم من كونه على ضرب الجاهلية كونه دفين الجاهلية، لاحتمال أن مسلما عثر بكنز جاهلي فأخذه ثم دفنه،
كذا قالاه. وأجيب عنه بأن الأصل والظاهر عدم أخذ مسلم له ثم دفنه ثانيا، ولو قلنا به لم يكن لنا ركاز بالكلية.
قال
السبكي: والحق أنه لا يشترط العلم بكونه من دفنهم فإنه لا سبيل إليه، وإنما يكتفى بعلامة تدل عليه من ضرب أو غيره اه‍.
وهذا أولى. والتقييد بدفن الجاهلي يقتضي أن ما وجد في الصحارى من دفين الحربيين الذين عاصروا الاسلام لا يكون
ركازا بل فيئا. قال الأسنوي: يدل له كلام أبي إسحاق المروزي السابق. ويشترط في كونه ركازا أيضا أن يكون مدفونا،
فإن وجده ظاهرا فإن علم أن السيل أظهره فركاز، أو أنه كان ظاهرا فلقطة، وإن شك فكما لو شك في أنه ضرب الجاهلية
أو الاسلام، قاله الماوردي. (فإن وجد) دفين (إسلامي) كأن يكون عليه شئ من القرآن أو اسم ملك من ملوك الاسلام، (علم
مالكه فله) لا للواجد، فيجب رده على مالكه لأن مال المسلم لا يملك بالاستيلاء عليه. (وإلا) بأن لم يعلم مالكه (فلقطة)
يعرفه الواجد كما يعرف اللقطة الموجودة على وجه الأرض، (وكذا إن لم يعلم من أي الضربين) الجاهلي والاسلامي
(هو) بأن كان مما لا أثر عليه كالتبر والحلي والأواني، أو كان مثله يضرب في الجاهلية والاسلام فهو لقطة يفعل فيه
ما مر. (وإنما يملكه) أي الركاز (الواجد، وتلزمه الزكاة) فيه (إذا وجده في موات) سواء أكان بدار الاسلام
أم بدار الحرب وإن كانوا يذبون عنه، وسواء أحياه الواجد أم أقطعه أم لا، وكالموات ما وجد في قبورهم أو خرائبهم أو قلاعهم،
(أو) وجد في (ملك أحياه) لأنه ملك الركاز بإحياء الأرض. (فإن وجد) الركاز، (في مسجد أو شارع فلقطة على
المذهب) يفعل فيه ما مر، لأن يد المسلمين عليه وقد جهل مالكه فيكون لقطة، والثاني: أنه ركاز كالموات بجامع اشتراك
الناس في الثلاثة. (أو) وجد (في ملك شخص) أو في موقوف عليه، (فللشخص إن ادعاه) يأخذه بلا يمين كأمتعة
الدار، كذا قالاه. وقال ابن الرفعة والسبكي: الشرط أن لا ينفيه، قال الأسنوي: وهو الصواب كسائر ما بيده، والمعتمد
ما قالاه، ويفارق سائر ما بيده بأنها ظاهرة معلومة له غالبا بخلافه فاعتبر دعواه له، لاحتمال أن غيره دفنه. (وإلا) أي
وإن لم يدعه بأن نفاه أو سكت، (فلمن ملك منه) وتقوم ورثته مقامه بعد موته، فإن نفاه بعضهم سقط حقه وسلك
بالباقي ما ذكر. (وهكذا) يجرى ما تقرر (حتى ينتهي) الامر (إلى المحيي) للأرض فيكون له وإن لم يدعه لأنه
بإحياء الأرض ملك ما فيها ولا يدخل في البيع لأنه منقول فيسلم إليه ويؤخذ منه الخمس الذي لزمه يوم ملكه، وإذا
أخذناه منه ألزمناه زكاة الباقي للسنين الماضية كما في المغصوب والضال. فإن مات المحيي قام وارثه مقامه، فإن لم ينفه
بعضهم أعطي نصيبه منه وحفظ الباقي، فإن أيس من مالكه تصدق به الامام أو من هو في يده، ولو ادعاه اثنان وقد
وجد في ملك غيرهما فهو لمن صدقه المالك منهما فيسلم إليه. (ولو تنازعه) أي الركاز في الملك (بائع أو مشتر أو مكر ومكتر
396

أو معير ومستعير) بأن قال المشتري والمكتري والمستعير: هو لي وأنا دفنته، وقال البائع والمكري والمعير مثل ذلك، (صدق
ذو اليد) أي المشتري والمكتري والمستعير، (بيمينه) كما لو تنازعا في أمتعة الدار، هذا إذا أمكن صدقه ولو على بعد، فإن
لم يمكن لكون مثل ذلك لا يمكن دفنه في مدة يده لم يصدق. ولو وقع التنازع بعد عود الملك إلى البائع أو المكري أو
المعير، فإن قال كل منهم: دفنته بعد عود الملك إلي، صدق بيمينه إن أمكن ذلك، وإن قال: دفنته قبل خروجه من يدي،
صدق المشتري والمكتري والمستعير على الأصح، لأن المالك سلم له حصول الكنز في يده فيده تنسخ اليد السابقة.
ثم شرع في ذكر ثالث ما في الترجمة وترجم له بفصل فقال:
فصل: أي في زكاة التجارة، وهي تقليب المال بالمعاوضة لغرض الربح. والأصل في وجوبها قوله تعالى:
* (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم) * قال مجاهد: نزلت في التجارة، وقوله (ص): في الإبل صدقتها،
وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته رواه الحاكم بإسنادين صحيحين على شرط الشيخين عن أبي ذر.
والبز بفتح الباء الموحدة وبالزاي، يقال للثياب المعدة للبيع عند البزازين وعلى السلاح، قاله الجوهري. وزكاة العين
لا تجب في الثياب والسلاح، فتعين الحمل على زكاة التجارة. وعن سمرة: أنه (ص) كان يأمرنا أن نخرج الصدقة
من الذي يعد للبيع. قال ابن المنذر: وأجمع عامة أهل العلم على وجوبها. وأما خبر: ليس على المسلم في عبده ولا
فرسه صدقة فمحمول على ما ليس للتجارة. (شرط زكاة التجارة: الحول) قطعا (والنصاب) كذلك كغيرها
من
المواشي والناض، (معتبرا) أي النصاب (بآخر الحول) فقط، لأنه وقت الوجوب فلا يعتبر غيره لكثرة اضطراب القيم. (وفي
قول بطرفيه) أي أوله وآخره دون وسطه. أما الأول فليجري في الحول، وأما الآخر فلانه وقت الوجوب، ولا يعتبر ما
بينهما لأن تقويم العرض في كل لحظة يشق. (وفي قول بجميعه) كالنقد والمواشي، وفرق الأول بينهما بأن الاعتبار
هنا بالقيمة وتعسر مراعاتها كل وقت لاضطراب الأسعار ارتفاعا وانخفاضا، والأول منصوص والثاني والثالث مخرجان.
ومنهم من عبر عنها بالأوجه لأن المخرج يعبر عنه تارة بالقول وتارة بالوجه. (فعلى الأظهر) وهو اعتبار آخر الحول، (لو رد)
مال التجارة (إلى النقد) الذي يقوم به بأن بيع به (في خلال) أي أثناء (الحول وهو دون النصاب واشترى به
سلعة فالأصح أنه ينقطع الحول، ويبتدأ حولها من) وقت (شرائها) لتحقق نقصانها حسا بالتنضيض، والثاني:
لا ينقطع، كما لو بادل بها سلعة ناقصة عن النصاب، فإن الحول لا ينقطع لأن المبادلة معدودة من التجارة. وأشار المصنف
بالألف واللام في النقد إلى المعهود، وهو الذي يقوم به كما قدرته في كلامه، فلو باعه بدراهم والحال يقتضي التقويم
بدنانير أو بالعكس فهو كبيع سلعة بسلعة، والأصح أنه لا ينقطع. واحترز بقوله: وهو دون النصاب عما لو باعه بنقد
يقوم به وهو نصاب فحوله باق، وما ذكر من التفريع يأتي على القول الثاني والثالث أيضا من باب أولى. (ولو تم الحول
وقيمة العرض) بسكون الراء (دون النصاب) وليس معه ما يكمل به النصاب من جنس ما يقوم به، (فالأصح أنه
يبتدأ حول ويبطل) الحول (الأول) فلا تجب الزكاة حتى يتم حول ثان لأن الأول مضى فلا زكاة فيه، والثاني
لا ينقطع، بل متى بلغت قيمة العرض نصابا وجبت الزكاة ويبتدئ الحول الثاني وقتئذ، إذ يصدق عليه أن مال التجارة
قد أقام عنده حولا بل وزيادة وتم نصابا، فيقول العامل هنا كما قال الأخ الشقيق في المسألة الحمارية: هب أن أبانا كان
حمارا ألسنا من أم واحدة؟ أما إذا كان معه من أول الحول ما يكمل به النصاب، كما لو كان معه مائة درهم فابتاع
397

بخمسين منها عرضا للتجارة فبلغت قيمته في آخر الحول مائة وخمسين فإنه تلزمه زكاة الجميع آخر الحول وإن ملكه
في أثنائه، كما لو ابتاع بالمائة ثم ملك خمسين زكى الجميع إذا تم حول الخمسين، لأن الخمسين إنما تضم في
النصاب
لا في الحول. (ويصير عرض التجارة للقنية بنيتها) أي القنية لأنها الأصل فاكتفينا فيها بالنية، بخلاف عرض القنية
لا يصير للتجارة بمجرد نيتها كما سيأتي لأنها خلاف الأصل، كما أن المسافر يصير مقيما بمجرد النية إذا نوى وهو ماكث
ولا يصير مسافرا إلا بالفعل. وأيضا القنية هي الحبس للانتفاع، وقد وجد بالنية المذكورة مع الامساك. والتجارة
هي التقليب بقصد الأرباح ولم يوجد ذلك، فلو لبس ثوب تجارة بلا نية قنية فهو مال تجارة، فإن نواها به فليس مال
تجارة. وقضية إطلاق المصنف أنه لا فرق بين أن يقصد بنيتها استعمالا جائزا أو محرما كلبس الديباج وقطع الطريق
بالسيف، وهو كذلك كما هو أحد وجهين في التتمة يظهر ترجيحه. قال الماوردي: ولو نوى القنية ببعض عرض
التجارة ولم يعينه ففي تأثيره وجهان، أقربهما كما قال شيخي أنه يؤثر ويرجع في التعيين إليه، وإن قال بعض
المتأخرين أقربهما المنعم. (وإنما يصير العرض للتجارة إذا اقترنت نيتها بكسبه بمعاوضة) محضة، وهي التي تفسد
بفساد عوضها. (كشراء) سواء أكان بعرض أم نقد أم دين حال أم مؤجل، لانضمام قصد التجارة إلى فعلها. ومن
المملوك بمعاوضة ما اتهبه بثوب أو صالح عليه ولو عن دم، وما أجر به نفسه أو ماله، أو ما استأجره، أو منفعة ما استأجره
بأن كان يستأجر المنافع ويؤجرها بقصد التجارة. أو غير محضة، وهي التي لا تفسد بفساد عوضها كما ذكر بقوله:
(وكذا المهر وعوض الخلع) فإنهما يصيران للتجارة إذا اقترنا بنيتها (في الأصح) لأنهما ملكا بمعاوضة، ولهذا
تثبت الشفعة فيما ملك بهما، والثاني: لا، لأنهما ليس من عقود المعاوضات المحضة، وصحح في المجموع القطع بالأول. وإذا
ثبت حكم التجارة لم يحتج في كل معاملة إلى نية جديدة، (لا بالهبة) غير ذات الثواب (والاحتطاب) والاحتشاش
والاصطياد والإرث (والاسترداد بعيب) أو إقالة أو فلس لانتفاء المفاوضة، بل الاسترداد المذكور فسخ لها، ولان
الملك مجانا لا يعد تجارة، فلو قصد التجارة بعد التملك لم يؤثر، إذ النية المجردة لاغية، فمن اشترى بعرض للقنية
عرضا للتجارة أو اشترى بعرض التجارة عرضا للقنية ثم رد عليه بعيب أو إقالة لم يصر مال تجارة، وإن نوى
به التجارة
لانتفاء المعاوضة فلا يعود ما كان للتجارة مال تجارة، بخلاف الرد بعيب أو إقالة من شراء عرض التجارة بعرض التجارة
فإنه يبقى حكم التجارة، كما لو باع عرض التجارة واشترى بثمنه عرضا آخر. ولو اشترى للتجارة دباغا ليدبغ به للناس
أو صبغا ليصبغ به لهم صار مال تجارة فتلزمه زكاته بعد مضي حوله، بخلاف الصابون إذا اشتراه لها ليغسل به للناس أو
الملح ليعجن به لهم لا يصير مال تجارة فلا زكاة فيه لأنه يستهلك فلا يقع مسلما لهم. (وإذا ملكه) أي عرض التجارة
(بنقد) وهو الذهب والفضة ولو غير مضروبين، (نصاب) أو دونه وفي ملكه باقيه، كأن اشترى بعين عشرين
دينارا أو بمائتي درهم أو بعين عشرة أو مائة درهم، وفى ملكه عشرة أو مائة أخرى (فحوله من حين ملك) ذلك
(النقد) لاشتراكهما في قدر الواجب وفي جنسه. أما إذا اشتراه بنقد في الذمة ثم نقده فإنه ينقطع حول النقد
ويبتدئ حول التجارة من وقت الشراء، لأن صرفه إلى هذه الجهة لم يتعين. (أو دونه) أي أو ملكه بدون
النصاب، وليس في ملكه باقيه. (أو بعرض قنية) كالثياب، (فمن الشراء) حوله، لأن ما ملكه به لم يكن مال
زكاة. (وقيل إن ملكه بنصاب سائمة بني على حولها) لأنها مال زكاة جار في الحول، فكان كما لو ملكه بنصاب
نقد، وفرق الأول بأن الواجب في المقيس مختلف، بخلاف المقيس عليه. (ويضم الربح) الحاصل في أثناء الحول
398

(إلى الأصل في الحول إن لم ينض) بكسر النون: أي يصر ناضا بما يقوم به قياسا على النتاج مع الأمهات، ولان
المحافظة على حول كل زيادة مع اضطراب الأسواق مما يشق، فلو اشترى عرضا في المحرم بمائتي درهم فصارت قيمته
قبل آخر الحول ولو بلحظة ثلاثمائة زكى الجميع آخر الحول، وسواء حصل الربح بزيادة في نفس العرض كسمن الحيوان
أم بارتفاع الأسواق، ولو باع العرض بدون قيمته زكى القيمة أو بأكثر منها ففي زكاة الزائد معها وجهان، أوجههما
الوجوب. (لا إن نض) أي صار الكل ناضا بنقد التقويم ببيع أو إتلاف أجنبي وأمسكه إلى آخر الحول أو اشترى
به عرضا قبل تمامه، فلا يضم بل يزكى الأصل بحوله ويفرد الربح بحوله. (في الأظهر) فلو اشترى عرضا للتجارة بعشرين
دينارا ثم باعه لستة أشهر بأربعين دينارا واشترى بها عرضا آخر وبلغ آخر الحول بالتقويم أو بالتنضيض مائة زكى
خمسين، لأن رأس المال عشرون ونصيبها من الربح ثلاثون، فيزكى الثلاثون الربح العشرين، لأنه حصل
في آخر الحول من غير نضوض له قبله. ثم إن كان قد باع العرض قبل حول العشرين الربح كأن باعه آخر الحول
الأول زكاها لحولها، أي لستة أشهر من مضي الأول، وزكى ربحها، وهو ثلاثون بحوله، أي لستة أشهر أخرى.
فإن كانت الخمسون التي زكى عنها أولا باقية زكاها أيضا لحول الثلاثين، وإلا - أي وإن لم يكن قد باع العرض قبل حول
العشرين الربح - زكى ربحها وهو الثلاثون معها، لأنه لم ينض قبل فراغ حولها، والثاني: يزكى الربح بحول الأصل كما
يزكى النتاج بحول الأمهات. وفرق الأول بأن النتاج جزء من الأصل فألحقناه به، بخلاف الربح فإنه ليس جزءا لأنه
إنما حصل بحسن التصرف، ولهذا يرد الغاصب نتاج الحيوان دون الربح، أما إذا كان الناض المبيع به من غير ما يقوم
به فهو كبيع عرض بعرض على المذهب فيضم الربح إلى الأصل. ولو كان رأس المال دون نصاب، كأن اشترى
عرضا بمائة درهم وباعه بعد ستة أشهر بمائتين درهم وأمسكها إلى تمام حول الشراء زكاهما إن ضممنا الربح إلى الأصل
واعتبرنا النصاب آخر الحول فقط، وإلا زكى مائة الربح بعد ستة أشهر. (والأصح: أن ولد العرض) من الحيوان غير
السائمة كمعلوفة وخبل (وثمرة) كثمر الشجرة وأغصانها وورقها وصوف الحيوان ووبره وشعره، (مال تجارة)
لأنهما جزءان من الام والشجر، والثاني: لا، لأنهما لم يحصلا بالتجارة. ومحل الخلاف إذا لم تنقص قيمة الام بالولادة،
أما إذا نقصت بها كأن كانت الام تساوي ألفا فصارت بالولادة ثمانية وقيمة الولد مائتان، فإن نقص الام يجبر بقيمة
الولد جزما، وفيه احتمال للامام. (و) الأصح على الأول (أن حوله حول الأصل) تبعا كنتاج السائمة، والثاني:
لا، بل تفرد بحول من انفصال الولد وظهور الثمرة، لأنها زيادة مستقرة من مال التجارة فأفردت كما سبق في الربح
الناض. وفي الروضة وأصلها تصحيح القطع بالأول، فكان ينبغي للمصنف التعبير بالمذهب. (وواجبها) أي التجارة
(ربع عشر القيمة) أما كونه ربع عشر، فلا خلاف فيه كالنقد، وأما كونه من القيمة فهو الجديد لأن القيمة
متعلق هذه الزكاة، فلا يجوز الاخراج من عين العرض، والقديم: يجب الاخراج منه، لأنه الذي يملكه، والقيمة
تقدير. وفي قول يتخير بينهما لتعارض الدليلين. (فإن ملك) العرض (بنقد قوم به إن ملك بنصاب) سواء أكان
ذلك النقد هو الغالب أم لا، وسواء أبطله السلطان أم لا كما يقتضيه إطلاق المصنف، لأنه أصل ما بيده، فكان أولى
من غيره، وفي قول قديم: إن التقويم لا يكون إلا بنقد البلد دائما، حكاه صاحب التقريب. (وكذا) إذا ملك العرض
بنقد (دونه) أي النصاب، فإنه يقوم به (في الأصح) لأنه أصله، والثاني: يقوم بغالب نقد البلد، كما لو اشترى بعرض.
ومحل الخلاف ما إذا لم يملك بقية النصاب من ذلك النقد، فإن ملكه قوم به قطعا، لأنه اشترى ببعض ما انعقد عليه
الحول وابتدأ الحول من وقت ملك الدراهم، قاله الرافعي. قال في الروضة: لكن يجري فيه القول الذي حكاه صاحب
399

التقريب. (أو) ملك العرض (بعرض) للقنية أو بخلع أو نكاح أو صلح عن دم عمد، (فبغالب نقد البلد) من الدراهم
والدنانير يقوم، لأنه لما تعذر التقويم بالأصل رجع إلى نقد البلد على قاعدة التقويمات في الاتلاف ونحوه، فإن حان
الحول بمحل لا نقد فيه كبلد يتعامل فيه بالفلوس أو نحوها اعتبر أقرب البلاد إليه، ولو ملك بدين في ذمة البائع أو بنحو
سبائك قوم بجنسه من النقد كما في الكفاية. (فإن غلب نقدان) على التساوي (وبلغ) مال التجارة (بأحدهما) دون
الآخر (نصابا، قوم به) لبلوغه نصابا بنقد غالب. وفرق بين هذا وبين ما إذا بلغ النقد الذي عنده نصابا في أحد
الميزانين دون الآخر فإنه لا زكاة عليه، بأنه هنا قد تحقق تمام النصاب بأحد النقدين دون ذاك. (فإن بلغ) نصابا
(بهما) أي بكل منهما، (للفقراء) كاجتماع الحقاق وبنات اللبون، هذا ما نقل الرافعي
تصحيحه عن مقتضى إيراد الامام والبغوي. (وقيل يتخير المالك) فيقوم بأيهما شاء كما في شاتي الجبران ودراهمه،
وهذا ما صححه في أصل الروضة، ونقل الرافعي تصحيحه عن العراقيين و الروياني، وبه الفتوى كما في المهمات.
والفرق بين هذه وبين اجتماع الحقاق وبنات اللبون أن تعلق الزكاة بالعين أشد من تعلقها بالقيمة فلم يجب التقويم بالأنفع
كما لا يجب على المالك الشراء بالأنفع ليقوم به عند آخر الحول. (وإن ملك بنقد وعرض) كأن اشترى بمائتي درهم
وعرض قنية، (قوم ما قابل النقد به والباقي بالغالب) من نقد البلد لأن كلا منهما لو انفرد كان حكمه كذلك، فكذا
إذا اجتمعا، وهكذا إذا اشترى بجنس واحد مختلف الصفة كالصحاح والمكسرة إذا تفاوتا. (وتجب فطرة عبد التجارة
مع زكاتها) أي التجارة لاختلاف سببها، فلا يتداخلان، كالقيمة والكفارة في العبد المقتول. (ولو كان العرض
سائمة) أو غيرها مما تجب الزكاة في عينه كثمر. (فإن كمل) بتثليث الميم (نصاب إحدى الزكاتين) العين والتجارة
(فقط) دون نصاب الأخرى، كأن ملك تسعة وثلاثين من الغنم قيمتها مائتان أو أربعين من الغنم قيمتها دون المائتين،
(وجبت) زكاة ما كمل نصابه لوجود سببها من غير معارض، (أو) كمل (نصابهما) كأربعين شاة قيمتها مائتا درهم،
(فزكاة العين) تجب (في الجديد) وفي أحد قولي القديم للاتفاق عليها، بخلاف زكاة التجارة فإنها مختلف فيها،
ولهذا لا يكفر جاحدها بخلاف الأولى. وأيضا زكاة التجارة متعلقة بالقيمة، فقدم المتعلق بالعين كالعبد
المرهون إذا جنى، وتقدم زكاة التجارة في أحد قولي القديم لأنها أنفع للمستحقين فإنها تجب في كل شئ، وزكاة العين
تختص ببعض الأعيان. ولا يجمع بين الزكاتين بلا خلاف كما في المجموع، وعلى الجديد: لو كان مع ما فيه
زكاة عين ما لا زكاة في عينه، كأن اشترى شجرا للتجارة فبدا صلاح ثمره، وجب مع تقديم زكاة العين عن الثمر
زكاة الشجر.
تنبيه: لو قال المصنف: ولو كان العرض مما تجب الزكاة في عينه، لكان أعم واستغنى عما قدرته في كلامه.
ولو اشترى نقدا بنقد، فإن لم يكن للتجارة انقطع الحول، وإن كان لها كالصيارفة فالأصح انقطاعه أيضا. حكي
عن ابن سريج أنه قال: بشر الصيارفة بأن لا زكاة عليهم. (فعلى هذا) أي الجديد (لو سبق حول) زكاة
(التجارة) حول زكاة العين (بأن) وأولى منه كأن (اشترى بمالها بعد ستة أشهر) من حولها (نصاب
سائمة) ولم يقصد به القنية، (فالأصح وجوب زكاة التجارة لتمام حولها) لئلا يحط بعض حولها، ولان الموجب قد
وجد ولا معارض له. (ثم يفتتح) من تمامه (حولا لزكاة العين أبدا) أي فيجب في بقية الأحوال وما مضى من
400

السوم في بقية الحول الأول غير معتبر، والثاني: يبطل حول التجارة، وتجب زكاة العين لتمام حولها من الشراء
ولكل حول بعده، وعلى القديم المذكور: تجب زكاة التجارة لكل حول. (وإذا قلنا: عامل القراض لا يملك
الربح)
المشروط له (بالظهور) وهو الأصح، بل بالقسمة كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى. (فعلى المالك) عند تمام
الحول (زكاة الجميع) رأس المال والربح، لأن الجميع ملكه. (فإن أخرجها من) غير (مال القراض) فذاك، أو
من ماله (حسبت من الربح في الأصح) ولا يجعل إخراجها كاسترداد المالك جزءا من المال تنزيلا لها منزلة المؤن
التي تلزم المال من أجرة الدلال والكيال وفطرة عبيد التجارة وجناياتهم. والثاني: تحسب من رأس المال لأن الوجوب
على من له المال. والثالث: زكاة الأصل من الأصل، وزكاة الربح من الربح لأنها وجبت فيهما. (وإن قلنا يملك)
العامل المشروط له (بالظهور لزم المالك زكاة رأس المال وحصته من الربح) لأنه مالك لهما. (والمذهب أنه يلزم
العامل زكاة حصته) من الربح لأنه متمكن من التوصل إليه متى شاء بالقسمة، فأشبه الدين الحال على ملئ،
وعلى هذا فابتداء حول حصته من حين الظهور ولا يلزمه إخراجها قبل القسمة على المذهب، وله الاستبداد بإخراجها
من مال القراض، والثاني: لا يلزمه لأنه غير متمكن من كمال التصرف فيها. وقطع بعضهم بالأول ورجحه في المجموع،
وبعضهم بالثاني.
خاتمة: يصح بيع عرض التجارة قبل إخراج زكاته وإن كان بعد وجوبها، أو باعه بعرض قنية، لأن متعلق
زكاته القيمة، وهي لا تفوت بالبيع. ولو أعتق عبد التجارة أو وهبه فكبيع الماشية بعد وجوب الزكاة فيها، لأنهما
يبطلان متعلق زكاة التجارة كما أن البيع يبطل متعلق زكاة العين. وكذا لو جعله صداقا أو صلحا عن دم أو نحوهما
لأن مقابله ليس بمال، فإن باعه محاباة فقد المحاباة كالموهوب فيبطل فيما قيمته قدر الزكاة من ذلك القدر، ويصح
في الباقي تفريقا للصفقة.
باب زكاة الفطر:
ويقال صدقة الفطر. سميت بذلك لأن وجوبها بدخول الفطر، ويقال أيضا زكاة الفطرة بكسر الفاء والتاء
في آخرها، كأنها من الفطرة التي هي الخلقة المرادة بقوله تعالى: * (فطرة الله التي فطر الناس عليها) *. وقال ابن الرفعة بضم الفاء
واستغرب. والمعنى أنها وجبت على الخلقة تزكية للنفس وتنمية لعملها. قال وكيع بن الجراح: زكاة الفطرة لشهر رمضان
كسجدة السهو للصلاة تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود نقصان الصلاة. وقال في المجموع: يقال للمخرج فطرة بكسر
الفاء لا غير، وهي لفظة مولدة لا عربية ولا معربة، بل اصطلاحية للفقهاء، فتكون حقيقة شرعية على المختار كالصلاة
والزكاة. والأصل في وجوبها قبل الاجماع خبر ابن عمر: فرض رسول الله (ص) زكاة الفطر من رمضان على الناس
صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين وخبر أبي سعيد: كنا نخرج زكاة الفطرة
إذا كان فينا رسول الله (ص) صاعا من طعام، أو صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، أو صاعا من زبيب، أو صاعا من أقط،
فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه ما عشت رواهما الشيخان. والمشهور أنها وجبت في السنة الثانية من الهجرة عام فرض صوم
رمضان. (تجب) زكاة الفطر (بأول ليلة العيد في الأظهر) لأنها مضافة في الحديث إلى الفطر من رمضان في الخبرين الماضيين.
401

والثاني: تجب بطلوع الفجر يوم العيد لأنها قربة متعلقة بالعيد فلا يتقدم وقتها عليه كالأضحية، كذا علله الرافعي، واعترض
عليه بأن وقت الأضحية إذا طلعت الشمس ومضى قدر ركعتين وخطبتين خفيفتين لا الفجر. والثالث: تجب بمجموع
الوقتين لتعلقها بالفطر والعيد جميعا. وعلى الأول لا بد من إدراك جزء من رمضان مع الجزء المذكور. قال الأسنوي:
ويظهر أثر ذلك فيما إذا قال لعبده أنت حر مع أول جزء من ليلة العيد أو مع آخر جزء من رمضان أو قاله لزوجته اه‍.
أي قاله بلفظ الطلاق، أو كان هناك مهايأة في رقيق بين اثنين بليلة ويوم أو نفقة قريب بين اثنين كذلك وما أشبه ذلك،
فهي عليهما لأن وقت الوجوب حصل في نوبتهما. وقضية كلام المصنف أن من أدى فطرة عبد قبل الغروب ثم مات
المخرج فانتقل إلى ورثته وجب الاخراج. قال الأذرعي: وهو المذهب. (فتخرج) على الأظهر (عمن مات بعد الغروب)
ممن يؤدى عنه من زوجة وعبد وقريب لوجود السبب في حياته، وكذا من زال ملكه عنه بعتق أو غيره كطلاق،
وكذا لو استغنى القريب. ولو مات المؤدى عنه بعد الوجوب وقبل التمكن لم تسقط فطرته على الأصح في المجموع، بخلاف
تلف المال، وفرق بأن الزكاة تتعلق بالعين والفطرة بالذمة. (دون من ولد) وتجدد من زوجة ورقيق أو أسلم بعد الغروب
لعدم إدراكه الموجب، وعلى القول الثاني ينعكس الحكم، وعلى الثالث لا وجوب فيهما. (ويسن أن لا تؤخر عن صلاته)
أي العيد للامر به قبل الخروج إليها في الصحيحين. والتعبير بالصلاة جرى على الغالب من فعلها أول النهار، فإن أخرت
استحب الأداء أول النهار للتوسعة على المستحقين. قال الأسنوي. ويمكن أن يقال باستحباب تأخيرها لانتظار قريب
أو جار ما لم يخرج الوقت على قياس زكاة المال اه‍. وهو حسن.
تنبيه: لو عبر المصنف بقوله: ويسن أن تخرج قبل صلاة العيد كما في التنبيه لكان أولى، فإن تعبيره ليس فيه
ندب تقديمها على الصلاة، بل هو صادق بإخراجها مع الصلاة، وظاهر الحديث يرده. وأيضا ليس في كلامه تصريح
بأنه يسن إخراجها يوم العيد دون ما قبله. وصرح القاضي أبو الطيب وغيره بأن الأفضل إخراجها يوم الفطر، ويكره
تأخيرها عن الصلاة. (ويحرم تأخيرها عن يومه) أي العيد بلا عذر كغيبة ماله أو المستحقين لفوات المعنى المقصود،
وهو إغناؤهم عن الطلب في يوم السرور، فلو أخر بلا عذر عصى وقضى لخروج الوقت على الفور لتأخيره من غير عذر،
قال في المجموع: وظاهر كلامهم أن زكاة المال المؤخرة عن التمكين تكون أداء، والفرق أن الفطرة مؤقتة بزمن
محدود، (كالصلاة، ولا فطرة على كافر) أصلى، لقوله (ص): من المسلمين وهو إجماع قاله الماوردي، لأنها طهرة،
وليس من أهلها، والمراد أنه ليس مطالبا بإخراجها، وأما العقوبة عليها في الآخرة فعلى الخلاف في تكليفة بالفروع،
قال في المجموع: والأصح أنه مكلف بها. وقال السبكي: يحتمل أن هذا التكلف الخاص لم يشملهم لقوله في الحديث:
من المسلمين، وأما فطرة المرتد ومن عليه مؤنته فموقوفة على عوده إلى الاسلام، وكذا العبد المرتد. ولو غربت الشمس
ومن تلزم الكافر نفقته مرتد لم تلزمه فطرته حتى يعود إلى الاسلام. (إلا في عبده) أي رقيقه المسلم ولو مستولدة، (وقريبه
المسلم) فتجب عليه عنهما (في الأصح) كالنفقة عليهما، وكذا كل مسلم يلزم الكافر نفقته كزوجته الذمية إذا أسلمت
وغربت الشمس وهو متخلف في العدة وأوجبنا نفقة مدة التخلف وهو الأصح، والثاني: لا تجب عليه لأن الكافر ليس
من أهلها. والخلاف في هذه المسائل مبني على أن من وجبت فطرته على غيره هل وجبت عليه ثم تحملها عنه
المخرج
أم وجبت ابتداء على المخرج؟ وجهان، أصحهما أنها بطريق التحمل، فالأول مبني على الأول، والثاني على الثاني، وعلى
الأول قال الامام: لا صائر إلى أن المتحمل عنه ينوي، والكافر لا تصح منه النية.
تنبيه: كان الأولى للمصنف أن يقول: إلا في رقيقه كما قدرته وقريبه المسلمين بالتثنية أو يعطف القريب بأو. (ولا)
فطرة على (رقيق) لا عن نفسه ولا عن غيره، أما غير المكاتب كتابة صحيحة فلعدم ملكه، وأما المكاتب
المذكور فلضعف ملكه إذ لا يجب عليه زكاة ماله ولا نفقة قريبه ولا فطرة على سيده عنه لاستقلاله بخلاف المكاتب
402

كتابة فاسدة، فإن فطرته على سيده وإن لم تجب عليه نفقته (وفي المكاتب) كتابة صحيحة (وجه) أنها تجب عليه
فطرته وفطرة زوجته ورقيقه في كسبه كنفقتهم، أما الفاسدة فتجب على سيده جزما. (ومن بعضه حر يلزمه) من الفطرة
(قسطه) أي بقدر ما فيه من الحرية وباقيها على مالك الباقي، لأن الفطرة تتبع النفقة وهي مشتركة. هذا حيث لا مهايأة
بينه وبين مالك بعضه، فإن كانت مهايأة اختصت الفطرة بمن وقعت في نوبته، ومثله في ذلك العبد المشترك. (ولا)
فطرة على (معسر) وقت الوجوب للاجماع كما نقله ابن المنذر، وإن أيسر بعد لحظة، لكن يستحب له إذا أيسر قبل
فوات يوم العيد الاخراج. ثم حده بقوله: (فمن لم يفضل) بضم الضاد وفتحها، (عن قوته وقوت من) أي الذي (في
نفقته ليلة العيد ويومه شئ) يخرجه عن فطرته، (فمعسر) ومن فضل عنه ما يخرجه فموسر، لأن القوت لا بد منه. وقضية
كلامهما أن القدرة على الكسب لا تخرجه عن الاعسار وهو ظاهر، وبه صرح الرافعي في كتاب الحج، وأنه لا يشترط
كون المؤدى فاضلا عن رأس ماله وضيعته وإن تمكن بدونهما وهو كذلك، وبفارق المسكن والخادم بالحاجة الناجزة.
فإن قيل: قد أوجبوا الكسب لنفقة القريب على البعض. أجيب بأنه لما كان يجب الاكتساب لنفسه لاحيائها، فكذلك
يجب لاحياء الوالد والولد.
تنبيه: لو عبر المصنف بالذي كما قدرته كان أولى من من إذ لا فرق بين الآدمي والبهائم لأن من لمن يعقل، نعم يؤتى
بها لاختلاط من يعقل بغيره فيصح حينئذ التعبير بمن. (ويشترط) فيما يؤديه في الفطرة (كونه فاضلا) أيضا
ابتداء
(عن) ما يليق به من (مسكن) يحتاج إليه، (وخادم يحتاج إليه في الأصح) كما في الكفارة بجامع التطهير. والثاني:
لا، لأن الكفارة لها بدل بخلاف الفطرة. والمراد بحاجة الخادم أن يحتاجه لخدمته أو خدمة ممونه. أما حاجته لعمله في
أرضه أو ماشيته فلا أثر لها كما في المجموع. وخرج باللائق به ما لو كان نفيسين يمكن إبدالهما بلائق به، ويخرج التفاوت
لزمه ذلك كما ذكره الرافعي في الحج، وبالابتداء ما لو ثبتت الفطرة في ذمة إنسان، فإنه يباع فيها مسكنه وخادمه لأنها
حينئذ التحقت بالديون، ويشترط أيضا كونه فاضلا عن دست ثوب يليق به وبممونه، كما إنه يبقى له في الديون، ولا يشترط
كونه فاضلا عن دينه ولو لآدمي كما رجحه في المجموع ك الرافعي في الشرح الصغير، وجزم ابن المقري في روضه، واقتضاه
قول الشافعي رضي الله تعالى عنه والأصحاب: لو مات بعد أن أهل شوال فالفطرة في ماله مقدمة على الديون، وبأن الدين لا يمنع
الزكاة، وبأنه لا يمنع نفقة الزوجة والقريب فلا يمنع إيجاب الفطرة. وما فرق به من أن زكاة المال متعلقة بعينه والنفقة
ضرورية بخلاف الفطرة فيهما، لا يجدي والمعتمد ما تقرر وإن رجح في الحاوي الصغير خلافه وجزم به المصنف في نكته
ونقله عن الأصحاب. (ومن لزمه فطرته) أي فطرة نفسه (لزمه فطرة من تلزمه نفقته) بملك أو قرابة أو زوجية، أي
إذا كانوا مسلمين ووجد ما يؤدى عنهم كما علم مما مر، لما روى مسلم أنه (ص) قال: ليس على المسلم في عبده صدقة
إلا صدقة الفطر والباقي بالقياس عليه، والجامع وجوب النفقة. ودخل في عبارته ما لو أخدم زوجته التي تخدم عادة أمها
لا أجنبية وأنفق عليها، فإنه يجب عليه فطرتها كنفقتها بخلاف الأجنبية المؤجرة لخدمتها كما لا يجب عليه نفقتها،
وكذا التي صحبتها لتخدمها بنفقتها بإذنه لأنها في معنى المؤجرة كما جزم به في المجموع، وإن قال الرافعي في النفقات تجب
فطرتها. أما من لا تجب عليه نفقته كزوجته الناشزة فلا تجب عليه فطرته إلا المكاتب كتابة فاسدة فتجب فطرته
على سيده ولا تجب نفقته، وإلا الزوجة المحال بينها وبين زوجها فتجب فطرتها عليه دون نفقتها، وليس للزوجة
مطالبة زوجها بإخراج فطرتها كما في المجموع. قال في البحر: ولو كان الزوج غائبا فللزوجة أن تقترض
عليه لنفقتها
لا لفطرتها لأنها تتضرر بانقطاع النفقة بخلاف الفطرة، ولان الزوج هو المخاطب بإخراجها، وهكذا الحكم في الأب الزمن،
ومراده العاجز. (لكن لا يلزم المسلم فطرة العبد) أولى من الرقيق (والقريب والزوجة الكفار) وإن وجبت نفقتهم،
403

لقوله (ص) في الخبر السابق: من المسلمين. (ولا العبد فطرة زوجته) حرة كانت أو غيرها وإن أوجبنا نفقتها
في كسبه ونحوه، لأنه ليس أهلا لفطرة نفسه، فكيف يتحمل عن غيره. واحترز به عن المبعض فيجب عليه المقدار الذي
يجب على نفسه، وقد سبق بيانه. (ولا الابن فطرة زوجة أبيه) ومستولدته وإن وجبت نفقتهما على الولد، لأن النفقة
لازمة للأب مع إعساره فيتحملها الولد بخلاف الفطرة، ولان عدم الفطرة لا يمكن الزوجة من الفسخ بخلاف النفقة.
(وفي الابن وجه) أنه يلزمه فطرة زوجة أبيه كنفقتها. واستثنى أيضا مع ذلك مسائل: منها الفقير العاجز عن الكسب
يلزم المسلمين نفقته دون فطرته، ومنها عبد بيت المال تجب نفقته دون فطرته على الأصح، ومنها ما نص عليه في الام أنه
لو أجر عبده وشرط نفقته على المستأجر فإن الفطرة على سيده، ومنها عبد المالك في المساقاة والقراض إذا شرط عمله
مع العامل فنفقته عليه وفطرته على سيده، ومنها ما لو حج بالنفقة، ومنها عبد المسجد فلا تجب فطرتهما وإن وجبت نفقتهما
سواء كان عبد المسجد ملكا له أم وقفا عليه، ومنها الموقوف على جهة أو معين كرجل ومدرسة ورباط. (ولو أعسر
الزوج) وقت الوجوب (أو كان عبدا، فالأظهر أنه يلزم زوجته الحرة فطرتها) إذا أيسرت بها، (وكذا) يلزم (سيد
الأمة) فطرتها، والثاني: لا يلزمهما. وهذا الخلاف مبني على الخلاف السابق فيمن تجب عليه ابتداء من المؤدي والمؤدى
عنه، وهذا أحد الطريقين في المسألتين. (قلت: الأصح المنصوص لا يلزم الحرة) وتلزم سيد الأمة، (والله أعلم) وهذا
الطريق الثاني تقرير النصين، والفرق كمال تسليم الحرة نفسها بخلاف الأمة المزوجة لأن لسيدها أن يسافر بها ويستخدمها،
ولأنه اجتمع فيها شيئان: الملك والزوجية، والملك أقوى. فإن قيل: ينتقض ذلك بما إذا سلمها السيد ليلا ونهارا والزوج
موسر، فإن الفطرة واجبة على الزوج قولا واحدا. أجيب بأنها عند اليسار لا تسقط عن السيد بل يتحملها الزوج عنه
ويستحب للحرة المذكورة أن تخرج الفطرة عن نفسها كما في المجموع للخروج من الخلاف ولتطهيرها.
تنبيه: إذا قلنا بالتحمل هل هو كالضمان أو الحوالة؟ فيه قولان: أظهرهما كما في المجموع الثاني. وللخلاف فوائد:
منها جواز الاخراج بغير الاذن إن قلنا بالضمان، وإن قلنا بالحوالة فلا، ومنها ما لو كان المؤدى عنه ببلد والمؤدي ببلد آخر
واختلف قوت البلدين، إن قلنا بالحوالة وجب أن تؤدى من بلد المؤدى عنه وهو الأصح، وإن قلنا بالضمان جاز أن
تؤدى من بلد المؤدي لأنه يصح ضمان غير الجنس بخلاف الحوالة. ومنها دعاء المستحق يكون للمؤدي خاصة إن قلنا بالحوالة،
وإن قلنا بالضمان دعا لهما، وقيل غير ذلك. (ولو انقطع خبر العبد) أي الرقيق الغائب، فلم تعلم حياته مع تواصل الرفاق
ولم تنته غيبته إلى مدة يحكم فيها بموته، (فالمذهب وجوب إخراج فطرته في الحال) أي في يوم العيد أو ليلته، لأن الأصل
بقاء حياته، وإن لم يجز إعتاقه عن الكفارة احتياطا فيهما. (وقيل) إنما يجب إخراجها (إذا عاد) كزكاة المال
الغائب، وأجاب الأول بأن التأخير إنما جوز هناك للنماء، وهو غير معتبر في زكاة الفطر. (وفي قول لا شئ) أي لا يجب
شئ بالكلية، لأن الأصل براءة الذمة منها. وهذا القول محله إذا استمر انقطاع خبره، فلو بانت حياته بعد ذلك
وعاد إلى سيده وجب الاخراج، وإن لم يعد إلى سيده فعلى الخلاف في الضال ونحوه.
تنبيه: قوله: وقيل إذا عاد مقابل لقوله: في الحال، وهو منصوص في الاملاء فلا يحسن التعبير عنه ب‍ قيل، وقوله:
وفي قول لا شئ كان الأحسن أن يقول: وقيل قولان، ثانيهما لا شئ، وطريقة القولين هي التي في المحرر، وصحح
في المجموع طريقة القطع، وهي ظاهر عبارة الكتاب. أما إذا انتهت غيبته إلى ما ذكر فلا فطرة له بلا خلاف كما صرح به
الرافعي في الفرائض. فإن قيل: الأصح في جنس الفطرة اعتبار بلد العبد، فإن لم يعرف موضعه فكيف يخرج من جنس
بلده؟ أجيب بأن هذه الصورة مستثناة من القاعدة للضرورة أو يخرج من قوت آخر بلدة علم وصوله إليها، وهي مستثناة
أيضا على هذا، ويدفع فطرته للقاضي ليخرجها لأن له نقل الزكاة، وهي مستثناة أيضا لاحتمال اختلاف أجناس الأقوات
404

نعم إن دفع إلى القاضي البر خرج عن الواجب بيقين لأنه أعلى الأقوات، والنقل جائز للقاضي الذي له أخذ
الزكوات. (
والأصح أن من أيسر ببعض صاع يلزمه) إخراجه محافظة بقدر الامكان، والثاني: لا كبعض الرقبة في الكفارة، وفرق
الأول بأن الكفارة لها بدل بخلاف الفطرة (و) الأصح (أنه لو وجد بعض الصيعان قدم) وجوبا (نفسه) لخبر مسلم: ابدأ
بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شئ فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شئ فلذي قرابتك. والثاني: يقدم زوجته، والثالث:
يتخير. (ثم زوجته) لأن نفقتها آكد لأنها معاوضة لا تسقط بمضي الزمان، والثاني: يقدم القريب، والثالث: يتخير. (ثم ولده
الصغير) لأن نفقته ثابتة بالنص والاجماع، ولأنه أعجز ممن بعده. (ثم الأب) وإن علا ولو من قبل الام لشرفه. (ثم الام)
لقوة حرمتها بالولادة. (ثم) الولد (الكبير) على الأرقاء، لأن الحر أشرف وعلاقته لازمة، بخلاف الملك فإنه عارض
ويقبل الزوال.
تنبيه: محل ما ذكره في الكبير إذا كان لا كسب له وهو زمن أو مجنون، فإن لم يكن كذلك فالأصح عدم وجوب
نفقته، وسيأتي إيضاح ذلك إن شاء الله تعالى في باب النفقات. وهذا الترتيب ذكره أيضا في الشرح والروضة، والذي
صححاه في باب النفقات تقديم الام في النفقة على الأب، وفرق في المجموع بين البابين بأن النفقة لسد الخلة والام أكثر
حاجة وأقل حيلة، والفطرة لتطهير المخرج عنه وتشريفه والأب أحق به فإنه منسوب إليه ويشرف بشرفه اه‍. وأبطل
الأسنوي الفرق بالولد الصغير، فإنه يقدم هنا على الأبوين وهما أشرف منه، فدل على اعتبار الحاجة في البابين. وأجاب
شيخي عن ذلك بأنهم إنما قدموا الولد الصغير لأنه كجزء المخرج مع كونه أعجز من غيره ثم الرقيق. قال شيخنا: وينبغي
أن تقدم منه أم الولد ثم المدبر ثم المعلق عتقه بصفة، فإن استوى اثنان في درجة كزوجين وابنين تخير لاستوائهما في
الوجوب، وإنما لم يوزع بينهما لنقص المخرج عن الواجب في حق كل منهما بلا ضرورة بخلاف من لم يجد إلا بعض الواجب.
(وهي) أي فطرة الواحد (صاع) لحديث ابن عمر السابق أول الباب، (وهو ستمائة درهم وثلاثة وتسعون درهما وثلث) درهم،
لأنه أربعة أمداد، والمد رطل وثلث بالبغدادي، والرطل مائة درهم وثلاثون درهما. (قلت: الأصح ستمائة وخمسة
وثمانون درهما وخمسة أسباع درهم لما سبق في زكاة النبات) من كون الرطل مائة وثمانية وعشرين درهما وأربعة أسباع
درهم، (والله أعلم) وقد سبق في زكاة النبات إيضاحه. والأصل فيه الكيل، وإنما قيل بالوزن استظهارا، والعبرة بالصاع
النبوي إن وجد أو معياره، فإن فقد أخرج قدرا يتيقن أنه لا ينقص عن الصاع. قال في الروضة: قال جماعة: الصاع
أربع حفان بكفي رجل معتدلهما اه‍. والصاع بالكيل المصري قدحان، وينبغي أن يزيد شيئا يسيرا لاحتمال اشتمالهما على
طين أو تبن أو نحو ذلك. قال ابن الرفعة: كان قاضي القضاة عماد الدين السكري رحمه الله تعالى يقول حين يخطب بمصر
خطبة عيد الفطر: والصاع قد حان بكيل بلدكم هذه سالم من الطين والعيب والغلت، ولا يجزئ في بلدكم هذه إلا القمح اه‍.
وتقدم في الصاع كلام في زكاة النبات فراجعه.
فائدة: ذكر القفال الشاشي في محاسن الشريعة معنى لطيفا في إيجاب الصاع، وهو أن الناس تمتنع غالبا من
الكسب في العيد وثلاثة أيام بعده ولا تجد الفقير من يستعمله فيها لأنها أيام سرور وراحة عقب الصوم، والذي يتحصل
من الصاع عند جعله خبزا ثمانية أرطال من الخبز، فإن الصاع خمسة أرطال وثلث كما مر، ويضاف إليه من الماء نحو
الثلث، فيأتي منه ذلك، وهو كفاية الفقير في أربعة أيام لكل يوم رطلان. (وجنسه) أي الصاع الواجب، (القوت
المعشر) أي الذي يجب فيه العشر أو نصفه، لأن النص قد ورد في بعض المعشرات: كالبر والشعير والتمر والزبيب،
405

وقيس الباقي عليه بجامع الاقتيات. وفي القديم لا يجزئ العدس والحمص لأنهما أدمان. (وكذا الاقط في الأظهر) لثبوته في
الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، ولهذا قطع به بعضهم. وهو بضم الهمزة وكسر القاف،
وبإسكانها مع تثليث الهمزة: لبن يابس غير منزوع الزبد، والثاني: لا يجزئ لأنه لا عشر فيه، فأشبه التين ونحوه. وفي معنى
الاقط لبن وجبن لم ينزع زبدهما فيجزئان، وإجزاء كل من الثلاثة لمن هو قوته سواء أكان من أهل البادية أم الحاضرة،
وقيل يجزئ أهل البادية دون الحاضرة، حكاه في المجموع وضعفه. أما منزوع الزبد من ذلك فلا يجزئ، وكذا
لا يجزئ الكشك، وهو بفتح الكاف معروف، ولا يجزئ المختص ولا المصل ولا السمن ولا اللحم ولا مملح من الاقط
أفسد كثير الملح جوهره، بخلاف ظاهر الملح فيجزئ، لكن لا يحسب الملح فيخرج قدرا يكون محض الاقط منه صاعا.
(ويجب) الصاع (من) غالب (قوت بلده) إن كان بلديا وفي غيره من غالب قوت محله، لأن ذلك يختلف باختلاف النواحي.
(وقيل) من غالب (قوته) على الخصوص. (وقيل: يتخير بين) جميع (الأقوات) ف‍ أو في الخبرين السابقين على الأولين
للتنويع، وعلى الثالث للتخيير. والمعتبر في غالب القوت غالب قوت السنة كما في المجموع لا غالب قوت وقت الوجوب، خلافا
للغزالي في وسيطه.
تنبيه: لو قال: من غالب قوت بلده كما قدرت غالب في عبارته لكان أولى، فإنه لو كان للبلد أقوات وغلب بعضها
وجب من الغالب، وليحسن قوله بعد ذلك: ولو كان في البلد أقوات لا غالب فيها تخير. (ويجزئ) على الأولين القوت،
(الاعلى عن) القوت (الأدنى) لأنه زاد خيرا فأشبه ما لو دفع بنت لبون عن بنت مخاض، وقيل: لا يجزئ، كالحنطة عن
الشعير والذهب عن الفضة، وفرق الأول بأن الزكوات المالية تتعلق بالمال، فأمر أن يواسي المستحقين بما أعطاه الله
تعالى، والفطرة زكاة البدن فوقع النظر فيها إلى ما هو غذاء البدن وبه قوامه، والأعلى يحصل به هذا الغرض وزيادة. (ولا
عكس) لنقصه عن الحق ففيه ضرر على المستحقين. (والاعتبار) في الأعلى والأدنى (بالقيمة في وجه) رفقا بالمساكين، (وبزيادة
الاقتيات في الأصح) لأنه المقصود. ثم فرع عليه فقال: (فالبر) لكونه أنفع اقتياتا (خير من التمر والأرز) ومن الزبيب
والشعير. قال الماوردي: ولو قيل أفضلها يختلف باختلاف البلاد لكان متجها. ورد بأن النظر للغالب لا للبلد نفسه.
(والأصح أن الشعير خير من التمر) لأنه أبلغ في الاقتيات، (وأن التمر خير من الزبيب) لما مر، فالشعير خير منه بالأولى،
والثاني: أن التمر خير من الشعير، وأن الزبيب خير من التمر نظرا إلى القيمة. وعلى الأول ينبغي أن يكون الشعير خيرا من
الأرز، وأن الأرز خير من التمر. (وله أن يخرج عن نفسه من قوته) الواجب (وعن قريبه) أو من تلزمه فطرته كزوجته
وعبده، أو من تبرع عنه بإذنه. (أعلى منه) لأنه زاد خيرا، وكما يجوز أن يخرج لاحد جبرانين شاتين، وللآخر عشرين
درهما.
تنبيه: لو قال: وعن غيره أعلى منه لشمل ما ذكرناه. (ولا يبعض الصاع) المخرج عن الشخص الواحد من
جنسين وإن كان أحد الجنسين أعلى من الواجب، كما لا يجزئ في كفارة اليمين أن يكسو خمسة ويطعم خمسة. وخرج
بقولنا المخرج عن الشخص الواحد ما لو أخرج عن اثنين كأن ملك واحد نصفي عبدين أو مبعضين ببلدين مختلفي القوت
فإنه يجوز تبعيض الصاع، وبقولنا من جنسين ما لو أخرج صاعا من نوعين فإنه جائز إذا كانا من الغالب. (ولو كان في بلد
أقوات لا غالب فيها) إذا لم نعتبر قوت نفسه وهو المعتمد كما تقدم، (تخير) إذ ليس تعيين البعض بأولى من تعيين الآخر،
406

وإنما لم يجب الأصلح كاجتماع الحقاق وبنات اللبون لتعلقه بالعين. (والأفضل أشرفها) أي أعلاها في الاقتيات، لقوله
تعالى: * (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) *، ولو كانوا يقتاتون القمح المخلوط بالشعير تخير إن كان الخليطان على
السواء، وإن كان أحدهما أكثر وجب منه، فإن لم يجد إلا نصفا من ذا ونصفا من ذا فوجهان: أوجههما أنه يخرج
النصف الواجب عليه ولا يجزئ الآخر لما مر أنه لا يجوز أن يبعض الصاع من جنسين. ولو كان في بلد لا قوت لهم فيها
يجزئ بأن كانوا يقتاتون الأشياء النادرة أخرج من غالب قوت أقرب البلاد إليه، فإن استوى إليه بلدان في القرب
واختلف الغالب من أقواتهما تخير، والأفضل الاعلى. (ولو كان عبده ببلد آخر فالأصح أن الاعتبار بقوت بلد العبد)
بناء على أنها وجبت على المتحمل عنه ابتداء وهو الأصح، والثاني: أن العبرة ببلد السيد، بناء على أنها تجب ابتداء على
المتحمل وهو مرجوح. (قلت: الواجب الحب) حيث تعين فلا تجزئ القيمة اتفاقا، ولا الخبز ولا الدقيق ولا السويق
ونحو ذلك، لأن الحب يصلح لما لا تصلح له هذه الثلاثة. (السليم) فلا يجزئ المسوس وإن كان يقتاته والمعيب، قال
تعالى: * (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) *. (ولو أخرج من ماله فطرة ولده الصغير الغني جاز) لأنه يستقل بتمليكه
وله ولاية عليه، فكأنه ملكه ذلك ثم أخرجه عنه. والجد من قبل الأب وإن علا كالأب، والمجنون كالصغير، وكذا
السفيه على ما أفهمه كلامهم. وقضية التوجيه أن هذا في أب أو جد يلي المال. فإن لم يل لعدم الأهلية فيكون كالأجنبي،
أما الوصي والقيم فلا يجوز لهما ذلك إلا بإذن القاضي كما جزم به في المجموع لأن اتحاد الموجب والقابل يختص بالأب والجد.
(كأجنبي أذن) فيجوز إخراجها عنه كما في غيرها من الديون، فإن لم يأذن لم يجزه قطعا لأنها عبادة مفتقرة إلى نية فلا تسقط
عن المكلف بغير إذن. (بخلاف) ولده (الكبير) الرشيد كما قيده في المجموع، فلا يجوز بغير إذنه، لأن الأب لا يستقل
بتمليكه فصار كالأجنبي بخلاف الصغير ونحوه. (ولو اشترك موسر ومعسر) مناصفة مثلا (في عبد) أي رقيق والمعسر
محتاج إلى خدمته، (لزم الموسر نصف صاع) لأنه الواجب عليه. هذا إذا لم يكن بينهما مهايأة، فإن كان وصادف زمن
الوجوب نوبة الموسر لزمه الصاع كما مرت الإشارة إليه، أو المعسر فلا شئ عليه كالمبعض المعسر.
تنبيه: لو عبر بالرقيق عوضا عن العبد، وبالحصة أو القسط عوضا عن النصف، لاستغنى عما قدرته. (ولو أيسرا)
أي الشريكان في الرقيق، (واختلف واجبهما) لاختلاف قوت بلدهما بأن كانا ببلدين مختلفي القوت، أو لاختلاف قوتهما
على مقالة. (أخرج كل واحد نصف صاع من واجبه) أي من قوت بلده، أو من قوته. (في الأصح) كما ذكره الرافعي
في الشرح، (والله أعلم) بناء على أنها تجب على السيد ابتداء. والثاني، وهو الأصح: أنه يخرجه من قوت محل الرقيق كما علم مما مر.
وقد ذكره الرافعي بعد تصحيحه السابق ولم يذكره في الروضة، ولكن صرح به في المجموع بناء على ما مر من أن الأصح
أنها تجب ابتداء على المؤدى عنه ثم يتحملها عنه المؤدي. فإن قيل: كيف يستقيم ما ذكره مع قوله أولا إن
الاعتبار بقوت بلد العبد؟ أجيب بأنه يمكن حمله على صورة، وهي ما إذا أهل هلال شوال على العبد وهو
في برية نسبتها في القرب إلى بلدتي السيدين على السواء، ففي هذه الصورة يعتبر قوت بلدتي السيدين قطعا لأنه لا بلد للعبد،
وكذا لو كان العبد في بلد لا قوت فيها وإنما يحمل إليها من بلدتي السيدين من الأقوات ما لا يجزئ في الفطرة كالدقيق والخبز،
وحيث أمكن تنزيل كلام المصنفين على تصوير صحيح لا يعدل إلى تغليطهم. وإذ قد عرفت ذلك فلا منافاة بين ما صححه
هنا وبين ما صححه أولا من كون الأصح اعتبار قوت بلد العبد، ولا يحتاج إلى البناء المذكور وإن كنت قررته أولا تبعا
للشارح ولغالب شراح الكتاب.
407

فرعان: أحدهما: يجب صرف زكاة الفطر إلى الأصناف الذين ذكرهم الله تعالى، وسيأتي بيان ذلك في كتاب
الصدقات إن شاء الله تعالى. وقيل: يكفي الدفع إلى ثلاثة من الفقراء أو المساكين لأنها قليلة في الغالب، وبهذا قال
الإصطخري. وقيل: يجوز صرفها لواحد، وهو مذهب الأئمة الثلاثة وابن المنذر. ثانيهما: لو دفع فطرته إلى فقير ممن
تلزمه الفطرة فدفعها الفقير إليه عن فطرته جاز للدافع الأول أخذها، فإن قيل: وجوب الفطرة ينافي أخذ الصدقة، أجيب
بأن أخذها لا يقتضي غاية الفقر والمسكنة، وقد تجب زكاة المال على من تحل له الصدقة فإنها تحل من غير الفقر والمسكنة.
خاتمة: لو اشترى عبدا فغربت الشمس ليلة الفطر وهما في خير مجلس أو شرط ففطرته على من له الملك بأن يكون
الخيار لأحدهما وإن لم يتم له الملك، فإن كان الخيار لهما ففطرته على من يؤول له الملك. ومن مات قبل الغروب عن رقيق
ففطرة رقيقه على ورثته كل بقسطه لأنه ملكهم وقت الوجوب. وإن مات بعد الغروب عن أرقاء فالفطرة عنه وعنهم
في التركة مقدمة على الوصية والميراث والدين. وإن مات بعد وجوب فطرة عبد أوصى به لغيره قبل وجوبها وجبت
في تركته لبقائه وقت الوجوب على ملكه، وإن مات قبل وجوبها وقبل الموصى له الوصية ولو بعد وجوبها فالفطرة على
الموصى له لأنه بالقبول يتبين أنه ملكه من حين موت الموصي. وإن رد الوصية فعلى الوارث فطرته لبقائه وقت الوجوب
على ملكه، فلو مات الموصى له قبل القبول وبعد وجوب الفطرة فوارثه قائم مقامه في الرد والقبول، فإن قبل وقع الملك
للميت وفطرة الرقيق في التركة إن كان للميت تركة، وإلا بيع منه جزء فيها. وإن مات قبل وجوبها أو معه فالفطرة على
ورثته عن الرقيق إن قبلوا الوصية لأنه وقت الوجوب كان في ملكهم. وهل تجب الفطرة على الصوفية المقيمين في الرباط؟
قال الفارقي: إن كان الوقف على معين وجبت لأنهم ملكوا الغلة، وكذا إذا وقف على المقيمين بالرباط إذا حدثت غلة
ملكوها ولا يشاركهم من حدث بعد ذلك، وإن كان وقفه على الصوفية مطلقا فمن دخل الرباط قبل الغروب على عزم المقام
لزمه الفطرة في المعلوم الحاصل للرباط، وإن شرط لكل واحد قوته كل يوم فلا زكاة عليهم. قال: وهكذا حكم
المتفقهة في المدارس، فإن جرايتهم مقدرة بالشهر، فإذا أهل شوال وللوقف غلة لزمهم الفطرة وإن لم يكونوا قبضوا
لأنه ثبت ملكهم على قدر المشاهرة من جملة الغلة.
باب من تلزمه الزكاة:
أي زكاة المال (وما تجب فيه) مما اتصف بوصف قد يؤثر في السقوط وقد لا يؤثر كالغصب والجحود والاضلال،
أو معاوضة بما قد يسقط كالدين وعدم استقرار الملك. وليس المراد بيان أنواع المال التي تجب فيها الزكاة، فإن ذلك
قد تقدم في الأبواب السابقة. وقد شرع في بيان شروط من تلزمه الزكاة فقال: (شرط وجوب زكاة المال) بأنواعه السابقة،
وهي الحيوان والنبات والنقدان والمعدن والركاز والتجارة على مالكه. (الاسلام) لقول أبي بكر رضي الله تعالى عنه: هذه
فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله (ص) على المسلمين، رواه البخاري، فلا تجب على الكافر الأصلي بالمعنى
السابق في الصلاة. واحترز بزكاة المال عن زكاة الفطر فإنها قد تلزم الكافر إذا كان يخرج عن غيره كما مر. (والحرية)
فلا تجب على رقيق ولو مدبرا ومعلقا عتقه بصفة وأم ولد لعدم ملكه. وعلى القديم يملك بتمليك سيده ملكا ضعيفا،
ومع ذلك لا زكاة عليه ولا على سيده على الأصح. وإن قلنا: يملك بتمليك غير سيده، فلا زكاة أيضا عليه لضعف ملكه
كما مر ولا على سيده لأنه ليس له. (وتلزم المرتد) زكاة المال الذي حال حوله في ردته (إن أبقينا ملكه) مؤاخذة له بحكم
الاسلام، ومفهومه عدم اللزوم إن أزلناه وهو كذلك، وإن قلنا بالوقف، وهو الأظهر فموقوفة، فمفهومه فيه تفصيل،
فلا يرد عليه قولنا بالوقف. أما إذا وجبت الزكاة عليه في الاسلام ثم ارتد فإنها تؤخذ من ماله على المشهور سواء
أسلم أو قتل كما نقل في المجموع اتفاق الأصحاب عليه، ويجزئه الاخراج في حال الردة في هذه، وفي الأولى على قول
408

اللزوم فيها، وقيل لا يجزئه. (دون المكاتب) فلا تلزمه لضعف ملكه، بدليل أن نفقة الأقارب لا تجب عليه، وهذا
قد علم من اشتراط الحرية، فلم تدع الحاجة إلى ذكره، فإن زالت الكتابة بعجز أو موت أو غيره انعقد حول السيد
من حين زوالها.
تنبيه: ضم في الحاوي إلى الاسلام والحرية شرطين آخرين: أحدهما كونه لمعين فلا زكاة في الموقوف على
جهة عامة، وتجب في الموقوف على معين. الثاني: كونه متيقن الوجود فلا زكاة في مال الحمل الموقوف له
بإرث أو
وصية على الأصح، إذ لا ثقة بحياته، فلو انفصل الجنين ميتا فيتجه كما قال الأسنوي عدم الوجوب على الورثة لضعف
ملكهم، ويمكن كما قال الولي العراقي الاحتراز عن هذا الشرط بقوله: وتجب في مال الصبي. ثم شرع في شروط
المال الذي تجب فيه الزكاة، فقال: (وتجب في مال الصبي والمجنون) لشمول الحديث السابق لهما، وبالقياس على زكاة
المعشرات وزكاة الفطر، فإن الخصم قد وافق عليهما. ولم يصح في إسقاط الزكاة ولا في تأخر إخراجها إلى البلوغ شئ.
قال الإمام أحمد: لا أعرف عن الصحابة شيئا صحيحا أنها لا تجب، ولان المقصود من الزكاة سدا لخلة وتطهير المال
وما لهما قابل لأداء النفقات والغرامات كقيمة ما أتلفاه، وليست الزكاة محض عبادة حتى تختص بالمكلف. والمخاطب
بالاخراج وليهما، ومحل وجوبه عليه إذا كان ممن يرى وجوبها في مالهما، فإن كان ممن لا يراه كحنفي فلا وجوب.
والاحتياط له أن يحسب زكاة المال حتى يكملا فيخبرهما بذلك ولا يخرجها فيغرمه الحاكم، قاله القفال وفرضه في الطفل.
ولو كان الولي غير متمذهب بل عاميا صرفا، فإن ألزمه حاكم يراها بإخراجها فواضح كما قاله الأذرعي، وإلا فالأوجه
كما قال شيخنا الاحتياط بمثل ما مر، والأوجه كما قال أيضا: أن قيم الحاكم يعمل بمقتضى مذهبه، كحاكم أنابه حاكم
آخر يخالفه في مذهبه، فإن لم يخرجها الولي من مالهما أخرجاها إن كملا لأن الحق توجه إلى مالهما ولكن الولي عصى
بالتأخير فلا يسقط ما توجه إليهما، ومثلهما فيما ذكر السفيه.
فائدة: أجاب السبكي عن سؤال صورته: كيف تخرج الزكاة من أموال الأيتام من الدراهم المغشوشة والغش فيها
ملكهم؟ بأن الغش إن كان يماثل أجرة الضرب والتلخيص فيسامح به وعمل الناس على الاخراج منها. (وكذا) تجب
الزكاة (على من ملك ببعضه الحر نصابا في الأصح) وعبر في الروضة بالصحيح لتمام ملكه، ولهذا قال إمامنا الشافعي
رضي الله تعالى عنه: إنه يكفر كفارة الحر الموسر، أي بما عد العتق، والثاني: لا، لنقصانه بالرق، فأشبه العبد والمكاتب.
(و) تجب (في المغصوب) إذا لم يقدر على نزعه، ومثله المسروق وأهمله المصنف مع ذكر المحرر له، لأن حد الغصب
منطبق عليه. (والضال) والواقع في بحر وما دفنه ثم نسي مكانه. (والمجحود) من عين أو دين الذي لا بينة له به ولا علم
القاضي به. (في الأظهر) الجديد، وبه قطع بعضهم لملك النصاب وتمام الحول، والثاني وهو القديم: لامتناع النماء
والتصرف، فأشبه مال المكاتب لا تجب فيه الزكاة على السيد. أما إذا قدر على نزع المغصوب أو كان له بالمجحود
بينة فإنه يجب عليه الاخراج قطعا، وكذا إذا علم القاضي، وقلنا: يقضي بعلمه. (ولا يجب دفعها حتى يعود) المغصوب
وغيره مما تقدم لعدم التمكن قبله، فإذا عاد زكاه للأحوال الماضية بشرطين: أحدهما كون الماشية سائمة عند المالك
والغاصب كما علم مما مر، والثاني: أن لا ينقص النصاب بما يجب إخراجه، فإن كان نصابا فقط وليس عنده من جنسه
ما يعوض قدر الواجب لم تجب زكاة ما زاد على الحول الأول. (و) تجب قطعا في (المشترى قبل قبضه) بأن حال عليه
الحول في يد البائع بعد انقضاء الخيار لا من الشراء. (وقيل فيه القولان) في المغصوب ونحوه، لأن التصرف فيه
لا يصح. وفرق الأول بتعذر الوصول إليه وانتزاعه، بخلاف المشتري لتمكنه منه بتسليم الثمن فيجب الاخراج
409

في الحال حيث لا مانع من القبض كالدين الحال على مقر ملي. (وتجب في الحال عن الغائب إن قدر عليه) لأنه كالمال
الحاضر، ويجب أن يخرج في بلد المال إن استقر فيه، فإن بعد بلد المال عن المالك ومنعنا نقل الزكاة وهو الراجح
فلا بد من وصول المالك أو نائبه. نعم إن كان هناك ساع أو حاكم يأخذ الزكاة دفعها إليه في الحال لأن له نقل الزكاة،
نبه على ذلك الأذرعي، فإن كان سائرا فلا يجب الاخراج حتى يصل إليه. (وإلا) أي وإن لم يقدر عليه لخوف الطريق
أو انقطاع خبره أو شك في سلامته، (فكمغصوب) فيأتي فيه ما مر لعدم القدرة في الموضعين. (والدين إن كان ماشية)
لا للتجارة، كأن أقرضه أربعين شاة أو أسلم إليه فيها ومضى عليه حول قبل قبضه. (أو) كان (غير لازم كمال
كتابة، فلا زكاة) فيه. أما الماشية فلأن علة الزكاة فيها النماء ولا نماء فيها في الذمة، بخلاف النقد فإن العلة فيه
كونه نقدا وهو حاصل، ولان السوم شرط في زكاتها، وما في الذمة لا يتصف بالسوم. واعترض هذا التعليل الرافعي
بجواز ثبوت لحم راعية في الذمة، وإذا جاز ذلك جاز أن يثبت في الذمة راعية. أجيب بأنه إذا التزامه أمكن تحصيله من
الخارج، والكلام في أن السوم لا يتصور فيما في الذمة وإنما يتصور في الخارج، ومثل الماشية المعشر في الذمة فإنه
لا زكاة فيه أيضا لأن شرطها الزهو في ملكه ولم يوجد، وأما دين الكتابة فلان للعبد إسقاطه متى شاء. ويؤخذ
من ذلك أنه لو كان للسيد على المكاتب دين أنه لا زكاة فيه، وأنه لو أحال المكاتب سيده بالنجوم على شخص أن
الزكاة تجب على السيد، وهو كذلك، لأنه يسقط بتنجيزه في الأولى دون الثانية. (أو عرضا) للتجارة (أو نقدا فكذا)
أي لا زكاة فيه (في القديم) إذ لا ملك فيه حقيقة، فأشبه دين المكاتب. (وفي الجديد إن كان حالا وتعذر أخذه
لاعسار وغيره) كمطل أو غيبة ملئ وجحود، (فكمغصوب) فتجب فيه في الأظهر، ولا يجب إخراجها حتى يحصل
ولو كان مقرا له في الباطن وجبت الزكاة دون الاخراج قطعا، قاله في الشامل. (وإن تيسر) أخذه بأن كان على ملئ
مقر حاضر باذل أو جاحد وبه بينة أو يعلمه القاضي وقلنا يقضي بعلمه، (وجبت تزكيته في الحال) لأنه مقدور على
قبضه فهو كالمودع. وكلامه يفهم أنه يخرج في الحال وإن لم يقبضه، وهو المعتمد المنصوص في المختصر، وقيل: لا، حتى
يقبضه فيزكيه لما مضى، ولو أمكنه الظفر بأخذ دينه من مال الجاحد حيث لا بينة من غير خوف ولا ضرر لم يجب
الاخراج في الحال كما هو المتبار من كلام الشيخين وغيرهما، وإن كان قضية كلام ابن كج والدارمي تزكيته في الحال.
(أو مؤجلا، فالمذهب أنه كمغصوب) ففيه القولان، وقيل: تجب الزكاة قطعا، وقيل عكسه. (وقيل: يجب دفعها قبل
قبضه) كالغائب الذي يسهل إحضاره.
تنبيه: لو عبر بقوله قبل حلوله لكان أولى، فإن هذا الوجه محله إذا كان الدين على ملي ولا مانع سوى
الاجل، وحينئذ متى حل وجب الاخراج قبض أم لا.
فائدة: قال السبكي: إذا أوجبنا الزكاة في الدين وقلنا تتعلق بالمال تعلق شركة اقتضى أن يملك أرباب الأصناف
ربع عشر الدين في ذمة المدين، وذلك يجر إلى أمور كثيرة واقع فيها كثير من الناس، كالدعوى بالصداق والديون،
لأن المدعي غير مالك للجميع فكيف يدعي به إلا أن له القبض لأجل أداء الزكاة فيحتاج إلى الاحتراز عن ذلك
في الدعوى، وإذا حلف على عدم المسقط ينبغي أن يحلف أن ذلك باق في ذمته إلى حين حلفه لم يسقط وأنه يستحق
قبضه حين حلفه ولا يقول إنه باق له اه‍. ومن ذلك أيضا ما لو علق الطلاق على الابراء من صداقها وقد مضى
على ذلك أحوال فأبرأته منه، فإنه لا يقع الطلاق لأنها لا تملك الابراء من جميعه، وهي مسألة حسنة فتفطن لها
410

فإنها كثيرة الوقوع. (ولا يمنع الدين وجوبها) سواء أكان حالا أم لا، من جنس المال أم لا، لله تعالى كالزكاة والكفارة
والنذر أم لا، (في أظهر الأقوال) لاطلاق الأدلة الموجبة للزكاة، ولأنه مالك للنصاب نافذ التصرف فيه. والثاني: يمنع كما
يمنع وجوب الحج. (والثالث: يمنع في المال الباطن، وهو النقد) ولو عبر بالذهب والفضة ليشمل غير المضروب كان
أولى. والركاز (والعرض) لا يمنع في الظاهر، وهو الماشية والزروع والثمار والمعدن. والفرق أن الظاهر ينمو بنفسه،
والباطن إنما ينمو بالتصرف فيه، والدين يمنع من ذلك ويحوج إلى صرفه في قضائه. قال الأسنوي: وأهمل المصنف
زكاة الفطر، وهي من الباطن أيضا على الأصح. وأجيب بأن زكاة الفطر وإن كانت ملحقة بالباطن لكن لا مدخل
لها هنا لأن الكلام في الأموال، ومحل الخلاف ما لم يزد المال على الدين، فإن زاد وكان الزائد نصابا وجبت زكاته
قطعا، وما إذا لم يكن له من غير المال الزكوي ما يقضي به الدين، فإن كان لم يمنع قطعا عند الجمهور. وهل يلتحق
دين الضمان بالاذن بباقي الديون؟ فيه احتمالان لوالد الروياني لأن الدين عليه، ولكن له الرجوع بعد الأداء وينبغي
إلحاقه بها. (فعلى الأول) الذي هو أظهر الأقوال، (لو حجر عليه لدين فحال الحول في الحجر فكمغصوب) لأنه حيل
بينه وبين ماله لأن الحجر مانع من التصرف. نعم إن عين القاضي لكل غريم من غرمائه شيئا على ما يقتضيه التقسيط
ومكنه من الاخذ فلم يتفق الاخذ حتى حال عليه الحول ولم يأخذه، فلا زكاة فيه عليهم لعدم ملكهم، ولا على المالك
لضعف ملكه وكونهم أحق به. وهذا ظاهر فيما إذا أخذوه بعد الحول، فلو تركوه له فينبغي أن تلزمه الزكاة لتبين
استقرار ملكه، ثم عدم وجوبها عليها محله كما قال السبكي: إذا كان ماله من جنس دينهم، وإلا فكيف يمكنهم من أخذه
بلا بيع أو تعويض؟ قال: وقد صورها بذلك الشيخ أبو محمد في السلسلة، وكلام الرافعي في باب الحجر يقتضيه، فلو فرق
القاضي ماله بين غرمائه فلا زكاة عليه قطعا لزوال ملكه. (و) على الأول أيضا (لو اجتمع زكاة ودين آدمي في
تركة) بأن مات قبل أدائها وضاقت التركة عنها (قدمت) أي الزكاة وإن كانت زكاة فطر على الدين، وإن تعلق
بالعين قبل الموت كالمرهون تقديما لدين الله، لخبر الصحيحين: فدين الله أحق بالقضاء ولان مصرفها أيضا إلى
الآدميين، فقدمت لاجتماع الامرين فيها، والخلاف جار في اجتماع حق الله تعالى مطلقا مع الدين، فيدخل في ذلك
الحج وجزاء الصيد والكفارة والنذر كما صرح به في المجموع. نعم الجزية ودين الآدمي يستويان على الأصح مع أن
الجزية حق لله تعالى. (وفي قول) يقدم (الدين) لأن حقوق الآدميين مبنية على المضايقة لافتقارهم واحتياجهم،
وكما يقدم القصاص على القتل بالردة. وأجاب الأول بأن الحدود مبناها على الدرء. (وفي قول يستويان) فيوزع
المال عليهما، لأن الحق المالي المضاف إلى الله تعالى يعود إلى الآدميين أيضا وهم المنتفعون به، وفي قول: يقدم
الأسبق منهما وجوبا. وخرج بدين الآدمي دين الله تعالى ككفارة. قال السبكي: فالوجه أن يقال إن كان النصاب
موجودا - أي بعضه كما قاله شيخنا - قدمت الزكاة، وإلا فيستويان، وبالتركة ما لو اجتمعا على حي فإنه إن كان محجورا
عليه قدم حق الآدمي جزما كما قاله الرافعي في باب كفارة اليمين وإلا قدمت جزما كما قاله الرافعي هنا، هذا إذا لم تتعلق
الزكاة بالعين وإلا فتقدم مطلقا كما قاله شيخنا. ولو ملك نصابا فنذر التصدق به أو بشئ منه أو لعله صدقة أو أضحية
قبل وجوب الزكاة فيه فلا زكاة، وإن كان ذلك في الذمة أو لزمه الحج لم يمنع ذلك الزكاة في ماله لبقاء ملكه.
(والغنيمة قبل القسمة) وبعد الحوز وانقضاء الحرب، (إن اختار الغانمون تملكها ومضى بعده) أي بعد اختيار
التملك (حول، والجميع صنف زكوي، وبلغ نصيب كل شخص نصابا أو بلغه المجموع) بدون الخمس، (في موضع ثبوت
411

الخلطة) ماشية كانت أو غيرها، (وجبت زكاتها) كسائر الأموال. (وإلا) أي وإن انتفى شرط من هذه الشروط
الستة بأن لم يختاروا تملكها أو لم يمض حول أو مضى، والغنيمة أصناف أو صنف غير زكوي، أو لم يبلغ نصابا، أو يبلغ
بخمس الخمس، (فلا) زكاة لعدم الملك أو ضعفه لسقوطه بالاعراض عند انتفاء الشرط الأول، ولعدم الحول عند انتفاء
الشرط الثاني، ولعدم معرفة كل منهم ماذا نصيبه وكم نصيبه عند انتفاء الشرط الثالث، ولعدم المال الزكوي عند
انتفاء الشرط الرابع، ولعدم بلوغه نصابا عند الشرط الخامس، ولعدم ثبوت الخلطة عند انتفاء الشرط السادس، لأنها
لا تثبت مع أهل الخمس، إذ لا زكاة فيه لأنه لغير معين. (ولو أصدقها نصاب سائمة معينا لزمها زكاته إذا تم حول من
الاصداق) سواء استقر بالدخول والقبض أم لا لأنها ملكته بالعقد، ولو أصدقها بعض نصاب ووجدت شروط
الخلطة
ووجبت الزكاة أيضا. وخرج بالعين ما في الذمة فلا زكاة، لأن السوم لا يثبت في الذمة كما مر، بخلاف أصداق النقدين
تجب الزكاة فيهما وإن كانا في الذمة. ولو طلقها قبل الدخول بها وبعد الحول رجع في نصف الجميع شائعا إن أخذ
الساعي الزكاة من غير المعين المصدق أو لم يأخذ شيئا، فإن طالبه الساعي بعد الرجوع وأخذها منها أو كان قد أخذها
منها قبل الرجوع في بقيتها رجع أيضا بنصف قيمة المخرج. وإن طلقها قبل الدخول قبل تمام الحول عاد إليه نصفها
ولزم كلا منهما نصف شاة عند تمام حوله إن دامت الخلطة، وإلا فلا زكاة على واحد منهما لعدم تمام النصاب.
تنبيه: محل الوجوب عليها إذا علمت بالسوم، فإن لم تعلم أتبني على أن قصد السوم شرط أم لا؟ والأصح
نعم، ولو طالبته المرأة به فامتنع ولم تقدر على خلاصه فكالمغصوب، قاله المتولي. وعوض الخلع والصلح عن دم العمد
كالصداق، وألحق بهما ابن الرفعة بحثا مال الجعالة. (ولو أكرى) غيره (دارا أربع سنين بثمانين دينارا) معينة أو
في الذمة كل سنة بعشرين دينارا (وقبضها) من ذلك الغير، (فالأظهر أنه لا يلزمه أن يخرج إلا زكاة ما استقر)
عليه ملكه، لأن ما لا يستقر معرض للسقوط بانهدام الدار فملكه ضعيف، وإن حل وطئ الأمة المجعولة أجرة، لأن
الحل لا يتوقف على ارتفاع الضعف من كل وجه. وفارق ذلك ما مر في مسألة الصداق بأن الأجرة تستحق في مقابلة
المنافع، فبفواتها ينفسخ العقد من أصله، بخلاف الصداق، ولهذا لا يسقط بموت الزوجة قبل الدخول وإن لم تسلم المنافع
للزوج. وتشطره إنما يثبت بتصرف الزوج بالطلاق ونحوه، فيفيد ملكا جديدا وليس نقضا لملكها من الأصل.
(فيخرج عند تمام السنة الأولى زكاة عشرين) وهو نصف دينار، لأنها التي استقر ملكه عليها الآن، (ولتمام)
السنة (الثانية زكاة عشرين لسنة) وهي التي زكاها، (و) زكاة (عشرين لسنتين) وهي التي استقر ملكه
عليها الآن، (ولتمام) السنة (الثالثة زكاة أربعين لسنة) وهي التي زكاها، (و) زكاة (عشرين لثلاث سنين)
وهي التي استقر ملكه عليها الآن، (ولتمام) السنة (الرابعة زكاة ستين لسنة) وهي التي زكاها، (و) زكاة
(عشرين لأربع) وهي التي استقر ملكه عليها الآن، فإن قيل: إنه بالسنة الثانية يستقر ملكه على ربع الثمانين
الذي هو حصتها وله في ملكه سنتان ولم يخرج عنه، فيكون قد ملك المستحقون نصف دينار فيسقط حصة ذلك،
وهكذا قياس السنة الثالثة والرابعة. أجيب بأنه أخرج الزكاة من غير الأجرة. فإن قيل: إذا أدى الزكاة من غيره
فأول الحول الثاني في ربع الثمانين بكماله من حين أداء الزكاة لا من أول السنة لأنه باق على ملكهم إلى حين
الأداء.
أجيب بأنه عجل الاخراج قبل حولان كل حول فلم يتم الحول، وللمستحقين حق في المال. (و) القول (الثاني: يخرج
412

لتمام) السنة (الأولى زكاة الثمانين) لأنه ملكها ملكا تاما، ولهذا لو كانت الأجرة أمة حل له وطؤها كما مر،
وسقوطها بالانهدام لا يقدح كما في الصداق قبل الدخول، وتقدم الفرق بينهما. ثم محل ما مر إذا تساوت أجرة السنين
فإن اختلفت فكل منها بحسابه، لأن الإجارة إذا انفسخت توزع الأجرة المسماة على أجرة المثل في المدتين: الماضية
والمستقبلة. قال في المجموع: لو انهدمت الدار في أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقي فقط وتبينا استقرار ملكه على
قسط الماضي، والحكم في الزكاة كما مر. قال الماوردي والأصحاب: فلو كان أخرج زكاة جميع الأجرة قبل
الانهدام لم يرجع بما أخرجه عنها عند استرجاع قسط ما بقي، لأن ذلك حق لزمه في ملكه، فلم يكن له الرجوع به
على غيره.
فصل: في أداء زكاة المال: كان الأولى أن يترجم له بباب، وكذا للفصل الذي بعده فإنهما غير داخلين
في التبويب فلا يحسن التعبير بالفصل، ولهذا عقد في الروضة لهذا الفصل والذي بعده ثلاثة أبواب: بابا في أداء الزكاة،
وبابا في تعجيلها، وبابا في تأخيرها. (تجب الزكاة) أي أداؤها (على الفور) لأن حاجة المستحقين إليها ناجزة،
(إذا تمكن) من الأداء كسائر الواجبات، ولان التكليف بدونه تكليف بما لا يطاق، فإن أخر أثم وضمن إن
تلف كما سيأتي. نعم أداء زكاة الفطر موسع بليلة العيد ويومه كما مر. (وذلك) أي التمكن (بحضور المال) فلا
يجب الاخراج عن المال الغائب في موضع آخر، وإن جوزنا نقل الزكاة لاحتمال تلفه قبل وصوله إليه، نعم إن مضى
بعد تمام الحول مدة يمكن المضي إلى الغائب فيها صار متمكنا كما قاله السبكي، ويجب عليه الاعطاء. (و) حضور
(الأصناف) أي المستحقين أو حضور الامام أو الساعي لاستحالة الاعطاء بدون القابض، وبجفاف الثمار وتنقية الحب
والمعدن وخلو المالك من مهم ديني أو دنيوي كصلاة وأكل. وإن حضر بعض المستحقين دون بعض فكل حكمه
حتى لو تلف المال ضمن حصتهم، ويجوز تأخيرها ليتروى حيث تردد في استحقاق الحاضرين، وكذا لانتظار قريب
أو جار أو أحوج أو أصلح أو لانتظار الأفضل من تفرقته بنفسه أو بالامام أو نائبه إذا لم يشتد ضرر الحاضرين. نعم
لو تلف المال حينئذ ضمن. (وله أن يؤدي بنفسه زكاة المال الباطن) وهو النقدان، وعروض التجارة، والركاز كما
مر لمستحقه، وإن طلبها الامام. وليس للامام أن يطالبه بقبضها بالاجماع كما قاله في المجموع، نعم إن علم أن المالك لا يزكي
فعليه أن يقول له أدها وإلا ادفعها إلي. وكلامه قد يفهم جواز مباشرة السفيه لذلك، وليس مرادا لما سيأتي
في الحجر. (وكذا الظاهر) وهو النعم والمعشر والمعدن كما مر: (في الجديد) قياسا على الباطن، والقديم: يجب صرفها
إلى الامام أو نائبه لقوله تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة) * الآية، وظاهره الوجوب، هذا إن لم يطلبها الامام، فإن
طلبها وجب تسليمها إليه وإن كان جائرا بذلا للطاعة، بخلاف زكاة المال الباطن إذ لا نظر له فيها كما مر وإنما
ألحق الجائر بغيره لنفاذ حكمه وعدم انعزاله بالجور، فإن امتنعوا من تسليمها إليه قاتلهم وإن قالوا نسلمها للمستحقين
بأنفسنا لامتناعهم من بذل الطاعة. (وله) مع الأداء بنفسه في المالين (التوكيل) فيه لأنه حق مالي، فجاز التوكيل
في أدائه كديون الآدميين. وقضية إطلاقه جواز توكيل الكافر والرقيق والسفيه والصبي المميز، لكن يشترط
في الكافر والصبي تعيين المدفوع إليه كما في البحر، وذكر البغوي مثله في الصبي ولم يتعرض للكافر. (والصرف) بنفسه
أو وكيله (إلى الامام) أو الساعي لأنه نائب المستحقين، فجاز الدفع إليه، ولأنه (ص) والخلفاء بعده كانوا
يبعثون السعاة لاخذ الزكوات. (والأظهر أن الصرف إلى الامام أفضل) من تسليم المالك بنفسه أو وكيله إلى المستحقين
413

لأنه أعرف بهم وأقدر على الاستيعاب ولتيقن البراءة بتسليمه، بخلاف ما إذا فرق بنفسه فإنه قد يعطي غير المستحق.
ولو اجتمع الامام والساعي فالدفع إلى الامام أولى، قاله الماوردي. (إلا أن يكون جائرا) فالأفضل أن يفرق بنفسه لأنه
على يقين من فعل نفسه وفي شك من فعل غيره، والثاني: الأفضل الصرف إلى الامام مطلقا، والثالث: الأفضل تفرقته
بنفسه مطلقا ليخص الأقارب والجيران والاحق وينال أجر التفريق. وكان الأولى التعبير بالأصح كما في الشرحين
والروضة والمجموع. ومحل الخلاف في الأموال الباطنة، أما الظاهرة فتسليمها كما قاله في المجموع إلى الامام وإن كان
جائرا أفضل من تفريق المالك أو وكيله لها اه‍. ثم إن لم يطلبها الامام فللمالك تأخيرها ما دام يرجو مجئ الساعي،
فإن أيس من مجيئه وفرق بنفسه ثم طالبه الساعي وجب تصديقه ويحلف استحبابا إن اتهم. وصرفه بنفسه أو إلى
الامام
أفضل من التوكيل بلا خلاف.
تنبيه: المراد بالعادل: العادل في الزكاة وإن كان جائرا في غيرها كما نقله في الكفاية عن الماوردي، وظاهره
أنه تفسير لكلام الأصحاب في المراد بالعدل والجور هنا. (وتجب النية) في الزكاة للخبر المشهور، والاعتبار فيها
بالقلب كغيرها. (فينوي: هذا فرض زكاة مالي، أو فرض صدقة مالي ونحوهما) كزكاة مالي المفروضة أو الصدقة المفروضة
أو الواجبة كما قال البغوي وغيره، لدلالة ذلك على المقصود. ولو نوى زكاة المال دون الفريضة أجزأه، وإن كان كلامه
يشعر باشتراط نية الفريضة مع نية الزكاة لأنها لا تكون إلا فرضا، بخلاف صلاة الظهر مثلا فإنها قد تكون نفلا، ولو
قال: هذه زكاة، أجزأه أيضا. (ولا يكفي: هذا فرض مالي) لأن ذلك يصدق على النذر والكفارة وغيرهما. (وكذا
الصدقة) أي: صدقة مالي أو المال، لا يكفي، (في الأصح) لأن الصدقة تصدق على صدقة التطوع، والثاني: يكفي
لظهورها في الزكاة، لأنها قد عهدت في القرآن لاخذ الزكاة، قال تعالى: * (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) *.
وقال تعالى: * (إنما الصدقات للفقراء) * الآية. أما لو نوى الصدقة فقط فإنه لا يجزئه على المذهب، قال في المجموع:
وبه قطع الجمهور. والفرق بين المسألتين: أن الصدقة تطلق على غير المال، كقوله (ص): فكل تكبيرة
صدقة، وكل تحميدة صدقة. (ولا يجب) في النية (تعيين المال) المخرج عنه عند الاخراج، لأن الغرض لا يختلف به
كالكفارات، فلو ملك من الدراهم نصابا حاضرا ونصابا غائبا عن محله، فأخرج خمسة دراهم بنية الزكاة مطلقا ثم بان
تلف الغائب فله جعل المخرج عن الحاضر. (ولو عين لم يقع عن غيره) ولو بان المعين تالفا لأنه لم ينو ذلك الغير، فلو
ملك أربعين شاة وخمسة أبعرة، فأخرج شاة عن الأبعرة فبانت تالفة لم تقع عن الشياه. هذا إذا لم ينو أنه إن بان
ذلك المنوي عنه تالفا فعن غيره، فإن نوى ذلك فبان تالفا وقع عن الآخر. ولو قال: هذه زكاة مالي الغائب إن كان
باقيا، فبان باقيا أجزأه عنه، بخلاف قوله: هذه زكاة مالي إن كان مورثي قد مات، فبان موته فإنه لا يجزئه. والفرق
عدم الاستصحاب للمال في هذه، إذ الأصل فيها بقاء الحياة وعدم الإرث وفي تلك بقاء المال، ونظيره أن يقول في ليلة
آخر شهر رمضان: أصوم غدا عن شهر رمضان إن كان منه، فيصح، ولو قال في ليلة آخر شعبان: أصوم غدا إن كان
من شهر رمضان، لم يصح. (ويلزم الولي النية إذا أخرج زكاة الصبي والمجنون) والسفيه، لأن النية واجبة وقد
تعذرت من المالك فقام بها وليه كالاخراج، فإذا دفع بلا نية لم يقع الموقع وعليه الضمان، ولولي السفيه مع ذلك أن
يفوض النية كغيره. (وتكفي نية الموكل عند الصرف إلى الوكيل) عن الوكيل عند الصرف إلى المستحقين،
(في الأصح) لوجود النية من المخاطب بالزكاة مقارنة لفعله. (والأفضل أن ينوي الوكيل عند التفريق) على المستحقين
414

(أيضا) للخروج من الخلاف، والثاني: لا تكفي نية الموكل وحده بل لا بد من نية الوكيل المذكور، كما لا تكفي نية المستنيب
في الحج. وفرق الأول بأن العبادة في الحج فعل النائب فوجبت النية منه، وهي هنا بمال الموكل فكفت نيته. وعلى الأول:
لو نوى الوكيل وحده لم يكف إلا إن فوض إليه الموكل النية وكان الوكيل أهلا لها لا كافرا أو صبيا، ولو نوى الموكل
وحده عند تفرقة الوكيل جاز قطعا، ولو عزل مقدار الزكاة ونوى عند العزل جاز في الأصح، ولا يضر تقديمها على
التفرقة كالصوم لعسر الاقتران بأداء كل مستحق، ولان القصد من الزكاة سد حاجة المستحقين بها. ولو نوى بعد العزل
وقبل التفرقة أجزأه أيضا، وإن لم تقارن النية أخذها في المجموع، وقال فيه عن زيادة العبادي: إنه لو دفع مالا إلى وكيله
ليفرقه تطوعا ثم نوى به الفرض ثم فرقه الوكيل وقع عن الفرض إذا كان القابض مستحقا. (ولو دفع) الزكاة (إلى السلطان
كفت النية عنده) أي عند الدفع إليه، وإن لم ينو السلطان عند الدفع للمستحقين لأنه نائبهم فالدفع إليه كالدفع إليهم ولهذا
لو تلفت عنده الزكاة لم يجب على المالك شئ، بخلاف الوكيل، والساعي في ذلك كالسلطان. (فإن لم ينو) المالك عند الدفع
إلى السلطان (لم يجزئ على الصحيح، وإن نوى السلطان) عند القسم لأنه نائب المستحقين والدفع إليهم بلا نية لا يجزئ
فكذا نائبهم، والثاني: يجزئ نوى السلطان أو لم ينو، لأن العادة فيما يأخذه الامام ويفرقه على الأصناف إنما هو الفرض
فأغنت هذه القرينة عن النية، فإن أذن له في النية جاز كغيره. ولو عبر بالأصح كما في الروضة كان أولى لأن الثاني نص
عليه في الام، وهو ظاهر نص المختصر وقطع به كثير من العراقيين. (والأصح أنه يلزم السلطان النية إذا أخذ زكاة الممتنع)
من أدائها نيابة عنه. والثاني: لا تلزمه وتجزئه من غير نية. (و) الأصح (أن نيته) أي السلطان (تكفي) في الاجزاء ظاهرا
وباطنا لقيامه مقامه في النية كما في التفرقة، والثاني: لا تكفي لأن المالك لم ينو، وهو متعبد بأن يتقرب بالزكاة، ومحل لزوم
السلطان النية إذا لم ينو الممتنع عند الاخذ منه قهرا، فإن نوى كفى وبرئ باطنا وظاهرا، وتسميته حينئذ ممتنعا إنما هو
باعتبار امتناعه السابق، وإلا فقد صار بنيته غير ممتنع. فلو لم ينو الامام ولا المأخوذ منه لم يبرأ باطنا، وكذا ظاهرا في
الأصح. ولو لم ينو السلطان عند الاخذ ونوى عند الصرف على المستحقين ينبغي أن يجزئ، وإن بحث ابن الأستاذ خلافه
وجزم به القمولي، لأنه قائم مقام المالك والمالك لو نوى في هذه الحالة أجزأه. ولو قدم المصنف المسألة الثانية على الأولى
كان أولى لأن الوجهين في اللزوم مبنيان على الوجهين في الاكتفاء.
فصل: في تعجيل الزكاة وما يذكر معه: (لا يصح تعجيل الزكاة) في مال حولي (على ملك النصاب) في الزكاة العينية،
كأن ملك مائة درهم فعجل خمسة دراهم لتكون زكاة إذا تم النصاب وحال الحول عليه واتفق ذلك فإنه لا يجزئ لفقد
سبب وجوبها وهو المال الزكوي، فأشبه أداء الثمن قبل البيع وتقديم الكفارة على اليمين. ولو ملك خمسا من الإبل
فعجل شاتين فبلغت عشرا بالتوالد لم يجزه ما عجل عن النصاب الذي كمل الآن لما فيه من تقديم زكاة العين على النصاب،
فأشبه ما لو أخرج زكاة أربعمائة درهم وهو لا يملك إلا مائتين. ولو عجل شاة عن أربعين شاة ثم ولدت أربعين ثم
هلكت الأمهات لم يجزه المعجل عن السخال لأنه عجل الزكاة عن غيرها فلا يجزئه عنها. ولو ملك مائة وعشرين شاة
فعجل عنها شاتين فحدثت سخلة قبل الحول لم يجزه ما عجله عن النصاب الذي كمل الآن كما نقله في الشرح الصغير عن
تصريح الأكثرين واقتضاه كلام الكبير، وقيل: يجوز، وجزم به في الحاوي الصغير، لأن النتاج في أثناء الحول بمثابة
الموجود في أوله. وخرج بالعينية زكاة التجارة فيجوز التعجيل فيها بناء على ما مر من أن النصاب فيها يعتبر آخر الحول،
فلو اشترى عرضا قيمته مائة فعجل زكاة مائتين، أو قيمته مائتان فعجل زكاة أربعمائة وحال الحول وهو يساوي ذلك
415

أجزأه. (ويجوز) تعجيلها في المال الحولي (قبل) تمام (الحول) فيما انعقد حوله، لأن العباس سأل رسول الله
(ص) في تعجيل صدقته قبل الحول فرخص له في ذلك، رواه أبو داود والترمذي، وقال الحاكم: صحيح الاسناد. ولأنه وجب
بسببين: وهما النصاب والحول، فجاز تقديمه على أحدهما كتقديم كفارة اليمين على الحنث، فلو ملك مائتي درهم
أو ابتاع عرضا يساويها فعجل زكاة أربعمائة وحال الحول وهو يساويها أجزأه المعجل. (ولا تعجل لعامين في الأصح)
ولا لأكثر كما فهم بالأولى، لأن زكاة غير الأول لم ينعقد حوله، والتعجيل قبل انعقاد الحول لا يجوز كالتعجيل قبل كمال
النصاب في الزكاة العينية، فإن عجل لعامين فأكثر أجزأه عن الأول دون غيره لما مر، وقضية ذلك الاجزاء عنه مطلقا،
وهو كما قال الأسنوي ك السبكي: مسلم إن ميز حصة كل عام، وإلا فينبغي عدم الاجزاء لأن المجزئ عن خمسين شاة مثلا
إنما هو شاة معينة لا شائعة ولا مبهمة. والثاني: يجوز، لما رواه أبو داود وغيره من أنه (ص) تسلف من العباس صدقة عامين،
وصحح هذا الأسنوي وغيره وعزوه للنص. وعلى هذا يشترط أن يبقى بعد التعجيل نصاب كتعجيل شاتين من ثنتين
وأربعين شاة. وأجاب البيهقي بأن الحديث مرسل أو محمول على أنه تسلف صدقة عامين مرتين، أو صدقة مالين لكل
واحد حول مفرد. (وله تعجيل الفطرة من أول) ليلة (رمضان) لأنها وجبت بسببين وهما الصوم والفطر، فجاز تقديمها
على أحدهما، ولان التقديم بيوم أو يومين جائز باتفاق المخالف فألحق الباقي به قياسا بجامع إخراجها في جزء منه. (والصحيح
منعه) أي التعجيل (قبله) أي رمضان، لأنه تقديم على السببين. والثاني: يجوز، لأن وجود المخرج عنه في نفسه سبب. وأجاب
القاضي أبو الطيب بأن ما له ثلاثة أسباب لا يجوز تقديمه على اثنين منها، بدليل كفارة الظهار فإن سببها الزوجية والظهار
والعود ومع ذلك لا تقدم على الأخيرين. (و) الصحيح (أنه لا يجوز إخراج زكاة الثمر قبل بدو صلاحه، ولا الحب قبل
اشتداده) لأن وجوبها بسبب واحد وهو إدراك الثمار فيمتنع التقديم عليه، وأيضا لا يعرف قدره تحقيقا ولا تخمينا
. والثاني:
يجوز كزكاة المواشي والنقد قبل الحول. ومحل الخلاف فيما بعد ظهوره، أما قبله فيمتنع قطعا. (و) الصحيح أنه (يجوز
بعدهما) أي صلاح الثمر واشتداد الحب قبل الجفاف والتصفية إذا غلب على ظنه حصول النصاب كما قاله في البحر، لمعرفة
قدره تخمينا، ولان الوجوب قد ثبت إلا أن الاخراج لا يجب، وهذا تعجيل على وجوب الاخراج، لا على أصل الوجوب
فهو أولى بالاخراج من تعجيل الزكاة قبل الحول: والثاني: لا يجوز، للجهل بالقدر. ولو أخرج من عنب لا يتزبب أو
رطب لا يتتمر أجزأ قطعا إذ لا تعجيل. (وشرط إجزاء) أي وقوع (المعجل) زكاة (بقاء المالك أهلا للوجوب) عليه (إلى
آخر الحول) وبقاء المال إلى آخره أيضا، فلو مات أو تلف المال أو باعه ولم يكن مال تجارة لم يجزه المعجل.
تنبيه: قد يبقى المال وأهلية المالك ولكن تتغير صفة الواجب، كما لو عجل بنت مخاض عن خمس وعشرين
فتوالدت قبل الحول حتى بلغت ستا وثلاثين فلا تجزئه المعجلة على الأصح وإن صارت بنت لبون في يد القابض،
بل يستردها ويعيدها أو يعطي غيرها، وذلك لأنه لا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط. والمراد من عبارة المصنف
أن يكون المالك موصوفا بصفة الوجوب، لأن الأهلية تثبت بالاسلام والحرية، ولا يلزم من وصفه بالأهلية وصفه
بوجوب الزكاة عليه. (وكون القابض) له (في آخر الحول مستحقا) فلو خرج عن الاستحقاق بموت أو ردة لم يحسب
المدفوع إليه عن الزكاة لخروجه عن الأهلية عند الوجوب، والقبض السابق إنما يقع عن هذا الوقت. (وقيل إن خرج
عن الاستحقاق في أثناء الحول) كأن ارتد ثم عاد (لم يجزه) أي المالك المعجل، كما لو لم يكن عند الاخذ مستحقا ثم
416

صار كذلك في آخر الحول، والأصح الاجزاء اكتفاء بالأهلية في طرفي الوجوب والأداء. وقد يفهم أنه لا بد من العلم
بكونه مستحقا في آخر الحول، فلو غاب عند الحول ولم تعلم حياته أو احتياجه لم يجزه، لكن في فتاوى الحناطي: الظاهر
الاجزاء، وهو أقرب الوجهين في البحر، وهو المعتمد، ولم يصرح الشيخان بالمسألة. ومثل ذلك ما لو حصل المال عند
الحول ببلد غير بلد القابض فإن المدفوع يجزئ عن الزكاة كما اعتمده شيخي، إذ لا فرق بين أن يغيب القابض عن
بلد المال أو يخرج المال عن بلد القابض وإن كان في كلام بعض المتأخرين خلافه، وفي البحر: لو شك هل مات قبل
الحول أو بعده أجزأ في أقرب الوجهين. وقضية كلام المصنف أن القابض إذا مات وهو معسر في أثناء الحول أنه يلزم
المالك دفع الزكاة ثانيا إلى المستحقين، وهو كذلك. وقال في المجموع: هو الذي يقتضيه كلام الجمهور. (ولا يضر غناه
بالزكاة) المعجلة، إما لكثرتها أو لتوالدها ودرها أو التجارة فيها أو غير ذلك، لأنه إنما أعطي الزكاة ليستغني فلا يكون
ما هو المقصود مانعا من الاجزاء. وأيضا لو أخذناها منه لافتقر واحتجنا إلى ردها إليه، فإثبات الاسترجاع يؤدي إلى
نفيه. ويضر غناه بغيرها كزكاة واجبة أو معجلة أخذها بعد أخرى وقد استغنى بها. واستشكل السبكي ما إذا كانتا
معجلتين واتفق حولهما، إذ ليس استرجاع إحداهما بالأولى من الأخرى، ثم قال: والثانية أولى بالاسترجاع. وكلام
الفارقي يشعر باسترجاع الأولى، والأول أوجه. أما إذا كانت الثانية واجبة فالأولى هي المسترجعة، وعكسه بالعكس،
لأنه لا مبالاة بعروض المانع بعد قبض الزكاة الواجبة. أما إذا أخذهما معا فإنه لا استرداد، ولو استغنى بالزكاة وبغيرها
لم يضر أيضا كما اقتضاه كلام المصنف وجزما به في الروضة وأصلها، لأنه بدونها ليس بغني خلافا لقول الجرجاني في شافيه
أنه يضر. (وإذا لم يقع المعجل زكاة) لعروض مانع وجبت الزكاة ثانيا كما مرت الإشارة إليه. نعم لو عجل شاة من
أربعين فتلفت بيد القابض لم يجب التجديد، لأن الواجب القيمة، ولا يكمل بها نصاب السائمة، و (استرد) المالك
(إن كان شرط الاسترداد إن عرض مانع) عملا بالشرط لأنه مال دفعه عما يستحقه القابض في المستقبل، فإذا عرض
ما يمنع الاستحقاق استرد، كما إذا عجل أجرة الدار ثم انهدمت في المدة. وفهم منه أنه ليس له الاسترداد قبل عروض
المانع، وهو كذلك لأنه قد تبرع بالتعجيل فلم يكن له الرجوع فيه كمن عجل دينا مؤجلا. وفهم منه أيضا أنه إن شرط
الاسترداد بدون مانع لا يسترد، وهو كذلك، قال الأسنوي: وفي صحة القبض حينئذ نظر اه‍. والظاهر الصحة. (والأصح
أنه إن قال) عند دفعه بنفسه: (هذه زكاتي المعجلة فقط) أو علم القابض أنها معجلة، (استرد) لذكره
التعجيل أو العلم به
وقد بطل. والثاني: لا يسترد ويكون تطوعا.
تنبيه: لو عبر بالمذهب كان أولى، فإن الصحيح في المجموع وغيره هو القطع بالأول. ومحل الخلاف فيما إذا دفع
المالك بنفسه كما قدرته، أما إذا فرق الامام فإنه يسترد قطعا إذا ذكر التعجيل، ولا حاجة إلى شرط الرجوع. وكان الأولى
أن يصرح بعلم القابض كما قدرته، فإنه قد احتاج إليه بعد هذا في عكس المسألة وصرح به فقال: (و) الأصح، وصحح
في الروضة القطع به، (أنه إن لم يتعرض للتعجيل) بأن اقتصر على ذكر الزكاة أو سكت ولم يذكر شيئا (ولم يعلمه
القابض لم يسترد) ويكون تطوعا لتفريط الدافع بترك الاعلام عند الاخذ. والثاني: يسترد لظنه الوقوع عن الزكاة ولم
يقع عنها. والثالث: إن كان المعطي هو الامام رجع، وإن كان هو المالك فلا، لأن الامام يعطي مال الغير فلا يمكن
وقوعه تطوعا. واحترز بقوله: ولم يعلمه القابض عما إذا علمه عند القبض فإنه يسترد كما مر. ولو تجدد له
العلم بعد القبض فهل هو كالمقارن أو لا؟ قال السبكي: في كلام أبي حامد والامام ما يفهم أنه كالمقارن وهو الأقرب.
(و) الأصح (أنهما لو اختلفا في مثبت الاسترداد) وهو التصريح بالرجوع عند عروض مانع، أو في ذكر التعجيل،
417

أو علم القابض به على الأصح، (صدق القابض) أو وارثه (بيمينه) لأن الأصل عدم الاشتراط، ولأنها اتفقا على
انتقال الملك، والأصل استمراره، ولان الغالب هو الأداء في الوقت. ويحلف القابض على البت ووارثه على نفي العلم،
والثاني: يصدق المالك بيمينه لأنه أعرف بقصده، ولهذا لو أعطى ثوبا لغيره وتنازعا في أنه عارية أو هبة صدق الدافع.
ووقع في المجموع أنه الأصح، وعد من سبق القلم. ومحل الخلاف في غير علم القابض بالتعجيل، أما فيه فيصدق القابض
بلا خلاف لأنه لا يعرف إلا من جهته، ولا بد من حلفه على نفي العلم بالتعجيل على الأصح في المجموع، لأنه لو اعترف
بما قاله الدافع لضمن. ولو اختلفا في نقص المال عن النصاب أو تلفه قبل الحول، فقضية كلام المصنف تصديق القابض
بيمينه، وهو كذلك، وإن قاله الأذرعي فيه وقفة. (ومتى ثبت) الاسترداد (والمعجل تالف وجب ضمانه) بالمثل إن كان
مثليا، وبالقيمة إن كان متقوما، لأنه قبضه لغرض نفسه. (والأصح) في المتقوم (اعتبار قيمته يوم) أي وقت (القبض)
لأن ما زاد عليها حصل في ملك القابض فلا يضمنه، والثاني: قيمته وقت التلف لأنه وقت انتقال الحق إلى القيمة، وفي
معنى تلفه البيع ونحوه. (و) الأصح (أنه إن وجده ناقصا) نقص أرش صفة كالمرض والهزال حدث قبل سبب الرد
(فلا أرش) له لأنه حدث في ملكه فلا يضمنه، كالأب إذا رجع في الموهوب ناقصا. والثاني: له أرشه لأن جملته مضمونة
فكذلك جزؤه، وليس كالهبة فإن جملها غير مضمونه فجزؤها أولى. أما نقص الجزء كتلف شاة من شاتين فإنه يرجع
ببدل التالف قطعا كما في المجموع والكفاية. (و) الأصح (أنه لا يسترد زيادة منفصلة) كلبن وولد حدثت قبل وجود
سبب الاسترداد لأنها حدثت في ملكه، واللبن في الضرع ونحو الصوف على ظهر الدابة كالمنفصل حقيقة لأنه منفصل حكما،
والثاني: يستردها مع الأصل لأنه تبين أنه لم يقع الموقع. أما لو حصل النقص أو الزيادة المنفصلة بعد وجود سبب الرجوع
أو كان القابض حال القبض غير مستحق فيجب الأرش ويسترد الزيادة كما قاله الامام وجزم به في الكفاية. واحترز
بالمنفصلة عن المتصلة كالسمن والتعليم فإنها تتبع الأصل. ولو وجد المعجل بحاله وأراد القابض أن يرد بدله ولم يرض
المالك ففيه الخلاف في الفرض كما قاله الشيخان، فيكون الأصح إجابة المالك. وتعبيره بالأصح يقتضي إثبات الخلاف
وقوته. وعبر في الروضة بالمذهب الذي قطع به الجمهور، ونص عليه الشافعي، وقيل وجهان. (وتأخير) أداء (الزكاة بعد
التمكن) وقد تقدم، (يوجب الضمان) لها وإن لم يأثم، كأن أخر لطلب الأفضل كما مرت الإشارة إليه (وإن تلف المال) المزكى
أو أتلف لتقصيره بحبس الحق عن المستحق.
تنبيه: قال الأسنوي: وهذه المسألة وجميع ما بعدها لا تعلق له بالتعجيل، فكان ينبغي إفراده بفصل كما في المحرر.
وفي جعله التلف غاية نظر، فإن ذلك هو محل الضمان، وأما قبل التلف فيقال وجب الأداء ولا يحسن فيه القول بالضمان،
فكان ينبغي إسقاط الواو. (ولو تلف قبل التمكن) وبعد الحول بلا تقصير، (فلا) ضمان لعدم تقصيره. أما إذا قصر كأن وضعه
في غير حرز مثله فعليه الضمان. (ولو تلف بعضه) بعد الحول وقبل التمكن وبقي بعضه، (فالأظهر أنه يغرم قسط ما بقي) بعد
إسقاط الوقص، فلو تلف واحد من خمس من الإبل قبل التمكن ففي الباقي أربعة أخماس شاة، أو ملك تسعة منها حولا
فهلك قبل التمكن خمسة وجب أربعة أخماس شاة بناء على أن التمكن شرط في الضمان، وأن الأوقاص عفو وهو الأظهر
فيهما، أو أربعة وجبت شاة، والثاني: لا شئ عليه بناء على أن التمكن شرط للوجوب.
تنبيه: لو عبر باللزوم بدل الغرم كان أولى، وعبارة المحرر: يبقى قسط ما بقي. (وإن أتلفه) المالك (بعد الحول
وقبل التمكن لم تسقط الزكاة) سواء قلنا التمكن شرط للضمان أم للوجوب، لأنه متعد بالاتلاف. فإن أتلفه أجنبي، فإن
418

قلنا التمكن شرط للوجوب فلا زكاة عليه، وإن قلنا إنه شرط في الضمان وعلقنا الزكاة بالعين وهو الأصح فيهما، انتقل
الحق إلى القيمة، كما لو قتل الرقيق الجاني والمرهون. (وهي) أي الزكاة (تتعلق بالمال) الذي تجب فيه (تعلق شركة)
بقدرها، لظاهر الأدلة، ولأنها تجب بصفة المال من الجودة والرداءة. ولو امتنع المالك من إخراجها أخذها الامام منه
قهرا، كما يقسم المال المشترك إذا امتنع بعض الشركاء من قسمته. وإنما جاز الاخراج من غيره على خلاف قاعدة المشتركات
رفقا بالمالك وتوسيعا عليه لكونها وجبت مجانا على سبيل المواساة، وعلى هذا إن كان الواجب من غير جنس المال
كشاة في خمس من الإبل ملك المستحقون بقدر قيمتها من الإبل أو من جنسه كشاة من أربعين شاة، فهل الواجب
شاة لا بعينها أو شائع أي جزء من كل شاة؟ وجهان حكاهما الشيخان في الكلام على بيع المال. الأقرب إلى كلام
الأكثرين الثاني، إذ القول بالأول يقتضي الجزم ببطلان البيع فيما ذكر لابهام المبيع، وعلى الوجهين للمالك تعيين
واحدة منها أو من غيرها قطعا رفقا به. وظاهرها في المجموع إطلاق الخلاف في النقود والحبوب ونحوها وإن قال بعضهم
إن واجبها شائع بلا خلاف. (وفي قول تعلق الرهن) بقدرها منه، فيكون الواجب في ذمة المالك والنصاب مرهون
به، لأنه لو امتنع من الأداء ولم يجد الواجب في ماله باع الامام بعضه واشترى واجبه كما يباع المرهون في الدين. وقيل: تتعلق
بجميعه، (وفي قول) تتعلق (بالذمة) ولا تعلق لها بالعين كزكاة الفطر، وهو أضعفها. وفي قول رابع أنها تتعلق بالعين تعلق الأرش
برقبة الجاني، لأنها تسقط بهلاك النصاب كما يسقط الأرش بموت العبد، والتعلق بقدرها منه، وقيل بجميعه. وفي خامس: أنه
إن أخرج من المال تبين تعلقها به وإلا فلا. (فلو باعه) أي المال بعد وجوب الزكاة (وقبل إخراجها فالأظهر بطلانه) أي
البيع، (في قدرها وصحته في الباقي) لأن حق المستحقين شائع فأي قدر باعه كان حقه وحقهم. والثاني: بطلانه في الجميع.
والثالث: صحته في الجميع. والاولان قولا تفريق الصفقة، ويأتيان على تعلق الشركة وتعلق الرهن أو الأرش بقدر الزكاة ويأتي
الثالث على ذلك أيضا. وعلى الأول لو استثنى قدر الزكاة في غير الماشية ك‍ بعتك هذا إلا قدر الزكاة صح البيع كما جزم به
الشيخان في بابه، لكن يشترط ذكره أهو عشر أم نصفه كما نقل عن الماوردي والروياني. وأما الماشية فإن عين كقوله:
إلا هذه الشاة صح في كل المبيع، وإلا فلا في الأظهر، ويستثنى من ذلك زكاة التمر إذا خرص، وقلنا الخرص تضمين، وهو
الأصح فإنه يصح بيع جميعه قطعا كما أشار إليه المصنف هناك. هذا كله في بيع الجميع كما أشار إليه بقوله: فلو باعه، فأما
إذا باع بعضه فإن لم يبق قدر الزكاة فهو كما لو باع الجميع، وإن أبقى قدرها بنية الصرف فيها أو بلا نية بطل أيضا في قدرها
على أقيس الوجهين. فإن قيل: يشكل هذا على ما سبق من جزم الشيخين بالصحة. أجيب بأن الاستثناء اللفظي أقوى
من القصد المجرد، وهذا كله في زكاة الأعيان، أما زكاة التجارة فيصح بيع الكل بعد وجوب الزكاة وقبل إخراجها
على الأصح لأن متعلق الزكاة القيمة وهي لا تفوت بالبيع، بخلاف ما لو وهب أموال التجارة فهو كبيع ما وجبت في عينه
فيأتي فيه الأقوال السابقة.
تتمة: لو علم المشتري أن الزكاة وجبت على البائع ولم يخرجها ثبت له الخيار بسبب أن ملكه في بعض ما اشتراه
لم يكمل لأن للساعي انتزاعه من يده بغير اختيار، فلو أدى البائع الزكاة من موضع آخر لم يسقط خياره لأنه وإن فعل
ذلك لا ينقلب صحيحا في قدرها، وقيل يسقط لأن الخلل قد زال.
خاتمة: يسن للمستحق والساعي الدعاء للمالك عند الاخذ ترغيبا له في الخير وتطييبا لقلبه، وقال تعالى: * (وصل
عليهم) * أي ادع لهم، ولا يتعين دعاء، والأولى أن يقول ما استحبه الشافعي: آجرك الله فيما أعطيت وجعله
لك طهورا
وبارك لك فيما أبقيت، ويكره أن يصلى - بفتح اللام - على غير الأنبياء والملائكة، لأن ذلك شعار أهل البدع، كما لا يقال
عز وجل إلا لله تعالى، وإن صح المعنى في غيره لأنه صار مختصا به، إلا تبعا لهم كالآل فيقول: اللهم صل على محمد وعلى
آل محمد وأصحابه وأزواجه وأتباعه. ويستثنى من غير الأنبياء والملائكة ما اختلف في نبوته كلقمان ومريم على الأشهر
419

من أنهما ليسا بنبيين، فلا يكره إفراد الصلاة والسلام عليهما كما يؤخذ من أذكار المصنف لأنهما يرتفعان عن حال من
يقال فيه رضي الله عنه. ولا تكره الصلاة من الأنبياء والملائكة على غيرهما لأنهما حقهما فلهما الانعام بهما على
غيرهما، وقد صح أنه (ص) قال: اللهم صل على آل أبي أوفى والسلام كالصلاة فيما ذكر لأنه تعالى
قرن بينهما، لكن المخاطبة به مستحبة للاحياء والأموات من المسلمين ابتداء وواجبة جوابا كما يأتي في محله إن شاء الله
تعالى، وما يقع منه غيبة في المراسلات فمنزل منزلة ما يقع خطابا. ويسن الترضي والترحم على غير الأنبياء من الأخيار،
قال في المجموع: وما قاله بعض العلماء من أن الترضي مختص بالصحابة والترحم بغيرهم ضعيف.
كتاب الصيام
هو والصوم لغة الامساك، ومنه قوله تعالى حكاية عن مريم: * (إني نذرت للرحمن صوما) * أي إمساكا وسكوتا عن
الكلام. وشرعا: إمساك عن المفطر على وجه مخصوص. والأصل في وجوبه قبل الاجماع مع ما يأتي آية: * (كتب
عليكم الصيام) *، وخبر: بني الاسلام على خمس. وفرض في شعبان في السنة الثانية من الهجرة. وأركانه
ثلاثة: صائم، ونية، وإمساك عن المفطرات. (يجب صوم رمضان) للأدلة السابقة. وهو معلوم من الدين بالضرورة،
فمن جحد وجوبه فهو كافر إلا أن يكون قريب العهد بالاسلام، أو نشأ بعيدا عن العلماء. ومن ترك صومه غير
جاحد من غير عذر كمرض وسفر، كأن قال الصوم واجب علي ولكن لا أصوم حبس ومنع الطعام والشراب نهارا
ليحصل له صورة الصوم بذلك. سمي رمضان من الرمض، وهو شدة الحر، لأن العرب لما أرادت أن تضع أسماء
الشهور وافق أن الشهر المذكور كان في شدة الحر فسمي بذلك كما سمي الربيعان لموافقتهما زمن الربيع. وما قيل
من أنه سمي بذلك لأنه يرمض الذنوب، أي يحرقها، ضعيف لأن التسمية ثابتة قبل الشرع. قال ابن عبد السلام
:
وهو أفضل الأشهر. وفي الحديث: رمضان سيد الشهور. ولا يكره قول رمضان بدون الشهر على الأصح في شرحي
المهذب ومسلم، وما نقله أكثر الأصحاب من كراهته لحديث ورد فيه ضعفه البيهقي وغيره. وإنما يجب (بإكمال شعبان
ثلاثين) يوما (أو رؤية الهلال) ليلة الثلاثين منه، لقوله (ص): صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم
فأكملوا عدة شعبان ثلاثين رواه البخاري. ويضاف إلى الرؤية وإكمال العدد ظن دخوله بالاجتهاد عند الاشتباه
كما سيأتي في كلامه. والظاهر كما قال الأذرعي أن الامارة الظاهرة الدالة كرؤية القناديل المعلقة بالمناثر في آخر شعبان
في حكم الرؤية. وأفهم كلامه أنه لا يجب بقول المنجم ولا يجوز، والمراد بآية: * (وبالنجم هم يهتدون) * الاهتداء
إلى أدلة القبلة في السفر. ولكن له أن يعمل بحسابه كالصلاة، ولظاهر هذه الآية، وصححه في المجموع وقال إنه
لا يجزئه عن فرضه. وصحح في الكفاية أنه إذا جاز أجزأه، ونقله عن الأصحاب، ورجحه الزركشي تبعا للسبكي،
قال: وصرح به في الروضة فيما يأتي في الكلام على أن شرط النية الجزم، وهذا هو المعتمد. والحاسب: وهو من يعتمد
منازل القمر وتقدير سيره في معنى المنجم وهو من يرى أن أول الشهر طلوع النجم الفلاني. ولا عبرة أيضا بقول
من قال: أخبرني النبي (ص) في النوم بأن الليلة أول رمضان، فلا يصح الصوم به بالاجماع لفقد ضبط الرائي، لا للشك
في الرؤية. وهل تثبت بالشهادة على الشهادة؟ طريقان، أصحهما القطع بثبوته كالزكاة، وقيل: لا، كالحدود. (وثبوت
رؤيته) يحصل (بعدل) سواء كانت السماء مصحية أم لا، لأن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رآه فأخبر رسول الله
(ص) بذلك فصام وأمر الناس بصيامه، رواه أبو داود وصححه ابن حبان. وعن ابن عباس رضي الله
تعالى عنهما قال: جاء أعرابي إلى رسول الله (ص) فقال: إني رأيت هلال رمضان، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟
420

قال: نعم، قال: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا، صححه ابن حبان
والحاكم. والمعنى في ثبوته بالواحد الاحتياط للصوم. (وفي قول) يشترط في ثبوت رؤيته (عدلان) كغيره من الشهور.
قال الأسنوي: وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه، فإن المجتهد إذا كان له قولان وعلم المتأخر منهما كان مذهبه المتأخر،
ففي الام: قال الشافعي بعد: لا يجوز على هلال رمضان إلا شاهدان. ونقل البلقيني مع هذا النص نصا آخر صيغته: رجع
الشافعي بعد فقال: لا يصام إلا بشاهدين. ونقل الزركشي عن الصيمري أنه قال: إن صح أن النبي (ص) قبل شهادة
الاعرابي وحده أو شهادة ابن عمر قبل الواحد وإلا فلا يقبل أقل من اثنين. وقد صح كل منهما، وعندي أن مذهب الشافعي
قبول الواحد، وإنما رجع إلى اثنين بالقياس لما لم يثبت عنده في المسألة سنة فإنه تمسك للواحد بأثر عن علي، ولهذا
قال في المختصر: ولو شهد برؤيته عدل واحد رأيت أن أقبله للأثر فيه اه‍. ومنهم من قطع بالأول وهو المعتمد لما
ذكر، وعليه لو نذر صوم شهر معين فشهد بهلاله واحد ثبتت الرؤية في الأصح في البحر، وهو المعتمد كما جزم به
ابن المقري في روضه. ومحل ثبوت رؤيته بعدل في الصوم، قال الزركشي: وتوابعه كصلاة التراويح والاعتكاف
والاحرام بالعمرة المعلقين بدخول رمضان لا في غير ذلك كدين مؤجل ووقوع طلاق وعتق معلقين به. فإن قيل: هلا
ثبت ذلك ضمنا كما ثبت شوال بثبوت رمضان بواحد والنسب والإرث بثبوت الولادة بالنساء؟ أجيب بأن الضمني
في هذه الأمور لازم للمشهود به بخلاف الطلاق ونحوه، وبأن الشئ إنما يثبت ضمنا إذا كان التابع من جنس المتبوع
كالصوم والفطر فإنهما من العبادات، وكالولادة والنسب والإرث فإنها من المال، والآيل إليه بخلاف ما هنا، فإن التابع
من المال أو الآيل إليه، والمتبوع من العبادات، هذا كما قال البغوي إن سبق التعليق الشهادة، فلو حكم القاضي بدخول
رمضان بشهادة عدل، ثم قال قائل: إن ثبت رمضان فعبدي حر أو زوجتي طالق وقعا، ومحله أيضا كما قال الأسنوي
إذا لم يتعلق بالشاهد، فإن تعلق به ثبت لاعترافه به.
فرع: لو شهد برؤية الهلال واحد أو اثنان واقتضى الحساب عدم إمكان رؤيته، قال السبكي: لا تقبل هذه
الشهادة لأن الحساب قطعي والشهادة ظنية، والظني لا يعارض القطعي. وأطال في بيان رد هذه الشهادة، والمعتمد
قبولها، إذ لا عبرة بقول الحساب كما مر. ورؤيته الهلال نهارا لليلة المستقبلة لا الماضية فلا نفطر إن كان في ثلاثي
رمضان ولا نمسك إن كان في ثلاثي شعبان. وأما رؤيته يوم التاسع والعشرين فلم يقل أحد إنها للماضية، أي ولا
للمستقبلة كما في شرح الارشاد لابن أبي شريف، لئلا يلزم أن يكون الشهر ثمانية وعشرين لو قيل إنها لليلة الماضية.
(وشرط الواحد صفة العدول في الأصح) المنصوص (لا عبد وامرأة) فليسا من العدول في الشهادة. قال الشارح:
وإطلاق العدول ينصرف إلى الشهادة بخلاف إطلاق العدل فيصدق بها وبالرواية، والمرأة لا تقبل في الشهادة وحدها اه‍.
فاندفع بذلك ما قيل إن قوله: وشرط الواحد صفة العدول بعد قوله: بعدل فيه ركاكة، فإن العدل من كانت فيه صفة
العدول، والخلاف مبني على أن الثبوت بالواحد شهادة أو رواية، فلا يثبت بواحد منهما على الأول ويثبت به على
الثاني، ويشترط لفظ الشهادة على الأول أيضا، وهي شهادة حسية، وتختص بمجلس القاضي كما جزم به صاحب الأنوار
وغيره، ولا تشترط العدالة الباطنة فيه وهي التي يرجع فيها إلى قول المزكين على الأصح في المجموع بل يكتفي بالعدالة
الظاهرة، والمراد بذلك المستور وإن كان مشكلا، لأن الصحيح أنها شهادة لا رواية، ولعل الحكمة في ذلك
الاحتياط للعبادة.
تنبيه: أشار المصنف بقوله: وثبوت رؤيته إلى أن ذلك بالنسبة إلى عموم الناس. أما وجوبه على الرائي فلا
يتوقف على كونه عدلا، فمن رأى هلال رمضان وجب عليه الصوم وإن كان فاسقا، وقالت طائفة، منهم البغوي: يجب
الصوم على من أخبره موثوق به بالرؤية إذا اعتقد صدقه، وإن لم يذكره عند القاضي ولم يفرعوه على شئ، ومثله
في المجموع بزوجته وجاريته وصديقه، ويكفي في الشهادة: أشهد أني رأيت الهلال كما صرح به الرافعي في صلاة العيد
421

وصرح به القاضي شريح والروياني وغيرهما، وعبارة الروياني وصفة الشهادة على الهلال أن يقول رأيته في ناحية
المغرب، ويذكر صغره وكبره وتدويره وتقديره، وأنه بحذاء الشمس أو في جانب منها، وأن ظهره إلى الجنوب أو الشمال،
وأنه كان في السماء غيم أو لم يكن. وفائدة التنصيص على ذلك الاحتياط، حتى إذا رؤي في الليلة الثانية ولم يكن بهذه
الصفات بأن كذب الشاهد لأن الهلال في الليلة الثانية لا يتحول عن صفاته التي طلع عليها بالأمس، وإن خالف في ذلك
ابن أبي الدم، فقال: لا يجوز أن يقول: أشهد أني رأيت الهلال لأنها شهادة على فعل نفسه، بل طريقه أن يشهد بطلوع
الهلال أو على أن الليلة من رمضان مثلا ونحو ذلك. ويدل للأول المعتمد قبول شهادة المرضعة إذا قالت: أشهد أني
أرضعته على الأصح. واعلم أن رمضان قد يثبت بواحد وقد يثبت بأكثر وحينئذ فالأولى التعبير بتثبت كما في المحرر،
ولا يأتي بالمبتدأ المشعر بالحصر، نبه على ذلك الأسنوي. (وإذا صمنا بعدل ولم نر الهلال بعد ثلاثين أفطرنا في الأصح)
المنصوص (وإن كانت السماء مصحية) أي لا غيم فيها لكمال العدد بحجة شرعية. والثاني: لا، لأن الفطر يؤدي إلى
ثبوت شوال بقول واحد وهو ممتنع. وأجاب الأول بأن الشئ قد يثبت ضمنا بما لا يثبت به مقصودا، ألا ترى أن
النسب والميراث لا يثبتان بشهادة النساء ويثبتان ضمنا بالولادة كما مر؟ وقيل: إن كانت السماء مغيمة أفطرنا وإن كانت
مصحية فلا لقوة الرؤية، ولو صمنا بعدل ثم رجع الشاهد في أثناء اليوم، فقيل: لا يلزم الصوم كرجوع الشاهد قبل
الحكم، وقيل: يلزم لأن الشروع فيه كالحكم، قاله شريح في أدب القضاء. وهذا الثاني أقرب كما قاله الأذرعي. (وإذا
رؤي ببلد لزم حكمه البلد القريب) منه قطعا، كبغداد والكوفة لأنهما كبلد واحدة كما في حاضري المسجد الحرام.
(دون البعيد في الأصح) كالحجاز والعراق. والثاني: يلزم في البعيد أيضا. (والبعيد مسافة القصر) وصححه المصنف
في شرح مسلم لأن الشرع علق بها كثيرا من الأحكام. (وقيل باختلاف المطالع. قلت: هذا أصح، والله أعلم) لأن
أمر الهلال لا تعلق له بمسافة القصر، ولما روى مسلم عن كريب قال: رأيت الهلال بالشام ثم قدمت المدينة فقال ابن عباس:
متى رأيتم الهلال؟ قلت: ليلة الجمعة، قال: أنت رأيته؟ قلت: نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية، فقال: لكنا رأيناه
ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نكمل العدة، فقلت: أو لا تكتفي برؤية معاوية وصيامه؟ قال: لا، هكذا أمرنا رسول
الله (ص). وقياسا على طلوع الفجر والشمس وغروبهما. قال الشيخ تاج الدين التبريزي: واختلاف
المطالع لا يكون في أقل من أربعة وعشرين فرسخا. فإن قيل: اعتبار اتحاد المطالع واختلافها يتعلق بالمنجم والحاسب،
وقد تقدم أنه لا يعتبر قولهما في إثبات رمضان. أجيب بأنه لا يلزم من عدم اعتباره في الأصول والأمور العامة
عدم
اعتباره في التوابع والأمور الخاصة، فإن شك في الاتفاق في المطلع لم يجب على الذين لم يروا الصوم لأن الأصل عدم
وجوبه لأنه إنما يجب بالرؤية ولم تثبت في حق هؤلاء لعدم ثبوت قربهم من بلد الرؤية. قال السبكي: وقد تختلف
المطالع وتكون الرؤية في أحد البلدين مستلزمة للرؤية في الآخر من غير عكس، وذلك أن الليل يدخل في البلاد الشرقية
قبل دخوله في البلاد الغربية، فمتى اتحد المطلع لزم من رؤيته في أحدهما رؤيته في الآخر، ومتى اختلف لزم من رؤيته
في الشرقي رؤيته في الغربي ولا ينعكس، وعلى ذلك حديث كريب فإن الشام غربية بالنسبة إلى المدينة، فلا يلزم من
رؤيته في الشام رؤيته فيها. (وإذا لم نوجب على) أهل (البلد الآخر) وهو البعيد، (فسافر إليه من بلد الرؤية) من
صام به، (فالأصح أنه يوافقهم) وجوبا (في الصوم آخرا) وإن كان قد أتم ثلاثين، لأنه بالانتقال إلى بلدهم صار
واحدا منهم فيلزمه حكمهم. وروي أن ابن عباس أمر كريبا بذلك. والثاني: يفطر، لأنه لزمه حكم البلد الأول فيستمر
422

عليه. (ومن سافر من البلد الآخر) أي الذي لم ير فيه (إلى بلد الرؤية عيد معهم) وجوبا لما مر، سواء أصام ثمانية وعشرين
بأن كان رمضان أيضا عندهم ناقصا فوقع عيده معهم في التاسع والعشرين من صومه، أم تسعة وعشرين بأن كان رمضان
تاما عندهم. (وقضي يوما) إن صام ثمانية وعشرين لأن الشهر لا يكون كذلك، بخلاف ما إذا صام تسعة وعشرين لا قضاء عليه
لأن الشهر يكون كذلك. (و) على الأصح (من أصبح معيدا فسارت سفينته) مثلا (إلى بلدة بعيدة أهلها صيام فالأصح أنه
يمسك بقية اليوم) وجوبا لما مر. والثاني: لا يجب إمساكه لأنه لم يرد فيه أثر، وتجزئة اليوم الواحد بإمساك بعضه دون بعض
بعيد. ورد الرافعي الاستبعاد المذكور بيوم الشك إذا ثبت الهلال في أثنائه فإنه يجب إمساك باقيه دون أوله. ورده السبكي
بأن تبعيض الحكم في يوم الشك في الظاهر، وأما في مسألتنا فهو تبعيض ظاهرا أو باطنا بالنسبة إلى حكم البلدين فيكون كما لو
أسلم الكافر، أو أفاق المجنون، أو بلغ الصبي وهو مفطر فإنه لا يلزمهم الامساك على الأصح، وتتصور المسألة بأن يكون
ذلك يوم الثلاثين من صوم البلدين، لكن المنتقل إليهم لم يروه، وبأن يكون التاسع والعشرين من صومهم لتأخر ابتدائه بيوم.
فائدة: في مسند الدارمي وصحيح ابن حبان: أن النبي (ص) كان يقول عند رؤية الهلال: الله أكبر اللهم أهله علينا
بالأمن والايمان، والسلامة والاسلام، والتوفيق لما تحب وترضى، ربنا وربك الله. وفي أبي داود كان يقول: هلال خير
ورشد مرتين، آمنت بمن خلقك ثلاث مرات. ويسن أن يقرأ بعد ذلك سورة تبارك لاثر فيه، ولأنها المنجية الواقية،
قال السبكي: وكان ذلك لأنها ثلاثون آية بعدد أيام الشهر، ولان السكينة تنزل عند قراءتها، وكان (ص)
يقرؤها عند النوم.
فصل: في أركان الصوم: وأركانه ثلاثة كما مر: نية، وإمساك عن المفطرات، وصائم. وعبر عنها المصنف بالشروط
مشيرا إلى أولها بقوله: (النية شرط للصوم) لقوله (ص): إنما الأعمال بالنيات ومحلها القلب، ولا تكفي باللسان
قطعا، ولا يشترط التلفظ بها قطعا كما قاله في الروضة.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف أنه لو تسحر ليتقوى على الصوم لم يكن ذلك نية، وبه صرح في العدة. والمعتمد أنه لو
تسحر ليصوم، أو شرب لدفع العطش نهارا، أو امتنع من الاكل أو الشرب أو الجماع خوف طلوع الفجر كان ذلك
نية إن خطر بباله الصوم بالصفات التي يشترط التعرض لها لتضمن كل منها قصد الصوم. (ويشترط لفرضه) أي الصوم
من رمضان أو غيره كقضاء أو نذر (التبييت) وهو إيقاع النية ليلا لقوله (ص): من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام
له رواه الدارقطني وغيره وصححوه، وهو محمول على الفرض بقرينة خبر عائشة الآتي. ولا بد من التبييت لكل يوم،
لظاهر الخبر، ولان صوم كل يوم عبادة مستقلة لتخلل اليومين مما يناقض الصوم كالصلاة يتخللها السلام. وكلام المصنف
قد يخرج الصبي المميز فإنه لا فرض عليه، والمعتمد كما في المجموع تبعا للروياني وغيره أنه كالبالغ في ذلك. قال الروياني:
وليس لنا صوم نفل يشترط فيه التبييت إلا هذا. ويؤخذ من تعبير المصنف بالشرط أنه لو شك هل كانت نيته قبل الفجر
أو بعده لم يصح صومه، وهو كذلك كما صرح به في المجموع لأن الأصل عدم تقدمها. ولو نوى ثم شك هل طلع الفجر
أو لا صح لأن الأصل بقاء الليل. ولو شك نهارا هل نوى ليلا ثم تذكر ولو بعد مضي أكثر النهار أجزأه صومه، فإن
لم يتذكر بالنهار لم يجزه لأن الأصل عدم النية ولم تنجبر بالتذكر نهارا. ومقتضى هذا أنه لو تذكر بعد الغروب لم يجزه،
والظاهر الاجزاء كما قاله الأذرعي. ولو شك بعد الغروب هل نوى أو لا ولم يتذكر لم يؤثر أخذا من قولهم في صوم
الكفارة: إنه لو شك بعد الغروب هل نوى أو لا أجزأه، وهذا هو المعتمد، والفرق بينه وبين الصلاة فيما إذا شك
423

في النية بعد الفراغ منها ولم يتذكر حيث تلزمه الإعادة التضييق في نية الصلاة، بدليل أنه لو نوى الخروج منها بطلت في الحال،
ولا كذلك الصوم. ولو نوى قبل الغروب أو مع طلوع الفجر لم يجزه لظاهر الخبر السابق. (والصحيح أنه لا يشترط) في
التبييت (النصف الآخر من الليل) بل يكفي ولو من أوله، لاطلاق التبييت في الحديث من الليل، ولما فيه من المشقة. والثاني:
يشترط لقربه من العبادة لأن الأصل وجوب اقتران النية بأول العبادة، وهو طلوع الفجر، فلما سقط ذلك للمشقة أوجبنا
النصف الأخير كما في أذان الصبح وغسل العيد والدفع من مزدلفة. (و) الصحيح (أنه لا يضر الاكل والجماع) وغيرهما
من منافي الصوم (بعدها) أي النية وقبل الفجر، وهذا هو المنصوص وبه قطع الجمهور. والثاني: أنه يبطل النية فيحتاج
إلى تجديدها. نعم إن رفض النية قبل الفجر ضر لأنه ضدها، نقله في المجموع عن المتولي وأقره، وكذا لو ارتد بعدما نوى
ليلا ثم أسلم قبل الفجر. (و) الصحيح (أنه لا يجب التجديد) لها (إذا نام) بعدها (ثم تنبه) ليلا، لأن النوم ليس منافيا للصوم.
والثاني: يجب تقريبا للنية من العبادة بقدر الوسع. أما إذا استمر النوم إلى الفجر فإنه لا يضر بلا خلاف. (ويصح النفل بنية
قبل الزوال) لأنه (ص) قال لعائشة يوما: هل عندكم من غداء؟ قالت: لا، قال: فإني إذن أصوم. قالت:
وقال لي يوما آخر: أعندكم شئ؟ قلت: نعم، قال: إذن أفطر وإن كنت فرضت الصوم رواه الدارقطني وصحح إسناده.
واختص بما قبل الزوال للخبر، إذ الغداء بفتح الغين اسم لما يؤكل قبل الزوال، والعشاء اسم لما يؤكل بعده، ولأنه مضبوط
بين ولادراك معظم النهار به كما في ركعة المسبوق، وهذا جرى على الغالب ممن يريد صوم النفل، وإلا فلو نوى قبل الزوال
وقد مضى معظم النهار صح صومه. (وكذا) يصح بنية (بعده في قول) قياسا على ما قبله تسوية بين آخر النهار كما في النية
ليلا. (والصحيح) المنصوص (اشتراط حصول شرط الصوم) في النية قبل الزوال أو بعده (من أول النهار) بأن لا يسبقها
مناف للصوم ككفر وجماع وأكل وجنون وحيض ونفاس، وإلا لم يحصل مقصود الصوم، وهو خلو النفس عن الموانع
في اليوم بكماله. والثاني: لا يشترط ما ذكر. ومحل الخلاف إذا قلنا إنه صائم من وقت النية، أما إذا قلنا إنه صائم من أول
النهار وهو الأصح حتى يثاب على جميعه، إذ صوم اليوم لا يتبعض كما في الركعة بإدراك الركوع، فلا بد من اجتماع
شرائط الصوم من أول النهار جزما. ولو سبق ماء مضمضة، أي أو استنشاق بلا مبالغة إلى جوفه قبل النية لم يؤثر
في الأصح سواء أقلنا يفطر بذلك أم لا، قاله في زيادة الروضة، قال في المجموع: وهذه مسألة نفيسة مهمة. (ويجب)
في النية (التعيين في الفرض) بأن ينوي كل ليلة أنه صائم غدا من رمضان، أو عن نذر، أو عن كفارة، لأنه عبادة
مضافة إلى وقت فوجب التعيين في نيتها كالصلوات الخمس. ولا فرق في الكفارة بين أن يعين سببها أم لا، لكن
لو عين وأخطأ لم يجزه، فإن جهل سبب ما عليه من الصوم من كونه قضاء عن رمضان أو نذرا أو كفارة كفاه نية الصوم
الواجب للضرورة كمن نسي صلاة من الخمس لا يعرف عينها فإنه يصلي الخمس ويجزئه عما عليه، ويعذر في عدم جزمه
بالنية للضرورة، ذكره في المجموع. فإن قيل: قياس الصلاة أن يصوم ثلاثة أيام ينوي يوما عن القضاء ويوما عن
النذر ويوما عن الكفارة. أجيب بأن الذمة هنا لم تشتغل بالثلاث. والأصل بعد الاتيان بصوم يوم بنية الصوم
الواجب براءة ذمته مما زاد، بخلاف من نسي صلاة من الخمس فإن ذمته اشتغلت بجميعها، والأصل بقاء كل منها،
فإن فرض أن ذمته اشتغلت بصوم الثلاث وأتى باثنين منها ونسي الثالث التزم فيه ذلك. فإن قيل: هلا اكتفوا
فيمن نسي صلاة بثلاث صلوات فقط: الصبح والمغرب وإحدى رباعية ينوي فيها الصلاة الواجبة كنظيرها هنا؟
أجيب بأنهم توسعوا هنا ما لم يتوسعوا ثم، بدليل عدم اشتراط المقارنة في نية الصوم وعدم الخروج منه بنية تركه
بخلافهما في الصلاة، واحترز بالفرض عن النفل فإنه يصح بنية مطلقة. فإن قيل: قال في المجموع: هكذا أطلقه
424

الأصحاب، وينبغي اشتراط التعيين في الصوم الراتب كعرفة وعاشوراء وأيام البيض وستة من شوال كرواتب
الصلاة؟
أجيب بأن الصوم في الأيام المذكورة منصرف إليها، بل لو نوى به غيرها حصل أيضا كتحية المسجد لأن المقصود وجود
صومها. (وكماله) أي التعيين كما قاله في المحرر، وعبر في الروضة بكمال النية، (في رمضان أن ينوي صوم غد) أي اليوم
الذي يلي الليلة التي ينوي فيها (عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالى) بإضافة رمضان، وكذلك لتتميز عن أضدادها،
لكن فرض غير هذه السنة لا يكون إلا قضاء، وقد خرج بقيد الأداء، إلا أن يقال لفظ الأداء لا يغني عن السنة لأن
الأداء يطلق ويراد به الفعل. ثم التعرض للغد قد يكون بخصوصه كما تقرر، وقد يكون بإدخاله في عموم كأن ينوي صوم
الشهر فيكفيه لليوم الأول لدخوله في صوم الشهر. قال في أصل الروضة: ولفظ الغد قد اشتهر في كلامهم في تفسير التعيين، وهو
في الحقيقة ليس من حد التعيين، وإنما وقع ذلك من نظرهم إلى التبييت. (وفي الأداء والفرضية والإضافة إلى الله
تعالى الخلاف المذكور في الصلاة) كذا ذكره الرافعي في كتبه وتبعه المصنف في الروضة. وظاهره أن يكون الأصح
اشتراط الفرضية دون الأداء والإضافة إلى الله تعالى، لكن صحح في المجموع تبعا للأكثرين عدم اشتراطها هنا، وهو
المعتمد بخلافه في الصلاة لأن صوم رمضان من البالغ لا يقع إلا فرضا بخلاف الصلاة، فإن المعادة نفل. فإن قيل: الجمعة
لا تقع من البالغ إلا فرضا مع أنه يشترط فيها نية الفرضية؟ أجيب بأن ذلك ممنوع، فإنه لو صلاها بمكان ثم أدرك جماعة
في آخر يصلونها فصلاها معهم فإنها لا تقع منه فرضا. (والصحيح) المنصوص وقطع به الجمهور (أنه لا يشترط تعيين السنة)
كما لا يشترط الأداء لأن المقصود منهما واحد، والثاني: يشترط ليمتاز ذلك عما يأتي به في سنة أخرى. ولو نوى صوم غد
وهو يعتقده الاثنين فكان الثلاثاء، أو صوم رمضان هذه السنة وهو يعتقدها سنة ثلاث فكانت سنة أربع، صح صومه
بخلاف ما لو نوى صوم الثلاثاء ليلة الاثنين، أو صوم رمضان سنة ثلاث فكانت سنة أربع، ولم يخطر بباله في الأولى الغد
وفي الثانية السنة الحاضرة لأنه لم يعين الوقت الذي نوى في ليلته، وتصوير مثله بعيد. ولو كان عليه قضاء رمضانين فنوى
صوم غد عن قضاء رمضان جاز وإن لم يعين أنه عن قضاء أيهما لأنه كله جنس واحد، قاله القفال في فتاويه، قال: وكذا
إذا كان عليه صوم نذر من جهات مختلفة فنوى صوم النذر جاز وإن لم يعين نوعه، وكذا الكفارات كما مرت الإشارة
إليه. وجعل الزركشي ذلك مستثنى من وجوب التعيين. ويشترط أن تكون النية منجزة، ويأتي في تعليقها بالمشيئة
ما مر في الوضوء، وأما التعليق بغيرها فقد أشار إليه بقوله: (ولو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غد عن رمضان
إن كان منه) وصامه (فكان منه لم يقع عنه) سواء اقتصر على هذا أم زاد بعده فقال: وإلا أنا مفطر، أو: متطوع للشك
في أنه منه حال النية فليست جازمة. وسكت المصنف عما إذا جزم ولم يأت بلفظ إن الدالة على التردد، وهو باطل أيضا على
الصحيح لأن الجزم به لا أصل له بل هو حديث نفس. (إلا إذا اعتقد) أي ظن (كونه منه بقول من يثق به من عبد
أو امرأة) أو فاسق (أو صبيان رشداء) أي مختبرين بالصدق، لأن غلبة الظن هنا كاليقين كما في أوقات الصلوات فتصح
النية المبيتة عليه حتى لو تبين ليلا كون غد من رمضان لم يحتج إلى تجديد نية أخرى.
تنبيهات: أحدها: جمع الصبية ليس بمعتبر، ففي المجموع لو أخبره بالرؤية مراهق ونوى صوم رمضان فبان منه
أجزأه. ثانيها: لو ردد في هذه الحالة فقال: أصوم غدا عن رمضان. فإن لم يكن منه فهو تطوع، وبان منه قال الامام لم يجزه،
وجزم به ابن المقري، وقال الأسنوي: المتجه الاجزاء لأن النية معنى قائم بالقلب، والتردد حاصل في القلب قطعا ذكره
أم لم يذكره، وقصده الصوم إنما هو بتقدير كونه من رمضان، فكان كالتردد في القلب بعد حكم الحاكم. وذكر
نحوه الزركشي، قال: وهو الموافق لما حكاه الامام عن طوائف، وكلام الام مصرح به، ولا نقل يعارضه إلا دعوى الامام
أنه ظاهر النص وليس كما ادعى اه‍. وهذا هو المعتمد كما اعتمده شيخي رحمه الله تعالى: ثالثها: ليس المراد بالرشد هنا
المراد به في قوله: شرط العاقد الرشد، بل المراد به ما ذكرته. زاد في المهمات: ولا يبعد اجتناب النواهي خصوصا الكبائر
425

منها، والظاهر أن الرشد في الصبيان ويحتمل عوده إلى الباقي. وقال في الوسيط: إعادة قوله رشداء إلى جميع ما تقدم
غلط، ولم يبين وجه ذلك، وسيأتي الفرق بين هذا وبين يوم الشك عند التكلم عليه. قال في المجموع: ولو قال
ليلة
الثلاثين من شعبان: أصوم غدا نفلا إن كان منه وإلا فمن رمضان ولم يكن أمارة فبان من شعبان صح صومه نفلا لأن
الأصل بقاؤه، صرح به المتولي وغيره، وإن بان من رمضان لم يصح صومه فرضا ولا نفلا. (ولو نوى ليلة الثلاثين من
رمضان صوم غد إن كان من رمضان أجزأه إن كان منه) لأن الأصل بقاؤه، كما لو قال: هذه زكاة مالي الغائب إن كان
سالما فكان سالما أجزأه، وله أن يعتمد في نيته على حكم الحاكم، ولا أثر لتردد يبقى بعد حكمه ولو بشهادة واحد للاستناد
إلى ظن معتمد، نبه على ذلك في المحرر، وعبارته: ولا بأس في التردد الذي يبقى بعد حكم القاضي بشهادة عدلين أو عدل
واحد اه‍. وأهمل ذلك في المنهاج لوضوحه وفهمه من كلامه. قال السبكي: لكن: لا يكفي مثل ذلك في الاختصار. قال
الزركشي: وهذ ظاهر فيمن جهل حال الشاهد. أما العالم بفسقه وكذبه فالظاهر أنه لا يلزمه الصوم، إذ لا يتصور منه
الجزم بالنية بل لا يجوز له صومه حيث حرم صومه كيوم الشك. (ولو اشتبه) رمضان على أسير أو محبوس أو نحوه، (صام
شهرا بالاجتهاد) كما يجتهد للصلاة في القبلة والوقت، وذلك أمارة كالربيع والخريف والحر والبرد. فلو صام بلا اجتهاد
فوافق رمضان لم يجزه لتردده في النية. فلو اجتهد وتحير فلم يظهر له شئ ففي المجموع أنه لا يلزمه أن يصوم. فإن قيل:
ينبغي أن يلزمه الصوم ويقضي كالمتحير في القبلة. أجيب بأنه هنا لم يتحقق الوجوب ولم يظنه، وأما في القبلة فقد تحقق
دخول وقت الصلاة وعجز عن شرطها فأمر بالصلاة بحسب الامكان لحرمة الوقت ولو لم يعرف الليل من النهار واستمرت
الظلمة، ففي المجموع أنه يلزمه التحري والصوم ولا قضاء عليه، فلو ظهر له أنه كان يصوم الليل ويفطر النهار وجب القضاء
كما في الكفاية عن الأصحاب. (فإن وافق) صومه بالاجتهاد رمضان وقع أداء وإن نواه قضاء لظنه خروجه كما قاله
الروياني، أو (ما بعد رمضان أجزأه) قطعا وإن نوى الأداء كما في الصلاة، (وهو قضاء على الأصح) لوقوعه بعد الوقت،
والثاني: أنه أداء لأن العذر قد يجعل غير الوقت وقتا كما في الجمع بين الصلاتين. وفائدة الخلاف ذكرها المصنف بقوله:
(فلو نقص) الشهر الذي صامه بالاجتهاد ولم يكن شوالا ولا ذا الحجة، (وكان رمضان تاما لزمه يوم آخر) بناء على أنه قضاء.
فإن قلنا إنه أداء كفاه الناقص ولو انعكس الحال، فإن قلنا إنه قضاء فله إفطار اليوم الأخير إذا عرف الحال، وإن قلنا إنه
أداء فلا. فإن كان شوالا في مسألة المتن لزمه يومان أو الحجة فخمسة أيام، وفي عكسها لا قضاء في الأولى، وفي الثانية
يلزمه ثلاثة أيام، وفي التساوي يلزمه في الأولى يوم وفي الثانية أربع. ولو وافق رمضان السنة القابلة وقع عنها لا عن
القضاء. (ولو غلط) في اجتهاده وصومه (بالتقديم وأدرك رمضان) بعد تبين الحال (لزمه صومه) قطعا لتمكنه منه في وقته،
(وإلا) أي وإن لم يدرك رمضان بأن لم يتبين له الحال إلا بعده أو في أثنائه، (فالجديد وجوب القضاء) لما فاته، لأنه أتى
بالعبادة قبل وقتها فلا يجزئه كما في الصلاة، والقديم لا يجب للعذر، وقطع بعضهم بالأول. وأفهم كلام المصنف أنه إذا لم
يبين لحال أنه لا شئ عليه، وهو كذلك كما في الصلاة، لأن الظاهر صحة الاجتهاد. ولو أدى اجتهاده إلى فوات رمضان فصام
شهرا قضاء فبان أنه رمضان أجزأه كما مر عن الروياني. ولو تحرى لشهر نذر فوافق رمضان لم يسقط شئ منهما كما صرح
به ابن المقري، لأنه إنما نوى النذر ورمضان لا يقبل غيره، ومثله ما لو كان عليه صوم قضاء فأتى به في رمضان. (ولو نوت
426

الحائض) أو النفساء في الليل (صوم غد قبل انقطاع دمها ثم انقطع) دمها (ليلا صح) صومها بهذه النية (إن تم) لها
(في الليل أكثر الحيض) أو النفاس، لأنها جازمة بأن غدها كله طهر، وسواء أكانت مبتدأة أم غيرها. لكن كلامه يوهم
اشتراط الانقطاع، وليس مرادا، لأنه متى تم في الليل أكثر الحيض صحت نيتها وإن لم ينقطع الدم، لأن الزائد على أكثر
الحيض استحاضة وهي لا تمنع الصوم. وإنما ذكره المصنف لأجل قوله: (وكذا) إن تم لها (قدر العادة) التي هي دون
أكثر الحيض أو النفاس، فإنه يصح صومها بتلك النية (في الأصح) لأن الظاهر استمرار العادة سواء اتحدت أم اختلفت
واتسقت ولم تنس اتساقها، بخلاف ما إذا لم يكن لها عادة ولم يتم أكثر الحيض أو النفاس ليلا أو كان لها عادة مختلفة غير
متسقة أو متسقة ونسيت اتساقها ولم يتم أكثر عاداتها ليلا، لأنها لم تجزم ولا بنت على أصل ولا أمارة. ثم
شرع في الركن الثاني
معبرا عنه بالشرط كما تقدم التنبيه عليه، وبهذا يسقط ما يقيل إن المصنف جعل النية شرطا والامساك شرطا فلا حقيقة
للصوم فإنه لا شئ فيه غير النية والامساك، فإذا كانا شرطين فأين الصوم؟ فقال:
فصل: شرط الصوم: أي شرط صحته من حيث الفعل (الامساك عن الجماع) بالاجماع ولو بغير إنزال، ولقوله
تعالى: * (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) * والرفث الجماع. نعم في إتيان البهيمة أو الدبر إذا لم ينزل خلاف، فقيل:
لا يفطر، بناء على أن فيه التعزير فقط. (والاستقاءة) لخبر ابن حبان وغيره: من ذرعه القئ أي غلب عليه وهو صائم
فليس عليه قضاء، ومن استقاء فليقض. هذا إذا كان عالما بالتحريم عامدا مختارا لذلك، فإن كان جاهلا لقرب
عهده بالاسلام أو نشأ بعيدا عن العلماء أو ناسيا أو مكرها فإنه لا يفطر. ومال في البحر إلى أن الجاهل يعذر مطلقا،
والمعتمد خلافه كما قيده القاضي حسين بما ذكر. (والصحيح أنه لو تيقن أنه لم يرجع شئ إلى جوفه) بالاستقاءة كأن
تقايأ منكسا، (بطل) صومه بناء على أن المفطر عينها كالانزال لظاهر الخبر، ووجه مقابله البناء على أن المفطر رجوع
شئ مما خرج وإن قل. (وإن غلبه القئ فلا بأس) أي لم يضر للخبر المار، (وكذا لو اقتلع نخامة) من الباطن، وهي
الفضلة الغليظة التي يلفظها الشخص من فيه، ويقال لها أيضا النخاعة بالعين. (ولفظها) أي رماها، فلا بأس بذلك
(في الأصح) سواء أقلعها من دماغه أم من باطنه لأن الحاجة إليه تتكرر فرخص فيه، والثاني: يفطر به كالاستقاءة.
ورجح في الروضة والمجموع القطع بالأول، واحترز بقوله: اقتلع عما لو لفظها مع نزولها بنفسها أو بغلبة سعال فلا بأس
به جزما، وب‍ لفظها عما إذا بقيت في محلها فإنه لا يفطر جزما، وعما إذا ابتلعها بعد أن خرجت إلى الظاهر فإنه يفطر جزما.
(فلو نزلت من دماغه وحصلت في حد الظاهر من الفم) بأن انصبت من الدماغ في الثقبة النافذة منه إلى أقصى الفم فوق
الحلقوم، (فليقطعها من مجراها وليمجها) إن أمكن حتى لا يصل شئ إلى الباطن. (فإن تركها مع القدرة) على ذلك
(فوصلت الجوف أفطر في الأصح) لتقصيره، والثاني: لا يفطر لأنه لم يفعل شيئا، وإنما أمسك عن الفعل، فلو لم تصل
إلى حد الظاهر من الفم، وهو مخرج بالخاء المعجمة وكذا الحاء المهملة كما قاله المصنف خلافا للرافعي بأن كانت في حد الباطن
وهو مخرج الهاء والهمزة أو حصلت في حد الظاهر ولم يقدر على قطعها ومجها لم يضر. (و) الامساك (عن وصول العين)
وإن قلت كسمسمة أو لم تؤكل كحصاة، (إلى ما يسمى جوفا) لأن الصوم هو الامساك عن كل ما يصل إلى الجوف.
427

وخرج بالعين الأثر: كالريح بالشم، وحرارة الماء وبرودته بالذوق، وبالجوف عما لو داوى جرحه الذي على لحم الساق
أو الفخذ فوصل الدواء إلى داخل المخ أو اللحم أو غرز فيه حديدة فإنه لا يفطر لأنه ليس بجوف. فإن قيل: يرد على
المصنف ما لو دميت لثته فبصق حتى صار ريقه صافيا ثم ابتلعه فإنه يفطر في الأصح مع أنه لم يصل إلى جوفه غير ريقه.
أجيب بأن الريق لما تنجس حرم ابتلاعه وصار بمنزلة العين الأجنبية. (وقيل يشترط مع هذا أن يكون فيه) أي الجوف،
(قوة تحيل الغذاء) وهو بكسر الغين والذال المعجمتين يطلق على المأكول والمشروط، (أو الدواء) بالمد وأحد الأدوية
لأن ما لا تحيله لا تتغذى به النفس ولا ينتفع به البدن فأشبه الواصل إلى غير الجوف. (فعلى الوجهين باطن الدماغ والبطن
والأمعاء) أي المصارين جمع معي بوزن رضا، (والمثانة) بالمثلثة، وهي مجمع البول، (مفطر بالاستعاط) راجع للدماغ،
(أو الاكل) راجع للبطن، (أو الحقنة) راجع للأمعاء والمثانة أيضا، فإن البول يعالج بها كما يعالج بها الغائط،
ففي كلامه لف ونشر مرتب كما تقرر. وقوله: (أو الوصول من جائفة) يرجع للبطن (أو مأمومة) يرجع للرأس (ونحوهما)
لأنه جوف محيل.
تنبيه: كان الأولى التعبير بالاحتقان لأن الحقنة هي الأدوية التي يحتقن بها المريض، والفعل هو الاحتقان كما قاله
الجوهري. وقضية قوله كالمحرر والروضة: باطن الدماغ أن وصول عين إلى خريطة الدماغ المسماة أم الرأس دون باطنها
المسمى باطن الدماغ أنه لا يفطر، وليس مرادا، بل الصحيح أنه يفطر حتى لو كان برأسه مأمومة فوضع عليها دواء فوصل
خريطة الدماغ أفطر وإن لم يصل باطن الخريطة كما حكاه الرافعي عن الامام وأقره، وكذلك الأمعاء لا يشترط باطنها بل
لو كان على بطنه جائفة فوضع عليها دواء فوصل جوفه أفطر وإن لم يصل باطن الأمعاء كما جزم به في الروضة. (والتقطير
في باطن الاذن) وإن لم يصل إلى الدماغ (و) باطن (الإحليل) وهو مخرج البول من الذكر واللبن من الثدي، وإن لم يصل
إلى المثانة ولم يجاوز الحشفة أو الحلمة. (مفطر في الأصح) بناء على الوجه الأول، وهو اعتبار كل ما يسمى جوفا، والثاني:
لا بناء على مقابله إذ ليس فيه قوة الإحالة. وألحق بالجوف على الأول الحلق. قال الامام: ومجاوزة الحلقوم، وينبغي
الاحتراز حالة الاستنجاء فإنه لو أدخل طرف أصبعه دبره بطل صومه، وكذا حكم فرج المرأة، ولو طعن نفسه أو طعنه غيره
بإذنه فوصل السكين جوفه أو أدخل في إحليله أو أذنه عودا أو نحوه فوصل إلى الباطن بطل صومه.
فرع: لو ابتلع بالليل طرف خيط فأصبح صائما، فإن ابتلع باقيه أو نزعه أفطر، وإن تركه بطلت صلاته.
وطريقه في صحة صومه وصلاته أن ينزع منه وهو غافل، فإن لم يكن غافلا وتمكن من دفع النازع أفطر، لأن النزع
موافق لغرض النفس فهو منسوب إليه عند تمكنه من الدفع، وبهذا فارق من طعنه بغير إذنه وتمكن من دفعه.
قال الزركشي: وقد لا يطلع عليه عارف بهذا الطريق ويريد هو الخلاص فطريقه أن يجبره الحاكم على نزعه ولا يفطر
لأنه كالمكره، بل لو قيل إنه لا يفطر بالنزع باختياره لم يبعد تنزيلا لايجاب الشرع منزلة الاكراه، كما إذا حلف ليطؤها
في هذه الليلة فوجدها حائضا لا يحنث بترك الوطئ اه‍. هذا القياس ممنوع لأن الحيض لا مندوحة له إلى الخلاص منه،
بخلاف ما ذكر. (وشرط الواصل كونه من منفذ) بفتح الفاء كما ضبطه المصنف، كالمدخل والمخرج. (مفتوح فلا يضر
وصول الدهن) إلى الجوف (بتسرب المسام) وهي ثقب البدن كما قاله الجوهري، وهي جمع سم بتثليث السين،
والفتح أفصح، كما لو طلى رأسه أو بطنه به. كما لا يضر اغتساله بالماء البارد وإن وجد له أثر بباطنه بجامع أن الواصل إليه
ليس من منفذ. (ولا) يضر (الاكتحال وإن وجد طعمه) أي الكحل (بحلقه) لأن الواصل إليه من المسام.
428

وقد روى البيهقي: أنه (ص) كان يكتحل بالإثمد وهو صائم فلا يكره الاكتحال للصائم. (وكونه) أي الواصل
(بقصد، فلو وصل جوفه ذباب أو بعوضة أو غبار الطريق أو غربلة الدقيق لم يفطر) وإن أمكنه اجتناب ذلك بإطباق
الفم أو غيره لما فيه من المشقة الشديدة. ولو فتح فاه عمدا حتى دخل التراب جوفه لم يفطر أيضا لأنه معفو عن جنسه.
قال في المجموع: وشبهوه بالخلاف في العفو عن دم البراغيث المقتولة عمدا، وقضيته أن محل عدم الافطار به
إذا كان قليلا، ولكن ظاهر كلام الأصحاب الاطلاق وهو الظاهر، وقد يفهم أنه لو خرجت مقعدة المبسور فردها
قصدا أنه يفطر، والأصح كما في التهذيب والكافي أنه لا يفطر لاضطراره إليه كما لا يبطل طهر المستحاضة بخروج الدم.
فائدة: جمع المصنف الذباب وأفرد البعوضة مراعاة للفظ القرآن، قال تعالى: * (لن يخلقوا ذبابا) *، وقال
تعالى: * (بعوضة فما فوقها) *.
فائدة أخرى: الغربلة إدارة الحب في الغربال لينتفي خبيثة ويبقى طيبه، وفي كلام العرب: من غربل الناس
نخلوه، أي من فتش عن أمورهم وأصولهم جعلوه نخالة. وفي الحديث: كيف بكم وبزمان تغربل الناس فيه غربلة
أي يذهب خيارهم ويبقى أراذلهم. (ولا يفطر ببلع ريقه من معدته) بالاجماع لعسر التحرز عنه، ومعدنه هو
الذي فيه قراره، ومنه ينبع، وهو الحنك الأسفل تحت اللسان. (فلو خرج عن الفم) ولو إلى ظاهر الشفة (ثم رده)
إليه بلسانه أو غيره (وابتلعه أو بل خيطا بريقه ورده إلى فمه) كما يعتاد عند الفتل، (وعليه رطوبة تنفصل)
وابتلعها، (أو ابتلع ريقه مخلوطا بغيره) الطاهر، كأن فتل خيطا مصبوغا تغير به ريقه (أو) ابتلعه (متنجسا)
كمن أكل شيئا نجسا ولم يغسل فمه قبل الفجر، أو دميت لثته ولم يغسل فمه، وإن ابيض ريقه ثم ابتلعه صافيا، (أفطر)
في المسائل الثلاث. أما الأولى فلانه خرج عن معدنه وصار كالأعيان الخارجة، نعم لو أخرج لسانه وعليه الريق ثم
رده وابتلع ما عليه فإنه لا يفطر على الأصح في الروضة وأصلها، وصحح في المجموع القطع به لأنه لم ينفصل عن الفم فإن
اللسان كداخل الفم، خلافا لما صححه الرافعي في الشرح الصغير من الفطر. قال في الأنوار: ولو غسل السواك واستاك
به - أي مع بقاء الرطوبة - فكالخيط. وأما في الثانية فلانه لا ضرورة إليه وقد ابتلعه بعد مفارقته المعدن. وأما
في الثالثة فلانه أجنبي غير الريق. قال الأذرعي: ولا يبعد أن يقال من عمت بلواه بدم لثته بحيث يجري دائما أو غالبا
أنه يسامح بما يشق الاحتراز منه، ويكفي بصقه الدم، ويعفى عن أثره اه‍. وهذا لا بأس به. (ولو جمع ريقه)
ولو بنحو مصطكى، (فابتلعه لم يفطر في الأصح) لأنه لم يخرج عن معدنه فهو كابتلاعه متفرقا من معدنه، والثاني:
يفطر لأن الاحتراز عنه هين. واحترز بقوله: جمعه عما لو اجتمع بلا قصد كالمجتمع بكثرة الكلام فإنه لا يضر جزما.
(ولو سبق ماء المضمضة أو الاستنشاق) المشروع (إلى جوفه) من باطن أو دماغ (فالمذهب أنه إن بالغ)
في ذلك
(أفطر) لأن الصائم منهي عن المبالغة كما سبق في الوضوء. (وإلا) أي وإن لم يبالغ (فلا) يفطر، لأنه تولد من
مأمور به بغير اختياره. وقيل: يفطر مطلقا لأنه وصل بفعله. وقيل: لا يفطر مطلقا لعدم الاختيار. أما سبق ماء غير
المشروع، كأن جعل الماء في فمه أو أنفه لا لغرض أو سبق ماء غسل التبرد أو المرة الرابعة من المضمضة أو الاستنشاق
فإنه يفطر لأنه غيرمأمور بذلك، بل منهي عنه في الرابعة، ولا يفطره ولا يمنعه من إنشاء صوم نفل سبق ماء تطهير
الفم من نجاسة وإن بالغ فيه. (ولو بقي طعام بين أسنانه فجرى به ريقه) من غير قصد (لم يفطر إن عجز عن تمييزه
429

ومجه) لأنه معذور فيه غير مقصر، فإن لم يعجز أفطر لتقصيره، وقيل: لا يفطر مطلقا، وقيل: إن نقى أسنانه بالخلال
على العادة لم يفطر وإلا أفطر. أما إذا ابتلعه قصدا فإنه يفطر جزما.
فائدة: ما خرج من الأسنان إن أخرجه بالخلال كره أكله أو بالأصابع فلا كما نقل عن الإمام الشافعي رضي
الله تعالى عنه. (ولو أوجر) كأن صب ماء في حلقه (مكرها) أي مغمى عليه أو نائما، (لم يفطر) لانتفاء الفعل والقصد
منه. (وإن أكره حتى أكل) أو شرب (أفطر في الأظهر) لأنه حصل من فعله لدفع الضرر عن نفسه فأفطر به كما لو
أكل لدفع الضرر والجوع. (قلت: الأظهر لا يفطر، والله أعلم) لأن حكم اختياره ساقط بخلاف من أكل خوفا على
نفسه فأشبه الناسي، بل هو أولى منه لأنه مخاطب بالاكل لدفع ضرر الاكراه عن نفسه، والناسي ليس مخاطبا بأمر ولا
نهي. ويجري القولان فيما لو أكرهت أو أكره على الوطئ، وقلنا يتصور إكراهه، وهو الراجح. وإذا قلنا بالفطر
على المرجوح لا كفارة للشبهة، وإن قلنا لا يتصور الاكراه أفطر ولزمته الكفارة. (وإن أكل ناسيا لم يفطر) لخبر
الصحيحين: من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه. وفي صحيح ابن حبان وغيره:
ولا قضاء عليه ولا كفارة. (إلا أن يكثر) فيفطر به (في الأصح) لأن النسيان مع الكثرة نادر، ولهذا بطلت الصلاة
بكثير الكلام ناسيا دون قليله. والكثير كما في الأنوار: ثلاث لقم. (قلت: الأصح) المنصوص وقطع به الجمهور
(لا يفطر، والله أعلم) لعموم الخبر المار. والفرق بينه وبين الصلاة أن لها حالا تذكر المصلي أنه فيها فيندر ذلك فيه،
بخلاف الصوم. ولم يتعرض المصنف للجاهل بتحريم الاكل هل يفطر أو لا، وحكمه كالناسي كما في المجموع والروضة
إذا كان قريب العهد بالاسلام أو نشأ بعيدا عن العلماء. فإن قيل: إذا اعتقد جواز الأكل فما الصوم الذي نواه والجاهل
بحقيقة الصوم لا يتصور أن ينويه؟ أجيب بأن ذلك في مفطر خاص من الأشياء النادرة كالتراب فإنه قد يخفى ويكون
الصوم الامساك عن المعتاد، وما عداه شرط في صحته. (والجماع) ناسيا (كالأكل) ناسيا فلا يفطر به (على المذهب)
كغيره من المفطرات. والطريق الثاني: أنه على القولين في جماع المحرم ناسيا. وفرق الأول بأن المحرم له هيئة يتذكر بها
الاحرام، فإذا نسي كان مقصرا بخلاف الصائم.
تنبيه: قضية تشبيه الجماع بالاكل أن يأتي فيه التفصيل بين أن يطول زمنه أو لا، وهو كما قال الأسنوي
متجه، بل مجيئه في الجماع أولى لأنه دائر بين اثنين إن نسي أحدهما ذكره الآخر بخلاف الاكل، وإن كانت عبارة
الشرحين والروضة يقتضي خلافه. (و) الامساك (عن الاستمناء) وهو إخراج المني بغير جماع، محرما كأن أخرجه
بيده، أو غير محرم كإخراجه بيد زوجته أو أمته. (فيفطر به) لأن الايلاج من غير إنزال مفطر، فالانزال بنوع شهوة
أولى. (وكذا خروج المني) يفطر به إذا كان (بلمس وقبلة ومضاجعة) بلا حائل لأنه إنزال بمباشرة، (لا فكر)
وهو إعمال الخاطر في الشئ (ونظر بشهوة) إذا أمنى بهما أو بضم امرأة بحائل بشهوة وإن تكررت الثلاثة بها،
إذ لا مباشرة، فأشبه الاحتلام مع أنه يحرم تكريرها وإن لم ينزل. وقيل: إن اعتاد الانزال بالنظر أفطر، وقيل:
إن كرر النظر فأنزل أفطر. ولو لمس شعر امرأة فأنزل ففي فطره عن المتولي وجهان بناهما على انتقاض الوضوء بلمسه،
ومقتضاه أنه لا يفطر، وهو كذلك. ولو قبلها وفارقها ساعة ثم أنزل، فالأصح إن كانت الشهوة مستصحبة والذكر
قائما حتى أنزل أفطر وإلا فلا، قاله في البحر قال: ولو أنزل بلمس عضوها المبان لم يفطر. قال شيخنا: والظاهر أن
الحكم كذلك وإن اتصل بها عضوها المبان لحرارة الدم، وقياس ما تقدم من البناء في لمس الشعر أنه لو لمس
الفرج
430

بعد انفصاله وأنزل أنه إن بقي اسمه أفطر، وإلا فلا، وبذلك أفتى شيخي. قال في المجموع: ولو حك ذكره لعارض
سوداء أو حكة فأنزل لم يفطر في الأصح لأنه متولد من مباشرة مباحة. وهذا كله في الواضح، أما المشكل فلا يضر وطؤه
وإمناؤه بأحد فرجيه لاحتمال زيادته، وهذا لا ينافي ما تقدم من أن خروج المني من غير طريقه المعتاد كخروجه من طريقه
المعتاد لأن ذلك محله إذا انسد الأصلي. (وتكره القبلة) في الفم أو غيره، (إن حركت شهوته) رجلا كان أو امرأة كما هو
المتجه في المهمات، بحيث يخاف معه الجماع أو الانزال. والمعانقة واللمس ونحوهما بلا حائل كالقبلة فيما ذكر. (والأولى
لغيره) أي لمن تحرك شهوته ولو شابا، (تركها) حسما للباب، إذ قد يظنها غير محركة وهي محركة، ولان الصائم يسن له
ترك الشهوات مطلقا. (قلت: هي كراهة تحريم في الأصح) المنصوص (والله أعلم) لأن فيه تعريضا لافساد العبادة، ولخبر
الصحيحين: من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه وروى البيهقي بإسناد صحيح عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه
(ص) رخص في القبلة للشيخ وهو صائم ونهى عنها الشاب، وقال: الشيخ يملك إربه، والشاب يفسد صومه
ففهم الأصحاب من التعليل أن الامر دائر مع تحريك الشهوة بالمعنى المذكور. قال الشارح: وعدل هنا وفي الروضة عن
قول أصليهما تحرك إلى حركت لما لا يخفى، يعني أنا إذا قلنا تكره القبلة لمن تحرك شهوته يكون ذلك شاملا لمن حركت
القبلة شهوته ولمن لم تحرك شهوته، والثاني ليس مرادا، وإذا قلنا لمن حركت شهوته لم تشمل العبارة الثاني كما هو ظاهر.
والحاصل أن تحريك القبلة الشهوة أخص من تحريك الشهوة المطلق. قال بعض المتأخرين: والظاهر أن مراد من عبر
بتحريك الشهوة، أي بسبب القبلة، فهو بمعنى التحريك.
فائدة: سأل رجل إمامنا الشافعي رضي الله تعالى عنه بقوله:
سل العالم المكي هل في تزاور وضمة مشتاق الفؤاد جناح
فأجابه بقوله:
فقلت معاذ الله أن يذهب التقى تلاصق أكباد بهن جراح
قال الربيع: فسألت الشافعي كيف أفتى بها، فقال: هذا رجل قد أعرس في هذا الشهر شهر رمضان وهو حدث
السن، فسأل: هل عليه جناح أن يقبل أو يضم من غير وطئ؟ فأفتيته بهذه الفتيا اه‍. ولعل الشافعي غلب على
ظنه أن
ذلك لا يحرك شهوته. (ولا يفطر بالفصد والحجامة) أما الفصد فلا خلاف فيه، وأما الحجامة فلانه (ص)
احتجم وهو صائم واحتجم وهو محرم. رواه البخاري، وروى النسائي: احتجم وهو صائم محرم وهو ناسخ لحديث:
أفطر الحاجم والمحجوم لأنه كما قال الإمام الشافعي متأخر عنه بسنتين وزيادة، وعن أنس قال: مر النبي
(ص) على جعفر بن أبي طلحة وهو يحتجم وهو صائم، فقال: أفطر هذان، ثم رخص النبي (ص) بعد في الحجامة
للصائم، وكان أنس يحتجم وهو صائم. قال الدارقطني: رواته كلهم ثقات، نعم الأولى تركهما لأنهما يضعفانه.
فائدة: ورد في الحديث: الحجامة على الريق فيها شفاء وبركة وتزيد في العقل وفي الحفظ. (والاحتياط
أن لا يأكل آخر النهار إلا بيقين) كأن يعاين الغروب ليأمن الغلط، (ويحل) الاكل آخره (بالاجتهاد) بورد
أو غيره (في الأصح) كوقت الصلاة، والثاني: لا، لامكان الصبر إلى اليقين. أما بغير اجتهاد فلا يجوز ولو بظن
لأن الأصل بقاء النهار، وقياس اعتماد الاجتهاد جواز اعتماد خبر العدل بالغروب عن مشاهدة، وإن قال في البحر إنه لا يجوز
431

الفطر به كالشهادة على هلال شوال فهو قياس ما قالوه في القبلة والوقت والاذان. (ويجوز إذا ظن بقاء الليل) بالاجتهاد لأن
الأصل بقاؤه. (قلت: وكذا لو شك) فيه (والله أعلم) لما ذكر. ولو أخبره عدل بطلوع الفجر لزمه الامساك. (ولو أكل
باجتهاد أولا) أي أول النهار. (أو آخرا) أي آخر النهار، (وبان الغلط بطل صومه) لتحققه خلاف ما ظنه، إذ لا عبرة بالظن
البين خطؤه. (أو بلا ظن) كأن هجم وهو جائز في آخر الليل حراما في آخر النهار. (ولم يبن الحال صح إن وقع) الاكل
(في أوله) لأن الأصل بقاء الليل، (وبطل) إن وقع الاكل (في آخره) لأن الأصل بقاء النهار. قال الشارح: ولا مبالاة بالتسمح
في هذا الكلام لظهور المعنى المراد، أي وهو أنه أدى اجتهاده إلى عدم طلوع الفجر فأكل، أو إلى غروب الشمس فأكل.
(ولو طلع الفجر) الصادق (وفي فمه طعام فلفظه) أي رماه، (صح صومه) وإن سبق إلى جوفه منه شئ لأنه لو وضعه في
فمه نهارا لم يفطر فبالأولى إذا جعله فيه ليلا. ومثل اللفظ ما لو أمسكه ولم يبلغ منه شيئا، واحترز به عما لو ابتلع منه شيئا
باختياره فإنه يفطر. (وكذا) يصح صومه (لو كان) عند طلوع الفجر (مجامعا فنزع في الحال) لأن النزع ترك الجماع،
فأشبه ما لو حلف لا يلبس ثوبا وهو لا يلبسه فنزعه، وسواء أنزل حال النزع أم لا، لتولده من مباشرة مباحة.
تنبيه: إتيان المصنف بفاء التعقيب بعد طلوع الفجر يعلم منه أن صورة المسألة أن يعلم بالفجر أول طلوعه فينزع
على الفور. ويؤخذ منه بطريق الأولى ما لو أحس وهو مجامع بتباشير الصبح فنزع بحيث وافق آخر النزع ابتداء الطلوع،
ويخرج به ما لو مضى زمن بعد طلوع ثم علم به فإنه يبطل صومه. ويشترط أن يقصد بالنزع الترك، فإن لم يقصده بطل
صومه كما قال الشيخ أبو حامد وأبو محمد والامام وغيرهم. فإن قيل: كيف يعلم بأول طلوع الفجر لأن طلوعه الحقيقي
متقدم على علمنا به؟ أجيب بأنا إنما تعبدنا بما نطلع عليه، ولا معنى للصبح إلا طلوع الضوء للناظر، وما قابله لا حكم
له، فإذا كان الشخص عارفا بالأوقات ومنازل الفجر ورصد بحيث لا حائل فهو أول الصبح المعتبر. (فإن مكث بطل)
صومه، أي لم ينعقد لوجود المنافي ولو لم يبق من الليل إلا ما يسع الايلاج لا النزع، فعن ابن خيران منع الايلاج، أي وهو
الظاهر، وعن غيره جوازه. ثم شرع في الركن الثالث، وهو الصيام منبها على شروطه، فقال:
(فصل: شرط الصوم) أي شرط صحته من حيث الفاعل، (الاسلام) فلا يصح صوم الكافر بحال، أصليا كان أم
غيره. (والعقل) أي التمييز، فلا يصح صوم المجنون والطفل غير المميز لفقدان النية، ويصح عن صبي مميز. (والنقاء عن
الحيض والنفاس) فلا يصح صومهما بالاجماع كما في المجموع. ويشترط ما ذكر (جميع النهار) فلو طرأ في أثناء النهار
ردة أو جنون أو حيض أو نفاس بطل صومه، وقد يفهم أنها لو ولدت ولم تر دما أنه لا يبطل الصوم، وليس مرادا
بل الأصح كما في المجموع والتحقيق بطلانه لأنه لا يخلو عن بلل وإن قل، ولكن قال في المجموع: عدم البطلان أقوى،
فإن المعتمد في الغسل كونه منيا منعقدا وخروجه بلا مباشرة لا يبطل الصوم اه‍. ومال إلى هذا ابن الرفعة. وقد
جمعت بين الكلامين في باب الحيض فراجعه. ويحرم على الحائض والنفساء الامساك كما في الأنوار. (ولا يضر النوم
المستغرق) لجميع النهار (على الصحيح) لبقاء أهلية الخطاب، والثاني: يضر كالاغماء. وفرق الأول بأن الاغماء
يخرج على أهلية الخطاب بدليل سقوط ولايته على ماله وعدم وجوب قضاء الصلاة عليه، بخلاف النائم فيهما، فإن
أفاق لحظة من النهار صح صومه جزما. (والأظهر) وفي الروضة: المذهب، (أن الاغماء لا يضر إذا أفاق لحظة من
432

نهاره) أي لحظة كانت اتباعا لزمن الاغماء من الإفاقة، فإن لم يفق ضر. والثاني، وقطع به بعضهم: يضر مطلقا
كالحيض. والثالث: عكسه كالنوم. والرابع: إن أفاق في أوله صح وإلا فلا، ومال إليه ابن الصلاح وصححه الغزالي
والفارقي. وإنما اشترط الأول إفاقة لحظة لأن الاغماء في الاستيلاء على العقل فوق النوم ودون الجنون، فلو قلنا إن
المستغرق منه لا يضر كالنوم لألحقنا الأقوى بالأضعف، ولو قلنا إن اللحظة منه تضر كالجنون لألحقنا الأضعف
بالأقوى، فتوسطنا وقلنا إن الإفاقة في لحظة كافية. ولو شرب مسكرا ليلا، فإن أفاق في بعض نهاره فهو كالاغماء
في بعض النهار، وإلا لزمه القضاء، كذا نقلاه وأقراه. قال الأسنوي: ويعلم منه الصحة في شرب الدواء، أي إذا أفاق
في بعض النهار بطريق الأولى. ولو مات في أثناء النهار بطل صومه كما لو مات في أثناء صلاته، وقيل لا يبطل كما لو مات
في أثناء نسكه. ويشترط لصحة الصوم قابلية الوقت، فيصح الصوم في أيام السنة كلها إلا ما ذكره في قوله: (ولا يصح صوم
العيد) أي الفطر والأضحى ولو عن واجب، للنهي عنه في خبر الصحيحين وللاجماع. ولو نذر صومه لم ينعقد نذره،
(وكذا التشريق) أي أيامه وهي ثلاثة بعد الأضحى لا يصح صومها (في الجديد) ولو لمتمتع، للنهي عن صيامها كما رواه
أبو داود بإسناد صحيح، وفي صحيح مسلم عن النبي (ص): أيام منى أيام أكل وشرب وذكر الله تعالى وفي القديم:
يجوز صومها للمتمتع إذا عدم الهدى عن الأيام الثلاثة الواجبة في الحج، واختاره المصنف لما رواه البخاري عن ابن عمر
وعائشة رضي الله تعالى عنهما أنهما قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يضمن إلا لمن يجد الهدي. وسميت هذه الأيام بذلك
لأن الناس يشرقون فيها لحوم الأضاحي والهدايا أي ينشرونها، وهي الأيام المعدودة التي أمر الله فيها بذكره. (ولا
يحل) أي يحرم ولا يصح (التطوع) بالصوم (يوم الشك) لقول عمار بن ياسر رضي الله تعالى عنه: من صام يوم
الشك فقد عصى أبا القاسم (ص) رواه أصحاب السنن الأربعة، وصححه الترمذي وغيره، والمعنى فيه
القوة على صوم رمضان. وضعفه السبكي بعدم كراهة صوم شعبان، وهو ممنوع لأن النفس إذا ألفت شيئا هان عليها، ولهذا
كان صوم يوم وفطر يوم أفضل من استمرار الصوم كما سيأتي. وقال الأسنوي: المعروف المنصوص الذي
عليه الأكثرون
الكراهة لا التحريم، والمعتمد ما في المتن. هذا إذا صامه (بلا سبب) يقتضي صومه، (فلو صامه) تطوعا بلا سبب (لم
يصح) صومه (في الأصح) كيوم العيد يجامع التحريم. والثاني: يصح لأنه قابل للصوم في الجملة كما قال. (وله صومه عن
القضاء والنذر) والكفارة من غير كراهة على الأصح مسارعة لبراءة الذمة، ولان له سببا فجاز كنظيره من الصلاة
في الأوقات المكروهة. وإطلاقه يتناول قضاء المستحب، وهو نظير ما قالوه في الأوقات المكروهة أن قضاء الفائتة فيها جائز
وإن كانت نافلة، وصورة قضاء المستحب هنا أن يشرع في صوم نفل ثم يفسده فإنه يسن قضاؤه كما قاله في الروضة. (وكذا
لو وافق عادة تطوعه) قال في المجموع: سواء أكان يسرد الصوم أم يصوم يوما معينا كالاثنين والخميس، أو يصوم
يوما ويفطر يوما فوافق صومه يوم الشك فله صيامه، وذلك لخبر الصحيحين: لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين
إلا رجل كان يصوم صوما فليصمه، وقيس بالورد الباقي بجامع السبب. ولا يشكل هذا الخبر بخبر: إذا انتصف شعبان
فلا تصوموا لتقدم النص على الظاهر. قال الأسنوي: ولو أخر صوما ليوقعه يوم الشك، فقياس كلامهم في الأوقات
المنهي عن تحريمه، وسكت المصنف عن صومه عن رمضان احتياطا وهو ممتنع قطعا. فإن قيل: هلا استحب صومه
إن أطبق الغيم خروجا من خلاف الإمام أحمد حيث قال بوجوب صومه حينئذ أجيب بأنا لا نراعي الخلاف إذا
خالف سنة صريحة، وهي هنا خبر: فإن غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين. (وهو) أي يوم الشك (يوم الثلاثين
من شعبان إذا تحدث الناس برؤيته) أي بأن الهلال رؤي الليلة ولم يعلم من رآه ولم يشهد بها أحد. (أو شهد بها صبيان
433

أو عبيد أو فسقة) أو نساء وظن صدقهم كما قاله الرافعي، أو عدل ولم يكتف به. وعبارة المحرر كالشرح، أو قال عدد
من النسوة أو الصبيان أو الفساق قد رأيناه، وهذه العبارة أولى من عبارة المصنف لشمولها الاثنين ممن ذكر. وإنما لم
يصح صومه عن رمضان لأنه لم يثبت كونه منه، نعم من اعتقد صدق من قال إنه رآه ممن ذكر يجب عليه الصوم كما
تقدم عن البغوي في طائفة أول الباب. وتقدم في أثنائه صحة نية المعتقد لذلك وقوع الصوم عن رمضان إذا تبين
كونه
منه. قال الشارح: فلا تنافي بين ما ذكر في المواضع الثلاثة اه‍، أي لأن يوم الشك الذي يحرم صومه هو على من لم يظن
الصدق، هذا موضع، وأما من ظنه أو اعتقده صحت النية منه ووجب عليه الصوم، وهذان موضعان. وفي هذا رد على
قول الأسنوي: إن كلام الشيخين في الروضة وشرح المهذب متناقض من ثلاثة أوجه: في موضع يجب، وفي موضع
يجوز، وفي موضع يمتنع.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف أن يوم الشك يحصل بما ذكر سواء أطبق الغيم أم لا، وهو كذلك وإن قيده صاحب
البهجة بعدم إطباقه. أما إذا لم يتحدث أحد بالرؤية فليس اليوم يوم شك بل هو يوم من شعبان وإن أطبق الغيم لخبر: فإن
غم عليكم. (وليس إطباق الغيم) ليلة الثلاثين (بشك) بل هو من شعبان لخبر: فإن غم عليكم.
فرعان: أحدهما: إذا انتصف شعبان حرم الصوم بلا سبب إن لم يصله بما قبله على الصحيح في المجموع وغيره
لخبر: إذا انتصف شعبان فلا تصوموا رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح، لكن ظاهره أنه يحرم وإن وصله بما قبله
وليس مرادا حفظا لأصل مطلوبية الصوم. الثاني: الفطر بين الصومين واجب إذ الوصال في الصوم فرضا كان أو نفلا
حرام للنهي عنه في الصحيحين، وهو أن يصوم يومين فأكثر، ولا يتناول بالليل مطعوما عمدا بلا عذر، ذكره
في المجموع. وقضيته أن الجماع ونحوه لا يمنع الوصال، لكن في البحر أن يستديم جميع أوصاف الصائمين، وذكر الجرجاني
وابن الصلاح نحوه، وهذا هو الظاهر. قال الأسنوي: وتعبير الرافعي - أي وغيره - بأن يصوم يومين يقتضي أن المأمور
بالامساك كتارك النية لا يكون امتناعه ليلا من تعاطي الفطر وصالا لأنه ليس بين صومين، إلا أن الظاهر أنه جرى على
الغالب اه‍. وهذا ظاهر أيضا، لأن تحريم الوصال للضعف عن الصيام والصلاة وسائر الطاعات وهو حاصل في هذه الحالة.
(ويسن تعجيل الفطر) إذا تحقق غروب الشمس، لخبر الصحيحين: لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر زاد الإمام أحمد
: وأخروا السحور ولما في ذلك من مخالفة اليهود والنصارى، ويكره أن يؤخره إن قصد ذلك ورأي أن فيه
فضيلة وإلا فلا بأس به، نقله في المجموع عن نص الام، وفيه عن صاحب البيان أنه يكره أن يتمضمض بماء ويمجه
وأن يشربه ويتقايأه إلا لضرورة، قال: وكأنه شبيه بالسواك للصائم بعد الزوال لكونه يزيل الخلوف اه‍. وهذا
كما قال الزركشي إنما يأتي على القول بأن كراهة السواك لا تزول بالغروب، والأكثرون على خلافه. وخرج بتحقق
الغروب ظنه باجتهاد فلا يسن تعجيل الفطر به وظنه بلا اجتهاد وشكه فيحرم بهما كما مر ذلك. ويسن كونه (على)
رطب، فإن لم يجده فعلى (تمر، وإلا) أي وإن لم يجده (فماء) لخبر: كان النبي (ص) يفطر قبل أن يصلي
على رطبات، فإن لم يكن فعلى تمرات، فإن لم يكن حسا حسوات من ماء فإنه طهور، رواه الترمذي وحسنه. وقضيته
تقديم الرطب على التمر كما قدرته، وهو كذلك، وتثليث ما يفطر عليه، وهو قضية نص الام في حرملة وجماعة من الأصحاب.
ويجمع بينه وبين تعبير جماعة بتمرة، يحمل ذلك كما قال شيخنا على أصل السنة، وهذا على كمالها. ونقل في أصل الروضة
عن الروياني أنه إذا لم يجد التمر فعلى حلو، ونقل عن القاضي أن الأولى في زماننا أن يفطر على ماء يأخذه بكفه من النهر
ليكون أبعد عن الشبهة. قال في المجموع: وهذان شاذان. وقال المحب الطبري: من بمكة يستحب له الفطر على ماء
زمزم، ولو جمع بينه وبين التمر فحسن اه‍. ورد بأنه مخالف للاخبار وللمعنى الذي شرع الفطر على التمر لأجله، وهو حفظ
البصر، فإن الصوم يضعفه والتمر يرده، أو أن التمر إذا نزل إلى معدة فإن وجدها خالية حصل الغذاء، وإلا أخرج ما هناك
من بقايا الطعام، وهذا لا يوجد في ماء زمزم، وفي الجمع بينهما زيادة على السنة الواردة، وهي قوله (ص): إذا كان
434

أحدكم صائما فليفطر على التمر، فإن لم يجد التمر فعلى الماء فإنه طهور رواه الترمذي وغيره وصححوه. والاستدراك
على النصوص بغير دليل ممنوع، والخير كله فيما شرعه لنا رسول الله (ص). فإن قيل: قد صرح الأطباء بأن
أكل التمر يضعف البصر فكيف يعلل بأنه يرده؟ أجيب بأن كثيره يضعفه وقليله يقويه، والشئ قد ينفع قليله ويضر
كثيره. ويسن السحور لخبر الصحيحين: تسحروا فإن في السحور بركة ولخبر الحاكم في صحيحه: استعينوا
بطعام السحر على صيام النهار، وبقيلولة النهار على قيام الليل. (و) يسن (تأخير السحور ما لم يقع في شك) في
طلوع الفجر، لخبر: لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور رواه الإمام أحمد، ولأنه أقرب إلى التقوي
على العبادة، فإن شك في ذلك كأن تردد في بقاء الليل لم يسن التأخير، بل الأفضل تركه للخبر الصحيح: دع ما يريبك
إلى ما لا يريبك.
تنبيه: السحور بفتح السين المأكول في السحر، وبضمها الاكل حينئذ، وأكثر ما يروى بالفتح. وقيل: إن
الصواب الضم لأن الاجر والبركة في الفعل، على أن الآخر لا يمتنع على سبيل المجاز. وهل الحكمة في السحور التقوي
على الصوم أو مخالفة أهل الكتاب؟ وجهان: وقد يقال إنها لهما. ولو صرح المصنف بسنه كما قدرته وصرح به في المحرر
لكان أولى فإن استحبابه مجمع عليه، وذكر في المجموع أنه يحصل بكثير المأكول وقليله وبالماء، ففي صحيح ابن حبان:
تسحروا ولو بجرعة ماء. ويدخل وقته بنصف الليل كما ذكره الرافعي في الايمان وذكره في المجموع هنا. وقيل:
بدخول السدس الأخير. (وليصن) أي الصائم ندبا (لسانه عن) الفحش من (الكذب والغيبة) والنميمة والشتم
ونحوها، لخبر البخاري: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه، ولخبر الحاكم
في صحيحه: ليس الصيام من الأكل والشرب فقط الصيام من اللغو والرفث ولأنه يحبط الثواب. فإن قيل: صون
اللسان عن ذلك واجب. أجيب بأن المعنى أنه يسن للصائم من حيث الصوم، فلا يبطل صومه بارتكاب ذلك بخلاف
ارتكاب ما يجب اجتنابه من حيث الصوم كالاستقاءة. قال السبكي: وحديث: خمس يفطرن الصائم: الغيبة والنميمة.
إلى آخره ضعيف وإن صح. قال الماوردي: فالمراد بطلان الثواب لا الصوم. قال: ومن هنا حسن عدم الاحتراز عنه
من آداب الصوم وإن كان واجبا مطلقا، فإن شتمه أحد فليقل إني صائم لخبر الصحيحين: الصيام جنة فإذا كان أحدكم
صائما فلا يرفث ولا يجهل، فإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم - مرتين يقول بقلبه لنفسه لتصبر ولا تشاتم فتذهب
بركة صومها كما نقله الرافعي عن الأئمة، أو بلسانه بنية وعظ الشاتم ودفعه بالتي هي أحسن كما نقله المصنف عن جمع
وصححه، ثم قال: فإن جمعهما فحسن. وقال: إنه يسن تكراره مرتين أو أكثر لأنه أقرب إلى إمساك صاحبه عنه،
وقول الزركشي ولا أظن أحدا يقوله، مردود بالخبر السابق.
فائدة: سئل أكثم بن صيفي: كم وجدت في ابن آدم من عيب؟ قال: هي أكثر من أن تحصى، والذي أحصيته
منها ثمانية آلاف عيب، ويستر جميع ذلك حفظ اللسان. (و) ليصن (نفسه) ندبا (عن الشهوات) التي
لا تبطل الصوم من المشمومات والمبصرات والملموسات والمسموعات كشم الرياحين والنظر إليها ولمسها وسماع الغناء،
لما في ذلك من الترفه الذي لا يناسب حكمة الصوم، وهي لتنكسر النفس عن الهوى وتقوى على التقوى، بل يكره له
ذلك. (ويستحب أن يغتسل عن الجنابة) والحيض والنفاس (قبل الفجر) ليكون على طهر من أول الصوم،
وليخرج من خلاف أبي هريرة حيث قال: لا يصح صومه، وخشية من وصول الماء إلى باطن أذن أو دبر أو نحوه. قال
بعض المتأخرين: وينبغي أن يغسل هذه المواضع إن لم يتهيأ له الغسل الكامل. قال الأسنوي: وقياس المعنى الأول
المبادرة إلى الاغتسال عقب الاحتلام نهارا، فلو وصل شئ من الماء إلى ما ذكر من غسله ففيه التفصيل المذكور في
المضمضة والاستنشاق. وقال المحاملي والجرجاني: يكره للصائم دخول الحمام - يعني من غير حاجة - لجواز أن يضره فيفطر.
435

وقول الأذرعي: هذا لمن يتأذى به دون من اعتاده، ممنوع لأنه من الترفه الذي لا يناسب حكمة الصوم كما مر. ولو طهرت
الحائض أو النفساء ليلا ونوت الصوم وصامت أو صام الجنب بلا غسل صح الصوم، لقوله تعالى: * (فالآن باشروهن وابتغوا
ما كتب الله لكم) * الآية، ولخبر الصحيحين: كان النبي (ص) يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يغتسل ويصوم،
وقيس بالجنب الحائض والنفساء. وأما خبر البخاري: من أصبح جنبا فلا صوم له فحملوه على من أصبح مجامعا
واستدام الجماع، وحمله بعضهم على النسخ، واستحسنه ابن المنذر. (و) يستحب (أن يحترز عن الحجامة) والفصد
ونحوهما، لأن ذلك يضعفه، فهو خلاف الأولى كما في المجموع وإن جزم في أصل الروضة بكراهته. وقال المحاملي: يكره
أن يحجم غيره أيضا. (و) عن (القبلة) هذه المسألة مكررة، وقد تقدم كراهتها بل تحريمها. (و) عن (ذوق الطعام)
خوفا من وصوله إلى جوفه أو تعاطيه لغلبة شهوته. (و) عن (العلك) بفتح العين مصدر معناه المضغ، وبكسرها
المعلوك لأنه يجمع الريق، فإن ابتلعه أفطر في وجه، وإن ألقاه عطشه، وهو مكروه كما في المجموع. (و) يستحب (أن
يقول عند فطره) أي عقبه كما يؤخذ من قوله: (اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت) وذلك للاتباع، رواه
أبو داود
مرسلا. وروى أيضا أنه (ص) كان يقول حينئذ: اللهم ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الاجر إن شاء الله تعالى
ويستحب له أن يفطر الصائمين بأن يعشيهم لخبر: من فطر صائما فله أجر صائم ولا ينقص من أجر الصائم شئ، رواه
الترمذي وصححه. فإن عجز عن عشائهم فطرهم على شربة أو تمرة أو نحوهما، لما روي أن بعض الصحابة قال: يا رسول
الله ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم؟ فقال: يعطي الله تعالى هذا الثواب من فطر صائما على ثمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن
(وأن يكثر الصدقة) في رمضان، لحديث أنس رضي الله تعالى عنه، قيل: يا رسول الله: أي الصدقة أفضل؟ قال: صدقة في
رمضان رواه الترمذي وقال: حسن غريب، ولان الحسنات مضاعفة فيه، ولما فيه من تفطير الصائم، فإنه يستعين
بذلك على فطره. (و) أن يكثر (تلاوة القرآن) ومدارسته بأن يقرأ على غيره ويقرأ عليه غيره (في رمضان) لما في
الصحيحين: أن جبريل عليه الصلاة والسلام كان يلقى النبي (ص) في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض
عليه النبي (ص) القرآن. (وأن يعتكف) فيه لأنه أقرب إلى صيانة النفس عن المنهيات وإتيانها بالمأمورات،
(لا سيما في العشر الأواخر منه) للاتباع في ذلك، رواه الشيخان، ولرجاء أن يصادف ليلة القدر إذ هي منحصرة فيه
عندنا. وروى مسلم: أنه (ص) كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره.
تنبيه: لو قال المصنف: وأن يكثر الصدقة وتلاوة القرآن والاعتكاف كان أولى، لأن الاعتكاف مستحب
مطلقا، لكنه يتأكد في رمضان فصار كالصدقة وتلاوة القرآن. ولفظة سيما كلمة منبهة على أن ما بعدها أولى بالحكم مما
قبلها، والأشهر فيها تشديد الياء، ويجوز في الاسم بعدها الجر والرفع والنصب، والجر أرجح.
فصل: في شروط وجوب صوم رمضان، وما يبيح ترك صومه. (شرط وجوب صوم رمضان) الاسلام ولو فيما
مضى، و (العقل والبلوغ) كما في الصلاة، (وإطاقته) أي الصوم والصحة والإقامة أخذا مما سيأتي، فلا يجب على كافر بالمعنى
السابق في الصلاة، ولا على صبي ومجنون ومغمى عليه وسكران، ولا على من لا يطيقه حسا أو شرعا لكبر أو مرض
لا يرجى برؤه أو حيض أو نحوه، ولا على مريض ومسافر بقيد يعلم مما يأتي. ووجوبه عليهما وعلى السكران والمغمى
عليه والحائض ونحوها عند من عبر بوجوبه عليهم وجوب انعقاد سبب كما تقرر ذلك في الأصول لوجوب القضاء عليهم
كما سيأتي، ومن ألحق بهم المرتد في ذلك (فقد سها) فإن وجوبه عليه وجوب تكليف. (ويؤمر به الصبي) المميز، والمراد
به الجنس الشامل للذكر والأنثى على رأي ابن حزم، (لسبع إذا أطاق) ويضرب على تركه لعشر كالصلاة، وإن فرق
436

المحب الطبري بينهما بأنه إنما ضرب على الصلاة للحديث، والصوم فيه مشقة ومكابدة بخلاف الصلاة فلا يصح الالحاق،
والامر والضرب واجبان على الولي كما مر بيانه. (ويباح تركه) بنية الترخص (للمريض) بالنص والاجماع، (إذا وجد
به ضررا شديدا) وهو ما يبيح التيمم، وهذا ما في الشرحين والروضة، وعبارة المحرر: للمريض الذي يصعب عليه
أو يناله به ضرر شديد، فاقتضى الاكتفاء بأحدهما، وهو كما قال الأسنوي الصواب، قال تعالى: * (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله
كان بكم رحيما) *، وقال تعالى: * (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) * وسواء أتعدى بسبب المرض أم لا. ثم إن كان المرض
مطبقا فله ترك النية بالليل، أو منقطعا كأن كان يحم وقتا دون وقت نظر إن كان محموما وقت الشروع جاز له ترك النية
وإلا فعليه أن ينوي. وإن عاد المرض واحتاج إلى الافطار أفطر، ويجب الفطر إذا خشي الهلاك كما صرح به الغزالي
وغيره وجزم به الأذرعي، ولمن غلبه الجوع أو العطش حكم المريض. (و) يباح تركه (للمسافر سفرا طويلا مباحا) وقد
تقدم الكلام على هذه المسألة في صلاة المسافر، وأن الفطر أفضل إن تضرر وإلا فالصوم، ولا فرق في ذلك بين من
يديم السفر أو لا خلافا لبعض المتأخرين، وهذا في صوم رمضان المؤدى. أما القضاء الذي على الفور فالأصح أنه لا يباح له
فطره في السفر، وكذا من نذر صوم شهر رمضان فسافر فيه لا يباح له الفطر، قاله البغوي في فتاويه وأقراه. (ولو أصبح) المقيم
(صائما فمرض أفطر) لوجود المبيح للافطار، (وإن سافر فلا) يفطر في الأصح لأنها عبادة اجتمع فيها الحضر والسفر
فغلب جانب الحضر لأنه الأصل. ولو نوى وسافر ليلا، فإن جاوز قبل الفجر ما اعتبر مجاوزته في صلاة المسافر أفطر،
وإلا فلا. (ولو أصبح المسافر والمريض صائمين ثم أرادا الفطر جاز) لهما لدوام عذرهما، وقيل: لا يجوز
، كما لو نوى الاتمام
ليس له القصر، وفرق الأول بأنه بالقصر تارك الاتمام الذي التزمه لا إلى بدل والصوم له بدل، وهو القضاء. ولا يكره
للمسافر في هذه الحالة الفطر كما في المجموع، وأحد وجهين في الروضة رجحه ابن المقري، ويشترط في جواز الترخص نيته
كالمحصر يريد التحلل كما ذكره البغوي وغيره. وشمل إطلاق المصنف جواز الفطر لهما ولو نذرا إتمامه، وبه صرح
والد الروياني، لأن إيجاب الشرع أقوى منه. (فلو أقام) المسافر (وشفي) المريض (حرم) عليهما الفطر (على الصحيح)
لانتفاء المبيح، والثاني: لا يحرم اعتبارا بأول اليوم، ولهذا لو أصبح صائما ثم سافر لم يكن له الفطر. (وإذا أفطر المسافر
والمريض قضيا) لقوله تعالى: * (ومن كان مريضا أو على سفر) * أي فأفطر * (فعدة من أيام أخر) *. (وكذا) تقضي
(الحائض) ما فاتها به إجماعا، وهذه المسألة مكررة لأنها تقدمت في باب الحيض. والنساء في ذلك كالحائض. (و)
يقضي (المفطر بلا عذر) لأنه إذا وجب على المعذور فغيره أولى، (و) يقضي (تارك النية) عمدا أو سهوا لأنه لم يصم
إذ صحته متوقفة عليها. (ويجب قضاء ما فات بالاغماء) لأنه نوع مرض، فاندرج تحت قوله تعالى: * (ومن كان مريضا) *
الآية، وخالف الصلاة كما مر في بابها للمشقة فيها بتكررها، وخالف الجنون لأنه أخف منه، ولهذا يجوز على الأنبياء
بخلاف الجنون. (والردة) أي يجب قضاء ما فات بها إذا عاد إلى الاسلام لأنه التزم الوجوب بالاسلام وقدر على الأداء
فهو كالمحدث يجب عليه أن يتطهر ويصلي، وكذا يجب على السكران قضاء ما فات به. (دون الكفر الأصلي) بالاجماع،
لما في وجوبه من التنفير عن الاسلام. (و) دون (الصبا والجنون) فلا يجب قضاء ما فات بهما لارتفاع القلم عمن تلبس
بهما. ولو ارتد ثم جن أو سكر ثم جن فالأصح في المجموع في الأولى قضاء الجميع، وفي الثانية أيام السكر لأن حكم الردة مستمر
بخلاف السكر. (ولو بلغ) الصبي، والمراد به الجنس كما مر، (بالنهار صائما) بأن نوى ليلا، (وجب) عليه (إتمامه)
437

لأنه صار من أهل الوجوب في أثناء العبادة، فأشبه ما لو دخل في صوم تطوع ثم نذر إتمامه. (بلا قضاء) في الأصح فيهما،
وقيل: يستحب إتمامه ويجب القضاء. وعلى الأول لو جامع بعد البلوغ لزمته الكفارة، بخلافه على الثاني. (ولو بلغ)
الصبي (فيه) أي النهار (مفطرا أو أفاق) المجنون فيه (أو أسلم) الكافر فيه، (فلا قضاء) عليهم (في الأصح) لعدم
التمكن من زمن يسع الأداء والتكميل عليه لا يمكن، فأشبه ما لو أدرك من أول الوقت ركعة ثم جن، والثاني: يجب عليهم
القضاء لأنهم أدركوا جزءا من وقت الفرض، ولا يمكن فعله إلا بيوم، فيكمل كما يصوم في الجزاء عن بعض مد يوما.
(ولا يلزمهم) أي الثلاثة المذكورين (إمساك بقية النهار في الأصح) لأنهم أفطروا لعذر فأشبهوا المسافر والمريض،
لكن يستحب لحرمة الوقت وخروجا من الخلاف، والثاني: يلزمهم لأنهم أدركوا وقت الامساك وإن لم يذكروا وقت
الصوم. (ويلزم) الامساك (من تعدى بالفطر) الشرعي كأن ارتد، أو الحسي كأن أكل عقوبة له ومعارضة لتقصيره.
(أو نسي النية) من الليل، لأن نسيانه يشعر بترك الاهتمام بأمر العبادة فهو ضرب من التقصير. (لا مسافرا أو مريضا، زال عذرهما
بعد الفطر) كأن أكلا، أي لا يلزمهما الامساك لأن زوال أي العذر بعد الترخص لا يؤثر كما لو قصر المسافر ثم أقام والوقت
باق. لكن يسن لهما لحرمة الوقت، فإن استمرا على الفطر استحب لهما إخفاؤه لئلا يتعرضا للتهمة والعقوبة. (ولو زال)
عذرهما (قبل أن يأكلا) مثلا (ولم ينويا ليلا فكذا) لا يلزمهما الامساك (في المذهب) لأن تارك النية مفطر حقيقة،
فكان كما أكل. وقيل: يلزمهم الامساك حرمة لليوم، ومنهم من قطع بالأول، واحترز بقوله ولم ينويا عما لو نويا
فأصبحا صائمين، فإن الامساك يجب.
تنبيه: أولى من قوله: قبل أن يأكلا قبله: أي الفطر فهو أشمل ويستغني عما قدرته وأخصر. والحائض
والنفساء إذا طهرتا في أثناء النهار لا يلزمهما الامساك على الصحيح، (والأظهر أنه يلزم) الامساك (من أكل) مثلا
(يوم الشك) إذا كان من أهل الوجوب (ثم ثبت كونه من رمضان) لأن صومه واجب عليه إلا أنه جهله، فإذا
بان له لزمه الامساك، والثاني: لا يلزمه لعذره، كمسافر قدم بعد الاكل. وأجاب الأول بأن المسافر يباح له الاكل مع
العلم بأنه من رمضان بخلاف يوم الشك، أما لو بان أنه من رمضان قبل الاكل، فالأكثرون على ما دل عليه كلام
الكفاية على الجزم باللزوم.
تنبيه: المراد بيوم الشك هنا يوم الثلاثين من شعبان سواء أكان قد تحدث الناس برؤيته أم لا، بخلاف يوم الشك
الذي يحرم صومه، والمأمور بالامساك يثاب عليه لقيامه بواجب وليس في يوم شرعي على الأصح في المجموع، فلو
ارتكب فيه محظورا لا شئ عليه سوى الاثم. (وإمساك بقية اليوم من خواص رمضان، بخلاف النذر والقضاء) فلا إمساك
على من أفطر فيهما لانتفاء شرف الوقت كما لا كفارة فيهما، وهذا ما نقل في المجموع اتفاق الأصحاب عليه، وإن نقل
الأسنوي عن نص البويطي أن الامساك في الجميع.
فصل: في فدية الصوم الواجب: (من فاته) من الأحرار (شئ من) صوم (رمضان فمات قبل إمكان القضاء)
بأن استمر مرضه أو سفره المباح إلى موته، (فلا تدارك له) أي الفائت بالفدية ولا بالقضاء لعدم تقصيره، (ولا إثم) به
لأنه فرض لم يتمكن منه إلى الموت فسقط حكمه كالحج. هذا إذا كان الفوات بعذر كمرض، وسواء استمر إلى الموت
أم حصل الموت في رمضان ولو بعذر زوال العذر، أو حدث به عذر آخر قبل فجر ثاني شوال، بل لو طرأ حيض أو نفاس أو مرض
438

قبل غروبه فلا تمكن أيضا كما ذكره في المهمات. أما غير المعذور وهو المتعدي بالفطر فإنه يأثم ويتدارك عنه بالفدية
كما صرح به الرافعي في باب النذر في نذر صوم الدهر وجعله أصلا وقاس عليه، وأشار إليه هنا بتمثيله بالمريض والمسافر.
(وإن مات بعد التمكن) من القضاء ولم يقض، (لم يصم عنه وليه) أي لا يصح صومه عنه (في الجديد) لأن
الصوم عبادة بدنية لا تدخلها النيابة في الحياة، فكذلك بعد الموت كالصلاة، ولا فرق في هذا القسم بين أن يفوته بعذر
أو بغيره. واحترز بقوله: وإن مات عن الحي الذي تعذر صومه لمرض أو غيره فإنه لا يصام عنه بلا خلاف كما
في زوائد الروضة، وقال في شرح مسلم تبعا للماوردي وغيره: إنه إجماع. (بل يخرج من تركته لكل يوم) فاته صومه
(مد طعام) وهو رطل وثلث بالرطل البغدادي كما مر، وبالكيل المصري نصف قدح من غالب قوت بلده، وذلك
لخبر: من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكينا رواه الترمذي وصحح وقفه على ابن عمر، ونقله
الماوردي عن إجماع الصحابة. وفي القديم: يصوم عنه وليه، أي يجوز له الصوم عنه، بل يندب له، ويجوز له الاطعام
فلا بد من التدارك له على القولين، سواء أكان بعذر أم بغيره. (وكذا النذر والكفارة) بأنواعهما، فيجري فيهما
القولان في رمضان لعموم الأدلة المارة، وإن قيد في الحاوي الصغير الكفارة بكفارة القتل. (قلت: القديم هنا أظهر)
للأخبار الصحيحة فيه، كخبر الصحيحين: من مات وعليه صيام صام عنه وليه، قال المصنف: وليس للجديد حجة
من السنة، والخبر الوارد بالاطعام ضعيف ومعه ضعفه فالاطعام لا يمتنع عند القائل بالصوم. (و) على القديم (الولي)
الذي يصوم عنه (كل قريب) للميت وإن لم يكن عاصيا ولا وارثا ولا ولي مال، (على المختار) من احتمالات للامام،
لما في خبر مسلم أنه (ص) قال لامرأة قالت له: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟: صومي عن أمك.
قال في المجموع: وهذا يبطل احتمال ولاية المال والعصوبة، وقد قيل بكل منهما، فإن اتفقت الورثة على أن يصوم
واحد منهم جاز، فإن تنازعوا ففي فوائد المهذب للفارقي أنه يقسم على قدر مواريثهم. (و) عليه (لو صام أجنبي بإذن
الولي) أي القريب، أو بإذن الميت بأن أوصى به سواء أكان بأجرة أم لا، (صح) قياسا على الحج. قال الأذرعي:
فإن قام بالقريب ما يمنع الاذن: كصبا وجنون، أو امتنع من الاذن والصوم، أو لم يكن قريب، فهل يأذن الحاكم؟
فيه نظر اه‍. والأوجه كما قال شيخنا المنع لأنه على خلاف القياس فيقتصر عليه فتتعين الفدية. قال في المجموع:
ومذهب الحسن البصري أنه لو صام عنه ثلاثون بالاذن يوما واحدا أجزأه. قال: وهو الظاهر الذي أعتقده. (لا مستقلا
في الأصح) لأنه ليس في معنى ما ورد به الخبر، والثاني: يصح كما يوفي دينه بغير إذنه. فإن قيل: قد صحح المصنف
في نظير المسألة من الحج أنه يصح بغير إذن ولا وصية، وقال الأسنوي: إنه مشكل؟ أجيب بأن الحج يدخله المال
فأشبه قضاء الدين، وحينئذ لا يصح قياس الصوم على الحج. (ولو مات وعليه صلاة أو اعتكاف لم يفعل) ذلك
(عنه ولا فدية) له لعدم ورودها، بل نقل القاضي عياض الاجماع على أنه لا يصلي عنه. (وفي الاعتكاف قول) في
البويطي أنه يعتكف عنه قياسا على الصوم، لأن كلا منهما كف ومنع، وفي رواية عن الشافعي: أنه يطعم عنه
وليه
عن كل يوم بليلته مدا. (والله أعلم) قال البغوي: ولا يبعد تخريج ما نقله البويطي في الصلاة فيطعم لكل صلاة مد،
ويستثنى من منع الصلاة والاعتكاف عن الميت ركعتا الطواف، فإنها تجوز تبعا للحج، وما لو نذر أن يعتكف صائما
فإن البغوي قال في التهذيب: إن قلنا لا يفرد الصوم عن الاعتكاف، أي وهو الأصح، وقلنا بصوم الولي، فهذا
يعتكف عنه صائما وإن كانت النيابة لا تجزئ في الاعتكاف. (والأظهر وجوب المد) لكل يوم بلا قضاء، (على
439

من أفطر) فيما وجب عليه من رمضان، أو نذر نذره حال قدرته أو قضاه كما صرح به الرافعي في المحرر. (لكبر)
لكونه شيخا هو ما تلحقه به مشقة لقوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) * فإن كلمة لا مقدرة: أي
لا يطيقونه، أو أن المراد يطيقونه حال الشباب ثم يعجزون عنه بعد الكبر. وروى البخاري أن ابن عباس وعائشة
كانا يقرءان وعلى الذين يطوقونه بتشديد الواو مفتوحة، ومعناه يكلفون الصوم فلا يطيقونه. وقيل: لا تقدير في
الآية، بل كانوا مخيرين في أول الاسلام بين الصوم والفدية فنسخ ذلك، فيجب على كل يوم مد، والثاني: المنع، لأنه
أفطر لأجل نفسه لعذر فأشبه المسافر والمريض إذا ماتا قبل انقضاء السفر والمرض. وفرق الأول بأن الشيخ لا يتوقع
زوال عذره بخلافهما. وفي معنى الكبير المريض الذي لا يرجى برؤه، فلو عبر بقوله بعذر لا يرجى زواله لكان أولى،
ولو كان يمكنه الصوم في وقت آخر لبرودته أو قصر أيامه فهو كالذي يرجى برؤه، ذكره القاضي أبو الطيب. وقضية
إطلاق المصنف أنه لا فرق في وجوب الفدية بين الغني والفقير، وفائدته استقرارها في ذمة الفقير، وهو الأصح على ما
يقتضيه كلام الروضة وأصلها، وجرى عليه ابن المقري، وقول المجموع: ينبغي أن يكون الأصح هنا عكسه كالفطرة
لأنه عاجز حال التكليف بالفدية وليس في مقابلة جناية ونحوها، تبع فيه القاضي. وهو مردود بأن حق الله تعالى المالي
إذا عجز عنه العبد وقت الوجوب يثبت في ذمته وإن لم يكن على وجه البدل إذا كان بسبب منه، وهو هنا كذلك، إذ
سببه فطره بخلاف زكاة الفطر. وهل الفدية في حق من ذكر بدل عن الصوم أو واجبة ابتداء؟ وجهان في أصل الروضة،
أصحهما في المجموع الثاني، ويظهر أثرهما فيما لو قدر بعد على الصوم وفي انعقاد نذره له، فإذا نذر من عجز لهرم أو
نحوه صوما لم يصح نذره لأنه لم يخاطب بالصوم ابتداء بل بالفدية، ولو قدر من ذكر على الصوم بعد الفطر لم يلزمه
الصوم قضاء لذلك، وبه فارق نظيره في الحج عن المغصوب إذا قدر عليه، ومن اشتدت مشقة الصوم عليه فهو كمن
ذكر، فلو تكلف وصام فقياس ما صححوه عدم الاكتفاء، لكن الأصح لا فدية كما قاله في الكفاية عن البندنيجي.
(وأما الحامل والمرضع) فيجوز لهما الافطار إذا خافتا على أنفسهما أو على الولد، سواء أكان الولد ولد المرضعة أم لا،
فتعبيره بالولد أولى من تعبير التنبيه بولديهما. وسواء أكانت مستأجرة أم لا. ويجب الافطار إن خافت هلاك الولد.
وكذا يجب المستأجرة كما صححه في الروضة لتمام العقد وإن لم تخف هلاك الولد وأما القضاء والفدية (فإن أفطرتا
خوفا) من حصول ضرر بالصوم، كالضرر الحاصل للمريض. (على نفسهما) والأولى أنفسهما ولو مع الولد، (وجب
القضاء بلا فدية) كالمريض. فإن قيل: إذا خافتا على أنفسهما مع ولديهما فهو فطر ارتفق به شخصان، فكان ينبغي
الفدية قياسا على ما سيأتي. أجيب بأن الآية وردت في عدم الفدية فيما إذا أفطرتا خوفا على أنفسهما، فلا فرق بين
أن يكون الخوف مع غيرهما أولا، وهي قوله تعالى: * (ومن كان مريضا) * إلى آخرها. (أو) خافا (على الولد)
وحده، بأن تخاف الحامل إسقاطه، أو المرضع بأن يقل اللبن فيهلك الولد، (لزمتهما) من مالهما مع القضاء (الفدية
في الأظهر) وإن كانتا مسافرتين أو مريضتين، لما روى أبو داود والبيهقي بإسناد حسن عن ابن عباس في قوله تعالى:
* (وعلى الذين يطيقونه فدية) * أنه نسخ حكمه إلا في حقهما حينئذ، والناسخ له قوله تعالى: * (فمن شهد منكم الشهر
فليصمه) * والقول بنسخه قول أكثر العلماء. وقال بعضهم: إنه محكم غير منسوخ، بتأويله بما مر في الاحتجاج به.
والثاني: لا تلزمهما كالمسافر والمريض، لأن فطرهما لعذر. والثالث: تجب على المرضع دون الحامل، لأن فطرها لمعنى
فيها كالمريض. وعلى الأول تستثنى المتحيرة فلا فدية عليها للشك في أنها حائض أو لا، ذكره في زيادة الروضة والمجموع
في باب الحيض. وهذا ظاهر فيما إذا أفطرت ستة عشر يوما فأقل، فإن زادت عليها وجبت الفدية عن الزائد، لأن
الحيض لا يزيد على ذلك، نبه على ذلك شيخنا في شرح البهجة وأسقطه من شرح الروض. وفارق لزومها للمستأجرة
عدم لزوم دم التمتع للأجير بأن الدم ثم من تتمة الحج الواجب على المستأجر، وهنا الفطر من تتمة إيصال المنافع اللازمة
440

للمرضع، وظاهر كما قال شيخنا أن محل ما ذكر في المستأجرة والمتطوعة إذا لم يوجد مرضعة مفطرة أو صائمة لا يضرها
الارضاع. (والأصح أنه يلحق بالمرضع) في إيجاب الفدية في الأظهر مع القضاء، (من أفطر لانقاذ) آدمي معصوم أو حيوان
محترم، (مشرف على هلاك) بغرق أو غيره بجامع الافطار، فيجب عليه الفطر إذا لم يمكنه تخليصه إلا بفطره إبقاء لمهجته،
فهو فطر ارتفق به شخصان، وهو حصول الفطر للمفطر والخلاص لغيره، فلو أفطر لتخلص مال لا فدية عليه كما
صرح به القفال لأنه لم يرتفق به إلا شخص واحد، ولا يجب الفطر لأجله بل هو جائز. بخلاف الحيوان المحترم فإنه
يرتفق بالفطر شخصان. وهذا هو ظاهر مفهوم تقييد القفال بالمال، وإن قال بعض المتأخرين: في البهيمة نظر، لأنهم نزلوا
الحيوان المحترم في وجوب الدفع عنه منزلة الآدمي المعصوم، بل قضية كلام المصنف كأصله التسوية بين النفس والمال
لولا ما قدرته، ولا يجوز الفطر للحيوان الغير المحترم. والثاني: لا يلحق بها، لأن إيجاب الفدية مع القضاء بعيد عن القياس.
وإنما قلنا به في الحامل والمرضع لورود الاخبار به فبقي ما عداه على الأصل. (لا المتعدي بفطر رمضان بغير جماع) فإنه
لا يلحق بالحامل والمرضع في لزوم الفدية مع القضاء في الأصح بل يلزمه القضاء فقط، لأنه لم يرد في الفدية توقيف والأصل
عدمه. والثاني: يلحق بهما في اللزوم من باب أولى لتعديه. وفرق الأول بأن فطر المرضع ونحوها ارتفق به شخصان،
فجاز أن يجب به أمران، كالجماع لما حصل مقصوده للرجل والمرأة تعلق به القضاء والكفارة العظمى، وبأن الفدية غير
معتبرة بالاثم وإنما هي حكمة استأثر الله تعالى بها، ألا ترى أن الردة في شهر رمضان أفحش من الوطئ مع أنه لا كفارة
فيها؟ وبما ذكر يندفع ما استشكل به من أنه لو ترك بعضا من أبعاض الصلاة عمدا أنه يسجد له للسهو، فقد
قالوا هناك:
إنه أولى بالجبر من السهو. (ومن أخر قضاء رمضان) أو شيئا منه (مع إمكانه) بأن لم يكن به عذر من سفر أو غيره (حتى
دخل رمضان آخر، لزمه مع القضاء لكل يوم مد) لأن ستة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قالوا بذلك ولا مخالف
لهم، قاله الماوردي. ويأثم بهذا التأخير كما في المجموع، وفيه أنه يلزمه المد بدخول رمضان، فإن لم يمكنه القضاء لاستمرار
عذره: كأن استمر مسافرا أو مريضا، أو المرأة حاملا أو مرضعا حتى دخل رمضان، فلا فدية عليه بهذا التأخير لأن
تأخير الأداء بهذا العذر جائز فتأخير القضاء أولى. وقضية إطلاقه أنه لا فرق عند التأخير بعذر بين أن يكون الفوات
بعذر أم لا، وبه صرح المتولي في التتمة، وسليم الرازي في المجرد، لكن نقل الشيخان في صوم التطوع عن البغوي من غير
مخالفة: أن ما فات بغير عذر يحرم تأخيره بعذر السفر. وقضيته لزوم الفدية وهو الظاهر. قال الأذرعي: وينبغي أن يستثنى
من الكتاب ما إذا نسي القضاء أو جهله حتى دخل رمضان آخر فإنه لا فدية عليه كما أفهمه كلامهم اه‍، والظاهر أنه
إنما يسقط عنه بذلك الاثم لا الفدية.
فائدة: وجوب الفدية هنا للتأخير، وفدية الشيخ الهرم ونحوه لأصل الصوم، وفدية المرضع والحامل لتفويت
فضيلة الوقت. (والأصح تكرره) أي المد إذا لم يخرجه، (بتكرر السنين) لأن الحقوق المالية لا تتداخل. والثاني:
لا يتكرر كالحدود. ومحل الخلاف إذا لم يكن أخرج الفدية، فإن أخرجها ثم لم يقض حتى دخل رمضان آخر وجبت
ثانيا بلا خلاف. وهكذا حكم العام الثالث والرابع فصاعدا كما ذكره البغوي وغيره وقال الأسنوي إنه واضح لأن
الحدود بعد إقامتها تقتضي التكرار عند الفعل ثانيا بلا خلاف مع أنها أخف مما نحن فيه بدليل أنه يكفي العدد منها
حد واحد بلا خلاف. (و) الأصح (أنه لو أخر القضاء) أي قضاء رمضان (مع إمكانه) وقلنا بالجديد السابق
حتى دخل رمضان آخر. (فمات، أخرج من تركته لكل يوم مدان: مد للفوات) للصوم (ومد للتأخير) للقضاء،
441

لأن كلا منهما موجب عند الانفراد فكذلك عند الاجتماع. والثاني: يكفي مد واحد، لأن الصوم قد فات والفوات
يقتضي مدا واحدا، كالشيخ الهرم إذا لم يجد بدل الصوم أعواما، فإن المعروف الجزم بأنه لا يتكرر. فإن قلنا بالقديم
وهو صوم الولي وصام حصل تدارك أصل الصوم ووجبت فدية التأخير، وصورة المسألة أنه أخره سنة واحدة، فإن
أخر سنين ومات فعلى الخلاف في المسألة قبلها.
تنبيه: تجب فدية التأخير بتحقق الفوات ولو لم يدخل رمضان، فلو كان عليه عشرة أيام فمات لبواقي خمس
من شعبان لزمه خمسة عشر مدا عشرة لأصل الصوم إذا لم يصم عنه وليه وخمسة للتأخير، لأنه لو عاش لم يمكنه إلا قضاء
خمسة، وتعجيل فدية التأخير قبل دخول رمضان الثاني ليؤخر القضاء مع الامكان جائز في الأصح كتعجيل الكفارة
قبل الخنث المحرم. ويحرم التأخير، ولا شئ على الهرم ولا الزمن ولا من اشتدت مشقة الصوم عليه لتأخير الفدية
إذا أخروها عن السنة الأولى. وليس لهم ولا للحامل ولا للمرضع تعجيل فدية يومين فأكثر كما لا يجوز تعجيل الزكاة
لعامين، بخلاف ما لو عجل من ذكر فدية يوم فيه أو في ليلته فإنه جائز. (ومصرف الفدية الفقراء والمساكين) فقط دون بقية
الأصناف الثمانية الآتية في قسم الصدقات، لقوله تعالى: * (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) * والفقير أسوأ حالا منه،
فإذا جاز صرفها إلى المسكين فالفقير أولى، ولا يجب الجمع بينهما. (وله صرف أمداد) من الفدية (إلى شخص
واحد) لأن كل يوم عبادة مستقلة، فالامداد بمنزلة الكفارات، بخلاف المد الواحد فإنه لا يجوز صرفه إلى شخصين
لأن كل مد فدية تامة، وقد أوجب الله تعالى صرف الفدية إلى الواحد فلا ينقص عنها ولا يلزم منه امتناع صرف فديتين
إلى شخص واحد كما لا يمتنع أن يأخذ الواحد من زكوات متعددة. (وجنسها) أي الفدية، (جنس الفطرة) ونوعها وصفتها،
بجامع أن كلا منهما طعام واجب شرعا، وقد سبق بيان ذلك في زكاة الفطر. ويعتبر في المد الذي توجبه هنا وفي الكفارات
أن يكون فاضلا عن قوته كزكاة الفطر، قاله القفال في فتاويه. وكذا عمل يحتاج إليه من مسكن وملبوس وخادم كما يعلم
ذلك من كتاب الكفارات.
فصل: في موجب كفارة الصوم: (تجب الكفارة) مع التعذير كما قاله البغوي، وسيأتي بيانهما على كل مكلف.
(بإفساد صوم يوم من رمضان) بالفطر لصوم نفسه، (بجماع به بسبب الصوم) ولا شبهة، لخبر الصحيحين عن أبي
هريرة رضي الله تعالى عنه: جاء رجل إلى النبي (ص) فقال: هلكت قال: وما أهلكك؟ قال: واقعت
امرأتي في رمضان، قال: هل تجد ما تعتق رقبة؟ قال: لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟
قال: لا، قال: فهل
تجد ما تطعم ستين مسكينا؟ قال: لا، ثم جلس فأتي النبي (ص) بعرق فيه تمر فقال: تصدق بهذا فقال: على أفقر منا
يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها - أي جبليها - أهل بيت أحوج إليه منا فضحك النبي (ص) حتى بدت أنيابه، ثم قال: اذهب
فأطعمه أهلك وفي رواية للبخاري: فأعتق رقبة فصم شهرين فأطعم ستين بالامر، وفي رواية لأبي داود: فأتي
بعرق تمر قدر خمسة عشر صاعا قال البيهقي: وهي أصح من رواية فيه عشرون صاعا. والعرق بفتح العين والراء
مكتل ينسج من خوص النخل، وسيأتي محترز بعض هذا الضابط في كلامه. وأوردوا عليه أمورا طردا وعكسا، فمن
الأول ما إذا جامع المسافر ونحوه امرأته ففسد صومها لا كفارة عليه بإفساده عن الأظهر، وهذا خرج بما قدرته
في كلامه، فلو زاده كان أولى. ومنه ما لو ظن غروب الشمس بلا أمارة فجامع ثم بان نهارا فلا كفارة لأنه لم يقصد
الهتك، قاله القاضي حسين وغيره، قاله في المجموع، وبه قطع الأصحاب إلا الامام. قال الشيخان: ينبغي أن يكون هذا
مفرعا على تجويز الافطار بالظن وإلا فلا فتجب الكفارة وفاء بالضابط، لكن صرح القاضي بعدم وجوبها وإن قلنا لا يجوز
الافطار بالظن بل صرح البغوي بخلاف المقتضى المذكور في مسألة الشك وبالتسوية بين شكه في دخول الليل وخروجه،
وعلل عدم وجوب الكفارة بأنها تسقط بالشبهة. واعلم أن البغوي لم يصرح في التهذيب بمسألة الظن لكنها مفهومة
442

بالأولى من مسألة الشك، وهذا هو المعتمد وإن كان مشكلا. ومنه ما لو شك في النهار هل نوى ليلا أم لا ثم جامع في
حال الشك ثم تذكر أنه نوى فإنه يبطل صومه ولا كفارة عليه، لأنها تسقط بالشبهة وإن قال الغزي فيه نظر. ومنه ما إذا
نوى صوم يوم الشك عن قضاء أو نذر ثم أفسده نهارا بجماع ثم تبين بعد الافساد بالبينة أنه من رمضان، فإنه يصدق
أن يقال أفسد صوم يوم من رمضان بجماع أتم به لأجل الصوم، ومع ذلك لا تجب عليه الكفارة، لأنه لم ينوه عن رمضان،
فلو أبدل من رمضان بعن لخرجت هذه الصورة لأنه من رمضان لا عن رمضان، ولكن يحتاج أن يزيد أداء لئلا يرد
عليه القضاء فإنه عن رمضان وليس من رمضان. ومن الثاني ما لو طلع الفجر وهو مجامع فاستدام فإن الأصح في المجموع
أن الصوم لم ينعقد فالجماع لم يفسد صوما، ومع ذلك تجب الكفارة فإن جماعه وإن لم يفسد الصوم فهو في
معنى ما يفسده.
فكأنه انعقد ثم فسد، على أن السبكي اختار أنه انعقد ثم فسد، وعلى هذا لا إيراد. وخرج بالمكلف الصبي فلا يلزم
بجماعه كفارة على الأصح. ثم شرع في محترز بقية القيود السابقة بقوله: (فلا كفارة على ناس) أو مكره أو جاهل
التحريم، فهو محترز قوله بإفساد، لأن صومه لم يفسد بذلك كما مر. ومن نسي النية وأمر بالامساك فجامع لا كفارة
عليه قطعا. (ولا) على (مفسد غير رمضان) من نفل أو نذر أو قضاء أو كفارة، وهذا محترز قوله رمضان لأن النص
ورد فيه، وهو أفضل الشهور، ومخصوص بفضائل لم يشاركه فيها غيره، فلا يصح قياس غيره عليه. (أو) مفسد
رمضان (بغير الجماع) كالأكل والشرب والاستمناء باليد والمباشرة فيما دون الفرج المفضية إلى الانزال. وهذا محترز
قوله بجماع لأن النص ورد في الجماع وما عداه ليس في معناه. (ولا) على صائم (مسافر) أو مريض (جامع بنية الترخيص)
وهذا محترز قوله أثم به لأنه لم يأثم لوجود القصد مع الإباحة. (وكذا بغيرها) وإن قلنا يأثم به (في الأصح) لأن
الافطار مباح له فيصير شبهة في درء الكفارة. والثاني: نلزمه، لأن الرخصة لا تباح بدون قصدها، ألا ترى أن المسافر
إذا أخر الظهر إلى العصر إن كان بنية الجمع جمع وإلا فلا؟ وجوابه أن الفطر يحصل بلا نية بدليل غروب الشمس،
ولا كذلك تأخير الصلاة. وهذه الصور قد ترد على الضابط لأنه جماع أثم به كما صرح به في التتمة ونقله المحب الطبري
في شرح التنبيه عن الأصحاب. (ولا على من ظن) وقت الجماع (الليل) أي بقاءه أو شك فيه أو ظن باجتهاده دخوله.
(فبان) جماعه (نهارا) لانتفاء الاثم. (ولا) على (من جامع) عامدا (بعد الاكل ناسيا وظن أنه أفطر به) أي الاكل،
لأنه يعتقد أنه غير صائم. وقوله ناسيا متعلق بالاكل. (وإن كان الأصح بطلان صومه) بهذا الجماع، كما لو جامع على
ظن بقاء الليل فبان خلافه. والثاني: لا يبطل، كما لو سلم من ركعتين من رباعية ناسيا وتكلم عامدا فإن صلاته لا تبطل.
وأجاب الأول بأن الصلاة إنما لم تبطل لنص الشارع في الصلاة بعدم البطلان في قصة ذي اليدين، واغتفر ذلك في الصلاة
مع أنها أضيق من الصوم لتكررها وكثرة حصول ذلك فيها بخلاف الصوم. أما إذا علم أنه لم يفطر بالاكل ثم جامع
فإنه يفطر وتجب عليه الكفارة جزما. (ولا) على (من زنى ناسيا) للصوم لأنه لم يأثم بسبب الصوم، وهذا ذكره
الغزالي فتبعه في المحرر، ولا حاجة إليه لأنه داخل في قوله السابق ولا كفارة على ناس. (ولا) على (مسافر أفطر
بالزنا مترخصا) بالفطر لأن الفطر جائز له، وإثمه بسبب الزنا لا بالصوم.
تنبيه: قيد في الروضة الجماع بالتام تبعا للغزالي احترازا من المرأة فإنها تفطر به بدخول شئ من الذكر فرجها ولو
دون الحشفة. وزيفوه بخروج تلك بالجماع، إذ الفساد فيه بغيره وبأنه يتصور فساد صومها بالجماع بأن يولج فيها نائمة
أو ناسية أو مكرهة ثم تستيقظ أو تتذكر وتقدر على الدفع وتستديم، ففساده فيها بالجماع لأن استدامة الجماع جماع مع أنه
لا كفارة عليها لأنه لم يؤمر بها في الخبر إلا الرجل المواقع مع الحاجة إلى البيان، ولنقصان صومها بتعرضه للبطلان
443

بعروض الحيض أو نحوه فلم تكمل حرمته حتى تتعلق بها الكفارة فتختص بالرجل الواطئ، ولأنها غرم مالي يتعلق
بالجماع كالمهر، فلا يجب على الموطوءة، ولا على الرجل الموطوء كما نقله ابن الرفعة. وللواط وإتيان البهيمة حكم الجماع هنا
فيما ذكر من وجوب كفارة الصوم بالافساد لأن الجميع وطئ. ولما فرغ من موجب الكفارة شرع فيمن تجب عليه
فقال: (والكفارة على الزوج عنه) فقط دونها لما مر من التعليل، (وفي قول) الكفارة (عنه وعنها) أي يلزمهما كفارة
واحدة، ويتحملها الزوج لمشاركتها له في السبب كما هو ظاهر الخبر، وعلى هذا قيل: يجب كما قال المحاملي على كل منهما
نصفها ثم يتحمل الزوج ما وجب عليها. وقيل: يجب قاله المتولي على كل منهما كفارة تامة مستقلة، ولكن يحملها
الزوج عنها، وهذا مقتضى كلام الرافعي. ومحل هذا القول إذا كانت زوجته كما يرشد إليه قوله على الزوج. أما الموطوءة
بالشبهة أو المزني بها فلا يتحمل عنها قطعا. (وفي قول عليها كفارة أخرى) قياسا على الرجل لتساويهما في السبب والاثم كحد
الزنا، وهذا في غير المتحيرة، أما هي فلا كفارة عليها على هذا القول على الأصح. ومحل هذا القول إذا وطئت المرأة في
قبلها فإن وطئت في دبرها فلا كفارة عليها، ثم محل الخلاف فيما إذا كانت المرأة صائمة ومكنته طائعة عالمة، فإن كانت
فاطرة بحيض أو غيره أو لم يبطل صومها لكونها نائمة مثلا فلا كفارة عليها قطعا. (وتلزم) الكفارة (من أنفرد برؤية
الهلال) من رمضان (وجامع في يومه) لهتك حرمة يوم من رمضان عنده بالجماع، فصدق عليه الضابط المتقدم لأنه يجب عليه
صومه، كما أنه إذا رأى هلال شوال يجب فطره. وإذا أفطر هل يعزر أو لا؟ ينظر إن شهد ثم أفطر لم يعزر لعدم
التهمة، وإن أفطر ثم شهد سقطت شهادته للتهمة وعزر لافطاره في رمضان في الظاهر. وحقه إذا أفطر أن يخفيه لئلا يتهم،
والظاهر كما قال شيخنا أنه على سبيل الندب. ثم شرع في تعدد الكفارة بتعدد الفساد فقال: (ومن جامع في يومين لزمه
كفارتان) لأن كل يوم عبادة مستقلة فلا تتداخل كفارتاهما، سواء أكفر عن الجماع الأول قبل الثاني أم لا كحجتين جامع
فيهما. فلو جامع في جميع أيام رمضان لزمه كفارات بعددها، فإن تكرر الجماع في يوم واحد فلا تعدد، وإن كان بأربع
زوجات على المذهب. أما على القول بوجوب الكفارة عليها ويتحملها الزوج فعليه في هذه الصورة أربع كفارات. (وحدوث
السفر) ولو طويلا (بعد الجماع لا يسقط الكفارة) جزما، لأن السفر المنشأ في أثناء النهار لا يبيح الفطر فلا يؤثر فيما وجب
من الكفارة، وقيل إنه كحدوث المرض. (وكذا المرض) أي حدوثه لا يسقطها، (على المذهب) لأن المرض لا ينافي
الصوم فيتحقق هتك حرمته. والثاني: يسقطها، لأن حدوث المرض يبيح الفطر فيتبين به أن الصوم لم يقع واجبا.
ودفع بأنه هتك حرمة الصوم بما فعل، هذه هي الطريقة الصحيحة، والطريقة الثانية القطع بالأول كالسفر، وحدوث
الردة لا يسقطها قطعا، وحدوث الجنون أو الموت يسقطها قطعا، وإذا قلنا بوجوب الكفارة عليها فطرأ عليها حيض
أو نفاس أسقطها، لأن ذلك ينافي صحة الصوم فهو كالجنون. (ويجب) على الزوج (معها) أي الكفارة، (قضاء يوم
الافساد على الصحيح) وفي الروضة: الأصح، لأنه إذا وجب على المعذور فعلى غيره أولى. والثاني: لا يجب، لأن الخلل الحاصل
قد انجبر بالكفارة. والثالث: إن كفر بالصوم دخل فيه القضاء، وإلا فلا لاختلاف الجنس. وأما المرأة فيلزمها
القضاء جزما إذا قلنا بأنه لا كفارة عليها، فلو قال المصنف: وتجب عليه، لكان أولى. (وهي) أي الكفارة المذكورة
مرتبة، فيجب أولا (عتق رقبة) مؤمنة، (فإن لم يجد) ها (فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع) صومهما
(فإطعام ستين مسكينا) أو فقيرا للخبر المتقدم أول الفصل، وهذه الخصال الثلاث صفتها مذكورة في كتاب الظهار.
ولو شرع في الصوم ثم وجد الرقبة ندب عتقها، ولو شرع في الاطعام ثم قدر على الصوم ندب له. (فلو عجز
444

عن الجميع) أي جميع الخصال المذكورة، (استقرت) أي الكفارة، (في ذمته على الأظهر) لأنه (ص) أمر الاعرابي
بأن يكفر بما دفعه إليه مع إخباره بعجزه، فدل على أنها ثابتة في الذمة، لأن حقوق الله تعالى المالية إذا عجز عنها العبد
وقت وجوبها، فإن كانت لا بسبب منه كزكاة الفطر لم تستقر، وإن كانت بسبب منه استقرت في ذمته، سواء أكانت على
وجه البدل كجزاء الصيد وفدية الحلق أم لا ككفارة الظهار والقتل واليمين والجماع ودم التمتع والقران. فإن قيل:
لو استقرت لأمر (ص) المواقع بإخراجها بعد. أجيب بأن تأخير البيان لوقت الحاجة جائز وهو وقت القدرة. (
فإذا قدر على خصلة) منها (فعلها) كما لو كان قادرا عليها حال الوجوب، وهذا يقتضي أن الثابت في ذمته أحد الخصال،
فيكون مخيرا بينها، وهو ما قاله القاضي أبو الطيب. وكلام التنبيه يقتضي أن الثابت في ذمته هو الخصلة الأخيرة، وكلام
الجمهور يقتضي أنه الكفارة وأنها مرتبة في الذمة، وبه صرح ابن دقيق العيد، وهو كما قال شيخنا: المعتمد. ثم إن قدر
على خصلة فعلها أو أكثر رتب، والثاني: لا تستقر، بل تسقط كزكاة الفطر. (والأصح أن له العدول عن الصوم إلى الاطعام
لشدة الغلمة) وهي بغين معجمة مضمومة ولام ساكنة: شدة الحاجة للنكاح، لأن حرارة الصوم وشدة الغلمة قد
يفضيان به إلى الوقاع ولو في يوم واحد من الشهرين، وذلك يقتضي استئنافهما لبطلان التتابع، وهو حرج شديد.
والثاني: لا، لأنه قادر على الصوم فلم يجز العدول عنه كصوم رمضان. (و) الأصح (أنه لا يجوز للفقير صرف كفارته إلى عياله)
كالزكاة وسائر الكفارات، وأما قوله (ص) في الخبر: أطعمه أهلك ففي الام كما في الرافعي: يحتمل أنه لما
أخبره بفقره صرفه له صدقة، أو أنه ملكه إياه وأمره بالتصدق به، فلما أخبره بفقره أذن له في صرفها لهم
للاعلام بأنها
إنما تجب بعد الكفاية، وأنه تطوع التكفير عنه، وسوغ له صرفها لأهله للاعلام بأن لغير المكفر التطوع بالتكفير عنه
بإذنه، وأن له صرفها لأهل المكفر عنه، أي وله، فيأكل هو وهم منها كما صرح به الشيخ أبو علي السنجي والقاضي
نقلا عن الأصحاب. وحاصل الاحتمالين الأولين أنه صرف له ذلك تطوعا، قال ابن دقيق العيد: وهو الأقرب اه‍. وقد
يقال: إن قول المصنف وأنه لا يجوز للفقير صرف كفارته إلى عياله قد يكون احترز به عن هذه المسألة، فإن الصارف
فيها إنما هو الأجنبي المكفر.
خاتمة: من فاته شئ من رمضان استحب أن يقضيه متتابعا، ويكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع بصوم، قاله
الجرجاني: فلو نذر صوم شعبان أبدا وأسر مثلا، فتحرى وصام رجبا على أنه شعبان وصام شعبان على أنه رمضان، ثم
تبين له الحال بعد رمضان لزمه قضاء شهرين: أحدهما عن شعبان والآخر عن رمضان ولا إطعام عليه، قاله الماوردي.
باب صوم التطوع:
والتطوع: التقرب إلى الله تعالى بما ليس بفرض من العبادات، وتعبير المصنف هنا به وفي الصلاة بالنفل موافق
لقوله تعالى: * (ومن تطوع خيرا) * الآية، * (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) *. ولا شك أن الصوم من أفضل العبادات،
ففي الصحيحين: من صام يوما في سبيل الله باعد الله تعالى وجهه عن النار سبعين خريفا، وفي الحديث: كل عمل
ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، واختلفوا في معناه على أقوال تزيد على خمسين قولا. قال السبكي: من
أحسنها قول سفيان بن عيينة: إنه يوم القيامة يتعلق خصماء المرء بجميع أعماله إلا الصوم فإنه لا سبيل لهم عليه، فإنه
إذا لم يبق إلا الصوم يتحمل الله تعالى عنه ما بقي من المظالم، ويدخله بالصوم الجنة. قال بعضهم: وهذا مردود بحديث
مسلم عن أبي هريرة أن النبي (ص) قال: أتدرون من المفلس؟ ثم ذكر أنه رجل يأتي يوم القيامة وقد ظلم هذا
445

وسفك دم هذا وانتهك عرض هذا، ويأتي وله صلاة وزكاة وصوم، قال: فيأخذ هذا بكذا إلى أن قال: وهذا بصومه
فدل على أنه يؤخذ في المظالم. وهو ينقسم إلى قسمين: قسم لا يتكرر كصوم الدهر، وقسم يتكرر في أسبوع
أو سنة أو
شهر. وقد شرع في الأول من القسم الثاني فقال: (يسن صوم الاثنين و) صوم (الخميس) لأنه (ص) كان
يتحرى صومهما وقال: إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال، فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم رواه الترمذي وقال:
حديث حسن. والمراد عرضها على الله تعالى، وأما رفع الملائكة لها، فإنه في الليل مرة وفي النهار مرة، ولا ينافي هذا
رفعها في شعبان كما في خبر مسند أحمد: أنه (ص) سئل عن إكثار الصوم في شعبان فقال: إنه شهر ترفع فيه
الأعمال، فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم لجواز رفع أعمال الأسبوع مفصلة وأعمال العام جملة. وقال السهيلي: إن
النبي (ص) قال لبلال: لا يفتك صيام الاثنين، فإني ولدت فيه وبعثت فيه وأموت فيه أيضا. وأغرب الحليمي
فعد من المكروه اعتياد صوم يوم بعينه كالاثنين والخميس لأن في ذلك تشبيها برمضان. وسمي ما ذكر يوم الاثنين لأنه
ثاني الأسبوع، والخميس لأنه خامسه، كذا ذكره المصنف ناقلا له عن أهل اللغة، قال الأسنوي: فيعلم منه أن أول الأسبوع
الاحد، ونقله ابن عطية عن الأكثرين، وسيأتي في باب النذر أن أوله السبت، وقال السهيلي: إنه الصواب، وقول
العلماء كافة إلا ابن جرير. وجمع الاثنين أثانين، والخميس أخمساء وأخمسة وأخاميس. ثم شرع في الثاني منه، فقال:
(و) صوم يوم (عرفة) وهو تاسع ذي الحجة لغير الحاج لخبر مسلم: صيام يوم عرفة احتسب على الله أنه يكفر السنة التي قبله
والسنة التي بعده. وهو أفضل الأيام لخبر مسلم: ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه (عبدا) من النار من يوم عرفة. وأما قوله
(ص): خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة فمحمول على غير يوم عرفة بقرينة ما ذكر. قال الامام: والمكفر الصغائر
دون الكبائر. قال صاحب الذخائر: وهذا منه تحكم يحتاج إلى دليل، والحديث عام، وفضل الله واسع لا يحجر. وقال
ابن المنذر في قوله (ص): من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. هذا قول عام يرجى أنه يغفر له جميع
ذنوبه صغيرها وكبيرها. قال الماوردي: وللتكفير تأويلان: أحدهما الغفران، والثاني: العصمة حتى لا يعصي. ويسن
أيضا صوم الثمانية أيام قبل يوم عرفة كما صرح به في الروضة ولم يخصه بغير الحاج، فيسن صومها للحاج وغيره. أما الحاج
فلا يسن له صوم يوم عرفة، بل يسن له فطره وإن كان قويا للاتباع، رواه الشيخان، وليقوى على الدعاء، فصومه له
خلاف الأولى، بل في مكث التنبيه للمصنف أنه مكروه، وفيها كالمجموع أنه يسن صومه لحاج لم يصل عرفة إلا ليلا لفقد
العلة. هذا كله في غير المسافر والمريض، أما هما فيسن لهما فطره مطلقا كما نص عليه الشافعي في الاملاء. (و) صوم
(عاشوراء) وهو عاشر المحرم، لقوله (ص) فيه: أحتسب على الله تعالى أن يكفر السنة التي قبله. وإنما لم يجب
صومه للأخبار الدالة بالامر بصومه لخبر الصحيحين: إن هذا اليوم يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه فمن شاء فليصم
ومن شاء فليفطر وحملوا الأخبار الواردة بالامر بصومه على تأكد الاستحباب.
فائدة: الحكمة في كون صوم يوم عرفة بسنتين، وعاشوراء بسنة، أن عرفة يوم محمدي، يعني أن صومه مختص
بأمة محمد (ص) وعاشوراء يوم موسوي، ونبينا محمد (ص) أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
أجمعين، فكان يومه بسنتين. (و) صوم (تاسوعاء) وهو تاسع المحرم، لقوله (ص): لئن بقيت إلى قابل لأصومن اليوم التاسع
فمات قبله، رواه مسلم، وحكمة صوم يوم تاسوعاء مع عاشوراء الاحتياط له لاحتمال الغلط في أول الشهر، ولمخالفة اليهود
فإنهم يصومون العاشر، والاحتراز من إفراده بالصوم كما في يوم الجمعة. فإن لم يصم معه تاسوعاء سن أن يصوم معه
الحادي عشر، بل نص الشافعي في الام والاملاء على استحباب صوم الثلاثة، وعاشوراء وتاسوعاء ممدودان على المشهور.
ثم شرع في الثالث منه فقال: (و) صوم (أيام) الليالي (البيض) وهو اليوم الثالث عشر وتالياه، للامر بصومها في النسائي
وصحيح ابن حبان. والحكمة في ذلك أن الحسنة بعشرة أمثالها فصومها كصوم الشهر، ومن ثم سن صوم ثلاثة من كل
446

شهر ولو غير أيام البيض كما في البحر وغيره. قال السبكي: والحاصل أنه يسن صوم ثلاثة، وأن تكون أيام البيض فإن
صامها أتى بالسنتين، والأحوط صوم الثاني عشر معها أيضا للخروج من خلاف من قال إنه أول الثلاثة. وسميت هذه
الأيام بذلك لأنها تبيض بطلوع القمر من أولها لآخرها، ويستثنى ثالث عشر ذي الحجة فإن صومه حرام كما مر، وبحث
بعضهم أنه يصوم بدلا عنه السادس عشر. ويسن صوم أيام الليالي السود، وهو الثامن والعشرون وتالياه،
وينبغي
كما قال شيخنا أن يصوم معها السابع والعشرين احتياطا. وخصت أيام البيض والسود بذلك لتعميم ليالي الأولى
بالنور والثانية بالسواد، فناسب صوم الأولى شكرا والثانية لطلب كشف السواد، ولان الشهر ضيف قد أشرف على
الرحيل فناسب تزويده بذلك. (و) صوم (ستة من شوال) وهذا من القسم الثاني، فيسن صومها لقوله (ص):
من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر رواه مسلم، وروى النسائي خبر: صيام شهر رمضان بعشرة
أشهر، وصيام ستة أيام بشهرين، فذلك صيام السنة أي كصيامها فرضا، وإلا فلا يختص ذلك برمضان وستة من
شوال لأن الحسنة بعشرة أمثالها.
تنبيه: قضية إطلاق المصنف استحباب صومها لكل أحد سواء أصام رمضان أم لا كمن أفطر لمرض أو صبا أو كفر
أو غير ذلك، وهو الظاهر كما جرى عليه بعض المتأخرين، وإن كانت عبارة كثيرين: يستحب لمن صام رمضان أن يتبعه
بست من شوال كلفظ الحديث، وتحصل السنة بصومها متفرقة. (و) لكن (تتابعها أفضل) عقب العيد مبادرة إلى العبادة
ولما في التأخير من الآفات. ولو صام في شوال قضاء أو نذرا أو غير ذلك، هل تحصل له السنة أو لا؟ لم أر من ذكره،
والظاهر الحصول. لكن لا يحصل له هذا الثواب المذكور خصوصا من فاته رمضان وصام عنه شوالا لأنه لم يصدق عليه
المعنى المتقدم، ولذلك قال بعضهم: يستحب له في هذه الحالة أن يصوم ستا من ذي القعدة لأنه يستحب قضاء الصوم
الراتب اه‍. وهذا إنما يأتي إذا قلنا أن صومها لا يحصل بغيرها، أما إذا قلنا بحصوله وهو الظاهر كما تقدم فلا يستحب
قضاؤها. وقول المصنف ستة بإثبات التاء مع حذف المعدود لغة، والأفصح حذفها كما ورد في الحديث. ويسن صوم
آخر كل شهر لما مر في صوم أيام السواد، فإن صامها أتى بالسنتين، ولا يرد على ذلك يوم الشك فإنه آخر شهر لأن الكلام
تقدم عليه. (ويكره إفراد) يوم (الجمعة) بالصوم، لقوله (ص): لا يصم أحدكم يوم الجمعة إلا أن يصوم يوما قبله أو يوما
بعده رواه الشيخان، وليتقوى بفطره على الوظائف المطلوبة فيه، ولذلك خصه البيهقي وجماعة نقلا عن مذهب الشافعي
بمن يضعف به عن الوظائف، والظاهر أنه لا فرق، فقد قيل: إن العلة في ذلك لئلا يبالغ في تعظيمه كاليهود في السبت،
وقيل: لئلا يعتقد وجوبه، وقيل: لأنه يوم عيد وطعام. (و) يكره أيضا (إفراد السبت) أو الاحد بالصوم لخبر: لا تصوموا
يوم السبت إلا فيما افترض عليكم رواه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه على شرط الشيخين، ولان اليهود تعظم يوم
السبت والنصارى يوم الأحد. وخرج بإفراد كل من الثلاثة جمعه مع غيره، فلا يكره جمع الجمعة مع السبت ولا السبت
مع الاحد لأن المجموع لا يعظمه أحد، وحمل على هذا ما روى النسائي: أنه (ص) كان أكثر ما يصوم من
الأيام يوم السبت والاحد، وكان يقول: إنهما يوما عيد للمشركين وأحب أن أخالفهم قال بعضهم: ولا يعرف
لهذه المسألة نظير، وهو أنه إذا ضم مكروه آخر تزول الكراهة. فإن قيل: التعليل بالتقوي بالفطر في كراهة
إفراد الجمعة يقتضي أنه لا فرق بين إفرادها وجمعها؟ أجيب بأنه إذا جمعها حصل له بفضيلة صوم غيره ما يجبر
ما حصل فيها من النقص، قاله في المجموع.
تنبيه: محل كراهة إفراد ما ذكر إذا لم يوافق عادة له، فإن كان له عادة كأن اعتاد صوم يوم وفطر يوم فوافق
صومه يوما منها لم يكره كما في صوم يوم الشك، ولخبر مسلم: لا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام إلا أن يكون
في صوم يصومه أحدكم. وقيس بالجمعة الباقي. ولا يكره إفراد عيد من أعياد أهل الملل بالصوم كالنيروز والمهرجان، وإطلاق
المصنف كراهة إفراده محمول على النفل فلا يكره في المعتاد والفرض كما دل عليه الحديث. ثم شرع في القسم الأول فقال:
447

(وصوم الدهر غير) يومي (العيد، و) أيام (التشريق مكروه لمن خاف به ضررا أو فوت حق) واجب أو مستحب، لخبر
البخاري: أنه (ص) آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء، فجاء سلمان يزور أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء مبتذلة فقال:
ما شأنك؟ فقالت: إن أخاك ليس له حاجة في شئ من الدنيا، فقال سلمان: يا أبا الدرداء إن لربك عليك حقا، ولأهلك عليك حقا، ولجسدك
عليك حقا، فصم وأفطر وقم ونم وائت أهلك أعط كل ذي حق حقه فذكر أبو الدرداء
للنبي (ص) ما قاله سلمان، فقال النبي (ص) مثل ما قال سلمان. فإن صام العيدين وأيام التشريق
أو شيئا منها حرم، وعليه حمل خبر الصحيحين: لا صام من صام الأبد. (أو مستحب لغيره) لاطلاق الأدلة،
ولأنه (ص) قال: من صام الدهر ضيقت عليه جهنم هكذا وعقد تسعين، رواه البيهقي. ومعنى ضيقت عليه: أي عنه
فلم يدخلها، أو لا يكون له فيها موضع.
تنبيه: قوله: ومستحب لغيره كذا في المحرر وشرح مسلم، وجرى عليه ابن المقري، وهو المعتمد، وإن عبر في
الشرحين والروضة والمجموع بعدم الكراهة لا الاستحباب. وقال الأذرعي: وعبارة الجمهور أنه لا يكره في هذه الحالة،
ومع استحبابه فصوم يوم وفطر يوم أفضل منه لخبر الصحيحين عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أفضل الصيام صيام
داود كان يصوم يوما ويفطر يوما، وفيه أيضا: لا أفضل من ذلك فهو أفضل من صوم الدهر، كما قاله المتولي وغيره
وإن أفتى ابن عبد السلام بالعكس وقال: إن الحسنة بعشر أمثالها، وحمل قوله في الخبر: لا أفضل من ذلك أي لك،
ولو نذر صوم الدهر انعقد نذره، لكن محله كما قاله السبكي ما لم يكن مكروها. وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في باب النذر.
فائدة: قال ابن سيده: الدهر الأبد المحدود، والجمع أدهر ودهور، وأما قوله (ص): لا تسبوا الدهر
فإن الدهر هو الله فمعناه أن ما أصابك من الدهر فالله فاعله ليس الدهر، فإذا سببت به الدهر، فكأنك أردت الله سبحانه.
(ومن تلبس بصوم تطوع أو صلاته فله قطعهما) أما الصوم فلقوله (ص): والصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء
صام وإن شاء أفطر قال الحاكم: صحيح الاسناد. وأما الصلاة فقياسا على الصوم، ويقاس بذلك بقية النوافل غير الحج
والعمرة كاعتكاف وطواف ووضوء وقراءة سورة الكهف ليلة الجمعة ويومها، والتسبيحات عقب الصلاة، ولئلا يغير
الشروع حكم المشروع فيه. أما التطوع بالحج أو العمرة فيحرم قطعه كما يأتي في بابه لمخالفته غيره في لزوم الاتمام والكفارة
بالجماع، ولكن يكره الخروج بلا عذر لظاهر قوله تعالى: * (ولا تبطلوا أعمالكم) * وللخروج من خلاف من أوجب
إتمامه، فإن كان هناك عذر كمساعدة ضيف في الاكل إذا عز عليه امتناع مضيفه منه أو عكسه، فلا يكره الخروج منه
بل يستحب لخبر: وإن لزورك عليك حقا وخبر: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه رواهما الشيخان. أما
إذا لم يعز على أحدهما امتناع الآخر من ذلك، فالأفضل عدم خروجه منه كما في المجموع، وإذا أفطر لم يثب على ما مضى
إن خرج بغير عذر، ويثاب عليه إن خرج بعذر. وعلى هذا يحمل قول المتولي إنه لا يثاب لأن العبادة لم تتم،
وما حكي
عن الشافعي أنه يثاب عليه. (ولا قضاء) واجب لقطع التطوع، بل هو مندوب سواء أخرج بعذر أم بغيره للخروج من
خلاف من أوجب قضاءه. أما من فاته وله عادة بصيامه كالاثنين فلا يسن له قضاؤه لفقد العلة المذكورة كما أفتى به
شيخي.
تنبيه: لو عبر المصنف بقوله: ومن تلبس بتطوع غير حج وعمرة، لكان أولى ليشمل ما ذكر. (ومن تلبس
بقضاء) لصوم فات عن واجب، (حرم عليه قطعه) جزما (إن كان) قضاؤه (على الفور، وهو صوم من تعدى
بالفطر) حتى لا يجوز التأخير بعذر السفر كما نقلاه عن البغوي وأقراه تداركا لما وقع فيه من الاثم. (وكذا إن لم يكن
448

على الفور) يحرم قطعه (في الأصح بأن لم يكن تعدي بالفطر) لأنه قد تلبس بالفرض ولا عذر له في الخروج فلزمه
إتمامه كما لو شرع في الصلاة في أول الوقت، والثاني لا يحرم لأنه متبرع في الشروع فيه فأشبه المسافر يشرط في الصوم ثم
يريد الخروج منه. واعلم أن ضبط الفور بالتعدي يرد عليه ما لو ضاق وقته بأن لم يبق من شعبان إلا ما يسع القضاء فإنه
يجب القضاء على الفور سواء أفات بعذر أم لا، وقضاء يوم الشك فإنه على الفور كما نقله في المجموع عن المتولي وغيره وأقره
ونقله ابن الرفعة عن المتولي. ثم قال: وفيه نظر. وقضية ما قاله المتولي وغيره القضاء على من نسي النية على الفور، لأن الامساك
واجب عليه لأنه على قضاء يوم الشك على الفور بقوله: إن قلنا يلزمه التشبيه بالصائمين فقد ألحقناه بمن أفطر بغير
عذر، ولكن في المجموع أن قضاءه على التراخي بلا خلاف، قال: وكذلك على من أكل على ظن الليل. قال في المهمات:
والذي يميل القلب إليه إلحاق يوم الشك بذلك، ويأتي انقسام القضاء إلى ما يكون بالتعدي وإلى غيره أيضا في الصلاة
وفي الاعتكاف المنذور في زمن معين وفي الحج والعمرة.
خاتمة: أفضل الشهور للصوم بعد رمضان الأشهر الحرم، وأفضلها المحرم لخبر مسلم: أفضل الصوم بعد رمضان
شهر الله المحرم ثم رجب، خروجا من خلاف من فضله على الأشهر الحرم، ثم باقيها ثم شعبان لما في رواية مسلم: كان
(ص) يصوم شعبان كله وفي رواية: كان يصوم شعبان إلا قليلا. قال العلماء: اللفظ الثاني مفسر للأول،
فالمراد بكله غالبه، وقيل: كان يصومه تارة من أوله، وتارة من آخره، وتارة من وسطه، ولا يترك منه شيئا بلا صيام،
لكن في أكثر من سنة. فإن قيل: كيف أكثر من شعبان مع أن المحرم أفضل منه؟. أجيب بلعله (ص) لم يعلم فضل
المحرم إلا في آخر الحياة قبل التمكن من صومه، أو لعله كانت تعرض له فيه أعذار تمنع من إكثار الصوم فيه، وفي
الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها: ما رأيت رسول الله (ص) استكمل صيام شهر قط إلا رمضان.
قال العلماء: وإنما لم يستكمل ذلك لئلا يظن وجوبه. ويحرم صوم المرأة تطوعا وزوجها حاضر إلا بإذنه، لخبر
الصحيحين: لا يحل لامرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه، ولان حق الزوج فرض فلا يجوز تركه لنفل، فلو
صامت بغير إذنه صح، وإن كان حراما كالصلاة في دار مغصوبة، وعلمها برضاه كإذنه، وسيأتي في النفقات أنه لا يحرم
عليها صوم عرفة وعاشوراء. أما صومها في غيبة زوجها عن بلدها فجائز بلا خلاف. فإن قيل: هلا جاز صومها مع
حضوره، وإذا أراد التمتع بها تمتع وفسد صومها أجيب بأن صومها يمنعه التمتع عادة لأنه يهاب انتهاك حرمة الصوم
بالافساد، ولا يلحق بالصوم صلاة النفل المطلق لقصر زمنه.
كتاب الاعتكاف
هو لغة: اللبث والحبس والملازمة على الشئ خيرا كان أو شرا. قال تعالى: * (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون
في المساجد) *، وقال تعالى: * (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون) *. وقيل: عكف على الخير وانعكف على الشر.
وشرعا: اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية. والأصل فيه قبل الاجماع الآية الأولى، والاخبار كخبر
الصحيحين: أنه (ص) اعتكف العشر الأوسط من رمضان ثم اعتكف العشر الأواخر ولازمه حتى توفاه
الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده. وهو من الشرائع القديمة، قال الله تعالى: * (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل
أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين) *. (وهو مستحب كل وقت) في رمضان وغيره بالاجماع ولاطلاق الأدلة. (و)
هو (في العشر الأواخر من رمضان أفضل) منه في غيره، وهذه المسألة تقدمت في سنن الصوم، وأعادها لذكر
449

حكمة الاعتكاف في العشر المذكور، وهو قوله (لطلب ليلة القدر) فيحييها بالصلاة والقراءة وكثرة الدعاء، فإنها أفضل
ليالي السنة، قال تعالى: * (ليلة القدر خير من ألف شهر) * أي خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. وفي الصحيحين:
من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه وظاهر كلام المصنف انحصارها في العشر الأخير، وهو ما نص
عليه الشافعي رحمه الله تعالى، وعليه الجمهور، وأنها تلزم ليلة بعينها لا تنتقل. وقال المازني وابن خزيمة: إنها منتقلة في
ليالي العشر، جمعا بين الأحاديث. قال في الروضة: وهو قوي، وقال في المجموع: إنه الظاهر المختار لكن المذهب
الأول. قال المصنف في شرح مسلم: ولا ينال فضلها إلا من أطلعه الله عليها، فلو قامها إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها.
قال الأذرعي: وكلام المتولي ينازعه حيث قال: يستحب التعبد في كل ليالي العشر حتى يحوز الفضيلة على اليقين اه‍، وهذا
أولى، نعم حال من اطلع أكمل إذا قام بوظائفها. وقد نقل في زوائد الروضة عن نصه في القديم أن من شهد العشاء والصبح
في جماعة فقد أخذ بحظه منها، وروي عن أبي هريرة مرفوعا: من صلى العشاء الأخيرة في جماعة من رمضان فقد أدرك
ليلة القدر. ويستحب أن يكثر في ليلتها من قول: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني، وأن يجتهد في يومها كما يجتهد
في ليلتها. وخصت بها هذه الأمة، وهي باقية إلى يوم القيامة، ويسن لمن رآها أن يكتمها. (وميل الشافعي رحمه الله) تعالى
(إلى أنها ليلة الحادي) والعشرين (أو الثالث والعشرين) منه، يدل للأول خبر الصحيحين، وللثاني خبر مسلم، وما ذكره
المصنف هو نص المختصر، والذي قاله الأكثرون إن ميله إلى أنها ليلة الحادي والعشرين لا غير، وفي القديم أرجاها ليلة
إحدى أو ثلاث أو سبع وعشرين، ثم بقية الأوتار، ليلة أشفاع العشر الأواخر. وقال ابن عمر وجماعة: إنها في جميع
الشهر، وخصها بعض العلماء بأوتار العشر الأواخر، وبعضهم بأشفاعه. وقال ابن عباس وأبي: هي ليلة سبع وعشرين،
وهو مذهب أكثر أهل العلم، وفيها نحو الثلاثين قولا، والسبب في إبهامها على الناس أن يكثر اجتهادهم في كل السنة ويطلبونها
في جميعها. ومن علاماتها أنها طلقة لا حارة ولا باردة، وتطلع الشمس في صبيحتها بيضاء ليس فيها كثير شعاع. فإن
قيل: لا فائدة في هذه العلامة لأنها قد انقضت. أجيب بأنه يستحب أن يجتهد في يومها كما تقدم وأنه يبقى يعرفها
على
ما تقدم عن الشافعي أنها تلزم ليلة واحدة. وأركان الاعتكاف أربعة: مسجد، ولبث، ونية، ومعتكف. وقد شرع
في أولها فقال: (وإنما يصح الاعتكاف في المسجد) للاتباع رواه الشيخان، وللاجماع، ولقوله تعالى: * (ولا تباشروهن
وأنتم عاكفون في المساجد) * إذ ذكر المساجد لا جائز أن يكون لجعلها شرطا في منع مباشرة المعتكف لمنعه منها وإن كان
خارج المسجد، ولمنع غيره أيضا منها، فتعين كونها شرطا لصحة الاعتكاف. ولا يفتقر شئ من العبادات إلى مسجد
إلا التحية والاعتكاف والطواف، ولا فرق بين سطح المسجد وغيره، ولا يصح في رحبته لأنها منه، ولا يصح فيما وقف
جزؤه شائعا مسجدا وإن حرم على الجنب المكث فيه للاحتياط، ولا فيما أرضه مستأجرة ووقف بناؤه مسجدا على القول
بصحة الوقف وهو الأصح، والحيلة في الاعتكاف فيه أن يبني فيه مصطبة أو ضفة أو نحو ذلك ويوقفها مسجدا فيصح
الاعتكاف فيها كما يصح على سطحه وجدرانه، ولا يغتر بما وقع للزركشي من أنه يصح الاعتكاف فيه وإن لم يبن
نحو مصطبة. وقد علم مما تقرر أنه لا يصح وقف المقول مسجدا، ولا يغتر بما وقع في فتاوى بعض المتأخرين من
الصحة. (و) المسجد (الجامع) وهو ما تقام فيه الجمعة (أولى) بالاعتكاف فيه من غيره للخروج من خلاف من أوجبه
ولكثرة الجماعة فيه، وللاستغناء عن الخروج للجمعة. ويجب الجامع للاعتكاف فيه إن نذر مدة متتابعة فيها يوم
الجمعة وكان ممن تلزمه الجمعة ولم يشترط الخروج لها، لأن الخروج لها يقطع التتابع لتقصيره بعدم اعتكافه في الجامع.
ويؤخذ من هذا كما قال الأذرعي أنه لو كانت الجمعة تقام بين أبنية القرية لا في جامع لم يبطل تتابعه بالخروج لها، وكذا
لو كانت القرية صغيرة لا تنعقد الجمعة بأهلها فأحدث بها جامع وجماعة بعد نذره واعتكافه، ولو استثنى الخروج لها وكان
450

في البلد جامعان فمر على أحدهما وذهب إلى الآخر فإن كان الذي ذهب إليه يصلي فيه أولا لم يضره، أو في وقت واحد
بطل اعتكافه كما قاله القفال في فتاويه. أما إذا لم يشرط التتابع فإنه لا يشترط الجامع، بل يصح في سائر المساجد لمساواتها
له في تحريم المكث جنبا وسائر الأحكام. ويستثنى من كون الجامع أولى ما إذا كان قد عين غير الجامع،
فالمعين أولى
إذا لم يحتج إلى الخروج إلى الجمعة. (والجديد أنه لا يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها، وهو المعتزل المهيأ للصلاة)
لأنه ليس بمسجد بدليل جواز تغييره ومكث الجنب فيه، ولان نساء النبي (ص) رضي عنهن كن يعتكفن في المسجد،
ولو كفى بيوتهن لكانت لهن أولى. والقديم يصح لأنه مكان صلاتها كما أن المسجد مكان صلاة الرجل. وأجاب الأول:
بأن الصلاة لا تختص بموضع بخلاف الاعتكاف، والخنثى كالرجل، وعلى القول بصحة اعتكافها في بيتها يكون المسجد
لها أفضل خروجا من الخلاف. (ولو عين) الناذر (المسجد الحرام في نذره الاعتكاف تعين) فلا يقوم غيره مقامه
لتعلق النسك به وزيادة فضله لكثرة تضاعف الصلاة فيه، قال (ص): صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف
صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي. واختلفوا في المراد
بالمسجد الحرام الذي يتعين في النذر ويتعلق به زيادة الفضيلة، قيل: الكعبة والمسجد الذي يطاف فيه حولها، وبهذا
جزم المصنف في المجموع في باب استقبال القبلة. وقيل: إنه الكعبة وما في الحجر من البيت، وهو اختيار صاحب البيان. وقيل:
جميع بقاع الحرم، وهو الذي نقله في البيان عن شيخه الشريف العثماني، والقلب إلى هذا أميل. وسكت المصنف عما
لو عين الكعبة أو البيت الحرام، وقال في البيان: إنه يتعين البيت وما أضيف إليه من الحجر، قال في المهمات: وهو
المتجه، لكن هذا إنما يأتي كما قاله بعض المتأخرين على قول من يرى أن التضعيف مختص بذلك، وصاحب البيان
يقول به. وأما من لا يرى التضعيف مختصا بذلك فلا ينبغي أن يقول بتعيين ذلك. وقد صرح الامام بالمسألة فقال عن
شيخه: إنه لو نذر صلاة في الكعبة وصلى في أطراف المسجد خرج عن نذره، ونقله الرافعي عنه في باب النذر. (وكذا
مسجد المدينة، و) مسجد (الأقصى) إذا عينهما الناذر في نذره تعينا (في الأظهر) ولا يجزئ دونهما، لأنهما
مسجدان تشد إليهما الرحال فأشبها المسجد الحرام. والثاني: لا، لأنهما لا يتعلق بهما نسك فأشبها بقية المساجد. وأشعر
كلامه أنه لو عين مسجدا غير الثلاثة لم يتعين وهو كذلك في الأصح، لكن ما عينه أولى من غيره كما مر،
ويشعر
أيضا تعبيره بالاعتكاف أن نذر الصلاة في المساجد الثلاثة لم يتعين وليس مرادا، بل هي أولى بالتعيين، وقد نص عليها
الشافعي والأصحاب. (ويقوم المسجد الحرام مقامهما) لمزيد فضله عليهما وتعلق النسك به (ولا عكس) أي لا يقومان
مقام المسجد الحرام لأنهما دونه في الفضل. (ويقوم مسجد المدينة مقام الأقصى) لأنه أفضل منه، فإنه صح أن الصلاة
فيه بألف صلاة كما مر، وفي الأقصى بخمسمائة كما رواه ابن عبد البر، وقال البزار: إسناده حسن. وروي أيضا أن
الصلاة فيه بألف، وعلى هذا هما متساويان. (ولا عكس) لما سبق، وسكت المصنف عن تعيين زمن الاعتكاف،
والصحيح فيه التعيين أيضا، فلو قدمه لم يصح، وإن أخره كان قضاء، ويأثم إن تعمد، وأجزاء المسجد كلها متساوية
في أداء المنذور، ومقتضى كلام الجمهور أنه لا يتعين جزء منه بالتعيين وإن كان أفضل من بقية الأجزاء. ثم شرع في الركن
الثاني فقال: (والأصح أنه يشترط في الاعتكاف لبث قدر يسمى عكوفا) أي إقامة بحيث يكون زمنها فوق زمن الطمأنينة
في الركوع ونحوه، فلا يكفي قدرها، ولا يجب السكون بل يكفي التردد فيه. وقوله: والأصح يرجع إلى جملتين: إحداهما
أصل اللبث، والثانية قدره، ومقابل الأصح في الأول قوله: (وقيل يكفي مرور بلا لبث) كالوقوف بعرفة، ومقابله في
451

الثانية قوله: (وقيل يشترط مكث نحو يوم) أي قريب منه، لأن ما دون ذلك معتاد في الحاجة التي تعن في المسجد أو
في طريقه لقضاء الحاجة فلا يصلح للقربة، وعلى الأصح يصح نذر اعتكاف ساعة، ولو نذر اعتكافا مطلقا كفاه لحظة،
لكن المستحب يوم، ويسن كلما دخل المسجد أن ينوي الاعتكاف. (ويبطل بالجماع) من عالم بتحريمه ذاكر
للاعتكاف سواء أجامع في المسجد أم خارجه عند خروجه لقضاء حاجة أو نحوها لمنافاته العبادة البدنية. واعلم أن جماعه
في المسجد حرام مطلقا إذا أدى إلى مكث فيه سواء كان معتكفا أم لا كما مرت الإشارة إليه، وسواء أكان اعتكافه
فرضا أم نفلا. وأما إذا جامع خارج المسجد وكان معتكفا فإن كان الاعتكاف منذورا حرم، وإن كان تطوعا لم يحرم
إذ غايته الخروج من العبادة وهو جائز. قال في المهمات: والحكم بالبطلان إنما هو بالنسبة إلى المستقبل، وأما
الماضي
فكذلك إن كان منذورا متتابعا فيستأنف، وإن لم يكن متتابعا لم يبطل ما مضى سواء أكان منذورا أم نفلا، ولو شتم
إنسانا أو اغتابه أو أكل حراما لم يبطل اعتكافه وبطل ثوابه - قاله في الأنوار - ولو أولج في دبر خنثى بطل اعتكافه
أو أولج في قبله، أو أولج الخنثى في رجل أو امرأة أو خنثى ففي بطلان اعتكافه الخلاف المذكور في قوله. (وأظهر الأقوال
أن المباشرة بشهوة) فيما دون الفرج (كلمس وقبلة تبطله) أي الاعتكاف (إن أنزل، وإلا فلا) تبطله لما مر
في الصوم. والثاني: تبطله مطلقا لعموم قوله تعالى: * (ولا تباشروهن) *. والثالث: لا مطلقا، كالحج. وعلى كل قول
في حرام في المسجد إن لزم منها مكث فيه وهو جنب، وكذا خارجه إن كان الاعتكاف واجبا بخلاف ما إذا كان نفلا. واحترز
المصنف بالمباشرة عما إذا نظر أو تكفر فأنزل فإنه لا يبطل، وبالشهوة عما إذا قبل بقصد الاكرام ونحوه، أو بلا قصد
فلا يبطله إذا أنزل جزما، والاستمناء كالمباشرة. وقد عرف بهذا التفصيل أن مسألة الخنثى مستثناة من بطلان الاعتكاف
بالجماع، ولكن يشترط في الخنثى أن ينزل من فرجيه. (ولو جامع ناسيا) للاعتكاف (فكجماع الصائم) ناسيا صومه
فلا يضر على المذهب كما سبق في الصيام، ولو جامع جاهلا فكجماع الصائم جاهلا، وقد مر في الصيام أيضا، والمباشرة
بشهوة في ذلك كالجماع. (ولا يضر) في الاعتكاف (التطيب والتزين) باغتسال وقص شارب ولبس ثياب حسنة
ونحو ذلك من دواعي الجماع، لأنه لم ينقل أنه (ص) تركه ولا أمر بتركه، والأصل بقاؤه على الإباحة. وله أن يتزوج
ويزوج بخلاف المحرم، ولا يكره له الصنائع في المسجد كالخياطة والكتابة ما لم يكثر منها، فإن أكثر منها كرهت لحرمته
إلا كتابة العلم فلا يكره الاكثار منها، لأنها طاعة كتعليم العلم، ذكره في المجموع. وتكره له الحرفة فيه بخياطة
ونحوها كالمعاوضة من نحو بيع وشراء بلا حاجة وإن قلت. وله أن يأكل ويشرب ويغسل يده فيه، والأولى أن
يأكل في سفرة أو نحوها، وأن يغسل يده في طست أو نحوها ليكون أنظف للمسجد. ويجوز نضحه بمستعمل
لاتفاقهم على جواز الوضوء فيه وإسقاط مائه في أرضه مع أنه مستعمل، ولأنه أنظف من غسالة اليد الخالصة
يغسلها فيه، وهذا ما اختاره في المجموع وجزم به ابن المقري، وهو المعتمد خلافا لما جرى عليه البغوي من الحرمة.
ويجوز الاحتجام والفصد فيه في إناء مع الكراهة كما جزم بها في المجموع إذا أمن تلويث المسجد، وكالحجامة والفصد
ما في معناهما كما بحثه شيخنا كفتح دمل وسائر الدماء الخارجة من الآدمي للحاجة، أما ما ليس في معناهما فإنه يحرم،
فقد نقل المصنف في مجموعه تحريم إدخال النجاسة المسجد لما فيه من شغل هوائه بها مع زيادة القبح، ومحله إذا لم تكن
حاجة بدليل جواز إدخال النعل المتنجسة فيه إذا أمن التلويث، فإن لوث الخارج بما ذكر المسجد أو بال أو تغوط
فيه ولو في إناء حرم، والفرق بين ما تقدم وبين البول والغائط أن الدماء أخف منهما لما مر أنه يعفى عنها في محلها وإن
كثرت إذا لم تكن بفعله، ولأنهما أقبح منها، ولهذا لا يمنع من نحو الفصد متوجها للقبلة بخلافهما. وإن اشتغل المعتكف
بالقرآن والعلم فزيادة خير لأنه طاعة في طاعة، ويسن له الصوم للاتباع وللخروج من خلاف من أوجبه كما سيأتي.
452

(و) لا يضره (الفطر، بل يصح اعتكاف الليل وحده) واعتكاف العيد والتشريق، لخبر أنس: ليس على المعتكف
صيام إلا أن يجعله على نفسه، رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم. وهذا ما نص عليه الشافعي في الجديد، وحكي
قول قديم أن الصوم شرط في صحته، وحكاه القاضي عياض عن جمهور العلماء. (ولو نذر اعتكاف يوم هو فيه صائم
لزمه) الاعتكاف يوم صومه لأنه به أفضل، فإذا التزامه بالنذر لزمه كالتتابع، وليس له إفراد أحدهما عن الآخر قطعا
سواء أكان الصوم عن رمضان أم غيره، لأنه لم يلتزم بهذا النذر صوما، وإنما نذر الاعتكاف بصفة وقد وجدت.
(ولو نذر أن يعتكف صائما) أو يصوم (أو) عكسه بأن نذر أن (يصوم معتكفا) أو باعتكاف (لزماه) أي
الاعتكاف والصوم في الصورتين عملا بالتزامه. فإن قيل: الفرق بين المسألة الأولى وبين مسألتنا مشكل كما قاله الأسنوي،
فإنه التزم في الموضعين الصوم بلفظ يدل على الصفة. أجيب بأن الحال قيد في عاملها ومبينة لهيئة صاحبها، بخلاف الصفة
فإنها مخصصة لموصوفها، وألحقوا الجار والمجرور بالحال الصريحة. (والأصح) المنصوص (وجوب جمعهما) لأنه قربة
فلزم بالنذر، والثاني: لا، لأنهما عبادتان مختلفتان، فأشبه ما لو نذر أن يعتكف مصليا أو عكسه حيث لا يلزمه جمعها، وفرق
الأول بأن الصوم يناسب الاعتكاف لاشتراكهما في الكف، والصلاة أفعال مباشرة لا تناسب الاعتكاف. والثالث:
يجب الجمع في الصورة الأولى ولا يجب في الثانية، وفرق الرافعي بأن الاعتكاف لا يصلح وصفا للصوم والصوم يصلح
وصفا للاعتكاف لأنه مستحب فيه. وعلى الأول الأصح لو اعتكف صائما في رمضان أو غيره نفلا كان الصوم أو
واجبا بغير هذا النذر لم يجزه لعدم الوفاء بالملتزم. قال الأسنوي: والقياس فيما ذكر، ونحوه أن يكفيه اعتكاف لحظة من
اليوم ولا يجب استيعابه، لأن اللفظ صادق على القليل والكثير، وكلامهم قد يوهم خلافه اه‍. والأوجه الأول ولو
عين وقتا لا يصح صومه كالعيد، قال الدارمي: اعتكفه ولا يقضي الصوم فهو مستثنى من وجوب الجمع، ولو نذر
القران بين حج وعمرة جاز له تفريقهما وهو أفضل. ثم شرع في الركن الثالث معبرا عنه بالشرط فقال: (ويشترط نية
الاعتكاف) أي لا بد منها في ابتدائه كما في الصلاة وغيرها من العبادات، لأنه عبادة، سواء المنذور وغيره تعين زمانه أو لا.
(و) لكن (ينوي) حتما (في) الاعتكاف (المنذور الفرضية) ليتميز عن التطوع، ولا يتعين سبب وجوبه
وهو النذر بخلاف الصلاة والصوم، لأن وجوب الاعتكاف لا يكون إلا بالنذر بخلافهما. ولو نوى كونه عن نذره
أجزأه عن ذكر الفرض كما قاله في الذخائر، ولو كان عليه اعتكاف منذور فائت ومنذور غير فائت. قال الأذرعي:
يشبه أن يجئ في التعرض للأداء والقضاء الخلاف المذكور في الصلاة، ولو دخل في الاعتكاف ثم نوى الخروج منه
لم يبطل في الأصح كالصوم. (وإذا أطلق) نية الاعتكاف ولم يعين مدة (كفته) هذه النية (وإن طال مكثه)
لشمول النية المطلقة لذلك. (لكن لو خرج) من المسجد (وعاد) إليه (احتاج) ان لم يعزم عند خروجه على
العود (إلى الاستئناف) لنية الاعتكاف، سواء أخرج لتبرز أم لغيره، لأن ما مضى عبادة تامة وهو يريد اعتكافا
جديدا. فإن عزم على العود كانت هذه العزيمة قائمة مقام النية كما قاله في التتمة وصوبه في المجموع. فإن قيل: اقتران
النية بأول العبادة شرط، فكيف يكتفي بعزيمة سابقة؟ أجيب بأن نية الزيادة وجدت قبل الخروج فصار كمن نوى المدتين
بنية واحدة، كما قالوه فيمن نوى ركعتين نفلا مطلقا ثم نوى قبل السلام زيادة فإنه يصح. (ولو نوى مدة) أي اعتكافها
كيوم أو شهر تطوعا، أو كان قد نذر أياما غير معينة ولم يشترط فيها التتابع ثم دخل المسجد بقصد وفاء نذره (فخرج)
منه (فيها) أي المدة (وعاد) إليه، (فإن خرج) منه (لغير قضاء الحاجة) من البول أو الغائط (لزمه الاستئناف)
453

للنية لصحة الاعتكاف إن أراده بعد العود وإن لم يطل الزمن لقطعه الأول بالخروج لغير قضاء الحاجة. وأما العود فلا
يلزمه في النفل لجواز الخروج منه. (أو) خرج (لها) أي الحاجة (فلا) يلزمه استئناف النية وإن طال زمن قضاء
الحاجة، لأنه لا بد منه، فهو كالمستثنى عند النية. (وقيل إن طالت مدة خروجه) لقضاء الحاجة أو لغيرها (استأنف)
النية لتعذر البناء بخلاف ما إذا لم يطل. (وقيل لا يستأنف) النية (مطلقا) لأن النية شملت جميع المدة بالتعيين. أما إذا
نذر أياما معينة وشرط فيهما التتابع فحكمه ما ذكره في قوله: (ولو نذر مدة متتابعة فخرج لعذر لا يقطع التتابع) كقضاء
حاجة وحيض وأكل وغير ذلك من الاعذار الآتية، وعاد (لم يجب استئناف النية) عند العود لشمولها جميع المدة،
وتجب المبادرة إلى العود عند زوال العذر. فإن أخر ذاكرا عالما مختارا انقطع تتابعه وتعذر البناء. (وقيل إن خرج
لغير) قضاء (الحاجة، و) غير (غسل الجنابة) يعني مما له منه بد كالأكل فإنه مع إمكانه في المسجد يجوز الخروج
له على الصحيح، لأنه قد يستحي منه ويشق عليه فيه بخلاف الشرب فلا يجوز الخروج له مع إمكانه في الأصح، فإنه
لا يستحيا منه في المسجد. (وجب) استئناف النية لخروجه عن العبادة بما عرض له من الاعذار مما له عنه بد.
تنبيه: قد علم مما تقرر أن اقتصاره كالمحرر عن استثناء قضاء الحاجة وغسل الجنابة من محل الخلاف ليس
بجيد، فلو عبر بما قدرته كان أولى، واحترز بقوله لا يقطع التتابع عما يقطعه، فإنها تجب قطعا. ثم شرع في الركن الرابع
وله شروط ذكرها بقوله: (وشرط المعتكف: الاسلام والعقل والنقاء عن الحيض) والنفاس (والجنابة)، فلا يصح اعتكاف
كافر ومجنون ومبرسم وسكران ومغمى عليه ومن لا تمييز له، لعدم صحة نيتهم، ولا حائض ونفساء وجنب لحرمة مكثهم
في المسجد، وقضية ذلك أن كل من حرم مكثه في المسجد كذي جراح وقروح واستحاضة ونحوها إذا لم يكن حفظ
المسجد منها لا يصح اعتكافه. وهو كذلك، وإن قال الأذرعي هذا موضع نظر. نعم لو اعتكف في مسجد وقف على
غيره دونه صح اعتكافه فيه وإن حرم عليه لبثه فيه، كما لو تيمم بتراب مغصوب، وقس على هذا ما يشبهه.
تنبيه: محل عدم صحة اعتكاف المغمى عليه في الابتداء، أما لو طرأ عليه في أثناء اعتكافه فإنه لا يبطل
ويحسب
زمنه من اعتكافه كما سيأتي في كلامه. ويصح اعتكاف الصبي المميز والرقيق والزوجة، لكن لا يجوز إلا بإذن من السيد
للرقيق ومن الزوج للزوجة، لأن منفعة العبد مستحقة لسيده والتمتع مستحق للزوج، وإن حقهما على الفور بخلاف
الاعتكاف. نعم إن لم يفوتا عليهما منفعة كأن حضر ل‍ المسجد بإذنهما فنويا الاعتكاف فإنه يجوز، ويكره لذوات الهيئة
كما في خروجهن للجماعة، وللزوج إخراج الزوجة، وللسيد إخراج الرقيق من التطوع وإن اعتكفا بإذنهما لما مر،
وكذا من النذر إلا إن أذنا فيه وفي الشروع فيه وإن لم يكن زمن الاعتكاف معينا ولا متتابعا أو في أحدهما وزمن
الاعتكاف معين، وكذا إن أذنا في الشروع فيه فقط وهو متتابع، وإن لم يكن زمنه معينا فلا يجوز لهما إخراجهما
في الجميع لإذنهما في الشروط مباشرة أو بواسطة، لأن الاذن في النذر المعين إذن في الشروع فيه، والمعين لا يجوز تأخيره
والمتتابع لا يجوز الخروج منه لما فيه من إبطال العبادة الواجبة بلا عذر، ولو نذر العبد اعتكاف زمن معين بإذن سيده
ثم انتقل عنه إلى غيره ببيع أو وصية أو إرث فله الاعتكاف بغير إذن المنتقل إليه لأنه صار مستحقا قبل تمكنه، ومثله
الزوجة، لكن إن جهل المشتري فله الخيار في فسخ البيع. ويجوز اعتكاف المكاتب بغير إذن سيده، إذ لا حق للسيد
في منفعته فهو كالحر، وإن قال القاضي صوره أصحابنا بما لا يخل بكسبه لقلة زمنه أو لامكان كسبه في المسجد كالخياطة،
وأما المبعض فهو كالقن إن لم يكن مهايأة، وإلا فهو في نوبته كالحر، وفي نوبة سيده كالقن. (ولو ارتد المعتكف أو
سكر) متعديا (بطل) اعتكافه في زمن ردته وسكره لعدم أهليته، أما غير المتعدي فيشبه كما قال الأذرعي أنه كالمغمى
454

عليه. (والمذهب بطلان ما مضى من اعتكافهما المتتابع) فلا بد من استئنافه لأن ذلك أشد وأقبح من الخروج من المسجد
بلا عذر، وهو يقطع التتابع كما سيأتي. والثاني: لا يبطل في المسألتين فيبنيان، أما في الردة فترغيبا في الاسلام، وأما في السكر
فإلحاقا بالنوم. والثالث وهو المنصوص: يبني المرتد لأنه لا يمنع من المسجد، ولهذا تجوز استتابته فيه، ولا يبني السكران
لأنه يمنع منه للآية. والرابع: يبني السكران دون المرتد لأن السكر كالنوم والردة تنافي العبادة.
تنبيه: المراد بالبطلان عدم البناء عليه لا حبوطه بالكلية، ولهذا قال الشارح: من حيث التتابع. وهذا في السكران،
وأما المرتد فقد نص الشافعي على أن الردة لا تحبط الثواب إن لم تتصل بالموت وإن اتصلت به فهي محبطة للعمل بنص
القرآن. فإن قيل: ثني المصنف الضمير في اعتكافهما، والأولى إفراده لأن المعطوف هنا بأو، وقد أتى به بعد ذلك مفردا
حيث عبر بقوله: إن لم يخرج؟ أجيب بأن المعطوف ب‍ أو هو الفعل، والضمير ليس عائدا عليه، وإنما هو عائد على
المرتد والسكران المفهومين من لفظ الفعل، وقد تقدم ما يدل عليهما فصح عود الضمير عليهما. (ولو طرأ جنون أو إغماء)
على المعتكف، (لم يبطل ما مضى) من اعتكافه المتتابع، (إن لم يخرج) - بالبناء للمفعول - من المسجد، لأنه معذور بما
عرض له، فإن أخرج من تعذر ضبطه في المسجد لم يبطل أيضا كما لو حمل العاقل مكرها، وكذا إن أمكن بمشقة على
الصحيح فهو كالمريض، فكان ينبغي ترك التقييد بعد الخروج لاستواء حكمهما. أما لو طرأ ذلك بسبب لا يعذر فيه
كالسكر فإنه ينقطع اعتكافه كما نقله في الكفاية عن البندنيجي في الجنون، وبحثه الأذرعي في الاغماء. (ويحسب زمن
الاغماء من الاعتكاف) المتتابع كما في الصائم إذا أغمي عليه بعض النهار، (دون) زمن (الجنون) فلا يحسب منه
لأن العبادة البدنية لا تصح منه. (أو) طرأ (الحيض) أو النفاس على معتكفه، (وجب) عليها (الخروج) من المسجد
لتحريم المكث عليها، (وكذا الجنابة) بما لا يبطل الاعتكاف كالاحتلام (إذا) طرأ على المعتكف، و (تعذر) عليه (الغسل
في المسجد) فيجب عليه الخروج منه لحرمة مكثه فيه. ولو احتاج إلى التيمم لفقد الماء أو غيره، فالظاهر كما بحثه بعض
المتأخرين وجوب الخروج له مع إمكانه في المسجد بغير ترابه، لأنه يتضمن لبثا إلى إكمال التيمم، فإن أمكنه أن يتيمم مارا
من غير مكث ولا تردد لم يجب الخروج لأن المرور لا يحرم على الجنب. (فلو أمكنه) الغسل فيه بلا مكث (جاز) له
(الخروج، ولا يلزمه) الخروج لأجل الغسل، بل له فعله في المسجد مراعاة للتتابع. نعم إن كان مستجمرا بالحجر ونحوه
وجب عليه الخروج، ولا يجوز إزالة النجاسة في المسجد. وكذا يجب عليه الخروج إذا كان يحصل بالغسالة
ضرر للمسجد
أو للمصلين كما قال ذلك بعض المتأخرين، ويلزمه أن يبادر بالغسل لئلا يبطل تتابع اعتكافه. (ولا يحسب زمن الحيض)
والنفاس (ولا) زمن (الجنابة) من الاعتكاف إن اتفق المكث معها في المسجد لعذر أو غيره، لمنافاة ما ذكر للاعتكاف.
وسيأتي آخر الباب تفصيل في أن الحائض هل تبني على ما مضى من اعتكافها أو لا. وأما المستحاضة فإن أمنت التلويث
لم تخرج من اعتكافها، فإن خرجت بطل.
فصل: في حكم الاعتكاف المنذور. (إذا نذر مدة متتابعة) كقوله: لله علي اعتكاف عشرة أيام متتابعة،
(لزمه) التتابع فيها إن صرح به لفظا، لأنه وصف مقصود لما فيه من المبادرة إلى الباقي عقب الاتيان ببعضه. ولا يلزمه
في هذه الأيام اعتكاف الليالي المتخللة بينها إلا أن ينويها فتلزمه لأنها لا تدخل في مسمى الأيام، ولو نذر بلفظه التفريق
لم يلزمه وجاز له التتابع على الأصح. فإن قيل: إذا نذر في الصوم التتابع أو التفريق لزمه، فهلا كان هنا كذلك؟ أجيب
بأن الصوم يجب فيه التفريق في حالة، وهي صوم التمتع، فكان مطلوبا فيه التفريق، بخلاف الاعتكاف لم يطلب فيه
455

التفريق أصلا، وقول الغزالي: إنه لو نوى أياما معينة كسبعة أيام متفرقة أولها غدا أنه يتعين التفريق إنما يأتي على طريقته
من أن النية تؤثر كاللفظ، وسيأتي أنها لا تؤثر على الأصح. (والصحيح) وعبر في الروضة بالمذهب، (أنه لا يجب التتابع
بلا شرط) لكن يسن لأن لفظ الأسبوع مثلا يصدق على المتتابع والمتفرق فلا يجب أحدهما بخصوصه إلا بدليل،
والثاني: يجب، كما لو حلف لا يكلم فلانا شهرا فإنه يكون متتابعا، وفرق الأول بأن المقصود من اليمين الهجران ولا يتحقق
بدون التتابع، وقضية كلامه أنه إذا لم يشترط التتابع لا يجب، وإن نواه وهو الأصح كما قالاه تبعا للبغوي كأصل النذر،
وإن اختار السبكي اللزوم وصوبه الأسنوي. فإن قيل: إنه إذا نوى اعتكاف الليالي المتخللة في هذه الأيام أنها تلزمه كما مر
مع أن فيه وقتا زائدا فوجوب التتابع أولى لأنه مجرد وصف. أجيب بأن التتابع ليس من جنس الزمن المذكور بخلاف
الليالي بالنسبة للأيام، ولا يلزم من إيجاب الجنس بنية التتابع إيجاب غيره بها، وحكم الأيام
مع نذر الليالي كحكم الليالي مع نذر الأيام فيما مر. (و) الصحيح، وعبر في الروضة بالأصح، (أنه لو نذر يوما لم يجز تفريق ساعاته) من أيام، لأن
المفهوم من لفظ اليوم أن يكون متصلا. قال الخليل: اليوم اسم لما بين طلوع الفجر وغروب الشمس. والثاني: يجوز، تنزيلا
للساعات من اليوم منزلة الأيام من الشهر. ومحل الخلاف ما لم يعين يوما، فإن عينه لم يجز التفريق قطعا. ولو دخل المسجد
في أثناء النهار وقت الظهر مثلا، وخرج بعد الغروب ثم عاد قبل الفجر ومكث إلى مثل ذلك، الوقت فعلى الخلاف، فإن
لم يخرج بالليل أجزأه عند الأكثرين لحصول التتابع بالبيتوتة في المسجد. وهذا هو المعتمد، وإن قال أبو إسحاق إنه لا يجزئ،
وقال الشيخان: إنه الأوجه، لأنه لم يأت بيوم متواصل الساعات، والليلة ليست من اليوم. ولو نذر يوما أوله من أثناء يوم
أوله وقت الظهر مثلا امتنع عليه الخروج ليلا باتفاق الأصحاب. واستشكلا منع خروجه ليلا بأن الليلة لم يلتزمها، قالا:
والقياس أن يجعل فائدة تقييده في هذه القطع بجواز التفريق لا غير. (و) الصحيح، وعبر في الروضة بالأصح، (إنه لو عين
مدة كأسبوع) عينه (وتعرض للتتابع) فيها لفظا (وفاتته، لزمه التتابع في القضاء) به لالتزامه إياه، والثاني: لا يلزمه،
لأن التتابع يقع ضرورة فلا أثر لتصريحه به. ولو لم يعين الأسبوع لم يتصور فيه فوات لأنه على التراخي. (وإن لم يتعرض
له) أي التتابع (لم يلزمه في القضاء) جزما، لأن التتابع فيه لم يقع مقصودا، بل من ضرورة تعين الوقت، فأشبه
التتابع في شهر رمضان. ولو نذر اعتكاف شهر مثلا دخلت لياليه لأنه عبارة عن الجميع إلا أن يستثنيها لفظا، أما لو استثناها
بقلبه فإنه لم يؤثر كما لا يلزمه الاعتكاف بنيته. فإن قيل: إنه إذا نوى دخولها بقلبه أنه يؤثر كما مر. أجيب بأن
في ذلك احتياطا للعبادة في الموضعين، وبأن الغرض من النية هناك ما قد يراد من اللفظ، وهذا إخراج ما شمله اللفظ. ولو
نذر اعتكاف يوم معين ففاته فقضاه ليلا أجزأه، بخلاف اليوم المطلق، لقدرته على الوفاء بنذره بصفته الملتزمة بخلافه
في المعين، كنظيره في الصلاة في القسمين، حكاه في المجموع عن المتولي وأقره. ولو نذر اعتكاف يوم قدوم زيد فقدم
ليلا فلا شئ عليه لعدم وجود الصفة، وقياس نظيره في الصوم ندب اعتكاف يوم شكرا لله كما قاله شيخنا. فإن قدم
نهارا أجزأه البقية منه، ولا يلزمه قضاء ما مضى منه لأن الوجوب إنما ثبت من حين القدوم لصحة الاعتكاف في بعض
اليوم بخلاف الصوم، لكن الأفضل أن يقضي يوما كاملا كما نقله في المجموع عن المزني، وهذا هو المعتمد كما جزم به ابن
المقري، وإن صحح في المجموع في موضع آخر لزوم قضائه، وهو مقتضى كلام أصلي الروضة في باب النذر. ومحل ذلك
إذا قدم حيا مختارا، فلو قدم به ميتا أو قدم مكرها فلا شئ عليه كما قاله الصيمري. فإن قيل: إذا قدم مكرها فقد حصل المقصود
للناذر لأنه جعل اعتكافه شكرا لله على حضور غائبه عنده وقد وجد. أجيب بأنه علق الحكم بالقدوم، وقدوم المكره
غير معتبر شرعا، ولو قال: لله علي أن أعتكف العشر الأخير دخلت لياليه حتى الليلة الأولى ويجزئه وإن نقص الشهر
لأن هذا الاسم يقع على ما بعد العشرين إلى آخر الشهر، بخلاف قوله: عشرة أيام من آخر الشهر وكان ناقصا لا يجزئه، لأنه
جرد القصد إليها، فيلزمه أن يعتكف بعده يوما. ويسن في هذه كما في المجموع أن يعتكف يوما قبل العشر لاحتمال
456

نقصان الشهر، فيكون ذلك اليوم داخلا في نذره لكونه أول العشرة من آخر الشهر. فلو فعل هذا ثم بان النقص قطع
البغوي بإجزائه عن قضاء يوم، وقال في المجموع: يحتمل أن يكون فيه الخلاف فيمن تيقن طهرا وشك في ضده فتوضأ
محتاطا فبان محدثا، أي فلا يجزئه، وهذا هو الظاهر. (وإذا ذكر) الناذر (التتابع) في نذره لفظا (وشرط الخروج لعارض)
مباح مقصود غير مناف للاعتكاف، (صح الشرط في الأظهر) وبه قطع الجمهور، لأن الاعتكاف إنما لزم بالتزامه فيجب
بحسب ما التزمه، فإن شرطه لخاص من الأغراض كعيادة المرضى خرج له دون غيره وإن كان غيره أهم منه، أو عام
كشغل يعرض له خرج لكل مهم ديني كالجمعة والجماعة أو دنيوي مباح كلقاء السلطان والقاضي واقتضاء الغريم، والثاني:
يلغو الشرط لمخالفته لمقتضى التتابع. وخرج بقوله: شرط الخروج لعارض ما لو شرط قطع الاعتكاف له، فإنه وإن صح
لكنه لا يجب عليه العود عند زوال العارض، بخلاف ما لو شرط الخروج للعارض فإنه يجب العود. وبقوله: لعارض ما لو قال:
إلا أن يبدو لي، فإن الشرط باطل على الأصح لأنه علقه بمجرد الخيرة وذلك يناقض الالتزام، وكذا النذر كما قاله البغوي،
وهو الأشبه في الشرح الصغير، ولم يصرحا في الروضة، وأصلها بترجيح، وبقولي مباح ما لو شرطه
لعارض محرم كسرقة،
وبمقصود ما لو شرطه لغير مقصود كنزهة، وبغير مناف للاعتكاف ما لو شرطه لمناف له كالجماع، كأن قال: إن اخترت
جامعت أو إن اتفق لي جماع جامعت فإنه لا ينعقد نذره كما صرحوا به في المحرم والجماع، ومثلهما البقية. وقد علم مما ذكر
ما في عبارة المصنف من الاجحاف. (والزمان المصروف إليه) أي العارض المذكور، (لا يجب تداركه إن عين المدة كهذا
الشهر) لأن المنذور من الشهر إنما هو اعتكاف ما عدا العارض. (وإلا) بأن لم يعين مدة كشهر مطلق، (فيجب) تداركه،
أي الزمن المصروف للعارض لتتم المدة الملتزمة، وتكون فائدة الشرط تنزيل ذلك العارض منزلة قضاء الحاجة في أن التتابع
لا ينقطع به. (وينقطع التتابع) أيضا (بالخروج) من المسجد بكل بدنه، أو بما اعتمد عليه من الرجلين أو اليدين أو الرأس
قائما أو منحنيا أو من العجز قاعدا، أو من الجنب مضطجعا، (بلا عذر) من الاعذار الآتية، وإن قل زمنه لمنافاته اللبث، لأنه
في مدة الخروج المذكور غير معتكف، وهذا في العامد العام بالتحريم المختار. (ولا يضر) في تتابع الاعتكاف (إخراج
بعض الأعضاء) من المسجد كرأسه أو يده، لأنه لا يسمى خارجا، ففي الصحيحين: أنه (ص) كان يدني رأسه
إلى عائشة فترجله، أي تسرحه وهو معتكف في المسجد. ولو أخرج إحدى رجليه واعتمد عليهما لم يضر لأن الأصل
عدم الخروج، فإن أخرجهما واعتمد عليهما ضر وإن كان رأسه داخلا. (ولا) يضر (الخروج لقضاء الحاجة) بالاجماع،
لأنه ضروري ولو كثر لعارض ولا يشترط فيها لضرورة، وإذا خرج لا يكلف الاسراع بل يمشي على سجيته. فلو
تأتى أكثر من ذلك بطل كما في زيادة الروضة عن البحر. ويجوز له أن يتوضأ بعد قضائها خارج المسجد تبعا لها مع أنه
لا يجوز الخروج له منفردا إن كان تجديدا، وكذا عن حدث على الأصح إذا أمكنه في المسجد.
تنبيه: اقتصار المصنف على قضاء الحاجة قد يوهم أنه لا يجوز له الخروج لغيرها وليس مرادا، بل يجوز لغسل
الجنابة وإزالة النجاسة كرعاف، وكذا الاكل على الأصح، لأن الاكل في المسجد يستحيا منه وإن أمكنه الاكل فيه
كما مر بخلاف الشرب إذا وجد الماء فيه. ويؤخذ من العلة أن الكلام في مسجد مطروق بخلاف المختص
لمنفعتها ولو
مستعارة والمهجور، وبه صرح الأذرعي وهو ظاهر. فإن خرج للشرب مع وجود الماء في المسجد أو لتجديد وضوء
انقطع تتابعه، والظاهر كما قال شيخنا أن الوضوء المندوب لغسل الاحتلام مغتفر كالتثليث في الوضوء الواجب. (ولا
يجب فعلها في غير داره) المستحق لمنفعتها ولو مستعارة، كسقاية المسجد ودار صديق له بجوار المسجد، لما في ذلك من
المشقة وخرم المروءة، وتزيد دار الصديق بالمنة بها. نعم من لا يحتشم من السقاية يكلفها كما صرح به القاضي حسين،
457

وكذا إن كانت السقاية مصونة مختصة بالمسجد كما بحثه بعض المتأخرين. (ولا يضر بعدها) أي داره المذكورة عن
المسجد مراعاة لما سبق من المشقة والمنة. (إلا أن يفحش) البعد، وضابطه كما قاله البغوي أن يذهب أكثر الوقت
في التردد إليها مع وجود مكان لائق بطريقه، أو يكون له دار أخرى أقرب منها. (فيضر في الأصح) لأنه قد يحتاج
في عوده إليها إلى البول، فيمضي يومه في الذهاب والاياب، ولاغتنائه بالأقرب من داريه. فإن لم يجد في طريقه مكانا أو
وجده ولم يلق به أن يدخله لم يضر فحش البعد. والثاني: لا يضر هذا الفحش مطلقا، لما سبق من مشقة الدخول لقضاء
الحاجة في غير داره. ولا يجوز الخروج لنوم ولا لغسل جمعة أو عيد كما ذكره الخوارزمي. (ولو عاد مريضا) أو زار
قادما (في طريقه) لقضاء حاجته، (لم يضر ما لم يطل وقوفه) بأن لم يقف أصلا، أو وقف وقفة يسيرة كأن اقتصر على
السلام والسؤال. (أو) لم (يعد إلى عن طريقه) بأن كان المريض أو القادم فيها، لقول عائشة رضي الله تعالى عنها:
إني كنت أدخل البيت للحاجة، أي التبرز، والمريض فيه، فما أسأل عنه إلا وأنا مارة رواه مسلم. وفي سنن
أبي داود مرفوعا عنها: أنه (ص) كان يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو يسأل عنه ولا يعرج. فإن
طال وقوفه عرفا أو عدل عن طريقه وإن قل ضر، ولو صلى في طريقه على جنازة فإن لم ينتظرها ولم يعدل إليها عن
طريقه جاز وإلا فلا. (ولا ينقطع التتابع ب‍) - خروجه ل‍ (- مرض يحوج إلى الخروج) أي إذا خرج، لأن الحاجة داعية
إليه كالخروج لقضاء الحاجة. وفي قول أنه ينقطع، لأن المرض ليس بضروري ولا غالب بخلاف قضاء الحاجة. وهذا
القول يؤخذ من قول المحرر في أظهر القولين، وأهمله المصنف. والمحوج إلى الخروج هو الذي يشق المقام معه في المسجد
لحاجة فرش وخادم وتردد طبيب، أو بأن يخاف منه تلويث المسجد كإسهال وإدرار بول، بخلاف مرض لا يحوج إلى
الخروج كصداع وحمى خفيفة فينقطع التتابع بالخروج له. وفي معنى المرض المذكور الخوف من لص أو حريق. (ولا)
ينقطع التتابع (بحيض إن طالت مدة الاعتكاف) بأن كانت لا تخلو عنه غالبا كشهر، كما مثل به الروياني، ومثل في المجموع
بأكثر من خمسة عشر يوما، واستشكله الأسنوي بأن الثلاثة والعشرين تخلو عن الحيض غالبا لأن غالب الحيض
ست أو سبع، والغالب أن الشهر الواحد لا يكون فيه إلا طهر واحد وحيضة واحدة اه‍. ويمكن حمل عبارة المجموع
على الزيادة على ما ذكر فتبني على ما سبق إذا طهرت لأنه بغير اختيارها. (فإن كانت) مدة الاعتكاف، (بحيث تخلو عنه)
أي الحيض (انقطع) التتابع (في الأظهر) لامكان الموالاة بشروعها عقب الطهر، والثاني: لا ينقطع لأن جنس الحيض
مما يتكرر في الجملة فلا يؤثر في التتابع كقضاء الحاجة، والنفاس كالحيض كما نبه عليه في المجموع. (ولا) ينقطع التتابع
(بالخروج) من المسجد (ناسيا) لاعتكافه، (على المذهب) المقطوع به كما صححه في المجموع إن تذكر عن قرب، كما
لا يبطل الصوم بالاكل ناسيا. وقيل: ينقطع، لأن مشاهدة مكان الاعتكاف مذكرة له فيبعد معها النسيان، بخلاف الصوم
فإن طال فهو كالأكل الكثير ناسيا، وتقدم الخلاف فيه، وأن الراجح عند المصنف أنه لا يضر، والجاهل الذي يخفى
عليه ذلك كالناسي. ولو حمل وأخرج مكرها لم يضر، وكذا لو أكره فخرج بنفسه في الأظهر إن كان الاكراه بغير حق،
فإن كان بحق وهو مماطل به أو اعتكف العبد أو الزوجة بغير إذن فأكره على الخروج فإنه يبطل اعتكافه لتقصيره.
وفي معنى الاكراه خوفه من ظالم أو خوف غريم له وهو معسر ولا بينة، فلا ينقطع التتابع لعذره. ولو خرج لأداء شهادة
تعين عليه حملها وأداؤها لم ينقطع تتابعه لاضطراره إلى الخروج وإلى سببه، بخلاف ما إذا لم يتعين عليه أحدهما أو تعين
أحدهما دون الآخر، لأنه إن لم يتعين عليه الأداء فهو مستغن عن الخروج وإلا فتحمله لها إنما يكون للأداء فهو
باختياره، ومحل هذا كما قال شيخنا: إذا تحمل بعد الشروع في الاعتكاف وإلا فلا ينقطع التتابع، كما لو نذر
صوم الدهر
458

ففوته الصوم كفارة لزمته قبل النذر ولا يلزمه القضاء. ولو خرج لإقامة حد ثبت عليه بالبينة لم ينقطع تتابعه، بخلاف ما إذا
ثبت بإقراره. ولو خرجت المعتكفة لقضاء عدة لا بسببها ولا في مدة إذن زوجها لها في الاعتكاف لم ينقطع التتابع وإن
كانت مختارة لنكاح، لأن النكاح لا يباشر للعدة بخلاف تحمل الشهادة إنما يكون للأداء كما مر. فإن كانت العدة
بسببها كأن علق طلاقها بمشيئتها فقالت وهي معتكفة شئت، أو قدر زوجها مدة لاعتكافها فخرجت قبل تمامها، فإن
تتابعها ينقطع. (ولا) ينقطع التتابع (بخروج المؤذن الراتب إلى منارة) - بفتح الميم - للمسجد، (منفصلة عن المسجد)
قريبة منه، (للاذان في الأصح) لأنها مبنية له معدودة من توابعه، وقد اعتاد الراتب صعودها وألف الناس صوته،
فيعذر فيه ويجعل زمن الاذان كالمستثنى من اعتكافه. والثاني: ينقطع مطلقا، للاستغناء عنها بسطح المسجد فيؤذن عليه.
والثالث: يجوز للراتب وغيره، لأنها مبنية للمسجد معدودة من توابعه. وعلى الأول لو خرج غير الراتب للاذان أو خرج
الراتب لغيره أو له لكن إلى منارة ليست للمسجد أو له لكن بعيدة عنه انقطع التتابع. واحترز المصنف بالمنفصلة عن
منارة بابها في المسجد أو في رحبته، فلا يضر صعودها مطلقا ولو كانت خارجة عن سمت البناء وتربيعه، وتكون حينئذ
في حكم المسجد كمنارة مبنية في المسجد مالت إلى الشارع فيصح الاعتكاف فيها. وإن كان المعتكف في هواء الشارع
ولو اتخذ للمسجد جناح إلى الشارع فاعتكف فيه إنسان لم يصح كما قاله بعض المتأخرين، خلافا للزركشي في قوله بالصحة.
وقضية التعليل أنها لو بنيت لغيره أنه لم يخرج لها قريبة كانت أو بعيدة، وهو كذلك. نعم إن بنيت لمسجد متصل بمسجد
الاعتكاف جاز له الخروج إليها تبعا بناء على أن المساجد المتصلة حكمها حكم المسجد الواحد، وخرج بالقريبة البعيدة،
فينقطع الخروج لها التتابع. ولم يتعرضوا لحد البعيدة، وضبطه بعضهم بأن تكون خارجة عن جوار المسجد، وجاره
أربعون دارا من كل جانب. وقال بعض آخر: يحتمل ضبط البعيدة بما جاوز حريم المسجد. اه‍. والظاهر أن مرجع
ذلك إلى العرف. (ويجب قضاء أوقات الخروج) من المسجد من نذر اعتكاف متتابع، (بالاعذار) السابقة
التي لا ينقطع
بها التتابع، كوقت أكل وحيض ونفاس واغتسال جنابة، لأنه غير معتكف فيها. (إلا أوقات قضاء الحاجة) ونحوها مما
يطلب له الخروج ولم يطل زمنه عادة، كغسل جنابة وأذان راتب وأكل، فلا يجب قضاؤها لأنها مستثناة معتكف فيها،
ولذا قال الأسنوي: اقتصار المصنف على استثناء قضاء الحاجة تبع فيه الرافعي، ولم أعلم أحدا قال بذلك بعد الفحص
الشديد، بخلاف ما يطول زمنه كمرض وعدة، وتقدم أن الزمن المصروف إلى ما شرط من عارض في مدة معينة لا يجب تداركه.
خاتمة: لو أحرم المعتكف بالحق وخشي فوته قطع الاعتكاف ولم يبن بعد فراغه من الحق على اعتكافه الأول،
فإن لم يخش فوته أتم اعتكافه ثم خرج لحجه، ولو نذر اعتكاف شهر بعينه فبان أنه انقضى قبل نذره لم يلزمه شئ،
لأن اعتكاف شهر قد مضى محال. وهل الأفضل للمتطوع الخروج لعيادة المريض، أو دوام الاعتكاف؟ قال الأصحاب:
هما سواء، وقال ابن الصلاح: إن الخروج لها مخالف للسنة، لأن النبي (ص) لم يكن يخرج لذلك وكان
اعتكافه تطوعا. وقال البلقيني: ينبغي أن يكون موضع التسوية في عيادة الأجانب. أما ذو الرحم والأقارب والأصدقاء
والجيران فالظاهر أن الخروج لعيادتهم أفضل، لا سيما إذا علم أنه يشق عليهم، وعبارة القاضي الحسين مصرحة بذلك،
وهذا هو الظاهر.
كتاب الحج
بفتح أوله وكسره، لغة: القصد، كما قاله الجوهري. وقال الخليل: كثرة القصد إلى من يعظم. وشرعا: قصد الكعبة
459

للنسك الآتي بيانه كما قاله في المجموع. وقال في الكفاية: هو قصد الافعال الآتية، وتقدم في باب صلاة النفل عن
القاضي حسين أنه أفضل العبادات لاشتماله على المال والبدن. وقال الحليمي: الحج يجمع معاني العبادات كلها، فمن
حج فكأنما صام وصلى واعتكف وزكى ورابط في سبيل الله وغزا، وبين ذلك، ولأنا دعينا إليه ونحن في أصلاب
الآباء كالايمان الذي هو أفضل العبادات. ولكن تقدم أن الراجح أن الصلاة أفضل منه. وهو من الشرائع القديمة،
روي أن آدم عليه الصلاة والسلام لما حج قال له جبريل: إن الملائكة كانوا يطوفون قبلك بهذا البيت بسبعة
آلاف سنة. وقال صاحب التعجيز: إن أول من حج آدم عليه الصلاة والسلام، وأنه حج أربعين سنة من الهند
ماشيا. وقيل ما من نبي إلا حجه. وقال أبو إسحاق: لم يبعث الله نبيا بعد إبراهيم إلا وقد حج البيت. وادعى بعض
من ألف في المناسك أن الصحيح أنه لم يجب إلا على هذه الأمة. (هو فرض) أي مفروض، لقوله تعالى: * (ولله
على الناس حج البيت) * الآية. ولحديث: بني الاسلام على خمس، ولحديث: حجوا قبل أن لا تحجوا، قالوا: وكيف
نحج قبل أن لا نحج؟ قال: أن تقعد العرب على بطون الأودية يمنعون الناس السبيل. وهو إجماع يكفر جاحده إن لم
يخف عليه. واختلفوا متى فرض، فقيل: قبل الهجرة، حكاه في النهاية. والمشهور أنه بعد الهجرة، وعلى هذا قيل: فرض في السنة
الخامسة من الهجرة، وجزم به الرافعي في الكلام على أن الحج على التراخي، وقيل: في السنة السادسة، وصححاه
في كتاب السير، ونقله في المجموع عن الأصحاب، وهذا هو المشهور. وقيل: في الثامنة، حكاه في الأحكام السلطانية. وقيل: في
التاسعة، حكاه في الروضة، وصححه القاضي عياض. وقيل: في العاشرة، قال بعضهم: وهو غلط، وكان (ص) قبل
أن يهاجر يحج كل سنة، ولا يجب بأصل الشرع إلا مرة لأنه (ص) لم يحج بعد فرض الحج إلا مرة
واحدة، وهي حجة الوداع، ولخبر مسلم: أحجنا هذا لعامنا أم للأبد؟ قال لا، بل للأبد. وأما حديث البيهقي الآمر
بالحج كل خمسة أعوام فمحمول على الندب، لقوله (ص): من حج حجة أدى فرضه، ومن حج ثانية
داين ربه، ومن حج ثلاث حجج حرم الله شعره وبشره على النار قيل: إن رجلا قتل وأوقد عليه النار طول الليل فلم
تعمل فيه وبقي أبيض البدن، فسألوا سعدون الخولاني عن ذلك، فقال: لعله حج ثلاث حجج؟ قالوا: نعم. وقد يجب
أكثر من مرة لعارض: كنذر وقضاء عند إفساد التطوع. (وكذا العمرة) فرض (في الأظهر)، لقوله تعالى: * (وأتموا
الحج والعمرة لله) *: أي ائتوا بهما تامين، ولخبر ابن ماجة والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة عن عائشة رضي الله عنها
قالت: قلت: يا رسول الله هل على النساء جهاد؟ قال: نعم جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة. وأما خبر الترمذي
عن جابر: سئل النبي (ص) عن العمرة أواجبة هي؟ قال: لا، وأن تعتمر خير لك فضعيف. قال
في المجموع: اتفق الحفاظ على ضعفه، ولا يغتر بقول الترمذي فيه حسن صحيح. وقال ابن حزم: إنه باطل. قال
أصحابنا: ولو صح لم يلزم منه عدم وجوبها مطلقا لاحتمال أن المراد ليست واجبة على السائل لعدم استطاعته، قال:
وقوله: أن تعتمر بفتح الهمزة، والعمرة بضم العين مع ضم الميم وإسكان وبفتح العين وإسكانها الميم لغة: الزيارة،
وقيل: القصد إلى مكان عامر، ولذلك سميت عمرة، وقيل: سميت بذلك لأنها تفعل في العمر كله، وشرعا: قصد
الكعبة للنسك الآتي بيانه. ولا يغنى عنها الحج وإن اشتمل عليها، ويفارق الغسل حيث يغني عن الوضوء بأن الغسل
أصل فأغنى عن بدله، والحج والعمرة أصلان.
فائدة: النسك إما فرض عين، وهو على من لم يحج بالشروط الآتية. وإما فرض كفاية، وهو إحياء الكعبة
كل سنة بالحج والعمرة. وإما تطوع، ولا يتصور إلا في الأرقاء والصبيان، إذ فرض الكفاية لا يتوجه إليهم، لكن
لو تطوع منهم من يحصل به الكفاية سقط الفرض عن المخاطبين كما بحثه بعض المتأخرين قياسا على الجهاد وصلاة الجنازة.
ويسن لمن وجب عليه الحج أو العمرة أن لا يؤخر ذلك عن سنة إلا مكان مبادرة إلى براءة ذمته ومسارعة
إلى الطاعات، قال تعالى: * (فاستبقوا الخيرات) *. وإن أخر بعد التمكن وفعله قبل أن يموت لم يأثم، لأنه
460

(ص) أخره إلى السنة العاشرة بلا مانع، وقيس به العمرة، لكن التأخير إنما يجوز بشرط العزم على الفعل في المستقبل
كما مر بيانه في الصلاة، وأن لا يتضيق بنذر أو قضاء أو خوف عضب، فلو خشي من وجب عليه الحج أو العمرة العضب
حرم عليه التأخير لأن الواجب الموسع إنما يجوز تأخيره بشرط أن يغلب على الظن السلامة إلى وقت فعله. قال في
المجموع قال المتولي: ومثله من خشي هلاك ماله. (وشرط صحته) أي ما ذكر من حج أو عمرة، (الاسلام) فقط، فلا
يصح من كافر أصلى أو مرتد لعدم أهليته للعبادة، ولو ارتد في أثناء نسكه بطل في الأصح فلا يمضي في فاسده. وعبارة
الكتاب ليست صريحة في نفي اشتراط ما عدا الاسلام، ولذلك قيدته ب‍ فقط مع أن المحرر قد صرح به، فقال: ولا
يشترط لصحة الحج للشخص إلا الاسلام، وقول الأذرعي: من شروط الصحة أيضا الوقت والنية ممنوع في النية، فإن
النية من الأركان. وأما الوقت، أي اتساعه، ففيه خلاف يأتي، ولا يشترط في صحة ما ذكر تكليف. (فللولي) في
المال ولو وصيا وقيما بنفسه وبمأذونه وإن لم يؤد الولي نسكه أو أحرم به. (أن يحرم عن الصبي الذي لا يميز
) لما رواه
مسلم عن ابن عباس: أن النبي (ص) لقي ركبا بالروحاء، فرفعت امرأة إليه صبيا، فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال:
نعم ولك أجر، وفي رواية أبي داود: فأخذت بعضد صبي ورفعته من محفتها، وجه الدلالة منه أن الصبي الذي يحمل
بعضده ويخرج من المحفة لا تميز له. (و) أن يحرم عن (المجنون) قياسا على الصبي، خلافا لكثير من العراقيين
القائلين بالمنع، وإن نقله الأذرعي عن الجمهور واختاره، وفرق بأن الصبي من نوع من يصح عبادته فينوي الولي بقلبه
جعل كل منهما محرما، أو يقول أحرمت عنه. ولا يشترط حضورهما ولا مواجهتهما بالاحرام، ولا يصير الولي بذلك محرما.
وللولي أن يحرم عن المميز أيضا وإن أفهمت عبارته خلافه، فلو عبر بقوله ولو لم يميز أو ميز كان أولى. وله أن يأذن له
في الاحرام، ولا يصح إحرامه بغير إذن وليه كما سيأتي. والمراد بالصبي والمجنون: الجنس الصادق بالذكر والأنثى،
وأفهم كلام المصنف أنه لا يجوز لغير الولي كالجد مع وجود الأب الاحرام عمن ذكر، وهو الصحيح. وأجابوا عما
يوهمه الحديث السابق من جواز إحرام الام عنه باحتمال أنها كانت وصية أو أن الاجر الحاصل لها إنما هو أجر الحمل
والنفقة، إذ ليس في الحديث تصريح بأنها التي أحرمت به أو أن الولي أذن لها، فإن للولي أن يأذن لمن يحرم عن الصبي
كما علم مما مر، وصرح به في زيادة الروضة. ولو أحرم به الولي ثم أعطاه لمن يحضره الحج صح بلا خلاف، وحيث
صار الصبي غير المميز محرما فعلى الولي المذكور به وكذا بالمجنون ما لا يتأتى منه. ولا يكفي فيه فعل الولي فقط بل
لا بد من استصحابه معه فيطوف به ويسعى، ولكن يركع عنه ركعتي الاحرام والطواف، فإن أركبه الولي في الطواف
والسعي فليكن سائقا أو قائدا للدابة، فإن لم يفعل لم يصح طوافه. قال الأسنوي: والمتجه الجزم بوجوب طهارة الخبث
وستر العورة في الطواف، وقضيته أنه لا يشترط طهارة الحدث، وهو الموافق لما مر في صفة الوضوء، لكن قال الماوردي:
ينبغي أن يكون الولي والصبي متوضئين فيه. فإن كان الصبي متوضئا دون الولي لم يجزه، أو بالعكس فوجهان. وكأنه
اغتفر صحة وضوء غير المميز للضرورة كما اغتفرت صحة طهر المجنونة التي انقطع حيضها لتحل لحليلها المسلم. ويؤخذ من
التشبيه أن الولي ينوي عنه، وهذا هو الظاهر. ويحضر الولي من ذكر المواقف وجوبا في الواجبة وندبا في المندوبة.
فإن قدر من ذكر على الرمي رمى وجوبا، فإن عجز عن تناول الأحجار ناولها له وليه. فإن عجز عن الرمي استحب
للولي أن يضع الحجر في يده ثم يرمي به بعد رميه عن نفسه، فإن لم يكن رمى عن نفسه وقع الرمي عن نفسه وإن
نوى به الصبي. ولو فرط الصبي في شئ من أعمال الحج كان وجوب الدم في مال الولي. ويجب عليه منعه من
محظورات الاحرام، فإن ارتكب منها شيئا وهو مميز وتعمد فعل ذلك فالفدية في مال الولي في الأظهر، أما غير المميز
فلا فدية في ارتكابه محظورا على أحد. والنفقة الزائدة بسبب السفر في مال الولي في الأصح لأنه المورط له في ذلك،
وهذا بخلاف ما لو قبل للمميز نكاحا، إذ المنكوحة قد تفوت والنسك يمكن تأخيره إلى البلوغ. وفارق ذلك أجرة
تعليمه ما ليس بواجب حيث وجبت في مال الصبي بأن مصلحة التعليم كالضرورة، لأنه إذا لم يفعلها الولي في الصغر احتاج
461

الصبي إلى استدراكها بعد بلوغه بخلاف الحج، وبأن مؤنة التعليم يسيرة غالبا. وإذا جامع الصبي في حجه فسد وقضى
ولو في الصبا كالبالغ المتطوع، بجامع صحة إحرام كل منهما، فيعتبر فيه لفساد حجه ما يعتبر في البالغ من كونه عامدا عالما
بالتحريم مختارا مجامعا قبل التحللين. قال الأصحاب: ويكتب للصبي ثواب ما عمل من الطاعات ولا يكتب عليه
معصية بالاجماع.
تنبيه: تقييد المصنف بالصبي والمجنون يفهم أنه لا يصح الاحرام عن المغمى عليه، وهو كذلك. وسكت الشيخان
عن الاحرام عن العبد، وقال الامام: إن كان بالغا فليس للسيد أن يحرم عنه، ومفهومه الجواز في الصغير، قال ابن الرفعة:
والقياس أن يكون كتزويجه اه‍. وظاهره عدم الصحة. وقال الأسنوي: رأيت في الام الجزم بالصحة من غير تقييد
بالصغير - ثم ساق كلام الام -: ويمكن حمل كلامه على الصغير فيتوافق الكلامان، وهذا هو المعتمد. (وإنما تصح
مباشرته من المسلم المميز) ولو صغيرا ورقيقا كسائر العبادات البدنية. ويشترط إذن الولي للصغير الحر وإذن السيد
للصغير الرقيق، فإن لم يأذنا لهما واستقلا بالاحرام لم يصح على الأصح، وقيل: يصح ولكن لهما تحليلهما، فلا تصح
مباشرة مجنون وصبي غير مميز. (وإنما يقع عن حجة الاسلام) وعمرته (بالمباشرة) أو النيابة (إذا باشره) المسلم
المكلف، أي البالغ العاقل، (الحر) وإن لم يكلف بالحج، والمراد المكلف في الجملة لا بالحج، ولهذا قال: (فيجزئ
حج الفقير) وكل عاجز إذا جمع الحرية والتكليف، كما لو تكلف المريض حضور الجمعة، أو الغني خطر الطريق وحج.
تنبيه: قوله: بالمباشرة تقييد مضر، فإنه يشترط في وقوع الحج عن فرض الاسلام أن يكون الذي باشره مكلفا
سواء أكان الحج للمباشر أم كان نائبا عن غيره كما قدرته في كلامه كالميت والمعضوب. ولو تكلف الفقير الحج وأفسده
ثم قضاه كفاه عن حجة الاسلام، ولو تكلف أو أحرم بنفل وقع عن فرضه أيضا، فلو أفسده ثم قضاه كان الحكم كذلك.
(دون) حج (الصبي والعبد) إذا كملاه بعده بالاجماع كما نقله ابن المنذر، ولقوله (ص): أيما صبي حج ثم بلغ
فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى رواه البيهقي بإسناد جيد كما في المجموع، والمعنى فيه
أن الحج وظيفة العمر لا يتكرر، فاعتبر وقوعه في حال الكمال. فإن كملا قبل الوقوف أو في أثنائه وأدركا بعد الكمال
زمنا يعتد بمثله لا الوقوف أو بعده وعادا قبل فوات الوقوف أجزأهما، لأنهما أدركا معظم العبادة، فصار كإدراك الركوع،
وأعاد السعي منهما من كان قد سعى بعد القدوم لوقوعه في حال النقصان، ويخالف الاحرام فإنه مستدام بعد الكمال.
ويؤخذ من ذلك أنه يجزئه عن فرضه أيضا إذا تقدم الطواف أو ألحق وأعاده بعد إعادة الوقوف وظاهر أنه تجب إعادته
لتبين وقوعه في غير محله، ولو كمل من ذكر في أثناء الطواف كان ككماله قبله كما في المجموع: أي وأتى بما مضى
قبل كماله، بل ينبغي أنه لو كمل بعده ثم أعاده أنه يكفي كما لو أعاد الوقوف بعد الكمال، كما يؤخذ من قول ابن المقري في
روضه، والطواف في العمرة كالوقوف في الحج اه‍. قال الأسنوي: وينبغي إذا كان عوده بعد الطواف أنه يجب
عليه إعادته ثانيا كالسعي، ولم أر المسألة مصرحا بها اه‍. وهو حسن. ووقوع الكمال في أثناء العمرة على هذا التفصيل
أيضا، والطواف فيها كالوقوف في الحج، ولا دم على من ذكر بإتيانه الاحرام بعد الكمال وإن لم يعد إلى الميقات
كاملا لأنه أتى بما في وسعه ولا إساءة عليه، وحيث أجزأ من ذكر ما أتى به عن حجة الاسلام وعمرته وقع إحرامه أولا
تطوعا وانقلب بعد الكمال فرضا على الأصح في المجموع في الصبي والرقيق والمجنون إذا حج عنه وليه ثم أفاق كبلوغ
الصبي فيما ذكر كما في الكفاية، وجزم به الأسنوي وغيره، وإن كان في عبارة الروضة ما يوهم اشتراط الإفاقة عند الاحرام.
(وشرط) أي وشروط (وجوبه) أي ما ذكر من حج أو عمرة، (الاسلام والتكليف والحرية والاستطاعة)
بالاجماع، وقال تعالى: * (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) * فلا يجب على كافر أصلي وجوب
مطالبة به في الدنيا حتى لو أسلم وهو معسر بعد استطاعته في الكفر فإنه لا أثر لها، بخلاف المرتد فإن النسك يستقر
462

في ذمته باستطاعته في الردة. ولا على غير مكلف كسائر العبادات، ولا على من فيه رق لأن منافعه مستحقة فليس
مستطيعا، ولا على غير المستطيع لمفهوم الآية. وقد علم مما ذكر في الحج والعمرة أن لكل منهما خمس مراتب:
الصحة المطلقة، وصحة المباشرة، والوقوع عن النذر، والوقوع عن فرض الاسلام، والوجوب. فيشترط مع الوقت
الاسلام وحده للصحة، ومع التمييز للمباشرة، ومع التكليف للنذر، ومع الحرية لوقوعه عن حجة الاسلام وعمرته،
ومع الاستطاعة للوجوب. (وهي) أي الاستطاعة، (نوعان: أحدهما استطاعة مباشرة) لحج أو عمرة بنفسه، (ولها
شروط) سبعة، غالبها يؤخذ من قول المتن، ولكن المصنف عدها أربعة، فقال: (أحدها: وجود الزاد) الذي يكفيه،
(وأوعيته) حتى السفرة، (ومؤنة) أي كلفة (ذهابه) لمكة (وإيابه) أي رجوعه منها إلى بلده وإن لم يكن له
فيها أهل وعشيرة. (وقيل إن لم يكن له ببلده) بهاء الضمير، (أهل) أي من تلزمه نفقتهم كالزوجة والقريب، (وعشيرة)
أي أقاربه ولو كانوا من جهة الام، أي لم يكن له واحد منهما، (لم يشترط) في حقه (نفقة الإياب) لأن البلاد كلها
بالنسبة إليه سواء. والأصح الأول لما في الغربة من الوحشة، والوجهان جاريان أيضا في الراحلة للرجوع.
تنبيه: يدخل في المؤنة الزاد وأوعيته. فلو اقتصر على المؤنة أغنى عنهما، فهو من عطف العام على بعض
أفراده.
ولو قال أهل أو عشيرة كما في الروضة لاغنى عما قدرته وكان أولى، لأن وجود أحدهما كاف في الجزم باشتراط نفقة
الإياب. ومحل الخلاف إذا لم يكن له ببلده مسكن وما إذا كان له في الحجاز حرفة تقوم بمؤنته وإلا اشترطت نفقة الإياب بلا
خلاف. ولو عبر بمؤنة الإياب لكان أولى ليشمل الصور التي زدتها ونحوها. قال الرافعي: ولم يتعرضوا للمعارف والأصدقاء
لتيسر استبدالهم. (فلو) لم يجد ما ذكر، ولكن (كان يكتسب) في سفره (ما يفي بزاده) وباقي مؤنة (وسفره طويل)
مرحلتان فأكثر، (لم يكلف الحج) ولو كان يكسب في يوم كفاية أيام، لأنه قد ينقطع عن الكسب لعارض، وبتقدير
عدم الانقطاع فالجمع بين تعب السفر والكسب فيه مشقة عظيمة. (وإن قصر) السفر كأن كان بمكة، أو على دون
مرحلتين منها، (وهو يكتسب في يوم كفاية أيام) أي أيام الحج، (كلف) الحج بأن يخرج له لقلة المشقة حينئذ بخلاف
ما إذا كان يكسب في كل يوم ما يفي به فقط فلا يكلف لأنه قد ينقطع عن كسبه في أيام الحج. وقدر في المجموع أيام الحج
بما بين زوال سابع ذي الحجة وزوال ثالث عشره، وهو في حق من لم ينفر النفر الأول، فإن لم يجد زادا واحتاج أن
يسأل الناس كره له اعتمادا على السؤال إن لم يكن له كسب وإلا منع بناء على تحريم المسألة للمكتسب كما بحثه الأذرعي.
ولو كان يقدر في الحضر على أن يكتسب في يوم ما يكفيه لذلك اليوم وللحج فهل يلزمه الاكتساب؟ قال الأسنوي تفقها:
إذا كان السفر قصيرا لزمه، لأنهم إذا ألزموه به في السفر ففي الحضر أولى، وإن كان طويلا فكذلك لانتفاء المحذور اه‍.
والمتجه كما قال بعض المتأخرين خلافه في الطويل، لأنه إذا لم يجب الاكتساب لايفاء حق الآدمي فلايجاب حق الله تعالى
بل لايفائه أولى. والواجب في القصير إنما هو الحج لا الاكتساب، فقد نقل الخوارزمي الاجماع على أن اكتساب
الزاد والراحلة ليس بواجب، وظاهره أنه لا فرق في ذلك بين الحضر والسفر، وأنه لا فرق في السفر بين القصير والطويل.
(الثاني: من شروط الاستطاعة، (وجود الراحلة) الصالحة لمثله بشراء أو استئجار بثمن أو أجرة المثل، (لمن بينه وبين
مكة مرحلتان) فأكثر قدر على المشي أم لا، لكن يستحب للقادر على المشي الحج خروجا من خلاف من أوجبه.
وقضية كلام الرافعي أنه لا فرق في استحباب المشي بين الرجل والمرأة. قال في المهمات: وهو كذلك، وهذا هو المعتمد
وإن قال القاضي حسين: لا يستحب للمرأة الخروج ماشية لأنها عورة، وربما تظهر للرجال إذا كانت ماشية. وعلى الأول
463

لوليها منعها كما قاله في التقريب. والركوب لواجد الراحلة أفضل عند المصنف، خلافا للرافعي، اقتداء بالنبي
(ص)، وأن يركب على قتيب أو رحل لا محمل وهودج. والراحلة - والهاء فيها للمبالغة -: وهي الناقة التي تصلح لأن ترحل.
ومراد الفقهاء بها كل ما يركب من الإبل ذكرا كان أو أنثى. قال المحب الطبري: وفي معنى الراحلة كل دابة أعتيد الحمل
عليها في طريقه من برذون أو بغل أو حمار. وإنما اعتبروا مسافة القصر هنا من مبدأ سفره إلى مكة لا إلى الحرم عكس
ما اعتبروه في حاضر المسجد الحرام في المتمتع رعاية لعدم المشقة فيهما. (فإن لحقه بالراحلة مشقة شديدة)، وضبطها
الشيخ أبو حامد بما يوازي ضرره الضرر الذي بين الركوب والمشي. وعبر غيره بما يخشى منه المرض. قال الامام: وهما
متقاربان بأن لا خلاف بينهما فيما أظن. قال الأذرعي: وفيه وقفة للمتأمل أو كان أنثى وإن لم يتضرر بها ومثلها الخنثى.
(اشترط وجود محمل) بفتح ميمه الأولى وكسر الثانية بخط مؤلفه، وقيل عكسه، وهو الخشبة التي يركب فيها ببيع أو إجارة
بعوض مثل دفعا للضرر في حق الرجل، ولأنه أستر للأنثى وأحوط للخنثى. قال الأذرعي: ويحسن الضبط في حق
الأنثى بما جرت به عادتها أو عادة أمثالها في سفرها الدنيوي، وغاية الرفق أن يسلك بالعبادة مسلك العادة، فإن كثيرا من
نساء الاعراب والأكراد والتركمان كالرجال، فإن الواحدة منهن تركب الخيل في السفر الطويل بلا مشقة اه‍. ومع هذا
فالستر منها مطلوب، فإن لحق من ذكر في ركوب المحمل المشقة المذكورة اعتبر في حقه الكنيسة، وهي أعواد مرتفعة
في جوانب المحمل يكون عليها ستر دافع للحر والبرد. (واشترط شريك) أيضا مع وجود المحمل، (يجلس في الشق
الآخر) لتعذر ركوب شق لا يعاد له شئ، فإن لم يجده لم يلزمه النسك وإن وجد مؤنة المحمل بتمامه أو كانت العادة
جارية في مثله بالمعادلة بالاثقال، كما هو ظاهر كلام الأصحاب، وإن خالف بعضهم في ذلك لما عليه في ذلك من المشقة.
ويسن أن يكون لمريد النسك رفيق موافق راغب في الخير كاره للشر، إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه، ويحمل
كل منهما صاحبه ويرى له عليه فضلا وحرمة، وإن رأى رفيقا عالما دينا كان ذاك هو الفضل العظيم. وروى ابن عبد البر:
ابتغ الرفيق قبل الطريق فإن عرض لك أمر نصرك وإن احتجت إليه رفدك. (ومن بينه وبينها) أي مكة،
(دون مرحلتين وهو قوي على المشي يلزمه الحج) لعدم المشقة، فلا يعتبر في حقه وجود الراحلة ما يتعلق بها. وأشعر
تعبيره بالمشي أنه لا يلزمه الحبو أو الزحف وإن أطاقهما، وهو كذلك. (فإن ضعف) عن المشي بأن عجز أو لحقه ضرر
ظاهر، (فكالبعيد) عن مكة، فيشترط في حقه وجود الراحلة وما يتعلق بها. (ويشترط كون) ما ذكر من (الزاد والراحلة)
مع المحمل والشريك، (فاضلين عن دينه) حالا كان أو مؤجلا، سواء أكان لآدمي أم لله تعالى كنذر وكفارة. ولو كان
له في ذمة شخص مال فإن أمكن تحصيله في الحال فكالحاصل عنده، وإلا فكالمعدوم. (و) عن (مؤنة) أي كلفة (من
عليه نفقتهم مدة ذهابه وإيابه) لئلا يضيعوا، وقد قال (ص): كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت،
ولا بد أن يكون ذلك فاضلا عن دست ثوب يليق به، ويؤخذ ذلك من قضاء الدين لتقدمه عليه.
تنبيه: تعبير المصنف بالمؤنة يشمل النفقة والكسوة والخدمة والسكنى وإعفاف الأب، وكذا أجرة الطبيب وثمن
الأدوية حيث احتاج إليها القريب والمملوك فهي أولى من تعبير المحرر بالنفقة، ولكن كان الأولى أن يقول: من
عليه مؤنتهم لأنه قد يقدر على النفقة فلا تجب على قريبه دون المؤنة فتجب، وكلام الشيخين قد يوهم جواز الحج عند
فقد مؤنة من عليه نفقته لأنهما جعلا ذلك شرطا للوجوب. قال الأسنوي: وليس كذلك بل لا يجوز حتى يترك لهم
نفقة الذهاب والاياب وإلا فيكون مضيعا لهم، قاله في الاستذكار وغيره. (والأصح اشتراط كونه) أي ما سبق جميعه
464

(فاضلا) أيضا (عن مسكنه) اللائق به المستغرق لحاجته، (و) عن (عبد) يليق به، و (يحتاج إليه لخدمته)
لمنصب أو عجز كما يستعان في الكفارة، وعلى هذا لو كان معه نقد يريد صرفه إليهما مكن منه. والثاني: لا يشترط، بل
يباعان قياسا على الدين. ومحل الخلاف إذا كانت الدار مستغرقة لحاجته وكانت سكنى مثله والعبد يليق به كما قررت
به كلام المصنف. فأما إذا أمكن بيع بعض الدار ولو غير نفيسة ووفى ثمنه بمؤنة الحج، وكانا نفيسين لا يليقان
بمثله،
ولو أبدلهما لو في التفاوت بمؤنة الحج فإنه يلزمه ذلك جزما ولو كانا مألوفين، بخلافه في الكفارة لا يلزمه بيعهما في هذه
الحالة لأن لها بدلا. والأمة كالعبد ولو كانت للمتمتع. قال الأسنوي: وكلامهم يشمل المرأة المكفية بإسكان الزوج وإخدامه،
وهو متجه لأن الزوجية قد تنقطع فتحتاج إليهما، وكذا المسكن للمتفقهة الساكنين ببيوت المدارس والصوفية بالربط
ونحوهما اه‍. والأوجه ما قاله ابن العماد من أن هؤلاء مستطيعون لاستغنائهم في الحال فإنه المعتبر، ولهذا تجب زكاة
الفطر على من كان غنيا ليلة العيد وإن لم يكن معه ما يكفيه في المستقبل. ويؤيد ذلك أنهم لما تكلموا على استحباب
الصدقة بما فضل عن حاجته قال الزركشي هناك: إن المراد بالحاجة حاجة اليوم والليلة كما اقتضاه كلام الغزالي
في الاحياء، فلم يعتبروا حاجته في المستقبل. ويشترط كون ما ذكر فاضلا أيضا عن كتب العالم إلا أن يكون له من تصنيف
واحد نسختان فيبيع إحداهما، وحكم خيل الجندي وسلاحه ككتب الفقيه كما قاله ابن الأستاذ، وهذان يجريان في
الفطرة. والحاجة إلى النكاح لا تمنع الوجوب، لكن الأفضل لخائف العنت تقديم النكاح ولغيره تقديم النسك. (و)
الأصح (أنه يلزمه صرف مال تجارته إليهما) أي الزاد والراحلة وما يتعلق بهما، ويلزم من له مستغلات يحصل منها نفقته
أن يبيعها ويصرفها لما ذكر في الأصح، كما يلزمه صرف ما ذكر في دينه، ويخالف المسكن والخادم فإنه يحتاج إليهما في الحال،
وما نحن فيه من إنما يتخذ ذخيرة للمستقبل، والثاني: لا يلزمه ما ذكر لئلا يلتحق بالمساكين. وإطلاق المصنف وغيره يقتضي
أنه لا فرق بين أن يكون له كسب أو لا، وهو كذلك، وإن قال الأسنوي فيه بعده: قال في الاحياء: من استطاع الحج ولم
يحج حتى أفلس فعليه الخروج إلى الحج، وإن عجز للافلاس فعليه أن يكتسب قدر الزاد، فإن عجز فعليه الخروج ويسأل
الزكاة والصدقة ويحج، فإن لم يفعل ومات مات عاصيا. (الثالث) من شروط الاستطاعة: (أمن الطريق) ولو ظنا
في كل مكان بحسب ما يليق به، (فلو خاف) في طريقه (على نفسه) أو عضوه أو نفس محترمة معه أو عضوها (أو ماله)
ولو يسيرا، وينبغي كما قال بعض المتأخرين تقييده بما لا بد منه للنفقة والمؤن. أما إذا أراد استصحاب مال
خطير للتجارة
وكان الخوف لأجله فليس بعذر. (سبعا أو عدوا أو رصديا) بفتح الصاد المهملة وسكونها، وهو من يرصد: أي يرقب
من يمر ليأخذ منه شيئا. (ولا طريق) له (سواء، لم يجب الحج) عليه لحصول الضرر. والمراد بالأمن الامن العام،
حتى لو كان الخوف في حقه وحده قضى من تركته كما نقله البلقيني عن النص. وجزم في الكفاية بأنه إذا كان الخوف
في حق الواحد والنفر القليل لم يمنع الوجوب، ولا فرق في الذي يخاف منه بين المسلمين، والكفار، لكن إن كانوا كفارا
وأطاق الخائفون مقاومتهم سن لهم أن يخرجوا للنسك ويقاتلوهم لينالوا ثواب النسك والجهاد، وإن كانوا مسلمين لم
يسن لهم الخروج والقتال. فإن قيل: إذا كان الكفار مثلينا أو أقل لم لا يجب قتالهم كما صرحوا به في باب السير، لأنه
يحرم انصرافنا عنهم حينئذ؟ أجيب بأن ذلك عند التقاء الصفين وهذا بخلافه. ويكره بذل المال للرصدي لما فيه
من التحريض على التعرض للناس، سواء أكان مسلما أم كافرا. فإن قيل: قد قيدوا تخصيص الكراهة في باب الاحصار
بالكافر. أجيب بأن محلها هناك بعد الاحرام، وبذل المال على المحرم أسهل من قتال المسلمين، وهذا قبله، فلم تكن
حاجة لارتكاب الذل، وعارض الكراهة هناك استمرار البقاء على الاحرام. نعم إن كان المعطي هو الامام أو نائبه وجب
الحج، نقله المحب الطبري عن الامام. قال في المهمات: وسكت عن الأجنبي، والقياس عدم الوجوب للمنة اه‍. وهذا
هو الظاهر خلافا لابن العماد. أما إذا كان له طريق آخر آمن فإنه يلزمه سلوكه وإن كان أبعد من الأول. (والأظهر)
465

وعبر في الروضة بالمذهب، (وجوب ركوب البحر) بسكون الحاء ويجوز فتحها، لمن لا طريق له وغيره ولو امرأة. (إن
غلبت السلامة) في ركوبه، كسلوك طريق البر عند غلبة السلامة، فإن غلب الهلاك أو استوى الامر إن لم يجب، بل
يحرم في الأول قطعا، وفي الثاني على الصحيح في زيادة الروضة والمجموع لما فيه من الخطر. والثاني: لا يجب مطلقا لما فيه
من الخوف والخطر وتعسر دفع عوارضه. والثالث: يجب مطلقا لاطلاق الأدلة. وقيل: يجب على الرجل دون المرأة،
وإذا لم نوجب ركوبه وجوزناه استحب للرجل دون المرأة على الأصح، وإذا لم نجوزه فركبه لعارض، فإن
كان ما بين
يديه أكثر مما قطعه فله الرجوع إلى وطنه، أو ما بين يديه أقل أو تساويا فلا رجوع له بل يلزمه التمادي لقربه من
مقصده في الأول واستواء الجهتين في حقه في الثاني. وهذا بخلاف جواز تحلل المحرم إذا أحاط به العدو، لأن المحصر محبوس
وعليه في مصابرة الاحرام مشقة بخلاف راكب البحر، نعم إن كان محرما كان كالمحصر. فإن قيل: كيف يصح القول
بوجوب الذهاب ومنعه من الانصراف مع أن الحج على التراخي؟ أجيب بأن صورة المسألة فيمن خشي العضب أو
أحرم بالحج وضاق وقته أو نذر أن يحج تلك السنة، أو أن المراد بذلك استقرار الوجوب، هذا إن وجد بعد الحج
طريقا آخر في البر وإلا فله الرجوع لئلا يتحمل زيادة الخطر بركوب البحر في رجوعه. قال الأذرعي: وما ذكروه من
الكثرة والتساوي المتبادر منه النظر إلى المسافة وهو صحيح عند الاستواء في الخوف في جميع المسافة، أما لو اختلف
فينبغي أن ينظر إلى الموضع المخوف وغيره حتى لو كان أمامه أقل مسافة لكنه أخوف أو هو المخوف لا يلزمه التمادي،
وإن كان أقل مسافة ولكنه سليم وخلف المخوف وراءه لزمه ذلك اه‍. وهو بحث حسن. ولا خطر في الأنهار العظيمة
كجيحون وسيحون والدجلة فيجب ركوبها مطلقا إذا تعين طريقا، لأن المقام فيها لا يطول والخطر فيها لا يعظم، لأن
جانبها قريب يمكن الخروج إليه سريعا بخلاف البحر. قال الأذرعي: وكان التصوير فيما إذا كان يقطعها عرضا، أما
لو كان السير فيها طولا فهي في كثير من الأوقات كالبحر وأخطر اه‍. وهو كما قال خصوصا أيام زيادة النيل، وقد قال
تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) *. (و) الأظهر (أنه يلزمه أجرة البذرقة) وهي بموحدة مفتوحة
وذال ساكنة معجمة ومهملة، عجمية معربة: الخفارة لأنها أهبة من أهب الطريق مأخوذة بحق، فكانت كأجرة الدليل
إذا لم يعرف الطريق إلا به. والمراد أنه إذا وجد من يأخذ منه أجرة المثل ويخفره بحيث يأمن معه في غالب الظن وجب
استئجاره على الأصح كما في الروضة وغيرها عن الامام وصححه ابن الصلاح، وقال السبكي: إنه ظاهر في الدليل وإن
كانت عبارة الأكثرين مشعرة بخلافه. والثاني، وأجاب به العراقيون والقاضي وجزم به في التنبيه، وأقره المصنف
في تصحيحه، ونقله ابن الرفعة عن النص: لا تلزمه، لأنها خسران لدفع الظلم، فأشبه التسليم إلى الظالم فلا يجب الحج مع طلبها.
ومع هذا فالمعتمد الأول.
تنبيه: تبع المصنف المحرر في حكاية الخلاف في هذه المسألة قولين، ولكن الذي في المجموع والروضة كأصلها
وجهان. (ويشترط) في وجوب النسك، (وجود الماء والزاد في المواضع المعتاد حمله منها بثمن المثل) فإن لم يوجدا أو
أحدهما، كأن كان عام جدب وخلا بعض المنازل من أهلها أو انقطعت المياه أو وجد بأكثر من ثمن المثل لم يلزمه
النسك، لأنه إن لم يحمل ذلك معه خاف على نفسه، وإن حمله عظمت المؤنة إلا أن تكون زيادة يسيرة فتغتفر. ولا
يجري فيه الخلاف في شراء الماء للطهارة، لأن الطهارة لها بدل بخلاف الحج، قاله الدميري. (وهو) أي ثمن المثل،
(القدر اللائق به في ذلك الزمان والمكان) وإن غلت الأسعار. قال الرافعي: ويجب حمل الماء والزاد بقدر ما جرت العادة
به في طريق مكة كحمل الزاد من الكوفة إلى مكة وحمل الماء من مرحلتين أو ثلاث. قال الأذرعي: وكان هذا عادة
طريق العراق، وإلا فعادة الشام حمله غالبا بمفازة تبوك، وهي ضعف ذلك اه‍. وكذا عادة أهل مصر حمله إلى العقبة
466

والضابط العرف، والظاهر اختلافه باختلاف النواحي. (و) وجود (علف الدابة) بفتح اللام، (في كل مرحلة)
لأن المؤنة تعظم بحمله لكثرته. قال في المجموع: وينبغي اعتبار العادة كالماء، قال الأذرعي وغيره: وهو متعين وإلا
لما لزم آفاقيا الحج أصلا، فإن عدم شيئا مما ذكر في بعض الطريق جاز له الرجوع، ولو جهل المانع وثم أصل
استصحب وإلا وجب الخروج. ويتبين لزوم الخروج بتبين عدم المانع، فلو ظن كون الطريق فيه مانع فترك الخروج
ثم بان أن لا مانع لزمه النسك. ويشترط أيضا كما في التنبيه أن يكون قد بقي من الوقت ما يتمكن فيه من السير المعتاد
لأداء النسك، وهذا هو المعتمد كما نقله الرافعي عن الأئمة، وإن اعترضه ابن الصلاح بأنه يشترط لاستقراره لا لوجوبه
فقد صوب المصنف ما قاله الرافعي، وقال السبكي: إن نص الشافعي أيضا يشهد له. ولا بد من وجود رفقة
يخرج معهم
في الوقت الذي جرت عادة أهل بلده الخروج فيه، وأن يسيروا السير المعتاد، فإن خرجوا قبله أو أخروا الخروج بحيث
لا يصلون إلى مكة إلا بأكثر من مرحلة في كل يوم، أو كانوا يسيرون فوق العادة، لم يلزمه الخروج، هذا إن احتاج
إلى الرفقة لدفع الخوف فإن أمن الطريق بحيث لا يخاف الواحد فيها لزمه ولا حاجة للرفقة، ولا نظر إلى الوحشة
بخلافها فيما مر في التيمم لأنه لا بدل لما هنا بخلافه ثم. (و) يشترط (في) وجوب نسك (المرأة) زائدا على ما تقدم
في الرجل، (أن يخرج معها زوج أو محرم) لها بنسب أو غيره (أو نسوة) بكسر النون وضمها جميع امرأة من
غير لفظها، (ثقات) لأن سفرها وحدها حرام وإن كانت في قافلة، لخوف استمالها وخديعتها، ولخبر الصحيحين: لا تسافر
المرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم وفي رواية فيهما: لا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم. ولم يشترطوا في الزوج
والمحرم كونهما ثقتين كما قالوا نسوة ثقات، وهو في الزوج واضح. وأما في المحرم فسببه كما في المهمات: أن
الوازع الطبيعي أقوى من الشرعي. وكالمحرم عبدها الأمين والممسوح. وشرط العبادي في المحرم أن يكون بصيرا،
ويقاس به غيره. وينبغي كما قاله بعض المتأخرين: عدم الاكتفاء بالصبي، إذ لا يحصل لها معه الامن على نفسها
إلا في مراهق ذي وجاهة بحيث يحصل معه الامن لاحترامه. وأفهم تقييده في النسوة بالثقات أنه لا يكفي غير الثقات،
وهو ظاهر في غير المحارم لعدم الامن، وأنه يعتبر بلوغهن، وهو ظاهر لخطر السفر إلا أن يكن مراهقات. فيظهر
الاكتفاء بهن كما قاله بعض المتأخرين وأنه يعتبر ثلاث غيرها. قال الأسنوي: وهو بعيد لا معنى له، بل المتجه
الاكتفاء بأقل الجمع وهو ثلاث. وقال الأذرعي: قضية كلام الأكثرين الاكتفاء بالمرأتين لأنهن يصرن ثلاثا،
ولا شك فيه عند من يكتفي باجتماع نسوة لا محرم لإحداهن كما هو الأصح اه‍. وهذا ظاهر لانقطاع الأطماع عنهن عند
اجتماعهن. ولا يجب الخروج مع امرأة واحدة.
تنبيه: ما جزم به المصنف من اشتراط النسوة هو شرط للوجوب، أما الجواز فيجوز لها أن تخرج لأداء حجة
الاسلام مع المرأة الثقة على الصحيح في شرحي المهذب ومسلم. قال الأسنوي: فافهمهما فإنهما مسألتان: إحداهما شرط
وجوب حجة الاسلام، والثانية: شرط جواز الخروج لأدائها، وقد اشتبهتا على كثير حتى توهموا اختلاف كلام المصنف
في ذلك. وكذا يجوز لها الخروج وحدها إذا أمنت، وعليه حمل ما دل من الاخبار على جواز السفر وحدها. أما
حج التطوع وغيره من الاسفار التي لا تجب فليس للمرأة أن تخرج إليه مع امرأة بل ولا مع النسوة الخلص، كما قاله في
المجموع وصححه في أصل الروضة، لكن لو تطوعت بحج ومعها محرم فمات فلها إتمامه، قاله الروياني. ولها الهجرة من
بلاد الكفر وحدها. ويشترط في الخنثى المشكل محرم من الرجال أو النساء لا أجنبيات، كذا نقله في المجموع في باب
الاحداث عن أبي الفتوح وأقره. قال الأسنوي: وما قاله في الأجنبيات لا يستقيم، فإن الصحيح المشهور جواز خلوة
الرجل بنسوة، وقد ذكره هو قبيل هذا بقليل على الصواب. قال الأذرعي: والأمرد الجميل إذا خاف على نفسه،
ينبغي أن يشترط في حقه ما يأمن معه على نفسه من قريب ونحوه، ولم أر فيه نقلا اه‍. وهذا ظاهر. (والأصح أنه
لا يشترط وجود محرم) أو زوج كما في المجموع، (لإحداهن) لما مر. والثاني: يشترط، لأنه قد ينو بهن أمر فيستعن
467

به. (و) الأصح (أنه يلزمها أجرة المحرم إذا لم يخرج) معها (إلا بها) إذا كانت أجرة المثل، كأجرة البذرقة وأولى
باللزوم لأن الداعي إلى التزام هذه المؤنة معني فيها فأشبه مؤنة الحمل المحتاج إليه. وأجرة الزوج كالمحرم كما صرح به في
الحاوي الصغير. وفي أجرة النسوة نظر للأسنوي، والمتجه إلحاقهن بالمحرم. وليس للمرأة حج التطوع إلا بإذن الزوج،
وكذا السفر للفرض في الأصح، ولو امتنع محرمها في الخروج بالأجرة لم يجبر كما قاله الرافعي في باب حد الزنا. نعم لو
كان عبدها محرما لها كان لها إجباره، وكذا لا يجبر الزوج. قال الأذرعي: نعم إن كان قد أفسد حجها ووجب عليه
الاحجاج بها لزمه ذلك بلا أجرة. فإن قيل: ما فائدة لزوم الأجرة عليها مع أن الحج على التراخي؟ أجيب بأن
فائدة ذلك التقضية بعد الموت، ووجب القضاء عنها من تركها، أو تكون نذرت الحج في سنة معينة أو خشيت
العضب، فإن لم تقدر المرأة عليها لم يلزمها النسك. (الرابع) من شروط الاستطاعة: (أن يثبت على الراحلة) ولو في محمل
ونحوه، (بلا مشقة شديدة) فمن لم يثبت عليها أصلا أو ثبت في محمل عليها لكن بمشقة شديدة ككبر أو غيره
انتفى عنه
استطاعة المباشرة، ولا تضر مشقة تحتمل في العادة. (وعلى الأعمى الحج) والعمرة (إن وجد) مع ما مر (قائدا)
يقوده ويهديه عند نزوله ويركبه عند ركوبه. (وهو) في حقه (كالمحرم في حق المرأة) فيأتي فيه ما مر، ولو أمكن
مقطوع الأطراف الثبوت على الراحلة لزمه بشرط وجود معين له. والمراد بالراحلة هنا البعير بمحمل أو غيره، خلاف
الراحلة فيما سبق فإنها البعير الخالي عن المحمل. (والمحجور عليه بسفه كغيره) في وجوب النسك عليه، لأنه مكلف فيصح
إحرامه وينفق عليه من ماله. (لكن لا يدفع المال إليه) لئلا يبدده، (بل يخرج معه الولي) بنفسه إن شاء لينفق
عليه في الطريق بالمعروف، (أو ينصب شخصا له) ثقة ينوب عن الولي ولو بأجرة مثله إن لم يجد متبرعا كافيا لينفق
عليه في الطريق بالمعروف، والظاهر أن أجرته كأجرة من يخرج مع المرأة. فإن قيل: ينبغي إذا قصرت مدة السفر أن
يدفع إليه النفقة، لقولهم في الوصايا وغيرها: إن للولي أن يسلمه نفقة أسبوع فأسبوع إذا كان لا يتلفها. أجيب
بأن الولي في الحضر يراقبه، فإن أتلفها أنفق عليه، بخلاف السفر فربما أتلفها ولا يجد من ينفق عليه فيضيع. قال
الأذرعي وغيره: هذا إذا أنفق عليه من مال نفسه، فإن تبرع الولي بالانفاق عليه وأعطاه السفيه من غير تمليك
فلا منع منه.
تنبيه: يشترط أن توجد هذه المعتبرات في إيجاب الحج في الوقت. فلو استطاع في رمضان مثلا ثم افتقر في شوال
فلا استطاعة، وكذا لو افتقر بعد حجهم وقبل رجوع من يعتبر في حقه الذهاب والاياب. (النوع الثاني: استطاعة تحصيله)
أي الحج، لا بالمباشرة بل (بغيره، فمن مات وفي ذمته حج) واجب مستقر بأن تمكن بعد استطاعته من فعله بنفسه أو
بغيره وذلك بعد انتصاف ليلة النحر ومضى إمكان الرمي والطواف والسعي إن دخل الحاج بعد الوقوف ثم مات أثم ولو
شابا وإن لم ترجع القافلة. (وجب الاحجاج عنه) ولو كان قضاء أو نذرا أو مستأجرا عليه في ذمته، وزاد على المحرر قوله:
(من تركته) وهو متعين كما يقضي منها دينه، لرواية البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أن امرأة من
جهينة جاءت إلى رسول الله (ص) فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: نعم
حجي
عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: اقضوا دين الله فالله أحق بالوفاء ولفظ النسائي أن
رجلا قال: يا رسول الله إن أبي مات ولم يحج أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيه؟ قال: نعم،
قال: فدين الله أحق بالوفاء فشبه الحج بالدين الذي لا يسقط بالموت، فوجب أن يتساويا في الحكم، ولأنه إنما جوز له
468

التأخير لا التفويت. وإنما لم يأت إذا مات في أثناء وقت الصلاة في وقت يسعها لأن آخر وقتها معلوم فلا تقصير ما لم يؤخره
عنه، والإباحة في الحج بشرط المبادرة قبل الموت. وإذا مات قبل فعله أشعر الحال بالتقصير، واعتبار إمكان الرمي نقله
في الروضة عن التهذيب وأقره. قال الأسنوي: ولا بد من زمن يسع الحلق أو التقصير بناء على أنه ركن، ويعتبر الامن
في السير إلى مكة للطواف ليلا اه‍. ولو تمكن من الحج سنين فلم يحج ثم مات أو عضب فعصيانه من السنة الأخيرة من
سني الامكان لجواز التأخير إليها، فيتبين بعد موته أو عضبه فسقه في السنة الأخيرة بل وفيما بعدها في المعضوب، أي إن لم
يحج عنه فلا يحكم بشهادته بعد ذلك. وينقض ما شهد به في السنة الأخيرة، بل وفيما بعدها في المعضوب إلى ما ذكر، كما
في نقض الحكم بشهود بان فسقهم. فإن حج عنه الوارث بنفسه أو باستئجار سقط الحج عن الميت، ولو فعله الأجنبي جاز
ولو بلا إذن، كما له أن يقضي دينه بلا إذن، ذكر ذلك في المجموع. بخلاف الصوم فلا بد فيه من إذن كما مر، لأنه عبادة
بدنية محضة بخلاف الحج، فإن لم يخلف تركة لم يجب على أحد أن يحج عنه لا على الوارث ولا في بيت المال. فإن لم
يتمكن من الأداء بعد الوجوب كأن مات أو جن أو تلف ماله قبل حج الناس لم يقض من تركته على الأصح، والعمرة
في ذلك كله كالحج. فإن قيل: يستثنى من إطلاق المصنف ما لو لزمه الحج ثم ارتد ومات مرتدا، فإنه لا يقضي من تركته
على الصحيح أو الصواب، لأنه لو صح لوقع عنه. أجيب بأن ذلك خرج بقوله: من تركته لأنه إذا مات على الردة
لا تركة له على الأظهر، لأنه تبين زوال ملكه بالردة. (والمعضوب) بضاد معجمة من العضب وهو القطع، كأنه قطع
عن كمال الحركة، وبصاد مهملة كأنه قطع عصبه. ووصفه المصنف بقوله: (العاجز عن الحج بنفسه) حالا أو مآلا لكبر
أو زمانة أو غير ذلك. وهذه الصفة صفة كاشفة في معنى التفسير للمعضوب، وليست خبرا له بل الخبر جملتا الشرط
والجزاء في قوله: (إن وجد أجرة من يحج عنه بأجرة المثل) أي مثل مباشرته، أي فما دونها. (لزمه) الحج بها لأنه مستطيع
بغيره، لأن الاستطاعة كما تكون بالنفس تكون ببذل المال وطاعة الرجال، ولهذا يقال لمن لا يحسن البناء: إنك مستطيع
بناء دارك، إذا كان معه ما يفي ببنائها. وإذا صدق عليه أنه مستطيع وجب عليه الحج للآية، وفي الصحيحين: أن امرأة
من خثعم قالت: يا رسول الله إن فريضة الله تعالى على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة،
أفأحج عنه؟ قال: نعم وذلك في حجة الوداع. نعم إن كان بمكة أو بينه وبينها دون مسافة القصر لزمه أن يحج بنفسه
لقلة المشقة عليه، نقله في المجموع عن المتولي وأقره. قال السبكي: ولك أن تقول إنه قد لا يمكنه الاتيان به فيضطر إلى
الاستنابة اه‍. وهذا ظاهر.
تنبيه: لو لم يجد إلا أجرة ماش، قيل: لا يلزمه الاستئجار إذا كان السفر طويلا كما لا يكلف الخروج ماشيا، والأصح
اللزوم لأنه لا مشقة عليه في مشي غيره إلا إذا كان أصلا أو فرعا كما يؤخذ مما سيأتي في المطاع. وكلام المصنف قد يفهم
أن المعضوب لو استأجر من يحج عنه فحج عنه ثم شفي أنه يجزئه، والأصح عدم الاجزاء، ولا يقع الحج عنه على الأظهر
فلا يستحق الأجير الأجرة كما رجحاه هنا وإن رجحا قبله بيسير أنه يستحق، فقد قال في المهمات: إن المذكور هنا هو
الصواب. (ويشترط كونها) أي الأجرة السابقة، (فاضلة عن الحاجات المذكورة فيمن حج بنفسه) وتقدم بيانها. (لكن
لا يشترط نفقة العيال) ولا غيرها من مؤنهم، (ذهابا وإيابا) لأنه إذا لم يفارق أهله يمكنه تحصيل نفقتهم ونفقته كنفقتهم،
كما حكاه ابن الرفعة عن البندنيجي وأقره. نعم يشترط كون الأجرة فاضلة عن مؤنتها من نفقة وكسوة وغير ذلك، وعن
مؤنته يوم الاستئجار، ولو عبر بالمؤنة بدل النفقة لكان أولى ليشمل ما زدته. (ولو) وجد دون الأجرة ورضي به أجير
لزمه الاستئجار لأنه مستطيع، والمنة فيه ليست كالمنة في المال. فلو لم يجد أجرة و (بذل) - بالمعجمة - أي أعطى له - (ولده
أو أجنبي مالا للأجرة لم يجب قبوله في الأصح) لما في قبول المال من المنة، والثاني: يجب، كبذل الطاعة. والخلاف
469

في الأجنبي مرتب على الخلاف في الابن، وأولى بأن لا يجب، قاله في البيان. والأب كالابن في أصح احتمالين للامام،
والاحتمال الآخر أنه كالأجنبي. وعلى الأول لو كان الولد المطيع عاجزا عن الحج أيضا وقدر على أن يستأجر له من يحج
وبذل له ذلك وجب على المبذول له كما نقله في الكفاية عن البندنيجي وجماعة. وفي المجموع عن تصحيح المتولي:
لو استأجر المطيع إنسانا للحج عن المطاع والمعضوب، فالمذهب لزومه إن كان المطيع ولدا لتمكنه، فإن كان المطيع أجنبيا
ففيه وجهان اه‍. ومقتضى كلام الشيخ أبي حامد لزومه، وكلام البغوي عدم لزومه، وهو الظاهر كما اعتمده الأذرعي
وكلام المصنف يقتضيه. وكالولد في هذا الوالد. (ولو بذل الولد) وإن سفل ذكرا كان أو أنثى، (الطاعة) في النسك
بنفسه، (وجب قبوله) وهو الاذن له في ذلك، لأن المنة في ذلك ليست كالمنة في المال لحصول الاستطاعة، فإن امتنع لم
بأذن الحاكم عنه على الأصح لأن الحج مبني على التراخي. (وكذا الأجنبي) لو بذل الطاعة يجب قبوله (في الأصح)
لما ذكر. والأب والام في بذل الطاعة كالأجنبي، ومحل اللزوم إذا وثق بهم ولم يكن عليهم حج ولو نذرا، وكانوا ممن يصح
منهم فرض حجة الاسلام ولم يكونوا معضوبين. ولو توسم الطاعة من واحد منهم لزمه أمره كما يقتضيه كلام الأنوار وغيره،
ولا يلزم الولد طاعته كما في المجموع بخلاف إعفافه لأنه لا ضرر هنا على الوالد بامتناع ولده من الحج لأنه حق للشرع
فإذا عجز عنه لا يأثم ولا يجب عليه بخلافه، ثم فإنه لحق الوالد وضرره عليه فهو كالنفقة، قاله في المجموع. ولو كان الابن وإن
سفل أو الأب وإن علا ماشيا أو كان كل منهما، ومن الأجنبي معولا على الكسب أو السؤال، ولو راكبا، أو كان كل منهما
مغرورا بنفسه بأن كان يركب مفازة ليس فيها كسب ولا سؤال، لم يلزمه قبول في ذلك لمشقة مشي من ذكر عليه بخلاف
مشي الأجنبي. والكسب قد ينقطع والسائل قد يرد والتغرير بالنفس حرام. وتقدم أن القادر على المشي والكسب
في يوم كفاية أيام لا يعذر في السفر القصير، فينبغي كما قال الأذرعي وجوب القبول في المكي ونحوه. ولو رجع المطيع ولو
بعد الاذن له عن طاعته قبل إحرامه جاز لأنه متبرع بشئ لم يتصل به الشروع، أو بعده فلا لانتفاء ذلك وإذا رجع في
الأولى قبل أن يحج أهل بلده تبينا أنه لم يجب على المطاع. ولو امتنع المعضوب من الاستئجار لمن يحج عنه أو من استنابة
المطيع لم يلزمه الحاكم بذلك ولم ينب عنه فيه، وإن كان الاستئجار والاستنابة واجبين على الفور في حق من عضب
مطلقا في الإنابة وبعد يساره في الاستئجار، لأن مبنى الحج على التراخي كما مر، ولأنه لا حق فيه للغير بخلاف الزكاة.
ولو مات المطيع أو رجع عن الطاعة أو مات المطاع، فإن كان بعد إمكان الحج استقر الوجوب في ذمة المطاع وإلا فلا،
ولو كان له مال أو مطيع ولم يعلم بالمال ولا بطاعة المطيع ثم علم بذلك وجب عليه الحج اعتبارا بما نفس الامر. وتجوز
النيابة في حج التطوع وعمرته كما في النيابة عن الميت إذا أوصى بذلك، ويجوز أن يحج عنه بالنفقة وهي قدر الكفاية
كما يجوز بالإجارة والجعالة، وإن استأجر بها لم يصح لجهالة العوض. ولو قال المعضوب: من يحج عني فله مائة درهم،
فمن حج عنه ممن سمعه أو سمع من أخبر عنها استحقها، فإن أحرم عنه اثنان مرتبا استحقها الأول، فإن أحرما معا أو
جهل السابق منهما مع جهل سبقه أو بدونه وقع حجهما عنهما ولا شئ لهما على القائل إذ ليس أحدهما بأولى من الآخر،
ولو علم سبق أحدهما ثم نسي فقياس نظائره ترجيح الوقف. ولو كان العوض مجهولا كأن قال: من حج عني فله ثوب،
وقع الحج عنه بأجرة المثل.
خاتمة: الاستئجار فيما ذكر ضربان: استئجار عين، واستئجار ذمة، فالأول ك‍ استأجرتك لتحج عني أو عن ميتي
هذه السنة، فإن عين غير السنة الأولى لم يصح العقد، وإن أطلق صح وحمل على السنة الحاضرة، فإن كان لا يصل إلى
مكة إلا لسنتين فأكثر، فالأولى من سني إمكان الوصول. ويشترط لصحة العقد قدرة الأجير على الشروع في العمل
واتساع المدة له، والمكي ونحوه يستأجر في أشهر الحج. الضرب الثاني: كقوله ألزمت ذمتك تحصيل حجة، ويجوز
الاستئجار في هذا الضرب على المستقبل، فإن أطلق حمل على الحاضرة فيبطل إن ضاق الوقت، ولا يشترط قدرته على
السفر لامكان الاستنابة في إجارة الذمة. ولو قال ألزمت ذمتك لتحج عني بنفسك صح، ويكون إجارة عين. ويشترط
470

معرفة العاقدين أعمال الحج، ولا يجب ذكر الميقات، ويحمل عند الاطلاق على الميقات الشرعي. ولو استأجر للقران فالدم
على المستأجر، فإن شرطه على الأجير بطلت الإجارة. ولو كان المستأجر للقران معسرا فالصوم الذي هو بدل الدم على
الأجير لأن بعضه وهو الأيام الثلاثة في الحج والذي في الحج منهما هو الأجير، وجماع الأجير مفسد للحج، وتنفسخ به
إجارة العين لا إجارة الذمة لأنها تختص بزمان، وينقلب فيهما الحج للأجير لأن الحج المطلوب لا يحصل بالحج الفاسد
فانقلب له كمطيع المعضوب إذا جامع فسد حجه وانقلب له، وعليه أن يمضي في فاسده وعليه الكفارة. وعليه في إجارة
الذمة أن يأتي بعد القضاء عن نفسه بحج آخر للمستأجر في عام آخر أو يستنيب من يحج عنه في ذلك العام أو في غيره، وللمستأجر
فيها الخيار في الفسخ على التراخي لتأخر المقصود. ويسقط فرض من حج أو اعتمر بمال حرام كمغصوب وإن كان عاصيا،
كما في الصلاة في مغصوب أو ثوب حرير.
باب المواقيت
للنسك زمانا ومكانا: جمع ميقات، والميقات في اللغة الحد، والمراد به ههنا زمان العبادة ومكانها. وقد بدأ بالزمان
فقال: (وقت إحرام الحج) لمكي أو غيره، (شوال وذو القعدة) بفتح القاف أفصح من كسرها، وجمعه ذوات القعدة وسمي
بذلك لقعودهم عن القتال فيه. (وعشر ليال) بالأيام بينها، وهي تسعة (من ذي الحجة) بكسر الحاء أفصح من فتحها،
وجمعه ذوات الحجة، سمي بذلك لوقوع الحج فيه. وقد فسر ابن عباس وغيره من الصحابة رضي الله تعالى عنهم قوله
تعالى: * (الحج أشهر معلومات) * بذلك، أي وقت الاحرام به أشهر معلومات، إذ فعله لا يحتاج إلى أشهر. وأطلق الأشهر على
شهرين وبعض شهر تنزيلا للبعض منزلة الكل، أو إطلاقا للجمع على ما فوق الواحد كما في قوله تعالى: * (أولئك مبرءون
مما يقولون) * أي عائشة وصفوان. (وفي ليلة النحر) وهي العاشرة، (وجه) أنها ليست من وقته، لأن
الليالي تبع للأيام، ويوم
النحر لا يصح فيه الاحرام فكذا ليلته. وظاهر كلامه أنه لا يصح إحرامه بالحج إذا ضاق زمن الوقوف عن إدراكه،
وبه صرح الروياني قال: وهذا بخلاف نظيره في الجمعة لبقاء الحج حجا بفوات الوقوف بخلاف الجمعة. (فلو أحرم به) أي
الحج حلال، (في غير وقته) كأن أحرم به في رمضان أو أحرم مطلقا، (انعقد) إحرامه بذلك (عمرة) مجزئة عن عمرة الاسلام
(على الصحيح) وعبر في الروضة بالمذهب، سواء أكان عالما أم جاهلا، لأن الاحرام شديد التعلق واللزوم، فإذا لم يقبل الوقت
ما أحرم به انصرف إلى ما يقبله وهو العمرة، ولأنه إذا بطل قصد الحج فيما إذا نواه بقي مطلق الاحرام، والعمرة تنعقد
بمجرد الاحرام كما مر، والثاني: لا ينعقد عمرة بل يتحلل بعمل عمرة ولا يكون ذلك مجزئا عن عمرة الاسلام، كما لو فاته
الحج وتحلل بعمل عمرة، لأن كل واحد من الزمانين ليس وقتا للحج، وخرج بحلال ما لو كان محرما بعمرة ثم أحرم بحج
في غير أشهره، فإن إحرامه لم ينعقد حجا لكونه في غير أشهره، ولا عمرة لأن العمرة لا تدخل على العمرة كما ذكره
القاضي أبو الطيب. وإنما عبر المصنف بالصحيح دون المذهب مع أن المسألة ذات طرق إشارة إلى ضعف الخلاف.
تنبيه: لو أحرم قبل أشهر الحج ثم شك هل أحرم بحج أو عمرة فهو عمرة، أو أحرم بحج ثم شك هل كان إحرامه
في أشهره أو قبلها، قال الصيمري: كان حجا لأنه تيقن إحرامه الآن وشك في تقدمه، قاله في المجموع. والميقات الزماني
للعمرة جميع السنة كما قال: (وجميع السنة وقت لاحرام العمرة) وجميع أفعالها، ففي الصحيحين أنه (ص)
اعتمر ثلاث مرات متفرقات في ذي القعدة - أي في ثلاثة أعوام - أو أنه اعتمر عمرة في رجب كما رواه ابن عمر، وإن أنكرته
471

عليه عائشة، وأنه قال: عمرة في رمضان تعدل حجة وفي رواية لها: حجة معي. وروي أنه اعتمر في رمضان وفي شوال،
فدلت السنة على عدم التأقيت. وقد يمتنع الاحرام بها في أوقات: منها ما لو كان محرما بعمرة كما تقدم، ومنها ما لو كان
محرما بحج فإن العمرة لا تدخل على الحج، ومنها ما إذا أحرم بها قبل نفره لاشتغاله بالرمي والمبيت، فهو عاجز عن التشاغل
بعملها. قال الجويني: وليس لنا مسلم مكلف حلال ولا ينعقد إحرامه بالعمرة إلا هذا، واعترضه المصنف بأنه
لو
أحرم بها وهو مجامع لا تنعقد على الصحيح. ويؤخذ من هذا امتناع حجتين في عام واحد، وهو إجماع كما نقله القاضي
أبو الطيب. وقد يؤخذ منه أيضا صحة إحرامه بالعمرة إذا قصد ترك الرمي والمبيت، وليس كذلك. أما إحرامه بها بعد
نفره فصحيح وإن كان وقت الرمي بعد النفر الأول باقيا، لأن بالنفر خرج من الحج وصار كما لو مضى وقت الرمي، نقله
القاضي أبو الطيب عن نص الام، وقال في المجموع: لا خلاف فيه. ويسن الاكثار منها ولو في العام الواحد، فلا تكره في
وقت ولا يكره تكرارها، فقد أعمر (ص) عائشة في عام مرتين، واعتمرت في عام مرتين بعد وفاته، وفي رواية: ثلاث عمر.
قال في الكفاية: وفعلها في يوم عرفة ويوم النحر ليس بفاضل كفضله في غيرهما، لأن الأفضل فعل الحج فيهما. وحكى
الطبري ثلاثة أوجه في الطواف والاعتمار أيهما أفضل، ثالثها: إن استغرق زمن الاعتمار بالطواف فالطواف أفضل وإلا
فالاعتمار. ثم شرع في المكاني فقال: (والميقات المكاني للحج) ولو بقران، (في حق من بمكة) من أهلها وغيرهم، (نفس مكة)
للخبر الآتي. (وقيل كل الحرم) لأن مكة وسائر الحرم في الحرمة سواء، فلو أحرم بعد فراقه بنيان مكة ولم يرجع إلى مكة
إلا بعد الوقوف كان مسيئا على الوجه الأول دون الثاني. (وأما غيره) وهو من لم يكن بمكة إذا أراد الحج أخذا مما يأتي.
(فميقات المتوجه من المدينة ذو الحليفة) تصغير الحلفة بفتح المهملة، واحد الحلفاء، مثل قصبة وقصباء، وهو النبات المعروف.
قال الشيخان: وهو على نحو عشر مراحل من مكة، فهي أبعد المواقيت من مكة. وقال الغزالي: وهو على ستة أميال من
المدينة، وصححه في المجموع وغيره. وقيل: سبعة. قال في المهمات: والصواب المعروف المشاهد أنها على ثلاثة أميال
أو تزيد قليلا، وهو المعروف الآن بأبيار علي رضي الله تعالى عنه. والأفضل كما قال السبكي لمن هذا ميقاته أن يحرم من
المسجد الذي أحرم منه (ص). (و) المتوجه (من الشام) بالهمز والقصر ويجوز ترك الهمز، والمد مع فتح الشين ضعيف، وأوله
كما في صحيح ابن حبان نابلس وآخره العريش. وقال غيره: وحده طولا من العريش إلى الفرات، وعرضا من جبل طئ
من نحو القبلة إلى بحر الروم، وما سامت ذلك من البلاد، وهو مذكر على المشهور. (و) من (مصر) وهي المدينة المعروفة تذكر
وتؤنث وتصرف ولا تصرف وهو الفصيح، وحدها طولا من برقة التي في جنوب البحر الرومي إلى أيلة، ومسافة ذلك قريب
من أربعين يوما، وعرضه من مدينة أسوان وما سامتها من الصعيد الاعلى إلى رشيد وما حاذاها من مساقط النيل في البحر
الرومي، ومسافة ذلك قريب من ثلاثين يوما. سميت باسم من سكنها أولا، وهو مصر بن قيصر بن سام بن نوح. (و) من (المغرب
الجحفة) وهي قرية كبيرة بين مكة والمدينة. قال في المجموع: على نحو ثلاث مراحل من مكة. وقال الرافعي: على خمسين
فرسخا من مكة. وبينهما تفاوت بعيد، والمعروف المشاهد ما قاله الرافعي. سميت بذلك لأن السيل نزل عليها فأجحفها،
وهي الآن خراب، ويقال لها مهيعة بوزن مرتبة، ومهيعة بوزن معيشة. (ومن تهامة اليمن) بكسر التاء، اسم لكل من نزل
عن نجد من بلاد الحجاز، واليمن إقليم معروف. (يلملم) ويقال له ألملم، وهو أصله قلبت الهمزة ياء، ويرمرم براءين، وهو
موضع على مرحلتين من مكة. (ومن نجد اليمن ونجد الحجاز قرن) بسكون الراء، ويقال له قرن المنازل وقرن الثعالب،
وهو جبل على مرحلتين من مكة، ووهم الجوهري في تحريك الراء وفي قوله إن أويسا القرني منسوب إليه، وإنما هو
472

منسوب إلى قرن قبيلة من مراد كما ثبت في مسلم. ونجد في الأصل المكان المرتفع ويسمى المنخفض غورا، وإذا أطلق نجد فالمراد
نجد الحجاز. (ومن المشرق) العراق وغيره، (ذات عرق) وهي قرية على مرحلتين من مكة وقد خربت،
والعقيق وهو واد فوق ذات عرق لأهل العراق، وخراسان أفضل من ذات عرق لأنه أحوط، ولما روى ابن هشام: أنه
(ص) وقت لأهل المشرق العقيق رواه الترمذي وحسنه، لكن رده في المجموع ففيه ضعف، ولهذا لم يجب
العمل به، لكن يستحب لاحتمال صحته. والأصل في المواقيت خبر الصحيحين: أنه (ص) وقت لأهل المدينة
ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من
غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة، وخبر الشافعي رضي الله
تعالى عنه: أنه (ص) وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة، وخبر النسائي وغيره بإسناد
صحيح كما في المجموع: أنه (ص) وقت لأهل الشام ومصر الجحفة، ولأهل العراق ذات عرق. وقيل إن ذات عرق إنما
كان باجتهاد عمر رضي الله تعالى عنه، والذي في الشرح والروضة عن ميل الأكثرين أنه بالنص، وقال في المجموع:
إنه الصحيح عند جمهور الأصحاب. والذي في شرح المسند للرافعي مذهب الشافعي أنه باجتهاد عمر، ولم يذكر غيره،
وقال المصنف في شرح مسلم إنه الصحيح، وهو ما نص عليه في الام. والراجح الأول لصحة الحديث المتقدم. ويستثنى
من إطلاق المصنف الأجير، فإن عليه أن يحرم من ميقات الميت أو المستأجر الذي يحج عنه، فإن مر بغير ذلك الميقات
أحرم من موضع بإزائه إذا كان أبعد من ذلك الميقات من مكة. حكاه في الكفاية عن الفوراني وأقره.
فائدة: قال بعضهم: سألت أحمد بن حنبل: في أي سنة أقت النبي (ص) مواقيت الاحرام؟ قال: عام حج.
(والأفضل أن يحرم من أول الميقات) وهو الطرف الابعد من مكة فهو أفضل من الاحرام من وسطه ومن آخره ليقطع
الباقي محرما، نعم يستثنى ذو الحليفة كما مر. قال الأذرعي: وهذا حق إن علم أن ذلك المسجد هو المسجد الموجود
آثاره، والظاهر أنه هو اه‍. (ويجوز من آخره) لوقوع الاسم عليه، والعبرة بالبقعة لا بما بني ولو قريبا منها. (ومن
سلك طريقا) في بر أو بحر (لا ينتهي إلى ميقات) مما ذكر، (فإن حاذى) بذال معجمة: أي سامت، (ميقاتا)
منها بمفرده يمنة أو يسرة لا من ظهره أو وجهه، لأن الأول وراءه والثاني أمامه. (أحرم من محاذاته) لخبر البخاري
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن أهل العراق أتوا عمر فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول الله (ص) حد لأهل
نجد قرنا وهو جور، أي مائل عن طريقنا، وإن أردنا قرنا شق علينا، قال: فانظروا حذوها من طريقكم فحد لهم
عمر ذات عرق ولم ينكر عليه أحد، فإن اشتبه عليه موضع المحاذاة اجتهد. ويسن له أن يستظهر خلافا للقاضي
أبي الطيب حيث أوجبه. (أو) حاذى (ميقاتين) طريقه بينهما، أو كانا معا في جهة واحدة، (فالأصح أنه يحرم من
محاذاة) أقربهما إليه، وإن كان الآخر أبعد إلى مكة، إذ لو كان أمامه ميقات فإنه ميقاته وإن حاذى ميقاتا أبعد فكذا
ما هو بقربه، فإن استويا في القرب إليه أحرم من محاذاة (أبعدهما) من مكة، وإن حاذى الأقرب إليها أو لا كأن كان
الابعد منحرفا أو وعرا، فإن قيل: فإذا استويا في القرب إليه فكلاهما ميقات. أجيب بأن ميقاته الابعد إلى مكة،
وتظهر فائدته فيما لو جاوزهما مريدا للنسك ولم يعرف موضع المحاذاة ثم رجع إلى الابعد أو إلى مثل مسافته، سقط عنه الدم
لا إن رجع إلى الآخر، فإن استويا في القرب إليها وإليه أحرم من محاذاتهما إن لم يحاذ أحدهما قبل الآخر، وإلا فمن
محاذاة الأول، ولا ينتظر محاذاة الآخر، كما أنه ليس للمار على ذي الحليفة أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة. ومقابل
الأصح في كلام المصنف أنه يخير إن شاء أحرم من الموضع المحاذي لأبعدهما وإن شاء لأقربهما. قال الماوردي: وهو
الصحيح وقول الجمهور، لأنه لم يمر على ميقات منصوص عليه فتركه وقد أحرم محاذيا الميقات. (وإن لم يحاذ) ميقاتا
473

مما سبق، (أحرم على مرحلتين من مكة) إذ لا ميقات أقل مسافة من هذا القدر. والمراد تقدم المحاذاة في علمه لا في
نفس الامر، كما قاله شارح التعجيز، لأن المواقيت تعم جهات مكة، فلا بد أن يحاذي أحدها. (ومن مسكنه بين مكة والميقات
فميقاته) للنسك (مسكنه) قرية كانت أو حلة أو منزلا منفردا فلا يجاوزه حتى يحرم، ولا يلزمه الرجوع إلى الميقات لقوله
(ص) في الخبر السابق: فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ. (ومن بلغ) يعني جاوز، (ميقاتا) من
المواقيت المنصوص عليها أو موضعا جعلناه ميقاتا وإن لم يكن ميقاتا أصليا، (غير مريد نسكا ثم أراده، فميقاته موضعه)
ولا يكلف العود إلى الميقات للخبر السابق. (ومن بلغه) أي وصل إليه (مريدا) نسكا (لم تجز مجاوزته) إلى جهة
الحرم (بغير إحرام) بالاجماع، ويجوز إلى جهة اليمنة أو اليسرة، ويحرم من مثل ميقات بلده أو أبعد كما ذكره الماوردي.
(فإن) خالف (وفعل) ما منع منه بأن جاوزه إلى جهة الحرم، (لزمه العود ليحرم منه) لأن الاحرام منه كان واجبا
عليه فتركه وقد أمكنه تداركه فيأتي به.
تنبيه: قوله: ليحرم منه يقتضي تعيينه حتى لا يقوم غيره مقامه، وليس مرادا، بل لو عاد إلى مثل مسافته من
ميقات آخر جاز، قاله الماوردي وغيره. ويؤيده أن المفسد لما أوجبوا عليه القضاء من الميقات الذي أحرم منه في الأداء
قالوا: إنه يجوز له تركه والاحرام من مثل مسافته من موضع آخر، حتى ادعى في زيادة الروضة عدم الخلاف فيه. ويقتضي
أيضا وجوب تأخير الاحرام إلى العود، وليس مرادا أيضا، لأنا إذا قلنا إن العود بعد الاحرام مسقط للدم - وهو
الصحيح
كما سيأتي - كان له أن يحرم ثم يعود إلى الميقات محرما، لأن المقصود قطع المسافة محرما، كالمكي إذا أراد الاعتمار فإنه يجوز
له أن يحرم من مكة ثم يخرج إلى الحل على الصحيح. ويقتضي أيضا عدم وجوب العود إذا أحرم، فإنه جعل العلة في
عوده إنشاء الاحرام وقد زال ذلك وليس مرادا أيضا، بل يجب عليه العود ولو بعد الاحرام. ولا فرق فيما قال المصنف
بين أن يكون قد جاوز عامدا أو ساهيا عالما أو جاهلا، لأن المأمورات لا يفترق الحال فيها بين العمد وغيره، كنية
الصلاة، لكن لا إثم على الناسي والجاهل. وصورة السهو لا تدخل في عبارته، لأن الساهي عن الاحرام يستحيل أن
يكون في تلك الحالة مريدا للنسك. وربما يتصور بمن أنشأ سفره من بلده قاصدا له وقصده مستمر فسها عنه حين
المجاوزة. ثم استثنى من لزوم العود قوله: (إلا إذا ضاق الوقت) عن العود إلى الميقات،
(أو كان الطريق مخوفا) أو كان معذورا لمرض شاق، أو خاف الانقطاع عن رفقة، فلا يلزمه العود في هذه الصورة بل يريق دما.
تنبيه: لو عبر بقوله: إلا لعذر كضيق الوقت وخوف الطريق لكان أخصر وأشمل، والظاهر كما قال الأذرعي
تحريم العود لو علم أنه لو عاد لفات الحج. وقضية كلامهم أنه يلزمه العود إذا كان ماشيا ولم يتضرر بالمشي. قال
الأسنوي: وفيه نظر، ويتجه أن يقال إن كان على دون مسافة القصر لزمه وإلا فلا كما قلنا في الحج ماشيا اه‍. قال ابن العماد:
والمتجه لزوم العود مطلقا، لأنه قضاء لما تعدى فيه فأشبه وجوب قضاء الحج الفاسد وإن بعدت المسافة اه‍. هذا ظاهر
إن كان قد تعدى بمجاوزة الميقات كما يؤخذ من تعليله، وإلا فالمتجه كلام الأسنوي. (فإن لم يعد) لعذر أو غيره
(لزمه دم) بتركه الاحرام من الميقات. قال ابن عباس: من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما رواه مالك
وغيره بإسناد صحيح. وشرط لزومه أن يحرم بعمرة مطلقا أو بحج في تلك السنة، بخلاف ما إذا لم يحرم أصلا، لأن لزومه
إنما هو لنقصان النسك لا بدل له، وبخلاف ما إذا أحرم بالحج في سنة أخرى، لأن إحرام هذه السنة لا يصلح لاحرام
غيرها. وقضية كلامه كأصله أن الكافر إذا جاوز الميقات مريدا للنسك ثم أسلم وأحرم دونه يكون كالمسلم، وهو كذلك
خلافا للمزني.
474

تنبيه: يستنثى من كلامه: ما لو مر الصبي أو العبد بالميقات غير محرم مريدا للنسك ثم بلغ أو عتق قبل الوقوف فلا
دم عليه على الصحيح، قاله ابن شهبة في العبد وابن قاسم فيهما في شرحيهما على الكتاب. (وإن أحرم) من جاوز الميقات بغير
إحرام، (ثم عاد) إليه (فالأصح أنه عاد قبل تلبسه بنسك سقط الدم) عنه، لأنه قطع المسافة من الميقات محرما وأدى المناسك
كلها بعده، فكان كما لو أحرم منه سواء أكان دخل مكة أم لا. وقيل: لا يسقط إذا عاد بعد وصوله إليها. وقيل: إلى مسافة
القصر، وفي قول: لا يسقط مطلقا. (وإلا) بأن عاد بعد تلبسه بنسك ولو طواف قدوم، (فلا) يسقط عنه الدم لتأدي النسك
بإحرام ناقص.
تنبيه: ظاهر كلامهما يقتضي أن الدم وجب ثم سقط بالعود، وهو وجه حكاه الماوردي. وصحح أنه لم يجب أصلا
لأن وجوبه تعلق بفوات العود ولم يفت، وهذا هو المعتمد. وحيث سقط الدم بالعود لم تكن المجاوزة حراما كما جزم به
المحاملي والروياني، لكن بشرط أن تكون المجاوزة بنية العود كما قاله المحاملي. (والأفضل) لمن فوق الميقات، (إن يحرم من دويرة
أهله) لأنه أكثر عملا، إلا الحائض والنفساء فإن الأفضل لهما أن يحرما من الميقات على النص. (وفي قول) الأفضل الاحرام،
(من الميقات) تأسيا به (ص). (قلت: الميقات) أي الاحرام منه إن لم يلتزم بالنذر الاحرام مما قبله، (أظهر،
وهو الموافق للأحاديث الصحيحة والله أعلم) فإنه (ص) أحرم في حجة الوداع منه بالاجماع، وكذا في عمرة
الحديبية كما رواه البخاري في كتاب المغازي، ولان في مصابرة الاحرام بالتقدم عسرا وتغريرا بالعباد وإن كان جائزا،
وإنما جاز قبل الميقات المكاني دون الزماني لأن تعلق العبادة بالوقت أشد منه بالمكان، ولان المكاني يختلف باختلاف
البلاد بخلاف الزماني. أما إذا التزم بالنذر الاحرام مما قبله فإنه يلزمه كما قاله في المهذب، وجرى عليه المصنف في شرحه.
واستشكل لزومه على المصنف مع تصحيحه أفضلية الاحرام من الميقات، وسيأتي نظير ذلك في النذر فيما لو نذر الحج
ماشيا، ونذكر ما فيه هناك إن شاء الله تعالى.
تنبيه: يستثنى من محل الخلاف صور: منها الحائض والنفساء، فالأفضل لهما الميقات كما مر. ومنها ما لو
شك في
الميقات لخراب مكانه، فالاحتياط أن يستظهر ندبا، وقيل وجوبا. ومنها مسألة النذر المتقدمة. (وميقات العمرة) المكاني
(لمن هو خارج الحرم ميقات الحج) لقوله (ص) في الحديث المتقدم: ممن أراد الحج أو العمرة. (ومن) هو
(بالحرم) مكي أو غيره، (يلزمه الخروج إلى أدنى الحل ولو بخطوة) أو أقل من أي جهة شاء من جهات الحرم، لأنه
(ص) أرسل عائشة بعد قضاء الحج إلى التنعيم فاعتمرت، فلو لم يكن الخروج واجبا لما أمرها به لضيق الوقت برحيل
الحاج، وسببه أن يجمع في إحرامه بين الحل والحرم.
تنبيه: لو اقتصر المصنف على قوله: إلى أدنى الحل أو زاد بدل ولو بخطوة بقليل كان أولى ليشمل ما قدرته ولمن
بمكة القران تغليبا للحج. (فإن لم يخرج) إلى أدنى الحل، (وأتى بأفعال العمرة) بعد إحرامه بها في الحرم انعقدت عمرته
جزما، و (أجزأته) هذه العمرة عن عمرته (في الأظهر) لانعقاد إحرامه وإتيانه بعده بالواجبات. (و) لكن (عليه
دم) لتركه الاحرام من الميقات، والثاني: لا يجزئه، لأن العمرة أحد النسكين، فيشترط فيها الجمع بين الحل والحرم
كالحج، فإنه لا بد فيه من الحل وهو عرفة. (فلو خرج) على الأول (إلى) أدنى (الحل بعد إحرامه) وقبل الطواف
والسعي، (سقط الدم على المذهب) كما لو جاوز الميقات ثم عاد إليه محرما، والطريق الثاني: القطع بالسقوط، والفرق أن
475

ذلك قد انتهى إلى الميقات على قصد النسك ثم جاوزه فكان مسيئا حقيقة، وهذا المعنى لم يوجد ههنا، فهو شبيه بمن
أحرم قبل الميقات. والمراد بالسقوط عدم الوجوب كما مر. (وأفضل بقاع الحل) لمن يحرم بعمرة، (الجعرانة) لاحرامه
(ص) منها، رواه الشيخان. وهي بإسكان العين وتخفيف الراء أفصح من كسر العين وتثقيل الراء وإن كان أكثر
المحدثين على الثاني، ذكره في المجموع. وهي في طريق الطائف على ستة فراسخ من مكة.
فائدة: قال بعض العلماء: أحرم منها ثلاثمائة نبي عليهم الصلاة والسلام. (ثم التنعيم) لامره (ص) عائشة
بالاعتمار منه، وهو الموضع الذي عند المساجد المعروفة بمساجد عائشة بينه وبين مكة فرسخ، فهو أقرب أطراف الحل
إلى مكة، سمي بذلك لأن على يمينه جبلا يقال له نعيم، وعلى شماله جبلا يقال له ناعم، والوادي نعمان. (ثم
الحديبية)
لأنه (ص) هم بالاعتمار منها فصده الكفار، فقد فعله ثم أمره ثم همه، كذا قال الغزالي أنه هم بالاعتمار
من الحديبية. قال في المجموع: والصواب أنه كان أحرم من ذي الحليفة إلا أنه هم بالدخول إلى مكة من الحديبية كما رواه
البخاري. وهي بتخفيف الياء أفصح من تثقيلها، وهي اسم لبئر هناك بين طريق جدة وطريق المدينة بين جبلين على
ستة فراسخ من مكة. فإن قيل: لم أمر (ص) عائشة بالاحرام من التنعيم مع أن الجعرانة أفضل؟ أجيب بأن
ذلك كان لضيق الوقت أو لبيان الجواز من أدنى الحل. وقد علم مما تقدم أن التفضيل ليس لبعد المسافة.
خاتمة: يسن لمن أحرم من بلده أو من مكة أن يخرج عقب إحرامه ولا يمكث بعده، نقله الشيخ أبو حامد عن النص.
ويسن لمن لم يحرم من أحد هذه الثلاثة أن يجعل بينه وبين الحرم بطن واد ثم يحرم كما في التتمة وغيرها، وحكاه في الإنابة
عن الشافعي رضي الله تعالى عنه.
باب الاحرام
وهو كما قال الأزهري: الدخول في حج أو عمرة أو فيهما أو فيما يصلح لهما ولأحدهما وهو المطلق، ويطلق أيضا
على نية الدخول فيما ذكر، ومنه قول المصنف بعد هذا: أركان الحج خمسة: الاحرام فالمراد هنا هو القسم الأول وهو
الدخول فيما ذكر، أي بالنية. وكان الشيخ عز الدين يستشكل حقيقة الاحرام، فإن قيل له إنه النية اعترض بأنها شرط
فيه، وشرط الشئ غيره. وقال القرافي: أقمت عشر سنين لا أعرف حقيقة الاحرام، وسمي بذلك إما لاقتضائه
دخول الحرم من قولهم: أحرم إذا دخل الحرم، كأنجد إذا دخل نجدا، أو لاقتضائه تحريم الأنواع الآتية. (ينعقد)
الاحرام (معينا بأن ينوي حجا أو عمرة أو كليهما) بالاجماع، ولما روى مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت:
خرجنا مع رسول الله (ص) فقال: من أراد أن يهل بحج وعمرة فليفعل، ومن أراد أن يهل بحج فليفعل،
ومن أراد أن يهل بعمرة فليفعل. ولو نوى حجتين أو نصف حجة انعقد حجة، أو عمرتين أو نصف عمرة انعقد عمرة،
قياسا على الطلاق في مسألتي النصف والفاء للإضافة إلى ثنتين في مسألتي الحجتين والعمرتين: لتعذر الجمع بينهما بإحرام
واحد، فصح في واحدة كما لو نوى بتيمم فريضتين لا يستبيح به إلا واحدة كما مر في بابه. وفارق عدم الانعقاد في نظيرهما
من الصلاة بأن الاحرام يحافظ عليه ما أمكن، ولهذا لو أحرم بالحج في غير أشهره انعقد عمرة كما مر. (و)
ينعقد أيضا
(مطلقا) وذلك (بأن لا يزيد على نفس الاحرام) بأن ينوي الدخول في النسك الصالح للأنواع الثلاثة، أو يقتصر على قوله:
أحرمت. وروى الشافعي رضي الله تعالى عنه: أنه (ص) خرج هو وأصحابه مهلين ينتظرون القضاء، أي نزول
476

الوحي، فأمر من لا هدي معه أن يجعل إحرامه عمرة، ومن معه هدي أن يجعله حجا. ويفارق في الصلاة حيث لا يجوز
الاحرام بها مطلقا بأن التعيين ليس شرطا في انعقاد النسك، ولهذا لو أحرم بنسك نفل وعليه نسك فرض انصرف
إلى الفرض، ولو قيد الاحرام بزمن كيوم أو يومين أو أكثر انعقد مطلقا كما في الطلاق، وهذا هو المعتمد وإن قال
في المجموع: ينبغي في هذا وفي مسألتي النصف عدم الانعقاد، لأنه من باب العبادات والنية الجازمة شرط فيها، بخلاف
الطلاق فإنه مبني على الغلبة والسراية ويقبل الاخطار ويدخله التعليق. (والتعيين أفضل) من الاطلاق، وحكى هذا
عن نص الام ليعرف ما يدخل عليه، قالوا: ولأنه أقرب إلى الخلاص. (وفي قول الاطلاق) أفضل من التعيين،
وحكى هذا عن نص الاملاء، لأنه ربما حصل له عارض من مرض أو غيره فلا يتمكن من صرفه إلى ما لا يخاف فوته.
(فإن أحرم) إحراما (مطلقا في أشهر الحج صرفه بالنية) لا باللفظ فقط، (إلى ما شاء من النسكين أو إليهما) معا إن صلح
الوقت لهما، (ثم اشتغل) بعد الصرف، (بالاعمال) فلا يجزئ العمل قبله كما أشعر به التعبير ب‍ ثم، لكن لو طاف
ثم صرفه للحج وقع طوافه عن القدوم وإن كان من سنن الحج، ولو سعى بعده احتمل الاجزاء لوقوعه تبعا واحتمل
خلافه، وهو الأوجه، لأنه ركن فيحتاط له وإن وقع تبعا، فإن لم يصلح بأن فات وقت الحج صرفه للعمرة كما قاله
الروياني. وعن القاضي حسين: يحتمل أن يتعين عمرة كما لو أحرم قبل أشهر الحج، ويحتمل أنه يبقى على ما كان
وعليه التعيين، فإن عين عمرة مضى فيها أو حجا كان كمن فاته الحج، والأول أوجه. ولو ضاق الوقت فالمتجه كما قال
الأسنوي، وهو مقتضى كلام الأصحاب، أن له صرفه إلى ما شاء، ويكون عند صرفه إلى الحج كمن أحرم بالحج في تلك
الحالة. قال القاضي: ولو أحرم مطلقا ثم أفسده قبل التعيين فأيهما عينه كان مفسدا له. (وإن أطلق) الاحرام (
في غير
أشهره) أي الحج، (فالأصح) وعبر في الروضة بالصحيح، (انعقاد عمرة فلا يصرفه إلى الحج في أشهره) أي الحج، لأن
الوقت لا يقبل غير العمرة، والثاني: ينعقد بهما فله صرفه إلى عمرة. وبعد دخول أشهر الحج إلى النسكين أو أحدهما،
فإن صرفه إلى الحج قبل أشهره كان كإحرامه به قبلها فينعقد عمرة على الصحيح. (وله) أي لعمرو مثلا، (أن يحرم
كإحرام زيد) كأن يقول: أحرمت بما أحرم به زيد أو كإحرامه، ولان أبا موسى رضي الله تعالى عنه أهل بإهلال
كإهلال رسول الله (ص)، فلما أخبره قال له: أحسنت طف بالبيت وبالصفا والمروة وأحل، وكذا فعل
علي رضي الله تعالى عنه، وكلاهما في الصحيحين. (فإن لم يكن زيد محرما) أو كان كافرا بأن أتى بصورة الاحرام أو محرما
إحراما فاسدا، (انعقد إحرامه مطلقا) لأنه قصد الاحرام بصفة خاصة، فإذا بطلت بقي أصل الاحرام ولغت إضافته
لزيد. (وقيل إن علم عدم إحرام زيد لم ينعقد) إحرامه، كما لو علق فقال: إن كان محرما فقد أحرمت فلم يكن محرما.
وفرق الأصح بأن في المقيس عليه تعليق أصل الاحرام فليس جازما به، بخلاف المقيس فإنه جازم بالاحرام فيه. (وإن كان
زيد محرما) بإحرام صحيح (انعقد إحرامه كإحرامه) من تعيين أو إطلاق، ويتخير في المطلق كما يتخير زيد، ولا يلزمه
صرفه إلى ما يصرفه زيد. ولو عين زيد قبل إحرامه عمرو حجا انعقد إحرام عمرو مطلقا، وكذا لو أحرم زيد بعمرة
ثم أدخل عليها الحج فينعقد لعمرو عمرة لا قرانا، ولا يلزمه إدخال الحج على العمرة إلا أن يقصد به التشبيه في الحال
في الصورتين، فيكون في الأولى حاجا وفي الثانية قارنا. ولو أحرم قبل صرفه في الأولى وقبل إدخال الحج في الثانية
وقصد التشبيه به في حال تلبسه بإحرامه الحاضر والآتي، ففي الروضة عن البغوي ما يقتضي أنه يصح وهو المعتمد. قال
الأذرعي: وفيه نظر، لأنه في معنى التعليق بمستقبل، إلا أن يقال أنه جازم في الحال. ويغتفر ذلك في الكيفية دون
477

الأصل، فصورة المسألة فيما إذا لم يخطر له التشبيه بإحرام زيد في الحال ولا في أوله. فإن خطر له التشبيه بأوله أو بالحال
فالاعتبار بما خطر له قطعا، ولو أخبره زيد بما أحرم ووقع في نفسه خلافه عمل بما أخبره على الأصح في
زيادة الروضة،
لأنه لا يعلم إلا من جهته. ولو علق إحرامه على إحرام زيد في المستقبل، كأن قال إذا أو نحوها ك‍ متى، أو إن أحرم
زيد فأنا محرم لم ينعقد إحرامه مطلقا، كما لو قال إذا جاء رأس الشهر فأنا محرم لا يصح إحرامه مطلقا، لأن العبادة لا تعلق
بالاخطار، أو قال إن كان زيد محرما فأنا محرم وكان زيد محرما انعقد إحرامه، وإلا فلا تبعا له. قال الرافعي: ويجوز
أن يصح في الأولى كهذه، إلا أن تلك تعليق بمستقبل وهذه تعليق بحاضر، وما يقبل التعليق من العقود يقبلها جميعا.
وأجيب بأن المعلق بحاضر أقل غررا لوجوده في الواقع فكان قريبا من أحرمت كإحرام زيد في الجملة، بخلاف المعلق
بمستقبل. (فإن تعذر معرفة إحرامه) وعبر في الحاوي الصغير ب‍ تعسر، ولعل مراده التعذر، وسواء علم أنه أحرم أم
جهل حاله، (بموته) أو جنونه أو غير ذلك كغيبة بعيدة، (جعل) عمرو (نفسه قارنا) بأن ينوي القران ولم يجتهد،
وكذا إن نسي المحرم ما أحرم به، لأن كل منهما تلبس بالاحرام يقينا فلا يتحلل إلا بيقين الاتيان بالمشروع فيه، كما لو
شك في عدد الركعات لا يجتهد. والفرق بينه وبين الأواني والقبلة أن أداء العبادة ثم لا يحصل بيقين إلا بعد فعل محظور،
وهو أن يصلي لغير القبلة أو يستعمل نجسا، فلذلك جاز التحري، وهنا يحصل الأداء بيقين من غير فعل محظور. (وعمل
أعمال النسكين) ليتحقق الخروج عما شرع فيه فتبرأ ذمته من الحج بعد إتيانه بأعماله، لأنه إما محرم به أو مدخل له على
العمرة، ولا تبرأ ذمته من العمرة لاحتمال أنه أحرم بالحج، ويمتنع إدخالها عليه ولا دم عليه، إذ الحاصل له الحج
فقط، واحتمال حصول العمرة لا يوجبه إذ لا وجوب بالشك ولكن يستحب له ذلك. ولو اقتصر على نية الحج وأتى
بأعماله أجزأه عن الحج فقط ولا دم عليه أيضا، فالواجب لتحصيل الحج نيته أو نية القران، وهي أولى لتحصل البراءة
من العمرة أيضا على وجه. أو اقتصر على أعمال الحج من غير نية حصل التحلل الأول لا البراءة من شئ منهما لشكه
فيما أتى به، أو اقتصر على عمل العمرة لم يحصل التحلل أيضا، وإن نواها، لاحتمال أنه أحرم بحج ولم يتم أعماله مع أن وقته
باق. ولو أحرم كإحرام زيد وبكر صار مثلهما في إحرامهما إن اتفقا فيما أحرما به، وإلا صار قارنا، فيأتي بما يأتيان به. نعم
إن كان إحرامهما فاسدا انعقد إحرامه مطلقا كما علم مما مر، أو أحرم أحدهما فقط، فالقياس كما قال شيخنا إن إحرامه ينعقد
صحيحا في الصحيح، ومطلقا في الفاسد.
فصل: في ركن الاحرام وما يطلب للمحرم من الأمور الآتية: (المحرم) أي مريد الاحرام، (ينوي) بقلبه حتما
دخوله في حج أو عمرة أو فيهما. ولا تجب نية الفرضية جزما كما في المجموع، لأنه لو نوى النفل لوقع عن الفرض
كما مر فلا فائدة في الايجاب. (ويلبي) مع نية الاحرام بعد التلفظ بها، فينوي بقلبه ويقول بلسانه نويت الحج مثلا
وأحرمت به لله تعالى، لبيك اللهم لبيك إلخ. ولا يسن ذكر ما أحرم به في غير التلبية الأولى، لأن إخفاء العبادة أفضل.
ولو نوى بقلبه نسكا ونطق لسانه بغيره انعقد ما نواه بقلبه. ويسن أن يستقبل القبلة عند الاحرام، وأن يقول: اللهم
أحرم لك شعري وبشري ولحمي ودمي. (فإن لبى بلا نية لم ينعقد إحرامه) على الأصح لخبر: إنما الأعمال بالنيات،
وقيل: ينعقد، وتقوم التلبية مقام النية (وإن نوى ولم يلب انعقد على الصحيح) كسائر العبادات، والثاني: لا ينعقد، لاطباق
الأمة عليها عند الاحرام، كالصلاة لا تنعقد إلا بالتلبية والتكبير. (ويسن الغسل) لاحد أمور سبعة: أحدها: (للاحرام)
أي عند إرادته بحج أو عمرة أو بهما أو مطلقا من رجل أو صبي أو امرأة حائض أو نفساء للاتباع، رواه الترمذي
وحسنه. وإنما لم يجب لأنه غسل لمستقبل كغسل. الجمعة والعيد، ويكره تركه وإحرامه جنبا، وغير المميز يغسله وليه
لأن حكمة هذا الغسل التنظيف، ولهذا سن للحائض والنفساء. وروى أبو داود والترمذي خبر: إن الحائض والنفساء
478

تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلها غير أن لا تطوف بالبيت. قال في أصل الروضة: وإذا اغتسلتا نوتا، والأولى أن يؤخرا
الاحرام حتى يطهرا إن أمكن التأخير بأن أمكنهما المقام بالميقات ليقع إحرامهما في أكمل أحوالهما. ويندب أيضا لمريد
الاحرام أن يتنظف بإزالة الشعور المطلوب إزالتها كشعر الإبط والعانة والأظفار والأوساخ، وغسل الرأس بسدر ونحوه.
والقياس كما قال الأسنوي تقديم هذه الأمور على الغسل كما في غسل الميت. ويندب أيضا أن يلبد الذكر شعره بصمغ
ونحوه لئلا يتولد فيه القمل ولا يتشعث في مدة الاحرام، ويكون التلبيد بعد الغسل. (فإن عجز) مريد الاحرام عن الغسل
لفقد ماء أو عدم قدرته على استعماله، (تيمم) لأن الغسل يراد للقربة وللنظافة، فإذا تعذر أحدهما بقي الآخر، ولأنه ينوب
عن الغسل الواجب فعن المندوب أولى، ولو وجد ماء لا يكفيه للغسل ويكفيه للوضوء توضأ به وتيمم عن الغسل كما قاله
ابن المقري. ولو وجد ماء لا يكفي الوضوء أيضا استعمله في أعضاء الوضوء. وهل يكفيه تيمم واحد عن الغسل وبقية
الأعضاء أو يتيمم عن بقية الأعضاء ثم يتيمم ثانيا عن الغسل؟ الأوجه كما قال شيخنا: الثاني. إن لم ينو بما استعمله من الماء
الغسل، وإلا فالأول.
تنبيه: لو ذكر المصنف التيمم عقب جميع الأغسال الآتية لكان أولى لشمول الحكم لكلها، وقوله فإن عجز
أولى من قول المحرر فإن لم يجد الماء، لأن العجز يتناول الفقدان والمرض والجراحة والبرد ونحو ذلك. (و) الغسل الثاني:
لدخول الحرم. والغسل الثالث: (لدخول مكة) ولو حلالا للاتباع رواه الشيخان في المحرم، والشافعي في الحلال. قال
السبكي: وحينئذ لا يكون هذا من أغسال الحج إلا من جهة أنه يقع فيه، ولو فات لم يبعد ندب قضائه كما بحثه بعض
المتأخرين، وكذا بقية الأغسال. ويستثنى من إطلاق المصنف ما لو أحرم المكي بعمرة من قريب كالتنعيم واغتسل لم
يندب له الغسل لدخول مكة كما قاله الماوردي، ويظهر مثله كما قال ابن الرفعة في الحج إذا أحرم به من أدنى الحل لكونه
لم يخطر له ذلك إلا هناك، قال الأذرعي: أو لكونه مقيما هناك. (و) الغسل الرابع: بعد الزوال، (للوقوف بعرفة)
والأفضل كونه بنمرة. ويحصل أصل السنة في غيرها وقبل الزوال بعد الفجر، لكن تقريبه للزوال أفضل كتقريبه من
ذهابه في غسل الجمعة. وسميت عرفة، قيل: لأن آدم وحواء تعارفا ثم، وقيل: لأن جبريل عرف فيها إبراهيم عليهما
الصلاة والسلام مناسكه، وقيل غير ذلك. (و) الغسل الخامس: بعد نصف ليلة النحر للوقوف (بمزدلفة) عند المشعر
الحرام (غداة) يوم (النحر) أي بعد فجره. (و) الغسل السادس: (في) كل يوم من (أيام التشريق)
الثلاثة
بعد الزوال، (للرمي) أي رمي الجمرات الثلاث لآثار وردت فيها، ولأنها مواضع اجتماع، فأشبه غسل الجمعة. ولو قدم
الغسل على الزوال حصل أصل السنة نظير غسل الجمعة، وإن خالف في ذلك بعض المتأخرين. والغسل السابع: لدخول
المدينة، ولا يسن الغسل للمبيت بمزدلفة لقربه من غسل عرفة، ولا لرمي يوم النحر اكتفاء بغسل العيد، ولا لطواف القدوم
لقربه من غسل الدخول، ولا للحلق وطواف الإفاضة وطواف الوداع كما هو الصحيح عند الرافعي، وكذا المصنف
في أكثر كتبه، وإن جزم في مناسكه الكبرى باستحباب هذه الثلاثة. (و) يسن (أن يطيب) مريد الاحرام (بدنه للاحرام)
رجلا كان أو خنثى، أو امرأة شابة أو عجوزا، خلية أو متزوجة، اقتداء به (ص)، رواه الشيخان. وقيل: لا يسن
للمرأة كذهابها إلى الجمعة، وفرق الأول بأن زمان الجمعة ومكانها ضيق ولا يمكنها تجنب الرجال بخلاف الاحرام. نعم
المحدة لا تتطيب. (وكذا ثوبه) من إزار الاحرام وردائه يسن تطييبه. (في الأصح) كالبدن، والثاني: المنع، لأن الثوب
ينزع ويلبس. وتبع لمصنف المحرر في استحباب تطييب الثوب، وصحح في المجموع أنه مباح، وقال: لا يندب جزما، وصحح
في الروضة كأصلها الجواز، وهذا هو المعتمد. (ولا بأس باستدامته) أي الطيب في الثوب (بعد الاحرام) كالبدن،
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها: كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله (ص) وهو
محرم، والوبيص بالباء الموحدة بعد الواو وبالصاد المهملة: هو البريق، والمفرق: وسط الرأس. وينبغي كما قال الأذرعي أن يستثنى
479

من جواز الاستدامة ما إذا لزمها الاحداد بعد الاحرام. (ولا بطيب له جرم) للحديث المذكور، (لكن لو نزع ثوبه
المطيب) أي الذي رائحة الطيب فيه موجودة، (ثم لبسه، لزمه الفدية) في الأصح، كما لو ابتدأ لبس الثوب المطيب أو
أخذ المطيب من بدنه ثم رده إليه، والثاني: لا، لأن العادة في الثوب أن يخلع ويلبس فجعل عفوا، فإن لم تكن رائحة الطيب
فيه موجودة فإن كان بحيث لو ألقي عليه ماء ظهرت رائحته وامتنع لبسه بعد نزعه وإلا فلا، ولو مسه بيده عمدا لزمته
الفدية ويكون مستعملا للطيب ابتداء، جزم به في المجموع. ولا عبرة بانتقال الطيب بإسالة العرق. ولو تعطر ثوبه من بدنه
لم يضر جزما. (و) يسن (أن تخضب المرأة) غير المحدة (للاحرام يديها) أي كل يد منها إلى الكوع فقط بالحناء
خلية كانت أو مزوجة شابة أو عجوزا، لما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن ذلك من السنة، ولأنهما قد ينكشفان.
وتمسح وجهها بشئ منه لأنها تؤمر بكشفه فتستتر بشرته بلون الحناء، وإنما يستحب بالحناء تعميما دون التطريف
والتنقيش والتسويد. أما بعد الاحرام فيكره لها ذلك لما فيه من الزينة وإزالة الشعث. ولا فدية فيه على المذهب
لأنه ليس بطيب على المشهور. وخرج بالمرأة الرجل والخنثى فيحرم عليهما ذلك إلا لضرورة، وبغير المحدة المحدة
فيحرم عليها أيضا. ويندب لغير المحرمة أيضا، وإن أفهمت عبارته اختصاص الندب بالمحرمة، لكنه للمحرمة آكد، نعم
يكره للخلية من زوج أو سيد. (ويتجرد الرجل) وجوبا كما صرح به في المجموع ك الرافعي. (لاحرامه عن مخيط
الثياب) لينتفي عنه لبسه في الاحرام الذي هو محرم عليه كما سيأتي، لكن صرح المصنف في مناسكه بسنيته، واستحسنه
السبكي وغيره تبعا للمحب الطبري. قال الأسنوي: واقتضاه كلام المتن كالمحرر، ولان سبب وجوبه وهو الاحرام لم يوجد،
ولهذا لو قال إن وطئتك فأنت طالق لم يمتنع عليه وطؤها، وإنما يجب النزع عقبه. وقد ذكر الشيخان في الصيد عدم
وجوب إزالة ملكه عنه قبل الاحرام مع أن المدرك فيهما واحد. وأجيب من جهة الأول بأن الوطئ يقع في النكاح
فلا يحرم، وإنما يجب النزع عقبه لأنه خروج عن المعصية، ولان موجبه ليس الوطئ بل الطلاق المعلق عليه فلا يصح
إلحاق الاحرام بالوطئ. وإما الصيد فيزول ملكه عنه بالاحرام كما سيأتي، بخلاف نزع الثوب لا يحصل به، فيجب قبله كما يجب
السعي إلى الجمعة قبل وقتها على بعيد الدار. وقول الأسنوي واقتضاه كلام المتن بناء على أن يتجرد بالنصب، وقد ضبطه
المصنف بالرفع. قال السبكي: وقد رأيت في الأصل الذي قابلته على خط المصنف: ويتجرد مضبوطا بضم الدال، أي
لأنه واجب فلا يعطف على السنن.
تنبيه: قوله: مخيط بفتح الميم وبالخاء المعجمة، وأولى منه محيط بضم الميم وبالحاء المهملة، لشموله اللبد والمنسوج،
ولو حذف لفظ الثياب كان أولى فإنه يجب نزع الخف والنعل. (و) يسن أن يكون النزع قبل التطيب، وأن (يلبس)
الرجل قبل الاحرام (إزارا ورداء) للاتباع، رواه الشيخان. (أبيضين) لخبر: البسوا من ثيابكم البياض. ويسن
أن يكونا جديدين وإلا فمغسولين. قال الأذرعي: والأحوط أن يغسل الجديد المقصور لنشر القصارين له على الأرض.
وقد استحب الشافعي رضي الله تعالى عنه غسل حصى الجمار احتياطا، وهذا أولى به، وقضية تعليله أن غير المقصور
كذلك، أي إذا توهمت نجاسته لا مطلقا، لأنه بدعة كما ذكره في المجموع. ويكره المصبوغ ولو بنيلة أو مغرة كراهة
تنزيه كما في المجموع للنهي عنه، لأن المحرم أشعث أغبر فلا يناسبه المصبوغ، أي بغير الزعفران، لما مر في باب اللباس أن
لبسه حرام على الرجل. وقيد الماوردي والروياني كراهة المصبوغ بما صبغ بعد النسج، وأما قبله فلا كراهة، ولكن
الأولى تركه. (و) يسن أن يلبس (نعلين) لخبر: ليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين رواه أبو عوانة في صحيحه.
وخرج بالرجل المرأة والخنثى، إذ لا نزع عليهما في غير الوجه والكفين. (و) أن (يصلي ركعتين) للاحرام قبله، لما روى
الشيخان أنه (ص) صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم. ويحرمان في وقت الكراهة في غير حرم مكة كما مر في كتاب
الصلاة. ويسن أن يقرأ في الركعة الأولى: * (قل يا أيها الكافرون) * وفي الثانية الاخلاص. ولو كان إحرامه في وقت
480

فريضة فصلاها أغنت عنهما كما في الروضة وأصلها، وإن قال في المجموع فيه نظر، وعلل ذلك بقوله: لأنهما سنة مقصودة فلا
تندرج كسنة الصبح وغيرها، ومثل الفريضة الراتبة، لأن المقصود الاحرام بعد صلاة، والأفضل أن يصليهما في مسجد
الميقات إن كان ثم مسجد، ولا فرق في صلاتهما بين الرجل وغيره. (ثم الأفضل أن يحرم) الشخص إن كان راكبا (
إذا انبعثت) أي استوت (به راحلته) أي دابته - كما في المحرر - قائمة إلى طريق مكة للاتباع، رواه الشيخان. (أو) يحرم
إذا (توجه لطريقه) حال كونه (ماشيا)، لما روى مسلم عن جابر: أمرنا رسول الله (ص) لما أهللنا - أي أردنا
أن نهل - أي نحرم إذا توجهنا، وعبارة التنبيه: إذا بدأ بالسير أحرم، وهي أخصر من العبارتين وأشمل. (
وفي قول يحرم عقب
الصلاة) جالسا للاتباع، رواه الترمذي، وقال: إنه حسن صحيح. ولا فرق في ذلك بين من يحرم من مكة أو غيرها.
نعم الامام يسن له أن يخطب يوم السابع بمكة، وأن يحرم قبل الخطبة فيتقدم إحرامه مسيره بيوم، لأن مسيره للنسك
إنما يكون في اليوم الثامن، قاله الماوردي، وهذا هو المعتمد، وإن قال الأذرعي كلام غيره ينازعه. وقال في المجموع:
ما قاله الماوردي غريب ومحتمل. (ويستحب) للمحرم (إكثار التلبية) من لب وألب بالمكان: أقام به، ولا فرق في ذلك
بين طاهر وحائض وجنب، للاتباع رواه مسلم، ولأنها شعار النسك. (ورفع صوته) أي الذكر (بها) رفعا لا يضر بنفسه (في دوام
إحرامه) هو متعلق بإكثار ورفع، أي ما دام محرما في جميع أحواله، لقوله (ص): أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي
أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية، قال الترمذي: حسن صحيح. وفي كلام المصنف إشارة إلى ما في المجموع عن الشيخ أبي محمد،
وأقره - استثناء التلبية المقارنة للاحرام، فإنه لا يجهر بها. أما المرأة فتخفض صوتها بحيث تقتصر على سماع نفسها، فإن رفعت
لم يحرم على الصحيح، والخنثى كالمرأة. ويسن للملبي في التلبية إدخال أصبعيه في أذنيه كما ذكره ابن حبان في صحيحه. (وخاصة)
هو اسم فاعل مختوم بالتاء بمعنى المصدر، وهو خصوصا: أي يتأكد. وقوله: (عند تغاير الأحوال) مزيد على المحرر
قصد به إفادة ضابط يؤخذ منه أشياء كثيرة، منها قوله: (كركوب ونزول وصعود وهبوط) بضم أولهما بخطه مصدر، ويجوز
فتحه اسم لمكان يصعد فيه ويهبط. (واختلاط رفقة) بتثليث الراء كما مر في التيمم: اسم لجماعة يرفق بعضهم لبعض، وأشار
بالكاف في كركوب إلى عدم الحصر فيما ذكر، فتتأكد في أمور أخر كإقبال ليل أو نهار وفراغ من صلاة وعند نوم
أو يقظة منه وعند سماع رعد أو هيجان ريح، قائما وقاعدا ومضطجعا ومستلقيا راكبا وماشيا. ويتأكد الاستحباب في المساجد
لا فرق بين المسجد الحرام وغيره ووقت السحر، ولا فرق بين الجنب والحائض والنفساء وغيرهم في أصل الاستحباب. وتكره
التلبية في مواضع النجاسات كغيرها من الأذكار تنزيها لذكر الله تعالى، ويستثنى من تغاير الأحوال ما تضمنه قوله: (ولا
تستحب) التلبية (في طواف القدوم) لأنه جاء فيه أدعية وأذكار خاصة، فصار كطواف الإفاضة والوداع، ولا تستحب
في السعي بعده أيضا ولا في الطواف المتبوع به لما ذكر. (وفي القديم تستحب فيه) وفي السعي بعده وفي المتطوع به
في أثناء الاحرام، لكن (بلا جهر) في ذلك لاطلاق الأدلة. وأما طواف الإفاضة والوداع فلا تستحب فيهما قطعا،
(ولفظها: لبيك) ومعناها: أنا مقيم في طاعتك. مأخوذ من لب بالمكان لبا وألب به إلبابا إذا أقام به، وزاد الأزهري: إقامة
بعد إقامة وإجابة بعد إجابة، وهو مثنى مضاف أريد به التكثير سقطت نونه للإضافة. (اللهم) أصله يا الله حذف حرف
النداء وعوض عنه الميم. (لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) أراد بنفي الشريك مخالفة المشركين فإنهم كانوا يقولون:
لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. (إن الحمد) بكسر الهمزة على الاستئناف. قال المصنف: وهو أصح
وأشهر، ويجوز فتحها على التعليل، أي لأن الحمد. (والنعمة لك) بنصب النعمة على المشهور، ويجوز رفعها على
481

الابتداء، والخبر محذوف. قال ابن الأنباري: وإن شئت جعلت خبر إن محذوفا، أي إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك.
(والملك لا شريك لك) وذلك للاتباع رواه الشيخان. ويسن أن يقف وقفة لطيفة عند قوله والملك، ثم يبتدئ ب‍ لا
شريك لك، وأن يكرر التلبية ثلاثا إذا لبى. والقصد بلبيك الإجابة لقوله تعالى لإبراهيم (ص): * (وأذن في الناس
بالحج) * فقال: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق. وقال مجاهد: قام إبراهيم على مقامه فقال: يا أيها
الناس أجيبوا ربكم فمن حج اليوم فهو ممن أجاب إبراهيم حينئذ. ويسن أن لا يزيد على هذه الكلمات ولا ينقص
عنها، ولا تكره الزيادة عليها، لما في الصحيحين أن ابن عمر كان يزيد في تلبية رسول الله (ص): لبيك لبيك وسعديك،
والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل. زاد الترمذي بعد بيديك: لبيك وهو ما أورده الرافعي. (وإذا رأى ما يعجبه) أو
يكرهه، وتركه المصنف اكتفاء بذكر مقابله، كقوله تعالى: * (سرابيل تقيكم الحر) * أي والبرد. (قال) ندبا: (لبيك إن العيش)
أي الحياة المطلوبة الدائمة الهنية. (عيش) أي حياة الدار (الآخرة) قاله (ص) حين وقف بعرفات ورأي
جمع المسلمين، رواه الشافعي وغيره عن مجاهد مرسلا. وقاله (ص) في أشد أحواله في حفر الخندق، رواه الشافعي
أيضا، ومن لا يحسن التلبية بالعربية يلبي بلغته. وهل يجوز للقادر على العربية أن يلبي بالعجمية؟ وجهان، بناهما المتولي
على الخلاف في نظيره من تسبيحات الصلاة، ومقتضاه عدم الجواز. والظاهر كما قال الأذرعي هنا الجواز، لأن الكلام
في الصلاة مفسد من حيث الجملة بخلاف التلبية، ولا يلزم من البناء الاتحاد في الترجيح. (وإذا فرغ من تلبيته صلى) وسلم
(على النبي (ص)) عقب فراغه، لقوله تعالى: * (ورفعنا لك ذكرك) * أي: لا أذكر إلا وتذكر معي لطلبي.
وتقول ذلك بصوت أخفض من صوت التلبية ليتميز عنه. قال الزعفراني: ويصلي على آله. (وسأل الله تعالى) بعد
ذلك (الجنة ورضوانه واستعاذ به من النار) كما رواه الشافعي وغيره عن فعله (ص)، لكن قال في المجموع:
والجمهور ضعفوه. ويسن أن يدعو بعد ذلك بما أحب دينا ودنيا. قال الزعفراني: فيقول: اللهم اجعلني من الذين
استجابوا لك ولرسولك وآمنوا بك ووثقوا بوعدك ووفوا بعهدك واتبعوا أمرك، اللهم اجعلني من وفدك الذين رضيت
وارتضيت، اللهم يسر لي أداء ما نويت وتقبل مني يا كريم.
خاتمة: يسن أن لا يتكلم في التلبية إلا برد سلام فإنه مندوب وتأخيره عنها أحب، وقد يجب الكلام في أثنائها
لعارض كأن رأى أعمى يقع ببئر، ويكره التسليم عليه في أثنائها لأنه يكره أن يقطعها.
باب دخوله مكة:
زادها الله شرفا وما يتعلق به، يقال: مكة بالميم وبكة بالباء لغتان، وقيل بالميم اسم للحرم كله وبالباء اسم للمسجد،
وقيل بالميم البلد وبالباء البيت مع المطاف، وقيل بدونه. ولها أسماء كثيرة تقرب من ثلاثين اسما ذكرها الدميري وغيره.
قال المصنف: ولا نعلم بلدا أكثر اسما من مكة والمدينة لكونهما أفضل الأرض، وذلك لكثرة الصفات المقتضية للتسمية،
وكثرة الأسماء تدل على شرف المسمى، ولهذا كثرت أسماء الله تعالى ورسوله (ص) حتى قيل إن لله تعالى ألف اسم
ولرسوله (ص) كذلك. ومكة أفضل الأرض عندنا خلافا لمالك في تفضيل المدينة. ونقل القاضي عياض الاجماع على
أن موضع قبره (ص) أفضل الأرض، والخلاف فيما سواه. مما يدل على أفضلية مكة حديث عبد الله بن عدي رضي
الله تعالى عنه: أنه سمع رسول الله (ص) وهو واقف على راحلته في سوق مكة يقول: والله إنك لخير
الأرض وأحب
أرض الله إلي ولولا أني أخرجت منك ما خرجت رواه النسائي والترمذي، وقال حسن صحيح، قال البكري: وهو
على شرط الشيخين. وأما ما روى من قوله (ص): اللهم إنك تعلم أنهم أخرجوني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب
482

البلاد إليك فقال ابن عبد البر: لا يختلف أهل العلم في نكارته وضعفه. واختلف في استحباب المجاورة بمكة، فقال
المصنف في الايضاح: المختار استحبابه إلا أن يغلب على ظنه الوقوع في الأمور المحذورة، و (الأفضل) للمحرم بالحج ولو
قارنا (دخولها قبل الوقوف) بعرفة إذا لم يخش فوته، للاتباع ولكثرة ما يحصل له من السنن الآتية. (وأن يغتسل
داخلها) بالرفع فاعل يغتسل: الجائي (من طريق المدينة) والشام ومصر والمغرب (بذي طوى) للاتباع، رواه الشيخان.
وطوى بالقصر وتثليث الطاء، والفتح أجود: واد بمكة بين الثنيتين وأقرب إلى السفلى، سمي بذلك لاشتماله على بئر مطوية
بالحجارة، يعني مبنية بها، والطي البناء. ويجوز فيها الصرف وعدمه على إرادة المكان أو البقعة. ولا فرق في الداخل
بين كونه حاجا أو معتمرا كما صرح به في المجموع. قال بعضهم: وعبارة الروضة تقتضي اختصاصه بالحاج، وليس مرادا،
بل مقتضى حديث الصحيحين استحبابه لمحرم وحلال. والراجح ما في المجموع. أما الغسل لدخول مكة فقد تقدم في الباب
المتقدم أنه مستحب مطلقا، وإنما أعاده لبيان محله وهو كونه من ذي طوى، وأما الجائي من غير طريق المدينة كاليمين
فيغتسل من نحو تلك المسافة كما في المجموع وغيره. قال المحب الطبري: ولو قيل باستحبابه لكل حاج ومعتمر لم يبعد اه‍.
والمعتمد الأول، وإطلاقهم يقتضي أنه لا فرق بين الرجل وغيره. (و) أن (يدخلها من ثنية كداء) بفتح الكاف والمد
والتنوين، وهي الثنية العليا، وهي موضع بأعلى مكة وإن لم تكن بطريقه كما صححه المصنف وصوبه لما قاله الجويني أنه
(ص) عرج إليها قصدا. وحكى الرافعي عن الأصحاب تخصيصه بالآتي من طريق المدينة للمشقة وهو الموافق لما تقدم
في الغسل، والمعتمد الأول. قال الأسنوي: ولعل الفرق على الأول أن ما ذكر في كداء من الحكمة الآتية غير حاصلة بسلوك
غيرها، وفي الغسل من قصد النظافة حاصل في كل موضع. وأن يخرج من ثنية كدى بضم الكاف والقصر والتنوين، وهي
الثنية السفلى عند جبل قعيقعان، لأنه (ص) كان يدخل من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى. والثنية الطريق الضيق بين
الجبلين. وخصت العليا بالدخول لقصد الداخل موضعا عالي المقدار والخارج عكسه، ولان إبراهيم عليه الصلاة والسلام
حين قال: * (فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم) * كان على العليا، كما روي عن ابن عباس. وقضيته كما قال الأسنوي استحباب
ذلك لغير المحرم، قاله السهيلي. ويسن كما في المجموع إذا دخل الحرم أن يستحضر في قلبه ما أمكنه من الخشوع بظاهره وباطنه
ويتذكر جلالة لحرم ومزينه على غيره، وأن يقول: اللهم هذا حرمك وأمنك، فحرمني على النار وأمني من عذابك يوم تبعث
عبادك، واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك. والأفضل أن يدخل مكة نهارا وماشيا إن لم يشق عليه ذلك، وأن يكون حافيا
إن لم تلحقه مشقة ولم يخف نجاسة رجله. ودخوله أول النهار بعد صلاة الفجر أفضل اقتداء به (ص)، وظاهر إطلاقهم أنه
لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة. وينبغي كما قال الأذرعي أن يكون دخول المرأة في نحو هودج ليلا أفضل. وأن يكون
دخوله بخشوع متضرعا، قال الماوردي: ويكون من دعائه: اللهم البلد بلدك والبيت بيتك، جئت أطلب رحمتك وأؤم
طاعتك متبعا لأمرك راضيا بقدرك مسلما لأمرك، أسألك مسألة المضطر إليك المشفق من عذابك أن تستقبلني بعفوك،
وأن تتجاوز عني برحمتك، وأن تدخلني جنتك. (و) أن (يقول) داخلها (إذا أبصر البيت) أي الكعبة، والداخل
من الثنية العليا يرى البيت من رأس الردم قبل دخوله المسجد، أو وصل محل رؤيته ولم يره لعمى أو ظلمة أو نحو ذلك
رافعا يديه: (اللهم زد هذا البيت تشريفا) هو الترفع والاعلاء، (وتعظيما) وهو التبجيل، (وتكريما) هو التفضيل، (ومهابة)
هي التوقير والاجلال، (وزد من شرفه وعظمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتكريما وتعظيما وبرا) هو الاتساع
في الاحسان والزيادة فيه، وذلك للاتباع، رواه الشافعي عن ابن جريج عن النبي (ص) مرسلا إلا أنه قال
وكرمه بدل وعظمه. (اللهم أنت السلام) أي ذو السلامة من النقائص، (ومنك السلام) أي ابتدئ منك، ومن أكرمته
483

بالسلام فقد سلم. (فحينا ربنا بالسلام) أي سلمنا بتحيتك من جميع الآفات، وذلك لما رواه البيهقي عن عمر رضي الله
تعالى عنه، قال في المجموع: بإسناد ليس بقوي. ويسن أن يدعو بما أحب من المهمات وأهمها المغفرة، (ثم يدخل)
عقب ذلك (المسجد) الحرام (من باب بني شيبة) أحد أبواب المسجد، وإن لم يكن بطريقه للاتباع، رواه البيهقي
بإسناد صحيح. والمعنى فيه: أن باب الكعبة والحجر الأسود في جهة ذلك الباب، وهي أشرف الجهات الأربع كما
قاله ابن عبد السلام في قواعده. وشيبة اسم رجل مفتاح الكعبة في يد ولده، وهو ابن عثمان بن طلحة.
تنبيه: ظاهر كلام المصنف أن الدخول من هذا الباب إنما يسن لمن أتى من طريق المدينة، فإنه عطف على قوله:
ويدخلها من ثنية كداء وليس مرادا، بل قال الرافعي: أطبقوا على استحباب الدخول منه لكل قادم سواء
أكان في طريقه أم لا، بخلاف الدخول من الثنية العليا، فإن فيه الخلاف المار. والفرق أن الدوران حول المسجد
لا يشق بخلافه حول البلد. ويسن أن يخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا، وهو المسمى الآن بباب الصفا، ومن باب
بني سهم إذا خرج إلى بلده، وهو المسمى اليوم بباب العمرة. (ويبتدئ) ندبا أول دخوله المسجد قبل تغيير ثيابه واكتراء
منزله ونحوهما، (بطواف القدوم) للاتباع، رواه الشيخان. والمعنى فيه أن الطواف تحية البيت لا المسجد فلذلك يبدأ
به، ويستثنى منه ما لو خاف فوت مكتوبة أو سنة مؤكدة أو وجد جماعة قائمة أو تذكر فائتة مكتوبة، فإنه يقدم ذلك على
الطواف كما في المجموع عن الأصحاب. ولو أقيمت الصلاة وهو في أثناء الطواف قطعه وصلى، لأن ما ذكر يفوت والطواف
لا يفوت. ولو حضرت جنازة قطعه إن كان نفلا، نص عليه. وفي الكفاية عن الماوردي أن من له عذر يبدأ بإزالته.
ولو قدمت امرأة نهارا وهي ذات جمال أو شرف - وهي التي لا تبرز للرجال - سن لها أن تؤخره إلى الليل، وقيده بعضهم
بما إذا أمنت الحيض الذي يطول زمنه، وهو كما قال ابن شهبة حسن. والخنثى كالأنثى كما قاله في المجموع. ولو دخل
المسجد وقد منع الناس من الطواف صلى تحية المسجد كما جزم به في المجموع، وإنما قدم الطواف عليها فيما مر لأن
القصد من إتيان المسجد البيت وتحيته الطواف، ولأنها تحصل بركعتيه غالبا. ولو أخر طواف القدوم ففي فواته
وجهان
حكاهما الامام، لأنه يشبه تحية المسجد، وقضيته أنه لا يفوت وهو كذلك، ومعلوم أنه لا يفوت بالجلوس في المسجد كما
تفوت به تحية المسجد، نعم يفوت بالوقوف بعرفة لا بالخروج من مكة. (ويختص طواف القدوم) في المحرم (بحاج دخل
مكة قبل الوقوف) مفردا كان أو قارنا، لأن الحاج بعد الوقوف والمعتمر قد دخل وقت طوافهما المفروض، فلا يصح
قبل أدائه أن يتطوعا بطواف قياسا على أصل النسك، وبهذا فارق ما نحن فيه الصلاة حيث أمر بالتحية قبل العرض.
أما الحلال فيسن طواف القدوم له، وإن أوهمت عبارة المصنف خلافه. وكما يسمى طواف القدوم يسمى طواف القادم وطواف
الورود والوارد والتحية.
فائدة: قال ابن أسباط: بين الركن والمقام وزمزم قبور تسعة وتسعين نبيا، وإن قبر هود وصالح وشعيب
وإسماعيل في تلك البقعة.
تنبيه: قال الولي العراقي: اعترض على تعبير المصنف بأنه مقلوب، وصوابه: ويختص حاج دخل مكة قبل الوقوف
بطواف القدوم فإن الباء تدخل على المقصور اه‍. لكن هذا أكثري لا كلي، فالتعبير بالصواب خطأ. (ومن قصد مكة)
أو الحرم (لا لنسك، استحب) له (أن يحرم بحج) إن كان في أشهره ويمكنه إدراكه، (أو عمرة) قياسا على التحية،
وهذا ما في المجموع عن الأكثرين وعن نص الشافعي في عامة كتبه. (وفي قول يجب) وهو منصوص الام وجعله
في البيان الأشهر، وصححه جمع منهم المصنف في نكت التنبيه. ويدل للأول حديث المواقيت السابق: هن لهن ولمن أتى
484

عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة. فلو وجب بمجرد الدخول لما علقه على الإرادة. (إلا أن يتكرر دخوله
كحطاب وصياد) فلا يجب عليهما جزما للمشقة بالتكرير، وعلى الوجوب لا دم عليه ولا قضاء بترك الاحرام.
تنبيه: ما ذكر من الحصر غير مراد، بل يشترط أيضا أن يكون داخلا من الحل، وأن لا يدخل لقتال مباح، ولا
خائفا من ظالم أو غريم يحبسه وهو معسر لا يمكنه معه الظهور لأداء النسك، وأن يكون حرا، فالرقيق لا إحرام عليه وإن
أذن له سيده على الأصح، وقصد الحرم كقصد مكة في جميع ما ذكر كما نبهت عليه، وإن أوهمت عبارته خلافه.
فصل: فيما يطلب في الطواف من واجبات وسنن. (للطواف بأنواعه) من قدوم وركن ووداع وما يتحلل به في
الفوات وطواف نذر وتطوع، (واجبات) لا بد منها فيه شروط كانت أو أركانا، فلا يصح بدونها ولو كان نفلا. (وسنن)
يصح بدونها. (أما الواجبات) في الطواف فثمانية: أحدها ما ذكره بقوله: (فيشترط) له (ستر العورة) كسترها في
الصلاة، فإن عجز عنها طاف عاريا وأجزأه كما لو صلى كذلك. (و) ثانيها: (طهارة الحدث والنجس) في الثوب والبدن
والمكان، لأن الطواف بالبيت صلاة كما نطق به الخبر، وفي الصحيحين: لا يطوف بالبيت عريان قال في المجموع:
ومما عمت به البلوى غلبة النجاسة في المطاف، وقد اختار جماعة من محققي أصحابنا العفو عنها. قال: وينبغي تقييده
بما يشق الاحتراز عنه من ذلك كما في دم البراغيث والقمل والبق وغيرهم مما مر، وكما في كثرة الاستنجاء بالأحجار،
وكما في طين الشارع المتيقن نجاسته اه‍. وقال الرافعي: لم أر للأئمة تشبيه مكان الطواف بالطريق في حق المتنفل، وهو
تشبيه لا بأس به، وقد عد ابن عبد السلام من البدع غسل بعض الناس المطاف، قال الأسنوي: والقياس منع المتيمم
والمتنجس العاجزين عن الماء من طواف الركن لوجوب الإعادة فلا فائدة في فعله، وإنما فعلت الصلاة كذلك لحرمة
الوقت، والطواف لا آخر لوقته. قال شيخنا: ويؤيده أن فاقد الطهورين إذا صلى ثم قدر على التيمم بعد الوقت لا يعيد
الصلاة في الحضر لعدم الفائدة. (فلو أحدث فيه) عمدا (توضأ) وأولى منه تطهر ليشمل الغسل. (وبنى) من موضع
الحدث سواء أكان عند الركن أم لا. (وفي قول يستأنف) كما في الصلاة. وفرق الأول بأن الطواف يحتمل فيه ما لا
يحتمل فيها، فإن سبقه الحدث فخلاف مرتب على العمد وأولى بالبناء إن قصر الفصل، وكذا إن طال في الأصح. ولو
تنجس ثوبه أو بدنه أو مطافه بما لا يعفى عنه، أو انكشف شئ من عورته كأن بدا شئ من شعر رأس الحرة أو ظفر
من رجلها لم يصح المفعول بعد، فإن زال المانع بنى على ما مضى كالمحدث سواء أطال الفصل أم قصر كما مر، لعدم اشتراط
الولاء فيه كالوضوء، لأن كلا منهما عبادة يجوز أن يتخللها ما ليس منها بخلاف الصلاة. لكن يسن الاستئناف خروجا
من خلاف من أوجبه. ولو نام في الطواف على هيئة لا تنقض الوضوء لم ينقطع طوافه. (و) ثالثها: (أن
يجعل) الطائف
(البيت) في طوافه (عن يساره) مارا تلقاء وجهه إلى جهة الباب للاتباع كما أخرجه مسلم مع خبر: خذوا عني مناسككم.
فإن جعله عن يمينه ومشى أمامه، أو استقبله أو استدبره وطاف معترضا، أو جعله عن يمينه أو يساره ومشى
القهقري، لم يصح طوافه لمنابذته لما ورد الشرع به. ولو طاف مستلقيا على ظهره أو على وجهه مع مراعاة كون
البيت عن يساره صح كما هو مقتضى كلامهم، بخلاف ما لو طاف منكسا رأسه إلى أسفل ورجلاه إلى فوق، فإنه لا يكفي
كما هو ظاهر.
تنبيه: لو زاد المصنف ما زدته لكان أولى ليخرج هذه الصورة المذكورة، وقد ذكر الأسنوي أن هذه المسألة
تنقسم إلى اثنين وثلاثين قسما. قال الأذرعي: وأكثر ذلك مما يمجه السمع ولا يقبل تجويزه الذهن، وكان السكوت عنه
أولى. ويستثنى من كلام المصنف استقبال الحجر الأسود في ابتداء الطواف كما سيأتي. (و) رابعها: كونه (مبتدئا) في ذلك
485

(بالحجر الأسود) للاتباع، رواه مسلم. (محاذيا) بالمعجمة، (له) أي الحجر أو بعضه، (في مروره) عليه ابتداء، (بجميع بدنه) بأن
لا يتقدم جزء من بدنه على جزء من الحجر، والمراد بجميع البدن جمع الشق الأيسر. واكتفى بمحاذاة جزء من الحجر كما اكتفى
بمحاذاة جميع بدنه بجزء من الكعبة في الصلاة. وصفة المحاذاة كما قال المصنف أن يستقبل البيت ويقف على جانب الحجر الذي
لجهة الركن اليماني بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ومنكبه الأيمن عند طرفه، ثم ينوي الطواف ويمر مستقبلا إلى جهة
يمينه حتى يجاوز الحجر، فإذا جاوزه انفتل وجعل البيت عن يساره، وهذا خاص بالطوفة الأولى فليس لنا حالة يجوز استقبال
البيت فيها في الطواف إلا هذه، فهي مستثناة كما مر. وهذا مندوب، فلو جعل البيت عن يساره ابتداء من غير
استقبال صح وفاتته الفضيلة. واعلم أن المحاذاة الواجبة تتعلق بالركن الذي فيه الحجر الأسود لا بالحجر نفسه، حتى لو فرض -
والعياذ بالله تعالى - أنه نحى عن مكانه وجبت محاذاة الركن كما قاله القاضي أبو الطيب، ويسن حينئذ استلام محله وتقبيله
والسجود عليه كما سيأتي. (فلو بدأ) في طوافه (بغير الحجر) كأن ابتدأ بالباب، (لم يحسب) ما طافه. (فإذا انتهى
إليه) أي الحجر، (ابتدأ منه) وحسب له الطواف من حينئذ، كما لو قدم المتوضئ على غسل الوجه غسل عضو آخر، فإنه
يجعل الوجه أول وضوئه، وظاهر هذا أن النية إذا كانت واجبة لا بد من استحضارها عند محاذاة الحجر. ويشترط
أيضا خروج جميع بدنه عن جميع البيت كما نبه على ذلك بقوله: (ولو مشى على الشاذروان) وهو بفتح الذال المعجمة:
الخارج عن عرض جدار البيت مرتفعا عن وجه الأرض قدر ثلثي ذراع، تركته قريش لضيق النفقة. قال المصنف في
مناسكه وغيره عن أصحابنا وغيرهم: والشاذروان ظاهر في جوانب البيت، لكن لا يظهر عند الحجر الأسود، أي وكأنهم
تركوا رفعه لتهوين الاستلام، وقد أحدث في هذه الأزمان عنده شاذروان. قال: وينبغي أن يتفطن لدقيقة، وهي أن
من قبل الحجر الأسود فرأسه في حال التقبيل في جزء من البيت، فيلزمه أن يقر قدميه في محلهما حتى يفرغ من التقبيل
ويعتدل قائما. (أو) أدخل جزءا من بدنه في جزء من البيت، كأن (مس الجدار) الكائن (في موازاته) أي
الشاذروان، أو أدخل جزءا منه في هواء الشاذروان، أو هواء غيره من أجزاء البيت، (أو دخل من إحدى فتحتي الحجر)
بكسر الحاء وإسكان الجيم: المحوط بين الركنين الشاميين بجدار قصير بينه وبين كل من الركنين فتحة. (وخرج من)
الفتحة (الأخرى) أو خلف منه قدر الذي من البيت وهو ستة أذرع، واقتحم الجدار وخرج من الجانب الآخر. (لم
يصح طوافه) في المسائل المذكورة، أما في غير الحجر فلقوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) * وإنما يكون طائفا به
إذا كان خارجا عنه وإلا فهو طائف فيه. وأما في الحجر فلانه (ص) إنما طاف خارجه، وقال: خذوا عني مناسككم ولخبر مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها: سألت رسول الله (ص) عن الحجر أمن البيت هو؟ قال: نعم، قلت:
فما بالهم لم يدخلوه البيت؟ قال: إن قومك قصرت بهم النفقة، قلت: فما شأن بابه مرتفعا؟ قال: فعل ذلك قومك
ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديثو عهد في الجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدار
في البيت وأن ألصق بابه بالأرض لفعلت. وظاهر الخبر أن الحجر جميعه من البيت. قال في أصل الروضة: وهو قضية
كلام الأكثرين من الأصحاب وظاهر نص المختصر، لكن الصحيح أنه ليس كذلك، بل الذي هو من البيت قدر ستة
أذرع تتصل بالبيت، وقيل ستة أو سبعة، ولفظ المختصر محمول على هذا، ومع ذلك يجب الطواف خارجه
لما مر لأن
الحج باب اتباع، وعلم من منع مرور بعض البدن على الشاذروان أن مرور بعض ثيابه لا يضر وهو كذلك. (وفي
مسألة المس وجه) بصحة الطواف، لأن معظم بدنه خارج فيصدق أنه طائف بالبيت، وذهب إليه الفوراني. (و) خامسها:
(أن يطوف) بالبيت (سبعا) من الطوفات ولو في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها للاتباع، فلو ترك من السبع شيئا.
وإن قل لم يجزه، فلو شك في العدد أخذ بالأقل كعدد ركعات الصلاة، فلو اعتقد أنه طاف سبعا فأخبره عدل بأنه ستا
486

استحب العمل بقوله، قاله في الأنوار وجزم به السبكي، بخلاف عدد ركعات الصلاة، والفرق أن زيادة الركعات مبطلة بخلاف
الطواف. ولا بد أن يحاذي شيئا من الحجر بعد الطوفة السابعة مما حاذاه أولا. (و) سادسها: كونه (داخل المسجد)
للاتباع أيضا، فلا يصح حوله بالاجماع كما نقله في المجموع، ويصح داخل المسجد وإن وسع وحال حائل بين الطائف والبيت
كالسقاية والسواري. نعم لو زيد فيه حتى بلغ الحل فطاف فيه في الحل لم يصح كما هو القياس في المهمات، ويصح على
سطح المسجد وإن كان سقف المسجد أعلى من البيت كالصلاة على جبل أبي قبيس مع ارتفاعه عن البيت. وهذا هو
المعتمد، وإن فرق بأن المقصود في الصلاة جهة بنائها، فإذا علا كان مستقبلا. والمقصود في الطواف نفس بنائها، فإذا
علا لم يكن طائفا به. وسابعها: نية الطواف إن استقل بأن لم يشمله نسك كسائر العبادات كالطواف المنذور والمتطوع
به. قال ابن الرفعة: وطواف الوداع لا بد له من نية، لأنه يقع بعد التحلل، ولأنه ليس من المناسك عند الشيخين كما
سيأتي، بخلاف الذي شمله نسك وهو طواف الركن للحج أو العمرة وطواف القدوم فلا يحتاج في ذلك إلى نية لشمول
نية النسك له. وثامنها: عدم صرفه لغيره كطلب غريم كما في الصلاة، فإن صرفه انقطع لا إن نام فيه على هيئة لا تنقض
الوضوء. (وأما السنن) المطلوبة للطائف فثمانية: أحدها: ما ذكره بقوله: (فأن يطوف ماشيا) ولو امرأة للاتباع، رواه
مسلم، لا محمولا على آدمي أو بهيمة أو نحو ذلك لمنافاة الخشوع، ولان البهيمة قد تؤذي الناس وتلوث المسجد. نعم إن كان
له عذر من مرض ونحوه فلا بأس لما في الصحيحين: أن أم سلمة قدمت مريضة، فقال لها رسول الله
(ص): طوفي وراء الناس وأنت راكبة وفيها أنه (ص) طاف راكعا في حجة الوداع ليظهر فيستفتي، فلمن احتيج
إلى ظهوره للفتوى أن يتأسى به، فلو ركب بهيمة بلا عذر لم يكره وكان خلاف الأولى كما في المجموع عن الجمهور، وهذا
عند أمن التلويث، وإلا حرم إدخالها المسجد، وقول الإمام: وفي القلب من إدخال البهيمة شئ، أي التي لا يؤمن من تلويثها
المسجد، فإن أمكن الاستيثاق فذاك، أي خلاف الأولى، وإلا فإدخالها مكروه محمول على كراهة التحريم لما سيأتي في
الشهادات أن إدخال البهائم التي لا يؤمن تلويثها المسجد حرام. وما فرق به من أن إدخال البهيمة إنما هو لحاجة إقامة
السنة كما فعله (ص)، إطلاقه ممنوع، لأن ذلك إذا لم يخف تلويثها، ولا يقاس ذلك على إدخال الصبيان المحرمين المسجد
لأن ذلك ضروري. وأيضا يمكن الاحتراز عنه عند الخوف بالتحفظ ونحوه، ولا كذلك البهيمة. ونقل الأسنوي
الكراهة عند أمن التلويث عن جزم الرافعي والنووي في مجموعه في الفصل المعقود لأحكام المساجد، وقال: إن عدم
الكراهة مخالف لما في كتب الأصحاب ولنص الشافعي. وما رد به على الأسنوي من عدم الكراهة بأن من حفظ عدم
الكراهة حجة على من يحفظ، ممنوع، إذ المثبت مقدم على النافي، والأسنوي مثبت الكراهة وغيره ناف لها.
وقال الأشموني في بسط الأنوار: قلت: نص الشافعي على كراهة الركوب بلا عذر وجزم بها في شرح المهذب، وقال من
زيادته في كتاب الشهادات: إدخال الصبيان في المسجد حرام إن غلب تنجيسهم له، وإن لم يغلب فمكروه، قال، أعني
الأشموني: وأقل مراتب البهائم أن تكون كالصبيان في ذلك. وقال الأذرعي: إنه المذهب بلا شك، ومع ذلك فترك
الكراهة هنا كما مر أولى للحاجة لإقامة السنة، بخلاف إدخالها لغير ذلك، فيكره عند الامن كما مر أيضا. قال
الماوردي: وحكم طواف المحمول على أكتاف الرجال كالراكب فيما ذكر، وإذا كان معذورا فطوافه محمولا أولى منه
راكبا صيانة للمسجد من الدابة، وركوب الإبل أيسر حالا من ركوب البغال والحمير. ذكر ذلك في المجموع، وفيه:
ولو طاف زحفا مع قدرته على المشي صح مع الكراهة. قال الأسنوي: ويسن أن يكون حافيا في طوافه كما نبه عليه
بعضهم، أي عند عدم العذر. قال في الاملاء: وأحب لو كان يطوف بالبيت حافيا أن يقصر في المشي لتكثر
خطاه رجاء
كثرة الاجر له. (و) ثانيها: أن (يستلم الحجر) الأسود بعد استقباله، أي يلمسه بيده (أول طوافه) ويسن أن
تكون يده اليمنى. (ويقبله) للاتباع، رواه الشيخان. فإن لم يتمكن من الاستلام باليد استلم بخشبة ونحوها.
وإن كان ظاهر كلام المصنف أنه مخير بين اليد وغيرها، فإنه لم يبين ما يستلمه به. قال في المجموع: ويسن أن يخفف
487

القبلة بحيث لا يظهر لها صوت. ولا يسن للمرأة استلام ولا تقبيل ولا قرب من البيت إلا عند خلو المطاف ليلا أو نهارا،
وإن خصه في الكفاية بالليل. والخنثى كالمرأة. (ويضع) بعد ذلك (جبهته عليه) للاتباع، رواه البيهقي. ويسن أن
يكون التقبيل والسجود ثلاثا كما في المجموع عن الأصحاب، وهذا الحكم إنما هو للركن حتى لو نحي الحجر أو وضع في
موضع آخر من الكعبة استلم الركن الذي كان فيه وقبله وسجد عليه، حكاه في المجموع عن الدارمي وسكت عليه. (فإن
عجز) عن تقبيله ووضع جبهته عليه لزحمة مثلا، (استلم) بيده، لما روى الشافعي وأحمد عن عمر رضي الله تعالى عنه
أن النبي (ص) قال: يا عمر إنك رجل قوي، لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف إن وجدت خلوة وإلا فهلل وكبر.
وقال في البويطي: ولو كان الزحام كثيرا مضى وكبر ولم يستلم. قال في المجموع: كذا أطلقوه. وقال البندنيجي: قال
الشافعي في الام: إلا في أول الطواف وآخره، واجب له الاستلام ولو بالزحام. وهذا مع توقي التأذي والإيذاء كما
أفهمه كلام الأسنوي، وهو ظاهر، فإن عجز عن استلامه بيده استلمه بنحو عصا، ثم يقبل ما استلمه به من يد أو نحو
العصا لخبر الصحيحين: إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، ولما روى مسلم عن نافع قال: رأيت ابن عمر
يستلم الحجر بيده ثم يقبل يده ويقول: ما تركته منذ رأيت رسول الله (ص) يفعله مع أن ظاهره مع أخبار أخر أنه
يقبل يده بعد استلام الحجر بها مع تقبيل الحجر إذا لم يتعذر، وبه صرح ابن الصلاح في منسكه، وهو قضية اطلاق
الشافعي وجماعة، لكن خصه الشيخان، ومختصر كلامهما يتعذر تقبيله كما تقرر، ونقله في المجموع عن الأصحاب. (فإن
عجز) عن استلامه بيده أو غيرها، (أشار) إليه (بيده) أو بشئ فيها كما صرح به في المجموع. وروى البخاري
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: طاف النبي (ص) على بعير له كلما أتى الركن أشار إليه بشئ عنده
وكبر. ولا يندب أن يشير إلى القبلة بالفم لأنه لم ينقل عنه. واحترز بقوله بيده وإن كان يوهم
أنه لا يشير بما فيها مع أنه يشير به كما صرح به في المجموع. واعلم أن الاستلام والإشارة إنما يكونان باليد اليمنى، فإن عجز فباليسرى، قال
شيخنا: على الأقرب، كما قاله الزركشي. (ويراعى ذلك) أي الاستلام وما بعده، (في كل طوفة) من الطوفات السبع،
لما في سنن أبي داود والنسائي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه (ص) كان لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر
الأسود في كل طوفة وهو في الأوتار آكد، لحديث: إن الله وتر يحب الوتر ولأنه يصير مستلما في افتتاحه
واختتامه وهو أكثر عددا. (ولا يقبل الركنين الشاميين) وهما اللذان عندهما الحجر، بكسر المهملة. (ولا يستلمهما) بيده
ولا بشئ فيها، أي لا يسن ذلك لما في الصحيحين عن ابن عمر: أنه (ص) كان لا يستلم إلا الحجر والركن اليماني.
(ويستلم) الركن (اليماني) ندبا في كل طوفة للحديث المذكور. (ولا يقبله) لأنه لم ينقل، ولكن يقبل بعد استلامه
ما استلمه به، فإن عجز عن استلامه أشار إليه كما نقله ابن عبد السلام خلافا لابن أبي الصيف اليمني، لأنها بدل عنه
لترتبها عليها عند العجز في الحجر الأسود فكذا هنا. ومقتضى القياس أنه يقبل ما أشار به، وهو كذلك كما أفتى به شيخي.
والمراد بعدم تقبيل الأركان الثلاثة إنما هو نفي كونه سنة، فلو قبلهن أو غيرهن من البيت لم يكن مكروها ولا خلاف
الأولى، بل يكون حسنا كما نقله في الاستقصاء عن نص الشافعي، وقال: وأي البيت قبل فحسن، غير أنا نؤمر بالاتباع.
قال الأسنوي: فتفطن له فإنه أمر مهم.
فائدة: السبب في اختلاف الأركان في هذه الأحكام أن الركن الذي فيه الحجر الأسود فيه فضيلتان: كون الحجر
فيه، وكونه على قواعد سيدنا إبراهيم (ص)، واليماني فيه فضيلة واحدة، وهو كونه على قواعد سيدنا إبراهيم.
وأما الشاميان فليس لهما شئ من الفضيلتين. (و) ثالثها: الدعاء المأثور، فيسن (أن يقول أول طوافه) وكذا في
كل طوفة كما في المجموع، لكن الأولى آكد: (بسم الله) أطوف، (والله أكبر) واستحب الشيخ أبو حامد رفع
488

اليدين عند التكبير، (اللهم) أطوف (إيمانا بك، وتصديقا بكتابك، ووفاء) أي تماما (بعهدك) وهو الميثاق
الذي
أخذه الله تعالى علينا بامتثال أمره واجتناب نهيه، (واتباعا لسنة نبيك محمد (ص)) اتباعا للسلف والخلف.
وإيمانا وما بعده مفعول لأجله، والتقدير: أفعله إيمانا بك إلخ.
فائدة: قال بعض العلماء: لما خلق الله تعالى آدم استخرج ذريته من صلبه، وقال: * (ألست بربكم قالوا بلى) *،
فأمر أن يكتب بذلك عهد ويدرج في الحجر الأسود. (وليقل) ندبا (قبالة الباب) بضم القاف، أي في الجهة التي تقابله:
(اللهم إن البيت بيتك، والحرم حرمك، والامن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار) هذا الدعاء من زوائد المنهاج،
وأصله على الروضة وأصلها، وقد ذكره الشيخ أبو محمد الجويني، وقال: يشير إلى مقام إبراهيم (ص).
وهذا هو المعتمد كما جزم به في الأنوار وشيخنا في شرح الروض. وقال ابن الصلاح: يعني بالعائذ نفسه، أي: هذا
الملتجئ المستعيذ بك من النار. والقول بأنه يشير به إلى مقام إبراهيم وأن العائذ هو إبراهيم (ص) غلط
فاحش وقع لبعض عوام مكة. وعند الانتهاء إلى الركن العراقي: اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك والنفاق والشقاق
وسوء الأخلاق وسوء المنظر في الأهل والمال والولد. وعند الانتهاء إلى تحت الميزاب: اللهم أظلني في ظلك يوم لا ظل
إلا ظلك، واسقني بكأس نبيك محمد (ص) شرابا هنيئا لا أظمأ بعده يا ذا الجلال والاكرام. وبين الركن الشامي
واليماني: اللهم اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا وعملا مقبولا وتجارة لن تبور، يا عزيز يا غفور
أي واجعل ذنبي ذنبا مغفورا، وقس به الباقي. والمناسب للمعتمر أن يقول: عمرة مبرورة، ويحتمل استحباب التعبير بالحج
مراعاة للخبر ويقصد المعنى اللغوي وهو القصد، نبه عليه الأسنوي في الدعاء الآتي في الرمل. ومحل الدعاء بهذا إذا
كان في ضمن حج أو عمرة وإلا فيدعو بما أحب. (وبين اليمانيين: اللهم) وفي المجموع: ربنا (آتنا في الدنيا حسنة) قيل:
هي المرأة الصالحة، وقيل: العلم وقيل غير ذلك. (وفي الآخرة حسنة) قيل: هي الجنة، وقيل: العفو، وقيل غير ذلك.
(وقنا عذاب النار) قال الشافعي رضي الله تعالى عنه: وهذا أحب ما يقال في الطواف إلي، وأحب أن يقال في
كله، أي الطواف. (وليدع بما شاء) في جميع طوافه، فهو سنة، مأثورا كان أو غيره، وإن كان المأثور أفضل
كما قال. (ومأثور الدعاء) بالمثلثة، أي المنقول، من الدعاء في الطواف، (أفضل) من غيره، و (من القراءة فيه) للاتباع،
(وهو أفضل من غير مأثوره) لأن الموضع موضع ذكر، والقرآن أفضل الذكر كما نقله الشيخ أبو حامد عن النص،
وفي الحديث: يقول الرب سبحانه وتعالى: من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل
كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله تعالى على سائر خلقه رواه الترمذي وحسنه. ويسن الاسرار بالذكر
والقراءة لأنه أجمع للخشوع، ويراعى ذلك أيضا في كل طوفة اغتناما للثواب، وهو في الأولى، ثم في الأوتار آكد.
(و) رابعها: (أن يرمل) الذكر الماشي ولو صبيا، (في الأشواط الثلاثة الأولى) كلها مستوعبا به البيت، لا كما يفهمه
كلامه من الاكتفاء بالرمل في بعضها. والمختار كما في المجموع أنه لا يكره تسمية الطواف بالأشواط، وقيس به الرمل.
(بأن يسرع) الطائف (مشيه مقاربا خطاه) لا عدو فيه ولا وثب، (ويمشي في الباقي) من طوافه على هينته، لما
روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: قال كان رسول الله (ص): إذا طاف بالبيت الطواف
الأول خب ثلاثا ومشى أربعا، وروى مسلم عنه قال: رمل النبي (ص) من الحجر إلى الحجر ثلاثا ومشى
489

أربعا. فإن طاف راكبا أو محمولا حرك الدابة ورمل به الحامل. ويكره ترك الرمل بلا عذر، ولو تركه في شئ من
الثلاثة لم يقضه في الأربعة الباقية لأن هيئتها السكون فلا يغير، كما لو ترك الجهر في الركعتين الأوليين فلا يقضي بعدهما لتفويت
سنة الاسرار.
تنبيه: كان ينبغي للمصنف أن يزيد على هيئته كما زدته تبعا للمحرر، فإن الاسراع في المشي ليس قسيمه المشي
بل التأني فيه. والحكمة في استحباب الرمل مع زوال المعنى الذي شرع السعي لأجله، وهو أنه (ص) لما قدم
مكة هو وأصحابه وقد وهنتهم حمى يثرب، فقال المشركون: إنه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمى. فلقوا منها شدة
فجلسوا مما يلي الحجر، فأمرهم النبي (ص) أن يرملوا ثلاثة أشواط وأن يمشوا أربعا بين الركنين ليرى المشركون
جلدهم، فقال المشركون: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا، لأن فاعله يستحضر به
سبب ذلك، وهو ظهور أمرهم، فيتذكر نعمة الله تعالى على إعزاز الاسلام وأهله. ويكره تركه كما نقل عن
النص،
والمبالغة في الاسراع فيه، وليدع بما شاء. (ويختص الرمل) ويسمى خببا، (بطواف يعقبه سعي) مشروع بأن يكون بعد
طواف قدوم أو ركن. (وفي قول) يختص (بطواف القدوم) لأن ما رمل فيه النبي (ص) كان للقدوم وسعى
عقبه، فعلى القولين لا يرمل في طواف الوداع. وكذا من سعى عقب طوافه للقدوم لا يرمل في طواف الإفاضة إن لم
يرد السعي عقبه، وكذا إن أراده في الأظهر لأنه غير مطلوب منه. وإن طاف للقدوم ولم يسع عقبه ثم طاف للإفاضة
رمل على الأول دون الثاني. والحاج من مكة يرمل في طوافه على الأول دون الثاني. وإذا طاف للقدوم وسعى عقبه
ولم يرمل فيه لا يقضيه في طواف الإفاضة. ولو طاف ورمل ولم يسع رمل في طواف الإفاضة لبقاء السعي عليه. (وليقل فيه)
أي في رمله: (اللهم اجعله) أي ما أنا فيه من العمل، (حجا مبرورا) وهو الذي لا يخالطه معصية، مأخوذ من البر، وهو
الطاعة، وقيل: هو المتقبل. (وذنبا مغفورا) أي اجعل ذنبي ذنبا مغفورا. (وسعيا مشكورا) والسعي هو للعمل
والمشكور المتقبل، وقيل: الذي يشكر عليه للاتباع كما قاله الرافعي، هذا إذا كان حجا، فأما المعتمر فيأتي فيه ما تقدم
في دعاء المطاف. وسكت الشيخان عما يقوله في الأربعة الأخيرة، ونص الشافعي والأصحاب على أنه يسن أن يقول
فيها: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم، اللهم * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
وقنا عذاب النار) *. (و) خامسها: (أن يضطبع) الذكر ولو صبيا، (في جميع كل طواف يرمل فيه) وسيأتي بيانه
قريبا للاتباع، رواه أبو داود بإسناد صحيح كما في المجموع. (وكذا) يضطبع (في السعي على الصحيح) قياسا على
الطواف بجامع قطع مسافة مأمور بتكريرها، وسواء اضطبع في الطواف قبله أم لا. والثاني: لا، لعدم وروده.
وكلامه قد يفهم عدم استحبابه في ركعتي الطواف، وهو الأصح، لكراهة الاضطباع في الصلاة فيزيله عند إرادتها ويعيده
عند إرادة السعي. ولا يسن في طواف لا يسن فيه رمل. (وهو جعل وسط ردائه) بفتح السين في الأوضح، (تحت
منكبه الأيمن) ويكشفه، (و) جعل (طرفيه على الأيسر) كدأب أهل الشطارة. والاضطباع افتعال مشتق من
الضبع بإسكان الباء، وهو العضد. (ولا ترمل المرأة ولا تضطبع) أي لا يطلب منها ذلك، لأن بالرمل تتبين أعطافها،
وبالاضطباع ينكشف ما هو عورة منها. والمعنى السابق وهو كونه دأب أهل الشطارة يقتضي تحريمه كما قاله الأسنوي،
لأن ذلك يؤدي إلى التشبه بالرجال بل بأهل الشطارة منهم، والتشبه بهم حرام، ومثلها الخنثى. (و) سادسها: (أن
يقرب من البيت) لشرفه ولأنه أيسر في الاستلام والتقبيل، والأولى كما قاله بعضهم: أن يجعل بينه وبين البيت ثلاث
490

خطوات ليأمن مرور بعض جسده على الشاذروان. نعم إن تأذى أو أذى غيره بنحو زحمة فالبعد أولى، وهذا كله خاص
بالرجال. أما المرأة والخنثى فيكونان في حاشية المطاف، فإن طافا خاليين فكالرجل في استحباب القرب. (فلو فات الرمل
بالقرب) من البيت (لزحمة) أو نحوها ولم يرج فرجة مع القرب يرمل فيها لو انتظر. (فالرمل مع بعد) عنه (أولى) لأن
القرب فضيلة تتعلق بموضع العبادة، والرمل فضيلة تتعلق بنفس العبادة، والمتعلقة بنفس العبادة أولى بالمحافظة، ألا ترى
أن الصلاة بالجماعة في البيت أفضل من الانفراد في المسجد غير المساجد الثلاث كما مر؟ فإن رجاها وقف ليرمل فيها، (إلا
أن يخاف صدم النساء) بأن كن في حاشية المطاف، (فالقرب بلا رمل أولى) من البعد مع الرمل محافظة على الطهارة، ولو
خاف مع القرب أيضا لمسهن فترك الرمل أولى. ويسن أن يتحرك في مشيه ويري من نفسه أنه لو أمكنه لرمل كما في العدو
في السعي. (و) سابعها: (أن يوالي) الطائف (طوافه) اتباعا وخروجا من خلاف من أوجبه. ويجوز الكلام فيه ولا يبطل
به لقوله (ص): ألا إن الله أحل فيه المنطق، ولكن الأولى تركه إلا في خير، كأمر بمعروف، ونهي عن منكر،
وتعليم جاهل، وجواب مستفت. ويكره أن يبصق فيه، وأن يجعل يديه وراء ظهره مكتتفا، وأن يضع يده على فمه إلا
في حالة التثاؤب فإن ذلك يستحب، وأن يشبك أصابعه أو يفرقعها، وأن يكون حاقنا أو حاقبا أو بحضرة طعام تتوق إليه
نفسه، وأن تكون المرأة منتقبة. ويكره فيه الأكل والشرب، وكراهة الشرب أخف. وينبغي أن يكون في طوافه خاشعا
خاضعا حاضر القلب ملازما للأدب بظاهره وباطنه مستحضرا في قلبه عظمة من هو طائف ببيته. ويلزمه أن
يصون نظره
عما لا يحل نظره إليه وقلبه عن احتقار من يراه من الضعفاء والمرضى ويعلم السائل برفق. وهل الأفضل التطوع في المسجد
الحرام بالطواف أو الصلاة؟ قال الماوردي: الطواف أفضل، وظاهر قول غيره: أن الصلاة أفضل، وهو المعتمد.
وقال ابن عباس: الصلاة لأهل مكة والطواف للغرباء. (و) ثامنها: (أن يصلي بعده ركعتين) وتجزئ عنهما الفريضة والراتبة
كما في تحية المسجد وفعلهما. (خلف المقام) الذي لإبراهيم (ص) أفضل للاتباع ثم في الحجر. قال في المجموع:
تحت الميزاب ثم في المسجد الحرام ثم في الحرم حيث شاء من الأمكنة متى شاء من الأزمنة، ولا يفوتان إلا بموته. ومال
الأسنوي إلى أن فعلهما في الكعبة أولى منه خلف المقام، والأفضل ما في المتن لأن الباب باب اتباع، وقد ثبت في الصحيحين،
أنه (ص) صلاهما خلف المقام، وقال: خذوا عني مناسككم. وقال في التوسط: ولا أحسب في أفضلية
فعلهما خلف المقام خلافا بين الأئمة، وهو إجماع متوارث لا يشك فيه، بل ذهب الثوري إلى أنه لا يجوز فعلهما إلا خلف
المقام كما نقله عنه صاحب الشامل وغيره. وبحث بعضهم بعد المسجد بيت خديجة رضي الله تعالى عنها ثم باقي مكة ثم الحرم،
وظاهر كلامهم يخالفه. قال في أصل الروضة: ويسن له إذا أخر ركعتي الطواف إراقة دم، أي كدم التمتع. وقيده ابن
المقري بما إذا صلاهما في غير الحرم لتأخرهما إليه عن الحرم، والظاهر عدم التقييد. ويصليهما الأجير عن المستأجر والولي عن
غير المميز ولو والى بين أسابيع طوافين أو أكثر ثم والى بين ركعاتها لكل طواف ركعتيه، جاز بلا كراهة كما في المجموع
عن الأصحاب، والأفضل خلافه بأن يصلي عقب كل طواف ركعتيه، ولو صلى للجميع ركعتين لم يكره. (يقرأ في
الأولى) منهما سورة (قل يا أيها الكافرون، و) يقرأ (في الثانية) سورة الاخلاص) للاتباع كما رواه مسلم، ولما في
قراءتهما من الاخلاص المناسب لما هنا، لأن المشركين كانوا يعبدون الأصنام. (ويجهر) فيهما (ليلا) مع ما ألحق به
من الفجر إلى طلوع الشمس كما تقدم ذلك في صفة الصلاة. وسكت عنه المصنف للعلم به وإن كان الأولى له ذكره.
ويسن فيما عدا ذلك قياسا على الكسوف وغيره، ولما فيه من إظهار شعار النسك. فإن قيل: قد صحح المصنف
وغيره في
491

صفة الصلاة أن الأفضل في النوافل المفعولة ليلا أن يتوسط فيها بين الجهر والاسرار. أجيب بأن ذلك محله في النافلة
المطلقة كما مر. (وفي قول تجب الموالاة) بين أشواطه وأبعاضها، (و) تجب (الصلاة) لأنه (ص) أتى بالامرين
وقال: خذوا عني مناسككم والأصح الأول، أما الموالاة: فلما مر في الوضوء، فإن الخلاف هنا هو الخلاف المذكور
هناك. ومحل الخلاف في التفريق الكثير بلا عذر، فإن فرق يسيرا أو كثيرا بعذر لم يضر جزما كالوضوء. قال الامام:
والكثير، هو ما يغلب على الظن بتركه ترك الطواف، إما بالاضراب عنه، أو بظن أنه أتمه. ومن العذر إقامة المكتوبة
لا صلاة الجنازة والرواتب، بل يكره قطع الطواف الواجب لهما، وأما الصلاة فلخبر: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن
تطوع. والقولان في وجوب ركعتي الطواف إذا كان فرضا، فإن كان نفلا فسنة قطعا، وقيل: على القولين، وصححه
الغزالي. ولا بعد في اشتراط فرض في نفل كالطهارة والستر في النافلة، وعلى الوجوب يصح الطواف بدونهما، إذ ليسا
بشرط ولا ركن له، وتقدم أن من سنن الطواف إذا دخل تحت نسك النية، فلو كان عليه طواف إفاضة أو نذر لم يتعين
زمنه ودخل وقت ما عليه فنوى غيره عن غيره أو عن نفسه تطوعا أو قدوما أو دعاء وقع عن طواف الإفاضة أو النذر
كما في واجب الحج والعمرة، فقولهم: إن الطواف يقبل الصرف، أي إذا صرفه لغير طواف آخر كطلب غريم كما مرت
الإشارة إلى ذلك. وذكر صاحب الخصال أن سنن الطواف تصل إلى نيف وعشرين خصلة، وفيما ذكرته لك كفاية لمن
وفقه الله تعالى، نسأل الله تعالى من فضله أن يجعلنا من المتبعين ولا يجعلنا من المبتدعين. ولا يشترط في المحرم أن يطوف
بنفسه، (و) لهذا (لو حمل الحلال محرما) لمرض أو صغر أو لالم لم يطف المحرم عن نفسه لاحرامه ولم يصرفه عن نفسه. (وطاف
به) ولم ينوه لنفسه أو لهما (حسب) الطواف (للمحمول) عن الطواف الذي تضمنه إحرامه كراكب بهيمة، وفي بعض
النسخ: حسب للمحمول بشرطه أي بشرط الطواف في حق المحمول من طهارة، وستر عورة، ودخول وقت،
وهذا لا بد منه وإلا وقع للحامل. فإن كان قد طاف عن نفسه لاحرامه، فكما لو حمل حلالا. وسيأتي، أو
صرفه عن
نفسه لم يقع عنه كما قاله السبكي. وإن نواه الحامل لنفسه أو لهما وقع له عملا بنيته في حقه. (وكذا) يحسب للمحمول أيضا
(لو حمله محرم قد طاف عن نفسه) لاحرامه أو لم يدخل وقت طوافه كما بحثه الأسنوي. (وإلا) بأن لم يكن المحرم الحامل
طاف عن نفسه ودخل وقت طوافه. (فالأصح أنه إن قصده للمحمول فله) خاصة تنزيلا للحامل منزلة الدابة، وإنما لم يقع
للحامل لأنه صرفه عن نفسه، وهو مبني على قولنا: يشترط أن لا يصرف الطواف إلى غرض آخر، وهو الأصح كما مر.
والثاني: للحامل خاصة، كما إذا أحرم عن غيره وعليه فرضه، وهذا مبني على قولنا: لا يضر الصارف. والثالث: يقع لهما
جميعا لأن أحدهما قد دار والآخر قد دير به. (وإن قصده لنفسه أو لهما) أو أطلق (فللحامل فقط) وإن قصد محموله نفسه،
لأنه الطائف ولم يصرفه عن نفسه. ومن هنا يؤخذ أنه لو حمل حلال حلالا ونويا وقع للحامل، ولهذا قال في المجموع:
ويقاس بالمحرمين الحلالان الناويان، فيقع للحامل منهما على الأصح، وسواء في الصغير حمله وليه الذي أحرم عنه أم
غيره. لكن ينبغي كما قال شيخنا في حمل غير الولي أن يكون بإذن الولي، لأن الصغير إذا طاف راكبا لا بد أن يكون وليه
سائقا أو قائدا، كما قاله الروياني وغيره، ومحله في غير المميز. فلو لم يحمله بل جعله في شئ موضوع على الأرض وجذبه،
فظاهر أنه لا تعلق لطواف كل منهما بطواف الآخر لانفصاله عنه، ونظيره لو كان بسفينة وهو يجذبها.
تنبيه: قال الأسنوي: وما صححه في المنهاج تبعا لاصله في مسألة ما إذا نواهما، نص الشافعي في الام والاملاء على
خلافه، إلا أن نص الام في وقوعه للمحمول، ونص الاملاء في وقوعه لهما، كذا نقله في البحر، فالنصان متفقان على
نفي ما ذكر، ونص الام أقوى عند الأصحاب، وهو هنا بخصوصه أظهر من نص الاملاء فيجب الاخذ به. واعترضه
الأذرعي بأن ما نقله عن البحر من نقله عن الاملاء من وقوعه لهما غلط، بل الذي فيه في عدة نسخ عن الاملاء وقوعه
492

للحامل دون المحمول. ورجحه الأصحاب لموافقته للقياس، فإنه لو نوى الحج له ولغيره وقع له فكذا ركنه، قال: والباعث
له على ذلك حب التغليظ، والرجل رحمه الله تعالى ثقة، ولكنه كثير الوهم في الفهم والنقل على ما تبين، فالله
يغفر لنا
وله اه‍. وتصوير المصنف المسألة بما إذا كان المحمول واحد جرى على الغالب، وإلا لو كان المحمول اثنين فأكثر لم
يختلف الحكم. قال الزركشي: وقضية كلام الكافي أنه لا فرق في أحكام المحمول بين الطواف والسعي، وفيه نظر.
قال ابن يونس: وإن حمله في الوقوف أجزأ فيهما، يعني مطلقا. والفرق أن المعتبر ثم السكون، أي الحضور، وقد
وجد في كل منهما وهنا الفعل ولم يوجد منهما، ولو طاف محرم بالحج معتقدا أن إحرامه عمرة فبان حجا وقع عنه كما
لو طاف عن غيره وعليه طواف.
فصل: فيما يختم به الطواف وبيان كيفية السعي، وإذا فرغ من طوافه ثم ركعتي الطواف يعود ندبا، (ويستلم
الحجر) الأسود بشرطه في الأنثى والخنثى، (بعد الطواف) بأن يختمه باستلام الحجر، (و) قوله بعد (صلاته) مزيد
على المحرر للاتباع، رواه مسلم. وليكون آخر عهده ما ابتدأ به. واقتصار المصنف على الاستلام يقتضي أنه لا يسن تقبيل
الحجر ولا السجود عليه. قال الأسنوي: فإن كان الامر كذلك فلعل سببه المبادرة إلى السعي اه‍. وصرح أبو الطيب
وصاحب الذخائر بأنه يقبله، أي ويسجد عليه. قال الأذرعي: والظاهر أنه متفق عليه، وإنما اقتصروا على ذكر الاستلام
اكتفاء بما بينوه في أول الطواف اه‍. وهذا هو الظاهر. قال في المجموع: وما قاله الماوردي من أنه يأتي الملتزم والميزاب
بعد استلامه ويدعو، شاذ. (ثم يخرج) ندبا (من باب الصفا) وهو الباب المقابل لما بين الركنين اليمانيين، (للسعي)
بين الصفا والمروة للاتباع، رواه مسلم. (وشرطه) أي شروطه ثلاثة: أحدها: (أن يبدأ بالصفا) بالقصر، جمع صفاة،
وهي الحجر الصلب، والمراد طرف جبل أبي قبيس، ويختم بالمروة في المرة الأولى والثالثة والخامسة والسابعة. وأن يبدأ
بالمروة ويختم بالصفا في المرة الثانية والرابعة والسادسة. فلو عكس لم تحسب المرة الأولى، لأنه (ص) بدأ بالصفا وقال:
ابدءوا بما بدأ الله به رواه النسائي بإسناد على شرط مسلم، وهو في مسلم لكن بلفظ: أبدأ على الخبر لا الامر. ورواه
الأربعة بلفظ: نبدأ بالنون. وعلم من ذلك أنه يشترط الترتيب، فلو ترك الخامسة جعل السابعة خامسة وأتى بالسادسة
والسابعة، ولا يشترط الموالاة بين مراته كالطواف بل أولى. (و) ثانيها: (أن يسعى سبعا) للاتباع، رواه الشيخان. (ذهابه
من الصفا إلى المروة) بفتح الميم، وأصلها: الحجر الرخو، وهي في طرف جبل قعيقعان. (مرة) بالرفع خبر ذهابه.
(وعوده منها إليه) مرة (أخرى) لأنه (ص) بدأ بالصفا وختم بالمروة كما رواه مسلم. وقيل إن الذهاب والاياب
مرة واحدة كمسح الرأس، ورد بأنه لو كان كذلك للزم أن يكون الختم بالصفا، وهو خلاف الوارد. ولا بد من استيعاب
المسافة في كل مرة بأن يلصق عقبه بأصل ما يذهب منه ورؤوس أصابع رجليه بما يذهب إليه، والراكب يلصق حافر
دابته، قال في المجموع: وبعض الدرج محدث فليحذر أن يخلفها وراءه فلا يصح سعيه حينئذ، بل ينبغي له أن يصعد
الدرجة حتى يستيقن، وقضيته أنه لا يصح سعي الراكب حتى يصعد على ذلك، فلو عدل عن موضع السعي إلى طريق
آخر في المسجد أو غيره وابتدأ المرة الثانية من الصفا لم تحسب له تلك المرة على الصحيح كما في المجموع وزيادة
الروضة. قال ابن عبد السلام: والمروة أفضل من الصفا لأنها مرور الحاج أربع مرات والصفا مروره ثلاثا، والبداءة
بالصفا وسيلة إلى استقبالها. قال: والطواف أفضل أركان الحج حتى الوقوف. قال الزركشي: وفيه نظر، بل أفضلها
الوقوف لخبر: الحج عرفة ولهذا لا يفوت الحج إلا بفواته، ولم يرد غفران الذنوب في شئ ما ورد في الوقوف،
فالصواب القطع بأنه أفضل الأركان اه‍. ورد عليه بأن الوجه الأول لتصريح الأصحاب بأن الطواف قربة في نفسه
بخلاف الوقوف. (و) ثالثها: (أن يسعى بعد طواف ركن أو) طواف (قدوم) لأنه الوارد من فعله (ص)، ونقل
الماوردي الاجماع على ذلك. وخرج بقوله: بعد طواف ركن أو قدوم طواف الوداع وطواف النفل. أما طواف
493

الوداع فلعدم تصور وقوع السعي بعده كما قاله في الشرح والروضة، لأنه إذا بقي السعي لم يكن المأتي به طواف وداع.
نعم، إن بلغ قبل سعيه مسافة القصر، فقال من المتأخرين قائل: اعتد به ندبا، وقائل: وجوبا، بناء على أنه يؤمر به من
يريد الخروج من مكة وإن كان محرما. والأوجه الموافق للمنقول كما قال شيخنا خلاف ذلك، إذ المراد طواف الوداع
المشروع بعد فراغ المناسك كما هو صريح كلام الشيخين لا كل وداع، وأما طواف النفل فيما إذا أحرم المكي بالحج
من مكة ثم تنفل بالطواف وأراد السعي بعد فصرح في المجموع بعدم إجزائه. (بحيث لا يتخلل بينهما) أي السعي وطواف
القدوم (الوقوف بعرفة) وإن تخلل بينهما فصل طويل، فإن وقف بها لم يجزه السعي إلا بعد طواف الإفاضة لدخول
وقت طواف الفرض، فلم يجز أن يسعى الآن لفوات التبعية بتخلل الوقوف، فالحيثية المذكورة قيد في القدوم فقط. (ومن
سعى بعد) طواف (قدوم لم يعده) أي لم تسن له إعادته بعد طواف الإفاضة كما قاله في المحرر، لأنها لم ترد ولان السعي
ليس قربة في نفسه كالوقوف، بخلاف الطواف فإنه عبادة يتقرب بها وحدها. فإن أعاده فخلاف الأولى، وقيل: مكروه،
وقيل: تستحب الإعادة. نعم يجب على الصبي إذا بلغ بعرفة إعادته، وعتق العبد كبلوغ الصبي. ويسن للقارن طوافان
وسعيان خروجا من خلاف من أوجبهما عليه من السلف والخلف، قاله الأذرعي بحثا وهو حسن. وهل الأفضل السعي
بعد طواف القدوم أو بعد طواف الإفاضة؟ ظاهر كلام المصنف في مناسكه الكبرى الأول، وصرح به في مختصرها.
(ويستحب أن يرقي) الذكر (على الصفا والمروة قدر قامة) لانسان معتدل، وأن يشاهد البيت، لأنه (ص)
رقي على كل منهما حتى رأى البيت، رواه مسلم. وقيل: إن الكعبة كانت ترى فحالت الأبنية بينها وبين المروة، واليوم
لا ترى الكعبة إلا على الصفا من باب الصفا، بل المروة الآن ليس بها ما يرقى عليه إلا مصطبة فيسن رقيها. أما المرأة
فلا ترقى كما في التنبيه، أي لا يسن لها ذلك. قال الأسنوي: وهذه المسألة من مفردات التنبيه، ولا ذكر لها في
المهذب ولا شرحه ولا الروضة والشرحين. قال: والقياس أن الخنثى كذلك. قال: ولو فصل فيهما بين أن يكونا بخلوة
أو بحضرة محارم، وأن لا يكونا كما قبل به في جهر الصلاة لم يبعد اه‍. والظاهر أنه لا يطلب الرقي منهما مطلقا. (فإذا رقي)
بكسر القاف في الماضي وفتحها في المضارع، أو ألصق أصابعه بلا رقي استقبل القبلة كما نص عليه. و (قال) ذكرا
كان أو غيره: (الله أكبر الله أكبر الله أكبر) من كل شئ، (ولله الحمد) أي على كل حال لا لغيره، كما يشعر به تقديم
الخبر. (الله أكبر على ما هدانا) أي دلنا على طاعته بالاسلام وغيره، (والحمد لله على ما أولانا) من نعمه التي لا تحصى،
(لا إله إلا الله وحده لا شريك له) تقدم شرحه في خطبة المتن، (له الملك) أي ملك السماوات والأرض لا لغيره، (وله
الحمد، يحيي ويميت، بيده) أي قدرته (الخير وهو على كل شئ) ممكن، (قدير) لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر
عبده، وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. (ثم يدعو بما شاء
دينا ودنيا. قلت: ويعيد الذكر والدعاء) السابقين (ثانيا وثالثا، والله أعلم) للاتباع، رواه مسلم بزيادة بعض ألفاظ على
ما ذكره المتن ونقص بعض. وقوله: بيده الخير، قال ابن شهبة: لم يوجد في كتب الحديث، لكن ذكره الشافعي في
الام والبويطي. قال الأذرعي: الدعاء بأمر الدين يكون مندوبا متأكدا للتأسي وبأمر الدنيا مباحا كما سبق في
الصلاة اه‍. ويسن أن يقول: اللهم إنك قلت * (ادعوني أستجب لكم) * وإنك لا تخلف الميعاد، وإني أسألك كما
هديتني إلى الاسلام أن لا تنزعه مني حتى تتوفاني وأنا مسلم رواه مالك في الموطأ عن نافع أنه سمع ابن عمر يقوله على
494

الصفا. (و) يسن (أن يمشي) على هينته، (أول السعي وآخره، و) أن (يعدو) الذكر، أي يسعى سعيا شديدا فوق
الرمل كما قاله في المجموع، (في الوسط) الذي بينهما للاتباع، رواه مسلم. (وموضع النوعين) أي المشي والعدو (معروف)
هناك، فيمشي حتى يبقى بينه وبين الميل الأخضر المعلق بركن المسجد على يساره قدر ستة أذرع فيعدو، فإن عجز تشبه
حتى يتوسط بين الميلين الأخضرين اللذين أحدهما في ركن المسجد والآخر متصل بجدار دار العباس المشهورة الآن برباطه
رضي الله تعالى عنه، فيمشي على هينته حتى يصل إلى المروة، فإذا عاد منها إلى الصفا مشى في محل مشيه وسعى في محل
سعيه أولا. أما الأنثى فتمشي في الكل، وقيل: إن خلت بالليل سعت كالذكر، والخنثى في ذلك كالأنثى كما نقله في
المجموع في باب الاحداث عن أبي الفتوح وأقره. ويسن أن يقول الذكر في عدوه وكذا المرأة والخنثى في محله كما بحثه
بعض المتأخرين: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم.
تنبيه: سكوت المصنف هنا عن الستر والطهارة مع اشتراطه لهما في الطواف مشعر بعدم وجوبهما، وهو كذلك
،
فيسنان. ويسن أيضا الموالاة في مرات السعي، وكذا بين الطواف والسعي، وأن يكون ماشيا إلا لعذر فإن ركب
بلا عذر لم يكره اتفاقا كما في المجموع، وما في جامع الترمذي من أن الشافعي كره السعي راكبا إلا لعذر محمول على
خلاف الأولى. قال في المجموع: ويكره للساعي أن يقف في سعيه لحديث أو غيره، ولو شك في عدد مراته قبل الفراغ
أخذ بالأقل كما مر في الطواف. ويسن أن يأخذ بقول ثقة أخبره وإن اعتقد خلافه كما مر في الطواف أيضا، ثم بعد
السعي إن كان معتمرا حلق أو قصر وصار حلالا، وإلا فإن كان مفردا أو قارنا بقي على إحرامه.
فصل: في الوقوف بعرفة وما يذكر معه. (يستحب للامام) الأعظم إن خرج مع الحجيج، (أو منصوبه) المؤمر
عليهم إن لم يخرج الامام، (أن يخطب بمكة في سابع ذي الحجة) بكسر الحاء أفصح من فتحها، المسمى بيوم الزينة،
لتزيينهم فيه هوادجهم. وإنما يخطب (بعد صلاة الظهر) أو الجمعة إن كان يومها، (خطبة فردة) ولا يكفي عنها خطبة
الجمعة، لأن السنة فيها التأخير عن الصلاة، ولان القصد بها التعليم لا الوعظ والتخويف فلم تشارك خطبة الجمعة، بخلاف
خطبة الكسوف. (يأمرهم فيها بالغدو) اليوم الثامن المسمى يوم التروية لأنهم يتروون فيه الماء. (إلى منى) بكسر
الميم، تصرف ولا تصرف، وتذكر وهو الأغلب وقد تؤنث، وتخفيف نونها أشهر من تشديدها. سميت بذلك لكثرة
ما يمنى، أي يراق فيها من الدماء. ويفتتح الخطبة بالتلبية إن كان محرما وإلا فبالتكبير كما نقله في المجموع عن الماوردي
وأقره. (ويعلمهم) فيها (ما أمامهم من المناسك) قال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: كان رسول الله (ص) إذا كان
قبل يوم التروية بيوم خطب الناس وأخبرهم بمناسكهم رواه البيهقي بإسناد جيد كما في المجموع. فإن كان الخطيب فقيها
قال: هل من سائل؟ وتقدم في صلاة العيدين أن خطب الحج أربع: هذه، وخطبة يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم
النفر الأول، وكلها فرادى وبعد صلاة الظهر إلا يوم عرفة فثنتان، وقبل صلاة الظهر. وقضية كلام المصنف أنه يخبرهم
في كل خطبة بما بين أيديهم من المناسك، وهو ما اقتضاه الخبر السابق، ونص عليه الشافعي في الاملاء.
ومقتضى كلام
أصل الروضة أنه يخبرهم في كل خطبة بما بين أيديهم من المناسك إلى الخطبة الأخرى. ولا منافاة، إذ الاطلاق بيان
للأكمل والتقييد بيان للأقل. ويأمر فيها أيضا المتمتعين، قال في المجموع: والمكيين بطواف الوداع قبل خروجهم
وبعد إحرامهم، كما اقتضاه نقل المجموع له عن البويطي والأصحاب، بخلاف المفرد والقارن الآفاقيين لا يؤمران بطواف
وداع لأنهما لم يتحللا من مناسكهما، وليس مكة محل إقامتهما. (ويخرج) ندبا (بهم من الغد) بعد صلاة الصبح
إن لم يكن يوم جمعة، (إلى منى) فيصلون بها الظهر وباقي الخمس للاتباع، رواه مسلم. فإن كان يوم جمعة خرج بهم قبل
495

الفجر لأن السفر يومها بعد الفجر وقبل الزوال حرام، فمحله فيمن تلزمه الجمعة ولم يمكنه إقامتها بمنى، فإن حدث فيها
قرية واستوطنها أربعون كاملون صلوا فيها الجمعة لتمكنهم من إقامتها وإن حرم البناء ثم، ويجوز خروجهم بعد الفجر.
ولم يصل النبي (ص) الجمعة بعرفة، مع أنه قد ثبت في الصحيحين أن يوم عرفة الذي وقف فيه النبي (ص) كان
يوم جمعة. (ويبيتون) ندبا (بها) فليس بركن ولا واجب بإجماع. ومن البدع القبيحة ما اعتاده بعض الناس في هذه
الليلة من إيقاد الشموع وغيرها، وهو مشتمل على منكرات. قال أبو الحسن الزعفراني: يسن المشي من مكة إلى
المناسك كلها إلى انقضاء الحج لمن قدر عليه، وأن يقصد مسجد الخيف فيصلي فيه ركعتين، ويكثر التلبية قبلهما
وبعدهما ويصلي مكتوبات يومه وصبح غده في مسجدها. (فإذا طلعت الشمس) على ثبير بفتح المثلثة: جبل كبير بمزدلفة
على يمين الذاهب من منى إلى عرفات. (قصدوا عرفات) مارين على طريق ضب، وهو الجبل المطل على منى، ويعودون
على طريق المأزمين، وهو بين الجبلين، اقتداء به (ص) في ذلك، ويسن أن يقول السائر: اللهم إليك
توجهت، وإلى وجهك الكريم أردت، فاجعل ذنبي مغفورا وحجي مبرورا، وارحمني ولا تخيبني، إنك على كل شئ
قدير، وأن يعود في طريق غير الذي ذهب فيه. (قلت) كما قال الرافعي في الشرح: (ولا يدخلونها بل يقيمون بنمرة)
بفتح النون وكسر الميم، ويجوز إسكانها مع فتح النون وكسرها: موضع (بقرب عرفات، حتى تزول الشمس، والله
أعلم) للاتباع رواه مسلم. ويسن أن يغتسل بنمرة للوقوف، فإذا زالت الشمس ذهبوا إلى مسجد إبراهيم (ص)،
وقيل إنه أحد أمراء بني العباس، وهو الذي ينسب إليه باب إبراهيم بمكة، وصدره من عرنة بضم العين وآخره من
عرفة، وتميز بينهما صخرات كبار فرشت هناك. قال البغوي: وصدره محل الخطبة والصلاة. (ثم يخطب الامام) أو
منصوبه (بعد الزوال) قبل صلاة الظهر، (خطبتين) خفيفتين، يعلمهم في الأولى المناسك ويحثهم على إكثار الذكر
والدعاء بالموقف، ويجلس بعد فراغها بقدر سورة الاخلاص، وحين يقوم إلى الخطبة الثانية، وهي أخف من الأولى،
يؤذن للظهر فيفرغ الخطبة الثانية مع فراغ المؤذن من الاذان. فإن قيل: الاذان يمنع سماع الخطبة أو أكثرها فيفوت
مقصودها. أجيب بأن المقصود بالخطبة من التعليم إنما هو في الأولى، وأما الثانية فهي ذكر ودعاء، فشرعت مع
الاذان قصدا للمبادرة بالصلاة. (ثم) بعد الفراغ من الخطبتين، (يصلي الناس الظهر والعصر جمعا) تقديما للاتباع في
ذلك، رواه مسلم. ويقصرهما أيضا، والقصر والجمع هنا وفيما يأتي بالمزدلفة للسفر لا للنسك، فيختصان بسفر القصر كما
مر في باب الجمع بين الصلاتين، خلافا لما جرى عليه المصنف في مناسكه الكبرى من أن ذلك للنسك، فيأمر الامام
المكيين ومن لم يبلغ سفره مسافة القصر بالاتمام وعدم الجمع، كأن يقول لهم بعد السلام: يا أهل مكة ومن سفره
قصير أتموا فإنا قوم سفر. قال في المجموع نقلا عن الشافعي والأصحاب: إن الحجاج إذا دخلوا مكة ونووا أن يقيموا بها
أربعا لزمهم الاتمام، فإذا خرجوا يوم التروية إلى منى ونووا الذهاب إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان لهم القصر
من حين خرجوا، لأنهم أنشأوا سفرا تقصر فيه الصلاة. ثم بعد فراغهم من الصلاة يذهبون إلى الموقف ويعجلون
السير إليه، وأفضله للذكر موقفه (ص)، وهو عند الصخرات الكبار المفترشة في أسفل جبل الرحمة، وهو الجبل الذي
بوسط أرض عرفة، ويقال له إلال بكسر الهمزة بوزن هلال، وذكر الجوهري أنه بفتح الهمزة، والمشهور كما في المجموع
الأول، فإن تعذر الوصول إليها لزحمة قرب منها بحسب الامكان، وبين موقف النبي (ص) ومسجد إبراهيم نحو ميل.
أما الأنثى فيندب لها الجلوس في حاشية الموقف، ومثلها الخنثى. (و) يسن أن (يقفوا) أي الامام أو منصوبه والناس
(بعرفة إلى الغروب) للاتباع، رواه مسلم. والأفضل أن يقفوا بعد الغروب حتى نزول الصفرة قليلا. فإن قيل: قول
496

المصنف يقفوا منصوب عطفا على يخطب، فيقتضي استحباب الوقوف كما قدرته في كلامه مع أنه واجب. أجيب بأنه قيد
الوقوف لاستمرار إلى الغروب، وهو مستحب على الصحيح. (و) أن (يذكروا الله تعالى ويدعوه) بإكثار، (ويكثروا
التهليل) لقوله (ص): خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا
شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير وزاد البيهقي: اللهم اجعل في قلبي نورا وفي سمعي نورا وفي
بصري نورا، اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري. ويسن الاكثار من الصلاة على النبي (ص)، ولا يتكلف
السجع في الدعاء، ولا بأس بالسجع إذا كان محفوظا أو قاله من غير قصد له. ويسن قراءة القرآن، قال في البحر:
قال أصحابنا: يستحب أن يكثر من قراءة سورة الحشر في عرفة، فقد روي عن علي بن أبي طالب ذلك رضي الله تعالى
عنه وفي كتاب الدعوات للمستقري من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا: من قرأ قل هو الله أحد
ألف مرة يوم عرفة أعطي ما سأل. ويسن رفع اليدين في الدعاء، وأن يقف مستقبل القبلة متطهرا، والأفضل للرجل
أن يقف راكبا على الأظهر. وأما صعود الجبل فلا فضيلة في صعوده كما في المجموع، وإن قال ابن جرير والماوردي
والبندنيجي: إنه موقف الأنبياء، ومن أدعيته المختارة: * (ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) * الآية، اللهم
إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم
انقلني من ذل المعصية إلى عز الطاعة واكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك ونور قلبي وقبري
واهدني وأعذني من الشر كله واجمع لي الخير اللهم، إني أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. وليحذر من
التقصير في هذا اليوم فإنه أعظم الأيام، والموقف أعظم المجامع يجتمع فيه الأولياء والخواص ويكثر البكاء مع ذلك،
فهناك تسكب العبرات وتقال العثرات. وينبغي أن يستغفر للمؤمنين في دعائه لقوله (ص): اللهم اغفر للحاج ولمن
استغفر له الحاج رواه الحاكم وقال: صحيح الاسناد. وروى ابن أبي شيبة عن مجاهد قال: قال عمر رضي الله تعالى عنه:
يغفر الله تعالى للحاج ولمن استغفر له الحاج بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وعشرا من ربيع الأول. وليحسن الواقف
الظن بالله تعالى، فقد نظر الفضيل بن عياش إلى بكاء الناس بعرفة فقال: أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه
دانقا أكان يردهم؟ فقالوا: لا، فقال: والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل بدانق. ورأي سالم مولى ابن عمر سائلا
يسأل الناس في عرفة فقال: يا عاجز أفي هذا اليوم يسئل غير الله تعالى وقيل: إذا وافق يوم الجمعة يوم عرفة غفر
الله تعالى لكل أهل الموقف، أي بلا واسطة، وغير يوم الجمعة بواسطة، أي يهب مسيئهم لمحسنهم ويرفع يديه
في دعائه لخبر: ترفع الأيدي في سبع مواطن: عند افتتاح الصلاة، واستقبال البيت، والصفا والمروة، والموقفين والجمرتين.
ولا يجاوز بهما الرأس، ولا يفرط في الجهر بالدعاء أو غيره، والأفضل للواقف أن لا يستظل بل يبرز للشمس إلا لعذر.
فرع: التعريف بغير عرفة، وهو اجتماع الناس بعد العصر يوم عرفة للدعاء للسلف، فيه خلاف، ففي البخاري:
أول من عرف بالبصرة ابن عباس، ومعناه: إذا صلى العصر يوم عرفة أخذ في الدعاء والذكر والضراعة إلى الله
تعالى إلى غروب الشمس كما يفعل أهل عرفة، ولهذا قال أحمد: أرجو أنه لا بأس به، وقد فعله الحسن وجماعات، وكرهه
جماعة منهم مالك. قال المصنف: ومن جعله بدعة لم يلحقه بفاحش البدع، بل يخفف أمره، أي إذا خلا من اختلاط
الرجال بالنساء وإلا فهو من أفحشها. (فإذا غربت الشمس) يوم عرفة (فصدوا مزدلفة) مارين على طريق المأزمين،
وهو بين الجبلين، وعليهم السكينة والوقار. ومن وجد فرجة أسرع. وهي كلها من الحرم، وحدها ما بين مأزمي عرفة
ووادي محسر، مشتقة من الازدلاف وهو التقرب، لأن الحجاج يتقربون منها إلى منى، والازدلاف التقرب، ومنه قوله
تعالى: * (وأزلفت الجنة للمتقين) * أي قربت. وقيل: لأن الناس يجتمعون بها، والاجتماع: الازدلاف، ومنه قوله تعالى:
* (وأزلفنا ثم الآخرين) * أي جمعناهم. وقيل: لمجئ الناس إليها في زلف من الليل، أي ساعات. وتسمى أيضا جمعا
بفتح الجيم وسكون الميم، سميت بذلك لاجتماع الناس بها، وقيل: لأنه يجمع فيها بين الصلوات، وقيل: لاجتماع آدم
497

وحواء بها. (وأخروا المغرب ليصلوها مع العشاء بمزدلفة جمعا) للاتباع، رواه الشيخان. هذا إن أمنوا فوات وقت
اختيار العشاء كما قاله القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما، وإلا جمعوا في الطريق، قال في المجموع: ولعل إطلاق
الأكثرين محمول عليه. (وواجب الوقوف) بعرفة (حضوره) أي المحرم أدنى لحظة بعد زوال يوم عرفة، (بجزء من
أرض عرفات) لقوله (ص): وقفت ههنا وعرفة كلها موقف رواه مسلم. وحد عرفة ما جاوز وادي عرنة
إلى الجبال المقابلة مما يلي بساتين ابن عامر، وليس منها وادي عرنة ولا نمرة كما علم مما مر. وأما الدليل على وجوب الوقوف
فخبر: الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة
كما في المجموع. وليلة جمع هي ليلة مزدلفة كما مر، ولا يشترط المكث بها كما قال. (وإن كان مارا في طلب آبق ونحوه)
كدابة شاردة، ولا أن لا يصرفه إلى جهة أخرى، ولا أن يكون عالما بالبقعة أو اليوم، ولكن (يشترط كونه) محرما (
أهلا للعبادة) إذا أحرم بنفسه، (لا مغمى عليه) جميع وقت الوقوف، فلا يجزئ وقوفه لعدم أهليته للعبادة، ولهذا
لا يجزئه الصوم إذا أغمي عليه جميع النهار، فإن أفاق لحظة كفى كما في الصوم. والسكران كالمغمى عليه ولو غير متعد بسكره،
والمجنون أولى من المغمى عليه بعدم الاجزاء، والمراد بعدم الاجزاء لهم أنه لا يقع فرضا ولكن يصح حجهم نفلا كما
صرح به الشيخان في المجنون وفي حج الصبي غير المميز، ولا ينافيه قول الشافعي في المغمى عليه فاته الحج، لصحة حمله
على فوات الحج الواجب. أما من أحرم به وليه فلا يشترط فيه ما ذكر. وغير المحرم لا يكتفي بوقوفه، فلا بد من ذكر
ما زدته. (ولا بأس بالنوم) ولو مستغرقا جميع الوقت كما في الصوم. (ووقت الوقوف من) حين (الزوال) للشمس
(يوم عرفة) لأنه (ص) وقف كذلك وقال: خذوا عني مناسككم وتابعه أهل الأمصار على ذلك إلى
يومنا هذا. وفي وجه أنه يشترط كونه بعد مضي إمكان صلاة الظهر والعصر جمعا وإمكان خطبتين، كما قالوا بمثله في دخول
وقت الأضحية، ولأنه (ص) لم يقف إلا بعد الصلاة، وقال: خذوا عني مناسككم. ورد هذا بنقل ابن المنذر وابن
عبد البر وغيرهما الاجماع على اعتبار الزوال لا غير، وإنما قدم (ص) الصلاة على الوقوف مراعاة لفضيلة أول
الوقت لئلا يشتغل عنها بالوقوف. (والصحيح بقاؤه إلى الفجر يوم النحر) لما روى أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة: الحج
عرفة من أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج، وفي رواية: من جاء عرفة ليلة جمع، أي ليلة مزدلفة
قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج وقال (ص) حين خرج للصلاة بمزدلفة: من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات
قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه والتفث ما يفعله المحرم عند تحلله من إزالة شعث ووسخ وحلق شعر
وقلم ظفر. (ولو وقف نهارا) بعد الزوال، (ثم فارق عرفة قبل الغروب ولم يعد) إليها أجزأه ذلك، (أراق دما استحبابا)
خروجا من خلاف من أوجبه. (وفي قول يجب) لتركه نسكا فعله النبي (ص) وهو الجمع بين الليل والنهار،
والأصل في ترك النسك إيجاب الدم إلا ما خرج بدليل. (وإن عاد) لعرفة (فكان بها عند الغروب فلا دم) عليه جزما، لأنه
جمع بين الليل والنهار. (وكذا إن عاد) إليها (ليلا) فلا دم عليه (في الأصح) لما مر، وصحح في المجموع القطع
به. والثاني: يجب الدم، لأن النسك الوارد الجمع بين آخر النهار وأول الليل وقد فوته. (ولو وقفوا اليوم العاشر غلطا)
لظن أنه التاسع، كأن غم عليهم هلال ذي الحجة فأكملوا عدة ذي القعدة ثلاثين، ثم تبين أن الهلال أهل ليلة الثلاثين
ولو كان وقوفهم بعد تبين أنه العاشر، كما إذا ثبت أنه العاشر ليلا ولم يتمكنوا من الوقوف، (أجزأهم) الوقوف للاجماع،
498

لخبر أبي داود مرسلا: يوم عرفة الذي يعرف الناس فيه ولأنهم لو كلفوا بالقضاء لم يأمنوا وقوع مثله فيه، ولان
فيه مشقة عامة. (إلا أن يقلوا على خلاف العادة فيقضون في الأصح) لعدم المشقة العامة، والثاني: لا قضاء لأنهم لا يأمنون مثله
في القضاء. وليس من الغلط المراد لهم ما إذا وقع ذلك بسبب الحساب كما ذكره الرافعي. قال الدارمي: وإذا وقفوا العاشر
غلطا حسب أيام التشريق على الحقيقة لا على حساب وقوفهم فلا يقيمون بمنى إلا ثلاثة أيام خاصة.
تنبيه: لا فرق في ذلك بين أن يتبين لهم الحال بعد العاشر أو فيه في أثناء الوقوف، فأما إذا تبين لهم فيه قبل الزوال
فوقفوا عالمين، فقال البغوي: المذهب لا يحسب، وأنكره الرافعي. وقال عامة الأصحاب على خلافه، وصحح في
المجموع ما قاله الرافعي. قال الأسنوي: فينبغي أن يجعل قوله غلطا مفعولا لأجله ليشمل المسائل الثلاث، وأما إذا جعل
مصدرا في موضع الحال بمعنى غالطين فلا تدخل فيه المسألة الثالثة، لأن وقوفهم فيها لم يقارنه غلط. ومقتضى كلام
المصنف أنهم لو وقفوا ليلة الحادي عشر لا يجزئ، وهو كذلك كما صححه القاضي حسين، وإن بحث السبكي الاجزاء كالعاشر
لأنه من تتمته. ومن رأى الهلال وحده أو مع غيره وردت شهادته لا معهم ووقف قبلهم أجزأه، إذ العبرة في دخول
وقت عرفة وخروجه باعتقاده، وهذا كمن شهد برؤية هلال رمضان فردت شهادته يلزمه الصوم. (وإن وقفوا في) اليوم
(الثامن) غلطا، بأن شهد شاهدان برؤية هلال ذي الحجة ليلة الثلاثين من ذي القعدة ثم بانا كافرين أو فاسقين، (وعلموا
قبل) فوت (الوقوف وجب الوقوف في الوقت) تداركا له، (وإن علموا بعده) أي بعد فوات وقت الوقوف (وجب القضاء)
لهذه الحجة في عام آخر (في الأصح) لندرة الغلط في التقدم، ولان تأخير العبادة عن وقتها أقرب إلى الاحتساب من تقديمها
عليه، ولان الغلط بالتقديم يمكن الاحتراز عنه فإنه إنما يقع للغلط في الحساب وللخلل في الشهود الذين شهدوا بتقديم الهلال.
والغلط بالتأخير قد يكون بالغيم المانع من الرؤية ومثل ذلك لا يمكن الاحتراز عنه. والثاني: لا يجب عليهم القضاء قياسا
على ما إذا غلطوا بالتأخير. قال في البيان: وعليه الأكثرون، وفرق الأول بما مر. ولو غلطوا بيومين فأكثر أو في المكان
لم يصح جزما لندرة ذلك.
فصل: في المبيت بالمزدلفة والدفع منها وفيما يذكر معها. (ويبيتون بمزدلفة) بعد دفعهم من عرفة للاتباع، رواه مسلم،
وهو واجب وليس بركن على الأصح فيهما، خلافا للرافعي في قوله: إنه مندوب، وللسبكي في اختياره أنه ركن.
ويكفي في المبيت بها الحصول بها لحظة كالوقوف بعرفة، فيكفي المرور بها وإن لم يمكث، ووقته بعد نصف الليل كما
نص عليه في الام. وإنما اشترط معظم الليل في مبيت منى لورود التعبير بالمبيت ثم بخلافه هنا، وصحح الرافعي بناء على
الوجوب اشتراط المعظم هنا، ثم استشكله من جهة أنهم لا يصلونها حتى يمضي نحو ربع الليل مع جواز الدفع منها بعد النصف.
ويستحب الاكثار في هذه الليلة من التلاوة والذكر والصلاة. (ومن دفع منها) أي من مزدلفة (بعد نصف الليل) ولم يعد،
(أو قبله) ولو لغير عذر (وعاد) إليها (قبل الفجر، فلا شئ عليه) أي لا دم عليه. أما في الحالة الأولى فلها في الصحيحين
عن عائشة: أن سودة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهن أفاضتا في النصف الأخير بإذنه (ص) ولم يأمرهما ولا
من كان معهما بدم. وأما في الثانية فكما لو دفع من عرفة قبل الغروب ثم عاد إليها قبل الفجر. (ومن لم يكن بها في النصف
الثاني) سواء أكان بها في النصف الأول أم لا، (أراق دما، وفي وجوبه) أي الدم بترك المبيت، (القولان) السابقان في الفصل
الذي قبله في وجوبه على من لم يجمع بين الليل والنهار بعرفة. وقضية هذا البناء عدم وجوب الدم فيكون مستحبا
كما لو ترك المبيت بمنى ليلة عرفة. لكن رجح المصنف فيما عدا المنهاج من كتبه الوجوب. وقال السبكي: إنه
499

المنصوص في الام والصحيح من جهة المذهب، أي ولا يلزم من البناء الاتحاد في الترجيح. ومحل القولين حيث لا عذر،
أما المعذور بما سيأتي في مبيت منى فلا دم عليه جزما. ومن المعذورين من جاء عرفة ليلا فاشتغل بالوقوف عنه، ومن
أفاض من عرفة إلى مكة وطاف الركن وفاته. قال الأذرعي: وينبغي حمله على من لم يمكنه الدفع إلى المزدلفة، أي بلا مشقة،
فإن أمكنه وجب جمعا بين الواجبين، وهذا ظاهر. ومنهم ما لو خافت المرأة طروء الحيض أو النفاس فبادرت إلى مكة
بالطواف. (ويسن تقديم النساء والضعفة بعد نصف الليل إلى منى) ليرموا جمرة العقبة قبل زحمة الناس، ولما مر في الصحيحين
عن عائشة رضي الله تعالى عنها، أن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: أنا ممن قدم النبي (ص) ليلة المزدلفة
في ضعفة أهله (ويبقى غيرهم حتى يصلوا الصبح) بمزدلفة (مغسلين) للاتباع، رواه الشيخان. وليس التغليس بالصبح خاصا
بمزدلفة بل هو مستحب كل يوم. وكأنه أراد أنه في هذا اليوم أشد استحبابا كما عبر به في الروضة وأصلها ليتسع الوقت
لما بين أيديهم من أعمال يوم النحر. وينبغي الحرص على صلاة الصبح هناك للخروج من الخلاف، فقد قال ابن حزم:
فرض على الرجال أن يصلوا الصبح مع الامام الذي يقيم الحج بمزدلفة، قال: ومن لم يفعل ذلك فلا حج له. (
ثم يدفعون)
بفتح أوله بخط المصنف، (إلى منى) وشعارهم مع من تقدم من النساء والضعفة التلبية والتكبير تأسيا به (ص)،
رواه الشيخان. (ويأخذون) معطوف على يبيتون ليعم الضعفة وغيرهم، بخلاف ما لو عطف على يدفعون فإنه يقصر
الاستحباب على غير الضعفة والنساء. (من مزدلفة) ندبا، (حصى الرمي) لما روى النسائي والبيهقي بإسناد صحيح عن الفضل
بن العباس أن رسول الله (ص) قال له غداة يوم النحر: التقط لي حصى قال: فلقطت له حصيات مثل
حصى الخذف. ولان بها جبلا في أحجاره رخاوة، ولان السنة أنه إذا أتى إلى منى لا يعرج على غير الرمي، فسن له أن
يأخذ الحصى من مزدلفة حتى لا يشغله عنه.
تنبيه: قضية كلام المصنف أخذ جميع ما يرمى به في الحج وهو سبعون حصاة، وهو وجه جزم به في التنبيه وأقره
المصنف في التصحيح، وجرى عليه في المناسك الكبرى، لكن الأصح استحباب الاخذ ليوم النحر خاصة فيأخذ كل
واحد سبعا. قال في المجموع: والاحتياط أن يزيد فربما سقط منه شئ ويكون الاخذ ليلا كما قاله الجمهور لفراغهم فيه،
وإن قال البغوي نهارا بعد صلاة الصبح ورجحه الأسنوي. ولو أخذ الحصى من غير مزدلفة، جاز كوادي محسر أو غيره.
وسكت الجمهور عن موضع أخذ حصى الجمار لأيام التشريق إذا قلنا بالأصح أنها لا تؤخذ من مزدلفة، وقال ابن كج:
تؤخذ من بطن محسر، قاله الأذرعي، وقال السبكي: لا تؤخذ لأيام التشريق إلا من منى، نص عليه في الاملاء اه‍. والظاهر
أن السنة تحصل بالأخذ من كل منهما. ويكره أخذ حصى الجمار من حل لعدوله عن الحرم المحترم، ومن مسجد كما ذكره
لأنها فرشه، ومن حش بفتح المهملة أشهر من ضمها، وهو المرحاض لنجاسته، وكذا من كل موضع نجس كما نص عليه
في الام، ومما رمى به لما روي أن المقبول يرفع والمردود يترك ولولا ذلك لسد ما بين الجبلين، فإن رمى بشئ من ذلك
أجزأه. قال في المجموع: فإن قيل لم جاز الرمي بحجر رمى به دون الوضوء بماء توضأ به؟ قلنا: فرق القاضي أبو الطيب
وغيره بأن الوضوء بالماء إتلاف له كالعتق فلا يتوضأ به مرتين كما لا يعتق العبد عن الكفارة مرتين، والحجر كالثوب
في ستر العورة فإنه يجوز أن يصلي فيه صلوات.
تنبيه: ما ذكراه من كراهة أخذ حصى المسجد قد خالفه في المجموع في باب الغسل، فجزم بتحريم إخراج الحصى
من المسجد، فقال: ولا يجوز أخذ شئ من أجزاء المسجد كحصاة وحجر وتراب. وجزم أيضا بأنه لا يجوز التيمم
بتراب المسجد. قال الأسنوي: وإذا تأملت كلامه هنا وهناك قضيت عجبا من منعه التيمم وتجويز أخذ الحصى. وبالغ
في التشنيع. وجمع الأذرعي بينهما بأن كلامه هناك فيما إذا كان الحصى والتراب من أجزاء المسجد، وكلامه هنا منزل على
ما جلب إليه من الحصى المباح وفرش فيه كما أشار إليه الرافعي. (فإذا) دفعوا إلى منى، و (بلغوا المشعر) وهو بفتح الميم
500

في المشهور، وحكي كسرها: جبل صغير آخر مزدلفة اسمه قزح بضم القاف وبالزاي، وسمي مشعرا لما فيه من الشعار
وهي معالم الدين. (الحرام) أي المحرم، (وقفوا) عليه ندبا كما صرح به الرافعي والمصنف في المجموع. ووقوفهم عليه أفضل
من وقوفهم بغيره من مزدلفة ومن مرورهم بلا وقوف. وذكروا الله تعالى، (ودعوا إلى الاسفار) مستقبلين القبلة
للاتباع، رواه مسلم، ولان القبلة أشرف الجهات. ويكثرون من قولهم: اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
وقنا عذاب النار ومن لم يمكنه إصعاد الجبل فليقف بجنبه، ولو فاتت هذه السنة لم تجبر بدم. ويكون من جملة دعائه
كما في التنبيه: اللهم كما أوقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك
الحق: * (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام) * إلى قوله: * (واستغفروا الله إن الله غفور رحيم) *. ومن جملة
ذكره: الله أكبر ثلاثا، لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد. (ثم يسيرون) قبل طلوع الشمس بسكينة ووقار، وشعارهم التلبية
والذكر. قال في المجموع: ويكره تأخير السير حتى تطلع الشمس، فإذا وجدوا فرجة أسرعوا، فإذا بلغوا وادي محسر
بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر السين المهملة المشددة وراء: موضع فاصل بين مزدلفة ومنى، سمي به لأن فيل
أصحاب الفيل حسر فيه: أي أسرع في مشيه إن كان ماشيا. وحرك دابته من كان راكبا بقدر رمية حجر حتى
يقطعوا عرض الوادي للاتباع في الراكب، رواه مسلم، وقياسا عليه في الماشي، ولنزول العذاب فيه على
أصحاب الفيل
القاصدين هدم البيت، ولان النصارى كانت تقف فيه فأمرنا بمخالفتهم. ويسمى وادي النار أيضا، يقال إن رجلا صاد
فيه صيدا فنزلت عليه نار فأحرقته. قال في المجموع: قال الأذرقي: وادي محسر خمسمائة ذراع وخمسة وأربعون ذراعا اه‍.
ويقول المار به ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه:
إليك تعدو قلقا وضينها معترضا في بطنها جنينها مخالفا دين النصارى دينها
رواه البيهقي، ومعناه أن ناقتي تعدو إليك مسرعة في طاعتك قلقا وضينها - والوضين حبل كالحزام - من كثرة السير
والاقبال التام والاجتهاد البالغ في طاعتك، والمراد صاحب الناقة. قال في المجموع: قال القاضي حسين في تعليقه: يسن
للمار بوادي محسر أن يقول هذا الكلام الذي قاله عمر رضي الله عنه، وبعد قطعهم وادي محسر يسيرون بسكينة،
(فيصلون منى بعد طلوع الشمس) وارتفاعها قدر رمح، (فيرمي كل شخص) من راكب وماش (حينئذ) أي حين
وصوله، (سبع حصيات إلى جمرة العقبة) للاتباع، رواه مسلم. وهو تحية منى فلا يبتدئ فيها بغيره، وتسمى أيضا الجمرة
الكبرى. وليست من منى بل حد منى من الجانب الغربي جهة مكة والسنة لرامي هذه الجمرة أن يستقبلها ويجعل مكة
عن يساره ومنى عن يمينه، كما صححه المصنف تبعا لابن الصلاح، وقال: إنه الصحيح الذي فعله النبي (ص)، أي
وإن جزم الرافعي بأن يستقبل الجمرة ويستدبر الكعبة. هذا في رمي يوم النحر، أما في أيام التشريق فقد اتفقا على استقبال
الكعبة كما في بقية الجمرات، ويحسن كما قال ابن الملقن إذا وصل إلى منى أن يقول ما روي عن بعض السلف: اللهم هذه
منى قد أتيتها وأنا عبدك وابن عبدك أسألك أن تمن علي بما مننت به على أوليائك، اللهم إني أعوذ بك من الحرمان والمصيبة
في ديني يا أرحم الراحمين. قال: وروي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنهما لما رميا جمرة العقبة قالا: اللهم
اجعله حجا مبرورا وذنبا مغفورا. (ويقطع التلبية عند ابتداء الرمي) لأنه (ص) لم يزل ملبيا حتى رماها، رواه
الشيخان من حديث الفضل بن عباس. هذا إذا جعله أول أسباب التحلل كما هو الأفضل، أما إذا قدم الطواف أو الحلق
عليه قطع التلبية من وقته لاخذه في أسباب التحلل والتلبية شعار الاحرام، وأما المعتمر فيقطع التلبية إذا افتتح الطواف
لأنه من أسباب تحللها. (ويكبر مع كل حصاة) بدل التلبية للاتباع، رواه مسلم، فيقول: الله أكبر ثلاثا لا إله إلا الله والله
أكبر، الله أكبر ولله الحمد كما نقل عن الشافعي رحمه الله تعالى. ويسن أن يرمي بيده اليمنى رافعا لها حتى يرى بياض
إبطه، أما المرأة ومثلها الخنثى فلا ترفع. ولا يقف الرامي للدعاء عند هذه الجمرة. وشروط الرمي ومستحباته أخرها المصنف
501

إلى الكلام على رمي أيام التشريق. (ثم) بعد الرمي ينصرفون، فينزلون موضعا بمنى، والأفضل منها منزل النبي (ص)
وما قاربه. قال الأزرقي: ومنزله (ص) بمنى عن يسار مصلى الامام. ثم (يذبح من معه هدي) بإسكان الدال
وكسرها مع تخفيف الياء في الأولى وتشديدها في الثانية، لغتان فصيحتان. وهو كما قاله الروياني اسم لما يهدي لمكة وحرمها
تقربا إلى الله تعالى من نعم وغيرها من الأموال نذرا كان أو تطوعا لكنه عند الاطلاق اسم للإبل والبقر والغنم. (ثم يحلق)
الذكر (أو يقصر)، لقوله تعالى: * (محلقين رؤوسكم ومقصرين) * وللاتباع في الأول، رواه مسلم، والثاني في معناه. (و) لكن
(الحلق) له (أفضل) إجماعا، وللآية المتقدمة، فإن العرب تبدأ بالأهم والأفضل. وقد روى الشيخان عن عمر أنه
(ص) قال: اللهم ارحم المحلقين، فقالوا: يا رسول الله والمقصرين؟ فقال: اللهم ارحم المحلقين، وقال في الرابعة:
والمقصرين. ويندب أن يبدأ بالشق الأيمن فيستوعبه بالحلق ثم يحلق الشق الأيسر، وأن يستقبل المحلوق القبلة، وأن
يكبر عند فراغه كما ذكره الرافعي وأغفله من الروضة، وذكره في المجموع عن الماوردي وغيره، ثم قال: إنه غريب.
وأن يدفن شعره خصوصا الشعر الحسن لئلا يؤخذ للوصل، وأن يستوعب الحلق أو التقصير. قال القاضي حسين: وأن
يأخذ من شاربه. قال في الخصال: وأن يكون بعد كمال الرمي وغير المحرم مثله فيما ذكر غير التكبير. نعم التقصير أفضل
إن اعتمر قبل الحج في وقت لو حلق فيه جاء يوم النحر ولم يسود رأسه من الشعر، نقله الأسنوي عن النص، ويأتي مثله
فيما لو قدم الحج على العمرة. قال الزركشي: وإنما لم يؤمر بحلق بعض رأسه في الحج وبعضه في العمرة
لأنه يكره القزع.
ويؤخذ من ذلك أنه لو خلق له رأسان وحلق أحدهما في العمرة والآخر في الحج لم يكره. ويسن أن يبلغ بالحلق
إلى العظمين من الأصداغ، وأن لا يشارط عليه، وأن يأخذ شيئا من ظفره عند فراغه، وأن يقول عند فراغه: اللهم
آتني بكل شعرة حسنة وامح عني بها سيئة وارفع لي بها درجة، واغفر لي وللمحلقين والمقصرين ولجميع المسلمين. ومحل
أفضلية الحلق إذا لم ينذره، فإن نذره وجب لأنه في حقه قربة بخلاف المرأة والخنثى. ويجب استيعاب الرأس بالحلق إن
نذر الاستيعاب أو عبر بالحلق مضافا، وإن أطلق كفاه ثلاث شعرات. ولا يجزئه قص ونحوه مما لا يسمى حلقا كنتف إذ الحلق
استئصال الشعر بالموسى ولا يبقى الحلق في ذمته، لأن النسك إنما هو إزالة شعر اشتمل عليه الاحرام. ويلزمه دم لفوات
الوصف كما لو نذر الحج ماشيا فركب. ونذر المرأة والخنثى التقصير كنذر الرجل الحلق فيما ذكر، وأن يتطيب بعد ذلك
ويلبس ثيابه. (وتقصر المرأة) ولا تؤمر بالحلق إجماعا بل يكره لها الحلق على الأصح في المجموع. وقيل: يحرم لأنه مثلة
وتشبيه بالرجال، ومال إليه الأذرعي في المزوجة والمملوكة حيث لا يؤذن لها فيه. نعم يحرم حلقها عند المصيبة لأنه
(ص) برئ من الصالقة والحالقة والشاقة. ويندب لها أن تقصر قدر أنملة من جميع جوانب رأسها. قال
الأسنوي: والمتجه أن الصغيرة التي لم تنته إلى سن يترك فيه شعرها كالرجل في استحباب الحلق. قال في التوسط: وهذا
غلط صريح لعلة التشبيه، وليس الحلق بمشروع للنساء مطلقا بالنص والاجماع اه‍. ويؤخذ من ذلك أن المرأة الكافرة إذا
أسلمت لا تحلق رأسها، وأما قوله (ص): ألق عنك شعر الكفر ثم اغتسل فمحمول على الذكر، وينبغي كما
قال بعض المتأخرين أن يستثنى حلق رأس الصغيرة يوم سابع ولادتها للتصدق بزنته فإنه يستحب كما صرحوا به في باب
العقيقة، واستثنى بعضهم من كراهة الحلق للمرأة صورتين: إحداهما إذا كان برأسها أذى لا يمكن زواله إلا بالحلق، كمعالجة
حب ونحوه. الثانية: إذا حلقت رأسها لتخفي كونها امرأة خوفا على نفسها من الزنا ونحو ذلك، ولهذا يباح لها لبس الرجال
في هذه الحالة، والخنثى في ذلك كالأنثى. (والحلق) أي إزالة شعر الرأس أو التقصير في حج أو عمرة في وقته (نسك على المشهور)
وفي الروضة: الأظهر. فيثاب عليه، لأن الحلق أفضل من التقصير للذكر، والتفضيل إنما يقع في العبادات
دون المباحات.
وروى ابن حبان في صحيحه أنه (ص) قال: لكل من حلق رأسه بكل شعرة سقطت نور يوم القيامة،
وعلى هذا هو ركن كما سيأتي، وقيل واجب. والثاني: هو استباحة محظور لا ثواب فيه، لأنه محرم في الاحرام فلم يكن
نسكا كلبس المخيط. (وأقله) أي إزالة شعر الرأس أو التقصير (ثلاث شعرات) لقوله تعالى: * (محلقين رؤوسكم) *
502

أي شعور رؤوسكم لأن الرأس لا يحلق. والشعر جمع وأقله ثلاث، كذا استدلوا به، ومنهم المصنف في المجموع. قال الأسنوي:
ولا دلالة له في ذلك لأن الجمع إذا كان مضافا كان للعموم، وفعله (ص) يدل عليه أيضا. نعم الطريق إلى توجيه المذهب أن
يقدر لفظ الشعر منكرا مقطوعا عن الإضافة، والتقدير: شعرا من رؤوسكم، أو تقول: قام الاجماع كما نقله في المجموع على أنه
لا يجب الاستيعاب فاكتفينا في الوجوب بمسمى الجمع اه‍. ولو لم يكن هناك إلا شعرة وجب إزالتها كما في البيان. وقضية
إطلاق المصنف أنه لا فرق في الشعرات بين أن يأخذها دفعة أو في دفعات وهو المذهب في المجموع، وجزم به في المناسك،
لكن حاصل ما في الروضة وأصلها تصحيح منع التفريق بناء على الأصح من عدم تكميل الدم بإزالتها المحرمة، والأول
هو المعتمد. ويجاب عن البناء بأنه لا يلزم منه الاتحاد في التصحيح، نعم يزول بالتفريق الفضيلة، ولا يأتي التصحيح
في الشعرة الواحدة المأخوذة بدفعات، وإن سوى أصل الروضة بينهما في البناء المذكور، ولا بد أن يكون من شعر الرأس
كما أشار إليه بقوله بعد: ومن لا شعر برأسه فلا يقوم مقامه شعر اللحية ولا غيرها من شعر البدن وإن استوى الجميع في وجوب
الفدية، ويجوز مما يحاذي الرأس قطعا وكذا من المسترسل النازل عن حد الرأس. ويكفي في الإزالة أخذ الشعر (حلقا
أو تقصيرا أو نتفا أو إحراقا أو قصا) أو أخذه بنورة أو نحو ذلك لأن المقصود الإزالة، وكل من هذه الأشياء طريق إليها.
نعم من نذر الحلق، وقلنا بوجوبه وهو الأصح، تعين استيعاب الرأس به، فإن خالف وأزال بغيره أثم وأجزأه. (ومن لا شعر)
كائن (برأسه) أو ببعضه كما قاله الأسنوي بأن خلق كذلك أو كان قد حلق واعتمر من ساعته كما مثله العمراني، (يستحب)
له (إمرار الموسى عليه) بالاجماع كما قاله ابن المنذر كله أو بعضه تشبيها بالحالقين، وإنما لم يجب الامرار
لأن ذلك فرض
تعلق بجزء آدمي فسقط بفواته كغسل اليد في الوضوء. وأما خبر: المحرم إذا لم يكن على رأسه شعر يمر الموسى على رأسه
فضعيف، ولو صح حمل على الندب. فإن قيل: قياس وجوب مسح الرأس في الوضوء عند فقد شعره الوجوب هنا. أجيب
بأن الفرض ثم تعلق بالرأس وهنا بشعره، وبأن من مسح بشرة الرأس يسمى ماسحا، ومن مر بالموسى عليه لا يسمى حالقا.
والظاهر كما قال الأذرعي أن هذا للرجل دون الأنثى لأن الحلق ليس بمشروع لها، ومثلها الخنثى. ويسن أن يأخذ من شاربه
أو شعر لحيته شيئا ليكون قد وضع من شعره شيئا لله تعالى. والموسى بألف في آخره وتذكر وتؤنث: آلة من الحديد. (فإذا حلق
أو قصر دخل مكة وطاف طواف الركن) للاتباع، رواه مسلم. والسنة أن يرمي بعد ارتفاع الشمس قدر رمح ثم ينحر ثم
يحلق ثم يطوف ضحوة. وهذا الطواف له أسماء غير ذلك، وهي: طواف الإفاضة وطواف الزيارة وطواف الفرض، وقد
يسمى طواف الصدر بفتح الدال، والأشهر أن طواف الصدر طواف الوداع. ويسمى طواف الركن. فالفرض لتعينه والإفاضة
لاتيانهم به عقب الإفاضة من منى والزيارة لأنهم يأتون من منى زائرين البيت ويعودون في الحال، والأفضل أن يطوفوا
يوم النحر. ويسن أن يشرب بعده من سقاية العباس من زمزم لأنه صح أنه (ص) جاء بعد الإفاضة وهم
يسقون على زمزم فناولوه دلوا فشرب منه. (وسعى) بعده (إن لم يكن سعى) بعد طواف القدوم كما مر، وهذا السعي
ركن كما سيأتي. (ثم يعود) من مكة (إلى منى) قبل صلاة الظهر بحيث يصلي الظهر بها للاتباع، رواه مسلم عن ابن عمر،
ولا يعارضه ما رواه مسلم أيضا عن جابر: أنه (ص) صلى الظهر يومئذ بمكة، وجمع بينهما في المجموع بأنه صلى بمكة في أول
الوقت بعد الزوال ثم رجع إلى منى وصلى ثانيا إماما لأصحابه، كما صلى بهم في بطن نخل مرتين: مرة بطائفة ومرة بأخرى،
فروى ابن عمر صلاته بمنى، وجابر صلاته بمكة. وروى أبو داود عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: أنه
(ص) أخر طواف يوم النحر إلى الليل وهو محمول على أنه أخر طواف نسائه وذهب معهن. (وهذا) الذي يفعل يوم
النحر من أعمال الحج أربعة، وهي: (الرمي والذبح والحلق والطواف، يسن ترتيبها كما ذكرنا) ولا يجب، لما روى
503

مسلم: أن رجلا جاء إلى النبي (ص) فقال: يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي. فقال: ارم ولا حرج، وأتاه
آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي، فقال: ارم ولا حرج. وفي الصحيحين: أنه (ص) ما سئل عن شئ يومئذ
قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج. (ويدخل وقتها) إلا ذبح الهدي، (بنصف ليلة النحر) لمن وقف قبله، لخبر أبي داود
بإسناد صحيح على شرط مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه (ص) أرسل أم سلمة ليلة النحر
فرمت قبل الفجر ثم أفاضت. وقيس بالرمي الآخر أن يجامع أن كلا من أسباب التحلل، ووجهه الدلالة من الخبر بأنه (ص)
علق الرمي بما قبل الفجر، وهو صالح لجمع الليل، ولا ضابط له، فجعل النصف ضابطا لأنه أقرب إلى الحقيقة مما قبله ولأنه
وقت للدفع من مزدلفة ولأذان الصبح، فكان وقتا للرمي كما بعد الفجر. ويسن تأخيرها إلى بعد طلوع الشمس
للاتباع. أما إذا فعلها بعد انتصاف الليل وقبل الوقوف فإنه يجب عليه إعادتها. وأما ذبح الهدي المسوق تقربا لله تعالى
فيدخل وقته بدخول وقت الأضحية كما سيأتي. (ويبقى وقت الرمي إلى آخر يوم النحر) لما روى البخاري: أن رجلا
قال للنبي (ص): إني رميت بعدما أمسيت، فقال: لا حرج. والمساء بعد الزوال، وظاهر كلامه أنه لا يكفي
بعد الغروب، وبه صرح في أصل الروضة لعدم وروده. واعترض بأنه سيأتي أنه إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده من أيام
الرمي يقع أداء، وقضيته أن وقته لا يخرج بالغروب، وهذا هو المعتمد. وأجيب بحمل ما هنا على وقت الاختيار، وما
هناك على وقت الجواز. وقد صرح الرافعي بأن وقت الفضيلة لرمي يوم النحر ينتهي بالزوال، فيكون لرميه ثلاثة
أوقات: وقت فضيلة إلى الزوال، ووقت اختيار إلى الغروب، ووقت جواز إلى آخر أيام التشريق. (ولا يختص الذبح)
للهدي المتقرب به، (بزمن) لكنه يختص بالحرم، بخلاف الضحايا فتختص بالعيد وأيام التشريق. (قلت: الصحيح
اختصاصه بوقت الأضحية، وسيأتي) للمحرر (في آخر باب محرمات الاحرام على الصواب، والله أعلم) وعبارته هناك:
ووقته وقت الأضحية على الصحيح، هذا بناه المصنف على ما فهمه من أن مراد الرافعي بالهدي هنا: المساق تقربا لله
تعالى، فاعترضه هنا وفي الروضة والمجموع. واعترض الأسنوي المصنف بأن الهدي يطلق على دم
الجبرانات والمحظورات،
وهذا لا يختص بزمان وهو المراد هنا، وفي قوله أولا ثم يذبح من معه هدي، وعلى ما يساق تقربا إلى الله تعالى، وهذا
هو المختص بوقت الأضحية على الصحيح وهو المذكور في آخر باب محرمات الاحرام، فلم يتوارد الكلامان على محل
واحد حتى يعد ذلك تناقضا. وقد أوضح الرافعي ذلك في باب الهدى من الشرح الكبير، فذكر أن الهدي يقع على
الكل، وأن الممنوع فعله في غير وقت الأضحية هو ما يسوقه المحرم، لكنه لم يفصح في المحرر عن المراد كما أفصح عنه
في الكبير، فظن المصنف أن المسألة واحدة فاستدرك عليه، وكيف يجئ الاستدراك مع تصريح الرافعي هناك بما يبين
المراد اه‍. أي فكان الأولى للمصنف أن يحمل كلامه هنا على كلامه في الشرح الكبير وإن كان الهدي إنما ينصرف
عند الاطلاق إلى ما يتعلق بذلك المحل، لأن الجمع حيث أمكن بين كلامين ظاهرهما التناقض يكون أولى من الاعتراض.
(والحلق) بالمعنى السابق، أو التقصير (والطواف والسعي) إن لم يكن فعل بعد طواف قدوم، (لا آخر لوقتها) لأن
الأصل عدم التأقيت ويبقى من هي عليه محرما حتى يأتي بها كما في المجموع، لكن الأفضل فعلها يوم النحر. ويكره
تأخيرها عن يومه، وعن أيام التشريق أشد كراهة، وعن خروجه من مكة أشد، ذكره في المجموع. وهذا صريح
في جواز تأخيرها عن أيام الحج. فإن قيل: بقاؤه على إحرامه يشكل بقولهم: ليس لصاحب الفوات أن يصبر على إحرامه
للسنة القابلة لأن استدامة الاحرام كابتدائه وابتداؤه لا يجوز. أجيب بأنه في تلك لا يستفيد ببقائه على إحرامه شيئا غير
محض تعذيب نفسه لخروج وقت الوقوف، فحرم بقاؤه على إحرامه وأمر بالتحلل. وأما هنا فوقت ما أخره باق فلا يحرم
504

بقاؤه على إحرامه ولا يؤمر بالتحلل، وهو بمثابة من أحرم بالصلاة في وقتها ثم مدها بالقراءة حتى خرج الوقت، فإن
كان طاف للوداع وخرج وقع عن طواف الفرض وإن لم يطف للوداع ولا غيره لم يستبح النساء وإن طال الزمان
لبقائه محرما. (وإذا قلنا: الحلق نسك) وهو المشهور، (ففعل اثنين من الرمي) أي يوم النحر، (والحلق) أو التقصير
(والطواف) المتبوع بالسعي إن لم يكن فعل قبل، (حصل التحلل الأول) من تحللي الحج، (وحل به اللبس) وستر
الرأس للرجل والوجه للمرأة، (والحلق) إن لم يفعل وإن لم يجعله نسكا، (والقلم) والطيب، بل يسن التطيب، قالت عائشة
رضي الله تعالى عنها: طيبت رسول الله (ص) لاحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت، متفق عليه.
والدهن ملحق بالتطيب، وكذا الباقي بجامع الاشتراك في الاستمتاع. (وكذا) يحل (الصيد وعقد النكاح) والمباشرة
فيما دون الفرج كالقبلة والملامسة، (في الأظهر) لأنها من المحرمات التي لا يوجب تعاطيها إفسادا، فأشبهت
الحلق، وهذا ما صححه في الشرح الصغير. (قلت: الأظهر لا يحل عقد النكاح) وكذا المباشرة فيما دون الفرج
(والله أعلم) لما روى النسائي بإسناد جيد كما قاله المصنف: إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شئ إلا النساء وهذا
ما نسبه في الشرح الكبير إلى تصحيح الأكثرين، وقال: إن قولهم أوفق لكلام النص في المختصر، ونقله في الروضة
والمجموع عن الأكثرين. (وإذا فعل الثالث) بعد الاثنين (حصل التحلل الثاني وحل به باقي المحرمات) بالاجماع،
ويجب عليه الاتيان بما بقي من أعمال الحج وهو الرمي والمبيت مع أنه غير محرم، كما أنه يخرج من الصلاة بالتسليمة
الأولى ويطلب منه التسليمة الثانية، لكن المطلوب هنا على سبيل الوجوب، وهناك على سبيل الندب. ويستحب
تأخير الوطئ عن باقي أيام الرمي ليزول عنه أثر الاحرام. فإن قيل: يشكل على ذلك خبر: أيام منى أيام أكل وشرب
وبعال. أجيب بأن هذه الأيام لا يمتنع فيها ذلك، وهو كذلك، وإنما استحب للحاج ترك الجماع لما ذكر. ومن
فاته رمي يوم النحر بأن أخره عن أيام التشريق ولزمه بدله توقف التحلل على البدل ولو صوما لقيامه مقامه. فإن قيل:
ما الفرق بين هذا وبين المحصر إذا عدم الهدي، فإن الأصح عدم توقف التحلل على بدله وهو الصوم؟ أجيب بأن
المحصر ليس له إلا تحلل واحد، فلو توقف تحلله على البدل لشق عليه المقام على سائر محرمات الحج إلى الاتيان بالبدل،
والذي يفوته الرمي يمكنه الشروع في التحلل الأول، فإذا أتى به حل له ما عدا النكاح ومقدماته وعقده فلا مشقة عليه
في الإقامة على الاحرام حتى يأتي بالبدل. هذا في تحلل الحج، أما العمرة فليس لها إلا تحلل واحد، لأن الحج يطول زمنه
وتكثر أعماله، فأبيح بعض محرماته في وقت وبعضها في وقت آخر بخلاف العمرة، ونظير ذلك الحيض والجنابة لما طال
زمن الحيض جعل لارتفاع محظوراته محلان: انقطاع الدم والاغتسال، والجنابة لما قصر زمنها جعل لارتفاع محظوراتها
محل واحد.
فصل: في المبيت بمنى ليالي أيام التشريق. (إذا عاد إلى منى) بعد الطواف والسعي إن لم يكن سعى بعد قدوم،
(بات بها) حتما (ليلتي) يومي، (التشريق) والثالثة أيضا، للاتباع المعلوم من الأخبار الصحيحة مع خبر: خذوا
عني مناسككم. والواجب معظم الليل، كما لو حلف لا يبيت بمكان لا يحنث إلا بمعظم الليل. وإنما اكتفى بساعة في
نصفه الثاني بمزدلفة كما مر لأن نص الشافعي وقع فيها بخصوصها، إذ بقية المناسك يدخل وقتها بالنصف، وهي كثيرة
مشقة، فسومح في التخفيف لأجلها. وسميت هذه أيام التشريق لاشراف نهارها بنور الشمس، وليلها بنور القمر،
وقيل: لأن الناس يشرقون اللحم فيها في الشمس، وهذه الأيام هي المعدودات في قوله تعالى في البقرة: * (واذكروا
505

الله في أيام معدودات) *، وأما المعلومات في قوله تعالى في سورة الحج: * (ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) * فهي
العشر الأول من ذي الحجة. (ورمى كل يوم) من أيام التشريق الثلاثة، وهي حادي عشر الحجة وتالياه. (إلى الجمرات
الثلاث) والأولى منها تلي مسجد الخيف، وهي الكبرى، والثانية الوسطى، والثالثة جمرة العقبة وليست من منى،
بل منى ينتهي إليها ويرمي. (كل جمرة سبع حصيات) للاتباع المعلوم من الأحاديث الصحيحة، فمجموع المرمي به
في أيام التشريق ثلاثة وستون حصاة، ويسن استقبال القبلة في هذه الجمرات. (فإذا رمى اليوم) الأول، و (الثاني)
من أيام التشريق (وأراد النفر) مع الناس، (قبل غروب الشمس) في اليوم الثاني، (جاز وسقط مبيت الليلة الثالثة
ورمى يومها) ولا دم عليه لقوله تعالى: * (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) * ولاتيانه بمعظم العبادة. ويؤخذ من هذا
التعليل أن محل ذلك إذا بات الليلتين الأوليين، فإن لم يبتهما لم يسقط مبيت الثالثة ولا رمي يومها، وهو كذلك
فيمن لا عذر له كما نقله في المجموع عن الروياني عن الأصحاب وأقره. وكذا لو نفر بعد المبيت وقبل الرمي كما يفهمه
تقييد المصنف ببعد الرمي، وبه صرح العمراني عن الشريف العثماني، قال: لأن هذا النفر غير جائز. قال
المحب الطبري:
وهو صحيح متجه، وقال الزركشي: وهو ظاهر. والشرط أن ينفر بعد الزوال والرمي. قال الأصحاب: والأفضل
تأخير النفر إلى الثالث، لا سيما للامام كما قاله في المجموع، للاقتداء به (ص) إلا لعذر كغلاء ونحوه، بل قال الماوردي
في الأحكام السلطانية: ليس للامام ذلك لأنه متبوع، فلا ينفر إلا بعد كمال المناسك، حكاه عنه في المجموع. ويترك
حصى اليوم الثالث أو يدفعها لمن لم يرم ولا ينفر بها. وأما ما يفعله الناس من دفنها فلا أصل له. (فإن لم ينفر) بكسر
الفاء وضمها: أي يذهب، وأصله لغة: الانزعاج. (حتى غربت) أي الشمس (وجب مبيتها ورمي الغد) لما رواه
مالك عن نافع عن ابن عمر بإسناد صحيح موقوف عليه. ولو غربت الشمس وهو في شغل الارتحال فله النفر، لأن في
تكليفه حل الرحل والمتاع مشقة عليه، كما لو ارتحل وغربت الشمس قبل انفصاله من منى فإن له النفر، وهذا ما جزم به
ابن المقري تبعا لأصل الروضة، وهو المعتمد خلافا لما في مناسك المصنف من أنه يمتنع عليه النفر، وإن قال الأذرعي:
إن ما في أصل الروضة غلط. ولو نفر قبل الغروب ثم عاد إلى منى زائرا أو مارا أو نحو ذلك، سواء أكان ذلك قبل
الغروب أم بعده، لم يلزمه مبيت تلك الليلة ولا رمى يومها، بل لو بات هذا متبرعا سقط عنه الرمي لحصول الرخصة له بالنفر،
ويجب بترك مبيت ليالي منى دم لتركه المبيت الواجب، كما يجب في ترك مبيت مزدلفة دم وفي ترك مبيت الليلة الواحدة
مد والليلتين مدان من طعام، وفي ترك الثلاث مع ليلة مزدلفة دمان لاختلاف المبيتين مكانا. ويفارق ما يأتي في ترك
الرميين بأن تركهما يستلزم ترك مكانين وزمانين، وترك الرميين لا يستلزم إلا ترك زمانين، فلو نفر مع ترك مبيت ليلتين
من أيام منى في اليوم الأول أو الثاني، لزمه دم لتركه جنس المبيت بمنى فيهما، ويسقط مبيت منى ومزدلفة والدم عن
الرعاء - بكسر الراء وبالمد - إن خرجوا منهما قبل الغروب، لأنه (ص) رخص لرعاء الإبل أن يتركوا المبيت بمنى. وقيس
بمنى مزدلفة، وصورته أن يأتيها قبل الغروب ثم يخرج منها حينئذ على خلاف العادة، فإن لم يخرجوا قبل الغروب بأن
كانوا بها بعده لزمهم مبيت تلك الليلة والرمي من الغد. وأما أهل السقاية، وهي بكسر السين: موضع بالمسجد الحرام
يسقي فيه الماء ويجعل في حياض يسبل للشاربين فيسقط عنهم المبيت، ولو نفروا بعد الغروب وكانت السقاية محدثة، لأنه
(ص) رخص للعباس أن يبيت بمكة ليالي منى لأجل السقاية رواه الشيخان. وغير العباس ممن هو من أهل السقاية في
معناه وإن لم يكن عباسيا، وإنما لم يقيد ذلك بخروجهم قبل الغروب، لأن عملهم بالليل بخلاف الرعاء. وما ذكر في السقاية الحادثة هو ما صححه المصنف وهو المعتمد خلافا للرافعي ومن تبعه من تصحيح المنع. ولرعاء الإبل وأهل السقاية تأخيري الرمي
يوما فقط ويؤدونه في تاليه قبل رميه لا رمي يومين متواليين، وهذا بالنسبة لوقت الاختيار وإلا فقد مر أن وقت الجواز يمتد
إلى آخر أيام التشريق، فقول المجموع: قال الروياني وغيره لا يرخص للرعاء في ترك رمي يوم النحر، أي في تأخيره، محمول
506

على أنه لا يرخص له في الخروج عن وقت الاختيار. ويعذر في ترك المبيت وعدم لزوم الدم خائف على نفس أو مال
أو فوت أمر يطلبه كأبق، أو ضياع مريض بترك تعهده لأنه ذو عذر، فأشبه الرعاء وأهل السقاية. وله أن ينفر بعد الغروب
كما يؤخذ من التشبيه بأهل السقاية، وصرح به في أصل الروضة. وتقدم أن المشغول بتدارك الحج عن مبيت مزدلفة
ومن أفاض من عرفة ليطوف للإفاضة أنه يعذر في ترك المبيت. ويسن للامام أن يخطب بعد صلاة الظهر يوم النحر
بمنى خطبة يعلمهم فيها حكم الطواف والرمي والنحر والمبيت ومن يعذر فيه، ثم يخطب بهم بعد صلاة الظهر بمنى خطبة ثاني
أيام التشريق للاتباع ويعلمهم فيها جواز النفر فيه وما بعده من طواف الوداع وغيره، ويودعهم ويأمرهم بختم الحج
بطاعة الله تعالى. وهاتان الخطبتان لم نر من يفعلهما في زماننا. (ويدخل رمي) كل يوم من أيام (التشريق بزوال
الشمس) من ذلك اليوم للاتباع، رواه مسلم. ويسن تقديمه على صلاة الظهر كما في المجموع، ومحله ما لم يضق الوقت
وإلا قدم الصلاة إلا أن يكون مسافرا فيؤخرها بنية الجمع. (ويخرج) أي وقته الاختياري (بغروبها) من كل يوم. و
أما وقت الجواز فلا يخرج بذلك كما علم مما مر ومما سيأتي من أن الأظهر أنه لا يخرج إلا بغروبها من آخر أيام التشريق.
(وقيل يبقى إلى الفجر) كالوقوف بعرفة، ومحل هذا الوجه في غير اليوم الثالث. أما هو فيخرج وقت رميه بغروب
شمسه جزما لخروج وقت المناسك بغروب شمسه. وللرمي شروط ذكرها في قوله: (ويشترط) في رمي النحر وغيره
(رمي) الحصيات (السبع واحدة واحدة) للاتباع، رواه مسلم. والمراد بسبع رميات، فيجزئ وإن وقعن معا أو سبقت
الأخيرة الأولى في الوقوع. فلو رمى السبع مرة واحدة، أو حصاتين كذلك إحداهما بيمينه والأخرى بيساره لم يحسب
إلا واحدة وإن تعاقب الوقوع، وهذا بخلاف ما لو وجب الحد على إنسان فجلد بمائة مشدودة فإنها تحسب مائة لأن
الحدود مبنية على التخفيف، وأيضا المقصود من الضربات الايلام وهو حاصل، وأما الرمي فإن الغالب عليه التعبد.
وكلام المصنف يشعر بأنه لو رمى حصاة واحدة سبع مرات لم يكف، وهو وجه رجحه الامام الغزالي، وقال ابن الصلاح:
إنه الأقوى، واختاره الأذرعي، إذ المقام مقام اتباع وتعبد. ولكن الأصح عند الشيخين الجواز، ونقله في المجموع عن
اتفاق الأصحاب. ولو رمى جملة السبع سبع مرات أجزأه، وكلام المتن يفهم خلاف ذلك ولو قال المحرر: ويشترط رمي
الحصيات السبع في سبع دفعات لكان أولى. (وترتيب الجمرات) بفتح الميم واحدتها جمرة بسكونها، بأن يبدأ بالجمرة التي
تلي مسجد الخيف، وهي أولا من جهة عرفات، ثم الوسطى ثم جمرة العقبة للاتباع، رواه البخاري. ولو بدأ
بجمرة العقبة ثم الوسطى ثم التي تلي المسجد حصلت فقط، ولو ترك حصاة وشك في محلها جعلها من الأولى احتياطا
فيرمي بها إليها ويعيد رمي الجمرتين، إذ الموالاة بين الرمي في الجمرات لا تجب وإنما تسن فيه كما في الطواف. ولو ترك
حصاتين لا يعلم موضعهما احتاط وجعل واحدة من يوم النحر وواحدة من ثالثه وهو يوم النفر الأول من أي جمرة كانت
أخذ بالأسوأ. (و) يشترط (كون) الرمي باليد، وكون (المرمي حجرا) للاتباع، فلا يكفي الرمي عن قوس، والرمي
بالرجل، ولا بالمقلاع، ولا بالرمي بذهب أو فضة أو نحو ذلك كلؤلؤ وإثمد وزرنيخ وجص وجوهر، ويجزئ الحجر
بأنواعه كياقوت وحجر حديد وبلور وعقيق وذهب وفضة، ويجزئ حجر نورة لم يطبخ بخلاف ما طبخ منه لأنه حينئذ
لا يسمى حجرا بل نورة. (وأن يسمى رميا فلا يكفي الوضع) في المرمى لأنه لا يسمى رميا، ولأنه خلاف الوارد. فإن
قيل: ذكر اشتراط الرمي غير محتاج إليه، لأنه قد علم من قوله: ويشترط رمي السبع واحدة واحدة. أجيب بأنه إنما
ذكره لئلا يتوهم أن ذلك سبق لبيان التعدد لا للكيفية، فنص عليه هنا احتياطا. ويشترط أيضا قصد الجمرة بالرمي،
فلو رمى إلى غيرها كأن رمى في الهواء فوقع في المرمى لم يكف. وقضية كلامهم أنه لو رمى إلى العلم المنصوب في الجمرة
أو الحائط التي بجمرة العقبة كما يفعله كثير من الناس فأصابه ثم وقع في المرمى لا يجزئ، قال المحب الطبري: وهو الأظهر
عندي، ويحتمل أنه يجزئه لأنه حصل فيه بفعله مع قصد الرمي الواجب عليه. قال الزركشي: والثاني من احتماليه
507

أقرب اه‍. بل الأقرب إلى كلامهم الأول. قال الطبري: ولم يذكروا في الرمي حدا معلوما، غير أن كل جمرة عليها علم
فينبغي أن يرمي تحته على الأرض، ولا يبعد عنه احتياطا. وقد قاله الشافعي رضي الله تعالى عنه: الجمرة مجتمع الحصى
لا ما سال من الحصى، فمن أصاب مجتمعه أجزأه، ومن أصاب سائله لم يجزه. وحده بعض المتأخرين فقال: موضع
الرمي ثلاثة أذراع من سائر الجوانب إلا في جمرة العقبة، فليس لها إلا وجه واحد، ورمي كثيرين من أعلاها باطل اه‍.
وهو قريب مما تقدم. (والسنة) في رمي يوم النحر وغيره، (أن يرمي) الجمرة لا بحجر كبير ولا صغير جدا بل (بقدر حصى
الخذف) وهو دون الأنملة طولا وعرضا في قدر الباقلاء، فلو رمى بأكبر منه أو بأصغر كره وأجزأه. وهيئة الخذف
كما قال الرافعي أن يضع الحجر على بطن الابهام ويرميه برأس السبابة، والأصح كما في الروضة والمجموع وغيرهما أنه يرميه
على غير هيئة حصى الخذف. ويسن أن يرفع الذكر يده بالرمي حتى يرى بياض إبطه بخلاف المرأة والخنثى، وأن
يكون الرمي باليد اليمنى، وأن يستقبل القبلة في رمي التشريق، وأن يرمي راجلا لا راكبا إلا في يوم النفر فالسنة أن
يرمي راكبا لينفر عقبه، وأن يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي كما مر في رمي يوم النحر، وأن يرمي الجمرتين الأوليين
من علو، وأن يدنو من الجمرة في رمي أيام التشريق بحيث لا يبلغه حصى الرامين، فيقف مستقبل القبلة ويدعو
ويذكر
الله تعالى ويهلل ويسبح بعد رمي الجمرة الأولى بقدر قراءة سورة البقرة، وكذا بعد رمي الثانية لا الثالثة، بل يمضي
بعد رميها للاتباع في ذلك، رواه البخاري، إلا بقدر سورة البقرة فرواه البيهقي من فعل ابن عمر. (ولا يشترط بقاء
الحجر في المرمى) فلا يضر تدحرجه بعد الوقوع فيه لحصول اسم الرمي. (ولا كون الرامي خارجا عن الجمرة) فلو وقف
بعضها ورمى إلى الجانب الآخر منها صح لما مر من حصول اسم الرمي، ولو رمى الحجر فأصاب شيئا كأرض أو مجمل فارتد
إليه المرمي لا بحركة ما أصابه أجزأه لحصوله في المرمى بفعله لا بمعاونة، بخلاف ما لو ارتد بحركة ما أصابه. ولو ردت الريح
الحصاة إلى المرمى أو تدحرجت إليه من الأرض لم يضر إلا أن تدحرجت من ظهر بعير أو نحوه كعنقه ومحمل فلا يكفي.
ويشترط إصابة المرمى يقينا فلو شك فيها لم يكف، لأن الأصل عدم الوقوع فيه وبقاء الرمي عليه. وصرف الرمي بالنية
لغير النسك كأن رمى إلى شخص أو دابة في الجمرة كصرف الطواف بها إلى غيره فينصرف لغيره، وإن بحث في المهمات
إلحاق الرمي بالوقوف لأنه مما يتقرب به، وحده كرمي العدو فأشبه الطواف بخلاف الوقوف. وأما السعي فالظاهر كما
قال شيخنا أخذا من ذلك أنه كالوقوف. (ومن عجز عن الرمي) لعلة لا يرجى زوالها قبل فوت وقت الرمي كمرض أو
حبس، (استناب) من يرمي عنه وجوبا، كما قال الأسنوي: إنه المتجه ولو بأجرة حلالا كان النائب أو محرما، لأن الاستنابة
جائزة في النسك، فكذلك في أبعاضه، فليس المراد العجز الذي ينتهي إلى اليأس، كما في استنابة الحج. ولا فرق في
الحبس بين أن يكون بحق أم لا كما قاله في المجموع، خلافا لابن الرفعة في الحبس بحق. قال الأسنوي: وصورة المحبوس
بحق أن يجب عليه قود لصغير، فإنه يحبس حتى يبلغ وما أشبه هذه الصورة. وأما إذا حبس بدين مقدر عليه فليس
بعاجز عن الرمي، ويمكن حمل كلام ابن الرفعة على هذه الصورة. ويشترط في النائب أن يكون رمي عن نفسه أولا،
فلو لم يرم وقع عن نفسه كأصل الحج. ويندب أن يناول النائب الحصى ويكبر إن أمكن وإلا تناولها النائب وكبر بنفسه،
ولا ينعزل النائب بإغماء المستنيب كما لا ينعزل عنه وعن الحج بموته، لأن الاغماء زيادة في العجز المبيح للإنابة فلا يكون
مفسدا لها، وفارق سائر الوكالات بوجوب الاذن هنا، فلو نوى في وقت بعد الرمي لم تلزمه الإعادة لكنها تسن. أما
إغماء النائب فظاهر كلامهم أنه ينعزل به، وهو القياس. وما ذكر في هذا الفصل من شروط الرمي ومستحباته يأتي في
رمي يوم النحر. (وإذا ترك رمي يوم) أو يومين من أيام التشريق عمدا أو سهوا أو جهلا، (تداركه في باقي الأيام) منها
(في الأظهر) بالنص في الرعاء وأهل السقاية، وبالقياس في غيرهم، إذ لو كانت بقية الأيام غير صالحة للرمي لم يفترق الحال
فيها بين المعذور وغيره كما في الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة. وكذا يتدارك رمي يوم النحر في باقي الأيام إذا تركه،
508

واليوم الأول منها في الثاني أو الثالث، والثاني أو الأولين في الثالث والثاني، لا كما يتدارك بعد أيام التشريق.
تنبيه: إذا قلنا بالتدارك فتدارك فالأظهر أنه أداء الوقت المضروب له وقت اختيار كما مرت الإشارة إليه، وقضية
كلام المصنف أن له أن يتدارك قبل الزوال، وأنه لا يجوز بالليل فإنه عبر بالأيام، والأيام حقيقة لا تتناول الليالي. أما الأول
فهو المعتمد كما جزم به في أصل الروضة والمجموع والمناسك واقتضاه نص الشافعي خلافا لما في الشرح الصغير من المنع،
وجرى عليه الأسنوي وابن المقري. وأما الثاني فالمعتمد فيه أيضا الاجزاء كما قاله ابن الصباغ في شامله وابن الصلاح
والمصنف في مناسكهما ونص عليه الشافعي خلافا لمقتضى عبارة المصنف، وإن جرى عليه الأسنوي وابن المقري في روضه.
وما علل به المنع في الأول بأنه وقت لم يشرع فيه رمي فصار كالليل بالنسبة للصوم، والمنع في الثاني بأن الرمي عبادة
النهار كالصوم، ممنوع في التدارك، فجملة أيام منى بلياليها كوقت واحد، وكل يوم لرميه وقت اختيار، لكن لا يجوز
تقديم رمي كل يوم على زوال شمسه كما مر. ويجب الترتيب بينه وبين رمي يوم التدارك بعد الزوال، فإن خالف وقع
عن المتروك. فلو رمى إلى كل جمرة أربع عشرة: سبعا عن أمسه وسبعا عن يومه لم يجزه عن يومه. ويؤخذ من ذلك
أن النائب لا بد أن يرمي عن نفسه الجمرات الثلاث قبل أن يرمي عن منيبه، وهو ظاهر، ولم أر من ذكره. فإن قيل:
ما اقتضاه ما تقرر من جواز ترك رمي يومين ووقوعه أداء بالتدارك يشكل بقولهم ليس للمعذورين أن يدعو أكثر من
يوم وأنهم يقضون ما فاتهم. أجيب بأن الكلام هنا في تداركه مع البيات بمنى، والكلام الذي سبق في الرعاء وأهل
السقاية إنما هو فيمن ترك المبيت، فامتناع تأخير رمي يومين في حقهم إنما هو لعدم الاتيان بالمبيت ليلتين ورمي
يومين، فامتنع ذلك لعدم الاتيان بشئ من الشعار في اليومين، بخلاف من أتى بالبيت فإنه قد أتى بشعاره فسومح
بتأخير الرمي يومين. هذا، والأولى أن يقال ما تقدم في وقت الاختيار وما هنا في وقت الجواز، والتعبير بالقضاء لا ينافي
الأداء كما مرت الإشارة إلى ذلك، فإذا لا فرق بين المعذورين وغيرهم وإن عد بعضهم ذلك تناقضا. (ولا دم) مع
التدارك سواء أجعلناه أداء أم قضاء لحصول الانجبار بالمأتي به. (وإلا) بأن لم يتداركه، (فعليه دم) في رمي يوم أو يومين
أو ثلاثة أو يوم النحر مع أيام التشريق، لاتحاد جنس الرمي فأشبه حلق الرأس. وقد ذكر الرافعي طرقا واختلافا كثيرا
أشار إليه المصنف بقوله: (والمذهب تكميل الدم في ثلاث حصيات) لوقوع الجمع عليها، كما لو أزال ثلاث شعرات
متوالية كما سيأتي. وروى البيهقي عن ابن عباس بإسناد صحيح أنه قال: من ترك نسكا فعليه دم وفي الحصاة الواحدة
مد طعام، وفي الثنتين مدان. وصورة المسألة أن يكون ذلك من الجمرة الأخيرة من اليوم الأخير من أيام التشريق، أما لو ترك
ذلك من غير الجمرة الأخيرة من أيام التشريق فعليه دم لبطلان ما بعده حتى يأتي به لوجوب الترتيب بين الجمرات كما مر.
وقيل: إنما يكمل الدم في وظيفة جمرة كما يكمل في وظيفة يوم النحر. وفي الحصاة والحصاتين على الطريقين الأقوال
في حلق الشعرة والشعرتين، أظهرهما أن في الحصاة الواحدة مد طعام والثاني درهما والثالث ثلث دم على الأول وسبعه على
الثاني، وفي الحصاتين ضعف ذلك.
تنبيه: قد تقدم أن مبيت ليالي منى يسقط عن المعذورين. وأما غيرهم فيجب عليه في ترك مبيت ليالي التشريق
دم، وفي قول: في كل ليلة دم، وعلى الأول في الليلة مد، وفي قول: درهم، وفي آخر: ثلث دم، وفي الليلتين ضعف ذلك
إن لم ينفر قبل الثالثة فإن نفر قبلها ففي وجه الحكم كذلك لأنه لم يترك إلا ليلتين، والأصح وجوب الدم بكماله لترك
جنس المبيت بمنى. قال في المجموع: وترك المبيت ناسيا كتركه عامدا، وصرح به الدارمي وغيره. (وإذا
أراد) بعد
قضاء مناسكه، (الخروج من مكة) لسفر ولو مكيا طويل أو قصير كما في المجموع، (طاف للوداع) طوافا كاملا بركعتيه،
لما روى البخاري عن أنس: أنه (ص) لما فرغ من أعمال الحج طاف طواف الوداع وروى مسلم عن ابن عباس خبر:
لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت أي الطواف به كما رواه أبو داود. فلا طواف وداع على مريد الإقامة
509

وإن أراد السفر بعده كما قاله الامام، ولا على مريد السفر قبل فراغ الأعمال، ولا على المقيم بمكة الخارج إلى التنعيم ونحوه،
لأنه (ص) أمر أخا عائشة أن يعمرها من التنعيم ولم يأمرها بوداع، وهذا فيمن خرج لحاجة ثم يعود،
وما مر عن المجموع فيمن أراد دون مسافة القصر فيمن خرج إلى منزله أو محل يقيم فيه كما يقتضيه كلام العمراني
وغيره فلا تنافي بينهما. (ولا يمكث بعده) وبعد ركعتيه وبعد الدعاء المحبوب عقبه عند الملتزم وإتيان زمزم والشرب
من مائها، لخبر مسلم السابق. فإن مكث لغير حاجة أو لحاجة لا تتعلق بالسفر كالزيارة والعيادة وقضاء الدين فعليه إعادته،
وإن اشتغل بركعتي الطواف أو بأسباب الخروج كشراء الزاد وأوعيته وشد الرحل وأقيمت الصلاة فصلاها معهم كما قاله
في زيادة الروضة لم يلزمه إعادته، والمعتمد أنه ليس من مناسك الحج ولا العمرة كما قاله الشيخان، بل هو عبادة مستقلة
خلافا لأكثر المتأخرين. وتظهر فائدة الخلاف في أنه هل يفتقر إلى نية أو لا؟ وفي أنه يلزم الأجير فعله أو لا؟ ولا يدخل
تحت غيره من الاطوفة بل لا بد من طواف يخصه، حتى لو أخر طواف الإفاضة وفعله بعد أيام منى وأراد الخروج عقبه لم
يكف كما ذكره الرافعي في أثناء تعليل. (وهو واجب) لما في الصحيحين عن ابن عباس أنه قال: أمر الناس أن
يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض. (يجبر تركه بدم) وجوبا كسائر الواجبات، (وفي قول
سنة لا يجبر) بدم كطواف القدوم. وفرق الأول بأن طواف القدوم تحية البقعة، فليس مقصودا في نفسه، ولذلك
يدخل تحت غيره.
تنبيه: لا خلاف في الجبر كما في الشرح والروضة، وإنما الخلاف في كونه واجبا أو مندوبا، والأصح أنه مندوب
على القول الثاني خلافا لما توهمه عبارة المصنف. (فإن أوجبناه فخرج) من مكة أو منى، (بلا وداع)
عامدا أو ناسيا أو
جاهلا بوجوبه، (وعاد) بعد خروجه (قبل مسافة القصر) من مكة، وقيل: من الحرم، وطاف للوداع كما صرح به في
المحرر، (سقط الدم) لأنه في حكم المقيم، وكما لو جاوز الميقات غير محرم ثم عاد إليه. فإن قيل: قولهم لأنه في حكم المقيم
فيه نظر إذا سوينا بين السفر الطويل والقصير في وجوب الوداع. أجيب بأن سفره هنا لم يتم لعوده بخلافه هنا، أما إذا
عاد ليطوف فمات قبل أن يطوف لم يسقط الدم. فلا وجه لاسقاط ما ذكره المحرر. (أو) عاد (بعدها) وطاف، (فلا) يسقط
(على الصحيح) لاستقراره بالسفر الطويل ووقوع الطواف بعد العود حق للخروج الثاني، والثاني: يسقط كالحالة الأولى،
ويجب العود فيها ولا يجب في الثانية للمشقة.
تنبيه: قوله أو بعدها يفهم أن بلوغها ليس كذلك، وليس مرادا، والذي في المجموع أن بلوغها كمجاوزتها.
(وللحائض النفر بلا) طواف (وداع) لحديث ابن عباس السابق، وعن عائشة: أن صفية حاضت فأمرها النبي
(ص) أن تنصرف بلا وداع. نعم إن طهرت قبل مفارقة بنيان مكة لزمها العود لتطوف، بخلاف ما إذا طهرت
خارج مكة ولو في الحرم وكالحائض النفساء كما في المجموع. وخرج بالحائض المتحيرة فإنها تطوف، قال الروياني: فإن
لم تطف طواف الوداع فلا دم عليها للشك في طهرها. وأما المستحاضة غير المتحيرة فإن نفرت في طهرها لزمها العود على
التفصيل المتقدم، أو في حيضها فلا. ومن حاضت قبل طواف الإفاضة تصير محرمة حتى ترجع لمكة فتطوف ولو طال
ذلك سنين. قال بعض المتأخرين: وينبغي أنها إذا وصلت بلدها وهي محرمة عادمة النفقة ولم يمكنها الوصول للبيت الحرام
يكون حكمها كالمحصر، فتحلل بذبح شاة وتقصير ونية تحلل، وأيد ذلك بكلام في المجموع اه‍. وهو بحث حسن. وبحث
بعض آخر بأنها إن كانت شافعة تقلد الامام أبا حنيفة أو أحمد بن حنبل على إحدى الروايتين عنده في أنها تهجم وتطوف
بالبيت ويلزمها توبة وتأثم بدخولها المسجد حائضا، ويجزئها هذا الطواف عن الفرض لما في بقائها على الاحرام من
المشقة. وإذا فرغ من طواف الوداع المتبوع بركعتيه استحب له أن يدخل البيت ما لم يؤذ أو يتأذ بزحام أو غيره،
وأن يكون حافيا، وأن لا ينظر إلى أرضه، ولا يرفع بصره إلى سقفه تعظيما لله تعالى وحياء منه. وأن يصلي
فيه ولو ركعتين،
510

والأفضل أن يقصد مصلى النبي (ص) بأن يمشي بعد دخوله الباب حتى يكون بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبا من
ثلاثة أذرع، وأن يدعو في جوانبه، ثم يدعو عند الملتزم، وهو بضم الميم وفتح الزاي، سمي به لأنهم يلتزمونه بالدعاء،
ويسمى المدعى والمتعوذ. قال في المجموع: قال القاضي أبو الطيب: قال الشافعي: يسن لمن فرغ من طواف الوداع أن
يأتي الملتزم فيلصق بدنه وصدره بحائط البيت ويبسط يديه على الجدار فيجعل اليمنى مما يلي الباب واليسرى مما يلي الحجر
الأسود ويدعو بما أحب من المأثور وغيره، لكن المأثور أفضل. ومن المأثور ما في التنبيه وهو: اللهم البيت بيتك، والعبد
عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى صيرتني في بلادك، وبلغتني بنعمتك حتى أعنتني على قضاء
مناسكك، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضا، وإلا فمن الآن قبل تنأى عن بيتك داري ويبعد عنه مزاري،
هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا بيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فأصحبني العافية في
بدني والعصمة في ديني، وأحسن منقلبي، وارزقني العمل بطاعتك ما أبقيتني وما زاد فحسن، وقد زيد فيه: واجمع لي
خيري الدنيا والآخرة إنك قادر على ذلك ولفظ فمن الآن يجوز فيه ضم الميم وتشديد النون وهو الأجود، وكسر الميم
وتخفيف النون مع فتحها وكسرها، قاله في المجموع. ثم يصلي على النبي (ص). فإن كانت حائضا أو نفساء
استحب أن تأتي بجميع ذلك على باب المسجد وتمضي. ويسن الاكثار من الاعتمار والطواف تطوعا، والصلاة أفضل من
الطواف، وأن يزور المواضع المشهورة بالفضل بمكة، وهي ثمانية عشر، منها: بيت المولد، وبيت خديجة، ومسجد دار
الأرقم، والغار الذي في ثور والذي في حراء، وقد أوضحها المصنف في مناسكه. وأن يكثر النظر إلى البيت إيمانا واحتسابا،
لما روى الأزرقي عن ابن المسيب قال: من نظر إلى الكعبة إيمانا وتصديقا خرج من الخطايا كيوم ولدته أمه. وروى
البيهقي في شعب الايمان: أن لله تعالى في كل يوم وليلة عشرين ومائة رحمة تنزل على هذا البيت: ستون للطائفين وأربعون
للمصلين وعشرون للناظرين وأن يكثر من الصدقة وأنواع البر والقربات، فإن الحسنة هناك بمائة ألف حسنة.
قال الحسن
البصري رضي الله تعالى عنه: الدعاء يستجاب في خمسة عشر موضعا بمكة: في الطواف، والملتزم، وتحت الميزاب، وفي البيت،
وعند زمزم، وعلى الصفا والمروة، وفي السعي، وخلف المقام، وفي عرفات ومزدلفة ومنى، وعند الجمرات الثلاث. (
ويسن شرب ماء زمزم) لأنها مباركة طعام طعم وشفاء سقم. قال في المجموع: رواه مسلم، وقيل: شفاء سقم لم يروها
مسلم، وإنما رواها أبو داود الطيالسي، نبه على ذلك الأسنوي. ويسن أن يشربه لمطلوبه في الدنيا والآخرة لحديث: ماء زمزم
لما شرب له رواه البيهقي وغيره، وصححه المنذري، وضعفه المصنف، وحسنه ابن حجر لوروده من طرق عن جابر.
ويسن استقبال القبلة عند شربه، وأن يتضلع منه لما روى البيهقي من طرق أن النبي (ص) قال: آية ما بيننا وبين
المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم. وقد شربه جماعة من العلماء فنالوا مطلوبهم. ويسن أن يقول عند شربه: اللهم إنه
قد بلغني عن نبيك محمد (ص) أنه قال: ماء زمزم لما شرب له وأنا أشربه لكذا، ويذكر ما يريد دينا ودنيا:
اللهم فافعل، ثم يسمي الله تعالى، ويشرب ويتنفس ثلاثا. وكان ابن عباس إذا شربه يقول: اللهم إني أسألك علما نافعا،
ورزقا واسعا، وشفاء من كل داء، وقال الحاكم صحيح الاسناد. ويسن الدخول إلى البئر والنظر فيها، وأن ينزع منها بالدلو
الذي عليها ويشرب. قال الماوردي: ويسن أن ينضح منه على رأسه ووجهه وصدره، وأن يتزود من مائها
ويستصحب منه ما أمكنه، ففي البيهقي أن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها كانت تحمله وتخبر أن رسول الله
(ص) كان يحمله في القرب، وكان يصبه على المرضى ويسقيهم منه. ويسن الشرب من نبيذ سقاية العباس
ما لم يسكر، والاكثار من دخول الحجر والصلاة فيه والدعاء، فإن أكثره من البيت كما مر. ويسن أن يختم القرآن
بمكة، وأن ينصرف تلقاء وجهه مستدبر البيت كما صححه المصنف في مناسكه وصوبه في مجموعه، وقيل: يخرج وهو ينظر
إليه إلى أن يغيب عنه مبالغة في تعظيمه، وجرى على ذلك صاحب التنبيه، وقيل: يلتفت إليه بوجهه ما أمكنه
511

كالمتحزن على فراقه، وجرى على ذلك ابن المقري. ويقول عند خروجه من مكة: الله أكبر ثلاثا، لا إله إلا الله وحده
لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير، آيبون عابدون ساجدون لربنا حامدون وصدق الله وعده، ونصر
عبده، وهزم الأحزاب وحده. (و) تسن (زيارة قبر رسول الله (ص)) لقوله (ص): من زار قبري
وجبت له
شفاعتي، رواه ابن خزيمة في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ومفهومه أنها جائزة لغير زائره. ولقوله
(ص): من جاءني زائرا لم تنزعه حاجة إلا زيارتي كان حقا على الله تعالى أن أكون له شفيعا يوم القيامة رواه
ابن السكن في سننه الصحاح المأثورة. وروى البخاري: من صلى علي عند قبري وكل الله به ملكا يبلغني وكفي أمر دنياه
وآخرته وكنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة. فزيارة قبره (ص) من أفضل القربات ولو لغير حاج ومعتمر،
فقوله: (بعد فراغ الحج) كما قاله الشافعي والأصحاب ليس المراد اختصاص طلب الزيارة بهذه الحالة فإنها مندوبة مطلقا
كما مر بعد حج أو عمرة قبلهما أولا مع نسك، بل المراد تأكد الزيارة فيها لامرين: أحدهما أن الغالب على الحجيج
الورود من آفاق بعيدة، فإذا قربوا من المدينة يقبح تركهم الزيارة، والثاني: لحديث: من حج ولم يزرني فقد جفاني رواه
ابن عدي في الكامل وغيره، وهذا يدل على أنه يتأكد للحاج أكثر من غيره. وحكم المعتمر حكم الحاج في تأكد ذلك
وإن لم تشمله عبارة المصنف. وفي الحديث: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى،
ومسجدي هذا فتسن زيارة بيت المقدس وزيارة الخليل (ص)، ولا تعلق لهما بالحج. ويسن لمن قصد المدينة
الشريفة لزيارة قبره (ص) أن يكثر في طريقه من الصلاة والسلام عليه (ص)، ويزيد فيهما إذا أبصر
أشجارها مثلا، ويسأل الله تعالى أن ينفعه بهذه الزيارة ويتقبلها منه، وأن يغتسل قبل دخوله كما تقدم، ويلبس أنظف
وأحسن ثيابه، فإذا دخل المسجد قصد الروضة وهي ما بين القبر والمنبر وصلى تحية المسجد بجنب المنبر وشكر الله
تعالى بعد فراغهما على هذه النعمة. ثم يأتي القبر الشريف فيستقبل رأسه، ويستدبر القبلة ويبعد عنه نحو أربعة أذرع،
ويقف ناظرا إلى أسفل ما يستقبل في مقام الهيبة والاجلال فارغ القلب من علائق الدنيا، ويسلم عليه (ص)
لخبر: ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام رواه أبو داود بإسناد صحيح. وأقل
السلام عليه: السلام عليك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم، ولا يرفع صوته تأدبا معه (ص) كأنه في حياته. ثم يتأخر إلى
صوب يمينه قدر ذراع فيسلم على أبي بكر رضي الله عنه فإن رأسه عند منكب رسول الله (ص)، ثم يتأخر
قدر ذراع آخر فيسلم على عمر رضي الله تعالى عنه، لما روى البيهقي أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما كان إذا قدم من سفره
دخل المسجد ثم أتى القبر الشريف، فقال: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه
ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجهه (ص) ويتوسل به في حق نفسه. ويستشفع به إلى ربه لما روى الحاكم
عن النبي (ص) أنه قال: لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد (ص) إلا
ما غفرت لي فقال الله تعالى: وكيف عرفت محمدا ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني ونفخت في من روحك
رفعت رأسي فرأيت في قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعرفت أنك لم تضف إلى نفسك
إلا أحب الخلق إليك. فقال الله تعالى: صدقت يا آدم، إنه لأحب الخلق إلي، إذ سألتني به فقد غفرت لك، ولولا محمد
ما خلقتك، قال الحاكم: هذا صحيح الاسناد. ومن أحسن ما يقوله الزائر بعد ذلك:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والاكم
روحي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أنت الحبيب الذي ترجى شفاعته يوم الحساب إذا ما زلت القدم
ثم يستقبل القبلة ويدعو لنفسه ولمن شاء من المسلمين. ويسن أن يأتي سائر المشاهد بالمدينة، وهي نحو ثلاثين
512

موضعا يعرفها أهل المدينة. ويسن زيارة البقيع وقباء. وأن يأتي بئر أريس فيشرب منها ويتوضأ، وكذلك بقية الآبار
السبعة، وقد نظمها بعضهم في بيت، فقال:
أريس وغرس رومة وبضاعة كذا بصه قل بير حاء مع العهن
وينبغي المحافظة على الصلاة في مسجده الذي كان في زمنه يصلي فيه، فالصلاة فيه بألف صلاة. وليحذر من الطواف بقبره
(ص) ومن الصلاة داخل الحجرة بقصد تعظيمه. ويكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر كراهة
شديدة، ويكره مسحه باليد وتقبيله، بل الأدب أن يبعد عنه كما لو كان بحضرته (ص) في حياته. ويسن
أن يصوم بالمدينة ما أمكنه، وأن يتصدق على جيران رسول الله (ص) المقيمين والغرباء بما أمكنه. وإذا
أراد السفر استحب أن يودع المسجد بركعتين، ويأتي القبر الشريف، ويعيد السلام الأول، ويقول: اللهم لا تجعله
آخر العهد من حرم رسول الله (ص)، ويسر لي العودة إلى الحرمين سبيلا سهلا، وارزقني العفو والعافية
في الدنيا والآخرة، وردنا إلى أهلنا سالمين غانمين، وينصرف تلقاء وجهه، ولا يمشي القهقرى. ولا يجوز لاحد أن
يستصحب شيئا من الأكر المعمولة من تراب الحرمين، ولا من الأباريق والكيزان المعمولة من ذلك. ومن البدع
تقرب العوام بأكل التمر الصيحاني في الروضة.
فصل: في بيان أركان الحج والعمرة وكيفية أداء النسكين وما يتعلق بذلك. (أركان الحج خمسة) بل ستة:
أحدها: (الاحرام) أي نية الدخول فيه، لخبر: إنما الأعمال بالنيات. (و) ثانيها: (الوقوف) بعرفة، لخبر: الحج
عرفة. (و) ثالثها: (الطواف) بالكعبة، لقوله تعالى: * (وليطوفوا بالبيت العتيق) *. والمراد طواف الإفاضة (و)
رابعها: السعي بين الصفا والمروة، لما روى الدارقطني وغيره بإسناد حسن: أنه (ص) استقبل القبلة في السعي
وقال: يا أيها الناس اسعوا فإن السعي قد كتب عليكم. (و) خامسها: (الحلق) أو التقصير (إذا جعلنا نسكا) وقد
سبق أنه القول المشهور لتوقف التحلل عليه مع عدم جبر تركه بدم كالطواف. (و) سادسها: (الترتيب) في معظم هذه الأركان كما
بحثه في الروضة، وإن عده في المجموع شرطا بأن يقدم الاحرام على الجميع ويؤخر السعي عن طواف ركن أو قدوم ويقدم الوقوف
على طواف الركن والحلق أو التقصير، للاتباع مع خبر: خذوا عني مناسككم. (ولا تجبر) هذه الأركان ولا شئ منها،
(بدم) بل يتوقف الحج عليها، لأن الماهية لا تحصل إلا بجميع أركانها. أما واجباته فخمسة أيضا: الاحرام من الميقات والرمي
في يوم النحر وأيام التشريق والمبيت بمزدلفة والمبيت ليالي منى واجتناب محرمات الاحرام. وأما طواف الوداع فقد تقدم
أنه ليس من المناسك فلا يعد من الواجبات ولا يعد من الأركان، والواجب ما أجبر بدم ويسمى بعضا والركن ما فسد بتركه الحج وغيرهما يسمى هيئة. (وما سوى
الوقوف) من هذه الستة (أركان في العمرة أيضا) لشمول الأدلة السابقة لها، ولكن الترتيب يعتبر في جميع أركانها
فيجب تأخير الحلق أو التقصير عن سعيها. وواجب العمرة شيئان: الاحرام من الميقات، واجتناب محرمات الاحرام.
(ويؤدى النسكان على) ثلاثة (أوجه) فقط، ولهذا عبر بجمع القلة. ووجه الحصر في الثلاثة أن الاحرام إن كان
بالحج أو لا فالافراد، أو بالعمرة فالتمتع، أو بهما معا فهو القران، على تفصيل وشروط لبعضها ستأتي. وعرف بهذا أنه لو أتى
بنسك على حدته ليس شيئا من هذه الأوجه كما يشير إليه قوله النسكان بالتثنية. أما أداء النسك من حيث هو فعلى خمسة
أوجه: الثلاثة المذكورة، وأن يحرم بحج فقط أو عمرة فقط. وقد سبق عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: خرجنا
مع رسول الله (ص) عام حجة الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحج، ومنا من أهل بحج وعمرة رواه
الشيخان. (أحدها: الافراد) والأفضل يحصل (بأن يحج) أي يحرم بالحج من ميقاته ويفرغ منه، (ثم يحرم
بالعمرة
513

كإحرام المكي) بأن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بها، (ويأتي بعملها). أما غير الأفضل فله صورتان. إحداهما:
أن يأتي بالحج وحده في سنته، الثانية: أن يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج من الميقات. وقد صرح بصدق الافراد على
هذا القاضي حسين والامام. وكلام المصنف لا يفهم منه المراد إلا بما قدرته، فإن الافراد هو الأفضل، وسيأتي بيانه
بعد ذلك في كلامه. (الثاني: القران) والأكمل يحصل له (بأن يحرم بهما) معا في أشهر الحج (من الميقات) للحج،
وغير الأكمل أن يحرم بهما من دون الميقات، وإن لزمه دم فتقييده بالميقات لكونه أكمل لا لكون الثاني لا يسمى قرانا.
(ويعمل عمل الحج) فقط، لأن عمل الحج أكثر، (فيحصلان) ويدخل عمل العمرة في عمل الحج فيكفيه طواف واحد
وسعي واحد، لما رواه الترمذي وصححه أنه (ص) قال: من أحرم الحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي
واحد عنهما حتى يحل منهما جميعا صححه الترمذي، وهذه الصورة الأصلية للقران: (ولو أحرم بعمرة) صحيحة
(في أشهر الحج ثم) أحرم (بحج قبل) الشروع في (الطواف كان قارنا) بإجماع كما قاله ابن المنذر، فيكفيه عمل الحج لما
روى مسلم أن عائشة رضي الله تعالى عنها أحرمت بعمرة، فدخل عليها النبي (ص) فوجدها تبكي، فقال: ما شأنك؟
فقالت: حضت وقد حل الناس ولم أحل ولم أطف بالبيت، فقال لها رسول الله (ص): أهلي بالحج ففعلت
ووقفت المواقف حتى إذا طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة، فقال لها رسول الله (ص): قد حللت
من حجك وعمرتك جميعا.
تنبيه: قضية كلامه أنه لو أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج ثم أدخل عليها الحج في أشهره أنه لا يصح ولا يكون
قارنا، وليس مرادا، فإن الأصح في زيادة الروضة وفي المجموع أنه يصح، أي ويكون قارنا، فكان ينبغي تأخير القيد
فيقول: ولو أحرم بعمرة ثم بحج قبل الطواف في أشهر الحج كان قارنا. وقوله: قبل الطواف احترز به عما إذا طاف ثم أحرم
بالحج أو شرع فيه ولو بخطوة ثم أحرم بالحج، فإنه لا يصح لاتصال إحرامه بمقصوده، وهو أعظم أفعالها فلا ينصرف بعد
ذلك إلى غيرها، ولأنه أخذ في التحلل المقتضي لنقصان الاحرام فلا يليق به إدخال الاحرام المقتضي لفوته. ولو استلم الحجر
بنية الطواف ففي صحة الادخال وجهان، قال في المجموع: ينبغي تصحيح الجواز لأنه مقدمته لا بعضه.
وكلامه يشمل ما لو
أفسد العمرة ثم أدخل الحج عليها. والأصح أنه ينعقد إحرامه بالحج فاسدا، ولذا قيدت العمرة بالصحيحة. وقيل:
ينعقد صحيحا ثم يفسد، وقيل: ينعقد صحيحا ويستمر. وكلامه كما قال الأسنوي محتمل لكل من الثلاثة. (ولا يجوز
عكسه) وهو إدخال العمرة على الحج (في الجديد) لأنه لا يستفيد به شيئا آخر بخلاف إدخال الحج عليها فيستفيد به
الوقوف والرمي والمبيت، لأنه يمتنع إدخال الضعيف على القوي كفراش النكاح مع فراش الملك لقوته عليه جاز إدخاله
عليه دون العكس، حتى لو نكح أخت أمته جاز وطؤها بخلاف العكس، والقديم الجواز، وصححه الامام كعكسه، فيجوز
ما لم يشرع في أسباب تحلله. (الثالث: التمتع) ويحصل (بأن يحرم بالعمرة) في أشهر الحج (من ميقات بلده) أو غيره، (ويفرغ
منها ثم ينشئ حجا من مكة) أو من الميقات الذي أحرم بالعمرة منه، أو من مثل مسافته أو ميقات أقرب منه.
تنبيه: علم مما تقرر أن قوله: من بلده ومن مكة للتمثيل لا للتقييد، وسمي الآتي بذلك متمتعا لتمتعه بمحظورات
الاحرام بين النسكين. (وأفضلها) أي أوجه أداء النسكين المتقدمة، (الافراد) إن اعتمر عامه، فلو أخرت عنه العمرة
كان الافراد مفضولا لأن تأخيرها عنه مكروه. (وبعده التمتع وبعد التمتع القران) لأن المتمتع يأتي بعملين كاملين غير
أنه لا ينشئ لهما ميقاتين، وأما القارن فإنه يأتي بعمل واحد من ميقات واحد. (وفي قول التمتع أفضل من الافراد)
514

ومنشأ الخلاف اختلاف الرواة في إحرامه (ص)، روى الشيخان عن جابر وعائشة رضي الله تعالى عنهما: أنه
(ص) أفرد الحج ورويا عن ابن عمر: أنه أحرم متمتعا. ورجح الأول بأن رواته أكثر، وبأن جابرا منهم أقدم صحبة
وأشد عناية يضبط المناسك، وبالاجماع على أنه لا كراهة فيه، وبأن التمتع والقران يجبر فيهما الدم، بخلاف الافراد،
والجبر دليل النقصان. قال في المجموع: والصواب الذي نعتقده أنه (ص) أحرم بحج ثم أدخل عليه العمرة، وخص بجوازه
في تلك السنة للحاجة، وأمر به في قوله: لبيك عمرة في حجة وبهذا يسهل الجمع بين الروايات، فعمدة رواة الافراد وهو
الأكثر أول الاحرام، وعمدة رواة القران آخره، ومن روى التمتع أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع، وقد انتفع بالاكتفاء
بفعل واحد، ويؤيد ذلك أنه (ص) لم يعتمر في تلك السنة عمرة مفردة، ولو جعلت حجته مفردة لكان غير معتمر في تلك
السنة، ولم يقل أحد أن الحج وحده أفضل من القران، فانتظمت الرواة في حجه (ص) في نفسه. وأما الصحابة
رضي الله تعالى عنهم فكانوا ثلاثة أقسام: قسم أحرموا بحج وعمرة أو بحج ومعهم هدي. وقسم بعمرة ففرغوا منها ثم
أحرموا بحج. وقسم بحج ولا هدي معهم، فأمرهم (ص) أن يقلبوه عمرة، وهو معنى فسخ الحج إلى العمرة، وهو
خاص بالصحابة رضي الله تعالى عنهم أمرهم به (ص) لبيان مخالفة ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر
الحج واعتقادهم أن إيقاعها فيه من أفجر الفجور، كما أنه (ص) أدخل العمرة على الحج كذلك، فانتظمت الروايات
في إحرامهم أيضا. فمن روى أنهم كانوا قارنين أو متمتعين أو مفردين أراد بعضهم، وهم الذين علم ذلك منهم، وظن أن البقية
مثلهم. وأما تفضيل المتمتع على القارن فلان أفعال النسكين فيه أكمل كما مر. وقولنا: وبعده التمتع ثم القران، أي وهو أفضل
من الحج فقط ثم الحج فقط، أفضل من العمرة فقط. فإن قيل: ينبغي أنه لو قرن واعتمر بعد الحج كان أفضل من الافراد
لاشتماله على المقصود مع زيادة عمرة أخرى، ونظير ما قالوه في التيمم أنه إذا رجا الماء فصلى أولا بالتيمم على قصد
إعادتها بالوضوء فإنه أفضل لا محالة. وهكذا إذا اعتمر المتمتع بعد الحج أيضا، خصوصا إذا كان مكيا وعاد لاحرام الحج
إلى الميقات، فإن فوات هذه الشروط لا تخرجه عن كونه متمتعا وإنما سقط الدم. أجيب بأن هذا التفضيل الذي ذكره
الأصحاب إنما هو عند إتيانه بنسكين فقط، وفي هاتين الصورتين قد أتى بنسك ثالث، فليست هي الصورة المتكلم
عليها. فإن قيل: قد تقدم أن الجبر دليل النقصان، ولا شك أن فيما ذكر وجوب الدم. أجيب بأن النسك الثالث جبر
ذلك النقص، وهذا نظير ما قالوه في إفراد صوم يوم الجمعة، فإنهم عللوا الكراهة بضعفه عما في ذلك اليوم من وظائف
العبادات، وقالوا: لو صام معه غيره ذلك الكراهة، لأن صوم ذلك اليوم يجبر ما يفوته. (وعلى المتمتع دم) لقوله تعالى:
* (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي) * والمعنى في إيجاب الدم كونه ربح ميقاتا، فإنه لو كان قد أحرم بالحج
أولا من ميقات بلده لكان يحتاج بعد فراغه من الحج إلى أن يخرج إلى أدنى الحل فيحرم بالعمرة. وإذا تمتع استغنى
عن الخروج لأنه يحرم بالحج من جوف مكة. والواجب شاة تجزئ في الأضحية ويقوم مقامها سبع بدنة أو سبع بقرة،
وكذا جميع الدماء الواجبة في الحج الاجزاء الصيد، وسيأتي بسط ذلك إن شاء الله تعالى. (بشرط أن لا يكون من حاضري
المسجد الحرام) لقوله تعالى: * (ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) *. قوله تعالى: * (ذلك) * أي ما ذكر
من الهدي والصوم عند فقده، وقوله: * (لمن) * معناه على من. (وحاضروه من) مساكنهم (دون مرحلتين من مكة)
لأن المسجد الحرام المذكور في الآية ليس المراد به حقيقته بالاتفاق، بل الحرم عند بعضهم ومكة عند آخرين، وحمله
على مكة أقل تجاوزا من حمله على جميع الحرم. (قلت: الأصح من الحرم، والله أعلم) لأن الماوردي قال: إن كل
موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فهو الحرم إلا قوله تعالى: * (فول وجهك شطر المسجد الحرام) * فهو نفس الكعبة،
فإلحاق هذا بالأعم الأغلب أولى، والقريب من الشئ يقال إنه حاضره، قال تعالى: * (واسألهم عن القرية التي كانت
حاضرة البحر) * أي قريبة منه، والمعنى في ذلك أنهم لم يربحوا ميقاتا، أي عاما لأهله ولمن مر به، فلا يشكل من
515

بينه وبين مكة أو الحرم دون مسافة القصر إذا عن له النسك، ثم فأته وإن ربح ميقاتا بتمتعه لكنه ليس ميقاتا عاما لأهله
ولمن مر به. ولا يشكل أيضا بأنهم جعلوا ما دون مسافة القصر كالموضع الواحد في هذا ولم يجعلوه في مسألة الإساءة،
وهو إذا كان مسكنه دون مسافة القصر من الحرم وجاوزه وأحرم كالموضع الواحد حتى لا يلزمه الدم، كالمكي إذا أحرم
من سائر بقاع مكة بل ألزموه الدم وجعلوه مسيئا كالآفاقي، لأن ما خرج عن مكة مما ذكر تابع لها والتابع لا يعطى حكم
المتبوع من كل وجه، ولأنهم عملوا بمقتضى الدليل في الموضعين، وهنا لا يلزمه دم لعدم إساءته بعدم عوده لأنه من
الحاضرين بمقتضى الآية، وهناك يلزمه دم لاساءته بمجاوزته ما عين له بقوله في الخبر: ومن كان دون ذلك فمن حيث
أنشأه حتى أهل مكة من مكة. على أن المسكن المذكور كالقرية بمنزلة مكة في جواز الاحرام من سائر بقاعه
وعدم جواز
مجاوزته بلا إحرام لمريد النسك، فإن كان للمتمتع مسكنان أحدهما بعيد والآخر قريب اعتبر في كونه من الحاضرين أو
غيرهم كثرة إقامته بأحدهما، فإن استوت إقامته بهما اعتبر بوجود الأهل والمال، فإن كان أهله بأحدهما وماله بالآخر
اعتبر بمكان الأهل، ذكره المحب الطبري، قال: والمراد بالأهل الزوجة والأولاد الذين تحت حجره دون الآباء والاخوة.
فإن استويا في ذلك اعتبر بعزم الرجوع إلى أحدهما للإقامة فيه، فإن لم يكن له عزم اعتبر بإنشاء ما خرج منه، وللغريب
المستوطن في الحرم أو فيما دون مسافة القصر منه حكم أهل البلد الذي هو فيه. ويلزم الدم آفاقيا تمتع ناويا الاستيطان
بمكة ولو بعد العمرة، لأن الاستيطان لا يحصل بمجرد النية. (وأن تقع عمرته في أشهر الحج من سنته) أي الحج، فلو وقعت
قبل أشهره وأتمها ولو في أشهره ثم حج لم يلزمه الدم، لأنه لما يجمع بينهما في وقت الحج فأشبه المفرد. وأن يحج من عامه،
فمن لم يحج من عامه الذي اعتمر فيه لا دم عليه لم روى البيهقي بإسناد حسن عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله
(ص) يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا من عامهم ذلك لم يهدوا. (وأن لا يعود لاحرام الحج إلى الميقات)
الذي أحرم منه بالعمرة أو ميقات آخر ولو أقرب إلى مكة من ميقات عمرته أو إلى مثل مسافة ميقاتها، فإذا عاد إليه وأحرم
منه بالحج لم يلزمه الدم، لأن المقتضي لايجاب الدم، وهو ربح الميقات، قد زال بعوده إليه. ومثل ذلك ما ذكر لأن المقصود
قطع تلك المسافة محرما.
تنبيه: أفهم كلامه أنه لا يشترط لوجوب الدم نية التمتع ولا وقوع النسكين عن شخص واحد ولا بقاؤه حيا، وهو
كذلك. ولو خرج المتمتع للاحرام بالحج من مكة وأحرم خارجها ولم يعد إلى الميقات ولا إلى مثل مسافته ولا إلى مكة لزمه
دمه أيضا، للإساءة الحاصلة بخروجه من مكة بلا إحرام مع عدم عوده.
واعلم: أن هذه الشروط المذكورة معتبرة لوجوب الدم. وهل تعتبر في تسميته تمتعا؟ وجهان، أحدهما: نعم، فلو فات
شرط كان مفردا. وأشهرهما: لا تعتبر، ولهذا قال الأصحاب: يصح التمتع والقران من المكي خلافا لأبي حنيفة. (ووقت وجوب
الدم) عليه (إحرامه بالحج) لأنه حينئذ يصير متمتعا بالعمرة إلى الحج. وقد يفهم أنه لا يجوز تقديمه عليه،
وليس مرادا،
بل الأصح جواز ذبحه إذا فرغ من العمرة. وقيل: يجوز إذا أحرم بها ولا يتأقت ذبحه بوقت كسائر دماء الجبرانات، (و)
لكن (الأفضل ذبحه يوم النحر) للاتباع وخروجا من خلاف الأئمة الثلاثة، فإنهم قالوا: لا يجوز في غيره، ولم ينقل عن النبي
(ص) ولا عن أحد ممن كان معه أنه ذبح قبله. (فإن عجز عنه) حسا بأن فقده أو ثمنه، أو شرعا بأن وجده
بأكثر من ثمن مثله، أو كان محتاجا إليه أو إلى ثمنه، أو غاب عنه ماله أو نحو ذلك، (في موضعه) وهو الحرم، سواء أقدر عليه
ببلده أم غيره أم لا بخلاف كفارة اليمين، لأن الهدي يختص ذبحه بالحرم والكفارة لا تختص. (صام) بدله وجوبا (عشرة
أيام: ثلاثة في الحج) لقوله تعالى: * (فمن لم يجد) * أي الهدي * (فصيام ثلاثة أيام في الحج) * أي بعد الاحرام بالحج، فلا يجوز
تقديمها على الاحرام بخلاف الدم، لأن الصوم عبادة بدنية فلا يجوز تقديمها على وقتها كالصلاة، والدم عبادة مالية فأشبه الزكاة.
516

تنبيه: قد يرد على المصنف ما لو عدم الهدي في الحال وعلم أنه يجده قبل فراغ الصوم فإن له الصوم على الأظهر مع
أنه ما عجز عنه في موضعه، ولو رجا وجوده جاز له الصوم. وفي استحباب انتظاره ما تقدم في التيمم ولكن (تستحب) له
(قبل يوم عرفة) لأنه يسن للحاج فطره فيحرم قبل سادس ذي الحجة ويصومه وتالييه، وإذا أحرم في زمن يسع الثلاثة
وجب عليه تقديمها على يوم النحر، فإن أخرها عن أيام التشريق أثم وصارت قضاء على الصحيح. وإن تأخر الطواف
وصدق عليه أنه في الحج، لأن تأخيره نادر، فلا يكون مرادا في الآية. وليس السفر عذرا في تأخير صومها لأن صومها
متعين إيقاعه في الحج بالنص، وإن كان مسافرا فلا يكون السفر عذرا فيه بخلاف رمضان، ولا يجوز صومها في يوم النحر
وكذا في أيام التشريق في الجديد كما ذكره المصنف في بابه. وإذا فاته صوم الثلاثة في الحج لزمه قضاؤها ولا دم عليه. ولا
يجب عليه تقدم الاحرام بزمن يتمكن من صوم الثلاثة فيه قبل يوم النحر خلافا لبعض المتأخرين في وجوب ذلك، إذا لا يجب
تحصيله بسبب الوجوب، ويجوز أن لا يحج في هذا العام. ويسن للموسر أن يحرم بالحج يوم التروية وهو ثامن ذي الحجة
للاتباع وللامر به كما في الصحيحين. وسمي يوم التروية لترويهم فيه الماء، ويسمى يوم النقلة لانتقالهم فيه من
مكة إلى منى.
(و) صام بعد الثلاثة (سبعة إذا رجع إلى) وطنه، و (أهله في الأظهر) إن أراد الرجوع إليهم، لقوله تعالى: * (وسبعة إذا رجعتم) *، ولقوله
(ص): فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله رواه الشيخان، فلا يجوز
صومها في الطريق كذلك. فإن أراد الإقامة بمكة صامها بها كما قاله في البحر، والثاني إذا فرغ من الحج لأنه المراد بالرجوع
فكأنه بالفراغ رجع عما كان مقبلا عليه، وهو قول الأئمة الثلاثة، ونص عليه في الاملاء. (ويندب تتابع) الأيام (الثلاثة)
أداء كانت أو قضاء، (وكذا السبعة) بالرفع بخطه، يندب تتابعها أيضا كذلك، لأن فيه مبادرة لأداء الواجب وخروجا من
خلاف من أوجبه. نعم إن أحرم بالحج سادس ذي الحجة لزمه صوم الثلاثة متتابعة لضيق الوقت لا للتتابع نفسه. (ولو
فاتته الثلاثة في الحج) بعذر أو غيره (الأظهر أنه يلزمه) قضاؤها لما مر، و (أن يفرق في قضائها بينها وبين السبعة) بقدر
أربعة أيام يوم النحر وأيام التشريق ومدة إمكان السير إلى أهله على العادة الغالبة كما في الأداء، فلو صام عشرة ولاء
حصلت الثلاثة، ولا يعتد بالبقية لعدم التفريق، والثاني: لا يلزمه التفريق.
تنبيه: ظاهر كلامه الاكتفاء بمطلق التفريق لولا ما قدرته ولو بيوم، وهو قول نص عليه في الاملاء. (وعلى القارن
دم) لأنه واجب على المتمتع بنص القرآن. وفعل المتمتع أكثر من فعل القارن، فإذا لزمه الدم فالقارن أولى. وروى
الشيخان عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أنه (ص) ذبح عن نسائه البقر يوم النحر، قالت: وكن قارنات.
(كدم التمتع) في أحكامه السابقة جنسا وسنا وبدلا عن العجز لأنه فرع عن دم التمتع. (قلت) كما قال الرافعي في الشرح،
(بشرط أن لا يكون) القارن (من حاضري المسجد الحرام) وسبق بيان حاضريه، وأن لا يعود قبل الوقوف للاحرام بالحج
من الميقات فإن عاد سقط عنه الدم، (والله أعلم) لأن دم القران فرع عن دم التمتع كما تقدم، ودم التمتع غير واجب على
الحاضر ففرعه كذلك. وذكر هذا الشرط كما قاله الولي العراقي إيضاح، وإلا فقوله كدم التمتع يغني عنه، وإذ ذكر ذلك كان
ينبغي له أن يزيد ما قدرته.
خاتمة: لو استأجر اثنان شخصا أحدهما لحج والآخر لعمرة فتمتع عنهما أو اعتمر أجيرا لحج عن نفسه ثم
حج عن المستأجر، فإن كان قد تمتع بالاذن من المستأجرين أو أحدهما في الأولى ومن المستأجر في الثانية فعلى
كل من
الآذنين أو الآذن والأجير نصف الدم إن أيسرا أو إن أعسرا، قال شيخنا بحثا: أو أحدهما، فالصوم على الأجير، لأن
بعضه في الحج. أو تمتع بلا إذن ممن ذكر لزمه دمان: دم للتمتع ودم لأجل الإساءة بمجاوزته الميقات. ولو وجد فاقد
517

الهدي الهدي بين الاحرام بالحج والصوم لزمه الهدي، لا أن وجده بعد الشروع في الصوم، بل يسن له للخروج من خلاف
من أوجبه. وإذا مات المتمتع أو القارن الواجب عليه هدي لم يسقط عنه بل يخرج من تركته أو يصوم لكونه معسرا بذلك
فكرمضان يسقط عنه إن لم يتمكن من فعله ويصام أو يطعم عنه من تركته لكل يوم مد إن تمكن.
باب محرمات الاحرام:
أي المحرمات به. والأصل فيه الأخبار الصحيحة، كخبر الصحيحين عن ابن عمر: أن رجلا سأل النبي (ص): ما يلبس
المحرم من الثياب؟ فقال: لا يلبس القميص ولا العمائم ولا السراويلات ولا البرانس ولا الخفاف إلا أحد لا يجد نعلين فيلبس
الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين، ولا يلبس من الثياب شيئا مسه زعفران أو ورس زاد البخاري: ولا تنتقب المرأة
ولا تلبس القفازين. وكخبر البيهقي بإسناد صحيح كما في المجموع: نهى رسول الله (ص) عن لبس القميص والأقبية
والسراويلات والخفين إلا أن لا يجد النعلين. فإن قيل: السؤال في الخبر الأول عما يلبس وأجيب بما لا يلبس، فما الحكمة
في ذلك؟ أجيب بأن ما لا يلبس محصور بخلاف ما يلبس، إذ الأصل الإباحة، وفيه تنبيه على أنه كان ينبغي السؤال عما
لا يلبس، وبأن المعتبر في الجواب ما يحصل المقصود وإن لم يطابق صريحا، وهي أمور، قال في الرونق واللباب: إن مجموعها
عشرون شيئا، وجرى على ذلك البلقيني في التدريب، وقال في الكفاية: إنها عشرة، أي والباقية متداخلة. قال الأذرعي:
واعلم أن المصنف بالغ في اختصار أحكام الحج لا سيما هذا الباب، وأتى فيه بصيغة تدل على حصر المحرمات فيما ذكره،
والمحرر سالم من ذلك فإنه قال: يحرم في الاحرام أمور منها كذا وكذا اه‍. والمصنف عدها سبعة فقال: (أحدها: ستر بعض
رأس الرجل) ولو البياض الذي وراء الاذن سواء أستر البعض الآخر أم لا، (بما يعد ساترا) عرفا محيطا كان أو غيره
كالعمامة والطيلسان والخرقة، وكذا الطين والحناء الثخينين، لخبر الصحيحين: أنه (ص) قال في المحرم الذي خر
عن بعيره ميتا: لا تختمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا بخلاف ما لا يعد ساترا كاستظلال بمحمل وإن مسه وكحمل
قفة أو عد من غير قصد ستر بذلك، فإن قصد بحمل القفة ونحوها الستر لزمته الفدية كما جزم به الفوراني وغيره، كانغماسه
في ماء ولو كدرا وتغطية رأسه بكفه أو كف غيره وشده بخيط. ولو غطى رأسه بثوب تبدو البشرة من ورائه، ففي
الكفاية عن الامام أنه يوجب الفدية وأنه لا يبعد إلحاقه بوضع الزنبيل، وينبغي كما قال السبكي القطع بالأول لأنه يعد
ساترا هنا بخلاف الصلاة. (إلا) ستر بعض رأس الرجل أو كله، (لحاجة) من حر أو برد أو مداواة، كأن جرح رأسه فشد
عليه خرقة فيجوز لقوله تعالى: * (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * لكن تلزمه الفدية قياسا على الحلق بسبب الأذى.
تنبيه: عبارة المصنف أحسن من قول المحرر: إلا لحاجة مداواة لأنها أخصر وأحصر. (و) يحرم عليه (لبس المخيط)
كقميص وقباء وإن لم يخرج يديه من كميه، وخريطة لخضاب لحيته، وقفاز وسراويل وتبان وخف. (أو المنسوج) كدرع،
(أو المعقود) كجبة لبد، (في سائر) أي جميع أجزاء (بدنه) لحديث الصحيحين أول الباب. والمعتبر في اللبس العادة
في كل ملبوس، إذ به يحصل الترفه، فلو ارتدى بالقميص أو القباء أو التحف بهما أو اتزر بالسراويل فلا فدية، كما
لو اتزر بإزار لفقه من رقاع أو أدخل رجليه في الخف. ولو ألقي على نفسه قباء أو فرجية وهو مضطجع وكان بحيث
لو قام أو قعد لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر لم تلزمه الفدية، ولو زر الإزار أو خاطه حرم كما نص عليه في الاملاء.
ويجوز أن يعقد إزاره لا رداءه، وأن يشد عليه خيطا ليثبت وأن يجعله مثل الحجزة ويدخل فيه التكة إحكاما. وله تقليد
السيف والمصحف وشد المنطقة والهميان على وسطه للحاجة إلى ذلك. وله أن يلف بوسطه عمامة ولا يعقدها، وأن يلبس
الخاتم، وأن يدخل يده في كم قميص منفصل عنه، وأن يغرز طرف ردائه في إزاره. ولا يجوز له أن يعقد رداءه ولا أن
518

يخلله بنحو مسلة ولا يربط طرفه بطرفه الآخر بخيط، ولو اتخذ له شرجا وعرا وربط الشرج بالعرا حرم عليه
ولزمته الفدية.
فائدة: قال بعض العلماء: والحكمة في تحريم لبس المخيط وغيره مما منع منه المحرم أن يخرج الانسان عن عادته
فيكون ذلك مذكرا له ما هو فيه من عبادة ربه فيشتغل بها.
تنبيه: تقدم الكلام على سائر في آخر خطبة الكتاب هل هو بمعنى باقي أو جميع؟ قيل: ولا يصح هنا أن
يستعمل بمعنى باقي فإنه لم يتقدم حكم شئ من البدن حتى يكون هذا حكم باقيه فإن الرأس قسيم البدن لا بعضه، ولذلك
قدرت جميع في كلامه. قال الأسنوي، وخريطة اللحية لا تدخل في كلام المصنف لأن اللحية لا تدخل في مسمى البدن،
وكان ينبغي للمصنف أن يستثني الوجه فإنه لا يحرم ستره على الرجل عندنا، قال الدارمي وغيره: وقد روي فعله عن عثمان
رضي الله تعالى عنه، لكن يبقى شيئا ليستوعب الرأس بالكشف. (إلا إذا) كان لبسه لحاجة كحر وبرد فيجوز مع
الفدية، أو (لم يجد غيره) أي المخيط ونحوه فيجوز له من غير فدية. وله لبس السراويل التي لا يتأتى الاتزار بها عند فقد
الإزار، ولبس مداس، أي مكعب، وهو ما يسمى بالسرموزة والزربول الذي لا يستر الكعبين، وكذا لبس خف إن قطع
أسفل كعبه وإن ستر ظهر القدمين فيهما بباقيهما عند فقد النعلين. قال الزركشي: والمراد بالنعل التاسومة، ويلتحق به
القبقاب لأنه ليس بمخيط. ولم يشترطوا في جواز لبس السراويل قطعه فيما جاوز العود لاطلاق الخبر، وعلله في
المجموع بإضاعة المال، والفرق بينه وبين وجوب قطع الخف عند فقد النعل مشكل، لكن ورد النص
بذلك. نعم يتجه عدم جواز قطع الخف إذا وجد المكعب، ولا يجوز لبس الخف المقطوع والمداس مع وجود
النعلين على الصحيح المنصوص، أما المداس المعروف الآن فهذا يجوز لبسه لأنه ليس مخيطا بالقدم، فقول المصنف
في مناسكه يحرم لبس المداس المراد به المكعب كما مر. وإذا لبس السراويل للحاجة ثم وجد الإزار أو الخف ثم وجد
النعل لزمه نزعه في الحال، فإن أخر بلا عذر أثم ولزمته الفدية. ولو قدر على أن يستبدل بالسراويل إزارا متساوي القيمة
فالصواب كما قاله القاضي أبو الطيب وجوبه إن لم يمض زمن تبدو فيه عورته وإلا فلا.
تنبيه: ظاهر عبارة المصنف أنه لا يجوز اللبس لحاجة البرد والمداواة، وليس مرادا، إذ المنقول في كلام الشيخين
وغيرهما الجواز لكن مع الفدية كما قدرته في كلامه، فلو عبر بالحاجة كما عبر به في الرأس لكان أولى. ولا
فرق في جميع
ما تقدم بين البالغ والصبي، إلا أن الاثم يختص بالمكلف ويأثم الولي إذا أقر الصبي على ذلك، ولا فرق في ذلك بين طول
زمن اللبس وقصر. (ووجه المرأة) ولو أمة كما في المجموع، (كرأسه) أي الرجل في حرمة الستر لوجهها أو بعضه، إلا لحاجة
فيجوز مع الفدية. وعلى الحرة أن تستر منه ما لا يتأتى ستر جميع رأسها إلا به احتياطا للرأس، إذ لا يمكن استيعاب ستره
إلا بستر قدر يسير مما يليه من الوجه، والمحافظة على ستره بكماله لكونه عورة أولى من المحافظة على كشف ذلك القدر من
الوجه. ويؤخذ من التعليل أن الأمة لا تستر ذلك لأن رأسها ليس بعورة، وهو ظاهر. ولا ينافي ذلك قول المجموع ما ذكر
في إحرام المرأة ولبسها: لم يفرقوا فيه بين الحرة والأمة وهو المذهب، لأنه في مقابلة قوله. وشذ القاضي أبو الطيب فحكى وجها
أن الأمة كالرجل، ووجهين في المبعضة هل هي كالأمة أو كالحرة؟ اه‍. فإن أرادت المرأة ستر وجهها عن الناس أرخت
عليه ما يستره بنحو ثوب متجاف عنه بنحو خشبة بحيث لا يقع على البشرة، وسواء أفعلته لحاجة كحر وبرد أم لا. كما يجوز
للرجل ستر رأسه بنحو مظلة، فلو وقعت الخشبة مثلا فأصاب الثوب وجهها بلا اختيار منها فرفعته فورا لم تلزمها الفدية
وإلا لزمتها مع الاثم. (ولها) أي المرأة (لبس المخيط) وغيره في الرأس وغيره، (إلا القفاز) فليس لها ستر الكفين
ولا أحدهما به، (في الأظهر) للحديث المتقدم، ولان القفاز ملبوس عضو ليس بعورة في الصلاة فأشبه خف الرجل
وخريطة لحيته. والثاني: يجوز لها لبسهما، لما رواه الشافعي في الام عن سعد بن أبي وقاص أنه كان يأمر بناته يلبسهما
في الاحرام. قال الجوهري: والقفاز شئ يعمل لليدين يحشى بقطن ويكون له أزرار تزر على الساعدين من البرد تلبسه
المرأة في يديها، ومراد الفقهاء ما يشمل المحشو وغيره. ويجوز لها ستر الكفين بغير القفاز ككم وخرقة تلفها عليهما
519

للحاجة إليه ومشقة الاحتراز عنه، سواء أخضبتهما أم لا، بناء على أن علة تحريم القفازين عليهما ما مر آنفا. ويحرم على
الخنثى المشكل ستر وجهه مع رأسه وتلزمه الفدية، وليس له ستر وجهه مع كشف رأسه خلافا لمقتضى كلام ابن المقري
في روضه، ولا فدية عليه لأنا لا نوجبها بالشك. نعم لو أحرم بغير حضرة الأجانب جاز له كشف رأسه كما لو لم يكن محرما.
قال في المجموع: ويسن أن لا يستتر بالمخيط لجواز كونه رجلا ويمكنه ستره بغيره، هكذا ذكره جمهور الأصحاب. وقال القاضي
أبو الطيب: لا خلاف أنا نأمره بالستر ولبس المخيط كما نأمره أن يستتر في صلاته كالمرأة. وفي أحكام الخناثى لابن المسلم
ما حاصله أنه يجب عليه أن يستر رأسه وأن يكشف وجهه وأن يستر بدنه إلا بالمخيط فإنه يحرم عليه احتياطا. قال الأذرعي
كالأسنوي وما قاله حسن اه‍. ولكنه مخالف لما تقدم عن المجموع. (الثاني) من المحرمات: (استعمال الطيب) للمحرم
ذكرا كان أو غيره ولو أخشم بما يقصد منه رائحته غالبا ولو مع غيره كالمسك والعود والكافور والورس وهو أشهر طيب
ببلاد اليمن، والزعفران وإن كان يطلب للصبغ والتداوي أيضا. (في) ملبوسه من (ثوبه) أو غيره كخف أو نعل، لقوله
(ص) في الحديث المار: ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران والورس طيب. ولو قال المصنف في
ملبوسه بدل ثوبه لكان أولى واستغنى عما قدرته. (أو) في (بدنه) قياسا على ثوبه بطريق الأولى ولو باطنا بأكل
أو استعاط أو احتقان فيجب مع التحريم في ذلك الفدية، وبعض البدن ككله. وأدرج في الطيب ما معظم الغرض منه
رائحته الطيبة كالورد والياسمين والبنفسج والريحان الفارسي، وما اشتمل على الطيب من الدهن كدهن الورد ودهن
البنفسج، واستعماله أن يلصق الطيب ببدنه أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك بنفسه أو مأذونه، فلو احتوى على مبخرة
أو حمل فأرة مشقوقة أو مفتوحة أو جلس أو نام على فراش أو أرض مطيبة أو شد في طرف ثوبه طيبا أو جعله في جيبه
أو لبست المرأة الحلي المحشو به حرم ووجبت الفدية لأن ذلك تطييب، ولو وطئ بنعله طيبا حرم إن تعلق به منه شئ.
والتطيب بالورد أن يشمه مع اتصاله بأنفه كما صرح به ابن كج، والتطيب بمائه أن يمسه كالعادة بأن يصبه على بدنه
أو ملبوسه فلا يكفي شمه. ولو حمل مسكا ونحوه في خرقة مشدودة أو فأرة غير مشقوقة لم يضر، وإن شم الريح لوجود الحائر.
ولو استهلك الطيب في المخالط له بأن لم يبق له ريح ولا طعم ولا لون كأن استعمل في دواء جاز استعماله وأكله
ولا فدية، وإن
بقي الريح فيما استهلك ظاهرا أو خفيا يظهر برش الماء عليه فدى، لأن الغرض الأعظم من الطيب الريح، وكذا
لو بقي الطعم لدلالته على بقاء الطيب، لا إن بقي اللون فقط لأن الغرض منه الزينة. وما يقصد به الاكل أو التداوي وإن كان له
ريح طيبة كالتفاح والأترج - بضم الهمزة والراء وتشديد الجيم على الأفصح، ويقال الاترنج - والقرنفل والدارصيني والسنبل
وسائر الابازير الطيبة كالمصطكي، لم يحرم ولم تجب فيه فدية، لأنه إنما يقصد منه الاكل أو التداوي، وكذا ما ينبت بنفسه
كالشيح والإذخر والخزامي، لأنه لا يعد طيبا. ولا فدية بالعصفر والحناء وإن كان لهما رائحة طيبة، لأنه إنما يقصد منه لونه.
ولو مس طيبا يابسا كمسك وكافور فلزق به ريحه لا عينه أو حمل للعود أو أكله لم يحرم. ويعتبر مع ما ذكر العقل إلا السكران،
والاختيار والعلم بالتحريم والاحرام، وبأن الملموس طيب يعلق، فلا فدية على المطيب الناسي للاحرام ولا المكره ولا الجاهل
بالتحريم، أو بكون الملموس طيبا أو رطبا لعذره بخلاف الجاهل بوجوب الفدية فقط دون التحريم فعليه الفدية، لأنه إذا
علم التحريم كان من حقه الامتناع، فإن علم التحريم بعد لبسه جاهلا به وأخر إزالته مع إمكانها فدى وأثم، ولو طيبه غيره
بغير إذنه أو ألقت الريح عليه طيبا فلا فدية عليه بل على من طيبه لكن تلزمه المبادرة إلى الإزالة عند زوال عذره. (ودهن
شعر الرأس) له (أو اللحية) ولو من امرأة كما قاله القاضي بدهن ولو غير مطيب كزيت وشمع مذاب، لما فيه من التزيين
المنافي لحال المحرم فإنه أشعث أغبر كما ورد في الخبر. وعبارة ابن المقري: فيحرم، أي الدهن، في شعر الرأس واللحية. فيؤخذ
منه أنه لا فرق في الشعر بين الكثير والقليل ولو واحدة، وهو الظاهر من كلامهم. ولو كان شعر الرأس أو اللحية محلوقا
لما فيه من تزيين الشعر وتنميته بخلاف رأس الأقرع والأصلع وذقن الأمرد، لانتفاء المعنى. فإن قيل: يشكل هذا بحرمة
الطيب على الأخشم كما مر. أجيب بأن المعنى هنا منتف بالكلية بخلافه، ثم فإن المعنى فيه الترفه بالطيب وهو حاصل بالتطيب
520

وإن كان المطيب أخشم. وله دهن بدنه ظاهرا وباطنا وسائر شعره بذلك وأكله وجعله في شئ ولو برأسه. وألحق المحب
الطبري بشعر اللحية شعر الوجه كحاجب وشارب وعنفقة، وقال في المهمات: إنه القياس، وقال الولي
العراقي: التحريم
ظاهر فيما اتصل باللحية كالشارب والعنفقة والعذار، وأما الحاجب والهدب وما على الجبهة، أي والخد، ففيه بعد اه‍. وهذا
هو الظاهر، لأن ذلك لا يتزين به. ولا يحرم على المحرم دهن الحلال كنظيره الآتي في الحلق.
تنبيه: لا يحسن إدراج هذا في قسم الطيب فإنه لا فرق فيه بين الطيب وغيره كما مر، وقد جعلاه في الروضة
وأصلها قسما مستقلا، لكن المحرر أدخله في نوع الطيب لتقاربهما في المعنى لأنهما ترفه، وليس فيهما إزالة عين. وقوله
دهن هو بفتح الدال، لأنه مصدر بمعنى التدهين. وتعبيره ب‍ أو يفيد التنصيص على تحريم كل واحد على انفراده.
(ولا يكره غسل بدنه ورأسه بخطمي) ونحوه كسدر من غير نتف شعر، لأن ذلك لإزالة الوسخ لا للتزين والتنمية، لكن
الأولى تركه وترك الاكتحال الذي لا طيب فيه، وقيل: يكرهان، وتوسط قوم في الاكتحال، فقالوا: إن لم يكن فيه زينة
كالتوتيا لم يكن، وإن كان زينة كإثمد كره إلا لحاجة رمد ونحوه، وصحح هذا في المجموع ونقله عن الجمهور، وقال في شرح
مسلم: إنه مذهب الشافعي. والكراهة في المرأة أشد. وللمحرم الاحتجام والفصد ما لم يقطع بهما شعرا، وله خضب لحيته وغيرها
من الشعور بالحناء ونحوه لأنه لا ينمي الشعر وليس طيبا، وله إنشاد الشعر المباح والنظر في المرآة كالحلال فيهما. (الثالث) من
المحرمات. (إزالة الشعر) من الرأس أو غيره بحلق أو غيره، (أو الظفر) من اليد أو الرجل. أما الشعر فلقوله تعالى: * (ولا تحلقوا
رؤوسكم) * أي شعرها، وشعر سائر الجسد ملحق به بجامع الترفه. وأما الظفر فقياسا على الشعر لما فيه من الترفه، والمراد من ذلك
الجنس الصادق ببعض شعرة أو ظفر. (وتكمل الفدية في) إزالة (ثلاث شعرات) بفتح العين جمع شعرة بسكونها، ولاء. (أو) إزالة
(ثلاثة أظفار) كذلك بأن اتحد المكان والزمان. والشعر يصدق بالثلاث، وقيس بها الأظفار ولا يعتبر جميعه بالاجماع،
ولا فرق في ذلك بين الناسي للاحرام والجاهل بالحرمة لعموم الآية، وكسائر الاتلافات، وهذا بخلاف الناسي والجاهل
في التمتع باللبس والطيب والدهن والجماع ومقدماته لاعتبار العلم والقصد فيه وهو منتف فيها. نعم لو أزالها مجنون أو مغمى
عليه أو صبي غير مميز على الصحيح في المجموع لم تلزمه الفدية. والفرق بين هؤلاء وبين الجاهل والناسي أنهما يعقلان
فعلهما فينسبان إلى تقصير، بخلاف هؤلاء. على أن الجاري على قاعدة الاتلاف وجوبها عليهم أيضا، ومثلهم في ذلك
النائم. ولو أزيل ذلك بقطع جلد أو عضو لم يجب فيه شئ لأن ما أزيل تابع غير مقصود بالإزالة، وشبهوه بالزوجة تقتل
فلا يجب مهرها على القاتل. ولو أرضعتها زوجته الأخرى لزمها نصف المهر، لأن البضع في تلك تلفه تبعا بخلافه في هذه.
أما إذا لم يوال بأن أزالها في ثلاث أماكن أو في مكان واحد ولم يتحد الزمان فيجب عليه في كل واحدة منها ما يجب عليه
لو انفردت، وهو مد كما سيأتي. وحكم ما فوق الثلاث حكمها كما فهم بالأولى، حتى لو حلق شعر رأسه وشعر بدنه ولاء
أو أزال أظفار يديه ورجليه كذلك لزمه فدية واحدة لأنه يعد فعلا واحدا. (والأظهر أن في) إزالة (الشعرة) الواحدة
أو الظفر الواحد أو بعض شئ من أحدهما (مد طعام، وفي الشعرتين) أو الظفرين (مدين) لأن تبعيض الدم فيه
عسر، والشارع قد عدل الحيوان بالاطعام في جزاء الصيد وغيره. والشعرة الواحدة هي النهاية في القلة، والمد أقل ما وجب
في الكفارات فقوبلت الشعرة به. والثاني: في الشعرة درهم وفي الثنتين درهمان، لأن الشاة كانت تقوم في عصره
(ص) بثلاثة دراهم، فاعتبرت تلك القيمة عند الحاجة إلى التوزيع. والثالث: في الشعرة ثلث دم وفي الثنتين
ثلثا دم، عملا بالتقسيط. ومحل الخلاف المذكور إذا اختار الدم، فإن اختار الصيام ففي الواحدة منهما صوم يوم، وفي
الاثنتين صوم يومين، أو الطعام، ففي واحدة صاع وفي اثنتين صاعان، نقل ذلك الأسنوي عن العمراني وغيره، وقال: إنه
متعين لا محيد عنه. قال بعضهم: وكلام العمراني إن ظهر على قولنا الواجب ثلث دم لا يظهر على قولنا الواجب مد إذ
يرجع حاصله إلى أنه مخير بين المد والصاع، والشخص لا يتخير بين الشئ وبعضه. وجوابه المنع، فإن المسافر مخير بين
521

القصر والاتمام، وهو تخيير بين الشئ وبعضه. ولو انسل منه شعرة وشك هل سله المشط بعد انتتافه أو نتفه فلا فدية،
لأن النتف لم يتحقق والأصل براءة الذمة. ويكره كما في المجموع أن يمتشط وأن يفلي رأسه ولحيته وأن يحك شعره لا جسده
بأظفاره لا بأنامله. (وللمعذور) في الحلق لايذاء قمل أو وسخ أو حر أو جراحة أو نحو ذلك، (أن يحلق ويفدي) لقوله
تعالى: * (فمن كان منكم مريضا) * الآية. وفي الصحيحين عن كعب بن عجرة قال: في أنزلت هذه الآية، أتيت رسول الله
(ص) فقال: ادن فدنوت، فقال: أيؤذيك هوام رأسك؟ قال ابن عوف: وأظنه قال نعم، قال: فأمرني
بفدية من صيام أو صدقة أو نسك.
تنبيه: قال الأسنوي: وكذا تلزمه الفدية في كل محرم أبيح للحاجة إلا لبس السراويل والخفين المقطوعين
كما مر، لأن ستر العورة وقاية الرجل عن النجاسة مأمور بهما فخفف فيهما. والحصر فيما قاله قال شيخنا ممنوع أو مؤول،
فقد استثني صور لا فدية فيها، منها ما إذا أزال ما نبت من الشعر في عينه وتأذى به، ومنها ما إذا أزال قدر ما يغطيها من
شعر رأسه وحاجبيه إذا طال بحيث ستر بصره، ومنها ما لو انكسر ظفره فقطع المؤذي منه فقط. ويأثم الحالق بلا عذر
لارتكابه محرما. ولو حلق شخص رأس محرم وهو قادر على منعه، أو أحرقت نار شعره وهو قادر على دفعها، لزمته
الفدية لتفريطه فيما عليه حفظه. ولو أذن له في الحلق كان الحكم كذلك لإضافة الفعل إليه. فإن قيل: المباشرة مقدمة
على الامر، فلم قدم عليها؟ أجيب بأن محل ذلك ما إذا لم يعد نفعه على الآمر، بخلاف ما إذا عاد، كما لو غصب شاة فأمر
قصابا بذبحها لم يضمنها إلا الغاصب. فإن حلق بلا إذن منه وليس قادرا على منعه أو كان نائما أو نحو ذلك كانت الفدية
على الحالق ولو حلالا لأنه المقصر، وللمحلوق مطالبته بها لأنها وجبت بسببه، ولان نسكه يتم بأدائها، فكان له المطالبة بها.
ولو أخرجها المحلوق بغير إذن من الحالق لم تسقط عنه، بخلاف قضاء الدين، لأن الفدية شبيهة بالكفارة، فإن أذن له في
إخراجها سقطت. ويجوز للمحرم حلق شعر الحلال، ولو أمر شخص آخر أن يحلق شعر محرم نائم أو نحوه فحلق فالفدية
على الآمر إن جهل الحالق الحال أو كان أعجميا يعتقد طاعة آمره أو أكره على ذلك، وإلا فعلى الحالق. (الرابع) من
المحرمات: (الجماع) بالاجماع ولو لبهيمة في قبل أو دبر. ويحرم على المرأة الحلال تمكين زوجها المحرم من الجماع، لأنه
إعانة على معصية. ويحرم على الحلال جماع زوجته المحرمة. وقد يفهم كلامه إن غير الجماع لا يحرم، وليس مرادا، بل
تحرم المباشرة فيما دون الفرج بشهوة قبل التحللين وعليه دم، وكذا الاستمناء باليد، ويجب عليه الدم إن أنزل. لكن
يسقط عنه الدم في الصورتين إن جامع بعد ذلك لدخوله في بدنة الجماع. (وتفسد به العمرة) المفردة قبل الفراغ منها، أما
غير المفردة فهي تابعة للحج صحة وفسادا. (وكذا) يفسد (الحج) بالجماع المذكور (قبل التحلل الأول) قبل الوقوف
بإجماع وبعده خلافا. لأبي حنيفة لأنه وطئ صادف إحراما صحيحا لم يحصل فيه التحلل الأول، فأشبه ما قبل الوقوف، ولو
كان المجامع في العمرة أو الحج رقيقا أو صبيا مميزا للنهي عنه في الحج لقوله تعالى: * (فلا رفث) * أي لا ترفثوا، فلفظه
خبر ومعناه النهي، إذ لو بقي على الخبر امتنع وقوعه في الحج لأن أخبار الله تعالى صدق قطعا مع أن ذلك وقع كثيرا،
والأصل في النهي اقتضاء الفساد، وقاسوا العمرة على الحج. أما غير المميز من صبي أو مجنون فلا يفسد ذلك بجماعه، وكذا
الناسي والجاهل والمكره.
تنبيه: قوله قبل التحلل الأول قيد في الحج خاصة كما تقرر، لأن العمرة ليس لها إلا تحلل واحد كما مر. واحترز
به عما إذا وقع الجماع بعده، فإن الحج لا يفسد به وكذا العمرة التابعة له كما تقدم، وقيل: تفسد، وكلام المصنف يفهمه.
ولو أحرم مجامعا لم ينعقد إحرامه على الأصح في زوائد الروضة، ولو أحرم حال النزع صح في أحد أوجه يظهر ترجيحه
لأن النزع ليس بجماع. (ويجب به) أي الجماع المفسد لحج أو عمرة على الرجل، (بدنة) بصفة الأضحية، لقضاء الصحابة
رضي الله تعالى عنهم بذلك. وخرج بالجماع المفسد مسألتان: إحداهما أن يجامع في الحج بين التحللين، الثانية: أن يجامع
522

ثانيا بعد جماعه الأول قبل التحللين، ففي الصورتين إنما يلزمه شاة. وبالرجل المرأة وإن شملتها عبارته فإنها على الخلاف
المار في الصوم فلا فدية عليها على الصحيح، سواء أكان الواطئ زوجا أم غيره محرما أم حلالا، وإن كانت عبارة
المجموع تدل على أنها إذا كانت محرمة دونه أن عليها الفدية. ولنا هنا طريقة قاطعة باللزوم بخلاف الصوم. وقيل: إن
كان الواطئ لا يتحمل عنها فعليها الفدية. واعلم أن البدنة حيث أطلقت في كتب الحديث والفقه المراد بها البعير ذكرا
كان أو أنثى، وشرطها أن تكون في سن الأضحية كما مر، ولا تطلق هذه على غير هذا. وأما أهل اللغة فقال كثير منهم
أو أكثرهم إنها تطلق على البعير والبقرة، وحكى المصنف في التهذيب والتحرير عن الأزهري أنها تطلق على الشاة،
ووهم في ذلك. فإن لم يجد البدنة فبقرة، فإن لم يجدها فسبع شياه، فإن لم يجدها قوم البدنة واشترى بقيمتها طعاما
وتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوما. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان مراتب الدماء. (و) يجب المضي (في
فاسده) أي المذكور من حجة أو عمرة، لاطلاق قوله تعالى: * (وأتموا الحج والعمرة لله) * فإنه لم يفصل بين الصحيح
والفاسد، وروي ذلك عن إفتاء جمع من الصحابة ولا يعرف لهم مخالف. والمراد بالمضي فيه أن يأتي بما كان يأتي به
قبل الجماع ويتجنب ما كان يتجنبه قبله، فإن ارتكب محظورا لزمته الفدية في الأصح، وهذا بخلاف سائر العبادات
لا يلزمه المضي في فاسدها للخروج منها بالفساد إذ لا حرمة لها بعده. نعم يجب إمساك بقية النهار في صوم رمضان كما مر
وإن خرج منه لحرمة زمنه. (و) يجب (القضاء) اتفاقا (وإن كان نسكه تطوعا) لأنه يلزم بالشروع فيه فصار فرضا
بخلاف باقي العبادات. وإذا جامع صبي أو عبد فسد نسكه ويجزئه القضاء حال الصبا والرق. ويلزم المفسد في القضاء
الاحرام مما أحرم به في الأداء من ميقات أو قبله من دويرة أهله أو غيرها، فإن كان جاوز الميقات ولو غير مريد نسكا
لزمه في القضاء الاحرام منه إلا إن سلك فيه غير طريق الأداء فإنه يحرم من قدر مسافة الاحرام في الأداء إن لم يكن جاوز
فيه الميقات غير محرم وإلا أحرم من قدر مسافة الميقات. وعلم من ذلك أنه لو أفرد الحج ثم أحرم بالعمرة من أدنى الحل
ثم أفسدها كفاه أن يحرم في قضائها من أدنى الحل، وأنه لا يتعين عليه سلوك طريق الأداء، لكن يشترط أن يحرم من
قدر مسافته. ولا يلزمه في القضاء أن يحرم في الزمن الذي أحرم فيه بل له التأخير عنه والتقديم عليه في الوقت الذي
يجوز الاحرام فيه، وفارق المكان فإنه ينضبط بخلاف الزمان. ولو أفسد القضاء الثاني بالجماع فعليه بدنة وقضاء واحد،
لأن المقضي واحد فلا يلزمه أكثر منه. (والأصح أنه) أي قضاء الفاسد (على الفور) لأنه وإن كان وقته موسعا
يضيق بالشروع فيه. واستشكل تسمية ذلك قضاء بأن من أفسد الصلاة ثم أعادها في الوقت كانت أداء لا قضاء
لوقوعها
في وقتها الأصلي خلافا للقاضي. وأجاب السبكي بأنهم أطلقوا القضاء هنا على معناه اللغوي، وبأنه يتضيق بالاحرام وإن
لم يتضيق وقت الصلاة لأن آخر وقتها لم يتغير بالشروع فيها فلم يكن يفعلها بعد الافساد موقعا لها في غير وقتها، والنسك
بالشروع فيه تضيق وقته ابتداء وانتهاء فإنه ينتهي بوقت الفوات ففعله في السنة الثانية خارج وقته فصح وصفه بالقضاء.
وأيد ولده في التوشيح الأول بقول ابن يونس إنه أداء لا قضاء، وتصور قضاء العمرة على الفور واضح. وأما الحج فيتصور
عام الافساد بأن يتحلل بعد للاحصار، ثم يطلق من الحصر أو بان يرتد بعد أو يتحلل كذلك لمرض شرط التحلل به ثم
يشفي والوقت باق فيشتغل بالقضاء. ولو خرجت المرأة لقضاء نسكها لزم الزوج زيادة نفقة السفر من زاد وراحلة ذهابا وإيابا
لأنها غرامة تتعلق بالجماع فلزمته كالكفارة، ولو غضبت لزمه الإنابة عنها من ماله ومؤنة الموطوءة بزنا أو شبهة عليها.
وأما نفقة الحصر فلا تلزم الزوج إلا أن يكون معها، ويسن افتراقهما من حين الاحرام إلى أن يفرغ التحللان، وافتراقهما
في مكان الجماع آكد للاختلاف في وجوبه.
فروع: لو أفسد مفرد نسكه فتمتع في القضاء أو قرن جاز وكذا عكسه. ولو أفسد القارن نسكه لزمه بدنة واحدة
لانضمام العمرة في الحج، ولزمه دم للقران الذي أفسده لأنه لزم بالشروع فلا يسقط بالافساد، ولزمه دم آخر للقران الذي التزمه
بالافساد في القضاء ولو أفرده لأنه متبرع بالافراد. ولو فات القارن الحج لفوات الوقوف فاتت العمرة تبعا له ولزمه دمان:
523

دم للفوات ودم لأجل القران، وفي القضاء دم ثالث. ولو ارتد في أثناء نسكه فسد إحرامه فيفسد نسكه كصومه وصلاته
فلا كفارة عليه ولا يمضي فيه وإن أسلم، لعدم ورود شئ فيهما، بخلاف الجماع فإنه وإن أفسد به نسكه لم يفسد به إحرامه
حتى يلزمه المضي في فاسده كما مر. (الخامس) من المحرمات: (اصطياد كل) صيد (مأكول بري) وحشي كبقر
وحش ودجاجة وحمامة. (قلت: وكذا المتولد منه) أي المأكول البري الوحشي، (ومن غيره) كمتولد بين حمار
وحشي وحمار أهلي أو بين شاة وظبي (والله أعلم). أما الأول فلقوله تعالى: * (وحرم عليكم صيد البر) * أي أخذه
* (ما دمتم حرما) *. وأما الثاني فللاحتياط. وإنما لم تجب الزكاة في المتولد بين زكوي وغيره لأنها من باب المواساة. وخرج
بما ذكر: ما تولد بين وحشي غير مأكول وإنسي مأكول، كالمتولد بين ذئب وشاة، وما تولد بين غير مأكولين
أحدهما وحشي كالمتولد بين حمار وذئب، وما تولد بين أهليين أحدهما غير مأكول كالبغل، فلا يحرم التعرض لشئ
منها. (و) حينئذ (يحرم ذلك) أي اصطياد المأكول البري والمتولد منه ومن غيره، (في الحرم على الحلال) بالاجماع
كما قاله في المجموع ولو كان كافرا ملتزم الأحكام، ولخبر الصحيحين: أنه (ص) يوم فتح مكة قال: إن هذا البلد
حرام بحرمة الله لا يعضد شجره ولا ينفر صيده رواه الشيخان، أي لا يجوز تنفير صيده لمحرم ولا حلال، فغير التنفير
أولى. وقيس بمكة باقي الحرم. (فإن أتلف) من حرم عليه ما ذكر (صيدا) مما ذكر مملوكا أو غير مملوك، (ضمنه)
بما يأتي، لقوله تعالى: * (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا) * الآية. وقيس بالمحرم الحلال في الحرم
الآتي ذكره بجامع حرمة التعرض، فيضمن سائر أجزائه كشعر وريش بالقيمة وكذا لبنه، ويضمن أيضا ما تلف في يده
ولو وديعة كالغاصب لحرمة إمساكه، بخلاف ما لو أدخل الحلال معه إلى الحرم صيدا مملوكا له لا يضمنه بل له إمساكه
فيه وذبحه والتصرف فيه كيف شاء لأنه صيد حل. ولو دل المحرم آخر على صيد ليس في يده فقتله لم يضمنه لأنه لم
يلتزم حفظه، أو في يده والقاتل حلال ضمن المحرم لأنه ترك حفظه وهو واجب عليه، فصار كالمودع إذا دل سارقا على
الوديعة. ولو رمى صيدا قبل إحرامه فأصابه بعده أو عكس ضمن تغليبا لحالتي الاحرام فيهما، وفارق ذلك ما لو رمى
إلى مسلم فارتد ثم أصابه فقتل بأنه مقصر بما أحدثه من إهداره. ولو نصب نحو شبكة وهو محرم أو في الحرم ضمن
ما وقع فيها وتلف، سواء أنصبها في مكة أم في غيره ووقع الصيد قبل التحلل أم بعده أم بعد موته. ولو نصبها للخوف
عليها من مطر ونحوه لم يضمن كما يدل عليه كلام الرافعي. ولو نصبها في غير الحرم وهو حلال ثم أحرم لم يضمن. ولو
أرسل المحرم كلبا أو حل رباطه والصيد حاضر أو غائب ثم ظهر فقتله ضمن كحلال فعل ذلك في الحرم، وكذا لو انحل
بتقصيره. ولو رمى صيدا فنفذ منه إلى صيد آخر فقتلهما ضمنهما، لأنه لا فرق في الضمان بين العامد والخاطئ والجاهل
بالتحريم والناسي للاحرام، والتعمد في الآية خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له، لكن يستثنى من الضمان مسائل: منها
ما لو باض حمام أو غيره في فراشه أو نحوه وفرخ ولم يمكن دفعه إلا بالتعرض له ففسد بذلك. ومنها ما لو انقلب عليه
في نومه فأفسده أو جن فقتل صيدا. فإن قيل: هذا إتلاف والمجنون فيه كالعاقل. أجيب بأنه وإن كان إتلافا فهو
حق لله تعالى، ففرق فيه بين من هو من أهل التمييز وغيره، وتقدم مثل ذلك في حلق الشعر، ويأتي أيضا ما تقدم
هناك. ومنها ما لو أخذ الصيد تخليصا من سبع أو مداويا له أو ليتعهده فمات في يده. ومنها ما لو صال عليه فقتله دفعا
فلا ضمان في الجميع، ولو اضطر المحرم وأكل الصيد بعد ذبحه ضمن، وكذا لو أكره المحرم على قتله ضمنه ويرجع بما
غرمه على المكره له.
تنبيه: قول المصنف في الحرم حال من ذا المشار به إلى الاصطياد وهو متعلق بالصائد، والمصيد صادق بما إذا
كان في الحرم أو أحدهما فيه. والآخر في الحل، كأن رمى من الحرم صيدا في الحل أو عكسه أو أرسل كلبا في الصورتين
فيضمن في جميع ذلك، أو رمى صيدا من الحل إلى الحل فاعترض السهم الحرم ضمن. وفي مثله إرسال الكلب إنما يضمن
524

إذا لم يكن للصيد مهرب إلا بالدخول في الحرم. ولو أرسل الكلب في الحل إلى الصيد في الحل فدخل الحرم فقتله فيه أو
قتل فيه صيدا غيره لم يضمن بخلاف نظيرهما في السهم. ولو رمى صيدا بعض قوائمه في الحرم فقتله ضمن. ولو سعى
الصيد من الحرم إلى الحل فقتله الحلال، أو سعى من الحل إلى الحل ولكن سلك في أثناء سعيه الحرم فإنه لا ضمان قطعا،
قاله في المجموع. ولو ذبح المحرم الصيد أو الحلال صيد الحرم صار ميتة وحرم عليه أكله بالاجماع كما في المجموع، ولأنه إذا
حرم ما أعان عليه فما ذبحه أولى. وهل يتأبد عليه التحريم أم مدة إحرامه؟ قولان، أظهرهما الأول، وعليه الجزاء
لله تعالى وضمنه لمالكه، ويحرم أكله على غيره حلالا كان أو محرما لأنه ممنوع من الذبح لمعنى فيه كالمجوسي. ولو
كسر المحرم أو الحلال في الحرم بيض صيد أو قتل جرادا كذلك ضمنه، ولم يحرم على غيره كما صححه في
المجموع في موضع
وجزم به ابن المقري في روضه، ويحرم عليه ذلك تغليظا عليه. ولو حلب لبن صيد ضمنه بقيمته خلافا للروياني. ولا
يملك المحرم الصيد بالبيع والهبة وقبول الوصية ونحو ذلك، بناء على أن ملكه يزول عنه بالاحرام لأن من يمنع من إدامة
الملك فأولى أن يمنع من ابتدائه، ولأنه (ص) أهدي إليه حمار وحش فرده، فلما رأى ما في وجه المهدي، فقال: إنا لم
نرده عليك إلا إنا حرم فليس له قبضه فإن قبضه بشراء أو عارية أو وديعة لا هبة وأرسله ضمن قيمته للمالك وسقط الجزاء،
بخلافه في الهبة لا ضمان لأن العقد الفاسد كالصحيح في الضمان والهبة غير مضمونة، وإن رده لمالكه سقطت القيمة
لا الجزاء ما لم يرسل ويملكه بالإرث ولا يزول ملكه عنه إلا بإرساله كما صرح بتصحيحه في المجموع لدخوله في ملكه
قهرا. ويجب إرساله كما لو أحرم وهو في ملكه، فلو باعه صح وضمن الجزاء ما لم يرسل، حتى لو مات في يد المشتري لزم
البائع الجزاء. وإن كان في ملكه صيد فأحرم زال ملكه عنه ولزمه إرساله، لأنه لا يراد الدوام، فتحرم استدامته كاللباس
بخلاف النكاح، فلو لم يرسله حتى تحلل لزمه إرساله، إذ لا يرتفع اللزوم بالتعدي، بخلاف من أمسك خمرا غير محترمة
حتى تخللت لا يلزمه إراقتها، وفرق بأن الخمرة انتقلت من حال إلى حال. فإن قيل: هلا كان تحلله كإسلام الكافر بعد
أن ملك عبدا مسلما حيث لا يؤمر بإزالة ملكه عنه أجيب بأن الاحرام أضيق من ذلك، بدليل أنه يمتنع على المحرم
استعارة الصيد واستيداعه واستئجاره بخلاف الكافر في العبد المسلم. وإذا زال ملكه عنه لا غرم إذا قتل أو أرسله. ومن
أخذه ولو قبل إرساله وليس محرما ملكه، لأنه بعد لزوم الارسال صار مباحا. ولو مات في يده ضمنه ولو لم يتمكن من
إرساله إذا كان يمكنه إرساله قبل الاحرام كنظيره في إلزام الصلاة لمن جن بعد مضي ما يسعها من وقتها دون الوضوء
لأنه كان متمكنا من فعله قبل دخول الوقت. ولا يجب إرساله قبل الاحرام بلا خلاف، ولو أحرم أحد مالكيه تعذر
إرساله فيلزمه رفع يده، عنه ذكره في المجموع. قال الزركشي: ولو كان في ملك الصبي صيد فهل يلزم الولي إرساله
ويغرم قيمته كما يغرم قيمة النفقة الزائدة بالسفر؟ فيه احتمال اه‍. وينبغي اللزوم، ولو حفر المحرم بئرا حيث كان أو حفرها
حلال في الحرم فأهلك صيدا نظرت، فإن حفرها عدوانا ضمن وإلا فالحافر في الحرم فقط عليه الضمان لأن حرمة الحرم
لا تختلف. ولو استعار حلال صيدا وأتلفه محرما ضمنه بقيمته لمالكه وبمثله لحق الله تعالى، وقد نظم بعضهم هذه
المسألة في بيتين فقال:
عندي سؤال حسن مستظرف فرع على أصلين قد تفرعا
قابض شئ برضا مالكه ويضمن القيمة والمثل معا
ولو دخل كافر الحرم وأتلف صيدا ضمنه، وقيل لا لأنه لم يلتزم حرمته. وعلى الأول يكون كالمسلم في كيفية الضمان
إلا في الصوم. واعلم أن الصيد ضربان: ما له مثل من النعم في الصورة والخلقة تقريبا فيضمن به، وما لا مثل له فيضمن
بالقيمة إن لم يكن فيه نقل. ومن الأول ما فيه نقل بعضه عن النبي (ص)، وبعضه عن السلف فيتبع. وقد
شرع المصنف في بيان ذلك، فقال: (ففي) إتلاف (النعامة) بفتح النون ذكرا كان أو أنثى، (بدنة) كذلك، فلا تجزئ
بقرة ولا سبع شياه أو أكثر، لأن جزاء الصيد يراعى فيه المماثلة. (وفي) واحد من (بقر الوحش،
525

و) في واحد من (حماره) أي الوحش، (بقرة) أي واحد من البقر، (و) في (الغزال) وهو ولد الظبية إلى أن يطلع قرناه: معز
صغير. ففي الذكر جدي أو جفرة، والأنثى عناق أو جفرة على حسب جسم الصيد. فإن طلع قرناه سمي الذكر ظبيا
والأنثى ظبية. وفيها (عنز) وهي أنثى المعز التي تم لها سنة. (و) في (الأرنب عناق) وهي أنثى المعز إذا قويت
ما لم تبلغ سنة، ذكره المصنف في تحريره وغيره في أصل الروضة، وغيره أنها أنثى المعز من حين تولد حتى ترعى، ويمكن
حمله على الأول. (و) في (اليربوع) أو الوبر بإسكان الموحدة، (جفرة) وهي كما في أصل الروضة أنثى المعز إذا بلغت
أربعة أشهر وفصلت عن أمها. والذكر جفر، سمي به لأنه جفر جنباه: أي عظما، هذا معناهما لغة. قال الشيخان: لكن يجب
أن يكون المراد بالجفرة هنا ما دون العناق إذ الأرنب خير من اليربوع. وفي الضبع كبش، وفي الثعلب شاة، وفي الضب
أو أم حبين بضم المهملة وفتح الموحدة، وهي دابة على خلقة الحرباء عظيمة البدن: جدي. (وما لا نقل فيه) من الصيد
عمن سيأتي، (يحكم بمثله) من النعم (عدلان) لقوله تعالى: * (يحكم به ذوا عدل منكم) * الآية. والعبرة في المماثلة
بالخلقة والصورة تقريبا لا تحقيقا، فأين النعامة من البدنة، لا بالقيمة فيلزم في الكبير كبير، وفي الصغير صغير، وفي الذكر
ذكر، وفي الأنثى أنثى، وفي الصحيح صحيح، وفي المعيب معيب إن اتحد جنس العيب، ولو اختلف محله كأن كان عور
أحدهما في اليمين والآخر في اليسار، فإن اختلف كالعور والجرب فلا، وفي السمين سمين، وفي الهزيل هزيل كما
في المجموع، ولو فدى المريض بالصحيح، أو المعيب بالسليم، أو الهزيل بالسمين فهو أفضل، ويجزئ فداء الذكر بالأنثى
وعكسه، لكن الذكر أفضل، ويجب في الحامل حامل ولا تذبح بل تقوم، فإن ألقت جنينا ميتا وماتت فكقتل الحامل،
وإن عاشت ضمن نقصها، أو حيا وماتا ضمنهما، أو مات دونها ضمنه ونقصها وهو ما بين قيمتها حاملا وحائلا. ويجب
أن يكون العدلان فقيهين فطنين لأنهما حينئذ أعرف بالشبه المعتبر شرعا. وعلل الماوردي وغيره وجوب اعتبار الفقه
بأن ذلك حكم فلم يجز إلا بقول من يجوز حكمه، ومنه يؤخذ كما قال شيخنا أنه لا يكفي الخنثى والمرأة والعبد. وما ذكر
من وجوب الفقه محمول على الفقه الخاص بما يحكم به هنا، وما في المجموع عن الشافعي والأصحاب من أن الفقه مستحب
محمول على زيادته. ويحمل العدلان بالمثل فيما قتلاه بلا عدوان كخطأ أو اضطرار إليه، لأن عمر رضي الله تعالى عنه أمر
رجلا قتل ظبيا بالحكم فيه فحكم فيه بجدي فوافقه هو وغيره، ولأنه حق لله تعالى فكان من وجب عليه أمينا فيه
كالزكاة، أما مع العدوان والعلم بالتحريم فلا يحكمان لفسقهما. فإن قيل: الظاهر أن ذلك ليس كبيرة فكيف تسقط
العدالة بارتكابه مرة؟ أجيب بمنع ذلك، بل الظاهر أنه كبيرة لأنه إتلاف حيوان محترم بلا ضرورة ولا فائدة. ولو حكم
عدلان بمثل وآخران بمثل أو بأنه لا مثل له تخير من لزمه المثل في الأولى كما في اختلاف المفتيين. وقدم مثبتي المثل
في الثانية لأن معهما زيادة علم بمعرفة دقيق الشبه. واحترز المصنف بقوله وما لا نقل فيه عن حيوان فيه نص عن النبي
(ص) أو عن صحابيين أو عن عدلين من التابعين فمن بعدهم. قال في الكفاية: أو عن صحابي مع سكوت
الباقين فيتبع ما حكموا به. وفي معناه قول كل مجتهد غير صحابي مع سكوت الباقين. (و) يجب (فيما لا مثل له) مما
لا نقل فيه كالجراد وبقية الطيور ما عدا الحمام لما سيأتي، سواء أكان أكبر جثة من الحمام أم لا كالعصفور. (القيمة)
عملا بالأصل في المتقومات، وقد حكمت الصحابة بها في الجراد، ولأنه مضمون لا مثل له فضمن بالقيمة كمال الآدمي،
ويرجع في القيمة إلى عدلين كما صرح به الماوردي وغيره. والعبرة في هذه القيمة بموضع الاتلاف أو التلف لا بمكة على
المذهب. أما ما لا مثل له مما فيه نقل وهو الحمام، وهو ما عب: أي شرب الماء بلا مص وهدر، أي رجع صوته وغرد
كاليمام والقمري والدلسي والفاختة ونحوها من كل مطوق، ففي الواحدة منها شاة من ضأن أو معز بحكم الصحابة رضي الله
تعالى عنهم. فهذا مستثنى من إطلاق المصنف، وفي مستندهم وجهان، أصحهما توقيف بلغهم فيه، والثاني: ما بينهما من الشبه
وهو إلف البيوت. وهذا إنما يأتي في بعض أنواع الحمام، إذ لا يأتي في الفواخت ونحوها. وألحق الجرجاني الهدهد
526

بالحمام في التضمين بشاة. وهذا ضعيف، لأن الهدهد الراجح فيه أنه غير مأكول.
فروع: لو أزال إحدى منعتي النعامة ونحوهما وهما قوة عدوها وطيرانها اعتبر النقص، لأن امتناعهما في الحقيقة واحد
فالزائل بعض الامتناع، فيجب النقص لا الجزاء الكامل. ولو جرح ظبيا واندمل جرحه بلا إزمان فنقص عشر قيمته فعليه
عشر شاة لا عشر قيمتها تحقيقا للماثلة، فإنه برئ ولا نقص فيه، فالأرش بالنسبة إليه كالحكومة بالنسبة إلى الآدمي، فيقدر
القاضي فيه شيئا باجتهاده مقدار الوجع الذي أصابه، وعليه في غير المثلي أرشه. ولو أزمن صيد لزمه
جزاؤه كاملا كما لو أزمن عبد ألزمه كل قيمته، فإن قتله محرم آخر فعلى القاتل جزاؤه مزمنا أو قتله المزمن قبل الاندمال
فعليه جزاء واحد أو بعده فعليه جزاؤه مزمنا. ولو جرح صيد فغاب فوجده ميتا وشك أمات بجرحه أم بحادث لم يجب عليه
غير الأرش، لأن الأصل براءة ذمته عما زاد. (ويحرم) على محرم وحلال (قطع) أو قلع (نبات الحرم) الرطب (الذي
لا يستنبت) بالبناء للمفعول، أي ما من شأنه أن لا يستنبته الآدميون بأن ينبت بنفسه كالطرفاء شجرا كان أو غيره، لقوله
في الخبر المار: ولا يعضد شجره أي لا يقطع ولا يختلى خلاه وهو بالقصر: الحشيش الرطب، أي لا ينتزع بقطع ولا
بقلع. وقيس بما في الخبر غيره مما ذكر. وخرج بالرطب الحشيش اليابس فيجوز قطعه لا قلعه والشجر اليابس
فيجوز
قطعه وقلعه. والفرق بين الشجر والحشيش في القلع أن الحشيش ينبت بنزول الماء عليه. قال في المجموع: وهذا لا يخالف
قول الماوردي إن الحشيش إذا جف ومات يجوز قلعه، لأن اليابس قد يفسد منبته ويموت، أي فكلام الماوردي محمول
على هذا والأول على خلافه، وبالحرم نبات الحل إذا لم يكن بعض أصله في الحرم فيجوز قطعه وقلعه ولو بعد غرسه
في الحرم بخلاف عكسه عملا بالأصل في الموضعين. ولو قلع شجرة رطبة من الحرم ثم ردها إلى موضعها أو موضع آخر فيه
فنبتت فلا ضمان عليه. أما ما بعض أصله في الحرم فيحرم تغليبا للحرم، وبما لا يستنبت ما يستنبت، وسيأتي تخصيصه بغير
الشجر كبر وشعير فلمالكه قطعه وقلعه. ولو قطع غصنا في الحرم أصله في الحل لم يضمنه ويضمن صيدا قتله فوقه، وحكم
عكسه عكس حكمه. قال الفوراني: ولو غرس في الحل نواة شجرة حرمية ثبت لها حكم الأصل، ولا ضمان بقطع الأغصان
الحرمية المؤذية للناس في الطريق. ولو أخذ غصنا من شجرة حرمية فأخلف مثله في سنته بأن كان لطيفا كالسواك فلا ضمان
فيه، فإن لم يخلف أو أخلف لا مثله أو مثله لا في سنته فعليه الضمان، فإن أخلف مثله بعد وجوب ضمانه لم يسقط الضمان،
كما لو قلع سن مثغور فنبت. ويجوز أخذ أوراق الأشجار بلا خلط لئلا يضربها، وخبطها حرام كما في المجموع نقلا عن
الأصحاب، ونقل اتفاقهم على أنه لا يجوز أخذ ثمرها وعود السواك ونحوه، وقضيته أنه لا يضمن الغصن اللطيف وإن لم
يخلف، قال الأذرعي: وهو الأقرب، ونقل ما يؤيده. قال شيخنا: لكنه مخالف لما مر اه‍. والأولى أن يحمل ما هنا على
ما هناك. (والأظهر تعلق الضمان به) أي بقطع نبات الحرم الرطب، وهو شامل للشجر كما مر، فقوله: (وبقطع أشجاره) تبع
فيه المحرر ولا حاجة إليه، فهو من ذكر الخاص بعد العام. (ففي) أي يجب في قطع أو قلع (الشجرة) الحرمية (الكبيرة)
بأن تسمى كبيرة عرفا، (بقرة) كما رواه الشافعي عن ابن الزبير، ومثله لا يقال إلا بتوقيف، وسواء أخلفت الشجرة أم لا،
قال في الروضة: كأصلها، والبدنة في معنى البقرة. فإن قيل: لم تسمحوا بها عن البقرة ولا عن الشاة في جزاء الصيد؟
أجيب بأنهم راعوا المثلية في الصيد بخلافه هنا. (و) في (الصغيرة) إن قاربت سبع الكبيرة (شاة) رواه الشافعي أيضا، فإن
صغرت جدا ففيها القيمة. قال الزركشي: وسكت الرافعي عما جاوز سبع الكبيرة، ولم ينته إلى حد الكبر، وينبغي أن
تجب فيه شاة أعظم من الواجبة في سبع الكبيرة.
تنبيه: سكت المصنف عن الواجب في غير الشجر من النبات، والواجب فيه القيمة لأنه القياس ولم يرد نص
يدفعه. ولم يتعرض الشيخان لسن البقرة، وفي الاستقصاء لا يشترط إجزاؤها في الأضحية بل يكفي فيها التبيع. وأما
527

الشاة فلا بد أن تكون في سن الأضحية. قال الأسنوي: وكان الفرق أن الشاة لم يوجبها الشرع إلا في هذا السن بخلاف
البقرة، بدليل التبيع في الثلاثين منها. وكلام المصنف يقتضي وجوب البقرة أو الشاة بمجرد القطع، ولا يتوقف على قلع
الشجرة، وكلام التنبيه يقتضي التوقف عليه، ولم يصرحا في الشرحين والروضة بالمسألة، نعم عبر الرافعي بالتامة، ولعله
احترز به عن قطع الغصن. (قلت: والمستنبت) بفتح الموحدة، وهو ما استنبته الآدميون من الشجر، (كغيره) في الحرمة
والضمان (على المذهب) وهو القول الأظهر، وقطع به بعضهم لعموم الحديث السابق. والثاني المنع تشبيها له بالزرع، أي
كالحنطة والشعير والبقول والخضروات فإنه يجوز قطعه ولا ضمان فيه بلا خلاف، ذكره في المجموع. (ويحل) من شجر
الحرم (الإذخر) قطعا وقلعا لاستثنائه في الخبر السابق، قال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوتهم، فقال
(ص): إلا الإذخر ومعنى كونه لبيوتهم أنهم يسقفونها بضم القاف به فوق الخشب، والقين الحداد. وهي
بكسر الهمزة والذال المعجمة نبات معروف. وظاهر إطلاق المصنف أن آخذه يتصرف فيه بجميع التصرفات من بيع وغيره،
وبذلك أفتى شيخي. (وكذا الشوك) يحل شجره (كالعوسج) جمع عوسجة نوع من الشوك، (وغيره) من كل مؤذ يحل (عند
الجمهور) كالصيد المؤذي فلا ضمان في قطعه، وقيل: يحرم ويجب الضمان بقلعه، وصححه المصنف في شرح مسلم، واختاره
في تحرير التنبيه وتصحيحه. قال: والفرق بينه وبين الصيود المؤذية أنها تقصد الأذى بخلاف الشجر.
تنبيه: قال الأسنوي: ولأجل اختيار المصنف المنع عبر بقوله عند الجمهور ولم يعبر بالصحيح ونحوه على عادته،
لأنه لا يمكنه إطلاق تصحيح الجواز لاعتقاده خلافه، ولا تصحيح المنع لكونه خلاف المشهور في المذهب اه‍.
لكنه لم
يحترز عن ذلك في الروضة، بل قال: على الصحيح الذي قطع به الجمهور، وفي المجموع ونحوه. ويجوز رعي حشيش الحرم
بل وشجره كما نص عليه في الام للبهائم، لأن الهدايا كانت تساق في عصره (ص) وأصحابه رضي الله تعالى عنهم
وما كانت تسد أفواهها في الحرم. ويحل أخذ حشيشه للبهائم، (والأصح حل أخذ نباته) من حشيش ونحوه بالقطع، (لعلف
البهائم) بسكون اللام كما يجوز تسريحها فيه، (وللدواء) بالمد كالحنظل، وللتغذي كالرجلة والبقلة للحاجة إليه، (والله أعلم) ولان
ذلك في معنى الزرع. ولا يقطع لذلك إلا بقدر الحاجة كما قاله ابن كج، والثاني: يمنع ذلك وقوفا مع ظاهر الخبر. وعلى
الأول لا يجوز قطعه للبيع ممن يعلف به كما في المجموع، لأنه كالطعام الذي أبيح أكله لا يجوز بيعه. ويؤخذ منه كما قال الزركشي
وغيره أنا حيث جوزنا أخذ السواك لا يجوز بيعه، وظاهر إطلاقهم جواز أخذه للدواء أنه لا يتوقف على وجود السبب
حتى يجوز أخذه ليستعمله عند وجوده، قال الأسنوي: وهو المتجه اه‍. والمتجه المنع كما قاله الزركشي، لأن ما جاز
للضرورة أو للحاجة يقيد بوجودها كما في اقتناء الكلب.
تنبيه: اقتصار المصنف على النبات قد يفهم أن ذلك لا يتعدى لغيره وهو كذلك، فيحرم نقل تراب الحرم وأحجاره
وما عمل من طينه كالأباريق وغيرها إلى الحل فيجب رده إلى الحرم بخلاف ماء زمزم كما مر. ونقل تراب الحل إلى الحرم
مكروه كما في الروضة أو خلاف الأولى كما في المجموع، وهو الظاهر لعدم ثبوت نهي فيه. ويحرم أخذ طيب الكعبة،
فمن أراد التبرك مسحها بطيب نفسه ثم يأخذه، وأما سترها فالامر فيه إلى الامام يصرفه في بعض مصارف بيت المال
بيعا وعطاء لئلا يتلف بالبلى، وبهذا قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة، وجوزوا لمن أخذه لبسه ولو جنبا وحائضا،
والحرم له حدود معروفة نظم بعضهم مسافتها بالاميال في بيتين فقال:
وللحرم التحديد من أرض طيبة ثلاثة أميال إذا رمت إتقانه
وسبعة أميال عراق وطائف وجدة عشر ثم تسع جعرانه
والسين في سبعة الأولى مقدمة بخلاف الثانية، وزاد بعضهم بيتا ثالثا فقال:
528

ومن يمن سبع بتقديم سينه وقد كملت فاشكر لربك إحسانه
(وصيد) حرم (المدينة) أو أخذ نباته كما في المجموع (حرام) لقوله (ص) إن إبراهيم حرم مكة وإني
حرمت المدينة ما بين لابتيها، لا يقطع عضاها ولا يصاد صيدها رواه مسلم عن جابر.
تنبيه: لو زاد المصنف حرم كما قدرته في كلامه تبعا للمحرر والشرحين والروضة كان أولى، لأن التحريم
لا يختص بالمدينة. واللابتان الحرتان بفتح الحاء المهملة تثنية لابة، وهي أرض تركبها حجارة سود، لابة شرقي المدينة ولابة
غربيها، فحرمها ما بينهما عرضا وما بين جبليها طولا، وهما عير وثور لخبر الصحيحين: المدينة حرم من عير إلى ثور.
واعترض بأن ذكر ثور هنا، وهو بمكة، غلط من الرواة وأن الرواية الصحيحة أحد. ورد بأن وراءه جبلا صغيرا يقال
له ثور فأحد من الحرم. (ولا يضمن) الصيد ولا النبات (في الجديد) لأنه ليس محلا للنسك بخلاف حرم مكة، والقديم
أنه يضمن بسلب الصائد والقاطع لشجره، واختاره المصنف في المجموع، وتصحيح التنبيه لثبوت ذلك عن رسول الله
(ص) كما أخرجه مسلم في الشجر وأبو داود في الصيد. واختلف على هذا في السلب ما هو ولمن هو؟ فقيل
إنه كسلب القتيل الكافر، وقيل: ثيابه فقط، وقيل وهو الأصح في المجموع: إنه يترك للمسلوب ما يستر به عورته، والأصح
أن السلب للسالب، وقيل: لفقراء المدينة، وقيل: لبيت المال. ونقل تراب حرم المدينة وأحجاره وما عمل منه كالكيزان
وإدخال ذلك من الحل إليه حكم حرم مكة فيما مر. ويحرم صيد و ج الطائف ونباته، ولا ضمان فيهما قطعا. والنقيع
بالنون، وقيل بالباء، ليس بحرم ولكن حماه النبي (ص) لنعم الصدقة ونعم الجزية، فلا يملك شئ من نباته
ولا يحرم صيده ولا يضمن، ويضمن ما أتلفه من نباته، لأنه ممنوع منه فيضمنه بقيمته. قال الشيخان: ومصرفها مصرف
نعم الجزية والصدقة. وبحث المصنف أنها لبيت المال. ثم شرع في بيان أنواع الدماء، وهي أربعة أقسام، لأن الدم إما
مخير أو مرتب، وكل منهما إما معدل أو مقدر، وسأجمعها لك في خاتمة هذا الباب إن شاء الله تعالى. وقد بدأ بالمخير المعدل
فقال: (ويتخير في) جزاء إتلاف (الصيد المثلي بين) ثلاثة أمور: (ذبح) بذال معجمة، (مثله) بثاء مثلثة،
(والصدقة به) بأن يفرق لحمه مع النية حتما (على مساكين الحرم) وعلى فقرائه كما فهم بالأولى، أو يملكهم جملته
مذبوحا. ولا يجوز إخراجه حيا ولا أكل شئ منه. (وبين أن يقوم المثل) بالنقد الغالب (دراهم) أو غيرها،
(ويشتري بها طعاما لهم) ممن يجزئ في الفطرة، أو يخرج مقدارها من طعامه إذ الشراء مثال، (أو يصوم)
في أي مكان
شاء (عن كل مد) من الطعام (يوما) وذلك لقوله تعالى: * (فجزاء مثل ما قتل من النعم) * إلى قوله: * (صياما) *. ويستثنى
من إطلاقه ذبح المثل ما إذا قتل صيدا مثليا حاملا، فإنه لا يجوز ذبح مثله على الأصح كما مر بل يقوم المثل حاملا ويتصدق
بقيمته طعاما.
تنبيه: قوله دراهم منصوب على نزع الخافض، أي بدراهم. والتقويم لا يختص بها، فلو عبر بالنقد الغالب كما
قدرته كان أولى. وقوله لهم، أي لأجلهم، لا لأن الشراء يقع لهم. وقد يفهم كلامهم أنه لو بقي من الطعام أقل من مد لم
يصم عنه شيئا، لأن الصوم لا يتبعض، وليس مرادا بل يكمل المنكسر ويصوم عنه يوما ولا يفعل مكان المنكسر كامل
إلا هنا وفي القسامة، وقد تقدم أن الكافر كالمسلم في صيد الحرم إلا في الصوم فيتخير بين شيئين فقط. (وغير المثلي)
مما لا نقل فيه من الصيد يتخير في جزاء إتلافه بين أمرين: أحدهما يتصدق بقيمته أي بقدرها (طعاما) يتصدق
به على مساكين الحرم وفقرائه فلا يتصدق بالدراهم، وثانيهما: ما ذكره بقوله: (أو يصوم) عن كل مد يوما، ويكمل
المنكسر كما مر، والعبرة في قيمة غير المثلي بمحل الاتلاف وزمانه قياسا على كل متلف متقوم، وفي قيمة مثل المثلي
529

بمكة وقت إرادة تقويمه، لأنها محل ذبحه لو أريد. والمعتبر في العدول إلى الطعام سعره بمكة كما جزم به الفوراني.
(ويتخير في فدية الحلق) لثلاث شعرات متوالية فأكثر، وفي قلم أظفار كذلك، وفي التطيب واللبس والادهان ومقدمات
الجماع بشهوة، وشاة الجماع بعد الجماع الأول والجماع بين التحللين. (بين) ثلاثة أمور (ذبح شاة) تجزئ في الأضحية
ويقوم مقامها بدنة أو بقرة أو سبع من واحدة منهما. (و) بين (التصدق بثلاثة آصع) بالمد جمع صاع، وآصع أصله أصوع
أبدل من واوه همزة مضمومة قدمت على الصاد ونقلت ضمتها وقلبت هي ألفا. (لستة مساكين) لكل مسكين نصف
صاع، (و) بين (صوم ثلاثة أيام) وذلك لقوله تعالى: * (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه) * أي فحلق * (ففدية من
صيام أو صدقة أو نسك) * (1) ولما روى الشيخان أنه (ص) قال لكعب بن عجرة: أيؤذيك هوام رأسك؟
قال نعم، قال: أنسك شاة أو صم ثلاثة أيام أو أطعم فرقا من الطعام على ستة مساكين، والفرق بفتح الفاء والراء ثلاثة
آصع، وقيس بالحلق وبالمعذور غيرهما.
فائدة: سائر الكفارات لا يزاد المسكين فيها على مد إلا في هذه. (والأصح أن الدم في ترك المأمور) الذي
لا يفوت به الحج كالاحرام من الميقات، أو مما يلزم الاحرام منه إذا أحرم من غيره، والرمي والمبيت بمزدلفة أو بمنى
ليالي التشريق وطواف الوداع، (دم ترتيب) إلحاقا له بدم التمتع لما في التمتع من ترك الاحرام من الميقات، وقيس به
ترك باقي المأمورات. (فإذا عجز) عن الدم (اشترى بقيمة الشاة طعاما) أو أخرجه من طعامه كما مر، (وتصدق به)
على مساكين الحرم وفقرائه. (فإن عجز صام عن كل مد) من الطعام (يوما) وهذا ما صححه الغزالي كالامام،
والأصح كما في الروضة أنه إذا عجز عن الدم يصوم كالمتمتع ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، فهو مرتب مقدر،
وسيأتي تحرير ذلك في الخاتمة. (ودم الفوات) للحج بفوات الوقوف (كدم التمتع) في صفته وسائر أحكامه
السابقة، لأن دم التمتع كترك الاحرام من الميقات، والوقوف المتروك في الفوات أعظم منه. (ويذبحه في حجة
القضاء) وجوبا لا في سنة الفوات، (في الأصح) وفي الروضة: الأظهر، لفتوى عمر رضي الله تعالى عنه بذلك رواه مالك،
وسيأتي بطوله في الباب الآتي إن شاء الله تعالى. والثاني: يجوز ذبحه في سنة الفوات قياسا على دم الافساد، ووقت الوجوب
على الأول منوط بالتحرم بالقضاء كما أن دم التمتع منوط بالتحرم بالحج، وعليه إذا كفر بالصوم لا يقدم صوم الثلاثة على
القضاء ويصوم السبعة إذا خرج منه. ولو أخرج دم الفوات بين التحلل والاحرام بالحج بعد دخول وقت الاحرام بالقضاء
أجزأه كما هو قضية كلام أصل الروضة وكلام العراقيين، نبه على ذلك الأذرعي. (والدم الواجب) على محرم، (بفعل حرام)
وإن لم يكن حراما في ذلك الوقت كالحلق لعذر (أو ترك واجب) عليه غير ركن أو غيرهما كدم الجبرانات وكدم التمتع
والقران والحلق، (لا يختص بزمان) بل يفعل في يوم النحر وغيره لأن الأصل عدم التخصيص ولم يرد ما يخالفه، ولكن
يسن يوم النحر وأيام التشريق. (ويختص ذبحه) بأي مكان (بالحرم في الأظهر) لقوله تعالى: * (هديا بالغ الكعبة) * ولقوله
(ص): نحرت ههنا ومنى كلها منحر رواه مسلم، ولان الذبح حق يتعلق بالهدي فيختص بالحرم
كالتصدق، والثاني: يجوز أن يذبح خارج الحرم بشرط أن ينقل إليه، ويفرق لحمه فيه قبل تغيره لأن المقصود
هو اللحم،
فإذا وقعت تفرقته على مساكين الحرم حصل الغرض. (ويجب صرف لحمه) وجلده وبقية أجزائه من شعر وغيره، وإن
أوهمت عبارته خلافه، (إلى مساكينه) أي الحرم وفقرائه القاطنين منهم والغرباء. والصرف إلى الأول أولى إلا أن تشتد
530

حاجة الثاني فهو أولى.
تنبيه: يؤخذ من كلامه أنه لا يجوز له أكل شئ منه، وبه صرح الرافعي في كتاب الأضحية، وأنه لا فرق بين أن
يفرق المذبوح عليهم أو يعطيه بجملته لهم، وبه صرح الرافعي أيضا في الكلام على تحريم الصيد. ويكفي دفعه إلى ثلاثة
من الفقراء أو المساكين سواء انحصروا أم لا، لأن الثلاثة أقل الجمع، فلو دفع إلى اثنين مع قدرته على ثالث ضمن له
أقل متمول كنظيره من الزكاة. فإن قيل: ينبغي أن يجب استيعابهم إذا انحصروا كما في الزكاة. أجيب بأن المقصود هنا
حرمة البلد وهناك سد الخلة، وتجب النية عند التفرقة كما قاله الروياني وغيره أو متقدمة عليها كما في الزكاة. وظاهر
كلامه أن هذا الحكم كله في الدم الواجب بفعل حرام أو ترك واجب، وليس مرادا بل دم التمتع والقران كذلك. وأما
دم الاحصار فسيأتي. ودفع الطعام لمساكين الحرم لا يتعين لكل منهم مد في دم التمتع ونحوه مما ليس دمه دم تخيير وتقدير.
أما دم الاستمتاعات ونحوها مما دمه دم تخيير وتقدير، فلكل واحد من ستة مساكين نصف صاع من ثلاثة آصع كما مر.
ولو ذبح الدم الواجب بالحرم فسرق منه أو غصب قبل التفرقة لم يجزه. ثم هو مخير بين أن يذبح آخر وهو أولى أو
يشتري بدله لحما ويتصدق به لأن الذبح قد وجد. فإن قيل: ينبغي تقييد ذلك بما إذا قصر في تأخير التفرقة، والا فلا
يضمن كما لو سرق المال المتعلق به الزكاة. أجيب بان الدم متعلق بالذمة والزكاة بعين المال، ولو عدم المساكين في الحرم
أخر الواجب المالي حتى يجدهم، ولا يجوز النقل. فإن قيل: ينبغي أن يجوز النقل كالزكاة. أجيب بأنها ليس فيها نص صريح
بتخصيص البلد بها بخلاف هذا. (وأفضل بقعة) من الحرم (لذبح المعتمر) الذي ليس متمتعا ولا قارنا ولو مفردا (المروة)
لأنها موضع تحلله، (ول‍) - ذبح (الحاج) ولو قارنا أو مريدا إفرادا أو متمتعا ولو عن دم تمتعه، (منى)
لأنها محل تحلله. والأحسن
كما قاله بعض شراح الكتاب في بقعة ضبطها بفتح القاف وكسر العين على لفظ الجمع المضاف لضمير الحرم. (وكذا حكم
ما ساقاه) أي المعتمر والحاج (من هدي) نذر أو نفل، (مكانا) في الاختصاص والأفضلية. (ووقته) أي ذبح هذا الهدي (وقت
الأضحية على الصحيح، والله أعلم) قياسا عليها، والثاني: لا يختص بوقت كدماء الجبرانات. وعلى الأول لو أخر الذبح
حتى مضت أيام التشريق نظر إن كان واجبا وجب ذبحه قضاء، وإن كان تطوعا فقد فات، هذا إذا لم يعين غير هذه
الأيام، فإن عين لهدي التقرب غير وقت الأضحية لم يتعين له وقت لأنه ليس في تعيين اليوم قربة، نقله الأسنوي عن
المتولي وغيره. والهدي كما يطلق على ما يسوقه المحرم يطلق أيضا على ما يلزمه من دم الجبرانات، وهذا الثاني لا يختص
بوقت الأضحية كما سبق. وظاهر كلام المصنف كالروضة أن ما يسوقه المعتمر يختص أيضا بوقت الأضحية على الصحيح،
وهو كذلك وإن نازع فيه الأسنوي.
خاتمة: حيث أطلق في المناسك الدم، فالمراد به كدم الأضحية فتجزئ البدنة أو البقرة عن سبعة دماء وإن اختلفت
أسبابها، فلو ذبحها عن دم وجب فالفرض سبعها فله إخراجه عنه وأكل الباقي إلا في جزاء الصيد المثلي لها فلا يشترط
كونه كالأضحية، فيجب في الصغير صغير، وفي الكبير كبير، وفي المعيب معيب، كما مر، بل لا يجزئ البدنة عن شاته.
وحاصل الدماء ترجع باعتبار حكمها إلى أربعة أقسام: دم ترتيب وتقدير، ودم ترتيب وتعديل،
ودم تخيير وتقدير، ودم تخيير وتعديل. القسم الأول يشتمل على دم التمتع والقران والفوات والمنوط بترك مأمور وهو ترك الاحرام من
الميقات والرمي والمبيت بمزدلفة ومنى وطواف الوداع، فهذه الدماء دماء ترتيب بمعنى أنه يلزمه الذبح ولا يجوز العدول
إلى غيره إلا إذا عجز عنه، وتقدير بمعنى أن الشرع قدر ما يعدل إليه بما لا يزيد ولا ينقص. والقسم الثاني: يشتمل
على دم الجماع، فهو دم ترتيب وتعديل بمعنى أن الشرع أمر فيه بالتقويم والعدول إلى غيره بحسب القيمة، فيجب فيه
بدنة ثم بقرة ثم سبع شياه، فإن عجز قوم البدنة بدراهم والدراهم طعاما وتصدق به، فإن عجز صام عن كل مد يوما،
ويكمل المنكسر كما مر، وعلى دم الاحصار فعليه شاة ثم طعام بالتعديل، فإن عجز عن الطعام صام عن كل مد يوما،
531

والقسم الثالث: يشتمل على دم الحلق والقلم، فهو دم تخيير بمعنى أنه يجوز العدول إلى غيره مع القدرة عليه، فيتخير إذا حلق
ثلاث شعرات أو قلم ثلاثة أظفار ولاء بين ذبح وإطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع وصوم ثلاثة أيام، وعلى
دم الاستمتاع، وهو التطيب، والدهن بفتح الدال للرأس أو اللحية وبعض شعور الوجه على خلاف تقدم، واللبس ومقدمات
الجماع والاستمناء والجماع غير المفسد. والقسم الرابع: يشتمل على دم جزاء الصيد والشجر. فجملة هذه الدماء عشرون
دما، ونظم الدميري رحمه الله تعالى هذه
الخاتمة فقال: خاتمة من الدماء التزم مرتبا وما بتخيير لزم
والصفتان لا اجتماع لهما كالعدل والتقويم حيث فهما
فالدم بالترتيب والتقدير في تمتع فوت قران اكتفى
وترك ميقات ورمي ووداع مع المبيتين بلا عذر يشاع
ثم مرتب بتعديل سقط في مفسد الجماع والحصر فقط
مخير مقدر دهن لباس والحلق والقلم وطيب فيه باس
والوطئ حيث الشاة والمقدمات مخير معدل صيد نبات
وهذه الدماء كلها لا تختص بوقت كما مر، وتراق في النسك الذي وجبت فيه. ودم الفوات يجزئ بعد دخول وقت
الاحرام بالقضاء كالمتمتع إذا فرغ من عمرته فإنه يجوز له أن يذبح قبل الاحرام بالحج، وهذا هو المعتمد وإن قال ابن
المقري إنه لا يجزئ إلا بعد الاحرام بالقضاء. وكل هذه الدماء وبدلها من الطعام تختص تفرقته بالحرم على مساكينه، وكذا
يختص به الذبح إلا دم المحصر فيذبح حيث أحصر كما سيأتي. فإن عدم المساكين في الحرم أخره كما مر حتى يجدهم، كمن
نذر التصدق على فقراء بلد يجدهم. ويسن لمن قصد مكة بحج أو عمرة أن يهدي إليها شيئا من النعم لخبر الصحيحين:
أنه (ص) أهدى في حجة الوداع مائة بدنة، ولا يجب ذلك إلا بالنذر. ويسن أن يقلد البدنة أو البقرة نعلين
من النعال التي تلبس في الاحرام، ويتصدق بهما بعد ذبحها، ثم يجرح صفحة سنامها اليمنى بحديدة مستقبلا لها القبلة ويلطخها
بالدم لتعرف، فإن قرن هديين بحبل جرح الآخر في الصفحة اليسرى، والغنم لا تجرح بل تقلد عرى القرب وآذانها، ولا
يلزم بذلك ذبحها.
باب الاحصار:
عن أركان الحج أو العمرة (والفوات) للحج وما يذكر معهما من بقية موانع الحج. والموانع ستة: أولها الاحصار
العام، وهو منع المحرمين عن المضي من جميع الطرق، يقال أحصره وحصره، لكن الأول أشهر في حصر المرض، والثاني
أشهر في حصر العدو، وقد بدأ المصنف بحكم هذا الثاني، فقال: (من أحصر) أي منع من جميع الطرق عن إتمام الحج أو العمرة،
(تحلل) جوازا بما سيأتي لا وجوبا، سواء أكان حاجا أم معتمرا أم قارنا، وسواء أكان المنع بقطع الطريق أم بغيره، وسواء أكان
المانع كافرا أم مسلما، سواء أمكن المضي بقتال أم ببذل مال أم لم يمكن منع من الرجوع أيضا أم لا، وذلك لقوله تعالى: * (فإن
أحصرتم) *، أي وأردتم التحلل * (فما استيسر من الهدي) * إذ الاحصار بمجرده لا يوجب الهدي، والآية نزلت بالحديبية حين صد
المشركون النبي (ص) من البيت، وكان معتمرا فنحر ثم حلق، وقال لأصحابه: قوموا فانحروا ثم احلقوا، ولان في مصابرة الاحرام
إلى أن يأتي بالاعمال مشاقا وحرجا قد رفعه الله سبحانه وتعالى عنا بفضله وكرمه، وأجمع المسلمون على ذلك. أما إذا
تمكنوا بغير قتال أو بذل مال فلا يتحللون، وعلم من ذلك أنه لو طلب منهم لم يلزمهم بذل، وهو كذلك وإن قل، أي قلة
532

بالنسبة إلى أداء النسك كما قاله بعض المتأخرين، فنحوا لدرهمين والثلاثة لا يتحلل من أجلها. ويكره بذل مال لكافر
لما فيه من الصغار بلا ضرورة، ولا يحرم كما لا تحرم الهبة لهم. أما المسلمون فلا يكره بذله لهم، والأولى قتال الكفار
عند القدرة عليه ليجمعوا بين الجهاد ونصرة الاسلام وإتمام النسك. فإن قيل: لم لم يجب إذا كانوا مثلينا فأقل؟
أجيب بأنه لا يجب الثبات لهم في غير الصف كما قالوه في السير، ويجوز للمحسر إذا أراد القتال لبس الدرع ونحوه ويفدي
وجوبا كما لو لبسه المحرم لدفع حر أو برد، والأولى للمحصر المعتمر الصبر عن التحلل، وكذا للحاج إن اتسع الوقت، وإلا
فالأولى التعجيل لخوف الفوات. نعم إن كان في الحج وتيقن زوال الحصر في مدة يمكنه إدراك الحج بعدها أو في العمرة
وتيقن قرب زواله، وهو ثلاثة أيام، امتنع تحلله كما قاله الماوردي. قال الأذرعي: والظاهر أن المراد باليقين هنا الظن
الغالب، واستشهد له بنص في البويطي. فإن قيل: ما فائدة التحلل فيما إذا أحاط بهم العدو من الجوانب كلها؟ أجيب
بأنهم يستفيدون به الامن من العدو الذي بين أيديهم. قال الأسنوي: وهذا يقتضي تقييد المسألة بما إذا كان المانعون
فرقا متميزة لا تعضد كل واحدة الأخرى، فإن كان المانعون لجميع الجوانب فرقة واحدة لم يجز التحلل فتفطن له اه‍.
والمعتمد إطلاق كلام الأصحاب لما في مصابرة الاحرام مع عدم تمكنهم من إتمام النسك من المشقة كما مر.
تنبيه: كلام المصنف يتناول من أحصر عن الوقوف دون البيت وعكسه، وهو كذلك لكنه لا يتحلل في الحال،
ففي الأولى يدخل مكة ويتحلل بعمل عمرة كما في أصل الروضة في آخر الباب، وفي الثانية يقف ثم يتحلل كما في المجموع
عن الماوردي وأقره، وفي الصورتين لا قضاء. وخرج بالأركان ما لو منع من الرمي والمبيت فلا يجوز له التحلل لتمكنه
من التحلل بالطواف والسعي والحلق ويجزئه عن نسكه، والرمي والمبيت بجبران بالدم. واستنبط البلقيني رحمه الله تعالى
من الاحصار عن الطواف أن الحائض إذا لم تطف للإفاضة ولم يمكنها الإقامة حتى تطهر وجاءت بلدها وهي محرمة
وعدمت النفقة ولم يمكنها الوصول إلى البيت أنها كالمحصر فتتحلل بالنية والذبح والتقصير، وأيده بأن في المجموع عن
صاحب الفروع والروياني وغيرهما فيمن صد عن طريق ووجد آخر أطول إن لم يكن معه نفقة تكفيه لذلك الطريق
فله التحلل، وذكر البارزي نحو ذلك، واستحسنه الولي العراقي. وقد قدمت التنبيه على هذه المسألة، وإنما أعدتها
لئلا يغفل عنها فإنها مسألة كثيرة الوقوع فيتفطن لها. وكلام المصنف يفهم أنه إذا أحصر جاز له التحلل، وإن كان له
طريق آخر يمكنه سلوكه ووجد شرائط الاستطاعة فيه، وليس مرادا بل يلزمه سلوك ذلك الطريق، سواء أطال الزمان
أم قصر وإن تيقن الفوت، ويتحلل بعمل عمرة كما نص عليه الشافعي رحمه الله تعالى وجرى عليه الأصحاب، فلو
فاتهم الحج لطول الطريق المملوك ونحوه لم يجب القضاء، ولا فرق فيما ذكر بين حصر الكل أو البعض ولو واحدا.
(وقيل لا تتحلل الشرذمة) بمعجمة، وهي طائفة أحصرت من بين الرفقة، لأن الحصر لم يعم الكل، فأشبه المرض
وخطأ الطريق. والصحيح الجواز كما في الحصر العام لأن مشقة كل واحد لا تختلف بين أن يتحمل غيره مثلها
أو
لا يتحمل. وأما الحصر الخاص، وهو المانع الثاني بأن حبس ظلما، كأن حبس بدين وهو معسر به، فإنه يجوز له
أن يتحلل كما في الحصر العام لما مر. فإن قيل: قول الأصحاب إن المفلس المحبوس ظلما يتحلل لأن في بقائه على
الاحرام مشقة كما في حصر العدو مشكل، لأنه إذا حبس تعديا لم يستفد بالتحلل الخلاص مما هو فيه كالمريض، ولحوق
المشقة بالبقاء على الاحرام غير معتبر، إذ هو موجود في المريض بل حال المريض آكد، فلا وجه للتحلل بالحبس.
أجيب بأن المرض لا يمنع الاتمام، فالمريض متمكن من إتمام النسك معه فلم يبح له إلا بشرط ولا كذلك هنا،
أما إذا حبس بحق، كأن حبس بدين متمكن من أدائه فلا يجوز له التحلل بل عليه أن يؤديه ويمضي في نسكه، فلو
تحلل لم يصح تحلله، فإن فاته الحج في الحبس لم يتحلل إلا بعمل عمرة بعد إتيانه مكة كمن فاته الحج بلا إحصار. (ولا
تحلل بالمرض) ونحوه كضلال طريق وفقد نفقة، لأنه لا يفيد زوال المرض ونحوه، بخلاف التحلل بالاحصار، بل يصبر
حتى يزول عذره، فإن كان محرما بعمرة أتمها، أو بحج وفاته تحلل بعمل عمرة، قال الماوردي: وهو إجماع الصحابة. هذا
533

إذا لم يشرط التحلل به، (فإن شرطه) بالمرض ونحوه في إحرامه، أي أنه يتحلل إذا مرض مثلا، (تحلل) جوازا
(به) أي بسبب المرض ونحوه، (على المشهور) لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: دخل رسول الله
(ص) على ضباعة - بضم الضاد المعجمة وبالباء الموحدة - بنت الزبير، فقال لها: أردت الحج؟ فقالت: والله
ما أجدني إلا وجعة، فقال: حجي واشترطي وقولي: اللهم محلي حيث حبستني ويقاس بما فيه غيره. والثاني: لا يجوز
لأنه عبادة لا يجوز الخروج منها بغير عذر، فلا يجوز بالشرط كالصلاة المفروضة. ومن قال بهذا أجاب عن الحديث
بأن المراد بالحبس الموت أو خاص بضباعة. ثم إنه اشترط التحلل بالهدي لزمه أو بلا هدي لم يلزمه، وكذا إن أطلق
لعدم الشرط ولظاهر خبر ضباعة، فالتحلل يكون في هاتين الحالتين بالنية والحلق أو نحوه فقط. ولو قال إن مرضت أو
نحو ذلك من الاعذار فأنا حلال فوجد العذر صار حلالا به من غير نية، وعلى ذلك حمل خبر أبي داود وغيره
بإسناد
صحيح: من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل. وإن شرط قلب الحج عمرة بذلك جاز، كما لو شرط
التحلل به بل أولى، فله إذا وجد العذر أن يقلب حجه عمرة وتجزئه عن عمرة الاسلام. ولو شرط أن ينقلب حجه عمرة
عند العذر فوجد العذر انقلب عمرة وأجزأته عن عمرة الاسلام أيضا كما صرح به البلقيني، بخلاف التحلل بالاحصار
لا تجزئه عن عمرة الاسلام لأنها في الحقيقة ليست عمرة، وإنما هي أعمال عمرة. (ومن تحلل) أي أراد التحلل، لأن الذبح
يكون قبل التحلل كما سيأتي، أي الخروج من النسك بإحصار. (ذبح) حتما للآية السابقة، (شاة) أو ما يقوم
مقامها من بدنة أو بقرة أو سبع أحدهما. (حيث أحصر) في حل أو حرم. ولا يسقط عنه الدم إذا شرط عند
الاحرام أنه يتحلل إذا أحصر، بخلاف ما سبق في المرض، لأن حصر العدو لا يفتقر إلى شرط، فالشرط فيه لاغ. ولا
يجوز الذبح بموضع من الحل غير الذي أحصر فيه كما ذكره في المجموع، لأنه (ص) ذبح هو وأصحابه بالحديبية
وهو من الحل. وكذلك يذبح هناك ما لزمه من دماء المحظورات قبل الاحصار وما معه من هدي التطوع، وله ذبحه عن
إحصاره وتفرقة اللحم على مساكين ذلك الموضع. وظاهر إطلاق المصنف جواز الذبح في موضعه من الحل إذا أحصر
فيه ولو تمكن من بعض الحرم، وهو الأصح كما في أصل الروضة وإن صحح البلقيني خلافه.
تنبيه: يفهم من قوله: حيث أحصر أنه لو أحصر في الحل وأراد أن يذبح بموضع آخر لم يجز، وهو كذلك
كما مر عن المجموع، لأن موضع الاحصار قد صار في حقه كنفس الحرم، وهو نظير منع المتنفل إلى غير القبلة من
التحول إلى جهة أخرى، واتفقوا على جواز إيصاله الحرم لكنه لا يتحلل حتى يعلم بنحره، ولو أحصر في الحرم جاز
له نقله إلى موضع آخر منه وإن أفهمت عبارته خلافه. (قلت) كالرافعي في الشرح (إنما يحصل التحلل بالذبح)
لقوله تعالى: * (ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله) *. (ونية التحلل) المقارنة له، لأن الذبح قد يكون
للتحلل، وقد يكون لغيره، فلا بد من قصد صارف، وكيفيتها: أن ينوي خروجه عن الاحرام. (وكذا الحلق)
أو نحوه (إن جعلناه نسكا) وسبق أنه القول المشهور. ولا بد من مقارنة النية له كما في الذبح، ويشترط تأخره
عن الذبح كما صرح به الماوردي وغيره للآية السابقة. (فإن فقد) بالبناء للفاعل أو المفعول (الدم) حسا، كأن
لم يجد ثمنه، أو شرعا: كأن احتاج إلى ثمنه أو وجده يباع بأكثر من ثمن مثله في ذلك المحل، (فالأظهر أن له
بدلا) قياسا على دم التمتع وغيره، والثاني: لعدم النص فيبقى في ذمته. (و) الأظهر على الأول (أنه) أي
البدل (طعام) لأنه أقرب إلى الحيوان من الصيام لاشتراكهما في المالية، فكان الرجوع إليه عند الفقد أولى،
وعليه قيل يقدر بثلاثة آصع لستة مساكين كفدية الحلق، والأصح (بقيمة الشاة) مراعاة للقرب، فيقوم الشاة
بدراهم ويخرج بقيمتها طعاما. (فإن عجز) عن الطعام (صام) حيث شاء (عن كل مد يوما) قياسا على الدم الواجب
534

بترك المأمور، والقول الثاني: بدله الصوم، وهو كصوم التمتع أو الحلق أو التعديل أقوال لم يصحح الشيخان شيئا منها،
وصحح الفارقي آخرها بأن يعرف ما يتأتى بقيمته طعاما فيصوم عن كل مد يوما. (وله) إذا انتقل إلى الصوم (التحلل في الحال)
عنده (في الأظهر، والله أعلم) لأن التحلل إنما شرع به لدفع المشقة، فلو وقفناه على ذلك لحقه المشقة لتضرره بالمقام
على الاحرام. والثاني: يتوقف على الصوم كالاطعام، لأنه قائم مقامه. وفرق الأول بما تقدم. ثم شرع في المانع الثالث وهو
الرق فقال: (وإذا أحرم العبد) وفي معناه الأمة ولو مبعضا في غير نوبته، أو مدبرا، أو مكاتبا، أو أم ولد، أو معلقا
عتقه بصفة، (بلا إذن) من فيما أحرم به، (فلسيده تحليله) بأن يأمره بالتحلل، لأن إحرامه بغير إذنه حرام كما
صرح به البندنيجي وغيره إذ لا نسك عليه، ولان تقريره على إحرامه يعطل عليه منافعه التي يستحقها، فإنه قد يريد منه
ما لا يباح للمحرم كالاصطياد وإصلاح الطيب وقربان الأمة، وكذا يجوز لمشتريه تحليله. ولا خيار له عند جهله بإحرامه
لكن الأولى لهما أن يأذنا له في إتمام نسكه كما صرح به في الروضة في السيد ومثله المشتري، قاله الأذرعي وغيره.
ولو أحرم بلا إذن ثم أذن له السيد في المضي فيه لم يملك تحليله فيما بعد كما قاله الماوردي وغيره، ويستثنى ما لو أسلم عبد
حربي ثم أحرم بغير إذنه ثم غنمناه فالظاهر أنه ليس لنا تحليله، قال الزركشي: ولا يخفى أن الكلام في البالغ فإن الصغير
لا يصح إحرامه بغير إذن سيده وإن صححنا إحرام الصغير الحر بغير إذن وليه اه‍. وتقدم أن المعتمد أنه لا يصح بغير
إذن وليه، فإذن لا فرق. وللرقيق أن يتحلل قبل أمر سيده كما صرح به المصنف في مجموعه نقلا عن الأصحاب في الزوجة،
لكن قياسه على الزوجة ممنوع لما سيأتي. والأقرب كما اقتضاه كلامهم أن له التحلل وإن لم يأمره به سيده، بل إذا
أمره به لزمه كما صرح به ابن الرفعة فعليه التحلل حينئذ فيحلق وينوي التحلل، فعلم إن إحرامه بغير إذنه صحيح وإن
حرم عليه فعله. فإن لم يتحلل فله استيفاء منفعته منه والاثم عليه، ولا يرتفع إحرامه بشئ من ذلك. ويؤخذ من بقائه
على إحرامه أنه لو ذبح صيدا لم يحل وإن أمره سيده بذلك كما أفتى به شيخي وغيره وإن خالف في ذلك بعض العصريين،
وإنما لم يجب بغير أمره وإن كان الخروج من المعصية واجبا لكونه تلبس بعبادة في الجملة مع جواز رضا السيد بدوامه.
وإن أحرم بإذنه فليس له تحليله وليس له أن يتحلل أيضا ولا لمن اشتراه، لكن يتخير إن جهل. وللسيد الرجوع في الاذن
قبل الاحرام، فلو أحرم ولم يعلم برجوعه فله تحليله، ولو أنكر السيد الاذن صدق. قال في العباب: وفي تصديق السيد
في تقديم رجوعه تردد اه‍. والذي يظهر تصديقه، أي إذا لم يعين وقت الرجوع، وإلا فيظهر أنه كالاختلاف في الرجعة.
ولو أذن له في العمرة فأحرم بالحج جاز له تحليله، لا إن أذن في الحج فأحرم بالعمرة لأنها دونه. وإن أذن له في التمتع فله
الرجوع بينهما كما لو رجع في الاذن قبل الاحرام بالعمرة، وليس له تحليله عن شئ منهما بعد الشروع فيه. ولو قرن بعد إذنه
له في التمتع أو في الحج أو في الافراد لم يحله، لأن ما أذن له فيه مساو للقران أو فوقه. فإن قيل: هو مشكل في صورة التمتع
كما قاله الأذرعي، قال ابن كج: لأنه يقول كان غرضي من التمتع أني كنت أمنعك من الدخول في الحج. أجيب بأنه
متلبس بما أذن له فيه فامتنع عليه تحلله، ولو أذن له أن يحرم في وقت فأحرم قبله فله منعه ما لم يدخل ذلك الوقت. قال
في العباب: ولو أذن له في الاحرام مطلقا وأراد السيد صرفه إلى نسك والرقيق صرفه إلى غيره ففيمن يجاب؟ قولان اه‍.
والذي يظهر أن السيد هو المجاب إن كان ما طلبه أدون.
فرع: يصح نذر الرقيق الحج ويجزئه في رقه، فإن أحرم المبعض في نوبته ووسعت النسك فكالحر كما ذكره
الدارمي وحكاه في البحر عن الأصحاب وتوقف فيه، فليس للسيد تحليله، فإطلاقهم أنه كالرقيق جرى على الغالب. وقيد
ابن المقري في روضه تحليل السيد لمكاتبه أن يحتاج المكاتب في أداء نسكه إلى سفر، أي ويحل عليه النجم وهو موسر.
ومع هذا هو مشكل، بل ينبغي أن يمنع من السفر لا أنه يحلله، والأولى أن يقال: إن له أن يحلله مطلقا حيث
أحرم بغير
إذنه فإنه قن ما بقي عليه درهم، فهو منزل منزلة تبرعه. ولو أفسد الرقيق نسكه بالجماع لم يلزم السيد الاذن في القضاء
ولو أحرم بإذنه لأنه لم يأذن له في الافساد. وما لزمه من دم بفعل محظور كاللباس أو بالفوات لا يلزم السيد ولو أحرم بإذنه،
535

بل لا يجزئه إذا ذبح عنه إذ لا ذبح عليه وواجبه الصوم. وله منعه منه إن كان يضعف به عن الخدمة ولو أذن له في الاحرام
لأنه لم يأذن له في موجبه، بخلاف ما إذا وجب عليه صوم لتمتع أو قران فليس له منعه لاذنه في موجبه. ولو ذبح عنه السيد
بعد موته جاز لحصول اليأس من تكفيره. ولو عتق قبل صومه وقدر على الدم لزمه اعتبارا بحال الأداء. ثم شرع
في المانع الرابع وهو الزوجية فقال: (وللزوج) الحلال أو المحرم (تحليلها) أي زوجته كما له منعها ابتداء، (من حج)
أو عمرة، (تطوع لم يأذن فيه) لئلا يتعطل حقه من الاستمتاع، كما له أن يخرجها من صوم النفل، وإن أذن لها لم يجز لرضاه
بالضرر. ويسن للرجل أن يحج بزوجته للامر به في الصحيحين. ويسن للحرة أن لا تحرم بنسكها بغير إذنه، ولا يخالف
هذا ما يأتي من أن الأمة المزوجة يمتنع عليها الاحرام بغير إذن زوجها وسيدها لأن الحج لازم للحرة، فتعارض في حقها
واجبان: الحج وطاعة زوجها، فجاز لها الاحرام وندب لها الاستئذان بخلاف الأمة لا يجب عليها الحج. ويؤيد ذلك
ما يأتي في النفقات من أن الزوجة يحرم عليها الشروع في صوم النفل بغير إذن الزوج بخلاف الفرض، ذكر ذلك الزركشي.
وقياسه أن يحرم على الزوجة الحرة إحرامها بالنفل بغير إذنه، فإن كانت أمة توقف إحرامها على إذنه مع إذن السيد
لأن لكل منهما حقا، فإن أذن أحدهما فللآخر المنع، فإن أحرمت بغير إذنهما فلهما ولكل منهما تحليلها ذكره في المجموع.
(وكذا) له تحليلها أيضا (من الفرض) أي فرض الاسلام من حج أو عمرة بلا إذن، (في الأظهر) لأن حقه على
الفور، والنسك على التراخي، والثاني: لا، قياسا على المفروض من الصلاة والصوم. وفرق الأول بأن مدتهما لا تطول
فلا يلحق الزوج كبير ضرر. ويؤخذ من ذلك ما لو قال طبيبان عدلان: إن لم تحجي في هذا العام عضبت، أن يمتنع
عليه تحليلها، وهو كذلك كما قاله الأذرعي. فإن قيل: كل من الواجبين على الفور فما وجه تقديم الحج؟
أجيب بأنه حق لله تعالى وهو أحق بالقضاء كما ورد به الخبر، وكذلك يمتنع عليه لو كانت صغيرة وأحرمت بإذن وليها،
أو كبيرة وسافرت معه وأحرمت حال إحرامه أخذا مما ذكر لأنها لم تفوت عليه استمتاعا، كما أن السيد لا يمنع عبده من
صوم تطوع لم يفوت عليه به أمر الخدمة، قال الزركشي: وهذا قياس المذهب وإن قال الماوردي بخلافه. وحكم حجة
النذر حكم حجة الاسلام كما في المجموع، ويستثنى النذر المعين قبل النكاح أو بعده، لكن بإذن الزوج. ويستثنى من
كلام المصنف ما لو نكحت بعد تحللها من الفائت فلا منع ولا تحلل منه للتضييق، وكذا لو حجت خلية فأفسدته ثم نكحت،
والحابسة نفسها لتقبض المهر فإنها لا تمنع من السفر كما قاله القاضي، وحينئذ فإذا أحرمت لم يكن له تحليلها. والمراد
بتحليله إياها أن يأمرها بالتحلل، وتحللها كتحلل المحصر، فإن لم يأمرها لم يجز لها التحلل كما نقله في المجموع عن الأصحاب.
وتفارق الرقيق كما مر، لأن إحرامه بغير إذن مولاه محرم كما مر بخلافها. ويؤخذ من كلام الزركشي المتقدم أن هذا
في الفرض دون النفل، فلو لم تتحلل كان له أن يستمتع بها كما في المجموع، والاثم عليها لا عليه، وإن توقف الامام في جوازه.
وليس للزوج تحليل الرجعية بل يحبسها للعدة، وكذا البائن أيضا وإن فات الحج، هذا إن طلقت الزوجة قبل الاحرام
لأن لزومها سبق الاحرام. فإن انقضت عدتها أتمت عمرتها أو حجها إن بقي الوقت وإلا تحللت بعمل عمرة ولزمها القضاء
ودم الفوات. فإن طلقت بعده ولو كان إحرامها بغير إذنه وجب عليها الخروج معتدة إن خافت الفوات لتقدم الاحرام،
وإن لم تخف الفوات جاز الخروج إلى ذلك لما في تعين الصبر من مشقة مصابرة الاحرام، نعم لو راجع الرجعية فله تحليلها
إن أحرمت بغير إذنه. وحكى المتولي ك البغوي في القضاء وجهين وبناهما على الفور في القضاء، وقضيته ترجيح عدم منعها،
قال في المهمات: وهو متجه إذا وطئها الزوج أو أجنبي قبل النكاح، فإن وطئها الأجنبي بعده في نسك لم يأذن فيه الزوج
فله المنع كما في الأداء، وإن أذن ففي المنع نظر. ويؤخذ من إحرام الرقيق بإذن سيده إذا أفسد نسكه أن له منعه أن
للزوج هنا منعها، والقضاء إذا كان سببه الفوات يجب على الفور. قال السبكي: ويؤخذ من أن الزوجة إنما تحرم بإذن
زوجها، أي استحبابا كما مر، وأن الحصر الخاص لا يمنع وجوب الحج إذ إنه ليس شرطا للوجوب عليها بل الحج
وجب. وإذا أحرمت فمنعها الزوج ومات قضي من تركتها مع كونها لا تعصي لكونه منعها، إلا إذا تمكنت قبل النكاح
536

فتعصي إذا ماتت. قال: وفي كلام القاضي أبي الطيب الاتفاق على الوجوب عليها، وإنما الخلاف في أنه هل للزوج منعها
أو لا. وأما المانع الخامس فهو الأبوة، فإن أحرم الولد بفرض بلا إذن فليس لأحد من أبويه منعه لا ابتداء ولا دواما
كالصوم والصلاة، ويفارق الجهاد بأنه فرض عليه، وليس الخوف كالخوف في الجهاد. وإن أحرم بنفل بلا إذن فلكل
منهما منعه وتحليله، وتحليلهما له كتحليل السيد رقيقه. والعمرة كالحج فيما ذكر، كما نقله في المجموع عن اتفاق الأصحاب.
ويسن للولد استئذانهما إذا كانا مسلمين في النسك فرضا وتطوعا. وقضية كلامهم أنه لو أذن الزوج لزوجته كان لأبويها
منعها، وهو ظاهر إلا أن يسافر معها الزوج. وأما المانع السادس فهو الدين، فليس لغريم المدين تحليله إذ لا ضرر عليه في
إحرامه، وله منعه من الخروج إذا كان موسرا والدين حالا ليوفيه حقه، بخلاف ما إذا كان معسرا أو موسرا والدين
مؤجلا، فليس له منعه إذ لا يلزمه أداؤه حينئذ. فإن كان الدين يحل في غيبته استحب له أن يوكل من يقضيه عند حلوله.
(ولا قضاء على المحصر) بفتح الصاد المهملة، (المتطوع) إن تحلل من إحصار عام أو خاص لعدم وروده. وقد أحصر مع
النبي (ص) في الحديبية ألف وأربعمائة ولم يعتمر معه في العام القابل إلا نفر يسير أكثر ما قيل إنهم سبعمائة،
ولم ينقل أنه أمر من تخلف بالقضاء. واستثنى ابن الرفعة من إطلاق عدم القضاء ما لو أفسد النسك ثم أحصر، ولا حاجة
إلى استثنائه لأن القضاء هنا للافساد لا للاحصار الذي الكلام فيه. ولا فرق بين أن يأتي بنسك سوى الاحرام أم لم يأت
اقترن بالاحصار فوات أم لم يقترن، نعم إن صابر إحرامه غير متوقع زوال الاحصار ففاته الوقوف عليه فعليه القضاء بخلاف
ما إذا صابر مع التوقع. (فإن كان نسكه فرضا مستقرا) عليه كحجة الاسلام فيما بعد السنة الأولى من سني الامكان، أو
كانت قضاء أو نذرا، (بقي في ذمته) كما لو شرع في صلاة فرض ولم يتمها فإنها تبقى في ذمته. (أو غير مستقر) كحجة الاسلام
في السنة الأولى من سني الامكان، (اعتبرت الاستطاعة بعد) أي بعد زوال الاحصار إن وجدت وجب وإلا فلا. (ومن
فاته الوقوف) بعرفة بعذر أو غيره وبفواته يفوت الحج كما مر، (تحلل) وجوبا كما في المجموع ونص عليه في الام، لئلا يصير
محرما بالحج في غير أشهره. واستدامة الاحرام كابتدائه وابتداؤه حينئذ لا يجوز. وربما تشعر عبارة الرافعي بجواز ذلك
حيث قال: وإذا حصل الفوات فله التحلل كما في الاحصار، وليس مرادا لأن في بقائه على الاحرام حتى يقف في العام
القابل حرجا شديدا يعسر احتماله. قال الأذرعي: ولا نعلم أحدا قال به إلا رواية عن مالك. فلو خالف وفعل لا يكفيه
ذلك الاحرام ويحصل التحلل (بطواف) هذا لا بد منه اتفاقا، (وسعي) لأنه كالطواف في تحتم الاتيان، لكن شرط إيجابه
أن لا يكون سعي بعد طواف قدوم، فإن كان سعي لم يحتج لإعادته كما في المجموع عن الأصحاب خلافا لابن الرفعة في وجوب
إعادته. (وحلق) بناء على أنه من أركان الحج فكان كالطواف والسعي، وبذلك يحصل التحلل الثاني. أما في الأول ففي
المجموع أنه يحصل بواحد من الحلق والطواف المتبوع بالسعي إن لم يكن سعي، لأنه لما فاته الوقوف سقط عنه حكم الرمي
كالمبيت وصار كمن رمى. ويقال أيضا: إنه إذا لم يكن برأسه شعر أنه يسقط عنه الحلق ويصير تحلله بالطواف فقط. (وفيهما)
أي السعي والحلق، (قول) أنهما لا يحتاج إليهما في التحلل. أما السعي فلانه ليس من أسباب التحلل، ولهذا يصح تقديمه
على الوقوف، ولو كان من أسبابه لما جاز تقديمه عليه. وأما الحلق فمبني على أنه استباحة محظور، ثم ما أتى به لا ينقلب عمرة،
وقيل: ينقلب ويجزئ عن عمرة الاسلام. (وعليه دم) واحد في مسألة المتن وكذا في عدم الامكان مع عدم الاحصار،
وسبق أنه كدم التمتع. (و) عليه (القضاء) فورا للحج الذي فاته بفوات الوقوف فرضا كان أو نفلا كما في الفساد، لأنه
لا يخلو عن تقصير. والأصل في ذلك ما رواه مالك في الموطأ بإسناد صحيح: أن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر
بن الخطاب ينحر هديه، فقال: يا أمير المؤمنين أخطأنا العدد وكنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة، فقال له عمر
رضي
الله عنه: اذهب إلى مكة فطف بالبيت أنت ومن معك، واسعوا بين الصفا والمروة وانحروا هديا إن كان معكم، ثم احلقوا
537

أو قصروا ثم ارجعوا، فإذا كان عام قابل فحجوا واهدوا، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. واشتهر
ذلك بين الصحابة ولم ينكره أحد فكان إجماعا. وأفهم كلام المصنف أنه لا يجب عليه المبيت بمنى ولا الرمي، وهو الأصح
كما يؤخذ مما مر، ولان عمر لم يأمر بهما. ولا فرق فيمن ذكر بين من فاته ذلك بعذر أو بغيره، وإنما يفترقان في الاثم فقط.
فإن قيل: لم لم يقل يجب القضاء على الفور على غير المعذور دون المعذور كما قيل بمثله في الصلاة والصوم؟ أجيب بأن
الفوات لا يخلو عن تقصير، وإنما يجب القضاء في فوات لم ينشأ عن حصر، فإن نشأ عنه بأن أحصر فسلك طريقا آخر ففاته
الحج وتحلل بعمل عمرة فلا إعادة عليه كما في الروضة كأصلها لأنه بذل ما في وسعه. فإن قيل: كيف توصف حجة الاسلام
بالقضاء ولا وقت لها؟ أجيب بأنه لما أحرم بها تضيق وقتها كما تقدم ذلك في الافساد وتقدم ما فيه. وفرق بعضهم بين
الافساد وما نحن فيه بأن المفسد متعد فلهذا جعلنا الفرض قضاء بخلاف الفوات، ورده الأسنوي بأنا لا نسلم أن الفوات
لا تعدي فيه، إذ قد يترك الوقوف عمدا حتى يفوت وقته.
خاتمة: يسن أن يحمل المسافر إلى أهله هدية، لما روى البيهقي في الشعب عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال
رسول الله (ص): إذا قدم أحدكم على أهله من سفر فليهد لأهله هدية وليطرقهم ولو كان حجارة. ويسن
إذا قرب إلى وطنه أن يرسل من يعلمهم بقدومه إلا أن يكون في قافلة اشتهر عند أهل البلد وقت دخولها. ويكره أن
يطرقهم ليلا، والسنة أن يتلقى المسافر وأن يقال له إن كان حاجا: قبل الله حجك وغفر ذنبك وأخلف نفقتك،
وإن كان غازيا: الحمد لله الذي نصرك وأكرمك وأعزك. والسنة أن يبدأ عند دخوله بأقرب مسجد فيصلي فيه ركعتين
بنية صلاة القدوم. وتسن النقيعة، وهي طعام يعمل لقدوم المسافر، وسيأتي بيانها في الوليمة إن شاء الله تعالى، والله
سبحانه وتعالى أعلم.
قال المؤلف: قد تم شرح الربع الأول يوم السبت المبارك ثالث عشري جمادى الأولى سنة ستين وتسعمائة على يد
مؤلفه محمد الخطيب الشربيني نفع الله تعالى به مؤلفه ومن قرأه أو نقل منه أو طالع فيه، ودعا لمن كان سببا في تأليفه
بالموت على الاسلام وسائر المسلمين، وأن يجعله خالصا لوجهه، وأن ينفع به كما نفع بأصله، وأن يعيننا على إتمام بقية
شرح الكتاب كما أعاننا على ابتدائه إنه قريب مجيب الدعوات لا يخيب من سأله واعتمد عليه. وقد استجاب الله دعاءه.
وقد تم جميع الشرح بحمد الله تعالى. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
تم الجزء الأول
من
مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج
للعلامة الخطيب الشربيني
ويليه الجزء الثاني، وأوله: كتاب البيع
538