الكتاب: المجموع
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ١٨
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: التكملة الثانية

التكملة الثانية
المجموع
شرح المهذب
للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة 676 ه‍
الجزء الثامن عشر
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الأيمان
(باب من تصح يمينه وما تصح به اليمين)
تصح اليمين من كل مكلف مختار قاصد إلى اليمين لقوله تعالى " لا يؤاخذكم الله
باللغو في أيمانكم، ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان " وأما غير المكلف كالصبي
والمجنون والنائم فلا تصح يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاثة،
عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق " ولأنه
قول يتعلق به وجوب حق فلا يصح من غير مكلف كالبيع، وفيمن زال عقله
بالسكر طريقان على ما ذكرناه في الطلاق.
وأما المكره فلا تصح يمينه لما روى واثلة بن الأسقع وأبو أمامة رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ليس على مقهور يمين " ولأنه قول
حمل عليه بغير حق فلم يصح، كما لو أكره على كلمة الكفر. وأما من لا يقصد
اليمين وهو الذي يسبق لسانه إلى اليمين، أو أراد اليمين على شئ فسبق لسانه إلى
غيره فلا تصح يمينه لقوله عز وجل " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " وروى
عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم أنهم قاوا " هو قول الرجل
لا والله، ويلي والله " ولان ما سبق إليه اللسان من غير قصد لا يؤاخذ به، كما لو
سبق لسانه إلى كلمة الكفر.
(الشرح) قوله تعالى " باللغو " مصدر لغا يلغو ويلغي وبابه نصر وعلم إذا
أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام أو بما لا خير فيه. قال ابن بطال بما لا قصد له فيه.
وفي الحديث " إذا قلت لصاحبك والامام يخطب أنصت فقد لغوت " ولفظ
أبي هريرة " فقد لغيت " قال العجاج
ورب أسراب حجيج كظئم * عن اللغا ورفث التكلم
وقال الفرزدق: ولست بمأخوذ بلغو تقوله إذا لم تعمد عاقدات العزائم
3

واختلف في سبب نزول الآية، فقال ابن عباس سبب نزولها الرهط الذين
حرموا طيبات المطاعم والملابس والمناكح على أنفسهم، حلفوا على ذلك، فلما
نزلت " لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم " قالوا كيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت
هذه الآية. قال القرطبي والمعنى على هذا القول، إذا أتيتم باليمين ثم ألغيتموها،
أي أسقطتم حكمها بالتكفيرة وكفرتم فلا يؤاخذكم الله بذلك، وإنما يؤاخذكم بما
أقمتم عليه فلم تلغوه - أي فلم تكفروا - فبان بهذا أن الحلف لا يحرم
شيئا. وهو دليل الشافعي رضي الله عنه على أن اليمين لا يتعلق بها تحريم الحلال
وأن تحريم الحلال لغو كما أن تحليل الحرام لغو. اه
وروى أن عبد الله بن رواحة كان له أيتام وضيف، فانقلب من شغله بعد
ساعة من الليل فقال أعشيتم ضيفي؟ فقالوا انتظرناك، فقال لا والله لا آكله الليلة
فقال ضيفه وما أنا بالذي يأكل. وقال أيتامه ونحن لا نأكل، فلما رأى ذلك
أكل وأكلوا، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال له " أطعت الرحمن
وعصيت " فنزلت الآية
وفي البخاري في آية البقرة " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يواخذكم
بما كسبت قلوبكم " عن عائشة رضي الله عنها أنها نزلت في قول الرجل لا والله
وبلى والله. وقيل اللغو ما يحلف به على الظن فيكون بخلافه. قاله مالك حكاه
ابن القاسم عنه. قال القرطبي وقال به جماعة من السلف
قرأ حمزة والكسائي وشعبة عن عاصم (عقدتم) بالتخفيف بلا ألف، وقرأه
ابن ذكوان عن ابن عامر " عاقدتم " بألف بوزن فاعل (1) وقرأه الباقون بالتشديد
من غير ألف.
قال مجاهد معناه تعمدتم أي قصدتم. وروى عن ابن عمر أن التشديد يقتضي
التكرار، فلا تجب عليه الكفارة إلا إذا كرر، وهذا يرده ما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " إني والله، إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها

(1) وذلك لا يكون إلا من اثنين في الأكثر من حلف لأجله في كلام وقع
منه أو يكون المعنى بما عاقدتم عليه الايمان
4

خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني فذكر وجوب الكفارة
في اليمين التي لم تتكرر
قال أبو عبيد التشديد يقتضي التكرير مرة بعد مرة، ولست آمن أن يلزم
من قرأ بتلك القراءة ألا توجب عليه كفارة في اليمين الواحدة حتى يرددها مرارا
وهذا قول خلاف الاجماع كما يقول القرطبي. وروى عن نافع أن ابن عمر كان
إذا حنث من غير أن يؤكد اليمين أطعم عشرة مساكين، فإذا وكد اليمين أعتق
رقبة. قيل لنافع ما معنى وكد اليمين؟ قال أن يحلف على الشئ مرارا
وقال الجكني في أضواء البيان والتضعيف والمفاعلة معناهما مجرد الفعل بدليل
قراءة (عقدتم) بلا ألف ولا تضعيف، والقراءات يبين بعضها بعضا، وما في
قوله (بما عقدتم) مصدرية على التحقيق لا موصولة، كما قاله بعضهم زاعما أن
ضمير الربط محذوف اه
وقال القرطبي في الآية (عقدتم) مخفف القاف من العقد، والعقد على ضربين
حسي كعقد الحبل وحكمي كعقد البيع. قال الشاعر (1)
قوما إذا عقدوا عقدا لجارهم شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا
فاليمين المنعقدة منفعلة من العقد، وهي عقد القلب في المستقبل ألا يفعل ففعل
أو ليفعلن فلا يفعل كما تقدم، فهذه التي يحلها الاستثناء والكفارة على ما يأتي.
وحديث رفع القلم وقع في رواية لأحمد في مسنده وأبى داود والنسائي والحاكم
في الصحيح عن عائشة بلفظ " رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن
المبتلى حتى يبرأ، وعن الصبي حتى يكبر "
وفي رواية لهم عن علي وعمر رضي الله عنهما " رفع القلم عن ثلاثة، عن
المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي

(1) هذا البيت للحطيئة والعناج ككتاب حبل يشد في أسفل الدلو العظيمة،
ويطلق على الامر وملاكه. وقوله " لا عناج له " أرسل بلا روية، والكرب
بالتحريك أصول السعف الغلاظ العراض، والحبل يشد في وسط العراقي ليلى
الماء فلا يعفن الحبل الكبير؟ المطيعي
5

حتى يحتلم " والرفع لا يقتضى تقدم وضع كما في قول يوسف عليه السلام " انى
تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله " وهو لم يكن على ملتهم أصلا. وكذا في قول
شعيب " قد افترينا على الله كذبا ان عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها " ومعلوم
أن شعيبا لم يكن على ملتهم قط. وأخرجه الدارقطني: انا أبو بكر النيسابوري
نا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم نا عبد الله بن وهب أخبر جرير بن حازم عن سليمان
ابن مهران عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال " مر علي بن أبي طالب بمجنونة
بني فلان قد زنت فأمر عمر برجمها فردها على وقال لعمر: أما تذكر أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: رفع القلم عن ثلاثة. عن المجنون المغلوب على عقله.
وعن النائم حتى يستيقظ. وعن الصبي حتى يحتلم؟ قال: صدقت فخلى عنها ".
وأخرج البخاري قول على تعليقا في باب الطلاق والرجم. ووصله البغوي
في الجعديات عن علي بن الجعد عن شعبه عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس أن
عمر أتى بمجنونة قد زنت وهي حبلى فأراد أن يرجمها فقال له علي: أما بلغك أن
القلم قد وضع عن ثلاثة فذكره وتابعه ابن نمير ووكيع وغير واحد عن الأعمش
ورواه جرير بن حازم عن الأعمش فصرح فيه بالرفع. أخرجه أبو داود وابن
حبان من طريقه. وأخرجه النسائي من وجهين آخرين عن أبي ظبيان مرفوعا
وموقوفا لكن لم يذكر فيهما ابن عباس جعله عن أبي ظبيان عن علي. ورجح
الموقوف على المرفوع. ولفظ الحديث المرفوع " مر بمجنونة بنى فلان قد زنت
فأمر عمر برجمها فردها علي وقال لعمر: أما تذكر " الحديث.
ورواية جرير بن حازم متصل لكن أعله النسائي بأن جرير بن حازم حدث
بمصر بأحاديث غلط فيها. وفي رواية أبي داود والنسائي أتى عمر بامرأة فذكر
الحديث وفيه فخلى علي سبيلها. فقال عمر، ادعو إلى عليا فقال: يا أمير المؤمنين
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إلخ.
أما حديث واثلة وأبي أمامه فقد أخرجه الدارقطني: نا أبو بكر محمد بن الحسن
المقري نا الحسين بن إدريس عن خالد بن الهياج نا أبى عن عنبسة بن عبد الرحمن
عن العلاء عن مكحول عن واثلة بن الأسقع وعن أبي أمامه قالا " قال رسول الله
6

صلى الله عليه وسلم: ليس على مقهور يمين " هكذا أخرجه الدارقطني وفي اسناده
عنبسة. قال البخاري: تركوه وروى الترمذي عن البخاري ذاهب الحديث.
وقال أبو حاتم: كان يضع الحديث أما جده عنبسة بن سعيد بن العاص فثقة تابعي
كان أحد الاشراف يروى عن أبي هريرة وأنس وثقه ابن معين وأبو داود، وأما
حفيده هذا فقد قال في التنقيح في حديث: ليس على مقهور يمين حديث منكر بل
موضوع، وفيه جماعة ممن لا يجوز الاحتجاج بهم اه.
والحسين بن إدريس عن ابن الهياج. قال ابن أبي حاتم كتب إلى بجزء من حديثه
فأول حديث فيه باطل والثاني باطل والثالث ذكرته لعلي بن الجنيد فقال أحلف
بالطلاق أنه حديث ليس له أصل. وكذا هو عندي فلا أدرى البلاء منه أو من
خالد بن هياج اه من الميزان.
أما الأحكام فإن اللغو ما يجرى على لسان الانسان من غير قصد كقوله: لا
والله وبلى والله، وبهذا قالت عائشة في إحدى الروايتين عنها. وروى عن ابن عمر
وابن عباس في أحد قوليه والشعبي وعكرمة في أحد قوليه وعروة وأبى صالح والضحاك
في أحد قوليه وأبى قلابة والزهري كما جاء في ابن كثير والقرطبي وأضواء البيان وغيرها
وذهب مالك إلى أن اللغو هو أن يحلف على ما يعتقده فيظهر نفيه، وقال إنه
أحسن ما سمعه في معنى اللغو، وهو مروي أيضا عن عائشة وأبي هريرة وابن
عباس في أحد قوليه، وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير ومجاهد في أحد قوليه
وإبراهيم النخعي في أحد قوليه، والحسن وزرارة بن أوفى وأبى مالك وعطاء
الخراساني وبكر بن عبد الله وأحد قولي عكرمة وحبيب بن أبي ثابت والسدي
ومكحول ومقاتل وطاوس وقتادة والربيع بن أنس ويحيى بن سعيد وربيعة. وقال
في أضواء البيان والقولان متقاربان واللغو يشملهما، لأنه في الأول لم يقصد
عقد اليمين أصلا، وفي الثاني لم يقصد الا الحق والصواب.
قال أبو هريرة: إذا حلف الرجل على الشئ لا يظن الا أنه إياه، فإذا ليس
هو فهو لغو، وليس فيه كفارة. وقال الحنابلة ان نوى بيمينه ما يحتمله انصرفت
يمينه إليه سواء موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفا له
7

وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا عبرة بالنية، والسبب فيما يخالف لفظه لان
الحنث مخالفة ما عقد عليه اليمين واليمين لفظه، فلو أحنثناه على ما سواه لأحنثناه
على ما نوى لا على ما حلف، ولان النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين فكذلك
لا يحنث بمخالفتها.
(فرع) من ذهب عقله بالسكر فحلف هل ينعقد يمينه؟ وجهان، أصحهما:
ينعقد للتغليظ عليه، وقد مضى بحيث ضاف له في الطلاق فارجع إليه:
(فرع) قال الصنعاني في سبل السلام في حديث عائشة الذي أخرجه البخاري
موقوفا وأخرجه أبو داود مرفوعا في قوله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم "
هو قول الرجل لا والله وبلى والله، قال: فيه دليل على أن اللغو من الايمان مالا
يكون عن قصد الحلف، وإنما جرى على اللسان من غير إرادة الحلف وإلى تفسير
اللغو بهذا ذهب الشافعي ونقله ابن المنذر عن ابن عمر وأبن عباس وغيرهما من
الصحابة وجماعة من التابعين، وذهب الهادوية والحنفية إلى أن لغو اليمين أن
يحلف على الشئ يظن صدقه فينكشف خلافه، وذهب طاوس إلى أنها الحلف
وهو غضبان، ثم قال: وتفسير عائشة أقرب لأنها شاهدت التنزيل وهي عارفة
بلغة العرب.
(مسألة) قوله: وأما المكره فلا تصح يمينه، وقد استدل المصنف بحديث
واثلة وأبى أمامة، وقد أوضحنا أنه يدور بين النكارة والوضع، فلا يستحق
الاستدلال به، وأما الدليل الصحيح السليم الصالح للتمسك به فقوله، ولأنه قول
حمل عليه بغير حق فلم يصح كما لو أكره على كلمة الكفر، وهذا صحيح إذا أجمع
أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه الهلاك أنه لا إثم عليه
إن كفر وقلبه مطمئن بالايمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بحكم الكفر
هذا قول مالك والشافعي والكوفيين غير محمد بن الحسن فإنه قال: إذا أظهر
الشرك كان مرتدا في الظاهر، وفيما بينه وبين الله تعالى على الاسلام، وتبين منه
امرأته ولا يصلى عليه إن مات ولا يرث أباه إن مات مسلما.
قال القرطبي: وهذا قول يرده الكتاب والسنة قال تعالى " إلا من أكره "
الآية وقال " الا أن تتقوا منهم تقاة " وقال " الا المستضعفين من الرجال والنساء
8

والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم "
فعذر الله المستضعفين الذين يمتنعون من ترك ما أمر الله به، والمكره لا يكون
الا مستضعفا غير ممتنع من فعل ما أمر به، قاله البخاري، فلما سمح الله عز وجل
بالكفر به لمن أكره وهو أصل الشريعة ولم يؤاخذ به حمل عليه أهل العلم فروع
الشريعة كلها، فإذا وقع الاكراه عليها لم يؤاخذ به ولم يترتب عليه حكم، وبه
جاء الأثر المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه " ويقول القاضي ابن العربي: والخبر وان لم يصح سنده فان
معناه صحيح باتفاق من العلماء، وذكر أبو محمد عبد الحق أن اسناده صحيح قال:
وقد ذكره أبو بكر الأصيلي في الفوائد وابن المنذر في الاقناع.
إذا ثبت هذا: فإن يمين المكره غير لازمة عند مالك والشافعي وأبي ثور
وأكثر العلماء
قال ابن الماجشون وسواء حلف فيما هو طاعة لله أو فيما هو معصية إذا
أكره على اليمين، وقال أصبغ: بقوله، وقال مطرف: ان أكره على اليمين
فيما هو لله معصية أو ليس في فعله طاعة ولا معصية فاليمين فيه ساقطة، وأن
أكره على اليمين فيما هو طاعة مثل أن يأخذ الوالي رجلا فاسقا فيكرهه أن يحلف
بالطلاق لا يشرب الخمر أو لا يفسق أولا يغش في عمله أو الوالد يحلف ولده تأديبا له فإن
اليمين تلزم، وإن كان المكره قد أخطأ فيما يكلف من ذلك، وقال بهذا ابن حبيب
وقال أبو حنيفة ومن أتبعه من الكوفيين انه ان حلف ألا يفعل ففعل حنث،
قالوا لان المكره له أن يوري في يمينه كلها فلما لم يور ولا ذهبت نيته إلى خلاف
ما أكره عليه فقد قصد إلى اليمين.
قال القاضي أبو بكر بن العربي. ومن غريب الامر أن علماء - يعني علماء
المالكية - اختلفوا في الاكراه على الحنث هل يقع به أم لا؟ وهذه مسألة
عراقية سرت لنا منهم، لا كانت هذه المسألة ولا كانوا، وأي فرق يا معاشر
أصحابنا بين الاكراه على اليمين في أنها لا تلزم وبين الحنث في أنه لا يقع: فاتقوا
الله وراجعوا بصائركم ولا تغتروا بهذه الرواية فإنها وصمة في الدراية اه.
9

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ويصح اليمين على الماضي والمستقبل، فان حلف على ماض وهو
صادق فلا شئ عليه لان النبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين على المدعي عليه،
ولا يجوز أن يجعل اليمين عليه إلا وهو صادق، فدل على أنه يجوز أن يحلف على
ما هو صادق فيه.
وروى محمد بن كعب القرظي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو على
المنبر وفي يده عصا " يا أيها الناس لا يمنعكم اليمين عن أخذ حقوقكم فوالذي نفسي
بيده أن في يدي عصا " وإن كان كاذبا وهو أن يحلف على أمر أنه كان ولم يكن
أو على أمر أنه لم يكن وكان أثم بذلك وهي اليمين الغموس، والدليل عليه
ما روى عن الشعبي رضي الله عنه عن عبد الله بن عمر قال " جاء رجل أعرابي إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ما الكبائر؟ قال الشرك بالله. قال ثم ماذا؟ قال
عقوق الوالدين، قال ثم ماذا؟ قال اليمين الغموس " قيل للشعبي ما اليمين الغموس
قال الذي يقتطع بها مال امرئ مسلم وهو فيها كاذب.
وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه
" من حلف على يمين وهو فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله عز وجل
وهو عليه غضبان " وإن كان على مستقبل نظرت - فإن ان على أمر مباح -
ففيه وجهان.
(أحدهما) الأولى أن لا يحنث لقوله عز وجل " ولا تنقضوا الايمان بعد
توكيدها " (والثاني) أن الأول أن يحنث لقوله عز وجل " لا تحرموا طيبات
ما أحل الله لكم " فإن حلف على فعل مكروه أو ترك مستحب، فالأولى أن يحنث
لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من حلف على يمين
فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ثم ليفعل الذي هو خير ".
(الشرح) قوله لان النبي صلى الله عليه وسلم جعل اليمين على المدعى عليه، وذلك لحديث
البينة على من ادعى واليمين على المدعى عليه. وقد مضى تخريجه في البيوع في
اختلاف المتبايعين.
10

وحديث الشعبي عن ابن عمر وأخرجة البخاري باللفظ الذي ساقه المصنف
وقوله " قلت " ظاهره أن السائل عبد الله بن عمرو راوي الحديث والمجيب هو
النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن يكون السائل غير عبد الله لعبد الله وعبد الله
المجيب، والأول أظهر
وقال الشيخ الخولي في تعليقه على سبل السلام: الذي حققه الحافظ في الفتح
وحمد الله عليه أن السائل فراس والمسؤول عامر الشعبي.
وحديث ابن مسعود أخرجه أحمد في مسنده وأبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجة عن عبد الله بن مسعود والأشعث بن قيس بلفظ " من حلف على يمين
صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقى الله وهو عليه غضبان "
وحديث أم سلمة رضي الله عنها أخرجه الطبراني باللفظ الذي ساقه المصنف
ويؤخذ على المصنف استشهاده برواية الطبراني، مع أنه ورد في الصحيحين عن
عبد الرحمن بن سمرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا حلفت على يمين
فرأيت غيرها خيرا منها فاءت الذي هو خير وكفر عن يمينك " وفي لفظ عندهما
" فكفر عن يمينك واءت الذي هو خير " وفي لفظ " إذا حلفت على يمين فكفر
عن يمينك واءت الذي هو خير " رواه النسائي وأبو داود وهو صريح في تقديم
الكفارة. وأخرجه مسلم عن عدي بن حاتم قال، قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم " إذا حلف أحدكم على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي
هو خير " وفي لفظ رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة عن عدي بن حاتم
أيضا " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر
عن يمينه " وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي وصححه عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي
هو خير " وفي لفظ لمسلم " فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه " وأخرجه
الشيخان عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا أحلف على
يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير تحللتها " وفي لفظ عند
الشيخين " إلا كفرت عن يميني وفعلت الذي هو خير " وعندهما " إلا أتيت
الذي هو خير وكفرت عن يميني "
11

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند أبي داود والنسائي مرفوعا
" لأنذر ولا يمين فيما لا تملك ولا في معصية ولا في قطيعة رحم. ومن حلف
على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها وليأت الذي هو خير فإن تركها كفارتها "
وذكره البيهقي وقال لم يثبت
وقال أبو داود: الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم " وليكفر عن يمينه "
إلا مالا يعبأ به، قال الحافظ في الفتح: ورواته لا بأس بهم. وقد استدل بحديث
أم سلمة على أن الكفارة يجب تقديمها على الحنث، ولا يعارض ذلك الروايات
التي سقناها وفيها " فاءت الذي هو خير وكفر " لان الواو لا تدل على ترتيب،
إنما هي لمطلق الجمع، على أن الواو لو كانت تفيد ذلك لكانت الرواية التي فيها
" فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير " تخالفها. وكذلك بقية الروايات المذكورة
آنفا، قال ابن المنذر: رأى ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء
الأمصار غير أهل الرأي أن الكفارة تجزى قبل الحنث، إلا أن الشافعي استثنى
الصيام فقال لا يجزى إلا بعد الحنث. وقال أصحاب الرأي: لا تجزئ قبل
الحنث. وعن مالك روايتان. ووافق الحنفية أشهب عن المالكية وداود الظاهري
وخالفه ابن حزم، واحتج له الطحاوي بقوله تعالى (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم)
فإن المراد إذا حلفتم فحنثتم ورده مخالفوه فقالوا: إذا أردتم الحنث
قال الحافظ بن حجر: وأولى من ذلك أن يقال التقدير أعم من ذلك، فليس
أحد التقديرين بأولى من الآخر، وسيأتي لهذا البحث مزيد في الكلام على الكفارة
قوله " ويصح اليمين على الماضي والمستقبل " وجملة ذلك أن اليمين على الماضي
تنقسم ثلاثة أقسام، ما هو صادق فيه فلا كفارة فيه إجماعا. وما تعمد الكذب
فيه فهو يمين الغموس، وقد اختلف في كفارتها وسيأتي بيانها، واليمين على
المستقبل، وهو ما عقد عليه قلبه وقصد اليمين عليه ثم خالف فعليه الكفارة.
وما لم يعقد عليه قلبه ولم يقصد اليمين عليه، وإنما جرت على لسانه فهو من لغو
اليمين، وكلام عائشة يدل على هذا فإنها قالت: أيمان اللغو ما كان في المراء
والمزاحة والهزل.
12

وقال الثوري في جامعه: الايمان أربعة، يمينان يكفران، وهو أن يقول
الرجل: والله لا أفعل فيفعل، أو يقول: والله لأفعلن ثم لا يفعل، ويمينان
لا يكفران أن يقول والله ما فعلت وقد فعل، أو يقول والله لقد فعلت وما فعل.
(قلت) ونحن ننازع الثوري في هذا وإن خالفنا في هذا النزاع من وافق الثوري
على ما ذهب كالإمام أحمد والامام مالك وأصحاب الرأي وغيرهم. ذلك أن الشعبي
يقول بما رواه الدارقطني في سننه حدثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز ثنا خلف بن هشام ثنا
عبثر عن ليث عن حماد عن إبراهيم بن علقمة عن عبد الله قال: الايمان أربعة
يمينان يكفران ويمينان لا يكفران وذكرهن
قال المروزي " أما اليمينان الأوليان فلا اختلاف فيهما بين العلماء على ما قال
سفيان، وأما اليمينان الأخريان فقد اختلف فيهما أهل العلم، فإن كان الحالف
حلف على أنه لم يفعل كذا وكذا أو أنه قد فعل كذا وكذا عند نفسه صادقا يرى
أنه على ما حلف عليه ولا كفارة عليه في قول مالك وسفيان الثوري وأصحاب
الرأي. وكذلك قال أحمد وأبو عبيد. وقال الشافعي لا إثم عليه وعليه الكفارة.
ثم قال، وقد قال بعض التابعين بقول الشافعي ولكني أميل إلى قول مالك وأحمد
هكذا نقله القرطبي في جامع أحكام القرآن
واختلف في اليمين الغموس هل هي يمين منعقدة أم لا؟ فمذهبنا أنها يمين
منعقدة لأنها مكتسبة بالقلب معقودة بخبر مقرونة باسم الله تعالى وفيها الكفارة
قال ابن المنذر، ذهب مالك بن أنس ومن تبعه من أهل المدينة إلى أنها يمين مكر
وخديعة وكذب فلا تنعقد ولا كفارة فيها. وبه قال الأوزاعي ومن وافقه من
أهل الشام، وهو قول الثوري وأهل العراق، وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور
وأبو عبيد وأصحاب الرأي من أهل الكوفة
ولنا أنها يمين مكتسبة بالقلب، معقودة بخبر، مقرونة باسم الله تعالى
فوجب فيه الكفارة.
(مسألة) قال القرطبي الاخبار دالة على أن اليمين التي يحلف بها الرجل يقتطع
بها مالا حراما هي أعظم من أن يكفرها ما يكفر اليمين. قال ابن العربي " الآية
وردت بقسمين، لغو ومنعقدة، وخرجت على الغالب في أيمان الناس، فرع
13

ما بعدها يكون مائة قسم، فإنه لم تعلق عليه كفارة قال القرطبي، قلت خرج
البخاري عن عبد الله بن عمرو قال، جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
يا رسول الله ما الكبائر؟ قال الاشراك بالله، قال ثم ماذا.؟ قال عقوق الدين
قال ثم ماذا؟ قال اليمين الغموس، قلت وما اليمين الغموس؟ قال التي يقتطع بها
مال امرئ مسلم هو فيها كاذب "
وخرج مسلم عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من اقتطع
حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة، فقال رجل
وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال وإن كان قضيبا من أراك " أه
قلت وظاهر مذهب أحمد أنه لا كفارة في اليمين الغموس، والغموس اسم
فاعل لأنها تغمس صاحبها في الاثم لأنه حلف كاذبا على علم منه، وطعنة غموس
أي نافذة، وأمر غموس أي شديد. وقال ابن قدامة وروى عن أحمد أن فيها
الكفارة. وروى ذلك عن عطاء والزهري والحكم والبتي، وهو قول الشافعي،
لأنه وجدت منه اليمين بالله تعالى والمخالفة مع القصد فلزمته الكفارة كالمستقبلة.
ثم قال ولنا أنها يمين غير منعقدة فلا توجب الكفارة كاللغو أو يمين على ماض
فأشبهت اللغو.
(قلت) إن وجوب الكفارة عندنا لا يقلل من شأن الغموس، بل إن تعاظم
الغموس يقتضى التغليظ على الحالف إذا أراد التوبة. وفي أداء الكفارة إشعار
كامل بدخوله ساحة التوبة، وبدون ذلك لا يكون
(فرع) قوله فإن كان على أمر مباح الخ " وجملة ذلك أن المباح مثل الحلف
على فعل مباح أو تركه، والحلف على الخبر بشئ هو صادق فيه أو يغلب على ظنه
الصدق فيه، فإن الله تعالى يقول " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم " فإن كان
على فعل شئ مباح أو تركه فإن فيه الكفارة إذا حنث في الأبرار بالقسم.
قوله - فإن حلف على مكروه - ومثله إذا حلف على ترك مندوب.
قال الله تعالى " ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا
بين الناس "
14

وروينا أن أبا بكر الصديق رضى الله تعالى عنه حلف لا ينفق
على مسطح بعد الذي قال لعائشة ما قال، وكان من جملة أهل الإفك الذين تكلموا
في عائشة رضي الله عنها فأنزل الله تعالى " ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة
أن يؤتوا أولى القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا "
واليمين على ذلك مانعة من فعل الطاعة أو حاملة على فعل المكروه فتكون مكروهة
ويمكن أن يرد على هذا أنها لو كانت مكروهة لأنكر النبي صلى الله عليه وسلم
على الاعرابي الذي سأله عن الصلوات فقال: هل على غيرها؟ فقال: لا إلا أن
تطوع فقال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليها ولان أنقص منها " ولم ينكر عليه
بل قال " أفلح الرجل إن صدق " ونجيب بأنه لا يلزم من هذا جواز الحلف على
ترك المندوبات، إذ أن اليمين على ترك التطوع لا تزيد على تركها، ولو تركها لم
ينكر عليه، ويكفي في ذلك بيان أن ما تركه تطوع، ولأن هذه اليمين إن تضمنت
ترك المندوب فقد تناولت فعل الواجب والمحافظة عليه كله بحيث لا ينقص منه
شيئا، وهذا في الفضل يزيد على ما قابله من ترك التطوع، فيترجح جانب الاتيان
بها على تركها فيكون من قبيل المندوب فكيف ينكر؟ ولان في الاقرار على هذه
اليمين بيان حكم محتاج إليه ألا وهو بيان أن ترك التطوع غير مؤاخذ به، فلو
أنكر على الحالف لحصل ضد هذا وتوهم كثير من الناس لحوق الاثم بتركه
يفوت الغرض.
ومن قبيل المكروه الحلف في البيع والشراء ففي سنن ابن ماجة عن محمد بن
إسحاق عن سعيد بن كعب بن مالك عن أبي قتادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إياكم والحلف فإنه ينفق ثم يمحق " أي منفقة للسلعة ممحقة للبركة.
قال المصنف رحمه الله.
(فصل) وتكره اليمين بغير الله عز وجل، فإن حلف بغيره كالنبي والكعبة
والآباء والأجداد لم تنعقد يمينه، لما روى ابن عمر رضي الله عنه قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " من كان حالفا فلا يحلف الا بالله تعالى " وروى
عن عمر رضي الله عنه قال " سمعني رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلف بأبي
15

فقال: إن الله عز وجل ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فقال عمر رضي الله عنه: والله
ما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا " وان قال: إن فعلت كذا وكذا فأنا يهودي أو
نصراني أو أنا برئ من الله أو من الاسلام لم ينعقد يمينه: لما روى بريدة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من حلف أنه برئ من الاسلام، فإن كان
كاذبا فقد قال: وإن كان صادقا فلم يرجع إلى الاسلام سالما) ولأنه يمين بمحدث
فلم ينعقد كاليمين بالمخلوقات.
(الشرح) حديث ابن عمر رضي الله عنه أخرجه أحمد ومسلم والنسائي ولفظه
(من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا
بآبائكم) وفي رواية عن ابن عمر عند أحمد والبخاري ومسلم (أن النبي صلى الله
عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن
كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت).
وفي رواية عند الترمذي (أنه سمع رجلا يقول لا والكعبة، فقال لا تحلف
بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من حلف بغير الله فقد
كفر وأشرك) قال الترمذي حسن وصححه الحاكم والتعبير بقوله: كفر أو أشرك
سيأتي بيانه قريبا.
وحديث عمر أخرجه البخاري في الايمان والنذور عن سعيد بن نمير ومسلم
فيه عن أبي الطاهر وأبو داود فيه عن أحمد بن حنبل: وعن أحمد بن يونس
والنسائي فيه عن عمرو بن عثمان، وعن محمد بن عبد الله بن يزيد وعن سعيد بن
عبد الرحمن وابن ماجة في الكفارات عن محمد بن يحيى بن أبي عمر وهو جزء من
حديث ابن عمر الذي سقناه آنفا وليس فيه زيادة (ما حلف بها ذاكرا ولا آثرا)
قال ابن الأثير في النهاية: وفي حديث عمر (ما حلفت بها ذاكرا ولا آثرا) أي
ما تكلمت به حالفا من قولك ذكرت لفلان كذا وكذا أي قلته له، وليس من
الذكر بعد النسيان اه.
وقال ابن منظور في لسان العرب، وفي حديث عمر رضي الله عنه قال، قال
أبو عبيد أما قوله ذاكرا فليس من الذكر بعد النسيان إنما أراد متكلما به كقولك
16

ذكرت لفلان حديث كذا وكذا. وقوله ولا آثرا يريد مخبرا عن غيري أنه
حلف به يقول. لا أقول إن فلانا قال وأبى لا أفعل كذا وكذا أي ما حلفت به
مبتدئا من نفسي ولا رويت عن أحد أنه حلف بها، ومن هذا قيل حديث مأثور
أي يخبر الناس به بعضهم بعضا، أي ينقله خلف عن سلف، يقال منه أثرت
الحديث فهو مأثور وأنا آثر، قال الأعشى.
إن الذي فيه تماريتما بين للسامع والآثر اه
(قلت) ومنه قوله تعالى (إن هذا إلا سحر يؤثر) أي يأخذه واحد عن
واحد، ومثله قوله تعالى (أو أثارة من علم).
أما حديث بريدة فقد أخرجه أحمد والنسائي وابن ماجة وهو عندهم من طريق
الحسين بن واقد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه، وقد صححه النسائي، وقد أخرج
الشيخان وأحمد وأصحاب السنن إلا أبا داود عن ثابت بن الضحاك (أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال من حلف على يمين بملة غير الاسلام كاذبا فهو كما قال
وأخرج النسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تحلفوا إلا
بالله ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون).
(أما الأحكام) فإن الحلف بغير الله تعالى وردت فيه أحاديث غير ما ذكرنا
ما أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عمر رفعه (من
خلف بغير الله فقد كفر) وهو عند أحمد من هذا الوجه أيضا بلفظ (فقد كفر
وأشرك) قال البيهقي لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر،
قال الحافظ ابن حجر قد رواه شعبة عن منصور عنه قال كنت عند ابن عمر
ورواه الأعمش عن سعيد عن عبد الرحمن السلمي عن ابن عمر. وفي التعبير بقوله
كفر أو أشرك للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك، وقد تمسك به من قال
بالتحريم. قال الامام الشوكاني، قال العلماء السر في الحلف بغير الله أن الحلف
بالشئ يقتضى تعظيمه والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، فلا يخاف الا بالله
وذاته وصفاته وعلى ذلك اتفق الفقهاء، واختلف هل الحلف بغير الله حرام
17

أو مكروه. للمالكية والحنابلة قولان، ويجعل ما حكاه ابن عبد البر من الاجماع
على عدم جواز الحلف بغير الله على أن مراده بنفي الجواز الكراهة أعم من
التحريم والتنزيه. وقد صرح بذلك في موضع أخر أه.
وقال القرطبي: لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته. وقال أحمد
ابن حنبل: إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه لأنه حلف بما لا يتم
الايمان إلا به فتلزمه الكفارة كما لو حلف بالله، وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين
وغيرهما، وقد عده السيوطي من المتواتر في كتابه الأزهار المتناثرة في الأحاديث
المتواترة، وله شروط في التواتر انطبقت على أحاديث كثيره منها هذا الحديث
(أنه صلى لله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه،
فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن
كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) وهذا حصر في عدم الحلف بكل شئ سوى
الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا، ومما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائي
وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا إلا بالله، ولا بالله
إلا وأنتم صادقون) ثم ينتقض عليه بمن قال، وآدم وإبراهيم فإنه لا كفارة عليه
وقد حلف بما لا يتم الايمان إلا به، وجمهور أصحابنا من الشافعية على أنه مكروه
تنزيها وحزم ابن حزم بالتحريم.
وقال إمام الحرمين المذهب القطع بالكراهة، وجزم غيره بالتفصيل، فان
اعتقد في المحلوف به ما يعتقد في الله تعالى كان بذلك الاعتقاد كافرا، ومذهب
الهادوية أنه لا إثم في الحلف بغير الله ما لم يسو بينه وبين الله في التعظيم أو كان
الحلف متضمنا كفرا أو فسقا.
قال في الفتح: وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير الله: ففيه جوابان،
أحدهما أن فيه حذفا والتقدير ورب الشمس ونحوه، والثاني أن ذلك يختص بالله
فإذا أراد تعظيم شئ من مخلوقاته أقسم به، وليس لغيره ذلك: وأما ما وقع مما
مخالف ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم للاعرابي (أفلح وأبيه إن صدق) فقد
18

أجيب عنه بأجوبة (الأول) الطعن في صحة هذه اللفظة كما قال ابن عبد البر إنها
غير محفوظة وقال إن أصل الرواية أفلح والله إن صدق فصحفها بعضهم، والثاني
أن ذلك كان يقع من العرب ويجرى على ألسنتهم من دون قصد للقسم، والنهى
إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف، قاله البيهقي
وقال النووي: إنه الجواب المرضى، والثالث انه كان يقع في كلامهم على
وجهين للتعظيم والتأكيد. والنهى إنما وقع عن الأول، والرابع أن ذلك كان
جائزا ثم نسخ، قاله الماوردي في الحاوي.
وقال السهيلي أكثر الشراح عليه، قال ابن العربي، وروى أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهى عن ذلك، قال السهيلي، ولا يصح، لأنه
لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحلف بغير الله، ويجاب بأنه قبل النهى
عنه غير ممتنع عليه، ولا سيما الأقسام القرآنية على ذلك النمط.
وقال المنذري: دعوى النسخ ضعيفة لامكان الجمع ولعدم تحقق التاريخ.
والخامس أنه كان في ذلك حذف، والتقدير أفلح ورب أبيه، قاله البيهقي،
والسادس أنه للتعجيب، قاله السهيلي
(والسابع) أنه خاص به صلى الله عليه وسلم وتعقب بأن الخصائص
لا تثبت بالاحتمال، والأحاديث كلها متظاهرة على أن الحلف بغير الله لا ينعقد
لان النهى يدل على فساد المنهى عنه: واليه ذهب الجمهور.
وقال ابن قدامة: ولا يجوز الحلف بغير الله وصفاته نحو أن يحلف بأبيه أو
الكعبة أو صحابي أو امام. قال الشافعي أخشى أن يكون معصية، إلى أن قال:
وأما قسم الله بمصنوعاته فإنما أقسم به دلالة على قدرته وعظمته ولله تعالى أن
يقسم بما شاء من خلقه، ولا وجه للقياس على أقسامه، وقد قيل إن في أقسامه
اضمار القسم برب هذه المخلوقات، فقوله (والضحى) أي ورب الضحى اه.
(مسألة) في الرجل يقول هو يهودي أو نصراني، قال أبو حنيفة في الرجل
يقول هو يهودي أو نصراني أو برئ من الاسلام أو من النبي أو من القرآن
أو أشرك بالله أو أكفر بالله: انها يمين تلزم فيها الكفارة ولا تلزم فيما إذا قال
19

واليهودية والنصرانية والنبي والكعبة، وإن كانت على صيغة الايمان ومتمسكه
ما رواه الدارقطني عن أبي رافع أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته
فقالت: هي يوما يهودية ويوما نصرانية، وكل مملوك لها حر، وكل مال لها في
سبيل الله، وعليها مشى إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما، فسألت عائشة وحفصة
وابن عمر وابن عباس وأم سلمة فكلهم قال لها: أتريدين أن تكوني مثل هاروت
وماروت؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلى بينهما.
وخرج أيضا عنه قال: قالت مولاتي: لأفرقن بينك وبين امرأتك، وكل
مال لها في رتاج الكعبة وهي يوما يهودية ويوما مجوسية إن لم أفرق بينك وبين
امرأتك، قال فانطلقت إلى أم سلمة فقلت إن مولاتي تريد أن تفرق بيني وبين
امرأتي، فقالت انطلق إلى مولاتك، فقل لها إن هذا لا يحل لك، قال فرجعت
إليها ثم أتيت ابن عمر فأخبرته فجاء حتى انتهى إلى الباب، فقال: هنها هاروت
وماروت؟ فقالت: إني جعلت كل مال لي في رتاج الكعبة، قال فمم تأكلين؟
قالت، وقلت أنا يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية، فقال إن تهودت
قتلت، وإن تنصرت قتلت، وان تمجست قتلت، قالت فما تأمرني؟ قال تكفري
عن يمينك، وتجمعين بين فتاك وفتاتك.
إذا ثبت هذا فقد قال ابن المنذر اختلف فيمن قال أكفر بالله ونحوه إن فعلت
كذا ثم فعل، فقال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء وقتادة وجمهور فقهاء الأمصار
لا كفارة عليه ولا يكون كافرا إلا إذا أضمر ذلك بقلبه.
وقال الأوزاعي والثوري والحنفية وأحمد وإسحاق هو يمين وعليه الكفارة
قال ابن المنذر والأول أصح لقوله صلى الله عليه وسلم من حلف باللات والعزى
فليقل: لا إله الا الله، ولم يذكر كفارة، زاد غيره، وكذا من قال بملة سوى
الاسلام فهو كما قال، فأراد التغليظ في ذلك حتى لا يجترئ أحد عليه.
ونقل ابن القصار من المالكية عن الحنفية أنهم احتجوا لايجاب الكفارة
بأن في اليمين الامتناع من الفعل، وتضمن كلامه بما ذكر تعظيما للاسلام،
وتعقب ذلك بأنهم قالوا فيمن قال: وحق الاسلام، إذا حنث لا يجب عليه
20

كفارة، فأسقطوا الكفارة إذا صرح بتعظيم الاسلام، وأثبتوها إذا لم يصرح
قال ابن دقيق العيد: الحلف بالشئ حقيقة هو القسم به وادخال بعض حروف
القسم عليه كقوله والله، وقد يطلق على التعليق بالشئ يمين كقولهم من حلف
بالطلاق، فالمراد تعليق الطلاق، وأطلق عليه الحلف لمشابهته لليمين في اقتضاء
الحنث أو المنع، وإذا تقرر ذلك فيحتمل أن يكون المراد المعنى الثاني لقوله كاذبا
والكذب يدخل القضية الاخبارية التي يقع مقتضاها تارة، ولا يقع أخرى،
وهذا بخلاف قولنا والله ما أشبهه، فليس الاخبار بها عن أمر خارجي، بل هي
لانشاء القسم، فتكون صورة الحلف هنا على وجهين
(أحدهما) أن تتعلق بالمستقبل، كقوله ان فعل كذا فهو يهودي.
(والثاني) تتعلق بالماضي كقوله إن كان كاذبا فهو يهودي، وقد يتعلق بهذا
من لم ير فيه الكفارة بل جعل المرئب على كذبه، قال ولا يكفر في صورة الماضي
الا ان قصدا التعظيم، وفيه خلاف عند الحنفية لكونه تنجيز معنى، فصار كما لو
قال هو يهودي، ومنهم من قال: إذا كان لا يعلم أنه يمين لم يكفر، وإن كان
يعلم أنه يكفر بالحنث به كفر لكونه رضى بالكفر حيث أقدم على الفعل.
وقال بعض أصحابنا: ظاهر الحديث أنه يحكم عليه بالكفر إذا كان كاذبا، والتحقيق التفصيل، فإن اعتقد تعظيم ما ذكر كفر، وان قصد حقيقة التعليق
فينظر - فإن كان أراد أن يكون متصفا بذلك كفر - لان إرادة الكفر كفر
وان أراد البعد عن ذلك لم يكفر، لكن هل يحرم عليه ذلك أو يكره تنزيها؟
الثاني هو المشهور، وقوله في حديث بريدة، فإن كان كاذبا زاد في البخاري ومسلم
" متعمدا " قال القاضي عياض: تفرد بهذه الزيادة سفيان الثوري وهي زيادة
حسنة يستفاد منها أن الحالف متعمدا إن كان مطمئن القلب بالايمان وهو كاذب
في تعظيم ما لا يعتقد تعظيمه لم يكفر، وان قاله معتقدا لليمين بتلك الملة لكونه
حقا كفر، وان قالها لمجرد التعظيم لها احتمل.
قال الحافظ وينقدح بأن يقال إن أراد تعظيمها باعتبار ما كانت قبل النسخ
لم يكفر أيضا، قال ودعواه أن سفيان تفرد بها ان أراد بالنسبة إلى رواية مسلم
21

فعسى أنه أخرجها من طريق شعبة عن أيوب وسفيان عن خالد الحذاء جميعا عن أبي
قلابة، وقوله في الحديث " فهو كما قال ".
قال الحافظ في الفتح: يحتمل أن يكون المراد بهذا الكلام التهديد والمبالغة في
الوعيد لا الحكم كأنه قال: فهو مستحق مثل عذاب من اعتقد ما قال ونظيره
" من ترك الصلاة فقد كفر " أي استوجب عقوبة من كفر. وقال ابن المنذر:
ليس على إطلاقه في نسبته إلى الكفر، بل المراد أنه كاذب كذب المعظم
لتلك الجهة اه.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وتجوز اليمين بأسماء وصفاته، فإن حلف من أسمائه بالله
انعقدت يمينه، لما روى ابن عباس رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا: والله لأغزون قريشا، ثم
قال إن شاء " وإن حلف بالرحمن، أو بالإله أو بخالق الخلق أو ببارئ النسمة
أو بالحي القيوم، أن بالحي الذي لا يموت، أو برب السماوات والأرضين، أو
بمالك يوم الدين، أو برب العالمين، وما أشبه ذلك من الأسماء التي لا يشاركه
فيها أحد، انعقدت يمينه، لأنه لا يسمى بها غيره ولا يوصف بها سواه، فصار
كما لو قال والله، فإن حلف بالرحيم والرب والقادر والقاهر والملك والجبار
والخالق والمتكبر، ولم ينوبه غير الله عز وجل انعقدت به يمينه، لأنه لا تطلق
هذه الأسماء الا عليه، وان نوى به غيره لم ينعقد، لأنه قد تستعمل في غيره مع
التقييد، لأنه يقال، فلان رحيم القلب، ورب الدار، وقادر على المشي،
وقاهر للعدو، وخالق للكذب، ومالك للبلد، وجبار متكبر، فجاز أن
تصرف إليه بالنية.
فإن قال: والحي والموجود والعالم والمؤمن والكريم لم تنعقد يمينه الا أن
ينوى به الله تعالى، لأن هذه الأسماء مشتركة بين الله تعالى وبين الخلق مستعملة
في الجميع استعمالا واحدا، فلم تنصرف إلى الله تعالى من غير نية كالكنايات في
الطلاق، وان حلف بصفة من صفاته نظرت - فإن حلف بعظمة الله أو بعزته
22

أو بكبريائه أو بجلاله أو ببقائه أو بكلامه - انعقدت يمينه، لأن هذه الصفات
للذات لم يزل موصوفا بها، ولا يجوز وصفه بضدها، فصار كاليمين بأسمائه
وان قال الله وعلم الله ولم ينوبه المعلوم أو بقدرة الله ولم ينو به المقدور انعقدت
يمينه، لان العلم والقدرة من صفات الذات لم يزل موصوفا بهما، ولا يجوز
وصفه بضدهما، فصارا كالصفات الستة، فإن نوى بالعلم المعلوم أو بالقدرة
المقدور لم ينعقد يمينه، لأنه قد يستعمل العلم في المعلوم، والقدرة في المقدور،
ألا ترى أنك تقول اغفر لنا علمك فينا، وتريد المعلوم، وتقول انظروا إلى قدرة
الله، وتريد به المقدور، فانصرف إليه بالنية.
فإن قال وحق الله وأراد به العبادات لم ينعقد يمينه، لأنه يمين بمحدث،
وان لم ينو العبادات انعقدت يمينه، لان الحق يستعمل فيما يستحق من العبادات
ويستعمل فيما يستحقه الباري من الصفات وذلك من صفات الذات، وقد انضم
إليه العرف في الحلف به فانعقدت به اليمين من غير نية.
(فصل) وان قال علي عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته، فإن أراد به
ما أخذ علينا من العهد في العبادات فليس بيمين لأنه يمين بمحدث، وان أراد
بالعهد استحقاقه ما تعبدنا به فهو يمين لأنه صفة قديمة، وان لم يكن له نية ففيه
وجهان (أحدهما) أنه يمين، لان للعادة الحلف بها والتغليظ بألفاظها كالعادة
بالحلف بالله والتغليظ بصفاته كالطالب الغالب والمدرك المهلك (والثاني) ليس
بيمين لأنه يحتمل العبادات، ويحتمل ما ذكرناه من استحقاقه ولم يقترن بذلك
عرف عام وإنما يحلف به بعض الناس وأكثرهم لا يعرفونه فلم يجعل يمينا.
(الشرح) حديث ابن عباس: أخرجه أبو داود عن عكرمة عنه، قال
أبو داود انه قد أسنده غير واحد عن عكرمة عن ابن عباس، وقد رواه البيهقي
موصولا ومرسلا. قال ابن أبي حاتم الأشبه ارساله. وقال ابن حبان في الضعفاء
رواه مسعر وشريك أرسله مرة ووصله أخرى.
أما اللغات: فقوله " أو ببارئ النسمة " أي خالق الانسان، والبارئ هو
الذي خلق الخلق لا عن مثال. قال في النهاية: ولهذه اللفظة من الاختصاص
23

بخلق الحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلما تستعمل في غير الحيوان،
فيقال: برأ الله النسمة، وخلق السماوات والأرض اه
والنسمة: النفس والروح، وكل دابة فيها روح فهي نسمة وإنما يريد الناس
ومنه حديث على " والذي فلق الحبة وبرأ النسمة " أي خلق ذات الروح، وكثيرا
ما كان يقولها إذا اجتهد في يمينه، وقوله " خالي للكذب " يقال: خلق الإفك
واختلقه وتخلقه أي افتراه، ومنه قوله تعالى " وتخلقون إفكا " و " إن هذا إلا
اختلاق " وأما الخالق بالألف واللام فإنها صفة لا تجوز لغير الله تعالى وأصل
الخلق التقدير يقال: خلفت الأديم للسقاء إذا قدرته له، وخلق الرجل القول
خلقا افتراه واختلقه مثله، والجبار الذي يقتل على الغصب.
وقال الخطابي: الجبار الذي جبر خلقه على ما أراد من أمره ونهيه، يقال:
جبره السلطان وأجبره بمعنى ورأيت في بعض التفاسير عند قوله تعالى " وما أنت
عليهم بجبار " أن الثلاثي لغة حكاها الفراء وغيره واستشهد لصحتها بما معناه أنه
لا يبنى فعال إلا من فعل ثلاثي نحو الفتاح والعلام، ولم يجئ من أفعل بالألف
إلا دراك، فإن حمل جبار على هذا المعنى فهو وجه، والمقصود هنا عند المصنف
من يقتل من غضب والمتكبر المتعظم، والكبر العظمة، وكذلك الكبرياء،
والمؤمن سمى مؤمنا لأنه آمن عباده من أن يظلمهم، ذكره الجوهري في الصحاح
وقوله " بعظمة الله أو بعزته أو بكبريائه أو بجلاله " العزة القوة والغلبة عن عز
إذا غلب، ومنه " فعززناهما بثالث " أي قويناهما، وعز الشئ يعز من باب
ضرب لم يقدر عليه.
وقوله " من صفات الذات " الذات حقيقة الشئ، والذات الإلهية الحقيقة
الثابتة بالربوبية والألوهية اعتقادا بلا كيف ولا تشبيه ولا تجسيم.
أما الأحكام، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم " ان لله تسعه وتسعين اسما من أحصاها - وفي لفظ من حفظها -
دخل الجنة " وقد ساق الترمذي وابن حبان الأسماء.
قال الحافظ في بلوغ المرام: والتحقيق أن سردها من بعض الرواة. وقال
24

الصنعاني: اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سردها ادراج من بعض الرواة.
وظاهر الحديث أن أسماء الله الحسنى منحصرة في هذا العدد بناء على القول
بمفهوم العدد، ويحتمل أنه حصر لها باعتبار ما ذكر بعده من قوله " من أحصاها
دخل الجنة " وهو خبر المبتدأ، فالمراد أن هذه التسعة والتسعين تختص بفضيلة
من بين سائر أسمائه تعالى، وهو أن احصاءها سبب لدخول الجنة، والى هذا
ذهب الأكثرون.
وقال النووي: ليس في الحديث حصر أسمائه تعالى. وليس معناه أنه ليس له
اسم غير التسعة والتسعين. ويدل عليه ما أخرجه أحمد وصححه ابن حبان من
حديث ابن مسعود مرفوعا " أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته
في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك " فإنه
دل على أن له تعالى أسماء لم يعرفها أحد من خلقه بل استأثر بها ودل على أنه قد
يعلم بعض عباده بعض أسمائه. ولكنه يحتمل أنه من التسعة والتسعين. وقد
جزم بالحصر فيما ذكر أبو محمد بن حزم فقال: قد صح أن أسماءه لا تزيد
على تسعه وتسعين شيئا لقوله صلى الله عليه وسلم " مائة الا واحدا " فنفى الزيادة
وأبطلها. ثم قال: وجاءت أحاديث في إحصاء التسعة والتسعين اسما مضطربة
لا يصح منها شئ أصلا. وإنما تؤخذ من نص القرآن، وما صح عن النبي صلى
الله عليه وسلم ثم سرد أربعة وثمانين اسما استخرجها من القرآن والسنة.
وقال الشارح تبعا لكلام المصنف في التلخيص: انه ذكر ابن حزم أحدا
وثمانين اسما. والذي رأيناه في كلام ابن حزم أربعة وثمانون وقد استخرج
الحافظ بن حجر من القرآن فقط تسعه وتسعين اسما وسردها في التلخيص وغيره
وذكر السيد محمد بن إبراهيم الوزير في ايثار الحق أنه تتبعها من القرآن فبلغت مائة
وثلاثة وسبعين اسما.
وان قال صاحب الايثار مائة وسبعه وخمسين فإنا عددناها فوجدناها كما قلنا
أولا. وقد عرفت من كلام الحافظ ان حجر أن سرد الأسماء الحسنى المعروفة
مدرج عند المحققين وأنه ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، وذهب كثيرون إلى
أن عددها مرفوع
25

وقال ابن حجر: بعد نقله كلام العلماء في ذكر عدد الأسماء والاختلاف فيها
ما لفظه: ورواية الوليد بن مسلم عن شعيب هي أقرب الطرق الواضحة، وعليها
عول غالب من شرح الأسماء الحسنى ثم سردها على رواية الترمذي، وذكر
اختلافا في بعض ألفاظها وتبديلا في إحدى الروايات للفظ بلفظ ثم قال: واعلم
أن الأسماء الحسنى على أربعة أقسام.
(الأول) العلم وهو الله.
(والثاني) ما يدل على الصفات الثابتة للذات كالعلم والقدير والسميع والبصير
(والثالث) ما يدل على إضافة أمر إليه كالخالق والرازق.
(والرابع) ما يدل على سلب شئ عنه كالعلي والقدوس. واختلف العلماء
هل هي توقيفية، يعنى أنه لا يجوز لاحد أن يشتق من الافعال الثابتة لله تعالى
اسما بل لا يطلق عليها إلا ما ورد به نص الكتاب والسنة؟
قال الفخر الرازي المشهور عن أصحابنا أنها توقيفية. وقالت المعتزلة والكرامية
إذا دل العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حق الله جاز إطلاقه عليه. وقال القاضي ابن
العربي والغزالي الأسماء توقيفية دون الصفات
قال الغزالي: وكما أنه ليس لنا أن نسمي النبي صلى الله عليه وسلم باسم لم
يسمه به أبوه ولا أمه، ولا سمى به نفسه كذلك في حق الله تعالى، واتفقوا على
أنه لا يجوز أن يطلق عليه تعالى اسم أو صفة توهم نقصا، فلا يقال: ماهد
ولا زارع ولا فالق: وان جاء في القرآن " فنعم الماهدون " " أم نحن الزراعون "
" فالق الحب والنوى " ولا يقال ماكر ولا بناء: وإن ورد " ومكروا ومكر الله "
" والسماء بنيناها ".
وقال القشيري: الأسماء تؤخذ توقيفا من الكتاب والسنة فكل اسم ورد
فيها وجب إطلاقه وما لم يرد لم يجز ولو صح معناه (قلت) من أمثلة الأسماء التي
يخترعها العامة وأنصاف المتعلمين ما سمعت بعضهم وقد وقع في محنة مما يمتحن بها
أهل العزائم ينادى قائلا " يا مهون " وكنت أعترض على هذه التسمية لله تعالى
وإن كان الله تعالى قادرا على أن يهون علينا مصائب الدنيا والآخرة، إذا تقرر
26

هذا فان اليمين تنعقد بالحلف بالله تعالى أو باسم، أجمع أهل العلم على أن من
حلف بالله عز وجل فقال: والله أو بالله أو تالله فحنث أن عليه الكفارة.
وقال ابن المنذر: وكان مالك والشافعي وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي
يقولون: من حلف باسم من أسماء الله تعالى فحنث أن عليه الكفارة ولا نعلم في
هذا خلافا إذا كان من أسماء الله عز وجل التي لا يسمى بها سواه، وأسماء الله
تعالى أربعة أقسام كما مضى نقلنا عن أصحابنا، وهي من حيث انعقاد الحلف بها
في الاستعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام، فأولها هو العلم وما يجرى مجراه مما لا يسمى
به غير الله تعالى مثل الله والرحمن، والأول الذي ليس قبله شئ والآخر الذي
ليس بعده شئ، ورب العالمين، مالك يوم الدين، ورب السماوات والأرضين
والحي الذي لا يموت ونحو هذا فالحلف بهذا يمين بكل حال، وان نوى غيره
والثاني: ما يسمى به غير الله تعالى مجازا، واطلاقه ينصرف إلى الله تعالى
مثل الخالق والرازق والرب والرحيم والقادر والقاهر والملك والجبار ونحوه،
فهذا مما يشترك الله تعالى في التسمي به مع غير من مخلوقاته، ويطلق على غير الله
مجازا بدليل قوله تعالى " إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا "
" أتدعون بعلا وتذرون أحسن الخالقين " وقوله " ارجع إلى ربك " " واذكرني
عند ربك - فأنساه الشيطان ذكر ربه " وقال " فارزقوهم منه " وقال " بالمؤمنين
رؤوف رحيم " فهذا ان نوى به اسم الله تعالى أو أطلق كان يمينا: لأنه باطلاقه
ينصرف إليه. وان نوى به غير الله تعالى لم يكن يمينا لأنه يستعمل في غيره
فينصرف بالنية إلى ما نواه، وهذا مذهب أحمد.
وقال بعض الحنابلة: هو يمين كالأول على كل حال. والقسم الثالث:
ما يسمى به الله تعالى وغيره، ولا ينصرف إليه بإطلاقه كالحي والعالم والموجود
والمؤمن والكريم والشاكر، فهذا ان قصد به اليمين باسم الله تعالى، فعندنا
لا يكون يمينا. لان اليمين إنما تنعقد لحرمة الاسم ومع الاشتراك لا تكون له
حرمة، والنية المجردة لا تنعقد بها اليمين
وقال أحمد وأصحابه إلا القاضي أبا بكر: ان قصد به اليمين باسم الله تعالى
27

كان يمينا، وإن أطلق أو قصد غير الله تعالى لم يكن يمينا فيختلف هذا القسم والذي
قبله في حالة الاطلاق، ففي الأول يكون يمينا وفي الثاني لا يكون يمينا
(فرع) والقسم بصفاته تعالى كالقسم بأسمائه. وصفاته تنقسم إلى ثلاثة أقسام
أولها ما هو من صفات الذات الإلهية ولا يحتمل صرفا إلى غيرها كعزة الله
وجلاله وعظمته وكبريائه وكلامه، فهذه تنعقد بها اليمين، وبه قال أحمد وأصحاب
الرأي ومالك، لأن هذه من صفات ذاته لم يزل موصوفا بها، وقد ورد الأثر
بالقسم ببعضها، فروى " أن النار تقول قط قط وعزتك " رواه البخاري، والذي
يخرج من النار يقول: وعزتك لا أسألك غيرها. وفي كتاب الله تعالى " فبعزتك
لأغوينهم أجمعين "
(الثاني) ما هو صفة الذات ويعبر به عن غيرها مجازا كعلم الله وقدرته،
فهذه صفة للذات لم يزل موصوفا بها، وقد تستعمل في المعلوم والمقدور اتساعا،
كقولهم اللهم اغفر لنا علمك فينا، ويقال اللهم قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك
ويقال انظر إلى قدرة الله، أي إلى مقدوره، فمتى أقسم بهذه الصفات مضافة إلى
الله تعالى ولم ينو المعلوم أو المقدور انعقد يمينه، وبهذا قال أحمد رضي الله عنه.
وقال أبو حنيفة " إذا قال وعلم الله " لا يكون يمينا لأنه يحتمل المعلوم
دليلنا أن العلم من صفات الله تعالى فكانت اليمين به يمينا موجبة للكفارة
كالعظمة والعزة والقدرة، وينتقض ما ذكروه بالقدرة، فإنهم قد سلموها وهي
قرينها، فأما إن نوى القسم بالمقدور والمعلوم لا يكون يمينا، وهو قول أصحاب
أحمد لأنه نوى بالاسم غير صفة الله مع احتمال اللفظ ما نواه، فأشبه ما لو نوى
القسم بمحلوف في الأسماء التي يسمى بها غير الله تعالى
وقد روى عن أحمد أن ذلك يكون يمينا بكل حال ولا تقبل منه نية غير صفة
الله تعالى، وهو قول أبي حنيفة في القدرة، لان ذلك موضوع للصفة فلا يقبل
منه غير الصفة كالعظمة.
قال ابن قدامة " وقد ذكر طلحة العاقولي في أسماء الله تعالى المعرفة بلام
التعريف كالخالق والرازق أنها تكون يمينا بكل حال، لأنها لا تنصرف إلا إلى
اسم الله تعالى. كذا هذا
28

والثالث مالا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى، لكن ينصرف بإضافته
إلى الله سبحان لفظا أو نية كالعهد والميثاق والأمانة ونحوه، فهذا لا يكون يمينا
مكفرة إلا بإضافته أو نيته وسنذكر ذلك.
(فرع) إذا قال وحق الله نظرت - فإن أراد بحقه ما يستحقه تبارك وتعالى
من العظمة والجلال والعزة والبقاء - فهي يمين مكفرة، وإن أراد بحقه ما يستحقه
من الطاعات والمفروضات لم تنعقد يمينه لأنها حادثة. وبهذا قال أحمد ومالك.
وقال أبو حنيفة لا كفارة لها، لان حق الله طاعته ومفروضاته وليست صفة له
دليلنا أن الله حقوقا يستحقها لذاته هي من صفات الذات من العزة والجلال،
واقترن عرف الاستعمال بالحلف بهذه الصفة فتنصرف إلى صفة الله تعالى، كقوله
وقدرة الله، وإن نوى بذلك القسم بمخلوق، فالقول فيه كالقول في الحلف بالعلم
والقدرة، إلا أن احتمال المخلوق بهذا اللفظ أظهر من احتماله في العلم والقدرة
(مسأله) إذا قال على عهد الله وميثاقه وكفالته وأمانته فإنها لا تنعقد إلا أن
ينوى الحلف بصفات الله تعالى
وقال أصحاب أحمد " لا يختلف المذهب في أن الحلف بأمانة الله يمين مكفرة "
وبقولهم هذا قال أبو حنيفة. لان أمانة الله صفة له بدليل وجوب الكفارة
على من حلف بها ونوى ويجب حملها على ذلك عند الاطلاق لوجوه
أحدها أن حملها على غير ذلك صرف ليمين المسلم إلى المعصية أو المكروه لكونه
قسما بمخلوق والظاهر من حال المسلم خلافه
ثانيها أن القسم في العادة يكون بالمعظم المحترم دون غيره وصفة الله تعالى
أعظم حرمة وقدرا.
ولنا أن الأمانة لا تنعقد اليمين بها. ومثلها العهد والميثاق والكفالة. إلا أن
ينوى الحلف بصفة الله تعالى. لان الأمانة تطلق على الفرائض والودائع
والحقوق وكذلك العهد والميثاق. قال تعالى " انا عرضنا الأمانة على السماوات
والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان " وقال تعالى
" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " يعنى الودائع والحقوق،
29

وقال صلى الله عليه " وأد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك " وإذا كان
اللفظ محتملا لم يصرف إلى أحد محتملاته
إلا بنية أو دليل صارف إليه، على أنه
إذا لم ينو شيئا وأطلق هل تنعقد يمينه.؟ وجهان
(أحدهما) تنعقد لان العادة والعرف جريا على الحلف بها، والتماس التغليظ
في اليمين بالنطق بها كمن يحلف بالله تعالى والتغليظ بصفاته، وضرب له المصنف
مثلا بالطالب الغالب والمدرك الملك
(والثاني) لما ذكرناه من احتماله العبادات واحتماله لصفات الله تعالى إلا أن
الناس لا يجرى العرف بينهم على اعتباره من صفات الله تعالى فلم يكن يمينا. هذا
فيما يتعلق بأمانة الله، أما إذا حلف بالأمانة قال في المغنى - فإن نوى الحلب
بأمانة الله فهو يمين مكفرة موجبة للكفارة. وان أطلق فعلى روايتين. أحداهما
يكون يمينا لما ذكرناه من الوجوه. والثانية لا يكون يمينا لأنه لم يضفها إلى الله
تعالى فيحتمل غير ذلك
قال أبو الخطاب: وكذلك العهد والميثاق والجبروت والعظمة وأمانات،
فإن نوى يمينا كان يمينا والا فلا، وقد ذكرنا في الأمانة روايتين فيخرج في سائر
ما ذكروه وجهان قياسا عليها
ويكره الجلب بالأمانة لما روى أبو داود عن بريدة عن النبي صلى الله عليه
وسلم " من حلف بالأمانة فليس منا " وروى عن زياد بن خدير أن رجلا حلف
عنده بالأمانة فجعل يبكى بكاء شديدا فقال له الرجل هل كان هذا يكره؟ قال نعم
كان عمر ينهى عن الحلف بالأمانة أشد النهى "
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال بالله لأفعلن كذا بالباء المعجمة من تحت، فإن أراد بالله
أنى أستعين بالله أو أوثق بالله في الفعل الذي أشار إليه لم يكن يمينا، لان ما نواه
ليس بيمين واللفظ يحتمله فلم يجعل يمينا، وان لم يكن له نية كان يمينا لان الباء
من حروف القسم فحمل اطلاق اللفظ عليه
وان قال تالله لأفعلن كذا بالتاء المعجمة من فوق، فالمنصوص في الايمان
30

والايلاء أنه يمين. وروى المزني في القسامة أنه ليس بيمين، واختلف أصحابنا
فيه فمنهم من قال المذهب ما نص عليه في الايمان والايلاء لان التاء من حروف
القسم، والدليل عليه قوله عز وجل " وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا
مدبرين " وقوله تعالى " تالله لقد آثرك الله علينا وان كنا لخاطئين " فصار كما لو
قال والله وبالله، وما رواه المزني صحف فيه، والذي قال المزني في القسامة بالباء
المعجمة من تحت وتعليله يدل عليه، فإنه قال لأنه دعاء وتالله الله ليس بدعاء
ومن أصحابنا من قال إن كان في الايمان والايلاء فهو يمين لأنه يلزمه حق. وإن كان
في القسامة لم يكن يمينا لأنه يستحق به المال فلم يجعل يمينا
وان قال الله لأفعلن كذا فإن أراد به اليمين فهو يمين لأنه قد تحذف حروف
القسم، ولهذا روى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أخبر النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قتل أبا جهل، فقال الله انك قتلته؟ قال الله اني قتلته " وان لم يكن له
نية لم يكن يمينا لأنه لم يأت بلفظ القسم.
وان قال لاها الله ونوى به اليمين فهو يعين، لما روى أن أبا بكر الصديق
رضي الله عنه قال في سلب قتيل قتله أبو قتادة " لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد
من أسد الله تعالى يقاتل عن دين الله ورسوله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم صدق وان لم ينو اليمين لم يكن يمينا لأنه غير متعارف في
اليمين فلم يجعل يمينا من غير نية.
وان قال وأيم الله ونوى اليمين فهو يمين، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال
في أسامة بن زيد " وأيم الله، انه لخليق بالامارة فإن لم يكن له نية لم يكن يمينا
لأنه لم يقترن به عرف ولا نية
(الشرح) حديث عبد الله بن مسعود أخرجه أبو داود وأحمد بمعناه. وقال
في منتفى الاخبار: وإنما أدرك ابن مسعود أبا جهل وبه رمق فأجهز عليه. وروى
معنى ذلك أبو داود وغيره.
وقال في النيل شرح المنتفى: حديث ابن مسعود هو من رواية ابنه أبى عبيدة
عنه ولم يسمع منه، كما تقدم غير مرة
31

ولفظ مسند أحمد عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود " أنه وجد
أبا جهل يوم بدر وقد ضربت رجله وهو صريع يذب السيف عنه بسيف له،
فأخذه عبد الله بن مسعود فقتله به: فنقله رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه
هذا وقد خرج أحمد والبخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه قال
" بينا أنا واقف في الصف يوم بدر نظرت عن يميني فإذا أنا بين غلامين من
الأنصار حديثة أسنانهما تمنيت لو كنت بين أضلع منها، فغمزني أحدهما فقال
يا عم هل تعرف أبا جهل؟ قلت نعم، وما حاجتك إليه يا ابن أخي؟ قال أخبرت
أنه يسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق
سوادي سواده حتى يموت الأعجل منها. قال فعجبت لذلك، فغمزني الآخر فقال
مثلها فلم أنشب أن نظرت إلى أبى جهل يزول في الناس فقلت ألا تريان؟ هذا
صاحبكما الذي تسألان عنه، قال فابتدراه بسيفيهما حتى قتلاه ثم انصرفا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه، فقال أيكما قتله؟ فقال كل منهما أنا: فقال
هل مسحتما سيفيكما؟ قالا لا: فنظر في السيفين فقال كلاكما قتله، وقضى بسلبه
لمعاذ بن عمرو بن الجموح. والرجلان معاذ بن عمرو ومعاذ بن عفراء "
قال في الفتح بعد أن ذكر رواية ابن إسحاق. فهذا الذي رواه ابن إسحاق
بجميع بين الأحاديث لكنه يخالف ما في الصحيح من حديث عبد الرحمن بن عوف
فإنه رأى معاذا ومعوذا شدا عليه جميعا حتى طرحاه. وابن إسحاق يقول إن
ابن عفراء هو معوذ والذي في الصحيح معاذ. فيحتمل أن يكون معاذ بن عفراء
شد عليه مع معاذ بن عمرو كما في الصحيح وضربه بعد ذلك معوذ حتى أثبته ثم حز
رأسه ابن مسعود فتجتمع الأقوال كلها. واطلاق كونهما قتلاه يخالف في الظاهر
حديث ابن مسعود أنه وجده وبه رمق. وهو محمول على أنهما بلغا به بضربهما
إياه بسيفيهما منزلة المقتول حتى لم يبق له الا مثل حركة المذبوح. وفي تلك الحالة
لقيه ابن مسعود فضرب عنقه. على أن الرسول صلى الله عليه وسلم نقل ابن مسعود
السيف فقط جمعا بين الأحاديث
أما حديث أبي بكر رضي الله عنه فقد أخرجه أحمد والبخاري ومسلم عن أبي
قتادة بلفظ خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلما التقينا
32

كانت للمسلمين جولة قال فرأيت رجلا من المشركين قد علا رجلا من المسلمين
فاستدرت إليه حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه، وأقبل على فضمني
ضمة وجدت منها ريح الموت ثم أدركه الموت، فأرسلني فلحقت عمر بن الخطاب
فقال ما للناس؟ فقلت امرأته، ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه. قال فقمت فقلت من يشهد لي، ثم جلست
ثم قال مثل ذلك. قال فقمت فقلت من يشهد لي، ثم جلست. ثم قال ذلك الثالثة
فقمت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك يا أبا قتادة؟ فقصصت عليه
القصة، فقال رجل من القوم صدق يا رسول الله سلب ذلك القتيل عندي فأرضه
من حقي، فقال أبو بكر الصديق لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل
عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق
فأعطه إياه فأعطاني: قال فبعت الدرع فابتعت به مخرفا في بنى سلمة، فإنه لأول
مال تأثلته في الاسلام ".
ويؤخذ على المصنف قوله " لما روى أن أبا بكر الخ " هكذا بصيغة التمريض
مما لا يتناسب مع حديث متفق عليه في الصحيحين وفي غيرهما. وأما حديث
" وأيم الله " ذكره الحافظ الذهبي في سير أعلام النبلاء هكذا
إسماعيل بن جعفر وان عيينة عن عبد الله بن دينار سمع ابن عمر أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمر أسامة على قوم، فطعن الناس في إمارته فقال " إن
تطعنوا في إمارته فقد طعنتم في إمارة أبيه، وأيم الله إن كان لخليقا الامارة، وإن كان
لمن أحب الناس إلي، وإن ابنه هذا لأحب الناس إلي بعده " لفظ إسماعيل
" وان ابنه لمن أحب " إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبه عن سالم عن
أبيه فذكر نحوه وفيه " وإن كان أبوه لخليقا للامارة وإن كان لأحب الناس كلهم
إلي " قال سالم " ما سمعت أبي يحدث بهذا الحديث قط الا قال والله ما حاشا
فاطمة " انتهى.
وقد كان أسامة أسود أفطس لان أمه بركة الحبشية مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذكر محمد بن إسحاق حدثنا يزيد بن هارون قال حدثنا حماد بن سلمة عن هشام بن
33

عروة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الإفاضة من غرفة من أجل
أسامة بن زيد ينتظره، فجاء غلام أسود أفطس، فقال أهل اليمن إنما حبسنا من
أجل هذا، قال فلذلك كفر أهل اليمن من أجل هذا.
قال يزيد بن هارون " يعني ردتهم أيام أبي بكر الصديق ولما فرض عمر بن
الخطاب للناس فرض لأسامة خمسة آلاف ولعبد الله بن عمر ألفين، فقال ابن
عمر فضلت على أسامة وقد شهدت ما لم يشهد؟ فقال أن أسامة كان أحب إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم منك. وأبوه كان أحب إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم من أبيك
أما الأحكام، فحروف القسم ثلاثة. الباء وهي الأصل وتدخل على المظهر
والمضمر جميعا، والواو وهي بدل من الباء تدخل على المظهر دون المضمر لذلك
وهي أكثر استعمالا وبها جاءت أكثر الأقسام في الكتاب والسنة، وإنما كانت
الباء الأصل لأنها الحرف الذي تصل به الافعال القاصرة عن التعدي إلى مفعولاتها
والتقدير في القسم، أقسم بالله، كما قال تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) والتاء
بدل من الواو، وتختص باسم واحد من أسماء الله تعالى وهو الله ولا تدخل على
غيره، فيقال تالله. ولو قال تالرحمن أو تالرحيم لم يكن قسما، فإذا أقسم بأحد
هذه الحروف الثلاثة في موضعه كان قسما صحيحا لأنه موضوع له. وقد جاء في
كتاب الله تعالى وكلام العرب، قال الله تعالى (تالله لتسأل عما كنتم تفترون)
(تالله لقد آثرك الله علينا) (تالله تفتؤ تذكر يوسف) (تالله لقد علمتم) (وتالله
لأكيدن أصنامكم)
وقد اختلف أصحابنا فيه لما روى المزني في القسامة وما رواه الربيع في الأم
فرواية المزني أنه ليس بيمين، والصواب كما رواه الربيع في الأم
فإن قال ما أردت به القسم لم يقبل منه لأنه أتى باللفظ الصريح في القسم،
واقترنت به قرينة دالة، وهو الجواب بجواب القسم
وان قال بالله ونوى الاستعانة بالله والتحصن بالله أو الثقة بالله لم يكن يمينا
فإن أطلق كان يمينا وان لم ينو اليمين لأنه يؤخذ بلفظه
(فرع) وان أقسم بغير حرف القسم فقال الله لأقومن: بالجر أو النصب،
34

قال الشافعي لا يكون يمينا إلا أن ينوى لان ذكر اسم الله تعال بغير حرف
القسم ليس بصريح في القسم فلا ينصرف إليه إلا بالنية
وقال الحنابلة يكون يمينا لأنه سائغ في العربية، وقد ورد به عرف الاستعمال
في الشرع نوى أو لم ينو، ويجاب عن هذا بأنكم سوغتم اليمين للعامي إذا قال والله
بالرفع مع عدم جوازه في العربية قسما، وهذا تناقض فكيف بلفظ لم يرد فيه
حرف القسم ولم ينو به القسم، ومذهبنا أنه إذا أراد به اليمين انعقدت يمينه لان
العرف لم يجر بذلك وقال امرئ القيس
يمين الله أبرح قاعدا
وقال فقالت: يمين الله مالك حيلة
فهذا مصرح فيه بأنه يمين، فلا يقال عنه إنه لم ينوه. ويجاب عن القسم بأربعة
أحرف. حرفان للنفي هما ما ولا، وحرفان للاثبات وهما إن واللام المفتوحة،
وتقوم إن المكسورة مقام ما النافية، مثل قوله " وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى "
(فرع) وإن قال لا ها الله ونوى اليمين فهو يمين لما جاء في حديث أبي بكر رضي الله عنه
حين قال في سلب قتيل أبى قتادة لاها الله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله
يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق "
وإن لم ينو اليمين فالظاهر أنه لا يكون يمينا لأنه لم يقترن به عرف ولا نية، ولا
في جوابه حرف يدل على القسم، وهذا مذهب أحمد رضي الله عنه
(فرع) وإن قال وأيم الله ونوى اليمين فهو يمين موجبة للكفارة، وكذلك
وأيمن. وقال أصحاب أحمد هي موجبة للكفارة مطلقا وقد كان النبي صلى الله عليه
وسلم يقسم به، وقد اختلف في اشتقاقه، فقيل هو جمع يمين وحذفت فيه في
البعض تخفيفا لكثرة الاستعمال. وقيل هو من اليمين، فكأنه قال ويمين الله لأفعلن
وألفه ألف وصل. وذكر القلعي أنها تخفض بالقسم، والواو واو قسم عنده.
قال ابن بطال في شرح غريب المهذب " وذاكرت جماعة من أئمة النحو والمعرفة
فمنعوا من الخفض، وقال أيمن بنفسها آلة للقسم فلا يدخل على الآلة آلة
هكذا ذكر لي من يسمع التاج النحوي رئيس أهل العربية بدمشق
وقوله " أنه لخليق بالامارة " أي حقيق بها وجدير وقد خلق لذلك
35

قال المصنف رحمه الله.
(فصل) وإن قال لعمر الله ونوى به اليمين فهو يمين لأنه قد قبل معناه بقاء الله
وقيل حق الله وقيل علم الله، والجميع من الصفات التي تنعقد بها اليمين، فإن لم
يكن له نية ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يمين لان الشرع ورد به في اليمين، وهو قول الله عز وجل
(لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون)
(والثاني) أنه ليس بيمين، وهو طاهر النص لأنه غير متعارف في اليمين.
(فصل) وإن قال أقسمت بالله أو أقسم بالله لأفعلن كذا ولم ينو شيئا فهو
يمين لأنه ثبت له عرف الشرع وعرف العادة، فالشرع قوله عز وجل " فيقسمان
بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما) وقوله عز وجل (وأقسموا بالله جهد أيمانهم)
وعرف العادة أن الناس يحلفون بها كثيرا
وإن قال أردت بقولي أقسمت بالله الخبر عن يمين متقدمة، وبقولي أقسم
بالله الخبر عن يمين مستأنفة، قبل قوله فيما بينه وبين الله تعالى، لان ما يدعيه
يحتمله اللفظ، فأما في الحكم فالمنصوص في الايمان أنه يقبل
وقال في الايلاء إذا قال لزوجته أقسمت بالله لا وطئتك، وقال أردت به
في زمان متقدم أنه لا يقبل، فمن أصحابنا من قال لا يقبل قولا واحدا، وما
يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع، وعرف العادة - وقوله في
الايمان انه يقبل أراد به فيما بينه وبين الله عز وجل. ومنهم من قال لا يقبل في
الايلاء ويقبل في غيره من الايمان، لان الايلاء يتعلق به حق المرأة فلم يقبل
منه خلاف الظاهر، والحق في سائر الايمان لله عز وجل فقبل قوله. ومنهم من
نقل جوابه في كل واحدة من المسئلتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين
(أحدهما) يقبل لان ما يدعيه يحتمله اللفظ
(والثاني) لا يقبل لان ما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ في عرف الشرع
وعرف العادة، فإن قال شهدت بالله أو أشهد بالله لأفعلن كذا فإن نوى به اليمين
36

فهو يمين، لأنه قد يراد بالشهادة اليمين، وإن نوى بالشهادة بالله الايمان به فليس
بيمين لأنه قد يراد به ذلك. وإن لم يكن له نية ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يمين لأنه ورد به القرآن، والمراد به اليمين، وهو قوله عز
وجل (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين)
(والثاني) أنه ليس بيمين، لأنه ليس في اليمين بها عرف من جهة العادة.
وأما في الشرع فقد ورد، والمراد به اليمين وورد والمراد به الشهادة، فلم يجعل يمينا
من غير نية.
وإن قال أعزم بالله لأفعلن كذا - فإن أراد به اليمين - فهو يمين، لأنه
يحتمل أن يقول أعزم ثم يبتدئ اليمين بقوله بالله لأفعلن كذا. وإن أراد أنى
أعزم بالله، أي بمعونته وقدرته لم يكن يمينا، وإن لم ينو شيئا لم يكن يمينا لأنه
يحتمل اليمين ويحتمل العزم على الفعل بمعونة الله فلم يجعل يمينا من غير نية ولا
عرف. وإن قال أقسم أو أشهد أو أعزم ولم يذكر اسم الله تعالى لم يكن يمينا،
نوى به اليمين أو لم ينو، لان اليمين لا ينعقد إلا باسم معظم أو صفة معظمة
ليتحقق له المحلوف عليه، وذلك لم يوجد
(فصل) وإن قال أسألك بالله أو أقسم عليك بالله لتفعلن كذا - فإن أراد
به الشفاعة بالله عز وجل في الفعل - لم يكن يمينا، وإن أراد أن يحلف عليه
ليفعلن ذلك صار حالفا: لأنه يحتمل اليمين. وهو أن يبتدئ بقوله بالله لتفعلن
كذا، وان أراد أن يعقد للمسئول بذلك يمينا لم ينعقد لواحد منهما، لان السائل
صرف اليمين عن نفسه والمسؤول لم يحلف.
(فصل) إذا قال والله لأفعلن كذا ان شاء زيد أن أفعله، فقال زيد قد
شئت أن يفعله انعقدت يمينه لأنه علق عقد اليمين على مشيئته وقد وجدت، ثم
يقف البر والحنث على فعل الشئ وتركه، وان قال زيد لست أشاء أن يفعله لم
تنعقد اليمين لأنه لم يوجد شرط عقدها، وان فقدت مشيئته بالجنون أو الغيبة
أو الموت لم ينعقد اليمين، لأنه لم يتحقق شرط الانعقاد، ولا ينعقد اليمين به.
والله تعالى أعلم.
37

(الشرح) إذا قال لعمر الله - فإن قصد اليمين فهي يمين، والا فلا، ولعمره
الله. اللام لام القسم على المصدر المفتوح الذي فعله عمر يعمر كقتل يقتل،
فتقول لعمرك، والمعنى وحياتك وبقائك، ومنه اشتقاق العمرى. وقال أحمد
رضي الله عنه هي يمين موجبة للكفارة مطلقا حيث أقسم بصفة من صفات الذات
فكان يمينا موجبة للكفارة، كالحلف ببقاء الله، فإن معنى ذلك الحلف ببقاء
الله وحياته. وقال أبو حنيفة يقول أحمد رضي الله عنه
ولنا أنها تكون يمينا إذا نوى اليمين لأنها إنما تكون يمينا بتقدير خبر محذوف
فكأنه قال لعمر الله ما أقسم، فيكون مجازا: والمجاز لا ينصرف إليه الاطلاق.
وهذا قول هو وجه عندنا وظاهر يخالفه. وقد ثبت في القرآن الكريم القسم
به، كقوله (لعمرك انهم لفي سكرتهم يعمهون) وقال النابغة
فلا لعمر الذي زرته حججا * وما أريق على الأنصاب من جسد
وقال غيره، إذا رضيت كرام بنى قشير * لعمر الله أعجبني رضاها
وقال آخر: ولكن لعمر الله ما ظل مسلما * كغر الثنايا واضحات الملاغم
وان قال عمرك الله بحذف لام القسم نصب اسم الله تعالى فيه، لأنه يأتي بمعنى
نشدتك الله كما في قوله:
أيها المنكح الثريا سهيلا * عمرك الله كيف يلتقيان؟
وان قال لعمري أو لعمرك أو عمرك فليس بيمين خلافا لما ذهب إليه الحسن
البصري حيث جعل في قوله لعمري الكفارة
ولنا أنه أقسم بمخلوق فلم تلزمه الكفارة، كما لو قال وحياتي، وذلك لان
هذا اللفظ يكون قسما بحياة الذي أضيف إليه العمر، فإن التقدير: لعمرك قسمي
أو ما أقسم به.
(فرع) إذا قال أقسم بالله أو أقسمت بالله لأفعلن كذا كان يمينا، سواء
نوى أو أطلق، وهذا قول أهل العلم كافة، لا تعلم فيه خلافا، لأنه لو قال بالله
ولم يقل أقسم ولم يذكر الفعل كان يمينا، وذلك بتقدير الفعل قبله، لان الباء
تتعلق بفعل مقدر على ما ذكرناه: فإذا أطلق الفعل ونطق بالمقدر كان أولى
بثبوت حكمه - وقد ثبت له عرف الاستعمال - قال تعالى (فيقسمان بالله)
38

وقال تعالى (وأقسموا بالله جهد أيمانهم) وأنشد أعرابي عمر " أقسم بالله لتفعلنه "
وكذلك الحكم إن ذكر الفعل بلفظ الماضي فقال أقسمت بالله أو شهدت بالله.
قال عبد الله بن رواحة أقسمت بالله لتنزلنه. وإن أراد بقوله أقسمت بالله الخبر
عن قسم ماض أو بقوله أقسم بالله عن قسم يأتي به قبل قوله فيما بينه وبين الله
تعالى ولا كفارة عليه لان ما يدعيه يحتمله، وهل يقبل قوله في الحكم؟ فالذي
قاله الشافعي في الايمان أنه يقبل، وبه قال أحمد وأصحابه خلا القاضي.
وقال في الايلاء في صورة مماثلة، إذا قال لزوجته أقسمت بالله لا وطئتك.
وقال أردت به في زمان متقدم أنه لا يقبل، فقد قال بعض أصحابنا لا يقبل قولا
واحدا، وبه قال القاضي من الحنابلة، لان ما يدعيه خلاف ما يقتضيه اللفظ
في عرف الشرع وعرف العادة أو الاستعمال، وقالوا إن قوله في الايمان إنما أراد
به أن يقبل فيما بينه وبين الله تعالى.
ومن أصحابنا من قال هو على حالين يقبل في الايمان ولا يقبل في الايلاء،
وصرف كل قول على وجهه، لان حق المرأة لا يتعلق إلا بالظاهر فلم يقبل منه
خلافه، والحق في سائر الايمان متعلق بالله تعالى فقبل قوله. ومن أصحابنا من
جعلهما قولين. ونقل جواب كل مسألة منهما إلى الأخرى فتساويا، وأحد القولين
يقبل لاحتمال اللفظ ما يدعيه (والثاني) لا يقبل لمخالفة ما يدعيه لمقتضى اللفظ
والشرع والعرف والعادة والاستعمال.
(فرع) وإن قال أشهد بالله أو شهدت بالله لأفعلن كذا، فإن قصد به اليمين
انعقدت ولزمته الكفارة، وإن لم يقصد اليمين بأن قال أردت به الشهادة على أني
مؤمن يشهد بالوحدانية قبل منه لأنه يحتمل ذلك، وقد ورد اللفظ في الكتاب
الكريم بمعنى اليمين في قوله تعالى (فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله) كما ورد في
القرآن مرادا به الشهادة، ولذا جعلنا قصده مرجحا لاحد المعنيين. وان أطلق
ولم يعن شيئا في نيته فوجهان
(أحدهما) ينعقد يمينا لوروده في الشرع كذلك
(والثاني) لا ينعقد يمينا لوروده في الشرع بمعنى الشهادة ووروده بمعنى
اليمين، فلا يكون يمينا بغير نية.
39

وقال أصحاب أحمد شهد بالله تجرى مجرى أقسم بالله. وزعم ابن قسامة في
المغنى أنه قول عامة الفقهاء، وقال لا نعلم فيه خلافا، وقال وسواء نوى اليمين
أو أطلق لأنه لو قال أشهد ولم يذكر الفعل كان يمينا وإنما كان يمينا بتقدير
الفعل قبله، وما قرره ابن قدامة من كونه قول عامة الفقهاء غير صحيح كما عرفت
من مذهبنا من الفرق بين قوله أقسم بالله وقوله أشهد بالله
(فرع) وإن قال أعزم بالله لأفعلن كذا وعنى به اليمين فهو يمين، لأنه لو
قال بالله لأفعلن كذا احتمل أن يكون يمينا، فإذا قال قبل ذلك أعزم ثم ابتدأ
اليمين بقوله بالله احتمل كونه. فإذا أراد بذلك اليمين انعقد يمينا. وان أراد به
العزم بالله وعنى بمعونته وتأييده وقدرته وتوفيقه لم يكن يمينا وان أطلق لم يكن
يمينا لأنه خلا من النية كما خلا منه العرف والاستعمال فلم يكن يمينا. وبه قال
أحمد. فإذا تقرر هذا فإذا قال أشهد أو أقسم أو أعزم ويذكر اسم الله تعالى
لم يكن يمينا. سواء نوى به اليمين أو لم ينو. لان اليمين لا تنعقد بغير الله تعالى
وأسمائه وصفاته.
وقال ابن قدامة " وان قال أقسمت أو آليت أو حلفت أو شهدت لأفعلن
ولم يذكر بالله. فعن أحمد روايتان
(إحداهما) انها يمين. وسواء نوى اليمين أو أطلق. وروى نحو ذلك عن
عمر وابن عباس والنخعي والثوري وأبي حنيفة وأصحابه. وعن أحمد ان نوى
اليمين بالله كان يمينا والا فلا. وهو قول مالك وإسحاق. ابن المنذر لأنه يحتمل
القسم بالله وبغيره فلم تكن يمينا حتى يصرفه بنيته إلى ما تجب به الكفارة
ولنا انها ليست بيمين وان نوى. لأنها عريت عن اسم الله تعالى وصفته فلم
تكن يمينا كما لو قال أقسمت بالبيت أو أقسمت بالكعبة. وروى هذا عن عطاء
والحسن والزهري وقتادة وأبى عبيد. وما بقي من الفصول فعلى وجهها وقد
مضى توضيحها في الفروع آنفا.
على أن الذي تفتقر إليه هذه الفصول هو بيان
أحكام الحلف بالقرآن الكريم. فنقول ان الحلف بالقرآن أو بآية منه أو بكلام الله
يمين منعقدة تجب الكفارة بالحنث فيها. وبهذا قال ابن مسعود والحسن وقتادة
ومالك واحمد وأبو عبيد وعامة أهل العلم
40

قال أبو حنيفة وأصحابه: ليس بيمين ولا تجب به كفارة، فمنهم من زعم أنه
مخلوق. ومنهم من قال لا يعهد اليمين به. والحق أن القرآن كلام الله وصفة من
صفات ذاته فتنعقد اليمين به، كما لو قال وجلال الله وعظمته.
وقوله " هو مخلوق " فهذا كلام المعتزلة، وإنما الخلاف مع الفقهاء، ولا شك
أن مذاهب المتكلمين لها تأثيرها على تقرير أحكام الفروع عند الفقهاء وقد
روى عن ابن عمر مرفوعا أن القرآن كلام الله غير مخلوق
وقال ابن عباس في قوله تعالى " قرآنا عربيا غير ذي عوج " أي غير مخلوق.
إذا ثبت هذا فإن الحلف بآية منه كالحلف بجميعه لأنها من كلام الله تعالى. وان
حلف بالمصحف انعقدت يمينه، وكان قتادة يحلف بالمصحف. وقال ابن قدامة
ولم يكره ذلك إمامنا وإسحق، لان الحالف بالمصحف إنما قصد الحلف بالمكتوب
فيه وهو القرآن، فإنه بين دفتي المصحف بإجماع المسلمين
(مسألة) نص احمد رضي الله عنه على أن من حلف بحق القرآن لزمته بكل
آية كفارة يمين. وهو قول ابن مسعود والحسن (قلت) مذهبنا أن الواجب
كفارة واحدة وهو قياس المذهب عند الحنابلة وأبى عبيد، لان الحلف بصفات
الله كلها وتكرر اليمين بالله سبحانه لا يوجب أكثر من كفارة واحدة، فالحلف
بصفة واحدة من صفاته أولى أن تجزئه كفارة واحدة
ووجه الأول ما رواه مجاهد قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من
حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية كفارة يمين صبر، فمن شاء بر ومن شاء
فجر " رواه الأثرم، ولان ابن مسعود قال عليه بكل آية كفارة يمين. قال أحمد
وما أعلم شيئا يدفعه
قال في المغنى: ويحتمل أن كلام أحمد في كل آية كفارة على الاستحباب لمن
قدر عليه، فإنه قال عليه بكل آية كفارة يمين فإن لم يمكنه فكفارة واحدة. ورده
إلى واحدة عند العجز دليل على أن ما زاد عليها غير واجب، وكلام ابن مسعود
يحمل على الاختيار والاحتياط لكلام الله والمبالغة في تعظيمه، كما أن عائشة رض
أعتقت أربعين رقبة حين حلفت بالعهد - وليس ذلك بواجب - ولا يجب
أكثر من كفارة واحدة لقول الله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن
41

يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين " وهذه يمين فتدخل
في عموم الايمان المنعقدة، لأنها يمين واحده فلم توجب كفارات كسائر الايمان
ولان إيجاب كفارات بعدد الآيات يفضى إلى المنع من البر والتقوى والاصلاح
بين الناس، لأنه من علم أنه يحنثه تلزمه هذه الكفارات كلها ترك المحلوف عليه
كائنا ما كان، وقد يكون برا وتقوى وإصلاحا فتمنعه منه، وقد نهى الله تعالى
عنه بقوله (ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس)
والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى
باب جامع الايمان
إذا حلف لا يسكن دارا وهو فيها، فخرج في الحال بنية التحويل وترك رحله
فيها لم يحنث لان اليمين على سكناه وقد ترك السكنى فلم يحنث الرحل، كما لو
حلف لا يسكن في بلد فخرج وترك رحله فيه، وان تردد إلى الدار لنقل الرحل
لم يحنث، لان ذلك ليس بسكنى
وإن حلف لا يسكنها وهو فيها، أو لا يلبس هذا الثوب وهو لابسه، أو
لا يركب هذه الدابة وهو راكبها فاستدام حنث، لان الاسم يطلق على حال
الاستدامة، ولهذا تقول سكنت الدار شهرا ولبست الثوب شهرا وركبت الدابة
شهرا. وان حلف لا يتزوج وهو متزوج أو لا يتطهر وهو متطهر أو لا يتطيب
وهو متطيب فاستدام لم يحنث، لأنه لا يطلق الاسم عليه في حال الاستدامة،
ولهذا تقول تزوجت من شهر وتطهرت من شهر وتطيبت من شهر، ولا تقول
تزوجت شهرا وتطهرت شهرا وتطيبت شهرا
وإن حلف لا يدخل الدار وهو فيها فاستدام ففيه قولان: قال في الأم
يحنث لان استدامة الدخول كالابتداء في التحريم في ملك فكذلك في الحنث
في اليمين كاللبس والركوب
وقال في حرملة لا يحنث - وهو الصحيح - لان الدخول لا يستعمل في
42

الاستدامة ولهذا تقول دخلت الدار من شهر، ولا تقول دخلتها شهرا فلم يحنث
بالاستدامة، كما لو حلف لا يتطهر أو لا يتزوج فاستدام، فإن حلف لا يسافر
وهو في السفر فأخذ في العود لم يحنث، لأنه أخذ في ترك السفر، وان استدام
السفر حنث لأنه مسافر.
(الشرح) قوله " بنية التحويل " التحويل مصدر حول تحويلا وهو يلزم
ويتعدى، فيقال حولته تحويلا إذا غيرت موضعه، وحول هو تحويلا إذا انتقل
من موضع إلى موضع، وقد مضى في الحوالة بحث مادته واشتقاقاتها.
والرحل كل شئ بعد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للمطية وحلس ورسن
وجمعه أرحل ورحال، ورحل الشخص مأواه في الحضر، ثم أطلق على أمتعة
المسافر لأنها هناك مأواه، وفي الحديث " صلوا في رحالكم " أي في مأواكم
أما الأحكام فإن مبنى اليمين على لفظ الحالف، فإذا حلف صريحة عبارته
انصرفت يمينه إليها، سواء كان ما نواه موافقا لظاهر اللفظ أو مخالفا، فالموافق
للظاهر أن ينوى باللفظ موضوعه الأصلي مثل أن ينوى باللفظ العام العموم،
وبالمطلق الاطلاق، وسائر الألفاظ ما يتبادر إلى الافهام منها أو المخالف فإنه
يتنوع أنواعا:
(أحدها) أن ينوى بالعام الخاص، مثل أن يحلف لا يأكل لحما ولا فاكهة
ويريد لحما بعينه وفاكهة بعينها. ومنها أن يحلف على فعل شئ أو تركه مطلقا
وينوى فعله أو تركه في وقت بعينه. مثل أن يحلف أن لا يركب السيارة، وهو
يعنى الآن أو اليوم، أو يحلف لألبسن، يعنى الساعة
ومنها أن يعنى بقسمه غير ما يفهمه السامع منه كالمعاريض ونحوها. ومنها
أن يريد بالخاص العام. مثل أن يحلف لا شربت لفلان الماء من العطش، يعنى
قطع كل ما له فيه منة، أو لا يأوي مع امرأته في دار يريد جفاءها بترك اجتماعها
معه في جميع الدور.
في كل ما ذكرنا لا عبره عندنا بماء عساه أو نواه أو خالف لفظه، لان الحنث
مخالفة ما عقد عليه اليمين واليمين هو اللفظ، فلو أحنثناه على ما سواه لأحنثناه
43

على ما نوى لا على ما حلف، ولان النية بمجردها لا تنعقد بها اليمين فكذلك
لا يحنث بمخالفتها، وبهذا قال أبو حنيفة رضي الله عنه
وقال مالك وأحمد رضي الله عنهما: إذا نوى بيمينه ما يحتمله انصرفت يمينه
إليه، سواء خالف اللفظ أو وافقه، لان مبنى اليمين على النية
(فرع) إذا خلف لا يسكن دارا وهو ساكنها خرج من وقته، فإن تخلف
عن الخروج وأقام بعد يمينه زمنا حنث لان استدامة السكنى كابتدائها في وقوع
اسم السكنى عليها، ألا تراه يقول سكنت هذه الدار شهرا، كما يقول لبست هذا
الثوب شهرا، وبهذا قال أحمد وأصحابه.
وإن أقام لنقل رحله وقماشه لم يحنث، لان الانتقال لا يكون إلا بالأهل
والمال فيحتاج أن ينقل ذلك معه حتى يكون منتقلا
وحكى عن مالك أنه إن أقام دون اليوم والليلة لم يحنث، لان ذلك قليل
يحتاج إليه في الانتقال فلم يحنث به. وعن زفر أنه قال يحنث وان انتقل في الحال
لأنه لابد من أن يكون ساكنا عقيب يمينه ولو لحظة فيحنث بها وليس بصحيح
فإن ما لا يمكن الاحتراز منه لا يراد باليمين ولا يقع عليه. وأما إذا أقام زمنا
يمكنه الانتقال فيه فإنه يحنث لأنه فعل ما يقع عليه اسم السكنى فحنث به كموضع
الاتفاق ألا ترى أنه لو حلف لا يركب سيارة فوقف على سلمها أو تعلق بمؤخرتها
حنث وإن كان قليلا؟
(فرع) إذا أقام على متاعه وأهله حنث، وقال أبو حنيفة واحمد لم يحنث
لان الانتقال لا يكون الا بالأهل والمال ولا يمكنه التحرز من هذه الاستدامة
فلا يقع اليمين عليها. وعلى هذا إن خرج بنفسه وترك أهله وماله في المسكن مع
إمكان نقلهم عنه حنث
ولنا أن لا يحنث إذا خرج بنية الانتقال، لأنه إذا خرج بنية الانتقال فليس
بساكن - ولأنه يجوز أن يريد السكنى وحده دون أهله وماله - وعند احمد
وأبي حنيفة ان السكنى لا يكون الا بالأهل والمال، ولهذا يقال فلان ساكن بالبلد
الفلاني وهو غائب عنه بنفسه. وإذا نزل بلدا بأهله وماله يقال سكنه، ولو نزله
نفسه لا يقال سكنه.
44

هذا كلامهم وهو ظاهر الخطأ، لان المرء قد يموت أبواه أو ينفصل عنهما
ولما يتزوج بعد ثم يسكن أنى شاء وحده، وحكى عن مالك أنه اعتبر نقل عياله
دون ماله، والأولى إن شاء الله أنه إذا انتقل إلى مسكن آخر لا يحنث وإن بقي متاعه
في الدار، لان مسكنه حيث حل هو، وضع في المسكن الذي نزل فيه ما يتأثث
به أو لم يضع، ما دام قد تحقق حلوله فيه من إجارة أو تملك أو اتهاب
(فرع) وإن أكره على المقام لم يحث، وكذلك إن كان في جوف الليل في
وقت لا يجد فيه منزلا يتحول إليه، أو يحول بينه وبين المنزل أبواب مغلقة لا يمكن
فتحها أو خوف على نفسه أو أهله أو ماله فأقام في طلب النقلة أو انتظارا لزوال
المانع منها لم يحنث: وإن خرج طالبا للنقلة فتعذرت عليه إما لكونه لم يجد مسكنا
يتحول إليه لتعذر الكراء واكتظاظ المساكن بأهلها ونذرة الخالي منها أو يوجد
في مقابل مبلغ كبير لا يطيقه ولا يتيسر له أداؤه، أو لم يجد من يحمل أمتعته
كسيارة أو دابة أو حمال ولا يمكنه النقلة بدونها فأقام حنث وعليه الكفارة
وقال الحنابلة لم يحنث لان إقامته عن غير اختيار منه لعدم تمكنه من النقلة
(فرع) فإن حلف لا يتزوج ولا يتطيب ولا يتطهر فاستدام ذلك لم يحنث
في قولهم جميعا، لأنه لا يطلق على من استدامها اسم الفعل، فلا يقال تزوجت
شهرا، ولا تطيبت شهرا، وإنما يقال منذ شهر، ولم ينزل الشارع استدامة
التزويج والطيب منزلة ابتدائها في تحريمه في الاحرام وإيجاب الكفارة فيه
(فرع) وان حلف لا يدخل دارا هو فيها فأقام فيها ففيه قولان أصحهما ما رواه
حرملة أنه لا يحنث.
وعن أحمد روايتان، إحداهما يحنث. قال أحمد في رجل حلف على امرأته
لا دخلت أنا وأنت هذه الدار وهما جميعا فيها، قال أخاف أن يكون حنث.
والثانية لا يحنث، ذكرها ابن قدامة عن القاضي واختارها أبو الخطاب.
وهو قول أصحاب الرأي، لان الدخول لا يستعمل في الاستدامة، ولهذا يقال
دخلتها منذ شهر ولا يقال دخلتها شهرا فجزى مجرى التزويج، ولان الدخول
الانفصال من خارج إلى داخل فلا يوجد هذا المعنى في الإقامة والمكث
45

قال ابن قدامة: ويحتمل أن من أحنثه إنما كان لان ظاهر حال الحالف أنه
يقصد هجران الدار ومباينتها: والإقامة فيها تخالف ذلك فجرى مجرى الحالف على
ترك السكنى به أه.
(فرع) فإن حلف لا يلبس ثوبا وهو لابسه فإن نزعه في الحال وإلا حنث
وكذلك إن حلف لا يركب دابة هو راكبها - فإن نزل في أول حالة الامكان
والا حنث، وبهذا قال أحمد وأصحاب الرأي. وقال أبو ثور لا يحنث باستدامته
اللبس والركوب حتى يبتدئه. لأنه لو حلف لا يتزوج ولا يتطهر فاستدام ذلك
لم يحنث. كذا ههنا
دليلنا أن استدامة اللبس والركوب تسمى لبسا وركوبا، ويسمى به لابسا
وراكبا. ولذلك يقال ليست هذا الثوب شهرا، وركبت دابتي يوما فحنث
باستدامته، كما لو حلف لا يسكن فاستدام السكنى، وقد اعتبر الشرع هذا في
الاحرام حيث حرم لبس المخيط فأوجب الكفارة في استدامته كما أوجبها في ابتدائه
وفارق التزويج فإنه لا يطلق على الاستدامة فلا يقال تزوجت شهرا. وإنما يقال
منذ شهر. ولهذا لم تحرم استدامته في الاحرام كابتدائه
(فرع) ان حلف لا يسافر وكان في السفر فإن سدر في سفره حنث وإن
أخذ في العود لم يحنث ولو كانت مسافة العود أكبر من قدر مسافة القصر.
وذلك لأنه يعتبر آخذا في ترك السفر
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان حلف لا يساكن فلانا - وهما في مسكن واحد. ففارق
أحدهما الآخر في الحال وبقي الآخر - لم يحنث لأنه زالت المساكنة. وإن سكن
كل واحد منهما في بيت من خان أو دار كبيرة. وانفرد كل واحد منهما بباب
وغلق لم يحنث لأنه ما ساكنه. فإن حلف لا يدخل دار فأدخل إحدى الرجلين
أو أدخل رأسه إليها لم يحنث، وان حلف لا يخرج من دار فأخرج إحدى الرجلين
أو أخرج رأسه منها لم يحنث. لان النبي صلى الله عليه وسلم كان معتكفا وكان
يدخل رأسه إلى عائشة لترجله " ولان كمال الدخول والخروج لا يحصل بذلك.
46

(فصل) وإن حلف لا يدخل دارا فحصل في سطحها وهو غير محجر لم
يحنث، وقال أبو ثور يحنث لان السطح من الدار. وهذا خطأ لأنه حاجز بين
داخل الدار وخارجها فلم يصر بحصوله فيه داخلا فيها، كما لو حصل على حائط
الدار وإن كان محجرا ففيه وجهان
أحدهما يحنث لأنه يحيط به سور الدار
والثاني لا يحنث، وهو ظاهر النص لأنه لم يحصل في داخل الدار، وإن كان في
الدار نهر فطرح نفسه في الماء حتى حمله إلى داخل الدار حنث لأنه دخل الدار.
وإن كان في الدار شجرة منتشرة الأغصان فتعلق بغصن منها ونزل فيها حتى أحاط
به حائط الدار حنث. وإن نزل فيه حتى حاذى السطح فإن كان غير محجر لم يحنث
وإن كان محجرا فعلى الوجهين
(الشرح) حديث اعتكاف الرسول في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها
قالت " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخل على رأسه وهو في المسجد
فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة إذا كان معتكفا "
أما غريب الفصل فقوله " بيت من خان " قال في المصباح: والخان ما ينزله
المسافرون. والجمع خانات.
(قلت) لعله مكان كان يقوم مقام الفندق في عصرنا هذا، إلا أن الخان
فيما مضى كان فيه مكان فسيح تأوى إليه الدواب، ومستودع لبضائع المسافرين
وأمتعتهم. وقوله " غير محجر " المحجر الذي عليه بناء يحيط به ومنه سميت الحجرة
وسور الدار ما يحيط به.
أما الأحكام فإنه إذا حلف لا يساكن فلانا فالحكم في الاستدامة على ما ذكرنا
في الحلف على السكنى. وإن انتقل أحدهما وبقي الآخر لم يحنث لزوال المساكنة
وإن سكنا في دار واحدة - وكل واحد في بيت ذي باب وقفل أو غلق - فإن
كانت الدار صغيرة فهما متساكنان، لان الصغيرة مسكن واحد، وإن كانت
كبيرة إلا أن أحدهما في البيت والآخر في الصفة، أو كانا في صفتين أو بينتين
ليس على أحدهما غلق دون صاحبه فهما متساكنان، وإن كانا في بيتين كل واحد
47

منهما ينفرد بمسكنه دون الآخر فأشبها المتجاورين كل واحد منهما ينفرد بمسكنه
وقالت الحنابلة: انهما في دار واحدة فكانا متساكنين كالصغيرة، وفارق
المتجاورين في الدارين فإنهما ليسا متساكنين، ويمينه على نفي المساكنة لا على
المجاورة. ولو كانا في دار واحدة حالة اليمين فخرج أحدهما منها وقسماها حجرتين
وفتحا لكل واحدة منهما بابا وبينهما حاجز، ثم سكن كل واحد منهما في حجرة
لم يحث لأنهما غير متساكنين
(فرع) إذا تشاغلا ببناء الحاجز بينهما وهما متساكنان حنث، لأنهما تساكنا
قبل انفراد إحدى الدارين من الأخرى، وبهذا قال أحمد وأصحاب الرأي وأهل
المدينة ولا نعلم فيه خلافا
(فرع) ان حلف لا ساكنت فلانا في هذه الدار فقسماها حجرتين وبنيا
بينهما حائطا وفتح كل واحد منهما لنفسه بابا ثم سكنا فيهما لم يحنث لما ذكرنا في
التي قبلها. وهذا قول أحمد وابن المنذر وأبي ثور وأصحاب الرأي. وقال مالك:
لا يعجبني ذلك لكونه عين الدار ولا ينحل بتغيرها
(فرع) إن حلف لا يخرج من دار فأخرج يده أو رجله أو رأسه لم يحنث
بلا خلاف، سواء كان لحاجة أم غيرها. أما الخروج بكل بدنه أو أخرج رجليه
واعتمد عليهما وبقى رأسه داخل الدار حنث، فإذا قعد معتمدا على مقعدته
وأخرج رجليه مادهما إلى الخارج فلا يحنث على الصحيح لما ذكر في الاعتكاف
من أن اعتكافه لا يبطل، فلم يحنث في يمينه، لان كمال الخروج والدخول
لا يحصل بذلك.
(فرع) قوله " وإن حلف لا يدخل دارا فحصل في سطحها الخ " قلت، قال
الشافعي لا يحنث. ولأصحابنا فيما إذا كان محجرا وجهان، وظاهر النص أنه
لا يحنث. وقال أحمد يحنث، سواء كان السطح محجرا أم لا، بهذا قال مالك
وأبو ثور وأصحاب الرأي - وهذا خطأ - لان السطح حاجز بين داخل الدار
وخارجها، كسطح المسجد فإنه لا يعد من المسجد ولا يجوز الاعتكاف فيه،
كما لا يجوز الاعتكاف في منارته على ما مضى في الاعتكاف، وعند الحنابلة يصح
الاعتكاف في سطح المسجد
48

قوله " فتعلق بغصن منها ونزل الخ " وجملة ذلك أنه إن تعلق بغضن شجرة في
الدار ولم يكن بين حيطانها لم يحنث، فإن نزل حنث، وفي وجه عند الحنابلة
وأبي ثور وأصحاب الرأي أنه إذا تعلق بغصن شجرة في الدار وإن لم ينزل
بين حيطانها لأنه في هوائها، وهواؤها ملك لصاحبها فأشبه ما لو قام على سطحها
لأنه يحنث بصعود السطح عندهم كما ذكرنا آنفا، وكذلك إن كانت الشجرة في
غير الدار فتعلق بفرع ماد على الدار في مقابلة سطحها، فإن قام على حائط الدار
احتمل عندهم وجهين.
أحدهما أنه يحنث لأنه داخل في حدها فأشبه القائم على سطحها
والوجه الثاني وهو المذهب عندنا: لا يحنث لأنه لا يسمى دخولا، وإن
قام في طاق الباب فكذلك لأنه بمنزلة حائطها. وإن حلف أن لا يضع قدمه في
الدار فدخلها راكبا أو ماشيا منتعلا أو حافيا حنث، كما لو حلف أن لا يدخلها
وبهذا قال أصحاب الرأي وأحمد. وقال أبو ثور: إن دخلها راكبا لم يحنث لأنه
لم يضع قدمه فيها.
دليلنا أنه قد دخل الدار فحنث، كما لو دخلها ماشيا، ولا نسلم أنه لم يضع
قدمه فيها، فإن قيمه موضوعة، فإن كان في الدار نهر فدخلها في سفينة أو زورق
فقدمه في الزورق أو على الدابة فأشبه ما لو دخلها منتعلا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن حلف لا يدخل دار زيد هذه فباعها ثم دخلها حنث، لان
اليمين على عين مضافة إلى مالك فلم يسقط الحنث فيه بزوال الملك، كما لو حلف
لا يكلم زوجة فلأن هذه فطلقها ثم كلمها وإن حلف لا يدخل دار زيد فدخل
دارا لزيد وعمر ولم يحنث لان اليمين معقودة على دار جميعها لزيد. وإن حلف
لا يدخل دار زيد فدخل دارا يسكنها زيد بإعارة أو إجارة أو غصب - فإن
أراد مسكنه - حنث لأنه يحتمل ما نوى، وإن لم يكن له نية لم يحنث.
وقال أبو ثور: يحنث، لان الدار تضاف إلى الساكن، والدليل عليه قوله
49

تعالى " لا تخرجوهن من بيوتهن " فأضاف بيوت أزواجهن إليهن بالسكنى، وهذا
خطأ، لان حقيقة الإضافة تقتضي ملك العين، ولهذا لو قال: هذه الدار لزيد
جعل ذلك إقرارا له بملكها
(فصل) وإن حلف لا يدخل هذه الدار فانهدمت وصارت ساحة أو جعلت
حانوتا أو بستانا فدخلها لم يحنث لأنه زال عنها اسم الدار. وإن أعيدت بغير
تلك الآلة لم يحنث بدخولها لأنها غير تلك الدار، وإن أعيدت بتلك الآلة ففيه
وجهان، أحدهما لا يحنث، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأنها غير تلك الدار
والثاني أنه يحنث لأنها عادت كما كانت
(الشرح) إن حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا له يسكنها بأجرة أو عارية
أو غصب لم يحنث.
وقال أحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي يحنث، لان الدار تضاف إلى ساكنها
كإضافتها إلى مالكها. قال تعالى " لا تخرجوهن من بيوتهن " أراد بيوت أزواجهن
التي يسكنها. وقال تعالى " وقرن في بيوتكن " ولان الإضافة للاختصاص،
وكذلك ساكن الدار مختص بها فكانت إضافتها إليه صحيحة، وهي مستعمله في
العرف فوجب أن يحنث بدخولها كالمملوكة له
ولنا أن الإضافة في الحقيقة إلى المالك بدليل أنه لو قال هذه الدار لفلان كان
مقرا له بملكها، ولو قال أردت أنه يسكنها لم يقبل لان حقيقة الإضافة تقتضي
ملك العين، وأن إضافة البيت إلى ساكنه إضافة مجازية، ولو سلمنا بإحلال المجاز
مكان الحقيقة لا نسلخ الناس من أيمانهم.
وان حلف لا يدخل دار زيد هذه واسم الإشارة هنا ينصرف إلى عين
مضافة إلى زيد حنث ولا يسقط الحنث هنا بزوال الملك. ومثاله لو حلف لا يكلم
زوجة فلان فطلقها ثم كلهما حنث
(فرع) ولو حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة أستأجرها فلان هذا
فقياس المذهب أنه لا يحنث لما قررنا من أن الإضافة تقتضي حقيقة الملك،
وكذلك ان ركب دابة استعارها فلان لم يحنث وعند الحنابلة أنه يحنث في الأولى
50

ولم يحنث في الثانية، وكذلك القول فيما إذا اغتصبها فإنه لا يحنث في قول الجميع.
وما بقي من الفصلين فعلى وجهه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن حلف لا يدخل هذه الدار من هذا الباب فقلع الباب ونصبه
في مكان آخر وبقى الممر الذي كان عليه الباب فدخلها من الممر حنث. وإن دخلها
من الموضع الذي نصب فيه الباب لم يحنث. ومن أصحابنا من قال: إن دخل من
الممر الذي كان فيه الباب لم يحنث لأنه لم يدخل من ذلك الباب، لان الباب نقل
وهذا خطأ لان الباب هو الممر الذي يدخل ويخرج منه دون المصراع المنصوب
والممر الأول باق فتعلق به الحنث
وإن حلف لا يدخل هذه الدار من بابها أو لا يدخل من باب هذه الدار
فسد الباب وجعل الباب في مكان آخر فدخلها منه ففيه وجهان
أحدهما أنه لا يحنث. وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، وهو المنصوص في
الأم، لان اليمين انعقدت على باب موجود مضاف إلى الدار، وذلك هو الباب
الأول فلا يحنث بالثاني، كما لو حلف لا يدخل دار زيد فباع زيد داره ثم دخلها
والثاني وهو قول أبي إسحاق انه يحنث وهو الأظهر لان اليمين معقودة على بابها
وبابها الآن هو الثاني فتعلق الحنث به، كما لولا يدخل دار زيد فباع زيد
داره واشترى أخرى. فإن الحنث بتعلق بالدار الثانية دون الأولى
(فصل) وان حلف لا يدخل بيتا فدخل مسجدا أو بيتا في الحمام لم يحنث
لان المسجد وبيت الحمام لا يدخلان في إطلاق اسم البنت، ولان البيت اسم لما
جعل للايواء والسكنى، والمسجد وبيت الحمام لم يجعل لذلك، فإن دخل بيتا من
شعر أو أدم نظرت، فإن كان الحالف ممن يسكن بيوت الشعر والأدم حنث
وإن كان ممن لا يسكنها ففيه وجهان
أحدهما وهو قول أبى العباس بن سريج أنه لا يحنث لان اليمين تحمل على
العرف، ولهذا لو حلف لا يأكل الرموس حمل على ما يتعارف أكله منفردا
وبيت الشعر والأدم غير متعارف للقروي فلم يحنث به
51

والثاني وهو قول أبي إسحاق وغيره أنه يحنث لأنه بيت جعل للايواء والسكنى
فأشبه بيوت المدر. وقولهم إنه غير متعارف في حق أهل القرى يبطل بالبيت من
المدر فإنه غير متعارف في حق أهل البادية ثم يحنث به، وخبز الأرز غير متعارف
في حق غير الطبري ثم يحنث بأكله إذا حلف لا يأكل الخبز
(الشرح) إن حلف لا يدخل هذه الدار من بابها بهذا فدخلها من غير الباب
أي من الممر بعد تجريده من الباب حنث، وإن دخلها من الممر الآخر الذي
وضع فيه الباب لم يحنث، ومن أصحابنا من قال: إن دخل من الممر الذي كان فيه
الباب لم يحنث لان الباب قد انتزع وهو قد حلف على الدخول منه، فإن دخل
من الممر الذي ركب فيه حنث، والى هذا ذهب أحمد وأصحابه. وهذا خطأ،
لان الباب هو الممر الذي منه الدخول والخروج، وليس هو المصراع القائم
المتحرك، ولما كان الممر باقيا تعلق الحنث به
وإن حلف لا يدخل من باب هذه الدار فعمل لها باب آخر في مكان آخر
فدخلها منه ففيه وجهان
أحدهما المنصوص في الأم، واليه ذهب أبو علي بن أبي هريرة أنه لا يحنث
لتعلق اليمين بباب قائم مضاف إلى الدار، وهو الباب الأول، فلا تنعقد اليمين
على الباب الثاني.
والثاني وهو قول أبي إسحاق الأسفراييني، وهو مذهب أحمد رضي الله عنه
أنه يحنث، لأنه دخلها وقد حلف أن لا يدخلها من بابها، وقد صار هذا الباب
الأخير بابها فينعقد اليمين به، كما لو حلف لا يدخل دار زيد فباع زيد داره
واشترى أخرى، فإن الحنث يرتبط بالأخرى ارتباطه بالأولى قبل بيعها، ولا
يتعلق اليمين بالأول بعد بيعها. وان قلع الباب ونصب في دار أخرى وبقى الممر
حنث بدخوله ولم يحنث بدخوله من الموضع الذي نصب فيه الباب لأنها دار
أخرى: لان الدخول من الممر لا من المصراع
(مسألة) إذا حلف أن لا يدخل بيتا فدخل مسجدا أو حماما عاما،
ومثل ذلك ما صنع على الشواطئ من أكشاك الاستراحة وخلع الملابس فإنه
52

لا يحنث بدخولها. وإن كان من أهل الحضر فحلف أن لا يدخل بيتا فدخل خباء
من الشعر أو الوبر فإنه لا يحنث في وجه قال به ابن سريج ويحنث في وجه قال به
أبو إسحاق الأسفراييني وغيره، لان وظيفة البيت الايواء، وبه قال أحمد بن
حنبل وأكثر الفقهاء ومنهم أصحاب أحمد أنه لا يحنث لأنه لا يسمى بيتا في العرف
ورجح ابن قدامة أن المذهب الحنث لأنهما بيتان حقيقة لقوله تعالى " في بيوت
أذن الله أن ترفع " وقال " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا " وروى
" بئس البيت الحمام " وقوله صلى الله عليه وسلم " ستفتح لكم بلاد الروم وستجدون
فيها بيوتا تسمى الحمامات، فإذا دخلتموها فائتزروا بالمآزر " وقالوا: إذا دخل
الحضري بيتا من الشعر أو غيره حنث، سواء كان الحالف حضريا أو بدويا
لقوله تعالى " والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الانعام بيوتا
تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم "
فأما ما لا يسمى بيتا في العرف كالخيمة والكشك فالأظهر أن لا يحنث
بدخوله من لا يسميه بيتا لان يمينه لا تنصرف إليه
قوله " في حق غير الطبري " قلت نسبة إلى طبرستان بفتح الباء وكسر الراء
لالتقاء الساكنين وسكون السين اسم بلاد بالعجم، وهي مركبة من كلمتين واليها
ينسب أبو علي الطبري وابن جرير المفسر وجماعة من أصحابنا. وأما طبرية وهي
مدينة من أعمال فلسطين - أعادها الله إلى الاسلام من يد اليهود - فإن النسبة
إليها طبراني على غير قياس - واليها ينسب صاحب المعاجم الثلاثة رحمه الله -
وأهل طبرستان كانوا يصنعون الخبز من الأرز، ومراد المصنف أن غير الطبري
إذا حلف أن لا يأكل الخبز فإنه يحنث إذا أكل خبز الأرز
وقوله " المصراع " هو الشطر وهما مصراعان أي لوحان. وقوله " القروي "
نسبة إلى القرية وهي الضيعة
وقال في كفاية المتحفظ: القرية كل مكان اتصلت به الأبنية واتخذ قرارا.
وتقع على المدن وغيرها والجمع قرى على غير قياس. قال بعضهم: لان ما كان
على فعلة من المعتل فبابه أن يجمع على فعال بالكسر مثل ظبية وظباء، وركوة
وركاء والنسبة إليها قروي بفتح الراء على غير قياس
53

وقال ابن بطال: القرية سميت بذلك لأنها تجمع الناس من قرى إذا جمع
ويقال قرية لغة يمانية ولعلها جمعت على قرى مثل لحية ولحى.
وقوله " بيوت المدر " والمدر جمع مدرة مثل قصب وقصبة، وهو التراب
المتلبد. قال الأزهري: المدر قطع الطين وبعضهم يقول: الطين العلك الذي
لا يخالطه رمل. والعرب تسمى القرية مدرة، لان بنيانها غالبا من المدر
وفلان سيد مدرته، أي قريته، ومدرت الحوض مدرا من باب قتل، أصلحته
بالمدر وهو الطين.
(فرع) إذا حلف أن لا يدخل البيت فوقف في الدهليز أو الفناء أو الصفة
هل يحنث؟ وجهان. الأول لا يحنث، واليه ذهب أحمد، لأنه لا يسمى بيتا،
حيث يقال ما دخلت البيت إنما وقفت في الدهليز أو الصحن أو الفناء.
الثاني: يحنث لأنه يمكن أن يقال: أمان أهل مكة أن من دخل بيت أبي سفيان
فهو آمن، ويشمل ذلك من كان في الفناء أو الصحن أو الصفة - وبهذا قال
أبو حنيفة لان جميع الدار بيت.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان حلف لا يأكل هذه الحنطة فجعلها دقيقا، أو لا يأكل هذا
الدقيق فجعله عجينا، أو لا يأكل هذا العجين فجعله خبزا لم يحنث بأكله
وقال أبو العباس يحنث لان اليمين تعلقت بعينه فتعلق الحنث بها. وان زال
الاسم، كما لو حلف لا يأكل هذا الحمل فذبحه وأكله، والمذهب الأول، لأنه
علق اليمين على العين والاسم ثم لا يحنث بغير العين، فكذلك لا يحنث بغير الاسم
ويخالف الحمل لأنه لا يمكن أكله حيا، والحنطة يمكن أكلها حبا، ولان الحمل.
ممنوع من أكله في حال الحياة من غير يمين فلم يدخل في اليمين، والحنطة غير ممنوع
من أكلها فتعلق بها اليمين.
وان حلف لا يأكل هذا الرطب فأكله وهو تمر، أو لا يأكل هذا الحمل
فأكله وهو كبش، أو لا يكلم هذا الصبي فكلمه وهو شيخ، ففيه وجهان
54

(أحدهما) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه لا يحنث كما لا يحنث في الحنطة
إذا صارت دقيقا فأكله.
(والثاني) أنه يحنث لان الانتقال حدث فيه من غير صنعة، وفي الحنطة
الانتقال حدث فيها بصنعة، وهذا لا يصح لأنه يبطل به إذا حلف لا يأكل هذا
البيض فصار فرخا، أو لا يأكل هذا الحب فصار زرعا فإنه لا يحنث. وإن كان
الانتقال حدث فيه من غير صنعة
وإن حلف لا يشرب هذا العصير فصار خمرا، أو لا يشرب هذا الخمر فصار
خلا فشربه لم يحنث كما قلنا في الحنطة إذا صارت دقيقا. وإن حلف لا يلبس هذا
الغزل فنسج منه ثوبا حنث بلبسه، لان الغزل لا يلبس إلا منسوجا فصار كما
لو حلف لا يأكل هذا الحيوان فذبحه وأكله.
(فصل) وإن حلف لا يشرب هذا السويق فأستفه، أو لا يأكل هذا الخبز
فدقه وشربه أو ابتلعه من غير مضغ لم يحنث، لان الافعال أجناس مختلفة
كالأعيان، ثم لو حلف على جنس من الأعيان لم يحنث بجنس آخر، فكذلك إذا
حلف على جنس من الافعال لم يحنث بجنس آخر
وإن حلف لا يذوق هذا الطعام فذاقه ولفظه ففيه وجهان. أحدهما لا يحنث
لأنه لا يوجد حقيقة الذوق ما لم يزدرده، ولهذا لا يبطل به الصوم. والثاني أنه
يحنث لان الذوق معرفة الطعم وذلك يحصل من غير ازدراد، وإن حلف لا يذوقه
فأكله أو شربه حنث لأنه قد ذاق وزاد عليه. وإن حلف لا يأكل ولا يشرب
ولا يذوق فأوجر في حلقه حتى وصل إلى جوفه لم يحنث، لأنه لم يأكل ولم
يشرب ولم يذق.
وان قال: والله لا طعمت هذا الطعام فأوجر في حلقه حنث، لان معناه
لا جعلته لي طعاما وقد جعله طعاما له.
(الشرح) ان حلف على شئ بعينه وصفته فتغيرت صفته تبعا لتغير هيئته
كمن حلف لا يأكل هذه الحنطة فطحنها دقيقا، فإنها سميت دقيقا، أو حلف
لا يأكل هذا الدقيق فعجنه عجينا، أو لا يأكل هذا العجين في التنور خبزا.
55

كل هذه الصور لم يحنث بأكلها، لان اليمين تعلقت على العين والصفة، فكما أنه
لا يحنث بغير العين فكذلك لا يحنث بغير الصفة.
وقال أبو العباس بن سريج: يحنث لان اليمين تنعقد على العين والعين باقية
وزوال الصفة لا يؤثر في جوهرها، كما لو حلف لا يأكل هذا الحمل فذبحه وأكله
فإنه يحنث، والى هذا ذهب أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، والمذهب الأول
لما قررنا من اجتماع العين والاسم، ويفارق الحمل لان أكله حيا ممنوع بالشرع
وممنوع بالعرف بغير يمين
(فرع) " وان حلف لا يأكل هذا الرطب الخ " إذا تغيرت حقيقة الشئ
بصنعة فلا يتعلق الحنث به. أما إذا تغير بغير صنعة كمن حلف لا يأكل الرطب فأكله
تمرا، أو لا يأكل هذا الحمل فأكله كبشا أو لا يكلم هذا الصبي فكلمه شيخا ففيه
وجهان. ذهب أبو علي بن أبي هريرة إلى أنه لا يحنث كما قلنا في الحنطة صارت
دقيقا (والثاني) أنه يحث لما ذكره المصنف. وذهب أصحاب الرأي وأحمد بن
حنبل إلى أنه لا يحنث، لأنه إذا لم يعنى المحلوف عليه ولم ينو بيمينه ما يخالف
ظاهر اللفظ ولا صرفه السبب عنه تعلقت يمينه بما تناوله الاسم الذي علق عليه
يمينه ولم يتجاوزه، فإذا حلف لا يأكل رطبا لم يحنث إذا أكل تمرا ولا بسرا
ولا بلحا ولا سائر ما لا يسمى رطبا: وهذا في قول أكثر الفقهاء وقال ابن قدامة
ولا نعلم فيه خلافا.
ولو حلف لا يأكل عنبا فأكل زبيبا أو دبسا أو خلا أو ناطقا أو لا يكلم
شابا فكلم شيخا، أولا يشترى جديا فاشترى تيسا، أو لا يضرب عبدا فضرب
عتيقا لم يحنث بغير خلاف لان اليمين تعلقت بالصفة دون العين ولم توجد الصفة
فجرى مجرى قوله: لا أكلت هذه التمرة فأكل غيرها.
(فرع) فإن حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا - وهو الذي بعضه بسر
وبعضه تمر - أو مذنبا - وهو الذي بدأ الأرطاب فيه من ذنبه وباقيه بسر -
أو حلف لا يأكل بسرا فأكل مذنبا ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو الأظهر أنه يحنث، لأنه أكل رطبا وبسرا فحنث، كما لو
أكل نصف رطبة ونصف بسرة منفردتين. وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد ومحمد
56

ابن الحسن (والثاني) لا يحنث، لأنه لا يسمى رطبا ولا تمرا، وهو قول
أبى يوسف وبعض أصحابنا
(مسألة) قوله " فاستقه " من سقفت الدواء وغيره من كل يابس إذا أخذته
غير ملتوت، وكل دواء غير مذاب أو معجون فهو سفوف. والازدراء الالتقام
والبلغ من غير مضغ ولا لوك.
أما جملة الفصل أن من حلف لا يأكل شيئا فشربه أو لا يشربه فأكله أو سفه
فإنه لا يحنث، وبه قال أبو ثور وأصحاب الرأي، لان الافعال أنواع كالأعيان.
وكما لو حلف على نوع من الأعيان لم يحث بغيره فكذلك الافعال، وهي إحدى
الروايتين عن أحمد رواها منها فيمن خلف لا يشرب النبيذ فأكله لا يحنث
لأنه لا يسمى شربا
وفي رواية الخرقي أنه يحنث، لان اليمين على أكل شئ أو شربه يقصد بها في
العرف اجتناب ذلك الشئ فحملت اليمين عليه إلا أن ينوى. ولو قال طبيب
لمريض لا تأكل العسل لكان نهيا عن شربه
وإن حلف لا يشرب شيئا فمصه ورمى له لا يحنث، وقد روى عن أحمد فيمن
حلف لا يشرب فمص قصب السكر لا يحنث. وهذا قول أصحاب الرأي، فإنهم
قالوا إذا حلف لا يشرب فمص حب الرمان ورمى بالتفل لا يحنث، لان ذلك
ليس بأكل ولا شرب، ويجئ على قول الخرقي أنه يحنث لأنه قد تناوله ووصل
إلى بطنه وحقله فإنه يحنث على ما قالوا فيمن حلف لا يأكل شيئا فشربه أو
لا يشربه فأكله، فإن حلف لا يأكل سكرا في فيه حتى ذاب فابتلعه فإنه لا يحنث
ويتخرج عند أحمد وأصحابه على الروايتين، فإن حلف لا يأكله أو لا يشربه فذاقه
لم يحنث في قولهم جميعا، وإن حلف لا يذوقه فذاقه ولفظه فعلى وجهين
(أحدهما) لا يحنث، لان التذوق لا يتحقق إلا بالازدراد، ولهذا لم يبطل
الصوم به إلا إذا ازدرده (والثاني) يحنث وبه قال أحمد
(فرع) إذا حلف لا يذوقه، فأكله أو شربه أو سفه حنث في قولهم جميعا
لأنه ذوق وزيادة. وإن مضغه ورمى به فعلى ما أسلفنا من الوجهين. وإن حلف
لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق فأوجر - والوجوه بفتح والواو وزان رسول
57

الدواء يصب في الحلق، وأوجرت المريض ايجازا فعلت به ذلك، ووجرته أجره
من باب وعد لغة، فإن وجره بنحو منقطة أو قطنارة فإنه لم يحنث لأنه لم يفعل
شيئا مما حلف عليه.
فإن قال لا طعمت هذا الطعام فأوجره أو سفه أو شربه أو ازدرده أو التقمه
حنث لان ذلك كله يسمى طعاما، وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم اللبن طعاما في
حديث " إنما يخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم "
وفي الماء وجهان (أحدهما) هو طعام لقوله تعالى " ان الله مبتليكم بنهر فمن
شرب منه فليس منى ومن لم يطعمه فإنه منى "
(والثاني) ليس بطعام لأنه لا يسمى طعاما ولا يفهم من اطلاق اسم الطعام
ولهذا يعطف عليه فيقال طعام وشراب. وحديث ابن ماجة يقول صلى الله عليه
" لا أعلم ما يجزى من الطعام والشراب الا اللبن " ويقال باب الأطعمة والأشربة
(فرع) إذا أكل دواء فالمذهب أنه يحنث لأنه يطعم حال الاختيار، وهو
أحد الوجهين عند الحنابلة، والثاني لا يحنث لأنه لا يدخل في اطلاق اسم الطعام
ولا يؤكل الا عند الضرورة، فإن أكل من نبات الأرض ما جرت العادة بأكله
حنث بأكله.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان حلف لا يأكل اللحم حنث بأكل لحم كل ما يؤكل لحمه من
النعم والوحش والطير، لان أسم اللحم يطلق على الجميع، ولا يحنث بأكل السمك
لأنه لا يطلق عليه اسم اللحم، وهل يحنث بأكل لحم ما لا يؤكل لحمه؟ فيه وجهان
(أحدهما) يحنث لأنه يطلق عليه اسم اللحم وان لم يحل، كما أطلق على اللحم
المغصوب وان لم يحل
(والثاني) لا يحنث لان القصد باليمين أن يمنع نفسه مما يستبيحه، ولحم ما
لا يؤكل لحمه ممنوع من أكله من غير يمين، فلم يدخل في اليمين، وان حلف لا يأكل
اللحم فأكل الشحم لم يحنث، وان حلف لا يأكل الشحم فأكل اللحم لم يحنث لأنهما
جنسان مختلفان في الاسم والصفة، وان حلف على اللحم فأكل سمين الظهر
58

والجنب وما يعلو اللحم ويتخلله من البياض حنث لأنه لحم سمين، وإن حلف على
الشحم فأكل ذلك لم يحنث لأنه ليس بشحم، وان حلف على اللحم أو الشحم فأكل
الكبد أو الطحال أو الرئة أو الكرش أو المخ لم يحنث لأنه مخالف للحم والشحم
في الاسم والصفة.
وإن حلف على اللحم فأكل لحم الخد أو لحم الرأس أو اللسان ففيه وجهان
أحدهما يحنث لأنه لحم، والثاني لا يحنث لان اللحم لا يطلق إلا على لحم البدن
واختلف أصحابنا في الألية، فمنهم من قال هو شحم يحنث به في اليمين على الشحم
ولا يحنث به في اليمين على اللحم لأنه يشبه الشحم في بياضه ويذوب كما يذوب
الشحم، ومنهم من قال هو لحم فيحنث به في اليمين على اللحم ولا يحنث به في اليمين
على الشحم لأنه نابت في اللحم ويشبهه في الصلابة. ومنهم من قال ليس بلحم
ولا شحم ولا يحنث به في اليمين على واحد منهما، لأنه مخالف للجميع في الاسم
والصفة فصار كالكبد والطحال
وإن حلف على اللحم فأكل شحم العين لم يحنث لأنه مخالف للحم في الاسم
والصفة، وان حلف على الشحم فأكله ففيه وجهان
أحدهما يحنث به بدخوله في اسم الشحم، والثاني لا يحنث به لأنه لا يدخل
في إطلاق اسمه، كما لا يدخل لحم السمك في إطلاق اليمين على اللحم، ولا التمر
الهندي في اليمين على التمر.
(الشرح) قوله " كل ما يؤكل لحمه من النعم والوحش والطير " احترز به عما
لا يؤكل لحمه ككل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير والخنزير والميتة
وجملة ذلك أن الحالف على ترك أكل اللحم لا يحنث بأكل ما ليس بلحم من الشحم
والمخ، وهو الذي في العظام، والدماغ وهو الذي في الرأس في قحفه ولا الكبد
والطحال والرئة والقلب والكرش والمصران والقانصة ونحوها، وبهذا قال أحمد
وقال أبو حنيفة ومالك، يحنث بأكل هذا كله لأنه لحم حقيقة، ويتخذ منه
ما يتخذ من اللحم فأشبه لحم الفخذ
دليلنا أنه لا يسمى لحما وينفرد عنه باسمه وصفته، ولو أمر وكيله بشراء لحم
59

فاشترى هذا لم يكن ممتثلا لامره ولا ينفذ الشراء للموكل، وقد سألت القصاب
يوما هل عندك لحم؟ فقال لا، عندي حوائج - يعنى الكبد والقلب والكلية -
وقد دل على أن الكبد والطحال ليستا بلحم قوله صلى الله عليه وسلم " أحلت لكم
ميتتان ودمان " أما الدمان فالكبد والطحال، ولا نسلم أنه لحم حقيقة، بل هو
من الحيوان مع اللحم كالعظم والدم
فإذا ثبت هذا فإنه إذا حلف ألا يأكل لحما فأكل من لحم الانعام أو الصيد
أو الطائر من مأكولة اللحم فإنه يحنث في قول علماء الأمصار. وأما السمك فإنه
لا يحنث بأكله، وبه قال أبو حنيفة وأبو تور، والظاهر من مذهب أحمد ومالك
وأبى يوسف وأبي ثور وقتادة أنه يحنث
وقال ابن أبي موسى في الارشاد لا يحنث به الا أن ينويه
ودليلهم قوله تعالى " الله الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحما طريا " وقال
" ومن كل تأكلون لحما طريا " ولأنه من جسم حيوان ويسمى لحما
ودليلنا أنه لا ينصرف إليه اطلاق اسم اللحم، ولو وكل وكيلا في شراء اللحم
فاشترى سمكا لم يلزمه، ثم إنه يصح أن ينفى عنه اسم اللحم عرفا واستعمالا فتقول
ما أكلت لحما وإنما أكلت سمكا، فلم يتعلق به الحنث عند الاطلاق، كما لو حلف
لا قعدت تحت سقف، فإنه لا يحنث تحت السماء، مع أن الله تعالى سماها سقفا
فقال " وجعلنا السماء سقفا محفوظا " فإطلاق اسم اللحم على لحم السمك مجاز في
القرآن واليمين إنما ينصرف إلى الحقيقة
(فرع) أما في غير مأكول اللحم كالميتة والخنزير والمغصوب فهل يحنث بأكل
لحمه؟ وجهان عندنا
(الأول) لا يحنث بأكل المحرم بأصله لان يمينه تنصرف إلى ما يحل لا إلى
ما يحرم فلم يحنث بما لا يحل، كما لو حلف لا يبع فباع بيعا فاسدا لم يحنث
(والثاني) وبه قال أحمد وأبو حنيفة يحنث، لان الله تعالى سماه لحما فقال
" ولحم الخنزير " ولأنه لو حلف أن لا يلبس ثوبا فلبس ثوب بحرير حنث،
وأما البيع الفاسد فلا يحنث به لأنه ليس بيعا في الحقيقة
(فرع) ان حلف لا يأكل اللحم فأكل الشحم لم يحنث، وبه قال أحمد. وقال
60

أبو حنيفة ومالك يحنث. دليلنا أنه لا يسمى لحما وينفرد عنه باسمه وصفته،
ولو أمر وكيله بشراء لحم، فاشترى شحما لم يكن ممتثلا لامره ولا ينفذ الشراء
للموكل فلم يحنث بأكله كالبقل
فإذا حلف لا يأكل شحما فأكل لحما لم يحنث قولا واحدا لأنهما جنسان مختلفان
اسما وصفة. وبهذا قال أبو حنيفة. وقال أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن:
إذا حلف لا يأكل شحما فأكل لحما حنث لان اللحم لا يخلو من شحم، ولا يكاد
اللحم يخلو من شئ منه وإن قل فيحنث به. وذهب بعض أصحاب أحمد إلى مخالفة
الخرقي إلى أنه لا يحنث. قال ابن قدامة وهو الصحيح، لأنه لا يسمى شحما ولا
يظهر فيه طعمه ولا لونه، والذي يظهر في المرق قد فارق اللحم فلا يحنث بأكل
اللحم الذي كان فيه.
(فرع) إذا حلف على اللحم فأكل لحم الخد أو لحم الرأس أو اللسان فوجهان
(أحدهما) يحنث لأنه لحم حقيقة - وبه قال أحمد في لحم الخد - وحكى عن أبي
موسى من أصحاب أحمد أنه لا يحنث إلا أن ينويه باليمين. وقال أصحاب أحمد
في اللسان وجهان كالوجهين عندنا
وفي لحم الرأس والأكارع روى عن أحمد ما يدل على أنه لا يحنث، لان من
حلف لا يشترى لحما فاشترى رأسا أو كارعا لا يحنث إلا أن ينوى أن لا يشترى
من الشاة شيئا، لان إطلاق اسم اللحم لا يتناول الرؤوس والأكارع، ولو وكله
في شراء لحم فاشترى رأسا أو كارعا لم يلزمه
والوجه الثاني لا يحنث لما ذكره المصنف، واختلف أصحابنا في الألية، فمنهم
من جعلها من الشحم، فلو حلف على الشحم فأكلها حنث، لأنها تشبه الشحم في
ذوبها وشكلها، فلو حلف لا يأكل لحما فأكلها لم يحنث، وممن قال هي شحم
أبو يوسف ومحمد. ومن أصحابنا من قال هو لحم لأنها نابتة في اللحم و تشبهه في
الصلابة. قال ابن قدامة وليس بصحيح لأنها لا تسمى لحما ولا يقصد بها ما يقصد
به، وتخالفه في اللون والذوب والطعم فلم يحنث بأكلها كشحم البطن.
(فرع) كل ما كان مقيدا بالنعت أو بالإضافة لا ينصرف إليه اليمين إذا أطلق
كمن حلف لا يأكل تمرأ فإنه لا يتناول التمر الهندي أو الشحم فلا يتناول الشحم
61

المعدني الذي تشحم به محركات السيارات والطيارات، وإنما يتناول الشحم الحيواني
ويحتمل أن لا يحنث إلا بأكله لان الحقيقة العرفية في عصرنا حصرت اسم الشحم
على ما كان معدنيا، ولا يقال للأدهان المأكولة شحم لا بين العوام ولا غيرهم
من الخواص.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان حلف لا يأكل الرؤوس ولم يكن له نية حنث برؤوس الإبل
والبقر والغنم، لأنها تباع مفردة وتؤكل مفردة عن الأبدان، ولا يحنث برؤوس
الطير فإنها لاتباع مفردة ولا تؤكل مفردة، فإن كان في بلد يباع فيه رؤوس الصيد
ورؤوس السمك مفردة حنث بأكلها، لأنها تباع مفردة فهي كرؤوس الإبل
والبقر والغنم. وهل يحنث بأكلها في سائر البلاد؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يحنث لأنه لا يطلق عليها اسم الرموس إلا في البلد الذي يباع
فيه ويعتاد أكله.
(والثاني) يحنث بها، لان ما ثبت له العرف في مكان وقع الحنث به في كل
مكان كخبز الأرز.
(فصل) وان حلف لا يأكل البيض حنث بأكل كل بيض يزايل بائضه في
الحياة، كبيض الدجاجة والحمامة والنعامة، لأنه يؤكل منفردا ويباع منفردا،
فيدخل في مطلق اليمين، ولا يحنث بما لا يزايل بائضه كبيض السمك والجراد،
لأنه لا يباع منفردا ولا يؤكل منفردا، فلم يدخل في مطلق اليمين
(الشرح) إذا حلف لا يأكل الرؤوس، والمحلوف عليه هنا عام يتناول أنواعا
منها ما جرى العرف ببيعه منفصلا عن البدن، كرؤوس الضأن والمعز والبقر:
ومنها ما لا ينفصل عن البدن ولا يباع واحده كرؤوس الدجاج والحمام والأرانب
لم يحنث الا فيما تنفصل عن أبدانها وتعرض للبيع وهي بهيمة الأنعام دون غيرها
وقال أبو حنيفة " لا يحنث بأكل رؤوس الإبل لان العادة لم تجر بيعها منفردة "
وقال محمد وأبو يوسف لا يحنث الا بأكل رؤوس الغنم لأنها التي تباع في الأسواق
- أي على عهدهما - دون غيرهما فيمينه تنصرف إليها
62

وقال أحمد بن حنبل: يحنث بأكل رأس كل حيوان من النعم والصيود والطيور
والحيتان والجراد. ووجهه أن هذه الرؤوس حقيقة عرفية مأكولة فحنث بأكلها
كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل من لحم النعام والزرافة وما يندر وجوده وبيعه
وعندنا أنها لو صارت حقيقة عرفية وكان الحالف في بلد تباع فيه رؤوس الصيود
أو الأسماك منفردة حنث بأكلها.
وفي سريان الحنث على أكلها في بلد آخر وجهان (أحدهما) لا يحنث لان
الحقيقة العرفية في إطلاق اسم الرؤوس وبيعها لا توجد إلا في البلد الذي تباع فيه
الرؤوس ويعتاد أكلها (والثاني) يحنث لان ما ثبت به في بلد يقع به الحنث في
كل مكان آخر كخبز الأرز الذي لا يصنع إلا في طبرستان، وقد مضى توضيحه
(فرع) إذا حلف لا يأكل البيض وقلنا أن البيض نوعان. نوع يزايل بائضه في
الحياة كبيض الدجاج والحمام والنعام، والآخر لا يزايل بائضه كبيض السمك
والجراد، فإن الحنث لا يتعلق إلا بالنوع الأول، لأنه يؤكل منفردا ويباع
منفردا، سواء كثر وجوده كبيض الدجاج أو قل وجوده كبيض النعام، وبهذا
قال أحمد، وقال أصحاب الرأي لا يحنث بأكل بيض النعام. وقال أبو ثور لا يحنث
إلا بأكل بيض الدجاج وما يباع في السوق
ولنا أن هذا كله بيض حقيقة وعرفا وهو مأكول فيحنث بأكله كبيض
الدجاج، ولأنه لو حلف لا يشرب ماء فشرب ماء البحر حنث أو ماء نجسا،
أو لا يأكل خبزا فأكل خبز الأرز أو الذرة أو البتاو، وهو خبز أهل الصعيد،
ويصنع من الذرة الصفراء أو القيظى مع قليل من الحلبة، وهو يختلف عن خبز
المدن، فإذا حلف أن لا يأكل خبزا فأكل البتاو في مكان لم يعتد فيه أكله حنث
لأنه خبز ولا فرق بينه وبين الفنيو
وأما أكل بيض السمك أو الجراد فكما تقرر لا يحث إلا بأكل بيض يزايل
بائضه في الحياة، وبهذا قال أبو ثور وأصحاب الرأي وأبو الخطاب من الحنابلة
وأكثر العلماء، لان هذا لا يفهم من إطلاق اسم البيض، ولا يذكر إلا مضافا
إلى بائضه، ولا يحنث بأكل شئ يسمى بيضا غير بيض الحيوان ولا بأكل شئ
يسمى رأسا غير رؤوس الانعام إلا فيما فيه الأوجه المذكورة آنفا
63

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن حلف لا يأكل اللبن حنث بأكل لبن الانعام ولبن الصيد، لان
اسم اللبن يطلق على الجميع، وإن كان فيه ما يقل أكله لتقذره، كما يحنث في اليمين
على اللحم بأكل لحم الجميع، وإن كان فيه ما يقل أكله لتقذره، ويحنث بالحليب
والرائب وما جمد منه، لان الجميع لبن، ولا يحنث بأكل الجبن واللور واللبأ
والزبد والسمن والمصل والأقط
وقال أبو علي بن أبي هريرة: إذا حلف على اللبن حنث بكل ما يتخذ منه
لأنه من اللبن والمذهب الأول، لأنه لا يطلق عليه اسم اللبن فلم يحنث به، وإن كان
منه. كما لو حلف لا يأكل الرطب فأكل التمر. أو لا يأكل السمسم فأكل
الشيرج فإنه لا يحنث. وإن كان التمر من الرطب والشيرج من السمسم
(فصل) وإن حلف لا يأكل السمن فأكله مع الخبز أو أكله في العصيدة
وهو ظاهر فيها حنث. وان حلف لا يأكل اللبن فأكله في طبيخ وهو ظاهر فيه
أو حلف لا يأكل الخل فأكله في طبيخ وهو ظاهر فيه حنث.
وقال أبو سعيد الإصطخري " إذا أكله مع غيره لم يحنث لأنه لم يفرده بالاكل
فلم يحنث. كما لو حلف لا يأكل طعاما اشتراه زيدا فأكل طعاما اشتراه زيد وعمرو
والمذهب الأول لأنه فعل المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث. كما لو حلف
لا يدخل على زيد فدخل على جماعة وهو فيهم.
(الشرح) الحليب فعيل بمعنى مفعول، والحلب بفتحتين يطلق على المصدر
كالفتح فالسكون. وعلى اللبن المحلوب. فيقال لبن حلب ولين حليب. وهو أول
ما يخرج عند الحلب. والرائب اسم فاعل من راب يروب رؤبا إذا خثر والروبة
بالضم خميرة تلقى في اللبن ليروب ويثخن. والجبن معروف يعقد من اللبن بالإنفحة
واللور بضم اللام هو الجبن يؤكل قبل أن يشتد وهو مرحلة بعد وضع الإنفحة
في اللبن وقبل أن يصير جبنا، وكانت العرب تأتدم به وتأكله مع التمر. ويعمل
من الحليب الذي يكون بعد اللبا. واللبأ مقصور ومهموز هو لبن البهيمة عند
64

أول ما تنتج يترك على النار فينعقد، ويسمونه في ديارنا المصرية (السرسوب)
والمصل فهو الذي يسمونه في ديارنا (الشرش) وهو ماء الجبن فإذا تعتق قيل له
(المش) والأقط اللبن المجفف، وقد يغلى ماء الجبن مع الاقط ثم يصفى ثم يعصر
فيوضع على الخريطة شئ ثقيل حتى يذهب ما فيه من الماء ثم يملح بالملح ثم يجعل
أقراصا أو حلقا.
قال ابن بطال " والشيراز هو أن يؤخذ اللبن الخاثر، وهو الرائب فيجعل في
كيس حتى ينزل ماؤه ويضرب " هذا الذي قصده صاحب الكتاب. ثم قال وقد
يعمل الشيراز أيضا بأن يترك الرائب في وعاء ويوضع فوقه الأبازير وشئ من
المحرمات ثم يؤكل ويترك فوقه كل يوم لبن حليب. اه
أما الأحكام فإنه لو حلف لا يأكل لبنا، فأكل من لبن الانعام أو الصيود
أو لبن آدمية حنث، لان اسم اللبن يتناوله حقيقة وعرفا، وسواء كان حليبا أو
رائبا أو مائعا أو مجمدا، لان الجميع البن. وإن كان فيه ما يقل أكله لعدم
استساغته أو تقذره، كما لو حلف على اللحم حنث بأكل أي لحم مما مضى تفصيله
وإن كان فيه ما يستقذر، ولا يحنث بأكل الجبن والسمن والمصل والأقط
والكشك، وبهذا قال العلماء كافة
وقال أبو علي بن أبي هريرة " إذا حلف على اللبن حنث بكل ما يتخذ منه
لأنه من اللبن - وليس بمذهب - والمذهب أنه لا يحنث لأنه لا يطلق عليه
اسم اللبن، وإن كان منه كالرطب والتمر والسمسم والشيرج
(فرع) وإن حلف لا يأكل السمن فأكله مع الخبز أو أكله في العصيدة
وكان السمن ظاهرا فيها حنث، والعصيدة من قولك عصدت الشئ عصدا إذا
لويته. قال الجوهري والعصيدة التي تعصدها بالمسواط فتمرها به فتنقلب ولا
يبقى في الاناء منها شئ إلا أنقلب. وفي حديث خولة فقربت له عصيدة - هو
دقيق يلت بالسمن ويطبخ - يقال عصدت العصيدة وأعصدتها، أي اتخذتها،
وعصد البعير عنقه لواه نحو حاركه للموت يعصده عصودا فهو عاصد، وكذلك
الرجل، يقال عصد فلان يعصد عصودا مات. وأنشد شمر
على الرحل مما منه السير عاصد "
65

وقال الليث " العاصد ههنا الذي يعصد العصيدة " أي يديرها ويقلبها بالمعصدة
شبه الناعس به لخفقان رأسه.
وقال أحمد " ان حلف لا يأكل زبدا فأكل سمنا أو لبنا لم يظهر فيه الزبد
لم يحنث، وإن كان الزبد ظاهرا فيه حنث. اه
وإن حلف لا يأكل سمنا فأكل زبدا أو لبنا أو شيئا مما يصنع من اللبن سوى
السمن لم يحنث، وإن أكل السمن منفردا أو في عصيدة أو حلواء أو طبيخ فظهر
فيه طعمه حنث، ولذلك إذا حلف لا يأكل لبنا فأكل طبيخا فيه لبن، أو لا يأكل
خلا فأكل (سلطة) فيها خل يظهر طعمه فيه حنث. وبهذا قال أحمد وأصحابه.
وقال بعض أصحابنا لا يحنث لأنه لم يفرده بالاكل، وهذا لا يصح لأنه أكل
المحلوف عليه وأضاف إليه غيره فحنث، كما لو أكله ثم أكل غيره
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن حلف لا يأكل أدما فأكل اللحم حنث لما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " سيد الادام اللحم " ولأنه يؤتدم به في العادة فحنث به
كالخل والمرى، فإن أكل التمر ففيه وجهان (أحدهما) لا يحنث لأنه لا يؤتدم
به في العادة، وإنما يؤكل قوتا أو حلاوة (والثاني) أنه يحنث به لان النبي صلى
الله عليه وسلم " أعطى سائلا خبزا وتمرا وقال هذا أدم هذا "
(فصل) وان حلف لا يأكل الفاكهة فأكل الرطب أو العنب أو الرمان
أو الاترنج أو التوت أو النبق حنث، لأنها ثمار أشجار فحنث بها، كالتفاح
والسفرجل: وإن أكل البطيخ أو الموز حنث، لأنه يتفكه به كما يتفكه بثمار
الأشجار. وإن أكل الخيار أو القثاء لم يحنث لأنهما من الخضراوات
(فصل) وان حلف لا يأكل بسرا ولا رطبا فأكل منصفا حدث في اليمين
لأنه أكل البسر والرطب، وإن حلف لا يأكل بسرة ولا رطبة فأكل منصفا
لم يحنث لأنه لم يأكل بسرة ولا رطبة
(فصل) وإن حلف لا يأكل قوتا فأكل التمر أو الزبيب أو اللحم وهو
66

ممن يقتات ذلك حنث، وهل يحتسب به غيره؟ على ما ذكرناه من الوجهين في
بيوت الشعر ورؤوس الصيد.
(الشرح) حديث " سيد الادام اللحم " هو من حديث أخرجه الطبراني
في الأوسط وأبو نعيم في الطب والبيهقي في الشعب عن بريدة ولفظه " سيد الادام
في الدنيا والآخرة اللحم، وسيد الشراب في الدنيا والآخرة الماء، وسيد الرياحين
في الدنيا والآخرة الفاغية " ضعفه السيوطي وقال حسن لغيره. قلت ولعله يريد
بغيره حديث " سيد طعام أهل الجنة اللحم " رواه بن حبان عن أبي الدرداء
مرفوعا. قال الشوكاني (1) في إسناده سليمان بن عطاء يروى الموضوعات عن شيخه
مسلمة بن عبد الله الجهني.
وقال ابن حجر: لم يتبين لي الحكم على هذا المتن بالوضع وأن مسلمة غير
مجروح وسليمان بن عطاء ضعيف. قال في التعليق: رواه سليمان عن مسلمة عن أبي
مشجعة عن أبي الدرداء، وأبو مشجعة ومسلمة لم يجرحا ولم يوثقا فهما مجهولا
الحال. وسليمان قال البخاري في حديثه مناكير. وقال أبو زرعة منكر الحديث
وقال ابن جهان " يروى عن مسلمة بن عبد الله الجهني عن عمه أبى مشجعة بن
ربعي أشياء موضوعة لا تشبه حديث الثقات " اه. ورواه العقيلي من حديث
ربيعة بن كعب مرفوعا " أفضل طعام الدنيا والآخرة اللحم " وقال هذا حديث
غير محفوظ. وقال ابن حبان: عمرو بن بكر المذكور في إسناده يروى عن
الثقات الطامات.
ورواية البيهقي في الشعب عن عبد الله بن بريدة عن أبيه من طريق أحمد بن
مبيع، ثنا بن بكار ثنا أبو هلال الراسبي عن عبد الله بن بريدة عن أبيه
رفعه. قال السيوطي في اللآلئ، قال البيهقي ورواه جماعة عن أبي هلال الراسبي
تفرد به أبو هلال ثم قال السيوطي: وهو من رجال الأربعة ووثقه أبو داود
قال العلامة المعلمي: أقول إذا كان رواه جماعة عن أبي هلال فالظاهر أن يسوق
البيهقي الطرق. وهذه الطريق التي ساقطة البتة، فإن العباس بن بكار

(1) الفوائد المجموعة بتعليق العلامة المحدث عبد الرحمن المعلمي
67

كذاب يضع. وإذا كانت هذه أقوى الطرف فما ظنك بالباقي؟ وقد أخرجه
الطبراني في الأوسط ثنا محمد بن شعيب ثنا سعيد بن عتبة القطان ثنا أبو عبيدة
الحداد ثنا أبو هلال - فذكره ثم قال - ولم يروه عن ابن بريدة إلا أبو هلال
ولا عنه إلا أبو عبيدة تفرد به سعيد.
وقال في مجمع الزوائد (5 - 25) فيه سعيد بن عبية (كذا) القطان ولم
أعرفه. أقول أحسبه سعيد بن عنبسة الرازي الخزاز فإنه يروى عن أبي عبيدة
الحداد، ولعله كان يبيع القطن مع الخز فقال الراوي عنه القطان. ومحمد بن شعيب
ليس هو بن سابور، فإن الطبراني لم يدركه، فينظر من هو؟ وسعيد بن عنبسة
كذاب. أما رواية أنس عند البيهقي أيضا فهي من طريق هشام بن سلمان عن يزيد
الرقاشي، وهشام قال ابن عدي أحاديثه عن يزيد غير محفوظة، ويزيد ليس
بشئ. ورواية أبى نعيم إنما هي من حديث علي رضي الله عنه، وهي من نسخة
عبد الله بن أحمد بن عامر الموضوعة. وقال الشوكاني وليس في شئ من هذه الطرق
ما يوجب الحكم بالوضع.
أما حديث " هذا أدم هذا " أخرجه أبو داود عن يوسف عن عبد الله بن
سلام قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع تمرة على كسرة وقال هذه
إدام هذه، وذكره الإمام أحمد في مسنده
والمري بتشديد الراء والياء وكأنه منسوب إلى المرارة، قال ابن بطال والعامة
تخففه وصفته أن يؤخذ الشعير فيقلى ثم يطحن ويعجن ويخمر ثم يخلط بالماء
فيستخرج منه خل يضرب لونه إلى الحمرة يؤتدم به ويطبخ به، والأترنج والأترج
والأترجة والترنجة والترنج
قال في القاموس " حامضة مسكن غلمة النساء ويجلو اللون والكلف. وقشره
في الثياب يمنع السوس اه
وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " مثل المؤمن الذي
يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب وريحها طيب " والتوت شجر معروف
يعلف به دود القز له ثم أحمر، والنبق ثمار النذر، وفي الحديث في سدرة
68

المنتهى " نبقها مثل قلال هجر " والريحان الفارسي ويسميه عوام اليمن الشقر
والبنفسج والياسمين معروفان
أما الأحكام فإنه ان حلف لا يأكل أدما حنث بأكل كل ما جرت العادة
بأكل الخبر به لان هذا معنى التأدم، وسواء في هذا ما يصطبغ كالطيخ والمرق
والخل والزيت والسمن والشيرج واللبن قال تعالى في الزيت " تنبت بالدهن وصبغ
للآكلين " وقال صلى الله عليه وسلم " نعم الادام الخل " وقال " ائتدموا بالزيت
وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة " أخرجه ابن ماجة: أو من الجامدات كالشواء
والجبن والباقلاء والزيتون والبيض. وبهذا قال أحمد وأبو ثور
وقال أبو حنيفة: ما لا يصطبغ به فليس بأدم، لان كل واحد منهما يرفع
إلى الفم منفردا. دليلنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم " سيد الادام اللحم "
وقال " سيد الادام الملح " رواه ابن ماجة، لأنه يؤكل به الخبز عادة، فكان أدما
كالذي يصطبغ به، ولان كثيرا مما ذكرنا لا يؤكل في العادة وحده إنما يعد للتأدم
به وأكل الخبز به فكان أدما كالخل واللبن. وقول أبي حنيفة انه يرفع إلى الفم
وحده مفردا، يجاب عنه بجوابين
(أحدهما) أن منه ما يرفع مع الخبز كالملح ونحوه،
(والثاني) أنهما يجتمعان في الفم والمضغ والبلع الذي هو حقيقة الاكل
فلا يضر افتراقهما قبله.
فأما التمر ففيه وجهان (أحدهما) هو أدم لما روى أبو داود عن عبد الله بن
سلام قال " رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع تمرة على كسرة وقال:
هذه إدام هذه "
(والثاني) ليس بأدم لأنه لا يؤتدم به عادة إنما يؤكل قوتا أو حلوى
(فرع) فإن حلف لا يأكل فاكهة حنث بأكل كل ما يسمى فاكهة وهي
كل ثمرة تخرج من الشجرة يتفكه بها من العنب والرطب والرمان والسفرجل
والتفاح والكمثرى والخوخ والمشمش والأترج والتوت والنبق والموز والجميز،
وبهذا قال أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وقال أبو حنيفة وأبو ثور لا يحنث
بأكل ثمرة النخل والرمان لقوله تعالى (فيهما فاكهة ونخل ورمان) والمعطوف
69

يغاير المعطوف عليه. دليلنا أنها ثمرة شجرة يتفكه بهما فكانا من الفاكهة كسائر
ما ذكرنا، ولأنهما في عرف الناس فاكهة ويسمى بائعهما فاكيها، وموضع
بيعهما سوق الفاكهة، والأصل في العرف الحقيقة والعطف لشرفهما وتخصيصهما
كقوله تعالى " من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال " وهما
من الملائكة.
(فرع) القثاء والخيار والفرع والباذنجان من الخضر وليس من الفاكهة
وبهذا قال أحمد. أما البطيخ فإنه من الفاكهة على ما ذكره المصنف، وهو أحد
الوجهين عند أصحاب أحمد ذكره القاضي وبه قال أبو ثور، لأنه ينضج ويحلو،
أشبه ثمر الشجر.
والثاني عندهم: ليس من الفاكهة، لأنه ثم بقلة أشبه الخيار والقثاء، وأما
ما يكون في الأرض كالجزر واللفت والفجل والقلقاس والسوطل ونحوه، فليس
شئ من ذلك فاكهة، لأنه لا يسمى بها ولا في معناها
دليلنا أن البطيخ وإن كان يشبه في شجرة النباتات الزاحفة كالباذنجان والقرع
والقثاء والخيار، إلا أنه ثمر حلو يفارق ما ذكرنا في الطعم وفي طريقة الاكل
إذ تلك الأنواع تصطبغ وتطبخ وتملح وليس كذلك البطيخ والشمام ولأنها فاكهة في
حقيقتها العرفية عند الناس على اختلاف أقاليمهم وأجناسهم.
(فرع) إذا حلف لا يأكل رطبا فأكل منصفا - وهو الذي بعضه بسر
وبعضه تمر أو مذنبا - وهو الذي بدأ فيه الأرطاب من ذنبه وباقيه بسر، أو
حلف لا يأكل بسرا فأكل ذلك حنث، وبهذا قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن
وأحمد بن حنبل.
وقال أبو يوسف وبعض أصحابنا: لا يحنث لأنه لا يسمى رطبا ولا تمرا،
والصحيح أنه أكل رطبا وبسرا فحنث، كما لو أكل نصف رطبة ونصف بسرة
منفردتين، وما ذكروه لا يصح، فإن القدر الذي أرطب رطب والباقي بسر،
ولو أنه حلف لا يأكل البسر فأكل البسر الذي في النصف حنث، وإن أكل
البسر من يمينه على الرطب وأكل الرطب من يمينه على البسر لم يحنث واحد منهما
وإن حلف واحد ليأكلن رطبا وآخر ليأكلن بسرا فأكل الحالف على أكل
70

الرطب ما في النصف من الرطبة وأكل الآخر باقيها برا جميعا، وإن حلف
ليأكلن رطبة أو بسرة أو لا يأكل ذلك فأكل منصفا لم يبر ولم يحنث لأنه ليس
فيه رطبة ولا بسرة
(فرع) إذا حلف لا يأكل قوتا فأكل خبزا أو تمرا أو زبيبا أو لحما أو لبنا
حنث لان لك واحد من هذه يقتات في بعض البلدان، ويحتمل أن لا يحنث إلا
بأكل ما يقتاته أهل بلده، لان يمينه تنصرف إلى القوت المتعارف عندهم في بلدهم
ولأصحاب أحمد وجهان كالوجهين عندنا، وإن أكل حبا يقتات خبزه حنث لأنه
يسمى قوتا، لان النبي صلى الله عليه ولم " كان يدخر قوت عياله لسنة "
وإنما يدخل الحب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن حلف لا يأكل طعاما حنث بأكل كل ما يطعم من قوت
وأدم وفاكهة وحلاوة، لان اسم الطعام يقع على الجميع، والدليل عليه قوله
تعالى " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه وهل
يحنث بأكل الدواء؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يحنث لأنه لا يدخل في إطلاق اسم الطعام (والثاني) يحنث
لأنه يطعم في حال الاختيار، ولهذا يحرم فيه الربا
(فصل) وإن حلف لا يشرب الماء فشرب ماء البحر احتمل عندي وجهين
(أحدهما) يحنث لأنه يدخل في اسم الماء المطلق، ولهذا تجوز به الطهارة.
(والثاني) لا يحنث لأنه لا يشرب، وإن حلف لا يشرب ماء فراتا فشرب
ماء دجلة أو غيره من الماء العذبة حنت، لان الفرات هو الماء العذب، والدليل
عليه قوله تعالى (وأسقيناكم ماء فراتا) وأراد به العذب، وان حلف لا يشرب
من ماء الفرات فشرب من ماء دجلة لم يحنث، لان الفرات إذا عرف بالألف
واللام فهو النهر الذي بين العراق والشام
(فصل) وإن حلف لا يشم الريحان فشم الضميران - وهو الريحان الفارسي -
حنت، وإن شم ما سواه كالورد والبنفسج والياسمين والزعفران لم يحنث لأنه
71

لا يطلق اسم الريحان الا على الضميران ومأواه لا يسعى إلا بأسمائها. وان
حلف لا يشم المشموم حنث بالجميع، لان الجميع مشموم، وان شم الكافور أو
المسك أو العود أو الصندل لم يحنث لأنه لا يطلق عليه اسم المشموم. وان حلف
لا يشم الورد والبنفسج فشم دهنهما لم يحنث لأنه لم يشم الورد والبنفسج، وان
جف الورد والبنفسج فشمهما ففيه وجهان
(أحدهما) لا يحنث، كما لا يحنث إذا حلف لا يأكل الرطب فأكل التمر
(والثاني) يحنث لبقاء اسم الوردة والبنفسج.
* * * (الشرح) في قوله تعالى " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل " الآية، هو يعقوب
عليه السلام. روى الترمذي عن ابن عباس " أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه
وسلم: أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال كان يسكن البدو فاشتكى عرق
النساء فلم يجد شيئا يلائمه إلا لحوم الإبل وألبانها فلذلك حرمها، قالوا " صدقت "
وذكر الحديث.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: أقبل يعقوب عليه السلام من
حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلا بطشا قويا،
فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه، فغمز الملك فخذ يعقوب
عليه السلام ثم صعد الملك إلى السماء ويعقوب ينظر إليه، فهاج عليه عرق النساء
ولقى من ذلك بلاء شديدا، فكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء - أي
صياح - فحلف يعقوب عليه السلام ان شفاه الله عز وجل ألا يأكل عرقا،
ولا يأكل طعاما فيه عرق فرحمها على نفسه، فجعل بنوه يتبعون بعد ذلك العروق
فيخرجونها من اللحم
واختلف هل كان التحريم من يعقوب باجتهاده أم بإذن الله تعالى؟ والصحيح
الأول لان الله تعالى أضاف التحريم إليه بقوله " إلا ما حرم " وأن النبي إذا أداه
اجتهاده إلى شئ كان دينا يلزمنا اتباعه لتقرير الله إياه على ذلك، وكما يوحى إليه
72

ويلزم اتباعه. كذلك يؤذن له ويجتهد، ويتعين موجب اجتهاده إذا قدر عليه.
وقد حرم نبينا صلى الله عليه وسلم العسل على الرواية الصحيحة، أو خادمه مارية
فلم يقر الله تحريمه ونزل " لم تحرم ما أحل لله لك " قال الكيا الطبري فيمكن أن
يقال مطلق قوله تعالى " لم تحرم ما أحل الله " يقتضى ألا يختص بمارية، وقد
رأى الشافعي أن وجوب الكفارة في ذلك غير معقول المعنى، فجعلها مخصوصا
بموضع النص، وأبو حنيفة رأى ذلك أصلا في تحريم كل بماح وأجراه مجرى
اليمين. هكذا أفاده القرطبي
أما قوله تعالى " وأسقيناكم ماء فراتا " فالفرات أشد الماء عذوبة. وقال تعالى
" هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج " وقد فرت الماء يفرت فرته إذا عذب فهو
فرات. وقال ابن الاعرابي، فرت الرجل إذا ضعف عقله بعد مسكه، والفراتان
الفرات ودجيل.
أما الأحكام: فإذا حلف لا يأكل طعاما فأكل ما يسمى طعاما من قوت
وأدم وحلواء وتمر جامد ومائع حنث لقوله تعالى " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل "
وقوله تعالى " ويطعمون الطعام على حبه " يعنى على محبتهم للطعام لحاجتهم إليه،
وقيل على حب الله تعالى، وقال تعالى " قل لا أجد فيما أوحى إلى محرما على طاعم
يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير " وسمى النبي صلى الله
عليه وسلم اللبن طعاما وقال " إنما تحزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم "
وفي الماء عند الحنابلة وجهان (أحدهما) هو طعام لقوله تعالى " ان الله مبتليكم
بنهر فمن شرب منه فليس منى، ومن لم يطعمه فإنه منى " والطعام ما يطعم، ولان
النبي صلى الله عليه وسلم سمى اللبن طعاما وهو مشروب فكذلك الماء
(والثاني) ليس بطعام لأنه لا يسمى طعاما ولا يفهم من اطلاق اسم الطعام
ولهذا يعطف عليه، فيقال طعام وشراب، والمعطوف يغاير المعطوف عليه،
وقال صلى الله عليه وسلم " إني لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب الا اللبن "
رواه ابن ماجة، ويقال باب الأطعمة والأشربة، ولأنه أن كان طعاما في الحقيقة
فليس بطعام في العرف فلا يحنث بشربه، لان مبنى الايمان على العرف، لكون
الحالف على الغالب لا يريد بلفظه الا ما يعرفه، وهذا هو الأصح من الوجهين
73

(فرع) هل يحنث بأكل الدواء كالأقراص المسكنة والفيتامينات والمركبات
الاقرباذينية والفارماكوبيا؟ فيه وجهان
(أحدهما) يحنث لأنه يطعم حال الاختيار
(والثاني) لا يحنث لأنه لا يدخل في اطلاق اسم الطعام ولا يؤكل الا عند
الضرورة، وبهذين الوجهين قال الحنابلة، ومن يراجع كتاب الربا هنا يجد أن
الدواء ربوي لأنه طعام وجها واحدا أما هنا فوجهان
(مسألة) إذا حلف لا يشرب ماء وأطلق احتمل عند المصنف وجهين في
حنثه بشرب ماء البحر - وهو الأبيض المتوسط أو الأحمر أو المحيط الهندي
أو الأطلسي أو الاقيانوس - أو ما تفرع عنها من خلجان كالخليج العربي وخليج
العقبة وما تربط من مضايق وممرات، وأحد الوجهين أنه يحنث لان ماء
البحر يدخل في مطلق الماء ولذا تصح الطهارة به لأنه ماء طهور. فإذا عرفت أن
المياه جميعها مصدرها البحر. اما عن طريق التبخر ثم نزولها مطرا تكون منه
الآبار والأنهار. واما عن طريق المياه الجوفية التي تكون منها العيون وبعض
الآبار. وعرفت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمن سأله " انا نركب البحر
ونحمل معنا القليل من الماء " قال " هو الطهور وماؤه الحل ميتته " عرفت أن الماء عند
الاطلاق يتناول ماء البحر حقيقة وعرفا وشرعا
والوجه الثاني أنه لا يحنث. لان ماء البحر لا يشرب ولا يساغ عادة. ولو
كان يسمى ماء لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقولهم " انا نركب البحر
ونحمل معا القليل من الماء فإن توضأنا به لم نجد ماء نشربه أفنتوضأ بماء البحر؟
وهذا سؤال يدل بمجرده على أن ماء البحر لا يسمى ماء بلا قيد. لأنه قال
أفنتوضأ بماء البحر. هكذا بالإضافة
(مسألة) إذا حلف على الجنس المضاف كماء دجلة أو ماء الفرات أو ماء البئر
فهل يحنث بشرب بعضه؟ فيه وجهان
(أحدهما) يحنث بشرب بعضه لأنه حلف على ما لا يمكنه فعل جميعه فتناولت
يمينه بعضه منفردا. وبهذا قال أحمد وأبو حنيفة
(والثاني) لا يحنث. لأنه إذا حلف على الجنس كالناس والماء والخبز والتمر
74

حنث بفعل البعض، لان يمينه تناولت الجميع فلم يحنث بفعل البعض، فألحق به
اسم الجنس المضاف، وأما غير المضاف فليس فيه الوجهان، لأنه إذا حلف
ليفعلن شيئا لم يبر إلا بفعل جميعه
وان حلف لا شربت من الفرات فشرب من مائه حنث، سواء كرع فيه أو
اغترف منه ثم شرب، وبهذا قال أحمد وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة:
لا يحنث حتى يكرع فيه، لان حقيقة ذلك الكرع فلم يحنث بغيره، كما لو حلف
لا شربت من هذا الاناء فصب منه في غيره وشرب
ولنا أن معنى يمينه أن لا يشرب من ماء الفرات: لان الشرب يكون من
مائها. ومنها الغرف فحملت اليمين عليه، كما لو حلف لا شربت من هذه البئر ولا
أكلت من هذه الشجرة ولا شربت من لبن هذه الشاة، ويفارق الكوز فإن الشرب
في العرف منه، لأنه آلة للشرب بخلاف النهر. وما ذكروه يبطل بالبئر والشاة
والشجرة، وقد سلموا أنه لو استقى من البئر أو احتلب لبن الشاة أو التقط من
الشجرة وشرب وأكل حنث فكذا في مسألتنا هنا
(فرع) وان حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ منه
حنث لأنه من ماء الفرات، ولو حلف لا يشرب من نهر الفرات فشرب من
نهر يأخذ منه ففيه وجهان
(أحدهما) يحنث لان معنى الشرب منه الشرب من مائه فحنث، كما لو حلف
لا شربت من مائه. وهذا أحد الاحتمالين لأصحاب أحمد
(والثاني) لا يحنث. وهو قول أبي حنيفة وأصحابه الا أبا يوسف فإن عنه
رواية أنه يحنث، وإنما قلنا لا يحنث، لان ما أخذه النهر يضاف إلى ذلك النهر
لا إلى الفرات، ويزول بإضافته إليه عن اضافته إلى الفرات فلا يحنث به كغير
الفرات، ومن حلف لا يشرب من نهر النيل فشرب من ترعة النوبارية أو ترعة
المحمودية فإن اضافتها إلى الترعة لا يمنع العلم بكونها إحدى روافد النيل فيحنث،
كما لو شرب من فرع رشيد أو فرع دمياط
أما إذا حلف لا يشرب من نهر الأردن فشرب من بحيرة الحولة لم يحنث
لأنهما وان اتصل ماؤهما فلكل منهما اسمه وموقعه. وكذلك يقال في بانياس
75

والحصبائي والليطاني والمزهراني واليرموك وبحيرة طبرية من أنهار الشام أنقذها
وأقالها من عثرتها وأهلك الطامعين فيها.
(فرع) إذا حلف لا يشم الريحان فإنه لا يحنث الا بشم الريحان الفارسي
كالضميران: لان الحالف لا يريد بيمينه في الظاهر سواه فلا يحنث بشم النبت
أو الزهر الطيب الريح كالورد والبنفسج والنرجس والياسمين والزعفران، لأن هذه
كلها وإن كانت رياحين الا أن كلا منها له اسم يعرف به فلم يحنث بشمها.
وقال أبو الخطاب من الحنابلة يحنث بشم ما يمسى في الحقيقة ريحانا لان
الاسم يتناوله حقيقة، ولا يحنث بشم الفاكهة وجها واحدا لأنها لا تسمى
ريحانا حقيقة ولا عرفا. ومن هذا لو حلف لا يشم وردا ولا بنفسجا فشم دهن
البنفسج وماء الورد فإنه لا يحنث لأنه لم يشم وردا ولا بنفسجا
وقال أبو حنيفة: يحنث بشم دهن البنفسج لأنه يسمى بنفسجا ولا يحنث
بشم ماء الورد لأنه لا يسمى وردا.
وهل يحنث بشم الورد والبنفسج اليابس؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يحنث
كما لو حلف لا يأكل رطبا فأكل تمرا (والثاني) يحنث لان حقيقته باقية فحنث به
كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل لحما قديدا أو محفوظا، وفارق ما ذكر في الوجه
الأول فإن التمر ليس رطبا، وبهذا قال أحمد وأصحابه وأصحاب الرأي
وان حلف لا يشم المشموم حنث بكل ما ذكرنا ما عدا الكافور والمسك
والعود والصندل والجاوي، لأنه لا يطلق عليه اسم المشموم. وإنما يقال التجمير
والتبخير أو التعطير للمسك
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان حلف لا يلبس شيئا فلبس درعا أو جوشنا أو خفا أو نعلا
ففيه وجهان، أحدهما يحنث لأنه لبس شيئا. والثاني لا يحنث لأن اطلاق اللبس
لا ينصرف إلى غير الثياب
(فصل) وإن كان معه رداء فقال: والله لا لبست هذا الثوب وهو رداء
فارتدى به أو تعمم به أو اتزر به حنث لأنه لبسه وهو رداء. فإن جعله قميصا أو
76

سراويل ولبسه لم يحنث لأنه لم يلبسه وهو رداء. فإن قال والله لا لبست هذا
الثوب ولم يقل وهو رداء فارتدى به أو تعمم به أو اتزر به أو جعله قميصا أو
سراويل ولبسه حنث. ومن أصحابنا من قال لا يحنث لأنه حلف على لبسه وهو
على صفة فلم يحنث بلبسه على غير تلك الصفة، والصحيح هو الأول لأنه حلف على
لبسه ثوبا فحمل على العموم، كما لو قال والله لا لبست ثوبا
(فصل) وان إحلف لا يلبس حليا فلبس خاتما من ذهب أو فضة أن مخنفة
من لؤلؤ أو غيره من الجواهر حنث لان الجميع حلي، والدليل عليه قوله عز وجل
(يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير) وإن لبس شيئا من
الخرز أو السبج، فإن كان ممن عادته التحلي به كأهل السواد حنث لأنهم يسمونه
حليا. وهل يحنث به غيرهم؟ على ما ذكرناه من الوجهين في بيوت الشعر ورؤوس
الصيد. وإن تقلد سيفا محلى لم يحث، لان السيف ليس بحلي. وإن لبس منطقة
محلاة ففيه وجهان
(أحدهما) يحنث لأنه من حلي الرجال
(والثاني) لا يحنث، لأنه ليس من الآلات المحلاة فلم يحنث به كالسيف
وإن حلف لا يلبس خاتما فلبسها في غير الخنصر، أو حلف لا يلبس قميصا فارتدى
به أو لا يلبس قلنسوة فلبسها في رجله لم يحنث، لان اليمين يقتضى لبسا متعارفا
وهذا غير متعارف
(فصل) وإن من عليه رجل فحلف لا يشرب له ماء من عطش فأكل له
خبزا أو لبس له ثوبا أو شرب له ماء من غير عطش لم يحنث، لان الحنث لا يقع
إلا على ما عقد عليه اليمين، والذي عقد عليه اليمين شرب الماء من عطش، فلو
حنثاه على سواه لحنثناه على ما نوى لا على ما حلف عليه. وإن حلف لا يلبس
له ثوبا فوهب له ثوبا فلبسه لم يحنث لأنه لم يلبس ثوبه
(الشرح) الدرع الحديد مؤنثة في الأكثر وتصغر على دريع بغير هاء على
غير قياس. وجاز أن يكون التصغير على لغة من ذكر، وربما قيل دريعة بالماء
وجمعها أدرع ودروع وأدراع.
77

قال ابن الأثير وهي الزردية، ودرع المرأة قميصها مذكر. وقال في اللسان:
الدرع لبوس الحديد تذكر وتؤنث. قال الآخر
مقلصا بالدرع ذي التغضن * يمشى العرضي في الحديد المتقن
والجمع في القليل أدرع وأدراع وفي الكثير دروع. وفي حديث خالد " أدراعه
وأعتده حبسا في سبيل الله " والجوشن الصدر، وقيل ما عرض من وسط الصدر
وجوشن الجرادة صدرها وجوشن الليل وسطه وصدره، والجوشن الذي يلبس
من السلاح. قال ذو الرمة يصف ثورا طعن كلابا بروقيه في صدرها
فكر يمشق طعنا في جواشنها كأنه الاجر في الاقبال يحتسب
والمخنقة القلادة الواقعة على المخنق، والسبخ خرز والواحدة سبجة مثل قصب
وقصبة، وسواد العراق سمى كذلك لخضرة أشجاره وزروعه، والعرب تسمى
الأخضر أسود لأنه يرى كذلك على بعده وكل شخص من إنسان وغيره يسمى
سوادا، وجمعه أسودة، مثل جناح وأجنحة، ومتاع وأمتعة، وسواد
المسلمين جماعتهم.
أما الأحكام: فان حلف لا يلبس شيئا حنث بكل ما يلبس من الثياب وغيرها
كالدرع والجوشن والنعل والخف في أحد الوجهين، وبه قال أحمد لأنه ملبوس
حقيقة وعرفا فحنث به كالثياب، وقد استدل على هذا الوجه بحديث " أن النجاشي
أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم خفين فلبسهما " وقيل لابن عمر انك تلبس
النعال، فقال إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبسهما فإذا أدخل يده
في الخف أو النعل أو الدرع والجوشن في رجليه لم يحنث، لان ذلك ليس بلبس
لهما (وأوجه الثاني) لا يحنث. لان اللبس عند الاطلاق لا ينصرف
إلا إلى الثياب.
(فرع) ان حلف لا يلبس هذا الثوب وهو رداء، فارتدى به أو ائتزر أو
اعتم به حنث، لان ما فعله يطلق عليه اسم اللبس فحنث به. وبهذا قال أحمد
وأصحابه، لأنه لبسه وهو رداء، فإن غيره عن كونه رداء ولبسه ولم يحنث لان
اليمين وقعت على ترك لبس رداء.
فإن حلف لا يلبس هذا الثوب - وكان رداء في حال حلفه - لم يقل
78

وهو رداء كالتي قلها - فارتدى به أو ائتزر أو اعتم به أو جعله قميصا أو سراويل
أو قباء ولبسه حنث على الصحيح من المذهب لأنه قد لبسه فحمل على عموم اللبس
كما لو قال والله لا لبست ثوبا، فإنه يحنث بلبس أي ثوب على أي نحو مما قررنا
(فرع) إذا حلف ليلبسن هو أو ليلبسن امرأته حليا فلبس هو أو ألبس
امرأته خاتما من فضة أو مخنقة من لؤلؤ أو جوهر وحده بر في يمينه، وبه قال أحمد
وقال أبو حنيفة لا يبر لأنه ليس بحلي.
وإذا حلف لا يلبس - بالنفي - حليا فلبس خاتما من فضة أو وضع دبوسا
في صدره أو زرارا معدنيا في كم قميصه حنث لان ذلك من وسائل الزينة في عصرنا
هذا كالخرز والسبج عند أهل السواد في عصر المصنف، فإن كان ممن يلبس
الجبة والقفطان فوضع دبوسا في صدره مما يوضع حلية من يلبس الملابس
الإفرنجية ففيه وجهان كالوجهين في بيوت الشعر ورؤوس الصيد
وقال الحنابلة: إن لبس عقيقا أو سبجا، ولو كان من أهل السواد لا يحنث
لأنه ليس بحلي كالودع وخرز الزجاج، وإن كان لا يلبس حليا فلبس دراهم أو
دنانير في مرسلة ففيه وجهان
(أحدهما) لا يحنث لأنه ليس بحلي إذا لم يلبسه فكذلك إذا لبسه
(والثاني) يحنث لأنه ذهب وفضة لبسه فكان حليا كالسوار والخاتم
(فرع) إذا حلف لا يلبس حليا فتقلد سيفا محلى بالذهب لا يحنث، لان
الشرع لم يعتبره حليا، وإن لبس حزاما محلى ففيه وجهان (أحدهما) يحنث لأنه
مما يتحلى به الرجال، وبه قال أحمد رضي الله عنه
(والثاني) لا يحنث لأنه آلة محلاة فأشبه السيف. وإن حلف لا يلبس
خاتما فلبسها في غير مكانها من الخنصر بل جعلها في الوسطى أو السبابة لم يحنث
كما لو حلف لا يلبس قميصا فارتدى به، أولا يلبس قلنسوة فلبسها في رجله لم
يحنث لمخالفة ذلك للعرف
(مسألة) إذا أراد أن يقطع منة عليه لرجل فإن يمينه لا تتعدى ما انعقد
عليه لفظه. وقال أحمد: إن الأسباب معتبرة في الايمان فيتعدى الحكم بتعديها،
فإذا أمتن عليه بثوب فحلف أن لا يلبسه لتنقطع المنة به حنث بالانتفاع به في
79

غير اللبس من أخذ ثمنه، لأنه نوع انتفاع به يلحق المنة به، وان لم يقصد قطع
المنة ولا كان سبب يمينه يقتضى ذلك لم يحنث إلا بما تناولته يمينه، وهو لبسه
خاصة فلو أبدله بثوب غيره ثم لبسه أو انتفع به في غير اللبس أو باعه وأخذ
ثمنه لم يحنث لعدم تناول اليمين له لفظا ونية وسببا
ولنا أننا لو أحنثناه هنا لأحنثناه على ما نوى لا على ما حلف عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
وان حلف لا يضرب امرأته فضربها ضربا غير مؤلم حنث لأنه يقع عليه
اسم الضرب، وان عضها أو خنقها أو نتف شعرها لم يحنث، لان ذلك ليس
بضرب، وان لكمها أو لطمها أو رفسها ففيه وجهان. أحدهما يحنث لأنه ضربها
والثاني لا يحنث لان الضرب المتعارف ما كان يؤلم
وإن حلف ليضرب عبده مائة سوط فشد مائة سوط فضربه بها ضربة واحدة
فإن تيقن أنه أصابه المائة بر في يمينه لأنه ضربه مائة سوط. وان تيقن أنه لم
يصبه بالمائة لم يبر لأنه ضربه دون المائة. وإن شك هل أصابه بالجميع أو لم يصبه
بالجميع فالمنصوص أنه يبر
وقال المازني. لا يبر، كما قال الشافعي رحمه الله فيمن حلف ليفعل كذا في
وقت إلا أن يشاء فلان: فمات فلان حنث، وإذا لم نجعله بارا للشك في المشيئة
وجب أن لا نجعله بارا للشك في الإصابة، والمذهب الأول، لان أيوب عليه
السلام حلف ليضربن امرأته عددا فقال عز وجل " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به
ولا تحنث " ويخالف ما قاله الشافعي رحمه الله في المشيئة لأنه ليس الظاهر وجود
المشيئة، فإذا لم تكن مشيئة حنث بالمخالفة، والظاهر إصابته بالجميع فبر. وان
حلف ليضربنه مائة مرة فضربه بالمائة المشدودة لم يبر لأنه لم يضربه إلا مرة،
فإن حلف ليضربه مائة ضربة، فضربه بالمائة المشدودة دفعة واحدة فأصابه
الجميع ففيه وجهان:
(أحدهما) لا يبر لأنه ما ضربه الا ضربة، ولهذا لو رمى بسبع حصيات
دفعة واحدة إلى الجمرة لم يحتسب له سبعا
80

(والثاني) أنه يبر لأنه حصل بكل سوط ضربة، ولهذا لو ضرب به في حد
الزنا حسب بكل سوط جلدة
(الشرح) قوله: فقال الله عز وجل " وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث "
ذهب المفسرون في تفسير هذه الآية مذهب الإسرائيليات التي تغفل السياق
ومواقع الكلم. وحكموا في ذلك أحاديث بعضها موقوف وبعضها مرفوع لم يصح
منها سوى حديث " بينا أيوب يغتسل إذ خر عليه رجل من جراد من ذهب "
الحديث. وإذ لم يصح عنه فيه إلا ما ذكر القرآن فإنا ذاكروا ما قاله ابن العربي
لموافقته مذهبنا في تأويلها. قال ما ذكره المفسرون من أن إبليس كان له مكان
في السماء السابعة من العام فقول باطل، لأنه أهبط منها بلعنة وسخط إلى
الأرض فكيف يرقى إلى محل الرضا ويحول في مقامات الأنبياء ويخترق السماوات
العلى، إن هذا لخطب من الجهالة عظيم، إلى أن قال:
وأما قولهم: إنه قال لزوجته أنا إله الأرض، ولو تركت ذكر الله وسجدت
أنت لي لعافيته، فاعلموا وإنكم لتعلمون أنه لو عرض لأحدكم وبه ألم وقال هذا
الكلام ما جاز عنده أن يكون إلها في الأرض وأنه يسجد له وأنه يعافى من البلاء
فكيف أن تستريب زوجة نبي؟ ولو كانت زوجة سوادي أو قدم برجوى
ما ساغ لك عندها
وأما تصويره الأموال والأهل في واد فذلك ما يقدر عليه إبليس بحال،
ولا هو في طريق السحر، فيقال إنه من جنسه. إلى أن قال: والذي جرأهم على
ذلك وتذرعوا به إلى ذكر هذا قوله تعالى " إذ نادى ربه أنى مسني الشيطان بنصب
وعذاب " انتهى.
قلت: الذي يتفق مع نظام الذكر الحكيم والتذكير المتين أن الله تعالى أراد
أن يسلى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بجهاد الأنبياء قبله وصبرهم على الضرر والبلاء
فليس من المناسب أن يقول له: أذكر عبدنا أيوب كيف حلف أن يضرب
امرأته مائة سوط، فقلنا له خذ عرجونا به مائة شمراخ فاضربها به ولا تحنث انا
وجدناه صابرا نعم العبد انه أواب.
81

ان هذا كلام عجيب وفهم للآيات غريب، وان الذي يناسب مقام النبوة أن
يكون أبوب عليه السلام بعث في قوم كان الشيطان يعبث بعقولهم، فكان كلما
آمن به فريق منهم ارتد وانحاز إلى الضلالة فشكا لربه هذا العناء " انى مسني
الشيطان بنصب وعذاب " فقال له ربه " ثبت قدمك على دعوتنا وتقدم بخطى
سريعة ثابتة إلى الامام، وهذا هو الذي يفيده معنى الركض بالرجل. ففي هذا
إزالة لما يمسك من لغوب ونصب وتنقية لما تعانيه من عناد قومك من وساوس
الشيطان، وشراب هنئ لك يشرح صدرك، ويجلو عنك الضيق والحرج وخذ
بيدك غصنا فلوح به على وجوه الناس ولا تأثم ولا تغلظ، لان الحنث هو
الاثم. قال تعالى " وكانوا يصرون على الحنث العظيم " ومما استقر في الفطر
وارتكز في الطباع أن الغصن الرطب كغصن الزيتون مثلا يضرب به المثل في
الأمم بالسلام. والله أعلم.
أما أحكام الفصل فإنه لا يجوز أن يضرب الرجل امرأته فوق حد الأدب،
لقوله صلى الله عليه وسلم " واضربوهن ضربا غير مبرح " وقد اختلف الفقهاء في
هذا الحكم الذي فهموه من الآية، هل هو عام أو خاص بأيوب وحده؟ فروى
عن مجاهد أنه عام
وحكى عن القشيري أن ذلك خاص بأيوب. وحكى المهدوي عن عطاء بن أبي
رباح أن ذلك حكم باق، وأنه إذا ضرب بمائة قضيب ونحوه ضربة واحدة
بر وروى نحوه الشافعي رضي الله عنه. وروى نحوه عن النبي صلى الله عليه
وسلم في المقعد الذي حملت منه الوليدة. وأمر أن يضرب بعثكول فيه مائة شمراخ
ضربة واحدة. وقال القشيري وقيل العطاء هل يعمل بهذا اليوم؟ فقال ما أنزل
القرآن الا ليعمل به ويتبع.
وروى عن عطاء أنها لأيوب خاصة. وكذلك روى أبو زيد عن ابن القاسم
عن مالك " من حلف ليضربن عبده مائة فجمعها فضربه بها ضربة واحدة لم يبر
وقال القرطبي، وقال بعض علمائنا - يريد مالك - قوله تعالى " لكل جعلنا
منكم شرعة ومنهاجا " أي ان ذلك منسوخ بشريعتنا
82

قال ابن المنذر وقد روينا عن علي أنه جلد الوليد بن عقبه بسوط له طرفان
أربعين جلدة، وأنكر مالك هذا وتلا قوله تعالى " فاجلدوا كل واحد منها مائة
جلدة " وهذا مذهب أصحاب الرأي. اه
وقد احتج الشافعي رضي الله عنه بحديث خرجه أبو داود في سننه: حدثنا
أحمد بن سعيد الهمداني، حدثنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أخبرني
أبو أسامة بن سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
من الأنصار " أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى، فعاد جلدة على عظم، فدخلت
عليه جارية لبعضهم، فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه
أخبرهم بذلك وقال: استفتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإني قد وقعت
على جارية دخلت على، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا:
ما رأينا بأحد من الناس من الضر مثل الذي هو به، لو حملناه إليك لتفسخت
عظامه، ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة ".
قال الشافعي: إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة أو ضربا ولم يقل: ضربا
شديدا ولم ينو ذلك بقلبه يكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية ولا يحنث،
وقال ابن المنذر: إذا حلف الرجل ليضربن عبده مائة فضربه ضربا خفيفا فهو
بار عند الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي وقال مالك ليس الضرب إلا الضرب
الذي يؤلم.
(تنبيه) قال القرطبي في جامع أحكام القرآن ج 15 ص 215. استدل بعض
جهال المنزهدة، وطعام المتصوفة بقوله تعالى لأيوب " اركض برجلك " على
جواز الرقص، قال أبو الفرج الجوزي: وهذا احتجاج بارد، لأنه لو كان أمر
بضرب الرجل فرحا كان لهم فيه شبهة، وإنما أمر بضرب الرجل لينبع الماء إعجازا
من الرقص، ولئن جاز أن يكون تحريك رجل قد أنحلها تحكم الهوام دلالة على
جواز الرقص في الاسلام جاز أن يجعل قوله سبحانه " اضرب بعصاك الحجر "
جوازا على ضرب المحاد بالقضبان نعوذ بالله من التلاعب بالشرع، وقد احتج
بعض قاصريهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعلي " أنت منى وأنا منك "
83

فخجل، وقال لجعفر " أشبهت خلقي وخلقي " فحجل، وقال لزيد " أنت أخونا
ومولانا " فخجل، ثم ذكر قصة زفن الحبشة والنبي صلى الله عليه وسلم ينظر
إليهم وأجاب على كل ذلك.
(فرع) إذا حلف أن يضربها عشرة أسواط فجمعها وضربها بها ضربة واحدة
بر في يمينه إذا علم أنها مستها كلها، وإن علم أنها لم تمسها لم يبر، وقال أحمد: إن
حلف أن يضربه عشرة فجمعها فضربه بها لم يبر في يمينه، وبهذا قال مالك وأصحاب
الرأي. وقال ابن حامد من الحنابلة يبر، لان أحمد قال في المريض عليه الحد،
يضرب بعثكال النخل فيسقط عنه الحد.
(فرع) وإن حلف أن يضرب امرأته في غد فمات الحالف من يومه فلا حنث
عليه، لان الحنث إنما يحصل بفوات المحلوف عليه في وقته وهو الغد، والحالف
قد خرج عن أن يكون من أهل التكليف قبل الغد فلا يمكن حنثه، وكذلك إن
جن الحالف في يومه فلم يفق إلا بعد خروج الغد، لأنه خرج عن كونه من
أهل التكليف.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن حلف لا يهب له فأعمره أو أرقبه أو تصدق عليه حنث لان
الهبة تمليك العين بغير عوض: وإن كان لكل نوع منها اسم. وإن وقف عليه
وقلنا إن الملك ينتقل إليه حنث، لأنه ملكه العين من غير عوض. وإن باعه
وحاباه لم يحنث، لأنه ملكه بعوض، وإن وصى له لم يحنث، لان التمليك بعد
الموت والميت لا يحنث.
(فصل) وإن حلف لا يتكلم فقرا القرآن لم يحنث: لان الكلام لا يطلق
في العرف الا على كلام الآدميين. وان حلف لا يكلم فلانا فسلم عليه حنث،
لان السلام من كلام الآدميين، ولهذا تبطل به الصلاة، فإن كلمه وهو نائم أو
ميت أو في موضع لا يسمع كلامه لم يحنث، لأنه لا يقال في العرف كلمه. وان
كلمه في موضع يسمع الا أنه لم يسمع لاشتغاله بغيره حنث، لأنه كلمه. ولهذا
يقال كلمه فلم يسمع
84

وان كلمه وهو أصم فلم يسمع للصم فقيه وجهان. أحدهما يحنث لأنه كلمه
وان لم يسمع فحنث، كما لو كلمه فلم يسمع لاشتغاله بغيره. والثاني لا يحنث وهو
الصحيح لأنه كلمه وهو لا يسمع، فأشبه إذا كلمه وهو غائب، وان كاتبه أو
راسله ففيه قولان:
قال في القديم يحنث. وقال في الجديد لا يحنث. وأضاف إليه أصحابنا: إذا
أشار إليه، فجعلوا الجميع على قولين، أحدهما يحنث. والدليل عليه قوله عز وجل
" وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا " فاستثنى الوحي وهو الرسالة من الكلام
فدل على أنها منه. وقوله عز وجل " قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام الا
رمزا " فاستثنى الرمز وهو الإشارة من الكلام، فدل على أنها منه، ولأنه وضع
لافهام الآدميين فأشبه الكلام.
والقول الثاني أنه لا يحنث لقوله عز وجل " فإما ترين من البشر أحدا فقولي
انى نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم انسيا " ثم قال " يا أخت هارون ما كان
أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا، فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في
المهد صبيا " فلو كانت الإشارة كلاما لم تفعله، وقد نذرت أن لا تكلم. ولان
حقيقة الكلام ما كان باللسان، ولهذا يصح نفيه عما سواء بأن نقول: ما كلمته
وإنما كاتبته أو راسلته أو أشرت إليه، ويحرم على المسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة
أيام، لقوله عليه السلام " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، والسابق
أسبقهما إلى الجنة "
وان كاتبه أو راسله ففيه وجهان (أحدهما) لا يخرج من مأثم الهجران،
لان الهجران ترك الكلام فلا يزول الا بالكلام (والثاني) وهو قول أبي علي بن
أبي هريرة أنه يخرج من مأثم الهجران، لان القصد بالكلام إزالة ما بينهما من
الوحشة، وذلك يزول بالمكاتبة والمراسلة
(الشرح) قوله تعالى " وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا " سبب ذلك
أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه ان كنت نبيا
85

كما كلمه موسى ونظر إليه، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: إن موسى لن ينظر إليه، فنزل قوله تعالى " وما كان لبشر أن يكلمه
الله إلا وحيا " ذكره النقاش والواحدي والثعلبي. وقد احتج بهذه الآية الشافعي
في القديم فيمن حلف ألا يكلم رجلا فأرسل إليه رسولا أنه حانث، لان المرسل
قد سمى فيها مكلما للمرسل إليه، إلا أن ينوى الحالف المواجهة بالخطاب
قال ابن المنذر: واختلفوا في الرجل يحلف أن لا يكلم فلانا فكتب إليه كتابا
أو أرسل إليه رسولا، فقال الثوري الرسول ليس بكلام. وقال الشافعي في
الجديد: لا يبين أن يحنث. وقال النخعي: والحكم في الكتاب يحنث. وقال مالك
يحنث في الكتاب والرسول وقال مرة: الرسول أسهل من الكتاب. وقال
أبو عبيد: الكلام سوى الخط والإشارة
وقال أبو ثور " لا يحنث في الكتاب " وقال ابن المنذر لا يحنث في الكتاب
والرسول. وقال القرطبي وهو قول مالك
أما قوله تعالى قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا " قال
أبو الشعثاء جابر بن زيد رضي الله عنه، إن زكريا عليه السلام لما حملت زوجه
منه بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا، وهو مع ذلك يقرأ التوراة ويذكر
الله تعالى، فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه
(قلت) والرمز في اللغة الايماء بالشفتين، وقد يستعمل في الايماء بالحاجبين
والعينين واليدين، وأصله الحركة. وقيل طلب تلك الآية زيادة طمأنينة.
المعنى تم النعمة بأن تجعل لي آية، وتكون تلك الآية زيادة نعمة وكرامة،
فقيل له " آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام " أي تمتنع من الكلام ثلاث ليال.
وقال النحاس، قول قتادة إن زكريا عوقب بترك الكلام قول مرغوب عنه،
لان الله لم يخبرنا أنه أذنب ولا أنه نهاه عن هذا، اه
ثم إن في هذه الآية دليلا على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام، وذلك موجود
في كثير من السنة. وآكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر
الجارية حين قال لها أين الله؟ فأشارت برأسها إلى السماء، فقال أعتقها فإنها مؤمنة
فأجاز الاسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يمنع الدم والمال وتستحق
86

به الجنة وينجى به من النار، وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك، فوجب
أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة، وهو قول عامة الفقهاء
وروى ابن القاسم عن مالك أن الأخرس إذا أشار بالطلاق أنه يلزمه.
وقال الشافعي في الرجل يمرض فيختل لسانه فهو كالأخرس في الرجعة والطلاق
وقال أبو حنيفة ذلك جائز إذا كانت إشارته تعرف، وإن شك فيها فهي باطل،
وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان.
وقال القرطبي والقياس في هذا كله أنه باطل لأنه لا يتكلم ولا يعقل إشارته
قال أبو الحسن بن بطال، وإنما حمل أبا حنيفة على قوله هذا أنه لم يعلم السنن التي
جاءت بجواز الإشارات في أحكام مختلفة في الديانة، ولعل البخاري حاول بترجمته
" باب الإشارة في الطلاق والأمور " الرد عليه
وقال عطاء أراد بقوله ألا تكلم الناس، صوم ثلاثة أيام، وكانوا إذا صاموا
لا يتكلمون إلا رمزا، وهذا فيه بعد. أفاده القرطبي
(قلت) وعندي أن زكريا سأل الله تعالى أن يجعل له آية، فقال آيتك أنى أجعلك
لا تستطيع الكلام ثلاثة أيام إلا إشارة. وهذه أعظم آية بظهرها الله تعالى لزكريا
في ذات نفسه
أما قوله تعالى " فإما ترين من البشر أحدا " الأصل في ترين ترأيين بوزن
تمنعين قبل التوكيد ودخول الجازم، فحذفت الهمزة كما حذفت من ترى، ونقلت
فتحتها إلى الراء فصار تريين ثم قبلت الياء الأولى ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها،
فاجتمع ساكنان الألف المنقلبة عن الياء وياء التأنيث لالتقاء الساكنين، لان
النون المثقلة بمنزلة نونين، الأولى ساكتة فصار ترين. وعلى هذا النحو قول
دريد بن الصمة
إما ترى رأسي حاكي لونه طرة صبح تحت أديال الدجى
وقول الأفوه العبدي
إما ترى أزرى به مأس زمان ذي انتكاس مئوس
قال ابن عباس وأنس، إذا سألك أحد عن ولدك فقولي إني نذرت للرحمن
87

صوما. أي صمتا، وفي قراءة أبي بن كعب (إني نذرت للرحمن صوما صما)
والذي تتابعت به الاخبار عن أهل الحديث أن الصوم هو الصمت، لأن الصوم
إمساك عن الاكل، والصمت إمساك عن الكلام
وقوله تعالى (فأشارت إليه) دليل عليه أن مريم التزمت ما أمرت به من ترك
الكلام. ولم يرد في هذه الآية أنها نطقت ب‍ (إني نذرت للرحمن صوما) وإنما
ورد بأنها أشارت، فيقوى بهذا قول من قال إن أمرها ب‍ (قولي) إنما أريد
به الإشارة.
أما حديث (لا يحل لمسلم) الخ فقد أخرجه البخاري في الأدب عن أبي أيوب
الأنصاري من طريق عبد الله بن يوسف، وفي الاستئذان عن علي عند مسلم،
وفي الأدب عن أبي أيوب من طريق بن يحيى بن يحيى في سنن أبي داود، وعن أبي
أيوب عند الترمذي في البر من طريق محمد بن يحيى وفي الموطأ عن أبي أيوب
من طريق ابن شهاب.
أما الأحكام فقد اختلف علماء الشرع فيمن حلف ألا يكلم إنسانا فكتب إليه
كتابا أو أرسل إليه رسولا، فقال مالك إنه يحنث الا أن ينوى مشافهته، ثم
رجع فقال لا ينوى في الكتاب ويحنث الا أن يرتجع الكتاب قبل وصوله قال
ابن القاسم: إذا قرأ كتابه حنث، وكذلك لو قرأ الحالف كتاب المحلوف عليه.
وقال أشهب، لا يحنث إذا قرأه الحالف، وهذا بين، لأنه لم يكلمه ولا ابتدأه
بكلام. الا أن يريد ألا يعلم معنى كلامه فإنه يحنث، وعليه يخرج قول ابن القاسم
هكذا قال المالكية. فإن حلف ليكلمنه لم يبر الا بمشافهته
وقال ابن الماجشون: وان حلف لئن علم كذا ليعلمنه أو ليخبرنه فكتب إليه
أو أرسل إليه رسولا بر ولو علماه جميعا لم يبر حتى يعلمه، لان علمهما مختلف.
واتفق مالك والشافعي وأهل الكوفة أن الأخرس إذا كتب الطلاق بيده
لزمه. وقال الكوفيون الا أن يكون رجل أصمت أياما فكتب لم يجز
من ذلك شئ.
قال الطحاوي، الأخرس مخالف للصمت العارض، كما أن العجز عن الجماع
88

العارض لمرض ونحوه يوما أو نحوه مخالف للعجز المأيوس منه الجماع نحو الجنون
في باب خيار المرأة في الفرقة
واتفق أكثر أصحابنا على أنه إذا حلف ألا يكلمه فأرسل إليه رسولا أو كتب
إليه حنث، الا إذا أراد لا يشافهه
وقد روى الأثرم وغيره عن أحمد في رجل حلف ألا يكلم رجلا فكتب إليه
كتابا. قال وأي شئ كان سبب ذلك إنما ينظر إلى سبب يمينه ولم حلف؟ ان
الكتاب قد يجرى مجرى الكلام، والكتاب قد يكون بمنزلة الكلام في بعض
الحالات الا أن يكون قاصدا هجرانه وترك صلته والا لم يحنث بكتاب ولا رسول
لان ذلك ليس بتكلم في الحقيقة، وهذا يصح نفيه، فيقال ما كلمته وإنما كاتبته
أو راسلته، ولذلك قال تعالى (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من
كلم الله) وقال (يا موسى ان اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي) وقال
(وكلم الله موسى تكليما) ولو كانت الرسالة تكليما لشارك موسى غيره من الرسل
ولم يختص بكونه كليم الله ونجيه
وقد قال أحمد حين مات بشر الحافي، لقد كان فيه أنس وما كلمته قط، وكانت
بينهما مراسلة.
وممن قال لا يحنث بهذا الثوري وأبو حنيفة وابن المنذر والشافعي في الجديد
واحتجوا جميعا بقوله تعالى (وما كان لبشر أن يكلمه الله الا وحيا أو من وراء
حجاب أو يرسل رسولا فيوحى) فاستثنى الرسول من التكلم، والأصل أن يكون
المستثنى من جنس المستثنى منه، ولأنه وضع لافهام الآدميين أشبه الخطاب،
والصحيح أن هذا ليس بتكلم، وهذا الاستثناء من غير الجنس كما قال في الآية
الأخرى (آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا) والرمز ليس بتكلم، لكن
ان نوى ترك مواصلته أو كان سبب يمينه يقتضى هجرانه حنث لذلك. ولذلك
قال أحمد وغيره، ان الكتاب ينزل منزلة الكلام فلم يجعلوه كلاما، إنما قالوا هو
بمنزلته في بعض الحالات
89

(فرع) إذا كلم غير المحلوف عليه بقصد إسماع المحلوف عليه فإنه يحنث.
وبهذا قال أحمد، لأنه قد أراد تكليمه، ويرد عليه ما روينا عن أبي بكرة رضي الله عنه
أنه كان قد حلف ألا يكلم أخاه زيادا، فلما أراد زياد الحج جاء أبو بكرة
إلى قصر زياد فدخل فأخذ بنيا لزياد صغيرا في حجره ثم قال: يا ابن أخي إن
أباك يريد الحج ولعله يمر بالمدينة فيدخل على أم حبيبة زوج رسول الله صلى الله
عليه وسلم بهذا النسب الذي ادعاه - وهو يعلم أنه ليس بصحيح - وأن هذا
لا يحل له، ثم قام فخرج
وهذا يدل على أنه لم يعتقد ذلك تكليما. ووجه الأول أنه أسمعه كلامه قاصدا
لاسماعه فأشبه ما لو خاطبه كما قال الشاعر
إياك أعني فاسمعي يا جارة
فإن ناداه بحيث يسمع فلم يسمع لتشاغله أو غفلته حنث، وقد سئل أحمد
عن رجل حلف ألا يكلم فلانا، فناداه والمحلوف عليه لا يسمع قال " يحنث "
لأنه قد أراد تكليمه، وهذا لكون ذلك يسمى تكليما، يقال كلمته فلم يسمع،
وإن كان ميتا أو غائبا أو مغمى عليه أو أصم لا يعلم بتكليمه إياه لم يحنث

(1) زياد بن أبيه استلحقه معاوية بأبي سفيان بن حرب فدعى زياد بن
أبي سفيان، وقد كانت أمهما - هو وأخوه أبو بكرة - سمية، جارية مهداة
من النعمان بن المنذر ملك الحيرة إلى الطبيب العربي الحارث بن كلدة، وكان
أبو سفيان يستريح عندها لدى مروره بالطائف
ويقال إنه سفح بها فأعقبت زيادا
وأبو سفيان هو أبو أم المؤمنين أم حبيبه، وادعاه زياد النسب يجعله أخا
لام حبيبة، الامر الذي تستنكره حتى لا يقوى على مواجهتها فيدخل بيتها
بهذا النسب الزائف
90

وقال بعض أصحاب أحمد كالقاضي أبي بكر: إنه يحنث بنداء الميت، لان
النبي صلى الله عليه وسلم كلهم وناداهم وقال " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ".
ويرد على هذا قوله تعالى " وما أنت يسمع من في القبور " ولأنه قد بطلت
حواسه وذهبت نفسه، فكان أبعد من السماع من الغائب البعيد لبقاء الحواس
في حقه، وإنما كان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم أمرا اختص به فلا يقاس
عليه غيره.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن حلف لا يسلم على فلان فسلم على قوم هو فيهم ونوى السلام
على جميعهم حنث، لأنه سلم عليه، وإن استثناه بقلبه لم يحنث لان اللفظ، وإن كان
عاما إلا أنه يحتمل التخصيص فجاز تخصيصه بالنية، وإن أطلق السلام من
غير نية ففيه قولان.
(أحدهما) أنه يحنث لأنه سلم عليهم، فدخل كل واحد منهم فيه.
(والثاني) أنه لا يحنث لان اليمين يحمل على المتعارف، ولا يقال في العرف
لمن سلم على الجماعة وفيهم فلان: إنه كلم فلانا وسلم على فلان، وإن حلف
لا يدخل على فلان في بيت فدخل على جماعة في بيت هو فيهم - ولم يستثنه
بقلبه - حنث بدخوله عليهم، وان استثنى بقلبه عليهم ففيه وجهان (أحدهما)
أنه لا يحنث كما لو حلف لا يسلم عليه فسلم عليهم واستثناه بقلبه (والثاني) أنه
يحنث لان الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالاستثناء، والسلام قول
فجاز تخصيصه بالاستثناء، ولهذا لو قال سلام عليكم إلا على فلان صح، وإن قال
دخلت عليكم إلا على فلان لم يصح.
(فصل) وإن حلف لا يصوم أو لا يصلى فدخل فيهما حنث، لأنه
بالدخول فيهما سمى صائما ومصليا، وان حلف لا يبع أو لا يتزوج أو لا يهب
لم يحنث إلا بالايجاب والقبول
ومن أصحابنا من قال يحنث في الهبة بالايجاب من غير قبول، لأنه يقال
91

وهب له ولم يقبل، والصحيح هو الأول، لان الهبة عقد تمليك فلم يحنث فيه
من غير ايجاب وقبول كالبيع والنكاح ولا يحنث الا بالصحيح، فأما إذا باع بيعا
فاسدا أو نكاح نكاحا فاسدا أو وهب هبة فاسدة لم يحنث، لأن هذه العقود
لا تطلق في العرف والشرع إلا على الصحيح.
(الشرح) إذا حلف لا يكلم فلانا فسلم عليه أو لا يسلم عليه فسلم على
جماعة هو فيهم حنث لان السلام كلام تبطل الصلاة به، فإن قصد المحلوف عليه
مع الجماعة حنث لأنه كلمه، وان قصدهم دونه لم يحنث، وهو مذهب أحمد رضي الله عنه
لان اللفظ العام يحتمل التخصيص، فإن أطلق السلام من غير نية ففيه
قولان (أحدهما) يحنث، وبه قال الحسن وأبو عبيد ومالك وأبو حنيفة وأحمد
لأنه مكلم لجميعهم، لان مقتضى اللفظ العموم فيحمل على مقتضاه عند الاطلاق
(والثاني) لا يحنث، لان العام يصلح للخصوص فلا يحنث بالاحتمال، ووجه
القول الأول أن هذا الاحتمال مرجوح فيتعين العمل بالراجح، كما احتمل اللفظ
المجاز الذي ليس بمشتهر، فإنه لا يمنع حمله على الحقيقة عند الاطلاق، فإن لم
يعلم أن المحلوف عليه فيهم ففيه وجهان (أحدهما) لا يحنث، لأنه لم يرده فأشبه
ما لو استثناه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد (والثاني) يحنث لأنه قد أرادهم
بسلامه، وهو منهم وهذا بمنزلة الناسي.
(فرع) إذا صلى بالمحلوف عليه إماما ثم سلم من الصلاة حنث، لأنه شرع
له أن ينوى السلام على الحاضرين، وقال أحمد وأبو حنيفة لا يحنث، لأنه قول
مشروع في الصلاة فلم يحنث به كتكبيرها وليست نية الحاضرين بسلامة واجبة
في السلام وان أرتج عليه في الصلاة ففتح عليه الحالف لم يحنث لان ذلك كلام الله
وليس بكلام الآدميين.
(مسألة) إذا حلف لا يتكلم فقرأ لم يحنث، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة
ان قرأ في الصلاة لم يحنث، وان قرأ خارجا منها حنث لأنه يتكلم بكلام الله، وان
ذكر الله تعالى لم يحنث، ومقتضى مذهب أبي حنيفة أنه يحنث لأنه كلام، قال
تعالى " وألزمهم كلمة التقوى ".
92

وقال النبي صلى الله عليه وسلم " أفضل الكلام أربع: سبحان الله، والحمد لله
ولا إله إلا الله والله أكبر " وقال " كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان
حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده وسبحان الله العظيم "
دليلنا أن الكلام في العرف لا يطلق إلا على كلام الآدميين، ولهذا لما قال
النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يحدث عن أمره ما يشاء، وأنه قد أحدث أن لا تكلموا في
الصلاة " لم يتناول المختلف فيه.
وقال زيد بن أرقم: كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت " وقوموا لله قانتين "
فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام، وقال تعالى " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة
أياما إلا رمزا، واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والأبكار " فأمره بالتسبيح مع
قطع الكلام عنه، ولان ما لا يحنث به في الصلاة لا يحنث به خارجا منها
كالإشارة، وما ذكروه يبطل بالقراءة والتسبيح في الصلاة، وذكر الله المشروع
فيها، وان استأذن عليه إنسان فقال (ادخلوها بسلام آمنين) يقصد القرآن لم
يحنث وان قصد التعبير بالآية عن الاذن حنث.
(فرع) إذا حلف لا يدخل على فلان فدخل على جماعة هو فيهم يقصد
الدخول عليه معهم حنث، وان استثناه بقلبه ففيه وجهان.
(أحدهما) يحنث لان الدخول فعل لا يتميز فلا يصح تخصيصه بالقصد،
وقد وجد في حق الكل على السواء وهو فيهم فحنث به كما لو لم يقصد استثناءه،
وفارق السلام فإنه قول يصح تخصيصه بالقصد، ولهذا يصح أن يقال: السلام
عليكم الا فلانا، ولا يصح أن يقال: دخلت عليكم الا فلانا، ولان السلام قول
يتناول ما يتناوله الضمير في عليكم، والضمير يصح أن يراد به الخاص، فصح
أن يراد به من سواها، والفعل لا يتأتى هذا فيه، وان دخل بيتا لا يعلم أنه فيه
فوجده فيه فهو كالدخول عليها ناسيا.
(والثاني) لا يحنث كما لو حلف أن يسلم عليه فسلم على جماعة هو فيهم
يقصد بقلبه السلام على غيره، فإن قلنا، لا يحنث بذلك فخرج جبن علم بها لم
يحنث، وكذلك ان حلف لا يدخل عليها فدخلت هي عليه فخرج في الحال
93

لم يحنث، وإن أقام فهل يحنث؟ على وجهين بناء على من حلف لا يدخل دارا
هو فيها فاستدام المقام بها فهل يحنث؟ وجهين
(مسألة) كل عمل يتوقف حدوثه على شخص الحالف حنث بفعله له كالصلاة
والصوم، أما إذا كان العمل لا يتحقق تنفيذه إلا بشخصين كطرفي التعاقد في
البيع والشراء والزواج والهبة والعمرى والرقبي، فإنه لا يحنث إلا بالايجاب
والقبول، فإن حلف لا يبيع فباع بيعا فيه الخيار ففيه وجهان
(أحدهما) يحنث لأنه بيع شرعي صحيح فيحنث به كالبيع اللازم، لان بيع
الخيار يثبت الملك به بعد الخيار بالاتفاق وهو سبب له. وهذا هو قول أحمد
وأصحابه (والثاني) لا يحنث لان الملك لا يثبت في مدة الخيار فأشبه البيع الفاسد
وهذا هو قول أبي حنيفة
فإن حلف لا يبيع أو لا يتزوج، فأوجب البيع والنكاح ولم يقبل المزوج
والمشتري لم يحنث، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد، ولا نعلم فيه خلافا، لان البيع
والنكاح عقدان لا يتمان إلا بالقبول، فلم يقع الاسم على الايجاب بدونه، فلم
يحنث به. وإن حلف لا يهب ولا يعير فأوجب ذلك ولم يقبل الآخر، فقال
القاضي من الحنابلة وأبو حنيفة وأبو العباس بن سريح من أصحابنا " يحنث " لان
الهبة والعارية لا عوض فيهما فكان مسماهما الايجاب، والقبول شرط لنقل الملك
وليس هو من السبب فيحنث بمجرد الايجاب فيهما كالوصية، والمذهب عندنا
وهو ما صححه المصنف أنه لا يحنث بمجرد الايجاب لأنه عقد لا يتم إلا بالقبول
فلم يحنث فيه بمجرد الايجاب كالنكاح والبيع
(فرع) إذا حلف لا يتزوج حنث بمجرد الايجاب والقبول الصحيح، لا نعلم
فيه خلافا لان ذلك يحصل به المسمى الشرعي فتناولته يمينه، وإن حلف ليتزوجن
بر بذلك، سواء كانت له امرأة أو لم يكن، وسواء تزوج نظيرتها أو دونها أو
أعلى منها. إذا ثبت هذا فإنه لا يحنث بالنكاح الفاسد ولا يحنث بالبيع الفاسد،
وقد روى عن أحمد في البيع الفاسد روايتان، والماضي والمستقبل في ذلك سواء
إلا عند محمد بن الحسن فإنه قال، إذا حلف ما صليت ولا تزوجت ولا بعت
وكان قد فعله فاسدا حنث لان الماضي لا يقصد منه إلا الاسم، والاسم يتناوله
94

والمستقبل بخلافه فإنه يراد بالنكاح والبيع الملك وبالصلاة القربة. ودليلنا أن
ما لا يتناوله الاسم في المستقبل لا يتناوله في الماضي كالايجاب وغير المسمى، وما
ذكروه لا يصح لان الاسم لا يتناول الا الشرعي
(فرع) الوصية قد يتبادر إلى الخاطر أنها تنزل منزلة الهبة والبيع وما فيه
إيجاب وقبول فإننا قد علمنا قول المذهب في الهبة ولكن الوصية يقع عليها الاسم
بدون القبول، ولهذا لما قال الله تعالى " كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت ان
ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين " إنما أراد الايجاب دون القبول، ولان
الوصية صحيحة قبل موت الموصى ولا قبول لها حينئذ، وإذا كان الشافعي رضي الله عنه
يقول " إذا صح الحديث فهو مذهبي " فإنه - لاشك - أن مذهبه في
الوصية هو ما ذهبنا إليه المفهوم من الآية بناء على أصله
وإذا حلف لا يهب له فأهدى إليه أو أعمره حنث وان أعطاه من الصدقة
الواجبة أو نذر كفارة حنث.
ولأصحاب أحمد قولان (أحدهما) لا يحنث. وهو قول أصحاب الرأي
لأنهما يختلفان اسما فاختلفا حكما، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " هو
عليه صدقة ولنا هدية " وكانت الصدقة محرمة عليه والهدية حلال له، وكان يقبل
الهدية ولا يقبل الصدقة: فمع هذا الاختلاف لا يحنث في أحدهما بفعل الآخر.
دليلنا أنه تبرع بعين في الحياة فحنث به كالهدية، ولان الصدقة تسمى هبة
فلو تصدق بدينار قيل وهب دينارا وتبرع بدينار. واختلاف التسمية لكون
الصدقة نوعا من الهبة فيختص باسم دونها، كاختصاص الهدية والعمرى باسمين
ولم يخرجهما ذلك عن كونهما هبة. وكذلك اختلاف الأحكام فإنه قد يثبت
للنوع ما لا يثبت للجنس، كما يثبت للآدمي من الأحكام ما لا يثبت لمطلق الحيوان
فإن وصى له لم يحنث، لان الهبة تمليك في الحياة، والوصية إنما تملك بالقبول بعد
الموت، فإن أعاره لم يحنث لان الهبة تمليك الأعيان وليس في العارية تمليك عين
ولان المستعير لا يملك المنفعة وإنما يستبيحها، ولهذا يملك المعير الرجوع فيها،
ولا يملك المستعير اجارتها ولا اعارتها.
(مسألة) إذا حلف لا صليت صلاة حنث بتكبيرة الاحرام وفي الصيام حنث
95

بطلوع الفجر إذا نوى الصيام، ووافقنا أبو حنيفة في الصيام. وقال في الصلاة
لا يحنث حتى يسجد سجدة.
وقال أحمد لا يحنث حتى يكمل الصلاة. وقال ابن قدامة يسمى مصليا بدخوله
في الصلاة، ولأنه شرع فيما حلف عليه، فوافقنا في الصلاة والصوم، وقال
أبو الخطاب يحنث إذا صلى ركعة، وفي الصوم يوما كاملا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال والله لا تسريت ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يحنث
بوطئ الجارية، لأنه قد قبل أن التسري مشتق من السراة، وهو الظهر، فيصير
كأنه حلف لا يتخذها ظهرا، والجارية لا يتخذها ظهرا إلا بالوطئ - وقد قيل
إنه مشتق من السر وهو الوطئ، فصار كما لو حلف لا يطؤها
(والثاني) أنه لا يحنث الا بالتحصين عن العيون والوطئ، لأنه مشتق من
السر، فكأنه حلف لا يتخذها أسرى الجواري. وهذا لا يحصل الا بالتحصين
والوطئ (والثالث) أنه لا يحنث الا بالتحصين والوطئ والانزال، لان التسري
في العرف اتخاذ الجارية لابتغاء الولد، ولا يحصل ذلك إلا بما ذكرناه
(فصل) وإن حلف أنه لا مال له وله دين حال حنث، لان الدين الحال
مال، بدليل أنه تجب فيه الزكاة ويملك أخذه إذا شاء، فهو كالعين في يد المودع،
وإن كان له دين مؤجل ففيه وجهان (أحدهما) لا يحنث لأنه لا يستحق قبضه في
الحال (والثاني) أنه يحنث لأنه يملك الحوالة به والابراء عنه، وإن كان له مال
مغصوب حنث لأنه على ملكه وتصرفه، وإن كان له مال ضال ففيه وجهان
(أحدهما) يحنث، لان الأصل بقاؤه (والثاني) لا يحنث، لأنه لا يعلم بقاءه
فلا يحنث بالشك.
(فصل) وان حلف أنه لا يملك عبدا وله مكاتب فالمنصوص أنه لا يحنث.
وقال في الأم: ولو ذهب ذاهب إلى أنه عبدا ما بقي عليه درهم، فإنما يعنى أنه عبد
في حال دون حال، لأنه لو كان عبدا له لكان مسلطا على بيعه وأخذ كسبه،
فمن أصحابنا من جعل ذلك قولا آخر.
96

وقال أبو علي الطبري رحمه الله: إنه لا يحنث قولا واحدا، وإنما ألزم الشافعي
رحمه الله نفسه شيئا وانفصل عنه فلا يجعل ذلك قولا له.
(فصل) وان حلف لا يرفع منكرا إلى فلان القاضي أو إلى هذا القاضي
ولم ينو أنه لا يرفعه إليه وهو قاض فرفعه إليه بعد العزل ففيه وجهان
(أحدهما) أنه لا يحنث لأنه شرط أن يكون قاضيا فلم يحنث بعد العزل.
كما لو حلف لا يأكل هذه الحنطة فأكلها بعد ما صارت دقيقا
(والثاني) أنه يحنث لأنه علق اليمين على عينه فكان ذكر القضاء تعريفا
لا شرطا، كما لو حلف لا يدخل دار زيد هذه فدخلها بعد ما باعها زيد. وإن
حلف لا يرفع منكرا إلى قاض حنث بالرفع إلى كل قاض لعموم اللفظ، وإن
حلف لا يرفع منكرا إلى القاضي لم يحنث إلا بالرفع إلى قاضي البلد، لان التعريف
بالألف واللام يرجع إليه، فإن كان في البلد قاض عند اليمين فعزل وولى غيره
فرفع إليه حنث.
(الشرح) قال في اللسان: السرية الجارية المتخذة للملك والجماع فعلية
منه على تغير النسب. وقيل هي فعولة من السرو وقلبت الواو الأخيرة ياء
طلب الخفة، ثم أدغمت الواو فيها فصارت ياء مثلها، ثم حولت الضمة كسرة
لمجاورة الياء، وقد تسررت وتسريت على تحويل التضعيف. وقال أبو الهيثم.
السر الزنا والسر الجماع.
واختلف أهل اللغة في الجارية التي يتسراها مالكها لم سميت سرية، فقال
بعضهم نسبت إلى السر وهو الجماع، وضمت السين للفرق بين الحرة والأمة توطأ
فيقال للحرة إذا نكحت سرا أو كانت فاجرة سرية، وللمملوكة يتسراها صاحبها
سرية مخافة اللبس.
وقال أبو الهيثم: السر السرور فسميت الجارية سرية لأنها موضع سرور
الرجل. وقال وهذا أحسن ما قيل فيها. وقال الليث: السرية فعلية من قولك
تسررت. ومن قال لتسريت فإنه غلط.
97

قال الأزهري: هو الصواب، والأصل تسررت، ولكن لما توالت ثلاث
راءات أبدلوا إحداهن ياء، كما قالوا تظنيت من الظن، وقصيت أظفاري
والأصل قصصت، وإنما ضمت سينه. لان الا بينة قد تغير في النسبة خاصة، كما
قالوا في النسبة إلى الدهر دهري وإلى الأرض السهلة سهلى، والجمع السراري
وفي حديث عائشة وذكر لها المتعة فقالت " والله ما نجد في كتاب الله إلا النكاح
والاستسرار " تريد اتخاذ السراري، وكان القياس الاستسراء من تسريت إذا
اتخذت سرية، لكنها ردت الحرف إلى الأصل، وهو تسررت من السر النكاح
وهو السرور، فأبدلت إحدى الراءات ياء
وفي حديث سلامة: فاسترني أي اتخذني سرية، والقياس أن تقول.
تسررني أو تسراني، فأما استسرني فمعناه ألقى إلى سره. وأما قول المصنف من
الظهر فعلى وجهه ولم أره في اللسان
أما الأحكام فإنه إذا حلف لا تسريت ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) حنث بوطئ الجارية، وبه قال أبو الخطاب من أصحاب أحمد
(والثاني) لا يحنث إلا بتحصينها وحجبها عن الناس، لان التسري مأخوذ
من الصر، وبه قال أبو حنيفة.
والوجه الثالث لا يحنث إلا بالتحصين والوطئ والانزال.
وقال القاضي من أصحاب أحمد: لا يحنث حتى يطأ فينزل فحلا كان أو خصيا
ووجه الأول أنه مأخوذ من السر - ويؤخذ على المصنف التعبير عن هذا الوجه
بقيل، مع أنه أحرى من الظهر. قال تعالى " ولكن لا تواعدوهن سرا "
وقال الشاعر:
فلن تطلبوا سرها للغنى * ولن تسلموها لازدهادها
وقال آخر:
ألا زعمت بسباسة اليوم انني كبرت وألا يحسن السر أمثالي
(مسألة) إذا حلف ألا مال له وله دين حال حنث لوجوب الزكاة فيه،
98

وهو قول الحنابلة ومالك. وقال أبو ثور وأصحاب الرأي لا يحنث، كما لو قضاء
دينه فجاءت النقود زيوفا
وجملة ذلك أنه إذا حلف لا يملك مالا حنث يملك كل ما يسمى مالا، سواء
كان من الأثمان أو غيرها من العقار والأثاث والحيوان. وعن أحمد أنه إذا نذر
الصدقة بجميع ماله إنما يتناول نذره الصامت من ماله، ذكرها ابن أبي موسى:
لان إطلاق المال ينصرف إليه وقال أبو حنيفة: لا يحنث إلا أن ملك مالا
زكويا استحسانا. لان الله تعالى قال " وفي أموالهم حق للسائل والمحروم " فلم
يتناول الا الزكوية
ولنا أن غير الزكوية أموال: قال الله تعالى أن تبتغوا بأموالكم " وهي مما
يجوز ابتغاء النكاح بها. وقال أبو طلحة للنبي صلى الله عليه وسلم: أن أحب
أموالي إلى بنيرحاء. يعنى حديقة. وقال عمر: أصبت مالا بأرض خبير لم أصب
مالا قط أنفس عندي منه. وقال أبو قتادة اشتريت مخرفا فكان أول مال تأثلته
وفي الحديث " خير المال سكة مأبورة أو مهرة مأمورة " ويقال " خير المال عين
قرارة في أرض خوارة " ولأنه يسمى مالا فحنث به كالزكوي.
وأما قوله " وفي أموالهم حق " فالحق ههنا غير الزكاة: لأن هذه الآية مكية
نزلت قبل فرض الزكاة فإن الزكاة إنما فرضت بالمدينة ثم لو كان الحق الزكاة فلا حجة
فيها، فإن الحق إذا كان في بعض المال فهو في المال، كما أن من هو في بيت من
دار أو في بلدة فهو في الدار والبلدة. قال تعالى " وفي السماء رزقكم وما توعدون
ولا يلزم أن يكون في كل أقطارها. ثم لو اقتضى هذا العموم لوجب تخصيصه:
فإن ما دون النصاب مال ولا زكاة فيه. فإن حلف لا مال له وله دين حنث
وقال أبو حنيفة لا يحنث لأنه لا ينتفع به
دليلنا أنه ينعقد عليه حول الزكاة ويصح اخراجها عنه ويصح التصرف فيه
بالابراء والحوالة والمعاوضة عنه لمن هو في ذمته والتوكيل في استيفائه
فيحنث به كالمودع
(فرع) إن كان له مال مغصوب حنث لأنه باق على ملكه، فإن كان له مال
ضائع أو ضال ففيه، جهان (أحدهما) يحنث، لان الأصل بقاؤه على ملكه
99

(والثاني) لا يحنث لأنه لا يعلم بقاؤه. وإن ضاع على وجه قد يئس من
عوده كالذي يسقط في بحر لم يحنث، لان وجوده كعدمه، ويحتمل ألا يحنث في
كل مال لا يقدر على أخذه كالمجحود والمغصوب والذي على غير ملئ لأنه لا نفع
فيه وحكمه حكم المعدوم في جواز الاخذ من الزكاة، وانتفاء وجوب أدائها. وقد
مضى في الزكاة للامام النووي مزيد بحث وتفصيل
(فرع) إذا تزوج لم يحنث لان ما يملكه ليس مالا، وإن وجب له حق شفعة
لم يحنث لأنه لم يثبت له الملك به. وإن استأجر عقارا أو غيره لم يحنث لأنه لا يسمى
مالك لمال، وما بقي من الفصول فعلى وجهه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن حلف لا يكلم فلانا حينا أو دهرا أو حقبا أو زمانا بر بأدنى
زمان، لأنه اسم للوقت، ويقع على القليل والكثير، وإن حلف لا يكلمه مدة
قريبة أو مدة بعيدة بر بأدنى مدة، لأنه ما من مدة إلا وهي قريبة بالإضافة إلى
ما هو أبعد منها، بعيدة بالإضافة إلى ما هو أقرب منها
(فصل) وان حلف لا يستخدم فلانا فخدمه وهو ساكت لم يحنث، لأنه
حلف على فعله وهو طلب الخدمة ولم يوجد ذلك منه، وإن حلف لا يتزوج
أو لا يطلق فأمر غيره حتى تزوج له أو طلق عنه لم يحنث، لأنه حلف على فعله
نفسه ولم يفعل.
وإن حلف لا يبيع أو لا يضرب فأمر غيره ففعل - فإن كان ممن يتولى
ذلك بنفسه - لم يحنث لما ذكرناه، وإن كان ممن لا يتولى ذلك بنفسه كالسلطان
فالمنصوص أنه لا يحنث.
وقال الربيع: فيه قول أخر أنه يحنث، ووجه أن العرف في حقه أن يفعل
ذلك عنه بأمره، واليمين يحمل على العرف، ولهذا لو حلف لا يأكل الرؤوس
حملت على رؤوس الانعام، والصحيح هو الأول، لان اليمين على فعله والحقيقة
لا تنتقل بعادة الحالف، ولهذا لو حلف السلطان أنه لا يأكل الخبز أو لا يلبس
الثوب فأكل خبز الذرة ولبس عباءة حنث. وإن لم يكن ذلك من عادته
100

وإن حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه ففيه طريقان (أحدهما) أنه على
القولين كالبيع والضرب في حق من يتولاه بنفسه (والثاني) أنه يحنث قولا
واحدا، لان العرف في الحلق في حق كل أحد أن يفعله غيره بأمره ثم يضاف
الفعل إلى المحلوق.
(فصل) وإن حلف لا يدخل دارين فدخل إحداهما، أو لا يأكل رغيفين
فأكل أحدهما، أو لا يأكل رغيفا فأكله الا لقمة، أو لا يأكل رمانة فأكلها
الا حبة، أو لا يشرب ماء حب فشربه الا جرعة: لم يحنث لأنه لم يفعل المحلوف
عليه. وان حلف لا يشرب ماء هذا النهر أو ماء هذه البئر ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبى العباس أنه يحنث بشرب بعضها، لأنه يستحيل
شرب جميعه فانعقدت اليمين على مالا يستحيل وهو شرب البعض
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحنث بشرب بعضه لأنه حلف على
شرب جميعه فلم يحنث بشرب بعضه، كما لو حلف على شرب ماء في الحب
(فصل) وان حلف لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل طعاما اشتراه زيد
وعمرو لم يحنث لأنه ليس فيه شئ يمكن أن يشار إليه ان اشتراه زيد دون عمرو
فلم يحنث وان اشترى كل واحد منهما طعاما ثم خلطاه فأكل منه ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) أنه لا يحنث لأنه ليس فيه شئ يمكن أن يقال هذا الطعام اشتراه
زيد دون عمرو، فلم يحنث، كما لو اشترياه في صفقة واحدة
(والثاني) أنه ان أكل النصف فما دونه لم يحنث، وان أكل أكثر من النصف
حنث، لان النصف فما دونه يمكن أن يكون مما اشتراه عمرو فلم يحنث بالشك.
وفيما زاد يتحقق أنه أكل مما اشتراه زيد
(والثالث) وهو قول أبي إسحاق أنه ان أكل الحبة والعشرين حبة لم يحنث
لجواز أن يكون مما اشتراه عمرو، وان أكل الكف والكفين حنث، لأنه
يستحيل فيما يختلط أن يتميز في الكف والكفين ما اشتراه زيد عما اشتراه عمرو
(فصل) وان حلف لا يدخل دار زيد فحمله غيره باختياره فدخل به حنث
لان الدخول ينسب إليه كما ينسب إذا دخلها راكبا على البهيمة أو دخلها برجله
101

فإن دخلها ناسيا لليمين أو جاهلا بالدار، أو أكره حتى دخلها ففيه قولان
(أحدهما) يحنث لأنه فعل ما حلف عليه فحنث
(والثاني) لا يحنث وهو الصحيح لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "
ولان حال النسيان والجهل، والاكراه لا يدخل في اليمين كما لا يدخل في الأمر والنهي
في خطاب الله عز وجل وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وإذا لم
يدخل في اليمين لم يحنث به، وإن حمله غيره مكرها حتى دخل به ففيه طريقان،
من أصحابنا من قال فيه قولان، كما لو أكره حتى دخلها بنفسه، لأنه لما كان في
حال الاختيار دخوله بنفسه ودخوله محمولا واحدا، وجب أن يكون في حال
الاكراه دخوله بنفسه ودخوله محمولا واحدا
ومنهم من قال لا يحنث قولا واحدا، لان الفعل إنما ينسب إليه، إما بفعله
حقيقة أو بفعل غيره بأمره مجازا، وههنا لم يوجد واحد منهما فلم يحنث
(الشرح) الحين الوقت، والدهر الأمد الممدود، وقيل الدهر ألف سنة،
قال ابن سيدة: وقد حكى فيه الدهر بفتح الهاء، فإما أن يكون الدهر والدهر
لغتين كما ذهب إليه البصريون في هذا النحو فيقتصر على ما سمع منه، وإما أن
يكون ذلك لمكان حروف الحق فيطرد في كل شئ، كما ذهب إليه الكوفيون
قال أبو النجم:
وجبلا طال معدا فاشمخر * أشم لا يسطيعه الناس الدهر
قال ابن سيده: وجمع الدهر دهر ودهور. وكذلك جمع الدهر، لأنا لم
نسمع أدهارا، ولا سمعنا فيه جمعا الا ما قدمنا من جمع دهر دهر. فأما قوله
صلى الله عليه وسلم " لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر " فمعناه أن ما أصابك
من الدهر فالله فاعله ليس الدهر، فإذا شتمث به الدهر فكأنك أردت به الله. قال
الجوهري: لأنهم كانوا يضيفون النوازل إلى الدهر، فقيل لهم " لا تسبوا فاعل
ذلك بكم فإن ذلك هو الله تعالى، وفي رواية " فإن الدهر هو الله تعالى "
102

قال الأزهري، قال أبو عبيد قوله " فإن الله هو الدهر " مما لا ينبغي لاحد
من أهل الاسلام أن يجهل وجهه، وذلك أن المعطلة يحتجون به على المسلمين،
قال ورأيت بعض من يتهم بالزندقة أو الدهرية يحتج بهذا الحديث وقول، ألا
تراه يقول فإن الله هو الدهر؟ قال فقلت وهل كان أحد يسب الله في آباد الدهر
وقد قال الأعشى في الجاهلية
استأثر الله بالوفاء وبالحمد * وول الملامة الرجلا
وقال الأزهري، قال الشافعي الحين يقع على مدة الدنيا: ويوم قال ونحن
لا نعلم للحين غاية، وكذلك زمان ودهر وأحقاب. ذكر هذا في كتاب الايمان
حكاه المزني في مختصره عنه. وقال شمر الزمان والدهر واحد وأنشد
إن دهرا يلف حبلى بجمل لزمان يهم بالاحسان
فعارض شمرا خالد بن يزيد وخطأه في قوله " الزمان والدهر واحد " وقال
الزمان زمان الرطب والفاكهة وزمان الحر وزمان البرد، ويكون الزمان شهرين
إلى ستة أشهر والدهر لا ينقطع.
قال الأزهري يقع عند العرب على بعض الدهر الأطول، ويقع على
مدة الدنيا كلها. قال وقد سمعت غير واحد من العرب يقول أقمنا على ماء كذا
وكذا دهرا، دارنا التي حللنا بها تحملنا دهرا، وإذا كان هذا هكذا جاز أن يقال
الزمان والدهر واحد في معنى، قال والسنة عند العرب أزمنة، ربيع وقيظ
وخريف وشتاء، ولا يجوز أن يقال الدهر أربعة أزمنة، فهما يفترقان
وروى الأزهري بسنده عن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال " ألا ان الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض
السنة إثنا عشر شهرا أربعة منها حرم، ثلاثة منها متواليات ذو القعدة وذو الحجة
والمحرم ورجب مفرد " قال الأزهري أراد بالزمان الدهر.
وقوله " ماء حب " الحب الخابية فارسي معرب وهو السرداب
أما الأحكام فإنه إذا حلف ألا يكلمه حينا فإنه يبر بأدنى زمن، لأنه لا قدر
له، ولأنه اسم مبهم يقع على القليل والكثير. قال تعالى " ولتعلن نبأه بعد حين "
103

قيل أراد يوم القيامة. وقال (هل أتى على الانسان حين من الدهر؟) وقال
تعالى فذرهم في غمرتهم حتى حين) وقال (حين تمسون وحين تصبحون) ويقال
منذ حين وإن كان أتاه من ساعة. وبهذا قال أبو ثور
وقال أحمد: إذا حلف لا يكلمه حينا - فإن قيد ذلك بلفظه أو بنيته بزمن -
تقيد به. وإن أطلقه انصرف إلى ستة أشهر. روى ذلك عن ابن عباس، وهو
قول أصحاب الرأي.
وقال مجاهد والحكم وحماد و مالك " هو سنة " لقوله تعالى (تؤتى أكلها كل
حين بإذن ربها) أي كل عام
وقال عكرمة وسعيد بن جبير وأبو عبيد في قوله تعالى " تؤتى أكلها كل حين "
إنه ستة أشهر، فيحمل مطلق كلام الآدمي على مطلق كلام الله تعالى. فإن حلف
لا يكلمه حقبا، فإنه ينصرف إلى أدنى زمان كالحين، وبه قال القاضي من أصحاب
أحمد. وقال أكثر أصحابه وفيهم ابن قدامة: إن حلف لا يكلمه حقبا فذلك ثمانون
عاما، لما روى عن ابن عباس أنه قال في تفسير قوله تعالى " لابثين فيها أحقابا "
الحقب ثمانون سنة.
وفي قوله تعالى عن موسى " أو أمضى حقبا " ما يجعل كونه ثمانين سنة بعيدا
لان موسى لم يعس بعد هذا مثل هذا القدر، فضلا عن مضاعفته أضعافا
كثيرة " حقبا "
إذا ثبت هذا فإنه إذا حلف لا يكلمه زمنا أو وقتا أو دهرا أو عمرا أو مليا
أو طويلا أو بعيدا أو قريبا بر بالقليل والكثير. وبه قال أبو الخطاب من الحنابلة
لأن هذه الأسماء لاحد لها في اللغة، وتقع على القليل والكثير، فوجب حمله
على أقل ما يتناوله اسمه، وقد يكون التقريب بعيدا بالنسبة لما هو أقرب منه،
وقريبا بالنسبة لما هو أبعد منه، ولا يجوز التحديد بالتحكم، وإنما يصار إليه
بالتوقيف ولا توقيف ههنا، فيجب حمله على اليقين وهو أقل ما يتناوله الاسم.
وقال ابن أبي موسى: الزمان ثلاثة أشهر. وقال طلحة العاقولي: الحين والزمان
والعمر واحد، لأنهم لا يفرقون في العادة بينهما، والناس يقصدون بذلك التبعيد
فلو حمل على القليل حمل على خلاف قصد الحالف
104

وقال في بعيد وملئ وطويل: هو أكثر من شهر، وهذا قول أبي حنيفة:
لان ذلك ضد القليل قال: ولا يجوز حمله على ضده، ولو حمل العمر على أربعين
سنة كان حسنا لقوله تعالى مخبرا عن نبيه " فقد لبثت فيكم عمرا من قبله " وكان
أربعين سنة ولان العمر في الغالب لا يكون إلا مدة طويلة فلا يحمل على خلاف ذلك
(فرع) إذا حلف لا يكلمه الدهر أو الأبد أو الزمان كذلك على الأبد،
لان ذلك بالألف واللام وهي للاستغراق فتقتضى الدهر كله.
(مسألة) إذا حلف لا يستخدم فلانا فخدمه وهو ساكت لم يأمره ولم ينهه
لم يحنث، لأنه حلف على فعل نفسه، ولا يحنث على فعل غيره كسائر الافعال،
وقال أبو حنيفة: إذا كان خادمه حنث، وإن كان خادم غيره لم يحنث، وبه قال
القاضي من أصحاب أحمد، لان خادمه يخدمه بحكم استحقاقه ذلك عليه، فيكون
معي يمينه، لأمنعنك خدمتي، فإذا لم ينهه لم يمنعه فيحنث وخادم غيره بخلافه،
وقال أبو الخطاب: يحنث في الحالين لان إقراره على الخدمة استخدام، ولهذا
يقال فلان يستخدم عبده إذا خدمه وإن لم يأمره، ولان ما حنث به في خادمه
حنث به في غيره كسائر الأشياء.
(مسألة) مضى كلامنا فيمن حلف على شيئين أو أكثر ففعل بعض ذلك هل
يحنث؟ وشرحنا الخلاف في ذلك كمن حلف لا يأكل طعاما اشتراه زيد فأكل
طعاما اشتراه زيد وعمرو لا يحنث، وقال أحمد وأبو حنيفة ومالك يحنث، فإن
حلف لا يلبس من غزل فلانة فلبس ثوبا من غزلها وغزل غيرها حنث، وبه قال
أحمد، وإن حلف لا يلبس ثوبا من غزلها فلبس من غزلها وغزل غيرها فإنه
لا يحنث، وهو قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد، لأنه لم يلبس ثوبا
كاملا من غزلها، أما في الطعام فعلى وجهين مضيا في الفصول آنفا.
(مسألة) إذا حلف لا يدخل دارا فحمل فأدخلها باختياره حنث، فإن لم
يكن باختياره ولم يمكنه الامتناع لم يحنث، نص عليه أحمد في رواية أبى طالب،
وهو قول أبي ثور وأصحاب الرأي ولا نعلم فيه خلافا، وذلك لان الفعل غير
حاصل منه ولا منسوب إليه، وإن حمل بأمره فأدخلها حنث، لأنه دخلها مختارا
105

فأشبه ما لو دخلها راكبا وان حمل بغير أمره ولكنه أمكنه الامتناع فلم يمتنع
حنث أيضا لأنه دخلها غير مكره فأشبه ما لو حملها بأمره، فإن أكره بالضرب
ونحوه على دخولها فدخلها لم يحنث في أحد القولين عندنا، وهو أحد الوجهين
عند أصحاب أحمد.
(والقول الثاني) يحنث وهو الوجه الثاني عند الحنابلة، وهو قول أصحاب
الرأي ونحوه قول النخعي لأنه فعل ما حلف على تركه ودخلها. ووجه الأول
قول النبي صلى الله عليه وسلم " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه " ولأنه دخلها مكرها فأشبه ما لو حمل مكرها.
إذا ثبت هذا: فإنه إذا حلف أن لا يشترى شيئا أو لا يضرب فلانا فوكل
في الشراء والضرب، ففي قول أنه يحنث. والصحيح أنه لا يحنث إلا إذا نوى
بيمينه أن لا يستنيب أو يكون ممن لم تجر عادته بمباشرته، لأن اطلاق أضافة
الفعل يقتضى مباشرته بدليل أنه لو وكله في البيع لم يجز للوكيل توكيل غيره،
وان حلف لا يبيع ولا يضرب فأمر من فعله - فإن كان ممن يتولى ذلك بنفسه
لم يحنث. وإن كان ممن لا يتولاه كالسلطان، ففيه قولان.
وقال أحمد ومالك وأبو ثور ان حلف لا يفعل شيئا فوكل من فعله حنث الا
أن ينوى مباشرته بنفسه.
(فرع) ان حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه فقيل لنا فيه قولان، وقيل
يحنث قولا واحدا. وقال أصحاب الرأي ان حلف لا يبيع فوكل غيره لم يحنث
وان حلف لا يضرب ولا يتزوج فوكل غيره حنث.
وقال أحمد: ان الفعل يطلق على من وكل فيه وأمر به فيحنث به كما لو كان
ممن لا يتولاه بنفسه وكما لو حلف لا يحلق رأسه فأمر من حلقه، أو لا يضرب
فأمر من ضرب عند أبي حنيفة، وقد قال تعالى " ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ
الهدى محله " وقال " محلقين رؤوسكم ومقصرين " وكان هذا متناولا للاستنابة فيه
ولان المحلوف عليه وجد نائبه فحنث به كما لو حلف لا يدخل دارا فأمر من حمله
إليها فإذا نوى بيمينه المباشرة للمحلوف عليه أو كان سبب يمينه يقتضيها أو قرينة
حال تخصص بها لأن اطلاقه يقيد بنيته.
106

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان حلف ليأكلن هذا الرغيف غدا فأكله من الغد بر في يمينه،
لأنه فعل ما حلف على فعله، وان ترك أكله في الغد حتى انقضى حنث لأنه فوت
المحلوف عليه باختياره، وان أكل نصفه في الغد حنث لأنه قدر على أكل الجميع
ولم يفعل، وان أكله في يومه حنث لأنه فوت المحلوف عليه باختياره فحنث كما لو
ترك أكله حتى انقضى الغد، وان حلف الرغيف في يومه أو في الغد قبل أن يتمكن
من أكله ففيه قولان كالمكره، وان تلف من الغد بعد ما تمكن من أكله ففيه
طريقان، من أصحابنا من قال يحنث قولا واحدا، لأنه فوته باختياره.
ومنهم من قال فيه قولان لان جميع الغد وقت للاكل فلم يكن تفويته بفعله
فإن حلف ليقضينه حقه عند رأس الشهر مع رأس الشهر فقضاء قبل رؤية الهلال حنث لأنه
فوت القضاء باختياره، وإن رأى الهلال ومضى زمان أمكنه فيه القضاء فلم
يقضه حنث، لأنه فوت القضاء باختياره، وان أخذ عند رؤية الهلال في كيله
وتأخر الفراغ منه لكثرته لم يحنث، لأنه لم يترك القضاء، وان أخر عن أول
ليلة الشك ثم بان أنه كان من الشهر ففيه قولان كالناسي والجاهل.
وان قال: والله لأقضين حقه إلى شهر رمضان فلم يقضه حتى دخل الشهر
حنث، لأنه ترك ما حلف على فعله من غير ضرر،
وان قال والله لأقضين حقه إلى أول الشهر، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم
من قال حكمها حكم ما لو قال والله لأقضين حقه إلى رمضان، لان لفظ " إلى "
للحد والغاية، وان أخر القضاء حتى دخل الشهر حنث.
وقال أبو إسحاق حكمها حكم ما لو قال والله لأقضين حقه عند رأس الشهر
وهو ظاهر النص، وان قضاء قبل رؤية الهلال حنث، وان رأى الهلال ومضى
وقت يمكن فيه القضاء ثم قضاه حنث، لان " إلى " قد تكون للغاية كقوله
عز وجل " ثم أتموا الصيام إلى الليل " وقد تكون بمعنى " مع " كقوله تعالى " من
أنصاري إلى الله " والمراد به مع الله: وكقوله عز وجل " وأيديكم إلى المرافق "
107

والمراد به مع المرافق، فلما احتمل أن تكون للغاية، واحتمل أن تكون
للمقارنة لم يجز أن نحنثه بالشك، ويخالف قوله: والله لأقضين حقه إلى رمضان
لأنه لا يحتمل أن تكون للمقارنة، لأنه لا يمكن أن يقارن القضاء في جميع شهر
رمضان فجعلناه للغاية.
(الشرح) قوله وإن أكله في يومه حنث، وهذا صحيح كمن حلف أن يقضيه
حقه في وقت فقضاه قبله فإنه يحنث، لأنه ترك ما حلف عليه مختارا فحنث كما لو
قضاه بعده، وقال أحمد وأبو حنيفة ومحمد وأبو ثور فيمن قضاه قبله لا يحنث،
لان مقتضى هذا اليمين تعجيل القضاء قبل خروج الغد، فإذا قضاه قبله فقد قضى
قبل خروج الغد وزاد خيرا.
ولنا أنه لا يبر الا إذا قضاه من الغد فلا يبر بقضائه قبله كما لو حلف ليصومن
شعبان فصام رجبا، وفرق ابن قدامة بين قضاء الحق وغيره كأكل شئ أو شربه
أو بيع شئ أو شرائه أو ضرب خادم ونحوه فمتى عين وقته ولم ينو ما يقتضى
تعجليه ولا كان سبب يمينه يقتضيه لم يبر الا بفعله في وقته.
(فرع) إذا فعل بعض المحلوف عليه قبل وقته وبضعه في وقته لم يبر: لان
اليمين في الاثبات لا يبر فيها الا بفعل جميع المحلوف عليه فترك بعضه في وقته كترك
جميعه الا أن يصرح ألا يجاوز ذلك الوقت أو يقتضى ذلك سببها.
(فرع) إذا حلف ليقضيه دينه عند رأس الهلال أو مع رأسه أو عند رأس
الشهر أو مع رأسه فقضاه عند غروب الشمس من ليلية الشهر بر في يمينه، وان
أخر ذلك مع امكانه حنث، وان شرع في عده أو كيله أو وزنه فتأخر القضاء
لكثرته لم يحنث، لأنه لم يترك القضاء، وكذلك إذا حلف ليأكلن هذا الطعام في
هذا الوقت فشرع في أكله فيه فتأخر الفراغ لكثرته لم يحنث، لان أكله كله
غير ممكن في هذا الوقت اليسير، فكانت يمينه على الشروع فيه في ذلك الوقت
أو على مقارنة فعله لذلك الوقت للعلم بالعجز عن غير ذلك، ومذهب أحمد بن
حنبل في هذا كله كمذهبنا.
وقوله " إلى الليل " إلى غاية فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل
108

في حكمه، كقولك اشتريت المجموع من الأول إلى الثامن عشر، والمبيع أجزاء
المجموع، فإن الثامن عشر داخل فيها، بخلاف قولك اشتريت الفدان إلى الدار،
فالدار لا تدخل في المبيع المحدود، إذ ليست من جنسه، فشرط الله تعالى تمام
الصوم حتى يتبين الليل كما جوز الاكل حتى يتبين النهار
وقوله " إلى المرافق " فقد اختلف الناس في دخول المرافق في التحديد، فقال
قوم تدخل لأنها من نوع ما قبلها، قاله سيبويه وغيره. وقيل لا يدخل المرفقان
في الغسل. وهذا خطأ
وقال بعضهم إن إلى بمعنى مع، كقولهم " الذود إلى الذود إبل " أي مع الذود
وقال تعالى " ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم " فقالت طائفة من المتأخرين إن
إلى هنا بمعنى مع، كقوله تعالى " من أنصاري إلى الله " وأنشد العتبى:
يسدون أبواب القباب بضمر إلى عنن مستوثقات الأواصر
وقال الحذاق: إلى علي بابها وهي تتضمن بالإضافة، أي لا تضيفوا أموالهم
وتضموها إلى أموالكم
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن كان له على رجل حق فقال له: والله لا فارقتك حتى أستوفي
حقي، ففر منه الغريم لم يحنث الحالف، وقال أبو علي بن هريرة ففيه قولان
كالقولين في المكره، وهذا خطأ، لأنه حلف على فعل نفسه ولم يوجد ذلك منه
ولو قال والله لا فارقتني حتى أستوفي حقي منك ففارقه الغريم مختارا ذاكرا لليمين
حنث الحالف، وان فارقه مكرها أو ناسيا ففيه طريقان، من أصحابنا من قال
هي على القولين في المكره والناسي. ومنهم من قال يحنث الحالف قولا واحدا
لان الاختيار والقصد يعتبر في فعل الحالف لا في فعل غيره، والصحيح هو
الأول، وأنه يعتبر في فعل من حلف على فعله، وإن كانت اليمين على فعل الحالف
اعتبر الاختيار والقصد في فعله، وإن كانت على فعل غيره أعتبر الاختيار
والقصد في فعله، وان فارقه الحالف لم يحنث، لان اليمين على فعل الغريم ولم
يوجد منه فعل.
109

وإن حلف لا يفارقه غريمه حتى يستوفى حقه منه ثم أفلس وفارقه لما يعلم
من وجوب إنظار المعسر حنث، لأنه فعل المحلوف عليه مختارا ذاكرا لليمين
فحنث، وإن وجب الفعل بالشرع، كما لو حلف لا رددت عليك المغصوب فرده
حنث، وإن وجب الرد بالشرع، فإن ألزمه الحاكم مفارقته فعلى قولين
(فصل) وإن حلف لا يفارقه حتى يستوفى حقه منه فأحاله على غيره أو
أبرأه من الدين أو دفع إليه عوضا عن حقه، حنث في اليمين، لأنه لم يستوف
حقه. وإن كان حقه دنانير فدفع إليه شيئا على أنه دنانير فخرج نحاسا فعلى القولين
في الجاهل. وإن قال من عليه الحق والله لا فارقتك حتى أدفع إليك مالك وكان
الحق عينا فوهبنا منه فقبله حنث، لأنه فوت الدفع بقبوله، وإن كان دينا فأبرأه
منه وقلنا إنه لا يحتاج الابراء إلى القبول على الصحيح من المذهب، فعلى الطريقين
فيمن حلف لا يدخل الدار فحمل إليها مكرها.
(الشرح) إذا قال والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك فهرب منه لم يحنث
وبه قال أحمد.
وقد ذهب الفقهاء في هذه الصورة إلى عشر مسائل:
1 - أن يفارقه الحالف مختارا فيحنث بلا خلاف، سواء أبراه من الحق أو
فارقه والحق عليه لأنه فارقه قبل استيفاء حقه منه.
2 - فارقه مكرها فينظر - فإن حمل مكرها حتى فرق بينهما لم يحنث، وإن
أكره بالضرب والتهديد ففيه طريقان، فمن أصحابنا من قال هي على القولين فيمن
حلف لا يدخل الدار، فلم يحمل وإنما ضرب حتى دخل على قدميه، وفصل
بعض الحنابلة كأبي بكر فقال: يحنث بالضرب والتهديد، وفي الناسي تفصيل
3 - هرب منه العزيم بغير اختياره فإنه لا يحنث، وبهذا قال أحمد في إحدى
الروايتين عنه ومالك وأبو ثور وابن المنذر وأصحاب الرأي. وقال أحمد في الرواية
الثانية يحنث لان معنى يمينه ألا تحصل بينهما فرقة وقد حصلت
دليلنا أنه حلف على فعل نفسه في الفرقة، وما فعل ولا فعل باختياره فلم
يحنث كما لو حلف لا قمت فقام غيره
110

4 - أذن الحالف له في الفرقة ففارقه لا يحنث. وقال الخرقي يحنث.
وذلك كمفهوم ابن قدامة، و فهم القاضي من كلامه أنه لا يحنث لأنه لم يفعل الفرقة
التي حلف أنه لا يفعلها
5 - فارقه من غير اذن ولا هرب على وجه يمكنه ملازمته والمشي معه فلم
يفعل فالحكم كالذي قبله.
6 - قضاه قدر حقه ففارقه ظنا منه أنه وفاه فخرج رديئا أو بعضه فيخرج في
الحنث قولان بناء على الناسي، ولأحمد روايتين كالقولين (أحدهما) يحنث وهو
قول مالك، لأنه فارقه قبل استيفاء حقه مختارا (والثاني) لا يحنث، وهو قول
أبي ثور وأصحاب الرأي إذا وجدها زيوفا. وان وجد أكثرها نحاسا فإنه يحنث
وان وجدها مستحقة فأخذها صاحبها خرج أيضا على القولين في الناسي لأنه ظان
أنه مستوف حقه فأشبه ما لو وجدها رديئة
وقال أبو ثور وأصحاب الرأي: لا يحنث. وإن علم بالحال ففارقه حنث،
لأنه لم يوفه حقه.
7 - فلفسه الحاكم ففارقه نظرت - فإن ألزمه الحاكم فهو كالمكره، وان لم
يلزمه مفارقته لكنه فارقه لعلمه بوجوب مفارقته حنث، لأنه فارقه من غير
إكراه فحنث، كما لو حلف لا يصلى فوجبت عليه صلاة فصلاها
8 - أحاله الغريم بحقه ففارقه فإنه يحنث، وبهذا قال أحمد وأبو ثور. وقال
أبو حنيفة ومحمد: لا يحنث لأنه قد برئ إليه منه، ووجه المذهب عندنا انه
ما استوفى حقه منه بدليل أنه لم يصل إليه شئ، ولذلك يملك المطالبة به فحنث
كما لو لم يحله، فإن ظن أنه قد بر بذلك ففارقه خرج على القولين، والصحيح أنه
يحنث لان الجهل بحكم الشرع لا يسقط عنه الحنث: كما لو جهل كون هذه اليمين
موجبة للكفارة
فأما إن كانت يمينه لا فارقتك ولى قبلك حق فأحاله به ففارقه لم يحنث لأنه
لم يبق له قبله حق. وان أخذ به ضمينا أو كفيلا أو رهنا ففارقه حنث بلا اشكال
لأنه يملك مطالبة الغريم.
9 - قضاه عن حقه عوضا عنه ثم فارقه فإنه يحنث لان يمينه على نفس
111

الحق وهذا بدله، وقال أبو حنيفة وابن حامد: لا يحنث. وإن كانت يمينه
لا فارقتك حتى تبرأ من حقي: أولى قبلك حق لم يحنث وجها واحدا، لأنه لم يبق
له قبله حق. وهذا أحد القولين عند أصحاب أحمد.
10 - وكل وكيلا يستوفى له حقه، فإن فارقه قبل استيفاء أو كيل حنث
لأنه فارقه قبل استيفاء حقه، وإن استوفى الوكيل ثم فارقه لم يحنث، لان
استيفاء وكيله استيفاء له يبرأ به غريمه ويصير في ضمان الموكل
(مسألة) إن قال: لا فارقتني حتى أستوفي حقي منك نظرت - فإن فارقه
المحلوف عليه مختارا - حنث. وإن أكره على فراقه لم يحنث، وإن فارقه
الحالف مختارا لم يحنث كذا وقد مضى. فإن حلف لا فارقتك حتى أوفيك حقك
فأبرأه الغريم منه فهل يحنث؟ على قولين بناء على المكره بالضرب، وعند
الحنابلة وجهان، وإن كان الحق عينا فوهبها له الغريم فقبلها حنث، لأنه ترك
إيفاءها له باختياره، وإن قبضها منه ثم وهبها إياه لم يحنث، وإن كانت يمينه
لا فارقتك ولك قبلي حق لم يحنث إذا أبرأه أو هب العين له. والفرقة في هذا
كله ما عده الناس فراقا في العادة، وقد مضى في البيوع والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى
باب كفارة اليمين
إذا حلف بالله تعالى وحنث وجبت عليه الكفارة، لما روى عبد الرحمن بن
سمرة قال، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل
الامارة فإنك ان أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وان أعطيتها من غير مسألة
أعنت عليها، وان حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فأت الذي هو خير،
وكفر عن يمينك "
وان حلف على فعل مرتين بأن قال والله لا دخلت الدار، والله لا دخلت
الدار، نظرت فإن نوى بالثاني التأكيد لم يلزمه الا كفارة واحدة، وان نوى
الاستئناف ففيه قولان، أحدهما يلزمه كفارتان لأنهما يمينان بالله عز وجل،
112

فتعلق بالحنث فيهما كفارتان، كما لو كانت على فعلين (والثاني) تجب كفارة
واحدة وهو الصحيح. لان الثانية لا تفيد الا ما أفادت الأولى فلم يجب أكثر
من كفارة، كما لو قصد بها التأكيد. وإن لم يكن له نية فإن قلنا إنه إذا نوى
الاستئناف لزمته كفارة واحدة فههنا أولى. وان قلنا هناك تجب كفارتان ففي
هذا قولان بناء على القولين فيمن كرر لفظ الطلاق ولم ينو.
(فصل) والكفارة اطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة.
وهو مخير بين الثلاثة. والدليل عليه قوله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم
ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الايمان فكفارته اطعام عشرة مساكين من أوسط
ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة " فإن لم يقدر على الثلاثة لزمه صيام
ثلاثة أيام لقوله عز وجل " فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام " فإن كان يكفر بالمال
فالمستحب أن لا يكفر قبل الحنث ليخرج من الخلاف فإن أبا حنيفة لا يجيز تقديم
الكفارة على الحنث.
وان أراد أن يكفر بالمال قبل الحنث نظرت - فإن كان الحنث بغير معصية -
جاز تقديم الكفارة لأنه حق مال يتعلق بسببين يختصانه. فإذا وجد أحدهما
جاز تقديمه على الآخر كالزكاة قبل الحول. وإن كان الحنث بمعصية ففيه وجهان
أحدهما يجوز لما ذكرناه والثاني لا يجوز لأنه يتوصل به إلى معصية
واختلف أصحابنا في كفارة الظهار قبل العود. وكفارة القتل بعد الجرح وقبل
الموت. فمنهم من قال فيه وجهان كما قلنا في اليمين على معصية. ومنهم من قال
يجوز لأنه ليس فيه توصل إلى معصية. وإن كان يكفر بالصوم لم يجز قبل الحنث
لأنها عبادة تتعلق بالبدن لا حاجة به إلى تقديمها. فلم يجز تقديمها على الوجوب
كصوم رمضان.
(فصل) ان أراد أن يكفر بالعتق لم يجز الا بما يجوز في الظهار وقد بيناه.
وان أراد أن يكفر بالاطعام أطعم كل مسكين مدا كما يطعم في الظهار وقد بيناه.
113

(الشرح) حديث عبد الرحمن بن سمرة أخرجه البخاري في النذور عن أبي
النعمان وفيه " ولا تحلفوا بالطواغي ولا بآبائكم " وفي الأحكام عن حجاج
ابن منهال وعن أبي معمر. وفي الكفارات عن محمد بن عبد الله. وأخرجه مسلم
في الايمان والنذور عن شيبان بن فروخ وعن أبي بكر بن أبي شيبة وفي المغازي
عن شيبان. وأخرجه أبو داود في الايمان والنذور عن محمد بن الصباح.
وأخرجه الترمذي في الايمان والنذور عن محمد بن عبد الأعلى. وأخرجه النسائي
في الايمان والنذور عن عمرو بن علي وعن محمد بن عبد الأعلى وعن محمد بن يحيى
وعن زياد بن أيوب. وعن أحمد بن سليمان وعن محمد بن قدامة. وأخرجه ابن
ماجة في الكفارات عن أبي بكر بن أبي شيبة.
وللحديث طرق عن غير عبد الرحمن بن سمرة بمعناه عن عدي بن حاتم عند
مسلم بلفظ " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي
هو خير " وفي لفظ " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو
خير وليكفر عن يمينه " رواه مسلم وأحمد والنسائي وابن ماجة
وعن أبي هريرة عند أحمد ومسلم والترمذي وصححه بلفظ " من حلف على
يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير وفي لفظ
لمسلم " فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه "
وعن أبي موسى مرفوعا عند أحمد البخاري ومسلم بلفظ " لا أحلف على
يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها " وفى لفظ " إلا كفرت
عن يميني وفعلت الذي هو خير وفي لفظ إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عند النسائي وأبى داود مرفوعا
" لا نذر ولا يمين فيما لا تملك ولا في معصية ولا في قطيعة رحم "
وقال أبو داود. الأحاديث كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم " وليكفر عن
يمينه إلا ما لا يعبأ به "
وقال الحافظ بن حجر في الفتح. ورواته - يعنى حديث عمرو بن شعيب -
لا بأس بهم، لكن اختلف في سنده على عمرو، وفي بعض طرقه عند أبي داود
" ولا في معصية "
114

أما الأحكام فإن الأصل في كفارة اليمين الكتاب والسنة والاجماع. أما
الكتاب فقول الله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما
عقدتم الايمان فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم "
وأما السنة فما مضى آنفا من أحاديث عبد الرحمن بن سمرة وغيره من الصحابة.
وقد أجمع المسلمون على مشروعية الكفارة في اليمين بالله تعالى، والأحاديث دالة
على أن الحنث في اليمين أفضل من التمادي إذا كان في الحنث مصلحة، ويختلف
باختلاف حكم المحلوف عليه. فإن حلف على فعل واجب أو ترك حرام فيمينه
طاعة والتمادي مستحب والحنث معصية، والعكس بالعكس
وان حلف على فعل نفل فيمينه طاعة والتمادي مستحب والحنث مكروه
وان حلف على ترك مندوب فبعكس الذي قبله. وإن حلف على فعل مباح فإن
كان يتجاذبه رجحان الفعل أو الترك، كما لو حلف لا يأكل طيبا ولا يلبس ناعما
ففيه عندنا خلاف.
قال ابن الصباغ في الشامل - وصوبه المتأخرون - إن ذلك يختلف باختلاف
الأحوال. وإن كان مستوى الطرفين فالأصح أن التمادي أولى لأنه قال " فليأت
الذي هو خير " واختلف الأئمة هل تتقدم الكفارة الحنث أم تأتى بعده؟ فاستدل
القائلون بوجوب الكفارة قبل الحنث بقوله صلى الله عليه وسلم " فكفر عن يمينك
ثم أئت الذي هو خير " وهذا الرواية صححها الحافظ في بلوغ المرام، وأخرج
نحوها أو عوانة في صحيحه. وأخرج الحاكم عن عائشة نحوها
وأخرج الطبراني من حديث أم سلمة بلفظ " فأت الذي هو خير وكفر "
لان الواو لا تدل على الترتيب إنما هي لمطلق الجمع، على أن الواو لو كانت تفيد
ذلك لكانت الرواية التي بعدها " فكفر يمينك وأئت الذي هو خير " تخالفها
وكذلك بقية الروايات التي حرصنا على إثباتها هنا
قال ابن المنذر. رأى ربيعة والأوزاعي ومالك والليث وسائر فقهاء الأمصار
غير أهل الرأي أن الكفارة تجزى قبل الحنث، إلا أن الشافعي استثنى الصيام
فقال لا يجزى الا بعد الحنث
وقال أصحاب الرأي " لا تجزى الكفارة قبل الحنث " وعن مالك روايتان.
115

ووافق الحنفية أشهب المالكي وداود الظاهري، وخالفه ابن حزم، واحتج
الطحاوي لأبي حنيفة بقوله تعالى (ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم) فإن المراد إذا
حلفتم فحنثتم.
وقال القرطبي: اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث هل تجزى أم لا؟
- بعد إجماعهم على أن الحنث قبل الكفارة مباح حسن، وهو عندهم أولى -
على ثلاثة أقوال (أحدها) يجزى مطلقا، وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة
وجمهور الفقهاء وهو مشهور مذهب مالك.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يجزى بوجه، وهي رواية أشهب عن مالك.
ثم ذكر وجه الجواز فأتى بحديث أبي موسى، ثم ذكر وجه المنع فساق حديث
عدي بن حاتم.
والقول الثالث وهو قول الشافعي " تجزى بالاطعام والكسوة ولا تجزئ
الصوم، لان عمل البدن لا يقدم قبل وقته، ويجزئ في غير ذلك ككفارة
الظاهر قبل العود، وكفارة القتل بعد الجرح وقبل الموت على أحد الوجهين عند
أصحابنا. وقال الحافظ بن حجر في الفتح وأولى من ذلك أن يقال التقدير أعم من
ذلك فليس أحد التقديرين بأولى من الآخر.
واحتجوا أيضا بأن ظاهر الآية أن الكفارة وجبت بنفس اليمين ورده من
أجازها بأنها لو كانت بنفس اليمين لم تسقط عمن لم يحنث اتفاقا، واحتجوا أيضا
بأن الكفارة بعد الحنث فرض وإخراجها قبله تطوع، فلا يقوم التطوع مقام
المفروض، هكذا أفاده الشوكاني في النيل.
وقال القاضي عياض، اتفقوا على الكفارة لا تجب إلا بالحنث، وأنه يجوز
تأخيرها بعد الحنث. أه
واستحب مالك والأوزاعي والثوري تأخيرها بعد الحنث، وهو مذهبا كما
أثبته المصنف، وقال القاضي عياض ومنع بعض المالكية تقديم كفارة الحنث في
المعصية لان فيه إعانة على المعصية، ورده الجمهور
قال ابن المنذر، واحتج الجمهور بأن اختلاف ألفاظ الأحاديث لا يدل على
تعين أحد الامرين، والذي يدل عليه أنه أمر الحالف بأمرين، فإذا أتى بهما
116

جميعا فقد فعل ما أمر به، وإذا دل الخبر على المنع فلم يبق إلا طريق النظر.
فاحتج للجمهور بأن عقد اليمين لما كان يحله الاستثناء وهو كلام، فلان تحله الكفارة
وهي فعل مالي أو بدني أولى، ويرجح قولهم أيضا بالكثرة. وذكر القاضي عياض
أن عدة من قال بجواز تقديم الكفارة أربعة عشر صحابيا وتبعهم فقهاء الأمصار
إلا أبا حنيفة.
قال الشوكاني ان المتوجه للعمل برواية الترتيب المدلول عليه بلفظ ثم، ولولا
الاجماع المحكى على جواز تأخير الكفارة عن الحنث لكان ظاهر الدليل أن تقديم
الكفارة واجب. وقال المازري للكفارة ثلاث حالات، أحدها قبل الحلف فلا
تجزئ اتفاقا، ثانيها بعد الحلف والحنث فتجزئ اتفاقا. ثالثها بعد الحلف
وقبل الحنث ففيها الخلاف.
وقد وقع في حديث عدى بن حاتم عند مسلم ما يوهم أن فعل الذي هو خير
كفارته، فإنه أخرجه بلفظ " من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت
الذي هو خير وليترك يمينه " هكذا أخرجه من وجهين ولم يذكر الكفارة، ولكن
أخرجه من وجه آخر بلفظ " فرأى غيرها خيرا منها فليكفرها وليأت الذي هو
خير " ومداره في الطرق كلها على عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عدي
والذي أتى بالزيادة حافظ، وزيادة الحافظ معتمدة
وقوله " من أوسط ما تطعمون " هو المتوسط ما بين قوت الشدة والسعة
وقد أخرج ابن ماجة عن سفيان بن عيينة عن سليمان بن أبي المغيرة عن سعيد بن
جبير عن ابن عباس قال " كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة، وكان الرجل
يقوت أهله قوتا فيه شدة فنزلت (من أوسط ما تطعمون أهليكم)
وقد ذكر الله تعالى في الكفارة الخلال الثلاث فخير فيها وعقب عند عدمها
بالصيام، وبدأ بالطعام لأنه كان الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم
شبعهم، ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير
قال ابن عباس ما كان في كتاب الله (أو) فهو مخير فيه، وما كان (فمن لم
يجد) فالأول الأول. هكذا ذكره الإمام أحمد في التفسير. قال القاضي
ابن العربي، والذي عندي أنها تكون بحسب الحال، فإن علمت محتاجا فالطعام
117

أفضل، لأنك إذا أعتقت لم تدفع حاجتهم وزدت محتاجا حادي عشر إليهم.
وكذلك الكسوة تليه ولما علم الله الحاجة بدأ بالمقدم. اه
وقوله تعالى (إطعام عشرة مساكين) الذي عندنا أنه يجب تمليك المساكين
ما يخرج لهم ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه، لقوله تعالى (وهو يطعم
ولا يطعم) وفي الحديث " أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد السدس "
وقال أبو حنيفة: لو غداهم وعشاهم جاز. وهو اختيار ابن الماجشون من المالكية
الذي قال: إن التمكين من الاطعام إطعام. قال تعالى (ويطعمون الطعام على
حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) فبأي وجه أطعمه دخل في الآية
وفي قدر الاطعام خلاف، فعندنا وعند مالك وأهل المدينة مد لكل واحد
من المساكين العشرة إن كان بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال سليمان
ابن يسار: أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة
بالمد الأصغر، ورأوا ذلك مجزئا عنهم، وهو قول ابن عمر وابن عباس وزيد بن
ثابت، وبه قال عطاء بن أبي رباح، واختلف إذا كان بغيرها. وقد سبق لنا في
كفارة الظهار بيان مقدار ما يعطى كل مسكين وجنسه فارجع إليه.
أما قوله تعالى (من أوسط ما تطعمون أهليكم) روى أحمد في كتاب التفسير
بإسناده عن ابن عمر قال " الخبز واللبن " وفي رواية عنه قال " الخبز والتمر
والخبز والزيت والسمن " وقال أبو رزين " خبز وزيت وخل " وقال الأسود بن
يزيد " الخبز والتمر " وعن علي " الخبز والتمر، الخبز والسمن، الخبز واللحم.
وعن ابن سيرين قال: كانوا يقولون أفضله الخبز واللحم. وأوسطه الخبز
والسمن وأخمسه الخبز والتمر
(قلت) لا يجزئ عندنا شئ من هذا كما مضى في كفارة الظهار وكفارة
الصوم، حيث لا يجزئ دقيق ولا خبز ولا سويق، لأنه خرج عن حالة الكمال
والادخار ولا يجزئ في الزكاة فلم يجزئ في الكفارة كالقيمة، وقال ابن القاسم
يجزئه المد بكل مكان
وقال ابن المواز " أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف، وأشهب بمد وثلث "
قال وان مدا وثلثا لوسط من عيش الأمصار في الغداء والعشاء.
118

وقال أبو حنيفة " يخرج من البر نصف صاع، ومن التمر والشعير صاعا على
حديث عبد الله بن ثعلبة بن صغير عن أبيه قال، قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم خطيبا فأمر بصدقة الفطر صاع من تمر أو صاع من شعير عن كل رأس أو
صاع بر بين اثنين، وبه أخذ سفيان وابن المبارك
وروى عن علي وعمر وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال سعيد بن
المسيب وهو قول فقهاء العراق كافة، لما رواه ابن عباس قال " كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بصاع من تمر وأمر الناس بذلك، فمن لم يجد فنصف صاع من بر من أوسط
ما تطعمون أهليكم " أخرجه ابن ماجة. وقال القرطبي ويخرج الرجل مما يأكل
قال ابن العربي وقد زلت هنا جماعة من العلماء، فقالوا إنه إذا كان يأكل الشعير
ويأكل الناس البر فليخرج مما يأكل الناس، وهذا سهو بين، فإن المكفر إذا لم
يستطيع في خاصة نفسه الا الشعير لم يكلف أن يعطى لغيره سواه، وقد قال
صلى الله عليه وسلم " صاعا من طعام: صاعا من شعير " ففصل ذكرهما ليخرج
كل أحد فرضه مما يأكل، وهذا مما لاخفاء فيه
وقال مالك إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه، وقال الشافعي لا يجوز
أن يطعمهم جملة واحدة لأنهم يختلفون في الأكل، ولكن يعطى كل واحد مدا
وروى عن علي عليه السلام " لا يجزى إطعام العشرة وجبة واحدة " يعنى غداء
دون عشاء أو عشاء دون غداء، فإذا لم يجد إلا مسكينا واحدا ردد عليه في كل
يوم تتمة عشرة أيام، وبهذا قال أحمد وأبو ثور، وأجاز الأوزاعي دفعها إلى
واحد، ويجوز دفعها لأهل بيت شديدي الحاجة عند أبي عبيد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن أراد أن يكفر بالكسوة كسا كل مسكين ما يقع عليه اسم
الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو رداء أو مقنعة أو خمار، لان الشرع
ورد به مطلقا ولم يقدر فحمل على ما يسمى كسوة في العرف: وهل يجزى فيه
القلنسوة؟ فيها وجهان
(أحدهما) لا يجزئه لأنه لا يطلق عليه اسم الكسوة (والثاني) أنه يجزئه
119

وهو قول أبي إسحاق المروزي، لما روى أن رجلا سأل عمران بن الحصين عن
قوله تعالى (أو كسوتهم) قال لو أن وفدا قدموا على أميركم هذا فكساهم قلنسوة
قلنسوة، قلتم قد كسوا، ولا يجزئ الخف والنعل والمنطقة والتكة، لأنه لا يقع
عليه اسم الكسوة، ويجزى الكساء والطيلسان لأنه من الكسوات، ويجوز
ما اتخذ من القطن والكتان والشعر والصرف والخز، وأما الحرير فإنه إن أعطاه
للمرأة أجزأه، وهل يجوز أن يعطى رجلا؟ فيه وجهان
أحدهما لا يجزئ لأنه يحرم عليه لبسه
والثاني يجزئه وهو الصحيح، لأنه يجوز أن يعطى الرجال كسوة النساء،
والنساء كسوة الرجال، ويجوز فيه الخام والمقصور والبياض والمصبوغ. فأما
الملبوس فإنه إن ذهبت قوته لم يجزه، وإن لم تذهب قوته أجزأه كما تجزئه الرقبة
إذا لم تبطل منفعتها ولا تجزئه إذا بطلت منفعتها
(فصل) وإن أراد أن يكفر بالصيام ففيه قولان
(أحدهما) لا يجوز إلا متتابعا لأنه كفارة جعل الصوم فيها بدلا عن العتق
فشرط في صومها التتابع ككفارة الظهار والقتل
(والثاني) أنه يجوز متتابعا ومتفرقا، لأنه صوم نزل به القرآن مطلقا فجاز
متفرقا ومتتابعا كالصوم في فدية الأذى
(فصل) وإن كان الحالف عبدا فكفارته الصوم، وإن كان الصوم يضر
به لشدة الحر وطول النهار نظرت - فإن حلف بإذن المولى وحنث بإذنه - جاز
له أن يصوم من غير إذنه لأنه لزمه بإذنه، وإن حلف بغير إذنه وحنث بغير إذنه
لم يجز أن يصوم إلا بأذنه، لأنه لزمه بغير إذنه. وإن حلف بغير إذنه وحنث
بإذنه جاز أن يصوم بغير إذنه، لأنه لزمه بإذنه، وان حلف بإذنه وحنث بغير
إذنه ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يجوز أن يصوم بغير إذنه لأنه وجد أحد السببين بإذنه فصار
كما لو حلف بغير إذنه وحنث بإذنه
(والثاني) لا يجوز أن يصوم بغير إذنه وهو الصحيح، لأنه إذا لم يجز أن
يصوم ولم يمنعه من الحنث باليمين فلان لا يجوز وقد منعه من الحنث باليمين أولى
120

فإن كان الصوم لا يضر به كالصوم في الثناء ففيه وجهان (أحدهما) انه يجوز أن
يصوم بغير إذنه لأنه لا ضرر عليه (والثاني) انه كالصوم الذي يضربه على
ما ذكرناه لأنه ينقص من نشاطه في خدمته، فإن صام في المواضع التي منعناه
من الصوم فيها أجزأه لأنه من أهل الصيام: وإنما منع منه لحق المولى، فإذا فعل
بغير اذنه صح كصلاة الجمعة، فإن كان نصفه حرا ونصفه عبدا وله مال لم يكفر
بالعتق، لأنه ليس من أهل الولاء ويلزمه أن يكفر بالطعام أو الكسوة. ومن
أصحابنا من قال فرضه الصوم، وهو قول المزني لأنه ناقص بالرق وهو كالعبد،
والمذهب الأول لأنه يملك المال بنصفه الحر ملكا تاما فأشبه الحر
(الشرح) في قوله تعالى (أو كسوتهم) قرئ بكسر الكاف وضمها هما لغتان
مثل إسوة وأسوة، وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميقع اليماني (أو كإسوتهم)
يعنى كإسوة أهلك. والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد أو كل ما يسمى
كسوة عرفا أو أقل ما يقع عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو ازار أو
رداء أو مقنعة أو عمامة، وفي القلنسوة وجهان. وذلك ثوب واحد. وبه قال
أبو حنيفة والثوري
وقال أحمد: تتقدر الكسوة بما تجزئ الصلاة فيه، فإن كان رجلا فثوب
تجزئة الصلاة فيه، وإن كانت امرأة فدرع وخمار، وبهذا قال مالك. وممن قال
لا تجزئه السراويل الأوزاعي وأبو يوسف. وقال إبراهيم النخعي ثوب جامع.
وقال الحسن كل مسكين حلة: ازار ورداء
قال ابن عمر وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وأصحاب الرأي، يجزئه ثوب
ثوب. ولم يفرقوا بين الرجل والمرأة. وحكى عن الحسن قال تجزئ العمامة.
وقال سعيد بن المسيب عباءة وعمامة، والطليان فارسي معرب ثوب يعطى به
الرأس والبدن يلبس فوق الثياب
إذا ثبت هذا فإنه يجوز أن يكسوهم من جميع أصناف الكسوة من القطن
والكتان والصوف والشعر والوبر والخز، لان الله تعالى أمر بكسوتهم ولم
يعين فأي جنس كساهم منه خرج به عن العهدة لوجود الكسوة المأمور بها.
121

ويجوز أن يكسو المرأة حريرا، ويجوز أن يكسوهم ثيابا مستعملة إلا أن تكون
قد بليت وذهبت منفعتها لأنها معيبة فلا تجزئ كالحب المعيب وسواء ما أعطاهم
مصبوغا أو غير مصبوغ أو خاما أو مقصورا، لأنه تحصل الكسوة المأمور بها
والحكمة المقصودة منها. وبهذا قال أحمد، إلا في ثوب الحرير فإنه يجوز أن
يعطى الرجل ثوبا من الحرير، وهو أحد الوجهين عندنا، وسواء كان ما أعطاهم
مصبوغا أو غير مصبوغ، أو خاما غير مخيط، لأنه تحصل الكسوة المأمور بها
والحكمة المقصودة. والذين تجزئ كسوتهم هم المساكين الذين يجزئ اطعامهم
لان الله تعالى قال " فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون
أهليكم أو كسوتهم " فينصرف الضمير إلى المساكين لا إلى أهليكم، وقد تقدم
الكلام في المساكين وأصنافهم في كفارة الصوم
(مسألة) قوله " وان أراد أن يكفر بالصيام الخ " فيؤخذ على المصنف قوله
" وان أراد " بصيغة التخيير مع أن الآية صريحة بالتخيير بين الاطعام أو الكسوة
أو التحرير فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام، وهذا لا خلاف فيه الا في اشتراط
التتابع في الصوم ففيه قولان
(أحدهما) اشتراطه وهو ظاهر المذهب عند أحمد، وبه قال النخعي والثوري
وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي. وروى نحو ذلك عن علي وبه
قال عطاء ومجاهد وعكرمة.
والقول الثاني أنه يجوز متتابعا ومتفرقا، وهو رواية عن أحمد حكاها ابن أبي
موسى، وبه قال مالك لان الامر بالصوم مطلق ولا يجوز تقييده الا بدليل
ولأنه صام الأيام الثلاثة فلم يجب التتابع فيه كصيام المتمتع ثلاثة أيام في الحج
ووجه القول الأول ما ورد في قراءة أبى وعبد الله بن مسعود (فصيام ثلاثة
أيام متتابعات) كذلك ذكره الإمام أحمد في التفسير عن جماعة. وهذا إن كان
قرآنا فهو حجة لأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وان لم يكن قرآنا فهو رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ يحتمل أن يكونا
سمعاه من النبي صلى الله عليه وسلم تفسيرا فظنا قرآنا فثبتت له رتبة الخبر، ولا
ينقص عن درجة تفسير النبي صلى الله عليه وسلم للآية.
122

فعلى هذا إن أفطرت المرأة لحيض أو مرض، أو الرجل لمرض لم ينقطع
التتابع. وفي أحد القولين عندنا ينقطع في المرض ولا ينقطع في الحيض، وقال
أبو حنيفة ينقطع فيهما لان التتابع لم يوجد وفوات الشرط يبطل به المشروط.
وقال أحمد وأبو ثور إسحاق: كل عذر يبيح الفطر أشبه الحيض في كفارة القتل
فلا يقطع التتابع.
(مسألة) من كانت له دابة يحتاج إلى ركوبها أو دار لا غنى له عن سكناها،
أو خادم يحتاج إلى خدمته أجزاه الصيام في الكفارة. ومن ثم فإن الكفارة إنما
تجب فيما يفضل عن حاجته الأصلية والسكنى من الحوائج الأصلية وكل ما ذكرنا
وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة ومالك: من ملك رقبة تجزى في الكفارة ولا يجزئه الصيام
وإن كان محتاجا إليها لخدمته. ومثل ذلك من له عقار يحتاج إلى أجرته لمؤنته
وحوائجه الأصلية أو بضاعة يختل ربحها المحتاج إليه بالتكفير منها أو سائمة يحتاج
إلى نمائها حاجة أصلية أو أثاث يحتاج إليه أو كتب لا يتيسر له تحصيلها مرة أخرى
وأشباه هذا فله التكفير بالصيام، لان ذلك مستغرق لحاجته الأصلية،
فأشبة المعدم
(فرع) لا يجزئه أن يطعم خمسة مساكين ويكسو خمسة لقوله تعالى (فكفارته
اطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم) فوجه الدلالة
من وجهين (أحدهما) أنه جعل الكفارة إحدى هذه الخصال الثلاث ولم يأت
بواحدة منها (الثاني) أن اقتصاره على هذه الخصال الثلاث دليل على انحصار
التكفير فيها. وما ذكره القائلون بجواز المزج بينهما من أصحاب أحمد والثوري
وأصحاب الرأي من إطعام خمسة وكسوة خمسة إنما يشكل خصلة رابعة، وما
ذكروه إنما هو تلفيق للكفارة من نوعين فأشبه ما لو أعتق نصف عبد وأطعم خمسة
أو كساهم، ولأنه نوع من التكفير فلم يجزئه تبعيضه
(مسألة) إذا دخل في الصوم ثم أيسر، أي قدر على العتق أو الاطعام أو
الكسوة بعد الشروع في الصوم لم يلزمه الرجوع إليها، روى ذلك عن الحسن
وقتادة، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر. وروى عن النخعي
123

والحكم أنه يلزمه الرجوع إلى أحدها، وبه قال الثوري وأصحاب الرأي لأنه قدر
على المبدل قبل إتمام البدل فلزمه الرجوع كالمتيمم إذا قدر على الماء قبل إتمام
صلاته. دليلنا أنه بدل لا يبطل بالقدرة على المبدل فلم يلزمه الرجوع إلى المبدل
بعد الشروع فيه، كما لو شرع المتمتع العاجز عن الهدى في صوم السبعة الأيام
فإنه لا يخرج بلا خلاف. والدليل على أن البدل لا يبطل أن البدل الصوم وهو
صحيح مع قدرته اتفاقا، وفارق التيمم فإنه يبطل بالقدرة على الماء بعد فراغه منه
ولان الرجوع إلى طهارة الماء لا مشقة فيه ليسره، والكفارة يشق الجمع فيها بين
خصلتين، وإيجاب يفضى إلى ذلك
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب العدد
إذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول والخلوة لم تجب العدة لقوله تعالى (يا أيها
الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن
من عدة تعتدونها) ولأن العدة تجب لبراءة الرحم، وقد تيقنا براءة رحمها، وإن
طلقها بعد الدخول وجبت العدة لأنه لما أسقط العدة في الآية قبل الدخول دل على
وجوبها بعد الدخول، ولان بعد الدخول يشتغل الرحم بالماء فوجبت العدة لبراءة
الرحم. وإن طلقها بعد الخلوة وقبل الدخول ففيه قولان
(أحدهما) لا تجب العدة لما ذكرناه من الآية والمعنى
(والثاني) تجب لان التمكين من استيفاء المنفعة جعل كالاستيفاء، ولهذا
تستقر به الأجرة في الإجارة كما تستقر بالاستيفاء، فجعل كالاستيفاء
في إيجاب العدة.
(فصل) وان وجبت العدة على المطلقة لم تخل - إما أن تكون حرة أو
أمة - فإن كانت حرة نظرت، فإن كانت حاملا من الزوج اعتدت بالحمل لقوله
تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) ولان براءة الرحم لا تحصل
في الحامل الا بوضع الحمل، فإن كان الحمل ولدا واحدا لم تنقض العدة حتى ينفصل
124

جميعه، وإن كان ولدين أو أكثر لم تنقض حتى ينفصل الجميع، لان الحمل هو
الجميع، ولان براءة الرحم لا تحصل الا بوضع الجميع. وان وضعت ما بان فيه
خلق آدمي انقضت به العدة، وان وضعت مضغة لم يظهر فيه خلق آدمي وشهد
أربع نسوة من أهل المعرفة أنه خلق آدمي ففيه طريقان
من أصحابنا من قال تنقضي به العدة قولا واحدا. ومنهم من قال فيه قولان
وقد بيناه في عتق أم الولد، وأقل مدة الحمل ستة أشهر لما روى أنه أتى عثمان
رضي الله عنه بامرأة ولدت لستة أشهر فشاور القوم في رجمها، فقال ابن عباس
رضي الله عنه: أنزل الله عز وجل (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وأنزل وفصاله
في عامين فالفصال في عامين والحمل في ستة أشهر
وذكر القتيبي في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر، وأكثره
أربع سنين، لما روى الوليد بن مسلم قال: قلت لمالك بن أنس: حدثت جميلة
بنت سعد عن عائشة رضي الله عنها: لا تزيد المرأة على السنتين في الحمل. قال
مالك: سبحان الله من يقول هذا؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان تحمل أربع
سنين قبل أن تلد. وأقل ما تنقضي به عدة الحامل أن تضع بعد ثمانين يوما من
بعد امكان الوطئ، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أحدكم ليخلق في بطن
أمه نطفة أربعين يوما: ثم يكون علقة أربعين يوما، ثم يكون مضغة أربعين
يوما. ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن يكون بعد الثمانين
(الشرح) قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم الخ) خاطب الله المؤمنين
بحكم الزوجة تطلق قبل البناء، وبين ذلك الحكم للأمة، فالمطلقة إذا لم تكن
مسوسة لا عدة عليها بنص الكتاب واجماع الأمة، وعلى هذا فإن النكاح في الآية
هنا يطلق على العقد وإن كان في الحقيقة يطلق على الوطئ، وسمى العقد نكاحا
لملابسته له من حيث هو طريق إليه، ولم يرد النكاح في كتاب الله الا في معنى
العقد لأنه في معنى الوطئ، وهو من آداب القرآن، وقد كنى عن الوطئ بلفظ
الملامسة والمماسة والقربان والتنشى والآتيان
وفي قوله (ثم طلقتموهن) أحكام مضى ذكرها في الطلاق. وقد استدل
125

داود الظاهري ومن قال بقوله أن المطلقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن
تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسها أنه ليس له عليها أن تتم عدتها ولا عدة
مستقبلة، لأنها مطلقة قبل الدخول بها
وقال عطاء بن أبي رباح وفرقة: تمضي في عدتها من طلاقها الأول، وهو أحد
قولي الشافعي رضي الله عنه، لان طلاقه لها إذا لم يمسها في حكم من طلقها في عدتها
قبل أن يراجعها، ومن طلق امرأته في كل طهر مرة بنت ولم تستأنف، وقال مالك
إذا فارقها قبل أن يمسها انها لا تبنى على ما مضى من عدتها، وإنها تنشئ من يوم
طلقها عدة مستقبلة، وقد ظلم زوجها نفسه وأخطأ إن كان ارتجعها ولا حاجة له
بها، وعلى هذا أكثر أهل العلم، لأنها في حكم الزوجات المدخول بهن في النفقة
والسكنى وغير ذلك، ولذلك تستأنف العدة من يوم طلقت، وهو قول جمهور
فقها البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام
وقال الثوري: أجمع الفقهاء عندنا على ذلك. قال ابن قدامة: وأجمعوا على
أن المطلقة قبل المسيس لا عدة عليها، لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا
نكحتم النساء ثم طلقتموهن) الآية
(فرع) هل تجب العدة على المطلقة إذا خلا بها ولم يمسها؟ فيه قولان:
(أحدهما) وهو قوله في القديم: إن العدة تجب على كل من خلا بها زوجها ولم
يصبها ثم طلقها. وبهذا قال أحمد وروى عن الخلفاء الراشدين وزيد بن ثابت
وابن عمر، وبه قال عروة وعلي ابن الحسين وعطاء والزهري والثوري والأوزاعي
وإسحاق وأصحاب الرأي.
(الثاني) وهو قوله في الجديد: لا عدة عليها لقوله تعالى (ثم طلقتموهن
من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها) وهذا نص، ولأنها مطلقة
لم تمس فأشبهت من لم يخل بها
ووجه القول الأول ما روى أحمد في مسنده عن زرارة بن أوفى قال: قضى
الخلفاء الراشدون أن من أرخى سترا أو أغلق بابا فقد وجب المهر ووجبت
126

العدة، ولأنه عقد على المنافع فالتمكين فيه يجرى مجرى الاستيفاء في الأحكام
المتعلقة به كعقد الإجارة.
(مسألة) إذا كانت المطلقة حرة أو أمة وكانت حاملا من الزوج فقد أجمع
أهل العلم في جميع الأمصار والأعصار أنها تنقضي عدتها بوضع حملها، وكذلك
كل مفارقة في الحياة، وأجمعوا أيضا على أن المتوفى عنها زوجها إذا كانت حاملا
اجلها وضع حملها إلا ابن عباس، وسيأتي مزيد
وقد شرعت العدة لمعرفة براءتها من الحمل ووضعه أدل الأشياء على البراءة
منه فوجب أن تنقضي العدة ولأنه لا خلاف في بقاء العدة ببقاء الحمل فوجب
أن تنقضي به. فإذا كان الحمل واحدا انقضت العدة بوضعه وانفصال جميعه،
وان ظهر بعضه فهي في عدتها حتى يفصل باقيه، لأنها لا تكون واضعة لحملها
ما لم يخرج كله، وإن كان الحمل اثنين أو أكثر لم تنقض عدتها إلا بوضع الآخر
لان الحمل هو الجميع، هذا قول عامة أهل العلم إلا أبا قلابة وعكرمة فإنهما قالا: تنقضي
عدتها بوضع الأول ولا تتزوج حتى تضع الآخر
وذكر ابن أبي شيبة عن قتادة عن عكرمة أنه قال: إذا وضعت أحدهما فقد
انقضت عدتها، قيل له فتتزوج؟ قال لا. قال قتادة خصم العبد
وهذا قول شاد باتفاق جمهور العلماء، ويخالف ظاهر الكتاب، فإن العدة
شرعت لمعرفة البراءة من الحمل. فإذا علم وجود الحمل فقد تيقن وجود الموجب
للعدة وانتفت البراءة الموجبة لانقضائها، ولأنها لو انقضت عدتها بوضع الأول
لأبيح لها النكاح كما لو وضعت الآخر، فإن وضعت ولدا وشكت في وجود ثان
لم تنقض عدتها حتى تزول الريبة: وتيقن أنها لم يبق معها حمل، لان الأصل
بقاؤها فلا يزول بالشك
(فرع) الحمل الذي تنقضي به العدة ما يتبين فيه شئ من خلق الانسان حرة
كانت أو أمة، فإذا ألقت المرأة بعد فرقة زوجها شيئا لم يخل (1) أن يكون مابان
فيه هو الشكل الآدمي من الرأس واليد والرجل، فهذا تنقضي به العدة بلا خلاف
قال ابن المنذر: أجمع كل من تحفظ عنه من أهل العلم على أن عدة المرأة تنقضي
بالسقط إذا علم أنه ولد وممن تحفظ عنه ذلك الحسن وابن سيرين وشريح والشعبي
127

والنخعي والزهري والثوري ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وقال أحمد بن
حنبل، إذا بان فيه شئ من خلق الآدمي علم بأنه حمل: فيدخل في عموم قوله
تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن)
(2) أن تلقى نطفة أو دما لا تدري هل هو ما يخلق منه الآدمي أولا؟
فهذا لا يتعلق به شئ من الأحكام، لأنه لم يثبت أنه ولد ولا بالمشاهدة ولا بالبينة
(3) أن تلقى مضغة لم تبن فيها الخلقة، فشهد أربع ثقات من القوابل أن فيه
صورة خفية بان بها أنه خلقة آدمي، فهذا فيه طريقان، من أصحابنا من قال.
تنقضي به العدة كالحال الأولى قولا واحدا، لأنه قد تبين بشهادة أهل المعرفة
أنه ولد. والثاني من أصحابنا من قال فيه قولان بنيهما المصنف في عتق أم الولد
أحدهما أن عدتها لا تنقضي به ولا تصير أم ولد لأنه لم يبين فيه خلق آدمي فأشبه
الدم. والثاني أن عدتها لا تنقضي به ولكن تصير أم ولد لأنه مشكوك في كونه
ولدا، فلم يحكم بانقضاء العدة المتيقنة بأمر مشكوك فيه.
وعن أحمد روايتان، إحداهما نقلها الأثرم والأخرى نقلها حنبل كالقولين
عندنا (4) إذا ألقت مضغة لا صورة فيها فشهد أربع من ثقات القوابل أنه مبتدأ
خلق آدمي فهو كالذي قبله
(5) أن تضع مضغة لا صورة فيها ولم تشهد القوابل بأنها مبتدأ خلق آدمي
فهذا لا تنقضي به العدة ولا تصير به أم ولد لأنه لم يثبت كونه ولدا ببينة ولا
مشاهدة، فأشبه العلقة، فلا تنقضي العدة بوضع ما قبل المضغة بحال، سواء كان
نطفة أو علقة، وسواء قيل إنه مبتدأ خلق آدمي أو لم يقل، فإذا كان علقة فلا
تنقضي به العدة بإجماع الفقهاء ما عدا الحسن البصري فإنه قال: إذا علم أنها حمل
انقضت به العدة وفيه الغرة والأصح ما عليه الجمهور
وأقل ما تنقضي به مدة الحمل ستة أشهر، لان الله تعالى يقول (وحمله وفصاله
ثلاثون شهرا)
قال ابن عباس: إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا.
وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا، وروى أن عثمان قد أتى
بامرأة قد ولدت سفاحا لستة أشهر فأراد أن يقضى عليها بالحد فقال له على:
128

ليس ذلك عليها، قال تعالى (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) وقال تعالى
(والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) فالرضاع أربعة وعشرون شهرا
والحمل ستة أشهر، فرجع عثمان ولم يحدها
وقد روى الأثرم بإسناده عن أبي الأسود أنه رفع إلى عمر أن امرأة ولدت
لستة أشهر فهم عمر برجمها فقال له على " ليس لك ذلك وتلا الآيتين، فخلى عمر
سبيلها: وولدت مرة أخرى لذلك الحد، ورواه الأثرم أيضا عن عكرمة أن
ابن عباس قال ذلك. قال عاصم الأحول فقلت لعكرمة إنا بلغنا أن عليا قال هذا
فقال عكرمة " لا " ما قال هذا الا ابن عباس
وذكر ابن قتيبة في المعارف أن عبد الملك بن مروان ولد لستة أشهر، وهذا
قول أحمد ومالك وأصحاب الرأي وغيرهم. وسيأتي في الرضاع مزيد إن شاء الله
قال القرطبي لم يعد ثلاثة أشهر في ابتداء الحمل، لان الولد فيه نطفة وعلقة
ومضغة، فلا يكون له ثقل يحس به، وهو معنى قوله تعالى (فلما تغشاها حملت
حملا خفيفا فمرت به) والفصال الفطام
وروى أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق: وكان حمله وفصاله ثلاثين شهرا
حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرا، وفي الكلام إضمار.
أي ومدة حمله ومدة فصاله ثلاثون شهرا، ولولا هذا الاضمار لنصب ثلاثون
على الظرف وتغير المعنى.
وقال أحمد أقل ما تنقضي به العدة من الحمل أن تضعه بعد ثمانين يوما منذ
أمكنه وطؤها، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان خلق أحدكم ليجمع في بطن
أمه فيكون نطفة أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك
ولا تنقضي العدة بما دون المضغة فوجب أن تكون بعد الثمانين، فأما بعد الأربعة
أشهر فليس فيه إشكال، لأنه منكس في الخلق الرابع
(مسألة) خبر مالك ساقه الذهبي في الميزان عن إبراهيم بن موسى الفراء.
حدثنا الوليد بن مسلم قال، قلت لمالك أن حدثت عن عائشة انها قالت " لا تحمل
المرأة فوق سنتين قدر ظل معتزل " فقال مالك سبحان الله من يقول هذا؟
129

هذه امرأة ابن عجلان جارتنا امرأة صدق ولدت ثلاث أولاد في ثنتي عشرة سنة
تحمل أربع سنين قبل أن تلد. اه
(قلت) من الغريب أن محمد بن عجلان نفسه حملت به أمه بأكثر من ثلاث
سنين، ورى هذا الواقدي، سمعت عبد الله بن محمد بن عجلان يقول حمل بأبي
بأكثر من ثلاث سنين. وروى العباس بن نصر البغدادي عن صفوان بن عيسى
قال " مكث ابن عجلان في بطن أمه ثلاث سنين، فشق بطنها لما ماتت فأخرج
وقد نبتت أسنانه. روى هذا المحدث أبو بكر بن شاذان عن عبد العزيز بن أحمد
الغافقي المصري عن العباس
وكان محمد بن عجلان هذا رجلا صالحا تقيا، اختلف نقاد الرجال فيه، فقال
الحاكم أخرج له مسلم في كتابه ثلاثة عشر حديثا كلها شواهد. وقد تكلم المتأخرون
من أئمتنا في سوء حفظه. وقال الذهبي إمام صدوق مشهور. روى عن أبيه
والمقبري وطائفة. وعنه مالك وشعبة ويحيى القطان. وثقة أحمد وابن معين
وابن عيينة وأبو حاتم. وروى عباس عن ابن معين قال ابن عجلان أوثق من محمد
ابن عمر. وما يشك أحد في هذا
وقال البخاري في ترجمة ابن عجلان في الضعفاء قال لي علي بن أبي الوزير عن
عائشة إنه ذكر ابن عجلان فذكر خبرا، وقال يحيى القطان كان مضطربا في حديث
نافع. وقال البخاري، قال يحيى القطان لا أعلم إلا أنى سمعت ابن عجلان يقول
كان سعيد المقبري يحدث عن أبيه عن أبي هريرة وعن رجل عن أبي هريرة،
فاختلط فجعلهما عن أبي هريرة. كذا في نسختي بالضعفاء للبخاري. وعندي في
مكان آخر أن ابن عجلان كان يحدث عن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة. وعن
رجل عن أبي هريرة، فاختلط عليه فجعلهما عن أبي هريرة
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) فإن كانت المعتدة غير حامل فإن كانت ممن تحيض اعتدت بثلاثة
أقراء لقوله عز وجل (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) والأقراء هي
الأطهار، والدليل عليه قوله تعالى (فطلقوهن لعدتهن) والمراد به في وقت
130

عدتهن كما قال (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) والمراد به في يوم القيامة
والطلاق المأمور به في الطهر، فدل على أنه وقت العدة، وإن كان الطلاق في
وقت الحيض كان أول الأقراء الطهر الذي بعده، فإن كان في حال الطهر نظرت
فإن بقيت في الطهر بعد الطلاق لحظة ثم حاضت احتسبت تلك اللحظة قرءا، لان
الطلاق إنما جعل في الطهر ولم يجعل في الحيض حتى لا يؤدي إلى الاضرار بها في
تطويل العدة، فلو لم تحسب بقية الطهر قرءا كان الطلاق في الطهر أضر بها من
الطلاق في الحيض، لأنه أطول للعدة، فإن لم يبق بعد الطلاق جزء من الطهر
- بأن وافق آخر لفظ الاطلاق آخر الطهر، أو قال لها أنت طالق في آخر جزء
من طهرك - كان أول الأقراء الطهر الذي بعد الحيض.
وخرج أبو العباس وجها آخر أنه يجعل الزمان الذي صادفه الطلاق من الطهر
قرءا، وهذا لا يصح لان العدد لا يكون إلا بعد وقوع الطلاق فلم يجز
الاعتداد بما قبله.
وأما آخر العدة فقد روى المزني والربيع أنها إذا رأت الدم بعد الطهر الثالث
انقضت العدة برؤية الدم. وروى البويطي وحرملة أنها لا تنقضي حتى يمضى من
الحيض يوم وليلة: فمن أصحابنا من قال هما قولان، أحدهما تنقضي العدة برؤية
الدم، لأن الظاهر أن ذلك حيض، والثاني لا تنقضي حتى يمضى يوم وليلة
لجواز أن يكون دم فساد فلا يحكم بانقضاء العدة. ومنهم من قال هي على اختلاف
حالين. فالذي رواه المزني والربيع فيمن رأت الدم لعادتها فيعلم بالعادة أن ذلك
حيض، والذي رواه البويطي وحرملة فيمن رأت الدم لغير عادة، لأنه لا يعلم أنه
حيض قبل يوم وليلة، وهل يكون ما رأته من الحيض من العدة؟ فيه وجهان
(أحدهما) أنه من العدة لأنه لابد من اعتباره، فعل هذا إذا راجعها فيه صحت
الرجعة، وإن تزوجت فيه لم يصح النكاح (والثاني) ليس من العدة لأنا لو جعلناه
من العدة لزادت العدة على ثلاثة أقراء، فعلى هذا إذا راجعها لم تصح الرجعة،
فإن تزوجت فيه صح النكاح
(الشرح) قوله تعالى (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) يتربصن ينتظرن
والتربص الانتظار. قال تعالى (فتربصوا فستعلمون) قال ابن بطال، واختلف
131

أهل العلم في الأقراء، فذهب قوم إلى أنها الأطهار، وهو مذهب الشافعي رحمه
الله، وذهب قوم إلى أنها الحيض وأهل اللعنة يقولون إن القرء يقع على الحيض
وعلى الطهر جميعا وهو عندهم من الأضداد، وأصل القراء الجمع، يقال قريت
الماء في الحوض جمعته، فكأن الدم يجتمع في الرحم ثم يخرج. اه
وقال في اللسان، قال أبو عبيد القرء يصلح للحيض والطهر، قال وأظنه
من أقرأت النجوم إذا غابت والجمع أقراء، وفي الحديث " دعى الصلاة أيام
أقرائك " وقروء على فعول وأقرؤ الأخيرة عن اللحياني في أدنى العدد، ولم
يعرف سيبويه أقراءا ولا أقرؤا. قال استغنوا عنه بفعول، وفي التنزيل " ثلاثة
قروء " كما قالوا خمسة كلاب يراد خمسة من كلاب. قال الأعشى
مورثة مالا وفي الحي رفعة لما ضاع فيها من قروء نسائكا
وقد اختلف الرواية عن أحمد بن حنبل فروى أنها الحيض، وهو مروى
عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلى وابن عباس وسعيد بن المسيب والثوري
والأوزاعي والعنبري وإسحاق وأبى عبيد وأصحاب الرأي، وروى عن أبي موسى
وعبادة بن الصامت وأبى الدرداء
والرواية الثانية عن أحمد أن القروء الأطهار، وهو قول زيد وابن عمر
وعائشة وسليمان بن يسار والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبان بن عثمان وعمر
ابن عبد العزيز والزهري ومالك وأبى بكر بن عبد الرحمن الذي قال: ما أدركت
أحدا من فقهائنا إلا وهو يقول ذلك.
قال ابن عبد البر: رجع أحمد إلى إلى أن القروء الأطهار
قال في رواية الأثرم: رأيت الأحاديث عمن قال القروء الحيض تختلف:
والأحاديث عمن قاله إنه أحق بها حتى تدخل في الحيضة الثالثة أحاديثها صحاح
وقوية. واحتج من قال بقول الله (فطلقوهن لعدتهن) أي في عدتهن، كقوله
تعالى (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) أي في يوم القيامة، وإنما أمر
بالاطلاق في الطهر لا في الحيض.
132

(فرع) لما كانت القروء هي الأطهار عندنا احتسبنا لها بالطهر الذي طلقها
فيه، قرءا طلقها - وقد من طهرها لحظة - حسبها قرءا، وهذا قول
كل من قال: القروء الأطهار إلا الزهري وحده قال: تعتد بثلاثة قروء سوى
الطهر الذي طلقها فيه.
وحكى عن أبي عبيد أنه إن كان جامعها في الطهر لم يحتسب ببقيته لأنه زمن
حرم فيه الطلاق فلم يحتسب به من العدة كزمن من الحيض.
وقال الحنابلة: القروء الحيض: ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا توطأ
حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " ولان الاستبراء تعرف به براءة
الرحم، وإنما يحصل بالحيضة لا بالطهر الذي قبلها، ولأن العدة تتعلق بخروج
خارج من الرحم فوجب أن تتعلق بالطهر كوضع الحمل يحققه أن العدة مقصودها
معرفة براءة المرأة من الحمل، فتارة تحصل بوضعه وتارة تحصل بما ينافيه وهو
الحيض الذي لا يتصور وجوده معه.
ووجه القول بأن المرأة تعتد بالطهر الذي طلقت فيه أن الطلاق حرم في زمن
الحيض دفعا لضرر تطويل العدة عليها، فلو لم يحتسب ببقية قرءا كان الطلاق
في الطهر أضر بها وأطول عليها، وما ذكر عن أبي عبيد لا يصح، لان تحريم
الطلاق في الحيض لكونها لا تحتسب ببقيته فلا يجوز أن نجعل العلة في عدم
الاحتساب تحريم الطلاق فتصير العلة معلولا، وإنما تحريم الطلاق في الطهر الذي
أصابها فيه لكونها مرتابة، ولكونه لا يأمن الندم بظهور حملها
(فرع) إذا انقضت حروف الطلاق مع انقضاء الطهر، أو قال لها: أنت
طالق في آخر جزء من طهرك، كان أول الأقراء الطهر الذي بعد الحيض ويكون
محرما ولا تحتسب بتلك الحيضة من عدتها، وتحتاج أن تعتد بثلاث حيضات في
قول الربيع بن سليمان والمزني عن الشافعي: إذا رأت الدم بعد الطهر الثالث
انقضت العدة برؤية الدم، وفي قوله من رواية البويطي وحرملة أنها لا تنقضي
حتى يمضى من الحيض يوم وليلة.
ووجه القول الأول ما رواه الشافعي أخبرنا مالك عن نافع زيد بن أسلم
133

عن سليمان بن يسار أن الأحوص بن حكيم هلك بالشام حين دخلت امرأته في
الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها، ولا ترثه ولا يرثها.
ووجه الثاني ما أخرجه عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن
عائشة رضي الله عنها أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن حين دخلت في الدم
من الحيضة الثالثة. قال ابن شهاب فذكر ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن فقالت:
صدق عروة، وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا: إن الله تبارك اسمه يقول: ثلاثة
قروء، فقالت عائشة رضي الله عنها: صدقتم، وهل تدرون ما الأقراء؟
الأقراء الأطهار.
وقال الشافعي: فإذا طلق الرجل امرأته طاهرا قبل جماع أو بعده اعتدت
بالطهر الذي وقع عليها فيه الطلاق ولو كان ساعة من نهار وتعتد بطهرين تامين
بين حيضتين، فإذا دخلت في الدم من الحيضة الثالثة حلت، ولا يؤخذ أبدا في
القرء الأول الا أن يكون فيما بين أن يوقع الطلاق وبين أول حيض، ولو طلقها
حائضا لم تعتد بتلك الحيضة، فإذا طهرت استقبلت القرء، ولو طلقها فلما أوقع
الطلاق حاضت - فإن كانت على يقين من أنها كانت طاهرا حين تم الطلاق
ثم حاضت بعد تمامه بطرفة عين فذلك قرء وان علمت أن الحيض وتمام الطلاق
كانا معا استأنفت العدة في طهرها من الحيض ثلاثة قروء اه
ومحصل هذا أنه إذا طلقها وهي طاهر انقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة
الثالثة، وأن طلقها حائضا أنقضت عدتها برؤية الدم من الحيضة الرابعة، وهذا
قول زيد بن ثابت وابن عمر وعائشة والقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله وأبان
ابن عثمان ومالك وأبي ثور وأحمد وهو ظاهر أحد القولين للشافعي، والقول
الآخر لا تنقضي العدة حتى يمضى زمن الدم يوم وليلة، لجواز أن يكون الدم
دم فساد فلا نحكم بانقضاء العدة حتى يزول الاحتمال.
وقال أصحاب أحمد ان الله تعالى جعل العدة ثلاثة قروء فالزيادة عليها مخالفة
للنص فلا يعول عليه ولفظ حديث زيد بن ثابت " إذا دخلت في الدم من الحيضة
134

الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها " والقول: إن الدم يكون دم
فساد يقتضى الرد بكونه حيضا في ترك الصلاة وتحريمها على الزوج وسائر أحكام
الحيض فكذلك في انقضاء العدة، ثم إن كان التوقف عن الحكم بانقضاء العدة
للاحتمال، فإذا تبين أنه حيض علمنا أن العدة قد انقضت حين رأت الدم، كما لو
قال لها: إن حضت فأنت طالق
وقد اختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: اليوم والليلة من العدة، لأنه دم
تكمل به العدة فكان منها كالذي في أثناء الأطهار، ومنهم من قال: ليس منها
إنما يتبين به انقضاؤها، ولأننا لو جعلناه منها أوجبنا الزيادة على ثلاثة قروء،
ولكننا نمنعها من النكاح حتى يمضى يوم وليلة ولو راجعها زوجها لم تصح الرجعة
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وأقل ما يمكن أن تعتد فيه الحرة بالأقراء اثنان وثلاثون يوما
وساعة وذلك بأن يطلقها في الطهر ويبقى من الطهر بعد الطلاق ساعة فتكون
تلك الساعة قرءا ثم تحيض يوما، ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو القرء الثاني ثم
تحيض يوما ثم تطهر خمسة عشر يوما وهو القرء الثالث، فإذا طعنت في الحيضة
الثالثة انقضت عدتها.
(فصل) وإن كانت من ذوات الأقراء فارتفع حيضها، فإن كان لعارض
معروف كالمرض والرضاع تربصت إلى أن يعود الدم، فتعتد بالأقراء: لان
ارتفاع الدم بسبب يزول فانتظر زواله، فإن ارتفع بغير سبب معروف،
ففيه قولان.
قال في القديم تمكث إلى أن تعلم براءة رحمها ثم تعتد عدة الآيسة، لأن العدة
تراد لبراءة الرحم.
وقال في الجديد تمكث إلى أن تيأس من الحيض ثم تعتد عدة الآيسة لان
الاعتداد بالشهور جعل بعد الأياس فلم يجز قبله، فإن قلنا بالقول القديم ففي
القدر الذي تمكث فيه قولان.
(أحدهما) تسعة أشهر، لأنه غالب عادة الحمل ويعلم به براءة الرحم في الظاهر
135

(والثاني) تمكث أربع سنين، لأنه لو جاز الاقتصار على براءة الرحم في
الظاهر لجاز الاقتصار على حيضة واحدة، لأنه يعلم بها براءة الرحم في الظاهر،
فوجب أن يعتبر أكثر مدة الحمل ليعلم براءة الرحم بيقين. فإذا علمت براءة الرحم
بتسعة أشهر أو بأربع سنين اعتدت بعد ذلك بثلاثة أشهر، لما روى عن سعيد
ابن المسيب رضي الله عنه " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في المرأة إذا
طلقت فارتفعت حيضتها أن عدتها تسعة أشهر لحملها وثلاثة أشهر لعدتها، ولان
تربصها فيما تقدم ليس بعدة وإنما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الأقراء فإذا
علمت اعتدت بعدة الآيسات فان حاضت قبل العلم ببراءة رحمها أو قبل انقضاء
العدة بالشهور لزمها الاعتداد بالأقراء لأنها تبينا أنها من ذوات الأقراء، فإن
اعتدت وتزوجت ثم حاضت لم يؤثر ذلك في العدة لأنها انقضت العدة وتعلق بها
حق الزوج فلم يبطل، فإن حاضت بعد العدة وقبل النكاح ففيه وجهان.
أحدهما لا يلزمها لاعتداد بالأقراء لأنا حكمنا بانقضاء العدة فلم يبطل بما حدث
بعده، والثاني يلزمها لأنها صارت من ذوات الاقرار قبل تغلق حق الزوج بها
فلزمها الاعتداد بالأقراء، فإن قلنا بقوله الجديد أنها تقعد إلى الأياس ففي الأياس
قولان (أحدهما) يعتبر أياس أقاربها لأنها أقرب إليهن (والثاني) يعتبر أياس
نساء العالم، وهو أن تبلغ اثنتين وستين سنة، لأنه لا يتحقق الأياس فيما دونها
فإذا تربصت قدر الأياس اعتد ت بعد ذلك بالأشهر لان ما قبلها لم يكن عدة،
وإنما اعتبر ليعلم أنها ليست من ذوات الأقراء.
(الشرح) قال النووي، قال أصحابنا: لا تؤمر في العدة بالأحوط والقعود
إلى أن تبين اليأس، بل إذا طلقت أو فسخ نكاحها اعتدت بثلاثة أشهر أولها من
حين الفرقة فإذا مضت ثلاثة أشهر ولم يكن حمل انقضت عدتها وحلت للأزواج
لان الغالب أن المرأة تحيض وتطهر في كل شهر فحمل أمرها على ذلك.
قال أصحابنا ولأنا لو أمرناها بالقعود إلى اليأس عظمت المشقة وطال الضرر
لاحتمال نادر مخالف للظن وغالب عادة النساء بخلاف إلزامها وظائف العبادات،
فإن الامر فيه سهل بالنسبة إلى هذا، ولان غيرها يشاركها فيه.
136

وحكى إمام الحرمين هنا والغزالي في العدد وغيرهما عن صاحب التقريب أنه
حكى وجها أنه يلزمها القعود إلى اليأس ثم تعتد بثلاثة أشهر. قال الامام وهذا
الوجه بعيد في المذهب، والذي عليه جماهير الأصحاب الاكتفاء بثلاثة أشهر،
وهذا هو الصحيح، وبه قطع الأصحاب في معظم الطرق
وحكى الدارمي عن كثير من الأصحاب أنها تعتد بثلاثة أشهر كما حكيناه عن
الجمهور. قال حتى رأيت للمحمودي من أصحابنا في كتاب الحيض أنها إذا طلقها
زوجها لم يراجعها بعد مضي اثنين وثلاثين يوما وساعتين، ولا تتزوج الا بعد
ثلاثة أشهر احتياطا لامرين، ثم أنكر الدارمي على الأصحاب قولهم تعتد بثلاثة
أشهر وغلطهم في ذلك وبالغ في ابطال قولهم
قال الدارمي: ينبغي أن نبين عدة غيرها لنبني عليها عدتها، فعدة المطلقة
الحائل ثلاثة أقراء كل قرء طهر إلا الأول فقد يكون بعد طهر، وطلاقها في
الحيض بدعة وفى الطهر سنة إلا أن يكون جامعها فيه فبدعة أخف من الحيض،
وهل يحسب قرءا؟ فيه وجهان، فإن طلقها في طهر لم يجامعها فيه حسبت بقيته
طهرا وأتت بطهرين بعده، فإذا رأت الدم بعد ذلك خرجت من العدة. وقيل
يشترط مضى يوم وليلة. وقيل إن لم يكن لها عادة مستقيمة اشترط والا فلا
وان طلقها في طهر جامعها فيه فإن حسبناه قرءا فكما لو لم يجامع فيه والا وجب
ثلاثة أطهار بعده، وان طلقها في حيض وجب ثلاثة أطهار. وهل يقع الطلاق
مع آخر اللفظ أم عقبه؟ فيه وجهان. وهل تشرع في العدة مع وقت الحكم
بالطلاق أم عقيبه؟ فيه وجهان. وللناس خلاف في تجزئ القرء. هل هو إلى
غاية أم إلى غير غاية؟
وقد قال كثير من أصحابنا أقل زمان يمكن انقضاء العدة فيه اثنان وثلاثون
يوما ولحظتان، بأن يطلقها وقد بقي شئ من الطهر فتعتد به قرءا ثم تحيض يوما
وليلة ثم تطهر خمسة عشر، ثم تحيض يوما وليلة ثم تطهر خمسة عشر وهو القرء
الثالث ثم ترى الدم لحظة، وينبغي أن تبنى العدة على ما سبق، فإن طلقها وكان
جزء من آخر لفظه أو شئ منه على قول من لا يقول بالجزء في أول الحيض وقع
الطلاق في الحيض بلا خلاف وتعتد بالأطهار بعده. وان طابق الطلاق آخر
137

الطهر اعتدت به قرءا على قول من أوقع الطلاق على آخر لفظه وحسب من العدة
ولا يحسب على المذهب الآخر. ولو بقي بعد طلاقه شئ من آخر الطهر فعلى
مذهب من لا يقول بالجزء تعتد به قرءا، لأنه ينقسم قسمين فيقع الطلاق في
الأول منهما وتعتد بالثاني وهو أغلظ - إذا قلنا بالطلاق عقيب لفظه وبالعدة
عقيب الطلاق - وإن قلنا غير ذلك فأولى، وعلى مذهب من يقول بالجزء
- إن كان الثاني جزءا واحدا - فإن قلنا الطلاق عقيب لفظه والعدة مطابقة
للطلاق، أو قلنا الطلاق بآخر لفظه والعدة بعده حسب قرءا، لان ذلك الجزء
وقع فيه الطلاق وطابقته العدة أو صادفته العدة وتقدمه الطلاق في آخر لفظه.
وإن قلنا الطلاق بآخر لفظه والعدة تطابقه فأولى بذلك. وإن قلنا الطلاق عقيب
لفظه والعدة عقيبه قرءا، لان الطلاق يقع في هذا الجزء ولا يبقى بعده
شئ من الطهر للعدة. وإن كان بقي جزء اعتدت به قرءا على جميع المذاهب،
فقد تكون العدة على بعض المذاهب اثنين وثلاثين يوما وجزءا، وهو أقل
ما يمكن، وذلك أن يطلقها فيطابق آخر طلاقه آخر الطهر وقلنا وقع الطلاق بآخر
اللفظ وطابقه أول العدة، فأقل العدة إذا نوبتان وزيادة، وأكثرها ثلاث نوب
يوم وليلة وجزء، وذلك أن يطلقها وقد بقي جزء من الطهر على قول من قال به
ولا يحسب قرءا عند من أوقع الطلاق عقيب لفظه. وجعل أول العدة عقيب
الطلاق ثم تمضي نوبة حيض وطهر، فيكون قرءا ثم ثانية يكون ثانيا، ثم ثالثة
قرءا ثالثا، ثم يمضى يوم وليلة على قول من شرط ذلك
وإن طلقها في طهر جامعها فيه فأطول العدة على أغلظ المذاهب ثلاث نوب
يوم وليلة وطهر إلا جزءا. وذلك بأن يكون جامعها عاصيا في آخر الحيض
وطلقها، فاتق آخر لفظه في أول جزء من الطهر وطابقه فنقول: الطلاق بآخر
لفظه وهو أول جزء من الطهر وفيه جماع. وقلنا لا تعتد به وذلك طهر إلا جزءا
ثم تمضي نوبة فتعتد بالطهر قرءا ثم نوبة ثانية ثم ثالثة ثم يوم وليلة، فهذا أكثر
ما يمكن أن يكون عدة على أشد مذاهبنا، ولا يخفى بما ذكرناه تفريع ما في المذاهب
وإنما قصدنا بيان أقصى الغايتين في الأقل والأكثر على أقصى المذاهب
إذا ثبت هذا فإن الرجل إذا طلق امرأته وهي من ذوات الأقراء فلم تر الحيض
138

في عادتها ولم تدر ما رفعه؟ فإنها تعتد سنة تسعة أشهر منها تتربص فيها لتعلم براءة
رحمها، لأن هذه المدة هي غالب مدة الحمل، فإذا لم يبن الحمل فيها علم براءة الرحم
ظاهرا فتعتد بعد ذلك عدة الآيسات ثلاثة أشهر، وهذا قول عمر رضي الله عنه
قال الشافعي: هذا قضاء عمر بين المهاجرين والأنصار لا ينكره منهم منكر
علمناه: وبه قال مالك والشافعي في أحد قوليه، وروى ذلك عن الحسن، وقال
الشافعي في قول آخر: تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد بثلاثة أشهر
لأن هذه المدة هي التي يتيقن بها براءة رحمها فوجب اعتبارها احتياطا
وقال في الجديد تكون في عدة أبدا حتى تحيض أو تبلغ سن الأياس تعتد
حينئذ بثلاثة أشهر. وهذا قول جابر بن زيد وعطاء وطاوس والشعبي والزهري
والنخعي وأبى الزناد والثوري وأبى عبيد وأهل العراق، لان الاعتداد بالأشهر
جعل بعد الأياس فلم يجز قبله، وهذه ليست آيسة، ولأنها ترجو عود الدم فلم
تعتد بالشهور، كما لو تباعد حيضها لعارض
أما إذا عرفت أن ارتفاع الحيض بعارض من مرض أو نفاس أو رضاع
فإنها تنتظر زوال العارض وعود الدم. وإن طال أن تصير في سن اليأس.
فعند ذلك تعتد عدة الآيسات على ما سنذكره
وإن حاضت حيضة أو حيضتين ثم ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه؟ لم تنقض
عدتها إلا بعد سنة بعد انقطاع الحيض. وذلك لما روى عن عمر رضي الله عنه
أنه قال في رجل طلق امرأته فحاضت حيضة أو حيضتين فارتفع حيضها لا تدري
ما رفعه؟ تجلس تسعة أشهر، فإذا لم يستبن بها حمل تعتد بثلاثة أشهر فذلك سنة
ولا نعرف له مخالفا. قال ابن المنذر " قضى به عمر بين المهاجرين والأنصار
ولم ينكره منكر "
ونختم هذا البحث بما قال الشافعي رضي الله عنه. وإذا كانت تحيض في كل
شهر أو شهرين فطلقت فرفعتها حيضتها سنة. أو حاضت حيضة ثم رفعتها حيضتها
سنة أنها لا تحل للأزواج الا بدخولها في الدم من الحيضة الثالثة وان تباعد
ذلك وطال. وهي من أهل الحيض حتى تبلغ أن تيأس من المحيض وهي لا تيأس
من المحيض حتى تبلغ السن التي من بلغتها من نسائها لم تحض بعدها. فإذا بلغت ذلك
139

خرجت من أهل الحيض وكانت من المؤيسات من المحيض اللاتي جعل الله عز
وجل عددهن ثلاثة أشهر واستقبلت ثلاثة أشهر من يوم بلغت سن المؤيسات
من المحيض لا تخلو إلا بكمال الثلاثة الأشهر، وهذا يشبه - والله أعلم - ظاهر
القرآن، لان الله تعالى جعل على الحيض الأقراء وعلى المؤيسات وغير البوالغ
الشهور فقال " واللاتي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر "
قال والحيض يتباعد فعدة المرأة تنقضي بأقل من شهرين إذا حاضت ثلاثة حيض
ولا تنقضي إلا بثلاث سنين وأكثر إن كان حيضها يتباعد، لأنه إنما جعل عليهن
الحيض فيعتددن به وإن تباعد.
وإن كان البراءة من الحمل تعرف بأقل من هذا فإن الله عز وجل حكم بالحيض
فلا أحيله إلى غيره. فهذا عدتها الحيض حتى تؤيس من المحيض بما وضعت
من أن تصير إلى السن التي من بلغها من أكثر نسائها لم تحض. وقد يروى عن
ابن مسعود وغيره مثل هذا القول
أخبرنا مالك عن محمد بن يحيى بن حبان أنه كان عند جده هاشمية وأنصارية،
فطلق الأنصارية وهي ترضع ابنته فمكث سبعة عشر شهرا لا تحيض يمنعها
الرضاع أن تحيض، ثم مرض حبان بعد أن طلقها بسبعة أشهر أو ثمانية فقلت له
إن امرأتك تريد أن ترث، فقال لأهله احملوني إلى عثمان، فحملوه إليه فذكر له
شأن امرأته وعنده علي بن أبي طالب زيد بن ثابت، فقال لهما عثمان ما تريان؟
فقالا نرى أنها ترثه ان مات ويرثها ان ماتت فإنها ليست من القواعد التي قد يئسن
من المحيض، وليست من الابكار اللاتي لم يبلغن المحيض، ثم هي على عدة حيضها
ما كان من قليل أو كثير، فرجع حبان إلى أهله فأخذ ابنته، فلما فقد الرضاع
حاضت حيضة، ثم حاضت حيضة أخرى، ثم توفى حبان من قبل أن تحيض
الثالثة فاعتدت عدة المتوفى عنها زوجها وورثته
ثم روى طرق هذا الخبر إلى أن قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد ويزيد
ابن عبد الله بن قسيط عن ابن المسيب أنه قال: قال عمر بن الخطاب " أيما امرأة
طلقت فحاضت حيضة أو حيضتين ثم رفعها حيضتها فإنها تنتظر تسعة أشهر، فإن
بان بها حمل فذلك، والا اعتدت بعد التسعة أشهر ثم حلت اه
140

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كانت ممن لا تحيض ولا يحيض مثلها كالصغيرة والكبيرة
الآيسة اعتدت بثلاثة أشهر، لقوله تعالى " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم
ان ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن " فإن كان الطلاق في أول الهلال
اعتدت بثلاثة أشهر بالأهلة، لان الأشهر في الشرع بالأهلة. والدليل عليه قوله
عز وجل " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج "
وإن كان الطلاق في أثناء الشهر اعتدت بقية الشهر ثم اعتدت بشهرين بالأهلة
ثم تنظر عدد ما اعتدت من الشهر الأول، وتضيف إليه من الشهر الرابع ما يتم
به ثلاثون يوما.
وقال أبو محمد عبد الرحمن ابن بنت الشافعي رحمه الله " إذا طلقت المرأة في
أثناء الشهر اعتدت بثلاثة أشهر بالعدد كاملة، لأنها إذا فإنها الهلال في الشهر
الأول فاتها في كل شهر، فاعتبر العدد في الجميع، وهذا خطأ لأنه لم يتعذر اعتبار
الهلال الا في الشهر الأول فلم يسقط اعتباره فيما سواه
(فصل) وإن كانت ممن لا تحيض ولكنها في سن تحيض فيه النساء اعتدت
بالشهور لقوله تعالى " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم فعدتهن
ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن " ولأن الاعتبار بحال المعتدة لا بعادة النساء،
والدليل عليه أنها لو بلغت سنا لا تحيض فيه النساء وهي تحيض كانت عدتها
بالأقراء اعتبارا بحالها، فذلك إذا لم تحض في سن تحيض فيه النساء وجب أن
تتعد بالأشهر اعتبارا بحالها. وان ولدت ولم تر حيضا قبله ولا نفاسا بعده
ففي عدتها وجهان
(أحدهما) وهو قول الشيخ أبي حامد الأسفراييني رحمه الله أنها تعتد بالشهور
للآية (والثاني) أنها لا تعتد بالشهور، بل تكون كمن تباعد حيضها من ذوات
الأقراء، لأنه لا يجوز أن تكون من ذوات الأحمال، ولا تكون من
ذوات الأقراء.
(فصل) وإذا شرعت الصغيرة في العدة بالشهور ثم حاضت لزمها الانتقال
141

إلى الأقراء لان الشهور بدل عن الأقراء فلا يجوز الاعتداد بها مع وجود أصلها
وهل يحسب ما مضى من الأشهر قرءا؟ فيه وجهان
(أحدهما) يحتسب به - وهو قول أبى العباس - لأنه طهر بعده حيض
فاعتدت به قرءا، كما لو تقدمه حيض
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق انه لا يحتسب به، كما إذا اعتدت بقرأين ثم
أيست لزمها الاستئناف ثلاثة أشهر ولم يحتسب ما مضى من زمان الأقراء شهرا
وان انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت لم يلزمها الاستئناف للعدة بالأقراء، لان
هذا معنى حدث بعد انقضاء العدة.
وإن شرعت في العدة بالأقراء ثم ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم الأقراء
إذا قلنا إن الحامل تحيض، لان الأقراء دليل على براءة الرحم من جهة الظاهر
والحمل دليل على شغل الرحم من جهة القطع، والظاهر إذا عارضه قطع سقطت
دلالته كالقياس إذا عارضه نص.
وإن اعتدت بالأقراء ثم ظهر حمل من الزوج لزمها الاعتداد بالحمل ويخالف
إذا اعتدت بالشهور ثم حاضت، لان ما رأت من الحيض لم يكن موجودا في
حال العدة وإنما حدث بعدها والحمل من الزوج كان موجودا في حال العدة بالأقراء
فسقط معه حكم الأقراء
(الشرح) قال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدة النساء في سورة البقرة
في المطلقة والمتوفى عنها زوجها، قال أبي بن كعب يا رسول الله إنا ناسا يقولون
قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن الصغار وذوات الحمل، فنزلت " واللائي يئسن
من المحيض " الآية. هكذا أخرجه ابن حرير وإسحاق بن راهويه والحاكم وغيرهم
وقال السيوطي في اللباب: صحيح الاسناد. وأخرج مقاتل بن سليمان في تفسيره
أن خلاد بن عمرو بن الجموح سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن عدة التي لا تحيض
فنزلت، وساق القرطبي روايات أخرى، منها أن معاذ بن جبل سأل عن عدة
الكبيرة التي يئست فنزلت الآية
142

وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدرى دم حيض هو أو دم علة
وقوله " ان ارتبتم " أي شككتم، وقيل تيقنتم، وهو من الأضداد يكون
شكا ويقينا كالظن، واختيار الطبري أن يكون المعنى إن شككتم فلم تدروا
ما الحكم فيهن.
وقال الزجاج إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض
مثلها. قال القشيري وفي هذا نظر، لأنا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل
عدتها ثلاثة أشهر، والمعتبر في سن اليأس في قول: أقصى عادة امرأة في العالم،
وفي قول غالب نساء عشيرة المرأة
على أن المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ من الريبة، وبارتفاع الريبة
تنقضي عدتها. وقد أجمع أهل العلم على أنها إن كانت من الآيسات أو ممن لم يحضن
فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى " واللائي يئسن من المحيض من نسائكم ان ارتبتم
فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن " فإن كان الطلاق في أول الهلال اعتبر ثلاثة
أشهر بالأهلة لقوله تعالى " يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج "
وقال سبحانه " إن عدة الشهور عند الله إثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق
السماوات والأرض منها أربعة حرم " ولم يختلف الناس في أن الأشهر الحرم
معتبرة بالأهلة.
وان وقع الطلاق في أثناء الشهر اعتدت بقيته ثم اعتدت شهرين بالأهلة ثم
اعتدت من الشهر الثالث تمام ثلاثين يوما. وهذا مذهب مالك وأحمد
وقال أبو حنيفة: تحتسب بقية الأول وتعتد من الرابع بقدر ما فاتها من
الأول تاما كان أو ناقصا، لأنه لو كان من أول الهلال كانت العدة بالأهلة، فإذا
كان من بعض الشهر وجب قضاء ما فات منه.
وخرج أصحاب أحمد وجها ثانيا أن جمع الشهور محسوبة بالعدد. وهو قول
ابن بنت الشافعي، لأنه إذا حسب الأول بالعدد كان ابتداء من بعض الشهر
فيجب أن يحسب بالعدد وكذلك الثالث، وهذا خطأ لان الشهر يقع على ما بين
الهلالين وعلى الثلاثين ولذلك إذا غم الشهر كمل ثلاثين والأصل الهلال، فإذا
أمكن اعتبار الهلال اعتبروا. وإذا تعذر رجعوا إلى العدد. وفي هذا انفصال
143

عما ذكر لأبي حنيفة. وأما التخريج الذي ذكرناه فإنه لا يلزم إتمام الشهر الأول
من الثاني ويجوز أن يكون تمامه من الرابع، ولهذا لم يسقط اعتبار الشهر
الأول فيما سواه.
(فرع) إذا بلغت سنا تحيض فيه النساء في الغالب فلم تحض كخمس عشرة
سنة فعدتها ثلاثة أشهر، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين
عنه، وضعف أبو بكر من أصحابه الرواية المخالفة لهذا، وقال رواها أبو طالب
فخالف فيها أصحابه، وذلك ما روى أبو طالب عن أحمد أنها تعتد سنة، ووجه
القول الأول قوله تعالى " واللائي لم يحضن " وهذه من اللائي لم يحضن، ولأن الاعتبار
بحال المعتدة لا بحال غيرها ولهذا لو حاضت قبل بلوغ سن يحيض لمثله
النساء في الغالب، مثل أن تحيض ولها عشر سنين اعتدت بالحيض، وفارق من
ارتفع حيضها ولا تدري ما رفعه، فإنها من ذوات القروء وهذا لم تكن منهن.
وأقل سن تحيض فيه المرأة تسع سنين، لان المرجع فيه إلى الوجود وقد وجد
من تحيض لتسع.
وقد روى الشافعي رضي الله عنه أنه قال: رأيت جدة لها إحدى وعشرون
سنة، واختلف في السن التي تصير بها المرأة من الآيسات، فعن الشافعي قولان
(أحدهما) يعتبر السن الذي يتيقن أنه إذا بلتغه لم تحض. قال بعض أصحابنا هو
اثنان وستون سنة.
(والثاني) يعتبر السن الذي ييأس فيه نساء عشيرتها، لأن الظاهر أن نشأها
كنشئهن وطبعها كطبعهن.
واختلف عن أحمد في السن الذي تصير به المرأة من الآيسات، فعنه أوله
خمسون سنة، لان عائشة قالت: لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد خمسين سنة،
وعنه إن كانت من نساء العجم فخمسون، وإن كانت من نساء العرب فستون "
لأنهن أقوى طبيعة، وقد ذكر الزبير بن بكار في كتاب النسب أن هندا بنت أبي
عبيدة بن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن
علي بن أبي طالب ولها ستون سنة، وقال يقال إنه لن تلد بعد خمسين سنة إلا
عربية ولا تلد لستين إلا قرشية
144

قال ابن قدامة: والصحيح أنه متى بلغت المرأة خمسين سنة فانقطع حيضها عن
عادتها مرات لغير سبب فقد صارت آيسة، لان وجود الحيض في حق هذه
نادر. بدليل قول عائشة وقلة وجوده، فإذا انضم إلى هذه انقطاعه عن العادات
مرات حصل اليأس من وجوده، فلها حينئذ أن تعتد بالأشهر، وان انقطع قبل
ذلك فحكمها حكم من ارتفع حيضها لا تدري ما رفعه، وإن رأت الدم بعد
الخمسين على العادة التي كانت تراه فهو حيض في الصحيح: لان دليل الحيض
الوجود في زمن الامكان. وهذا يمكن وجود الحيض فيه وإن كان نادرا، وان
رأته بعد الستين فقد تيقن أنه ليس بحيض ذلك لا تعتد به وتعتد بالأشهر
كالتي لا ترى دما.
(مسألة) إذا طلقها وهي من اللائي لم يحضن بأن كانت صغيرة أو كانت بالغا
لم تحض إذا اعتدت بالشهور فحاضت قبل انقضاء عدتها ولو بساعة لزمها استئناف
العدة في قول عامة الفقهاء. منهم سعيد بن المسيب والحسن بن مجاهد وقتادة.
والشعبي والنخعي والزهري والثوري ومالك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأصحاب
الرأي وأهل المدينة وأهل البصرة. وذلك لان الشهور بدل عن الحيض. فإذا
وجد المبدل بطل الحكم البدل كالتيمم مع الماء. ويلزمها ان تعتد بثلاثة قروء.
وهل تعتد بما مضى من الطهر قبل الحيض قرءا؟ فيه وجهان (أحدهما) تعتد به
لأنه طهر انتقلت منه إلى حيض فأشبه الطهر بين الحيضتين. وهو قول أبى العباس
لان القرء هو الطهر بين حيضتين. وهذا لم يتقدمه حيض فلم يكن قرءا
(والثاني) لا تعتد به كما إذا اعتدت بقرأين ثم أيست استأنفت ثلاثة أشهر
وهو قول أبي إسحاق.
فأما إذا انقضت عدتها بالشهور ثم حاضت بعدها ولو بلحظة لم يلزمها
استئناف العدة، لأنه معنى حدث بعد انقضاء العدة كالتي حاضت بعد انقضاء
العدة بزمن طويل.
ولو حاضت حيضة أو حيضتين ثم صارت من الآيسات استأنفت العدة بثلاثة
أشهر. لأن العدة لا تلفق من جنسين. وقد تعذر اتمامها بالحيض فوجب تكميلها
145

بالأشهر. وان ظهر بها حمل من الزوج سقط حكم ما مضى وتبين أن ما رأته
من الدم لم يكن حيضا، لان الحامل لا تحيض ولو حاضت بثلاثة حيض ثم ظهر
بها حمل يمكن أن يكون حادثا بعد قضاء العدة بأن تأتى به لستة أشهر منذ فرغت
من عدتها لم تحلق بالزوج وحكمنا بصحة الاعتداد، وكان هذا الولد حادثا، وان
أتت به لدون ذلك تبينا أن الدم ليس بحيض، لأنه لا يجوز وجوده في مدة الحمل
ولهذا الصورة أحكام في العبادات مضت في الحيض. فإذا رأت المعتدة أمارات
الحمل من حركة أو نفحة أو نحوهما وشكت هل هو حمل أم لا؟ فإذا حدثت
الريبة قبل انقضاء عدتها فإنما تبقى في حكم الاعتداد حتى تزول الريبة، فإن بان
حملا انقضت عدتها بوضعه، فإن زالت وبان أنه ليس يحمل تبينا أن عدتها
انقضت بالقروء أو الشهور، فإن زوجت قبل زوال الريبة فالنكاح باطل لأنها
تزوجت وهي في حكم المعتدات في الظاهر
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كانت المطلقة أمة نظرت فإن كانت حاملا اعتدت بالحمل لما
ذكرناه في الحرة، وإن كانت من ذوات الأقراء اعتدت بقرأين لما روى جابر
عن عمر رضي الله عنه أنه جعل الأمة حيضتين، ولان القياس اقتضى أن
تكون قرءا ونصفا كما كان حدها على النصف، إلا أن القرء لا يتبعض فكمل
فصارت قرأين، ولهذا روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لو استطعت أن
أجعل عدة الأمة حيضة ونصفا لفعلت، وإن كانت من ذوات الشهور ففيه ثلاثة
أقوال (أحدها) أنها تعتد بشهرين لان الشهور بدل من الأقراء فكانت بعددها
كالشهور في عدة الحرة (والثاني) أنها تعتد بثلاثة أشهر لان براءة الحرم لا تحصل
إلا بثلاثة أشهر لان الحمل يمكث أربعين يوما نطفة، ثم أربعين يوما علقة، ثم
أربعين يوما مضغة ثم يتحرك ويعلو جوف المرأة فيظهر الحمل (والثالث) أنها
تعتد بشهر ونصف لان القياس يقتضى أن تكون على النصف من الحرة كما قلنا في
الحمد، ولان القرء لا يتبعض فكمل والشهور تتبعض فتبعضت كما نقول في المحرم
إذا وجب عليه نصف مد في جزءا الصيد وأراد أن يكفر بالصوم صام يوما لأنه
لا يتبعض، وان أراد أن يكفر بالاطعام أخرج نصف مد
146

(فصل) وان أعتقت الأمة قبل الطلاق اعتدت بثلاثة أقراء لأنه وجبت
عليها العدة وهي حرة، وإن انقضت عدتها بقرأين ثم أعتقت لم يلزمها زيادة لأنها
اعتدت على حسب حالها فلم يلزمها زيادة، كما لو اعتدت من لم تحض بالشهور ثم
حاضت أو اعتدت ذات الأقراء ثم صارت آيسة، فإن أعتقت في أثناء
العدة ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) تتمم عدة أمة لأنه عدد محصور يختلف بالرق
والحرية فاعتبر فيه حال الوجوب كالحد (والثاني) أنها إن كانت رجعية أتمت عدة
حرة، وإن كانت بائنا أتمت عدة أمة، كما نقول فيمن مات عنها زوجها انها إن كانت
رجعية انتقلت إلى عدة الوفاة، وإن كانت بائنا لم تنتقل (والثالث) وهو
الصحيح أنه يلزمها أن تتمم عدة حرة، لأن الاعتبار في العدة بالانتهاء، ولهذا
لو شرعت في الاعتداد بالشهور ثم حاضت انتقلت إلى الأقراء
(الشرح) الاخبار في عدة الأمة عند ابن ماجة من حديث عائشة قالت
" أمرت بريرة أن تعتد بثلاث حيض " وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم خير
بريرة فاختارت نفسها وأمرها أن تعتد عدة الحرة. رواه أحمد والدارقطني.
وروى الترمذي وأبو داود عن عائشة مرفوعا " طلاق الأمة تطليقتان وعدتها
حيضتان " وفي لفظ رواه الدارقطني " طلاق العبد اثنتان وقرء الأمة حيضتان "
ومثل ذلك روى عن ابن عمر عند ابن ماجة والدارقطني بإسنادين ضعيفين.
أما الأحكام في الفصلين فعلى وجهها
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان وطئت امرأة بشبهة وجبت عليها العدة لان وطئ الشبهة
كالوطئ في النكاح في النسب فكان كالوطئ في النكاح في إيجاب العدة، فإن زنى
بامرأة لم تجب عليها العدة لأن العدة لحفظ النسب والزاني لا يلحقه نسب
(فصل) ومن مات عنها زوجها وجبت عليها العدة دخل بها أو لم يدخل،
لقوله عز وجل " والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجا يتربصن بأنفسهن أربعة
أشهر، عشرا " فإن كانت حائلا وهي حرة اعتدت بأربعة أشهر عشر للآية،
147

وإن كانت أمة اعتدت بشهرين وخمس ليال، لأنا دللنا على أن عدتها بالأقراء
على النصف، إلا أنه لما لم يتبعض جعلناه قرأين، والشهور تتبعض فوجب عليها
نصف ما يجب على الحرة.
وإن كانت حاملا بولد يلحق بالزوج اعتدت بوضعه لما روت أم سلمة رضي الله عنه
ا قالت " ولدت سبيعة الأسلمية بعد وفاة زوجها بليال: فذكرت ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قد حللت فانكحي "
وإن كانت حاملا بولد لا يحلق الزوج كامرأة الطفل لم تعتد بالحمل منه لأنه
لا يمكن أن يكون منه فلم تعتد به منه كامرأة الكبير إذا طلقها وأتت بولد لدون
ستة أشهر من حين العقد، فإن كان الحمل لاحقا برجل وطئها بشبهة اعتدت به
منه. وإذا وضعت اعتدت عن الطفل بالشهور، لأنه لا يجوز أن تعتد عن
شخصين في وقت واحد.
وإن كان عن زنا احتسبت بما مضى من الشهور في حال الحمل عن عدة وفاة
الطفل، لان الحمل عن الزنا لا حكم له فلا يمنع من الاعتداد بالشهور: وإن طلق
امرأته طلاقا رجعيا ثم مات عنها وهي في العدة اعتدت بعدة الوفاة لأنه توفى عنها
وهي زوجته.
(الشرح) حديث أم سلمة أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن إلا أبا داود
وابن ماجة بلفظ " إن امرأة من أسلم يقال لها سبيعة كانت تحت زوجها فتوفى
عنها وهي حبلى فخطبها أبو السنابل بن بعكك فأبت أن تنكحه، فقال والله ما يصلح
أن تنكحي حتى تعتدي آخر الأجلين، فمكثت قريبا من عشر ليال ثم نفست ثم
جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال إنكحي "
وأخرجوه بمعناه من رواية سبيعة قالت " فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت
حملي وأمرني بالتزويج ان بدا لي "
وعن الزبير بن العوام " أن أم كلثوم بنت عقبة كانت عنده فقالت له وهي
حامل: طيب نفسي بتطليقة، فطلقها تطليقة، ثم خرج إلى الطلاة، فرجع وقد
وضعت، فقال مالها خدعتني خدعها الله، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
148

" سبق الكتاب اجله، اخطبها إلى نفسها، قال القاضي عياض: والحديث
- يعني حديث سبيعة - مبتور، نقص منه قولها " فنفست بعد ليال فخطبت "
قال الحافظ بن حجر في الفتح: وقد ثبت المحذوف في رواية ابن ملحان عن يحيى
ابن بكير شيخ البخاري ولفظه " فمكثت قريبا من عشرين ليلة ثم نفست " وقد
وقع للبخاري اختصار المتن من طريق أخصر من هذه الطريق. ووقع له في
تفسير سورة الطلاق مطولا بلفظ " أن سبيعة بنت الحارث أخبرته أنها كانت
تحت سعد بن خولة فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حامل فلم تنشب أن وضعت
حملها، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب، فدخل عليه أبو السنابل بن بعكك
رجل من بنى عبد الدار، فقال مالي أراك تجملت للخطاب، فإنك والله وما أنت
بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة فلما قال لي ذلك جمعت
علي ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك
فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج "
وقد ذهب جمهور الفقهاء من السلف والخلف إلى أن الحامل إذا مات عنها
زوجها تنقضي عدتها بوضع الحمل، وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد عن علي
بسند صحيح أنها تعتد بآخر الأجلين، ومعناه أنها إن وضعت قبل مضى
أربعة أشهر وعشر تربصت إلى انقضائها، وان انقضت المدة قبل الوضع تربصت
إلى الوضع، وبه قال ابن عباس. وروى عنه أنه رجع. وروى عن ابن أبي ليلى
أنه أنكر على ابن سيرين القول بانقضاء عدتها بالوضع، وأنكر أن يكون ابن
مسعود قال بذلك، قال الشوكاني: وقد ثبت عن ابن مسعود من عدة طرق أنه
كان يوافق الجمهور حتى كان يقول: من شاء لا عنته على ذلك.
أما الأحكام: فإن الموطوءة بشبهة تعتد عدة المطلقة، وكذلك الموطوءة
في نكاح فاسد، لان كلا من وطئ الشبهة والنكاح الفاسد في لحوق النسب وشغل
الرحم كالوطئ الصحيح، فكانا مثله فيما تحصيل البراءة به، وإن وطئت المزوجة
بشبهة لم يحل لزوجها وطؤها قبل انقضاء عدتها كيلا يفضى إلى اختلاط المياه
واشتباه الأنساب وله الاستمتاع منها بما دون الفرج في أحد الوجهين لأنها زوجة
149

حرم وطؤها لعارض مختص بالفرج فأبيح الاستمتاع منها بما دونه الحائض.
(مسألة) المزني بها لا عدة لها، وهذا قول أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب
رضي الله عنهما وبه قال الثوري وأصحاب الرأي، لأن العدة لحفظ النسب
ولا يلحقه نسب، وقد روى عن علي نحوه. وقال أحمد تستبرأ كالمزوجة بشبهة
لأنه وطئ يقتضى شغل الرحم فوجبت العدة منه كوطئ الشبهة. وأما وجوبها
كعدة المطلقة فلأنها حرة فوجب استبراؤها بعدة كاملة كالموطوءة بشبهة وبهذا
قال الحسن والنخعي، وهو قول مالك. وروى ابن أبي موس عن أحمد رواية
أخرى أنها تستبرأ بحيضة واحدة.
(مسألة) أجمع أهل العلم على أن عدة الحرة المسلمة الحائل من وفاة زوجها
أربعة أشهر وعشر مدخولا بها أو غير مدخول بها، سواء كانت كبيرة بالغة
أو صغيرة لم تبلغ. وذلك لقوله تعالى " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا
يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا " وما رواه الشيخان مرفوعا " لا يحل
لا مرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة
أشهر وعشرا " ولا تحمل الآية على المدخول بها كما في قوله تعالى " والمطلقات
يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء " لان هذا مخصصة بقوله تعالى " يا أيها الذين
آمنوا إذا نكحتم المؤمنات من أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها "
ولم يرد تخصيص عدة الوفاة، ولا أمكن قياسها على المطلقة في التخصيص، لان
النكاح عقد عمر، فإذا انتهى والشئ إذا انتهى تقررت أحكامه.
وكذلك فإن المطلقة إذا أتت بولد يمكن للزوج تكذيبها ونفيه باللعان الامر
الذي يمتنع في حق المتوفى. فلا يؤمن أن تأتى بولد فيلحق الميت نسبه وما له من
ينفيه، فاحتطنا بإيجاب العدة عليها لحفظها عن التصرف والمبيت في غير منزلها
حفظا لها. فإذا تقرر هذا فإنه لا يعتبر وجود الحيض في عدة الوفاة في قول عامة
أهل العلم. وحكى عن مالك أنها إذا كانت مدخولا بها وجب أربعة أشهر وعشر
فيها. واتباع الكتاب والسنة أولى. ولأنه لو اعتبر الحيض في حقها لاعتبر
ثلاثة قروء كالمطلقة. وهذا الخلاف يختص بذات القرء. فأما الآيسة والصغيرة
150

فلا خلاف فيها. وأما الأمة المتوفى عنها زوجها فعدتها شهران وخمسة أيام في
قول عامة أهل العلم منهم سعيد بن المسيب وعطاء وسليمان بن يسار والزهري
وقتادة ومالك والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم إلا
ابن سيرين. فإنه قال: ما أرى عدة الأمة الا كعدة الحرة. الا أن تكون قد
مضت في ذلك سنه. فإن السنة أحق أن تتبع وأخذ بظاهر النص وعمومه.
ولكن هذا لا ينهض أمام اتفاق الصحابة على أن عدة الأمة المطلقة على النصف
من عدة الحرة فكذلك عدة الوفاة.
(فرع) إذا مات الصغير الذي لا يولد لمثله ولد عن زوجته، فأتت بولد لم
يلحقه نسبه ولم تنقض العدة بوضعه. وبهذا قال مالك والصحيح من مذهب أحمد
وقال أبو حنيفة: أن مات وبها حمل ظاهر اعتدت عنه بالوضع. فان ظهر الحمل
بها بعد موته لم تعتد به. وقد روى عن أحمد في الصبي مثل قول أبي حنيفة.
وهكذا خلاف فيما إذا تزوج بامرأة ودخل بها. وان أتت بولد لدون ستة أشهر
من حين عقد النكاح، فإنها لا تعتد بوضعه عندنا وعند أحمد، وتعتد به عند
أبي حنيفة، واحتج بقوله تعالى " وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن "
ولا يخفى أن الآية واردة في المطلقات ثم هي مخصوصة بالقياس الذي ذكرناه
فإذا تقرر هذا فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل من الوطئ الذي علقت به منه،
سواء كان هذا الولد ملحقا بغير الصغير، مثل أن يكون من عقد فاسد أو وطئ
شبهة، لأن العدة تجب في هذه الأحوال، فإذا وضعته اعتدت من الصبي بأربعة
أشهر وعشر، لان العدتين من رجلين لا يتداخلان
ولو طلقها أو مات عنها فلم تنقض عدتها حتى تزوجت من أصابها فرق بينهما
وبنت على ما مضى من عدة الأول، ثم استقبلت العدة من الثاني، والاجماع
منعقد على هذا. ولأن العدة إنما اعتبرت لمعرفة براءة الرحم لئلا يفضى إلى
اختلاط المياه وامتزاج الأنساب، وإن تزوجت فالنكاح باطل لأنها ممنوعة من
النكاح لحق الزوج الأول، فكان نكاحا باطلا، كما لو تزوجت وهي في نكاحه
ويجب أن يفرق بينه وبينها - فإن لم يدخل بها فالعدة بحالها ولا تقطع بالعقد
151

الثاني، لأنه باطل لا تصير به المرأة فراشا ولا يستحق عليه بالعقد شئ وتسقط
سكناها ونفقتها عن الزوج الأول لأنها ناشز، وإن وطئها انقطعت العدة، سواء
علم التحريم أو جهله
وقال أبو حنيفة لا تنقطع لان كونها فراشا لغير من له العدة لا يمنعها، كما لو
وطئت بشبهة وهي زوجة فإنها تعتد وإن كانت فراشا للزوج.
إذا ثبت هذا فعليه فراقها، فإن لم يفعل فعليه التفريق بينهما، فإن فارقها أو
فرق بينهما وجب عليها أن تكمل عدة الأول لان حقه أسبق وعدته وجبت عن
وطئ في نكاح صحيح، فإذا أكملت عدة الأول وجب عليها أن تعتد من الثاني
ولا تتداخل العدتان لأنهما من رجلين، وهذا مذهب أحمد.
وقال أبو حنيفة: يتداخلان فتأتي بثلاثة قروء بعد مفارقة الثاني تكون عن
بقية عدة الأول وعدة الثاني لان القصد معرفة براءة الرحم وهذا تحصل به براءة
الرحم منهما جميعا. وهذا خطأ لما روى مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب
وسليمان بن يسار " أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها ونكحها غيره في
عدتها، فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها ضربات بمخفقة وفرق بينهما ثم
قال: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق
بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، وكان خاطبا من الخطاب، وإن كان
دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر
ولا ينكحها أبدا.
وروى عن علي عليه السلام أنه قضى في التي تزوج في عدتها أنه يفرق بينهما
ولها الصداق بما استحل من فرجها، وتكمل ما أفسدت من عده الأول وتعتد من
الآخر. هذا ما قاله خليفتان من الراشدين لا نعلم لهما مخالفا من الصحابة
(فرع) إذا مات زوج الرجعية استأنفت عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا بلا
خلاف. قال ابن المنذر أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على ذلك، وذلك
لان الرجعية زوجة يلحقها وينالها وينالها ميراثه فاعتدت للوفاة كغير المطلقة،
وإن مات مطلق البائن في عدتها بنت على عدة الطلاق لأنه مات وليست زوجة
له لأنها بائن من النكاح فتكون غير منكوحة. وبهذا قال مالك وأبو عبيد
152

وأبو ثور وابن المنذر وقال أحمد تلزمها عدة الطلاق، إلا أن يطلقها في مرض
موته فإنها تعتد أطول الأجلين من عدة الوفاة أو ثلاثة قروء، وبه قال الثوري
وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن، لأنها وارثة له فيجب عليها عدة الوفاة كالرجعية
وتلزمها عدة الطلاق لما ذكروه في دليلهم، وإن مات المريض المطلق بعد
انقضاء عدتها بالحيض أو بالشهور أو بوضع الحمل أو كان طلاقه قبل الدخول
فليس عليها عدة لموته
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن طلق إحدى امرأتيه بعينها ثلاثا ومات قبل أن يبين نظرت
فإن لم يدخل بهما اعتدت كل واحدة منهما أربعة أشهر وعشرا، لان كل واحدة
منهما يجوز أن تكون هي الزوجة فوجبت العدة عليهما ليسقط الفرض بيقين،
كمن نسي صلاة من صلاتين لا يعرف عينها
وإن دخل بهما - فإن كانتا حاملتين - اعتدتا بوضع الحمل، لان عدة
الطلاق والوفاة في الحمل واحدة، وإن كانتا من ذوات الشهور اعتدتا بأربعة أشهر
وعشر، لأنها تجمع عدة الطلاق والوفاة، وإن كانتا من ذوات الأقراء اعتدتا
بأقصى الأجلين من أربعة أشهر وعشرا أو ثلاثة أقراء، وابتداء الأشهر من موت
الزوج، وابتداء الأقراء من وقت الطلاق ليسقط الفرض بيقين.
وان اختلفت صفتهما في العدة كان حكم كل واحدة منهما على الانفراد كحكمها
إذا اتفقت صفتهما، وقد بيناه.
وإن طلق أحداهما لا بعينها ومات قبل أن يعين فالحكم فيه على ما ذكرناه
إذا كانت المطلقة معينه ومات قبل أن يبين الا في شئ واحد. وهو أنا متى
أمرناها بالاعتداد بالشهور أو الأقراء، فإن ابتداء الأشهر من حين الموت،
فأما الأقراء، فان قلنا على أحد الوجهين إن ابتداء العدة من حين يلفظ بالطلاق
كان ابتداء الأقراء من حين الطلاق، وان قلنا بالوجه الآخر ان ابتداء العدة
من حين التعيين كان ابتداء الأقراء من حين الموت، لان بالموت وقع الأياس
من بيانه وقبل الموت لم ييأس من بيانه
153

(الشرح) إذا طلق واحدة من نسائه بعينها وأنسيها فإنه يحرم عليه الجميع،
فإن مات فعلى الجميع الاعتداد بأقصى الأجلين إذا كن من ذوات الأقراء من عدة
الطلاق والوفاة، لان النكاح كان ثابتا بيقين وكل واحدة منهن يحتمل أن تكون
هي المطلقة وأن تكون زوجة فوجب أقصى الأجلين إن كان الطلاق بائنا ليسقط
الفرض بيقين، كمن نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها لزمه أن يصلى خمس صلوات
لكن ابتداء القروء من حين طلق. وابتداء عدة الوفاة من حين الموت، وهذا
هو مذهب أحمد بن حنبل.
وإن طلق الجميع ثلاثا بعد ذلك فعليهن كلهن تكميل عدة الطلاق من حين
طلقهن ثلاثا، وإن طلق الجميع ثم أنسيهن فهو كما لو طلق واحدة، وإذا طلق
واحدة لا بعينها من نسائه فعلى ما قلنا في التي قبلها
وقال أصحاب أحمد: أخرجت بالقرعة وعينها العدة دون غيرها، وتحسب
عدتها من حين طلق لا من حين القرعة
قال الشافعي رضي الله عنه: وإذا علمت المرأة يقين وفاة الزوج أو طلاقه
ببينة تقوم لها على موته أو طلاقة أو أي علم صادق ثبت عندها اعتدت من يوم
يكون الطلاق وتكون الوفاة، وإن لم تعتد حتى تمضي عدة الطلاق والوفاة لم يكن
عليها عدة، لأن العدة إنما هي مدة تمر عليها، فإذا مرت عليها فليس عليها مقام
مثلها. قال وإذا خفى ذلك عليها وقد استيقنت بالطلاق أو الوفاة اعتدت من يوم
استيقنت أنها اعتدت منه. وقد روى عن غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: تعتد من يوم يكون الطلاق أو الوفاة. اه
(فرع) والعشر المعتبرة في العدة هي عشر ليال بأيامها، فتجب عشرة أيام
مع الليالي، وبهذا قال مالك وأحمد وأبو عبيد وابن المنذر وأصحاب الرأي. وقال
الأوزاعي: يجب عشر ليالي وتسعة أيام، لان العشر تستعمل في الليالي دون
الأيام، وإنما دخلت الأيام اللاتي في أثناء الليل تبعا
قلنا: العرب تغلب اسم التأنيث في العدد خاصه على المذكر فتطلق لفظ الليالي
وتريد الليالي بأيامها، كما قال تعالى لزكريا " آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال
154

سويا " يريد أيامها بدليل أنه قال في موضع آخر " آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام
إلا رمزا " يريد بلياليها. ولو نذر اعتكاف العشر الأخير من رمضان لزم الليالي
والأيام، ويقول القائل (سرنا عشرا) يريد الليالي بأيامها، فلم يجز نقلها عن
العدة إلى الإباحة بالشك. وما في الفصل من اختلاف صفاتهن أو اتفاقها
فعلى وجهه.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) إذا فقدت المرأة زوجها وانقطع عنها خبره ففيه قولان
(أحدهما) وهو قوله في القديم إن لها أن تنفسخ النكاح ثم تتزوج، لما روى
عمرو بين دينار عن يحيى بن جعدة " أن رجلا استهوته الجن فغاب عن امرأته،
فأتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمرها أن تمكث أربع سنين، ثم أمرها أن
تعتد ثم تتزوج " ولأنه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطئ بالتعنين وتعذر النفقة
بالاعسار، فلان يجوز ههنا - وقد تعذر الجميع - أولى
(والثاني) وهو قوله في الجديد وهو الصحيح أنه ليس لها الفسخ، لأنه إذا
لم يجز الحكم بموته في قسمة ماله لم يجز الحكم بموته في نكاح زوجته، وقول عمر
رضي الله عنه يعارضه قول علي عليه السلام " تصبر حتى يعلم موته " ويخالف
فرقة التعنين والاعسار بالنفقة، لان هناك ثبت سبب الفرقة بالتعنين، وههنا لم
يثبت سبب الفرقة وهو الموت
فإن قلنا بقوله القديم قعدت أربع سنين ثم تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج، لما
رويناه عن عمر رضي الله عنه، ولان بمضي أربع سنين يتحقق براءة رحمها ثم
تعتد: لأن الظاهر أنه مات فوجب عليها عدة الوفاة
قال أبو إسحاق يعتبر ابتداء المدة حين أمرها الحاكم بالتربص. ومن
أصحابنا من قال يعتبر من حين انقطع خبره، والأول أظهر، لأن هذه المدة
ثبتت بالاجتهاد فافتقرت إلى حكم الحاكم كمدة التعنين، وهل يفتقر بعد انقضاء
العدة إلى الحكم بالفرقة؟ فيه وجهان (أحدهما) أنه لا يفتقر، لان الحكم بتقدير
المدة حكم بالموت بعد انقضائها
155

(والثاني) أنه يفتقر إلى الحكم لأنه فرقة مجتهد فيها فافتقرت إلى الحاكم كفرقة
التعنين، وهل تقع الفرقة ظاهرا وباطنا؟ فيه وجهان (أحدهما) تقع ظاهرا
وباطنا، فإن قدم الزوج وقد تزوجت لم يجز أن ينتزعها من الزوج، لأنه فسخ
مختلف فيه، فنفذ فيه الحكم ظاهرا وباطنا كفرقة التعنين (والثاني ينفذ في
الظاهر دون الباطن، لان عمر رضي الله عنه جعل للمفقود لما رجع أن يأخذ
زوجته. وإن قلنا بالقول الجديد إنها باقية على نكاح الزوج. فإن تزوجت بعد
مدة التربص وانقضاء العدة فالنكاح باطل، فإن قضى لها حاكم بالفرقة فهل يجوز
نقضه على قوله الجديد؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يجوز لأنه حكم فيما يسوغ فيه
الاجتهاد (والثاني) أنه يجوز لأنه حكم مخالف لقياس جلى، وهو أنه لا يجوز
أن يكون حيا في ماله ميتا في نكاح زوجته
(فصل) وإن رجع المفقود، فإن قلنا بقوله الجديد سلمت الزوجة إليه،
وإن قلنا بقوله القديم وقلنا إن حكم الحاكم لا ينفذ في الباطن سلمت إليه، وإن
قلنا إنه ينفذ ظاهرا وباطنا لم تسلم إليه، وان فرق الحاكم بينهما وتزوجت ثم بان
أن المفقود كان قد مات وقت الحكم بالفرقة - فإن قلنا بقوله القديم - صح
النكاح، سواء قلنا إن الحكم ينفذ في الظاهر دون الباطن، أو قلنا إنه ينفذ في
الباطن دون الظاهر، لان الحكم أباح لها النكاح وقد بان أن الباطن كالظاهر.
وإن قلنا بقوله الجديد ففي صحة النكاح الثاني وجهان بناء على القولين فيمن وصى
بمكاتبه ثم تبين أن الكتابة كانت فاسدة
(الشرح) يحيى بن جعدة اختلف في صحبة أبيه جعدة بن هبيرة بن أبي وهب
المخزومي القرشي، فقد تزوج هبيرة بن أبي وهب بأم هانئ بنت أبي طالب
فولدت أم هانئ ثلاثة بنين: جعدة وهانئ ويوسف. وقال الزبير بن بكار:
أربعة بنين أحدهم جعدة، وقد تولى جعدة على خراسان لعلي بن أبي طالب، وهو
ابن أخته وهو القائل:
أبى من مخزوم ان كنت سائلا * ومن هاشم أمي لخير قبيل
فمن الذي يبنأى (1) على بخاله * كخالي على ذي الندى وعقيل

(1) يبأى أي يفخر.
156

اما ولده يحيى فليس من رواته ولكنه ثقة، وقد أرسل عن ابن مسعود ونحوه
وهو الطبقة الثالثة.
أما رواية يحيى هنا فقد أخرجها ابن أبي الدنيا قال " وحدثنا أبو مسلم عبد الرحمن
ابن يوسف حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن يحيى بن جعدة قال:
انتسفت الجن رجلا على عهد عمر رضي الله عنه فلم يدروا أحيا هو أم ميتا؟
فأتت امرأته عمر رضي الله عنه فأمرها أن تتربص أربع سنين ثم أمر وليه أن
يطلق ثم أمرها أن تعتد وتتزوج فإن جاء زوجها خير بينها وبين الصداق " ويحيى
لم يعاصر عمر بن الخطاب ولم يره فيكون في الخبر انقطاع
وقد أخرج ابن أبي الدنيا هذا الخبر بإسناد آخر: حدثني إسماعيل بن إسحاق
حدثنا خالد بن الحارث حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أبي نضرة عن
عبد الرحمن بن أبي ليلى أن رجلا من قومة خرج ليصلى مع قومه صلاة العشاء
ففقد، فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب فحدثته بذلك، فسأل عن ذلك قومها
فصدقوها، فأمرها أن تتربص أربع سنين فتربصت ثم أتت عمر فأخبرته بذلك
فسأل عن ذلك قومها فصدقوها، فأمرها أن تتزوج، ثم أن زوجها الأول قدم
فارتفعوا إلى عمر فقال عمر: يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حياته، قال
كان لي عذر؟ قال وما عذرك؟ قال خرجت أصلى مع قومي صلاة العشاء فسبتني
أو قال أصابتني الجن فكنت فيهم زمنا طويلا، فعزاهم جن مؤمنون فقاتلوهم
فظهروا عليهم فأصابوا لهم سبايا فكنت فيمن أصابوا، فقالوا ما دينك؟ قلت
مسلم. قالوا أنت على ديننا لا يحل لنا سبيك، فخيروني بين المقام وبين القفول
فاخترت القفول، فأقبلوا معي بالليل بشرا يحدوني، وبالنهار اعصار وريح
أتبعها، قال فما كان طعامك؟ قال كل ما لم يذكر اسم الله عليه. قال فما كان
شرابك؟ قال الجدف
قال قتادة: الجدف ما لم يخمر من الشراب
قال فخيره عمر رضي الله عنه بين المرأة وبين الصداق. وفي إسناده أبو نضرة
وليس كل أحد يحتج به.
157

وأورد العقيلي في الضعفاء، وذكره صاحب الكامل ولم يذكر شيئا أكثر
من أنه كان عريفا لقومه، قال الذهبي: ولكن احتج به البخاري. وأخرجه
الأثرم والجوزجاني بإسنادهما عن عبيد بن عمير وعبد الرزاق بسنده في الفقيد
ومالك والشافعي مختصرا.
أما الأحكام: فإذا غاب الرجل عن امرأته غيبة غير منقطعة، يعرف فيها
خبره ومكانه ويأتي كتابه، فهذا ليس لامرأته أن تتزوج في قول أهل العلم
أجمعين، إلا أن يعتذر الانفاق عليها من ماله، فلها أن تطلب فسخ النكاح
فيفسخ نكاحه.
وأجمعوا على أن زوجة الأسير لا تنكح حت تعلم يقين وفاته، وهذا قول
النخعي والزهري ويحيى الأنصاري ومكحول وأحمد بن حنبل وأبى عبيد
وأبي ثور وإسحاق وأصحاب الرأي، وان أبق العبد فزوجته على الزوجية
حتى تعلم موته أو ردته، وبه قال الأوزاعي والثوري وإسحاق.
وقال الحسن: إباقه طلاقه. أما إذا غاب غيبة منقطعة بأن يفقد وينقطع
خبره ولا يعلم مكانه فهذا ينقسم قسمين.
(أحدهما) أن يكون ظاهر غيبته السلامة كسفر التجارة في غير مهلكة
وطلب العلم والسياحة والأسر في حبس السلطان فلا تزوج الزوجية أيضا ما لم
يثبت موته، هذا هو قوله في الجديد، وهو مروى عن علي وابن شبرمة وابن أبي
ليلى الثوري وأبي حنيفة وأبى قلابة والنخعي وأبى عبيد.
وقال في القديم تتربص أربع سنين وتعتد للوفاة أربعة أشهر وعشرا وتحل
للأزواج لأنه إذا جاز الفسخ لتعذر الوطئ بالعنة، وتعذر النفقة بالاعسار
فلان يجوز ههنا لتعذر الجميع أولى، واحتجوا بحديث عمر في المفقود مع موافقة
الصحابة له وتركهم إنكاره ولم يقل بهذا من الفقهاء إلا مالك. ونقل أحمد من
أصرم عن أحمد بن حنبل إذا مضى عليه تسعون سنة قسم ماله، وهذا يقتضى أن
زوجته تعتد عدة الوفاة ثم تتزوج.
قال ابن قدامة، قال أصحابنا أنما اعتبر تسعين سنة من يوم ولادته، لان
158

الظاهر أنه لا يعيش أكثر من هذا العمر، فإذا اقترن به انقطاع خبره وجب
الحكم بموته، كما لو كان فقده بغيبة ظاهرها الهلاك، والمذهب الأول لأن هذه
غيبة ظاهرها السلامة فلم يحكم بموته كما قيل في الأربع سنين أو كما قبل التسعين،
ولان هذا التقدير بغير توقيف، والتقدير لا ينبغي أن يصار إليه الا بالتوقيف
لان تقديرها بتسعين سنة من يوم ولادته يفضى إلى اختلاف العدة في حق المرأة
باختلاف عمر الزوج ولا نظير لهذا، وخبر عمر ظاهر فيمن ظاهر غيبته الهلاك
فلا يقاس على غيره.
(القسم الثاني) أن تكون غيبته ظاهرها الهلاك كالذي يفقد من بين أهله
ليلا أو نهارا، أو يخرج إلى الصلاة فلا يرجع، أو يمضى إلى مكان قريب ليقضى
حاجته فلا يظهر له أثر ولا خبر أو يفقد في حومة القتال بين الصفين أو تتحطم
بهم باخرة فيغرق بعض رفقته أو يفقد في مهلكة كصحراء الفيوم ومنخفض
القطارة من ديار مصر حرسها الله أو في صحراء الجزائر الكبرى من قطر الجزائر
أيده الله، أو الربع الخالي من البلاد الحجازية أعلى الله رايتها.
فقال في القديم: تتربص أربع سنين أكثر مدة الحمل ثم تعتد للوفاة أربعة
أشهر وعشرا وتحل للأزواج.
وقال أحمد: من ترك هذا القول فأي شئ يقول، وهو قول عمر وعثمان
وعلى وابن عباس وابن الزبير.
وقال في الجديد تتربص حتى يتبين موته أو فراقه لما روى المغيرة بن شعبة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " امرأة المفقود امرأته حتى يأتي زوجها ".
وروى الحكم وحماد عن علي: لا تتزوج امرأة المفقود حتى يأتي موته أو
طلاقه، لأنه شك في زوال الزوجية فلم نثبت به الفرقة كما لو كان ظاهر غيبته
السلامة، وفي اعتبار ابتداء المدة من حين الغيبة أو من حين ضرب الحاكم
المدة وجهان.
(أحدهما) يعتبر ابتداؤهما من حين ضربها الحاكم لأنها مدة مختلف فيها
فافتقرت إلى ضرب الحاكم كمدة العنه.
159

(والثاني) من حين انقطع خبره وبعد أثره لان هذا ظاهر في موته، فكان
ابتداء المدة منه كما لو شهد به شاهدان، ولأحمد روايتان كالوجهين.
(فرع) إذا قدم زوجها الأول قبل أن تتزوج فهي امرأته. وقال بعض
أصحابنا إذا ضربت لها المدة فانقضت بطل نكاح الأول، والحق أننا إنما أبحنا لها
التزويج، لأن الظاهر موته، فإذا بان حيا انخرم ذلك الظاهر وكان النكاح بحاله
كما لو شهدت البينة بموته ثم بان حيا.
والقياس الجلي أنه لا ينبغي أن نثبت له الحياة في ملكه ولا نثبتها له في نكاحه
والنكاح أحد الملكين فأشبه ملك المال، وهذا هو أحد الوجهين عندنا. فأما ان
قدم بعد أن تزوجت نظرنا، فإن كان قبل الدخول بالثاني فهي زوجة الأول
ترد إليه.
أما بعد الدخول فإن قلنا: التفريق بينها وبين الزوج الأول بحكم الحاكم
وأن الفرقة وقعت، فعلى قوله الجديد تسلم الزوجة إلى زوجها الأول ولا كلام.
وإن قلنا بقوله القديم: وقلنا إن حكم الحاكم يقتصر على الظاهر دون الباطن
سلمت الزوجة إلى زوجها الأول.
وإن قلنا: إن حكمه ينفذ ظاهرا وباطنا لم تسلم إليه. وقال أحمد: أما قبل
الدخول فهي امرأته، وإنما التخيير بعد الدخول، وهو قول الحسن وعطاء
وخلاس بن عمرو والنخعي وقتادة ومالك وإسحاق، وفي رواية لأحمد: إذا
تزوجت امرأته فجاء خير بين الصداق وبين امرأته.
قال ابن قدامة: والصحيح أن عموم كلام أحمد يحمل على أنه لا تخيير إلا بعد
الدخول، فتكون زوجة الأول رواية واحدة لان النكاح إنما صح في الظاهر
دون الباطن، فإذا قدم تبينا أن النكاح كان باطلا، لأنه صادف امرأة ذات
زوج فكان باطلا كما لو شهدت بينة بموته، وليس عليه صداق لأنه نكاح فاسد
لم يتصل به دخول، ويعود الزوج بالعقد الأول كما لو لم تتزوج.
(فرع) إذا تزوجت امرأة المفقود في وقت ليس لها أن تتزوج فيه مثل أن
160

تتزوج قبل مضى المدة التي يباح لها التزويج بعدها أو كانت غيبة زوجها ظاهرها
السلامة أو ما أشبه هذا، فإن تبين أن زوجها قد مات وانقضت عدتها منه أو
فارقها وانقضت عدتها ففي صحة نكاحها وجهان.
(أحدهما) هو صحيح لأنها ليست في نكاح ولا عدة فصح تزويجها كما لو علمت
ذلك (والثاني) لا يصح لأنها معتقدة تحريم نكاحها وبطلانه، وأصل هذا من
باع عينا في يده يعتقدها لمورثه فبان موروثه ميتا والعين مملوكة له بالإرث هل
يصح البيع؟ فيه وجهان كذا ههنا، والله تعالى أعلم بالصواب.
161

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب مقام المعتدة والمكان الذي تعتد فيه)
إذا طلقت المرأة فإن كان الطلاق رجعيا كان سكناها حيث يختار الزوج من
المواضع التي تصلح لسكني مثلها، لأنها تجب لحق الزوجية، وإن كان الطلاق بائنا
نظرت فإن كان في بيت يملك الزوج سكناه بملك أو إجارة أو إعارة، فإن كان
الموضع يصلح لسكني مثلها لزمها أن تعتد فيه لقوله عز وجل " أسكنوهن من
حيث سكنتم من وجدكم " فأوجب أن تسكن في الموضع الذي كان يسكن الزوج
فيه، فإن كان الموضع يضيق عليهما انتقل الزوج وترك السكنى لها، لان سكناها
تختص بالموضع الذي طلقها فيه. وإن اتسع الموضع لهما وأراد أن يسكن معها
نظرت فإن كان في الدار موضع منفرد يصلح لسكني مثلها، كالحجرة أو علو
الدار، أو سلفها وبينهما باب مغلق فسكنت فيه وسكن الزوج في الثاني جاز،
لأنهما كالدارين المتجاورتين، فإن لم يكن بينهما باب مغلق فإن كان لها موضع
تستتبر فيه ومعها محرم لها تتحفظ به كره، لأنه لا يؤمن النظر ولا يحرم، لان
مع المحرم يؤمن الفساد، فإن لم يكن محرم لم يجز لقوله عليه السلام " لا يخلون
رجل بامرأة ليست له بمحرم، فإن ثالثهما الشيطان "
(فصل) وإن أراد الزوج بيع الدار التي تعتد فيها نظرت - فإن كانت مدة
العدة غير معلومة، كالعدة بالحمل أو بالأقراء - فالبيع بالطل لان المنافع في مدة
العدة مستثناة، فبصير كما لو باع الدار واستثنى منفعة مجهولة، فإن كانت مدة
العدة معلومة كالعدة بالشهور ففيه طريقان (أحدهما) أنها على قولين كبيع الدار
المستأجرة (والثاني) أنه يبطل قولا واحدا، والفرق بينهما أن منقعة الدار
تنتقل إلى المستأجر، ولهذا إذا مات انتقل إلى وارثه فلا يكون في معنى من باع
162

الدار واستثنى بعض المنفعة، والمرأة لا تنتقل المنفعة إليها في مدة العدة، ولهذا
إذا ماتت رجعت منافع الدار إلى الزوج فيكون في معنى من باع الدار واستثنى
منفعتها لنفسه.
(فصل) وان حجر على الزوج بعد الطلاق لديون عليه لم يبع المسكن حتى
تنقضي العدة، لان حقها يختص بالعين فقدمت كما يقدم المرتهن على سائر الغرماء
وإن حجر عليه ثم طلق ضاربت المرأة الغرماء بحقها فان بيعت الدار استؤجر لها
بحقها مسكن تسكن فيه لان حقها وان ثبت بعد حقوق الغرماء الا أنه يستند إلى
سبب متقدم وهو الوطئ في النكاح، فإن كانت لها عادة فيما تنقضي به عدتها
ضاربت بالسكنى في تلك المدة فان انقضت العدة فيما دون ذلك ردت الفاضل على
الغرماء، فان زادت مدة العدة على العادة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنها ترجع
على الغرماء بما بقي لها كما ردت الفاضل إذا انقضت عدتها فيما دون العادة.
(والثاني) لا ترجع عليهم لان الذي استحقت الضرب به قدر عادتها
(والثالث) إن كانت عدتها بالأقراء لم ترجع لان ذلك لا يعلم الا من جهتها
وهي متهمة: وإن كانت بوضع الحمل أقامت البينة على وضع الحمل ورجعت عليهم
لأنه لا يلحقها فيه تهمة، فإن لم يكن لها عادة فيما تنقضي به عدتها ضربت معهم
بأجرة أقل مدة تنقضي به العدة لأنه يقين فلا يجب ما زاد بالشك، فان زادت
العدة على أقل ما تنقضي به العدة كان الحكم في الرجوع بالزيادة على ما ذكرناه
إذا زادت على العادة
(فصل) وان طلقت وهي في مسكن لها لزمها أن تعتد به لأنه مسكن
وجبت فيه العدة، ولها أن تطالب الزوج بأجرة المسكن لان سكناها عليه في العدة
(الشرح) الحديث أخرجه أحمد في مسنده من حيث عامر بن ربيعة بلفظ
" لا يخلون رجل بامرأة لا تحل له فان ثالثهما الشيطان الا محرم " وأخرجه من
حديث جابر بلفظ " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة ليس
معها ذو محرم منها فان ثالثهما الشيطان " وقد أخرج معناه الشيخان عن ابن عباس
وأحمد ومسلم وأبو داود والترمذي من حديث أبي سعيد الخدري وجرير بن عبد الله
163

وبريدة وعقبه بن عامر. أما الأحكام فقوله تعالى " أسكنوهن من حيث سكنتم
من وجدكم " قال ابن العربي: وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى
أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن
لا نفقة لها.
(قلت) إن كانت المطلقة رجعية فإنها من نسائه ترثه ويرثها وتسكن حيث
يختار لها ما يصلح لسكني مثلها، ولا تخرج إلا بإذنه ما كانت في عدتها، ولم يؤمر
الرجل بالسكنى لها، لان ذلك لازم لزوجها مع نفقتها وكسوتها، حاملا كانت
أو حائلا، وإنما أمر الله بالسكنى للائي بن مع أزواجهن من نفقتهن، قال تعالى
(وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن) فجعل عز وجل
للحوامل اللائي بن من أزواجهن السكنى والنفقة،
فالمطلقة ثلاثا إن كانت حاملا
وجب لها السكنى قولا واحد لا نعلم بين أهل العلم خلافا فيه، فإن لم تكن حاملا
فقد اختلف العلماء في ذلك فقال الشافعي يحب لها السكنى، وهو قول ابن مسعود
وابن عمر وعائشة وسعيد بن المسيب والقاسم وسالم وأبى بكر بن عبد الرحمن
وخارجة بن زيد وسليمان بن يسار ومالك والثوري وأصحاب الرأي وإحدى
الروايتين عن أحمد لقول الله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا
أن يأتين بفاحشة مبينة) وقوله تعالى (اسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم
ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن) فأوجب لهن السكنى مطلقا. ثم خص الحامل
بالانفاق عليها.
وقال أحمد في أظهر روايتيه لا يجب لها ذلك. وهو قول ابن عباس وجابر
وعطاء وطاوس والحسن وعمرو بن ميمون وعكرمة وإسحاق وأبي ثور وداود
ابن علي، لما روت فاطمة بنت قيس أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو
غائب، فأرسل إليها وكيله بشعير فتسخطته فقال، والله مالك علينا من شئ.
فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال لها ليس لك عليه
نفقة ولا سكنى، فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: إن تلك امرأة
يغشاها أصحابي، اعتدى في بيت ابن أم مكتوم " أخرجه الشيخان.
164

ولكنا إذا تأملنا صدى هذا الخبر لوجدنا أن عمر رضي الله عنه أنكر عليها
وقال " ما كنا لندع كتاب ربنا وسنة نبينا لقول امرأة لا ندري أصدقت
أم كذبت "
وقال عروة " لقد عابت عائشة ذلك أشد العيب، وقال إنها كانت في مكان
وحش فخيف على ناحيتها "
وقال سعيد بن المسيب " تلك امرأة فتنت الناس، إنها كانت لسنة، فوضعت
على يدي ابن أم مكتوم الأعمى "
ووجه القائلين بعدم وجوب السكنى لها ما قالت هي: بين وبينكم كتاب الله
قال تعالى (لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) فأي أمر يحدث بعد الثلاث
فكيف تقولون لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا؟ فعلام تحبسونها؟ فكيف تحبس
امرأة بغير نفقة؟
* * *
وأما قول عمر لا ندع كتاب ربنا، فقال أحمد بن حنبل لا يصدر هذا عن
عمر ولكنه قال لا نجيز في ديننا قول امرأة. وهذا مجمع على خلافه، وقد أخذنا
بخبر فريعة وهي امرأة، وبرواية عائشة وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم
في كثير من الأحكام، وصار أهل العلم إلى خبر فاطمة. هذا في كثير من
الأحكام مثل سقوط نفقة المبتوتة إذا لم تكن حاملا الخ ما قال
فإن كان الموضع الذي طلقها فيه يناسبها للعيش بمفردها لزمها ذلك، كما
يلزمه إقرارها لقوله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن) فإن لم يناسبها فعليه أن
يختار لها مسكنا يناسب مثلها، فإن كان في مسكن يملكه الزوج أو يؤجره
ويصلح لمثلها اعتدت فيه، فان ضاق عنهما انتقل عنها وتركها لها لأنه يلزم أن
تسكن في الموضع الذي كان الزوج يسكن فيه لقوله تعالى (أسكنوهن من حيث
سكنتم من وجدكم)
وقد ذهب أحمد ومن ذكرنا انه لا سكنى للمبتوتة ولا نفقة
165

وقالوا في الآية: انها للرجعية، ولان السكنى تابعة للنفقة، فلما لم تجب للمبتوتة
نفقة لم يجب لها سكنى، وحجة أبي حنيفة أن للمبتوتة النفقة قول الله تعالى
" ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن " وترك النفقة من أكبر الاضرار، وفي إنكار
عمر على فاطمة قولها ما يبين هذا، ولأنها معتدة تستحق السكنى عن طلاق
فكانت لها النفقة كالرجعية، ولأنها محبوسة عليه لحقه فاستحقت النفقة كالزوجة
أما مذهبنا فإنه يلزمه أن يترك الموضع لها إن ضاق عليهما، فان اتسع لهما وفي
الدار غرفة منفردة أو حجرة في علو الدار أو سفلها وبينهما باب مغلق سكنت
فيه وسكن الزوج في الباقي، لأنهما كالدارين المستقلتين المتجاورتين، وإن لم يكن
بينهما باب مغلق لكن لها موضع تتستر فيه بحيث لا يراها، ومعها محرم تتحفظ
به جاز، لان مع المحرم يؤمن الفساد ويكره في الجملة، لأنه لا يؤمن النظر، وان
لم يكن معها محرم لم يجز، لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يخلون رجل بامرأة ليست
له بمحرم، فإن ثالثهما الشيطان " وان امتنع من إسكانها أجبره الحاكم، وإن كان
الزوج حاضرا والمسكن لائقا فاكترت لنفسها موضعا أو سكنت في ملكها لم
ترجع بالأجرة لأنها تبرعت بذلك فلم ترجع به على أحد، وإن عجز الزوج عن
إسكانها لعسرته أو غيبته أو امتنع من ذلك مع قدرته سكنت حيث شاءت،
وكذلك الشأن في المتوفى عنها زوجها إذا لم يقم ورثته باسكانها، وهو إنما تلزمها
السكنى في منزله لتحصين مائه، فإذا لم يفعل لم يلزمها ذلك
وقال الشافعي في الأم: بعد ذكر الآية " فذكر الله عز وجل المطلقات جملة
لم يخصص منهن مطلقة دون مطلقه، فجعل على أزواجهن أن يسكنوهن من
وجدهم، وحرم عليهم أن يخرجوهن وعليهن ألا يخرجن: الا أن يأتين بفاحشة
مبينه فيحل إخراجهن
فكان من خوطب بهذه الآية من الأزواج يحتمل أن اخراج الزوج امرأته
المطلقة من بيتها منعها السكنى لان الساكن إذا قيل أخرج من مسكنه فإنما قيل:
منع مسكنه، وكما كان كذلك إخراجه إياها
وكذلك خروجها بامتناعها من السكن فيه وسكنها في غيره، فكان هذا
166

الخروج المحرم على الزوج والزوجة رضيا بالخروج معا أو سخطا معا أو رضى به
أحدهما دون الآخر فليس للمرأة الخروج ولا للرجل إخراجها إلا في الموضع
الذي استثنى الله عز ذكره من أن تأتى بفاحشة مبينه وفي العذر، فكان فيما أوجب
الله تعالى على الزوج والمرأة من هذا تعبدا لهما، وقد يحتمل مع التعبد أن يكون
لتحصين فرج المرأة في العدة، وولد إن كان بها
ثم تكلم الشافعي عن خروج المرأة وأنها لا تخرج بحال ليلا ولا نهارا إلا من
عذر قال: ولو فعلت هذا كان أحب إلى وكان احتياطا لا يبقى في القلب معه شئ
وإنما منعنا من ايجاب هذا عليها مع احتمال للآية لما ذهبنا إليه من ايجابه على
ما قال ما وصفنا من احتمال الآيات قبل لما وصفنا.
إذا ثبت هذا: فإنه إذا كانت في مسكن لزوجها فأخرجها الورثة منه وبذلوا
لها سكنا لم تلزمها السكنى، وكذلك ان أخرجت من المسكن الذي هي به أو أخرجت
لأي غارض كان لم تلزمها السكنى في موضع معين سواه، سواء بذله الورثة أو
غيرهم لأنها إنما يلزمها الاعتداد في بيتها الذي كانت فيه لا في غيره.
وكذلك لو قلنا لها السكن فتعذر سكناها في مسكنها وبذل لها سواه، وان
طلبت مسكنا سواه لزم الورثة تحصيله بالأجرة أو بغيرها ان خلف الميت تركة
تفي بذلك ويقدم ذلك على الميراث، لأنه حق على الميت فأشبه الدين، فإن كان
على الميت دين يستغرق ماله ضربت بأجرة المسكن مع الغرماء، لان حقها مساو
لحقوق الغرماء وتستأجر بما يصبيها موضعا لسكنه.
وكذلك الحكم في المطلقة إذا حجر على الزوج قبل أن يطلقها ثم طلقها:
فإنها تضرب بأجرة المسكن لمدة العدة مع الغرماء إذا كانت حاملا، فان قيل:
فهلا قدمتم حق الغرماء لأنه أسبق؟ قلنا: لان حقها ثبت عليه بغير اختيارها
فشاركت الغرماء فيه كما لو أتلف المفلس مالا لانسان أو جنى عليه، وان مات
وهي في مسكنه لم يجز اخراجها منه لان حقها تعلق بعين المسكن قبل تعلق حقوق
الغرماء بعينه، فكان حقها مقدما كحق المرتهن، وان طلب الغرماء بيع هذا
المسكن وتترك السكنى لها مدة العدة لم يجز لأنها إنما تستحق السكنى إذا كانت
167

حاملا، ومدة الحمل مجهولة، فتصير كما لو باعها واستثنى نفعها مدة مجهولة، وان
أراد الورثة قسمة مسكنها على وجه يضر بها في السكنى لم يكن لهم ذلك، وان
أرادوا التعليم بخطوط من غير نقض ولا بناء جاز لأنه لا ضرر عليها فيه.
قال الشافعي رضي الله عنه: وإن كان على زوجها دين لم يسكنها فيما يباع
من ماله حتى تنقضي عدتها، فأما إن كان أنزلها منزلا عارية أو بكراء لم يدفعه
وأفلس فلاهل هذا كله أن يخرجوها منه وعليه أن يسكنها غيره إلا أن يفلس
فإن أفلس ضربت مع الغرماء بأقل قيمة سكنى ما يكفيها بالغا ما بلغ، واتبعته
بفضلة متى أيسر، قال: وهكذا تضرب مع الغرماء بنفقتها حاملا وفي العدة
من طلاقه اه.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان مات الزوج وهي في العدة قدمت على الورثة في السكنى
لأنه استحقتها في حال الحياة فلم تسقط بالموت كما لو أجر داره ثم مات فإن أراد
الورثة قسمة الدار لم يكن لهم ذلك، لان فيها اضرارا بها في التضييق عليها،
وان أرادوا التمييز بأن يعلموا عليها بخطوط من غير نقض ولا بناء، فان قلنا إن
القسمة تمييز الحقين جاز لأنه لا ضرر عليها، وان قلنا إنها بيع فعلى ما بيناه
(فصل) وان توفى عنها زوجها وقلنا: إنها تستحق السكنى فإن كانت في
مسكن الزوج لزمها أن تعتد فيه، لما روت فريعة بنت مالك " أن زوجها قتل
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم امكثي حتى يبلغ الكتاب أجله " وان لم تكن في
مسكن الزوج وجب من تركته أجرة مسكنها مقدمة على الميراث والوصية، لأنه
دين مستحق فقدم، وان زاحمها الغرماء ضاربتهم بقدر حقها، فإن لم يكن له
مسكن فعلى السلطان سكناها لما في عدتها من حق الله تعالى، وان قلنا: لا تجب
لها السكنى اعتدت حيث شاءت، فإن تطوع الورثة بالسكنى من مالهم وجب
عليها الاعتداد فيه.
(فصل) وان أمر الزوج امرأته بالانتقال إلى دار أخرى فخرجت بنية
168

الانتقال ثم مات أو طلقها وهي بين الدارين ففيه وجهان (أحدهما) أنها تخير
بين الدارين في الاعتداد، لان الأولى خرجت عن أن تكون مسكنا لها بالخروج
منها والثانية لم تصر مسكنا لها (والثاني) وهو الصحيح أنه يلزمها الاعتداد في
الثانية، لأنها مأمورة بالمقام فيها ممنوعة من الأولى
(فصل) وإن أذن لها في السفر فخرجت من البيت بنية السفر ثم وجبت
العدة قبل أن تفارق البنيان، ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبي سعيد
الإصطخري أن لها أن تعود ولها أن تمضي في سفرها، لأن العدة وجبت بعد
الانتقال من موضع العدة فصار كما لو فارقت البنيان (والثاني) وهو قول أبى إسحاق
أنه يلزمها أن تعود وتعتد لأنه لم يثبت لها حكم السفر، فإن وجبت العدة وقد
فارقت البنيان، فإن كان في سفر نقلة ففيه وجهان كما قلنا فيمن طلقت وهي بين
الدار التي كانت فيها وبين الدار التي أمرت بالانتقال إليها، فإن كانت في سفر حاجة
فلها أن تمضي في سفرها ولها أن تعود، لان في قطعها عن السفر مشقة، وإن
وجبت العدة وقد وصلت إلى المقصد، فإن كان للبقاء لزمها أن تقيم وتعتد لأنه
صار كالوطن الذي وجبت فيه العدة، فإن كان لقضاء حاجة فلها أن تقيم إلى أن
تنقضي الحاجة، فإن كان لزيارة أو نزهة فلها أن تقيم مقام مسافر وهو ثلاثة أيام
لان ذلك ليس بإقامة، فان قدر لها إقامة مدة شهر أو شهرين ففيه قولان
(أحدهما) أن لها أن تقيم المدة، وهو اختيار المزني، لأنه مأذون فيه
(والثاني) أنها لا تقيم أكثر من إقامة المسافر وهو ثلاثة أيام، لأنه لم يأذن
في المقام على الدوام فلم تزد على ثلاثة أيام، فان انقضى ما جعل لها من المقام
نظرت فان علمت أنها إذا عادت إلى البلد أمكن أن تقضى شيئا من عدتها ولم يمنعها
خوف الطريق لزمها العود لتقضى العدة في مكانها، وان علمت أنها إذا عادت لم
يبق منها شئ ففيه وجهان
(أحدهما) لا يلزمها لأنها لا تقدر على العدة في مكانها
(والثاني) يلزمها لتكون أقرب إلى الموضع الذي وجبت فيه العدة.
(فصل) إذا أحرمت بالحج ثم وجبت عليها العدة، فإن لم يخش فوات الحج
إذا قعدت للعدة لزمها أن تقعد للعدة ثم تحج، لأنه يمكن الجمع بين الحقين فلم يجز
169

إسقاط أحدهما بالآخر فإن خشيت فوات الحج وجب عليها المضي في الحج لأنهما
استويا في الوجوب وتضيق الوقت والحج أسبق فقدم. وإن وجبت العدة ثم
أحرمت بالحج لزمها القعود للعدة لأنه لا يمكن الجمع بينهما والعدة أسبق فقدمت
(الشرح) حديث فريعة بنت مالك أخرجه أبو داود في الطلاق عن القعنبي
والترمذي في الطلاق عن إسحاق بن موسى والنسائي في الطلاق عن محمد بن العلاء
وعن قتيبة وعن إسحاق بن منصور وان ماجة في الطلاق عن أبي بكر والطبراني
في الطلاق عن سعد بن إسحاق وقد صححه الترمذي ولفظه " خرج زوجي في طلب
أعلاج له فأدركهم في طرف القدوم فقتلوه، فأتاني نعيه وأنا في دار شاسعة من
دور أهلي ولم يدع نفقة ولا مالا ورثته وليس المسكن له، فلو تحولت إلى أهلي
وأخوتي لكان أرفق لي في بعض شأني. قال تحولي، فلما خرجت إلى المسجد أو
إلى الحجرة دعاني أو أمر به فدعيت، فقال امكثي في بيتك الذي أتاك فيه نعى
زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله، قالت فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشرا، قالت
وأرسل إلى عثمان فأخبرته فأخذ به " ولم يذكر النسائي وابن ماجة إرسال عثمان
وأخرجه أيضا مالك في الموطأ والشافعي وابن حبان والحاكم وصححاه، وأعله
ابن حزم بجهالة حال زينب بنت كعب بن عجزة الرواية له عن فريعة، ولكن
زينب المذكورة وثقها الترمذي وغيره في الصحابة
وأما ما روى عن علي بن المديني بأنه لم يرو عنها غير سعد بن إسحاق فمردود
بما في مسند أحمد من رواية سليمان بن محمد بن كعب بن عجرة عن عمته زينب في
فضل الإمام علي عليه السلام، وقد أعل الحديث أيضا بأن في إسناده سعد بن
إسحاق وتعقبه ابن القطان بأنه قد وثقه النسائي وابن حبان، ووثقه أيضا ابن
معين والدارقطني وقال أبو حاتم صالح الحديث. وروى عنه جماعة من أكابر
الأئمة ولم يتكلم فيه بجرح وغاية ما قاله فيه ابن حزم وعبد الحق أنه غير مشهور
وهذه دعوى باطلة، فإن من يروى عنه مثل سفيان الثوري وحماد بن زيد
ومالك بن أنس ويحيى بن سعيد والدراوردي وابن جريج والزهري مع كونه
أكبر منه، وغير هؤلاء الأئمة كيف يكون غير مشهور
170

أما اللغات فإن فريعة - بضم الفاء وفتح الراء بعدها ياء ساكنة - ويقال
لها الفارعة، وهي بنت مالك بن سنان - أخت أبي سعيد الخدري - وشهدن
بيعة الرضوان.
وقد استدل بهذا الحديث على أن المتوفى عنها زوجها تعتد في المنزل الذي
بلغها نعى زوجها وهي فيه ولا تخرج منه إلى غيره، وقد ذهب إلى ذلك جماعة
من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، واليه ذهب مالك وأبو حنيفة والأوزاعي
وإسحاق وأبو عبيد.
قال ابن عبد البر " وقد قال بحديث الفريعة جماعة من فقهاء الأمصار بالحجاز
والشام والعراق ومصر، ولم يطعن فيه أحد منهم
قال الشافعي في الأم، قال الله تبارك وتعالى في المطلقات " لا تخرجوهن من
بيوتهن ولا يخرجن الا أن يأتين بفاحشة مبينة " فكانت هذه الآية في المطلقات
وكانت المعتدات من الوفاة معتدات كعدة المطلقة، فاحتملت أن تكون في فرض
السكنى للمطلقات، ومنع إخراجهن تدل على أن في مثل معناهن في السكنى ومنع
الاخراج المتوفى عنهن لأنهن في معناهن في العدة.
قال ودلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن المتوفى عنها أن تمكث
في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله، واحتمل أن يكون ذلك على المطلقات دون
المتوفى عنهن فيكون على زوج المطلقة أن يسكنها لأنه مالك ماله، ولا يكون
على زوج المرأة المتوفى عنها سكنها لان ماله مملوك لغيره.
ثم ساق حديث الفريعة بنت مالك، ثم قال وإذا طلق الرجل امرأته فلها
سكناها في منزله حتى تنقضي عدتها ما كانت العدة حملا أو شهورا كان الطلاق
يملك فيه الرجعة أو لا يملكها: وإن كان المنزل بكراء فالكراء على الزوج المطلق
أو في مال الزوج الميت، ولا يكون للزوج المطلق إخراج المرأة من مسكنها الذي
كانت تسكن معه، كان له المسكن أو لم يكن
وقال الشافعي رضي الله عنه " ولو كانت تسكن في منزل لها معه فطلقها
وطلبت أن تأخذ كراء مسكنها منه كان لها في ماله أن تأخذ كراء أقل ما يسعها
من المسكن فقط.
171

ولو كان نقلها إلى منزل غير منزله الذي كانت فيه ثم طلقها أو مات عنها بعد
أن صارت في المنزل الذي نقلها إليه اعتدت في ذلك المنزل الذي نقلها إليه وأذن
لها أن تنقل إليه. ولو كان أذن لها في النقلة إلى منزل بعينه أو أمرها تنقل حيث
شاءت فنقلت متاعها وخدمها ولم تنتقل ببدنها حتى مات أو طلقها اعتدت في بيتها
الذي كانت فيه، ولا تكون متنقلة إلا ببدنها، فإذا ببدنها، فإذا انتقلت ببدنها وإن لم تنتقل
بمتاعها ثم طلقها أو مات عنها اعتدت في الموضع الذي انتقلت إليه بإذنه
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو انتقلت بغير إذنه ثم لم يحدث لها
إذنا حتى طلقها أو مات عنها رجعت فاعتدت في بيتها الذي كانت تسكن معه فيه
وهكذا السفر يأذن لها به، فإن لم تخرج حتى يطلقها أو يتوفى عنها أقامت في منزلها
ولم تخرج منه حتى تنقضي عدتها.
وإن أذن لها بالسفر فخرجت أو خرج معها مسافرا إلى حج أو بلد من
البلدان فمات عنها أو طلقها طلاقا لا يملك فيه الرجعة فسواء ولها لخيار في أن
تمضي في سفرها ذاهبة أو جائية، وليس عليها أن ترجع إلى بيته قبل أن ينقضي
سفرها فلا تقيم في المصر الذي أذن لها في السفر إليه، الا أن يكون أذن لها في
المقام فيه أو في النقلة إليه، فيكون ذلك عليها إذا بلغت ذلك المصر اه
وجملة ذلك أن المعتدة لا تخرج من مسكنها لسفر ولا غيره بغير عذر الا
بإذنه. فإن كانت في عدة الوفاء فليس لها أن تخرج إلى الحج ولا إلى غيره من
أنواع السفر.
روى ذلك عن عمر وعثمان وسعيد بن المسيب والقاسم ومالك وأحمد وأبو عبيد
وأصحاب الرأي والثوري.
وإن خرجت فمات زوجها في الطريق رجعت إن كانت لم تفارق البنيان،
فإن فارقت البنيان فها الخيار بين الرجوع والتمام لأنها صارت في موضع أذن لها
فيه وهو السفر، فأشبه ما لو كانت قد بعدت.
وقال أحمد وأصحابه: يجب عليها أن ترجع إن كانت قريبة لأنها في حكم الإقامة
وان تباعدت مضت. ووجه هذا القول ما روى سعيد بن منصور عن سعيد بن
المسيب قال: توفى أزواج نساؤهن حاجات أو معتمرات فردهن عمر من ذي الحليفة
172

حتى يعتددن في بيوتهن، ولأنه أمكن الاعتداد في منزلها قبل أن يبعد سفرها
فلزمها، وقال مالك ترد ما لم تحرم. وقال أبو حنيفة حد القريب بما لا تقصر فيه
الصلاة، وحد البعيد بما تقصر فيه وهو مسيرة ثلاثة أيام. وقال متى كان بينها
وبين مسكنها دون ثلاثة أيام فعليها الرجوع إليه، وإن كان فوق ذلك لزمها
المضي إلى مقصدها والاعتداد فيه إذا كان بينها وبينه دون ثلاثة أيام، وإن كان
بينها وبينه ثلاثة أيام وفي موضعها الذي هي فيه موضع يمكنها الإقامة فيه
لزمها الإقامة، وان لم يمكنها الإقامة مضت إلى مقصدها
ولنا أنه يفرق بين السفر لحاجة والسفر لغير حاجة ووصلت إلى غايتها أو لم
تصل على ما بينه المصنف هنا.
فإذا كان عليها حجة الاسلام فمات زوجها لزمتها العدة في منزلها، وإن فإنها
الحج، ولأن العدة في المنزل تفوت ولا بدل لها، والحج يمكن الاتيان به في غير
هذا العام. وان مات زوجها بعد احرامها بحج الفرض أو بحج أذن لها فيزوجها
نظرت - فإن كان وقت الحج متسعا لا تخاف فوته ولا فوت الرفقة لزمها
الاعتداد في منزلها، لأنه أمكن الجمع بين الحقين فلم يجز اسقاط أحدهما. وان
خشيت فوات الحج لزمها المضي فيه. وبهذا قال أحمد. وقال أبو حنيفة يلزمها
المقام وان فإنها الحج لأنها معتدة فلم يجز لها أن تنشئ سفرا كما لو أحرمت بعد
وجوب العدة عليها.
دليلنا أنهما عبادتان استويا في الوجوب وضيق الوقت فوجب تقديم الأسبق
منهما، كما لو كانت العدة أسبق، ولان الحج آكد لأنه أحد أركان الاسلام
والمشقة بتفويته تعظم، فوجب تقديمه كما لو مات زوجها بعد أن بعد سفرها إليه
وان أحرمت بالحج بعد موت زوجها وخشيت فواته يجوز لها أن تمضي إليه لما
في بقائها في الاحرام من المشقة، ويجوز أن تعتد في منزلها لما في العدة من السبق
ولأنها فرطت وغلظت على نفسها، فإذا قضت العدة وأمكنها السفر إلى الحج لزمها
ذلك، فإن أدركته والا تحللت بعمل عمرة وحكمها حكم من فاته الحج في قضائه
وان لم يمكنها السفر فحكمها حكم المحصر كالتي يمنعها زوجها من السفر وحكم
الاحرام بالعمرة كذلك إذا خيف فوات الرفقة أو لم يخف
173

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز للمبتوتة ولا للمتوفى عنها زوجها الخروج من موضع
العدة من غير عذر لقوله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن
يأتين بفاحشة مبينة)
وروت زينب بنت كعب بن عجرة عن فريعة بنت مالك قالت " قلت لرسول
الله صلى الله عليه وسلم: إني في دار وحشة أفأنتقل إلى دار أهلي فأعتد عندهم؟
فقال اعتدى في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله،
أربعة أشهر وعشرا "
(فصل) وإن بذت على أهل زوجها نقلت عنهم لقوله تعالى (ولا يخرجن
إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) قال ابن عباس رضي الله عنه: الفاحشة المبينة أن
تبذو على أهل زوجها، فإذا بذت على الأهل حل إخراجها. وأما إذا بذا عليها
أهل زوجها نقلوا عنها، ولم تنتقل لان الاضرار منهم دونها، وإن خافت في
الموضع ضررا من هدم أو غيره انتقلت، لأنها إذا انتقلت للبذاء على أهل زوجها
فلان تنتقل من خوف الهدم أولى، ولان القعود للعدة لدفع الضرر عن الزوج
في حفظ نسب ولده والضرر لا يزال بالضرر
فإن كانت العدة في موضع بالإعارة فرجع المعير أو بالإجارة فانقضت المدة
وامتنع المؤجر من الإجارة أو طلب أكثر من أجرة المثل انتقلت إلى موضع
آخر، لأنه حال عذر، ولا تنتقل في هذه المواضع إلا إلى أقرب موضع من
الموضع الذي وجبت فيه العدة، لأنه أقرب إلى موضع الوجوب، كما قلنا فيمن
وجبت عليه الزكاة في موضع لا يجد فيه أهل السهمان إنه ينقل الزكاة إلى أقرب
موضع منه. وإن وجب عليها حق لا يمكن الاستيفاء إلا بها كاليمين في دعوى
أو حد - فإن كانت ذات خدر - بعث إليها السلطان من يستوفى الحق منها،
وإن كانت برزة جاز إحضارها لأنه موضع حاجة فإذا قضت ما عليها رجعت إلى
مكانها، وان احتاجت إلى الخروج لحاجة كشراء القطن وبيع الغزل لم يجز أن
تخرج لذلك بالليل، لما روى مجاهد قال " استشهد رجال يوم أحد فتأيم نساؤهم
174

فجئن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلن: يا رسول الله انا نستوحش بالليل
ونبيت عند إحدانا حتى إذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
تحدثن عند إحداكن ما بدا لكن، حتى إذا أردتن النوم فلتؤب كل امرأة إلى
بيتها: ولان الليل مظنة للفساد فلا يجوز لها الخروج من غير ضرورة. وان
أرادت الخروج لذلك بالنهار نظرت - فإن كانت في عدة الوفاة - جاز لحديث
مجاهد. وإن كانت في عدة المبتوتة ففيه قولان
قال في القديم لا يجوز لقوله تعالى (ولا يخرجن الا أن يأتين بفاحشة مبينة)
وقال في الجديد " يجوز " وهو الصحيح لما روى جابر رضي الله عنه قال " طلقت
خالتي ثلاثا، فخرجت تجد نخلا لها فلقيها رجل فنهاها: فأتت النبي صلى الله عليه
وسلم فذكرت ذلك له فقال لها: أخرجي فجدي نخلك لعلك أن تصدقي منه أو
تفعلي خيرا " ولأنها معتدة بائن فجاز لها أن تخرج بالنهار لقضاء الحاجة كالمتوفى
عنها زوجها.
(الشرح) في قوله تعالى (لا تخرجوهن من بيوتهن) دليل على أنه ليس
للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة، ولا يجوز لها الخروج
الا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة، والمبتوتة في هذا
كالرجعية - وهذا لصيانة ماء الرجل - وهذا معنى إضافة البيوت إليهن، كقوله
تعالى (واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة) وقوله تعالى (وقرن
في بيوتكن فهو إضافة اسكان لا إضافة تمليك
أما حديث فريعة فقد مضى تخريجه آنفا
وقوله " دار وحشة " دار مضاف وحشة مضاف إليه، وأصله المكان القفر
من الأنيس. وخبر ابن عباس قال ابن كثير في قوله تعالى (الا أن يأتين بفاحشة
مبينة) والفاحشة المبينة تشمل الزنا، كما قاله ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن
المسيب والشعبي والحسن وابن سيرين ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك
وأبو قلابة وأبو صالح وزيد بن أسلم وعطاء الخراساني والسدي وسعيد بن أبي
هلال وغيرهم وغيرهم اه
175

وقال القرطبي: وعن ابن عباس والشافعي أنه البذاء على أحمائها فيحل لهم
إخراجها، وروى عن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة: تلك امرأة استطالت
على أحمائها بلسانها فأمرها عليه السلام أن تنقل.
وفي كتاب أبى داود، قال سعيد تلك امرأة فتنت الناس إنها كانت لسنه
فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى، قال عكرمة في مصحف أبى " إلا أن
يفحشن عليكم " ويقوى هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روى أن عائشة قالت
لفاطمة بنت قيس: اتقى الله فإنك تعلمين لم أخرجت؟
وعن ابن عباس الفاحشة كل معصية كالزنا والسرقة والبذاء على الأهل
وعن ابن عمر أيضا والسدي: الفاحشة خروجها من بيتها في العدة،
وقال قتادة الفاحشة النشوز، وذلك أن يطلقها فتتحول عن بيته.
قال ابن العربي أما من قال إنه الخروج للزنا فلا وجه له، لان ذلك الخروج
هو خروج القتل والاعدام، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام، وأما من
قال إنه البذاء فهو مفسر في حديث فاطمة بنت قيس، وأما من قال إنه كل معصية
فوهم لان الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الاخراج ولا الخروج. وأما من
قال: إنه الخروج بغير حق فهو صحيح وتقدير الكلام لا تخرجوهن من بيوتهن
ولا يخرجن شرعا إلا أن يخرجن تعديا. أه
(قلت) قال الشافعي في الأم: أخبرنا عبد العزيز بن محمد عن محمد بن عمر
وعن محمد بن إبراهيم عن ابن عباس أنه كان يقول الفاحشة المبينة أن تبذو على
أهل زوجها، فإذا بذت فقد حل إخراجها، ثم ساق هذا الاسناد إلى عائشة
رضي الله عنها كانت تقول اتقى الله يا فاطمة فقد علمت في أي شئ كان ذلك.
قال الشافعي أخبرنا إبراهيم بن أبي يحيى عن عمرو بن ميمون بن مهران عن أبيه
قال قدمت المدينة فسألت عن أعلم أهلها فدفعت إلى سعيد بن المسيب فسألته عن
المبتونة فقال تعتد في بيت زوجها، فقلت فأين حديث فاطمة بنت قيس؟ فقال هاه
وصف أنه تغيظ: وقال فتنت فاطمة الناس كانت للسانها ذرابة فاستطالت على
أحمائها فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيت أم مكتوم.
176

وقال الشوكاني في نيل الأوطار وأما دعوى أن سبب خروجها كان لفحش
في لسانها، كما قال مروان لما حدث بحديثها إن كان بكم شر فحسبكم ما بين هذين
من الشر، يعنى أن خروج فاطمة كان لشر في لسانها فمع كون مروان ليس من
أهل الانتقاد على أجلاء الصحابة والطعن فيهم فقد أعاذ الله فاطمة عن ذلك
الفحش الذي رماها به فإنها من خيرة نساء الصحابة فضلا وعلما، ومن المهاجرات
الأولات ولهذا ارتضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم لحبه وابن حبه أسامة،
وممن لا يحملها رقة الدين على فحش اللسان الموجب لاخراجها من دارها، ولو
صح شئ من ذلك لكان أحق الناس بانكار ذلك عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي
هذا الكلام من الشوكاني نظر سنأتي عليه.
أما خبر مجاهد المرسل فقد أخرجه الشافعي وعبد الرزاق هكذا مرسلا بلفظ
المصنف، وله شواهد متصلة موقوفة على ابن مسعود عند عبد الرزاق في نساء
نعى إليهن أزواجهن وتشكين الوحشة فقال ابن مسعود يجتمعن بالنهار ثم ترجع
كل امرأة منهن إلى بيتها بالليل.
وأخرج ابن أبي شيبه عن عمر رضي الله عنه أنه رخص للمتوفى عنها زوجها
أن تأتى أهلها بياض يومها، وأن زيد بن ثابت رخص لها في بياض يوما.
وأخرج سعيد بن منصور عن علي رضي الله عنه أنه جوز للمسافرة الانتقال.
وروى الحجاج بن منهال أن امرأة سألت أم سلمة بأن أباها مريض وأنها في
عدة وفاة فأذنت لها وسط النهار.
أما حديث جابر فقد أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة والنسائي.
أما الأحكام فللمعتدة الخروج في حوائجها نهارا سواء كانت مطلقة أو متوفى
عنها لحديث جابر " طلقت خالتي ثلاثا فخرجت تجد نخلها فلقيها رجل فنهاها
فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخرجي فجدي نخلك لعلك أن
تتصدقي منه أن تفعلي خيرا ".
وحديث مجاهد المرسل وفيه " تحدثن عند إحداكن حتى إذا أردتن النوم
فلتؤب كل واحدة إلى بيتها " وليس لها المبيت في غير بيتها، ولا الخروج ليلا
177

إلا لضرورة، لان الليل مظنة الفساد بخلاف النهار فإنه مظنة قضاء الحوائج
والمعاش وشراء ما يحتاج إليه، وان وجب عليها حق لا يمكن استيفاؤه إلا بها
كاليمين وكانت ذات خدر بعث إليها الحاكم من يستوفى الحق منها في منزلها، وإن
كانت برزة جاز إحضارها لاستيفائه، فإذا فرغت رجعت إلى منزلها.
وقال الشافعي رضي الله عنه: وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث
فاطمة بنت قيس إذا بذت على أهل زوجها فأمرها أن تعتد في بيت أم مكتوم
تدل على معنيين (أحدهما) أن ما تأول ابن عباس في قول الله عز وجل " إلا أن
يأتين بفاحشة مبينة " هو البذاء على أهل زوجها كما أول إن شاء الله تعالى وقال
وبين إنما أذن لها أن تخرج من بيت زوجها فلم يقل لها النبي صلى الله عليه وسلم:
اعتدى حيث شئت، ولكنه حصنها حيث رضى إذ كان زوجها غائبا ولم يكن
له وكيل بتحصينها، فإذا بذت المرأة على أهل زوجها فجاء من بذائها ما يخاف
تساعر بذائه إلى تساعر الشر، فلزوجها إن كان حاضرا اخراج أهله عنها، فإن
لم يخرجهم أخرجها إلى منزل غير منزله فحصنها فيه، وكان عليه كراؤه إذا كان
له منها أن تعتد حيث شاءت كان عليه كراء المنزل.
وإن كان غائبا كان لوكيله من ذلك ماله، وان لم يكن له وكيل كان السلطان
ولى الغائب يفرض له منزلا فيحصنها فيه، فان تطوع السلطان به أو أهل المنزل
فذلك ساقط عن الزوج، ولم نعلم فيما مضى أحدا بالمدينة أكرى أحدا منزلا إنما
كانوا يتطوعون بانزال منازلهم وبأموالهم مع منازلهم، وان لم يتطوع به السلطان
ولا غيره فعلى زوجها كراء المنزل الذي تصير إليه، ولا يتكارى لها السلطان
الا بأخف ذلك على الزوج
وإن كان بذاؤها حتى يخاف أن يتساعر ذلك بينها وبين أهل زوجها عذرا
في الخروج من بيت زوجها كان كذلك كل ما كان في معناه وأكثر من أن يجب
حد عليها فتخرج ليقام عليها أو حق فتخرج لحاكم فيه أو يخرجها أهل منزل فيه
بكراء أو عارية ليس لزوجها أو ينهدم منزلها الذي كانت فيه أو تخاف في منزل
هي فيه على نفسها أو مالها أو ما أشبه هذا من العذر، فللزوج في هذه الحالات
178

أن يحصنها حيث صيرها أو اسكانها وكراء منزلها قال: وان أمرها أن تكارى
منزلا بعينه فتكارته فكراؤه عليه متى قامت به عليه، وان لم يأمرها فتكارت
منزلا فلم ينهها ولم يقل لها: أقيمي فيه، فان طلبت الكراء وهي في العدة استقبل
كراء منزلها من يوم تطبه حتى تنقضي العدة. وان لم تطلبه حتى تنقضي العدة
فحق لها تركته وعصت بتركها أن يسكنها فلا يكون لها وهي عاصية سكنى وقد
مضت العدة، وان أنزلها منزلا له بعد الطلاق أو طلقها في منزل له أو طلقها
وهي زائرة فكان عليا أن تعود إلى منزل له قبل أن يفلس ثم فلس فهي أحق
بالمنزل منه ومن غرمائه اه.
على أن محاولة اضعاف الخبر بكلام عمر ليست بذاك، لان كلام عمر رضي الله عنه
دليل على صحته وصدوره عن فاطمة، وأما البذاء المنسوب لفاطمة، فإنه
لم يكن موجها لزوجها بل كان لاحمائها، وهذا أمر غير مستبعد من أي امرأة
مطلقة تحس بشخصيتها لا سيما إذا كان البذاء يحتمل أن يكون مجرد المخاشنة في
القول والاستعلاء في اللهجة التي تتم عن ضيق ببقائها بين نساء مثلها.
ولو كان البذاء من طبيعتها بمعنى الفحش القبح لما دفع بها إلى ابن أم مكتوم
لتبقى في بيته مدة العدة، ويفسر البذاء منها رواية " وكان في لسانها ذرابة " أي
حدة، وليست فاطمة بنت قيس معصومة ولا يخل هذا بلياقتها لحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم وابن حبه، وفي بعض الناس صدق في اللهجة، وحدة في
الصوت يمكن أن يوصف بالبذو والذرابه
إذا تقرر هذا: فان الآية تقتضي الاخراج عن السكنى إذا طال لسانها على
أحمائها، ولا يتوقف هذا الاخراج على ارتكاب الزنا إذا فسرت الفاحشة به
على قول ابن مسعود والحسن، فان الاخراج في ذلك لا يكون الا لإقامة الحد،
أما الاخراج عن السكنى في الآية فلا يتحقق بما فسرا به الآية فان الفاحشة
اسم للزنا وغيره من الأقوال، يقال: أفحش فلان في مقاله، ولهذا روى عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قالت له عائشة " يا رسول الله قلت لفلان: بئس أخو
العشيرة فلما دخل ألفت له القول؟ فقال يا عائشة ان الله لا يحب الفحش ولا التفحش
179

إذا ثبت هذا فإن الورثة يخرجونها عن ذلك المسكن إلى مسكن آخر من الدار
إن كانت كبيرة تجمعهم، فإن كانت لا تجمعهم أو لم يمكن نقلها إلى غيره في الدار
ولم يتخلصوا من أذاها فلهم نقلها.
وقال بعض الأصحاب ينتقلون هم عنها لان سكناها واجب في المكان وليس
بواجب عليهم، والنص يدل على أنها تخرج فلا يعرج على ما خالفه، ولان
الفاحشة منها فكان الاخراج لها.
وإن كان أحماؤها هم الذين يؤذونها ويفحشون عليها نقلوا هم دونها فإنها لم
تأت بفاحشة فلا تخرج بمقتضى النص، ولان الذنب لهم فيخصون بالاخراج،
وإن كان المسكن لغير الميت فتبرع صاحبه بإسكانها فيه لزمها الاعتداد به، وإن
أبى أن يسكنها إلا بأجرة وجب بذلها من مال الميت، الا ان تبرع انسان ببذلها
فيلزمها الاعتداد به.
فان حولها صاحب المكان أو طلب أكثر من أجرة المثل فعلى الورثة اسكانها
إن كان الميت تركة يستأجر لها به مسكن، لأنه حق لها يقدم على الميراث، فان
اختارت النقلة عن هذا المسكن الذي ينقلونها إليه فلها ذلك لان سكناها به حق
لها وليس بواجب عليها، فان المسكن الذي كان يجب عليها السكنى به هو الذي
كانت تسكنه حين موت زوجها، وقد سقطت عندها السكنى به، وسواء كان
المسكن الذي كانت به لأبويها أو لأحدهما أو لغيرهم
وإن كانت تسكن في دارها فاختارت الإقامة فيها والسكنى بها متبرعة أو بأجرة
تأخذها من التركة جاز ويلزم الورثة بذل الأجرة إذا طلبتها، وان طلبت أن
تسكن غيرها وتنتقل عنها فلها ذلك، لأنه ليس عليها أن تؤجر دارها ولا تعيرها
وعليهم اسكانها. والله تعالى أعلم
180

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الاحداد
الاحداد ترك الزينة وما يدعو إلى المباشرة، ويجب ذلك في عدة الوفاة، لما
روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المتوفى عنها زوجها
لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشق ولا الحلى، ولا تختضب ولا تكتحل،
ولا يجب ذلك على المعتدة الرجعية، لأنها باقية على الزوجية، ولا يجب على أم
الولد إذا توفى عنها مولاها، ولا على الموطوءة بشبهة، لما روت أم حبيبة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد
على ميت فوق ثلاث، الا على زوج أربعة أشهر وعشرا "
واختلف قوله في المعتدة المبتوتة فقال في القديم يجب عليها الاحداد، لأنها
معتدة بائن فلزمها الاحداد كالمتوفى عنها زوجها
وقال في الجديد: لا يجب عليها الاحداد لأنها معتدة من طلاق فلم يلزمها
الاحداد كالرجعية.
(فصل) ومن لزمها الاحداد حرم عليها أن تكتحل بالإثمد والصبر.
وقال أبو الحسن الماسرجسي: إن كانت سوداء لم يحرم عليها، والمذهب أنه يحرم
لما ذكرناه من حديث أم سلمة ولأنه يحسن الوجه. ويجوز أن تكتحل بالأبيض
كالتوتيا لأنه لا يحسن بل يزيد العين مرها، فان احتاجت إلى الاكتحال بالصبر
والإثمد اكتحلت بالليل وغسلته بالنهار، لما روت أم سلمة قالت " دخل على "
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفى أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرا
فقال ما هذا يا أم سلمة؟ قلت إنما هو صبر ليس فيه طيب، فقال إنه يشب الوجه
لا تجعليه الا بالليل وتنزعيه بالنهار "
(فصل) ويحرم عليها أن تختضب لحديث أم سلمة، ولأنه يدعو إلى
المباشرة ويحرم عليها أن تحمر وجهها بالدمام وهو الكلكون، وأن تبيضه بأسفيداج
العرائس، لان ذلك أبلغ في الزينة من الخضاب، فهو بالتحريم أولى، ويحرم
عليها ترجيل الشعر لأنه يحسنها ويدعو إلى مباشرتها
181

(الشرح) حديث أم سلمة رضي الله عنها الأول أخرجه أحمد وأبو داود
والنسائي. قال البيهقي روى موقوفا: والمرفوع من رواية إبراهيم بن طهمان وهو
ثقة من رجال الصحيحين: وقد ضعفه ابن جزم. قال الشوكاني ولا يلتفت إلى
ذلك فإن الدارقطني قد جزم بأن تضعيف من ضعفه إنما هو من قبل الارجاء
وقد قيل إنه رجع عن ذلك
أما حديث أم حبيبة فقد أخرجه الشيخان عن حميد بن نافع عن زينب بنت
أم سلمة أنها أخبرته بهذه الأحاديث الثلاثة قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفى
أبوها أبو سفيان فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره، فدهنت منه
جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت والله مالي بالطيب من حاجة غير أنى سمعت،
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم
الآخر تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا. قالت زينب
ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفى أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم
قالت والله مالي بالطيب من حاجة، غير أنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول على المنبر لا يحل لامرأة تؤمن بالله وباليوم الآخر تحد على ميت فوق ثلاث
إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا،
قالت زينب وسمعت أمي أم سلمة تقول
جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت، يا رسول الله ان ابنتي
توفى عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا، مرتين أو ثلاثا، كل ذلك يقول لا. ثم قال إنما هي أربعة أشهر وعشر
وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول. قال حميد فقلت
لزينب وما ترى بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب كانت المرأة إذا توفى
عنها زوجها دخلت حفشا ولبست شر ثيابها ولم تمس ولا شيئا حتى تمر بها
سنة ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتقتض به، فقلما تقتض بشئ الا مات،
ثم تخرج فتعطى بعرة فترمى بها ثم تراجع شاءت من طيب أو غيره "
أما حديث أم سلمة الثاني فقد أخرجه أبو داود والنسائي بلفظ " دخل على
رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفى أبو سلمة وقد جعلت على صبرا فقال
ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب. قال إنه
182

يشب أوجه فلا تجعليه الا بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء
فإنه خضاب. قالت قلت بأي شئ أمتشط يا رسول الله؟ قال بالسدر تغلفين به
رأسك " وقد أخرجه الشافعي أيضا وفي اسناده المغيرة بن الضحاك عن أم حكيم
بنت أسيد عن أمها عن مولى لها عن أم سلمة، وقد أعله عبد الحق والمنذري
بجهالة حال المغيرة ومن فوقه
قال الحافظ بن حجر وأعل بما في الصحيحين زينب بنت أم سلمة الذي سقناه
في تخريج حديث أم حبيبة قبل هذا، ولكن الحافظ بن حجر حسن اسناده
في بلوغ المرام.
أما اللغات فان أصل الحد المنع ومنه للسجان حداد، والحد والحدود
هي محارم الله وعقوباته التي قرنها بالذنوب، وأصل الحد المنع والفصل بين
الشيئين، فكأن حدود الشرع فصلت بين الحلال والحرام، فمنها ما لا يقترب
منه كالفواحش المحرمة " تلك حدود الله فلا تقربوها " ومنها ما لا يتعدى
كالمواريث المعينة وتزويج الأربع " تلك حدود الله فلا تعتدوها " ومنه الحديث
" انى أصبت حدا فأقمه على " أي أصبت ذنبا أوجب على حدا أي عقوبة، ومنه
حديث أبي العالية " ان اللحم ما بين الحدين، حد الدنيا وحد الآخرة "
قال في النهاية وفيه " لا يحل لامرأة أن تحد على ميت أكثر من ثلاث "
أحدت المرأة على زوجها تحد فهي. وحدت تحد وتحد فهي حاد إذا حزنت
عليه ولبست ثياب الحزن وتركت الزينة
وقال ابن بطال: وأحدت المرأة وجدت إذا امتنعت من الزينة والخضاب
يقال حدت تحد حداد فهي حاد.
قوله " ولا الممشق " هو المصبوغ بالشق وهو المغرة الطين الأحمر، والتوتيا
دواء يجعل في العين
قوله " يزيد العين مرها " يقال مرهت العين مرها إذا فسدت لترك الكحل
وهي عين مرهاء، وامرأة مرهاء والرجل أمره. قال رؤية بن العجاج
لله در الغانيات المرة * سبحن واسترجعن من تألهى
183

قوله " يشب الوجه " أي يحسنه ويظهر لونه، من شب النار إذا ألهبها وأقدها
ويقال شعرها يشب لونها، أي يظهره ويحسنه، ويقال إنه لمشبوب. قال ذو الرمة
إذا الأروع المشبوب أضحى كأنه * على الرجل مما مسه السير أحمق
قوله " بالدمام وهو الكلكون " وروى بضم الكاف وسكون اللام. قال
الجوهري الدمام بالكسر دواء يطلى به جبهة الصبي وظاهر عينيه، وكل شئ طلى
به فهو دمام، وقد دممت الشئ أدمه بالضم، أي طليته بأي صبغ كان، والمدموم
الأحمر. قال الشاعر
تجلو بقادمتي حمامة أيكة * بردا تعل لثاته بدمام
والكلكون فارسي، والاسفيذاج صبغ أبيض، وهو المسمى بلغة العامة
اسبيداج ومثله المساحيق البيضاء والحمراء التي يستعملها النساء في عصرنا هذا
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه " فأما اللبس نفسه فلا بد منه.
قال فزينة البدن عليه المدخل عليه من غيره الدهن كله في الرأس فلا خير في شئ
منه طيب ولا غيره زيت ولا شيرق ولا غيرهما، وذلك أن كل الادهان تقوم
مقاما واحدا في ترجيل الشعر وإذهاب الشعث، وذلك هو الزينة، وإن كان
بعضها أطيب من بعض. وهكذا رأيت المحرم يفتدى بأن يدهن رأسه ولحيته
بزيت أو دهن طيب لما وصفت من الترحيل وإذهاب الشعث
قال فأما بدنها فلا بأس أن تدهنه بالزيت وكل ما لا طيب فيه من الدهن كما
لا يكون بذلك بأس للمحرم، وإن كانت الحاد تخالف المحرم في بعض أمرها،
لأنه ليس بموضع زينة للبدن ولا طيب تظهر ريحه فيدعو إلى شهوتها. فأما الدهن
الطيب والبخور، فلا خير فيه لبدنها لما وصفت من أنه طيب يدعو إلى شهوتها
وينبه بمكانها وأنها الحاد من الطيب شئ أذنت فيه الحاد، والحاد إذا مست الطيب
لم يجب عليها فدية ولم يقتض احدادها وقد أساءت، وكل كحل كان زينة فلا
خير فيه لها، مثل الإثمد وغيره مما يحسن موقعه في عينها
فأما الكحل الفارسي وما أشبه إذا احتاجت إليه فلا بأس لأنه ليس فيه زينة
بل هو يزيد العين مرها وقبحا، وما اضطرت إليه مما فيه زينة من الكحل
184

اكتحلت به بالليل ومسحته بالنهار، وكذلك الدمام وما أرادت به الدواء. اه
اما أحمد بن حنبل رضي الله عنه فقد اختلف الرواية عنه في وجوب الاحداد
على المطلقة البائن، فعنه يجب عليها، وهو قول سعيد بن المسيب وأبى عبيد
وأبي ثور وأصحاب الرأي، والثانية وهو مذهبنا أنه لا يجب على المطلقة، وهو
قول عطاء وربيعة ومالك وابن المنذر لقوله صلى الله عليه وسلم " لا يحل لامرأة
تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة
أشهر وعشرا - وهذه عدة الوفاة - فيدل على أن الاحداد إنما يجب في عدة
الوفاة، ولأنها معتدة عن غير وفاة فلم يجب عليها الاحداد كالرجعية والموطوءة
بشبهة، ولان الاحداد في عدة الوفاة لاظهار الأسف على فراق زوجها وموته
فأما الطلاق فإنه فارقها باختيار نفسه وقطع نكاحها فلا معنى لتكليفها الحزن عليه
ولان المتوفى عنها لو أتت بولد لحق الزوج، وليس له من ينفيه، فاحتيط عليها
بالاحداد لئلا يلحق بالميت من ليس منه، بخلاف المطلقة فان زوجها باق، فهو
يحتاط عليها بنفسه وينفى ولدها إذا كان من غيره
أما احداد المتوفى عنها زوجها فلا نعلم بين أهل العلم خلافا في وجوبه عليها
الا عن الحسن فإنه قال لا يجب عليها الاحداد، وهو قول شذ به عن أهل العلم،
وخالف به السنة فلا يعرج عليه، ويستوى فيه الحرة والأمة، والذمية والمسلمة
والكبيرة والصغيرة، وبه قال أحمد. وقال أصحاب الرأي لا احداد على ذمية ولا
صغيرة لأنهما غير مكلفتين
والأدلة في الاحداد عامة يتساوى فيها المكلفة وغير المكلفة، ولان حقوق
الذمية في النكاح كحقوق المسلمة.
إذا ثبت هذا فإنه يحرم عليها الطيب لما فيه من تحريك الشهوة والدعوة إلى
المباشرة، ولا يجوز لها استعمال الادهان المطيبة، كدهن الورد والياسمين
والبنفسج والبان وما أشبهه لأنه استعمال للطيب.
فأما الادهان بغير المطيب كالزيت والشيرج والسمن فلا بأس به لأنه ليس
بطيب، كما لا يجوز استعمال الزينة، واجتنابها واجب في قول عامة أهل العلم،
منهم ابن عمر وابن عباس وعطاء وجماعة أهل العلم يكرهون ذلك وينهون عنه
185

من ذلك الزينة في نفسها، فيحرم عليها أن تختضب وأن يحمر وجهها بالمساحيق
والأصباغ، وأن تبيضه بالسبيداج وبودرة التلك وأن تجعل عليه صبرا يصفره
وأن ينقش في وجهها ويديها، وأن تخفف وجهها وما أشبهه مما يحسنها، وأن
تكتحل بالإثمد من غير ضرورة.
وحكى المصنف عن الماسرجسي أن للسوداء أن تكتحل. وهذا مخالف
للأحاديث التي سقناها، فإن اضطرت الحادة أن تكتحل للتداوي فلها أن تكتحل
ليلا وتمسحه نهارا، ورخص فيه عند الضرورة عطاء والنخعي ومالك وأصحاب
الرأي لما أخرجه أبو داود والنسائي عن أم حكيم بنت أسد عن أمها أن زوجها
توفى وكانت تشتكي عينيها فتكتحل بالجلاء فأرسلت مولاة لها إلى أم سلمة تسألها
عن كحل الجلاء، فقالت لا تكتحلي بالتوتيا والعنزروت ونحوهما فلا بأس به
لأنه لا زينة فيه بل يقبح العين ويزيدها مرها: ولا تمنع من جعله على غير وجهها
من بدنها، لأنه إنما منع منه في الوجه لأنه يصفره فيشبه الخضاب. ولهذا قال
صلى الله عليه وسلم " إنه يشب الوجه " ولا تمنع من التنظيف بتقليم الأظفار
ونتف الإبط وحلق الشعر المندوب إلى حلقه ولا من الاغتسال بالسدر والامتشاط
به لحديث أم سلمة، ولأنه يراد للتنظيف لا للطيب.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ويحرم عليها أن تطيب لما روت أم عطية أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: لاتحد المرأة فوق ثلاثة أيام إلا على زوج فإنها تحد أربعة أشهر وعشرا
لا تكتحل ولا تلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تمس طيبا إلا عند
طهرها من محيضها نبذة من قسط أو أظفار، ولان الطيب يحرك الشهوة ويدعو
إلى المباشرة، ولا تأكل شيئا فيه طيب ظاهر ولا تستعمل الادهان المطيبة كألبان
ودهن الورد ودهن البنفسج لأنه طيب ولا تستعمل الزيت والشيرج في الرأس
لأنه يرجل الشعر، ويجوز لها أن تغسل رأسها بالسدر لما روت أم سلمة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لها امتشطي، فقلت بأي شئ أمتشط يا رسول الله؟
186

قال بالسدر تغلفين به رأسك " ولان ذلك تنظيف لا تزيين فلم يمنع منه، ويجوز
أن تقلم الأظفار وتحلق العانة لأنه يراد للتنظيف لا للزينة.
(فصل) ويحرم عليها لبس الحلى لحديث أم سلمة، ولأنه يزيد في حسنها
ولهذا قال الشاعر:
وما الحلى إلا زينة لنقيصة يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
فأما إذا كان الجمال موفرا كحسنك لم يحتج إلى أن يزورا
(فصل) ويحرم عليها لبس ما صبغ من الثياب للزينة كالأحمر والأصفر
والأزرق الصافي والأخضر لحديث أم عطية، ولا تلبس ثوبا مصبوغا
الا ثوب عصب، وأما ما صبغ غزله ثم نسج فقد قال أبو إسحاق: انه لا يحرم
لحديث أم عطية، ولا تلبس ثوبا مصبوغا الا ثوب عصب، والعصب ما صبغ
غزله ثم نسج، والمذهب أنه يحرم لان الشافعي رحمه الله نص على تحريم الوشي
والديباج، وهذا كله صبغ غزله ثم نسج، ولان ما صبغ غزله ثم نسج أرفع
وأحسن مما صبغ بعد النسج.
وأما ما صبغ لغير الزينة كالثوب المصبوغ بالسواد للمصيبة وما صبغ للوسخ
كالأزرق المشبع والأخضر المشبع فإنه لا يحرم، لأنه لا زينة فيه، ولا يحرم
ما عمل من غزله من غير صبغ، كالمعمول من القطن والكتان والإبريسم
والصوف والوبر، لأنها وإن كانت حسنة الا أن حسنها من أصل الخلقة لا لزينة
أدخلت عليها، وان عمل على البياض طرز، فإن كانت كبارا حرم عليها لبسه
لأنه زينة ظاهرة أدخلت عليه، وإن كانت صغارا ففيه وجهان (أحدهما) يحرم
كما يحرم قليل الحلى وكثيره (والثاني) لا يحرم لقلتها وخفائها.
(الشرح) حديث أم عطية الأسدية رضي الله عنها أخرجه الشيخان قالت
" كنا ننهى أن نحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا،
ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب، وقد رخص
لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من محيضها في نبذة من كست أظفار " وفي
187

رواية عند أحمد والشيخين أيضا " قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحل لامرأة
تؤمن بالله واليوم الآخر تحد فوق ثلاث إلا على زوج فإنها لا تكتحل ولا تلبس
ثوبا مصبوغا إلا ثوب عصب ولا تمس طيبا إلا إذا طهرت نبذة من قسط
أو أظفار " وقال فيه أحمد ومسلم " لاتحد على ميت فوق ثلاث إلا المرأة فإنها
تحد أربعة أشهر وعشرا.
أما اللغات فقوله " الا ثوب عصب " هو بالإضافة برود اليمين يعصب غزلها
أي يربط ثم يصبغ ثم ينسج مغصوبا فيخرج موشي لبقاء ما عصب منه أبيض لم
يتصبغ وإنما يتصبغ السدى دون اللحمة: وقال السهيلي: ان العصب نبات
لا ينبت إلا باليمين، وهو غريب وأغرب منه قول الداودي ان المراد بالثوب
العصب المعصفرة لا المصبغة الا ما صبغ بسواد فرخص فيه مالك والشافعي لكونه
لا يتخذ للزينة، بل هو لباس الحزن.
وقال ابن الصباغ في الشامل: العصب هو الغزل والعصاب هو الغزال الذي
يبيع الغزل. قوله " نبذة من قسط أو أظفار " النبذة فعلة، من نبذ أي طرح
ورمى وكل شئ رميت به وطرحته نبذته، والقسط طيب معروف يؤتى به من
أرض الحبشة، ويقال كسط بالكاف أيضا مثل قوله كشطت وقشطت، ويقال
كست بالتاء أيضا، والأظفار تؤخذ من البحر تشبه بظفر الانسان، قوله
" تغلفين به رأسك " أي تطلين وتمشطين، يقال تغلف بالغالية وغلف بها لحيته
غلفا، قوله " الحلى " بفتح الحاء واسكان اللام اسم لكل ما يتزين به من الذهب
والفضة والجواهر وجمعه حلى بضم الحاء وكسرها " وقوله " لنقيصه " فعيلة من
النقص وهو ضد التمام، والنقيصه أيضا العيب، وقصر أي لم يتم، يقال قصر في
الامر إذا توانى والتقصير التواني وترك المبالغة قوله " موفرا " من الوفر وهو
الزيادة والكثرة أي يأتي تاما غير ناقص، قوله " لم يحتج إلى أن يزورا " زورت
الشئ إذا حسنته وقوله " الوشي والديباج " نوع من ثياب الحرير غليظ معروف
قوله " الإبريسم " وفيه ثلاث لغات.
قال ابن السكيت: هو الإبريسم بكسر الهمزة والراء وفتح السين والثانية
188

بكسر الهمزة وفتح الراء والسين جميعا والثالثة بكسر الجميع، وكذا الإهليلج مثله
والصوف شعر الضأن والوبر شعر الإبل أفاده ابن بطال.
أما الأحكام: فإن العصب الصحيح أنه نبت تصبغ به الثياب، قال صاحب
الروض الأنف: الورس والعصب نبتان باليمن لا ينبتان إلا به، فأرخص النبي
صلى الله عليه وسلم للحادة في لبس ما صبغ بالعصب، لأنه في معنى ما صبغ لغير
التحسين، وأما ما صبغ غزله للتحسين كالأحمر والأصفر فلا معنى لتجويز لبسه
مع حصول الزينة بصبغه كحصولها بما صبغ بعد نسجه، ولا تمنع من حسان
الثياب غير المصبوغة، وإن كان رقيقا، سواء كان من قطن أو كتان أو إبريسم "
لان حسنه من أصل خلقته فلا يلزم تغييره كما أن المرأة إذا كانت حسنة الخلقة
لا يلزمها أن تغير لونها وتشوه نفسها.
(فرع) ويحرم عليها لبس الحلى كله حتى الخاتم لحديث أم سلمة وفيه
" ولا الحلى " وقال عطاء. يباح حلى الفضة دون الذهب وليس بصحيح، لان
النهى عام، وهذا يشمل أنواع الحلى التي تصنع في عصرنا هذا من الزجاج
والكور والكريستال وغير ذلك من المعادن الخسيسة، ولان الحلى يزيد حسنها
ويدعو إلى مباشرتها.
(فرع) مما يحرم على المعتدة لبسه الملابس المطرزة بخيوط القطن إذا كان
ملونا، وكذلك الملابس المحزقة للزينة، والشفافة التي تصف ما تحتها من حمالات
وقمص مما تلبسه الحادات من سواد والله تعالى أعلم.
189

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب اجتماع العدتين
إذا طلق الرجل امرأته بعد الدخول وتزوجت في عدتها بآخر ووطئها جاهلا
بتحريمها وجب عليها اتمام عدة الأول واستئناف عدة الثاني، ولا تدخل عدة
أحدهما في عدة الاخر، لما روى سعيد بن المسيب وسليمان بن بشار " أن طليحة
كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر رضي الله عنه،
وضرب زوجها بمخفقة ضربات، ثم قال أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان
زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها
الأول، وكان خاطبا من الخطاب " وإن كان دخل بها فرق بنيهما ثم اعتدت
بقية عدتها من زوجها الأول، ثم اعتدت من الاخر ولم ينكحها أبدا ولأنهما
حقان مقصودان لآدميين فلم يتداخلا كالدينين فإن كانت حائلا انقطعت عدة
الأول بوطئ الثاني إلى أن يفرق بينهما، لأنها صارت فراشا للثاني فإذا فرق بينهما
أتمت ما بقي من عدة الأول ثم استأنفت العدة من الثاني، لأنهما عدتان من جنس
واحد فقدمت السابقة منهما.
وإن كانت حاملا نظرت فإن كان الحمل من الأول انقطعت عدتها منه بوضعه
ثم استأنفت العدة من الثاني بالأقراء بعد الطهر من النفاس، وإن كان الحمل من
الثاني انقضت عدتها منه بوضعه ثم أتمت عدة الأول، وتقدم عدة الثاني ههنا على
عدة الأول لأنه لا يجوز أن يكون الحمل من الثاني وتعتد به من الأول، وان
أمكن أن يكون من كل واحد منهما عرض على القافة، فان ألحقته بالأول
انقضت به عدته، وان ألحقته بالثاني انقضت به عدته، وان ألحقته بهما أو نفته
عنهما أو لم نعلم أو لم تكن قافة لزمها أن تعتد بعد الوضع بثلاثة أقراء، لأنه
إن كان من الأول لزمها للثاني ثلاثة أقراء، وإن كان من الثاني لزمها اكمال
العدة من الأول فوجب أن تعتد بثلاثة أقراء ليسقط الفرض بيقين، وان لم
يمكن أن يكون من واحد منهما ففيه وجهان.
190

(أحدهما) لا تعتد به عن أحدهما، لأنه غير لاحق بواحد منهما، فعلى هذا
إذا وضعت أكملت عدة الأول ثم تعتد من الثاني بثلاثة أقراء
(والثاني) تعتد به عن أحدهما لا بعينه، لأنه يمكن أن يكون من أحدهما،
ولهذا لو أقر به لحقه فانقضت به العدة كالمنفى باللعان فعلى هذا يلزمها أن تعتد
بثلاثة أقراء بعد الطهر من النفاس
(فصل) إذا تزوج رجل امرأة في عدة غيره ووطئها ففيه قولان. قال في
القديم تحرم عليه على التأييد لما رويناه عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ثم لا ينكحها
أبدا، وقال في الجديد لا تحرم عليه على التأييد، وإذا انقضت عدتها من الأول
جاز له أن يتزوجها لأنه وطئ شبهة فلا يوجب تحريم الموطوءة على الواطئ على
التأييد الوطئ في النكاح بلا ولى، وما روى عن عمر رضي الله عنه فقد روى عن
علي كرم الله وجهه أنه قال: إذا انقضت عدتها فهو خاطب من الخطاب، فخطب
عمر رضي الله عنه وقال: ردوا الجهالات إلى السنة. فرجع إلى قول علي
كرم الله وجهه.
(فصل) إذا طلق زوجته طلاقا رجعيا ثم وطئها في العدة، وجبت عليها عدة
بالوطئ لأنه وطئ في نكاح قد تشعث فهو كوطئ الشبهة، فإن كانت من ذوات
الأقراء أو من ذوات الشهور لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها البقية من عدة
الطلاق لأنهما من واحد وله أن يراجعها في البقية لأنها من عدة الطلاق فإذا مضت
البقية لم يجز أن يراجعها لأنها في عدة وطئ شبهة، وان حملت من الوطئ وصارت
في عدة الوطئ حتى تضع، وهل تدخل فيها بقية عدة الطلاق؟ فيه وجهان
(أحدهما) تدخل لأنهما لواحد فدخلت إحداهما في الأخرى، كما لو كانتا
بالأقراء (والثاني) لا تدخل لأنهما جنسان فلم تدخل إحداهما في الأخرى،
فإن قلنا يتداخلان كانت في العدتين إلى أن تضع لان الحمل لا يتبعض، وله أن
يراجعها إلى أن تضع، لأنها في عدة الطلاق. وان قلنا لا يتداخلان فإن لم ترد
ما على الحمل أو رأت وقلنا إنه ليس بحيض فهي معتدة بالحمل عن وطئ الشبهة إلى
أن تضع، فإذا أتمت عدة الطلاق وله أن يراجعها في هذه البقية لأنها في
عدة الطلاق. وهل له أن يراجعها قبل الوضع؟ فيه وجهان
191

(أحدهما) ليس له أن يراجعها لأنها في عدة وطئ الشبهة (والثاني) له أن
يراجعها لأنها لم تكمل عدة الطلاق، فإذا رأت الدم على الحمل وقلنا إنه حيض
كانت عدتها من الوطئ بالحمل وعدتها من الطلاق بالأقراء التي على الحمل، لان
عليها عدتين، إحداهما بالأقراء والأخرى بالحمل فجاز أن يجتمعا، فإذا مضت
ثلاثة أقراء قبل وضع الحمل فقد انقضت عدة الطلاق، وان وضعت قبل انقضاء
الأقراء فقد انقضت عدة الوطئ وعليها إتمام عدة الطلاق، فإذا راجعها في بقية عدة
الطلاق صحت الرجعة، وان راجعها قبل الوضع ففي صحة الرجعة وجهان
على ما ذكرناه.
فأما إذا كانت قد حبلت من الوطئ قبل الطلاق كانت عدة الطلاق بالحمل
وعدة الوطئ بالأقراء. فان قلنا إن عدة الأقراء تدخل في عدة الحمل كانت عدتها
من الطلاق والوطئ بالحمل فإذا وضعت انقضت العدتان جميعا، وان قلنا لا تدخل
عدة الأقراء في الحمل، فإن كانت لا ترى الدم على الحمل أو تراه وقلنا إنه ليس
بحيض فان عدتها من الطلاق تنقضي بوضع الحمل وعليها استئناف عدة الوطئ
بالأقراء. وإن كانت ترى الدم وقلنا إنه حيض، فان سبق الوضع انقضت العدة
الأولى وعليها إتمام العدة الثانية، فان سبق انقضاء الأقراء انقضت عدة الوطئ
ولا تنقضي العدة الأولى الا بالوضع
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سعيد
ابن المسيب وسليمان أن طليحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها البتة فنكحت في
عدتها، فضربها عمر بن الخطاب رضي الله عنه وضرب زوجها بالمخفقة ضربات
وفرق بينهما، ثم قال عمر: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان الزوج الذي
تزوج بها لم يدخل فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول وكان خاطبا
من الخطاب. وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها
الأول، ثم اعتدت من زوجها الآخر ثم لم ينكحها أبدا
قال الشافعي، قال سعيد ولها مهرها بما استحل منها، ثم قال: أخبرنا يحيى
192

ابن حسان عن جرير عن عطاء بن السائب عن زاذان أبى عمر عن علي رضي الله عنه
أنه قضى في التي تزوج في عدتها أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من
فرجها وتكمل ما أفسدت من عدة الأول وتعتد من الآخر
قال أخبرنا عبد المجيد عن ابن جريج قال، أخبرنا عطاء أن رجلا طلق
امرأته فاعتدت منه حتى إذا بقي شئ من عدتها نكحها رجل في آخر عدتها جهلا
ذلك وبنى بها، فأتى علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه في ذلك ففرق بينهما
وأمرها أن تعتد ما بقي من عدتها الأولى ثم تعتد من هذا عدة مستقبلة، فإذا
انقضت عدتها فهي بالخيار إن شاءت نكحت وإن شاءت فلا
قال وبقول عمر وعلى نقول في المرأة تنكح في عدتها تأتى بعدتين معا، وبقول
على نقول إنه يكون خاطبا من الخطاب ولم تحرم عليه، وذلك أنا إذا جعلنا النكاح
الفاسد يقوم مقام النكاح الصحيح في أن على المنكوحة نكاحا فاسدا إذا أصيبت
عدة كعدتها في النكاح الصحيح فنكحت امرأة في عدتها فأصيبت فقد لزمتها عدة
الزواج الصحيح ثم لزمها عدة من النكاح الفاسد فكان عليها حقان بسبب زوجين
ولا يؤديهما عنها إلا بأن تأتى بهما معا. وكذلك كل حقين لزماها من وجهين
لا يؤديهما عن أحد لزماه أحدهما دون الآخر
ولو أن امرأة طلقت أو ميت عنها فنكحت في عدتها ثم على ذلك فسخ
نكاحها، فإن كان الزوج الآخر لم يصبها أكملت عدتها من الأول ولا يبطل عنها
من عدتها شئ في الأيام التي عقد عليها فيها النكاح الفاسد، لأنها في عدتها ولم
نصب، فإن أصابها أحصت ما مضى من عدتها قبل إصابة الزوج الآخر وأبطلت
كل ما مضى منها بعد اصابته حتى يفرق بينه وبينها واستأنفت البنيان على عدتها
التي كانت قبل اصابته من يوم فرق بينه وبينها حتى تكمل عدتها من الأول ثم
تستأنف عدة أخرى من الآخر، فإذا أكملتها حلت منها والاخر خاطب من
الخطاب إذا مضت عدتها من الأول: وبعد لا تحرم عليه لأنه إذا كان يعقد
عليها النكاح الفاسد فيكون خاطبا إذا لم يدخل بها، فلا يكون دخوله بها في النكاح
الفاسد أكثر من زناه بها. وهو لو زنى بها في العدة كان له أن ينكحها إذا انقضت
193

عدتها من الأول فللآخر أن يخطبها في عدتها منه: وأحب إلى لو كف عنها حتى
تنقضي عدتها من مائه الفاسد اه
ولو كانت تحيض فاعتدت حيضة أو اثنتين ثم أصابها الزوج الاخر فحملت
وفرق بينهما اعتدت بالحمل، فإذا وضعته لأقل من ستة أشهر من يوم نكحها فهو
للأول. وإن كانت وضعته لستة أشهر من يوم نكحها الاخر فأكثر إلى أقل من
أربع سنين من يوم فارقها الأول دعى له القافة. وإن كانت وضعته لأكثر من
أربع سنين ساعة من يوم فارقها الأول فكان طلاقه لا يملك الرجعة فهو للآخر
وإن كان طلاقه يملك الرجعة وتداعياه أو لم يتداعياه ولم ينكراه ولا واحد
منهما أريه القافة فبأيهما ألحقوه به لحق، وان ألحقوه بالأول فقد انقضت عدتها
من الأول وحل للآخر خطبتها، وتبتدئ عدة من الآخر، فإذا قضتها حلت
خطبتها للأول وغيره، فان ألحقوه بالآخر فقد انقضت عدتها من الاخر وتبتدئ
فتكمل على ما مضى من عدة الأول، وللأول عليها الرجعة في عدتها منه إن كان
طلاقه يملك الرجعة
وقد سبق لنا في فصول سابقة من كتاب العدد بيان أن أقصى مدة الحمل أربع
سنين - وبه قال أحمد وهو المشهور عن مالك - وذكرنا الأوجه والأقوال
في ذلك فارجع إليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) إذا خالع امرأته بعد الدخول فله أن يتزوجها في العدة. وقال
المزني لا يجوز كما لا يجوز لغيره، وهذا خطأ لان نكاح غيره يؤدى إلى اختلاط
الأنساب ولا يوجد ذلك في نكاحه. وان تزوجها انقطعت العدة. وقال
أبو العباس: لا تنقطع قبل أن يطأها، كما لا تنقطع إذا تزوجها أجنبي قبل أن
يطأها - وهذا خطأ - لأن المرأة تصير فراشا بالعقد، ولا يجوز أن تبقى مع
الفراش عدة، ولأنه لا يجوز أن تكون زوجته وتعتد منه: ويخالف الأجنبي
فان نكاحه في العدة فاسد فلم تصر فراشا الا بالوطئ، فان وطئها ثم طلقها لزمها
عدة مستأنفة وتدخل فيها بقية الأولى.
194

وإن طلقها قبل أن يطأها لم يلزمها استئناف عدة لأنها مطلقة في نكاح قبل المسيس
فلم تلزمها عدة كما لو نزوج امرأة وطلقها قبل الدخول، وعليها أن تتمم ما بقي
عليها من العدة الأولى، لأنا لو أسقطنا البقية أدى ذلك إلى اختلاط المياه وفساد
الأنساب، لأنه يتزوج امرأة ويطأها ثم يخلعها ثم يتزوجها آخر فيطأها ثم يخلعها
ثم يتزوجها آخر، ويفعل مثل ذلك إلى أن يجتمع على وطئها في يوم واحد
عشرون، وتختلط المياه وتفسد الأنساب
(فصل) إذا طلق امرأته بعد الدخول طلقة ثم راجعها نظرت، فإن وطئها
بعد الرجعة ثم طلقها لزمها أن تستأنف العدة وتدخل فيها بقية العدة الأولى، فان
راجعها ثم طلقها قبل يطأها ففيه قولان
(أحدهما) ترجع إلى العدة الأولى وتبنى عليها، كما لو خالعها ثم تزوجها في
العدة ثم طلقها قبل أن يطأها
(والثاني) أنها تستأنف العدة، وهو اختيار المزني، وهو الصحيح، لأنه
طلاق في نكاح وطئ فيه فأوجب عدة كاملة، كما لو لم يتقدمه طلاق ولا رجعة
وتخالف المختلعة لان هناك عادة إليه بنكاح جديد ثم طلقها من غير وطئ، وههنا
عادت إلى النكاح الذي طلقها فيه، فإذا طلقها استأنفت العدة، كما لو ارتدت بعد
الدخول ثم أسلمت ثم طلقها
وإن طلقها ثم مضى عليها قرء أو قرآن ثم طلقها من غير رجعة ففيه طريقان
قال أبو سعيد الإصطخري وأبو علي بن خيران رحمهما الله هي كالمسألة قبلها فتكون
على قولين، وللشافعي رحمه الله ما يدل عليه، فإنه قال في تلك المسألة: ويلزم
أن نقول ارتجع أو لم يرتجع سواء، والدليل عليه أن الطلاق معنى لو طرأ على
الزوجية أوجب عدة، فإذا طرأ على الرجعية أوجب عدة كالوفاة في إيجاب عدة
الوفاة. وقال أبو إسحاق: تبنى على عدتها قولا واحدا لأنهما طلاقان لم يتخللهما
وطئ ولا رجعة فصار كما لو طلقها طلقتين في وقت واحد
(فصل) وإن تزوج عبد أمة ودخل بها ثم طلقها طلاقا رجعيا ثم أعتقت
الأمة وفسخت النكاح ففيه طريقان
195

(أحدهما) أنها على قولين، أحدهما تستأنف العدة من حين الفسخ،
والثاني لا تستأنف.
والطريق الثاني أنها تستأنف العدة من الفسخ قولا واحدا لان إحدى العدتين
من طلاق والأخرى من فسخ فلا تبنى إحداهما على الأخرى.
(الشرح) إذا خالع الرجل أو فسخ نكاحه فله أن يتزوجها في عدتها في قول
جمهور الفقهاء، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء وطاوس والزهري والحسن
وقتادة ومالك والشافعي وأصحاب الرأي: وشذ المزني وبعض أصحابنا فقال
لا يجوز ولا يحل له نكاحها ولا خطبتها لأنها معتدة
ووجه كون هذا القول خطأ أن العدة لحفظ نسبه وصيانة مائه ولا يصان
ماؤه عن مائه إذا كانا من نكاح صحيح، فإذا تزوجها انقطعت العدة، لأن المرأة
تصير فراشا له بعقده ولا يجوز أن تكون زوجة معتدة، فان وطئها ثم طلقها
لزمتها عده مستأنفة، ولا شئ عليها من الأول لأنها انقطعت وارتفعت. وان
طلقها قبل أن يمسها فهل تستأنف العدة أو تبنى على ما مضى؟ مذهبنا أنه لا يلزمها
استئناف عدة، وبه قال محمد بن الحسن، وهو إحدى الروايتين عن أحمد. وقال
أبو حنيفة " تستأنف " لأنه طلاق لا يخلو من عدة، فأوجب عدة مستأنفة
كالأول. دليلنا أنه طلاق في نكاح قبل المسيس فلم يوجب عدة لعموم قوله تعالى
" ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم عليهن من عدة تعتدونها "
(فرع) إذا طلقها طلاقا رجعيا ثم ارتجعها في عدتها ووطئها ثم طلقها انقطعت
العدة الأولى برجعته، لأنه زال حكم الطلاق وتستأنف عدة من الطلاق الثاني،
لأنه طلاق من نكاح اتصل به المسيس، وان طلقها قبل أن يمسها فهل تستأنف
عدة أو تبنى على العدة الأولى؟ فيه قولان ولأحمد روايتان كالقولين عندنا
1 - أن تستأنف لان الرجعة أزالت شعث الطلاق الأول وردتها إلى النكاح
الأول، فصار الطلاق الثاني طلاقا من نكاح اتصل به المسيس
2 تبنى لان الرجعة لا تزيد على النكاح الجديد، ولو نكحها ثم طلقها
قبل المسيس لم يلزمها لذلك الطلاق عدة فكذلك الرجعة، فان فسخ نكاحها
196

قبل الرجعة بخلع أو غيره احتمل أن يكون حكمه حكم الطلاق، لان موجبه في
العدة موجب الطلاق، وقد مضى في شرح الفصول قبله ما فيه من طرق وأوجه
تداخل العدتين فلا داعي للتكرار
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا خلا الرجل بامرأته ثم اختلفا في الإصابة، فادعاه أحدهما
وأنكر الآخر ففيه قولان. قال في الجديد قول المنكر، لان الأصل عدم
الإصابة. وقال في القديم قول المدعى لان الخلوة تدل على الإصابة
(فصل) وإن اختلفا في انقضاء العدة بالأقراء فادعت المرأة انقضاءها لزمان
يمكن فيه انقضاء العدة وأنكر الزوج، فالقول قولها، وإن اختلفا في وضع
ما تنقضي به العدة، فادعت المرأة أنها وضعت ما تنقضي به العدة وأنكر الزوج
فالقول قولها لقوله عز وجل " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن "
فخرج النساء على كتمان ما في الأرحام كما حرج الشهود على كتمان الشهادة فقال:
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه. ثم يجب قبول شهادة قول الشهود
فوجب قبول قول النساء، ولان ذلك لا يعلم إلا من جهتها فوجب قبول قولها
فيه كما يجب على التابعي قبول ما يخبره به الصحابي عن رسول الله صلى عليه
وسلم حين لم يكن له سبيل إلى معرفته إلا من جهته.
وإن ادعت المرأة انقضاء العدة بالشهور وأنكر الزوج فالقول قوله، لان
ذلك اختلاف في وقت الطلاق فكان القول فيه قوله.
(فصل) وإن طلقها فقالت المرأة طلقني وقد بقي من الطهر ما يعتد به قرءا
وقال الزوج طلقتك ولم يبق شئ من الطهر فالقول قول المرأة لان ذلك اختلاف
قي وقت الحيض، وقد بينا أن القول في الحيض قولها.
(فصل) وإن طلقها وولدت واتفقا على وقت الولادة واختلفا في وقت
الطلاق، فقال الزوج طلقتك بعد الولادة فلي الرجعة، وقالت المرأة طلقتني قبل
الولادة فلا رجعة لك فالقول قول الزوج، لأنهما لو اختلفا في أصل الطلاق كان
197

القول قوله فكذلك إذا اختلفا في وقته، ولان هذا اختلاف في قوله وهو أعلم
به فرجع إليه. وإن اتفقا في وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة، فقال الزوج
ولدت قبل الطلاق فلي الرجعة، وقالت المرأة بل ولدت بعد الطلاق فلا رجعة لك
فالقول قولها لأنهما لو اختلفا في أصل الولادة كان القول قولها فكذلك إذا اختلفا
في وقتها. وان جهلا وقت الطلاق و وقت الولادة وتداعيا السبق فقال الرجل
تأخر الطلاق وقالت المرأة تأخرت الولادة، فالقول قول الزوج لان الأصل
وجوب العدة وبقاء الرجعة، فإن جهلا وقتهما، أو جهل السابق منهما لم يحكم
بينهما لأنهما لا يدعيان حقا.
وإن ادعت المرأة السبق وقال الزوج لا أعرف السابق قال له الحاكم ليس
هذا بجواب، فإما أن تجيب جوابا صحيحا أو نجعلك ناكلا، فإن استفتى أفتيناه
بما ذكرناه في المسألة قبلها، وأن للزوج الرجعة لان الأصل وجوب العدة وبقاء
الرجعة، والورع أن لا يراجعها
(فصل) فإن أذن لها في الخروج إلى بلد آخر ثم طلقها واختلفا، فقالت المرأة
نقلتني إلى البلد الآخر ففيه أعتد، وقال الزوج بل أذنت لك في الخروج لحاجة
فعليك أن ترجعي فالقول قول الزوج لأنه أعلم بقصده، وان مات واختلفت
الزوجة والوارث فالقول قولها لأنهما استويا في الجهل بقصد الزوج ومع الزوجة
ظاهر، فان الامر بالخروج يقتضى خروجا من غير عود
قال الشافعي رضي الله عنه في القديم: إذا اختلفا في الإصابة بعد الخلوة
فالقول قول المدعى لان الخلوة تدل على الإصابة. وقال في الجديد، قال الله
تبارك وتعالى " إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فمالكم
عليهن من عدة تعتدونها " فكان بينا في حكم الله عز وجل أن لا عدة على المطلقة
قبل أن تمس، وأن المسيس هو الإصابة، ولم أعلم في هذا خلافا
ثم اختلف بعض المفتين في المرأة يخلو بها زوجها فيغلق بابا ويرخى سترا
وهي غير محرمة ولا صائمة، فقال ابن عباس وشريح وغيرهما لا عدة عليها الا
بالإصابة نفسها، لان الله عز وجل هكذا قال
198

أخبرنا مسلم عن ابن جريح عن ليس عن طاوس عن ابن عباس رضى الله
تعالى عنهما أنه قال في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ولا يطلقها: ليس
لها إلا نصف الصداق، لان الله عز وجل يقول " وإن طلقتموهن من قبل أن
تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم، قال الشافعي وبهذا أقول وهو
ظاهر كتاب الله عز ذكره اه
قلت، قال تعالى " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن " قال
عكرمة والزهري والنخعي من الحيض. وقال عمر وابن عباس الحمل، وقال مجاهد
الحيض والحمل معا، وهذا على أن الحامل تحيض، والمعنى المقصود من الآية أنه
لما دار أمر العدة على الحيض والأطهار ولا اطلاع عليهما إلا من جهة النساء
جعل القول قولها إذا ادعت انقضاء العدة أو عدمها، وجعلهن مؤتمات على ذلك
وهو مقتضى قوله تعالى " ولا يحل لهن أن يكتمن " الآية
وقال سليمان بن يسار: ولم نؤمر أن نفتح النساء فننظر إلى فروجهن، ولكن
وكل ذلك إليهن إن كن مؤتمات. ومعنى النهى عن الكتمان النهى عن الاضرار
بالزوج وإذهاب حقه، فإذا قالت المطلقة حضت وهي لم تحض ذهبت بحقه من
الارتجاع. وإذا قالت لم أحض وهي قد حاضت ألزمته من النفقة ما لم يلزمه
فأضرت به، أو تقصد بكذبها في نفى الحيض ألا ترتجع حتى تنقضي العدة ويقطع
الشرع حقه، وكذلك الحامل تكتم الحمل لتقطع حقه من الارتجاع. قال قتادة:
كانت عادتهن في الجاهلية أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزوج الجديد، ففي
ذلك نزلة الآية.
قال ابن المنذر: وقال كل من حفظت عنه من أهل العلم، إذا قالت المرأة في
عشرة أيام قد حضت ثلاث حيض وانقضت عدتي إنها لا تصدق ولا يقبل ذلك
منها إلا أن تقول قد أسقطت سقطا قد استبان خلقه، واختلفوا في المدة التي
تصدق بها المرأة. فقال مالك " إذا قالت انقضت عدتي في أمد تنقضي في مثله
العدة قبل قولها، فإن أخبرت بانقضاء العدة في مدة تقع نادرا فقولان، قال في
المدونة إذا قالت حضت ثلاث حيض في شهر صدقت إذا صدقها النساء. وبه قال
شريح وقال له علي بن أبي طالب " قالون " أي أصبت وأحسنت، وقال في كتاب
199

محمد " لا تصدق إلا في شهر ونصف " ونحوه قول أبي ثور. قال أبو ثور أقل
ما يكون في ذلك سبعة وأربعين يوما، وذلك أن أقل الطهر خمسة عشر يوما.
وأقل الحيض يوما
وقال الشافعي لا تصدق في أقل من سنين يوما وقال به أبو حنيفة.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه " ولو طلق الرجل امرأته وولدت فلم تدر
هي أوقع الطلاق عليها قبل ولادها أو بعده. وقال هو وقع بعد ما ولدت فلي
عليك الرجعة وكذبته، فالقول قوله وهو أحق بها، لان الرجعة حق له والخلو
من العدة حق لها، فإذا لم تدع حقها فتكون أملك بنفسها لأنه فيها دونه لم يزل
حقه إنما يزول بأن تزعم هي أنه زال. قال ولو لم يدر هو ولا هي أوقع الطلاق
قبل الولاد أو بعده بأن كان عنها غائبا حين طلقها بناحية من مصرها أو خارج
منه كانت عليها العدة، لأن العدة تجب على المطلقة فلا نزيلها عنها إلا بيقين أن
تأتى بها وكان الورع أن لا يرتجعها لأني لا أدري لعلها قد حلت منه، ولو ارتجعها
لم أمنعه لأنه لا يجوز لي منعه رجعتها إلا بيقين أن قد حلت منه
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه، ولو قال لها أخرجي إلى مصر كذا أو
موضع كذا فخرجت إليه، أو منزل كذا من مصر فخرجت إليه ولم يقل لها حجى
ولا أقيمي ولا ترجعي منه ولا لا ترجعي الا ان تشائي ولا تزوري فيه أهلك أو
بعض معرفتك ولا تتنزهي إليه كانت هذه نقلة وعليها ان تعتد في ذلك الموضع
من طلاقه ووفاته.
فإذا اختلفا فقالت نقلتني إلى البلد الآخر ففيه أعتد ونفى هو فعلى ما بينه
المصنف. والله تعالى اعلم.
200

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب استبراء الأمة وأم الولد)
من ملك أمة ببيع أو هبة أو ارث أو سبى أو غيرها من الأسباب لزمه أن
يستبرئها لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه " ان النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عام أو طاس ان لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض حيضة.
فإن كانت حاملا استبرأها بوضع الحمل لحديث أبي سعيد الخدري، وإن كانت
حائلا نظرت فإن كانت مما تحيض استبرأها بقرء، وفي القرء قولان
(أحدهما) أنه طهر لأنه استبراء فكان القرء فيه الطهر كالعدة
(والثاني) أن القرء حيض، وهو الصحيح، لحديث أبي سعيد، ولان براءة
الرحم لا تحصل إلا بالحيض - فإن قلنا إن القرء هو الطهر - فإن كانت عند
وجوب الاستبراء طاهرا كانت بقية الطهر قرءا، فإن طعنت في الحيض لم تحل
حتى تحيض حيضة كاملة ليعلم براءة رحمها، فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت وإن
كانت حائضا لم تشرع في القرء حتى تطهر، فإذا طعنت في الحيض الثاني حلت.
وإن قلنا إن القرء هو الحيض، فإن كانت حال وجوب الاستبراء طاهرا لم تشرع
في القرء حتى تحيض، فإذا طعنت في الطهر الثاني حلت، وإن كانت حائضا لم تشرع
في القرء إلا في الحيضة الثانية لان بقية الحيض لا تعد قرءا فإذا طعنت في الطهر
الثاني حلت.
وإن وجب الاستبراء وهي ممن تحيض فارتفعت حيضتها كان حكمها في الانتظار
حكم المطلقة إذا ارتفع حيضها، وإن وجب الاستبراء وهي ممن لا تحيض لصغر
أو كبر ففيه قولان (أحدهما) تستبرأ بشهر لان كل شهر في مقابلة قرء
(والثاني) تستبرأ بثلاثة أشهر - وهو الصحيح - لان ما دونها لم يجعل دليلا
على براءة الرحم.
(فصل) وإن ملكها وهي مجوسية أو مرتدة أو معتدة أو ذات زوج
لم يصح استبراؤها في هذه الأحوال، لان الاستبراء يراد للاستباحة ولا توجد
201

الاستباحة في هذه الأحوال، وان اشتراها فوضعت في مدة الخيار أو حاضت
في مدة الخيار، فإن قلنا إنها لا تملك قبل انقضاء الخيار لم يعتد بذلك عن الاستبراء
لأنه استبراء قبل الملك، وإن قلنا إنها تملك ففيه وجهان، أحدهما لا يعتد به لان
الملك غير تام لأنه معرض للفسخ (والثاني) يعتد به لأنه استبراء بعد الملك
وجواز الفسخ لا يمنع الاستبراء، كما لو استبرأها وبها عيب لم يعلم به، وان ملكها
بالبيع أو الوصية فوضعت أو حاضت قبل القبض ففيه وجهان (أحدهما) لا يعتد
به لان الملك غير تام (والثاني) يعتد به لأنه استبراء بعد الملك، وللشافعي
رحمه الله ما يدل على كل واحد من الوجهين، وإن ملكها بالإرث صح الاستبراء
وان لم تقبض لان الموروث قبل القبض كالمقبوض في تمام الملك وجواز التصرف
(فصل) وإن ملك أمة وهي زوجته لم يجب الاستبراء لان الاستبراء لبراءة
الرحم من ماء غيره والمستحب أن يستبرئها لان الولد من النكاح مملوك ومن
ملك اليمين حر فاستحب أن يميز بينهما
(فصل) وإن كانت أمته ثم رجعت إليه بالفسخ، أو باعها ثم رجعت إليه
بالإقالة لزمه أن يستبرئها لأنه زال ملكه عن استمتاعها بالعقد وعاد بالفسخ
فصار كما لو باعها ثم استبرأها، فإن رهنها ثم فكها لم يجب الاستبراء لان بالرهن
لم يزل ملكه عن استمتاعها لان له أن يقبلها وينظر إليها بالشهوة. وإنما منع من
وطئها لحق المرتهن وقد زال حقه بالفكاك فحلت له.
وان ارتد المولى ثم أسلم أو ارتدت الأمة ثم أسلمت وجب استبراؤها لأنه
زال ملكه عن استمتاعها بالردة وعاد بالاسلام. وإن زوجها ثم طلقت، فإن
كان قبل الدخول لم تحل له حتى يستبرئها، لأنه زال ملكه عن استمتاعها وعاد
بالطلاق، وإن كان بعد الدخول وانقضاء العدة ففيه وجهان (أحدهما) لا تحل
له حتى يستبرئها لأنه تجدد له الملك على استمتاعها فوجب استبراؤها، كما لو باعها
ثم اشتراها (والثاني) تحل له وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لان الاستبراء
يراد لبراءة الرحم وقد حصل ذلك بالعدة
(فصل) ومن وجب استبراؤها حرم وطؤها، وهل يحرم التلذذ بها بالنظر
والقبلة؟ ينظر فيه فإن ملكها ممن له حرمة لم يحل له، لأنه لا يؤمن أن تكون
202

أم ولد لمن ملكها من جهته، وان ملكها ممن لا حرمة له كالمسبية ففيه وجهان.
أحدهما لا تحل له لان من حرم وطئها بحكم الاستبراء حرم التلذذ بها، كما لو ملكها
ممن له حرمة. والثاني أنها تحل لما روى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال
" خرجت في سهمي يوم جلولاء جارية كأن عنقها إبريق فضة، فما ملكت نفسي
أن قمت إليها فقبلتها والناس ينظرون " ولان المسبية يملكها حاملا كانت أو حائلا
فلا يكون التلذذ بها الا في ملكه، وإنما منع من وطئها حتى لا يختلط ماؤه بماء
مشرك، ولا يوجد هذا في التلذذ بالنظر والقبلة، وان وطئت زوجته بشبهة لم
يحل له وطؤها قبل انقضاء العدة لأنه يؤدى إلى اختلاط المياه وافساد النسب
وهل له التلذذ بها في غير الوطئ على ما ذكرناه من الوجهين في المسبية لأنها
زوجته حاملا كانت أو حائلا
(فصل) ومن ملك أمة جاز له بيعها قبل الاستبراء لأنا قد دللنا على أنه
يجب على المشترى الاستبراء فلم يجب على البائع لان براءة الرحم تحصل باستبراء
المشترى، وان أراد تزويجها نظرت فإن لم يكن وطئها جاز تزويجها من غير استبراء
لأنها لم تصر فراشا له، وان وطئها لم يجز تزويجها قبل الاستبراء لأنها صارت
بالوطئ فراشا له.
(فصل) وان أعتق أم ولده في حياته أو عتقت بموته لزمها الاستبراء
لأنها صارت بالوطئ فراشا له وتستبرأ كما تستبرأ المسبية لأنه استبراء بحكم اليمين
فصار كاستبراء المسبية، وان أعتقها أو مات عنها وهي مزوجة أو معتدة لم يلزمها
الاستبراء لأنه زال فراشه قبل وجوب الاستبراء فلم يلزمها الاستبراء، كما لو
طلق امرأته قبل الدخول ثم مات، ولأنها صارت فراشا لغيره فلا يلزمها لأجله
استبراء. وان زوجها ثم مات ومات الزوج ولم يعلم السابق منهما لم يخل اما أن
يكون بين موتهما شهران وخمسة أيام فما دون أو أكثر أو لا يعلم مقدار ما بينهما
فإن كان بينهما شهران وخمسة أيام فما دون لم يلزمها الاستبراء عن المولى لأنه
إن كان المولى مات أولا فقد مات وهي زوجة فلا يجب عليها الاستبراء، وان
مات الزوج أولا فقد مات المولى بعده وهي معتدة من الزوج فلا يلزمها الاستبراء
وعليها أن تعتد بأربعة أشهر وعشر من بعد موت أحدهما لأنه يجوز أن يكون
203

قد مات المولى أولا فعتقت ثم مات الزوج فيلزمها عدة حرة، وإن كان بين
موتهما أكثر من شهرين وخمس ليال لزمها أن تعتد من بعد آخرهما موتا بأكثر
الامرين من أربعة أشهر وعشر أو حيضة، لأنه ان مات الزوج أولا فقد
اعتدت عنه بشهرين وخمسة أيام وعادت فراشا للمولى، فإذا مات لزمها أن
تستبرئ بحيضة، وان مات المولى أولا لم يلزمها استبراء فإذا مات الزوج لزمتها
عدة حرة فوجب الجمع بينهما ليسقط الفرض بيقين، وان لم يعلم قدر ما بين المدتين
من الزمان وجب أن تأخذ بأغلظ الحالين، وهو أن يكون بينهما أكثر من شهرين
وخمسة أيام فتعتد بأربعة أشهر وعشر أو حيضة ليسقط الفرض بيقين كما يلزم
من نسي صلاة من صلاتين قضاء الصلاتين ليسقط الفرض بيقين ولا يوقف لها
شئ من تركة الزوج لان الأصل فيها الرق فلم تورث مع الشك
(فصل) وإن كانت بين رجلين جارية فوطئاها ففيها وجهان، أحدهما يجب
استبراء ان لأنه يجب لحقهما فلم يدخل أحدهما في الآخر كالعدتين. والثاني يجب
استبراء واحد، لان القصد من الاستبراء معرفة براءة الرحم، ولهذا لا يجب
الاستبراء بأكثر من حيضة وبراءة الرحم منهما تحصل باستبراء واحد
(فصل) إذا استبرأ أمته ثم ظهر بها حمل فقال البائع هو منى وصدقه المشترى
لحقه الولد والجارية أم ولد له والبيع باطل، وان كذبه المشترى نظرت، فإن لم
يكن أقر بالوطئ حال البيع لم يقبل قوله لان الملك انتقل إلى المشترى في الظاهر
فلم يقبل اقراره بما يبطل حقه، كما لو باعه عبدا ثم أقر أنه كان غصبه أو أعتقه.
هل يلحقه نسب الولد؟ فيه قولان
قال في القديم والاملاء يلحقه لأنه يجوز أن يكون ابنا لواحد ومملوكا لغيره
وقال في البويطي لا يلحقه لان فيه اضرارا بالمشترى لأنه قد يعتقه فيثبت له
عليه الولاء، وإذا كان ابنا لغيره لم يرثه، فإن كان قد أقر بوطئها عند البيع،
فإن كان قد استبرأها ثم باعها نظرت فإن أتت بولد لدون ستة أشهر لحقه نسبه
وكانت الجارية أم ولد له وكان البيع باطلا، وان ولدته لستة أشهر فصاعدا لم
يلحقه الولد، لأنه لو استبرأها ثم أتت بولد وهي في ملكه لم يلحقه، فلان
لا يلحقه وهي في ملك غيره أولى، فإن لم يكن المشترى قد وطئها كنت الجارية
204

والولد مملوكين له، وإن كان قد وطئها، فإن أتت بولد لدون ستة أشهر من حين
لوطئ فهو كما لو لم يطأها، لأنه لا يجوز أن يكون منه وتكون الجارية والولد
مملوكين له، وإن أتت بولد لستة أشهر فصاعدا لحقه الولد وصارت الجارية أم ولد
له لأن الظاهر أنه منه، وإن لم يكن استبرأها البائع نظرت فإن ولدت لدون ستة
أشهر من وقت البيع لحق البائع وكانت الجارية أم ولد له وكان البيع باطلا، وإن
ولدته لستة أشهر نظرت فإن لم يكن وطئها المشترى فهو كالقسم قبله لأنها لم
تصر فراشا له، وإن وطئها فولدت لستة أشهر من وطئه عرض الولد على القافة
فإن ألحقته بالبائع لحق، به وإن ألحقته بالمشترى لحقه، وقد بينا معكم الجميع
(الشرح) حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم
وصححه وإسناده حسن، وهو عند الدارقطني من حديث ابن عباس وأعل
بالارسال، وعند الطبراني من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف
وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه أتى على امرأة مجح على باب فسطاط فقال: لعله يريد أن يلم بها؟ فقالوا نعم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه قبره،
وكيف يورثه وهو لا يحل له؟ كيف يستخدمه وهو لا يحل له. وفي مسند
أبى داود الطيالسي: وقال " كيف يورثه وهو لا يحل له، وكيف يسترقه وهو
لا يحل له " والمجح هي الحامل المقرب
وأخرج ابن أبي شيبة من حديث على مرفوعا " نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تستبرأ بحيضة " وفي إسناده
ضعف وانقطاع.
قوله " عام أو طاس " هو واد في ديار هوازن. قال القاضي عياض: وهو
موضع الحرب بحنين، وهو ظاهر كلام أصحاب السير. قال الحافظ بن حجر:
والظاهر أن وادي أوطاس غير وادي حنين (أما بعد:)
هذا الباب من مفاخر الاسلام، الدالة على أعظم الحكم، وأسمى ضروب
التربية على أكرم الفضائل وأطهر المثل، ذلك أن جيش الاسلام حين يظفرون
205

بعدوهم فيقع في أسرهم النساء على اختلاف ألوانهن، من عذارى كواعب، إلى
فنصف بضة تثير شبق الرجال، والرجل المسلم المقاتل قد بعد موضعه عن موطن
أهله، وهو في فتوته وشدة بأسه بالمحل الذي يضاعف من شبقه وشهوته، تأتى
الشريعة الغراء فنقول له: قف مكانك لا تقرب هذه السبية ولا تنزع عليها
وتربص بها حيضة إن كانت حائلا، أو وضعا إن كانت حاملا. إن لذلك من
الأثر البعيد في تهذيب النفوس وتنمية الإرادة وتزكية السلوك المسلم ما يضفى على
هذا الركب الوراني الذي يسمى بالجيش الفاتح من الجلال والروعة ما جعل
الاسلام يسبقهم بنوره، فتنفتح بهم قلوب غلف. وأعين عمى. وآذان صم.
حتى لقد كسدت في أسواقهم تلك الأجساد النسائية المسبية. وفي هذه الصورة
يقول المتنبي في نساء الروم:
يبكى عليهن البطاريق في الضحى * وهن لدينا ملقيات كواسد
بذا قضت الأيام ما بين أهلها * مصائب قوم عند قوم فوائد
ثم إن هذه المسبية على ضعفها وعزلائيتها وتجردها قد أحاطها الاسلام
بدرعه المنيع وحمايتها من أن تسلب حرية العقدة فلم يبح إكراهها على الاسلام
إن أرادت البقاء على دينها
قال الامام الشوكاني: ولا يشترط في جواز وطئ المسبية الاسلام، ولو
كان شرطا لبينه صلى الله عليه وسلم - ولم يبينه - ولا يجوز تأخير البيان عن
وقت الحاجة، وذلك وقتها، ولا سيما وفي المسلمين يوم حنين وغيره من هو
حديث عهد بالاسلام يخفى عليهم مثل هذا الحكم. وتجويز حصول الاسلام من
جميع السبايا وهي في غاية الكثرة بعيد جدا، فإن إسلام مثل عدد المسبيات في أوطاس
دفعة واحدة من غير إكراه لا يقول بأنه يصح تجويزه عاقل.
206

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الرضاع
إذا ثار للمرأة لبن على ولد فارتضع منها طفل له دون الحولين خمس رضعات
متفرقات صار الطفل ولدا لها في حكمين: في تحريم النكاح، وفي جواز الخلوة
وأولاد أولادها، وصارت المرأة أما له وأمهاتها جداته، وآباؤها أجداده،
وأولادها أخوته وأخواته، وإخوتها وأخواتها أخواله وخالاته. وإن كان الولد
ثابت النسب من رجل صار الطفل ولدا له وأولاده أولاده، وصار الرجل أبا
له، وآباؤه أجداده وأمهاته جناته وأولاده اخوته واخوته وإخوانه أعمامه وعماته
والدليل عليه قوله تعالى " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة،
فنص على الأمهات والأخوات، فدل على ما سواه
وروى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد على
ابنة حمزة بن عبد المطلب فقال إنها ابنة أخي من الرضاعة، وانه يحرم من الرضاع
مثل ما يحرم من النسب "
وروت عائشة رضي الله عنها " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يحرم من
الرضاعة ما يحرم من الولادة "
وروت عائشة رضي الله عنها " أن أفلح أخا أبى القعيس أستأذن عليها فأبت
أن تأذن له، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أفلا أذنت
لعمك؟ فقالت يا رسول الله إنما أرضعتني المرأة ولم يرضعني الرجل، قال فاذني
له فإنه عمك. وكان أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة رضي الله عنها "
ولان اللبن حدث للولد، والولد ولدهما، فكان المرضع باللبن ولدهما.
(فصل) وتنتشر حرمة الرضاع من الولد إلى أولاده وأولاد أولاده.
ذكورا كانوا أو إناثا. ولا تنتشر إلى أمهاته وآبائه واخوته وأخواته. ولا
يحرم على المرضعة أن تتزوج بأبي الطفل ولا بأخيه. ولا يحرم على زوج المرضعة
الذي ثار اللبن على ولده أن يتزوج بأم الطفل ولا بأخته، لقوله صلى الله عليه وسلم
207

يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وحرمة النسب في الولد تنتشر إلى أولاده
ولا تنتشر إلى أمهاته وآبائه، ولا إلى اخوته وأخواته فكذلك الرضاع.
(الشرح) قوله تعالى في سورة النساء " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم
من الرضاعة " قرأ عبد الله " اللائي " بغير تاء، كقوله تعالى " واللائي يئسن من
المحيض " أما حديث ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم أريد على ابنة حمزة
فقال إنها لا تحل لي. انها ابنة أخي من الرضاعة ويحرم من الرضاعة ما يحرم من
الرحم " وفي لفظ " من النسب " أخرجه أحمد والبخاري ومسلم. وحديث عائشة
أخرجه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة والدارقطني. أما حديث عائشة
فأخرجه البخاري في الشهادات عن محمد بن أبي كثير وعن آدم. وفي النكاح عن أبي
الوليد ومسلم في النكاح عن هناد. وعن عبد الله بن معاذ وعن قتيبة والحلواني
ومحمد بن رافع وأبو داود فيه عن حفص بن عمرو عن محمد بن كثير والنسائي فيه
عن هناد وعن قتيبة والربع بن سليمان وإسحاق بن إبراهيم. وأخرجه ابن ماجة
عن أبي بكر بن أبي شيبة.
أما اللغات فالرضاع بكسر الراء وفتحها والرضاعة بالفتح لا غير. وحكى
المروى الكسر فيها أيضا - أفاده بن بطال - أما الفعل رضع فهو من تعب
في لغة نجد ورضع رضعا من باب ضرب لغة لأهل تهامة. وأهل مكة يتكلمون
بها وبعضهم يقول أصل المصدر من هذه اللغة كسر الضاد. وإنما السكون تخفيف
مثل الحلف والحلئف. ورضع يرضع بفتحتين لغة ثالثة رضاعا. ورضاعة بفتح
الراء. وأرضعته أمه فارتضع فهي مرضع ومرضعة أيضا.
وقال الفراء وجماعة ان قصد حقيقة الوصف بالارضاع فمرضع بغير هاء.
وان قصد مجاز الوصف بمعنى انها محل الارضاع فيما كان أو سيكون فبالهاء وعليه
قوله تعالى " تذهل كل مرضعة عما أرضعت " ونساء مراضع ومراضيع. وراضعته
مراضعة ورضاعا. ورضاعة بالكسر وهو رضيعي. والراضعتان الثنيتان
اللتان يشرب عليهما اللبن. ويقال الراضعة الثنية إذا سقطت والجمع الرواضع.
208

قال أبو زيد. الراضعة كل من سن سقطت من مقادمه. ويقال لؤم ورضع
على الازدواج، وذلك إذا مص من الخلف مخافة أن يعلم به أحد إذا حلب فيطلب
منه شيئا فهو راضع، ولو أفرد قيل رضع مثل تعب أو ضرب والجمع رضع
قوله " أريد على ابنة حمزة " أي طلب وأصله من راد يرود إذا طلب المرعى
وفي الخبر " ان الرائد لا يكذب أهله " وفي حديث " فليرتد لبوله " ومنه قوله
" أنا راودته عن نفسه " والذي أراد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها هو
علي رضي الله عنه كما في صحيح مسلم، وقد اختلف في اسم ابنة حمزة. أمامة وسلمى
وفاطمة وعائشة وأمة الله وعمارة ويعلى، وإنما كانت ابنة أخي النبي صلى الله عليه
لأنه صلى الله عليه وسلم رضع من ثوبية وقد كان أرضعت حمزة.
وأفلح قال الشوكاني هو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس بصحيح
إذ أن أفلح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن منده اراده هو الذي قال
له النبي صلى الله عليه وسلم " ترب وجهك "
قال ابن الأثير في أسد الغابة. روى له أبو نعيم حديث أم سلمة قالت " رأى
النبي صلى الله عليه وسلم علاما لنا يقال له أفلح ينفخ إذا سجد، فقال له " ترب وجهك "
وروى حبيب المكي عن أفلح مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " أخاف
على أمتي من بعدي ضلالة الأهواء واتباع الشهوات والغفلة بعد المعرفة،
أخرجه ثلاثتهم - يعنى ابن منده وأبا نعيم وأبا عمر بن عبد البر - قلت واسم
أفلح هذا رباح.
اما أفلح بن أبي القعيس أو أبو القعيس وقيل أخو أبى القعيس فقال ابن الأثير (1) صاحب
الإصابة أخبرنا أبو المكارم فتيان الجوهري بإسناده عن القعنبي عن مالك عن ابن شهاب

(1) أبناء الأثير ثلاثة اخوة، الأكبر وهو مجد الدين أبو السعادات المبارك
ابن محمد صاحب النهاية في غريب الحديث وأوسطهم عز الدين أبو الحسن صاحب
أسد الغاية والكامل في التاريخ. وأصغرهم هو ضياء الدين أبو الفتح نصر الله
صاحب " المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر " وكان أحد وزراء الملك الأفضل
ابن صلاح الدين الأيوبي.
209

عن عروة عن عائشة وساق الحديث وقال. ورواه سفيان بن عيينة ومعمر
عن الزهري نحوه. ورواه ابن نمير وحماد بن زيد عن هشام بن عروة عن أبيه
فقال " إن أخا أبى القعيس، وكذلك رواه عطاء عن عروة، ورواه عباد بن
منصور عن القاسم بن محمد قال، حدثنا أبو القعيس أنه جاء إلى عائشة رضي الله عنه
ا فذكر نحوه، والصحيح أنه أخو أبى القعيس
أما الأحكام فإنه لا يقتضى التحريم من الرضاع إلا خمس رضعات معلومات
والرضاع المقتضى للتحريم هو الواصل إلى الجوف مع الاشباع، فإذا أرضعت
المرأة طفلا حرمت عليه لأنها أمه، وبنتها لأنها أخته، وأختها لأنها خالته وأمها
لأنها جدته وبنت زوجها صاحب اللبن لأنها أخته، وأخته لأنها عمته وأمه لأنها
جدته وبنات بنيها وبناتها لأنهن بنات إخوته وأخواته، ويشترط في الارضاع
شرطان (أحدهما) خمس رضعات لحديث عائشة الذي سيأتي. وفي حديث سهلة
" أرضعيه خمس رضعات يحرم بهن "
الشرط الثاني أن يكون في الحولين، فإن كان خارجها عنهما لم يحرم كما سيأتي.
وقد استدل بقوله تعالى " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " من نفى لبن الفحل، وهو
سعيد بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن. وقالوا لبن الفحل
لا يحرم شيئا من قبل الرجل
وقال الجمهور. قوله تعالى " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " يدل على أن الفحل
أنب، لان اللبن منسوب إليه: فإنه در بسبب ولده - وهذا ضعيف - فإن
الولد خلق من ماء الرجل والمرأة جميعا. واللبن من المرأة ولم يخرج من الرجل
وما كان من الرجل الا وطء هو سبب لنزول الماء منه، وإذا فضل الولد خلق
الله اللبن من غير أن يكون مضافا إلى الرجل بوجه ما. ولذلك لم يكن الرجل حق
في اللبن وإنما اللبن لها فلا يمكن أخذ ذلك من القياس على الماء. وقول رسول الله
صلى الله عليه وسلم " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " يقتضى التحريم من
الرضاع ولا يظهر وجه نسبة الرضاع إلى الرجل مثل ظهور نسبة الماء إليه
والرضاع منها.
نعم. الأصل فيه حد " أن أفلح أخا القيس جاء يستأذن عليها وهو عمها
210

من الرضاعة بعد أن نزل الحجاب قالت فأبست أن آذن له فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم
أخبرته فقال ليلج عليه فإنه عمك تربت يمينك " وكان أبوي القعيس زوج المرأة
التي أرضعت عائشة رضي الله عنها
قال القرطبي وهذا خبر واحد. ويحتمل أن يكون أفلح مع أبي بكر رضيعي
لبان فلذلك قال ليلج عليك عمك. وبالجملة فالقول فيه مشكل والعلم عند الله ولكن
العمل عليه. والاحتياط في التحريم أولى مع أن قول الله تعالى " وأحل لكم
ما وراء ذلك " يقوى قول المخالف اه
وقوله تعالى " وأخواتكم من الرضاعة " وهي الأخت لأب وأم. وهي التي
أرضعتها أمك بلبان أبيك. سواء أرضعتها معك أو ولدت قبلك أو بعدك.
والأخت من الأب دون الأم. وهي التي أرضعتها زوجة أبيك. والأخت من
الأم دون الأب وهي التي أرضعتها أمك بلبان رجل آخر، ثم ذكر التحريم
بالمصاهرة فقال " وأمهات نسائكم " والصهر أربع: أم المرأة وابنتها وزوجة
الأب وزوجة الابن. فأم المرأة تحرم بمجرد العقد الصحيح على ابنتها
إذا تقرر هذا فإن تحريم الأم والأخت ثبت بنص الكتاب. وتحريم البنت
ثبت بالتنبيه. فإنه إذا حرمت الأخت فالبنت أولى وسائر المحرمات ثبت تحريمهن
بالسنة. وتثبت المحرمية لأنها فرع على التحريم إذا كان بسبب مباح
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يثبت تحريم الرضاع فيما يرتضع بعد الحولين لقوله تعالى
(والوالدات يرضعن أولادهن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة) فجعل
تمام الرضاع في الحولين فدل على أنه لا حكم للرضاع بعد الحولين.
وروى يحيى بن سعيد أن رجلا قال لأبي موسى الأشعري " انى مصصت من
ثدي امرأتي لبنا فذهب في بطني. قال أبو موسى لا أراه إلا قد حرمت عليك.
فقال عبد الله بن مسعود: انظر ما تفتى به الرجل. فقال أبو موسى فما تقول أنت
فقال عبد الله: لارضاع إلا ما كان في الحولين. قال أبو موسى لا تسألوني عن
شئ ما دام هذا الحبر بين أظهركم "
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: لا رضاع إلا ما كان في الحولين
211

(الشرح) انتزع الفقهاء من قوله تعالى (والوالدات يرضعن أولادهن حولين
كاملين) أن الرضاعة المحرمة - بكسر الراء المشددة - الجارية مجرى النسب إنما
هن ما كان في الحولين، لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة، ولا رضاعة بعد
الحولين معتبرة. وهو قول عمر وابن عباس. وروى عن ابن مسعود كما حكاه
المصنف. وبه قال الزهري وقتادة والشعبي وسفيان الثوري ومالك وأحمد
وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وابن شبرمة
وروى ابن عبد الحكم عن مالك: ان زاد شهرا جاز وروى شهران. وقال
أبو حنيفة: يحرم الرضاع في ثلاثين شهرا، لقوله تعالى " وحمله وفصاله ثلاثون
شهرا " ولم يرد بالحمل حمل الأحشاء، لأنه يكون سنتين، فعلم أنه أراد الحمل في
الفصال. وقال زفر: مدة الرضاع ثلاث سنين، وكانت عائشة ترى رضاعة
الكبيرة تحرم. ويروى هذا عن عطاء والليث وداود لما روى أن سهلة بنت سهيل
قالت " يا رسول الله إنا كنا نرى سالما ولدا فكان يأوى معي ومع أبي حذيفة في
بيت واحد ويراني فضلا. وقد أنزل الله فيهم ما قد علمت فكيف ترى فيه؟ فقال
لها النبي صلى الله عليه وسلم أرضعيه، فأرضعته خمس رضعات فكانت بمنزلة ولدها
فبذلك كانت عائشة تأخذ بنات أخواتها وبنات أخواتها يرضعن من أحبت عائشة
أن يراها ويدخل عليها - وإن كان كبير خمس رضعات - وأبت ذلك أم سلمة
وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة حتى
يكون قد وضع في المهد. وقلن لعائشة والله ما ندري لعلها رخصة من النبي صلى الله عليه وسلم
لسالم دون الناس. رواه أبو داود والنسائي
دليلنا قوله تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن
يتم الرضاعة " فجعل تمام الرضاعة حولين فيدل على أنه لا حكم لها بعدهما
وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل،
فتغير وجه النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إنه أخي من الرضاعة،
فقال صلى الله عليه وسلم: انظرن من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة،
متفق عليه.
وعن أم سلمة قالت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يحرم من الرضاع
212

إلا ما فتق الأمعاء وكان قبل الفطام أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح
وعند هذا يتعين حمل خبر أبي حذيفة على أنه خاص له دون غيره من الناس كما قال
سائر أزواجه صلى الله عليه وسلم
قال ابن قدامة: وقول أبي حنيفة تحكم يخالف ظاهر الكتاب وقول الصحابة
فقد روينا عن علي وابن عباس أن المراد بالحمل حمل البطن، وبه استدل على أن
أقل مدة الحمل ستة أشهر، وقد دل على هذا قول الله تعالى " وفصاله في عامين "
فلو حمل على ما قاله أبو حنيفة لكان مخالفا لهذه الآية
قال عبد الرزاق عن الثوري: حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي
عطية الوادعي قال: جاء رجل إلى أبى موسى فقال " ان امرأتي ورم ثديها
فمصصته فدخل حلقي شئ وسبقني؟ فشدد عليه أبو موسى فأتى عبد الله بن مسعود
فقال سألت أحدا غيري؟ قال نعم أبا موسى فشدد على، فأتى أبا موسى فقال،
أرضيع هذا؟ فقال أبو موسى لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم
إذا ثبت هذا فالاعتبار بالعامين لا بالفطام، فلو فطم قبل الحولين ثم ارتضع
فيها لحصل التحريم، ولو لم يفطم حتى تجاوز الحولين ثم ارتضع بعدهما قبل
الفطام لم يثبت التحريم.
وقال ابن القاسم صاحب مالك " لو ارتضع بعد الفطام في الحولين لم تحرم
عليه لقوله صلى الله عليه وسلم " وكان قبل الفطام " ويرد عليه قوله تعالى
" والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين " وقوله صلى الله عليه وسلم
" لارضاع إلى ما كان في الحولين " والفطام معتبر بمدته لا بنفسه
وعن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لارضاع بعد فصال ولا يتم
بعد احتلام " رواه الطيالسي في مسنده
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ولا يثبت تحريم الرضاع بما دون خمس رضعات، وقال أبو ثور
يثبت بثلاث رضعات لما روت أم الفضل رضي الله عنها أن رسول الله (ص)
213

قال " لا تحرم الاملاجة ولا الاملاجتان " فدل على أن الثلاث يحرمن، والدليل
على أنه لا يحرم ما دون خمس الرضعات ماروت عائشة رضي الله عنها قالت " كان
فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخ بخمس معلومات
فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ في القرآن، وحديث أم الفضل
يدل على أن الثلاث يحرمن من جهة دليل الخطاب، والنص يقدم على دليل
الخطاب، وهو ما رويناه، ولا يثبت إلا بخمس رضعات متفرقات، لان الشرع
ورد بها مطلقا، فحمل على العرف، والعرف في الرضعات أن يرتضع ثم يقطعه
باختياره من غير عارض ثم يعود إليه بعد زمان ثم يرتضع ثم يقطعه، وعلى هذا
إلى أن يستوفي العدد، كما أن العادة في الأكلات أن تكون متفرقة في أوقات.
فأما إذا قطع الرضاع لضيق نفس أو لشئ يلهيه ثم رجع إليه أو انتقل من ثدي
إلى ثدي كان الجميع رضعة، كما أن الاكل إذا قطعه لضيق نفس أو شرب ماء أو
لانتقال من لون إلى لون كان الجميع أكلة، فإن قطعت المرضعة عليه ففيه وجهان
(أحدهما) أن ذلك ليس برضعة، لأنه قطع عليه بغير اختياره (والثاني) أنه
رضعة، لان الرضاع يصح بكل واحد منهما. ولهذا لو أوجرته وهو نائم ثبت
التحريم كما يثبت إذا ارتضع منها وهي نائمة، فإذا تمت الرضعة بقطعه وجب
أن تتم بقطعها.
فإن أرضعته امرأة أربع رضعات، ثم أرضعته امرأة أخرى أربع رضعات
ثم عاد إلى الأولى فارتضع منها وقطع، وعاد إلى الأخرى في الحال فارتضع منها
ففيه وجهان:
(أحدهما) لا يتم عدد الخمس من واحدة منهما، لأنه انتقل من إحداهما إلى
الأخرى قبل تمام الرضعة فلم تكن كل واحدة منهما رضعة، كما لو انتقل من ثدي
إلى ثدي (والثاني) يتم العدد من كل واحدة منهما، لان الرضعة أن يرتضع القليل
والكثير ثم يقطع ولا يعود إلى بعد زمان طويل، وقد وجد ذلك
(الشرح) حديث أم الفضل " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أتحرم
المصة؟ فقال لا تحرم الرضعة والرضعتان والمصة والمصتان " وفي رواية " دخل
214

أعرابي على نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيتي فقال يا نبي الله إني كانت
لي امرأة فتزوجت عليها أخرى فزعمت امرأتي الأولى أنها أرضعت الحدثي رضعة
أو رضعتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " لا تحرم الاملاجة ولا الاملاجتان "
أخرجه مسلم في النكاح عن يحيى بين يحيى وعمر والناقد وإسحاق بن إبراهيم. وعن أبي
بكر وعن أبي غسان المسمعي وعن أحمد بن سعيد الدارمي والنسائي في النكاح
عن عبد الله بن الصباح وابن ماجة في النكاح عن أبي بكر بن أبي شيبة.
أما حديث عائشة قالت " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات يحرمن ثم
نسخن بخمس " وفي رواية " الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة " أخرجه البخاري
في الشهادة. وفي الخمس عن عبد الله بن يوسف، وفي النكاح عن إسماعيل،
وأخرجه مسلم في النكاح عن يحيى بن يحيى. وعنه القعنبي وعن أبي كريب
وعن أبي معمر وأخرجه أبو داود في النكاح عن القعنبي وأخرجه الترمذي في
الرضاع عن إسحاق بن موسى وعن محمد بن بشار وأخرجه النسائي في النكاح عن
هارون بن عبد الله، وعن محمد بن عبيد الله، وعن عبيد الله بن سعيد، وعن
عبد الوراث بن عبد الصمد
أما اللغات فقوله " الاملاجة ولا الاملاجتان " وهو الزائد المهموز للفعل
المجرد الثلاثي ملج، يقال ملج الصبي أمه ملجا من باب نصر وقتل وملج يملج
من باب تعب لغة فيه أي رضعها، ويتعدى بالهمزة فيقال أملجته أمه، والمرة
من الثلاثي ملجة ومن الرباعي إملاجة، مثل الاكرامة والاخراجة ونحو ذلك
وامتلج الفصيل ما في الضرع.
وقوله " ياوجور " وهو بفتح الواو وزان رسول الدواء يصب في الحلق
وأجرت المريض إيجارا فعلت به ذلك، ووجرته أجره من باب وعد، وقال
ابن بطال في شرح غريب المهدب " الوجور بضم الواو وبفتح الدواء نفسه "
واللدود إدخال الدواء في شق الفم وجانبيه، والسعوط ادخاله في الانف
والحقنة في الدبر.
وقوله " معلومات " فيه إشارة إلى أنه لا يثبت حكم الرضاع إلا بعد العلم بعدد
الرضعات، وأنه لا يكفي الظن بل يرجع معه ومع الشك إلى الأصل وهو العدم.
215

قوله " وهن فيما يقرأ " فيه إشارة إلى أنه تأخر إنزال الخمس الرضعات، فتوفى
صلى الله عليه وسلم وهن قرآن يقرأ.
أما الأحكام فقد استدل بحديث عائشة على أن التحريم لا يتحقق إلا بخمس
رضعات فما فوقها معلومات، والرضعة هي المرة، فمتى التقم الصبي الثدي فامتص
منه ثم تركه باختياره لغير عارض كان ذلك رضعة فالرضعة الواحدة والرضعتان
والثلاث والأربع، وقد استدل بحديث " لا تحرم المصة ولا المصتان " على أن
الثلاث محرمة. وهذا الاستدلال مأخوذ من دلالة مفهوم الخطاب، وهو مذهب
زيد بن ثابت وأبي ثور وابن المنذر وأبى عبيدة وداود بن علي وأحمد في رواية
عنه، ولكن يعارض هذا المفهوم القاضي بأن ما فوق الاثنتين يقتضى التحريم
ما ثبت من أن الرضاع المقتضى للتحريم خمس رضعات، وهو قول ابن مسعود
وعائشة وعبد الله بن الزبير وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعروة بن الزبير
والليث بن سعد وأحمد في ظاهر مذهبه وإسحاق وابن حزم وجماعة من أهل العلم
قال الشوكاني: وقد روى هذا المذهب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وحكى ابن القيم عن الليث بن سعد أنه لا يحرم إلا خمس رضعات. وقد
اعترض القائلون بقول أبي ثور الذي حكاه المصنف هنا باعتراضات، منها أن
الحديث متضمن كون الخمس الرضعات قرآنا والقرآن شرطه التواتر، ولم يتواتر
محل النزاع.
ثانيا لو كان هذا قرآنا لحفظ لقوله تعالى " إنا نحن نزلنا الذكر وإن له لحافظون "
ثالثا: قوله تعالى " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " وإطلاق الرضاع يشعر بأنه يقع
بالقليل والكثير، ومثل ذلك حديث " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "
رابعا: عن عقبة بن الحرث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي إهاب فجاءت أمة سوداء
فقالت قد أرضعتكما، قال فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأعرض عنى
فتنحيت فذكرت ذلك له فقال وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما؟ فنهاه عنها،
رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني، فإن النبي صلى الله عليه وسلم
لم يستفصل عن الكيفية ولا سأل عن العدد
216

خامسا، حديث " لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء " يدل على عدم اعتبار
الخمس، لان الفتق يحصل بدونها
ونجيب عن الاعتراض الأول بأن كون التواتر شرطا ممنوع، والسند
ما أسلفنا عن أئمة القراءات كحفص ونافع، وقد تكلم الجزري وغيره في باب
الحجة في الصلاة بقراءة ابن مسعود وأبى من أبواب صفة الصلاة، فإنه نقل هو
وجماعة من أئمة القراءات الاجماع على ما يخالف هذه الدعوى، ولم يعارض نقله
ما يصلح لمعارضته. وأيضا اشتراط التواتر فيما نسخ لفظه على رأى المشترطين
ممنوع. وكذلك انتفاء قرآنيته ولا يستلزم انتفاء حجيته على فرض شرطية التواتر
لان الحجة ثبتت بظنية الثبوت التي يجب عندها العمل، وقد قرأ الأئمة بقراءة
الآحاد في مسائل كثير منها قراءة ابن مسعود " فصيام ثلاثة أيام متتابعات "
وقراءة أبى " وله أخ أو أخت من أم "
والجواب على الثاني أن كونه غير محفوظ ممنوع، بل قد حفظه الله برواية
عائشة له، والمعتبر حفظ الحكم، ولو سلم انتفاء قرآنيته على جميع التقادير لكان
سنة لكون الصحابي روايا له عنه صلى الله عليه وسلم لو وصفه له بالقرآنية، وهو
يستلزم صدوره عن لسانه وذلك كاف في الحجية لما تقرر في الأصول من أن
المروى آحاد إذا انتفى عنه وصف القرآنية لم ينتف وجوب العمل به كما أسلفنا.
والجواب عن الثالث بأن مطلق الرضاع مقيد بأحاديث عدد الرضعات في حديث
عائشة. ويجاب عن الرابع بأن زيادة البيان على ذلك الذي قيل عنه من ترك
الاستفصال يتعين الاخذ به، وزيادة الثقة حجة والمثبت حجة على النافي. وقد
يكون ترك الاستفصال مرده إلى سبق البيان منه صلى الله عليه وسلم للقدر المحرم
ويجاب عن الخامس بما أجبنا به عن الثالث والرابع
إذا ثبت هذا فإنه إذا كانت الرضعات المحرمة خمسا وكانت في خلال الحولين
فلو رضع الخامسة على رأس الحولين فقد ثبت التحريم، وكذلك ينبغي أن تكون
الرضعات متفرقات، وبهذا قال أحمد
وحد الرضعة كما قلنا أن لا يقطعها إلا باختياره، فأما إن قطع لضيق نفس
أو للانتقال من ثدي إلى ثدي، أو لشئ يلهيه، أو قطعت عنه المرضعة نظرت
217

فإن لم يعد قريبا فهي رضعة وإن عاد في الحال ففيه وجهان (أحدهما) أن الأولى
رضعة فإذا عاد فهي رضعة أخرى. وهذا ظاهر كلام أحمد رضي الله عنه في رواية
حنبل فإنه قال: ألا ترى الصبي يرتضع من الثدي، فإذا أدركه النفس أمسك عن
الثدي ليتنفس أو يستريح فإذا فعل ذلك فهي رضعة: وذلك لان الأولى رضعة
لو لم يعد فكانت رضعة وإن عاد كما لو قطع باختياره
(والثاني) أن جميع ذلك رضعة واحدة إلا في حالة قطع المرضعة ففيه الوجهان
لأنه لو حلف لا أكلت اليوم إلا أكله فاستدام الاكل زمنا أو قطع لشرب الماء
أو انتقال من لون إلى لون أو انتظار لما يحمل إليه من الطعام، لم يعد إلا أكلة
واحدة فكذا ههنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن شكت المرضعة هل أرضعته أم لا؟ أو هل أرضعته خمس
رضعات أو أربع رضعات لم يثبت التحريم، كما لو شك الزوج هل طلق امرأته
أم لا؟ وهل طلق ثلاثا أو طلقتين؟
(فصل) ويثبت التحريم بالوجود لأنه يصل اللبن إلى حيث يصل بالارتضاع
ويحصل به من إنبات اللحم وانتشار العظم ما يحصل من الرضاع، ويثبت بالسعوط
لأنه سبيل الفطر الصائم، فكان سبيلا لتحريم الرضاع كالفم، وهل يثبت بالحقنة
فيه قولان (أحدهما) يثبت لما ذكرناه في السعوط (والثاني) لا يثبت لان
الرضاع جعل لانبات اللحم وانتشار العظم، والحقنة جعلت للاسهال، فإن
ارتضع مرتين وأوجر مرة وأوسط مرة وحقن مرة. وقلنا إن الحقنة تحرم يثبت
التحريم، لأنا جعلنا الجميع كالرضاع في التحريم وكذلك في اتمام العدد.
(فصل) وان حلبت لبنا كثيرا في دفعة واحدة وسقته في خمسة أوقات
فالمنصوص أنه رضعة.
وقال الربيع فيه قول آخر أنه خمس رضعات: فمن أصحابنا من قال هو من
تخريج الربيع. ومنهم من قال فيه قولان (أحدهما) أنه خمس رضعات، لأنه
يحصل به ما يحصل بخمس رضعات (والثاني) أنه رضعة - وهو الصحيح -
218

لان الوجور فرع للرضاع، ثم العدد في الرضاع لا يحصل إلا بما ينفصل خمس
مرات فكذلك في الوجور.
وإن حلبت خمس مرات وسقته دفعة واحدة ففيه طريقان، من أصحابنا من
قال هو على قولين كالمسألة قبلها، ومنهم من قال هو رضعة قولا واحدا لأنه لم
يشرب إلا مرة. وفي المسألة قبلها شرب خمس مرات. وإن حلبت خمس مرات
وجعلتها في إناء ثم فرقته وسقته خمس مرات. ففيه طريقان، من أصحابنا من قال
يثبت التحريم قولا واحدا لأنه تفرق في الحلب والسقي. ومنهم قال هو على قولين
لان التفريق الذي حصل من جهة المرضعة قد بطل حكمه بالجمع في إناء
(الشرح) إذا وقع الشك في وجود الرضاع أو في عدد الرضعات المحرمة هل
كملت أم لا؟ لم يثبت التحريم لان الأصل عدمه فلا تزول عن اليقين بالشك،
كما لو شك في وجود الطلاق وعدده.
والسعوط والوجور كالرضاع، فإذا صب اللبن في أنفه من إناء أو غيره أو
صب في حلقه صبا من غير الثدي فكلا الامرين الحكم فيهما حكم الرضاع. وقد
اختلفت الرواية في التحريم بهما عن أحمد، فأصح الروايتين أن التحريم يثبت،
بهما كما أفاده ابن قدامة. وهو قول الشعبي والثوري وأصحاب الرأي وبه قال مالك
في الوجور، ولم يقل به في السعوط
والرواية الثانية عن أحمد لا يثبت بهما التحريم، وهو اختيار أبي بكر من
أصحاب أحمد وداود بن علي وقول عطاء الخراساني في السعوط لان هذا ليس
برضاع، وإنما حرم الله تعالى ورسوله بالرضاع، ولأنه حصل من غير ارتضاع
فأشبه ما لو دخل من جرح في بدنه
دليلنا على ما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " لارضاع الا
ما أنشز العظم وأنبت اللحم " رواه أبو داود، ولان هذا يصل به اللبن إلى حيث
يصل بالارتضاع ويحصل به من انبات اللحم وانشاز العظم ما يحصل من الارتضاع
فيجب أن يساويه في التحريم، والأنف سبيل الفطر للصائم فكان سبيلا للتحريم
إذا تقرر هذا فإنه يحرم من ذلك مثل الذي يحرم بالرضاع، وهو خمس في
219

الرواية المشهورة فإنه فرغ على الرضاع فيأخذ حكمه، فإن ارتضع وكمل الخمس
بسعوط أو وجور كان كمن كمل الخمس برضاع وثبت التحريم بها لأنا جعلناه
كالرضاع في أصل التحريم، فكذلك في اكمال العدد، ولو حلبت في اناء دفعة
واحدة ثم سقته غلاما في خمسة أوقات فالمنصوص أنه رضعة.
وقال الربيع فيه قول آخر أنه خمس فاختلف أصحابنا فمنهم من قال ليس هذا
قولا للامام وإنما هو من تخريج الربيع. ومنهم من عدهما قولين (أحدهما) أنه
خمس لأنه يحصل به ما يحصل بالخمس. وبهذا قال أحمد. لأن الاعتبار بشرب
الصبي له لأنه المحرم. ولأنه لو أكل خمس أكلات من طعام واحد متفرقات
لكان قد أكل خمس أكلات.
دليلنا أن القدر المعتبر للرضعة الواحدة لو قسم إلى خمسة أجزاء لما زاد على
كونه رضعة. ولأن الاعتبار بالرضاع والوجور فرعه. وقد عكس الحنابلة
في الصورتين.
فأما ان سقته اللبن المجموع من خمس رضعات اعتبارية جرعة بعد جرعة
متتابعة ففيه طريقان. فمن أصحابنا من جعلها كالتي قبلها في الوجور خمس مرات
لرضعة واحدة. وظاهر كلام الخرقي من أئمة الحنابلة أنه رضعة واحدة لان المعتبر
خمس رضعات متفرقات وهذه غير متفرقات. والتفريق الذي حصل من جهة
المرضعة بطل حكمه بالجمع في اناء
فأما الحقنة فإن قلنا تحرم كالسعوط والجور كانت في حكم الرضاع بمعنى
أنه إذا رضع من الثدي رضعتين وبالسعوط واحدة وباوجور واحدة وبالحقن
واحدة كانت خمسا كاملة محرمة. وبهذا قال ابن حامد من الحنابلة وابن أبي موسى
والمنصوص عن أحمد أنها لا تحرم. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك لان هذا
ليس برضاع ولا يحصل به التغذي فلم ينشر الحرمة، كما لو قطر في إحليله، ولأنه
ليس برضاع ولا في معناه فلم يجز اثبات حكمه فيه، ويفارق فطر الصائم فإنه
لا يعتبر فيه انبات اللحم ولا انشاز العظم، ولأنه وصل اللبن إلى الباطن من غير
الحلق أشبه ما لو وصل من جرح
220

وقد سألنا ولدنا التقى الدكتور أسامة أمين فراج فأجاب بأننا لو أعطينا
الطفل حقنة اللبن من الشرج فإنه لا يتغذى منه الجسم إلا بنسبة ضئيلة في حالة
بقائه في جوفه مدة طويلة ولا تقاس بجانب ما يتعاطاه بفهم كيفا وكما. أما إذا نزل
منه في الحال فإنه لا يعود عليه منها ما يغذيه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن جبن اللبن وأطعم الصبي حرم لأنه يحصل به ما يحصل باللبن
من إنبات اللحم وانتشار العظم
(فصل) فإن خلط بين اللبن بمائع أو جامد واطعم الصبي حرم وحكى عن المزني
أنه قال إن كان اللبن غالبا حرم، وإن كان مغلوبا لم يحرم لان مع غلبة المخالطة
يزول الاسم، والمعنى الذي يراد به، وهذا خطأ لان ما تعلق به التحريم إذا كان
غالبا تعلق به إذا كان مغلوبا كالنجاسة في الماء القليل
(فصل) فإن شرب لبن امرأة ميتة لم يحرم لأنه معنى يوجب تحريما مؤيدا
فبطل بالموت كالوطئ.
(فصل) ولا يثبت التحريم بلبن البهيمة " فإن شرب طفلان من لبن شاة لم
يثبت بينهما حرمة الرضاع لان التحريم بالشرع ولم يرد الشرع إلا في لبن الآدمية
والبهيمة دون الآدمية في الحرمة ولبنها دون لبن الآدمية في إصلاح البدن فلم يلحق
به في التحريم، ولان الاخوة فرع على الأمومة، فإذا لم يثبت بهذا الرضاع أمومة
فلان لا يثبت به الاخوة أولى ولا يثبت التحريم بلبن الرجل.
وقال الكرابيسي يثبت بلبن المرأة، وهذا خطأ لان لبنه لم يجعل
غذاء للمولود فلم يثبت به التحريم كلبن البهيمة.
وإن ثار للخنثى لبن فارتضع منه صبي - فإن علم أنه رجل - لم يحرم،
وان علم أنه امرأة حرم، فإن أشكل فقد قال أبو إسحاق: إن قال النساء إن هذا
اللبن لا يكون على غزراته إلا لامرأة حكم بأنه امرأة وأن لبنه يحرم
221

ومن أصحابنا من قال: لا يجعل اللبن دليلا لأنه قد يثور اللبن للرجل، فعلى هذا
يوقف أمر من يرضع بلبنه كما يوقف أمره.
(فصل) فإن ثار للبكر لبن أو لثيب لا زوج لها فأرضعت به طفلا ثبت بينهما
حرمة الرضاع لان لبن النساء غذاء للأطفال، فإن ثار لبن للمرأة على ولد من
الزنا فأرضعت به طفلا ثبت بينهما حرمة الرضاع، لان الرضاع تابع للنسب
ثم النسب يثبت بينه وبينها، ولا يثبت بينه وبين الزاني، فكذلك حرمة الرضاع
(الشرح) إذا عمل اللبن جبنا ثم أطمعه الصبي ثبت التحريم به، وبهذا قال
أحمد، وقال أبو حنيفة لا يحرم به لزوال الاسم، وكذلك على الرواية لأحمد
القائلة بعدم ثبوت التحريم باوجور لا يثبت هنا بطريق الأولى، دليلنا أنه
واصل من الحلق، ويحصل به إنبات اللحم وانشاز العظم، فحصل به التحريم
كما لو شربه.
(فرع) إذا شيب اللبن بغيره فحكمه حكم المحض الخالص الذي لا يخالطه
سواه، وبهذا قال الخرقي من الحنابلة، وقال أبو بكر قياس قول أحمد أنه لا يحرم
لأنه وجور، وحكى المصنف عن المزني: إن كان الغالب اللبن حرم والا فلا،
وهو قول أبي ثور وأبن حامد، لان الحكم للأغلب، ولأنه يزول بذلك الاسم
والمعنى المراد به، ونحو هذا قول أصحاب الرأي وزادوا فقالوا: إن كانت النار
قد مست اللبن حتى أنضجت الطعام أو حتى تغير فليس برضاع، وهذا خطأ لان
اللبن متى كان ظاهرا فقد حصل شربه، ويحصل منه انبات اللحم وانشاز العظم
فحرم كما لو كان غالبا
وقال ابن قدامة: ان صب في ماء كثير لم يتغير به - يعنى الماء - لم يثبت
به التحريم، لان هذا ليس بلبن مشوب، ولا يحصل به التغذي ولا انبات اللحم
ولا انشاز العظم، وهذا خطأ لان ما تعلق به التحريم إن كان غالبا تعلق به إن كان
مغلوبا، ولأنه لو وضع قليل من الخمر في الماء ولو لم يغيره حرم شربه،
الا إذا استبحر وتلاشى أثر الخمر. ولان أجزاء اللبن حصلت في بطنه فأشبه
لو كان لونه ظاهرا
222

(فرع) إذا شرب لبن امرأة ميتة فإنه لا تنشر الحرمة، وبهذا قال الخلال.
لأنه لبن ممن ليس بمحل للولادة، فلم يتعلق به التحريم كلبن الرجل، والمنصوص
عن أحمد في رواية إبراهيم الحربي أنه ينتشر الحرمة، وهو قول أبي ثور والأوزاعي
وابن القاسم وأصحاب الرأي وابن المنذر، وتوقف عنه أحمد في رواية منها. ولو
حلبت المرأة لبنها في وعاء ثم ماتت فشربه صبي نشر الحرمة في قول كل من جعل
الوجور محرما، وبه قال أحمد في إحدى الروايتين وأبو ثور وأصحاب الرأي وغيرهم
وذلك لأنه لبن امرأة في حياتها فأشبه ما لو شربه في الحياة
(فرع) ولا تنتشر الحرمة بغير لبن الآدمية بحال، فلو ارتضع اثنان من لبن
بهيمة لم يصيرا أخوين في قول عامة أهل العلم، منهم أحمد وابن القاسم وأبو ثور
وأصحاب الرأي، ولو ارتضعا من رجل لم يصيرا أخوين، ولم تنتشر الحرمة بينه
وبينهما في قوله عامتهم.
وقال الكرابيسي يتعلق به التحريم لأنه لبن آدمي أشبه لبن الآدمية. وحكى
عن بعض السلف أنهما لو ارتضعا من لبن بهيمة صار أخوين، وليس بصحيح،
لان هذا لا يتعلق به تحريم الأمومة، فلا يثبت به تحريم الاخوة، لان الاخوة
فرع على الأمومة، وكذلك لا يتعلق به تحريم الأبوة لذلك، ولان هذا اللبن
لم يخلق لغذاء المولود فلم يتعلق به التحريم كسائر الطعام، فإن ثار لخنثى مشكل
لبن لم يثبت به التحريم، لأنه لم يثبت كونه امرأة فلا يثبت التحريم مع الشك.
وقال ابن حامد: يقف الامر حتى يثبت التحريم بانكشاف أمر الخنثى كونه رجلا
وقال أبو إسحاق المروزي: أن قال النساء إن هذا اللبن لا يكون على غزارته إلا
لامرأة حكم بأنه امرأة وأن لبنه يحرم
وقال بعض أصحابنا: ليس اللبن دليلا على الرجولة والأنوثة، لأنه قد يثور
للرجل لبن تتوفر فيه غزارة لبن المرأة وعناصره التي يتكون منها، وعلى ذلك
نقول بقول ابن حامد وهو ما ذهب إليه المصنف هنا
(فرع) إذا ثار لامرأة ثيبا كانت أو بكرا لبن من غير وطئ فأرضعت به
طفلا نشر الحرمة، وهو قول ابن حامد ومالك وأظهر الروايتين عن أحمد، وهو
مذهب الثوري وأبي ثور وأصحاب الرأي وكل من يحفظ عنه ابن المنذر، لقول
223

الله تعالى " وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم " ولأنه لبن امرأة فتعلق به التحريم، كما لو
ثان بوطئ، ولان ألبان النساء خلقت لغذاء الأطفال، فإن كان هذا نادرا
فجنسه معتاد.
(مسألة) يشترط في نشر الحرمة بين المرتضع وبين الرجل الذي ثار اللبن
بوطئه أن يكون لبن حمل ينتسب إلى الواطئ، إما لكون الوطئ في نكاح أو
ملك يمين أو نكاح شبهة. فأما لبن الزاني أو النافي للولد باللعان فلا ينشر الحرمة
بينهما هذا هو مذهبنا وبه قال أبو عبد الله بن حامد والخرقي من أصحاب أحمد، وقال
أبو بكر بن عبد العزيز منهم: تنتشر الحرمة بين المرتضع وبين الزاني أو النافي
باللعان لأنه معنى ينتشر الحرمة، فاستوى في ذلك مباحه ومحظوره كالوطء
يحققه أو الواطئ حصل منه لبن وولد ثم إن الولد ينتشر الحرمة بينه وبين الواطئ
كذلك اللبن، ولأنه رضاع ينشر الحرمة إلى المرضعة بالاتفاق فنشرها إلى الواطئ
كصورة الاجماع.
ودليلنا أن التحريم بينهما فرع لحرمة الأبوة، فلما لم تثبت حرمة الأبوة لم يثبت
ما هو فرع لها.
فأما المرضعة فإن الطفل المرتضع محرم عليها ومنسوب إليها عند الجميع،
وكذلك يحرم جميع أولادها وأقاربها الذين يحرمون على أولادها على هذا
المرتضع كما في الرضاع باللبن المباح
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) إذا ثار لها لبن على ولد من زوج فطلقها وتزوجت بآخر، فاللبن
للأول إلى أن تحبل من الثاني، وينتهي إلى حال ينزل اللبن على الحبل، فإن
أرضعت طفلا كان ابنا للأول زاد اللبن أو لم يزد انقطع ثم عاد أو لم ينقطع،
لأنه لم يوجد سبب يوجب حدوث اللبن غير الأول، فإن بلغ الحمل من الثاني إلى
حال ينزل فيه اللبن نظرت - فإن لم يزد اللين - فهو للأول، فان أرضعت به
طفلا كان ولدا للأول، لأنه لم يتغير اللبن: فان زاد فارتضع به طفل ففيه قولان
224

قال في القديم هو ابنهما لأن الظاهر أن الزيادة لأجل الحبل، والمرضع به
لبنهما فكان ابنهما.
وقال في الجديد هو ابن الأول، لان اللبن للأول يقين، ويجوز أن تكون
الزيادة لفضل الغذاء، ويجوز أن تكون للحمل، فلا يزال اليقين بالشك
فإن انقطع اللبن ثم عاد في الوقت الذي ينزل اللبن على الحبل فأرضعت به طفلا ففيه ثلاثة أقوال
(أحدها) أنه ابن الأول، لان اللبن خلق غذاء للولد دون الحمل، والولد للأول
فكان المرضع به ابنه.
(والثاني) أنه من الثاني، لان لبن الأول انقطع فالظاهر أنه حدث للحمل
والحمل للثاني فكان المرضع باللبن ابنه
(والثالث) أنه ابنهما، لان لكل واحد منهما أمارة تدل على أن اللبن له،
فجعل المرضع باللبن ابنهما، فإن وضعت الحمل وأرضعت طفلا كان ابنا للثاني في
الأحوال كلها، زاد اللبن أو لم يزد، اتصل أو انقطع ثم عاد، لان حاجة المولود
إلى اللبن تمنع أن يكون اللبن لغيره
(الشرح) إذا ثار لبن منها على ولده من زوج طلقها فتزوجت أخر لم يخل
من خمسة أحوال:
1 - أن يبقى لبن الأول بحاله لم يزد ولم ينقص ولم تلد من الثاني فهو للأول
سواء حملت من الثاني أو لم تحمل، لا نعلم فيه خلافا، لان اللبن كان للأول ولم
يتجدد ما يجعله من الثاني فبقي للأول
2 - أن لا تحمل من الثاني فهو للأول، سواء زاد أو لم يزد، أو انقطع ثم
عاد أو لم ينقطع.
3 - أن تلد من الثاني فاللبن له خاصة. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل
من نحفظ عنه، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، سواء زاد لم يزد، انقطع أو
اتصل، لان لبن الأول ينقطع بالولادة من الثاني، فان حاجة المولود إلى اللبن
تمنع كونه لغيره.
4 - إذا انتهى الحمل إلى حال ينزل به اللبن فزاد به ففيه قولان، أحدهما قوله
225

في القديم هو لهما وتنتشر الحرمة بينه وبينهما، لان زيادته عند حدوث الحمل
ظاهر في أنها منه، وبقاء لبن الأول يقتضى كون أصله منه فجيب أن يضاف
إليهما، وبهذا قال الحنابلة، الثاني هو للأول لان اللبن له بيقين، ويجوز أن تكون
الزيادة بسبب التغذية أو استدرار الطفل للثدي فينشط الثدي نتيجة الاحساس
بالأمومة لدى المرضعة فيثور لبنها لأسباب نفسية من الرحمة يقذفها الله في قلب
المرأة، وقد حدث لي وأنا رضيع فقد ماتت الأم بعد ولادتي بستة أشهر وكانت
جدتي لأبي تبلغ من العمر زهاء الثمانين عاما فثار اللبن في ثدييها رحمة بي واشفاقا
على من الهلاك: وهذا من الأسباب التي هيأها الله لي أن أعيش وقد حرمت
على بنات أعمامي وبنات عماني، وظل اللبن في ثدييها إلى أن أدركتها المية على
رأس المائة، وإنما يخلق الله اللبن للولد عند وجوده سدا لحاجته وحفظا لحياته،
وقال أبو حنيفة هو للأول ما لم تلد من الثاني
5 - انقطع اللبن من الأول ثم ثاب بالحمل من الثاني ففيه ثلاثة أقوال
(أحدها) أنه ابن الأول وهو قول أبي حنيفة، لان الحمل لا يقتضى اللبن، وإنما
يخلقه الله تعالى للولد عند وجوده لحاجته إليه، وقد سبق عند الكلام على قوله
في الجديد (الثاني) أنه ابن الثاني، وهو اختيار أبى الخطاب من الحنابلة، لان
لبن الأول انقطع فزال حكمه بانقطاعه وحدث بالحمل من الثاني، فكان له كما لو لم
يكن لها لبن من الأول (والثالث) أنه ابنهما، وذلك لان اللبن كان للأول فلما
عاد بحدوث الحمل، فالظاهر أن لبن الأول ثاب بسبب الحمل الثاني، فكان مضافا
إليهما كما لو لم ينقطع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وطئ رجلان امرأة وطئا يلحق به النسب فأتت بولد
وأرضعت بلبنه طفلا، كان الطفل ابنا لمن يلحقه نسب الولد، لان اللبن تابع
للولد، فإن مات الولد ولم يثبت نسبه بالقافة ولا بالانتساب إلى أحدهما - فإن
كان له ولد - قام مقامه في الانتساب، فإذا انتسب إلى أحدهما صار المرضع
ولد من انتسب إليه، وإن لم يكن له ولد ففي المرضع بلبنه قولان
226

(أحدهما) أنه ابنهما، لان اللبن قد يكون من الوطئ، وقد يكون من الولد
(والقول الثاني) أنه لا يكون ابنهما، لان المرضع تابع للمناسب ولا يجوز أن
يكون المناسب ابنا لاثنين، فكذلك المرضع، فعلى هذا هل يخير المرضع في
الانتساب إلى أحدهما؟ فيه قولان
(أحدهما) لا يخير لأنه لا يعرض على القافة فلا يخير بالانتساب
(والثاني) يخير لان الولد قد يأخذ الشبه بالرضاع في الأخلاق ويميل طبعه
إلى من ارتضع بلبنه، ولهذا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أنا أفصح
العرب ولا فخر، بيد أنى من قريش ونشأت في بني سعد وارتضعت في بنى زهرة
ولهذا يقال يحسن خلق الولد إذا حسن خل المرضعة، ويسوء خلقه إذا ساء خلقها
فإذا قلنا إنه يخير فانتسب إلى أحدهما كان ابنه من الرضاعة، فإذا قلنا لا يخير
فهل له أن يتزوج بنتيهما؟ فيه ثلاثة أوجه
(أحدها) وهو الأصح، أنه لا يحل له نكاح بنت واحد منهما، لأنا وإن
جهلنا عين الأب منهما إلا أنا نحقق أن بنت أحدهما أخته وبنت الآخر أجنبية
فلم يجز له نكاح واحدة منهما، كما لو اختلطت أخته بأجنبية
(والثاني) أنه يجوز أن يتزوج بنت من شاء منهما، فإذا تزوجها حرمت عليه
الأخرى، لان الأصل في بنت كل واحد منهما الإباحة وهو يشك في تحريمها
واليقين لا يزال بالشك، فإذا تزوج إحداهما تعينت الاخوة في الأخرى فحرم
نكاحها على التأييد، كما لو اشتبه ماء طاهر وماء نجس فتوضأ بأحدهما بالاجتهاد،
فإن النجاسة تتعين في الآخر، ولا يجوز أن يتوضأ به.
(والثالث) أنه يجوز ان يتزوج بنت كل واحد منهما ثم يطلقها ثم يتزوج
الأخرى، لان الحظر لا يتعين في واحده منهما، كما يجوز أن يصلى بالاجتهاد
إلى جهة ثم يصلى بالاجتهاد إلى جهة أخرى، ويحرم أن يجمع بينهما، لان الحظر
يتعين في الجميع فصار كرجلين رأيا طائرا فقال أحدهما إن كان هذا الطائر غرابا
فعبدي حر، وقال الآخر إن لم يكن غرابا فعبدي حر، فطار ولم يعلم أنه غراب
ولا غيره، فإنه لا يعتق على واحد منهما لانفراده بملك مشكوك فيه، وإن اجتمع
العبدان لواحد عتق أحدهما لاجتماعهما في ملكه
227

(فصل) وإن أتت امرأته بولد ونفاه باللعان فأرضعت بلبنه طفلا كان
الطفل ابنا للمرأة ولا يكون أبا للزوج، لان الطفل تابع للولد، والولد ثابت
النسب من المرأة دون الزوج فكذلك الطفل، فإن أقر بالولد صار الطفل ابنا له
لأنه تابع للولد.
(فصل) وإن كان لرجل خمس أمهات أولاد فثار لهن منه لبن فارتضع صبي
من كل واحدة منهن رضعة ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبى العباس بن سريج وأبى القاسم الأنماطي وأبى بكر
ابن الحداد المصري: إنه لا يصير المولى أبا للصبي لأنه رضاع لم يثبت به الأمومة
فلم تثبت به الأبوة
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق وأبى العباس بن القاص: إنه يصير المولى
أبا للصبي، وهو الصحيح، لأنه ارتضع من لبنه خمس رضعات فصار ابنا له،
وإن كان لرجل خمس أخوات فارتضع طفل من كل واحده منهن رضعة فهل يصير
خالا له؟ على الوجهين
(الشرح) ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رضع من ثويبة مولاة أبى لهب
أرضعته أياما وأرضعت معه أبا سلمة عبد الله بن عبد الأشد المخزومي بلبن ابنها
مسروح وأرضعت معهما حمزة بن عبد المطلب واختلف في اسلامهما - ثم
أرضعته حليمة السعدية بلبن ابنها عبد الله أخي أنيسة وجذامة، وهي الشيماء
أولاد الحرث بن عبد العزى بن رفاعة السعدي، واختلف في اسلام أبويه من
الرضاعة، وأرضعت معه ابن عمه أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، وكان
شديد العدواة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أسلم عام الفتح وحسن اسلامه
وكان عمه مسترضعا في بنى سعد بن بكر، فأرضعت أمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند أمه حليمة، فكان حمزة رضيع رسول الله صلى وسلم من
وجهين، من جهة ثويبة ومن جهة السعدية
أما حواضنه صلى الله عليه وسلم فإن أمه هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف
ابن زهرة بن كلاب. ومنهن ثويبة وحليمة والشيماء ابنتها - وهي أخته من
228

الرضاعة كانت تحضنه مع أمها، وهي التي قدمت عليه في وفد هوازن فبسط لها
رداءه، وأجلسها عليه رعاية لحقها.
أما بعد: فإن هذه الفصول الثلاثة على وجوهها الذي أوضحناه في الفصول
التي قبلها فليراجع.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن كان لرجل زوجة صغيرة فشربت من لبن أمه خمس رضعات
انفسخ بينهما النكاح لأنها صارت أخته، وإن كانت له زوجة كبيرة وزوجة
صغيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة خمس رضعات انفسخ نكاحهما، لأنه لا يجوز
أن يكون عنده امرأة وابنتها، فإن كان له زوجتان صغيرتان فجاءت امرأة
فأرضعت إحداهما خمس رضعات، ثم أرضعت الأخرى خمس رضعات ففيه
قولان (أحدهما) ينفسخ نكاحهما، وهو اختيار المزني لأنهما صارتا أختين
فانفسخ نكاحهما، كما لو أرضعتهما في وقت واحد (والثاني) أنه ينفسخ نكاح
الثانية، لان سبب الفسخ حصل بالثانية فاختص نكاحها بالبطلان، كما لو تزوج
إحدى الأختين بعد الأخرى.
(فصل) ومن أفسد نكاح امرأة بالرضاع فالمنصوص أنه يلزمه نصف مهر المثل
ونص في الشاهدين بالطلاق إذا رجعا على قولين (أحدهما) يلزمهما مهر المثل
(والثاني) يلزمهما نصف مهر المثل. واختلف أصحابنا فيه، فنقل أبو سعيد
الإصطخري جوابه من إحدى المسئلتين إلى الأخرى وجعلها على قولين
(أحدهما) يجب مهر المثل لأنه أتلف البضع فوجب ضمان جميعه
(والثاني) يجب نصف مهر المثل لأنه لم يغرم للصغيرة إلا نصف بدل البضع
فلم يجب له أكثر من نصف بدله
وقال أبو إسحاق: يجب في الرضاع نصف المهر وفي الشهادة يجب الجميع،
والفرق بينهما أن في الرضاع وقعت الفرقة ظاهرا وباطنا وتلب البضع عليه.
وقد رجع إليه بدل النصف فوجب له بدل النصف. وفي الشهادة لم يتلف البضع
في الحقيقة، وإنما حيل بينه وبين ملكه فوجب ضمان جميعه، والصحيح طريقة
229

أبي إسحاق وعليها التفريغ. وإن كان لرجل زوجة صغيرة فجاء خمسة أنفس
وأرضع كل واحد منهما الصغيرة من لبن أم الزوج أو أخته رضعة وجب على كل
واحد منهم خمس نصف المهر لتساويهم في الاتلاف، وإن كانوا ثلاثة فأرضعها
أحدهم رضعة وأرضعها كل واحد من الآخرين رضعتين ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يجب على كل واحد منهم ثلث النصف، لان كل واحد منهم
وجد منه سبب الاتلاف فتساووا في الضمان كما لو طرح رجل في خل قدر دانق
من نجاسة، وآخر قدر درهم
(والثاني) يقسط على عدد الرضعات فيجب على من أرضع رضعة الخمس من
نصف المهر، وعلى كل واحد من الآخرين الخمسان، لان الفسخ حصل بعدد
الرضعات فيقسط الضمان عليه
(فصل) إذا ارتضعت الصغيرة من أم زوجها خمس رضعات والأم نائمة
سقط مهرها لان الفرقة قد حصلت بفعلها فسقط مهرها ولا يرجع الزوج عليها
بمهر مثلها ولا بنصفه، لان الاتلاف من جهة العاقد قبل التسليم لا يوجب غير
المسمى، فإن ارتضعت من أم الزوج رضعتين والأم نائمة وأرضعتها الأم تمام
الخمس والزوجة نائمة ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يسقط من نصف المسمى نصفه وهو الربع، ويجب الربع.
(والثاني) يقسط على عدد الرضعات فيسقط من نصف المسمى خمسان ويجب
ثلاثة أخماسه وجههما ما ذكرناه في المسألة قبلها وبالله التوفيق
(الشرح) إذا تزوج الرجل صغيرة فأرضعتها أمه أو أخته أو امرأة ينفسخ
النكاح برضاعها خمس رضعات متفرقات، فإن كان قد سمى لها صداقا فاسدا
وجب لها نصف مهر المثل، وإن سمى لها صداقا صحيحا وجب لها نصف المسمى
ويرجع الزوج على المرضعة بضمان ما أتلفته من البضع، سواء تعمدت فسخ
النكاح أو لم تتعمد، وقال مالك لا يرجع عليها بشئ
وقال أبو حنيفة: ان تعمدت فسخ النكاح رجع عليها، وان لم تتعمد فسخ
النكاح لم يرجع عليها.
230

دليلنا قوله تعالى " وإن فاتكم شئ من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذي
ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا " وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح قريشا عام
الحديبية على أن المرأة المسلمة إذا هاجرت ردها زوجها إليهم فنهاه الله عن ذلك
وأمره برد مهورهن إلى أزواجهن لأنه حال بينهن وبين أزواجهن، فدل على أن
كل من حال بين الرجل وبين زوجته كان عليه ضمان البضع، وهذه المرضعة قد
حالت بينها وبين زوجها فكان عليها الضمان. وعند أبي حنيفة أن كل ما ضمن
بالعهد ضمن بالخطأ كالأموال.
إذا ثبت هذا فحكم القدر الذي يرجع به على المرضعة نص الشافعي ههنا أنه
يرجع عليها بنصف مهر المثل، ونص في الشاهدين إذا شهدا على رجل أنه طلق
امرأته فبل الدخول وحكم بشهادتهما ثم رجعا عن الشهادة فإنها لا ترد إليه، وبماذا
يرجع الزوج عليهما؟ فيه قولان. أحدهما يرجع عليهما بنصف المثل. والثاني
يرجع عليهما بجميع مهر المثل، لأنها أتلفت عليه البضع فرجع عليهما بقيمته.
(والثاني) يرجع عليهما بنصف مهر المثل، لأنه لم يغرم إلا نصف بدل البضع
فلم يجب له أكثر من نصف بدله، وحملهما أبو إسحاق وأكثر أصحابنا على ظاهرهما
فجعلوا في الشاهدين قولين، وفي المرضعة للزوج يرجع عليهما بنصف مهر المثل
قولا واحدا، لان الفرقة في الرضاع وقعت ظاهرا وباطنا، والذي غرم الزوج
نصف المهر فلم يرجع عليها بأكثر من بدله. وفي الشاهدين لم تقع الفرقة ظاهرا
وباطنا، وإنما وقعت في الظاهر وهما يقران أنها زوجته الآن، وإنما حالا بينه
وبينها فرجع عليهما بقيمة جميع البضع. وقال أبو حنيفة: يرجع على المرضعة
بنصف المسمى.
دليلنا أن هذا تعلق بالاتلاف فلم يضمن بالمسمى، وإنما يضمن بقيمته كضمان
الأموال، فإذا قلنا يرجع عليها بنصف مهر المثل - وهو الأصح وعليه التفريع -
فجاء خمسة أنفس وأرضعوا الصغيرة من أم الزوج كل واحد منهم رضعة، فإن
الزوج يرجع على كل واحد منهم بخمس نصف مهر المثل ليساويهم في الاتلاف.
وإن كانوا ثلاثة فأرضعها اثنان كل واحد منهما رضعة من لبن أم الزوج وأرضعها
الثالث منها ثلاث رضعات ففيه وجهان
231

(أحدهما) يجب على كل واحد منهم ثلث نصف مهر المثل، لان كل واحد
منهم وجد منه سبب الاتلاف فتساووا في الضمان، كما لو كان عبد بين ثلاثة
لأحدهم النصف ولآخر السدس وللثالث الثلث، فأعتق صاحب النصف وصاحب
السدس نصيبهما في وقت واحد.
(والثاني) يقسط النصف على عدد الرضعات فيجب على من أرضعه رضعة
خمس نصف مهر المثل، وعلى من أرضع ثلاث رضعات ثلاثة أخماس نصف
مهر المثل، لان الفسخ حصل بعدد الرضعات فقسط الضمان عليهن
(فرع) وإن كان للرجل ثلاث زوجات كبيرة، وللكبيرة ثلاث بنات من
النسب أو الرضاع لهن لبن، فأرضعت كل واحدة من بنات الزوجة الكبيرة
واحدة من الثلاث الزوجات الصغار نظرت - فإن وقع رضاعهن دفعة واحدة
بأن اتفقن في الخامسة - انفسخ نكاح الكبيرة والصغائر، لأنه لا يجوز الجمع
بينهن وبين جدتهن، وإن كان الزوج لم يدخل بالكبيرة فإنهن يرجعن عليه بنصف
المسمى، ويرجع الزوج على كل واحدة من بنات الكبيرة بنصف مهر الصغيرة
التي أرضعت، ويرجع على الثلاث المرضعات بنصف مهر الكبيرة بينهن أثلاثا.
ومن أصحابنا من قال، يرجع بنصف مهر كل واحدة من الصغار على الثلاث
المرضعات بينهن بالسوية كنصف مهر الكبيرة، لأنهن اشتركن في إفساد نكاح
كل واحدة منهن، والأول أصح، وتحرم عليه الكبيرة على التأبيد. وأما الصغار
فلا يحرمن عليه بل يجوز له ابتداء عقد النكاح على كل واحدة منهن، ويجوز له
الجمع بينهن لأنهن بنات خالات، وإن كان قد دخل بالكبيرة حرمن جميعا على
التأبيد، والكلام في مهور الصغائر ما مضى
وأما مهر الكبيرة فإنه يرجع على الثلاث المرضعات بينهن أثلاثا
وقال ابن الحداد: لا يرجع عليهن بمهر المثل لأنه قد وطئها، فلو ثبت له
الرجوع لكانت في معنى المرهونة، وهذا ليس بصحيح، لان المهر يرجع به على
غيرها فلا تكون في معنى المرهونة
وإن تقدم إرضاع بعضهن على بعض فإن الأولة من بنات الكبيرة لما أرضعت
واحدة من الصغار انفسخ نكاح الصغيرة والكبيرة ورجع الزوج على المرضعة
232

بنصف مهر مثل الصغيرة وبنصف مهر الكبيرة إن لم يدخل بها، وبجميع مهرها
إن دخل بها على الأصح وحرمت الكبيرة على التأييد، فلما أرضعت الثانية الصغيرة
وأرضعت الثالثة الصغيرة الثالثة، فإن كان الزوج قد دخل بالكبيرة انفسخ نكاحهما
لأنهما بنتا ابنة امرأته المدخول بها والكلام في مهرهما على ما مضى، وإن كان
لم يدخل بالكبيرة لم ينفسخ نكاحهما لأنهما بنتا ابنة امرأته التي لم يدخل بها.
(فرع) إذا كان له ثلاث زوجات كبيرتان وصغيرة فأرضعتها كل واحدة
من الكبيرتين أربع رضعات ثم حلبت كل واحدة منهما لبنا منها وخلطتاه وسقتاه
الصغيرة معا انفسخ نكاح الكبيرتين والصغيرة وعلى الزوج للصغيرة نصف المسمى
وللزوج على الكبيرتين نصف مهر مثل الصغيرة بينهما نصفين
وأما مهر الكبيرتين فإن كان قد دخل بهما فلهما عليه المهر المسمى ويرجع
الزوج على كل واحدة منهما من مهر صاحبتها، لان كل واحدة منهما
أتلف نصف بضع صاحبتها ونكاح كل واحدة منها انفسخ بفعل نفسها وفعل
صاحبتها فلا تضمن كل واحدة منها من مهر صاحبتها إلا ما قابل فعلها، وإن
كان لم يدخل بهما فلكل واحدة منهما ربع مهرها المسمى على الزوج، لأنه لو لم
يكن من جهتها سبب في فسخ النكاح لاستحقت نصف مهرها المسمى. ولو انفسخ
نكاحها بفعلها سقط جميع مهرها، فإذا انفسخ نكاحها قبل الدخول لا مهر لها،
وما قابل فعل صاحبتها لا يسقط، ويرجع الزوج على كل واحدة منهما بربع مهر
مثل صاحبتها لأنه قيمة ما أتلفته من بعض صاحبتها.
قال الشيخ أبو حامد: فإن كانت بحالها إلا أن إحداهما انفرد بإيجارها اللبن
المخلوط منهما انفسخ نكاح الجميع وللصغيرة على الزوج نصف المسمى، ويرجع
الزوج على المؤجرة بنصف مهر الصغيرة لأنها هي انفردت بالاتلاف
وأما مهر الكبيرتين - فإن كان الزوج لم يدخل بالتي لم توجر - كان لها على
الزوج نصف المسمى ويرجع الزوج على المؤجرة بنصف مهر مثل التي لم توجر،
وإن كان قد دخل بالتي لم توجر فلها على الزوج جميع ما سمى ولها ويرجع الزوج
على المؤجرة بجميع مهر مثل التي لم توجر
وأما مهر المؤجرة - فإن كان ذلك قبل الدخول بها - فلا شئ لها.
233

وإن كان بعد الدخول فلها عليه جميع المسمى ولا يسقط عنه شئ منه، وتحرم
الكبيرتان عليه على التأييد بكل حال.
وأما الصغيرة - فإن دخل بالكبيرتين أو بإحداهما حرمت عليه على التأييد
وإن لم يدخل بواحدة منهما جاز له ابتداء العقد على الصغيرة.
(فرع) وإن تزوج صغيرة فارتضعت من أم الزوج خمس رضعات متفرقات
والأم نائمة انفسخ نكاحها وسقط مهرها، لان الفسخ جاء من قبلها قبل الدخول
فإن ارتضعت من الأم رضعتين وهي نائمة، ثم أرضعتها الأم ثلاث رضعات
متفرقات انفسخ نكاحها.
قال الشيخ أبو إسحاق: وفي قدر ما يسقط عنه من نصف المسمى وجهان
(أحدهما) يسقط نصفه وهو الربع ويجب عليه الربع (والثاني) يقسط على عدد
الرضعات فيسقط من نصف المسمى الخمسان ويجب ثلاثة أخماسه، فإذا قلنا
بالأول وجب على الأم للزوج ربع مهر المثل، وإذا قلنا بالثاني وجب على الأم
ثلاثة أخماس نصف مهر المثل
وإن تقاطر من لبن أمه في حلق زوجته الصغيرة فوصل إلى جوفها خمس
رضعات انفسخ نكاحها فوجب عليه للصغيرة نصف المسمى ولا يرجع الزوج على
الأم بشئ لأنه ليس من جهة أحدهما فعل
(فرع) وإن ارتضعت زوجته الصغيرة من زوجته الكبيرة خمس رضعات
متفرقات والكبيرة نائمة انفسخ نكاحهما وسقط مهر الصغيرة، وإن كان لم يدخل
بالكبيرة رجعت على الزوج بنصف مهرها المسمى ورجع الزوج في مال الصغيرة
بجميع مهر مثل الكبيرة على قول أكثر أصحابنا، ولا يرجع عليها بشئ على
قول ابن الحداد.
(فرع) وإن كان له زوجة صغيرة وزوجة كبيرة وللكبيرة ابن من غير هذا
الزوج له زوجة لها لبن من ابن الكبيرة فأرضعت به الصغيرة انفسخ نكاح الكبيرة
والصغيرة، لان الكبيرة صارت جدة الصغيرة، ولا يجوز الجمع بين المرأة
وجدتها، وتحرم الكبيرة على التأييد، وأما الصغيرة - فإن كان قد دخل بالكبيرة -
حرمت عليه على التأبيد، وإن لم يدخل بالكبيرة لم تحرم عليه على التأييد،
234

ويجب على الزوج للصغيرة نصف المسمى، ويرجع الزوج على زوجته الكبيرة
بنصف مهر مثل الصغيرة. وأما الكبيرة فإن لم يدخل بها وجب لها نصف مهرها
المسمى ويرجع على زوجة الابن بنصف مهر مثل الكبيرة. وان دخل بالكبيرة
رجعت الكبيرة بجميع مهرها المسمى، ويرجع الزوج على زوجة ابنها بجميع مهر
مثل الكبيرة على قول أكثر أصحابنا، ولا يرجع عليها بشئ ههنا على قول
ابن الحداد والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب النفقات
(باب نفقة الزوجات)
إذا سلمت المرأة نفسها إلى زوجها وتمكن من الاستمتاع بها ونقلها إلى حيث
يريد، وهما من أهل الاستمتاع في نكاح صحيح، وجبت نفقتها، لما روى جابر
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فقال " اتقوا الله في
النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولهن عليكم
رزقهن وكسوتهن بالمعروف
وإن امتنعت من تسليم نفسها أو مكنت من استمتاع دون استمتاع أو في منزل دون منزل
أو في بلد لم تجب النفقة لأنه لم يوجد التمكين التام فلم تجب النفقة كما لا يجب
ثمن المبيع إذا امتنع البائع من تسليم المبيع، أو سلم في موضع دون موضع، فإن
عرضت عليه وبذلت له التمكين التام والنقل إلى حيث يريد وهو حاضر، وجبت
عليه النفقة لأنه وجد التمكين التام.
وإن عرضت عليه وهو غائب لم يجب حتى يقدم هو أو وكيله، أو يمضى
زمان لو أراد المسير لكان يقدر على أخذها، لأنه لا يوجد التمكين التام إلا بذلك
وإن لم تسلم إليه ولم تعرض عليه حتى مضى على ذلك زمان لم تجب النفقة، لان
النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة رضي الله عنها ودخلت عليه بعد سنتين.
235

لم ينفق إلا من حين دخلت عليه ولم يلتزم نفقتها لما مضى، ولأنه لم يوجد التمكين
التام فيما مضى فلم يجب بدله، كما لا يجب بدل ما كلف من المبيع في يد البائع
قبل التسليم.
(فصل) وإن سلمت إلى الزوج أو عرضت عليه وهي صغيرة لا يجامع
مثلها ففيه قولان: أحدهما تجب النفقة لأنها سلمت من غير منع. والثاني لا يجب
وهو الصحيح لأنه لم يوجد التمكين التام من الاستمتاع،
وإن كانت الكبيرة والزوج صغير ففيه قولان: أحدهما لا تجب لأنه لم يوجد
التمكين من الاستمتاع. والثاني تجب وهو الصحيح لان التمكين وجد من جهتها
وإنما تعذر الاستيفاء من جهته فوجبت النفقة، كما لو سلمت إلى الزوج وهو كبير
فهرب منها، وإن سلمت وهي مريضة أو رتقاء أو نحيفة لا يمكن وطؤها أو
الزوج مريض أو مجبوب أو حسيم لا يقدر على الوطئ وجبت النفقة لأنه وجد
التمكين من الاستمتاع، وما تعذر فهو بسبب لا تنسب فيه إلى التفريط
(الشرح) حديث جابر جزء من حديث جابر الطويل في الحج، وقد ورد
بمعناه عن عمرو بن الأحوص عند أصحاب السنن كلهم " أنه شهد حجة الوداع مع النبي
صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ثم قال، استوصوا بالنساء
خيرا فإنما هن عوان عندكم ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك، إلا أن يأتين
بفاحشة مبينة، فإن فعلن فاهجروهن في المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح،
فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إن لكم من نسائكم حقا ولنسائكم عليكم
حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن في
بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن "
أما خبر عائشة فقد أخرجه أحمد والبخاري ومسلم بلفظ عن عائشة رضي الله عنه
" أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت ست سنين وأدخلت عليه
وهي بنت تسع سنين ومكثت عنده تسعا " وفي رواية لأحمد ومسلم " تزوجها
وهي بنت سبع سنين وزفت إليه وهي بنت تسع سنين "
أما الأحكام فإن الأصل في وجوب نفقة الزوجات من الكتاب قوله تعالى
236

والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، وعلى
المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " والمولود له هو الزوج، وإنما نص على
وجوب نفقة الزوجات حال الولادة ليدل على أن النفقة تجب لها حال اشتغالها
عن الاستمتاع بالنفاس لئلا يتوهم متوهم أنه لا يجب لها
وقوله تعالى " فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك
أدنى أن لا تعولوا "
قال الشافعي: معناه أن لا يكثر عيالكم ومن تمونونه. وقيل إن أكثر السلف
قالوا معنى أن لا تعولوا أن لا تجوروا، يقال عالي يعولوا عولا إذا جار. وعال
يعيل إذا كثر عياله إلا زيد بن أسلم فإنه قال. معناه أن لا يكثر عيالكم وقول
النبي صلى الله عليه وسلم يشهد لذلك حيث قال " ابدا بنفسك ثم بمن تعول " ويدل
على نفقة الزوجات قوله تعالى " الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم
على بعض، وبما أنفقوا من أموالهم " وقوله تعالى، لينفق ذو سعة من سعته.
ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله، لا تكلف نفس إلا ما آتاها " ومعنى
قوله تعالى " قدر عليه " أي ضيق عليه
ومن السنة ما رواه حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه قال " قلت يا رسول الله
ماحق الزوجة؟ فقال أن تطعمها إذا طعمت وأن تكسوها إذا اكتسبت " أخرجه
النسائي وابن ماجة وأبو داود وابن حبان والحاكم وصححاه، وعلق البخاري طرفا
منه وصححه الدارقطني في العلل. وما قيده المصنف هنا عن جابر، وقد وردت
أحاديث منها حديث أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقوا
قال رجل عندي دينار، قال تصدق به على نفسك. قال عندي دينار آخر. قال
تصدق به على زوجتك. قال عندي دينار آخر، قال تصدق به على ولدك، قال
عندي دينار آخر. قال تصدق به على خادمك: قال عندي دينار آخر، قال أنت
أبصر به " ورواه أحمد والنسائي، ورواه أبو داود بتقديم الولد على الزوجة.
واحتج به أبو عبيد بتحديد الغنى بخمسة دنانير ذهبا، تقوية بحديث ابن مسعود
في الخمسين درهما،
237

إذا ثبت هذا فلا يحلو حال الزوجين من أربعة أقسام (1) أن يكونا بالغين
(2) أن يكون الزوج بالغا والزوجة صغيرة (3) أن يكون الزوج صغيرا
والزوجة كبيرة (4) أن يكونا صغيرين فإن كانا بالغين وسلمت الزوجة
نفسها إلى الزوج تسليما تاما بأن تقول: سلمت نفسي إليك وإن اخترت أن تصير
إلى وتستمتع فذلك إليك. وان اخترت جئت إليك حيث شئت فعلت، وجبت
نفقتها لان النفقة تجب في مقابلة الاستمتاع فإذا وجد ذلك منها فقد وجد منها التمكين
منه، فوجب في مقابلته كالبائع إذا سلم المبيع وجب على المشترى تسليم الثمن.
فإن سلمت المرأة نفسها إلى الزوج وكان حاضرا فلم يتسلمها حتى مضت على ذلك
مدة وجبت عليه نفقتها كالبائع إذا سلم المبيع وجب على المشترى تسليم الثمن.
فإن سلمت المرأة نفسها إلى الزوج وكان حاضرا فلم يتسلمها حتى مضت على ذلك
مدة وجبت عليه نفقتها في تلك المدة.
وقال أبو حنيفة: لا تجب نفقة المدة الماضية إلا أن يحكم لها الحاكم، ولأنه
مال يجب للزوجة بالزوجية فلم يفتقر استقراره إلى حكم الحاكم كالمهر.
وإن سلمت نفسها إلى الزوج تسليما غير تام بأن قالت سلمت نفسي في هذا
البيت دون غيره، أو في هذه القرية دون غيرها لم تجب لها النفقة، لأنه لم يوجد
التسليم التام، فهو كما لو قال البائع: أسلم هذه السيارة في هذا الموضع دون غيره.
فإن عقد النكاح ولم تسلم المرأة نفسها ولا طالب الزوج بها وسكتا عن ذلك حتى
مضى على ذلك سنة أو أكثر لم يجب لها النفقة، لان النبي صلى الله عليه وسلم
تزوج عائشة وهي بنت سبع، ودخل بها وهي ابنة تسع، ولم ينقل أنه أنفق عليها
إلا من حين دخل بها
وإن عرض الولي الزوجة على الزوج بغير إذنها وهي بالغة عاقلة فلم يتسلمها
الزوج ومضى على ذلك مدة لم تجب على الزوج النفقة لأنه لا ولاية له عليها في
المال. وإن غاب الزوج عن بلد الزوجة نظرت - فإن غاب عنها بعد أن سلمت
نفسها إليه تسليما تاما وامتنع من تسليمها فقد وجبت نفقتها بتسليمها نفسها فلم
يسقط ذلك بغيبته. وان غاب عنها قبل ان تسلم نفسها إليه وأرادت تسليم نفسها
إليه فإنها إذا أتت حاكم بلدها وقالت: أنا أسلم نفسي إليه وأخلى بين وبينه، فإن
238

حاكم بلدها يكتب إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج ويعرفه ذلك، فإذا وصل الكتاب
إلى المكتوب إليه استدعى الزوج وعرض عليه الامر، فإن سار إليها وتسلمها
أو وكل من يتسلمها، فتسلمها الوكيل وجب عليه نفقتها من حين تسلمها هو أو
وكيله. وان أمكنه السير فلم يسر ولا وكيله، فإنه إذا مضت عليه مدة لو أراد
المسير إليها أمكنه ذلك، فإن الحاكم يفرض لها النفقة من حين مضى مدة السفر إليها
لأنه قد كان يمكنه التسليم. فإذا لم يفعل ممتنعا من تسلمها فوجبت عليه النفقة
وان لم يمكنه المسير إليها أمكنه ذلك، فأن الحاكم يفرض لها النفقة من حين مضى
مدة السفر إليها لأنه قد كان يمكنه التسليم. فإذا لم يفعل صار ممتنعا من تسلمها
فوجب عليه النفقة
وان لم يمكنه المسير لعدم الرفقة أو لخوف الطريق لم تجب عليه النفقة حتى
يمكنه المسير لأنه غير ممتنع من تسلمها. وإن كان الزوج بالغا والزوجة صغيرة
نظرت - فإن كانت مراهقة تصلح للاستمتاع - فإن الذي يجب عليه تسليمها
وليها. فإن سلمها الولي تسليما تاما وجب على الزوج نفقتها. وان لم يكن لها ولى
أو كان غائبا أو امتنع من تسليمها أو سكت عن تسليمها فسلمت نفسها إلى الزوج
وجبت النفقة على الزوج لان التسليم قد حصل
وإن كان ممن لا يصح تسليمه. كما لو اشترى سلعة بثمن وسلم الثمن وقبضها
المشتري بغير اذن البائع أو أقبضه إياها غلام البائع فان القبض يصح
قال ابن الصباغ في الشامل: وينبغي أن لا تجب النفقة الا بعد أن يسلمها
ولا يجب ببذلها لان بذلها لا حكم له.
وإن كانت صغيرة لا يتأتى جماعها ففيه قولان (أحدهما) يجب لها النفقة.
لان تعذر وطئها عليه ليس بفعلها فلم تسقط بذلك نفقتها. كما لو مرضت
(الثاني) لا تجب لها النفقة. وبه قال مالك وأبو حنيفة واختاره المزني، وهو
الصحيح. لان الاستمتاع متعذر عليه فلم تجب عليه النفقة، كما لو نشزت. وإن كان
الزوج طفلا صغيرا والزوجة كبيرة ففيه قولان
(أحدهما) لا تجب لها النفقة لان النفقة إنما تجب بالتمكين والتسليم. وإنما
239

يصح ذلك إذا كان هناك متمكن ومتسلم، والصبي لا يتمكن ولا يتسلم فلم تجب
لها النفقة كما لو كان غائبا.
(والثاني) يجب لها النفقة إذا سلمت نفسها - وهو الأصح - لان التمكين
والتسليم التام قد وجد منها وإنما تعذر من جهته فوجبت نفقتها، كما لو سلمت
نفسها إلى البالغ ثم هرب. وأما إذا كان صغيرين فسلمها الولي هل يجب لها النفقة
فيه قولان، وجههما ما ذكرناه في التي قبلها إلا أن الأصح هنها أنه لا يجب لها
النفقة، لان الاستمتاع متعذر من جهتها
(فرع) إذا تسلم الزوج وهي مريضة أو تسلمها صحيحة فمرضت عنده
أو تسلمها وهي رتقاء (1) أو قرناء (2) أو أصابها ذلك بعد أن تسلمها، أو أصاب
الزوج مرض أو جنون أو جشم (3) وجبت عليه النفقة، لان الاستمتاع بها
ممكن مع ذلك.
قال الشافعي رضي الله عنه. وإن كان في جماعها شدة ضرر منع من جماعها
وأجبر بنفقتها. وجملة ذلك أن الرجل إذا كان عظيم الخلق والزوجة نضوة الخلق
وعليها في جماعة ضرر يخاف منه الانضاء أو المشقة الشديدة أو كان بفرجها جرح
يضر بها وطؤه، فإن وافقها الزوج على الضرر الذي يلحقها بوطئه لم يجز له
وطؤها لقوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " ومن المعروف أن يمنع من وطئها
فإن اختار طلاقها فطلقها فلا كلام. وإن لم يختر طلاقها وجبت عليه نفقتها لأنها
محسوسة عليه، ويمكنه الاستمتاع بها بغير الوطئ. وإن لم يصدقها الزوج بل
ادعى أنه يمكنه جماعها، فإن ادعت تعذر الوطئ لعظم خلقته فقال العمراني في البيان
أمر الحاكم نساء ثقات يشاهدن ذلك بينهما حال الجماع من غير حائل.

(1) الرتقاء التي انسد فرجها حتى لا يستطاع جماعها
(2) القرناء التي نبت لها لحم في فرجها كالغدة الغليظة في مدخل الذكر.
وقد يكون عظما كالقرن
(3) والحسم أن يستأصل ذكره أو لا يكون له ذكر وهو ضد الجسم وهو
كبير الذكر جدا. " المطيعي "
240

فإن قلن إنه يلحقها مشقة شديدة أو يخاف عليها من ذلك منع من وطئها.
وإن قلنا إنه لا يلحقها مشقة شديدة ولا يخاف عليها منه أمرت بتمكينه من
الوطئ. وإن ادعت تعذر الوطئ بجراح في فرجها أمر الحاكم النساء ثقات ينظرن
إلى فرجها لان هذا موضع ضرورة فجوز النظر إلى العورة
واختلف أصحابنا في عدد النساء الآتي ينظرن إليها حال الجماع، أو ينظرن
الجرح في فرجها، فقال أبو إسحاق يكفي واحدة لان طريق ذلك الاخبار والمشقة
تلحقن بنظر الجماع منهما فجاز الاقتصار على واحدة
ومن أصحابنا من قال: لا يكفي أقل من أربع نسوة في ذلك، لأن هذه شهادة
ينفرد بها النساء فلم يقبل فيه أقل من أربع كسائر الشهادات
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان سلمت إليه ومكن من الاستمتاع بها في نكاح فاسد لم تجب
النفقة لان التمكين لا يصح مع فساد النكاح، ولا يستحق ما في مقابلته.
(فصل) وان انتقلت المرأة من منزل الزوج إلى منزل آخر بغير اذنه أو
سافرت بغير اذنه سقطت نفقتها، حاضرا كان الزوج أو غائبا لأنها خرجت عن
قبضته وطاعته فسقطت نفقتها كالناشزة. وان سافرت بإذنه فإن كان معها
وجبت النفقة لأنها ما خرجت عن قبضته ولا طاعته. وان لم يكن معها ففيه
قولان ذكرناهما في القسم.
(فصل) وان أحرمت بالحج بغير اذنه سقطت نفقتها لأنه إن كان تطوعا
فقد منعت حق الزوج وهو واجب بما ليس بواجب، وإن كان واجبا فقد منعت
حق الزوج وهو على الفور بما هو على التراخي، وان أحرمت بإذنه فان خرجت
معه لم تسقط نفقتها لأنها لم تخرج عن طاعته وقبضته، وان خرجت وحدها فعلى
القولين في سفرها باذنه
(فصل) وان منعت نفسها باعتكاف تطوع أو نذر في الذمة سقطت نفقتها
لما ذكرناه في الحج، وإن كان عن نذر معين أذن فيه الزوج لم تسقط نفقتها لان
الزوج أذن فيه وأسقط حقه فلا يسقط حقها، وإن كان عن نذر لم يأذن فيه:
241

فإن كان بعد عقد النكاح سقطت نفقتها لأنها منعت حق الزوج بعد وجوبه،
وإن كان بعذر قبل النكاح لم تسقط نفقتها، لان ما استحق قبل النكاح لاحق
للزوج في زمانه، كما لو أجرت نفسها ثم تزوجت، وإن اعتكفت بإذنه وهو معها
لم تسقط نفقتها لأنها في قبضته وطاعته وإن لم يكن معها فعلى القولين في الحج.
(فصل) وإن منعت نفسها بالصوم فإن كان بتطوع ففيه وجهان
(أحدهما) لا تسقط نفقتها لأنها في قبضته (والثاني) وهو الصحيح انها
تسقط لأنها منعت التمكين التام بما ليس بواجب فسقطت نفقتها كالناشزة، وان
منعت نفسها بصوم رمضان أو بقضائه وقد ضاق وقته لم تسقط نفقتها، لان
ما استحق بالشرع لا حق للزوج في زمانه. وإن منعت نفسها بصوم القضاء قبل
أن يضيق وقته، أو بصوم كفارة أو نذر في الذمة، سقطت نفقتها، لأنها منعت
حقه وهو على الفور بما هو ليس على الفور
وإن كان بنذر معين - فإن كان النذر بإذن الزوج - لم تسقط نفقتها لأنه
لزمها برضاه، وإن كان بغير اذنه - فإن كان بنذر بعد النكاح - سقطت نفقتها
وإن كان بنذر قبل النكاح لم تسقط لما ذكرناه في الاعتكاف
(فصل) وان منعت نفسها بالصلاة - فإن كانت بالصلوات الخمس أو السنن
الراتبة - لم تسقط نفقتها لان ما ترتب بالشرع لا حق للزوج في زمانه، وإن كان
بقضاء فوائت - فان قلنا إنها على الفور - لم تسقط نفقتها، وان قلنا إنها
على التراخي سقط نفقتها لما قلنا في قضاء رمضان، وإن كانت بالصلوات
المنذورة فعلى ما ذكرناه في الاعتكاف والصوم.
(الشرح) وان سلمت المرأة نفسها إلى الزوج ومكنته من الاستمتاع بها في
نكاح فاسد لم تجب لها النفقة، لان التمكين لا يصح مع فساد النكاح فلم تستحق
ما في مقابلته كما لا يستحق البائع الثمن في بيع فاسد
(فرع) إذا انتقلت الزوجة من منزل الزوج الذي أسكنها فيه إلى منزل غيره
بغير أذنه وخرجت من البلد بغير اذنه فهي ناشزة وسقطت بذلك نفقتها، وبه
قال أهل العلم كافة الا الحكم بن عينة فإنه قال لا تسقط نفقتها، كما لو لم تسلم نفسها
242

وان سافرت المرأة بغير اذن زوجها سقطت نفقتها لأنها منعت استمتاعه
بالسفر. وان سافرت بإذنه نظرت، فان سافر الزوج معها لم تسقط نفقتها لأنها
في قبضته وطاعته. وان سافرت وحدها، فإن كانت في حاجة الزوج وجبت
عليه لأنها سافرت في شغله ومراده.
وان سافرت بحاجة نفسها فقد قال الشافعي في النفقات لها النفقة، وقال في
النكاح لا نفقة لها، واختلف أصحابنا فيها، فقال أبو إسحاق: ليست على قولين
وإنما هي على اختلاف حالين، فحيث قال لها النفقة أراد إذا كان الزوج معها،
وحيث قال لا نفقة لها، أراد إذا لم يكن الزوج معها. ومنهم من قال فيه قولان
(أحدهما) لا نفقة لها. وبه قال أبو حنيفة وأحمد لأنها غير ممكنة من نفسها
فلم تجب لها النفقة، كما لو سافرت بغير اذنه
(والثاني) تجب لها النفقة لأنها سافرت باذنه فلم تسقط نفقتها، كما لو سافرت
في حاجته.
(فرع) وان أحرمت بالحج أو العمرة بغير أذنه سقطت نفقتها لأنه إن كان
تطوعا فقد منعت حق الزوج الواجب بالتطوع، وإن كان واجبا عليها فقد منعت
حق الزوج وهو على الفور وحقها هي على التراخي. أفاده صاحب البيان. وان
أحرمت باذنه وخرجت مع الزوج لم تسقط نفقتها لأنها في قبضته، وان أحرمت
باذنه وخرجت وحدها ففيه طريقان مضى ذكرهما في السفر
وان اعتكفت فلا يصح عندها الا في المسجد، فإن كان بغير اذن الزوج
سقطت نفقتها لأنها ناشزة بالخروج إلى المسجد بغير اذنه، وإن كان باذن الزوج
- فإن كان الزوج معها في المسجد - لم تسقط نفقتها لأنها في قبضته وطاعته
وان لم يكن معها في المسجد فعلى الطريقين في السفر. قال أبو إسحاق لا نفقة لها
قولا واحدا. ومن أصحابنا من قال فيه قولان
(فرع) فان صامت المرأة بغير اذن زوجها نظرت - فإن كان تطوعا -
فللزوج منعها منه وله اجبارها على الفطر بالاكل والجماع، لقوله صلى الله عليه
وسلم " لا تصومن المرأة التطوع وزوجها حاضر الا باذنه " فان امتنعت من
الوطئ ولكنها لم تفارق المنزل ففيه وجهان. قال أبو علي بن أبي هريرة هي ناشزة
243

فتسقط نفقتها لأنها ممتنعة عليه، فلا فرق بين أن تمتنع بالفراش أو بمفارقة المنزل
وقال المصنف: لا تسقط نفقتها، لأنها ما لم تفارق المنزل فهي غير ناشزة. وهذا
قول الشيخ أبى حامد
ومن أصحابنا من قال: إذا منعته الوطئ سقطت نفقتها وجها واحدا، وإنما
الوجهان إذا صامت ولم تمنعه الوطئ. وإن كان الصوم واجبا نظرت - فإن كان
صوم رمضان - فليس له منعا منه ولا تسقط نفقتها به لأنه مستحق بالشرع.
وإن كان قضاء رمضان قال صاحب البيان، فإن لم يضق وقت قضائه فله منعها منه
وإن دخلت فيه بغير إذنه كان كما لو دخلت في صوم التطوع بغير إذنه، وان ضاق
وقت قضائه - بأن لم يبق من شعبان إلا قدر أيام القضاء - لم يكن له منعها
منه. وإن دخلت فيه بغير اذنه لم تسقط نفقتها بذلك، لأنها لا يجوز لها تأخيره
إلى دخول رمضان فصار مستحقا للصوم كأيام رمضان
وإن كان الصوم عن كفارة كان للزوج منعها منه، لأنه على التراخي وحق
الزوج على الفور. وان الصوم نذرا - فإن كان في الذمة - كان له منعها
منه لأنه على التراخي وحق الزوج على الفور. وإن كان متعلقا بزمان بعينه،
فإن كان نذرته بإذن الزوج لم يكن له منعها منه لان زمانه قد استحق عليها صومه باذن
الزوج فان دخلت فيه بغير اذنه لم تسقط بذلك نفقتها. وان نذرته بغير اذن الزوج بعد
النكاح كان للزوج منعها من الدخول فيه لأنها فرطت بايجابه على نفسها بغير اذنه
وان نذرت الصوم في زمان بعينه قبل عقد النكاح لم يكن للزوج منعها من الدخول
فيه. وان دخلت فيه بغير اذنه لم تسقط بذلك نفقتها، لان زمانه قد استحق
صومه قبل عقد النكاح. وكل موضع قلنا للزوج منعها من الدخول فيه إذا
دخلت فيه بغير اذن الزوج فهل تسقط نفقتها بذلك؟ فيه وجهان كما مضى في
الصوم التطوع.
(فرع) وان منعت نفسها بالصلوات الخمس في أوقاتها لم تسقط نفقتها بذلك
لان وقتها مستحق للصلاة وليس للزوج منعها من الدخول فيها في أول الوقت.
لأنها قد وجبت في أول وقتها، ولأنه يفوت عليها فضيلة أول الوقت. وأما
قضاء الفائتة - فان قلنا إنها تجب على الفور - لم يكن للزوج منعها منها.
244

وان قلنا إنها لا تجب على الفور كان للزوج منعها من الدخول فيها. وأما
الصلوات المنذورة فهي كالصوم المنذور على ما مضى وأما صلاة التطوع، فإن كانت
غير راتبة، كان للزوج منعها منها، لان حق الزوج واجب فلا يسقط بما
لا يجب عليها - فان دخلت فيها بغير اذن الزوج احتمل أن يكون في سقوط
نفقتها في ذلك وجهان كما قلنا ذلك في الصوم التطوع، وإن كانت سنة راتبة فقال
الشيخ أبو إسحاق: لا تسقط نفقتها بها كما قلنا في الصلوات الخمس
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان الزوجان كافرين وأسلمت المرأة بعد الدخول ولم يسلم
الزوج لم تسقط نفقتها لأنه تعذر الاستمتاع بمعنى من جهته هو قادر على إزالته
فلم تسقط نفقتها كالمسلم إذا غاب عن زوجته
وقال أبو علي بن خيران: فيه قول آخر إنها تسقط لأنه امتنع الاستمتاع
لمعنى من جهتها فسقطت نفقتها، كما لو أحرمت المسلمة من غير اذن الزوج،
والصحيح هو الأول، لان الحج فرض موسع الوقت، والاسلام فرض مضيق
الوقت فلا تسقط النفقة كصوم رمضان
وإن أسلم الزوج بعد الدخول وهي مجوسية أو وثنية وتخلفت في الشرك
سقطت نفقتها لأنها منعت الاستمتاع بمعصية فسقطت نفقتها كالناشزة، وان
أسلمت قبل انقضاء العدة فهل تستحق النفقة للمدة التي تخلفت في الشرك؟ فيه
قولان: أحدهما تستحق لان بالاسلام زال ما تشعث من النكاح، فصار كأن لم
يكن. والقول الثاني أنها لا تستحق لأنه تعذر التمكين من الاستمتاع فيما مضى
فلم تستحق النفقة كالناشزة إذا رجعت إلى الطاعة
وان ارتد الزوج بعد الدخول لم تسقط نفقتها لان امتناع الوطئ بسبب من
جهته وهو قادر على ازالته فلم تسقط النفقة، وان ارتدت المرأة سقطت نفقتها
لأنها منعت الاستمتاع بمعصية فسقطت نفقتها كالناشزة، فان عادت إلى الاسلام
قبل انقضاء العدة فهل تجب نفقة ما مضى في الردة؟ فيه طريقان من أصحابنا
من قال فيه قولان كالكافرة إذا تخلفت في الشرك ثم أسلمت. ومنهم من قال
245

لا تجب قولا واحدا، والفرق بينهما وبين الكافرة أن الكافرة لم يحدث من جهتها
منع بل أقامت على دينها، والمرتدة أحدثت منعا بالردة فغلط عليها. وإن ارتدت
الزوجة وعادت إلى الاسلام والزوج غائب استحقت النفقة من حيث عادت إلى
الاسلام، وإن نشزت الزوجة وعادت إلى الطاعة والزوج غائب لم تستحق النفقة
حتى يمضى زمان لو سافر فيه لقدر على استمتاعها، والفرق بينهما أن المرتدة
سقطت نفقتها بالردة وقد زالت بالاسلام، والناشزة سقطت نفقتها بالمنع من
التمكين وذلك لا يزول بالعود إلى الطاعة
(فصل) وإن كانت الزوجة أمة فسلمها المولى بالليل والنهار وجبت لها النفقة
لوجود التمكين التام. وإن سلمها بالليل دون النهار ففيه وجهان. أحدهما وهو
قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يجب لها نصف النفقة اعتبارا بما سلمت. والثاني
وهو قول أبي إسحاق، وظاهر المذهب أنه لا تجب لأنه لم يوجد التمكين التام.
فلم يجب لها شئ من النفقة كالحرة إذا سلمت نفسها بالليل دون النهار. والله أعلم
(الشرح) إذا أسلمت الزوجة والزوج كافر - فإن كان قبل الدخول - فلا
نفقة لها لان الفرقة وقعت بينهما، وإن كان بعد الدخول فان النكاح موقوف
على اسلام الزوج في عدتها، ولها النفقة عليه مدة عدتها، لان تعذر الاستمتاع
بمعنى من جهة الزوج وهو امتناعه من الاسلام، ويمكنه تلافى ذلك فلم تسقط
نفقتها كما لو غاب عن زوجته.
وحكى ابن خيران قولا آخر أن نفقتها تسقط لان الاستمتاع سقط بمعنى
من جهتها فسقطت به نفقتها، كما لو أحرمت بالحج بغير اذن الزوج، والمشهور
هو الأول، لان الحج فرض موسع الوقت، والاسلام فرض مضيق الوقت
فلم تسقط به نفقتها كصوم رمضان، فان انقضت عدتها قبل أن يسلم الزوج
بانت وسقطت نفقتها
(فرع) وان أسلم الزوج والزوجة وثنية أو مجوسية - فإن كان قبل الدخول -
وقعت الفرقة بينهما ولا نفقة لها، وإن كان بعد الدخول وقف النكاح على
اسلامها قبل انقضاء عدتها فلا نفقة لها مدة عدتها ما لم تسلم، لأنها منعت
246

الاستمتاع بمعصية، وهو اقامتها على الكفر. فهي كالناشزة فان انقضت عدتها
قبل أن تسلم فقد بانت باختلاف الدين ولا نفقة لها.
وان أسلمت قبل انقضاء عدتها وجبت لها النفقة من حين أسلمت لأنهما
قد اجتمعا على الزوجية، وهل تجب لها النفقة لما مضى من عدتها في الكفر؟
فيه قولان. قال في القديم: تجب لها النفقة لان اسلام الزوج شعث النكاح،
فإذا أسلمت قبل انقضاء عدتها زال ذلك التشعث فصار كما لو لم يتشعث. وقال
في الجديد: لا تجب لها النفقة لما مضى من عدتها وهو الأصح، لان اقامتها
على الكفر كنشوزها، ومعلوم أنها لو نشزت وأقامت مدة في النشوز ثم عادت إلى
طاعته لم تجب نفقتها مدة اقامتها في النشوز فكذلك هذا مثله
(فرع) وإن كان الزوجان مسلمين فارتد الزوج بعد الدخول وجبت عليه
نفقتها مدة عدتها، لان امتناع الاستمتاع بمعنى من جهة الزوج فلم تسقط نفقتها
بذلك كما لو غاب. وان ارتدت الزوجة بعد الدخول فأمر النكاح موقوف على
اسلامها قبل انقضاء عدتها ولا تجب لها النفقة مدة عدتها لأنها منعت الاستمتاع
بمعصية من جهتها فهو كما لو نشزت فان انقضت عدتها قبل أن تسلم فلا كلام. وان
أسلمت قبل انقضاء عدتها وجبت نفقتها من حين أسلمت لأنهما قد اجتمعا على
الزوجية. وهل تجب لها النفقة لما مضى من عدتها قبل الاسلام؟ من أصحابنا
من قال فيه قولان، كما قلنا في المشركة إذا تخلفت عن الاسلام ثم أسلمت قبل
انقضاء عدتها.
ومنهم من قال لا تجب لها النفقة قولا واحدا، لان في التي قبلها دخلا على
الكفر، وإنما الزوج شعث النكاح بإسلامه، وههنا دخلا على الاسلام، وإنما
شعثت هي النكاح بردتها فغلظ عليها.
وان ارتدت الزوجة والزوج غائب، أو غاب بعد ردتها فرجعت إلى الاسلام
والزوج غائب وجبت لها النفقة من حين رجعت إلى الاسلام، وكذلك لو أسلم
الزوج والزوجة وثنية أو مجوسية وتخلفت في الشرك وكان الزوج غائبا فأسلمت
قبل انقضاء عدتها وجبت لها النفقة من حين أسلمت
ولو نشزت الزوجة من منزلها والزوج غائب أو غاب بعد نشوزها فعادت
247

إلى منزلها لم تجب نفقتها حتى يكون الزوج حاضرا فيتسلمها أو تجئ إلى الحاكم
وتقول: أنا أعود إلى طاعته، ثم يكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الزوج
فيستدعيه المكتوب إليه ويقول له: إما أن تسير إليها لتتسلمها أو توكل من يتسلمها
فإن لم يسر ولم يوكل مع قدرته على ذلك ومضى زمان يمكنه الوصول إليها وجبت
النفقة لها من حينئذ، والفرق بينهما أن نفقتها سقطت عنه بالنشوز لخروجها عن
قبضته فلا يرجع إلى نفقتها إلا برجوعها إلى قبضته، وكذلك لا يحصل إلا بتسليمه
لها أو بتمكينه من ذلك، وليس كذلك المرتدة والمشركة، فإن نفقتها إنما سقطت
بالردة أو بالإقامة على الشرك، فإذا أسلمت زال المعنى الذي أوجب سقوطها
فزال سقوطها.
(فرع) وان دفع الوثني إلى امرأته الوثنية أو المجوسي إلى امرأته المجوسية نفقته
شهر بعد الدخول ثم أسلم الزوج ولم تسلم هي حتى انقضت عدتها وأراد الرجوع
فيما دفع إليها من النفقة نظرت، فإن دفعه إليها مطلقا، قال الشافعي: لم يرجع
عليها بشئ، لأن الظاهر أنه تطوع بدفعها إليها
وان قال هذه النفقة مدة مستقبلة كان له الرجوع فيها لأنه بان أنها لا تستحق
عليه نفقة.
قال ابن الصباغ في الشامل: وهذا يقتضى أن الهبة لا تفتقر إلى لفظ الايجاب
والقبول، لأنه جعله تطوعا مع الاطلاق. قال فان قيل: يحتمل أن يريد أنه
إباحة فليس بصحيح، لأنه لو كان إباحة بشرط أن يكون قد أتلفته حتى يسقط
حقه منها، والله تعالى أعلم بالصواب
248

قال المصنف رحمه الله تعالى
باب قدر (1) نفقة الزوجات
إذا كان الزوج موسرا، وهو الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه، لزمه
في كل يوم مدان، وإن كان معسرا وهو الذي لا يقدر على النفقة بمال ولا كسب
لزمه في كل يوم مد لقوله عز وجل " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه
رزقه فلينق مما آتاه الله " ففرق بين الموسر والمعسر، وأوجب على كل واحد منهما
على قدر حاله ولم يبن المقدار، فوجب تقديره بالاجتهاد، وأشبه ما تقاس عليه
النفقة الطعام في الكفارة، لأنه طعام يجب بالشرع لسد الجوعة، وأكثر ما يجب
في الكفارة للمسكين مدان في فدية الأذى، وأقل ما يجب مد. وهو في كفارة
الجماع في رمضان. فإن كان متوسطا لزمه مد ونصف، لأنه لا يمكن إلحاقه بالموسر
وهو دونه، ولا بالمعسر ولا هو فوقه، فجعل عليه مد ونصف.
وإن كان الزوج عبدا أو مكاتبا وجب عليه مد، لأنه ليس بأحسن حالا من
الحر المعسر، فلا يجب عليه أكثر من مد. وإن كان نصفه حرا ونصفه عبدا
وجب عليه نفقة المعسر.
وقال المزني، إن كان موسرا بما فيه من الحرية وجب عليه مد ونصف، لأنه
اجتمع فيه الرق والحرية فوجب عليه نصف نفقة الموسر وهو مد ونصف نفقة
المعسر وهو نصف مد، وهذا خطأ. لأنه ناقص بالرق فلزمه نفقة المعسر كالعبد
(فصل) وتجب النفقة عليه من قوت البلد لقوله عز وجل " وعلى المولود
له رزقهن وكسوتهن بالمعروف، ولقوله صلى الله عليه وسلم " ولهن عليكم رزقهن
وكسوتهن بالمعروف " والمعروف ما يقتاته الناس في البلد، ويجب لها الحب،

(1) في النسخة المطبوعة من المهذب ترجم الباب هكذا، " باب قدر النفقة "
وقد تحققنا أن الصحيح ما أثبتناه مما ذكره قدامي الأصحاب ممن تناولوا المهذب
بالشرح والتعليق. " المطيعي "
249

فإن دفع إليها سويقا أو دقيقا أو خبزا لم يلزمها قبوله، لأنه طعام وجب بالشرع
فكان الواجب فيه هو الحب كالطعام في الكفارة، وإن اتفقا على دفع العوض
ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز لأنه طعام وجب في الذمة بالشرع فلم يجز أخذ العوض
فيه كالطعام في الكفارة.
والثاني: يجوز وهو الصحيح لأنه طعام يستقر في الذمة للآدمي، فجاز أخذ
العوض فيه كالطعام في القرض، ويخالف الطعام في الكفارة فإن ذلك يجب لحق
الله تعالى، ولم يأذن في أخذ العوض عنه، والنفقة تجب لحقها وقد رضيت
بأخذ العوض.
(الشرح) الأحكام: نفقة الزوجة معتبرة بحال الزوج لا بحال الزوجة
فيجب لابنة الوزير أو رئيس الدولة ما يجب لابنة الحارس، وهي مقدرة غير
معتبرة بكفايتها. وقال مالك: نفقتها تجب على قدر كفايتها وسعتها، فإن كانت
ضعيفة الاكل فلها قدر ما تأكل. وإن كانت أكولة فلها ما يكفيها
وقال أبو حنيفة: إن كانت معسرة فلها في الشهر من أربعة دراهم إلى خمسة.
وإن كانت موسرة فمن سبعة دراهم إلى ثمانية، فإذا حولنا هذه المقادير إلى نقدنا
المعاصر في مصر حرمها لله كان الدرهم يساوى خمسين قرشا.
وقال أصحاب أبي حنيفة: إنما قال هذا حيث كان الرخص في وقته، فأما في
وقتنا فيزاد على ذلك. ويعتبرون كفايتها كقول مالك. لما روى أن النبي (صلى الله عليه وسلم)
قال لهند " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "
ودليلنا قوله تعالى " لينفق ذو سعة من سعته، ومن قدر عليه رزقه فلينفق
مما آتاه الله " وأراد أن الغنى ينفق على حسب حاله، والفقير على حسب حاله،
ولقوله تعالى، " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف " وأراد بالمعروف
عند الناس، والعرف والعادة عند الناس أن نفقة الغنى والفقير تختلف، ولأنا
لو قلنا إن نفقتها معتبرة بكفايتها لأدى ذلك إلى أن لا تنقطع الخصومة بينهما
ولا يصل الحاكم إلى قدر كفايتها فكانت مقدرة
250

وأما خبر هند فهو حجة لنا لأنه قال " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف "
والمعروف عند الناس يختلف بيسار الزوج وإعساره، ولم يقل خذي ما يكفيك
ويطلق، وعلى أنا نحمله على أنه علم من حاله أن كفايتها لا تزيد على نفقة الموسر
وكان أبو سفيان موسرا.
إذا ثبت هذا فإن نفقتها معتبرة بحال الزوج، فإن كان الزوج موسرا - وهو
الذي يقدر على النفقة بماله أو كسبه - وجب لها كل يوم مدان، وإن كان
معسرا، وهو الذي لا يقدر على النفقة بماله ولا كسبه وجب كل يوم مد وهو
رطل وثلث وهو نحو ستمائة جرام من الحنطة تقريبا، لان أكثر ما أوجب الله
تعالى في الكفارات للواحد مدان. وهو في كفارة الأذى. وأقل ما أوجب
للواحد في الكفارة مد، فقسنا نفقة الزوجات على الكفارة، لان الله تعالى شبه
الكفارة بنفقة الأهل في الجنس بقوله تعالى " من أوسط ما تطعمون أهليكم "
فاعتبرنا الأكثر والأقل في الواجب للواحد في الكفارة. وأما المتوسط فإنه يجب
عليه كل يوم مد ونصف مد، لأنه أعلى حالا من المعسر وأدنى حالا من الموسر
فوجب عليها من نفقة كل واحد منهما نصفها
(فرع) وإن كان الزوج عبدا أو مكاتبا أو مدبرا أو معتقا نصف وجب
عليه نفقة زوجته لقوله " وعلى المولود له رزقهن " الخ الآية. وهذا مولود له
ولا تجب عليه الا نفقة المعسر لأنه أسوأ جللا من الحر المعسر
قوله " وتجب النفقة عليه من قوت البلد " وهذا صحيح فإنه يجب عليه أن
يدفع إليه من غالب قوت البلد. فإذا كان غالب قوت البلد من البر أنفق منه.
وإن كان من الأرز أنفق منه. وإن كان من التمر أنفق منه. ولأنه طعام يجب
على وجه الاتساع والكفاية فوجب من غالب قوت البلد كالكفارة. ويجب أن
يدفع إليها الحب. فإن دفع إليها الدقيق أو السويق أو الخبز، قال الشيخ أبو حامد
وابن الصباغ لم يجز
وذكر صاحب المهذب أنه لا يجوز وجها واحدا لقوله تعالى " فكفارته اطعام
عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم " فجعل الكفارة فرعا للشفقة
ومحمولا عليها.
251

فلما كانت الكفارة الواجبة هي الحب نفسه، فإنه لا يجزئ الدقيق والسويق
والخبز فكذلك النفقة، وإن أعطاها قيمة الحب لم تجبر على قبولها، لان الواجب
لها هو الحب فلا تجبر على أخذ قيمته، كما لو كان لها طعام قرض، وإن سألته أن
يعطيها قيمته لم يجبر الزوج على دفع القيمة، لان الواجب عليه هو الحب فلا يجبر
على دفع قيمته، فإن تراضيا على القيمة فهل يصح؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يصح لأنه طعام وجب في الذمة بالشرع فلم يصح أخذ العوض
عنه كالكفارة.
(والثاني) يصح وهو الصحيح لأنه طعام وجب على وجه الرفق فصخ أخذ
العوض عنه كالقرض. قال الصيمري والمسعودي: وتلزمه مؤنة طحنه وخبزه
حتى يكون مهيئا لأنه هو العرف.
ولا نرى أن الحب أمر يطرد في جميع البلاد والمجتمعات، بل إن في بعض
المدن كالقاهرة والإسكندرية وغيرهما ما يكون الحب كالحصى والتراب لا منفعة
فيه ولا فائدة، ويتعين أن يعطى الزوج النفقة بما يمكنها من الطعام وييسر لها
أسباب العيش أسوة بغيرها من النساء ولا يتحقق هذا بالحب، وإنما يتحقق
بالقيمة، ويكون إعطاء القيمة منه أمرا لازما لا اختيار فيه لزوم النفقة نفسها.
قال الشافعي رضي الله عنه: وجماع المعروف إعفاء صاحب الحق من المؤنة في
طلبه وأداؤه إليه بطيب النفس لا بضرورته إلى طلبه ولا تأديته بإظهار الكراهية
لتأديته وأيهما ترك فظلم، لان مطل الغنى ظلم ومطله تأخيره الحق. اه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب لها الأدم بقدر ما يحتاج إليه من أدم البلد من الزيت
والشيرج والسمن واللحم، لما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: من
أوسط ما تطعمون أهليكم. الخبز والزيت
وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال " الخبز والزيت والخبز والسمن والخبز
والتمر. ومن أفضل ما تطعمون أهليكم الخبز واللحم " ولان ذلك من
النفقة بالمعروف.
252

(فصل) ويجب لها ما تحتاج إليه من المس والسدر والدهن للرأس وأجرة
الحمام، إن كان عادتها دخول الحمام، لان ذلك يراد للتنظيف فوجب عليه كما
يجب على المستأجر كنس والدار وتنظيفها. وأما الخضاب فإنه إن لم يطلبه الزوج
لم يلزمه، وإن طلبه منها لزمه ثمة لأنه للزينة. وأما الأدوية وأجرة الطبيب
والحجام فلا تجب عليه، لأنه ليس من النفقة الثابتة، وإنما يحتاج إليه لعارض
وأنه يراد لاصلاح الجسم فلا يلزمه كما لا يلزم المستأجر إصلاح ما انهدم من الدار
وأما الطبيب فإنه إن كان يراد لقطع السهوكة لزمه لأنه يراد للتنظيف، وإن كان
يراد للتلذذ والاستمتاع لم يلزمه، لان الاستمتاع حق له فلا يجبر عليه.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه " وأقل ما يعولها به وخادمها ما لا يقوم
بدن أحد على أقل منه، وذلك مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لها في كل يوم من
طعام البلد الذي يقتاتون، حنطة كان أو شعيرا، أو ذرة أو أرزا أو سلتا،
ولخادمها مثله ومكيلة من أدم بلادها زيتا كان أو سمنا بقدر ما يكفي ما وصفت
من ثلاثين مدا في الشهر، ولخادمها شبيه به، ويفرض لها في دهن ومشط أقل
ما يكفيها، ولا يكون ذلك لخادمها لأنه ليس بالمعروف
قال: وإن كانت ببلد يقتاتون فيه أصنافا من الحبوب كان لها الأغلب من
قوت مثلها في ذلك البلد. وقد قيل لها في الشهر أربعة أرطال في كل جمعة رطل
وذلك المعروف لها. اه
قلت: وجملة ذلك أنه يجب للزوجة الادام لقوله تعالى " وعلى المولود له
رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ومن المعروف أن المرأة لا تأكل خبزها إلا بأدم
وروى عكرمة " أن امرأة سألت ابن عباس وقالت له " ما الذي لي من مال
زوجي؟ فقال الخبز والأدم. قالت أفآخذ من دراهمه شيئا؟ فقال أتحبين أن
يأخذ من مالك فيتصدق به؟ قالت لا، فقال كذلك لا تأخذي من دراهمه شيئا
بغير أمره " ويرجع في جنسه وقدره إلى العرف فيجب في كل بلد من غالب أدمها
وقال أصحابنا إن كان بالشام فالأدم الزيت، وإن كان العراق فالشيرج. وإن كان
بخراسان فالسمن، وإنما أوجب الشافعي الادهان من بين سائر الادام لأنها
253

أصلح للأبدان وهي مع البر تعطى طاقة حرارية للبدن عالية قال في الادهان من
البروتين، قال في البيان وهي أخف مئونة لأنه لا يحتاج في التأدم بها إلى طبخ
ويرجع في قدره إلى العرف، فإن كان العرف أن يؤيدم على المد أوقية دهن
وجب لامرأة الموسر كل يوم أو قيتادهن ولامرأة المعسر أوقية ولامرأة المتوسط
أوقية ونصف، لأنه ليس للأدم أصل يرجع إليه في تقديره فرجع في تقديره إلى
العرف بخلاف النفقة. قال وعندي أنها إذا كانت في بلد غالب أدم أهله اللبن
كأهل اليمن فإنه يجب أدمها من اللبن. اه
(فرع) إذا كانت في بلد يتأدم أهله اللحم فإنه يجب عليه أن يدفع إليها في
كل جمعة لحما لان العرف والعادة أن الناس يطبخون اللحم كل جمعة
قال أصحابنا وإنما فرض الشافعي في كل جمعة رطل لحم لأنه كان بمصر واللحم
فيها يقل، فأما إذا كانت في موضع يكثر فيه اللحم، فإن الحاكم يفرض لها على
ما يراه من رطلين أو أكثر. وهذا لامرأة المعسر، فأما امرأة الموسر فيجب لها
من ذلك ضعفه ما يجب لامرأة المعسر
قوله " الخضاب " وهو ما يخضب به من حناء وكتم ومساحيق الشفاه الحمراء
وسائل الأظافر. قال الأعشى
أرى رجلا منكم أسييفا كأنما * يضم إلى كشحيه كفا مخضبا
وخضب الرجل شيبه يخضبه والخضاب الاسم، قال السهيلي، عبد المطلب
أول من خضب بالسواد من العرب. وفي الحديث بكى حتى خضب دمعه الحصى
أي بلها من طريق الاستعارة
قال ابن الأثير. والأشبه أن يكون أراد المبالغة في البكاء حتى أحمر
دمعه فخضب الحصا.
وأما السهوكة فهي من السهك. قال في اللسان " ريح كريهة تجدها من
الانسان إذا عرق تقول أنه لسهك الريح، وقد سهك سهكا وهو سهك.
قال النابغة:
سهكين من صدأ الحديد كأنهم * تحت النور جنة البقار
254

ولولا لبسهم الدروع التي قد صدأت ما وصفهم بالسهك، والسهك والسهكة
قبح رائحة اللحم إذا خبز
وقال ابن بطال وأصله ريح السمك وصدأ الحديد
أما ما في هذه الفصل من الأحكام فهو أنه يجب لها ما تحتاج إليه من الدهن
والمشط، لان ذلك تحتاج إليه لزينة شعرها فوجب عليه كنفقة بدنها، ولان فيه
تنظيفا فوجب عليه، كما يجب على المكترى كنس الدار المستأجرة، هكذا أفاده
العمراني في البيان.
ويجب عليه ما تحتاج إليه من الصابون وأجرة الحمام، أو توفير أسباب
الاستحمام في مسكنها لما ذكرناه في الدهن والمشط. قال الشيخ أبو إسحاق هنا
فأما الخضاب فإن لم يطلب الزوج منها لم يلزمه، وان طلبه منها لزمه ثمنه، وأما
الطيب، فإن كان يراد لقطع السهوكة لزمه لأنه يراد للتنظيف، وإن كان راد للتلذذ
والاستمتاع لم يلزمه، لان الاستمتاع حق له فلا يلزمه، ولا يلزمه أجرة الحجامة
والفصادة، ولا ثمن الأدوية ولا أجرة الطبيب ان احتاجت إليه لان ذلك يراد
لحفظ بدنها لعارض
ولنا وقفة عند هذا الامر الذي ينبغي النظر إليه من خلال ما طرأ على حياة
الناس من تغير، وليس هذا الفرع بالشئ الثابت الذي لا يتأثر بالعوامل الانسانية
السائدة، فإنه إذا كان الزوجان في مجتمع أو بيئة أو دولة تكفل للعامل والشغال
قدرا من الرعاية الصحية تحت اسم إصابة العمل أو المرض أثناء الخدمة فيتكفل
صاحب العمل ببعض نفقات العلاج أو كلها، فإنه ليس من العروف أن لضرب
المثل هنا بإجارة الدار مع الفارق بين الزوجة والدار، والأقرب إلى التشبيه أن
يكون المثل إنسانيا فيضرب المثل بالعامل فإنه أولى
على أن الفصل في ذلك أن المرء فيها أمير نفسه، فإن كان يحس في وجدانه
بقوله تعالى " والله خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة
ورحمة " فإنه لن يشح عليها بما يزيل وصبها وعطبها في كتفه، وهو أمر مستحب
يدخل في فضائل المروءة وحسن المعاشرة والايثار
255

وإذا كانت أجرة الحمام لتنظيف البدن. وكذلك فرض مقادير اللحم والأدم
لحفظ بدنها، وأصحابنا يقولون بأن هذه كلها لحفظ البدن على الدوام فنحن قد استحببنا
قياس ثمن الدواء لحفظ البدن مما يطرأ عليه على نفقة البدن الأخرى، وفيما يأتي
من مسائل ما يؤيد قياسنا هذا. وقد ذهبنا إلى استحبابه للاجماع على عدم
وجوبه بلا خلاف.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ويجب لها الكسوة لقوله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن
بالمعروف " ولحديث جابر " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف " ولأنه
يحتاج إليه لحفظ البدن على الدوام فلزمه كالنفقة، ويجب لامرأة الموسر من مرتفع
ما يلبس في البلد من القطن والكتان والخز والإبريسم، ولامرأة المعسر من غليظ
القطن والكتان، ولامرأة المتوسط ما بينهما، وأقل ما يجب قميص وسراويل
ومقنعة ومداس للرجل، وإن كان في الشتاء أضاف إليه جبة، لان ذلك من
الكسوة بالمعروف.
(فصل) ويجب لها ملحفة أو كساء ووسادة ومضربة محشوة للنوم، وزلية
أو لبد أو حصير للنهار، ويكون ذلك لامرأة الموسر من المرتفع، ولامرأة
المعسر من غير المرتفع، ولامرأة المتوسط ما بينهما لان ذلك من المعروف
(فصل) ويجب لها مسكن لقوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " ومن
المعروف أن يسكنها في مسكن، ولأنها لا تستغنى عن المسكن للاستتار عن
العيون والتصرف والاستمتاع، ويكون المسكن على قدر يساره وإعساره وتوسطه
كما قلنا في النفقة.
(فصل) وإن كانت المرأة ممن لا تخدم نفسها بأن تكون من ذوات الأقدار
أو مريضة وجب لها خادم لقوله عز وجل " وعاشروهن بالمعروف " ومن
العشرة بالمعروف أن يقيم لها من يخدمها، ولا يجب لها أكثر من خادم واحد
لان المستحق خدمتها في نفسها وذلك يحصل بخادم واحد، ولا يجوز أن يكون
256

الخادم الا امرأة أو ذا رحم محرم، وهل يجوز أن يكون من اليهود والنصارى؟
فيه وجهان (أحدهما) أنه يجوز لأنهم يصلحون للخدمة (والثاني) لا يجوز
لان النفس تعاف من استخدامهم
وإن قالت المرأة: أنا أخدم نفسي وآخذ أجرة الخادم لم يجبر الزوج عليه
لان القصد بالخدمة ترفيهها وتوفيرها على حقه، وذلك لا يحصل بخدمتها. وإن
قال الزوج أنا أخدمها بنفسي ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق انه يلزمها الرضا به، لأنه تقع الكفاية
بخدمته (والثاني) لا يلزمها الرضا به لأنها تحتشمه ولا تستوفى حقها من الخدمة
(فصل) وإن كان الخادم مملوكا لها واتفقا على خدمته لزمه نفقته، فإن كان
موسرا لزمه للخادم مد وثلث من قوت البلد، وإن كان متوسطا أو معسرا لزمه
مد لأنه لا تقع الكفاية بما دونه، وفي أدمه وجهان
(أحدهما) أنه يجب من نوع أدمها كما يجب الطعام من جنس طعامها.
(والثاني) أنه يجب من دون أدمها وهو المنصوص، لان العرف في الأدم
أن يكون من دون أدمها، وفي الطعام العرف أن يكون من جنس طعامها،
ويجب الخادم كل زوجة من الكسوة والفراش والدثار دون ما يجب للزوجة،
ولا يجب له السراويل ولا يجب له المشط والسدر والدهن للرأس، لان ذلك
يراد للزينة والخادم لا يراد للزينة، وإن كانت خادمة تخرج للحاجات وجب لها
خف لحاجتها إلى الخروج
(الشرح) قوله " الزلية " بساط عراقي نحو الطنفسة، والدثار والثوب الذي
يتدفأ به. قال الشافعي رضي الله عنه: وفرض لها من الكسوة ما يكسى مثلها
ببلدها عند المقتر، وذلك من القطن الكوفي والبصري وما أشبههما، ولخادمها
كرباس وتبان وما أشبهه، وفرض لها في البلاد الباردة أقل ما يكفي من البرد
من جبه محشوة وقطيفة أو لحاف وسراويل وقميص وخمار أو مقنعة، ولخادمها
جبة صوف وكساء تلحفه يدفئ مثلها، وقميص ومقنعة وخف ومالا غنى بها
عنه، وفرض لها للصيف قميصا وملحفة ومقنعة. قال وتكفيها القطيفة سنين
ونحو ذلك الجبة المحشوة. اه
257

وجملة ذلك أن كسوة الزوجة تجب على الزوج لقوله تعالى وعلى المولود له رزقهن
وكسوتهن بالمعروف " ولقوله صلى الله عليه وسلم " ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن
بالمعروف " ولان الكسوة تحتاج إليها لحفظ البدن على الدوام، فوجبت على
الزوج كالنفقة.
إذا ثبت هذا فإن المرجع في عدد الكسوة وقدرها وجنسها لي العرف والعادة
لان الشرع ورد بإيجاب الكسوة غير مقدرة، وليس لها أصل يرد إليه، فرجع
في عددها وقدرها إلى العرف بخلاف النفقة، فإن في الشرع لها أصلا، وهو
الاطعام في الكفارة فردت النفقة إليها
فإن قيل فقد ورد الشرع بإيجاب الكسوة في الكفارة فهلا ردت كسوة الزوجة
إلى ذلك؟ فالجواب أن في الكسوة الواجبة في كفارة اليمين ما يقع عليه اسم
الكسوة، وأجمعت الأمة على أنه لا يجب للزوجة من الكسوة ما يقع عليه اسم
الكسوة، فإذا منع الاجماع من قياس كسوتها على الكسوة في الكفارة لم يبق
هناك أصل يرد إليه، فرجع في ذلك إلى العرف.
فأما عدد الكسوة قال الشافعي: فيجب للمرأة قميص وسراويل وخمار أو مقنعة
قال أصحابنا: ويجب لها شئ تلبسه في رجلها من نعل ونحوه. وأما قدرها فإنه
يقطع لها ما يكفيها على قدر طولها وقصرها، لان عليه كفايتها في الكسوة ولا
تحصل كفايتها إلا بقدرها. وأما جنسها فإن الشافعي قال أجعل لامرأة الموسر
من لين البصري والكوفي والبغدادي، ولامرأة المعسر من غليظ البصري
والكوفي - قال الشيخ أبو حامد إنما فرض الشافعي هذه الكسوة على عادة أهل
زمانه. لان العرف في وقته على ما ذكر. فأما في وقتنا فإن العرف قد اتسع
فإن العرف أن امرأة الموسر تلبس الحرير والخز والكتان، فيدفع إليها مما جرت
عادة نساء بلدها بلبسه. وإن كان في الشتاء أضاف إلى ذلك جبة محشوة
تتدفأ بها. انتهى
وعندي أنها إذا كانت في بلد لا يكتفي نساؤهم إلا بثياب داخلية وثياب
خارجية وثياب للنوم وجب كسوتها من ذلك، ويجب لها نطاق وخمار، فيجب
لامرأة الموسر من مرتفع ذلك، وتسمى في زماننا بالطرحة أو الايشارب.
258

ولامرأة المعسر من خشن ذلك، ولامرأة المتوسط مما بينهما. وإن كانت في بلد
لا تختلف كسوة أهلها في زمان الحر والبرد لم تجب لها الملابس المحشوة كالباطو
للشتاء، لان ذلك هو العرف والعادة في حق أهل بلدها فلم يجب لها أكثر منه
قال الشافعي " وإن كانت بدوية فما يأكل أهل البادية ومن الكسوة بقدر
ما يكتسبون - قال الشافعي " ولامرأته فراش ووسادة من غليظ متاع البصرة،
وجملة ذلك أنه يجب لها عليه فراش، لأنها تحتاج إلى ذلك كما تحتاج إلى الكسوة
فيجب لامرأة الموسر مضربه محشوة بالقطن ووسادة. وإن كان في الشتاء وجب
لها لحاف أو قطيفة للدف ء. وإن كان في الصيف وجب لها ملحفة. وهل يجب
لها فراش تقعد عليه بالنهار غير الفراش الذي تنام عليه؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يجب لها غير الفراش الذي تنام عليه لأنها تكتفي بذلك
(والثاني) - وهو المذهب - أنه يجب لها فراش تقعد عليه بالنهار غير
الفراش الذي تنام عليه كالحشية (الشلته) أو كرسي أو سجادة أو ما أشبه ذلك
لان العرف في امرأة الموسر أنها تجلس في النهار على غير الفراش الذي تنام
عليه، وقد يحدد العرف مكانا لجلوسها كمكان الاستقبال (الانزيه أو الصالون)
فعلى الموسر أن يوفر لها مثل أحد هذه المكانين لاستراحتها
(مسألة) ويجب لها مسكن لقوله تعالى " أسكنوهن من حيث سكنتم من
وجدكم " وقوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " ومن المعروف أن يسكنها بمسكن
ولأنها تحتاج إليه للاستتار عن العيون عند الاستمتاع، ويقيها من الحر والبرد،
فوجب عليه كالكسوة ويعتبر ذلك بيساره وإعساره وتوسطه
(مسألة) وإن كان المرأة ممن لا تخدم نفسها لمرض بها أو كانت من ذوات
الأقدار - قال ابن الصباغ فإن كانت لا تخدم نفسها في بيت أبيها وجب على
الزوج أن يقيم لها من يخدمها وقال داود " لا يجب عليه لها خادم "
دليلنا قوله تعالى " وعاشروهن بالمعروف " ومن المعاشرة بالمعروف أن يقيم
لها من يخدمها: ولان الزوج لما وجبت عليه نفقة الزوجة وجب عليه إخدامها
كالأب لما وجبت عليه نفقة الابن وجبت عليه أجرة من يخدمه وهو من يحضنه.
إذا ثبت هذا فإنه لا يلزمه لها إلا خادم واحد، وبه قال أبو حنيفة وأحمد
259

وقال مالك: إذا كانت تخدم في بيت أبيها بخادمين أو أكثر، أو كانت تحتاج
إلى أكثر من خادم وجب عليه ذلك.
وقال أبو ثور: إذا احتمل الزوج ذلك فرض لخادمين، ودليلنا أن الزوج
إنما يلزمه أن يقيم لها من يخدمها بنفسها دون مالها، وما من امرأة إلا ويكفيها
خادم واحد فلم يجب لها أكثر منه
(فرع) ولا يكون الخادم إلا امرأة أو رجلا من ذوي محارمها لأنها تحتاج
إلى نطر الخادم، وقد تخلو به فلم يجز أن يكون رجلا أجنبيا. وهل تجبر المرأة
على أن يكون من اليهود والنصارى؟ فيه وجهان
(أحدهما) تجبر على خدمتهم لأنهم يصلحون للخدمة
(والثاني) لا تجبر على أحد منهم لان النفس تعاف من استخدامهم، فإن
أخدمها خادما يملكه، أو اكتري لها خادما يخدمها، أو كان لها خادم واتفقا أن
يخدمها وينفق عليه أو خدمها الزوج بنفسه ورضيت الزوجة بذلك جاز، لان
المقصود خدمتها وذلك يحصل بجميع ذلك
وعند أصحاب أحمد في إخدام اليهود والنصارى وجهان كالوجهين عندنا
الصحيح منهما جوازه لان استخدامهم مباح، وقد ذكر في المغنى لابن قدامة أن
الصحيح إباحة النظر لهم. وإن أراد الزوج أن يقيم لها خادما واختارت المرأة أن
تقيم لها خادما غيره ففيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب (أحدهما) يقدم
اختيار الزوجة لان الخدمة حق لها، وربما كان من تختاره أقوم بخدمتها
(والثاني) يقدم اختيار الزوج، لان الخدمة حق عليه لها فقدمت جهة اختياره
كالنفقة، ولأنه قد يتهم من تختاره الزوجة فقدم اختيار الزوج
قال المسعودي وإن كان لها خادم فأراد الزوج إبداله بغيره فإن كان بالخادم
عيب، أو كان سارقا، فله ذلك وإلا فلا، وان أراد الزوج أن يخدمها بنفسه
وامتنعت من ذلك فهل تجبر؟ فيه وجهان
(أحدهما) تجبر عليه، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي والشيخ أبى حامد
لان المقصود إخدامها فكان له إخدامها بغيره وبنفسه، كما يجوز أن يوصل إليها
النفقة بوكيله أو بنفسه.
260

(والثاني) لا تجبر على قبول خدمته لأنها تحتشم أن تستخدمه في جميع
حوائجها، ولان عليها عارا في ذلك وغضاضة فلم تجبر عليه هذا نقل أصحابنا
البغدادين، لأنها لا ترضى أن يكون لها زوجها خادما ولو كان خادما لها، وبهذين
الوجهين قال الحنابلة
وقال المسعودي إن كانت خدمته مما لا تحتشم منه في مثلها، مثل كنس البيت
والطبخ ونحوه أجبرت على قبول ذلك منه، وإن كانت خدمته تحتشم منه في
مثلها كحمل الماء معها إلى المستحم ونحوه لم يجبر على قبول ذلك منه، بل يجب
عليه أن يأتيها بخادم يتولى ذلك لها
(فرع) وأما نفقة من يخدمها، فإن أخدمها بمملوك له فعليه نفقته وكسوته
على الكفاية لحق الملك لا لخدمتها، وإن استأجر من يخدمها فله أن يستأجره
بالقليل والكثير، وان وجد من يتطوع بخدمتها من غير عوض جاز، لان حقها
في الخدمة وقد حصل ذلك، وإن كان لها خادم مملوك لها واتفقا على أن يخدمها
وجب على الزوج نفقة خادمها وكسوته وزكاة فطره، وتكون نفقته مقدرة،
وقد أوهم المرني أن في وجوب نفقة خادمها قولين. قال أصحابنا وليس بشئ
إذا ثبت هذا فإنه يجب لخادم امرأة الموسر والمتوسط ثلثا ما يجب لها من
النفقة، فيجب لخادم امرأة الموسر كل يوم مد وثلث لخادم امرأة المتوسط كل
يوم مد، لان العرف أن نفقة خادم المرأة الموسر أكثر من نفقة خادم امرأة
المعسر، وأما نفقة خادم امرأة المعسر فيجب له كل يوم مد، لان البدن لا يقوم
بدون، ذلك ويجب ذلك من غالب قوت البلد، لان البدن لا يقوم بغير قوت
البلد ويجب له الأدم لان العرف أن الطعام لا يؤكل إلا بأدم، وهل يكون
من مثل أدمها؟ فيه وجهان
(أحدهما) أنه يكون من مثل أمها كما يجب الطعام من مثل طعامها
(والثاني) لا يجب له من مثل أدمها لان العرف أن أدم الخادم دون أدم
المخدوم فلم يسو بينهما، كما لا يسوى بينهما في قدر النفقة، فعلى هذا يكون أدمها
كما يقول العمراني وغيره من أصحابنا من الزيت الجيد، ويكون أدم خادمها من
261

الذي دونه، ولا يعدل بأدم الخادم عن جنس غالب أدم البلد، لان البدن
لا يقوم إلا به.
وهل يجب لخادمها اللحم؟ إن قلنا يجب له الأدم من مثل أدمها وجب له
اللحم. ولا يجب له الدهن والمشط لان ذلك يراد للزينة والخادم لا يراد للزينة.
قال الشافعي: ويجب لخادمها قميص ومقنعة وخف، وأوجب لها الخف لأنها
تحتاج إليه عند الخروج لقضاء الحاجات، وإن كان في الشتاء وجب له جبة صوف
أو كساء ليدفأ به من البرد، قال: ولخادمها فروة ووسادة وما أشبههما من
عباءة أو كساء.
قال أصحابنا، أما الفراش فلا يجب لخادمها، وإنما يجب له وسادة: ويجب
لخادم امرأة الموسر كساء، والخادم امرأة المعسر عباءة لان ذلك هو العرف في
حقهم: فإن مات خادمها فهل يجب عليه كفنه ومؤنة تجهيزه؟ فيه وجهان كما قلنا
في كفن الزوجة ومؤنة تجهيزها. وإن خدمت المرأة نفسها لم يجب لها أجرة،
لان المقصود بإخدامها ترفيهها، فإذا حملت المشقة على نفسهما لم تستحق الأجرة
كالعامل في الفراض إذا تولى من العمل ما له أن يستأجر عليه من مال القراض.
(فرع) فإذا كانت ممن لا تخدم بأن كانت تخدم نفسها في بيت أبيها وهي
صحيحة تقدر على خدمة نفسها لم يجب على الزوج أن يقيم لها من يخدمها، لان
العرف في حقها أن تخدم نفسها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب أن يدفع إليها نفقة كل يوم إذا طلعت الشمس، لأنه
أول وقت الحاجة، ويجب أن يدفع إليها الكسوة في كل ستة أشهر لان العرف
في الكسوة أن تبدل في هذه المدة، فإن دفع إليها الكسوة فبليت في أقل من هذا
القدر لم يجب عليه بدلها كما لا يجب عليه بدل طعام اليوم إذا نفذ قبل انقضاء
باليوم، وإن انقضت المدة والكسوة باقية ففيه وجهان
(أحدهما) لا يلزمه تجديدها لان الكسوة مقدرة بالكفاية، وهي مكفية
(والثاني) يلزمه تجديدها وهو الصحيح، كما يلزمه الطعام في كل يوم. وإن بقي
262

عندها طعام اليوم الذي قبله، ولأن الاعتبار بالمدة لا بالكفاية، بدليل أنها
لو تلفت قبل انقضاء المدة لم يلزمه تجديدها والمدة قد انقضت فوجب التجديد.
وأما ما يبقى سنة فأكثر كالبسط والفراش وجبة الخز والإبريسم فلا يجب
تجديدها في كل فصل لان العادة أن لا تجدد في كل فصل
(فصل) وإن دفع إليها نفقة يوم فبانت قبل انقضائه لم يرجع بما بقي لأنه
دفع ما يتسحق دفعه، وان سلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها فله أن يرجع
في نفقة ما بعد اليوم الذي بانت فيه، لأنه غير مستحق، وإن دفع إليها كسوة
الشتاء أو الصيف فبانت قبل انقضائه ففيه وجهان
(أحدهما) له أن يرجع لأنه دفع لزمان مستقبل فإذا طرأ ما يمنع الاستحقاق
ثبت له الرجوع كما لو أسلفها نفقة أيام فبانت قبل انقضائها
(والثاني) لا يرجع لأنه دفع ما يستحق دفعه لم يرجع به، كما لو دفع إليها
نفقة يوم فبانت قبل انقضائه.
(فصل) وإن قبضت كسوة فصل وأرادت بيعها لم تمنع منه، وقال أبو بكر
ابن الحداد المصري لا يجوز. وقال أبو الحسن الماوردي البصري إن أرادت
بيعها بما دونها في الجمال لم يجز، لان للزوج حظا في جمالها وعليه ضررا في
نقصان جمالها، والأول أظهر، لأنه عوض مستحق فلم تمنع من التصرف فيه
كالمهر. وان قبضت النفقة وأرادت أن تبيعها أو تبدلها بغيرها لم تمنع منه، ومن
أصحابنا من قال إن أبدلتها بما يستضر بأكله كان للزوج منعها لما عليه من الضرر
في الاستمتاع بمرضها، والمذهب الأول لما ذكرناه في الكسوة والضرر في الاكل
لا يتحقق فلا يجوز المنع منه
(الشرح) في متي يجب نفقة الزوجة قولان. قال في القديم يجب جميعها
بالعقد. ولكن لا يجب عليه تسليم الجميع، وبه قال أبو حنيفة لأنه مال يجب
للزوجة بالزوجة فوجب بالعقد كالمهر، ولان النفقة يجب في مقابلة الاستمتاع
فلما ملك الاستمتاع بها بالعقد وجب بأن تملك عليه بالعقد ما في مقابلته وهو
النفقة كالثمن والمثمن
263

وقال في الجديد: لا تجب بالعقد وإنما تجب يوما بيوم وهو الأصح. لأنها
لو وجبت بالعقد لوجب عليه تسليم جميعها إذا سلمت نفسها، كما يجب على المستأجر
تسليم جميع الأجرة إذا قبض العين المستأجرة، فلما لم يجب عليه تسليم جميعها ثبت
أن الجميع لم يجب، وقول الأول أنها وجبت في مقابلة ملك الاستمتاع غير صحيح
وإنما وجبت في مقابلة التمكين من الاستمتاع، فإذا قلنا بقوله القديم صح أن يضمن
عن الزوج بعقد زمان مستقبل، ولكن لا يضمن عنه إلا نفقة المعسر وإن كان
موسرا، لان ذلك هو الواجب عليه بيقين. وإن قلنا بقوله الجديد لم يصح أن
يضمن عليه الا نفقة اليوم بعد طلوع الفجر. وأما وجوب التسليم فلا خلاف
أنه لا يجب عليه إلا تسليم نفقة يوم بيوم، لأنها إنما تجب في مقابلة التمكين من
الاستمتاع وذلك لا يوجد الا بوجود التمكين في اليوم، فإذا جاء أول اليوم
وهي ممكنة له من نفسها وجب عليه تسليم نفقة اليوم في أوله لان الذي يجب لها
هو الحب، والحب يحتاج إلى طحن وعجن وخبز. وتحتاج إلى الغداء والعشاء.
فلو قلنا لا يجب عليه تسليم ذلك الا في وقتت الغداء والعشاء أضر بها الجوع
إلى وقت فراغه.
قال الشيخ أبو حامد: فإن سلم لها خبزا فارغا فأخذته وأكلته كان ذلك قبضا
فاسدا، لان الذي تستحقه عليه الحب، فيكون لها مطالبته بالحب وله
مطالبتها بقيمة الخبز
(فرع) فإن دفع إليها نفقة شهر مستقبل فمات أحدهما أو بانت منه بالطلاق
قبل انقضاء الشهر لم يسترجع منها لأنه دفع إليها ما وجب عليه لها، فلم يتغير بما
طرأ بعده كما لو دفع الزكاة إلى فقير فمات أو استغنى. وان دفع إليها نفقة شهر
مستقبل فمات أحدهما أو بانت منه في أثناء الشهر استرجع منها نفقة ما بعد اليوم
الذي مات أحدهما فيه أو بانت فيه. وبه قال أحمد ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة
وأبو يوسف لا يسترجع منها لأنه ملكته بالقبض
ودليلنا أنه دفع ذلك إليها عما سيجب لها بالزوجية في المستقبل، فإذا بان أنه
لم يجب لها شئ استرجع منها، كما لو قدم زكاة ماله قبل الحول إلى فقير فاستغنى
الفقير من غير ما دفع إليه أو مات
264

(فرع) وان دفع إليها الكسوة أو النعل فبليت نظرت، فإن بليت في الوقت
الذي يبلى فيه مثلها، مثل أن يقال: مثل هذا يبقى ستة أشهر، فأبلته بأربعة أشهر
أو دونها لم يلزمه أن يدفع إليها بدله، لأنه قد دفع إليها ما تستحقه عليه، فإذا
بلى قبل ذلك لم يلزمه ابداله، كما لو سرقت كسوتها أو احترقت، وكما لو دفع إليها
نفقة يوم فأكلتها قبل اليوم.
وان مضى الزمان الذي تبلى فيه مثل تلك الكسوة بالاستعمال المعتاد ولم تبل
تلك الكسوة بل يمكن لباسها، فهل يلزمه أن يكسوها؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يلزمه لأنها غير محتاجة إلى الكسوة (والثاني) يلزمه أن يكسوها
قال الشيخان أبو إسحاق وأبو حامد: وهو الأصح لأن الاعتبار بالكسوة بالمدة
لا بالبلاء. ألا ترى أن كسوتها لو بليت قبل وقت بلائها لم يلزمه ابدالها، فإذا
بقيت بعد مدة بلائها لم يلزمه ابدالها، ولأنه لو دفع إليها نفقة يوم فلم تأكلها حتى
جاء اليوم الثاني لزمه نفقة لليوم الثاني، وإن كانت مستغنية فيه بنفقة اليوم الأول
فكذلك في الكسوة مثله
وان دفع إليها كسوة مدة فمات أحدهما أو بانت منه قبل انقضائها والكسوة
لم تبل، فهل يسترجع من وارثها أو منها؟ فيه وجهان
(أحدهما) يسترجع منها، كما لو دفع إليها نفقة ما بعد يوم الموت والبينونة
(والثاني) لا يسترجع لأنه دفع الكسوة إليها بعد وجوبها عليه فلم يسترجع منها
كما لو دفع إليها نفقة يوم فمات أحدهما أو بانت قبل انقضائه، ويخالف إذا دفع
إليها نفقة الشهر، فإنها لا تستحق عليه نفقة ما بعد يوم الموت والبينونة.
فلذلك استرجعت منها
(فرع) قال ابن الحداد " إذا دفع إلى امرأته كسوة فأرادت بيعها لم يكن لها
ذلك لأنها لا تملكها، ألا ترى أن له ان يأخذها منها ويبدلها بغيرها، ولو دفع
إليها طعاما فباعته كان لها ذلك
واختلف أصحابنا في ذلك فمنهم من وافق ابن الحداد وقال، لا يصح لها بيع
ما يدفع إليها من الكسوة لأنها تستحق عليه الانتفاع بالكسوة وهو استتارها
بها فلا تملكها بالقبض كالمسكن. وان أتلفت كسوتها لزمها قيمتها له ولزمه أن
265

يكسوها. ومنهم من خطأ ابن الحداد وقال: تملك الكسوة إذا قبضتها ويصح
بيعها، لأنه يجب عليه دفع الكسوة إليها، فإذا قبضتها ملكتها وصح بيعها لها
كالنفقة ويخالف المسكن فإنه لا يلزمه أن يسلم إليها المسكن وإنما له أن يسكن معها
وقال أبو الحسن الماوردي صاحب الحاوي: إن أرادت بيعها بما دونها في الجمال
لم يجز، لان للزوج حظأ في جمالها، وعليه ضرر في نقصان جمالها، وإن أرادت
بيعها بمثلها أو أعلى منها كان لها ذلك لأنها ملكتها ولا ضرر على الزوج في ذلك
قال ابن الصباغ: وعندي أنه لو أراد أن يكترى لها ثيابا تلبسها لم يلزمها أن
تستجيب إلى ذلك، ولو أراد أن يكترى لها مسكنا لزمها الاستجابة إلى ذلك.
هذا نقل أصحابنا البغداديين أن الذي يستحق عليه دفع النفقة والكسوة ولم
يذكر أحد منهم أنه يجب عليه أن يملكها
وأما المسعودي فقال: يجب عليه أن يملكها الحب، فلو رضيت أن يملكها
الخبز فالظاهر أنه يصح، وفيه وجه آخر أنه لا يصح، لأنه إبدال قبل القبض.
وأيضا فإنه بيع الحب بالخبز. وذلك ربا.
وأما الكسوة فتجب عليه على طريق الكفاية ولا يجب عليه التمليك، فلو سرقت
أو تحرقت في الحال وجب عليه الابدال، وفيه وجه أخر أنه يجب عليه التمليك
تخريجا من النفقة.
(فرع) وإن دفع إليها نفقتها وأرادت بيعها أو ابدالها بغيرها لم تمنع منها.
ومن أصحابنا من قال: إنه إذا أرادت إبدالها بما تستضر بأكلها كان للزوج منعها
لان عليه ضررا في الاستمتاع بها مريضة، والمذهب الأول، لان الضرر بأكلها
لغيرها لا يتحقق. فإن تحقق الضرر بذلك منعت منه، لئلا تقتل نفسها، كما لو
أرادت قتل نفسها.
قال الشافعي: وليس على الزوج أن يضحى عن امرأته لأنه لا يجب عليه أن
يضحى عن نفسه، فلان لا يجب عليه أن يضحى عنها أولى. والله أعلم
266

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب الاعسار بالنفقة واختلاف الزوجين فيها)
إذا أعسر الزوج بنفقة المعسر فلها أن تفسخ النكاح. لما روى أبو هريرة
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته
قال: يفرق بينهما " ولأنه إذا ثبت لها الفسخ بالعجز عن الوطئ - والضرر فيه
أقل - فلان يثبت بالعجز عن النفقة والضرر فيه أكثر أولى. وإن أعسر ببعض
نفقة المعسر ثبت لها الخيار، لان البدن لا يقوم بما دون المد، وإن أعسر بما
زاد على نفقة المعسر لم يثبت لها الفسخ، لان ما زاد غير مستحق مع الاعسار.
وإن أعسر بالأدم لم يثبت لها الفسخ، لان البدن يقوم بالطعام من غير أدم.
وإن أعسر بالكسوة ثبت لها الفسخ، لان البدن لا يقوم بغير الكسوة،
كما لا يقوم بغير القوت.
وإن أعسر بنفقة الخادم لم يثبت لها الفسخ لان النفس تقوم بغير خادم.
وان أعسر بالمسكن ففيه وجهان (أحدهما) يثبت لها الفسخ لأنه يلحقها الضرر
لعدم المسكن (والثاني) لا يثبت لأنها لا تعدم موضعا تسكن فيه
(فصل) وان لم يجد الا نفقة يوم بيوم لم يثبت لها الفسخ، لأنه لا يلزمه
في كل يوم أكثر من نفقة يوم، وان وجد في أول النهار ما يغديها وفي آخره
ما يعشيها ففيه وجهان (أحدهما) لها الفسخ لان نفقة اليوم لا تتبعض.
(والثاني) ليس لها الفسخ لأنها تصل إلى كفايتها
وإن كان يجد يوما قدر الكفاية ولا يجد يوما ثبت لها الفسخ لأنه لا يحصل
لها في كل يوم إلا بعض النفقة.
وإن كان نساجا ينسج في كل أسبوع ثوبا تكفيه أجرته الأسبوع، أو صانعا
يعمل في كل ثلاثة أيام تكة يكفيه ثمنها ثلاثة أيام لم يثبت لها الفسخ لأنه يقدر
أن يستقرض لهذه المدة ما ينفقه فلا تنقطع به النفقة. وإن كانت نفقته في عمل
فعجز عن العمل بمرض نظرت. فإن كان مريضا يرجى زواله في اليومين والثلاثة
267

لم يثبت لها الفسخ، لأنه يمكنها أن تستقرض ما نفقته ثم تقضيه. وإن كان مريضا
مما يطول زمانه ثبت لها الفسخ لأنه يلحقها الضرر لعدم النفقة، وإن كان له مال
غائب - فإن كان في مسافة لا تقصر فيها الصلاة لم يجز لها الفسخ. وإن كان في
مساقة تقصر فيها الصلاة ثبت لها الفسخ لما ذكرناه في المرض، وإن كان له دين
على موسر لم يثبت لها الفسخ. وإن كان على معسر ثبت لها الفسخ، لان يسار
الغريم كيساره، وإعساره كإعساره في تيسير النفقة وتعسيرها
(الشرح) حديث أبي هريرة أخرجه الدارقطني والبيهقي في السنن الكبرى
من طريق عاصم القاري عن أبي صالح عن أبي هريرة وأعله أبو حاتم، ولكن
للحديث شواهد عن سعيد بن المسيب عند سعيد بن منصور والشافعي وعبد الرزاق
في الرجل لا يجد ما ينفق على أهله قال " يفرق بينهما " قال أبو الزناد: قلت لسعيد
سنة؟ قال سنة. وهذا مرسل قوى
وعن عمر بن عند عبد الرزاق والمنذري والشافعي " أنه كتب إلى أمراء الأجناد
في رجال غابوا عن نسائهم إما أن ينفقوا وإما أن يطلقوا ويبعثوا نفقة ما حبسوا "
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خير الصدقة ما كان من ظهر
غنى واليد العليا خير من اليد السلفي وابدأ بمن تعول. فقيل من أعول يا رسول الله؟
قال امرأتك ممن تعول، تقول أطعمني وإلا فارقني، جاريتك تقول أطعمني
واستعملني، ولدك يقول إلى من تتركني؟ " ورواه أحمد والدارقطني بإسناد صحيح
وأخرجه الشيخان في الصحيحين وأحمد من طريق آخر، وجعلوا الزيادة المفسرة
فيه من قول أبي هريرة. وقد حسن إسناده الحافظ بن حجر مع كونه من رواية
عاصم عن أبي صالح، وفي حفظ عاصم مقال
والحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي هريرة لفظه قال " قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد
السفلى وابدأ بمن تعول. تقول المرأة: اما أن تطعمني واما أن تطلقني، ويقول
العبد أطعمني واستعملني. ويقول الابن أطعمني والى من تدعني؟ قالوا أبا هريرة
سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لا، هذا من كيس أبي هريرة "
268

أما الأحكام: فإنه إذا كان الزوج موسرا فصار معسرا فإنه ينفق على زوجته
نفقة المعسر، ولا يثبت لها الخيار في فسخ النكاح، لان بدنها يقوم بنفقة المعسر
وان أعسر بنفقة المعسر كانت بالخيار بين أن تصبر وبين أن تفسخ النكاح،
وبه قال عمر وعلي وأبو هريرة وابن المسيب والحسن البصري وحماد بن أبي سلمة
وربيعة ومالك وأحمد
وقال عطاء والزهري والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا يثبت لها الفسخ،
بل يرفع يده عنها لتكتسب. وحكاه المسعودي قولا آخر لنا. وليس بمشهور.
دليلنا قوله تعالى الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " فخير الله
الزوج بين الامساك بالمعروف، وهو أن يمسكها وينفق عليها، وبين التسريح
بإحسان. فإذا تعذر عليه الامساك بمعروف تعين عليه التسريح
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا أعسر الرجل بنفقة
امرأته يفرق بينهما " ولأنه روى ذلك عن عمر وعلي وأبي هريرة ولا مخالف لهم
في الصحابة الا ما رواه صاحب الفتح عن الكوفيين من أنه يلزم المرأة الصبر
وتتعلق النفقة بذمة الزوج. وحكاه في البحر من كتب العترة عن عطاء والزهري
والثوري والقاسمية. وقالوا عن الأحاديث انها معتلة
وأما ما ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة فقالوا هو من قول أبي هريرة
كما وقع التصريح به منه حيث قال " انه من كيسه " أي من استنباطة من المرفوع
وقد وقع في رواية الأصيلي بفتح الكاف أي من فطنته
ونجيب عن ذلك بأن الأحاديث المذكورة يقوي بعضها بعضا مع أنه لم يكن
فيها قدح يوجب الضعف فضلا عن السقوط. والآية " لينفق ذو سعة من سعته
ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا الا وسعها ما آتاها " وكذا
قولهم " وإذا أعسر ولم يجد سببا يمكنه به تحصيل النفقة فلا تكليف عليه بدلالة
الآية فيجاب عنه بأنا لم نكلفه النفقة حال اعساره، بل دفعنا الضرر عن امرأته
وخلصناها من حباله لتكتسب لنفسها أو يتزوجها رجل آخر.
واحتجوا بما في صحيح مسلم من حديث جابر " أنه دخل أبو بكر وعمر على
النبي صلى الله عليه وسلم فوجداه حوله نساؤه واجما ساكنا وهن يسألنه النفقة،
269

فقام كل منهما إلى ابنته أبو بكر إلى عائشة وعمر إلى حفصة فوجا أعناقهما فاعتزلهن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك شهرا " فضربهما لابنتيهما في حضرته صلى
الله عليه وسلم لأجل مطالبتهما بالنفقة التي لا يجدها يدل على عدم التفرقة لمجرد
الاعسار عنها. قالوا ولم يزل الصحابة فيهم الموسر والمعسر ومعسورهم أكثر
ويجاب عن هذا بأن زجرهما عن المطالبة بما ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يدل على عدم جواز الفسخ لأجل الاعسار، ولم يرو أنهن طلبنه ولم يجبن
إليه، كيف؟ وقد خيرهن صلى الله عليه وسلم بعد ذلك فاخترنه.
ومحل النزاع هل يجوز الفسخ عند الاعسار أم لا؟ وقد أجيب عن هذا
الحديث بأن أزواجه صلى الله عليه وسلم لم يعد من النفقة بالكلية، لأنه صلى الله
عليه وسلم قد استعاذ من الفقر المدقع، ولعل ذلك إنما كان فيما زاد على قوام
البدن. قال الشوكاني في نيل الأوطار: وظاهر الأدلة؟ أنه يثبت الفسخ للمرأة
بمجرد عدم وجدان الزوج لنفقتها بحيث يحصل عليها ضرر من ذلك. أه
إذا ثبت هذا فإن كان لا يجد إلى نفقة يوم بيوم لم يثبت لها الخيار في الفسخ
لأنه قادر على الواجب عليه، وإن كان لا يجد في أول النهار إلا ما يغديها ووجد
في آخره ما يعشيها فهل يثبت لها الفسخ؟ فيه وجهان حكاهما المصنف
(أحدهما) يثبت لها الفسخ لان نفقة اليوم لا تتبعض
(والثاني) لا يثبت لها الفسخ لأنها تصل إلى كفايتها. وإن كان يجد نفقة
يوم ولا يجد نفقة يوم ثبت لها الفسخ لأنها لا يمكنها الصبر على ذلك. فهو كما لم
يجد كل يوم الا نصف مد
(فرع) وإن كان نساجا ينسج في كل أسبوع ثوبا تكفيه أجرته الأسبوع لم
يثبت لها الفسخ، لأنه يستطيع أن يستقرض لهذه الأيام ما تقتضيه لنفقتها فلا
تنقطع به النفقة عليها، لان الاجر إذا كان يكفيه وحده بدونها فإنه يستطيع
أن يقترض كما قررنا فلا يثبت لها الفسخ
وإن كانت نفقته بالعمل فعجز عنه بمرض - فإن كان مرضا يرجى زواله
باليومين والثلاثة لم يثبت لها الفسخ لأنه لم يلحقها الضرر. وإن كان له مال غائب
- فإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة - لم يجز لها الفسخ ولا ثبت لها
270

الفسخ لما ذكرناه في المرض وإن كان له دين على ملئ لم يثبت لها الفسخ كما قلنا
في الزكاة إذا كان بعض النصاب دين على ملئ وجب على الدائن الزكاة فيه،
لان يسار الغريم كيساره، واعساره كإعساره في تيسير النفقة واعسارها
(فرع) وان علمت المرأة بإعسار الرجل بالنفقة فتزوجته ثبت لها الفسخ.
لأنه قد يكتسب بعد العقد أو يقترض أو يتهب، فلما جاز أن يعتبر حاله لم يلزمها
حكم علمها به، وان تزوجته مع علمها به بإعساره بالمهر فهل يثبت لها الفسخ؟
فيه وجهان (أحدهما) يثبت لها الفسخ كالنفقة (والثاني) لا يثبت لها الفسخ
لأنها رضيت بتأخيره لأنه معسر به بخلاف النفقة فإنها تجب بعد العقد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان الزوج موسرا وامتنع من الانفاق لم يثبت لها الفسخ
لأنه يمكن الاستيفاء بالحاكم. وان غاب وانقطع خبره لم يثبت لها الفسخ، لان
الفسخ يثبت بالعيب بالاعسار، ولم يثبت الاعسار. ومن أصحابنا من ذكر فيه
وجها آخر أنه يثبت لها بالفسخ لان تعذر النفقة بانقطاع خبره كتعذرها بالاعسار
(فصل) إذا ثبت لها الفسخ بالاعسار واختارت المقام معه ثبت لها في ذمته
ما يجب على المعسر من الطعام والأدم والكسوة ونفقة الخادم، فإذا أيسر
طولب بها لأنها حقوق واجبة عجز عن أدائها، فإذا قدر طولب بها كسائر
الديون، ولا يثبت لها في الذمة ما لا يجب على المعسر من الزيادة على نفقة المعسر
لأنه غير مستحق.
(فصل) وان اختارت المقام بعد الاعسار لم يلزمها التمكين من الاستمتاع
ولها أن تخرج من منزله، لان التمكين في مقابلة النفقة، فلا يجب مع عدمها.
وان اختارت المقام معه على الاعسار ثم عن لها أن تنفسخ فلها أن تنفسخ، لان
النفقة يتجدد وجوبها في كل يوم فتجدد حق الفسخ. وان تزوجت بفقير مع
العلم بحاله ثم أعسر بالنفقة فلها أن تنفسخ، لان حق الفسخ يتجدد بالاعسار
بتجدد النفقة.
(فصل) وان اختارت الفسخ لم يجز الفسخ الا بالحاكم لأنه فسخ مختلف
271

فيه فلم يصح بغير الحاكم كالفسخ بالنعنين، وفي وقت الفسخ قولان، أحدهما أن
لها الفسخ في الحال، لأنه فسخ لتعذر العوض فثبت في الحال كفسخ البيع بإفلاس
المشتري بالثمن. الثاني أنه يمهل ثلاثة أيام لأنه قد لا يقدر في اليوم ويقدر في غد
ولا يمكن إمهاله أبدا لأنه يؤدى إلى الاضرار بالمرأة والثلاث في حد القلة فوجب
إمهاله. وعلى هذا لها أن تخرج في هذه الأيام من منزل الزوج، لأنها لا يلزمها
التمكين من غير نفقة.
(الشرح) الأحكام: إذا كان الزوج موسرا حاضرا، فطالبته بنفقتها فمنعها
إياها لم يثبت لها الفسخ، لأنه يمكنها التوصل إلى استيفاء حقها بالحكم. وفيه
وجه آخر حكاه المسعودي أنه يثبت لها الفسخ، لان الضرر يلحقها بمنعه النفقة
فهو كالمعسر، وليس بشئ لان العسرة عيب
وإن غاب عنها الزوج وانقطع خبره ولا مال له ينفق عليها منه فهل يثبت
لها الفسخ؟ فيه وجهان (أحدهما) يثبت كتعذرها بالاعسار (والثاني) وهو قول
الشيخ أبى حامد أنه لا يثبت لها الفسخ، لان الفسخ إنما يثبت بالاعسار بالنفقة
ولم يثبت إعساره
(فرع) إذا ثبت اعسار الزوج وخيرت بين ثلاثة أشياء: بين أن تفسخ النكاح
و بين أن تقيم معه وتمكنه من الاستمتاع بها ويثبت لها في ذمته ما يجب على المعسر
من النفقة والأدم والكسوة ونفقة الخادم إلى أن يوسر، وبين أن يقيم على النكاح
ولكن لا يلزمها أن تمكنه من نفسها، بل تخرج من منزله، لان التمكين إنما
يجب عليها ببذل النفقة، ولا نفقة هناك، ولا تستحق في ذمته نفقة في وقت
انفرادها عنه، لان النفقة إنما تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع ولا تمكين
منها له. فإن اختارت المقام معه ثم عن لها أن تفسخ النكاح كان لها ذلك، لان
وجوب النفقة لها يتجدد ساعة بساعة ويوما بيوم، فإذا عفت عن الفسخ وجوب
نفقة وقتها ورضيت به تجدد لها الوجوب فيما بعد فثبت لها الفسخ يخالف الصداق
إذا أعسر به فرضيت بالمقام معه، فإن خيارها يسقط لأنه يجب دفعة واحدة
ولا يتجدد وجوبه
272

وإن اختارت الفسخ قال الطبري في العدة: قولان. أحدهما قال: ولم يذكر
الشيخ أبو حامد غيره: إنها لا تفسخ بنفسها، بل ترفع الامر إلى الحاكم حتى
يأمره بالطلاق أو يطلق عليه - لأنه موضع اجتهاد واختلاف - فكان إلى
الحاكم كالفسخ بالعنة، والثاني أنها تفسخ بنفسها كالمعتقة تحت عبد. وهل
يؤجل؟ فيه قولان
(أحدهما) لا يؤجل لان الفسخ للاعسار وقد وجد الاعسار فثبت الفسخ
في الحال كالعيب في الزوجين
(والثاني) يؤجل ثلاثة أيام لان المكتسب قد ينقطع كسبه ثم يعود والثلاث
في حد القلة فوجب إنظاره ثلاثا ولا يلزمها المقام معه في هذه الثلاث في منزله،
لأنه لا يلزمها التمكين من غير نفقة، فإذا قلنا بهذا فوجد في اليوم الثالث نفقتها
وتعسرت عليه النفقة في اليوم الرابع فهل يجب أن يستأنف لها إمهال ثلاثة أيام؟
فيها وجهان (أحدهما) يجب لان العجز الأول ارتفع (والثاني) لا يجب لأنها
تستضر بذلك.
(فرع)
وإن كانت الزوجة صغيرة أو مجنونة فأعسر زوجها بالنفقة لم يكن
لوليها أن يفسخ النكاح، لان ذلك يتعلق بشهوتها واختيارها، والولي لا ينوب
عنها في ذلك، وان زوج الرجل أمته من رجل فأعسر الزوج بنفقتها. فإن كانت
الزوجة معتوهة أو مجنونة قال ابن الحداد فلا يثبت الفسخ للسيد، لان الخيار
إليها وليست من أهل الخيار فلا ينوب عنها السيد في الفسخ كما لو عن الزوج عنها
ويلزم السيد أن ينفق عليها إن كان موسرا بحكم الملك، وتكون نفقتها في ذمة
زوجها إلى أن يوسر، فإذا أيسر قال القاضي أبو الطيب: فإنها تطالب زوجها بها
فإذا قبضتها أخذها السيد منها لأنها لا تملك المال، وحاجتها قد زالت بإنفاق
السيد عليها، قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، لان الأمة إذا كانت لا تملك
العين فكذلك الدين، فيجب أن يكون ما ثبت من الدين للسيد وله المطالبة
به دونها.
273

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا وجد التمكين الموجب للنفقة ولم ينفق حتى مضت مدة صارت
النفقة دينا في ذمته ولا تسقط بمضي الزمان، لأنه مال يجب على سبيل البدل في
عقد معاوضة فلا يسقط بمضي الزمان كالثمن والأجرة والمهر، ويصح ضمان
ما استقر منها بمضي الزمان، كما يصح ضمان سائر الديون
وهل يصح ضمانها قبل استقرارها بمضي الزمان؟ فيه قولان على القولين
في النفقة هل تجب بالعقد أو بالتمكين؟ فيه قولان. قال في الجديد تجب بالتمكين
وهو الصحيح، لأنها لو وجبت بالعقد لملكت المطالبة بالجميع كالمهر والأجرة.
وعلى هذا لا يصح ضمانها لأنه ضمان ما لم يجب
وقال في القديم: تجب بالعقد لأنها في مقابلة الاستمتاع والاستمتاع يجب
بالعقد فكذلك النفقة، وعلى هذا يضمن منها نفقة موصوفة لمدة معلومة
(فصل) إذا اختلف الزوجان في قبض النفقة فادعى الزوج أنها قبضت
وأنكرت الزوجة فالقول قولها مع يمنها لقوله عليه السلام " اليمين على المدعى
عليه " ولان الأصل عدم القبض.
وان مضت مدة لم ينفق فيها وادعت الزوجة أنه كان موسرا فيلزمه نفقة
الموسر، وادعى الزوج أنه كان معسرا فلا يلزمه الا نفقة المعسر نظرت - فإن
عرف لها مال - فالقول قولها - لان الأصل بقاؤه، وان لم يعرف له مال قبل
ذلك القول قوله لان الأصل عدم المال.
وان اختلفا في التمكين فادعت المرأة أنها مكنت وأنكر الزوج فالقول قوله
لان الأصل عدم التمكين وبراءة الذمة من النفقة، وان طلق زوجته طلقة
رجعية وهي حامل فوضعت واتفقا على وقت الطلاق واختلفا في وقت الولادة
فقال الزوج طلقتك قبل الوضع فانقضت العدة فلا رجعة لي عليك ولا نفقة لك
على. وقالت المرأة بل طلقتني بعد الوضع فلك على الرجعة ولى عليك النفقة،
فالقول قول الزوج أنه لا رجعة لي عليك، لأنه حق له فقبل اقراره فيه. والقول
قول المرأة في وجوب العدة لأنه حق عليها فكان القول قولها، والقول قولها مع
يمينها في وجوب النفقة، لان الأصل بقاؤها. والله أعلم
274

(الشرح) الأحكام: نفقة الزوجة لا تسقط بمضي الزمان، فإذا مكنت المرأة
الزوج من نفسها زمانا ولم ينفق عليها وجبت لها نفقة ذلك الزمان، سواء فرضها
الحاكم أو لم يفرضها، وبه قال مالك وأحمد.
وقال أبو حنيفة: يسقط عنه إلا أن يفرضها الحاكم. دليلنا أنه حق يجب
مع اليسار والاعسار فلا يسقط بمضي الزمان كالدين. وفيه احتراز من نفقة
الأقارب - فإن أعسر الزوج بنفقة ما مضى - لم يثبت لها الفسخ، لان الفسخ
جعل ليرجع إليها ما في مقابلة بالنفقة، والنفقة للزمان الماضي في مقابلة تمكين قد
مضى. فلو فسخت النكاح لأجلها لم يرجع إليها ما في مقابلتها، فهو كما لو أفلس
المشترى والمبيع بألف، فإنه لا يثبت للبائع الرجوع إلى المبيع. وإن أبرأت الزوج
عنها صحت براءتها، لأنه دين معلوم فصحت البراءة منه كسائر الديون.
(فرع) إذا تزوج الرجل امرأة ومكنته من نفسها زمانا ثم اختلفا في النفقة
فادعى الزوج أنه قد أنفق عليها، وقالت لم ينفق على ولا بينة للزوج فالقول قول
الزوجة مع يمينها، سواء كان الزوج معها أو غائبا عنها، وبه قال أبو حنيفة وأحمد
وقال مالك إن كان الزوج غائبا عنها فالقول قولها، وإن كان حاضرا معها فالقول
قول الزوج مع يمينه، لأن الظاهر أنها لا تسلم نفسها إليه إلا بعد أن تتسلم النفقة
وهكذا قال في الصداق
ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " البينة على المدعى واليمين على من أنكر "
والزوجة تنكر القبض فكان القول قولها، ولأنهما زوجان اختلفا في قبض النفقة
فكان القول قولها، كما لو سلمت نفسها والزوج غائب
وإن سلمت نفسها إليه زمانا ولم ينفق عليها فيه أو أنفق عليها فيه نفقة معسر
وادعت أنه كان موسرا فيه، وادعى أنه كان معسرا ولا بينة لها على يساره ذلك
الوقت فإن عرف لها مال قبل ذلك فالقول قولها مع يمينها، لان الأصل بقاء
المال، وان لم يعرف له مال فالقول قوله مع يمينه لان الأصل عدم اليسار
(فرع) إن ادعت الزوجة أنها مكنت الزوج من نفسها وأنكر فالقول قوله
مع يمينه، لان الأصل عدم التمكين
وإن طلق امرأته طلقة رجعية وولدت واتفقا على وقت الطلاق واختلفا في
275

الولادة فقال الزوج ولدت بعد الطلاق فلا رجعة لي ولا نفقه لك، وقالت المرأة
بل ولدت قبل الطلاق فلي العدة ولك الرجعة ولى عليك النفقة فلا رجعة للزوج
لأنه أقر بسقوط حقه منها وله أن يتزوج بأختها وبأربع سواها، وعلى الزوجة
العدة لأنها مقرة بوجوبها عليها، وتحلف المرأة أنها ولدت قبل أن يطلقها
وتستحق النفقة لأنهما اختلفا في وقت ولادتها وهي أعلم بها، ولأنهما اختلفا
في سقوط النفقة والأصل بقاؤها حتى يعلم سقوطها، والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى
باب نفقة المعتدة
إذا طلق امرأته بعد الدخول طلاقا رجعيا وجب لها السكنى والنفقة في العدة
لان الزوجية باقيه التمكين من الاستمتاع موجود، فإن طلقها طلاقا بائنا
وجب لها السكنى في العدة، حائلا كانت أو حاملا، لقوله عز وجل " أسكنوهن
من حيث سكنتم من وجدكم، ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن "
وأما النفقة فإنها إن كانت حائلا لم تجب، وإن كانت حاملا وجبت لقوله
عز وجل " وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " فأوجب
النفقة مع الحمل، فدل على أنها لا تجب مع عدم الحمل، وهل تجب النفقة
للحمل؟ أو للحامل بسبب الحمل؟ فيه قولان
قال في القديم تجب للحمل لأنها تجب بوجوده وتسقط بعدمه
وقال في الأم تجب للحامل بسبب الحمل وهو الصحيح - لأنها لو وجبت
للحمل لتقدرت بكفايته، وذلك يحصل بما دون المد
فإن قلنا تجب للحمل لم تجب إلى علي من تجب عليه نفقة الولد، فإن كانت
الزوجة أمة والزوج حرا وجبت نفقتها على مولاها، لان الولد مملوك له، وان
قلنا تجب النفقة للحامل وجبت على الزوج، لان نفقتها تجب عليه وإن كان
الزوج عبدا وقلنا إن النفقة للحامل وجبت عليه. وان قلنا تجب للحمل لم تجب
لان العبد لا يلزمه نفقة ولده
276

(فصل) إذا وجبت النفقة للحمل أو للحامل بسبب الحمل ففي وجوب
الدفع قولان (أحدهما) لا يجب الدفع حتى تضع الحمل لجواز أن يكون ريحا
فانفش، فلا يجب الدفع مع الشك (والثاني) يجب الدفع يوما بيوم، لأن الظاهر
وجود الحمل، ولأنه جعل كالمتحقق في منع النكاح وفسخ البيع في الجارية
المبيعة والمنع من الاخذ في الزكاة ووجوب الدفع في الدية فجعل كالمتحقق في دفع
النفقة فإن دفع إليها ثم بان أنه لم يكن بها حمل - فإن قلنا تجب يوما بيوم -
فله أن يرجع عليها لأنه دفعها على أنها واجبه، وقد بان أنها لم تجب فثبت له
الرجوع. وان قلنا إنها لا تجب الا باوضع، فإن دفعها بأمر الحاكم فله أن يرجع
لأنه إذا أمره الحاكم لزمه الدفع فثبت له الرجوع، وان دفع من غيره أمره فإن
شرط أن ذلك عن نفقتها إن كانت حاملا فله أن يرجع لأنه دفع عما يجب وقد
بان أنه لم يجب. وان لم يشرط لم يرجع لأن الظاهر أنه متبرع
(الشرح) الأحكام: إذا طلق امرأته بعد الدخول طلاقا رجعيا فإنها تستحق
على الزوج جميع ما تستحق الزوجة إلا القسم إلى أن تنقضي عدتها، وهو إجماع
وإن كان الطلاق بائنا وجب لها السكنى حائلا كانت أو حاملا. وأما النفقة فإن
كانت حائلا لم يجب لها. وإن كانت حاملا وجبت. وقال ابن عباس وجابر:
لا سكنى للبائن وبه قال أحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة تجب النفقة للبائن سواء
كانت حاملا أو حائلا.
ودليلنا قوله تعالى " أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم ولا تضاروهن
لتضيقوا عليهن، وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن،
فأوجب السكنى للمطلقات بكل حال، وأوجب لهن النفقة بشرط ان كن أولات
حمل. فدل على أنهن إذا لم يكن أولات حمل لا نفقة لهن.
وروى أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها ثلاثا وهو غائب بالشام فحمل إليها
وكيله كفا من شعير فسخطته، فقال لها لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملا، إنما
هو متطوع عليك، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فقال لها
لا نفقة لك الا أن تكوني حاملا، واعتدى عند أم شريك
277

إذا ثبت هذا فهل تجب النفقة للحمل أو للحامل لأجل الحمل؟ فيه قولان.
(أحدهما) أنها تجب للحمل لأنها تجب عليه بوجوده ولا تجب عليها مع عدمه
فدل على أنها تجب له.
(والثاني) أنها تجب للحامل لأجل الحمل وهو الأصح، لأنه تجب عليه نفقة
الزوجة مقدرة. ولو وجبت للحمل لتقدرت بقدر كفايته كنفقة الأقارب.
والجنين يكتفي بدون المد.
وان تزوج الحر أمة فطلقها طلاقا بائنا وهي حامل، فإن قلنا إن النفقة تجب
للحمل لم تجب عليه النفقة لان ولده منها مملوك لسيدها، ونفقة المملوك على
سيده، وان قلنا إن النفقة للحامل وجب على الزوج نفقتها، وان تزوج العبد
بحرة أو أمة فأبانها وهي حامل - فإن قلنا إن النفقة للحمل - لم يجب عليه
النفقة، لان ولده من الأمة مملوك لسيد الأمة، وولده من الحرة لا تجب عليه
نفقته لان العبد لا يجب عليه نفقة ولده ولا والده، وان قلنا إن النفقة للحامل
وجبت عليه النفقة. وإن كان الحامل غنيا وقلنا إن النفقة للحمل فهل تجب على
أبيه؟ فيه وجهان حكاهما القاضي في كتاب الخناثى
قال الشاشي من أصحابنا: ويصح ابراء الزوجة عنها على القولين.
وان طلق امرأة طلاقا بائنا وهي حامل فارتدت الزوجة فقد قال ابن الحداد
تسقط نفقتها، فمن أصحابنا من وافقه وقال تسقط نفقتها قولا واحدا لأنها تتعلق
بمصلحتها وهي المستحقة لها فسقطت بردتها.
ومنهم من خالفه وقال: إذا قلنا إن النفقة للحامل سقطت بردتها، وان قلنا إن
النفقة للحمل فلا تسقط بردتها لان الحمل محكوم بإسلامه فلا يسقط حقه بردتها
وان أسلمت الزوجة وتخلف الزوج في الشرك فعليه نفقتها إلى أن تنقضي عدتها
حائلا كانت أو حاملا، فمن أصحابنا من وافقه ومنهم من خالفه وقال: هذا إذا
قلنا إن النفقة للحامل. فأما إذا قلنا إن النفقة للحمل وجبت له النفقة، لأنه
محكوم بإسلامه.
وان مات الزوج قبل وضع الحمل وخلف أبا فقد قال أبو إسحاق المروزي
تسقط النفقة لأنه محكوم بإسلامه، وان مات الزوج قبل وضع الحمل وخلف أبا
278

فقد قال أبو حامد إذا قلنا إن النفقة تجب للحمل أوجبت على جده، لأنه تجب
عليه نفقة ولده.
(مسألة) إذا طلق امرأته وهي حامل فهل يحب عليه أن يدفع إليها النفقة
يوما بيوم أو لا يجب عليه الدفع حتى تضع؟ فيه قولان (أحدهما) لا يجب عليه
دفع النفقة حتى تضع، فإذا وضعت الولد وجب عليه دفع نفقتها لما مضى لأنه
لا يجب عليه الدفع بالشك والحمل غير متحقق الوجود قبل الوضع، بل يجوز
أن يكون ريحا فينفش.
والقول الثاني: أنه يجب عليه أن يدفع إليها نفقة يوم بيوم وهو الأصح،
لقوله تعالى " وان كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن " فأمرنا بالانفاق
عليهن حتى يضعن حملهن، وهذا يقتضي وجوب الدفع، ولان للحمل أمارات
وعلامات، فإذا وجدت تعلق الحكم بها في وجوب فدفع النفقة، كما تعلق الحكم
بها في منع أخد الحمل في الزكاة، وفي جواز رد الجارية المبيعة، وفي منع وطئ
الجارية المسبية والمشتراة وفي جواز أخذ الخلفة في الدية
فإذا قلنا لا يجب الدفع حتى تضع لم تحتج إلى علامة وأمارة بل تعتد، فإذا
وضعت ولدا يجوز أن يكون منه لزمه أن يدفع إليها النفقة من حين الطلاق إلى
حين الوضع، فإن ادعت أنها وضعت وصدقها فلا كلام. وان كذبها فعليها أن
تقيم البينة على الوضع شاهدين أو شاهدا وامرأتين أو أربع نسوة، لأنه يمكنها
إقامة البينة على ذلك.
وان قلنا يجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم بيوم فادعت أنها حامل فان
صدقها الزوج جب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم من وقت الطلاق إلى حين
الحكم بقولهن أنها حامل دفعة واحدة، ووجب عليه أن يدفع إليها نفقة كل يوم
بيوم من حين الحكم بقولهن إلى حين الوضع
ولو سألته أن يحلف لها ما يعلم أنها حامل: فالذي يقتضى المذهب أنه يلزمه
أن يحلف لجواز أن يخاف من اليمين فيقر أنها حامل أو ينكل عن اليمين فيرد عليها
فإذا حلفت وجب عليه الدفع لان يمينها مع نكوله كإقراره في أحد القولين،
وكبينة يقيمها في القول الآخر. والجميع يجب به الدفع
279

(فرع) فإن طلقها طلاقا بائنا فقال القوابل إن بها حملا فأنفق عليها فبان أنه
لأحمل، أو ولدت ولدا لا يجوز أن يكون منه - فان قلنا إنه يجب عليه أن
يدفع إليها نفقة كل يوم بيوم كان له أن يرجع عليها بما دفع إليها من النفقة سواء
دفعه بأمر الحاكم أو بغيره أمره، وسواء شرط أنه نفقة أو أطلق، لأنه دفع إليها
النفقة على أنها واجبة عليه، وقد بان أنه لا نفقة عليه لها
وإن قلنا إنه لا يجب عليه الدفع إلا بعد الوضع نظرت - فإن كان قد دفع إليها
بحكم الحاكم - كان له الرجوع، لان الحاكم أوجب عليه الدفع وقد بان أنها لم
تكن واجبة عليه، وإن دفعها بغير حكم الحاكم، فإن كان قد شرط أن ذلك عن
نفقتها إن كانت حاملا، فله أن يرجع عليها لأنه بان أنها ليست بحامل ولا نفقة
عليه. وإن دفعها من غير شرط لم يرجع عليها بشئ، لأن الظاهر أنه تطوع
بالانفاق عليها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فان تزوج امرأة ودخل بها ثم انفسخ النكاح برضاع أو عيب، وجب لها السكنى في العدة. وأما النفقة فإنها - إن كانت حائلا - لم تجب:
وإن كانت حاملا وجبت، لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فكان حكمها في
النفقة والسكنى ما ذكرناه كالمطلقة.
وإن لاعنها بعد الدخول - فإن لم ينف الحمل - وجبت النفقة، وان نفى
الحمل لم تجب النفقة، لان النفقة تجب في أحد القولين للحمل. والثاني تجب لها
بسبب الحمل والحمل منتف عنه فلم تجب بسببه نفقة. وأما السكنى ففيها وجهان
(أحدهما) تجب لأنها معتدة عن فرقة في حال الحياة، فوجب لها السكنى كالمطلقة
(والثاني) لا تجب لما روى ابن عباس رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم
قضى أن لا تثبت لها " من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها
زوجها. ولأنها لم تحصن ماءه فلم يلزمه سكناها
280

(الشرح) حديث ابن عباس رواه البزار " أن رجلا طلق امرأته فجاءت إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لا نفقة لك ولا سكنى "
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة وهو متروك
أما الأحكام فقد قال الشافعي: وإن كان يملك رجعتها فلم تعتد بثلاث حيض
أو كان حيضها مختلفا فيطول ويقصر لم أجعل لها إلا الأقصر. اه
واختلف أصحابنا في تأويلها، فقال أبو إسحاق تأويلها هو أن يطلق امرأته
طلاقا رجعيا فأنفق عليها وظهر بها حمل في العدة، ووضعت لأكثر من أربع
سنين من وقت الطلاق - فان قلنا إنه يلحقه - فعليه نفقتها إلى أن وضعت فلا
كلام. وان قلنا إنه لا يلحقه وينتفى عنه بغير لعان فإنها لا تكون معتدة به عنه
ولا نفقة عليه لها مدة حملها، وإنما عدتها بالأقراء، وتسأل من أين الحمل؟ فان
قالت هو من غير بشبهة أو زنا قلنا لها أي وقت حملت به؟ فان قالت بعد انقضاء
عدتي بالأقراء على الأول فعلى الأول نفقتها مدة عدتها بالأقراء لا غير. وان
قالت حملت به بعد أن مضى من عدته قرء إن كان على الزوج نفقتها مدة عدتها في
القرءين قبل الحمل، ومدة عدتها بالقرء الثالث بعد الحمل
وان قالت هذا الولد من هذا الزوج وطئني في عدتي، أو راجعني ثم وطئني
فان أنكرها جاب، لان الأصل عدم ذلك، فإذا حلف بطل أن تعتد بالحمل منه
وقلنا له فسر أنت كيف اعتدت منك، فان قال حملت به قبل أن يمضى لها شئ
من الأقراء فإنها تعتد بثلاثة أقراء عنه بعد الوضع ولها نفقة ذلك الوقت.
وان قال انقضت عدتها منى بالأقراء ثم حملت به بعد ذلك فقد اعترف أنها
اعتدت عنه بالأقراء، فإن كان حيضها لا يختلف فلا نفقة مدة ثلاثة أقراء، وإن كان
حيضها يختلف فتارة تمضي أقراء في سنة وتارة في ستة أشهر وتارة في ثلاثة
أشهر واختلفا في عدتها كان لها نفقة ثلاثة أشهر لأنه اليقين
ومن أصحابنا من قال: تأويلها أن يطلقها طلاقا رجعيا، وأتت بولد لأكثر
من أربع سنين من وقت الطلاق وقلنا لا يلحقه - فان عدتها بالأقراء عنه،
فيرجع إليها كيف الاعتداد منها بالأقراء، فإذا ذكرت - فإن كان حيضها
281

لا يختلف - كانت لها نفقة ثلاثة أقراء، وإن كان يختلف فيطول ويقصر لم يكن
لها إلا نفقة الا قصر لأنه اليقين. وبهذا قال أحمد
ومن أصحابنا من قال: تأويلها إذا طلقها طلاقا رجعيا وحكمنا لها بالنفقة وأتت
بولد لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق - وقلنا لا يلحقه وكانت تحيض
على الحمل، وقلنا إنه حيض - فإنها تعتد عنه بالأقراء الموجودة على الحمل، فإن كان
حيضها لا يختلف فلها نفقة ثلاثة أقراء. وإن كان يختلف لم يكن لها إلا نفقة
الأقصر لأنه اليقين.
قال العمراني في البيان: وهذا ضعيف جدا وعلل ذلك بأنها على هذا القول
يكون لها نفقة الأقراء على الحمل طالت أو قصرت
ومن أصحابنا من قال: تأويلها إذا طلقها طلاقا رجعيا فذكرت أن حيضها
ارتفع بغير عارض، فإنها تتربص على ما مضى، فإذا زعمت أن حيضها ارتفع
بغير عارض فقد اعترفت تحقيق حق لها وهو العدة والرجعة فيقبل قولها فيه، وحق لها
وهو النفقة فلا يقبل قولها فيه بل يجعل لها نفقة الا قصر لأنه اليقين والتأويل الأول أصح
فأما إذا طلقها طلاقا بها أمارات الحمل فأنفق عليها ثم بان أنه لم يكن
حملا وإنما كان ريحا فأنفش فإنه يسترجع نفقة ما زاد على ثلاثة أقراء، فيقال لها
كم كانت مدة أقرائك - فان أخبرت بذلك - كان القول قولها مع يمينها
وإن قالت: لا أعلم في كم انقضت عدتي إلا أن عادتي في الحيض كذا وعادتي
في الطهر كذا حسبنا ذلك ورجع الزوج بنفقة ما بعد ذلك.
وإن قالت: حيضي يختلف ولا أعلم قدر الثلاثة الأقراء نظرنا إلى أقل
ما تذكره من الحيض والطهر فحسبنا لها ثلاثة أقراء ورجع عليها بما زاد على ذلك
وان قالت لا أعلم قدر حيضي وطهري، فحكى ابن الصباغ أن الشافعي قال،
جعلنا الأقراء ثلاثة أشهر لان ذلك هو الغالب في النساء ورجع بالباقي
(فرع) قال أبو إسحاق المروزي " ولا يجب للبائن الكسوة، وان وجبت
لها النفقة " والله أعلم
282

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن نكح امرأة نكاحا فاسدا ودخل بها وفرق بينهما لم تجب لها
السكنى، لأنها إذا لم تجب مع قيام الفراش واجتماعهما على النكاح، فلان لا تجب
مع زوال الفراش والافتراق أولى، وأما النفقة فإنها إن كانت حائلا لم تجب لأنها
إذا لم تجب في العدة عن نكاح صحيح فلان لا تجب في العدة عن النكاح الفاسد أولى
وإن كانت حاملا فعلى القولين، إن قلنا إن النفقة للحامل لم تجب، لان حرمتها
في النكاح الفاسد غير كاملة، وان قلنا إنها تجب الحمل وجبت، لان الجماع في
النكاح الفساد كالحمل في النكاح الصحيح
(فصل) وإن كانت الزوجة معتدة عن الوفاة لم تجب لها النفقة، لان النفقة
إنما تجب للمتمكن من الاستمتاع، وقد زال التمكين بالموت أو بسبب الحمل،
والميت لا يستحق عليه حق لأجل الولد، وهل تجب له السكنى؟ فيه قولان.
(أحدهما) لا تجب، وهو اختيار المزني، لأنه حق يجب يوما بيوم فلم تجب
في عدة الوفاة كالنفقة
(والثاني) تجب، لما روت فريعة بنت مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" اعتدى في البيت الذي أتاك فيه وفاة زوجك، حتى يبلغ الكتاب أجله أربعة
أشهر وعشرا " ولأنها معتدة عن نكاح صحيح فوجب لها السكنى كالمطلقة.
(الشرح) حديث فريعة بنت مالك مضى في العدد تخريجه. قال ابن عبد البر
في الاستيعاب: فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري، كان يقال لها الفارعة
شهدت بيعة الرضوان: وأمها أم حبيبة بنت عبد الله بن أبي بن سلول. روت
عن الفريعة هذه زينب بنت كعب بن عجرة حديثها في سكنى المتوفى عنها زوجها
في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله. استعمله أكثر فقهاء الأمصار اه
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه وكل ما وصفنا من متعة أو نفقة
أو سكنى فليست إلى في نكاح صحيح
وجملة ذلك أنه إذا تزوج امرأة تزويجا فاسدا، كالنكاح بلا ولى ولا شهود
283

أو في عدتها فإنه يفرق بينهما، فإن كان قبل الدخول فإنه لا يتعلق بالنكاح حكم
وإن كان بعد الدخول فلها مهر المثل، وعليها العدة ولا سكنى لها: لان السكنى
تجب عن نكاح صحيح ولا نكاح ههنا.
وأما النفقة فإن كانت حائلا فلا نفقة لها، لأنه إذا لم تجب النفقة للبائن
الحائل في النكاح الصحيح فلان لا تجب لها في النكاح الفاسد أولى. وإن كانت
حاملا - فان قلنا إن النفقة تجب للحامل - لم تجب لها ههنا نفقة لان النفقة إنما
تجب عن نكاح صحيح له حرمة، وهذا النكاح لا حرمة له. وان قلنا إن النفقة
للحمل وجب لها النفقة، لان هذا الولد لاحق به، فهو كما لو حملت منه
في نكاح صحيح.
وأما إذا وقع النكاح صحيحا ثم انفسخ برضاع أو عيب بعد الدخول فإنه يجب
عليها العدة. قال الشيخ أبو إسحاق ويجب لها السكنى في العدة
وأما النفقة - فإن كانت حائلا - لم تجب وإن كانت حاملا وجبت لأنها
معتدة عن فرقة في حال الحياة، فكان حكمها ما ذكرناه كالطلاق. وقال الشيخ
أبو حامد وابن الصباغ " حكمها في السكنى والنفقة حكم النكاح الفاسد، لان حكم
النكاح الذي ينفسخ بعد الدخول حكم النكاح الذي يقع فاسدا
(فرع) وان قذف امرأته وهي حامل ونفى حملها فلا عنها انفسخ النكاح بينهما
فاعتدت بوضع الحمل ولا نفقة لها في حال العدة، لان النفقة للحمل في أحد
القولين ولها لأجل الزوجية في الثاني والحمل غير لاحق به فلم تجب لها النفقة،
وهل تجب لها السكنى؟
حكم القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق فيه وجهين (أحدهما) لا يجب
لها السكنى لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المتلاعنين أن
يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدا ولا نفقة لها ولا بيت لأنهما يفترقان بغير طلاق
(والثاني) أن لها السكنى. قال ابن الصباغ ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، لأنها
معتدة عن فرقة في حال الحياة فهي كالمطلقة. قال ابن الصباغ: وقد ذكرنا فيما
مضى أن الفسخ الطارئ بمنزلة النكاح الفاسد، وهذا فسخ، وايجاب السكنى
يناقضه، غير أنه تعلق بقول الزوج، فجرى مجرى قطع النكاح بغير الطلاق.
284

وكما قلنا في الخلع إذا قلنا إنه فسخ. وإن لاعنها ولم ينف الحمل قال الشيخ
أبو إسحاق هنا وجبت لها النفقة. وإن أبان زوجته بالثلاث وبالخلع وظهر بها
حمل فنفاه - وقلنا يصح لعانه قبل الوضع فلا عن - سقطت عنه النفقة، وهل
يسقط عنه السكنى - ان قلنا للملاعنة السكنى في التي قبلها - فههنا أولى. وإن
قلنا في التي قبلها: لا سكنى لها قال القاضي أبو الطيب: احتمل ههنا وجهين.
(أحدهما) لها سكنى لأنها اعتدت عن الطلاق (والثاني) لا سكنى لها لان نفقتها
سقطت لأجل اللعان فكذلك السكنى. فإن أكذب الزوج بعد اللعان لحقه نسب
الولد وكان عليه النفقة لها لما مضى وإلى أن تضع
فان قيل فهلا قلتم إنه لا نفقة لها لما مضى على القول الذي يقول إن النفقة
للحمل، لان نفقة الأقارب تسقط بمضي الزمان؟
قلنا إنما نقول ذلك إذا كان القريب هو المستوفى لنفقته، وهنها المستوفى لها
هي الزوجة فصارت كنفقة الزوجة، فلا تسقط بمضي الزمان.
وأما المعتدة المتوفى عنها زوجها فلا يجب لها النفقة حائلا كانت أو حاملا،
وبه قال ابن عباس وجابر. وروى أنهما قالا لا نفقة لها. حسبها الميراث. وذهب
بعض الصحابة إلى أنها إذا كانت حاملا فلها النفقة. وعند أحمد أن المعتدة من
الوفاة إن كانت حائلا فلا نفقة لها ولا سكنى. وإن كانت حاملا ففيها روايتان
(إحداهما) لها السكنى والنفقة لأنها حامل من زوجها فكانت لها السكنى والنفقة
كالمفارقة في الحياة
(والثانية) لا سكنى لها ولا نفقة لان المال قد صار للورثة ونفقة الحامل
وسكناها إنما هو للحمل أو من أجله ولا يلزم ذلك الورثة، لأنه إن كان الميت
ميراث فنفقة الحمل من نصيبه، وان لم يكن له ميراث لم يلزم وارث الميت الانفاق
على حمل امرأته كما بعد الولادة
قال القاضي وهذه الرواية أصح عند ابن قدامة وغيره.
ودليلنا أنه لا يخلو اما أن يقال هذه النفقة للحامل أو للحمل فبطل أن يقال
أنها للحامل لأنها لا تستحق النفقة إذا كانت حائلا، وبطل أن يقال إنها للحمل
285

لان الميت لا يستحق عليه نفقة الأقارب فلم تجب، وهل تجب لها السكنى؟ فيه
قولان مضى بيانهما في العدد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا حبست زوجة المفقود أربع سنين فلها النفقة لأنها محبوسة
عليه في بيته، فإن طلبت الفرقة بعد أربع سنين ففرق الحاكم بينهما، فإن قلنا
بقوله القديم إن التفريق صحيح فهي كالمتوفى عنها زوجها لأنها معتدة عن وفاة
فلا تجب لها النفقة، وفي السكنى قولان، فإن رجع الزوج فان قلنا تسلم إليه
عادت إلى نفقته في المستقبل، وإن قلنا لا تسلم إليه لم يكن لها عليه نفقة، فان قلنا
بقوله الجديد وأن التفريق باطل، فلها النفقة في مدة التربص ومدة العدة لأنها
محبوسة عليه في بيته، وإن تزوجت سقطت نفقتها لأنها صارت كالناشزة،
وان لم يرجع الزوج ورجعت إلى بيتها وقعدت فيه، - فان قلنا بقوله القديم -
لم تعد النفقة، وان قلنا بقوله الجديد، فهل تعود نفقتها بعودها إلى البيت؟
فيه وجهان:
أحدهما: تعود لأنها سقطت بنشوزها، فعادت بعودها
(والثاني) لا تعود لان التسليم الأول قد بطل فلا تعود إلى بتسلم مستأنف
كما أن الوديعة إذا تعدى فيها ثم ردها إلى المكان لم تعد الأمانة. ومن أصحابنا من
قال: إن كان الحاكم فرق بينهما وأمرها بالاعتداد، واعتدت وفارقت البيت،
ثم عادت إليه لم تعد نفقتها لان التسليم الأول قد بطل لحكم الحاكم. وإن كانت
تربصت فاعتدت ثم فارقت البيت ثم عادت النفقة لان التسليم الأول لم
يبطل من غير حكم الحاكم. والله أعلم
(الشرح) الأحكام: إذ غاب الرجل عن امرأته وهي في مسكنه الذي
أسكنها فيه وانقطع خبره عنها، فان اختارت المقام على حالتها فالنفقة واجبة على
الزوج لأنها مسلمة لنفسها، وان رفعت الامر إلى الحاكم وأمرها بالتربص أربع
سنين فلها النفقة على زوجها، لان النفقة إنما تسقط بالنشوز أو بالبينونة ولم
286

يوجد واحد منهما، فإن حكم الحاكم بالفرقة بينهما بعد أربع سنين واعتدت أربعة
أشهر وعشرا، فإن قلنا بقوله القديم وأن الفرقة قد وقعت ظاهرا وباطنا، أو
ظاهرا فإنها كالمعتدة عن الوفاة فلا يجب لها النفقة فيها، وهل يجب لها السكنى؟
فيه قولان، فإن رجع زوجها، فإن قلنا: إن الفرقة وقعت ظاهرا وباطنا فهي
أجنبية منه ولا تجب لها عليه نفقة ولا سكنى. وان قلنا إن الفرقة وقعت في
الظاهر دون الباطن ردت إليه ووجبت لها النفقة من حين ردت إليه. وان قلنا
بقوله وأن حكم الحاكم لا ينفذ، فإنها ما لم تتزوج فنفقتها على الأول لأنها
محبوسة عليه، وإنما تعتقد هي أن الفرقة قد وقعت، وهذا الاعتقاد لا يؤثر في
سقوط نفقتها، فان تزوجت بعد أربعة أشهر وعشر سقطت نفقتها عن الأول
لأنها كالناشزة عن الأول فسقطت نفقتها عنه، فإن دخل الثاني بها وفرق بينهما
فعليها أن تعتد عنه ولا نفقة لها على الأول لأنها معتدة عن الثاني، فان رجعت
إلى منزل الأول بعد انقضاء عدة الثاني أو قبل أن يدخل بها الثاني، فهل تستحق
النفقة على الأول؟
قال الشافعي في المختصر: لا نفقة لها في حال الزوجية ولا في حال العدة.
وهذا يقتضى أن لها النفقة بعد انقضاء العدة
وقال في الأم: لا نفقة لها في حال الزوجية ولا في حال العدة ولا بعدها
واختلف أصحابنا فيها على طريقين. قال العمراني من أصحابنا من قال فيها قولان
وحكاهما الشيخ أبو إسحاق (يعنى الشيرازي) وجهين
(أحدهما) تجب لها النفقة من حين عادت إلى منزله، لان النفقة سقطت
بنشوزها، وقد زال النشوز فعادت نفقتها
(والثاني) لا يجب لها النفقة لان التسليم الأول قد سقط بنشوزها فلم تعد
الا بتسليم ثان، وليس ههنا من يتسلمها، فعلى هذا الطريق إذا خرجت امرأة
الحاضر من منزلها ناشزة ثم عادت إليه، فهل تعود نفقتها من غير أن يتسلمها الزوج
فيه وجهان بناء على هذين الوجهين
ومن أصحابنا من قال ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين فالموضع
الذي دل عليه مفهوم كلامه أن النفقة لها أراد إذا تزوجت بالثاني من غير أن
287

يحكم لها الحاكم بالفرقة فإذا عادت إلى منزل الزوج عادت نفقتها، لان نفقتها
سقطت بأمر ضعيف وهو نشوز فعادت برجوعها، وحيث قال في الأم لا نفقة
لها، أراد إذا حكم لها الحاكم بالفرقة وتزوجت بآخر، لان نفقتها سقطت بأمر
قوي وهو حكم الحاكم فلا تعود إلا بأمر قوى، وهو أن يتسلمها الزوج، فعلى
هذا الطريق إذا نشزت امرأة الحاضر من منزلها وعادت إليه وجبت لها النفقة،
وإن لم يتسلمها الزوج.
وأما وجوب نفقتها على الثاني، فإن قلنا بقوله القديم، فإن التفريق صحيح
فإنها تستحق عليه النفقة بنفس العقد في قوله القديم، ونفقة كل يوم بيومه في قوله
الجديد لان نكاحه صحيح.
وإن قلنا بقوله الجديد وان التفريق غير صحيح فإنها لا تستحق عليه النفقة
ولا السكنى في حال الزوجية، لأنه لا زوجية بينهما، فإذا فرق بينهما بعد
الدخول فلا سكنى لها في حال العدة. وأما النفقة فإن كانت حائلا لم تجب لها،
وإن كانت حاملا - فإن قلنا النفقة للحمل - وجبت، وإن قلنا للحامل لم تجب
(فرع) إذا تربصت امرأة المفقود وتزوجت بآخر بعد قضاء عدتها فرجع
الأول - فإن قلنا بقوله الجديد - لا تقع الفرقة، أو قلنا تقع الفرقة في الظاهر
دون الباطن فأتت بولد يمكن أن يكون من الثاني ولا يمكن أن يكون من الأول
فإن عدتها تنقضي من الثاني بوضعه، وترد إلى الأول بعد وضع الولد.
وإن أتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما - فإن قلنا بقوله القديم
وأن الفرقة تقع ظاهرا وباطنا فأولد للثاني. وان قلنا بقوله الجديد وقلنا الفرقة
تقع في الظاهر دون الباطن، فإن لم يدعه الأول فهو للثاني، لأنها قد استبرأت
رحمهما يفينا عن الأول. وإن ادعاه الأول سئل عن وجه دعواه، فإن قال هذا
الولد منى لأنها زوجتي وغبت عنها والزوجية لم تنقطع فهو ولدى، لأنها أتت
به على فراشي، لم يتلفت إلى هذه الدعوى ولحق بالثاني، لأنا قد تيقنا براءة
رحمها من ماء الأول فلا يمكن أن يكون منه.
وإن قال: كنت عدت إليها في الخفية ووطئتها وهذا الولد منى وأمكن أن
288

يكون صادقا عرض الولد على القافة، فإذا ألحقوه بأحدهما لحقه. وكل موضع
الحق الولد بالثاني، فليس للزوج الأول أن يمنعها من أن تسقيه اللبا لأنه لا يعيش
الا بذلك. فذا سقته اللبا - فإن لم توجد امرأة ترضعه وتكفله - لم يكن له
منعها من ذلك لان يؤدى إلى اتلافه. وان وجد له امرأة ترضعه وتكفله
كان له منعها لأنها متطوعة بارضاعه، وللزوج منع زوجته من فعل التطوع
كالصلاة والصوم فلان يمنعها من الرضاع أولى
فان أرضعته في موضع منعناها من ارضاعه فيه، فان أرضعته في بيت زوجها
فلها النفقة عليه، لأنها في قبضته. وان أخرجت من منزله إلى غيره بغير اذنه
وأرضعته سقطت نفقتها لأنها ناشزة، وان خرجت إلى غيره باذن زوجها
وأرضعته - فإن كان زوجها معها لم تسقط نفقتها - وان لم يكن معها ففيه
وجهان بناء على القولين في السفر باذنه
(فرع) وان تربصت امرأة المفقود وفرق الحاكم بينهما وتزوجت بآخر بعد
انقضاء عدتها، ودخل بها ثم مات الثاني، وبان أن زوجها الأول كان حيا عند
نكاحها للثاني وأن الأول مات بعد ذلك - فان قلنا بقوله القديم، وأن الحكم
بالفرقة صحيح ظاهرا وباطنا - فقد بانت من الأول، ونكاح الثاني صحيح، وقد
بانت عنه بموته واعتدت عنه، ولا تأثير لحياة الأول وان قلنا بقوله الجديد
ان الحكم بالفرقة لا يصح أو قلنا تقع الفرقة في الظاهر دون الباطن، فعلى هذا
نكاح الثاني باطل وعليها العدة بموت الأول أربعة أشهر وعشرا. وعليها عدة
وطئ الشبهة للثاني ثلاثة أقراء، ولا يصح أن تعتد من أحدهما الا بعد أن يفرق
بينها وبين الثاني، وفيه ثلاث مسائل
(إحداهن) أن يعلم موت كل واحد من الزوجين في وقت بعينه، ويعلم
غير ذلك الزوج.
(الثانية) أن يعلم أن أحدهما مات في وقت بعينه ولم يعلم وقت موت الآخر
(الثالثة) أن لا يعلم موت كل واحد منهما بعينه
(فأما الأولة) وهو إذا علم موت كل واحد منهما في وقت بعينه ففيه مسألتان
إحداهما أن يعلم أن الأول مات في أول شهر رمضان، والثاني مات في أول شوال
289

فيجب عليها أن تعتد ههنا عن الأول أربعة أشهر وعشرا، وابتداؤها من أول
شوال بعد زوال فراش الثاني، لأنه لا يمكن أن تكون فراشا للثاني معتدة عن
الأول، فإذا انقضت عدتها عن الأول اعتدت عن الثاني بثلاثة أقراء لان عدة
الأول أسبق فقدمت، ولأنها أقوى لأنها وجبت بسبب مباح والثانية وجبت
بسبب محظور.
وإن مات الثاني في أول رمضان والأول في أول شوال، فإن الثاني لما مات
شرعت في عدته، وإن كانت زوجة الأول، لان النكاح يتأبد فراشه فلا يمكن
قطعه لأجل العدة، بخلاف الفراش في النكاح الثاني فإنه لا يتأبد، فلذلك وجب
قطعه للعدة ولم تصبح العدة مع وجوده فإن مات الأول في أثناء عدة الثاني
انتقلت إلى عدة الأول لأنها آكد، فإذا أكملت عدة الأول أربعة أشهر وعشرا
أكملت عدة الثاني بالأقراء
(المسألة الثانية) أن يعلم أن أحدهما مات في وقت بعينه ولم يعلم وقت موت
الآخر: مثل أن يعلم أن الثاني مات في أول شوال، ثم جاء الخبر أن الأول حي
في بلد كذا ومات فلم يعلم وقت موته، فإنه يقال أقل وقت يمكن أن يصل فيه
الخبر من الموضع الذي كان فيه كم هو؟
فان قيل مثلا عشرة أيام، جعل في التقدير كأنه مات قبل مجئ خبره بعشرة
أيام، فان وافق ذلك وقت موت الثاني بأن كان الخبر ورد لعشر خلون من شوال
فقد اتفق موتهما في وقت واحد، فتعتد عن الأول بأربعة أشهر وعشر، وتعتد
بعد ذلك عن الثاني بثلاثة أقراء، وإن تقدم موت الثاني أو تأخر عنه فالحكم فيه
على ما ذكرناه في المسألة الأولة
(المسألة الثالثة) أن لا يعلم وقت موت كل واحد منهما بعينه، مثل أن يعلم
أن أحدهما مات في أول شهر رمضان، والآخر مات في أول شوال ولا يعلم
أيهما مات أولا، فيجب عليها بيقين، هذا إذا لم تحبل من الثاني، فإذا حبلت
من الثاني ثم ظهر موت الأول فان الولد لاحق بالثاني، لأنها قد اعتدت عن
الأول واستبرأت رحمها منه. وقد مات الأول قبل أن يدعيه فلم يلحق به،
290

فتعتد بوضع الحمل عن الثاني، فإذا وضعته اعتدت عن الأول بأربعة أشهر
وعشر، ومتى تبتدئ بها؟ فيها وجهان
(أحدهما) من حين انقطاع دم النفاس، لان دم النفاس تابع للحمل من
الأول فهو كمدة الحمل.
(والثاني) وهو المذهب أن ابتداءها من بعد وضع الحمل، لان هذا عدة
من وفاة، وعدة الوفاة لا يراعى فها الدم وزواله، ولان وقت دم النفاس ليس
من عدة الثاني فأحتسب به من عدة الأول والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب نفقة الأقارب والرقيق والبهائم)
والقرابة التي تستحق بها النفقة قرابة الوالدين وإن علوا، وقرابة الأولاد
وإن سفلوا، فتجب على الولد نفقة الأب والأم، والدليل عليه قوله تعالى
" وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " ومن الاحسان أن ينفق
عليهما. وروث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان أطيب
ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه " ويجب عليه نفقة الأجداد
والجدات، لان اسم الوالدين يقع على الجميع. والدليل عليه قوله تعالى " ملة أبيكم
إبراهيم " فسمى الله تعالى إبراهيم أبا وهو جد، ولان الجد كالأب، والجدة
كالأم في أحكام الولادة، من رد الشهادة وغيرها، وكذلك في إيجاب النفقة
ويجب على الأب نفقة الولد لما روى أبو هريرة رضي الله عنه " أن رجلا جاء
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عندي دينار؟ فقال إنفقه على
نفسك. قال عندي آخر؟ فقال أنفقه على ولدك، قال عندي آخر، فقال أنفقه
على أهلك. قال عندي آخر، قال أنفقه على خادمك. قال عندي آخر. قال أنت
أعلم به " ويجب عليه نفقة ولد الولد وان سفل، لان اسم الولد يقع عليه،
والدليل عليه قوله عز وجل " يا بني آدم " وتجب على الأم نفقة الولد لقوله تعالى
" لا تضار والدة بولدها " ولأنه إذا وجبت على الأب وولادته من جهة الظاهر
291

فلان تجب على الأم وولادتها من جهة القطع أولى وتجب عليها نفقة ولد الولد
لما ذكرناه في الأب، ولا تجب نفقة من عدا الولدين والمولودين من الأقارب
كالاخوة والأعمام وغيرهما، لان الشرع ورد بإيجاب نفقة الوالدين والمولودين
ومن سواهم لا يلحق بهم في الولادة وأحكام الولادة، فلم يلحق بهم في
وجوب النفقة.
(الشرح) نبدأ بأشرف ما في الفصل من كلام ربنا تبارك وتعالى، فقوله
تعالى " وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " أي أمر وألزم
وأوجب. قال ابن عباس والحسن وقتادة: ليس هذا قضاء حكم بل هو قضاء
أمر. وقال ابن تيمية: القضاء قضاءان، قضاء كوني وقضاء شرعي، والقضاء
الشرعي كقوله تعالى " وقضى ربك " وفي مصحف ابن مسعود " ووصى " وهي
قراءة، وقرأه ابن عباس وأبى
قال ابن عباس إنما هو " ووصى " فالنصف إحدى الواوين فقرئت " وقضى "
إذ لو كان على القضاء ما عصى الله أحد. وأنكر أبو حاتم أن يكون ابن عباس
قال ذلك وقال: لو قلنا ذلك لطعن الزنادقة في مصحفنا
قلت: بخ بخ لأبي حاتم، إذ كيف تلتصق الواو في جميع المصاحف بالصاد
فتتحول من ووصى إلى وقضى.
قال علماء الكلام: القضاء يستعمل في اللغة على وجوه، فالقضاء بمعنى الامر
كقوله تعالى " وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه " والقضاء بمعنى الخلق كقوله تعالى
" فقضاهن سبع سماوات في يومين " والقضاء بمعنى الحكم كقوله تعالى " فاقض
ما أنت قاض " والقضاء بمعنى الفراغ كقوله قضي الامر الذي فيه تستفتيان "
وقوله تعالى " فإذا قضيتم مناسككم " وقوله فإذا قضيت الصلاة " والقضاء بمعنى
الإرادة: كقوله تعالى " إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون " والقضاء بمعنى
العد كقوله تعالى " وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الامر "
وأما قوله تعالى " ملة أبيكم إبراهيم " قال القرطبي: وإبراهيم هو أبو العرب
قاطبة. وقيل الخطاب لجميع المسلمين وإن لم يكن الكل من ولده، لان حرمة
292

إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد. يدل على ذلك قوله " هو سماعكم
المسلمين من قبل "
قال ابن زيد، وهو معنى قوله " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة
مسلمة لك " قال ابن زيد والحسن " هو " راجع إلى إبراهيم. والمعنى هو سماكم
المسلمين من قبل محمد صلى الله عليه وسلم. قال النحاس وهذا القول مخالف لقول
عظماء الأمة. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: سماكم الله تعالى
المسلمين من قبل، أي في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن
وأما قوله تعالى " يا بني آدم " قال القرطبي هو خطاب لجميع العالم. وأما قوله
تعالى " لا تضار والدة بولدها " قال ابن بطال يجوز أن يكون معناه لا تضار على
تفاعل، وهو أن ينزع ولدها منها ويدفع إلى مرضعة أخرى، ويجوز أن يكون
معناه لا تضار الأم الأب فلا ترضعه. أي لا تأبى الأم أن ترضعه إضرارا بأبيه
أو تطلب أكثر من أجر مثلها.
وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي " تضار " بفتح الراء المشددة، وموضعه
الجزم على النهى.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان عن عاصم وجماعة " تضار " بالرفع عطفا
على قوله " تكلف نفس " وهو خبر والمراد به الامر
وروى عن عمر بن الخطاب أنه قرأ " لا تضار " براءين من الأولى مفتوحة.
وروى عن ابن عباس " لا تضار ر " بكسر ما قبل آخره وهي الراء الأولى
وأما حديث عائشة فقد مضى في الفرائض، وقد ساقه الذهبي في سير أعلام
النبلاء وفيه " إن أطيب ما أكل الرجل من كسب يمينه " وقد أخرجه أبو داود
والحاكم بلفظ " ولد الرجل من أصيب كسبه، فكلوا من أموالهم " وإسناده صحيح
وأما حديث أبي هريرة فقد أخرجه الشافعي وأبو داود واللفظ له وأخرجه
النسائي والحاكم بتقديم الزوجة على الولد، وفي صحيح مسلم من رواية جابر تقديم
الزوجة على الولد من غير تردد.
وقال الحافظ بن حجر: اختلف على يحيى القطان والثوري، فقدم يحيى الزوجة
على الولد. وقدم سفيان الولد على الزوجة، فينبغي ان لا يقدم أحدهما على
293

الآخر بل يكونا سواء، لأنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا تكلم
تكلم ثلاثا، فيحتمل أن يكون في إعادته قدم الولد مرة، ومرة قدم الزوجة،
فصارا سواء.
قال الصنعاني في سبيل السلام: هذا حمل بعيد، فليس تكريره لما يقوله ثلاثا
بمطرد، بل عدم التكرير غالب، وإنما يكرر إذا لم يفهم عنه. ومثل هذا الحديث
جواب سؤال لا يجرى فيه التكرير لعدم الحاجة إليه لفهم السائل للجواب، ثم
رواية جابر التي لا تردد فيها تقوى رواية تقديم الأهل اه
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: في كتاب الله وسنة رسوله عليه
السلام بيان أن على الأب أن يقوم بالمنونة في إصلاح صغار ولده من رضاع
ونفقة وكسوة وخدمة اه
وجملة ذلك أنه يجب على الأب أن ينفق على ولده، والأصل فيه قوله تعالى
(ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق) فمنع الله قتل الأولاد خشية الاملاق وهو
الفقر، فلولا أن نفقة الأولاد عليهم لما خافوا الفقر. وقوله تعالى (فإن أرضعن
لكم فآتوهن أجورهن) فأوجب أجرة رضاع الولد على الأب، فدل على أن
نفقته تجب عليه
وحديث أبي هريرة عن الرجل الذي أتى النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندي
دينار والرسول يجبيه فيقول عندي آخر وأخذ يردد الأسئلة، وقد خرجناه آنفا
وكذلك حديث هند بنت عتبة أن أبا سفيان رجل شحيح. وقول النبي صلى الله
عليه وسلم لها " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " ولان الولد بعض من الأب
فكما يلزمه أن ينفق على نفسه فكذلك يلزمه أن ينفق على ولده، فإن لم يكن هناك
أب أو كان ولكنه معسر وهناك جد موسر وجبت عليه نفقة ولد الولد وإن
سفل. وبه قال أبو حنيفة
وقال مالك: لا تجب نفقة ولد الولد على الجد. دليلنا قوله تعالى " يا بني آدم "
فسمى الناس بني آدم، وإنما هو جدهم. وكذلك قوله تعالى " واتبعت ملة آبائي
إبراهيم وإسماعيل وإسحاق " فسماهم آباء، وإنما هم أجداد، أو لان بينهما قرابة
توجب العتق ورد الشهادة وجبت النفقة على الأم، وبه قال أبو حنيفة وأحمد،
294

وقال مالك " لا تجب النفقة على الأم " وقال أبو يوسف ومحمد " تجب على الأم
ولكن ترجع بها على الأب إذا أيسر
دليلنا على مالك أن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة فأوجبت النفقة
كالأبوة، ولان النفقة إذا وجبت على الجد وولادته من طريق الظاهر، فلان
تجب على الأم وولادتها من طريق القطع أولى فلم ترجع
ودليلنا على أبى يوسف ومحمد أنها نفقة واجبة على من تيقن نسبه فلم يرجع
بها كالجد لا يرجع بما أنفق على الأب، وقولنا على من تيقن نسبه احتراز ممن
ولد على فراشين وأشكل الأب منهما، فإن لم يكن هناك أم وهناك أبو أم أو أم
أم وجبت عليه نفقة ولد الولد وإن سفل، فتجب نفقة الولد على من يقع عليه
اسم الأب أو الأم حقيقة أو مجازا، سواء كان من قبل الأب أو الأم، ويشترك
في وجوبها العصبات وذووا الأرحام، لأنها تتعلق بالقرابة من جهة الولادة،
فاستوى العصبات وذوو الأرحام، لأنها تتعلق بالقرابة من جهة الولادة،
فاستوى للعصبات وذوو الأرحام من جهة الوالدين، كما قلنا في منع الشهادة
والقصاص والعتق.
* * * قوله: فتجب على الولد الخ، فجملة ذلك أنه يجب على الولد نفقة الأب لقوله
تعالى وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا " وقوله تعالى " وصاحبهما
في الدنيا معروفا " ومن الاحسان والمعروف أن ينفق عليه
وروى ابن المنكدر " أن رجلا قال: يا رسول الله إن لي مالا وعيالا ولأبي
مال وعيال ويريد أن يأخذ من مالي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت ومالك
لأبيك " وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ان أطيب ما يأكل
الرجل من كسبه، وولده من كسبه "
وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إن أولادكم هبه من الله لكم
يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور " وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها "
295

وساق العمراني رواية نسوقها لطرافتها، ولنا عليها نظر (1). قال روى عن جابر
أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله إن أبى يأخذ مالي فينفقه
فقال الأب: إنما أنفقه يا رسول الله على إحدى عمله أو إحدى خالاته، فهبط
جبريل وقال: يا رسول الله سل الأب عن شعر قاله، فسأله النبي صلى الله عليه
وسلم عن ذلك، فقال الأب إن الله وله الحمد يزيدنا بك بيانا يا رسول الله كل يوم
لقد قلت هذا الشعر في نفسي فلم تسمعه أذناي ثم أنشأ يقول:
غدوتك مولودا وعلتك يافعا * تعل بما أدنى إليك وتنهل
إذا ليلة نابتك بالشكوى لم أبت * لشكوك إلا ساهرا أتملل
كأني أن المطروق دونك بالذي * طرقت به دوني وعيني تهمل
فلما بلغت السن والغاية التي * إليها مدى ما كنت فيك أؤمل
جعلت جزائي منك جبها وغلظة * كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي * فعلت كما الجار المجاور يفعل
تراه معدا للخلاف كأنه * برد على أهل الصواب موكل اه
(فرع) ويجب على الولد نفقة الأم. وقال مالك لا يجب. دليلنا ما ذكرناه
من القرآن والسنة آنفا. وما روياه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال
يا رسول الله من أبر؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال
أمك، إلى أن قال في الرابعة ثم أباك. ومن البر أن تتفق عليها. ولأنها تعتق
عليه إذا ملكها، ولا يجب عليها القصاص بجنايتها عليه، ولا تقبل شهادته لها.
فوجبت لها النفقة عليه كالأب، وتجب على الولد نفقه الأجداد والجدات وإن
علوا من قبل الأب والأم. وبهذا قال أحمد والثوري وأصحاب الرأي

(1) ذلك أن أبا القاسم الطبراني قد رواها بإسناد فيه نظر. وقد روى هذه
الأبيات أبو تمام في ديوان الحماسة عزاها لأمية بن أبي الصلت في ابنه. وقال
بعضهم هي لغيره. وقال أبو رياش هي لأبي العباس الأعمى، وقال التبريزي:
وتروى لابن عبد الاعلى - قال أبو هلال " أوردها أبو عبيدة في أخبار
العققة والبررة ".
296

وقال مالك: لا تجب النفقة عليهم ولا لهم، لان الجد ليس بأب حقيقي.
دليلنا أن بينهما قرابة توجب العتق ورد الشهادة فأوجبت النفقة كالأبوة.
(فرع) نفقة القرابة تجب مع اتفاق الدين ومع اختلافه، فإن كان أحدهما
مسلما والآخر كافرا لم يمنع ذلك من وجوب النفقة، لأنه حق يتعلق بالولادة
فوجب مع اتفاق الدين واختلافه كالعتق بالملك، ولا تجب النفقة لغير الوالدين
والمولودين من القرابة كالأخ وابن الأخ والعم وابن العم
وقال أبو حنيفة تجب لكل ذي رحم محرم، فتجب عليه نفقة الأخ وأولاده
والعم والعمة والخال والخالة، ولا تجب عليه نفقة أولاد العم ولا أولاد الخال
ولا أولاد الخالة.
وتفصيل قول أحمد أنه تجب عليه نفقة كل من كان وارثا كالأخ وابن الأخ
والعم وابن العم ولا تجب عليه نفقة ابنة الأخ والعمة وابنة العمة وابنة العم.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه تجب عليه نفقة كل قريب معروق النسب منه
ودليلنا حديث أبي هريرة في الرجل الذي معه دينار وآخر حتى قال أنت أعلم،
ولم يأمره أن ينفقه على أقاربه، فدل على أنها لا تجب عليه نفقه أقاربه، فإن
قيل فلم يذكر الولد ومع ذلك فنفقته واجبه. قلنا قد نص على نفقة الولد فنبه
بذلك على نفقة الوالد، لأنه أكد حرمة من الولد، ولان من سوى الوالدين
والمولودين من القرابة لا يلحق بهم في الحرمة فلم يلحق بهم بوجوب نفقتهم،
ولأنها قرابة لا تستحق بها نفقه مع اختلاف الدين فلم يستحق بها نفقة مع
اتفاق الدين كابن العم مع أبي حنيفة وكغير الوارث مع أحمد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا تجب نفقة القريب إلا على موسر أو مكتسب يفضل عن
حاجته ما ينفق على قريبه، وأما من لا يفضل عن نفقته شئ فلا تجب عليه
لما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان أحدكم
فقيرا فليبدأ بنفسه، فإن كان فضل فعلى عياله، فإن كان فضل فعلى قرابته " فإن لم
يكن فضل غير ما ينفق على زوجته لم يلزمه نفقة القريب، لحديث جابر رضى الله
297

عنه، ولان نفقة القريب مواساة ونفقة الزوجة عوض، فقدمت على المواساة،
ولان نفقة الزوجة تجب لحاجته فقدمت على نفقة القريب كنفقة نفسه
(فصل) ولا يستحق القريب النفقة على قريبه من غير حاجة، فإن كان
موسرا لم يستحق لأنها تجب على سبيل المواساة، والموسر مستغن عن المواساة،
وإن كان معسرا عاجزا عن الكسب لعدم البلوغ أو الكبر أو الجنون أو الزمانة
استحق النفقة على قريبه: لأنه محتاج لعدم المال وعدم الكسب.
وإن كان قادرا على الكسب بالصحة والقوة - فإن كان من الوالدين - ففيه
قولان (أحدهما) يستحق لأنه محتاج فاستحق النفقة على القريب كالزمن.
(والثاني) لا يستحق لان القوة كاليسار، ولهذا سوى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بينهما في تحريم الزكاة فقال " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة قومي "
وإن كان من المولودين ففيه طريقان، من أصحابنا من قال فيه قولان كالوالدين
ومنهم من قال لا يستحق قولا واحدا لان حرمة الوالد آكد فاستحق بها مع
القوة وحرمة الولد أضعف فلم يستحق بها مع القوة
(الشرح) حديث جابر أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي بلفظ " أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شئ
فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شئ فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك
شئ فهكذا وهكذا "
أما حديث " لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة قوى " فقد أخرجه النسائي
عن أبي هريرة في الزكاة عن هناد بن السري وابن ماجة فيه أيضا عن محمد بن
الصباح، وأخرجه أبو داود عن عباس بن موسى الختلي في الزكاة من حديث عبد الله بن
عمرو والترمذي في الزكاة عن محمد بن بشار من حديث عبد الله بن عمرو أيضا
وحسنه، وذكر أن شعبة لم يرفعه، وفي إسناده ريحان بن يزيد وثقه يحيى بن
معين. وقال أبو حاتم الرازي شيخ مجهول، وقال بعضهم: لم يصح إسناد هذا
الحديث، وإنما هو موقوف على عبد الله بن عمرو
وقال أبو داود: الأحاديث الاخر عن النبي صلى الله عليه وسلم بعضها " لذي
298

مرة سوى، وبعضها " لذي مرة قومي " (أما اللغات: فالمرة القوة والشدة.
قال تعالى " ذو مرة فاستوى " والسوي الصحيح الأعضاء. وأخرجه أحمد من
طريق أبي هريرة ومن طريق ابن عمر
أما الأحكام فإنه لا يستحق القريب على قريبه حتى يكون المنفق منهما موسرا
بنفقة قريه، وهو أن يفضل عن قوت نفسه وقوت زوجته في يومه وليلته،
لحديث جابر الذي ساقه المصنف. وإنما قدمت نفقة الزوجة على نفقة القريب،
لأنها تجب لحاجته إليها، ونفقة القريب مواساة، فقدمت نفقتها عليها كما تقدم
نفسه، ولان نفقة الزوجة تجب بحكم المعاوضة فقدمت على نفقة القريب كما يقدم
الدين، فإن كان مكتسبا ما ينفق على نفسه وزوجته ويفضل عن قوت يومه
وليلته لزمه أن ينفق على قرابته، لان الكسب في الانفاق يجرى مجرى الغنى.
ولهذا روى أن رجلين سألا النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطيهما من الصدقة،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم " أعطيكما بعد أن أعلمكما أنه لاحظ فيها لغني قوى
ولا لقوى مكتسب " فجعل الاكتساب بمنزلة الغنى والمال. وإن كان للمنفق عقار
وجب بيعه للانفاق على قريبه.
دليلنا أن نفقة القريب تجب فيما فضل عن قوت المنفق في يومه وليلته،
والعقار يفضل عن قوت يومه وليلته فوجب بيعه للانفاق على القريب كالأب.
ولا يستحق القريب النفقة على قريبه حتى يكون المنفق عليه معسرا غير قادر على
الكسب لصغر أو جنون أو زمانة أو كبر - فإن كان له مال يكفيه - لم تجب
نفقته على قريبه، لان ايجاب نفقة القريب على قريبه مواساة، والغنى بماله
لا يستحق المواساة.
وإن كان له كسب وهو قادر على أن يكتسب ما يكفيه لم تجب له نفقة على
قريبة، لان الكسب في باب الانفاق يجرى مجرى الغنى بالمال.
وإن كان صحيحا إلا أنه غير مكتسب - فإن كان من الوالدين ففيه قولان:
أحدهما: تجب نفقته على الولد الموسر، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، لأنه محتاج
الا الانفاق فأشبه الزمن. والثاني: لا تجب نفقته على الولد لأنه قادر على
الاكتساب فأشبه المكتسب.
299

وإن كان الولد بالغا صحيحا محتاجا غير مكتسب ففيه طريقان. من أصحابنا
من قال فيه قولان كالوالدين. ومنهم من قال لا تجب نفقته قولا واحدا، لان
حرمة الوالد آكد فاستحق مع الصحة، والولد أضعف حرمة فلا يستحق مع
الصحة. هذا مذهبنا
وقال أبو حنيفة: إذا بلغت الابنة لم تسقط نفقتها حتى تزوج لأنه لا يمكنها
الاكتساب فهي كالصغيرة. ودليلنا إن كان معنى أسقط نفقة الابن أسقط نفقة
الابنة كاليسار، وما ذكره فلا يصح لأنه يمكنها أن تعمل كاتبة أو حائكة أو
عاملة في مصانع الدواء أو مدرسة أطفال أو ما إلى ذلك من أعمال مع التصون
والتحشم وطلب الرزق الحلال، وقد كانت المرأة على عهد أبي حنيفة تشتغل
بالغزل وتبيعه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فإن كان للذي يستحق النفقة أب وجد أو جد وأبو جد وهما
موسران، كانت النفقة على الأقرب منهما، لأنه أحق بالمواساة من الابعد،
وإن كان له أب وابن موسران ففيه وجهان
(أحدهما) أن النفقة على الأب لان وجوب النفقة عليه منصوص عليه.
وهو قوله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ووجوبها على
الولد ثبت بالاجتهاد.
(والثاني) أنهما سواء لتساويهما في القرب والذكورية، وإن كان له أب
وأم موسران كانت النفقة على الأب لقوله تعالى (فإن أرضعن لكم فأتوهن
أجورهن) فجعل أجرة الرضاع على الأب. وروت عائشة رضي الله عنها " أن
هندا أم معاوية جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن
أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه سرا
وهو لا يعلم فهل على في ذلك من شئ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: خذي
ما يكفيك وولدك بالمعروف، ولان الأب ساوى الأم في الولادة وانفرد
بالتعصيب فقدم.
300

وإن كان له أم وجد أبو الأب وهما موسران فالنفقة على الجد لان له ولادة
وتعصيبا فقدم على الأم كالأب، وإن كانت له بنت وابن بنت ففيه قولان
(أحدهما) أن النفقة على البنت لأنها أقرب (والثاني) أنها على ابن البنت لأنه
أقوى وأقدر على النفقة بالذكورية، وإن كانت له بنت وابن ابن فالنفقة على ابن
الابن، لان له ولادة وتعصيبا، فقدم كما قدم الجد على الأم. وإن كان له أم
وبنت كانت النفقة على البنت، لان للبنت تعصيبا وليس للأم تعصيب، وإن كان
له أم أم وأبو أم فهما سواء، لأنهما يتساويان في القرب وعدم التعصيب،
وإن كان له أم أم وأم أب ففيه وجهان (أحدهما) أنهما سواء لتساويهما في
الدرجة (والثاني) أن النفقة على أم الأب لأنها تدلى بالعصبة
(الشرح) حديث عائشة أن هندا بنت عتبة ألخ أخرجه البخاري في النفقات
عن محمد بن مقاتل وعن محمد بن يوسف، وفي الايمان والنذور عن يحيى بن بكير
وفي الأحكام عن محمد بن كثير، وفي المظالم عن أبي اليمان، وفي البيوع عن أبي نعيم
وفي صحيح مسلم في الأحكام عن علي بن حجر وعن عبد بن حميد، وفي الأقضية
عن زهير بن حرب، وأخرجه أبو داود في البيوع عن خشيش بن أصرم وعن
أحمد بن يونس. وأخرجه النسائي في القضاء عن إسحاق بن إبراهيم وابن ماجة
في التجارات عن أبي بكر وعلي بن محمد وأبى عمر الضرير
أما الأحكام فإن كان هناك قريب يستحق النفقة واجتمع قريبان موسران كانت
نفقته عليهما أو على الأقرب منهما على ما سنوضحه، فإن كان هناك ولد
صغير فقير وله أبوان موسران كانت نفقته على الأب لقوله تعالى (فإن أرضعن
لكم فآتوهن أجورهن) فجعل أجرة الرضاع على الأب، ولقوله صلى الله عليه
وسلم لهند امرأة أبي سفيان " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " ولأنهما
تساويا في الولادة وانفرد الأب بالتعصيب فقدم على الأم، فإن اجتمع الأب
والجد وهما موسران واجتمعت الأم وأمها أو الأم وأم الأب وهما
موسرتان قدم الأب على الجد، وقدمت الأم على أمها وأم الأب لأنها أقرب.
301

وإن اجتمعت الأم والجد أبو الأب وهما موسران كانت النفقة على الجد دون
الأم، وبه قال أبو يوسف ومحمد
وقال أبو حنيفة: ينفقان عليه على قدر ميراثهما، فيكون على الأم ثلث
النفقة وعلى الجد الثلثان. دليلنا أنه أجتمع عصبة مع ذات رحم ينفق كل واحد
منهما على الانفراد، فقدم العصبة كالأب إذا اجتمع مع الأم، فإن اجتمع الجد
أبو الأب وإن علا مع الجد أبى الأم وهما موسران وحيث النفقة على الجد
أبى الأب، لان الجد يقدم على الأم، فلان يقدم على أبى الأم أولى. وان
اجتمعت أم الأم وأبو الأم وهما موسران كانت النفقة عليهما نصفين لأنهما
متساويان في الدرجة ولا مزية لأحدهما على الآخر في التعصيب فاستويا في
الانفاق. وإن اجتمعت أم الأم وأم الأب وهما موسرتان ففيه وجهان
(أحدهما) تجب النفقة عليهما نصفين وهو الأصح لأنهما مستويتان في الدرجة
ولا مزية لإحداهما على الأخرى بالتعصيب
(والثاني) تجب النفقة على أم الأب لأنها تدلى بعصبة، ولان الأب لو
اجمتع هو والأم لقدم الأب في إيجاب النفقة فقدم من يدلى بها على من يدلى بها وهكذا
الوجهان إذا اجتمعت أم الأب وأبو الأم، فإن اجتمعت الأم وأم الأب
وهما موسرتان، قال الشيخ أبو حامد - فإن قلنا - إن أم الأم وأم الأب إذا
اجتمعتا - تقدم أم الأب لأنها تدلى بعصبة قدمت ههنا أم الأب على الأم لأنها
كالعصبة، وإن قلنا هناك: إنهما سواء، قدمت الأم على أم الأب لأنها
أقرب منها.
(فرع) وإن كان الرجل فقيرا زمنا وله أب وابن موسران ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) تجب نفقته على الأب لان وجوب النفقة على الأب منصوص عليها
في القرآن، ووجوب النفقة على الابن مجتهد فيها
(والثاني) أن نفقته على الابن لأنه أقوى تعصيبا من الأب
(والثالث) تجب نفقته عليهما لأنهما متساويان بالدرجة منه والتعصيب.
فإذا قلنا بهذا فهل يجب عليهما نصفين أو تعتبر بميراثهما منه؟ فيه وجهان. قال
العمراني " الأصح أنهما عليهما نصفان "
302

وان اجتمع ابن وجد فمن أصحابنا من قال: هو كما لو اجتمع الابن والأب.
ومنهم من قال تجب على الابن وجها واحدا لأنه أقرب، وإن كان فقيرا زمنا
وله إبنان موسران وبنتان موسرتان وجبت نفقته بينهما نصفين، لأنه لا مزية
لأحدهما على الآخر. وإن كان له ابن وابنة موسرة فقال الماوردي، قال أصحابنا
البغداديون تجب جميع النفقة على الابن، لأنهما متساويان في الدرجة، وللابن
مزية بالتعصيب فقدم في وجوب النفقة عليه كالأب إذا اجتمع مع الأم. وقال
الخراسانيون من أصحابنا تجب النفقة عليهما؟ فيه وجهان
(أحدهما) قال المسعودي وهو الأصح تجب عليهما نصفين، وبه قال أبو حنيفة
(والثاني) تجب عليهما على قدر ميراثهما، فيجب على الابن ثلثا النفقة وعلى الابنة
ثلثها، وبه قال أحمد
إذا ثبت هذا فذكر ابن الصباغ إذا كان له ابن ذكر وخنثى مشكل موسران
فإن النفقة على الابن لان الخنثى يجوز أن تكون أنثى فلا تجب عليه النفقة. فإن
بان الخنثى رجلا رجع عليه ابن بنصف ما أنفق، لأنه بان أنه كان مستحقا عليه
وهذا على طريقة أصحابنا البغداديين. فأما على طريقة الخراسانيين فكم يجب على
الخنثى؟ فيه وجهان
أحدهما النصف وهو الأصح، فعلى هذا لا فرق بين أن يبين أنه رجل أو امرأة
والثاني يجب عليه بمقدار ميراثه، فعلى هذا يجب عليه الثلث وعلى الذكر النصف
ويبقى سدس النفقة.
فإن قال أحدهما أدفع السدس لأرجع به على من بان أنه عليه: جاز. وان
يدفعه أحدهما برضاه دفعاه بينهما نصفين، فإذا حال الخنثى رجع من بان أنه
غير مستحق عليه بما دفع منه. قال ابن الصباغ، وإن كان له بنت وخنثى مشكل
ففيه وجهان. أحدهما تجب النفقة على الخنثى لجواز أن يكون رجلا، فإذا أنفق
ثم بان أنه رجل لم يرجع على أخته بشئ، وان بان أنه أنثى رجعت على أختها
بنصف ما أنفقت.
والثاني ان النفقة بينهما نصفان، قال وهو الاقيس، لأنا لا نعلم كونه رجلا
فإن بان أنه ذكر رجعت عليه البنت بما أنفقت، وان بان أنه أنثى لم ترجع عليها
303

أختها بشئ. وهذا على طريقة أصحابنا البغداديين. وأما على طريقة الخراسانيين
فعلى أصح الوجهين تجب النفقة عليهما نصفين، ولا يرجع الخنثى بما أنفق على
أخته بشئ، سواء بان رجلا أو امرأة، وعلى الوجه الذي يقول يجب النفقة
عليهما على قدر ميراثهما يجب على كل منهما ثلث النفقة ويبقى الثلث. فإن اختار
أحدهما أن ينفقه ليرجع به على من بان عليه جاز، وان لم يختر أحدهما دفعه دفعاه
بينهما، فيدفع كل منهما نصف النفقة، فإن بان الخنثى امرأة لم ترجع إحداهما على
الأخرى بشئ، وإن بان رجلا رجعت عليه المرأة بثلث ما دفعت
(فرع) وإن كان له ثلاثة أولاد: ذكر وخنثيان، فعلى طريقة أصحابنا
البغداديين تجب النفقة على الذكر، فإن بان الخنثيان امرأتين لم يرجع عليهما
بشئ وإن بانا رجلين رجع على كل واحد منهما بثلث ما أنفق، وإن بان أحدهما
رجلا والآخر امرأة رجع على الرجل بنصف ما أنفق، وعلى طريقة الخراسانيين
تجب النفقة على الجميع، وكيف تجب عليه. فيه وجهان
أحدهما - وهو الأصح عندهم - تجب بينهم بالسوية، فعلى هذا لا تراجع
بينهم بحال. والثاني تجب بينهم على قدر مواريثهم، فعلى هذا يجب على الرجل
ثلث النفقة، وعلى كل واحد من الخنثيين خمس النفقة لان ذلك هو اليقين.
قال القاضي أبو الفتوح من أصحابنا ونقله صاحب البيان: ويبقى من النفقة
ربعها تفريض عليهم، قال وهذا غلط بل تبقى من النفقة أربعة أسهم من خمسة
عشر سهما. فإن قال أحدهم: أدفعها على أن أرجع بها على من بانت عطيه عنده
ودفعها، كان له الرجوع على من بانت عنده: وإن لم يرض أحدهم بدفعها قسمت
عليهم أثلاثا فتقسم النفقة على خمسة وأربعين سهما فيدفع الذكر منها سبعة عشر
سهما ويدفع كل خنثى ثلاثة عشر سهما. فإن بانا امرأتين رجعا على الذكر بتمام
النصف، فترجع عليه كل واحدة منهما بسهم وثلاثة أرباع سهم مما دفعت، وان
بانا رجلين رجع الذكر على كل واحد منهما بسهمين وهو تمام الثلث. وإن بان
أحدهما ذكرا والآخر امرأة رجعت المرأة على الذي بان رجلا بأربعة أسهم
ورجع الذكر عليه بسهم
304

(فرع) فإن كان لرجل بنت وولدان خنثيان مشكلان فعلى طريقة أصحابنا
البغداديين في النفقة وجهان.
(أحدهما) أن جميع النفقة على الخنثيين، فإن بانا رجلين فلا رجوع لهما
وإن بانا امرأتين رجعتا كل واحدة منهما على أختها التي لم تنفق معها ثلث
ما أنفقت. وإن بان أحدهما رجلا والآخر امرأة رجعت التي بانت امرأة على
الذي بان رجلا بجميع ما أنفقت
والوجه الثاني: أن النفقة تجب عليهم أثلاثا - فإن بانا امرأتين فلا تراجع
وإن بانا رجلين رجعت البنت بما أنفقت عليهما نصفين، وإن بان أحدهما رجلا
والآخر امرأة رجع المرأتان على الذي بان رجلا بجميع ما أنفقاه. وعلى طريقة
الخراسانيين يقول العمراني في البيان والماوردي في الحاوي وابن الصباغ في الشامل
يكون في النفقة أيضا وجهان. أحدهما - وهو الأصح عندهم - أن النفقة
تجب على الجميع بالسوية. فعلى هذا لا تراجع بينهم بحال (والثاني) تجب بينهم
على قدر مواريثهم، فعلى هذا تجب على البنت خمس النفقة وهي أربعة من
عشرين، وعلى كل واحد من الخنثيين ربع النفقة وهو خمسة من عشرين، لان
هذا هو اليقين وتبقى ستة أسهم إن دفعها أحدهم ليرجع بها على من بانت عنده
جاز والا قسمت عليهم أثلاثا، فإن بانا امرأتين رجع كل واحد من الخنثيين
على البنت بثلث سهم. وإن بانا رجلين رجعت البنت على كل واحد منهما بسهم
وإن بان أحدهما رجلا والآخر امرأة رجعت البنت الأصلية عليه بسهم ورجعت
عليه البنت الخنثى بسهمين، والمشهور طريقة البغداديين
(فرع) وإن كان له بنت وابن بنت موسران فحكى الشيخ المصنف هنا أن
فيه قولين، وحكاهما ابن الصباغ عن القاضي أبى حامد وجهين
(أحدهما) تجب النفقة على البنت لأنهما يستويان في عدم التعصيب والبنت
أقرب فكانت أولى بالايجاب عليها.
(والثاني) تجب على ابن البنت لأنه أقدر على النفقة بالذكورية، وإن كان
له بنت ابن وابن بنت ففيه ثلاثة أوجه حكاها ابن الصباغ (أحدها) تجب النفقة
علي بنت الابن لأنها تدلى بعصبة وقد تكون عصبه مع أختها
305

(والثاني) تجب النفقة على ابن البنت لأنه أقوى على النفقة بالذكورية
(والثالث) تجب النفقة عليهما بالسوية لأنهما متساويان في الدرجة وعدم
التعصيب. وإن كان له أم وبنت موسرتان كانت النفقة عليهما بالسوية لأنهما
متساويان في الدرجة وعدم التعصيب، وإن كان له أم وبنت موسرتان كانت
النفقة على البنت. وقال أبو حنيفة وأحمد: يكون على الأم ربع النفقة
والباقي على البنت.
(فرع) وإن كان له قريبان موسران أحدهما أبعد من الآخر فحضر الابعد
وغاب الأقرب - قال المسعودي - وجب على الحاضر أن ينفق، فإذا حضر
الأقرب فهل يرجع عليه بما أنفق؟ فيه وجهان الأصح له أن يرجع عليه، وهذا
إذا لم يوجد للغائب مال ينفق عليه منه. وإن كان له مال حاضر أنفق عليه منه،
وإن لم يكن له مال - وأمكن أن يقترض الحاكم عليه من بيت المال أو من
إنسان - اقترض عليه ووجب عليه القضاء إذا حضر، وإن لم يمكن كان على
الحاضر أن ينفق فإن بان أن الغائب كان معسرا أو ميتا وقت النفقة لم يرجع
عليه بشئ بل تكون نفقته على الحاضر. وهكذا إن كان له ابنان موسران
فحضر أحدهما وغاب الآخر كان على الحاضر نصف النفقة، فإن كان للغائب
مال أنفق منه نصف النفقة، وإن لم يكن له مال وأمكن أن يفترض عليه من
بيت المال أو من إنسان افترض عليه الحاكم. وإن لم يمكن ذلك قال ابن الصباغ
لزم الحاضر أن يفترض لان نفقته عليه إذا انفرد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان الذي تجب عليه النفقة يقدر على نفقة قريب واحد
وله أب وأم يستحقان النفقة ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) أن الأم أحق لما روى " أن رجلا قال يا رسول الله من أبر؟ قال
أمك، قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال أباك "
ولأنها تساوى الأب في الولادة وتنفرد بالحمل والوضع والرضاع والتربية
(والثاني) أن الأب أحق لأنه يساويها في الولادة وينفرد بالتعصيب.
306

ولأنهما لو كانا موسرين والابن معسرا قدم الأب في وجوب النفقة عليها
فقدم في النفقة له.
(والثالث) أنهما سواء، لان النفقة بالقرابة لا بالتعصيب، وهما في القرابة
سواء، وإن كان له أب وابن ففيه وجهان، أحدهما أن الابن أحق لان نفقته
ثبتت بنص الكتاب. والثاني أن الأب أحق لان حرمته آكد، ولهذا لا يقاد
بالابن ويقاد به الابن، وإن كان له ابن وابن ابن أو أب وجد، ففيه وجهان
(أحدهما) أن الابن أحق من ابن الابن والأب أحق من الجد لأنهما أقرب،
ولأنهما لو كانا موسرين وهو معسر كانت نفقته على أقربهما، فكذلك في نفقته
عليهما (والثاني) أنهما سواء لان النفقة بالقرابة، ولهذا لا يسقط أحدهما
بالآخر إذا قدر على نفقتهما.
(فصل) ومن وجبت عليه نفقته بالقرابة وجبت نفقته على قدر الكفاية
لأنها تجب للحاجة فقدرت بالكفاية، وان احتاج إلى من يخدمه وجبت نفقه
خادمه، وإن كانت له زوجة وجبت نفقة زوجته، لان ذلك من تمام الكفاية
وان مضت مدة ولم ينفق على من تلزمه نفقته من الأقارب لم يصر دينا عليه،
لأنها وجبت عليه لنزجية الوقت ودفع الحاجة، وقد زالت الحاجة لما
مضى فسقطت.
(الشرح) الحديث أخرجه أحمد والبخاري ومسلم من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه بلفظ " قال رجل: يا رسول الله أي الناس أحق منى بحسن الصحبة؟
قال أمك، قال ثم من؟ قال أمك: قال ثم من؟ قال أمك، قال ثم من؟ قال
أبوك " ولمسلم في رواية " من أبر؟ قال أمك " وأخرجه أحمد وأبو داود والترمذي
عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال " قلت يا رسول الله من أبر؟ قال أمك
قال قلت ثم من؟ قال أمك: قال قلت يا رسول الله ثم من؟ قال أمك: قال قلت
ثم من؟ قال أباك ثم الأقرب فالأقرب " وأخرجه أيضا الحاكم وحسنه أبو داود
عن بهز أيضا، ويؤخذ على المصنف قوله " لما روى " لما لم يسم فاعله وهي صيغة
307

التمريض التي أخذها عليه النووي وأخذناها عليه اتباعا للنووي في غير ما موضع
من المجموع لان الحديث متفق عليه ولا يسوغ التعبير عنه يروى
أما الأحكام فإن كان من تجب عليه النفقة له قريبان معسران فإن فضل عن
قوت يومه وليلته وما يكفيهما لزمه أن ينفق عليهما، وإن لم يفضل عن قوته
إلا ما يكفي أحدهما بأن كان له أبوان معسران ولا يجد إلا نفقة أحدهما ففيه ثلاثة
أوجه (أحدها) تقدم الأم لحديث أبي هريرة وبهز بن حكم الذي ساقه المصنف
في الفصل وقد كرر الأم ثلاثا وقال في الرابعة أباك، ولان الأم عورة ليس لها
بطش والأب ليس بعورة فكان تقديم الأم أولى
(والثاني) أن الأب يقدم لأنهما متساويان في الولادة وانفرد الأب
بالتعصيب فكان أولى، كما لو تقدم بدرجة، ولأنهما لو كانا موسرين وهو
معسر لكانت نفقته على الأب فوجب أن يقدم الأب في وجوب تقديم نفقته،
كما يقدم في وجوب نفقة الابن عليه
(والثالث) أنهما سواء فيسقط ذلك بينهما لاسوائهما في الولادة والأدلاء
(فرع) وإن كان له أب وابن معسران ولا يقدر على نفقة أحدهما، فاختلف
أصحابنا، فقال الشيخ أبو حامد: إن كان الابن طفلا أولى بالتقديم لأنه
ناقص الخلقة والأحكام، والأب إما أن يكون زمنا أو مجنونا فيكون ناقص
الخلقة أو ناقص الأحكام دون الخلقة، فإن تساويا بأن يكون بالغا زمنا
فيكون ناقص الخلقة دون الأحكام أو مراهقا صحيحا فيكون ناقص الخلقة والأب
زمن أو مجنون ففيه وجهان
(أحدهما) أن الابن أحق بالتقديم، لان وجوب نفقة الابن ثبت بنص
القرآن، ووجوب نفقة الأب على الابن مجتهد فيه
(والثاني) أن الأب مقدم لان حرمته آكد من حرمة الابن، بدليل أن
الأب لا يقاد من ابنه والابن يقاد بالأب، قال الشيخ أبو إسحاق: فيه وجهان
من غير تفصيل. أحدهما الابن أولا. والثاني الأب أولا. وذكر العمراني وجها
ثالثا أنهما سواء فقسم بينهما لاستوائهما في الدرجة
(فرع) وإن كان له أب وجد معسران ولا يقدر على نفقة أحدهما ففيه وجهان
308

(أحدهما) يقدم الأب لأنه أقرب، ولأنه يقدم في وجوب النفقة عليه
فقدم في وجوب النفقة له
(والثاني) أنهما سواء فيقسم بينهما لان الأب لا يمنع وجوب نفقة الجد
وضاق ما في يد الجد عن نفقتها فيقسم ما بينهما كالدينين، وهكذا إذا اجتمع ابن
وابن ابن أو أم وأم أم ولم يقدر إلا على نفقة أحدهما فعلى وجهين
(مسألة) قوله: ومن وجبت عليه نفقته بالقرابة الخ - فجملة ذلك أنه إذا
وجبت عليه نفقة القريب فإنها تجب غير مقدرة، بل يجب له ما يكفيه لأنها تجب
للحاجة فتقدرت بالكفاية، وان احتاج القريب إلى من يخدمه وجبت عليه نفقة
خادمه، وإن كانت له زوجة وجبت عليه نفقتها، لان ذلك من تمام الكفاية.
ويجب عليه الكسوة لان كل من وجبت عليه نفقة شخص وجبت عليه كسوته
كالزوجة، وإن احتاج إلى مسكن وجب عليه سكناه لأنه عليه كفايته، وذلك من
كفايته، وإن مضت مدة ولم ينفق فيها على قريبه سقطت بمضي الزمان لأنها تجب
للحاجة وقد زالت الحاجة.
(فرع) وإن وجبت عليه نفقة زوجته أو قريبه فامتنع من إخراجها أو هرب
فإن الحاكم ينظر في ماله - فإن كان فيه من جنس النفقة - دفع النفقة منه.
وإن كان من غير جنس النفقة - فإن كانت الدراهم والدنانير اشترى منها الحاكم
الطعام والإدام وصرفه إلى من وجبت نفقته، وان وجد له متاعا باعه عليه.
وقال أبو حنيفة: لا يباع عليها المتاع والعقار الا في موضع واحد. وهو إذا جاء
الرجل إلى الحاكم وقال: إن لفلان الغائب عندي سلعة أو عقارا وهذه زوجته لم
ينفق عليها - فإن الحاكم يبيع عليه السلعة والعقار وينفق على زوجته
من ثمن ذلك.
دليلنا أن ما جاز بيع الناض فيه بغير اذن من عليه الحق جاز بيع المتاع
والعقار فيه بغير اذنه كنفقة الزوجة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان له أب فقيرا مجنونا أو فقيرا زمنا، واحتاج إلى
309

الاعفاف وجب على الولد إعفافه على المنصوص، وخرج أبو علي بن خيران
قولا آخر أنه لا يجب لأنه قريب يستحق النفقة، فلا يتسحق الاعفاف كالابن
والمذهب الأول، لأنه معنى يحتاج الأب إليه ويلحقه الضرر بفقده، فوجب
كالنفقة، وإن كان صحيحا قويا وقلنا إنه تجب نفقه وجب إعفائه وإن قلنا
لا تجب نفقته ففي إعفافه وجهان
(أحدهما) لا يجب، لأنه لا تجب نفقه فلا يجب إعفافه
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق أنه يجب إعفافه، لان نفقته ان لم تجب
على القريب أنفق عليه من بيت المال، والاعفاف لا يجب في بيت المال فوجب
على القريب. ومن وجب عليه الاعفاف فهو بالخيار بين أن يزوجه بحرة وبين
أن يسريه بجارية، ولا يجوز أن يزوجه بأمة لأنه بالاعفاف يستغنى عن نكاح
الأمة، ولا يعفه بعجوز ولا بقبيحة، لان الأصل من العفة هو الاستمتاع،
ولا يحصل ذلك بالعجوز ولا القبيحة، فإن زوجه بحرة أو سراه بجارية ثم
استغنى لم يلزمه مفارقة الحرة، ولا رد الجارية، لان ما استحق للحاجة لم يجب
رده بزوال الحاجة، كما لو قبض نفقة يوم ثم أيسر
وإن أعفه بحرة فطلقها أو سراه بجارية فأعتقها لم يجب عليه بدلها، لان ذلك
مواساة لدفع الضرر، فلو أوجبا البدل خرج من حد المواساة وأدى إلى الضرر
والضرر لا يزال بالضرر. إن ماتت عنده ففيه وجهان (أحدهما) لا يجب
البدل لأنه يخرج عن حد المواساة (والثاني) يجب لأنه زال ملكه عنها بغير
تفريط فوجب بدله، كما لو دفع إليه نفقة يوم فسرقت منه
(فصل) وان احتاج الولد إلى الرضاع وجب على القريب ارضاعه، لان
الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير، ولا يجب الا في حولين كاملين،
لقول تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة "
فإن كان الولد من زوجته وامتنعت من الارضاع لم تجبر.
وقال أبو ثور: تجبر لقوله تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين
لمن أراد أن يتم الرضاعة " وهذا خطأ لأنها إذا لم تجبر على نفقة الولد مع وجود
الأب لم تجبر على الرضاع، وإن أرادت ارضاعه كره للزوج منعها، لان لبنها
310

أوفق له، وان أراد منعها منه كان له ذلك، لأنه يستحق الاستمتاع بها في كل
وقت الا في وقت العبادة، فلا يجوز لها تقويته عليه بالرضاع وان رضيا بإرضاعه
فهل تلزمه زيادة على نفقتها؟ فيه وجهان
(أحدهما) تلزمه، وهو قول أبي سعيد وأبي إسحاق، لأنها تحتاج في حال
الرضاع إلى أكثر مما تحتاج في غيره
(والثاني) لا تلزمه الزيادة على نفقتها في النفقة، لان نفقتها مقدرة فلا
تجب الزيادة لحاجتها، كما لا تجب الزيادة في نفقة الأكولة لحاجتها، وان أرادت
ارضاعه بأجرة ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز، وهو قول الشيخ أبى حامد
الأسفراييني رحمة الله عليه، لان أوقات الرضاع مستحقة لاستمتاع الزوج ببدل
وهو النفقة، فلا يجوز أن تأخذ بدلا آخر (والثاني) أنه يجوز، لأنه عمل
يجوز أخذ الأجرة عليه بعد البينونة، فجاز أخذ الأجرة عليه قبل البينونة كالنسج
وان بانت لم يملك اجارها على ارضاعه كما لا يملك قبل البينونة، فان طلبت أجرة
المثل على الرضاع ولم يكن للأب من يرضع بدون الأجرة كانت الأم أحق به،
لقوله تعالى " فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " وان طلبت أكثر من أجرة
المثل جاز انتزاعه منها. وتسليمه إلى غيرها لقوله تعالى " وان تعاسرتم فسترضع
له أخرى " ولان ما يوجد بأكثر من عوض المثل كالمعدوم، ولهذا لو وجد
الماء بأكثر من ثمن المثل جعل كالعدوم في الانتقال إلى التيمم فكذلك ههنا
وان طلبت أجرة المثل وللأب من يرضعه بغير عوض أو بدون أجرة المثل،
ففيه قولان:
أحدهما: أن الأم أحق بأجرة المثل، لان الرضاع لحق الولد، ولان لبن
الأم أصلح له وأنفع، وقد رضيت بعوض المثل فكان أحق
والثاني: أن الأب أحق، لان الرضاع في حق الصغير كالنفقة في حق الكبير
ولو وجد الكبير من يتبرع بنفقته لم يستحق على الأب النفقة، فكذلك إذا
وجد من يتبرع بإرضاعه لم تستحق على الأب أجرة الرضاع، وان ادعت المرأة
أن الأب لا يجد غيرها فالقول قول الأب: لأنها تدعي استحقاق أجرة المثل
والأصل عدمه.
311

(الشرح) الأحكام: إذا وجبت على الولد نفقة الأب والجد قبل الأب أو
من قبل الأم واحتاج الأب أو الجد إلى الاعفاف بزوجة وجب على الولد أن
يعفقه بذلك إذا قدر على ذلك.
قال ابن خيران: وفيها قول آخر أنه لا يجب عليه ذلك، وبه قال أبو حنيفة
لأنه قريب فلم يستحق الاعفاف كالابن، والأول أصح لأنه معنى يحتاج إليه،
ويستضر بفقده فلزمه كالنفقة والكسوة، ويخالف الابن فإن الأب آكد حرمة
منه فوجب له مالا يجب له، وإن كان الوالد معسرا صحيحا غير مكتسب - فإن
قلنا تجب نفقته على الولد - وجب عليه إعفافه، وإن قلنا لا تجب نفقته عليه
ففي إعفائه وجهان
(أحدهما) لا يجب عليه إعفافه لأنه لا يجب عليه نفقته فلم يجب عليه
إعفافه كالموسر.
(والثاني) يجب عليه إعفافه لان نفقته يمكن إيجابها في بيت المال بخلاف
الاعفاف، وإذا وجب على الولد الاعفاف فهو بالخيار بين أن يملكه جارية يحل
له وطؤها أو يدفع إليه مالا يشترى به جارية أو يشتريها له بإذنه، وفي عصرنا
هذا لم يبق الا وجه واحد وهو أن يدفع إليه مالا ليتزوج به أو يتزوج له بإذنه،
ولا يجوز أن يزوجه أمة لأنه صار مستغنيا به، ولا يعفه بقبيحة ولا بعجوز
لا استمتاع بها، لأنه لا يحصل المقصود بذلك، فإن ملكه جارية أو دفع إليه
مالا فتزوج به امرأة ثم أيسر الأب لم يلزمه رد ذلك، لأنه قبض ذلك وهو
يستحقه، فإن طلق الزوجة أو أعتق الأمة لم يلزم الولد أن يعفه ثانيا، لأنه
فوت ذلك على نفسه، وان ماتت الزوجة أو الأمة ففيه وجهان
(أحدهما) لا يلزمه اعفافه ثانيا، لأنه إنما يجب عليه اعفافه مرة وقد فعل
(والثاني) يلزمه وهو الأصح لأنه لا صنع له في تفويت ذلك
(مسألة) قوله: وإن احتاج الولد إلى الرضاع الخ، فجملة ذلك أنها إذا ولدت ولدا
وجب عليها أن تسقيه اللبا حتى يروى، لأنه لا يعيش الا بذلك، فإن كان للطفل
مال وجبت أجرة رضاعة في ماله كما تجب نفقته إذا كان كبيرا في ماله، وان لم
يكن له مال وجبت ارضاعه على من تجب عليه نفقته لو كان كبير لقوله تعالى
312

فان أرضعن لكم فآتوهن أجورهن " ولا يجب ارضاعه الا في حولين، لقوله
تعالى " والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة "
وإن كان الولد من زوجته والأب ممن يجب عليه نفقته لم تجبر الأم على ارضاعه
وبه قال أبو حنيفة واحمد.
وقال أبو ثور: تجبر على ارضاعه، وعن مالك روايتين إحداهما كقول
أبي ثور، والثانية وهي المشهورة عنه إن كانت شريفة لم تجبر على ارضاعه وإن كان
ت دنية أجبرت على ارضاعه.
دليلنا قوله تعالى " فان تعاسرتم فسترضع له أخرى " وإذا امتنعت فقد
تعاسرت، ولأنها لا تجبر على نفقة الولد مع وجود الأب فكذلك الرضاع.
إذا ثبت - فان تطوعت بإرضاعه - فالأولى للأب ألا يمنعها من ذلك،
لان الرضاع حق للولد، والأم أشفق عليه، ولبنها أصلح له، وهل يلزمه أن
يزيدها على نفقتها؟ ففيه وجهان
(أحدهما) لا يلزمه لان نفقة الزوجة مقدرة بحال الزوج، فلو قلنا يجب
عليه الزيادة لأجل الرضاع لكانت نفقتها مقدرة بحالها فلم يلزمه ذلك، كما لو كانت
رغبية في الاكل فإنه لا تلزمه الزيادة في نفقتها
(والثاني) تلزمه الزيادة على نفقتها - وهو قول أبي سعيد الإصطخري
وأبي إسحاق المروزي لقوله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف "
فحص حال الولادة بذكر إيجاب النفقة ولا فائدة بذكر وجوبها في الولادة الا
وجوب الزيادة، ولان العادة جرت أن المرضعة تحتاج من الطعام أكثر من غيرها
فعلى هذا يبحث الحاكم في قدر الزيادة على ما يراه
وان استأجر امرأته على الرضاع فهل يصح عقد الإجارة؟ فيه وجهان
(أحدهما) يصح، وبه قال أحمد، لان كل عقد صح أن يعقده الزوج مع
غير الزوجة صح أن يعقده مع الزوجة كالبيع
(والثاني) لا يصح وهو المشهور، ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ
غيره، وكذلك لو استأجرها لخدمة نفسه، لان الزوج يملك الاستمتاع بها في
جميع الأوقات الا في الأوقات المستحقة للعبادات. وإذا أجرت نفسها لم تتمكن
313

من إيفاء حقه إلا بتعطيل حقه من الاستمتاع فلم يصح، كما لو أجر العبد نفسه
من سيده، فإذا قلنا بهذا واستأجرها على إرضاعه بعوض فأرضعته، فهل تستحق
أجرة المثل؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ
(أحدهما) لا تستحق ذلك لأنها لو استحقت أجرة في ذلك لجاز لها عقد
الإجارة لذلك
(والثاني) تستحق أجرة المثل، لأن هذه منفعة لا يجب عليها بدلها، فإذا
بذلتها بعوض ولم يحصل لها العوض وجب لها عوض المثل كسائر منافعها
(فرع) وإن أبان الرجل امرأته وله منها ولد يرضع لم يملك إجبارها على
ارضاعه لأنه إذا لم يملك إجبارها على إرضاعه حال الزوجية لم يملك إجبارها
بعد الزوجية، فإن تطوعت بإرضاعه لم يجز للأب انتزاعه منها، لأنه لاحق
له في استمتاعها، وإن استأجرها على إرضاعه صح ذلك لقوله تعالى " فان أرضعن
لكم فآتوهن أجورهن " ولأنه لا يملك الاستمتاع بها بخلاف ما لو استأجرها
في حال الزوجية، فإن طلبت منه أجرة المثل ولا يجد الأب من يرضعه بغير
أجرة أو بدون أجرة المثل وجب عليه بذل ذلك لها. ولم يجز له انتزاعه منها
لان الارضاع حق للولد، ولبن الأم أنفع له من لبن غيرها، وإن طلبت منه
أكثر من أجرة المثل كان له انتزاعه منها لقوله تعالى " وإن تعاسرتم فترضع
له أخرى " وإذا طلبت منه أكثر من أجرة المثل فقد تعاسرت. وان طلبت
أجرة المثل ووجد الأب من يرضعه بدون أجرة المثل أو من ترضعه بغير أجرة
فاختلف أصحابنا، فمنهم من قال فيه قولان
(أحدهما) أن الأم أحق برضا به بأجرة المثل لقوله تعالى " فان أرضعن لكم
فآتوهن أجورهن " ولم يفرق، ولأنه روى في الحديث " الأم أحق بكفالة ولدها
ما لم تتزوج " ولان الرضاع حق للولد ولبن الأم أنفع له وأصلح فكانت أولى
(والثاني) أن للأب أن ينتزعه لقوله تعالى، فان تعاسرتم فسترضع له أخرى "
والتعاسر هو الشدة والتضايق
قال القرطبي " وإن تعاسرتم " أي في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطى
الأم رضاعها وأبت الأم أن ترضعه فليس له إكراهها، وليستأجر مرضعة غير
314

أمه. وقيل معناه وان تضايقتم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها، وهو خبر
في معنى الامر.
وقال الضحاك: ان أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم يقبل
أجبرت أمه على الرضاع بالاجر.
وذكر اختلاف الفقهاء على ثلاثة أقوال: فأورد قول علمائهم من المالكية
أن رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية - الا لشرفها وموضعها - فعلى
الأب أن رضاعه يومئذ في ماله. والثاني قال أبو حنيفة: لا يجب على الأم بحال
الثالث: يجب عليها في كل حال اه
قال القاضي العمراني من أصحابنا: وإذا وجد الرجل من يرضعه بدون أجرة
المثل أو بغيره أجرة وطلبت الأم أجرة المثل فقد تعاسرت فكان له نزعه منها،
ولان نفقة ارضاع الطفل كنفقة المراهق، ولو وجد من يتطوع بالانفاق على
المراهق لم يجب على الأب نفقته، فكذلك إذا وجد من يتطوع بارضاع الطفل
لا يجب عليه أجرة المثل.
وقال أبو إسحاق المروزي: للأب انتزاعه قولا واحدا، والقول الآخر
لا يعرف في شئ من كتب الشافعي. وقال أبو حنيفة: للأب انتزاعه ولكن
لا يسقط حق الأم من الحضانة، فتأتي المرضعة وترضعه عند الأم. دليلنا أن
الحضانة تابعة للرضاع، فإذا سقط حقها من الرضاع سقط حقها من الحضانة.
إذا ثبت هذا فان ادعى الأب أنه يجد من يرضعه بغير أجرة أو بدون أجرة
المثل - وقلنا له انتزاعه، فإن صدقته الأم أنه يجد ذلك كان له انتزاعه منها،
وان كذبته فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف انتزعه من يد الأم ويسلم إلى المرضعة
ولا يمنع الأم من زيارته لقوله صلى الله عليه وسلم " لا توله والدة بولدها "
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب على المولى نفقة عبده وأمته وكسوتهما لما روى أبو هريرة
رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: للملوك طعامه وكسوته ولا
يكلف من العمل الا ما يطيق " ويجب عليه نفقته من قوت البلد لأنه هو المتعارف
315

فإن تولى طعامه استحب أن يطعمه منه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال
قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم " إذا جاء أحدكم خادمه بطعام فليجلسه معه،
فإن لم يجلسه معه فليناوله أكلة أو أكلتين، فإنه تولى علاجه وحره " فإن كانت
له جارية للتسري أستحب أن تكون كسوتها أعلى من كسوة جارية الخدمة، لان
العرف أن تكون كسوتها أعلى فوق كسوة جارية الخدمة.
(فصل) ولا يكلف عبده وأمته من الخدمة ما لا يطيقان لقوله صلى الله
عليه وسلم " ولا يكلفه من العمل ما لا يطيق ولا يسترضع الجارية إلا ما فضل
عن ولدها، لان في ذلك إضرارا بولدها، وإن كان لعبده زوجة أذن له في
الاستمتاع بالليل، لان إذنه بالنكاح يتضمن الاذن في الاستمتاع بالليل، وإن
مرض العبد أو الأمة أو عميا أو زمنا لزمه نفقتهما، لان نفقتهما بالملك، ولهذا
تجب مع الصغر فوجبت مع العمى والزمانة، ولا يجوز أن يجبر عبده على المخارجة
لأنه معاوضة فلم يملك إجباره عليها كالكتابة. وإن طلبت العبد ذلك لم يجبر المولى
كما لا يجبر إذا طلب الكتابة، فإن اتفقا عليها وله كسب جاز لما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم حجمه أبو طيبة فأعطاه أجره، وسأل مواليه أن يخففوا من
خراجه، وإن لم يكن له كسب لم يجز لأنه لا يقدر على أن يدفع إليه من جهة
تحل فلم يجز.
(الشرح) حديث أبي هريرة الأول أخرجه أحمد في المسند ومسلم في العتق
عن حجاج، وفي الأطعمة عن حفص بن عمر، وقال " ولا يكلف من العمل
ما لا يطيق "
وحديث أبي هريرة الثاني أخرجه البخاري ومسلم في النذور والأطعمة
وأبو داود في الأطعمة عن عبد الله بن مسلمة الفعنبى، وكذا أخرجه أحمد في
مسنده وبقية أصحاب السنن بلفظ " إذا أتى أحدكم خادمة بطعامه - فإن لم يجلسه
معه - فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين، فإنه ولى حره وعلاجه.
وحديث أبي طيبة الحجام واسمه دينار وهو مولى بنى حارثة، وحديثه هذا
أخرجة البخاري في البيوع عن عبد الله بن يوسف، وفي الإجازة عن محمد بن
316

يوسف وعن آدم، وفي الطب عن محمد بن مقاتل، وأخرجه مسلم في البيوع عن
أحمد بن الحسن وعن يحيى بن أيوب وقتيبة علي بن حجر، وعن محمد بن يحيى بن أبي
عمر وأخرجه أبو داود في البيوع عن القعنبي، وأخرجه الترمذي عن علي بن
حجر والطبراني في الجامع عن حميد الطويل
أما اللغات فقوله " إذا أتى أحدكم خادمه " بنصب أخذكم على المفعولية ونصب
خادمه على الفاعلية، والخادم يطلق على الذكر والأنثى والحر والمملوك. وقوله
" علاجه " أي مزاولته لما استعصى من أموره، ويقال لجبال الرمل علاج،
والحر جمع الحرة وهو الأرض ذات الحجارة النخرة السوداء، وهي أثر من
آثار البراكين، وهو كناية عن تحمله أموره الشاقة في أبلغ تعبير لأنه يعالج له
إعداد الطعام ويعالجه له ويتحمل حرارة النار في إنضاجه
أما الأحكام فإنه يجب على المرء نفقة خادمه وكسوته لحديث أبي هريرة في
الرجل الذي قال معي دينار، قال أنفقه على نفسك، قال معي آخر، قال أنفقه
على ولدك قال معي آخر، قال أنفقه على أهلك، قال معي آخر، قال أنفقه
على خادمك. ولحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " للملوك
طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق " وهو اجماع لا خلاف
فيه فإن كان الخادم غير مكتسب، بأن كان صغيرا أو مريضا أو كبيرا أو زمنا
فنفقته على سيده.
ويجب أن يكون طعامه من قوت أهل البلد لقوله صلى الله عليه وسلم " أطعموهم
مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون "
وإن كان الخادم يقدم الطعام لسيده يلي إعداده واصلاحه، فيستحب
للسيد أن يجلسه معه ويطعمه معه منه لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " فليجلسه معه أو يطعمه منه لقمة أو لقمتين " ولان الانسان إذا
تولى طعاما اشتهى أن يأكل منه فاستحب أن يطعم منه كما يستحب لمن قسم الميراث
أن يرزق من حضر القسمة منها، وأيهما أفضل؟
(أحدهما) أن الأفضل ان يجلسه معه ليأكل، لان النبي صلى الله عليه وسلم
بدأ به، لأنه إذا أكل معه أكل قدر كفايته ومنهم من قال: ليس أحدهما
317

أفضل من الآخر، بل إن شاء أجلسه معه وإن شاء أطعمه، لان النبي صلى الله عليه وسلم
خيره بين أن يجلسه معه وبين أن يغمس له لقمة أو لقمتين في الأدم، والأول
أصح. هكذا أفاده أصحابنا في كتبهم، وما بقي من الفصل فعلى وجهه، وينبغي
ألا يكلفه إلا ما يطيق الدوام عليه لا ما يطيق يوما أو يومين أو ثلاثة ثم يعجز
هكذا قال الشافعي في الأم والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ومن ملك بهيمة لزمه القيام بعلفها لما روى ابن عمر رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " عذبت امرأة في هرة، حبستها حتى ماتت
جوعا فدخلت فيها النار - فقيل لها والله أعلم - لا أنت أطعمتها وسقيتها حين
حبستها، ولا أنت أرسلتها حتى تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعا "
ولا يجوز له أن يحمل عليها ما لا تطيق، لان النبي صلى الله عليه وسلم منع أن
يكلف العبد ما لا يطيق فوجب أن تكون البهيمة مثله، ولا يجلب من لبنها إلا
ما يفضل عن ولدها لأنه غذاء للولد فلا يجوز منعه
(فصل) وان امتنع من الانفاق على رقيقه أو على بهيمته أجبر عليه كما يخبر
على نفقة زوجته، وان لم يكن له مال أكرى عليه أن أمكن اكراؤه، فإن لم
يمكن بيع عليه كما يزال الملك عنه في امرأته إذا أعسر بنفقتهما والله أعلم
(الشرح) الحديث الأول أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي كريب في الحيوان
من حديث أبي هريرة، وأخرجه أيضا في التوبة عن محمد بن رافع وعبد بن حميد
من حديث أبي هريرة بلفظ المصنف مضى في الفصل قبله.
أما اللغات فقوله " من خشاش الأرض " أي من حشراتها ووزغها ومادته
خش، وخش في الشئ دخل فيه.
قال زهير: فخششت بها خلال الفدفد
وفي حديث عبد الله بن أنيس، فخرج يمشى حتى خش فيهم، ومنه يقال لما
يدخل في أنف البعير خشاش، وقال ابن شميل الخشاش حية صغيرة سمراء أصغر
318

من الأرقم. وقال أبو خيرة، الخشاش حية بيضا قلما تؤذي، وقال أبو عبيد
في حديث " أن امرأة ربطت هرة فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض "
قال يعنى من هو أم الأرض وحشراتها ودوابها وما أشبهها. قال في النهاية في
الحديث، أي هو أمها وحشراتها الواحدة خشاشة، وفي رواية من خشيشها.
وهي بمعناه، ويروى بالحاء المهملة وهو يابس النبات وهو وهم. وقيل إنما هو
خشيش بضم الخاء المعجمة تصغير خشاش على الحذف وخشيش من غير حذف
ومنه حديث العصفور " لم ينتفع بي ولم يدعني أخنش من الأرض " أي آكل
من خشاشها.
أما الأحكام فان من ملك بهيمة لزمه القيام بعلفها سواء كانت مما تؤكل أو مما
لا تؤكل، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اطلعت في النار ليلة أسرى
بي فرأيت امرأة فيها، فسألت عنها فقيل إنها ربطت هرة لم تطعمها ولم تسقها،
ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت فعذبها الله بذلك، واطلعت في
الجنة فرأيت امرأة مومسة (يعنى زانية) فسألت عنها فقيل إنها مرت بكلب
يلهث من العطش فأرسلت ازارها في بئر ثم عصرته في حلقه فغفر الله بذلك،
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان. وقال " في كل كبد
حرى أجر "
فلو قلنا لا يجب الانفاق عليها أسقطنا حرمتها، فإن كانت في المصر لزمه
الانفاق عليها، وإن كان في الصحراء - فإن كان بها من الكلأ ما يقوم بكفايتها
فخلاها للرعي - لم يجب عليه العلف لأنها تجترئ على عادة أهل مصر، لان
صحاريها يقل فيها العلف.
وقال الخراسانيون: إن كانت البهيمة مشقوقة الشفة العليا فإنها تجتزئ
بالكلأ عن العلف، وإن كانت غير مشقوقة الشفة العليا فلا تجتزئ بالرعي ولا
يد من علفها، وان لم يكن بها من الكلأ ما يقوم بها لزمه من العلب ما يقوم بها
فإن لم يعلفها - فإن كانت مما يؤكل - كان له أن يذبحها وله أن يبيعها، وإن كانت
مما لا يؤكل كان له بيعها - فان امتنع من ذلك أجبره السلطان على علفها أو بيعها
أو ذبحها إن كانت مما يؤكل، ولولي الامر أن يخصص مراحا يعلفها فيه ويداوى
319

مرضاها على نفقة صاحبها، وله أن يخصص من البياطرة من ينزعون الدواب
من أيدي المقصرين في حقها وردها إليهم بعد شفائها عليهم أو أجبره على بيعها.
وقال أبو حنيفة لا يجبره على ذلك بل يأمره به كما يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر
ودليلنا أنها نفقة واجبة فإذا امتنع منها أجبره ولى الامر على أدائها كنفقة العبد
وإن كانت للبهيمة ولد لم يجلب من لبنها إلا ما فضل من ولدها، لان لبنها غذاء
للولد فلا يجوز منعه منه كما قلنا في الجارية. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الحضانة
إذا افترق الزوجان ولهما ولد بالغ رشيد فله أن ينفرد عن أبويه لأنه مستغن
عن الحضانة والكفالة، والمستحب أن لا ينفرد عنهما ولا يقطع بره عنهما.
وإن كانت جارية كره لها أن تنفرد، لأنها إذا انفردت لم يؤمن أن يدخل عليها
من يفسدها، وإن كان لهما ولد مجنون أو صغير لا يميز، وهو الذي له دون سبع
سنين، وجبت حضانته، لأنه إن ترك حضانته ضاع وهلك
(فصل) ولا تثبت الحضانة لرقيق لأنه لا يقدر على القيام بالحضانة مع
خدمة المولى، ولا تثبت لمعتوه لأنه لا يملك للحضانة ولا تثبت لفاسق، لأنه
لا يوفى الحضانة حقها، ولان الحضانة إنما جعلت لحظ الولد ولاحظ للولد في
حضانة الفاسق، لأنه ينشأ على طريقته، ولا تثبت لكافر على مسلم.
وقال أبو سعيد الإصطخري: تثبت للكافر على المسلم: لما روى عبد الحميد
ابن سلمة (1) عن أبيه أنه قال: أسلم أبي وأبت أمي أن تسلم وأنا غلام، فاختصما

(1) هكذا بالمتن المطبوع، والصواب عبد الحميد بن جعفر، وهو ما اعتمدناه
في الشرح، وقد وجدنا كثيرا من الفقهاء يتابعون أبا إسحاق في كونه ابن سلمة
كالعمراني في البيان، وهذا خطأ، والصواب ما اعتمدناه هنا. أما عبد الحميد بن
سلمة الأنصاري فيقال هو ابن يزيد بن سلمة وهو مجهول. " المطيعي "
320

إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا غلام اذهب إلى أيهما شئت، إن شئت إلى
أبيك، وإن شئت إلى أمك، فتوجهت إلى أمي، فلما رآني النبي صلى الله عليه
وسلم سمعته يقول اللهم اهده فملت إلى أبى فقعدت في حجره " والمذهب الأول،
لان الحضانة جعلت الحظ الولد ولاحظ للولد المسلم في حضانة الكافر، لأنه يفتنه
عن دينه وذلك من أعظم الضرر، والحديث منسوخ، لان الأمة أجمعت على
أنه لا يسلم الصبي المسلم إلى الكافر، ولا حضانة للمرأة إذا تزوجت، لما روى
عبد الله بن عمرو بن العاص " أن امرأة قالت يا رسول الله ان ابني هذا كان بطني
له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وان أباه طلقني وأراد أن ينزعه
منى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنت أحق به ما لم تنكحي " ولأنها إذا
تزوجت اشتغلت باستمتاع الزوج عن الحضانة. فإن أعتق الرقيق وعقل المعتوه
وعدل الفاسق، وأسلم الكافر عاد حقهم من الحضانة، لأنها زالت لعلة فعادت
بزوال العلة، وإذا طلقت المرأة عاد حقها من الحضانة
وقال المزني أن كان الطلاق رجعيا لم يعد لان النكاح باق، وهذا خطأ لأنه
إنما سقط حقها بالنكاح لاشتغالها باستمتاع الزوج، وبالطلاق الرجعي يحرم
الاستمتاع كما يحرم بالطلاق البائن، فعادت الحضانة
(فصل) ولا حضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوي الأرحام وهم ابن البنت
وابن الأخت وابن الأخ من الأم وأبو الأم والخال والعم من الأم لان الحضانة
إنما تثبت للنساء لمعرفتهن بالحضانة أو لمن له قوة قرابة بالميراث من الرجال وهذا
لا يوجد في ذوي الأرحام من الرجال ولا يثبت لمن أدلى بهم من الذكور
والإناث، لأنه إذا لم يثبت لهم الضعف قرابتهم فلان لا يثبت لمن يدلى بهم أولى
(الشرح) حديث عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جده رافع بن سنان،
وهو أبو الحكم الأنصاري الأوسي، أخرجه أبو داود في الطلاق عن إبراهيم بن
موسى الرازي والنسائي في الطلاق أيضا عن محمود بن غيلان. ورواه أحمد بلفظ
" قال أخبرني أبي عن جدي رافع بن سنان أنه أسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت
النبي صلى الله عليه وسلم فقالت ابنتي وهي فطيم أو شبهه، وقال رافع ابنتي، فقال
321

رسول الله صلى الله عليه وسلم اقعد ناحية، وقال لها اقعدي ناحية، فأقعد الصبية
بينهما ثم قال ادعوها فمالت إلى أمها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اللهم اهدها
فمالت إلى أبيها فأخذها "
ووقعت هذه الصيغة في رواية عند أبي داود، كما وردت بلفظ " فجاء بابن له
صغير " وأخرجه بلفظ الأنثى النسائي وابن ماجة والدارقطني وفي إسناده اختلاف
كثير وألفاظه مختلفة مضطربة، وقد رجح ابن القطان رواية الابن. وقال
ابن المنذر: لا يثبته أهل النقل وفي إسناده مقال.
قلت: قد صححه الحاكم وذكر الدارقطني أن البنت المخيرة أسهما عميرة.
وقال ابن الجوزي: رواية من روى أنه كان غلاما أصح. وقال ابن القطان:
لو صحت رواية من روى أنها بنت لاحتمل أنهما قصتان لاختلاف المخرجين
وقد اختلف انقاد في عبد الحميد بن جعفر، فقال ابن حجر في التقريب
صدوق رمى بالقدر وربما وهم. وقال الذهبي في الميزان: عبد الحميد بن جعفر عن
أبيه ونافع ومحمد بن عمرو بن عطاء وعنه يحيى القطان وأبو عاصم وعدة. قال
النسائي ليس به بأس، وكذا قال أحمد. وقال ابن معين ثقة، وقد نقم عليه الثوري
خروجه مع محمد بن عبد الله. وقال أبو حاتم لا يحتج به، وقيل كان يرى القدر
والله أعلم، نعم قال علي بن المديني: كان يقول بالقدر، وهو عندنا ثقة، وكان
سفيان يضعفه. اه
أما حديث عبد الله بن عمرو فقد رواه أحمد بلفظ " أن امرأة قالت يا رسول
الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي له سقاء وزعم أبوه
أنه ينزعه منى، فقال أنت أحق به ما لم تنكحي " وأخرجه أبو داود في الطلاق
عن محمد بن خالد ولكن في لفظه " وأن أباه طلقني وزعم أنه ينتزعه منى "
وأخرجه البيهقي والحاكم وصححه، وهو من حديث عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده.
أما اللغات فإن الحضانة مشتقة من الحضن وهو ما دون الإبط إلى الكشح.
وقيل هو الصدر والعضدان وما بينهما، والجمع أحضان ومنه الاحتضان، وهو
احتمالك الشئ وجعله في حضنك، كما تحتضن المرأة ولدها فتحتمله في أحد شقيها
322

وفي الحديث أنه خرج محتضنا أحد ابني ابنته، أي حاملا له في حضنه، والحضن
الجنب وهما حضنان. وفي حديث أسيد بن الحضير أنه قال لعامر بن الطفيل
أخرج بذمتك لئلا أنفذ حضنيك، والمحتضن الحضن. قال الكميت
كما خامرت في حضنها أم عامر * لدى الحبل حتى غال أوس عيالها
وحضنا الليل جانباه، وحضن الجبل ما يطيف به، وفي حديث علي كرم الله
وجهه " عليكم بالحضنين " يريد يجنتبى العسكر، وحضن الطائر بيضه وعلى بيضه
يحضن حضنا وحضانة وحضانا وحضونا رجن عليه للتفريخ. قال الجوهري
حضن الطائر بيضه إذا ضمنه إلى نفسه تحت جناحيه، وكذلك المرأة إذا حضنت
ولدها، وحمامة حاضن بغير هاء، واسم المكان المحضن، والمحضنة المعمولة
للحمامة كالقصعة الروحاء من الطين. وحضن الصبي يحضنه حضنا رباه، والحاضن
والحاضنة الموكلان بالصبي يحفظانه ويربيانه. وفي حديث عروة بن الزبير " عجبت
لقوم طلبوا العلم حتى إذا ناوا منه صاروا حضانا لاباء الملوك " أي مربين
وكافلين، وحضان جمع حاضن، لان المربى والكافل يضم الطفل إلى حضنه وبه
سميت الحاضنة، وهي التي تربى الطفل، والحاضنة بالفتح فعلها، والحجر بمعنى
وحواء أي يحويه ويحيط به.
أما الأحكام فإذا بانت الزوجة وبينهما ولد - فإن كان بالغا رشيدا لم يجبر
على الكون مع أحدهما، بل يجوز له أن ينفرد عنهما، إلا أن المستحب له أن
لا ينفرد عنهما لئلا ينقطع بره وخدمته عنهما، وهل يكره له الانفراد عنهما؟
ينظر فيه - فإن كان رحلا - لم يكره له الانفراد عنهما وإن كانت امرأة، فإن
كانت بكرا، كره لها الانفصال عنهما لأنها لم تجرب الرجال ولا يؤمن أن تخدع
وإن كانت ثيبا فارقها زوجها لم يكره لها الانفراد عنهما لأنها قد جربت الرجال
ولا يخشى عليها أن تخدع
وقال مالك يجب على الابنة أن لا تفارق أمها حتى تتزوج ويدخل بها الزوج
دليلنا أنها إذا بلغت رشيدة فقد ارتفع الحجر عنها: فكان لها أن تنفرد بنفسها
ولا اعتراض عليها، كما لو تزوجت ثم بانت عنه، وإن كان الولد صغيرا لا يميز
323

وهو الذي له دون سبع سنين أو كبيرا إلا أنه مجنون أو ضعيف العقل وجبت
حضانته، لأنه إذا ترك منفردا ضاع.
ولا تثبت الحضانة لمعتوه - وهو ناقص العقل - ولا لمجنون لأنه لا يصلح
للحضانة، ولا تثبت الحضانة لفاسق لأنه لا يؤمن أن ينشأ الطفل على منزعه،
وإن كان أحد الأبوين مسلما فالولد ولا تثبت عليه الحضانة للكافر. وقال
أبو سعيد الإصطخري تثبت الحضانة للكافر على المسلم لحديث عبد الحميد بن جعفر
عن أبيه، وقد أوردنا طرقه آنفا، وقد قال المصنف إنه منسوخ، ونقول: إن
هذا الحديث استدل به القائلون بثبوت الحضانة للأم الكافرة كأبي حنيفة وأصحابه
وابن القاسم المالكي وأبو ثور، وذهب إلى الجمهور إلى أنه لا حضانة للكافرة على
ولدها المسلم.
وأجابوا عن الحديث بما تقدم من المقال فيه وبما فيه من الاضطراب، ولكن
الحديث بأسانيده وطرقه يصلح للاحتجاج به، والاضطراب ممنوع باعتبار محل
الحجة، وهو كفر الأم وثبوت التخيير. وهذا العنصران هما ما يدور حولهما
الحكم. ولعل المصنف يحتج في النسخ بأدلة عامة، كقوله تعالى " ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلا " وبنحو " الاسلام يعلو " وقد استدل ابن القيم
بقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا " على أن المراعى أولا
في التخيير أو الاستهام بالقرعة ما هو أصلح للصغير، وأن أيا ما كان الامر من
التخيير أو التعيين أو الاقتراع، فإن أولئك مقيد بقوله تعالى " قوا أنفسكم
وأهليكم نارا "
وحكى عن شيخه ابن تيمية أنه قال: تنازع أبوان صبيا عند الحاكم فخير الولد
بينهما فاختار أباه، فقالت أمه سله لأي شئ يختاره؟ فسأله فقال: أمي تبعثني
كل يوم للكاتب والفقيه يضرباني وأبى يتركني ألعب مع الصبيان فقضى به للأم.
ورجح هذا ابن تيمية
فإذا كانت روح الشرع تقضى بمراعاة صالح الصغير. فإن مما لا شك فيه أن
إلقاءه في أحضان قضاء على صلاحه دنيا وأخرى. ومن ثم يتعين خطا
أبي سعيد الإصطخري وأبي حنيفة وأصحابه وابن القاسم وأبي ثور
324

وقال العمراني ان الحضانة لحظ الولد ولاحظ له في حضانة الكافر، لأنه
لا يؤمن أن يفتن عن دينه. ثم قال: أما الحديث فغير معروف عند أهل النقل
وإن صح فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه يختار أباه، فلهذا
خيره، فيكون ذلك خاصا لذلك الولد دون غيره اه
(فرع) وإذا تزوجت المرأة سقطت حقها من الحضانة، وبه قال مالك وأبو حنيفة
وقال الحسن البصري لا يسقط حقها لقولها تعالى " وربائبكم اللاتي في حجوركم
من نسائكم " ولان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة ومعها بنتها زينب
فكانت عندها.
وروى ابن عباس أن عليا وجعفر ابني أبى طالب وزيد بن حارثة تنازعوا
في حضانة ابنة حمزة بن عبد المطلب، واختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم،
فقال جعفر أنا أحق بها أنا ابن عمها وخالتها تحتي، وقال على أنا أحق بها أنا ابن
عمها وابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم تحتي - يعنى ابنة ابن عمها. وقال
زيد أنا أحق بها لأنها ابنة أخي - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى
بين زيد بن حارثة - فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها وقال الخالة
أم. فقضى بها للخالة وهي مزوجة
ودليلنا ما روى عبد الله بن عمرو " أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم
وقالت يا رسول الله ان ابني هذا كان بطني له وعاء، وحجري له حواء، وثديي
له سقاء، وإن أباه طلقني ويرد أن ينزعه منى، فقال صلى الله عليه وسلم أنت
أحق به ما لم تنكحي "
وروى أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم قال " الأم أحق بولدها ما لم
تتزوج " ولأنها إذا تزوجت استحق الزوج الاستمتاع بها إلا في وقت العبادة،
فلا تقوم بحضانة الولد. وأما الآية فالمراد بها إذا لم يكن هناك أب أو كان ورضى
وأما زينب وابنة حمزة فلانه لم يكن هناك من النساء من تستحق الحضانة خالية
من الأزواج.
إذا ثبت هذا فإن طلقت الزوجة طلاقا بائنا أو رجعيا عاد حقها من الحضانة
وقال مالك لا يعود حقها من الحضانة بحال
325

وقال أبو حنيفة والمزني: إن كان الطلاق بائنا عاد حقها، وإن كان رجعيا لم
يعد حقها، لان الزوجية باقية بينهما، ودليلنا أن حقها إنما سقط لاشتغالها عن
الحضانة باستمتاع الزوج، ولا يملك الزوج الاستمتاع بها بعد الطلاق البائن
والرجعي، فعاد حقها من الحضانة.
وإن أعتق الرقيق، أو عقل المجنون والمعتوه، أو عدل الفاسق، أو أسلم
الكافر عاد حقهم من الحضانة، لان الحضانة زالت بمعنى، وقد زال المعنى
فعادت الحضانة.
(مسألة) قوله " ولا حضانة لمن لا يرث من الرجال من ذوي الأرحام "
وهذا صحيح مثل ابن الأخت وابن الأخ للأم وأبى الأم والخال وابن العم لأنه
ذكر لا يرث فأشبه الأجنبي. وقال المصنف هنا: ولا تثبت الحضانة لابن البنت
وهذا الذي قال لا يتصور في حضانة الصغير، وإنما يتصور في الكبير والمجنون
لأنا قد قلنا يجب حضانته الصغير، ولا تثبت الحضانة لمن أدلى
من النساء والرجال بهؤلاء الرجال، لان الحضانة إذا لم تثبت لهم بأنفسهم لم تثبت
لمن أدلى بهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن اجتمع النساء دون الرجال وهن من أهل الحضانة فالأم
أحق من غيرها، لما روى عبد الله بن عمر بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " أنت أحق به ما لم تنكحي " ولأنها أقرب إليه وأشفق عليه، ثم تنتقل إلى
من يرث من أمهاتها، لمشاركتهن الأم في الولادة والإرث، ويقدم الأقرب
فالأقرب، ويقدمن على أمهات الأب، وإن قربن لتحقق ولادتهن، ولأنهن
أقوى في الميراث من أمهات الأب، لأنهن لا يسقطن بالأب، وتسقط أمهات
الأب بالأم، فإذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الأم ففيه قولان. قال في
القديم تنتق إلى الأخت والخالة، ويقدمان على أم الأب، لما روى البراء بن
عازب رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت حمزة لخالتها وقال
الخالة بمنزلة الأم " ولان الخالة تدلى بالأم، وأم الأب تدلى بالأب، والأم تقدم
326

على الأب فقدم من يدلى بها على من يدلى به، ولان الأخت ركضت مع الولد
في الرحم، ولم تركض أم الأب معه في الرحم، فقدمت عليها، فعلى هذا تكون
الحضانة للأخت من الأب والأم، ثم الأخت من الأم ثم الخالة ثم لام الأب
ثم للأخت من الأب ثم للعمة
وقال في الجديد: إذا عدمت أمهات الأم انتقلت الحضانة إلى أم الأب وهو
الصحيح، لأنها جدة وارثة فقدمت على الأخت والخالة كأم الأم. فعلى هذا
تكون الحضانة لام الأب ثم لأمهاتها وان علون، الأقرب فالأقرب، ويقدمن
على أم الجد كما يقدم الأب على الجد، فإن عدمت أمهات الأب انتقلت إلى أمهات
الجد ثم إلى أمهاتها وان علون، ثم تنتقل إلى أمهات أب الجد، فإذا عدم أمهات
الأبوين انتقلت إلى الأخوات ويقدمن على الخالات والعمات، لأنهن راكضن
الولد في الرحم وشاركنه في النسب، وتقدم الأخت من الأب والأم ثم الأخت
للأب ثم الأخت للأم.
وقال أبو العباس ابن سريج، تقدم الأخت للأم على الأخت للأب، لان
إحداهما تدلى بالأم والأخرى تدلى بالأب، فقدم المدلى بالأم على المدلى بالأب
كما قدمت الأم على الأب، وهذا خطأ لان الأخت من الأب أقوى من الأخت
من الأم في الميراث والتعصيب مع البنات، ولان الأخت من الأب تقوم مقام
الأخت من الأب والأم في الميراث، فقامت مقامها في الحضانة. فإن عدمت
الأخوات انتقلت إلى الخالات، ويقدمن على العمات، لان الخالة تساوى العمة
في الدرجة وعدم الإرث وتدلى بالأم والعمة تدلى بالأب: والأم تقدم على الأب
فقدم من يدلى بها، وتقدم الخالة من الأب والأم على الخالة من الأب، ثم الخالة
من الأب ثم الخالة من الأم، ثم تنتقل إلى العمات لأنهن يدلين بالأب، وتقدم
العمة من الأب والأم ثم العمة من الأب ثم العمة من الأم، وعلى قياس قول
المزني وأبى العباس تقدم الخالة والعمة من الأم على الخالة والعمة من الأب
(الشرح) حديث عبد الله بن عمرو مضى تخريجه آنفا. أما حديث البراء بن
عازب فقد أخرجه البخاري في الحج وفيه " اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في
327

ذي القعدة قبل أن يحج وفيه قوله لجعفر " أشبهت خلقي وخلقي " وفيه صلح
المشركين يوم الحديبية، وأخرجه في الجزية عن أحمد بن عثمان بن حكيم، وفي
الصلح عن عبيد الله بن موسى وعن محمد بن بشار. وأخرجه مسلم في المغازي عن
محمد بن المثنى ومحمد بن بشار وعن عبيد الله بن معاذ وعن إسحاق بن إبراهيم وأحمد
ابن خباب وأبو داود في الحج عن أحمد بن حنبل والترمذي في الحج عن عباس
ابن محمد الدوري وفي البر عن سفيان بن وكيع وعن محمد بن أحمد بن بدوية وفي
المناقب عن محمد بن. إسماعيل البخاري. ورواه أحمد من حديث على وفيه " والجارية
عند خالتها فإن الخالة والدة " وأخرجه عن علي أبو داود والحاكم والبيهقي بمعناه
واللفظ المتفق عليه في رواية أحمد والبخاري ومسلم " أن ابنة حمزة اختصم فيها
على وجعفر وزيد، فقال على أنا أحق بها هي ابنة عمى، وقال جعفر بنت عمى
وخالتها تحتي، وقال زيد ابنه أخي، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
لخالتها وقال " الخالة بمنزلة الأم "
قوله " وخالتها تحتي " يعنى أسماء بنت عميس وقد طعن ابن حزم في حديث
البراء في كتابه وقال في إسناده إسرائيل وقد ضعفه علي بن المديني، وقد رد
عليه بأنه قد وثقه سائر أهل الحديث، ولا يضره أن ينفرد ابن المديني بتضعيفه
وقد تعجب أحمد بن حنبل من حفظه وقال ثقة
وقال أبو حاتم هو أتقن أصحاب أبي إسحاق، وكفى باتفاق الشيخين على
إخراج هذا الحديث دليلا
أما الأحكام فإذا اجتمع النساء من القرابة وهن يصلحن للحضانة، أو لا
رجل معهن وتنازعن في حضانة المولود قدمت الأم على غيرها لقوله صلى الله عليه
وسلم " الأم أحق بولدها ما لم تتزوج " ولأنها أقرب إليه وأشفق عليها، فإن عدمت
الأم انتقلت الحضانة إلى أمها ثم إلى أم أمها وإن علت، فأما أمهات أبيها فلا
مدخل لهن في الحضانة، فإن عدمت الجدات من قبل الأم ففيه قولان
قال في القديم تنتقل الحضانة إلى الأخوات والخالات وتقدمن على أمهات
الأب لأنهن يدلين بالأم، وأمهات الأب يدلين بالأب، والأم تقدم على الأب
فقدم من يدلى بها على من يدلى بالأب، فعلى هذا تكون الحضانة للأخت للأب
328

والأم ويقدمان على الخالة لأنهما أقرب لكونهما ركضا مع الولد في رحم واحد
ثم ينتقل إلى الخالة لقوله صلى الله عليه وسلم الخالة أم، فتكون الحضانة للخالة
للأب والأم ثم للخالة للأب، فإذا عدمت الأخوات للأب والأم أو للأم
والخالات انتقلت الحاضنة إلى أم الأب ثم إلى أمهاتها ثم تنتقل إلى الأخت للأب
ثم إلى العمة، ويقدمان على أمهات الجد، لان الأب أقرب من الجد فتقدم من
يدلى به على من يدلى بالجد. ثم تنتقل إلى أمهات الجد الوارثات الأقرب فالأقرب
وكذا ذكر الشيخ أبو إسحاق هنا.
قال الشوكاني في النيل، واستشكل كثير من الفقهاء وقوع القضاء منه صلى الله
عليه وسلم لجعفر وقالوا إن كان القضاء له فليس بمحرم لها، وهو وعلى سواء في
قرابتها، وإن كان القضاء للخالة فهي مزوجة والزواج مسقط لحقها من الحضانة
فسقوط حق الخالة بالزواج أولى.
وأجيب عن ذلك بأن القضاء للخالة والزواج لا يسقط حقها من الحضانة مع
رضا الزوج كما ذهب إليه أحمد والحسن البصري والامام يحيى وابن حزم. وقيل إن
النكاح إنما يسقط حضانة الأم وحدها حيث كان المنازع لها الأب. ولا يسقط
حق غيرها ولاحق الأم حيث كان المنازع لها غير الأب. وبهذا يجمع بين حديث
البراء وحديث عبد الله بن عمرو. اه
قال ابن الصباغ والطبري تقدم الأخت للأب على الأخت للأم على هذا أيضا
وقال في الجديد إذا عدم من يصلح للحضانة من أمهات الأم انتقلت الحضانة إلى
أمهات الأب الوارثات. فإن عدم من يصلح لها من أمهات الأب انتقلت إلى
أمهات الجد ثم إلى أمهات أبى الجد، فإن عدم من يصلح لها من والجدات من قبل
الأب انتقلت إلى الأخوات. وبه قال أبو حنيفة - وهو الأصح - لأنهن جدات
وارثات فقدمن على الأخوات كالجدات من قبل الأم، ويقدم الأخوات على
الخالات والعمات لأنهن أقرب فتكون الحضانة للأخت للأب والأم ثم الأخت
للأب ثم للأخت للأم لأنهن أقرب
وقال أبو حنيفة والمزني وأبو العباس بن سريج تقدم الأخت للأم على الأخت
للأب لأنها تدلى بالأم، والأخت للأب تدلى بالأب، فقدم من تدلى بالأم على
329

من تدلى بالأب، كما تقدم الأم على الأب والمذهب الأول، لان الأخت للأب
تقوم مقام الأخت للأب والأم في التعصيب فقامت مقامها في الحضانة، ثم تنتقل
إلى الخالات ويقدمن على العمات لأنهن يدلين بالأم فتكون الحضانة للخالة للأب
والأم ثم للخالة للأب ثم للخالة للأم ثم للعمة للأب والأم ثم للعمة للأب ثم للعمة
للأم. وعلى قول من قدم الأخت للأم على الأخت للأب تقدم الخالة والعمة
للأم على الخالة والعمة للأب. والذي يقتضى المذهب أن الحضانة لا تنتقل إلى
الخالات إلا بعد عدم بنات الأخ وبنات الأخت لأنهن أقرب، ولا تنتقل
الحضانة إلى العمات إلا بعد عدم بنات الخالات
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن اجتمع الرجال وهم من أهل الحضانة وليس معهم نساء قدم
الأب، لان له ولادة وفضل شفقة، ثم تنتقل إلى آبائه الأقرب فالأقرب
لمشاركتهم الأب في الولادة والتعصيب، فإن عدم الأجداد انتقلت إلى من بعدهم
من العصبات. ومن أصحابنا من قال لا يثبت لغير الآباء والأجداد من العصبات
لأنه لا معرفة لهم في الحضانة ولا لهم ولاية بأنفسهم فلم تكن لهم حضانة كالأجانب
والمنصوص هو الأول. والدليل عليه ما روى البراء بن عازب رضي الله عنه
" أنه اختصم في بنت حمزه على وجعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم، فقال علي عليه
السلام أنا أحق بها وهي بنت عمى. وقال جعفر ابنة عمى وخالتها عندي
وقال زيد بنت أخي، فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالتها، وقال
الخالة بمنزلة الأم " ولو لم يكن ابن العم من أهل الحضانة لأنكر النبي صلى الله
عليه وسلم على جعفر، وعلى علي رضي الله عنهما ادعاءهما الحضانة بالعمومة، ولان
له تعصيبا بالقرابة فثبتت له الحضانة كالأب والجد، فعلى هذا تنتقل إلى الأخ من
الأب والأم، ثم إلى الأخ من الأب، ثم إلى ابن الأخ من الأب والأم، ثم إلى
ابن الأخ من الأب، ثم إلى العم من الأب والأم، ثم إلى العم من الأب ثم إلى
ابن العم من الأب والأم، ثم إلى ابن العم من الأب، لان الحضانة تثبت لهم
قوة قرابتهم بالإرث فقدم من تقدم في الإرث
330

(الشرح) الأحكام إذا اجتمع الرجال ولا نساء معهم وهم من أهل الحضانة
قدم الأب على غيره من الرجال لان له ولاية عليه ثم تنتقل إلى آبائه الوارثين
الأقرب فالأقرب: لأنهم يلون عليه بأنفسهم فقاموا مقام الأب، وهل تثبت
الحضانة لغيرهم من العمات؟ فيه وجهان. من أصحابنا من قال لا تثبت لهم الحضانة
لأنه لا معرفة لهم في الحضانة ولا يلون عن ماله بأنفسهم فلم يكن لهم حق الحضانة
كالأجانب إلا أن لهم تأديب الولد وتعليمه.
ومنهم من قال تثبت لهم الحضانة وهو المنصوص، لان عليا وجعفر ادعيا
حضانة ابنة حمزة بكونهما ابني عم بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر النبي
عليه السلام عليهما دعواهما بذلك
وروى عمارة الجرمي قال " خيرني علي رضي الله عنه بين عمى وأمي " ولان
له تعصيبا بالقرابة فثبتت له الحضانة كالأب والجد، فعلى هذا إذا عدم الأجداد
- قال المصنف - انتقلت الحضانة إلى الأخ للأب والأم ثم إلى الأخ للأب ثم
إلى ابن الأخ للأب والأم ثم إلى ابن الأخ للأب ثم إلى العم للأب والأم ثم إلى
العم للأب ثم إلى ابني العم
وقال الصباغ: تنتقل إلى الأخ للأب والأم ثم إلى الأخ للأب ثم إلى الأخ
للأم. قال وعلى قول أبى العباس حيث قدم الأخت للأم على الأخت للأب يكون
ههنا وجهان:
أحدهما لا يقدم الأخ للأم على الأخ للأب لأنه ليس من أهل الحضانة بنفسه
وإنما يستحق بقرابته بالأم والأخ للأب أقوى فقدم عليه
والثاني يقدم لادلائه بالأم وهي أقرب من الأب فقدم من يدلى به على من
يدلى بالأب ثم بنوه الاخوة وإن سفلوا ثم العم ثم بنو العم ثم عم الأب ثم بنوه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن اجتمع الرجال والنساء والجميع من أهل الحضانة نظرت:
فإن اجمتع الأب مع الأم كانت الحضانة للأم، لان ولادتها متحققة وولادة
الأب مظنونة، ولان لها فضلا بالحمل والوضع ولها معرفة بالحضانة فقدمت على
331

الأب، فإن اجتمع مع أم الأم وان علت كان الحضانة لام الأم لأنها كالأم
في تحقق الولادة والميراث ومعرفة الحضانة، وان اجتمع مع أم نفسه أو مع
الأخت من الأب أو مع العمة قدم عليهن لأنهن يدلين به فقدم عليهن، وان
اجمتع الأب مع الأخت من الأم أو الخالة ففيه وجهان
(أحدهما) أن الأب أحق، وهو ظاهر النص، لان الأب له ولادة وارث
فقدم على الأخت والخالة كالأم.
(والثاني) وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يقدم الأخت والخالة على
الأب لأنهما من أهل الحضانة والتربية ويدليان بالأم فقدمتا على الأب كأمهات
الأم. وان اجتمع الأب وأم الأب والأخت من الأم أو الخالة بنينا على القولين
في الأخت من الأم والخالة إذا اجتمعا مع أم الأب، فإن قلنا بقوله القديم ان
الأخت والخالة يقدمان على أم الأب، قدمت الأخت والخالة على الأب وأم
الأب، وان قلنا بقوله الجديد ان أم الأب تقدم على الأخت والخالة، بنينا على
الوجهين في الأب إذا اجتمع مع الأخت من الأم أو الخالة، فإن قلنا بظاهر
النص أن الأب يقدم عليهما كانت الحضانة للأب لأنه يسقط الأخت والخالة
وأم نفسه فانفرد بالحضانة، وإن قلنا بالوجه الآخر ان الحضانة للأخت والخالة
ففي هذه المسألة وجهان.
(أحدهما) أن الحضانة للأخت والخالة، لان أم الأب تسقط بالأب،
والأب يسقط بالأخت والخالة
(والثاني) أن الحضانة للأب، وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمة الله
عليه لان الأخت والخالة يسقطان بأم الأب ثم تسقط أم الأب بالأب فتصير
الحضانة للأب، ويجوز أن يمنع الشخص غيره من حق ثم لا يحصل له ما منع
منه غيره كالأخوين مع الأبوين فإنهما يحجبان الأم من الثلث إلى السدس ثم
لا يحصل لهما ما منعاه بل يصير الجميع للأب
وإن اجتمع الجد أب الأب مع الأم أو مع الأم وإن علت قدمت عليه
كما تقدم على الأب، وإن اجتمع مع أم الأب قدمت عليه لأنها تساويه في الدرجة
وتنفرد بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما قدمت الأم على الأب
332

وان اجتمع مع الخالة أو مع الأخت من الأم ففيه وجهان، كما لو اجتمعتا مع
الأب، وإن اجتمع مع الأخت من الأب ففيه وجهان
(أحدهما) أن الجد أحق لأنه كالأب في الولادة والتعصيب، فكذلك في
التقدم على الأخت
(والثاني) أن الأخت أحق لأنها تساويه في الدرجة وتنفرد بمعرفة الحضانة
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: ولاحق لاحد مع الأب غير الأم
وأمهاتها. وجملة ذلك أنه إذا اجتمع الرجال والنساء وهم من أهل الحضانة نظرت
- فان اجتمع الأب والأم - قدمنا الأم على الأب لما روى عبد الله بن عمرو
" أن امرأة قالت يا رسول الله إن ابني هذا كان بطني له وعاء وحجري له حواء وثديي
له سقاء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه منى، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت
أحق به ما لم تنكحي " ولان الأم أشفق عليه، وولادتها له من طريق القطع
فقدمت عليه، وان اجتمع الأب مع أم الأم وان علت قدمن على الأب لأنهن
يقمن مقام الأم في تحقق الولادة ومعرفة الحضانة فقدمن على الأب كالأم، فإن
امتنعت الأم من الحضانة ولها أم ففيه وجهان
أحدهما - وهو قول ابن الحداد - أن الحضانة تنتقل إلى الأب ولا تنتقل
إلى أم الأم، لأنه لا حق لام الأم مع بقاء الأم، فلم تنتقل إليها، كالولي إذا
عضل عن النكاح فإن الولاية لا تنتقل إلى من دونه من الأولياء
(والثاني) أن الحضانة تكون لام الأم، وهو اختيار القاضي أبى الطيب
وابن الصباغ، لأنه لاحق للأب في الحضانة مع وجود أم الأم، فإذا امتنعت
الأم من الحضانة انتقلت إلى أمها كما لو ماتت أو فسقت أو جنت، ويخالف ولاية
النكاح فإن الحاكم يقوم مقام العاضل، وههنا لا مدخل للحاكم في الحضانة بنفسه
فلم يقم مقام غيره.
وان اجتمع الأب وأم نفسه قدم الأب. ومن أصحابنا من قال: تقدم أم
الأب وأمهاتها عليه (أفاده في البيان) لان حضانة النساء أصلح للصغير وأوفق له
وقال القاضي أبو الطيب: وهذا يقتضى أن تكون حضانة الأخوات والخالات
333

والعمات أولى من الأب، وهو خلاف النص، لان الشافعي قال: ولا حق
لاحد من الأب غير الأم وأمها، ولأنها تدلى به فلم تقدم عليه. وإن اجتمع
للأب مع الأخت للأم أو مع الخالة ففيه وجهان
(أحدهما) يقدمان على الأب، وهو قول أبى العباس بين سريج وأبي سعيد
الإصطخري وأبي حنيفة، لان لها معرفة بالحضانة ويدليان بالأم فقدمتا على
الأب كأمهات الأم
(والثاني) وهو المنصوص، أن الأب يقدم عليهما، لان له ولادة وإذنا
فقدم عليهما كالأم.
(فرع) وان اجتمع الأب وأم الأب والأخت للأم أو الخالة - فإن قلنا
بقوله القديم إن أمر الأب يسقط بالأخوات أو الخالات بنينا ههنا على الوجهين
في الأب هل يسقط الأخت للأم والخالة؟ فإن قلنا إنه يسقطها كانت الحضانة
للأب. وان قلنا إنهما يتقدمان عليه كانت الحضانة للأخت للأم ثم للخالة ثم للأب
ثم لامه وان قلنا بقوله الجديد وأن أم الأب تسقط الأخوات والخالات بينا
على الوجهين أيضا في الأب إذا اجتمع مع الأخت للأم أو الخالة. فإن قلنا
بالمنصوص أن الأب يسقطها كانت الحضانة للأب لأنه يسقطهما ويسقط أم نفسه
فكانت الحضانة له. وإن قلنا بقول أبى العباس وأبي سعيد أنهما يسقطان
الأب فههنا وجهان.
قال أبو سعيد الإصطخري، تكون الحضانة للأب، لان الأخت والخالة
تسقطان بأم الأب، وأم الأب تسقط بالأب، فصارت الحضانة له، وقد يحجب
الشخص غيره من شئ ثم يحصل ذلك الشئ لغير الشخص الحاجب، كما يحجب
الاخوان الأم من الثلث إلى السدس ويكون للأب
وقال أبو العباس تكون الحضانة للأخت أو للخالة، لان الأب يسقط أم نفسه
والأب يسقط بالأخت أو بالخالة فبقيت الحضانة لها. وان اجتمع الأب
والأخت للأب والأم - فإن قلنا إن الأب يقدم على الخالة - قدم الأب على
الأخت للأب والأم. وان قلنا إن الخالة تقدم على الأب فههنا وجهان حكاهما
الشيخ أبو حامد عن أبي سعيد الإصطخري
334

(أحدهما) أن الأخت أحق لان الأخت تسقط الخالة، والخالة تسقط الأب
فإذا سقط الأب مع من تسقطه الأخت فلان لا يسقط معها أولى.
(والثاني) وهو الأصح أن الأب أحق، لان الأخت تدلى به فلا يجوز أن
يكون المدلى به (1)، وان اجتمع أب وأخت لأب وخالة، فان قلنا
إن الأب يسقط الخالة، كان الحضانة للأب، وإن قلنا: إن الخالة تسقط الأب
ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أن الحضانة للأخت، لان الأخت تسقط الخالة، والأب يسقط
بالخالة، فإذا أسقطت الخالة، فلان يسقطه من يسقط الخالة أولى.
(والثاني) أن الحضانة للأب لان الأخت تسقط الخالة والأخت تسقط
بالأب لأنها تدلى به فتصير الحضانة للأب، ويمتنع أن يسقط الشخص غيره
من شئ ثم يحصل ذلك الشئ بغيره، كما قلنا في حجب الأخوين للأم عن
الثلث إلى السدس.
(والثالث) أن الحضانة للخالة، لان الخالة تسقط الأب والأب يسقط
الأخت، وإذا سقطا بقيت الحضانة للخالة، فإن لم يكن أب واجتمع الجد والأم
وأم الأم وان علت قد من على الجد كما يقد من على الأب، وإن اجتمع الجد وأم
الأب قدمت عليه لأنها تساويه في الدرجة، ولها ولادة، فقدمت كما قدمت الأم
على الأب، وان اجتمع الجد والأخت للأم أو الخالة فيه وجهان كما لو اجتمع
مع الأب، وان اجتمع الجد والأخت للأم أو الخالة ففيه وجهان كما لو اجتمع
مع الأب، وان اجتمع الجد والأخت للأب ففيه وجهان (أحدهما) يقدم
عليها، لان له ولادة وتعصيبا فقدم عليها كالأب (والثاني) تقدم عليه لأنها
تساويه في الولادة وتنفرد بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما تقدم الأم على الأب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن عدم الأمهات والآباء ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن
النساء أحق بالحضانة من العصبات، فتكون الأخوات والخالات ومن أدلى

(1) المدلى الأولى بصيغة الفاعل والثانية بصيغة المفعول
335

بهن من البنات أحق من الاخوة وبينهم، والأعمام وبنيهم لاختصاصهن بمعرفة
الحضانة والتربية.
(والثاني) أن العصبات أحق من الأخوات والخالات والعمات ومن يدلى
بهن لاختصاصهم بالنسب، والقيام بتأديب الولد
(والثالث) أنه إن كان العصبات أقرب قدموا، وإن كان النساء أقرب قدمن
وإن استويا في القرب قدمت النساء لاختصاصهن بالتربية. وإن استوى اثنان
في القرابة والأدلاء كالأخوين أو الأختين أو الخالتين أو العمتين أقرع بينهما
لأنه لا يمكن اجتماعهما على الحضانة، ولا مزية لإحداهما على الأخرى فوجب
التقديم بالقرعة. وإن عدم أهل الحضانة من العصبات والنساء وله أقارب من
رجال ذوي الأرحام ومن يدلى بهم ففيه وجهان
(أحدهما) أنهم أحق من السلطان لان لهم رحما فكانوا أحق من السلطان
كالعصبات (والثاني) أن السلطان أحق بالحضانة لأنه لاحق لهم مع وجود غيرهم
فكان السلطان أحق منهم كما قلنا في الميراث. وإن كان للطفل أبوان فتثبت الحضانة
للأم فامتنعت منها فقد ذكر أبو سعيد الإصطخري فيه وجهين (أحدهما) أن
الحضانة تنتقل إلى أم الأم كما تنتقل إليها بموت الأم أو جنونها أو فسقها أو كفرها
(والثاني) أنها تكون للأب، لان الأم لم يبطل حقها من الحضانة، لأنها لو
طالبت بها كانت أحق فلم تنتقل إلى من يدلى بها
(الشرح) الأحكام: ان اجتمع رجل من العصبات غير لأب والجد مع
من يساويه في الدرجة من النساء، كالأخ والأخت والعم والعمة وابن العم وابنة
العمة، وقلنا إن لهم حقا في الحضانة فأيهما أحق بالتقديم؟ فيه وجهان
(أحدهما) أن الرجل أحق بالحضانة لأنه أحق بتأديبه وتعليمه، فكان أحق
بحضانته (والثاني) أن المرأة أحق بالحضانة، لأنها تساويه في الدرجة وتنفرد
بمعرفة الحضانة فقدمت عليه كما قدمت الأم على الأب، وان اجتمع شخصان في
درجة واحدة كالأختين أقرع بينهما لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى
336

والرجال من ذوي الأرحام كالخال والأخ من الأم وأبى الأم وابن الأخت
لا حضانة لهم مع وجود أحد من أهل الحضانة سواهم، لأنه ليس بامرأة يتولى
الحضانة وليس له قوة قرابة كالعصبات، ولا حضانة إلا بمن يدلى بهم كأم أبى
الأم وابنة الخال وابنة الأخ من الأم لأنهن يدلين بمن لا حضانة له، فإذا لم
تثبت للمدلى فللمدلين به أولى، فإن لم يكن هناك غيرهم فعلى وجهين
(أحدهما) هم أولى لان لهم رحما وقرابة يرثون بها عند عدم من هو أدنى
منهم كذلك الحضانة تكون لهم عند عدم من هو أولى بها منهم
(والثاني) لاحق لهم في الحضانة وينتقل الامر إلى الحاكم. وقد رجح أصحاب
أحمد بن حنبل الوجه الأول وإن كان الوجهان محتملين عندهم، وإن كان فيمن
عليه النفقة خنثى مشكل فالنفقة عليه بقدر ميراثه، فإن انكشف بعد ذلك حاله
فبان أنه أنفق أكثر من الواجب عليه رجع بالزيادة على شريكه في الانفاق:
وان بان أنه أنفق أقل رجع عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان افترق الزوجان ولهما ولد له سبع سنين أو ثمان سنين وهو
مميز وتنازعا كفالته خير بينهما لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال " جاءت
امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ان زوجي يريد أن
يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبى عنبة وقد نفعي، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه فانطلقت
به " فإن اختارهما أقرع بينهما، لأنه لا يمكن اجتماعهما على كفالته، ولا مزية
لأحدهما على الآخر فوجب التقديم بالقرعة، وان لم يختر واحدا منهما أقرع
بينهما لأنه لا يمكن تركه وحده ما لم يبلغ لأنه يضيع، ولا مزية لأحدهما على
الآخر فوجبت القرعة، وإن اختار أحدهما نظرت - فإن كان ابنا فاختار الأم
كان عندها بالليل، ويأخذه الأب بالنهار ويسلمه في مكتب أو صنعة لان القصد
حظ الولد، وحظ الولد فيما ذكرناه، وان اختار الأب كان عنده بالليل والنهار
ولا يمنعه من زيارة أمه لان المنع من ذلك إغراء بالعقوق وقطع الرحم. فإن
337

مرض كانت الأم أحق بتمريضه، لان المرض صار كالصغير في الحاجة إلى من
يقوم بأمره، فكانت الأم أحق به، وإن كانت جارية فاختارت أحدهما كانت
عنده بالليل والنهار ولا يمنع الاخر من زيارتها من غير إطالة وتبسط، لان
الفرقة بين الزوجين تمنع من تبسط أحدهما في دار الاخر، وإن مرضت كانت
الأم أحق بتمريضها في بيتها. وإن مرض أحد الأبوين والولد عند الاخر لم يمنع
من عيادته وحضوره عند موته لما ذكرناه، وإن اختار أحدهما فسلم إليه ثم اختار
الاخر حول إليه، وإن عاد فاختار الأول أعيد إليه لان الاختيار إلى شهوته وقد
يشتهى المقام عند أحدهما في وقت وعند الاخر في وقت فاتبع ما يشتهيه كما يتبع
ما يشتهيه من مأكول ومشروب. وإن لم يكن له أب وله أم وجد خير بينهما،
لان الجد كالأب في الحضانة في حق الصغير فكان كالأب في التخيير في الكفالة،
فإن لم يكن له أب ولا جد - فإن قلنا إنه لاحق لغير الأب والجد في الحضانة -
ترك مع الأم إلى أن يبلغ، وإن قلنا بالمنصوص إن الحضانة تثبت للعصبة، فإن
كانت العصبة محرما كالعم والأخ وابن الأخ خير بينهم وبين الأم، لما روى عامر
ابن عبد الله قال " خاصم عمى أمي وأراد أن يأخذني فاختصما إلى علي بن أبي طالب
كرم الله وجهه، فخيرني على ثلاث مرات فاخترت أمي، فدفعني إليها " فإن كان
العصبة ابن عم. فإن كان الولد ابنا خير بينه وبين الأم، وإن كانت بنتا كانت
عند الأم إلى أن تبلغ، ولا تخير بينهما، لان ابن العم ليس بمحرم لها ولا يجوز
أن تسلم إليه.
(الشرح) حديث أبي هريرة باللفظ الذي ساقه المصنف رواه النسائي وأخرجه
أبو داود بلفظ فيه زيادة فقال استهما عليه " ولأحمد معناه لكنها قال فيه " جاءت
امرأة قد طلقها زوجها " ولم يذكر فيه قولها " قد سقاني من بئر أبى عنبة وقد
نفعني " ورواه أحمد وأبن ماجة والترمذي وصححه مختصرا بلفظ " أن النبي صلى الله عليه وسلم
خير غلاما بين أبيه وأمه، ورواه بلفظ المصنف أيضا بقية أهل السنن وابن أبي
شيبة وصححه الترمذي وابن حبان
وأما خبر عامر بن عبد الله فقد أخرجه الشافعي في الأم في باب أي الوالدين
338

أحق بالولد " أخبرنا الربيع أخبرنا الشافعي أخبرنا ابن عيينة عن يونس بن عبد الله
الجرمي عن عمارة قال: خيرني علي بين أمي وعمى، ثم قال لأخ لي أصغر منى:
وهذا أيضا لو قد بلغ مبلغ هذا خيرته " وأخرجه من طريق إبراهيم بن محمد عن
يونس بن عبد الله عن عمارة " خيرني علي بين أمي وعمى وقال لأخ لي أصغر منى
وهذا لو بلغ مبلغ هذا خيرته " قال إبراهيم: وفي الحديث " وكنت ابن سبع أو
ثمان سنين " ومن ثم تدرك أن الرواية ليست عن عامر بن عبد الله وإنما هي عن
عمارة، وقد أخرجه البيهقي في السنن الكبرى وقال: عمارة الجذامي، والصواب
ما في الأم.
أما اللغات، فبئر أبى عنبة على ميل من المدينة. قال ابن الجوزي: أبو عنبة
عبد الله بن عنبه من الصحابة ليس فيهم أبو عنبة غيره.
قال في المؤتلف والمختلف: أبو عنبة الخولاني له صحبة. وفي الاستيعاب:
قيل إنه ممن صلى القبلتين، قديم الاسلام، وقيل إنه ممن أسلم قبل موت النبي
صلى الله عليه وسلم ولم يصحبه، وانه صحب معاذ بن جبل وسكن الشام، روى
عنه محمد بن زياد الألهاني وبكر بن زرعة وشريح بن مسروق
وقوله " في مكتب أو صنعة " قال الجوهري: الكتاب والمكتب واحد،
والجمع الكتاتيب والمكاتب وهو موضع تعليم الكتابة. وقوله " أغراء بالعقوق "
من غرى غرى من باب تعب أولع به من حيث لا يحمله عليه فإذا تعدى بالهمز
فقيل أغريته به اغراء فأغرى به بالبناء للمفعول والاسم الغراء بالفتح والمد
والغراء مثل كتاب ما يلصق به، فكأنه يقول أغراه بالعقوق كأنه لصقه بالغراء
فجعله سببا لوقوع العقوق ولصوقا به.
وقوله " وتبسط " التبسط والانبساط ترك الاحتشام، وتبسط في البلاد
سافر فيها طولا وعرضا، وأصله السعة و ذلك محرم على من طلق
أما الأحكام. فإن الشافعي رضي الله عنه يقول: فإذا افترق الأبوان وهما
في قرية واحدة فالأم أحق بولدها ما لم تتزوج وما كانوا صغارا، فإذا بلغ أحدهم
سمعا أو ثماني سنين وهو يعقل خير بين أبيه وأمه وكان عند أيهما اختار، فإن
اختار أمه فعلى أبيه نفقته ولا يمنع من تأديبه، قال وسواء في ذلك الذكر والأنثى
339

ويخرج الغلام إلى الكتاب والصناعة إن كان من أهلها ويأوى عند أمه وعلى
أبيه نفقته، وإن اختار أباه لم يكن لأبيه منعه من أن يأتي أمه وتأتيه في الأيام
وإن كانت جارية لم تمنع أمها من أن تأتيها، ولا أعلم على أبيها إخراجها إليها إلا
من مرض فيؤمر بإخراجها عائدة.
قال وإن ماتت البنت لم تمنع الأم من أن تليها حتى تدفن، ولا تمنع في مرضها
من أن تلي تمريضها في منزل أبيها. قال وإن كان الولد مخبولا فهو كالصغير،
وكذلك إن كان غير مخبول ثم خبل فهو كالصغير الأم أحق به ولا يخير أبدا.
قال وإنما أخير الولد بين أبيه وأمه إذا كانا معا ثقة للولد، فإن كان أحدهما ثقة
والآخر غير ثقة فالثقة أولاهما به بغير تخيير. قال وإذا خبر الولد فاختار أن
يكون عند أحد الأبوين ثم عاد فاختار الاخر حول إلى الذي اختار بعد اختياره
الأول، قال وإذا نكحت المرأة فلا حق لها في كينونة ولدها عندها صغيرا كان
أو كبيرا، ولو اختارها ما كانت ناكحا، فإذا طلقت طلاقا يملك فيه الزوج
الرجعة أو لا يملكها رجعت على حقها فيهم اه
إذا ثبت هذا فإن الغلام إذا بلغ سبعا وليس بمعتوه خير بين أبويه إذا تنازعا
فيه، فمن اختاره منهما فهو أولى به، قضى بذلك عمر وعلى شريح، وهو مذهب
أحمد، وقال مالك وأبو حنيفة: إذا استقل بنفسه، فأكل بنفسه ولبس بنفسه
فالأب أحق به. ومالك يقول الأم أحق به. قالا وأما التخيير فلا يصح لان
الغلام لا قول له ولا يعرف حظه، وربما اختار من يلعب عنده ويترك تأديبه
ويمكنه من شهواته فيؤدى إلى فساده، ولأنه دون البلوغ فلم يخير كمن دون السبع
ودليلنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم خير
غلاما بين أبيه وأمه " وفي لفظ " جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت
يا رسول الله ان زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني من بئر أبى عنبة وقد
نفعني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أيهما
شئت، فأخذ بيد أمه فانطلقت به " ولأنه اجماع الصحابة كما أوضحنا ذلك عن علي
وعمر ولا معارض
فإذا بلغ الغلام حدا يعرب عن نفسه ويميز بين الاكرام وضده فمال إلى أحد
340

الأبوين، دل على أنه أرفق به وأشفق عليه، فقدم بذلك، وقيدناه بالسبع لأنها
أول حال أمر الشرع فيها بمخاطبته بالامر بالصلاة. ومتى اختار أحدهما فسلم إليه
ثم أختار الاخر رد إليه، فإن عاد فاختار الأول أعيد إليه هكذا أبدا كلما اختار
أحدهما صار إليه، لأنه اختيار شهوة لحظ نفسه فاتبع ما يشتهيه، وان خيرناه
فلم يختر واحدا منهما أو اختارهما معا قدم أحدهما بالقرعة، لأنه لا مزية لأحدهما
على صاحبه، ولا يمكن اجتماعهما على حضانته فقد أحدهما بالقرعة
(فرع) فإن كان الأب معدوما أو من غير أهل الحضانة وحضر غيره من
العصبات كالأخ والعم وابنه قام مقام الأب، فيخير الغلام بين أمه وعصبته فأشبه
الأب، وكذلك إن كانت أمه معدومة أو من غير أهل الحضانة فسلم إلى الجدة،
خير الغلام بينها وبين أبيه أو من يقوم مقامه من العصبات، فإن كان الأبوان
معدومين أو من غير أهل الحضانة فسلم إلى امرأة كأخته وعمته أو خالته قامت
مقام أمه في التخيير بينهما وبين عصيانه للمعنى الذي ذكرناه في الأبوين
(فرع) وإن كان عند الأب كان عنده ليلا ونهارا ولا يمنع من زيارة أمه
لان منعه من ذلك اغراء له بالعقوق وقطيعة الرحم، وان مرض كانت الأم
أحق بتمريضه في بيتها، لأنه صار بالمرض كالصغير في الحاجة إلى من يقوم
بأمره فكانت الأم أحق به كالصغير، وان مرض أحد الأبوين والولد عن الاخر
لم يمنع من عيادته وحضوره عند موته، سواء كان ذكرا أو أنثى لان المرض
يمنع المريض من المشي إلى ولده، فمشى ولده إليه أولى، فأما في حال الصحة فإن
الغلام يزور أمه لأنها عورة فسترها أولى، والأم تزور ابنتها، لان كل واحدة
منهما عورة تحتاج إلى صيانة - وستر الجارية أولى - لان الأم قد تخرجت
وعقلت بخلاف الجارية.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان افترق الزوجان ولهما ولد فأراد أحدهما أن يسافر بالولد
- فإن كان السفر مخوفا أو البلد الذي يسافر إليه مخوفا - فالمقيم أحق به، فإن
كان مميزا لم يخير بينهما، لان في السفر تغريرا بالولد، وإن كان السفر مسافة
341

لا تقصر فيها الصلاة كانا كالمقيمين في حضانة الصغير ويخير المميز بينهما، لأنهما
يستويان في انتفاء أحكام السفر من القصر والفطر والمسح، فصارا كالمقيمين في
محلتين في بلد واحد، وإن كان السفر لحاجة لا لنقلة كان المقيم أحق بالولد، لأنه
لاحظ للولد في حمله ورده، وإن كان السفر للنقلة إلى موضع يقصر فيه الصلاة
من غير خوف فالأب أحق به، سواء كان هو المقيم أو المسافر. لان في الكون
مع الأم حضانة، وفي الكون مع الأب حفظ النسب والتأديب، وفي الحضانة
يقوم غير الأم مقامها، وفي حفظ النسب لا يقوم غير الأب مقامه فكان الأب
أحق. وإن كان المسافر هو الأب، فقالت الأم يسافر لحاجة فأنا أحق، وقال
الأب أسافر للنقلة فأنا أحق، فالقول قول الأب لأنه أعرف بيته. وبالله التوفيق
(الشرح) إذا أراد أحد الأبوين السفر مسافة تقصر فيها الصلاة لحاجة ثم
يعود، والآخر مقيم، فالمقيم أولى بالحضانة، لان في المسافرة بالولد إضرارا
به، وإن كان منتقلا إلى بلد ليقيم به وكان الطريق مخوفا، أو البلد الذي ينتقل
إليه مخوفا فالمقيم أولى بالحضانة، لان في السفر به خطرا عليه، ولو اختار الولد
السفر في هذه الحالة لم يجب إليه لان فيه تعزيرا به. وإن كان البلد الذي ينتقل
إليه آمنا وطريقه أمنا فالأب أحق به، سواء كان هو المقيم أو المنتقل، لان في
كون الولد مع الأب حفظ النسب والتأديب. وإن كان السفر دون مسافة قصر
الصلاة كانا كالمقيمين. وبهذا قال بعض أصحاب أحمد، والمنصوص عن أحمد
سريان ما قررنا من الحكم على اطلاق السفر، سواء كان دون القصر أم لا.
لان البعد الذي يمنعه من رؤيته يمنعه من تأديبه وتعليمه ومراعاة حاله. فأشبه
مسافة القصر، وبما ذكرناه من تقديم الأب عند افتراق الدار بهما. قال شريح
ومالك وأحمد. وقال أصحاب الرأي: إن انتقل الأب فالأم أحق به، وإن انتقلت
الأم إلى البلد الذي كان فيه أصل النكاح فهي أحق، وإن انتقلت إلى غيره
فالأب أحق.
وحكى عن أبي حنيفة إن انتقلت من بلد إلى قرية فالأب أحق، وإن انتقلت
إلى بلد آخر فهي أحق، لان في المدينة يمكن تعليمه وتخريجه
342

(فرع) إذا اختلف الأب والأم في أمر السفر فقالت الأم: يسافر مشغولا
بمصالحه وحاجياته فلن يلتفت إلى رعاية الولد فأنا أحق به، وقال الأب: أسافر
للنقلة والاستيطان فأنا أحق كان القول قول الأب لأنه أعلم بقصده والله تعالى
أعلم بالصواب وهو حسبي ونعم الوكيل
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الجنايات
(الشرح) الجنايات جمع جناية. وفي القاموس: جنى الذنب عليه يجنيه جناية
جره طلبه إليه، والثمرة اجتناها كتجناها وهو جان والجمع جناة وجنتاه وأجناء
" نادر " اه. وفي اللسان قال أبو حية النميري:
وان دما لو تعلمين جنيته * على الحي جاني مثله غير سالم
فأما قولهم في المثل " أبناؤها أجناؤها " فزعم أبو عبيد أن أبناء جمع بان
وأجناء جمع جان كشاهد وأشهاد وصاحب وأصحاب. قال ابن سيده في المخصص
وأراهم لم يكسروا بانيا على أبناء ولا جانيا على أجناء الا في هذا المثل، المعنى أن
الذي جنى وهدم الدار هده هو الذي بناها. قال الجوهري وأنا أظن أن المثل
جنانها بناتها، لان فاعل لا تجمع على أفعال، ثم أستطرد خطأ فقال: إن اشهادا
وأصحابا جمع شهد وصحب وهو خطأ فإن فعل لا تجمع على أفعال الا إذا كانت
عينها واوا ياء كقول وشيخ تجمع على أقوال وأشياخ الا جمعا شاذا، وقد
رأيتهم في كتب الفقه والحديث والتفسير واللغة يجمعون بحث على أبحاث فإذا جاز
فهو شاذ وصوابه بحوث.
وهذا المثل يضرب لمن عمل شيئا بغير روية فأخطأ فيه ثم استدركه فنقبض
ما عمله. وأصله أن بعض ملوك اليمن غزا واستخلف ابنته فبنت بمشورة قوم
بنيانا كرهة أبوها، فلما قدم أمر المشيرين ببنائه أن يهدموه، والمعنى أن الذين
جنوا عليه هذه الدار بالهدم هم الذين بنوها، والمدينة التي هدمت اسمها براقش،
ومن ثم قيل " على نفسها جنت براقش " وفي الحديث " لا يجنى جان الا على نفسه "
343

والجناية الذنب والجرم، وما يفعله الانسان مما يوجب عليه العقاب أو القصاص
في الدنيا والآخرة، والمعنى أنه لا يطالب بجناية غيره من أقاربه وأباعده، فإذا
جنى أحدهم جناية لا يطالب بها الاخر لقوله تعالى (ولا تزر وازرة وزر أخرى)
وجنى فلان على نفسه إذا جر جريرة يجئ جناية على قومه، وتجنى فلان على فلان
ذنبا إذا تقوله عليه وهو برئ، وتجنى عليه وجانى ادعى جناية. قال شمر:
حنيت لك وعليك ومنه قوله:
جانيك من يجنى عليك وقد * تعدى الصحاح - فتجرب - الجرب
وجنيت الثمرة أجنيها جنى، واجتنيتها بمعنى. قال ابن سيده: جنى الثمرة ونحوها
وتجناها كل ذلك تناولها من شجرتها. قال الشاعر
إذا دعيت بما في البيت قالت * تجن من الجذال وما جنيت
قال أبو حنيفة، هذا شاعر نزل بقوم فقرؤه صمغا ولم يأتوه به ولكن دلوه
على موضعه وقالوا اذهب فاجنه، فقال هذا البيت يذم به أم مثواه واستعاره
أبو ذؤيب للشرف فقال
وكلاهما قد عاش عيشة ماجد * وجنى العلاء لو أن شيئا ينفع
وفي الحديث إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام دخل بيت المال
فقال يا حمراء ويا بيضاء احمري وابيضي وغري غيري
هذا جناي وخياره فيه * إذ كل جان يده إلى فيه
وأراد على أن يتمثل بهذا البيت الذي قاله في الجاهلية عمرو بن عدي اللحمي
ابن أخت جذيمة. أي أنه لم يتلطخ بشئ من فئ المسلمين بل وضعه مواضعه.
والجنى الثمر المجتنى ما دام طريا، وفي التنزيل العزيز (تساقط عليك رطبا جنيا)
وقال القائل " إنك لا تجنى من الشوك العنب " وفي حديث أبي بكر رضي الله عنه
أنه رأى أبا ذر رضي الله عنه فدعاه فجنى عليه فساره. جنى عليه أكب عليه
والأصل فيه من جنأ يجنا إذا مال عليه وعطف، ثم خفف. هذا بعض ما ألمت
به من مادة " جناية " لغة واستعمالا، وشواهد وأمثالا، وآثارا وقرآنا تضفي على
البحث كمالا، والله الموفق حالا ومآلا
344

قال المصنف رحمه لله تعالى
(باب تحريم القتل)
ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب عليه
القتل بغير حق حرام وهو من الكبائر العظام، والدليل عليه قوله عز وجل
(ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد
له عذابا عظيما) وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" لقتل مؤمن أعظم عند الله من زوال الدنيا " وروى ابن عباس رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لو أن أهل السماوات والأرض اشتركوا في
قتل مؤمن لعذبهم الله عز وجل الا أن لا يشاء ذلك "
(الشرح) قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جنهم خالدا فيها)
الآية. في صحيح البخاري عن ابن جبير قال، اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت
إلى ابن عباس فسألته عنها فقال نزلت هذه الآية (ومن يقتل مؤمنا متعمدا
فجزاؤه جهنم) هي آخر ما نزل وما نسخها شئ، وكذا رواه مسلم والنسائي من
طرق عن شبعة به ورواه أبو داود عن أحمد بن حنبل بسنده عن سعيد بن جبير
عن ابن عباس في الآية فقال ما نسخها شئ
وقال ابن جرير بإسناده عن يحيى الجابري عن سالم بن أبي الجعد قال " كنا
عند ابن عباس بعد ما كف بصره فأتاه رجل فناداه يا عبد الله ما ترى في رجل
قتل مؤمنا متعمدا؟ فقال جزاؤه جهنم خالدا فيها الخ آخر الآية، قال أفرأيت
إن تاب وعمل صالحا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس " ثكلته أمه، وأنى له التوبة
والهدى؟ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول: ثكلته
أمه قاتل مؤمن متعمدا جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله. تشخب أوداجه
من قبل عرش الرحمن يلزم قاتله بشماله، وبيده الأخرى رأسه يقول يا رب سل
هذا فيم قتلني؟ " وأيم الذي نفس عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسخها
من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم وما نزل بعدها من برهان. وقد رواه
345

أحمد في مسنده.
أما حديث " لزوال الدنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم "
فإني لم أعثر عليه من حديث أبي هريرة، ولا اتهم المصنف بالخطأ في عزوه إليه
فلست أهلا لذاك، وإنما وجدت الحديث في سنن النسائي من حديث بريدة رضي الله عنه
. وعنده أيضا من حديث ابن عمر ولفظه " لقتل مؤمن أعظم عند الله
من زوال الدنيا " وكذلك الترمذي وعند ابن ماجة من حديث البراء. أما
حديث ابن عباس فقد أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وأبي هريرة بلفظ
" لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لكبهم الله في النار "
في الديات.
أما الأحكام فإن القتل بغير حق حرام، والأصل فيه الكتاب والسنة والاجماع
أما الكتاب فقوله تعالى " ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق " وقوله تعالى
" وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطا " فأخبر أنه ليس للمؤمن أن يقتل مؤمنا
إلا خطأ، ولم يرد بقوله " الا خطأ " أن قتله خطأ يجوز، وإنما أراد لكن إذا
قتله خطأ فعليه الدية والكفارة.
وقوله " ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم " الآية، أما السنة فعلى ما مضى
من الأحاديث، وما سيأتي بما يجاوز الحصر. وأما الاجماع فإنه لا خلاف بين
الأمة في تحريم القتل بغير حق.
إذا ثبت هذا فمن قتل مؤمنا متعمدا بغير حق فسق واستوجب النار،
الا أن يتوب.
وحكى عن ابن عباس قوله " لا تقبل توبة القاتل ". ودليلنا قوله تعالى
(والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله الا بالحق
- إلى قوله تعالى - الا من تاب) الآية ولقوله صلى الله عليه وسلم " التوبة
تحت ما قبلها " ولان التوبة إذا صحت من الكفر فلان تصح من القتل أولى.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ويجب القصاص بجناية العبد، وهو أن يقصد الإصابة بما يقتل
غالبا فيقتله، والدليل عليه قوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس
346

والعين بالعين والأنف بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص)
وقوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد) الآية.
وقوله تعالى (ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب)
وروى عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل دم
امرئ مسلم الا بإحدى ثلاث: الزاني المحصن والمرتد عن دينه وقاتل النفس،
ولأنه لو لم يجب القصاص أدى ذلك إلى سفك الدماء وهلاك الناس ولا يجب
بجناية الخطأ، وهو أن يقصد غيره، فيصيبه فيقتله، لقوله عليه السلام " رفع عن
أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولان القصاص عقوبة مغلظة فلا
يستحق مع الخطأ ولا يجب في عمد الخطأ، وهو أن يقصد الإصابة بما لا يقتل
غالبا فيموت منه، لأنه لم يقصد القتل فلا يجب عليه عقوبة القتل، كما لا يجب
حد الزنا في وطئ الشبهة حيث لم يقصد الزنا.
(الشرح) قوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) الخ الآيات.
أخرج أحمد في مسنده عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن أبيه عن عبد الله بن عبد الله
ابن عباس عن أبيه قال إن الله أنزل ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون
وأولئك هم الظالمون وأولئك هم الفاسقون. أنزلها الله في الطائفتين من اليهود،
وكانت أحدهما قد قهرت الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا واصطلحوا على أن
كل قتيل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، وكل قتيل قتله الذليلة من
العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتى قدم النبي صلى الله عليه وسلم،
فقتلت الذليلة من العزيزة قتيلا، فأرسلت العزيزة إلى الذليلة تطلب مائة وسق،
فقالت الذليلة وهو لكان في حيين دينهما واحد ونسبهما واحد وبلدهما واحد دية
بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا وفرقا منكم. فأما إذ
قدم محمد فلا نعطيكم، فكادت الحرب تهيج بينهما (وهما قريظة والنضير) ثم
ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم، ثم ذكرت العزيزة
فقالت والله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، ولقد صدقوا ما أعطونا
هذا الا ضيما منا وقهرا لهم; فدسوا إلى محمد من يخبر لكم رأيه أن أعطاكم ما تريدون
347

حكمتموه وإن لم يعطكم حذرتم فلم تحكموه. فدسوا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ناسا من المنافقين ليخيروا لهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاءوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر الله رسوله بأمرهم كله وما أرادوا، فأنزل
الله تعالى (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون - إلى قوله تعالى - وكتبنا
عليهم فيها أن النفس بالنفس - إلى قوله تعالى - ومن لم يحكم بما أنزل الله
فأولئك هم الظالمون)
وروى الإمام أحمد بإسناده عن الزهري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قرأها (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين) نصب النفس ورفع
العين، وكذا رواه أبو داود والترمذي والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله
ابن المبارك. وقال الترمذي حسن غريب. وقال البخاري تفرد ابن المبارك بهذا
الحديث. وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من
قبلنا شرع لنا إذا حكى مقررا ولم ينسخ كما هو المشهور عند الجمهور، وكما حكاه
الشيخ أبو إسحاق الأسفراييني عن نص الشافعي وأكثر الأصحاب بهذه الآية حيث
كان الحكم عندنا على وفقها في الجنايات.
وقال الحسن البصري: هي عليهم وعلى الناس عامة. رواه ابن أبي حاتم،
وقد حكى الامام النووي في كتاب الصوم من المجموع في هذه المسألة ثلاثة أوجه
ثالثها: أن شرع إبراهيم حجة دون غيره وصحح منها عدم الحجية. ونقلها الشيخ
أبو إسحاق الأسفراييني أقولا عن الشافعي وأكثر الأصحاب. ورجح أنه حجة
عند الجمهور من أصحابنا. وقد حكى الإمام أبو قصر بن الصباغ في الشامل إجماع
العلماء على الاحتجاج بهذه الآية على ما دلت عليه.
أما حديث عثمان رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود في الديات عن سليمان
ابن حرب والترمذي في الفتن عن أحمد بن الضبي والنسائي في المحاربة عن إبراهيم
ابن يعقوب وعن مؤمل بن إهاب وعن أبي الأزهر أحمد بن الأزهر وابن ماجة
في الحدود عن أحمد بن عبدة، ولفظه " أن عثمان أشرف يوم الدار فقال أنشدكم
الله أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل دم امرئ مسلم إلا
بإحدى ثلاث، زنا بعد إحصان، أو ارتداد بعد اسلام، أو قتل نفسا بغير حق
348

فقتل به، فوالله ما زنيت في جاهلية ولا في إسلام، ولا ارتدت منذ بايعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا قتلت النفس التي حرم الله. فيم تقتلوني؟ "
قال الترمذي ورواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد فرفعه
وروى يحيى بن سعيد القطان وغير واحد عن يحيى بن سعيد هذا الحديث
فأوقفوه ولم يرفعوه، وقد روى هذا الحديث من غير وجه عن عثمان عن النبي
صلى الله عليه وسلم مرفوعا
ورواه الشيخان وأصحاب السنن وأحمد عن ابن مسعود بلفظ " قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله الا الله وأنى رسول الله
الا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة "
وروى أحمد والنسائي عن عائشة مرفوعا " لا يحل دم امرئ مسلم الا من ثلاثة
إلا من زنى بعد ما أحصن، أو كفر بعد ما أسلم، أو قتل نفسا فقتل بها " ورواه
مسلم عنهما بمعناه.
وفي لفظ رواه النسائي عنها " لا يحل قتل مسلم الا في إحدى ثلاث خصال
زان محصن فيرجم، ورجل يقتل مسلما متعمدا، ورجل يخرج من الاسلام
فيحارب الله عز وجل فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض " وأخرجه بهذا اللفظ
أبو داود والحاكم وصححه.
أما الأحكام فإنه إذا قتل من يكافئه عامدا - وهو أن يقصد قتله بما يقتل
غالبا فيموت منه - وجب عليه القصاص لقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن
النفس بالنفس الآية. وهذه الآية حجه لنا بلا خلاف، لان من أصحابنا يقول
شرع من قبلنا شرع لنا إذا لم يتصل به نكير. ومن قال منهم ليس بشرع لنا، فإن
الشرع قد ورد به ثبوت حكم هذه الآية في حقنا، لان النبي صلى الله عليه وسلم
قال للربيع بنت معوذ حين كسرت سن جارية من الأنصار " كتاب الله القصاص "
وليس للسن ذكر في القصاص إلا في هذه الآية. وقوله تعالى (كتب عليكم
القصاص في القتلى، الحر بالحر، والعبد بالعبد) الآية. وقوله تعالى (ولكم في
القصاص حياة)
ومعنى ذلك أن الانسان إذا علم أنه يقتل إذا قتل لم يقتل، فكان في ذلك
349

حياة لهما، وكانت العرب تقول في الجاهلية القتل أنفى (1) للقتل، وكان ما ورد به
القرآن أحسن لفظا وأشمل معنى. وقوله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه
سلطانا) والسلطان ههنا القصاص.
وروى عثمان رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل
دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث إلخ " وقد خرجناه آنفا، ولا يجب القصاص
للقتل الخطأ، وهو أن يقصد غيره فيصيبه فيقتله، لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع
عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولا يجب القصاص في عمد الخطأ
وهو أن يقصد إصابته بما لا يقبل غالبا فيموت منه، لأنه لم يقصد القتل فلم تجب
عليه عقوبة القتل.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ولا يجب القصاص على صبي ولا مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم
" رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن
المجنون حتى يفيق " ولأنه عقوبة مغلظة فلم يجب على الصبي والمجنون كالحدود
والقتل بالكفر. وفي السكران طريقان، ومن أصحابنا من قال يجب عليه القصاص
قولا واحدا، ومنهم من قال فيه قولان، وقد بيناه في كتاب الطلاق
(فصل) ويقتل المسلم بالمسلم، والذمي بالذمي، والحر بالحر، والعبد
بالعبد، والذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى، لقوله تعالى (كتب عليكم القصاص
في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى) ويقتل الذمي بالمسلم، والعبد
بالحر، والأنثى بالذكر، لأنه إذا قتل كل واحد منهم بمن هو مثله فلان يقتل بمن
هو أفضل منه أولى، ويقتل الذكر بالأنثى لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن
حزم عن أبيه عن جد " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن
بكتاب فيه الفرائض والسنن أن الرجل يقتل بالمرأة " ولأن المرأة كالرجل في حد
القذف فكانت كالرجل في القصاص.

(1) ورد هذا المثل بد دخول الترقيم في الحروف بصيغ مختلفة، مثل القتل
القى القتل، والقتل أبقى للقتل. والقتل أنقى للقتل
350

(الشرح) قوله تعالى (كتب عليكم القصاص في القتلى) الآية. ذكر سبب
نزولها العلامة ابن كثير في تفسيره فنقل ما رواه ابن أبي حاتم بالاسناد عن سعيد
ابن جبير قال يعنى إذا كان عمدا الحر بالحر. وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا
في الجاهلية قبل الاسلام بقليل، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد
والنساء، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا، فكان أحد الحيين يتطاول على
الآخر في العدة والأموال فحلفوا ألا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم،
والمرأة منا الرجل منهم، فنزل فيهم (الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى)
منها منسوخة نسختها " النفس بالنفس " أه
أما حديث " رفع القلم عن ثلاثة " فقد أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم في
المستدرك عن علي وعمر رضي الله عنهما، وقد مضى في غير ما موضع. وأما
حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده فقد أخرجه مالك في
الموطأ والشافعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب في كتابه إلى أهل اليمن أن
الذكر يقتل بالأنثى. وهو عندهما عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن
حزم عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن
حزم أن الذكر يقتل بالأنثى. ووصله نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن معمر
عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه عن جده، وجده محمد بن عمر بن حزم ولد
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يسمع منه. وكذا أخرجه عبد الرزاق
عن معمر ومن طريقه الدارقطني. ورواه أبو داود والنسائي من طريق ابن وهب
عن يونس عن الزهري مرسلا. ورواه أبو داود في المراسيل عن ابن شهاب قال
قرأت في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم حين بعثه إلى نجران
وكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم.
ورواه النسائي وابن حبان والحاكم البيهقي موصولا مطولا من حديث الحكم
ابن موسى عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن داود حدثني الزهري عن أبي بكر عن
أبيه عن جده، وفرقه الدارمي في مسنده عن الحكم مقطعا
قال الحافظ بن حجر; وقد اختلف أهل الحديث في صحة هذا الحديث فقال
أبو داود في المراسيل. قد أسند هذا الحديث ولا يصح، والذي في اسناد سليمان
351

ابن داود وهم إنما هو سليمان بن أرقم، وقال في موضع آخر لا أحدث به، وقد
وهم الحكم بن موسى في قوله سليمان بن داود، وقد حدثني محمد بن الوليد الدمشقي
أنه قرأ في أصل يحيى بن حمزة بن سليمان بن أرقم، وهكذا قال أبو زرعة الدمشقي
أنه الصواب وتبعه صالح جزرة وأبو الحسن الهروي وغيرهما
وقال صالح جزرة حدثنا دحيم، قال قرأت في كتاب يحيى بن حمزة حديث
عمرو بن حزم فإذا هو عن سليمان بن أرقم، قال صالح كتب عني هذه الحكاية
مسلم بن الحجاج.
قال الحافظ: ويؤيد هذه الحكاية ما رواه النسائي عن الهيثم بن مروان
عن محمد بن بكار عن يحيى بن حمزة عن سليمان بن أرقم عن الزهري وقال هذا
أشبه بالصواب. وقال ابن حزم في المحلى صحيفة عمرو بن حزم منقطعة لا تقوم
بها حجة وسليمان بن داود متفق على تركه.
وقال عبد الحق، سليمان بن داود الذي يروى هذه النسخة عن الزهري
ضعيف، ويقال إنه سليمان بن أرقم وتعقبه ابن عدي فقال، هذا خطأ إنما هو
سليمان بن داود وقد جوده الحكم بن موسى. وقال أبو زرعة عرضت على أحمد
فقال سليمان بن داود اليمامي ضعيف، وسليمان بن داود الخولاني ثقة، وكلاهما
يروى عن الزهري; والذي روى حديث الصدقات هو الخولاني، فمن ضعفه
فإنما ظن أنه اليمامي، وقد أثنى على سليمان بن داود الخولاني هذا أبو زرعة
وأبو حاتم وعثمان بن سعيد وجماعة من الحفاظ، وصححه من حيث الشهرة لا من
حيث الاسناد الإمام الشافعي في رسالته حيث قال لم يقبلوا هذا الحديث حتى
ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال ابن عبد البر هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند
أهل العلم يستغنى بشهرته عن الاسناد لأنه أشبه التواتر في مجيئه، لتلقى الناس
له بالقبول والمعرفة.
وقال يعقوب بن أبي سفيان لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابا أصح من
كتاب عمرو بن حزم فإن الصحابة والتابعين يرجعون إليه ويدعون رأيهم.
352

قال الحاكم: قد شهد عمر بن عبد العزيز وإما عصره الزهري بالصحة
لهذا الكتاب.
أما الأحكام فإنه لا يجب على الصبي والمجنون قصاص لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع
القلم عن ثلاث، عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون
حتى يفيق " ولان القصاص من حقوق الأبدان، وحقوق الأبدان لا تجب على
الصبي والمجنون كما قلنا في الصلاة والصوم، وإن قتل السكران من يكافئه عمدا
فهل يجب عليه القصاص؟ فيه طريقان، من أصحابنا من قال فيه قولان، ومنهم
من قال يجب فيه القصاص قولا واحدا، وقد مضى ذكر ذلك في الطلاق.
وان قتل رجلا وهو عاقل ثم جن أو سكر لم يسقط عنه القصاص، لان
القصاص قد وجب عليه فلا يسقط بالجنون والسكر كما لا يسقط عنه ذلك بالنوم
وقال الحنابلة في القصاص على السكران إذا قتل حال سكره بناء على وقوع طلاقه
وفيه روايتان فيكون في وجوب القصاص عليه وجهان
(أحدهما) أنه أشبه بالمجنون لزوال عقله، ولأنه غير مكلف أشبه الصبي
والمجنون. ورجح ابن قدامة منهم القصاص، لان الصحابة رضي الله عنهم
أقاموا سكره مقام قذفه فأوجبوا عليه حد القاذف فلولا أن قذفه موجب للحد عليه
لما وجب الحد بخطيئته. وإذا وجب الحد فالقصاص المتمحض حق آدمي أولى،
ولأنه حكم لو لم يجب القصاص والحد لأفضى إلى أن من أراد أن يعصي الله تعالى
شرب ما يسكره ثم يقتل ويزني ويسرق، ولا يلزمه عقوبة ولا مأتم، ويصير
عصيانه سببا لسقوط عقوبة الدنيا والآخرة عنه، ولا وجه لهذا، وفارق هذا
الطلاق، ولأنه قول يمكن الغاؤه بخلاف القتل.
فأما أن شرب أو أكل ما يزيل عقله غير الخمر على وجه محرم - فإن زال عقله
بالكلية بحيث صار مجنونا فلا قصاص عليه; وإن كان يزول قريبا ويعود من غير
تداو فهو كالسكر على ما فصل فيه.
(مسألة) وإن كان الجاني والمجني ممن يجد أحدهما بقذف الآخر فقد ذكرنا
أنه يجب القصاص على الجاني فإن قتل المسلم مسلما والكافر كافرا، سواء كانا على
دين واحد أو على دينين، أو قتل الرجل رجلا أو المرأة امرأة، وقتل الحر حرا
353

أو العبد عبدا وجب القصاص على القاتل لقوله تعالى (كتب عليكم القصاص في
القتلى) الخ الآية. ولان كل واحد منهما مساو لصحابه فقتل به، ويقتل الكافر
بالمسلم والعبد بالحر والأنثى بالذكر لقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس
بالنفس) ولأنه إذا قتل بمن يساويه فلان يقتل بمن هو أعلا منه أولى، ويقتل
الذكر بالأنثى، وهو قول أكثر العلماء.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما لا يقتل بها، وقال عطاء يكون ولى المرأة
بالخيار بين أن يأخذ ديتها وبين أن يقتل الرجل بها ويدفع إلى وليه نصف الدية.
وروى ذلك عن علي رضي الله عنه، ودليلنا قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة)
وقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) وهذا عام الا فيما خصه
الدليل، ولحديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده " أن النبي
صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بقتل الرجل بالمرأة " ولأنهما شخصان
يحد كل واحد منهما بقذف صاحبه فجرى القصاص بينهما كالرجلين والمرأتين،
ويقتل الخنثى بالرجل والمرأة، ويقتل الرجل والمرأة بالخنثى لقوله تعالى (وكتبنا
عليهم فيها أن النفس بالنفس)
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ولا يجب القصاص على المسلم بقتل الكافر، ولا على الحر بقتل
العبد، لما روى عن علي كرم الله وجهه أنه قال: من السنة أن لا يقتل مسلم بكافر
ومن السنة أن لا يقتل حر بعبد. فإن جرح ذمي ذميا ثم أسلم الجاني أو جرح
عبد عبدا ثم أعتق الجاني اقتص منه لأنهما متكافئان منه حال الوجوب والاعتبار
بحال الوجوب لان القصاص كالحد، والحد يعتبر بحال الوجوب، بدليل أنه إذا
زنى وهو بكر ثم أحصن أقيم عليه حد البكر
ولو زنى وهو عبد ثم أعتق أقيم عليه حد العبد، فوجب أن يعتبر القصاص
أيضا بحال الوجوب.
وإن قطع مسلم يد ذمي ثم أسلم ثم مات، أو قطع حر يد عبد ثم أعتق ثم
مات، لم يجب القصاص، لان التكافؤ معدوم عند وجود الجناية، فإن جرح
354

مسلم مسلما ثم ارتد المجروح ثم أسلم ثم مات، فإن أقام في الردة زمانا يسرى
الجرح في مثله لم يجب القصاص، لان الجناية في الاسلام توجب القصاص،
والسراية في الردة تسقط القصاص، فغلب الاسقاط، كما لو جرح جرحا عمدا
وجرحا خطئا، فإن لم يقم في الردة زمانا يسرى فيه الجرح ففيه قولان
أحدهما: لا يجب فيه القصاص، لأنه أتى عليه زمان لو مات فيه لم يجب
القصاص فسقط، والثاني: يجب القصاص وهو الصحيح، لان الجناية والموت
وجدا في حال الاسلام، وزمان الردة لم يسر فيه الجرح، فكان وجوده كعدمه
وان قطع يده ثم ارتد ثم مات ففيه قولان:
(أحدهما) يسقط القصاص في الطرف، لأنه تابع للنفس، فإذا لم يجب
القصاص في النفس لم يجب في الطرف
(والثاني) وهو الصحيح أنه يجب، لان القصاص في الطرف يجب مستقرا
فلا يسقط بسقوطه في النفس، والدليل عليه أنه لو قلع طرف إنسان ثم قتله
من لا قصاص عليه لم يسقط القصاص في الطرف وان سقط في النفس
(فصل) وان قتل مرتد ذميا ففيه قولان (أحدهما) أنه يجب القصاص،
وهو اختيار المزني لأنهما كافران، فجرى القصاص بينهما كالذميين
(والثاني) أنه لا يجب لان حرمة الاسلام باقية في المرتد بدليل أنه يجب
عليه قضاء العبادات، ويحرم استرقاقه، وإن كانت امرأة لم يجز للذمي نكاحها،
فلا يجوز قتله بالذمي، وان جرح مسلم ذميا ثم ارتد الجاني ثم مات المجني عليه لم
يجب القصاص قولا واحدا لأنه عدم التكافؤ في حال الجناية فلم يجب القصاص
وإن وجد التكافؤ بعد ذلك، كما لو جرح حر عبدا ثم أعتق العبد
وان قتل ذمي مرتدا فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال يجب عليه القصاص
إن كان القتل عمدا، والدية إن كان خطأ لان الذمي لا يقتل المرتد تدينا. وإنما
يقتله عنادا، فأشبه إذا قتل مسلما
وقال أبو إسحاق لا يلزمه قصاص ولا دية، وهو الصحيح، لأنه مباح الدم
فلم يضمن بالقتل، كما لو قتله مسلم. وقال أبو سعيد الإصطخري: ان قتله عمدا
وجب القصاص لأنه قتله عنادا; وان قتله خطأ لم تلزمه الدية لأنه لا حرمة له
355

(فصل) وإن حبس السلطان مرتدا فأسلم وخلاه فقتله مسلم لم يعلم بإسلامه
ففيه قولان (أحدهما) لا قصاص عليه لأنه لم يقصد قتل من يكافئه (والثاني) يجب
عليه القصاص، لان المرتد لا يخلى إلا بعد الاسلام، فالظاهر أنه مسلم فوجب
القصاص بقتله. وإن قتل المسلم الزاني المحصن ففيه وجهان (أحدهما) يجب عليه
القصاص، لان قتله لغيره فوجب عليه القصاص بقتله، كما لو قتل رجل رجلا
فقتله غير ولى الدم (والثاني) لا يجب، وهو المنصوص، لأنه مباح الدم فلا
يجب القصاص بقتله كالمرتد.
(الشرح) حديث علي كرم الله وجهه رواه أحمد والبخاري والنسائي وأبو داود
والترمذي عن أبي جحيفة قال " قلت لعلى هل عندكم شئ من الوحي ما ليس في
القرآن؟ فقال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلا في القرآن
وما في هذه الصحيفة. قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال العقل وفكاك الأسير
وأن لا يقتل مسلم بكافر.
وأخرج أحمد والنسائي وأبو داود والحاكم وصححه عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: المؤمنون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم، ألا
لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده.
أما الأحكام فقد قال الشافعي في الأم: وخطبته صلى الله عليه وسلم يوم
الفتح كانت بسبب القتيل الذي قتله خزاعة وكان له عهد، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: لو قتلت مسلما بكافر لقتلته به. وقال: لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو
عهد في عهده.
إذا ثبت هذا فإنه لا يقتل المسلم بالكافر، سواء كان الكافر ذميا أو مستأمنا
أو معاهدا، وروى ذلك عن عمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت ومعاوية، وبه
قال الحسن وعمر بن عبد العزيز والزهري والثوري وابن شبرمة وأحمد وإسحاق
وعطاء وعكرمة والأوزاعي ومالك، وقال الشعبي والنخعي وأبو حنيفة يقتل
المسلم بالذمي ولا يقتل بالمستأمن، وهو المشهور عن أبي يوسف، وروى عن
أبي يوسف أنه قال يقتل بالمستأمن
356

وقال أحمد، الشعبي والنخعي قالا: دية المجوسي واليهودي كدية المسلم وان
قتله يقتل به، هذا عجب: يصير اليهودي مثل المسلم؟ سبحان الله! ما هذا
القول؟ واسبشعه.
ودليلنا على أصحاب الرأي ما روى أبو جحيفة قال، قلت لعلي رضي الله عنه
يا أمير المؤمنين هل عندكم سوداء في بيضاء ليس في كتاب الله؟ قال لا والذي
فلق الحبة وبرأ النسمة ما علمته، إلا فهما يعطيه الله رجالا للقرآن وما في هذه
الصحيفة، قلت وما في هذه الصحيفة؟ قال فيها العقل وفكاك الأسير وألا
يقتل مسلم بكافر.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال، لا يقتل
مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده.
ومعنى قوله لا يقتل ذو عهد في عهده. أي لا يجوز قتل أهل الذمة، ولأنه
مسلم قتل كافرا فلم يقتل به كالمستأمن.
(فرع) وإن قتل الكافر كافرا ثم أسلم القاتل، أو جرح الكافر كافرا فمات
المجروح وأسلم الجارح قتل به. وقال الأوزاعي لا يقتل به. ودليلنا ما روى
البيهقي من حديث عبد الرحمن بن اليلماني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل
مسلما بمعاهد وقال أنا أكرم من وفي بذمته. وتأويله أنه قتله كافرا ثم أسلم،
ولان القصاص حد والاعتبار بالحد حال الوجوب دون حال الاستيفاء، بدليل
أنه لو زنى وهو بكر فلم يحد حتى أحصن، أو زنى وهو عبد فلم يحد حتى أعتق
اعتبر حال الوجوب، وهذا كان مكافئا له حال الوجوب فلم يتغير بما طرأ بعده
وإن جرح الكافر كافرا فأسلم الجارح ثم مات المجروح ففيه وجهان
(أحدهما) لا قصاص عليه لأنه قد أتت عليه حالة لو قتله فيها لم يجب عليه
القصاص (والثاني) يجب عليه القصاص وهو المشهور اعتبارا بحالة الإصابة،
كما لو مات المجروح ثم أسلم الجارح
(مسألة) ان قتل حرا عبدا لم يقتل به، سواء كان عبده أو عبد غيره.
وروى ذلك عن أبي بكر وعمر وعلى وزيد بن ثابت وابن الزبير، وبه قال
مالك وأحمد، والنخعي يقتل به، سواء كان عبده أم عبد غيره.
357

وقال أبو حنيفة، يقتل بعبد غيره ولا يقتل بعبد نفسه، فإن قتل حر كافر
عبدا مسلما لم يقتل به، لان الحر لا يقتل بالعبد، وإن قتل عبد مسلم حرا كافرا
لم يقتل به، لان المسلم لا يقتل بالكافر، وإن قتل عبد عبدا ثم أعتق القاتل
وجرح عبد عبد فمات المجروح ثم أعتق الجارح قتل به لأنه كان مساويا له حال
الجناية، وإن أعتق الجارح ثم مات المجروح فهل يجب عليه القصاص؟ فيه وجهان
كما قلنا في الكافر إذا جرح كافرا فأسلم الجارح ثم مات المجروح. وإن قتل ذمي
عبدا ثم لحق الذمي بدار الحرب وأخذه المسلمون واسترقوه لم يقتل به، لأنه
كان حين وجوب القصاص حرا فلم يتغير حكمه.
(فرع) وإن قطع مسلم يد ذمي ثم أسلم ثم مات فلا قصاص على المسلم
وكذلك إذا قطع حر يد عبد ثم أعتق العبد ثم مات فلا قصاص على الحر، لان
القصاص لما سقط في القطع سقط في سرايته، ولان القصاص - معتبرا بحال
الجناية - هو غير كاف له، فلم يجب عليه القصاص كما قلنا في الكافر إذا قطع
يد الكافر ثم مات المقطوع وأسلم القاطع، وإن قطع مسلم يد مرتد أو يد حربي
ثم أسلم المقطوع ثم مات لم يجب على القطاع قود ولا دية، لأنه لم يكن مضمونا
حال الجناية. ومن أصحابنا من قال يجب فيه دية مسلم لأنه مسلم حال استقرار
الجناية، والأول أصح
وإن رمى مسلم إلى ذمي سهما فأسلم ثم وقع به السهم فمات لم يجب به القود
ووجب فيه دية مسلم، وفارق جزاء الصيد لأنه مال. فاعتبر فيه حال الإصابة
لأنه حال الاستقرار والقود ليس بمال فاعتبر فيه حال الارسال. فإذا أوجبنا
الدية في المرتد والحربي إذا أسلما قبل الإصابة وبعد الارسال، فإن أبا إسحاق
المروزي قال لا تجب الدية في الحربي وتجب في المرتد، لان الحربي كان له رميه
والمرتد ليس له قتله وإنما قتله إلى الامام. ومن أصحابنا من قال لا دية فيهما،
والأول هو المنصوص.
وإن قطع مسلم يد مسلم ثم ارتد المجروح ثم أسلم ثم مات من الجراحة فهل
يجب على الجارح القود؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال ينظر فيه فإن أقام في
الردة زمانا تسرى فيه الجراحة لم تجب وعليه القود في النفس قولا واحدا لان
358

الجناية في الاسلام توجب القصاص والسراية في حال الردة لا توجب القصاص وقد خرجت
الروح منهما فلم يجب القصاص كما لو جرحه جراحة عمدا وجراحة خطأ ومات منهما
وإن أقام في الردة زمانا لا تسري فيه الجراحة فهل يجب عليه القصاص في
النفس؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب القصاص لان الجناية والسراية في حال الاسلام وزمان
الردة لا تأثير له.
والثاني: لا يجب القصاص لأنه كما لو طلق امرأته ثلاثا في مرض موته ثم
ارتدت ثم مات فإنها لا ترثه. ومن أصحابنا من قال القولان في الحالين، لان
الشافعي رحمه الله قال في الأم: لو قطع ذمي يد مستأمن فنقض العهد في عهد
المستأمن ولحق بدار الحرب ثم عاد بأمان ثم سرت إلى نفسه، فهل على القاطع
القود؟ فيه قولان، ونقض المستأمن العهدة كالردة للمسلم
(مسألة) وإن قتل المرتد ذميا فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان:
أحدهما: يجب عليه القود، وهو اختيار الشافعي والمزني لأنهما كافران
فجرى القصاص بينهما كالذميين، ولان الذمي أحسن حالا من المرتد، لأنه مقر
على دينه والمرتد غير مقر على دينه، فعلى هذا يجب عليه القصاص سواء رجع
إلى الاسلام أو لم يرجع، لان القصاص قد وجب عليه حال الجناية فلم يسقط
بالاسلام كالذمي إذا جرح ثم أسلم الجارح ثم مات.
(والثاني) لا يجب عليه القصاص، لأنه شخص يجب في ماله الزكاة فلم
يقتل بالذمي كالمسلم، فعلى هذا يجب عليه الدية، فإن رجع إلى الاسلام تعلقت
الدية بذمته. وان مات أو قتل على الردة تعلقت بماله. وإن جرح المسلم ذميا ثم
ارتد الجارح ثم مات المجروح لم يجب القصاص قولا واحدا، وان قتل الذمي
مرتدا فهل يجب عليه القود؟
قال الخراسانيون من أصحابنا يبنى على القولين في المرتد إذا قتل الذمي.
وقال البغداديون من أصحابنا فيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول أبى على
ابن أبي هريرة - أنه يجب عليه القود، فإن عفا عنه أو كانت الجناية خطأ
وجبت فيه الدية، لان قتله بالردة بالمسلمين، فإذا قتله غيرهم وجب عليه الضمان
359

كما لو قتل رجل رجلا فقتله غير ولى الدم (والثاني) وهو قول أبى الطيب وأبي سعيد
الإصطخري أنه يجب عليه القود، فإن عفا عنه أو كانت الجناية خطأ لم يجب
عليه الدية، لان القود إنما يجب عليه لاعتقاد الذمي أنه مثله وأنه مكافئ له ولا
يجب عليه الدية، لأنه لا قيمة لديته (والثالث) وهو قول أبي إسحاق - وهو
الأصح - أنه لا يجب عليه القود ولا الدية، لان كل من لا يضمنه المسلم بقود
ولادية لم يضمنه الذمي كالحربي. وإن قتل المرتد مرتدا فهل يجب عليه القصاص
فيه وجهان حكاهما الصيمري، أحدهما يجب عليه القصاص لأنه ربما يسلم القاتل
(مسألة) إذا حبس السلطان مرتدا فأسلم وخلاه فقتله رجل قبل أن يعلم
بإسلامه فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان
(أحدهما) لا يجب عليه القود لأنه لم يقصد قتل من يكافئه، فعلى هذا يجب
عليه دية مسلم.
(والثاني) يجب عليه القود، لأن الظاهر من المرتد أنه لا يخلى من حبس
السلطان وفي دار الاسلام إلا بعد إسلامه، وقال الطبري: وإن أسلم الذمي
وقتله المسلم قبل أن يعلم بإسلامه أو أعتق العبد فقتله حر قبل أن يعلم بعتقه
فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان كالتي قبلها. وأما الزاني المحصن إذا قتله رجل
بغير إذن الإمام ففيه وجهان:
(أحدهما) أن عليه القود لان قتل المحصن إلى الامام، فإذا قتله غيره بغير
إذنه وجب عليه القود كما لو قتل رجل رجلا فقتله غير ولى الدم
(والثاني) لا يجب عليه القود - وهو المنصوص - لما روى أن رجلا
قال " يا رسول الله وجدت مع امرأتي رجلا أفأمهله حتى أقيم البينة؟ قال نعم "
فدل على أنه إذا أقام البينة لا يمهله بل له أن يقتله
وروى ابن المسيب أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فقتله فأشكل فيه الامر
على معاوية رضي الله عنه فكتب في ذلك إلى أبى موسى الأشعري رضي الله عنه
فسأله أن يسأل عليا رضي الله عنه عن ذلك فقال علي رضي الله عنه: ما هذا شئ
وقع بأرضنا عزمت عليك إلا أخبرتني، فقال له: كتب إلى بذلك معاوية،
360

فقال علي: أنا أبو الحسن لها، إن أقام البينة وإلا أعطى بزمته (والزمة الحبل
الذي يربط به الرجل إذا قدم للقتل)
ويروى العمراني في البيان أن رجلا على عهد عمر رضي الله عنه خرج في
غزوة وترك يهوديا في بيته يخدم امرأته فلما كان في بعض الليالي خرج رجل من
المسلمين في سحر فسمع اليهودي يقول:
وأشعث غره الاسلام من * خلوت بعرسه ليل التمام
أبيت على ترائبها ويمسي * على حرد... الخ ما قال
فدخل عليه رجل وقتله، فأخبر بذلك عمر رضي الله عنه فأهدر دم اليهودي
ولم تثبت عندي هذه الواقعة لأمور كثيرة، لأنه في حاجة إلى إثبات إحصان
اليهودي وإن أربعة شهود على الاقرار بالشعر إذا قلنا بصحة الشهادة على الاقرار
وقلنا بصحة كونه شعرا، وقلنا بعدم الرجوع إلى الامام هل يصح، وسيأتي في
الحدود، وأخيرا صحة إسناد الرواية
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجب القصاص على الأب يقتل ولده، ولا على الأم بقتل
ولدها، لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لا يقاد الأب من أبيه " فإذا ثبت هذا في الأب ثبت في الأم، لأنها كالأب
في الولادة، ولا يجب على الجد وان علا، ولا على الجدة وان علت بقتل ولد
الولد وان سفل لمشاركتهم الأب والأم في الولادة وأحكامها
وإن ادعى رجلان نسب لقيط ثم قتلاه قبل أن يلحق نسبة بأحدهما لم يجب
القصاص لان كل واحد منهما يجوز أن يكون هو الأب، وإن رجعا في الدعوى
لم يقبل رجوعهما، لان النسب حق وجب عليهما، فلا يقبل رجوعهما فيه بعد
الاقرار. وإن رجع أحدهما وجب عليه القصاص، لأنه ثبت الأبوة للآخر
وانقطع نسبه من الراجع.
وان اشترك رجلان في وطئ امرأة وأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد
منهما وقتلاه قبل أن يلحق بأحدهما لم يجب القصاص، وإن أنكر أحدهما النسب
361

لم يقبل إنكاره ولم يجب عليه القصاص، لان بإنكاره لا ينقطع النسب عنه ولا
يلحق بالآخر بخلاف المسألة قبلها، فإن هناك الحق النسب بالآخر وانقطع عن
الراجع، وإن قتل زوجته وله منها ابن لم يجب عليه القصاص، لأنه إذا لم يجب
له عليه بجنايته عليه فلا يجب له عليه بجنايته على أمه، وإن كان له إبنان أحدهما
منه والآخر من غيره لم يجب عليه القصاص، لان القصاص لا يتبعض، فإذا
سقط نصيب ابنه سقط نصيب الآخر، كما لو وجب لرجلين على رجل قصاص
فعفا أحدهما عن حقه، وإن اشترى المكاتب أباه وعنده عبد فقتل أبوه العبد لم
يجز للمكاتب أن يقتص منه، لأنه إذا لم يجب له القصاص عليه بجنايته عليه لم
يجب بجنايته على عبده.
(فصل) ويقتل الابن بالأب لأنه إذا قتل بمن يساويه فلان يقتل بمن هو
أفضل منه أولى، وإن جنى المكاتب على أبيه وهو في ملكه ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يقتص منه، لان المولى لا يقتص منه لعبده
(والثاني) يقتص منه، واليه أو ما الشافعي رحمه الله في بعض كتبه، لان
المكاتب ثبت له حق الحرية بالكتابة، وأبوه ثبت له حق الحرية بالابن، ولهذا
لا يملك بيعه فصار كالابن الحر إذا جنى على أبيه الحر
(فصل) وإن قتل مسلم ذميا أو قتل حر عبدا أو قتل الأب ابنه في المحاربة
ففيه قولان (أحدهما) لا يجب عليه القصاص لما ذكرناه من الاخبار، ولان
من لا يقتل بغيره إذا قتله في غير المحاربة لم يقتل به إذا قتله في المحاربة كالمخطئ
(والثاني) أنه يجب لان القتل في المحاربة تأكد لحق الله تعالى، حتى لا يجوز
فيه عفو الولي، فلم يعتبر فيه التكافؤ كحد الزنا.
(الشرح) حديث عمر بن الخطاب نازع في صحته ابن نافع وابن عبد الحكم
وابن المنذور وقالوا - واللفظ لابن المنذر - قد رووا في هذه أخبارا
قلت، والحديث أخرجه الترمذي في الديات عن أبي سعيد الأشج وابن ماجة
في الديات عن أبي بكر بن أبي شيبة، كما أخرجه الترمذي فيه عن ابن بشار من
حديث ابن عباس ولفظه لا تقام الحدود في المساجد ولا يقتل الوالد بالولد " وأخرجه
362

ابن ماجة عن ابن عباس أيضا في الحدود عن هارون بن محمد بن بكار. وزعم
ابن قدامة في المغنى (1) رواية النسائي له عن عمر ولم أجده هناك. وقد ذكر
الحديثين (أعني حديث عمر وحديث ابن عباس) ابن عبد البر وقال هو حديث
مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق، مستفيض عندهم يستغنى بشهرته عن
الاسناد فيه، حتى يكون الاسناد في مثله مع شهرته تكلفا، ولان النبي صلى الله عليه وسلم
قال " أنت ومالك لأبيك " وقضية هذه الإضافة تمليكه إياه، فإذا لم تثبت حقيقة
الملكية بقيت الإضافة شبهة في درء القصاص لأنه يدرأ بالشبهات، ولأنه سبب
ايجاده فلا ينبغي أن يتسلط بسببه على اعدامه. وما ذكرناه يخص العمومات
ويفارق الأب سائر الناس
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يقتل والد بولد لأنه اجماع
ولا حد من قبل أم ولا أب.
وجملة ذلك أن الأب إذا قتل ولده لم يجب عليه القصاص، وبه قال عمر
وابن عباس من الصحابة، ومن الفقهاء ربيعة والأوزاعي أبو حنيفة وأحمد
وإسحاق. وقال ابن نافع وابن عبد الحكم وابن المنذر: يقتل به لظاهر الكتاب
والاخبار الموجبة للقصاص، ولأنهما حران مسلمان من أهل القصاص فوجب
أن يقتل كل واحد منهما بصاحبه كالأجنبيين
وقال مالك: ان رماه بالسيف فقتله لم يقتل لأنه قد يريد بذلك التأديب.
وان أضجعه وذبحه قتل به. دليلنا ما روى عمر وابن عباس رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يقاد والد بولده " ولان كل من لا يقتل به إذا
رماه بالسيف لم يقتل به، وان أضجعه وذبحه كالمسلم إذا ذبح الكافر
فإن قيل، ما معنى قول الشافعي لأنه اجماع، ومالك يخالف. فله تأويلان
أحدهما أنه أراد به اجماع الصحابة، لأنه روى عن عمر وابن عباس ولا مخالف
لهما في الصحابة، والثاني أنه أراد إذا رماه بالسيف فإنه اجماع، ولا تقتل الأم

(1) من أمهات الكتب في الشريعة على مذهب أحمد ولم يعن أحد بتحقيق
أحاديثه وتحرير أقواله في هوامش دقيقة مدروسة، وقد حاولنا ذلك في
هامش نسختنا " المطيعي "
363

ولا أحد من الجدات من قبل الأم أو الأب، ولا أحد من الأجداد من قبل
الأب والأم بالولد وان سفل
قال الطبري: وذكر صاحب التلخيص قولا آخر أن غير الأب من الأمهات
والأجداد يقتلون بالولد. قال أصحابنا ولا يعرف هذا للشافعي، ولعله قاس على
رجوعهم في هبتهم له فإن فيه قولين عند الخراسانيين. والدليل عليه الحديث
" لا يقاد والد بولده والوالد يقع على الجميع، ولان ذلك حكم يتعلق بالولادة
فشاركوا فيه الأب كالعتق بالملك ووجوب النفقة
(فرع) وإن ادعى رجلان نسب لقيط ولابنة لأحدهما عرض على القافة
- فإن قتلاه قبل أن يلحق بأحدهما - لم يجب على أحدهما قود لان كل واحد
منهما يجوز أن يكون أباه، فإن رجعا عن الاقرار بنسبه لم يسقط نسبه عن
أحدهما، لان معنى من أقر بنسب احتمل صدقه لم يجز إسقاطه برجوعه، فإن
رجع أحدهما وأقام الآخر بينة على دعواه انتفى نسبه عن الراجع ولحق بالآخر
لان رجوع الراجع لا يسقط نسبه، ويسقط القصاص عن الذي لحق نسبه به،
ويجب القصاص على الراجع، لأنه شارك الأب، ولا يكون القصاص للأب
لأنه قاتل، بل يكون لورثة القتيل، ويجب على الأب لهم نصف الدية
وان تزوج رجل امرأة في عدتها من غيره ووطئها جاهلا بالتحريم وأتت
بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما فقتلاه قبل أن يلحق بأحدهما لم يجب
على أحدهما قود لجواز أن يكون كل واحد منهما أباه، فإن رجعا لم يقبل رجوعهما
فإن رجع أحدهما وأقدم الاخر على الدعوى لم يسقط نسبه عن الراجع ولم يجب
عليه القود، ويفارق التي قبلها لان الأبوة هناك ثبتت بالاعتراف فقبل رجوعه
مع إقامة الاخر على الدعوى، وهنها الأبوة ثبتت بالفراش فلم تسقط بالرجوع
(فرع) وان قتل رجل زوجته وله منها ابن لم يجب له على الأب القود،
لأنه إذا لم يقد به إذا قتله لم يجب عليه القود بالإرث من أمه، وإن كان لها ابنان
أحدهما من زوجها القاتل لها والثاني من آخر لم يجب على الزوج القود، لان القود
يكون مشتركا بين الاثنين، والابن لا يثبت له القود على أبيه، فإذا سقط حقه
من القود سقط حق شريكه، كما لو ثبت القود على رجلين فعفى أحدهما
364

(مسألة) قوله " ويقتل الابن بالأب إلخ " فجملة ذلك أن الولد يقتل بالوالد
لان الوالد أكمل منه فقتل به، كما يقتل الكافر بالمسلم والعبد بالحر والمرأة بالرجل
وذلك كله إجماع، فإن كان هناك رجل له زوجة وهما متوارثان وبينهما إبنان
فقتل أحد الاثنين أباهما عمدا ثم قتل الابن الاخر أمهما عمدا فإن القصاص يجب
على قاتل الأم ويسقط عن قاتل الأب، لأنه لم قتل الابن الأب لم يرثه، وإنما
ترث الزوجة الثمن وقاتل الأم الباقي وملكا عليه القود، فلما قتل الابن الاخر الأم
لم يرثها وإنما يرثها قاتل الأب وقد كانت تملك عليه ثمن القود وانتقل ذلك إليه،
فإذا ملك بعض ما عليه من القود سقط عنه القود لأنه لا يتبعض فسقط الجميع،
وكان القاتل الأب القود على قاتل الأم، لأنه لا وراث لها سواه، ولقاتل الأم
على قاتل الأب سبعة أثمان دية الأب، فإن عفا قاتل الأب عن قاتل الأم وجب
له عليه دية الأم، وهل يسقط عن كل واحد منهما ما يساوى ماله على الاخر؟
على الأقوال الأربعة في المقاصصة.
فإذا قلنا يسقط بقي على قاتل الأب ثلاثة أثمان دية الأب، فإذا قلنا لا يسقط
أدى كل واحد منهما ما عليه للآخر، وان اقتضى قاتل الأب من قاتل الأم، فإن كان
لقاتل الأم ورثة غير قاتل الأب طالبوه بسبعة أثمان دية الأب، وإن لم يكن
له وراث غيره فهل يرثه؟ فيه وجهان في القاتل بالقصاص هل يرث؟ الصحيح أنه
لا يرثه، فأما إذا لم يرث الزوجة من الزوج - فإن كانت بائنا منه أو كانت غير
بائن منه إلا أن أحدهما جرح أباه وجرح الاخر أمه ثم خرجت روحاهما في حالة
واحدة، فإن كل واحد من الاثنين لا يرث ممن قتله، ولكنه يرث الابن الاخر.
واختلف أصحابنا هل يثبت القود في ذلك؟ فقال أكثرهما يجب لكل واحد منهما
القود على أخيه، لان كل واحد منهما ورث من قتله أخوة فوجب له على أخيه
القود، فعلى هذا إن كان قاتل الأب قتله أولا أقتص منه قاتل الأم، فإن كان
لقاتل الأب وراث غير قاتل الأم اقتص من قاتل الأم، وإن لم يكن له وارث
غير قاتل الأم، فان قلنا إن القتل بالقصاص لا يمنع الميراث - ورث القود على
نفسه وسقط. وإن قلنا وإن القتل بالقصاص يمنع الميراث انتقل القصاص إلى
من بعده من العصبات، فإن لم تكن عصبة كان القصاص إلى الامام، وإن قتلاهما
365

حالة واحدة أو جرحاهما وخرجت روحهما في حالة واحدة ثبت لكل واحد
منهما القصاص على صاحبه ولا يقدم أحدهما على الاخر بل إن تشاحا في البادئ
منهما أقرع بينهما. فإذا خرجت القرعة لأحدهما فاقتص، أو بادر أحدهما فقتل
الاخر من غير قرعة فقد استوفى حقه ولوارث المقتول أن يقتل الابن المقتص،
وإن كان المقتص من ورثته فهل يرثه، على الوجهين، الصحيح لا يرثه.
وقال ابن اللبان: القصاص لا يثبت ههنا لأنه لا سبيل إلى أن يستوفى كل
واحد منهما القصاص من صاحبه، فلو بدأ أحدهما فاقتص من أخيه بطل حق
المقتص منه من القصاص، لان حقه ينتقل إلى وارثه ان شاء قتل وان شاء
ترك. وأما القرعة فلا تستعمل في إثبات القصاص، فعلى هذا يكون على قاتل
الأب دية الأم لقاتل الأب
قال ابن اللبان: فان مات أحد القاتلين قبل أن يتحاكما كان لورثة الميت أن
يقتلوا الاخر، ويرجع الاخر أو وارثه في تركة الميت بدية الذي قتله الميت من
الأبوين، ولا يقال إن القصاص سقط ثم وجب لأنه لم يثبت لا لأنه لم يجب
ولكن لم يثبت لتعذر الاستيفاء، وإذا أمكن الاستيفاء ثبت والأول هو المشهور
بقي أن تعرف أن الشريعة السمحة جعلت لولي الدم الحق في استيفاء حقه أو
العفو عن القصاص اكتفاء بالدية أو العفو عنهما، وما جر إلى انتشار جرائم
الثأر في ديارنا المصرية لا سيما في الصعيد الا إغفال القوانين الوضعية هذا الجانب
الأصلي في استقرار الامن في البلاد، فان ركون المرء إلى من يتولى الحكم في قضيته
بما أنزل الله يجعله قابلا كل حكم يصدر، وقد ينشر التسامح والعفو بينهم (فمن
عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) ومن ثم تتلاشى أسباب
الغمر والسخائم والأحقاد التي تنمو بنمو الثأر. وقد نبه على هذا المستشار أحمد
موافى النائب العام الأسبق وفي كتابه بحث مقارن بين الشريعة والقوانين الوضعية
ولا شك أن مراعاة شعور ولي الدم له أثره في امتصاص غضبه وتهدئة ثائرته.
وحرص الشرع على ألا يهدر دم في الاسلام يطفئ الإحن بين الناس ويحسم
ما بينهم من نزاع وأضغان (ومن أصدق من الله حكما لقوم يوقنون)
(فرع) إذا كان هناك أربعة أخوة يرث بعضهم بعضا فقتل الكبير الذي يليه
366

وقتل الثالث الصغير، وجب القصاص على الثالث وعلى الكبير نصف الدية لان
الكبير لما قتل الثاني وجب عليه القصاص للثالث والرابع، فلما قتل الثالث الرابع
وجب القصاص على الثالث للكبير وسقط القصاص على الكبير لأنه وارث
بعض دم نفسه عن الرابع فسقط عنه القصاص ووجب عليه للثالث نصف دية
الثاني. وإن قتل رجل ابن أخيه وورث المقتول أبوه ثم مات أبو المقتول ولم
يخلف وارثا غير القاتل فإنه يرثه ويسقط عنه القصاص لأنه ملك جميع ما ملكه
أبو المقتول فكأنه ملك دم نفسه فسقط عنه القصاص
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتقتل الجماعة بالواحد إذا اشتركوا في قتله، وهو أن يجنى كل
واحد منهم جناية لو انفرد بها ومات أضيف القتل إليه ووجب القصاص عليه،
والدليل عليه ما روى سعيد بن المسيب " أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل
سبعة أنفس من أهل صنعاء قتلوا رجلا، وقال لو تمالا فيه أهل صنعاء لقتلتهم "
ولأنا لو لم نوجب القصاص عليهم جعل الاشتراك طريقا إلى إسقاط القصاص
وسفك الدماء.
فإن اشترك جماعة في القتل وجناية بعضهم عمدا وجناية البعض خطأ لم يجب
القصاص على واحد منهم لأنه لم يتمحض قتل العمد فلم يجب القصاص
وإن اشترك الأب والأجنبي في قتل الابن وجب القصاص على الأجنبي،
لان مشاركة الأب لم تغير صفة العمد في القتل فلم يسقط القود عن شريكه.
كمشاركة غير الأب
وإن اشترك صبي وبالغ في القتل - فإن قلنا إن عمد الصبي خطأ - لم يجب
القصاص على البالغ لان شريكه مخطئ. وإن قلنا إن عمده عمد وجب، لان
شريكه عامد فهو كشريك الأب
وإن جرح رجل نفسه وجرحه آخر أو جرحه سبع وجرحه آخر ومات.
ففيه قولان:
(أحدهما) يجب القصاص على الجارح لأنه شاركه في القتل عامدا فوجب
367

عليه القصاص كشريك الأب (والثاني) لا يجب لأنه إذا لم يجب على شريك المخطئ
وجنايته مضمونة فلان لا يجب على شريك الجارح نفسه السبع وجنايتهما غير
مضمونة أولى. وإن جرحه رجل جراحة وجرحه آخر مائة جراحة وجب القصاص
عليهما، لان الجرح له سراية في البدن وقد يموت من جرح واحد ولا يموت من
جراحات لم تمكن إضافة القتل إلى واحد بعينه ولا يمكن إسقاط القصاص فوجب
على الجميع. وإن قطع أحدهما يده وحز الاخر رقبته أو قطع حلقومه ومريئه أو
شق بطنه فأخرج حشوته، فالأول قاطع يجب عليه ما يجب على القاطع والثاني
قاتل لان الثاني قطع سراية القطع فصار كما لو اندمل الجرح ثم قتله الاخر. وان
قطع أحدهما حلقومه مريئه أو شق بطنه وأخرج حشوته ثم حز الاخر رقبته
فالقاتل هو الأول لأنه لا تبقى بعد جنايته حياة مستقرة وإنما يتحرك حركة مذبوح
ولهذا يسقط كلامه في الاقرار والوصية والاسلام والتوبة. وان أجافه جائفة
يتحقق الموت منها الا أن الحياة فيه مستقرة ثم قتله الاخر كان القاتل هو الثاني،
لان حكم الحياة باق. ولهذا أوصى عمر رضي الله عنه بعد ما سقى اللبن وخرج من
الجرح ووقع الإياس منه فعمل وصيته فجرى مجرى المريض المأيوس منه إذا قتل
وإن جرحه رجل فداوى جرحه بسم غير موح الا أنه يقتل في الغالب، أو خاط
جرحه في لحم حي أو خاف التآكل فقطعه فمات ففي وجوب القتل على الجاني طريقان
من أصحابنا من قال فيه قولان، أحدهما يجب عليه القتل. والثاني لا يجب لأنه
شاركه في القتل من لا ضمان عليه فكان في قتله قولان، كالجارح إذا شاركه المجروح
أو السبع في الجرح ومنهم من قال لا يجب عليه القتل قولا واحدا لان المجروح ههنا لم يقصد
الجناية وإنما قصد المداواة فكان فعله عمد خطأ فلم يجب القتل على شريكه والمجروح
هناك والسبع وقصدا الجناية فوجب القتل على شريكهما، وإن كان على رأس مولى
عليه سلعة فقطعها وليه أو جرحه رجل فداواه الولي بسم غير موح أو خاط جرحه
في لحم حي ومات ففيه قولان، أحدهما يجب على الولي القصاص لأنه جرح جرحا مخوفا
فوجب عليه القصاص كما وفعله غير الولي والثاني لا قصاص عليه لأنه لم يقصد الجناية وإنما
قصد المداواة وله في نظر مداواته فلم يجب عليه القصاص، فإن قلنا يجب عليه القصاص
368

وجب على الجارح لأنهما شريكان في القتل، وان قلنا لا قصاص عليه لم يجب
على الجارح لأنه شارك من فعله عمد خطأ
(الشرح) في هذا الفصل لغات، فقوله حشوته هي يقال حشوة بالكسر
والضم. وحلقومه مجرى النفس، وهو القصبة والمرئ مدخل الطعام والشراب
وقوله " غير موح " أي غير مسرع، والوحا السرعة; وقوله عليه سلعة، فالسلعة
بالكسر زيادة في البدن كالجوزة وتكون في مقدار حمصة إلى بطيخة، والسلعة
بالفتح الجراحة، والجائفة الطعنة التي تبلغ الجوف، وجافه الدواء فهو مجوف
إذا دخل جوفه، وفي الحديث في الجائفة ثلث الدية "
أما الأحكام فإن الجماعة تقتل بالواحد، وهو أن يجنى عليه كل واحد منهم
جناية لو انفرد بها مات منها وجب عليه القصاص، وبه قال من الصحابة عمر
وعلى وابن عباس والمغيرة بن شعبة. ومن التابعين ابن المسيب وعطاء والحسن
وأبو سلمة. ومن الفقهاء الأوزاعي والثوري ومالك وأحمد وأبو حنيفة وإسحاق
وأبو ثور. وقال محمد بن الحسن ليس هذا بقياس إنما صرنا إليه من طريق الأثر والسنة.
وقال ابن الزبير ومعاذ بن جبل والزهري وابن سيرين: لا يقتل الجماعة
بالواحد بل للولي أن يختار واحدا منهم فيقتله ويأخذ من الباقين حصتهم من الدية
وقال ربيعة وداود: يسقط القصاص، وبه قال حبيب بن أبي ثابت وعبد الملك
وابن المنذر، وحكاه ابن أبي موسى عن ابن عباس
ووجه قول ابن الزبير ومن قال مثله أن كل واحد منهم مكافئ له فلا تستوفى
أبدال بمدل واحد كما لا تجب ديات لمقتول واحد، ولان الله تعالى قال (الحر
بالحر) وقال (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) فمقتضاه أنه لا يؤخذ بالنفس
أكثر من نفس واحدة، ولان التفاوت في الأوصاف يمنع، بدليل أن الحر
لا يؤخذ بالعبد، والتفاوت في العدد أولى. قال ابن المنذر: لا حجة مع من
أوجب قتل جماعة بواحد.
دليلنا قوله تعالى (ولكم في القصاص حياة) فأوجب القصاص لاستيفاء
الحياة، وذلك أنه متى علم الانسان أنه إذا قتل غيره قتل به لم يقدم على القتل،
فلو قلنا لا تقتل الجماعة بالواحد لكان الاشتراك يسقط القصاص، وسقط هذا
369

المعنى. وقوله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا) والسلطان
القصاص، ولم يفرق بين أن يقتله واحد أو جماعة. وروى أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال " ثم أنتم يا خزاعة قد قلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله
فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية "
وقد أخرج مالك في الموطأ أن عمر رضي الله عنه قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا
رجلا، وقال لو تمالا عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا " وموضع الدليل " فمن "
ومن يستغرق الجماعة والواحد
(فرع) وإن اشترك اثنان في قتل رجل وأحدهما يجب عليه القود، ولو
انفرد دون الآخر نظرت - فإن كان سقوط القود عن أحدهما لمعنى في فعله،
مثل أن كان أحدهما مخطئا والآخر عامدا - لم يجب القصاص على واحد منهما،
وبه قال أبو حنيفة وأحمد. وقال مالك يجب القصاص على العامد منهما. دليلنا
أن الروح لم يخرج عن عمد الاثنين فلم يجب عليه القصاص، كما لو جرحه
خطأ فمات منه.
وان شارك الصبي والمجنون - وهما عامدان - في الجناية بنى ذلك على
عمدها، وفيه قولان أحدهما أن عمدهما في حكم الخطأ، وبه قال مالك وأبو حنيفة
لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم، وعن النائم
حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق " فأخبر أن القلم مرفوع عنهما فدل على
أن عمدهما في حكم الخطأ، ولان عمدهما لو كان في حكم العمد لوجب عليهما
القصاص، فعلى هذا لا يجب على من شاركهما في الجناية، وإنما سقط القصاص
عنهما لمعنى في أنفسهما كشريك الأب، ولان الصبي لو أكل في الصوم عامدا
لبطل صومه، فلو أن لعمده حكما لما بطل صومه. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد
وابن الصباغ. وقال المسعودي: المجنون الذي لا يميز، والطفل الذي لا يعقل
مثله عمدهما خطأ قولا واحدا، فلا يجب على شريكهما القصاص، وان شارك
من لا ضمان عليه مثل أن جرح نفسه وجرح نفسه وجرحه، آخر أو جرحه سبع وجرحه
آخر أو قطعت يده بقصاص أو سرقة وجرحه آخر ومات فهل يجب القصاص
على الشريك الذي عليه الضمان؟ فيه قولان (أحدهما) يجب على القصاص،
370

لأنه شارك في القتل عامدا فوجب عليه القصاص كشريك الأب (والثاني) لا يجب
عليه القصاص إذا شارك من لا ضمان عليه أولا
(فرع) وإن جرحه رجل جراحة يقتل منها عامدا فداوى نفسه بسم فمات
نظرت - فإن كان سما موحيا يقتل في الحال لم يجب على الجارح قصاص
في النفس لأنه قطع سراية جرحه بالسم، فصار كما لو جرحه رجل ثم ذبح نفسه
وإن كان السم قد يقتل وقد لا يقتل، والغالب أنه لا يقتل لم يجب على الجارح
قصاص في النفس لأنه مات من فعلين، وأحدهما عمد خطأ، فهو كما لو شارك
العامد مخطئا، وإن كان السم قد يقتل وقد لا يقتل والغالب أنه يقتل بأن وضع
سيانيد البوتاسيوم على الجرح فهل يجب القصاص على الجارح في النفس؟
اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال فيه قولان، لأنه شارك قاصدا إلى الجناية ولا
يجب عليه الضمان، فهو كما لو جرح نفسه وجرحه آخر، أو جرحه سبع وجرحه
آخر، ومنهم من قال لا يجب عليه القصاص قولا واحدا، لأنه لم يقصد الجناية
على نفسه وإنما قصد المداواة فصار فعله عمد خطأ بخلاف شريك السبع وشريك
من جرح نفسه وأنهما قصدا الجناية
(فرع) وان جرحه رجل فخيط جرحه فمات نظرت - فإن خيط في لحم
ميت كاللحم إذا قطعه السيف فإن القود يجب على الجارح لأنه لا سراية للخياطة
في اللحم الميت، وان خيط في اللحم الحي نظرت - فإن خاطه المجروح بنفسه
أو خاطه غيره بأمره - فهل يجب القود على الجارح في النفس؟ فيه طريقان كما
قلنا فيه إذا داوى جرحه بسم قد يقتل وقد لا يقتل، إلا أنه يقتل في الغالب،
وان خاطه أجنبي بغير اذنه أو أكرهه على ذلك وجب القود على الجارح والذي
خاط الجراحة لأنهما قاتلان، وان خاطه السلطان وأكرهه على ذلك، فإن كان
لا ولاية له عليه كان كغيره من الرعية فيجب عليه القود في النفس مع الجارح
وإن كان له على المجروح ولاية بأن كان صغيرا أو مجنونا أو خاطها الولي عليه غير
السلطان أو كان على المولى عليه سلعة فقطعها وليه فمات، فهل يجب عليه القود
فيه قولان:
(أحدهما) يجب عليه القود لأنه جرح جرحا مخوفا فوجب عليه القود،
371

فعلى هذا يجب على شريكه وهو الجارح القود (والثاني) لا يجب عليه القود لأنه
لم يقصد الجناية وإنما قصد المداواة فصار فعله عمد خطأ، فعلى هذا لا يجب عليه
أو على شريكه القود في النفس. ويجب على كل واحد منهما نصف ديته مغلظة
وهل يكون ما وجب على الامام من ذلك في ماله أو في بيت المال؟ فيه قولان
يأتي بيانهما إن شاء الله تعالى
(فرع) وإن جرح رجل رجلا جرحا وجرحه آخر مائة جرح ثم مات فهما
شريكان في القتل، فيجب عليهما القود، لأنه يجوز أن يموت من الجرح الواحد
كما يجوز أن يموت من المائة، وإذا تساوى الجميع في الجواز فالظاهر أنه مات من
الجميع فصارا قاتلين فيجب عليهما القود وان عفا عنهما وجبت الدية عليهما
نصفين ولا تقسط الدية على عدد الجراحات كما قلنا في الجلاد إذا زاد جلده على
ما أمر به في أحد القولين، لان الأسواط متماثلة والجراحات لها مور في البدن
أي قطع. وقد يجوز الواحدة منهما هي القاتلة وحدها دون غيرها، وان أجافه
رجل جائفة وجرحه آخر جراحة غير جائفة ثم مات منهما فهما سواء، وكون
إحداهما أعمق من الأخرى لا يمنع من تساويهما كما لا يمنع زيادة جراحات
أحدهما في العدد التساوي بينهما
(فرع) إذا قطع رجل حلقوم رجل أو ضربه ثم جاء آخر فقطعه نصفين أو
خرق بطنه وقطع أمعاءه وأبانها معه ثم جاء آخر فذبحه فالأول قاتل يجب عليه
القود ولا يجب على الثاني الا التعزيز، لان بعد جناية الأول لا يبقى فيه حياة
مستقرة، وإنما يتحرك كما يتحرك المذبوح، ولأنه قد صار في حكم الموتى بدليل
أنه لا يصح اسلامه ولا توبته، ولا يصح بيعه ولا شراؤه ولا وصيته ولا يرث
وان جنى لم يجب عليه شئ فصار كما لو جنى على ميت
وان قطع الأول يده أو رجله ثم حز الاخر رقبته أو اجافه الأول ثم قطع
الثاني رقبته فالأول جارح يجب عليه ما يجب على الجارح والثاني قاتل، لان بعد
جناية الأول فيه حياة مستقرة، لأنه قد يعيش اليوم واليومين وقد لا يموت
من هذه الجناية، بدليل أنه يصح اسلامه وتوبته وبيعه وشراؤه ووصيته:
372

ولهذا لما طعن أبو لؤلؤة المجوسي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في
بطنه فجاءه الطبيب وسقاه لبنا فخرج اللبن من بطنه، فقال له أعهد إلى الناس،
فعهد عمر رضي الله عنه ثم مات فعملت الصحابة رضوان الله عليهم بعهده فصار
كالصحيح، والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب ما يجب به القصاص من الجنايات)
إذا جرحه بما يقطع الجلد واللحم كالسيف والسكين والسنان، أو بما حدد
من الخشب والحجر والزجاج وغيرها أو بما له مور وبعد غور كالمسلة والنشاب
وما حدد من الخشب والقصب ومات منه وجب عليه القود، لأنه قتله بما يقتل
غالبا، وإن غرز فيه إبرة - فإن كان في مقتل كالصدر والخاصرة والعين وأصول
الاذن فمات منه - وجب عليه القود، لان الإصابة بها في المقتل، كالإصابة
بالسكين والمسلة في الخوف عليه، وإن كان في غير مقتل كالألية والفخذ نظرت
- فإن بقي منه ضمنا إلى أن مات - وجب عليه القود، لأن الظاهر أنه مات
منه وان مات في الحال ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق أنه يجب عليه القود لان له غورا وسراية
في البدن. وفي البدن مقاتل خفية
(والثاني) وهو قول أبى العباس وأبي سعيد الإصطخري أنه لا يجب لأنه
لا يقتل في الغالب فلا يجب به القود، كما لو ضربه بمثقل صغير، ولان في المثقل
فرقا بين الصغير والكبير، فكذلك في المحدد
(الشرح) اللغات: المور الموج والاضطراب والجريان، ومار الدم يمور
مورا جرى، وأماره أسأله، ومار السنان في المطعون إذا قطعه ودخل فيه.
قال الشاعر:
وأنتم أناس تغمضون من القنا إذا مار في أكتافكم وتأطرا
ويقولون: فلان لا يدرى ما سائر من مائر، فالمائر السيف القاطع الذي يمور
373

في الضربية مورا، والسائر بيت الشعر المروى المشهور. أما الغور فهو قعر كل
شئ وقوله " ضمنا " هو الذي به الزمانة في جسده من بلاء أو كسر أو غيره.
أما الأحكام فإنه إذا جرح رجل رجلا بما يجرح بحده كالسيف والسكين أو بما حده
من الرصاص والقصب والذهب والخشب أو بالليطة وهي القصبة المشقوقة أو
بما له مور في البدن كالسنان والسهم والمغراز الذي يثقب به الإسكافي النعل
والمسلة - وهي المخيط - فمات منها - وجب على الجارح القود، سواء كان
الجراح صغيرا أو كبيرا أو سواء مات في الحال أو بقي متألما إلى أن مات، وسواء
كان في مقتل أو في غير مقتل، لان جميع ذلك يشق اللحم ويبضعه ويقتل غالبا
وأما إذا غرز فيه إبرة فمات نظرت - فإن غرزها في مقتل مثل أصول الاذنين
والعين والقلب والأنثيين وجب عليه القود لأنها تقتل غالبا إذا غرزت في هذه
المواضع، وان غرزت في غير مقتل كالألية والفخذ، قال ابن الصباغ فإن بالغ في
ادخالها فيها وجب عليه القود، وان لم يبالغ في ادخالها بل غرزها فاختلف أصحابنا
فيه فقال الشيخان أبو حامد الأسفراييني وأبو إسحاق المروزي: ان بقي من ذلك
متألما إلى أن مات فعليه القود، لأن الظاهر أنه مات منه
وان مات في الحال ففيه وجهان. قال أبو إسحاق يجب عليه القود لان الشافعي
رحمه الله قال سواء صغر الجرح أو كبر فمات المجروح فإن القود يجب فيه. ولأنه
جرحه بحديدة لها مورة في البدن فوجب فيها القود كالمسلة
وقال أبو العباس بن سريج وأبو سعيد الإصطخري: لا يجب به القود لان
الغالب أن الانسان لا يموت من غرز أبرة، فإذا مات علمنا أن موته وافق غرزها
فهو كما لو رماه ببعرة أو ثوب فمات، كالذي يموت بالسكتة القلبية في اللحظة التي
يضربه آخر بعصا لا يموت من مثلها، وقد دخل علم الطب الشرعي والتشريح
الدارس لأسباب الجناية في مثل الحالات فحدد أسباب الوفاة بطريق قطعية
أو شبيهة بالقطعية هي أقرب الوسائل للوصول إلى ما هو الحق، إذا تولى ذلك
اثنان من الأطباء الشرعيين الثقات العدول، لأنا نقول فيهما ما سبق أن قلناه
في القافة في اتفاقهما واختلافهما وتطابقهما وتناقضهما
374

واعترض ابن الصباغ على هذا فقال لا وجه لهذا التفصيل عندي، لأنه إذا
كانت العلة لا تقتل غالبا فلا وصل بين أن يبقى ضمنا منه أو يموت في الحال،
فإن قيل لأنه إذا لم يزل ضمنا منه فقد مات منه، وإذا مات في الحال فلا يعلم أنه
مات منه، قال فكان ينبغي أن يكون الوجهان في وجوب الضمان دون القود "
فيراعى في الفعل أن يكون بحيث يقتل في الغالب، ألا ترى أن الناس يحتجمون
ويقتصدون؟ أفترى ذلك يقتل في الغالب وهم يقدمون عليه؟ وقال المسعودي:
هل يجب عليه القود؟ فيه وجهان من غير تفصيل
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان ضربه بمثقل نظرت فإن كان كبيرا من حديد أو خشب أو
حجر فمات منه وجب عليه القود لما روى أنس رضي الله عنه أن يهوديا قتل
جارية على أوضاح لها بحجر، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين،
ولأنه يقتل غالبا فول لم يجب فيه القود جعل طريقا إلى اسقاط القصاص وسفك
الدماء. وان قتله بمثقل صغير لا يقتل مثله كالحصاة والقلم فمات لم يجب القود
ولا الدية، لأنا نعلم أنه لم يمت من ذلك، وإن كان بمثقل قد يموت منه وقد
لا يموت كالعصا. فإن كان في مقتل وفي مريض أو في صغيرا أو في حر شديد أو
في برد شديد أو والى عليه الضرب فمات وجب عليه القود، لان ذلك يقتل غالبا
فوجب القود فيه.
وان رماه من شاهق أو رمى عليه حائطا فمات وجب القود فيه، لان ذلك
يقتل في الغالب، وان خنقه خنقا شديدا أو عصر خصيتيه عصرا شديدا أو غمه
بمخدة أو وضع يده على فيه ومنعه التنفس إلى أن مات وجب القود لان ذلك
يقتل في الغالب، وان خنقه ثم خلاه وبقى منه متألما إلى أن مات وجب القود،
لأنه مات من سراية جنايته، فهو كما لو جرحه وتألم منه إلى أن مات، وان تنفس
وصح ثم مات لم يجب القود، لأن الظاهر أنه لم يمت منه فلم يجب القود، كما لو
جرحه واندمل الجرح ثم مات
(فصل) وان طرحه في نار أو ماء ولا يمكنه التخلص منه لكثرة الماء
375

والنار أو لعجزه عن التخلص بالضعف، أو بأن كتفه وألقاه فيه ومات وجب
القود لأنه يقتل غالبا، وان ألقاه في ماء يمكنه التخلص منه فالتقمه حوت لم
يجب القود، لان الذي فعله لا يقتل غالبا، وإن كان في لجة لا يتخلص منها
فالتقمه حوت قبل أن يصل إلى الماء ففيه قولان (أحدهما) يجب القود لأنه
ألقاه في مهلكه فهلك (والثاني) لا يجب لان هلاكه لم يكن بفعله
(الشرح) حديث أنس أخرجه البخاري في الديات عن محمد وعن حجاج
ابن منهال وعن إسحاق وعن مسدد وعن محمد بن بشار، وفي الطلاق وفي الوصايا
عن حسان بن أبي عباد وفي الأشخاص عن موسى بن إسماعيل وأخرجه مسلم في
الديات عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار وعن هداب وعن عبد بن حميد وأخرجه
أبو داود في الديات عن عثمان بن أبي شيبة وأحمد بن صالح ومحمد بن كثير
وأخرجه الترمذي في الديات عن علي بن حجر والنسائي في القود عن علي بن حجر
وعن إسحاق بن إبراهيم، وعن محمد بن عبد الله وعن إسماعيل بن مسعود، وفي
المحاربة عن أحمد بن عمرو بن السرح والحارث بن مسكين وابن ماجة في الديات
عن علي بن محمد وعن محمد بن بشار وأخرجه أيضا أحمد والدارقطني " أن يهوديا
رض رأس جارية بين حجرين، فقيل لها من فعل بك هذا؟ فلان أو فلان حتى
سمى اليهودي، فأومأت برأسها، فجئ به فاعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه
وسلم فرض رأسه بحجرين "
وفي رواية لمسلم " فقتلها بحجر فجئ بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق "
وفي رواية أخرى " قتل جارية من الأنصار على حلي لها ثم ألقاها في قليب ورضخ
رأسها بالحجارة، فأمر به أن يرجم حتى يموت، فرجم حتى مات "
أما اللغات فالمثقل بضم الميم وفتح الثاء المثلثة وتشد القاف المفتوح بصيغة
المفعول والمثقلة بالتأنيث كلاهما رخامة ونحوها يثقل بها البساط
أما الأوضاح فهي جمع وضح، يقال درهم وضح، نقى أبيض على النسب،
والوضح الدرهم الصحيح والأوضاح حلي من الدراهم الصحاح. وحكى ابن الاعرابي
أعطيته دراهم أوضاحا كأنها ألبان شوك رعت بد كداك مالك: مالك رمل بعينه
376

وقلما ترعى الإبل هنالك الا الحلى وهو أبيض، فشبه الدراهم في بياضها بألبان
الإبل التي لا ترعى إلا الحلى وضح القدم بياض أخمصه
وقوله " غمة بمخدة " غممته غطيته فانغم.
أما الأحكام فإن إن ضربه بمثل فمات منه - فإن كان يقتل مثل الحجر
الكبير أو الخشبة أو الدبوس أو رمى عليه حائطا أو سقفا وما أشبهه - وجب
عليه القود. وبه قال مالك وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد. وقال النخعي والشعبي
والحسن البصري وأبو حنيفة: لا يجب القصاص بالمثقل
دليلنا ما روى طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " العمد قود إلا أن يعفو ولى المقتول " والخطأ دية لا قود فيه ولم يفرق
وروى أنس الحديث الذي ساقه المصنف في الفصل وخرجناه آنفا، قال العمراني
وفي هذا الخبر فوائد
إحداها أن القود يجب بالقتل بالمثقل. الثانية أنه يستفاد به. الثالثة أن
اليهودي يقتل بالمسلم. الرابع أن الرجل يقتل بالمرأة. الخامس أن الإشارة حكم
لأنه لو لم يكن لها حكم لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم
(قلت) مذهبنا ومذهب الجمهور. وحكى ابن المنذر الاجماع عليه إلا رواية
عن علي، وعن الحسن وعطاء أن الرجل يقتل بالمرأة، ورواه البخاري
عن أهل العلم.
قال الشوكاني في النيل: وروى في البحر عن عمر بن عبد العزيز والحسن
البصري وعكرمة وعطاء ومالك وأحد قولي الشافعي أنه لا يقتل الرجل بالمرأة،
وإنما تجب الدية، وقد رواه عن الحسن البصري أبو الوليد الباجي والخطابي.
وحكى هذا القول صاحب الكشاف عن الجماعة الذين حكاه صاحب البحر عنهم،
ولكنه قال: وهو مذهب مالك والشافعي، ولم يقل وهو أحد قولي الشافعي،
كقول صاحب البحر، وقد أشار السعد في حاشيته على الكشاف إلى أن الرواية
التي ذكرها الزمخشري وهم محض. قال ولا يوجد في كتب المذهبين - يعنى
مذهب مالك والشافعي - تردد في قتل الذكر بالأنثى
وأخرج البيهقي عن أبي الزناد أنه قال: كان من أدركته من فقهائنا الذين ينتهى
377

إلى قولهم، منهم سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن
عبد الرحمن وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسليمان بن
يسار في جلة من سواهم من نظرائهم أهل فقه وفضل أن المرأة تقاد من الرجل
عينا بعين وأذنا بأذن وكل شئ من الحراج على ذلك، وإن قلتها قتل بها، ورويناه
عن الزهري وغيره وعن النخعي والشعبي وعمر بن عبد العزيز قال البيهقي وروينا
عن الشعبي وإبراهيم خلافه فيما دون النفس
وعن حمل بن مالك (وهو ابن النابغة الهذلي وهو يعد في بصريي الصحابة،
وحديثه الآتي مخرج عند المدينين والبصريين) قال رضي الله عنه " كنت بين
امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم
في جنينها بغرة وأن تقتل بها " رواه أبو داود في الديات والنسائي في القود وابن
ماجة في الديات والدارقطني، وليس لحمل حديث سواه عن النبي صلى الله عليه
وسلم، والمسطح الخشبة الكبيرة تركز في وسط الخيمة.
وإن ضرب بمثقل لا يقتل مثله غالبا كالقلم والحصى فمات لم يجب عليه القود
ولا الدية ولا الكفارة، لأنا نعلم أنه لا يموت منه، وإنما وافق موته ضربته،
وإن ضربه بمثقل قد يقتل وقد لا يقتل كالسوط والعصا الخفيف فمات، فإن والى
عليه الضرب إلى أن بلغ عددا يقتل مثله في الغالب على حسب حال المضروب،
أو رمى به بأن يضربه خمسمائة أو ألفا، فإن ذلك يقتل في الغالب، وكذلك إذا
كان المضروب نضو الخلق أو في حر شديد أو في برد شديد فضربه دون ذلك
فمات لم يجب عليه القود لأنه عمد خطأ ويجب عليه الدية
(فرع) وإن خنقه بيده أو بحبل أو طرح على وجهه مخدة أو منديلا واتكأ
عليه حتى مات - فإن فعل ذلك مدة يموت المخنوق من مثلها غالبا وجب على
قاتلها القود، لأنه تعمد قتله بما يقتل مثله غالبا. وإن كان في مدة يجوز أن يموت
مثله من مثلها، ويجوز أن لا يموت لم يجب عليه القود وعليه دية مغلظة، لان
فعله عمد خطأ.
وإن خنقه يموت مثله من مثله ثم أرسله حيا ثم مات - فإن كان قد أورثه
الخنق شيئا حتى لا يخرج نفسه، أو بقي متألما إلى أن مات، وجب على الخانق القود
378

لأنه مات بسراية فعله. وإن جعل في رقبته خراطة حبل وتحت رجليه كرسيا
وشد الحبل إلى سقف بيت وما أشبهه ونزع الكرسي من تحته فاختنق ومات وجب
عليه القود لأنه أوحى الخنق
(مسألة) وإن طرحه في نار في حفير فلم يمكنه الخروج منها حتى مات وجب
عليه القود لأنه قتله بما يقتل غالبا. وإن كانت النار في بسيط من الأرض،
فإن كان لا يمكنه الخروج منها لكثرتها أو لشدة التهابها، أو بأن كتفه وألقاه
فيها، أو بأن كان ضعيفا لا يقدر على الخروج وجب عليه القود لأنه قتله بما
يقتل غالبا، وان أمكنه الخروج منها فلم يخرج حتى مات، ويعلم إمكان الخروج
بأن يقول أنا أقدر على الخروج ولا أخرج لم يجب القود، وهل يجب عليه الدية
فيه قولان:
(أحدهما) يجب عليه الدية، لأنه ضمنه بطرحه في النار، فلم تسقط عنه
الضمان بتركه الخروج مع قدرته عليه، كما لو جرحه جراحة وأمكنه مداواتها فلم
يداوها حتى مات.
(والثاني) لا يجب عليه الدية لان النفس لم يخرج بالطرح بالنار، وإنما
خرجت ببقائه فيها باختياره، فهو كما لو خرج منها ثم عاد إليها، ويفارق ترك
المداواة لأنه لم يحدث أمرا كان به التلف بخلاف بقائه في النار فإنه أحدث أمرا
حصل به التلف، ولان البرء في الدواء أمر مظنون فلم تسقط به الدية، والسلامة
بالخروج أمر متحقق فسقط بتركه الضمان، فإذا قلنا بهذا وجب على الطارح أرش
ما عملت فيه النار من حين طرحه فيها إلى أن أمكنه الخروج فلم يخرج
(فرع) قال الشافعي رحمه الله: لو طرحه في لجة بحر وهو يحسن العوم أو
لا يحسن العوم فغرق فيها فعليه القود. وجملة ذلك أنه إذا طرحه في لجة البحر
فهلك فعليه القود، سواء كان يحسن السباحة أو لا يحسن، لان لجة البحر مهلكة
وان طرحه بقرب الساحل فغرق فمات - فإن كان مكتوفا أو غير مكتوف وهو
لا يحسن السباحة - فعليه القود، وإن كان يحسن السباحة وأمكنه أن يخرج فلم
يخرج حتى غرق ومات أو طرحه فيما يمكنه الخروج منه فلم يخرج منه حتى مات
فلا يجب عليه القود، وهل تجب عليه الدية؟ فيه طريقان. من أصحابنا من قال
379

فيه قولان كما لو طرحه في نار يمكنه الخروج منها فلم يخرج منها حتى مات، ومنهم
من قال لا يجب عليه الدية قولا واحدا، لان العادة لم تجر بأن يخوض النار في
النار، والعادة بأن الناس يخوضون في الماء.
وإن طرحه في البحر بقرب الساحل وهو ممن يمكنه الخروج منه فابتلعه حوت
فلا قود عليه لأنه كان يمكنه الخروج لو لم يبلعه الحوت، قيل عليه القود لأنه لو
لم يبتلعه الحوت لما كان يتخلص. والثاني لا يجب عليه القود بل عليه الدية،
لان الهلاك لم يكن بفعله، والأول أصح
وإن طرحه في ساحل بحر قد يزيد إليه الماء وقد لا يزيد فزاد الماء وأغرقه
لم يجب عليه القود لأنه لا يقصد قتله، ويجب عليه دية مغلظة لأنه عمد خطأ
وإن كان الموضع لا يزيد الماء إليها فزاد وغرق لم يجب عليه القود، وتجب عليه
دية مخففة لأنه خطأ عمد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن حبسه ومنعه الطعام والشراب مدة لا يبقى فيها من غير طعام
ولا شراب فمات وجب عليه القود، لأنه يقتل غالبا، وإن أمسكه على رجل
ليقتله فقتله وجب القود على القاتل دون الممسك، لما روى أبو شريح الخزاعي
" أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من أعتى الناس على الله عز وجل من قتل
غير قاتله أو طلب بدم الجاهلية في الاسلام أو بصر عينيه في النوم ما لم تبصره "
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليقتل القاتل ويصبر الصابر " ولأنه
سبب غير ملجئ ضامه مباشرة فتعلق الضمان بالمباشرة دون السبب كما لو حفر
بئرا فدفع فيها آخر رجلا فمات.
(فصل) وإن كتف رجلا وطرحه في أرض مسبعة أو بين يدي سبع فقتله
لم يجب القود لأنه سبب غير ملجئ فصار كمن أمسكه على من يقتله فقتله. وان
جمع بينه وبين السبع في زبية أو بيت صغير ضيق فقتله وجب عليه القود لان
السبع يقتل إذا اجتمع مع الآدمي في موضع ضيق
وإن كتفه وتركه في موضع فيه حياة فنهسته فمات لم يجب القود، ضيقا كان
380

المكان أو واسعا، لان الحية تهرب من الآدمي فلم يكن تركه معها ملجئا إلى قتله
وان أنهشه سبعا أو حية يقتل مثلها غالبا فمات منه وجب عليه القود لأنه ألجأه
إلى قتله، وإن كانت حية لا يقتل مثلها غالبا ففيه قولان (أحدهما) يجب القود
لان جنس الحيات يقتل غالبا (والثاني) لا يحب لان الذي السعة لا يقتل غالبا
(الشرح) حديث أبي شريح الخزاعي رواه أحمد وأخرجه الدارقطني والطبراني
والحاكم، ورواه الطبراني والحاكم من حديث عائشة بمعناه،
وروى البخاري في صحيحه عن ابن عباس مرفوعا " أبغض الناس إلى الله ثلاثة:
ملحد في الحرام، ومتبع في الاسلام سنة جاهلية، ومطلب دم بغير حق ليهريق
دمه " وأخرجه أحمد أيضا عن عبد الله بن عمر. وكذلك ابن حبان في صحيحه
بلفظ " ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أعدى الناس على الله عز وجل من
قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل بذحول الجاهلية "
وأخرج عمر بن أبي شبة عن عطاء بن يزيد قال " قتل رجل بالمزدلفة - يعنى
في غزوة الفتح - فذكر القصة وفيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: وما أعلم
أحدا أعتى على الله من ثلاثة: رجل قتل في الحرم، أو قتل غير قاتله، أو قتل
بذحل الجاهلية "
وأبو شريح الخزاعي اسمه خويلد بن عمرو، وقيل عمرو بن خويلد، وقيل
كعب بن عمرو، وقيل هانئ بن عمرو وأصحها خويلد بن عمرو، أسلم قبل فتح
مكة وكان يحمل أحد ألوية بنى كعب بن خزاعة يوم الفتح، وكانت وفاته بالمدينة
سنة ثمان وستين يعد في أهل الحجاز. روى عنه عطاء بن يزيد الليثي وأبو سعيد
المقبري وسفيان بن أبي العوجاء.
وقال مصعب: سمعت الواقدي يقول: كان أبو شريح الخزاعي من عقلاء
أهل المدينة فكان يقول: إذا رأيتموني أبلغ من أنكحته أو نكحت إليه إلى
السلطان فاعلموا إني مجنون فاكووني، وإذا رأيتموني أمنع جارى أن يضع
خشبته في حائطي فاعلموا أنى مجنون فاكووني، ومن وجد لأبي شريح سمنا أو
لبنا أو جداية فهو له حل فليأكله ويشربه. اتفق له الشيخان على حديثين.
381

وروى له الترمذي ثلاثة أحاديث وأبو داود ثلاثة أحاديث وابن ماجة حديثان
وقوله " ان أعتى " وفي رواية: إن أعدى الناس وهما تفضيل، أي الزائد في
التعدي أو العتو على غيره، والعتو التكبر والتجبر
وقد أخرج البيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أنه قال: وجد في قائم
سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب: إن أعدى الناس على الله. الحديث
قال تعالى " وعتوا عتوا كبيرا " أي تجبروا وعصوا
أما حديث " ليقتل القاتل ويصير الصابر " فقد رواه ابن المبارك عن معمر
عن سفيان عن إسماعيل يرفعه قال " اقتلوا القاتل واصبروا الصابر " ورواه
الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا أمسك الرجل الرجل
وقتله الآخر، يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك " ورواه الشافعي من فعل
علي رضي الله عنه " أنه قضى في رجل قتل رجلا متعمدا وأمسكه آخر: قال
يقتل القاتل ويحبس الآخر في السجن حتى يموت " وأخرجه الدارقطني من طريق
الثوري عن إسماعيل بن أمية عن نافع عن ابن عمر، ورواه معمر وغيره عن
إسماعيل. قال الدارقطني والارسال أكثر. وأخرجه أيضا البيهقي ورجح المرسل
وقال إنه موصول غير محفوظ
وقال في بلوغ المرام ورجاله ثقات وصححه ابن القطان
وقد روى أيضا عن إسماعيل عن سعيد بن المسيب مرفوعا، والصواب عن
إسماعيل قال " قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم " الحديث
وقوله " ويصبر الصابر " معناه يحبس الحابس. وفي أسماء الله تعالى الصبور
وهو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام وهو من أبنية المبالغة، ومعناه قريب من
معنى الحليم، والفرق بينهما أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصبور كما يأمنها
في صفة الحليم وصبره عن الشئ حبسه. قال الخطئية:
قلت لها أصبرها جاهدا ويحك أمثال طريف قليل
والصبر نصب نفس الانسان للقتل وقد مضى في كتاب الايمان معنى اليمين
الصبر ومعان في كلمة الصبر، ومنه صبر النفس أي حبسها عند الجزع. قال تعالى
382

(واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم) وقوله " أرض مسبعة " بالإضافة وفتح
الميم أي ذات سباع، والزبية حفرة تحفر لينشب فيها السبع وجمعها زبا. قال
ابن بطال فيها لغتان الضم والكسر، ونهسته بالسين المهملة، أي أخذته بمقدم
أسنانها، ونهس الحية عضها. قال الراجز:
وذات قرنين طحون الضرس تنهس لو تمكنت من نهس
ويقال نهسته بالشين. قال الزمخشري في الأساس: الفرق أن النهس بأطراف
الأسنان والنهش بالأضراس.
أما الأحكام فإنه إذا حبس حرا وأطعمه وسقاه فمات وهو في الحبس فلا
قود عليه ولا دية، سواء مات حتف أنفه أو بسبب كلدغ الحية وسقوط الحائط
وما أشبهه. وقال أبو حنيفة إن كان صغيرا فمات حتف أنفه فلا شئ عليه، وان
مات بسبب كلدغ الحية وسقوط الحائط فعليه الدية. دليلنا أنه حر فلا يضمنه
باليد كما لو مات حتف أنفه، وأما إذا حبسه ومنعه الطعام والشراب أو أحدهما
حتى مات نظرت - فإن حبسه عن ذلك مدة يموت مثله في مثلها غالبا - وجب
عليه القود لأنه قتله بما يقتل غالبا، فهو كما لو قتله بالسيف، وإن كان مدة لا
يموت مثله في مثلها بمنع الطعام والشراب فلا قود عليه ولا دية لأنا نعلم أنه
مات بسبب آخر، ويعتبر حال المجوس: فإن حبسه وهو جائع فإنه لا يصبر
عن الطعام إلا المدة القليلة، وإن كان شبعان فإن يصبر أكثر من مدة الجائع
ويعتبر الطعام على انفراده والشراب على انفراده لان الانسان يصبر عن الطعام
أكثر مما يصبر عن الشراب.
وإن أمكنه الخروج إلى الطعام والشراب فلم يخرج حتى مات قال الطبري فلا
قود.
أما إذا أمسك رجل رجلا فجاء آخر فقتله وجب القود على القاتل دون
الممسك إلا أن الممسك إن كان أمسكه مداعبة أو ليضربه فلا إثم عليه ولا تعزير
وإن أمسكه ليقتله الآخر أثم بذلك وعزر. هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة
وأصحابه. وقال ربيعة يقتل القاتل ويحبس الممسك حتى يموت. وقال مالك إن
حبسه ليضربه الآخر أو أمسكه ليضربه أو أمسكه مداعبة فجاء الآخر فقتله فلا
قود عليه ولا دية، وان أمسكه ليقتله الآخر فعليه القود، ومذهب أحمد أنه
383

لا خلاف في أن القاتل يقتل، لأنه قتل من يكافئه عمدا بغير حق. وأما الممسك
فإن يعلم أن القاتل يقتله فلا شئ عليه لأنه متسبب والقاتل مباشر فسقط حكم
المتسبب به، وان أمسكه له ليقتله مثل أن ضبطه له حتى ذبحه له، فاختلف الرواية
عن أحمد، فروى عنه أنه يحبس حتى يموت، وهو قول عطاء وربيعة، وروى
ذلك عن علي، وروى عن أحمد أنه يقتل أيضا، وهو قول مالك.
قال سليمان بن موسى الاجتماع فينا أنه يقتل لأنه لو لم يمسكه ما قدر على قتله
وبإمساكه تمكن من قتله، فالقتل حاصل بفعلهما فكان شريكين فوجب عليهما
القصاص كما لو جرحاه.
دليلنا حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا أمسك الرجل
وقتله الاخر يقتل الذي قتل ويحبس الذي أمسك " ولأنه حبسه حتى الموت
فيحبس حتى الموت، كما لو حبسه عن الطعام والشراب حتى مات فإننا نفعل به
ذلك حتى يموت.
وقوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) فلو
أوجبنا على الممسك القود كنا قد اعتدينا عليه بأكثر مما اعتدى، وهذا يدخل
تحت طائلة وعيده صلى الله عليه وسلم حيث يقول " ان من أعتى الناس على الله
من قتل غير قاتله، أو طالب بدم الجاهلية في الاسلام، أو بصر عينه في النوم
ما لم تبصره " فلو قتل الولي الممسك لكان قتل غير قاتله، وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم
بصبر الصابر التعزيز بالحبس، لأنه سبب غير ملجئ اجمتع مع المباشرة فتعلق
الضمان بالمباشرة دون السبب، كما لو حفر بئرا أو نصب سكينا فدفع آخر عليها
رجلا فمات، ولأنه لو كان بالامساك شريكا لكان إذا أمسك الرجل امرأة وزنى
بها آخر أنه يجب عليهما الحد، فلما لم يجب الحد على الممسك لم يجب القود
على الممسك.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان سقاه سما مكرها فمات وجب عليه القود لأنه سبب يقتل
384

غالبا فهو كما لو جرحه جرحا يقتل غالبا، وان خالطه بطعام وتركه في بيته فدخل
رجل فأكله ومات لم يجب عليه القود كما لو حفر بئرا في داره فدخل رجل بغير
اذنه فوقع فيها ومات، وان قدمه إليه أو خلطه بطعام الرجل فأكله فمات ففيه
قولان (أحدهما) لا يجب عليه القود لأنه أكله باختياره فصار كما لو قتل نفسه
بسكين (والثاني) يجب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال " كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية ولا يقبل الصدقة، فأهدت إليه يهودية بخبير شاة
مصلية فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ثم قال ارفعوا أيديكم
فإنها قد أخبرتني أنها مسمومة، فأرسل إلى اليهودية فقال ما حملك على ما صنعت
قالت قلت: ان تكن نبيا لم يضرك الذي صنعت، وإن كانت ملكا أرحت الناس
منك، فأكل منها بشر بن البراء بن معرور فمات، فأرسل إليها فقتلها، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت بخيبر،
فهذا أو ان انقطاع أبهري " ولأنه سبب يفضى إلى القتل غالبا فصار كالقتل بالسلاح
وإن سقاه سما وادعى أنه لم يعلم أنه قاتل ففيه قولان (أحدهما) أنه يجب عليه
القود لان السم يقتل غالبا (والثاني) لا يجب لأنه يجوز أن يخفى عليه أنه قاتل
وذلك شبهة فسقط بها القود
(فصل) وان قتله بسحر يقتل غالبا وجب عليه القود لأنه قتله بما يقتل
غالبا فأشبه إذا قتله بسكين، وإن كان مما يقتل ولا يقتل لم يجب القود لأنه عمد
خطأ فهو كما لو ضربه بعصا فمات.
(الشرح) حديث أبي هريرة أخرجه أبو داود حدثنا وهب بن بقية حدثنا
خالد عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدت له
يهودية بخيبر. الحديث هكذا جاء مرسلا. ورواه حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو
عن أبي سلمة عن أبي هريرة متصلا.
وذكر عبد الرزاق عن معمر عن الزهري أن زينب بنت الحرث اليهودية
امرأة سلام بن مشكم أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مشوية قد سمتها وسألت أي اللحم
أحب إليه؟ فقالوا الذارع، فأكثرت من السم في الذراع، فما انتهش من ذراعها
385

أخبره الذراع بأنه مسموم فلفظ الأكلة، ثم قال: اجمعوا لي من هنها من اليهود
فجمعوا له فقال لهم: إني سائلكم عن شئ فهل أنتم صادقي فيه؟ قالوا نعم يا أبا القاسم
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا أبونا فلان، قال كذبتم
أبوكم فلان، قالوا صدقت وبررت. قال هل أنتم صادقي عن شئ إن سألتكم عنه
قالوا نعم يا أبا القاسم وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا نكون فيها يسيرا ثم تخلفوننا فيها
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخسئوا فيها فوالله لا نخلفكم فيها أبدا
ثم قال، هل أنتم صادقي عن شئ إن سألتكم عنه؟ قالوا نعم: قال أجعلتم في هذه
الشاة سما؟ قالوا نعم، قال فما حملكم على ذلك؟ قالوا أردنا إن كنت كاذبا نستريح
منك، وإن كنت نبيا لم يضرك، وجئ بالمرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت:
أردت قتلك، فقال ما كان الله ليسلطك على. قالوا ألا نقتلها؟ قال لا، ولم
يتعرض لها ولم يعاقبها، واحتجم على الكاهل، وأمر من أكل منها فاحتجم،
فمات بعضهم.
واختلف في قبل المرأة، فقال الزهري أسلمت فتركها، ثم قال معمر: والناس
تقول قتلها النبي صلى الله عليه وسلم، إلا رواية حماد بن سلمة عن محمد بن عمرو
عن أبي سلمة عن أبي هريرة أنه قتلها لما مات بشر بن البراء، ويمكن التوفيق بين
الروايتين بأنه صلى الله عليه وسلم لم يقتلها أولا فلما مات بشر بن البراء قتلها.
وقد اختلف الروايات في هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم منها أم لا؟
فأكثر الروايات أنه صلى الله عليه وسلم أكل منها وبقى بعد ذلك ثلاث سنين،
حتى قال في وجعه الذي مات فيه ما زلت أجد من الأكلة التي أكلت من الشاة
يوم خيبر، فهذا أوان انقطاع الأبهر منى. قال الزهري: فتوفى رسول الله
صلى الله عليه وسلم شهيدا.
أما اللغات فالمصلية هي المشوية، والصلا والصلاء، بفتح الصاد مقصورا
وكسرها ممدودا، ومنه قوله تعالى " سيصلى نارا ذات لهب " وقوله " جهنم يصلونها
فبئس القرار "
وقوله " ما زلت أجد من الأكلة " أي أشتكي، والأكلة بضم الهمزة هي اللقمة
386

والأبهر عرق إذا انقطع مات صاحبه وهو أبهران يخرجان من القلب ثم
تتشعب منهما سائر الشرايين. هكذا يقول ابن ابطال، وبالرجوع إلى علم التشريح
بحد أن القلب يمتد من أحد جانبيه من أعلاه شريان رئوي يدفع الدم إلى الرئتين
لاحداث عملية تبادل الغازات وهو يمتد من البطين الأيمن إلى الرئتين، والعرق
الآخر وهو يمسى الأورطي، ويمتد من البطين الأيسر إلى أجزاء الجسم ويمتد
منهما الشرايين والأوردة التي هي مجار للدم.
أما الأحكام فإن كتف رجلا أو قيده فأكله السبع ففيه ثلاث مسائل ذكرها
الشيخ أبو حامد. إحداهن إذا قيده وكتفه وطرحه في أرض مسبعة فجاء السبع
فأكلة فإنه لا قود على الطارح له ولا دية، لان السبع أكله باختياره، ولان له
اختيارا، كما لو مسكه فقتله آخر
(الثانية) إذا قيده في صحراء ثم رمى بالسبع عليه أو رمى به فأكله
فلا قود عليه ولادية، لان من طبع السبع إذا رمى به على انسان أو رمى انسان
عليه أن ينفر عنه، فإذا لم ينفر عنه كان أكله له باختياره
(الثالثة) إذا كان السبع في مضيق أو بيت أو بئر أو زنية فرمى بالانسان
عليه، أو كان الانسان في المضيق أو في البيت أو في البئر أو في الزبية فرمى بالسبع
عليه فضربه السبع فمات - فإن ضربه السبع ضربا يقتل مثله في الغالب - وجب
على الرامي القود لأنه قد اضطر السبع إلى قتله، وان ضربه ضربا لا يقتل مثله
في الغالب فمات لم يجب على الرامي القود لان الغالب منه السلامة، ويجب عليه
الدية في ماله. وكذلك حكم النمر وما في معناه. وان أمسك السبع أو النمر وأفرسه
إياه فأكله فعليه القود، لأنه قد اضطره إلى ذلك
(مسألة) إذا قيد رجلا وطرحه في أرض ذات حياة فنهسته حية منها فمات
فلا قود عليه ولا دية، سواء كان في موضع واسع أو ضيق، وكذلك إذا
رمى به على الحية أو رمى بالحية عليه، لان الحيات والعقارب من طبعها
النفور من الانسان. وان أخذ الحية أو العقرب بيده وأنهشها انسانا.
قال الشافعي رحمه الله ضغطها أو لم يضغطها فنهشه ومات - فإن كان من
387

الحيات التي تقتل في الغالب كحيات الكوبر أو الحيات السامة ذات الرأس المدببة
وجب عليه القود، لأنه توصل إلى قتله بما يقتل غالبا، فهو كما لو قتله بالسيف.
وإن كان مما لا يقتل غالبا كثعابين مكة والحجاز وأفاعي مصر التي تبتلع الدواجن
أو التي تعيش تحت قضبان السكك الحديدة وتعيش على ابتلاع العظاء (1) والضفدع
ففيه قولان:
(أحدهما) لا يجب عليه القود لأنه لا يقتل غالبا، ويجب عليه دية مغلطة
لأنه شبه عمد.
(والثاني) يجب عليه القود لان حبسها يقتل غالبا فهو بمنزلة الجراح
(فائدة) الحيات منها السام وتعرف بدقة رأسها وغلظ عنقها وغير السام
وتعرف بدقة عنقها وفرطحة رأسها أشبه بالابهام، ونصف السام وهي ما يكون
شكلها وسطا بين السام وغير السام، وبعض من يدعى التصوف يأكلون الثعابين
وهي من النوع غير السام لادعاء الكرامة، وهي لعمر الله مخرقة وإلحاد لأنهم
يجعلون من أكل الخبائث المحرمة مظهرا من مظاهر الرضوان والاكرام
(مسألة) إذا سقى رجلا سما فمات المسقي فلا يخلو إما أن يكرهه أو لا يكرهه
فإن أكرهه على شربه بأن صبه في حلقه مكرها له على ذلك نظرت - فإن أقر
الساقي أنه سم يقتل مثله غالبا - وجب عليه القود، لان قتله بما يقتل غالبا،
فهو كما لو قتله بالسيف. وان ادعى ولى المقتول أنه يقتل غالبا وأنكر الساقي أنه
يقتل غالبا - فإن أقام ولى المقتول بينة أنه يقتل غالبا - وجب القود على الساقي
لأنه ثبت أنه يقتل غالبا
وان أقام ولى المقتول بينة أنه يقتل نحيف الخلق ولا يقتل قوى الخلق لم يجب
عليه القود وإنما يجب عليه دية مغلظة، وإن لم تكن هناك بينة فالقول قول الساقي
مع يمينه أنه لم يكن يقتل غالبا، لان الأصل عدم القود، فإذا حلف لم يجب
عليه القود وعليه دية مغلظة.

(1) وهي ما يسمى بالسحال عند العامة
388

وإن قامت البينة أنه كان يقتل غالبا أو اعترف الساقي بذلك إلا أنه أدعى أنه
لم يعلم أنه يقتل غالبا وقت السقي، فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان
(أحدهما) لا يجب عليه القود لان ما ادعاه محتمل، وذلك شبهة توجب
سقوط القود عنه.
(والثاني) يجب عليه لأنه قتله بما يقتل غالبا فلا يصدق في دعواه كما لو جرحه
وان خلط السم بطعام أو شراب وأكرهه فأوقره في حلقه فمات، فإن كان الطعام
أو الشراب قد كسر حدة السم تلقائيا، فإن لم يكرهه على ذلك وإنما ناوله إياه
فشربه، نظرت فإن كان الشارب صبيا لا يميز أو كبيرا مجنونا أو أعجميا يعتقد
وجوب طاعة الامر، فعلى الرافع إليه الضمان، لأنه كالآلة حيث اعتقد طاعته
فيه، وإن كان عاقلا مميزا فلا ضمان على الرافع لأنه قتل نفسه باختياره وتفريطه
وان خلطه به ولم يكسر الطعام حدة السم فأكله انسان ومات نظرت - فإن كان
الطعام الذي خلط فيه السم وقدمه إلى إنسان وقال كله فأكله، فهل يجب عليه
القود؟ فيه قولان:
(أحدهما) يجب على القود لما روى أبي هريرة " أن يهودية بخيبر أهدت
للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مصلية فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه
م، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ارفعوا أيديكم فإن هذه الذراع تخبرني أن
بها سما، فأرسل إلى اليهودية وقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقالت: قلت إن
كنت نبيا لم يضرك الذي صنعت، وان كنت ملكا أرحت الناس منك، فأكل
منها بشر بن البراء بن مغرور فمات، فأرسل الني صلى الله عليه وسلم إلى اليهودية
فقتلها، فقال صلى الله عليه وسلم ما زالت أكلة خبير تعاودني، فهذا أو أن قطعت
أبهري " ولان العادة جرت أن من قدم إليه طعام فإنه يأكل منه، فصار كأنه
ألجأه إلى أكله فوجب عليه القود، كما لو أكرهه عليه
(والثاني) لا يجب عليه القود لأنه أكله باختياره، فصار كما لو قتل نفسه
بسكين، فإذا قلنا بهذا فهل تجب عليه الدية؟ اختلف أصحابنا فيه، فقال القاضي
أبو الطيب فيه قولان، أحدهما لا يجب عليه الدية لأنه هو الجاني على نفسه.
والثاني تجب عليه الدية لان التلف حصل بسبب منه فصار كما لو حفر بئرا في
389

طريق الناس فهلك به انسان. وقال الشيخ أبو حامد: تجب عليه الدية قولا
واحدا لما ذكرناه ولا يعرف ههنا قولان، وإن خلط السم بطعامه وقدمه إلى
رجل قال فيه سم يقتل غالبا فأكله فمات فلا قود عليه ولا دية لأنه قتل نفسه.
وإن خلط السم بطعام وقدمه إلى صبي لا يميز أو إلى بالغ مجنون أو على أعجمي
لا يعقل ولا يميز وقال: كله فإن فيه سما قاتلا فأكله فمات وجب عليه القود لأنه
بمنزلة ما لو قتله بيده.
وإن خلط سما بطعام له في بيته فدخل بيته رجل وأكل الطعام ومات لم يجب عليه
قود ولا دية. لان الآكل فرط وتعدى بأكل طعام غيره بغير إذنه. وان خلط
السم بطعام الغيرة فجاء صاحب الطعام فأكل طعامه ولم يعلم بالسم ومات، وجب
على الذي خلط السم قيمة الطعام لأنه أفسده، وهل يجب عليه القود في الذي
أكله؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال فيه قولان، كما لو خلطه بطعام نفسه
وقدمه إلى من أكله، لان الانسان يأكل الطعام بحكم العادة والحاجة، فصار كما
لو خلطه بطعام ودعاه إلى أكله. ومنهم من قال لا يجب عليه قولا واحدا لأنه
لم يوجد منه أكثر من افساد الطعام
(فرع) إذا سحر رجل رجز فمات المسحور سئل الساحر عن سحره، فإن
قال سحر يقتل غالبا وقد قلت به وجب عليه القود. وقال أبو حنيفة لا يحب
عليه القود. دليلنا أنه قتل بما يقتل به غالبا. قال العمراني هو كما لو قتله بالسيف
وان قال سحر لا يقتل وجب عليه دية مخففة لأنه أخطأ. وان قال قد يقتل وقد
لا يقتل والغالب منه السلامة، وجبت عليه دية مغلظة في ماله.
وان قال الساحر قتلت بسحري جماعة ولم يعين من قتل لم يقتل. وقال
أبو حنيفة يقتل جدا، لأنه سعى في الأرض بالفساد هو اظهار السلاح وإخافة
الطريق. وأما القتل فليس منه وللحرابة حكمها على ما سيأتي إن شاء الله وأعان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان أكره رجل على قتل رجل بغير حق فقتله، وجوب القود
على المكره، لأنه تسبب إلى قتله بمعنى يفضى إلى القتل غالبا، فأشبه إذا رماه
390

بسهم فتله وأما المكره ففيه قولان (أحدهما) لا يجب عليه القود، لأنه قتله
للدفع عن نفسه فلم يجب عليه القود كما لو قصده رجل ليقتله فقتله للدفع عن نفسه
(والثاني) أنه يجب عليه القود وهو الصحيح، لأنه قتله ظلما لاستبقاء نفسه،
فأشبه إذا اضطر إلى الاكل فقتله ليأكله.
وأن أمر الامام بقتل رجل بغير حق - فإن كان المأمور لا يعلم أن قتله بغير
حق - وجب ضمان القتل من الكفارة والقصاص والدية على الامام، لان
المأمور معذور في قتله، لأن الظاهر أن الامام لا يأمر الا بالحق. وإن كان يعلم
أنه يقتله بغير وجب ضمان القتل من الكفارة والقصاص أو الدية على المأمور
لأنه لا يجوز طاعته فيما لا يحل، والدليل عليه ما روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق "
وقد روى الشافعي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من أمركم من
الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه " فصار كما لو قتله من غير أمره، وأن أمره بعض
الرعية بالقتل فقتل وجب على المأمور القود، على أنه يقتله بغير حق أو لم يعلم،
لأنه لا تلزمه طاعته، فليس الظاهر أنه يأمره بحق فلم يكن له عذر في قتله،
فوجب عليه القود.
وان أمر بالقتل صبيا لا يميز أو أعجميا لا يعلم أن طاعته لا تجوز في القتل
بغير حق فقتل وجب القصاص على الآمر، لان المأمور ههنا كالآلة للآمر،
ولو أمره بسرقة مال فسرقه لم يجب الحد على الآمر، لان الحد لا يجب الا
بالمباشرة والقصاص يجب بالتسبب والمباشرة
(فصل) وان شهد شاهدان على رجل بما يوجب القتل فقتل بشهادتهما بغير
حق، ثم رجعا عن شهادتهما، وجب القود على الشهود، لما روى القاسم بن
عبد الرحمن " أن رجلين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه
ثم رجعا عن شهادتهما، فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما " وأغرمهما
دية دية، ولأنهما توصلا إلى قتله بسبب يقتل غالبا فوجب عليهما القود،
كما لو جرحاه فمات.
391

(الشرح) الحديث الأول أخرجه أحمد " عن عبد الله بن الصامت قال: أراد
زياد أن يبعث عمران بن حصين على خراسان فأبى عليه فقال له أصحابه، أتركت
خراسان أن تكون عليها؟ قال فقال إني والله ما يسرني أن أصلى بحرها ويصلون
ببردها، إني أخاف إذا كنت في نحر العدو أن يأتيني بكتاب من زياد فإن أنا
مضيت هلكت، وإن رجعت ضربت عنقي، قال فأراد الحكم بن عمرو الغفاري
عليها، قال فانقاد لامره، قال فقال عمران: ألا أحد يدعو إلى الحكم؟ قال
فانطلق الرسول، قال فأقبل الحكم إليه فدخل عليه فقال عمران للحكم " أسمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا طاعة لاحد في معصية الله تبارك وتعالى؟
قال نعم، فقال عمران الحمد لله أو الله أكبر "
وفي رواية عن الحسن أن زيادا استعمل الحكم الغفاري على جيش، فأتاه
عمران بن حصين فلقيه بين الناس، فقال أتدر لم جئتك؟ فقال له لم؟ فقال
أتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له أميره ارم نفسك
في النار فأدرك فاحتبس، فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لو وقع
فيها لدخلا النار جميعا، لا طاعة في معصية الله تبارك وتعالى، قال نعم، قال إنما
أردت أن أذكرك هذا الحديث. رواه أحمد بألفاظ، والطبراني باختصار وفي
بعض طرقه " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق قال الهيثمي، ورجال أحمد رجال
الصحيح، وأخرجه الحاكم في المستدرك عن عمران والحكم الغفاري أيضا. قال
السيوطي وإسناده حسن.
وأخرجه أحمد وأبو يعلى عن أنس " أن معاذ بن جبل قال يا رسول الله
أرأيت إن كان علينا أمراء لا يستنون بسنتك ولا يأخذون بأمرك، فما تأمرنا
في أمرهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا طاعة لمن لم يطع الله عز
وجل " وفيه عمرو بن زينب ولا يعرف وبقية رجاله رجال الصحيح.
وأخرج أحمد والبخاري ومسلم من حديث علي رضي الله عنه قال " بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلا من الأنصار وأمرهم
أن يسمعوا له ويطيعوا فعصوه في شئ فقال اجمعوا لي حطبا، فجمعوا، ثم قال
أوقدوا نارا فأوقدوا، ثم قال ألم يأمركم رسول الله أن تسمعوا وتطيعوا؟ قالوا بلى
392

قال فادخلوها، فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا إنما فررنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
من النار، فكانوا كذلك حتى سكن غضبه وطفئت النار، فلما رجعوا ذكروا ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال " لو دخلوها لم يخرجوا منها أبدا " وقال
" لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف "
وفي حديث معاذ بن جبل عند أحمد " لا طاعة لمن لم يطع الله " وفي حديث
عبادة بن الصامت عند أحمد والطبراني " لا طاعة لمن عصى الله " ولفظ البخاري
" فإذا أمر بمعصية فلا سمع بمعصية فلا سمع ولا طاعة " وخبر القاسم بن عبد الرحمن
مضى في الايمان
أما الأحكام فإذا أمر الامام رجلا أن يقتل رجلا بغير حق فقتله فلا يخلو
إما أن يكرهه على قتله أو لا يكرهه، فإن لم يكرهه بل قال له اقتله، فإن كان
المأمور يعلم أنه أمر بقتله بغير حق لم يحل له قتله، لقوله صلى الله عليه وسلم
" لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " وقال صلى الله عليه وسلم " من أمركم من
الولاة بغير طاعة الله فلا تطيعوه " فان خالف وقتله المأمور بذلك وجب عليه
العقود والكفارة لأنه قتله بغير حق، لا يلحق الامام الاثم لقول صلى الله عليه
وسلم " من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا
بين عينيه آيس من رحمة الله تعالى "
هذا نقل البغدادين، وقال الخراسانيون هل يكون مجرد الامر من الامام أو
السلطان إكراها؟ فيه وجهان.
وأما إذا كان المأمور لا يعلم أنه أمر بقتله بغير حق وجب على الامام القود
والكفارة، لان الامام لا يباشر القتل بنفسه، وإنما يأمر به غيره، فإذا أمر غيره
وقتله بغير حق تعلق الحكم بالامام كما لو قتله بيده. وأما المأمور فلا يجب عليه
اثم ولا قود ولا كفارة لان اتباع أمر الامام واجب عليه، لأن الظاهر أنه
لا يأمر الا بحق.
قال الشافعي رضي الله عنه وأرضاه وأحب له لو كفر، وأما إذا أمره أو
أكرهه الامام على القتل وعلم المأمور أنه يقتل بغير حق فلا يجوز للمأمور القتل
لما ذكرناه إذ لم يكره، فان قتل فإنه يأثم بذلك ويفسق، ويجب على الامام القود
393

والكفارة في ماله، وأما المكره المأمور فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان
(أحدهما) لا يجب عليه القود، وهو قول أبي حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم
" رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " ولأنه قتله لاستبقاء نفسه
فلم يجب عليه القود كما لو قصد رجل نفسه فلم يمكنه دفعه إلا بقتله (والثاني) يجب
عليه القود، وبه قال مالك وأحمد رضي الله عنهما وهو الأصح لقوله صلى الله عليه
وسلم " فمن قتل بعمده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا اقتلوا وإن أحبوا أخذوا
الدية " وهذا قاتل، ولأنه قصد قتل من يكافئه لاستبقاء نفسه فوجب عليه القود
كما لو جاع وقتله ليأكله، ولأنه لو كان رجلا في مضيق أو بيت فدخل عليهما أسد
أو سبع فدفع أحدهما صاحبه إليه خوفا على نفسه فأكله السبع أو الأسد لوجب
القصاص على الدافع، وكذلك لو كان جماعة في البحر فخافوا الغرق فدفعوا واحدا
منهم في البحر لتخف السفينة وغرق ومات وجب عليهم القود، وإن كان ذلك
لاستبقاء أنفسهم. وكذلك هذا مثله.
فإذا قلنا يجب على المأمور القود كان الولي بالخيار بين أن يقتل المكره
والمكره وبين أن يعفو عنهما ويأخذ منهما الدية. وإن قلنا لا يجب على المأمور
المكره القود فعليه نصف الدية لأنه قد باشر القتل، ويجب على كل واحد منهما
كفارة على القولين معا.
هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون إذا قلنا لا يجب على المأمور
القود فهل يجب عليه نصف الدية؟ فيه وجهان. فإن قلنا عليه نصف الدية كان
عليه الكفارة وإن قلنا لا تجب عليه وعليه نصف الدية فهل تجب عليه الكفارة
فيه وجهان.
إذا ثبت هذا فإنه لا فرق بين الامام وبين النائب عنه في ذلك، لان طاعته
تجب كما يجب طاعة الامام، وكذلك إذا تغلب رجل على بلد أو إقليم بتأويل.
وادعى أنه الامام كالامام الذي نصبه الخوارج، فحكمه حكم الامام في ذلك،
لان الشافعي رضي الله عنه لا يرد من أفعاله الا ما يرد من أفعال امام العدل
وكذلك قاضيهم، فإذا ثغلت رجل على بلد بغير تأويل بل باللصوص وأمر رجلا
بقتل رجل بغير حق، أو أمره رجل من الرعية بقتل رجل بغير حق فإن لم يكرهه
394

الآمر على القتل فقتله وجب على المأمور القاتل القود والكفارة سواء علم أنه
أمره بقتله بحق أو بغير حق، لأنه لا يجب عليه طاعته بخلاف الامام، ولا
يلحق الآخر الا الاثم للمشاركة بالقول. وأما القود والكفارة والدية فلا تجب
عليه، لأنه لم يلجئه إلى قتله. وأما إذا أكرهه على قتله وجب على الآمر القود
والكفارة لأنه توصل إلى قتله بالاكراه، فهو كما لو قتله بيده، وأما المأمور
فإن كان يمكنه أن يدفع الامر بنفسه أو بعشيرته أو بمن يستعين به فلا يجوز له
أن يقتل، وان قتله فعليه القود والكفارة، وان لم يمكنه أن يدفع الامر بنفسه
أو بعشيرته أو بمن يستعين به فلا يجوز له أن يقتل، وان قتل فعليه القود
والكفارة، وان لم يمكنه أن يدفع الامر فقتل فهل يجب عليه القود؟ فاختلف
أصحابنا فيه، فقال أكثرهم فيه قولان كما قلنا في الذي أكرهه الامام. ومنهم من
قال يجب عليه القود قولا واحدا، لان الذي أكرهه الامام له شبهة في أمر
الامام لجواز أن يكون الامام قد علم بأمر يوجب القتل على المقتول، وان لم
يعلم به المأمور.
وطاعة الامام تجب بخلاف المتغلب باللصوصية وآحاد الرعية - فإنه لا يجوز
له ذلك، ولا يجب على المأمور طاعته
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال لا يجب القود على من أكرهه الامام قولا
واحدا، ويجب القود على من أكرهه غير الامام قولا واحدا لما ذكرناه من
الفرق بينهما، والطريق الأول أصح
إذا ثبت هذا فان الشافعي رحمه الله قال في الأم، ولو أمر الامام رجلا
يقتل رجل ظلما ففعل المأمور ذلك كان عليهما القود
واختلف أصحابنا في تأويله فقال أبو إسحاق أراد إذا أكرهه وأجاب على
أحد القولين. ومنهم من قال لم يرد بذلك إذا أكرهه لأنه ذكر الاكراه بعد
ذلك، وإنما تأويله أن يقتل مسلما بكافر والامام والمأمور يعتقدان أنه لا يقتل
به الا أن المأمور أعتقد أن الامام قد أداه اجتهاده إلى ذلك فيجب عليهما القود
أما الامام فلانه ألجأه إلى قتله بأمر لان طاعته أمر واجب، وأما المأمور فلان
القتل إذا كان محرما لم يجز له أن يفعله، وإن كان الامام يرى إباحته فليزمهما القود
395

(فرع) واختلف أصحابنا في كيفية الاكراه على القتل، فقال ابن الصباغ لا يكون
الاكراه عليه إلا بالقتل أو بجرح يخاف منه التلف، فأما إذا أكرهه بضرب
لا يموت منه أو بأخذ مال فلا يكون إكراها، لان ذلك لا يكون عذرا في إتلاف
النفس بحرمتها، ولهذا يجب عليه الدفع عن نفسه في أحد الوجهين، ولا يجب
عليه الدفع عن ماله، بل يجب عليه بذله لاحياء نفس غيره
وقال الشيخ أبو حامد في التعليق: إذا أكرهه بأخذ المال على القتل كان
إكراها كما قلنا في الاكراه على الطلاق
وقال الطبري: إذا أكرهه على القتل بما لا تحتمله نفسه كان اكراها،
كما قلنا في الطلاق.
(فرع) وان أمر خادمه الصغير الذي لا يميز، أو كان أعجميا لا يميز ويعتقد
طاعته في كل ما يأمره به بقتل رجل بغير حق فتقله وجب القود والكفارة على
الآمر ولا يجب على المأمور شئ: لان المأمور كالآلة فصار كما لو قتله بيده.
وكذلك إذا كان المأمور يعتقد طاعته كل من أمره فالحكم فيه وفيما سبقه واحد.
ولو أمر بسرقة نصاب لغيره من حرز مثله فسرقه لم يجب على الامر القطع، لان
وجوب القصاص أكد من وجوب القطع في السرقة، ولهذا يجب القصاص في
السبب ولا يجب القطع في السبب.
وان قال للصغير الذي لا يميز أو الأعجمي الذي يعتقد طاعته في كل ما يأمره
به اقتلني فقتله، كان دمه هدرا لأنه آلة له فهو كما لو قتل نفسه، وتجب عليه الكفارة
وان أمر الصغير الذي لا يميز أو البالغ المجنون أن يذبح نفسه فذبحها أو يخرج مقتلا
من نفسه فأخرجه فمات - فإن كان عبده - لم يجب عليه ضمانه لأنه ملكه،
ولكنه يأثم وتجب عليه الكفارة، وإن كان عبدا لغيره وجبت عليه قيمته والكفارة
ويجب عليه القود.
وان قال للأعجمي الذي يعتقد طاعة كل من يأمره اذبح نفسك فذبحها لم يجب
على الامر الضمان، لأنه لا يجوز أن يخفى عليه بأن قتل نفسه لا يجوز، وان
جاز أن يخفى عليه أن قتل غيره يجوز. وان أمره أن يخرج مقتلا من نفسه فجرحه
ومات فإن الشيخ أبا حامد ذكر أن حكمه حكم ما لو أمر بقتل نفسه. وذكر
396

ابن الصباغ في الشامل أنه يجب على الامر الضمان لأنه يجوز أن يخفى عليه أنه
يقتله بخلاف أمره له بقتله لنفسه
وان أكره رجلا على اتلاف مال لغيره فإن الضمان ينفرد على الامر، وهل
على المالك أن يطالب المأمور؟ فيه وجهان حكاهما الطبري (أحدهما) له أن
يطالبه لأنه باشر الاتلاف، فعلى هذا يرجع المأمور على الامر (والثاني) ليس
للمالك مطالبة المأمور لأنه آلة للآمر
(مسألة) قوله " وان شهد شاهدان الخ " فجملة ذلك أنه إذا شهد شاهدان
على رجل بما يوجب القتل بغير حق فقتل بشهادتهما وعمد الشهادة عليه وعلما أنه
يقتل بشهادتهما وجب عليهما القود، لما روى أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه
على رجل أنه سرق فقطعه ثم رجعا عن شهادتهما، فقال لو أعلم أنكما تعمدتما
الشهادة عليه لقطعت أيديكما، وغرمهما الدية في اليد، ولأنهما توصلا إلى قتله
بسبب يقتل غالبا فهو كما لو جرحاه فمات
(فرع) لو قال الرجل اقطع يدي فقطع يده فلا قود على القاطع ولا دية،
لأنه أذن له في اتلافها، فهو كما لو أذن له في إتلاف ماله فأتلفه، وان قال له
اقتلني أو أذن له في قطع يده فقطعها فسرى القطع إلى نفسه فمات لم يجب
عليه القود. وأما الدية فقال أكثر أصحابنا يبنى على القولين متى تجب دية المقتول
فإن قلنا تجب في آخر جزء من أجزاء حياته لم تجب ههنا. وان قلنا إنها تجب
بعد موته وجبت ديته لورثته.
قال ابن الصباغ. وعندي في هذا نظر لان هذا الاذن ليس بإسقاط لما يجب
بالجناية، ولو كان اسقاطا لما سقط، كما لا يصح أن يقول له أسقطت عنك
ما يجب لي بالجناية أو اتلاف المال، وإنما سقط لوجود الاذن فيه، ولا فرق
بين النفس فيه والأطراف، وهذا يدل أن الدية تسقط عنده قولا واحدا، وان
قصده فمات - فإن كان بغيره أمره - وجب عليه القود، وإن كان بأمره لم يجب
عليه قود ولا دية واحدا لان القصد مباح بخلاف القتل. والله أعلم
397

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب القصاص في الجروح والأعضاء)
يجب القصاص فيما دون النفس من الجروح والأعضاء، والدليل عليه قوله
تعالى وكتبنا عليهما فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف
والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص)
وروى أنس رضي الله عنه " أن الربيع بنت النضر بن أنس كسر ثنية جارية
فعرضوا عليهم الأرش فأبوا، وطلبوا العفو فأبوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم
فأمر بالقصاص، فجاء أخوها أنس بن النضر فقال: يا رسول الله أتكسر ثنية
الربيع؟ والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم " كتاب
الله القصاص " قال فعفا القوم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد
الله من لو أقسم على الله لأبر قسمه " ولان ما دون النفس في الحاجة
إلى حفظه بالقصاص فكان كالنفس في وجوب القصاص
(فصل) ومن لا يفاد بغيره في النفس لا يقاد به فيما دون النفس، ومن
اقتيد بغيره في النفس اقتيد به فيما دون النفس لأنه لما كان ما دون النفس كالنفس
في وجوب القصاص كان كالنفس فيما ذكرناه
(فصل) وإن اشترك جماعة في إبانة عضو دفعة واحدة وجب عليهم
القصاص، لأنه أحد نوعي القصاص، فجاز أن يجب على الجماعة بالجناية ما يجب
على واحد كالقصاص في النفس
وإن تفرقت جناياتهم بأن قطع بعض العضو وأبانه الآخر لم يجب
القصاص على واحد منهما، لان جناية كل واحد منهما في بعض العضو، فلا
يحرز أن يقتص منه في جميع العضو
(الشرح) حديث أنس رضي الله عنه أخرجه البخاري في التفسير عن عبد الله
ابن منير وفي الصلح وفي الديات عن الأنصاري وعن محمد بن سلام أخرجه مسلم في
الحنود عن أبي بكر وأخرجه أبو داود في الديات عن مسدد وأخرجه النسائي
398

في القود عن محمد بن المثنى وعن أحمد بن سليمان وعن حميد بن مسعدة وإسماعيل
ابن مسعود: وأخرجه ابن ماجة في الديات عن محمد بن المثنى وعن ابن أبي عدى
والربيع مضى ضبطها في الربيع بنت معوذ وهو بالتصغير وهي أم حارية بنت سراقة
المستشهد بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي صاحبة حديث: أخبرني
عن حارثة إن كان في الجنة صبرت الخ الحديث
أما الأحكام فقد قال الشافعي رحمه الله: والقصاص فيما دون النفس سار.
جرح يستوفى، وطرف يقطع
وقال العمراني أن القصاص يجب فيما دون النفس من الجروح والأعضاء،
لقوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس - إلى قوله تعالى - والجروح
قصاص) أه. ولما روت الربيع أنها كسرت ثنية جارية من الأنصار فعرضوا
عليهم الإرث فلم يقبلوا، فطلبوا العفو فأبوا، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر
بالقصاص، فقال أنس بن النضر: والذي بعثك بالحق لا يكسر ثنيتها، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم كتاب الله القصاص فعفا القوم فقال صلى الله عليه
وسلم: ان من عباد الله من لو قسم على الله لأبره " ولان القصاص في النفس
إنما جعل لحفظ النفس، وهذا موجود فيما دون النفس
إذا ثبت هذا فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص
بينهما فيما دون النفس، فتقطع يد الحر المسلم بيد الحر المسلم ويد الكافر بيد الكافر
ويد المرأة بيد المرأة، وهذا اجماع
وتقطع يد المرأة بيد الرجل ويد الرجل بيد المرأة، ويد العبد بيد الحر
والعبد عندنا. وبه قال مالك وأحمد
وقال أبو حنيفة " إذا اختلف الشخصان في الدية لم يجر القصاص بينهما فيما
دونهما كالحرين المسلمين.
وان اشترك جماعة في إبانة عضو أو جراحة يثبت بها القصاص ولم يتميز فعل
بعضهم عن بعض، مثل أن أجرى جماعة سيفا في أيديهم على يد رجل أو رجله
فقطعوها أو على رأسه فأوضحوه (1) قطعت يد كل واحد منهم وأوضح كل واحد منهم

(1) أوضحوه أي أوضحوا بياض العظم
399

وبه قال ربيعة ومالك وأحمد. وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يقتص منهم بل ينتقل
حق المجني عليه إلى الدية. دليلنا ما روى أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه
على رجل بالسرقة فقطع يده ثم أتيا برجل أخر وقالا: هذا الذي سرق وأخطأنا
في ذلك، فلم يقبل شهادتهما على الثاني وغرمهما دية ويد وقال: لو أعلم أنكما تعمدتما
لقطعت أيديكما، وروى لقطعتكما، ولا مخالف له في الصحابة، ولان كل جناية
وجب بها القصاص على الواحد وجب بها على الجماعة كالنفس، وإن قطع أحدهما
بعض العضو وأبانه الثاني، أو وضع أحدهما السكين على المفصل ووضع الاخر
عليه السكين من الجانب الآخر ثم قطعاه وأباناه لم يجب على أحدهما قصاص في
إبانة العضو، لان جناية كل واحد منهما قطعة مميزة في بعض العضو فلا يقتص
منه في جميعه.
(فرع) ويعتبر في المجني به على ما دون النفس ما يعتبر في النفس، فإن رماه
بحجر كبير يوضحه مثله في الغالب فأوضحه وجب عليه القود، وإن لطمه وورم
وانتفخ فصار موضحة فلا قود فيها وفيها الدية. وإن رماه بحجر صغير لا يوضح
مثله في الغالب فأوضحه لم يجب عليه القود ووجب عليه الدية كما قلنا في النفس.
وحكى ابن الصباغ في الشامل أن الشيخ أبا حامد قال إذا كان الحجر مما يوضح
غالبا فإنه يجب القصاص في الموضحة، فإذا مات لم يجب القصاص. قال ابن الصباغ
وهذا فيه نظر لان من أوضح غيره بحديدة فمات منها وجب عليه القود، فإذا
كانت هذه الآلة توضح في الغالب كانت كالحديد.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) والقصاص فيما دون النفس في شيئين في الجروح وفي الأطراف،
فأما الجروح فينظر فيها فإن كانت لا تنتهي إلى عظم كالجائفة وما دون الموضحة من
الشجاج، أو كانت الجناية على عظم ككسر الساعد والعضد والهاشمة والمنقلة، لم
يجب فيها القصاص، لأنه لا تمكن المماثلة فيه ولا يؤمن أن يستوفى أكثر من
الحق فسقط، فإن كانت الجناية تنتهي إلى عظم - فإن كانت موضحة في الرأس أو
400

الوجه - وجب فيها القصاص، لأنه تمكن المماثلة فيه، ويؤمن أن يستوفى أكثر
من حقه، وإن كانت فيما سوى الرأس والوجه كالساعد والعضد والساق والفخذ
وجب فيها القصاص.
ومن أصحابنا من قال لا يجب لأنه لما خالف موضحة الرأس والوجه في تقدير
الأرش خالفهما في وجوب القصاص والمنصوص هو الأول، لأنه يمكن استيفاء
القصاص فيها من غير حيف لانتهائها إلى العظم، فوجب فيها القصاص كالموضحة
في الرأس والوجه.
(فصل) وإن كان الجناية موضحة وجب القصاص بقدرها طولا وعرضا
لقوله عز وجل " والجروح قصاص " والقصاص هو المماثلة، ولا تمكن المماثلة
في الموضحة الا بالمساحة في الطول والعرض، فإن كانت في الرأس حلق موضعها
من رأس الجاني وعلم على القدر المستحق بسواد أو غيره، ويقتص منها، فإن كانت
الموضحة في مقدم الرأس أو مؤخره أو في قزعته وأمكن أن يستوفى قدرها
في موضعها من رأس الجاني لم يستوف في غيرها، وإن كان قدرها يزيد على مثل
موضعها من رأس الجاني استوفى بقدرها، وان جاوز الموضع الذي شجه في مثله
لان الجميع رأس. وإن كان قدرها يزيد على رأس الجاني لم يجز أن ينزل إلى
الوجه والقفا لأنه قصاص في غير العضو الذي جنى عليه ويجب فيما بقي الأرش
لأنه تعذر فيه القصاص فوجب البدل، فان أوضح جميع رأس ورأسه ورأس الجاني أكبر
فللمجني عليه أن يبتدئ بالقصاص من أي جانب شاء من رأس الجاني، لان
الجميع محل للجناية.
وأن أراد أن يستوفى بعض حقه من مقدم الرأس وبعضه من مؤخره فقد
قال بعض أصحابنا انه لا يجوز، لأنه يأخذ موضحتين بموضحة. قال الشيخ الامام
ويحتمل عندي أنه يجوز لأنه لا يجاوز موضع الجناية ولا قدرها الا أن يقول
أهل الخبرة أن في ذلك زيادة ضرر أو زيادة شين فيمنع لذلك.
وإن كانت الموضحة في غير الوجه والرأس وقلنا بالنصوص أنه يجب فيها
القصاص اقتص فيها على ما ذكرناه في الرأس، فإن كانت في الساعد فزاد قدرها
على ساعد الجاني لم ينزل إلى الكف ولم يصعد إلى العضد، وإن كانت في الساق
401

فزادت على قدر ساق الجاني لم ينزل إلى القدم ولم يصعد إلى الفخذ كما لا ينزل في
موضحة الرأس إلى الوجه والقفا
(فصل) وإن كانت الجناية هاشمة أو منقبلة أو مأمومة فله أن يقتص في
الموضحة لأنها داخلة في الجناية يمكن القصاص فيها، ويأخذ الأرش في الباقي،
لأنه تعذر فيه القصاص فانتقل إلى البدل.
(الشرح) الأحكام: يجب القصاص فيها دون النفس في شيئين: الجروح
والأعضاء، والجروح ضربان، جرح في الرأس والوجه وجرح فيما سواهما من
البدن، فأما الجروح في الرأس والوجه ويسمى الشجاج. قال الشافعي رضي الله عنه
وهي عشرة.
(أولها) الحارصة وهي التي تقشط الجلد قشطا لا يدمى، ومنه يقال حرص
القصار الثوب إذا قشط درنه ووسخه (1) وبعدها الدامية وهي التي قشطت الجلد
وخرج منها الدم، وبعدها الباضعة وهي التي تبضع اللحم، أي تشقه بعد الجلد
وبعدها المتلاحمة وهي التي تنزل في اللحم ولا تصدع العظم، وبعدها السمحاق
وهي التي وصلت إلى جلدة رقيقة بين اللحم والعظم وتسمى تلك الجلدة السمحاق
وبعدها الموضحة وهي التي أوضحت عن العظم وكشفت عنه، وبعدها الهاشمة وهي
التي هشمت العظم، وبعد المنقلة - قال الشيخ أبو حامد ولها تأويلان
(أحدهما) أن ينقل العظم من موضع إلى موضع (والثاني) أنه في تداويه
لابد من إخراج شئ من العظم منه، وبعدها المأمومة وتسمى الأمة بالمداسم
فاعل والمأمومة اسم مفعول، وجمع الأمة أوام، مثل دابة ودواب، وجمع
المأمومة على لفظها مأمومات وهي التي تصل إلى أم الدماغ
وقال في البيان: وهي التي قطعت العظم وبلغت إلى قشرة رقيقة فوق الدماغ
وبعده الدامغة وهي التي بلغت الدماغ.
وحكى عن أبي العباس بن سريج أنه زاد الدامغة بعد الدامية وقال الدامية التي يخرج منها

(1) في المصباح: حرص القصار الثوب شقه، ومنه قيل للشجة تشق
الجلد حارصة.
402

الدم ولا يجرى، والدامغة ما يخرج منها الدم ويجرى. قال الأزهري، الدامغة
قبل الدامية، وهي التي يخرج منها الدم بقطعه والدامية هي التي يخرج منها أكثر
إذا ثبت هذا فان الشافعي رضي الله عنه قال في الأم لا قصاص فيما دون
الموضحة من الشجاج
ونقل المزني لو جرحه فلم يوضحه اقتضى منه بقدر عاشق من الموضحة.
واختلف أصحابنا فيه فقال الخراسانيون هل يجب القصاص فيما دون الموضحة
من الشجاج؟ فيه قولان، قال أكثر أصحابنا البغداديين، لا يجب القصاص فيما
دون الموضحة، وما نقله المزني فيه سهو، لان القصاص هو المماثلة ولا يمكن المماثلة
فيما دون الموضحة، فلو أوجبنا فيها القصاص لم يأمن أن تؤخذ موضحة بمتلاحمة،
لأنه قد يكون رأس المجني عليه غليظ الجلد كثير اللحم، ويكون رأس الجاني رقيق
الجلد قليل اللحم، فإذا قدرنا العمق في المتلاحمتين ورأس المجني عليه وأوجبنا
قدره في رأس الجاني فربما بلغت إلى العظم وذلك لا يجوز
وقال الشيخ أبو حامد يمكن عندي القصاص فيما دون الموضحة من الشجاج
على ما نقله المزني بأن يكون في رأس المجني عليه موضحة وفي رأس الجاني موضحة
فينظر إلى المتلاحمة التي في رأس المجني عليه، وينظر كم قدرها من الموضحة، فإن
كان قدر نصفها نظر كم قدر الموضحة التي في قدر رأس الجاني فنقص منه نصف موضحته
التي في رأسه، والمشهور أنه لا قصاص في ذلك، وأما الموضحة فيجب فيها
القصاص لان المماثلة فيها ممكنة من غير حيف، فيقدر الموضحة بالطول والعرض
ويعلم عليه بخيط أو سواد ولا يعتبر العمق، لأنه يأخذ إلى العظم. وإن كانت
الشجة في الرأس وعلى موضعها في رأس الجاني شعر فالمستحب أن يحلق ذلك الشعر
لأنه أسهل في الاستيفاء، وإن اقتص ولم يحلق الشعر جاز، لأنه لا يأخذ
إلا قدر حقه.
(فرع) إذا شج رجل رجلا في رأسه شجة فلا يخلو إما أن يستوي رأساهما
في الصغر والكبر أو يختلفا - فإن استوى رأسهما في الصغر أو الكبر - فإنه
يستوفى مثل موضحته بالطول والعرض في موضعها إما في مقدم الرأس أو مؤخره
403

أو بين قرنيه، وان اختلفا نظرت - فإن كان رأس الجاني أكبر ورأس المجني
عليه أصغر فجنى عليه موضحة إلى منبت الشعر فوق الاذن وكان قدر طولها
وعرضها في رأس الجاني ينتهى إلى أعلا من ذلك الموضع لسعته، فليس للمجني
عليه أن يأخذ الا قدر موضحته طولا وعرضا لا يزيد عليه، ولكن له أن يبتدئ
بالقصاص من أي الجانبين شاء.
وإن أوضح جميع رأسه فللمجني عليه أن يقتص قدر موضحته طولا وعرضا
في أي وقت شاء من رأس الجاني لأنه قد جنى عليه في ذلك الموضع في رأسه
فإن أراد أن يقتص بعضها في مقدم رأس الجاني وبعضها في مؤخر رأس الجاني
ويكون بينهما فاصل ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز له ذلك لأنه يأخذ موضحتين بموضحة
(والثاني) وهو قول المصنف أنه يجوز لأنه لا يأخذ إلا قدر حقه إلا أن
قال أهل الخبرة ان في ذلك زيادة ضرر أو زيادة شين فيمنع من ذلك، وإن كان
رأس المجني عليه أكبر من رأس الجاني فأوضحه موضحة في مقدم رأسه وكان
قدر طولها وعرضها في رأس الجاني يزيد على ذلك الموضع ففيه وجهان
(أحدهما) أن للمجني عليه أن يقتص في مقدم رأس الجاني ويستكمل قدر
طول موضحته وعرضها مما يلي ذلك من مؤخر رأس الجاني لأنه عوض واحد
فإن زادت موضحته على قدر الرأس لم يكن له أن يستوفى باقيها في الوجه ولا
في القفا وهو ما نزل عن منبت شعر الرأس من العين لأنهما موضعان آخران
والوجه الثاني أنه لا يجوز له أن يتجاوز عن سمت موضع الشجة لأنه غير موضع
الشجة فلم يتجاوزه، كما لا يجوز أن يتجاوز عن موضع الرأس إلى الوجه والقفا
فعلى هذا إن كانت الموضحة في مقدم الرأس وزاد قدرها على مقدم رأس الجاني
لم ينزل إلى مؤخره، وإن كانت بين قرني الرأس وهما جانباه وزاد قدرها على
ما بين قرني رأس الجاني فللمجني عليه أن يقتص إلى ما فوق الاذنين لأنه في سمتها
وليس له أن يستوفى في مقدم الرأس ولا في مؤخره لأنه في غير سمته
(فرع) وأما الهاشمة والمنقلة والمأمومة فله أن يقتص في الموضحة وليس له
أن يقتص فيما زاد عليها لان كسر العظم لا يمكن المماثلة فيه لأنه يخاف فيه الحيف
404

وإتلاف النفس، وأما الجراحة في غير الرأس والوجه فينظر فيها - فإن وصلت
إلى عظم وجب فيه القصاص. ومن أصحابنا من قال لا يجب فيها القصاص لأنها
لما خالفت موضحة الرأس والوجه في تقدير الأرش خالفتها في وجوب القصاص
والمنصوص هو الأول، لأنه يمكن القصاص فيها من غير حيف فهي كالموضحة
في الرأس والوجه.
فعلى هذا إن كانت في موضع عليه شعر كثير، فالمستحب أن يحلق موضعها
ويعلم على موضعها سواد أو غيره، ويقدر الطول والعرض على ما ذكرناه
في موضحة الرأس.
وإن كانت الجراحة في العضد فزيد قدرها على عضد الجاني لم ينزل في الزيادة
على عالي الساعد، وإن كانت في الفخذ وزاد قدرها على فخذ الجاني لم ينزل في الزيادة
إلى الساق، وإن كانت في الساق وزاد قدرها على ساق الجاني لم ينزل في الزيادة
إلى القدم كما لا ينزل في موضحة الرأس إلى الوجه والقفا، وإن كانت فيما دون
الموضحة لم يجب فيها القصاص على المشهور من المذهب، لأنه لا يمكن المماثلة فيه
وعلى ما اعتبره الشيخ أبو حامد وحكاه الخراسانيون فيما دون الموضحة من
الجراحات على الرأس في الوجه يكون ههنا مثله
وإن كانت الجراحة جائفة أو كسر عظم لم يجب القصاص فيها، لأنه لا يمكن
المماثلة فيها ويخاف فيها الحيف، بل إن كانت في موضع وصلت إلى عظم ثم كسرت
أو أجافت وجب القصاص فيها إلى العظم ووجب الأرش فيما زاد
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وأما الأطراف فيجب فيه القصاص في كل ما ينتهى منها إلى مفصل
فتؤخذ العين بالعين لقوله تعالى " وكتبنا عليهم فيه أن النفس بالنفس والعين بالعين
والأنف بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص " ولأنه يمكن المماثلة
فيها لانتهائها إلى مفصل فوجب فيها القصاص، ولا يجوز أن يأخذ صحيحة بقائمة
لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويجوز أن يأخذ القائمة بالصحيحة لأنه يأخذ دون
حقه. وان أوضح رأسه فذهب ضوء عينه، فالمنصوص أنه يجب فيه القصاص،
405

وقال فيمن قطع أصبح رجل فتأكل كفه إنه لا قصاص في الكف، فنقل أبو إسحاق
قوله في الكف إلى العين ولم ينقل قوله في العين إلى الكف فقال في ضوء العين
قولان (أحدهما) لا يجب فيه القصاص لأنه سراية فيما دون النفس فلم يجب فيه
القصاص كما لو قطع أصبعه فتأكل الكف (والثاني) يجب لأنه لا يمكن إتلافه
بالمباشرة فوجب القصاص فيه بالسراية كالنفس
ومن أصحابنا من حمل المسئلتين على ظاهرها فقال يجب القصاص في الضوء
قولا واحدا ولا يجب في الكف، لان الكف يمكن إتلافه بالمباشرة فلم يجب
القصاص فيه بالسراية بخلاف الضوء.
(فصل) ويؤخذ الجفن بالجفن لقوله تعالى " والجروح قصاص " ولأنه يمكن
القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل فوجب فيه القصاص ويؤخذ جفن البصير بجفن
الضرير وجفن الضرير يجفن البصير لأنهما متساويان في السلامة من النقص وعدم
البصر نقص في غيره.
(فصل) ويؤخذ الانف بالأنف لقوله تعالى " والأنف بالأنف " ولا يجب
القصاص فيه إلا في المارن لأنه ينتهى إلى مفصل، ويؤخذ الشام بالاخشم،
والاخشم بالشام لأنهما متساويان في السلامة من النقص، وعدم الشم نقص في
غيره، ويؤخذ البعض بالبعض، وهو أن يقدر ما قطعه بالجزء كالنصف والثلث
ثم يقتض بالنصف والثلث من مارن الجاني، ولا يؤخذ قدره بالمساحة لأنه قد
يكون أنف الجاني صغيرا وأنف المجني عليه كبيرا، فإذا اعتبرت المماثلة بالمساحة
قطعنا جميع المارن بالبعض، وهذا لا يجوز. ويؤخذ المنخر بالمنخر والحاجز
بين المنخرين بالحاجز، لأنه يمكن القصاص فيه لانتهائه إلى مفصل، ولا يؤخذ
مارن صحيح بمارن سقط بعضه بجذام أو انخرام لأنه يأخذ أكثر من حقه، فإن
قطع من سقط بعض مارته مارفا صحيحا فللمجني عليه أن يأخذ الموجود وينتقل
في الباقي إلى البدل لأنه وجد بعض حقه وعدم البعض، فأخذ الموجود وانتقل
في الباقي إلى البدل وان قطع الأنف من أصله اقتص من المارن لأنه داخل في
الجناية يمكن القصاص فيه، وينتقل في الباقي إلى الحكومة لأنه لا يمكن القصاص فيه
فانتقل فيه إلى البدل
406

(الشرح) قوله " بقائمة " وهي التي بياضها وسوادها صحيحان غير أن صاحبها
لا يبصر ولعلها الواقفة، من قولهم. قام زيد إذا وقف
وقوله " المارن " أي ما لان من الانف وموصل إلى القضيب، والأخشم
من الخشم، أي أصيب بداء في أنفه منعه الشم
أما الأحكام فإن الأطراف يجب فيها القصاص في كل ما ينتهى منها إلى مفصل
فتؤخذ العين بالعين لقوله تعالى (والعين بالعين) الآية. ولأنها تنتهي إلى مفصل
إذا ثبت هذا فإنه تؤخذ العين الصحيحة بالعين الصحيحة والقائمة بالقائمة، وهي
التي ذهب ضوؤها وبقيت حدقتها - وهي التي انفصلت شبكتيها - وهو الطبقة
المبطنة لكرة العين من أسفل أو التي انفصل أو ضمر العصب البصري لها وهو
الذي يتلقى المرئيات من الشبكية لنقلها إلى المخ، أو المياه الزرقاء التي تتكون في
العدسة الداخلية للعين، أو ما شابه ذلك مما لا يظهر على شكل العين فتبدو كأنها
مبصرة وليس فيها ابصار، فإنه لا تؤخذ صحيحة بقائمة، وهي التي وصفناها طبقا
لعلم التشريح البصري إن شاء الله، وذلك لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويجوز أن
يأخذ القائمة بالصحيحة لأنه يأخذ أقل من حقه باختياره
(فرع) إذا أوضح رأسه فذهب ضوء العين، أي انفصلت الشبيكة أو نهتك
عصب الابصار، فالمنصوص أنه يجب القصاص في الضوء.
وقال الشافعي رضي الله عنه فيمن قطع أصبع رجل فتأكل الكف وسقط
انه لا يجب عليه القصاص في الكف. واختلف أصحابنا في ضوء العين، فنقل
أبو إسحاق جوابه في الكف إلى العين، وجعل في ضوء العين قولين
(أحدهما) أنه لا يجب فيه القصاص لأنه سراية فيما دون النفس فلم يجب فيه
القصاص كالكف.
(والثاني) يجب فيه القصاص بالسراية كالنفس، وقال أكثر أصحابنا لا يجب
القصاص في الكف بالسراية قولا واحدا، والفرق بينهما أن الكف يمكن اتلافه
بالمباشرة فلم يجب فيه القصاص بالسراية، والضوء لا يمكن إتلافه بالمباشرة
بالجناية، وإنما يتلف بالجناية على غيره فوجب القصاص فيه بالسراية كالنفس.
(فرع) قال المصنف ويؤخذ الجفن بالجفن لقوله تعالى " والجروح قصاص "
407

وهذا صحيح لأنه ينتهى إلى مفصل فيؤخذ جفن البصير بجفن الضرير وجفن الضرير
بجفن البصير لأنهما متساويان في السلامة، وعدم البصر نقص في غيره
(مسألة) قوله تعالى " والعين بالعين والأنف بالأنف " قرأ نافع وعاصم
والأعمش وحمزة بالنصب في جميعها على العطب، ويجوز تخفيف (أن) ورفع
الكل بالابتداء والعطف، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وأبو جعفر بنصب
الكل إلا الجروح، وكان الكسائي وأبو عبيد يقرءان " والعين بالعين " وهكذا
بالرفع فيها كلها.
قال أبو عبيد: حدثنا حجاج عن هارون عن عباد بن كثير عن عقيل عن
الزهري عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ " وكتبنا عليهم فيها أن النفس
بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح
قصاص " والرفع من ثلاث جهات بالابتداء والخبر وعلى معنى على موضع " أن
النفس " لان المعنى قلنا لهم " النفس بالنفس "
والوجه الثالث قاله الزجاج يكون عطفا على المضمر في النفس، لان الضمير
في النفس في موضع رفع لان التقدير أن النفس هي مأخوذة بالنفس، فالأسماء
معطوفة على هي.
قال ابن المنذر: ومن قرأ بالرفع جعل ذلك ابتداء كلام حكم في المسلمين،
وهذا أصح القولين عند القرطبي في جامعه، وذلك أنها قراءة رسول الله صلى الله
عليه وسلم والخطاب للمسلمين أمروا بهذا. ومن خص الجروح بالرفع فعلى القطع
مما قبلها والاستئناف بها، كأن المسلمين أمروا بهذا خاصة، وما قبله لم يواجهوا به
إذا ثبت هذا فإن الانف الكبير يؤخذ بالصغير والغليظ بالرقيق والأقنى بالأفطس
لان الأطراف يجب القصاص فيها وان اختلفت بالصغر والكبر. ولا يجب
القصاص في المارن وهو اللبن.
وأما القصبة فلا يجب فيها القصاص لأنها عظم، ويؤخذ أنف الشام بأنف
الأخشم وأنف الأخشم بأنف الشام، لان الخشم ليس بنقص في الانف،
وإنما هو لعلة في الدماغ والأنفان يتساويان في السلامة، ويؤخذ الانف الصحيح
بالأنف المجذوم ما لم يسقط بالجذام شئ منه، لان الطرف الصحيح يؤخذ
408

بالطرف العليل، فإن سقط من الانف شئ لم يؤخذ به الصحيح لأنه يأخذ أكثر
من حقه، فإن قطع من سقط بعض مارنه مارنا صحيحا قطع جميع ما بقي من مارن
الجاني وأخذ منه من الدية بقدر ما كان ذهب من مارنه، فإن قطع بعض مارن
غيره نظركم القدر التي قطع - فإن كان نصف المارن أو ثلثه أو ربعه أقتص من
مارنه نصفه أو ثلثه أو ربعه، ولا يقدر بالمساحة بالطول والعرض كما قلنا في
الموضحة، لأنه قد يكون أنف الجاني صغيرا وأنف المجني عليه كبيرا، فلو قلنا
يقطع من أنف الجاني قدر ما قطع من أنف المجني عليه بالمساحة طولا وعرضا
لم يأمن أن يقطع جميع أنفه ببعض أنف المجني عليه، ويؤخذ المتحد بالمتحد،
والحاجز بينهما بالحاجز، فأي قطع المارن والقصبة اقتص من المارن وأخذ
الحكومة في القصبة لأنه لا يمكن القصاص فيها
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتؤخذ الاذن بالاذن لقوله عز وجل " والاذن بالاذن " ولأنه
يمكن استيفاء القصاص فيه لانتهائه إلى حد فاصل، وتؤخذ أذن السميع بأذن
الأصم، وأذن الأصم بأذن السميع، لأنهما متساويان في السلامة من النقص،
وعدم السمع نقص في غيره. ويؤخذ الصحيح بالمثقوب، والمثقوب بالصحيح،
لان الثقب ليس بنقص، وإنما تثقب للزينة، ويؤخذ البعض بالبعض على
ما ذكرناه في الانف، ولا يؤخذ صحيح بمخزوم، لأنه يأخذ أكثر من حقه،
ويؤخذ المخزوم بالصحيح، ويؤخذ معه من الدية بقدر ما سقط منه لما
ذكرناه في الانف.
وهل يؤخذ غير المستحشف بالمستحشف؟ فيه قولان (أحدهما) أنه لا يؤخذ
كما لا تؤخذ اليد الصحيحة بالشلاء
(والثاني) يؤخذ لأنهما متساويان في المنفعة، بخلاف اليد الشلاء فإنها
لا تساوى الصحيحة في المنفعة، فإن قطع بعض أذنه وألصقه المقطوع فالتصق
لم يجب القصاص، لأنه لا يمكن المماثلة فيما قطع منه، وإن قطع أذنه حتى جعلها
معلقة على خده وجب القصاص، لان المماثلة فيه ممكنة بأن يقطع أذنه حيت تصير
409

معلقة على خده، وإن أبان أذنه أبان أذنه فأخذه المقطوع وألصقه فالتصق لم يسقط القصاص
لان القصاص يجب بالإبانة، وما حصل من الالصاق لا حكم له لأنه يجب
إزالته ولا تجوز الصلاة معه. وإن قطع أذنه فاقتص منه وأخذ الجاني اذنه
فألصقه فالتصق لم يكن للمجني عليه أن يطالبه بقطعه، لأنه اقتض منه بالإبانة،
وما فعله من الالصاق لا حكم له لأنه يستحق إزالته للصلاة، وذلك إلى السلطان
وإن قطع أذنه فقطع المجني عليه بعض أذن الجاني فألصقه الجاني فالتصق فللمجني
عليه أن يعود فيقطعه لأنه يستحق الإبانة ولم يوجد ذلك. وإن جنى على رأسه
فذهب عقله أو على أنفه فذهب شمه أو على أذنه فذهب سمعه لم يجب القصاص
في العقل والشم والسمع، لأن هذه المعاني في غير محل الجناية فلم يمكن
القصاص فيها.
(فصل) وتؤخذ الشفة بالشفة وهو ما بين جلد الذقن والخدين علوا وسفلا
ومن أصحابنا من قال لا يجب فيه القصاص لأنه قطع لحم لا ينتهى إلى عظم فلم
يجب فيه القصاص كالباضعة والمتلاحمة والضجيج والأول لقوله تعالى " والجروح
قصاص " ولأنه ينتهى إلى حد معلوم يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص
(الشرح) الصمم فقدان السمع بسبب من الأسباب الآتية،
1 - انسداد القناة السمعية وهي المدخل الظاهري في فتحة الاذن
2 - تهتك الغشاء الرقيق المسمى (الطلبة) وهو الذي يستقبل الذبذبات
الصوتية الداخلة من القناة السمعية فينقلها بدوره إلى ثلاثة عظيمات في الصماخ
وهذه العظيمات (بالتصغير لصغرها ودقتها) تكبر الصوت بالذبذبات التي تحدث
عن طريق تحرك هذه العظيمات عند اصطدام الذبذبات الصوتية بها
3 - توقف العظيمات عن الحركة
4 - انفصال العصب السمعي أو تيبسه أو تهتكه، وهو الذي يأخذ الصوت
من مكبر الصوت (العظيمات) لينقله إلى المخ. والأخرم المثقوب الاذن، وقد انخرم
ثقبه أي انشق، والمستحشف المنقبض اليابس، مأخوذ من حشف التمر وأول
الشجاج الحارصة، سميت حارصة لأنها تشق الجلد، يقال حرص القطار الثوب
410

إذا شقه، وحرص المطر الأرض إذا قشرها، والباضعة التي تقطع الجلد وتشق
اللحم وتدمى: من بضعت اللحم إذا قطعته قطعا صغارا، والبضعة القطعة وقد
سقناها آنفا في عشرة أنواع وفيها المتلاحمة والسمحاق والهاشمة. أما الاندمال
فهو برء الجرح. يقال اندمل الجرح إذا تماثل، وأصله الاصلاح، ودملت بين
القوم أصلحت، ودملت الأرض بالسرحين أصلحتها
أما الأحكام فإنه يجب القصاص في الاذن لقوله تعالى " والاذن بالاذن "
ويؤخذ منها الكبير بالصغير والعكس لما ذكرناه في الانف، ويؤخذ المثقوب
بالصحيح وبالعكس، والأصم بالسميع وبالعكس، وإن قطع من أذنه مخرومة
أذنا صحيحة اقتص منه المجني عليه في المخرومة وأخذ من دية أذنه بقدر ما انخرم
من أذن الجاني، وتؤخذ الاذن المستحشفة وهي الاذن اليابسة بالاذن الصحيحة
لأنه يأخذ أنقص من حقه باختياره، وهل تؤخذ الاذن الصحيحة بالاذن
المستحشفة؟ فيه قولان
(أحدهما) لا يؤخذ بها كما لا يجوز أخذ اليد الصحيحة باليد الشلاء.
(والثاني) تؤخذ بها لان الاذن المستحشفة تساوى الاذن الصحيحة في
المنفعة فأخذت الصحيحة بها بخلاف اليد الشلاء فإنها لا تساوى الصحيحة في المنفعة
(فرع) وإن قطع بعض أذنه اقتص منه، ويقدر ذلك بالجزء كالنصف
والثلث والربع، ولا يقدر بالمساحة بالطول والعرض لما ذكرناه في الانف.
وحكى ابن الصباغ عن القاضي أبى الطيب أنه لا يثبت القصاص في بعض الاذن
والأول أصح لأنه يمكنه القصاص فيها
وقول المصنف هنا: إذا قطع بعض أذنه وألصقه فالتصق لم يجب القصاص
لأنه لا يمكن المماثلة فيما قطع منه. ولعله أراد إذا اندمل القطع بنحو خياطة
طبية فاختفى القطع.
وإن قطع أذنه حتى جعلها معلقة فله أن يقطع كذلك لان المماثلة ممكنة. وان
قطع أذنه وأبانها فأخذها المجني عليه فألصقها فالتصقت لم يكن للمجني عليه أن
يطالبه بإزالتها، لأنه قد استوفى حقه، والإزالة إلى السلطان، وإن قطع أذنه
وأبانها وقطع المجني عليه بعض أذن الجاني فألصقه الجاني فالتصق فللمجني عليه أن
411

يعود ويقطعه، لان حقه الإبانة ولم يوجد. وإن جنى على رأسه فذهب عقله أو
شمه أو سمعه أو ذوقه أو نكاحه أو إنزاله لم يجب القصاص، لأن هذه الأشياء
ليست في موضع الجناية فيمكن القصاص فيها.
(مسألة) يجب في الشفتين القصاص، ومن أصحابنا من قال: لا قصاص فيهما
لأنه قطع لحما من لحم غير منفصل، والأول هو المنصوص لقوله تعالى " والجروح
قصاص " ولان الشفتين هما اللحم الجافي من لحم الذقن والشدق، مستدير على
الفم طولا وعرضا، وطولهما ما تجافى عن لحم الذقن إلى أصل الانف وذلك من
لحم له حد معلوم فوجب القصاص فيه
واختلف أصحابنا في القصاص في اللسان، فمنهم من قال يجب القصاص في
جميعها وفي بعضها، لان له حدا ينتهى إليه فهو كالأنف والاذن. وقال أبو إسحاق
لا قصاص فيه، واليه ذهب بعض أصحاب أبي حنيفة، واختاره ابن الصباغ
وأما المصنف فذكر أن القصاص يثبت في جميعها على وجهين
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويؤخذ السن بالسن لقوله تعالى (والسن بالسن) ولما رويناه في
أول الباب في حديث الربيع بنت النضر بن أنس، ولأنه محدود في نفسه يمكن
القصاص فيه فوجب فيه القصاص، ولا يؤخذ سن صحيح بسن مكسور لأنه
يأخذ أكثر من حقه، ويؤخذ المكسور بالصحيح، ويؤخذ معه من الدية بقدر
ما انكسر منه لما ذكرناه في الانف والاذن، ويؤخذ الزائد إذا اتفق محلهما
لأنهما متساويان، وان قلع سنا زائدة وليس للجاني مثلها وجبت عليه الحكومة
لأنه تعذر المثل فوجب البدل، وإن كان له مثلها في غير موضع المقلوع لم يؤخذ
كما لا يؤخذ سن أصلى بسن أخرى. وان كسر نصف سنه وأمكن أن يقتص منه
نصف سنه اقتص منه، فإن لم يمكن وجب بقدره من دية السن، وان وجب له
القصاص في السن فاقتص ثم نبت له مكانه سن آخر ففيه قولان
(أحدهما) أن النابت هو المقلوع من جهة الحكم لأنه مثله في محله فصار كما
412

لو قلع سن صغير ثم نبت فعلى هذا يجب على المجني عليه دية سن الجاني لأنه قلع
سنه بغير سن.
والقول الثاني: إن النابت هبة مجددة لان الغالب أنه لا يستخلف فعلى هذا
وقع القصاص موقعه ولا يجب عليه شئ للجاني، وإن قلع سن رجل فاقتص
منه ثم نبت للجاني سن في مكان السن الذي اقتص منه. فإن قلنا إن النابت هبة
مجددة لم يكن للمجني عليه قلعه لأنه استوفى ما كان له. وإن قلنا إن النابت هو
المقلوع من جهة الحكم فهل يجوز للمجني عليه قلعه؟ فيه وجهان
(أحدهما) أن له أن يقلعه ولو نبت ألف مرة، لأنه أعدمه السن فاستحق
أن يعدم سنه.
(والثاني) ليس له قلعه لأنه يجوز أن يكون هبة مجددة ويجوز أن يكون هو
المقلوع فلم يجز قلعه مع الشك
(فصل) ويؤخذ اللسان باللسان لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولان
له حدا ينتهى إليه فاقتص فيه فلا يؤخذ لسان الناطق بلسان الأخرس لأنه يأخذ
أكثر من حقه، ويؤخذ لسان الأخرس بلسان الناطق لأنه يأخذ بعض حقه
وان قطع نصف لسانه أو ثلثه أقتص من لسان الجاني في نصفه أو ثلثه وقال
أبو إسحاق لا يقتص منه لأنه لا يأمن أن يجاوز القدر المستحق، والمذهب أنه
يقتص منه للآية ولأنه إذا أمكن القصاص في جميعه أمكن في بعضه
(الشرح) حديث الربع بنت النضر مضى تخريجه في فصل قبله، أما الأحكام
فقد قال الشافعي رضي الله عنه: وإن قلع سن من أثغر قلع سنه، وإن كان
المقلوع سن لم يثغر أوقف حتى يثغر
وجملة ذلك أن القصاص يجب في السن لقوله تعالى " والسن بالسن " ولما روى
أن الربيع كسر سن جارية فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بكسر سنها، فقال
أنس بن النضر أتكسر سن الربيع؟ لا والله لا تكسر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
القصاص فعفا الأنصاري فقال رسول الله إن من عاد الله من لو أقسم على الله لأبره "
إذا ثبت هذا فإنه يقال للصبي إذا سقطت رواضعه، وهي الأسنان التي تنبت له
413

وقت رضاعه ثغر فهو مثغور، فإذا نبت له مكانها قيل له أثغر واتغر لغتان.
هكذا أفاده العمراني
وقال الفيومي: والثغر المبسم ثم أطلق على الثنايا، وإذا كسر ثغر الصبي
قيل: ثغر ثغورا بالبناء للمفعول، وثغرته أثغرته من باب نفع كسرته، وإذا
نبتت بعد السقوط قيل أثغر أثغار مثل أكرم إكراما، وإذا ألقى أسنانه قيل
الثغر على افتعل.
وقال في كفاية المتحفظ: إذا سقطت أسنان الصبي قبل ثغر، فإذا نبتت قيل
اثغر واتغر بالتاء والثاء مع التشديد.
فإذا قلع سن غيره فلا يخلو المقلوع إما أن يكون لم يثغر أو كان قد ثغر، فإن
كان لم يثغر فإن القصاص لا يجب على الجاني في الحال، لان العادة جرت أن سن
من لم يثغر تعود إذا قلعت، وما كان يعود إذا قلع لا يجب فيه القصاص كالشعر
ويسأل الأطباء كم المدة التي تعود هذه السنة في مثلها، وينتظر إلى تلك المدة، فإذا
جاءت تلك المدة ولم يعد السن وجب على الجاني القصاص، لأنه قد أيس من
عودها، فإن نبتت للمجني عليه سن مكانها في تلك المدة أو أقل منها - فإن كانت
الثانية مثل الأولة من غير زيادة ولا نقصان لم يجب على الجاني قصاص ولا دية.
وهل يجب عليه حكومة الجراح الذي جعل بقلعه؟ ينظر فيه، فإن جرح موضعا
آخر غير الموضع الذي فبه السن بالقلع وجبت عليه فيه الحكومة، وإن لم يجرح
إلا الموضع الذي قلع منه السن ففيه وجهان
(أحدهما) يجب عليه الحكومة: لأنه لما قلع السن أدمى، فإذا أدمى
وجبت فيه الحكومة.
(والثاني) لا تجب الحكومة، لان الحكومة إنما تجب إذا جرح وأدمى
فأما إذا أدمى من غير جرح فلا حكومة عليه، كما لو لطمه فرعف، فإنه لا تجب
عليه لخروج الدم بالرعاف حكومة. وإن كانت السن التي نبتت مكانه المقلوعة
أنقص من التي تليها، وجب على الجاني من ديتها بقدر ما نقص منها لأن الظاهر
أنها نقصت لجنايته.
وإن كانت السن التي نبتت أزيد من التي قبلها ففيه وجهان: من أصحابنا من قال
414

لا يجب على الجاني شين، لان الزيادة لا تكون من الجناية. وقال المصنف يلزمه
حكومة الشين الحاصل بالزيادة كما يلزمه الشين الحاصل بالنقصان، لأن الظاهر
أن ذلك من جنايته.
وإن كانت النابتة خارجة من صف الأسنان، فإن كانت بحيث لا ينتفع بها
وجبت عليه حكومة بالشين الحاصل بها، وإن نبت له سن صغير أو خضراء أو
سوادء - وكانت المقلوعة بيضاء - وجب على الجاني للشين الحاصل باللون،
وإن مات المجني عليه بعد مضى المدة التي يرجى فيها عود السن قبل أن يعود،
فلوليه أن يقتص من الجاني، لأنه مات بعد استقرار القصاص.
وهل تجب له دية سن؟ حكى الشيخ أبو إسحاق فيها قولين، وحكاهما الشيخ
أبو حامد وابن الصباغ وجهين:
(أحدهما) تجب دية السن، لأنه قلع سنا لم تعد، والأصل عدم العود.
(والثاني) لا يجب لان الغالب أنها قد كانت تعود، وإنما قطعها الموت، وأما
إذا قلع سن من ثغر - فإن قال الأطباء انها لا تعود - وجب له القصاص في
الحال، وإن قالوا إنها تعود إلى مدة فهل له القصاص قبل مضى تلك المدة؟ فيه
وجهان بناء على أنه هل يسقط القصاص أو الدية إذا عاد سنه فيه قولان، فإن قلنا
يسقط ينتظر والا فلا.
وقال الشيخ أبو حامد: ليس له أن يقتص قبل مضي تلك المدة كما قلنا فيمن
قلع سن صبي لم يثغر. وقال ابن الصباغ: له أن يقتص بكل حال، أو اقص منه
بعد الإياس من عودها ثم نبتت للمجني عليه سن في موضع السن المقلوع ففيه
قولان (أحدهما) أن هذا السن من نبات السن المقلوع من هذا الموضع، لان
مثله في موضعه فصار كما لو نتف شعره ثم نبت، كما لو قلع سن صبي لم يثغر ثم
نبت مكانه سن، وكما لو لطم عينه فذهب ضوؤها ثم عاد، فعلى هذا لا يجب على
المجني عليه القصاص للجاني في السن التي اقتص منه بها لأنه قلعها، وكان يجوز له
قلعها، وإنما يجب عليه دية سن الجاني. وإن كان المجني عليه عفا عن القصاص
وأخذ دية سنه وجب عليه رد الدية إلى الجاني.
والقول الثالث أن السن النابت هبة مجددة من الله تعالى للمجني عليه، لان
415

العادة أن سن من ثغر إذا قلعت لا تعود، فإذا عادت علمنا أن ذلك هبة من الله
له، فعلى هذا إن كان المجني عليه قد اقتضى من الجاني أو أخذ منه الأرش فقد
وقع ما فعله موقعه ولا شئ عليه للجاني. وان قلع سن رجل فقلع المجني عليه
سن الجاني ثم نبت للجاني سن مكان سنه الذي اقتص منه ولم تعد للمجني عليه
مثلها - فإن قلنا إن النابت هبة من الله مجددة - فلا شئ للمجني عليه، وان
قلنا إن النابت هو من الأول ففيه وجهان
(أحدهما) أن للمجني عليه أن يقلعه، ولو نبت مرارا، لأنه أعدم سنه
فاستحق أن يعدم سنه.
(والثاني) ليس له أن يقلع سنه لأنه يجوز أن يكون من المقلوع، ويجوز
أن يكون هبة مجددة، وذلك شبهة فسقط بها القصاص، فعلى هذا للمجني عليه
دية سن على الجاني، فإن خالف المجني عليه وقلع هذا السن للجاني وجب عليه
ديتها ويتقاصان، وان قلع سنه فاقتص منه فعاد للمجني عليه سن مكان سنه ولم
يعد للجاني ثم عاد الجاني فقلعها وجب عليه ديتها لأنه ليس لها مثله، فإن قلنا إنه
من الأول فقد قلنا إن على المجني عليه دية سن الجاني فيتقاصان. وان قلنا إن
النابت هبة مجددة فلا شئ على المجني عليه للجاني
هذا ويؤخذ السن الكبير بالصغير والصغير بالكبير كما قلنا في الانف والاذن
ولا يؤخذ سن صحيح بمكسور لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويؤخذ المكسور
بالصحيح، لأنه أنقص منه، ويأخذ من دية سنه بقدر ما ذهب من سن الجاني
وان كسر بعض سنه من نصفها أو ربعها فهل يجب بها القصاص؟ اختلف
الشيخان، فقال الشيخ أبو إسحاق ان أمكن أن يقتص اقتص، وان لم يمكن لم يقتص
وقال الشيخ أبو حامد لا يقتص منه لان القصاص بالكسر لا يجب باتفاق الأمة
وما روى في خبر الربيع أنها كسرت ثنية جارية فعال النبي صلى الله عليه وسلم:
تكسر ثنيتها، أراد بالكسر القلع لا الكسر من بعضها
(فرع) وان قلع لرجل سنا زائدا وللجاني سن زائد في ذلك الموضع يساوى
السن الذي قلع وجب فيها القصاص لأنهما متساويان، وإن لم يكن للجاني سن
416

زائد لم يجب عليه القصاص، لأنه ليس له مثلها، وإن كان له سن زائد في غير
ذلك الموضع لم يجب فيه القصاص لأنه ليس له مثلها، وإن كان له سن زائد في
ذلك الموضع إلا أنه أكبر من سن المجني عليه ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أكثر أصحابنا لا يجب فيها القصاص، لان القصاص
في العضو الزائد إنما يجب بالاجتهاد، فإذا كانت سن الجاني أزيد كانت حكومتها
أكثر فلم يجب قلعها بالتي هي أنقص منها، بخلاف السن الأصلية فإن القصاص
يثبت بالنص فلا يعتبر فيها التساوي، والثاني حكاه ابن الصباغ عن الشيخ أبى حامد
واختاره أنه يجب فيها القصاص، لان ما ثبت بالاجتهاد يجب اعتباره بما ثبت
بالنص، والأول هو المنصوص
(مسألة) ويؤخذ اللسان باللسان لقوله تعالى " والجروح قصاص " ولان
له حدا ينتهى إليه فاقتص منه كالعين، ولا نعلم في هذا خلافا، ولا يؤخذ لسان
ناطق بلسان أخرس لأنه أفضل منه، ويؤخذ الأخرس بالناطق لأنه بعض حقه
ويؤخذ بعض اللسان ببعض لأنه أمكن القصاص في جميعه فأمكن في بعضه كالسن
ويقدر ذلك بالاجزاء ويؤخذ منه بالحساب. هذا وتؤخذ الشفة بالشفة، وهي
ما جاوز الذقن والخدين علوا وسفلا، لقول الله تعالى " والجروح قصاص "
ولان له حدا ينتهى إليه يمكن القصاص منه فوجب كاليدين
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتؤخذ إليه باليد والرجل بالرجل والأصابع بالأصابع والأنامل
بالأنامل لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولان لها مفاصل يمكن القصاص فيها
من غير حيف فوجب فيها القصاص، وإن قطع يده من الكوع اقتص منه لأنه
مفصل، وإن قطع من نصب الساعد فله أن يقتص من الكوع لأنه داخل في
جناية يمكن القصاص فيها ويأخذ الحكومة في الباقي لأنه كسر عظم لا تمكن المماثلة
فيه فانتقل فيه إلى البدل. وإن قطع من المرفق فله أن يقتص منه لأنه مفصل،
وإن أراد أن يقتص من الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لم يكن له ذلك لأنه
يمكنه أن يستوفى جميع حقه بالقصاص في محل الجناية فلا يجوز أن يأخذ القصاص
417

في غيره، وان قطع يده من نصف العضد فله أن يقتص من المرفق ويأخذ
الحكومة في الباقي وله أن يقتص في الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لان الجميع
مفصل داخل في الجناية ويخالف إذا قطعها من المرفق وأراد أن يقتص من الكوع
لان هناك يمكنه أن يقتص في الجميع في محل الجناية وههنا لا يمكنه أن يقتص في
موضع الجناية.
وان قطع يده من الكتف وقال أهل الخبرة أنه يمكنه أن يقتص منه من غير
جائفة اقتص منه لأنه مفصل يمكن القصاص فيه من غير حيف، وان أراد أن
يقتص من المرفق أو الكوع لم يجز لأنه يمكنه أن يقتص من محل الجناية فلا
يجوز أن يقتص في غيره.
وان قال أهل الخبرة انه يخاف أن يحصل به جائفة لم يجز أن يقتص فيه،
لأنه لا يأمن أن يأخذ زيادة على حقه، وله أن يقتص في المرفق ويأخذ الحكومة
في الباقي، وله أن يقتص في الكوع ويأخذ الحكومة في الباقي لما ذكرناه،
وحكم الرجل في القصاص من مفاصلها من القدم والركبة والورك، وما يجب
فيما بينهما من الحكومات حكم اليد وقد بيناه
(فصل) ولا تؤخذ يد صحيحة بيد شلاء، ولا رجل صحيحه برجل شلاء
لأنه يأخذ فوق حقه، وان أراد المجني عليه أن يأخذ الشلاء بالصحيحة نظرت
فإن قال أهل الخبرة أنه ان قطع لم تنسد العروق ودخل الهواء إلى البدن وخيف
عليه لم يجز أن يقتص منه، لأنه يأخذ نفسا بطرف
وان قالوا لا يخاف عليه فله أن يقتص لأنه يأخذ دون حقه، فإن طلب مع
القصاص الأرض لنقص الشلل لم يكن له، لان الشلاء كالصحيحة في الخلقة،
وإنما تنقص عنها في الصفة فلم يؤخذ الأرش للنقص مع القصاص، كما لا يأخذ
ولى المسلم من الذمي مع القصاص أرشا لنقص الكفر.
وفي أخذ الأشل بالأشل وجهان:
أحدهما: انه يجوز لأنهما متساويان
والثاني: لا يجوز، وهو قول أبي إسحاق، لان الشلل علة والعلل يختلف
تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما
418

(الشرح) تقطع اليد باليد والرجل بالرجل والأصابع بالأصابع والأنامل
بالأنامل لقول تعالى (والجروح قصاص) ولان لها مفاصل يمكن القصاص فيها
من غير حيف.
إذا ثبت هذا فإن قطع أصابعه من مفاصلها فله أن يقتص، وإن قطع يده
من وسط الكف فليس له أن يقتص من وسط الكف لان كسر العظم لا يثبت
فيه القصاص لاجماع الأمة، فإن أراد أن يقتص من الأصابع من أصولها كان له
ذلك، لان الأصابع يمكن القصاص فيها.
فإن قيل فكيف يضع السكين في غير الموضع الذي وضعه الجاني عليه؟ قلنا
لأنه لا يمكن وضعها في الموضع الذي وضعها الجاني فيه، فإذا اقتص من الأصابع
فهل له أن يأخذ حكومة فيما زاد على الأصابع من الكف؟ فيه وجهان يأتي بيانهما
وإن قطع يده من الكوع كان له أن يقتص من ذلك الموضع لأنه مفصل، وان
قطع يده من بعض الذراع فليس له أن يقتص من بعض الذراع لأنه كسر عظم
وإن أراد أن يقتص من الكوع ويأخذ الحكومة فيما زاد عليه كان له ذلك لأنه
داخل في الجناية يمكن القصاص فيه، وان قطع يده من المرفق فله أن يقتص من
المرفق فإن أراد أن يقتص من المرفق ويأخذ الحكومة فيما زاد كان له ذلك.
وان أراد أن يقتص من الكوع ويأخذ الحكومة فيما زاد فقد اختلف أصحابنا
فيه، وقال الشيخ أبو إسحاق له ذلك لان الجميع مفصل داخل في الجناية
وقال ابن الصباغ في الشامل والطبري في العدة: ليس له ذلك لأنه يمكنه أن
يقطع من المرفق، ومتى أمكنه استيفاء حقه قصاصا لم يكن له أن يستوفى بعضه
قصاصا وبعضه أرشا، كما لو قطع يده من الكوع وأراد أن يقتص من الأصابع
ويأخذ الحكومة فيما زاد فليس له ذلك لأنه يمكنه استيفاء حقه قصاصا
وإن قالا أنه يخاف من الاقتصاص الجائفة (1) لم يكن له أن يقتص من

(1) قال في اللسان. وفي الحديث " في الجائفة ثلث الدية " هي الطعنة التي
تنفذ إلى الجوف، يقال جفته إذا أصبت جوفه وأجفته الطعنة وجفته بها
وقال ابن الأثير: والمراد بالجوف ههنا كل ماله قوة محيلة كالبطن والدماغ
419

الكتف لأنه لا يؤمن أن يأخذ زيادة على حقه، فإن أراد أن يقتص من المرفق
ويأخذ الحكومة فيما زاد كان له ذلك وإن أراد أن يقتص من الكوع ويأخذ
الحكومة فيما زاد على ذلك فقال الشيخ أبو إسحاق له ذلك. وعلى ما قال ابن الصباغ
إذا قطع يده من بعض العضو وأراد أن يقتص من المرفق ليس له أن يقتص ههنا
من الكوع لأنه يمكن استيفاء حقه قصاصا من المرفق، ومتى أمكنه أن يأخذ حقه
قصاصا فليس له أن يستوفى بعضه قصاصا وبعضه أرشا، وحكم الرجل إذا قطعت
أصابعها أو من مفصل القدم أو الركبة أو الورك أو ما بين ذلك حكم اليد في
القصاص على ما مضى.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: إذا قطع يده من المفصل فتعلقت بالجلد
وجب القصاص فتقطع إلى أن تبقى معلقة بمثل ذلك. ويسئل أهل الطب، فإن
قالوا المصلحة في قطعها قطعناها، وإن قالوا المصلحة في تركه تركناها
(مسألة) إذا قطع من له يد صحيحة يدا شلاء لم يكن للمجني عليه أن يقتص
بل له الحكومة.
وقال داود بن علي له أن يقتص. دليلنا أن اليد الشلاء لا منفعة فيها، وإنما
فيها مجرد جمال فلا يأخذ بها يدا فيها منفعة، وإن قطع من له يد شلاء يدا صحيحة
فاختار المجني عليه أن يقطع الشلاء بالصحيحة. قال الشافعي رضي الله عنه القصاص
قال أصحابنا يرجع إلى عدلين من المسلمين من أهل الخبرة، فإن قالا: إذا قطعت
هذه الشلاء لم يخف أكثر مما يخاف عليه إذا قطعت لو كانت صحيحة فللمجني عليه
أن يقتص، وإن قالا يخاف عليه أكثر من ذلك بأن تبقى أفواه العروق منتفخة
فتتخللها الجراثيم فيحدث من جراء ذلك تسمم كامل فتتلف النفس لم يكن له أن
يقتص لأنه أخذ نفس بيد، وهذا لا يجوز، وهل يجوز أخذ اليد الشلاء باليد
الشلاء؟ والرجل الشلاء بالرجل الشلاء؟ فيه وجهان
(أحدهما) يجوز لأنهما متماثلان (والثاني) لا يجوز لان الشلل علة،
والعلل يختلف تأثيرها في البدن فلا تتحقق المماثلة بينهما ولا يتصور الوجهان إلا
إذا قال أهل الخبرة إنه لا يخاف على الجاني، واتخذ الأطباء أسباب الوقاية من
420

تلوث الدم أو حدوث نزيف فيه يفضى إلى وقت وقف القلب عن النبض، فإذا لم يمكن
الاحتياط وخيف على الجاني فلا يجوز القصاص وجها واحدا على ما مضى في
أخذ الشلاء بالصحيحة
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ولا تؤخذ يد كاملة الأصابع بيد ناقصة الأصابع، فان قطع من
له خمس أصابع كف من له أربع أصابع، أو قطع من له ست أصابع كف من
له خمس أصابع، لم يكن للمجني عليه أن يقتص منه لأنه يأخذ أكثر من حقه
وله أن يقطع من أصابع الجاني مثل أصابعه لأنها داخلة في الجناية ويمكن استيفاء
القصاص فيها، وهل يدخل أرش ما تحت الأصابع من الكف في القصاص؟ فيه
وجهان (أحدهما) يدخل كما يدخل في ديتها (والثاني) وهو قول أبي إسحاق انه
لا يدخل بها بل يأخذ مع القصاص الحكومة لما تحتها " والفرق بين القصاص والدية
أن الكف يتبع الأصابع في الدية ولا يتبعها في القصاص، ولهذا لو قطع أصابعه
وتآكل منها الكف واختار الدية لم يلزمه أكثر من دية الأصابع، ولو طلب
القصاص قطع الأصابع وأخذ الحكومة في الكف، وتؤخذ يد ناقصة الأصابع
بيد كاملة الأصابع، فان قطع من له أربع أصابع كف من له خمس أصابع، أو
قطع من له خمس أصابع كف من له ست أصابع للمجني عليه أن يقتص من
الكف ويأخذ دية الإصبع الخامسة أو الحكومة في الإصبع السادسة لأنه وجد
بعض حقه وعدم البعض، فأخذ الموجود وانتقل في المعدوم إلى البدل، كما لو
قطع عضوين ووجد أحدهما
(فصل) ولا يؤخذ أصلى بزائد، فان قطع من له خمس أصابع أصلية كف
من له أربع أصابع أصلية وإصبع زائدة لم يكن للمجني عليه أن يقتص من الكف
لأنه يأخذ أكثر من حقه، ويجوز أن يقتص من الأصابع الأصلية لأنها داخلة في
الجناية، ويأخذ الحكومة في الإصبع الزائدة وما تحت الزائدة من الكف يدخل
في حكومتها. وهل يدخل ما تحت الأصابع التي اقتص منها في قصاصها؟ على
الوجهين، ويجوز أن يأخذ الزائد بالأصلي، فان قطع من له أربع أصابع أصلية
421

وإصبع زائدة كف من له خمس أصابع أصلية، فللمجني عليه أن يقتص من
الكف لأنه دونه حقه ولا شئ له لنقصان الإصبع الزائدة، لان الزائدة كالأصلية
في الخلقة. وإن كان لكل واحد منهما أصبع زائدة نظرت فإن لم يختلف محلهما
أخذ إحداهما بالأخرى لأنهما متساويان. وان اختلف محلهما لم تؤخذ إحداهما
بالأخرى لأنهما مختلفان في أصل الخلقة.
(الشرح) إذا كان لرجل يد لها ستة أصابع فقطع كف رجل لها خمس أصابع
نظرت في الإصبع الزائدة للجاني، فإن كانت خارجة عن عظم الكف كان للمجني أن
يقتص من كف الجاني، لأنه يمكنه أن يأخذ مثل كفه من غير أن يتناول الزائدة
وإن كانت ثابتة على الكلب أو ملتزقة بإحدى الأصابع أو على أصابع
اليد لم يكن له أن يقتص من الكف لأنه يأخذ أكثر من حقه فيكون المجني بالخيار
بين أن يأخذ دية يده وبين أن يقتص من الأصابع الخمس إذا كانت الزائدة على
سن الأصابع غير ملتزقة بواحدة منهن ولا نابتة على إحداهن، فإذا اقتص منها
فهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص؟ فيه وجهان
(أحدهما) يتبعها كما يتبعها في ديتها
(والثاني) لا يتبعها، بل يأخذ مع القصاص الحكومة، لان الكف تتبع
الأصابع في الدية، ولا تتبعها في القصاص، ولهذا لو قطع أصابعه فتأكل منها
الكف واختار الدية لم يلزمه أكثر من دية الأصابع. ولو طلب القصاص قطعت
الأصابع وأخذ الحكومة في الكف. وإن كانت الإصبع الزائدة نابتة على أنملة من
الأصابع الخمس، فليس للمجني عليه أن يقتص من الكف، وله أن يقتص من
الأصابع التي ليس عليها الزائدة
وأما الإصبع التي عليها الزائدة - فإن كانت على الأنملة العليا لم يكن له أن
يقتص منها، وإن كانت على الوسطى فله أن يقتص من الأنملة العليا، ويجب له
ثلثا دية أصبع، وإن كانت على الأنملة السفلى فله أن يقتص من الأنملتين العلويتين
وله ثلث دية أصبع ويتبعها ما تحتها من الكف، وهل يتبع ما تحت الأصابع
الأربع ما تحتها من الكف في القصاص؟ على الوجهين
422

وان قطع من له خمس أصابع كف يد لها أربع أصابع لم يكن لها أن يقتص
من الكف لأنه يأخذ أكثر من حقه، وله أن يقتص من أصابع الجاني الأربع
المماثلة لأصابعه المقطوعة، وهل يتبعها ما تحتها من الكف في القصاص؟ أو يجب
له مع ذلك حكومة؟ على الوجهين.
(فرع) إذا كان لرجل كف فيه خمس أصابع أصلية فقطع كف يد فيه أربع
أصابع أصلية وإصبع زائدة، وإنما يحكم بأنها زائدة إذا كانت مائلة عن بقية
الأصابع ضعيفة، فليس للمجني عليه أن يقتص من كف الجاني لأنه ليس له أن
يأخذ أكمل من يده، فإن اختار الأرش كان له دية الأربع الأصابع الأصلية
وحكومة في الزائدة وان أراد أن يقتص من الأربع الأصابع الأصلية كان له ذلك
ويأخذ مع ذلك حكومة في الزائدة يتبعها ما تحته من الكف في الحكومة، وهل
يتبع ما تحت الأصابع الأصلية ما تحتها من الكف في القصاص؟ أو يجب له فيه حكومة
على الوجهين. وان قطع كفا له خمس أصابع أصلية ويد القاطع لها أربع أصابع
أصلية وإصبع زائدة فإن اختار المجني عليه أن يقطع كف الجاني كان له ذلك، لأنه
أنقص من كفه.
قال المزني في جامعه. إنما يجوز له ذلك إذا كانت الزائدة في محل الأصلية.
فأما إذا كانت في غير محلها فليس له أخذها وهذا صحيح وكذلك إذا كانت الزائدة أكثر
أنامل لم يؤخذ بالأصلية. وان قطع يدا وعليها أصبع زائد وللقاطع يد عليها أصبع زائدة فإن
اتفق محل الزائدتين وقدرهما كان للمجني عليه أن يقتص من الكف لتساويهما، وان
اختلفا في المحل لم يكن له أن يقتص من الكف لأنه يأخذ أكثر من حقه، وإن كان
ت أقل أنامل كان له أن يقتص ويأخذ في الزيادة الحكومة
وبكل ما قلنا قال العلماء كافة إلا ما ذكرناه من خلاف داود بن علي
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قطع من له يد صحيحة كف رجل له إصبعان شلا وان
لم يقتص منه في الكف لأنه يأخذ كاملا بناقص ويجوز أن يقتص في الأصابع
الثلاث الصحيحة لأنها مساوية لأصابعه ويأخذ الحكومة في الشلاوين لأنه
423

لا يجد ما يأخذ به ويدخل في حكومة الشلاوين أرش ما تحتهما من الكف وهل
يدخل أرش ما تحت الثلاثة في قصاصها على الوجهين
(فصل) ولا تؤخذ يد ذات أظفار بيد لا أظفار لها لان اليد بلا أظفار
ناقصة فلا تؤخذ بها يد كاملة وتؤخذ يد لا أظفار لها بيد لها أظفار لأنه يأخذ
بعض حقه.
(فصل) فإن قطع أصبع رجل فتأكل منه الكف وجب القصاص في
الإصبع، لأنه أتلفه بجناية عمد، ولا يجب في الكف، لأنه لم يتلفه بجناية عمد
لان العمد فيه أن يباشره بالاتلاف ولم يوجد ذلك ويجب عليه دية كل أصبع من
الأصابع لأنها تلفت بسبب جنايته ويدخل في دية كل أصبع أرش ما تحته من
الكف لان الكف تابع للأصابع في الدية وهل يدخل ما تحت الأصابع التي اقتص
منها في قصاصها على الوجهين
(الشرح) إذا قطع كفا له ثلاث أصابع صحيحة وإصبعان شلا وإن كان
كف القاطع صحيحة الأصابع فليس للمجني عليه أن يقتص من الكف لأنه يأخذ
أكمل من يده، وان رضى الجاني بذلك لم يجز لان القصاص لم يجب فيها فلم يجز
بالبدل كما لو قتل حر عبدا ورضى أن يقتل به، وللمجنى عليه أن يقتص من
الأصابع الثلاث الصحيحة، فإذا اقتص منها فهل يتبعها ما تحتها من الكف في
القصاص؟ أو تجب فيها الحكومة؟ فيه وجهان.
وأما الإصبعان الشلاوان فله فيهما حكومة، وإن كانت كف المقطوع صحيحة
الأصابع وكف للقاطع فيها إصبعان شلاوان فالمجني عليه بالخيار بين أن يأخذ
دية يده وبين أن يقتص من كف الجاني، لأنها أنقص من كفه، ولا شئ للمجني
عليه لنقصان كف الجاني بالشلل، أما إذا اختار الدية فله دية يده لا نعلم فيه
خلافا لأنه عجز عن استيفاء حقه على الكمال بالقصاص فكانت له الدية كما لو لم
يكن للقاطع يد، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأحمد.
وان قطع كفا له خمس أصابع وكف القاطع فيها ثلاث أصابع لا غير وإصبعان
مفقودتان فللمجني عليه أن يقتص من كف الجاني ويأخذ منه دية الإصبعين،
424

وقال أبو حنيفة: هو بالخيار بين أن يأخذ دية يده وبين أن يقتص من يد
الجاني ولا شئ له. دليلنا قوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل
ما اعتدى عليكم) ويد الجاني ليست مثل يد المجني عليه، ولأنه استوفى بعض
حقه فكان له أرش ما لم يستوفه كما لو قطع له إصبعين ولم يجد له إلا واحدة
(فرع) وإن قطع ذو يد لها أظفار يد من لا أظفار له لم يجز القصاص لان
الكاملة لا تؤخذ بالناقصة، فإن سقطت أظافره قطعت ولو لم يكن لواحد منهما
أظافر حالة القطع يقتص منه، فلو ثبت للقاطع أظافر قبل أن يقتص منه لا يقتص
لطروء الزيادة، ويجوز أن يأخذ اليد التي لا أظفار لها باليد التي لها أظفار،
لأنها أنقص من يده
(فرع) وإن قطع أنملة لها طرفان - فإن كانت أنملة القاطع لها طرفان من
تلك الإصبع بتلك اليد فللمجني عليه قطعها لأنها مثل حقه، وإن كانت أنملة القاطع
لها طرف واحد فللمجني عليه أرش الأنملة، فإن قال المجني عليه أنا أصبر على
القصاص إلا أن تسقط الأنملة الزائدة واقتص في الأصلية - كان له ذلك، لان
له تأخير القصاص، هذا ترتيب البغداديين كما أفاده صاحب البيان
وقال المسعودي: إن علمت الأصلية منهما قطعت إحداهما ويغرم الجاني
التفاوت ما بين سدس دية أصبع وثلثها
(فرع) وإن قطع أنملة من سبابة رجل وقطع الأنملة الوسطى من تلك
الإصبع من رجل آخر - فإن جاء المجني عليهما - قطعت العليا لصاحب العليا
وقطعت الوسطى لصاحب الوسطى، وإن جاء صاحب الوسطى أولا وطلب
القصاص لم يكن له ذلك، لأنه لا يمكن قطعها من غير قطع العليا، ويكون بالخيار
بين أن يأخذ دية الأنملة وبين أن يصير إلى أن يقتص صاحب العليا لو سقط
بأكلة - وهي ما تسمى الغنغرينة - وهكذا إن عفا صاحب العليا عن القود
ولم يقطع الأنملة العليا من إنسان لكن قطع الأنملة الوسطى من رجل جاء
صاحب الوسطى يطلب النقصان وللجاني الأنملة العليا والوسطى، فللمجني عليه
أن يصبر إلى أن تقطع العليا أو تسقط ثم يقتص من الوسطى.
وقال أبو حنيفة لا قصاص له لأنه حين قطعها لم يجب القصاص عليه فيها
425

لتعذر استيفائها، فإذا لم تجب حال الجناية لم تجب بعد ذلك. دليلنا أن القصاص
إنما تعذر لمتصل به، فإذا زال ذلك المتصل كان له استيفاء القصاص، كما لو قتلت
حامل غيرها ثم ولدت - فإن لم يصبر صاحب الوسطى وقطع الوسطى والعليا
فقد فعل مال لا يجوز له على المقتص منه فيجب عليه ديتها، وقد استوفى القصاص
في الوسطى، فإن قطع العليا من أصبع زيد، وقطع العليا والوسطى من تلك
الإصبع من عمرو، فإن حضرا معا وطلبا القصاص اقتص زيد من العليا لأنه
أسبق واقتص عمرو من الوسطى وأخذ دية العليا. وكذلك إن حضر زيد وحده
فله أن يقتص من العليا، وإن حضر عمرو فليس له أن يقتص لان حق زيد تعلق
في العليا قبله، وإن خالف واقتض من العليا والوسطى فقد أساء بذلك،
ولكنه يصير مستوفيا لحقه، ويكون لزيد دية الأنملة العليا على الجاني.
(فرع) ذكر الطبري في العدة: لو كان المجني عليه أربع أنامل في أصبع
فله أربعة أحوال:
أحدها: أن يقطع من له ثلاث أنامل أنملة من الأربع فلا قصاص عليه.
وان قطع أنملتين من الأربع قطع من الجاني أنملة ويغرم الجاني التفاوت فيما بين
النصف والثلث من دية الإصبع، وان قطع له ثلاث أنامل قطع منه أنملتين
ويغرم ما بين ثلثي دية أصبع وبين ثلاثة أرباع ديتها، وإن قطع له أربع أنامل
قطعت أنامل القاطع الثلاث ووجب عليه مع ذلك زيادة حكومة، فأما إذا كان
للقاطع أربع أنامل وللمقطوع ثلاث أنامل فله ثلاثة أحوال، أن قطعت أنملة
منه قطعت أنملة منه ويغرم الجاني ما بين ثلث دية أصبع وبين ربعها، وهو
خمسة أسداس بغير، وان قطع أنملتين قطع منه أنملتين ويغرم التفاوت بين
نصف دية الإصبع وثلثيها. وإن قطع جميع أنامله قطع منه ثلاث أنامل ويغرم
التفاوت بين ثلاثة أرباع دية الإصبع وجميع ديتها - وهو بعيران ونصف -
فعل هذا لو بادر فقطع أصبعه عزر ولا شئ عليه من الدية. وفيه وجه أن له
قطع أصبعه بخلاف اليد التي لها ست أصابع، لان تلك الزيادة ظاهرة في
منفصلات كاليدين.
426

(مسألة) إذا قطع أصبع رجل فتأكل منها الكف وسقط فللمجني عليه
القصاص للإصبع المقطوعة وله دية الأصابع الأربع وما تحت الأصابع الأربع
من الكف يتبعها في الدية وما تحت الإصبع التي اقتص فيها، هل يتبعها في
القصاص أو يجب له حكومة؟ فيه وجهان. هذا مذهبنا وقال أبو حنيفة: لا يجب
له القصاص في الإصبع المقطوعة
دليلنا قوله تعالى (والجروح قصاص) وقوله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا
عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وقد اعتدى بقطع الإصبع فوجب أن يقطع منه.
ولأنها جناية لو لم يستوجب فيها القصاص فوجب إذا سرت إلى الاقتصاص فيه
أن لا يسقط القصاص كالمرأة إذا قطعت يد المرأة فأسقطت جنينا فلا يسقط
القصاص في اليد.
(فرع) قال القفال: لو كان له قدمان على ساق واحد يمشى عليها أو يمشى
على إحداهما والأخرى زائلة عن سنن منبت القدم فقطعها رجل له قدم قطعت
رجله وطولب بحكومة للزيادة، وإن قطع إحداهما - فإن قطع الزائدة - فعليه
حكومة، وإن استويا في المنبت وكان يمشى عليها ففي المقطوعة ربع الدية وزيادة
حكومة، وإن كان الجاني هو صاحب القدمين - فإن عرفنا الزائدة من الأصلية
وأمكن قطعها من غير أن تتلف الزائدة - قطعت وان لم تعرف أو عرفت:
ولا يمكن قطعها الا بإتلاف الأخرى لم تقطع وعليه دية الرجل المقطوعة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتؤخذ الأليتان بالأليتين وهما الناتئتان بين الظهر والفخذ.
وقال بعض أصحابنا لا تؤخذ، وهو قول المزني رحمة الله عليه لأنه لحم متصل
بلحم فأشبه لحم الفخذ، والمذهب الأول لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولأنهما
ينتهيان إلى حد فاصل فوجب فيهما القصاص كاليدين
(فصل) ويقطع الذكر بالذكر لقوله تعالى والجروح قصاص، ولأنه
ينتهى إلى حد فاصل يمكن القصاص فيه من غير حيف فوجب فيه القصاص
ويؤخذ بعضه ببعضه.
427

وقال أبو إسحاق: لا يؤخذ بعضه ببعض كما قال في اللسان والمذهب الأول
لأنه إذا أمكن القصاص في جميعه أمكن في بعضه، ويؤخذ ذكر الفحل بذكر
الخصي لأنه كذكر الفحل في الجماع وعدم الانزال لمعنى في غيره، ويقطع
الأغلف بالمختون لأنه يزيد على المختون بجلدة يستحق إزالتها بالختان، ولا يؤخذ
صحيح بأشل لان الأشل ناقص بالشلل فلا يؤخذ به كامل
(فصل) ويقطع الأنثيان بالأنثيين لقوله تعالى (والجروح قصاص) ولأنه
ينتهى إلى حد فاصل يمكن القصاص فيه فوجب فيه القصاص. فإن قطع إحدى
الأنثيين وقال أهل الخبرة إنه يمكن أخذها من غير إتلاف الأخرى اقتص منه،
وإن قالوا إنه يؤدى قطعها إلى اتلاف الأخرى لم يقتص منه، لأنه يقتص من
أنثيين بواحدة
(الشرح) قول المصنف رضي الله عنه " وتؤخذ الأليتان بالأليتين " وهما
اللحمان الناتئتان بين الظهر والفخذين وقد صنعهما الله تعالى كالمخدتين لحماية ما تحتهما
من مفاصل الفخذ والحقو وفتحة الدبر وعجب الذنب ومنبت الفقرات الظهرية،
وهما كالمقعد يعتمد عليهما الانسان في قعوده فتبارك الله أحسن الخالقين، فكان
على من حرم أخاه هذه النعمة أن يحرم منها قصاصا. هذا ومن أصحابنا من قال
لا تؤخذ، وهو قول المزني لأنه لحم متصل بلحم فأشبه لحم الفخذين، والمذهب
الأول لأنهما ينتهيان إلى حد فاصل فهما كاليدين
(مسألة) يقطع الذكر بالذكر لقوله تعالى " والجروح قصاص " ولأنه عضو
ينتهى إلى مفصل فوجب فيه القصاص كاليد
إذا ثبت هذا فيقطع ذكر الرجل بذكر الصبي، ويقطع ذكر الشاب بذكر
الشيخ لان كل عضو جرى القصاص فيه بين الرجل والرجل جرى فيه القصاص
بين الصبي والرجل كاليد والرجل، ويقطع ذكر الفحل بذكر الخصي والعنين.
وقال مالك وأحمد رضي الله عنهما لا يقطع به
ولنا أنهما متساويان في السلامة، وإنما عدم الانزال والجماع لمعنى في غيره
فلم يمنع القصاص، كأذن السميع بأذن الأصم، ولا يقطع الذكر الصحيح
428

بالذكر الأشل لأنه لا يساويه، مثل أن كان لا ينمو بنمو صاحبه فبقي كما هو،
فلو شل وصاحبه في العاشرة من عمره لوقف نموه ولا ينتصب ولا يجامع وقد
تنسد فتحته فلا يبول ويعمل له الأطباء فتحة أخرى يبول منها فمثل هذا لا يقطع
به ذكر سليم، وان قطع بعض ذكره انتقض منه
وقال أبو إسحاق لا يقتص منه كما قال في اللسان، والأول أصح، لأنه إذا
أمكن في جميعه أمكن في بعضه: فعلى هذا يعتبر المقطوع بالحد كالنصف والثلث
والربع كما قلنا في الاذن والأنف.
قال الشافعي: ويقاد ذكر الا غلف بذكر المختون، كما تقطع اليد السمينة
بالمهزولة، ولان تلك الجلدة مستحقة بالقطع فلا يمنع من القصاص
(فرع) وان قطع أنثييه اقتص منه لقوله تعالى " والجروح قصاص " ولأنه
طرف يمكن اعتبار المماثلة في أخذ القصاص به فشابه سائر الأطراف، فإن قطع
إحدى أنثييه قال الشافعي رضي الله عنه: سألت أهل الخبرة - فإن قالوا يمكن
أن يقتص من إحدى البيضتين من القاطع ولا تتلف الأخرى - اقتص منه،
وان قيل تتلف الأخرى لم يقتص منه - لأنه لا يجوز أخذ اثنتين بواحدة -
ويجب له نصف الدية. وهل يتبعها جلدتها أو تفرد بحكم؟ فيه وجهان حكاهما
في الفروع.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) واختلف أصحابنا في الشفرين، فمنهم من قال لا قصاص فيهما.
وهو قول الشيخ أبى حامد الأسفرايني رحمه الله لأنه لحم وليس له مفصل ينتهى
إليه فلم يجب فيه القصاص كلحم الفخذ. ومنهم من قال يجب فيه القصاص، وهو
المنصوص في الأم، لأنهما لحمان محيطان بالفرج من الجانبين يعرف انتهاؤهما
فوجب فيهما القصاص.
(فصل) وان قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه وشفريه وطلب حقه
قبل أن يتبين حالة أنه ذكر أو أنثى نظرت فان طلب القصاص لم يكن له لجواز
أن يكون امرأة فلا يجب لها عليه في شئ من ذلك قصاص، وان طلب المال
429

نظرت فإن عفا عن القصاص أعطى أقل حقيه وهو حق امرأة، فيعطى دية عن
الشفرين وحكومة في الذكر والأنثيين، فإن بان أنه امرأة فقد استوفت حقها
وإن بان أنه رجل تمم له الباقي من دية الذكر والأنثيين وحكومة عن الشفرين،
فإن لم يعف عن القصاص وقف القصاص إلى أن يتبين لأنه يجوز أن يكون امرأة
فلا يجب عليه القصاص.
وأما المال ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يعطى
لان دفع المال لا يجب مع القود وهو مطالب بالقود فسقطت المطالبة بالمال.
والوجه الثاني وهو قول أكثر أصحابنا بأنه يعطى أقل ما يستحق مع القود لأنه
يستحق القود في عضو والمال في غيره فلم يكن دفع المال عفوا عن القود فيعطى
حكومة في الشفرين ويوقف القود في الذكر والأنثيين
وقال القاضي أبو حامد المروروذي في جامعه: يعطي دية الشفرين. وهذا
خطأ، لأنه ربما بان أنه رجل فيجب القود في الذكر والأنثيين، والحكومة
في الشفرين.
(الشرح) هذا البحث قائم على سؤال: هل يجب القصاص في الشفرين؟
وهما اللحم المحيط بالفرج، فيه وجهان (أحدهما) يجب. لقوله تعالى " والجروح
قصاص " ولأنهما لحمان محيطان بالفرج من الجنين يعرف انتهاؤهما فوجب فيهما
القصاص (والثاني) لا يجب، وهو قول الشيخ أبى حامد لأنه لحم وليس له
مفصل ينتهى إليه فلم يجب فيه القصاص كلحم الفخذ، والأول هو المنصوص
في الأم.
(فرع) إذا قطع ذكر خنثى مشكل وأنثييه وشفريه فلا يخلو القاطع
إما أن يكون رجلا أو امرأة أو خنثى مشكلا - فإن كان القاطع رجلا - لم
يجب عليه القصاص في الحال لجواز أن يكون الخنثى امرأة بالذكر والأنثيان
فيه زائدات، فلا تؤخذ الأصليان بالزائدين. وقيل له أنت بالخيار بين أن تصبر
إلى أن يبين حالك فيجب لك القصاص إن بان أنك رجل، وبين أن تعفو وتأخذ
المال. فإن قال أعطوني ما وجب لي من المال نظرت - فإن عفا عن القصاص
430

في الذكر والأنثيين، أو لم يكن للجاني ذكر ولا أنثيين إن كان قد قطعا. قال
أصحابنا البغداديون: فإنه يعطى دية الشفرين، وحكم الذكر والأنثيين لا يبلغ
ديتها لأنه يستحق ذلك بيقين ويشك في الزيادة.
وإن قال: لا أقف ولا أعفو عن القصاص وطلب المال فهل يعطى شيئا؟
فيه وجهان. قال أبو علي بن أبي هريرة. لا يعطى لأنه مطالب بالقود، ولا
يجوز أن يأخذ المال وهو مطالب بالقود. وقال أكثر أصحابنا يعطى، وهو
الأصح لأنه يستحقه بيقين، فإذا قلنا بهذا فكم القدر الذي يعطى؟ اختلف أصحابنا
فيه فقال القفال يعطى حكومة في الشفرين لأنه يستحق ذات بيقين وقال القاضي
أبو حامد: يعطى دية الشفرين: لأنا لا نتوهم وجوب القصاص فيهما. ومن
أصحابنا الخراسانيين من قال يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال أو آلة النساء
لان ذلك هو اليقين. ومن أصحابنا من قال: يعطي الحكومة في الذي قطعه
آخر. والأول أصح.
وإن كان القاطع امرأة - فإن قلنا بقول الشيخ أبى حامد وأنه لا قصاص
في الشفرين - فإنا لا نتوهم وجب القصاص، فيعطى حكومة في آله الرجل
وحكومة في آلة النساء، فإن بان رجلا تمم له دية الذكر والأنثيين وحكومة
الشفرين، وإن بان امرأة تمم له دية الشفرين وحكومة للذكر والأنثيين. وان
قلنا بالمنصوص وأنه يجب القصاص فيهما فإنه لا يجب للخنثى القصاص في الحال
لجواز أن يكون رجلا فلا يجب القصاص على المرأة في الفرج الزائد، فإن طلب
المال نظرت - فإن عفا عن القصاص أو لم يعف ولكن ليس للقاطعة شفراوان
فعلى قول البغداديين من أصحابنا يعطى دية الشفرين وحكومة عن الذكر والأنثيين
فإن بان امرأة فقد استوفت حقها وان بان امرأة فقد استوفت حقها وان بان رجلا تمم له دية الذكر ودية الأنثيين
وحكومة الشفرين، وعلى قول الخراسانيين يعطى حكومة للشفرين وحكومة
للذكر والأنثيين.
وان لم يعف عن القصاص وكان للقاطعة شفرتان فعلى قول أبي علي بن هريرة لا يعطى
وعلى قول أكثر أصحابنا يعطى، فإذا قلنا بهذا فكم يعطى؟ وعلى قول القفال
يعطى حكومة في الذكر والأنثيين وعلى قول القاضي أبى حامد يعطى دية الذكر
431

والأنثيين، وعلى قول بعض أصحابنا الخراسانيين يعطى أقل الحكومتين في آلة
الرجال وآلة النساء، وإن كان القاطع خنثى مشكلا فإنه لا يجب القصاص في
الحال لأنا لا نتيقن عين الزائد من الأليتين فيهما ولا عين الأصلي، فلو أوجبنا
القصاص في الحال لم نأمن أن يأخذ أصليا بزائد وذلك لا يجوز، فإن طلب حقه
من المال نظرت - فإن عفا عن القصاص - قال أصحابنا البغداديون: أعطى
دية الشفرين وحكومة للذكر والأليتين لأنه يستحق ذلك بيقين
وقال الخراسانيون: يعطى الحكومة في الذكر والأنثيين والشفرين، وان
لم يعف عن القصاص فهل يعطى شيئا؟ إن قلنا بقول علي بن أبي هريرة لا يعطى
شيئا إذا كان القاطع رجلا أو امرأة فههنا أولى أن لا يعطى. وإن قلنا هناك يعطى
فها هنا وجهان:
(أحدهما) لا يعطى وهو قول القفال لان القصاص متوهم في جميع الآلات
(والثاني) يعطى أقل الحكومتين في آلة الرجال والنساء، والصحيح
أنه لا يعطى شيئا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وما وجب فيه القصاص من الأعضاء وجب فيه القصاص، وان
اختلف العضوان في الصغر والكبر والطول والقصر والصحة والمرض، لأنا لو
اعتبرنا المساواة في هذه المعاني سقط القصاص في الأعضاء، لأنه لا يكاد أن يتفق
العضوان في هذه الصفات فسقط اعتبارها
(فصل) وما انقسم من الأعضاء إلى يمين ويسار كالعين واليد وغيرهما لم
تؤخذ اليمين فيه باليسار ولا اليسار باليمين، وما انقسم إلى أعلى وأسفل كالشفة
والجفن لم يؤخذ الاعلى بالأسفل ولا الأسفل بالأعلى، ولا يؤخذ سن بسن
غيرها ولا أصبع بأصبع غيرها ولا أنملة بأنملة غيرها لأنها جوارح مختلفة المنافع
والأماكن فلم يؤخذ بعضها ببعض، كالعين بالأنف واليد بالرجل وما لا يؤخذ
432

بعضه ببعض ما ذكرناه لا يؤخذ: وان رضى الجاني والمجني عليه، وكذلك
ما لا يؤخذ من الأعضاء الكاملة بالأعضاء الناقصة، كالعين الصحيحة بالقائمة،
واليد الصحيحة بالشلاء، لا يؤخذ وإن رضى الجاني والمجني عليه بأخذها، لان
الدماء لا تستباح بالإباحة.
(فصل) وإن جنى على رجل جناية يجب فيها القصاص ثم قتله وجب القصاص
فيهما لأنهما جنايتان يجب القصاص في كل واحدة منهما، فوجب القصاص فيهما
عند الاجتماع كقطع اليد والرجل
(الشرح) كل عضو وجب فيه القصاص فإنه يجب فيه، وان اختلف العضوان
في الصغر والكبر، والصحة والمرض، والسمن والهزال، لقوله تعالى (والعين
بالعين والاذن بالاذن والسن بالسن) ولم يفرق، ولأنا لو اعتبرنا هذه الأشياء
لشق وضاق فسقط اعتباره كما سقط اعتبار ذلك في النفس، وما كان من الأعضاء
منقسما إلى يمين ويسار كالعينين والأذنين واليدين والرجلين لا يجوز أخذ اليمنى
منه باليسرى ولا اليسرى منه باليمنى. وقال ابن شبرمة يجوز.
ولنا أن كل واحد منهما يختص باسم ينفرد به فلا يؤخذ بغيره، كما لا يؤخذ
اليد بالرجل، وكذا لا يؤخذ الجفن الاعلى بالجفن الأسفل، ولا العكس،
وكذلك الشفتان مثله، ولا يؤخذ سن بسن غيرها، ولا أصبع بأصبع غيرها،
ولا أنملة بأنملة غيرها، كما لا تؤخذ نفس بجناية نفس غيرها ولا يؤخذ أي
شئ من ذلك وإن رضى كل من الجاني والمجني عليه، وكذلك إذا رضى الجاني بأن
يؤخذ العضو الكامل بالناقص، والصحيح بالأشل، لم يجز لان الدماء
لا تستباح بالإباحة
(مسألة) إذا قطع يد رجل ثم عاد فقتله كان له أن يقطع يده ثم يقتله، وبه
قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس له إلا القتل. دليلنا قوله تعالى
(فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وهذا قد اعتدى بقطع
اليد فلم يمنع من قطع يده، ولأنهما جنايتان يجب القصاص في كل واحدة منهما
إذا انفردت فوجب القصاص فيهما عند الاجتماع كقطع اليد والرجل
433

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قتل واحد جماعة أو قطع عضوا من جماعة لم تتداخل
حقوقهم لأنها حقوق مقصودة لآدميين فلم تتداخل كالديون، فإن قتل أو قطع
واحدا بعد واحد اقتص منه للأول، لان له مزية بالسبق، وإن سقط حق
الأول بالعفو اقتص للثاني، وان سقط حق الثاني اقتص للثالث، وعلى هذا.
وإذا اقتص منه لواحد بعينه تعين حق الباقين في الدية، لأنه فاتهم القود بغير
رضاهم، فانتقل حقهم إلى الدية، كما لو مات القاتل أو زال طرفه، وإن قتلهم
أو قطعهم دفعة واحدة أو أشكل الحال أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة اقتص
له لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فقدم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد السفر ببعض
نسائه، فإن خرجت القرعة لواحد فعفا عن حقه أعيدت القرعة للباقين لتساويهم
وإن ثبت القصاص لواحد منهم بالسبق أو بالقرعة فبدر غيره واقتص صار
مستوفيا لحقه. وإن أساء في التقدم على من هو أحق منه، كما قلنا فيمن قتل
مرتدا بغير إذن الإمام أنه يصير مستوفيا لقتل الردة، وإن أساء في الافتيات
على الامام. وإن قتل رجل جماعة في المحاربة ففيه وجهان (أحدهما) أن حكمه
حكم ما لو قتلهم في غير المحاربة (والثاني) أنه يقتل بالجميع لان قتل المحاربة لحق
الله تعالى، ولهذا لا يسقط بالعفو فتداخل كحدود الله تعالى
(فصل) وإن قطع يد رجل وقتل آخر قطع للمقطوع ثم قتل للمقتول تقدم
القطع أو تأخر، لأنا إذا قدمنا القتل سقط حق المقطوع، وإذا قدمنا القطع لم
يسقط حق المقتول، وإذا أمكن الجمع بين الحقين من غير نقص لم يجز إسقاط
أحدهما، ويخالف إذا قتل اثنين لأنه لا يمكن إيفاء الحقين فقدم السابق، وإن
قطع أصبعا من يمين رجل ثم قطع يمين آخر قطع الإصبع للأول ثم قطعت اليد
للثاني ويدفع إليه أرش الإصبع، ويخالف إذا قطع ثم قتل حيث قلنا إنه يقطع
للأول ويقتل للثاني ولا يلزمه لنقصان اليد شئ لان النفس لا تنقص بنقصان
اليد، ولهذا يقتل صحيح اليد بمقطوع اليد، واليد تنقص بنقصان الإصبع، ولهذا
لا تقطع اليد الصحيحة بيد ناقصة الأصابع.
434

وان قطع يمين رجل ثم قطع أصبعا من يد رجل آخر قطعت يمينه للأول
لان حقه سابق، ويخالف إذا قتل رجل ثم قطع يد آخر حيث أخرنا القتل،
وإن كان سابقا، لان هناك يمكن إيفاء الحقين من غير نقص يدخل على ولى
المقتول بقطع اليد، وههنا يدخل النقص على صاحب اليد بنقصان الإصبع.
(فصل) وإن قتل رجلا وارتد، أو قطع يمين رجل وسرق، قدم حق
الآدمي من القتل والقطع، وسقط حق الله تعالى، لان حق الآدمي مبنى على
التشديد، فقدم على حق الله تعالى
(الشرح) إذا قتل واحد جماعة قتل بواحد وأخذ الباقون الدية، وقال
أبو حنيفة ومالك يقتل بالجماعة - فإن بادر واحد وقتله - سقط حق الباقين،
وبه قال أصحابنا الخراسانيون.
وقال أحمد رحمه الله: إن طلبوا القصاص قتل لجماعتهم، وان طلب بعضهم
القصاص وبعضهم الدية قتل لمن طلب القصاص وأعطى الدية من طلبها. وقال
عثمان البتي: يقتل بجماعتهم ثم يعطون الدية في باقيهم فيقسمونها بينهم، مثل أن
يقتل عشرة، فإنه يقتل ويعطون تسع ديات ويقسمونها بين العشرة. ودليلنا قوله
صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعده قتيلا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن
أحبوا أخذوا الدية " ولأنها حقوق مقصودة لآدميين يمكن استيفاؤها فوجب أن
لا يتداخل كالديون
وقولنا مقصودة احتراز من آجال الدين. وقولنا لآدميين احتراز من حقوق
الله تعالى وهي الحدود في الزنا وشرب الخمر
إذا ثبت هذا فإن قتل واحدا بعد واحد اقتص للأول، فإن عفا الأول
اقتص للثاني، وإن عفا الثاني اقتص للثالث. وإن كان ولى الأول غائبا أو صغيرا
انتظر قدوم الغائب وبلوغ الصغير. وان قتلهم دفعة واحدة بأن هدم عليهم بيتا
أو جرحهم فماتوا معا أقرع بينهم، فمن خرجت له القرعة قتل به وكان للباقين
الدية. وقال بعض أصحابنا الخراسانيين: يقتل بالجميع ويرجع كل واحد من
الأولياء بحصته من الدية. وإن قتلهم واحدا بعد واحد إلا أنه أشكل الأول منهم
435

فإن أقر القاتل لأحدهم أنه الأول قبل إقراره وقتل به، وان لم يقر أقرعنا بينهم
لاستواء حقوقهم، فإن بادر أحدهم وقتله فقد استوفى حقه وانتقل حق الباقين
إلى الدية.
وحكى الخراسانيون من أصحابنا أنه إذا قتل واحدا بعد واحد، وكان ولى
الأول غائبا أو مجنونا أو صغيرا قولين: أحدهما يستوفى ولى الثاني والثاني لا يستوفي
بل ينتظر حضور الغائب وإفاقة المجنون وبلوغ الصغير. وإن قتل جماعة في قطع
الطريق وقلنا بالمشهور من المذهب انه يقتل بواحد في غير قطع الطريق فهاهنا
وجهان. وحكاهما الخراسانيون قولين (أحدهما) حكمه حكم ما لو قتلهم في غير
قطع الطريق لما ذكرناه هناك (والثاني) يقتل بالجميع ولا شئ للباقين لأنه يقتل
حدا، بدليل أنه لا يصح العفو فيه، وان قطع عضوا من جماعة فحكمه حكم ما لو
قتل جماعة على ما مضى
(مسألة) وان قطع يد رجل وقتل آخر، قطعت يده للمقطوع ثم قتل للمقتول
سواء تقدم قطع اليد أو تأخر، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وقال مالك يقتل
للمقتول ولا تقطع يده للمقطوع، دليلنا قوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس
بالنفس والعين بالعين) الآية.
فأخبر أن النفس تؤخذ بالنفس والطرف بالطرف، فمن قال غير هذا فقد
خالف الآية، ولأنهما جنايتان على شخصين فلا يتداخلان كما لو قطع يدي
رجلين، وإنما قدمنا القطع ههنا، وإن كان متأخرا لأنه يمكن إيفاء الحقين من
غير نقص على أحدهما، ومتى أمكن إيفاء الحقين لم يجز إسقاط أحدهما. وان
قطع أصبعا من يمين رجل ثم قطع يمين آخر قطعت أصبعه للأول، ثم قطعت
يده للثاني ولزمه أن يغرم للثاني دية أصبعه التي لم يقتص منها، ويخالف إذا قتل
رجل مقطوع اليد لرجل غير مقطوع اليد - فإنه لا يغرم شيئا له - لان اليد
تنقص بنقصان الإصبع، ولهذا لا تؤخذ يد كاملة الأصابع بيد ناقصة الأصابع
والنفس لا تنقص بنقصان اليد، ولهذا يقتل من له يدان بمن له يدان بمن له يد واحدة،
وان قطع يمين رجل ثم قطع أصبعا من يمين آخر قطعت يمينه للأول، وأخذ
الاخر دية أصبعه المقطوعة، ويخالف إذا قطع يمين رجل ثم قتل آخر حيث قلنا
436

يقدم القطع، وإن كان متأخرا، لان اليد ينقص بنقصان الإصبع: والنفس
لا تنقص بنقصان اليد
(فرع) إذا قتل رجلا وارتد أو قطع يمين رجل وسرق، قدم حق الادمي
من القتل والقطع لأنه مبنى على التشديد، وحق الله مبنى على المسامحة.
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب استيفاء القصاص)
من ورث المال ورث الدية، لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال:
كان عمر رضي الله عنه يقول: لا ترث المرأة من دية زوجها، حتى قال له الضحاك
ابن قيس: كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ورث امرأة أشيم الضبابي
من دية زوجها، فرجع عمر رضي الله عنه عن ذلك " ويقضي من الدية دينه
وينفذ منها وصيته.
وقال أبو ثور. لا يقضى منها الدين ولا ينفذ منها الوصية، لأنها تجب بعد
الموت، والمذهب الأول، لأنه مال يملكه الوارث من جهة فقضى منه دينه،
ونفذت منه وصيته كسائر أمواله. ومن ورث المال ورث القصاص، والدليل
عليه ما روى أبو شريح الكعبي " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ثم أنتم
يا خراعة قد قلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلا فأهله
بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية "
وإن قطع مسلم طرف مسلم ثم ارتد ومات في الردة، وقلنا بأصح القولين
انه يحب القصاص في طرفه، فقد نقل المزني أنه قال يقتص وليه المسلم، وقال
المزني رحمه الله: لا يقتص غير الامام لان المسلم لا يرثه، فمن أصحابنا من قال
لا يقتص غير الامام كما قال المزني، وحمل قول الشافعي رحمة الله عليه على الامام
وقال عامة أصحابنا يقتص المناسب، لان القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ
والذي يتشفى هو المناسب، ويجوز أن يثبت القصاص لمن لا يرث شيئا،
437

كما لو قتل من له وارث وعليه دين محيط بالتركة، فإن القصاص للوارث وان لم
يرث شيئا، وإن كان الوراث صغيرا أو مجنونا لم يستوف له الولي، لان القصد
من القصاص التشفي ودرك الغيظ، وذلك لا يحصل باستيفاء الولي، ويحبس القاتل
إلى أن يبلغ الصغير أو يعقل المجنون، لان فيه حظا للقاتل بأن لا يقتل، وفيه
حظا للمولى عليه ليحصل له التشفي، فإن أقام القاتل كفيلا ليخلى لم يجز تخليته لان
فيه تغريرا بحق المولى عليه بأن يهرب فيضيع الحق.
وإن وثب الصبي أو المجنون على القاتل فقتله ففيه وجهان: أحدهما أنه يصير
مستوفيا لحقه، كما لو كانت له وديعة عند رجل فأتلفها. والثاني لا يصير مستوفيا
لحقه وهو الصحيح، لأنه ليس من أهل استيفاء الحقوق ويخالف الوديعة، فإنها
لو تلف من غير فعل برئ منها المودع. ولو هلك الجاني من غير فعل لم يبرأ من
الجناية. وإن كان القصاص بين صغير وكبير لم يجز للكبير أن يستوفى، وإن كان
بين عاقل ومجنون لم يجز للعاقل أن يستوفي لأنه مشترك بينهما فلا يجوز لأحدهما
أن ينفرد به، فإن قتل من لا وارث له كان القصاص للمسلمين واستيفاؤه إلى
السلطان، وإن كان له من يرث منه بعض القصاص كان استيفاؤه إلى الوارث
والسلطان، ولا يجوز لأحدهما أن ينفرد به لما ذكرناه
(الشرح) خبر الضحاك بن قيس أسنده المصنف لم يرو أن الذي كتب
إليه النبي صلى الله عليه وسلم هو الضحاك بن قيس لأنه ولد قبل وفاته صلى الله عليه
وسلم بسبع سنين. فهو الضحاك بن قيس بن خالد الأكبر ابن وهب بن ثعلبة
يكنى أبا أنيس، وقيل أبو عبد الرحمن، والأول أفاده الواقدي، وهو أخو فاطمة
بنت قيس وكان أصغر سنا منها، ويرجح أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم
فضلا عن أن يوليه ويكتب إليه. وقد كان الضحاك بن قيس على شرطة معاوية ثم
صار عاملا على الكوفة بعد زياد، وقد قتل الضحاك بن قيس بمرج راهط لأنه
كان يأخذ البيعة لابن الزبير قتله جنود يزيد.
أما الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم وكتب إليه أن يورث امرأة أشيم
الضبابي فهو الضحاك بن سفيان الكلابي، فهو الذي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم
438

أمر من أسلم من قومه، وقد ثبت أن الرسول أمره على سرية فذكره العباس
ابن مرداس في شعره فقال:
ان الذين وفوا بما عاهدتهم * جيش بعثت عليهم الضحاكا
أمرته ذرب السنان كأنه * لما تكنفه العدو يراكا
طورا يعانق باليدين وتارة * يفرى الجماجم صارما بتاكا
وكان رضي الله عنه أحد الابطال، وكان يقوم على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم
متوشحا سيفه، وكان يعد بمائة فارس
قال ابن عبد البر، وله خبر عجيب مع بنى سليم ذكره أهل الأخبار: روى
الزبير بن بكار: حدثتني ظيماء بنت عبد العزيز حدثني أبي عن جدي موألة بن
كثيف أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان سياف رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكانت بنو سليم في تسعمائة، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه سلم: هل لكم
في رجل يعدل مائة يوفيكم ألفا؟ فوافاهم بالضحاك بن سفيان وكان رئيسهم.
ولابن مرداس:
عشية ضحاك بن سفيان معتص لسيف رسول الله والموت واقع
روى عنه سعيد بن المسيب والحسن البصري، فإذا ثبت هذا فإن الحديث
أخرجه أبو داود في الفرائض عن أحمد بن صالح والترمذي عنه في الفرائض،
وعن قتيبة وأحمد بن منيع وغير واحد، وفي الديات عن قتيبة وأبى عمار بن
الحسين بن حريث وابن ماجة في الديات عن أبي بكر بن أبي شيبة ومالك في
الموطأ في العقول عن ابن شهاب والضبابي وهو بطن من كلاب منهم شمر بن
ذي الجوشن قاتل الحسين عليه السلام
وأما حديث أبي شريح الكعبي فقد أخرجه أبو داود في الديات عن مسدد،
والترمذي في الديات عن محمد بن بشار، وقد أخرجه بمعناه أحمد والشيخان
وابن ماجة والدارمي. وأبو شريح اسمه خويلد بن عمرو، وقد مضى تحقيق نسبه
وشئ من مناقبه آنفا.
وقوله " بين خيرتين " الخيرة وزان عنبة الاسم من قولك: اختاره الله تعالى
وخيرة بالتسكين أيضا، والأهل يقع على الذكر والأنثى.
439

أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ولم يختلفوا في أن العقل موروث
كالمال. وجملة ذلك أنه إذا قتل رجل رجلا خطأ أو عمدا وعفى عنه على المال،
فإن الدية تكون لجميع ورثة المقتول لقوله تعالى " ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير
رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله " ولقوله صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعده قتيلا
فأهله بين خيرتين إن أحبوا اقتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " لا فرق بين الذكران
والإناث إجماعا لا خلاف فيه. وقد روى عن عمر رضي الله عنه أنه لم يورث
المرأة من دية زوجها، فقال له الضحاك بن سفيان: كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فرجع عمر رضي الله عنه
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لا يتوارث ملتان شتى، وترث المرأة من دية زوجها "
قال المصنف: ويقضى من الدية دينه وتنفذ منه وصاياه. وقال أبو ثور:
لا يقضى منها دينه ولا تنفذ وصاياه، والذي يقتضى المذهب أن يبنى على القولين
متى تجب الدية؟ فإن قلنا بآخر جزء من أجزاء حياة المقتول قضى منها دينه ونفذت
منها وصاياه. وإن قلنا يجب بعد موته لم يقض منها دينه ولم تنفذ منها وصاياه
ولعله ذكر ذلك على الأصح عنده
وأما إذا كان القتل يقتضى القصاص فإن القصاص موروث وفيمن يرثه من
الورثة ثلاثة أوجه حكاها ابن الصباغ
أحدها أنه لا يرثه إلا العصبة من الرجال، وبه قال مالك والزهري، لان
القصاص يدفع العار عن النسب فاختص به العصبات كولاية النكاح. فإن اقتصوا
فلا كلام، وإن عفوا على مال كان لجميع الورثة
(والثاني) أنه يرثه من يرث بنسب دون سبب، فيخرج بذلك من يرث
بالزوجية، به قال ابن شبرمة، لان القصاص يراد للتشفي، والزوجية
تزول بالموت.
(والثالث) وهو المنصوص، ولم يذكر الشيخان أبو إسحاق الأسفراييني
وأبو حامد المرور وذي غيره أنه يرثه جميع الورثة من يرث بنسب ومن يرث بسبب
وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأحمد لقوله صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعد قتيلا
440

فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية " والأهل لغة يقع
على الرجال والنساء، ولأنه يجعل القود لمن جعل له الدية، ولا خلاف أن الدية
لجميع الورثة فكذلك القود، وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: لأهل القتيل أن ينحجزوا الأول فالأول، وإن كانت امرأة " رواه
أبو داود والنسائي.
قال أبو عبيد. معنى أن ينحجزوا يكفوا عن القصاص، ولو لم يكن للمرأة
حق في القصاص لما جعل لها الكف عنه. وروى أن رجلا قتل رجلا، فأراد
أولياء الدم القود، فقالت أخت المقتول - وكانت زوجة القاتل - عفوت
عن نصيبي من القود، فقال عمر رضي الله عنه الله أكبر عتق من القتل
(فرع) إذا قطع طرف مسلم فارتد المقطوع ثم مات على الردة - وقلنا يجب
القصاص في الطرف - فمن الذي يستوفيه؟ قال الشافعي رضي الله عنه. لوليه
المسلم أن يقتص، واعترض المزني عليه فقال كيف يجوز لوليه أن يقتص وهو
لا يرثه. واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال لا يقتص وليه المسلم كما قال المزني،
لأنه لا يرثه - ولم يرد الشافعي الولي ههنا المناسب، وإنما أراد الامام. وقال
أكثرهم بل يجوز لوليه المناسب أن يقتص لان القصاص للتشفي وذلك إلى المناسب
لا إلى الامام. وقول الأول غير صحيح لأنه قد يثبت القصاص لمن لا يرث،
وهو إذا قتل رجل وعليه دين يحيط بتركته - فإذا قلنا إن الامام هو الذي يقتص
كان بالخيار بين أن يقتص وبين أن يعفو على مال. فإذا عفا على مال كان بها،
وإذا قلنا يقتص الولي المناسب - فإن اقتص - فلا كلام، وان عفا على مال
فهل يثبت؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد
(أحدهما) لا يثبت لان أرش الطرف يدخل في أرش النفس فلما لم يجب
أرش النفس لم يجب أرش الطرف
(والثاني) يجب الأرش وهو الأصح لان الجناية وقعت في حال مضمونة
فلم يسقط حكمها بسقوط حكم السراية، فإذا قلنا بهذا فكم الأرش الذي يجب؟
فيه وجهان، قال عامة أصحابنا يجب أقل الأمرين من أرش الطرف أو دية النفس
لان دية النفس إذا كانت أكثر من أرش الطرف لم تجب الزيادة على أرش الطرف
441

لان الزيادة وجبت بالسراية، وإن كان أرش الطرف أكثر لم يجب ما زاد على
دية النفس، لأنه لو مات وهو مسلم لم يجب عليه أكثر من دية مسلم فكذلك
هاهنا مثله.
وقال أبو سعيد الإصطخري: يجب أرش الطرف بالغا ما بلغ، لان الدية
إنما تجب في النفس في الموضع الذي لو كان دون الدية وصار نفسا وجبت الدية
وهاهنا لا حكم للسراية في الزيادة فكذلك في النقصان. والأول أصح
(فرع) إذا كان القصاص لصغير أو مجنون أو لغير رشيد لم يستوف الولي
له، وبه قال أحمد وأبو يوسف وقال مالك وأبو حنيفة ومحمد يجوز للأب والجد
أن يستوفى له القصاص في النفس والطرف، ويجوز للوصي والحاكم أن يستوفى
إلا في الطرف دون النفس. دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " فأهله بين خيرتين
إن أحبوا اقتلوا وإن أحبوا أخذوا الدية " فجعل الخيرة للأهل، فلو جعلنا للولي
استيفاءه لفوتنا ما خير فيه، ولأنه لا يملك إيقاع طلاق زوجته فلا يملك استيفاء
القصاص في النفس كالوصي.
فإذا ثبت هذا فإن القاتل يحبس إلى أن يبلغ الصبي ويفيق المجنون ويصلح
المفسد - لان في ذلك مصلحة للقاتل بأن يعيش إلى مدة ويتأخر قتله - وفيه
مصلحة لولي المقتول لئلا يهرب القاتل ويفوت القصاص، فإن أراد الولي أن
يعفو عن القود على مال، فإن كان المولى عليه له كفاية لم يجز، وإن كان محتاجا
إلى ذلك المال للنفقة ففيه وجهان
(أحدهما) يجوز لأنه محتاج إلى ذلك
(والثاني) لا يجوز لأنه لا يملك استيفاء حقه من القصاص، ونفقته في
بيت المال. وإن وثب الصبي أو المجنون فاقتص فهل يصير مستوفيا؟ فيه وجهان
(أحدهما) يصير مستوفيا كما لو كانت له وديعة فأتلفها (والثاني) لا يصير مستوفيا
وهو الأصح، لأنه ليس من أهل الاستيفاء، وإن كان القصاص لغائب حبس
القاتل إلى أن يقدم كما قلنا فيه إذا كان لصغير أو مجنون. فإن قتل فهلا قلتم لا يحبس
للغائب لأنه لا ولاية للحاكم على الغائب، كما لو كان لغائب مال مغصوب فليس
للحاكم أن يحبس الغائب وينزع ماله المغصوب؟ فالجواب أن القود ثبت للميت
442

وللحاكم على الميت ولاية، وليس كذلك الغالب إذا غصب ماله لأنه لا ولاية له
عليه وهو رشيد، فوزانه أن يموت رجل ويخلف مالا وله وارث غائب، فجاء
رجل وغصب ماله فللأم حبس الغاصب إلى أن يقدم الغائب
(فرع) فإن كان القصاص لجماعة وبعضهم حاضر وبعضهم غائب لم يجز
للحاضر أن يستوفى بغير إذن الغائب بلا خلاف، وإن كان الخلاف بين صغير
وكبير أو بين عاقل ومجنون لم يجز للكبير والعاقل أن يستوفى القصاص حتى يبلغ
الصغير ويفيق المجنون، ويأذن في الاستيفاء. وبه قال عمر بن عبد العزيز
وأبو يوسف وأحمد.
وقال مالك وأبو حنيفة: يجوز للكبير والعاقل أن يستوفى قبل بلوغ الصغير
وإفاقة المجنون، إلا أن أصحاب أبي حنيفة اختلفوا فيما يستوفيه، فمنهم من قال
يستوفى حقه وحق الصغير والمجنون، ومنهم من قال يستوفى حقه ويسقط حق
الصغير والمجنون، دليلنا أنه قصاص موروث فوجب أن لا يختص باستيفائه بعض
ورثته، كما لو كان لحاضر وغائب
وإذا ثبت هذا فإن القاتل يحبس إلى أن يبلغ الصغير ويفيق المجنون، وقد
حبس معاوية هدبة بن خشرم في قصاص حتى يبلغ ابن القتيل، وذلك في عصر
الصحابة رضوان الله عليهم فلم ينكر ذلك. وبذل الحسن والحسين وسعيد بن
العاص لابن القتيل سبع ديات فلم يقبلها
فإن قيل لم لا يخلى سبيله كالمعسر بالدين. قلنا لان تخليته تضييع فإنه لا يؤمن
هربه، والفرق بينه وبين المعسر من وجوه
1 - أن قضاء الدين لا يجب مع الاعسار فلا يحبس بما لا يجب، والقصاص
ههنا واجب وإنما تعذر المستوفى
2 - ان المعسر إذا حبسناه تعذر الكسب لقضاء الدين فلا يفيد بل يضر من
الجانبين. وهاهنا الحق نفسه يفوت بالتخلية لا بالحبس
3 - انه قد استحق قتله، وفيه تفويت نفسه ونفعه، فإذا تعذر تفويت
نفسه جاز تفويت نفعه لامكانه، فإن قيل فلم يحبس من أجل الغائب وليس للحاكم
عليه ولاية إذا كان مكلفا رشيدا، ولذلك لو وجد بعض ماله مغصوبا لم يملك
443

انتزاعه؟ قلنا لان في القصاص حقا للميت، وللحاكم عليه ولاية، ولهذا تنفذ
وصاياه من الدية وتقضى ديونه منها، فنظيره أن يجد الحاكم من تركة الميت في
يد إنسان شيئا غصبا والوارث غائب فإنه يأخذه، ولو كان القصاص لحي في طرفه
لم يتعرض لمن هو عليه، فإن أقام القاتل كفيلا بنفسه ليخلى سبيله لم يجز لان
الكفالة لا تصح في القصاص فإن فائدتها استيفاء الحق من الكفيل إن تعذر
إحضار المكفول به، ولا يمكن استيفاؤه من غير القاتل، فلم تصح الكفالة به
كالحد، ولان فيه تغريرا بحق المولى عليه، فإنه ربما خلى سبيه فهرب فضاع الحق
فإن وجب القصاص في قتل من لا وارث له غير المسلمين كان القصاص إلى الامام
لأنه نائب عنهم، وإن كان هناك من يرث البعض ويرث المسلمون الباقي كان
استيفاء القصاص إلى الامام والى الوارث
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قتل رجل وله اثنان من أهل الاستيفاء فبدر أحدهما وقتل
القاتل من غير اذن أخيه ففيه قولان (أحدهما) لا يجب عليه القصاص، وهو
الصحيح، لان له في قتله حقا فلا يجب عليه القصاص بقتله، كما لا يجب الحد
على أحد الشريكين في وطئ الجارية المشتركة (والثاني) يجب عليه القصاص لأنه
اقتص في أكثر من حقه فوجب عليه القصاص، كما لو وجب له القصاص في طرفه
فقتله، ولان القصاص يجب بقتل بعض النفس إذا عرى عن الشبهة، ولهذا
يجب على كل واحد من الشريكين في القتل. وإن كان قاتلا لبعض النفس والنصف
الذي لأخيه لا شبهة فيه فوجب القصاص عليه بقتله
وان عفا أحدهما عن حقه من القصاص ثم قتله الاخر بعد العلم بالعفو نظرت
فإن كان بعد حكم الحاكم بسقوط القود عنه وجب عليه القصاص، لأنه لم يبق له
شبهة، وإن كان قبل حكم الحاكم بسقوط القود عنه فإن قلنا يجب عليه القود إذا
قتله قبل العفو فلان يجب عليه إذا قتله بعد العفو أولى، وان قلنا لا يجب عليه
قبل العفو ففيما بعد العفو قولان
(أحدهما) يجب عليه لأنه لاحق له في قتله كما لو عفوا ثم قتله أحدهما
444

(والثاني) لا يجب، لان على مذهب مالك رحمة الله عليه يجب له القود
بعد عفو الشريك، فيصير ذلك شبهة في سقوط القود، فإذا قلنا أنه يجب
القصاص على الابن القاتل وجب دية الأب في تركة قاتله، نصفها للأخ الذي لم
يقتل، ونصفها للأخ القاتل ولورثته بعده، وإذا قلنا لا يجب القصاص على
الابن القاتل وجب عليه نصف دية المقتول، لأنه قتله وهو يستحق نصف
النفس وللأخ الذي لم يقتل نصف الدية، وفيمن يجب عليه قولان
(أحدهما) يجب على الابن القاتل، لان نفس القاتل كانت مستحقة لهما،
فإذا أتلفها أحدهما لزمه ضمان حق الاخر كما لو كانت لهما وديعة عند رجل فأتلفها
أحدهما، فعلى هذا ان أبرأ الابن الذي لم يقتل ورثة قاتل أبيه من نصفه لم يصح
ابراؤه، لأنه أبرأ من لاحق له عليه. وان أبرأ أخاه صح ابراؤه لأنه أبرأ
من عليه الحق.
والقول الاخر أنه يجب ذلك في تركة قاتل أبيه لأنه قود سقط إلى مال
فوجب في تركة القاتل كما لو قتله أجنبي، ويخالف الوديعة، فإنه لو أتلفها أجنبي
وجب حقه عليه، والقاتل لو قتله أجني لم يجب حقه عليه، فعلى هذا لو أبرأ
أخاه لم يصح ابراؤه، وان أبرأ ورثة قاتل أبيه صح ابراؤه ولورثة قاتل الأب
مطالبة الابن القاتل بنصف الدية، لان ذلك حق لهم عليه فلا يسقط ببراءتهم
عن الابن الاخر.
(الشرح) إذا قتل رجل وله أخوان وابنان من أهل استيفاء القصاص لم
يكن لهما أن يستوفيا القصاص جميعا، لان في ذلك تعذيبا للقاتل، فإما أن يوكلا
رجلا ليستوفى لها القصاص، واما أن يوكل أحدهما الاخر في الاستيفاء، فإن
طلب كل واحد منهما أن يوكله الاخر أقرع بينهما، لأنه لا مزية لأحدهما على
الاخر، فإذا خرجت القرعة لأحدهما أمر الاخر أن يوكله، وان بادر أحدهما
وقتل القاتل بغير اذن أخيه نظرت - فإن كان الذي لم يقتل لم يعف عن حقه
من القصاص - فهل يجب على القاتل منهما القود؟ فيه قولان
(أحدهما) يجب عليه القود لأنه ممنوع من قتله وقد يجب القتل بإتلاف
445

بعض النفس كما إذا قتل جماعة واحدا (والثاني) لا يجب عليه القود، وبه قال
أبو حنيفة وأحمد، وهو الأصح، لان له في قتله حقا فلم يجب عليه القود، كما لو
وطئ أحد الشريكن الجارية المشتركة، وإن قتله بعد أن عفا أخوه عن القود
نظرت - فإن كان قد حكم الحاكم بسقوط القود - وجب القود على القاتل
قولا واحدا. قال ابن الصباغ سواء علم القاتل بذلك أو لم يعلم، لان بحكم الحاكم
زالت الشبهة وحرم عليه قتله، فهو كما لو قتل غير القاتل، وإن كان بعد عفو أخيه
وقبل حكم الحاكم بسقوط القود نظرت - فإن لم يعلم بعفو أخيه - فهل يجب
القود على القاتل؟ فيه قولان، كما لو لم يعف أخوه
قال الشيخ الإمام أبو حامد: إلا أن الأصح هناك لا يجب عليه القود،
والأصح هاهنا أن عليه القود، وإن قتله بعد أن علم بعفو أخيه - فإن قلنا
يجب عليه القود إذا لم يعف أخوه فها هنا أولى، وإن كان قلنا هناك لا يجب عليه
القود لأنه على قول مالك لا يسقط القود هكذا صور المصنف المسألة، ولكنا
تنازعه في عدم سقوط القود عند مالك، لان أهل العلم أجمعوا على إجازة العفو
عن القصاص وأنه أفضل، بالكتاب والسنة لقوله تعالى " فمن عفى له من أخيه
شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " وقوله تعالى " فمن تصدق به فهو
كفارة له " قيل في التفسير: فهو كفارة للجاني يعفو صاحب الحق عنه. وقيل
هو كفارة للعافي بصدقته.
وأما السنة ففي سنن أبي داود عن أنس قال " ما رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم رفع إليه شئ فيه قصاص إلا أمر فيه بالعفو " فالقصاص فحق لجميع
الورثة من ذوي الأنساب والأسباب والرجال والنساء والصغار والكبار فمن عفا
منهم صح عفوه وسقط القصاص، ولم يبق لاحد إليه سبيل، بهذا قال عطاء
والنخعي والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد. وروى ذلك عن عمر وطاوس
والشعبي. وقال الحسن وقتادة والزهري وابن شبرمة والليث والأوزاعي: ليس
للنساء عفو. والمشهور عن مالك أنه موروث للعصبات خاصة، وهو وجه
لأصحابنا لأنه ثبت لدفع العار فاختص به العصبات كولاية النكاح
ولنا وجه ثالث أنه لذوي الأنساب دون الزوجين لحديث أبي شريح الكعبي
446

" فأهله بنى خيرتين الخ " وذهب بعض أهل المدينة إلى أن القصاص لا يسقط
بعفو بعض الشركاء، وقيل هو رواية عن مالك لان حق غير العافي لا يرضى
بإسقاطه، وقد تؤخذ ببعض النفس بدليل قتل الجماعة بالواحد. وبعد
أن تحررت المسألة على هذا النحو نقول: إنه على قول بعض أهل المدينة لا يسقط
القود بعفو أحد الشريكين فصار ذلك شبهة في سقوط القود عنه. وهذا ترتيب
الشيخ أبى حامد.
وقال المسعودي إذا قتله قبل عفو أخيه فهل يجب عليه القود؟ فيه قولان
فإذا قلنا لا يجب فله معنيان (أحدهما) لاختلاف العلماء في استيفاء أحدهم
(والثاني) لأجل حقه في القصاص، وان قتله بعد عفو أخيه، وهو عالم بعفوه
فإن قلنا هناك لا يجب فهاهنا قولان - ان قلنا العلة هناك اختلاف العلماء فلا
قودها هنا، لان الاختلاف موجود. وان قلنا العلة هناك حقه في القصاص
وجب عليه هاهنا القود. وان قتله جاهلا بعفو أخيه، فإن قلنا لا يجب عليه
القود إذا كان عالما بعفو أخيه فهاهنا أولى، وان قلنا هناك لا يجب فها هنا
قولان، ان قلنا العلة هناك اختلاف العلماء فلا قودها هنا، لان لاختلاف
موجود. وان قلنا العلة هناك حقه في القصاص وجب عليه هاهنا القود، وان
قتله جاهلا بعفو أخيه، فإن قلنا لا يجب عليه القود إذا كان عالما بعفو أخيه
فهاهنا أولى أن لا يجب. وان قلنا هناك القود على القاتل فلوليه أن يقتص
منه، فإذا قتله وجب دية المقتول الأول في تركة القاتل الأول، نصفها للأخ الذي
لم يقتل ونصفها لورثة أخيه المقتول
وان قلنا لا يجب القود على الأخ القاتل فقد استوفى حقه وبقى حق أخيه،
وقد تعذر استيفاء حقه من القصاص فتكون له نصف دية أبيه، وعلى من يرجع
بها؟ فيه قولان
(أحدهما) يرجع بها على أخيه القاتل، لان نفس قاتل أبيه كانت لهما وديعة
فأتلفها أحدهما، فعلى هذا ان أبرأ أخاه صح ابراؤه، وان أبرأ قاتل أبيه
لم يصح ابراؤه.
447

والقول الثاني انه يرجع بها في تركة قاتل أبيه لأنه قود سقط إلى مال فوجب
المال في تركة قاتل الأب كما لو قتله أجنبي، ويخالف الوديعة فإنه لو أتلفها أجنبي
لرجعا عليه بضمانها، وههنا لو قتله أجبني لم رجعا عليه بشئ
فعلى هذا إن أبرأ أخاه لم يصح إبراؤه، وإن أبرأ قاتل أبيه صح إبراؤه ويكون
لورثة قاتل الأب أن يرجعوا على القاتل بنصف دية موروثهم لأنه لا يستحق إلا
نصف نفسه، ومن أصحابنا من قال: لا يطالبون الأخ القاتل بشئ، لأنهم
ما غرموا، وليس بشئ، لان الحق قد لزمهم في الأصل ولزم القاتل له في
الأصل فإذا سقط عنهم لم يسقط عنه على الوارث في تركته. ولوجه آخر أن
الدية لمن له القصاص، كما لو قتل المرهون كانت الدية مرهونة، ولو عفا وارثه
عن القصاص على الدية فالدية للوارث على الصحيح من المذهب وحق من له
القصاص، ولو وجب القصاص على رجل فقتله أجنبي عنه عليه القصاص لأنه
ترك القبض للورثة.
وإن عفا الاخوان جميعا عنه ثم عادا فقتلاه أو عفا عنه أحدهما ثم عاد فقتله
وجب القود قولا واحدا، لأنه لم يبن للعاقل حق بعد عفوه، فصار كما لو قتل
أجنبيا، فإن كان القصاص لجماعة واختلفوا فيمن يقتص منهم أقرع بينهم. وهل
يدخل في القرعة من لا يحسن؟ فيه وجهان حكاهما في العدة، أحدهما لا يدخل
لأنه لا فائدة فيه. والثاني يدخل لأنه يستنيب من شاء، ومتى خرجت القرعة
لأحدهم لم يستوف القصاص إلا بتوكيل الباقين له
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز استيفاء القصاص إلا بحضرة السلطان لأنه يفتقر إلى
الاجتهاد ولا يؤمن فيه الحيف مع قصد التشفي، فإن استوفاه من غير حضرة
السلطان عزره على ذلك.
ومن أصحابنا من قال لا يعزر لأنه استوفى حقه والمنصوص أنه يعزر لأنه
افتيات على السلطان، والمستحب أن يكون بحضرة شاهدين حتى لا ينكر المجني
448

عليه الاستيفاء، وعلى السلطان أن يتفقد الآلة التي يستوفى بها القصاص، فإن
كانت كآلة منع من الاستيفاء بها لما روى شداد بن أوس رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " إن الله كتب الاحسان على كل شئ، فإذا قتلتم فأحسنوا
القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليجد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته " وإن كان
ت مسمومة منع من الاستيفاء بها لأنه يفسد البدن ويمنع من غسله، فإن عجل
واستوفى بآلة كآلة أو بآلة مسمومة عزر، فإن طلب من له القصاص أن يستوفى
بنفسه، فإن كان في الطرف لم يمكن منه لأنه لا يؤمن مع قصد التشفي أن يجنى
عليه بما لا يمكن تلافيه، وإن كان في النفس فإن كان يكمل للاستيفاء بالقوة
والمعرفة مكن منه لقوله تعالى " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا
يسرف في القتل إنه كان منصورا " ولقوله صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعده
قتيلا فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وان أحبوا أخذوا الدية " ولان
القصد من القصاص التشفي ودرك الغيظ فمكن منه، وان لم يكمل للاستيفاء أمر
بالتوكيل، فإن لم يكن من يستوفى بغير عوض استؤجر من خمس المصالح من
يستوفى، لان ذلك من المصالح، وان لم يكن خمس أو كان ولكنه يحتاج إليه لما
هو أهم منه وجبت الأجرة على الجاني، لان الحق عليه فكانت أجرة الاستيفاء
عليه كالبائع في كيل الطعام المبيع
فإن قال الجاني أنا أقتص لك بنفسي ولا أؤدي الأجرة لم يجب تمكينه منه،
لان القصاص أن يؤخذ منه مثل ما أخذ، ولان من لزمه ايفاء حق لغيره لم يجز
أن يكون هو المستوفى كالبائع في كيل الطعام المبيع، فإن كان القصاص لجماعة
وهم من أهل الاستيفاء وتشاحوا أقرع بينهم، لأنه لا يجوز اجتماعهم على
القصاص، لان في ذلك تعذيبا للجاني، ولا مزية لبعضهم على بعض فوجب
التقديم بالقرعة.
(فصل) وإن كان القصاص على امرأة حامل لم يقتص منها حتى تضع،
لقوله تعالى " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل "
وفي قتل الحامل إسراف في القتل، لأنه يقتل من قتل ومن لم يقتل. وروى
عمران بن الحصين رضي الله عنه " أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم
449

وقالت إنها زنت وهي حبلى، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وليها فقال له: أحسن
إليها فإذا وضعت فجئ بها فلما أن وضعت جاء بها، فأمر بها النبي صلى الله عليه
وسلم فرجمت، ثم أمرهم فصلوا عليها " وإذا وضعت لم تقتل حتى تسقى الولد اللبا
لأنه لا يعيش إلا به، وإن لم يكن من يرضعه لم يجز قتلها حتى ترضعه حولين كاملين
لان النبي صلى الله عليه وسلم قال للعامرية " اذهبي حتى ترضعيه " ولأنه لما أخر
القتل لحفظه وهو حمل فلان يؤخر لحفظه وهو مولود أولى، وإن وجد له مرضعة
راتبة جاز أن يقتص لأنه يستغنى بها عن الأم. وإن وجد مرضعات غير
رواتب أو وجدت بهيمة يسقى من لبنها، فالمستحب لولي الدم أن لا يقتص حتى
ترضعه، لان اختلاف اللبن عليه والتربية بلبن البهيمة يفسد طبعه، فإن لم يصبر
اقتص منها لان الولد يعيش بالألبان المختلفة وبلبن البهيمة. وإن ادعت الحمل
قال الشافعي رحمه الله تحبس حتى يتبين أمرها.
واختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الإصطخري رحمة الله عليه: لا تحبس
حتى يشهد أربع نسوة بالحمل، لان القصاص وجب فلا يؤخر بقولها. وقال
أكثر أصحابنا تحبس بقولها. لان الحمل وما يدل عليه من الدم وغيره يتعذر إقامة
البينة عليه فقبل قولها فيه.
(الشرح) حديث شداد بن أوس أخرجه مسلم في الذبائح عن أبي بكر بن أبي
شيبة، وأبو داود في الأضاحي عن مسلم بن إبراهيم والترمذي في الديات عن
أحمد بن منيع، والنسائي في الضحايا عن علي بن حجر، وعن الحسين بن حريب
وعن محمد بن عبد الله بن بزيع وعن محمد بن رافع وعن إبراهيم بن يعقوب وابن
ماجة في الذبائح وعن محمد بن المثنى، وأحمد في مسنده ج 2 ص 108، ومسند
أبى داود الطيالسي الحديث 1119، وحديث عمران بن الحصين أخرجه مسلم في
الحدود عن أبي غسان مالك بن عبد الواحد المسمعي، وأبو داود فيه عن مسلم
ابن إبراهيم، والترمذي فيه عن الحسن بن علي، والنسائي في الجنائز عن إسماعيل
ابن مسعود، وابن ماجة في الحدود عن العباس بن عثمان، وحديث العامرية
مضى في الرضاع.
450

أما اللغات: فالقتلة بكسر القاف هي الهيئة وكذا الذبحة، والآلة الكالة التي
لاحد لها ماض في والسيب الكليل منه.
أما الأحكام فمن وجب له القصاص لم يجز أن يقتص بغير اذن السلطان وبغير
حضوره لاختلاف العلماء في وجوب القصاص في مواضع، فلو قلنا له أن يستوفيه
من غير اذن السلطان لم يؤمن أن يقتص ممن لا يستحق فيه القصاص، فإن خالف
واقتص بغير اذن السلطان فقد استوفى حقه
قال الشافعي رضي الله عنه: ويعزر ولا شئ عليه. وهو مذهب أحمد.
ومن أصحابنا من قال لا يعزر لأنه استوفى حقه، والأول أصح، لأنه افتات
على السلطان، والمستحب أن يكون ذلك بحضرة شاهدين لئلا ينكر المقتص
الاستيفاء، فإن اقتص بغير حضور شاهدين جاز لأنه استيفاء حق، فلم يكن
من شرطه حضور الشهود كالدين، ويتفقد السلطان الآلة التي يستوفى بها القصاص
فإن كانت كآلة منع من الاستيفاء بها لقوله صلى الله عليه " إذا قتلتم فأحسنوا القتلة "
فإن استوفى فقد أساء ولا تعزير عليه. وان أراد الاستيفاء بآلة مسمومة.
قال الشيخ أبو حامد: منع من ذلك سواء كان في الطرف أو في النفس، لأنه
إذا كان في الطرف سرى إلى نفسه، وإن كان في النفس هرى بدنه ومنع من غسله
فإن خالف واقتص بآلة مسمومة عزر
وقال القفال: إن كان الاستيفاء في الطرف منع منه، وإن كان في النفس لم
يمنع منه، فإن اقتص في الطرف بآلة مسمومة وسرى ذلك إلى نفسه وجب على
المقتص نصف الدية، لأنه مات من مباح ومحظور
(فرع) إذا طلب من له القصاص أن يقتص بنفسه - فإن كان القصاص في
النفس، وكان يصلح للاستيفاء - مكنه السلطان من الاستيفاء لقوله تعالى
" ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل " الآية، ولقوله
صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعده فأهله بين خيرتين ان أحبوا قتلوا وان أحبوا
أخذوا الدية " وإن كان لا يحسن الاستيفاء أمر بالتوكيل - فإن لم يوجد من
يتطوع بالاستيفاء عنه بغير عوض - استأجر من يستوفى له القصاص
وقال أبو حنيفة لا تصح الإجارة على القصاص في النفس وتصح في الطرف
451

دليلنا أنه عمل معلوم فصحت الإجارة عليه كالقصاص في الطرف، وإن كان
القصاص في الطرف فقال أصحابنا البغداديون: لا يمكن المجني عليه أن يقتص
بنفسه بل يؤمر بالتوكيل، لا لاقتصاص في الطرف يحتاج إلى التحفظ لئلا
يستوفى أكثر من حقه، وقال الخراسانيون فيه وجهان (أحدهما) لا يمكن من
ذلك لما ذكرناه (والثاني) يمكن منه كما يمكن من استيفاء القصاص في النفس،
والأول أصح، لان المقصود بالقتل إزهاق الروح، ولا معنى للتحفظ
بخلاف الطرف.
(فرع) يستحب للامام أن يقيم رجلا يقيم الحدود ويقتص للناس بإذنهم
ويرزقه من الأموال المعدة للخدمات العامة (ميزانية الخدمات) لان هذا من
المصالح والخدمات التي توفرها الدولة لنشر الامن وإقرار العدل، قد شبهه
أصحابنا بأجرة الكيال والوزان في الأسواق، فإن لم يكن هناك شئ من سهم
المصالح أو كانت ميزانية الخدمات لا تسمح للاحتياج لما هو أهم كبناء المستشفى
أو تسليح المجاهدين كانت الأجرة على المقتص منه هذا ما يفيده النظر في نقل
أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: نص الشافعي رحمه الله على أن أجرة القصاص على المقتص
منه، ونص أن أجرة الجلاد في بيت المال، وهو قول أبي حنيفة لأنه استيفاء
حق فكانت أجرة الاستيفاء على المستوفى، كما لو اشترى طعاما وأراد نقله،
والأول أصح، ومنهم من قال يجب أجرة القصاص على المقتص منه، وأجرة
الجلاد في بيت المال، لان في القصاص الجاني مأمور بالاقرار بالجناية ليقتص
منه، وفي الحد هو مأمور بالستر على نفسه
فإن قال الجاني: أنا أقطع طرفي ولا أؤدي الأجرة ففيه وجهان حكاهما ابن
الصباغ (أحدهما) يجب إجابته إلى ذلك لان المقصود قطع طرفه فلا تلحقه تهمة
في ذلك (والثاني) لا يجب إجابته إلى ذلك، ولم يذكر المصنف غيره، لان
المقصود بالقصاص التشفي وذلك لا يحصل بفعل الجاني وإنما يحصل بفعل المجني
عليه أو من ينوب عنه غير الجاني
(فرع) إذا وجب القصاص على امرأة حامل لم يجز قتلها قبل أن تضع،
452

لقوله تعالى " ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل،
وفي قتلها في هذه الحالة إسراف، لأنه يقتل من قتل ومن لم يقتل، لحديث
عمران بن الحصين أن امرأة من جهينة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنها
زنت وهي حبلى، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم وليها أن يحسن إليها حتى تضع
فلما وضعت جئ بها فرجمت وأمرهم فصلوا عليها.
وروى أن عمر رضي الله عنه أمر بقتل امرأة بالزنا وهي حامل: فقال له
معاذ بن جبل رضي الله عنه " إن كان لك سبيل عليها فليس لك سبيل على ما في
بطنها، يعنى حملها، فترك عمر قتلها. وقال كاد النساء أن يعجزن أن يلدن
مثلك يا معاذ.
فإذا ثبت هذا فولدت لم تقتل حتى تسقى الولد اللبأ، لأنه لا يعيش الا به
فإذا سقته اللبأ نظرت، فإن لم توجد امرأة راتبة ترضعه، وإنما وجد جماعة نساء
يتناوبنه في الرضاع، أو وجدت بهيمة يسقى من لبنها، فالمستحب ألا يقتص
حتى ترضعه أمه حولين، لان على الولد ضررا باختلاف لبن المرضعات، ولبن
البهيمة يغير طبعه، فان اقتص منها جاز، لان بدنه يقوم بذلك، فإن لم يوجد
من يرضعه ولا وجدت بهيمة يسقى لبنها لم يجز للولي أن يقتص منها إلى وقت
يستغنى عن لبنها، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال للعامرية " اذهبي حتى ترضعيه "
ولأنه إذا وجب تأخير القصاص لأجله وهو حمل، فلان يجب تأخيره لأجله
بعد أوضع أولى.
قال الشيخ أبو حامد. قال أصحابنا فان خالف الولي واقتص من الأم في هذه
الحالة ثم مات الطفل فهو قاتل عمد، وعليه القود، لأنه بمثابة من حبس رجلا
ومنعه الطعام والشراب حتى مات، فإنه قاتل عمد ويجب على القود، هذا نقل
أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي إذا وجد من ترضعه فإن كان القتل لله كالرجم
في الزنا لم تقتل حتى تنقضي مدة الرضاع، وإن كان للآدمي قتلت
(فرع) إذا وجب على المرأة القتل فادعت أنها حامل قال الشافعي رحمه الله
تحبس حتى يتبين أمرها. واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو سعيد الإصطخري
453

لا تحبس حتى يشهد أربع قوابل أنها حبلى، فإن لم يشهدن بأنها حبلى قتلت في الحال
لان القصاص قد وجب فلا يؤخر بقولها. وقال أكثر أصحابنا تحبس وان لم
يشهدن أنها حبلى، لان للحمل أمارات ظاهرة يشاهدنها القوابل، وأمارات
خفية لا يعلم ذلك منها الا نفسها، فوجب حبسها إلى أن يتبين أمرها
(فرع) فان مكن الامام أو الحاكم المقتص من الحامل فقتلها فالكلام في الاثم
والضمان والكفارة، فأما الاثم فإن كان الحاكم والمقتص عالمين بأنها حامل أثما
وإن كان جاهلين بحملها لم يأثما. وإن كان أحدهما عالما بحملها والآخر جاهلا به
أثم العالم منهما دون الجاهل
وأما الضمان والكفارة فننظر فيه فإن كان لما قتلت الحامل لم يخرج الجنين من
بطنها جنين، وان خرج من بطنها، فان خرج حيا ثم مات ففيه دية كاملة وكفارة
وان خرج ميتا ففيه غرة عبد أو أمة وكفارة، وأما من يجب عليه الضمان والكفارة
فإن كان عالمين بحملهما فالضمان والكفارة على الامام والحاكم دون الولي، لأنه هو
الذي مكنه من الاستيفاء، ولان الحاكم هو الذي يعرف الأحكام وإنما يرجع
الولي إلى اجتهاده. وهكذا إذا كان الحاكم هو العالم بحملها دون الولي فالضمان
والكفارة على الولي دون الحاكم إذا لم يعلم فلم يسلطه على اتلاف الحمل، وإن كانا
جاهلين بحملهما ففيه وجهان
(أحدهما) أن الضمان والكفارة على الولي لان الحاكم إذا لم يعلم سقط عنه
حكم الاجتهاد فيه والولي هو المباشر فلزمه الضمان. هكذا ذكر ابن الصباغ.
وذكر الشيخ أبو حامد في التعليق وصاحب الفروع إذا كانا جاهلين بأن ذلك
لا يجوز فالضمان والكفارة على الامام قولا واحدا، وإن كانا عالمين بأن ذلك
لا يجوز ففيه وجهان.
قال أبو إسحاق الضمان والكفارة على الامام لأنهما في العلم سواء، وللامام
مزية التمكين.
وقال غيره من أصحابنا يكون الضمان والكفارة على الولي لأنه هو المباشر
وإن كان أحدهما عالما والآخر جاهلا، فالضمان على العالم منهما دون الجاهل.
454

وقال المزني: فالضمان على عاقلته، سواء علم القاضي أو جهل، وإن كان الولي
جاهلا ففيه وجهان، سواء علم القاضي أو جهل بناء على القولين في إطعام الطعام
فإن قلنا إن ضمانه على الطاعم فالضمان ههنا على الولي، وإن قلنا على المطعم كان
الضمان هاهنا على الحاكم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان القصاص في الطرف فالمستحب أن لا يستوفى الا بعد
استقرار الجناية بالاندمال أو بالسراية إلى النفس. لما روى عمرو بن دينار عن
محمد بن طلحة قال " طعن رجل رجلا بقرن في رجله، فجاء النبي صلى الله عليه
وسلم فقال أقدني، فقال دعه حتى يبرأ، فأعادها عليه مرتين أو ثلاثا، والنبي
صلى الله عليه وسلم يقول حتى يبرأ، فأبى فأقاده منه، ثم عرج المستقيد فجاء النبي
صلى الله عليه وسلم فقال برئ صاحبي وعرجت رجلي، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم لاحق لك " فذلك حين نهى أن يستقيد أحد من جرح حتى يبرأ صاحبه،
فإن استوفى قبل الاندمال جاز للخبر. وهل يجوز أخذ الأرش قبل الاندمال؟
فيه قولان:
(أحدهما) يجوز كما يجوز استيفاء القصاص قبل الاندمال
(والثاني) لا يجوز لان الأرش لا يستقر قبل الاندمال، لأنه قد يسرى
إلى النفس ويدخل في دية النفس، وقد يشاركه غيره في الجناية فينقص بخلاف
القصاص، فإنه لا يسقط بالسراية ولا تؤثر فيه المشاركة، فإذا قلنا يجوز ففي
القدر الذي يجوز أخذه وجهان
(أحدهما) يجوز أخذه بالغا ما بلغ لأنه قد وجب في الظاهر فجاز أخذه.
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق انه يأخذ أقل الأمرين من أرش الجناية أو دية
النفس، لان ما زاد على دية النفس لا يتيقن استقراره، لأنه ربما سقط، فعلى
هذا ان قطع يديه ورجليه وجب في الظاهريتان وربما سرت الجناية إلى النفس
فرجع إلى دية فيأخذ دية، فإن سرت الجناية إلى النفس فقد أخذ حقه، وان
اندملت أخذ دية أخرى.
455

(فصل) وان قلع سن صغير لم يثغر أو سن كبير قد أثغر، وقال أهل
الخبرة أنه يرجى أن ينبت إلى مدة لم يقتص منه قبل الإياس من بناته، لأنه
لا يتحقق الاتلاف فيه قبل الإياس كما لا يتحقق إتلاف الشعر قبل الإياس من نباته فان
مات قبل الإياس لم يجب القصاص، لأنه لم يتحقق الاتلاف فلم يقتص مع الشك
(الشرح) حديث عمرو بن دينار عن محمد بن طلحة أخرجه الشافعي والبيهقي
في السنن الكبرى هكذا مرسلا، ومحمد بن طلحة ثقة محتج به ولا عبرة بقول
النسائي " ليس بالقوى " أو قول بن معنى: ثلاثة يتقى حديثهم محمد بن طلحة الخ
ذلك لأنه صدوق مشهور محتج به في الصحيحين
وقال أبو زرعة " صدوق " على أن هذا الخبر قد ورد متصلا ومرسلا من
طرق بعضها بلفظ المصنف وبعضها بمعناه، فعند أحمد والدارقطني عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده " أن رجلا طعن رجلا بقرن في ركبته فجاء إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال أقدني، فقال حتى تبرأ، ثم جاء إليه فقال أقدني فأقاده
ثم جاء إليه فقال يا رسول الله عرجت؟ قال قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل
عرجك، ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى
يبرأ صاحبه "
وروى الدارقطني عن جابر " أن رجلا جرح فأراد أن يستقيد فنهى النبي
صلى الله عليه وسلم أن يستقاد من الجارح حتى يبرأ المجروح " وأخرجه أبو بكر
ابن أبي شيبة عن ابن علية عن عمرو بن دينار عن جابر، وأخرجه عثمان بن أبي
شيبة بهذا الاسناد.
وقال الدارقطني: أخطأ فيه ابنا أبى شيبة وخالفهما أحمد بن حنبل وغيره،
فرووه عن ابن علية عن أيوب عن عمرو مرسلا. وكذلك قال أصحاب عمرو بن
دينار عنه وهو المحفوظ، يعنى المرسل، وأخرجه أيضا البيهقي من حديث جابر
مرسلا بإسناد آخر وقال تفرد به عبد الله الأموي عن ابن جريح وعنه يعقوب
ابن حميد، وأخرجه أيضا من وجه آخر عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
456

" تقاس الجراحات ثم يتأتى بها سنة ثم يقضى فيها بقدر ما انتهت إليه " وفي إسناده
ابن لهيعة. وكذا رواه جماعة من الضعفاء عن أبي الزبير
وقد استدل بهذه الأحاديث القائلون بوجوب الانتظار إلى أن يبرأ الجرح
ويندمل ثم يقتص المجروح بعد ذلك، وبه قال أبو حنيفة ومالك والمذهب عندنا
أنه مندوب إليه فقط
دليلنا حديث محمد بن طلحة الذي سقنا طرقة آنفا، وهو يدل بمفهومه من
تمكينه صلى الله عليه وسلم الرجل المطعون بالقرن قبل البرء.
واستدل القائلون بالوجوب بحديث " اصبروا حتى يسفر الجرح " عندما
طعن رجل حسان بن ثابت فاجتمعت الأنصار ليأخذ لهم النبي صلى الله عليه وسلم
القصاص، فقال انتظروا حتى يبرأ صاحبكم ثم أقتص لكم، فبرئ حسان ثم عفا
قال العلامة الشوكاني: وهذا الحديث إن صح فحديث عمرو بن شعيب قرينة
لصرفه عن معناه الحقيقي إلى معناه المجازي، كما أنه قرينة لصرف النهى المذكور
في حديث جابر إلى الكراهة.
وأما ما قيل من أن ظهور مفسدة التعجيل للنبي صلى الله عليه وسلم قرينة أن
أمره الأنصار بالانتظار للوجوب، لان دفع المفاسد واجب، كما قال في ضوء
النهار، فيجاب عنه بأن محل الحجة هو إذنه صلى الله عليه وسلم بالاقتصاص قبل
الاندمال، وهو لا يأذن إلا بما كان جائزا، وظهور المفسدة غير قادح في الجواز
المذكور، وليس ظاهرها بكلي ولا أكثري حتى تكون معلومة عند الاقتصاص
قبل الاندمال، لان لفظ " ثم " يقتضى الترتيب، فيكون النهى الواقع بعدها
ناسخا للاذن الواقع قبلها اه.
إذا ثبت هذا فإنه إذا قطع طرفه وأراد المجني عليه أن يقتص فالمستحب له
أن لا يقتص حتى تستقر الجناية بالاندمال أو السراية إلى النفس، فإن عفا عن
القود وطلب الأرش قبل الاستقرار فهل يعطى الأرش؟ فيه قولان. أحدهما
يعطى كما يجوز له استيفاء القصاص. والثاني لا يعطى لان الأرش لا يستقر قبل
الاندمال لأنه ربما سرى إلى النفس فدخل في ديتها أو يشارك غيره في الجناية
فمات من الجميع، فإذا قلنا يعطى قبل الاندمال فكم يعطي؟ فيه وجهان
457

(أحدهما) يعطى أقل الأمرين من أرش الجناية أو دية النفس، لان ما زاد
على دية النفس لا يتيقن استقراره قبل الاندمال
(والثاني) يعطى أرش الجناية بالغا ما بلغ، لأنه قد وجب له في الظاهر،
فإن اقتص المجني عليه قبل الاندمال، ثم سرت الجناية على المجني عليه إلى عضو
آخر واندمل، كانت السراية مضمونة بالدية
وقال أحمد رحمه الله: لا تكون مضمونة لقوله صلى الله عليه وسلم " اذهب
فلا حق لك " ودليلنا أن هذه جناية مضمونة كما لو لم يقتص، والحديث محمول
على أنه أراد صلى الله عليه وسلم لاحق لك في القصاص.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا قتل بالسيف لم يقتص منه الا بالسيف لقوله تعالى " فمن اعتدى
عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما أعتى عليكم " ولان السيف أجرى الآلات، فإذا
قتل به واقتص بغيره أخذ فوق حقه، لان حقه في القتل وقد قتل وعذب،
فإن أحرقه أو غرقه أو رماه بحجر، أو رماه من شاهق أو ضربه بخشب، أو
حبسه ومنعه الطعام والشراب فمات، فللولي أن يقتص بذلك لقوله تعالى " وان
عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " ولما روى البراء رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه " ولان القصاص موضوع على المماثلة
والمماثلة ممكنة بهذه الأسباب، فجاز أن يستوفى بها القصاص، وله أن يقتص منه
بالسيف، لأنه قد وجب له القتل والتعذيب، فإذا عدل إلى السيف فقد ترك
بعض حقه فجاز. فإن قتله بالسحر قتل بالسيف، لان عمل السحر محرم فسقط
وبقى القتل فقتل بالسيف.
وان قتله باللواط أو بسقي الخمر ففيه وجهان:
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق أنه ان قتله بسقي الخمر قتله بسقي الماء.
وان قتله باللواط فعل به مثل ما فعله بخشبة، لأنه تعذر مثله حقيقة ففعل به
ما هو أشبه بفعله.
(والثاني) أنه يقتل بالسيف لأنه قتله بما هو محرم في نفسه فاقتص بالسيف
458

كما لو قتله بالسحر، وإن ضرب رجلا بالسيف فمات فضرب بالسيف فلم يمت
كرر عليه الضرب بالسيف، لان قتله مستحق وليس ههنا ما هو أرجى من
السيف فقتل به، وإن قتله بمثقل أو رماه من شاهق أو منعه الطعام والشراب
مدة ففعل به مثل ذلك فلم يمت ففيه قولان
(أحدهما) يكرر عليه ذلك إلى أن يموت كما قلنا في السيف
(والثاني) أنه يقتل بالسيف، لأنه فعل به مثل ما فعل وبقى ازهاق الروح
فوجب بالسيف، وإن جنى عليه جناية يجب فيها القصاص بأن قطع كفه أو
أوضح رأسه فمات فللولي أن يستوفى القصاص بما جنى فيقطع كفه ويوضح رأسه
لقوله تعالى (والجروح قصاص) فإن مات به فقد استوفى حقه، وان لم يمت قتل
بالسيف، لأنه لا يمكن أن يقطع منه عضوا آخر، لأنه يصير قطع عضوين
بعضو وإيضاح موضحتين بموضحة. وان جنى عليه جناية لا يجب فيها القصاص،
كالجائفة وقطع اليد من الساعد فمات منه ففيه قولان
(أحدهما) يقتل بالسيف ولا يقتص منه في الجائفة ولا في قطع اليد من
الساعد، لأنه جناية لا يجب فيها القصاص فلا يستوفى بها القصاص كاللواط
(والثاني) يقتص منه في الجائفة وقطع اليد من الساعد، لأنه جهة يجوز
القتل بها في غير القصاص، فجاز القتل بها في القصاص، كالقطع من المفصل
وحز الرقبة، فإن اقتص بالجائفة أو قطع اليد من الساعد فلم يمت قتل بالسيف
لأنه لا يمكن أن يجاف بجائفة أخرى، ولا أن يقطع منه عضو آخر فتصير
جائفتان بجائفة، وقطع عضوين بعضو
(الشرح) حديث البراء بن عازب ذكره الحافظ في تلخيص الحبير في كتاب
الجراح من باب ما جاء في التشديد في القتل الحديث 1631 " من حرق حرقناه
ومن غرق أغرقناه " هكذا بالهمز في المضارع وقال أخرجه البيهقي في المعرفة من
حديث عمران بن نوفل بن زيد بن البراء عن أبيه عن جده، وقال في الاسناد:
بعض من يجهل، وإنما قاله زياد في خطبته أه
وقال في الدراية في تخريج أحاديث الهداية: حديث من غرق غرقناه.
459

البيهقي من رواية عمران بن يزيد بن البراء عن أبيه عن جده بهذا وفيه: من حرق
حرقناه ومن عرض عرضنا له. وفي إسناده من لا يعرف اه
(قلت) وقد رجعت إلى كتب الرجال فلم أجد ذكرا لعمران بن نوفل، ولا
نوفل بن زيد ولا زيد بن البراء، ثم عدت إلى الرواية الأخرى التي ذكرها في
الدراية فلم أجد إلا ذكر عمران بن يزيد موصوفا بالجهالة، أما يزيد بن البراء
فقد قال في التقريب " صدوق من الثالثة "
أما الأحكام فإنه إذا قتل بالسيف لم يقتص منه إلا بالسيف لقوله تعالى " فمن
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " ولأنه أوحى الآلات، وإن
حرقه أو غرقه أو رماه بحجر أو من شاهق فمات أو ضربه بخشبة أو حبسه ومنعه
الطعام والشراب حتى مات، فللولي أن يقتص منه بهذه الأشياء، وبه قال مالك
وأما أبو حنيفة فإنه يقول: هذه الجنايات لا توجب القصاص إلا التحريق بالنار
فإنه يوجب القصاص، ولكن لا يجوز أن يقتص منه إلا بالسيف، دليلنا قوله
تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " ولحديث " أن يهوديا
رض رأس جارية من الأنصار بين حجرين فوجدت وبها رمق، فقيل من فعل
بك هذا؟ فلان؟ فأومأت أن لا إلى أن سئلت عن اليهودي فأومأت برأسها أي
نعم، فأخذوا اليهودي فأعترف، فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرضخ رأسه
بين حجرين " ولأنها آلة يجوز بها قتل المشركين فجاز استيفاء القصاص بها كالسيف
وللولي أن يقتله بالسيف لأنه أوحى وأروح من التعذيب
أما إذا قتله بالسحر فإنه يقتله بالسيف لان السحر ليس سلاحا في الاسلام
لقتال المشركين، وليس آلة للقصاص وليس له مثل
أما إذا قتله باللواط فهل يجب فيه القصاص؟ فيه وجهان حكاهما أصحابنا
الخراسانيون (أحدهما) لا يجب فيه القصاص، لان المقصود به طلب اللذة فكان
عمد خطأ (والثاني) وهو قول البغداديين - وهو الأصح - أنه يجب به القصاص
لأنه قتله بما يقتل مثله غالبا فوجب عليه القصاص، كما لو قتله بالسيف. فعلى هذا
في كيفية استيفاء القصاص منه وجهان
(أحدهما) يقتل بسيف لان اللواط محرم فقتل بالسيف كالسحر
460

(والثاني) يعمل به مثل ما عمل بخشبة إلى أن يموت، لأنه أقرب إلى ما فعله.
وإن قتله بشرب الخمر وجب عليه القصاص، وكيف يستوفى منه القصاص؟
فيه وجهان (أحدهما) يقتل بالسيف لان الخمر محرم فهو كالسحر (والثاني) يقتل
بشرب الماء لأنه أقرب إلى فعله.
فأما حديث " لا قود إلا بالسيف " فقال أحمد ليس أسناده بجيد، هكذا نقله
ابن قدامة في المغنى.
إذا ثبت هذا فإنه إذا ضربه بالسيف فلم يمت فإنه يوالي عليه الضرب إلى أن
يموت لأنه أوحى الآلات، وان فعل به مثل ما فعل به من الضرب بالمثقل
والرمي من شاهق أو منعه من الطعام والشراب مثل الذي منعه فلم يمت ففيه
قولان (أحدهما) يكرر عليه ذلك إلى أن يموت، كما قلنا في السيف
(والثاني) لا يكرر عليه ذلك بل يقتله بالسيف لأنه قد فعل به مثل ما فعل
به: ولم يبق إلا إزهاق الروح فوجب بالسيف، وإن جنى عليه جناية يجب فيها
القصاص بأن أوضح رأسه أو قطع يده أو رجله من المفصل فمات فللمجني عليه
أن يوضح رأسه ويقطع يده.
وقال أبو حنيفة. ليس له قطع الطرف، وهو إحدى الروايتين عن أحمد،
لان ذلك يفضى إلى الزيادة على ما جناه الأول، والقصاص يعتمد المماثلة، فمتى
خيف فيه الزيادة سقط، كما لو قطع يده من نصف الذراع والرواية الثانية عن
أحمد يجب القصاص في الطرف فإن مات به والا ضربت عنقه
(قلت) هذا هو مذهبنا لأنه ليس بزيادة لان فوات النفس بسراية فعله
وسراية فعله كفعله، فأشبه ما لو قطعه ثم قتله، ولان زيادة الفعل في الصورة
محتمل في الاستيفاء، كما لو قتله بضربة فلم يمكن قتله في الاستيفاء إلا بضربتين،
فإن جنى عليه جناية مثل أن هشم رأسه أو أجافه أو قطع يده من بعض الساعد
أو العقد فمات ففيه قولان
(أحدهما) لا يجوز له الاقتصاص بهذه الجنايات بل يقتله بالسيف لما روى
العباس بن عبد المطلب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس في المنقلة قصاص "
ولأنها جناية لا يجب بها القصاص إذا لم تسر إلى النفس، فلم يجب بها القصاص
461

وإن سرت إلى النفس كاللواط (والثاني) يجوز له الاقتصاص به لقوله تعالى " فمن
اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم " ولقوله تعالى " والجروح
قصاص " ولأنها جراحة يجوز لها قتل المشرك فجاز استيفاء القصاص بها كالقتل
بالسيف، فعلى هذا إذا فعل به مثل ما فعل به فلم يمت قتله بالسيف لأنه قد فعل
به مثل ما فعل به، ولم يبق إلا إزهاق الروح فكان بالسيف
(فرع) إذا أوضحه بالضرب بالسيف أو بالرمي بالحجر لم يوضحه بضرب
السيف ولا بالرمي بالحجر، بل يوضحه بحديدة ماضية بعد أن يضبط الجاني،
لأنه يستوفى منه أكثر مما جناه.
(مسألة) إذا جنى عليه جناية ذهب بها ضوء العين نظرت فإن كانت جناية
لا يجب فيه القصاص كالهاشمة والمنقلة لم يقتص منه بالهاشمة والمنقلة لأنه لا يجب
فيها القصاص، ولكن يذهب ضوء العين بكافور يطرح في العين أو بأدناء حديدة
حامية إليها، لان ذلك أسهل ما يمكن، ولا يقلع الحدقة لأنه لم يقلع حدقته،
وإن كانت جناية يجب فيها القصاص كالموضحة اقتص منه في الموضحة، فإن ذهب
ضوء العين فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب الضوء عولج الضوء بما يذهبه
بالكافور أو بإدناء الحديدة الحامية من العين على ما مضى
وإن لطمه فأذهب ضوء عينيه فهل له أن يلطمه؟ اختلف أصحابنا فيها فقال
الشيخ الإمام أبو إسحاق الأسفراييني (1) ليس له أن يلطمه، وإنما يعالج إذهاب
الضوء بما ذكرناه لما روى يحيى بن جعدة أن أعرابيا قدم بجلوبة (وهو ما يحلب
للبيع من بعيد وضبطها بعض الفقهاء بحلوبة) له إلى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان
فنازعه فلطمه فقأ عينه، فقال له عثمان هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو؟
فأبى فرفعهما إلى علي فقضى بما حكاه المصنف. وقد كانت المرايا تصنع من الحديد
المصقول يتراءى فيه الانسان وجهه، ولان اللطم لا يمكن اعتبار المماثلة فيه.

(1) إذا قال النووي (الامام) وأطلق انصرف إلى امام الحرمين أبي المعالي
الجويني، وإذا قال الشيخ أبو إسحاق؟ الشيرازي (الامام أو الشيخ الامام) وأطلق
انصرف ذلك إلى الشيخ أبي إسحاق الأسفرايني
462

ولهذا لو انفرد بإذهاب الضوء لم يجب فيه القصاص وقال الشيخ أبو حامد:
يلطمه كما لطمه، وهو المنصوص في الأم، فإن ذهب ضوء عينه فقد استوفى حقه
وان لم يذهب الضوء عولج بما يذهب الضوء لقوله تعالى " فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم "
قال الشافعي فإن لطمه الجاني فأذهب ضوء عينه وابيضت عينه وشخصت،
يعنى ارتفعت، فإنه يلطمه مثله. فإن أذهب ضوء عينه فابيضت وشخصت فقد
استوفى حقه، وان لم تبيض ولم يشخص - فإن أمكن معالجة العين حتى يبيض
ويشخص - فعل، وان لم يمكن فلا شئ عليه، لان الجناية إنما هي ذهاب
العين. فأما البياض والشخوص فإنما هو شين، والشين لا يوجب شيئا، كما لو
شجه موضحة فاقتص منه مثلها ثم برئ - أي المجني عليه - وبقى عليه شين
وبرئ رأس الشاج ولا شين عليه، فإنه لا يجب له شئ فكذلك هذا مثله.
وان قلع عينه بأصبعه - فإن قلع المجني عليه عينه بحديدة جاز - لأنه أوحى
وأن أراد أن يقلع عينه بأصبعه ففيه وجهان
(أحدهما) له ذلك لقوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل
ما اعتدى عليكم "
(والثاني) ليس له ذلك لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان أوضح رأسه بالسيف اقتص منه بحديدة ماضية كالموسى
ونحوه، ولا يقتص منه بالسيف لأنه لا يؤمن أن يهشم العظم.
(فصل) وان جنى عليه جناية ذهب منها ضوء عينيه نظرت - فإن كانت
جناية لا يجب فيها القصاص كالهاشمة - عولج بما يزيل ضوء العين من كافور
يطرح في العين أو حديدة حامية تقرب منها، لأنه تعذر استيفاء القصاص فيه
بالهاشمة ولا يقلع الحدقة لأنه قصاص في غير محله الجناية فعدل إلى أسهل ما يمكن
كما قلنا في القتل باللواط. وإن كانت جناية يمكن فيها القصاص كالموضحة اقتص منه
463

فإن ذهب الضوء فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب عولج بما يزيل الضوء على
ما ذكرناه في الهاشمة، وإن لطمه فذهب الضوء فقد قال بعض أصحابنا انه يلطم
كما لطم فإن ذهب الضوء فقد استوفى حقه، وإن لم يذهب عولج على ما ذكرناه.
وقال الشيخ الامام: ويحتمل عندي إنه لا يقتص منه باللطمة بل يعالج بما يذهب
الضوء على ما ذكرناه في الهاشمة. والدليل عليه ما روى يحيى بن جعدة أن أعرابيا
قدم بحلوبة له إلى المدينة فساومه فيها مولى لعثمان بن عفان رضي الله عنه، فنازعه
فلطمه ففقأ عينه، فقال له عثمان هل لك أن أضعف لك الدية وتعفو عنه؟ فأبى
فرفعهما إلى علي، فدعا علي رضي الله عنه بمرآة فأحماها ثم وضع القطن على عينه
الأخرى، ثم أخذ المرآة بكلبتين فأدناها من عينه حتى سال إنسان عينه " ولان
اللطم لا يمكن اعتبار المماثلة فيه، ولهذا لو أنفرد من إذهاب الضوء لم يجب فيه
القصاص، فلا يستوفى به القصاص في الضوء كالهاشمة.
وإن قلع عين رجل بالإصبع فأراد المجني عليه أن يقتص بالإصبع ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يجوز لأنه يأتي على ما تأتى عليه الحديدة مع المماثلة (والثاني) لا يجوز
لان الحديد أرجى فلا يجوز بغيره
(الشرح) إذا وجب له القصاص بالسيف فإن الحاكم يمكن الولي من ضرب عنق
الجاني، فإن ضرب عنقه بالسيف فأبانه فقد استوفى حقه، وإن ضربه في غير
العتق، فإن مات فقد استوفى حقه، وإن لم يمت سئل عن ذلك، فإن قال تعمد
ضرب ذلك الموضع عزره الحاكم لقوله تعالى " فلا يسرف في القتل إنه كان
منصورا " معناه لا يمثل به في القتل، وقيل معناه لا يقتل غير قاتله ويؤمر أن
يوكل من يقتص له ولا يلزمه ضمان، لان له إتلاف جملته.
" إن قال أخطأت - فإن ضرب موضعا يجوز أن يخطئ في مثله، مثل أن
يصاب الكتف وما يلي الرأس من العتق فالقول قوله مع يمينه، لان ما يدعيه
ممكن ولا تعزير عليه، وإن أصاب موضعا لا يجوز أن يخطئ في مثله، مثل أن
ضرب وسط رأسه وظهره أو رجله لم يقبل قوله، لأنه خلاف الظاهر ويعزر
464

ولا يضمن أيضا. فان قال لا أحسن الاقتصاص أمرنا بالتوكيل. وان قال أنا
أحسن وطلب أن يقتص بنفسه فقد قال الشافعي رضي الله عنه في موضع ليس
له ذلك ويؤمر بالتوكيل. وقال في موضع يمكن نائبا من الاقتصاص، فاختلف
أصحابنا فيه، فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما لا يمكن لأنه لا يؤمن مثل ذلك
منه، والثاني يمكن لأن الظاهر أنه لا يعود إلى مثله، ومنهم من قال ليست على
قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فحيث قال يؤمر بالتوكيل أراد إذا كان
لا يحسن ولا يوجد منه قبل ذلك، وحيث قال يمكن أراد به إذا علم منه أنه
يحسن الاستيفاء.
(فرع) وان وجب له القصاص في أنملة فاقتص في أنملتين - فإن كان
عامدا - وجب عليه القصاص، وإن كان مخطئا وجب عليه الأرش دون القود
وان استوفى أكثر من حقه باضطراب الجاني لم يلزم المقص شئ، لأنه حصل
بفعل الجاني فهدر.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان وجب له القصاص بالسيف فضربه فأصاب غير الموضع
وادعى أنه أخطأ - فإن كان يجوز في مثله الخطأ - فالقول قوله مع يمينه،
لان ما يدعيه محتمل. وإن كان لا يجوز في مثله الخطأ لم يقبل قوله ولا يسمع
فيه يمينه، لأنه لا يحتمل ما يدعيه، وان أراد أن يعود ويقتص فقد قال في
موضع لا يمكن، وقال في موضع يمكن.
ومن أصحابنا من قال هما قولان (أحدهما) لا يمكن لأنه لا يؤمن مثله في
الثاني (والثاني) أنه يمكن لان الحق له، والظاهر أنه لا يعود إلى مثله. ومن
أصحابنا من قال إن كان يحسن مكن لأن الظاهر أنه لا يعود إلى مثله، وان لم
يحسن لم يمكن لأنه لا يؤمن أن يعود إلى مثله، وحمل القولين على هذين الحالين
وان وجب له القصاص في موضحة فاستوفى أكثر من حقه أو وجب له القصاص
في أنملة فقطع أنملتين - فإن كان عامدا - وجب عليه القود في الزيادة، وإن كان
خطأ وجب عليه الأرش، كما لو فعل ذلك في غير القصاص، وان استوفى
465

أكثر من حقه باضطراب الجاني لم يلزمه شئ، لأنه حصل بفعله فهدر.
(فصل) وإن اقتص من الطرف بحديدة مسمومة فمات لم يجب عليه القصاص
لأنه تلف من جائز وغير جائز، ويجب نصف الدية لأنه هلك من مضمون وغير
مضمون، فسقط النصف ووجب النصف
(الشرح) إذا وجب له القصاص في اليمين فقال المقتص للجاني أخرج يمينك
لأقطعها، فأخرج الجاني يساره فقطعها المقتص، نظرت في الجاني - فإن قال
تعمدت إخراج اليسار وعلمت أن قطعها لا يجزئ عن اليمين فلا قود على المقتص
ولادية، سواء علم المقتص أنها اليسار أو لم يعلم، لأنه قطعها ببذل صاحبها فهو
كما لو قال اقطع يدي فقطها، غير أن المقتص إن كان عالما بأنها اليسار عزر لأنه
فعل فعل محرما، وإن لم يعلم لم يعزر، وسواء أذن الجاني في قطعها بالقول أو
قال له المقتص اخرج يمينك لأقطعها فأخرج يساره وهو ساكت ومدها فقطعها
المقتص لأنه بذلها له بإخراجها إليه لا على سبيل العوض، والفعل في ذلك يقوم
مقام النطق، كما لو دفع إلى رجل صرة وقال ارمها في البحر فأخذها ورماها فلا
ضمان عليه: وكذلك لو قال: ادفع إلى صرتك لأرميها في البحر فدفعها إليه وهو
ساكت فرماها فلا ضمان عليه، وكما لو قدم إليه طعاما وقال كله، هو كما لو
استدعى منه الطعام فقدمه إليه فأكله، فإن مات المقطوع يساره من قطعها،
فلا قود على المقتص
وقال ابن الصباغ: ولا يجب عليه دية النفس، وهل تجب الكفارة على
المقطوعة يساره؟ قال المسعودي فيه وجهان بناء على الوجهين فيمن قتل نفسه
وطريقة أصحابنا البغداديين أن من قتل تجب عليه الكفارة وجها واحدا
فعلى هذا يجب عليه الكفارة ها هنا
وإن قال المقتص منه وقع في سمعي أنه قال اخرج يسارك فأخرجتها، أو
سمعت أنه قال اخرج يمينك، ولكن دهشت فأخرجت اليسار وظننتها اليمين،
وأخرجت اليسار عامدا لكن ظننت أن قطعها يجزئ عن اليمين نظرت في
المقتص فإن لم يعلم أنها اليسار فلا قود عليه للشبهة. وهل تجب عليه الدية؟
466

فيه وجهان (أحدهما) لا تجب عليه الدية لأنه قطعها ببذل صاحبها، فهو كما لو
قال اقطع يدي فقطعها (والثاني) تجب عليه الدية، وهو الأصح لان الجاني
بذل لتكون يساره عوضا عن اليمين، فإذا لم يقع عنها وجب له قيمتها، كما لو باع
سلعة بيعا فاسدا وسلمها إلى المشترى وتلفت
وإن كان المقتص عالما بأنها اليسار فهل يجب عليه القود في يساره؟ فيه وجهان
قال أبو حفص بن الوكيل يجب عليه القصاص لأنه قطع يدا غير مستحقة له مع
العلم بتحريمها.
وقال أكثر أصحابنا لا يجب عليه القصاص - وهو الأصح - لأنه قطعها
ببذل صاحبها، ويجب عليه ديته، لان صاحبها بذلها لتكون عوضا عن اليمين
فإذا لم يقع وجب له قيمتها، كما لو باع سلعة فاسدة وقبضها المشترى وتلفت منه.
إذا ثبت هذا فإن باق للمقتص في يمين الجاني لأنه لم يسقط حقه عنها.
قال الشافعي رحمه الله: لا يقتص منه في اليمين حتى يندمل يساره: وقال فيمن
قطع يدي رجل أو رجليه دفعة واحدة أنه تقطع يده به أو رجليه في وقت
واحد، فمن أصحابنا الخراسانيين من جعل المسألتين على قولين، ومنهم من حملهما
على ظاهرهما، ولم يذكر أصحابنا البغداديون غيره، وفرق بينهما بأنه إذا قطع
يد رجل أو رجليه فقد جمع عليه بين ألمين فجاز له أن يجمع عليه بينهما.
وها هنا الجاني لم يجمع عليه بين ألمين فلا يجوز له أن يجمع عليه بينهما
فإن قيل: أليس لو قطع يمين ويسار آخر يؤخذ القصاص عليه في إحداهما
إلى اندمال الأخرى
قلنا الفرق بينهما أن القطعين مستحقان قصاصا فلهذا جمعنا بينهما، وهاهنا
أحدهما غير مستحق عليه فلم يجمع بينهما، وإن سرى قطع اليسار إلى نفس الجاني
في الموضع الذي قال ظننتها اليمين وظننت أن قطعها يجزى عن اليمين.
قال ابن الصباغ فإنه يجب على المقتص دية كاملة، وقد تعذر عليه القصاص
في اليمين فجيب دية يده فيقاص بها مما عليه
قال: وحكى عن الشيخ أبى حامد أنه قال: عندي أنه استوفى حقه من اليمين
بتلفه، كما لو كان قصاص في اليد فقطعها ثم قتله
467

ووجه الأول أن حقه في قطع اليد ولم يحصل، وإنما قتله فقد ضمنها مع
النفس بالدية.
قال ابن الصباغ ويلزمه أن يقول فيه: إذا بذلها مع العلم بها وسرت أيضا،
أن يكون مستوفيا لليمين، لان البدل فيما استحق إتلافه لا يمنع استيفاء الحق،
وإنما تكون سرايتها هدرا فيما لا يستحقه
(مسألة) إذا اختلفا فقال المقتص: بذلت اليسار وأنت عالم بأنها اليسار
وأنه لا يجزئ قطعها عن اليمين، وقال الجاني بذلتها ولم أعلم أنها اليسار أو لم أعلم
أن قطعها لا يجزئ عن اليمين فالقول قول الجاني مع يمينه لأنه أعلم بنفسه، وإن
حلف كان الحكم فيه حكم ما لو صادقه المقتص على أنه بذلها ولم يعلم أنه اليمين:
وإن نكل الجاني حلف المقتص وكان الحكم فيه حكم ما لو أقر الجاني انه بذلها مع
علمه أنها اليسار وأنه لا يجزى قطعها عن اليمين، فإذا وجب له القصاص في اليمين
فأنفقا على أن يقتص منه باليسار بدلا عنها لم يقع عن اليمين، لان ما لا يجوز
قطعه بالشرع لا يجوز بالتراضي، كما لو قتل غير القاتل برضاه ولا قصاص على
المقتص لأنه قطعها ببذل صاحبها ويجب عليه دية اليسار فإن كان عالمين بأن
ذلك لا يجوز أثما، وإن كانا جاهلين لم يأثما، وإن كان أحدهما عالما والاخر
جاهلا أثم العالم منهما. وهل يسقط حق المقتص من القصاص في اليمين؟
فيه وجهان:
(أحدهما) يسقط لأنه لما رضى يأخذ اليسار عن اليمين صار ذلك عفوا منه
عن اليمين. فعلى هذا يجب دية يد وله دية يد فيتقاصان إن استويا، وان
تفاضلا بأن كان أحدهما رجلا والاخر امرأة، أو كان المقتص مسلما والجاني
كافرا رجع من له الفضل بماله من الفضل
(والثاني) لا يسقط حقه من القصاص في اليمين، لأنه إنما رضى باسقاط
حقه من القصاص بأن يكون اليسار بدل اليمين، فإذا لم يصح أن يكون بدلا عنها
كان حقه باقيا في المبدل كما لو صالح على الانكار: فعلى هذا ليس له أن يقتص في
اليمين إلا بعد اندمال اليسار، قال ابن الصباغ: والأول أصح لان غرضه قد
حصل له وهو القطع.
468

(فرع) إذا كان المقتص منه مجنونا والمقتص عاقلا فقال له: أخرج يمينك
فأخرجها المجنون فقطعها فقد استوفى حقه، لان المقتص من أهل الاستيفاء،
وإن كان المقتص منه ليس من أهل البذل والاعتبار بالمقتص، فان قال المقتص
أخرج يمينك فأخرج المجنون يساره فقطعها المقتص - فإن كان المقتص عالما أنها
اليسار - وجب عليه القصاص في اليمين، وإن كان المتقص غير عالم بأنها اليسار
لم يجب عليه القصاص في اليسار للشبهة ولكن عليه دية اليسار، لان بذل
المجنون لا يصح، وله القصاص في اليمين فلا يقطعها حتى تندمل يساره، وإن كان
المقتص منه عاقلا والمقتص مجنونا، فقال له المجنون أخرج يمينك لأقطعها
فأخرجها العاقل باختياره فقطعها المجنون لم يصر مستوفيا، لأنه ليس من أهل
الاستيفاء ولا ضمان عليه لأنه قطعها ببذل صاحبها ووجب للمجنون على العاقل
دية يمينه لان يمينه قد زالت.
وإن أخرج إليه العاقل يساره فقطعها المجنون هدرت اليسار وكان حق المجنون
باقيا في القصاص في اليمين.
وأما إذا أكرهه المجنون فقطع يمينه فهل يصير مستوفيا لحقه؟ فيه وجهان
مضى ذكرهما في الصبي الصحيح، لأنه لا يصير مستوفيا، فان قلنا إنه يصير
مستوفيا فلا كلام. وان قلنا لا يصير مستوفيا كان للمجنون دية يده على الجاني
ووجب للجاني دية يده
فان قلنا إن عمد المجنون عمد وجبت الدية في ماله، وان قلنا أن عمده خطأ
وجبت على عاقلته، وإن كان المتقص والمقتص منه مجنونين وكان القصاص في
اليمين فقطع المقتص يمين المقتص منه فهل يصير مستوفيا لحقه؟ على الوجهين،
سواء قطعها ببذل المقتص منه أو أكرهه، لان بذله لا يصح، فان قلنا يصير
مستوفيا فلا كلام. وإن قلنا لا يصير مستوفيا وجب للمقتص دية يده في ماله
الجاني، ويجب للجاني دية يده
فان قلنا إن عمد المجنون عمد وجبت في ماله، وان قلنا إن عمده خطأ وجبت
على عاقلته. وان قطع المقتص يسار الجاني وجب ضمانها بالدية، سواء قطعها
469

ببذل صاحبها أو بغير بذله لأنه لا يصح بذلك: وفي محل وجوبها القولان في
جنايته هل هي عمد أو خطأ؟ ويبقى للمقتص القصاص في اليمين ولا يقتص من
الجاني حتى تندمل يساره
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا وجب القصاص في يمينه فقال، أخرج يمينك فأخرج
اليسار من كم اليمين فقطعها، فإن قال تعمدت إخراج اليسار وعلمت أنه لا يجوز
قطعها عن اليمين لم يجب على القاطع ضمان، لأنه قطعها ببذله ورضاه. وإن قال
ظننتها اليمين أو ظننت أنه يجوز قطعها عن اليمين نظرت في المستوفى، فإن جهل أنها
اليسار لم يجب عليه القصاص لأنه موضع شبهة، وهل يجب عليه الدية؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا تجب عليه لأنه قطعها ببذل صاحبها.
(والثاني) يجب وهو المذهب، لأنه بذل على أن يكون عوضا عن اليمين،
فإذا لم يصح العوض وتلف المعوض وجب له بدله، كما لو اشترى سعلة بعوض
فاسد وتلفت عنده، فإن علم أنه اليسار وجب عليه ضمانه، وفيما يضمن وجهان
(أحدهما) وهو قول أبى حفص بن الوكيل أنه يضمن بالقود لأنه تعمد
قطع يد محرمة.
(والثاني) وهو المذهب أنه لا يجب القود، لأنه قطعها ببذل الجاني ورضاه
وتلزمه الدية لأنه قطع يدا لا يستحقها مع العلم به، فإن وجب له القود في اليمين
فصالحه على اليسار لم يصح الصلح، لان الدماء لا تستباح بالعوض، وهل يسقط
القصاص في اليمين؟ فيه وجهان
(أحدهما) يسقط لان عدو له إلى اليسار رضا بترك القصاص في اليمين.
(والثاني) أنه لا يسقط لأنه أخذ اليسار على أن يكون بدلا عن اليمين ولم
يسلم البدل فبقي حقه في المبدل. فإذا قلنا لا يسقط القصاص فله على المقتص دية
اليسار، وللمقتص عليه القصاص في اليمين. وان قلنا إنه يسقط القصاص فله
دية اليمين وعليه دية اليسار
وإن كان القصاص على مجنون فقال له المجني عليه أخرج يمينك فأخرج يساره
470

فقطعها وجب عليه القصاص إن كان عالما أو الدية إن كان جاهلا، لان بذل
المجنون لا يصح فصار كما لو بدأ بقطعه
(الشرح) إذا قطع رجل يد رجل فاقتص المجني عليه من الجاني فاندملت يد
المجني عليه ومات الجاني هدر دمه. وبه قال الحسن وابن سيرين ومالك وأحمد
وإسحاق وابن المنذر وأبو يوسف ومحمد. وقال عطاء وطاوس والزهري وأبو حنيفة
يكون على المجني عليه دية كاملة
دليلنا ما روى عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: من مات من حد
أو قصاص فلا دية له (1) ولا مخالف لهما في الصحابة رضي الله عنهم. ويثبت أنه
إجماع، ولأنه جرح مباح غير مجتهد فيه فلم تكن سرايته مضمونة كالقطع في
السرقة، فقول المباح احتراز من القطع بغير حق
وقولنا " غير مجتهد فيه " احتراز من المولى عليه إذا كانت به أكلة أو سعلة
فاجتهد الامام في قطعها فقطعها فمات منه
وان قلنا يد رجل فقطع المجني عليه يد الجاني ثم سرى القطع إلى نفس المجني
عليه كانت السراية إلى نفس الجاني قصاصا، لان السراية في النفس لما كانت
كالجناية في إيجاب القصاص كانت الجناية في استيفاء القصاص، فإن كانت بحالها
إلا أن الجاني مات من القطع أولا ثم مات المجني عليه بعده من القطع ففيه وجهان
(أحدهما) أن السراية إلى نفس الجاني تكون قصاصا لان نفسه خرجت مخرج
القصاص فكانت قصاصا، كما لو مات المجني عليه ثم مات الجاني (والثاني) أن
السراية إلى نفس الجاني لا تكون قصاصا، وهو الأصح لان السراية سبقت وجوب
القصاص فلم يقع قصاصا، وإنما تكون السراية هدرا، فعلى هذا يجب للمجني عليه
في مال الجاني نصف الدية، لأنه قد أخذ يدا بنصف الدية. وإن كانت الدية
موضحة أخذ منه تسعة أعشار الدية ونصف عشرها لأنه أخذ منه ما يساوى
نصف عشر الدية.

(1) رواه سعيد بن منصور
471

(مسألة) قوله من وجب عليه قتل بكفر أو ردة الخ، فجملة ذلك أنه إذا
وجب عليه قتل بقصاص أو كفر أو زنا أو التجأ إلى الحرم قتل ولم يمنع الحرم
منه. وقال أبو حنيفة. لا يستوفى منه القصاص ولا الرجم في الحرم، ولكن
لا يباع ولا يشترى ولا يكلم حتى يخرج من الحرم ويستوفى منه القصاص والحد
دليلنا قوله تعالى " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس " ولم يفرق، وقوله تعالى
" فاقتلوهم حيث ثقفتموهم " وهذا عام لأنه قتل لا يوجب الحرم ضمانه فلم يمنع
منه كقتل الحية والعقرب فيه احتراز من قتل الصيد
(فرع) إذا قتل رجل رجلا عمدا فمات القاتل قبل أن يقتص منه ولى المقتول أو
قتله رجل غير ولى المقتول وجبت دية المقتول في مال القاتل، وبه قال أحمد.
وقال أبو حنيفة يسقط حقه، دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " فمن قتل بعده قتيلا
فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية "
وقوله " بين خيرتين " أي شيئين إذا تعذر أحدهما تعين له الآخر، كما قلنا في
كفارة اليمين. وان وجب له القصاص في طرف فزال الطرف قبل استيفاء
القصاص كان له أرش الطرف في مال الجاني لما ذكرناه في النفس والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب العفو عن القصاص)
ومن وجب عليه القصاص وهو جائز التصرف فله أن يقتص وله أن يعفو
على المال، لما روى أبو شريح الكعبي " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثم أنتم
يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل بعده قتيلا
فأهله بين خيرتين، ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية " فإن عفا مطلقا بنينا
على ما يجب بقتل العمد. وفيه قولان
(أحدهما) أن موجب قتل العمد القصاص وحده، لا تجب الدية الا
بالاختيار. والدليل عليه قوله عز وجل " كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر
بالحر والعبد بالعبد " ولان ما ضمن بالبدل في حق الآدمي ضمن ببدل معين كالمال
472

والقول الثاني أن موجبه أحد الامرين من القصاص أو الدية. والدليل عليه
أن له أن يختار ما شاء منهما، فكان الواجب أحدهما كالهدى والطعام في جزاء
الصيد، فإذا قلنا إن الواجب هو القصاص وحده فعفا عن القصاص مطلقا سقط
القصاص ولم تجب الدية، لأنه لا يجب له غير القصاص وقد أسقطه بالعفو،
وإن قلنا إنه يجب أحد الامرين فعفا عن القصاص وجبت الدية، لان الواجب
أحدهما، فإذا ترك أحدهما وجب الآخر، وإن أختار الدية سقط القصاص
وثبت المال ولم يكن له أن يرجع إلى القصاص وإن قال اخترت القصاص فهل له
أن يرجع إلى الدية؟ فيه وجهان
(أحدهما) له يرجع لان القصاص أعلى، فجاز أن ينتقل عنه إلى الأدنى
(والثاني) ليس له أن يرجع إلى الدية لأنه تركها فلم يرجع إليها كالقصاص، فإن
جنى عبد على رجل جناية توجب القصاص فاشتراه بأرش الجناية سقط القصاص
لان عدوله إلى الشراء اختيار للمال. وهل يصح الشراء؟ ينظر فيه، فإن كانا
لا يعرفان عدد الإبل وأسنانها لم يصح الشراء لأنه بيع مجهول، فإن كانا يعرفان
العدد والأسنان ففيه قولان
(أحدهما) لا يصح الشراء، لان الجهل بالصفة كالجهل بالعدد والسن،
كما قلنا في السلم.
(والثاني) أنه يصح لأنه مال مستقر في الذمة تصح المطالبة به، فجاز البيع
به كالعوض في القرض
(فصل) فإن كان القصاص لصغير لم يجز للولي أن يعفو عنه على غير مال.
لأنه تصرف لاحظ للصغير فيه، فلا يملكه الولي كهبة ماله، وان أراد أن يعفو
على مال - فإن كان له مال أو له من ينفق عليه - لم يجز العفو لأنه يفوت عليه
القصاص من غير حاجة، وإن لم يكن له مال ولا يمن ينفق عليه ففيه وجهان.
(أحدهما) يجوز العفو على مال لحاجته إلى المال ليحفظ به حياته (والثاني) لا يجوز
وهو المنصوص لأنه يستحق النفقة في بيت المال، ولا حاجة به إلى العفو عن
القصاص، وإن كان المقتول لا وارث له غير المسلمين كان الامر إلى السلطان،
473

فإن رأى القصاص اقتص، وان رأى العفو على مال عفا، لان الحق للمسلمين
فوجب على الامام أن يفعل ما يراه من المصلحة، فإن أراد أن يعفو على غير مال
لم يجز لأنه تصرف لاحظ فيه للمسلمين فلم يملكه
(الشرح) حديث أبي شريح الكعبي مضى تخريجه مع ترجمة راويه آنفا.
أما الأحكام فإنه إذا قتل غيره عمدا وهما متكافئان فما الذي يجب على القاتل؟
فيه قولان (أحدهما) أن الواجب عليه هو القود وحده، وإنما الدية تجب بالعفو
بدلا عنه، وهو قول أبي حنيفة، وهو اختيار القاضي أبى الطيب لقوله تعالى
" كتب عليكم القصاص في القتلى " إلى قوله " فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع
بالمعروف وأداء إليه بإحسان " فموضع الدليل أنه قال " كتب عليكم القصاص "
ولم يذكر الدية فعلم أنها لم تجب بالقتل، وأيضا فإنه قال " فمن عفى له من أخيه
شئ فاتباع بالمعروف " فأمره باتباع الدية إذا عفا عن القود فعلم أن الدية تجب
بالعفو لا بالقتل، ولان ما ضمن بالبدل في حق الآدمي ضمن ببدل معين كالمال
وقولنا ضمن ببدل احتراز من العين المغصوبة إذا كانت باقية، وقولنا في حق
الآدمي احتراز من جزاء الصيد
والقول الثاني: أن الواجب عليه أحد شيئين: القود أو الدية، فإن استفاد
الولي علمنا أن الواجب كان هو القود، وان عفا عن القود على الدية علمنا أن
الواجب كان هو الدية، وهو اختيار الشيخ أبى حامد لقوله صلى الله عليه وسلم
" فمن قتل بعده قيلا فأهله بين خيرتين، ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية
فخيرهم بين القود والدية، فعلم أنهما سواء في الوجوب.
إذا تقرر هذه فقال الولي عفوت عن القود على الدية سقط القود ووجبت
الدية على القولين
وان قال عفوت عن القود والدية سقطا جميعا على القولين، وان قال عفوت
عن القود وأطلق، فإن قلنا إن الواجب بقتل العمد أحد شيئين وجبت الدية
لأنها واجبة لم يعف عنها. وان قلنا الواجب القود وحده، ففيه طريقان، من
أصحابنا من قال فيه قولان. فمنهم من يحكيهما وجهين (أحدهما) لا تجب الدية
474

لأنها لا تجب على هذا إلا باختياره لها ولم يخترها فلم تجب (والثاني) تجب الدية
لئلا تهدر الدماء، والأول أصح، ومنهم من قال لا تجب الدية قولا واحد،
وهو قول أبي إسحاق المروزي والمصنف لما ذكرناه للأول، فإن قال عفوت
عن القود إلى الدية، أو قال عفوت عن القود ولم يقل إلى الدية. وقلنا تجب الدية
ثم أراد أن يطالبه بالقود لم يكن له، لأنه قد سقط، وإن قال عفوت عن الدية.
فإن قلنا إن الواجب هو القصاص وحده لم يصح عفوه، وكان له أن يقتص،
فإن عفى عن القود بعد ذلك أو على الدية أو عفا مطلقا وقلنا تجب الدية بالاطلاق
استحق الدية، لان عفوه الأول عنها كان قبل وجوبها.
فإن قلنا إن الواجب أحد الشيئين - سقطت الدية وتعين حقه في القصاص -
فإن اقتص منه فلا كلام، وإن مات القاتل قبل أن يقتص منه، قال الشافعي
رضي الله عنه له أن يأخذ الدية لأنه لما سقط القود بغير اختياره كان له الرجوع
إلى بدله، وإن كان القاتل حيا وأراد الولي أن يعفو عن القود إلى الدية. قال
الشافعي: ليس له ذلك، لأنه كان له أن يختار الدية فلما لم يخترها وتركها لم يكن
له العود إليها.
وقال أبو إسحاق: له أن يعفو عن القود ويختار الدية لأنه انتقال من البدل
الأغلظ إلى الأخف. وإن اخترت القصاص فهل له أن يرجع ويعفو عنه
إلى الدية؟ فيه وجهان (أحدهما) له أن يرجع إلى الدية لأنه تركها فلم يرجع
إليها كالقصاص.
إذا ثبت هذا فللولي أن يعفو عن القود إلى الدية، سواء رضى القاتل به أو
لم يرض، وبه قال ابن المسيب وعطاء والحسن وأحمد وإسحاق. وقال مالك
وأبو حنيفة: لا يستحق الولي الدية الا برضا القاتل. دليلنا قوله تعالى " كتب
عليكم القصاص في القتلى " إلى قوله " فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف
وأداء بإحسان ذلك تخفيف من ربكم ورحمة "
قيل في التفسير: معناه فمن عفى له، يريد به القاتل من أخيه المقتول شئ
أي على شئ فاتباع بالمعروف، يريد به على مال فاتباع، لأنه كان في شريعة موسى
الذي يجب بالقتل هو القصاص فقط، وفي شريعة عيسى الدية فقط، فجعل الله
475

تعالى لهذه الأمة القود في القتل، وجعل لهم العفو عنه على مال تخفيفا منه ورحمة
ومن الدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (فمن قتل بعد قتيلا فأهله بين خيرتين
ان أحبوا قتلوا وان أحبوا أخذوا الدية) ولم يعتبر رضى القاتل. وروى عن
ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (أولى مخير في ذلك بين القتل والدية) ولا
مخالف له في الصحابة فدل على أنه اجماع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان القصاص لجماعة فعفا بعضهم سقط حق الباقين من القصاص
لما روى زيد بن وهب أن عمر رضي الله عنه أتى برجل قتل رجلا، فجاء ورثة
المقتول ليقتلوه، فقالت أخت المقتول وهي امرأة القاتل قد عفوت عن حقي،
فقال عمر رضي الله عنه عتق من القتل)
وروى قتادة رضي الله عنه (أن عمر رضي الله عنه رفع إليه رجل قتل رجلا
فجاء أولاد المقتول وقد عفا أحدهم، فقال عمر لابن مسعود رضي الله عنهما وهو
إلى جنبه ما تقول؟ فقال إنه قد أحرز من القتل، فضرب على كتفه وقال كنيف
ملئ علما) ولان القصاص مشترك بينهم وهو مما لا يتبعض، ومبناه على الاسقاط
فإذا أسقط بعضهم حقه سرى إلى الباقي كالعتق في نصيب أحد الشريكين وينتقل
حق الباقين إلى الدية لما روى زيد بن وهب قال دخل رجل على امرأته فوجد
عندها رجلا فقتلها، فاستعدى إخوتها عمر، فقال بعض إخوتها قد صدقت بحقي
فقضى لسائرهم بالدية، ولأنه سقط حق من لم يعف عن القصاص بغير رضاه
فثبت له البدل مع وجود المال كما يسقط حق من لم يعتق من الشريكين إلى القيمة
(فصل) وان وكل من له القصاص من يستوفى له ثم عفا وقتل الوكيل
ولم يعلم بالعفو، ففيه قولان
(أحدهما) لا يصح العفو، لأنه عفا في حال لا يقدر الوكيل على تلاقى
ما وكل فيه، فلم يصح العفو، كما لو عفا بعد ما رمى الحربة إلى الجاني
(والثاني) يصح لأنه حق له فلا يفتقر عفوه عنه إلى علم غيره كالابراء من
الدين، ولا يجب القصاص على الوكيل، لأنه قتله وهو جاهل بتحريم القتل.
476

وأما الدية فعلى القولين، إن قلنا إن العفو لا يصح لم تجب الدية، كما لا تجب إذا
عفا عنه بعد القتل، وإن قلنا يصح العفو وجبت الدية على الوكيل، لأنه قتل
محقون الدم ولا يرجع بما غرمه من الدية على الموكل. وخرج أبو العباس قولا
آخر أنه يرجع عليه لأنه غره حين لم يعلمه بالعفو، كما قلنا فيمن وطئ أمة غر
بحريتها في النكاح، وقلنا إن النكاح باطل انه يلزمه المهر ثم يرجع به على من غره
في أحد القولين وهذا خطأ لان الذي غره في النكاح مسئ مفرط فرجع عليه
والموكل ههنا محسن في العفو غير مفرط
(فصل) فإن جنى على رجل جناية فعفا المجني عليه من القصاص فيها ثم سرت
الجناية إلى النفس، فإن كانت الجناية مما يجب فيها القصاص كقطع الكف والقدم
لم يجب القصاص في النفس، لان القصاص لا يتبعض، فإذا سقط في البعض
سقط في الجميع، وإن كانت الجناية مما لا قصاص فيها كالجائفة ونحوها وجب
القصاص في النفس لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه فلم يعمل فيه العفو
(الشرح) خبر زيد بن وهب أخرجه أبو داود في سنته، وخبر عبد الله بن
مسعود وقول عمر له " كنيف ملئ علما. ساقه الذهبي في سير أعلام النبلاء عن
الأعمش عن زيد بن وهب وساق له شاهدا آخر عن معن بن عيسى، حدثنا معاوية
ابن صالح عن أسد بن وداعة أن عمر ذكر ابن مسعود فقال: كيف ملئ علما
آثرت به أهل القادسية.
وقوله " كنيف " تصغير كنف والكنف وعاء من أدم يكون فيه أداة الراعي
وتصغيره للتنظيم كما قالوا دويهية، والأحسن في هذا أنه يعنى الصغر والحقارة
لان ابن مسعود رضي الله عنه كان دميم الخلقة قصيرا. قبل يكاد الجلوس يوارونه
من قصره. هكذا أفاده ابن بطال
أما الأحكام فإذا كان القصاص لجماعة فعفا بعضهم عن القود سقط القود عن
القاتل لقوله صلى الله عليه وسلم " فأهله بين خيرتين " ان أحبوا قتلوا وان أحبوا
أخذوا الدية " وهؤلاء لم يحبوا لان فيهم من لم يحب. وروى أن رجلا قتل
رجلا وأراد ورثة المقتول أن يقتصوا فقالت زوجة القاتل وكانت أخت المقتول
477

قد عفوت عن نصيبي من القود، فقال عمر رضي الله عنه: نجا من القتل،
وكذلك ورى عن ابن مسعود ولا مخالف لهما في الصحابة فدل على أنه اجماع،
ولان القصاص يقع مشتركا لا يتبعض، فإذا سقط بعضه سقط الجميع، وينتقل
حق الباقين إلى الدية، لما أن رجلا دخل على امرأته فوجد معها رجلا فقتلها،
فقال بعض إخوتها قد تصدقت، فقضى عمر لسائرهم بالدية، ولان حقهم سقط
من القصاص بغير اختيارهم فانتقل حقهم إلى البدل مع وجوده كما ينتقل حق الشريك
في العبد إذا أعتقه شريكه إلى القيمة.
(فرع) إذا وجب له القصاص على رجل فرمى إليه بسهم أو بحرية ثم عفا
عنه بعد الرمي وقبل الإصابة لم يصح العفو لأنه لا معنى لهذا العفو كما لو جرحه
ثم عفا عنه، وان وجب له القصاص فقد ذكرنا أنه يجوز له أن يوكل من يستوفى
له القصاص بحضرة الموكل. وهل يصح أن يوكل من يستوفى له القصاص، فيه
ثلاث طرق سبق لنا بيانها في الوكالة، وقلنا الصحيح أنه يصح
قال ابن الصباغ: الا أنا إذا قلنا لا تصح الوكالة فاستوفى الوكيل القصاص
فقد حصل به الاستيفاء، لأنه استوفاه بإذنه كما نقول فيه إذا باع الوكيل في
الوكالة الفاسدة، وإنما يقيد فسادها هاهنا أن الحاكم لا يمكن الوكيل من الاستيفاء
فلو وكل في الاستيفاء ثم عفا الموكل عن القصاص، فإن عفا بعد أن قتله الوكيل
لم يصح عفوه، فإن عفا قبل أن يقتله الوكيل ثم قتله بعد علمه بالعفو
فعلى الوكيل القود، وان لم يعلم هل كان العفو قبل القتل أو بعده؟ فلا شئ على
الوكيل، لان الأصل أن لا عفو، وان عفا الموكل عن القصاص ثم قتله الوكيل
ولم يعلم بالعفو فهل يصح العفو؟ فيه قولان
(أحدهما) لا يصح العفو لأنه عفا في وقت لا يمكن تلافيه فلم يصح، كما لو
عفا بعد رمى الحرية إلى الجاني
(والثاني) يصح لأنه عفا عن قود غير متحتم قبل أن يشرع فيه الوكيل.
فصح كما لو علم الوكيل بالعفو قبل القتل
واختلف أصحابنا في مأخذ القولين، فمنهم من قال أصلهما القولان في الوكيل
هل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل، ولم يذكر ابن الصباغ غيره، ومن أصحابنا
478

الخراسانيين من قال أصلهما إذا رأى رجلا في دار الحرب فظنه حربيا فرماه بسهم
ثم بان أنه كان مسلما ومات هل تجب الدية؟ فيه قولان
وقال الشيخ أبو حامد: القولان ها هنا أصل بأنفسهما ومنها أخذ الوجهان
في الوكيل، هل ينعزل قبل أن يعلم بالعزل، فإذا قلنا إن عفوه لا يصح فلا شئ
على الموكل والوكيل، فإذا قلنا إن عفوه يصح فلا شئ على الموكل وأما الوكيل
فلا قصاص عليه لان له شبهة في قتله ويجب عليه الدية. وإن قلنا لا تجب عليه
الدية فهل تجب عليه الكفارة؟ فيه وجهان حكاهما الطبري في العدة - إن قلنا
إن مأخوذ القولين في الدية من الرمي إلى من ظنه حربيا - فتجب الكفارة،
لان الدية ها هنا لم تجب
فإن قلنا مأخذهما من عزل الوكيل فلا تجب عليه الكفارة وتكون الدية
مغلظة لأنها إما دية عمد محض أو دية عمد خطأ، وهل تجب في مال أو كيل أو
على عاقلته؟ فيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق المروزي واختيار الشيخ أبى حامد أنها تجب
في ماله لأنه قصد قتله، وإنما سقط القصاص لمعنى آخر، وقال أبو علي بن أبي هريرة
هو دية عمد خطأ فتجب دية مؤجلة على العاقلة، لأنه قتله وهو معذور، فإن قلنا
إنها على العاقلة لم يرجع بها الوكيل على الموكل لذلك.
وقال أبو العباس بن سريج: فيه قول آخر: انه يرجع عليه كما قلناه فيمن قدم
طعاما مغصوبا إلى رجل فأكله ولم يعلم أنه مغصوب فإنه يرجع على المقدم إليه
في أحد القولين، وكما قلنا فيمن غير بحرية امرأة، والمذهب الأول، لان العفو
مندوب إليه والغرور محرم.
إذا تقرر هذا فإن كان الموكل قد عفا عن القود والدية أو عفا مطلقا وقلنا
لا تجب له الدية فلا كلام، وإن عفا عن القود إلى الدية أو عفا مطلقا - وقلنا
يجب له الدية وجبت له الدية في مال الجاني، وتكون لورثة الجاني مطالبة الوكيل
بدية الجاني، وليس كالأخوين إذا قتل أحدهما قاتل أبيه بغير إذن أخيه حيث قلنا
في محل نصيب الأخ الذي لم يقتل من الدية قولان (أحدهما) في تركة قاتل أبيه
(والثاني) في ذمة أخيه، والفرق بينهما أن الأخ أتلف حق أخيه فوجبت عليه
479

بدله. وهاهنا أتلفه الوكيل بعد سقوط حق الموكل عليه بالعفو، هذا ترتيب
البغداديين. وقال الخراسانيون. إن قلنا لا دية على الوكيل فلا دية للموكل على
الجاني، وكان الوكيل استوفى القصاص، فإن قلنا عليه الدية فله الدية في
مال المجني عليه.
(مسألة) إذا جنا عليه جناية يجب فيها القصاص بأن قلع عينه أو قطع يده
أو رجله فعفا المجني عليه عن القصاص ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه لم
يجب القصاص. وحكى عن مالك أنه قال: يجب القصاص، لان الجناية صارت
نفسا، ولنا أنه يتعذر استيفاء القصاص في النفس دون ما عفى عنه فسقط
القصاص في النفس كما لو عفا بعض الأولياء، ولان الجناية إذا لم يجب فيها
القصاص لم يجب في سرايتها كما لو قطع يد مرتد ثم مات
إذا ثبت هذا فإن كان المجني عليه قد عفا على مال وجبت فيه دية كاملة، فإن
كان قد أخذ دية العضو المقلوع استوفى أولى باقي دية النفس. وإن لم يأخذ شيئا
من الدية أخذ الولي بجميع الدية، وإن كان المجني عفا عن العين واليد والرجل
على غير مال وجب لوليه نصف الدية. وقال أبو حنيفة تجب الدية كاملة. وقال
أبو يوسف ومحمد لا شئ على الجاني. دليلنا أنه بالجناية وجب عليه نصف الدية
فإذا عفا عن الدية سقط ما يجب، فإذا صارت نفسا وجب
بالسراية نصف الدية فلم يسقط أرشها بسرايتها، وإنما دخل في أرش النفس،
وإن كان قد جنا عليه جناية لا قصاص فيها كالجائفة وكسر الظهر فعفا المجني
عليه عن القصاص فيها ثم سرت الجناية إلى نفس المجني عليه فمات كان لوليه أن
يقتص في النفس لأنه عفا عن القصاص فيما لا قصاص فيه، فلم يؤثر العفو فيه.
(فرع) وان قلع يد رجل فعفا المجني عليه عن القصاص على مال أو على
غير مال ثم عاد الجاني فقتله قبل الاندمال ففيه ثلاثة أوجه، أحدها وهو قول
أبي سعيد الإصطخري ان للولي القصاص في النفس، لان الجناية الثانية متفردة
عن الأولة فلم يدخل حكمها في حكمها، كما لو قتله آخر، فان عفا عنه على مال كان
له كمال الدية، لان الجناية على الطرف إذا وردت عليها الجناية على النفس صارت
480

في حكم المندملة فلم يدخل أرش أحدهما في أرش الاخر والوجه الثاني أنه لا يجب
القصاص لان الجناية والقتل كالجناية الواحدة، فإذا سقط القصاص في بعضها
سقط في جميعها، كما لو سرى قطع اليد إلى النفس، فإن عفا عنه على مال كان له
نصف الدية، لأنه قد وجب له جميع الدية وقد أخذ نصفها أو سقط حقه عنه
فبقي حقه في نصف الدية. والثالث وهو المنصوص أن للولي أن يقتص في النفس
لأنهما جنايتان عفا عن إحداهما ولم يعف عن الأخرى فصار كما لو قتله آخر.
وإن عفا عنه الولي كان له نصف الدية، لان أرش الطرف يدخل في أرش النفس
فإذا أخذه أو سقط حقه عنه بالعفو بقي الباقي له من الدية
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قطع أصبع رجل عمدا فعفا المجني عليه عن القصاص والدية
ثم اندملت سقط القصاص والدية
وقال المزني رحمه الله: يسقط القصاص ولا تسقط الدية، لأنه عفا عن
القصاص بعد وجوبه فسقط، وعفا عن الدية قبل وجوبها، لان الدية لا تجب
إلا بالاندمال والعفو وجد قبله فلم تسقط، وهذا خطأ لان الدية تجب بالجناية
والدليل عليه أنه لو جنى على طرف عبده ثم باعه ثم اندمل كان أرش الطرف له
دون المشترى، فدل على أنه وجب بالجناية، وإنما تأخرت المطالبة إلى ما بعد
الاندمال فصار كما لو عفا عن دين مؤجل
فإن سرت الجناية إلى الكف واندملت سقط القصاص في الإصبع بالعفو،
ولم يجب في الكف، لأنه تلف بالسراية، والقصاص فيما دون النفس لا يجب
بالسراية وسقطت دية لإصبع لأنه عفا عنها بعد الوجوب، ولا يسقط أرش
ما تسرى إليه لأنه عفا عنه قبل الوجوب
وإن سرت الجناية إلى النفس نظرت فإن قال عفوت عن هذه الجناية قودها
وديتها وما يحدث منها سقط القود في الإصبع والنفس لأنه سقط في الإصبع
بالعفو بعد الوجوب، وسقط في النفس لأنها لا تتبعض.
وأما الدية فإنه إن كان العفو بلفظ الوصية فهو وصية للقاتل، وفيها قولان
481

فإن قلنا لا تصح وجبت دية النفس، وان قلنا تصح وخرجت من الثلث سقطت
وإن خرج بعضها سقط ما خرج منها من الثلث ووجب الباقي وإن كان بغير
لفظ الوصية فهل هو وصية في الحكم أم لا؟ فيه قولان
(أحدهما) أنه وصية لأنه يعتبر من الثلث
(والثاني) أنه ليس بوصية لان الوصية ما تكون بعد الموت، وهذا إسقاط
في حال الحياة، فإذا قلنا إنه وصية فعلى ما ذكرناه من القولين في الوصية للقاتل
وان قلنا إنه ليس بوصية صح العفو عن دية الإصبع لأنه عفا عنها بعد الوجوب
ولا يصح عما زاد لأنه عفا قبل الوجوب فيجب عليه دية النفس الا أرش أصبع
وأما إذا قال عفوت عن هذه الجناية قودها وعقلها ولم يقل وما يحدث منها،
سقط القود في الجميع لما ذكرناه ولا سقط دية النفس لأنه أبرأ منها قبل الوجوب
وأما دية الإصبع فإنه إن كان عفا عنها بلفظ الوصية أو بلفظ العفو وقلنا إنه
وصية فهو وصية للقاتل - وفيها قولان - وإن كان بلفظ العفو وقلنا إنه ليس
بوصية فان خرج من الثلث سقط، وان خرج بعضه سقط منه ما خرج ووجب
الباقي لأنه ابراء عما وجب
(فصل) فإن جنى جناية يجب فيه القصاص كقطع اليد فعفا عن القصاص
وأخذ نصف الدية ثم عاد فقتله، فقد اختلف أصحابنا فيه، فذهب أبو سعيد
الإصطخري رحمة الله عليه إلى أنه يلزمه القصاص في النفس أو الدية الكاملة ان
عفى عن القصاص، لان القتل منفرد عن الجناية، فلم يدخل حكمه في حكمها
فوجب لأجله القصاص أو الدية
ومن أصحابنا من قال لا يجب القصاص ويجب نصف الدية لان الجناية والقتل
كالجناية الواحدة، فإذا سقط القصاص في بعضها سقط في جميعها ويجب نصف الدية
لأنه وجب كمال الدية وقد أخذ نصفها وبقى له النصف
ومنهم من قال يجب له القصاص في النفس وهو الصحيح، لان القتل انفرد
عن الجناية، فعفوه عن الجناية لا يوجب سقوط ما لزمه بالقتل ويجب له نصف
الدية لان القتل إذا تعقب الجناية قبل الاندمال صار بمنزلة ما لو سرت إلى النفس
ولو سرت وجب فيها الدية، وقد أخذ النصف وبقي للنصف
482

(الشرح) إذا قطع رجل أصبع رجل، فقال المجني عليه عفوت عن هذه
الجناية قودها وديتها نظرت - فإن اندمل الجرح ولم يسر إلى عضو ولا نفس -
سقط القود والدية، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وقال أبو يوسف ومحمد: إن العفو
عن الجناية عفو عما يحدث منها وممن قال بصحة عفو المجروح عن دمه مالك
وطاوس والحسن وقتادة والأوزاعي.
وقال المزني لا يصح العفو عن الأرش لأنه أسقطه قبل وجوبه، بدليل أنه
لا يملك المطالبة به قبل الاندمال. وهذا خطأ لأنه وجب بالجراحة فصح إسقاطه
وأما المطالبة به فإنه يملك المطالبة به في أحد القولين، ولا يملكه في الاخر فيكون
كالدين المؤجل يصح إسقاطه قبل محل دفعه. وإن سرت الجناية إلى كفه واندمل
سقط القود والدية في الإصبع لما ذكرناه وأما الكف فلا قود فيه، لان القود
في العضو لا يجب بالسراية، ولا تصح البراءة من دية ما زاد على الإصبع.
ومن أصحابنا الخراسانيين من قال يصح لأنه سراية جرح غير مضمون، والأول
أصح لأنه إبراء عما لم يجب.
وإن سرت الجناية إلى النفس نظرت - فان قال عفوت عن هذه الجناية
قودها وديتها ولم يقل وما يحدث منها - فإن القصاص لا يجب في الإصبع لأنه
عفا عنه بعد الوجوب، ولا يجب القصاص في النفس لان القصاص إذا سقط
في الإصبع سقط في النفس لأنه يتبعض.
وحكى الخراسانيون عن ابن سريج قولا آخر مخرجا أنه يجب لأنه عفا عن
القود في الطرف لا في النفس. وهذا ليس بمشهور. وأما الأرش فقد عفا عن
أرش الإصبع بعد وجوبه، فينظر فيه - فإن كان ذلك بلفظ الوصية بأن قال
عفوت عن الجاني عن قود هذه الجناية وأوصيت له بأرشها فقد وجد منه ذلك
في مرض موته.
فان قلنا لا تصح الوصية للقاتل لم تصح هذه الوصية، وإن قلنا تصح الوصية
للقاتل اعتبر أرش الإصبع من ثلث تركته. فان خرج من الثلث صحت الوصية
فيه للقاتل، وإن لم يخرج من الثلث لم تصح، وإن كان بلفظ العفو والابراء بأن
قال عفوت عن قود هذه الجناية وديتها، أو قال أبرأته من أرشها، ففيه قولان
483

(أحدهما) حكمه حكم الوصية لأنه يعتبر من الثلث، فعلى هذا يكون على قولين
كالوصية للقاتل بلفظ الوصية (والثاني) ليس بوصية، لان الوصية ما تكون
بعد الموت، وهذا إسقاط في حال الحياة، فعلى هذا يصح الابراء عن أرش
الإصبع، ويجب عليه تسعة أعشار دية النفس لأنه لم يبرأ منها.
وأما إذا عفوت عن هذه الجناية قودها وديتها وما يحدث منها، فان
القود سقط في الإصبع والنفس، لان العفو يصح عن القصاص الذي لم يجب
بدليل أنه لو قال لرجل اقتلني ولا شئ عليك فقتله لم يجب عليه القصاص لما تقدم
ذكره. وأما الأرش - فإن كان ذلك بلفظ الوصية بأن قال أوصيت له بأرش
الجناية وأرش ما يحدث منها - فإن قلنا تصح الوصية للقاتل وخرج جميع الدية
من الثلث - صحت الوصية، وان خرج بعضها من الثلث صح ما خرج من
الثلث ووجب الباقي. وان قلنا لا تصح الوصية للقاتل وجبت جميع الدية. وان
قال أبرأته عن أرش هذه الجناية وأرش ما يحدث منها - فإن قلنا إن حكم الابراء
حكم الوصية - كان على قولين كما لو كان بلفظ الوصية وان قلنا إن حكم الابراء
ليس كالوصية صحت البراءة في دية الإصبع لأنها ابراء عنها بعد الوجوب، ولم
تصح البراءة فيما زاد على دية الإصبع، لأنه ابراء عنها قبل الوجوب. هكذا
ذكر الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق
وقال ابن الصباغ: في صحة براءته من أرش ما زاد على دية الإصبع قولان
من غير بناء على حكم الوصية
(أحدهما) لا تصح البراءة لأنه ابراء عما لم يجب، فأشبه إذا عفا عما يتولد
من الجناية فسرت إلى الكف
(والثاني) تصح لان الجناية على الطرف جناية على النفس لان النفس
لا تباشر بالجناية، وإنما يجنى على أطرافها، فإذا عفى بعد الجناية عليها صح
ويفارق الكف لان الجناية على الإصبع ليس بجناية على النفس، لأنه يباشر
بالجناية، فإذا قلنا يصح بنى على القولين في الوصية للقاتل على ما مضى
(فرع) لو قطع يدي رجل عمدا فبرئت اليدان فقطع المجني عليه إحدى يدي
الجاني وعفا عن الأخرى على الدية وقبضها ثم انتقضت يد المجني عليه ومات
484

لم يكن لورثته القصاص، لأنه مات من جراحتين إحداهما لا قصاص فيها وهي
المعفو عنها، ولا يستحق شيئا من الدية، لأنه قد استوفى نصف الدية وما قيمته
نصف الدية، فإن لم يمت المجني عليه ولكن الجاني انتقضت عليه يده ومات لم
يرجع ورثته على المجني عليه بشئ، لان القصاص لا تضمن سرايته، وإن قطع
إحدى يدي الجاني فمات من قطعها، ولم يأخذ بدل اليد الأخرى كان له أن يأخذه
لأنه وجب له القصاص في اليدين، وقد فاته القصاص في أحدهما بما لا ضمان
عليه فيه، فهو كما لو سقطت بأكلة ومات حتف أنفه
وإن مات المجني عليه من قطع اليدين ولم تبرأ فقطع الوارث إحدى يدي
الجاني فمات من قطع يده قبل أن تقطع الأخرى لم يرجع بدية اليد الأخرى،
لان الجناية إذا صارت نفسا سقط حكم الأطراف، وقد سرى قطع يد الجاني
إلى النفس فاستوفى النفس بالنفس، وليس كذلك إذا برئ اليدان ولم يمت، فإن
الاعتبار بالطرفين ولا يسقط بدل إحداهما باستيفاء بدل الأخرى، وهكذا حكم
كل طرفين متميزين مثل الرجلين والعينين
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا قطع يد رجل فسرى القطع إلى النفس فاقتص في اليد ثم عفى
عن النفس على غير مال لم يضمن اليد لأنه قلعها في حال لا يضمنها، فأشبه إذا
قطع يد مرتد فأسلم، ولان العفو يرجع إلى ما بقي دون ما استوفى، كما لو قبض
من دينه بعضه ثم أبرأه، وان عفى على مال وجب له نصف الدية لأنه بالعفو صار
حقه في الدية، وقد أخذ ما يساوى نصف الدية فوجب له النصف، فإن قطع
يدي رجل فسرى إلى نفسه فقطع الولي يدي الجاني ثم عفا عن النفس لم يجب له
مال لأنه لم يجب له أكثر من دية، وقد أخذ ما يساوى دية فلم يجب له شئ.
وإن قطع نصراني يد مسلم فاقتص منه في الطرف ثم سرى القطع إلى نفس المسلم
فللولي أن يقتله، لأنه صارت الجناية نفسا وان اختار أن يعفو على الدية
ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يجب عشرة آلاف درهم، لان دية المسلم اثنا عشر ألفا
485

وقد أخذ ما يساوي ألفي درهم فوجب الباقي (والثاني) أنه يجب له نصف ديته
وهو ستة آلاف درهم، لأنه رضى أن يأخذ يدا ناقصة بيد كاملة ديتها ستة آلاف
درهم فوجب الباقي، وان قطع يديه فاقتص منه ثم سرى القطع إلى نفس المسلم
فللولي أن يقتله لأنه صارت الجناية نفسا، فإن عفى على الدية أخذ على الوجه
الأول ثمانية آلاف درهم لأنه أخذ ما يساوى أربعة آلاف درهم وبقى له ثمانية آلاف
درهم، وعلى الوجه الثاني لا شئ له لأنه رضى أن يأخذ نفسه بنفسه، فيصير كما
لو استوفى ديته.
وان قلعت امرأة يد رجل فاقتص منها، ثم سرى القطع إلى نفس الرجل،
فلوليه أن يقتلها لما ذكرناه، فان عفا على مال وجب على الوجه الأول تسعة
آلاف درهم، لان الذي أخذ يساوى ثلاثة آلاف درهم وبقى تسعة آلاف درهم
وعلى الوجه الثاني يجب ستة آلاف لأنه رضى أن يأخذ يدها بيده، وذلك بقدر
نصف ديته وبقى النصف
(الشرح) إذا قطع يد رجل فسر القطع إلى نفسه فقطع الولي يده ثم عفا عنه
فلا ضمان عليه في اليد، وكذلك لو قتل رجل رجلا فبادر الولي فقطع يد الجاني
ثم عفا عنه فلا ضمان عليه في اليد وكذلك لو قتل رجل رجلا فبادر الولي فقطع
يد الجاني ثم عفا عنه فلا ضمان عليه. وقال أبو حنيفة يلزمه دية اليد.
ولنا أنه قطع يده في حال أبيح له قطعها فلم يلزمه ضمانه كما لو قطع يد مرتد
فأسلم. وأما العفو فإنما ينصرف إلى ما بقي دون ما استوفى، وإن قطع يهودي يد
مسلم فاقتص المسلم من اليهودي ثم مات المسلم فلوليه أن يقتل اليهودي، فان عفا
عنه على مال ففيه وجهان
(أحدهما) يجب له نصف الدية، لان المجني عليه قد أخذ اليهودي بيده
واليد تقوم بنصف الدية فكأنه رضى أن يأخذ يدا ناقصة بيد كاملة
(والثاني) يستحق خمسة أسداس دية المسلم، لان دية اليهودي سدس
يد المسلم. وان قطع اليهودي يدي المسلم وقطع اليهودي ثم
مات المسلم واختار وليه العفو على مال لم يستحق شيئا على الوجه الأول ويستحق
486

على الثاني ثلثي دية المسلم. وإن قطعت امرأة يد رجل فاقتص منها ثم مات المجني
عليه فلوليه أن يقتلها، فإن عفى عنها على مال استحق على الوجه الأول نصف الدية
وعلى الثاني ثلاثة أرباع الدية، فإن قطعت يديه فاقتص منها ثم مات من الجناية
ولم يقتلها وليه لكن عفا عنها على مال لم يستحق شيئا على الوجه الأول، وعلى
الثاني يستحق نصف الدية.
وان قطع رجل يد رجل وهما متساويان في الدية منه في اليدين ثم مات المجني عليه ولم
يخبر وليه قتله، لكن عفا عنه على مال لم يستحق شيئا وجها واحدا لأنه يستحق
الدية وقد أخذ ما يساوى الدية.
(فرع) إذا جرح رجل رجلا مرتدا جراحة، فأسلم المرتد ثم جاء الجارح
ومعه ثلاثة رجال وجرحه كل واحد منهم جراحة يموت من مثلها ومات من
الجراحات الخمس القصاص في النفس لأنه مات من جراحة مضمونة وغير
مضمونة فيجب فيها سبعة أثمان الدية وعلى الذي جرحه في الردة ثمن الدية
وعلى كل واحد من الثلاثة ربع الدية، لأنه مات من خمس جراحات إلا أن الذي
جرحه في حال الردة يسقط عنه ما خص الجراحة في حال الردة، لان الدية تقسم
على عدد الجارحين لا على عدد الجراحات، فكان الذي يخص الجاني الأول ربع
الدية فسقط عنه الثمن، وإن جنى عليه ثلاثة رجال في ردته فأسلم ثم جنى عليه
أحد من غيرهم ومات من الجراحات وجب على الذي جرحه بعد أن أسلم ربع
ديته ويسقط عنه ثلاثة أرباع ديته. وإن كان الذي جنى عليه بعد الاسلام أحد
الثلاثة وجب عليه سدس الدية، ولم يجب على الباقين شئ.
وإن جرحه ثلاثة في حال ردته ثم عاد إلى الاسلام وجاء أحد الثلاثة مع
أربعة غير الثلاثة وجرحوه ومات من الجراحات، فقد مات من جراحة سبعة
فيسقط سبعا الدية، وهما ما يخص الرجلين الجارحين في الردة ويجب على الأربعة
الذين انفردوا بالجراحة في الاسلام أربعة أسباع الدية ويجب على الذي جرحه
في الردة والاسلام نصف سبع الدية، وإن جرحه أربعة في ردته ثم عاد أحدهم
وجرحه بعد اسلامه ومات عن الجراحات وجب على الذي جرحه بعد اسلامه
ثمن الدية ويسقط باقي ديته، والله تعالى أعلم
487