الكتاب: المجموع
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ٦
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر
ردمك:
ملاحظات:

المجموع
شرح المهذب
للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة 676 ه‍
الجزء السادس
دار الفكر
1

بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمه الله تعالى *
(باب زكاة الذهب والفضة)
(زكاة الذهب والفضة: تجب الزكاة في الذهب والفضة لقوله عز وجل (والذين يكنزون
الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ولان الذهب والفضة معد للنماء
فهو كالإبل والبقر السائمة ولا تجب فيما سواهما من الجواهر كالياقوت والفيروزج واللؤلؤ والمرجان
لان ذلك معد للاستعمال فهو كالإبل والبقر العوامل ولا تجب فيما دون النصاب من الذهب والفضة
ونصاب الذهب عشرون مثقالا لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال (ولا في أقل من عشرين مثقالا من الذهب شئ) ونصاب الفضة مائتا درهم والدليل
عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا بلغ مال أحدكم خمس أواق
مائتي درهم ففيه خمسة دراهم) والاعتبار بالمثقال الذي كان بمكة ودراهم الاسلام الذي كل عشرة
وزن سبع مثاقيل لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (الميزان ميزان أهل مكة والمكيال مكيال أهل
المدينة) ولا يضم أحدهما إلى الآخر في اكمال النصاب لأنهما جنسان فلم يضم أحدهما إلى الآخر كالإبل
والبقر وزكاتهما ربع العشر نصف مثقال عن عشرين مثقالا من الذهب وخمسة دراهم عن مائتي درهم
والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في كتاب الصدقات (في الرقة ربع العشر) وروى عاصم بن
ضمرة عن علي رضي الله عنه أنه قال (ليس في أقل من عشرين دينارا شئ وفى عشرين نصف دينار)
ويجب فيما زاد على النصاب بحسابه لأنه يتجزأ من غير ضرر فوجب فيما زاد بحسابه ويجب في
2

الجيد الجيد وفى الردئ الردئ فإن كانت أنواعا قليلة وجب في كل نوع بقسطه وان كثرت الأنواع
أخرج من الوسط كما قلنا في الثمار وإن كان له ذهب مغشوش أو فضة مغشوشة فإن كان الذهب
والفضة فيه قدر الزكاة وجبت الزكاة وان لم تبلغ لم تجب وان لم يعرف قدر ما فيه من
الذهب والفضة فهو بالخيار ان شاء سبك ليعرف الواجب فيخرجه وان شاء اخرج واستظهر
ليسقط الفرض بيقين) *
(الشرح) أما حديث في الرقة ربع العشر فصحيح رواه البخاري من رواية انس وسبق
بيانه بطوله في أول باب صدقة الإبل والرقة بتخفيف القاف وكسر الراء هي الورق وهو كل الفضة
وقيل الدراهم خاصة واما قول صاحب البيان قال أصحابنا الرقة هي الذهب والفضة فغلط فاحش
ولم يقل أصحابنا ولا أهل اللغة ولا غيرهم ان الرقة تطلق على الذهب بل هي الورق وفيه الخلاف
الذي ذكرته وأصلها ورقة بكسر الواو كالزنة من الوزن وأما حديث (الميزان ميزان أهل
مكة) إلى آخره فرواه أبو داود والنسائي بأسانيد صحيحة على شرط البخاري ومسلم
من رواية ابن عمر رضي الله عنهما قال أبو داود وروى من رواية ابن عباس
3

رضي الله عنهما ذكره أبو داود في كتاب البيوع والنسائي في الزكاة وأما حديث عاصم عن علي رضي الله عنه
فرواه أبو داود وغيره باسناد حسن أو صحيح عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم وينكر
على المصنف كونه وقفه على علي وهو مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم * وأما حديث عمرو بن شعيب
وابن عمر فغريبان ويغني عنهما الاجماع فالمسلمون مجمعون علي معناهما وفى الصحيحين عن أبي سعيد
4

الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) وفى
مسلم مثله من رواية جابر والأوقية الحجازية الشرعية أربعون بالنصوص المشهورة واجماع المسلمين
وفى الصحيحين عن أبي هريرة قال قال (رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من صاحب ذهب ولا
فضة لا يؤدى منها حقها الا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار فاحمى عليها في نار جهنم
فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين الف سنة حتى يقضى
الله بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار) وأما ألفاظ الفصل فاللؤلؤ فيه أربع لغات
قرئ بهن في السبع لؤلؤ بهمزتين ولولو بغير همز وبهمز أوله دون ثانية وعكسه قال جمهور أهل
اللغة اللؤلؤ الكبار والمرجان الصغار وقيل عكسه (وقوله) ودراهم الاسلام التي كل وزن عشرة سبعة
5

مثاقيل هكذا وقع في بعض النسخ وهو الصواب وكذا ذكره المصنف في كتاب الاقرار وسائر
الأصحاب وسائر العلماء من جميع الطوائف ولا خلاف فيه ووقع في أكثر نسخ المهذب هنا كل
أوقية سبعة مثاقيل وهكذا نقله صاحب البيان فيه وفى مشكلات المهذب عن المهذب وهو غلط
صريح والصواب الأول ولعله صحف في نسخة وشاعت والله تعالى أعلم * (وقوله) لأنه يتجزأ من
غير ضرر احتراز من الماشية (وقوله) في الردئ الردئ هو مهموز * أما الأحكام ففيها مسائل (إحداها)
تجب الزكاة في الذهب والفضة بالاجماع ودليل المسألة النصوص والاجماع وسواء فيهما المسكوك
والتبر والحجارة منهما والسبائك وغيرها من جنسها إلا الحلي المباح على أصح القولين كما سنوضحه
إن شاء الله تعالى (الثانية) لا زكاة فيما سوى الذهب والفضة من الجواهر كالياقوت والفيروزج
واللؤلؤ والمرجان والزمرد والزبرجد والحديد والصفر وسائر النحاس والزجاج وإن حسنت
صنعتها وكثرت قيمتها ولا زكاة أيضا في المسك والعنبر قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر ولا في
حلية بحر قال أصحابنا معناه كل ما يستخرج منه فلا زكاة فيه ولا خلاف في شئ من هذا عندنا
وبه قال جماهير العلماء من السلف وغيرهم وحكى ابن المنذر وغيره عن الحسن البصري وعمر بن
عبد العزيز والزهري وأبى يوسف وإسحاق بن راهويه أنهم قالوا يجب الخمس في العنبر قال الزهري
وكذلك اللؤلؤ وحكي أصحابنا عن عبد الله بن الحسن العنبري أنه قال يجب الخمس في كل ما يخرج
6

من البحر سوى السمك وحكى العنبري وغيره عن أحمد روايتين (إحداهما) كمذهب الجماهير
(والثانية) أنه أوجب الزكاة في كل ما ذكرنا إذا بلغت قيمته نصابا حتى في المسك والسمك ودليلنا
الأصل ان لا زكاة الا فيما ثبت الشرع فيه وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال ليس في
العنبر زكاة إنما هو شئ دسره البحر وهو بدال وسين مهملتين مفتوحتين أي قذفه ودفعه فهذا
الذي ذكرناه هو المعتمد في دليل المسألة واما الحديث المروي عن عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده
عن النبي صلى الله عليه وسلم لا زكاة في حجر فضعيف جدا رواه البيهقي وبين ضعفه (الثالثة) لا زكاة
في الذهب حتى يبلغ نصابا ونصاب الذهب عشرون مثقالا ونصاب الفضة مائتا درهم وهي خمس
أواق بوقية الحجاز والاعتبار بوزن مكة فاما المثقال فلم يختلف في جاهلية ولا اسلام وقدره معروف
والدراهم المراد بها دراهم الاسلام وهي التي كل عشرة منها سبعة مثاقيل وسأفرد بعد هذا الفصل إن شاء
الله تعالى فصلا نفيسا أذكر فيه أقاويل العلماء في حال الدينار والدرهم وقدرهما وما يتعلق بتحقيقهما
قال أصحابنا فلو نقص عن النصاب حبة أو بعض حبة فلا زكاة بلا خلاف عندنا وإن راج رواج
الوزن وزاد عليه لجودة نوعه هذا مذهبنا وبه قال جمهور العلماء وقال مالك ان نقصت المائتان
من الفضة حبة وحبتين ونحوهما مما يتسامح به ويروج رواج الوازنة وجبت الزكاة وعن أحمد نحوه
وعنه ان نقصت دانقا أو دانقين وجبت الزكاة وعن مالك رواية انها إذا نقصت ثلاثة دراهم
وجبت الزكاة واحتج لهما بأنها كالمائتين في المعاملة (احتج) أصحابنا والجمهور بالحديث السابق
في الباب (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقه) والأوقية أربعون درهما وهذا دون ذلك
حقيقة وإنما يسامح به صاحبه إذا نقص تبرعا فلو طالب بنقصان الحبة كان له ذلك ووجب دفعها
إليه والله أعلم *
7

(فرع) لو نقص نصاب الذهب أو الفضة حبة ونحوها في بعض الموازين وكان تاما في بعضها
فوجهان حكاهما أمام الحرمين والرافعي (أصحهما) وبه قطع المحاملي والماوردي والبندنيجي وآخرون لا تجب
للشك في بلوغ النصاب والأصل عدم الوجوب وعدم النصاب والثاني تجب وهو قول الصيدلاني
حكاه عنه إمام الحرمين وغلطه فيه وشنع عليه وبالغ في الشناعة وقال الصواب لا تجب للشك في
النصاب
(الرابعة) لا يضم الذهب إلى الفضة ولا هي إليه في اتمام النصاب بلا خلاف كما لا يضم
التمر إلى الزبيب ويكمل النوع من أحدهما بالنوع الآخر والجيد بالردئ والمراد بالجودة النعومة
والصبر على الضرب ونحوهما وبالرداءة الخشونة والتفتت عند الضرب ونحوهما والله تعالى أعلم
(الخامسة) واجب الذهب والفضة ربع العشر سواء كان نصابا فقط أم زاد زيادة قليلة أم كثيرة
ودليله في الكتاب (السادسة) يشترط لوجوب زكاتهما أن يملكهما حولا كاملا بلا خلاف فلو
ملك عشرين مثقالا معظم السنة ثم نقصت ولو نقصانا يسيرا ثم تمت بعد ساعة انقطع الحول الأول
ولا زكاة حتى يمضي عليها حول كامل من حين تمت نصابا وهذا لا خلاف فيه نص عليه الشافعي رضي الله عنه
واتفق عليه الأصحاب وقد أخل المصنف بذكر اشتراط الحول هنا وإن كان قد ذكره في
التنبيه (السابعة) إذا كان الذهب أو الفضة الذي وجبت فيه الزكاة كله جيدا أخرج جيدا منه
أو من غيره فان أخرج دونه معيبا أو رديئا أو مغشوشا لم يجزئه هكذا قطع به الأصحاب في كل
الطرق وحكى الرافعي عن الصيدلاني أنه يجوز قال وهو غلط وحكاه عنه إمام الحرمين فيما إذا
كان البعض جيدا والبعض رديئا فاخرج عن الجميع رديئا قال الصيدلاني يجزيه مع الكراهة قال
الامام وهذا عندي خطأ محض صريح إذا اختلفت القيمة فالصواب ما سبق أنه لا يجزيه بلا خلاف
وهل له استرجاع المعيب والردئ والمغشوش فيه وجهان أو قولان مشهوران محكيان في الحاوي
والشامل والمستظهري والبيان وغيرهم عن ابن سريج (أحدهما) ليس له الرجوع ويكون متطوعا لأنه
أخرج المعيب في حق الله تعالى فلم يكن له استرجاعه كما لو لزمه عتق رقبة سليمة فاعتق معيبة فإنها
تعتق ولا تجزيه ولا رجوع له بلا خلاف (والثاني) له الرجوع وهو الصحيح باتفاق الأصحاب لأنه لم يجزئه
عن الزكاة فجاز له الرجوع كما لو عجل الزكاة فتلف ما له قبل الحول. قال صاحب الشامل وهذا ينبغي أن
يكون إذا بين عند الدفع كونها زكاة هذا المال بعينه فان أطلق لم يتوجه الرجوع وجزم صاحب المستظهري
بهذا الوجه الذي ذكره صاحب الشامل فان قلنا بالصحيح ان له استرجاعها فإن كانت باقية أخذها
8

فان استهلكها المساكين أخرج التفاوت قال ابن سريج وكيفية معرفة ذلك أن يقوم المخرج
بجنس آخر فيعرف التفاوت مثاله معه مائتا درهم جيدة فأخرج عنها خمسة معيبة فقومنا الخمسة الجيدة
بذهب. فساوت نصف دينار وساوت المعيبة خمسي دينار فعلمنا أنه بقي عليه درهم جيد هذا كله
إذا كان كل ماله جيدا فإن كان كله رديئا كفاه الاخراج من نفسه أو من ردئ مثله وهذا الاخلاف
فيه وان تبرع فأخرج أجود منه أجزأه وكان خيرا وأفضل وإن كانت الفضة أو الذهب أنواعا
بعضها جيد وبعضها ردئ أو بعضها أجود من بعض فان قلت الأنواع وجب من كل نوع بقسطه
وان كثرت وشق اعتبار الجميع أخرج من أوسطها لا من الأجود ولا من الأردأ كما سبق في
الثمار ويجوز اخراج الصحيح عن المكسور وقد زاد خيرا ولا يجوز عكسه بل إذا لزمه دينار جمع
المستحقين وسلمه إليهم كلهم بأن يسلمه إلى واحد بإذن الباقين وان وجب نصف دينار وسلم إليهم
دينارا كاملا نصفه عن الزكاة ونصفه يبقي له معهم أمانة فإذا تسلموه برئت ذمته من الزكاة ثم
يتفاصل هو وهم في الدينار بأن يبيعوه لأجنبي ويتقاسموا ثمنه أو يشتروا منه نصيبه أو يشترى نصيبهم لكن
يكره له شرى صدقته ممن تصدق عليه سواء الزكاة وصدقة التطوع كما سنوضحه في آخر قسم الصدقات
إن شاء الله تعالى وهذا الذي ذكرناه من أنه لا يجزئ المكسر عن الصحيح هو المذهب وبه
قطع جمهور الأصحاب قال الرافعي وحكى (وجه ثان) أنه يجوز أن يصرف إلى كل مسكين حصته
مكسرا (ووجه ثالث) أنه يجوز ذلك لكن مع التفاوت بين الصحيح والمكسر (ووجه رابع) أنه يجوز
إذا لم يكن بين الصحيح والمكسر فرق في المعاملة والصواب الأول (الثامنة) إذا كان له ذهب
أو فضة مغشوشة فلا زكاة فيها حتى يبلغ خالصها نصابا هكذا نص عليه الشافعي رضي الله عنه
والمصنف وجميع الأصحاب في كل الطرق إلا السرخسي فقال في الأمالي لا تجب الزكاة في مائتين
من الفضة المغشوشة ومتى تجب فيه وجهان (أصحهما) إذا بلغت قدرا تكون الفضة الخالصة فيها
مائتين ولا تجب فيما دون ذلك (والثاني) إذا بلغت قدرا لو ضمت إليه قيمة الغش من النحاس أو
غيره لبلغ نصابا تجب وهذا الوجه الذي انفرد به السرخسي غلط مردود بقوله صلى الله عليه وسلم
(ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقه) والله تعالى أعلم ولو كان معه ألف درهم مغشوشة فأخرج
عنها خمسة وعشرين خالصة قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى أجزأه وقد زاد خيرا وهو متطوع
بالزيادة ولو أخرج عن مائتين خالصة خمسة مغشوشة فقد سبق في المسألة السابعة أنه لا يجزيه وإن
9

له استردادها على الصحيح ولو أخرج عن الألف المغشوشة يعلم أن فيها من الفضة ربع
العشر أجزأه بأن كان الغش فيها سواء فأخرج منها خمسة وعشرين فان جهل قدر الفضة فيها مع
علمه ببلوغها نصابا فهو بالخيار بين أن يسبكها ويخرج ربع العشر خالصها وبين أن يحتاط ويخرج
ما يتيقن أن فيه ربع عشر خالصها فان سبكها ففي مؤنة السبك وجهان حكاهما صاحبا الحاوي
والمستظهري (الصحيح) منهما أنها على المالك لأنها للتمكن من الأداء فكانت على المالك كمؤنة الحصاد
(والثاني) تكون من المسبوك لأنه لتخليص المشترك (قال أصحابنا) ومتي ادعى رب المال أن قدر الخالص
في المغشوش كذا وكذا فالقول قوله فان اتهمه الساعي حلفه استحبابا بلا خلاف لان قوله لا يخالف
الظاهر قال البندنيجي فان قال رب المال لا أعلم قدر الفضة علما لكني اجتهدت فادى اجتهادي
إلى كذا لم يكن للساعي أن يقبل منه حتى يشهد به شاهدان من أهل الخبرة بذلك *
(فرع) لو كان له إناء من ذهب وفضة وزنه الف من أحدهما ستمائة ومن الآخر أربعمائة ولا
يعرف أيهما الذهب قال أصحابنا إن احتاط فزكى ستمائة ذهبا وستمائة فضة أجزأه فإن لم يحتط
فطريقه ان يميزه بالنار. قال أصحابنا الخراسانيون ويقوم مقام النار الامتحان بالماء بأن يوضع قدر
المخلوط من الذهب الخالص في ماء ويعلم على الموضع الذي يرتفع إليه الماء ثم يخرج ويوضع مثله من
الفضة الخالصة ويعلم على موضع الارتفاع وهذه العلامة تقع فوق الأولى لان أجزاء الذهب أكثر اكتنازا
ثم يوضع فيه المخلوط وينظر ارتفاع الماء به أهو إلى علامة الذهب أقرب أم إلى علامة الفضة ويزكي
كذلك ولو غلب على ظنه الأكثر منهما قال الشيخ أبو حامد والعراقيون إن كان يخرج الزكاة بنفسه
فله اعتماد ظنه وإن دفعه إلى الساعي لم يقبل ظنه بل يلزمه الاحتياط أو التمييز وقال إمام الحرمين
الذي قطع به أئمتنا انه لا يجوز اعتماد ظنه قال ويحتمل ان يجوز الاخذ بما شاء من التقديرين لان
اشتغال ذمته بغير ذلك مشكوك فيه وجعل الغزالي في الوسيط هذا الاحتمال وجها *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله يكره للامام ضرب الدراهم المغشوشة للحديث
الصحيح ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من غشنا فليس منا) رواه البخاري ومسلم من
رواية أبي هريرة ولان فيه افسادا للنقود واضرارا بذوي الحقوق وغلاء الأسعار وانقطاع الاجلاب
وغير ذلك من المفاسد قال أصحابنا ويكره لغير الامام ضرب المغشوش لما ذكرنا في الامام ولان
فيه افتئاتا على الامام ولأنه يخفى فيغتر به الناس بخلاف ضرب الإمام قال القاضي أبو الطيب
10

في المجرد وغيره من الأصحاب قال أصحابنا ويكره أيضا لغير الامام ضرب الدراهم والدنانير وإن كانت خالصة لأنه من شأن الامام ولأنه لا يؤمن فيه لغش والافساد قال القاضي
أبو الطيب قال أصحابنا ومن ملك دراهم مغشوشة كره له إمساكها بل يسبكها ويصفيها قال القاضي
الا إذا كانت دراهم البلد مغشوشة فلا يكره إمساكها وقد نص الشافعي رضي الله عنه على كراهة
إمساك المغشوش واتفق الأصحاب عليه لأنه يغربه ورثته إذا مات وغيرهم في الحياة كذا علله
الشافعي وغيره والله تعالى أعلم. وأما المعاملة بالدراهم المغشوشة فإن كان الغش فيها مستهلكا بحيث
لو صفيت لم يكن له صورة كالدراهم المطلية بزرنيخ ونحوه صحت المعاملة عليها بالاتفاق لان وجود
هذا الغش كالعدم وإن لم يكن مستهلكا كالمغشوش بنحاس ورصاص ونحوهما فإن كانت الفضة
فيها معلومة لا تختلف صحت المعاملة على عينها الحاضرة وفى الذمة أيضا وهذا متفق عليه صرح
به الماوردي وغيره من العراقيين وإمام الحرمين وغيره من الخراسانيين وإن كانت الفضة التي
فيها مجهولة ففي صحة المعاملة بها معينة وفى الذمة أربعة أوجه (أصحها) الجواز فيها لان المقصود
رواجها ولا يضر اختلاطها بالنحاس كما يجوز بيع المعجونات بالاتفاق وإن كانت افرادها مجهولة
المقدار (والثاني) لا يصح لان المقصود الفضة وهي مجهولة كما نص الشافعي والأصحاب أنه لا يجوز
بيع تراب المعدن لان مقصوده الفضة وهي مجهولة وكما لا يجوز بيع اللبن المخلوط بالماء باتفاق
الأصحاب (والثالث) تصح المعاملة بأعيانها ولا يصح التزامها في الذمة كما لا يصح بيع الجواهر
والحنطة المختلطة بالشعير معيبة ولا يصح السلم فيها ولا قرضها (والرابع) إن كان الغش فيها غالبا
لم يجز وإلا فيجوز (قال أصحابنا) فان قلنا بالأصح فباعه بدراهم مطلقا ونقد البلد مغشوش صح العقد
ووجب من ذلك النقد وإن قلنا بالآخرين لم يصح هكذا ذكر الخراسانيون وغيرهم المسألة قال
الصميري وصاحبه صاحب الحاوي إذا كان قدر الفضة في المغشوشة مجهولا فله حالان (أحدهما) أن
يكون الغش بشئ مقصود له قيمة كالنحاس وهذا له صورتان (إحداهما) أن تكون الفضة غير
ممازجة للغش كالفضة على النحاس فلا تصح المعاملة بها لا في الذمة ولا بعينه لان المقصود الآخر
11

غير معلوم ولا مشاهد فلا تصح المعاملة بها كالفضة المطلية بذهب (الثانية) أن تكون الفضة ممازجة
للنحاس فلا تجوز المعاملة بها في الذمة للجهل بها كما لا يجوز السلم في المعجونات وفى جوازها على
أعيانها وجهان (أصحهما) وبه قال أبو سعيد الإصطخري وأبو علي ابن أبي هريرة يصح كما يصح
بيع حنطة مخلوطة بشعير وكالمعجونات وإن لم يجز السلم بخلاف تراب المعادن لان التراب غير مقصود
(الحال الثاني) أن يكون الغش بشئ مستهلك لا قيمة له حينئذ كالزئبق والزرنيخ فإن كانا ممتزجين
لم تجز المعاملة بها في الذمة ولا معينة لان المقصود مجهول ممتزج كتراب المعدن وإن لم يكونا ممتزجين
بل كانت الفضة على ظاهر الزرنيخ والزئبق صارت المعاملة بأعيانها لان المقصود مشاهد ولا يجوز
في الذمة لان المقصود مجهول: هذا كله لفظ صاحب الحاوي قال صاحب الحاوي وغيره والحكم
في الدنانير المغشوشة كهو في الدراهم المغشوشة كما سبق ولا يجوز بيع بعضها ببعض ولا بالدنانير
الخالصة وكذا لا يجوز بيع دراهم مغشوشة بمغشوشة ولا بخالصة وستأتي المسألة واضحة في باب الربا
إن شاء الله تعالى: قال صاحب الحاوي ولو أتلف الدراهم المغشوشة انسان لزمه قيمتها ذهبا لأنه
لا مثل لها هذا كلامه وهو تفريع على طريقته والا فالأصح ثبوتها في الذمة وحينئذ تكون مضبوطة
فيجب مثلها والله تعالى أعلم *
(فرع) جرت عادة أصحابنا في هذا الموضع بتفسير الكنز المذكور في قوله تبارك وتعالي
(الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب اليم) وجاء الوعيد
على الكنز في الأحاديث الصحيحة قال أصحابنا وجمهور العلماء المراد بالكنز المال الذي لا تؤدى
زكاته سواء كان مدفونا أم ظاهرا فأما ما أديت زكاته فليس بكنز سواء كان مدفونا أم بارز أو ممن
قال به من أعلام المحدثين البخاري فقال في صحيحه ما أديت زكاته فليس بكنز لقول النبي صلى الله عليه
وسلم (ليس فيما دون خمس أواق صدقة) ثم روى البخاري في صحيحه أن أعرابيا قال لابن
12

فويل له إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة فلما نزلت جعلها الله تعالى طهرا للأموال وهذا
الحديث في صحيح البخاري مسند متصل الاسناد وقد غلط بعض المصنفين في أحكام الحديث في
قوله ذكره البخاري تعليقا وسبب غلطه أن البخاري قال قال أحمد بن شبيب وذكر اسناده وأحمد
أين شبيب أحد شيوخ البخاري المشهورين وقد علم أهل العناية بصنعة الحديث أن مثل هذه الصيغة
إذا استعملها البخاري في شيخه كان الحديث متصلا وإنما المعلق ما أسقط في أول إسناده واحد
فأكثر وكل هذا موضح في علوم الحديث. وعن عبد الله بن دينار قال سمعت ابن عمر رضي الله
عنهما وهو يسأل عن الكنز ما هو فقال (هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة) رواه مالك في الموطأ
باسناده الصحيح وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت
ما عليك) رواه الترمذي وقال حديت حسن وعن ابن عباس قال لما نزلت هذه الآية (الذين
يكنزون الذهب والفضة) كبر ذلك على المسلمين فقال عمر رضي الله عنه أنا أفرج عنكم فانطلقوا
فقالوا يا نبي الله انه أكبر على أصحابك هذه الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الله تعالى
لم يفرض الزكاة الا ليطيب بها ما بقي من أموالكم وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم
فكبر عمر رضي الله عنه ثم قال (الا أخبركم بخير ما يكنز المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا
أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته) رواه أبو داود في أواخر كتاب الزكاة من سننه باسناد صحيح
على شرط مسلم وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت (كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت يا رسول
الله أكنز هو فقال ما بلغ ان تؤدى زكاته فزكي فليس بكنز) رواه أو داود في أول كتاب الزكاة
باسناد حسن قال صاحب الحاوي قال الشافعي الكنز ما لم تؤد زكاته وإن كان ظاهرا وما أديت
زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا قال واعترض عليه ابن جرير وابن داود فقال ابن داود الكنز في اللغة
المال المدفون سواء أديت زكاته أم لا وزعم أنه المراد بالآية وقال ابن جرير الكنز المحرم في الآية
هو ما لم تنفق منه في سبيل الله في الغز وقال وكل من الاعتراضين غلط والصواب قال الشافعي يدل
عليه الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والله أعلم *
13

(فصل) في بيان حقيقة الدينار والدرهم ومبدأ أمرهما في الاسلام وضبط مقدارهما قال الإمام أبو
سليمان الخطابي في معالم السنن في أول كتاب البيع في باب * المكيال مكيال أهل المدينة والميزان ميزان
أهل مكة * قال معني الحديث ان الوزن الذي يتعلق به حق الزكاة وزن أهل مكة وهي دراهم
الاسلام المعدلة منها العشرة بسبعة مثاقيل لان الدراهم مختلفة الأوزان في البلدان فمنها البغلي وهو
ثمانية دوانيق والطبري أربعة دوانيق ومنها الخوارزمي وغيرها من الأنواع ودراهم الاسلام في
جميع البلدان ستة دوانيق وهو وزن أهل مكة الجاري بينهم وكان أهل المدينة يتعاملون بالدراهم
عددا وقت قدوم النبي صلى الله عليه وسلم ويدل عليه قول عائشة رضي الله عنها في قصه شراها
بريرة ان شاء أهلك ان أعدها لهم عدة واحدة فعلت تريد الدراهم فأرشدهم النبي صلى الله عليه
وسلم إلى الوزن وجعل المعيار وزن أهل مكة قال واختلفوا في حال الدراهم فقال بعضهم لم تزل
الدراهم على هذا العيار في الجاهلية والاسلام وإنما غيروا السكك ونقشوها بسكة الاسلام والأوقية أربعون درهما ولهذا قال النبي صلي عليه وسلم (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة) وهي
مائتا درهم قال وهذا قول أبي العباس بن سريج وقال أبو عبيد حدثني رجل من أهل العلم والعناية
بأمر الناس ممن يعنى بهذا الشأن ان الدراهم كانت في الجاهلية ضربين البغلية السوداء ثمانية دوانيق
والطبرية أربعة وكانوا يستعملونها مناصفة مائة بغلية ومائة طبرية فكان في المائتين منها خمسة دراهم
زكاة فلما كان زمن بني أمية قالوا إن ضربنا البغلية ظن الناس انها التي تعتبر فيها الزكاة
فيضر الفقراء وإن ضربنا الطبرية ضر أرباب الأموال فجمعوا الدرهم البغلي والطبري وجعلوهما
درهمين كل درهم ستة دوانيق وأما الدينار فكان يحمل إليهم من بلاد الروم فلما أراد عبد الملك
ابن مروان ضرب الدنانير والدراهم سأل عن أوزان الجاهلية فأجمعوا له على أن المثقال اثنان وعشرون
قيراطا الأحبة بالشامي وأن عشرة من الدراهم سبعة مثاقيل فضربها كذلك هذا آخر كلام الخطابي
وقال الماوردي في الأحكام السلطانية: استقر في الاسلام وزن الدراهم ستة دوانيق كل عشرة
دراهم سبعة مثاقيل واختلف في سبب استقرارها على هذا الوزن فقيل كانت في الفرس ثلاثة
أوزان منها درهم على وزن المثقال عشرون قيراطا ودرهم إثنا عشر ودرهم عشرة فلما احتيج في الاسلام
14

إلى تقديره أخذ الوسط من جميع الأوزان الثلاثة وهو اثنان وأربعون قيراطا فكان أربعة عشر
قيراطا من قراريط المثقال وقيل إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى الدراهم مختلفة منها البغلي
ثمانية دوانيق والطبري أربعة المغربي ثلاثة دوانيق واليمني دانق واحد فقال انظروا أغلب ما يتعامل
الناس به من أعلاها وأدناها فكان البغلي والطبري فجمعهما فكانا اثنى عشر دانقا فاخذ نصفهما
فكان ستة دوانيق فجعله درهم الاسلام قال واختلف في أول من ضربها في الاسلام فحكى
عن سعيد بن المسيب أن أول من ضربها في الاسلام عبد الملك بن مروان قال أبو الزياد أمر عبد
الملك بضربها في العراق سنه أربع وسبعين وقال المدائني بل ضربها في آخر سنة خمس وسبعين
ثم أمر بضربها في النواحي سنة ست وسبعين قال وقيل أول من ضربها مصعب بن الزبير بأمر
أخيه عبد الله بن الزبير سنة سبعين على ضرب الأكاسرة ثم غيرها الحجاج: هذا آخر كلام الماوردي
وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى لا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو يوجب الزكاة في اعداد منها وتقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث
الصحيحة. قال وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمن عبد الملك بن
مروان وأنه جمعها برأي العلماء وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل ووزن الدرهم ستة دوانيق قول
باطل وإنما معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شئ من ضرب الاسلام وعلى صفة لا تختلف بل
كانت مجموعات من ضرب فارس والروم وصغارا وكبارا وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة ويمنية
ومغربية فرأوا صرفها إلى ضرب الاسلام ونقشه وتصييرها وزنا واحدا لا يختلف وأحيانا يستغنى
فيها عن الموازين فجمعوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم قال القاضي ولا شك أن الدراهم
كانت حينئذ معلومة وإلا فكيف كانت تعلق بها حقوق الله تعالى في الزكاة وغيرها وحقوق العباد
وهذا كما كانت الأوقية معلومة أربعين درهما هذا كلام القاضي وقال الرافعي وغيره من أصحابنا
أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن وهو ان الدرهم ستة دوانيق كل عشرة دراهم سبعة
مثاقيل ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا الاسلام هذا ما ذكره العلماء في ذلك والصحيح الذي يتعين
اعتماده ان الدراهم المطلقة في زمن رسول الله كانت معلومة الوزن معروفة المقدار وهي السابقة
15

إلى الافهام عند الاطلاق وبها تتعلق الزكاة وغيرها من الحقوق والمقادير الشرعية ولا يمنع من هذا
كونه كان هناك دراهم أخرى أقل أو أكثر من هذا القدر فاطلاق النبي صلى الله عليه وسلم الدراهم
محمول على المفهوم عند الاطلاق وهو كل درهم ستة دوانيق كل عشرة سبعة مثاقيل وأجمع أهل العصر
الأول فمن بعدهم إلى يومنا على هذا ولا يجوز أن يجمعوا على خلاف ما كان في زمن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين والله تعالى أعلم: وأما مقدار الدرهم والدينار فقال الحافظ أبو محمد
عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله الأزدي في كتابه الأحكام قال أبو محمد علي بن أحمد يعنى ابن حزم بحثت
غاية البحث عن كل من وثقت بتمييزه فكل اتفق على أن دينار الذهب بمكة وزنه ثنتان وثمانون
حبة وثلاثة أعشار حبة من حب الشعير وعشر عشر حبة فالرطل مائة درهم وثمانية وعشرون
درهما وأربعة أسباع درهم وهو تسعون مثقالا وقيل مائة وثلاثون درهما وبه قطع الغزالي والرافعي
وهو غريب ضعيف
(فرع) في مذاهب العلماء في نصاب الذهب والفضة وضم أحدهما إلى الاخر وغير ذلك وفيه
مسائل
(إحداها) قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على أن نصاب الفضة مائتا درهم وان فيه خمسة دراهم
واختلفوا فيما زاد على المائتين فقال الجمهور يخرج مما زاد بحسابه ربع العشر قلت الزيادة أم
كثرت ممن قال به علي بن أبي طالب وابن عمر والنخعي ومالك وابن أبي ليلى والثوري والشافعي
وأبو يوسف ومحمد واحمد وأبو ثور وأبو عبيد قال وقال سعيد بن المسيب وطاوس وعطاء والحسن
16

البصري والشعبي ومكحول وعمرو ابن دينار والزهري وأبو حنيفة لا شئ في الزيادة على مائتين حتى
تبلغ أربعين ففيها درهم قال ابن المنذر وبالأول أقول ودليل الوجوب في القليل والكثير قوله صلى الله عليه
وسلم في (الرقة ربع العشر) وهو صحيح كما سبق وأما الذهب فقد ذكرنا أن مذهبنا أن
نصابه عشرون مثقالا ويجب فيما ما زاد بحسابه ربع العشر قلت الزيادة أم كثرت وبه قال الجمهور
من السلف والخلف وقال ابن المنذر اجمعوا على أن الذهب إذا كان عشرين مثقالا وقيمتها مائتا
درهم وجبت فيه الزكاة الا ما اختلف فيه عن الحسن فروى عنه هذا وروى عنه أنه لا زكاة فيما هو دون
أربعين مثقالا لا تساوى مائتي درهم (1) وفى دون عشرين إذا ساوى مائتي درهم فقال كثير منهم لا زكاة فيما
دون عشرين وان بلغت مائي درهم وتجب في عشرين وان لم تبلغها ممن قال به علي بن أبي طالب وعمر بن عبد
العزيز وابن سيرين وعروة والنخعي والحكم ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي وأبو حنيفة

(1) كذا بالأصل ولعل الصواب واختلفوا الخ
17

وأبو يوسف ومحمد واحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد * وقال طاوس وعطاء والزهري وأيوب وسليمان
بن حرب يجب ربع العشر في الذهب إذا بلغت قيمته مائتي درهم وإن كان دون عشرين مثقالا فلا شئ
في الزيادة حتى تبلغ أربعة دنانير * وأما إذا كانت الفضة تنقص عن مائتي درهم والذهب ينقص عن عشرين
مثقالا نقصا يسيرا جدا بحيث يروج رواج الوازنة فقد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا زكاة وبه قال إسحاق
وابن المنذر والجمهور * وقال مالك تجب
(المسألة الثانية) مذهبنا انه لا يكمل نصاب الدراهم بالذهب
ولا عكسه حتى لو ملك مائتين الا درهما وعشرين مثقالا الا نصفا أو غيره فلا زكاة في واحد
منهما وبه قال جمهور العلماء حكاه ابن المنذر عن ابن أبي ليلى والحسن بن صالح وشريك وأحمد
وأبي ثور وأبي عبيد * قال ابن المنذر وقال الحسن وقتادة والأوزاعي والثوري ومالك وأبو حنيفة
وسائر أصحاب الرأي يضم أحدهما إلى الآخر واختلفوا في كيفية الضم فقال الأوزاعي يخرج ربع
عشر كل واحد فإذا كانت مائة درهم وعشرة دنانير أخرج ربع عشر كل واحد منهما وقال الثوري
يضم القليل إلى الكثير ونقل العبدري عن أبي حنيفة انه يضم الذهب إلى الفضة بالقيمة فإذا
كانت له مائة درهم وله ذهب قيمته مائة درهم وجبت الزكاة قال وقال مالك وأبو يوسف وأحمد
يضم أحدهما إلى الآخر بالاجزاء فإذا كان معه مائة درهم وعشرة دنانير أو خمسون درهما وخمسة
عشر دينارا ضم أحدهما إلى الآخر ولو كان له مائة درهم وخمسة دنانير قيمتها مائة درهم فلا ضم *
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (ليس فبما دون خمس أواق من الورق صدقة)
(الثالثة) مذهبنا ومذهب
18

العلماء كافة ان الاعتبار في نصاب الذهب والفضة بالوزن لا بالعدد وحكى صاحب الحاوي وغيره من أصحابنا عن المغربي وبشر المريسي المعتزلي ان الاعتبار بمائتي درهم عددا وزنا حتى لو كان معه مائة درهم
عددا وزنها مائتان فلا شئ فيها وإن كانت مائتان عددا وزنها مائة وجبت الزكاة قال أصحابنا وهذا غلط
منهما لمخالفته النصوص والاجماع فهو مردود
(الرابعة) قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا زكاة في المغشوش
من ذهب ولا فضة حتى يبلغ خالصه نصابا وبه قال جمهور العلماء * وقال أبو حنيفة إن كان الغش مثل نصف
الفضة أو الذهب أو أكثر فلا زكاة حتى يبلغ الخالص نصابا وإن كان أقل وجبت الزكاة إذا بلغ بغشه
نصابا بناء على أصله ان الغش إذا نقص عن النصف سقط حكمه حتى لو اقترض عشرة دراهم لا غش
فيها فرد عشرة فيها ستة فضة والباقي غش لزم المقرض قبولها ويبرأ المقترض بها ولو ملك مائتين خالصة
فأخرج زكاتها خمسة مغشوشة قال تجزية قال الماوردي وفساد هذا القول ظاهر والاحتجاج عليه تكلف
ويكفى في رده قوله صلى الله عليه وسلم (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)
(الخامسة)
مذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجمهور انه يشترط في المال الذي تجب الزكاة في عينه ويعتبر فيه
الحول كالذهب والفضة والماشية وجود النصاب في جميع الحول فان نقص النصاب في لحظة من الحول
19

انقطع الحول فان كمل بعد ذلك استؤنف الحول من حين يكمل النصاب وقال أبو حنيفة المعتبر
وجود النصاب في أول الحول وآخره ولا يضر نقصه بينهما حتى لو كان معه مائتا درهم فتلفت
كلها في أثناء الحول الا درهما أو أربعون شاة فتلفت في أثناء الحول الا شاة ثم ملك في آخر
الحول تمام المائتين وتمام الأربعين وجبت زكاة الجميع والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وإن كان له دين نظرت فإن كان دينا غير لازم كمال الكتابة لم يلزمه زكاته لان ملكه غير
تام عليه فان العبد يقدر أن يسقطه وإن كان لازما نظرت فإن كان على مقر ملئ لزمه زكاته لأنه
مقدور على قبضه فهو كالوديعة وإن كان على ملئ جاحد أو مقر معسر فهو كالمال المغصوب
وفيه قولان وقد بيناه في زكاة الماشية وإن كان له دين مؤجل ففيه وجهان قال أبو إسحاق هو
كالدين الحال على فقير أو ملئ جاحد فيكون على قولين وقال أبو علي بن أبي هريرة لا تجب فيه
20

الزكاة فإذا قبضه استقبل به الحول لأنه لا يستحقه ولو حلف أنه لا يستحقه كان بارا والأول
أصح لأنه لو لم يستحقه لم ينفذ فيه ابراؤه وإن كان له مال غائب فإن كان مقدورا على قبضه
وجبت فيه الزكاة الا انه لا يلزمه اخراجها حتى يرجع إليه وان لم يقدر عليه فهو كالمغصوب) *
(الشرح) قال أصحابنا الدين ثلاثة أقسام (أحدها) غير لازم كمال الكتابة فلا زكاة فيه
بلا خلاف لما ذكره المصنف (الثاني) أن يكون لازما وهو ماشية بأن كان له في ذمة إنسان أربعون شاة
سلما أو قرضا فلا زكاة فيها أيضا بلا خلاف لان شرط زكاة الماشية السوم ولا توصف التي في الذمة
بأنها سائمة (الثالث) أن يكون دراهم أو دنانير أو عرض تجارة وهو مستقر ففيه قولان مشهوران
(القديم) لا تجب الزكاة في الدين بحال لأنه غير معين (والجديد) الصحيح باتفاق الأصحاب وجوب
الزكاة في الدين على الجملة وتفصيله أنه ان تعذر استيفاؤه لاعسار من عليه أو جحوده ولا بينة أو مطله
أو غيبته فهو كالمغصوب: وفى وجوب الزكاة فيه طرق تقدمت في باب زكاة الماشية والصحيح
وجوبها وقيل يجب في الممطول والدين على ملئ غائب بلا خلاف وإنما الخلاف فيما سواهما وبهذا
الطريق قطع صاحب الحاوي وغيره وليس كذلك بل المذهب طرد الخلاف فان قلنا بالصحيح
وهو الوجوب لم يجب الاخراج قبل حصوله بلا خلاف ولكن (1) في يده اخرج عن المدة الماضية
هذا معنى الخلاف وأما إذا لم يتعذر استيفاؤه بأن كان على ملئ باذل أو جاحد عليه بينة أو كان
القاضي يعلمه وقلنا القاضي يقضى بعلمه فإن كان حالا وجبت الزكاة بلا شك ووجب اخراجها في
الحال وإن كان مؤجلا فطريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) عند المصنف والأصحاب
أنه على القولين في المغصوب (أصحهما) يجب الزكاة (والثاني) لا تجب أو هذه طريقة أبى اسحق المروزي

(1) كذا في الأصل ولعل الصواب إذا حصل الخ
21

(والطريق الثاني) طريقة ابن أبي هريرة لا زكاة فيه قولا واحدا كالمال الغائب الذي يسهل احضاره
فان قلنا بوجوب الزكاة فهل يجب اخراجها في الحال فيه وجهان حكاهما امام الحرمين وآخرون
(أصحهما) لا يجب وبه قطع الجمهور كالمغصوب قال امام الحرمين ولان الخمسة نقدا تساوى ستة
مؤجلة ويستحيل أن يسلم أربعة نقدا نساوي خمسه مؤجلة فوجب تأخير الاخراج إلى القبض قال
ولا شك أنه لو أراد أن يبرئ فقيرا عن دين له عليه ليوقعه عن الزكاة لم يقع عنها لان شرط أداء
الزكاة أن يتضمن تمليكا محققا والله تعالى أعلم * وأما المال الغائب فإن لم يكن مقدورا عليه لانقطاع
الطريق أو انقطاع خبره فهو كالمغصوب هكذا قاله المصنف والجمهور وقيل تجب الزكاة قطعا لان تصرفه فيه
نافذ بخلاف المغصوب ولا خلاف أنه لا يجب الاخراج عنه قبل عوده وقبضه وإن كان مقدورا على قبضه
وجبت الزكاة منه بلا خلاف ووجب اخراجها في الحال بلا خلاف ويخرجها في بلد المال فان أخرجها في
غيره ففيه خلاف نقل الزكاة * هذا إذا كان المال مستقرا فإن كان سائرا غير مستقر
لم تجب اخراج زكاته قبل أن يصل إليه فإذا وصل أخرج عن الماضي بلا خلاف هذا هو
الصواب في مسألة الغائب وما وجدته خلافه في بعض الكتب فنزله عليه ومما يظن مخالفا
قول المصنف (فإن كان مقدورا على قبضه وجبت فيه الزكاة الا أنه لا يلزمه اخراجها حتى
يرجع إليه) وهكذا قاله ابن الصباغ وكلامهما محمول على ما ذكرنا إذا كان سائرا غير مستقر
هكذا صرح به أبو المكارم في العدة وغيره وجزم الشيخ أبو حامد بأنه يخرجها في الحال وهو
محمول على ما إذا كان المال مستقرا في بلد والله تعالى أعلم (قال) أصحابنا كل دين وجب اخراج
زكاته قبل قبضه وجب ضمه إلى ما معه من جنسه لاكمال النصاب ويلزمه اخراج زكاتهما في الحال
وكل دين لا يجب اخراج زكاته قبل قبضه ويجب بعد قبضه فإن كان معه من جنسه مالا يبلغ وحده
نصابا ويبلغ بالدين نصابا فوجهان مشهوران (أحدهما) وبه قطع صاحب البيان لا يلزمه زكاة ما معه
في الحال فإذا قبض الدين لزمه زكاتهما عن الماضي شرط في الوجوب أو في الضمان ان قلنا
اخراج قسط ما معه قالوا وهما مبنيان على أن التمكن شرط في الوجوب أو في الضمان ان قلنا
بالأول لا يلزمه لاحتمال ان لا يحصل الدين وان قلنا بالثاني لزمه والله تعالى أعلم * وكل دين
لا زكاة فيه في الحال ولا بعد عوده عن الماضي بل يستأنف له الحول إذا قبض فهذا لا يتم به نصاب
ما معه وإذا قبضه لا يزكيهما عن الماضي بلا خلاف بل يستأنف لهما الحول والله تعالى اعلم * أما إذا
كان له مائة درهم حاضرة ومائة غائبة فإن كانت الغائبة مقدورا عليها لزمه زكاة الحاضرة في الحال
في موضعها والغائبة في موضعها وإن لم يكن مقدورا عليه فان قلنا لا زكاة فيه إذا عاد فلا زكاة
في الحاضر لنقصه عن النصاب وان قلنا تجب زكاته فهل يلزمه زكاة الحاضر في الحال فيه الوجهان
22

السابقان في الدين بناء على أن التمكن شرط في الوجوب أم الضمان فإن لم نوجبها في الحال أوجبناها
فيه وفي الغائب ان عاد والا فلا
* قال المصنف رحمه الله *
(وإن كان معه اجرة دار لم يستوف المستأجر منفعتها وحال عليها الحول وجبت فيها الزكاة
لأنه يملكها ملكا تاما وفى وجوب الاخراج قولان قال في البويطي يجب لأنه يملكها ملكا تاما فأشبه
مهر المرأة وقال في الام لا يجب لان ملكه قبل استيفاء المنفعة غير مستقر لأنه قد تنهدم الدار
فتسقط الأجرة فلم تجب الزكاة فيه كدين الكتابة والأول أصح لان هذا يبطل بالصداق قبل الدخول
فإنه يجوز ان يسقط بالردة ويسقط نصفه بالطلاق ثم يجب اخراج زكاته) *
(الشرح) اتفقت نصوص الشافعي رضي الله عنه والأصحاب رحمهم الله تعالى على أن المرأة
يلزمها زكاة الصداق إذا حال عليه الحول ويلزمها الاخراج عن جميعه في آخر كل حول بلا خلاف
وإن كان قبل الدخول ولا يؤثر كونه معرضا للسقوط بالفسخ بردة أو غيرها أو نصفه بالطلاق وأما إذا
اجر داره أو غيرها بأجرة حالة وقبضها فيجب عليه زكاتها بلا خلاف لما ذكره المصنف وفى كيفية اخراجها
قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (مثاله) آجرها أربع سنين بمائة وستين دينارا كل سنة
بأربعين (أحد القولين) يلزمه عند تمام السنة الأولى من حين ملك المائة وقبضها زكاة جميع المائة وهذا
نصه في البويطي قال صاحب الحاوي وغيره وهو الأصح عند ابن سريج والمصنف وابن الصباغ
23

(والثاني) لا يلزمه عند تمام كل سنة الا اخراج زكاة القدر الذي استقر ملكه عليه وهذا هو الصحيح
وهو نصه في الام ومختصر المزني قال صاحب الحاوي هو نصه في الام وفى غيره وصححه جمهور
الأصحاب ممن صححه الشيخ أبو حامد والمحاملي في المجموع وصاحب الحاوي والبغوي وخلائق ونقل
السرخسي في الأمالي والرافعي انه الأصح عند جمهور الأصحاب فعلى هذا يخرج عند تمام السنة الأولى
زكاة حصة السنة وهو دينار عن أربعين فإذا مضت السنة الثانية فقد استقر ملكة على ثمانين سنتين فعليه
زكاتها السنتين وهي أربع دنانير لكل سنة ديناران وقد أخرج في السنة الأولى دينارا فيسقط عنه ويخرج
الباقي وهو ثلاثة دنانير فإذا مضت السنة الثالثة فقد استقر ملكه على مائة وعشرين ثلاث سنين وواجبها
تسعة دنانير لكل سنة ثلاثة وقد اخرج منها في السنتين السابقتين أربعة فيخرج الباقي وهو خمسة
دنانير فإذا مضت السنة الرابعة فقد استقر ملكه على مائة وستين دينارا في السنين الماضية
تسعة دنانير فيجب اخراج الباقي وهو سبعة دنانير قال أصحابنا هذا إذا اخرج من غير الأجرة
فان اخرج منها واجب السنة الأولى فعند تمام السنة الثانية يخرج زكاة الأربعين الأولى سوى
ما اخرج منها في السنة الأولى وزكاة الأربعين الثانية لسنتين وعند السنة الثالثة والرابعة يقاس
بما ذكرناه امام إذا قلنا بالقول الأول فإنه يخرج عند تمام السنة الأولى زكاة المائة والستين وكذا في كل
سنة يخرج أربعة دنانير ان اخرج من غيرها فان اخرج منها زكي كل سنة ما بقي واعلم أن الشيخ أبا حامد والمصنف
والجمهور قالوا تجب الزكاة في الجميع بعد انقضاء السنة قولا واحدا وإنما القولان في كيفية الاخراج كما ذكرناه
وقال القاضي أبو الطيب وطائفة قليلة القولان في نفس الوجوب والاخراج مبنى عليهما ان قلنا بالوجوب وجب
الاخراج والا فلا هذا كله إذا كانت الأجرة مساوية في كل السنين كما مثلناه أولا فان تفاوتت
زاد القدر المستقر في بعض السنين على ربع المائة في بعضها قال الرافعي رحمه الله تعالى فان قيل
هل صورة المسألة ما إذا كانت الأجرة في الذمة ثم نقدها أو كانت معينة أم لا فرق فالجواب أن
كلام نقلة المذهب يشمل الصورتين ولم أر فيها نصا وتفصيلا الا في فتاوى القاضي حسين فإنه قال
في الحالة الأولى الظاهر أنه تجب زكاة كل المائة إذا حال الحول لان ملكه مستقر على ما أخذ
حتى لو انهدمت لا يلزمه رد المقبوض بعينه بل له رد مثله وفى الحالة الثانية قال حكم الزكاة حكمها
في المبيع قبل القبض لأنه معرض لان يعود إلى المستأجر بانفساخ الإجارة وبالجملة الصورة الثانية
أحق بالخلاف من الأولى وما ذكره القاضي اختيار منه للوجوب في الحالتين جميعا هذا آخر كلام
24

الرافعي رحمه الله تعالى وقال صاحب الحاوي لا خلاف في المذهب انه ملك جميع الأجرة الحالة
بنفس العقد لكن في ملكه قولان نص في البويطي وغيره انه ملكها ملكا مستقرا كثمن المبيع
وكالصداق لأنه جائز التصرف فيها بحيث لو كانت الأجرة أمة جاز له وطؤها فدل على أن ملكه
مستقر ونص في الام وغيره وهو الأظهر انه ملكها بالعقد ملكا موقوفا فإذا مضى زمان من المدة
استقر ملكه على ما قابله من الأجرة لان الأجرة في مقابلة المنفعة وملك المستأجر غير مستقر على
المنافع لأنها لو فاتت بالانهدام رجع بما قابلها من الأجرة ولو استقر ملكه لم يرجع بما قابلها كما لا يرجع
المشترى إذا استقر ملكه بالقبض والفرق بين الأجرة والصداق من وجهين (أحدهما) ان ملك
25

الزوج على الصداق مستقر لان ملك الزوج لبضعها مستقر بخلاف الأجرة ولهذا لو ماتت لم يرجع
بشئ من صداقها ولو انهدمت الدار رجع بقسط ما بقي من الأجرة والثاني ان رجوع الزوج
بالصداق إذا عرض فسخ أو بنصفه إذا عرض طلاق قبل الدخول إنما هو ابتداء جلب ملك فلا يمنع
استقرارا ملك الزوجة على الصداق قبل الفراق وأما رجوع المستأجر بقسط الأجرة إذا انهدمت
الدار فإنما هو بالعقد السابق والله تعالى أعلم *
(فرع) لو انهدمت الدار في أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقي ولا ينفسخ في الماضي على
المذهب وبينا استقرار ملكه على قسط الماضي والحكم في الزكاة كما سبق قال صاحب الحاوي والأصحاب
فلو كان أخرج زكاة الجميع قبل الانهدام لم يرجع بما أخرجه من الزكاة عند استرجاع قسط ما بقي
لان ذلك حق لزمه في ملكه فلم يكن له الرجوع به على غيره *
(فرع) قال صاحب الحاوي لو أجر الدار أربع سنين مثلا بمائة دينار وقبضها ولم يسلم الدار
حتى مضت المدة بطلت الإجارة ولزمه رد الأجرة قال وأما زكاتها فان قلنا بنصه في الام ان ملكه
26

غير مستقر إلا بمضي المدة فلا زكاة لأنه كلما مضى من مدة قبل التسليم زال ملكه عما يقابله
فلا يلزمه زكاته وان قلنا بنصه في البويطي ان ملكه مستقر فحكمه عكس ما سبق فإذا مضت السنة
الأولى قبل التسليم فقد كان ملكه مستقرا على مائة دينار وزال عن خمسة وعشرين فيزكى الباقي
وهكذا في كل سنة بحصتها فإذا مضت السنة الرابعة زال ملكه عن ما بقي من المائة فلا يزكيه ولا
رجوع بما أخرج من زكاتها قبل ذلك لأنه حق لزمه في ملكه فلم يكن له الرجوع به *
(فرع) إذا باع سلعة بنصاب من النقد وقبضه ولم يسلم السلعة حتى حال حول على الثمن في يده
فهل يلزم البائع اخراج زكاة النقد قبل تسليم المبيع قال أصحابنا فيه القولان في الأجرة لان الثمن
27

قبل قبض المبيع غير مستقر قال صاحب الحاوي وهل يلزم المشترى إذا كان شراء السلعة للتجارة
اخراج الزكاة عنها قبل قبضها فيه القولان ان قلنا إن ملك الأجرة مستقر ولا ينظر إلى احتمال الفسخ
فملك الثمن والسلعة مستقر فيجب زكاتهما وان احتمل الفسخ وان قلنا إن الملك في الأجرة غير
مستقر فكذا الثمن والسلعة قال أصحابنا ولو أسلم نصابا في ثمرة أو غيرها للتجارة أو غيرها وحال الحول
قبل قبض المسلم فيه فان قلنا إن تعذر المسلم فيه لا ينفسخ به العقد وإنما يوجب الخيار وجبت على
المسلم إليه زكاة النصاب الذي قبضه بلا خلاف لاستقرار ملكه وان قلنا ينفسخ العقد ففي وجوب
زكاته القولان كالأجرة فأما المسلم فلا تلزمه زكاة الثمرة المسلم فيها قولا واحدا وإن كانت للتجارة
قال صاحب الحاوي وغيره لان تأجيل الثمر يمنع وجو ب زكاته فإذا قبضه استقبل به الحول
والله تعالى اعلم *
28

(فرع) إذا أوصي لانسان بنصاب ومات الموصي ومضي حول من حين موته قبل القبول
قال أصحابنا ان قلنا الملك يحصل في الوصية بالموت فعلى الموصي له الزكاة ولا يضر كونه
يبطل برده وان قلنا يحصل بالقبول فلا زكاة عليه ثم إن أبقيناه على ملك الموصي فلا زكاة على
أحد لان الميت ليس مكلفا بزكاة ولا غيرها وإن قلنا إنه للوارث فهل يلزمه الزكاة فيه وجهان
(أحدهما) نعم لأنه ملكه (وأصحهما) لا لضعفه بتسلط الموصى له عليه وان قلنا إنه موقوف
فقبل بان انه ملك بالموت ولا زكاة عليه في أصح الوجهين لعدم استقرار ملكه وعلى الثاني
يجب لوجود الملك *
(فرع) إذا أصدق امرأته أربعين شاة سائمة بأعيانها لزمها الزكاة إذا تم حولها من يوم الاصداق
29

سواء دخل بها أم لا وسواء قبضتها أم لا هذا هو المذهب وقد سبقت الإشارة إليها وقد صرح
به المصنف في قياسه وفيه قول مخرج من الأجرة انه إذا لم يدخل بها فهو كالأجرة على ما سبق وحكي
وجه انه ما لم يقبضها لا زكاة عليها ولا على الزوج تفريعا على أن الصداق مضمون ضمان العقد فيكون
على الخلاف في المبيع قبل القبض وبهذا قال أبو حنيفة والمذهب الصحيح الذي قطع به الجمهور القطع
بالوجوب عليها مطلقا ولو طلقها قبل الدخول نظر ان طلقها قبل الحول عاد نصف الماشية إلى الزوج
فإن لم يميز فهما خليطان فعليهما عند تمام الحول من يوم الاصداق نصف شاة وان طلق بعد تمام
الحول فلها ثلاثة أحوال (أحدها) أن تكون قد أخرجت الزكاة من نفس الماشية ففيما يرجع به
الزوج ثلاثة أقوال (أحدها) نصف الجملة فان تساوت قيمة الغنم اخذ منها عشرين وان اختلفت
اخذ النصف بالقيمة وهذا نصه في المختصر (والثاني) نصف الغنم الباقية ونصف قيمة الشاة المخرجة
وهو نصه في كتاب الزكاة من الام وهو الأصح قال ابن الصباغ هو الأقيس لان حقه يتعلق بنصف
عين الصداق وقد ذهب بعض العين فيرجع في نصف ما بقي (والثالث) انه بالخيار بين ما ذكرنا في القول
الثاني وبين ان يترك الجميع ويرجع بنصف القيمة وهو نصه في كتاب الصداق هذا إذا كان المخرج
من جنس مال الصداق فلو كان من غير جنسه بان أصدقها خمسا من الإبل فحال الحول فباعت بعيرا
واشترت من ثمنه شاة أخرجتها زكاة فنقل السرخسي عن الأصحاب انه ان قلنا إذا كان الواجب
من جنسه ينصرف المخرج إلى حصتها ويرجع الزوج بعشرين شاة فهنا أولى والا فقولان أحدهما
الحكم كما سبق من القولين الباقيين من الثلاثة والثاني انه ينصرف هنا إلى نصيبها وان لم ينصرف هناك
فيرجع الزوج بعشرين كاملة لأنها باختيارها صرفت المخرج في هذه الجهة فوجب اختصاصه بها
(الحال الثاني) أن تكون أخرجت الزكاة من موضع آخر فالمذهب وبه قطع العراقيون وغيرهم بأخذ نصف
الأربعين وقال الصيدلاني وجماعة فيه وجهان أحدهما هذا والثاني يرجع إلى نصف القيمة (الحال الثالث)
ان لا تخرج الزكاة أصلا فالمذهب ان نصف الأربعين تعود إلى الزوج شائعا فإذا جاء الساعي
وأخذ من عينها شاة رجع الزوج عليها بنصف قيمتها قال صاحب الحاوي فلو اقتسماها قبل اخراج
زكاتها ففي صحة القسمة وجهان مخرجان من القولين في تعلق الزكاة بالعين أو الذمة ان قلنا تتعلق
بالعين فالقسمة باطلة وان قلنا بالذمة فصحيحة فعلى هذا لهما عند مطالبة الساعي بالزكاة أربعة أحوال
30

(أحدها) أن يكون نصيب كل واحد منهما باقيا في يده فيأخذ الساعي الزكاة مما في يدها دون ما في
يد الزوج لان الزكاة إنما وجبت عليها فإذا أخذها منها استقر ملك الزوج على ما في يده (الثاني) أن يكون
نصيباهما تالفين فأيهما يطالب بالزكاة وجهان أحدهما الزوجة لان الوجوب عليها والثاني للساعي
مطالبة من شاء منهما لان الزكاة وجبت فيما كان بأيديهما فان طالب الزوجة لم يرجع على الزوج وان
طالبه وأخذ منه رجع على الزوجة (الثالث) أن يكون ما في يدها باقيا دون ما في يده فيأخذ الساعي منها
ولا رجوع لها (الرابع) أن يكون ما في يد الزوج باقيا دون ما في يدها فيأخذ الساعي الزكاة مما في يد الزوج
لان الزكاة تعلقت بما في يده فإذا أخذها ففي بطلان القسمة وجهان أحدهما تبطل لأنه أخذها بسبب
متقدم فصار قدر الزكاة كالمستحق حال القسمة فعلى هذا بطلان القسمة يكون لوجود الزوج بعض
الصداق دون بعضه فيكون على الأقوال الثلاثة والوجه الثاني لا تبطل القسمة لان الوجوب في ذمتها
واخذ الساعي كان بعد صحه القسمة فلم يبطلها كما لو أتلفت المرأة شيئا مما في يد الزوج بقسمه فعلى
هذا للزوج ان يرجع على الزوجة بقيمة الشاة المأخوذة إن كانت مثل ما وجب عليها
فان أخذ الساعي منه زيادة لم يرجع بالزيادة لان الساعي ظلمه بها فلا يجوز رجوعه على غيره هذا
آخر كلام صاحب الحاوي قال القاضي أبو الطيب في المجرد والأصحاب في هذين الوجهين الأخيرين
الصحيح انه لا تبطل القسمة وقال السرخسي إذا طلقها بعد الحول وقل إخراج الزكاة فتقاسما
قبل اخراج الزكاة صحت المقاسمة على ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه وعليه فرع الشافعي رضي الله عنه
لكن قال أصحابنا ان قلنا القسمة افراز صحت كما نص عليه فان قلنا إنها بيع فحكمه ما سبق
في بيع مال الزكاة فان قلنا بصحة القسمة فجاء الساعي لاخذ الزكاة فان وجد في ملك المرأة من عين
الصداق أو غيره قدر الزكاة أخذها منها والا فمما اخذه الزوج ثم يرجع الزوج عليها بقيمة المأخوذ
قال القاضي أبو الطيب وغيره وهذا الحكم في كل صداق تجب الزكاة في عينه قال الشافعي في الام
والأصحاب ولو أصدقها أربعين شاة في الذمة فلا زكاة وان مضت أحوال وهذا لا خلاف فيه
لان الحيوان يشترط في زكاته السوم ولا يتصور ذلك فيما في الذمة وقد تقدمت هذه المسألة وكذا
لو أسلم إليه في أربعين شاه فلا زكاة فيها بلا خلاف لما ذكرناه والله تعالى أعلم *
31

قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ومن ملك مصوغا من الذهب والفضة فإن كان معدا للقنية وجبت فيه الزكاة لأنه مرصد
للنماء فهو كغير المصوغ وإن كان معدا للاستعمال نظرت فإن كان لاستعمال محرم كأواني الذهب
والفضة وما يتخذه الرجل لنفسه من سوار أو طوق أو خاتم ذهب أوما يحلي به المصحف أو يؤزر به
المسجد أو يموه به السقف أو كان مكروها كالتضبيب القليل للزينة وجبت فيه الزكاة لأنه عدل به عن
أصله بفعل غير مباح فسقط حكم فعله وبقى على حكم الأصل وإن كان لاستعمال مباح كحلي النساء
وما أعد لهن وخاتم الفضة للرجال ففيه قولان (أحدهما) لا تجب فيه الزكاة لما روى جابر رضي الله عنه
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس في الحلي زكاة ولأنه معد لاستعمال مباح فلم تجب فيه الزكاة كالعوامل
من الإبل والبقر (والثاني) تجب فيه الزكاة واستخار الله فيه الشافعي واختاره لما روى أن امرأة من
اليمن جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم معها ابنتها في يدها مسكتان غليظتان من الذهب فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أتعطين زكاة هذا فقالت لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيسرك
ان يسورك الله بهما سوارين من نار فخلعتهما وألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت هما لله ولرسوله
ولأنه من جنس الأثمان فأشبه الدراهم والدنانير وفيما لطخ به اللجام وجهان قال أبو الطيب بن سلمة
هو مباح كالذي حلي به المنطقة والسيف فيكون على قولين وقال أبو إسحاق لا يحل وهو المنصوص
لان هذا حلية للدابة بخلاف السيف والمنطقة فان ذلك حلية للرجل في الحرب فحل وإن كان
للمرأة حلي فانكسر بحيث لا يمكن لبسه الا انه يمكن اصلاحه للبس ففيه قولان (أحدهما) تجب فيه
الزكاة لأنه لا يمكن لبسه فوجبت فيه الزكاة كما لو تفتت (والثاني) لا تجب لأنه للاصلاح واللبس
أقرب وإن كان لها حلي معد للإجارة ففيه طريقان أحدهما انه تجب فيه الزكاة قولا واحدا لأنه معد
لطلب النماء فأشبه إذا اشتراه للتجارة والثاني انه على قولين لان النماء المقصود قد فقد لان ما يحصل
من الأجرة قليل فلم يؤثر في ايجاب الزكاة كأجرة العوامل من الإبل والبقر وإذا وجبت الزكاة
في حلي تنقص قيمته بالكسر ملك الفقراء ربع العشر منه ويسلمه إليهم بتسليم مثله ليستقر ملكهم
عليه كما قلنا في الرطب الذي لا يجئ منه تمر وقال أبو العباس يخرج زكاته بالقيمة لأنه يشق تسليم
بعضه والأول أظهر) *
32

(الشرح) أما الأحاديث والآثار الواردة في زكاة الحلي وعدمها فمنها حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم ومعها ابنة لها وفى يد ابنتها مسكتان غليظتان
من ذهب فقال لها أتعطين زكاة هذا قالت لا قال (أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين
من نار فخلعتهما فألقتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت هما لله ولرسوله) رواه أبو داود وغيره عن
أبي كامل الجحدري عن خالد بن الحرب عن حسين المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
كما ذكرنا وهذا إسناد حسن وراه الترمذي من رواية ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده ان امرأتين فذكره بنحوه ثم قال الترمذي هذا رواه المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب والمثنى
وابن لهيعة ضعيفان قال ولا يصح في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم شئ هذا آخر كلام
الترمذي وهذا التضعيف الذي ضعفه الترمذي بناه على انفراد ابن لهيعة والمثنى بن الصباح به وليس
هو منفردا بل رواه أبو داود وغيره من رواية حسين المعلم كما ذكرنا عن عمرو بن شعيب وحسين
ثقة بلا خلاف روى له البخاري ومسلم ورواه النسائي من رواية خالد بن الحارث مرفوعا كما سبق
ومن رواية معتمر بن سليمان مرسلا ثم قال خالد بن الحارث أثبت عندنا من معتمر وحديث معتمر
أولى بالصواب والله تعالى اعلم * وعن عائشة رضي الله عنها قالت دخل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق فقال ما هذا يا عائشة فقلت صغتهن أتزين لك يا رسول الله
قال أتؤدين زكاتهن قلت لا أو ما شاء الله قال هو حسبك من النار * وعن أم سلمة قالت كنت البس
أوضاحا من ذهب فقلت يا رسول الله أكنز هو فقال ما بلغ أن يؤدى زكاته فزكى فليس بكنز
رواه أبو داود باسناد حسن وقد سبق ذكره في هذا الباب عن نافع وهذا اسناد صحيح ورى مالك
في الموطأ أيضا عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها انها كانت تحلى بنات
33

أخيها يتامى في حجرها لهن الحلي فلا تخرج منه الزكاة) وهذا اسناد صحيح وروى الدارقطني
باسناده عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها أنها كانت تحلى بنانها الذهب ولا تزكيه نحوا من
خمسين ألفا وروى الشافعي رضي الله عنه هذه الأحاديث والآثار في الام ورواها عنه البيهقي
في معرفة السنن والآثار ثم روى البيهقي باسناده الصحيح عن الشافعي قال أخبرنا سفيان عن عمرو
ابن دينار قال سمعت رجلا يسأل جابر بن عبد الله عن الحلي أفيه زكاة فقال جابر لا فقال وإن
كان يبلغ ألف دينار فقال جابر كثير قال الشافعي ويروى عن ابن عباس وأنس بن مالك ولا أدري
أثبت عنهما معنى قول هؤلاء ليس في الحلي زكاة قال الشافعي ويروى عن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه وعبد الله بن عمرو بن العاص ان في الحلي زكاة قال البيهقي قد رويناه عنهما وعن ابن
مسعود قال وحكاه ابن المنذر عنهم وعن ابن عباس قال الشافعي وهذا مما أستخير الله تعالى فيه
قال الشافعي في القديم وقال بعض الناس في الحلي زكاة وروى فيه شيئا ضعيفا قال البيهقي وكأنه أراد
حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده السابق ثم رواه البيهقي من رواية حسين المعلم عن عمرو
ابن شعيب كما سبق ورواه أيضا من رواية الحجاج بن أرطأة ببعضه قال البيهقي حسين أوثق من
الحجاج غير أن الشافعي كان كالمتوقف في روايات عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده إذا لم ينضم إليها
ما يؤكدها لأنه قيل إن رواياته عن أبيه عن جده انها صحيفة كتبها عبد الله بن عمرو قال البيهقي
34

وقد ذكرنا في كتاب الحج وغيره ما يدل على صحة سماع عمرو من أبيه وسماع أبيه من جده عبد الله
ابن عمرو قال وقد انضم إلى حديثه هذا حديث أم سلمة وحديث عائشة في الفتخات قال البيهقي
من قال لا زكاة في الحلي زعم أن الأحاديث والآثار الواردة في وجوب زكاته كانت حين كان
التحلي بالذهب حراما على النساء فلما أبيح لهن سقطت زكاته قال البيهقي وكيف
يصح هذا القول مع حديث عائشة إن كان ذكر الورق فيه محفوظا غير أن رواية القسم وابن
أبي مليكة عن عائشة في تركها اخراج زكاة الحلي مع ما ثبت من مدهبها من اخراج زكاة أموال
اليتامى يوقع ريبة في هذه الرواية المرفوعة فهي لا تخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه الا فيما
علمته منسوخا قال البيهقي ومن العلماء من قال زكاة الحلي عاريته روى هذا عن ابن عمر وسعيد بن
المسيب قال البيهقي والذي يرويه فقهاؤنا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس في الحلي زكاة
لا أصل له إنما روى عن جابر من قوله غير مرفوع والذي يروى عن عافية بن أيوب عن الليث عن أبي
الزبير عن جابر مرفوعا لا أصل له وعافية بن أيوب مجهول فمن احتج به مرفوعا كان مغررا
بدينه داخلا فيما نعيب به المخالفين من الاحتجاج برواية الكذابين والله يعصمنا من أمثاله هذا
آخر كلام البيهقي فهذا مختصر ما يتعلق بأحاديث الباب وحصل في ضمنه بيان الحديثين اللذين
ذكرهما المصنف وهما حديث عمرو بن شعيب وحديث جابر والله تعالى أعلم * اما أحكام الفصل
فمقصوده بيان ما يجوز لبسه من الحلي للرجال والنساء وما يجوز للرجال خاصة أو للنساء خاصة وما تجب
فيه الزكاة منه: قد سبق بيان جمل منه في باب ما يكره لبسه وإنما ذكر الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى
ما يحل من الحلي ويحرم في هذا الباب ليعلم حكم الزكاة فيه قال الشافعي والأصحاب فكل
متخذ من الذهب والفضة من حلي وغيره إذا حكم بتحريم استعماله أو كراهته وجبت فيه الزكاة بلا
خلاف ونقلوا فيه اجماع المسلمين وإن كان استعماله مباحا كحلي النساء وخاتم الفضة للرجل والمنطقة
وغير ذلك مما سنوضحه إن شاء الله تعالى ففي وجوب الزكاة فيه قولان مشهوران أصحهما عند
الأصحاب لا كمالا تجب في ثياب البدن والأثاث وعوامل الإبل والبقر وهذا مع الآثار السابقة عن
الصحابة رضي الله عنهم وهذا نصه في البويطي والقديم قال السرخسي وغيره وبه قال أكثر أهل
العلم وممن صححه من أصحابنا المزني وابن القاص في المفتاح والبندنيجي والماوردي والمحاملي
35

والقاضي أبو الطيب في المجرد والدارمي في الاستذكار والغزالي في الخلاصة والرافعي في كتابيه
وآخرون لا يحصون وبه قطع جماعات منهم المحاملي في المقنع وسليم الرازي في الكفاية والمصنف
في عيون المسائل والجرجاني في كتابيه التحرير والبلغة والشيخ نصر المقدسي في الكافي وآخرون
وأما قول الفوراني ان القديم وجوب الزكاة والجديد لا تجب فغلط صريح مخالف لما قاله الأصحاب
بل الصواب المشهور نصه في القديم لا تجب وفى الجديد قولان نص عليهما في الام ونص في البويطي
انه لا تجب كما نص في القديم والمذهب لا تجب كما ذكرنا هذا إذا كان معدا لاستعمال مباح كما سبق
قال أصحابنا ولو اتخذ حليا ولم يقصد به استعمالا محرما ولا مكروها ولا مباحا بل قصد كنزه واقتناءه
فالمذهب الصحيح المشهور لذي قطع به المصنف والجمهور وجوب الزكاة فيه قال الرافعي ومنهم من
حكى فيه خلافا ولو اتخذ حليا مباحا في عينه لكن لم يقصد به استعمالا ولا كنز أو اقتناء أو اتخذه
ليؤجره فان قلنا تجب الزكاة في الحلى المتخذ للاستعمال المباح فهنا أولي والا فوجهان أصحهما لا
زكاة فيه كما لو اتخذه ليعيره ولا أثر للأجرة كأجرة الماشية العوامل والثاني تجب قولا واحدا لأنه
معد للنماء قال الماوردي وهذا قول أبي عبد الله الزبيري وصححه الجرجاني في التحرير لكن
المذهب أنه على القولين والأصح لا زكاة فيه صححه الماوردي والرافعي وآخرون وقطع
القاضي أبو الطيب في المجرد وآخرون بان المتخذ للإجارة مباح وفى زكاته القولان *
36

(فرع) ذكرنا ان المتخذ من ذهب أو فضة إن كان استعماله محرما وجبت فيه الزكاة قولا واحدا وإن كان
مباحا فلا زكاة في الأصح قال أصحابنا والمحرم نوعان محرم لعينه كالأواني والملاعق والمجامر
من ذهب أو فضة ومحرم بالقصد بان يقصد الرجل بحلي النساء الذي يملكه كالسوار والخلخال
ان يلبسه أو يلبسه غلمانه أو قصدت المرأة بحلي الرجال كالسيف والمنطقة ان تلبسه أو تلبسه جواريها
أو غيرهن من النساء أو أعد الرجل لنسائه وجواريه أو أعدت المرأة حلي النساء لزوجها
وغلمانها فكله حرام بلا خلاف وتجب الزكاة فيه بالاتفاق ولو اتخذ حليا ولم يقصد به استعمالا بل
قصد كنزه واقتناءه أو ايجاره ففيه خلاف قدمناه قريبا قال أصحابنا وحكم القصد الطارئ بعد
الصياغة في جمع ما ذكرنا حكم المقارن فلو اتخذه بقصد استعمال محرم ثم قصد مباحا بطل الحول إذا
قلنا لا زكاة في الحلي فلو عاد القصد المحرم ابتدأ الحول وكذا لو قصد الاستعمال ثم قصد كنزه
ابتدأ الحول وكذا نظائره ولو اتخذ الرجل حلي النساء والمرأة حلي الرجال بلا قصد وقلنا لا زكاة في
الحلى فقد سبق قريبا انه لا زكاة فيه في أصح الوجهين واحتج البغوي بان الاتخاذ مباح فلا يجوز
ايجاب الزكاة بالشك *
(فرع) إذا قلنا بالمذهب أنه لا زكاة في الحلى فانكسر فله أحوال (أحدها) أن ينكسر بحيث
لا يمنع الاستعمال فلا تأثير لانكساره بلا خلاف ويبقي في زكاته القولان (الثاني) ينكسر بحيث يمنع
الاستعمال ويحوج إلى سبك وصوغ فتجب الزكاة وأول الحول وقت الانكسار هذا هو المذهب
وبه قطع الجمهور وحكى البندنيجي فيه طريقين (أحدهما) هذا (والثاني) أنه على التفصيل الذي
سنذكره في الحال الثالث إن شاء الله تعالى (والثالث) ينكسر بحيث يمنع الاستعمال لكن لا يحتاج
إلى صوغ ويقبل الاصلاح بالالحام فان قصد جعله تبرا أو دراهم أو كنزه انعقد الحول عليه من
يوم الانكسار وان قصد اصلاحه فوجهان مشهوران (أصحهما) لا زكاة وان تمادت عليه أحوال
37

لدوام صورة الحلي وقصد الاصلاح وبهذا قطع صاحب الحاوي وان لم يقصد ذا ولا ذاك ففيه
خلاف قيل وجهان وقيل قولان (أصحهما) الوجوب والله تعالى أعلم *
(فصل) فيما يحل ويحرم من الحلي فالذهب أصله على التحريم في حق الرجال وعلى الإباحة
للنساء ويستثنى عن التحريم على الرجال موضعان (أحدهما) يجوز لمن قطع أنفه اتخاذ انف من
ذهب وان أمكنه اتخاذه من فضة وفى معني الانف السن والأنملة فيجوز اتخاذهما ذهبا بلا خلاف
ولا يجوز لمن قطعت رجله أو يده لي أصح الوجهين وما جاز من هذا من الذهب فمن الفضة أولي وقد سبقت
هذه المسألة مبسوطة في باب الآنية وباب ما يكره لبسه (الموضع الثاني) تمويه الخاتم والسيف وغيرهما
للرجل إن كان يحصل منه شئ بالعرض على النار فهو حرام بلا خلاف وإلا فطريقان (أصحهما) وبه قطع العراقيون التحريم (والثاني) حكاه الخراسانيون فيه وجهان (أحدهما) التحريم لعموم قوله
صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير (هذان حرام على ذكور أمتي) وقد سبق بيان هذا الحديث
وأشباهه في باب ما يكره لبسه (والثاني) الإباحة لأنه مستهلك وأما اتخاذ سن أو أسنان للخاتم فقطع
الأصحاب بتحريمه ونقله الرافعي عن الأصحاب كلهم وقال أمام الحرمين لا يبعد تشبيهه بالضبية
الصغيرة في الاناء وهذا ضعيف بل باطل مردود بالحديث المذكور وأما الفضة فيجوز للرجل التختم
بها وهل له ما سوى الخاتم من حلي الفضة كالدملج والسوار والطوق والتاج فيه وجهان قطع الجمهور
بالتحريم وقال المتولي والغزالي في فتاويه يجوز لأنه لم يثبت في الفضة الا تحريم الأواني وتحريم الحلي
على وجه يتضمن التشبه بالنساء ويجوز للرجل تحلية آلات الحرب بالفضة بلا خلاف لما فيه من
ارعاب العدو واظهار القوة وذلك كتحلية السيف والرمح وأطراف السهام والدرع والمنطقة والجوشن
والخف والرأنين وغيرها مما في معناها وفى تحلية السرج واللجام والثفر للدابة بالفضة وجهان مشهوران
ذكرهما المصنف والأصحاب (أحدهما) وبه قال أبو الطيب ابن سلمة مباح كحلية السيف والمنطقة
(وأصحهما) عند الأصحاب التحريم وبه قال ابن سريج وأبو أبو إسحاق المروزي ونقله المصنف
38

والأصحاب عن نص الشافعي رضي الله عنه وقد نص عليه في ثلاثة كتب في رواية البويطي
والربيع وموسى بن أبي الجارود لان هذا حلية للدابة لا للرجل بخلاف المنطقة قال أصحابنا ويجرى
الوجهان في الركاب وبرة الناقة من الفضة والأصح التحريم ثم قال القاضي أبو الطيب ويجريان في
تحلية أطراف السيور والمذهب تحريم القلادة للدابة من الفضة وبه قطع كثيرون ولا يجوز للنساء
تحلية شئ من هذه المذكورات بالذهب وكذا بالفضة بلا خلاف لان في استعمالهن ذلك تشبها
بالرجال والتشبه حرام عليهن هكذا قاله الأصحاب واعترض عليهم الشاشي في المعتمد وقال
آلات الحرب اما ان يقال يجوز للنساء لبسها واستعمالها في غير الحرب واما ان يقال لا يجوز والقول
بالتحريم باطل لان كونه من ملابس الرجل إنما يقتضي الكراهة دون التحريم الا يرى أن الشافعي
رضي الله عنه قال في الام ولا أكره للرجل لبس اللؤلؤ الا للأدب وانه من زي النساء لا للتحريم
فلم يحرم زي النساء على الرجل وإنما كرهه وكذا عكسه قال الشاشي ولان المحاربة جائزة للنساء
في الجملة وفي جوازها جواز لبس آلاتها وإذا جاز استعمالها غير محلاة جاز مع الحلية لان التحلي
للنساء أولى بالجواز من الرجال قال الرافعي هذا الذي قاله الشاشي هو الحق إن شاء الله تعالى (قلت)
وليس الحكم كما قاله الشاشي والرافعي بل الصواب ما قاله الأصحاب ان تشبه الرجال بالنساء
حرام وعكسه كذلك للحديث الصحيح ان رسول صلى الله عليه وسلم قال (لعن الله المتشبهين
بالنساء من الرجال والمتشبهات من النساء بالرجال) واللعن لا يكون على مكروه واما نصه في الام
فليس مخالفا لهذا لان مراده انه من جنس زي النساء والله تعالى أعلم *
39

(فرع) أجمع المسلمون على أنه يجوز للنساء لبس أنواع الحلي من الفضة والذهب جميعا كالطوق
والعقد والخاتم والسوار والخلخال والتعاويذ والدمالج والقلائد والمخانق وكل ما يتخذ في العنق
وغيره وكل ما يعتدن لبسه ولا خلاف في شئ من هذا وأما لبسها نعال الفضة والذهب ففيه وجهان
(أحدهما) وبه قطع صاحب الحاوي التحريم لما فيه من السرف الظاهر والخيلاء وأصحهما عند الرافعي
وغيره الإباحة كسائر الملبوسات وأما التاج فقال صاحب الحاوي والأصحاب ان جرت عادة
النساء بلبسه فمباح لهن لبسه والا فحرام لأنه لباس عظماء الفرس قال الرافعي وكان معني هذا انه
يختلف بعادة أهل النواحي فحيث جرت عادة النساء بلبسه جاز لهن لبسه وحيث لم تجر لا يجوز
لأنه تشبيه بالرجال وفى لبس الثياب المنسوجة بالذهب أو الفضة للمرأة وجهان مشهوران في الحاوي
وغيره قال الرافعي وغيره (أصحهما) الإباحة كالحلي لأنها لباس حقيقي (والثاني) التحريم لما فيه من
زيادة السرف والخيلاء قال الرافعي وذكر أبو الفضل بن عبدان انه ليس لها اتخاذ زر لقميص
والجبة والفرجية من ذهب ولا فضة قال الرافعي ولعله فرعه على الوجه الثاني وهو تحريم لباس الثياب
المنسوجة بها (قلت) ان تكن تفريعا عليه والا فإذا جاز الثوب المنسوج فالزر أولى والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا كل حلي أبيح للنساء فإنما يباح إذا لم يكن فيه سرف ظاهر فإن كان
كلخلخال وزنه مائتا دينار فالصحيح الذي قطع به معظم العراقيين تحريمه كذا نقله الرافعي وقال
فيه وجه انه مباح *
(فرع) لو اتخذ الرجل خواتيم كثيرة أو المرأة خلاخل كثيرة ليلبس الواحد منها بعد الواحد
فطريقان حكاهما الرافعي وغيره المذهب القطع بالجواز لعموم النصوص المطلقة والثاني فيه وجهان
كالخلخال الذي فيه سرف ظاهر *
(فرع) جميع ما سبق هو فيما يتحلى به لبسا فأما غير اللبس فمنه أواني الذهب والفضة وهي
حرام على الرجال والنساء جميعا فيحرم استعمالها وكذا اتخاذها على الأصح كما سبق في باب الآنية
وسبق هناك بيان حكم المضبب بذهب أو فضة وأما تحلية سكاكين المهنة وسكين المقلمة والمقراض
والدواة والمرآة ونحوها فحرام على الرجال بالذهب بلا خلاف وفى الفضة وجهان مشهوران أصحهما
40

التحريم وبه قطع البندنيجي قال الرافعي والمذهب تحريم هذه كلها على المرأة وقيل هي كالرجل
فيكون فيها الوجهان الا في حقها وحق الرجل سواء والأصح تحريمها عليهما ولا خلاف في تحريمها
عليهما جميعا إذا حليت بذهب *
(فرع) لو اتخذ مدهنا أو مسعطا أو مكحلة من ذهب أو فضة فهو حرام على الرجال والنساء
وكذا ظرف الغالية اللطيف حرام أيضا هكذا قطع به الماوردي والجمهور هنا وسبق في باب الآنية
وجه ضعيف انه يجوز اتخاذ الصغير من الفضة كمكحلة وظرف غالية ونحوها ولا خلاف في تحريمه
من الذهب ولا خلاف في استواء المرأة والرجل في هذا قال صاحب البيان وغيره ولا يجوز لها
تحلية ربعها بذهب ولا فضة قطعا *
(فرع) قال صاحب الحاوي لو اتخذ الرجل أو المرأة ميلا من ذهب أو فضة فهو حرام وتجب
زكاته الا أن يستعمل على وجه التداوي لجلاء عينه فيكون مباحا كاستعمال الذهب في ربط سنه
ويكون في زكاته القولان في الحلي المباح وممن جزم بتحريم الميل البندنيجي *
41

(فرع) في تحلية المصحف بالفضة (وجهان) أو قولان أصحهما وأشهرهما الجواز وبه قطع الشيخ
أبو حامد والماوردي وجماهير العراقيين وهو نصه في القديم والام وحرملة ونص في سنن الواقدي
وهو أحد كتب الام على التحريم وقد أشار صاحب الكتاب إلى القطع بهذا فإنه جزم بوجوب
الزكاة فيه وهذا شذوذ منه فليعرف وأما تحليته بالذهب ففيه أربعة أوجه قال الرافعي (أصحها)
عند الأكثرين إن كان لامرأة جاز وإن كان لرجل فحرام (والثاني) يحل مطلقا وصححه صاحب
الحاوي تعظيما للقرآن (والثالث) يحرم مطلقا (والرابع) يجوز تحلية نفس المصحف دون غلافه
المنفصل عنه قال الرافعي وهذا ضعيف وأما تحلية غلافه بالذهب فحرام بلا خلاف ونص عليه
الشافعي وصرح به أبو علي الطبري في الافصاح والقاضي أبو الطيب في المجرد والماوردي والدارمي
لأنه ليس حلية للمصحف وأما تحلية باقي الكتب غير القرآن فحرام باتفاق الأصحاب ومن نقل
الاتفاق عليه الرافعي قال وأشار الغزالي إلى طرد الوجهين السابقين في الدواة والمقلمة هنا والمعروف
في المذهب ما سبق وأما تحلية الكعبة وسائر المساجد بالذهب والفضة وتمويه سقفه وتعليق قناديلها فيها ففيه
وجهان مشهوران (أصحهما) التحريم وبه قال أبو إسحاق المروزي وآخرون من المتقدمين ونقله الماوردي
عن كثير من أصحابنا المتقدمين وقطع به القاضي أبو الطيب والبغوي وآخرون واستدلوا له بأنه لم
يرد فيه سنة ولا عمله أحد من الخلفاء الراشدين فهو بدعة وكل بدعة ضلالة وفى الصحيحين عن عائشة
رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد) وفى
رواية لهما (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) (والوجه الثاني) الجواز تعظيما للكعبة والمساجد
واعظاما للدين كما اجمعوا على ستر الكعبة بالحرير قال أصحابنا فان قلنا حرام وجبت زكاته بلا خلاف
والا فعلى القولين في الحلى المباح هذا إذا كان التمويه والقناديل ونحوها باقية على ملك فاعلها
42

فإن كانت وقفا عليه اما من غلبة واما بان وقفها الفاعل فلا زكاة بلا خلاف لعدم المالك المعين
هكذا قطع به الأصحاب وفى صحة وقف الدراهم والدنانير على هذه الجهة مع تحريمهما نظر فليتأمل
قال أصحابنا وإذا أراد الفاعل اخراج زكاته أخرجها بالاستظهار ان لم يعلم مقداره والا فليميزه بالنار
فإن كان لو ميز لم يجتمع منه شئ فلا زكاة فيه قال صاحب الشامل وذكر الشيخ أبو حامد انه إذا
كان لا يجتمع منه شئ وصار مستهلكا فلا يحرم استدامته والله تعالى أعلم وأما تمويه سقف بيته وجداره
بذهب أو فضه فحرام بلا خلاف نص عليه الشافعي رضي الله عنه وصرح به الأصحاب ونقل القاضي
أبو الطيب في المجرد وغيره الاتفاق عليه قالوا ولا يجئ فيه الوجه الذي في المسجد لان ذلك الوجه
لاعظام المسجد كما جازت تحلية المصحف حيت جوزناه دون سائر الكتب (قال) البندنيجي فإن كان
المموه مستهلكا لا يحصل منه شئ بالسبك لم يحرم استدامته ولم يجب فيه زكاة والا حرمت ووجبت
زكاته ان بلغ وحده نصابا أو بانضمام مال آخر له *
43

(فرع) لو وقف حليا على قوم يلبسونه لبسا مباحا أو ينتفعون بأجرته المباحة فلا زكاة فيه قطعا لعدم المالك الحقيقي المعين *
(فرع) لو حلى شاة أو غزالا أو غيرهما بذهب أو فضة وجبت زكاته بلا خلاف وقال الدارمي
لان ذلك محرم وهو كما قال *
(فرع) حاصل المنقول في تحلية ولي الصبيان بالذهب والفضة ثلاثة أوجه كما سبق في الباسهم الحرير
في باب ما يكره لبسه وقد جزم المصنف بالجواز ذكره في باب صلاة العيد وكذا جزم به البغوي
وآخرون وسبق في باب ما يكره لبسه دليل الأوجه (وأصحها) جواز تحليتهم ما داموا صبيانا ونقله
البغوي والأصحاب عن نص الشافعي رضي الله عنه (والثاني) تحريمه (والثالث) يجوز قبل
سبع سنين *
(فرع) الخنثى المشكل يحرم عليه لبس حلي الرجال ويحرم عليه أيضا لبس حلي النساء لأنه إنما أبيح
لهن لكونهن مرصدات للتزين للأزواج والسادة هكذا قطع بتحريمه القاضي أبو الفتوح والبغوي
وصاحب البيان وآخرون وهو مباحا له في صغره ولم يتحقق تحريمه الصواب الأول لأنه إنما أبيح
له في الصغر لعدم التكليف وقد زاد ذلك بالبلوغ فإذا قلنا بالمذهب وهو تحريمه ففي زكاته طريقان
حكاهما البغوي (أصحهما) وبه قطع القاضي أبو الفتوح وصاحب البيان ورجح الرافعي وجوبها
بلا خلاف لأنه حلي محرم (والثاني) في وجوبها لقولان في الحلي المباح لأنا لا نتيقن تحريمه في نفس الامر لاحتمال
أنه مباح له وإنما حرمناه للاحتياط والله تعالى أعلم *
(فرع) قال أصحابنا أواني الذهب والفضة المعدة للاستعمال يجب فيها الزكاة قولا واحدا لأنها
محرمة وأما المتخذة لا للاستعمال فقد سبق في باب الآنية أن الصحيح تحريم اتخاذها لغير استعمال
44

وفى وجه أو قول أنه يجوز قال أصحابنا ويجب الزكاة فيه بلا خلاف وسواء جوزنا اتخاذه أم لا لأنه
وان جاز اتخاذه على وجه ضعيف فهو للقنية ومكروه وقد سبق أن المكروه والمتخذ للقنية يجب فيهما
الزكاة هكذا ذكر المسألة الأصحاب في جميع طرقهم إلا صاحب الحاوي فقال إذا جوزنا اتخاذه ففي
زكاته القولان كالحلي وهذا غلط مردود لا يعد وجها وإنما نبهت عليه لئلا يغتر به وليس كالحلي
لأنه لا يجب الزكاة لكونه معدا لاستعمال مباح بخلاف الأواني فالصواب الجزم بوجوب زكاته
سواء جوزنا اتخاذه أم لا وإنما يظهر فائدة الخلاف في جواز اتخاذه في ثبوت الأجرة لصانعه والأرش
على كاسره وكما سبق في باب الآنية واضحا ويظهر في كيفية اخراج زكاته كما سنوضحه في الفرع
الآتي إن شاء الله تعالى *
(فرع) إذا أوجبنا الزكاة في الحلي المباح فاختلفت قيمته ووزنه بأن كان لها خلاخل وزنها
مائتا درهم وقيمتها ثلاثمائة أو فرض مثله في المناطق المحلاة للرجال قال أصحابنا المالك بالخيار ان
شاء اخرج ربع عشر الحلي متاعا بأن سلمه كله إلى الساعي أو المساكين أو نائبهم فإذا تسلمه برئت
ذمته من الزكاة ثم يبيع الساعي نصيب المساكين إما للمالك وإما لغيره أو يبيعونه هم ان قبضوه هم
أو وكيلهم وان شاء اخرج مصوغا كخاتم وسوار لطيف وغيرهما وزنه خمسة وقيمته سبعة ونصف
ولا يجوز أن يكسره ويخرج خمسة من نفس المكسور ولا يجوز للساعي ولا للمساكين طلب ذلك لان
فيه اضرارا به وبهم ولو اخرج عنه خمسة دراهم جيدة لجودة سبكها ولينها بحيث تساوى سبعة ونصفا
اجزاءه لأنه يقدر الواجب عليه بقيمته ولو اخرج عنه ذهبا يساوى سبعة دراهم ونصفا لم يجز على
الصحيح وبه قطع جمهور أصحابنا وجوزه ابن سريج للحاجة حكاه المصنف عنه والأصحاب
والمذهب الأول ويندفع الحاجة بما ذكرنا قال أصحابنا ولو كان له إناء وزنه مائتان ويساوي ثلاثمائة
فان جوزنا اتخاذ الاناء فالزكاة واجبة قولا واحدا كما سبق في الفرع وكيفية اخراجها كما سبق في
الحلي وان حرمناه وهو الأصح ولا قيمة لصنعة شرعا فله اخراج خمسة دراهم من غيره وان لم تكن
نفيسة وله كسره واخراج خمسة منه وله اخراج ربع عشره مشاعا ولا يجوز اخراج الذهب بدلا
عنه بلا خلاف لعدم الحاجة قال أصحابنا وكل حلي حرمناه على كل الناس فحكم صنعته حكم صنعة
الاناء وفى وجوب ضمانها على كاسرها وجهان بناء على جواز اتخاذ الاناء إن جوزنا وجب والا
45

فلا وهو الأصح وما يحل لبعض الناس كالرجال دون النساء وعكسه ويجب على كاسره ضمان
صنعته بلا خلاف قال أصحابنا وأما الضبة التي على الاناء إذا حكمنا بكراهتها فلها حكم الحرام في
وجوب الزكاة بلا خلاف وقال البغوي احتمالا لنفسه ينبغي أن يكون كالمباح وإذا حكمنا بإباحتها
وانها غير مكروهة ففي وجوب زكاتها القولان في الحلى المباح والله تعالى أعلم *
(فرع) ذكر الصيمري ثم الماوردي ومتابعوهما هنا ان الأفضل إذا اكرى حلي ذهب أو فضة
أن لا يكريه بجنسه بل يكرى الذهب بالفضة والفضة بالذهب فلو أكرى الذهب بالذهب
أو الفضة بالفضة فوجهان (أحدهما) بطلانه حذرا من الربا والصحيح الجواز كسائر الإجارات
قال الماوردي وقول الأول باطل لان عقد الإجارة لا يدخله الربا ولهذا يجوز إجارة حلي الذهب
بدراهم مؤجلة باجماع المسلمين ولو كان الربا هنا مدخل لم يجز هذا *
(فرع) إذا اتخذ أنفا أو سنا أو أنملة من ذهب أو فضة أو شد سنه به فقد سبق انه حلال بلا خلاف
قال الماوردي وأما زكاته فان ثبت فيه العضو وتراكب عليه صار مستهلكا ولا زكاة فيه قولا واحدا
والا فعلى القولين في الحلى المباح *
(فرع) في مذاهب العلماء في زكاة الحلي المباح قد ذكرنا ان الأصح عندنا انه لا زكاة فيه وبه
قال عبد الله بن عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وعائشة وأسماء بنت أبي بكر
رضي الله عنهم وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد والشعبي ومحمد
ابن علي والقاسم بن محمد وابن سيرين والزهري ومالك واحمد واسحق وأبو ثور وأبو عبيد وبن
والمنذر وقال عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس وميمون بن مهران وجابر بن زيد
والحسن بن صالح وسفيان الثوري وأبو حنيفة وداود يجب فيه الزكاة وحكاه ابن المنذر
أيضا عن أبي المسيب وابن جبير وعطاء ومجاهد وابن سيرين وعبد الله بن شداد والزهري واحتج
كل فريق بما سبق من الأحاديث السابقة في أول الفصل والآثار وروى البيهقي عن بن عمر وبن
المسيب ان زكاة الحلي عاريته والله تعالى أعلم *
46

(باب زكاة التجارة)
* قال المصنف رحمه الله *
(تجب الزكاة في عروض التجارة لما روى أبو ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (في الإبل صدقتها وفى البقر صدقتها وفى البز صدقته ولان التجارة يطلب بها نماء المال فتعلقت
بها الزكاة كالسوم في الماشية) *
(الشرح) هذا الحديث رواه الدارقطني في سننه والحاكم أبو عبد الله في المستدرك والبيهقي
بأسانيدهم ذكره الحاكم باسنادين ثم قال هذان الاسنادان صحيحان على شرط البخاري ومسلم
(قوله) وفى البز صدقته هو بفتح الباء وبالزاي هكذا رواه جميع الرواة وصرح بالزاي الدارقطني
والبيهقي ونصوص الشافعي رضي الله عنه القديمة والجديدة متظاهرة على وجوب زكاة التجارة
قال أصحابنا قال الشافعي رضي الله عنه في القديم اختلف الناس في زكاة التجارة فقال بعضهم لا
زكاة فيها وقال بعضهم فيها الزكاة وهذا أحب إلينا هذا نصه فقال القاضي أبو الطيب وآخرون هذا
ترديد قول فمنهم من قال في القديم قولان في وجوبها ومنهم من لم يثبت هذا القديم واتفق القاضي
أبو الطيب وكل من حكي هذا القديم على أن الصحيح في القديم انها تجب كما نص عليه في الجديد
والمشهور للأصحاب الاتفاق على أن مذهب الشافعي رضي الله عنه وجوبها وليس في هذا المنقول
عن القديم اثبات قول بعدم وجوبها وإنما أخبر عن اختلاف الناس وبين ان مذهبه الوجوب بقوله
وهذا أحب إلى والصواب الجزم بالوجوب وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء بعدهم
أجمعين قال ابن المنذر أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة قال رويناه عن عمر بن الخطاب
وبن عباس والفقهاء السبعة سعيد بن المسيب والقسم بن محمد وعروة بن الزبير وأبي بكر بن
عبد الرحمن بن الحارث وجارحة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وسلمان بن يسار والحسن البصري
وطاوس وجابر بن زيد وميمون بن مهران والنخعي ومالك والثوري والأوزاعي والشافعي والنعمان
وأصحابه وأحمد واسحق وأبي ثور وأبي عبيد وحكي أصحابنا عن داود وغيره من أهل الظاهر أنهم
قالوا لا تجب وقال ربيعة ومالك لا زكاة في عروض التجارة ما لم تنض وتصير دراهم أو دنانير فإذا
نضت لزمه زكاة عام واحد واحتجوا بالحديث الصحيح ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة
وهو في الصحيحين وقد سبق بيانه وربما جاء عن ابن عباس أنه قال لا زكاة في العروض واحتج
47

أصحابنا بحديث أبي ذر المذكور وهو صحيح كما سبق وعن سمرة قال أما بعد (فان رسول الله صلى الله عليه
سلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي يعد للبيع) رواه أبو داود في أول كتاب
الزكاة وفى اسناده جماعة لا أعرف حالهم ولكن لم يضعفه أبو داود وقد قدمنا ان ما لم يضعفه فهو
حسن عنده وعن حماس بكسر الحاء المهملة وتخفيف الميم وآخره سين مهملة وكان يبيع الأدم قال
قال لي عمر بن الخطاب يا حماس أد زكاة مالك فقلت مالي مال إنما أبيع الأدم قال قومه ثم أد زكاته
ففعلت رواه الشافعي وسعيد بن منصور الحافظ في مسنده والبيهقي وعن ابن عمر رضي الله عنهما
قال ليس في العروض زكاة الا ما كان للتجارة رواه البيهقي باسناده عن أحمد بن حنبل باسناده
الصحيح وأما الجواب عن حديث (ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة) فهو محمول على ما
ليس للتجارة ومعناه لا زكاة في عينه بخلاف الانعام وهذا التأويل متعين للجمع بين الأحاديث
وأما قول بن عباس فهو ضعيف الاسناد ضعفه الشافعي رضي الله عنه والبيهقي وغيرهما قال البيهقي
ولو صح لكان محمولا على عرض ليس للتجارة ليجمع بينه وبين الأحاديث والآثار السالفة ولما
روى ابن المنذر عنه من وجوب زكاة التجارة كما سبق والله تعالى أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ولا يصير العرض للتجارة الا بشرطين أحدهما ان يملكه بعقد فيه عوض كالبيع والإجارة
والنكاح والخلع والثاني ان ينوى عند العقد انه تملكه للتجارة وأما إذا ملكه بإرث أو وصية
أو هبة من غير شرط الثواب فلا تصير للتجارة بالنية وإن ملكه بالبيع والإجارة ولم ينو عند
العقد انه للتجارة لم يصر للتجارة وقال الكرابيسي من أصحابنا إذا ملك عرضا ثم نوى انه للتجارة
صار للتجارة كما إذا كان عنده متاع للتجارة ثم نوى القنية صار للقنية بالنية والمذهب الأول لأنه ما لم
يكن للزكاة من أصله لم يصر للزكاة بمجرد النية كالمعلوفه إذا نوى إسامتها ويفارق إذا نوى القنية
بمال التجارة لان القنية هي الامساك بنية القنية وقد وجد الامساك والنية والتجارة هي التصرف
بنية التجارة وقد وجدت النية ولم يوجد التصرف فلم يصر للتجارة) *
(الشرح) قوله من أصله احتراز من حلي الذهب والفضة إذا قلنا لا زكاة فيه فنوى استعماله
في حرام أو نوى كنزه واقتناه فإنه يجب فيه الزكاة كما سبق لان أصله الزكاة قال أصحابنا مال التجارة
هو كل ما قصد الاتجار فيه عند تملكه بمعاوضة محضة وتفصيل هذه القيود ان مجرد نية التجارة لا يصير
به المال للتجارة فلو كان له عرض قنية ملكه بشراء أو غيره فجعله للتجارة لم يصر للتجارة هذا هو
48

لمذهب وبه قطع الجمهور وقال الكرابيسي يصير للتجارة وهو مذهب احمد وإسحاق بن راهويه
وقد ذكر المصنف دليل الوجهين أما إذا اقترنت نية التجارة بالشراء فان المشترى يصير للتجارة
ويدخل في الحول بنفس الشرى سواء اشتراه بعرض أو نقد أو دين حال أو مؤجل وإذا صار
للتجارة استمر حكمها ولا يحتاج في كل معاملة إلى نية أخرى بلا خلاف بل النية مستصحبة كافية
وفى معني الشرى ما لو صالح عن دين له في ذمه انسان على عوض بنية التجارة فإنه يصير للتجارة
بلا خلاف سواء كان الدين قرضا أو ثمن مبيع أو ضمان متلف وهكذا الاتهاب بشرط الثواب
إذا نوى به التجارة صار للتجارة صرح به البغوي وغيره وأما الهبة بلا ثواب والاحتطاب والاحتشاش
والاصطياد فليست من أسباب التجارة ولا أثر لاقتران النية بها ولا يصير العرض للتجارة بلا خلاف
لفوات الشرط وهو المعاوضة وهكذا الرد بالعيب والاسترداد فلو باع عرض قنية بعرض قنية ثم
وجد بما أخذه عيبا فرده واسترد الأول على قصد التجارة أو وجد صاحبه بما أخذ عيبا فرده
فقصد المردود عليه بأخذه للتجارة لم يصر للتجارة ولو كان عنده ثوب قنية فاشترى به عبدا للتجارة
ثم رد عليه الثوب بالعيب انقطع حول التجارة ولا يكون الثوب للتجارة بخلاف ما لو كان الثوب للتجارة
أيضا فإنه يبقي حكم التجارة فيه كما لو باع عرض التجارة واشترى بثمنه عرضا آخر وكذا لو تبايع
التاجران ثم تعاملا يستمر حكم التجارة في المالين ولو كان عنده ثوب تجارة فباعه بعبد للقنية فرد
عليه الثوب بالعيب لم يعد إلى حكم التجارة لان قصد القنية حول التجارة وليس الرد والاسترداد
من التجارة كما لو قصد القنية بمال التجارة الذي عنده فإنه يصير قنية بالاتفاق فلو نوى بعد ذلك
جعله للتجارة لا يؤثر حتى تقترن النية بتجارة جديدة ولو خالع وقصد بعرض الخلع التجارة في حال
المخالعة أو زوج أمته أو تزوجت الحرة ونويا حال العقد التجارة في الصداق فطريقان (أصحهما)
وبه قطع المصنف وجماهير العراقيين يكون مال تجارة وينعقد الحول من حينئذ لأنها معاوضة ثبتت
فيها الشفعة كالبيع (والثاني) وهو مشهور في طريقة الخراسانيين وذكر بعض العراقيين فيه (وجهان)
أصحهما هذا (والثاني) لا يكون للتجارة لأنهما ليسا من عقود التجارات والمعاوضات المحضة وطرد
الخراسانيون الوجهين في المال المصالح به عن الدم والذي آجر به نفسه أو ماله إذا نوي بهما التجارة
وفيما إذا كان يصرفه في المنافع بأن كان يستأجر المستغلات ويؤجرها للتجارة فالمذهب في الجميع
مصيره للتجارة هذا كله فيما يصير به العرض للتجارة ثم إذا صار للتجارة ونوى به القنية صار للقنية وانقطع
49

حكم التجارة بلا خلاف لما ذكره المصنف رحمه الله تعالى والله تعالى أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(إذا اشترى للتجارة ما تجب الزكاة في عينه كنصاب السائمة والكرم والنخل
نظرت فان وجد فيه نصاب إحدى الزكاتين دون الأخرى كخمس من الإبل لا تساوي مائتي
درهم أو أربع من الإبل تساوى مائتي درهم وجبت فيه زكاة ما وجد نصابه لأنه وجد سببها ولم يوجد
ما يعارضه فوجبت وان وجد نصابهما ففيه طريقان قال أبو إسحاق ان سبق حول التجارة بأن يكون
عنده نصاب من الأثمان مدة ثم اشترى به نصابا من السائمة وجبت زكاة التجارة فيه وان سبق
وجوب زكاة العين بان اشترى نخلا للتجارة فبدا فيها الصلاح قبل أن يحول حول التجارة وجبت
زكاة العين لان السابق منهما قد وجد سبب وجوب زكاته وليس هناك زكاة تعارضها فوجبت
كما قلنا في ما وجد فيه نصاب إحدى الزكاتين دون الأخرى وان وجد سببهما في وقت واحد
مثل ان يشترى بما تجب فيه الزكاة نصابا من السائمة للتجارة ففيه قولان (قال) في القديم تجب
زكاة التجارة لأنها أنفع للمساكين لأنها تزداد بزيادة القيمة فكان ايجابها أولي (وقال) في الجديد
تجب زكاة العين لأنها أقوى لأنها مجمع عليها وزكاة التجارة مختلف في وجوبها ولان نصاب
العين يعرف قطعا ونصاب التجارة يعرف بالظن فكانت زكاة العين أولى وقال القاضي أبو حامد
في المسألة قولان سواء اتفق حولهما أو سبق حول أحدهما (والأول) أصح فإن كان المشترى نخيلا
وقلنا بقوله القديم قوم النخيل والثمرة واخرج الزكاة عن قيمتها وإن قلنا بقوله الجديد لزمه عشر
الثمرة وهل يقوم النخيل فيه قولان (أحدهما) لا يقوم لان المقصود هو الثمار وقد أخرجنا عنها العشر
والثاني يقوم ويخرج الزكاة من قيمتها لان العشر زكاة الثمار فاما الأصول فلم يخرج زكاتها
فوجب ان تقوم وتخرج عنها الزكاة) *
(الشرح) قال أصحابنا رحمهم الله تعالى إذا كان مال التجارة نصابا من السائمة أو الثمر
أو الزرع لم يجمع فيه بين وجوب زكاتي التجارة والعين بلا خلاف وإنما يجب إحداهما وفى الواجب
قولان (أصحهما) وهو الجديد واحد قولي القديم تجب زكاة العين (والثاني) وهو أحد
قولي القديم تجب زكاة التجارة ودليل العين أنها أقوى لكونها مجمعا عليها ولأنها يعرف نصابها
قطعا بالعدد والكيل وأما التجارة فتعرف ظنا ودليل التجارة أنها أنفع للمساكين فإنه لا وقص فيها
50

فان قلنا بالعين أخرج السن الواجبة من السائمة ويضم السخال إلى الأمات كما سبق في بابه وإن قلنا
بالتجارة قال البغوي وغيره يقوم في الثمار الثمرة والنخيل والأرض وفى الزرع يقوم الحب والتبن
والأرض وفى السائمة تقوم مع درها ونسلها وصوفها وما اتخذ من لبنها وهذا تفريع على أن النتاج
مال تجارة وفيه خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى وعلى هذا القول لا تأثير لنقص النصاب في أثناء
الحول تفريعا على الأصح أن نصاب العرض إنما يعتبر في الحول ولو اشترى نصابا من السائمة
للتجارة ثم اشترى بها عرضا بعد ستة أشهر مثلا فعلى (قول) اعتبار زكاة التجارة لا ينقطع الحول وعلى
(قول) العين ينقطع ويبتدئ حول زكاة التجارة من حين ملك العرض وهذان القولان فيما إذا ملك
نصاب الزكاتين واتفق الحولان أما إذا لم يكمل الأنصاب أحدهما بأن كان المال أربعين شاة وتبلغ
قيمتها نصابا من الدراهم والدنانير عند تمام الحول أو كان دون أربعين شاة وتبلغ قيمتها نصابا
فالصحيح وجوب زكاة ما بلغت به نصابا وبهذا قطع المصنف والأصحاب في معظم الطرق وقيل
في وجوبها وجهان حكاه الرافعي وهو غلط وإذا قلنا بزكاة العين فنقصت الماشية في أثناء السنة
عن نصابها ونقلناها إلى زكاة فهل يبنى حولها على حول العين أم يستأنف حول التجارة فيه
وجهان كالوجهين فيمن ملك نصاب سائمة لا للتجارة فاشترى به عرض تجارة هل يبني حول التجارة
على حول السائمة (أصحهما) يستأنف في الموضعين وإذا أوجبنا زكاة التجارة لنقصان الماشية المشتراة
للتجارة عن النصاب ثم بلغت نصابا في أثناء الحول بالنتاج ولم تبلغ القيمة نصابا في آخر الحول
فوجهان (أصحهما) لا زكاة لان الحول انعقد للتجارة فلا يتعين (والثاني) ينتقل إلى زكاة العين
لامكانها فعلى هذا هل يعتبر الحول من وقت نقص القيمة عن النصاب أو من وقت تمام النصاب
بالنتاج فيه وجهان حكاهما البغوي وغيره وأما إذا كمل نصاب الزكاتين واختلف الحولان بأن
اشترى بمتاع التجارة بعد ستة أشهر نصاب سائمة أو اشترى به معلوفة للتجارة ثم أسامها بعد ستة
أشهر ففيه طريقان حكاهما المصنف والأصحاب (أصحهما) وبه قال القاضي أبو حامد وصححه البغوي
والرافعي وآخرون وهو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه أنه على القولين كما لو اتفق حولهما ولان الشافعي
رضي الله عنه لم يفرق ولأنه فرض المسألة ويبعد اتفاق آخر جزء من حول التجارة مع أول بدو
الصلاح (والطريق الثاني) وبه قال أبو إسحاق وأبو علي وابن أبي هريرة وأبو حفص بن الوكيل حكاه
عنهما الماوردي وصححه المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب وقطع به الجرجاني في التحرير أن
51

القولين مخصوصان بما إذا اتفق الحولان بان اشترى بعرض للقنية نصاب سائمة للتجارة فعلى هذا
يقدم أسبقهما حولا ففي المثال المذكور يجب زكاة التجارة لسبق حولها وحجه هذا الطريق أنه أرفق
بالمساكين فان قلنا بطرد القولين فسبق حول التجارة فان غلبنا زكاة التجارة أخذت زكاتها وان
غلبنا العين فوجهان حكاهما الرافعي (أحدهما) تجب عند تمام حولها ويبطل ما سبق من حول التجارة
(وأصحهما) تجب زكاة التجارة عند تمام حولها هذا لئلا يبطل بعض حولها ويفوت على المساكين
فعلى هذا يستفتح حول زكاة العين بعد انقضاء حول التجارة وتجب زكاة العين في جميع الأحوال
المستقبلة أما إذا اشترى نخيلا للتجارة فأثمرت أو أرضا مزروعة فأدرك الزرع وبلغ الحاصل نصابا
فهل الواجب زكاة التجارة أو العين فيه القولان (الأصح) العين فإن لم يكمل أحد النصابين أو كملا
واختلف الحولان ففيه التفصيل السابق هذا إذا كانت الثمرة حاصلة عند الشرى وبدا الصلاح
في ملكه أما إذا اطلعت بعد الشرى فهذه ثمرة حدثت من شجر التجارة وفى ضمها إلى مال التجارة
خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى (والأصح) ضمها (قال) امام الحرمين فعلى هذا هي كالحاصلة عند
الشرى وتنزل منزله زيادة متصلة أو أرباح متحددة في قيمة العرض ولا تنزل منزلة ربح ينض ليكون
فيها الخلاف المعروف في ضم الربح الناض وان قلنا ليست مال تجارة وجبت زكاة العين فيها وتختص
زكاة التجارة بالأرض والأشخاص (قال) أصحابنا فان غلبنا زكاة العين أخرج العشر أو نصفه من
الثمار والزروع وهل يسقط به زكاة التجارة عن قيمة جذع النخلة وتبن الزرع فيه (وجهان) مشهوران
حكاهما الشيخ أبو حامد والمحاملي والماوردي والقاضي أبو الطيب وامام الحرمين والسرخسي
والبغوي والجمهور وقال المصنف وصاحب الشامل هما قولان (أصحهما) لا يسقط لان المخرج زكاة
الثمرة وبقى الجذع والتبن بلا زكاة ولا يمكن فيها زكاة العين فوجبت زكاة التجارة كما لو كان للتجارة
منفردا (والثاني) تسقط لان المقصود هو الثمرة والحب وقد أخرج زكاتهما وفى أرض النخيل والزرع
طريقان (أصحهما) وبه قطع الجمهور انه على الوجهين في الجذع (والثاني) حكاه البغوي والسرخسي
وآخرون من الخراسانيين تجب الزكاة فيها وجها واحدا لان الأرض ليست أصلا للثمرة والحب
بخلاف الجذع (قال) إمام الحرمين ينبغي أن يعتبر ذلك بما يدخل في الأرض المتخللة بين النخيل
في المساقاة وما لا يدخل فما لا يدخل تجب فيه الزكاة بلا خلاف وما يدخل فهو على الطريق وهذا
الذي قاله الامام احتمالا لنفسه وقد صرح بنقله صاحب الحاوي فقال إذا كان في الأرض بياض
52

غير مشغول بزرع ولا نخل وجبت زكاته وجها واحدا فإذا أوجبنا زكاة التجارة في الأرض والجذع
والتبن ونحوها فلم تبلغ قيمتها نصابا فهل تضم قيمة الثمرة والحب إليها لاكمال النصاب فيه وجهان
حكاهما البغوي وآخرون (أحدهما) لا لأنه أدى زكاتهما (والثاني) تضم لتكميل النصاب في هذه
الأشياء لا لايجاب زكاة أخرى في الثمرة والحب والأول أصح قال الرافعي نقلا عن الأصحاب
وإذا قلنا بزكاة العين فزكاها لا يسقط اعتبار زكاة التجارة عن الثمرة والحب في المستقبل بل تجب
فيها زكاة التجارة في الأحوال المستقبلة ويكون ابتداء حول التجارة من وقت اخراج العشر لا من
وقت بدو الصلاح لأنه يلزمه بعد بدو الصلاح تربية الثمار للمساكين فلا يجوز أن يحسب عليه زمن
التربية فاما إذا غلبنا زكاة التجارة فتقوم الثمرة والجذع ويقوم في الزرع الحب والتبن وتقوم
الأرض فيهما جميعا وسواء اشتراها مزروعة للتجارة أم اشترى بذرا وأرضا للتجارة وزرعه فيها
في جميع ما ذكرنا ولا خلاف في هذا كله ولو اشترى الثمار وحدها للتجارة قبل بدو الصلاح ثم بدا
في ملكه جرى القولان في أنه يجب العشر أم زكاة التجارة قال البغوي والأصحاب ولو اشترى أرضا
للتجارة فزرعها ببذر للقنية وجب العشر في الزرع وزكاة التجارة في الأرض بلا خلاف فيهما *
(فرع) لو اتهب نصابا من المسائمة بنية التجارة لزمه زكاة العين إذا تم حولها بلا خلاف لان
حول التجارة لا ينعقد بالاتهاب واحتج البغوي بهذه المسألة السابقة أنه إذا اشترى نخيلا أو أرضا
مزروعة أو سائمة للتجارة فوجب نصاب إحديهما دون الأخرى وجبت زكاتها لامكانها
دون الأخرى *
(فرع) قال أصحابنا إذا اشترت المرأة حليا يباح لها لبسه للتجارة وجبت فيه الزكاة وإن كانت
تلبسه كما لو استعمل الرجل دواب التجارة ثم إن قلنا الحلي المباح لا زكاة فيه وجبت هنا زكاة
التجارة بلا خلاف إذا بلغ نصابا وإن قلنا فيه زكاة فهل تجب هنا زكاة التجارة أم العين فيه القولان قال
صاحب الحاوي تظهر فائدتهما في الصيغة ان قلنا بالتجارة اعتبرت الصيغة وإلا فلا *
* قال المصنف رحمه الله تعالى * (وإن اشترى عبدا للتجارة وجبت عليه فطرته لوقتها وزكاة التجارة لحولها لأنهما حقان يجبان
بسببين مختلفين فلم يمنع (أحدهما) الآخر كالجزاء والقيمة وحد الزنا والشرب) *
(الشرح) هذا الذي قاله متفق عليه عندنا وبه قال مالك وقال أبو حنيفة لا تجب فيه زكاة
الفطر واستدل أصحابنا بما ذكره المصنف رحمه الله تعالى مع عموم النصوص الثابتة في زكاة فطر
53

العبيد (وقول) المصنف كجزاء الصيد والقيمة معناه أن المحرم إذا قتل صيدا مملوكا عليه قيمته لمالكه
والجزاء للمساكين ولأنه يكتفى بأحدهما *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان اشترى للتجارة عرضا لا تجب فيه الزكاة لم يخل اما أن يشترى بعرض أو نقد فان
اشتراه بنقد نظرت فإن كان نصابا جعل ابتداء الحول من حين ملك النصاب من النقد ويبنى
حول العرض الذي اشتراه عليه لان النصاب هو الثمن وكان ظاهرا فصار في ثمن السلعة كامنا
فبنى حوله عليه كما لو كان عينا فأقرضه فصار دينار وان اشتراه بدون النصاب انعقد الحول عليه من
حين الشراء سواء كانت قيمة العرض نصابا أو أقل (وقال) أبو العباس لا ينعقد الحول إلا أن يكون
قيمته من أول الحول إلى آخره نصابا كسائر الزكوات والمنصوص في الام هو الأول لان نصاب
زكاة التجارة يتعلق بالقيمة وتقويم العرض في كل ساعة يشق فلم يعتبر إلا في حال الوجوب ويخالف سائر
الزكوات فان نصابها في عينها فلم يشق اعتباره في جميع الحول وإن اشتراه بعرض للقنية نظرت
54

فإن كان من غير أموال الزكاة انعقد الحول عليه من يوم الشراء وان اشتراه بنصاب من السائمة
ففيه وجهان قال أبو سعيد الإصطخري يبنى حول التجارة على حول السائمة لان الشافعي رحمه الله
قال في المختصر ولو اشترى عرضا للتجارة بدراهم أو دنانير أو بشئ تجب فيه الصدقة لم يقوم عليه حتى
يحول عليه الحول من يوم ملك ثمن العرض والدليل عليه أنه ملكه بما يجزى في الحول فبنى حوله على
حوله كما لو اشتراه بنصاب من الأثمان وقال أكثر أصحابنا لا يبنى على حول السائمة وتأولوا قوله في
المختصر والدليل عليه أن الزكاة تتعلق بقيمة العرض والماشية ليست بقيمة فلم يبن حوله على حولها ويخالف
الأثمان لأنها قيمة وإنما كانت عينا ظاهرة فخفيت كالعين إذا صارت دينا) *
(الشرح) النصاب والحول معتبران في زكاة التجارة بلا خلاف لكن في وقت اعتباره النصاب ثلاثة
أوجه وسماها امام الحرمين والغزالي أقوالا والصحيح المشهور انه أوجه لكن الصحيح منها منصوص والآخران
مخرجان أحدهما وهو الصحيح عند جميع الأصحاب وهو نصه في الام أنه يعتبر في آخر الحول فقط لأنه يتعلق
بالقيمة وتقويم العرض في كل وقت يشق فاعتبر حال الوجوب وهو آخر الحول بخلاف سائر الزكوات لان
نصابها من عينها فلا يشق اعتباره (والثاني) وبه قال أبو العباس بن سريج في جميع الحول من أوله إلى آخره
ومتى نقص النصاب في لحظة منه انقطع الحول قياسا على زكاة الماشية والنقد (والثالث) يعتبر النصاب
في أول الحول وآخره دون ما بينهما فإذا كان نصابا في الطرفين وجبت الزكاة ولا يضر نقصه بينهما
وهذا الوجه حكاه الشيخ أبو حامد والمحاملي والماوردي والشاشي عن ابن سريج ووافق المصنف
على حكاية الثاني عن ابن سريج أيضا ابن الصباغ وسبقهما به القاضي أبو الطيب وغيره فإذا قلنا
بالصحيح فاشترى عرضا للتجارة بشئ يسير جدا انعقد الحول فإذا بلغ نصابا في آخر الحول وجبت
الزكاة ولو كان عرض التجارة دون النصاب فباعه بسلعة أخرى دون نصاب في أثناء الحول فالمذهب
أن لا ينقطع الحول وحكي امام الحرمين فيه خلافا سنذكره كذا في نسختين إن شاء الله تعالى: وأما ابتداء
الحول فان ملك عرض التجارة بنصاب من النقد بان اشتراه بعشرين دينارا أو بمأتي درهم فابتدأ
55

لحول من حين ملك ذلك النقد ويبني حول التجارة عليه واحتج له المصنف بأن النصاب هو الثمن
وكان ظاهرا فصار في ثمن السلعة كامنا فوجب البناء عليه كما لو كان عينا فأقرضه مليئا فصار دينا هذا إذا
اشتراه بعين النقد فان اشترى في الذمة ودفعه في ثمنه انقطع حول النقد وابتداء حول التجارة من
حين الشرى بلا خلاف وإن كان النقد الذي اشترى بعينه دون نصاب فان قلنا بالمذهب أن
النصاب إنما يعتبر في آخر الحول انعقد من حين الشرى وان قلنا يعتبر في الطرفين أو في الجميع لم
ينعقد ولا خلاف أنه لا ينعقد قبل الشرى لان الثمن لم يكن مال تجارة لنقصه عن النصاب وإن
اشترى بغير نقد فللثمن حالان (أحدهما) أن يكون مما لا زكاة في عينه كالثياب والعبيد فابتداء
الحول من حين ملك عرض التجارة أن كانت قيمة العرض نصابا أو كانت دونه وقلنا بالصحيح
ان النصاب إنما يعتبر في آخر الحول الحال الثاني أن يكون مما يجب الزكاة في عينه بأن ملك بنصاب
من السائمة فوجهان (الصحيح) الذي قاله ابن سريج وجمهور أصحابنا المتقدمين وصححه جميعا المصنفين
أن حول الماشية ينقطع ويبتدئ حول التجارة من حين ملك عرض التجارة ولا يبنى لاختلاف
الزكاتين قدرا ووقتا بخلاف بناء التجارة على النقد (وقال) أبو سعيد الإصطخري يبنى على حول الماشية
كما يبنى على النقد واحتج له من نص الشافعي رضي الله عنه بقوله في المختصر فان اشترى العرض
بدراهم أو دنانير أو شئ يجب فيه الصدقة لم يقوم حتى يحول الحول من يوم ملك ثمن العرض وأجاب
الأصحاب عن نصه في المختصر بجوابين (أحدهما) أن المراد إذا اشترى ماشية ثم اشترى بها عرض
التجارة في الحال (والثاني) أن المراد بثمن العرض الدراهم والدنانير خاصة وهذا معتاد في كلام
الشافعي رضي الله عنه أن يذكر مسائل ويعود الجواب أو التفريع إلى بعضها والله تعالى أعلم
قال أصحابنا وحول التجارة والنقد يبني كل واحد منهما على الآخر فبناء التجارة على النقد
سبق تصويره وبناء النقد على التجارة أن يبيع عرض التجارة بنصاب من النقد للقنية فيبنى
حول النقد على حول التجارة كعكسه والله تعالى أعلم *
56

قال المصنف رحمه الله *
(إذا باع عرض التجارة في أثناء الحول بعرض للتجارة لم ينقطع الحول لان زكاة
التجارة تتعلق بالقيمة وقيمة الثاني وقيمة الأول واحدة وإنما انتقلت من سلعة إلى سلعة فلم
ينقطع الحول كمائتي درهم انتقلت من بيت إلى بيت وان باع العرض بالدراهم أو الدنانير
نظرت فان باعه بقدر قيمته بنى حول الثمن على حول العرض كما يبنى حول العرض على حول
الثمن وان باعه بزيادة مثل أن يشترى العرض بمائتين فباعه في أثناء الحول بثلاثمائة ففيه طريقان
من أصحابنا من قال يزكي المأتين لحولها ويستأنف الزيادة قولا واحدا وقال أبو إسحاق في
الزيادة قولان (أحدهما) يزكيها لحول الأصل لأنه نماء الأصل فيزكى يحول الأصل كالسخال
(والثاني) يستأنف الحول بها لأنها فائدة غير متولدة مما عنده فلا يزكي بحوله كما لو استفاد الزيادة
بإرث أو هبة فإذا قلنا يستأنف الحول للزيادة ففي حولها وجهان (أحدهما) من حين ينض لأنه
لا يتحقق وجودها قبل أن ينض (والثاني) من حين يظهر وهو الأظهر لأنه قد ظهر فإذا
57

نض علمنا أنه قد ملكه من ذلك الوقت فإن كان عنده نصاب من الدراهم فباعه بالدراهم أو بالدنانير
فان فعل ذلك لغير التجارة انقطع الحول فيما باع واستقبل الحول فيما اشترى وإن فعله للتجارة كما يفعل
الصيارف ففيه وجهان (أحدهما) ينقطع الحول لأنه مال تجب الزكاة في عينه فانقطع الحول فيه بالمبادلة
كالماشية (والثاني) لا ينقطع الحول لأنه باع مال التجارة للتجارة فلم ينقطع الحول لو باع عرض بعرض) *
(الشرح) قوله ينض بكسر النون وفتح الياء وفى الفصل مسائل (إحداها) إذا باع عرض
التجارة بعرض للتجارة لم ينقطع الحول بلا خلاف لما ذكره المصنف ولان هذا شأن التجارة (الثاني)
إذا باع العرض بدراهم أو دنانير في أثناء الحول فان باعه بقدر قيمته وهي رأس المال بني حول
الثمن على حول العرض بلا خلاف كما بني حول العرض على حول الثمن وإن باعه بزيادة بان
اشتراه بمائتي درهم فباعه في أثناء الحول بثلاثمائة ففيه طريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما
(أصحهما) عند الأصحاب وبه قال أكثر أصحابنا المتقدمين ان المسألة على قولين (أصحهما) عند
الأصحاب انه يزكى المائتين لحولها ويفرد الربح بحول (والثاني) يزكى الجميع بحول الأصل (والطريق
الثاني) وبه قال أبو علي بن أبي هريرة وحكاه عنه الماوردي انه يفرد الربح قولا واحدا فإذا قلنا
يفرد الربح بحول ففي ابتدائه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) من حين
النضوض (والثاني) من حين الظهور وهذا الوجه قول ابن سريح والأول هو الأصح عند المصنف
والأصحاب وهو ظاهر نص الشافعي هذا إذا أمسك الناض حتى تم الحول فلو اشترى به سلعة
للتجارة قبل الحول وحال عليها الحول فطريقان حكاهما امام الحرمين وغيره (أحدهما) وهو المذهب انه كما
لو أمسك الناض فيكون على الطريقين (والثاني) القطع بأنه يزكي الجميع بحول الأصل هذا كله إذا
58

نض قبل تمام الحول فلو نض بعده نظران ظهرت الزيادة قبل تمام الحول زكى الجميع بحول الأصل بلا خلاف
وان ظهرت بعد تمامه فوجهان حكاهما الرافعي (أحدهما) هكذا (والثاني) وهو الأصح يستأنف للربح حولا
هذا كله إذا صار المال ناضا من جنس رأس المال بأن كان رأس المال دراهم فباعه بدراهم أما إذا صار ناضا من غير
جنسه بأن كان رأس المال دراهم فباع العرض بدنانير فيقومها إذا انقضي الحول بالدراهم ويزكى
ربحها لحول الأصل قولا واحدا كما سنذكره في العرض إن شاء الله تعالى لان رأس المال إذا كان
دراهم لا يقوم في آخر الحول الا بها فالدنانير كالعرض هكذا قطع به البغوي والأكثرون ونقله
الرافعي عن الجمهور ثم قال وقيل في ضم الربح إلى حول الأصل الطريقان السابقان فيما إذا كان
الناض من جنسه والمذهب الأول هذا كله إذا نض مال التجارة وفيه ربح: أما إذا حصل ربح
في قيمة العرض ولم ينض بان اشترى عرضا بمائتين ولم ينض حتى تم الحول وهو يساوى ثلاثمائة
فيحسب زكاة ثلاثمائة عند تمام حول رأس المال بلا خلاف سواء كانت الزيادة في نفس العرض
كثمن العبد والجارية والدابة وكبر الشجرة وغيرها أو بارتفاع السوق وسواء كانت الزيادة
في القيمة حاصلة يوم الشرى أو حدثت قبل الحول بزمن طويل أو قصير حتى يوم واحد أو لحظة
ففي كل هذا يضم الربح إلى الأصل ويزكى الجميع لحول الأصل بلا خلاف هكذا صرح به البغوي
وسائر الأصحاب ونقل القاضي أبو الطيب في المجرد وامام الحرمين وصاحب البيان اتفاق الأصحاب
عليه واحتجوا بأنه نماء في السلعة فأشبه النتاج في الماشية قال امام الحرمين حكى الأصحاب القطع
بهذا لكن من يعتبر النصاب في جميع الحول قد لا يسلم وجوب الزكاة في الربح في آخر الحول
ومقتضاه أن يقول ظهور الربح في أثنائه كنضوضه فيكون فيه الخلاف السابق قال وهذا لا بد منه
قال الرافعي والمذهب ما سبق (قلت) وهو كما قال الرافعي وهذا الذي أبداه امام الحرمين احتمال
59

ضعيف لان هذا المعني موجود في النتاج فان النصاب معتبر في الماشية في جميع الحول بالاتفاق والنتاج مضموم إلى الأصل والله أعلم: أما إذا ارتفعت قيمة العرض بعد انقضاء الحول فالربح مضموم إلى الأصل
في الحول الثاني لا في الأول كالنتاج وهذا لا خلاف فيه صرح به البغوي وآخرون والله أعلم
(المسألة الثانية) إذا كان عنده نصاب من الذهب والفضة للقنية فباعه في أثناء الحول بنصاب من
جنسه أو من الجنس الآخر فإن لم يقصد به التجارة انقطع الحول بلا خلاف كما لو بادل بالماشية ثم إن لم يقصد
الفرار من الزكاة فلا كراهة وان قصده كره كراهة تنزيه على المذهب وقيل تحريم وقد سبقت المسألة
في باب زكاة الثمار وان باعه بقصد التجارة كالصيرفي ونحوه فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف
بدليلهما (أصحهما) عند الأصحاب وهو ظاهر نص الشافعي ينقطع الحول في البيع ويستأنف حولا
لما اشتراه فان باع الثاني قبل حوله للتجارة انقطع حوله واستأنف حولا آخر لما اشتراه وهكذا
ابدا (والوجه الثاني) لا ينقطع الحول بل يبني الثاني على حول الأول وهذا قول أبي إسحاق المروزي
وصححه الشاشي والصحيح ما سبق ثم إن المصنف والجمهور حكوهما وجهين كما سبق وحكاهما البغوي
قولين فقال الجديد ينقطع والقديم لا ينقطع *
(فرع) لابن الحداد وشرحه الأصحاب قال أصحابنا رحمهم الله إذا ملك عشرين دينارا
فاشترى بها عرضا للتجارة ثم باعه بعد ستة أشهر من ابتداء الحول بأربعين دينارا واشترى بها سلعة
أخرى ثم باعها بعد تمام الحول بمائة دينار فان قلنا إن الربح من الناض لا يفرد بحول فعليه زكاة
جميع المائة لحول الأصل وان قلنا يفرد فعليه زكاة خمسين دينارا لأنه اشترى السلعة الثانية بأربعين
منها عشرون رأس ماله الذي مضى عليه ستة أشهر وعشرون ربح استفاده يوم باع الأول فإذا
مضت ستة أشهر فقد تم الحول على نصف السلعة فيزكيه بزيادته وزيادته ثلاثون دينارا لأنه ربح
للعشرينين ستين وكان ذلك كامنا وقت تمام الحول ثم إذا مضت ستة أشهر أخرى فعليه زكاة
العشرين الثانية فان حولها حينئذ ولا يضم إليها ربحها لأنه صار ناضا قبل تمام حولها فإذا مضت ستة
60

شهر أخرى فعليه زكاة ربحها وهي الثلاثون الباقية فإن كانت الخمسون التي اخرج زكاتها في الحول
الأول باقية عنده فعليه زكاتها أيضا للحول الثاني مع الثلاثين هذا الذي ذكرناه هو قول الحداد
تفريعا على أن الناض لا يفرد ربحه بحول وحكى الشيخ أبو علي وجهين آخرين ضعيفين ضعفهما
امام الحرمين والأصحاب (أحدهما) يخرج عند البيع الثاني زكاة عشرين فإذا مضت ستة أشهر
أخرج زكاة عشرين أخرى وهي التي كانت ربحا في الحول الأول فإذا مضت ستة أشهر أخرج زكاة
الستين الباقية لأنها إنما استقرت عند البيع الثاني فمنه يبتدئ حولها فيه (والوجه الآخر) انه عند البيع الثاني يخرج
زكاة عشرين ثم إذا مضت ستة أشهر زكى الثمانين الباقية لان الستين التي هي ربح حصلت في حول العشرين
التي هي الربح الأول فضمت إليها في الحول ولو كانت المسألة بحالها لكنه لم يبع السلعة الثانية فيزكي عند تمام
الحول الأول خمسين كما ذكرنا وعند تمام الحول الثاني الخمسين الثانية لان الربح الأخير ما صار ناضا: ولو
اشترى بمائتين عرضا فباعه بعد ستة أشهر بثلاثمائة واشترى بها عرضا آخر وباعه بعد تمام الحول بستمائة فإن لم
يفرد الربح بحول أخرج زكاة ستمائة وان أفردناه أخرج زكاة أربعمائة فإذا مضت ستة أشهر زكي مائة
فإذا مضت ستة أشهر أخرى زكى المائة الباقية هذا على قول ابن الحداد وهو المذهب وأما على
الوجهين الآخرين فيزكى عند البيع الثاني ما تبين ثم على الوجه الأول إذا مضت ستة أشهر زكى
مائة ثم إذا مضت ستة أشهر أخرى زكى ثلاثمائة وعلى الوجه الثاني إذا مضت ستة أشهر من البيع
الثاني زكى الأربعمائة الباقية والله أعلم
* (فرع) ذكره البندنيجي وصاحب الشامل والبيان وغيرهم لو كان معه مائة درهم فاشترى
عرضا للتجارة بخمسين منها فبلغت قيمته في آخر الحول مائة وخمسين وقلنا بالمذهب أنه ينعقد
الحول على ما دون النصاب لزمه زكاة الجميع فلو اشترى العرض بمائة فلما مضت ستة أشهر استفاد
خمسين درهما من جهة أخرى فلما تم حول العرض كانت قيمته مائة وخمسين فلا زكاة لان الخمسين
المستفادة لم يتم حولها لأنها وان ضمت إلى مال التجارة فإنما تضم إليه في النصاب لا في الحول لأنها
ليست من نفس العرض ولا من ربحه فإذا تم حول الخمسين زكى المائتين ولو كان معه مائة درهم
61

فاشترى بها عرضا للتجارة في أول المحرم ثم استفاد مائة أول صفر فاشترى بها عرضا ثم استفاد
مائة ثالثة في أول ربيع الأول فاشترى بها عرضا آخر فإذا تم حول المائة الأولى فإن كانت قيمة
عرضها نصابا زكاها وإن كانت أقل فلا زكاة فإذا تم حول المائة الثانية قوم عرضها فان بلغت قيمته
مع الأولى نصابا زكاهما وان نقصا عنه فلا زكاة في الحال فإذا تم حول المائة الثالثة فإن كان الجميع
نصابا زكاه وإلا فلا *
(فرع) قال البغوي لو اشترى عرضا بنصاب من الدراهم فصار ناضا في خلال الحول ناقصا
عن النصاب فان نض بغير جنس رأس المال بأن اشترى عرضا بمائتي درهم فنض بغيره دنانير
لم ينقطع الحول فإذا تم الحول تقوم الدنانير بالدراهم وان نض بجنس رأس المال بأقل من نصاب بان
باعه بمائة وخمسين درهما فوجهان (أحدهما) لا ينقطع الحول كما لو نض بغير جنسه وكما لو نقصت قيمة
العرض ولم ينض (والثاني) ينقطع لان الحول انعقد على عين الدراهم وقد نقص نصابها بخلاف
ما لو نض من غير رأس المال لان الحول هناك لم ينعقد على عينه إنما انعقد على قيمته ونصاب القيمة
في خلال الحول لا ينض في زكاة التجارة ولو اشترى عرضا للتجارة بمائتي درهم فباعه بعشرين
دينارا فتم الحول وهي في يده قومت الدنانير بالدراهم كالعروض فان بلغت قيمتها نصابا من الدراهم
أخرج الزكاة والا فهل يسقط حكم الحول أم لا يسقط حتى إذا بلغت قيمته بعد ذلك بأيام
نصابا لزمه الزكاة فيه هذان الوجهان فان قلنا يسقط بتبدل الحول فهل تنتقل الزكاة من الدراهم
إلى الدنانير فيه وجهان (أحدهما) لا كما لو كان عرضا ولم تبلغ قيمته نصابا لا ينتقل إلى نقد البلد
(والثاني) ينتقل ويبطل حول الدراهم حيت لم يبلغ قيمة ما في يده نصابا والدنانير في نفسها فاعتبارها
بنفسها أولى من اعتبار قيمتها فان قلنا تنتقل الزكاة إلى الدنانير فمن أي وقت يحسب حول الدنانير
فيه وجهان (أحدهما) من وقت التقويم لان حول الدراهم بطل عند التقويم والثاني من
حين نضت الدنانير هذا كلام البغوي والوجه الأول أصح والله أعلم *
62

قال المصنف رحمه الله تعالى
(إذا حال الحول على عرض التجارة وجب تقويمه لاخراج الزكاة فان اشتراه بنصاب من
الأثمان قوم به لأنه فرع لما اشترى به فوجب التقويم به وان اشتراه بعرض للقنية قوم بنقد البلد
لأنه لا يمكن تقويمه بأصله فوجب تقويمه بنقد البلد فإن كان في البلد نقدان قوم بأكثرهما معاملة وإن كان
ا متساويين نظرت فإن كان بأحدهما يبلغ نصابا وبالآخر لا يبلغ نصابا قوم بما يبلغ به لأنه قد
وجد نصاب تتعلق به الزكاة فوجب التقويم به وإن كان يبلغ بكل واحد منهما نصابا ففيه أربعة
أوجه (أحدهما) انه يقوم بما شاء منهما وهو قول أبي إسحاق وهو الأظهر لأنه لا مزية لأحدهما على
الآخر فخير بينهما (والثاني) يقوم بما هو أنفع للمساكين كما إذا اجتمع في النصاب فرضان أخذ ما هو
أنفع للمساكين (والثالث) يقوم بالدراهم لأنها أكثر استعمالا (والرابع) يقوم بنقد أقرب البلاد إليه
لان النقدين تساويا فجعلا كالمعدومين فان قومه ثم باعه بزيادة على قيمته قبل اخراج الزكاة ففيه
وجهان (أحدهما) لا يلزمه زكاة تلك الزيادة لأنها زيادة حدثت بعد الوجوب فلم تلزمه زكاتها كالسخال
الحادثة بعد الحول (والثاني) تلزمه لان الزيادة حصلت في نفس القيمة التي تعلق بها الوجوب فهو
بمنزلة الماشية إذا سمنت بعد الحول فإنه يلزمه اخراج فرض سمين وان اشتراه بما دون النصاب
من الأثمان ففيه وجهان (أحدهما) يقوم بنقد البلد لأنه ملكه بما لا تجب فيه الزكاة فأشبه إذا ملكه
بعرض للقنية (والثاني) انه يقوم بالنقد الذي اشتراه به لأنه أصل يمكن ان يقوم به فيقوم به كما
63

لو كان نصابا فان حال الحول على العرض فقوم فلم يبلغ النصاب لم تجب فيه الزكاة فان زادت قيمته
بعد الحول بشهر فبلغت نصابا ففيه وجهان قال أبو إسحاق لا تجب الزكاة حتى يحول عليه الحول
الثاني من حين حال الحول الأول لان الحول يبتدئ من حين الشراء وقد تم الحول وهو ناقص
عن النصاب فلم تتعلق به الزكاة وقال أبو علي بن أبي هريرة إذا بلغت قيمته نصابا بعد شهر وجبت
فيه الزكاة لأنه مضى عليه حول بعد الشراء بشهر وهو نصاب فوجبت فيه الزكاة) *
(الشرح) قال أصحابنا رحمهم الله إذا أراد التقويم فلرأس المال أحوال (أحدها) يكون نقدا
نصابا بان اشترى عرضا بمائتي درهم أو عشرين دينارا فيقوم في آخر الحول برأس المال فان بلغ
به نصابا زكاه والا فلا: فلو نقص به عن النصاب وبلغ بنقد البلد نصابا فلا زكاة حتى لو اشترى
بمائتي درهم عرضا فباعه بعشرين دينارا وقصد التجارة مستمر فحال الحول والدنانير في يده وهي
نقد البلد ولا تبلغ قيمتها بالدراهم مائتي درهم فلا زكاة هذا هو المذهب وبه قطع جماهير الأصحاب
المتقدمين والمتأخرين وحكى صاحب التقريب (قولا غريبا) ان التقويم ابدا يكون بغالب نقد البلد
سواء كان رأس المال نقدا أم لا وحكي الشيخ أبو حامد الماوردي والروياني وصاحب البيان
وغيرهم هذا وجها عن ابن الحداد وهو مذهب أبي حنيفة واحتج له بالقياس على ما لو أتلف على
غيره شيئا متقوما فإنه يقوم بنقد البلد لا بما اشتراه به واحتج الأصحاب للمذهب بان العرض لما فرع
64

ما اشتراه به وإذا أمكن تقويمه بأصله كان أولى بخلاف المتلف فإنه لا أصل له فوجب
تقويمه بنقد البلد (الحال الثاني) أن يكون نقدا دون نصاب فوجهان (أصحهما) عند الأصحاب
يقوم برأس المال لما ذكرناه في الحال الأول (والثاني) يقوم بنقد البلد وهو قول أبي إسحاق المروزي
لأنه لا يبنى حوله على حوله فهو كما لو اشتراه بعرض (قال) البغوي والرافعي وموضع الوجهين ما إذا
ملك من جنس رأس المال ما يتم به النصاب فان ملك بان اشترى بمائة درهم عرضا وهو حينئذ
يملك مائة أخرى فلا خلاف أن التقويم يكون برأس المال لأنه اشترى ببعض ما انعقد عليه الحول
وابتداء الحول من ملك الدراهم (قلت) ويجئ فيه القول الذي حكاه صاحب التقريب (الحال الثالث)
ان يملك بالنقدين جميعا وهذا ثلاثة اضرب (أحدها) أن يكون كل واحد منهما نصابا فيقوم بهما
جميعا على نسبة التقسيط يوم الملك وطريقة تقويم أحد النقدين بالآخر مثل ما لو اشترى العرض بمائتي
درهم وعشرين دينارا فينظر إن كانت قيمة الدراهم عشرين دينارا فنصف العرض مشترى
بدنانير ونصفه بدراهم وإن كانت قيمة الدراهم عشرة دنانير فثلثاه مشترى بدراهم وثلثه مشترى
بدنانير وهكذا يقوم في آخر الحول ولا يضم أحدهما إلى الآخر فان نقص كل واحد منهما في آخر
الحول عن النصاب فلا زكاة وإن كان بحيث لو قوم بأحدهما لبلغ نصابا لما سبق في باب زكاة الذهب
والفضة انه لا يضم أحدهما إلى الاخر ويكون حول كل واحد منهما من حين ملك ذلك النقد
(والضرب الثاني) أن يكون كل واحد منهما دون النصاب فان قلنا بقول أبى اسحق ان ما دون النصاب
كالعرض يقوم الجميع بنقد البلد وإن قلنا بالأصح انه كالنصاب فوجهان حكاهما الماوردي (أصحهما)
وبه قطع الجمهور يقوم ما قابل الدراهم بدراهم وما قابل الدنانير بدنانير (والثاني) يقوم الجميع بالدراهم
لأنه الأصل ونصوص زكاتها صريحة (الضرب الثالث) أن يكون أحدهما نصابا والآخر دونه
65

فيقوم ما ملكه بالنقد الذي هو نصاب برأس ماله وما ملكه بالنقد الآخر فيه ثلاثة أوجه (أصحها)
برأس ماله (والثاني) بغالب نقد البلد (والثالث) انه إن كان فضة قوم بها وإن كان ذهبا قوم
بالفضة أيضا وهو الوجه المحكى قريبا عن الماوردي قال أصحابنا ويقوم كل واحد منهما في آخر
حوله ويكون حول الذي ملكه بنصاب من حين ملك ذلك النصاب وحول المملوك بما دون
النصاب من حين ملك العرض وإذا اختلف جنس المقوم به فلا ضم (الحال الرابع) أن يكون رأس
المال غير نقد بان ملك العرض بعرض قنية أو ملكه بخلع أو نكاح بقصد التجارة وقلنا بالمذهب
أنه يصير مال تجارة فيقوم في آخر الحول بنقد البلد فإن كان في البلد نقدان فينظر فإن كان أحدهما
أغلب قوم بالأغلب نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب سواء كان دراهم أو دنانير فان بلغ
به نصابا وجبت زكاته وان نقص به عن النصاب وبلغ بنقد آخر غير الغالب نصابا فلا زكاة
بالاتفاق: ولو كان في البلد نقدان متشابهان في الرواج ليس أحدهما أغلب من الآخر فان بلغ
بأحدهما نصابا دون الآخر قوم بما بلغ به بلا خلاف وان بلغ بكل واحد منهما نصابا ففيه أربعة
أوجه حكاها المصنف والأصحاب (أصحها) عند المصنف والبندنيجي وآخرين من الأصحاب
وهو قول أبى اسحق المروزي يتخير المالك فيقوم بما شاء منهما لأنه لا مزيد لأحدهما على الآخر
(والثاني) يقوم بالأنفع للمساكين كما سبق في اجتماع الحقاق وبنات اللبون (والثالث) يتعين التقويم
بالدراهم لأنها أكثر استعمالا ولأنها أرفق وهو قول ابن أبي هريرة واحتج له بان الدراهم ثبتت
زكاتها بالنصوص المتواترة بخلاف الذهب قال القاضي أبو الطيب هذا الاستدلال باطل لان زكاة
الذهب ثابتة بالاجماع فلا فرق بينهما (والرابع) يقوم بالنقد الغالب في أقرب البلاد إليه لأنهما
تعارضا فصارا كالمعدومين فانتقل إلى أقرب البلاد (الحال الخامس) أن يكون رأس المال نقدا أو غيره
66

بان اشترى بمائتي درهم عبد قنية فما قابل الدراهم يقوم بها وما قابل العبد يقوم بنقد البلد فإن كان
النقد دون نصاب عاد الوجهان (الأصح) يقوم برأس ماله (والثاني) بغالب نقد البلد قال البغوي
والرافعي وكما يجرى التقسيط عند اختلاف الجنس يجرى عند اختلاف الصفة بان اشترى بنصاب
دنانير بعضها صحاح وبعضها مكسرة وبينهما تفاوت فيقوم ما يخص الصحيح وما يخص المكسور
والله أعلم *
(فرع) إذا قوم العرض في آخر الحول ثم باعه بزيادة على قيمته فإن كان البيع بعد اخراج
الزكاة فلا شئ عليه في هذه الزيادة عن الحول الأول ولكنها تضم إلى المال في الحول الثاني
وإن كان البيع قبل اخراج الزكاة فوجهان مشهوران حكاهما المصنف والأصحاب (أحدهما) يلزمه
زكاة الزيادة لأنها حصلت في نفس القيمة التي تعلق بها الوجوب فأشبهت الماشية إذا سمنت بعد
الحول قبل اخراج الزكاة فإنه تلزمه سمينة بلا خلاف (وأصحهما) عند القاضي أبى الطيب والأصحاب
لا تلزمه زكاة الزيادة لأنها حدثت بعد الوجوب فلم يلزمه زكاتها كالسخال الحادثة بعد الحول ويخالف
السمن فإنه وصف تابع ولو نقصت القيمة بعد أن قومها بعد الحول فباعها بنقص عما قومها به نظر
ان نقصت نقصا يسيرا وهو القدر الذي لا يتغابن الناس به لم تلزمه الا زكاة ما بيع به لان هذا
قيمته وان نقصت نقصا كثيرا لا يتغابن الناس به بان قومها بأربعين دينارا ثم نقصت فباعها بخمس وثلاثين
لزمه زكاة الأربعين التي قوم بها لان هذا النقص بتفريطه هكذا فصله أصحابنا وكذا نقله عنهم
القاضي أبو الطيب وصاحب البيان *
67

(فرع) إذا حال الحول على العرض فقوم فلم يبلغ قيمته نصابا فلا زكاة في الحال بلا خلاف
فان زادت قيمته فبلغت بعد ذلك نصابا ففيه وجهان مشهوران حكاهما المصنف والأصحاب
(أحدهما) وحكاه القاضي أبو الطيب عن ابن أبي هريرة والماسرجسي تلزمه الزكاة عند تمام
النصاب فخرج عن الماضي ويكون ابتداء الحول الثاني من هذا الوقت وقد زاد الحول الأول
لأنها إذا وجبت في اثني عشر شهرا ففي أكثر أولى (والثاني) وهو الأصح عند القاضي أبي الطيب
والأصحاب وبه قال أبو إسحاق المروزي لا تجب الزكاة حتى يحول حول ثان من حين حال الحول
الأول لان الحول الأول انقضي ولا زكاة فيه فوجب ان لا يجب شئ حتى يتم الحول الثاني ثم إن
المصنف وشيخه القاضي ومن تبعهما فرضوا المسألة فيما إذا زاد قيمته فبلغت نصابا بعد الحول
بشهر ونحوه وقال صاحب البيان متى زادت بعد الحول الأول وقبل تمام الثاني ففيه وجهان *
* قال المصنف رحمه الله *
(إذا قوم العرض فقد قال في الام يخرج الزكاة مما قوم به وقال في القديم فيه قولان (أحدهما)
يخرج ربع عشر قيمته (والثاني) يخرج ربع عشر العرض وقال في موضع آخر لا يخرج الا العين
والورق والعرض فمن أصحابنا من قال فيه ثلاثة أقوال (أحدها) يخرج من الذي قوم به لان
الوجوب يتعلق به (والثاني) يخرج من العرض لان الزكاة تجب لأجله (والثالث) يخير بينهما لان
الزكاة تتعلق بهما فيخيره بينهما وقال أبو إسحاق فيه قولان (أحدهما) يخرج مما قوم به (والثاني)
انه بالخيار فقال أبو علي بن أبي هريرة فيه قولان (أحدهما) يخرج مما قوم به (والثاني) يخرج العرض) *
(الشرح) قال الشافعي والأصحاب زكاة عرض التجارة ربع العشر بلا خلاف ولا وقص
فيه كالنقد وفيما يجب اخراجه طرق كما ذكره المصنف حاصلها ثلاثة أقوال (أصحها) عند الأصحاب
وهو نصه في الام والمختصر وهو الجديد وبه الفتوى وعليه العمل يجب ربع عشر القيمة مما قوم *
68

به ولا يجوز أن يخرج من نفس العرض (والثاني) يجب الاخراج من نفس العرض ولا تجزى القيمة
(والثالث) يتخير بينهما وقد ذكر المصنف دليل الجميع والقول الثاني والثالث قديمان ضعيفان وحكى
الصيمري (طريقا رابعا) وهو انه إن كان العرض حنطة أو شعيرا أو مما ينفع المساكين أخرج منه وإن كان
عقارا أو حيوانا فمن القيمة نقدا *
(فرع) ذكره الأصحاب تفريعا على هذه الأقوال الثلاثة السابقة قالوا إذا اشترى بمائتي درهم
مائتي قفيز حنطة أو بمائة وقلنا يعتبر النصاب آخر الحول فقط وهو الأصح وحال الحول وهي تساوى
مائتين فعلى الصحيح الجديد عليه خمسة دراهم وعلى الثاني خمسة أقفزة وعلى الثالث يتخير بينهما
(قالوا) فلو أخر اخراج الزكاة حتى نقصت القيمة فعادت إلى مائة درهم نظر إن كان ذلك قبل امكان
الأداء وقلنا الامكان شرط للوجوب فلا زكاة وان قلنا شرط للضمان لا للوجوب لزمه على الجديد
الصحيح درهمان ونصف وعلى الثاني خمسة أقفزة وعلى الثالث يتخير بينهما وإن كان بعد الامكان
لزمه على الجديد خمسة دراهم لان النقصان من ضمانه وعلى الثاني خمسة أقفزة ولا يلزمه ضمان نقصان
القيمة مع بقاء العين كالغاصب وعلى الثالث يتخير بينهما ولو أخر الاخراج فبلغت القيمة أربعمائة
فإن كان قبل امكان الأداء وقلنا هو شرط الوجوب لزمه على الجديد عشرة دراهم وعلى الثاني
خمسة أقفزة وعلى الثالث يتخير بينهما وان قلنا شرط في الضمان لزمه على الجديد خمسة دراهم وعلى
الثاني خمسة أقفزة قيمتها عشرة دراهم لأن هذه الزيادة في ماله ومال المساكين هذا هو الصحيح عند
الأصحاب وقال ابن أبي هريرة يكفيه على هذا القول خمسة أقفزة قيمتها خمسة دراهم لأن هذه
الزيادة حدثت بعد وجوب الزكاة وهي محسوبة في الحول الثاني وعلى الثالث يتخير بينهما ولو بلغت
الحنطة بعد وجوب الزكاة وقيمتها مائتا درهم فصارت أربعمائة درهم لزمه على الجديد خمسة
دراهم لأنها القيمة يوم الاتلاف وعلى الثاني خمسه أقفزة قيمتها عشرة دراهم وعلى الثالث يتخير بينهما
69

* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(إذا دفع إلى رجل ألف درهم قراضا على أن الربح بينهما نصفان فحال الحول وقد صار
ألفين بنيت على أن المضارب متى يملك الربح وفيه قولان (أحدهما) يملكه بالمقاسمة (والثاني) يملكه
بالظهور فان قلنا بالأول كانت زكاة الجميع على رب المال فان أخرجها من عين المال فمن أين تحسب
فيه ثلاثة أوجه (أحدها) انه تحسب من الربح لأنها من مؤن المال فتحتسب من الربح كأجرة
النقال والوزان والكيال (والثاني) تحتسب من رأس المال لان الزكاة دين عليه في الذمة في أحد
القولين فإذا قضاه من المال حسب من رأس المال كسائر الديون (والثالث) انها تحسب من رأس المال
والربح جميعا لان الزكاة تجب في رأس المال والربح في حسب المخرج منهما (وان قلنا) ان العامل يملك
حصته من الربح بالظهور وجب على رب المال زكاة ألف وخمسمائة واخراجها على ما ذكرناه وتجب على
العامل زكاة خمسمائة غير أنه لا يلزمه اخراجها لأنه لا يدرى هل يسلم له أم لا فلم يلزمه اخراج زكاته
كالمال الغائب فان أخرج زكاته من غير المال جاز وان أراد إخراجه من المال ففيه وجهان (أحدهما)
ليس له لان الربح وقاية لرأس المال فلا يخرج منه الزكاة (والثاني) ان له ذلك لأنهما دخلا على حكم
الاسلام ووجوب الزكاة) *
70

(الشرح) عامل القراض لا بملك حصته من الربح الا بالقسمة في أصح القولين وفى الثاني
يملكها بالظهور فإذا دفع إلى رجل نقدا قراضا وهما جميعا من أهل الزكاة فحال عليه الحول (فان قلنا)
العامل لا يملك حصته من الربح الا بالقسمة لزم المالك زكاة رأس المال والربح جميعا فان الجميع
ملكه هكذا قطع به المصنف والأصحاب وأشار امام الحرمين إلى احتمال في تخريج الوجوب على
المالك في نصيب العامل على الخلاف في المغصوب والمجحود لتأكد حق العامل في حصته والمذهب
ما قاله الأصحاب قال أصحابنا وحول الربح مبنى على حول الأصل الا إذا صار ناضا في أثناء الحول
ففيه الخلاف السابق ثم إن أخرج المالك الزكاة من موضع آخر فذاك وان أخرجها من نفس مال
القراض فهو جائز بلا خلاف وفى حكم المخرج ثلاثة أوجه مشهورة حكاها المصنف والأصحاب
(أصحها) عند الشيخ أبي حامد والبغوي والجمهور وهو المنصوص انه يحسب من الربح كالمؤن التي
تلزم المال كأجرة حمال وكيال ووزان وغير ذلك وكما أن فطرة عبيد التجارة من الربح بلا خلاف
ونقله البغوي عن نص الشافعي وكذا أروش جناياتهم (والثاني) بحسب من رأس المال لان الزكاة
دين على المالك فحسب على المالك كما لو اخذ قطعة من المال وقضي بها دينا آخر (والثالث) يحسب
من رأس المال والربح جميعا لأنها تجب فيهما فحسبت فيهما ويكون المخرج كطائفة من المال استردها
المالك ويقسط عليهما مثاله رأس المال مائتان والربح مائة فثلثا المخرج من رأس المال وثلثه من الربح
قال الخراسانيون هذا الخلاف مبنى على أن تعلق الزكاة بالعين أم بالذمة (ان قلنا) بالعين فكالمؤن
والا فهو استرداد ومنهم من قال (ان قلنا) بالعين فكالمؤن والا فوجهان واستبعد امام الحرمين
هذا البناء وقال ليس هو بمرضى قال ولا يمتنع اثبات الخلاف على قول تعلق الزكاة بالعين من جهة
شيوع تعلق الزكاة في الجميع (أما) إذا قلنا العامل يملك حصته بالظهور فعلى المالك زكاة رأس المال
وحصته من الربح بلا خلاف ولا يلزمه زكاة حصة العامل بلا خلاف * قال المصنف والأصحاب
وحكم الاخراج والحول كما سبق وهو انه ان بقيت السلعة إلى آخر الحول زكى الربح بحول الأصل
وان نض الربح قبل الحول فهل يضم إلى حول الأصل أم يفرد بحول فيه الخلاف السابق ثم إن
أراد اخراج الزكاة من مال القراض من أين يحسب فيه الأوجه الثلاثة هذا حكم المالك (وأما)
71

العامل على هذا القول فهل يلزمه زكاة نصيبه من الربح فيه ثلاث طرق حكاها الفوراني وإمام
الحرمين وآخرون (وأصحها) وبه قطع المصنف وجمهور العراقيين وصاحب التقريب والصيدلاني
وغيرهم القطع بوجوبها لأنه مالك قادر على الفسخ والمقاسمة في كل وقت والتصرف بعد القسمة في
نصيبه فلزمه الزكاة (والثاني) انه على قول المغصوب والمجحود لأنه غير متمكن في الحال من كمال التصرف
(والثالث) القطع بعدم الزكاة عليه لضعف ملكه وعدم استقراره لاحتمال الخسران فأشبه المكاتب
وهذه طريقة القفال وضعفها امام الحرمين فحصل ان المذهب الايجاب على العامل وفى ابتداء حوله
في نصيبه خمسة أوجه (أصحها) المنصوص من حين الظهور لأنه ملك من حينئذ (والثاني) من حين
يقوم المال على المالك لأجل الزكاة لأنه لا يتحقق الربح الا بذلك حكاة الشيخ أبو حامد والأصحاب
(والثالث) حكاه أبو حامد أيضا والأصحاب من حين المقاسمة لأنه لا يستقر ملكه الا من حينئذ
وهذا غلط وإن كان مشهورا لان حاصله أن العامل لا زكاة في نصيبه لأنه بعد المقاسمة ليس
بعامل بل مالك ملكا مستقرا كامل التصرف فيه والتفريع على أنه يملك بالظهور فالقول بأنه
لا يكون حوله الا من المقاسمة رجوع إلى أنه لا زكاة عليه قبل القسمة (والوجه الرابع) حوله حول
رأس المال حكاه امام الحرمين والغزالي وغيرهما وهذا أيضا غلط صريح لأنه حينئذ لم يكن مالكا
فكيف يبني ملكه وحوله على حول غيره ولا خلاف ان حول الانسان يبنى على حول غيره لا الوارث
على قول ضعيف لكونه قائما مقام المورث والخامس انه من حين اشترى العامل السلعة حكاه البندنيجي
وغيره قالوا وهو غلط قال أصحابنا ثم إذا تم حول العامل ونصيبه لا يبلغ نصابا لكنه مع جملة
المال يبلغ نصابا فان أثبتنا الخلطة في النقدين فعليه الزكاة وإلا فلا الا أن يكون له من جنسه
ما يكمل به النصاب وهذا إذا لم نقل ابتداء الحول من المقاسمة فان جعلناه منها سقط اعتبار الخلطة
قال أصحابنا وإذا أوجبنا الزكاة على الحامل لم يلزمه اخراجها قبل القسمة وهذا هو المذهب وبه
قطع المصنف وسائر العراقيين والجمهور فإذا اقتسما زكى ما مضى وفيه وجه انه يلزمه الاخراج في الحال
لتمكنه من القسمة وهو قول صاحب التقريب حكاه صاحب الإبانة والبيان وآخرون عنه والصواب
الأول لان المال ليس في يده ولا تصرفه فلا يكون أكثر من المال الغائب الذي ترجي سلامته
72

ويخاف تلفه قال أصحابنا فان أخرج الزكاة من موضع آخر فذاك وان أراد اخراجها من مال
القراض فهل له الاستقلال به أم للمالك منعه فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب
أصحهما عند جماهير الأصحاب وهو المنصوص يستقل به بغير اذن المالك لان الزكاة وجبت
فيه ولأنه مقتضي القراض على هذا القول (والثاني) ليس له ذلك وللمالك منعه لان الربح وقاية لرأس
المال فلعله يخسر قال البندنيجي هذان الوجهان مبنيان على أن الزكاة هل تتعلق بالعين أم بالذمة
ان قلنا بالعين فله ذلك والا فلا وبهذا كله إذا كان المالك والعامل من أهل وجوب الزكاة جميعا
فأما إذا كان المالك من أهلها دون العامل وقلنا الجميع للمالك ما لم يقسم فعليه زكاة الجميع وان قلنا
بالقول الآخر فعليه زكاة رأس المال ونصيبه من الربح ولا يكمل نصيبه إذا لم يبلغ نصابا بنصيب
العامل لأنه ليس من أهل الزكاة فلا تصح خلطته وأما إذا كان العامل من أهل وجوب الزكاة
دون المالك فان قلنا كله للمالك قبل القسمة فلا زكاة وان قلنا للعامل حصته من الربح ففي وجوب
الزكاة عليه الخلاف السابق فان أوجبناها فذلك إذا بلغت حصته نصابا أو كان له ما يتم به نصاب
ولا تثبت الخلطة ولا يجئ في اعتبار الحول هنا الا الوجه الأول والثالث وليس له اخراج الزكاة
من غير المال بلا خلاف لان المالك لم يدخل في العقد على اخراج زكاة من المال هكذا قاله الأصحاب
قال الرافعي والمانع منع ذلك لأنه عامل من عليه الزكاة والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بزكاة التجارة إحداها إذا باع عرض التجارة بعد وجوب الزكاة قبل
اخراجها ففيه ثلاث طرق أصحها وبه قطع جمهور الأصحاب في الطريقين صحة بيعه قولا واحدا
(والطريق الثاني) فيه الخلاف السابق في بيع غيره من أموال الزكاة قبل اخراجها كبيع السائمة
والثمرة والحب والنقد بعد وجوب الزكاة قبل اخراجها حكاه صاحب البيان وآخرون (والثالث)
ان قلنا يخرج زكاة التجارة من نفس العرض فهو على الخلاف وان قلنا يخرج من القيمة فهو كما لو
وجبت شاة في خمس من الإبل فباعها قبل اخراج الشاة وفيه طريقان سبقا في موضعهما وهذا
الطريق قاله (1) وحكاه الرافعي قال الرافعي وهذان الطريقان شاذان والمذهب القطع بالجواز كما قطع به الجمهور
وسواء باع بقصد التجارة أم بقصد اقتناء المال أم بلا قصد لان تعلق الزكاة به لا يبطل وان
صار مال قنية كما لو نوى الاقتناء بلا بيع ولو وهب مال التجارة أو أعتق عبدها قال الرافعي هو

(1) بياض بالأصل فحرر
73

كبيع الماشية بعد وجوب الزكاة فيها لان الهبة والاعتاق يبطلان متعلق زكاة التجارة كما أن بيع
الماشية يبطل متعلق زكاتها قال ولو باع مال التجارة بعد وجوبها بمحاباة فقدر المحاباة كالموهوب
فإن لم تصحح الهبة بطل في ذلك القدر وفى الثاني قولا تفريق الصفقة (الثانية) إذا كان مال التجارة
حيوانا فله حالان (أحدهما) أن يكون مما تجب الزكاة في عينه كنصاب الماشية وسبق حكمه (الثاني)
أن لا يجب في عينه كالعبيد والجواري والخيل والحمير والمعلوفة من الغنم فهل يكون نتاجها مال
تجارة فيه وجهان مشهوران أصحهما يكون لان الولد جزء من أمه قالوا والوجهان فيما إذا لم تنقص
قيمة الام بالولادة فان نقصت بأن كانت قيمتها ألفا فصارت بالولادة ثمانمائة وقيمة الولد
مائتان جبر نقص الام بالولد وزكي الألف ولو صارت قيمة الام تسعمائة جبرت المائة من قيمة
الولد كذا قاله ابن سريج والأصحاب قال امام الحرمين وفيه احتمال ظاهر ومقتضي قولنا انه
ليس مال تجارة لا يجبر به الام كالمستفاد بسبب آخر قال أصحابنا وثمار أشجار التجارة كأولاد
حيوانها ففيها الوجهان فإن لم يجعل الأولاد والثمار مال تجارة فهل يجب فيها في السنة الثانية فما بعدها
زكاة قال امام الحرمين الظاهر انا لا نوجب لأنه منفصل عن تبعية الام وليس أصلا في التجارة وأما
إذا ضممناها إلى الأصل وجعلناها مال تجارة ففي حولها طريقان (أصحهما) حولها حول الأصل
كنتائج السائمة وكالزيادة المتصلة (والثاني) على قولي ربح الناض فعلى أحدهما ابتداء حولها من
انفصال الولد وظهور الثمار (الثالثة) حكى البغوي والأصحاب عن ابن الحداد فرعا ووافقوه عليه وهو
إذا اشترى شقصا مشفوعا بعشرين دينارا للتجارة فحال الحول وقيمته مائة لزمه زكاة مائة ويأخذه
الشفيع بعشرين ولو اشتراه بمائة فحال عليه الحول وقيمته عشرون لزمه زكاة عشرين ويأخذه
الشفيع بمائة وحكي امام الحرمين ما ذكره ابن الحداد في الصورة ثم قال قال الشيخ أبو علي ومن
أصحابنا من خرج قولا أنه لا زكاة عليه لان ملكه معرض للزوال بتسلط الشفيع عليه ولو تصرف
في الدار فتصرفه معرض للنقص من جهة الشفيع بخلاف الصداق فان تصرف المرأة فيه لا ينقص
لو فرض فرقة قبل الدخول قال الامام وهذا الذي ذكره وإن كان يتوجه تفريعه فالوجه أن يستثني
منه قدر عشرين دينارا فان ملكه وإن كان معرضا في لزوال في الشقص فيبذل في مقابلته عشرون
دينار أو عين المال ليست مقصودة في زكاة التجارة وإنما المقصود المالية وهي موجودة دائمة في مقدار
74

عشرين دينارا قال الامام ثم ذكر الشيخ أبو علي وجها ان للمشترى أن يقول قد وجبت الزكاة
في مالية الدار فيخرج الزكاة منها ويكون ذلك كنقصان صفة في الشقص فيأخذه الشفيع الباقي
بجميع العشرين كما لو نقص بآفة سماوية قال الامام وهذا الوجه ضعيف لان نقصه بالزكاة بسبب
قصده التجارة لا في نفسه والله أعلم *
(باب زكاة المعدن والركاز)
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(إذا استخرج حر مسلم من معدن في موات أو في أرض يملكها نصابا من الذهب أو الفضة
وجبت عليه الزكاة لان النبي صلى الله عليه وسلم اقطع بلال بن الحرث المزني المعادن القبلية واخذ
منه الزكاة فان استخرجها مكاتب أو ذمي لم يجب عليه شئ لأنها زكاة والزكاة لا تجب على مكاتب
ولا ذمي وان وجده في أرض مملوكة لغيره فهو لصاحب الأرض ويجب دفعه إليه فإذا أخذه مالكه
وجبت عليه زكاته) *
(الشرح) هذا الحديث رواه مالك في الموطأ عن شيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير
واحد من العلماء ان النبي صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال ابن الحرث المزني معادن القبلية وهي
من ناحية الفرع فتلك المعادن لا يؤخذ منها الا الزكاة إلى اليوم هذا لفظ رواية مالك وروى
الشافعي عن مالك هكذا ثم قال الشافعي ليس هذا مما يثبته أهل الحديث ولو أثبتوه لم يكن فيه
رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم الا اقطاعه فان الزكاة في المعدن دون الخمس وليست مروية عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال البيهقي هو كما قال الشافعي في رواية مالك قال وقد روى عن ربيعة موصولا
فرواه البيهقي عن ربيعة عن الحرث بن بلال بن الحرث عن أبيه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخذ من المعادن القبلية الصدقة وانه أقطع بلال بن الحرث العقيق أجمع والمعادن القبلية بفتح القاف
والباء الموحدة وهذا لا خلاف فيه وقد تصحف والفرع بضم الفاء واسكان الراء وبالعين
المعجمة بلاد بين مكة والمدينة وأما المعدن فمشتق من العدون وهو الإقامة ومنه قوله تعالى جنات
عدن وسمي معدنا لان الجوهر يعدن فيه أي يقيم وقولهم زكاة المعدن أي زكاة المستخرج من
المعدن * أما الأحكام فقال أصحابنا أجمعت الأمة على وجوب الزكاة في المعدن وشرط للذي يجب
75

عليه أن يكون حرا مسلما والمكاتب والذمي لا زكاة عليهما لما سبق في أول كتاب الزكاة وسبق
هناك فيمن بعضه حر وبعضه عبد خلاف وهو جار هنا ولو كان المستخرج عبدا وجبت الزكاة على سيده
لان الملك له ولو أمره السيد بذلك ليكون النيل له قال القاضي أبو الطيب في المجرد والدارمي
والبندنيجي وصاحب الشامل هو على القولين في ملك العبد بتمليك السيد فان قلنا لا يملك فالملك
للسيد وعليه زكاته وان قلنا يملك فلا زكاة على السيد لعدم ملكه ولا على العبد لضعف ملكه والله علم *
قال المصنف والأصحاب إذا كان مواتا أو ملكا للمستخرج فعليه زكاته وان وجده في أرض مملوكه فهو
لصاحب الأرض ويجب دفعه إليه فإذا أخذه مالكه لزمه زكاته *
(فرع) قال أصحابنا لا يمكن الذمي من حفر معدن في دار الاسلام ولا الاخذ منها كما لا يمكن
من الاحياء فيها ولكن ما أخذه قبل ازعاجه يملكه كما لو أحتطب وفيه وجه انه لا يملكه حكاه
الماوردي وسنعيده في فصل الزكاة إن شاء الله تعالى والصواب انه يملك وليس عليه حق المعدن
على المذهب وبه قطع المصنف وسائر العراقيين وقال جماعة من الخراسانيين يبني على أن مصرف
حق المعدن ماذا فان أوجبنا فيه ربع العشر فمصرفه مصرف الزكوات وان أوجبنا الخمس فطريقان
المذهب مصرف الزكوات (والثاني) فيه قولان (أصحهما) هذا (والثاني) مصرف خمس الفئ وبهذا
قال المزني وأبو حفص بن الوكيل من أصحابنا حكاه عنهما صاحب البيان فان قلنا بهذا أخذ من
الذمي الخمس وان قلنا بالمذهب انه مصرف الزكوات لم يؤخذ منه شئ قال الماوردي فان قيل إذا
كان الذمي ممنوعا من المعدن كما يمنع من الاحياء فينبغي أن لا يملك ما يأخذه منه كما لا يملك ما أحياه
والجواب أن ضرر الاحياء مؤبد فلم يملك به بخلاف المعدن قال أصحابنا ثم على المذهب يشترط النية
فيه كسائر الزكوات وإذا قلنا مصرف الفئ فلا يشترط النية ولا خلاف أن المكاتب لا يمنع من
المعدن ولا زكاة عليه قال المروزي (فان قيل) فما الفرق بين أن يجد المكاتب معدنا أو ركازا
فلا زكاة عليه فيه وبين أن يغنم غنيمة من الكفار فيجب فيها الخمس فالجواب انه في الغنيمة يملك
أربعة أخماسها أولا ويملك أهل الخمس حينئذ الخمس وفى المعدن والركاز يملك كله بالوجود ولكن
يجب بعد ذلك على الحر إخراج واجبه زكاة والمكاتب لا زكاة عليه فيما ملكه كسائر أملاكه هذا
مذهبنا وقال أبو حنيفة يلزم المكاتب زكاة المعدن *
76

(فرع) قال أصحابنا ولو اشترى الحر المسلم أرضا فظهر فيها معدن فهو ملك المشتري فان
شاء عمله وان شاء تركه ولا يتعرض له في واحد منهما *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان وجد شيئا غير الذهب والفضة كالحديد والرصاص والفيروزج والبلور وغيرهما لم تجب فيه
الزكاة لأنها ليست من الأموال المزكاة فلم بحب فيها حق المعدن وان وجد دون النصاب
لم يلزمه الزكاة لأنا بينا أن ذلك زكاة فلا يجب في غير النصاب ولأنه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض
فاعتبر فيه النصاب كالعشر) *
(الشرح) اتفق أصحابنا على أن المستخرج من المعدن إذا كان ذهبا أو فضة وجبت فيه
الزكاة وأما غيرهما من الجواهر كالحديد والنحاس والرصاص والفيروزج والبلور والمرجان والعقيق
والزمرد والزبرجد والكحل وغيرها فلا زكاة فيها هذا هو المشهور الذي نص عليه الشافعي
في كتبه المشهورة في الجديد والقديم وبه قطع جماهير الأصحاب في الطرق كلها وقال الدارمي في
الاستذكار قال ابن القطان في وجوب الزكاة فيها قولين قال ونقل القيصري من أصحابنا عن القديم
قولين في وجوبها كالزكاة وحكى الرافعي وجها شاذا منكرا انه تجب الزكاة في كل مستخرج منه
وقال أبو حنيفة تجب في المنطبعات كالحديد وقال احمد في كل مستخرج * دليلنا أن الأصل عدم
الوجوب وقد ثبت في الذهب والفضة بالاجماع فيه بالاجماع فلا تجب فيما سواه الا بدليل صريح
وهل يشترط لوجوب زكاة الذهب والفضة المستخرجين من الذهب والفضة النصاب فيه طريقان
الصحيح منهما وبه قطع المصنف وجماهير العراقيين وجماعات من الخراسانيين اشتراطه ونقل القاضي
أبو الطيب في المجرد اتفاق الأصحاب عليه (والثاني) حكاه أكثر الخراسانيين والماوردي من العراقيين
فيه قولان (أصحهما) اشتراطه (والثاني) لا قال أصحاب هذه الطريقة القولان مبنيان على أن واجبه
الخمس أو ربع العشر (ان قلنا) ربع العشر فالنصاب شرط والا فلا والمذهب اشتراطه مطلقا لعموم
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته (ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)
وبالقياس الذي ذكره المصنف والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان وجد النصاب في دفعات نظرت فإن لم ينقطع العمل ولا النيل ضم بعضه إلى بعض في
77

اتمام النصاب وان قطع العمل لعذر كاصلاح الأداة ضم ما يجده بعد زوال العذر إلى ما وجده قبله
وان ترك العمل فيه لغير عذر لم يضم ما وجده بعد الترك إلى ما وجده قبله وان اتصل العمل
وانقطع النيل ثم عاد ففيه قولان (قال) في القديم لا يضم الثاني إلى الأول لأنه إذا لم يضم ما وجده
بعد قطع العمل إلى ما وجده قبله فلان لا يضم ما وجده بعد قطع النيل بغير اختياره
وهو المقصود أولي وقال في الجديد يضم لان انقطاع النيل بغير اختياره وانقطاع العمل
باختياره) *
(الشرح) قال أصحابنا ليس من شرط نصاب المعدن أن يوجد دفعة واحدة بل ما ناله دفعات
يضم بعضه إلى بعض واتصال العمل إن تتابع العمل والنيل قال الماوردي والبغوي وغيرهما
لا يشترط بقاء المستخرج في ملكه قال أصحابنا واتصال العمل هو ادامته في الوقت الذي جرت
المعادة بالعمل فيه واتصال النيل هو أن لا يحفد المعدن وخفده أن يخرج منه بالعمل شيئا وأما إذا
تتابع العمل ولم يتواصل النيل بل خفد المعدن زمانا ثم عاد النيل فإن كان زمن الانقطاع يسيرا
ضم أيضا ووجبت الزكاة إذا بلغ المجموع نصابا وإن كان كثيرا كاليومين والثلاثة (قولان) الصحيح
الجديد الضم (والقديم) لا ضم وذكر المصنف دليلهما أما إذا انقطع العمل وكان النيل ممكنا بحيث لو عمل لنال
ثم عاد إلى العمل فإن كان القطع بلا عذر لم يضم سواء طال الزمان أم لا قصر لأنه معرض وان قطع لعذر ضم
سواء طال الزمان أم لا ما دام الترك لعذر هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور وحكاه الرافعي عن
الجمهور وحكي فيه وجها آخر أنه لا ضم قال وفى حد الطول أوجه (أصحها الرجوع إلى العرف (والثاني) ثلاثة أيام
(والثالث) يوم كامل قال أصحابنا والاعذار كاصلاح الآلة وهرب العبيد والاجراء وهذه اعذار بلا
خلاف قال الرافعي وكذلك السفر والمرض على المذهب وقيل فيهما وجهان (أصحهما) عذران (والثاني) لا
وقطع الماوردي والقاضي أبو الطيب والجمهور انهما من الاعذار قال أصحابنا ومتى حكمنا بعدم
الضم فمعناه ان الأول لا يضم إلى الثاني * وأما الثاني فيضم إلى الأول بلا خلاف كما يضم إلى ما يملكه
من غير المعدن *
(فرع) ولو وجد رجلان من المعدن دون نصابين وبلغ نصابا (فان قلنا) باثبات الخلطة في
الذهب والفضة زكيا زكاة الخلطة إن كانا من أهلها والا فلا زكاة عليهما الا أن يكون في ملكه
من غيره ما يتم به النصاب *
78

(فرع) في ضم المملوك من المعدن إلى غيره مما يملكه الواجد وهو مفرق في كلام الأصحاب
وقد لخصه الرافعي واختصرت كلامه ومختصره أنه إذا نال من المعدن دون نصاب وهو يملك
من جنسه نصابا فصاعدا فاما أن يناله في آخر جزء من حول ما عنده أو بعد تمام حوله أو قبله ففي
الحالين الأولين يصير مضموما إلى ما عنده وعليه في ذلك النقد زكاته وعليه أيضا فيما ناله حقه بلا خلاف
لكن حق النقد ربع العشر وحق المعدن فيه الأقوال: الصحيح ربع العشر * وأما إذا ناله قبل
تمام الحول فلا شئ عليه فيما عنده حتى يتم حوله وفي وجوب حق المعدن فيما وجده وجهان (أصحهما)
الوجوب وهو ظاهر نصه في الام وصححه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وآخرون (والثاني) لا يجب
فعلى هذا يجب فيما عنده ربع العشر عند تمام حوله وفيما ناله ربع العشر عند تمام حوله وبهذا كان
ما يملكه من جنسه دون نصاب بان ملك مائة درهم ونال من المعدن مائة نظر ان نالها بعد تمام حول
ما عنده ففي وجوب حق المعدن فيما ناله الوجهان فعلى الأول يجب في المعدن حق ويجب فيما كان عنده
ربع العشر إذا تم حوله من حين كمل النصاب بالنيل وعلى الثاني لا يجب شئ في الجميع حتى يمضي
حول من يوم النيل فيجب في الجميع ربع العشر وقال أبو علي في الافصاح فيه وجه انه يجب فيما ناله
حقه وفيما كان عنده ربع العشر في الحال لأنه كمل بالنيل وقد مضى عليه حول وهذا ضعيف أو باطل
لان الذي كان عنده دون نصاب فلم يكن في حوله قلت وهذا لوجه المنسوب إلى أبى على صاحب
الافصاح نقله الشيخ أبو حامد والمصنف في فصل الركاز وغيرهما من الأصحاب عن نص الشافعي
واختاروه ورجحوه ولكن الأصح الذي اختاره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما من
المحققين انه لا شئ فيما كان عنده حتى يحول حوله من حين كمل نصابا والله أعلم * وأما إذا ناله قبل
تمام حول المائة فلا يجب في المائة التي كانت عنده شئ بلا خلاف ولا يجئ وجه صاحب الافصاح
وأما المائة المأخوذة من المعدن فيجئ فيها الوجهان السابقان وهذا التفصيل نقله بعض العراقيين
ونقل معظمه أبو علي السنجي ونسبه امام الحرمين إلى السهو وقال إذا كان ما يملكه دون نصاب
فلا ينعقد عليه حول حتى يفرض له وسط وآخر أو يحكم بوجوب الزكاة فيه يوم النيل ولا شك في بعد
القول بوجوب الزكاة فيه للنيل لكن الشيخ أبو علي لم ينفرد بنقله ولا اختاره حتى يعترض عليه وإنما
79

نقله متعجبا منه منكرا له (قلت) هذا الذي ذكره إمام الحرمين وأبو علي والرافعي من الافراط في رد
الوجه المنقول عن الافصاح وجعله غلطا شاذا لا يعرف ليس كما قالوه بل هو منصوص ما قدمناه عن نقل
المصنف والشيخ أبي حامد وغيرهما ولكن الأصح خلافه * وأما إذا كان الذي عنده مال تجارة
فيجئ فيه الأحوال الثلاثة وإن كان دون نصاب بلا اشكال لان الحول ينعقد عليه وإن كان
دون نصاب ولا يعتبر نصابه الا في آخر الحول على الصحيح كما سبق في بابه فإذا نال من المعدن
شيئا في آخر حول التجارة ففيه حق المعدن وفى مال التجارة زكاة التجارة إن كان نصابا وكذا إن
كان دونه وبلغ بالمعدن نصابا واكتفينا بالنصاب في آخر الحول وان نال قبل تمام الحول ففي
وجوب حق المعدن الوجهان السابقان وان نال بعد تمام الحول نظر إن كان مال التجارة نصابا
في آخر الحول وجب في النيل حق المعدن لانضمامه إلى ما وجبت فيه الزكاة وان لم يبلغ نصابا وناله
بعد مضى ستة أشهر من الحول الثاني بنى على الخلاف السابق في باب زكاة التجارة أن عرض
التجارة إذا قوم في آخر الحول فنقص عن النصاب ثم زاد بعد ذلك وبلغ نصابا هل تجب فيه
الزكاة عند بلوغه نصابا أم ينتظر مضي الحول الثاني بكماله (فان قلنا) بالثاني وهو انتظار مضي
الحول الثاني وهو الأصح ففي وجوب حق المعدن الوجهان وجميع ما ذكرناه مفرع على المذهب
وهو أن الحول لا يعتبر في زكاة المعدن وان اعتبرناه انعقد الحول عليه من حين وجده هذا آخر
كلام الرافعي رحمه الله وقد ذكر المصنف هذه المسائل في فصل الركاز وفى كلامه مخالفة للراجح
في المذهب فليحمل على ما قررناه هنا قال أصحابنا وحكم الركاز في اتمام النصاب حكم
المعدن في كل ما ذكرناه وفاقا وخلافا بلا فرق والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ويجب حق المعدن بالوجود ولا يعتبر فيه الحول في أظهر القولين لان الحول يراد لكمال
النماء وبالوجود يصل إلى النماء فلم يعتبر فيه الحول كالمعشر وقال في البويطي لا يجب حتى يحول عليه
الحول لأنه زكاة مال تتكرر فيه الزكاة فاعتبر فيه الحول كسائر الزكوات) *
(الشرح) قوله تتكرر فيه الزكاة احتراز من المعشر وقوله كسائر الزكوات لو قال
80

كزكاة الماشية والنقد لكان أحسن لان قوله كسائر الزكوات يدخل فيه المعشر ولا يعتبر فيه
الحول وهذان القولان في اشتراط الحول مشهوران (والصحيح) المنصوص في معظم كتب الشافعي
وبه قطع جماعات وصححه الباقون انه لا يشترط بل يجب في الحال وبه قال مالك وأبو حنيفة
وعامة العلماء من السلف والخلف (والثاني) يشترط وهو مذهب احمد والمزني وقال جماعة من
الخراسانيين (ان قلنا) فيه الخمس لم يعتبر الحول والا فقولان والمذهب انه لا يشترط *
81

* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وفى زكاته ثلاثة أقوال (أحدها) يجب ربع العشر لأنا قد بينا انه زكاة وزكاة الذهب والفضة
ربع العشر (والثاني) يجب فيه الخمس لأنه مال تجب كالركاز فيه بالوجود فتقدرت زكاته بالخمس كالزكاة
(والثالث) انه ان أصابه من غير تعب وجب فيه الخمس وان أصابه بتعب وجب فيه ربع العشر لأنه
حق يتعلق بالمستفاد من الأرض فاختلف قدره باختلاف المؤن كزكاة الزرع *
82

(الشرح) هذه الأقوال مشهورة والصحيح منها عند الأصحاب وجوب ربع العشر قال الماوردي
هو نصه (في الام والاملاء والقديم) قال الرافعي ثم الذي اعتمده الأكثرون على هذا القول في ضبط الفرق بين
المؤنة وعدمها الحاجة إلى الطحن والمعالجة بالنار والاستغناء عنها فما احتاج فربع العشر وما
استغني عنها فالخمس * قال المصنف رحمه الله تعالى *
83

(ويجب اخراج الحق بعد التميز كما قلنا في العشر انه يجب فيه التصفية والتجفيف) *
(الشرح) قال أصحابنا إذا قلنا بالمذهب ان الحول لا يشترط في زكاة المعدن فوقت الوجوب
حصول النيل في يده بترابه ووقت الاخراج التخليص والتصفية فلو أخرج من التراب والحجر قبل
التنقية لم يجزئه وكان مضمونا على الساعي نص عليه الشافعي في المختصر وغيره واتفق عليه
84

الأصحاب قال الشافعي والأصحاب ويلزمه رده قالوا فلو اختلفا في قدره قبل التلف أو بعده فالقول
قول الساعي بيمينه لان الأصل براءته مما زاد فلو ميز الساعي القدر الذي قبضه وخلصه
من التراب أجزأ عن الزكاة إن كان قدر الواجب فإن كان أكثر استرجع الزيادة وإن كان أقل لزم
المالك الاتمام ولا شئ للساعي بعمله لأنه متبرع * وإذا تلف في يد الساعي قبل التمييز وغرمه فان
85

كان تراب فضة قوم بذهب وإن كان تراب ذهب قوم بفضة فان اختلفا في قيمته فالقول
قول الساعي لأنه غارم هكذا نقله كله القاضي أبو الطيب في المجرد عن نص الشافعي واتفق عليه
الأصحاب الا السرخسي فحكي في الأمالي وجها عن أبي إسحاق انه إذا ميزه الساعي أو المساكين
لا يجزئه لأنه لم يكن حال الاخراج على هيئة الواجب كمن لزمه جذعة ضأن فأخرج سخلة فبقيت
86

في يد المساكين حتى صارت جذعة فإنها لا تجزئه والمذهب القطع بالاجزاء في مسألة المعدن كما نص
عليه وقطع به الجمهور بخلاف مسأله السخلة لأنها لم تكن على الصفة الواجبة وحق المعدن كان على
الصفة لكن مختلط بغيره ولو وجب عليه تمر فأخرج رطبا وبقى في يد الساعي أو المساكين حتى صار
87

تمرا أجزأه ذلك على المذهب وبه قطع الماوردي وغيره وحكى السرخسي فيه وجهان عن أبي إسحاق
قال أصحابنا ومؤنة التخليص والتنقية على المالك بلا خلاف كمؤنة الحصاد والدباس ولا يحسب
شئ منها من مال المعدن فلو أخرج منه شيئا في المؤنة كان آثما ضامنا قال أصحابنا فلو تلف بعضه
قبل التمييز فهو كتلف بعض المال قبل التمكن ولو امتنع من التخليص أجبر عليه والله أعلم *
(فرع) مسائل تتعلق بالمعدن (إحداها) الحق المأخوذ من واجده زكاة عندنا
88

هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وسواء قلنا يجب فيه الخمس أم ربع العشر (وقيل) ان قلنا بربع
العشر فهو زكاة والا فقولان (أصحهما) زكاة (والثاني) تصرف في مصارف خمس خمس الفئ وهو
قول المزني وأبي حفص بن الوكيل من أصحابنا وقد سبق عنهما وهو مذهب أبي حنيفة * وتظهر
فائدة الخلاف في مصرفه وفى وجوبه على الذمي كما سبق (الثانية) إذا وجد معدنا أو ركازا وعليه
دين بقدر الموجود أو (1) ينقصه عن النصاب ففي منع الدين زكاتهما القولان السابقان في سائر الزكوات
(الأصح) لا يمنع (الثالثة) قال الشافعي في المختصر والأصحاب لا يجوز بيع تراب المعدن قبل التخليص
89

لا بذهب ولا بفضة ولا بغيرهما هذا مذهبنا * وقال مالك يجوز * دليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي
عن بيع الغرر ولان المقصود غير التراب وهو مستور بلا مصلحة له في بقائه فيه فلم يجز بيعه
كتراب الصاغة فان مالكا وافق عليه * واحتج مالك بجواز بيع حنطة مختلطة بشعير وأجاب أصحابنا
بأنهما مقصودان بخلاف المعدن وإنما نظير الحنطة المختلطة بيع الذهب مختلطا بالفضة وهو جائز
بغيرهما قال صاحب البيان قال أبو إسحاق المروزي فاما إذا باع تراب المعدن بعد التمييز واخذ ما فيه
من ذهب أو فضة ثم وجد فيه فتات يسير فالبيع صحيح لان المقصود نفس التراب دون ما فيه قال
القاضي أبو الطيب في المجرد يجوز بيع تراب الصاغة إذا لم يكن فيه شئ من الذهب والفضة لأنه
ينتفع به في جلاء الصفرة (الرابعة) في مذاهب العلماء في المعدن * ذكرنا أن المشهور من مذهبنا اختصاص
الوجوب بالذهب والفضة وأوجبه أبو حنيفة في كل منطبع كحديد ونحاس وفى الزئبق روايتان وأوجبه
احمد في كل مستخرج ومذهبنا المشهور أن واجب المعدن ربع العشر وحكاه ابن المنذر عن عمر بن عبد العزيز
واحمد واسحق وأبو ثور * وقال أبو حنيفة الخمس وحكاه (1) ابن الزهري وأبو عبيد وأصحاب الرأي
والواجب عندنا في المعدن زكاة وبه قال مالك واحمد * وقال أبو حنيفة في والنصاب عندنا شرط وبه
قال مالك واحمد واسحق وداود وقال أبو حنيفة لا يشترط والحول ليس بشرط وبه قال مالك
وأبو حنيفة واحمد والجمهور وقال داود والمزني يشترط وهو قول ضعيف للشافعي سبق * قال العبدري
من أصحابنا حق المعدن والركاز وغيرهما من الزكوات لا يجوز للامام صرفه إلى من وجب عليه وبه
قال مالك وقال أبو حنيفة يجوز أن يصرف إليه حق المعدن والركاز دون الزرع وغيره وقال احمد يجوز
90

أن يصرف إليه جميع ذلك واما المكاتب والذمي إذا اخذا من المعدن شيئا فلا شئ فيه عندنا وبه قال
جماهير العلماء * وقال أبو حنيفة يجب عليهما ومؤنة تخليص نيل المعدن على المالك عندنا * وقال أبو حنيفة
منه كأجرة نقل الغنيمة وبناؤه على أصله انه كالغنيمة وعندنا هو زكاة كمؤنة الحصادين ولو وجد المعدن
في ملكه وجب فيه الحق كما لو وجده في موات وبه قال ملك وأبو يوسف ومحمد واحمد * وقال
أبو حنيفة لا يجب كسائر أمواله حتى يحول حول والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ويجب في الركاز الخمس لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
(وفى الركاز الخمس) ولأنه اتصل إليه من غير تعب ولا مؤنة فاحتمل فيه الخمس ولا يجب ذلك
إلا على من تجب عليه الزكاة لأنه زكاة ولا تجب إلا فيما وجد في موات أو مملوك لا يعرف مالكه
لان الموات لا مالك له وما لا يعرف مالكه بمنزلة مالا مالك له فأما إذا وجده في أرض يعرف
مالكها فإن كان ذلك لحربي فهو غنيمة وإن كان لمسلم أو لمعاهد فهو لمالك الأرض فإن لم يدعه مالك
الأرض فهو لمن انتقلت الأرض منه إليه) *
(الشرح) حديث أبي هريرة رواه البخاري ومسلم والركاز هو المركوز بمعني المكتوب
ومعناه في اللغة المثبوت ومنه ركز رمحه يركزه بضم الكاف إذا غوره وأثبته وهو في الشرع دفين
الجاهلية ويجب فيه الخمس بلا خلاف عندنا قال المنذر وبه قال جميع لعلماء قال ولا نعلم أحدا خالف
فيه الا الحسن البصري فقال إن وجد في أرض الحرب ففيه الخمس وان وجده في ارض العرب
ففيه الزكاة * دليلنا ما ذكره المصنف قال الشافعي والأصحاب لا يجب ذلك الا على من عليه الزكاة
سواء كان رجلا أو امرأة رشيدا أو سفيها أو صبيا أو مجنونا وحكم وجود العبد ما سبق في المعدن
ولا يجب على مكاتب وذمي وفيهما قول ضعيف ووجه انه يلزمهما قال صاحب البيان حكاه أبو
ثور عن الشافعي انه يجب على الذمي ونقله ابن المنذر عن الشافعي ولم يحك عنه خلافه بل زاد
ونقل الاجماع على وجوبه على الذمي وهذا لفظه في الاشراف قال: قال كل ما أحفظ عنه من
أهل العلم أن على الذمي في الركاز الخمس وبه قال مالك وأهل المدينة والثوري وأهل العراق من
أصحاب الرأي وغيرهم والأوزاعي والشافعي وأبو ثور وغيرهم قال وبه أقول * قال وهذا يدل
على أن سبيل الركاز سبيل الفئ لا سبيل الصدقات وهذا الذي نقله ابن المنذر عن الشافعي
91

غريب مردود وحكى صاحب الحاوي والقاضي أبو الطيب وجها ان الكافر لا يملك ما يأخذه
من المعدن والركاز كما لا يملك بالاحياء وهذا غلط وقد سبق في أول الباب الفرق بينهما عن صاحب
الحاوي وأما السفيه فيملك الركاز كما يملك الصبي والمجنون وحكى الماوردي عن سفين الثوري ان
المرأة والعبد والصبي لا يملكون الركاز وهذا باطل لان الركاز كسب لواجده وهؤلاء من أهل الاكتساب
كما يكسبون بالاصطياد والاحتطاب وإذا ملكوا بالاكتساب وجبت الزكاة لأنهم من أهلها وأما
الموضع الذي وجد فيه الركاز فقال أصحابنا له حالان (إحداهما) أن يكون في دار الاسلام فان
وجده في موضع لم يعمره مسلم ولا ذو عهد فهو ركاز سواء كان مواتا أو من القلاع العادية التي عمرت
في الجاهلية وهذا لا خلاف فيه وان وجده في طريق مسلوك فالمذهب الصحيح الذي قطع به
العراقيون والقفال انه لقطة وقيل ركاز وقيل فيه وجهان (أصحهما) لقطة (والثاني) ركاز ولو وجده
في المسجد فلقطة هذا هو المذهب وهب قطع البغوي والجمهور قال الرافعي ويجئ فيه الوجه الذي في
الطريق انه ركاز وما عدا هذا الموضع قسمان مملوك وموقوف والملوك نوعان له ولغيره فالذي لغيره
إذا وجد فيه كنزا لم يملكه الواجد بل إن دعاه مالك الأرض فهو له بلا يمين كالأمتعة التي في
داره وهذا الذي ذكرناه من كونه بلا يمين متفق عليه ونص عليه في الام فإن لم يدعه فهو لمن أنتقل إليه
منه ملك الأرض فإن لم يدعه فلمن قبله وهكذا حتى ينتهى إلى الذي أحيى الأرض فيكون له
سواء ادعاه أم لا لان بالاحياء ملك ما في الأرض وبالبيع لم يزل ملكه عنه فإنه مدفون منقول
لا يعد جزء من الأرض فلم يدخل في البيع فإن كان الذي انتقل منه الملك ميتا فورثته قائمون مقامه
فان قال بعضهم هو لمورثنا وأباه بعضهم سلم إلى المدعي نصيبه وسلك بالباقي ما ذكرناه وذكر الرافعي
هذا الكلام ثم قال هذا كلام الأصحاب تصريحا وإشارة قال ومن المصرحين بان الركاز يملك
92

باحياء الأرض القفال ورأي إمام الحرمين تخريج ملك الركاز بالاحياء على ما لو دخلت ظبية
دارا فأغلق صاحبها الباب لا على قصد ضبطها وفيه وجهان (أصحهما) لا يملكها لكن يصير أولى
بها كذلك المحيى لا يملك الكنز لكن يصير أولى به والمذهب ما سبق أنه يملكه بالاحياء فعلى هذا
إذا زال ملكه عن الأرض وجب طلبه ورد الكنز إليه لأنه ملكه عن رقبة الأرض ولم يدخل في
البيع وان قلنا لا يملكه ويصير أولى به فلا يبعد أن يقال إذا زال ملكه عن رقبة الأرض بطل
اختصاصه كما أن في مسأله الظبية إذا قلنا لا يملكها ففتح الباب وأفلتت ملكها من اصطادها قلت
وهذا احتمال أبداه إما الحرمين وقد نقل الامام عن الأئمة انه يملك الكنز بالاحياء ولا يبطل حقه
كالبيع وهذا هو المذهب المعروف قال الرافعي (فان قلنا) المحيي لا يملك الكنز بالاحياء فإذا دخل
في ملكه أخرج الخمس (وان قلنا) يملكه بالاحياء فإذا احتوت يده على الكنز الذي كان في يد
المشترى للأرض وقد مضت سنون وجب اخراج خمس الذي كان موجودا يوم ملكه وفيما بعده
من السنين إلى أن صار في يده هل يلزمه زكاة ربع العشر من الأخماس الأربعة الباقية فيه الخلاف
93

لسابق في الضال والمغصوب وفى الخمس كذلك ان قلنا لا تتعلق الزكاة بالعين وان علقناها بها فعلى
ما سبق من زكاة المواشي فيما إذا ملك نصابا وتكرر الحول عليه (النوع الثاني) أن تكون الأرض
مملوكة له فإن كان أحياها فما وجده ركاز وعليه خمسه والباقي له ويجب الخمس في وقت دخوله في
ملكه كما سبق هذا هو المذهب وقال الغزالي فيه وجهان بناء على احتمال الإمام الذي سبق
بيانه ولصحيح ما سبق وإن كانت الأرض انتقلت إليه من غيره لم يحل له أخذه بل يلزمه عرضه
على من ملك الأرض عنه ثم الذي قبله ان لم يدعه ثم هكذا ينتهي إلى المحيي كما سبق (القسم الثاني)
إذا كانت الأرض موقوفة فالكنز لمن في يده الأرض كذا ذكره البغوي (الحال الثانية) أن يجده
في دار الحرب فينظر ان وجده في موات فإن كانوا لا يذبون عنه فهو كموات دار الاسلام بلا خلاف
عندنا * وقال أبو حنيفة هو غنيمة ولا يخمس بل كله للواجد * وقال مالك يكون بين الجيش وقال
الأوزاعي يؤخذ خمسه والباقي بين الجيش * دليلنا عموم الحديث (وفى الركاز الخمس) والقياس على
الموجود في دار أهل العهد فقد وافقونا فيها وإن كانوا يذبون عنه ذبهم عن العمران فالصحيح الذي قطع به
جماهير الأصحاب في الطريقتين انه ركاز كالذي لا يذبون عنه لعموم الحديث وقال الشيخ أبو علي
السنجي هو كعمرانهم وان وجد في موضع مملوك لهم نظر ان اخذ بقهر وقتال فهو غنيمة كأخذ
أموالهم ونقودهم من بيوتهم فيكون خمسه لأهل خمس الغنيمة وأربعة أخماسه لواحده وإذا
أخذ بغير قتال ولا قهر فهو فئ ومستحقه أهل الفئ كذا ذكره امام الحرمين قال الرافعي هذا محمول
على ما إذا دخل دار الحرب بغير أمان أما إذا دخل بأمان فلا يجوز له اخذ الكنز لا بقتال ولا بغيره
كما ليس له خيانتهم في أمتعتهم فان أخذه لزمه رده قال وقد نص على هذا الشيخ أبو علي قال ثم في كونه
فيئا اشكال لان من دخل بغير أمان وأخذ مالهم بلا قتال اما أن يأخذه خفية فيكون سارقا واما
جهارا فيكون مختلسا وكلاهما ملك خاص للسارق والمختلس قال وتأييد هذا الاشكال بأن كثيرا من
الأئمة أطلقوا القول بأنه غنيمة منهم الصيد لأني وابن الصباغ قلت وكذا أطلق المصنف آخرون
انه غنيمة وحيث قلنا غنيمة فإن كان الواجد وجده اختص بأربعة أخماس وخمسه لأهل خمس الغنيمة
وإن كان في جيش كان مشتركا بين الجيش نص عليه الشافعي والأصحاب قال الشافعي وهو كالمأخوذ من
منازلهم * قال الدارمي ولو وجد في قبر جاهلي أو في خربة فهو ركاز
94

(فرع) إذا وجد الركاز في دار الاسلام أو في دار أهل العهد وعرف مالك أرضه لم يكن
ركازا ولا يملكه الواجد بل يجب حفظه حتى يجئ صاحبها فيدفعه إليه فان ايس من مجيئه كان
لبيت المال كسائر الأموال الضائعة هكذا نقله الأصحاب قال صاحب الحاوي (فان قيل) هلا كان
لقطة كما لو وجد ضرب الاسلام (فالجواب) ان ضرب الاسلام وجد في غير ملك فكان لقطة
كالثوب الموجود وغيره وهذا وجد في ملك فهو لمالك الأرض في ظاهر الحكم قال وما ذكره الشافعي
من اطلاق اللفظ فهو على التفصيل الذي ذكرناه *
(فرع) قال في البيان قال الشيخ أبو حامد قال أبو إسحاق المروزي إذا بني كافر بناء وكنز فيه
كنزا وبلغته الدعوة وعاند فلم يسلم ثم هلك وباد أهله فوجد ذلك الكنز كان فيئا لا ركازا لان
الركاز إنما هو أموال الجاهلية العادية الذين لا يعرف هل بلغتهم دعوة أم لا فأما من بلغتهم
فمالهم فئ فخمسه لأهل الخمس وأربعة أخماسه للواجد وحكى القاضي أبو الطيب أيضا هذه المسألة كما
سبق قال لأنه مال مشرك رجع إلينا بلا قتال وإنما يكون الكنز ركازا إذا لم يعلم حاله وهل بلغته
الدعوة يحل ماله أم لا فلا فيحل *
(فرع) قال صاحب الحاوي لو اقطع الامام انسانا أرضا فظهر فيها ركاز فهو للمقطع سواء
وجده هو أو غيره لأنه ملك الأرض بالاقطاع كما يملكها بالشرى وكما لو أحيا أرضا فوجد فيها ركازا
فإنه للمحيي سواء وجده هو أو غيره لأنها ملكه هذا كلامه ومراده أقطعه الأرض تمليكا لرقبتها
وكذا قال الدارمي إذا أقطعه السلطان أرضا ملكها سواء عمرها أم لا فمن وجد فيها ركازا فهو للمقطع
قال وقيل لا يملكه الا بالاحياء قال وهو غلط مخالف لنصه *
95

(فرع) لو تنازع بائع الدار ومشتريها في ركاز وجد فيها فقال المشترى هو لي وأنا دفنته
وقال البائع مثل ذلك أو قال ملكته بالاحياء أو تنازع معير ومستعير أو مؤجر ومستأجر هكذا
فالقول قول المشترى والمستعير المستأجر بأيمانهم لان اليد لهم فهو كالنزاع في متاع الدار هذا مذهب
الشافعي والأصحاب وقال المزني القول قول المؤجر والمعير لأنه مالك الأرض قال الأصحاب هذا
غلط لان الدار وما فيها في يد المستأجر والمستعير هذا إذا احتمل صدق صاحب اليد ولو على بعد
فأما إذا لم يحتمل لكون مثله لا يحتمل دفنه في مدة يده فلا يصدق صاحب اليد بلا خلاف ولو
اتفقا على أنه ركاز لم يدفنه صاحب اليد فهو لصاحب الأرض بلا خلاف ولو وقع نزاع المستأجر
والمؤجر أو المعير والمستعير بعد رجوع الدار إلى يد المالك فان قال المعير أو المؤجر أنا دفنته بعد
عود الدار إلى فالقول قوله بيمينه بشرط الامكان ولو قال دفنته قبل خروج الدار من يدي
فوجهان حكاهما إمام الحرمين والغزالي وآخرون (أحدهما) القول قوله أيضا لأنه في يده في الحالين
(وأصحهما) القول قول المستأجر والمستعير لان المالك اعترف بحصول الكنز في يده فيده تنسخ
اليد السابقة ولهذا لو تنازعا قبل الرجوع كان القول قوله قال إمام الحرمين ولو وجد ركازا في ملك
غيره وكان ذلك الملك مستطرقا يستوي الناس في استطراقه من غير منع فقد ذكر صاحب
التقريب فيه خلافا قال إمام الحرمين وموضع الخلاف فيه تأمل قال وظاهر كلامه انه أورده في حكمين
(أحدهما) إذا وجد غير مالك تلك الساحة الكنز ولم يكن مالك الأرض محييا ابتداء وجهلنا محييها فهل
يحل للواجد أخذه فيه وجهان (أحدهما) لا يحل لأنه لم يصادفه في مكان مباح لا اختصاص به لاحد
96

وهذا شرط (والثاني) يحل لان الملك وإن كان مختصا فالاستطراق شائع والمنع زائل وليس مالك الأرض
محييا قال الامام والظاهر عندي ان الواجد لا يملكه وإنما الخلاف في حكم التنازع فإذا قال كل
منهما أنا وضعته فأيهما يصدق فيه وجهان (أصحهما) مالك الأرض لليد على الأرض (والثاني) الواجد
لثبوت يده على الكنز في الحال ولو تنازعا قبل اخراج الكنز من الأرض صدق مالك الأرض
بيمينه بلا خلاف * قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ولا يجب الا في مال جاهلي يعلم أن مثله لا يضرب في الاسلام لأن الظاهر أنه لم يملكه مسلم
إلى أن وجده وإن كان من ضرب الاسلام كالدراهم الأحدية وما عليه اسم المسلمين فهو لقطة وإن كان
يمكن أن يكون من مال المسلمين ويمكن أن يكون من مال الجاهلية بأن لا يكون عليه علامة لاحد
فالمنصوص انه لقطة لأنه يحتمل الامرين فغلب حكم الاسلام ومن أصحابنا من قال هو ركاز لان الموضع
الذي وجد فيه موات يشهد بأنه ركاز) *
(الشرح) قال أصحابنا رحمهم الله الكنز الموجود في الموات ونحوه مما سبق ثلاثة أقسام
(أحدها) يعلم أنه من ضرب الجاهلية بأن يكون عليه اسم لملك من ملوكهم أو غير ذلك من العلامات
فهذا ركاز بلا خلاف فيجب فيه الخمس والباقي لواجده (والثاني) أن يعلم أنه من ضرب الاسلام
بأن يكون عليه اسم ملك من ملوك الاسلام أو آية أو آيات من القرآن كالدراهم الأحدية بتخفيف
الحاء وهي التي عليها (قل هو الله أحد) فهذا لا يملكه الواجد بلا خلاف بل يلزمه رده إلى مالكه
ان علمه وان لم يعلمه فطريقان (قطع) المصنف والجماهير في كل الطرق بأنه لقطة يعرفه واجده سنة
ثم يتملكه ان لم يظهر مالكه (والطريق الثاني) حكاه امام الحرمين والبغوي وفيه وجهان (أصحهما)
هذا (والثاني) لا يكون لقطة بل يحفظه على مالكه ابدا حكاه البغوي عن القفال وحكاه امام الحرمين
عن الشيخ أبى على السنجي قال فعلى هذا يمسكه الواجد أبدا وان للسلطان حفظه في بيت المال
كسائر الأموال الضائعة فان رأى الامام حفظه ابدا فعل وان رأى اقتراضه لمصلحة فعل ما سنذكره
في الأموال الضائعة إن شاء الله تعالى وعلى هذا الوجه لا يملكه الواجد بحال قال أبو علي والفرق
بينه وبين اللقطة أن اللقطة تسقط من مالكها في مضيعة فجوز الشرع لواجدها تملكها بعد التعريف
ترغيبا للناس في أخذها وحفظها وأما الكنز المذكور فمحرز بالدفن غير مضيع فأشبه الإبل الممتنعة
من السباع إذا وجدها في الصحراء فإنه لا يجوز اخذها للتملك قال أبو علي وهذا نظير من طيرت
97

الريح ثوبا إلى داره أو حجره فإنه لا يملكه بالتعريف وقد خالف أبو علي غيره في هذا الاستشهاد
وقال الثوب المذكور لقطة يعرف ويملك والمذهب ما سبق عن الأصحاب ان الكنز المذكور لقطة
قال امام الحرمين ولو انكشفت الأرض عن كنز بسيل ونحوه فما أدرى ما يقول أبو علي فيه وهذا
المال البارز ضائع قال واللائق بقياسه ان لا يثبت التقاطه للتملك اعتبارا بأصل الوضع كما حكينا عنه
في مسألة الثوب هذا كلام الامام وقد جزم صاحب الحاوي وصرح بان ما ظهر بالسيل فوجده
انسان كان ركازا قطعا قال ولو رآه ظاهرا وشك هل أظهره السيل أم كان ظاهرا بغير السيل فهل
هو لقطة أم ركاز فيه الخلاف الذي سنذكره إن شاء الله تعالى فيما إذا شك هل هو دفن اسلام أم جاهلية
والله أعلم (القسم الثالث) ان لا يكون في الموجود علامة يعلم أنه من دفن الاسلام أو الجاهلية بان لا يكون
عليه علامة أصلا أو يكون عليه علامة وجدت مثلها في الجاهلية والاسلام أو كان حليا أو اناء ففيه
خلاف حكاه جماعة قولين وآخرون وجهين وحكاه المصنف وآخرون قولا ووجها والصواب قولان
نقل المصنف أحدهما عن نص الشافعي وكذا نقله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبغوي وآخرون
ونقل ابن الصباغ وآخرون عن نص الشافعي في الام انه ركاز وقال صاحب الحاوي قال أصحابنا
البصريون يكون ركازا وحكوه عن نص الشافعي واتفق الأصحاب على أن الأصح انه لقطة وبه قطع
السرخسي في الاملاء والجرجاني في التحرير وآخرون وصححه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب
والبغوي والمصنف والباقون لأنه مملوك فلا يستباح الا بيقين وعن الشيخ أبى على السنجي هنا روايتان
حكاهما الرافعي (إحداهما) موافقة الأصحاب في كونه لقطة (والثانية) على وجهين (أحدهما) هذا
(والثاني) انه مال ضائع كما قال في القسم الثاني قال الرافعي واعلم أن الحكم مدار على كونه من دفن
الجاهلية لا انه من ضربهم فقد يكون من ضربهم ويدفنه مسلم بعد أن وجده وأخذه وملكه وهذا
الذي قاله الرافعي تفريع على الأصح من هذين القولين أن الكنز الذي لا علامة فيه يكون لقطة فأما إذا قلنا بالقول الآخر انه ركاز فالحكم مدار على ضرب الجاهلية والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ويجب حق الركاز في الأثمان وفى غير الأثمان قولان (قال) في القديم يجب في الجميع لأنه حق مقدر بالخمس
فلم يختص بالأثمان كخمس الغنيمة (وقال) في الجديد لا يجب لأنه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض
فاختص بالأثمان كحق المعدن ولا يعتبر فيه الحول لان الحول يعتبر لكامل النماء وهذا لا يتوجه في
98

الركاز وهل يعتبر فيه النصاب فيه قولان (قال) في القديم يخمس قليله وكثيره لان ما خمس كثيره
خمس قليله كالغنيمة (وقال) في الجديد لا يخمس ما دون النصاب لأنه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض
فاعتبر فيه النصاب كحق المعدن) *
(الشرح) اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن الركاز إذا كان ذهبا أو فضه وجب
فيه الخمس سواء كان مضروبا أو غيره وفى غيرهما طريقان حكاهما البغوي وآخرون (أصحهما) عند
البغوي القطع بأنه لا يجب (وأصحهما) وأشهرهما وبه قال المصنف والأكثرون في المسألة قولان (أصحهما)
باتفاقهم وهو نصه في الام والاملاء من كتبه الجديد لا يجب (والثاني) وهو نصه في القديم والبويطي
من الجديد نص عليه في موضعين من كتاب الزكاة في البويطي وأما الحول فلا يشترط فيه بلا خلاف
ونقل الماوردي فيه الاجماع وأما النصاب ففيه طريقان حكاهما البغوي (أصحهما) عنده اشتراطه قطعا
(وأصحهما) وأشهرهما وبه قطع الجمهور فيه قولان (الصحيح الجديد) اشتراطه (والقديم) لا يشترط * والحاصل
أن الحول لا يشترط بلا خلاف وكونه نصابا ذهبا وفضة شرط على المذهب قال أصحابنا وقول
الشافعي لو كنت أنا الواجد لخمست القليل والكثير ولو وجدت فخارة لخمستها محمول على الاحتياط
والورع لا انه واجب قال أصحابنا وإذا أوجبنا الخمس من غير الذهب والفضة أخذ خمس الموجود
لا قيمته والله أعلم * قال المصنف رحمه الله تعالى *
(فعلى هذا يعنى إذا شرطنا النصاب إذا وجد مائة درهم ثم وجد مائة أخرى لم يجب الخمس
في واحد منهما وان وجد دون النصاب وعنده نصاب من جنسه نظرت فان وجد الركاز مع تمام
الحول في النصاب الذي عنده ضمه إلى ما عنده وأخرج الخمس من الركاز وربع العشر من النصاب
لان الحول لا يعتبر في الركاز فيصير الركاز مع النصاب كالزيادة مع نصاب حال الحول عليهما وان
99

وجده بعد الحول على النصاب ضمه عليه لان الحول قد حال على ما معه والركاز كالزيادة التي حال
عليها الحول وان وجده قبل الحول على النصاب لم يخمس لان الركاز كبعض نصاب حال عليه الحول
وإذا تم حول البعض ولم يتم حول الباقي لم تجب الزكاة فإذا تم حول النصاب أخرج زكاته وإذا
تم حول الركاز من حين وجده أخرج عنه ربع العشر وسقط الخمس فأما إذا كان الذي معه أقل
من النصاب فإن كان وجد الركاز قبل تمام الحول على ما معه لم يضم إليه بل يستأنف الحول عليهما
من حين تم النصاب فإذا تم الحول أخرج الزكاة وإن وافق وجود الركاز حال حول الحول فالمنصوص
في الام انه يضم إلى ما عنده فإذا بلغ النصاب أخرج من الركاز الخمس ومن الذي معه ربع العشر
لان الركاز لا يعتبر فيه الحول فيجعل كالموجود معه في جميع الحول ومن أصحابنا من
قال لا يضم بل يستأنف الحول عليهما من حين تم النصاب فإذا حال الحول أخرج عنهما
ربع العشر) *
(الشرح) هذا الفصل إلى آخر الباب سبق شرحه واضحا في فصل المعدن واتفق أصحابنا
على أن حكم الركاز والمعدن في تتميم النصاب وجميع هذه التفريعات سواء وفاقا وخلافا بلا فرق
هذا إذا شرطنا النصاب كما ذكره المصنف ولكن في كلام المصنف مواضع جزم بها على خلاف الأصح
وقد بيناه هناك فالمذهب الذي عليه الاعتماد ما أوضحناه هناك واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب
على هذه المسألة التي ذكرها المصنف انه إذا وجد من الركاز مائة درهم ثم وجد مائة أخرى انه لا يجب
الخمس في واحد منهما بل ينعقد الحول عليهما من حيث كمل النصاب فإذا تم لزمه ربع العشر كسائر
100

النقود التي يملكها وهذا تفريع على المذهب وهو اشتراط النصاب في الركاز والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بالركاز (إحداها) قال أصحابنا حكم الذمي في الركاز حكمه في المعدن كما
سبق فلا يمكن من أخذه في دار الاسلام فان وجده ملكه على المذهب وبه قطع الجمهور وفيه وجه
قدمناه عن حكاية صاحب الحاوي انه لا يملكه وهو احتمال لإمام الحرمين لأنه كالحاصل للمسلمين
فهو كما لهم الضائع فإذا قلنا بالمذهب فاخذه ففي أخذ حق الركاز منه الخلاف السابق في حق المعدن
(الثانية) لو وجد في ملكه ركاز فلم يدعه وادعاه اثنان فصدق أحدهما سلم إليه ذكره الدارمي عن ابن
القطان وقاله غيرهما وهو ظاهر (الثالثة) إذا وجد من الركاز دون النصاب وله دين يجب فيه الزكاة
يبلغ به نصابا وجب خمس الركاز في الحال فإن كان ماله غائبا أو مدفونا أو وديعة أو دينا والركاز ناقص
لم يخمس حتى يعلم سلامة ماله وحينئذ يخمس الركاز الناقص عن النصاب سواء بقي المال أم تلف إذا
علم وجوده يوم حصول الركاز (الرابعة) قال الشافعي والأصحاب يجب صرف خمس الركاز مصرف
الزكوات وهو زكاة هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور في الطريقتين وحكى الخراسانيون قولا أنه
يصرف مصرف خمس خمس الفئ وحكاه صاحب الحاوي والقاضي أبو الطيب ومن تابعهما وجها
عن المزني وأبى حفص بن الوكيل من أصحابنا (الخامسة) قال الماوردي والدارمي إذا وجد ركازا
فاخرج خمسه ثم أقام رجل بينة أنه ملكه فلصاحب البينة استرجاع الركاز من واجده مع خمسه المخرج
وللواجد أن يرجع بالخمس على الامام إن كان فعه إليه وللامام ان يرجع به على أهل السهمان إن كان
باقيا في أيديهم فإن لم يكن باقيا في أيديهم أو كان تالفا في يد الامام بغير تفريط ضمنه في مال الزكاة
وان تلف في يده بتفريط أو خيانة ضمنه في ماله (السادسة) في مذاهب العلماء في مسائل من الركاز
101

ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا اشتراط النصاب * وقال أبو حنيفة واحمد لا يشترط وهو أصح الروايتين
عن مالك وحكاه ابن المنذر عن مالك واحمد واسحق وأبى عبيد وأصحاب الرأي قال وبه قال جل أهل
العمل قال وهو أولى بظاهر الحديث والمشهور من مذهبنا انه لا يجب حق الركاز في غير ذهب وفضة
وقال أبو حنيفة يجب في كل موجود ركاز وهو أصح الروايتين عن مالك واحمد ونقله ابن المنذر
عن مالك واحمد واسحق وأبو عبيد وأصحاب الرأي وجماهير العلماء قال وبه أقول (واما) الذمي فقد
قدمنا ان المشهور من مذهبنا انه لا شئ عليه في الركاز وهو المعروف من نصوص الشافعي
والأصحاب ونقل ابن المنذر الاجماع على أن عليه الخمس كالمسلم ونقل عن الشافعي وغيره كما قدمنا
حكايته عن ابن المنذر والركاز الموجود في موات دار أهل العهد يملكه واجده عندنا كموات دار
الاسلام قال العبدري وبهذا قال أكثر الفقهاء قال مالك يكون لأهل الأرض لا للواجد (واما)
الموجود في دار أهل الحرب فركاز عندنا وعند الباقين لكن يجب فيه الخمس عندنا وعند الجمهور
وقال أبو حنيفة هو غنيمة ولا شئ فيه بل كله لواجده بناء على أصله ان من غنم وحده فلا خمس
عليه ومصرف الركاز مصرف الزكاة عندنا * وقال أبو حنيفة مصرف الفئ وهو رواية عن أحمد
وبه قال المزني وابن الوكيل من أصحابنا كما سبق قريبا والركاز الموجود في دار أو أرض مملوكة
يكون لساكنه عندنا إذا ادعاه كما سبق وبه قال أبو حنيفة ومحمد وقال الحسن بن صالح وأبو يوسف
وأبو ثور يكون لواجده والله أعلم *
102

(باب زكاة الفطر)
يقال زكاة الفطر وصدقة الفطر ويقال للمخرج فطرة بكسر الفاء لا غير وهي لفظة مولدة
لا عربية ولا معربة بل اصطلاحية للفقهاء وكأنها من الفطرة التي هي الخلقة أي زكاة الخلقة ومن
ذكر هذا صاحب الحاوي
* قال المصنف رحمه الله *
(زكاة الفطر واجبة لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
صدقة الفطر من رمضان على الناس صاعا من تمر أو صاعا من شعير على كل ذكر وأنثى حر وعبد
من المسلمين)) *
103

(الشرح) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم وزكاة الفطر واجبة عندنا وعند جماهير
العلماء وحكي صاحب البيان وغيره عن ابن اللبان من أصحابنا انها سنة وليست واجبة قالوا وهو
قول الأصم وابن عليه * وقال أبو حنيفة هي واجبة وليست بفريضة بناء على أصله ان الواجب ما ثبت
بدليل مظنون والفرض ما ثبت بدليل مقطوع * ومذهبنا انه لا فرق وتسمى واجبة وفرضا * دليلنا
حديث ابن عمر مع أحاديث كثيرة في الصحيح مثله وأما حديث أبي عمار عريب بفتح العين المهملة
ابن حميد عن قيس بن سعد بن عبادة قال (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر قبل أن تنزل
الزكاة فلما نزلت الزكاة لم يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله) رواه النسائي وابن ماجة فهذا الحديث مداره
على أبي عمار ولا يعلم حاله في الجرح والتعديل فان صح فجوابه انه ليس فيه اسقاط الفطرة لأنه سبق
الامر به ولم يصرح باسقاطها والأصل بقاء وجوبها (وقوله) لم يأمرنا لا أثر له لان الامر سبق ولا
حاجة إلى تكراره قال البيهقي وقد اجمع العلماء على وجوب صدقة الفطر وكذا نقل الاجماع فيها
ابن المنذر في الاشراف وهذا يدل على ضعف الرواية عن ابن علية والأصم وإن كان الأصم لا يعتد
به في الاجماع كما سبق في كتاب الطهارة والله أعلم قال صاحب الحاوي في وقت شرع وجوب الفطرة
على وجهين (أحدهما) وهو قول أصحابنا البغداديين انها وجبت بما وجبت به زكاة الأموال وهو
الظواهر التي في كتاب السنة لعمومها في الزكاتين (والثاني) قاله أصحابنا البصريون انها وجبت
بغير ما وجبت به زكاة الأموال وان وجوبها سابق لوجوب زكاة الأموال لحديث قيس بن سعد
المذكور واختلف هؤلاء هل وجبت بالكتاب أم بالسنة فقيل بالسنة لحديث قيس وحديث ابن عمر
وغيرهما وقيل بالقرآن وإنما السنة مبينة والله أعلم * قال المصنف رحمه الله تعالى *
104

(ولا يجب ذلك إلا على مسلم فاما الكافر فإنه إن كان أصليا لم تجب عليه للخبر وإن كان مرتدا
فعلى ما ذكرناه في أول الكتاب من الأقوال الثلاثة (وأما) المكاتب فالمذهب أنها لا تجب عليه لأنه
لا يلزمه زكاة المال فلا يلزمه زكاة الفطر كالكافر ومن أصحابنا من قال تلزمه لان زكاة الفطر
تابعة للنفقة ونفقته على نفسه فكذلك فطرته وهذا يبطل بالذمي فان نفقته على نفسه ولا تلزمه الفطرة ولا
تجب إلا على من فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته وقت الوجوب ما يؤدى في الفطرة فإن لم يفضل
عن نفقته شئ لم تلزمه لأنه غير قادر فان فضل بعض ما يؤديه ففيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه لأنه
عدم بعض ما يؤدى به الفرض فلم يلزمه كما لو وجبت عليه كفارة وهو يملك بعض رقبة (والثاني)
105

يلزمه لأنه لو ملك نصف عبد لزمه نصف فطرته فإذا ملك نصف الفرض لزمه إخراجه في فطرته) *
(الشرح) قال أصحابنا شروط وجوب الفطرة ثلاثة الاسلام والحرية واليسار (فالأول)
الاسلام فلا فطرة على كافر أصلي عن نفسه ولا عن غيره الا إذا كان له عبد مسلم أو قريب مسلم
أو متولدة مسلمة ففي وجوب فطرتهم عليه وجهان (أصحهما) يجب وهما مبنيان على أن من لزمه
فطرة غيره هل تجب على المؤدى ابتداء أم على المؤدى عنه ثم يتحملها المؤدى وفيه وجهان مشهوران
وقد ذكرهما المصنف في الفصل الذي بعد هذا وهناك نوضحهما إن شاء الله تعالى (فان قلنا) يجب
106

قال امام الحرمين لا صائر إلى أن المتحمل عنه ينوى بل يكفي إخراج الكافر ونيته لأنه المكلف
بالاخراج ولو أسلمت ذمية تحت ذمي ودخل وقت وجوب الفطرة في حال تخلف الزوج ثم أسلم
قبل انقضاء العدة ففي وجوب نفقتها في مدة التخلف خلاف مذكور في كتاب النفقات فإن لم نوجبها
فلا فطرة والا فالفطرة على هذا الخلاف في عبده المسلم الأصح الوجوب ذكره امام الحرمين وغيره
هذا كله في الكافر الأصلي (وأما) المرتد فقال المصنف والأصحاب فطرته كزكاة ماله وفيها ثلاثة
أقوال سبقت في أول كتاب الزكاة وهي مبنية على بقاء ملكه وزواله وفيه ثلاثة أقوال (أحدها)
يزول فلا تجب زكاة ولا فطرة (والثاني) يبقى فيجبان (والثالث) وهو الأصح انه موقوف فان عاد
إلى الاسلام تبينا بقاءه فيجبان والا فلا وحكم فطرة الرقيق المرتد حكم فطرة السيد المرتد ففيها الأقوال
ذكره الماوردي وغيره وهو ظاهر هذا كله في مطالبة الكافر بالاخراج في الدنيا وأما أصل الخطاب
107

فهو مخاطب بالزكاة والفطرة وسائر الفروع على الصحيح بمعنى انه يزاد في عقوبته بسببها في الآخرة
وقد سبقت المسألة موضحة في أول كتاب الصلاة وقد نقل الماوردي وغيره الاجماع أن الكافر
لا فطرة عليه لنفسه (الشرط الثاني) الحرية فليس على الرقيق فطرة نفسه ولا فطرة غيره ولو ملكه
السيد عبدا وقلنا بملكه سقطت فطرته عن سيده لزوال ملكه ولا تجب على المتملك لضعف ملكه
هذا هو المذهب وبه قطع الأصحاب كلهم الا الماوردي والسرخسي فحكيا قولا أنها تجب على السيد
وان قلنا يملكه العبد قال السرخسي هذا قول أبى اسحق المروزي لأنه قادر على انتزاعه وهذا
108

شاذ باطل (واما) المكاتب فحاصل ما ذكره المصنف في هذا الفصل والذي بعده ثلاثة أوجه وهي
مشهورة وبعض الأصحاب يسميها أقوالا وهي مترددة بين الأقوال والأوجه (أصحها) باتفاق الأصحاب
وهو المنصوص في كتب الشافعي انه لا فطرة عليه ولا على سيده عنه لان ملكه ضعيف وسيده
لا تلزمه نفقته (والثاني) تجب على المكاتب في كسبه تبعا للنفقة (والثالث) تجب على السيد عنه
109

حكاه أبو ثور عن الشافعي لان المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وإنما سقطت النفقة عن السيد
لاستقلال المكاتب باكتسابه ولأنها تكثر قال أصحابنا والخلاف في أن المكاتب هل عليه فطرة
نفسه تجرى في أنه هل يلزمه فطرة زوجته وعبيده والصحيح لا يلزمه ونقل امام الحرمين اتفاق
الأصحاب على أن فطرة زوجته وعبيده كنفسه وفى وجوبها الخلاف (الصحيح) لا تلزمه (واما) المدبر
والمستولدة فكالقن فتجب فطرته على سيده لا على نفسه واما من بعضه حر وبعضه رقيق فتجب
فطرته بلا خلاف وتكون عليه وعلى مالك بعضه أن تكن مهايأة وسيأتي ايضاحه في الفصل الذي بعد
هذا إن شاء الله تعالى (الشرط الثالث) اليسار فالمعسر لا فطرة عليه بلا خلاف قال المصنف والأصحاب
والاعتبار باليسار والاعسار بحال الوجوب فمن فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقته لليلة العيد ويومه
110

صاع فهو موسر وان لم يفضل شئ فهو معسر ولا يلزمه شئ في الحال ولا يستقر في ذمته فلو أيسر
بعد ذلك لا يلزمه الاخراج عن الماضي بلا خلاف عندنا سواء أيسر عقب وقت الوجوب بلحظة أو
أكثر وبه قال الشافعي والأصحاب لكن يستحب له الاخراج وحكى أصحابنا عن مالك انه ان
أيسر يوم العيد لزمه * واحتج أصحابنا بان الاسلام واليسار شرطان للوجوب وقد اجمعنا على أن طرءان
الاسلام لا يقتضي الوجوب فكذلك اليسار والله أعلم * وان فضل بعض صاع فوجهان مشهوران ذكرهما
المصنف بدليلهما (أصحهما) عند الأصحاب يلزمه اخراجه وهو قول أبي على ابن أبي هريرة لقوله صلى الله عليه
وسلم (وإذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم) رواه البخاري من رواية أبي هريرة واتفق
الأصحاب على تصحيح هذا الوجه ونقله صاحب الحاوي عن نص الشافعي قال والوجه الآخر القائل
بأنه لا يلزمه قياسا على بعض الرقبة غلط لما ذكرناه من الحديث والقياس والفرق بينه وبين الكفارة
111

من وجهين (أحدهما) ان لها بدلا (والثاني) ان بعض الرقبة لا يؤمر باخراجه في موضع من المواضع
وبعض الصاع يجب بالاتفاق على من يملك نصف عبد ونصفه لمعسر والله أعلم *
(فرع) قال الرافعي رحمه الله ومن فضل عن قوته وقوت من عليه نفقته ليلة العيد ويومه
ما يخرج في الفطرة من أي جنس كان من المال فهو موسر قال ولم يذكر الشافعي وأكثر الأصحاب
في ضبط اليسار والاعسار الا هذا القدر وزاد امام الحرمين فاعتبر كون الصاع فاضلا عن مسكنه
وعبده المحتاج إليه لخدمته وقال لا يحسب عليه في هذا الباب ما لا يحسب في الكفارة قال الرافعي
وإذا نظرت كتب الأصحاب لم تجد ما ذكره وقد يغلب على ظنك انه لا خلاف في المسألة وان ما ذكره
كالبيان والاستدراك لما أهمله الأولون وربما استشهدت بكونهم لم يذكروا دست ثوب يكتسيه ولا شك
في اعتباره فان الفطرة ليست بأشد من الدين وهو مبقي عليه في الدين لكن الخلاف ثابت فان
الشيخ أبا على حكى وجها ان عبد الخدمة لا يباع في الفطرة كما لا يباع في الكفارة ثم أنكر عليه
وقال لا يشترط في الفطرة كونه فاضلا عن كفايته بل المعتبر قوت يومه كالدين بخلاف الكفارة لان
لها بدلا وذكر البغوي ما يقتضي وجهين والأصح عنده موافقة الامام * واحتج له البغوي بقول الشافعي
ان الابن الصغير إذا كان له عبد يحتاج إلى خدمته لزم الأب فطرته كفطرة الابن فلولا أن العبد غير
غير محسوب لسقط بسببه فطرة الابن وإذا شرطنا كون المخرج فاضلا عن العبد والمسكن فإنما نشترطه
في الابتداء فلو ثبتت الفطرة في ذمة انسان بعنا خادمه ومسكنه فيها لأنها بعد الثبوت التحقت بالديون
قال واعلم أن دين الآدمي يمنع وجوب الفطرة بالاتفاق كما أن الحاجة إلى صرفه في نفقة القريب تمنعه كذا
قاله الإمام قال الامام ولو ظن ظان انه لا يمنعه على قول كما لا يمنع وجوب الزكاة على قول كان
112

مبعدا هذا لفظه وفيه شي سنذكره في المسألة السابعة من المسائل المنثورة بعد انقضاء شرح الباب
إن شاء الله تعالى فعلى هذا يشترط مع كون المخرج فاضلا عما سبق كونه فاضلا عن قدر ما عليه
من الدين هذا آخر كلام الرافعي رحمه الله والمسألة التي نقلها عن البغوي هذا لفظها قال البغوي
لو كان له عبد يحتاج إلى خدمته هل يباع بعضه في الفطرة عن العبد والسيد فيه وجهان (أصحهما)
لا يباع وهو كالمعدوم كما في الكفارة ولان الشافعي نص على أنه لو كان لابنه الصغير عبد وذكر
ما سبق وهذا الذي صححه البغوي والامام هو الصحيح *
(فرع) في مذاهب العلماء في ضبط اليسار الذي تجب به الفطرة * ذكرنا ان مذهبنا أنه يشترط أن
يملك فاضلا عن قوته وقوت من يلزمه نفقته ليلة العيد ويومه حكاه العبدري عن أبي هريرة وعطاء
والشعبي وابن سيرين وأبى العالية والزهري ومالك وابن المبارك وأحمد وأبي ثور * وقال أبو حنيفة
لا تجب الا على من يملك نصابا من الذهب أو الفضة أو ما قيمته نصاب فاضلا عن مسكنه وأثاثه
الذي لا بد منه قال العبدري ولا يحفظ هذا عن أحد غير أبي حنيفة قال ابن المنذر وأجمعوا على أن
من لا شئ له فلا فطرة عليه
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ومن وجبت عليه فطرته وجبت عليه فطرة من تلزمه نفقته إذا كانوا مسلمين ووجد ما يؤدي
عنهم فاضلا عن النفقة فيجب على الأب والام وعلى أبيهما وأمهما وإن علوا فطرة ولدهما وولد ولدهما وإن
سفلوا وعلى الولد وولد الولد فطرة الأب والام وأبيهما وأمهما وان علوا إذا وجبت عليهم نفقتهم
لما روى ابن عمر قال (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطر عن الكبير والصغير والحر
والعبد ممن تمونون) فإن كان للولد أو للوالد عبد يحتاج إليه للخدمة وجبت عليه فطرته لأنه يجب
عليه نفقته ويجب على السيد فطرة عبده وأمته لحديث ابن عمر وإن كان له عبد آبق ففيه طريقان
(أحدهما) تجب فطرته قولا واحدا لان فطرته لحق الملك والملك لا يزول بالإباق (ومنهم) من قال فيه
قولان كالزكاة في المال المغصوب (قال) فإن كان عبد بين نفسين وجبت الفطرة عليهما لان نفقته
عليهما وإن كان نصفه حرا ونصفه عبدا وجب على السيد نصف فطرته وعلى العبد نصف فطرته
لان النفقة عليهما نصفان فكذلك الفطرة وإن كان له مكاتب لم تجب عليه فطرته لأنه لا يجب عليه
نفقته وروى أبو ثور عن الشافعي قال يجب عليه فطرته لأنه باق على ملكه ويجب على الزوج فطرة
زوجته إذا وجبت عليه نفقتها لحديث ابن عمر ولأنه ملك تستحق به النفقة فجاز أن تستحق به
113

الفطرة كملك اليمين في العبد والأمة فإن كانت ممن تخدم ولها مملوك يخدمها وجب عليه فطرته لأنه
يجب عليه نفقته فان نشزت الزوجة لم يلزمه فطرتها لأنه لا يلزمه نفقتها ولا يجب عليه إلا فطرة
مسلم فأما إذا كان المؤدى عنه كافرا فلا يجب عليه فطرته لحديث ابن عمر (على كل ذكر وأنثى
حر وعبد من المسلمين) ولان القصد بالفطرة تطهير المؤدى عنه لان المؤدى قد طهر نفسه بالفطرة
والكافر لا يلحقه تطهير) *
(الشرح) حديث ابن عمر الأول في الصحيحين الا قوله (ممن تمونون) فرواه بهذه اللفظة
الدارقطني والبيهقي باسناد ضعيف قال البيهقي إسناده غير قوى ورواة البيهقي أيضا من رواية
جعفر ابن محمد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مرسل أيضا فالحاصل ان هذه اللفظة (ممن
تمونون) ليست بثابتة وأما باقي حديث ابن عمر المذكور ففي الصحيحين كما سبق * وأما حكم الفصل
فقال أصحابنا الفطرة قد يجب أداؤها على الانسان عن نفسه وقد تجب عن غيره وجهات التحمل
عن غيره ثلاث الملك والنكاح والقرابة وكلها تقتضي وجوب الفطرة في الجملة فمن لزمة نفقة بسبب
من هذه الثلاثة لزمه فطرة المنفق عليه ولكن يشترط في ذلك أمور ويستثني منه صور منها متفق
عليه ومنها مختلف فيه ستظهر بالتفريع إن شاء الله تعالى * وقال ابن المنذر من أصحابنا لا يلزمه
فطرة زوجته بل عليها فطرة نفسها وستأتي مذاهب العلماء فيها إن شاء الله تعالى في فرع مستقل
ومن المستثنى أن الابن يلزمه نفقة زوجة أبيه تفريعا على المذهب في وجوب الاعفاف وهل عليه
فطرتها فيه وجهان (أصحهما) عند الغزالي وصاحب البيان وطائفة وجوبها (وأصحهما) عند البغوي
وصاحب العدة وآخرين والرافعي في المحرر لا تجب وهو المختار قالوا ويجرى الوجهان في فطرة
مستولدة الأب وأما زوجة الابن المعسر فلا تجب نفقتها ولا فطرتها على الأب لأنه لا يجب إعفافه
وان وجبت نفقته وأما الاخوة وبنوهم والأعمام وبنوهم وسائر الأقارب غير الأصول والفروع
فلا تجب نفقتهم ولا فطرتهم
(وأما) الأصول والفروع فان وجبت نفقتهم بشروطها المعروفة في كتاب
النفقات وجبت فطرتهم ومن لا فلا فلو كان الابن الكبير في نفقة أبيه فوجد قوته ليلة العيد ويومه
فقط لم تجب فطرته على الأب لسقوط نفقته عنه في وقت الوجوب ولا على الابن لاعساره وإن كان
الابن صغيرا والمسألة بحالها ففي سقوط الفطرة على الأب وجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون
(أصحهما) عند الرافعي وغيره لا تجب كالابن الكبير وبهذا قال الشيخ أبو محمد (والثاني) تجب
114

لنأكدها بخلاف الكبير قال الشافعي والمصنف والأصحاب وإن كان للقريب الذي تجب نفقته
عبد يحتاج إلى خدمته لزم المنفق فطرته كما يلزمه نفقته لأنه من مؤن القريب وأما العبد القن والمدبر
والمعلق عتقه بصفة والمستولدة فتجب فطرتهم على السيد بلا خلاف لحديث ابن عمر (حر وعبد)
رواه البخاري ومسلم
قال أصحابنا وتجب فطرة المرهون والجاني والمستأجر على سيدهم كالنفقة
وقال إمام الحرمين والغزالي يحتمل أن يجرى في المرهون الخلاف السابق في المال المرهون قال
الرافعي وهذا الذي قالاه لا نعرفه لغيرهما بل قطع الأصحاب بالوجوب هنا وهناك وهذا هو
المنصوص ونقل السرخسي اتفاق الأصحاب عليه قال الماوردي وغيره ويلزم السيد إخراجها من
ماله ولا يجوز إخراجها من رقبة المرهون لأنها تابعة للنفقة والنفقة على السيد قال بخلاف المال
المرهون حيث قلنا يخرج زكاته منه في أحد القولين لان فطرة العبد في ذمة سيده وزكاة المال في
عينه في أحد القولين وقال السرخسي إن لم يكن للراهن مال آخر أخرجها من نفس المرهون وإلا
فقولان (أحدهما) يلزمه أن يخرجها من ماله (والثاني) له إخراجها من نفس المرهون بأن يبيع
بعضه (وأما) العبد الآبق والضال ففيهما طريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) القطع
بوجوب الفطرة (والثاني) فيه قولان كزكاة المال المغصوب (وأما) العبد المغصوب فالمذهب القطع
بوجوب فطرته وبه قطع العراقيون والبغوي ونقله صاحب البيان عن العراقيين وذكر الفوراني وإمام
الحرمين وآخرون عن الخراسانيين فيه طريقين كالآبق (وأما) العبد الغائب فان علم حياته وكان في
طاعة سيده رحبت فطرته بلا خلاف وإن لم يعلم وانقطع خبره مع تواصل الرفاق فطريقان (أصحهما)
وهو المنصوص وجوبها لان الأصل حياته (والثاني) على قولين (أصحهما) هذا (والثاني) لا تجب لان
الأصل البراءة منها والمذهب إن عتق هذا العبد لا يجزئ عنه الكفارة وفيه قولان وحاصله أن
الشافعي نص على وجوب الفطرة ونص أنه لا يجزئ في الكفارة فقيل فيهما قولان وقال المحققون
وهو الأصح بظاهر النصين لان الأصل شغل الذمة بالكفارة وشككنا في البراءة وإذا أوجبنا
الفطرة في الآبق والضال والمغصوب ومنقطع الخبر وجب إخراجها في الحال على المذهب وبه قطع
البغوي وآخرون وقال صاحب الشامل حكى الشيخ أبو حامد فيه قولين عن الاملاء (أحدهما) يجب
الاخراج في الحال (والثاني) لا يجب حتى يعود إليه كالمال المغصوب قال البندنيجي وصاحب الشامل
وهذا بعيد لان إمكان الأداء شرط في زكاة المال الغائب يتعذر فيه الأداء وما زكاة الفطر فتجب
115

عما لا يؤدى عنه وكذا قال إمام الحرمين الخلاف في تعجيل الاخراج بعيد قال والوجه القطع
بايجاب الزكاة وايجاب تعجيلها قال الشافعي والأصحاب وتجب فطرة العبد المشترك وفطرة من بعضه
حر ومن بعضه رقيق وهذا لا خلاف فيه عندنا فإن لم يكن بين السيدين في المشترك ولا بين السيد
ومن بعضه حر مهايأة فالفطرة بينهما على قدر النصيبين وعلى السيد ومن بعضه حر على قدر الرق
والحرية وإن كانت مهايأة فهل تختص الفطرة بمن وقع زمن الوجوب في نوبته أم توزع بينهما فيه
خلاف مبنى على أن الاكساب والمؤن النادرة هل تدخل في المهايأة أم لا يدخل فيها إلا المعتاد وعلى
أن الفطرة نادرة أم لا وفى كل واحد من الأصلين خلاف ذكره المصنف والأصحاب في باب اللقطة
(فأحد) الوجهين أو القولين دخول النادر في المهايأة وفى الفطرة طريقان حكاهما الفوراني والسرخسي
وإمام الحرمين وآخرون من الخراسانيين (أصحهما) عندهم أنها من النادر قال الرافعي وبه قطع
الأكثرون (والثاني) على وجهين (أحدهما) هذا (والثاني) لا يدخل فيكون بينهما ونقله الماوردي
عن أكثر أصحابنا ونقل صاحب البيان عن العراقيين الجزم بهذا قال لان المهايأة معاوضه كسب يوم
بكسب يوم والفطرة حق لله تعالي لا يصح المعاوضة عليها وهذا التعليل ضعيف والعلة الصحيحة أن
الفطرة عن البدن وهو مشترك * فالحاصل أن الراجح عند العراقيين والصيدلاني وإمام الحرمين
أن الفطرة لا تدخل في المهايأة بل تكون مشتركة والراجح عند الآخرين منهم البغوي والرافعي
دخولها قال الرافعي وهم كلهم كالمتفقين على دخولها في باب اللقطة وهو نصه في المختصر وفرق
السرخسي وغيره بان الفطرة لا تتكرر وإنما تجب في السنة مرة فلا يختص بأحدهما بخلاف غيرها
من المؤن والأكساب النادرة فإنها قد تقع في النوبتين جميعا قال امام الحرمين ولو جنى هذا المشترك
وبينهما مهايأة ووقعت الجناية في نوبة أحدهما لم يختص ذلك بوجوب الأرش باتفاق العلماء لان الأرش
تعلق بالرقبة وهي مشتركة والله أعلم (وأما) المكاتب فسبق بيانه في الفصل المتقدم والله أعلم *
(فرع) يجب على الزوج فطرة زوجته كما سبق قال ابن المنذر لا يجب كما قدمناه ودليل الوجوب
ما ذكره المصنف قال أصحابنا وإنما تجب فطرة من تجب نفقتها فإن كانت ناشزة لم تجب فطرتها
بلا خلاف كما لا تجب نفقتها قال إمام الحرمين والوجه عندي القطع بوجوب فطرتها عليها حينئذ
(وإن قلنا) لا يلاقيها الوجوب لأنها بالنشوز خرجت عن إمكان التحمل وهذا الذي قاله الامام متعين
ولو لم تنشز هي بل حال أجنبي بينه وبينها وقت الوجوب فالذي يقتضيه اطلاق الوجوب وجوب
فطرتها على الزوج كالمريضة قال الرافعي وطرد أبو الفضل ابن عبدان من أصحابنا فيها الخلاف السابق
116

في العبد المغصوب والضال وهذا الذي قاله ابن عبدان يتأيد بأنها لو وطئت بشبهة فاعتدت عنها لا نفقة
لها في مدة العدة صرح به البغوي وغيره في كتاب النفقات لأنه فات التمكين بسبب نادر فسقطت
النفقة بخلاف المريضة فإنه عام وكذا لو حبست في دين سقطت نفقتها كما سنوضحه في كتاب النفقات
إن شاء الله تعالى والله أعلم * ولو كانت الزوجة صغيرة والزوج كبيرا أو عكسه أو كانا صغيرين فالفطرة
تابعة للنفقة وفيها خلاف مشهور في كتاب النفقات والأصح وجوب نفقته الكبيرة دون الصغيرة
سواء كان الزوج صغيرا وهي صغيرة أو كانا صغيرين لعدم التمكين ولو كانت الزوجة أمة ففطرتها
كنفقتها وفيها خلاف وتفصيل إن وجبت على الزوج لزمته فطرتها وإلا فهما على السيد وإن
ألزمناه نفقتها فكذا الفطرة *
(فرع) قال أصحابنا تجب عليه فطرة زوجته الرجعية كنفقتها (وأما) البائن فإن كانت حائلا فلا فطرة
عليه عنها كما لا نفقة عليه لها ويلزمها فطرة نفسها وإن كانت حاملا فطريقان مشهوران في كتب
الخراسانيين وغيرهم (أحدهما) القطع بوجوب الفطرة عليه كالنفقة وهذا هو الراجح عند الشيخ
أبى على السنجي وامام الحرمين والغزالي (والثاني) وهو الأصح وبه قطع أكثر العراقيين قال الرافعي
وبه قطع الأكثرون أن الفطرة مبنية على الخلاف المشهور أن النفقة تجب للحامل أم للحمل (إن قلنا)
بالأول وجبت وإلا فلا لان الجنين لا تجب فطرته هذا إذا كانت الزوجة حرة فإذا كانت أمة ففطرتها
117

باتفاقهم مبنية على ذلك الخلاف (فان قلنا) النفقة للحمل فلا فطرة كما لا نفقة لأنه لو برز الحمل لم تجب
نفقته على الزوج لأنه ملك سيدها (وإن قلنا) للحمل وجب وسواء رجحنا الطريق الأول أم الثاني
فالمذهب وجوب الفطرة لان الأصح أن النفقة للحامل بسبب الحمل والله أعلم *
(فرع) قال المصنف والأصحاب إذا كانت المرأة ممن تخدم في العادة لها خادم مملوك لها يخدمها
لزم الزوج فطرة الخادم لأنه تلزمه نفقته كما هو مقرر في كتاب النفقات والفطرة تابعة للنفقة هكذا
نص عليه الشافعي وقطع به المصنف وسائر الأصحاب وشذ عنهم امام الحرمين فقال قيل عليه فطرة
خادمها المملوك لها والأصح عندنا أنه لا يلزمه لان الخادم من تتمة نفقة الزوجة وقد أخرج فطرة
الزوجة وهذا الذي اختاره شاذ مردود وان أخدمها حرة صحبتها لتخدمها واتفق عليها لم يلزمه فطرتها
لأنها في معني المستأجرة وإن أخدمها مملوكة للزوج فعليه فطرتها أيضا وان اكترى لها خادما حرة
أو أمة لم يلزمه فطرة الخادم كما لا يلزمه نفقته فان الإجارة لا تقتضي النفقة (أما) إذا كانت ممن لا يخدم
في العادة بل عادة مثلها خدمة نفسها فلا يلزم الزوج لها خادم فان أخدمها بمملوكته فهو متبرع بالاخدام
وعليه فطرة الخادم بسبب الملك لا بالاخدام وان اتفقا على أن تخدمها مملوكة لها لم يلزمه فطرة الخادم كما لا يلزمه
نفقتها في هذه الحالة والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في فطرة الزوجة * ذكرنا أن مذهبنا وجوبها على الزوج وبه قال على
ابن أبي طالب وابن عمر ومالك والليث واحمد واسحق وأبو ثور * وقال أبو حنيفة وصاحباه والثوري
ليس عليه فطرتها بل هي عليها واختاره ابن المنذر * دليلنا ما ذكره المصنف *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب ولا يلزمه الا فطرة مسلم فإذا كان له قريب أو زوجة أو مملوك
كافر لم يلزمه نفقتهم ولا يلزمه فطرتهم بلا خلاف عندنا وبه قال على ابن أبي طالب وجابر ابن
عبد الله وابن المسيب والحسن البصري ومالك وأحمد وأبو ثور قال ابن المنذر وبه قال عطاء ومجاهد
118

وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز والنخعي والثوري * وقال أبو حنيفة وأصحابه واسحق تجب عن
عبده وقريبه الذمي دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (من المسلمين) وهو في الصحيحين كما سبق بيانه *
(فرع) قال أصحابنا العبد ينفق على زوجته من كبسه ولا يخرج عنها الفطرة حرة كانت أو أمة
وهذا لا خلاف فيه هكذا صرح به الأصحاب وكذا نقل امام الحرمين الاتفاق عليه لأنه ليس أهلا
لفطرة نفسه فغيره أولي بل يجب على الزوجة فطرة نفسها إن كانت حرة وعلى سيدها إن كانت
أمة هذا هو المذهب فيهما وقيل لا تجب على الحرة أيضا وقيل لا تجب على السيد وسنوضحه قريبا
إن شاء الله تعالى قال أصحابنا ولو ملك السيد عبدة مالا وقلنا يملكه لم يجز له اخراج الفطرة منه
عن زوجته استقلالا لأنه ملك ضعيف فان أذن له السيد في ذلك فوجهان الصحيح لا يخرج لأنه
ليس أهلا للوجوب (والثاني) يخرج لأنه مالك مأذون له فعلى هذا قال امام الحرمين وآخرون ليس
للسيد الرجوع عن الاذن بعد دخول الوقت لان الاستحقاق إذا ثبت لا يندفع *
(فرع) إذا أوصي برقبة عبد لرجل وبمنفعته لآخر ففي نفقته ثلاثة أوجه مشهورة سنوضحها
في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى (أصحها) تجب على مالك الرقبة (والثاني) على مالك المنفعة
(والثالث) في كسبه فإن لم يكن ففي بيت المال وأما الفطرة ففيها طريقان حكاهما الرافعي في كتاب
الوصايا (أحدهما) وبه قطع البغوي هناك والرافعي هنا تجب على مالك الرقبة وجها واحدا (وأصحهما)
وبه قطع السرخسي وآخرون هناك انها تابعه للنفقة فتجب على من يقول تلزمه النفقة هكذا أطلقوه
ومرادهم إذا قلنا بالوجهين الأولين أما إذا قلنا بالثالث أنها في بيت المال فلا تجب لان عبيد بيت
المال لا تجب فطرتهم فهذا أولى فحصل من مجموع الخلاف أن الأصح وجوب فطرته على مالك
الرقبة وهو مقتضي اطلاق الأصحاب لان الفطرة تابعة للنفقة ونقل ابن المنذر هذا عن نص الشافعي
فقال قال الشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي تجب الفطرة على مالك الرقبة ونقله الماوردي والقاضي
أبو الطيب في المجرد عن نصه في الام وحرمله والله أعلم *
(فرع) عبيد بيت المال والموقوفون على مسجد ورباط ومدرسة ونحوها من الجهات العامة
لا فطرة فيهم على المذهب وبه قطع الجمهور وحكى الرافعي وجها أنها تجب وأما الموقوف على إنسان
معين أو جماعة معينين فقال الرافعي المذهب انه ان قلنا الملك في رقبته للموقوف عليه فعليه فطرته
119

وان قلنا لله تعالي فوجهان (الصحيح) لا فطرة (وقيل) لا فطرة مطلقا وبه قطع البغوي والحاصل للفتوى
ان الأصح لا فطرة *
(فرع) عبيد التجارة تجب فطرتهم عندنا * وقال أبو حنيفة لا تجب وسبقت المسألة في باب زكاة
التجارة وبمذهبنا قال مالك وغيره وقال العبدري وهو قول أكثر الفقهاء *
(فرع) تجب فطرة العبد الذي في مال القراض عندنا وبه قال مالك * وقال أبو حنيفة لا تجب *
(فرع) إذا كان له عبيد يعملون في ارضه أو ماشيته لزمه فطرتهم * هذا مذهبنا وحكاه ابن المنذر
عن الجمهور قاله ابن المسيب وأبو سلمة بن عبد الرحمن وطاوس وعطاء بن يسار والزهري ومالك
وأبو حنيفة واحمد واسحق وأبو ثور وحكى عبد الملك انه لا تجب فطرتهم *
(فرع) ذكرنا ان مذهبنا وجوب فطرة العبد المشترك على سيديه وحكاه ابن المنذر عن مالك
ومحمد بن سلمة وعبد الملك ومحمد بن الحسن وأبو ثور واسحق * وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف
لا يجب على واحد منهما شئ قال وروي هذا عن الحسن وعكرمة قال وبالأول أقول *
(فرع) من نصفه حر ونصفه رقيق تجب على سيده نصف فطرته وعليه في كسبه بنصفه الحر
نصف الفطرة * هذا مذهبنا وبه قال أحمد ومالك * وقال مالك على مالكه نصف صاع لا شئ على
العبد وقال عبد الملك يجب جميع الصاع على سيده * وقال أبو حنيفة لا شئ على واحد منهما وقال
أبو يوسف ومحمد على العبد الفطرة عن نفسه *
(فرع) قد ذكرنا أن على السيد فطرة عبده وسواء كان له كسب أم لا هذا * مذهبنا وبه قال
المسلمون كافة الا داود الظاهري فقال لا تجب على السيد بل تجب على العبد ويلزم السيد
تمكينه من الكسب لها وهذا باطل مردود عليه بالاجماع فقد نقل ابن المنذر وغيره اجماع المسلمين
على وجوبها على السيد *
(فرع) ذكرنا أن على الأب وسائر الوالدين فطرة ولده وان سفل وعلى الولد فطرة والده وإن علا
بشرط أن تكون نفقته واجبة فإن لم تكن نفقته واجبة عليه لم يلزمه فطرته فإذا كان الطفل موسرا كانت
نفقته وفطرته في ماله لا على أبيه ولا جده وبه قال أبو حنيفة ومحمد وأحمد وإسحاق وحكي ابن المنذر
عن بعض العلماء أنها على الأب فان أخرجها من مال الصبي عصي وضمنه *
120

قال المصنف رحمه الله *
(ولا تجب حتى تفضل الفطرة عن نفقته ونفقة من تلزمه نفقته لان النفقة أهم فوجبت البداية
بها ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (ابدأ بنفسك ثم بمن تعول) فان وجد ما يؤدى عن بعضهم
ففيه أربعة أوجه (أحدها) يبدأ بمن يبدأ بنفقته فان فضل صاع أخرجه عن نفسه فان فضل صاع
آخر أخرجه عن زوجته فان فضل صاع آخر أخرجه عن ولده الصغير فان فضل صاع آخر أخرجه عن أبيه فان
فضل صاع آخر أخرجه عن أمه فان فضل صاع آخر أخرجه عن ولده الكبير لأنا قلنا الفطرة تابعة للنفقة
وترتيبهم في النفقة كما ذكرنا فكذلك في الفطرة (والثاني) تقدم فطرة الزوجة على فطرة نفسة لأنها
تجب بحكم المعاوضة (والثالث) يبدأ بنفسه ثم بمن شاء (والرابع) أنه بالخيار في حقه وحق غيره لان
كل واحد منهم لو انفرد لزمه فطرته فإذا اجتمعوا تساووا) *
(الشرح) هذا الحديث المذكور رواه البخاري ومسلم من رواية حكيم بن حزام وأبي هريرة
ولفظه (وابدأ بمن تعول) ورواه مسلم من رواية جابر (ولفظه ابدأ بنفسك فتصدق عليها فان فضل شئ
فلأهلك فان فضل عن أهلك شئ فلذي قرابتك) وقول المصنف البداية لحن وصوابه البداءة
أو البداه أو البدوه وقد سبق مثله في مواقيت الصلاة * أما حكم المسألة فاتفقت نصوص الشافعي
والأصحاب على أنه لا تجب الفطرة حتى تفضل نفقته ونفقة من يلزمه عن نفقته ليلة العيد ويومه وتفضل
عن سائر المؤن التي سبق بيانها وفى الدين خلاف سبق وكذا في الخادم فان وجد ما يؤدى عن
بعضهم ففيه الأوجه الأربعة التي ذكرها المصنف بأدلتها (أصحها) الأول ولو لم يجد إلا صاعا وله جماعة
وأراد اخراجه عن جميعهم موزعا عنهم (فان قلنا) بغير الوجه الرابع لم يجز (وإن قلنا) بالرابع وقلنا
وجد بعض صاع لا يلزمه اخراجه لم يجز أيضا وإلا فوجهان مشهوران (الأصح) لا يجوز لأنه تمكن
من فطرة واحد ولم يخرجها (والثاني) يجوز حكاه الفوراني وصاحب البيان وآخرون وحيث قلنا
يخرج الصاع عن نفسه فأخرجه عن غيره لا يجزئه وتثبت فطرته في ذمته ذكره البغوي وغيره
ولو كان معه صاعان فاخرج أحدهما عن نفسه وله أقارب في مرتبة كابنين كبيرين أو صغيرين أو كان
له زوجتان فالصحيح أنه يتخير ويخرجه عن أيهما شاء وفيه وجه أنه يخرجه عنهما موزعا قال الرافعي
ولم يتعرضوا للاقراع وله مجال في نظائره وحكى السرخسي وامام الحرمين وصاحب البيان وجها
أنه يقدم فطرة الام على فطرة الأب ووجها أنهما سواء فيخرجه عن أيهما شاء ووجها انه يقدم فطرة
121

الابن الكبير على الأب والام لان النص ورد بنفقته والفطرة تتبعها ووجها عن بن أبي هريرة أنه
يقدم فطرة الأقارب على فطرة الزوجة لأنه قادر على إزالة سبب الزوجية بالطلاق بخلاف القرابة
وهذا الوجه حكاه أيضا القاضي أبو الطيب في المجرد والمحاملي وآخرون قال السرخسي واختاره
القفال عن ابن أبي هريرة فإذا ضممنا هذه الأوجه الأربعة مع وجه التوزيع إلى الأوجه الأربعة
التي ذكرها المصنف حصل في المسألة تسعة أوجه متباينة وحكى الماوردي وجها غريبا انه يخرجه
عن أحد الجماعة لا بعينه فحصل في المسألة عشرة أوجه (أصحها) الأول الذي ذكره المصنف وصححه
القاضي أبو الطيب والمحاملي والسرخسي والرافعي وآخرون وصحح الشيخ أبو حامد والماوردي
والجرجاني التخيير قالوا وهو ظاهر نصه في المختصر والأول أصح ولا نسلم لهم انه ظاهر النص
فان النص أدى عن بعضهم وليس في هذا تصريح بالتخيير فالمذهب الوجه الأول والله أعلم *
(فان قيل) ذكر المصنف والأصحاب هنا ان الأصح ان الأقارب يرتبون في الفطرة كما يرتبون في النفقة
وذكروا ما ذكره المصنف وهو تقديم الابن الصغير ثم الأب ثم الام ثم الابن الكبير فقدموا الأب
على الام وقالوا في النفقات الأصح تقديم الام على الأب فكيف يصح قولهم يرتبون هنا كالنفقة
(فالجواب) أن النفقة تحب لسد الخلة ودفع الحاجة والام أكثر حاجة وأقل حيلة وأكثر خدمة للولد
فوجب تقديمها بالنفقة التي تتضرر بتركها (واما) الفطرة فلا تجب لحاجة ولا لدفع ضرر بل لتطهير المخرج
عنه وتشريفه والأب أحق بها فإنه منسوب إليه ويشرف بشرفه ومراد الأصحاب بقولهم كالنفقة
أي تجب مرتبة كما تجب النفقة مرتبة وكيفية ترتيبها متفق عليه في معظمه وهذا مراد المصنف وترتيبهم
في النفقة كما ذكرنا والله أعلم *
(فرع) لو فضل عن مؤنته صاع واحد وله عبد اخرج الصاع عن نفسه وهل يلزمه ان يبيع في
فطرة العبد جزءا منه فيه ثلاثة أوجه حكاها امام الحرمين وآخرون (أحدها) يلزمه (والثاني) لا
(وأصحها) ان لم يحتج إلى خدمته لزمه وإلا فلا هذا هو الأصح المعتمد وصحح امام الحرمين
اللزوم مطلقا ونقله عن الأكثرين والمذهب ما سبق تصحيحه وهو الموافق للنص السابق
في فطرة عبد ولده الصغير إذا احتاج إلى خدمته
* قال المصنف رحمه الله *
(ومن وجبت فطرته على غيره فهل يجب ذلك على المؤدى ابتداء أو يجب على المؤدى عنه ثم يتحمل المؤدى
فيه وجهان (أحدهما) تجب على المؤدى ابتداء لأنها تجب في ماله (والثاني) تجب على المؤدى عنه لأنها
122

تجب لتطهيره فان تطوع المؤدى عنه واخرج بغير اذن المؤدى ففيه وجهان (إن قلنا) انها تجب على المؤدى
ابتداء لم تجزئه كما لو اخرج زكاة ماله عنه بغير إذنه (وإن قلنا) يتحمل جاز لأنه اخرج ما وجب عليه
وإن كان من يمونه مسلما وهو كافر فعلى الوجهين (إن قلنا) انها تجب عليه ابتداء لم تجب لأنه إيجاب زكاة
على كافر (وإن قلنا) انه يتحمل وجب عليه لان الفطرة وجبت على مسلم وإنما هو متحمل) *
(الشرح) قال أصحابنا الفطرة الواجبة على الشخص بسبب غيره فيها خلاف قال المصنف
والأكثرون هو وجهان وقال القاضي أبو الطيب في المجرد والبغوي والسرخسي وآخرون
هو قولان وقال إمام الحرمين وآخرون هو قولان مستنبطان من كلام الشافعي رضي الله عنه
في فطرة الزوجة الحرة والأمة إذا كان الزوج معسرا (أحدهما) تجب على المؤدى ابتداء ولا يلاقي
الوجوب المؤدى عنه (وأصحهما) عند الأصحاب تجب على المؤدى عنه ثم يتحملها المؤدى قال السرخسي في
الأمالي هذا هو المنصوص للشافعي في عامة كتبه لأنها شرعت طهرة له ثم إن المصنف والجمهور أطلقوا
الخلاف وطردوه في كل مؤد عن زوج وسيد وقريب وقال إمام الحرمين وقال طوائف من المحققين
هذا الخلاف إنما هو في فطرة الزوجة فقط (فاما) فطرة المملوك والقريب فتجب على المؤدى ابتداء
بلا خلاف لان المؤدى عنه لا يصلح للايجاب واختار إمام الحرمين هذه الطريقة وقال طرد الخلاف
في الجميع بعيد والمشهور في المذهب طرده في جميعهم قال الرافعي وحيث قلنا بالتحمل فهل هو
كالضمان أم كالحوالة فيه قولان حكاهما أبو العباس الروياني في المسائل الجرجانيات وهذا الذي نقله
الروياني والرافعي غريب والصحيح الذي يقتضيه المذهب وكلام الشافعي والأصحاب أنه كالحوالة
بمعنى أنه لازم للمؤدي لا يسقط عنه بعد وجوبه ولا مطالبة على المؤدى عنه ووجه القول بالضمان
وبه جزم السرخسي أنه لو أداها المتحمل عنه بغير إذن المؤدى أجزأه على هذا القول وسقطت عن
المؤدى ولولا أنه كالمضمون عنه لما أجزأه والله أعلم * وفرع الأصحاب على الخلاف في التحمل وعدمه
مسائل (إحداها) لو كان للكافر عبد أو مستولدة أو قريب مسلمون فهل عليه فطرتهم فيه وجهان
مشهوران ذكرهما المصنف (أصحهما) عند الأصحاب الوجوب بناء على أنها على المؤدى عنه ثم يتحملها
المؤدى (وان قلنا) على المؤدى ابتداء لم يجب هنا قال امام الحرمين فان أوجبناها فلا صائر إلى أن
المؤدى عنه يحتاج إلى النية (الثانية) إذا لزمه نفقة قريب أو زوجة أو مملوك فأداها لم يفتقر إلى اذن
المؤدى عنه بلا خلاف ولو أداها القريب باستقراض أو غيره أو أدتها الزوجة فإن كان باذن من لزمته
123

أجزأ بلا خلاف كما لو قال لأجنبي أد فطرتي أو زكاة مالي فأداها فإنه يجزئ بلا خلاف وإن كان بغير
اذنه فثلاث طرق (أصحها) وأشهرها وبه قطع المصنف والجمهور انه مبنى على التحمل إن قلنا بالتحمل
أجزأ وإلا فلا ووجههما ما ذكره المصنف والصحيح الاجزاء وهو نص الشافعي في المختصر وهو مقتضي
البناء المذكور (والطريق الثاني) حكاة السرخسي عن أبي على السنجي انه لا يجزئ سواء قلنا بالتحمل
أم لا الا باذن الزوج قال لان له الاخراج بغير إذن الزوجة والقريب بلا خلاف قال السرخسي هذا
خلاف النص قال والصحيح الاجزاء لان الزوج على هذا القول كالضامن والمرأة في معني المضمون
عنه وكل واحد منهما له الأداء بغير اذن الآخر (والطريق الثالث) وبه قطع الماوردي ان اخراج
القريب يجزئ بلا خلاف سواء استأذن أم لا واما الزوجة فان استأذنت أجزأ والا فوجهان (الثالثة)
إذا دخل وقت الوجوب وله أب معسر وعليه نفقته فأيسر الأب قبل أن يخرج الابن الفطرة قال
البغوي ان قلنا الوجوب يلاقي الأب لزمه فطرة نفسه ولا يجب على الابن وإلا فعلى الابن دون
الأب (الرابعة) إذا تزوج معسر بموسرة أو تزوج الموسرة عبد أو تزوج الأمة معسر فهل على الموسرة
وسيد الأمة فطرتها فيه خلاف مبنى على التحمل وقد ذكره المصنف بعد هذا وسنوضحه إن شاء الله
تعالى (الخامسة) إذا كان له أب معسر له زوجة فان قلنا بالتحمل لزم الابن فطرتها كفطرة الأب
وإلا فلا لأنها لا تجب على الأب فالابن أولى وممن ذكر المسألة السرخسي *
(فرع) فيما يدخله التحمل * ذكر إمام الحرمين منه هنا أربع صور (إحداها) أداء الزكاة صرفا
إلى الغارم قال وهذا تحمل حقيقي وارد على وجوب مستقر (الثانية) تحمل الدية عن القاتل وهل
تجب على العاقلة ابتداء أم على الجاني ثم تحملها العاقلة فيه خلاف مشهور (الثالثة) الفطرة وفيها
الخلاف الذي ذكرناه (الرابعة) كفارة جماعه زوجته في نهار رمضان إذا قلنا بالمذهب أنه يجب
عليه كفارة واحدة فهل هي عنه أو عنه وعنها فيه القولان المشهوران *
* قال المصنف رحمه الله *
(وإن كان له زوجة موسرة وهو معسر فالمنصوص أنه لا تجب الفطرة عليها وقال فيمن
زوج أمته من معسر ان على المولى فطرتها فمن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة من المسألتين
إلى الأخرى وخرجهما على قولين (أحدهما) لا تجب لأنها زكاة تجب عليه مع القدرة فسقطت بالاعسار
124

كفطرة نفسه (والثاني) تجب لأنه إذا كان معسرا جعل كالمعدوم ولو عدم الزوج وجبت فطرة الحرة
على نفسها وفطرة الأمة على سيدها وكذلك ههنا ومن أصحابنا من قال (ان قلنا) يتحمل وجبت على الحرة
وعلى مولي الأمة لان الوجوب عليهما والزوج متحمل فإذا عجز عن التحمل بقي الوجوب في محله
(وإن قلنا) تجب عليه ابتداء لم تجب على الحرة ولا على مولي الأمة لأنه لاحق عليهما وقال أبو إسحاق
تجب على مولي الأمة ولا تجب على الحرة لان فطرتها على المولي لان المولي لا يجب عليه التبوئة
التامة فإذا سلم كان متبرعا فلا يسقط بذلك ما وجب عليه من الزكاة والحرة غير متبرعة بالتسليم لأنه يجب
عليها تسليم نفسها فإذا لم يقدر على فطرتها سقطت عنها الفطرة) *
(الشرح) قوله لأنها زكاة تجب عليه مع القدرة احترز بالزكاة عن نفقة الزوجة (وقوله) وعليه
التبوئة هو بتاء مثناة من فوق مفتوحة باء موحدة وبعد الواو همزة وهي التسليم وهذا الخلاف
الذي ذكره المصنف مشهور ذكر الأصحاب حكمه ودليله كما ذكره والأصح
وجوب الفطرة على سيد الأمة دون الحرة كما نص عليه ويجرى الخلاف فيما لو تزوج عبد بحرة
أو أمة فإنه معسر والأصح وجوبها على سيد زوجته الأمة دون الحرة قال الشافعي والأصحاب ويستحب
للحرة أن تخرج الفطرة عن نفسها للخروج من الخلاف ولتطهيرها وإذا قلنا يلزم الحرة الموسرة
فطرتها فأخرجتها ثم أيسر الزوج لم ترجع بها عليه هذا هو المذهب وهو مقتضى اطلاق المصنف
والجمهور وقال صاحب الحاوي ترجع عليه بها كما ترجع عليه بالنفقة إذا أيسر وهذا النقل شاذ مردود
والاستدلال له ضعيف فان المعسر ليس أهلا لوجوب الفطرة بخلاف نفقة الزوجة *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ومتى تجب الفطرة فيه قولان (قال) في القديم تجب بطلوع الفجر من يوم الفطر لأنها قربة تتعلق
بالعيد فلا يتقدم وقتها على يومه كالصلاة والأضحية (وقال) في الجديد تجب بغروب الشمس
من ليلة الفطر من رمضان لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (فرض صدقة الفطر
من رمضان) والفطر من رمضان لا يكون الا بغروب الشمس من ليلة العيد ولان الفطرة جعلت طهرة
للصائم بدليل ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم (فرض صدقة الفطر طهرة للصائم من الرفث واللغو
وطعمة للمساكين) وانقضاء الصوم بغروب الشمس
فان رزق ولدا أو تزوج امرأة أو اشترى عبدا
125

ودخل عليه الوقت وهم عنده وجبت عليه فطرتهم وان رزق ولدا أو تزوج امرأة أو اشترى العبد
بعد دخول الوقت أو ماتوا قبل دخول الوقت لم تجب فطرتهم
وان دخل وقت الوجوب وهم عنده
ثم ماتوا قبل امكان الأداء ففيه وجهان (أحدهما) تسقط كما تسقط زكاة المال (والثاني) لا تسقط
لأنها تجب في الذمة فلم تسقط بموت المرأة ككفارة الظهار ويجوز تقديم الفطرة من أول رمضان
لأنها تجب بسببين بصوم رمضان والفطر منه فإذا وجد أحدهما جاز تقديمها على الآخر كزكاة المال
بعد ملك النصاب وقبل الحول ولا يجوز تقديمها على رمضان لأنه تقديم على السببين فهو كاخراج زكاة المال
قبل الحول والنصاب والمستحب أن تخرج قبل صلاة العيد لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم (أمر بزكاة الفطر أن تخرج قبل خروج الناس إلى الصلاة ولا يجوز تأخيرها عن يومه لقوله صلى الله عليه
وسلم (اغنوهم عن الطلب في هذا اليوم) فان أخرة حتى خرج اليوم اثم وعليه القضاء لأنه
حق مال وجب عليه وتمكن من أدائه فلا يسقط عنه بفوات الوقت) *
(الشرح) حديث ابن عمر الأول رواه مسلم بلفظه وأصله في الصحيحين (وأما) حديث أن
النبي صلى الله عليه وسلم (فرض صدقة الفطر طهرة للصائم من الرفث واللغو وطعمة للمساكين) فرواه
أبو داود من رواية ابن عباس باسناد حسن (وأما) حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر بزكاة
الفطر أن تخرج قبل خروج الناس إلى الصلاة) فرواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بلفظه (وأما) حديث
(اغنوهم عن الطلب في هذا اليوم) فرواه البيهقي باسناد ضعيف وأشار إلى تضعيفه (وقوله) لأنها قربة
تتعلق بالعيد احترز به عن الزكاة وغيرها ولكنه ينتقض بغسل العيد على أصح القولين فإنه قربة
تتعلق بالعيد ويدخل وقتها قبل الفجر (قوله) طهرة وطعمة - بضم الطاء - فيهما (وقوله) اغنوهم عن الطلب
هو - بهمزة قطع مفتوحة - وإنما قيدته لأني رأيت كثيرين ممن لا أنس لهم بشئ من العربية يضمونها
وهذه غباوة ظاهرة والصواب الفتح لأنه رباعي فالامر فيه يفتح الهمزة كأعطي وأنفق وأخرج
يقول يا قوم انفقوا وأخرجوا وأعطوا وأغنوا السائل - بفتح الهمزة - في الجميع مع قطعها قال الله تعالى
(يا أيها الذين آمنوا أنفقوا. وأخرجوا أنفسكم) وقال تعالى في أغنى رباعيا (ووجدك عائلا فأغنى)
(أما) أحكام الفصل ففيه مسائل (إحداها) في وقت وجوب زكاة الفطر ثلاثة أقوال مشهورة في الطريقين
(أصحها) باتفاقهم تجب بغروب الشمس ليلة عيد الفطر وهو نصه في الجديد (والثاني) وهو القديم تجب
126

بطلوع الفجر يوم عيد الفطر ودليلهما في الكتاب (الثالث) تجب بالوقتين جميعا فلو وجد أحدهما
دون الآخر فلا وجوب خرجه ابن القاص وضعفه الأصحاب وأنكروه عليه قال أصحابنا فلو ولد له
ولد أو تزوج امرأة أو ملك عبدا أو أسلم الكافر بعد غروب الشمس وقبل الفجر وبقوا إلى الفجر
لم تجب فطرتهم على الجديد والمخرج وتجب في القديم ولو وجدوا قبل الغروب وماتوا بين الغروب
والفجر وجبت في الجديد دون القديم والمخرج ولو وجدوا بعد الغروب وماتوا قبل الفجر لم تجب بالاتفاق
وارتداد الزوج والرقيق وطلاقها البائن كالموت ولو زال الملك في العبد بعد الغروب وعاد قبل
الفجر وجبت في الجديد والقديم وعلى المخرج وجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره بناء على الخلاف
(المشهور) ان الزائل العائد كالذي لم يزل أو كالذي لم يعد والأصح الوجوب ولو باعه بعد الغروب وملكه
المشترى في الحال بانقطاع الخيار واستمر ملكه فعلى الجديد فطرته على البائع وعلى القديم على المشترى
وعلى المخرج لا تجب على واحد منهما لان الوقتين لم يقعا في ملك واحد منهما ولو مات مالك العبد بين
الغروب والفجر وانتقل العبد للوارث فعلى الجديد فطرة هذا العبد في تركة الميت وفى القديم على
الوارث وعلى المخرج وجهان (الصحيح) لا فطرة على واحد (والثاني) تجب على الوارث بناء على القول
القديم ثم إن الوارث يبنى على حول المورث ولو كان عبد بين شريكين بينهما مهايأة فغربت الشمس
في نوبة أحدهما وطلع الفجر في نوبة الآخر وقلنا باعتبار القولين قال امام الحرمين تجب الفطرة مشتركة
بلا خلاف سواء قلنا تدخل في المهايأة أم لا لان أحدهما لم ينفرد به وقت الوجوب (الثانية) لو مات
المؤدى عنه بعد دخول وقت الوجوب وقبل التمكن من الأداء فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف
بدليلهما (أصحهما) لا تسقط الفطرة وبه قطع ابن الصباغ وغيره (والثاني) تسقط وأما إذا لم يمت المؤدى
ولا المؤدى عنه لكن تلف المال بعد دخول وقت الوجوب وقبل التمكن من الأداء ففي سقوط
الفطرة وجهان حكاهما (1) قال (أصحهما) تسقط كزكاة المال (والثاني) لا والفرق ان زكاة المال تتعلق
بالعين بخلاف الفطرة وأما إذا تلف المال بعد التمكن فيستقر عليه الضمان بلا خلاف لتقصيره وقياسا
على زكاة المال (الثالثة) قال أصحابنا يجوز تعجيل زكاة الفطر قبل وجوبها بلا خلاف لما ذكره المصنف

(1) كذا بالأصل فحرر
127

وفى قت التعجيل ثلاثة أوجه (والصحيح) الذي قطع به المصنف والجمهور يجوز في جميع رمضان ولا يجوز
قبله (والثاني) يجوز بعد طلوع فجر اليوم الأول من رمضان وبعده إلى آخر الشهر ولا يجوز في الليلة
الأولى لأنه لم يشرع في الصوم حكاه المتولي وآخرون (والثالث) يجوز في جميع السنة حكاه البغوي
وغيره واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن الأفضل أن يخرجها يوم العيد قبل الخروج إلى
صلاة العيد وأنه يجوز إخراجها في يوم العيد كله وأنه لا يجوز تأخيرها عن يوم العيد وانه لو أخرها
عصى ولزمه قضاؤها وسموا اخراجها بعد يوم العيد قضاء ولم يقولوا في الزكاة إذا أخرها عن التمكن
أنها قضاء بل قالوا يأثم ويلزمه اخراجها وظاهره أنها تكون أداء والفرق أن الفطرة مؤقتة بوقت
محدود ففعلها خارج الوقت يكون قضاء كالصلاة وهذا معنى القضاء في الاصطلاح وهو فعل العبادة
بعد وقتها المحدود بخلاف الزكاة فإنها لا تؤقت بزمن محدود والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في وقت وجوب الفطرة * ذكرنا أن الصحيح عندنا وجوبها بغروب الشمس
ليلة عيد الفطر وبه قال الثوري واحمد واسحق ورواية عن مالك * وقال أبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور
وداود ورواية عن مالك تجب بطلوع الفجر * وقال بعض المالكية تجب بطلوع الشمس *
* قال المصنف رحمه الله *
(والواجب صاع بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحديث ابن عمر قال (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم
صدقة الفطر صاعا من تمر أو صاعا من شعير) والصاع خمسة أرطال وثلث بالبغدادي لما روى عمر
ابن حبيب القاضي قال (حججت مع أبي جعفر فلما قدم المدينة قال ائتوني بصاع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فعايره فوجده خمسة أرطال وثلث برطل أهل العراق)) *
(الشرح) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم (وأما) الحكاية المذكورة عن عمر بن حبيب
قاضي البصرة فضعيفة وقد اتفق المحدثون على تضعيف عمر بن حبيب هذا ونسبه ابن معين إلى
الكذب وقد أوضحت حاله في تهذيب الأسماء (وقوله) فعايره أي اعتبره قال أهل اللغة يقال عايرت
المكيال والميزان وعاورته إذا اعتبرته ولا يقال عيرته * وأما الأحكام فقد اتفقت نصوص الشافعي
والأصحاب على أن الواجب في الفطرة عن كل انسان صاع بصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
خمسة أرطال وثلث بالبغدادي من أي جنس أخرجه سواء الحنطة وغيرها ورطل بغداد مائة
128

وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم وقيل مائة وثمانية وعشرون درهما بغير أسباع وقيل
مائة وثلاثون درهما وبه قطع الغزالي والرافعي والأول أصح وأقوى قال صاحب الشامل وغيره
الأصل فيه الكيل وإنما قدره العلماء بالوزن استظهارا قلت قد يستشكل ضبط الصاع بالأرطال فان
الصاع المخرج به في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكيال معروف ويختلف قدره وزنا باختلاف
ما يوضع فيه كالذرة والحمص وغيرهما فان أوزان هذه مختلفة وقد تكلم جماعات من العلماء في هذه
المسألة فأحسنهم فيها كلاما الإمام أبو الفرج الدارمي من أصحابنا فإنه صنف فيها مسألة مستقبلة وكان
كثير الاعتناء بتحقيق أمثال هذه ومختصر كلامه أن الصواب أن الاعتماد في ذلك على الكيل
دون الوزن وان الواجب اخراج صاع معاير بالصاع الذي كان يخرج به في زمن رسول الله صلى الله
عليه وسلم وذلك الصاع موجود ومن لم يجده وجب عليه الاستظهار بان يخرج ما يتيقن أنه لا ينقص
عنه وعلى هذا فالتقدير بخمسة أرطال وثلث تقريب هذا كلام الدارمي وذكر البندنيجي نحوه وقال
جماعة من العلماء الصاع أربع حفنات بكفي رجل معتدل الكفين ونقل الحافظ عبد الحق في كتابه
الأحكام عن أبي محمد علي بن حزم أنه قال وجدنا أهل المدينة لا يختلف منهم اثنان في أن مد
رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يؤدى به الصدقات ليس بأكثر من رطل ونصف
ولا دون رطل وربع وقال بعضهم هو رطل وثلث قال وليس هذا اختلافا ولكنه على حسب رزانة
المكيل من البر والتمر والشعير قال وصاع ابن أبي ذئب خمسة أرطال وثلث وهو
صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وفى الحب الذي يخرجه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يجوز من كل قوت لما روى أبو سعيد
الخدري قال (كنا نخرج صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا من شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من
زبيب) ومعلوم أن ذلك كله لم يكن قوت أهل المدينة فدل على أنه مخير بين الجميع وقال أبو عبيد بن
حرب تجب من غالب قوته وهو ظاهر النص لأنه لما وجب أداء ما فضل عن قوته وجب أن تكون من
129

قوته وقال أبو العباس وأبو إسحاق تجب من غالب قوت البلد لأنه حق يجب في الذمة تعلق بالطعام
فوجب من غالب قوت البلد كالطعام في الكفارة فان عدل عن قوت البلد إلى قوت بلد آخر نظرت
فإن كان الذي انتقل إليه أجود أجزأه وإن كان دونه لم يجزه فإن كان أهل البلد يقتاتون أجناسا
مختلفة ليس بعضها بأغلب من بعض فالأفضل ان يخرج من أفضلها لقوله عز وجل (لن تنالوا البر
حتى تنفقوا مما تحبون) ومن أيها أخرج أجزأه وإن كان في موضع قوتهم الاقط ففيه طريقان (قال)
أبو إسحاق يجزئه قولا واحدا لحديث أبي سعيد (وقال) القاضي أبو حامد فيه قولان (أظهرهما) انه
يجزئه للخير (والثاني) لا يجزئه لأنه لا تجب فيه الزكاة فأشبه اللحم فإذا قلنا يجزئه فأخرج اللبن
أجزأه لأنه أكمل منه لأنه يجئ منه الاقط وغيره وان اخرج الجبن جاز لأنه مثله وان اخرج
المصل لم يجزه لأنه أنقص من الاقط لأنه لبن منزوع الزبد وإن كان في موضع لا قوت فيه اخرج من
قوت أقرب البلاد إليه فإن كان بقربه بلدان متساويان في القوت اخرج من قوت أيهما شاء ولا يجوز
في فطرة واحدة ان يخرج من جنسين لان ما خير فيه بين جنسين لم يجز ان يخرج من كل واحد منهما
بعضه ككفارة اليمين لا يجوز ان يطعم خمسة ويكسو خمسة فإن كان عبد بين نفسين في بلدين قوتهما
مختلف ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) لا يجوز ان يخرج كل واحد منهما من قوته بل يخرجان من أدنى
القوتين (وقال) أبو إسحاق يجوز ان يخرج كل واحد منهما نصف صاع من قوته لان كل أحد منهما
لم يبعض ما وجب عليه (ومن) أصحابنا من قال يعتبر فيه قوت العبد أو البلد الذي فيه العبد لأنها تجب لحقه
فاعتبر فيه قوته أو قوت بلده كالحر في حق نفسه ولا يجوز اخراج حب مسوس لان السوس اكل
جوفه فيكون الصاع منه أقل من صاع ولا يجوز اخراج الدقيق وقال أبو القاسم الأنماطي يجوز لأنه
منصوص عليه في حديث أبي سعيد الخدري والمذهب انه لا يجوز لأنه ناقص المنفعة عن الحب
فلم يجز كالخبز (واما) حديث أبي سعيد (فقد) قال أبو داود روى سفيان الدقيق ووهم فيه ثم رجع عنه) *
(الشرح) قال أصحابنا يشترط في المخرج من الفطرة أن يكون من الأقوات التي يجب فيها
العشر فلا يجزئ شئ من غيرها الا الاقط والجبن واللبن علي خلاف فيها سنوضحه إن شاء الله تعالى
وأهمل المصنف هنا اشتراط كونه من القوت المعشر وقد ذكره هو في التنبيه كما ذكره الأصحاب
130

ثم إن جميع الأقوات المعشرة تجزئ في الجملة ولا يستثنى منها شئ قال الرافعي وحكى قول قديم
أنه لا يجزئ العدس والحمص وإن كان قوتا لهم والمذهب الأول (وأما) الاقط ففيه طريقان حكاهما
المصنف والأصحاب (أحدهما) وبه قال أبو إسحاق المروزي القطع باجزائه لحديث أبي سعيد الخدري
رضي الله عنه قال (كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير
وكبير حر أو مملوك صاعا من طعام أو صاعا من أقط أو صاعا شعير أو صاعا من تمر أو صاعا من زبيب)
رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ إحدى روايات مسلم والأقط ثابت في روايات في الصحيحين
(والطريق الثاني) فيه قولان (أصحهما) يجزئه للحديث (والثاني) لا يجزئه لأنه لا يجب فيه العشر فأشبه
اللحم واللبن وبهذه الطريقة قال القاضي أبو حامد المروروذي والصواب الأولى لصحة الحديث من
غير معارض ثم المذهب الذي قطع به الجماهير أنه لا فرق في اجزاء الاقط بين أهل البادية والحضر
وقال الماوردي الخلاف في أهل البادية وأما أهل الحضر فلا يجزئهم قولا واحدا وإن كان قوتهم وهذا
الذي قاله شاذ فاسد مردود وحديث أبي سعيد صريح في ابطاله وإن كان قد تأوله على أنه كان في
البادية وهذا تأويل باطل والله أعلم * قال أصحابنا فان جوزنا الاقط فهل يجزئ الجبن واللبن
فيه طريقان (أصحهما) وبه قطع المصنف وجمهور العراقيين وآخرون يجزئه لان الجبن أكمل منه
(والثاني) حكاه الخراسانيون وصاحب الحاوي على وجهين (أصحهما) يجزئه (والثاني) لا يجزئه
وصححه الماوردي لأنه ليس معشر ولا يدخر وإنما جاز الاقط بالنص وهو مما يدخر والخلاف
مخصوص بمن قوته الاقط هل له اخراج اللبن والجبن هكذا قاله الماوردي والرافعي وغيرهما قال
صاحب البيان وآخرون إذا جوزنا الجبن واللبن جاز مع وجود الاقط ومع عدمه وقطع البندنيجي
بأنه لا يجزئه الا عند عدم الاقط ونقله عن نصه في القديم (وان قلنا) لا يجزئه الاقط لم يجزئه اللبن
والجبن قطعا وأما المخيض والكشك والسمن والمصل فلا يجزئ شئ منها بلا خلاف لأنها ليست
في معنى اللبن وكذا الجبن المنزوع الزبد وسواء كانت هذه الأشياء قوته وقوت البلد أم لا لا يجزئه
بلا خلاف قال الماوردي وكذا لو كان بعض أهل الجزائر أو غيرهم يقتاتون السمك والبيض فلا يجزئهم
بلا خلاف (وأما) اللحم فالصواب الذي نص عليه الشافعي وقطع به المصنف والأصحاب في جميع
الطرق أنه لا يجزئ قولا واحدا وقال امام الحرمين قال العراقيون في اجزائه قولان كالأقط قال
وكأنهم رأوا اللبن أصل الاقط وهو عصارة اللحم وهذا الذي نقله عن العراقيين باطل ليس
موجودا في كتبهم بل الموجود في كتبهم مع كثرتها القطع بأنه لا يجزئ بلا خلاف فهذا هو
131

الصواب (وأما) الأقوال النادرة التي لا عشر فيها كالغث والحنظل فلا يجزئ بلا خلاف نص عليه
الشافعي واتفقوا عليه قال أصحابنا وكذا لو اقتاتوا ثمرة لا عشر فيها كالتين وغيره لا يجزئ قطعا *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب لا يجزئ الحب المسوس ولا المعيب بلا خلاف قال امام
الحرمين وغيره وإذا جوزنا اخراج الاقط لم يجز اخراج المملح الذي أفسدت كثرة الملح جوهره
فإن كان الملح ظاهرا عليه ولم يفسده أجزأه لكن الملح غير محسوب ويجب أن يخرج قدرا يكون
محض الاقط منه صاعا قال أصحابنا ويجزئ الحب القديم وان قلت قيمته إذا لم يتغير طعمه ولا لونه
لان القدم ليس بعيب وهذا لا خلاف فيه ونص عليه في المختصر قال الماوردي وغيره وغير القديم
أولي ثم الجمهور اقتصروا على ذكر الطعم واللون كما ذكرنا وقال الماوردي وغيره لو تغير لونه أو طعمه
أو ريحه لم يجزئه وهذا مراد الشافعي والأصحاب وان لم يصرحوا بالرائحة والله أعلم * قال الشافعي
والأصحاب ولا يجزئ الدقيق ولا السويق كما لا تجزئ القيمة وحكى المصنف والأصحاب عن أبي
القاسم الأنماطي أن الدقيق يجزئ لأنه روى ذلك في حديث أبي سعيد الخدري أو صاعا
من دقيق رواه سفيان بن عيينة وغلط الأصحاب الأنماطي في هذا قالوا وذكر الدقيق في الحديث
ليس بصحيح قال أبو داود السجستاني في سننه ذكر الدقيق وهم من ابن عيينة وروى أبو داود
أن ابن عيينة أنكروا عليه ذكر الدقيق فتركه قال البيهقي أنكر على ابن عيينة الدقيق فتركه قال وقد روى
جوازه عن ابن سيرين عن ابن عباس منقطعا موقوفا على طريق التواهم قال وليس بثابت قال وروى
من أوجه ضعيفة لا تساوى ذكرها وحكي الرافعي عن أبي الفضل ابن عبدان من أصحابنا أنه قال
الصحيح عندي انه يجزئ الخبز والسويق لأنهما ارفق بالمساكين والصحيح ما سبق انه لا يجزئ
لان الحب أكمل نفعا لأنه يصلح لكل ما يراد منه بخلاف الدقيق والسويق والخبز والله أعلم * قال
الشافعي والأصحاب لا يجزئ اخراج القيمة وبه قال الجمهور وجوزها أبو حنيفة وسبقت دلائل
المسألة في آخر باب صدقة الغنم *
(فرع) قال أصحابنا في الواجب من هذه الأجناس المجزئة ثلاثة أوجه (أصحها) عند الجمهور
غالب قوت البلد ممن صححه المحاملي والقاضي أبو الطيب والجرجاني في التحرير والبغوي وآخرون
وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات ونقله المحاملي في المجموع وصاحب البيان عن جمهور الأصحاب
ونقل الرافعي عن الجمهور تصحيحه قال الماوردي وهو قول ابن سريج أبي إسحاق المروزي (والوجه
الثاني) انه يتعين قوت نفسه وهو ظاهر نص الشافعي في المختصر والام لأنه قال أدى مما يقتاته وبهذا
قال أبو عبيد بن حربويه من أصحابنا فيما حكاه المصنف والأصحاب عنه وحكاه الماوردي عنه وعن الإصطخري
132

وصححه الشيخ أبو حامد وأبو الفضل ابن عبدان والبندنيجي وطائفة قليلة والجمهور على تصحيح
الأول وتأولوا النص على ما إذا كان قوته قوت البلد كما هو الغائب في العادة (والثالث) يتخير بين جميع
الأقوات فيخرج ما شاء وإن كان غير قوته وغير قوت أهل بلده لظاهر حديث أبي سعيد الخدري
وهذا الثالث حكاه المصنف والجمهور وجها وحكاه أبو إسحاق المروزي والقاضي أبو الطيب في المجرد
والبندنيجي والماوردي وآخرون قولا للشافعي قال الماوردي نص عليه في بعض كتبه وصححه
القاضي أبو الطيب في المجرد اختيارا لنفسه بعد أن نقل أن المذهب غالب قوت البلد قال المصنف هنا
وسائر أصحابنا (فان قلنا) يعتبر قوت البلد أو قوت نفسه فعدل إلى ما دونه لم يجزئه بالاتفاق ووقع في
التنبيه والحاوي والمجرد للقاضي أبو الطيب وغيرها انه إذا عدل إلى ما دونه ففي اجزائه قولان للشافعي
وهذا النقل مؤول والذين أطلقوه لم يذكروا في أصل الوجوب الا وجهين (أحدهما) يجب من غالب
قوت بلده (والثاني) يجب من قوت نفسه ثم قالوا فان عدل عن الواجب إلى أدنى منه ففي اجزائه
قولان ومرادهم القول الثالث الذي يقول هو مخير في جميع الأقوات فكأنهم تركوا
ذكر هذا القول أولا ثم نبهوا عليه وأما الذين ذكروا في الواجب ثلاثة أوجه ثالثها التخيير فاتفقوا على
أنه إذا قلنا الواجب قوته أو قوت البلد فعدل إلى دونه لا يجزئه قولا واجدا فحصل من هذا كله أنه
لا خلاف بين الأصحاب وان في أصل المسألة ثلاثة أوجه بعضها منصوص للشافعي (أصحها) الواجب
غالب قوت بلده (والثاني) قوت نفسه (والثالث) يتخير بين جميع الأقوات (فان قلنا) بالتخيير لم يتصور
العدول إلى ما دون الواجب (وان قلنا) يتعين قوته أو قوت بلده فعدل إلى ما دونه لم يجزئه بلا خلاف
أما إذا عدل إلى أعلى من الواجب فيجزئه وهو أفضل لأنه زاد خيرا هذا هو الصواب الذي نص
عليه الشافعي وقطع به المصنف والأصحاب في جميع الطرق الا صاحب الحاوي فإنه ذكر في اجزاء الاعلى
وجهين (أحدهما) قال وهو نص الشافعي يجزئه كما لو وجب عليه سن من الماشية فاخرج أعلى منها (والثاني)
لا يجزئه لأنه لا غير الواجب كمن اخرج حنطة عن شعير استغله أو دنانير عن دراهم أو بقرة عن شاة ونظائره
(والجواب) عن هذا الدليل الأول ان الحنطة لا تجزئ عن الشعير ولا الدنانير عن الدراهم في حال من
أحوال الزكاة بخلاف الفطرة فان الشخص الواحد قد يكون في وقت قوته أو قوت بلده جنسا ثم يصير
غيره والله أعلم * وفيما يعتبر به الاعلى والأدنى وجهان مشهوران (أصحهما) الاعتبار بزيادة صلاحيته
للاقتيات (والثاني) زيادة القيمة فعلى هذا يختلف باختلاف الأقوات والبلاد قال الرافعي الا أن
يعتبر زيادة القيمة في الأكثر وعلى الأول قال أصحابنا البر خير من الشعير بلا خلاف قال الجمهور
133

والبر خير من التمر والزبيب ونقله القاضي أبو الطيب عن الأصحاب وقال صاحب الحاوي في البر
والتمر وجهان لأصحابنا (أحدهما) التمر أفضل وخير لان النبي صلى الله عليه وسلم (كان يخرج منه وعليه
عمل أهل المدينة) قال وبه قال ابن عمر ومالك واحمد (والثاني) قال واليه ميل الشافعي وبه قال على
ابن أبي طالب واسحق ابن راهويه البر أفضل قال ولو قيل إن أفضلهما يختلف باختلاف البلاد لكان
متجها هذا كلامه والمشهور ترجيح البر مطلقا والبر خير من الأرز بالاتفاق وفى التمر والشعير وجهان
(أحدهما) وهو قول الشيخ أبي محمد الجويني ترجيح التمر (وأصحهما) عند البغوي ترجيح الشعير وهذا
أصح لأنه أبلغ في الاقتيات وتردد أبو محمد في التمر والزبيب وفى الزبيب والشعير أيهما أرجح قال
امام الحرمين والأشبه تقديم التمر على الزبيب وهذا الذي قاله الامام هو الصواب المتعين والصواب
تقديم الشعير على الزبيب وإذا قلنا المعتبر قوت نفسه كأن يليق به البر وهو يقتات الشعير بخلا
لزمه البر بالاتفاق وإن كان يليق به الشعير وهو يقتات البر فوجهان حكاهما البغوي
وغيره هكذا وجهين وهو الصواب وحكاهما امام الحرمين قولين (أصحهما) يجزئه الشعير (والثاني)
تتعين الحنطة والله أعلم *
(فرع) إذا أوجبنا غالب قوت البلد فكانوا يقتاتون أجناسا لا فيها أخرج ما شاء منها
والأفضل أعلاها هكذا نقله المصنف والأصحاب وجزموا به وهو ظاهر والله أعلم *
(فرع) إذا قلنا المعتبر غالب قوت البلد قال الغزالي في الوسيط المعتبر غالب قوت البلد وقت
وجوب الفطرة لا في جميع السنة وقال في الوجيز غالب قوت البلد يوم العيد قال الرافعي هذا الذي
قاله لم أره لغيره قلت هذا النقل غريب كما قال الرافعي والصواب ان المراد قوت السنة كما سنوضحه
في الفرع الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى *
(فرع) إذا اعتبرنا قوت البلد وقوت نفسه فكان القوت مختلفا باختلاف الأقوات ففي بعضها
يقتاتون أو يقتات جنسا وفى بعضها جنسا آخر قال السرخسي في الأمالي ان اخرج من الأعلى أجزأه
وكان أفضل وان اقتصد واخرج من الأدنى فقولان (أحدهما) لا يجزئه احتياطا للعبادة (وأصحهما)
يجزئه لدفع الضرر عنه ولأنه يسمي مخرجا من قوت البلد أو من قوته *
(فرع) إذا كان في موضع ليس فيه قوت يجزئ بأن كانوا يقتاتون لحما أو تينا وغيرهما مما لا يجزئ
قال المصنف والأصحاب اخرج من قوت أقرب البلاد إليه وإن كان بقربه بلدان متساويان في القرب
اخرج من قوت أيهما شاء وهذا متفق عليه *
(فرع) إذا اعتبرنا غالب قوت البلد وكان له عبد في بلد آخر قال البغوي وغيره (ان قلنا) ان
134

الفطرة تجب على العبد ثم يتحملها السيد فالاعتبار بقوت بلد العبد (وان قلنا) تجب على السيد
ابتداء فبقوت بلد السيد *
(فرع) قال الشافعي والمصنف وسائر الأصحاب لا يجزئ في الفطرة الواحدة صاع من
جنسين سواء كان الجنسان متماثلين أو أحدهما من واجبه والآخر أعلى منه كما لا يجزئ في كفارة
اليمين ان يكسو خمسة ويطعم خمسة لأنه مأمور بصاع من بر أو شعير وغيرهما ولم يخرج صاعا
من واحد منهما كما أنه مأمور باطعام عشرة مساكين أو كسوتهم ولم يكس في الصورة المذكورة عشرة ولم
يطعمهم هذا هو المذهب وبه قطع الأصحاب في كل الطرق الا إمام الحرمين فحكى وجها شاذا
أنه يجزئ إذا كان نصف صاع من واجبه ونصف أعلا وإلا السرخسي فقال إن كان عنده صاع من أحد
الجنسين لم يجز تبعيضه قطعا وإن لم يكن عنده إلا نصف صاع من هذا ونصف من هذا فوجهان
(أحدهما) يجزئه اخراج النصفين (والثاني) لا يجزئه وقال الرافعي لا يجوز صاع من جنسين وإن كان
أحدهما أعلا من الواجب قال ورأيت لبعض المتأخرين جوازه والمذهب ما سبق قال أصحابنا ولو كان
له عبدان أو قريبان أو زوجتان أو زوجة وقريب أو وعبد فاخرج عن أحدهما صاعا من واجبه وعن
الآخر صاعا أعلى منه أجزأه بالاتفاق كما لو كان عليه كفارتان فأطعم عشرة وكسا عشرة يجزئه
عنهما جميعا بلا خلاف وكذا لو ملك نصف عبد ونصف آخر فاخرج عن أحدهما نصفا من واجبه
وعن الآخر نصفا من أعلا منه أجزأه بلا خلاف صرح به البغوي وآخرون * قال أصحابنا ولو ملك
رجلان عبدا (فان قلنا) بالقول الغريب أنه مخير بين الأجناس أخرجا ما شاء بشرط اتحاد وان أوجبنا
غالب قوت البلد وكانا هما والعبد في بلد واحدا أخرجا عنه من غالب قوت البلد وإن كان العبد
في بلد آخر قال البغوي وآخرون يبنى على أن الفطرة تجب على المالك ابتداء
أم يتحملها عن العبد فان قلنا بالتحمل اعتبر بلد العبد وإلا فبلد السييدين وإن كان السيدان
في بلدين مختلفي القوت أو اعتبرنا قوت الشخص بنفسه أو اختلف قوتهما ففيه أوجه (أصحها) وبه
قال أبو إسحاق المروزي وأبو علي أبي هريرة حكاه عنهما الماوردي وآخرون وصححه القاضي
أبو الطيب وحكاه امام الحرمين عن ابن الحداد يخرج كل واحد نصف صاع من قوت بلده أو نفسه
ولا يضر التبعيض لأنهما إذا أخرجا هكذا كل شخص واجبه من جنس كثلاثة كانوا محرمين فقتلوا
ظبية فذبح أحدهم ثلث شاة وأطعم آخر بقيمة ثلث شاة وصام الثالث عدل ذلك أجزأه
بلا خلاف (والثاني) قاله ابن سريج يخرجان من اذني القوتين ولا يجوز التبعيض (والثالث)
يجب من أعلاهما حكاه امام الحرمين وآخرون (والرابع) من قوت بلد العبد ولو كان الأب في
135

نفقة ولدين فالقول في اخراجهما الفطرة عنه كالقول في السيدين وكذا من نصفه حر ونصفه مملوك
إذا أوجبنا نصف الفطرة على ما سبق والأصح) يخرجان من جنسين (والثاني) من جنس *
(فرع) في مسائل تتعلق بالباب (إحداها) قال أصحابنا لو اخرج انسان الفطرة عن أجنبي بغير
إذنه لا يجزئه بلا خلاف لأنها عبادة فلا تسقط عن المكلف بها بغير اذنه وإن أذن فأخرج عنه
أجزأه كما لو قال لغيره أقض ديني وكما لو وكله في دفع زكاة ماله وفى ذبح أضحيته ولو كان للانسان
ولد صغير موسر فحيث لا يلزمه فطرته فاخرج الأب فطرة الولد من مال نفسه جاز بلا خلاف صرح
به القاضي أبو الطيب والماوردي والبندنيجي والبغوي والأصحاب لأنه يستقل بتمليك ابنه الصغير
ولو كان كبيرا رشيدا لم يجز إلا باذنه لأنه لا يستقل بتمليكه والجد كالأب والمجنون كالصبي قال
الماوردي والبغوي لو أخرج الولي فطرة الصبي والمجنون من مال نفسه تبرعا فإن كان أبا أو جدا
جاز وكأنه ملكه ذلك ثم تولي الأداء عنه مما ملكه وإن كان وصيا أو قيما لم يجز إلا باذن القاضي
فإذا أذن جاز ويصير كأنه بالاذن كأن الصبي تملك منه ثم أذن له في الاخراج وكل هذا متفق عليه
عند أصحابنا ونقله الماوردي عن الأصحاب قال وقال ذقر ومحمد بن الحسن تجب فطرة الأطفال
على أبيهم ونفقتهم في أموالهم والله أعلم (الثانية) قال أصحابنا يلزم الولي اخراج فطرة الصبي والمجنون
والمحجور عليه بسفه من مالهم وكذا فطرة عبيدهم وجواريهم وأقاربهم الذين يلزمهم نفقتهم كما يلزمه
اخراج زكاة أموالهم وقضاء ديون وجبت عليهم باتلاف أو غيره (الثالثة) لو تبرع انسان بالنفقة على
أجنبي لا يلزمه فطرته بلا خلاف عندنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وداود * وقال أحمد تلزمه (الرابعة)
لو كان نصف الشخص مكاتبا حيث يتصور ذلك في العبد المشترك إذا جوزنا كتابة بعضه باذن
شريكه وجب نصف صاع على مالك نصفه القن ولا شئ في النصف المكاتب على المذهب وفيه
الوجه السابق في المكاتب ومثله عبد مشترك بين معسر وموسر يجب على الموسر نصف صاع
ولا شئ على المعسر إذا كان يحتاج إليه للخدمة هذا هو المذهب وفيه وجه سبق (الخامسة) قال
الجرجاني في المهايأة ليس عبد مسلم لا يجب اخراج الفطرة عنه إلا ثلاثة أحدهم المكاتب يعنى على
المذهب وقد سبق فيه وجه انه يجب فطرته على سيده ووجه انها على نفسه (والثاني) إذا ملك السيد
عبده عبدا وقلنا يملك لا فطرة على السيد الثاني لعدم ملكه ولا على الأول لضعف ملكه (الثالث)
عبد مسلم لكافر إذا قلنا بالضعيف انها تجب على المؤدى ابتداء والأصح وجوبها كما سبق ويجئ
رابع على قول الإصطخري وغيره فيما إذا مات قبيل هلال شوال وعليه دين وله عبد كما سنوضحه
إن شاء الله تعالى قريبا ويجئ خامس وهو إذا لم يكن له وقت وجوب الفطرة الا عبد يحتاج إليه
136

للخدمة فان الأصح لا يلزمه فطرة عن نفسه ولا عن العبد وقد سبقت المسألة واضحة في أول الباب
فهذه خمس صور مختلف فيها كلها ويختلف الراجح فيها كما ذكرناه والله أعلم (السادسة) قال أصحابنا
لو باع عبدا بشرط الخيار فصادف زمن الوجوب زمن الخيار (فان قلنا) الملك في مدة الخيار للبائع فعليه فطرته
سواء تم البيع أو فسخ (وان قلنا) موقوف فان تم البيع فالفطرة على المشترى والا فعلى البائع ولو صادف زمن
الوجوب خيار المجلس فهو كخيار الشرط ولو تم البيع فسخ بعد وقت الوجوب بإقالة أو عيب أو تخالف
فالفطرة على المشترى ذكره البغوي وغيره (السابعة) لو مات وترك عبدا ثم أهل هلال شوال فإن لم يكن
عليه دين فالعبد للورثة وعليهم فطرته كل واحد بقسطه وإن كان عليه دين يستغرق التركة بنى على أن
الدين هل يمنع انتقال الملك في التركة إلى الورثة أم لا والصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور
لا يمنع وقال الإصطخري يمنع فعلى المنصوص عليهم فطرته سواء بيع في الدين أم لا وأشار امام
الحرمين إلى أنه يجئ فيه الخلاف السابق في وجوب الزكاة في المال المرهون والمغضوب لتزلزل
الملك والمذهب الأول (وان قلنا) بقول الإصطخري فان بيع في الدين فلا شئ عليهم والا فعليهم الفطرة
وحكى ابن الصباغ وغيره وجها انه لا فطرة عليهم مطلقا وقال القاضي أبو الطيب تجب فطرته في
تركة السيد كالموصي بخدمته والمذهب الأول هذا إذا مات السيد قبل هلال شوال فلو مات بعده
ففطرة العبد على سيده كفطرة نفسه ويقدمان على الميراث والوصايا كسائر الديون وفى تقديمهما
على دين الآدمي طرق (أصحها) وأشهرها على الأقوال الثلاثة في اجتماع دين الله تعالى ودين الآدمي
(أصحها) يقدمان دين الله تعالى (والثاني) دين الآدمي (والثالث) يقسم بينهما وسيأتي شرحها في قسم
الصدقات حيث ذكرها المصنف إن شاء الله تعالى (والطريق الثاني) القطع بتقديم فطرة العبد لتعلقها
بالعبد كأرش جناية قال الشيخ أبو حامد هذا الطريق غلط لان فطرة العبد لا تتعلق بعينه بل بالذمة
وحكى الماوردي هذا الطريق عن أبي الطيب بن سلمة قال وخالفه سائر الأصحاب فقالوا بالطريق
الأول وفى فطرة السيد الأقوال (والطريق الثالث) القطع بتقديم فطرة العبد وفطرة السيد أيضا لأنها
قليلة والمذهب في الجملة تقديم قطرة نفسه وفطرة نفسه وفطرة العبد على جميع الديون وهو نصه في المختصر فإنه قال
ولو مات بعدما أهل هلال شوال وله رقيق فالفطرة عنه وعنهم في ماله مقدمة على الديون قال الرافعي وفى
هذا النص رد على ما قاله امام الحرمين في أول الباب في أن الدين يمنع وجوب الفطرة لان سياقه يفهم
منه ما إذا طرأت الفطرة على الدين الواجب وإذا كان كذلك لم يكن الدين مانعا وبتقدير أن لا يكون
137

كذلك فاللفظ مطلق يشتمل على ما إذا طرأت الفطرة على الدين وعكسه ومقتضاه أن لا يكون الدين مانعا
من وجوبها هذا كلام الرافعي وهو كما قال (الثامنة) انه إذا أوصى لرجل بعبد ومات الموصى بعد دخول
وقت وجوب الفطرة فالفطرة في تركة الميت فلو مات قبل الوقت وقبل الموصى له الوصية قبل الوقت
فالفطرة عليه وإن لم يقبل حتى دخل الوقت فان قلنا الموصى له يملك الوصية بمجرد موت الموصى لزمه
الفطرة فلو لم يقبل بل رد الوصية فوجهان مشهوران (أصحهما) الوجوب لأنه كان مالكا حال الوجوب
(والثاني) لا لعدم استقرار الملك (وإن قلنا) لا يملك إلا بالقبول نبي على أن الملك قبل القبول لمن وفيه
وجهان مشهوران في كتاب الوصية (أصحهما) للورثة فعلى هذا في الفطرة وجهان (أصحهما) على الورثة
لأنه ملكهم ونقل صاحب البيان عن أصحابنا العراقيين أنها تجب في تركة الميت (والثاني) لا فطرة
لضعفه (والوجه الثاني) من الأولين انه باق على ملك الميت فعلى هذا لا تجب فطرته على أحد على المذهب
وحكى البغوي مع هذا وجها ضعيفا أنها تجب في تركته (وإن قلنا) الملك في الوصية موقوف فان قبل
فعليه الفطرة وإلا فعلى الورثة هذا كله إذا قبل الموصي له أورد فلو مات قبل القبول وبعد دخول وقت
الوجوب فقبول وارثه كقبوله والملك يقع للموصي له الميت فحيث أوجبنا عليه الفطرة إذا قبل بنفسه
فهي في تركته إذا قبل وارثه فإن لم يكن له تركة سوى العبد ففي بيع جزء منه للفطرة الخلاف السابق
الأصح لا يباع ولو مات قبل وقت الوجوب أو معه فالفطرة على الورثة إذا قبلوا لان وقت الوجوب
كان ملكهم والله أعلم *
(فرع) لو وهب له عبد فقبل فأهل هلال شوال قبل القبض فالمذهب انه لا يملكه قبل القبض وفطرته على
الواهب وفيه قول ضعيف أن الملك موقوف ويتبين بالقبض أنه ملكه بالعقد فعلى هذا فطرته على الموهوب
له هكذا ذكر المسألة الماوردي والبغوي وغيرهما *
(فرع) قال الماوردي لو اشترى أباه ولم يقبضه ولا دفع ثمنه حتى أهل شوال وكان ذلك بعد
انقضاء الخيار قال ابن خيران يلزمه فطرته ولا يعتق عليه لان للبائع فيه علقة وهي حق الحبس لقبض
الثمن فصار كعلقة الخيار قال الماوردي وهذا خلاف نص الشافعي في كتاب الصداق وغيره بل المذهب
أنه إن كان البيع لازما عتق ولزمه الفطرة سواء دفع ثمنه أم لا وإن كان فيه خيار فعلى الأقوال في أن
الملك في زمن الخيار للبائع أم للمشترى والفطرة على من له الملك (التاسعة) قال الشافعي في المختصر
وتقسم زكاة الفطر على من تقسم عليه زكاة المال وأحب دفعها إلى ذوي رحمه الذين لا تلزمه نفقتهم
138

* بحال قال فان طرحها عند من تجمع عنده أجزأه إن شاء الله تعالى * سأل رجل سالما فقال ألم يكن ابن عمر
يدفعها إلى السلطان فقال بلي ولكن أرى ان لا يدفعها إليه هذا نص الشافعي واتفق أصحابنا على أن
الأفضل أن يفرق الفطرة بنفسه كما أشار إليه الشافعي بهذا النص وانه لو دفعها إلى الامام أو الساعي أو من
تجمع عنده الفطرة للناس وأذن له في اخراجها أجزأه ولكن تفريقه بنفسه أفضل من هذا كله وممن
صرح بهذا الماوردي والمحاملي في التجريد والبغوي والسرخسي وسائر الأصحاب قال الماوردي قال
الشافعي تفريقها بنفسه أحب إلى من أن يطرحها عند من تجمع عنده قال فاحتمل ذلك أن يريد به
إذا لم يكن الوالي نزها ويحتمل أنه أحب ذلك بكل حال قال وهذا أولى والله أعلم *
(فرع) وأما مصرف الفطرة فقد ذكره المصنف في باب قسم الصدقات وهناك نشرحه إن شاء الله
تعالى
(العاشرة) لا تجب فطرة الجنين لا على أبيه ولا في ماله بلا خلاف عندنا ولو خرج بعضه
قبل غروب الشمس وبعضه بعد غروبها ليلة الفطر لم تجب فطرته لأنه في حكم الجنين ما لم يكمل خروجه
منفصلا وأشار ابن المنذر إلى نقل الاجماع على ما ذكرته فقال كل من يحفظ عنه العلم من علماء الأمصار
لا يوجب فطرة عن الجنين قال وكان احمد يستحبه ولا يوجبه قال ولا يصح عن عثمان خلافه (الحادية عشرة)
قال الشافعي في المختصر في هذا الباب ولا بأس ان يأخذها بعد أدائها إذا كان محتاجا وغيرها من
الصدقات المفروضات وتطوع هذا نصه واتفق الأصحاب عليه قال صاحب الحاوي إذ أخرجها فله
اخذها ممن اخذها عن فطرة المدفوع إليه إذا كان الدافع ممن يجوز دفع الزكاة إليه * وقال مالك لا يجوز
اخذها بعينها بل له اخذ غيرها * ودليلنا انها صارت للمدفوع إليه بالقبض فجاز اخذها كسائر أمواله
ولأنه دفعها لمعني وهو اليسار بالفطرة واخذها بمعنى الحاجة وهما سببان مختلفان فلم يمتنعا كما لو عادت
إليه بأرث فإنه يجوز بالاجماع وقال المحاملي في كتابيه المجموع والتجريد إذا دفع فطرته إلى فقير والفقير
ممن تلزمه الفطرة فدفعها الفقير إليه عن فطرته جاز للدافع الأول اخذها قال وكذا لو دفعها أو غيرها
من الزكوات إلى الامام ثم لما أراد الامام قسم الصدقات وكان الدافع محتاجا جاز دفعها بعينها إليه لأنها
رجعت إليه بغير المعنى الذي خرجت به فجاز كما لو عادت إليه بأرث أو شراء أو هبة قال في التجريد وللامام
أن يدفعها إليه كما يجوزان يدفعها إلى غيره من الفقراء لأنه مساو لغيره في جواز اخذ الصدقة وقال امام
الحرمين في تعليل المسألة لا يمتنع ان يأخذها بعد دفعها لان وجوب الفطرة لا ينافي اخذ الصدقة لان وجوبها
لا يقتضى غنى ينافي المسكنة والفقر فان زكاة المال قد تجب على من تحل له الصدقة لان الزكاة يحل اخذها
139

بجهات غير الفقر والمسكنة كالغارم لذات البين وابن السبيل الموسر في بلده والغازي فإنهم تلزمهم
زكاة أموالهم ويأخذون الزكاة فلا يمتنع وجوب الزكاة على إنسان وجواز أخذ الزكاة (وأما) السرخسي
فقال إذا لزمته الفطرة فان فضل عنه صاع وكان فقيرا ليس له كفايته على الدوام فله أخذ فطرة غيره
وغيرها من الزكوات ثم أن أخرج فطرته أولا فله أخذ فطرة غيره المصروف إليه وفطرة المصروف
إليه من غير الفطرة التي صرفها وهل له أخذ الفطرة التي صرفها هو فيه وجهان (الصحيح) جوازها
قال وكذا لو اخذ أولا فطرة غيره ثم أراد اخراج فطرة نفسه من غيرها أو منها إلى غير دافعها جاز فان
أراد صرفها إلى دافعها إليه ففيه الوجهان (الصحيح) الجواز وهذا الوجه الذي حكاه في المنع شاذ
باطل مردود مخالف لنص الشافعي والأصحاب وللدليل فحصل من هذا كله انه قد يجب على الانسان
الفطرة أو زكاة المال ويجوز له أخذ الفطرة والزكاة من غيره سواء كان الاخذ من نفس المدفوع أو غيره
ومن الامام أو غيره وفيه الوجه الشاذ عن السرخسي والله أعلم (الثانية عشرة) قال الماوردي وغيره
ليس للزوجة مطالبة الزوج باخراج الفطرة عنها لأنها واجبة عليه دونها ووجوبها اما ان يجرى
مجرى الضمان أو الحوالة وكلاهما لا مطالبة به به فان المضمون عنه لا يطالب الضامن بالأداء ولا المحيل
المحال عليه وحكم القريب والمملوك حكم الزوجة (الثالث عشرة) روينا عن وكيع ابن الجراح رحمه
الله قال زكاة الفطر لشهر رمضان كسجدتي السهو للصلاة تجبر نقصان الصوم كما يجبر السجود
نقصان الصلاة *
(فصل) في مسائل من مذاهب العلماء في الفطرة * قد سبق جمل منها مفرقة في مواضعها واذكر هنا
جملا من مهماتها وإن كان بعضها مندرجا فيما مضى (مسألة) مذهبنا ومذهب الجمهور من السلف
والخلف وجوبها على كل كبير وصغير وحكي أصحابنا عن ابن المسيب والحسن البصري انها لا تجب
الا على من صلى وصام وعن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه لا تجب الا على من طاق الصوم
والصلاة قال الماوردي وبمذهبنا قال سائر الصحابة والتابعين وجميع الفقهاء لحديث ابن عمر
السابق (مسألة) المشرك لا فطرة عليه عن نفسه بالاجماع فإن كان له قريب أو عبد مسلم ففيه وجهان
لأصحابنا سبق بيانهما (أصحهما) الوجوب ونقل ابن المنذر اتفاق العلماء على أنها لا تجب (مسألة) تجب
فطرة العبد على سيده وبه قال جميع العلماء الا داود فأوجبها على العبد قال ويلزم السيد تمكينه من
الكسب لأدائها لحديث ابن عمر (على كل حر وعبد) قال الجمهور على بمعنى عن (مسألة) لا يلزمه فطرة
140

زوجته وعبده الكافرين عندنا وبه قال علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وابن المسيب والحسن
ومالك واحمد وأبو ثور وابن المنذر * وقال أبو حنيفة تجب عليه فطرة عبده الذمي وحكاه ابن المنذر
عن عطاء ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير والنخعي والثوري واسحق وأصحاب الرأي
دليلنا حديث ابن عمر وقوله صلى الله عليه وسلم (من المسلمين) (مسألة) العبد الآبق تجب فطرته
عندنا على المذهب كما سبق وبه قال أبو ثور وابن المنذر وقال عطاء والثوري وأبو حنيفة لا تجب
وقال الزهري واحمد واسحق تجب إن كان في دار الاسلام * وقال مالك تجب أن لم تطل غيبته
ويؤنس منه (مسألة) لو كان بينهما عبد أو عبيد كثيرون مشتركون مناصفة وجب عن كل عبد صاع
يلزم كل واحد من الشريكين نصفه هذا مذهبنا وبه قال مالك وعبد الملك الماجشون واسحق وأبو ثور
ومحمد بن الحسن وابن المنذر وقال الحسن البصري وعكرمة والثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف لا شئ
على واحد منهما وعن أحمد روايتان (إحداهما) كمذهبنا (والثانية) على كل واحد صاع عن نصيبه
من كل عبد فإذا كان بينهما مائة عبد لزم كل واحد منهما مائة صاع وحكاه أيضا الماوردي عن أبي
ثور (وأما) من نصفه حر ونصفه عبد (فمذهبنا) وجوب صاع عليه نصفه وعلى مالك نصفه نصفه إذا لم يكن
مهايأة وقال أبو حنيفة عليه نصف صاع ولا شئ على سيده وقال مالك على سيده نصف صاع ولا شئ
على العبد * وقال أبو يوسف ومحمد عليه صاع ولا شئ على سيده * وقال عبد الملك الماجشون على سيده
صاع ولا شئ على العبد (مسألة) إذا لم يكن للطفل مال ففطرته على أبيه لزم أباه فطرته بالاجماع نقله
ابن المنذر وغيره وإن كان للطفل مال ففطرته فيه وبه قال أبو حنيفة واحمد واسحق وأبو ثور وقال محمد
تجب في مال الأب (وأما) اليتيم الذي له مال فتجب فطرته في ماله عندنا وبه قال الجمهور منهم مالك
والأوزاعي وأبو حنيفة وأبو يوسف وابن المنذر وقال محمد بن الحسن لا تجب (وأما) الجد فعليه فطرة
ولد ولده الذي تلزمه نفقته وبه قال أبو ثور وقال أبو حنيفة لا تلزمه (مسألة) سبق الخلاف في فطرة
زوجته وعبيد التجارة والقراض (وأما) المكاتب فمذهبنا المشهور أنه لا فطرة فيه لا عليه ولا على سيده
كما سبق وممن قال لا فطرة على سيده عنه ابن عمر وأبو سلمة بن عبد الرحمن والثوري وأبو حنيفة وقال
عطاء ومالك وأبو ثور وابن المنذر تلزم سيده (مسألة) تجب الفطرة بغروب الشمس ليلة عيد الفطر
141

على الصحيح عندنا وبه قال الثوري واحمد واسحق * وقال أبو حنيفة بطلوع فجر يوم الفطر وبه قال
صاحباه وأبو ثور وداود * وعن مالك روايتان كالمذهبين * وقال بعض المالكية بطلوع الشمس يوم
الفطر (مسألة) يجوز عندنا تقديم الفطرة في جميع رمضان لا قبله هذا هو المذهب وفيه خلاف سبق
وجوزها أبو حنيفة قبله * وقال احمد تجوز قبل يوم العيد بيوم أو يومين فقط كذا نقل الماوردي
عنهما وقال العبدري اجمعوا على أن الأفضل أن يخرجها يوم الفطر قبل صلاة العيد قال وجوز مالك
واحمد والكرخي الحنفي تقديمها قبل الفطر بيوم ويومين وعن الحسن عن أبي حنيفة تقديم سنة
أو سنتين وقال داود لا يجوز تقديمها قبل فجر يوم العيد ولا تأخيرها إلى أن يصلي الامام العيد ومذهبنا
أنه لو اخرها عن صلاة الامام وفعلها في يومه لم يأثم وكانت أداء وان اخرها عن يوم الفطر اثم ولزمه
اخراجها وتكون قضاء وحكاه العبدري عن مالك وأبي حنيفة والليث واحمد قال وقال الحسن
ابن زياد وداود ان لم يؤدها قبل صلاة العيد سقطت فلا يؤديها بعدها كالأضحية إذا مضى وقتها
وحكي ابن المنذر وأصحابنا عن ابن سيرين والنخعي أنه يجوز تأخيرها عن يوم الفطر (مسألة) تجب
الفطرة على أهل البادية كغيرهم وبه قال العلماء كافة إلا ما حكاه ابن المنذر وأصحابنا عن عطاء وربيعة
والزهري أنهم قالوا لا تجب عليهم قال الماوردي شذوا بهذا عن الاجماع وخالفوا النصوص الصحيحة
العامة في كل صغير وكبير ذكر وأنثى حر وعبد من المسلمين قال وينقض مذهبهم بزكاة المال فقد
وافقوا مع الاجماع على وجوبها على أهل البادية (مسألة) لا يجوز دفع الفطرة إلى كافر عندنا * وجوزه
أبو حنيفة قال ابن المنذر أجمعت الأمة أنه لا يجزئ دفع زكاة المال إلى ذمي واختلفوا في زكاة الفطر
فجوزها لهم أبو حنيفة وعن عمر وبن ميمون وعمر وبن شرحبيل ومرة الهمذاني أنهم كانوا يعطون منها
الرهبان وقال مالك والليث واحمد وأبو ثور لا يعطون (مسألة) الواجب في الفطرة عن كل شخص
صاع من أي جنس أخرج سواء البر والتمر والزبيب والشعير وغيرها من الأجناس المجزئة ولا يجزئ
دون صاع من شئ منها وبهذا قال مالك واحمد وأكثر العلماء كذا نقله عن الأكثرين الماوردي
وممن قال به أبو سعيد الخدري والحسن البصري وأبو العالية وأبو الشعثاء واسحق وغيرهم قال ابن
المنذر وقالت طائفة يجزئ من البر نصف صاع ولا يجزئ من الزبيب والتمر وسائر الأشياء إلا صاع
142

قاله الثوري وأكثر أهل الكوفة إلا أبا ضيفة فقال يجزئ نصف صاع زبيب كنصف صاع برقال
وروينا اجزاء نصف صاع بر عن أبي بكر الصديق وعثمان رضي الله عنهما قال ولم يثبت عنهما قال ورويناه
عن علي وابن مسعود وجابر بن عبد الله وابن الزبير وأبي هريرة ومعاوية وأسماء وبه قال ابن المسيب
وطاوس وعطاء ومجاهد وعمر بن عبد العزيز وروى عن سعيد بن جبير وعروة بن الزبير ومصعب
ابن سعد وأبى قلابة واختلف فيه عن علي وابن عباس والشعبي * وعمدتهم الحديث في الصحيحين
أن معاوية خطب فقال في خطبته بالمدينة (أرى نصف صاع من حنطة يعدل صاعا من تمر) ودليلنا حديث
ابن عمر وأبي سعيد وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (فرض صدقة الفطر صاعا) الحديث وحديث
معاوية اجتهاد له لا يعادل النصوص ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نصف صاع من بر والمروى
في ذلك ضعيف ولم يصح فيه الا اجتهاد معاوية (مسألة) الصاع المجزئ في الفطرة عندنا خمسة أرطال
وثلث بالبغدادي وبه قال جمهور العلماء من المتقدمين والمتأخرين قال الماوردي وبه قال مالك وأبو يوسف
واحمد وفقهاء الحرمين وأكثر فقهاء العراقيين * وقال أبو حنيفة ومحمد ثمانية أرطال وكان أبو يوسف
يقول به ثم رجع إلى خمسة أرطال وثلث حين ثبت عنده أنه قدر صاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبسط البيهقي
في السنن الكبير الدلائل في كون الصاع المجزئ في الفطرة خمسة أرطال وثلث بسطا حسنا قال وأما ما رواه
صالح بن موسى الصلحي عن منصور عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة (جرت السنة من رسول الله
صلى الله عليه وسلم في الغسل من الجنابة صاع والوضوء برطلين والصاع ثمانية أرطال) فان صالحا
143

تفرد به وهو ضعيف قاله يحيى بن معين وغيره من المحدثين قال وكذا ما روي عن جرير بن يزيد
عن أنس وما روى عن ابن أبي ليلى عن عبد الكريم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان
يتوضأ برطلين ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال) اسنادهما ضعيف وإنما الحديث في الصحيح عن أنس قال
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد) قال البيهقي فلا معنى
لترك الأحاديث الصحيحة في قدر الصاع المعد لزكاة الفطر بمثل هذا والله أعلم (مسألة) لا تجزئ
القيمة في الفطرة عندنا وبه قال مالك واحمد وابن المنذر * وقال أبو حنيفة يجوز وحكاه ابن المنذر عن
الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز والثوري قال وقال اسحق وأبو ثور لا تجزئ إلا عند الضرورة
(مسألة) المشهور في مذهبنا أنه يجب صرف الفطرة إلى الأصناف الذين تصرف إليهم زكاة المال
وجوزها مالك وأبو حنيفة واحمد وابن المنذر إلى واحد فقط قالوا ويجوز صرف فطرة جماعة إلى
مسكين واحد (مسألة) ذكرنا أن الأصح عندنا وجوب الفطرة من غالب قوت البلد وبه قال مالك * وقال
أبو حنيفة هو مخير وعن أحمد رواية أنه لا يجزئ إلا الأجناس الخمسة المنصوص عليها التمر والزبيب والبر
والشعير والأقط والله أعلم *
(باب تعجيل الصدقة)
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(كل مال وجبت فيه الزكاة بالحول والنصاب لم يجز تقديم زكاته قبل أن يملك النصاب لأنه
لم يوجد سبب وجوبها فلم يجز تقديمها كأداء الثمن قبل البيع والدية قبل القتل وان ملك النصاب جاز
تقديم زكاته قبل الحول لما روى علي رضي الله عنه ان العباس رضي الله عنه (سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليجعل زكاة ماله قبل محلها فرخص له في ذلك ولأنه حق مال اجل للرفق فجاز تعجيله
144

قبل محله كالدين المؤجل ودية الخطأ وفى تعجيل زكاة عامين وجهان (قال) أبو إسحاق يجوز لما روى علي رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم (تسلف من العباس صدقة عامين) ولان ما جاز فيه تعجيل
حق العام منه جاز تعجيل حق العامين كدية الخطأ (ومن) أصحابنا من قال لا يجوز لأنها زكاة لم ينعقد حولها
فلم يجز تقديمها كالزكاة قبل أن يملك النصاب) *
(الشرح) حديث علي رضي الله عنه رواه أبو داود والترمذي وغيرهما باسناد حسن ولفظه
عن علي (أن العباس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل فرخص له
في ذلك) قال أبو داود ورواه هشيم عن منصور بن زاذان عن الحكم عن الحسن بن مسلم التابعي عن النبي
صلى الله عليه يعني مرسلا قال وهو أصح وفى رواية للترمذي عن علي ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
لعمر (انا قد أخذنا زكاة العباس عام أول للعام) قال الترمذي والأول أصح من هذا قال وقد روى الأول
مرسلا يعنى رواية الحسن بن مسلم وكذا قال الدارقطني اختلفوا في وصله وارساله قال والصحيح
الارسال وقال الشافعي ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أدري أيثبت أم لا (انه تسلف صدقة
العباس قبل أن تحل) قال البيهقي يعنى به حديث على هذا وذكر البيهقي اختلاف طرقه ثم قال
وأصحها رواية الارسال عن الحسن بن مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم روى البيهقي تسلف
صدقة عامين باسناده عن أبي البختري عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (انا كنا احتجنا
فاستلفنا العباس صدقة عامين) قال البيهقي وهذا مرسل بين أبي البختري وعلي رضي الله عنه
واحتج البيهقي والأصحاب للتعجيل بحديث أبي هريرة قال (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
عمر رضي الله عنه على الصدقة فقيل منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما ينقم ابن جميل الا أنه كان فقيرا فأغناه الله وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا قد احتبس أدراعه
واعتاده في سبيل الله وأما العباس فهي على ومثلها معها ثم قال يا عمر أما شعرت ان عم الرجل
صنو أبيه) رواه البخاري ومسلم والصنو - بكسر الصاد المهملة - المثل وهذا الفظ رواية مسلم واحتج الشافعي
والأصحاب أيضا بحديث نافع (أن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر الذين يقبلونها وكانوا يعطون
145

قبل الفطر بيوم أو يومين) رواه البخاري قال الترمذي وذهب أكثر أهل العلم إلى جواز
تعجيل الزكاة إذا عرفت هذا حصل الاستدلال على جواز التعجيل من مجموع ما ذكرنا وقد قدمنا
في أول هذا الشرح أن الشافعي يحتج بالحديث المرسل إذا اعتضد بأحد أربعة أمور وهي ان يسند
من جهة أخرى أو يرسل أو يقول بعض الصحابة أو أكثر العلماء به فمتى وجد واحد من هذه الأربعة
جاز الاحتجاج به وقد وجد في هذا الحديث المذكور عن علي رضي الله عنه الأمور الأربعة فإنه
روى في الصحيحين معناه من حديث أبي هريرة السابق وروى هو أيضا مرسلا ومتصلا كما سبق
وقال به من الصحابة ابن عمر وقال به أكثر العلماء كما نقله الترمذي فحصلت الدلائل المتظاهرة على
صحة الاحتجاج به والله أعلم * أما أحكام الفصل فقال الشافعي والأصحاب رحمهم الله المال الزكوي
ضربان (أحدهما) متعلق بالحول والآخر غير متعلق وذكر المصنف النوع الأول في أول الباب
والثاني في آخره (اما) الأول كزكاة الماشية والنقد والتجارة فلا يجوز تعجيل الزكاة فيه قبل ملك
النصاب بلا خلاف لما ذكره المصنف ويجوز بعد ملك النصاب وانعقاد الحول وله التعجيل من أول
الحول ولو بعد لحظة من انعقاده وقال ابن المنذر لا يجوز التعجيل مطلقا وحكاه الماوردي والقاضي
أبو الطيب والمحاملي في المجموع والبندنيجي وآخرون من أصحابنا وجها عن أبي عبيد بن حربويه
من أصحابنا وهذا شاذ باطل مردود مخالف لنص الشافعي والأصحاب في جميع الطرق والدليل
قال أصحابنا وإنما يجوز التعجيل بعد تمام النصاب إن كانت الزكاة عينية فاما إذا اشترى عرضا
للتجارة يساوى مائة درهم بمائة فعجل زكاة مائتين وحال الحول وهو يساوى مائتين فيجزئه
المعجل عن الزكاة على الصحيح لأن الاعتبار في العروض بآخر الحول هكذا ذكره البغوي ولو ملك
أربعين شاة معلوفة فعجل شاة وهو عازم على إسامتها حولا ثم أسامها لم يقع المعجل زكاة بلا خلاف
لان المعلوفة ليست مال زكاة فهو كما دون النصاب وإنما يصح التعجيل بعد انعقاد الحول ولا حول للمعلوفة
بخلاف عرض التجارة في المسألة قبلها ولو عجل صدقة عامين بعد انعقاد الحول أو أكثر من عامين
فوجهان ذكرهما المصنف بدليلهما وهما مشهوران (أحدهما) يجوز للحديث (والثاني) لا يجوز وأجاب
البغوي والأصحاب عن الحديث بان المراد تسلف دفعتين في كل دفعة صدقة عام أو سنة واختلفوا
في الأصح من هذين الوجهين فصححت طائفة الجواز وهو قول أبى اسحق المروزي وممن صححه
البندنيجي والغزالي في الوسيط والجرجاني والشاشي والعبد رى وصحح البغوي وآخرون المنع
146

قال الرافعي صحح الأكثرون المنع (فإذا قلنا) بالجواز فاتفق أصحابنا على أنه لا فرق بين عامين
وأكثر حتى لو عجل عشرة أعوام أو أكثر جاز على هذا الوجه بشرط أن يبقى بعد المعجل
نصاب فلو كان له خمسون شاة فعجل عشرا منها لعشر سنين جاز فلو نقص المال بالتعجيل عن
النصاب في الحول الثاني لم يجز التعجيل لغير العام الأول وجها واحدا هكذا قاله الجمهور لان الحول
الثاني لا ينعقد على نصاب وحكى البغوي والسرخسي وجها شاذا أنه لا يجوز لان المعجل كالباقي على ملكه
وإذا جوزنا صدقة عامين فهل يجوز أن ينوى تقديم زكاة السنة الثانية على الأولى فيه وجهان
حكاهما أبو الفضل بن عبدان كتقديم الصلاة الثانية على الأولى إذا جمع في وقت الصلاة الثانية *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان ملك مائتي شاة فعجل عنها وعما يتوالد من سخالها أربع شاة فتوالدت وصارت أربعمائة أجزأه
زكاة المائتين وفى زكاة السخال وجهان (أحدهما) لا يجوز لأنه تقديم زكاة على النصاب (والثاني) يجوز لان
السخال جعلت كالموجودة في الحول في وجوب زكاتها فجعلت كالموجودة في تعجيل زكاتها وان ملك
أربعين شاة فعجل عنها شاة ثم توالدت أربعين سخلة وماتت الأمهات وبقيت السخال فهل يجزئه ما أخرج عن
الأمهات عن زكاة السخال فيه وجهان (أحدهما) لا يجزئه لأنه عجل الزكاة عن غير السخال فلا يجزئه عن
زكاة السخال (والثاني) يجزئه لأنه لما كان حول الأمهات حول السخال كانت زكاة الأمهات زكاة
السخال وان اشترى بمائتي درهم عرضا للتجارة فاخرج منها زكاة أربعمائة درهم ثم حال الحول
والعرض يساوى أربعمائة أجزأه لأن الاعتبار في زكاة التجارة بآخر الحول والدليل عليه أنه لو ملك
سلعة تساوى مائة فحال الحول وهي تساوى مائتين وجبت فيها الزكاة وان ملك مائة وعشرين
شاة فعجل عنها شاة ثم نتجت شاة سخلة قبل الحول لزمته شاة أخرى وكذلك لو ملك مائتي
شاة فاخرج شاتين ثم نتجت شاة سخلة أخرى قبل الحول لزمته شاة أخرى لان المخرج كالباقي على ملكه
ولهذا يسقط به الفرض عند الحول فجعل كالباقي في ملكه في ايجاب الفرض) *
(الشرح) قوله الأمهات هذه إحدى اللغتين فيها والأصح والأشهر الأمات بحذف الهاء وفى
الآدميات الأمهات بالهاء أفصح وقد سبق بيان هذا في أوائل كتاب الزكاة (وقوله) ملك سلعة تساوى
مائة أي ملكها للتجارة (وقوله) نتجت هو - بضم النون وكسر التاء - أي ولدت (وقوله) سخلة منصوب
مفعول ثان لنتحبت * أما أحكام الفصل فقال أصحابنا إذا ملك نصابا فعجل زكاة نصابين فإن كان
147

ذلك في التجارة بان اشترى عرضا للتجارة بمائتين فعجل أربعمائة فحال الحول وهو يساوى
أربعمائة أجزأه عن زكاة الجميع هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور وقيل في المائتين الزائدتين
الوجهان كمسألة السخال حكاه الدارمي والرافعي وغيرهما وإن كان زكاة عين بأن ملك مائتي درهم
وتوقع حصول مائتين أيضا من جهة أخرى فعجل زكاة أربعمائة فحصل له المائتان الأخريان لم يجزئه
ما أخرجه عن الحادث بلا خلاف وإن توقع النصاب الثاني من نفس الذي عنده بأن ملك مائة وعشرين
شاة فعجل شاتين ثم حدثت سخلة أو ملك مائتي شاة فعجل أربعا فتوالدت وبلغت أربعمائة أو عجل
شاتين وله خمس من الإبل فتوالدت وبلغت عشرا فهل يجزئه ما اخرج عن النصاب الذي كمل الآن
فيه وجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما قال الرافعي (أصحهما) عند الأكثرين من العراقيين وغيرهم
لا يجزئه ولو عجل شاة عن أربعين فهلكت الأمهات بعد أن ولدت أربعين سخلة فهل يجزئه ما اخرج
من السخال فيه وجهان وذكر المصنف دليلهما (والأصح) في الجميع المنع وجمع الدارمي في مسألتي
الربح والنتاج أربعة أوجه (أحدها) جواز تعجيل زكاة النصاب الثاني فيهما (والثاني) المنع (والثالث)
يجوز في الربح دون النتاج (والرابع) عكسه قال صاحب البيان ولو عجل شاة عن خمسة أبعرة
فهلكت الأبعرة قبل الحول وعنده أربعون شاة فأراد أن يجعل الشاة المعجلة عنها فقد أومأ ابن
الصباغ فيه إلى وجهين (قلت) الصواب أنها لا تجزئ قال الماوردي إذا ملك عرضا بمائتي درهم
فعجل زكاة ألف عنها وعن ربحها فباعها عند الحول بألف أجزأه المعجل عن الألف قال فان باعها
في أثناء الحول بألف (فان قلنا) يستأنف للربح حولا لم يجزئه التعجيل عن الربح لأنه ليس بتابع الأصل
(وإن قلنا) يبنى على حول الأصل أجزأه المعجل عن الجميع لأنه تبع قال ولو ملك ألفا فعجل زكاته فتلف
ثم ملك ألفا آخر لم يجزئه المعجل عن زكاة الألف الثاني لأنه تعجيل قبل المالك ولو كان له الفان
متميزان فعجل زكاة الف ثم تلف أحد الألفين أجزأه المعجل عن زكاة الألف الآخر لأنه
موجود حال التعجيل والله أعلم * أما إذا ملك مائة وعشرين شاة فعجل عنها شاة ثم ولدت شاة
منها قبل الحول أو ملك مائتي شاة فعجل شاتين عنها ثم ولدت شاة منها قبل الحول فيلزمه شاة أخرى
بلا خلاف عندنا لما ذكره المصنف * وقال أبو حنيفة لا يلزمه شاة أخرى والخلاف بيننا وبينه مبنى على أصل
وهو أن عندنا المعجل كالباقي على ملك الدافع في شيئين (أحدهما) في اجزائه عند انقضاء الحول
(والثاني) في ضمه إلى المال وتكميل النصاب به وعند أبي حنيفة ليس له حكم الباقي على ملكه قال أصحابنا
148

فلو كانت المعجلة معلوفة في هاتين الصورتين أو كان المالك اشتراها وأخرجها وليست من نفس النصاب
لم يجب شاة أخرى لان المعلوفة والمشتراة لا يتم بهما النصاب وان جاز اخراجهما عن الزكاة والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(إذا عجل زكاة ماله ثم هلك النصاب أو هلك بعضه قبل الحول خرج المدفوع عن أن يكون
زكاة وهل يثبت له الرجوع فيما دفع ينظر فيه فإن لم يبين أنها زكاة معجلة لم يجز له الرجوع لأن الظاهر
أن ذلك زكاة واجبة أو صدقة تطوع وقد لزمت بالقبض فلم يملك الرجوع وإن بين أنها
زكاة معجلة ثبت له الرجوع لأنه دفع عما يستقر في الثاني فإذا طرأ ما يمنع الاستقرار ثبت له الرجوع كما
لو عجل اجرة الدار ثم انهدمت الدار قبل انقضاء المدة وإن كان الذي عجل هو السلطان أو المصدق
من قبله ثبت له الرجوع بين أو لم يبين لان السلطان لا يسترجع لنفسه فلم يلحقه تهمة وان عجل
الزكاة عن نصاب ثم ذبح شاة أو أتلفها فهل له ان يرجع فيه وجهان (أحدهما) يرجع لأنه زال شرط
الوجوب قبل الحول فثبت له الرجوع كما لو هلك بغير فعله (والثاني) لا يرجع لأنه مفرط وربما أتلف ليسترجع
ما دفع فلم يجز له أن يرجع وإذا رجع فيما دفع وقد نقص في يد الفقير لم يلزمه ضمان ما نقص في أصح الوجهين لأنه
نقص في ملكه فلم يلزمه ضمانه ومن أصحابنا من قال يلزمه لان ما ضمن عينه إذا هلك ضمن نقصانه إذا نقص
كالمغصوب وان زاد المدفوع نظرت فإن كانت زيادة لا تتميز كالسمن رجع فيه مع الزيادة لان السمن
يتبع الأصل في الرد كما نقول في الرد بالعيب وان زاد زيادة تتميز كالولد واللبن لم يجب رد الزيادة
لأنها زيادة حدثت في ملكه فلم يجب ردها مع الأصل كولد المبيعة في الرد بالعيب وان هلك المدفوع
في يد الفقير لزمه قيمته وفى القيمة وجهان (أحدهما) يلزمه قيمته يوم التلف كالعارية (والثاني) يلزمه قيمته يوم
الدفع لان ما حصل فيه من زيادة حدثت في ملكه فلم يلزمه ضمانها) *
(الشرح) قال أصحابنا إذا عجل زكاته ثم هلك النصاب أو بعضه قبل تمام الحول خرج المدفوع
عن كونه زكاة بلا خلاف لان شرط الزكاة الحول ولم يوجد (وأما) الرجوع بها على المدفوع إليه فإن كان
الدافع هو المالك الذي وجبت عليه الزكاة وبين عند الدفع انها زكاة معجلة وقال إن عرض مانع من
وجوبها استرجعتها فله الرجوع بلا خلاف وان اقتصر على قوله هذه زكاة معجلة أو علم
القابض ذلك ولم يذكر الرجوع فطريقان (أصحهما) القطع بجواز الرجوع وبه قطع المصنف
والجمهور (والثاني) فيه وجهان (أصحهما) هذا (والثاني) لا رجوع حكاه امام الحرمين
149

وآخرون لان التمليك وجد فإذا لم يقع فرضا وقع نفلا كما لو قال هذه صدقتي المعجلة فان وقعت
الموقع والا فهي نافلة فإنه يصح ولا رجوع له إذا لم تقع الموقع بلا خلاف ذكره امام الحرمين
قال وهذا الخلاف قريب من الخلاف السابق فيمن صلي الظهر قبل الزوال انها هل تنعقد نفلا وله
نظائر سبقت هناك وان دفعها الامام أو الساعي وذكر انها معجلة ولم يشترط الرجوع ثبت الاسترداد
بلا خلاف ووافق عليه القائلون بالوجهين فيما لو قال المالك معجلة فقط وان دفع الامام أو الساعي
أو المالك ولم يقل انها معجلة ولا علمه القابض ففيه ثلاثة أوجه حكاها امام الحرمين وغيره (أحدها)
يثبت الرجوع مطلقا لأنه لم يقع الموقع (والثاني) لا يثبت مطلقا لتفريط الدافع (والثالث) ان دفع
الامام أو الساعي رجع وان دفع المالك فلا لما ذكره المصنف وبهذا الثالث قطع المصنف وجمهور
العراقيين ورجح الرافعي الأول وحكاه صاحب الشامل والبيان عن الشيخ أبى حامد وقال البغوي
والسرخسي نص الشافعي في الامام انه يسترد وفي المالك لا يسترد فمن أصحابنا من قال فيهما
قولان (أحدهما) يسترد كما لو دفع إليه مالا ظانا ان له عليه دين فلم يكن فإنه يسترده بلا خلاف (والثاني)
لا يسترد لان الصدقة قد تقع فرضا وقد تقع تطوعا فإذا لم تقع فرضا وقعت تطوعا كما لو أخرج
زكاة ماله الغائب ظانا بقاءه فبان تالفا فإنه يقع تطوعا ومنهم من فرق عملا بظاهر النص فقال
يسترد الامام دون المالك لان المالك يعطي من ماله الفرض والنفل فإذا لم يقع فرضا وقع نفلا
والامام لا يعطى من مال الغير الا فرضا فكان دفعه المطلق كالمقيد بالفرض قالا ومنهم من قال
لا فرق بين الامام والمالك والمسألة على حالين فقوله يسترداد إذا اعلم المدفوع إليه أنها زكاة معجلة
وحيث قال لا يسترد أراد إذا لم يعلمه التعجيل سواء أعلمه أنها زكاة مفروضة أم لا فان أثبتنا
الرجوع عند الاطلاق فقال المالك قصدت بالمدفوع التعجيل وأنكر القابض ذلك فالقول قول المالك
بيمينه ولو ادعي المالك علم القابض بالتعجيل فالقول قول القابض بلا خلاف لأنه أعلم بعلمه وهل
يحلف فيه وجهان (أصحهما) يحلف قال الماوردي وهو قول أبي يحيي البلخي لأنه لو اعترف بما قاله
الدافع لضمن (والثاني) لا يحلف لان دعوى رب المال تخالف الظاهر فلم تسمع (فان قلنا)
يحلف حلف على نفى العلم قال الماوردي ولو وقع النزاع بين الدافع ووارث القابض صدق الوارث
وهل يحلف فيه الوجهان كالقابض وإذا قلنا لا رجوع إذا لم يذكر التعجيل ولا علمه القابض فتنازعا
في ذكره أو قلنا يشترط التصريح باشتراط الرجوع فتنازعا فيه أو دفع الامام وقلنا يشترط لرجوعه
150

ان يبين كونها معجلة فتنازعا فيه فوجهان مشهوران حكاهما الماوردي والبغوي وآخرون (أصحهما)
يصدق الدافع بيمينه كما لو دفع ثوبا إلى إنسان وقال دفعته عارية وقال القابض بل هبة فالقول قول
الدافع بيمينه (والثاني) يصدق القابض بيمينه لاتفاقهما على أنه ملك المقبوض قال الماوردي ولابد
من يمينه هنا بلا خلاف على هذا الوجه وقال ويحلف على البت قال أصحابنا هذا كله إذا عرض
مانع يمنع من استحقاق القابض الزكاة فإن لم يعرض فليس له الاسترداد بلا سبب لأنه تبرع بالتعجيل
فهو كمن عجل دينا مؤجلا ليس له استرداده ولو قال هذه زكاتي أو صدقتي المفروضة فطريقان
حكاهما امام الحرمين وآخرون (أحدهما) أنه كمن ذكر التعجيل دون الرجوع (وأصحهما) انه كمن لم يذكر
شيئا أصلا وقطع العراقيون بان المالك في هذه الصور لا يسترد وان الامام يسترد والله أعلم *
(فرع) هذا الذي ذكرناه كله فيما إذا عرض مانع يمنع من وقوع المدفوع زكاة كموت القابض
وتغير حاله وتلف النصاب ونقصه أو تغير صفته بأن كان سائمة فعلفها وغير ذلك قال أصحابنا
فحيث قلنا له الرجوع لو تلف النصاب أو بعضه فأتلفه المالك أو أتلف منه ما نقص به النصاب فإن كان
لحاجة كالنفقة أو الخوف عليه أو ذبحه للاكل أو غير ذلك ثبت الرجوع قطعا وإن كان
لغير حاجة فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) يثبت الرجوع قال صاحب البيان
هذان الوجهان حكاهما الإصطخري *
(فرع) قال أصحابنا متى ثبت الرجوع فإن كان المعجل تالفا ضمنه القابض إن كان حيا وورثته
في تركته إن كان ميتا ببدله فإن كان مثليا كالدراهم ضمنه بمثله وإن كان متقوما ضمنه بقيمته سواء
كان حيوانا أو غيره هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وقال الماوردي إن كان حيوانا فهل يضمنه
بقيمته أم بمثله من حيث الصورة فيه وجهان كالوجهين فيمن اقترض حيوانا فماذا يرد قال ومأخذ الخلاف
أن الشافعي قال برد مثل المعجل فمنهم من حمله على اطلاقه وظاهره ومنهم من حمله على المثلى فإذا
قلنا بالمذهب وهو الرجوع بالقيمة فهل يلزمه قيمته يوم الدفع أم يوم التلف فيه وجهان مشهوران
ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) يوم الدفع صححه الماوردي والبندنيجي وصححه السرخسي والرافعي
وغيرهم وقال امام الحرمين وينقدح عندي وجه ثالث وهو ايجاب أقصي القيم من يوم القبض إلى التلف بناء
على أنا نتبين أن الملك ليس حاصلا للقابض ونتبين ان اليد يد ضمان كما في المستام وهذا بعيد في هذا
المقام مع ثبوت ظاهر الملك للقابض وهذا الثالث الذي ذكره امام الحرمين ذكره السرخسي وجها
151

للأصحاب وضعفه وحكى البندنيجي وجها رابعا أنه يعتبر قيمته يوم الرجوع وهو غلط هذا كله إذا
كانت العين تالفة فإن كانت باقية بحالها بغير زيادة ولا نقص رجع فيها ودفعها أو غيرها إلى مستحقي
الزكاة ان بقي الدافع وماله بصفة الوجوب ولا يتعين صرف عين المأخوذ في الزكاة لان الدفع لم يقع
عن الزكاة المجزئة فهو باق على ملك المالك وعليه الزكاة فله اخراجها من حيث شاء وإن كان الدافع
هو الامام أخذ المدفوع وهل يصرفه إلى المستحقين بغير اذن جديد من المالك فيه وجهان (أصحهما)
الجواز وبه قطع البغوي وان اخذ الامام القيمة عند تلف المعجل فهل يجزئ صرفها إلى المستحقين
فيه وجهان (أحدهما) لا يجزئ لان القيمة لا تجزئ عندنا قال الرافعي (وأصحهما) يجزئ لأنه دفع
العين أولا وعلى هذا ففي افتقاره إلى اذن جديد من المالك الوجهان كالعين (أصحهما) لا يفتقر وإن كان
المعجل باقيا ولكنه ناقص يرجع فيه وهل له أرش نقصه فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف
بدليلهما (أصحهما) وظاهر النص لا أرش له كذا صححه المصنف وجمهور الأصحاب وجزم به
القاضي أبو الطيب في المجرد ونقله عن نصه في الام وبه قال القفال كمن وهب لولده ورجع والعين
ناقصة ومن قال بالرجوع فرق بأن الموهوب لو تلف كله لم يغرمه الولد فنقصه
أولي بخلاف مسألتنا فان أراد دفعه بعد استرجاعه عن زكاته إلى فقير آخر أو إلى ورثة القابض
الأول لم يجز لنقصانه الا أن يكون ماله بصفته وإن كان المعجل زائدا زيادة متصلة كالسمن والكبر
أخذه مع زيادته بلا خلاف وإن كانت زيادة منفصلة كالولد واللبن والصوف فطريقان (الصحيح)
الذي قطع به المصنف والجمهور ونص عليه الشافعي أنه يرجع في الأصل دون الزيادة وتكون الزيادة
للقابض لأنها حدثت في ملكه (والثاني) فيه وجهان حكاهما امام الحرمين والبغوي والسرخسي
وغيرهم (أصحهما) هذا لما ذكره المصنف وقياسا على ولد المبيع المردود بعيب إذا حدث بين البيع
والرد فإنه لا يرد بلا خلاف (والثاني) يرجع في الأصل والزيادة لأنه بخروجه عن الاستحقاق تبينا أنه
لم يملك قال البغوي وغيره هذا الذي ذكرناه هو فيما إذا كان القابض حال القبض ممن يستحق الزكاة
فأما ان بان أنه كان يوم القبض غير مستحق كغني وعبد وكافر فإنه يسترد ما دفعه إليه بزوائده المتصلة
والمنفصلة ويغرمه أرش النقص بلا خلاف في هذا كله وإن كان يوم؟؟ الحول بصفة الاستحقاق
لان الدفع لم يقع صحيحا محسوبا عن الزكاة قال امام الحرمين وحيث جرت حالة تستوجب الاسترجاع
152

فلا حاجة إلى نقض الملك والرجوع فيه بل ينتقض الملك أو يتبين أن الملك لم يحصل من أصله أو حصل ثم إن
تقض قال وليس كالرجوع في الهبة فان الراجع بالخيار ان شاء أدام ملك المتهب وان شاء رجع
لان القابض هنا لم يملك الا بسبب الزكاة فإذا لم تقع زكاة زال الملك ثم قال الامام وهذا الذي
ذكرناه من الخلاف في الرجوع بأرش النقص أو الزيادة المنفصلة هو فيما إذ أجرت الزيادة والنقص
قبل حدوث السبب الموجب للرجوع فأما إذا جرت الزيادة بعده فلا شك انها للراجع فإنها إنما حدثت
في ملكه كما ذكرناه قال وان حصل نقص أو تلف بعد سبب الرجوع فالوجه عندي وجوب الضمان لأن العين
لو تلفت في يد القابض وهي على ملكه ثم حدث سبب الرجوع ضمنها فتلفها بعده أولى بوجوب
الضمان كما أن المستعير يضمن سواء تلفت قبل التمكن من الرد أو بعده ولان المقبوض عن الزكاة
المعجلة دفع زكاة فإذا لم يقع عنها فهو مضمون قال امام الحرمين وذكر الصيدلاني عن القفال أنه كان
يستشهد في مسألة النقص أنه لا يرجع بأرشه إذا رجع في العين بمسألة وهي ان من اشتري ثوبا وقبضه وسلم ثمنه
ثم اطلع على عيب قديم بالثوب فرده وصادف الثمن ناقص الصفة قال يأخذه ناقصا ولا شئ له في مقابلة
النقص قال الامام وهذا مشكل فإنه لو قد تلف الثمن رجع ببدله فالزامه الرضا به معيبا بعد الرد بعيد
(قلت) الصواب المتعين قول القفال والله أعلم *
(فرع) لو كان المعجل بعيرين أو شاتين فتلف أحدهما وبقى الاخر ووجد سبب الرجوع
رجع في الباقي وبدل التالف وفى بدله الخلاف السابق قريبا (الأصح) قيمته (والثاني) مثله وممن
صرح بالمسألة الماوردي *
(فرع) المذهب الذي قطع به الجمهور ان القابض يملك المعجل ملكا تاما وينفذ تصرفه ظاهرا
وباطنا وفيه وجه حكاه امام الحرمين والرافعي وآخرون أنه موقوف فان عرض مانع تبينا عدم الملك
والا تبينا الملك فلو باع القابض ثم طرأ المانع (فان قلنا) بالمذهب استمر البيع على صحته وألا تبينا بطلانه
ولو كانت العين باقية فأراد القابض رد بدلها دونها (فان قلنا) بالوقف فله ذلك (وان قلنا) بالمذهب ففي جواز
الا بدال الخلاف المشهور في مثله في القرض بناء على أنه يملكه بالقبض أم بالتصرف (فان قلنا) بالتصرف
فليس له (وان قلنا) بالقبض وهو الأصح فوجهان (أصحهما) ليس له (والثاني) له قال امام الحرمين
إذا أثبتنا الرجوع ففيه تقديران لم يصرح بهما الأصحاب وحوم عليهما صاحب التقريب (أحدهما)
153

أنا نتبين أن ملك الدافع لم يزل وكان الملك موقوفا (والثاني) أن المدفوع متردد بين الزكاة والقرض
فان وقعت الزكاة موقعها وإلا فهو قرض قال الامام وهذا في نهاية الحسن قال فعلى هذا (إن قلنا) القرض لا يملك
الا بالتصرف لم يكن للقابض الابدال وإلا فوجهان قال ولو باعها ثم طرأ المانع فذكر نحو ما سبق
والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وإن عجل الزكاة ودفعها إلى فقير فمات الفقير أو ارتد قبل الحول لم يجزئه المدفوع عن الزكاة
وعليه أن يخرج الزكاة ثانيا فإن لم يبين عند الدفع أنها زكاة معجلة لم يرجع وإن بين رجع وإذا رجع
فيما دفع نظرت فإن كان من الذهب أو الفضة وإذا ضمه إلى ما عنده بلغ النصاب وجبت فيه الزكاة
لأنه قبل أن يموت الفقير كان كالباقي على ملكه ولهذا لو عجله عن النصاب سقط به الفرض عند الحول
فلو لم يكن كالباقي على حكم ملكه لم يسقط به الفرض وقد نقص المال عن النصاب ولأنه لما مات
صار كالدين في ذمته والذهب والفضة إذا صارا دينا لم ينقطع الحول فيه فيضم إلى ما عنده وإن كان
الذي عجل شاة ففيه وجهان (أحدهما) يضم إلى ما عنده كما يضم الذهب والفضة (والثاني) لا يضم
لأنه لما مات صار كالدين والحيوان إذا كان دينا لا تجب فيه الزكاة وان عجل الزكاة ودفعها إلى فقير فاستغنى
قبل الحول نظرت فان استغنى بما دفع إليه أجزأه لأنه دفع إليه ليستغني به فلا يجوز أن يكون غناه به مانعا من
الاجزاء ولأنه زال شرط الزكاة من جهة الزكاة فلا يمنع الاجزاء كما لو كان عنده نصاب فعجل عنه
شاة فان المال قد نقص عن النصاب ولم يمنع الاجزاء عن الزكاة وان استغنى من غيره لم يجزه عن
الزكاة وعليه أن يخرج الزكاة ثانيا وهل يرجع على ما بيناه وإن دفع إلى فقير ثم استغنى ثم افتقر قبل
الحول وحال الحول وهو فقير ففيه وجهان (أحدهما) لا يجزئه كما لو عجل زكاة ماله ثم تلف ماله ثم
استفاد غيره قبل الحول (والثاني) أنه يجزئه لأنه دفع إليه وهو فقير وحال الحول عليه وهو فقير) *
(الشرح) قال أصحابنا شرط كون المعجل زكاة مجزئا بقاء القابض بصفة الاستحقاق إلى آخر الحول
فلو ارتد أو مات أو استغنى بغير المال المعجل قبل الحول لم يحسب عن الزكاة بلا خلاف
وان استغنى بالمدفوع من الزكوات أو به وبغيره لم يضر ويجزئه المعجل بلا خلاف قال القاضي
أبو الطيب في المجرد قال أبو إسحاق وهكذا لو تصرف في المدفوع فاستغني بربحه ونمائه أجزأ بلا خلاف
لأنا دفعنا إليه ليفعل ذلك ويستغنى به قال أصحابنا فان عرض مانع في أثناء الحول ثم زال في أثنائه
وصار عند تمام الحول بصفة الاستحقاق أجزأ المعجل على أصح الوجهين لأنه من أهل الزكاة في
154

الطرفين وممن صححه القاضي أبو الطيب والرافعي ويشترط في الدافع بقاؤه إلى آخر الحول بصفة من
تلزمه الزكاة فلو ارتد وقلنا الردة تمنع وجوب الزكاة أو مات أو تلف كل ماله أو نقص هو والمعجل
عن النصاب أو باعه لم يكن المعجل زكاة وان بقينا ملك المرتد وجوزنا اخراج الزكاة في حال
الردة أجزأه المعجل وقد سبق في اجزائها في حال الردة خلاف في أول كتاب الزكاة وهل يحسب في
في صورة الموت عن زكاة الوارث قال الأصحاب (ان قلنا) الوارث يبنى على حول المورث أجزأه
وإلا فلا على أصح الوجهين وبه قطع السرخسي وآخرون لأنه تعجيل قبل مالك النصب (والثاني)
يجزئه لأنه قائم مقامه وذكر البندنيجي وصاحب البيان أن هذا هو المنصوص قالا ومن قال بالأول حمل
النص على أنه تفريع على القديم (فان قلنا) يحسب فتعددت الورثة حكم بالخلطة إن كان المال ماشية
أو غير ماشية وقلنا بثبوت الخلطة في غيرها فأما إن قلنا لا تثبت ونقص نصيب كل واحد عن
النصاب أو اقتسموا ونقص نصيب كل واحد عن النصاب فينقطع الحول ولا تجب الزكاة
على الصحيح وفيه وجه ضعيف أنهم يصيرون كشخص واحد (قال) أصحابنا والمعجل
مضموم إلى ما عند الدافع نازل منزلة ما لو كان في يده فلو عجل شاة من أربعين ثم حال الحول
ولم يطرأ مانع أجزأه ما عجل وكانت تلك الشاة بمنزلة الباقيات عنده في شيثين في اتمام النصاب
بها وفى اجزائها وسواء كانت باقية في يد الفقير أو تالفة ثم إن تم الحول بعد التعجيل والمال على
حاله أجزأه كما ذكرناه وفى تقديره إذا كان الباقي دون النصاب بان أخرج شاة من أربعين وجهان
(الصحيح) الذي قطع به الأصحاب أن المعجل كالباقي في ملكه حتى يكمل به النصاب وجزئ
وليس بباق في ملكه حقيقة (وقال) صاحب التقريب يقدر كأن الملك لم يزل لينقضي الحول وفى
ملكه نصاب واستبعد امام الحرمين هذا وقال تصرف القابض نافذ بالبيع والهبة وغيرهما فكيف
يقال ببقاء ملك الدافع قال الرافعي هذا الاستبعاد صحيح ان أراد صاحب التقريب بقاء ملكه
حقيقة وان أراد ما قاله فقوله صواب (وأما) إذا طرأ مانع من كون المعجل زكاة فينظر إن كان الدافع
أهلا للوجوب وبقى في يده نصاب لزمه الاخراج ثانيا وإن كان دون نصاب فحيث لا يثبت
الاسترداد أو يثبت ولا يبلغ الباقي مع المسترد نصاب لا زكاة بلا خلاف وكأنه تطوع بشاة قبل
الحول وحيث ثبت الاسترداد فاسترد وتم بالمسترد النصاب فيه ثلاثة أوجه مشهورة في كتب العراقيين
155

والسرخسي وغيرهم (أحدها) يستأنف الحول ولا زكاة للماضي لنقص ملكه عن النصاب (والثاني)
إن كان ماله نقدا زكاه لما مضى وإن كان ماشية فلا لان السوم شرط في زكاة الماشية وذلك
لا يتصور في حيوان في الذمة (وأصحها) عندهم تجب الزكاة لما مسى مطلقا لان المدفوع كالباقي على
ملكه وبهذا قطع البغوي بل لفظه يقتضي وجوب الاخراج ثانيا قبل الاسترداد إذا كان المخرج
بعينه باقيا في يد القابض وقال صاحب التقريب إذا استرد وقلنا كأن ملكه زال لم يلزمه زكاة
الماضي (وان قلنا) يتبين ان ملكه لم يزل لزمه زكاة الماضي قال امام الحرمين وعلى هذا التقدير
الثاني الشاة المقبوضة حصلت الحيلولة بين المالك وبينهما فيجئ فيها الخلاف في المغصوب والمجحود قال
الرافعي وكلام العراقيين يشعر بجريان الأوجه الثلاثة مع تسليم زوال الملك عن المعجل قال وكيف
كأن فالأصح عند الجمهور وجوب الزكاة للماضي قال البغوي فلو عجل من ألف شاة عشرا فتلف
ماله قبل الحول الا ثلاثمائة وتسعين وكانت العشرة باقية في يد القابض ضمت إلى ما عنده حيث ثبت
الاسترداد فيصير المال أربعمائة وواجبه أربع شياه فيحسب أربعا عن الزكاة يسترد ستا إن كان
القابض بصفة الاستحقاق والا فيسترد العشر ويخرج أربعا هذا كله إذا كان المدفوع باقيا في يد
القابض أما إذا كان المدفوع تالفا في يد القابض فإن كان الباقي في يد المالك نصابا لزمته الزكاة
لحوله بلا خلاف والا فقد صار الضمان دينا في ذمته فان أوجبنا تجديد الزكاة إذا كان باقيا جاء هنا
قولا وجوب الزكاة في الدين (الأصح) الوجوب هذا إن كان المزكي نقدا فإن كان ماشية لم تجب
الزكاة بحال لان الواجب على القابض القيمة فلا يكمل بها نصاب الماشية وقال أبو إسحاق المروزي
تقام القيمة مقام العين هنا نظرا للمساكين والصحيح الأول وبه قطع الأكثرون والله أعلم *
(فرع) لو كان المدفوع إليه الزكاة المعجلة يوم الدفع غنيا ويوم الوجوب فقيرا لم تقع عن الزكاة
بلا خلاف نقل الاتفاق عليه البندنيجي وغيره *
(فرع) لو عجل بنت مخاض عن خمس وعشرين بعيرا فبلغت بالتوالد ستا وثلاثين قبل الحول
لم يجزئه بنت المخاض المعجلة وإن كانت قد صارت بنت لبون في يد القابض بل يستردها ويخرجها
ثانيا أو بنت لبون أخرى هكذا ذكروه وذكره البغوي ثم قال لنفسه فإن كان المخرج تالفا
والنتاج لم يزد على أحد عشر فلم تكن إبله ستا وثلاثين الا بالمخرج ينبغي ألا تجب بنت لبون لأنا
156

إنما نجعل المخرج كالباقي في يد الدافع إذا حسبناه أما إذا لم يقع محسوبا عنها فلا بل هو كهلاك بعض المال
قبل الحول قال الرافعي الوجه الثالث السابق عن العراقيين وصححوه ينازع في هذا *
(فرع) لو عجل الزكاة فمات المدفوع إليه قبل الحول فقد سبق أنه لا يقع المدفوع زكاة ويسترد
من تركة الميت وتجب الزكاة ثانيا على المالك ان بقي معه نصاب وكذا ان تم نصابا بالمرجوع
به على الخلاف السابق هذا إذا كان الميت موسرا فلو مات معسرا لا شئ له ففيه ثلاثة أوجه
حكاها السرخسي (أحدها) وهو القياس الذي يقتضيه كلام الجمهور أنه يلزم المالك دفع الزكاة ثانيا
إلى المستحقين لان القابض ليس من أهل الزكاة وقت الوجوب (والثاني) يجزئه هذا المعجل
هنا للمصلحة مراعاة لمصلحة التعجيل والرفق بالمساكين فلو لم نقل بالاجزاء نفر الناس عن التعجيل
خوفا من هذا (والثالث) أن الامام يغرم للمالك من بيت المال قدر المدفوع ويلزم المالك
اخراج الزكاة جمعا بين المصلحتين والدليلين *
* قال المصنف رحمه الله *
(وإن تسلف الوالي الزكاة وهلك في يده نظرت فان تسلف بغير مسألة ضمنها لان الفقراء
أهل رشد فلا يولي عليهم فإذا قبض مالهم بغير اذنهم قبل محله وجب عليه الضمان كالوكيل
إذا قبض مال موكله قبل محله بغير اذنه وان تسلف بمسألة رب المال فما تلف من ضمان رب المال
لأنه وكيل رب المال فكان الهلاك من ضمان الموكل كما لو وكل رجلا في حمل شئ إلى مكان فهلك
في يده وان تسلف بمسألة الفقراء فما هلك من ضمانهم لأنه قبض باذنهم فصار كالوكيل إذا قبض
دين موكله باذنه فهلك في يده وان تسلف بمسألة الفقراء ورب المال ففيه وجهان (أحدهما) ان ما
يتلف من ضمان رب المال لان جنبته أقوى لأنه يملك المنع والدفع (والثاني) انه من ضمان الفقراء لأن الضمان
يجب على من له المنفعة ولهذا يجب ضمان العارية على المستعير والمنفعة ههنا للفقراء فكان
الضمان عليهم) *
(الشرح) قوله أهل رشد - بضم الراء واسكان الشين - ويجوز بفتحهما (وقوله) يولي عليهم هو
باسكان الواو وتخفيف اللام - أي لا يثبت عليهم بغير اذنهم بخلاف الصبي والمجنون والسفيه (وقوله)
لان جنبته هي - بفتح الجيم والنون - (وأما) الأحكام فاختصرها المصنف وهي مبسوطة في كتب
الأصحاب ولخصها الرافعي ومختصر ما نقله
أن الامام إذا أخذ من المالك مالا للمساكين قبل تمام
157

حوله فله حالان (أحدهما) يأخذه بحكم القرض فينظر ان اقترض بسؤال المساكين فهو من ضمانهم
سواء تلف في يده أو بعد تسليمه إليهم وهل يكون الامام طريقا في الضمان حتى يؤخذ منه ويرجع هو
على المساكين أم لا ينظران علم المقرض أنه يقترض للمساكين باذنهم لم يكن طريقا في أصح الوجهين
وان ظن المقرض أنه يقترض لنفسه أو للمساكين من غير سؤالهم فله الرجوع على الامام ثم الامام
يأخذه من مال الصدقة أو يحسبه عن زكاة المقرض ولو أقرضه المالك للمساكين ابتداء من غير
سؤالهم فتلف في يد الامام بلا تفريض فلا ضمان على المساكين ولا على الامام لأنه وكيل للمالك
ولو اقترض الامام بسؤال المالك والمساكين جميعا فهل هو من ضمان المالك أو المساكين فيه وجهان
يأتي بيانهما في الحال الثاني إن شاء الله تعالى وان اقترض بغير سؤال المالك والمساكين نظران
اقترض ولا حاجة بهم إلى الاقتراض وقع القرض للامام وعليه ضمانه من خالص ماله سواء تلف
في يده أو دفعه إلى المساكين ثم إن دفع إليهم متبرعا فلا رجوع وان أقرضهم فقد أقرضهم مال نفسه
فله حكم سائر القروض وإن كان اقترض لهم وبهم حاجة وهلك في يده فوجهان (أحدهما) أنه من
ضمان المساكين يقضيه الامام من مال الصدقة كالولي إذا اقترض لليتيم فهلك المال في يده بلا تفريط
بكون الضمان في مال اليتيم (وأصحهما) يكون الضمان من خالص مال الإمام لان المساكين غير
متعينين وفيهم أهل رشد أو أكثرهم أهل رشد لا ولاية عليهم ولهذا لا يجوز منع الصدقة عنهم بلا عذر
ولا التصرف في مالهم بالتجارة وإنما يجوز الاقتراض لهم بشرط سلامة العاقبة بخلاف اليتيم فأما
إذا دفع المال الذي اقترضه إليهم فالضمان عليهم والامام طريق فإذا اخذ الزكوات والمدفوع إليه بصفة
الاستحقاق فله ان يقضيه من الزكوات وله أن يحسبه عن زكاة المقرض وان لم يكن المدفوع إليه
بصفة الاستحقاق عند تمام حول الزكوات لم يجز قضاؤه منها بل يقضي من مال نفسه ثم يرجع على المدفوع
إليه ان وجد له مالا (الحال الثاني) أن يأخذ الامام المال ليحسبه عن زكاة المأخوذ منه عند تمام حوله
وفيه أربع مسائل كالقرض (إحداها) أن يأخذ بسؤال المساكين فان دفع إليهم قبل الحول وتم
الحول وهم بصفة الاستحقاق والمالك بصفة الوجوب وقع الموقع وإن خرجوا عن الاستحقاق فعليهم
الضمان وعلى المالك الاخراج ثانيا وان تلف في يده قبل تمام الحول بغير تفريط نظران خرج
المالك عن صفة وجوب الزكاة عليه فله الضمان على المساكين وهل يكون الامام طريقا فيه وجهان كما
158

في الاقتراض وان لم يخرج عن أن تجب عليه الزكاة فهل يقع المخرج عن زكاته فيه وجهان (أصحهما)
يقع وبه قطع ابن الصباغ والمتولي (والثاني) لا يقع فعلى هذا له تضمين المساكين وفى تضمين الامام
وجهان فإن لم يكن للمساكين مال صرف الامام إذا اجتمعت عنده الزكوات ذلك القدر إلى
آخرين عن جهة الذي تسلف منه ثم المذهب الصحيح الذي قطع به الجمهور انه لا فرق بين أن
يكون المساكين متعينين أم لا فالحكم في المسألة ما سبق وحكى السرخسي وجهين (أحدهما) هذا (والثاني)
أن صورة المسألة أن يكونوا متعينين فإن لم يتعينوا فلا أثر لسؤالهم ويكون الحكم كما سيأتي إن شاء الله
تعالى في المسألة الرابعة إذا تسلف بغير مسألة أحد لأنه لا اعتبار بطلب غير المتعينين وذكر
السرخسي أيضا وجها في المتعينين أنه لا اعتبر بطلبهم بل يكون من ضمان الامام لأنه لا يلزم من تعينهم حال
الطلب تعينهم حال الوجوب وهذان الوجهان شاذان ضعيفان مردودان (المسألة الثانية) أن يتسلف
بسؤال المالك فان دفع إلى المساكين وتم الحول وهم بصفة الاستحقاق وقع الموقع والا رجع المالك
على المساكين دون الامام وان تلف في يد الامام لم يجزئ المالك سواء تلف بتفريط الامام
أم بغير تفريط كالتالف في يد الوكيل ثم إن تلف بتفريط الامام فعليه ضمانه للمالك وان تلف بغير
تفريط فلا ضمان عليه ولا على المساكين (الثالثة) أن يتسلف بسؤال المالك والمساكين جميعا
(فالأصح) عند صاحب الشامل والأكثرين أنه من ضمان المساكين (والثاني) من ضمان المالك (الرابعة)
أن يتسلف بغير سؤال المالك والمساكين لما رأى من حاجتهم فهل تكون حاجتهم كسؤالهم فيه وجهان
(أصحهما) لا يكون فعلى هذا ان دفعه إليهم وخرجوا عن الاستحقاق قبل تمام الحول استرده الامام
منهم ودفعه إلى غيرهم وان خرج الدافع عن أهلية الوجوب استرده ورده إليه فإن لم يكن للمدفوع
إليه مال ضمنه الامام من مال نفسه فرط أم لم يفرط وعلى المالك اخراج الزكاة ثانيا ان بقي من
أهل الوجوب وفى وجه ضعيف لا ضمان على الامام ثم الوجهان في تنزل الحاجة منزلة سؤالهم هما في
حق البالغين (اما) إذا كانوا غير بالغين فيبنى على أن الصبي هل تدفع إليه الزكاة من سهم الفقراء والمساكين
أم لا فإن كان له من ألزمه نفقته كأبيه وغيره فوجهان (أصحهما) لا تدفع إليه وان لم يكن
فالصحيح انها تدفع له إلى قيمه (والثاني) لا لاستغنائه بسهمه من الغنيمة فان جوزنا الصرف
159

إليه فحاجة الأطفال كسؤال البالغين فتسلف الامام الزكاة واستقراضه لهم كاستقراض قيم اليتيم
هذا إذا كان الذي يلي أمرهم الامام فإن كان واليا مقدما على الامام فحاجتهم كحاجة البالغين لان
لهم من يسأل التسلف لو كان مصلحة لهم أما إذا قلنا لا يجوز إلى الصبي فلا تجئ هذه المسألة في سهم
الفقراء والمساكين وتجئ في سهم الغارمين ونحوه (واعلم) أن في المسائل كلها لو تلف المعجل في يد الساعي
أو الامام بعد تمام الحول سقطت الزكاة عن المالك لان الحصول في يدهما بعد الحول كالوصول إلى
يد المساكين كما لو اخذها بعد الحول ثم إن فرط في الدفع إليهم ضمن من مال نفسه لهم والا فلا
ضمان على أحد وليس من التفريط انتظاره انضمام غيره إليه لقلته فإنه لا يجب تفريق كل قليل يحصل
عنده قال أصحابنا والمراد بالمساكين في هذه المسائل أهل السهمان جميعا وليس المراد جميع آحاد
الصنف بل سؤال طائفة منهم أو حاجتهم والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(فاما ما تجب الزكاة فيه من غير حول كالعشر وزكاة المعدن والركاز فلا يجوز فيه تعجيل الزكاة
وقال أبو علي بن أبي هريرة يجوز تعجيل العشر (والصحيح) أنه لا يجوز لان العشر يجب بسبب
واحد وهو ادراك الثمرة وانعقاد الحب فإذا عجله قدمه على سببه فلم يجز كما لو قدم زكاة المال
على النصاب) *
(الشرح) قد سبق في أول الباب أن المال الزكوي ضربان (أحدهما) يتعلق بالحول وسبق
شرحه (والثاني) غير متعلق به وهو أنواع (منها) زكاة الفطر وسبق في بابها انه يجوز تعجيلها في جميع
رمضان ولا يجوز قبله وفى وجه لا يجوز الليلة الأولى من رمضان ووجه يجوز قبل رمضان وأوضحناها
في بابها (ومنها) زكاة المعدن والركاز فلا يجوز تقديمها على الحصول بلا خلاف لما ذكره المصنف (ومنها)
زكاة الزرع تجب باشتداد الحب والثمار يبدو الصلاح كما سبق في بابيهما وليس المراد ان ذلك وقت
الأداء بل هو وقت ثبوت حق الفقراء وإنما يجب الاخراج بعد تنقية الحب وتجفيف الثمار قال
أصحابنا والاخراج بعد مصير الرطب تمرا والعنب زبيبا ليس تعجيلا بل واجب حينئذ ولا يجوز
التعجيل قبل خروج الثمرة بلا خلاف وفيما بعده أوجه (الصحيح) عند المصنف والأصحاب يجوز
بعد بدو الصلاح لا قبله (والثاني) يجوز قبله من حين خروج الثمرة (والثالث) لا يجوز قبل الجفاف
(وأما) الزرع فالاخراج عنه بعد التنقية واجب وليس تعجيلا ولا يجوز التعجيل قبل التسنبل وانعقاد
160

الحب وبعده فيه ثلاثة أوجه (الصحيح) جوازه بعد الاشتداد والا دراك ومنعه قبله والثاني جوازه
بعد التسنبل وانعقاد الحب (والثالث) لا يجوز قبل التنقية *
(فرع) ضبط جماعة من أصحابنا في هذا الباب ما يجوز تقديمه من الحقوق المالية على وقت وجوبه
وما لا يجوز (فمنها) الزكاة والفطرة وسبق بيانهما (ومنها) كفارة اليمين والقتل والظهار ولها تفصيل مذكور
في أبوابها (ومنها) كفارة الجماع في نهار رمضان لا يجوز تقديمها على الجماع هذا هو المذهب وبه قطع
القاضي أبو الطيب في المجرد هنا وآخرون وفى وجه حكاه الرافعي وغيره أنه يجوز ولو قال إن شفى الله
مريضي فلله على عتق رقبة فاعتق قبل الشفاء لا يجزئه على أصح الوجهين (ومنها) لا يجوز للشيخ الهرم
والحامل والمريض الذي لا يرجي برؤه تقديم الفدية على رمضان ويجوز بعد طلوع الفجر من
يوم رمضان للشيخ عن ذلك اليوم ويجوز قبل الفجر أيضا على لمذهب وبه قطع الدارمي وقال
الروياني فيه احتمالان لوالدي قال الزيادي وللحامل تقديم الفدية على الفطر ولا يقدم الا فدية
يوم واحد ولو أراد تعجيل فدية تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر ففي صحته
وجهان كتعجيل كفارة الحنث بمعصيته ولا يجوز تقديم الأضحية قبل يوم العيد بلا خلاف
(ومنها) دم التمتع والقران (فأما) القران فيجوز بعد الاحرام بالحج والعمرة ولا يجوز قبلهما والتمتع يجوز
بعد الاحرام بالحج ولا يجوز قبل الاحرام بالعمرة قطعا وفيما بين ذلك ثلاثة أوجه (الصحيح) يجوز بعد
الفراغ من العمرة وإن لم يحرم بالحج ولا يجوز قبل فراغها (والثاني) لا يجوز قبل الاحرام بالحج (والثالث)
يجوز قبل الفراغ من العمرة قال القاضي أبو الطيب في المجرد لو أحرم بالحج فأراد تقديم جزاء الصيد
فإن كان بعد جرحه فالمذهب جوازه لوجود السبب والا فالمذهب منعه لعدم السبب قال والاحرام
ليس سببا للجزاء قال وهذا ككفارة قتل الآدمي إن فعلها بعد الجرح جاز وإلا فلا *
(فرع) في مسائل تتعلق بالباب (إحداها) قال إمام الحرمين وغيره لا يحتاج مخرج الزكاة إلى
لفظ أصلا بل يكفيه دفعها وهو ساكت لأنها في حكم دفع دين إلى مستحقه قال الامام وجمهور
أصحابنا الخراسانيين والمحققون من غيرهم ولا تحتاج الهبة والمنحة فلا بد فيهما من اللفظ (وأما) الهدية فالمذهب أنها لا تحتاج
إلى لفظ وفيها وجه ضعيف وسنعيد ايضاح هذا كله في باب الهبة وفى الزكاة وجه شاذ عن ابن أبي هريرة
أنه يشترط لفظه وسنوضح المسألة إن شاء الله تعالى في آخر قسم الصدقات *
161

(باب قسم الصدقات)
القسم هنا وقسم الفئ والقسم بين الزوجات كله - بفتح القاف - وهو مصدر بمعنى القسمة ومنه
الحديث (اللهم هذا قسمي فيما أملك) (وأما) القسم - بكسر القاف - فهو النصيب وليس مرادا هنا (واعلم)
هذا الباب ذكره المزني وجميع شراح مختصره وجماهير الأصحاب في آخر ربع البيوع مقرونا بقسم الفئ والغنيمة
ووجه ذكره هناك ان الزكاة تشارك الغنيمة في أن الامام يقسمها بعد الجمع وذكره الإمام الشافعي في الام
هنا متصلا بكتاب الزكاة وتابعه المصنف والجرجاني والمتولي وآخرون وهو أحسن والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(ويجوز لرب المال أن يفرق زكاة الأموال الباطنة بنفسه وهي الذهب والفضة وعروض التجارة
والركاز لما روى عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في المحرم (هذا شهر زكاتكم فمن كان عنده دين
فليقض دينه ثم ليزك بقية ماله) ويجوز أن يوكل من يفرق لأنه حق مال فجاز أن يوكل في أدائه
كدين الآدمين ويجوز أن تدفع إلى الامام لأنه نائب عن الفقراء فجاز الدفع إليه كولى اليتيم
وفى الأفضل ثلاثة أوجه (أحدها) أن الأفضل أن يفرق بنفسه وهو ظاهر النص لأنه على ثقة من
أدائه وليس على ثقة من أداء غيره (والثاني) أن الأفضل أن يدفع إلى الامام عادلا كان أو جائرا
لما روى أن المغيرة بن شعبة قال لمولى له وهو على أمواله بالطائف (كيف تصنع في صدقة مالي قال
منها ما أتصدق به ومنها ما أدفع إلى السلطان فقال وفيم أنت من ذلك فقال إنهم يشترون بها
الأرض ويتزوجون بها النساء فقال ادفعها إليهم فان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ندفعها
إليهم) ولأنه أعرف بالفقراء وقدر حاجاتهم ومن أصحابنا من قال إن كان عادلا فلدافع فإليه أفضل
وإن كان جائرا فتفرقته بنفسه أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم (فمن سئلها على وجهها فليعطها ومن
سئل فوقه فلا يعطه) ولأنه على ثقة من أدائه إلى العادل وليس على ثقة من أدائه إلى الجائر لأنه
ربما صرفه في شهواته (فأما) الأموال الظاهرة وهي الماشية والزروع والثمار والمعادن ففي زكاتها
قولان (قال) في القديم يجب دفعها إلى الامام فان فرقها بنفسه لزمه الضمان لقوله عز وجل (خذ من
أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ولأنه مال للامام فيه حق المطالبة فوجب الدفع إليه كالخراج والجزية
162

قال في الجديد يجوز أن يفرقها بنفسه لأنها زكاة فجاز أن يفرقها بنفسه كزكاة المال الباطن) *
(الشرح) الأثر المذكور عن عثمان صحيح رواه البيهقي في سننه الكبير في كتاب الزكاة
في باب الدين مع الصدقة باسناد صحيح عن الزهري عن السائب بن يزيد الصحابي انه سمع عثمان
ابن عفان خطيبا على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (هذا شهر زكاتكم فمن كان منكم عليه
دين فليقض دينه حتى تخلص أموالكم فتأدوا منها الزكاة) قال كالبيهقي ورواه البخاري في الصحيح
عن أبي اليمان عن شعيب وينكر على البيهقي هذا القول لان البخاري لم يذكره في صحيحه هكذا
وإنما ذكر عن السائب بن يزيد انه سمع عثمان بن عفان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لم
يزد على هذا ذكره في كتاب الاعتصام في ذكر المنبر كذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين
عن البخاري كما ذكرته ومقصود البخاري به اثبات المنبر وكأن البيهقي أراد أن البخاري روى أصله لا كله والله
أعلم * (وأما) حديث المغيرة فرواه البيهقي في السنن الكبير باسناد فيه ضعف يسير وسمي في روايته مولى
المغيرة فقال هو هنيد يعنى - بضم الهاء - وهو هنيد الثقفي مولي المغيرة واما الحديث (الآخر فمن سئلها على
حقها) فهو صحيح في صحيح البخاري لكن المصنف غيره هنا وفى أول باب صدقة الإبل وقد سبق
بيانه هناك وقد جاءت أحاديث وآثار في هذا المعنى (منها) عن جرير بن عبد الله قال (جاء ناس من
الاعراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن أناسا من المصدقين يأتونا فيظلموننا فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ارضوا مصدقيكم) رواه مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه
(أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أديت الزكاة إلى رسولك فقد برئت منها إلى الله
ورسوله فقال نعم إذا أديتها إلى رسولي فقد برئت منها إلى الله ورسوله ولك أجرها واثمها على من
بدلها) رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده وعن سهيل بن أبي صالح عن أبيه قال (اجتمع عندي
نفقة فيها صدقة يعني بلغت نصاب الزكاة فسألت سعد بن أبي وقاص وابن عمر وأبا هريرة وأبا سعيد
الخدري ان اقسمها أو أدفعها إلى السلطان فأمروني جميعا أن أدفعها إلى السلطان ما اختلف على منهم
أحد) وفى رواية فقلت لهم (هذا السلطان يفعل ما ترون فادفع إليهم زكاتي فقالوا كلهم نعم فادفعها)
رواهما الامام سعيد بن منصور في مسنده وعن جابر بن عتيك الصحابي رضي الله عنه ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال (سيأتيكم ركب مبغضون فإذا أتوكم فرحبوا بهم وخلوا بينهم وبين ما يبتغون
فان عدلوا فلا نفسهم وان ظلموا فعليها وارضوهم فان تمام زكاتكم رضاهم وليدعوا لكم) رواه أبو داود
163

والبيهقي وقال اسناده مختلف وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال (ادفعوا صدقاتكم إلى من ولاه الله
أمركم فمن بر فلنفسه ومن اثم فعليها) رواه البيهقي باسناد صحيح أو حسن وعن قزعة مولي زياد بن أبيه
ان ابن عمر قال (ادفعوها إليهم وان شربوا بها الخمر) رواه البيهقي باسناد صحيح أو حسن قال البيهقي
وروينا في هذا عن جابر بن عبد الله وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم ومما جاء في تفريقها
بنفسه ما رواه البيهقي باسناد عن أبي سعيد المقبري واسمه كيسان قال (جئت عمر بن الخطاب رضي الله عنه
بمائتي درهم فقلت يا أمير المؤمنين هذه زكاة مالي قال وقد عتقت قلت نعم قال اذهب بها أنت
فاقسمها) والله أعلم (وأما) قول المصنف لأنه حق مال فاحتراز من الصلاة ونحوها (وقوله) لأنه مال
للامام فيه حق المطالبة احتراز من دين الآدمي (أما) أحكام الفصل ففيه مسائل (إحداها) قال
الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى للمالك أن يفرق زكاة ماله الباطن بنفسه وهذا لا خلاف فيه ونقل أصحابنا
فيه اجماع المسلمين والأموال الباطنة هي الذهب والفضة والركاز وعروض التجارة وزكاة الفطر
وفى زكاة الفطر وجه انها من الأموال الظاهرة حكاه صاحب البيان وجماعة ونقله صاحب الحاوي
عن الأصحاب ثم اختار لنفسه أنها باطنة وهذا هو المذهب وبه قطع جمهور الأصحاب منهم القاضي
أبو الطيب والمحاملي في كتابيه وصاحب الشامل والبغوي وخلائق وهو ظاهر نص الشافعي وهو
المشهور وبه قطع الجمهور ذكر أكثرهم المسألة في باب زكاة الفطر قال أصحابنا وإنما كانت عروض
التجارة من الأموال الباطنة وإن كانت ظاهرة لكونها لا تعرف انها للتجارة أم لا فان العروض
لا تصير للتجارة الا بشروط سبقت في بابها والله أعلم (وأما) الأموال الظاهرة وهي الزروع والمواشي
والثمار والمعادن ففي جواز تفريقها بنفسه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما)
وهو الجديد جوازه (والقديم) منعه ووجوب دفعها إلى الامام أو نائبه وسواء كان الامام عادلا أو جائرا
يجب الدفع إليه على هذا القول لأنه مع الجور نافذ الحكم هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وحكى
البغوي وغيره وجها أنه لا يجب الصرف إليه إن كان جائرا على هذا القول لكن يجوز وحكى
الحناطي والرافعي وجها أنه لا يجوز الدفع إلى الجائر مطلقا وبهذا الوجه جزم الماوردي في آخر باب
نية الزكاة قال وسواء كان جائرا في الزكاة وغيرها أو جائرا فيها يصرفها في غير مصارفها
عادلا في غيرها وهذا الوجه ضعيف جدا بل غلط وهو مردود بما سبق من الأحاديث
والآثار وكذا الوجه الذي حكاه البغوي ضعيف أيضا قال أصحابنا وعلى هذا القول
164

القديم لو فرق بنفسه لم يجزئه وعليه دفعها ثانيا إلى الامام أو نائبه قالوا وعليه
أن ينتظر بها مجئ الساعي ويؤخرها ما دام يرجوه فإذا أيس منه فرقها بنفسه وأجزأته
لأنه موضع ضرورة (الثانية) له أن يوكل في صرف الزكاة التي له تفريقها بنفسه فان شاء وكل في الدفع
إلى الامام والساعي وان شاء في التفرقة على الأصناف وكلا هما جائز بلا خلاف وإنما جاز التوكيل
في ذلك مع أنها عبادة لأنها تشبه قضاء الديون ولأنه قد تدعوا الحاجة إلى الوكالة لغيبة المال وغير
ذلك قال أصحابنا سواء وكله في دفعها من مال الموكل أو من مال الوكيل فهما جائزان بلا خلاف
قال البغوي في أول باب نية الزكاة ويجوز أن يوكل عبدا أو كافرا في اخراج الزكاة كما يجوز توكيله
في ذبح الأضحية (الثالثة) له صرفها إلى الامام والساعي فإن كان الامام عادلا أجزأه الدفع إليه
بالاجماع وإن كان جائرا أجزأه على المذهب الصحيح المشهور ونص عليه الشافعي وقطع به الجمهور
وفيه الوجه السابق عن الحناطي والماوردي (الرابعة) في بيان الأفضل قال أصحابنا تفريقه بنفسه
أفضل من التوكيل بلا خلاف لأنه على ثقة من تفريقه بخلاف الوكيل وعلى تقدير خيانة الوكيل
لا يسقط الفرض عن المالك لان يده كيده فما لم يصل المال إلى المستحقين لا تبرأ ذمة المالك بخلاف
دفعها إلى الامام فإنه بمجرد قبضه تسقط الزكاة عن المالك قال الماوردي وغيره وكذا الدفع إلى
الامام أفضل من التوكيل لما ذكرناه (وأما) التفريق بنفسه والدفع إلى الامام ففي الأفضل منهما تفصيل
قال أصحابنا إن كانت الأموال باطنة والامام عادل ففيها وجهان (أصحهما) عند الجمهور الدفع
إلى الامام أفضل للأحاديث السابقة ولأنه يتيقن سقوط الفرض به بخلاف تفرقه بنفسه
فقد يصادف غير مستحق ولان الامام أعرف بالمستحقين وبالمصالح وبقدر الحاجات وبمن أخذ
قبل هذه المرة من غيره ولأنه يقصد لها وهذا الوجه قول ابن سريح وأبى اسحق قال المحاملي في
المجموع والتجريد هو قول عامة أصحابنا وهو المذهب وكذا قاله آخرون قال الرافعي هذا هو
الأصح عند الجمهور من العراقيين وغيرهم وبه قطع الصيدلاني وغيره (والثاني) تفريقها بنفسه أفضل
وبه قطع البغوي قال المصنف وهو ظاهر النص يعنى قول الشافعي في المختصر وأحب أن يتولى
الرجل قسمها بنفسه ليكون على يقين من أدائها عنه هذا نصه وهو ظاهر فيما قاله المصنف وتأوله
165

الأكثرون القائلون بالأول على أن المراد أنه أولى من الوكيل لامن الدفع إلى الامام وتعليله يؤيد
هذا التأويل لان أداءها عنه يحصل بيقين بمجرد الدفع إلى الامام وإن جار فيها لا إلى الوكيل
أما إذا كان الامام جائرا فوجهان حكاهما المصنف والأصحاب (أحدهما) الدفع إليه أفضل لما سبق
(وأصحهما) التفريق بنفسه أفضل ليحصل مقصود الزكاة هكذا صححه الرافعي والمحققون (وأما)
الأموال الظاهرة فظاهر كلام جماعة من العراقيين أنها على الخلاف إذا جوزنا له تفريقها بنفسه
وصرح به الغزالي ولكن المذهب أن دفعها إلى الامام أفضل وجها واحدا ليخرج من الخلاف
قال الرافعي هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور ونقل الماوردي الاتفاق عليه فحصل في الأفضل
أوجه (أصحها) ان دفعها إلى الامام أفضل إن كانت ظاهرة مطلقا أو باطنة وهو عادل والا فتفريقها
بنفسه أفضل (والثاني) بنفسه أفضل مطلقا (والثالث) الدفع إليه مطلقا (والرابع) الدفع إلى
العادل أفضل وبنفسه أفضل من الجائر (والخامس) في الظاهرة الدفع أفضل والباطنة بنفسه
(والسادس) لا يجوز الدفع إلى الجائر *
(فرع) قال الرافعي حكاية عن الأصحاب لو طلب الامام زكاة الأموال الظاهرة وجب التسليم إليه
بلا خلاف بذلا للطاعة فان امتنعوا قاتلهم الامام وإن كانوا مجيبين إلى اخراجها بأنفسهم لان في منعهم
افتياتا على الامام فإن لم يطلب الامام ولم يأت الساعي وقلنا يجب دفعها إلى الامام اخرها رب
المال ما دام يرجو مجئ الساعي فإذا أيس منه فرقها بنفسه نص عليه الشافعي فمن
أصحابنا من قال هذا تفريع على جواز تفريقها بنفسه ومنهم من قال هو جائز على القولين صيانة
لحق المستحقين عن التأخير وهذا هو الصحيح وهو الذي رجحه المصنف في آخر الفصل الذي
بعد هذا وجمهور الأصحاب ثم إذا فرق بنفسه وجاء الساعي مطالبا صدق رب المال في اخراجها
بيمينه واليمين مستحبة وقيل واجبة (وأما) الأموال الباطنة فقال الماوردي ليس للولاة نظر في زكاتها
بل أصحاب الأموال أحق بتفرقتها فان بذلوها طوعا قبلها الامام منهم فان علم الإمام من رجل أنه
لا يؤديها بنفسه فهل له أن يقول أما أن تفرقها بنفسك وأما أن تدفعها إلي لأفرقها فيه
وجهان يجريان في النذور والكفارات قلت (أصحهما) له المطالبة بل الصواب أنه يلزمه
166

المطالبة كما يلزمه إزالة المنكرات والله أعلم *
(فرع) لو طلب الساعي زيادة على الواجب لا يجب دفع الزيادة إليه وهل يجوز الامتناع من
أداء القدر الواجب إليه لتعديه أم لا خوفا من مخالفة ولاة الأمور فيه وجهان مشهوران
(أصحهما) الثاني وقد سبقت المسألة في أول باب صدقة الإبل والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(ويجب على الامام أن يبعث السعاة لاخذ الصدقة لان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من
بعده (كانوا يبعثون السعاة) ولان في الناس من يملك المال ولا يعرف ما يجب عليه ومنهم من يبخل
فوجب أن يبعث من يأخذ ولا يبعث الا حرا عدلا ثقة لان هذا ولاية وأمانة والعبد والفاسق
ليسا من أهل الولاية والأمانة ولا يبعث الا فقيها لأنه يحتاج إلى معرفة ما يؤخذ وما لا يؤخذ ويحتاج
إلى الاجتهاد فيما يعرض من مسائل الزكاة وأحكامها ولا يبعث هاشميا ولا مطلبيا ومن أصحابنا من
قال يجوز لان ما يأخذه على وجه العوض والمذهب الأول لما روى أن الفضل بن العباس رضي الله
عنهما (سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يوليه العمالة على الصدقة فلم يوله وقال أليس في خمس الخمس
ما يغنيكم عن أوساخ الناس) وفى مواليهم وجهان (أحدهما) لا يجوز لما روى أبو رافع قال (ولى رسول الله
صلى الله عليه وسلم رجلا من بنى مخذوم على الصدقة فقال اتبعني تصب منها فقلت حتى اسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فقال لي ان مولي القوم من أنفسهم وانا أهل بيت لا تحل لنا
الصدقة) (والثاني) يجوز لان الصدقة إنما حرمت علي بني هاشم وبني المطلب للشرف بالنسب
وهذا لا يوجد في مواليهم وهو بالخيار بين ان يستأجر العامل بأجرة معلومة ثم يعطيه ذلك من الزكاة
وبين أن يبعثه من غير شرط ثم يعطيه أجرة المثل من الزكاة) *
(الشرح) اما الحديث الأول وهو بعث النبي صلى الله عليه وسلم فصحيح مشهور مستفيد
رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم (بعث عمر بن الخطاب
رضي الله عنه على الصدقة) وفى الصحيحين عن سهل بن سعد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
(استعمل ابن اللبينة على الصدقات) والأحاديث في الباب كثيرة (واما) حديث الفضل فرواه مسلم
من رواية عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب قال (اتيت انا والفضل بن عباس
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه ان يؤمرنا على بعض الصدقات فنؤدي إليه كما يؤدى الناس
167

ونصيب كما يصيبون فسكت طويلا ثم قال (ان الصدقة لا تنبغي لآل محمد إنما هي أوساخ الناس) وفى
رواية لمسلم أيضا (ان هذه الصدقات أنما هي أوساخ الناس وانها لا تحل لمحمد ولا لآل محمد) وليس
في صحيحه (أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس) (واما) حديث أبي رافع فرواه أبو داود
والترمذي وقال حديث حسن صحيح (وقول) المصنف لا يبعث الا حرا عدلا ثقة لا حاجة إلى قوله
ثقة لان العدل لا يكون إلا ثقة (وقوله) روى أن الفضل ينكر عليه قوله روى بصيغة تمريض في حديث
صحيح وقد سبق التنبيه عن أمثال هذا والغرض بتكراره التأكيد في تحفظه (وقوله) يوليه العمالة
- بفتح العين - وهي العمل وأما بضمها فهي المال المأخوذ على العمل وليس مرادا هنا * (أما) الأحكام
ففيها مسائل (إحداها) قال أصحابنا يجب على الامام بعث السعاة لاخذ الصدقات لما ذكره المصنف والسعاة
جمع ساع وهو العامل واتفقوا على أنه يشترط فيه كونه مسلما حرا عدلا فقيها في أبواب الزكاة
ولا يشترط فقهه في غير ذلك قال أصحابنا هذا إذا كان التفويض للعامل عاما في الصدقات فأما إذا
عين له الامام شيئا معينا يأخذه فلا يعتبر فيه الفقه قال الماوردي في الأحكام السلطانية وكذا
لا يعتبر في هذا المعين الاسلام والحرية لأنه رسالة لا ولاية وهذا الذي قاله من عدم اشتراط الاسلام
مشكل والمختار اشتراطه (الثانية) هل يجوز كون العامل هاشميا أو مطلبيا فيه وجهان مشهوران ذكر
المصنف دليلهما (أصحهما) عند المصنف والبغوي وجمهور الأصحاب لا يجوز قال أصحابنا الخراسانيون
هذان الوجهان مبنيان على أن ما يأخذه العامل اجرة أو صدقة وفيه وجهان (إن قلنا) اجرة جاز وإلا فلا
وهو يشبه الإجارة من حيث التقدر بأجرة المثل ويشبه الصدقة من حيث أنه لا يشترط عقد إجارة
ولا مدة معلومة ولا عمل معلوم قال البغوي وآخرون ويجرى الوجهان فيما لو كان العامل من أهل
الفئ وهي المرتزقة الذين لهم حق في الديوان قال صاحب الشامل والأصحاب والوجهان في الهاشمي
والمطلبي هما فيمن طلب على عمله سهما من الزكاة فأما إذا تبرع بعمله بلا عوض أو دفع الامام إليه
أجرته من بيت المال فإنه يجوز كونه هاشميا أو مطلبيا بلا خلاف قال الماوردي في الأحكام السلطانية
يجوز كونه هاشميا ومطلبيا إذا أعطاه من سهم المصالح (الثالثة) هل يجوز أن يكون العامل
من موالي بني هاشم وبني المطلب فيه وجهان ذكر المصنف دليلهما (أصحهما) لا يجوز وهذان الوجهان
تفريع على قولنا لا يجوز أن يكون العامل هاشميا ولا مطلبيا فأما إذا جوزناه فمولاهم أولى قال
الرافعي ومنهم من حكي هذين الوجهين قولين (الرابعة) الامام بالخيار ان شاء بعث العامل من غير شرط
وأعطاه بعد مجيئه أجرة المثل من الزكاة وان شاء استأجره بأجرة معلومة من الزكاة وكلاهما جائز
168

باتفاق الأصحاب (أما) الأول فللأحاديث الصحيحة في ذلك ولان الحاجة تدعوا إليه لجهالة العمل
فتؤخر الأجرة حتى يعرف عمله فيعطي بقدره (وأما الثاني) فهو القياس والأصل ولا شك في جوازه
قال أصحابنا وإذا سمي له شيئا فان شاء سماه إجارة وان شاء جعالة ولا يسمي أكثر من أجرة المثل
فان زاد فوجهان حكاهما جماعة منهم الدارمي (أصحهما) تفسد التسمية وله أجرة المثل
من الزكاة (والثاني) لا تفسد بل يكون قدر أجرة المثل من الزكاة والباقي يجب في مال الإمام
لأنه صحيح العبارة والالتزام
* قال المصنف رحمه الله *
(ويبعث لما سوى زكاة الزروع والثمار في المحرم لما روى عن عثمان رضي الله عنه أنه قال
في المحرم (هذا شهر زكاتكم) ولأنه أول السنة فكان البعث فيه أولى والمستحب للساعي ان يعد الماشية
على الماء إن كانت ترد الماء وفي أفنيتهم ان لم ترد الماء لما روى عبد الله بن عمر وبن العاص رضي الله عنه ان
النبي صلى الله عليه وسلم قال (تؤخذ صدقات المسلمين عند مياههم أو عند أفنيتهم) فان اخبره صاحب
المال بالعدد وهو ثقة قبل منه وان بذل له الزكاة اخذها ويستحب ان يدعوا له لقوله تعالى (خذ
من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم ان صلاتك سكن لهم) والمستحب أن يقول
اللهم صل على آل فلان لما روى عبد الله بن أبي أوفى قال (جاء أبى إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بصدقة ماله فقال اللهم صل على آل أبي أوفى) وبأي شئ دعا جاز قال الشافعي رضي الله عنه أحب
أن يقول (آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت) وان ترك الدعاء
جاز لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ (اعلمهم ان عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في
فقرائهم ولم يأمره بالدعاء)) *
(الشرح) حديث عثمان سبق قريبا وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رواه أبو داود
والبيهقي وغيرهما وهذا لفظ رواية البيهقي (واما) لفظ رواية أبي داود ففيها (لا تؤخذ صدقاتهم الا في
دورهم) (وقوله في رواية الكتاب عند مياههم أو عند أفنيتهم) قال البيهقي هو شك من أبى
داود الطيالسي أحد الرواة ورواه البيهقي أيضا من رواية عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (تؤخذ صدقات أهل البادية على مياههم وبأفنيتهم) ويحتمل ان أوفى
رواية الكتاب ليست للشك كما قاله البيهقي بل للتقسيم كما هو مقتضي حديث عائشة ومعناه إن كانت
ترد الماء فعلى إناء والا فعند دورهم * (واما) حديث ابن أبي أوفى فرواه البخاري ومسلم وحديث معاذ
رواه البخاري ومسلم أيضا من رواية ابن عباس ومن رواية معاذ (وقوله) أفنيتهم جمع فناء - بكسر الفاء
169

وبالمد - وهو ما امتد مع جوانب الدار وقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) أي تطهرهم
بها من ذنوبهم والقراءة المشهورة التي قرأ بها القراء السبعة (تطهرهم) برفع الراء على أنه صفة لا جواب
وقرئ في غير السبع بالجزم على الجواب وقوله تعالي (وتزكيهم) قيل تصلحهم وقيل ترفعهم من
منازل المنافقين إلى منازل المخلصين وقيل تنمى أموالهم (وصل عليهم) أي ادع لهم وقرئ في
السبع (ان صلواتك سكن لهم) وان صلاتك سكن لهم أي رحمة (وقيل) طمأنينة (وقيل) وقار (وقيل) تثبيت
واسم أبى أوفى علقمة بن خالد بن الحارث كنية ابنه عبد الله أبو محمد ويقال أبو إبراهيم وأبو معاوية
الأسلمي وأبو أوفى وابنه صحابيان جليلان مشهوران وشهد ابنه بيعة الرضوان وهو آخر من توفى
من الصحابة بالكوفة وفى سنة ست وقيل سبع أو ثمان وثمانين من الهجرة رضي الله عنه (وقوله) آجرك الله:
فيه لغتان قصر الهمزة ومدها والقصر أجود وطهورا - بفتح الطاء - أي مطهرا (وقوله) أجرك الله فيما أعطيت
وجعله لك طهورا وبارك لك فيما أبقيت أحسن من قوله في التنبيه فإنه وسط قوله وبارك لك فيما أبقيت وتأخيره
أولي لتكون الدعوتان الأولتان اللتان من نوع واحد المتعلقتان بالمدفوع متصلتين ولا يفصل بينهما والله أعلم *
(أما) الأحكام ففيه مسائل (إحداها) قال أصحابنا الأموال ضربان (ضرب) لا يتعلق بالحول وهو
المعشرات فيبعث الامام الساعي لاخذ زكواتها وقت وجوبها وهو ادراكها بحيث يصلهم وقت
الجذاذ والحصاد (وضرب) يتعلق بالحول وهو المواشي وغيرها فالحول يختلف في حق الناس قال
الشافعي في المختصر والأصحاب ينبغي للساعي أن يعين شهرا يأتيهم فيه قال الشافعي والأصحاب
ويستحب أن يكون ذلك الشهر هو المحرم صيفا كان أو شتاء لأنه أول السنة الشرعية قالوا وينبغي أن
يخرج إليهم قبل المحرم ليصلهم في أوله وهذا الذي ذكرناه من تعيين الشهر مستحب ومتى خرج
جاز هذا هو المذهب وبه قطع الأصحاب وفيه وجه شاذ حكاه الرافعي انه واجب والصواب الأول
(الثانية) يستحب للساعي عد الماشية على الماء إن كانت ترده وإلا فعند أفنيتهم ولا يكلفهم ردها من
الماء إلى الأفنية ولا يلزمه أن يتبعها في المراعي فإن كان لرب المال ماشيتان عند مائين أمر بجمعهما عند أحدهما
وإن كانت لا ترد ماء لكنها تكتفي بالكلأ في الربيع ولا تحضر الأفنية فللساعي ان يكلفهم
احضارها إلى الأفنية صرح به المحاملي وغيره وهو مفهوم من نص الشافعي ولو خرج إليها كان
أفضل قال أصحابنا وإذا اخبره صاحبها بعددها وهو ثقة فله أن يصدقه ويعمل بقوله لأنه أمين
وإن لم يصدقه أو لم يختبره أو أختبره وصدقه وأراد الاحتياط بعدها عدها والأولى أن تجمع في حظيرة
ونحوها وينصب على الباب خشبة معترضة وتساق لتخرج واحدة ويثبت كل شاة إذا بلغت
170

المضيق فيقف المالك أو نائبه من جانب والساعي أو نائبه من جانب وبيد كل واحد منهما قضيب
يشير به إلى كل شاة أو يصيبان به ظهرها ونحو ذلك فهو أضبط فان اختلفا بعد العد وكان الفرض
يختلف بذلك أعادا العد (الثالثة) إذا اخذ الساعي الزكاة استحب ان يدعوا للمالك للآية والحديث
المذكورين ولا يتعين دعاء لكن يستحب ما حكاه المصنف عن الشافعي وهذا الدعاء سنة وليس بواجب هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والأصحاب وقال صاحب الحاوي ان لم يسأله المالك
الدعاء لم يجب وان سأله فوجهان (أصحهما) يندب ولا يجب (والثاني) يجب وحكي الحناطي والرافعي وجها
انه يجب مطلقا لظاهر القرآن والسنة ولقول الشافعي في مختصر المزني فحق على الوالي إذا اخذ
الصدقة أن يدعو له ويجيب هذا القائل عن حديث معاذ بأنه كان معلوما عنده لأنه كان من حفاظ
القرآن والآية صريحة فلا يحتاج إلى بيانه له كما لم يبين له في هذا الحديث نصب الزكاة لكونها
كانت معلومة له وهذا الوجه حكاه أصحابنا عن داود وأهل الظاهر ووافقونا على أن المالك إذا
دفع الزكاة إلى الفقراء لا يلزمهم الدعاء فحمل الأصحاب الآية والحديث وكلام الشافعي على
الاستحباب قياسا على أخذ الفقراء (وأما) إذا دفع المالك إلى الأصناف دون الساعي فالمذهب الصحيح
وبه قطع الجمهور أنه يستحب لهم ان يدعوا له كما يستحب للساعي وحكى صاحب البيان عن الشيخ
أبي حامد أنه لا يستحب وليس بشئ (وأما) صفة الدعاء فقد ذكرناها وقال المصنف يستحب
أن يقول اللهم صل على آل فلان وتابعه على هذا صاحب البيان وقال صاحب الحاوي ان قال
اللهم صل عليهم فلا بأس وهذا الذي قالوه خلاف المذهب وخلاف ما قطع به الأكثرون فقد
صرح الأكثرون بأنه تكره الصلاة على غير الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ابتداء في هذا
الموضع وغيره وإنما يقال تبعا فيقال صلي الله على النبي وعلى آله وأزواجه ونحو ذلك وقال المتولي
لا تجوز الصلاة على غير الأنبياء ابتداء ومقتضي عبارته التحريم والمشهور الكراهة وقيل أنه خلاف
الأولى ولا يسمى مكروها فحصل أربعة أوجه (أصحها) مكروه (والثاني) حرام (والثالث) خلاف
الأولى (والرابع) مستحب عند أخذ الصدقة وقد جمع الرافعي كلام امام الحرمين وسائر الأصحاب
فيه ولخصه فقال: قال الأئمة لا يقال: اللهم صل على فلان وان ورد في الحديث لان الصلاة صارت
مخصوصة في لسان السلف بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كما أن قولنا عز وجل مخصوص بالله تعالى
وكما لا يقال محمد عز وجل وإن كان عزيزا جليلا لا يقال أبو بكر أو على صلى الله عليه وسلم
وان صح المعنى قالوا وإنما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لأنه منصبه فله أن يقوله لمن شاء بخلافنا قال
171

وهل ذلك مكروه كراهة تنزيه أم مجرد ترك أدب فيه وجهان (الصحيح) الأشهر أنه مكروه وبه قطع القاضي
حسين والغزالي في الوسيط ووجهه امام الحرمين بان المكروه ما ثبت فيه نهى مقصود وقد ثبت
نهى مقصود عن التشبه باهل البدع وقد صار هذا شعارا لهم وظاهر كلام الصيدلاني والغزالي
في الوجيز أنه خلاف الأولى وصرح صاحب العدة بنفي الكراهة وقال الصلاة بمعنى الدعاء تجوز
على كل أحد اما بمعنى التعظيم فتختص بالأنبياء ولا خلاف أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعا
لهم فيقال صل على محمد وعلى آل محمد وأزوجه وذريته وأتباعه وأصحابه لان السلف استعملوه
وأمرنا به في التشهد قال الشيخ أبو محمد والسلام بمعني الصلاة فان الله تعالى قرن بينهما فلا يفرد به
غائب غير الأنبياء ولا بأس به على سبيل المخاطبة للاحياء والأموات من المؤمنين فيقال: سلام
عليكم: هكذا قال لا بأس به وليس بجيد بل الصواب أنه سنة للاحياء والأموات وهذه الصيغة
لا تستعمل في المسنون وكأنه أراد انه لا يمنع منه في المخاطبة بخلاف الغيبة (وأما) استحبابه في المخاطبة
فمعروف والله أعلم *
(فرع) يستحب الترضي والترحم على الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والعباد وسائر
الأخيار فيقال رضي الله عنه أو رحمة الله عليه أو رحمه الله ونحو ذلك (وأما) ما قاله بعض العلماء ان قول
رضي الله عنه مخصوص بالصحابة ويقال في غيرهم رحمه الله فقط فليس كما قال ولا يوافق عليه بل
الصحيح الذي عليه الجمهور استحبابه ودلائله أكثر من أن تحصر فإن كان المذكور صحابيا ابن
صحابي قال قال ابن عمر رضي الله عنهما وكذا ابن عباس وكذا ابن الزبير وابن جعفر وأسامة
ابن زيد ونحوهم ليشمله وأباه جميعا * قال المصنف رحمه الله *
(وإن منع الزكاة أو غل أخذ منه الفرض وعزره على المنع والغلول (وقال) في القديم يأخذه الزكاة
وشطر ماله ومضي توجيه القولين في أول الزكاة وإن وصل الساعي قبل وجوب الزكاة ورأي أن
يستسلف فعل وإن لم يسلفه رب المال لم يجبره على ذلك لأنها لم تجب بعد فلا يجبر على أدائه
وإن رأى أن يوكل من يقبضه إذا حال الحول فعل فان رأى أن يتركه حتى يأخذه مع زكاة القابل
فعل وإن قال رب المال لم يحل الحول على المال فالقول قوله وان رأى تحليفه حلفه احتياطا وان قال
بعته ثم اشتريته ولم يحل الحول عليه أو قال أخرجت الزكاة عنه وقلنا يجوز أن يفرق بنفسه ففيه
وجهان (أحدهما) يجب تحليفه لأنه يدعى خلاف الظاهر فان نكل عن اليمين أخذ منه الزكاة (والثاني)
يستحب تحليفه ولا يجب لان الزكاة موضوعة على الرفق فلو أوجبنا اليمين خرجت عن باب الرفق
172

ويبعث الساعي لزكاة الثمار والزرع في الوقت الذي يصادف فيه الادراك ويبعث معه من يخرص
الثمار فان وصل قبل الادراك ورأي أن يخرص الثمار ويضمن رب المال زكاتها فعل وان
وصل وقد وجبت الزكاة وبذل له أخذها ودعا له فإن كان الامام اذن للساعي في تفريقها
فرقها وان لم يأذن له حملها إلى الامام) *
(الشرح) فيه مسائل (إحداها) إذا ألزمته زكاة فمنعها أو غلها أي كتمها وخان فيها أخذ الامام
أو الساعي الفرض منه والقول الصحيح الجديد أنه لا يأخذ شطر ماله (وقال) في القديم يأخذه وسبق شرح
القولين بدليلهما وفرعها في أول كتاب الزكاة قال الشافعي في المختصر في آخر باب صدقة الغنم
السائمة: ولو غل صدقته عزر إذا كان الامام عادلا الا أن يدعى الجهالة ولا يعزر ان لم يكن الامام
عادلا: هذا نصه قال أصحابنا إذا كتم ماله أو بعضه عن الساعي أو الامام ثم أطلع عليه أخذ فرضه فإن كان
الامام أو الساعي جائرا في الزيادة بأن يأخذ فوق الواجب أولا يصرفها مصارفها لم يعزره لأنه
معذور في كتمه وإن كان عادلا فإن لم يدع المالك شبهة في الاخفاء عزره لأنه عاص آثم بكتمانه
وان ادعي شبهة بأن قال لم أعلم تحريم كتمانها أو قال ظننت أن تفرقتي بنفسي أفضل أو نحو ذلك
فإن كان ذلك محتملا في حقه لقرب اسلامه أو لقلة اختلاطه بالعلماء ونحوهم لم يعزره قال السرخسي
فان اتهمه فيه حلفه وإن كان ممن لا يخفى عليه لاختلاطه بالعلماء ونحوهم لم يقبل قوله وعزره (وأما) مانع الزكاة
فيعزر على كل تقدير الا أن يكون قريب عهد بالاسلام يخفى عليه وجوبها أو نحوه
(الثانية) إذا وصل
الساعي أصحاب الأموال فإن كان حول صاحب المال قد تم أخذ الزكاة ودعا له كما سبق وإن كان
الحول لم يتم على جميعهم أو بعضهم سأله الساعي تعجيل الزكاة ويستحب للمالك اجابته وتعجيلها
فان عجلها برضاه أخذها ودعا له وان امتنع لم يجبر لما ذكره المصنف ثم إن رأى الساعي المصلحة
في أن يوكل من يأخذها عند حلولها ويفرقها على أهلها فعل وان رأى أن يؤخرها ليأخذها منه في
العام المقبل فعل ويكتبها لئلا ينساها أو يموت فلا يعلمها الساعي بعده ورووا أن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه (أخر الزكاة عام الرمادة وكان عام مجاعة) وان رأى أن يرجع في وقت حلولها ليأخذها فعل
وان وثق بصاحب المال فوض التفريق إليه لأنه يجوز تفريقه بغير اذن فبالاذن أولى
(الثالثة) إذا
اختلف الساعي ورب المال قال أصحابنا إن كان قول المالك لا يخالف الظاهر بأن قال لم يحل الحول بعد
أو قال هذه السخال اشتريتها وقال الساعي بل تولدت من النصاب أو قال تولدت بعد الحول فقال
الساعي قبله أو قال الساعي كانت ماشيتك نصابا ثم توالدت فقال المالك بل تمت نصابا بالتوالد فالقول
173

قول المالك في جميع هذه الصور ونظائرها مما لا يخالف الظاهر فان رأى الساعي تحليفه حلفه واليمين
هنا مستحبة فان امتنع منها لم يكلف بها ولا زكاة عليه بلا خلاف لان الأصل براءته ولم يعارض
الأصل ظاهر وإن كان قول المالك مخالفا للظاهر بان قال بعته ثم اشتريته في أثناء الحول ولم يحل
حوله بعد أو قال فرقت الزكاة بنفسي وجوزنا ذلك له ونحو ذلك فالقول قول المالك بيمينه بلا خلاف
وهل اليمين مستحبة أم واجبة فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) مستحبة صححه
المحاملي في كتابيه وآخرون وقطع به جماعة منهم المحاملي في المقنع (فان قلنا) مستحبة فنكل لم يجبر على
اليمين ولا زكاة عليه (وان قلنا) واجبة فامتنع اخذت منه الزكاة قال أصحابنا وليس هذا أخذنا بالنكول
بل بالوجوب السابق والسبب المتقدم ومعناه ان الزكاة انعقد سبب وجوبها ويدعي مسقطها ولم
يثبته بيمينه ولا بغيرها والأصل عدمه فبقي الوجوب هذا هو المشهور وبه قطع الأصحاب الا أبا العباس
ابن القاص فقال هذه المسألة حكم فيها بالنكول على هذا الوجه قال أصحابنا وهذا غلط قال القاضي
أبو الطيب والأصحاب ونظير هذا اللعان فان الزوج إذا لاعن لزم المرأة حد الزنا فان لاعنت سقط
وان امتنعت لزمها الحد لا بامتناعها بل بلعان الزوج وإنما لعانها مسقط لما وجب بلعانه فإذا لم تلاعن
بقي الوجوب وهكذا الزكاة والله أعلم * ولو قال المالك هذا المال الذي في يدي وديعة وقال الساعي
بل هو ملك لك فوجهان مشهوران في الشامل وغيره (أحدهما) ان دعواه لا تخالف الظاهر فيكون
القول قوله بيمينه استحبابا قطعا لان ما في يد الانسان قد يكون لغيره (وأصحهما) انها مخالفة للظاهر
وصححه صاحب الشامل وبه قطع القاضي أبو الطيب في تعليقه والبندنيجي والمحاملي في كتابيه وغيرهم
والله أعلم
* (الرابعة) يستحب ان يخرج الساعي لاخذ زكاة الثمار والزروع في الوقت الذي يصادف ادراكها
وحصولها وقد سبق شرح هذه المسألة قريبا ويستحب أن يكون مع الساعي من يخرص ليخرص ما يحتاج
إلى خرصه وينبغي أن يكون خارصان ذكران حران ليخرج من الخلاف السابق في ذلك والله أعلم * (الخامسة)
إذا قبض الساعي الزكاة فإن كان الامام اذن له في تفريقها في موضعها فرقها وان امره بحملها حيث يجوز
الجمل اما لعدم من يصرف إليه في ذلك الموضع أو لقرب المسافة إذا قلنا به أو لكون الامام
والساعي يريان جواز النقل حملها وان لم يأذن له في التفرقة ولا امره بالحمل فمقتضى عبارة المصنف وغيره وجوب
الحمل إلى الامام وهكذا هو لان الساعي نائب الامام فلا يتولي الا ما اذن له فيه وإذا أطلق الولاية
174

في اخذ الزكوات لم يقتض الصرف إلى المستحقين (واعلم) ان عبارة المصنف تقتضي الجزم بجواز نقل
الزكاة للامام والساعي وان الخلاف المشهور في نقل الزكاة إنما هو في نقل رب المال خاصة وهذا هو
الأصح وقد قال الرافعي ربما اقتضى كلام الأصحاب طرد الخلاف في الامام والساعي وربما اقتضي
جواز النقل للامام والساعي والتفرقة حيث شاء قال وهذا أشبه وهذا الذي رجحه هو الراجح
الذي تقتضيه الأحاديث والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا لا يجوز للامام ولا للساعي بيع شئ من مال الزكاة من غير ضرورة بل يوصلها
إلى المستحقين بأعيانها لان أهل الزكاة أهل رشد لا ولاية عليهم فلم يجز بيع مالهم بغير اذنهم فان وقعت
ضرورة بان وقف عليه بعض الماشية أو خاف هلاكه أو كان في الطريق خطر أو احتاج إلى رد جبران أو إلى مؤنة
النقل أو قبض بعض شاة وما أشبهه جاز البيع للضرورة كما سبق في آخر باب صدقة الغنم انه يجوز دفع
القيمة في مواضع للضرورة * قال أصحابنا ولو وجبت ناقة أو بقرة أو شاة واحدة فليس للمالك بيعها وتفرقة
ثمنها على الأصناف بلا خلاف بل يجمعهم ويدفعها إليهم وكذا حكم الامام عند الجمهور وخالفهم البغوي فقال إن
رأى الامام ذلك فعله وان رأى البيع وتفرقة الثمن فعله والمذهب الأول * قال أصحابنا وإذا باع في
الموضع الذي لا يجوز فيه البيع فالبيع باطل ويسترد المبيع فان تلف ضمنه والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا إذا تلف من الماشية شئ في يد الساعي أو المالك إن كان بتفريط بان قصر
في حفظها أو عرف المستحقين وأمكنه التفريق عليهم فاخر من غير عذر ضمنها لأنه متعد بذلك وان لم يفرط
لم يضمن كالوكيل وناظر مال اليتيم إذا تلف في يده شئ بلا تفريط لا يضمن والله أعلم * وفى فتاوى
القفال ان الامام إذا لم يفرق الزكاة بعد التمكن ولا عذر له حتى تلفت عنده ضمنها كما سبق قال
والوكيل بتفرقة الزكاة لو اخر تفرقتها حتى تلف المال لم يضمن قال لان الوكيل لا يجب عليه
التفريق بخلاف الامام *
(فرع) قال أصحابنا لو جمع الساعي الزكاة ثم تلفت في يده بلا تفريط قبل أن تصل إلى الامام اسحق
اجرته في بيت المال لأنه أجير وممن صرح به صاحب الشامل والبيان ونقله صاحب البيان عن صاحب
الفروع * قال المصنف رحمه الله *
(والمستحب ان يسم الماشية التي يأخذها في الزكاة لما روى أنس رضي الله عنه قال (كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يسم إبل الصدقة) ولان بالوسم تتميز عن غيرها فإذا شردت ردت إلى
175

موضعها ويستحب ان يسم الإبل والبقر في أفخاذها لأنه موضع صلب فيقل الألم بوسمه ويخف الشعر
فيه فيظهر ويسم الغنم في آذانها ويستحب ان يكتب في ماشية الزكاة لله أو زكاة وفى ماشية الجزية
جزية أو صغار لان ذلك أسهل ما يمكن) *
(الشرح) حديث أنس رواه البخاري ومسلم ولفظهما قال أنس (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم
بعبد الله بن أبي طلحة ليحنكه فوافيته وفى يده الميسم يسم إبل الصدقة) وفى رواية (يسم غنما) (أما) أحكامه
وفروعه ففيه مسائل
(إحداها) قال الشافعي والأصحاب يستحب وسم الماشية التي للزكاة والجزية وهذا
الاستحباب متفق عليه عندنا ونقل صاحب الشامل وغيره انه اجماع الصحابة رضي الله عنهم قال العبدري
وبه قال أكثر الفقهاء * وقال أبو حنيفة يكره الوسم لأنه مثلة وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن المثلة ولأنه تعذيب للحيوان وهو منهي عنه * واحتج أصحابنا بحديث أنس المذكور وبآثار
كثيرة عن عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة رضي الله عنهم ولان الحاجة تدعوا إلى الوسم لتتميز
إبل الصدقة من إبل الجزية وغيرها ولا نهار بما شردت فيعرفها واجدها بعلامتها فيردها ولان من أخرجها
يكره له شراؤها فيعرفها لئلا يشتريها وممن ذكر هذا المعني الإمام الشافعي واعتمده واعترض عليه
بأنه وان عرف انها صدقة لا يعرف كونها صدقته وإنما يكره شراء صدقة غيره وأجاب
الأصحاب بأنه إذا عرف انها صدقة احتاط فاجتنبه وقد يعرف انها صدقته لاختصاص ذلك النوع
من الصدقة به ولغير ذلك من المصالح (وأما) احتجاج أبي حنيفة بالمثلة والتعذيب فهو عام وحديثنا
والآثار خاصة باستحباب الوسم فخصت ذلك العموم ووجب تقديمها عليه والله أعلم (الثانية) قال
أصحابنا وأهل اللغة الوسم أثر كية ويقال بعير موسوم وقد وسمه وسما وسمة والميسم الشئ الذي
يوسم به وجمعه مياسم ومواسم وأصله من السمة وهي العلامة ومنه موسم الحج لأنه معلم يجمع
الناس وفلان موسوم بالخير وعليه سمة الخير أي علامته قال أصحابنا يستحب وسم الإبل والبقر
في أصول أفخاذها والغنم في اذانها لما ذكره المصنف فلو وسم في غيره جاز الا الوجه فمنهي عن الموسم
فيه باتفاق أصحابنا وغيرهم من العلماء لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال (رأى رسول الله صلى الله عليه
وسلم حمارا موسوم الوجه فأنكر ذلك) رواه مسلم وعن جابر رضي الله عنه قال (نهى رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الضرب في الوجه وعن الوسم في الوجه) رواه مسلم وعن جابر أيضا ان النبي
صلى الله عليه وسلم (مر على حمار قد وسم في وجهه فقال لعن الله الذي وسمه) رواه مسلم: واختلفت
عبارات أصحابنا في كيفية النهى عن الوسم في الوجه فقال البغوي لا يجوز الوسم وقال صاحب
176

العدة الوسم على الوجه منهي عنه بالاتفاق وهو من أفعال الجاهلية وقال الرافعي يكره والمختار
التحريم كما أشار إليه البغوي وهو مقتضى اللعن وقد ثبت اللعن في الحديث كما ذكرناه والله أعلم:
(الثالثة)
ينبغي أن يميز بين سمة الزكاة والجزية قال الشافعي والأصحاب يستحب أن يكتب في ماشية الجزية جزية
أو صغار (وأما) ماشية الزكاة فقال الشافعي والأصحاب يستحب ان يكتب عليها صدقة أو زكاة
أو لله وقد نص الشافعي في مختصر المزني على أنه يكتب لله وصرح به الأصحاب منهم المصنف
وابن كج والدارمي والقاضي أبو الطيب في المجرد والمحاملي وصاحب الشامل والغزالي والبغوي
وصاحب العدة وخلائق آخرون قال صاحب الشامل يكتب صدقة أو زكاة قال فان كتب عليها لله كان
أبرك وأولى قال الرافعي نص الشافعي على كتابة لله قال واستبعده بعض من شرح الوجيز وبعض
من شرح المختصر من المتقدمين لان الدواب تتمعك وتضرب أفخاذها بأذنابها وهي نجسة وينزه
اسم الله تعالى عنها قال الرافعي والجواب عن هذا بأن اثبات اسم الله تعالى هنا لغرض التمييز
والاعلام لا على قصد الذكر قال ويختلف التعظيم والاحترام بحسب اختلاف المقصود ولهذا يحرم
على الجنب قراءة القرآن ولو اتي ببعض ألفاظه لا على قصد القراءة لم يحرم هذا كلام الرافعي (الرابعة)
قال الشافعي في المختصر والأصحاب يستحب أن تكون سمة الغنم الطف من سمة البقر قال أصحابنا
وسمة البقر الطف من سمة الإبل ودليله ظاهر (الخامسة) قال أصحابنا الوسم مباح في الحيوانات
التي ليست للصدقة ولا للجزية ولا يقال مندوب ولا مكروه (واما) حيوانهما فيستحب وسمه كما سبق
وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من رواية ابن عباس رضي الله عنهما انه كان يكوى في الجاعرتين وهما أصل
الفخذين ولفظ رواية مسلم بوهم ان الذي كان يكوى في الجاعرتين هو النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو العباس
ابن عبد المطلب أو انه ابن عباس كما أوضحته في شرح مسلم *
(فرع) قال البغوي والرافعي لا يجوز خصاء حيوان لا يؤكل لا في صغره ولا في كبره قال ويجوز
خصاء المأكول في صغره لان فيه غرضا وهو طيب لحمه ولا يجوز في كبره ووجه قولهما انه داخل في
عموم قوله تعالى اخبارا عن الشيطان (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) فخصص منه الختان والوسم
ونحوهما وبقي الباقي داخلا في عموم الذم والنهي *
(فرع) الكي بالنار ان لم تدع إليه حاجة حرام لدخوله في عموم تغيير خلق الله وفى تعذيب
الحيوان وسواء كوى نفسه أو غيره من آدمي أو غيره وان دعت إليه حاجة وقال أهل الخبرة انه
موضع حاجة جاز في نفسه وفى سائر الحيوان وتركه في نفسه للتوكل أفضل لحديث ابن عباس
177

رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (قيل يدخل من أمتك الجنة سبعون ألفا لا حساب
عليهم ولا عذاب قال وهم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) متفق عليه
وعن عمر ان ابن حصين رضي الله عنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل
الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب قالوا ومن هم يا رسول الله قال هم الذين لا يكتوون
ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون) رواه مسلم وعن عمران أيضا قال (وكان يسلم على حتى
اكتويت فتركت ثم تركت الكي فعاد) رواه مسلم ومعناه انه كان به مرض فاكتوى بسببه وكانت
الملائكة تسلم عليه قبل الكي لفضله وصلاحه فلما اكتوى تركوا السلام عليه فعلم ذلك فترك الكي مرة أخرى
وكان محتاجا إليه فعادوا وسلموا عليه رضي الله عنه والله أعلم *
(فرع) يكره انزاء الحمير على الخيل لحديث علي رضي الله عنه قال (أهديت لرسول الله صلى الله عليه
وسلم بغلة فركبها فقلت لو حملنا الحمير على الخيل فكانت لنا مثل هذه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنما يفعل ذلك الذين لا يعلمون) رواه أبو داود باسناد صحيح قال العلماء وسبب النهي انه سبب
لقلة الخيل ولضعفها *
(فرع) يحرم التحريش بين البهائم لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن التحريش بين البهائم) رواه أبو داود والترمذي باسناد صحيح لكن فيه أبو يحيى القتات وفى توثيقه
خلاف وروى له مسلم في صحيحه والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ولا يجوز للساعي ولا للامام ان يتصرف فيما يحصل عنده من الفرائض حتى يوصلها إلى أهلها
لان الفقراء أهل رشد لا يولي عليهم فلا يجوز التصرف في مالهم بغير اذنهم فان أخذ نصف شاة
أو وقف عليه شئ من المواشي وخاف هلاكه أو خاف ان يؤخذ في الطريق جاز له بيعه لأنه موضع
ضرورة وان لم يبعث الامام الساعي وجب على رب المال ان يفرق الزكاة بنفسه على المنصوص
لأنه حق للفقراء والامام نائب عنهم فإذا ترك النائب لم يترك من عليه أداؤه ومن أصحابنا من قال
(ان قلنا) ان الأموال الظاهرة يجب دفع زكاتها إلى الامام لم يجز ان يفرق بنفسه لأنه مال توجه حق القبض
فيه إلى الامام فإذا لم يطلب الامام لم يفرق كالخراج والجزية) *
(الشرح) هذه المسائل كما ذكرها وسبق شرحها قريبا قبل الوسم ومسألة النص سبق
شرحها مع نظائرها أول الباب والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
178

(ولا يصح أداء الزكاة الا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ
ما نوى) ولأنها عبادة محضة فلم تصح من غير نية كالصلاة وفى وقت النية وجهان (أحدهما) يجب
أن ينوى حال الدفع لأنه عبادة يدخل فيها بفعله فوجبت النية في ابتدائها كالصلاة (والثاني) يجوز
تقديم النية عليها لأنه يجوز التوكيل فيها ونيته غير مقارنة لأداء الوكيل فجاز تقديم النية عليها بخلاف
الصلاة ويجب أن ينوى الزكاة أو الصدقة الواجبة أو صدقة المال فان نوى صدقة مطلقة لم تجزه لان
الصدقة قد تكون نفلا فلا تنصرف إلى الفرض الا بالتعيين ولا يلزمه تعيين المال المزكي عنه وإن كان
له نصاب حاضر ونصاب غائب فاخرج الفرض فقال هذا عن الحاضر أو الغائب أجزأه لأنه
لو أطلق النية لكانت عن أحدهما فلم يضر تقييده بذلك فان قال إن كان مالي الغائب سالما فهذا
عن زكاته وان لم يكن سالما فهو عن الحاضر فإن كان الغائب هالكا أجزأه لأنه لو أطلق وكان
الغائب هالكا لكان هذا عن الحاضر وان قال إن كان مالي الغائب سالما فهذا عن زكاته أو تطوع
لم يجزه لأنه لم يخلص النية للفرض وان قال إن كان مالي الغائب سالما فهذا عن زكاته وان لم يكن
سالما فهو تطوع وكان سالما أجزأه لأنه أخلص النية للفرض ولأنه لو أطلق النية لكان هذا مقتضاه
فلم يضر التقييد وإن كان له من يرثه فأخرج مالا وقال إن كان قد مات مورثي فهذا عن زكاة ما ورثته
منه وكان قد مات لم يجزه لأنه لم يبن النية على أصل لان الأصل بقاؤه وان وكل من يؤدى الزكاة
ونوى عند الدفع إلى الوكيل ونوي الوكيل عند الدفع إلى الفقراء أجزأه وان نوى الوكيل ولم ينو الموكل
لم يجزه لان الزكاة فرض على رب المال قلم تصح من غير نية وان نوي رب المال ولم ينو الوكيل ففيه
طريقان (من) أصحابنا من قال يجوز قولا واحدا لان الذي عليه الفرض قد نوى في وقت الدفع إلى
الوكيل فتعين المدفوع للزكاة فلا يحتاج بعد ذلك إلى النية (ومن) أصحابنا من قال يبني على جواز تقديم
النية (فان قلنا) يجوز أجزأه (وان قلنا) لا يجوز لم يجزه وان دفعها إلى الامام ولم ينو ففيه وجهان (أحدهما)
يجزئه وهو ظاهر النص لان الامام لا يدفع إليه الا الفرض فاكتفى بهذا الظاهر عن النية (ومن) أصحابنا
من قال لا يجزئه وهو الأظهر لان الامام وكيل للفقراء ولو دفع إلى الفقراء لم يجز الا بالنية عند الدفع
فكذلك إذا دفع إلى وكيلهم وتأول هذا القائل قول الشافعي رحمه الله على من امتنع من أداء الزكاة
فأخذها الامام منه قهرا فإنه يجزئه لأنه تعذرت النية من جهته فقامت نية الامام مقام نيته) *
179

(الشرح) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من رواية عمر ابن الخطاب رضي الله عنه وسبق
بيانه في أول باب نية الوضوء وسبق هناك بيان الاحتراز بقوله عبادة محضة وإنما قاس على الصلاة للرد على
الأوزاعي فإنه قال لا تفتقر الزكاة إلى نية ووافق على افتقار الصلاة إلى النية وهذا القياس الذي ذكره
المصنف ينتقض بالعتق والوقف والوصية (وقوله) وفى وقت النية وجهان (أحدهما) يجب أن ينوى في
حال الدفع لأنها عبادة يدخل فيهما بفعله فوجبت النية في ابتدائها كالصلاة فقوله بفعله احتراز من
الصوم وفى الفصل مسائل (إحداها) لا يصح أداء الزكاة الا بالنية في الجملة وهذا لا خلاف فيه عندنا
وإنما الخلاف في صفة النية وتفريعها وبوجوبها قال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد وأبو ثور وداود
وجماهير العلماء وشذ عنهم الأوزاعي فقال لا تجب ويصح أداؤها بلا نية كأداء الديون ودليلنا
ما ذكره المصنف وتخالف الدين فان الزكاة عبادة محضة كالصلاة وأجاب القاضي أبو الطيب في تعليقه
بأن حقوق الآدمي لما لم يفتقر المتعلق منها بالبدن كالقصاص وحد القذف إلى نية لم يفتقر المتعلق
بالمال وحقوق الله تعالى المتعلقة بالبدن إلى النية فكذا المتعلقة بالمال وأجاب صاحب الشامل والتتمة
بأن الدين ليس عبادة وإن كان فيه حق لله تعالي وبهذا يسقط باسقاط صاحبه فالمغلب فيه حقه قال
أصحابنا فان نوى بقلبه دون لفظ لسانه أجزأه بلا خلاف وان لفظ بلسانه ولم ينو بقلبه ففيه
طريقان (أحدهما) لا يجزئه وجها واحدا وبه قطع العراقيون والسرخسي وغيره من الخراسانيين
(والطريق الثاني) فيه وجهان (أحدهما) يكفيه اللفظ باللسان دون نية القلب (والثاني) لا يكفيه
ويتعين القلب وهذا الطريق مشهور في كتب الخراسانيين ذكره الصيدلاني والفوراني وامام الحرمين
والغزالي والبغوي وآخرون قال الرافعي وهو الأشهر قال ومنهم من حكى هذا الخلاف قولين واتفق
القائلون بهذا الطريق على أن الأصح اشتراط نية القلب وممن قال بالاكتفاء باللسان القفال ونقله
الصيدلاني وامام الحرمين والغزالي قولا للشافعي وأشار القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد إلى هذا
فقال قال الشافعي في الام سواء نوى في نفسه أو تكلم فإنما أعطى فرض مال فأقام اللسان مقام النية
كما أقام أخذ الامام مقام النية قال وبينه في الام فقال إنما منعني ان أجعل النية في الزكاة كنية الصلاة
افتراق الصلاة والزكاة في بعض حالهما ألا ترى أنه يجوز دفع الزكاة قبل وقتها ويجزئ أن يأخذها
الوالي بغير طيب نفسه فتجزئ عنه وهذا لا يوجد في الصلاة هذا آخر كلام القاضي أبى الطيب وقال
امام الحرمين المنصوص للشافعي أن النية لابد منها قال وقال الشافعي في موضع آخر إن قال بلسانه
هذا زكاة مالي أجزأه قال واختلف أصحابنا في هذا النص فقال صاحب التقريب فيما حكاه عنه
180

الصيدلاني أراد الشافعي لفظ اللسان مع نية القلب قال وقالت طائفة يكفي اللفظ ولا تجب نية القلب
وهو اختيار القفال قال واحتج القفال بأمرين (أحدهما) أن الزكاة تخرج من مال المرتد ولا تصح
نيته (والثاني) جواز النية في أداء الزكاة ولو كانت نية القلب متعينة لوجبت على المكلف بها
مباشرتها لان النيات سر العبادات والاخلاص فيها قال الامام فقد حصل في النية قولان (أحدهما)
يكفي اللفظ أو نية القلب أيهما أتي به كفاه (والثاني) وهو المذهب تعيين نية القلب قال البغوي في
توجيه قول القفال في الاكتفاء باللفظ لان النيابة في الزكاة جائزة فلما ذاب شخص عن شخص فيها
جاز أن ينوب القلب عن اللسان قال ولا يرد علينا الحج حيث تجزئ فيه النيابة ويشترط فيه نية
القلب لأنه لا ينوب فيه من ليس من أهل الحج وفي الزكاة ينوب فيها من ليس من أهل وجوب الزكاة
عليه فإنه لو استناب عبدا أو كافرا في أداء الزكاة جاز هذا كلام البغوي وفى استنابة الكافر في إخراجها
نظر ولكن الصواب الجواز كما يجوز استنابته في ذبح الأضحية (المسألة الثانية) قال أصحابنا صفة
نية الزكاة أن ينوى هذا فرض زكاة مالي أو فرض صدقة مالي أو زكاة مالي أو الصدقة المفروضة
فيتعرض لفرض المال لان مثل هذا قد يقع كفارة ونذرا وهذه الصور كلها تجزئه بلا خلاف ولو
نوى الصدقة فقط لم تجزئه على المذهب وبه قطع المصنف وامام الحرمين والبغوي والجمهور وحكى
الرافعي فيه وجها انه يجزئه وهو ضعيف لان الصدقة تكون فرضا وتكون نفلا فلا يجزئه بمجردها
كما لو كان عليه كفارة فاعتق رقبة بنية العتق المطلق لا يجزئه بلا خلاف ولو نوى صدقة مالي أو صدقة
المال فوجهان حكاهما البغوي (أصحهما) لا يجزئه (والثاني) يجزئه لأنه ظاهر في الزكاة ولو نوى
الزكاة ولم يعترض للفرضية فطريقان (أصحهما) وبه قطع المصنف والجمهور أنه يجزئه وجها واحدا
(والثاني) على وجهين (أحدهما) يجزئه (والثاني) لا يجزئه حكاه امام الحرمين والمتولي وآخرون من
الخراسانيين قالوا وهما كالوجهين فيمن نوى صلاة الظهر ولم يتعرض للفرضية وضعف امام الحرمين
وغيره هذا الطريق وهذا الدليل وفرقوا بأن الظهر قد تكون نافلة في حق صبي ومن صلاها ثانيا
وأما الزكاة فلا تكون إلا فرضا فلا وجه لاشتراطه نية الفريضة مع نية الزكاة وقال البغوي إن قال
هذه زكاة مالي كفاه لان الزكاة اسم للفرض المتعلق بالمال وإن قال زكاة ففي إجزائه وجهان ولم يصحح
شيئا (وأصحهما) الاجزاء ولو قال هذا فرضى قال البندنيجي لم يجزئه بلا خلاف قال ونص الشافعي
أنه يجزئه و ومؤول والله أعلم (الثالثة) في وقت نية الزكاة وجهان مشهوران ذكرهما المصنف
والأصحاب (أحدهما) تجب النية حالة الدفع إلى الامام أو الأصناف ولا يجوز تقديمها عليه كالصلاة
181

(وأصحهما) يجوز تقديمها على الدفع للغير قياسا على الصوم لان القصد سد خلة الفقير
وبهذا قال أبو حنيفة وصححه البندنيجي وابن الصباغ والرافعي ومن لا يحصي من الأصحاب وهو
ظاهر نص الشافعي في الكفارة فإنه قال في الكفارة لا تجزئه حتى ينوى معها أو قبلها قال أصحابنا
والكفارة والزكاة سواء قالوا ومن قال بالأول تأول على من نوى قبل الدفع واستصحب النية إليه
وذكر المتولي تأويلا آخر أنه أراد المكفر بالصوم والتأويلان ضعيفان والصواب اجراء النص
على ظاهره قال أصحابنا والوجهان يجريان في الكفارة قال المتولي وآخرون صورة المسألة ان ينوى
حين يزن قدر الزكاة ويعزله ولا ينوى عند الدفع وأشار إلى هذا التصوير الماوردي والبغوي
(الرابعة) قال أصحابنا لا يشرط تعيين المال المزكي في النية فلو ملك مائتي درهم حاضرة ومائتي درهم غائبة
فأخرج عشرة دراهم بنية زكاة ماله أجزأه بلا تعيين وكذا لو ملك أربعين شاة وخمسة أبعرة فأخرج
شاتين بنية الزكاة أجزأه بلا تعيين ولو أخرج بلا تعيين خمسة دراهم بنية الزكاة مطلقا ثم بان تلف أحد المالين
أو تلف أحدهما بعد الاخراج فله جعل جعل عن الباقي ولو عين مالا لم ينصرف إلى غيره فإذا
نوى بالخمسة أحدهما بعينه فبان تالفا لا يجزئه عن الآخر: ولو قال هذه الخمسة عن أحدهما فبان
أحدهما تالفا والآخر سالما أجزأه عن السالم لأنه لو أطلق النية وقع عن السالم فلا يضره التقييد به
وان قال إن كان الغائب سالما فهذا عن زكاته والا فهو عن الحاضر وكان الغائب تالفا فقد قطع
المصنف والأصحاب بأنه يجزئ عن الحاضر وهو الصواب وكذا نقله امام الحرمين والرافعي عن
الجمهور قالوا ولا يضر هذا التردد لان التعيين ليس بشرط حتى لو قال هذا عن الحاضر أو عن الغائب
أجزأه وعليه خمسة أخرى إن كانا سالمين بخلاف ما لو نوى الصلاة عن فرض الوقت إن كان الوقت
دخل والا فعن الفائتة لا يجزئه بالاتفاق لان التعيين شرط في الصلاة وحكوا عن صاحب التقريب
ترددا في أجزائه عن الحاضر مع اتفاقهم على أجزائه عن الغائب إن كان باقيا والصواب الجزم
بأجزائه أيضا عن الحاضر إن كان الغائب تالفا ولو قال هذه عن الغائب إن كان باقيا والا فعن
الحاضر أو هي صدقة فإن كان الغائب سالما أجزأه عنه بلا خلاف وإن كان الغائب تالفا لم يقع عن
الحاضر كما قال الشافعي والمصنف والأصحاب واتفقوا على أنه لو قال إن كان مالي الغائب سالما
فهذا عن زكاته أو نافلة فكان سالما لم يجزئه لأنه لم يخلص القصد للفرض وان قال إن كان مالي الغائب
سالما فهذا عن زكاته والا فهو تطوع فكان سالما أجزأه عنه بلا خلاف صرح به المصنف والأصحاب
لأنه أخلص النية للفرض ولأنه لو أطلق النية لكان هذا مقتضاه فلا يضر التقييد به. وكذا لو
182

قال هذا عن زكاة مالي الغائب فإن كان تالفا فهو صدقة تطوع فكان سالما أجزأه عنه بالاتفاق
لما ذكرنا قال أصحابنا وفى هاتين الصورتين لو بان الغائب تالفا لا يجوز له الاسترداد قالوا وكذا
لو اقتصر على قوله زكاة الغائب فبان تالفا لا يجوز له الاسترداد الا إذا صرح فقال هذا عن زكاة
الغائب فإن كان تالفا استرددته وأما إذا اخرج الخمسة وقال إن كان مورثي مات وورثت ماله فهذه
زكاته فبان انه مات وورثه فلا تحسب الخمسة عن زكاته بلا خلاف صرح به المصنف وجميع الأصحاب
قالوا لأنه لم يبن علي أصل فان الأصل عدم الإرث بخلاف مسألة المال الغائب لان الأصل بقاؤه فاعتضد
التردد في النية بأصل البقاء ونظيره من قال في آخر رمضان أصوم غدا إن كان من رمضان فبان منه
يجزئه ولو قال ذلك في أوله لم يجزئه لما ذكرناه في مسألتي زكاة الغائب والإرث. قال صاحب
البيان وغيره وكذا لو جزم الوارث فقال هذا زكاة ما ورثته عن مورثي وهو لا يعلم موته فلا يجزئه
بالاتفاق أيضا قال أصحابنا والفرق بين هذا وبين ما لو باع مال أبيه ظانا حياته فبان ميتا فإنه صح
على الأصح لان البيع لا يفتقر إلى نية بخلاف الزكاة. وأما إذ قال هذا عن مالي الغائب إن كان
باقيا واقتصر على هذا القدر فكان باقيا أجزأه عنه وإن كان تالفا فليس له صرف المخرج إلى
زكاة الحاضر على المذهب وبه قطع القاضي أبو الطيب في المجرد وآخرون وفيه وجه ضعيف حكاه
الرافعي ان له صرفه إلى الحاضر والله أعلم (فان قيل) تصح هذه الصور على مذهب الشافعي وهو
لا يجوز نقل الزكاة فكيف تصح عن الغائب قال أصحابنا يتصور إذا جوزنا نقل الزكاة على أحد القولين
وتتصور بالاتفاق إذا كان غائبا عن مجلسه ولكنه معه في البلد لا في بلد آخر وتتصور فيمن هو في سفينة
أو برية ومعه مال وله مال آخر في أقرب البلاد إليه فموضع تفريق المالين واحد والله أعلم
(الخامسة) إذا وكل في إخراج الزكاة فان نوى الموكل عند الدفع إلى الوكيل ونوى الوكيل عند الصرف إلى
الأصناف أو عند الصرف إلى الامام أو الساعي أجزأه بلا خلاف وهو الأكمل وان لم ينويا أو نوى الوكيل
دون الموكل لم يجزئه بالاتفاق وإن نوى الموكل عند الدفع إلى الوكيل دون الوكيل فطريقان حكاهما
المصنف والأصحاب (أحدهما) القطع بالاجزاء لان المكلف بالزكاة هو المالك وقد نوى (وأصحهما)
فيه وجهان بناء على تقديم النية على التفريق (ان) جوزنا أجزأ هذا (والا) فلا والمذهب الاجزاء ولو وكله
وفوض إليه النية ونوى الوكيل قال إمام الحرمين والغزالي أجزأه بلا خلاف ولو دفع إلى الوكيل
بلا نية ودفع الوكيل ولم ينو لكن نوى الموكل حال دفع الوكيل إلى الأصناف أجزأ بلا خلاف لان
نية الموكل قارنت الصرف إلى المستحق فأشبه تفريقه بنفسه ولو دفع إلى الوكيل بلا نية ثم نوى قبل
183

صرف الوكيل إلى الأصناف فقد جزم صاحب (1) بالاجزاء ويحتمل انه فرعه على الأصح وهو تقدم النية
على الدفع والله أعلم (فان قيل) قلتم هنا أن النائب لو نوى وحده لا يجزئ بلا خلاف ولو نوى الموكل وحده
أجزأ على المذهب وفى الحج عكسه يشترط نية النائب وهو الأجير ولا تشترط نية المستأجر ولا تنفع
(فالجواب) ما أجاب به المتولي وغيره أن الفرض في الحج يقع بفعل الوكيل فاشترط قصده الأداء عن
المستأجر لينصرف الفعل إليه وأما هنا فالفرض يقع بمال الموكل فاكتفى بنيته قالوا ونظير الحج أن
يقول الموكل أد زكاة مالي من مالك فيشترط نية الوكيل والله أعلم (السادسة) ولي الصبي والمجنون
والسفيه يلزمه إخراج زكاة أموالهم ويلزمه النية بالاتفاق فلو دفع بلا نية لم يقع زكاة ويدخل في ضمانه
وعليه استرداده فان تعذر فعليه ضمانه من مال نفسه لتفريطه صرح به ابن كج والرافعي وغيرهما
وهو ظاهر (السابعة) إذا تولي السلطان قسم زكاة انسان فإن كان المالك دفعها طوعا ونوى عند الدفع
كفاه وأجزأه ولا يشترط نية السلطان عند الدفع إلى الأصناف بلا خلاف لأنه نائبهم في القبض
فإن لم ينو المالك ونوى السلطان أو لم ينو أيضا فوجهان مشهوران حكاهما المصنف والأصحاب
(أحدهما) يجزئه قال المصنف والأصحاب وهو ظاهر النص في المختصر وبه قطع جماعة من العراقيين
منهم المحاملي والقاضي أبو الطيب في المجرد وصححه الماوردي لان الامام لا يدفع إليه إلا الفرض
فاكتفى بهذا الظاهر عن النية (والثاني) لا يجزئه لأنه لم ينو والنية واجبة بالاتفاق ولان الامام إنما
يقبض نيابة عن المساكين ولو دفع المالك إلى المساكين بلا نية لم يجزئه فكذا إذا دفع إلى نائبهم
وهذا هو الأصح صححه المصنف هنا وفى التنبيه وشيخه القاضي أبو الطيب والبندنيجي والبغوي
وآخرون وصححه الرافعي في المحرر قال الرافعي في الشرح هذا هو الأصح عند جمهور المتأخرين
وتأولوا نص الشافعي في المختصر على أن المراد به الممتنع من دفع الزكاة فيجزئه إذا أخذها الامام
لكن نص الشافعي في الام انه يجزئه إذا أخذها الامام وإن لم ينو المالك طائعا كان أو مكرها
قلت وهذا النص يمكن تأويله أيضا على أن المراد يجزئه في الظاهر فلا يطالب بالزكاة مرة أخرى
وأما في الباطن فمسكوت عنه وقد قام دليل على أنه لا يجزئه في الباطن وهو ما ذكرناه هذا كله إذا
دفع رب المال إلى الامام باختياره فاما إذا امتنع فأخذها منه الامام قهرا فان نوى رب المال حال
الاخذ أجزأه ظاهر أو باطنا وإن لم ينو الامام وهذا لا خلاف فيه كما سبق في حال الاختيار وان لم
ينو رب المال نظر ان نوى الامام أجزأه في الظاهر فلا يطالب ثانيا وهل يجزئه باطنا فيه وجهان
184

مشهوران في طريقة الخراسانيين (أصحهما) يجزئه وهو ظاهر كلام المصنف وجمهور العراقيين
وتقام نية الامام مقام نيته للضرورة كما تقوم نية ولي الصبي والمجنون والسفيه مقام نيته للضرورة وان
لم ينو الامام أيضا لم يسقط الفرض في الباطن قطعا وهل يسقط في الظاهر فيه وجهان مشهوران
أيضا (الأصح) لا يسقط هكذا ذكره البغوي وآخرون (وأما) وجوب النية على الامام فالمذهب وجوبها
عليه وانها تقوم مقام نية المالك وأن الامام إذا لم ينو عصي هكذا قال هذا كله القفال في شرحه
التلخيص والرافعي وآخرون وقال امام الحرمين والغزالي (إن قلنا) لا تسقط الزكاة عن الممتنع في الباطن
لم تجب النية على الامام وإلا فوجهان (أحدهما) تجب كالولي (والثاني) لا لئلا يتهاون المالك بالواجب
عليه والله أعلم (الثامنة) لو تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة لم تسقط عنه الزكاة بلا خلاف كما لو وهبه
أو أتلفه وكما لو كان عليه صلاة فرض فصلي مائة صلاة نافلة لا يجزئه بلا خلاف * هذا مذهبنا * وقال
أصحاب أبي حنيفة يجزئه ولو تصدق ببعضه لم يجزئه أيضا عن الزكاة وبه قال أبو يوسف وقال محمد يجزئه
عن زكاة ذلك البغض ولو أخرج خمسة دراهم ونوى بها الفرض والتطوع لم يجزئه عن الزكاة وكانت تطوعا وبه
قال محمد وقال أبو يوسف تجزئه عن الزكاة * دليلنا انه لم تمحض للفرض فلم تصح عنه كالصلاة
والله أعلم * وفى كتاب الزيادات لأبي عاصم انه لو دفع مالا إلى وكيله ليفرقه تطوعا ثم نوى به الفرض
ثم فرقها الوكيل وقع عن الفرض إذا كان القابض مستحقا
* قال المصنف رحمه الله *
(ويجب صرف جميع الصدقات إلى ثمانية أصناف وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة
قلوبهم وفى الرقاب والغارمون وفى سبيل الله وابن السبيل (وقال) المزني وأبو حفص البابشامي يصرف
خمس الركاز إلى من يصرف إليه خمس الفئ والغنيمة لأنه حق مقدر بالخمس فأشبه خمس الفئ
والغنيمة (وقال) أبو سعيد الإصطخري تصرف زكاة الفطر إلى ثلاثة من الفقراء لأنه قدر قليل فإذا
قسم على ثمانية أصناف لم يقع ما يدفع إلى كل واحد منهم موقعا من الكفاية والمذهب الأول والدليل
عليه قوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفى الرقاب
والغارمين وفى سبيل الله وابن السبيل) فأضاف جميع الصدقات إليهم بلام التمليك وأشرك بينهم
بواو التشريك فدل على أنه مملوك لهم مشترك بينهم) *
(الشرح) قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله إن كان مفرق الزكاة هو المالك أو وكيله
سقط نصيب العامل ووجب صرفها إلى الأصناف السبعة الباقين ان وجدوا وإلا فالموجود منهم
185

ولا يجوز ترك صنف منهم مع وجوده فان تركه ضمن نصيبه وهذا لا خلاف فيه إلا ما سيأتي
إن شاء الله تعالى في المؤلفة من الخلاف وبمذهبنا في استيعاب الأصناف قال عكرمة وعمر بن عبد العزيز
والزهري وداود وقال الحسن البصري وعطاء وسعيد ابن جبير والضحاك والشعبي والثوري ومالك
وأبو حنيفة وأحمد وأبو عبيد له صرفها إلى صنف واحد قال ابن المنذر وغيره وروى هذا عن
حذيفة وابن عباس * قال أبو حنيفة وله صرفها إلى شخص واحد من أحد الأصناف * قال مالك
ويصرفها إلى أمسهم حاجة. وقال إبراهيم النخعي إن كانت قليلة جاز صرفها إلى صنف والا وجب
استيعاب الأصناف وحمل أبو حنيفة وموافقوه الآية الكريمة على التخيير في هذه الأصناف قالوا
ومعناها لا يجوز صرفها إلى غير هذه الأصناف وهو فيهم مخير * واحتج أصحابنا بما ذكره المصنف
وقد أجمعوا على أنه لو قال هذه الدنانير لزيد وعمر وبكر قسمت بينهم فكذا هنا (وأما) خمس الركاز
فالمشهور وجوب صرفه في مصرف باقي الزكوات وقال المزني وأبو حفص يصرف مصرف
خمس الفئ والغنيمة وبه قال أبو حنيفة وسبق بيانه في باب زكاة المعدن (وأما) زكاة الفطر فمذهب
الشافعي وجمهور أصحابه وجوب صرفها إلى الأصناف كلهم كباقي الزكوات وقال الإصطخري
يجوز صرفها إلى ثلاثة من الفقراء ودليلهما في الكتاب واختلف أصحابنا في تحقيق مذهب
الإصطخري فقال المصنف تصرف إلى ثلاثة من الفقراء واتفق أصحابنا على أن الإصطخري
يجوز صرفها إلى ثلاثة من الفقراء أو من المساكين واختلفوا في جواز الصرف عنده
إلى ثلاثة من صنف غير الفقراء والمساكين فحكى عنه الجمهور جواز صرفها إلى
ثلاثة من أي صنف كان ممن صرح بهذا عنه الماوردي والقاضي أبو الطيب والسرخسي وصاحب
البيان وآخرون وقال المحاملي في كتابيه المجموع والتجريد والمتولي بصرفها عنده إلى ثلاثة من الفقراء
دون غيرهم وصرح المتولي بأنه لا يسقط الفرض عنده بالدفع إلى ثلاثة من غير الفقراء
والمساكين قال السرخسي جوز الإصطخري صرفها إلى ثلاثة أنفس من صنف أو من أصناف مختلفة
قال وشرط الإصطخري في الاقتصار على ثلاثة أن يفرقها المزكي بنفسه قال فان دفعها إلى الامام
أو الساعي لزم الامام والساعي تعميم الأصناف لأنها تكثير في يده فلا يتعذر التعميم وشرط مالك
صرفها إلى ثلاثة من الفقراء خاصة هذا كلام السرخسي واختار الروياني في الحلية قول الإصطخري
وحكي عن جماعة من أصحابنا اختياره قال الرافعي ورأيت بخطه الفقيه أبي بكر بن بدران أنه سمع
186

أبا إسحاق الشيرازي يقول في اختياره ورأيه أنه يجوز صرف زكاة الفطر إلى شخص واحد
والمشهور في المذهب وجوب استيعاب الأصناف ورد أصحابنا مذهب الإصطخري وقوله إنها
قليلة بأنه يمكنه جمعها مع زكاة غيره فتكثر قالوا وينتقض قوله أيضا بمن لزمه جزء من حيوان بأن
تلف معظم النصاب بعد الحول وقبل التمكن وكذا لو لزمه نصف دينار عن عشرين مثقالا فإنه يلزمه
صرفه إلى الأصناف ووافق عليه الإصطخري والله أعلم * هذا كله إذا فرق الزكاة رب المال أو وكيله
فأما إذا فرق الامام أو الساعي فيلزمه صرف الفطرة وزكاة الأموال إلى الأصناف الموجودين ولا يجوز
ترك صنف منهم بلا خلاف لكن يجوز ان يصرف زكاة رجل واحد إلى شخص واحد
وزكاة شخصين أو أكثر إلى شخص واحد بشرط ان لا يترك صنفا ولا يرجح صنفا
على صنف وسنوضحه فيما بعد إن شاء الله تعالى *
* قال المصنف رحمه الله *
(فإن كان الذي يفرق الزكاة هو الامام قسمها على ثمانية أسهم (سهم) للعامل وهو أول ما يبتدئ
به لأنه يأخذه على وجه العوض وغيره يأخذه على قدر المواساة فإذا كان السهم قدر اجرته دفعه إليه
وإن كان أكثر من اجرته رد الفضل على الأصناف وقسمه على سهامهم وإن كان أقل من اجرته
تمم ومن أين يتمم قال الشافعي يتمم من سهم المصالح ولو قيل يتمم من حق سائر الأصناف لم يكن
به بأس فمن أصحابنا من قال فيه قولان (أحدهما) يتمم من حق سائر الأصناف لأنه يعمل لهم فكانت
اجرته عليهم (والثاني) يتمم من سهم المصالح لان الله تعالى جعل لكل صنف سهما فلو قسمنا ذلك
على الأصناف ونقصنا حقهم فضلنا العامل عليهم ومن أصحابنا من قال الامام بالخيار ان شاء تممه
من سهم المصالح وان شاء من سهامهم لأنه يشبه الحاكم لأنه يستوفى به حق الغير على وجه الأمانة
ويشبه الأجير فخير بين حقيهما ومنهم من قال إن كان بدأ بنصيبه فوجده ينقص تمم من سهامهم وإن كان
بدأ بسهام الأصناف فأعطاهم ثم وجد سهم العامل ينقص تممه من سهم المصالح لأنه يشق عليه استرجاع
ما دفع إليهم ومنهم من قال إن فضل عن قدر حاجة الأصناف شئ ء تمم من الفضل فإن لم يفضل
عنهم شئ تمم من سهم المصالح والصحيح هو الطريق الأول ويعطي الحاشر والعريف من سهم
العامل لأنهم من جملة العمال وفى اجرة الكيال وجهان (قال) أبو علي ابن أبي هريرة هي على رب المال
187

لأنها تجب للايفاء والايفاء حق على رب المال فكانت اجرته عليه (وقال) أبو إسحاق تكون من الصدقة
لأنا لو أوجبنا ذلك على رب المال زدنا عليه الفرض الذي وجب عليه في الزكاة) *
(الشرح) قال أصحابنا إذا أراد الامام قسم الزكاة فإن لم يكن عامل بأن دفعها إليه أرباب الأموال
فرقها على باقي الأصناف وسقط نصيب العامل ووجب صرف جميعها إلى الباقين من الأصناف كما لو فقد صنف
آخر وإن كان هناك عامل بدأ الامام بنصيب العامل لما ذكره المصنف وهذه البداءة مستحبة ليست بواجبة
بلا خلاف قال أصحابنا وينبغي. للامام وللساعي إذا فوض إليه تفريق الزكوات أن يعتني بضبط المستحقين
ومعرفة اعدادهم وقدر حاجاتهم واستحقاقهم بحيث يقع الفراغ من جميع الزكوات بعد معرفة ذلك أو معه
ليتعجل وصول حقوقهم إليهم وليأمن من هلاك المال عنده قال أصحابنا ويستحق العامل قدر اجرة عمله قل أم
أكثر وهذا متفق عليه فإن كان نصيبه من الزكاة قدر اجرته فقط أخذه وإن كان كثر من اجرته أخذ اجرته
والباقي للأصناف بلا خلاف لان الزكاة منحصرة في الأصناف فإذا لم يبق للعامل فيها حق تعين
الباقي للأصناف وإن كان أقل من اجرته وجب اتمام اجرته بلا خلاف ومن أين يتمم فيه هذه
الطرق الأربعة التي ذكرها المصنف (الصحيح) منها عند المصنف والأصحاب أنها على قولين (أصحهما)
يتمم من سهام بقية الأصناف وهذا الخلاف إنما هو في جواز التتميم من سهام بقية الأصناف (وأما)
بيت المال فيجوز التتميم منه بلا خلاف بل قال أصحابنا لو رأى الامام أن يجعل اجرة العامل كلها
من بيت المال ويقسم جميع الزكوات على بقية الأصناف جاز لان بيت المال لمصالح المسلمين وهذا
من المصالح صرح بهذا كله صاحب الشامل وآخرون ونقل الرافعي اتفاق الأصحاب عليه والله أعلم
قال أصحابنا ويعطى الحاشر والعريف والحاسب والكاتب والجابي والقسام وحافظ المال من سهم
العامل لأنهم من العمال ومعناه انهم يعطون من السهم المسمي باسم العامل وهو ثمن الزكاة لا انهم
يزاحمون العامل في اجرة مثله قال أصحابنا والحاشر هو الذي يجمع أرباب الأموال والعريف هو
كالنقيب للقبيلة وهو الذي يعرف الساعي أهل الصدقات إذا لم يعرفهم * قال أصحابنا ولا حق في
الزكاة للسلطان ولا لوالي الإقليم ولا للقاضي بل رزقهم إذا لم يتطوعوا من بيت المال في خمس الخمس
المرصد للمصالح لان عملهم عام في مصالح جميع المسلمين بخلاف عامل الزكاة قال أصحابنا وإذا لم
تقع الكفاية بعامل واحد أو كاتب واحد أو حاسب أو حاشر ونحوه زيد في العدد بقدر الحاجة وفى اجرة
الكيال والوزان وعاد الغنم وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) عند الأصحاب أنها على رب
188

المال وهذا الخلاف في الكيال والوزان والعاد الذي يميز نصيب الأصناف من نصيب رب المال فاما الذي يميز
بين الأصناف فأجرته من سهم العامل بلا خلاف وممن نقل الاتفاق عليه صاحب البيان قال ومؤنة احضار
الماشية ليعدها العامل تجب على رب المال لأنها للتمكين من الاستيفاء قال وأجرة حافظ الزكاة وناقلها
والبيت الذي تحفظ فيه الزكاة على أهل السهمان ومعناه انها تؤخذ من جملة مال الزكاة قال ويجوز
أن يكون الحافظ والناقل هاشميا ومطلبيا بلا خلاف لأنه أجير محض وذكر صاحب المستظهري
في اجرة راعي أموال الزكاة بعد قبضها وحافظها وجهين (أصحهما) وبه قطع صاحب العدة تجب
في جملة الزكاة (والثاني) تجب في سهم العامل خاصة والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(وسهم للفقراء والفقير هو الذي لا يجد ما يقع موقعا من كفايته فيدفع إليه ما تزول به حاجته من
أداة يعمل بها إن كان فيه قوة أو بضاعة يتجر فيها حتى لو احتاج إلى مال كثير للبضاعة التي تصلح
له ويحسن التجارة فيه وجب أن يدفع إليه وإن عرف لرجل مال وادعى أنه افتقر لم يقبل منه الا ببينة
لأنه ثبت غناه فلا تقبل دعوى الفقر الا ببينة كما لو وجب عليه دين آدمي وعرف له مال فادعى
الاعسار فإن كان قويا وادعى انه لا كسب له أعطى لما روى عبيد الله بن عبد الله بن الخيار " ان
رجلين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصدقة فصعد بصره إليهما وصوب ثم قال أعطيكما
بعد أن أعلمكما أنه لاحظ فيها لغنى ولا قوى مكتسب " وهل يحلف فيه وجهان (أحدهما) لا
يحلف لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يحلف الرجلين (والثاني) يحلف لأن الظاهر أنه يقدر
على الكسب مع القوة) *
(الشرح) هذا الحديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وغيرهما بأسانيد صحيحة عن
عبيد الله بن عدي بن الخيار قال " اخبرني رجلان انهما اتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع وهو يقسم الصدقة فسألاه منها فرفع فينا البصر وخفضه فرآنا جلدين فقال إن شئتما أعطيتكما
ولاحظ فيها لغنى ولا لقوى مكتسب " هذا لفظ اسناد الحديث ومتنه في كتاب السنن (وقوله) جلدين
بفتح الجيم أي قويين ووقع في أكثر نسخ المهذب عبيد الله بن عبد الله بن الخيار ووقع في
بعضها عبيد الله بن عدي بن الخيار وهذا الثاني هو الصواب والأول غلط صريح وهو عبيد الله
ابن عدي ابن الخيار بكسر الخاء المعجمة وبعدها ياء مثناة من تحت ابن نوفل بن عبد مناف
189

ابن قصي وهذا لا خلاف فيه بين العلماء من جميع الطوائف وكذا هذا في سنن أبي داود والنسائي
والبيهقي وغيرهما من كتب الحديث وينكر على المصنف فيه شئ آخر وهو أنه قال عن عبيد الله
أن رجلين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبيد الله تابعي فجعل الحديث مرسلا وهو غلط
بل الحديث متصل عن عبيد الله عن الرجلين كما ذكرناه هكذا هو في جميع كتب الحديث والرجلان
صحابيان لا يضر جهالة عينها لان الصحابة كلهم عدول وقوله صعد بصره هو بتشديد العين
أي رفعه وقوله وصوبه اي حفصة وقوله في أول الفصل من أداة يعمل بها هي بفتح الهمزة وبدال
مهملة وهي الآلة (اما) الأحكام ففيه مسائل (إحداها) في حقيقة الفقير الذي يستحق سهما في الزكاة
قال الشافعي والأصحاب هو الذي لا يقدر على ما يقع موقعا من كفايته لا بمال ولا بكسب وشرحه
الأصحاب فقالوا هو من لا مال له ولا كسب أصلا أوله مالا يقع موقعا من كفايته فإن لم يملك
إلا شيئا يسيرا بالنسبة إلى حاجته بأن كان يحتاج كل يوم إلى عشرة دراهم وهو يملك درهمين أو ثلاثة
كل يوم فهو فقير لان هذا القدر لا يقع موقعا من الكفاية قال البغوي وآخرون ولو كان له دار
يسكنها أو ثوب يلبسه متجملا به فهو فقير ولا يمنع ذلك فقره لضرورته إليه قال الرافعي ولم
يتعرضوا لعبده الذي يحتاج إليه للخدمة وهو في سائر الأصول ملحق بالمسكن قلت
قد صرح ابن كج في كتابه التجريد بأن العبد الذي يحتاج إليه للخدمة كالمسكن وانهما لا يمنعان
اخذه الزكاة لأنهما مما يحتاج إليه كثيابه قال الرافعي ولو كان عليه دين فيمكن أن يقال القدر الذي
يؤدى به الدين لا حكم لوجوده ولا يمنع الاستحقاق من سهم الفقراء كما لا اعتبار به في وجوب نفقة
القريب قال وفى فتاوى البغوي أنه لا يعطي سهم الفقراء حتى يصرف ما عنده إلى الدين قال البغوي يجوز
أخذ الزكاة لمن ماله على مسافة القصر إلى أن يصل ماله قال ولو كان له دين مؤجل فله أخذ كفايته
إلى حلول الأجل قال الرافعي وقد يتردد الناظر في اشتراطه مسافة القصر (وأما) الكسب فقال أصحابنا
يشترط في استحقاقه سهم الفقراء أن لا يكون له كسب يقع موقعا من كفايته كما ذكرنا في المال ولا
يشترط العجز عن أصل الكسب قالوا والمعتبر كسب يليق بحاله ومروءته (وأما) ما لا يليق به فهو
كالمعدوم قالوا ولو قدر على كسب يليق بحاله الا أنه مشتغل بتحصيل بعض العلوم الشرعية بحيث
لو اقبل على الكسب لانقطع عن التحصيل حلت له الزكاة لان تحصيل العلم
فرض كفاية (وأما) من لا يتأنى منه التحصيل فلا تحل له الزكاة إذا قدر على الكسب وإن كان مقيما
190

بالمدرسة هذا الذي ذكرناه هو الصحيح المشهور وذكر الدارمي في المشتغل بتحصيل العلم ثلاثة أوجه
(أحدها) يستحق وان قدر على الكسب (والثاني) لا (والثالث) إن كان نجيبا يرجى تفقهه ونفع
المسلمين به استحق والا فلا ذكرها الدارمي في باب صدقة التطوع وأما من أقبل على نوافل العبادات
والكسب يمنعه منها أو من استغراق الوقت بها فلا تحل له الزكاة بالاتفاق لان مصلحة عبادته
قاصرة عليه بخلاف المشتغل بالعلم قال أصحابنا وإذا لم يجد الكسوب من يستعمله حلت له
الزكاة لأنه عاجز *
(فرع) هل يشترط في الفقير الزمانة والتعفف عن السؤال فيه طريقان المذهب لا يشترط وبه
قطع الجمهور من العراقيين وغيرهم (والثاني) حكاه الخراسانيون فيه قولان (أصحهما) لا يشترط (والثاني)
يشترط قالوا الجديد لا يشترط والقديم يشترط وتأول العراقيون وغيرهم القديم *
(فرع) قال أصحابنا والمعتبر في قولنا يقع موقعا من كفايته المطعم والملبس والمسكن
وسائر مالا بد له منه على ما يليق بحاله بغير إسراف ولا اقتار لنفس الشخص ولمن هو في نفقته *
(فرع) المكفى بنفقة أبيه أو غيره ممن يلزمه نفقته والفقيرة التي لها زوج غنى ينفق عليها هل
يعطيان من سهم الفقراء فيه خلاف منتشر ذكره جماعة منهم إمام الحرمين ولخصه الرافعي فقال هو
مبنى على مسألة وهي لو وقف على فقراء أقاربه أوصى لهم فكانا في أقاربه هل يستحقان سهما في
الوقف والوصية فيه أربعة أوجه (أصحها) لا يستحقان قاله الشيخ أبو زيد والخضري وصححه الشيخ
أبو علي السنجي وغيره (والثاني) يستحقان قاله ابن الحداد (والثالث) يستحق القريب دون الزوجة
لأنها تستحق عوضا يثبت في ذمة الزوج ويستقر قاله الأودني (والرابع) عكسه والفرق أن القريب
يلزمه كفايته من كل وجه حتى الدواء وأجرة الطبيب فاندفعت حاجاته والزوجة ليس لها إلا مقدر
وربما لا يكفيها قال فأما مسألة الزكاة فان قلنا لا حق لهما في الوقف والوصية فالزكاة أولى والا فوجهان
(الأصح) يعطيان كالوقف والوصية (والثاني) لا وبه قال ابن الحداد والفرق أن الاستحقاق في
الوقف باسم الفقر ولا يزول اسم الفقر بقيام غيره بأمره وفى الزكاة بالحاجة ولا حاجة مع توجه النفقة
فأشبه من يكتسب كل يوم كفايته فإنه لا يجوز له الاخذ من الزكاة وإن كان معدودا من الفقراء
والخلاف في القريب إذا أعطاه غير من تلزمه نفقته من سهم الفقراء أو المساكين ويجوز له أن يعطيه
من غيرهما بلا خلاف (وأما) المنفق فلا يجوز له أن يعطيه من سهم الفقراء والمساكين بلا خلاف لأنه
191

مستغن بنفقته ولأنه يدفع عن نفسه النفقة وله أن يعطيه من سهم العامل والغارم والغازي والمكاتب
إذا كان بتلك الصفة وكذا من سهم المؤلفة الا أن يكون فقيرا فلا يجوز أن يعطيه لئلا يسقط النفقة
عن نفسه ويجوز أن يعطيه من سهم ابن السبيل مؤنة السفر دون ما يحتاج إليه سفرا وحضرا لان هذا
القدر هو المستحق عليه بسبب القرابة (وأما) في مسألة الزوجة فالوجهان جاريان في الزوج كغيره
لأنه بالصرف إليها لا يدفع عن نفسه النفقة بل نفقتها عوض لازم سواء كانت غنية أو فقيرة فصار
كمن استأجر فقيرا فان له دفع الزكاة إليه مع الأجرة وقطع العراقيون بأنه ليس له الدفع إليها فان
قلنا لا يجوز الدفع إليها فلو كانت ناشزة فوجهان (أحدهما) وهو الذي ذكره البغوي يجوز اعطاؤها
لأنه لا نفقة لها (وأصحهما) لا يجوز وبه قطع الشيخ أبو حامد والأكثرون لأنها قادرة على النفقة بترك
النشوز فأشبهت القادر على الكسب وللزوج أن يعطيها من سهم المكاتب والغارم بلا خلاف ومن
سهم المؤلفة على الأصح وبه قطع المتولي وقال الشيخ أبو حامد لا تكون المرأة من المؤلفة وهو ضعيف
قال أصحابنا ولا تكون المرأة عاملة ولا غازية وأما سهم ابن السبيل فان سافرت مع الزوج لم تعط
منه سواء سافرت باذنه أو بغير اذنه لان نفقتها عليه في الحالين لأنها في قبضته ولا تعطى
مؤنة السفر ان سافرت معه بغير اذنه لأنها عاصية وان سافرت وحدها فإن كان باذنه وأوجبنا نفقتها أعطيت
مؤنة السفر فقط من سهم ابن السبيل وان لم نوجبها أعطيت جميع كفايتها وان سافرت وحدها بغير
اذنه لم تعط منه لأنها عاصية قال الشيخ أبو حامد والأصحاب ويجوز ان تعطى هذه من سهم الفقراء
والمساكين بخلاف الناشزة لأنها تقدر على العود إلى طاعته والمسافرة لا تقدر فان تركت سفرها
وعزمت على العود إليه أعطيت من سهم ابن السبيل لخروجها عن المعصية هذا آخر ما نقله الرافعي
والله أعلم * قال أصحابنا ولو كانت الزوجة ذات مال فلها صرف زكاتها إلى الزوج إذا كان بصفة
الاستحقاق سواء صرفت من سهم الفقراء والمساكين أو نحوهم لأنه لا يلزمها نفقته فهو كالأجنبي
وكالأخ وغيره من الأقارب الذين لا تجب نفقتهم ودفعها إلى الزوج أفضل من الأجنبي كما سنوضحه
في أواخر الباب إن شاء الله تعالى *
(فرع) إذا كان له عقار ينقص دخله عن كفايته فهو فقير أو مسكين فيعطى من الزكاة تمام
كفايته ولا يكلف بيعه ذكره أبو العباس الجرجاني في التحرير والشيخ نصر المقدسي وآخرون *
(فرع) قال الغزالي في الاحياء لو كان له كتب فقه لم تخرجه عن المسكنة يعنى والفقر قال
فلا يلزمه زكاة الفطر وحكم كتابه حكم أثاث البيت لأنه محتاج إليه قال لكن ينبغي أن يحتاط في
192

فهم الحاجة إلى الكتاب فالكتاب يحتاج إليه لثلاثة أغراض التعليم والتفرج بالمطالعة والاستفادة فالتفرج
لا يعد حاجة كاقتناء كتب الشعر والتواريخ ونحوهما مما لا ينفع في الآخرة ولا في الدنيا فهذا يباع
في الكفارة وزكاة الفطر ويمنع اسم المسكنة (وأما) حاجة التعليم فإن كان للتكسب كالمؤدب والمدرس
بأجرة فهذه آلته فلا تباع في الفطرة كآلة الخياط وإن كان يدرس لقيام فرض الكفاية لم تبع ولا تسلبه
اسم المسكنة لأنها حاجة مهمة حاجة وأما الاستفادة والتعلم من الكتاب كادخاره كتاب طب ليعالج نفسه
به أو كتاب وعظ ليطالعه ويتعظ به فإن كان في البلد طبيب وأوعظ فهو مستغن عن الكتاب وإن لم
يكن فهو محتاج ثم ربما لا يحتاج إلى مطالعته الا بعد مدة قال فينبغي أن يضبط فيقال مالا يحتاج إليه
في السنة فهو مستغن عنه فتقدر حاجة أثاث البيت وثياب البدن بالسنة فلا يباع ثياب الشتاء في الصيف
ولا ثياب الصيف في الشتاء والكتب بالثياب أشبه وقد يكون له من كتاب نسختان فلا حاجة له
إلا إلى أحدهما فان قال إحداهما أصح والأخرى أحسن قلنا اكتف بالأصح وبع الأحسن وإن كانا
كتابين من علم واحد أحدهما مبسوط والآخر وجيز فإن كان مقصوده الاستفادة فليكتف بالمبسوط
وإن كان قصده التدريس احتاج إليهما هذا آخر كلام الغزالي وهو حسن الا قوله في كتاب الوعظ
انه يكتفى بالواعظ فليس كما قال لأنه ليس كل أحد ينتفع بالواعظ كانتفاعه في خلوته وعلى حسب
ارادته وقال أبو عاصم العبادي في كتابه الزيادات لو كان له كتب علم وهو عالم جاز دفع سهم الفقراء إليه
قال ولا تباع كتبه في الدين والله أعلم *
(فرع) سئل الغزالي عن القوى من أهل البيوتات الذين لم تجر عادتهم بالتكسب بالبدن هل له
اخذ الزكاة من سهم الفقراء والمساكين فقال نعم وهذا صحيح جار على ما سبق ان المعتبر حرفة تليق
به والله أعلم (المسألة الثانية) في قدر المصروف إلى الفقير والمسكين قال أصحابنا العراقيون وكثيرون
من الخراسانيين يعطيان ما يخرجهما من الحاجة إلى الغنى وهو ما تحصل به الكفاية على الدوام
وهذا هو نص للشافعي رحمه الله واستدل له الأصحاب بحديث قبيصة بن المخارق الصحابي رضي الله عنه
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تحل المسألة الا لاحد ثلاثة رجل تحمل حمالة فحلت له
المسألة حتى يصيبها ثم يمسك ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواما
من عيش أو قال سدادا من عيش ورجل اصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه
لقد أصابت فلانا فاقة فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش فما سواهن
193

من المسألة يا قبيصة سحت يأكلها صاحبها سحتا " رواه مسلم في صحيحه والقوام والسداد بكسر أولهما وهما
بمعنى قال أصحابنا فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة حتى يصيب ما يسد حاجته فدل على ما ذكرناه قالوا
وذكر الثلاثة في الشهادة للاستظهار لا للاشتراط قال أصحابنا فإن كان عادته الاحتراف أعطي ما يشترى
به حرفته أو آلات حرفته قلت قيمة ذلك أم كثرت ويكون قدره بحيث يحصل له من ربحه ما يفي
بكفايته غالبا تقريبا ويختلف ذلك باختلاف الحرف والبلاد والأزمان والأشخاص وقرب جماعة
من أصحابنا ذلك فقالوا من يبيع البقل يعطي خمسة دراهم أو عشرة ومن حرفته بيع الجوهر يعطى عشرة
آلاف درهم مثلا إذا لم يتأت له الكفاية بأقل منها ومن كان تاجرا أو خبازا أو عطارا أو صرافا
أعطى بنسبة ذلك ومن كان خياطا أو نجارا أو قصارا أو قصابا أو غيرهم من أهل الصنائع أعطي
ما يشترى به الآلات التي تصلح لمثله وإن كان من أهل الضياع يعطى ما يشترى به ضيعة أو حصة
في ضيعة تكفيه غلتها على الدوام قال أصحابنا فإن لم يكن محترفا ولا يحسن صنعة أصلا ولا تجارة
ولا شيئا من أنواع المكاسب أعطي كفاية العمر الغالب لأمثاله في بلاده ولا يتقدر بكفاية سنة قال
المتولي وغيره يعطي ما يشترى به عقارا يستغل منه كفايته قال الرافعي ومنهم من يشعر كلامه بأنه
يعطى ما ينفق عينه في مدة حياته والصحيح بل الصواب هو الأول هذا الذي ذكرناه من اعطائه
كفاية عمره هو المذهب الصحيح الذي قطع به العراقيون وكثيرون من الخراسانيين ونص عليه
الشافعي وذكر البغوي والغزالي وغيرهما من الخراسانيين أنه يعطي كفاية سنة ولا يزاد لان الزكاة
تتكرر كل سنة فيحصل كفايته منها سنه سنة وبهذا قطع أبو العباس ابن القاص في المفتاح والصحيح
الأول وهو كفاية العمر قال الشيخ نصر المقدسي هو قول عامة أصحابنا قال وهو المذهب وقال
194

الرافعي هو قول أصحابنا العراقيين وآخرين وقال صاحب البيان هو المنصوص وقول جمهور أصحابنا
(المسألة الثالثة) إذا عرف لرجل مال فادعي تلفه وإنه فقير أو مسكين لم يقبل منه إلا ببينة لما ذكره المصنف
وهذا لا خلاف فيه وفى هذه البينة وصفتها كلام سيأتي إن شاء الله تعالى في فصل المكاتب قال
الرافعي ولم يفرقوا بين دعواه الهلاك بسبب خفى كالسرقة أو ظاهر كالحريق وان لم يعرف له مال
وادعى الفقر أو المسكنة قبل قوله ولا يطالب ببينة بلا خلاف لان الأصل في الانسان الفقر (المسألة
الرابعة) إذا ادعى أنه لا كسب له فإن كان ظاهره عدم الكسب كشيخ هرم أو شاب ضعيف البنية
ونحوهما قبل قوله بغير يمين بلا خلاف لان الأصل والظاهر عدم الكسب وإن كان شابا قويا لم
يكلف البينة بلا خلاف بل يقبل قوله وهل يحلف فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما
(أصحهما) يقبل قوله بلا يمين للحديث ولان مبنى الزكاة على المسامحة والرفق فلا يكلف يمينا والقائل
الآخر يتأول الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم من حالهما عدم الكسب والقدرة وهذا تأويل ضعيف
فان آخر الحديث يخالف هذا (فان قلنا) يحلف فهل اليمين مستحبة أو شرط فيه وجهان فان نكل
فان قلنا شرط لم يعط وإلا أعطى ولو قال لا مال لي واتهمه فهو كقوله لا كسب لي فيجئ في تحليفه
ما ذكرناه هكذا نقلوه وهو ظاهر
* قال المصنف رحمه الله *
(وسهم للمساكين والمسكين هو الذي يقدر على ما يقع موقعا من كفايته إلا أنه لا يكفيه وقال
أبو إسحاق هو الذي لا يجد ما يقع موقعا من كفايته فأما الذي يجد ما يقع موقعا من كفايته فهو
الفقير والأول أظهر لان الله تعالى بدأ بالفقراء والعرب لا تبدأ إلا بالأهم فالأهم فدل على أن الفقير
أمس حاجة ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال " اللهم أحيني مسكينا وأمتني مسكينا " وكان
صلى الله عليه وسلم " يتعوذ من الفقر " فدل على أن الفقر أشد ويدفع إلى المسكين تمام الكفاية فان
ادعي عيالا لم يقبل منه إلا ببينة لأنه يدعي خلاف الظاهر) *
195

(الشرح) اما قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يتعوذ من الفقر " فهو ثابت في الصحيحين من
رواية عائشة رضي الله عنها (واما) حديث " أحيني مسكينا وأمتني مسكينا " فرواه الترمذي في
جامعه في كتاب الزهد والبيهقي في سننه وغيرهما من رواية انس رضي الله عنه واسناده ضعيف
ورواه ابن ماجة في سننه في كتاب الزهد من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه واسناده
أيضا ضعيف ورواه البيهقي أيضا من رواية عبادة بن الصامت قال البيهقي قال أصحابنا فقد استعاذ صلى الله عليه
وسلم من الفقر وسأل المسكنة وقد كان له صلى الله عليه وسلم بعض الكفاية فدل على أن المسكين من له
بعض الكفاية قال البيهقي وقد روى في حديث انس ان النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ " من المسكنة
والفقر " فلا يجوز أن يكون استعاذ من الحال التي شرفها في اخبار كثيرة ولا من الحال التي سأل صلى الله عليه وسلم
ان يحيى ويمات عليها قال ولا يجوز أن تكون مسألته صلى الله عليه وسلم مخالفة لما مات عليه صلى الله عليه وسلم فقد مات
مكفيا بما أفاء الله تعالى عليه قال ووجه هذه الأحاديث عندي انه استعاذ من فتنة الفقر والمسكنة اللذين
يرجع معناهما إلى القلة كما استعاذ صلى الله عليه وسلم من فتنة الغنى فقد روت عائشة رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم كأن يقول " اللهم إني أعوذ بك من فتنة النار وفتنة الفقر وعذاب القبر وشر فتنة الغنى
وشر فتنه الفقر اللهم إني أعوذ بك من شر فتنة الدجال " رواه البخاري ومسلم وفيه دليل على أنه صلى الله عليه وسلم
إنما استعاذ من شر فتنة الفقر دون حال الفقر ومن فتنة الغنى دون حال الغني قال واما قوله صلى الله عليه وسلم إن كان قال
" أحيني مسكينا وأمتني مسكينا " فان صح طريقه وفيه نظر فالذي يدل عليه حاله عند وفاته صلى الله عليه وسلم
انه لم يسأل
مسكنه يرجع معناها إلى القلة بل مسكنة معناها الاخبات التواضع وان لا يكون من الجبابرة المتكبرين وان
لا يحشر في زمرة الأغنياء المترفين قال القتيبي المسكنة مشتقه من السكون يقال تمسكن الرجل إذا لان وتواضع
وخشع هذا آخر كلام البيهقي ومذهب أبي حنيفة ومالك ان المسكين أسوأ حالا من الفقير كما حكاه المصنف عن أبي إسحاق
المروزي قال أصحابنا والخلاف بيننا وبين أبي حنيفة في الفقير والمسكين لا يظهر له فائدة
في الزكاة لأنه يجوز عنده صرف الزكاة إلى صنف واحد بل إلى شخص واحد من
صنف لكن يظهر في الوصية للفقراء دون المساكين أو للمساكين دون
دون الفقراء وفيمن أوصي بألف للفقراء وبمائة للمساكين وفيمن نذر أو حلف ليتصدقن على أحد
الصنفين دون الآخر أما إذا أطلق أحد الصنفين في الوصية والوقف والنذر وجميع المواضع غير
الزكاة ولم ينف الآخر فإنه يجوز عندنا أن يعطى الصنف الآخر بلا خلاف صرح به أصحابنا واتفقوا
196

عليه وضابطه انه متى أطلق الفقراء أو المساكين تناول الصنفين وإن جمعا أو ذكر أحدهما ونفى الآخر
وجب التمييز حينئذ ويحتاج عند ذلك إلى بيان النوعين أيهما أسوأ حالا والمشهور عندنا وهو الذي
نص عليه الشافعي وجماهير أصحابنا المتقدمين والمتأخرين ان الفقير أسوأ حالا كما ذكره المصنف
وبهذا قال خلائق من أهل اللغة (أما) حقيقة المسكين فقال الشافعي والأصحاب هو من يقدر على
ما يقع موقعا من كفايته ولا يكفيه قال أصحابنا مثاله يحتاج إلى عشرة ويقدر على ثمانية أو سبعة
وسبق في فصل الفقير ان القدرة على الكسب كالقدرة على المال وتقدم بيان الكسب المعتبر والمال
المعتبر وان الفقير والمسكين يعطيان تمام كفايتها وسبق كيفية اعطاء الكفاية وجميع الفروع السابقة
لا فرق فيها بين الفقير والمسكين قال أصحابنا وسواء كان المال الذي يملكه المسكين نصابا أو أقل
أو أكثر إذا لم يبلغ كفايته فيعطى تمام الكفاية * وقال أبو حنيفة لا يعطى من يملك نصابا * دليلنا ان
هذا لا أصل له والنصوص مطلقة فلا يقبل تقييدها إلا بدليل صحيح ولو ادعى الفقير أو المسكين
عيالا وطلب ان يعطى كفايته وكفايتهم فهل يقبل قوله في العيال بغير بينة أم لا بد من البينة فيه
وجهان مشهوران حكاهما الشيخ أبو حامد وصاحب البيان وآخرون (أصحهما) لا يعطي إلا ببينة
لامكانها وبهذا قطع المصنف والأكثرون
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وسهم للمؤلفة وهم ضربان مسلمون وكفار فأما الكفار فضربان ضرب يرجي خير وضرب
يخاف شره وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم وهل يعطون بعده فيه قولان (أحدهما) يعطون
لان المعنى الذي به أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم قد يوجد بعده (والثاني) لا يعطون لان الخلفاء
رضي الله عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطوهم وقال عمر رضي الله عنه " انا لا نعطي على الاسلام
شيئا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليفكر " فإذا قلنا إنهم يعطون فإنهم لا يعطون من الزكاة لان الزكاة
لا حق فيهما للكفار وإنما يعطون من سهم المصالح وأما المسلمون فهم أربعة اضرب (أحدها) قوم
لهم شرف فيعطون ليرغب نظراؤهم في الاسلام لان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الزبرقان بن بدر
وعدي بن حاتم (والثاني) قوم أسلموا ونيتهم في الاسلام ضعيفة فيعطون لتقوى نيتهم لان النبي
صلى الله عليه وسلم أعطى أبا سفيان بن حرب وصفوان ابن أمية والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن
لكل أحد منهم مائة من الإبل وهل يعطى هذان الفريقان بعد النبي صلى الله عليه وسلم فيه قولان
(أحدهما) لا يعطون لان الله تعالى أعز الاسلام فأغنى عن التألف بالمال (والثاني) يعطون لان المعنى
الذي به أعطوا قد يوجد بعد النبي صلى الله عليه وسلم ومن أين يعطون فيه قولان (أحدهما) من
197

الصدقات للآية (والثاني) من خمس الخمس لان ذلك مصلحة فكان من سهم المصالح (والضرب
الثالث) قوم يليهم قوم من الكفار ان أعطوا قاتلوهم (والضرب الرابع) قوم يليهم قوم من أهل الصدقات
ان أعطوا جبوا الصدقات وفى هذين الضربين أربعة أقوال (أحدها) يعطون من سهم المصالح
لان ذلك مصلحة (والثاني) من سهم المؤلفة من الصدقات للآية (والثالث) من سهم الغزاة
لأنهم يغزون (والرابع) وهو المنصوص انهم يعطون من سهم الغزاة ومن سهم المؤلفة لأنهم جمعوا
معنى الفرقين) *
(الشرح) حديث اعطاء النبي صلى الله عليه وسلم مؤلفة الكفار صحيح مشهور من ذلك أنه
صلى الله عليه وسلم " أعطي صفوان بن أمية من غنائم حنين " وصفوان يومئذ كافر قال صفوان لقد
أعطاني ما أعطاني وانه لا بغض الناس إلى فما برح يعطيني حتى أنه لأحب الناس إلى صلى الله عليه وسلم " رواه مسلم
وأما الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فرواه البيهقي وحديث إعطاء أبي سفيان بن حرب وصفوان
والأقرع وعيينة كل واحد منهم مائة من الإبل رواه مسلم في صحيحه هكذا من رواية رافع بن خديج
(وأما) الزبرقان فبزاي مكسورة ثم باء موحدة ساكنة ثم راء مكسورة ثم قاف وهو أحد
رؤساء العرب وسادات بنى تميم والزبرقان لقب له واسمه الحصين ابن بلد ابن امرئ القيس كنيته
أبو عياش بالشين المعجمة لقب بالزبرقان لحسنه وقيل لصفرة عمامته ومنه زبرقت الثوب إذا صفرته
وكان يلبس عمامة مزبرقة بالزعفران وكان يقال له قمر نجد لحسنه أسلم سنة تسع ووفد على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأكرمه وولاه صدقات قومه وأقره عليها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وقد بسطت
أحواله في التهذيب وكذلك أحوال هؤلاء المذكورين وكلهم صحابة رضي الله عنهم وسمي هذا
الصنف مؤلفة لأنهم يتألفون بالعطاء وتستمال به قلوبهم (أما) أحكام الفصل فقال أصحابنا المؤلفة
ضربان مسلمون وكفار والكفار صنفان (من) يرجي اسلامه (ومن) يخاف شره فهؤلاء كان النبي
صلى الله عليه وسلم يعطيهم كما ذكرنا من الغنائم لا من الزكاة وهل يعطون بعده فيه قولان مشهوران
ذكرهما المصنف بدليلهما (أحدهما) يعطون للحديث (وأصحهما) باتفاق الأصحاب وبه قطع جماعة
منهم البغوي لا يعطون لما ذكره المصنف رحمه الله وأجابوا عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم
أعطاهم من خمس الخمس وكان ملكا له خالصا يفعل فيه ما شاء بخلاف من بعده (فان قلنا) يعطون
أعطوا من مال المصالح ولا يعطون من الزكاة بلا خلاف لما ذكره المصنف قال الرافعي وأشار بعضهم
إلى أنهم لا يعطون أيضا من المصالح إلا أن ينزل بالمسلمين نازلة (وأما) المؤلفة المسلمون فأصناف
198

(صنف) لهم شرف في قومهم يطلب يتألفهم اسلام نظرائهم (وصنف) أسلموا ونيتهم في الاسلام
ضعيفة فيتألفون لتقوى نيتهم ويثبتوا وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى هذين وهل يعطون
بعده فيه قولان مشهوران ذكر المصنف دليلهما (فان قلنا) يعطون فمن أين يعطون ذكر فيه قولين
فحاصله ثلاثة أقوال (أصحها) عند المحققين يعطون من الزكاة من سهم المؤلفة للآية (والثاني)
يعطون من المصالح (والثالث) لا يعطون وصححه الشيخ أبو حامد والجرجاني وقطع به سليم الرازي
في الكفاية (والصنف الثالث) قوم يليهم قوم من الكفار ان أعطوا قاتلوهم ويراد باعطائهم تألفهم
على قتالهم (والرابع) قوم يليهم قوم عليهم زكوات ويمنعونها فان أعطي هؤلاء قاتلوهم وقهروهم على
أخذها منهم وحملوها إلى الامام وان لم يعطوا لم يأخذوا منهم الزكوات واحتاج الامام إلى مؤنة
ثقيلة لتجهيز من يأخذها وهذان الصنفان يعطيان بلا خلاف لكن من أين يعطون فيه الأقوال
الأربعة التي ذكرها المصنف بدلائلها وجعل الغزالي وطائفة هذه الأقوال أوجها والصواب أنها
أقوال (أحدها) من سهم المؤلفة (والثاني) من المصالح (والثالث) من سهم الغزاة (والرابع) قال
الشافعي رضي الله عنه يعطون من سهم المؤلفة وسهم الغزاة واختلف أصحابنا في المراد بهذا القول
الرابع على أربعة أوجه (أحدها) أن هذا تفريع على أن من جمع سببين من أسباب الزكاة يعطي بهما
(فاما) ان قلنا بالأصح أنه لا يعطي إلا بأحدهما فلا يعطي هؤلاء الا من أحد السهمين (والثاني) أنهم
يعطون من السهمين جميعا سواء أعطينا غيرهم بسببين أم لا للمصلحة في هؤلاء (والثالث) إن كان
التألف لقتال الكفار فمن سهم الغزاة وإن كان لأجل الزكوات وقتال مانعيها فمن سهم المؤلفة
(والرابع) يتخير الامام ان شاء أعطاهم من ذا السهم وإن شاء أعطاهم من ذلك وحكي الرافعي وجها
ان المؤلف لقتال مانعي الزكاة وجمعها يعطي من سهم العاملين قال الرافعي ارسل أكثر الأصحاب
هذا الخلاف ولم يتعرضوا للأصح منه وقال الشيخ أبو حامد وطائفة الأظهر من القولين في الصنفين
الأولين انهم لا يعطون وقياس هذا ان لا يعطى الصنفان الآخران من الزكاة لان الأولين أحق
باسم المؤلفة من الآخرين لان في الآخرين معني الغزاة والعاملين وعلى هذا يسقط سهم المؤلفة
من الزكاة وقد صار إليه الروياني وجماعة من المتأخرين ولكن الموافق لظاهر الآية ثم لسياق
الشافعي والأصحاب اثبات سهم المؤلفة وانه يستحقه الصنفان الأولان وانه يجوز صرفه إلى الآخرين
أيضا وبه أفتي الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية هذا آخر كلام الرافعي وهذا الذي صححه
199

هو الصحيح وهو الصرف إلى الأصناف الأربعة من سهم المؤلفة والله أعلم (فان قيل) كيف يعرف
كونه مؤلفا (فالجواب) أن صاحب الشامل وغيره من العراقيين قطعوا بأنه لا يقبل قوله أنه من المؤلفة
إلا ببينة لأنه مما يظهر والصحيح ما قاله أبو العباس ابن القاص في كتابه التلخيص وتابعه عليه الخراسانيون
وغيرهم انه إن قال نيتي في الاسلام ضعيفة قبل قوله لان كلامه يصدقه وان قال إنا شريف مطاع في
قومي لم يقبل قوله الا ببينة وتقل الرافعي هذا التفصيل عن جمهور الأصحاب قال وذكر أبو الفرج
عن بعض الأصحاب انه أطلق مطالبته بالبينة وفى صفة هذه البينة كلام نذكره إن شاء الله
تعالى في فصل سهم المكاتب وهل تكون المرأة من المؤلفة أم لا يتصور ذلك فيه وجهان
سبق بيانهما في فصل سهم الفقير (الصحيح) انه يتصور *
* قال المصنف رحمه الله *
(وسهم للرقاب وهم المكاتبون فإذا لم يكن مع المكاتب ما يؤدى في الكتابة وقد حل عليه
نجم أعطى ما يؤديه وإن كان معه ما يؤديه لم يعط لأنه غير محتاج وان لم يكن معه شئ ولا حل عليه
نجم ففيه وجهان (أحدهما) لا يعطى لأنه لا حاجة إليه قبل حلول النجم (والثاني) يعطى لأنه يحل عليه النجم
والأصل انه ليس معه ما يؤدى فان دفع إليه ثم أعتقه المولي أو أبرأه من المال أو عجز نفسه قبل أن يؤدى
المال إلى المولي رجع عليه لأنه دفع إليه ليصرفه في دينه ولم يفعل وإن سلمه إلى المولى وبقيت عليه بقية
فعجزه المولى ففيه وجهان (أحدهما) لا يسترجع من المولي لأنه صدقه فيما عليه (والثاني) يسترجع لأنه
إنما دفع إليه ليتوصل به إلى العتق ولم يحصل ذلك فان ادعى انه مكاتب لم يقبل الا ببينة فان صدقه المولي
ففيه وجهان (أحدهما) يقبل لان ذلك اقرار على نفسه (والثاني) لا يقبل لأنه متهم لأنه ربما واطأه
حتى يأخذ الزكاة) *
(الشرح) في الفصل مسائل
(إحداها) قال الشافعي والأصحاب يصرف سهم الرقاب إلى
المكاتبين هذا مذهبنا وبه قال أكثر العلماء كذا نقله عن الأكثرين البيهقي في السنن الكبير
والمتولي وبه قال على ابن أبي طالب رضي الله عنه وسعيد بن جبير والزهري والليث ابن سعد
والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وقالت طائفة المراد بالرقاب ان يشترى بسهمهم عبيد ويعتقون وبهذا
قال مالك وهو أحد الروايتين عن أحمد وحكاه ابن المنذر وغيره عن ابن عباس والحسن البصري
وعبيد الله بن الحسن العنبري واحمد واسحق وأبي عبيد وأبى ثور (واحتج) أصحابنا بأن قوله عز وجل
200

وفى الرقاب) كقوله تبارك وتعالي (وفى سبيل الله) وهناك يجب الدفع إلى المجاهدين فكذا هنا يجب
الدفع إلى الرقاب ولا يكون دفعا إليهم الا على مذهبنا (وأما) من قال يشترى به عبيد فليس بدفع
إليهم وإنما هو دفع إلى ساداتهم ولان في جميع الأصناف يسلم السهم إلى المستحق ويملكه إياه فينبغي
هنا أن يكون كذلك لان الشرع لم يخصهم بقيد يخالف غيرهم ولان ما قالوه يؤدى إلى تعطيل هذا
السهم في حق كثير من الناس لان من الناس من لا يجب عليه من الزكاة لهذا السهم ما يشترى به رقبة
يعتقها وإن أعتق بعضها قوم علية الباقي ولا يلزمه صرف زكاة الأموال الباطنة إلى الامام بالاجماع
فيؤدى إلى تفويته (واما) على مذهبنا فيمكنه صرفه إليهم ولو كان درهما (فان قيل) الرقاب جمع رقبة
وكل موضع ذكرت فيه الرقبة فالمراد عتقها
(فالجواب) ما أجاب به الأصحاب ان الرقبة تطلق على العبد
القن وعلى المكاتب جميعا وإنما خصصناها في الكفارة بالعبد القن بقرينة وهي ان التحرير لا يكون
الا في القن وقد قال الله تعالى (فتحرير رقبة) ولم توجد هذه القرينة في مسألتنا فحملناه على المكاتبين
لما ذكرناه أولا (فان قيل) لو أراد المكاتبين لذكرهم باسمهم الخاص (فالجواب) ان هذا منتقض بقوله
عز وجل (وفى سبيل الله) فان المراد به بعضهم وهم المتطوعون الذين لا حق لهم في الديوان ولم يذكروا
باسمهم الخاص (فان قيل) لو أراد المكاتبين لاكتفى بالغارمين فإنهم منهم (فالجواب) انه لا يفهم أحد
الصنفين من الآخر ولأنه جمع بينهما للاعلام بأنه لا يجوز الاقتصار على أحدهما وان لكل صنف
منهما سهما مستقلا كما جمع بين الفقراء والمساكين وإن كان كل واحد منهما يقوم مقام الآخر في غير
الزكاة والله تعالى اعلم (المسألة الثانية) قال أصحابنا إنما يعطى المكاتب كتابة صحيحة (أما) الفاسدة
فلا يعطى بها لأنها ليست لازمة من جهة السيد فان له التصرف فيه بالبيع وغيره وممن صرح بالمسألة
الدارمي وابن كج والرافعي (الثالثة) إذا حل على المكاتب نجم ولم يكن معه وفاء دفع إليه وفاء بلا خلاف وإن
كان
معه وفاء لم يعط لاستغنائه عنه وان لم يكن معه شئ ولا حل عليه نجم ففي اعطائه وجهان مشهوران
حكاهما المصنف بدليلهما وقل من بين الأصح منهما مع شهرتهما (والأصح) أنه يعطي صححه الجرجاني
في التحرير والرافعي وغيرهما (الرابعة) إذا دفعت إليه الزكاة ثم أعتقه السيد أو أبرأه أو عجز نفسه
قبل دفع المال إلى السيد والمال باق في يد المكاتب رجع الدافع فيه لما ذكره المصنف هذا هو المذهب
وبه قطع العراقيون وجماعة من الخراسانيين وذكر جماعة من الخراسانيين فيما إذا حصل العتق بالاعتاق
أو الابراء قولين ومنهم من يحكيهما وجهين (أصحهما) يرجع (والثاني) لا يرجع بل يبقى ملكا للمكاتب قال
الرافعي وهذا هو الأظهر عند المتولي ولم أر انا في كتاب المتولي ترجيحا له بل ذكر وجهين مطلقين وذكر الغزالي
201

وغيره فيه طريقين (أصحهما) الرجوع (والثاني) على قولين والصحيح القطع بالرجوع قال أصحابنا وهكذا
الحكم وعلى هذا ففرض الزكاة باق على الدافع كما لو دفع إلى من لا يجوز الدفع إليه * قال أصحابنا
وهكذا الحكم لو دفع الزكاة إلى المكاتب فقضي مال الكتابة من كسبه أو غيره وبقى مال الزكاة
في يده وكذا لو قضاه أجنبي قالوا وضابطه أنه متى استغنى عما دفع إليه من الزكاة وعتق وهو باق
في يده فالمذهب أنه يرجع عليه به لاستغنائه عنه هذا كله إذا كان المال باقيا في يده فان تلف في يده
قبل العتق ثم عتق فطريقان (المذهب) وبه قطع الغزالي والبغوي وغيرهما أنه لا غرم ووقعت الزكاة
موقعها ولا شئ على الدافع قال الغزالي وغيره وكذا لو تلف باتلافه وحكي السرخسي وجها أنه يغرمه
المكاتب بعد العتق وحكاه الدارمي أيضا فيما إذا أتلفه المكاتب هذا إذا تلف في يد المكاتب
قبل العتق فان تلف في يده بعد العتق وقلنا بالمذهب أنه يرجع عليه لو كان باقيا غرمه وجها واحدا
لأنه بالعتق صار مالا مضمونا عليه في يده فإذا تلف غرمه هذا كله فيما إذا عتق (فاما) إذا عجز نفسه
والمال باق في يده فإنه يرجع عليه بلا خلاف في جميع الطرق فان تلف في يده ثم عجز نفسه فوجهان
(أحدهما) لا يرجع عليه ونقله ابن كج عن أكثر أصحابنا (وأصحهما) عند الرافعي وغيره وأشار البغوي
إلى القطع به أنه يرجع عليه قال الرافعي وعلى هذا ففي الأمالي للسرخسي ان الضمان يتعلق بذمته
لا برقبته لان المال حصل عنده برضى صاحبه وما كان كذلك فمحله الذمة على القاعدة المشهورة
قال وذكر بعضهم أنه يتعلق بالرقبة (قلت) الصحيح الأول هذا كله في مال لم يسلمه إلى السيد فلو سلمه
إلى السيد وبقيت بقية فعجزه السيد بها وفسخ الكتابة فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما
وهكذا حكاهما الجمهور وجهين وحكاهما القاضي أبو الطيب في المجرد قولين وذكر أن أبا إسحاق
المروزي حكاهما قولين واتفقوا على أن (أصحهما) أنه يرجع على السيد وممن صححه الغزالي والبغوي
والرافعي وغيرهم ولو كان قد تلف في يد السيد (فان قلنا) يرجع فيه لو كان باقيا يرجع ببدله ويكون
فرض الزكاة باقيا على الدافع وإلا فلا رجوع وقد سقط الفرض عن الدافع ولو نقل السيد الملك في
المقبوض إلى غيره ثم عجز المكاتب لم يسترد من المنتقل إليه ولكن يرجع الدافع على السيد إذا قلنا
بالرجوع * ولو سلم المكاتب المال إلى السيد وبقيت منه بقية فاعتقه السيد قال صاحب البيان
مقتضي المذهب أنه لا يسترد من السيد لاحتمال انه إنما أعتقه للمقبوض وهذا الذي قاله متعين ولو لم
يعجز نفسه واستمر في الكتاب وتلف المال في يده أجزأ عن الدافع بلا خلاف والله تعالى أعلم *
202

ولو قبض السيد الدين من المكاتب وعتق والغريم من المدين ثم رده إليه هبة لم يرجع الدافع
عليهما بل أجزأه عن الزكاة ثم ملكه هذا بجهة أخرى وهذا لا خلاف فيه وممن صرح به الدارمي
والله تعالى اعلم (المسألة الخامسة) إذا ادعي أنه مكاتب لم يقبل الا ببينة باتفاق الأصحاب لان الأصل
والظاهر عدم الكتابة مع امكان إقامة البينة فان صدقه سيده فهل يقبل فيه وجهان مشهوران ذكرهما
المصنف بدليلهما (أصحهما) عند الجمهور يقبل ممن صححه القاضي أبو الطيب في المجرد وابن الصباغ
والمتولي والبغوي والغزالي والرافعي وآخرون وشذ الجرجاني فصحح في التحرير عدم القبول والصحيح
القبول * قال أصحابنا واما ما احتج به القائل الآخر من احتمال المواطأة فضعيف لان هذا الدفع يكون
مراعا في حق السيد فان أعتق العبد والا استرجع المال منه *
(فرع) قال الغزالي وآخرون يقوم مقام البينة الاستفاضة وضبط الرافعي هذه المسألة ضبطا حسنا
فنذكر كلامه مختصرا وإن كان بعضه قد سبق في الباب مفرقا
قال: قال الأصحاب من سأل الزكاة
وعلم الإمام انه ليس مستحقا لم يجز له صرف الزكاة إليه وإن علم استحقاقه جاز الصرف إليه بلا خلاف
ولم يخرجوه على الخلاف في قضاء القاضي بعلمه مع أن للتهمة ههنا مجال أيضا (قلت) الفرق ان الزكاة
مبنية على الرفق والمساهلة وليس هنا إضرار بمعين بخلاف قضاء القاضي وإن لم يعرف حاله فالصفات
قسمان خفية وجلية فالخفي الفقر والمسكنة فلا يطالب مدعيهما ببينة لعسرها فلو عرف له مال وادعي
هلاكه لم يقبل إلا ببينة ولو ادعي عيالا فلابد من البينة في الأصح (وأما) الجلي فضربان (أحدهما)
يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في المستقبل وذلك في الغازي وابن السبيل فيعطيان بقولهما بلا بينة ولا يمين
ثم إن لم يحققا ما ادعيا ولم يخرجا استرد منهما ما أخذا وإلى متى يحتمل تأخير الخروج قال السرخسي
ثلاثة أيام قال الرافعي ويشبه أن يكون هذا على التقريب وأن يعتبر ترصده للخروج وكون التأخير
لانتظار أو للتأهب بأهب السفر ونحوهما (الضرب الثاني) يتعلق الاستحقاق فيه بمعنى في الحال وهذا
الضرب يشترك فيه بقية الأصناف فالعامل إذا ادعي العمل طولب بالبينة وكذا المكاتب والغارم
فان صدقهما السيد وصاحب الدين فوجهان (أصحهما) يكفي ويعطيان (وأما المؤلف) فان قال نيتي
ضعيفة في الاسلام قبل وإن ادعى أنه شريف مطاع طولب بالبينة هذا هو المذهب وقيل يطالب
بالبينة مطلقا قال الرافعي واشتهار الحال بين الناس قائم مقام البينة لحصول العلم أو الظن قال ويشهد
لما ذكرناه من اعتبار غلبة الظن ثلاثة أمور (أحدها) قول بعض الأصحاب لو أخبر عن الحال واحد
203

يعتمد كفى (الثاني) قال امام الحرمين رأيت للأصحاب رمزا إلى تردد في أنه لو حصل الوثوق بقول
مدعى الغرم وغلب على الظن صدقة هل يجوز الاعتماد عليه (الثالث) حكى بعض المتأخرين انه لا يعتبر
في البينة في هذه الصور سماع القاضي وتقدم الدعوى والانكار والاستشهاد بل المراد أخبار عدلين
على صفات الشهود قال ثم إن سياق كلام الغزالي في الوسيط والوجيز قد يوهم أن الحاق الاستفاضة
بالبينة مختص بالمكاتب والغارم ولكن الوجه تعميم ذلك في كل من يطالب بالبينة من الأصناف
هذا آخر كلام الرافعي رحمه الله والله أعلم *
(فرع) قال القاضي أبو الطيب في المجرد والشيخ نصر المقدسي وصاحب البيان وخلائق من الأصحاب
يجوز للمكاتب ان يتجر فيما أخذه من الزكاة طلبا للزيادة وتحصيل الوفاء وهذا لا خلاف فيه قال الرافعي
والغارم في هذا كالمكاتب *
(فرع) قطع الدارمي وصاحبا الشامل والبيان بأن المكاتب ليس له أن ينفق على نفسه ما أخذه
من الزكاة قال الدارمي فكذلك الغارم وقال الرافعي نقل بعض أصحاب إمام الحرمين ان له انفاقه
ويؤدى من كسبه قال الرافعي ويجب أن يكون الغارم كالمكاتب والصحيح الأول لان في إنفاقه مخاطرة
بمال الزكاة *
(فرع) قال البغوي في الفتاوى لو استقرض المكاتب ما أدى به النجوم وعتق لم يجز
الصرف إليه من سهم الرقاب لكن يصرف إليه من سهم الغارمين كما لو قال لعبده أنت
حر على ألف فقبل عتق ويعطي الألف من سهم الغارمين لا من سهم الرقاب وهذا الذي
قاله متعين *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب يجوز صرف الزكاة إلى المكاتب بغير إذن سيده ويجوز
الصرف إلى سيده باذن المكاتب ولا يجوز الصرف إلى السيد بغير إذن المكاتب لأنه المستحق
فلو صرف إلى السيد بغير إذن المكاتب لم يجزئ الدافع عن الزكاة بلا خلاف قال البغوي وغيره
204

لكن يسقط عن المكاتب من نجومه قدر المصروف لان قضاء الدين يجوز بغير إذن من هو عليه
قال الشافعي والأصحاب والأحوط والأفضل أن يصرف إلى السيد باذن المكاتب فهو أفضل
من الصرف إلى المكاتب لأنه أحوط في صرفه في الكتابة هكذا أطلقه الشافعي والجمهور وقال
الشيخ نصر المقدسي في تهذيبه إن كان هذا الذي يدفعه يستوعب جميع ما على المكاتب لكثرته
أو لكونه النجم الأخير بحيث يحصل العتق به فالدفع إلى السيد باذن المكاتب أفضل كما قاله
الأصحاب وإن كان دونه فالدفع إلى المكاتب أفضل لأنه ينميه بالتجارة فيه فيكون أقرب إلى العتق
والمذهب الأول *
(فرع) لا يجوز للسيد دفع زكاته إلى مكاتبه * هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وقال أبو علي بن خيران
يجوز كالأجنبي وهذا ضعيف لأنه في معنى نفسه وعبده القن *
(فرع) لو كان المكاتب كافرا وسيده مسلما لم يعط من الزكاة كما ذكره المصنف في آخر
الباب والأصحاب ولو كان المكاتب مسلما والسيد كافرا جاز الدفع إلى المكاتب صرح به
الدارمي وغيره *
(فرع) لو كان المكاتب مكتسبا فهو كغير المكتسب فيعطي حيث يعطي غيره * هذا هو المذهب
وبه قطع الدارمي وآخرون وهو مقتضى إطلاق الأصحاب وشذ القاضي ابن كج فقال في كتابه
التجريد لا يعطي إذا كان له كسب يؤدى منه ولعله أراد إذا استحق الكسب وصار حاملا مالا
عتيدا والله تعالى أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وسهم للغارمين وهم ضربان ضرب غرم لاصلاح ذات البين وضرب غرم لمصلحة نفسه (فأما)
الأول فضربان (أحدهما) من تحمل دية مقتول فيعطى مع الفقر والغنى لقوله صلى الله عليه وسلم
" لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغازى في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله
أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين إليه " (والثاني) من حمل مالا في غير
205

قتل لتسكين فتنة ففيه وجهان (أحدهما) يعطى مع الغنى لأنه غرم لاصلاح ذات البين فأشبه إذا غرم
دية مقتول (والثاني) لا يعطي مع الغني لأنه مال حمله في غير قتل فأشبه إذا ضمن ثمنا في بيع: وأما
من غرم لمصلحة نفسه فإن كان قد أنفق في غير معصية دفع إليه مع الفقر وهل يعطى مع الغنى فيه
قولان: قال في الام لا يعطى لأنه يأخذ لحاجته إلينا فلم يعط مع الغني كغير الغارم: وقال في القديم
والصدقات من الام يعطى لأنه غارم في غير معصية فأشبه إذا غرم لاصلاح ذات البين فان غرم
في معصية لم يعط مع الغنى وهل يعطي مع الفقر ينظر فيه فإن كان مقيما على المعصية لم يعط لأنه يستعين
به على المعصية وإن تاب ففيه وجهان (أحدهما) يعطي لان المعصية قد زالت (والثاني) لا يعطى لأنه
لا يؤمن أن يرجع إلى المعصية ولا يعطى الغارم الا ما يقضي به الدين فان أخذ ولم يقض به الدين
أو أبرئ منه أو قضي عنه قبل تسليم المال استرجع منه وان ادعى انه غارم لم يقبل الا ببينة فان
صدقه غريمه فعلى الوجهين كما ذكرنا في المكاتب إذا ادعى الكتابة وصدقه المولى) *
(الشرح) هذا الحديث حسن أو صحيح رواه أبو داود من طريقين (أحدهما) عن عطاء ابن
يسار عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم (والثاني) عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم
مرسلا واسناده جيد في الطريقين وجمع البيهقي طرقه وفيها أن مالكا وابن عيينة أرسلاه وان
معمرا والثوري وصلاه وهما من جملة الحفاظ المعتمدين وقد تقررت القاعدة المعروفة لأهل الحديث
والأصول أن الحديث إذا روى متصلا ومرسلا كان الحكم للاتصال على المذهب الصحيح
وقدمنا أيضا عن الشافعي رضي الله عنه أنه يحتج بالمرسل إذا اعتضد بأحد أربعة أمور (إما) حديث
مسند (وإما) مرسل من طريق آخر (وإما) قول صحابي (وإما) قول أكثر العلماء وهذا قد وجد فيه أكثر
فقد روى مسندا وقال به العلماء من الصحابة وغيرهم (وأما) الغارم فهو الذي عليه دين والغريم يطلق
على المدين وعلى صاحب الدين وأصل الغرم في اللغة اللزوم ومنه قوله سبحانه وتعالى (إن عذابها
كان غراما) وسمي كل واحد منهما غريما لملازمته صاحبه (وقوله) لاصلاح ذات البين قال الأزهري
معناه لاصلاح حالة الوصل بعد المباينة قال والبين يكون فرقة ويكون وصلا وهو هنا وصل ومنه
قوله سبحانه وتعالى (لقد تقطع بينكم) أي وصلكم وقولهم في الدعاء اللهم أصلح ذات البين أي
أصلح الحال التي بها تجتمع المسلمون (أما) أحكام الفصل فقال الشافعي والأصحاب الغارمون ضربان
(الضرب) الأول من غرم الاصلاح ذات البين ومعناه أن يستدين مالا ويصرفه في اصلاح ذات
البين بأن يخاف فتنة بين قبيلتين أو طائفتين أو شخصين فيستدين مالا ويصرفه في تسكين تلك الفتنة
206

فينظر إن كان ذلك في دم تنازع فيه قبيلتان أو غيرهما ولم يظهر القاتل أو نحو ذلك وبقي الدين في
ذمته فهذا يصرف إليه من سهم الغارمين من الزكاة سواء كان غنيا أو فقيرا ولا فرق بين غناه بالنقد
والعقار وغيرهما * هذا هو المذهب وبه قطع العراقيون وجماعة من الخراسانيين وقال أكثر الخراسانيين
إن كان فقيرا دفع إليه وكذا إن كان غنيا بالعقار بلا خلاف فإن كان غنيا بنقد ففيه عندهم وجهان
(الصحيح) يعطي (والثاني) لا يعطى إلا مع الفقر ولو كان غنيا بالعروض غير العقار فهو كالغني بالعقار
على المذهب وقيل كالنقد ذكره السرخسي في الأمالي وان استدان لاصلاح ذات البين في غير دم
بأن تحمل قيمة مال متلف فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب (أصحهما) عند المصنف
في التنبيه والأصحاب يعطي مع الغنى لأنه غارم لاصلاح ذات البين فأشبه الدم (والثاني) لا يعطى الا
مع الفقر لأنه غرم في غير قتل فأشبه الغارم لنفسه وقاسه المصنف على ما لو ضمن مالا وهذا فيه
تفصيل طويل سأذكره في المسائل المنثورة قريبا إن شاء الله تعالى في فصل الغارمين قال أصحابنا.
إنما يعطى الغارم لاصلاح ذات البين ما دام الدين باق عليه سواء كان الدين لمن استدانه منه
ودفعه في الاصلاح أو كان تحمل الدية مثلا لأهل القتيل ولم يؤدها بعد فيدفع إليه ما يؤديه في دينه
أو إلى ولي القتيل فلو كان قضاه من ماله أو أداه ابتداء من ماله لم يعط بلا خلاف لأنه ليس بغارم
إذا لا شئ عليه (الضرب الثاني) من غرم لصلاح نفسه وعياله فان استدان ما أنفقه على نفسه
أو عياله في غير معصية أو أتلف شيئا على غيره سهوا فهذا يعطي ما يقضي به دينه بشروط (أحدها)
أن يكون محتاجا إلى ما يقضى به الدين فلو كان غنيا قادرا بنقد أو عرض على ما يقضى به فقولان
مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب (أحدهما) ونقله المصنف والأصحاب عن نصه في القديم
والصدقات من الام انه يعطي مع الغني لأنه غارم فأشبه الغارم لذات البين (وأصحهما) عند الأصحاب
وهو نصه في الام أيضا انه لا يعطى كما لا يعطي المكاتب وابن السبيل مع الغني بخلاف الغارم لذات
207

البين فان مصلحته عامة فعلى هذا لو وجد ما يقضي به بعض الدين قال أصحابنا يعطي ما يقضى
به الباقي فقط فلو لم يملك شيئا وقدر على قضائه بالاكتساب فوجهان (أحدهما) لا يعطي كالفقير
(والصحيح) وبه قطع الجمهور انه يعطى لأنه لا يمكنه قضاؤه الا بعد زمان وقد يعرض ما يمنعه من
القضاء بخلاف الفقير فإنه يحصل حاجته بالكسب في الحال وما معني الحاجة المذكورة قال الرافعي
عبارة الأكثرين تقتضي كونه فقيرا لا يملك شيئا وربما صرحوا به قال وفى بعض شروح المفتاح
انه لا يعتبر المسكن والملبس والفراش والآنية وكذا الخادم والمركوب ان اقتضاهما حاله بل يقضى
دينه وان ملكها قال وقال بعض المتأخرين ولا يعتبر الفقر والمسكنة هنا بل لو ملك قدر كفايته
وكان لو قضى دينه مما معه لنقص ماله عن كفايته ترك له ما يكفيه وأعطي ما يقضى به الباقي قال
الرافعي وهذا أقرب (الشرط الثاني) أنه يكون دينه لطاعة أو مباح فإن كان في معصية كالخمر
ونحوه وكالاسراف في النفقة لم يعط قبل التوبة هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور وفيه وجه
شاذ حكاه الحناطي والرافعي أنه يعطي لأنه غارم والصواب الأول لان في اعطائه إعانة له على المعصية
وهو متمكن من الاخذ بالتوبة فان تاب فهل يعطى فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب
(أصحهما) عند صاحبي الشامل والتهذيب لا يعطي وبه قال أبو علي بن أبي هريرة لان في اعطائه
إعانة له ولغيره على المعصية (وأصحهما) عند الأكثرين يعطي وهو قول أبي إسحاق المروزي وبه
قطع أبو علي الطبري في الافصاح والجرجاني في التحرير وصححه المحاملي في المقنع وأبو خلف السلمي
والمصنف في التنبيه والروياني وغيرهم وهو الصحيح المختار لقول الله سبحانه وتعالى (والغارمين)
ولان التوبة تجب ما قبلها قال الرافعي ولم يتعرض الأصحاب هنا لاستبراء حاله ومضى مدة بعد توبته
يظهر فيها صلاح الحال الا أن الروياني قال يعطي على أصح الوجهين إذا غلب على الظن صدقه في توبته
فيمكن أن يحمل عليه هذا كلام الرافعي والظاهر ما قاله الروياني أنه إذا غلب على الظن صدقة في توبته
أعطى وإن قصرت المدة والله تعالى اعلم * (الشرط الثالث) أن يكون الدين حالا فإن كان مؤجلا ففي
اعطائه ثلاثة أوجه (أصحها) لا يعطى وبه قطع صاحب البيان لأنه غير محتاج إليه الآن (والثاني)
يعطي لأنه يسمى غارما (والثالث) حكاه الرافعي أنه إن كان الأجل يحل تلك السنة أعطى وإلا فلا يعطى
من صدقات تلك السنة قال الرافعي والوجهان هنا كالوجهين في المكاتب إذا لم يحل عليه النجم هل يعطى
قال وقد يرتب هذا الخلاف على ذلك الخلاف ثم تارة يجعل الغارم أولى بأن يعطى لان ما عليه مستقر بخلاف
208

المكاتب وتارة يجعل المكاتب أولى بأن يعطى لان له التعجيل لغرض الحرية (قلت) وجمع الدارمي
مسألتي المؤجل في الغارم والمكاتب وذكر فيهما أربعة أوجه (أحدها) يعطيان في الحال (والثاني)
لا (والثالث) يعطي المكاتب لا الغارم (والرابع) عكسه والله تعالى اعلم *
(فرع) قال قال أصحابنا إنما يعطى الغارم ما دام الدين عليه فان وفاه أو أبرئ منه لم يعط بسببه وإنما
يعطى قدر حاجته فان أعطي شيئا فلم يقض الدين منه بل أبرئ منه أو قضى عنه أو قضاه هو لا من مال
الزكاة بل من غيره فطريقان (أحدهما) وبه قطع المصنف وآخرون انه يسترجع منه لاستغنائه عنه
(والثاني) حكاه الرافعي وغيره انه على الخلاف السابق في المكاتب إذا قضي عنه الدين أو أبرئ
منه ولو أعطى شيئا من الزكاة فقضي الدين ببعضه ففي الباقي الطريقان والله تعالى أعلم * قال ابن كج
في التجريد لو تحمل دية قتيل فأعطيناه فبان القاتل وضمن الدية استرد من الغارم القابض ما أخذ
وصرف إلى غارم آخر فإن كان سلمها إلى مستحق الدين لم يرجع عليه ولا يطالب القاتل بالدية
لأنها سقطت عنه بالدفع قال فان تطوع بأدائها أخذت وجعلت في بيت المال ولو أعطيناه ليدفع
إلى أولياء القتيل فأبرؤا الناس قبل قبضهم منه استرد منه *
(فرع) إذا ادعى انه غارم لم يقبل قوله إلا ببينة وسبق في فصل المكاتب بيان هذه البينة
ولو صدقه غريمة ففي قبوله الوجهان السابقان في تصديق السيد المكاتب في الكتابة هكذا قاله المصنف
وجميع الأصحاب والأصح قبول تصديق السيد والغريم هكذا صححه الجمهور وخالفهم الجرجاني
في التحرير فقال الأصح لا يقبل تصديقهما والله تعالى أعلم *
(فرع) قال أصحابنا الخراسانيون إذا ضمن رجل عن رجل مالا من ثمن مبيع ونحوه فلهما
أربعة أحوال (أحدها) أن يكونا معسرين فيعطى الضامن ما يقضي به الدين ويجوز اعطاء المضمون
عنه قال المتولي وهو أولي لان الضامن فرعه ولأنه إذا أخذ الضامن وقضى بالمأخوذ الدين رجع على
المضمون عنه واحتاج الامام أن يعطيه ثانيا قال الرافعي وهذا الذي قاله ممنوع بل إذا أعطيناه
فقضي به لا يرجع وإنما يرجع الضامن إذا قضى من عنده وهذا الذي قاله الرافعي فيه نظر وما قاله
المتولي محتمل أيضا (الحال الثاني) أن يكونا موسرين فلا يعطي الضامن لأنه إذا غرم رجع على
المضمون عنه فلا يضيع عليه شئ هذا إذا ضمن باذنه فان ضمن بغير اذنه فهل يعطي فيه وجهان
بناء على الرجوع على المضمون عنه ان قلنا لا يرجع عليه وهو الأصح أعطى والا فلا (والثالث) أن
يكون الضامن معسرا دون المضمون عنه فان ضمن باذنه لم يعط لأنه يرجع عليه والا فعلى الوجهين
209

(أصحهما) يعطي (الرابع) أن يكون الضامن موسرا دون المضمون عنه فيجوز اعطاء المضمون عنه
وفى الضامن وجهان (أحدهما) يعطي لأنه غارم لمصلحة غيره فأشبه الغارم
لاصلاح ذات البين (وأصحهما) لا يعطى لان الصرف إلى المضمون عنه ممكن وإذا برئ الأصيل
برئ الكفيل بخلاف الغارم لذات البين والله تعالى أعلم *
(فرع) قال أصحابنا يجوز صرف سهم الغارمين إلى من عليه الدين باذن صاحب الدين وبغير
اذنه ولا يجوز صرفه إلى صاحب الدين الا باذن من عليه الدين فلو صرف بغير اذنه لم يجزئ
الدافع عن زكاته ولكن يسقط من الدين بقدر المصروف كما سبق في فصل المكاتب قال أصحابنا
والأولى أن يدفع إلى صاحب الدين باذن الغريم ليتحقق وقوعه عن جهة الدين كما سبق في المكاتب
قال أصحابنا الا إذا كان لا يفي بالدين وأراد المدين أن يتصرف فيه بالتجارة والتنمية ليبلغ
قدر الدين *
(فرع) قال أصحابنا يجوز للغارم أن يتجر فيما قبض من سهم الزكاة إذا لم يف بالدين ليبلغ
قدر الدين بالتنمية وهل يجوز انفاقه ويقضى من غيره فيه خلاف سبق في فصل المكاتب
الأصح لا يجوز *
(فرع) حكي صاحب البيان عن الصيمري انه لو ضمن دية قتيل عن قاتل مجهول أعطي من سهم
الغارمين مع الفقر والغنى وان ضمنها عن قاتل معروف أعطى مع الفقر دون الغنى وهذا ضعيف
ولا تأثير لمعرفته وعدمها وذكر الدارمي في الضمان عن قاتل معروف وجهين قال الدارمي ولو كانت
دعوى الدم بين من لا يخشى فتنتهم فتحملها فوجهان *
(فرع) ذكر السرخسي ان ما استدانه لعمارة مسجد وقرى الضيف فهو كما استدانه لنفقته
ومصلحة نفسه وحكى الروياني في الحلية عن بعض الأصحاب انه يعطى من سهم الغارمين مع الغني
بالعقار ولا يعطى مع الغنى بالنقد قال الروياني وهذا هو الاختيار *
(فرع) ذكر امام الحرمين انه لو أقام بينة بأنه غارم وأخذ الزكاة فبان كذب الشهود ففي سقوط
الفرض القولان المشهوران فيمن أخذ الزكاة بالفقر فبان غنيا الأصح لا تجزئ *
(فرع) إذا كان لرجل على معسر دين فأراد أن يجعله عن زكاته وقال له جعلته عن زكاتي
فوجهان حكاهما صاحب البيان (أصحهما) لا يجزئه وبه قطع الصيمري وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد
لان الزكاة في ذمته فلا يبرأ الا باقباضها (والثاني) تجزئه وهو مذهب الحسن البصري وعطاء لأنه
210

لو دفعه إليه ثم أخذه منه جاز فكذا إذا لم يقبضه كما لو كانت له عنده دراهم وديعة ودفعها عن
الزكاة فإنه يجزئه سواء قبضها أم لا (أما) إذا دفع الزكاة إليه بشرط أن يردها إليه عن دينه فلا يصح
الدفع ولا تسقط الزكاة بالاتفاق ولا يصح قضاء الدين بذلك بالاتفاق ممن صرح بالمسألة القفال في
الفتاوى وصاحب التهذيب في باب الشرط في المهر وصاحب البيان هنا والرافعي وآخرون ولو نويا
ذلك ولم يشرطاه جاز بالاتفاق وأجزأه عن الزكاة وإذا رده إليه عن الدين برئ منه قال البغوي
ولو قال المدين ادفع إلى عن زكاتك حتى أقضيك دينك ففعل أجزأه عن الزكاة وملكه القابض
ولا يلزمه دفعه إليه عن دينه فان دفعه أجزأه قال القفال ولو قال رب المال للمدين اقض ما عليك
على أن أرده عليك عن زكاتي فقضاه صح القضاء ولا يلزمه رده إليه وهذا متفق عليه وذكر الروياني في
البحر انه لو أعطى مسكينا زكاة وواعده أن يردها إليه ببيع أو هبة أو ليصرفها المزكي في كسوة
المسكين ومصالحه ففي كونه قبضا صحيحا احتمالان قلت الأصح لا يجزئه كما لو شرط ان يرد إليه
عن دينه عليه قال القفال ولو كانت له حنطة عند فقير وديعة فقال كل منها لنفسك كذا ونوى
ذلك عن الزكاة ففي اجزائه عن الزكاة وجهان (وجه) المنع ان المالك لم يكله وكيل الفقير لنفسه لا يعتبر
ولو كان وكله بشراء ذلك القدر فاشتراه وقبضه ثم قال له الموكل خذه لنفسك ونواه زكاة أجزأه لأنه
لا يحتاج إلى كيله والله تعالى أعلم *
(فرع) لو مات رجل وعليه دين ولا تركة له هل يقضي من سهم الغارمين فيه وجهان حكاهما
صاحب البيان (أحدهما) لا يجوز وهو قول الصيمري ومذهب النخعي وأبي حنيفة واحمد (والثاني)
يجوز لعموم الآية ولأنه يصح التبرع بقضاء دينه كالحي ولم يرجح واحدا من الوجهين وقال الدارمي
إذا مات الغارم لم يعط ورثته عنه وقال ابن كج إذا مات وعليه دين فعندنا لا يدفع في دينه من
الزكاة ولا يصرف منها في كفنه وإنما يدفع إلى وارثه إن كان فقيرا وبنحو هذا قال أهل الرأي
ومالك قال وقال أبو ثور يقضي دين الميت وكفنه من الزكاة ثم قال ابن كج بعد هذا بأسطر إذا
استدان لاصلاح ذات البين ثم مات دفع ما يفك به تركته والله تعالى اعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى
(وسهم في سبيل الله وهم الغزاة إذا نشطوا غزوا واما من كان مرتبا في ديوان السلطان من
جيوش المسلمين فإنهم لا يعطون من الصدقة بسهم الغزاة لأنهم يأخذون أرزاقهم وكفايتهم من
الفئ ويعطى الغازي مع الفقر والغنى للخبر الذي ذكرناه في الغارم ويعطى ما يستعين به على الغزو
211

من نفقة الطريق وما يشترى به السلاح والفرس إن كان فارسا وما يعطي السائس وحمولة تحمله
إن كان راجلا والمسافة مما تقصر فيها الصلاة فان أخذ ولم يغز استرجع منه) *
(الشرح) قوله نشطوا بفتح النون وكسر الشين والديوان بكسر الدال على الفصيح
المشهور وحكي فتحها وأنكره الأصمعي والأكثرون وهو فارسي معرب وقيل عربي وهو غريب
والحمولة بفتح الحاء وهي الدابة التي يحمل عليها من بعير أو بغل أو حمار ومذهبنا أن سهم سبيل الله المذكور
في الآية الكريمة يصرف إلى الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان بل يغزون متطوعين وبه قال أبو حنيفة
ومالك رحمهما الله تعالى * وقال أحمد رحمه الله تعالى في أصح الروايتين عنه يجوز صرفه إلى مريد الحج
وروى مثله عن ابن عمر رضي الله عنهما * واستدل له بحديث أم معقل الصحابية رضي الله عنها قالت " لما حج
رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وكان لنا جمل فجعله أبو معقل في سبيل الله وأصابنا مرض فهلك
أبو معقل وخرج النبي صلى الله عليه وسلم فلما فرغ من حجه جئته فقال يا أم معقل ما منعك أن تخرجي معنا قالت
قالت لقد تهيأنا فهلك أبو معقل وكان لنا جمل هو الذي نحج عليه فأوصى به أبو معقل في سبيل الله قال فهلا
خرجت عليه فان الحج في سبيل الله " وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال " أراد رسول الله صلى الله عليه
وسلم الحج فقالت امرأة لزوجها احجني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ما عندي ما أحجك
عليه فقالت أحجني على جملك فلان قال ذلك حبيسي في سبيل الله عز وجل فاتي رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال إن امرأتي تقرأ عليك السلام ورحمة الله انها سألتني الحج معك قالت أحجني مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت ما عندي ما أحجك عليه فقالت أحجني على جملك فلان فقلت
ذلك حبيسي في سبيل الله فقال أما انك لو حججتها عليه كان في سبيل الله وانها أمرتني أن أسألك
ما يعدل حجة معك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقرئها السلام ورحمة الله تعالى وبركاته وأخبرها
انها تعدل حجة يعنى عمرة في رمضان " رواهما أبو داود في سننه في أواخر كتاب الحج في باب
العمرة والثاني اسناده صحيح (واما) الأول حديث أم معقل فهو من رواية محمد بن إسحاق وقال فيه
عن وهو مدلس والمدلس إذا قال عن لا يحتج به بالاتفاق * واحتج أصحابنا بان المفهوم في الاستعمال
المتبادر إلى الافهام ان سبيل الله تعالى هو الغزو وأكثر ما جاء في القرآن العزيز كذلك * واحتج
الأصحاب أيضا بحديث أبي سعيد السابق في فصل الغارمين " لا تحل الصدقة لغني الا لخمسة "
فذكر منهم الغازي وليس في الأصناف الثمانية من يعطى باسم الغزاة الا الذين نعطيهم من سهم
سبيل الله تعالى (واما) الحديثان اللذان احتجوا بهما (فالأول) ضعيف كما سبق (والجواب) عن الثاني ان
212

الحج يسمى سبيل الله ولكن الآية محمولة على الغزو لما ذكرناه والله تعالى اعلم * قال المصنف
والأصحاب رحمهم الله تعالى واما الغزاة المرتبون في ديوان السلطان ولهم فيه حق فلا يعطون من
الزكاة بسبب الغزو بلا خلاف وإن كان فيهم وصف آخر يستحقون به أعطوا به بأن يكون غارما
أو ابن سبيل قال أصحابنا فان أراد رجل من المرتزقة المرتبين في الديوان ان يصير من أهل
الزكوات المتطوعين بالغزو ويترك سهمه من الديوان جعل من أهل الصدقات وكذا لو أراد واحد
من أهل الصدقات ان يصير من المرتزقة جعل منهم فيعطي من الفئ ولا يعطى من الصدقات قال
أصحابنا ولا حق لأهل الصدقات في الفئ ولا لأهل الفئ في الصدقات فان احتاج المسلمون إلى
من يكفيهم شر الكفار ولا مال في بيت المال فهل يجوز اعطاء المرتزقة من الزكاة من سهم سبيل
الله تعالى فيه قولان مشهوران في طريقة خراسان (أصحهما) لا يعطون كما لا يصرف الفئ إلى أهل
الصدقات (والثاني) يعطون لأنهم غزاة قال أصحابنا فعلى الأول يجب على أغنياء المسلمين اعانتهم
قال المصنف والأصحاب ويعطى الغازي مع الفقر والغني للحديث السابق ولان فيه مصلحة للمسلمين
قال أصحابنا ويعطي ما يستعين به على الغزو فيعطي نفقته وكسوته مدة الذهاب والرجوع والمقام في
الثغر وان طال وهل يعطي جميع المؤنة أم ما زاد بسبب السفر فيه وجهان (أصحهما) الجميع وهو مقتضي
كلام الجمهور ويجريان في ابن السبيل ويعطى ما يشترى به الفرس إن كان يقاتل فارسا وما يشترى به
السلاح وآلات القتال ويصير ذلك ملكا للغازي ويجوز أن يستأجر له الفرس والسلاح من مال
الزكاة ويختلف الحال بكثرة المال وقلته فإن كان يقاتل راجلا لم يعط للفرس شيئا ويعطى ما يحمل عليه
الزاد ويركبه في الطريق إن كان ضعيفا أو كان السفر مسافة القصر قال أصحابنا ويسلم الامام إلى الغازي
ثمن الفرس والسلاح والآلات ثم الغازي يشتريها قال القاضي أبو الطيب والأصحاب فلو استأذنه
الامام في شراها له بمال الزكاة فاذن جاز فلو أراد الامام ان يشترى ذلك بمال الزكاة ويسلمه إلى
الغازي بغير اذنه هل يجوز فيه وجهان (أحدهما) لا يجوز بل يتعين تسليم مال الزكاة إلى الغازي أو اذنه
وبه قطع جماعة من العراقيين وهو ظاهر عبارة آخرين منهم (وأصحهما) يجوز وهو الذي صححه
الخراسانيون وتابعهم الرافعي على تصحيحه وقطع به جماعة منهم قال الخراسانيون الامام بالخيار ان
شاء سلم الفرس والسلاح والآلات إلى الغازي أو ثمن ذلك تمليكا له فيملكه وان شاء استأجر ذلك له
وان شاء اشترى من سهم سبيل الله سبحانه وتعالي أفراسا وآلات الحرب وجعلها وقفا في سبيل الله
ويعطيهم عند الحاجة ما يحتاجون إليه ثم يردونه إذا انقضت حاجتهم وتختلف المصلحة في ذلك بحسب
213

قلة المال وكثرته (وأما) نفقة عيال الغازي فقال الرافعي في بعض شروح المفتاح أنه يعطى نفقته ونفقة عياله
ذهابا ومقاما ورجوعا قال وسكت المعظم عن نفقة العيال ولكن اعطاؤه إياها ليس بعيدا كما ينظر في
استطاعة الحج إلى نفقة العيال فيعتبر غناه لعياله كنفسه والله تعالى اعلم *
(فرع) قال أصحابنا إنما يعطى الغازي من الزكاة إذا حضر وقت الخروج ليهئ به أسباب
سفره فان أخذ ولم يخرج إلى الغزو استرجع منه كذا قاله المصنف والأصحاب واتفقوا عليه وقد سبق
في فصل المكاتب بيان كم يمهل في الخروج قال أصحابنا وكذا لو مات في الطريق أو امتنع الغزو بسبب
آخر استرد ما بقي معه ذكره البغوي وآخرون ولو غزا ورجع وبقى معه شئ من النفقة فإن لم يقتر على
نفسه وكان الباقي قدرا صالحا استرد منه لأنا تبينا أن المدفوع إليه كان زائدا وان لم يقتر على نفسه وكان
الفاضل يسيرا لم يسترجع منه كذا نقله الرافعي قال وهذا لا خلاف فيه قال وفى مثله في ابن السبيل
يسترد على الصحيح المشهور وفيه وجه ضعيف أنه لا يسترد أيضا ونسبه بعضهم إلى النص والفرق على
الصحيح أنا دفعنا إلى الغازي لحاجتنا وقد فعل ودفعنا إلى ابن السبيل لحاجته وقد زالت (أما) إذا
قتر الغازي على نفسه وفضل شئ بحيث لو لم يقتر لم يفضل لم يسترد بلا خلاف لأنا دفعنا إليه كفايته
فلم نرجع عليه بما قتر كالفقير إذا أعطيناه كفايته فقتر وفضل فضل عنده لا يسترجع منه والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(وسهم لابن السبيل وهو المسافر أو من ينشئ السفر وهو محتاج في سفره فإن كان سفره طاعة
أعطي ما يبلغ به مقصده وإن كان معصية لم يعط لان ذلك إعانة على المعصية وإن كان سفره في مباح
ففيه وجهان (أحدهما) لا يعطى لأنه غير محتاج إلى هذا السفر (والثاني) يعطى لان ما جعل رفقا بالمسافر
في طاعة جعل رفقا بالمسافر في مباح كالقصر والفطر) *
(الشرح) السبيل في اللغة الطريق ويؤنث ويذكر وسمي المسافر ابن السبيل للزومه للطريق كلزوم الولد
والدته والمقصد بكسر الصاد وقوله غير محتاج إلى هذا السفر مما ينكر من حيث أن المباح يحتاج
إليه لمصالح المعاش قال الشافعي والأصحاب ابن السبيل ضربان (أحدهما) من أنشأ سفرا من بلد كان
مقيما به سواء وطنه وغيره (والثاني) غريب مسافر يجتاز بالبلد فالأول يعطي مطلقا بلا خلاف (وأما) الثاني
فالمذهب الصحيح الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي رضي الله عنه وقطع به العراقيون وغيرهم أنه
يعطى أيضا مطلقا وحكى جماعات من الخراسانيين فيه وجهين (الصحيح) هذا (والثاني) لا يعطى من
صدقة بلد يجتاز به إذا منعنا نقل الصدقة وهذا ضعيف أو غلط قال أصحابنا وإنما يعطى المسافر بشرط
214

حاجته في سفره ولا يضر غناه في غير سفره فيعطى من ليس معه كفايته في طريقه وإن كان له أموال
في بلد آخر سواء كانت في البلد الذي يقصده أو غيره إذا لم يكن في بلد الاعطاء قال أصحابنا فإن كان
سفره طاعة كحج وغزو وزيارة مندوبة ونحو ذلك دفع إليه بلا خلاف وإن كان معصية كقطع الطريق
ونحوه لم بدفع إليه بلا خلاف وإن كان مباحا كطلب آبق وتحصيل كسب أو استيطان في بلد أو نحو ذلك
فوجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما (أصحهما) يدفع إليه ولو سافر لتنزه أو تفرج فطريقان مشهوران
(المذهب) أنه كالمباح فيكون على الوجهين (والثاني) لا يعطى قطعا لأنه نوع من الفضول وإذا أنشأ سفر معصية
ثم قطعه في أثناء الطريق وقصد الرجوع إلى وطنه أعطي من حينئذ من الزكاة لأنه الآن ليس
سفر معصية وممن صرح به القاضي أبو الطيب في المجرد وغيره من أصحابنا وحكي ابن كج فيه وجهين
(الصحيح) هذا (والثاني) لا يعطى قال وهو غلط قال أصحابنا ويعطى ابن السبيل من النفقة
والكسوة ما يكفيه إلى مقصده أو موضع ماله إن كان له مال في طريقه هذا ان لم يكن معه مال
لا يكفيه أعطى ما يتم به كفايته قال ابن الصباغ والأصحاب ويهيأ له ما يركبه إن كان سفره مما تقصر
فيه الصلاة أو كان ضعيفا لا يقدر على المشي وإن كان قويا وسفره دون ذلك لم يعط المركوب
ويعطي ما ينقل عليه زاده إلا أن يكون قدرا يعتاد مثله أن يحمله بنفسه قال السرخسي وصفة تهيئة
المركوب أنه إن اتسع المال اشترى له مركوب وان ضاق اكترى له قال أصحابنا ويعطي ابن السبيل
سواء كان قادرا على الكسب أم لا وسنعيد المسألة في آخر الباب إن شاء الله تعالى قال الرافعي وهل
يعطى جميع مؤنة سفره أم ما زاد بسبب السفر فيه وجهان (الصحيح) الجميع وهو ظاهر كلام الجمهور
قال أصحابنا ويعطى كفايته في ذهابه ورجوعه إن كان يريد الرجوع وليس له في مقصده مال هذا
هو المذهب وبه قطع الأصحاب ونص عليه الشافعي وحكى الرافعي وجها أنه لا يعطي للرجوع في
ابتداء سفره وإنما يعطى عند رجوعه ووجها عن الشيخ أبى زيد أنه إن كان عزمه أن يصل الرجوع
بالذهاب أعطى للرجوع وإن كان عزمه إقامة مدة لم يعط للرجوع والمذهب الأول قال أصحابنا وأما
نفقته في اقامته في المقصد فإن كانت اقامته دون أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج أعطي لها
لأنه في حكم المسافر وله القصر والفطر وسائر الرخص وإن كانت أربعة أيام فأكثر غير يومي الدخول
والخروج لم يعط لها لأنه خرج عن كونه مسافرا ابن سبيل وانقطعت رخص السفر بخلاف الغازي
فإنه يعطي مدة الإقامة في الثغر وإن طالت والفرق أن الغازي يحتاج إليه لتوقع الفتح ولأنه لا يزول
بالإقامة اسم الغازي بل يتأكد بخلاف المسافر وفيه وجه عن صاحب التقريب أن ابن السبيل يعطى
215

وان طال مقامه إذا كان مقيما لحاجة يتوقع تنجزها والمذهب الأول قال أصحابنا وإذا رجع ابن السبيل
وقد فضل معه شئ استرجع منه سواء قتر على نفسه أم لا وقيل إن قتر على نفسه بحيث لو لم يقتر لم
يفضل لم يرجع بالفاضل والمذهب الأول وسبق في فصل الغازي بيان هذا وبيان الفرق بينه وبين
الغازي حيث لا يسترجع منه إذا قتر لان ما يأخذه الغازي يأخذه عوضا لحاجتنا إليه وقيامه بالغزو
وقد فعل ذلك وابن السبيل يأخذه لحاجته إلينا وقد زالت قال أصحابنا وكذا يسترد منه المركوب هذا
هو المذهب وحكى الرافعي وجها أنه لا يسترد وهو غريب ضعيف جدا *
(فرع) قال أصحابنا إذا أدعي رجل أنه يريد السفر أو الغزو صدق وأعطى من الزكاة بلا بينة
ولا يمين وقد سبق بيان هذا في فصل المكاتب والله أعلم *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا أن ابن السبيل يقع على منشئ السفر والمجتاز * وقال أبو حنيفة ومالك
لا يعطي المنشئ بل يختص بالمجتاز *
(فرع) لو وجد ابن السبيل من يقرضه كفايته وله في بلده وفادة لم يلزمه أن يقترض منه بل
يجوز صرف الزكاة إليه صرح به ابن كج في كتابه التجريد *
* قال المصنف رحمه الله *
(ويجب أن يسوى بين الأصناف في السهام ولا يفضل صنفا على صنف لان الله تعالى سوى
بينهم والمستحب أن يعم كل صنف إن أمكن وأقل ما يجزئ أن يصرف إلى ثلاثة من كل صنف
لان الله تعالى أضاف إليهم بلفظ الجمع وأقل الجمع ثلاثة فان دفع إلى اثنين ضمن نصيب الثالث وفى
قدر الضمان قولان (أحدهما) القدر المستحب وهو الثلث (والثاني) أقل جزء من السهم لان هذا القدر
هو الواجب فلا يلزمه ضمان ما زاد) *
(الشرح) فيه مسائل (إحداها) يجب التسوية بين الأصناف فان وجدت الأصناف الثمانية
وجب لكل صنف ثمن وان وجد منهم خمسة وجب لكل صنف خمس ولا يجوز تفضيل صنف
على صنف بلا خلاف عندنا سواء اتفقت حاجاتهم وعددهم أم لا ولا يستثنى من هذا إلا العامل فان
حقه مقدر بأجرة عمله فان زاد سهمه أو نقص فقد سبق بيانه وإلا المؤلفة ففي قول يسقط نصيبهم كما
سبق (الثانية) التسوية بين آحاد الصنف ليست واجبة سواء استوعبهم أو اقتصر على ثلاثة منهم
أو أكثر وسواء اتفقت حاجاتهم أو اختلفت لكن يستحب أن يفرق بينهم على قدر حاجاتهم فان
استوت سوى وان تفاضلت فاضل بحسب الحاجة استحبابا وفرق الأصحاب بين التسوية بين
الأصناف حيث وجبت وآحاد الصنف حيث استحبت بأن الأصناف محصورون فيمكن التسوية
216

بلا مشقة بخلاف آحاد الصنف قال البغوي وليس هذا كما لو أوصي لفقراء بلد محصورين فإنه يجب
تعميمهم والتسوية بينهم وهنا في الزكاة لو كانوا محصورين وجب تعميمهم ولا تجب التسوية بينهم
لان الحق في الوصية لهم على التعيين حتى لو لم يكن هناك فقير تبطل الوصية وههنا لم يثبت الحق لهم
على التعيين وإنما تعينوا لفقد غيرهم ولهذا لو لم يكن في البلد مستحقون لا تسقط بل يجب نقلها إلى
بلد آخر وهذا الذي ذكرناه من التسوية بين آحاد الصنف وأنها ليست واجبة هكذا أطلقه الجمهور
وقال المتولي هذا إذا قسم المالك فأما إذا قسم الامام فلا يجوز له التنفيل عند تساوى الحاجات
لان عليه تعميم جميع آحاد الصنف كما سنوضحه إن شاء الله تعالى فلزمه التسوية والمالك لا يلزمه
التعميم فلا يلزمه التسوية (الثالثة) أطلق المصنف وكثيرون أنه يستحب تعميم كل صنف ان أمكن
وقال ابن الصباغ وكثيرون ان قسم الامام لزمه استيعاب آحاد الصنف لأنه يمكنه وليس المراد
أنه يستوعب بزكاة كل شخص جميع الآحاد ولكن يستوعبهم من الزكوات الحاصلة في يده وله
أن يخص بعضهم بنوع من المال وآخرين بنوع وله صرف زكاة شخص واحد إلى صنف واحد والي
شخص واحد وان قسم المالك ولم يمكنه الاستيعاب فليس هو بواجب ولا مندوب وان أمكنه قال
المصنف وكثيرون هو مستحب وقال المتولي يجب إن كانوا محصورين وقال البغوي يجب إن لم
نجوز نقل الزكاة وان جوزناه استحب وقال الرافعي إن قسم الامام لزمه الاستيعاب وان قسم المالك
ففيه كلاما المتولي والبغوي وجزم الرافعي في المحرر بوجوب الاستيعاب إن قسم الامام وكذا ان قسم
المالك وكانوا محصورين وهذا هو المذهب وينزل اطلاق الباقين عليه والله تعالى اعلم * وحيث لا يجب
الاستيعاب قال أصحابنا يجوز الدفع إلى المستحقين المقيمين بالبلد والغرباء الموجودين حال التفرقة
ولكن المستوطنون أفضل لأنهم جيرانه قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى وحيث لا يجب
الاستيعاب يشترط أن لا ينقص عن ثلاثة من كل صنف لما ذكره المصنف الا العامل فيجوز أن يكون
واحدا بلا خلاف وعجب كون المصنف لم يستثنه هنا مع أنه استثناه في التنبيه ولا خلاف في اشتراطه
ثلاثة من كل صنف من الباقين الا ابن السبيل ففيه طريقان (المذهب) وبه قطع الجمهور يشترط ثلاثة
(والثاني) فيه وجهان (أصحهما) ثلاثة (والثاني) يجوز واحد لان الله تعالى لم يذكره بالجمع بخلاف باقي
الأصناف وهذا الوجه حكاه القاضي أبو الطيب عن شيخه أبي الحسن الماسرجسي وحكاه آخرون بعده
قال القاضي أبو الطيب لم يقل أحد من أصحاب الشافعي رضي الله عنه هذا غير الماسرجسي قال قال أبو إسحاق
217

وابن السبيل وإن كان موحدا فهو اسم جنس كباقي الأصناف قال الرافعي قال بعضهم ولا يبعد
طرد الوجه في الغزاة لقول الله سبحانه وتعالي (وفى سبيل الله) بغير جمع والله تعالى أعلم * قال
أصحابنا ولو صرف جميع نصيب الصنف إلى اثنين مع وجود ثالث غرم لثالث بلا خلاف وفى
قدر الغرم قولان مشهوران ذكرهما المصنف (أصحهما) أقل جزء لأنه القدر الذي كان يجب عليه (والثاني)
الثلث وصححه القاضي أبو الطيب في المجرد قال لان المفاضلة باجتهاده ما لم يظهر خيانته فإذا ظهرت خيانته
سقط اجتهاده فلزمه الثلث ولو صرف جميع نصيب الصنف إلى واحد فعلى الأول يلزمه أقل ما يجوز
صرفه إليهما وعلى الثاني الثلثان ثم إن الجمهور أطلقوا القولين وقال صاحب العدة إذا قلنا يضمن
الثلث ففيه وجهان (أحدهما) المراد إذا استووا في الحاجة فلو كانت حاجة الثالث حين استحقوا
التفرقة مثل حاجة الآخرين جميعا ضمن له نصف السهم ليكون معه مثلهما لأنه يستحب التفرقة على
قدر حوائجهم (والثاني) انه لا فرق وهذا الثاني هو الصحيح ومراده إذا كان الثلاثة متعينين ولو لم
يوجد إلا دون ثلاثة من صنف أعطي لمن وجده وهل يصرف باقي السهم إليه إذا كان مستحقا أم
ينقل إلى بلد آخر قال المتولي هو كما لم يوجد بعض الأصناف في بلد وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى
هذا آخر كلامه والصحيح أنه يصرف إليه وممن صححه الشيخ نصر المقدسي ونقله هو وصاحب
العدة وغيرهما عن نص الشافعي رضي الله عنه ودليلهما ظاهر قال أصحابنا وهذان القولان في أصل
المسألة كالخلاف في أضحية التطوع إذا أكلها كلها كم يضمن وفى الوكيل إذا باع بغبن فاحش
كم يضمن وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان اجتمع في شخص واحد سببان ففيه ثلاثة طرق (من) أصحابنا من قال لا يعطي بالسببين
بل يقال له اختر أيهما شئت فنعطيك به (ومنهم) من قال إن كانا سببين متجانسين مثل أن يستحق
كل واحد منهما لحاجته إلينا كالفقير الغارم لمصلحة نفسه أو يستحق بكل واحد منهما لحاجتنا إليه
كالغازي الغارم لاصلاح ذات البين لم يعط الا بسبب واحد وإن كانا سببين مختلفين وهو أن يكون
بأحدهما يستحق لحاجتنا إليه وبالآخر يستحق لحاجته إلينا أعطى بالسببين كما قلنا في الميراث إذا
اجتمع في شخص واحد جهتا فرض لم يعط بهما وان اجتمع فيه جهة فرض وجهة تعصيب أعطي بهما
(ومنهم) من قال فيه قولان (أحدهما) يعطى بالسببين لان الله تعالى جعل للفقير سهما وللغارم سهما
218

وهذا فقير وغارم (والثاني) يعطي بسبب واحد لأنه شخص واحد فلا يأخذ سهمين كما لو تفرد بمعني واحد) *
(الشرح) هذه الطرق الثلاثة مشهورة (وأصحها) طريقة القولين صححها أصحابنا ونقلها صاحب
الشامل عن أكثر الأصحاب وأصح القولين أنه لا يعطي الا بسبب واحد يختار أيهما شاء ممن
صححه القاضي أبو الطيب في المجرد وصاحب العدة والشيخ نصر المقدسي في تهذيبه والرافعي وآخرون
وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات منهم سليم الرازي في الكفاية ونصر المقدسي في الكافي
وهو المنصوص في المختصر والقول الاخر وهو مذهب أبي حنيفة وحكى الدارمي طريقا رابعا
أنه يعطي بهما الا بالفقر والمسكنة لاستحالة وجودهما في حالة واحدة وهذا الطريق لا حقيقة له
لان الأصحاب تكلموا في الممكن والله تعالى أعلم * قال الرافعي إذا جوزنا اعطاءه بسببين جاز
بأسباب أيضا قال وقال الحناطي ويحتمل أن لا يعطى الا بسببين قال الخراسانيون فان قلنا لا يعطي
بسببين بأن كان عاملا فقيرا فوجهان مبنيان على الوجهين فيما يأخذه العامل هل هو أجرة أم زكاة ان
قلنا أجرة أعطي بهما والا فلا قال الشيح نصر المقدسي إذا قلنا لا يعطي الا بسبب واحد فأخذ بالفقر
كان لغريمه أن يطالبه بدينه ويأخذ ما حصل له وكذا ان أخذ بكونه غارما فإذا أخذه وبقى فقيرا
وجب اعطاؤه من سهم الفقراء لأنه الآن محتاج والله تعالى أعلم *
(فرع) قال أصحابنا إذا فقد بعض الأصناف فلم يوجدوا في البلد ولا غيره قسمت الزكاة بكمالها
على الموجودين من باقي الأصناف بلا خلاف وعجيب كون المصنف ترك هذه المسألة مع ذكره لها
في التنبيه قال أصحابنا والفرق بين هذا وبين ما لو أوصى لرجلين فرد أحدهما الوصية فان المردود
يكون للورثة لا للموصى له الآخر ان المال للورثة لولا الوصية والوصية تبرع فإذا لم تتم أخذ الورثة المال
(وأما) الزكاة فدين لزمه فلا يسقط بفقد المستحق ولهذا لو لم يجد أحدا من الأصناف لم يسقط
بل يصبر حتى يجدهم أو بعضهم بخلاف ما لو ردت الوصايا كلها فإنها ترجع إلى الورثة والله تعالى أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وإن كان الذي يفرق الزكاة رب المال سقط سهم العامل لأنه لا عمل له فيقسم الصدقة على سبعة
لكل صنف سهم على ما بيناه فإن كان في الأصناف أقارب له لا يلزمه نفقتهم فالمستحب أن يخص
الأقرب لما روت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها قالت " سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول الصدقة على المسكين صدقة وهي على ذي القرابة صدقة وصلة ") *
219

(الشرح) هذا الحديث صحيح رواه البيهقي في السنن الكبير باسناد صحيح ولفظه " أفضل
الصدقة على ذي الرحم الكاشح " وروى الترمذي والنسائي باسنادهما عن سلمان ابن عامر عن
النبي صلى الله عليه وسلم " الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان صدقة وصلة " وعن
عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الرحم شجنة من الله تعالى من وصلها وصله
الله ومن قطعها قطعه الله " رواه البخاري ومسلم والشجنة بكسر الشين وضمها وفتحها ثلاث
لغات ومعناه أن قرابة الانسان لقريبه سبب واصل بينهما وعن أنس رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه " رواه
البخاري ومسلم وفى الباب أحاديث كثيرة صحيحة جمعت معظمها في رياض الصالحين (أما)
أحكام الفصل فقوله إن كان الذي يفرق الزكاة رب المال سقط سهم العامل هو كما قال وهو ظاهر
وسبق مثله (وأما) قوله إن كان في الأصناف أقارب له لا يلزمه نفقتهم استحب أن يخص الأقرب
فمتفق عليه أيضا لما ذكرنا من الأحاديث قال أصحابنا يستحب في صدقة التطوع وفى الزكاة
والكفارة صرفها إلى الأقارب إذا كانوا بصفة الاستحقاق وهم أفضل من الأجانب قال أصحابنا
والأفضل أن يبدأ بذي الرحم المحرم كالاخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات
ويقدم الأقرب فالأقرب والحق بعض أصحابنا الزوج والزوجة بهؤلاء لحديث زينب امرأة ابن
مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " زوجك وولدك أحق من تصدقت عليه " رواه
ومسلم ثم بذي الرحم غير المحرم كأولاد العم وأولاد الخال ثم المحرم بالرضاع ثم بالمصاهرة ثم المولى
من أعلي وأسفل ثم الجار فإن كان القريب بعيد الدار في البلد قدم على الجار الأجنبي وإن كان الأقارب
خارجين عن البلد فان منعنا نقل الزكاة قدم الأجنبي والا فالقريب وكذا القول في أهل البادية
فحيث كان القريب والجار الأجنبي بحيث يجوز الصرف إليهما قدم القريب والله تعالى أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ويجب صرف الزكاة إلى الأصناف في البلد الذي فيه المال لما روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم بعث معاذا إلى اليمن فقال صلى الله عليه وسلم " أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم
وترد على فقرائهم " فان نقل إلى الأصناف في بلد آخر ففيه قولان (أحدهما) يجزئه لأنهم من أهل
الصدقات فأشبه أصناف البلد الذي فيه المال (والثاني) لا يجزئه لأنه حق واجب لأصناف بلد فإذا
220

نقل عنهم إلى غيرهم لا يجزئه كالوصية بالمال لأصناف بلد ومن أصحابنا من قال القولان في جواز النقل
ففي أحدهما يجوز والثاني لا يجوز (فاما) إذا نقل فإنه يجزئ قولا واحدا والأول هو الصحيح
فإن كان له أربعون شاة عشرون في بلد وعشرون في بلد آخر قال الشافعي رضي الله عنه إذا أخرج
الشاة في أحد البلدين كرهت وأجزأه فمن أصحابنا من قال إنما أجاز ذلك على القول الذي
يجوز نقل الصدقة فاما على القول الآخر فلا يجوز حتى يخرج في كل بلد نصف شاة ومنهم من قال
يجزئه ذلك قولا واحدا لان في اخراج نصف شاة في كل بلد ضررا في التشريك بينه وبين الفقراء
والصحيح هو الأول لأنه قال كرهت وأجزأه فدل على أنه على أحد القولين ولو كان قولا واحدا لم
يقل كرهت وفى الموضع الذي ينقل إليه طريقان (من) أصحابنا من قال القولان فيه إذا نقل إلى
مسافة تقصر فيها الصلاة (فاما) إذا نقل إلى مسافة لا تقصر فيها الصلاة فإنه يجوز قولا واحدا
لان ذلك في حكم البلد بدليل انه لا يجوز فيه القصر والمسح (ومنهم) من قال القولان في الجميع
وهو الأظهر) *
(الشرح) حديث معاذ رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عباس رضي الله عنهما وينكر
على المصنف قوله فيه روى بصيغة التمريض (وقوله) لا يجرز فيه القصر والفطر والمسح يعني المسح
على الخف ثلاثة أيام وهذا متفق عليه وقد نبه عليه المصنف هنا وفى آخر الحضانة وفى تغريب
الزاني ولم يذكره في مظنته وهما باب المسح على الخف وباب صلاة المسافر (اما) الأحكام فحاصل
المذهب انه ينبغي أن يفرق الزكاة في بلد المال فلو نقلها إلى بلد آخر مع وجود المستحقين فللشافعي
رضي الله عنه في المسألة قولان وللأصحاب فيها ثلاث طرف (أصحها) عندهم ان القولين في الاجزاء
وعدمه (أصحهما) لا يجزئه (والثاني) يجزئه ولا خلاف في تحريم النقل (والطريق الثاني) انهما في
التحريم وعدمه (أصحهما) يحرم (والثاني) لا يحرم ولا خلاف انه يجزى ء وهذان الطريقان في الكتاب
(والثالث) حكاه صاحب الشامل انهما في الجواز والاجزاء معا (أصحهما) لا يجوز ولا يجزئه
(والثاني) يجوز ويجزئه وتعليل الجميع في الكتاب والأصح عند الأصحاب الطريق الأول (والأصح)
من القولين أنه لا يجزئه وهو محكى عن عمر بن عبد العزيز وطاوس وسعيد بن جبير ومجاهد والنخعي
والثوري ومالك وأحمد وبالاجزاء قال أبو حنيفة (والصحيح) أنه لا فرق بين النقل إلى مسافة القصر
ودونها كما صححه المصنف كذا صححه الجمهور فحصل من مجموع الخلاف أربعة أقوال (أصحها) لا يجزئ
النقل مطلقا ولا يجوز (والثاني) يجزئ ويجوز (والثالث) يجزئ ولا يجوز (والرابع) يجزئ
ويجوز لدون مسافة القصر ولا يجزئ ولا يجوز إليها وإذا منعنا النقل ولم نعتبر مسافة القصر فسواء
221

نقل إلى قرية بقرب البلد أم بعيدة صرح به صاحب العدة (واعلم) أن صاحب الشامل ذكر المسألة
في أول قسم الصدقات في موضعها كما ذكرها المزني والأصحاب وذكر في النقل إلى دون مسافة
القصر الطريقين وذكر ان الأصح انها على القولين ثم ذكر في أواخر الباب في مسألة أصحاب الخيام
الذين لا يرتحلون أن أصحاب الخيام الذين لا يرتحلون يجوز الصرف إلى من بينه وبينه مالا تقصر فيه
الصلاة قال وكذلك البلد إذا كان في سواده في موضع لا تقصر فيه الصلاة كأهل البلد قال واحتج
الشافعي بان من هو من الحرم على مسافة لا تقصر فيها الصلاة فهو من حاضريه قال (فاما) إذا كان
بلدين بينهما مسافة لا تقصر فيها الصلاة فلا ينقل من أحدهما إلى الآخر لان أحدهما لا يضاف إلى
الآخر ولا ينسب هذا كلام الشامل وذكر مثله الشيخ أبو حامد وهو مخالف في ظاهره لما
قاله صاحب العدة والله تعالى أعلم *
(فرع) قال أصحابنا في نقل الكفارات والنذور عن البلد الذي وجبت فيه ونقل وصية من
أوصي للفقراء وغيرهم ولم يذكر بلدا طريقان (أحدهما) وبه قطع جماعة من العراقيين لها حكم الزكاة
فيجرى فيها الخلاف كالزكاة (وأصحهما) عند الخراسانيين وتابعهم الرافعي عليه القطع بالجواز لان
الأطماع لا تمتد إليها امتدادها إلى الزكوات وهذا هو الصحيح *
(فرع) حيث جاز النقل أو وجب فمؤنته على رب المال قال الرافعي ويمكن تخريجه على الخلاف
السابق في اجرة الكيال وهذا الذي قاله محتمل فيما إذا وجب النقل (أما) إذا لم يجب ونقله رب المال
فيجب الجزم بأنها على رب المال *
(فرع) قال الرافعي الخلاف في جواز النقل وعدمه ظاهر فيما إذا فرق رب المال زكاته أما إذا فرق
الامام فربما اقتضي كلام الأصحاب طرد الخلاف فيه وربما دل على جواز النقل له والتفرقة كيف
شاء قال وهذا أشبه هذا كلامه وقد ذكر المصنف في أوائل هذا الباب في أواخر الفصل الأول قبل
وسيم الماشية أن الساعي ينقل الصدقة إلى الامام إذا لم يأذن له في تفرقتها وهذا نقل وقدمنا هناك أن
الراجح القطع بجواز النقل للامام والساعي وهو ظاهر الأحاديث والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا لو كان المالك ببلد والمال ببلد آخر فالاعتبار ببلد المال لأنه سبب الوجوب
ويمتد إليه نظر المستحقين فيصرف العشر إلى الأصناف بالأرض التي حصل منها المعشر وزكاة النقدين
والمواشي والتجارة إلى أصناف البلد الذي تم فيه حولها *
(فرع) لو كان ماله عند تمام الحول ببادية وجب صرفه إلى الأصناف في أقرب البلاد إلى المال
فإن كان تاجرا مسافرا صرفها حيث حال الحول *
222

(فرع) إذا كان له مال في مواضع متفرقة وحال الحول وهي متفرقة صرف زكاة كل طائفة من
ماله ببلدها ولا يجوز أن يصرف الجميع في بلد واحد إذا منعنا النقل هذا إذا لم يقع تشقيص فان وقع
بأن ملك أربعين شاة عشرين ببلد وعشرين ببلد آخر فأدى شاة في أحد البلدين قال الشافعي رضي الله عنه
كرهت ذلك وأجزأه وللأصحاب فيه طريقان حكاهما المصنف بدليلهما (أحدهما) وهو قول
أبى حفص ابن الوكيل من أصحابنا أن هذا جائز ان جوزنا نقل الصدقة وعليه فرعها الشافعي
رضي الله عنه وان منعنا نقلها وجب في كل بلد نصف شاة ورجح المصنف هذا الطريق بما ليس بمرجح
واستدل من كلام الشافعي رضي الله عنه بما لا دلالة فيه (والطريق الثاني) هو المذهب وهو ظاهر النص وقطع
به أكثر المتقدمين وكثير من المصنفين ورجحه جمهور الباقين انه يجوز قولا واحدا سواء منعنا نقل الصدقة
أم لا وعلله الأصحاب بعلتين (إحداهما) ان له في كل بلد مالا فيخرج في أيهما شاء لأنه يصدق
عليه أنه أخرج في بلد ماله (والثانية) ان عليه ضررا في التشقيص قال الرافعي وفرعوا عليهما ما لو
كان له مائة ببلد ومائة ببلد فعلى الأولى له اخراج الشاتين في أحد البلدين وعلى الثانية لا يجوز
ذلك بل يجب في كل بلد شاة وهذا هو المذهب في هذه الصورة وبه قطع جماعة والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وإن وجبت عليه الزكاة وهو من أهل الخيم الذين ينتجعون لطلب الماء والكلأ فإنه ينظر فيه فإن كانوا
متفرقين كان موضع الصدقة من عند المال إلى حيث تقصر فيه الصلاة فإذا بلغ حدا تقصر
فيه الصلاة لم يكن ذلك موضع الصدقة وإن كان في حلل مجتمعة ففيه وجهان (أحدهما) انه
كالقسم قبله (والثاني) ان كل حلة كالبلد) *
(الشرح) (قوله) الخيم هو بفتح الخاء واسكان الياء والواحدة خيمة كتمرة وتمر وبيضة
وبيض ويجوز خيم بكسر الخاء وفتح الياء كبدرة وبدر وقيل إنه على هذه اللغة محذوف الألف
من خيام كما في قوله تعالى (جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس) وقرئ قيما وقالوا فيه
ما ذكرناه والحلل بكسر الحاء جمع حلة بكسرها أيضا وهم الحي النازلون قال أصحابنا: أرباب
أموال الزكاة ضربان (أحدهما) المقيمون في بلد أو قرية أو موضع من البادية لا يظعنون عنه شتاء
ولا صيفا فعليهم صرف زكاتهم إلى من في موضعهم من الأصناف سواء المقيمون عندهم المستوطنون
223

والغرباء المجتازون (الضرب الثاني) أهل الخيام المتنقلون وهم صنفان (أحدهما) قوم مقيمون في موضع
من البادية لا يظعنون عنه شاء ولا صيفا الا لحاجة فلهم حكم الضرب الأول فيصرفون زكاتهم إلى
من في موضعهم فان نقلوا عنه كانوا كمن نقل من بلد إلى بلد (الصنف الثاني) أهل خيام ينتقلون
للجهة وهم الذين إذا أخصب موضع رحلوا إليه وإذا أجدب موضع رحلوا منه فينظر فيهم فإن كانت
حللهم متفرقة صرفوا الزكاة إلى جيران المال وهم من كان من المال على مسافة لا تقصر فيها الصلاة قال أصحابنا
فيجوز الدفع إلى هؤلاء قولا واحدا ولا يجئ فيهم الخلاف السابق في النقل من بلد إلى بلد لا تقصر إليه
الصلاة لأنه لا يعد نقلا فان نقلت عنهم إلى مسافة تقصر فيها الصلاة من موضع المال كان فيه الخلاف في
النقل من بلد إلى بلد تقصر إليه الصلاة واتفق أصحابنا على جميع هذا المذكور قال أصحابنا فإن كان مع أهل
الخيام قوم من الأصناف ينتقلون بانتقالهم وينزلون بنزولهم فالصرف إليهم أفضل من الصرف إلى جيرانهم
الذين لا يظعنون بظعنهم لأنهم أشد جوارا فان صرف إلى الآخرين جاز هذا كله فيمن خيامهم
متفرقة فإن كانت مجتمعة وكل حلة متميزة عن الأخرى تنفرد عنها في الماء والمرعي فوجهان
مشهوران (أحدهما) انهم كالمتفرقين (وأصحهما) ان كل حلة كقرية فعلى هذا النقل منها
كالنقل من القرية (واما) أهل الخيام الذين لا قرار لهم بل يطوفون البلاد ابدا فيصرفونها إلى
من معهم فإن لم يكن معهم فإلى أقرب البلاد إليهم عند تمام الحول والله تعالى أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان وجبت الزكاة وليس قي البلد الذي فيه المال أحد من الأصناف نقلها إلى أقرب البلاد
إليه لأنهم أقرب إلى المال فان وجد فيه بعض الأصناف ففيه طريقان (أحدهما) يغلب حكم المكان
فيدفع إلى من في بلد المال من الأصناف (والثاني) يغلب حكم لأصناف فيدفع إلى من في بلد المال
بسهمهم وينقل الباقي إلى بقية الأصناف في غير بلد المال وهو الصحيح لان استحقاق الأصناف
أقوى لأنه ثبت بنص الكتاب واعتبار البلد ثبت بخبر الواحد فقدم من ثبت حقه بنص الكتاب
فان قسم الصدقة على الأصناف فنقص نصيب بعضهم عن كفايتهم ونصيب الباقين على قدر كفايتهم
دفع إلى كل واحد منهم ما قسم له ولا يدفع إلى من نقص سهمه عن كفايته من نصيب الباقين شئ
لان كل صنف منهم ملك سهمه فلا ينقص حقه لحاجة غيره وإن كان نصيب بعضهم ينقص عن
224

كفايته ونصيب البعض يفضل عن كفايته فان قلنا المغلب اعتبار البلد الذي فيه المال صرف
ما فضل إلى بقيه الأصناف في البلد وان قلنا المغلب اعتبار الأصناف صرف الفاضل إلى ذلك الصنف
الذي فضل عنهم بأقرب البلاد) *
(الشرح) قال أصحابنا إذا عدم في بلد جميع الأصناف وجب نقل الزكاة إلى أقرب البلاد إلى
موضع المال فان نقل إلى الا بعد كان على الخلاف في نقل الزكاة وإن عدم بعضهم فان جوزنا نقل
الزكاة نقل نصيب المعدوم إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد وإن لم نجوزه فوجهان مشهوران وحكاهما
المصنف طريقين والمعروف في كتب الأصحاب وجهان ولعله أراد أنهما بالتفريع عليهما يصيران
طريقين (أصحهما) عند المصنف وجماعة يغلب حكم الأصناف فينقل لما ذكره المصنف (وأصحهما) عند
آخرين منهم الرافعي يغلب حكم البلد فيرد على باقي الأصناف في البلد لأن عدم الشئ في موضعه
كعدمه مطلقا كما أن من عدم الماء تيمم مع أنه موجود في موضع آخر (فان قلنا) ينقل نقل إلى أقرب
البلاد وصرف إلى ذلك الصنف فان نقل إلى أبعد أو لم ينقل وفرقه على الباقين ضمن (وان قلنا) لا ينقل
فنقل ضمن ولو وجد كل الأصناف ونقص سهم بعضهم عن الكفاية وزاد سهم بعضهم على الكفاية
فهل يصرف ما زاد إلى هذا الصنف الناقص سهمه أم ينقل إلى الصنف الذين زاد سهمهم عنهم
بأقرب البلاد فيه هذا الخلاف (فان قلنا) يصرف إلى الناقصين فكانوا أصنافا قسم بينهم بالسوية
ولو زاد نصيب جميع الأصناف على الكفاية أو نصيب بعضهم ولم ينقص نصيب الآخرين نقل
ما زاد إلى ذلك الصنف بأقرب البلاد بلا خلاف والله تعالى أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان وجبت عليه زكاة الفطر وهو في بلد وماله فيه وجب اخراجها إلى الأصناف في البلد
لان مصرفها مصرف سائر الزكوات وإن كان ماله في بلد وهو في بلد آخر ففيه وجهان (أحدهما)
أن الاعتبار بالبلد الذي فيه المال (والثاني) أن الاعتبار بالبلد الذي هو فيه لان الزكاة تتعلق بعينه
فاعتبر الموضع الذي هو فيه كالمال في سائر الزكوات) *
(الشرح) قال أصحابنا إذا كان في وقت وجوب زكاة الفطر في بلد وماله فيه وجب صرفها
فيه فان نقلها عنه كان كنقل باقي الزكوات ففيه الخلاف والتفصيل السابق وإن كان في بلد وماله في
آخر فأيهما يعتبر فيه وجهان (أحدهما) بلد المال كزكاة المال (وأصحهما) بلد رب المال ممن صححه المصنف
225

في التنبيه والجرجاني في التحرير والغزالي والبغوي والرافعي وآخرون فعلى هذا لو كان له من تلزمه
نفقته وفطرته وهو في بلد آخر قال صاحب البيان الذي يقتضيه المذهب انه يبني على
الوجهين في أنها تجب على المؤدى ابتداء أم على المؤدى عنه والله أعلم * ولو كان بعض ماله معه في بلد
وبعضه في بلد آخر وجبت زكاة الفطر في البلد الذي هو فيه بلا خلاف
* قال المصنف رحمه الله *
(إذا وجبت الزكاة لقوم معينين في بلد فلم يدفع إليهم حتى مات بعضهم انتقل حقه إلى ورثته لأنه
تعين حقه في حال الحياة فانتقل بالموت إلى ورثته) *
(الشرح) قال أصحابنا رحمهم الله تعالى لشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة نصان (قال) في موضع
إنما يستحق أهل السهمان يوم القسمة الا العامل فإنه يستحق بالعمل (وقال) في موضع آخر يستحقون
يوم الوجوب (وقال) في موضع لو مات واحد منهم بعد وجوب الزكاة كان حقه لورثته سوأ كان
غنيا أو فقيرا وهذا النص بمعنى الذي قبله قال أصحابنا ليست المسألة على قولين بل على حالين
فالموضع الذي قال فيه يعتبر الوجوب فإذا مات أحدهم انتقل حقه إلى ورثته أراد به إذا كانت
قد وجبت لقوم معينين في بلد بأن لم يكن فيه من صنف الا ثلاثة فيتعين نصيب ذلك الصنف لهم
ولا يتغير بحدوث شئ فلو مات أحدهم وجب نصيبه لوارثه وان غاب أو استغنى فحقه باق بحاله
وان قدم غريب لم يشاركهم والموضع الذي اعتبر فيه وقت القسمة أراد به إذا لم يكونوا معينين
بأن كان في البلد من كل صنف أكثر من ثلاثة فان الزكاة لا تتعين لهم وان مات بعضهم بعد
الوجوب وقبل القسمة أو استغنى فلا حق له وان قدم غريب شاركهم فلو كان غنيا وقت الوجوب
فقيرا وقت القسمة أعطي منها * هذا التفصيل الذي ذكرته هو طريقة أصحابنا العراقيين وقال الخراسانيون
الموضع الذي اعتبر فيه حال الوجوب أراد إذا لم يكن في البلد الا ثلاثة أو أقل ومنعنا نقل
الزكاة والموضع الذي اعتبر فيه يوم القسمة إذا كانوا أكثر من ثلاثة وجوزنا نقل الزكاة والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ولا يجوز دفع الزكاة إلى هاشمي لقوله صلى لله عليه وسلم " نحن أهل بيت لا تحل لنا الصدقة "
ولا يجوز دفعها إلى مطلبي لقوله صلى الله عليه وسلم " ان بني هاشم وبني المطلب شئ واحد وشبك
بين أصابعه " ولأنه حكم واحد يتعلق بذوي القربى فاستوى فيه الهاشمي والمطلبي كاستحقاق الخمس
226

وقال أبو سعيد الإصطخري إن منعوا حقهم من الخمس جاز الدفع إليهم لأنهم إنما حرموا الزكاة لحقهم
في خمس الخمس فإذا منعوا الخمس وجب أن يدفع إليهم والمذهب الأول لان الزكاة حرمت عليهم لشرفهم
برسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا المعنى لا يزول بمنع الخمس وفى مواليهم وجهان (أحدهما) يدفع إليهم
(والثاني) لا يدفع إليهم وقد بينا وجه المذهبين في سهم العامل) *
(الشرح) الحديث الأول رواه البخاري ومسلم بمعناه ولفظ روايتهما عن أبي هريرة رضي الله عنه
ان الحسن ابن علي رضي الله عنهما " أخذ تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم كخ كخ ليطرحها ثم قال أما شعرت أنا لا نأكل الصدقة " وفى رواية لمسلم " إنا لا تحل
لنا الصدقة " وفى رواية البخاري " أما علمت أن آل محمد لا يأكلون الصدقة " وعن المطلب بن ربيعة
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس وإنها لا تحل لمحمد
ولا لآل محمد " رواه مسلم وسبق بيانه بطوله في أول هذا الباب في بعث الامام للسعاة (واما) الحديث
الآخر " إن بني هاشم وبني المطلب شئ واحد وشبك بين أصابعه " فرواه البخاري في صحيحه
من رواية جبير بن مطعم (وقوله) صلى الله عليه وسلم شئ واحد روى بشين معجمة مفتوحة وهمز آخره
وروى سي بسين مهملة مكسورة وياء مشددة بلا همز والسي بالمهملة المثل (وأما) الحديث الذي رواه
أبو داود في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال " بعث بي أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
في إبل أعطاه إياها من الصدقة يبدلها " (فجوابه) من وجهين أجاب بهما البيهقي (أحدهما) أن يكون قبل
تحريم الصدقة علي بني هاشم ثم صار منسوخا بما ذكرناه (والوجه الثاني) أن يكون قد اقترض من
العباس للفقراء إبلا ثم أوفاه إياها من الصدقة وقد جاء في رواية أخرى ما يدل على هذا وبهذا الثاني
أجاب الخطابي والله تعالى أعلم * أما قوله وقد بينا وجه المذهبين في سهم العامل فمراده أنه بينه في أول
الباب في فصل بعث السعاة ولم يذكره في سهم العامل وعبارته موهمة ولو قال في أول الباب لكان
أجود * (أما) الأحكام فالزكاة حرام على بني هاشم وبني المطلب بلا خلاف الا ما سبق فيما إذا كان
أحدهم عاملا والصحيح تحريمه وفي مواليهم وجهان (أصحهما) التحريم ودليل الجميع في الكتاب ولو منعت
بنوا هاشم وبنوا المطلب حقهم من خمس الخمس هل تحل الزكاة فيه الوجهان المذكوران في الكتاب
(أصحهما) عند المصنف والأصحاب لا تحل (والثاني) تحل وبه قال الإصطخري قال الرافعي وكان
محمد ابن يحيى صاحب الغزالي يفتي بهذا ولكن المذهب الأول وموضع الخلاف إذا انقطع
227

حقهم من خمس الخمس لخلو بيت المال من الفئ والغنيمة أو لاستيلاء الظلمة واستبدادهم بهما والله تعالى
أعلم * هذا مذهبنا وجوز أبو حنيفة صرف الزكاة إلى بني المطلب ووافق على تحريمها
علي بني هاشم * ودليلنا ما ذكره المصنف والله تعالى أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(ولا يجوز دفعها إلى كافر لقوله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم
وأردها على فقرائكم ") *
(الشرح) هذا الحديث رواه البخار ومسلم من رواية ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال لمعاذ رضي الله عنه " أعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم "
وسبق بيانه في فصل نقل الزكاة وغيره ولا يجوز دفع شئ من الزكوات إلى كافر سواء زكاة الفطر
وزكاة المال وهذا لا خلاف فيه عندنا قال ابن المنذر: أجمعت الأمة أنه لا يجزئ دفع زكاة المال إلى الذمي
واختلفوا في زكاة الفطر فجوزها أبو حنيفة وعن عمرو بن ميمون وعمر بن شرحبيل ومرة الهمذاني
أنهم كانوا يعطون منها الرهبان * وقال مالك والليث وأحمد وأبو ثور لا يعطون ونقل صاحب البيان
عن ابن سيرين والزهري جواز صرف الزكاة إلى الكفار *
* قال المصنف رحمه الله *
(ولا يجوز دفعها إلى غني من سهم الفقراء لقوله صلى الله عليه وسلم " لاحظ فيها لغني
ولا قوى مكتسب " ولا يجوز دفعها إلى من يقدر على كفايته بالكسب للخبر ولان غناه
بالكسب كغناه بالمال) *
{الشرح} هذا الحديث صحيح رواه أبو داود باسناد صحيح وسبق بيانه في فصل سهم الفقراء
قال أصحابنا: لا يجوز صرف الزكاة إلى غنى من سهم الفقراء والمساكين ولا إلى قادر على كسب
يليق به يحصل له منه كفايته وكفاية عياله وسبق بيان هذا في فصل سهم الفقراء (وأما) الصرف
إليه من غير سهم الفقراء والمساكين مع الغني فيجوز إلى العامل والغازي والغارم لذات البين والمؤلف
ولا يجوز اعطاء المكاتب مع الغنى ولا ابن السبيل إن كان غنيا هنا ولا يضر غناه في موضع آخر كما
سبق ولا يعطي الغارم لمصلحة نفسه مع الغنى على أصح القولين كما سبق (واما) القدرة على الكسب
فتمنع اعطاء الفقير والمسكين كما سبق (واما) باقي الأصناف فيعطون مع القدرة على الكسب بلا خلاف
228

لأنهم مضطرون في الحال إلى ما يأخذون بخلاف الفقراء والمساكين وفى الغارم لمصلحة نفسه والمكاتب وجه
شاذ ضعيف انهما لا يعطيان إذا قدرا على الكسب وقد سبق بيانه في فصليهما والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
{ولا يجوز دفعها إلى من تلزمه نفقته من الأقارب والزوجات من سهم الفقراء لان ذلك إنما
جعل للحاجة ولا حاجة بهم مع وجوب النفقة} *
{الشرح} هذا الذي ذكره متفق عليه عندنا وقد اختصر المصنف هذه المسألة وهي مبسوطة
في كتب الأصحاب أكمل بسط وأنا أنقل فيها عيون ما ذكروه إن شاء الله تعالى. قال أصحابنا
لا يجوز للانسان أن يدفع إلى ولده ولا والده الذي يلزمه نفقته من سهم الفقراء والمساكين لعلتين
(إحداهما) أنه غنى بنفقته (والثانية) انه بالدفع إليه يجلب إلى نفسه نفعا وهو منع وجوب النفقة عليه
قال أصحابنا ويجوز أن يدفع إلى ولده ووالده من سهم العاملين والمكاتبين والغارمين والغزاة إذا كانا بهذه
الصفة ولا يجوز ان يدفع إليه من سهم المؤلفة إن كان ممن يلزمه نفقته لان نفعه يعود إليه وهو اسقاط
النفقة فإن كان ممن لا يلزمه نفقته جاز دفعه إليه (وأما) سهم ابن السبيل فالمذهب انه إذا كان من أبناء
السبيل أعطاه من النفقة ما يزيد على نفقة الحضر ويعطيه المركوب والحمولة لان هذا لا يلزم المنفق ولا
يعطيه قدر نفقة الحضر لأنها لازمة وبهذا قطع كثيرون من الأصحاب أو أكثرهم (والثاني) وبه
قطع المحاملي لا يعطيه شيئا من النفقة بل يعطيه الحمولة لان نفقته واجبة عليه في الحضر والسفر والحمولة
ليست بواجبة في السفر قال أصحابنا المتقدمون له ان يعطى ولده ووالده من سهم العامل إذا كان
عاملا كما قدمناه قال القاضي أبو الفتوح من أصحابنا هذا لا يصح لأنه لا يتصور ان يعطي العامل
شيئا من زكاته قال صاحب الشامل أراد الأصحاب إذا كان الدافع هو الامام فله ان يعطي ولد
رب المال ووالده من سهم العامل إذا كان عاملا من زكاة والده وولده هذا كله إذا كان الذي
يعطيه هو الذي يلزمه نفقته فلو أعطاه غيره فقد أطلق الخراسانيون فيه وجهين (أصحهما) لا يعطي
لأنه مستغن بالنفقة الواجبة على قريبه (وأما) إذا كان الولد أو الوالد فقيرا أو مسكينا وقلنا في
في بعض الأحوال لا تجب نفقته فيجوز لوالده وولده دفع الزكاة إليه من سهم الفقراء والمساكين بلا
خلاف لأنه حينئذ كالأجنبي (واما) الزوجة (فان) أعطاها غير الزوج من سهم الفقراء والمساكين
ففيها الوجهان كالولد والوالد (والأصح) لا يجوز (واما) الزوج فقطع العراقيون بأنه لا يجوز له ان
229

يعطيها شيئا من سهم الفقراء والمساكين وقال الخراسانيون فيه الوجهان كالأجنبي لأنه لا يدفع النفقة
عن نفسه بل نقتها عوض لازم سواء كانت غنية أم فقيرة كما لو استأجر فقيرا فان له صرف الزكاة إليه
مع الأجرة والصحيح طريقة العراقيين وعليها التفريع وقد سبقت هذه المسألة بفروعها مستقصاة في
سهم الفقراء والله تعالى أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{فان دفع الامام الزكاة إلى من ظاهره الفقر ثم بان انه غني لم يجزئ ذلك عن الفرض فإن كان باقيا
استرجع ودفع إلى فقير وإن كان فانيا اخذ البدل وصرفه إلى فقير فإن لم يكن للمدفوع إليه مال لم
يجب على رب المال ضمانه لأنه قد سقط عنه الفرض بالدفع إلى الامام ولا يجب على الامام لأنه امين
غير مفرط فهو كالمال الذي تلف في يد الوكيل وإن كان الذي دفع رب المال فإن لم يبين عند الدفع أنه
زكاة لم يكن له أن يرجع لأنه قد يدفع عن زكاة واجبة وعن تطوع فإذا ادعى الزكاة كان متهما
فلم يقبل قوله ويخالف الامام فان الظاهر من حاله انه لا يدفع الا الزكاة فثبت له الرجوع وإن كان
قد بين انها زكاة رجع فيها إن كانت باقية وفي بدلها إن كانت فانية فإن لم يكن للمدفوع إليه
مال فهل يضمن رب المال الزكاة فيه قولان (أحدهما) لا يضمن لأنه دفع بالاجتهاد فهو كالامام
(والثاني) يضمن لأنه كان يمكنه ان يسقط الفرض بيقين بان يدفعه إلى الامام فإذا فرق بنفسه
فقد فرط فلزمه الضمان بخلاف الامام وان دفع الزكاة إلى رجل ظنه مسلما فكان كافرا أو إلى
رجل ظنه حرا فكان عبدا فالمذهب أن حكمه حكم ما لو دفع إلى رجل ظنه فقيرا فكان غنيا ومن
أصحابنا من قال يجب الضمان ههنا قولا واحدا لان حال الكافر والعبد لا يخفى فكان مفرطا في
الدفع إليهما وحال الغنى قد يخفي فلم يكن مفرطا} *
{الشرح} قال أصحابنا إذا دفع رب المال الزكاة إلى الامام ودفعها الامام إلى من ظاهره
الفقر فبان غنيا لم يجز عن الزكاة فيسترجع منه المدفوع سواء بين الامام حال الدفع انها زكاة أم لا
والظاهر من الامام انه لا يدفع تطوعا ولا يدفع الا واجبا من زكاة واجبة أو كفارة أو نذر أو غير ذلك
فان تلف فبدله ويصرف إلى غيره فان تعذر الاسترجاع من القابض لم يجب الضمان على الامام ولا
على رب المال لما ذكره المصنف وان بان المدفوع إليه عبدا أو كافرا أو هاشميا أو مطلبيا فلا ضمان
على رب المال وهل يجب على الامام فيه ثلاث طرق (أصحها) فيه قولان (أصحهما) لا ضمان
عليه (والثاني) يضمن (والطريق الثاني) يضمن قطعا لتفريطه فان هؤلاء لا يخفون الا باهمال
230

(والثالث) لا يضمن قطعا لأنه امين ولم يتعمد هذا كله إذا فرق الامام فلو فرق رب المال فبان
المدفوع إليه غنيا لم يجز عن الفرض فإن لم يكن بين انها زكاة لم يرجع وان بين رجع في عينها فان
تلفت ففي بدلها فإذا قبضه صرفه إلى فقير آخر فان تعذر الاسترجاع فهل يجب الضمان والاخراج
ثانيا على المالك فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) وهو الجديد يجب
(والقديم) لا يجب والقولان جاريان سواء بين وتعذر الاسترجاع أم لم يبين ومنعنا الاسترجاع ولو
دفعها رب المال إلى من ظنه مستحقا فبان عبدا أو كافرا أو هاشميا أو مطلبيا وجب الاسترجاع فان
استرجع أخرجه إلى فقير آخر فان تعذر الاسترجاع فطريقان مشهوران ذكر المصنف دليلهما
(المذهب) أنها لا تجزئه ويلزمه الاخراج ثانيا ولو دفع إليه سهم الغازي والمؤلف فبان امرأة فهو
كمن بان عبدا ذكره القاضي أبو الفتوح وحكاه صاحب البيان عنه قال البغوي وغيره
وحكم الكفارة وزكاة الفطر فيما لو بان المدفوع إليه غير مستحق حكم الزكاة في جميع ما ذكرناه
وإذا كان المدفوع إليه عبدا تعلق الغرم بذمته لا برقبته ذكره البغوي والرافعي وغيرهما لأنه وجب
وجب عليه برضى مستحقه والقاعدة ان ما لزمه برضى مستحقه تعلق بذمته لا برقبته والله تعالى اعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ومن وجبت عليه الزكاة وتمكن من أدائها فلم يفعل حتى مات وجب قضاء ذلك من تركته لأنه
حق مال لزمه في حال الحياة فلم يسقط بالموت كدين الآدمي فان اجتمع الزكاة ودين الآدمي ولم
يتسع المال للجميع ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) يقدم دين الآدمي لان مبناه على التشديد والتأكيد
وحق الله تعالى مبني على التخفيف ولهذا لو وجب عليه قتل قصاص وقتل ردة قدم قتل القصاص
(والثاني) تقدم الزكاة لقوله صلى الله عليه وسلم في الحج " فدين الله أحق ان يقضي " (والثالث) يقسم
بينهما لأنهما تساويا في الوجوب فتساويا في القضاء} *
{الشرح} هذا الحديث في صحيحي البخاري ومسلم من رواية ابن عباس رضي الله عنهما في الصوم
" ان رجلا قال يا رسول الله ان أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها فقال صلى الله عليه وسلم
لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها قال نعم قال فدين الله أحق ان يقضى " (وقول) المصنف
حق مال احتراز من الصلاة (وقوله) لزمه في حيال الحياة احتراز ممن مات قبل الحول (اما) حكم الفصل
231

فمن وجبت عليه زكاة وتمكن من أدائها فمات قبل أدائها عصى ووجب إخراجها من تركته عندنا
بلا خلاف وبه قال جمهور العلماء * وقال أبو حنيفة تسقط عنه الزكاة بالموت وهو مذهب عجيب فإنهم
يقولون الزكاة تجب على التراخي وتسقط بالموت وهذا طريق إلى سقوطها * ودليلنا ما ذكره المصنف
وإذا اجتمع في تركة الميت دين لله تعالي ودين لآدمي كزكاة وكفارة ونذر وجزاء صيد وغير
ذلك ففيه ثلاثة أقوال مشهورة ذكرها المصنف بأدلتها (أصحها) يقدم دين الله تعالى (والثاني)
دين الآدمي (والثالث) يستويان فتوزع عليهما بنسبتهما وحكى بعض الخراسانيين طريقا آخر ان
الزكاة المتعلقة بالعين تقدم قطعا وإنما الأقوال في الكفارات وغيرها مما يسترسل في الذمة مع حقوق
الآدمي وقد تكون الزكاة من هذا القبيل بأن يكون له مال فيتلف بعد الحول والامكان ثم يموت
وله تركة فالزكاة هنا متعلقة بالذمة ففيها الأقوال * وأجابوا عن حجة من قدم دين الآدمي
وقياسه على قتل الردة وقطع السرقة بأنه إنما قدمنا حق الآدمي هناك لاندراج حق الله تعالى في ضمنه
وحصول مقصوده وهو اعدام نفس المرتد ويد السارق وقد حصل بخلاف الديون ولان الحدود
مبنية على الدرء والاسقاط بخلاف حقوق الله تعالى المالية والله تعالى أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بالباب (إحداها) قال الصيمري وصاحب البيان حكاية عنه: كان
الشافعي رضي الله عنه في القديم يسمي ما يؤخذ من الماشية صدقة ومن المعشرات عشرا ومن النقدين
زكاة فقط ثم رجع عنه في الجديد وقال يسمى الجميع صدقة وزكاة وذكر البيهقي بابا في قسم الصدقات
من سننه ترجمته باب الأغلب على أفواه العامة أن في التمر العشر وفى الماشية الصدقة وفى الورق
الزكاة قال وقد سمي رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا كله صدقة قال الشافعي: والعرب تقول له
صدقة وزكاة ومعناهما عندهم واحد ثم ذكر البيهقي رحمه الله تعالى حديث أبي سعيد الخدري عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " ليس ما في دون خمس ذود صدقه ولا ما في دون خمس أواق
صدقة ولا فيم دون خمسة أوسق صدقة " رواه البخاري ومسلم وحديث أبي ذر رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " ما من رجل يموت فيترك غنما أو إبلا أو بقرا لم يؤد زكاتها الا جاءت
أعظم ما يكون تطوه بأظلافها " الحديث رواه البخاري ومسلم وحديث عتاب بن أسيد رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكرم " يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدى زكاته زبيبا
232

كما تؤدى من زكاة النخل تمرا " وهذا الحديث سبق بيانه في أول زكاة الثمار فهذه
الأحاديث كلها تبطل القول بالفرق والله تعالى أعلم (الثانية) إذا دفع المالك أو غيره الزكاة إلى
المستحق ولم يقل هي زكاة ولا تكلم بشئ أصلا أجزأه ووقع زكاة هذا هو المذهب الصحيح المشهور الذي
قطع به الجمهور وقد صرح بالمسألة امام الحرمين في باب تعجيل الزكاة وآخرون وهي مفهومة من
تفاريع الأصحاب وكلامهم وفى كلام المصنف في هذا الباب وغيره مواضع كثيرة مصرحة بذلك
(منها) قوله في هذا الفصل الأخير: إذا دفع الزكاة إلى من ظاهره الفقر فبان غنيا فإن لم يبين عند
الدفع أنها زكاة لم يرجع واستعمل مثل هذا في مواضع من باب تعجيل الزكاة وغيره وكذلك الأصحاب
وقال القاضي أبو القاسم بن كج في آخر قسم الصدقات من كتابه التجريد إذا دفع الزكاة إلى الامام
أو الفقير لا يحتاج أن يقول بلسانه شيئا قال وقال أبو علي بن أبي هريرة لابد من أن يقول بلسانه
كالهبة وهذا ليس بشئ فنبهت عليه لئلا يغتر به والله تعالى اعلم * قال صاحب البحر لو دفع الزكاة
إلى فقير والدافع غير عارف بالمدفوع بأن كان مشدودا في خرقة ونحوها لا يعلم جنسه وقدره وتلف
في يد المسكين ففي سقوط الزكاة احتمالان لان معرفة القابض لا تشترط فكذا معرفة الدافع هذا كلامه
(والأظهر) الاجزاء (الثالثة) قال الغزالي في الاحياء يسأل الآخذ دافع الزكاة عن قدرها فيأخذ
بعض الثمن بحيث يبقى من الثمن ما يدفعه إلى اثنين من صنفه فان دفع إليه الثمن بكماله حرم عليه أخذه
قال وهذا السؤال واجب في أكثر الناس فإنهم لا يراعون هذا اما لجهل واما لتساهل وإنما يجوز ترك
السؤال عن مثل هذا إذا لم يغلب على الظن احتمال التحريم (الرابعة) الأفضل في الزكاة اظهار اخراجها
ليراه غيره فيعمل عمله ولئلا يساء الظن به وهذا كما أن الصلاة المفروضة يستحب اظهارها وإنما
يستحب الاخفاء في نوافل الصلاة والصوم (الخامسة) قال الدارمي في الاستذكار إذا أخر تفريق
الزكاة إلى السنة الثانية فمن كان فقيرا أو مسكينا أو غارما أو مكاتبا من سنته إلى السنة الثانية خصوا
بصدقة الماضي وشاركوا غيرهم في الثانية فيعطون من صدقة العامين ومن كان غازيا أو ابن سبيل أو مؤلفا
لم يخصوا بشئ (السادسة) لا يجوز دفع القيمة في شئ من الزكوات إلا في مواضع مخصوصة سبق
بيانها في آخر باب زكاة الغنم والله تعالى اعلم *
233

باب صدقة التطوع
* قال المصنف رحمه الله
* {لا يجوز ان يتصدق بصدقة التطوع وهو محتاج إلى ما يتصدق به لنفقته أو نفقة عياله لما روى
أبو هريرة رضي الله عنه " ان رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله عندي دينار
فقال إنفقه على نفسك قال عندي آخر قال إنفقه على ولدك قال عندي آخر قال إنفقه على أهلك
قال عندي آخر قال إنفقه على خادمك قال عندي آخر قال أنت اعلم به " وقال صلى الله عليه وسلم
" كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " ولا يجوز لمن عليه دين وهو محتاج إلى ما يتصدق به لقضاء
دينه لأنه حق واجب فلم يجز تركه بصدقة التطوع كنفقة عياله} *
{الشرح} حديث أبي هريرة حديث حسن رواه أبو داود والنسائي في سننهما باسناد حسن
ولكن وقع في المهذب في الدينار الثالث " أنفقه على أهلك " وفى سنن أبي داود " تصدق به على
زوجتك أو زوجك " كذا جاء على الشك وهما لغتان في المرأة يقال لها زوج وزوجة وحذف الهاء
أفصح وأشهر وبه جاء القرآن العزيز ووقع في المهذب في كل الدنانير " أنفقه على كذا " وفى سنن أبي
داود " تصدق به " بدل أنفقه (وأما) الحديث الآخر " كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت " فرواه
أبو داود بلفظه باسناد صحيح ورواه مسلم في صحيحه بمعناه " كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك
قوته " وهو من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص (أما) الأحكام ففيه مسألتان (إحداهما) إذا
كان محتاجا إلى ما معه لنفقة نفسه أو عياله هل يتصدق صدقة التطوع فيه ثلاثة أوجه (أحدها)
لا يستحب ذلك ولا يقال مكروه وبهذا قطع الماوردي والغزالي وجماعة من الخراسانيين وتابعهم
الرافعي فقال لا يستحب له التصدق وربما قيل يكره وقال الماوردي صدقة التطوع قبل أداء
الواجبات من الزكوات والكفارات وقيل الانفاق على من تجب نفقتهم من الأقارب والزوجات
غير مستحبة ولا مختارة هذا لفظه (والثاني) يكره ذلك وبه قطع المتولي (والثالث) وهو الأصح لا يجوز
وبه قطع المصنف هنا وفى التنبيه وشيخه القاضي أبو الطيب والدارمي وابن الصباغ والبغوي وصاحب
البيان وآخرون وظاهر نص الشافعي رضي الله عنه إشارة إلى الوجه الأول لأنه قال في مختصر المزني
أحب أن يبدأ بنفسه ثم بمن يعول لان نفقة من يعول فرض والفرض أولى به من النفل ثم بقرابته
234

ثم من شاء هذا نصه رضي الله عنه (فان قيل) يرد على المصنف وموافقيه حديث أبي هريرة رضي الله عنه
" أن رجلا من الأنصار بات به ضيف فلم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه فقال لامرأته
نومي الصبيان واطفئي السراج وقدمي للضيف ما عندك " فنزلت هذه الآية (ويؤثرون على أنفسهم
ولو كان بهم خصاصة) هذا حديث صحيح رواه الترمذي بهذا اللفظ وهو في صحيحي البخاري
ومسلم أبسط من هذا (فالجواب) من وجهين (أحدهما) أن هذا ليس من باب صدقة التطوع إنما هو
ضيافة والضيافة لا يشترط فيها الفضل عن عياله ونفسه لتأكدها وكثرة الحث عليها حتى أن جماعة من
العلماء أوجبوها (الثاني) أنه محمول على أن الصبيان لم يكونوا محتاجين حينئذ بل كانوا قد أكلوا حاجتهم
(وأما) الرجل وامرأته فتبرعا بحقهما وكانا صابرين فرحين بذلك ولهذا جاء في الآية والحديث
الثناء عليهما (فان قيل) قوله نومي صبيانك وغير هذا اللفظ مما جاء في الحديث يدل على أن الصبيان
كانوا جياعا (فالجواب) أن الصبيان لا يتركون الاكل عند حضور الطعام ولو كانوا شباعا فخاف إن
بقوا مستيقظين أن يطلبوا الاكل عند حضور الطعام على العادة فينكدوا عليهما وعلى الضيف لقلة
الطعام والله تعالى اعلم * المسألة الثانية إذا أراد صدقة التطوع وعليه دين فقد أطلق المصنف وشيخه
أبو الطيب وابن الصباغ والبغوي وآخرون انه لا تجوز صدقة التطوع لمن هو محتاج إلى
ما يتصدق به لقضاء دينه وقال المتولي وآخرون يكره وقال الماوردي والغزالي وآخرون لا يستحب
وقال الرافعي لا يستحب وربما قيل يكره هذا كلامه والمختار انه إن غلب على ظنه حصول
الوفاء من جهة أخرى فلا بأس بالصدقة وقد تستحب وإلا فلا تحل وعلى هذا التفصيل يحمل
كلام الأصحاب المطلق والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
{فان فضل عما يلزمه استحب له ان يتصدق لقوله صلى الله عليه وسلم " ليتصدق الرجل من
ديناره وليتصدق من درهمه وليتصدق من صاع بره وليتصدق من صاع تمره " وروى أبو سعيد
الخدري رضي الله عنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أطعم جائعا أطعمه الله من ثمار
الجنة ومن سقى مؤمنا على ظمأ سقاه الله عز وجل يوم القيامة من الرحيق المختوم يوم القيامة ومن
كسا مؤمنا عاريا كساه الله تعالى من خضر الجنة " ويستحب الاكثار منه في شهر رمضان لما روى
ابن عباس رضي الله عنهما قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود
ما كون في رمضان " فإن كان ممن يصبر على الإضافة استحب له التصدق بجميع ماله لما روى
235

عمر رضي الله عنه قال " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ان نتصدق فوافق ذلك مالا عندي فقلت اليوم
أسبق أبا بكر إن سبقته يوما فجئت بنصف مالي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك
فقلت مثله وأتي أبو بكر رضي الله عنه بكل ماله فقال له رسول صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك
فقال أبقيت لهم الله ورسوله فقلت لا أسابقك إلى شئ ابدا " وإن كان ممن لا يصبر على الإضافة
كره له ذلك لما روى جابر رضي الله عنه قال " بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء
رجل بمثل البيضة من الذهب أصابها من بعض المعادن فأتاه من ركنه الأيسر فقال يا رسول الله
خذها صدقة فوالله ما أصبحت أملك غيرها فأعرض عنه ثم جاءه من ركنه الأيمن فقال مثل ذلك
فأعرض عنه ثم اتاه من بين يديه فقال مثل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هاتها مغضبا
فحذف بها حذفة لو اصابه لأوجعه أو عقره ثم قال صلى الله عليه وسلم يأتي أحدكم بماله كله يتصدق به ثم
يجلس بعد ذلك يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى "} *
{الشرح} (اما) الحديث الأول " ليتصدق الرجل من ديناره " إلى آخره فصحيح رواه مسلم في
صحيحه بلفظه هذا من رواية جرير بن عبد الله وهو بعض حديث (واما) حديث أبي سعيد فرواه
أبو داود والترمذي واسناده جيد وحديث ابن عباس رواه البخاري ومسلم بلفظه وحديث عمر رضي
الله عنه صحيح رواه أبو داود في كتاب الزكاة والترمذي في المناقب وقال حديث صحيح وحديث
جابر رواه أبو داود واسناده كله صحيح إلا أنه من رواية محمد ابن إسحاق صاحب المغازي عن عاصم بن
عمر بن قتادة ومحمد بن إسحاق مدلس والمدلس إذا قال عن لا يحتج به (وأما) ألفاظ الفصل
فالظمأ العطش والرحيق الخمر الصافية وخضر الجنة باسكان الضاد أي ثيابها الخضر
(قوله) وكان أجود ما يكون في رمضان روى برفع الدال ونصبها والرفع أجود (وحديث) عمر رضي
الله عنه هكذا هو في كتب الحديث كما هو في المهذب (وأما) قول صاحب الوسيط في آخره ان النبي
صلى الله عليه وسلم قال " بينكما كما بين كلمتيكما " فزيادة لا تعرف في الحديث (وقوله) بينما نحن
أي بين أوقات قعودنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقوله) من ركنه بضم الراء أي جانبه ووقع في
المهذب تغيير في ترتيبه ولفظه والذي في سنن أبي داود " جاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال يا رسول الله
أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثم أتاه من قبل ركنه الأيمن فقال مثل ذلك فاعرض عنه ثم أتاه من قبل ركنه الأيسر فأعرض عنه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من خلفه فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فحذفه بها فلو أصابته لأوجعته
236

أو لعقرته " ثم ذكر نحو الباقي (وقوله) في رواية الكتاب هاتها هو بكسر التاء ولا يجوز فتحها بلا خلاف
(وقوله) مغضبا بفتح الضاد وهو منصوب على الحال (وقوله) فحذفه بها الحاذف هو رسول الله
صلى الله عليه وسلم وحذفه بالحاء المهملة أي رماه بها وإنما قيدته بالحاء المهملة لأني رأيت من صحفه والصواب
المعروف في كتب الحديث وغيرها حذف بالحاء المهملة (وقوله) لأوجعه أو عقره أي جرحه وفى رواية أبى
داود لأوجعته أو عقرته " يعنى القطعة المحذوف بها (وقوله) يتكفف الناس أي يطلب الصدقة ويتعرض
لاخذ ما يكفيه وفى رواية أبى داود يستكف وهما صحيحان قال أهل اللغة يقال فيه تكفف واستكف (وقوله)
عن ظهر غنى قال الخطابي معناه عن غني يعتمده ويستظهر به على النوائب وذكر صاحب الحاوي له
معنيين هذا (والثاني) أن معناه الاستغناء عن أداء الواجبات والأصح ما قاله غيرهما أن المراد غنى
النفس إنما تصلح الصدقة لمن قويت نفسه واستغنت بالله سبحانه وتعالي وثبت يقينه وصبر على
الفقر والله تعالى أعلم (اما) حكم الفصل فقال المصنف والأصحاب والعلماء كافة يستحب لمن فضل
عن كفايته وما يلزمه شئ ان يتصدق لما ذكره المصنف ودلائله مشهورة في القرآن والسنة والاجماع
قال الشافعي والأصحاب يستحب الاكثار من الصدقة في شهر رمضان للحديث المذكور قال الشافعي
والأصحاب: وهي في رمضان آكد منها في غيره للحديث ولأنه أفضل الشهور ولان الناس يشتغلون
فيه عن المكاسب بالصيام واكثار الطاعات فتكون الحاجة فيه أشد قال الماوردي يستحب
أن يوسع فيه على عياله ويحسن إلى ذوي أرحامه وجيرانه لا سيما في العشر الأواخر * قال أصحابنا
يستحب الاكثار من الصدقة عند الأمور المهمة وعند الكسوف والسفر وبمكة والمدينة وفى الغزو
والحج والأوقات الفاضلة كعشر ذي الحجة وأيام العيد ونحو ذلك ففي كل هذه المواضع هي آكد
من غيرها قال الرافعي وغيره وهل يستحب له التصدق بجميع الفاضل عن دينه ونفقته ونفقة عياله
وسائر مؤنهم فيه ثلاثة أوجه (أحدها) نعم (والثاني) لا (وأصحها) ان صبر على الإضافة فنعم والا
فلا وبهذا قطع المصنف والجمهور والله تعالى اعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{والمستحب أن يخص بالصدقة الأقارب لقوله صلى الله عليه وسلم لزينب امرأة عبد الله بن مسعود " زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم " وفعلها في السر أفضل لقوله عز وجل (إن تبدوا الصدقات
فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم) ولما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ان
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " صلة الرحم تزيد في العمر وصدقة السر تطفئ غضب الرب وصنائع
237

المعروف تقى مصارع السوء " وتحل صدقة التطوع للأغنياء ولبني هاشم وبني المطلب لما روى عن
جعفر بن محمد عن أبيه " انه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقيل له أتشرب من الصدقة
فقال إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة "} *
{الشرح} حديث امرأة ابن مسعود رواه البخاري ومسلم ولفظهما " ان زينب امرأة ابن مسعود
وامرأة أخرى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالتا لبلال سل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
أزواجنا ويتامى في حجورنا هل يجزئ ذلك عنهما عن الصدقة - يعني النفقة عليهم فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم نعم لهما اجران اجر القرابة وأجر الصدقة " وفى صحيحي البخاري ومسلم عن ميمونة أم المؤمنين
رضي الله عنها " انها أعتقت وليدة لها في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك " (وأما) حديث ابن مسعود " صلة الرحم تزيد في العمر " إلى
آخره فرواه (1) ويغنى عنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " سبعة يظلهم الله في ظله
يوم لا ظل الا ظله امام عادل ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " رواه البخاري
ومسلم وعن أنس رضي الله عنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الصدقة لتطفئ غضب الرب
وتدفع مسبة السوء " رواه الترمذي وقال حسن غريب (قلت) في اسناده عبد الله بن عيسى الخزاز
قال أبو زرعة هو منكر الحديث ومعنى الزيادة في العمر البركة فيه بالتوفيق للخير والحماية من الشر
وقيل هو بالنسبة إلى ما يظهر للملائكة بأن يقال لهم عمر فلان ان لم يصل رحمه خمسون سنة فان
وصله فستون فيزيد بالصلة بالنسبة إليهم (وأما) بالنسبة إلى علم الا تعالي فلا زيادة لأنه سبحانه
وتعالي قد علم أنه سيصل رحمه ويعيش الستين والله تعالى أعلم (وأما) جعفر بن محمد فهو جعفر الصادق
ابن محمد الباقر بن علي زين العابدين ابن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين والله
أعلم (أما) أحكام الفصل ففيه مسائل (إحداها) أجمعت الأمة على أن الصدقة على الأقارب أفضل
من الأجانب والأحاديث في المسألة كثيرة مشهورة قال أصحابنا ولا فرق في استحباب صدقة التطوع
على القريب وتقديمه على الأجنبي بين أن يكون القريب ممن يلزمه نفقته أو غيره قال البغوي دفعها
إلى قريب يلزمه نفقته أفضل من دفعها إلى الأجنبي (وأما) ترتيب الأقارب في التقديم فقد سبق بيانه
واضحا في آخر باب قسم الصدقات حيث ذكره المصنف قال أصحابنا ويستحب تخصيص الأقارب

(1) بياض بالأصل فحرر.
238

على الأجانب بالزكاة حيت يجوز دفعها إليهم كما قلنا في صدقة التطوع ولا فرق بينهما وهكذا
الكفارات والنذور والوصايا والأوقاف وسائر جهات البر يستحب تقديم الأقارب فيها حيث يكونون
بصفة الاستحقاق والله تعالى اعلم قال أبو علي الطبري والسرخسي وغيرهما من أصحابنا يستحب
أن يقصد بصدقته من أقاربه أشدهم له عداوة ليتألف قلبه ويرده إلى المحبة والألفة ولما فيه من مجانبة
الرياء وحظوظ النفوس (المسألة الثانية) يستحب الاخفاء في صدقة التطوع لما ذكره المصنف ولحديث
أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل الا ظله "
فذكر منهم " ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه " رواه البخاري ومسلم
(واما) الزكاة فيستحب اظهارها باتفاق أصحابنا وغيرهم من العلماء كما أن صلاة الفرض يستحب
اظهارها في المسجد والنافلة يندب اخفاؤها وقد سبقت المسألة قريبا في آخر قسم الصدقات (الثالثة)
تحل صدقة التطوع للأغنياء بلا خلاف فيجوز دفعها إليهم ويثاب دافعها عليها ولكن المحتاج أفضل
قال أصحابنا ويستحب للغنى التنزه عنها ويكره التعرض لاخذها قال صاحب البيان ولا يحل للغني
اخذ صدقة التطوع مظهرا للفاقة وهذا الذي قاله صحيح وعليه حمل الحديث الصحيح " ان
رجلا من أهل الصفة مات فوجد له ديناران فقال النبي صلى الله عليه وسلم كيتان من نار " والله أعلم
(وأما) إذا سأل الغنى صدقة التطوع فقد قطع صاحب الحاوي والسرخسي وغيرهما بتحريمها عليه
قال صاحب (1) إذا كان غنيا عن المسألة بمال أو بضيعة فسؤاله حرام وما يأخذه محرم عليه
هذا لفظه وقال الغزالي وغيره من أصحابا في كتاب النفقات في تحريم السؤال على القادر على الكسب وجهان
قالوا وظاهر الاخبار تدل على تحريمه وهو كما قالوا ففي الأحاديث الصحيحة تشديد أكيد في النهى
عن السؤال وظواهر كثيرة تقتضي التحريم (وأما) السؤال للمحتاج العاجز عن الكسب فليس بحرام
ولا مكروه صرح به الماوردي وهو ظاهر والله تعالى اعلم (الرابعة) هل تحل صدقة التطوع لبني هاشم
وبني المطلب فيه طريقان (أصحهما) وبه قطع المصنف والأكثرون تحل (والثاني) حكاه البغوي
وآخرون من الخراسانيين فيه قولان (أصحهما) تحل (والثاني) تحرم (واما) صدقة التطوع للنبي

(1) بياض بالأصل فحرر
239

صلى الله عليه وسلم ففيها قولان مشهوران حكاهما الشيخ أبو حامد امام العراقيين وغيره منهم القفال والمروزي
امام الخراسانيين وغيرهم منهم (أصحهما) التحريم فحصل في صدقة التطوع في حق النبي صلى الله عليه وسلم وحق
بني هاشم وبني المطلب ثلاثة أقوال (أصحها) تحل لهم دونه صلى الله عليه وسلم (والثاني) لهم وله (والثالث) تحرم
عليه وعليهم والله تعالى اعلم *
{فرع} قال أصحابنا وغيرهم يستحب ان يتصدق بما تيسر ولا يستقله ولا يمتنع من
الصدقة به لقلته وحقارته فان قليل الخير كثير عند الله تعالى وما قبله الله تعالى وبارك فيه فليس هو
بقليل قال الله تعالى (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره) وفى الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اتقوا النار ولو بشق ثمرة " وفى الصحيحين أيضا عن أبي هريرة قال " قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرس شاة " قال أهل اللغة الفرس من البعير
والشاة كالحافر من غيرهما وفى المسألة أحاديث كثيرة صحيحة مشهورة *
{فرع} يستحب أن يخص بصدقته الصلحاء وأهل الخير وأهل المروءات والحاجات فلو
تصدق على فاسق أو على كافر من يهودي أو نصراني أو مجوسي جاز وكان فيه اجر في الجملة قال
صاحب البيان قال الصيمري وكذلك الحربي ودليل المسألة قول الله تعالى (ويطعمون الطعام على
حبه مسكينا ويتيما وأسيرا) ومعلوم ان الأسير حربي وعن أبي هريرة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق فأصبحوا يتحدثون تصدق
على سارق فقال اللهم لك الحمد لأتصدقن بصدقة فخرج فوضعها في يد زانية فأصبح الناس يتحدثون
تصدق على زانية فقال اللهم لك الحمد لأتصدقن الليلة بصدقة فخرج بصدقته فوضعها في يد غنى فأصبحوا
يتحدثون تصدق على غنى فقال اللهم لك الحمد على سارق وعلى زانية وعلى غنى فاتي فقيل له اما
صدقتك على سارق فلعله ان يستعف عن سرقته واما الزانية فلعلها تستعف عن زناها واما
الغنى فلعله يعتبر وينفق مما آتاه الله تعالى " رواه البخاري ومسلم وعنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرا فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب
240

يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان قد بلغ
مني فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له قالوا
يا رسول الله ان لنا في البهائم أجرا فقال في كل كبد رطبة أجر " رواه البخاري ومسلم وفى رواية لهما
" بينما كلب يطيف بركية قد كاد يقتله العطش إذ رأته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها
فاستقت له به فسقته فغفر لها به " الموق الخف *
(فرع) يكره تعمد الصدقة بالردئ قال الله تعالى (ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون) ويستحب
تعمد أجود ماله وأحبه إليه قال الله تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) وفى المسألة
أحاديث صحيحة *
{فرع} قال أصحابنا تكره الصدقة بما فيه شبهة ويستحب أن يختار أجل ماله وأبعد من الحرام
والشبهة لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تصدق بعدل تمرة
من كسب طيب ولا يقبل الله الا الطيب فان الله يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربى أحدكم فلوه
حتى يكون مثل الجبل " رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ روايته والفلو بفتح الفاء وضم اللام
وتشديد الواو ويقال بكسر الفاء وإسكان اللام هو ولد الفرس في صغره وعن أبي هريرة
رضي الله عنه أيضا قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيها الناس ان الله تعالى طيب لا يقبل
الا طيبا وان الله تعالى أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين قال عز وجل يا أيها الرسل كلوا من
من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وقال يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم
ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه
جرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فانى يستجاب لذلك " رواه مسلم *
{فرع} من دفع إلى وكيله أو ولده أو غلامه أو غيرهم شيئا يعطيه لسائل أو غيره صدقة
تطوع لم يزل ملكه عنه حتى يقبضه المبعوث إليه فإن لم يتفق دفعه إلى ذلك المعين استحب له أن
لا يعود فيه بل يتصدق به على غيره فان استرده وتصرف فيه جاز لأنه باق على ملكه *
{فرع} قال البندنيجي والبغوي وسائر أصحابنا في مواضع متفرقة يكره لمن تصدق بشئ
صدقة تطوع أو دفعه إلى غيره زكاة أو كفارة أو عن نذر وغيرها من وجوه الطاعات أن يتملكه
من ذلك المدفوع إليه بعينه بمعاوضة أو هبة ولا يكره ملكه منه بالإرث ولا يكره أيضا أن يتملكه
من غيره إذا انتقل إليه * واستدلوا في المسألة بحديث عمر رضي الله عنه قال " حملت على فرسي في سبيل
241

الله فأضاعه الذي كان عنده فأردت أن أشتريه منه وظننت أنه بائعه برخص فسألت النبي صلى الله عليه
وسلم عن ذلك فقال لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم فان العائد في صدقته كالكلب يعود في
قيئه " رواه البخاري ومسلم وعن بريدة رضي الله عنه قال " بينما أنا جالس عند النبي صلى الله عليه
وسلم إذا أتته امرأة فقالت اني تصدقت على أمي بجارية وإنها ماتت فقال وجب أجرك وردها
عليك الميراث " رواه مسلم واتفق أصحابنا على أنه لو ارتكب المكروه واشتراها من المدفوع إليه
صح الشراء وملكها لأنها كراهة تنزيه ولا يتعلق النهي بعين المبيع *
{فرع} يستحب دفع الصدقة بطيب نفس وبشاشة وجه ويحرم المن بها فلو من بطل ثوابه قال
الله تعالى (ولا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب اليم قال فقرأها
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال أبو ذر خابوا وخسروا من هم يا رسول الله قال
المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب " رواه مسلم والمراد المسبل إزاره أو ثوبه تحت
الكعبين للخيلاء *
{فرع} قال صاحب المعاياة لو نذر صوما أو صلاة في وقت بعينه لم يجز فعله قبله ولو نذر
التصدق في وقت بعينه جاز التصدق قبله كما لو عجل الزكاة *
{فرع} في مسائل مهمة ذكرها الغزالي في الاحياء (منها) قال اختلف السلف في أن المحتاج
هل الأفضل له أن يأخذ من الزكاة أو صدقة التطوع وكان الجنيد وإبراهيم الخواص وجماعة
يقولون الاخذ من الصدقة أفضل لئلا يضيق على أصناف الزكاة ولئلا يخل بشرط من شروط الآخذ
بخلاف الصدقة فان أمرها أهون من الزكاة وقال آخرون الاخذ من الزكاة أفضل لأنه إعانة على
واجب ولو ترك أهل الزكاة كلهم اخذها أثموا ولان الزكاة لا منة فيها قال الغزالي والصواب
انه يختلف بالأشخاص فان عرض له شبهة في استحقاقه لم يأخذ الزكاة وإن قطع باستحقاقه نظر
إن كان المتصدق ان لم يتصدق على هذا لا يتصدق فليأخذ الصدقة فان اخراج الزكاة لابد منه وإن كان
لابد من اخراج تلك الصدقة ولم يضيق بالزكاة تخير وأخذ الزكاة أشد في كسر النفس وذكر
أيضا اختلاف الناس في اخفاء أخذ الصدقة واظهاره أيهما أفضل وفي كل واحد منهما فضيلة ومفسدة
ثم قال وعلى الجملة الاخذ في الملا وترك الاخذ في الخلاء أحسن والله تعالى أعلم *
{فرع} جاءت أحاديث كثيرة في الحث على سقي الماء (منها) حديث أبي سعيد المتقدم في
242

الكتاب (ومنها) حديث أبي هريرة السابق قريبا في فرع تخصيص الصدقة بالصلحاء (ومنها) عن
الحسن البصري عن سعد بن عبادة رضي الله عنه " ان أمه ماتت فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم
ان أمي ماتت أفأتصدق عنها قال نعم قال فأي الصدقة أفضل قال سقي الماء " رواه أحمد بن حنبل
في مسنده هكذا وهو مرسل فان الحسن لم يدرك سعدا ورواه أبو داود عن رجل لم يسم عن سعد
بمعناه " قال فأي الصدقة أفضل قال الماء " ورواه النسائي عن سعيد بن المسيب عن سعد ولم يدركه
أيضا فهو مرسل لكنه قد أسند قريب من معناه كما سبق ولأنه من أحاديث الفضائل ويعمل فيها
بالضعف فبهذا أولى وعن سراقة بن مالك قال " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل
تغشي حياضي هل لي من أجر ان سقيتها قال نعم في كل ذات كبد حرى اجر " رواه أحمد
وابن ماجة *
{فرع} في قوله تعالى (ويمنعون الماعون) قال ابن مسعود وابن عباس وجماعة هو إعارة القدر
والدلو والفأس وسائر متاع البيت وقال على وابن عباس في رواية هو الزكاة *
{فرع} تستحب المنيحة وهي أن تكون له ناقة أو بقرة أو شاة ذات لبن فيدفعها إلى من
يشرب لبنها مدة ثم يردها إليه لحديث ابن عمرو بن العاص قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أربعون خصلة أعلا من منيحة العنز ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعدها
إلا أدخله الله تعالى الجنة بها " رواه البخاري وعن أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال " نعم المنيحة اللقحة الصفي منحة أو الشاة الصفي تغدو باناء وتروح باناء " رواه البخاري
وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من منح منيحة غدت بصدقة صبوحها وغبوقها " رواه مسلم
وفى المسألة أحاديث أخر صحيحة *
{فرع} في ذم البخل والشح والحث على الانفاق في الطاعات ووجوه الخيرات * قال الله تعالى
(ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) وقال تعالي (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك) وقال
عز وجل (وما أنفقتم من شئ فهو يخلفه) وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " اتقوا الظلم فان الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فان الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن
سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " رواه مسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال " قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما اللهم اعط منفقا
خلفا ويقول اللهم اعط ممسكا تلفا " رواه البخاري ومسلم وعنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه
243

وسلم قال الله تعالى أنفق ينفق عليك " رواه البخاري ومسلم وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله
عنهما قالت " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا توكي فيوكي عليك " رواه البخاري ومسلم وعن
عائشة رضي الله عنه " انهم ذبحوا شاة فقال رسول الله عليه وسلم ما بقي منها قالت ما بقي منها إلا كتفها
قال بقي كلها غير كتفها " رواه الترمذي وقال حديث صحيح ومعناه تصدقوا بها الا كتفها فقال
بقيت لنا في الآخرة الا كتفها وعن أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو الا عزا وما تواضع أحد لله تعالي الا رفعه الله "
رواه مسلم *
{فرع} في فضل صدقة الصحيح الشحيح * عن أبي هريرة رضي الله عنه قال " سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل قال إن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل البقاء وتخاف
الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا الا وقد كان لفلان " رواه
البخاري ومسلم *
{فرع} في أجر الوكيل في الصدقة وبيان انه أحد المتصدقين إذا أمضاه بشرطه * عن أبي موسى
الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الخازن المسلم الأمين الذي ينفذ ما أمر به
فيعطيه كاملا موفرا طيبة به نفسه فيدفعه إلى الذي امر به أحد المتصدقين " رواه البخاري ومسلم
وضبطوا المتصدقين على التثنية والجمع *
{فرع} يجوز للمرأة ان تتصدق من بيت زوجها للسائل وغيره بما أذن فيه صريحا وبما لم
يأذن فيه ولم ينه عنه إذا علمت رضاه به وإن لم تعلم رضاه به فهو حرام هكذا ذكر المسألة السرخسي
وغيره من أصحابنا وغيرهم من العلماء وهذا الحكم متعين وعليه تحمل الأحاديث الواردة في ذلك
وهكذا حكم المملوك المتصرف في مال سيده على هذا التفصيل (منها) حديث عائشة رضي الله عنها
قالت " قال النبي صلى الله عليه وسلم إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما
أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئا " رواه البخاري
ومسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تصوم المرأة وبعلها
شاهد إلا باذنه ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا باذنه وما أنفقت من كسبه عن غير أمره فان نصف
أجره له " رواه مسلم ورواه البخاري بمعناه وهو محمول على ما أنفقته وتعلم أنه لا يكرهه فلها أجر وله
أجر كما سبق وعن عمير مولى آبي اللحم بهمزة ممدودة وكسر الباء قال " أمرني مولاي أن أقدد
244

لحما فجاءني مسكين فأطعمته منه فعلم بذلك مولاي فضربني فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت
ذلك له فدعاه فقال لم ضربته فقال يعطى طعامي من غير أن آمره فقال الاجر بينكما " رواه مسلم
وفى رواية لمسلم " كنت مملوكا فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتصدق من مال مولاي قال
نعم والاجر بينكما نصفان " وهذا محمول على ما يرضي به سيده والرواية الأولى محموله على أنه ظن
أن سيده يرضي بذلك القدر فلم يرض لكونه كان محتاجا إليه أو لمعنى آخر فيثاب السيد على اخراج
ماله ويثاب العبد على نيته (واعلم) أن المراد بما جاء في هذه الأحاديث من كون الاجر بينهما نصفين
أنه قسمان لكل واحد منهما أجر ولا يلزم أن يكونا سواء فقد يكون أجر صاحب العطاء أكثر وقد
يكون أجر المرأة والخازن والمملوك أكثر بحسب قدر الطعام وقدر التعب في إنفاذ الصدقة وإيصالها
إلى المساكين والله تعالى اعلم *
{فرع} ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اليد العليا خير من اليد
السفلى " وثبت في الصحيحين أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اليد العليا المنفقة واليد السفلى
السائلة " وفى رواية في البخاري " العليا المنفقة " وعقد البيهقي في المسألة بابا *
{فرع} يكره للانسان أن يسأل بوجه الله تعالى غير الجنة ويكره منع من سأل بالله وتشفع به
لحديث جابر قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تسأل بوجه الله تعالى الا الجنة " رواه أبو داود
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من استعاذ بالله فأعيذوه
ومن سأل بالله فاعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن صنع إليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئونه
فادعوا له حتى تروا انكم قد كافئتموهم " حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي باسناد الصحيحين
وفى رواية البيهقي " فأثنوا عليه " بدل فادعوا له *
{فرع} إذا عرض عليه مال من حلال على وجه يجوز أخذه ولم يكن منه مسألة ولا تطلع إليه
جاز له اخذه بلا كراهية ولا يجب وقال بعض أهل الظاهر يجب لحديث سالم بن عبد الله بن عمر
عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول اعطه أفقر مني
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مشرف فخذه
ومالا فلا تتبعه نفسك قال فكان سالم لا يسأل أحدا شيئا أعطيه " رواه البخاري ومسلم
دليلنا حديث حكيم بن حزام رضي الله عنه قال " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني ثم
سألته فأعطاني ثم سألته فأعطاني ثم قال يا حكيم إن هذا المال خضرة حلوه فمن اخذه بسخاوة نفس بورك له فيه و
من اخذه باشراف لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع واليد العليا خير من اليد السفلي قال
245

حكيم فقلت يا رسول الله والذي بعثك بالحق لا ارزأ أحدا بعدك شيئا حتى أفارق الدنيا فكان
أبو بكر رضي الله عنه يدعوا حكيما ليعطيه العطاء فيأبى أن يقبل منه شيئا ثم إن عمر رضي الله عنه
دعاه ليعطيه فأبى ان يقبله فقال يا معشر المسلمين أشهدكم على حكيم انى اعرض عليه حقه الذي قسم
الله له في هذا الفئ فيأبى ان يأخذه فلم يرزأ حكيم أحدا من الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم
حتى توفى " رواه البخاري ومسلم (قوله) يرزأ براء ثم زاي وآخره مهموز معناه لم يأخذ من
أحد شيئا واصل الزرء النقص أي لم ينقص أحدا شيئا بالأخذ منه وموضع الدلالة منه ان النبي صلى
الله عليه وسلم أقره على هذا أو كذا أبو بكر وعمر وسائر الصحابة الحاضرون رضي الله عنهم وحديث
عمر محمول على الندب والإباحة كقوله تعالى (وإذا حللتم فاصطادوا) والله أعلم *
{فرع} في بيان أنواع الصدقة الشرعية وما على كل سلامي منها والسلامي العضو والمفصل
وجمعه سلاميات بفتح الميم واللام محففة في المفرد والجمع * اعلم أن حقيقة الصدقة اعطاء المال ونحوه
بقصد ثواب الآخرة وقد يطلق على غير ذلك مما سنذكره إن شاء الله تعالى (من ذلك) حديث أبي
ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " يصبح على كل سلامي من أحدكم صدقة
فكل تسبيحة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعرف
صدقة ونهى عن المنكر صدقة ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى " رواه مسلم وعنه
أيضا قال " قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل قال الايمان بالله والجهاد في سبيله قلت أي الرقاب
أفضل قال أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا قلت فإن لم أفعل قال تعين صانعا أو تصنع لا خرق قلت
يا رسول الله أرأيت ان ضعفت عن بعض العمل قال تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك "
رواه البخاري ومسلم وعنه أيضا " ان ناسا قالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما
نصلى ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم قال أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون
به إن كل تسبيحة صدقة وتكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة وأمر بالمعرف
صدقة ونهى عن منكر صدقة وفى بضع أحدكم صدقة قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون
له فيها أجر قال أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له
اجر " رواه مسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الاثنين صدقة أو يعين الرجل في دابته فيحمله عليها أو يرفع له عليها متاعه صدقة والكلمة الطيبة صدقة وكل خطوة يمشيها إلى الصلاة
صدقة ويميط الأذى عن الطريق صدقة " رواه البخاري ومسلم وعن عائشة رضي الله عنها قالت " قال
246

رسول الله صلى الله عليه وسلم انه خلق كل انسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن كبر
الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجرا عن طريق الناس أو شوكة أو عظما
عن طريق الناس وامر بمعروف أو نهى عن منكر عدد الستين والثلثمائة فإنه يمشى يومئذ وقد
زحزح نفسه عن النار " رواه مسلم وعن جابر رضي الله عنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
كل معروف صدقة " رواه البخاري ومسلم بلفظه من رواية حذيفة وعن جابر أيضا رضي الله عنه
قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يغرس غرسا الا كان ما اكل منه له صدقة وما
سرق منه له صدقة ولا يرزأه الا كان له صدقة " رواه مسلم وفى رواية له " فلا يغرس المسلم غرسا
فيأكل منه انسان ولا دابة ولا طير الا كان له صدقة إلى يوم القيامة " وفى رواية لا يغرس مسلم
غرسا ولا يزرع زرعا فيأكل منه إنسان ولا دابة ولا شئ الا كانت له صدقة " ورواه البخاري
ومسلم أيضا من رواية انس ويرزأه أي ينقصه والله أعلم *
{فرع} يستحب استحبابا متأكدا صلة الأرحام والاحسان إلى الأقارب واليتامى والأرامل والجيران والأصهار وصلة أصدقاء أبيه وأمه وزوجته والاحسان إليهم وقد جاءت في
جميع هذا أحاديث كثيرة مشهورة في الصحيح جمعت معظمها في رياض الصالحين والله تعالى اعلم *
كتاب الصيام
في اللغة الامساك ويستعمل في كل امساك يقال صام إذا سكت وصامت الخيل وقفت وفى
الشرع امساك مخصوص عن شئ مخصوص في زمن مخصوص من شخص مخصوص ويقال رمضان
وشهر رمضان هذا هو الصحيح الذي ذهب إليه البخاري والمحققون قالوا ولا كراهة في قول
رمضان وقال أصحاب مالك يكره ان يقال رمضان بل لا يقال الا شهر رمضان سواء إن كان هناك
247

قرينة أم لا وزعموا أن رمضان اسم من أسماء الله تعالى قال البيهقي وروى ذلك عن مجاهد والحسن
والطريق إليهما ضعيف ورواه عن محمد بن كعب * واحتجوا بحديث رواه البيهقي عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تقولوا رمضان فان رمضان اسم من أسماء الله تعالى
ولكن قولوا شهر رمضان " وهذا حديث ضعيف ضعفه البيهقي وغيره والضعف فيه بين فان من
رواته نجيح السندي وهو ضعيف سئ الحفظ وقال أكثر أصحابنا أو كثير منهم وابن الباقلاني
إن كان هناك قرينة تصرفه إلى الشهر فلا كراهة والا فيكره قالوا فيقال صمنا رمضان وقمنا رمضان ورمضان
أفضل الأشهر وتطلب ليلة القدر في أواخر رمضان وأشباه ذلك ولا كراهة في هذا كله قالوا وإنما
يكره ان يقال جاء رمضان ودخل رمضان وحضر رمضان وأحب رمضان والصواب انه لا كراهة
في قول رمضان مطلقا والمذهبان الآخران فاسدان لان الكراهة إنما تثبت بنهي الشرع ولم يثبت
فيه نهى وقولهم إنه من أسماء الله تعالى ليس بصحيح ولم يصح فيه شئ وأسماء الله تعالى توقيفية
لا تطلق الا بدليل صحيح ولو ثبت أنه اسم لم يلزم منه كراهة وقد ثبتت أحاديث كثيرة في
الصحيحين في تسميته رمضان من غير شهر في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم (منها)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا جاء رمضان فتحت
أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين " رواه البخاري ومسلم بهذا اللفظ وفى رواية
لهما " إذا دخل رمضان " وفى رواية لمسلم " إذا كان رمضان " وأشباه هذا في الصحيحين غير
منحصرة والله تعالى اعلم *
{فرع} لا يجب صوم غير رمضان بأصل الشرع بالاجماع وقد يجب بنذر وكفارة وجزاء
الصيد ونحوه ودليل الاجماع قوله صلى الله عليه وسلم حين سأله الاعرابي عن الاسلام فقال
" وصيام رمضان قال هل على غيره قال لا الا ان تطوع " رواه البخاري ومسلم من رواية
طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه *
248

{فرع} روى أبو داود باسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ بن جبل رضي الله عنه
قال " أحيل الصيام ثلاثة أحوال " وذكر الحديث قال " وكان رسول الله عليه وسلم
يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويصوم يوم عاشوراء فأنزل الله تعالى (كتب عليكم الصيام كما
كتب على الذين من قبلكم الآية) فكان من شاء أن يصوم ومن شاء أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينا أجزأه ذلك فهذا حول فأنزل الله تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس
وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من
أيام أخر) فثبت الصيام على من شهد الشهر وعلى المسافر أن يقضى وثبت الطعام للشيخ الكبير
والعجوز اللذين لا يستطيعان الصوم " هذا لفظ رواية أبي داود وذكره في كتاب الاذان في آخر
الباب الأول منه وهو مرسل فان معاذا لم يدركه ابن أبي ليلي ورواه البيهقي بمعناه ولفظه " فان
رسول الله صلى الله عليه وسلم صام بعد ما قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام
عاشوراء فصام سبعة عشر شهرا شهر ربيع إلى شهر ربيع إلى رمضان ثم إن الله تعالى فرض عليه
شهر رمضان وأنزل عليه (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) " وذكر باقي الحديث
قال البيهقي هذا مرسل وفى رواية له عن ابن أبي ليلي قال " حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم
قالوا أحيل الصوم على ثلاثة أحوال قدم الناس المدينة ولا عهد لهم بالصيام فكانوا يصومون ثلاثة
أيام من كل شهر حتى نزل (شهر رمضان) فاستنكروا ذلك وشق عليهم فكان من أطعم مسكينا
كل يوم ترك الصيام ممن يطيقه رخص لهم في ذلك ونسخه (وأن تصوموا خير لكم) فأمروا
249

بالصيام " وذكر البخاري هذا في صحيحه تعليقا بصيغة جزم فيكون صحيحا كما تقررت قاعدته وهذا
لفظه قال وقال ابن نمير حدثنا الأعمش بن عمرو بن مرة بن أبي ليلي قال " حدثنا أصحاب محمد صلى
الله عليه وسلم نزل رمضان فشق عليهم فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم ممن يطيقه ورخص
لهم في ذلك فنسختها (وأن تصوموا خير) لكم فأمروا بالصوم " *
{فرع} قال سلمة بن الأكوع رضي الله عنه " لما نزلت هذه الآية (وعلى الذين يطيقونه
فدية طعام مسكين) كان من أراد أن يفطر ويفدى حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها "
وفى رواية " كنا في رمضان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام ومن شاء أفطر
فافتدى بطعام مسكين حتى نزلت هذه الآية (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) " رواهما البخاري
ومسلم وهذا لفظه *
{فرع} صام رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان تسع سنين لأنه فرض في شعبان
في السنة الثانية من الهجرة وتوفى النبي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة إحدى
عشرة من الهجرة *
250

{فرع} قال أصحابنا وغيرهم كان أول الاسلام يحرم على الصائم الأكل والشرب والجماع
من حين ينام أو يصلى العشاء الآخرة فأيهما وجد أو لا حصل به التحريم ثم نسخ ذلك وأبيح الجميع
إلى طلوع الفجر سواء نام أم لا * واحتجوا بحديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال " كان أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الافطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا
يومه حتى يمسي وان قيس بن صرمة الأنصاري رضي الله عنه كان صائما فلما حضر الافطار اتي
امرأته فقال لها عندك طعام قالت لا ولكن أنطلق فأطلب لك وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءته
امرأته فلما رأته قالت خيبة لك فلما انتصف النهار غشي عليه فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
فنزلت هذه الآية (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) ففرحوا بها فرحا شديدا ونزلت
(وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) " رواه البخاري
في صحيحه وعن ابن عباس رضي الله عنهما " كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلوا
العتمة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء وصاموا إلى القابلة فاختان رجل نفسه فجامع امرأته
وقد صلى العشاء ولم يفطر فأراد الله تعالى أن يجعل ذلك يسرا لمن بقي ورخصة ومنفعة فقال عز وجل
(علم الله انكم كنتم تختانون أنفسكم) وكان هذا مما نفع الله تعالى به الناس ورخص لهم ويسره " رواه
أبو داود وفى اسناده ضعف ولم يضعفه أبو داود والله تعالى اعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{صوم رمضان ركن من أركان الاسلام وفرض من فروضه والدليل عليه ما روى ابن عمر
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " بنى الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله
وأقام الصلاة وايتاء الزكاة والحج وصوم رمضان "} *
{الشرح} هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من طرق كثيرة من رواية ابن عمر رضي الله عنه
ما (وقوله) وفرض من فروضه توكيد وايضاح لجواز تسميته ركنا وفرضا ولو اقتصر على ركن
251

لكفاه لأنه يلزم منه انه فرض وفى هذا الحديث جواز اطلاق رمضان من غير ذكر الشهر وهو
الصواب كما سبق قريبا (فان قيل) لم استدل بالحديث دون الآية وكذا استدل به في الحج دون
الآية (قلنا) مراده الاستدلال على أنه ركن وهذا يحصل من الحديث لا من الآية (وأما) الفرضية
فتحصل منهما وهذا الحكم الذي ذكره وهو كون صوم رمضان ركنا وفرضا مجمع عليه ودلائل
الكتاب والسنة والاجماع متظاهرة عليه وأجمعوا على أنه لا يجب غيره *
* قال المصنف رحمه الله *
{ويتحتم وجوب ذلك على كل مسلم بالغ عاقل طاهر قادر مقيم فأما الكافر فإنه إن كان أصليا
لم يخاطب في حال كفره لأنه لا يصح منه فان أسلم لم يجب عليه القضاء لقوله تعالى (قل للذين كفروا
ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) ولان في إيجاب قضاء ما فات في حال الكفر تنفيرا عن الاسلام
وإن كان مرتدا لم يخاطب به في حال الردة لأنه لا يصح منه فان أسلم وجب عليه قضاء ما تركه في
حال الكفر لأنه التزم ذلك بالاسلام فلم يسقط عنه بالردة كحقوق الآدميين)
{الشرح} (قوله) يتحم وجوب ذلك أي وجوب فعله في الحال ولا بد من هذا التفسير
لان وجوبه على المسافر والحائض متحتم أيضا لكن يؤخرانه ثم يقضيانه
(وقوله) في الكافر الأصلي لم يخاطب به أي لم نطالبه بفعله وليس مراده انه ليس بواجب في حال
كفره فان المذهب الصحيح ان الكفار مخاطبون بفروع الشرع في حال كفرهم بمعنى انهم يزاد
في عقوبتهم في الآخرة بسبب ذلك ولكن لا يطالبون بفعلها في حال كفرهم وقد سبقت المسألة
252

مبسوطة في أول كتاب الصلاة (وقوله) في المرتد لم يخاطب به في الردة معناه لا نطالبه بفعل الصوم
في حال ردته في مدة الاستتابة وليس مراده انه ليس واجبا عليه فإنه واجب عليه بلا خلاف في
حال الردة ويأثم بتركه في حال الردة بلا خلاف ولو قال المصنف كما قال غيره لم نطالبه به في ردته
ولا يصح منه لكان أصوب والله تعالى أعلم * قال أصحابنا لا يطالب الكافر الأصلي بفعل الصوم
في حال كفره بلا خلاف وإذا أسلم لا يجب عليه قضاؤه بلا خلاف ولو صام في كفره لم يصح بلا
خلاف سواء أسلم بعد ذلك أم لا بخلاف ما إذا تصدق في كفره ثم أسلم فان الصحيح انه يثاب
عليه وقد سبقت المسألة في أول كتاب الصلاة (وأما) المرتد فهو مكلف به في حال ردته وإذا أسلم
لزمه قضاؤه بلا خلاف كما ذكره ولا نطالبه بفعله في حال ردته * وقال أبو حنيفة لا يلزمه قضاء
مدة الردة إذا أسلم كما قال في الصلاة وسبقت المسألة مبسوطة في أول كتاب الصلاة وقاس
المصنف ذلك على حقوق الآدميين لان أبا حنيفة يوافق عليها *
قال المصنف رحمه الله *
{وأما الصبي فلا يجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ
وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق " ويؤمر بفعله لسبع سنين إذا أطاق الصوم
ويضرب على تركه لعشر قياسا على الصلاة فان بلغ لم يجب عليه قضاء ما تركه في حال الصغر لأنه لو وجب
ذلك لوجب عليه أداؤه في حال الصغر لأنه يقدر على فعله ولان أيام الصغر تطول فلو أوجبنا عليه
قضاء ما يفوت شق}
{الشرح} هذا الحديث صحيح رواه أبو داود والنسائي في كتاب الحدود من سنهما من رواية
علي بن أبي طالب رضي الله عنه باسناد صحيح رواه أبو داود أيضا في الحدود والنسائي وابن ماجة
في كتاب الطلاق من رواية عائشة رضي الله عنها باسناد حسن ومعنى رفع القلم امتناع التكليف
لا انه رفع بعد وضعه (وقوله) لو وجب عليه أداؤه ينتقض بالمسافر فإنه يقدر على الأداء ولا يلزمه
ويلزمه القضاء والدليل الصحيح أن يقال: زمن الصبي ليس زمن تكليف للحديث والقضاء إنما
يجب حيث يجب بأمر جديد ولم يجئ فيه امر جديد (اما) أحكام الفصل فلا يجب صوم رمضان
على الصبي ولا يجب عليه قضاء ما فات قبل البلوغ بلا خلاف لما ذكره المصنف وذكرته قال المصنف
والأصحاب: وإذا أطاق الصوم وجب على الولي أن يأمره به لسبع سنين بشرط أن يكون مميزا
ويضربه على تركه لعشر لما ذكره المصنف والصبية كالصبي في هذا كله بلا خلاف
253

{فرع} قال أصحابنا: شروط صحة الصوم أربعة النقاء عن الحيض والنفاس والاسلام
والتمييز والوقت القابل للصوم وسيأتي تفصيلها في مواضعها إن شاء الله تعالى والله أعلم *
قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ومن زال عقله بجنون لا يجب عليه لقوله صلى الله عليه وسلم " وعن المجنون حتى يفيق "
فان أفاق لم يجب عليه قضاء ما فاته في الجنون لأنه صوم فات في حال سقط فيه التكليف لنقص فلم
يجب كما لو فات في حال الصغر وان زال عقله بالاغماء لم يجب عليه في الحال لأنه لا يصح منه فان
افاق وجب عليه القضاء لقوله تعالي (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) والاغماء
مرض ويخالف الجنون فإنه نقص ولهذا لا يجوز الجنون على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم
ويجوز عليهم الاغماء} *
{الشرح} هذا الحديث سبق بيانه قريبا (وقوله) سقط فيه التكليف لنقص احتراز من الاغماء
والحيض (أما) الأحكام ففيه مسألتان (إحداهما) المجنون لا يلزمه الصوم في الحال بالاجماع للحديث
وللاجماع وإذا أفاق لا يلزمه قضاء ما فاته في الجنون سواء قل أو كثر وسواء أفاق بعد رمضان أو في
أثنائه هذا هو المذهب والمنصوص وبه قطع المصنف والجمهور وفيه وجه شاذ أنه يلزمه مطلقا حكاه
الماوردي وابن الصباغ وآخرون عن ابن سريج قال الماوردي هذا مذهب لابن سريج وليس
بصحيح قال ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وسائر الفقهاء أنه لا يلزمه القضاء وحكاه صاحب البيان
عن ابن سريج ثم قال وقيل لا يصح عنه وفيه وجه ثالث وهو مذهب أبي حنيفة والثوري أنه إن
أفاق في أثناء الشهر لزمه قضاء ما فاته وإن أفاق بعده فلا قضاء قال صاحب البيان قال ابن سريج
وقد حكى المزني في المنثور هذا عن الشافعي قال ولا يصح عنه قال صاحب البيان وهذا يدل على
بطلان الحكاية عن ابن سريج فيمن أفاق بعد الشهر أنه يلزمه القضاء فحصل ثلاثة أوجه (المذهب)
أنه لا قضاء عليه (والثاني) يجب إن أفاق في الشهر لا بعده ودليل المذهب في الكتاب وحكاها
الرافعي ثلاثة أقوال قال وهذا في الجنون المنفرد فلو ارتد ثم جن أو سكر ثم جن ففي وجوب القضاء
وجهين قال ولعل الأصح الفرق بين اتصاله بالردة واتصاله بالسكر كما سبق في الصلاة وهذا الذي
أشار إلى تصحيحه هو الأصح فيجب في المرتد قضاء الجميع ولا يجب في السكران الا قضاء أيام
السكر لان حكم الردة مستمر بخلاف السكر (المسألة الثانية) المغمى عليه لا يلزمه الصوم في حال الاغماء
بلا خلاف ولنا قول مخرج وهو مذهب المزني أنه يصح صوم المغمى عليه وعلى هذا القول لا يلزمه
254

الصوم أيضا بلا خلاف لأنه غير مكلف ويجب القضاء على المغمى عليه سواء استغرق جميع رمضان
أو بعضه لما ذكره المصنف وحكى الأصحاب وجها عن ابن سريج أن الاغماء المستغرق لجميع رمضان
لا قضاء فيه كالجنون وكما لا يجب عليه قضاء الصلاة هكذا نقل الجمهور عن ابن سريج ونقل البغوي
عنه انه إذا استغرق الاغماء رمضان أو يوما منه لا قضاء عليه واختار صاحب الحاوي قول ابن سريج
هذا في أنه لا قضاء على المغمى عليه والمذهب وجوب القضاء عليه وفرق الأصحاب بين الجنون
والاغماء بما فرق المصنف وبين الصوم والصلاة ان الصلاة تتكرر فيشق قضاؤها بخلاف الصوم وهذا هو الفرق
بين قضاء الحائض الصوم دون الصلاة قال أصحابنا ومن زال عقله بمرض أو بشرب دواء شربه
لحاجة أو بعذر آخر لزمه قضاء الصوم دون الصلاة كالمغمي عليه ولا يأثم بترك الصوم في زمن زوال
عقله (وأما) من زال عقله بمحرم كخمر أو غيره مما سبق بيانه في أول كتاب الصلاة فيلزمه القضاء
ويكون آثما بالترك والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
{فان أسلم الكافر أو أفاق المجنون في أثناء يوم من رمضان استحب له امساك بقية النهار
لحرمة الوقت ولا يلزمه ذلك لان المجنون أفطر بعذر والكافر وان أفطر بغير عذر الا أنه لما أسلم
جعل كالمعذور فيما فعل في حال الكفر ولهذا لا يؤاخذ بقضاء ما تركه ولا بضمان ما أتلفه ولهذا قال
الله تعالى (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) ولا يأكل عند من لا يعرف عذره لأنه
إذا تظاهر بالاكل عرض نفسه للتهمة وعقوبة السلطان وهل يجب عليه قضاء ذلك فيه وجهان (أحدهما)
يجب لأنه أدرك جزءا من وقت الفرض ولا يمكن فعل ذلك الجزء من الصوم الا بيوم فوجب أن
يقضيه بيوم كما نقول في المحرم إذا وجب عليه في كفارة نصف مد فإنه يجب عليه بقسطه صوم
نصف يوم ولكن لما لم يمكن فعل ذلك الا بيوم وجب عليه صوم يوم (والثاني) لا يجب وهو المنصوص
في البويطي لأنه لم يدرك من الوقت ما يمكن الصوم فيه لان الليل يدركه قبل التمام فلم يلزمه كمن أدرك
من أول وقت الصلاة قدر ركعة ثم جن وان بلغ الصبي أثناء يوم من رمضان نظرت فإن كان مفطرا
فهو كالكافر إذا أسلم والمجنون إذا افاق في جميع ما ذكرناه وإن كان صائما ففيه وجهان (أحدهما)
يستحب اتمامه لأنه صوم فاستحب اتمامه ويجب قضاؤه لأنه لم ينو الفرض من أوله فوجب قضاؤه
(والثاني) يلزمه اتمامه ويستحب قضاؤه لأنه صار من أهل الوجوب في أثناء العبادة فلزمه اتمامه كما
لو دخل في صوم تطوع ثم نذر اتمامه} *
255

{الشرح} قوله ولهذا لا يؤاخذ بقضاء ما تركه ولا بضمان ما أتلفه إنما لا يطالب المتلف الحربي
وأما الذمي فيطالب بالاجماع ومع هذا تحصل الدلالة لأنه إذا ثبت في الحربي استنبط منه دليل
للذمي (أما) أحكام الفصل (ففي) المسألة طريقان (أحدهما) طريقة المصنف وسائر العراقيين ان المجنون
إذا أفاق في أثناء نهار رمضان والكافر إذا أسلم فيه والصبي إذا بلغ فيه مفطرا استحب لهم إمساك
بقيته ولا يجب ذلك وفى وجوب قضائه وجهان (الصحيح) المنصوص في البويطي وحرملة لا يجب
(وقال) ابن سريج يجب وذكر المصنف دليل الجميع وان بلغ الصبي صائما في أثنائه لزمه اتمامه على
المنصوص وهو الأصح باتفاق الأصحاب وعلى هذا لا يلزمه قضاؤه وفيه وجه انه يستحب اتمامه
ويجب قضاؤه وذكر المصنف دليلهما (والثانية) طريقة الخراسانيين ان في إمساك المجنون والكافر
والصبي إذا بلغ فيه مفطرا فيه أربعة أوجه (أصحها) يستحب (والثاني) يجب (والثالث) يلزم
الكافر دونهما لتقصيره (والرابع) يلزم الكافر والصبي لتقصيرهما فإنه يصح من الصبي دون المجنون قالوا
واما القضاء فلا يلزم الكافر والمجنون والصبي المفطر على الأصح من الوجهين وقيل من القولين (والثاني)
يلزمهم قيل يلزم الكافر دونهما وصححه البغوي وهو ضعيف غريب وإن كان الصبي صائما فالمذهب لزوم
اتمامه بلا قضاء وقيل يندب اتمامه ويجب القضاء وبني جماعات منهم الخلاف في القضاء على الخلاف في
الامساك وفى كيفية البناء ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول الصيدلاني من أوجب الامساك لم يوجب القضاء
ومن أوجب القضاء لم يوجب الامساك (والثاني) ان وجب القضاء وجب الامساك والا فلا (والثالث) ان
وجب الامساك وجب القضاء والا فلا والله أعلم * قال أصحابنا: إذا بلغ الصبي في أثناء النهار صائما وقلنا
بالمذهب انه يلزمه اتمامه فجامع فيه لزمه الكفارة كباقي الأيام * قال أصحابنا: وحيث لا يلزم
هؤلاء المذكورين الامساك يستحب لهم أن لا يأكلوا بحضور من لا يعرف حالهم لما ذكره المصنف
والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{وأما الحائض والنفساء فلا يجب عليهم الصوم لأنه لا يصح منهما فإذا طهرتا وجب عليهما
القضاء لما روت عائشة رضي الله عنها قالت " في الحيض كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء
الصلاة " فوجب القضاء على الحائض بالخبر وقيس عليها النفساء لأنها في معناها فان طهرت
في أثناء النهار استحب لها أن تمسك بقية النهار ولا يجب لما ذكرناه في الصبي إذا بلغ والمجنون
إذا أفاق} *
256

{الشرح} حديث عائشة هذا رواه مسلم بلفظه ورواه البخاري مقتصرا على نفي الامر بقضاء
الصلاة (وقولها) " كنا نؤمر " (معناه) كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا بذلك وهو صاحب الامر
عند الاطلاق (وقوله) طهرتا بفتح الهاء وضمها والفتح أفصح وأشهر وسبق في كتاب الحيض
الفرق بين قضائها للصوم دون الصلاة وانهما مجمع عليهما وان حكمته تكرر الصلاة فيشق قضاؤها
بخلاف الصوم وان أبا الزناد وامام الحرمين خالفا في الحكمة (أما) أحكام الفصل ففيه مسائل (إحداها)
لا يصح صوم الحائض والنفساء ولا يجب عليهما ويحرم عليهما ويجب قضاؤه وهذا كله مجمع عليه
ولو أمسكت لا بنية الصوم لم تأثم وإنما تأثم إذا نوته وإن كان لا ينعقد وقد ذكر المصنف هنا وفى
باب الحيض دلائل هذا كله مع ما ضممته هناك إليه (الثانية) إذا طهرت في أثناء النهار يستحب لها
امساك بقيته ولا يلزمها لما ذكره المصنف هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور ونقل امام الحرمين
وغيره اتفاق الأصحاب عليه وحكي صاحب العدة في وجوب الامساك عليها خلافا كالمجنون والصبي
وهذا شاذ مردود وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة والأوزاعي والثوري وجوب الامساك (الثالثة)
وجوب قضاء الصوم على الحائض والنفساء إنما هو بأمر مجدد وليس واجبا عليها في حال الحيض
والنفاس هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وحكى القاضي حسين وامام الحرمين والمتولي في باب
الحيض وجها انه لا يجب عليها الصوم بحال ويتأخر الفعل إلى الامكان قال الامام وأنكره المحققون
لان شرط الوجوب اقتران الامكان به والصواب الأول والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ومن لا يقدر على الصوم بحال وهو الشيخ الكبير الذي يجهده الصوم والمريض الذي
لا يرجى برؤه فإنه لا يجب عليهما الصوم لقوله عز وجل (وما جعل عليكم في الدين من حرج) * وفى
الفدية قولان (أحدهما) لا تجب لأنه سقط عنه فرض الصوم فلم تجب عليه الفدية كالصبي والمجنون
(والثاني) يجب عليه عن كل يوم مد من طعام وهو الصحيح لما روى ابن عباس رضي الله عنهما
قال " من أدركه الكبر فلم يستطع صيام رمضان فعليه لكل يوم مد من قمح " وقال ابن عمر رضي الله عنه
ما " إذا ضعف عن الصوم أطعم عن كل يوم مدا " وروى أن أنسا رضي الله عنه " ضعف عن
الصوم عاما قبل وفاته فأفطر وأطعم " وان لم يقدر على الصوم لمرض يخاف زيادته ويرجي البرء لم
يجب عليه الصوم للآية فإذا برئ وجب عليه القضاء لقوله عز وجل (فمن كان منكم مريضا أو
257

على سفر فعدة من أيام أخر) وان أصبح صائما وهو صحيح ثم مرض أفطر لأنه أبيح له الفطر
للضرورة والضرورة موجودة فجاز له الفطر} *
{الشرح} الأثر المذكور عن ابن عباس رواه البخاري عنه في صحيحه في كتاب التفسير
والأثر عن أبي هريرة رواه البيهقي والأثر عن أنس رواه الدارقطني والبيهقي (وقوله) يجهده هو
بفتح الياء والهاء ويقال بضم الياء وكسر الهاء قال ابن فارس والجوهري وغيرهما يقال جهد
وأجهد إذا حمله فوق طاقته وجهده أفصح (وقوله) برأ هذا هو الفصيح ويقال برئ وبرؤ وقد
سبق مبسوطا في باب التيمم (اما) الأحكام ففيه مسائل (إحداها) قال الشافعي وأصحاب: الشيخ
الكبير الذي يجهده الصوم أي يلحقه به مشقة شديدة والمريض الذي لا يرجى برؤه لا صوم عليهما
بلا خلاف وسيأتي نقل ابن المنذر الاجماع فيه ويلزمهما الفدية على أصح القولين (والثاني) لا يلزمهما
والفدية مد من طعام لكل يوم وهذا الذي ذكرناه من صحيح وجوب الفدية متفق عليه عند أصحابنا
وبه قال جمهور العلماء وهو نص الشافعي في المختصر وعامة كتبه * ونصه في القديم وحرملة من الجديد
أن لا فدية عليه وقال في البويطي هي مستحبة واتفقوا على أنه لو تكلف الصوم فصام فلا فدية
والعجوز كالشيخ في جميع هذا وهو اجماع والله أعلم (الثانية) المريض العاجز عن الصوم لمرض
يرجى زواله لا يلزمه الصوم في الحال ويلزمه القضاء لما ذكره المصنف هذا إذا لحقه مشقة ظاهرة بالصوم ولا
يشترط أن ينتهي إلى حالة لا يمكنه فيها الصوم بل قال أصحابنا: شرط إباحة الفطر ان يلحقه بالصوم مشقة
يشق احتمالها قالوا وهو على التفصيل السابق في باب التيمم قال أصحابنا: واما المرض اليسير الذي
لا يلحق به مشقة ظاهرة لم يجز له الفطر بلا خلاف عندنا خلافا لأهل الظاهر قال أصحابنا: ثم
المرض المجوز للفطر إن كان مطبقا فله ترك النية بالليل وإن كان يحم وينقطع ووقت الحمى لا يقدر على
الصوم وإذا لم تكن حمي يقدر عليه فإن كان محموما وقت الشروع في الصوم فله ترك النية وإلا فعليه
أن ينوى من الليل ثم إن عاد المرض واحتاج إلى الفطر أفطر والله أعلم (الثالثة) إذا أصبح الصحيح
صائما ثم مرض جاز له الفطر بلا خلاف لما ذكره المصنف *
{فرع} قال أصحابنا وغيرهم من غلبه الجوع والعطش فخاف الهلاك لزمه الفطر وإن كان صحيحا
مقيما لقوله تعالي (ولا تقتلوا أنفسكم إنه كان بكم رحيما) وقوله تعالي (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
ويلزمه القضاء كالمريض والله أعلم *
258

{فرع} قال أصحابنا: لو نذر الشيخ الكبير العاجز أو المريض الذي لا يرجى برؤه ففي
انعقاده وجهان (أصحهما) لا ينعقد لأنه عاجز وبني المتولي وآخرون هذين الوجهين على وجهين
ونقلوهما في أنه يتوجه على الشيخ العاجز الخطاب بالصوم ثم ينتقل إلى الفدية للعجز أم يخاطب ابتداء
بالفدية والأصح انه يخاطب بالفدية ابتداء فلا ينعقد نذره *
{فرع} إذا أوجبنا الفدية على الشيخ والمريض المأيوس من برئه وكان معسرا هل يلزمه إذا
أيسر أم يسقط عنه فيه قولان كالكفارة (والأصح) في الكفارة بقاؤها في ذمته إلى اليسار لأنها
في مقابلة جنايته فهي كجزاء الصيد وينبغي أن يكون الأصح هنا انها تسقط ولا يلزمه إذا أيسر
كالفطرة لأنه عاجز حال التكليف بالفدية وليست في مقابلة جناية ونحوها وقطع القاضي في المجرد
انه إذا أيسر بعد الافطار لزمه الفدية فإن لم يفد حتى مات لزم اخراجها من تركته قال لان الاطعام
في حقه كالقضاء في حق المريض والمسافر قال وقد ثبت ان المريض والمسافر لو ماتا قبل تمكنهما من
القضاء لم يجب شئ وإن زال عذرهما وقدرا على القضاء لزمهما فان ماتا قبله وجب أن يطعم عنهما
مكان كل يوم مد طعام فكذا هنا هذا كلام القاضي *
{فرع} إذا أفطر الشيخ العاجز والمريض الذي لا يرجى برؤه ثم قدر على الصوم فهل يلزمه
قضاء الصوم فيه وجهان حكاهما الدارمي وقال البغوي ونقله القاضي حسين انه لا يلزمه لأنه لم يكن
مخاطبا بالصوم بل بالفدية بخلاف المعضوب إذا أحج عن نفسه ثم قدر فإنه يلزمه الحج على أصح
القولين لأنه كان مخاطبا به ثم اختار البغوي لنفسه انه إذا قدر قبل أن يفدى لزمه الصوم وإن قدر
بعد الفدية فيحتمل أن يكون كالحج لأنه كان مخاطبا بالفدية على توهم دوام عذره وقد بان خلافه
والله أعلم *
{فرع} في مذاهب العلماء في الشيخ العاجز عن الصوم * ذكرنا ان مذهبنا انه لا صوم عليه ويلزمه
الفدية على الأصح وهي مد من طعام عن كل يوم سواء في الطعام البر والتمر والشعير وغيرهما من أقوات
البلد هذا إذا كان يناله بالصوم مشقة لا تحتمل ولا يشترط خوف الهلاك وممن قال بوجوب الفدية
وانها مد طاووس وسعيد بن جبير والثوري والأوزاعي * قال أبو حنيفة يجب لكل يوم صاع تمر
أو نصف صاع حنطة وقال احمد مد حنطة أو مدان من تمر أو شعير وقال مكحول وربيعة ومالك
وأبو ثور لا فدية واختاره ابن المنذر قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن للشيخ والعجوز العاجزين الفطر *
259

{فرع} اتفق أصحابنا على أنه لا يجوز للشيخ العاجز والمريض الذي لا يرجى برؤه تعجيل
الفدية قبل دخول رمضان ويجوز بعد طلوع فجر كل يوم وهل يجوز قبل الفجر في رمضان قطع الدارمي
بالجواز وهو الصواب وقال صاحب البحر فيه احتمالان لوالده وليس بشئ ودليله القياس على تعجيل الزكاة *
* قال المصنف رحمه الله *
{فاما المسافر فإنه إن كان سفره دون أربعة برد لم يجز له أن يفطر لأنه اسقاط فرض للسفر فلا
يجوز فيما دون أربعة برد كالقصر وإن كان سفره في معصية لم يجز له أن يفطر لان ذلك إعانة على
المعصية وإن كان سفره أربعة برد في غير معصية فله أن يصوم وله ان يفطر لما روت عائشة رضي الله عنها
ان حمزة ابن عمرو الأسلمي قال يا رسول الله أصوم في السفر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ان
شئت فصم وان شئت فأفطر " فإن كان ممن لا يجهده الصوم في السفر فالأفضل ان يصوم لما روى عن
انس رضي الله عنه أنه قال للصائم في السفر " ان أفطرت فرخصة وان صمت فهو أفضل " وعن عثمان
ابن أبي العاص أنه قال الصوم أحب إلى ولأنه إذا أفطر عرض الصوم للنسيان وحوادث
الزمان فكان الصوم أفضل وإن كان يجهده الصوم فالأفضل أن يفطر لما روى جابر رضي الله عنه
قال " مر رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر برجل تحت شجرة يرش عليه الماء فقال ما بال هذا قالوا
صائم يا رسول الله فقال ليس من البر الصيام في السفر " فان صام المسافر ثم أراد أن يفطر فله أن يفطر
لان العذر قائم فجاز له أن يفطر كما لو صام المريض ثم أراد أن يفطر ويحتمل عندي أنه لا يجوز له أن
يفطر في ذلك اليوم لأنه دخل في فرض المقيم فلا يجوز له أن يترخص برخصة المسافر كما لو دخل في
الصلاة بنية الاتمام ثم أراد أن يقصر ومن أصبح في الحضر صائما ثم سافر لم يجز له ان يفطر في ذلك
اليوم وقال المزني له أن يفطر كما لو أصبح الصحيح صائما ثم مرض فله أن يفطر والمذهب الأول
والدليل عليه انه عبادة تختلف بالسفر والحضر فإذا بدأ بها في الحضر ثم سافر لم يثبت له رخصة
السفر كما لو دخل في الصلاة في الحضر ثم سافر في أثنائها ويخالف المريض فان ذلك مضطر إلى
الافطار والمسافر مختار} *
{الشرح} حديث عائشة رضي الله عنها رواه البخاري ومسلم وحديث جابر رضي الله عنه
رواه البخاري ومسلم أيضا والأثران عن أنس وعثمان بن أبي العاص رواهما البيهقي وعثمان هذا صحابي
ثقفي رضي الله عنه (وقوله) أربعة برد بضم الباء والراء وهي ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي
260

وسبق بيان هذا كله مبسوطا في باب صلاة المسافر (وقوله) اسقاط فرض للسفر احتراز عن استقبال
القبلة في صلاة النفل فإنه اسقاط لا فرض (وقوله) للسفر احتراز عمن عجز عن القيام فصلي قاعدا
(قوله) يجهده بفتح الياء وضمها وسبق بيانه قريبا (اما) الأحكام ففيه مسائل (إحداها) لا يجوز
الفطر في رمضان في سفر معصية بلا خلاف ولا في سفر آخر دون مسافة القصر بلا خلاف وقد
سبق هذان في باب مسح الخف وفى باب صلاة المسافر فإن كان سفره دون مسافة القصر وليس
معصية فله الفطر في رمضان بالاجماع مع نص الكتاب والسنة قال الشافعي والأصحاب: له
الصوم وله الفطر (واما) أفضلهما فقال الشافعي والأصحاب: ان تضرر بالصوم فالفطر أفضل والا
فالصوم أفضل وذكر الخراسانيون قولا شاذا ضعيفا مخرجا من القصر ان الفطر أفضل مطلقا
والمذهب الأول والفرق ان في القصر تحصل الرخصة مع براءة الذمة وهنا إذا أفطر تبقي الذمة
مشغولة ولان في القصر خروجا من الخلاف وليس هنا خلاف يعتد به في ايجاب الفطر وقال المتولي
لو لم يتضرر في الحال بالصوم لكن يخاف الضعف منه وكان سفر حج أو عمرة فالفطر أفضل (الثانية) إذا
أفطر المسافر لزمه القضاء ولا فدية قال الله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على
سفر فعدة من أيام أخر) معناه وأراد الفطر فله الفطر وعليه عدة من أيام أخر
(الثالثة) لو أصبح في أثناء سفره صائما ثم أراد أن يفطر في نهاره فله ذلك من غير عذر نص عليه
الشافعي وقطع به جميع الأصحاب وفيه احتمال لمصنف ولإمام الحرمين انه لا يجوز وحكاه
الرافعي وجها وقد ذكر المصنف دليله وفرق صاحب الحاوي بين القصر والفطر بان من دخل في
الصلاة تامة التزم الاتمام فلم يجز له القصر لئلا يذهب ما التزمه لا إلى بدل وأما المسافر إذا صام ثم
أفطر فلا يترك الصوم الا إلى بدل وهو القضاء فجاز له ذلك مع دوام عذره وإذا قلنا بالنص وقول
الأصحاب ان له الفطر ففي كراهته وجهان (أصحهما) لا يلزمه للحديث الصحيح أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فعل ذلك (الرابعة) إذا سافر المقيم فهل له الفطر في ذلك اليوم له أربعة أحوال (أن) يبدأ
السفر بالليل ويفارق عمران البلد قبل الفجر فله الفطر بلا خلاف (الثاني) ان لا يفارق العمران الا بعد
الفجر فمذهب الشافعي المعروف من نصوصه وبه قال مالك وأبو حنيفة ليس له الفطر في ذلك اليوم
وقال المزني له الفطر وهو مذهب احمد واسحق وهو وجه ضعيف حكاه أصحابنا عن غير المزني من
أصحابنا أيضا والمذهب الأول فعلى هذا لو جامع فيه لزمه الكفارة لأنه يوم من رمضان هو صائم
261

فيه صوما لا يجوز فطره ودليل الجميع في الكتاب قال صاحب الحاوي وقيل أن المزني رجع عن
هذا المنقول عنه وقال اضربوا على قولي قال وكان احتج بان النبي صلى الله عليه وسلم " خرج عام
الفتح من المدينة صائما حتى بلغ كراع الغميم " أفطر فظن أنه أفطر في نهاره وهذا الحديث في
الصحيحين وكراع الغميم عند عسفان بينه وبين المدينة نحو سبعة أيام أو ثمانية فلم يفطر النبي صلى
الله عليه وسلم في يوم خروجه والله أعلم (الثالث) ان ينوى الصيام في الليل ثم يسافر ولا يعلم هل
سافر قبل الفجر أو بعده قال الصيمري والماوردي وصاحب البيان وغيرهم ليس له الفطر لأنه يشك
في مبيح الفطر ولا يباح بالشك (الرابع) أن يسافر من بعد الفجر ولم يكن نوى الصيام فهذا ليس بصائم لا خلاله
بالنية من الليل فعليه قضاؤه ويلزمه الامساك هذا اليوم لان حرمته قد ثبتت بطلوع الفجر وهو
حاضر هكذا ذكره الصيمري والماوردي وصاحب البيان وهو ظاهر ويجئ فيه قول المزني والوجه
الموافق له والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(فان قدم المسافر وهو مفطر أو برأ المريض وهو مفطر استحب لهما امساك بقية النهار لحرمة
الوقت ولا يجب ذلك لأنهما أفطرا بعذر ولا يأكلان عند من لا يعرف عذرهما لخوف التهمة
والعقوبة وان قدم المسافر وهو صائم أو برأ المريض وهو صائم فهل لهما أن يفطرا فيه وجهان (قال)
أبو علي بن أبي هريرة يجوز لهما الافطار لأنه أبيح لهما الفطر من أول النهار ظاهرا وباطنا فجاز لهما الافطار في
في بقية النهار كما لو دام السفر والمرض (وقال) أبو إسحاق لا يجوز لهما الأقطار لأنه زال سبب الرخصة قبل
الترخص فلم يجز الترخص كما لو قدم المسافر وهو في الصلاة فإنه لا يجوز له القصر} *
{الشرح} فيه مسائل (إحداها) قدم المسافر أو برأ المريض وهما مفطران يستحب إمساك
بقية يومه ولا يجب عندنا وأوجبه أبي حنيفة * دليلنا انهما أفطرا بعذر (الثانية) يستحب إذا أكلا أن
لا يأكلا عند من يجهل عذرهما للعلة المذكورة (الثالثة) إذا قدم المسافر وهو صائم هل له الفطر فيه وجهان
مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أحدهما) نعم وبه قال ابن أبي هريرة ونقله الماوردي عن نصه في
حرمله (وأصحهما) عند القاضي أبى الطيب وجمهور الأصحاب لا يجوز وهو قول أبى اسحق وهكذا الحكم
لو نوى المسافر الإقامة في بلد بحيث تنقطع رخصه ولو برأ المريض وهو صائم فطريقان (أصحهما)
وبه قطع المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب وآخرون فيه الوجهان كالمسافر (أصحهما) يحرم الفطر
(والثاني) يجوز (والطريق الثاني) وبه قطع الفوراني وجماعة من الخراسانيين يحرم الفطر وجها واحدا
262

(الرابعة) لو قدم المسافر ولم يكن نوى من الليل صوما ولا أكل في نهاره قبل قدومه فطريقان (أصحهما)
وبه قطع القاضي أبو الطيب في المجرد والدارمي والماوردي وآخرون ونقله الماوردي عن
نصه في الام له الاكل لأنه مفطر لعدم النية من الليل فجاز له الاكل كالمفطر بالاكل (والثاني) حكاه
الفوراني وغيره من الخراسانيين في وجوب الامساك وجهان (الصحيح) لا يلزمه (والثاني) يلزمه
حرمة لليوم *
{فرع} لا يجوز للمسافر ولا للمريض أن يصوما في رمضان غيره من قضاء أو نذر أو كفارة
أو تطوع فان صام شيئا من ذلك لم يصح صومه لا عن رمضان ولا عما نوى ولا غيره * هذا مذهبنا وبه
قال مالك واحمد وجمهور العلماء * وقال أبو حنيفة في المريض كقولنا وقال في المسافر يصح ما نوى * دليلنا
القياس على المريض *
{فرع} إذا قدم المسافر في أثناء نهار وهو مفطر فوجد امرأته قد طهرت في أثناء النهار من
حيض أو نفاس أو برأت من مرض وهي مفطرة فله وطؤها ولا كفارة عليه عندنا بلا خلاف وقال
الأوزاعي: لا يجوز وطؤها * دليلنا انهما مفطران فأشبه المسافرين والمريضين *
{فرع} إذا دخل على الانسان شهر رمضان وهو مقيم جاز له ان يسافر ويفطر * هذا مذهبنا ومذهب
مالك وأبي حنيفة والثوري والأوزاعي واحمد والعلماء كافة الا ما حكاه أصحابنا عن أبي مخلد التابعي
انه لا يسافر فان سافر لزمه الصوم وحرم الفطر وعن عبيدة السلماني بفتح العين وسويد بن غفلة
بفتح الغين المعجمة والفاء التابعين انه يلزمه الصوم بقية الشهر ولا يمتنع السفر لقوله تعالى (فمن
شهد منكم الشهر فليصمه) دليلنا قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) وفى
الصحيحين " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم " خرج في غزوة الفتح في رمضان مسافرا وأفطر " والآية
التي احتجوا بها محمولة على من شهد كل الشهر في البلد وهو حقيقة الكلام فان شهد بعضه لزمه صوم
ما شهد منه في البلد ولابد من هذا التفسير للجمع بين الأدلة *
{فرع} في مذاهب العلماء في السفر المجوز للفطر * ذكرنا أن مذهبنا أنه ثمانية وأربعون ميلا
بالهاشمي وهذه المراحل مرحلتان قاصدتان وبهذا قال مالك وأحمد * وقال أبو حنيفة لا يجوز إلا في
سفر يبلغ ثلاثة أيام كما قال في القصر وقال قوم يجوز في كل سفر وإن قصر وسبقت هذه المذاهب
بأدلتها في صلاة المسافر *
263

{فرع} في مذاهبهم في جواز الصوم والفطر * مذهبنا جوازهما وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد
والجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم قال العبدري هو قول العلماء قالت الشيعة لا يصح وعليه
القضاء واختلف أصحاب داود الظاهري فقال بعضهم يصح صومه وقال بعضهم لا يصح وقال ابن
المنذر " كان ابن عمر وسعيد ابن جبير يكرهان صوم المسافر " قال وروينا عن ابن عمر رضي الله عنه
ما أنه قال " ان صام قضاه " قال وروى عن ابن عباس قال " لا يجزئه الصيام " وعن عبد الرحمن
ابن عوف قال " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " وحكى أصحابنا بطلان صوم المسافر عن أبي
هريرة وأهل الظاهر والشيعة * واحتج هؤلاء بحديث جابر رضي الله عنه قال " كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رجلا قد ظلل عليه فقال ما هذا قالوا صائم فقال ليس البر الصوم
في السفر " رواه البخاري ومسلم وفى رواية لمسلم " ليس البر أن تصوموا في السفر " وعن جابر
أيضا " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع
الغميم فصام الناس ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب فقيل بعد ذلك إن
بعض الناس قد صام فقال أولئك العصاة أولئك العصاة " رواه مسلم وعن أنس رضي الله عنه قال
" كنا مع رسول صلى الله عليه وسلم في سفر أكثرنا ظلا صاحب الكساء فمنا من يقي الشمس بيده
فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الا بينة وسقوا الركاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ذهب المفطرون اليوم بالاجر " رواه البخاري ومسلم وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال " رسول
الله صلى الله عليه وسلم إن الله يحب أن تؤتى رخصة كما يكره أن تؤتي معصية " رواه أحمد بن
حنبل في مسنده وابن خزيمة في صحيحه * واحتج أصحابنا بحديث عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن
عمرو قال للنبي صلى الله عليه وسلم أصوم في السفر قال " إن شئت فصم وإن شئت فأفطر " رواه
البخاري ومسلم وعن حمزة بن عمرو رضي الله عنه أنه قال يا رسول أجد بي قوة على الصيام في السفر
فهل على جناح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هي رخصة من الله تعالى فمن أخذ بها فحسن
ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " رواه مسلم وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال " خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد ما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم و عبد الله بن رواحه " رواه البخاري ومسلم وعن أنس رضي الله عنه قال " كنا نسافر مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعيب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم " رواه البخاري ومسلم
264

وعن أبي سعيد الخدري وجابر رضي الله عنهما قالا " سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصوم
الصائم ويفطر المفطر ولا يعيب بعضهم على بعض " رواه مسلم وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه
قال " كنا نغزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر فلا يجد الصائم
على المفطر ولا المفطر على الصائم يرون أن من وجد قوة فصام فان ذلك حسن ويرون أن من
وجد ضعفا فأفطر فان ذلك حسن " رواه مسلم وعن أبي سعيد أيضا قال " قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم من صام يوما في سبيل الله عز وجل باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا " رواه البخاري
ومسلم وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال " سافر رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فصام
حتى بلغ عسفان ثم دعا باناء من ماء فشرب نهارا ليراه الناس فأفطر حتى قدم مكة فكان ابن
عباس يقول صام رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر وأفطر فمن شاء صام ومن شاء أفطر " رواه
البخاري وعن عائشة رضي الله عنها قالت " خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة في
رمضان فأفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصمت وقصر وأتممت فقلت بأبي وأمي أفطرت وصمت
وقصرت وأتممت فقال أحسنت يا عائشة " رواه الدارقطني وقال اسناده حسن وقد سبق
بيانه في صلاة المسافر وفى المسألة أحاديث كثيرة صحيحة سوى ما ذكرته (وأما) الأحاديث التي
احتجوا بها المخالفون فمحمولة على من يتضرر بالصوم وفى بعضها التصريح بذلك ولابد من
هذا التأويل ليجمع بين الأحاديث (وأما) المنقول عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
" الصائم في السفر كالمفطر في الحضر " فقال البيهقي هو موقوف منقطع وروى مرفوعا واسناده
ضعيف والله أعلم *
{فرع} في مذاهبهم فيمن أطاق الصوم في السفر بلا ضرر هل الأفضل صومه في رمضان أم
فطره * قد ذكرنا مذهبنا أن صومه أفضل وبه قال حذيفة بن اليمان وأنس بن مالك وعثمان بن العاص
رضي الله عنهم وعروة بن الزبير والأسود بن يزيد وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وسعيد بن جبير
والنخعي والفضيل بن عياض ومالك وأبو حنيفة والثوري وعبد الله بن المبارك وأبو ثور وآخرون
وقال ابن عباس وابن عمرو ابن المسيب والشعبي والأوزاعي وأحمد واسحق وعبد الملك بن الماجشون
265

المالكي: الفطر أفضل وقال آخرون هما سواء وقال مجاهد وعمر بن عبد العزيز وقتادة الأفضل
منهما هو الأيسر والأسهل عليه قال ابن المنذر وبه أقول * واحتج لمن رجح الفطر بالأحاديث السابقة
كقوله صلى الله عليه وسلم " ليس من البر الصوم في السفر " وقوله صلى الله عليه وسلم في الصائمين " أولئك
العصاة " وحديث ابن عباس رضي الله عنهما " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في
رمضان فصام حتى بلغ كرع الكديد وهو بفتح الكاف ثم أفطر قال وكان أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره " رواه البخاري ومسلم وحديث حمزة بن عمرو
السابق " هي رخصة من الله فمن اخذ بها فحسن ومن أحب أن يصوم فلا جناح عليه " واحتج أصحابنا بحديث
أبي الدرداء السابق في صيام النبي صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة وبحديث أبي سعيد السابق " كنا نغزوا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فمنا الصائم ومنا المفطر " إلى آخره وهذان الحديثان هما المعتمد في المسألة وكذا حديث
عائشة " قصرت وأتممت " في صيام النبي إلى آخره (وأما) الحديث المروى عن سلمة بن المحبق بكسر الباء
وفتحها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من كان في سفر على حمولة يأوى إلى شبع فليصم حيث أدركه رمضان "
(فهو) حديث ضعيف رواه البيهقي وضعفه ونقل عن البخاري تضعيفه وانه ليس بشئ وكذا
الحديث المرفوع عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم " ان أفطرت فهو رخصة وإن صمت فهو أفضل "
حديث منكر قاله البيهقي وإنما هو موقوف على أنس (والجواب) عن الأحاديث التي احتج بها القائلون
بفضل الفطر إنها محمولة على من يتضرر بالصوم وفى بعضها التصريح بذلك كما سبق ولابد
من هذا التأويل ليجمع بين الأحاديث والله أعلم *
266

* قال المصنف رحمه الله *
{فان خافت الحامل والمرضع على أنفسهما أفطرتا وعليهما القضاء دون الكفارة لأنهما أفطرتا
للخوف على أنفسهما فوجب عليهما القضاء دون الكفارة كالمريض وإن خافتا على ولديهما أفطرتا
وعليهما القضاء بدلا عن الصوم وفى الكفارة ثلاثة أوجه (قال) في الام يجب عن كل يوم مد من
الطعام وهو الصحيح لقوله تعالي (وعلى الذين يطيقونه فدية) قال ابن عباس نسخت هذه الآية
وبقيت للشيخ الكبير والعجوز والحامل والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا كل يوم مسكينا (والثاني)
ان الكفارة مستحبة غير واجبة وهو قول المزني لأنه افطار بعذر فلم تجب فيه الكفارة كافطار
المريض (والثالث) يجب على المرضع دون الحامل لان الحامل أفطرت لمعنى فيها فهي كالمريض والمرضع
أفطرت المنفصل عنها فوجب عليها الكفارة والله أعلم} *
{الشرح} هذا المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما رواه أبو داود باسناد حسن عنه قال
أصحابنا: الحامل والمرضع إن خافتا من الصوم على أنفسهما أفطرتا وقضتا ولا فدية عليهما كالمريض
وهذا كله لا خلاف فيه وإن خافتا على أنفسهما وولديهما فكذلك بلا خلاف صرح به الدارمي
والسرخسي وغيرهما وإن خافتا على ولديهما لا على أنفسهما أفطرتا وقضتا بلا خلاف وفى الفدية
هذه الأقوال التي ذكرها المصنف (أصحها) باتفاق الأصحاب وجوبها كما صححه المصنف وهو المنصوص
في الام والمختصر وغيرهما قال صاحب الحاوي: هو نصه في القديم والجديد ونقله الربيع والمزني قال
هو وغيره ونص في البويطي على وجوب الفدية على المرضع دون الحامل فحصل في الحامل قولان ونقل
أبو علي الطبري في الافصاح ان الشافعي نص في موضع آخر على أن الفدية ليست بواجبة على واحدة
منهما بل هي مستحبة وجعل الماوردي والسرخسي وآخرون هذا الثالث مخرجا من نص البويطي
في الحامل قال الماوردي: ومنهم من أنكر هذا الثالث وكذا قاله غيره واقتصر البغوي والجرجاني
267

وخلق من الأصحاب على قولين في الحامل وقطعوا بالوجوب على المرضع والله أعلم * فإذا أوجبنا
الفدية فهل تتعدد بتعدد الأولاد فيه طريقان (أصحهما) وبه قطع البغوي (والثاني) فيه وجهان
حكاه الرافعي *
{فرع} إذا أوجبنا الفدية على المرضع إذا أفطرت للخوف على ولدها فلو استؤجرت لارضاع
ولد غيرها (فالصحيح) بل الصواب الذي قطع به القاضي حسين في فتاويه وصاحب التتمة وغيرهما
انه يجوز لها الافطار وتفدى كما في ولدها بل قال القاضي حسين يجب عليها الافطار إن تضرر الرضيع
بالصوم واستدل صاحب التتمة بالقياس على السفر فإنه يستوي في جواز الافطار به من سافر لغرض
نفسه وغرض غيره بأجرة وغيرها وشد الغزالي في فتاويه فقال ليس لها أن تفطر ولا خيار لأهل
الصبي وهذا غلط ظاهر قال القاضي حسين: وعلى من تجب فدية فطرها في هذا الحال فيه احتمالان
هل هي عليها أم على المستأجر كما لو استأجر للمتمتع فهل يجب دمه على الأجير أو المستأجر فيه وجهان
كذا قال القاضي ولعل الأصح وجوبها على المرضع بخلاف دم التمتع فان الأصح وجوبه على
المستأجر لأنه من تتمة الحج الواجب على المستأجر وهنا الفطر من تتمة إيصال المنافع الواجبة على المرضع
قال القاضي ولو كان هناك نسوة مراضع فأرادت واحدة ان تأخذ سبيا ترضعه تقربا إلى الله تعالى جاز
لها الفطر للخوف عليه وإن لم يكن متعينا عليها *
{فرع} لو كانت المرضع والحامل مسافرة أو مريضة فأفطرت بنية الترخص بالمرض أو السفر
فلا فدية عليها بلا خلاف وان لم تقصد الترخص أفطرت للخوف على الولد لا على نفسها ففي
وجوب الفدية وجهان كالوجهين في فطر المسافر بالجماع لا بنية الترخص كذا ذكره البغوي وغيره
والأصح في جماع المسافر المذكور لا كفارة كما سنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى *
{فرع} في مذاهب العلماء في الحامل والمرضع إذا خافتا فأفطرتا * قد ذكرنا أن مذهبنا أنهما
ان خافتا على أنفسهما لا غير أو على أنفسهما وولدهما أفطرتا وقضتا ولا فدية عليهما بلا خلاف وان
أفطرتا للخوف على الولد أفطرتا وقضتا والصحيح وجوب الفدية قال ابن المنذر وللعلماء في ذلك أربع
268

مذاهب (قال) ابن عمر وابن عباس وسعيد بن جبير يفطران ويطعمان ولا قضاء عليهما (وقال)
عطاء بن أبي رباح والحسن والضحاك والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة والثوري
وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي يفطران ويقضيان ولا فدية كالمريض (وقال) الشافعي وأحمد
يفطران ويقضيان ويفديان وروى ذلك عن مجاهد (وقال) مالك الحامل تفطر وتقضي ولا فدية
والمرضع تفطر وتقضى وتفدى قال ابن المنذر وبقول عطاء أقول
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ولا يجب صوم رمضان الا برؤية الهلال فان غم عليهم وجب عليهم أن يستكملوا شعبان ثم
يصوموا لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم فأكملوا العدة ولا تستقبلوا الشهر استقبالا "} *
{الشرح} هذا الحديث رواه هكذا النسائي باسناد صحيح ورواه مسلم من رواية ابن
عباس ولفظه " ان الله قد أمده لرؤيته فان أغمي عليكم فأكملوا العدة " ورواه الترمذي ولفظه
" لا تصوموا قبل رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان حالت دونه غياية فأكملوا ثلاثين يوما "
قال الترمذي حديث حسن صحيح (الغيابة) السحابة وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال " سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا فان غم عليكم
فاقدروا له " رواه البخاري ومسلم وفى رواية لمسلم " فاقدروا ثلاثين " وفى رواية له " فإذا رأيتم الهلال
فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا فان أغمي عليكم فاقدروا له " وفى رواية " فان غم عليكم فصوموا
ثلاثين يوما " وفى رواية " فان غبي عليكم فأكملوا العدد " وفى رواية فان " أغمي عليكم الشهر فعدوا
ثلاثين " هذه الروايات كلها في صحيح مسلم وفى رواية البخاري " فان غبي عليكم فأكملوا عدة
شعبان ثلاثين " وعن عائشة رضي الله عنها قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من
شعبان مالا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فإذا غم عليه عد ثلاثين يوما ثم
صام " رواه أبو داود والدارقطني وقال اسناده صحيح وعن حذيفة رضي الله عنه قال " قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقوموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا حتى
269

تروا الهلال أو تكملوا العدة " رواه أبو داود والنسائي والدارقطني وغيرهم باسناد صحيح على
شرط البخاري ومسلم وفى الباب أحاديث كثيرة بمعني ما ذكرته واختلف العلماء في معنى قوله صلى الله عليه
وسلم " فان غم عليكم فأقدروا له " فقال أحمد ابن حنبل وطائفة قليلة معناه ضيقوا له
وقدروه تحت السحاب وأوجب هؤلاء صيام ليلة الغيم وقال مطرف بن عبد الله وأبو العباس ابن سريج
وابن قتيبة وآخرون معناه قدروه بحساب المنازل وقال مالك وأبو حنيفة والشافعي وجمهور السلف
والخلف: معناه قدروا له تمام العدد ثلاثين يوما قال أهل اللغة: يقال قدرت الشئ بتخفيف الدال
أقدره وأقدره بضمها وكسرها وقدرته بتشديدها وأقدرته بمعنى واحد وهو من التقدير قال الخطابي
وغيره: ومنه قوله تعالى (فقدرنا فنعم القادرون) واحتج الجمهور بالروايات التي ذكرناها وكلها
صحيحة صريحة فأكملوا العدة ثلاثين وهي مفسرة لرواية فاقدروا له
المطلقة قال الجمهور: ومن قال بتقدير تحت السحاب فهو منابذ لصريح باقي الروايات وقوله
مردود ومن قال بحساب المنازل فقوله مردود بقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين " إنا أمة أمية
لا نحسب ولا نكتب الشهر هكذا وهكذا " الحديث قالوا ولان الناس لو كلفوا بذلك ضاق
عليهم لأنه لا يعرف الحساب الا أفراد من الناس في البلدان الكبار فالصواب ما قاله الجمهور وما
سواه فاسد مردود بصرائح الأحاديث السابقة وقوله صلى الله عليه وسلم " فان غم عليكم " معناه حال
بينكم وبينه غيم يقال غم وغمى وغمي بتشديد الميم وتخفيفها والغين مضمومة فيهما ويقال غبي
بفتح الغين وكسر الباء وقد غامت السماء وغيمت وأغامت وتغيمت وأغمت وقوله صلى الله عليه
وسلم " صوموا لرؤيته " المراد رؤية بعضكم وهل هو عدل أم عدلان فيه الخلاف المشهور والله أعلم
قال أصحابنا وغيرهم ولا يجب صوم رمضان إلا بدخوله ويعلم دخوله برؤية الهلال فان غم وجب
استكمال شعبان ثلاثين ثم يصومون سواء كانت السماء مصحية أو مغيمة غيما قليلا أو كثيرا ودليله
ما سبق والله أعلم *
{فرع} ثبت في صحيح البخاري ومسلم عن أبي بكرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة " معناه لا ينقص أجرهما والثواب المرتب وإن
نقص عددهما وقيل معناه لا ينقصان معا غالبا من سنة واحدة وقيل لا ينقص ثواب ذي الحجة عن
ثواب رمضان لان فيه المناسك والعشر حكاه الخطابي وهو ضعيف باطل والصواب الأول ولم يذكر
270

صاحب التتمة غيره ومعناه أن قوله صلى الله عليه وسلم " من قام رمضان ايمانا واحتسابا غفر له
ما تقدم من ذنبه " " ومن صام رمضان وأتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر " ونظائر ذلك
فكل هذه الفضائل تحصل سواء تم عدد رمضان أم نقص قال صاحب التتمة وإنما خص هذين
الشهرين لتعلق العبادة بهما وهي الصوم والحج
* وقال المصنف رحمه الله
{فان أصبحوا يوم الثلاثين وهم يظنون أنه من شعبان فقامت البينة أنه من رمضان لزمه قضاء
صومه لأنه بان أنه من رمضان وهل يلزمهم امساك بقية النهار فيه قولان (أحدهما) لا يلزمهم لأنهم
أفطروا بعذر فلم يلزمهم إمساك بقية النهار كالحائض إذا طهرت والمسافر إذا أقام (والثاني) يلزمهم
لأنه أبيح لهم الفطر بشرط أنه من شعبان وقد بان انه من رمضان فلزمهم الامساك وإن رأوا الهلال
بالنهار فهو لليلة المستقبلة لما روى شقيق بن سلمه قال " أتانا كتاب عمر رضي الله عنه ونحن بخانقين
أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد رجلان مسلمان انهما
رأياه بالأمس " وان رأوا الهلال في بلد ولم يروه في آخر فإن كانا بلدين متقاربين وجب على أهل
البلدين الصوم وإن كانا متباعدين وجب على من رأى ولم يجب على من لم ير لما روى كريب قال
" قدمت الشام فرأيت الهلال ليله الجمعة ثم قدمت المدينة فقال عبد الله بن عباس متى رأيتم الهلال
فقلت ليلة الجمعة فقال أنت رأيت قلت نعم ورآه الناس وصاموا وصام معاوية فقال لكنا رأيناه
ليلة السبت فلا نزال تصوم حتى نكمل العدة أو نراه قلت أولا تكتفى برؤية معاوية قال هكذا أمرنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم "} *
{الشرح} حديث كريب رواه مسلم وحديث شقيق عن عمر رضي الله عنه رواه الدارقطني
والبيهقي باسناد صحيح ذكره البيهقي في موضعين من كتاب الصيام ثانيهما أواخر الكتاب في شهادة
الاثنين على هلال شوال وقال في هذا الموضع: هذا اثر صحيح عن عمر رضي الله عنه (وقوله)
بخانقين هو بخاء معجمه ونون ثم قاف مكسورتين وهي بلد بالعراق قريبه من بغداد وكريب
هذا هو بضم الكاف وهو مولى ابن عباس (أما) الأحكام ففيه مسائل (إحداها) إذا ثبت
كون يوم الثلاثين من شعبان فأصبحوا مفطرين فثبت في أثناء النهار كونه من رمضان وجب قضاؤه
بلا خلاف وفى إمساك بقية النهار طريقان (أحدهما) فيه قولان (أصحهما) وجوبه (والثاني) لا يجب
وذكر المصنف دليلهما وبهذا الطريق قطع المصنف وقليلون من العراقيين والخراسانيين (والثاني)
271

يجب الامساك قولا واحدا وهذا نصه في المختصر وبه قطع كثيرون أو الأكثرون من العراقيين
والخراسانيين منهم الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في المجرد وصاحب الحاوي والدارمي
والمحاملي وآخرون من العراقيين والبغوي والسرخسي وآخرون من الخراسانيين قل المتولي
والخلاف في وجوب الامساك إذا لم يكن أكل قبل ثبوت كونه من رمضان فان كن أكل وقلنا
لا يجب الامساك قبل الاكل فهنا أولى وإلا فوجهان (أصحهما) يجب لحرمة اليوم وإذا أوجبنا
الامساك فأمسك فهل هو صوم شرعي أم لا فيه وجهان حكاهما صاحب الحاوي والمحاملي وصاحب
الشامل وآخرون واتفقوا على أن الصحيح انه ليس بصوم شرعي قال صاحب الحاوي قال أبو إسحاق
المروزي يسمى صوما شرعيا قال وقال أكثر أصحابنا ليس هو بصوم شرعي وإنما هو إمساك شرعي لأنه
لا يجزئه عن صوم رمضان ولا عن غيره بلا خلاف هكذا ذكر هؤلاء الوجهين في أنه صوم شرعي
أم لا ونسبوا القول بأنه صوم إلى أبي إسحاق وقال القاضي أبو الطيب في المجرد: فيه وجهان (أحدهما)
انه امساك شرعي يثاب عليه (والثاني) لا يثاب عليه هكذا ذكرهما القاضي وقال صاحب الشامل
يجب أن يقال في إمساكه ثواب وإن لم يكن ثواب صوم قال وحكي الشيخ أبو حامد عن أبي إسحاق
انه إذا لم يكن أكل ثم أمسك يكون صائما من حين أمسك قال صاحب الشامل: وهذا لا يجئ
على أصل الشافعي لأنه واجب فلا يصح بنية من النهار ولأنه لا يصح عن رمضان ولا نفل قال وينبغي
أن يكون ما قاله أبو إسحاق انه إمساك شرعي يثاب عليه هذا كلامه فحصل في المسألة ثلاثة أوجه
(الصحيح) انه يثاب على إمساكه ولا يكون صوما (والثاني) يكون صوما (والثالث) لا يثاب عليه
وهو الذي حكاه القاضي وهذان الوجهان فاسدان والله أعلم (المسألة الثانية) إذا رأوا الهلال بالنهار
فهو لليلة المستقبلة سواء رأوه قبل الزوال أو بعده * هذا مذهبنا لا خلاف فيه وبه قال أبو حنيفة ومالك
ومحمد وقال الثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف وعبد الملك بن حبيب المالكي: ان رأوه قبل الزوال
272

فلليلة الماضية أو بعده فللمستقبلة سواء أول الشهر وآخره وقال إن كان في أول الشهر ورأوه فللماضية
وبعده للمستقبلة وإن رأوه في آخر رمضان بعد الزوال فللمستقبلة وقبله فيه روايتان عنه (أحدهما)
للماضية (والثانية) للمستقبلة * واحتج لمن فرق بين ما قبل الزوال وبعده بما رواه البيهقي باسناده عن
إبراهيم النخعي قال " كتب عمر رضي الله عنه إلى عتبة بن فرقد إذا رأيتم الهلال نهارا قبل أن تزول
الشمس لتمام ثلاثين فأفطروا وإذا رأيتموه بعد ما تزول الشمس فلا تفطروا حتى تصوموا " واحتج أصحابنا
بما ذكره المصنف عن شقيق بن سلمة عن عمر رضي الله عنه وبما رواه البيهقي باسناده الصحيح عن سالم بن عبد الله
ابن عمر " ان ناسا رأوا هلال الفطر نهارا فأتم عبد الله بن عمر رضي الله عنهما صيامه إلى الليل وقال لا حتى يرى من
حيث يروه بالليل " وفى رواية قال ابن عمر " لا يصلح أن يفطروا حتى يروه ليلا من حيث يرى " وروينا في ذلك عن
عثمان ابن عفان وعبد الله ابن مسعود رضي الله عنهما (وأما) ما احتجوا به من رواية إبراهيم النخعي فلا حجة
فيه فإنه منقطع لان إبراهيم لم يدرك عمر ولا قارب زمانه والله أعلم (المسألة الثالثة) إذا رأوا الهلال في
رمضان في بلد ولم يروه في غيره فان تقارب البلدان فحكمهما حكم بلد واحد ويلزم أهل البلد الآخر الصوم بلا
خلاف وان تباعدا فوجهان مشهوران في الطريقتين (أصحهما) لا يجب الصوم على أهل البلد الأخرى
وبهذا قطع المصنف والشيخ أبو حامد والبندنيجي وآخرون وصححه العبدري والرافعي والأكثرون
(والثاني) يجب وبه قال الصيمري وصححه القاضي أبو الطيب والدارمي وأبو علي السنجي وغيرهم وأجاب
هؤلاء عن حديث كريب عن ابن عباس انه لم يثبت عنده رؤية الهلال في بلد آخر بشهادة عدلين
والصحيح الأول وفيما يعتبر به البعد والقرب ثلاثة أوجه (أصحها) وبه قطع جمهور العراقيين
والصيدلاني وغيرهم أن التباعد يختلف باختلاف المطالع كالحجاز والعراق وخراسان والتقارب ان
لا يختلف كبغداد والكوفة والري وقزوين لان مطلع هؤلاء مطلع هؤلاء فإذ رآه هؤلاء فعدم رؤيته
للآخرين لتقصيرهم في التأمل أو لعارض بخلاف مختلفي المطلع (والثاني) الاعتبار باتحاد الإقليم واختلافه
فان اتحد فمتقاربان والا فمتباعدان وبهذا قال الصيمري وآخرون (والثالث) ان التباعد مسافة القصر
والتقارب دونها وبهذا قال الفوراني وإمام الحرمين والغزالي والبغوي وآخرون من الخراسانيين وادعي
إمام الحرمين الاتفاق عليه لان اعتبار المطالع يحوج إلى حساب وتحكيم المنجمين وقواعد الشرع تأبى ذلك
فوجب اعتبار مسافة القصر التي علق الشرع بها كثيرا من الأحكام وهذا ضعيف لان امر الهلال لا تعلق
له بمسافة القصر فالصحيح اعتبار المطالع كما سبق فعلى هذا لو شك في اتفاق المطالع لم يلزم الذين لم يروا
الصوم لان الأصل عدم الوجوب ولأن الصوم إنما يجب بالرؤية للحديث ولم تثبت الرؤية في حق هؤلاء
273

لعدم ثبوت قربهم من بلد الرؤية هذا الذي ذكرته هو المشهور للأصحاب في الطريقين وانفرد
الماوردي والسرخسي بطريقين آخرين فقال الماوردي إذا رأوه في بلد دون بلد فثلاثة أوجه (أحدها)
يلزم الذين لم يروا الآن فرض رمضان لا يختلف باختلاف البلاد وقد ثبت رمضان (والثاني) لا يلزمهم
لان الطوالع والغوارب قد تختلف لاختلاف البلدان وإنما خوطب كل قوم بمطلعهم ومغربهم ألا ترى
الفجر قد يتقدم طلوعه في بلد ويتأخر في بلد آخر وكذلك الشمس قد يتعجل غروبها في بلد ويتأخر
في آخر ثم كل بلد يعتبر طلوع فجره وغروب شمسه في حق أهله فكذلك الهلال (الثالث) إن كانا
من إقليم لزمهم والا فلا هذا كلام الماوردي وقال السرخسي إذا رآه أهل ناحية دون ناحية فان
قربت المسافة لزمهم كلهم وضابط القرب أن يكون الغالب أنه إذا أبصره هؤلاء لا يخفى عليهم
الا لعارض سواء في ذلك مسافة القصر أو غيرها قال فان بعدت المسافة فثلاثة أوجه (أحدها) يلزم
الجميع واختاره أبو علي السنجي (والثاني) لا يلزمهم (والثالث) إن كانت المسافة بينهما بحيث لا يتصور
أن يرى ولا يخفى على أولئك بلا عارض لزمهم وإن كانت بحيث يتصور ان يخفى عليهم فلا * فحصل
في المسألة ست وجوه (أحدها) يلزم جميع أهل الأرض برؤيته في موضع منها (والثاني) يلزم أهل
إقليم بلد الرؤية دون غيرهم (والثالث) يلزم كل بلد يوافق بلد الرؤيا في المطلع دون غيره وهذا
أصحها (والرابع) يلزم كل بلد لا يتصور خفاؤه عنهم بلا عارض دون غيرهم وهو فيما حكاه السرخسي
(والخامس) يلزم من دون مسافة القصر دون غيرهم (والسادس) لا يلزم غير بلد الرؤية وهو فيما
حكاه الماوردي والله أعلم *
{فرع} في مذاهب العلماء فيما إذا رأى الهلال أهل بلد دون غيرهم * قد ذكرنا تفصيل مذهبنا
ونقل ابن المنذر عن عكرمة والقاسم وسالم وإسحاق بن راهويه أنه لا يلزم غير أهل بلد الرؤية
وعن الليث والشافعي وأحمد يلزم الجميع قال ولا أعلمه إلا قول المدني والكوفي يعنى
مالكا وأبا حنيفة *
{فرع} لو شرع في الصوم في بلد ثم سافر إلى بلد بعيد لم يروا فيه الهلال حين رآه أهل البلد الأول
فاستكمل ثلاثين من حين صام (فان قلنا) لكل بلد حكم نفسه فوجهان (أصحهما) يلزمه الصوم معهم
لأنه صار منهم (والثاني) يفطر لأنه التزم حكم الأول (وإن قلنا) تعم الروية كل البلاد لزم أهل
البلد الثاني موافقته في الفطر إن ثبت عندهم رؤية البلد الأول بقوله أو بغيره وعليهم قضاء اليوم
الأول وإن لم يثبت عندهم لزمه هو الفطر كما لو رأى هلال شوال وحده ويفطر سرا ولو سافر من
بلد لم يروا فيه إلى بلد رؤي فيه فعيدوا اليوم التاسع والعشرين من صومه فان عممنا الحكم أو قلنا
274

له حكم البلد الثاني عيد معهم ولزمه قضاء يوم وان لم نعمم الحكم وقلنا له حكم البلد الأول لزمه
الصوم ولو رأى الهلال في بلد وأصبح معيدا معهم فسارت به سفينة إلى بلد في حد البعد فصادف
أهلها صائمين قال الشيخ أبو محمد يلزمه إمساك بقية يومه إذا قلنا لكل بلد حكم نفسه واستبعد إمام
الحرمين والغزالي الحكاية قال الرافعي وتتصور هذه المسألة في صورتين (إحداهما) أن يكون ذلك
اليوم يوم الثلاثين من صوم البلدين لكن المنتقل إليهم لم يروه (والثانية) أن يكون التاسع والعشرين
المنتقل إليهم لتأخر صومهم بيوم قال وإمساك بقية النهار في الصورتين إن لم يعمم الحكم كما ذكرنا
وجواب الشيخ أبي محمد مبنى على أن لكل بلد حكمه وأن للمنتقل حكم البلد المنتقل إليه وإن عممنا
الحكم وأهل البلد الثاني إذا عرفوا في أثناء اليوم أنه عيد فهو شبيه بما سبق في باب صلاة العيد إذا
شهدوا برؤية الهلال يوم الثلاثين ولو اتفق هذا السفر لعدلين وقد رأيا الهلال بأنفسهما وشهدا في
البلد الثاني فهذه شهادة رؤية الهلال يوم الثلاثين فيجب الفطر في الصورة الأولى (وأما) الثانية فان
عممنا الحكم بجميع البلاد لم يبعد أن يكون كلامهما على التفصيل السابق في باب صلاة
العيد فان قبلنا شهادتهم قضوا يوما وان لم نعمم الحكم لم يلتفت إلى قولهما * ولو كان عكسه بأن أصبح
صائما فسارت به سفينة إلى قوم معيدين فان عممنا الحكم أو قلنا حكم المنتقل إليه أفطر وإلا فلا
وإذا أفطر قضى بوما إذا لم يصم الا ثمانية وعشرين يوما *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{وفى الشهادة التي يثبت بها رؤية هلال شهر رمضان قولان (قال) في البويطي لا تقبل إلا من
عدلين لما روى الحسين ابن حريث الجدلي جديلة قيس قال " خطبنا أمير مكة الحارث ابن حاطب
فقال أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننسك لرؤيته فإن لم نره فشهد شاهدان عدلان نسكنا
بشهادتهما (وقال) في القديم والجديد يقبل من عدل واحد وهو الصحيح لما روى عبد الله بن عمر
رضي الله عنه قال " تراءى الناس الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم اني رأيته فصام رسول الله
صلى الله عليه وسلم وأمر الناس بالصيام " ولأنه إيجاب عبادة فقبل من واحد احتياطا للفرض (فان قلنا)
يقبل من واحد فهل بقبل من العبد والمرأة فيه وجهان (أحدهما) يقبل لان ما قبل فيه قول الواحد
قبل من العبد والمرأة كاخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم (والثاني) لا يقبل وهو الصحيح لان
طريقها طريق الشهادة بدليل أنه لا يقبل من شاهد الفرع مع حضور شاهد الأصل فلم يقبل من العبد
والمرأة كسائر الشهادات ولا يقبل في هلال الفطر إلا شاهدان لأنه اسقاط فرض فاعتبر فيه العدد
احتياطا للفرض فان شهد واحد على رؤية هلال رمضان فقبل قوله وصاموا ثلاثين يوما وتغيمت
275

السماء ففيه وجهان (أحدهما) أنهم لا يفطرون لأنه افطار بشاهد واحد (والثاني) انهم يفطرون
وهو المنصوص في الام لأنه بينة ثبت بها الصوم فجاز الافطار باستكمال العدد منها كالشاهدين وقوله
إن هذا إفطار بشاهد لا يصح لان الذي ثبت بالشاهد هو الصوم والفطر ثبت على سبيل التبع وذلك
يجوز كما نقول إن النسب لا يثبت بقول أربع نسوة ثم لو شهد أربع نسوة بالولادة ثبتت الولادة وثبت
النسب على سبيل التبع للولادة وإن شهد اثنان على رؤية هلال رمضان فصاموا ثلاثين يوما والسماء
مصحية فلم يروا الهلال ففيه وجهان (قال) أبو بكر بن الحداد لا يفطرون لأن عدم الهلال مع الصحو يقين
والحكم بالشاهدين ظن واليقين يقدم على الظن (وقال) أكثر أصحابنا يفطرون لان شهادة اثنين
يثبت بها الصوم والفطر فوجب أن يثبت بها الفطر وإن غم عليهم الهلال وعرف رجل الحساب
ومنازل القمر وعرف بالحساب أنه من شهر رمضان ففيه وجهان (قال) أبو العباس يلزمه الصوم
لأنه عرف الشهر بدليل فأشبه إذا عرف بالبينة (والثاني) أنه لا يصوم لأنا لم نتعبد إلا بالرؤية ومن
رأى هلال رمضان وحده صام وإن رأى هلال شوال وحده أفطر وحده لقوله صلى الله عليه وسلم
" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ويفطر لرؤية هلال شوال سرا لأنه إذا أظهر الفطر عرض نفسه
للتهمة وعقوبة السلطان} *
{الشرح} حديث الحسين ابن حريث صحيح رواه أبو داود والدارقطني والبيهقي
وغيره وقال الدارقطني والبيهقي هذا اسناد متصل صحيح وحديث ابن عمر صحيح رواه
أبو داود والدارقطني والبيهقي باسناد صحيح على شرط مسلم قال الدارقطني تفرد به مروان
ابن محمد عن ابن وهب وهو ثقة (وقوله) حسين ابن حريث هكذا وقع في المهذب حريث
بضم الحاء وهو غلط فاحش وصوابه حسين بن الحارث وهذا لا خلاف فيه وهو مشهور
في رواية هذا الحديث وفى جميع كتب الحديث وكتب الأسماء حسين بن الحارث (وقوله) الجدلي
جديلة قيس يعنى أنه من بني جديلة قبيلة معروفة من قيس عيلان بالعين المهملة احتراز من
جديلة طي وغيرها وقد أوضحت حاله وحال قبيلته في تهذيب الأسماء واللغات (وقوله) الحارث
ابن حاطب هو صحابي مشهور وقد أوضحت حاله في التهذيب * وفى سنن أبي داود وغيره أن
عبد الله بن عمر وافقه على رواية هذا الحديث وصدقه فيه (وقوله) ننسك هو بضم السين وكسرها
لغتان مشهورتان وهو العبادة ومن قال بالمذهب أنه يثبت الهلال بعدل واحد أجاب عن حديث
الحسين بن الحارث بان النسك ههنا عيد الفطر وكذا ترجم له البيهقي وغيره على ثبوت هلال شوال
بعدلين (وأما) الأحكام ففي الفصل مسائل (إحداها) في الشهادة التي يثبت بها هلال رمضان ثلاث
276

طرق (أصحها) وأشهرها وبه قطع المصنف والجمهور في المسألة قولان (أصحهما) باتفاق الأصحاب
يثبت بعدل وهو نصه في القديم ومعظم كتبه في الجديد للأحاديث الصحيحة في ذلك (منها) ما ذكره
المصنف وغير ذلك (والثاني) وهو نصه في البويطي لا يثبت الا بعدلين (والطريق) الثاني القطع
بثبوته بعدل للأحاديث (والثالث) حكاه الماوردي والسرخسي ان ثبتت الأحاديث ثبت بعدل
والا فقولان (أحدهما) يشترط عدلان كسائر الشهور (والثاني) يثبت بعدل للاحتياط وهذا
الطريق محتمل ولكن الأحاديث قد ثبتت فالحاصل أن المذهب ثبوته بعدل قال أصحابنا فان
شرطنا عدلين فلا مدخل للنساء والعبيد في هذه الشهادة ويشترط لفظ الشهادة ويختص بمجلس
القاضي ولكنها شهادة حسبة لا ارتباط لها بالدعوى وان اكتفينا بعدل فهل هو بطريق الرواية
أم بطريق الشهادة فيه وجهان مشهوران وحكاهما السرخسي قولين قال الدارمي القائل شهادة هو
أبو علي بن أبي هريرة والقائل رواية هو أبو إسحاق المروزي واتفقوا على أن (أصحهما) أنه شهادة
فعلى هذا لا يقبل فيه العبد والمرأة ونص عليه في الام قال القاضي أبو الطيب في المجرد وبهذا قال
جميع أصحابنا غير أبي إسحاق (والثاني) أنه رواية فيقبل من العبد والمرأة وفى اشتراط لفظ الشهادة
طريقان (أحدهما) يشترط قطعا (وأصحهما) وبه قال الجمهور فيه وجهان مبنيان على أنه شهادة أم
رواية (ان قلنا) شهادة شرط والا فلا (وأما) الصبي المميز الموثوق به فلا يقبل قوله إن شرطنا اثنين
أو قلنا شهادة وهذا لا خلاف فيه (وان قلنا) رواية فطريقان (المذهب) وبه قطع الجمهور لا يقبل قطعا
(والثاني) فيه وجهان بناء على الوجهين المشهورين في قبول روايته ان قبلناها قبل هذا والا فلا
وبهذا الطريق قطع إمام الحرمين (وأما) الكافر والفاسق والمغفل فلا يقبل قولهم فيه بلا خلاف
ولا خلاف في اشتراط العدالة الظاهرة فيمن نقبله (وأما) العدالة الباطنة (فان قلنا) يشترط عدلان
اشترطت والا فوجهان حكاهما إمام الحرمين وآخرون قالوا وهما جاريان في رواية المستور الحديث
(والأصح) قبول رواية المستور وكذا الأصح قبول قوله هنا والصيام به وبهذا قطع صاحب الإبانة والعدة
والمتولي قال أصحابنا: ولا فرق في كل ما ذكرناه بين كون السماء مصحية أو مغيمة *
{فرع} إذا أخبره من يثق به كزوجته وجاريته وصديقه وغيرهم ممن يثق به ويعتقد صدقه
انه رأى هلال رمضان ولم يذكر ذلك عند القاضي فقد قطعت طائفة بأنه يلزمه الصوم بقوله ممن صرح بوجوب
ذلك على المقول له أبو الفضل بن عبدان والغزالي في الاحياء والبغوي وغيرهم وقال امام الحرمين وصاحب
الشامل إن قلنا إنه رواية لزم الصوم بقوله
(المسألة الثانية) هل يثبت هلال رمضان بالشهادة على الشهادة
فيه طريقان مشهوران حكاهما البغوي وآخرون (أصحهما) وبه قطع الأكثرون وأشار إليه المصنف ثبوته
277

كسائر الأحكام (والثاني) فيه قولان كالحدود لأنه من حقوق الله تعالى التي ليست مالية والمذهب
الأول وقاسه البغوي وآخرون على الزكاة وإتلاف حصر المسجد ونحوها فإنه يقبل فيه الشهادة
على الشهادة بلا خلاف بخلاف الحدود فإنها مبنية على الدرء والاسقاط قال البغوي وآخرون: فعلى
هذا عدد الفروع مبني على الأصول فان شرطنا العدد في الأصول فحكم الفروع هنا حكمهم في سائر
الشهادات فيشترط أن يشهد على شهادة كل واحد شاهدان وهل يكفي شهادة رجلين على شهادة شاهدي
الأصل جميعا فيه القولان المشهوران (أصحهما) يكفي وعلى هذا لا مدخل لشهادة النساء والعبيد
وإن اكتفينا بواحد فان قلنا سبيله سبيل الرواية فوجهان (أحدهما) يكفي واحد كرواية الحديث
(والثاني) يشترط اثنان قال البغوي وهو الأصح لأنه ليس بخبر من كل وجه بدليل انه لا يجوز أن
يقول أخبرني فلان عن فلان انه رأى الهلال فعلى هذا هل يشترط إخبار حرين ذكرين أم يكفي
امرأتان أو عبدان فيه وجهان (أصحهما) الأول وقال الشيخ أبو علي السنجي وإمام الحرمين الأصح
الاكتفاء بواحد عن واحد إذا قلنا إنه رواية وبهذا قطع الدارمي ونقل الشيخ أبو علي الاجماع على أنه
لا يقبل قول الفرع حدثني فلان ان فلانا رأى الهلال قال إمام الحرمين: والقياس يقتضى
قبوله إذا اكتفينا بواحد في الأصل والفرع قال ولا نسلم دعواه الاجماع من نزاع واحتمال ظاهر (أما)
إذا قلنا طريقه طريق الشهادة فهل يكفي شهادة واحد على شهادة واحد أم يشترط اثنان فيه وجهان
وقطع البغوي باشتراط اثنين وهو الأصح (وأما) شهادة الفرع بحضرة الأصل على شهادته
فقطع المصنف وغيره بأنها لا تقبل ولا يبعد تخريج خلاف فيه على قولنا رواية كما في رواية الحديث
والله أعلم (المسألة الثالثة) إذا قبلنا في هلال رمضان عدلا وصمنا على قوله ثلاثين يوما فلم نر الهلال
بعد الثلاثين فهل نفطر فيه وجهان مشهوران (أصحهما) عند المصنف وجماهير الأصحاب وهو نصه
في الام نفطر (والثاني) لا نفطر لأنه إفطار مبنى على قول عدل واحد والمذول لأنها حجة
شرعية ثبت بها هلال رمضان فثبت الافطار يعد استكمال العدد منها كالشاهدين وأبطل الأصحاب
قول الآخر قالوا لان الذي ثبت بالشاهد إنما هو الصوم وحده (وأما) الفطر فثبت تبعا كما أن
شهادة النساء لا تقبل على النسب استقلالا ولو شهد أربع نسوة بالولادة ثبتت وثبت النسب تبعا
278

لها بلا خلاف فكذا هنا ثم القولان جاريان سواء كانت لسماء مصحية أو مغيمة هذا هو المذهب
وبه صرح المتولي وآخرون وهو مقتضي كلام الأكثرين ونقله الرافعي عن مفهوم كلام الجمهور
وقال أبو المكارم في العدة الوجهان إذا كانت مصحية فإن كانت مغيمة أفطرنا بلا خلاف لاحتمال
وجوده واستتاره بالغيم وقال المصنف والقاضي أبو الطيب في المجرد وآخرون: إذا صمنا بشهادة
عدل ثلاثين وكانت السماء مغيمة ففي الفطر الوجهان ففرضوا المسألة فيما إذا غيمت وقال البغوي
قيل الوجهان إذا كانت مصحية فان تغيمت وجب الفطر قطعا قال وقيل هما في الغيم والصحو
والمذهب طردهما في الحالين (أما) إذا صمنا بقول عدلين ثلاثين يوما ولم نر الهلال فإن كانت السماء
مغيمة أفطرنا بلا خلاف وإن كانت مصحية فطريقان (أحدهما) نفطر قولا واحدا وهو نص الشافعي
في الام وحرملة وبه قطع كثيرون (وأشهرهما) وبه قطع المصنف وكثيرون فيه وجهان (الصحيح)
وقول الجمهور أصحابنا المتقدمين نفطر لان أول الشهر ثبت وقد أمرنا باكمال العدة إذا لم نر الهلال
وقد أكملناها فوجب الفطر (والثاني) لا نفطر لأن عدم الرؤية مع الصحو يقين فلا نتركه بقول
شاهدين وهو ظن وهذا قول أبى بكر بن الحداد حكاه عنه المصنف والأصحاب قال امام الحرمين هذا
مزيف غير معدود من المذهب وإنما يجرى على مذهب أبي حنيفة قال الرافعي ونقل قول ابن
الحداد عن ابن سريج أيضا قال وفرع بعضهم عليه أنه لو شهد اثنان على هلال شوال فأفطرنا ثم
لم نر الهلال بعد ثلاثين والسماء مصحية قضينا صوم أول يوم أفطرناه لأنه بان أنه من آخر رمضان
لكن لا كفارة على من جامع فيه لان الكفارة على من أثم بالجماع وهذا لم يأثم لعذره (وأما) على
المذهب وقول الجمهور فلا قضاء
(المسألة الرابعة) قال المصنف إذا غم الهلال وعرف رجل الحساب
ومنازل القمر وعرف بالحساب أنه من رمضان فوجهان (قال) ابن سريج يلزمه الصوم لأنه عرف
الشهر بدليل فأشبه من عرفه بالبينة (وقال) غيره لا يصوم لأنا لم نتعبد إلا بالرؤية هذا كلام المصنف
ووافقه على هذه العبارة جماعة وقال الدارمي لا يصوم بقول منجم وقال قوم يلزم قال فان صام بقوله
فهل يجزئه عن فرضه فيه وجهان وقال صاحب البيان إذا عرف بحساب المنازل أن غدا من رمضان
أو اخبره عارف بذلك فصدقه فنوى وصام بقوله فوجهان (أحدهما) يجزئه قاله ابن سريج واختاره
القاضي أبو الطيب لأنه سبب حصل له به غلبة ظن فأشبه ما لو اخبره ثقة عن مشاهدة (والثاني) لا يجزئه
لان النجوم والحساب لا مدخل لهما في العبادات قال وهل يلزمه الصوم بذلك قال ابن الصباغ أما
بالحساب فلا يلزمه بلا خلاف بين أصحابنا وذكر صاحب المهذب أن الوجهين في الوجوب هذا كلام
279

صاحب البيان وقطع صاحب العدة بأن الحاسب والمنجم لا يعمل غيرهما بقولهما وقال المتولي لا يعمل
غير الحاسب بقوله وهل يلزمه هو الصوم بمعرفة نفسه الحساب فيه وجهان (أصحهما) لا يلزمه وقال الرافعي
لا يجب بما يقتضيه حساب المنجم عليه ولا على غيره الصوم قال الروياني وكذا من عرف منازل
القمر لا يلزمه الصوم به على أصح الوجهين (واما) الجواز فقال البغوي لا يجوز تقليد المنجم في حسابه لا في
الصوم ولا في الفطر وهل يجوز له أن يعمل بحساب نفسه فيه وجهان وجعل الروياني الوجهين فيما
إذا عرف منازل القمر وعلم به وجود الهلال وذكر أن الجواز اختيار ابن سريج والقفال والقاضي
أبى الطيب قال فلو عرفه بالنجوم لم يجز الصوم به قطعا قال الرافعي ورأيت في بعض المسودات تعدية
الخلاف في جواز العمل به إلى غير المنجم هذا آخر كلام الرافعي فحصل في المسألة خمسة أوجه
(أصحها) لا يلزم الحاسب ولا المنجم ولا غيرهما بذلك لكن يجوز لهما دون غيرهما ولا يجزئهما عن
فرضهما (والثاني) يجوز لهما ويجزئهما (والثالث) يجوز للحاسب ولا يجوز للمنجم (والرابع) يجوز لهما
ويجوز لغيرهما تقليدهما (والخامس) يجوز لهما ولغيرهما تقليد الحاسب دون المنجم والله أعلم *
(المسألة الخامسة) من رأى هلال رمضان وحده لزمه الصوم ومن رأى هلال شوال وحده لزمه الفطر
وهذا لا خلاف فيه عندنا لقوله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " رواه البخاري
ومسلم وسبق بيانه قال أصحابنا: ويفطر لرؤية هلال شوال سرا لئلا يتعرض للتهمة في دينه وعقوبة السلطان
قال أصحابنا: ولو رؤي رجل يوم الثلاثين من رمضان يأكل بلا عذر عزر فلو شهد بعد الاكل انه رأى
الهلال البارحة لم تقبل شهادته لأنه متهم في اسقاط التعزير عن نفسه بخلاف ما لو شهد أولا فردت
شهادته ثم اكل لا يعزر لعدم التهمة حال الشهادة قال أصحابنا: وإذا رأى هلال رمضان وحده ولم
يقبل القاضي شهادته فالصوم واجب عليه كما ذكرنا فلو صام وجامع في ذلك اليوم لزمته الكفارة
بلا خلاف لأنه من رمضان في حقه هذا تفصيل مذهبنا في المسألتين وهذا الذي ذكرناه من لزوم
الصوم برؤيته هلال رمضان وحده ووجوب الكفارة لو جامع فيه مذهب عامة العلماء وقال عطاء
والحسن وابن سيرين وأبو ثور وإسحاق بن راهويه لا يلزمه * وقال أبو حنيفة يلزمه الصوم ولكن
إن جامع فيه فلا كفارة وما ذكرناه من لزوم الفطر لمن رأى هلال شوال قال به أكثر العلماء
وقال مالك والليث واحمد لا يجوز له الاكل فيه * دليلنا في المسألتين الحديث ولان يقين نفسه أبلغ
من الظن الحاصل بالبينة والله أعلم * (المسألة السادسة) لا يثبت هلال شوال ولا سائر الشهور غير
280

هلال رمضان إلا بشهادة رجلين حرين عدلين لحديث الحارث بن حاطب السابق قريبا وقياسا
على باقي الشهادات التي ليست مالا ولا المقصود منها المال ويطلع عليها الرجال غالبا
مع أنه ليس فيه احتياط للعبادة بخلاف هلال رمضان * هذا مذهبنا وبه قال العلماء كافة إلا
أبا ثور فحكي أصحابنا عنه انه يقبل في هلال شوال عدل واحد كهلال رمضان وحكاه
ابن المنذر عن أبي ثور وطائفة من أهل الحديث قال امام الحرمين قال صاحب التقريب لو قلت بما
قاله أبو ثور لم أكن مبعدا وقال الدارمي هلال ذي الحجة هل يثبت بما يثبت به هلال رمضان أم
لا يثبت الا بعدلين فيه وجهان وهذا شاذ ضعيف والله أعلم *
{فرع} إذا قلنا يثبت هلال رمضان بقول واحد فإنما ذلك في الصوم خاصة (فأما) الطلاق
والعتق وغيرهما مما علق على رمضان فلا يقع به بلا خلاف وكذا لا يحل الدين المؤجل إليه ولا تنقضي
العدة ولا يتم حول الزكاة والجزية والدية المؤجلة وغير ذلك من الآجال بلا خلاف بل لابد في
كل ما سوى الصوم من شهادة رجلين عدلين كاملي العدالة ظاهرا وباطنا وممن صرح بهذا المتولي
والبغوي والرافعي وآخرون *
{فرع} قال المتولي لو شهد عدل باسلام ذمي مات لم تقبل شهادته وحده في اثبات ارث
قريبه المسلم منه وحرمان قريبه الكافر بلا خلاف وهل تقبل في الصلاة عليه فيه وجهان بناء على
القولين في صوم رمضان بقول عدل واحد وجزم القاضي حسين في فتاويه بأنه لا يقبل ذكره في
آخر كتاب الصيال والردة *
{فرع} قال صاحب الشامل والبيان وغيرهما وهذا لفظ صاحب البيان: قال الشافعي وإن
عقد رجل عنده ان غدا من رمضان في يوم الشك فصام ثم بان انه من رمضان أجزأه قال قال أصحابنا:
أراد الشافعي بذلك إذا اخبره برؤية الهلال من يثق بخبره من رجل أو امرأة أو عبد فصدقه وإن لم
يقبل الحاكم شهادته ونوى الصوم وصام ثم بان انه من رمضان أجزأه لأنه نوى الصوم بظن
وصادفه فأشبه البينة قال البندنيجي وكذا لو أخبره صبي عاقل (فأما) إذا صام اتفاقا من غير مستند
فوافق فإنه لا يجزئه بلا خلاف *
{فرع} لو كانت ليلة الثلاثين من شعبان ولم ير الناس الهلال فرأى إنسان النبي صلى الله عليه
وسلم في المنام فقال له الليلة أول رمضان لم يصح الصوم بهذا المنام لا لصاحب المنام ولا لغيره ذكره
القاضي حسين في الفتاوى وآخرون من أصحابنا ونقل القاضي عياض الاجماع عليه وقد قررته بدلائله
281

في أول شرح صحيح مسلم ومختصره أن شرط الراوي والمخبر والشاهد أن يكون متيقظا حال التحمل
وهذا مجمع عليه ومعلوم أن النوم لا تيقظ فيه ولا ضبط فترك العمل بهذا المنام لاختلال ضبط
الراوي لا للشك في الرؤية فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال " من رآني في المنام فقد
رآني حقا فان الشيطان لا يتمثل في صورتي " والله تعالى أعلم *
{فرع} في مذاهب العلماء في هلال * ذكرنا أن مذهبنا ثبوته بعدلين بلا خلاف وفى
ثبوته بعدل خلاف (الصحيح) ثبوته وسواء أصحت السماء أو غيمت وممن قال يثبت بشاهد
واحد عبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وآخرون وممن قال يشترط عدلان عطاء وعمر بن عبد العزيز
ومالك والأوزاعي والليث والماجشون وإسحق بن راهويه وداود وقال الثوري يشترط رجلان
أو رجل وامرأتان كذا حكاه عنه ابن المنذر * وقال أبو حنيفة إن كانت السماء مغيمة ثبت بشهادة
واحد ولا يثبت غير رمضان إلا باثنين قال وإن كانت مصحية لم يثبت رمضان بواحد ولا باثنين ولا يثبت
إلا بعدد الاستفاضة * واحتج لأبي حنيفة بأنه يبعد أن ينظر الجماعة الكبيرة إلى مطلع الهلال
وأبصارهم صحيحة ولا مانع من الرؤية ويراه واحد أو اثنان دونهم * واحتج من شرط اثنين بحديث
الحارث بن حاطب وهو صحيح وسبق بيانه * واحتج أصحابنا بحديث ابن عمر قال " تراءى الناس
الهلال فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنى رأيته فصام وأمر الناس بصيامه " وهو صحيح كما سبق
بيانه قريبا حيث ذكره المصنف وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال " جاء اعرابي إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال إني رأيت الهلال يعني رمضان فقال أتشهد أن لا إله إلا الله قال نعم قال أتشهد أن
محمدا رسول الله قال نعم قال يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا " رواه أبو داود وهذا لفظه
والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم أبو عبيد الله في المستدرك وغيرهم وقال الحاكم هو حديث
صحيح قال الترمذي وغيره وقد روى مرسلا عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر ابن عباس
وكذا رواه أبو داود من بعض طرقه مرسلا قال أبو داود والترمذي ورواه جماعة مرسلا وكذا ذكره
البيهقي من طرق موصولا ومن طرق مرسلا وطرق الاتصال صحيحة وقد سبق مرات أن المذهب الصحيح أن
الحديث إذا روى مرسلا ومتصلا احتج به لان مع من وصله زيادة وزيادة الثقة مقبولة وقد حكم الحاكم بصحته
كما سبق فهذان الحديثان هما العمدة في المسألة (وأما) حديث طاوس عن ابن عمر وابن عباس رضي
الله عنهم قالا " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد على هلال رمضان وكان لا يجيز
على شهادة الافطار الا شهادة رجلين " فرواه البيهقي وضعفه قال وهذا مما لا ينبغي أن يحتج به
282

قال وفى الحديثين السابقين كفاية ثم روى البيهقي باسناده ما رواه الشافعي في المسند وغيره باسناده
الصحيح إلى فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم " أن رجلا شهد عند علي رضي الله عنه على
رؤية هلال رمضان فصام وأحسبه قال وأمر الناس بالصيام وقال أصوم يوما من شعبان أحب إلى
من أن أفطر يوما من رمضان " (والجواب) عما احتج به أبو حنيفة من وجهين (أحدهما) أنه مخالف
للأحاديث الصحيحة فلا يعرج عليه (والثاني) أنه يجوز أن يراه بعضهم دون جمهورهم لحسن نظره
أو غير ذلك وليس هذا ممتنعا ولهذا لو شهد برؤيته اثنان أو واحد وحكم به حاكم لم ينقض بالاجماع
ووجب الصوم بالاجماع ولو كان مستحيلا لم ينفذ حكمه ووجب نقضه (والجواب) عما احتج به
الآخرون أن المراد بقوله ننسك هلال شوال جمعا بين الأحاديث أو محمول على الاستحباب والاحتياط
ولابد من أحد هذين التأويلين للجمع بين الأحاديث وحكي الماوردي عن بعض الشيعة انهم
أسقطوا حكم الأهلة واعتمدوا العدد للحديث السابق عن الصحيحين " شهرا عيد لا ينقصان "
وبالحديث المروى " صومكم يوم نحركم " ودليلنا عليهم الأحاديث المذكورة هنا مع الأحاديث السابقة
" صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " والأحاديث المشهورة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الشهر تسع
وعشرون " أي قد يكون تسعا وعشرين وفى روايات " الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار بأصابعه
العشر وحبس الابهام في الثالثة " رواه البخاري ومسلم وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا يعني مرة تسعة
وعشرين ومرة ثلاثين " رواه البخاري بلفظه ومسلم بمعناه وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال
" لما صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين " رواه أبو داود
والترمذي وعن عائشة رضي الله عنها قالت " ما صمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعا وعشرين
أكثر مما صمت معه ثلاثين " رواه الدارقطني وقال اسناده حسن صحيح وعن أبي هريرة مثله رواه
ابن ماجة (والجواب) " عن شهرا عيد لا ينقصان " أي لا ينقص أجرهما أو لا ينقصان في سنة
واحدة معا غالبا وقد سبق هذان التأويلان فيه مع غيرهما (والجواب) عن حديث " صومكم يوم
نحركم " انه ضعيف بل منكر باتفاق الحفاظ وإنما الحديث الصحيح في هذا حديث أبي هريرة
رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " الصوم يوم تصومون والفطر يوم تفطرون
والأضحى يوم تضحون " رواه الترمذي وقال حديث حسن ورواه أبو داود باسناد حسن ولفظه
283

" الفطر يوم تفطرون " وعن عائشة رضي الله عنها قالت " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
الفطر يوم يفطر الناس والأضحى يوم يضحى الناس " رواه الترمذي وقال هو حديث حسن
صحيح والله تعالى اعلم *
{فرع} قد ذكرنا ان الصحيح من مذهبنا انه لا تقبل شهادة النساء في هلال رمضان وحكاه
ابن المنذر عن الليث والماجشون المالكي ولم يحك عن أحد قبولها *
* قال المصنف رحمه الله *
{وإن اشتبهت الشهور على أسير لزمه ان يتحرى ويصوم كما يلزمه ان يتحرى في وقت
الصلاة وفى القبلة فان تحرى وصام فوافق الشهر أو ما بعده أجزأه فان وافق شهرا بالهلال ناقصا
وشهر رمضان الذي صامه الناس كان تاما ففيه وجهان (أحدهما) يجزئه وهو قول الشيخ أبي حامد
الأسفرايني رحمه الله تعالى لان الشهر يقع على ما بين الهلالين ولهذا لو نذر صوم شهر فصام شهرا
ناقصا بالأهلة أجزأه (والثاني) انه يجب عليه صوم يوم وهو اختيار شيخنا القاضي أبي الطيب وهو
الصحيح عندي لأنه فاته صوم ثلاثين وقد صام تسعة وعشرين يوما فلزمه صوم يوم وان وافق
صومه شهرا قبل رمضان قال الشافعي لا يجزئه ولو قال قائل يجزئه كان مذهبا قال أبو إسحاق المروزي
لا يجزئه قولا واحدا وقال سائر أصحابنا فيه قولان (أحدهما) يجزئه لأنه عبادة تفعل في السنة مرة فجاز
ان يسقط فرضها بالفعل قبل الوقت عند الخطأ كالوقوف بعرفة إذا أخطأ الناس ووقفوا قبل يوم
عرفة (والثاني) لا يجزئه وهو الصحيح لأنه تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء
فلم يعتد له بما فعله كما لو تحرى في وقت الصلاة قبل الوقت} *
{الشرح} قوله عبادة تفعل في السنة مرة احتراز من الخطأ في الصلاة قبل الوقت والاحتراز
في قوله تعين له يقين الخطأ فيما يأمن مثله في القضاء سبق بيانه في استقبال القبلة وهذا الذي قاسه
على الوقوف بعرفه قبل يوم عرفة تفريع على الضعيف من الوجهين وهو انه يجزئهم وبه قطع المصنف
والأصح انه لا يجزئهم كما سنوضحه في بابه إن شاء الله تعالى (أما) أحكام هذا الفصل فقال الشافعي
والأصحاب رحمهم الله تعالى: إذا اشتبه رمضان على أسير أو محبوس في مطمورة أو غيرهما وجب
عليه الاجتهاد لما ذكره المصنف فان صام بغير اجتهاد ووافق رمضان لم يجزئه بلا خلاف كما قلنا
فيمن اشتبهت عليه القبلة فصلي إلى جهة بغير اجتهاد ووافق أو اشتبه عليه وقت الصلاة فصلى بلا
284

اجتهاد ووافق فإنه لا يجزئه بلا خلاف ويلزمه الإعادة في الصوم وغيره بلا خلاف وإن اجتهد
وصام فله أربعة أحوال (أحدها) انه يستمر الاشكال ولا يعلم أنه صادف رمضان أو تقدم أو تأخر
فهذا يجزئه بلا خلاف ولا إعادة عليه وعلله الماوردي وغيره بأن الظاهر من الاجتهاد الإصابة (الحال
الثاني) ان يوافق صومه رمضان فيجزئه بلا خلاف عندنا قال الماوردي وبه قال العلماء كافة الا
الحسن بن صالح فقال عليه الإعادة لأنه صام شاكا في الشهر قال ودليلنا اجماع السلف قبله وقياسا
على من اجتهد في القبلة ووافقها وأما الشك فإنهما يضر إذا لم يعتضد باجتهاد بدليل القبلة (الحال الثالث)
ان يوافق صومه ما بعد رمضان فيجزئه بلا خلاف نص عليه الشافعي رضي الله عنه
واتفق عليه الأصحاب رحمهم الله تعالى لأنه صام بنية رمضان بعد وجوبه ولا يجئ
فيه الخلاف في اشتراط نية القضاء المذكور في الصلاة وفرق الأصحاب بأن هذا موضع
ضرورة ولكن هل يكون هذا الصوم قضاء أم أداء فيه وجهان مشهوران عند الخراسانيين وغيرهم
وحكاهما جماعة منهم قولين (أصحهما) قضاء لأنه خارج وقته وهذا شأن القضاء (والثاني) أداء للضرورة
قال أصحابنا ويتفرع على الوجهين ما إذا كان ذلك الشهر ناقصا وكان رمضان تاما وقد ذكر المصنف
فيه الوجهين قال أصحابنا: أن قلنا قضاء لزمه صوم يوم آخر وان قلنا أداء فلا يلزمه كما لو كان رمضان
ناقصا (والأصح) انه يلزمه وهذا هو مقتضى التفريع على القضاء والأداء وصرح بتصحيحه القاضي
أبو الطيب والمصنف والأكثرون وقطع به الماوردي ولو كان بالعكس فصام شهرا تاما وكان رمضان
ناقصا فان قلنا قضاء فله افطار اليوم الأخير وهو الأصح والا فلا ولو كان الشهر الذي صامه ورمضان
تامين أو ناقصين أجزأه بلا خلاف هذا كله إذا وافق غير شوال وذي الحجة فان وافق شوالا
حصل منه تسعة وعشرون يوما ان كمل وثمانية وعشرون يوما ان نقص لان صوم العيد لا يصح
فان جعلناه قضاء وكان رمضان ناقصا فلا شئ عليه ان تم شوال ويقضى يوما ان نقص بدل العيد
وإن كان رمضان تاما قضى يوما ان تم شوال والا فيومين وان جعلناه أداء لزمه قضاء يوم على كل تقدير
بدل يوم العيد وان وافق ذي الحجة حصل منه ستة وعشرون يوما ان تم وخمسة وعشرون يوما ان
نقص لان فيه أربعة أيام لا يصح صومها العيد وأيام التشريق فان جعلناه قضاء وكان رمضان ناقصا
285

قضي ثلاثة أيام ان تم ذو الحجة والا فأربعة أيام وإن كان رمضان تاما قضى أربعة ان تم ذو الحجة
والا فخمسة وان جعلناه أداء قضي أربعة أيام بكل حال هكذا ذكر الأصحاب وهو تفريع على
المذهب ان أيام التشريق لا يصح صومها فان صححناها لغير المتمتع فذو الحجة كشوال كما سبق
(الحال الرابع) ان يصادف صومه ما قبل رمضان فينظر ان أدرك رمضان بعد بيان الحال لزمه
صومه بلا خلاف لتمكنه منه في وقته (وان) لم يبن الحال الا بعد مضى رمضان فطريقان مشهوران ذكرهما
المصنف بدليلهما (أحدهما) القطع بوجوب القضاء (وأصحهما) وأشهرهما فيه قولان (أصحهما) وجوب
القضاء (والثاني) لا قضاء قال الخراسانيون هذا الخلاف مبنى على أنه إذا صادف ما بعد رمضان هل هو
أداء أم قضاء ان قلنا أداء للضرورة أجزأه هنا ولا قضاء لأنه كما جعل أداء بعد وقته للضرورة كذا
قبله وإن قلنا قضاء لم يجزئه لان القضاء لا يكون قبل دخول الوقت والصحيح أنه قضاء فالصحيح وجوب
القضاء هنا وهذا البناء إنما يصح على طريقة من جعل الخلاف في القضاء والأداء قولين (وأما)
من حكاه وجهين فلا يصح بناء قولين على وجهين ولو صام شهرا ثم بان له الحال في بعض رمضان
لزمه صيام ما أدركه من رمضان بلا خلاف وفى قضاء الماضي منه طريقان (أحدهما) القطع
بوجوبه (وأصحهما) وأشهرهما أنه على الطريقين فيما إذا بان له بعد مضي جميع رمضان والله
تعالى أعلم *
(فرع) إذا صام الأسير ونحوه بالاجتهاد فصادف صومه الليل دون النهار لزمه القضاء بلا
خلاف لأنه ليس وقتا للصوم فوجب القضاء كيوم العيد وممن نقل الاتفاق عليه البندنيجي *
{فرع} ذكر المصنف في قياسه انه لو تحرى في وقت الصلاة فصلي قبل الوقت انه يلزمه الإعادة
يعنى قولا واحدا ولا يكون فيه الخلاف الذي في الصوم إذا صادف ما قبل رمضان وهذا على طريقته
وطريقة من وافقه من العراقيين والا فالصحيح ان الخلاف جار في الصلاة أيضا وقد سبق بيانه
في باب مواقيت الصلاة وفى باب الشك في نجاسة الماء وذكرنا هناك أن منهم من طرد الخلاف في
المجتهد في الأواني إذا تيقن أنه توضأ بالماء النجس وصلى هل تلزمه إعادة الصلاة ويقرب منه الخلاف
في تيقن الخطأ في القبلة وفى الصلاة بنجاسة جاهلا أو ناسيا أو نسي الماء في رحله وتيمم أو نسي
ترتيب الوضوء أو نسي الفاتحة في الصلاة أو صلوا صلاة شدة الخوف لسواد رأوه فبان انه ليس
عدوا أو بان بينهم خندق أو دفع الزكاة إلى من ظاهره الفقر من سهم الفقراء فبان غنيا أو أحج
286

عن نفسه لكونه معضوبا فبرأ أو غلطوا ووفقوا بعرفات في اليوم الثامن وفى كل هذه الصور خلاف
بعضه كبعض وبعضه مرتب على بعض أو أقوى من بعض والصحيح في الجميع انه لا يجزئه
وكل هذه المسائل مقررة في مواضعها مبسوطة وقد سبقت مجموعة أيضا في باب طهارة البدن
والله تعالى اعلم *
{فرع} قد ذكرنا أن الأسير ونحوه إذا اشتبهت عليه الشهور يتحرى ويصوم بما يظهر
بالعلامة انه رمضان فلو تحرى فلم يظهر له شئ قال ابن الصباغ قال الشيخ أبو حامد يلزمه
أن يصوم على سبيل التخمين ويلزمه القضاء كالمصلي إذا لم تظهر له القبلة بالاجتهاد فإنه يصلي ويقضي
قال ابن الصباغ هذا عندي غير صحيح لان من لم يعلم دخول رمضان بيقين ولا ظن لا يلزمه
الصيام كمن شك في وقت الصلاة فإنه لا يلزمه أن يصلي هذا كلام ابن الصباغ وذكر المتولي في
المسألة وجهين (أحدهما) قول الشيخ أبي حامد (والثاني) قال وهو الصحيح لا يؤمر بالصوم لأنه لم يعلم
دخول الوقت ولا ظنه فلم يؤمر به كمن شك في دخول وقت الصلاة بخلاف القبلة فإنه تحقق دخول
وقت الصلاة وإنما عجز عن شرطها فأمر بالصلاة بحسب الامكان لحرمة الوقت وهذا الذي قاله
ابن الصباغ والمتولي هو الصواب وهو متعين ولعل الشيخ أبا حامد أراد إذا علم أو ظن أن
رمضان قد جاء أو مضى ولم يعلم ولا ظن عينه لكنه لو كان هذا لكان يصوم ولا يقضي لأنه
يقع صومه في رمضان أو بعده والله أعلم *
{فرع} لو شرع في الصوم بالاجتهاد فأفطر بالجماع في بعض الأيام فان تحقق انه صادف رمضان
لزمته الكفارة لأنه وطئ في نهار رمضان الثابت بنوع دلالة فأشبه من وطئ بعد حكم القاضي
بالشهر بقول عدل واحد وان صادف شهرا غيره فلا كفارة لان الكفارة لحرمة - رمضان ولم يصادف
رمضان وممن ذكر المسألة المتولي *
{فرع} في مذاهب العلماء في صيام الأسير بالاجتهاد * ذكرنا ان مذهبنا انه ان صادف صومه
رمضان أو ما بعده أجزأه وان صادف ما قبله لم يجزئه على الصحيح وبهذا كله قال مالك وأبو حنيفة
287

وأبو ثور وخالف الحسن بن صالح فقال لا يجزئه وان صادف رمضان وعليه القضاء وسبق
الاستدلال عليه ولو كان صام رمضان بنية التطوع لم يجزئه عن فرضه عندنا وعند الجمهور وقال
أبو حنيفة يجزئه *
{فرع} إذا لم يعرف الأسير ونحوه الليل ولا النهار بل استمرت عليه الظلمة دائما فهذه
مسألة مهمة قل من ذكرها وقد حكي الإمام أبو بكر المروزي من أصحابنا فيه ثلاثة أوجه للأصحاب
(أحدها) يصوم ويقضي لأنه عذر نادر (والثاني) لا يصوم لان الجزم بالنية لا يتحقق مع جهالة
الوقت (والثالث) يتحرى ويصوم ولا يقضى كيوم الغيم في الصلاة (قلت) الأصح انه يلزمه التحري
والصوم ولا قضاء عليه هذا إذا لم يظهر له فيما بعد الخطأ فان تبين انه صادف الليل لزمه القضاء بلا خلاف
والله تعالى اعلم * قال المصنف رحمه الله *
{ولا يصح صوم رمضان ولا غيره من الصيام الا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات
وإنما لكل امرئ ما نوى " ولأنه عبادة محضة فلم يصح من غير نية كالصلاة وتجب
النية لكل يوم لان صوم كل يوم عبادة منفردة يدخل وقتها بطلوع الفجر ويخرج وقتها
بغروب الشمس لا يفسد بفساد ما قبله ولا بفساد ما بعده فلم يكفه نية واحدة كالصلوات ولا يصح
صوم رمضان ولا غيره من الصوم الواجب بنية من النهار لما روت حفصة رضي الله عنها أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال " من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له " وهل تجوز نيته مع طلوع الفجر فيه
وجهان (من) أصحابنا من قال يجوز لأنه عبادة فجازت بنية تقارن ابتداءها كسائر العبادات (وقال)
أكثر أصحابنا لا يجوز إلا بنية من الليل لحديث حفصة رضي الله عنها ولان أول وقت الصوم يخفى
فوجب تقديم النية عليه بخلاف سائر العبادات فإذا قلنا بهذا فهل تجوز النية في جميع الليل فيه وجهان
(من) أصحابنا من قال لا تجوز إلا في النصف الثاني قياسا على أذان الصبح والدفع من المزدلفة (وقال)
أكثر أصحابنا يجوز في جميع الليل لحديث حفصة ولأنا لو أوجبنا النية في النصف الثاني ضاق على
الناس ذلك وشق وان نوى بالليل ثم أكل أو جامع لم تبطل نيته وحكي عن أبي إسحاق أنه قال تبطل
لان الاكل ينافي الصوم فأبطل النية والمذهب الأول وقيل إن أبا إسحاق رجع عن ذلك والدليل ان
الله تعالى أحل الاكل إلى طلوع الفجر فلو كان الاكل يبطل النية لما جاز أن يأكل إلى الفجر لأنه
يبطل النية} *
288

{الشرح} حديث " إنما الأعمال بالنيات " رواه البخاري ومسلم من رواية عمر ابن الخطاب
رضي الله عنه وسبق بيانه واضحا في باب نية الوضوء وحديث حفصة رضي الله عنها رواه أبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم بأسانيد كثيرة الاختلاف وروى مرفوعا كما ذكره
المصنف وموقوفا من رواية الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن أخته حفصة واسناده
صحيح في كثير من الطرق فيعتمد عليه ولا يضر كون بعض طرقه ضعيفا أو موقوفا فان الثقة
الواصل له مرفوعا معه زيادة علم فيجب قبولها كما سبق تقريره مرات وأكثر الحفاظ رواية لطرقه
المختلفة النسائي ثم البيهقي وذكره النسائي في طرق كثيرة موقوفا على حفصة وفى بعضها موقوفا عن
عبد الله بن عمر وفى بعضها عن عائشة وحفصة موقوفا عليهما وقال الترمذي لا نعرفه مرفوعا الا
من هذا الوجه وقد روى عن نافع عن ابن عمر قوله وهو أصح وقال البيهقي هذا حديث قد اختلف
على الزهري في اسناده وفى رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال وعبد الله بن أبي بكر أقام
اسناده ورفعه وهو من الثقات الاثبات وقال الدارقطني رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات
الرفعاء ورواه البيهقي من رواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من لم يبيت الصيام قبل
طلوع الفجر فلا صيام له " قال البيهقي قال الدارقطني اسناده كلهم ثقات (قلت) والحديث حسن
يحتج به اعتمادا على رواية الثقات الرافعين والزيادة من الثقة مقبولة والله تعالى أعلم * وفى بعض
الروايات " يبيت الصيام من الليل " وفي بعضها يجمع ويجمع بالتخفيف والتشديد وكله بمعني والله تعالى
أعلم (وأما) قول المصنف ولأنه عبادة محضة فاحتراز من العدة والكتابة وقضاء الدين
ونحوها (أما) أحكام الفصل ففيه مسائل (إحداها) قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى لا يصح
صوم رمضان ولا غيره من الصيام الواجب والمندوب الا بالنية وهذا لا خلاف فيه عندنا فلا يصح
صوم في حال من الأحوال الا بنية لما ذكره المصنف ومحل النية القلب ولا يشترط نطق اللسان بلا
خلاف ولا يكفي عن نية القلب بلا خلاف ولكن يستحب التلفظ مع القلب كما سبق في الوضوء
والصلاة (الثانية) تجب النية كل يوم سواء رمضان وغيره وهذا لا خلاف فيه عندنا فلو نوى في
أول ليلة من رمضان صوم الشهر كله لم تصح هذه النية لغير اليوم الأول لما ذكره المصنف وهل
تصح لليوم الأول فيه خلاف والمذهب صحتها له وبه قطع أبو الفضل بن عبدان وغيره وتردد فيه
الشيخ أبو محمد الجويني من حيث أن النية قد فسد بعضها (الثالثة) تبييت النية شرط في صوم
رمضان وغيره من الصوم الواجب فلا يصح صوم رمضان ولا القضاء ولا الكفارة ولا صوم
289

فدية الحج غيرها من الصوم الواجب بنية من النهار بلا خلاف وفى صوم النذر طريقان
(المذهب) وبه قطع الجمهور وهو المنصوص في المختصر لا يصح بنية من النهار (والثاني) فيه
وجهان بناء على أنه يسلك به في الصفات مسلك واجب الشرع أم جائزه ومندوبه (ان
قلنا) كواجب لم يصح بنية النهار والا فيصح كالنفل وممن حكى هذا الطريق المتولي
هنا والغزالي وجماعات من الخراسانيين في كتاب النذور والمذهب يفرق بين
هذه المسألة وباقي مسائل الخلاف في النذر هل يسلك به مسلك الواجب أم المندوب بأن الحديث
هنا عام في اشتراط تبييت النية للصوم خص منه النفل بدليل وبقي النذر على العموم والله أعلم * قال
أصحابنا فلو نوى قبيل غروب الشمس بلحظة أو عقب طلوع الفجر بلحظة لم يصح بلا خلاف ولو نوى
مع الفجر فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (الصحيح) عند المصنف وسائر المصنفين أنه
لا يجوز وهو قول أكثر أصحابنا المتقدمين كما ذكره المصنف وقطع به الماوردي والمحاملي في كتبه وآخرون
والمعتمد في دليله ما ذكره المصنف (وأما) ما ذكره صاحب الشامل حيث ذكر هذا ثم قال ولان من
أصحابنا من أوجب امساك جزء من الليل ليكمل له الصوم جميع النهار فوجب تقديم النية ليستوعبه
(فغلط) لأن الصوم لا يجب فيه امساك جزء من الليل لقوله تعالي (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم
الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) وإنما يجب امساك جزء من الليل بعد غروب الشمس
ليتحقق كمال النهار والله أعلم *
{فرع} لو نوى بعد الفجر وقبل الزوال في غير رمضان صوم قضاء أو نذر لم ينعقد
لما نواه وفى انعقاده نفلا وجهان حكاهما المتولي قال وهما مبنيان على القولين فيمن صلى الظهر
قبل الزوال *
{فرع} لا يصح صوم الصبي المميز في رمضان الا بنية من الليل ولهذا قلنا في المسألة الثالثة تبييت
النية شرط في صوم رمضان وغيره من الواجب وكذا قال المصنف لا يصح صوم رمضان ولا غيره
من الصيام الواجب إلا بنية من الليل وتقديره لا يصح صوم رمضان من أحد إلا بنية من الليل ولا
يصح الواجب إلا بنية من الليل (الرابعة) تصح النية في جميع الليل ما بين غروب الشمس وطلوع
الفجر قال المتولي وغيره فلو نوى الصوم في صلاة المغرب صحت نيته هذا هو المذهب وبه قطع جمهور
أصحابنا المتقدمين وجماعات من المصنفين وفيه وجه انه لا تصح النية إلا في النصف الثاني من الليل
290

حكاه المصنف والأصحاب ولم يبين الجمهور قائله وبينه السرخسي في الأمالي فقال هو أبو الطيب بن
سلمة واتفق أصحابنا على تغليطه فيه (واما) قول المصنف فإذا قلنا بهذا فهل تجوز النية في جميع الليل فيه
وجهان فعبارة مشكلة لأنها توهم اختصاص الخلاف بما إذا قلنا لا تجوز النية مع الفجر ولم يقل هذا أحد
من أصحابنا بل الخلاف المذكور في اشتراط النية في النصف الثاني جار سواء جوزنا النية مع الفجر
أم لا لان من جوزها مع الفجر لا يمنع صحتها قبله وهذا لا خلاف فيه فلابد من تأويل كلام المصنف
والله تعالى أعلم * (وأما) قياس ابن سلمة على اذان الصبح والدفع من المزدلفة فقياس عجيب وأي علة
تجمعهما ولو جمعتهما علة فالفرق ظاهر لان اختصاص الاذان والدفع بالنصف الثاني لا حرج فيه بخلاف
النية فقد يستغرق كثير من الناس النصف الثاني بالنوم فيؤدى إلى تفويت الصوم وهذا حرج شديد
لا أصل له والله تعالى اعلم * (الخامسة) إذا نوى بالليل الصوم ثم أكل أو شرب أو جامع أو أتى بغير
ذلك من منافيات الصوم لم تبطل نيته وهكذا لو نوى ونام ثم انتبه قبل الفجر لم تبطل نيته ولا يلزمه
تجديدها هذا هو الصواب الذي نص عليه الشافعي وقطع به جمهور الأصحاب إلا ما حكاه المصنف
وكثيرون بل الأكثرون عن ابن إسحاق المروزي أنه قال تبطل نيته بالاكل والجماع وغيرهما من
المنافيات ويجب تجديدها فإن لم يجددها في الليل لم يصح صومه قال وكذا لو نوى ونام ثم انتبه
قبل الفجر لزمه تجديدها فإن لم يجددها لم يصح صومه ولو استمر نومه إلى الفجر لم يضره وصح
صومه وهذا المحكى عن أبي إسحاق غلط باتفاق الأصحاب لما ذكره المصنف قال المصنف وآخرون
وقيل أن أبا إسحاق رجع عنه وقال ابن الصباغ وآخرون هذا النقل لا يصح عن أبي إسحاق وقال
إمام الحرمين رجع أبو إسحاق عن هذا عام حج وأشهد على نفسه وقال القاضي أبو الطيب في المجرد هذا الذي قاله
أبو إسحاق غلط قال وحكى أن أبا سعيد الإصطخري لما بلغه قول أبي إسحاق هذا قال هذا خلاف اجماع المسلمين
قال ويستتاب أبو إسحاق هذا وقال الدارمي حكى ابن القطان عن أبي بكر الحزني أنه حكى للإصطخري قول أبي إسحاق
هذا فقال خرق الاجماع حكاه الحزني لأبي إسحاق بحضرة ابن القطان فلم يتكلم أبو إسحاق قال فلعله
رجع فحصل أن الصواب أن النية لا تبطل بشئ من هذا قال امام الحرمين وفى كلام العراقيين
تردد في أن الغفلة هل تنزل منزلة النوم يعني أنه إذا تذكر بعدها يجب تجديد النية على الوجه
المنسوب إلى أبى اسحق قال والمذهب اطراح كل هذا والله أعلم *
291

* قال المصنف رحمه الله *
{وأما صوم التطوع فإنه يجوز بنية قبل الزوال وقال المزني لا يجوز الا بنية من الليل كالفرض
والدليل على جوازه ماروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " أصبح اليوم
عندكم شئ تطعمون فقالت لا فقال إني إذا صائم " ويخالف الفرض لان النفل أخف من الفرض
والدليل عليه انه يجوز ترك الصيام واستقبال القبلة في النفل مع القدرة ولا يجوز في الفرض وهل يجوز
بنية بعد الزوال فيه قولان (روى) حرملة انه يجوز لأنه جزء من النهار فجازت نية النفل فيه كالنصف
لأول (وقال) في القديم والجديد لا يجوز لأن النية لم تصحب معظم العبادة فأشبه إذا نوى مع غروب
الشمس ويخالف النصف الأول فان النية هناك صحبت معظم العبادة ومعظم الشئ يجوز أن يقوم
مقام كل الشئ ولهذا لو أدرك معظم الركعة مع الامام جعل مدركا للركعة ولو أدرك دون المعظم لم
يجعل مدركا لها فان صام المتطوع بنية من النهار فهل يكون صائما من أول النهار أم من وقت النية فيه
وجهان (قال) أبو إسحاق يكون صائما من وقت النية لان ما قبل النية لم يوجد فيه قصد القربة فلم يجعل
صائما فيه (وقال) أكثر أصحابنا انه صائم من أول النهار لأنه لو كان صائما من وقت النية لم
يضره الاكل قبلها} *
{الشرح} حديث عائشة رضي الله عنها صحيح رواه مسلم ولفظه قالت " قال لي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ذات يوم يا عائشة هل عندكم شئ فقلت يا رسول الله ما عندنا شئ قال فانى
صائم " هذا لفظ مسلم وفى رواية النسائي قال صلى الله عليه وسلم إذا أصوم (وقوله) صلى الله عليه وسلم " إذا أصوم " معناه ابتدئ نية
الصيام هذا مقتضاه وسأذكر باقي الأحاديث الواردة بمعناه في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى
(اما) الأحكام فقال الشافعي والأصحاب يصح صوم النفل بنية من النهار قبل الزوال وشذ عن
الأصحاب المزني وأبو يحيى البلخي فقالا لا يصح الا بنية من الليل وهذا شاذ ضعيف ودليل المذهب
والوجه في الكتاب وهل تصح بنية بعد الزوال فيه قولان (أصحهما) باتفاق الأصحاب وهو نصه
في معظم كتبه الجديدة وفى القديم لا يصح ونص في كتابين من الجديد على صحته نص عليه في حرمله
وفى كتاب اختلاف على وابن مسعود رضي الله عنهما وهو من جملة كتب الام قال أصحابنا وعلى
هذا يصح في جميع ساعات النهار وفى آخر ساعة لكن يشترط ان لا يتصل غروب الشمس بالنية
بل يبقى بينهما زمن ولو أدنى لحظة صرح به البندنيجي وغيره ثم إذا نوى قبل الزوال أو بعده
292

وصححناه فهل هو صائم من وقت النية فقط ولا يحسب له ثواب ما قبله أم من طلوع الفجر ويثاب
من طلوع الفجر فيه وجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما (أصحهما) عند الأصحاب من طلوع الفجر
ونقله المصنف والجمهور عن أكثر أصحابنا المتقدمين قال الماوردي والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد
والمتولي الوجه القائل يثاب من حين النية هو قول أبى اسحق المروزي واتفقوا على تضعيفه قال الماوردي
والقاضي أبو الطيب في المجرد هو غلط لأن الصوم لا يتبعض قالوا وقوله لأنه لم يقصد العبادة قبل النية
لا اثر له فقد يدرك بعض العبادة ويثاب كالمسبوق يدرك الامام راكعا فيحصل له ثواب جميع
الركعة باتفاق الأصحاب وبهذا ردوا على أبى اسحق والله أعلم * وقد سبق في باب نية الوضوء الفرق بين هذه
المسألة ومن نوى الوضوء عند غسل الوجه ولم ينو قبله فإنه لا يثاب على المضمضة والاستنشاق وغسل
الكفين لان الوضوء ينفصل بعضه عن بعض ولو حذفت هذه المذكورات منه صح بخلاف الصوم والله أعلم
قال أصحابنا (فان قلنا) يثاب من طلوع الفجر اشترطت جميع شروط الصوم من أول النهار فإن كان
أكل أو جامع أو فعل غير ذلك من المنافيات لم يصح صومه (وان قلنا) يثاب من أول النية
ففي اشتراط خلو أول النهار عن الاكل والجماع وغيرها وجهان مشهوران في الطريقتين (أصحهما)
الاشتراط وبه قطع المصنف وآخرون وهو المنصوص (والثاني) لا يشترط فلو كان أكل أو جامع أو
فعل غير ذلك من المنافيات ثم نوى صح صومه ويثاب من حين النية وهذا الوجه محكى عن أبي
العباس بن سريج ومحمد بن جرير الطبري والشيخ أبى زيد المروزي وحكاه أبو علي الطبري في
الافصاح والقاضي أبو الطيب في المجرد وجها مخرجا قالا والمخرج له هو محمد بن جرير الطبري
وحكاه المتولي عن جماعة من الصحابة أبي طلحة وأبى أيوب وأبي الدرداء وأبي هريرة رضي الله
عنهم وما أظنه صحيحا عنهم (فان قلنا) بالذهب ان الامساك من أول النهار شرط فلو كان أول النهار
كافرا أو مجنونا أو حائضا ثم زال ذلك في أثناء النهار ونوى صوم التطوع ففي صحته وجهان
مشهوران في كتب الخراسانيين (أصحهما) لا يصح صومه لأنه لم يكن أهلا للصوم والله تعالى اعلم
قال الشيخ أبو محمد الجويني: في السلسلة الوجهان في وقت ثواب الصائم هنا مبنيان على القولين فيمن نذر
صوم يوم قدوم زيد فقدم ضحوة وهو صائم هل يجزئه عن نذره ان قلنا يجزئه حصل له الثواب
هنا من طلوع الفجر والا فمن وقت النية والله تعالى اعلم * قال المصنف رحمه الله تعالى *
293

{ولا يصح صوم رمضان الا بتعيين النية وهو ان ينوى انه صائم من رمضان لأنه قربة
مضافة إلى وقتها فوجب تعيين الوقت في نيتها كصلاة الظهر والعصر وهل يفتقر إلى نية الفرض
فيه وجهان (قال) أبو إسحاق يلزمه ان ينوى صوم فرض رمضان لان صوم رمضان قد يكون نفلا
في حق الصبي فافتقر إلى إلى نية الفرض ليتميز عن صوم الصبي (وقال) أبو علي بن أبي هريرة
لا يفتقر إلى ذلك لان رمضان في حق البالغ لا يكون الا فرضا فلا يفتقر إلى تعيين الفرض فان نوى
في ليلة الثلاثين من شعبان فقال إن كان غدا من رمضان فانا صائم عن رمضان أو عن تطوع
فكان من رمضان لم يصح لعلتين (إحداهما) انه لم يخلص النية لرمضان (والثانية) ان الأصل انه
من شعبان فلا تصح نية رمضان ولو قال إن كان غدا من رمضان فانا صائم عن رمضان وان لم
يكن من رمضان فانا صائم عن تطوع لم يصح لعلة واحدة وهو أن الأصل أنه من شعبان فلا تصح نية
الفرض فان قال ليلة الثلاثين من رمضان إن كان غدا من رمضان فانا صائم عن رمضان أو مفطر
فكان من رمضان لم يصح صومه لأنه يخلص النية للصوم وان قال إن كان غدا من رمضان فانا
صائم عن رمضان وان لم يكن من رمضان فانا مفطر فكان من رمضان صح صومه لأنه أخلص
النية للفرض وبني على أصل لان الأصل انه من رمضان} *
{الشرح} قوله قربة مضافة إلى وقتها احتراز من الكفارة فإنه لا يشترط فيها تعيينها عن قتل أو ظهار أو
غيرهما (أما) الأحكام ففيه مسائل (إحداها) قال الشافعي والأصحاب لا يصح صوم رمضان ولا قضاء ولا
كفارة ولا نذر ولا فدية حج ولا غير ذلك من الصيام الواجب إلا بتعيين النية لقوله صلى الله عليه وسلم " وإنما لكل
امرئ ما نوى " فهذا ظاهر في اشتراط التعيين لان أصل النية فهم اشتراطه من أول الحديث " إنما الأعمال بالنيات
" واستدل الأصحاب بالقياس الذي ذكره المصنف وهذا الذي ذكرناه من اشتراط تعيين النية هو
المذهب والمنصوص وبه قطع الأصحاب في جميع الطرق الا المتولي فحكى عن أبي عبد الله الحليمي
من أصحابنا وجها ان صوم رمضان يصح بنية مطلقة وهذا الوجه شاذ مردود (الثانية) صفة النية
الكاملة المجزئة بلا خلاف أن يقصد بقلبه صوم غد عن أداء فرض رمضان هذه السنة لله تعالي فأما
الصوم فلا بد منه وكذا رمضان لا بد من تعيينه إلا وجه الحليمي السابق في المسألة قبلها (وأما) الأداء
والفرضية ففيهما الخلاف السابق في الصلاة وقد سبق موضحا بدليله لكن الأصح هنا وهناك
ان الأداء لا يشترط (وأما) الفرضية فاختلفوا في الأصح هناك وهنا فالأصح عند الأكثرين هناك
294

الاشتراط والأصح هنا أيضا عند البغوي الاشتراط والأصح هنا عند البندنيجي وصاحب الشامل
والأكثرين عدم الاشتراط والفرق أن صوم رمضان من البالغ لا يكون الا فرضا وصلاة الظهر من
البالغ قد تكون نفلا في حق من صلاها ثانيا في جماعة وهذا هو الأصح (وأما) الإضافة إلى الله تعالى
فقد سبق في باب نية الوضوء ان فيها وجهين في جميع العبادات ذكرهما الخراسانيون (أصحهما)
لا تجب وبه قطع العراقيون (وأما) لتقييد بهذه السنة فليس بشرط على المذهب وهو المنصوص
وبه قطع المصنف وسائر العراقيين وآخرون من غيرهم وحكى امام الحرمين وآخرون من الخراسانيين
وجها في اشتراطه وغلطوا قائله وحكي البغوي وجها في اشتراط فرض هذا الشهر وهو بمعني فرض
هذا السنة وهو أيضا غلط والله تعالى أعلم *
{فرع} قال أصحابنا الخراسانيون وغيرهم إذا نوى يوما وأخطأ في وصفه لا يضره (مثاله) نوى
ليلة الثلاثاء صوم الغد وهو يعتقده يوم الاثنين أو نوى صوم غد من رمضان هذه السنة وهو يعتقدها
سنة ثلاث فكانت سنة أربع صح صومه بخلاف ما لو نوى ليلة الاثنين صوم يوم الثلاثاء أو نوى
وهو في سنة أربع صوم رمضان سنة ثلاث فإنه لا يصح بلا خلاف لأنه لم يعين الوقت وممن ذكر
هذا الفرع كما ذكرته من العراقيين القاضي أبو الطيب في المجرد والدارمي لكن قال الدارمي لو نوى
صوم غد يوم الأحد وهو غيره فوجهان وذكر صاحب الشامل ما قدمناه عن القاضي أبي الطيب
وغيره ثم قال وعندي انه يجزئه في جميع هذه الصور ولا فرق بينها *
{فرع} قال الرافعي اشتراط الغد في كلام الأصحاب في تفسير التعيين قال وهو في الحقيقة
ليس من حد التعيين وإنما وقع ذلك من نظرهم إلى التبييت *
{فرع} حكم التعيين في صوم القضاء والكفارة كما ذكرنا في صوم رمضان ولا يشترط تعيين
سبب الكفارة لكن لو عين وأخطأ لم يجزئه وسيأتي في الكفارات إن شاء الله تعالى ايضاحه
وسبقت الإشارة إلى شئ منه في باب صفة الأئمة (وأما) صوم التطوع فيصح بنية مطلق الصوم كما
في الصلاة هكذا أطلقه الأصحاب وينبغي أن يشترط التعيين في الصوم المرتب كصوم عرفة وعاشوراء
وأيام البيض وستة من شوال ونحوها كما يشترط ذلك في الرواتب من نوافل الصلاة (الثالثة) قال
أصحبنا ينبغي أن تكون النية جازمة فلو نوى ليلة الثلاثين من شعبان صوم غدا إن كان من رمضان
فله حالان (أحدهما) أن لا يعتقد كونه من رمضان فان ردد نيته فقال أصوم غدا من رمضان إن كان
295

منه والا فأنا مفطر أو متطوع لم يجزئه عن رمضان إذا بان منه لأنه صام شاكا ولم يكن على أصل
يستصحبه ولا ظن يعتمده وقال المزني يجزئه عن رمضان ولو قال أصوم غدا عن رمضان أو تطوعا
لم يجزئه بلا خلاف ولو لم يردد نيته بل جزم بالصوم عن رمضان لم يصح وان صادف رمضان لما
ذكره المصنف من أن الأصل عدم رمضان ولأنه إذا لم يعتقده من رمضان لم يتأت منه الجزم به وإنما
يحصل حديث نفس لا اعتبار به وحكى امام الحرمين وغيره وجها عن صاحب التقريب انه يجزئه
عن رمضان والصواب الأول وبه قطع الجمهور (اما) إذا كان في آخر رمضان فقال ليلة الثلاثين
منه أصوم غدا إن كان من رمضان أو أتطوع أو قال أصوم أو أفطر وصادف رمضان فلا يجزئه لأنه
لم يجزم وان قال أصوم غدا عن رمضان إن كان منه والا فأنا مفطر فكان منه أجزأه
لان الأصل بقاء رمضان فأجزأه استصحابا للأصل (الحال الثاني) أن يعتد كونه من
رمضان فإن لم يستند اعتقاده إلى ما يثير ظنا فلا اعتبار به وحكمه ما سبق في الحال الأول وإن
استند إليه فقد قال الشافعي رضي الله عنه في المختصر لو عقد رجل على أن غدا من رمضان
في يوم الشك ثم بان أنه من رمضان أجزأه هذا نصه قال أصحابنا ان استند إلى ما يحصل ظنا بان
اعتمد قول من يثق به من حر أو عبد أو امرأة أو صبيان ذوي رشد ونوى صوم رمضان فبان منه
أجزأه بلا خلاف هكذا نقله الرافعي عن الأصحاب وصرح به البغوي والمتولي ولكن لم يذكر
الصبيان وصرح به كله آخرون منهم إمام الحرمين في النهاية فصرح بالصبيان ذوي الرشد قال
الجرجاني في التحرير لو نوى الصوم برؤية من تسكن نفسه إليه من امرأة أو عبد أو فاسق أو مراهق
وكان من رمضان أجزأه ولم يذكر فيه خلافا وممن صرح باعتماد الصبي المراهق وصحة الصوم بناء
على قوله المحاملي في المجموع فان قال في نيته والحالة هذه أصوم عن رمضان فإن لم يكن منه فهو تطوع
قال امام الحرمين وغيره فظاهر النص أنه لا يصح وان بان أنه من رمضان لأنه متردد قال الامام
وذكر طوائف من الأصحاب وجها آخر انه يصح لاستناده إلى أصل قال الامام وهذا موافق لمذهب
المزني ورأي الامام طرد الخلاف وان جزم قال لأنه لا يتصور الجزم والحالة هذه لأنه لا موجب له
وإنما الحاصل له حديث نفس وان سماه جزما قالوا ويدخل في قسم استناد الاعتقاد إلى ما يثير ظنا
الصوم مستندا إلى دلالة الحساب بمنازل القمر حيث جوزناه كما سبق قال أصحابنا ومن ذلك إذا
حكم الحاكم بثبوت رمضان بعدلين أو بعدل إذا جوزناه فيجب الصوم ويجزئ إذا بان من رمضان
بلا خلاف ولا يضر ما قد يبقي من الارتياب في بعض الأوقات لحصول الاستناد إلى ظن معتمد قال
296

أصحابنا ومن ذلك الأسير والمحبوس في مطمورة إذا اشتبهت عليه الشهور وقد سبق بيانه مبسوطا
والله تعالى أعلم * ولو قال ليلة الثلاثين من شعبان أصوم غدا نفلا إن كان من شعبان والا فمن رمضان
ولم يكن امارة ولا غيرها فصادف شعبان صح صومه نفلا لان الأصل بقاء شعبان صرح به المتولي
وغيره وان صادف رمضان فقد ذكرنا انه لا يصح فرضا ولا نفلا والله تعالى أعلم * ولو كان عليه قضاء
فقال أصوم غدا عن القضاء أو تطوعا لم يجزئه غن القضاء بلا خلاف لأنه لم يجزم به ويصح
نفلا إذا كان في غير رمضان * هذا مذهبنا وبه قال محمد بن الحسن وقال أبو يوسف يقع عن القضاء
والله تعالى اعلم *
{ومن دخل في الصوم ونوى الخروج منه بطل صومه لأن النية شرط في جميعه فإذا قطعها في
أثنائه بقي الباقي بغير نية فبطل وإذا بطل البعض بطل الجميع لأنه لا ينفرد بعضه عن بعض
ومن أصحابنا من قال لا يبطل لأنه عبادة تتعلق الكفارة بجنسها فلم تبطل بنية الخروج كالحج
والأول أظهر لان الحج لا يخرج منه بما يفسده والصوم يخرج منه بما يفسده فكان كالصلاة} *
{الشرح} قوله تتعلق الكفارة بجنسها احتراز من الصلاة (وقوله) يخرج من الصوم
بما يفسده ولا يخرج من الحج بما يفسده معناه أنه إذا أبطل الصوم بالاكل أو غيره صار خارجا
منه فلو جامع بعده في هذا اليوم لا كفارة عليه وإن كان آثما بهذا الجماع لأنه كان يجب عليه إمساك
بقية النهار ولكن وجوب الامساك لحرمة اليوم والكفارة إنما تجب على من أفسد
الصوم بالجماع وهذا لم يفسد بجماعه صوما (واما) الحج فإذا أفسده بالجماع لم يخرج منه بالافساد
بل حكم احرامه باق وإن كان عليه القضاء فلو قتل بعد صيد أو تطيب أو لبس أو فعل غير ذلك من
محظورات الاحرام لزمته الفدية لكونه لم يخرج منه بل هو محرم كما كان فهذا مراد المصنف بالفرق
بينهما وهما مفترقان في الخروج وعدمه متفقان في وجوب المضي في فاسدهما (واما) حكم المسألة
فإذا دخل في صوم ثم نوى قطعه فهل يبطل فيه وجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما (أصحهما)
عند المصنف والغوى وآخرين بطلانه (وأصحهما) عند الأكثرين لا يبطل وقد سبق بيانه في أوائل
باب صفة الصلاة وذكرنا هناك ما يبطل بنية الخروج ومالا يبطل وما اختلفوا فيه وسبق أيضا في باب
نية الوضوء * هذا إذا جزم بنية الخروج في الحال فلو تردد في الخروج منه أو علق الخروج على دخول
زيد مثلا فالمذهب وبه قطع الأكثرون لا يبطل وجها واحدا (والثاني) على الوجهين فيمن جزم بالخروج
فان قلنا في التعليق انه لا يبطل فدخل زيد في أثناء النهار هل يبطل فيه وجهان (الصحيح) لا يبطل
297

حكاهما جماعة منهم البغوي في باب صفة الصلاة وجزم الماوردي بأنه لو نوي انه سيفطر بعد ساعة
لم يبطل صومه * ومتى نوى الخروج من الصوم بأكل أو جماع ونحوهما وقلنا إنه يبطل فالمشهور
بطلانه في الحال وحكى الماوردي وجهين (أحدهما) هذا (والثاني) لا يبطل حتى يمضي زمان امكان الاكل
والجماع وهذا غريب ضعيف والله أعلم * ولو كان صائما عن نذر فنوى قلبه إلى كفارة أو عكسه قال
امام الحرمين والمتولي والأصحاب لا يحصل له الذي انتقل إليه بلا خلاف وأما الذي كان فيه (فان
قلنا) ان نية الخروج لا تبطله بقي على ما كان ولا أثر لما جرى (وان قلنا) تبطله فهل يبطل أم ينقلب نفلا
فيه خلاف كما سبق في نظائره فيمن نوى قلب صلاة الظهر عصرا وشبهه وقد سبق ايضاح هذا
وأشباهه في أول صفة الصلاة قال المتولي وغيره وهذا الوجه في انقلابه نفلا هو فيما إذا كان في غير
رمضان والا فرمضان لا يقع فيه نفل أصلا كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعلي والله أعلم *
{فرع} في مسائل تتعلق بنية الصوم (إحداها) إذا نوت الحائض صوم الغد قبل انقطاع دم
حيضها ثم انقطع في الليل قال المتولي والبغوي وآخرون من أصحابنا إن كانت مبتدأة يتم لها في الليل
أكثر الحيض أو معتادة عادتها أكثر الحيض وهي تتم في الليل صح صومها بلا خلاف لأنا نقطع بأن
نهارها كله طهر وإن كانت عادتها دون أكثره ويتم بالليل فوجهان (أصحهما) تصح نيتها وصومها لأن الظاهر
استمرار عادتها فقد بنت نيتها على أصل وان لم يكن لها عادة أو كانت ولا يتم أكثر الحيض في الليل
أو كانت لها عادات مختلفة لم يصح لأنها لم تجزم ولا بنت على أصل ولا امارة * (الثانية) قال المتولي لو تسحر
ليقوى على الصوم أو عزم في أول الليل أن يتسحر في آخره ليقوى على الصوم لم يكن هذا نية لأنه
لم يوجد قصد الشروع في العبادة وقال الرافعي قال القاضي أبو المكارم في العدة لو قال في الليل
أتسحر لأقوى على الصوم لم يكف هذا في النية قال ونقل بعضهم عن نوادر الأحكام لأبي العباس
الروياني انه لو قال أتسحر للصوم أو أشرب لدفع العطش نهارا أو امتنع من الأكل والشرب
والجماع مخافة الفجر كان ذلك نية للصوم قال الرافعي وهذا هو الحق ان خطر بباله الصوم بالصفات
المعتبرة لأنه إذا تسحر ليصوم صوم كذا فقد قصده * (الثالثة) لو عقب النية بقوله إن شاء الله
بقلبه أو بلسانه فان قصد التبرك أو وقوع الصوم وبقاء الحياة إلى تمامه بمشيئة الله تعالى لم يضره
وان قصد تعليقه والشك لم يصح صومه هذا هو المذهب وبه قطع المحققون منهم المتولي والرافعي
وقال الماوردي ان قال أصوم غدا ان شاء زيد لم يصح صومه وان شاء زيد لأنه لم يجزم
النية وان قال إن شاء الله تعالى فوجهان (الصحيح) لا يصح صومه كقوله
ان شاء زيد لأنه استثناء وشأنه ان يوقع ما نطق به (والثاني) يصح صومه هذا كلام الماوردي وجمع
298

صاحب البيان كلام الأصحاب في المسألة فقال لو قال أصوم غدا إن شاء الله تعالى فثلاثة أوجه (أحدها)
وهو قول القاضي أبي الطيب يصح لأن الأمور بمشيئة الله تعالى (والثاني) لا يصح وهو قول الصيمري
لان الاستثناء يبطل حكم ما اتصل به (والثالث) وهو قول ابن الصباغ ان قصد الشك في فعله لم
يصح وان قصد ان ذلك موقوف على مشيئة الله وتوفيقه وتمكينه صح وهذا هو الصحيح وهو
التفصيل السابق * (الرابعة) إذا نسي نية الصوم في رمضان حتى طلع الفجر لم يصح صومه بلا خلاف
عندنا لان شرط النية الليل ويلزمه امساك النهار ويجب قضاؤه لأنه لم يصمه ويستحب أن ينوى في
أول نهاره الصوم عن رمضان لان ذلك يجزئ عند أبي حنيفة فيحتاط بالنية (الخامسة) *
إذا نوى وشك هل كانت نيته قبل الفجر أو بعده فقد قطع الصيمري وصاحبه
الماوردي وصاحب البيان بأنه لا يصح صومه لان الأصل عدم النية ويحتمل أن يجئ فيه وجه
لان الأصل بقاء الليل كمن شك هل أدرك ركوع الامام أم لا فان في حصول الركعة له خلافا
سبق في موضعه الأصح انها لا تحصل * ولو نوى ثم شك هل طلع الفجر أم لا أجزأه وصح صومه بلا
خلاف صرح به صاحب البيان قال هو والصميري ولو أصبح شاكا في أنه نوي أم لا لم يصح صومه
(السادسة) قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى يتعين رمضان لصوم رمضان فلا يصح فيه غيره فلو نوى
فيه الحاضر أو المسافر أو المريض صوم كفارة أو نذر أو قضاء أو تطوع أو أطلق نية الصوم لم
تصح نيته ولا يصح صومه لا عما نواه ولا عن رمضان هكذا نص عليه وقطع به الأصحاب في
الطرق الا امام الحرمين فقال لو أصبح في يوم من رمضان غير ناو فنوى التطوع قبل الزوال
قال الجماهير لا يصح وقال أبو إسحاق المروزي يصح قال الامام فعلى قياسه يجوز للمسافر التطوع
به والمذهب ما سبق * واحتج له المتولي أن التشبه بالصائمين واجب عليه فلا ينعقد جنس تلك العبادة
مع قيام فرض التشبه كما لو أفسد الحج ثم أراد ان يحرم احراما آخر صحيحا لم ينعقد لأنه يلزمه المضي
في فاسده والله أعلم * (السابعة) قال المتولي في آخر المسألة السادسة من مسائل النية لو نوى في الليل
ثم قطع النية قبل الفجر سقط حكمها لان ترك النية ضد للنية بخلاف ما لو أكل في الليل بعد النية
لا تبطل لان الاكل ليس ضدها (الثامنة) قال المتولي لو نوى صوم القضاء والكفارة بعد الفجر
فإن كان في رمضان لم ينعقد له صوم أصلا لان رمضان لا يقبل غيره كما سبق ولم ينو رمضان من
الليل وإن كان في غير رمضان لم ينعقد القضاء والكفارة لان شرطهما نية الليل وهل ينعقد نفلا
فيه وجهان بناء على القولين فيمن نوى الظهر قبل الزوال وقد سبقت المسألة مع نظائرها في أول
صفة الصلاة (التاسعة) قال الصيمري وصاحب البيان حكاية عنه لو علم أن عليه صوما واجبا لا يدرى
299

هل هو من رمضان أو نذر أو كفارة فنوى صوما واجبا أجزأه كمن نسي صلاة من الخمس لا يعرف
عينها فإنه يصلي الخمس ويجزئه عما عليه ويعذر في عدم جزم النية للضرورة (العاشرة) قال الصيمري
وصاحب البيان حكاية عنه لو قال أصوم غدا ان شاء زيد أو ان نشطت لم تصح لعدم الجزم
وان قال ما كنت صحيحا مقيما أجزأه لأنه يجوز له الفطر لو مرض أو سافر قبل الفجر (الحادية
عشر) لو شك في نهار رمضان هل نوى من الليل ثم تذكر بعد مضي أكثر النهار أنه نوي صح
صومه بلا خلاف صرح به القاضي حسين في الفتاوى والبغوي وآخرون وقاسه البغوي على ما لو
شك المصلي في النية ثم تذكرها قبل احداث ركن (الثانية عشرة) إذا كان عليه قضاء اليوم الأول
من رمضان فصام ونوى قضاء اليوم الثاني ففي أجزائه وجهان مشهوران حكاهما البغوي
وآخرون جزم المتولي بأنه لا يجزئ قال وكذا لو كان عليه قضاء يوم من رمضان سنة فنوى
قضاءه من صوم أخرى غلطا لا يجزئه كما لو كان عليه كفارة قتل فاعتق بنية كفارة ظهار
لا يجزئه وإن كان لو أطلق النية عن واجبه في الموضعين أجزأه وقد ذكر المصنف هذه
المسألة في آخر هذا الباب لكنه ذكر الوجهين احتمالين له فكأنه لم ير النقل فيها *
(الثالثة عشرة) في مسائل جمعها الدارمي هنا مما يتعلق بالنية على شك وذكر المسائل السابقة قريبا
إذا نوى يوم الثلاثين من شعبان أو الثلاثين من رمضان صوم الغد فحكمه ما سبق قال ولو كان متطهرا وشك
في الحدث فتوضأ وقال إن كنت محدثا فهذا لرفعه وإلا فتبرد لم يجزئه ولو تيقن الحدث وشك في
الطهارة فقال ذلك أجزأه عملا بالأصل في المسألتين ولو شك في دخول وقت صلاة فنوى إن كانت
دخلت فعنها وإلا فنافلة لم يجزئه وإن كان عليه صلاة وشك في أدائها فقال أصلي عنها إن كانت وإلا فنافلة
فكانت أجزأه ولو قال نويتها إن كانت أو نافلة لم يجزئه إن كانت كما سبق نظيره في الصوم ولو اخرج
دارهم ونوى هذه زكاة مالي ان كنت كسبت نصابا أو نافلة أو قال والا فهي نافلة لم يجزئه في الحالين
لان الأصل عدم الكسب ولو أحرم في يوم الثلاثين من رمضان وهو شاك فقال إن كان من
رمضان فاحرامي بعمرة وإن كان من شوال فهو حج فكان من شوال كان حجا صحيحا
ولو أحرم بالصلاة في آخر وقت الجمعة فقال إن كان وقت الجمعة باقيا فجمعة والا فظهر فبان بقاؤه
ففي صحة الجمعة وجهان والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في نية الصوم * مذهبنا أنه لا يصح صوم الا بنية سواء الصوم الواجب
من رمضان وغيره والتطوع وبه قال العلماء كافة الا عطاء ومجاهد وزفر فإنهم قالوا إن كان الصوم
متعينا بأن يكون صحيحا مقما في شهر رمضان فلا يفتقر إلى نية قال الماوردي فأما صوم النذر
300

والكفارة فيشترط له النية باجماع المسلمين * واحتج لعطاء وموافقيه بأن رمضان مستحق الصوم يمنع
غيره من الوقوع فيه فلم يفتقر إلى نية * واحتج أصحابنا بحديث " إنما الأعمال بالنيات " وبحديث حفصة
السابق وقياسا على الصلاة والحج ولأن الصوم هو الامساك لغة وشرعا ولا يتميز الشرعي عن اللغوي الا
بالنية فوجبت للتمييز (والجواب) عما ذكروه انه منتقض بالصلاة إذا لم يبق من وقتها الا قدر الفرض
فان هذا الزمان مستحق لفعلها ويمنع من ايقاع غيرها فيه وتجب فيها النية بالاجماع وقد يجيبون عن
هذا بان ذلك الزمان وإن كان لا يجوز فيه صلاة أخرى لكن لو فعلت انعقدت وقد ينازع
في انعقادها لأنها محرمة وقد سبق ان الصلاة التي لا سبب لها لو فعلت في وقت النهى لا تنعقد على
الأصح والله تعالى اعلم *
{فرع} في مذاهبهم في نية صوم رمضان * ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يصح الا بالنية من الليل وبه قال
مالك واحمد واسحق وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف وقال أبو حنيفة يصح بنية قبل
الزوال قال وكذا النذر المعين ووافقنا على صوم القضاء والكفارة انهما لا يصحان إلا بنية من الليل
واحتج له بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم " بعث يوم عشوراء إلى أهل العوالي
وهي القرى التي حول المدينة أن يصوموا يومهم ذلك " قالوا وكان صوم عاشوراء واجبا ثم نسخ وقياسا
على صوم الفل * واحتج أصحابنا بحديث حفصة وحديث عائشة رضي الله عنهما " لا صيام لمن لم
يبيت الصيام من الليل " وهما صحيحان سبق بيانهما وبالقياس على صوم الكفارة والقضاء وأجاب أصحابنا
عن حديث عاشوراء بجوابين (أحدهما) انه لم يكن واجبا وإنما كان تطوعا متأكدا شديدا التأكيد وهذا
هو الصحيح عند أصحابنا (والثاني) أنه لو سلمنا أنه كان فرضا فكان ابتداء فرضه عليهم من حين
بلغهم ولم يخاطبوا بما قبله كاهل قبا في استقبال الكعبة فان استقبالها بلغهم في أثناء الصلاة فاستداروا
وهم فيها من استقبال بيت المقدس إلى استقبال الكعبة وأجزأتهم صلاتهم حيث لم يبلغهم الحكم الا حينئذ
وإن كان الحكم باستقبال الكعبة قد سبق قبل هذا في حق غيرهم ويصير هذا كمن أصبح بلا نية
ثم نذر في أثناء النهار صوم ذلك اليوم وأجاب الماوردي بجواب ثالث وهو أنه لو كان عاشوراء
واجبا فقد نسخ باجماع العلماء وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب وإذا نسخ حكم شئ لم يجز أن يلحق به غيره
(وأما) الجواب عن قياسهم على التطوع فالفرق ظاهر لان التطوع مبنى على التخفيف ولأنه ثبت
الحديث الصحيح فيه وثبت حديث حفصة وعائشة رضي الله عنهما فوجب الجمع بين ذلك كله وهو
حاصل بما ذكرناه أن حديث التبييت في الصوم الواجب وغيره في صوم التطوع والله أعلم *
301

{فرع} في مذاهبهم في النية لكل يوم من كل صوم * مذهبنا ان كل يوم يفتقر إلى نية سواء
نية صوم رمضان والقضاء والكفارة والنذر والتطوع وبه قال أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه
وداود وابن المنذر والجمهور وقال مالك إذا نوى في أول ليلة من رمضان صوم جميعه كفاه لجميعه
ولا يحتاج إلى النية لكل يوم وعن أحمد واسحق روايتان (أصحهما) كمذهبنا (والثانية) كمالك * واحتج
لمالك بأنه عبادة واحدة فكفته نية واحدة كالحج وركعات الصلاة * واحتج أصحابنا بأن كل يوم
عبادة مستقلة لا يرتبط بعضه ببعض ولا يفسد بفساد بعض بخلاف الحج وركعات الصلاة *
{فرع} في مذاهبهم في تعيين النية * مذهبنا أن صوم رمضان وغيره من الصوم الواجب لا يصح
إلا بتعيين النية وفى اشتراط نية الفريضة وجهان (أصحهما) لا يشترط وبه قال أبو علي بن أبي هريرة
(والثاني) يشترط قالة أبو إسحاق المروزي وبوجوب التعيين قال مالك وأحمد واسحق وداود والجمهور
وأوجب هؤلاء الأربعة نية الفرضية وقال أبو حنيفة لا يجب تعيين النية في صوم رمضان فلو نوى فيه
صوما واجبا أو صوما مطلقا أو تطوعا وقع عن رمضان إن كان مقيما وكذا صوم النذر المتعين
في زمان معين قال فلو كان مسافرا ونوى فرضا آخر وقع عن ذلك الفرض وان نوى تطوعا فهل
يقع تطوعا كما نوى أم يقع عن رمضان فيه روايتان * واحتج أبو حنيفة بالقياس على الحج * واحتج
أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم " وإنما لكل امرء ما نوى " وبالقياس على صوم القضاء (وأجابوا) عن
الحج بأن مبناه على التوسعة ولهذا لا يخرج منه بالافساد ويصح تعليقه على احرام كاحرام غيره
والله أعلم * {فرع} في مذاهبهم فيمن أصبح في رمضان بلا نية ثم جامع قبل الزوال * قال الشافعي وأبو حنيفة
ومالك وأحمد والجمهور لا كفارة عليه لكن يأثم وقال أبو يوسف عليه الكفارة قال ولو جامع
بعد الزوال فلا كفارة والاكل عنده كالجماع في هذا قال لان صومه قبل الزوال مراعي حتى لو نواه
صح عنده فإذا أكل أو جامع فقد أسقط المراعاة فكأنه أفسد الصوم بخلاف ما بعد الزوال فإنه
لا يصح نية رمضان فيه بالاجماع * ودليلنا ان الكفارة تجب لافساد الصوم بالجماع وهذا
ليس بصائم *
{فرع} في مذاهبهم في نية صوم التطوع * ذكرنا أن مذهبنا صحته بنية قبل الزوال وبه قال على
ابن أبي طالب وابن مسعود وحذيفة بن اليمان وطلحة وأبو أيوب الأنصاري وابن عباس وأبو حنيفة
واحمد وآخرون وقال ابن عمر وأبو الشعثاء جابر بن زيد التابعي ومالك وزفر وداود لا يصح الا بنية من
الليل وبه قال المزني وأبو يحيى البلخي من أصحابنا ونقل ابن المنذر عن مالك انه استثنى من يسرد
302

الصوم فصحح نيته في النهار * واحتج لهم بعموم حديثي عائشة وحفصة " لا صيام لمن لم يبيت الصيام
من الليل * واحتج أصحابنا بحديث عائشة رضي الله عنها قالت " دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات
يوم فقال هل عندكم شئ قلنا لا قال فانى إذا صائم " رواه مسلم وفى رواية قال " إذا أصوم " رواها
البيهقي وقال هذا إسناد صحيح (والجواب) عن حديث تبييت النية انه عام فنخصه بما ذكرناه جمعا بين
الأحاديث وروى الشافعي والبيهقي بالاسناد الصحيح عن حذيفة رضي الله عنه انه بدا له الصوم بعد
ما زالت الشمس فصام والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
{ويدخل في الصوم بطلوع الفجر ويخرج منه بغروب الشمس لما روى عمر رضي الله عنه ان النبي
صلى الله عليه وسلم " قال إذا اقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغابت الشمس من ههنا فقد أفطر
الصائم " ويجوز أن يأكل ويشرب ويباشر إلى طلوع الفجر لقوله تعالى (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب
الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) فان جامع
قبل طلوع الفجر وأصبح وهو جنب جاز صومه لأنه عز وجل لما أذن في المباشرة إلى طلوع الفجر ثم أمر
بالصوم دل على أنه يجوز أن يصبح صائما وهو جنب وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه
وسلم " كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم " فان طلع الفجر وفى فيه طعام فأكله أو كان مجامعا
فاستدام بطل صومه وان لفظ الطعام أو أخرج مع طلوع الفجر صح صومه وقال المزني إذا اخرج مع طلوع الفجر
لم يصح صومه لان الجماع إيلاج واخراج فإذا بطل بالايلاج بطل بالاخراج والدليل على أنه يصح صومه ان
الاخراج ترك للجماع وما علق على فعل شئ لا يتعلق بتركه كما لو حلف لا يلبس هذا الثوب وهو عليه فبدأ ينزعه
لم يحنث وان اكل وهو يشك في طلوع الفجر صح صومه لان الأصل بقاء الليل وإن أكل وهو شاك في
غروب الشمس لم يصح صومه لان الأصل بقاء النهار} *
{الشرح} حديث عمر رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم وليس فيه " بعد الشمس من ههنا " وإنما
قال " وغربت الشمس " ورواه البخاري ومسلم أيضا من رواية عبد الله بن أبي أوفى بمعناه فلفظ
البخاري لابن أبي أوفي " إذا رأيتم الليل قد أقبل من ههنا فقد أفطر الصائم وأشار بيده قبل المشرق " ولفظ
مسلم " إذا غابت الشمس من ههنا وجاء الليل من ههنا فقد أفطر الصائم " قال العلماء إنما ذكر غروب الشمس
واقبال الليل وادبار النهار ليبين أن غروبها عن العيون لا يكفي لأنها قد تغيب في بعض الأماكن
عن العيون ولا تكون غربت حقيقة فلا بد من إقبال الليل وادبار النهار * (وأما) حديث عائشة
رضي الله عنها فرواه البخاري ومسلم أيضا من روايتها ومن رواية أم سلمة أيضا وقولها " من جماع
غير احتلام ذكرت الجماع لئلا يتوهم أحد أنه كان من احتلام وأن المحتلم معذور لكونه قد يدركه
303

الصبح وهو نائم محتلم بخلاف المجامع فبينت أن تلك الجنابة من جماع ثم أكدته لشدة الاعتناء
ببيانه فقالت غير احتلام وقد ذكرنا في باب الغسل اختلاف العلماء هل كان الاحتلام متصورا
في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقد يحتج من صوره بمفهوم هذا الحديث ويجيب الآخر بأنها
ذكرته للتوكيد لا للاحتراز والله أعلم (وقول) المصنف لأنه لما أذن في المباشرة يقال بفتح همزة اذن
وضمها والفتح أجود (وقوله) لفظ الطعام هو بفتح الفاء وإنما ذكرته لأني رأيت من يصحفه (أما)
أحكام الفصل ففيه مسائل (إحداها) ينقضي الصوم ويتم بغروب الشمس باجماع المسلمين لهذين
الحديثين وسبق بيان حقيقة غروبها في باب مواقيت الصلاة قال أصحابنا ويجب امساك جزء من الليل
بعد الغروب ليتحقق به استكمال النهار وقد ذكر المصنف هذا في كتاب الطهارة في مسألة
القلتين (الثانية) يدخل في الصوم بطلوع الفجر الثاني وهو الفجر الصادق وسبق بيانه وتحقيق
صفته في باب مواقيت الصلاة ويصير متلبسا بالصوم بأول طلوع الفجر والمراد الطلوع الذي يظهر
لنا لا الذي في نفس الامر قال أصحابنا وقد يطلع الفجر في بعض البلاد ويتبين قبل أن يطلع في بلد
آخر فيعتبر في كل بلد طلوع فجره قال الماوردي وكذا غروب شمسه وقد سبق بيان هذا
304

في كلام الماوردي في هذا الباب في مسألة رؤية الهلال في بلد دون بلد وقد سبق في باب مواقيت
الصلاة ان الأحكام المتعلقة بالفجر تتعلق كلها بالفجر الثاني ولا يتعلق بالفجر الأول الكاذب
شئ من الأحكام باجماع المسلمين وسبق هناك بيان دلائله والأحاديث الصحيحة فيه *
{فرع} هذا الذي ذكرناه من الدخول في الصوم بطلوع الفجر وتحريم الطعام والشراب
والجماع به هو مذهبنا ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن
بعدهم قال ابن المنذر وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعلماء الأمصار قال وبه نقول قال روينا
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال حين صلى الفجر الآن حين تبين الخيط الأبيض
من الخيط الأسود قال وروى عن حذيفة أنه لما طلع الفجر تسحر ثم صلى قال وروى معناه عن ابن
مسعود وقال مسروق لم يكونوا يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملا البيوت
والطرق قال وكان إسحاق يميل إلى القول الأول من غير أن يطعن علي الآخرين قال إسحاق
ولا قضاء على من أكل في الوقت الذي قاله هؤلاء هذا كلام ابن المنذر * وحكى أصحابنا عن
الأعمش وإسحاق بن راهويه انهما جوزا الاكل وغيره إلى طلوع الشمس ولا أظنه يصح عنهما * واحتج
أصحابنا والجمهور على هؤلاء بالأحاديث الصحيحة المشهورة المتظاهرة (منها) حديث عدى بن حاتم
رضي الله عنه قال " لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر قلت يا رسول
الله انى أجعل تحت وسادتي عقالين عقالا ابيض وعقالا اسود اعرف الليل من النهار فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم ان وسادك لعريض إنما هو سواد الليل وبياض النهار " رواه البخاري ومسلم *
وعن سهل بن سعد رضي الله عنهما قال " أنزلت وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض
من الخيط الأسود ولم ينزل من الفجر فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط
الأبيض والخيط الأسود ولا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما فأنزل الله تعالى من الفجر فعلموا
أنه يعنى به الليل من النهار " رواه البخاري ومسلم وفى رواية مسلم رئتهما بالراء مهموز وعن سمرة بن
جندب رضي الله عنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا العارض
لعمود الصبح حتى يستطير " رواه مسلم وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " لا يمنعن أحدكم أو أحدا منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو ينادى بليل ليرجع
قائمكم ولينبه نائمكم وليس أن يقول الفجر أو الصبح وقال بأصابعه ورفعها إلى فوق وطأطأ إلى أسفل حتى يقول
305

هكذا وقال بسبابتيه إحداهما فوق الأخرى ثم مدهما عن يمينه وشماله " رواه البخاري ومسلم * وسبق باب
مواقيت الصلاة غير هذه من الأحاديث والله أعلم * (المسألة الثالثة) يجوز له الأكل والشرب والجماع إلى طلوع
الفجر بلا خلاف لما ذكره المصنف ولو شك في طلوع الفجر جاز له الأكل والشرب والجماع وغيرها بلا خلاف
حتى يتحقق الفجر للآية الكريمة (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض) ولما صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال
" كل ما شككت حتى يتبين لك " رواه البيهقي باسناد صحيح وفى رواية عن حبيب ابن أبي ثابت قال
" أرسل ابن عباس رجلين ينظران الفجر فقال أحدهما أصبحت وقال الآخر لا قال اختلفتما أرني
شرابي " قال البيهقي وروى هذا عن أبي بكر الصديق وعمر وابن عمر رضي الله عنهم وقول ابن عباس
أرني شرابي جار على القاعدة أنه يحل الشرب والاكل حتى يتبين الفجر ولو كان قد تبين لما
اختلف الرجلان فيه لان خبريهما تعارضا والأصل بقاء الليل ولان قوله أصبحت ليس صريحا في
طلوع الفجر فقد تطلق هذه اللفظة لمقاربة الفجر والله أعلم * وقد اتفق أصحابنا على جواز الأكل للشاك
في طلوع الفجر وصرحوا بذلك فممن صرح به الماوردي والدارمي والبندنيجي وخلائق لا يحصون
(وأما) قول الغزالي في الوسيط لا يجوز الاكل هجوما في أول النهار وقول المتولي في مسألة السحور
لا يجوز للشاك في طلوع الفجر أن يتسحر فلعلهما أرادا بقولهما لا يجوز أنه ليس مباحا مستوى
الطرفين بل الأولى تركه فان أراد به تحريم الاكل على الشاك في طلوع الفجر فهو غلط مخالف للقران
ولابن عباس ولجميع الأصحاب بل لجماهير العلماء ولا نعرف أحد من العلماء قال بتحريمه إلا مالك فإنه
حرمه وأوجب القضاء على من أكل شاكا في الفجر وذكر ابن المنذر في الاشراف بابا في إباحة
الاكل للشاك في الفجر فحكاه عن أبي بكر الصديق وابن عمر وابن عباس وعطاء والأوزاعي
وأصحاب الرأي وأحمد وأبى ثور واختاره ولم ينقل المنع الا عن مالك والله أعلم * قال الماوردي وغيره
والأفضل للشاك أن لا يأكل ولا يفعل غيره من ممنوعات الصوم احتياطا (الرابعة) لو اكل شاكا
في طلوع الفجر ودام الشك ولم يبن الحال بعد ذلك صح صومه بلا خلاف عندنا ولا قضاء عليه * وقال مالك عليه
القضاء وقد سبقت أدلة المسألة في المسألة قبلها قال أصحابنا وينبغي للصائم أن لا يأكل حتى يتيقن غروب
الشمس فلو غلب على ظنه غروبها باجتهاد بورد أو غيره جاز له الاكل على الصحيح الذي قطع به الأكثرون
وحكى امام الحرمين وغيره وجها للأستاذ أبي إسحاق الأسفرايني أنه لا يجوز لقدرته على اليقين
بصبر يسير ولو أكل ظانا غروب الشمس فبانت طالعة أو ظانا أن الفجر لم يطلع فبان طالعا صار
مفطرا هذا هو الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به المصنف والجمهور وفيه وجه شاذ أنه لا يفطر
306

فيهما لأنه معذر وهو مخرج من الخلاف فيمن غلط في القبلة ومن الأسير إذا اجتهد في الصوم
وصادف ما قبل رمضان ونظائره وهذا الوجه هو قول المزني وابن خزيمة من أصحابنا وفيه وجه ثالث
أنه يفطر في الصورة الأولى دون الثانية لتقصيره في الأولى ولأنه لا يجوز الاكل للشاك في الصورة
الأولى ويجوز في الثانية وممن حكى هذا الوجه الرافعي ولو هجم على الاكل في طرفي النهار بلا ظن
وتبين الخطأ فحكمه ما ذكرنا وإن بان التيقن أنه لم يأكل في النهار استمرت صحة صومه وإن دام
الابهام ولم يظهر الخطأ ولا الصواب فإن كان في أول النهار فلا قضاء لان الأصل بقاء الليل وإن كان في
آخره لزمه القضاء لان الأصل بقاء النهار ولو اكل في آخر النهار بالاجتهاد وقلنا بالمذهب أنه يجوز
فاستمر الابهام فلا قضاء وإن قلنا بقول الأستاذ أبى اسحق أنه لا يجوز لزمه القضاء كما لو أكل بغير
اجتهاد لان الاجتهاد عنده لا أثر له قال المتولي وغيره والفرق بين من اكل بغير اجتهاد في آخر
النهار وصادف اكله الليل حيث قلنا لا قضاء عليه وبين من اشتبهت عليه القبلة أو وقت
الصلاة فصلي بغير اجتهاد وصادف الصواب فان عليه الإعادة لان هناك شرع في العبادة شاكا
من غير مستند شرعي فلم يصح وهنا لم يحصل الشك في ابتداء العبادة بل مضت على الصحة وشك
بعد فراغها هل وجد مفسد لها بعد تحقق الدخول فيها وقد بان أن لا مفسد وإنما نظيره من
الصلاة أن يسلم منها ثم يشك هل ترك ركنا منها أم لا ثم بان أنه لم يترك شيئا فان صلاته صحيحة
بلا خلاف والله أعلم *
{فرع} لو ظن غروب الشمس فجامع فبان خلافه لزمه قضاء الصوم على المذهب كما سبق قال
البغوي والمتولي وآخرون من الأصحاب ولا كفارة عليه لأنه معذور ولأنها إنما تجب على من أفسد
الصوم بجماع أثم به كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى قال الرافعي وهذا ينبغي أن يكون تفريعا على
المذهب وهو جواز الافطار بالظن وإلا فتجب الكفارة وفاء بالضابط المذكور لوجوبها (المسألة
الخامسة) إذا جامع في الليل وأصبح وهو جنب صح صومه بلا خلاف عندنا وكذا لو انقطع دم
الحائض والنفساء في الليل فنوتا صوم الغد ولم يغتسلا صح صومهما بلا خلاف عندنا وبه قال جمهور
العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم وممن قال به علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي ذر وزيد
ابن ثابت وأبو الدرداء وابن عباس وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم وجماهير التابعين والثوري
ومالك وأبو حنيفة وأحمد وأبو ثور قال العبدري وهو قول سائر الفقهاء قال ابن المنذر وقال سالم بن
عبد الله لا يصح صومه قال وهو الأشهر عن أبي هريرة والحسن البصري وعن طاوس وعروة
307

ابن الزبير رواية عن أبي هريرة انه ان علم جنابته قبل الفجر ثم نام حتى أصبح لم يصح والا فيصح
وقال النخعي يصح النفل دون الفرض وعن الأوزاعي أنه لا يصح صوم منقطعة الحيض حتى تغتسل
احتجوا بحديث " من أصبح جنبا فلا صوم له " رواه أبو هريرة في صحيحي البخاري ومسلم * دليلنا
نص القرآن قال الله تعالى (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين
لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) ويلزم بالضرورة أن
يصبح جنبا إذا باشر إلى طلوع الفجر والأحاديث الصحيحة المشهورة (منها) حديث عائشة وأم
سلمة رضي الله عنهما قالتا " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير حلم ثم يصوم " رواه
البخاري ومسلم وفى روايات لهما في الصحيح " من جماع غير احتلام " وعن عائشة رضي الله عنها قالت
" كان النبي صلى الله عليه وسلم يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير حلم فيغتسل ويصوم " رواه
البخاري ومسلم وعنها " أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه وهي تسمع من وراء الباب فقال
يا رسول الله تدركني الصلاة وأنا جنب أفأصوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا تدركني
الصلاة وأنا جنب فأصوم فقال لست مثلنا يا رسول الله قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر
فقال والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقى " رواه مسلم والأحاديث بمعني هذا
كثيرة مشهورة (وأما) حديث أبي هريرة رضي الله عنه فأجاب أصحابنا عنه بجوابين (أحدهما) انه
منسوخ قال البيهقي: روينا عن أبي بكر بن المنذر قال أحسن ما سمعت فيه انه منسوخ لان الجماع
كان في أول الاسلام محرما على الصائم في الليل بعد النوم كالطعام والشراب فلما أباح الله تعالى الجماع
إلى طلوع الفجر جاز للجنب إذا أصبح قبل الاغتسال ان يصوم فكان أبو هريرة يفتى بما سمعه من الفضل
ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم على الأمر الأول ولم يعلم النسخ فلما سمع خبر عائشة وأم سلمة
رضي الله عنهما رجع إليه هذا كلام البيهقي عن ابن المنذر وكذا قال إمام الحرمين في النهاية قال قال العلماء
الوجه حمل حديث أبي هريرة رضي الله عنه على أنه منسوخ (والجواب الثاني) انه محمول على من طلع الفجر
وهو مجامع فاستدام مع علمه بالفجر والله تعالى اعلم * قال الماوردي وغيره وأجمعت الأمة على أنه إن
احتلم في الليل وأمكنه الاغتسال قبل الفجر فلم يغتسل وأصبح جنبا بالاحتلام أو احتلم في النهار
فصومه صحيح وإنما الخلاف في صوم الجنب بالجماع والله تعالى اعلم (السادسة) إذا طلع الفجر وفى
فيه طعام فليلفظه فان لفظه صح صومه فان ابتلعه أفطر فلو لفظه في الحال فسبق منه شئ إلى جوفه
بغير اختياره فوجهان مخرجان من سبق الماء في المضمضة لكن الأصح هنا انه لا يفطر والأصح في
308

المضمضة انه ان بالغ أفطر وإلا فلا ولو طلع الفجر وهو مجامع فنزع في الحال صح صومه نص عليه
في المختصر قال أصحابنا: للنزع عند الفجر ثلاث صور (إحداها) ان يحس بالفجر وهو مجامع
فينزع بحيث يقع آخر النزع مع أول الطلوع (والثانية) يطلع الفجر وهو مجامع فيعلم الطلوع في
أوله فينزع في الحال (الثالثة) ان يمضي بعد الطلوع لحظة وهو مجامع لا يعلم الفجر ثم يعلمه فينزع (اما)
الثالثة فليست مرادة بنص الشافعي رضي الله عنه بل الحكم فيها بطلان الصوم على المذهب وفيها الوجه السابق
فيمن أكل ظانا أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع فعلى المذهب لو مكث بعد علمه اثم ولا كفارة عليه لأنه
إنما مكث بعد بطلان الصوم على الوجه الضعيف تلزمه الكفارة بالاستدامة كما سنوضحه إن شاء الله
تعالى (وأما) الصورتان الأولتان فهما مرادتان بالنص فلا يبطل الصوم فيهما وفى الثانية وجه ضعيف
شاذ أنه يبطل وهو مذهب المزني أيضا كما حكاه المصنف وفد ذكر المصنف دليل الجميع (أما) إذا طلع الفجر
وهو مجامع فعلم طلوعه ثم مكث مستديما للجماع فيبطل صومه بلا خلاف نص عليه وتابعه الأصحاب
ولا يعلم فيه خلاف للعلماء وتلزمه الكفارة على المذهب وقيل فيه قولان وستأتي المسألة مبسوطة حيث ذكرها
المصنف إن شاء الله تعالى ولو جامع ناسيا ثم تذكر فاستدام فهو كالاستدامة بعد العلم بالفجر والله تعالى
أعلم (فان قيل) كيف يعلم الفجر بمجرد طلوعه وطلوعه الحقيقي يتقدم على علمنا به (فأجاب) الشيخ
أبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين بجوابين (أحدهما) أنها مسألة علمية ولا يلزم وقوعها كما يقال في
الفرائض مائة جدة (والثاني) وهو الصواب الذي لا يجوز غيره ان هذا متصور لأنا إنما تعبدنا بما نطلع عليه
لا بما في نفس الامر فلا معنى للصبح الا ظهور الضوء للناظر وما قبله لا حكم له ولا يتعلق به تكليف
فإذا كان الانسان عارفا بالأوقات ومنازل القمر فيرصد بحيث لا حائل فهو أول الصبح المعتبر فهذا
هو الصواب وبه قطع المتولي والجمهور والله تعالى أعلم *
{فرع} في مذاهب العلماء في مسائل تقدمت (منها) إذا اكل أو شرب أو جامع ظانا غروب الشمس
أو عدم طلوع الفجر فبان خلافه فقد ذكرنا أن عليه القضاء وبه قال ابن عباس ومعاوية بن أبي سفيان
وعطاء وسعيد بن جبير ومجاهد والزهري والثوري كذا حكاه ابن المنذر عنهم وبه قال أبو حنيفة ومالك
واحمد وأبو ثور والجمهور وقال إسحاق بن راهويه وداود صومه صحيح ولا قضاء وحكي ذلك عن عطاء
وعروة بن الزبير والحسن البصري ومجاهد * واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم " إن الله تعالى تجاوز لي
عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " رواه البيهقي وغيره في غير هذا الباب بأسانيد صحيحة
من رواية ابن عباس * واحتج أصحابنا بقوله تبارك وتعالي (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من
309

الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) وهذا قد أكل في النهار وبما رواه البيهقي باسناده
عن ابن مسعود أنه سئل عن رجل تسحر وهو يرى أن عليه ليلا وقد طلع الفجر فقال " من أكل
من أول النهار فليأكل من آخره ومعناه فقد أفطر " وروى البيهقي معناه عن أبي سعيد الخدري وبحديث
هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قالت " أفطرنا
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غيم ثم طلعت الشمس قيل لهشام فأمروا بالقضاء فقال بد
من قضاء " رواه البخاري في صحيحه وروى الشافعي عن مالك بن أنس الامام عن زيد بن أسلم عن أخيه
خالد بن أسلم أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه " أفطر في رمضان في يوم ذي غيم ورأي أنه قد أمسي
وغابت الشمس فجاءه رجل فقال يا أمير المؤمنين قد طلعت الشمس فقال عمر رضي الله عنه الخطب
يسير وقد اجتهدنا " قال البيهقي قال مالك والشافعي معني الخطب يسير قضاء يوم مكانه قال
البيهقي ورواه سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أخيه عن أبيه عن عمر رضي الله عنه قال
وروى أيضا من وجهين آخرين عن عمر مفسرا في القضاء ثم ذكره البيهقي بأسانيده عن عمر
رضي الله عنه وفيه التصريح بالقضاء فأحد الوجهين عن علي بن حنظلة عن أبيه وكان أبوه صديقا
لعمر قال " كنت عند عمر رضي الله عنه في رمضان فأفطر وأفطر الناس فصعد المؤذن ليؤذن
فقال أيها الناس هذه الشمس لم تغرب فقال عمر رضي الله عنه من كان أفطر فليصم يوما مكانه "
وفى الرواية الأخرى فقال عمر " لا نبالي والله نقضي يوما مكانه " ثم قال البيهقي وفى تظاهر
هذه الروايات عن عمر رضي الله عنه في القضاء دليل على خطأ رواية زيد بن وهب في ترك القضاء ثم
روى البيهقي ذلك باسناده عن يعقوب بن سفيان الحافظ عن عبيد الله بن موسى عن شيبان عن الأعمش
عن المسيب بن رافع عن زيد بن وهب قال " بينما نحن جلوس في مسجد المدينة في رمضان والسماء
متغيمة فرأينا ان الشمس قد غابت وانا قد أمسينا فأخرجت لنا عساس من لبن من بيت حفصة
فشرب عمر رضي الله عنه وشربنا فلم نلبث أن ذهب السحاب وبدت الشمس فجعل بعضنا
يقول لبعض نقضي يومنا هذا فسمع بذلك عمر فقال والله لا نقضيه وما يجانفنا الاثم " قال البيهقي
كذا رواه شيبان ورواه حفص بن عتاب وأبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن
وهب قال البيهقي وكأن يقول ابن سفيان يحمل على زيد بن وهب بهذه الرواية المخالفة للروايات
310

المتقدمة وبعدها مما خولف فيه قال البيهقي وزيد ثقة إلا أن الخطأ غير مأمون والله تعالى يعصمنا من
الزلل والخطأ بمنه وسعة رحمته ثم روى البيهقي باسناده عن شعيب بن عمرو بن سليم الأنصاري
قال " أفطرنا مع صهيب الخير في شهر رمضان في يوم غيم وطش فبينا نحن نتعشى إذ طلعت الشمس
فقال صهيب طعمة الله أتموا صيامكم إلى الليل واقضوا يوما مكانه " قوله عساس من لبن بكسر
العين وبسين مهملة مكررة وهي الاقداح واحدها عسي بضم العين وأجاب أصحابنا عن حديث
" إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ " أنه هنا محمول على رفع الاثم فإنه عام خص منه غرامات المتلفات
وانتفاض الوضوء بخروج الحدث سهوا والصلاة بالحدث ناسيا وأشباه ذلك فيخص هنا بما
ذكرناه والله تعالى أعلم *
{فرع} في مذاهبهم فيمن أولج ثم نزع مع طلوع الفجر * ذكرنا أن مذهبا أنه لا يفطر ولا قضاء
ولا كفارة وبه قال أبو حنيفة وآخرون وقال مالك والمزني وزفر وداود يبطل صومه وعن أحمد رواية
أنه يفطر وعليه الكفارة وفى رواية يصح صومه ولا قضاء ولا كفارة وقد سبق في كلام المصنف
دليل المذهبين وروى البيهقي باسناده الصحيح عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما كان إذا نودي
بالصلاة والرجل على امرأته لم يمنعه ذلك أن يصوم إذا أراد الصيام قام واغتسل وأتم صيامه *
{فرع} ذكرنا أن من طلع الفجر وفى فيه طعام فليلفظه ويتم صومه فان ابتلعه بعد علمه بالفجر
بطل صومه وهذا لا خلاف فيه ودليله حديث ابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال " ان بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " رواه
311

البخاري ومسلم وفى الصحيح أحاديث بمعناه (وأما) حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا سمع أحدكم النداء والاناء على يده فلا يضعه حتى يقضى حاجته منه " وفى
وراية " وكان المؤذن يؤذن إذا بزغ الفجر " فروى الحاكم أبو عبد الله الرواية الأولى وقال هذا
حديث صحيح على شرط مسلم ورواهما البيهقي ثم قال وهذا إن صح محمول عند عوام أهل العلم على
أنه صلى الله عليه وسلم علم أنه ينادى قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر قال وقوله
إذا بزغ يحتمل أن يكون من كلام من دون أبي هريرة أو يكون خبرا عن الاذان الثاني ويكون قول
النبي صلى الله عليه وسلم " إذا سمع أحدكم النداء والاناء على يده " خبرا عن النداء الأول ليكون موافقا لحديث
ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قال وعلى هذا تتفق الاخبار وبالله التوفيق والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
{ويحرم على الصائم الأكل والشرب لقوله سبحانه وتعالى (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم
الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل) فان أكل أو شرب وهو ذاكر
للصوم عالم بتحريمه مختار بطل صومه لأنه فعل ما ينافي الصوم من غير عذر وان استعط أو صب الماء في
اذنه فوصل إلى دماغه بطل صومه لما روى لقيط بن صبرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " إذا استنشقت فأبلغ الوضوء الا أن تكون صائما " فدل على أنه إذا وصل إلى الدماغ شئ بطل
صومه ولان الدماغ أحد الجوفين فبطل الصوم بالواصل إليه كالبطن وان احتقن بطل صومه لأنه
إذا بطل بما يصل إلى الدماغ بالسعوط فلان يبطل بما يصل إلى الجوف بالحقنة أولى وإن كان به
جائفة أو أمة فداواها فوصل الدواء إلى جوفه أو إلى الدماغ أو طعن نفسه أو طعنه غيره باذنه فوصلت
الطعنة إلى جوفه بطل صومه لما ذكرنا في السعوط والحقنة وان زرق في احليلة شيئا أو أدخل
فيه ميلا ففيه وجهان (أحدهما) يبطل صومه لأنه منفذ يتعلق الفطر بالخارج منه فتعلق بالواصل
إليه كالفم (والثاني) لا يبطل لان ما يصل إلى المتانة لا يصل إلى الجوف فهو بمنزلة ما لو ترك في فمه شيئا} *
{الشرح} حديث لقيط صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم ولفظهم عن لقيط
" قال قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق
الا أن تكون صائما " قال الترمذي هو حديث حسن صحيح وقد سبق في باب صفة الوضوء بيان
هذا الحديث وبيان حال لقيط وابن صبرة بفتح الصاد وكسر الباء ويجوز إسكان الباء مع
فتح الصاد وكسرها ووقع في نسخ المهذب في حديث لقيط " فأبلغ الوضوء " وهذه اللفظة غير
312

معروفة والمعروف ما ذكرناه عن رواية أهل الحديث والسعوط بضم السين هو نفس الفعل
وهو جعل الشئ في الانف وجذبه إلى الدماغ والسعوط بفتحها اسم للشئ الذي يتسعطه كالماء
والدهن وغيرهما والمراد هنا بالضم (وقوله) فلان يبطل هو بفتح اللام وقد سبق بيانه (والآمة)
بالمد هي الجراحة الواقعة في الرأس بحيث تبلغ أم الدماغ والمنفذ بفتح الفاء والمثانة بفتح الميم وبالثاء
المثلثة وهي مجمع البول (اما الأحكام) فقال أصحابنا: أجمعت الأمة على تحريم الطعام والشراب
على الصائم وهو مقصود الصوم ودليله الآية الكريمة والاجماع وممن نقل الاجماع فيه ابن المنذر
قال الرافعي: وضبط الأصحاب الداخل المفطر بالعين الواصلة من الظاهر إلى الباطن في منفذ
مفتوح عن قصد مع ذكر الصوم وفيه قيود (منها) الباطن الواصل إليه وفيما يعتبر به وجهان (أحدهما)
انه ما يقع عليه اسم الجوف (والثاني) يعتبر معه أن يكون فيه قوة تحيل الواصل إليه من دواء
أو غذاء قال والأول هو الموافق لتفريع الأكثرين كما سيأتي إن شاء الله تعالى ويدل عليه انهم
جعلوا الحلق كالجوف في إبطال الصوم بوصول الواصل إليه وقال إمام الحرمين إذا جاوز الشئ
الحلقوم أفطر وعلى الوجهين جميعا باطن الدماغ والبطن والأمعاء والمثانة مما يفطر الوصول إليه بلا
خلاف حتى لو كانت ببطنه أو برأسه مأمومة وهي الأمة فوضع عليها دواء فوصل جوفه أو خريطة
دماغه أفطر وإن لم يصل باطن الأمعاء وباطن الخريطة وسواء كان الدواء رطبا أو يابسا عندنا وحكى
المتولي والرافعي وجها أن الوصول إلى المثانة لا يفطر واختاره القاضي حسين وهو شاذ (وأما)
الحقنة فتفطر على المذهب وبه قطع المصنف والجمهور وفيه وجه قاله القاضي حسين لا تفطر وهو شاذ
وإن كان منقاسا فعلى المذهب قال أصحابنا سواء كانت الحقنة قليلة أو كثيرة وسواء وصلت إلى
المعدة أم لا فهي مفطرة بكل حال عندنا (وأما) السعوط فان وصل إلى الدماغ أفطر بلا خلاف قال
أصحابنا: وما جاوز الخيشوم في الاستعاط فقد حصل في حد الباطن وحصل به الفطر قال أصحابنا
وداخل الفم والأنف إلى منتهي الغلصمة والخيشوم له حكم الظاهر في بعض الأشياء حتى لو أخرج
إليه القئ أو ابتلع منه نخامة أفطر ولو أمسك فيه تمرة ودرهما وغيرهما لم يفطر ما لم ينفصل من التمرة
ونحوها شئ ولو تنجس هذا الموضع وجب غسله ولم تصح الصلاة حتى يغسله وله حكم الباطن في
313

أشياء (منها) انه إذا ابتلع منه الريق لا يفطر ولا يجب غسله على الجنب والله تعالى أعلم (وأما)
إذا قطر في إحليله شيئا ولم يصل إلى المثانة أو زرق فيه ميلا ففيه ثلاثة أوجه (أصحها) يفطر وبه
قطع الأكثرون لما ذكره المصنف (والثاني) لا (والثالث) ان جاوز الحشفة أفطر وإلا فلا
والله أعلم *
{فرع} لو أوصل الدواء إلى داخل لحم الساق أو غرز فيه سكينا أو غيرها فوصلت مخه لم يفطر بلا
خلاف لأنه لا يعد عضوا مجوفا *
{فرع} لو طعن نفسه أو طعنه غيره باذنه فوصلت السكين جوفه أفطر بلا خلاف عندنا سواء
كان بعض السكين خارجا أم لا *
{فرع} إذا ابتلع طرف خيط وطرفه الآخر بارزا أفطر بوصول الطرف الواصل ولا يعتبر
الانفصال من الظاهر وحكى الحناطي بالحاء المهملة وجها فيمن ادخل طرف خيط جوفه أو دبره
وبعضه خارج انه لا يفطر والمشهور الأول وبه قطع جمهور الأصحاب ولو ابتلع طرف خيط في الليل
وطرفه الآخر خارج فأصبح كذلك فان تركه بحاله لم تصح صلاته لأنه حامل لطرفه البارز وهو
متصل بنجاسة وان نزعه أو ابتلعه بطل صومه وصحت صلاته إذا غسل فمه بعد النزع قال أصحابنا
فينبغي أن يبادر غيره إلى نزعه وهو غافل فينزعه بغير رضاه فإن لم يتفق ذلك فوجهان
(أصحهما) يحافظ على الصلاة فينزعه أو يبلعه (والثاني) يتركه على حاله محافظة على الصوم ويصلي
كذلك ويجب إعادة الصلاة لأنه عذر نادر وقد سبقت هذه المسألة مبسوطة في باب ما ينقض الوضوء *
{فرع} لو أدخل الرجل أصبعه أو غيرها دبره أو أدخلت المرأة أصبعها أو غيرها دبرها
أو قبلها وبقى البعض خارجا بطل الصوم باتفاق أصحابنا الا الوجه الشاذ السابق عن الحناطي في
الفرع الذي قبل هذا قال أصحابنا وينبغي للصائمة أن لا تبالغ بإصبعها في الاستنجاء قالوا فالذي
يظهر من فرجها إذا قعدت لقضاء الحاجة له حكم الظاهر فيلزمها تطهيره ولا يلزمها مجاورته فان
جاوزته بادخال أصبعها زيادة عليه بطل صومها وقد سبق ايضاح المسألة في باب الاستطابة * هذا
تفصيل مذهبنا * وقال أبو حنيفة إذا كان الواصل إلى الباطن متصلا بخارج لا يبطل صومه * دليلنا
أنه وصل الباطن فبطل صومه كما لو غاب كله *
{فرع} لو قطر في أذنه ماء أو دهنا أو غيرهما فوصل إلى الدماغ فوجهان (أصحهما) يفطر
وبه قطع المصنف والجمهور لما ذكره المصنف (والثاني) لا يفطر قاله أبو علي السنجي بالسين المهملة
314

المكسورة وبالجيم والقاضي حسين والفوراني وصححه الغزالي كالاكتحال وادعوا انه لا منفذ
من الاذن إلى الدماغ وإنما يصله بالمسام كالكحل وكما لو دهن بطنه فان المسام تتشربه ولا يفطر
بخلاف الانف فان السعوط يصل منه إلى الدماغ في منفذ مفتوح ونقل صاحب البيان عن أبي على
السنجي انه يفطر والمعروف عنه ما ذكرته فيكون ذكر الفطر في بعض كتبه *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ولا فرق بين أن يأكل ما يؤكل وما لا يؤكل فان استف ترابا أو ابتلع حصاة أو درهما أو
دينارا بطل صومه لأن الصوم هو الامساك عن كل ما يصل إلى الجوف وهذا ما أمسك ولهذا
يقال فلان يأكل الطين ويأكل الحجر ولأنه إذا بطل الصوم بما وصل إلى الجوف مما ليس بأكل
كالسعوط والحقنة وجب ان يبطل أيضا بما يصل مما ليس بمأكول وان قلع ما يبقى بين أسنانه
بلسانه وابتلعه بطل صومه وان جمع في فمه ريقا كثيرا وابتلعه ففيه وجهان (أحدهما) يبطل صومه
لأنه ابتلع ما يمكنه الاحتراز منه مما لا حاجة به إليه فأشبه ما إذا قلع ما بين أسنانه وابتلعه (والثاني)
لا يبطل لأنه وصل إلى جوفه من معدنه فأشبه ما يبتلعه من ريقه على عادته فان اخرج البلغم من
صدره ثم ابتلعه أو جذبه من رأسه بطل صومه وان استقاء بطل صومه لما روى أبو هريرة رضي
الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من استقاء فعليه القضاء ومن ذرعه القئ فلا قضاء عليه "
ولان القئ إذا صعد تردد فيرجع بعضه إلى الجوف فيصير كطعام ابتلعه} *
{الشرح} حديث أبي هريرة رضي الله عنه رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة
والدارقطني والبيهقي وغيرهم قال الترمذي هو حديث حسن قال وقال البخاري لا أراه محفوظا وقال
الدارقطني رواته كلهم ثقات ورواه النسائي والبيهقي مرفوعا كما ذكرنا وموقوفا على أبي هريرة
واسناد أبى داود وغيره فيه اسناد الصحيح ولم يضعفه أبو داود في سننه وقد سبق مرات ان ما لم
يضعفه أبو داود فهو عنده حجة اما صحيح واما حسن وقال البيهقي هذا الحديث تفرد به هشام
ابن حسان قال وبعض الحفاظ لا يراه محفوظا قال قال أبو داود وسمعت أحمد بن حنبل يقول ليس
من ذا شئ قال البيهقي وقد روى من أوجه اخر ضعيفة عن أبي هريرة مرفوعا قال وروى في ذلك عن
علي رضي الله عنه ثم رواه باسناده عن الحارث عن علي قال " إذا تقايأ وهو صائم فعليه القضاء وإذا ذرعه
القئ فليس عليه القضاء " وهذا ضعيف فان الحارث ضعيف متروك كذاب قال البيهقي وأما حديث معدان
ابن طلحة عن أبي الدرداء " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر " قال معدان لقيت
315

ثوبان مولي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد دمشق فقلت له أن أبا الدرداء أخبرني " أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر فقال صدق أنا صببت عليه وضوءه " فهذا حديث مختلف في اسناده
فان صح فهو محمول على القئ عامدا وكأنه صلى الله عليه وسلم كان صائما تطوعا قال وروى من
وجه آخر عن ثوبان قال (وأما) حديث فضالة بن عبيد قال " أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم
صائما فقاء فأفطر فسئل عن ذلك فقال إني قئت " قال وهو أيضا محمول على العمد قال وأما حديث
زيد بن أسلم عن رجل من أصحابه عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال " قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفطر من قاء ولا من احتلم ولا من احتجم " فهو محمول ان صح
على من ذرعه القئ قال وقد رواه عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ثلاث لا يفطرن الصائم
القئ والاحتلام والحجامة " قال وعبد الرحمن ضعيف والمحفوظ عن زيد بن أسلم هو الأول هذا
كلام البيهقي وذكر الترمذي حديث أبي سعيد الخدري هذا وضعفه وقال هو غير محفوظ قال
ورواه عبد الله بن زيد بن أسلم وعبد العزيز بن محمد وغير واحد عن زيد بن أسلم مرسلا لم
يذكروا أبا سعيد وإنما ذكره عبد الرحمن بن زيد بن أسلم وهو ضعيف وروى الترمذي أيضا
حديث أبي الدرداء وثوبان من رواية معدان بن طلحة كما سبق وقال هو حديث حسن صحيح
وهو مخالف لما قال فيه البيهقي قال الترمذي وحديث أبي هريرة حسن غريب لا نعرفه من حديث
هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم الا من حديث عيسى
ابن يونس قال وقال البخاري لا أراه محفوظا قال الترمذي وقد روى هذا الحديث من غير وجه
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ولا يصح اسناده قال وقد روى عن
أبي الدرداء وثوبان وفضالة " ان النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر " قال وإنما معنى هذا ان النبي صلى الله عليه
وسلم كان صائما متطوعا فقاء فضعف فأفطر لذلك هكذا روى في بعض الحديث مفسرا
قال والعمل عند أهل العلم على حديث أبي هريرة " ان الصائم إذا ذرعه القئ لا قضاء عليه وإذا
استقاء عمدا فليقض هذا كلام الترمذي وذكر الحاكم أبو عبد الله في المستدرك حديثي أبي هريرة
وأبى الدرداء وثوبان وقال هما صحيحان * فالحاصل أن حديث أبي هريرة بمجموع طرقه وشواهده
المذكورة حديث حسن وكذا نص على حسنه غير واحد من الحفاظ وكونه تفرد به هشام بن حسان
لا يضر لأنه ثقة وزيادة الثقة مقبولة عند الجمهور من أهل الحديث والفقه والأصول (وقوله) ذرعه
316

القئ هو بالذال المعجمة أي غلبه وإنما قاس المصنف على الواصل بالسعوط لان النص ورد فيه
وهو حديث لقيط بن صبرة السابق (اما) الأحكام ففيه مسائل (إحداها) قال الشافعي والأصحاب
رحمهم الله إذا ابتلع الصائم مالا يؤكل في العادة كدرهم ودينار أو تراب أو حصاة أو حشيشا أو
نارا أو حديدا أو خيطا أو غير ذلك أفطر بلا خلاف عندنا وبه قال أبو حنيفة ومالك واحمد
وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف وحكى أصحابنا عن أبي طلحة الأنصاري الصحابي رضي الله
عنه والحسن بن صالح وبعض أصحاب مالك انه لا يفطر بذلك وحكوا عن أبي طلحة انه كان يتناول
البرد وهو صائم ويبتلعه ويقول ليس هو بطعام ولا شراب واستدل أصحابنا بما ذكره المصنف
وبما رواه البيهقي باسناد حسن أو صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال " إنما الوضوء مما يخرج
وليس مما يدخل وإنما الفطر مما دخل وليس مما خرج " والله تعالى اعلم (الثانية) قال أصحابنا إذا
بقي في خلل أسنانه طعام فينبغي ان يخلله في الليل وينقي فمه فان أصبح صائما وفى خلل أسنانه شئ
فابتلعه عمدا أفطر بلا خلاف عندنا وبه قال مالك وأبو يوسف وأحمد * وقال أبو حنيفة لا يفطر وقال
زفر يفطر وعليه الكفارة ودليلنا في فطره انه ابتلع ما يمكنه الاحتراز عنة ولا تدعو حاجته إليه
فبطل صومه كما لو أخرجه إلى يده ثم ابتلعه ولدليل على زفر ان الكفارة إنما وجبت في الجماع
لفحشه فلا يلحق به ما دونه والله تعالى اعلم (اما) إذا جرى به الريق فبلعه بغير قصد فنقل المزني
انه لا يفطر ونقل الربيع انه يفطر فقال جماعة من الأصحاب في فطره بذلك قولان عملا بالنصين
والصحيح الذي قاله الأكثرون انهما على حالين فحيث قال لا يفطر أراد إذا لم يقدر على تمييزه ومجه
وحيث قال يفطر أراد إذا قدر فلم يفعل وابتلعه وقطع الشيخ أبو حامد بأنه لا يفطر وقال إمام
الحرمين والغزالي: ان نقى أسنانه بالخلال على العادة لم يفطر كغبار الطريق وإلا أفطر لتقصيره
كالمبالغة في المضمضة قال الرافعي ولقائل ان ينازعهما في الحاقه بالمبالغة التي ورد النص بالنهي
عنها ولان ماء المبالغة أقرب إلى الجوف والله تعالى اعلم *
{فرع} لو ابتلع شيئا يسيرا جدا كحبة سمسم أو خردل ونحوهما أفطر بلا خلاف عندنا وبه
قال جمهور العلماء وقال المتولي يفطر عندنا ولا يفطر عند أبي حنيفة كما قال في الباقي في خلل الأسنان
(الثالثة) ابتلاع الريق لا يفطر بالاجماع إذا كان على العادة لأنه يعسر الاحتراز منه قال أصحابنا: وإنما
لا يفطر بثلاثة شروط (أحدها) أن يتمحض الريق فلو اختلط بغيره وتغير لونه أفطر بابتلاعه سواء
كان المغير طاهرا كمن فتل خيطا مصبوغا تغير به ريقه أو نجسا كمن دميت لثته أو انقلعت سنه أو
تنجس فمه بغير ذلك فإنه يفطر بلا خلاف لان المعفو عنه هو الريق للحاجة وهذا أجنبي غير الريق
317

وهو مقصر به بخلاف غبار الطريق ونحوه فلو بصق حتى ابيض الريق ولم يبق فيه تغير ففي افطاره بابتلاعه
وجهان حكاهما البغوي قال (أصحهما) انه يفطر وهذا هو الصحيح عند غيره وقطع به المتولي وآخرون
ونقل الرافعي تصحيحه عن الأكثرين لأنه نجس لا يجوز ابتلاعه ولا يطهر الفم الا بالغسل بالماء
كسائر النجاسات وعلى هذا لو أكل بالليل شيئا نجسا ولم يغسل فمه حتى أصبح فابتلع الريق أفطر
صرح به المتولي والرافعي وغيرهما (الشرط الثاني) ان يبتلعه من معدنه فلو خرج عن فيه ثم رده بلسانه
أو غير لسانه وابتلعه أفطر قال أصحابنا حتى لو خرج إلى ظاهر الشفة فرده وابتلعه أفطر لأنه مقصر
بذلك ولأنه خرج عن محل العفو قال المتولي ولو خرج إلى شفته ثم رده وابتلعه أفطر ولو اخرج لسانه
وعليه ريق حتى برز لسانه إلى خارج فيه ثم رده وابتلعه فطريقان حكاهما البغوي وغيره (المذهب) وبه
قطع المتولي انه لا يفطر وجها واحدا لأنه لم ينفصل ولا يثبت حكم الخروج للشئ الا بانفصاله كما لو حلف
لا يخرج من دار فاخرج رأسه أو رجله لم يحنث ولو اخرج المعتكف رأسه أو رجله من المسجد لم يبطل
اعتكافه (والثاني) في ابطاله وجهان كما لو جمع الريق ثم ابتلعه وقد سبق مثل هذين الوجهين في باب
ما ينقض الوضوء فيما لو أخرجت دودة رأسها من فرجه ثم رجعت قبل انفصالها هل ينتقض وضوؤه فيه
وجهان (الأصح) ينتقض (الشرط الثالث) ان يبتلعه على العادة فلو جمعه قصدا ثم ابتلعه فهل يفطر فيه
وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) لا يفطر ولو اجتمع ريق كثير بغير قصد بأن كثر كلامه
أو غير ذلك بغير قصد فابتلعه لم يفطر بلا خلاف *
{فرع} لو بل الخياط خيطا بالريق ثم رده إلى فيه على عادتهم حال الفتل قال أصحابنا: ان لم يكن
عليه رطوبة تنفصل لم يفطر بابتلاع ريقه بعده بلا خلاف لأنه لم ينفصل شئ يدخل جوفه وممن نقل اتفاق
الأصحاب على هذا المتولي وإن كانت رطوبة تنفصل وابتلعها فوجهان حكاهما إمام الحرمين ومتابعوه
والمتولي (أحدهما) وهو قول الشيخ أبي محمد الجويني لا يفطر قال كما لا يفطر بالباقي من ماء المضمضة
(وأصحهما) وبه قطع الجمهور يفطر لأنه لا ضرورة إليه وقد ابتلعه بعد مفارقة معدنه وانفصاله وخص صاحب
التتمة الوجهين بما إذا كان جاهلا تحريم ذلك قال فإن كان عالما بتحريمه أفطر بلا خلاف لتقصيره *
{فرع} لو استاك بسواك رطب فانفصل من رطوبته أو خشبه المتشعب شئ وابتلعه أفطر بلا خلاف
صرح به الفوراني وغيره *
{فرع} اتفق العلماء على أنه إذا ابتلع ريق غيره أفطر وفى حديث عائشة رضي الله عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم " كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها " رواه أبو داود باسناد فيه سعد بن أوس
ومصدع وهما ممن اختلف في جرحه وتوثيقه قال أصحابنا هذا محمول على أنه بصقه ولم يبتلعه (المسألة الرابعة)
318

قال أصحابنا النخامة إن لم تحصل في حد الظاهر من الفم لم تضر بالاتفاق فان حصلت فيه بانصبابها
من الدماغ في الثقبة النافدة منه إلى أقصى الفم فوق الحلقوم نظر إن لم يقدر على صرفها ومجها حتى
نزلت إلى الجوف لم تضر وإن ردها إلى فضاء الفم أو ارتدت إليه ثم ابتلعها أفطر على المذهب وبه
قطع الجمهور وحكي صاحب العدة والبيان وجها أنه لا يفطر لان جنسها معفو عنه وهذا شاذ مرود
وان قدر على قطعها من مجراها ومجها فتركها حتى جرت بنفسها فوجهان حكاهما امام الحرمين
وغيره (أحدهما) يفطر لتقصيره قال الرافعي وهذا هو الأوفق لكلام الأصحاب (والثاني) لا يفطر
لأنه لم يفعل شيئا وإنما ترك الدفع فلم يفطر كما لو وصل الغبار إلى جوفه مع إمكان اطباق فيه ولم يطبقه
فإنه لا يفطر قال الشيخ أبو عمر وبن الصلاح ولعل هذا الوجه أقرب قال ولم أجد ذكرا لأصحهما
والله تعالى اعلم (الخامسة) قال الشافعي والأصحاب إذا تقايأ عمدا بطل صومه وان ذرعه القئ أي
غلبه لم يبطل وهذان الطرفان لا خلاف فيهما عندنا وفى سبب الفطر بالقئ عمدا وجهان مشهوران
وقد يفهمان من كلام المصنف (أصحهما) ان نفس الاستقاءة مفطرة كانزال المني بالاستمناء (والثاني)
أن المفطر رجوع شئ مما خرج وإن قل فلو تقايأ عمدا منكوسا أو تحفظ بحيث تيقن أنه لم يرجع
شئ إلى جوفه (فان قلنا) المفطر نفس الاستقاءة أفطر وإلا فلا قال امام الحرمين فلو استقاء عمدا
وتحفظ جهده فغلبه القئ ورجع شئ (فان قلنا) الاستقاءة مفطرة بنفسها فهنا أولى (وان قلتا لا يفطر
الا برجوع شئ فهو على الخلاف في المبالغة في المضمضة إذا سبق الماء إلى جوفه قال أصحابنا:
وحيث أفطر بالقئ عمدا لزمه القضاء في الصوم الواجب ولا كفارة عليه إن كان في رمضان
والله تعالى اعلم *
{فرع} إذا اقتلع نخامة من باطنه ولفظها لم يفطر على المذهب وبه قطع الحناطي وكثيرون وحكي
الشيخ أبو محمد الجويني فيه وجهين (أصحهما) لا يفطر لأنه مما تدعو إليه الحاجة (والثاني) يفطر كالقئ
قال الغزالي مخرج الحاء المهملة من الباطن والخاء المعجمة من الظاهر ووافقه الرافعي فقال هذا ظاهر
لان المهملة تخرج من الحلق والحلق باطن والمعجمة تخرج مما قبل الغلصمة قال الرافعي لكن يشبه
أن يكون قدر مما بعد مخرج المهملة من الظاهر أيضا هذا كلام الرافعي والصحيح أن المهملة
أيضا من الظاهر وعجب كونه ضبط بالمهملة التي هي من وسط الحلق ولم يضبط بالهاء أو الهمزة
فإنهما من أقصى الحلق (واما) الخاء المعجمة فمن أدنى الحلق وكل هذا مشهور لأهل العربية
والله تعالى اعلم
{فرع} في مذاهب العلماء في القئ * قد ذكرنا أن مذهبنا ان من تقايأ عمدا أفطر ولا كفارة
319

عليه إن كان في رمضان قال ابن المنذر اجمع أهل العلم على أن من تقايأ عمدا أفطر قال ثم قال على
وابن عمر وزيد بن أرقم وعلقمة والزهري ومالك واحمد واسحق وأصحاب الرأي: لا كفارة عليه
وإنما عليه القضاء قال وقال عطاء وأبو ثور عليه القضاء والكفارة وقال وبالأول أقول قال وأما من
ذرعه القئ فقال على وابن عمر وزيد بن أرقم ومالك والثوري والأوزاعي واحمد واسحق
وأصحاب الرأي لا يبطل صومه قال وهذا قول كل من يحفظ عنه العلم وبه أقول قال: وعن
الحسن البصري روايتان الفطر وعدمه هذا نقل ابن المنذر وقال العبدري نقل عن ابن مسعود وابن عباس انه
لا يفطر بالقئ عمدا قال وعن أصحاب مالك في فطر من ذرعه القئ خلاف قال وقال احمد إن تقايأ
فاحشا أفطر فخصه بالفاحش * دليلنا على الجميع حديث أبي هريرة السابق والله تعالى اعلم *
{فرع} في مسائل اختلف العلماء فيها (منها) الحقنة ذكرنا انها مفطرة عندنا ونقله ابن المنذر عن
عطاء والثوري وأبي حنيفة واحمد واسحق وحكاه العبدري وسائر أصحابنا أيضا عن مالك ونقله
المتولي عن عامة العلماء وقال الحسن بن صالح وداود لا يفطر (ومنها) لو قطر في إحليله شيئا فالصحيح
عندنا انه يفطر كما سبق وحكاه ابن المنذر عن أبي يوسف وقال أبو حنيفة والحسن بن صالح وداود لا يفطر
(ومنها) السعوط إذا وصل للدماغ أفطر عندنا وحكاه ابن المنذر عن الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة
ومالك واسحق وأبي ثور وقال داود لا يفطر وحكاه ابن المنذر عن بعض العلماء (ومنها) لو صب
الماء أو غيره في أذنيه فوصل دماغه أفطر على الأصح عندنا وبه قال أبو حنيفة وقال مالك والأوزاعي
وداود لا يفطر الا ان يصل حلقه (ومنها) لو داوى جرحه فوصل الدواء إلى جوفه أو دماغه أفطر
عندنا سواء كان الدواء رطبا أو يابسا وحكاه ابن المنذر عن أبي حنيفة والمشهور عن أبي حنيفة انه يفطر إن كان
دواء رطبا وإن كان يابسا فلا * وقال مالك وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وداود لا يفطر مطلقا
(ومنها) لو طعن نفسه بسكين أو غيرها فوصلت جوفه أو دماغه أو طعنه غيره بأمره فوصلتهما أفطر عندنا
وقال أبو يوسف ومحمد لا يفطر * وقال أبو حنيفة ان نفذت الطعنة إلى الجانب الآخر أفطر والا فلا (ومنها)
الطعام الباقي بين أسنانه إذا ابتلعه قد سبق تفصيل مذهبنا فيه قال ابن المنذر: اجمع العلماء على أنه
لا شئ على الصائم فيما يبلعه مما يجرى مع الريق مما بين أسنانه مما لا يقدر على رده قال فان قدر على رده
فابتلعه عمدا قال أبو حنيفة لا يفطر وقال سائر العلماء يفطر وبه أقول ودلائل هذه المسائل سبقت في
مواضعها والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
320

{وتحرم المباشرة في الفرج لقوله سبحانه وتعالى (فالآن باشروهن) إلى قوله عز وجل (ثم
أتموا الصيام إلى الليل) فان باشرها في الفرج بطل صومه لأنه أحد ما ينافي الصوم فهو كالأكل وان
باشر فيما دون الفرج فأنزل أو قبل فأنزل بطل صومه وإن لم ينزل لم يبطل لما روى جابر رضي الله عنه
قال " قبلت وأنا صائم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت قبلت وانا صائم فقال أرأيت لو تمضمضت
وان صائم " فشبه القبلة بالمضمضة وقد ثبت انه إذا تمضمض فوصل الماء إلى جوفه أفطر وان لم
يصل لم يفطر فدل على أن القبلة مثلها فان جامع قبل طلوع الفجر فاخرج مع الطلوع وأنزل لم يبطل
صومه لان الانزال تولد من مباشرة هو مضطر إليها فلم يبطل الصوم وان نظر وتلذذ فأنزل لم يبطل
صومه لأنه انزل من غير مباشرة فلم يبطل الصوم كما لو نام فاحتلم وان استمنى فأنزل بطل
صومه لأنه انزال عن مباشرة فهو كالانزال عن القبلة ولان الاستمناء كالمباشرة فيما دون الفرج
من الأجنبية في الاثم والتعزير فكذلك في الافطار
{الشرح} هذا الحديث المذكور مما غيره المصنف فجعله عن جابر وانه هو المقبل وليس هو
كذلك وإنما المقبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو السائل وهذا لفظ الحديث في سنن أبي داود
وسند أحمد بن حنبل وسنن البيهقي وجميع كتب الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال
" قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه هششت فقبلت وأنا صائم فقلت يا رسول الله صنعت اليوم أمرا
عظيما قبلت وأنا صائم قال أرأيت لو مضمضت من الماء وأنت صائم قلت لا بأس قال فمه " هذا
لفظ الحديث في سنن أبي داود وغيره وإسناده صحيح على شرط مسلم ورواه الحاكم وقال هو صحيح
على شرط البخاري ومسلم ولا يقبل قوله إنه على شرط البخاري إنما هو على شرط مسلم قال الخطابي
في هذا الحديث إثبات القياس والجمع بين الشيئين في الحكم الواحد لاجتماعها في الشبه لان المضمضة
بالماء ذريعة إلى نزوله إلى البطن فيفسد الصوم كما أن القبلة ذريعة إلى الجماع المفسد للصوم فإذا كان
أحدهما غير مفطر وهو المضمضة فكذا الآخر (وقوله) هششت معناه نشطت وارتحت (وقول)
المصنف وقد ثبت انه لو تمضمض فوصل الماء إلى جوفه أفطر هذا تفريع منه على أحد القولين في المضمضة
(اما) الأحكام ففي الفصل مسائل (إحداها) أجمعت الأمة على تحريم الجماع في القبل والدبر على الصائم
وعلى أن الجماع يبطل صومه للآيات الكريمة التي ذكرها المصنف والأحاديث الصحيحة ولأنه
مناف للصوم فأبطله كالأكل وسواء انزل أم لا فيبطل صومه في الحالين بالاجماع لعموم الآية
والأحاديث ولحصول المنافي ولو لاط برجل أو صبي أو أولج في قبل بهيمة أو دبرها بطل صومه
بلا خلاف عندنا سواء أنزل أم لا * وقل أبو حنيفة في اللواط كمذهبنا * وقال في البهيمة إن أنزل بطل
321

صومه وإلا فلا وسواء في الوطئ وطئ زوجته وأمته وأجنبية بزنا أو شبهة فكله يفطر به إذا كان
عالما بالصوم (الثانية) إذا قبل أو باشر فيما دون الفرج بذكره أو لمس بشرة امرأة بيده أو غيرها
فان أنزل المنى بطل صومه وإلا فلا لما ذكره المصنف ونقل صاحب الحاوي وغيره الاجماع على بطلان
صوم من قبل أو باشر دون الفرج فأنزل ويستدل أيضا لعدم الفطر إذا لم ينزل بالأحاديث الصحيحة
المشهورة " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم " وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى وهذا
الذي ذكرناه هو المذهب والمنصوص وبه قطع الجمهور وحكي إمام الحرمين عن والده انه حكي وجهين فيمن ضم
امرأة إلى نفسه وبينهما حائل فأنزل قال وهو عندي كسبق ماء المضمضة قال فان ضاجعها متجردا فهو
كالمبالغة في المضمضة قال وقد وجدت للشيخ أبى على السنجي في الشرح رمزا إلى هذا قلت قد جزم المتولي بأنه
لو قبلها فوق خمار فأنزل لا يفطر لعدم المباشرة قال ولو لمس شعرها فأنزل ففي بطلان صومه وجهان بناء على
انتقاض الوضوء بمسه (الثالثة) إذا جامع قبل الفجر ثم نزع مع طلوعه أو عقب طلوعه وأنزل لم يبطل
صومه لأنه تولد من مباشرة مباحة فلم يجب فيه شئ كما لو قطع يد رجل قصاصا فمات المقتص منه فهذا
هو التعليل الصحيح وأما قول المصنف لأنه تولد من مباشرة هو مضطر إليها فليس بمقبول (الرابعة)
إذا نظر إلى امرأة ونحوها وتلذذ فأنزل بذلك لم يفطر سواء كرر النظر أم لا وهذا لا خلاف فيه
عندنا الا وجها شاذا حكاه السرخسي في الأمالي أنه إذا كرر النظر فأنزل بطل صومه والمذهب
الأول وبه قال أبو الشعثاء جابر بن زيد التابعي وسفيان الثوري وأبو حنيفة وأبو يوسف وأبو ثور وحكي
ابن المنذر عن الحسن البصري هو كالجماع فيجب القضاء والكفارة ونحوه عن الحسن بن صالح
وعن مالك روايتان (أحدهما) كالحسن (والثانية) ان تابع النظر فعليه القضاء والكفارة والا فالقضاء
قال ابن المنذر لا شئ عليه ولو احتاط فقضي يوما فحسن قال صاحب الحاوي أما إذا فكر بقلبه من
غير نظر فتلذذ فأنزل فلا قضاء عليه ولا كفارة بالاجماع قال وإذا كرر النظر فأنزل أثم وان لم يجب
القضاء (الخامسة) إذا استمنى بيده وهو استخراج المنى أفطر بلا خلاف عندنا لما ذكره المصنف
ولو حك ذكره لعارض فأنزل فوجهان حكاهما الصيمري وصاحب البيان قالوا ويشبه أن يكونا مبنيين
على القولين فيمن سبق ماء المضمضة إلى جوفه قلت والأصح انه لا يفطر في مسألة حك الذكر لعارض
لأنه متولد من مباشرة مباحة والله أعلم (اما) إذا احتلم فلا يفطر بالاجماع لأنه مغلوب كمن طارت ذبابة
فوقعت في جوفه بغير اختياره فهذا هو المعتمد في دليل المسألة (وأما) الحديث المروى عن النبي
322

صلى الله عليه وسلم " لا يفطر من قاء ولا من احتجم " فحديث ضعيف لا يحتج به وسبق
بيانه في مسالة القئ والله تعالى اعلم *
{فرع} لو قبل امرأة وتلذذ فأمذى ولم يمن لم يفطر عندنا بلا خلاف وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري والشعبي والأوزاعي وأبي حنيفة وأبى ثور قال وبه أقول * وقال مالك واحمد يفطر
دليلنا انه خارج لا يوجب الغسل فأشبه البول
{فرع} قال صاحب البيان إذا أمنى الخنثى المشكل عن مباشرة وهو صائم أو رأى الدم يوما
كاملا من فرج النساء لم يبطل صومه لاحتمال انه عضو زائد وإن أمنى من فرج الرجال عن مباشرة
ورأي الدم في ذلك اليوم من فرج النساء واستمر الدم أقل مدة الحيض بطل صومه لأنه إن كان
رجلا فقد انزل عن مباشرة والا فقد حاضت فان استمر به الدم بعد ذلك أياما ولم ينزل عن
مباشرة من آلة الرجال لم يبطل صومه في يوم انفراد الدم أو الانزال ولا كفارة حيث قلنا
بفطره للاحتمال هذا كلام صاحب البيان *
قال المصنف رحمه الله
{وان فعل ذلك كله ناسيا لم يبطل صومه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " من أكل ناسيا أو شرب ناسيا فلا يفطر فإنما هو رزق رزقه الله " فنص على الأكل والشرب
وقسنا عليه كل ما يبطل الصوم من الجماع وغيره وان فعل ذلك وهو جاهل بتحريمه لم
يبطل صومه لأنه يجهل تحريمه فهو كالناسي وان فعل ذلك به بغير اختياره بان أوجر الطعام في
حلقه مكرها لم يبطل صومه وان شد امرأته ووطئها وهي مكرهة لم يبطل صومها وان استدخلت
المرأة ذكر الرجل وهو نائم لم يبطل صومه لحديث أبي هريرة " ومن ذرعه القئ فلا قضاء عليه "
فدل. على أن كل ما حصل بغير اختياره لم يجب به القضاء ولان النبي صلى الله عليه وسلم أضاف
أكل الناسي إلى الله تعالى وأسقط به القضاء فدل على أن كل ما حصل بغير فعله لا يوجب القضاء
وان أكره حتى أكل بنفسه أو أكرهت المرأة حتى مكنت من الوطئ فوطئها ففيه قولان (أحدهما)
يبطل الصوم لأنه فعل ما ينافي الصوم لدفع الضرر وهو ذا كر للصوم فبطل صومه كما لو أكل لخوف
المرض أو شرب لدفع العطش (والثاني) لا يبطل لأنه وصل إلى جوفه بغير اختياره فأشبه إذا أوجر
في حلقه *}
{الشرح} حديث أبي هريرة " من ذرعه القئ " سبق بيانه في مسالة القئ وحديثه الأول
" من أكل ناسيا " إلى آخره رواه الترمذي والدارقطني والبيهقي وغيرهم بلفظه الذي هنا قال الترمذي
323

وهو حديث حسن صحيح ورواه البخاري ومسلم بمعناه لفظ البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا
نسي فاكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " وفى رواية له " من اكل ناسيا وهو صائم
فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من
أفطر
في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة " رواه الدارقطني باسناد صحيح أو حسن *
وقول المصنف وان شد امرأته لو قال امرأة لكان أحسن وأعم (اما) الأحكام ففيه مسائل
(إحداها) إذا اكل أو شرب أو تقايأ أو استعط أو جامع أو فعل غير ذلك من منافيات الصوم
ناسيا لم يفطر عندنا سواء قل ذلك أم كثر هذا هو المذهب والمنصوص وبه قطع المصنف والجمهور
من العراقيين وغيرهم وذكر الخراسانيون في اكل الناسي إذا كثر وجهين ككلام الناسي في الصلاة
إذا كثر والمذهب انه لا يفطر هنا وجها واحدا لعموم الأحاديث السابقة ولأنه قد يستمر به
النسيان حتى يأكل كثيرا ويندر ذلك في الكلام في الصلاة وذكر الخراسانيون في جماع الناسي
طريقين (أصحهما) ما قدمناه عن الجمهور انه لا يفطر للأحاديث (والثاني) على قولين كجماع المحرم
ناسيا (أصحهما) لا يفطر (والثاني) يفطر قال المتولي وغيره وهو مخرج من الحج ليس منصوصا وبهذا
القول قال احمد فعلى المذهب وهو الطريق الأول قال السرخسي الفرق بين جماع الناسي في
الاحرام والصيام ان المحرم له هيئة يتذكر بها حاله فإذا نسي كان مقصرا بخلاف الصائم *
والله تعالى اعلم *
{فرع} في مذاهب العلماء في الاكل وغيره ناسيا * ذكرنا ان مذهبنا انه لا يفطر بشئ من
المنافيات ناسيا للصوم وبه قال الحسن البصري ومجاهد وأبو حنيفة وإسحاق وأبو ثور وداود وابن المنذر وغيرهم وقال عطاء والأوزاعي والليث يجب قضاؤه في الجماع ناسيا دون الاكل
وقال ربيعه ومالك يفسد صوم الناسي في جميع ذلك وعليه القضاء دون الكفارة * وقال
احمد يجب بالجماع ناسيا القضاء والكفارة ولا شئ في الاكل * دليلنا على الجميع الأحاديث السابقة
والله تعالى اعلم (المسألة الثانية) إذا اكل الصائم أو شرب أو جامع جاهلا بتحريمه فإن كان قريب
عهد باسلام أو نشأ ببادية بعيدة بحيث يخفى عليه كون هذا مفطرا لم يفطر لأنه لا يأثم فأشبه الناسي
الذي ثبت فيه النص وإن كان مخالطا للمسلمين بحيث لا يخفى عليه تحريمه أفطر لأنه مقصر وعلى
هذا التفصيل ينزل كلام المصنف وغيره ممن أطلق المسألة ولو فصل المصنف كما فصل غيره على
ما ذكرناه كان أولى (الثالثة) إذا فعل به غيره المفطر بان أوجر الطعام قهرا أو اسعط الماء وغيره أو
طعن بغير رضاه بحيث وصلت الطعنة جوفه أو ربطت المرأة وجومعت أو جومعت نائمة فلا فطر
في كل ذلك لما ذكره المصنف وكذا لو استدخلت ذكره نائما أفطرت هي دونه لما ذكره المصنف
324

وسواء في ذلك امرأته وزوجها والأجنبية والأجنبي ولا خلاف عندنا في شئ من هذا الا وجها
حكاه الحناطي والرافعي فيما إذا أوجر انه يفطر وهذا شاذ مردود ولو كان مغمى عليه وقد نوي
من الليل وأفاق في بعض النهار وقلنا يصح صومه فأوجره غيره شيئا في حال اغمائه لغير المعالجة لم
يبطل صومه إلا على وجه الحناطي وان أوجره معالجة واصلاحا له فهل يفطر فيه وجهان مشهوران في
كتب الخراسانيين (أصحهما) لا يفطر كغير المعالجة لأنه لا صنع له (والثاني) يفطر لان فعل المعالج
لمصلحته فصار كفعله قالوا ونظير المسألة إذا عولج المحرم المغمى عليه بدواء فيه طيب هل تجب الفدية
فيه خلاف سنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى *
{فرع} لو طعنه غيره طعنة وصلت جوفه بغير امره لكن أمكنه دفعه فلم يدفعه ففي فطره وجهان
حكاهما الدارمي (أقيسهما) لا يفطر إذ لا فعل له والله أعلم (الرابعة) لو أكره الصائم على أن يأكل بنفسه
أو يشرب فأكل أو شرب أو أكرهت على التمكين من الوطئ فمكنت ففي بطلان الصوم به قولان
مشهوران قل من بين الأصح منهما (والأصح) لا يبطل ممن صححه المصنف في التنبيه والغزالي في
الوجيز والعبدري في الكفاية والرافعي في الشرح وآخرون وهو الصواب ولا تغتر بتصحيح
الرافعي في المحرر البطلان وقد نبهت عليه في مختصر المحرر * واحتجوا لعدم البطلان بأنه بالا كراه
سقط أثر فعله ولهذا لا يأثم بالاكل لأنه صار مأمورا بالاكل لا منهيا عنه فهو كالناسي بل أولي منه
بأن لا يفطر لأنه مخاطب بالاكل لدفع ضرر الاكراه عن نفسه بخلاف الناسي فإنه ليس بمخاطب
بأمر ولا نهى (وأما) قول القائل الآخر إنه أكل لدفع الضرر عنه فكان كالأكل لدفع الجوع
والعطش ففرقوا بينهما بأن الاكراه قادح في اختياره واما الجوع والعطش فلا يقدحان في اختياره
بل يزيد أنه قال أصحابنا فان قلنا يفطر المنكرة فلا كفارة عليه بلا خلاف سواء أكره على أكل
أو أكرهت على التمكين من الوطئ وأما إذا أكره رجل على الوطئ فيبني على الخلاف المشهور أنه
هل يتصور إكراهه على الوطئ أم لا قال أصحابنا إن قلنا يتصور اكراهه فهو كالمكره ففي افطاره القولان
(فان قلنا) يفطر فلا كفارة قولا واحدا لأنها تجب على من جامع جماعا يأثم به وهذا لم يأثم بلا خلاف
(وإن قلنا) لا يتصور اكراهه أفطر قولا واحدا ووجبت الكفارة لأنه غير مكره والله أعلم * قال
صاحب الحاوي: لو شدت يدا الرجل وأدخل ذكره في الفرج بغير اختياره ولا قصد منه فإن لم
ينزل فصومه صحيح وإن أنزل فوجهان (أحدهما) لا يبطل صومه لأنه لم يبطل بالايلاج فلم يبطل
بما حدث منه وكأنه أنزل من غير مباشرة لان المباشرة سقط أثرها بالاكراه (والثاني) يبطل لان
زال لا يحدث إلا عن قصد واختيار قال فعلى هذا يلزمه القضاء إن كان في رمضان وفى الكفارة
325

وجهان (أحدهما) تجب لأنا جعلناه مفطرا باختياره (والثاني) لا تجب للشبهة هذا كلام صاحب الحاوي
قلت هذا الخلاف في فطره شبيه بالخلاف فيمن أكره على كلمة الطلاق فقصد إيقاعه ففي وقوعه خلاف
مشهور حكاه المصنف والأصحاب وجهين (أحدهما) لا يقع لان اللفظ سقط أثره بالاكراه وبقى
مجرد نية والنية وحدها لا يقع بها طلاق (وأصحهما) يقع لوجود قصد الطلاق بلفظه وينبغي
أن يكون الأصح في مسألة الصوم أنه إن حصل بالانزال تفكر وقصد وتلذذ أفطر وإلا فلا
والله تعالى أعلم *
{فرع} ذكرنا أن الأصح عندنا أن المكره على الاكل وغيره لا يبطل صومه وقال
مالك وأبو حنيفة وأحمد يبطل والله تعالى أعلم *
* قال المنصف رحمه الله تعالى *
{وإن تمضمض أو استنشق فوصل الماء إلى جوفه أو دماغه فقد نص فيه على قولين (فمن) أصحابنا
من قال القولان إذا لم يبالغ فأما إذا بالغ فيبطل صومه قولا واحدا وهو الصحيح لان النبي صلى الله عليه وسلم
قال للقيط بن صبرة " إذا استنشقت فأبلغ الوضوء إلا أن تكون صائما " فنهاه عن المبالغة فلو لم يكن
وصول الماء في المبالغة يبطل الصوم لم يكن للنهي عن المبالغة معني ولان المبالغة منهى
عنها في الصوم وما تولد من سبب منهي عنه فهو كالمباشرة والدليل عليه انه إذا جرح انسانا فمات
جعل كأنه باشر قتله (ومن) اصحبنا من قال هي على قولين بالغ أو لم يبالغ (أحدهما) يبطل صومه
لقوله صلى الله عليه وسلم لمن قبل وهو صائم " أرأيت لو تمضمضت " فشبه القبلة بالمضمضة وإذا قبل فأنزل بطل
صومه فكذلك إذا تمضمض فنزل الماء إلى جوفه وجب ان يبطل صومه (والثاني) لا يبطل لأنه وصل
إلى جوفه بغير اختياره فلم يبطل صومه كغبار الطريق وغربلة الدقيق} *
{الشرح} حديث لقيط سبق بيانه قريبا في فصل تحريم الطعام والشراب على الصائم وحديث
قبلة الصائم وتشبيهها بالمضمضة بيناه قريبا (اما) حكم المسألة فاتفق أصحابنا ونصوص الشافعي
رضي الله عنه على أنه يستحب للصائم المضمضة والاستنشاق في وضوئه كما يستحبان لغيره لكن
تكره المبالغة فيهما لما سبق في باب الوضوء فلو سبق الماء فحاصل الخلاف في المضمضة والاستنشاق
إذا وصل الماء منهما جوفه أو دماغه ثلاثة أقوال (أصحها) عند الأصحاب ان بالغ أفطر والا فلا (والثاني)
يفطر مطلقا (والثالث) لا يفطر مطلقا والخلاف فيمن هو ذاكر للصوم عالم بالتحريم فإن كان ناسيا
أو جاهلا لم يبطل بلا خلاف كما سبق ولو غسل فمه من نجاسة فسبق الماء إلى جوفه فهو كسبقه في المضمضة
فلو بالغ ههنا قال الرافعي هذه المبالغة لحاجة فينبغي أن تكون كالمضمضة بلا مبالغة لأنه مأمور بالمبالغة
326

للنجاسة دون المضمضة وهذا الذي قاله متعين ولو سبق الماء من غسل تبرد أو من المضمضة في المرة
الرابعة قال البغوي ان بالغ أفطر والا فهو مرتب على المضمضة وأولي بابطال الصوم لأنه غير مأمور
به هذا كلام البغوي والمختار في الرابعة الجزم بالافطار لأنها منهى عنها ولو جعل الماء في فيه لا لغرض
فسبق ونزل إلى جوفه فطريقان حكاهما المتولي (أحدهما) يفطر (والثاني) على القولين ولو أصبح ولم ينو صوما
فتمضمض ولم يبالغ فسبق الماء إلى جوفه ثم نوى صوم تطوع صح صومه على أصح الوجهين لأنه لا أثر
لما سبق على الصحيح فكأنه لم يكن قال القاضي حسين في فتاويه: ان قلنا إن السبق لا يبطل الصوم
صح صومه هذا وإلا فلا قال والأصح الصحة في الموضعين هذا كلامه وهذه مسألة مهمة نفيسة والله تعالى
أعلم * قال الدارمي: ولو كان الماء في فيه أو أنفه فوجد منه عطاس أو نحوه فنزل الماء بذلك إلى
جوفه أو دماغه لم يفطر قال أصحابنا وسواء في المضمضة والاستنشاق صوم الفرض والنفل فحكمهما
سواء على ما ذكرناه * هذا مذهبنا وحكى أصحابنا عن النخعي انه إن سبق الماء في وضوء مكتوبة
لم يفطر وإن كانت نافلة أفطر واستدل أصحابنا بأن المضمضة مأمور بها في وضوء الفرض والنفل
والله تعالى أعلم *
{فرع} قال المتولي وغيره إذا تمضمض الصائم لزمه مج الماء ولا يلزمه تنشيف فمه بخرقة
ونحوها بلا خلاف قال المتولي لان في ذلك مشقة قال ولأنه لا يبقى في الفم بعد المج إلا رطوبة لا تنفصل عن الموضع إذ لو انفصلت لخرجت في المج والله تعالى أعلم *
{فرع} في مذاهب العلماء فيمن تمضمض واستنشق فسبق الماء بغير اختياره إلى جوفه أو دماغه
قد ذكرنا انه إن بالغ فالصحيح عندنا بطلان صومه وإلا فلا وممن قال ببطلان الصوم مطلقا مالك
وأبو حنيفة والمزني قال الماوردي وهو قول أكثر الفقهاء وقال الحسن البصري وأحمد وإسحق
وأبو ثور لا يبطل مطلقا وحكى الماوردي عن ابن عباس والشعبي والنخعي وابن أبي لبلي انه إن توضأ
لنافلة بطل صومه وإن توضأ لفريضة فلا لأنه مضطر إليه في الفريضة ومختار في النافلة قال الماوردي هذا
ضعيف لوجهين (أحدهما) أن المضمضة والاستنشاق سنتان فهو غير مضطر إليهما في الفرض والنفل ومندوب
إليهما فيهما (والثاني) ان حكم الفطر لا يختلف بذلك ولهذا لو أجهده الصوم أكل وقضي ولو أكل من
غير مشقة قضي والله تعالى أعلم *
{فرع} اتفق أصحابنا على أنه لو طارت ذبابة فدخلت جوفه أو وصل إليه غبار الطريق
أو غربلة الدقيق بغير تعمد لم يفطر قال أصحابنا ولا يكلف اطباق فمه عند الغبار والغربلة لان
327

فيه حرجا فلو فتح فمه عمدا حتى دخله الغبار ووصل وجهه فوجهان حكاهما البغوي والمتولي وغيرهما
قال البغوي (أصحهما) لا يفطر لأنه معفو عن جنسه (والثاني) يفطر لتقصيره وهو شبيه بالخلاف
السابق في دم البراغيث إذا كثر وفيما إذا تعمد قتل قملة في ثوبه وصلي ونظائر ذلك والله أعلم *
قال المصنف رحمه الله *
{وان أكل أو جامع وهو يظن أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع أو يظن أن الشمس قد غربت
ولم تغرب لزمه القضاء لما روى حنظلة قال " كنا بالمدينة في شهر رمضان وفى السماء شئ من السحاب
فظننا أن الشمس قد غابت فأفطر بعض الناس فأمر عمر رضي الله عنه من كان قد أفطر أن يصوم يوما
مكانه " ولأنه مفطر لأنه كان يمكنه أن يثبت إلى أن يعلم فلم يعذر} *
{لشرح} هذه المسألة ودليلها وفروعها وما يتعلق بها سبق بيانه كله قريبا في فصل يدخل في
الصوم بطلوع الفجر ويخرج منه بغروب الشمس وذكرنا هناك أن الصحيح كما ذكره المصنف وفى
المسألة وجهان آخران سبقا هناك وسبق بيان حديث عمر رضي الله عنه هذا المذكور في مذاهب العلماء
والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
{ومن أفطر في رمضان بغبر الجماع من غير عذر وجب عليه القضاء لقوله صلى الله عليه وسلم " من استقاء فعليه
القضاء " ولان الله تعالى أوجب القضاء على المريض والمسافر مع وجود العذر فلان يجب مع عدم
العذر أولي ويجب امساك بقية النهار لأنه أفطر بغير عذر فلزمه امساك بقية النهار ولا يجب عليه
الكفارة لان الأصل عدم الكفارة الا فيما ورد به الشرع وقد ورد الشرع بايجاب الكفارة في
الجماع وما سواه وليس في معناه لان الجماع أغلظ ولهذا يجب به الحد في ملك الغير ولا يجب فيما سواه
فبقي على الأصل وان بلغ ذلك السلطان عزره لأنه محرم ليس فيه حد ولا كفارة فثبت فيه التعزير
كالمباشرة فيما دون الفرج من الأجنبية} *
{الشرح} هذا الحديث سبق بيانه قال أصحابنا إذا أفطر الصائم في نهار رمضان بغير الجماع
من غير عذر عامدا مختارا عالما بالتحريم بأن أكل أو شرب أو استعط أو باشر فيما دون الفرج
فأنزل أو استمنى فأنزل اثم ووجب عليه القضاء وامساك بقية النهار ولا يلزمه الكفارة العظمي
وهي عتق رقبة وهل تلزمه الفدية وهي مد من الطعام فيه طريقان (أصحهما) وبه قطع
العراقيون لا يلزمه لما ذكره المصنف (والثاني) حكاه الخراسانيون فيه وجهان (أصحهما) عند جمهورهم
لا يلزمه (والثاني) يلزمه لأنها إذا لزمت المرضع والحامل وهما معذورتان فهذا أولى وهذا الوجه حكاه
328

البندنيجي عن أبي علي بن أبي هريرة قال المصنف والأصحاب وإذا علم السلطان أو نائبه بهذا عزره
لما ذكره المصنف *
{فرع} ذكره أصحابنا الخراسانيون * قالوا لو رأى الصائم في رمضان مشرفا على الغرق ونحوه
ولم يمكنه تخليصه الا بالفطر ليتقوى فأفطر لذلك جاز بل هو واجب عليه ويلزمه القضاء وفى
الفدية وجهان مشهوران (أصحهما) باتفاقهم لزومها كالمرضع (والثاني) لا يلزمه كالمسافر والمريض
والله تعالى اعلم *
{فرع} قال أصحابنا الامساك تشبيها بالصائمين من خواص رمضان كالكفارة فلا امساك على
متعد بالفطر في نذر أو قضاء أو كفارة كما لا كفارة وهذا كله متفق عليه قال أصحابنا ثم
من أمسك تشببها فليس هو في صوم بخلاف المحرم إذا أفسد احرامه ويظهر اثره في أن المحرم لو ارتكب
محظورا لزمته الفدية ولو ارتكب الممسك محظورا فلا شئ عليه بلا خلاف سوى الاثم وقد سبق
بيان هذا في مسألة الامساك إذا بان يوم الشك من رمضان قال أصحابنا ويجب الامساك على كل متعد بالفطر
في رمضان سواء أكل أو ارتد أو نوى الخروج من الصوم إذا قلنا يخرج منه بنية الخروج ويجب على من نسبي
النية من الليل وأما المسافر إذا أقام والمريض إذا برأ والصبي إذا بلغ والمجنون إذا أفاق والحائض والنفساء
إذا طهرتا والكافر إذا أسلم وغيرهم ممن في معناهم فسبق بيان حكمهم في الامساك في أوائل الباب
مبسوطا والله أعلم *
{فرع} في مذاهب العلماء فيمن أفطر بغير الجماع في نهار رمضان عدوانا * ذكرنا أن مذهبنا ان
عليه قضاء يوم بدله وامساك بقية النهار وإذا قضى يوما كفاه عن الصوم وبرئت ذمته منه وبهذا
قال أبو حنيفة ومالك وأحمد وجمهور العلماء قال العبدي هو قول الفقهاء كافة الا من سنذكره إن شاء الله
تعالى وحكى ابن المنذر وغيره عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنه يلزمه ان يصوم اثني عشر يوما
مكان كل يوم لان السنة اثني عشر شهرا وقال سعيد بن المسيب يلزمه صوم ثلاثين يوما وقال النخعي
يلزمه صوم ثلاثة آلاف يوم كذا حكاه عنه ابن المنذر وأصحابنا وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود
رضي الله عنهما لا يقضيه صوم الدهر * واحتج لهذا المذهب بحديث أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى
الله عليه وسلم قال " من أفطر يوما من رمضان من غير رخصة لم يجزه صيام الدهر " رواه أبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجة باسناد غريب لكن لم يضعفه أبو داود (وأما) الكفارة فيه والفدية
فمذهبنا انه لا يلزمه شئ من ذلك كما سبق وبه قال سعيد بن جبير وابن سيرين والنخعي وحماد بن
329

أبي سليمان وأحمد وداود * وقال أبو حنيفة مالا يتغذى به في العادة كالعجين وبلع حصاة ونواة
ولؤلؤه يوجب القضاء ولا كفارة وكذا ان باشر دون الفرج فأنزل أو استمنى فلا كفارة وقال
الزهري والأوزاعي والثوري واسحق: تجب الكفارة العظمي من غير تفصيل وحكاه ابن المنذر
أيضا عن عطاء والحسن وأبي ثور ومالك والمشهور عن مالك انه يوجب الكفارة العظمى في كل
فطر لمعصية كما حكاه ابن المنذر وحكى عنه خلافه قال ابن المذر وروينا أيضا عن عطاء ان عليه تحرير رقبة
فإن لم يجدها فبدنة أو بقرة أو عشرين صاعا من طعام * دليلنا ما ذكره المصنف (وأما) الحديث الذي
رواه البيهقي باسناده عن هشيم باسناده عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم " انه أمر الذي أفطر في
في شهر رمضان بكفارة الظهار " وفى رواية عن هشيم عن ليث ابن أبي سليم عن مجاهد عن أبي هريرة
رضي الله عنه عن النبي الله عليه وسلم مثله (فجوابه) من وجهين (أحدهما) انه ضعيف لان الرواية الأولى
مرسلة والثانية فيها ليث بن أبي سليم وهو ضعيف (والجواب الثاني) جواب البيهقي ان هذا اختصار
وقع من هشيم فقد رواه أكثر أصحاب ليث عنه عن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه مفسرا في
قصته الذي وقع على امرأته في نهار رمضان قال البيهقي وهكذا كل حديث روى في هذا الباب مطلقا
من وجه فقد روى من وجه آخر مفسرا بأنه في قصة الواقع على امرأته قال ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم في الفطر بالاكل شئ هذا كلام البيهقي والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
{وان أفطر بالجماع من غير عذر وجب عليه القضاء لما روى أبو هريرة رضي الله عنه " ان النبي صلى الله عليه وسلم امر الذي
واقع أهله في رمضان بقضائه " ولأنه إذا وجب القضاء على المريض والمسافر وهما معذوران فعلى المجامع أولي
ويجب عليه إمساك بقية النهار لأنه أفطر بغير عذر وفى الكفارة ثلاثة أقوال (أحدها) تجب على الرجل دون
المرأة لأنه حق مال مختص بالجماع فاختص به الرجل دون المرأة كالمهر (والثاني) تجب على كل واحد منهما
كفارة لأنه عقوبة تتعلق بالجماع فاستوى فيها الرجل والمرأة كحد الزنا (والثالث) تجب عليه عنه وعنها
كفارة لان الاعرابي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن فعل مشترك بينهما فأوجب عتق رقبة فدل
على أن ذلك عنه وعنها} *
{الشرح} حديث أبي هريرة رضي الله عنه أصله في الصحيحين لفظهما عن أبي هريرة
رضي الله عنه قال " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال هلكت يا رسول الله قال وما أهلكك
قال وقعت على امرأتي في رمضان فقال هل تجد ما تعتق رقبة قال لا قال فهل تستطيع أن تصوم شهرين
330

متتابعين قال لا قال فهل تجد ما تطعم ستين مسكينا قال لا ثم جلس فاتى النبي صلى الله عليه وسلم
بعزق فيه تمر فقال تصدق بهذا فقال أفقر منا فما بين لابتيها أهل بيت أحوج إليه منا فضحك
النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال اذهب فأطعمه أهلك " وفى رواية البخاري " أعلي
أفقر مني يا رسول الله " وفى رواية أبى داود قال " فأتى بعرق فيه تمر قدر خمسة عشر صاعا
وفيها قال كله أنت وأهل بيتك وصم يوما واستغفر الله " واسناد رواية أبى داود هذه جيد إلا أن فيه
رجلا ضعفه وقد روى له مسلم في صحيحه ولم يضعف أبو داود هذه الرواية (وقوله) لأنه حق مال احتراز
من الغسل والحد (وقوله) يختص بالجماع احتراز من غرامة المتلفات والزكاة وكفارة اليمين والقتل
(وقوله) لأنه عقوبة احتراز من المهر ومن لحوق النسب وحرمة المصاهرة في وطئ الشبهة فان الشبهة
تعتبر في الرجل دون المرأة على الصحيح (وقوله) تتعلق بالجماع احتراز من الدية ومن قتل الحربي فإنه
يقتل الرجل دون المرأة (أما) أحكام المسألة فإذا أفطر الرجل أو المرأة في نهار رمضان بالجماع بغير
عذر لزمه إمساك بقية النهار بلا خلاف لما ذكره المصنف وفى وجوب قضاء ذلك اليوم طريقان (أحدهما)
وبه قطع المصنف وأكثر العراقيين وجماعة من الخراسانيين أنه يجب (والثاني) ذكره الخراسانيون
فيه ثلاثة أقوال (أصحها) وجوبه لما ذكره المصنف (والثاني) لا يجب وتندرج فيه الكفارة (والثالث)
ان كفر بالصوم لم يجب والا وجب وحكى بعض الخراسانيين هذا الخلاف قولين ووجها وقال
البندنيجي من العراقيين أومأ الشافعي رضي الله عنه في الام إلى قولين سواء كفر بالصوم أم بغيره
قال امام الحرمين ولا خلاف ان المرأة يلزمها القضاء إذا لم نوجب عليها كفارة والله تعالى اعلم * وتجب
الكفارة بالجماع بلا خلاف وهي على الرجل فاما الزوجة الموطوءة فإن كانت مفطرة بحيض أو غيره
أو صائمة ولم يبطل صومها لكونها نائمة مثلا فلا كفارة عليها وإن كانت صائمة فمكنته طائعة فقولان
(أحدهما) وهو نصه في الاملاء يلزمها كفارة أخرى في مالها ذكره المصنف (وأصحهما) لا يلزمها بل يختص
الزوج بها وهو نصه في الام والقديم فعلى هذا هل الكفارة التي تلزم الزوح عنه خاصة أم عنه وعنها
ويتحملها هو عنها فيه قولان مستنبطان من كلام الشافعي وربما قيل منصوصان وربما قيل وجهان ومن
الأصحاب من يجمع المسألتين كما فعله المصنف وكثيرون ويقول في الكفارة ثلاثة أقوال (أصحها) تجب
على الزوج خاصة (والثاني) تجب عليه عنه وعنها (والثالث) يلزم كل واحد منهما كفارة والأصح
على الجملة وجوب كفارة واحدة عليه خاصة عن نفسه فقط وانه لا شئ على المرأة ولا يلاقيها الوجوب
وذكر الدارمي وغيره في المسألة أربعة أقوال هذه الثلاثة (والرابع) يجب على الزوج في ماله كفارتان كفارة
331

عنه وكفارة عنها * قال المصنف رحمه الله تعالى *
{والكفارة عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا
والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم " أمر الذي وقع على امرأته
في يوم من شهر رمضان أن يعتق رقبة قال لا أجد قال صم شهرين متتابعين قال لا أستطيع قال
أطعم ستين مسكينا قال لا أجد فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق من تمر فيه خمسة عشر صاعا قال
خذه وتصدق به قال على أفقر من أهلي والله ما بين لابتي المدينة أحوج من أهلي فضحك النبي صلى الله عليه
وسلم حتى بدت نواجذه قال خذه واستغفر الله تعالى وأطعم أهلك " (فان قلنا) يجب عليه دونها
اعتبر حاله فإن كان من أهل العتق أعتق وإن كان من أهل الصوم صام وإن كان من أهل الاطعام أطعم
(وان قلنا) يجب على كل واحد منهما كفارة اعتبر حال كل واحد منهما بنفسه فمن كان من أهل العتق
أعتق ومن كأم من أهل الصوم صام ومن كان من أهل الاطعام أطعم كرجلين أفطرا بالجماع (فان قلنا)
يجب عليه كفارة عنه وعنها اعتبر حالهما فإن كانا من أهل العتق أعتق وإن كانا من أهل الاطعام أطعم
وإن كانا من أهل الصيام وجب على كل واحد منهما صوم شهرين متتابعين لأن الصوم لا يتحمل وان
اختلف حالهما نظرت فإن كان الرجل من أهل العتق وهي من أهل الصوم أعتق رقبة ويجزئ عنهما
لان من فرضه الصوم إذا أعتق أجزأه وكان ذلك أفضل من الصوم وإن كان من أهل الصوم وهي
من أهل الاطعام لزمه ان يصوم شهرين ويطعم عنها ستين مسكينا لان النيابة تصح في الاطعام وإنما
أوجبنا كفارتين لان الكفارة لا تتبعض فوجب تكميل نصف كل واحد منهما وإن كان الرجل من
من أهل الصوم وهي من أهل العتق صام عن نفسه شهرين واعتق عنها رقبة وإن كان من أهل الاطعام
وهي من أهل الصوم أطعم عن نفسه ولم يصم عنها لأن الصوم لا تدخله النيابة وإن كانت المرأة أمة وقلنا إن
الأمة لا تملك المال فهي من أهل الصوم ولا يجزئ عنها عتق فان قلنا إنها تملك المال أجزأ عنها
العتق كالحرة المعسرة وان قدم الرجل من السفر وهو مفطر وهي صائمة فقالت انا مفطرة فوطئها فان
قلنا إن الكفارة عليه لم يلزمه ولم يلزمها وان قلنا إن الكفارة عنه وعنها وجب عليها الكفارة
في مالها لأنها غرته بقولها انى مفطرة وان أخبرته بصومها فوطئها وهي مطاوعة فان قلنا إن الكفارة
عنه دونها لم يجب عليه شئ (وان قلنا) ان الكفارة عنه وعنها لزمه ان يكفر عنها إن كانت من أهل
العتق أو الاطعام وإن كانت من أهل الصيام لزمها أو تصوم وان وطئ المجنون زوجته وهي صائمة
مختارة (فان قلنا) ان الكفارة عنه دونها لم تجب (وان قلنا) تجب عنه وعنها فهل يتحمل الزوج فيه وجهان
332

(فال) أبو العباس لا يتحمل لأنه لا فعل له (وقال) أبو إسحاق يتحمل لأنها وجبت بوطئه والوطئ كالجناية
وجناية المجنون مضمونة في ماله وإن كان الزوج نائما فاستدخلت المرأة ذكره (فان قلنا) الكفارة عنه
دونها فلا شئ عليه (وان قلنا) عنهما لم يلزمه كفارة لأنه لم يفطر ويجب عليها ان تكفر ولا يتحمل
الزوج لأنه لم يكن من جهته فعل وان زني بها في رمضان (فان قلنا) ان الكفارة عنه دونها وجبت عليه
كفارة (وان قلنا) عنه وعنها وجب عليها كفارتان ولا يتحمل الرجل كفارتها لان الكفارة إنما
تتحمل بالملك ولا ملك ههنا} *
{الشرح} حديث أبي هريرة رضي الله عنه سبق بيانه قريبا (واما) الكفارة فأصلها من
الكفر بفتح الكاف وهو الستر لأنها تستر الذنب وتذهبه هذا أصلها ثم استعملت فيما وجد
فيه صورة مخالفة أو انتهاك وان لم يكن فيه إثم كالقاتل خطأ وغيره (واما) قولهم عتق رقبة فقال
الأزهري إنما قيل لمن أعتق نسمة أعتق رقبة وفك رقبة فخصت الرقبة دون بقية الأعضاء لان حكم السيد
وملكه كالحبل في رقبة العبد وكالغل المانع له من الخروج عنه فإذا أعتق فكأنه أطلق من ذلك وسيأتي
تهذيب العتق في بابه إن شاء الله تعالى (وقوله) في الكتاب بعرق تمر هو بفتح العين والراء
ويقال أيضا باسكان الراء والصحيح المشهور فتحها ويقال له أيضا المكتل بكسر الميم وفتح التاء المثناة
فوق والزنبيل بكسر الزاي والزنبيل بفتحها والفقه والسفيفة بفتح السين المهملة وبفاء مكررة
وكله اسم لهذا الوعاء المعروف ليس لسعته قدر مضبوط بل قد يصغر ويكبر ولهذا قال في الحديث
في الكتاب وهو رواية أبى داود " فيه خمسة عشر صاعا " (وقوله) ما بين لابتي المدينة يعني حريتها
والحرة هي الأرض المكبسة حجارة سوداء ويقال لها لابة ولوبة ونوبة بالنون وقد أوضحتها
في التهذيب (وقوله) حتى بدت أنيابه وفى بعض نسخ المهذب نواجذه وكلاهما ثابت في الحديث
الصحيح والنواجذ هي الأنياب هذا هو الصحيح في اللغة وهو متعين هنا جمعا بين الروايتين ويقال
هي الأضراس وهي بالذال المعجمة وقول المصنف وإن كانت أمة وقلنا إن الأمة لا تملك المال فهي من أهل
الصوم ولا يجزئ عنها العتق (وان قلنا) انها تملك أجزأ عنها العتق هكذا يقع في كثير من النسخ
ولا يجزئ عنها العتق وفى أكثر النسخ ولا يجب والأول أصوب والله تعالى أعلم
(اما) أحكام الفصل
فقال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى هذه الكفارة مرتبة ككفارة الظهار فيجب عتق رقبة
فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فاطعام ستين مسكينا لحديث أبي هريرة رضي الله عنه
المذكور وصفة هذه الرقبة وبيان العجز عنها المجوز للانتقال إلى الصوم والعجز عن الصوم المجوز للانتقال إلى
333

الاطعام وبيان التتابع وما يقطعه والاطعام وما يتعلق بذلك كله مستقصى في كتاب الكفارات عقب
كتاب الظهار وقد سبق فيمن يتعلق به وجوب الكفارة ثلاثة أقوال (أصحها) تجب الكفارة
على الرجل عن نفسه فقط ولا شئ على المرأة ولا يلاقيها الوجوب (والثاني) تجب عليه الكفارة
وتكون عنه وعنها وهي كفارة واحدة (والثالث) تجب عليه كفارة وعليها كفارة أخرى قال المصنف
والأصحاب (فان قلنا) بالأول اعتبر حاله فإن كان من أهل العتق أعتق وإن كان من أهل الصوم صام
وإن كان من أهل الاطعام أطعم ولا نظر إلى المرأة لأنه لا يعتلق بها وجوب (وان قلنا) بالقول
الثالث اعتبر حال كل واحد منهما بنفسه فمن كان منهما من أهل العتق أعتق ومن كان من أهل الصوم
صام ومن كان من أهل الاطعام أطعم ولا يلزم واحد منهما موافقة صاحبه إذا اختلفت صفتهما بل هما
كرجلين أفطرا بالجماع فيعتبر كل واحد منهما بانفراده (وان قلنا) بالقول الثاني وهو انه يلزمه كفارة
واحدة عنه وعنها فهذا محل التفصيل والتفريع الطويل قال المصنف والأصحاب على هذا القول قد
يتفق حالهما وقد يختلف فان اتفق نظر إن كانا جميعا من أهل العتق أعتق الرجل رقبة عنهما وإن كان
ا من أهل الاطعام أطعم ستين مسكينا عنهما وإن كانا من أهل الصيام بأن كانا مملوكين أو حرين معسرين
لزم كل واحد منهما صوم شهرين متتابعين لان العبادة البدنية لا تتحمل (واما) إذا اختلف حالهما
فقد يكون أعلا حالا منها وقد يكون أدنى فإن كان أعلا نظر إن كان من أهل العتق وهي من أهل
الصوم أو الاطعام فوجهان حكاهما الخراسانيون (الصحيح) منهما وبه قطع العراقيون يجزئ الاعتقاد
عنهما لان من فرضه الصوم أو الاطعام إذا تكلف العتق أجزأه وقد زاد خيرا وهو أفضل كذا
قاله المصنف والأصحاب قال أصحابنا: الا أن تكون المرأة أمة فعليها الصوم لان العتق لا يجزئ عنها
لأنه يتضمن الولاء وليست من أهله هكذا أطلقه الأصحاب وقال المصنف هنا لا يجزئ عنها العتق
الا إذا قلنا إن العبد يملك بالتمليك فإنه يجزئ عنها كالحرة المعسرة وهذا الذي قاله غريب والمعروف
في كتب الأصحاب انه لا يجزئ العتق عن الأمة قولا واحدا وقد صرح المصنف بذلك في المهذب
في باب العبد المأذون فقال لا يصح اعتاق العبد سواء قلنا يملك أم لا لأنه يتضمن الولاء وليس هو
من أهله والله تعالى اعلم (والوجه الثاني) من الوجهين السابقين عن الخراسانيين لا يجزئ الاعتاق
عن المرأة لاختلاف الجنس فعلى هذا يلزمها الصوم إن كانت من أهله وفيمن يلزمه الاطعام عنها إن كانت
من أهله وجهان (أحدهما) يلزمها لان الزوج اخرج وظيفته وهي العتق (وأصحهما) يلزم الزوج
فان عجز ثبت في ذمته إلى أن يقدر لان الكفارة على هذا القول معدودة من مؤن
334

الزوجة الواجبة على الزوج (اما) إذا كان من أهل الصيام وهي من أهل الاطعام فان تكلف
الاعتاق فاعتق رقبة أجزأت عنهما جميعا (فاما) ان أراد الصيام فقال المصنف والأصحاب
يلزمه أن يصوم عن نفسه ويلزمه أيضا أن يطعم عنها قالوا لان النيابة تصح فيهما قالوا
وإنما أوجبنا كفارتين لان الكفارة لا تتبعض فوجب تكميل كل نصف منها هكذا قطع
به المصنف والأصحاب قال الرافعي ومقتضى الوجه الصحيح الذي قطع به العراقيون في
الصورة السابقة في إجزاء الاعتاق عنهما عن الصيام ان يجزئ هنا الصيام عن الاطعام هذا كله
إذا كان الزوج أعلا حالا منها فإن كان أدنى نظر فإن كان من أهل الاطعام وهي من أهل الصيام
أطعم عن نفسه ولزمها الصيام عن نفسها لأنه لا نيابة فيه وإن كان من أهل الصيام أو الاطعام وهي
من أهل الاعتاق صام عن نفسه أو أطعم ولزمه الاعتاق عنها إذا قدر والله تعالى اعلم *
{فرع} إذا كان الزوج مجنونا فوطئها وهي صائمة مختارة (فان قلنا) على كل واحد كفارة
لزمتها الكفارة في مالها (وان قلنا) تجب كفارة عنه دونها فلا شئ ء عليه ولا عليها (وان قلنا) تجب
كفارة عنه وعنها فوجهان مشهوران حكاهما المصنف والأصحاب (أصحهما) يلزمها الكفارة في
مالها ولا يتحملها الزوج لأنه ليس أهلا للتحمل كما لا تلزمه عن فعل نفسه ولأنه لا فعل له وهذا قول
ابن سريج وبه قطع البندنيجي (والثاني) قاله أبو إسحاق تجب الكفارة في مال المجنون عنها لان
ماله صالح للتحمل ولأنها وجبت بوطئه والوطئ كالجناية وجناية المجنون مضمونة في ماله وإن كان
الزوج مراهقا فهو كالمجنون هذا هو المذهب لأنه ليس مكلفا وفيه وجه انه كالبالغ تخريجا من
قولنا عمده عمد وإن كان ناسيا أو نائما فاستدخلت ذكره فكالمجنون وقطع المصنف والبغوي
وآخرون بانا إذا قلنا الكفارة عنه وعنها وجبت في مسألة الاستدخال في مالها لأنه لا فعل للزوج
والله تعالى أعلم *
{فرع} لو كان الزوج مسافرا صائما وهي حاضرة صائمة فان أفطر بالجماع بنية الترخص
فلا كفارة عليه عن نفسه بلا خلاف وان لم يقصد به الترخص فوجهان مشهوران في طريقة خراسان
(أصحهما) لا كفارة عليه أيضا لأنه لا يلزمه الصوم فصار كقاصد الترخص قال أصحابنا وهكذا
حكم المريض الذي يباح له الاكل إذا أصبح صائما فجامع وكذا الصحيح إذا مرض في أثناء النهار
ثم جامع فحيث قلنا بوجوب الكفارة عليه فهو كغيره فيجئ في الكفارة الأقوال الثلاثة وحكم
التحمل ما سبق وحيث قلنا لا كفارة فهو كالمجنون قال المصنف والأصحاب ولو قدم المسافر مفطرا
فأخبرته انها مفطرة وكانت صائمة فوطئها (فان قلنا) الكفارة عنه فقط فلا شئ عليه ولا عليها (وان
335

قلنا) عنه وعنها وجبت الكفارة عليها في مالها لأنها غرته هكذا قالوه واتفقوا عليه قال الرافعي ويشبه أن
يكون هذا تفريعا على قولنا المجنون لا يتحمل والا فليس العذر هنا بأوضح منه في المجنون * قلت
الفرق انه لا تغرير منها في صورة المجنون (أما) إذا قدم المسافر مفطرا فأخبرته بصومها فوطئها مطاوعة
(فان قلنا) الكفارة عنه فقط فلا شئ عليه ولا عليها (وان قلنا) عنه وعنها لزمه أن يكفر عنها إن
كانت من أهل العتق أو الاطعام وإن كانت من أهل الصيام لزمها الصيام والله تعالى أعلم *
{فرع} إذا أكرهها على الوطئ وهما صائمان في الحضر فلهما حالان (أحدهما) أن يقهرها
بربطها أو بغيره ويطأ فلا تفطر هي ويجب عليه كفارة عنه قطعا (والثاني) أن يكرهها حتى تمكنه
ففي فطرها قولان سبقا (أصحهما) لا تفطر فيكون كالحال الأول (والثاني) تفطر وعليهما الكفارة
وتكون الكفارة عليه وحده قطعا *
{فرع} هذا الذي سبق كله فيما إذا وطئ زوجته فلو زنى بامرأة أو وطئها بشبهة فطريقان (أحدهما) القطع
بوجوب كفارتين على كل واحد منهما كفارة لان التحمل بسبب الزوجية ولا زوجية هنا (وأصحهما)
وبه قطع المصنف والجمهور انه ان قلنا الكفارة عنه خاصة فعليه كفارة ولا شئ عليها (وان قلنا)
عنه وعنها فعليها في مالها كفارة أخرى لما ذكرناه والله تعالى أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
{وإن جامع في يومين أو في أيام وجب لكل يوم كفارة لان صوم كل يوم عبادة منفردة
فلم تتداخل كفارتها كالعمرتين وإن جامع في يوم مرتين لم يلزمه للثاني كفارة لان الجماع الثاني
لم يصادف صوما} *
{الشرح} اتفق أصحابنا على أنه إذا جامع في يومين أو أيام وجب لكل يوم كفارة سواء كفر
عن الأول أم لا لما ذكره المصنف بخلاف من تطيب ثم تطيب في الاحترام قبل أن يكفر عن الأول
فإنه يكفيه فدية واحدة في أحد القولين لان الاحرام عبادة واحدة بخلاف اليومين من رمضان وإن
جامع زوجته في يوم من رمضان مرتين فأكثر لزمه كفارة واحدة عن الأول ولا شئ عن الثاني
بلا خلاف لما ذكره *
{فرع} قال أبو العباس الجرجاني في كتابه المعاياة فيمن وطئ زوجته في صوم رمضان ثلاثة
أقوال (أحدها) يلزمه الكفارة دونها (والثاني) يلزمه كفارة عنهما (والثالث) يلزم كل واحد كفارة
ويتحمل الزوج ما دخله التحمل وهو العتق والاطعام قال فإذا وطئ أربع زوجات في يوم واحد
336

لزمه على القول الأول كفارة فقط عن الوطئ الأول ولا يلزمه شئ لباقي الوطئات وعلى الثاني يلزمه
أربع كفارات كفارة عن وطئته الأولى عنه وعنها وثلاث عن الباقيات لأنها لا تتبعض إلا في موضع
يوجد التحمل وعلى الثالث يلزمه خمس كفارات كفارتان عنه وعن الأولى بوطئها وثلاث عن
الباقيات قال ولو كانت له زوجتان مسلمة وكتابية فوطئهما في يوم لزمه على القول الأول كفارة واحدة
بكل حال (وأما) على القول الثاني فان قدم وطئ المسلمة فعليه كفارة وإلا فكفارتان وعلى الثالث
يلزمه كفارتان بكل حال لأنه ان قدم المسلمة لزمه كفارتان عنه وعنها ولا شئ بسبب الكتابية
وان قدم الكتابية لزمه لنفسه كفارة ثم أخرى عن المسلمة هذا كلام الجرجاني وفى بعضه نظر
وقال صاحب الحاوي إذا وطئ أربع زوجات في يوم (فان قلنا) الكفارة عنهن فعليه أربع كفارات
والا فكفارة وذكر في المسلمة والكتابية نحو قول الجرجاني *
{فرع} في مذاهب العلماء فيمن كرر جماع زوجته في يوم من رمضان * ذكرنا أن
مذهبنا أن عليه كفارة واحدة بالجماع الأول سواء كفر عن الأول أم لا وبه قال أبو حنيفة ومالك
وقال احمد إن كان الوطئ الثاني قبل تكفيره عن الأول لزمه كفارة أخرى لأنه وطئ محرم فأشبه
الأول * دليلنا انه لم يصادف صوما منعقدا بخلاف الجماع الأول *
{فرع} في مذاهبهم في من وطئ في يومين أو أيام من رمضان * قد ذكرنا أن مذهبنا انه يجب
لكل يوم كفارة سواء كفر عن الأول أم لا وبه قال مالك وداود واحمد في أصح الروايتين عنه
وقال أبو حنيفة ان وطئ في الثاني قبل تكفيره عن الأول كفته كفارة واحدة وان كفر عن
الأول فعنه روايتان قال ولو جامع في رمضانين ففي رواية عنه هو كرمضان واحد وفى رواية تتكرر
الكفارة وهذه هي الرواية الصحيحة عنه وقاسه على الحدود * واحتج أصحابنا بأنها عبادات
فلم تتداخل بخلاف الحدود المبنية على الدرء والاسقاط *
* قال المصنف رحمه الله *
{وان رأى هلال رمضان فرد الحاكم شهادته فصام وجامع وجبت عليه الكفارة لأنه أفطر
في شهر رمضان بالجماع من غير عذر فأشبه إذا قبل الحاكم شهادته} *
{الشرح} قال الشافعي والأصحاب إذا رأى هلال رمضان فردت شهادته لزمه صوم ذلك
اليوم فان صامه وجامع فيه لزمته الكفارة بلا خلاف عندنا لما ذكره المصنف وسبق ايضاح
هذه المسألة ومذاهب العلماء فيها في أوائل الباب ولو رأى هلال شوال وحده لزمه الفطر كما
سبق ولا شئ عليه بالجماع فيه لأنه ليس من رمضان والله أعلم *
337

* قال المصنف رحمه الله * {وإن طلع الفجر وهو مجامع فاستدام مع العلم بالفجر وجبت عليه الكفارة لأنه منع صوم يوم
من رمضان بجماع من غير عذر فوجبت عليه الكفارة كما لو وطئ في أثناء النهار وان جامع وعنده
أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع أو أن الشمس قد غربت ولم تكن غربت لم تجب عليه الكفارة لأنه
جامع وهو يعتقد انه يحل له ذلك وكفارة الصوم عقوبة تجب مع المأثم فلا تجب مع اعتقاد الإباحة
كالحد وإن أكل ناسيا فظن أنه أفطر بذلك ثم جامع عامدا فالمنصوص في الصيام انه لا تجب
الكفارة لأنه وطئ وهو يعتقد انه غير صائم فأشبه إذا وطئ وعنده انه ليل ثم بان انه نهار وقال
شيخنا القاضي أبو الطيب الطبري رحمه الله يحتمل عندي انه تجب عليه الكفارة لان الذي ظنه
لا يبيح الوطئ بخلاف ما لو جامع وظن أن الشمس غربت لان الذي ظن هناك يبيح له الوطئ فان
أفطر بالجماع وهو مريض أو مسافر لم تجب الكفارة لأنه يحل له الفطر فلا تجب الكفارة مع إباحة
الفطر وان أصبح المقيم صائما ثم سافر وجامع وجبت عليه الكفارة لان السفر لا يبيح له الفطر
في هذا اليوم فكان وجوده كعدمه وإن أصبح الصحيح صائما ثم مرض وجامع لم تجب الكفارة
لان المريض يباح له الفطر في هذا اليوم وإن جامع ثم سافر لم تسقط عنه الكفارة لان السفر لا يبيح
له الفطر في يومه فلا يسقط عنه ما وجب فيه من الكفارة وإن جامع ثم مرض أو جن ففيه قولان (أحدهما)
لا تسقط عنه الكفارة لأنه معني طرأ بعد وجوب الكفارة فلا يسقط الكفارة كالسفر (والثاني) انه
تسقط لان اليوم يرتبط بعضه ببعض فإذا خرج آخره عن أن يكون الصوم فيه مستحقا خرج أوله
عن أن يكون صوما أو يكون الصوم فيه مستحقا فيكون جماعه في يوم فطر أو في يوم صوم غير مستحق
فلا تجب به الكفارة} *
{الشرح} في الفصل مسائل (إحداها) إذا طلع الفجر وهو مجامع فاستدام مع العلم بالفجر بطل صومه
بلا خلاف كما سبق في موضعه وفى وجوب الكفارة طريقان (الصحيح) المنصوص وجوبها وبه قطع
المصنف والجمهور وحكى جماعات من الخراسانيين في وجوبها قولين (المنصوص) وجوبها لما ذكره
المصنف (والثاني) لا تجب وهو مخرج مما سنذكره إن شاء الله تعالى لأنه لم يفسد بهذا الجماع صوما
لأنه لم يدخل فيه قال البندنيجي وإنما وجبت الكفارة هنا على المذهب لأنه منع انعقاد الصوم لا لافساده
فإنه لم يدخل فيه قال ومن قال انعقد صومه ثم فسد فهذا غير معروف مذهبا للشافعي رحمه الله قال القاضي
حسين وإمام الحرمين والبغوي وغيرهم من الخراسانيين نص الشافعي هنا على وجوب الكفارة
338

بالاستدامة ونص فيمن قال لزوجته ان وطئتك فأنت طالق ثلاثا فوطئها واستدام انه لا يلزمه مهر
بالاستدامة قالوا واختلف أصحابنا فيهما فمنهم من نقل وخرج فجعل في المسألتين قولين (أحدهما) تجب
الكفارة والمهر كما لو نزع ثم أولج (والثاني) لا يجب واحد منهما لان أول الفعل كان مباحا وقال
الجمهور وهو الصحيح المسألتان على ما نص عليه فتجب الكفارة دون المهر والفرق أن ابتداء الفعل
هنا لم يتعلق به كفارة فوجبت الكفارة باستدامته لئلا يخلوا جماع في نهار رمضان عمدا عن كفارة
وأما المهر فلا يجب لان أول الوطئ تعلق به المهر لان مهر النكاح يقابل جميع الوطئات فلم يجب باستدامته
مهر آخر لئلا يؤدى إلى ايجاب مهرين لشخص واحد بوطأة واحدة وهذا لا يجوز وقولنا لشخص
واحد احتراز ممن وطئ زوجة أبيه أو ابنه بشبهة فإنه ينفسخ نكاح زوجها ويلزم الواطئ
مهران بالوطئة الواحدة مهر للزوجة لأنه استوفى منفعة بضعها بشبهة ومهر للزوج لأنه أفسد
عليه نكاحه والله أعلم *
{فرع} لو أحرم بالحج مجامعا ففيه ثلاث أوجه سأوضحها في كتاب الحج إن شاء الله تعالى
(أصحها) لا ينعقد حجه كما لا ينعقد صومه ولا صلاة من أحرم بها مع خروج الحدث (والثاني)
ينعقد حجه صحيحا فان نزع في الحال صح حجه ولا شئ عليه والا فسد وعليه المضي في فاسده
والقضاء والبدنة (والثالث) ينعقد فاسدا وعليه القضاء والمضي فيه سواء مكث أو نزع في الحال ولا تجب
الفدية ان نزع في الحال فان مكث وجبت شاة في الأصح وفى قول بدنة كما في نظائره والفرق بين
الحج والصوم ان الصوم يخرج منه بالافساد فلا يصح دخوله فيه مع وجود المفسد بخلاف الحج
وقد سبق في أوائل هذا الباب بيان معنى قولهم يخرج من الصوم بالافساد ولا يخرج من الحج بالافساد
(المسألة الثانية) لو جامع ظانا أن الفجر لم يطلع أو أن الشمس غربت فبان غلطه فلا كفارة هكذا قطع به
المصنف والأصحاب الا امام الحرمين فإنه قال من أوجب الكفارة على الناسي بالجماع يقول بمثله
هنا لتقصيره في البحث قال الرافعي وقولهم فيمن ظن غروب الشمس لا كفارة تفريع على جواز
الفطر بظن ذلك فان منعناه بالظن فينبغي وجوب الكفارة لأنه جماع محرم صادف الصوم (الثالثة) إذا
أكل الصائم ناسيا فظن أنه أفطر بذلك لجهله بالحكم ثم جامع فهل يبطل صومه فيه وجهان مشهوران (أحدهما)
وبه قال البندنيجي لا كما لو سلم من الصلاة ناسيا ثم تكلم عامدا فإنه لا تبطل صلاته بالاتفاق لحديث ذي اليدين
(وأصحهما) وبه قطع الجمهور تبطل كما لو جامع أو أكل وهو يظن أن الفجر لم يطلع فبان طالعا (فان قلنا) لا يفطر
فلا كفارة (وان قلنا) يفطر فلا كفارة أيضا هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور ونقله المصنف والأصحاب عن
339

نص الشافعي في كتاب الصيام من الام وفيه الاحتمال الذي حكاه المصنف عن القاضي أبى الطيب وذكر
دليلهما أما إذا أكل ناسيا وعلم أنه لا يفطر به ثم جامع في يومه فيفطر وتجب الكفارة بلا خلاف
عندنا وحكي الماوردي عن أبي حنيفة أنه قال عليه القضاء دون الكفارة ولو طلع الفجر وهو مجامع
فظن بطلان صومه فمكث فعليه القضاء دون الكفارة لأنه لم يتعمد هتك حرمة الصوم بالجماع
ذكره الماوردي وغيره قال صاحب العدة وكذا لو قبل ولم ينزل أو اغتاب انسانا فاعتقد انه قد بطل
صومه فجامع لزمه القضاء دون الكفارة * وقال أبو حنيفة ان قبل ثم جامع لزمته الكفارة الا
أن يفتيه فقيه أو يتأول خبرا في ذلك وقال في الذي اغتاب ثم جامع يلزمه الكفارة وان أفتى أو
تأول خبرا * دليلنا انه لم يتعمد افساد صوم (المسألة الرابعة) إذا أفطر بالجماع وهو مريض أو مسافر
فان قصد بالجماع الترخص فلا كفارة والا فوجهان حكاهما الخراسانيون (أصحهما) وبه قطع المصنف
وغيره من العراقيين لا كفارة أيضا لما ذكره المصنف (الخامسة) إذا أصبح المقيم صائما ثم سافر
وجامع في يومه لزمته الكفارة لما ذكره المصنف هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور وفيه
وجه غريب ضعيف قاله المزني وغيره من أصحابنا انه يجوز له الفطر في هذا اليوم فإذا جامع فلا كفارة
عليه وقد سبقت المسألة واضحة في فصل صوم المسافر (السادسة) إذا أصبح الصحيح صائما ثم مرض فجامع فلا
كفارة ان قصد الترخص وكذا ان لم يقصده على المذهب وبه قطع المصنف وآخرون وقد سبقت المسألة قريبا
(السابعة) لو أفسد المقيم صومه بجماع ثم سافر في يومه لم تسقط الكفارة على المذهب وبه قطع المصنف والجمهور
وقيل فيه قولان كطرآن المرض حكاه الدارمي والرافعي ولو أفسد الصحيح صومه بالجماع ثم مرض في يومه
فطريقان (أحدهما) لا تسقط الكفارة وبه قطع البغوي (وأصحهما) وبه قطع المصنف والأكثرون فيه قولان
(أصحهما) لا تسقط (والثاني) تسقط ودليلهما في الكتاب ولو أفسده بجماع ثم طرأ جنون أو حيض
أو موت في يومه فقولان ذكر المصنف دليلهما (أصحهما) السقوط لان يومه غير صالح للصوم بخلاف
المريض وصورة الحيض مفرعة على أن المرأة المفطرة بالجماع يلزمها الكفارة ولو ارتد بعد الجماع في
يومه لم تسقط الكفارة بلا خلاف ذكره الدارمي وهو واضح * هذا تفصيل مذهبنا وممن قال من
العلماء لا تسقط الكفارة بطرآن الجنون والمرض والحيض مالك وابن أبي ليلي واحمد واسحق وأبو
ثور وداود * وقال أبو حنيفة والثوري تسقط وأسقطها زفر بالحيض والجنون دون المرض واتفقوا على أنها
لا تسقط بالسفر إلا ابن الماجشون المالكي فأسقطها به
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ووطئ المرأة في الدبر واللواط كالوطئ في الفرج في جميع ما ذكرناه من افساد الصوم ووجوب
340

القضاء والكفارة لان الجميع وطئ ولان الجميع في ايجاب الحد فكذلك في إفساد الصوم
وايجاب الكفارة (وأما) إتيان البهيمة ففيه وجهان (من) أصحابنا من قال ينبني ذلك على وجوب الحد
(فان قلنا) يجب فيه الحد أفسد الصوم وأوجب الكفارة كالجماع في الفرج (وإن قلنا) يجب فيه التعزير
لم يفسد الصوم ولم تجب به الكفارة لأنه كالوطئ فيما دون الفرج في التعزير فكان مثله في إفساد
الصوم وإيجاب الكفارة ومن أصحابنا من قال يفسد الصوم وتجب الكفارة قولا واحدا لأنه وطئ
يوجب الغسل فجاز أن يتعلق به افساد الصوم وإيجاب الكفارة كوطئ المرأة} *
{الشرح} قوله ففيه وجهان كان ينبغي أن يقول طريقان فعبر بالوجهين عن الطريقين
مجازا لاشتراكهما في أن كلا منهما حكاية للمذهب وقد سبق بيان مثل هذا المجاز في مقدمة هذا الشرح
واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن وطئ المرأة في الدبر واللواط بصبي أو رجل كوطئ المرأة
في القبل في جميع ما سبق من إفساد الصوم ووجوب إمساك بقية النهار ووجوب القضاء والكفارة
لما ذكره المصنف وذكر الرافعي وجها شاذا باطلا في الاتيان في الدبر أنه لا كفارة فيه وهذا غلط
(وأما) إتيان البهيمة في دبرها أو قبلها ففيه طريقان حكاهما المصنف والأصحاب (أصحهما) القطع
بوجوب الكفارة فيه وهذا هو المنصوص في المختصر وغيره وبه قطع البغوي وآخرون (والثاني)
فيه خلاف مبنى على إيجاب الحد به ان أوجبناه وجبت الكفارة والا فلا حكاه الدارمي عن أبي على
ابن خيران وأبي إسحاق المروزي قال الماوردي هذا الطريق غلط لان إيجاب الكفارة ليس مرتبطا
بالحد ولهذا يجب في وطئ الزوجة الكفارة دون الحد * وسواء في هذا كله أنزل أم لا إلا أنه إذا
قلنا في اتيان البهيمة لا كفارة لا يفسد الصوم أيضا كما قاله المصنف هذا ان لم ينزل فان أنزل أفسد
كما لو قبل فأنزل *
{فرع} الوطئ بزنا أو شبهة أو في نكاح فاسد ووطئ أمته وأخته وبنته والكافرة وسائر
النساء سواء في إفساد الصوم ووجوب القضاء والكفارة وامساك بقية النهار وهذا لا خلاف فيه *
{فرع} إذا أفسد صومه بغير الجماع كالأكل والشرب والاستمناء والمباشرات المفضيات إلى
الانزال فلا كفارة لان النص ورد في الجماع وهذه الأشياء ليست في معناه هذا هو المذهب
والمنصوص وبه قطع الجماهير وحكى الرافعي وجها عن أبي خلف الطبري من أصحابنا من تلامذة
القفال المروزي أنه تجب الكفارة بكل ما يأثم بالافطار به وفى وجه حكاه صاحب الحاوي عن ابن أبي
هريرة أنه يجب بالأكل والشرب كفارة فوق كفارة المرضع ودون كفارة المجامع وهذان الوجهان
341

علط وحكي الحناطي بالحاء المهملة والنون عن محمد بن الحكم انه روى عن الشافعي وجوب
الكفارة على من جامع فيما دون الفرج فأنزل وهذا شاذ ضعيف *
{فرع} قد ذكرنا انه إذا استمنى متعمدا بطل صومه ولا كفارة قال الماوردي فلو حك
ذكره لعارض ولم يقصد الاستمناء فأنزل فلا كفارة وفي بطلان الصوم وجهان قلت (أصحهما)
لا يبطل كالمضمضة بلا مبالغة *
{فرع} في مذاهب العلماء فيمن وطئ امرأة أو رجلا في الدبر * ذكرنا أن مذهبنا وجوب
القضاء والكفارة وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد واحمد * وقال أبو حنيفة عليه القضاء وفى
الكفارة روايتان عنه (أشهرهما) عنه لا كفارة لأنه لا يحصل به الاحصان والتحليل فأشبه الوطئ فيما
دون الفرج * واحتج أصحابنا بأنه جماع أثم به لسبب الصوم فوجبت فيه الكفارة كالقتل قال أصحاب
أبي حنيفة ولا كفارة في إتيان البهيمة *
{فرع} في مذاهبهم في المباشرة فيما دون الفرج * قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا كفارة فيها سواء
فسد صومه بالانزال أم لا وبه قال أبو حنيفة وقال داود كل إنزال تجب به الكفارة حتى الاستمناء
الا إذا كرر النظر فأنزل فلا قضاء ولا كفارة * وقال مالك وأبو ثور عليه القضاء والكفارة
وحكي هذا عن عطاء والحسن وابن المبارك واسحق وقال أحمد يجب بالوطئ فيما دون الفرج
الكفارة وفى القبلة واللمس روايتان * واحتجوا بأنه أفطر بمعصية فأشبه الجماع في الفرج * واحتج
أصحابنا بأنه لم يجامع في الفرج فأشبه الردة فإنها تبطل الصوم ولا كفارة وما قاله الآخرون ينتقض بالردة *
{فرع} قال الغزالي وغيره من أصحابنا الضابط في وجوب الكفارة بالجماع أنها تجب على
من أفسد صوم يوم من رمضان بجماع تام أثم به بسبب الصوم وفى هذا الضابط قيود (أحدها) الافساد
فمن جامع ناسيا لا يفطر على المذهب كما سبق وقيل في فطره قولان سبق بيانهما (فان قلنا) لا يفطر
فلا كفارة لعدم الافساد والا فوجهان حكاهما إمام الحرمين والغزالي وآخرون (أصحهما) لا كفارة أيضا
لعدم الاثم (الثاني) قولنا من رمضان فلا كفارة بافساد صوم التطوع والنذر والقضاء والكفارة
بالجماع لان الكفارة إنما هي لحرمة رمضان (الثالث) قولنا بجماع احتراز من الأكل والشرب
والاستمناء والمباشرة دون الفرج فلا كفارة فيها كلها على المذهب كما بيناه قريبا (الرابع)
قولنا تام احتراز من المرأة إذا جومعت فإنها يحصل فطرها بتغييب بعض الحشفة فلا يحصل الجماع التام الا وقد
أفطرت لدخول داخل فيها فالفطر يحصل بمجرد الدخول وأحكام الجماع لا تثبت الا بتغييب كل الحشفة فيصدق
342

عليها أنها أفطرت بالجماع قبل تمامه وقولنا أثم به احتراز ممن جامع بعد الفجر ظانا بقاء الليل فان
صومه يفسد ولا كفارة كما سبق وقولنا بسبب الصوم احتراز من المسافر إذا شرع في الصوم ثم
أفطر بالزنا مترخصا فلا كفارة عليه لأنه وان أفسد صوم يوم من رمضان بجماع تام اثم به إلا أنه
لم يأثم به بسبب الصوم لان الافطار جائز له وإنما أثم بالزنا ولو زنا المقيم ناسيا للصوم وقلنا الصوم يفسد
بجماع الناسي فلا كفارة أيضا في أصح الوجهين لأنه لم يأثم بسبب الصوم لأنه ناس له قال الرافعي
وجماع المرأة إذا قلنا لا شئ عليها ولا يلاقيها الوجوب مستثنى عن الضابط *
{فرع} لو صام الصبي رمضان فأفسده بالجماع وقلنا إن وطأه في الحج يفسده ويوجب البدن
ففي وجوب كفارة الوطئ في الصوم وجهان حكاهما المتولي في كتاب الحج وسأوضحهما هناك إن شاء الله
تعالى * قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ومن وطئ وطئا يوجب الكفارة ولم يقدر على الكفارة ففيه قولان (أحدهما) لا تجب
لقوله صلى الله عليه وسلم " استغفر الله تعالى وخذ وأطعم أهلك " أو لأنه حق مال يجب لله تعالي
لا على وجه البدل فلم يجب مع العجز كزكاة الفطر (والثاني) انها تثبت في الذمة فإذا قدر لزمه
قضاؤها وهو الصحيح لأنه حق لله تعالى يجب بسبب من جهته فلم يسقط بالعجز كجزاء الصيد} *
{الشرح} هذا الحديث سبق بيانه (وقوله) حق مال احتراز من الصوم في حق المريض فإنه
لا يسقط بل يثبت في الذمة (وقوله) لله تعالى احتراز من المتعة (وقوله) لا على وجه البدل احتراز من
جزاء الصيد (وقوله) لأنه حق لله تعالي قال القلعي ليس هو احتراز بل لتقريب الفرع من الأصل
ويحتمل انه احتراز من نفقة القريب (وقوله) بسبب من جهته احتراز من زكاة الفطر * أما أحكام
الفصل فقال أصحابنا الحقوق المالية الواجبة لله تعالي ثلاثة اضرب وقد أشار إليها المصنف (ضرب)
يجب لا بسبب مباشرة من العبد كزكاة الفطر فإذا عجز عنه وقت الوجوب لم يثبت في ذمته فلو أيسر
بعد ذلك لم يجب (وضرب) يجب بسبب من جهته على جهة البدل كجزاء الصيد وفدية الحلق والطيب
واللباس في الحج فإذا عجز عنه وقت وجوبه ثبت في ذمته تغليبا لمعني الغرامة لأنه اتلاف محض
(وضرب) يجب بسببه لا على جهة البدل ككفارة الجماع في نهار رمضان وكفارة اليمين والظهار والقتل
قال صاحب العدة ودم التمتع والقران قال البندنيجي والنذر وكفارة قوله أنت حرام ودم التمتع
والطيب واللباس ففيها قولان مشهوران (أصحهما) عند المصنف والأصحاب تثبت في الذمة فمتى قدر
على أحد الخصال لزمته (والثاني) لا تثبت وذكر المصنف دليلهما وشبهها بجزاء الصيد أولى من الفطرة
لان الكفارة مؤاخذة على فعله كجزاء الصيد بخلاف الفطرة * واحتج بعض أصحابنا للقول بسقوطها
343

بحديث الاعرابي كما أشار إليه المصنف لأنه صلى الله عليه وسلم قال " أطعمه أهلك " ومعلوم ان الكفارة لا تصرف
إلى الأهل وقال جمهور أصحابنا والمحققون حديث الاعرابي دليل لثبوتها في الذمة عند العجز عن جميع
الخصال لأنه لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم عجزه عن جميع الخصال ثم ملكه النبي صلى الله عليه وسلم العرق
من التمر ثم امره بأداء الكفارة لقدرته الآن عليها فلو كانت تسقط بالعجز لما أمره بها (وأما) اطعامه
أهله فليس هو على سبيل الكفارة وإنما معناه أن هذا الطعام صار ملكا له وعليه كفارة فامر
باخراجه عنها فلما ذكر حاجته إليه أذن له في أكله لكونه في ملكه لا عن الكفارة وبقيت الكفارة في
الذمة وتأخيرها لمثل هذا جائز بلا خلاف (فان قيل) لو كانت واجبة لبينها له عليه السلام (فالجواب)
من وجهين (أحدهما) انه قد بينها له بقوله صلى الله عليه وسلم تصدق بهذا بعد اعلامه بعجزه ففهم الاعرابي
وغيره من
هذا انها باقية عليه (الثاني) أن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز وهذا ليس وقت الحاجة فهذا الذي
ذكرته من تأويل الحديث ومعناه هو الصواب الذي قاله المحققون والأكثرون وحكى امام الحرمين
والغزالي وغيرهما وجها لبعض الأصحاب أنه يجوز صرف كفارة الجماع خاصة إلى زوجة المكفر
وأولاده إذا كانوا فقراء لهذا الحديث ووافق هذا القائل على أن الزكاة وباقي الكفارات لا يجوز
صرفها إلى الزوجة والأولاد الفقراء وقاس الجمهور على الزكاة وباقي الكفارات وأجابوا عن
الحديث بما سبق *
{فرع} في مسائل تتعلق بالجماع في صوم رمضان (إحداها) إذا نسي النية وجامع في ذلك اليوم
فلا كفارة في ذلك اليوم بلا خلاف لأنه لم يفسد به صوما (الثانية) إذا وطئ الصائم في نهار رمضان
وقال جهلت تحريمه فإن كان ممن يخفى عليه لقرب اسلامه ونحوه فلا كفارة والا وجبت ولو قال
علمت تحريمه وجهلت وجوب الكفارة لزمته الكفارة بلا خلاف ذكره الدارمي وغيره وهو واضح وله
نظائر معروفة لأنه مقصر (الثالثة) إذا أفسد الحج بالجماع قال الدارمي ففي الكفارة الأقوال الأربعة
السابقة في كفارة الجماع في الصوم *
{فرع} في مذاهب العلماء في كفارة الجماع في صوم رمضان وما يتعلق بها وفيه مسائل (إحداها)
قد ذكرنا أن مذهبنا أن من أفسد صوم يوم من رمضان بجماع تام أثم به بسبب الصوم لزمته الكفارة
وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وداود والعلماء كافة الا ما حكاه العبدري وغيره من أصحابنا عن
الشعبي وسعيد بن جبير والنخعي وقتادة أنهم قالوا لا كفارة عليه كما لا كفارة عليه بافساد الصلاة
دليلنا حديث أبي هريرة السابق في قصة الاعرابي ويخالف الصلاة فإنه لا مدخل للمال في جبرانها
(الثانية) يجب على المفكر مع الكفارة قضاء اليوم الذي جامع فيه * هذا هو المشهور من مذهبنا وفيه
344

خلاف سبق قال العبدري وبايجاب قضائه قال جميع الفقهاء سوى الأوزاعي فقال إن كفر بالصوم
لم يجب قضاؤه وان كفر بالعتق أو الاطعام قضاه (الثالثة) قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا أنه
لا يجب على المرأة كفارة أخرى وبه قال احمد وقال مالك وأبو حنيفة وأبو ثور وابن المنذر عليها
كفارة أخرى وهي رواية عن أحمد (الرابعة) هذه الكفارة على الترتيب فيجب عتق رقبة فان عجز
فصوم شهرين متتابعين فان عجز فاطعام ستين مسكينا وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد
في أصح الروايتين عنه * وقال مالك هو مخير بين الخصال الثلاث وأفضلها عنده الاطعام وعن الحسن
البصري أنه مخير بين عتق رقبة ونحر بدنة واحتجا بحديثين على وفق مذهبيهما * دليلنا حديث أبي
هريرة (وأما) حديث الحسن فضعيف جدا وحديث مالك يجاب عنه بجوابين (أحدهما) حديثنا أصح
وأشهر (والثاني) أنه محمول على الترتيب جمعا بين الروايات (الخامسة) يشترط في صوم هذه الكفارة
عندنا وعند الجمهور التتابع وجوز ابن أبي ليلي تفريقه لحديث في صوم شهرين من غير ذكر الترتيب
دليلنا حديث أبي هريرة السابق وهو مقيد بالتتابع فيحمل المطلق عليه (السادسة) إذا كفر بالاطعام
فهو إطعام ستين مسكينا كل مسكين مد سواء البر والزبيب والتمر وغيرها * وقال أبو حنيفة يجب
لكل مسكين مدان حنطة أو صاع من سائر الحبوب وفى الزبيب عنه روايتان رواية صاع ورواية
مدان (السابعة) لو جامع في صوم غير رمضان من قضاء أو نذر أو غيرهما فلا كفارة كما سبق وبه قال
الجمهور وقال قتادة تجب الكفارة في إفساد قضاء رمضان *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{إذا نوى الصوم من الليل ثم أغمي عليه جميع النهار لم يصح صومه وعليه القضاء وقال المزني
يصح صومه كما. لو نوى الصوم ثم نام جميع النهار والدليل على أن الصوم لا يصح أن الصوم نية وترك
ثم لو انفرد الترك عن النية لم يصح فإذا انفردت النية عن الترك لم يصح وأما النوم فان أبا سعيد
الإصطخري قال إذا نام جميع النهار لم يصح صومه كما إذا أغمي عليه جميع النهار والمذهب أنه
يصح صومه إذا نام والفرق بينه وبين الاغماء ان النائم ثابت العقل لأنه إذا نبه انتبه والمغمى
عليه بخلافة ولان النائم كالمستيقظ ولهذا ولايته ثابتة على ماله بخلاف المغمى عليه وان نوى
الصوم ثم أغمي عليه في بعض النهار فقد قال في كتاب الظهار ومختصر البويطي إذا كان في أوله مفيقا
صح صومه وفى كتاب الصوم إذا كان في بعضه مفيقا أجزأه وقال في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي
ليلي إذا كانت صائمة فأغمي عليها أو حاضت بطل صومها وخرج أبو العباس قولا آخر أنه إن كان
مفيقا في طرفي النهار صح صومه فمن أصحابنا من قال المسألة على قول واحد أنه يعتبر أن يكون مفيقا
345

في أول النهار وتأول ما سواه من الأقوال على هذا ومن أصحابنا من قال فيها أربعة أقوال (أحدها) انه
تعتبر الإفاقة في أوله كالنية تعتبر في أوله (والثاني) انه تعتبر الإفاقة في طرفيه كما أن في الصلاة يعتبر القصد
في الطرفين في الدخول والخروج ولا يعتبر فيما بينهما (والثالث) انه تعتبر الإفاقة في جميعه فإذا أغمي
عليه في بعضه لم يصح لأنه معنى إذا اطرأ أسقط فرض الصلاة فأبطل الصوم كالحيض (والرابع) تعتبر
الإفاقة في جزء منه ولا اعرف له وجها وان نوى الصوم ثم جن ففيه قولان (قال) في الجديد يبطل الصوم
لأنه عارض يسقط فرض الصلاة فأبطل الصوم كالحيض (وقال) في القديم هو كالاغماء لأنه يزيل
العقل والولاية فهو كالاغماء} *
{الشرح} قوله لأنه عارض يسقط فرض الصلاة ينتقض بالاغماء فإنه يسقط فرض الصلاة
ولا يبطل الصوم به في بعض النهار على الأصح (أما) الأحكام ففيها مسائل (إحداها) إذا نام جميع النهار
وكان قد نوى من الليل صح صومه على المذهب وبه قال الجمهور وقال أبو الطيب بن سلمة وأبو سعيد
الإصطخري لا يصح وحكاه البندنيجي عن ابن سريج أيضا ودليل الجميع في الكتاب وأجمعوا على أنه
لو استيقظ لحظة من النهار ونام باقيه صح صومه (الثانية) لو نوى من الليل ولم ينم النهار ولكن كان غافلا
عن الصوم في جميعه صح صومه بالاجماع لان في تكليف ذكره حرجا (الثالثة) لو نوى من الليل ثم أغمي
عليه جميع النهار لم يصح صومه على المذهب وفيه قول مخرج من النوم انه يصح خرجه المزني وغيره
عن أصحابنا ودليل الجميع في الكتاب (الرابعة) إذا نوى من الليل وأغمي عليه بعض النهار دون بعض ففيه
ثلاثة طرق (إحداها) إن أفاق في جزء من النهار صح صومه والا فلا وسواء كان ذلك الجزء أول
النهار أو غيره وهذا هو نص الشافعي في باب الصيام من مختصر المزني وممن حكى هذا الطريق البغوي
وحكاه الدارمي عن ابن أبي هريرة وتأول هذا القائل النصين الآخرين فتأول نصه في اختلاف أبي
حنيفة وابن أبي ليلي على أن بطلان الصوم عائد إلى الحيض خاصة لا إلى الاغماء قالوا وقد يفعل
الشافعي مثل هذا وتأوله الماوردي تأويلا آخر وهو أن المراد بالاغماء هنا الجنون وتأول هذا القائل
نصه في الظهار والبويطي على أنه ذكر الإفاقة في أوله للتمثيل بالجزء لا لاشتراط الأول (والطريق الثاني)
القطع بأنه إن أفاق في أوله صح والا فلا وتأول نصه في الصوم على أن المراد بالجزء المبهم أوله كما صرح
به في الظهار وتأول نص اختلاف أبي حنيفة على ما سبق (والطريق الثالث) في المسألة أربعة أقوال وهذا
الطريق هو الأصح الأشهر (أصح) الأقوال يشترط الإفاقة في جزء منه (والثاني) في أوله خاصة (والثالث)
في طرفيه (والرابع) في جميعه كالنقاء من الحيض وهذا الرابع تخريج لابن سريج خرجه من الصلاة وليس
منصوصا للشافعي قال وليس للشافعي ما يدل عليه ودليل الجميع في الكتاب الا القول الأول
346

الأصح فان المصنف قال لا اعرف له وجها وهذا عجب منه مع أن هذا القول هو الأصح عند محققي أصحابنا
فالأصح من هذا الخلاف كله إن كان مفيقا في جزء من النهار أي جزء كان صح صومه والا فلا (الخامسة)
إذا نوى الصوم باليل وجن في بعض النهار فقولان مشهوران ذكرهما المصنف وغيره من الأصحاب
(الجديد) بطلان صومه لأنه مناف للصوم كالحيض (وقال) في القديم هو كالاغماء ففيه الخلاف السابق ومن
الأصحاب من حكي بدل القولين وجهين كصاحب الإبانة وآخرين ومنهم من حكاهما طريقين وهو أحسن
وقطع الشيخ أبو حامد والماوردي وابن الصباغ وآخرون ببطلان الصوم بالجنون في لحظة كالحيض * ولو جن
جميع النهار لم يصح بلا خلاف (السادسة) لو حاضت في بعض النهار أو ارتد بطل صومهما بلا
خلاف وعليهما القضاء وكذلك لو نفست بطل صومها بلا خلاف ولو ولدت ولم تر دما أصلا
ففي بطلان صومها خلاف مبنى على وجوب الغسل بخروج الولد وحده (إن قلنا) لا غسل لم يبطل صومها
والا بطل على أشهر الوجهين عند الأصحاب ولم يبطل على الآخر وهو الراجح دليلا وقد سبق ايضاح
المسألة في باب ما يوجب الغسل (السابعة) حيث قلنا لا يصح صوم المغمى عليه اما لوجود الاغماء في كل النهار
أو بعضه واما لعدم نيته بالليل يلزمه قضاء ما فاته من رمضان هكذا قطع به المصنف وجماهير الأصحاب وهو
المنصوص وفيه وجه لابن سريج واختاره صاحب الحاوي انه لا قضاء على المغمى عليه كما لا قضاء على
المجنون والمذهب الأول وقد سبقت المسألة مبسوطه في أول هذا الباب *
{فرع} لو نوى الصوم في الليل ثم شرب دواء فزال عقلة نهارا بسببه قال البغوي ان قلنا لا يصح صوم
المغمى عليه فهذا أولى والا فوجهان (أصحهما) لا يصح لأنه بفعله قال المتولي ولو شرب المسكر ليلا
وبقى سكره جميع النهار لم يصح صومه وعليه القضاء في رمضان وان صحا في بعضه فهو كالاغماء في بعض النهار *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
ويجوز للصائم ان ينزل الماء ويغطس فيه لما روى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال
" حدثني من رأى النبي صلى الله عليه وسلم في يوم صائف يصب على رأسه الماء من شدة الحر والعطش وهو صائم "
ويجوز أن يكتحل لما روى عن أنس " انه كان يكتحل وهو صائم ولأن العين ليس بمنفذ فلم يبطل الصوم
بما يصل إليها "} *
{الشرح} اما حديث أبي بكر بن عبد الرحمن هذا فصحيح رواه مالك في الموطأ وأحمد بن حنبل في مسنده
وأبو داود والنسائي في سننهما والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين والبيهقي وغيرهم بأسانيد
صحيحة
واسناد مالك وداود النسائي وأبى على شرط البخاري ومسلم ولفظ رواياتهم " من شدة الحر أو العطش " وفى
رواية النسائي " الحر " ولفظ رواية أبي داود عن أبي بكر عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه
347

وسلم انه حدثه قال " لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش
أو من الحر " هذا لفظه وكذا لفظ الباقين مصرح بان الذي حدث أبا بكر صحابي ولو ذكره المصنف كذلك
لكان أحسن ولفظ رواية المصنف بمعناه فان الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسلم صحابي
ثم إن هذا الصحابي وإن كان مجهول الاسم لا يقدح في صحة الحديث لان الصحابة كلهم عدول ولهذا
احتج به مالك في الموطأ وسائر الأئمة (وأما) الأثر المذكور عن أنس في الاكتحال فرواه أبو داود باسناد
كلهم ثقات الا رجلا مختلفا فيه ولم يبين الذي ضعفه سبب تضعيفه مع أن الجرح لا يقبل الا مفسرا
وقول المصنف ولأن العين ليس بمنفذ هكذا هو في نسخ المهذب ليس وهي لغة ضعيفة غريبة والمشهور
الفصيح ليست باثبات التاء (وأما) المنفذ فبفتح الفاء (أما) الأحكام ففيها مسألتان (إحداهما) يجوز للصائم
ان ينزل في الماء وينغطس فيه ويصبه على رأسه سواء كان في حمام أو غيره ولا خلاف في هذا ودليله
الحديث الذي ذكره وحديث عائشة وغيرها في الصحيحين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يصبح
جنبا وهو صائم ثم يغتسل " (الثانية) يجوز للصائم الاكتحال بجميع الأكحال ولا يفطر بذلك سواء وجد
طعمه في حلقه أم لا لأن العين ليست بجوف ولا منفذ منها إلى الحلق قال أصحابنا ولا يكره الاكتحال
عندنا قال البندنيجي وغيره سواء تنخمه أم لا *
{فرع} في مذاهب العلماء في الاكتحال * ذكرنا انه جائز عندنا ولا يكره ولا يفطر به سواء وجد
طعمه في حلقه أم لا وحكاه ابن المنذر عن عطاء والحسن البصري والنخعي والأوزاعي وأبي حنيفة
وأبى ثور وحكاه غيره عن ابن عمر وأنس وابن أبي أوفى الصحابيين رضي الله عنهم وبه قال داود وحكي ابن
المنذر عن سليمان التيمي ومنصور بن المعتمر وابن شبرمة وابن أبي ليلي انهم قالوا يبطل به صومه وقال
قتادة يجوز بالإثمد ويكره بالصبر * وقال الثوري وإسحق يكره * وقال مالك وأحمد يكره وإن وصل
إلى الحلق أفطر * واحتج للمانعين بحديث معبد بن هوذة الصحابي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
" انه أمر بالإثمد المروح عند النوم وقال ليتقه الصائم " رواه أبو داود وقال قال لي يحيى بن معين
هو حديث منكر * واحتج أصحابنا بأحاديث ضعيفة نذكرها لئلا يغتر بها (منها) حديث عائشة قالت
" اكتحل النبي صلى الله عليه وسلم وهو صائم " رواه ابن ماجة باسناد ضعيف من رواية بقية عن سعيد
ابن أبي سعيد الزبيدي شيخ بقية عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قال البيهقي وسعيد الزبيدي هذا
من مجاهيل شيوخ بقية ينفرد بما لا يتابع عليه قلت وقد اتفق الحفاظ على أن رواية بقية عن المجهولين
مردودة واختلفوا في روايته عن المعروفين فلا يحتج بحديثه هذا بلا خلاف وعن أنس
قال " جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اشتكت عيني أفأكتحل وأنا صائم قال نعم " رواه
الترمذي وقال ليس اسناده بالقوى قال ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شئ وعن
348

نافع عن ابن عمر قال " خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعيناه مملوءتان الكحل وذلك في
رمضان وهو صائم " في إسناد من اختلف في توثيقه وعن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع عن أبيه عن جده
أن " النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل بالإثمد وهو صائم " رواه البيهقي وضعفه لان راويه محمد هذا
ضعيف قال البيهقي وروى عن أنس مرفوعا باسناد ضعيف جدا انه لا بأس به * واحتجوا بالأثر
المذكور عن أنس وقد بينا إسناده وفى سنن أبي داود عن الأعمش قال ما رأيت أحدا من أصحابنا
يكره الكحل للصائم والمعتمد في المسألة ما ذكره المصنف *
* قال المصنف رحمه الله *
{ويجوز أن يحتجم لما روى ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم " احتجم وهو صائم " قال
في الام ولو ترك كان أحب إلى لما روى عبد الرحمن بن أبي ليلي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم انهم قالوا " أنما نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والوصال في الصوم إبقاء
على أصحابه "} *
{الشرح} حديث ابن عباس رواه البخاري في صحيحه وحديث ابن أبي ليلى رواه أبو داود
باسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم لكن في رواية أبى داود والبيهقي وغيرهما عن عبد الرحمن
ابن أبي ليلي قال حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إلى آخره وهذا مخالف
للفظ رواية المهذب (وقوله) إبقاء بالباء الموحدة وبالقاف وبالمد أي رفقا بهم (اما) حكم المسألة فقال
الشافعي والأصحاب تجوز الحجامة للصائم ولا تفطره ولكن الأولى تركها هذا هو المنصوص وبه قطع
الجمهور وقال جماعة من أصحابنا الجامعين بين الفقه والحديث يفطر بالحجامة ممن قاله منهم أبو بكر
ابن المنذر وأبو بكر بن خزيمة وأبو الوليد النيسابوري والحاكم أبو عبد الله للحديث الذي سنذكره إن شاء الله
تعالى قال أصحابنا والفصد كالحجامة *
{فرع} في مذاهب العلماء في حجامة الصائم * قد ذكرنا ان مذهبنا انه لا يفطر بها لا الحاجم ولا المحجوم
وبه قال ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وأم سلمة وسعيد بن المسيب
وعروة ابن الزبير والشعبي والنخعي ومالك والثوري وأبو حنيفة وداود وغيرهم قال صاحب الحاوي وبه
قال أكثر الصحابة وأكثر الفقهاء * وقال جماعة من العلماء الحجامة تفطر وهو قول علي بن أبي طالب
وأبي هريرة وعائشة والحسن البصري وابن سيرين وعطاء والأوزاعي وأحمد وإسحق وابن المنذر
وابن خزيمة قال الخطابي قال أحمد وإسحق يفطر الحاجم والمحجوم " وعليهما القضاء دون
الكفارة وقال عطاء يلزم المحتجم في رمضان القضاء والكفارة * واحتج لهؤلاء بحديث ثوبان قال
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أفطر الحاجم والمحجوم " رواه أبو داود والنسائي وابن
349

ماجة بأسانيد صحيحة وإسناد أبي داود على شرط مسلم وعن شداد بن أوس " أتى رسول الله صلى الله عليه
وسلم على رجل بالبقيع وهو يحتجم وهو آخذ بيدي لثمان عشرة خلت من رمضان فقال
أفطر الحاجم والمحجوم " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بأسانيد صحيحة وعن رافع به خديج عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " أفطر الحاجم والمحجوم " رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وعن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله
رواة الحاكم في المستدرك وقال هو صحيح ثم روى عن علي بن المديني أنه قال هو صحيح وروى الحاكم
أبو عبد الله في المستدرك عن أحمد بن حنبل قال أصح ما روى في هذا الباب حديث ثوبان وعن علي
ابن المديني قال لا أعلم فيها أصح من حديث رافع بن خديج قال الحاكم قد حكم أحمد لاحد الحديثين
بالصحة وعلى للآخر بالصحة وحكم إسحاق بن راهويه لحديث شداد بن أوس بالصحة ثم روى الحاكم
باسناده عن إسحاق أنه قال في حديث شداد هذا اسناد صحيح تقوم به الحجة قال اسحق وقد صح
هذا الحديث بأسانيد وبه نقول قال الحاكم رضى الله عن إسحاق فقد حكم بالصحة لحديث صحته
ظاهرة وقال به قال الحاكم وفى الباب عن جماعة من الصحابة بأسانيد مستقيمة مما يطول شرحه ثم روى
باسناده عن الامام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي قال صح عندي حديث " أفطر الحاجم والمحجوم "
من رواية شداد بن أوس وثوبان قال عثمان وبه أقول قال وسمعت أحمد بن حنبل يقول به ويقول
صح عنده حديث ثوبان وشداد وروى البيهقي حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " أيضا من رواية أسامة
ابن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن رواية عطاء عن ابن عباس مرفوعا وعن عطاء عن النبي صلى الله
عليه وسلم مرسلا قال هذا المرسل هو المحفوظ من رواية عطاء وذكر ابن عباس فيه وهم وعن عائشة مرفوعا
باسناد ضعيف وذكر البيهقي عن أبي زرعة الحافظ قال حديث عطاء عن أبي هريرة مرفوعا في هذا
حديث حسن وفى الموطأ عن نافع قال إن ابن عمر احتجم وهو صائم ثم تركه فكان إذا صام لم يحتجم حتى
يفطر * واحتج أصحابنا بحديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم " احتجم وهو محرم واحتجم وهو
صائم " رواه البخاري في صحيحه وعن ثابت البناني قال " سئل أنس أكنتم تكرهون الحجامة للصائم قال لا
إلا من أجل الضعف " رواه البخاري وفى رواية عنده " على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وعن
عبد الرحمن بن أبي ليلى قال " حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ان النبي صلى الله عليه
وسلم نهي عن الحجامة والمواصلة ولم ينه عنهما إلا إبقاء على أصحابه " رواه أبو داود باسناد على شرط
البخاري ومسلم كما سبق واحتج به أبو داود والبيهقي وغيرهما في أن الحجامة لا تفطر وعن أبي سعيد
350

الخدري قال " رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبلة للصائم والحجامة " رواه الدارقطني وقال
اسناده كلهم ثقات ورواه من طريق آخر قال كلهم ثقات وعن أنس قال " أول ما كرهت
الحجامة للصائم ان جعفر بن أبي طالب احتجم وهو صائم فمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال أفطر
هذان ثم رخص النبي صلى الله عليه وسلم بعد في الحجامة للصائم " وكان أنس يحتجم وهو صائم " رواه
الدارقطني وقال رواته كلهم ثقات قال ولا أعلم له علة وعن عائشة " ان النبي صلى الله عليه وسلم
احتجم وهو صائم " قال البيهقي وروينا في الرخصة في ذلك عن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود
وابن عباس وابن عمر والحسين بن علي وزيد ابن أرقم وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم واستدل الأصحاب
أيضا بأحاديث أخر في بعضها ضعف والمعتمد ما ذكرنا واستدلوا بالقياس على الفصد والرعاف
(وأما) حديث " أفطر الحاجم والمحجوم " فأجاب أصحابنا عنه بأجوبة (أحدها) جواب الشافعي ذكره في الام
وفيه اختلاف وتابعه عليه والخطابي البيهقي وسائر أصحابنا وهو انه منسوخ بحديث ابن عباس وغيره
مما ذكرنا ودليل النسخ ان الشافعي والبيهقي روياه باسنادهما الصحيح عن شداد بن أوس قال
" كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم زمان الفتح فرأى رجلا يحتجم لثمان عشرة خلت من رمضان فقال
وهو آخذ بيدي أفطر الحاجم والمحجوم " وقد ثبت في صحيح البخاري في حديث بن عباس " أن
النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم صائم " قال الشافعي وابن عباس إنما صحب النبي صلى الله
351

عليه وسلم محرما في حجة الوادع سنة عشرة من الهجرة ولم يصحبه محرما قبل ذلك وكان الفتح
سنة ثمان بلا شك فحديث ابن عباس بعد حديث شداد بسنتين وزيادة قال فحديث ابن عباس ناسخ قال
البيهقي ويدل على النسح أيضا قوله في حديث أنس السابق في قصة جعفر " ثم رخص النبي صلى الله
عليه وسلم بعد في الحجامة " هو حديث صحيح كما سبق قال وحديث أبي سعيد الخدري السابق
أيضا فيه لفظ الترخيص وغالب ما يستعمل الترخيص بعد النهي (الجواب الثاني) أجاب به الشافعي أيضا
أن حديث ابن عباس أصح ويعضده أيضا القياس فوجب تقديمه (الجواب الثالث) جواب الشافعي
أيضا والخطابي وأصحابنا أن المراد بأفطر الحاجم والمحجوم انهما كانا يغتابان في صومهما وروى البيهقي
ذلك في بعض طرق حديث ثوبان قال الشافعي وعلى هذا التأويل يكون المراد بافطارهما انه ذهب
أجرهما كما قال بعض الصحابة لمن تكلم في حال الخطبة لا جمعة لك أي ليس لك أجرها والا فهي
صحيحة مجزئة عنه (الجواب الرابع) ذكره الخطابي أن معناه تعرضا للفطر (أما) المحجوم فلضعفه بخروج
الدم فربما لحقه مشقة فعجز عن الصوم فأفطر بسببها (وأما) الحاجم فقد يصل جوفه شئ من الدم
أو غيره إذا ضم شفتيه على قصب الملازم كما يقال للمتعرض للهلاك هلك فلان وإن كان باقيا سالما
وكقوله صلى الله عليه وسلم " من جعل قاضيا فقد ذبح بغير سكين " أي تعرض للذبح بغير سكين
352

(الخامس) ذكره الخطابي أيضا أنه مر بهما قريب المغرب فقال أفطرا أي حان فطرهما كما يقال أمسى
الرجل إذا دخل في وقت المساء أو قاربه (السادس) أنه تغليظ ودعاء عليهما لارتكابهما ما يعرضهما
لفساد صومهما (واعلم) أن أبا بكر بن خزيمة اعترض على الاستدلال بحديث ابن عباس فروى عنه
الحاكم أبو عبد الله في المستدرك أنه قال ثبتت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " أفطر
الحاجم والمحجوم " فقال بعض من خالفنا في هذه المسألة وقال لا يفطر لحديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه
وسلم " احتجم وهو محرم صائم " ولا حجة له في هذا لان النبي صلى الله عليه وسلم إنما احتجم
وهو محرم صائم في السفر لأنه لم يكن قط محرما مقيما ببلده والمسافر إذا نوى الصوم له الفطر بالأكل والشرب
والحجامة وغيرها فلا يلزم من حجامته أنها لا تفطر فاحتجم وصار مفطرا وذلك جائز
هذا كلام ابن خزيمة وحكاه الخطابي في معالم السنن ثم قال وهذا تأويل باطل لأنه قال احتجم وهو صائم
فأثبت له الصيام مع الحجامة ولو بطل صومه بها لقال أفطر بالحجامة كما يقال أفطر الصائم بأكل الخبز
ولا يقال اكله وهو صائم قلت ولان السابق إلى الفهم من قول ابن عباس " احتجم وهو صائم " الاخبار
بأن الحجامة لا تبطل الصوم ويؤيده باقي الأحاديث المذكورة والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
{قال وأكره له العلك لأنه يجفف الفم ويعطش ولا يفطر لأنه يدور في الفم ولا ينزل إلى الجوف
شئ فان تفرك وتفتت فوصل منه شئ إلى الجوف بطل الصوم ويكره له أن يمضغ الخبز فإن كان له
ولد صغير ولم يكن له من يمضغ غيره لم يكره له ذلك} *
{الشرح} قوله قال يعنى الشافعي والعلك بكسر العين هو هذا المعروف ويجوز فتح العين
ويكون المراد الفعل وهو مضغ العلك وادارته وقوله يمضغ هو بفتح الصاد وضمها لغتان (أما) الأحكام
ففيها مسألتان (إحداهما) قال الشافعي والأصحاب يكره للصائم العلك لأنه يجمع الريق ويورث العطش
والقئ وروى البيهقي باسناده عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت " لا يمضغ
العلك الصائم " ولفظ الشافعي في مختصر المزني وأكره العلك لأنه يحلب الفم قال صاحب
الحاوي رويت هذه اللفظة بالجيم وبالحاء فمن قال بالجيم فمعناه يجمع الريق فربما ابتلعه وذلك يبطل
الصوم في أحد الوجهين ومكروه في الآخر قال وقد قيل معناه يطيب الفم ويزيل الخلوف قال ومن قاله
بالحاء فمعناه يمتص الريق ويجهد الصائم فيورث العطش قال أصحابنا ولا يفطر بمجرد العلك ولا بنزول
353

الريق منه إلى جوفه فان تفتت فوصل من جرمه شئ إلى جوفه عمدا وان شك في ذلك
لم يفطر ولو نزل طعمه في جوفه أو ريحه دون جرمه لم يفطر لان ذلك الطعم بمجاورة
الريق له هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وحكى الدارمي وجها عن ابن القطان
أنه ان ابتلع الريق وفيه طعمه أفطر وليس بشئ (الثانية) يكره له مضغ الخبز وغيره من غير عذر
وكذا ذوق المرق والخل وغيرهما فان مضغ أو ذاق ولم ينزل إلى جوفه شئ منه لم يفطر فان احتاج
إلى مضغه لولده أو غيره ولم يحصل الاستغناء عن مضغه لم يكره لأنه موضع ضرورة وروى البيهقي
باسناده الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال " لا بأس أن يتطاعم الصائم بالشئ " يعني المرقة
ونحوها
* قال المصنف رحمه الله *
{ومن حركت القبلة شهوته كره له أن يقبل وهو صائم والكراهة كراهة تحريم وان لم تحرك شهوته
قال الشافعي فلا بأس بها وتركها أولي والأصل في ذلك ماروت عائشة رضي الله عنها قالت " كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل ويباشر وهو صائم ولكنه كان أملككم لإربه " وعن ابن عباس
انه أرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب ولأنه في حق أحدهما لا يأمن أن ينزل فيفسد الصوم وفى
الاخر يأمن ففرق بينهما} *
{الشرح} حديث عائشة رواه البخاري ومسلم بهذا اللفظ وفى رواية لمسلم " يقبل في رمضان وهو
صائم " وعن عمر بن أبي سلمة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيقبل الصائم فقال
سل هذه لام سلمة فأخبرته أن النبي صلى الله عليه وسلم يصنع ذلك فقال يا رسول الله قد غفر الله
لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم والله انى أتقاكم لله وأخشاكم
له " رواه مسلم وعمر بن أبي سلمة هذا هو الحميري هكذا جاء مبينا في رواية البيهقي وليس هو ابن أم
سلمة وعن عمر رضي الله عنه " قال هششت يوما فقبلت وأنا صائم فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت
اني صنعت اليوم أمرا عظيما قبلت وأنا صائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت لو تمضمضت
بماء وأنت صائم قلت لا باس بذلك قال ففيم " رواه أبو داود قد سبق بيانه حيث ذكره المصنف ومما جاء في
كراهتها للشاب ونحوه حديث ابن عباس قال " رخص للكبير الصائم في المباشرة وكره للشاب " رواه ابن
ماجة هكذا وظاهره أنه مرفوع ورواه مالك والشافعي والبيهقي بأسانيدهم الصحيحة عن عطاء بن
يسار أن ابن عباس سئل عن القبلة للصائم فأرخص فيها للشيخ وكرهها للشاب هكذا رواه
أبو داود موقوفا عن ابن عباس وعن أبي هريرة " أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن المباشرة
للصائم فرخص له وأتاه آخر فنهاه هذا الذي رخص له شيخ والذي نهاه شاب " رواه أبو داود
354

باسناد جيد ولم يضعفه وعن ابن عمرو بن العاص قال " كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء شاب
فقال يا رسول الله أقبل وأنا صائم فقال لا فجاء شيخ فقال أقبل وأنا صائم قال نعم " رواه أحمد بن
حنبل باسناد ضعيف من رواية ابن لهيعة (وأما) الحديث المروى عن ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه
قالت " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل قبل امرأته وهما صائمان فقال قد أفطرا " رواه أحمد وابن
ماجة والدارقطني باسناد ضعيف قال الدارقطني رواية مجهول قال ولا يثبت هذا وعن الأسود قال " قلت
لعائشة أيباشر الصائم قالت لا قلت أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر قالت كان أملككم
لإربه " رواه البيهقي باسناد صحيح فهذه جملة من الأحاديث والآثار الواردة في القبلة (وقولها) لإربه
بكسر الهمزة مع إسكان الراء وروى أيضا بفتحهما جميعا * (أما) حكم المسألة فهو كما قاله المصنف تكره
القبلة على من حركت شهوته وهو صائم ولا تكره لغيره لكن الأولى تركها ولا فرق بين الشيخ والشاب
في ذلك فالاعتبار بتحريك الشهوة وخوف الانزال فان حركت شهوة شاب أو شيخ قوى كرهت
وإن لم تحركها لشيخ أو شاب ضعيف لم تكره والأولى تركها وسواء قبل الخد أو الفم أو غيرهما وهكذا
المباشرة باليد والمعانقة لهما حكم القبلة ثم الكراهة في حق من حركت شهوته كراهة تحريم عند المنصف
وشيخه القاضي أبى الطيب والعبد رى وغيرهم وقال آخرون كراهة تنزيه ما لم ينزل وصححه المتولي
قال الرافعي وغيره الأصح كراهة تحريم وإذا قبل ولم ينزل لم يبطل صومه بلا خلاف
عندنا سواء قلنا كراهة تحريم أو تنزيه *
{فرع} في مذاهب العلماء في القبلة للصائم * ذكرنا ان مذهبنا كراهتها لمن حركت شهوته ولا تكره
لغيره والأولى تركها فان قبل من تحرك شهوته ولم ينزل لم يبطل صومه قال ابن المنذر رخص في
القبلة عمر بن الخطاب وابن عباس وأبو هريرة وعائشة وعطاء والشعبي والحسن واحمد واسحق قال
وكان سعد ابن أبي وقاص لا يرى بالمباشرة للصائم بأسا وكان ابن عمر ينهى عن ذلك وقال ابن
مسعود يقضى يوما مكانه وكره مالك القبلة للشاب والشيخ في رمضان وأباحتها طائفة للشيخ دون
الشاب ممن قاله ابن عباس وقال أبو ثور ان خاف المجاوزة من القبلة إلى غيرها لم يقبل هذا نقل ابن المنذر
ومذهب أبي حنيفة كمذهبنا وحكى الخطابي عن سعيد بن المسيب ان من قبل في رمضان قضي يوما
مكانه وحكاه الماوردي عن محمد ابن الحنفية وعبد الله ابن شبرمة قال وقال سائر الفقهاء القبلة
لا تفطر الا أن يكون معها انزال فان انزل معها أفطر ولزمه القضاء دون الكفارة ودلائل
هذه المذاهب تعرف مما سبق في الأحاديث والله تعالى أعلم *
355

* قال المصنف رحمه الله
* {وينبغي للصائم أن ينزه صومه عن الغيبة والشم فان شوتم قال إني صائم لما روى أبو هريرة
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل فان أمرؤ
قاتله أو شاتمه فليقل انى صائم "} *
{الشرح} حديث أبي هريرة رواه البخاري ومسلم والرفث الفحش في الكلام ومعنى شاتمه
شتمه متعرضا لمشاتمته (وقوله) صلى الله عليه وسلم فليقل اني صائم ذكر العلماء فيه تأويلين (أحدهما)
يقوله بلسانه ويسمعه لصاحبه ليزجره عن نفسه (والثاني) وبه جزم المتولي يقوله في قلبه لا بلسانه
بل يحدث نفسه بذلك ويذكرها أنه صائم لا يليق به الجهل والمشاتمة والخوض مع الخائضين قال
هذا القائل لأنه يخاف عليه الرياء إذا تلفظ به ومن قال بالأول يقصد زجره لا للرياء والتأويلان
حسنان والأول أقوى ولو جمعهما كان حسنا (وقول) المصنف ينبغي للصائم أن ينز صومه عن الغليبة والشتم
معناه يتأكد التنزه عن ذلك في حق الصائم أكثر من غيره للحديث وإلا فغير الصائم ينبغي له ذلك أيضا
ويؤمر به في كل حال والتنزه التباعد فلو اغتاب في صومه عصي ولم يبطل صومه عندنا وبه قال مالك وأبو
حنيفة
وأحمد والعلماء كافة إلا الأوزاعي فقال يبطل الصوم بالغيبة ويجب قضاؤه * واحتج بحديث أبي هريرة
المذكور وبحديثه أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن
يدع طعامه وشرابه " رواه البخاري وعنه أيضا قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رب صائم
ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر " رواه النسائي وابن ماجة
في سننهما ورواه الحاكم في المستدرك قال وهو صحيح على شرط البخاري وعنه أيضا قال " قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس الصيام من الأكل والشرب فقط الصيام من اللغو والرفث "
رواه البيهقي ورواه الحاكم في المستدرك وقال هو صحيح على شرط مسلم وبالحديث الآخر " خمس
يفطرن الصائم الغيبة والنميمة والكذب والقبلة واليمين الفاجرة " وأجاب أصحابنا عن هذه الأحاديث
سوى الأخير بان المراد ان كمال الصوم وفضيلته المطلوبة إنما يكون بصيانته عن اللغو والكلام
الردئ لا أن الصوم يبطل به (واما) الحديث الأخير " خمس يفطرن الصائم " فحديث باطل لا يحتج به
وأجاب عنه الماوردي والمتولي وغيرهما بان المراد بطلان الثواب لا نفس الصوم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ويكره الوصال في الصوم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" إياكم والوصال إياكم والوصال قالوا إنك تواصل يا رسول الله قال إني لست كهيئتكم إني أبيت
356

عند ربي يطعمني ويسقيني " وهل هو كراهة تحريم أو كراهة تنزيه فيه وجهان (أحدهما) أنه كراهة
تحريم لان النهي يقتضي التحريم (والثاني) أنه كراهة تنزيه لأنه إنما نهى عنه حتى لا يضعف عن
الصوم وذلك أمر غير محقق فلم يتعلق به أثم فان واصل لم يبطل صومه لان النهي لا يرجح إلى الصوم
فلا يوجب بطلانه} *
{الشرح} حديث أبي هريرة رواه البخاري ومسلم والوصال بكسر الواو ويطعمني بضم الياء
ويسقيني بضم الياء وفتحها والفتح أفصح وأشهر (وقوله) لأنه إنما نهي عنه بضم النون وفتحها * أما حكم
الوصال فهو مكروه بلا خلاف عندنا وهل هي كراهة تحريم أم تنزيه فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف
وهما مشهوران ودليلهما في الكتاب (أصحهما) عند أصحابنا وهو ظاهر نص الشافعي كراهة تحريم
لان الشافعي رضي الله قال في المختصر فرق الله تعالى بين رسوله وبين خلقه في أمور أباحها له
وحظرها عليهم وذكر منها الوصال وممن صرح به من أصحابنا بتصحيح تحريمه صاحب العدة
والرافعي وآخرون وقطع به جماعة من أصحابنا منهم القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد والخطابي في
المعالم وسليم الداري في الكفاية وإمام الحرمين في النهاية والبغوي والروياني في الحلية والشيخ
نصر في كتابه الكافي وآخرون كلهم صرحوا بتحريمه من غير خلاف قال أصحابنا وحقيقة الوصال
المنهي عنه أن يصوم يومين فصاعدا ولا يتناول في الليل شيئا لا ماء ولا مأكولا فان أكل شيئا يسيرا أو شرب
فليس وصالا وكذا إن أخر الاكل إلى السحر لمقصود صحيح أو غيره فليس بوصال وممن صرح
بأن الوصال أن لا يأكل ولا يشرب ويزول الوصال بأكل أو شرب وان قل صاحب الحاوي وسليم
الرازي والقاضي أبو الطيب وامام الحرمين والشيخ نصر والمتولي وصاحب العدة وصاحب البيان
وخلائق لا يحصون من أصحابنا واما قول المحاملي في المجموع وأبى علي بن الحسن بن عمر البندنيجي
في كتابه الجامع والغزالي في الوسيط والبغوي في التهذيب الوصال أن لا يأكل شيئا في الليل وخصوه
بالاكل فضعيف بل هو متأول على موافقة الأصحاب ويكون مرادهم لا يأكل ولا يشرب كما قاله
الجماهير واكتفوا بذكر أحد القرينين كقوله تعالي (سرابيل تقيكم الحر) أي والبرد ونظائره
معروفة وقد بالغ امام الحرمين فقال في النهاية في بيان ما يزول به الوصال فقيل يزول الوصال بقطرة يتعاطاها
كل ليلة ولا يكفي اعتقاده ان من جن عليه الليل فقد أفطر هذا لفظه بحروفه (واعلم) ان الجمهور قد أطلقوا في
بيان حقيقة الوصال انه صوم يومين فأكثر من غير اكل ولا شرب في الليل وقال الروياني في الحلية الوصال
ان يصل صوم الليل بصوم النهار قصدا فلو ترك الأكل بالليل لا على قصد الوصال والتقرب إلى الله به لم يحرم
357

وقال البغوي العصيان في الوصال لقصده إليه وإلا فالفطر حاصل بدخول الليل كالحائض إذا صلت
عصت وإن لم يكن لها صلاة وهذا الذي قالاه خلاف إطلاق الجمهور وخلاف ما صرح به إمام الحرمين
كما سبق قريبا وقد قال المحاملي في المجموع الوصال ترك الأكل بالليل دون نية الفطر لان الفطر يحصل
بالليل سواء نوى الافطار أم لا هذا كلامه وظاهره مخالف لقول الروياني والبغوي والله أعلم
فالصواب أن الوصال ترك الأكل والشرب في الليل بين الصومين عمدا بلا عذر *
{فرع} اتفق أصحابنا وغيرهم على أن الوصال لا يبطل الصوم سواء حرمناه أو كرهناه لما ذكره
المصنف ان النهي لا يعود إلى الصوم والله أعلم *
{فرع} اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن الوصال من خصائص رسول الله صلى الله عليه
وسلم فهو مكروه في حقنا (اما) كراهة تحريم على الصحيح (واما) تنزيه ومباح له صلى الله عليه وسلم كذا
قاله الشافعي والجمهور وقال امام الحرمين هو قربة في حقه وقد نبه صلى الله عليه وسلم على الفرق بيننا
وبينه في ذلك بقوله " إني لست كهيئتكم إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " واختلف أصحابنا في تأويل
هذا الحديث على وجهين مشهورين في الحاوي ومنهاج القاضي أبي الطيب والمعالم للخطابي والعدة
والبيان وغيرها (أحدهما) وهو الأصح ان معناه أعطي قوة الطاعم الشارب وليس المراد الاكل حقيقة إذ
لو أكل حقيقة لم يبق وصال ولقال ما أنا مواصل ويؤيد هذا التأويل ما سنذكره إن شاء الله تعالى
قريبا في فرع بيان الأحاديث في حديث أنس وقوله صلى الله عليه وسلم " انى أظل يطعمني ربي ويسقيني "
ولا يقال ظل الا في النهار فدل على أنه لم يأكل (والثاني) انه صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بطعام وشراب
من الجنة كرامة له لا تشاركه فيها الأمة وذكر صاحب العدة والبيان تأويلا ثالثا مع هذين قالا وقيل معناه
ان محبة الله تشغلني عن الطعام والشراب والحب البالغ يشغل عنهما *
{فرع} قال أصحابنا الحكمة في النهي عن الوصال لئلا يضعف عن الصيام والصلاة وسائر الطاعات أو يملها
ويسأم منها لضعفه بالوصال أو يتضرر بدنه أو بعض حواسه وغير ذلك من أنواع الضرر *
{فرع} في مذاهب العلماء في الوصال * ذكرنا أن مذهبنا انه منهي عنه وبه قال الجمهور وقال العبدري
هو قول العلماء كافة الا ابن الزبير فإنه كان يواصل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن المنذر
كان ابن الزبير وابن أبي نعيم يواصلان وذكر الماوردي في الحاوي أن عبد الله بن الزبير واصل سبعة عشر
يوما ثم أفطر على سمن ولبن وصبر قال وتأول في السمن أنه يلين الأمعاء واللبن الطف غذاء والصبر
يقوى الأعضاء * دليلنا الحديث السابق وما سنذكره من الأحاديث إن شاء الله تعالى *
{فرع} في بيان جملة من أحاديث الوصال * عن ابن عمر قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
358

الوصال قالوا إنك تواصل قال إني لست مثلكم إني أطعم وأسقى " رواه البخاري ومسلم وفى رواية
لمسلم " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم واصل في رمضان فواصل الناس فنهاهم قيل له أنت تواصل
قال إني لست مثلكم انى أطعم وأسقى " وعن أبي هريرة قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الوصال فقال رجل فإنك يا رسول الله تواصل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيكم مثلي اني أبيت
يطعمني ربى ويسقيني فلما أبوا ان ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال لو
تأخر الهلال لزدتكم كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا " رواه البخاري ومسلم وعنه أيضا عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " إياكم والوصال مرتين قيل إنك تواصل قال أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني فاكلفوا
من الأعمال ما تطيقون " رواه البخاري بهذا اللفظ ومسلم بمعناه وأكلفوا بفتح اللام معناه خذوا
برغبة ونشاط وعن عائشة قالت " نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم قالوا إنك
تواصل قال إني لست كهيأتكم إني يطعمني ربي ويسقيني " رواه البخاري ومسلم وعن أنس عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تواصلوا قالوا إنك تواصل قال إني لست كأحد منكم انى أطعم
وأسقى " رواه البخاري بلفظه ومسلم بمعناه وعنه قال " واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول شهر
رمضان فواصل ناس فبلغه ذلك فقال لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم إنكم لستم
مثلي أو قال إني لست مثلكم إني أظل يطعمني ربى ويسقيني " رواه مسلم هنا والبخاري في باب لو
من كتاب التمني من صحيحه وعن أبي سعيد الخدري انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول " لا تواصلوا فأيكم
أرد ان يواصل فليواصل إلى السحر قالوا فإنك تواصل يا رسول الله قال إني لست كهيأتكم اني
أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني " رواه البخاري *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ويستحب ان يتسحر للصوم لما روى أنس رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " تسحروا
فان في السحور بركة " ولان فيه معونة على الصوم ويستحب تأخير السحور لما روى أنه قيل لعائشة
" ان عبد الله يعجل الفطر ويؤخر السحور فقالت هكذا كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يفعل " ولان السحور
يراد للتقوى على الصوم والتأخير أبلغ في ذلك فكان أولى والمستحب ان يعجل الفطر إذا تحقق
غروب الشمس لحديث عائشة رضي الله عنها ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال " قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم لا يزال هذا الدين ظاهرا ما عجل الناس الفطر ان اليهود والنصارى يؤخرون "} *
{الشرح} حديث انس رواه البخاري ومسلم وحديث عائشة في قصة عبد الله رواه مسلم
وعبد الله هذا هو ابن مسعود وينكر على المصنف قوله روى بصيغة التمريض وهو حديث صحيح
359

وإنما تقال صيغة التمريض في ضعيف وقد سبق التنبيه على مثل هذا مرات كثيرة وأما حديث أبي هريرة
فرواه أبو داود بلفظه هذا الا أنه قال " لان اليهود والنصارى يؤخرون " وفى نسخ المهذب " ان اليهود "
وكذا رواه البيهقي في السنن الكبير وابن ماجة باسناد صحيح فينبغي أن يقرأ بفتح الهمزة من أن
ليوافق رواية أبي داود وهذا الحديث أصله في الصحيحين من رواية سهل بن سعد كما سأذكره في
فرع منفرد للأحاديث الواردة في السحور ورواية أبي هريرة التي ذكرها المصنف وأبو داود إسنادها
صحيح على شرط مسلم وقوله صلى الله عليه وسلم " فان في السحور بركة " روى بفتح السين
وهو المأكول كالخبز وغيره وبضمها وهو الفعل والمصدر وسبب البركة فيه تقويته الصائم على
الصوم وتنشيطه له وفرحه به وتهوينه عليه وذلك سبب لكثرة الصوم (اما) حكم المسألة فاتفق أصحابنا
وغيرهم من العلماء على أن السحور سنة وان تأخيره أفضل وعلى أن تعجيل الفطر سنة بعد تحقق غروب
الشمس ودليل ذلك كله الأحاديث الصحيحة ولان فيهما إعانة على الصوم ولان فيهما مخالفة للكفار كما
في حديث أبي هريرة المذكور في الكتاب والحديث الصحيح الذي سأذكره إن شاء الله تعالى
" فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب اكلة السحر " ولان محل الصوم هو الليل فلا معنى لتأخير
الفطر والامتناع من السحور في آخر الليل ولان بغروب الشمس صار مفطرا فلا فائدة في تأخير الفطر
قال أصحابنا وإنما يستحب تأخير السحور ما دام متيقنا بقاء الليل فمتى حصل شك فيه فالأفضل
تركه وقد سبقت المسألة في فصل وقت الدخول في الصوم وقد نص الشافعي في الام على أنه إذا شك
في بقاء الليل ولم يتسحر يستحب له ترك السحور فان تسحر في هذه الحالة صح صومه لان الأصل
بقاء الليل قال القاضي أبو الطيب في المجرد قال الشافعي في الام إذا أخر الافطار بعد تحقق غروب الشمس فإن كان
يرى الفضل في تأخيره كرهت ذلك لمخالفة الأحاديث وإن لم ير الفضل في تأخيره فلا بأس
لأن الصوم لا يصلح في الليل هذا نصه *
{فرع} وقت السحور بين نصف الليل وطلوع الفجر *
{فرع} يحصل السحور بكثير المأكول وقليله ويحصل بالماء أيضا وفيه حديث سنذكره *
{فرع} قال ابن المنذر في الاشراف أجمعت الأمة على أن السحور مندوب إليه مستحب
لا إثم على من تركه *
{فرع} في الأحاديث الواردة في السحور وتأخيره وتعجيل الفطر * عن أنس قال " قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم تسحروا فان في السحور بركة " رواه البخاري ومسلم وعن عمرو بن العاص
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر "
360

رواه مسلم * أكلة السحر بفتح الهمزة هي السحور وعن المقدام بن معدي كرب عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " عليكم بهذا السحور فإنه هو الغذاء المبارك " رواه النسائي باسناد جيد ورواه أبو داود
والنسائي من رواية العرباض بن سارية بمعناه وفى إسناده نظر وعن سهل بن سعد أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر " رواه البخاري ومسلم وسبق
في الكتاب معناه من رواية أبي هريرة بزيادة وعن أبي عطية قال " دخلت انا ومسروق على عائشة
فقلنا يا أم المؤمنين رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما يعجل الافطار ويعجل
الصلاة والآخر يؤخر الافطار ويؤخر الصلاة فقالت أيهما الذي يعجل الافطار ويعجل الصلاة قلنا
عبد الله بن مسعود قالت كذلك كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه مسلم وفى رواية
له " يعجل المغرب " وعن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا تزال أمتي بخير ما عجلوا
الافطار وأخروا السحور " رواه الإمام أحمد وعن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال الله عز وجل أحب عبادي إلى أعجلهم فطرا " رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن
ابن عمر قال " كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذنان بلال وابن أم مكتوم فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم ان بلالا يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم قال ولم يكن
بينهما الا أن ينزل هذا ويرقى هذا " رواه البخاري ومسلم وعن نافع عن ابن عمر وعن القاسم عن
عائشة " ان بلالا كان يؤذن بليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلوا واشربوا حتى يؤذن
ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " رواه البخاري وعن زيد بن ثابت قال " تسحرنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة قلت كم كان قدر ما بينهما قال خمسين آية " رواه
البخاري ومسلم وعن سهل بن سعد قال " كنت أتسحر في أهلي ثم تكون سرعتي ان أدرك صلاة
الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" تسحروا ولو بجرعة ماء " وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم " اكلة السحر بركة فلا
تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء " رواهما ابن أبي عاصم في كتابه باسنادين ضعيفين وفى الباب
أحاديث كثيرة غير ما ذكرته (واما) ما رواه مالك والشافعي والبيهقي بأسانيدهم الصحيحة عن حميد بن
عبد الرحمن " ان عمر وعثمان رضي الله عنهما كانا يصليان المغرب حين ينظران إلى الليل الأسود ثم
يفطران بعد الصلاة وذلك في رمضان " فقال البيهقي في المبسوط قال الشافعي كأنهما يريان تأخير الفطر
واسعا لا انهما يتعمدان فضيلة في ذلك ونقل الماوردي ان أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا يؤخران
361

الافطار وأجاب بأنهما أرادا بيان جواز ذلك لئلا يظن وجوب التعجيل وهذا التأويل ظاهر
فقد روى البيهقي باسناده الصحيح عن عمرو بن ميمون وهو من أكبر التابعين قال " كان أصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم أعجل الناس افطارا وأبطأهم سحورا " (وأما) الحديث المروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم " انا معاشر الأنبياء أمرنا ان نعجل افطارنا ونؤخر سحورنا ونضع ايماننا على
شمائلنا في الصلاة " فضعيف رواه البيهقي هكذا من رواية ابن عباس ومن رواية ابن عمر ومن
رواية أبي هريرة وقال كلها ضعيفة (وأصح) ما ورد فيه من كلام عائشة موقوفا عليها وفى حديث
رواه البيهقي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " نعم سحور المؤمن التمر " *
قال المصنف رحمه الله *
{والمستحب أن يفطر على تمر فإن لم يجد فعلى الماء لما روى سلمان بن عامر قال " قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا أفطر أحدكم فليفطر على تمر فإن لم يجد فليفطر على ماء فإنه طهور " *
والمستحب أن يقول عند إفطاره اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت لما روى أبو هريرة قال " كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صام ثم أفطر قال اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت " ويستحب أن يفطر
الصائم لما روى زيد بن خالد الجهيني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من فطر صائما فله مثل أجره ولا
ينقص من أجر الصائم شئ "} *
{الشرح} حديث سلمان بن عامر رواه أبو داود والترمذي وقال هو حديث حسن صحيح
(واما) حديث زيد بن خالد فرواه الترمذي وقال هو حديث صحيح ورواه النسائي أيضا
وغيره (وأما) حديث أبي هريرة فغريب ليس معروف ورواه أبو داود عن معاذ بن زهرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ورواه الدارقطني من رواية ابن عباس مسندا متصلا باسناد
ضعيف (أما) الأحكام ففيه مسائل (إحداها) يستحب أن يفطر على تمر فإن لم يجد فعلى الماء ولا
يخلل بينهما هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور ونص عليه في حرمله ودليله حديث سلمان
السابق وعن أنس قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر قبل أن يصلى على رطبات فإن لم
يكن رطبات فتميرات فإن لم يكن تميرات حسا حسوات من ماء " رواه أبو داود والترمذي وقال
حديث حسن ورواه الدارقطني وقال اسناده صحيح وقال الروياني يفطر على تمر فإن لم يجد فعلى
حلاوة فإن لم يجد فعلى الماء وقال القاضي حسين الأولى في زماننا أن يفطر على ما يأخذه بكفه
من النهر ليكون أبعد عن الشبهة وهذا الذي قالاه شاذ والصواب ما سبق كما صرح به الحديث
362

الصحيح فإنه صلى الله عليه وسلم قدم التمر ونقل منه إلى الماء بلا واسطة *
{فرع} ذكر صاحب البيان أنه يكره للصائم إذا أراد ان يشرب ان يتمضمض ويمجه وكأن
هذا شبيه بكراهة السواك للصائم بعد الزوال فإنه يكره لكونه يزيل الخلوف (الثانية) قال المصنف وسائر
الأصحاب يستحب ان يدعوا عند إفطاره اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت وفى سنن أبي داود والنسائي عن ابن عمر " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أفطر قال ذهب الظمأ وابتلت العروق
وثبت الاجر إن شاء الله تعالى " وفى كتاب ابن ماجة عن ابن عمرو بن العاص ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال " إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد " وكان ابن عمرو إذا أفطر يقول " اللهم برحمتك التي وسعت
كل شئ اغفر لي " (الثالثة) يستحب ان يدعو الصائم ويفطره في وقت الفطر وهذا لا خلاف في
استحبابه للحديث قال المتولي فإن لم يقدر على عشائه فطره على تمرة أو شربة ماء أو لبن قال الماوردي ان
بعض الصحابة قال " يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعطى الله تعالى هذا الثواب من فطر صائما على تمرة أو شربة ماء أو مزقة لبن " *
قال المصنف رحمه الله *
{إذا كان عليه قضاء أيام من رمضان ولم يكن له عذر لم يجز ان يؤخره إلى أن يدخل رمضان آخر فان
أخره حتى أدركه رمضان آخر وجب عليه لكل يوم مد من طعام لما روى عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة
انهم قالوا فيمن عليه صوم فلم يصمه حتى أدركه رمضان آخر يطعم عن الأول فان اخره سنتين ففيه
وجهان (أحدهما) يجب لكل سنة مد لأنه تأخير سنة فأشبهت السنة الأولى (والثاني) لا يجب للثانية شئ
لان القضاء مؤقت بما بين رمضانين فإذا اخره عن السنة الأولى فقد اخره عن وقته فوجبت الكفارة
وهذا المعنى لا يوجد فيما بعد السنة الأولى فلم يجب بالتأخير كفارة والمستحب ان يقضي ما عليه
متتابعا لما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " من كان عليه صوم من رمضان
فليسرده ولا يقطعه " ولان فيه مبادرة إلى أداء الفرض ولان ذلك أشبه بالأداء فان قضاه متفرقا جاز لقوله
تعالي (فعدة من أيام أخر) ولأنه تتابع وجب لأجل الوقت فسقط بفوات الوقت وإن كان عليه قضاء
اليوم الأول فصام ونوى به اليوم الثاني فإنه يحتمل ان يجزئه لأنه تعيين اليوم غير واجب ويحتمل
ان لا يجزئه لأنه نوى غير ما عليه فلم يجزئه كما لو كان عليه عتق عن اليمين فنوى عتق الظهار *
{الشرح} حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " من كان
عليه صوم من رمضان فليسرده ولا يقطعه " رواه الدارقطني والبيهقي وضعفاه (واما)
363

الآثار التي ذكرها المصنف عن ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة في الاطعام فرواها الدارقطني وقال في
اسناده عن أبي هريرة هذا اسناد صحيح ورواه عنه مرفوعا واسناده ضعيف جدا واسناد ابن عباس صحيح
أيضا ولفظ الروايات عن أبي هريرة " من مرض ثم صح ولم يصم حتى أدركه رمضان آخر قال يصوم
الذي أدركه ثم يصوم الشهر الذي أفطر فيه ويطعم مكان كل يوم مسكينا " ولفظ الباقي بمعناه ولم يبين
المصنف في روايته عنهم انه يجب قضاء الصوم (وقوله) ولأنه تتابع وجب لأجل الوقت فيه احتراز من التتابع
في صوم الكفارة أو في النذر المتتابع (أما) أحكام الفصل ففيه مسائل (إحداها) إذا كان عليه قضاء رمضان
أو بعضه فإن كان معذورا في تأخير القضاء بان استمر مرضه أو سفره ونحوهما جاز له التأخير ما دام عذره
ولو بقي سنين ولا تلزمه الفدية بهذا التأخير وان تكررت رمضانات وإنما عليه القضاء فقط لأنه يجوز
تأخير أداء رمضان بهذا العذر فتأخير القضاء أولي بالجواز فإن لم يكن عذر لم يجز التأخير إلى
رمضان آخر بلا خلاف بل عليه قضاؤه قبل مجئ رمضان السنة القابلة قال أصحابنا والفرق بين الصوم
والصلاة حيث لا يجوز تأخير قضاء رمضان إلى رمضان آخر ويجوز تأخير الصلاة إلى ما بعد صلاة أخرى مثلها
بل إلى سنين أن تأخير الصوم إلى رمضان آخر تأخير له إلى زمن لا يقبل صوم القضاء ولا يصح فيه
فهو كتأخيره إلى الموت فلم يجز بخلاف الصلاة فإنها تصح في جميع الأوقات فلو أخر القضاء إلى رمضان
آخر بلا عذر اثم ولزمه صوم رمضان الحاضر ويلزمه بعد ذلك قضاء رمضان الفائت ويلزمه بمجرد دخول
رمضان الثاني عن كل يوم من الفائت مد من طعام مع القضاء لما ذكره المصنف نص عليه الشافعي
واتفق عليه الأصحاب الا المزني فقال لا تجب الفدية والمذهب الأول ولو أخره حتى مضى رمضانان فصاعدا
فهل يتكرر عن كل يوم بتكرر السنين أم يكفي مد عن كل السنين فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف
بدليلهما (أصحهما) يتكرر صححه إمام الحرمين وغيره وقطع به القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد وخالفهم
صاحب الحاوي فقال الأصح انه يكفي مد واحد لجميع السنين والأول أصح ولو أفطر عدوانا وقلنا تجب فيه
الفدية فأخر القضاء حتى دخل رمضان آخر فعليه لكل يوم مع القضاء فديتان فدية للافطار عدوانا
وأخرى للتأخير هذا هو المذهب وبه قطع البغوي وغيره * واحتج له البغوي بان سببهما مختلف
فلا يتداخلان بخلاف الحدود وقال إبراهيم المروزي إن عددنا الفدية بتعدد رمضان فهنا أولى
والا فوجهان ولو اخر القضاء مع الامكان حتى مات بعد دخول رمضان قبل أن يقضي وقلنا الميت
يطعم عنه فوجهان مشهوران حكاهما المصنف في الفصل الذي بعد هذا (أصحهما) عند الأصحاب يجب
لكل يوم مدان من تركته مد عن الصوم ومد عن التأخير قال الماوردي وهذا مذهب الشافعي
364

وسائر أصحابنا سوى ابن سريج (والثاني) يجب مد واحد لان الفوات يضمن بمد واحد كالشيخ
الهرم قال الماوردي هذا غلط وأما إذا قلنا يصوم عنه وليه فصام حصل تدارك أصل الصوم ويجب
مد للتأخير لأنه كان واجبا عليه في حياته وإذا قلنا بالأصح وهو التكرر فكان عليه عشرة أيام فمات
ولم يبق من شعبان الا خمسة أيام وجب في تركته خمسة عشر مدا عشرة لأجل الصوم وخمسة
للتأخير لأنه لو عاش لم يمكنه الا قضاء خمسة وأما إذا أفطر بلا عذر وقلنا يلزمه الفدية فأخر الصوم
حتى دخل رمضان آخر ومات قبل القضاء فالمذهب وجوب ثلاثة امداد لكل يوم فان تكررت
السنون زادت الامداد وإذا لم يبق بينه وبين رمضان الثاني ما يتأتي فيه قضاء جميع
الفائت فهل تلزمه الفدية في الحال عما لا يسعه الوقت أم لا يلزمه الا بعد دخول رمضان فيه
وجهان كالوجهين فيمن حلف ليأكلن هذا الرغيف غدا فتلف قبل الغد هل يحنث في الحال أم
بعد مجئ الغد *
{فرع} إذ أراد تعجيل فدية التأخير قبل مجئ رمضان الثاني ليؤخر القضاء مع الامكان
ففي جوازه وجهان كالوجهين في تعجيل الكفارة عن الحنث المحرم وقد سبقت هذه المسألة مع
نظائر كثيرة لها في آخر باب تعجيل الزكاة *
{فرع} إذا أخر الشيخ الهرم المد عن السنة فالمذهب انه لا شئ عليه وقال الغزالي في الوسيط
في تكرر مد آخر لتأخيره وجهان وهذا شاذ ضعيف (المسألة الثانية) إذا كان عليه قضاء شئ من
رمضان يستحب قضاؤه متتابعا فان فرقه جاز وذكر المصنف دليلهما (الثالثة) إذا كان عليه قضاء
اليوم الأول من رمضان فصام ونوى به اليوم الثاني ففي إجزائه وجهان مشهوران حكاهما البغوي وغيره
(أصحهما) لا يجزئه وبه قطع البندنيجي والمتولي ذكره في مسائل النية وجعل المصنف الاحتمالين
له لكونه لم ير النقل الذي ذكره غيره وقد سبقت المسألة مع نظائرها في هذا الباب في
مسائل النية والله أعلم *
{فرع} إذا لزمه قضاء رمضان أو بعضه فإن كان فواته بعذر كحيض ونفاس ومرض وإغماء
وسفر ومن نسي النية أو اكل معتقدا انه ليل فبان نهارا أو المرضع والحامل فقضاؤه على التراخي
بلا خلاف ما لم يبلغ به رمضان المستقبل ولكن يستحب تعجيله وان فاته بغير عذر فوجهان كالوجهين
في قضاء الصلاة الفائتة بلا عذر (أرجحهما) عند أكثر العراقيين انه على التراخي أيضا (والثاني) وهو
الصحيح صححه الخراسانيون ومحققوا العراقيين وقطع به جماعات انه على الفور وكذا الخلاف في قضاء الحجة
365

المفسدة (الأصح) على الفور وقد سبق بيان هذا كله في آخر باب مواقيت الصلاة وسبق هناك حكم
الكفارة وهي كالصوم سواء فيفرق بين ما وجبت بسبب محرم وغيرها والله أعلم *
{فرع} في مذاهب العلماء في من أخر قضاء رمضان بغير عذر حتى دخل رمضان آخر * قد ذكرنا
ان مذهبنا انه يلزمه صوم رمضان الحاضر ثم يقضى الأول ويلزمه عن كل يوم فدية وهي مد من طعام
وبهذا قال ابن عباس وأبو هريرة وعطاء بن أبي رباح والقاسم بن محمد والزهري والأوزاعي ومالك
والثوري واحمد واسحق الا ان الثوري قال الفدية مدان عن كل يوم وقال الحسن البصري وإبراهيم
النخعي وأبو حنيفة والمزني وداود يقضيه ولا فدية عليه أما إذا دام سفره ومرضه ونحوهما من الاعذار
حتى دخل رمضان الثاني فمذهبنا انه يصوم رمضان الحاضر ثم يقضى الأول ولا فدية عليه لأنه معذور
وحكاه ابن المنذر عن طاوس والحسن البصري والنخعي وحماد بن أبي سليمان والأوزاعي ومالك
واحمد واسحق وهو مذهب أبي حنيفة والمزني وداود قال ابن المنذر وقال ابن عباس وابن عمر
وسعيد بن جبير وقتادة يصوم رمضان الحاضر عن الحاضر ويفدى عن الغائب ولا قضاء عليه *
366

{فرع} في مذاهبهم في تفريق قضاء رمضان وتتابعه * قد ذكرنا أن مذهبنا انه يستحب تتابعه
ويجوز تفريقه وبه قال علي بن أبي طالب ومعاذ ابن جبل وابن عباس وأنس وأبو هريرة والأوزاعي
والثوري وأبو حنيفة ومالك واحمد واسحق وأبي ثور رضي الله عنهم وعن ابن عمر وعائشة
والحسن البصري وعروة بن الزبير والنخعي وداود الظاهري انه يجب التتابع قال داود هو
واجب ليس بشرط وحكي صاحب البيان عن الطحاوي أنه قال التتابع والتفريق سواء ولا فضيلة
في التتابع *
{فرع} يجوز قضاء رمضان عندنا في جميع السنة غير رمضان الثاني وأيام العيد والتشريق
ولا كراهة في شئ من ذلك سواء ذو الحجة وغيره وحكاه ابن المنذر عن سعيد بن المسيب واحمد
واسحق وأبي ثور وبه قال جمهور العلماء قال ابن المنذر وروينا عن علي بن أبي طالب انه كره قضاءه في
ذي الحجة قال وبه قال الحسن البصري والزهري قال ابن المنذر وبالأول أقول لقوله تعالي (فعدة
من أيام أخر) *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ولو كان عليه قضاء شئ من رمضان فلم يصم حتى مات نظرت فان أخره لعذر اتصل بالموت
لم يجب عليه شئ لأنه فرض لم يتمكن من فعله إلى الموت فسقط حكمه كالحج وإن زال العذر وتمكن
فلم يصمه حتى مات أطعم عنه لكل مسكين مد من طعام عن كل يوم ومن أصحابنا من قال فيه
قول آخر أنه يصام عنه لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلي اله عليه وسلم قال " من مات
وعليه صيام صام عنه وليه " ولأنه عبادة تجب بافسادها الكفارة فجاز أن يقضي عنه بعد الموت
كالحج والمنصوص في الام هو الأول وهو الصحيح والدليل عليه ما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " من مات وعليه صيام فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين " ولأنه عبادة لا تدخلها النيابة في حال الحياة
فلا تدخلها النيابة بعد الموت كالصلاة (فان قلنا) أنه يصوم عنه وليه أجزأه فان أمر أجنبيا فصام عنه بأجرة
أو بغير أجرة أجزأه كالحج (وإن قلنا) يطعم عنه نظرت فان مات قبل أن يدركه رمضان آخر أطعم عنه
عن كل يوم مسكين وإن مات بعد ما أدركه رمضان آخر ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه مدان مد
للصوم ومد للتأخير (والثاني) يكفيه مد واحد للتأخير لأنه إذا أخرج مدا للتأخير زال التفريط بالمد فيصير
كما لو أخره بغيره تفريط فلا تلزمه كفارة} *
{الشرح} حديث عائشة رواه البخاري ومسلم وحديث ابن عمر رواه الترمذي وقال هو
غريب قال والصحيح أنه موقوف على ابن عمر من قوله (وقول) المصنف عبادة تجب بافسادها الكفارة
367

احتراز من الصلاة (وقوله) عبادة لا تدخلها النيابة في حال الحياة احتراز من الحج في حق المعضوب
(أما) حكم المسألة فقال أصحابنا من مات وعليه قضاء رمضان أو بعضه فله حالان (أحدهما) أن يكون
معذورا في تفويت الأداء ودام عذره إلى الموت كمن اتصل مرضه أو سفره أو اغماؤه أو حيضها أو نفاسها
أو حملها أو إرضاعها ونحو ذلك بالموت لم يجب شئ على ورثته ولا في تركته لا صيام ولا إطعام وهذا لا خلاف
فيه عندنا ودليله ما ذكره المصنف من القياس على الحج (الحال الثاني) ان يتمكن من قضائه سواء فاته
بعذر أم بغيره ولا يقضيه حتى يموت ففيه قولان مشهوران (أشهرهما وأصحهما) عند المصنف
والجمهور وهو المنصوص في الجديد انه يجب في تركته لكل يوم مد من طعام ولا يصح صيام وليه
عنه قال القاضي أبو الطيب في المجرد هذا هو المنصوص للشافعي في كتبه الجديدة وأكثر القديمة
(والثاني) وهو القديم وهو الصحيح عند جماعة من محققي أصحابنا وهو المختار انه يجوز لوليه ان يصوم
عنه ويصح ذلك ويجزئه عن الاطعام وتبرأ به ذمة الميت ولكن لا يلزم الولي الصوم بل هو إلى خيرته
ودليلهما في الكتاب وسأفرد له فرعا ابسط أدلته فيه إن شاء الله تعالى * قال المصنف والأصحاب
فإذا قلنا بالقديم فأمر الولي أجنبيا فصام عن الميت بأجرة أو بغيرها جاز بلا خلاف كالحج ولو صام
الأجنبي مستقلا به من غير إذن الولي فوجهان مشهوران (أصحهما) لا يجزئه قال صاحب البيان وهذا
هو المشهور في المذهب وقد أشار إليه المصنف بقوله وإن أمر أجنبيا (وأما) المراد بالولي الذي يصوم عنه فقال إمام الحرمين يحتمل أن يكون من له الولاية يعني ولاية المال ويحتمل مطلق القرابة
ويحتمل أن يشترط الإرث ويحتمل أن يشترط العصوبة ثم توقف الامام فيه وقال
لا نقل فيه عندي قال الرافعي وإذا فحصت عن نظائره وجدت الأشبه اعتبار الإرث هذا كلام
الرافعي واختار الشيخ أبو عمرو بن الصلاح أنه مطلق القرابة قال لان الولي مشتق من الولي باسكان اللام
وهو القرب فيحمل عليه ما لم يدل دليل على خلافه وهذا الذي اختاره أبو عمر وهو الأصح المختار
وفي صحيح مسلم من رواية ابن عباس ومن رواية بريدة " ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة
ماتت أمها وعليها صوم صومي عن أمك " وهذا يبطل احتمال الولاية والعصوبة فالصحيح ان الولي مطلق
القرابة واحتمال الإرث ليس ببعيد والله أعلم *
{فرع} قد ذكرنا فيمن مات وعليه صوم وتمكن منه فلم يصمه حتى مات انه على قولين (الجديد)
المشهور في المذهب وصححه أكثر الأصحاب انه يجب الاطعام عنه لكل يوم مد من طعام ولا يجزئ
الصيام عنه وبالغ الأصحاب في تقوية هذا القول وانه مذهب للشافعي حتى قال القاضي أبو الطيب
في المجرد هو نص الشافعي في كتبه القديمة والجديدة قال وحكي عنه أنه قال في بعض كتبه القديمة
368

يصوم عنه وليه وقال صاحب الحاوي مذهب الشافعي في القديم والجديد انه يطعم عنه ولا يصام
عنه قال وحكى بعض أصحابنا عن القديم انه يصوم عنه وليه لأنه قال فيه قد روى ولك في ذلك خبر فان
صح قلت به فجعله قولا ثانيا فال وأنكر سائر أصحابنا أن يكون صوم الولي عنه مذهبا للشافعي رضي الله عنه
وتأولوا الأحاديث الواردة " من مات وعليه صوم صام عنه وليه " ان صح على أن المراد الاطعام أي يفعل عنه
ما يقوم مقام الصيام وهو الاطعام وفرقوا بينه وبين الحج بأن الحج تدخله النيابة في الحياة ولا تدخل الصوم
النيابة في الحياة بلا خلاف هذا هو المشهور عند الأصحاب (والقول الثاني) وهو القديم انه يجوز لوليه أن يصوم
عنه ولا يلزمه ذلك وعلى هذا القول لو أطعم عنه جاز فهو على القديم مخير بين الصيام والاطعام هكذا
نقله البيهقي وغيره وهو متفق عليه على القديم وهذا القديم هو الصحيح عند جماعة من محققي أصحابنا
الجامعين بين الفقه والحديث واستدلوا له بالأحاديث الصحيحة (منها) حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه
وسلم " من مات وعليه صيام صام عنه وليه " رواه البخاري ومسلم وعن ابن عباس قال " جاء
رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها فقال
لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها قال نعم قال فدين الله أحق أن يقضي " رواه البخاري
ومسلم وعن ابن عباس أيضا قال " جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت. يا رسول الله ان
أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها قال أفرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدى
ذلك عنها قالت نعم قال فصومي عن أمك " رواه مسلم ورواه البخاري أيضا تعليقا بمعناه وعن بريدة
قال " بينا انا جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة فقالت يا رسول الله إني تصدقت على أمي
بجارية وانها ماتت فقال وجب أجرك وردها عليك الميراث قالت يا رسول الله انه كان عليها صوم شهر أفأصوم
عنها قال صومي عنها قالت انها لم تحج قط أفأحج عنها قال حجى عنها " رواه مسلم وعن ابن عباس
أن امرأة ركبت البحر فنذرت ان الله نجاها أن تصوم شهرا فنجاها الله سبحانه وتعالى فلم تصم حتى
ماتت فجاءت بنتها أو أختها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تصوم عنها " رواه أبو داود
وغيره باسناد صحيح رجاله رجال الصحيحين وفى المسألة أحاديث غير ما ذكرته وروى البيهقي
في السنن الكبير هذه الأحاديث وأحاديث كثيرة بمعناها ثم قال فثبت بهذه الأحاديث جواز الصيام
قال وكأن الشافعي قال في القديم قد روى في الصوم عن الميت شئ فإن كان ثابتا صيم عنه كما
يحج عنه (وأما) في الجديد فقال روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم " انه يصوم عنه
وليه " قال وإنما لم أخذ به لان الزهري روى عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن النبي
صلى الله عليه وسلم نذرا ولم يسمه مع حفظ الزهري وطول مجالسة عبيد الله لابن عباس فلما روى غيره عن
369

رجل عن ابن عباس غير ما في حديث عبيد الله أشبه أن لا يكون محفوظا قال البيهقي يعنى به
حديث الشافعي عن مالك عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس " أن سعد بن عبادة استفتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أمي ماتت وعليها نذر فقال النبي صلى الله عليه وسلم اقضه
عنها " قال البيهقي وهذا الحديث صحيح رواه البخاري ومسلم من رواية مالك وغيره عن الزهري إلا أن
في رواته سعيد بن جبير عن ابن عباس " ان امرأة سالت " يعنى عن الصوم عن أمها وكذلك
رواه الحكم بن عيينة وسلمة بن كهيل عن مجاهد عن ابن عباس وفى رواية عن مجاهد عن ابن عباس وفى رواية
عن مجاهد وعطاء وسعيد بن جبير عن ابن عباس ورواه عكرمة عن ابن عباس ورواه بريدة عن النبي صلى الله عليه
وسلم وقال البيهقي أيضا في معرفة السنن والآثار قد ثبت جواز قضاء الصوم عن الميت برواية سعيد بن جبير
ومجاهد وعطاء وعكرمة عن ابن عباس وفى رواية أكثرهم " ان امرأة سألت " وقد ثبت الصوم عنه من
رواية عائشة ورواية لم بريدة ثم قال البيهقي في الكتابين فالأشبه أن تكون قصة السؤال عن الصيام بعينه
غير قصة سعد بن عبادة التي سأل فيها عن نذر مطلق كيف وقد ثبت الصوم عنه بحديث عائشة
وحديث بريدة قال البيهقي وقد رأيت بعض أصحابنا يضعف حديث ابن عباس بما روى عن
بريدة بن زريع عن حجاج الأحول عن أيوب بن موسى عن عطاء عن ابن عباس قال " لا يصوم أحد عن
أحد ويطعم عنه " وفى رواية عن ابن عباس انه في صيام رمضان يطعم عنه وفى النذر يصوم عنه وليه
قال ورأيت بعضهم ضعف حديث عائشة بما روى عن عمارة بن عمير عن امرأة عن عائشة في امرأة
ماتت وعليها صوم قالت يطعم عنها وروى عن عائشة " لا تصوموا عن موتاكم وأطعموا عنهم " قال البيهقي
وليس فيما ذكروا ما يوجب ضعف الحديث في الصيام عنه لان من يجوز الصيام عن الميت يجوز
الاطعام عنه قال وفيما روى عنها في النهى عن الصوم عن الميت نظر والأحاديث المرفوعة أصح
اسنادا وأشهر رجالا وقد أودعها صاحبا الصحيحين كتابيهما ولو وقف الشافعي على جميع طرقها
ونظائرها لم يخالفها إن شاء الله تعالى * هذا آخر كلام البيهقي قلت الصواب الجزم بجواز صوم الولي
عن الميت سواء صوم رمضان والنذر وغيره من الصوم الواجب للأحاديث الصحيحة السابقة
ولا معارض لها ويتعين أن يكون هذا مذهب الشافعي لأنه قال إذا صح الحديث فهو مذهبي واتركوا
قولي المخالف له وقد صحت في المسألة أحاديث كما سبق والشافعي إنما وقف على حديث ابن عباس من
بعض طرقه كما سبق ولو وقف على جميع طرقه وعلى حديث بريدة وحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يخالف ذلك كما قال البيهقي فيما قدمناه عنه في آخر كلامه فكل هذه الأحاديث صحيحة صريحة
370

فيتعين العمل بها لعدم المعارض لها (وأما) حديث ابن عمر في الاطعام عنه فقد سبق قول الترمذي فيه
انه لا يصح مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وان الصحيح انه موقوف على ابن عمر وكذا قال
البيهقي وغيره من الحفاظ لا يصح مرفوعا وإنما هو من كلام ابن عمر وإنما رفعه محمد بن عبد الرحمن
ابن أبي ليلي عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يموت وعليه رمضان لم
يقضه قال " يطعم عنه لكل يوم نصف صاع بر " قال البيهقي هذا خطأ من وجهين (أحدهما) رفعه وإنما
هو موقوف (الثاني) قوله نصف صاع فإنما قال ابن عمر مدا من حنطة قلت وقد اتفقوا على تضعيف محمد
ابن أبي ليلي وانه لا يحتج بروايته وإن كان إماما في الفقه (وأما) ما حكاه البيهقي عن بعض أصحابنا من
تضعيف حديث ابن عباس وعائشة بمخالفتهما لروايتهما فغلط من زاعمه لان عمل العالم وفتياه بخلاف
حديث رواه لا يوجب ضعف الحديث ولا يمنع الاستدلال به وهذه قاعدة معروفة في كتب المحدثين
والأصوليين لا سيما وحديثاهما في اثبات الصوم عن الميت في الصحيح والرواية عن عائشة في فتياها
من عند نفسها بمنع الصوم ضعيف لم يحتج بها لو لم يعارضها شئ كيف وهي مخالفة للأحاديث الصحيحة
(وأما) تأويل من تأول من أصحابنا " صام عنه وليه " أي أطعم بدل الصيام فتأويل باطل يرده باقي
الا حديث *
{فرع} إذا قلنا لا يصام عن الميت بل يطعم عنه فان مات قبل رمضان الثاني أطعم عنه لكل يوم مد من
طعام بلا خلاف عندنا وان مات بعد مجئ رمضان الثاني فوجهان حكاهما المصنف والأصحاب وهما مشهوران
ذكر المصنف دليلهما (أحدهما) قاله ابن سريج يطعم لكل يوم مد (وأصحهما) عن كل يوم مدان وبه قال جمهور
أصحابنا المتقدمين واتفق المتأخرون على تصحيحه وقد سبقت هذه المسألة واضحة مع نظائرها قبل هذا
الفصل بقليل وسبق تفريع كثير على القولين *
{فرع} حكم صوم النذر والكفارة وجميع أنواع الصوم الواجب سواء في جميع ما ذكرناه
(ففي) الجديد يطعم عنه لكل يوم مد (وفى) القديم للولي ان يطعم عنه وله ان يصوم عنه كما سبق والصحيح
هو القديم كما سبق *
{فرع} إذا قلنا إنه يجوز صوم الولي عن الميت وصوم الأجنبي بإذن الولي فصام عنه ثلاثون
انسانا في يوم واحد هل يجزئه عن صوم جميع رمضان فهذا مما لم أر لأصحابنا كلاما فيه وقد ذكر
البخاري في صحيحه عن الحسن البصري انه يجزئه وهذا هو الظاهر الذي نعتقده *
{فرع} قال أصحابنا وغيرهم ولا يصام عن أحد في حياته بلا خلاف سواء كان عاجزا
أو قادرا *
371

{فرع} لو مات وعليه صلاة أو اعتكاف لم يفعلهما عنه وليه ولا يسقط عنه بالفدية صلاة
ولا اعتكاف * هذا هو المشهور في المذهب والمعروف من نصوص الشافعي في الام وغيره ونقل البويطي
عن الشافعي أنه قال في الاعتكاف يعتكف عنه وليه وفى وراية يطعم عنه قال البغوي ولا يبعد تخريج
هذا في الصلاة فيطعم عن كل صلاة مد (فإذا قلنا) بالاطعام في الاعتكاف فالقدر المقابل بالمد هو اعتكاف
يوم بليلته هكذا ذكره امام الحرمين عن نقل شيخه ثم قال الامام وهو مشكل فان اعتكاف لحظة عبادة
تامة ونقل صاحب البيان في آخر كتاب الاعتكاف ان الصيدلاني حكى انه يطعم في الاعتكاف عنه
لكل يوم مسكين قال ولم أجد هذا لغير الصيدلاني *
{فرع} في حكم الفدية وبيانها سواء الفدية المخرجة عن الميت وعن المرضع والحامل والشيخ
الكبير والمريض الذي لا يرجي برؤه ومن عصي بتأخير قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر ومن
أفطر عمدا وألزمناه الفدية على وجه ضعيف وغيرهم ممن تلزمه فدية في الصوم وهي مد من طعام
لكل يوم جنسه جنس زكاة الفطر فيعتبر غالب قوت بلده في أصح الأوجه وفى الثاني قوت نفسه
وفى الثالث يتخير بين جميع الأقوات ويجئ فيه الخلاف والتفريع السابق هناك ولا يجزئ الدقيق
ولا السويق ولا الحب المعيب ولا القيمة ولا غير ذلك مما سبق هناك ومصرفها الفقراء أو المساكين
وكل مد منها منفصل عن غيره فيجوز صرف أمداد كثيرة عن الشخص الواحد والشهر الواحد إلى
مسكين واحد أو فقير واحد بخلاف امداد الكفارة فإنه يجب صرف كل مد إلى مسكين ولا يصرف إلى
مسكين من كفارة واحدة مدان لان الكفارة شئ واحد (واما) الفدية عن أيام رمضان فكل يوم
مستقل بنفسه لا يفسد بفساد ما قبله ولا ما بعده وممن صرح بمعنى هذه الجملة البغوي والرافعي *
{فرع} في مذاهب العلماء فيمن مات وعليه صوم فاته بمرض أو سفر أو غيرهما من الاعذار ولم يتمكن من قضائه
حتى مات * ذكرنا أن مذهبنا أنه لا شئ عليه ولا يصام عنه ولا يطعم عنه بلا خلاف عندنا وبه قال
أبو حنيفة ومالك والجمهور قال العبدري وهو قول العلماء كافة إلا طاوسا وقتادة فقالا يجب أن يطعم
عنه لكل يوم مسكين لأنه عاجز فأشبه الشيخ الهرم * واحتج البيهقي وغيره من أصحابنا لمذهبنا بحديث
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " رواه البخاري
ومسلم * واحتجوا أيضا بالقياس على الحج كما ذكره المصنف وفرقوا بينه وبين الشيخ الهرم بأن الشيخ
عامر الذمة ومن أهل العبادات بخلاف الميت *
{فرع} في مذاهبهم فيمن تمكن من صوم رمضان فلم يصمه حتى مات * قد ذكرنا أن في مذهبنا
قولين (أشهرهما) يطعم عنه لكل يوم مد من طعام (وأصحهما) في الدليل يصوم عنه وليه وممن قال
بالصيام عنه طاوس والحسن البصري والزهري وقتادة وأبو ثور وداود وقال ابن عباس وأحمد وإسحق
372

يصام عنه صوم النذر ويطعم عن صوم رمضان وقال ابن عباس وابن عمر وعائشة ومالك
وأبو حنيفة والثوري يطعم عنه ولا يجوز الصيام عنه لكن حكى ابن المنذر عن ابن عباس والثوري
انه يطعم عن كل يوم مدان *
373

{فرع} في مسائل تتعلق بكتاب الصيام (إحداها) يستحب ان يدعو عند رؤية الهلال بما رواه
طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم كان " إذا رأى الهلال قال اللهم أهله علينا باليمن
والايمان والسلامة والاسلام ربى وربك الله " رواه الترمذي وقال حديث حسن وعن ابن عمر
374

قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى الهلال قال الله أكبر اللهم أهله علينا بالأمن
والايمان والسلامة والاسلام والتوفيق لما تجب وترضى ربنا وربك الله " رواه الدارمي في مسنده
وروى أبو داود في كتاب الأدب من سننه عن قتادة قال " بلغني ان نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى
الهلال قال هلال خير ورشد هلال خير ورشد هلال خير ورشد آمنت بالذي خلقك ثلاث مرات ثم يقول
الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا وجاء بشهر كذا " هكذا رواه عن قتادة مرسلا وفى المسألة أذكار أخر
ذكرتها في كتاب الأذكار (الثانية) يستحب للصائم أن يدعو في حال صومه بمهمات الآخرة
والدنيا له ولمن يحب وللمسلمين لحديث أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم حتى يفطر والإمام العادل والمظلوم " رواه الترمذي وابن ماجة قال
الترمذي حديث حسن وهكذا الرواية حتى بالتاء المثناة فوق فيقتضى استحباب دعاء الصائم
من أول اليوم إلى آخره لأنه يسمى صائما في كل ذلك (الثالثة) عن أبي بكرة رضي الله عنه قال " قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يقول أحدكم اني صمت رمضان كله وقمته فلا أدرى أكره
التزكية أو قال لا بد من نومة أو رقدة " رواه أبو داود والنسائي بأسانيد حسنة أو صحيحه وممن
ذكره من أصحابنا صاحب البيان (الرابعة) قال المصنف في التنبيه وغيره من أصحابنا يكره صمت
375

يوم إلى الليل للصائم ولغيره من غير حاجة لحديث علي رضي الله عنه قال " حفظت من رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا ينم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل " رواه أبو داود باسناد حسن
وعن قيس بن أبي حازم قال " دخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على امرأة من أحمس يقال لها
زينب فرآها لا تتكلم فقال مالها لا تتكلم فقالوا حجت مصمتة فقال لها تكلمي فان هذا لا يحل هذا من عمل
الجاهلية فتكلمت " رواه البخاري في صحيحه (قوله) امرأة من أحمس هو بالحاء والسين المهملتين وهي
قبيلة معروفة والنسبة إليهم أحمسي قال الخطابي في معالم السنن في تفسير الحديث الأول كان أهل الجاهلية
من نسكهم الصمات وكان أحدهم يعتكف اليوم والليلة فيصمت لا ينطق فنهوا يعني في الاسلام عن ذلك وأمروا
بالذكر والحديث بالخير هذا كلام الخطابي وهذا الذي ذكرناه هو المعروف لأصحابنا ولغيرهم ان
الصمت إلى الليل مكروه وقال صاحب التتمة في هذا الباب جرت عادة بعض الناس بترك الكلام
في رمضان جملة وليس له أصل في الشرع لان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يلازم أحد منهم الصمت في
رمضان لكن له أصل في شرع من قبلنا وهو قصة زكريا عليه السلام (إني نذرت للرحمن صوما
فلن أكلم اليوم انسيا) أراد بالصوم الصمت فمن قال من أصحابنا شرع من قبلنا يلزمنا عند
عدم النهى جعل ذلك قربة ومن قال شرع من قبلنا لا يلزمنا قال لا يستحب ذلك
هذا كلام صاحب التتمة وهو كلام بناه على أن شرعنا لم يرد فيه نهى وقد ورد
النهي كما قدمناه فهو الصواب (الخامسة) قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى الجود والافضال يستحب في
كل وقت وهو في رمضان آكد ويسن زيادة الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر من رمضان ودليل المسألتين
الأحاديث الصحيحة (منها) حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل وكان جبريل عليه السلام يلقاه في كل ليلة
من رمضان فيدارسه القرآن فلرسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح
المرسلة " رواه البخاري وسلم قال العلماء (قوله) كالريح المرسلة أي في الاسراع والعموم وعن عائشة
رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان إذا دخل العشر الأواخر أحيى الليل وأيقظ
أهله وشد المئزر " رواه البخاري ومسلم وفى رواية لمسلم " كان يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد
376

في غيره " وعن علي رضي الله عنه قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوقظ أهله في العشر
الأواخر ويرفع المئزر " رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن أنس قال " قيل يا رسول
الله أي الصدقة أفضل قال صدقة رمضان " رواه البيهقي * قال أصحابنا والجود والافضال مستحب في
شهر رمضان وفى العشر الأواخر أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالسلف ولأنه
شهر شريف فالحسنة فيه أفضل من غيره ولان الناس يشتغلون فيه بصيامهم وزيادة طاعاتهم عن المكاسب
فيحتاجون إلى المواساة وإعانتهم *
{فرع} قال الماوردي ويستحب للرجل أن يوسع على عياله في شهر رمضان وان يحسن إلى
أرحامه وجيرانه لا سيما في العشر الأواخر منه (السادسة) قال أصحابنا السنة كثرة تلاوة القرآن في رمضان
ومدارسته وهو أن يقرأ على غيره ويقرأ غيره عليه للحديث السابق قريبا عن ابن عباس ويسن
الاعتكاف فيه وآكده العشر الأواخر منه لحديث ابن عمر وعائشة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم " كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان " رواهما البخاري ومسلم وفى الصحيح عن
جماعة من الصحابة وغيرهم معناه وثبت في الصحيح " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
اعتكف العشر الأولى والعشر الوسط من رمضان " من رواية أبي سعيد الخدري (السابعة) يستحب صون
نفسه في رمضان عن الشهوات فهو سر الصوم ومقصوده الأعظم وسبق أنه يحترز عن الغيبة والكلام
القبيح والمشاتمة والمسافهة وكل مالا خير فيه من الكلام (الثامنة) يستحب تقديم غسل الجنابة من
جماع أو احتلام على طلوع الفجر والأحاديث الصحيحة في تأخيره محمولة على بيان الجواز والا فالكثير من
من رسول الله صلى الله عليه وسلم تقديمه على الفجر (التاسعة) قال الشافعي والأصحاب يكره للصائم
السواك بعد الزوال هذا هو المشهور ولا فرق بين صوم النفل والفرض وقال القاضي حسين لا يكره
في النفل ليكون أبعد من الرياء وهذا غريب ضعيف وللشافعي قول غريب ان السواك لا يكره في كل
صوم لا قبل الزوال ولا بعده وقد سبقت المسألة في باب السواك مبسوطة قال أصحابنا وإذا استاك
فلا فرق بين السواك الرطب واليابس بشرط ان يحترز عن ابتلاع شئ منه أو من رطوبته فان
ابتلعه أفطر والاستياك قبل الزوال بالرطب واليابس جائز بلا كراهة وبه قال ابن عمر وعروة ومجاهد
وأيوب وأبو حنيفة وسفيان الثوري والأوزاعي وأبو ثور وداود كرهه بالرطب جماعة حكاه ابن المنذر
377

عن عمرو بن شرحبيل والشعبي والحكم وقتادة ومالك واحمد واسحق وعن أحمد رواية أخرى
انه لا يكره وقال ابن المنذر وممن قال بالسواك للصائم قبل الزوال وبعده عمر بن الخطاب وابن عباس
وعائشة وعروة بن الزبير وابن سيرين والنخعي وأبو حنيفة ومالك وكرهه بعد الزوال عطاء ومجاهد
واحمد واسحق وأبو ثور (العاشرة) قد سبق ان الحيض والنفاس والجنون والردة كل واحد منها يبطل
الصوم سواء طال أم كان لحظة من النهار وصوم الصبي المميز صحيح والذي لا يميز لا يصح وكذا
لا يصح صوم السكران قال أصحابنا شرط الصوم الاسلام والتمييز إلا المغمى عليه والنائم كما سبق
فيهما والنقاء عن الحيض والنفاس والوقت القابل للصوم احترازا عن العيد والتشريق (الحادية عشرة) عن أم
عمارة الأنصارية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم " دخل عليها فقدمت له طعاما فقال كلي
فقالت إني صائمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصائم تصلي عليه الملائكة إذا اكل عنده حتى
يفرغوا " رواه الإمام أحمد والترمذي وقال حديث حسن *
باب صوم التطوع
(والأيام التي نهى عن الصوم فيها)
* قال المصنف رحمه الله *
{يستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بست من شوال لما روى أبو أيوب رضي الله عنه
قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من صام رمضان واتبعه بست من شوال
فكأنما صام الدهر "} * {الشرح} حديث أبي أيوب رواه مسلم ولفظه " من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال
كان كصيام الدهر " ورواه أبو داود باسناد صحيح بلفظه في المهذب واسم أبى أيوب خالد بن زيد الأنصاري
النجاري بالنون والجيم شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقوله صلى الله عليه وسلم
" بست من شوال أو ستا من شوال " من غير هاء التأنيث في آخره هذه لغة العرب الفصيحة المعروفة
يقولون صمنا خمسا وصمنا ستا وصمنا عشرا وثلاثا وشبه ذلك بحذف الهاء وإن كان المراد
مذكرا وهو الأيام فما لم يصرحوا بذكر الأيام يحذفون الهاء فان ذكروا المذكر أثبتوا الهاء
فقالوا صمنا ستة أيام وعشرة أيام وشبه ذلك وهذا مما لا خلاف بينهم في جوازه وممن نقله عن
العرب من أهل اللغة المشهورين وفضلائهم المتقنين ومعتمديهم المحققين الفراء ثم ابن السكيت
378

وغيرهما من المتقدمين والمتأخرين قال أبو إسحاق الزجاج وفى تفسير قول الله تعالى (أربعة أشهر وعشرا)
إجماع أهل اللغة سرنا خمسا بين يوم وليلة وأنشد الجعدي * فطفت ثلاثا بين يوم وليلة * ومما جاء مثله في القرآن العظيم قوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) مذهبنا ومذهب
الجمهور ان المراد عشرة أيام بلياليها ولا تنقضي العدة حتى تغرب الشمس من اليوم العاشر وتدخل
الليلة الحادية عشر ومثله قوله سبحانه وتعالي (يتخافتون بينهم ان لبثتم إلا عشرا) أي عشرة أيام بدليل قوله
تعالى (إذ يقول أمثلهم طريقه إن لبثتم الا يوما) قال أهل اللغة في تعليل هذا الباب وإنما كان كذلك لتغليب الليالي
على الأيام وذلك لان أول الشهر الليل فلما كانت الليالي هي الأوائل غلبت لان الأوائل أقوى ومن هذا قول
العرب خرجنا ليالي الفتنة وخفنا ليالي امارة الحجاج والمراد الأيام بلياليها والله أعلم * (أما) حكم المسألة فقال
أصحابنا يستحب صوم ستة أيام من شوال لهذا الحديث قالوا ويستحب ان يصومها متتابعة في أول شوال
فان فرقها أو أخرها عن أول شوال جاز وكان فاعلا لأصل هذه السنة لعموم الحديث واطلاقه
وهذا لا خلاف فيه عندنا وبه قال أحمد وداود * وقال مالك وأبو حنيفة يكره صومها قال مالك في
الموطأ وصوم ستة أيام من شوال لم أر أحدا من أهل العلم والفقه يصومها ولم يبلغه ذلك عن أحد من السلف وان
أهل العلم كانوا يكرهون ذلك ويخافون بدعته وأن يلحق برمضان أهل الجفاء والجهالة ما ليس منه
لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم ورأوهم يعملون ذلك هذا كلام مالك في الموطأ * ودليلنا
الحديث الصحيح السابق ولا معارض له (وأما) قول مالك لم أر أحدا يصومها فليس بحجة في الكراهة
لان السنة ثبتت في ذلك بلا معارض فكونه لم ير لا يضر وقولهم لأنه قد يخفى ذلك فيعتقد
وجوبه ضعيف لأنه لا يخفى ذلك على أحد ويلزم على قوله إنه يكره صوم عرفة وعاشوراء
وسائر الصوم المندوب إليه وهذا لا يقوله أحد
* قال المصنف رحمه الله *
{ويستحب لغير الحاج ان يصوم يوم عرفة لما روى أبو قتادة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صوم
عاشوراء كفارة سنة وصوم يوم عرفة كفارة سنتين سنة قبلها ماضية وسنة بعدها مستقبلة " ولا يستحب ذلك
للحاج لما روت أم الفضل بنت الحارث " ان أناسا اختلفوا عندها في يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال بعضهم هو صائم وقال بعضهم ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح من لبن وهو واقف على بعيره
بعرفة فشرب " ولان الدعاء في هذا اليوم يعظم ثوابه والصوم يضعفه فكان الفطر أفضل} *
{الشرح} حديث أبي قتادة رواه مسلم بمعناه قال " عن أبي قتادة ان النبي صلى الله عليه
وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال يكفر السنة الماضية والسنة الباقية " وحديث أم الفضل رواه
البخاري ومسلم من رواية أم الفضل ورويا أيضا مثله من رواية أختها ميمونة أم المؤمنين واسم أم
379

الفضل لبابة الكبرى وهي أم ابن عباس واخوته وكانوا ستة نجباء ولها أخت يقال لها لبابة الصغرى
وهي أم خالد بن الوليد وكن عشر أخوات وميمونة بنت الحرث أم المؤمنين إحداهن وذكر ابن
سعد وغيره أن أم الفضل أول امرأة أسلمت بعد خديجة رضي الله عنهما (أما) حكم المسألة فقال
الشافعي والأصحاب يستحب صوم يوم عرفة لغير من هو بعرفة (واما) الحاج الحاضر في عرفة فقال الشافعي
في المختصر والأصحاب يستحب له فطره لحديث أم الفضل وقال جماعة من أصحابنا يكره له صومه
وممن صرح بكراهته الدارمي والبندنيجي والمحاملي في المجموع والمصنف في التنبيه وآخرون ونقل
الرافعي كراهته عن كثيرين من الأصحاب ولم يذكر الجمهور الكراهة بل قالوا يستحب فطره كما
قاله الشافعي (وأما) قول المصنف وامام الحرمين لا يستحب ذلك للحاج فعبارة ناقصة لأنها لا تفيد
استحباب فطره كما قاله الشافعي والأصحاب * واحتج لمن قال بالكراهة بحديث أبي هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن صوم يوم عرفة بعرفة " رواه أبو داود والنسائي باسناد فيه مجهول
وعن أبي نجيح قال " سئل ابن عمر عن صوم يوم عرفة قال حججت مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم فلم يصمه ومع أبي بكر فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه فانا لا أصومه ولا آمر
به ولا أنهي عنه " وراه الترمذي وقال حديث حسن وهذان الحديثان لا دلالة فيهما لمن قال بالكراهة
لان الأول ضعيف والثاني ليس فيه نهي وإنما هو خلاف الأفضل كما قاله الشافعي والجمهور *
{فرع} ذكرنا أن المستحب للحاج بعرفة الفطر يوم عرفة هكذا أطلقه الشافعي والجمهور وقال
المتولي إن كان الشخص ممن لا يضعف بالصوم عن الدعاء وأعمال الحج فالصوم أولي له وإلا فالفطر
وقال الروياني في الحلية إن كان قويا وفى الشتاء ولا يضعف بالصوم عن الدعاء فالصوم أفضل له قال وبه
قالت عائشة وعطاء وأبو حنيفة وجماعة من أصحابنا هذا كلام الروياني وقال البيهقي في معرفة السنن
والآثار قال الشافعي في القديم لو علم الرجل أن الصوم بعرفة لا يضعفه فصامه كان حسنا واختار
الخطابي هذا والمذهب استحباب الفطر مطلقا وبه قال جمهور أصحابنا وصرحوا بأنه لا فرق *
{فرع} في مذاهب العلماء في صوم عرفة بعرفة * ذكرنا أن مذهبنا استحباب فطره ورواه
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم ونقله الترمذي والماوردي
وغيرهما عن أكثر العلماء ونقله العبدري عن عامة الفقهاء غير ابن الزبير وعائشة ونقله ابن المنذر
عن مالك والثوري وحكي ابن المنذر عن ابن الزبير وعثمان بن أبي العاص الصحابي وعائشة
وإسحاق بن راهويه استحباب الصوم واستحبه عطاء في الشتاء والفطر في الصيف وقال قتادة لا باس
380

بالصوم إذا لم يضعف عن الدعاء وحكي صاحب البيان عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال يجب
الفطر بعرفة ودليلنا ما سبق *
{فرع} قد ذكرنا أن المستحب للحاج فطر عرفة ليقوى على الدعاء هكذا علله
الشافعي والأصحاب قال الشافعي في المختصر ولان الحاج ضاح مسافر والمراد بالضاحي البارز
للشمس لأنه يناله من ذلك مشقة ينبغي أن لا يصوم معها وقد سبق في باب صلاة الاستسقاء أنه
يستحب صوم يوم الاستسقاء وإن كان يوم دعاء وسبق هناك الفرق بينهما ومختصره أن الوقوف
يكون آخر النهار ووقت تأثير الصوم مع أنه مسافر والاستسقاء يكون في أول النهار قبل ظهور
أثر الصيام مع أنه مقيم *
{فرع} قال الشافعي والأصحاب أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة كما جاء في الحديث هكذا
ذكروه هنا وسنوضحه في الوقوف بعرفات *
{فرع} قال البغوي وغيره يوم عرفة أفضل أيام السنة وقال السرخسي في هذا الباب اختلف
في يوم عرفة ويوم الجمعة أيهما أفضل فقل بعضهم يوم عرفة لان النبي صلى الله عليه وسلم جعل صيامه كفارة
سنتين ولم يرد مثله في يوم الجمعة وقال بعضهم يوم الجمعة أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم " خير يوم
طلعت فيه الشمس يوم الجمعة " هذا كلام السرخسي والمشهور تفضيل يوم عرفة وسنعيد المسألة في فصل
الوقوف بعرفات وفى كتاب الطلاق في تعليق الطلاق في تعليق على أفضل الأيام ومما يدل لترجيح يوم عرفة
انه كفارة سنتين كما سبق ولان الدعاء فيه أفضل أيام السنة ولأنه جاء في صحيح مسلم ان النبي
صلى الله عليه وسلم قال " ما من يوم يعتق الله فيه من النار أكثر من يوم عرفة " *
{فرع} قوله صلى الله عليه وسلم في يوم عرفة " يكفر السنة الماضية والمستقبلة " قال الماوردي في الحاوي فيه تأويلان
(أحدهما) ان الله تعالى يغفر له ذنوب سنتين (والثاني) ان الله تعالى يعصمه في هاتين السنتين فلا يعص فيهما وقال
السرخسي أما السنة الأولى فتكفر ما جرى فيها قال واختلف العلماء في معنى تكفير السنة الباقية المستقبلة
وقال بعضهم معناه إذا ارتكب فيها معصية جعل الله تعالى صوم يوم عرفة الماضي كفارة لها كما جعله مكفرا لما في
السنة الماضية وقال بعضهم معناه ان الله تعالى يعصمه في السنة المستقبلة عن ارتكاب ما يحتاج فيه إلى
كفارة وقال صاحب العدة في تكفير السنة الأخرى يحتمل معنيين (أحدهما) المراد السنة التي
قبل هذه فيكون معناه انه يكفر سنتين ماضيتين (والثاني) انه أراد سنة ماضية وسنة مستقبلة قال وهذا
لا يوجد مثله في شئ من العبادات انه يكفر الزمان المستقبل وإنما ذلك خاص لرسول الله صلى الله عليه
وسلم غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بنص القرآن العزيز وذكر إمام الحرمين هذين
381

الاحتمالين بحروفهما قال إمام الحرمين وكل ما يرد في الاخبار من تكفير الذنوب فهو عندي محمول
على الصغائر دون الموبقات هذا كلامه وقد ثبت في الصحيح ما يؤيده فمن ذلك حديث عثمان رضي الله عنه
قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من امرى مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن
وضوءها وخشوعها وركوعها الا كانت له كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله "
رواه مسلم وعن أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الصلاة الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة
لما بينهن ما لم تغش الكبائر " رواة مسلم وعنه ان النبي صلى الله عليه وسلم كأن يقول " الصلوات الخمس
والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن من الذنوب إذا اجتنب الكبائر " رواه مسلم
قلت وفى معنى هذه الأحاديث تأويلان (أحدهما) يكفر الصغائر بشرط أن لا يكون هناك كبائر فإن كانت
كبائر لم يكفر شيئا لا الكبائر لا الكبائر ولا الصغائر (والثاني) وهو الأصح المختار انه يكفر كل الذنوب
الصغائر وتقديره يغفر ذنوبه كلها إلا الكبائر قال القاضي عياض رحمه الله هذا المذكور في الأحاديث
من غفران الصغائر دون الكبائر هو مذهب أهل السنة وان الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى
(فان قيل) قد وقع في هذا الحديث هذه الألفاظ ووقع في الصحيح غيرها مما في معناها فإذا
كفر الوضوء فماذا تكفره الصلاة وإذا كفرت الصلوات فماذا تكفره الجمعات ورمضان وكذا صوم يوم
عرفة كفارة سنتين ويوم عاشوراء كفارة سنة وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه
(فالجواب) ما أجاب به العلماء ان كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير فان وجد ما يكفره من
الصغائر كفره وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات ورفعت له به درجات وذلك
كصلوات الأنبياء والصالحين والصبيان وصيامهم ووضوئهم وغير ذلك من عباداتهم وإن صادف
كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغائر رجونا أن تخفف من الكبائر وقد قال أبو بكر في الاشراف في
آخر كتاب الاعتكاف في باب التماس ليلة القدر في قوله صلى الله عليه وسلم " من قام ليلة القدر إيمانا
واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " قال هذا قول عام يرجى لم قامها إيمانا واحتسابا أن تغفر له
جميع ذنوبه صغيرها وكبيرها *
* قال المصنف رحمه الله *
{ويستحب أن يصوم يوم عاشورا لحديث أبي قتادة ويستحب أن يصوم يوم تاسوعاء لما
روى ابن عباس رضي الله عنهما قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن بقيت إلى قابل لأصومن
اليوم التاسع "} *
{الشرح} حديث أبي قتادة سبق بيانه ولفظ مسلم فيه " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن
382

صيام يوم عاشورا فقال يكفر السنة الماضية " وأما حديث ابن عباس فرواه مسلم بلفظه وفى رواية
مسلم زيادة " قال فلم يأت العام المقبل حتى توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم " وعاشوراء وتاسوعاء
اسمان ممدودان هذا هو المشهور في كتب اللغة وحكى عن ابن عمر والشيباني قصرهما قال أصحابنا
عاشورا هو اليوم العاشر من المحرم وتاسوعاء هو التاسع منه هذا مذهبنا وبه قال جمهور العلماء وقال
ابن عباس عاشوراء هو اليوم التاسع من المحرم ثبت ذلك عنه في صحيح مسلم وتأوله على أنه مأخوذ
من إظماء الإبل فان العرب تسمى اليوم الخامس من أيام الورد ربعا بكسر الراء وكذا تسمي باقي الأيام
على هذه النسبة فيكون التاسع على هذا عشرا بكسر العين والصحيح ومما قاله الجمهور وهو أن عاشوراء هو اليوم
العاشر وهو ظاهر الأحاديث ومقتضى إطلاق اللفظ وهو المعروف عند أهل اللغة (وأما) تقدير اخذه من إظماء
الإبل فبعيد وفى صحيح مسلم عن ابن عباس ما يرده قوله لأنه قال إن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يصوم
عاشوراء فذكروا أن اليهود والنصارى تصومه فقال صلى الله عليه وسلم انه في العام المقبل يصوم التاسع "
وهذا تصريح بان الذي كان يصومه صلى الله عليه وسلم ليس هو التاسع فتعين كونه العاشر واتفق
أصحابنا وغيرهم على استحباب صوم عاشورا وتاسوعا وذكر العلماء من أصحابنا وغيرهم في حكمة استحباب
صوم تاسوعاء أوجها (أحدها) أن المراد منه مخالفة اليهود في اقتصارهم على العاشر وهو مروى عن ابن عباس
وفى حديث رواه الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صوموا
يوم عاشوراء وخالفوا اليهود وصوموا قبله يوما وبعده يوما " (الثاني) أن المراد به وصل يوم عاشوراء
بصوم كما نهى أن يصوما يوم الجمعة وحده ذكرهما الخطابي وآخرون (الثالث) الاحتياط في صوم
العاشر خشية نقص الهلال ووقوع غلط فيكون التاسع في العدد هو العاشر في نفس الامر *
{فرع} اختلف أصحابنا في صوم يوم عاشوراء هل كان واجبا في أول الاسلام ثم نسخ أم لم يجب في
وقت أبدا على وجهين مشهورين لأصحابنا وهما احتمالان ذكرهما الشافعي (أصحهما) وهو ظاهر مذهب الشافعي
وعليه أكثر أصحابنا وهو ظاهر نص الشافعي بل صريح كلامه انه لم يكن واجبا قط (والثاني) انه كان واجبا وهو
مذهب أبي حنيفة وأجمع المسلمون على أنه اليوم ليس بواجب وانه سنة فأما دليل من قال كان واجبا فأحاديث
كثيرة صحيحة (منها) ان النبي صلى الله عليه وسلم " بعث رجلا يوم عاشوراء إلى قومه يأمرهم فليصوموا هذا
اليوم ومن طعم منهم فليصم بقية يومه " رواه البخاري ومسلم من رواية سلمة بن الأكوع وروياه في صحيحهما
بمعناه من رواية الربيع بضم الراء وتشديد الباء بنت معوذ وعن عائشة قالت " كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يوم عاشوراء قبل أن يفرض رمضان فلما فرض صيام رمضان كان
من شاء صام عاشوراء ومن شاء أفطر " رواه البخاري ومسلم من طرق وعن ابن عمر " ان رسول الله
383

صلى الله عليه وسلم صام يوم عاشوراء أو المسلمون قبل أن يفرض رمضان فلما افترض رمضان قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام ومن شاء ترك " رواه مسلم وعن ابن مسعود في يوم عاشوراء
قال " إنما كان يوما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه قبل أن ينزل رمضان فلما نزل رمضان
ترك " رواه مسلم وعن جابر بن سمرة قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا بصيام عاشورا
ويحثنا عليه ويتعاهدنا عنده فلما فرض رمضان لم يأمرنا ولم ينهنا ولم يتعاهدنا عنده " رواه مسلم وعن
أبي موسي الأشعري وعن ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بصيامه " رواهما البخاري
ومسلم قال أصحاب أبي حنيفة والامر للوجوب (وقوله) صلى الله عليه وسلم " من شاء صام ومن شاء أفطر " دليل على تخييره مع أنه سنة اليوم فلو لم يكن قبل ذلك واجبا لم يصح التخيير * واحتج أصحابنا على أنه لم يكن واجبا
بل كان سنة بأحاديث صحيحة (منها) حديث معاوية بن أبي سفيان " انه يوم عاشوراء قال وهو على المنبر
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إن هذا اليوم يوم عاشوراء ولم يكتب عليكم صيامه
فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر " رواه البخاري ومسلم قال البيهقي وقوله " لم يكتب عليكم صيامه " يدل على أنه
لم يكن واجبا قط لان لم لنفي الماضي وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
" يوم عاشوراء يوم كان يصومه أهل الجاهلية فمن أحب منكم أن يصومه فليصمه ومن كرهه فليدعه "
رواه مسلم وعن عائشة قالت " كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية فلما
جاء الاسلام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صامه ومن شاء تركه "
رواه مسلم (وأما) الجواب عن الأحاديث فهو أنها محمولة على تأكد الاستحباب جمعا بين الا حديث
(وقوله) فلما فرض رمضان ترك أي ترك تأكد الاستحباب وكذا قوله فمن شاء صام ومن شاء أفطر *
* قال المصنف رحمه الله *
{ويستحب صيام أيام البيض وهي ثلاثة من كل شهر لما روى أبو هريرة قال " أوصاني خليلي
صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر} * {الشرح} حديث أبي هريرة رواه البخاري ومسلم وثبتت أحاديث في الصحيح بصوم ثلاثة أيام من
كل شهر من غير تعيين لوقتها وظاهرها أنه متى صامها حصلت الفضيلة وثبت في صحيح مسلم عن معاذة
العدوية أنها سألت عائشة " أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام قالت نعم قالت قلت
من أي أيام الشهر قالت ما كان يبالي من أيام الشهر كان يصوم " وجاء في غير مسلم تخصيص أيام البيض
في أحاديث (منها) حديث أبي ذر رضي الله عنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صمت من الشهر ثلاثا
فصم ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة " رواه الترمذي والنسائي قال الترمذي حديث حسن وعن
384

قتادة ابن ملحان قال كان " رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بصيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس
عشرة " رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة باسناد فيه مجهول وعن جرير بن عبد الله عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر أيام البيض ثلاث عشرة ورابع عشرة وخمس
عشرة " رواه النسائي باسناد حسن ووقع في بعض نسخه والأيام البيض وفى بعضها وأيام البيض
بحذف الألف واللام وهو أوضح وقول المصنف أيام البيض هكذا هو في نسخ المهذب أيام البيض
بإضافة أيام إلى البيض وهكذا ضبطناه في التنبيه عن نسخة المصنف وهذا هو الصواب ووقع في كثير
من كتب الفقه وغيرها وفى كثير من نسخ التنبيه أو أكثرها الأيام البيض بالألف واللام وهذا خطأ عند أهل
العربية معدود في لحن العوام لان الأيام كلها بيض وإنما صوابه أيام البيض أي أيام الليالي البيض واتفق أصحابنا
على استحباب صوم أيام البيض قالوا هم وغيرهم وهي اليوم الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر
هذا هو الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور من أصحابنا وغيره وفيه وجه لبعض أصحابنا حكاه الصيمري
والماوردي والبغوي وصاحب البيان وغيرهم انها الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر
وهذا شاذ ضعيف يرده الحديث السابق في تفسيرها وقول أهل اللغة أيضا وغيرهم (واما) سبب
تسمية هذه الليالي بيضا فقال ابن قتيبة والجمهور لأنها تبيض بطلوع القمر من. أولها إلى
آخرها وقيل غير ذلك *
{فرع} أجمعت الأمة على أن أيام البيض لا يجب صومها الآن قال الماوردي اختلف الناس
هل كانت واجبة في أول الاسلام أم لا فقيل كانت واجية فنسخت بشهر رمضان وقيل لم تكن
واجبة قط وما زالت سنة قال وهو أشبه بمذهب الشافعي رحمه الله *
* قال المصنف رحمه الله *
{ويستحب صوم يوم الاثنين والخميس لما روى أسامة ابن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم " كان يصوم
الاثنين والخميس فسئل عن ذلك فقال أن الأعمال تعرض يوم الاثنين والخميس "} * {الشرح} حديث أسامة رواه أحمد بن حنبل الدارمي وأبو داود والنسائي من رواية أسامة
لفظ الدارمي كلفظه في المهذب (وأما) لفظ أبى داود وغيره فقال عن أسامة قال " قلت يا رسول
الله إنك تصوم حتى لا تكاد تفطر وتفطر حتى لا تكاد أن تصوم إلا في يومين إن دخلا في صيامك
وإلا صمتهما قال أي يومين قلت يوم الاثنين والخميس قال ذانك يوما تعرض فيهما الأعمال على رب
العالمين وأحب أن يعرض عملي وأنا صائم " وقد ثبتت أحاديث كثيرة في صوم الاثنين والخميس (منها)
حديث أبي قتادة رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم الاثنين قال
385

ذلك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل على فيه " رواه مسلم وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال " تعرض أعمال الناس في كل جمعة مرتين يوم الاثنين ويوم الخميس فيغفر لكل عبد
مؤمن إلا عبدا بينه وبين أخيه شحناء فيقال اتركوا هذين حتى يفيئا " رواه مسلم وفى رواية
" تفتح أبواب الجنة يوم الاثنين والخميس فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت
بينه وبين أخيه شحناء فيقال انظروا هذين حتى يصطلحا " وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال " تعرض الأعمال يوم الاثنين والخميس فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم " رواه
الترمذي وقال حديث حسن وعن عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحرى يوم
الاثنين والخميس " رواه الترمذي والنسائي قال الترمذي حديث حسن قال أهل اللغة سمي يوم
الاثنين لأنه ثاني الأيام قال أبو جعفر النحاس سبيله أن لا يثني ولا يجمع بل يقال مضت أيام الاثنين
قال وقد حكي البصريون اليوم الاثنين والجمع الثنى وذكر الفراء أن جمعه الاثانين والاثان وفى كتاب
سيبويه اليوم الثني فعلى هذا جمعه الأثناء وقال الجوهري لا يثني ولا يجمع لأنه متى فان أحببت جمعه قلت
أثانين (وأما) يوم الخميس فسمى بذلك لأنه خامس الأسبوع قال النحاس جمعه أخمسة وخمس
وخمسان كرغيف ورغف ورغفان واخمساء كأنصباء وأخامس حكاه الفراء والله أعلم * اما حكم المسألة
فاتفق أصحابنا وغيرهم على استحباب صوم الاثنين والخميس والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا ومن الصوم المستحب صوم الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب
وأفضلها المحرم قال الروياني في البحر أفضلها رجب وهذا غلط لحديث أبي هريرة الذي سنذكره إن شاء الله
تعالى " أفضل الصوم بعد مضان شهر الله المحرم " ومن المسنون صوم شعبان ومنه صوم الأيام التسعة من أول
ذي الحجة وجاءت في هذا كله أحاديث كثيرة (منها) حديث مجيبة الباهلية عن أبيها أو عمها " انه اتى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ثم انطلق فأتاه بعد سنة وقد تغيرت حالته وهيئة فقال يا رسول الله اما تعرفني قال ومن
أنت قال إنا الباهلي الذي جئتك عام الأول قال فما غيرك وقد كنت حسن الهيئة قال ما اكلت
386

طعاما منذ فارقتك إلا بليل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم عذبت نفسك ثم قال صم شهر
الصبر ويوما من كل شهر قال زدني فان بي قوة قال صم يومين قال زدني قال صم ثلاثة
أيام قال زدني قال صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك صم من الحرم واترك وقال
بأصابعه الثلاث ثم أرسلها " رواه أبو داود وغيره (قوله) صلى الله عليه وسلم صم من الحرم
واترك إنما امره بالترك لأنه كان يشق عليه إكثار الصوم كما ذكره في أول الحديث (فأما) من لا يشق
عليه فصوم جميعها فضيلة وعن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الصيام بعد رمضان
شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " رواه مسلم وعن عائشة قالت " كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وما رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم استكمل صيام شهر قط إلا رمضان وما رأيته في شهر أكثر منه صياما في شعبان "
ورواه البخاري ومسلم من طرق وفى رواية لمسلم " كان يصوم شعبان كله كان يصوم شعبان الا قليلا "
قال العلماء اللفظ الثاني مفسر للأول وبيان لان مرادها بكله غالبه وقيل كان يصومه كله في وقت
ويصوم بعضه في سنة أخرى وقيل كان يصوم تارة من أوله وتارة من وسطه وتارة من آخره ولا يخلى
منه شيئا بلا صيام لكن في سنين وقيل في تخصيصه شعبان بكثرة الصيام لأنه ترفع. فيه اعمال العباد
في سنتهم وقيل غير ذلك (فان قيل) فقد سبق في حديث أبي هريرة ان أفضل الصيام بعد رمضان المحرم فكيف
أكثر منه في شعبان دون المحرم (فالجواب) لعله صلى الله عليه وسلم لم يعلم فضل المحرم الا في آخر الحياة
قبل التمكن من صومه أو لعله كانت تعرض فيه أعذار تمنع من اكثار الصوم فيه كسفر ومرض وغيرهما قال
العلماء وإنما لم يستكمل شهرا غير رمضان لئلا يظن وجوبه وعن ابن عباس قال " قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر قالوا يا رسول الله ولا الجهاد
في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشئ " رواه البخاري
في صحيحه في كتاب صلاة العيد وعن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة ويوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل
شهر وأول اثنين من الشهر والخميس " رواه أبو داود ورواه أحمد والنسائي وقالا وخميسين (واما) حديث
عائشة قالت " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائما في العشر قط وفى رواية " لم يصم العشر " رواهما مسلم
في صحيحه فقال العلماء هو متأول على أنها لم تره ولا يلزم منه تركه في نفس الامر لأنه صلى الله عليه
وسلم كأن يكون عندها في يوم من تسعة أيام والباقي عند باقي أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أو لعله صلى الله عليه وسلم
387

كان يصوم بعضه في بعض الأوقات وكله في بعضها ويتركه في بعضها لعارض سفر أو مرض أو غيرهما وبهذا
يجمع بين الأحاديث
* قال المصنف رحمه الله * {ولا يكره صوم الدهر إذا أفطر أيام النهي ولم يترك فيه حقا ولم يخف ضررا لما روت أم كلثوم
مولاة أسماء قالت " قيل لعائشة تصومين الدهر وقد نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر
قالت نعم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن صيام الدهر ولكن
من أفطر يوم النحر ويوم الفطر فلم يصم الدهر " وسئل عبد الله بن عمر عن صيام الدهر فقال " أولئك فينا
من السابقين أيعني من صام الدهر " فان خاف ضررا أو ضيع حقا كره " لما روى أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء فجاء سلمان يزور أبا الدرداء فرأى أم سلمة متبذلة فقال ما شأنك
فقالت إن أخاك ليس له حاجة في شئ من الدنيا فقال سلمان يا أبا الدرداء إن لربك عليك حقا
ولأهلك عليك حقا ولجسدك عليك حقا فصم وأفطر وقم ونم وأت أهلك واعط كل ذي حق حقه
فذكر أبو الدرداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال سلمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم مثل
ما قال سلمان "} *
{الشرح} حديث أبي الدرداء وسلمان رواه البخاري في صحيحه وينكر على المصنف قوله فيه
روى بصيغة التمريض وإنما يقال ذلك في حديث ضعيف كما سبق بيانه مرات (وقوله) فرأى أم سلمة
متبذله هكذا في جميع نسخ المهذب أم سلمة وهو غلط صريح وصوابه فرأى أم الدرداء وهي زوجة
أبي الدرداء هكذا هو في صحيح البخاري وجميع كتب الحديث وغيرها واسم أم الدرداء هذه
خيرة وهي صحابية ولأبي الدرداء زوجة أخرى يقال لها أم الدرداء وهي تابعيه فقيهة فاضلة حكيمة
اسمها هجيمة وقيل جهيمة وقد أوضحتها في تهذيب الأسماء (وأما) حديث أم كلثوم عن عائشة (1) وأما
الأثر المذكور عن ابن عمر فرواه البيهقي ولفظه " كنا نعد أولئك فينا من السابقين " (اما) حكم
المسألة فقال الشافعي والأصحاب في صوم الدهر نحو قول المصنف والمراد بصوم الدهر سرد الصوم
في جميع الأيام الا الأيام التي لا يصح صومها وهي العيدان وأيام التشريق وحاصل حكمه عندنا انه

(1) كذا بالأصل فحرر
388

ان خاف ضررا أو فوت حقا بصيام الدهر كره له وإن يخف ضررا ولم يفوت حقا لم يكره هذا هو
الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به المصنف والجمهور وأطلق البغوي وطائفة قليلة أن صوم
الدهر مكروه وأطلق الغزالي في الوسيط انه مسنون وكذا قال الدارمي من قدر على صوم الدهر
من غير مشقة ففعل فهو فضل وقال الشافعي في البويطي لا بأس بسرد الصوم إذا أفطر أيام النهى
الخمسة قال صاحب الشامل بعد أن ذكر النص وبهذا قال عامة العلماء *
{فرع} في مذاهب العلماء في صيام الدهر إذا أفطر أيام النهي الخمسة وهي العيدان والتشريق
قد ذكرنا ان مذهبنا انه لا يكره إذا لم يخف منه ضررا ولم يفوت به حقا قال صاحب الشامل وبه
قال عامة العلماء وكذا نقله القاضي عياض وغيره عن جماهير العلماء وممن نقلوا عنه ذلك عمر بن الخطاب
وابنه عبد الله وأبو طلحة وعائشة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم والجمهور من بعدهم وقال أبو يوسف
وغيره من أصحاب أبي حنيفة يكره مطلقا * واحتجوا بحديث ابن عمرو بن العاص ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال " لا صام من صام الأبد لا صام من صام الأبد " رواه البخاري ومسلم وعن أبي قتادة ان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه قال " يا رسول الله كيف بمن يصوم الدهر كله قال لا صام ولا أفطر أو لم يصم ولم يفطر "
واحتج أصحابنا بحديث عائشة ان حمزة بن عمرو الأسلمي رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم
فقال " يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر فقال صم إن شئت وأفطر إن شئت "
رواه مسلم وموضع الدلالة ان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليه سرد الصوم لا سيما وقد عرض به
في السفر وعن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه ومسلم قال " من صام الدهر ضيقت عليه جهنم
هكذا وعقد تسعين " رواه البيهقي هكذا مرفوعا وموقوفا على أبى موسى واحتج به البيهقي على أنه
لا كراهة في صوم الدهر وافتتح الباب به فهو عنده المعتمد في المسألة وأشار غيره إلى الاستدلال به
على كراهته والصحيح ما ذهب إليه البيهقي ومعني ضيقت عليه أي عنه فلم يدخلها أو ضيقت عليه
أي لا يكون له فيها موضع وعن أبي مالك الأشعري الصحابي رضي الله عنه قال " قال رسول الله
389

صلى الله عليه وسلم إن في الجنة غرفة يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله لمن
ألان الكلام وأطعم الطعام وتابع الصيام وصلي بالليل والناس نيام " رواه البيهقي باسناد (1) وعن
ابن عمر انه سئل عن صيام الدهر فقال " كنا نعد أولئك فينا من السابقين " رواه البيهقي وعن عروة أن عائشة
" كانت تصوم الدهر في السفر والحضر " رواه البيهقي باسناد صحيح وعن أنس قال " كان أبو طلحة لا يصوم
على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل الغزو فلما قبض النبي صلى الله عليه وسلم لم أره مفطرا إلا يوم
الفطر أو الأضحى " رواه البخاري في صحيحه وأجابوا عن حديث " لا صام من صام الأبد " بأجوبة
(أحدها) جواب عائشة الذي ذكره المصنف وتابعها عليه خلائق من العلماء ان المراد من صام الدهر
حقيقة بأن يصوم معه العيد والتشريق وهذا منهي عنه بالاجماع (والثاني) انه محمول على أن معناه
انه لا يجد من مشقته ما يجد غيره لأنه يألفه ويسهل عليه فيكون خبرا لا دعاء ومعناه لا صام صوما يلحقه
فيه مشقة كبيرة ولا أفطر بل هو صائم له ثواب الصائمين (والثالث) انه محمول على من تضرر بصوم
الدهر أو فوت به حقا ويؤيده انه في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص كان النهي خطابا له وقد
ثبت عنه في الصحيح انه عجز في آخر عمره وندم على كونه لم يقبل الرخصة وكأن يقول يا ليتي قبلت
رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهى النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمرو بن العاص لعلمه بأنه يضعف
عن ذلك وأقر حمزة بن عمرو لعلمه بقدرته على ذلك بلا ضرر *
{فرع} في تسمية بعض الاعلام من السلف والخلف ممن صام الدهر غير أيام النهي الخمسة العيدان
والتشريق (فمنهم) عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو طلحة الأنصاري وأبو امامة وامرأته وعائشة
رضي الله عنهم وذكر البيهقي ذلك عنهم بأسانيده وحديث أبي طلحة في صحيح البخاري ومنهم سعيد
ابن المسيب وأبو عمرو بن حماس بكسر الحاء المهملة وآخره سين وسعيد بن إبراهيم بن عبد الرحمن
ابن عوف التابعي سرده أربعين سنة والأسود بن يزيد صاحب ابن مسعود (2) ومنهم البويطي وشيخنا
أبو إبراهيم إسحاق بن أحمد المقدسي الفقيه الإمام الزاهد *

(1) كذا بالأصل فحرر.
(2) قوله ومنهم البويطي وشيخنا إلى آخره إنما هو في نسخة المصنف حاشية في أعلى الصفحة وآخر الفرع بياض بعد صاحب ابن مسعود
390

{فرع} قال أصحابنا لو نذر صوم الدهر صح نذره بلا خلاف ولزمه الوفاء به بلا خلاف وتكون الأعياد
وأيام التشريق وشهر رمضان وقضاؤه مستثناة فان فاته شئ من صوم رمضان بعذر وزال العذر لزمه قضاء فائت
رمضان لأنه آكد من النذر وهل يكون نذره متناولا لأيام القضاء فيه طريقان (أحدهما) لا يكون لان ترك
القضاء معصية فتصير أيام القضاء كشهر رمضان فلا تدخل في النذر فعلى هذا يقضى عن رمضان ولا فدية عليه
بسبب النذر وبهذا الطريق قطع البغوي وغيره (والثاني) وهو الأشهر فيه وجهان حكاهما
البندنيجي وأبو القاسم الكرخي شيخ صاحب المهذب وحكاهما صاحب الشامل والعدة والبيان
وغيرهم (أحدهما) هو كالطريق الأول (والثاني) يتناولها النذر لأنه كان يتصور صومها عن نذره
فأشبهت غيرها من الأيام بخلاف أيام رمضان فعلى هذا إذا قضي رمضان هل تلزمه الفدية بسبب
القضاء قال أبو العباس بن سريج يحتمل وجهين (أحدهما) لا كمن أفطر في رمضان بعذر ودام
عذره حتى مات (والثاني) يلزمه لأنه كان قادرا على صومه عن النذر فعلى هذا له أن يخرج
الفدية في حياته لأنه قد أيس من القدرة على الاتيان به فصار كالشيخ الهرم هكذا ذكر هؤلاء المسألة
فيمن فاته صوم رمضان بعذر وقال البغوي والرافعي هذا الحكم جار سواء فاته بعذر أو بغيره قال أصحابنا
كلهم وهكذا الحكم إذا نذر صوم الدهر ثم لزمته كفارة بالصوم فيجب صوم الكفارة لأنها تجب بالشرع
وإن كانت بسبب من جهته فكانت آكد من النذر الذي يوجبه هو على نفسه فعلى هذا يكون حكم
الفدية عن صوم النذر ما سبق هكذا صرح به ابن سريج وهؤلاء المذكورون وقطع البغوي
والرافعي بوجوب الفدية إذا صام عن الكفارة قال أصحابنا ولو أفطر يوما من الدهر لم يمكن قضاؤه
ولا تجب الفدية ان أفطر بعذر والا فتجب قالوا ولو نذرت المرأة صوم الدهر فللزوج منعها فان
منعها فلا قضاء ولا فدية لأنها معذورة وان اذن لها أو مات لزمها الصوم فان أفطرت بلا عذرا أثمت
ولزمتها الفدية * قال المصنف رحمه الله تعالى *
391

{ولا يجوز للمرأة ان تصوم التطوع وزوجها حاضر الا باذنه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تصوم المرأة التطوع وبعلها شاهد إلا باذنه " ولان حق الزوج
فرض فلا يجوز تركه بنفل} *
{الشرح} حديث أبي هريرة رواه البخاري ومسلم * لفظ البخاري " لا يحل للمرأة ان تصوم وزوجها
شاهد إلا باذنه " ولفظ مسلم لا تصوم المرأة وبعلها شاهد إلا باذنه " وفى رواية أبى داود لا تصوم المرأة وبعلها شاهد
الا باذنه غير رمضان " إسناد هذه الرواية صحيح على شرط البخاري ومسلم (اما) حكم المسألة فقال المصنف
والبغوي وصاحب العدة وجمهور أصحابنا لا يجوز للمرأة صوم تطوع وزوجها حاضر إلا باذنه لهذا الحديث
وقال جماعة من أصحابنا يكره والصحيح الأول فلو صامت بغير اذن زوجها صح باتفاق أصحابنا وإن كان
الصوم حراما لان تحريمه لمعنى آخر لا لمعنى يعود إلى نفس الصوم فهو كالصلاة في دار مغصوبة
فإذا صامت بلا اذن قال صاحب البيان الثواب إلى الله تعالى هذا لفظه ومقتضى المذهب في نظائرها
الجزم بعدم الثواب كما سبق في الصلاة في دار مغصوبة (واما) صومها التطوع في غيبة لزوج عن بلدها
فجائز بلا خلاف لمفهوم الحديث ولزوال معنى النهى (واما) قضاؤها رمضان وصومها الكفارة
والنذر فسيأتي ايضاحه في كتاب النفقات حيث ذكره المصنف والأمة المستباحة لسيدها في صوم
التطوع كالزوجة (وأما) الأمة التي لا تحل لسيدها بأن كانت محرما له كأخته أو كانت مجوسية أو
غيرهما والعبد فان تضررا بصوم التطوع بضعف أو غيره أو نقصا لم يجز بغير إذن السيد
بلا خلاف وان لم يتضررا ولم ينقصا جاز والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ومن دخل في صوم تطوع أو صلاة تطوع استحب له اتمامها فان خرج منها جاز لما روت عائشة قالت
" دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل عندك شئ فقلت لا فقال إذا أصوم ثم دخل على يوما
آخر فقال هل عندك شئ فقلت نعم فقال إذا أفطر وان كنت قد فرضت الصوم "} *
392

{الشرح} حديث عائشة رواه مسلم بمعناه وسنذكر لفظه مع غيره من الأحاديث في فرع
مذاهب العلماء ومعنى فرضت الصوم نويته قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى إذا دخل في صوم تطوع
أو صلاة تطوع استحب له اتمامهما لقوله تعالى " ولا تبطلوا أعمالكم " وللخروج من خلاف العلماء فان خرج
منهما بعذر أو بغير عذر لم يحرم عليه ذلك ولا قضاء عليه لكن يكره الخروج منهما بلا عذر
لقوله تعالي " ولا تبطلوا أعمالكم " هذا هو المذهب وفيه وجه حكاه الرافعي أنه لا يكره الخروج
بلا عذر ولكنه خلاف الأولى (وأما) الخروج منه بعذر فلا كراهة فيه بلا خلاف ويستحب
قضاؤه سواء خرج بعذر أم بغيره لما سنذكره من الأحاديث واختلاف العلماء في وجوب القضاء
والاعذار معروفة (منها) ان يشق على ضيفه أو مضيفه صومه فيستحب ان يفطر فيأكل معه لقوله
صلى الله عليه وسلم " وان لزوارك عليك حقا " ولقوله صلى الله عليه وسلم " من كان يؤمن بالله واليوم
الآخر فليكرم ضيفه " رواهما البخاري ومسلم (وما) الحديث المروى عن عائشة عن النبي صلى الله عليه
وسلم " من نزل على قوم فلا يصومن تطوعا الا باذنهم " فرواه الترمذي وقال حديث
منكر (واما) إذا لم يشق على ضيفه أو مضيفه صومه التطوع فالأفضل بقاؤه وصومه وسنوضح المسألة بأبسط من
هذا حيث ذكرها المصنف والأصحاب في باب الوليمة إن شاء الله تعالى (وأما) إذا دخل في حج تطوع أو
عمرة تطوع فإنه يلزمه اتمامهما بلا خلاف فان افسدهما لزمه المضي في فاسدهما ويجب قضاؤهما بلا خلاف *
393

{فرع} في مذاهب العلماء في الشروع في صوم تطوع أو صلاة تطوع * قد ذكرنا ان مذهبنا انه
يستحب البقاء فيهما وان الخروج منهما بلا عذر ليس بحرام ولا يجب قضاؤهما وبهذا قال عمر
وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وجابر ابن عبد الله وسفيان الثوري واحمد واسحق
وقال أبو حنيفة يلزمه الاتمام فان خرج منهما لعذر لزمه القضاء ولا إثم وان خرج بغير عذر لزمه
القضاء وعليه الاثم * وقال مالك وأبو ثور يلزمه الاتمام فان خرج بلا عذر لزمه القضاء وان خرج
بعذر فلا قضاء واختلف أصحاب أبي حنيفة فيمن دخل في صوم أو صلاة يظنهما عليه ثم بان
في أثنائهما أنهما ليسا عليه هل يجوز الخروج منهما أم لا * واحتج لم أوجب إتمام صوم التطوع وصلاته
بمجرد الشروع فيهما يقوله تعلى (ولا تبطلوا أعمالكم) وبحديث طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه
أن " رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للاعرابي الذي سأله عن الاسلام " خمس صلوات
في اليوم والليلة قال هل على غيرهن قال لا إلا أن تطوع " إلى آخر الحديث رواه البخاري ومسلم
وسبق بيانه في أول كتاب الصلاة قالوا وهذا الاستثناء متصل فمقتضاه وجوب التطوع بمجرد
الشروع فيه قالوا ولا يصح حملكم على أنه استثناء منقطع بمعني انه يقدر لكن لك ان تطوع
لان الأصل في الاستثناء الاتصال فلا تقبل دعوى الانقطاع فيه بغير دليل * واحتجوا
أيضا بالقياس على حج التطوع وعمرته فإنهما يلزمان بالشروع بالاجماع * واحتج أصحابنا بحديث
عائشة قالت " دخل على النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال هل عندكم شئ قلنا لا قال فاني اذن
صائم ثم اتانا يوما آخر فقلنا يا رسول الله اهدى لنا حيس فقال أرنيه فلقد أصبحت صائما فاكل "
رواه مسلم بهذا اللفظ وفى رواية لمسلم " فاكل ثم قال قد كنت أصبحت صائما " وفى رواية أبي داود
واسناده على شرط البخاري ومسلم قالت عائشة " فقلنا يا رسول الله قد اهدى لنا حيس فحبسناه لك
394

فقال ادنيه فأصبح صائما وأفطر " هذا لفظه وعن عائشة أيضا قالت " دخل على رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذات يوم فقال أعندك شئ فقلت لا قال إني إذا أصوم قالت ودخل على يوما آخر فقال
أعندك شئ قلت نعم قال إذا أفطر وان كنت قد فرضت الصوم " رواه الدارقطني والبيهقي بهذا اللفظ
وقال اسناده صحيح وعن أبي جحيفة قال " آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء فزار سلمان
أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة فقال لها ما شأنك قالت أخوك أبو الدرداء ليس له في الدنيا حاجة
فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما فقال كل فاني صائم قال ما أنا بآكل حتى تأكل فاكل فلما كان الليل ذهب
أبو الدرداء يقوم قال نم فنام ثم ذهب يقوم فقال نم فنام ثم ذهب يقوم قال نم فنام فلما كان من آخر الليل
قال سلمان قم الآن فصليا فقال له سلمان إن لربك عليك حقا ولنفسك عليك حقا ولأهلك عليك حقا فاعط كل ذي حق حقه فاتي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبي صلى الله عليه وسلم
صدق سلمان " رواه البخاري وعن أم هاني قالت " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الصائم
المتطوع أميره نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر وفى روايات " أمين أو أمير نفسه " رواه أبو داود
والترمذي والنسائي والدارقطني والبيهقي وغيرهم وألفاظ رواياتهم متقاربة المعنى واسنادها جيد ولم يضعفه
أبو داود وقال الترمذي في اسناده مقال وعن ابن مسعود قال " إذا أصبحت وأنت ناوي الصوم فأنت بخير
النظرين ان شئت صمت وان شئت أفطرت " رواه البيهقي باسناد صحيح وعن جابر أنه لم يكن يرى بافطار
التطوع بأس رواه الدارقطني والبيهقي باسناد صحيح وعن ابن عباس مثله رواه الشافعي والبيهقي باسناد صحيح
(وأما) الحديث المروى عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم " الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار " فليس
بصحيح رفعه كذا قاله البيهقي وإنما هو موقوف على ابن عمر وروى مثله مرفوعا من رواية أبي ذر
وانس وأبي امامة رواها كلها البيهقي وضعفها لضعف رواتها وكذا الحديث المروى عن أم سلمة
395

عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا بأس ان أفطر ما لم يكن نذر أو قضاء رمضان " رواه
الدارقطني وضعفه (واما) الجواب عن احتجاجهم بحديث طلحة فهو ان معناه لكن لك ان تطوع
ويكون الاستثناء منقطعا وهو إن كان خلاف الأصل لكن يتعين تأويله ليجمع بينه وبين
الأحاديث التي ذكرناها (واما) القياس على الحج والعمرة فالفرق ان الحج لا يخرج منه الافساد لتأكد
الدخول فيه بخلاف الصوم *
{فرع} قد ذكرنا ان مذهبنا انه لا يلزمه قضاء صوم التطوع إذا خرج منه سواء أخرج منه
بعذر أم بغيره وبه قال أكثر العلماء كما سبق * وقال أبو حنيفة ومن وافقه يجب القضاء * واحتج له بحديث
الزهري قال " بلغني ان عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهدى لهما طعام فأفطرتا عليه
فدخل عليهما النبي صلى الله عليه وسلم قالت عائشة فقالت حفصة يا رسول الله اني أصبحت انا
وعائشة صائمتين متطوعتين وقد أهدى لنا هدية فأفطرنا عليها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أقضيا مكانه يوما آخر " قال البيهقي هذا الحديث رواه الثقاة الحفاظ من أصحاب الزهري عنه هكذا
منقطعا بينه وبين عائشة وحفصة مالك بن أنس ويونس بن يزيد ومعمر وأبى جريج ويحيى بن سعيد
وعبيد الله بن عمر وسفيان بن عيينة ومحمد بن الوليد الزبيدي وبكر بن وائل وغيرهم ثم رواه البيهقي
باسناد جعفر بن برقان بضم الباء الموحدة عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت " كنت أنا
وحفصة صائمتين فعرض لنا طعام فاشتهيناه فأكلنا فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فبدرتني حفصة وكانت بنت أبيها حقا فقصت عليه القصة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقضيا يوما
مكانه " قال البيهقي هكذا رواه جعفر بن برقان وصالح بن أبي الأخضر وسفيان بن حسين عن الزهري
ووهموا فيه على الزهري ثم روى البيهقي عن ابن جريج عن الزهري قال قلت له أحدثك عروة عن عائشة
انها قالت " أصبحت انا وحفصة صائمتين " فقال لم أسمع من عروة في هذا شيئا لكن حدثني ناس في
خلافة سليمان بن عبد الملك عن بعض من كان يدخل على عائشة انها قالت " أصبحت أنا وحفصة
396

صائمتين فأهدى لنا هدية فأكلناها فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبدرتني حفصة
وكانت بنت أبيها فذكر ت ذلك له فقال اقضيا يوما مكانه " وكذلك رواه عبد الرزاق ومسلم بن خالد
عن أبي جريج ثم رواه البيهقي عن سفيان بن عينية عن صالح بن أبي الأخضر عن الزهري عن عائشة
فذكره وقال فيه " صوما يوما مكانه " قال سفيان فسألوا الزهري وأنا شاهد فقالوا أهو عن عروة فقال
لا ثم رواه البيهقي باسناده عن الحميدي قال حدثنا سفيان قال سمعت الزهري يحدث عن عائشة
فذكر هذا الحديث مرسلا قال سفيان فقيل للزهري هو عن عروة قال لا قال سفيان وكنت سمعت
صالح بن أبي الأخضر حدثناه عن الزهري عن عروة قال الزهري ليس هو عن عروة فظننت ان صالحا
397

أتى من قبل العرض قال الحميدي أخبرني غير واحد عن معمر قال لو كان من حديث معمر ما نسيته
قال البيهقي فقد شهد ابن جريج وابن عينية على الزهري وهما شاهدا عدل بأنه لم يسمعه من عروة فكيف
يصح وصل من وصله قال البيهقي قال الترمذي سألت البخاري عن هذا الحديث فقال لا يصح
حديث الزهري عن عروة عن عائشة قال وكذلك قال محمد بن يحيي الذهلي * واحتج بحكاية ابن جريج
وسفيان عن الزهري وبارسال من أرسل الحديث عن الزهري من الأئمة قال البيهقي وقد روى عن
جرير بن حازم عن يحيي بن سعيد عن عروة عن عائشة وجرير بن حازم وإن كان ثقة فقد وهم فيه
وقد خطأه فيه أحمد بن حنبل وعلي بن المديني والمحفوظ عن يحيي بن سعيد عن الزهري عن عائشة
مرسلا ثم روى البيهقي عن أحمد بن حنبل وعلي بن المديني ما ذكره عنهما ثم رواه باسناده عن زميل ابن عباس
مولي عروة عن عروة عن عائشة قال ابن عدي هذا ضعيف لا تقوم به الحجة قال البيهقي وقد روى
من أوجه أخر عن عائشة لا يصح شئ منها وقد بينتها في الخلافيات هذا آخر كلام البيهقي وروى
الدارقطني والبيهقي حديث عائشة السابق من طريق قالا فيه قالت " دخل على رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقلت خبأنا لك حيسا فقال إني كنت أريد الصوم ولكن قربيه وأقضي يوما مكانه " قال
الدارقطني والبيهقي هذه الزيادة " وأقضى يوما مكانه " ليست محفوظة * واحتج
أصحابنا لعدم وجوب القضاء بما احتج به البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال " صنعت لرسول الله صلى
الله عليه وسلم طعاما فأتي هو وأصحابه فلما وضع الطعام قال رجل من القوم إني صائم فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم دعاكم أخوكم وتكلف لكم ثم قال له أفطر وصم يوما مكانه إن شئت " قالوا ولان
الأصل عدم القضاء ولم يصح في وجوبه شئ (وأما) الحديث السابق عن عائشة وحفصة فجوابه من
وجهين (أحدهما) أنه ضعيف كما سبق (والثاني) انه لو ثبت لحمل القضاء على الاستحباب ونحن
نقول به والله تعالى أعلم (أما) الخروج من صلاة الفرض المكتوبة والقضاء والنذر وصيام القضاء
والكفارة والنذر فسبق بيانه في آخر باب مواقيت الصلاة وفى أواخر كتاب الصيام قبيل هذا الباب *
398

* قال المصنف رحمه الله *
{ولا يجوز صوم يوم الشك لما روى عن عمار رضي الله عنه أنه قال " من صام اليوم الذي يشك
فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " فان صام يوم الشك عن رمضان لم يصح لقوله صلى الله عليه
وسلم " ولا تستقبلوا الشهر استقبالا " ولأنه يدخل في العبادة وهو في شك من وقتها فلم يصح كما
كما لو دخل في الظهر وهو يشك في وقتها وإن صام فيه عن فرض عليه كره وأجزأه كما لو
صلي في دار مغصوبة وإن صام عن تطوع نظرت فإن لم يصله بما قبله ولا وافق عادة له لم يصح
لأن الصوم قربة فلا يصح بقصد معصية وإن وافق عادة له جاز لما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله
عليه وسلم قال " لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق صوما كان يصومه أحدكم " إن
وصله بما قبل النصف جاز وإن وصله بما بعده لم يجز لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه
وسلم قال " إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان "} *
{الشرح} حديث عمار رواه أبو داود والترمذي وقال هو حديث حسن صحيح (وأما) حديث
" لا تستقبلوا الشهر " فصحيح رواه النسائي من رواية ابن عباس باسناد صحيح وسبق بيانه في أوائل
كتاب الصيام في وجوب صوم رمضان برؤية الهلال (وأما) حديث أبي هريرة " لا تقدموا الشهر " فرواه
البخاري ومسلم وحديثه الآخر " إذا انتصف شعبان فلا صيام " رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن
ماجة وغيرهم قال الترمذي هو حديث حسن صحيح ولم يضعفه أبو داود في سننه بل رواه وسكت
عليه وحكي البيهقي عن أبي داود أنه قال قال أحمد بن حنبل هذا حديث منكر قال وكان عبد الرحمن
لا يحدث به يعني عبد الرحمن بن مهدي وذكر النسائي عن أحمد بن حنبل هذا الكلام قال أحمد
والعلاء بن عبد الرحمن ثقة لا ينكر من حديثه إلا هذا الحديث قال النسائي ولا نعلم أحدا روى
هذا الحديث غير العلاء (أما) حكم المسألة فقال أصحابنا لا يصح صوم يوم الشك عن رمضان بلا خلاف
لما ذكره المصنف فان صامه عن قضاء أو نذر أو كفارة أجزأه وفى كراهيته وجهان (قال) القاضي أبو الطيب
يكره وبه قطع المصنف ونقله صاحب الحاوي عن مذهب الشافعي (والثاني) لا يكره وبه قطع الدارمي وهو
399

مقتضي كلام المتولي والجمهور واختاره ابن الصباغ وغيره قال ابن الصباغ في الشامل قال القاضي أبو الطيب
يكره ويجزئه قال ولم أر ذلك لغيره من أصحابنا قال وهو مخالف للقياس لأنه إذا جاز أن يصوم فيه تطوعا
له سبب فالفرض أولى كالوقت الذي نهي عن الصلاة فيه ولأنه إذا كان عليه قضاء يوم من رمضان
فقد تعين عليه لان وقت قضائه قد ضاق (وأما) إذا صامه تطوع فإن كان له سبب بأن كان عادته
صوم الدهر أو صوم يوم وفطر يوم أو صوم يوم معين كيوم الاثنين فصادفه جاز صومه بلا خلاف
بين أصحابنا وبهذه المسألة احتج ابن الصباغ في المسألة السابقة كما سبق ودليله حديث أبي هريرة
الذي ذكره المصنف وإن لم يكن له سبب فصومه حرام وقد ذكر المصنف دليله فان خالف وصام
اثم بذلك وفى صحة صومه وجهان مشهوران في طريقة خراسان (أصحهما) بطلانه وبه قطع
القاضي أبو الطيب والمصنف وغيرهما من العراقيين (والثاني) يصح وبه قطع الدارمي
وصححه السرخسي لأنه صالح للصوم في الجملة بخلاف صوم العيد قال الخراسانيون وهذان الوجهان
كالوجهين في صحة الصلاة المنهى عنها في وقت النهى قالوا ولو نذر صومه ففي صحة نذره وجهان
بناء على صحة صومه ان صح صح والا فلا قالوا فان صححناه فليصم يوما غيره فان صامه أجزأه عن
نذره هذا كله إذا لم يصل يوم الشك بما قبل نصف شعبان فأما إذا وصله بما قبله فيجوز بالاتفاق
لما ذكره المصنف فان وصله بما بعد نصف شعبان لم يجزه لما ذكره المصنف أما إذا صام بعد نصف
شعبان غير يوم الشك ففيه وجهان (أصحهما) وبه قطع المصنف وغيره من المحققين لا يجوز للحديث
السابق (والثاني) يجوز ولا يكره وبه قطع المتولي وأشار المصنف في التنبيه إلى اختياره وأجاب المتولي
عن الحديث السابق " إذا انتصف شعبان فلا صيام حتى يكون رمضان " بجوابين (أحدهما) ان هذا
الحديث ليس بثابت عند أهل الحديث (والثاني) انه محمول على من يخاف الضعف بالصوم فيؤمر
بالفطر حتى يقوى لصوم رمضان والصحيح ما قاله المصنف وموافقوه والجوابان اللذان ذكرهما
المتولي ينازع فيهما *
400

{فرع} قال أصحابنا يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا وقع في ألسنة الناس إنه رؤي ولم
يقل عدل إنه رآه أو قاله وقلنا لا تقبل شهادة الواحد أو قاله عدد من النساء أو الصبيان أو العبيد
أو الفساق وهذا الحد لا خلاف فيه عند أصحابنا قالوا فأما إذا لم يتحدث برؤيته أحد فليس بيوم
شك سواء كانت السماء مصحية أو أطبق الغيم هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وحكي الرافعي
401

وجها عن أبي محمد الباقي بالموحدة وبالفاء إن كانت السماء مصحية ولم ير الهلال فهو شك وحكى
أيضا وجها آخر عن أبي طاهر الزيادي من أصحابنا ان يوم الشك ما تردد بين الجائزين من غير
ترجيح فان شهد عبد أو صبي أو امرأة فقد ترجح أحد الجانبين فليس بشك ولو كان في السماء قطع سحاب
402

يمكن رؤية الهلال من خللها ويمكن ان يخفى تحتها ولم يتحدث برؤيته فوجهان (قال) الشيخ أبو محمد
هو يوم شك (وقال) غيره ليس بيوم شك وهو الأصح وقال إمام الحرمين إن كان ببلد يستقل أهله
بطلب الهلال فليس بشك وإن كانوا في سفر ولم تبعد رؤية أهل القرى فيحتمل جعله يوم شك
هذا كلامه *
{فرع} في مذاهب العلماء في صوم يوم الشك * قد ذكرنا انه لا يصح صومه بنية رمضان عندنا
وحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وعلي وابن عباس وابن مسعود وابن عمار وحذيفة
وانس وأبي هريرة وأبى وائل وعكرمة وابن المسيب والشعبي والنخعي وابن جريج والأوزاعي
قال وقال مالك سمعت أهل العلم ينهون عنه هذا كلام ابن المنذر وممن قال به أيضا عثمان بن
عفان وداود الظاهري قال ابن المنذر وبه أقول وقالت عائشة وأختها أسماء نصومه من رمضان
وكانت عائشة تقول " لان أصوم يوما من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان " وروى
هذا عن علي أيضا قال العبدري ولا يصح عنه وقال الحسن وابن سيرين ان صام الامام صاموا
وان أفطر أفطروا وقال ابن عمر وأحمد بن حنبل إن كانت السماء مصحية لم يجز صومه وإن كانت مغيمة وجب صومه عن رمضان وعن أحمد روايتان كمذهبنا ومذهب الجمهور
403

وعنه رواية ثالثة كمذهب الحسن هذا بيان مذاهبهم في صوم يوم الشك عن رمضان فلو صامه
تطوعا بلا عادة ولا وصله فقد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يجوز وبه قال الجمهور وحكاه العبدري وعثمان
وعلى وعبد الله بن مسعود وحذيفة وعمار وابن عباس وأبي هريرة وأنس والأوزاعي ومحمد بن
مسلمة المالكي وداود * وقال أبو حنيفة لا يكره صومه تطوعا ويحرم صومه عن رمضان * واحتج
لمن قال بصومه عن رمضان بقوله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم
فاقدروا له " رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمر وزعموا أن معناه ضيقوا عدة شعبان بصوم
رمضان وبان عائشة وأسماء وابن عمر كانوا يصومونه فروى البيهقي عن عائشة أنها سئلت عن
صوم يوم الشك فقالت " لان أصوم يوما من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان " وعن
أسماء انها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان وعن أبي هريرة لان أصوم اليوم الذي يشك
فيه من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان قال البيهقي ورواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم في النهي عن تقدم الشهر بصوم الا أن يوافق صوما كان يصومه أصح من هذا قال
البيهقي (وأما) قول علي رضي الله عنه في ذلك فإنما قاله عند شهادة رجل على رؤية الهلال فلا حجة
فيه قال (وأما) مذهب ابن عمر في ذلك فقد روينا عنه انه " قال لو صمت السنة كلها لافطرت اليوم
الذي يشك فيه " وفى رواية عن عبد العزيز بن حكيم الخضرمي قال رأيت ابن عمر بأمر رجلا يفطر في اليوم
الذي يشك فيه قال ورواية يزيد بن هارون تدل على أن مذهب عائشة في ذلك كمذهب ابن عمر
404

في الصوم إذا غم الشهر دون أن يكون صحوا قال البيهقي ومتابعة السنة الثابتة وما عليه أكثر الصحابة وعوام
أهل المدينة أولى بنا وهو منع صوم يوم الشك هذا كلام البيهقي * واحتج أصحابنا بحديث ابن
عمر قال " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا فان غم
عليكم فاقدروا له " رواه البخاري ومسلم وفي رواية لهما عن ابن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشهر تسع وعشرون
ليلة فلا تصوموا حتى تروه فان غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " وفى رواية لمسلم " ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم ذكر رمضان فضرب بيديه فقال الشهر هكذا وهكذا ثم عقد إبهامه في الثالثة
وقال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم فاقدروا ثلاثين " وفى رواية لأبي داود باسناد
صحيح زيادة قال " وكان ابن عمر إذا كان شعبان تسعا وعشرين نظر له فان رؤي فذاك وان لم ير
ولم يحل دون منظره سحاب ولا قترة أصبح مفطرا فان حال دون منظره سحاب أو قترة أصبح
صائما فال وكان ابن عمر يفطر مع الناس ولا يأخذ بهذا الحساب " وعن أبي هريرة قال " قال النبي
صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " رواه البخاري
وعنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فافطروا فان غم عليكم
فصوموا ثلاثين يوما " رواه مسلم وفى رواية له " فان غم عليكم فأكملوا العدة " وفى رواية فان غمي عليكم الشهر
405

فعدوا ثلاثين " وفى المسألة أحاديث كثيرة بمعنى ما ذكرناه قال أهل اللغة يقال قدرت الشئ أقدره وأقدره
بضم الدال وكسرها وقدرته وأقدرته بمعنى واحد وهو من التقدير قال الخطابي ومنه قوله تعالى (فقدرنا فنعم
القادرون) * واحتج أصحابنا بالرواية السابقة " فأكملوا العدة ثلاثين " وهو تفسير لا قدروا له ولهذا لم يجتمعا
في رواية بل تارة يذكر هذا وتارة يذكر هذا وتؤيده الرواية السابقة " فاقدروا ثلاثين " قال الإمام أبو
عبد الله الماوردي حمل جمهور الفقهاء قوله صلى الله عليه وسلم " فاقدروا له " على أن المراد إكمال
العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر قالوا ويوضحه ويقطع كل احتمال وتأويل فيه رواية البخاري
" فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوما " وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يتقدمن أحدكم رمضان
بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم " رواه البخاري ومسلم
وعن أبي البختري قال " أهللنا رمضان ونحن بذات عرق فأرسلنا رجلا إلى ابن عباس يسأله فقال
ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى قد أمده لرؤيته فان أغمي عليكم فأكملوا
العدة " رواه مسلم وعن ابن عباس أيضا قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تصوموا قبل
رمضان صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان حالت دونه غمامة فأكملوا شعبان ثلاثين يوما " رواه
الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا
لرؤيته فان حال بينكم وبينه سحاب فكملوا ثلاثين ولا تستقبلوا الشهر استقبالا " رواه النسائي
406

باسناد صحيح وعنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين
إلا أن يكون شئ كان يصومه أحدكم لا تصوموا حتى تروه ثم صوموا حتى تروه فان حالت دونه
غمامة فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا " وعن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحصوا
هلال شعبان لرمضان " رواه الترمذي وعن مسلم بن الحجاج صاحب الصحيح عن يحيي بن يحيى عن أبي
معاوية باسناده الصحيح قال لا نعرف مثل هذا إلا من حديث أبي معاوية قال والصحيح
رواية أبي هريرة السابقة " لا تقدموا شهر رمضان بيوم ولا يومين " هذا كلام الترمذي وهذا الذي
قاله ليس بقادح في الحديث لان أبا معاوية ثقة حافظ فزيادته مقبولة وعن عائشة قالت " كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يتحفظ من شعبان مالا يتحفظ من غيره ثم يصوم لرؤية رمضان فان غم عليه عد
ثلاثين يوما ثم صام " رواه الإمام أحمد وأبو داود والدارقطني وقال اسناده صحيح وعن حذيفة
قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة ثم صوموا
حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة " رواه أبو داود والنسائي باسناد على شرط البخاري ومسلم
وعن عمار قال " من صام اليوم الذي يشك فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " رواه أبو داود
والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح والأحاديث بنحو ما ذكرته كثيرة مشهورة والجواب
عما احتج به المخالفون سبق بيانه والله أعلم *
407

{فرع} اعلم أن القاضي أبا يعلى محمد بن الحسين بن محمد بن الفراء الحنبلي صنف جزءا في
وجوب صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين من شعبان إذا حال دون مطلع الهلال غيم ثم صنف
الخطيب الحافظ أبو بكر بن أحمد بن علي بن ثابت البغدادي جزءا في الرد على ابن الفراء
والشناعة عليه في الخطأ في المسألة ونسبته إلى مخالفة السنة وما عليه جماهير الأمة وقد حصل الجزءان
عندي والله الحمد وانا أذكر إن شاء الله تعالى مقاصديهما ولا أخل بشئ يحتاج إليه مما فيهما مضموما
إلى ما قدمته في الفرع قبله وبالله التوفيق * قال القاضي ابن الفراء جاء عن الإمام أحمد رحمه الله فيما إذا
حال دون مطلع الهلال غيم ليلة الثلاثين من شعبان ثلاث روايات (إحداها) وجوب صيامه عن
رمضان رواها عنه الأثرم والمروزي ومهنا وصالح والفضل بن زياد قال وهو قول عمر بن الخطاب
وابن عمر وعمر بن عبد العزيز وعمرو بن العاص وأنس ومعاوية وأبي هريرة وعائشة وأسماء وبكر
ابن عبد الله المزني وأبى عثمان وابن أبي مريم وطاوس ومطرف ومجاهد فهؤلاء ثمانية من الصحابة
وسبعة من التابعين (والثانية) لا يجب صومه بل يكره إن لم يوافق عادته (والثالثة) إن صام الامام
صاموا والا أفطروا وبه قال الحسن وابن سيرين قال ابن الفراء وعلى الرواية الأولى عول شيوخنا
أبو القاسم الحزقي وأبو بكر الخلال وأبو بكر عبد العزيز وغيرهم * واحتج بحديث ابن عمر السابق " صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم فاقدروا له " وقد سبق بيانه وأنه من الصحيحين وفى رواية لأبي
داود زيادة عن ابن عمر " أنه إذا كان دون منظره سحاب صام " قال والدلالة في الحديث من
408

وجهين (أحدهما) أن رواية ابن عمر " وكان يصبح في الغيم صائما " ولا يفعل ذلك الا وهو يعتقد أنه معنى
الحديث وتفسيره قال (فان قيل) فقد روى عن ابن عمر أنه قال " لو صمت السنة لأفطرت هذا اليوم
يعنى يوم الشك " وروى عنه " صوموا مع الجماعة وأفطروا مع الجماعة " (قلنا) المراد لأفطرت يوم الشك
الذي في الصحو وكذا الرواية الأخرى عنه قال (فان قيل) يحتمل انه كان يصبح ممسكا احتياطا
لاحتمال قيام بينة في أثناء النهار بأنه من رمضان فنسمى إمساكه صوما (قلنا) الامساك ليس بصوم شرعي
فلا يصح الحمل عليه ولأنه لو كان للاحتياط لأمسك في يوم الصحو لاحتمال قيام بنية بالرؤية
(الوجه الثاني) ان معنى " اقدروا له " ضيقوا عدة شعبان بصوم رمضان كما قال الله تعالى (ومن قدر
عليه رزقه) أي ضيق عليه رزقه قال وإنما قلنا إن التضييق بان يجعل شعبان تسعة وعشرين يوما أولى من
جعله ثلاثين لأوجه (أحدها) انه تأويل ابن عمر راوي الحديث (والثاني) ان هذا المعنى متكرر
في القرآن (والثالث) أن فيه احتياطا للصيام (فان قيل) فقد روى مسلم عن ابن عمر عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال " فان غم عليكم فاقدروا له ثلاثين " فيحمل المطلق على المقيد (قلنا) ليس هذا
بصريح لأنه يحتمل رجوعه إلى هلال شوال لأنه سبقه بقوله (وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم) يعنى
هلال شوال فنستعمل اللفظين على موضعين وإنما يحمل المطلق على المقيد إذا لم يكن المقيد محتملا
ويدل عليه رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم
عليكم فاقدروا له ثلاثين يوما ثم أفطروا " ويستنبط من الحديث دليل آخر وهو ان معناه اقدروا له زمانا
يطلع في مثله الهلال وهذا الزمان يصلح وجود الهلال فيه ولان في المسألة إجماع الصحابة روى
ذلك عن عمر وابنه وأبي هريرة وعمرو بن العاص ومعاوية وأنس وعائشة وأسماء ولم يعرف لهم
مخالف في الصحابة عن سالم بن عبد الله قال " كان أبى إذا أشكل عليه شأن الهلال تقدم قبله بصيام
409

يوم وعن أبي هريرة " لان أتعجل في صوم رمضان بيوم أحب إلى من أن أتأخر لأني إذا تعجلت
لم يفتني وإذا تأخرت فاتني " وعن عمرو بن العاص " أنه كان يصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان
وعن معاوية أنه كأن يقول " إن رمضان يوم كذا وكذا ونحن متقدمون فمن أحب أن يتقدم فليتقدم
ولان أصوم يوما من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان " وعن عائشة وقد سئلت عن
اليوم الذي يشك فيه فقالت " لان أصوم يوما من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان "
قال الراوي فسألت ابن عمر وأبا هريرة فقالا أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم اعلم بذلك منا
وعن أسماء أنها كانت تصوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان قال (فان قيل) كيف يدعي الاجماع وفى
المسألة خلاف ظاهر للصحابة فقد روى منع صومه عن عمر وعلى وابن مسعود وعمار وحذيفة وابن
عباس وأبي سعيد وأنس وعائشة ثم ذكر ذلك بأسانيده عنهم من طرق وفى الرواية عن علي قال " إن
نبيكم صلى الله عليه وسلم كان ينهى عن صيام ستة أيام من السنة يوم الشك والنحر والفطر وأيام
التشريق " وعن عمر وعلي " أنهما كانا ينهيان عن صوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان "
وعن ابن مسعود " لان أفطر يوما من رمضان ثم أقضيه أحب إلى من أن أزيد فيه
ما ليس منه " وعن ابن عباس " لا تصوموا اليوم الذي يشك فيه لا يسبق فيه الامام " وعن أبي
سعيد " إذا رأيت هلال رمضان فصم وإذا لم تره فصم مع جملة الناس وأفطر مع جملة الناس " ونهى
410

حذيفة عن صوم يوم الشك فهذا كله يخالف ما رويتموه عن الصحابة من صومه (قلنا) يجمع بينهما بأن
من نهى عن الصيام أراد إذا كان الشك بلا حائل سحاب وكان صيامهم مع وجود الغيم ويحتمل
انهم نهوا عن صومه تطوعا وتقدما على الشهر ومن صام منهم صام على أنه من رمضان قال (فان قيل) فنحن
أيضا نتأول ما رويتموه عن الصحابة ان من صام منهم صام مع وجود شهادة شاهد واحد وقد روى
411

ذلك مسندا عن فاطمة بنت الحسين " ان رجلا شهد عند علي رضي الله عنه برؤية هلال رمضان
فصام واحسبه قال وامر الناس بالصيام وقال لان أصوم يوما من شعبان أحب إلى من أن أفطر يوما
من رمضان " (قلنا) لا يصح هذا التأويل لأنه إذا شهد واحد خرج عن أن يكون من شعبان وصار
يوما من رمضان يصومه الناس كلهم وفيما سبق عن الصحابة انهم قالوا " لان نصوم يوما من شعبان "
وهذا إنما يقال في يوم شك ولان ابن عمر كان ينظر الهلال فإن كان هناك غيم أصبح صائما والا أفطر
وهذا يقتضى العمل باجتهاده لا بشهادة ولأنهم سموه يوم الشك ولو كان في الشهادة لم يكن يوم شك
قال (فان قيل) ليس فيما ذكرتم انهم كانوا يصومونه من رمضان فلعلهم صاموه تطوعا وهذا هو الظاهر
لأنهم قالوا " لان نصوم يوما من شعبان " فسموه شعبان وشعبان ليس بفرض (قلنا) هذا لا يصح لان
ابن عمر كان يفرق بين الصحو والغيم ولان ظاهر كلامهم انهم قصدوا الاحتياط لاحتمال كونه
من رمضان وهذا المقصود لا يحصل بنية التطوع وإنما يحصل بنية رمضان ومن القياس أنه يوم
يسوغ الاجتهاد في صومه عن رمضان فوجب صيامه كما لو شهد بالهلال واحد واحترزنا بيسوغ
الاجتهاد عن يوم الصحو ولهذا يتناول ما أطلقه الصحابة على الصحو لأنه روى صريحا عن ابن عمر
ولأنه عبادة بدنية مقصودة فوجبت مع الشك كمن نسي صلاة من صلاتين واحترزنا ببدينة عن الزكاة
والحج وبمقصوده عمن شك هل أحدث أم لا فلا شئ عليه في كل ذلك قال واحتج المخالف بحديث
أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهي عن صيام ستة أيام اليوم الذي يشك فيه من
رمضان ويوم النحر ويوم الفطر وأيام التشريق " وجوابه من وجهين (أحدهما) حمله على من صامه
412

تطوعا أو عن نذر أو قضاء (والثاني) حمله على الشك إذا لم يكن غيم قال واحتج أيضا بحديث حذيفة
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تقدموا الشهر بيوم ولا بيومين حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة
قبله ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة " وجوابه أنه محمول على ما إذا لم يكن غيم * واحتج بحديث
ابن عباس وابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان حال
دونه غمامة فأكملوا العدة ثلاثين " (وجوابه) أن معناه أكملوا رمضان ودليل هذا التأويل أنه جاء في
حديث أبي هريرة " فان غم عليكم فصوموا ثلاثين " ويعود الضمير في رؤيته إلى هلال شوال لأنه
أقرب مذكور وفى رواية عن أبي هريرة " فأتموا العدة ثلاثين ثم أفطروا " ومثله من رواية ابن عباس
وهكذا الجواب عن حديث ابن عمر في صحيح مسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم
فاقدروا له ثلاثين " معناه غم هلال شوال قال واحتج بحديث أبي البختري السابق قال " أهللنا هلال
رمضان فشككنا فيه فبعثنا إلى ابن عباس رجلا فقال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ان الله
عز وجل أمده لرؤيته فان غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " وفي البخاري عن أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين "
(قلنا) هذا محمول على ما إذا كان الاغمام من الطرفين بان يغم هلال رمضان فنعد شعبان تسعة
وعشرين يوما ثم نصوم ثلاثين فيحول دون مطلع هلال شوال غيم ليلة الحادي والثلاثين فانا نعد
شعبان من الآن ثلاثين ونعد رمضان ثلاثين ونصوم يوما فيصير الصوم واحدا وثلاثين كما إذا
نسي صلاة من يوم فاتته فإنه يلزمه صلوات اليوم وقد روى عن أنس أنه قال " هذا اليوم يكمل إلى
أحد وثلاثين يوما " قال واحتج بحديث حذيقة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم فعدوا شعبان ثلاثين ثم صوموا فان غم عليكم فعدوا رمضان ثلاثين ثم
413

أفطروا الا ان تروه قبل ذلك " وجوابه ما سبق قبله انه محمول على ما إذا كان الاغمام في طرفي رمضان قال " فان
قيل) هذا التأويل باطن لوجهين (أحدهما) أنه قال " فعدوا شعبان ثلاثين ثم صوموا " والصوم إنما هو
أول الشهر (والثاني) أنه قال بعد ذلك " فان غم عليكم فعدوا رمضان ثلاثين ثم أفطروا " فدل
على أن الاغمام في أوله وفى آخره والذي في أوله يقتضى الاعتداد به في أول رمضان
وعلى هذا التأويل يقتضى أن الاعتداد به في آخر رمضان (قلنا) التأويل
صحيح لأنا نكمل عدة شعبان في آخر رمضان ونصوم يوما آخر فيكون قوله ثم صوموا راجعا إلى
هذا اليوم (وأما) قوله بعده " فان غم عليكم فعدوا رمضان ثلاثين ثم أفطروا " فمعناه إذا غم في أوله
وغم في آخره ليلة الثلاثين من رمضان فانا نعد شعبان ثلاثين ثم نصوم يوما وهو الحادي والثلاثون
من رمضان فنعد رمضان ثلاثين ونصوم يوما آخر فقد حصل العددان (أحدهما) بعد الآخر ويتخللها
صوم يوم قال واحتج بأنه لو علق طلاقا أو عتاقا على رمضان لم يقع يوم الشك وكذا لا يحل
فيه الذين المؤجل إلى رمضان فكذا الصوم (وجوابه) أنا لا نعرف الرواية عن أصحابنا في ذلك
فيحتمل ان لا نسلم ذلك ونقول يقع الطلاق والعتق ويحل الدين ويحتمل ان نسلمه وهو أشبه ونفرق
بين المسألة بوجهين (أحدهما) انه قد يثبت الصوم بمالا يثبت الطلاق والعتق والحلول وهو شهادة
414

عدل واحد (والثاني) أن في ايقاع الطلاق والعتاق وحلول الدين اسقاط حق ثابت لمعين بالشك
وهذا لا يجوز بخلاف الصوم فإنه ايجاب عبادة مقصودة على البدن فلا يمتنع وجوبها مع الشك كمن
نسي صلاة من الخمس وكذا الجواب عن قولهم إذا تيقن الطهارة وشك في الحدث لا وضوء عليه
للأصل ولو شك هل طلق لا طلاق عليه لان الطلاق والبضع حق له فلا يسقطان بالشك وكذا
الجواب عن قولهم لو تسحر الرجل وهو شاك في طلوع الفجر صح صومه لان الأصل بقاء الليل
ولو وقف بعرفات شاكا في طلوع الفجر صح وقوفه لان الأصل بقاء الليل والفرق أن البناء على
الأصل في هاتين المسألتين لم يسقط العبادة لأن الصوم والوقوف وجدا (وأما) في مسألتنا فالبناء
على الأصل يسقط الصوم (وجواب) آخر وهو ان طلوع الفجر يخفى على كثير من الناس فلو منعناهم
السحور مع الشك لحقتهم المشقة لأنه يتكرر ذلك وليس كذلك في الزامهم صوم يوم الشك لأنه
إنما يجب لعارض يعرض في السماء وهو نادر فلا مشقة فيه وكذلك الحج لو منعناهم الوقوف مع
الشك لفتهم وفيه مشقة عظيمة قال واحتج بأنه شك فلا يجب الصوم كالصحو (وجوابه) انه
يبطل بآخر رمضان إذا حال غيم فإنه يجب الصوم ولأنه إذا كان صحو ولم يروا الهلال فالظاهر
عدمه بخلاف الغيم فوجب صومه احتياطا قال واحتج بان كل يوم صامه في الصحو لا يجب في الغيم
كالثامن والعشرين من شعبان (وجوابه) أن الفرق بين الصحو والغيم ما سبق ولأنا تحققنا
415

في الثامن والعشرين كونه من شعبان بخلاف يوم الثلاثين ولهذا لو حال الغيم في آخر رمضان ليلة
الثلاثين صمنا ولو حال ليلة الحادي والثلاثين لم نصم قال واحتج بأنها عبادة فلا يجب الدخول
فيها حتى يعلم وقتها كالصلاة (وجوابه) أن هذا باطل في الأصل والفرع (اما) الأصل فإنه يجب الدخول
في الصلاة مع الشك وهو إذا نسي صلاة من الخمس (وأما) الفرع فان الأسير إذا اشتبهت عليه
الشهور صام بالتحري (وجواب) آخر وهو أن اعتبار اليقين في الصلاة لا يؤدى إلى اسقاط العبادة
بخلاف مسألتنا قال واحتج انه لا يصح الجزم بالنية مع الشك ولا يصح الصوم الا بجزم النية (وجوابه)
انه لا يمتنع التردد في النية للحاجة كما في الأسير إذا صام بالاجتهاد ومن نسي صلاة من الخمس
فصلاهن (فان قيل) لو حلف ان الهلال تحت الغيم (قلنا) لا يحنث للشك مع أن الأصل بقاء النكاح
416

وكذا لو حلف أنه لم يطلع ولا هو تحت الغيم كما لو طار طائر فحلف أنه غراب أو انه ليس بغراب أو تجهلناه
(فان قيل) لو وطئ في هذا اليوم (قلنا) تجب الكفارة (فان قيل) هل يصلى التراويح هذه الليلة (قلنا)
اختلف أصحابنا فقال أبو حفص العكبري لا يصلي وقال غيره يصلى وهو ظاهر كلام أحمد ولأنه
من رمضان (فان قيل) لم لم يحكموا بالهلال تحت الغيم في سائر الشهور (قلنا) لا فائدة فيه بخلاف
417

مسألتنا فان فيه احتياطا للصوم ولهذا يثبت هلال رمضان بشاهد واحد بخلاف غيره (فان قيل) لو
حلف ليدخلن الدار في أول يوم من رمضان (قلنا) لا يبر في يمينه حتى يدخلها في يومين يوم الشك
والذي بعده كمن نسي صلاة من صلوات يوم وجهلها فحلف ليدخلن الدار بعد أن يصليها فإنه
لا يبر حتى يدخل بعد جميع صلوات اليوم وان كنا نعلم أن الذي في ذمته واحدة هذا آخر كلام
القاضي أبو يعلي بن الفراء رحمه الله تعالى * قال الخطيب الحافظ أبو بكر البغدادي في الرد عليه
وقفت على كتاب لبعض من ينتسب إليه الفقه من أهل هذا العصر ذكر فيه أن يوم الشك المكمل
لعدة شعبان يجب صومه عن أول يوم من رمضان قال الخطيب واحتج في ذلك بما ظهور اعتلاله
يغني الناظر فيه عن إبطاله إذا لحق لا يدفعه باطل الشبهات والسنن الثابتة لا يسقطها فاسد التأويلات
ومع كون هذه المسألة ليس فيها التباس فربما خفي حكمها عن بعض الناس ممن قصر فهمه وقل
بأحكام الشرع علمه وقد أوجب الله على العلماء أن ينصحوا له فيما استحفظهم ويبذلوا الجهد فيما قلدهم
418

ويهجوا للحق سبل نجاتهم ويكشفوا للعوام عن شبهاتهم لا سيما فيما يعظم خطره ويبين في الدين
ضرره ومن أعظم الضرر اثبات قول يخالف مذهب السلف من أئمة المسلمين في حكم الصوم
الذي هو أحد أركان الدين وأنا بمشيئة الله تعالى أذكر من السنن المأثورة وأورد في ذلك
من صحيح الأحاديث المشهورة عن رسول رب العالمين وصحابته الأخيار المرضيين صلوات الله
وسلامه عليه وعليهم أجمعين وعن خالفيهم من التابعين ما يوضح منار الحق ودليله ويرد من
تنكب سبيله ويبطل شبهة قول المخالف وتأويله ثم روى الخطيب باسناده حديث أبي هريرة السابق
في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا تقدموا صوم رمضان بيوم ولا يومين الا أن يكون صوما
يصومه رجل فليصم ذلك الصوم " ثم ذكر حديث أبي هريرة السابق في الصحيحين عن النبي
صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن صوم ستة أيام اليوم الذي يشك فيه ويوم الفطر والنحر
وأيام التشريق " ثم ذكر الأحاديث الصحيحة السابقة " لا تصوموا حتى تروا الهلال " وحديث حذيفة
الصحيح السابق عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تقدموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة
419

إذا غم الهلال ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة " وحديث ابن عباس السابق في صحيح مسلم
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن الله أمده للرؤية " وحديث " أحصوا عدة شعبان لرمضان " وسبق
بيانه ثم قال: باب الأمر باكمال العدة إذا غم الهلال: قال روى ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم عن عمر بن الخطاب
وابنه عبد الله وعبد الله بن عباس وجابر بن عبد الله والبراء بن عازب وأبي بكرة وطلق بن علي
ورافع بن خديج وغيرهم من الصحابة ثم ذكر رواياتهم بأسانيده من طرق وألفاظها كما سبق في
الفرع الأول وفى جميع رواياته " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم فعدوا ثلاثين " ثم قال
الخطيب أجمع علماء السلف على أن صوم يوم الشك ليس بواجب وهو إذا كانت السماء متغيمة في آخر
اليوم التاسع والعشرين من شعبان ولم يشهد عدل برؤية الهلال فيوم الثلاثين يوم الشك فكره
جمهور العلماء صيامه إلا أن يكون له عادة بصوم فيصومه عن عادته أو كان يسرد الصوم فيأتي
ذلك في صيامه فيصومه قال فمن منع صوم يوم الشك عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن
420

مسعود وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وابن عمر وابن عباس وأنس وأبو سعيد الخدري
وأبو هريرة وعائشة وتابعهم من التابعين سعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وأبو وائل وعبد الله
ابن عكيم الجهني وعكرمة والشعبي والحسن وابن سيرين والمسيب بن رافع وعمر بن عبد العزيز ومسلم
ابن يسار وأبو السوار العدوي وقتادة والضحاك بن قيس وإبراهيم النخعي وتابعهم من الخالفين
والفقهاء المجتهدين ابن جريج والأوزاعي والليث والشافعي وإسحاق بن راهويه * وقال مالك وأبو حنيفة
لا يجوز عن رمضان ويجوز تطوعا (وأما) أحمد بن حنبل فروى عنه كمذهب الجماعة أنه لا يجب صومه
ولا يستحب وروى عنه متابعة الامام في صومه وفطره وروى عنه أنه إن كان غيم صامه والا
أفطره قال الخطيب وزعم المخالف ان الرواية التي عليها التعويل عنده عن أحمد وجوب صوم يوم
الشك عن أول يوم من رمضان وأراه عول على قول العامة * خالف تعرف * واحتج لقوله بما
سنذكره إن شاء الله تعالى فمن ذلك حديث ابن عمر السابق " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم
عليكم فاقدروا له " قال الخطيب قال المخالف ودلالته من وجهين فذكر الوجهين السابقين في كلام ابن
الفراء ومختصرهما أن ابن عمر كان يصوم يوم ليلة الغيم وهو الراوي فاعتماده أولى (والثاني) أن
معنى " أقدروا له " ضيقوا شعبان بصوم رمضان قال الخطيب (أما) حديث ابن عمر فاختلفت
الروايات عنه اختلافا يؤول إلى أن يكون حجة لنا فان بعض الرواة قال في حديثه عنه " فان غم عليكم
فعدوا ثلاثين يوما " ثم روى عنه " فأكملوا العدة ثلاثين " وفى رواية عنه " فان غم عليكم فاقدروا له
ثلاثين " ثم ذكر الخطيب بأسانيده من طرق جميع هذه الألفاظ وقد سبق بيانها وانها صحيحة ثم قال
421

الخطيب فقد ثبت برواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما فسر المجمل وأوضح المشكل وأبطل
شبهة المخالف وكشف عوار تأويله الفاسد لان قوله صلى الله عليه وسلم " فأقدروا له " مجمل فسره برواية
" فعدوا له ثلاثين يوما " " وفأكملوا العدة ثلاثين " " وفأقدروا له ثلاثين " مع موافقة أبي هريرة ابن عمر على
روايته مثل هذه الألفاظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر الخطيب رواية أبي هريرة من
طريقين في بعضها " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم فاقدروا له ثلاثين " وفى الثانية " فان غم عليكم
فأقدروا له " قال الخطيب (وأما) تعلق المخالف بما روى عن ابن عمر أنه كان يصوم إذا غم الهلال فقد روى أنه
كان يفعل ويفتي بخلاف ذلك وفتياه أصح من فعله يعني لتطرق التأويل إلى فعله ثم روى الخطيب باسناده عن
عبد العزيز بن حكيم قال " سألوا ابن عمر فقالوا نسبق قبل رمضان حتى لا يفوتنا منه شئ فقال ابن
عمر أف أف صوموا مع الجماعة وأفطروا مع الجماعة " اسناده صحيح إلا عبد العزيز بن حكيم فقال يحيى
ابن معين هو ثقة وقال أبو حاتم ليس بقوي يكتب حديثه وعن ابن عمر قال " لا أتقدم قبل
الامام ولا أصله بصيام " وعن عبد العزيز بن حكيم قال " ذكر عند ابن عمر يوم الشك فقال لو صمت
السنة كلها لأفطرته " قال الخطيب وهذا هو الأشبه بابن عمر لأنه لا يجوز الظن به أنه خالف النبي
صلى الله عليه وسلم وترك قوله الذي رواه هو وغيره من العمل بالرؤية أو اكمال العدة فيجب أن يحمل
ما روى عن ابن عمر من صوم يوم الشك على أنه كان يصبح ممسكا حتى يتبين بعد ارتفاع النهار
هل تقوم بينة بالرؤية فظن الراوي أنه كان صائما ويدل عليه أنه كان لا يحتسب به ولا يفطر إلا مع
الناس ويدل عليه أيضا قوله " لا أتقدم قبل الامام " وقوله " لو صمت السنة لأفطرته " يعنى يوم الشك قال
الخطيب وهذا تصريح منه بأنه كان لا يعتقد الصيام في ذلك وإنما كان ممسكا (فان قيل) فما الفائدة
في امساكه بلا نية للصوم لأنه لو ثبت كونه من رمضان لم يجزه (قلنا) فائدته تعظيم حرمة رمضان وكيف
يظن بابن عمر مخالفة السنة وهو المجتهد في اقتفاء آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء
422

بافعاله وطريقة ابن عمر في ذلك مشهورة محفوظة قال الخطيب وقد تأول المخالف قول ابن عمر
" لو صمت السنة لأفطرت يوم الشك " على أن معناه لم أصمه تطوعا وان تطوعت بجميع السنة قال ويحتمل
أن يكون يوم الشك في الصحو قال وهكذا قوله " صوموا مع الجماعة " المراد مع الصحو قال الخطيب
وهذا تأويل باطل لان المفهوم من هذا الكلام في اللغة والعرف أنه لا يصومه بحال وكذا المعروف
عندهم من يوم الشك إنما هو مع وجود السحاب لا مع الصحو مع أن ما تأوله على ابن عمر لو لم يكن
له وجه الا ما قاله لم يكن فيه حجة لثبوت السنن الراتبة الصريحة بالأسانيد الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
خلاف ما ادعى المخالف ولا يجوز تركها لفعل ابن عمر ولا غيره ثم روى باسناده عن ابن عباس
قال " ليس أحد من الناس الا يؤخذ من قوله ويترك غير النبي صلى الله عليه وسلم " قال الخطيب وقد
جعل المخالف العلة في تفسير الحديث المجمل الذي رواه ابن عمر مجرد فعله مع احتماله غير ما ذهب
إليه وكان يلزمه ترك رأيه والاخذ بحديث ابن عباس ثم ذكره باسناده عن ابن عباس قال " تمارى
الناس في رؤية هلال رمضان فقال بعضهم اليوم وقال بعضهم غدا فجاء اعرابي إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فذكر انه رآه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم تشهد ان لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قال نعم
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بلالا فنادى في الناس صوموا ثم قال صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان
غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا ولا تصوموا قبله يوما " قال الخطيب وهذا الحديث
أولي أن يأخذ به المخالف من حديث ابن عمر لما فيه من البيان الشافي باللفظ الواضح الذي لا يحتمل
423

التأويل ولان ابن عباس ساق السبب الذي خرج الكلام عليه قال الخطيب والمراء في رؤية
الهلال إنما يقع إذا كان في السماء غيم فلو كان الحكم ما ادعاه المخالف لأمر النبي صلى الله عليه وسلم
الناس بالصوم من غير شهادة الاعرابي على الرؤية قال الخطيب وقد روى عن عبد الله بن جراد
العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثا فيه كفاية عما سواه فذكره باسناده عنه ثم قال " أصبحنا
يوم الاثنين صياما وكان الشهر قد أغمي علينا فاتينا النبي صلى الله عليه وسلم فأصبناه مفطرا فقلنا
يا نبي الله صمنا اليوم فقال أفطروا الا أن يكون رجل يصوم هذا اليوم فليتم صومه لان أفطر يوما
من رمضان متماريا فيه أحب إلى من أن أصوم يوما من شعبان ليس منه " يعني ليس من رمضان
قال الخطيب وأما ما ذكره المخالف أنه حجة له من جهة الاستنباط وقوله إن معني " اقدروا له " ضيقوا
شعبان لصوم رمضان فهو خطأ واضح لان معناه قدروا شعبان ثلاثين ثم صوموا في الحادي
والثلاثين وقدرت الشئ وقدرته بتخفيف الدال وتشديدها بمعنى واحد باجماع أهل اللغة ومنه
قوله تعالى (فقدرنا فنعم القادرون) ثم روى الخطيب باسناده عن يحيى بن زكريا الفراء الامام المشهور
قال في قوله تعالى
(فقدرنا فنعم القادرون) ذكر عن علي وأبي عبد الرحمن السلمي انهما شددا وخففها
424

الأعمش وعاصم قال الفراء ولا يبعد أن يكون معناهما واحدا لان العرب قد تقول قدر عليه الموت
وقدر عليه الموت وقدر عليه رزقه وقدر عليه رزقه بالتخفيف والتشديد ثم روى الخطيب عن ابن
قتيبة التشديد والتخفيف ثم عن ابن عباس ومقاتل بن سليمان وكان أوحد وقته في التفسير ثم الفراء
ثم ثعلب انهم قالوا في تفسير قوله تعالى (فظن أن لن نقدر عليه) معناه أن لن نقدر عليه عقوبة
قال وكذلك قاله غيرهم من النحاة فهذا قول أئمة اللغة على أن في الحديث مالا يحتاج معه إلى غيره
في وضوح الحجة واسقاط الشبهة وهو قوله صلى الله عليه وسلم " فاقدروا له ثلاثين " أي فعدوا له
ثلاثين وهو بمعنى عدوا وكله راجع إلى معني قوله صلى الله عليه وسلم " فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " قال الخطيب
قال المخالف وليس في قوله صلى الله عليه وسلم " فاقدروا له " ما يدل على وجوب تقدير شعبان بثلاثين
إذا ليس تقديره بثلاثين أولي من تقديره بتسعة وعشرين لان كل واحد من العددين يكون قدرا
للشهر لقوله صلى الله عليه وسلم حين نزل من الغرفة وقد آلي شهرا فنزل لتسع وعشرين " ان الشهر
425

تسع وعشرون " وعن ابن مسعود " ما صمنا تسعا وعشرين أكثر مما صمنا ثلاثين " قال الخطيب ما أعظم
غفلة هذا الرجل ومن الذي نازعه في أن الشهر تارة يكون تسعا وعشرين وتارة يكون ثلاثين وأي
حجة له في ذلك وقوله ليس التقدير بثلاثين أولى من التقدير بتسع وعشرين باطل ومحال لان
النبي صلى الله عليه وسلم نص على تقديره في هذه الحالة بتمام العدد والكمال وهو قوله صلى الله عليه وسلم
" فاقدروا له ثلاثين " قال الله تعالى (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يكون لهم
الخيرة من أمرهم) قال الخطيب قال المخالف (فان قيل) لم كان حمله على تسع وعشرين أولى من حمله على
ثلاثين (قلنا) لوجوه (أحدها) انه تأويل ابن عمر الراوي وهو اعرف (والثاني) انه مشهور في كتاب الله تعالى
في غير موضع (الثالث) ان فيه احتياطا للصوم قال الخطيب (اما) تأويل ابن عمر فقد ذكرنا ما يفسده من
معارضة ابن عباس له بالرواية التي لا تحتمل تأويلا وذكرنا عن ابن عمر من الروايات ما يوجب تأويل فعله على
غير ما ذهب إليه المخالف وكذلك تفسير ما ادعاه من الآيات فلا حاجة إلى إعادته (وأما) قوله إن
فيه احتياطا فالاحتياط في اتباع السنن والاقتداء بها دون الاعتراض عليها بالآراء والحمل لها على
الأهواء ومنزلة من زاد في الشرع كمنزلة من نقص لا فرق بينهما قال الخطيب قال المخالف (فان قيل)
قد روى مسلم " فأقدروا له ثلاثين " من رواية ابن عمر (قلنا) هذا التفسير ليس بصريح لاحتمال رجوعه
426

إلى هلال شوال * قال الخطيب لا يجوز لاحد ان يزيل الكلام عن أصله الموضوع وظاهره المستعمل
المعروف ويعدل عن الحقيقة إلى المجاز الا بدليل وحقيقة قوله صلى الله عليه وسلم " فان غم عليكم فأقدروا
له ثلاثين " راجع إلى الغيم في ابتداء الصوم وفى انتهائه وقد بين النص ما اقتضاه ظاهر هذا اللفظ
وعمومته وحقيقته وهو قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته
فان حال بينكم وبينه غمامة أو ضبابة فأكملوا شعبان ثلاثين ولا تستقبلوا رمضان بصوم يوم من
شعبان " وعن ابن عباس أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم
427

عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا ولا تصوموا قبله بيوم " وفى رواية عنه " فان غم عليكم فأكملوا عدة
شعبان ثلاثين " عن أبي هريرة قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم
عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " رواه البخاري في صحيحه * قال الخطيب واستدل المخالف على أن قوله صلى الله
عليه وسلم " فان غم عليكم فأقدروا له " راجع إلى غم هلال شوال بحديث أبي هريرة الآخر " فان غم
عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا " قال الخطيب وليس في هذا أكثر من بيان حكم غم الهلال آخر الشهر
وانه يجب إكمال عدة الصوم ونحن قائلون به (فأما) بيان حكم غمه في أول رمضان فمستفاد من الأحاديث
السابقة وهو قوله صلى الله عليه وسلم " فان غم عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين " ثم صوموا وفى الرواية
الأخرى " فعدوا شعبان " وفى الأخرى " فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا " وحديث عائشة رضي الله عنها
" كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا غم عليه عد ثلاثين يوما ثم صام " قال الخطيب قال المخالف
هذه الألفاظ محمولة على ما إذا غم هلال رمضان فانا نعد شعبان تسعة وعشرين يوما ثم نصوم
ثلاثين يوما فان حال دون مطلع هلال شوال ليلة الحادي والثلاثين غيم عددنا حينئذ شعبان ثلاثين
ثم نعد رمضان ثلاثين ونصوم يوما آخر فيكون إحدى وثلاثين * قال الخطيب من خلت يداه من
الدليل وعدل عن نهج السبيل لجأ إلى مثل هذا التأويل ومع كونه إحدى العظائم والكبر وأعجب
428

ما وقف عليه أهل النظر فان صاحبه لم يسنده إلى أصل يرده إليه ولا أورد أمرا يحتمل أن يقفه عليه
ولو جاز تخصيص الحديث العام بغير دليل لبطلت دلالة الاخبار ولم يثبت حكم بظاهر وتعلق كل
مبطل بمثل هذه العلة ولئن ساغ للمخالف هذا التأويل الباطل ليسوغن لغلاة الرافضة الذين يسبقون
الناس في الفطر والصوم أن يتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته " ان المراد
تقدم الصيام للرؤية وتقدم الفطر للرؤية قال الخطيب ومخالفنا يعلم فساد هذا التأويل الذي قاله فيقال
له أسمعت هذا التأويل عن أحد فان زعمه فليأت بخبر واحد يتضمنه وأن واحدا من السلف كان إذا
غم عليه هلال شوال استأنف عدد شعبان فإن لم يجده في خبر ولا أثر وهيهات أن يجده فليعلم أن
ما تأوله خلاف الصواب فالحق أحق أن يتبع (فان قال) استخرجته بنظري (قلنا) الاستخراج لا يكون
إلا من أصل ولا سبيل لك إليه * قال الخطيب وزعم المخالف أن إجماع الصحابة في هذه المسألة على وفق مذهبه
وهذه دعوى منه ليس عليها برهان ولا يعجز كل من غلب هواه على شئ ء أن يدعي إجماع الصحابة عليه *
قال الخطيب وأنا أذكر هنا ما ثبت عند أهل النقل في ذلك عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم من العلماء
الخالفين (فأما) الرواية عن عمر بن الخطاب فرواها باسناده عن عبد الله بن عكيم انه كان يخطب الناس
كلما أقبل رمضان ويقول في خطبته الا ولا يتقدمن الشهر منكم أحد يقولها ثلاثا وفى رواية ان عمر كتب
إلى أمراء الأجناد المجندة " صوموا لرؤية الهلال وأفطروا لرؤيته فان غم عليكم فعدوا ثلاثين يوما ثم صوموا
429

وأفطروا " وبإسناده عن الإمام أحمد بن حنبل قال كان عثمان لا يجيز شهادة لواحد في رؤية الهلال على رمضان
فقلت له من ذكره قال ابن جريج عن عمرو ابن دينار قلت له من ذكره عن ابن جريج قال عبد الرزاق
وروح قال الخطيب فإذا لم يقبل عثمان شهادة الواحد فالغيم أولي أن لا يعتمده وعن مجالد عن الشعبي عن علي
أنه كان يخطب إذا حضر رمضان ويقول في خطبته " لا تقدموا الشهر إذا رأيتم الهلال فصوموا
وإذا رأيتموه فأفطروا فان غم عليكم فأكملوا العدة " وكأن يقول ذلك بعد صلاة الفجر وصلاة العصر
وعن مجالد عن الشعبي " ان عمر وعليا كانا ينهيان عن صوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان " قلت مجالد
ضعيف والله أعلم * قال الخطيب واحتج المخالف بخبر يروى عن علي أنه قال " أصوم يوما من شعبان
أحب إلى من أن أفطر يوما من رمضان " قال الخطيب ولا حجة فيه لان عليا كان لا يقبل شهادة العدل
430

الواحد في الصوم ثم روى باسناده عن علي انه كان يقبل شهادة رجلين لهلال رمضان ثم رأى على قبول
شهادة واحد ثم روى عن فاطمة بنت الحسين ان رجلا شهد عند على على رؤية هلال رمضان فصام
وقال " أصوم يوما من شعبان أحب إلى من أفطر يوما من رمضان " فصيام علي رضي الله عنه كان بشهادة
الرجل الواحد بعد أن كان لا يقبل شهادة الواحد فلما بلغه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في قبول الواحد
صار إليه * قال الخطيب ويدل على أن عليا كان لا يصوم الا للرؤية أو اكمال العدد لشعبان ما أخبرناه
أحمد وذكر اسناده إلى الوليد بن عتبة قال " صمنا على عهد علي رضي الله عنه ثمانية وعشرين يوما فأمرنا على
بقضاء يوم " قال الخطيب وكان شهر رمضان تلك السنة تسعة وعشرين يوما وشعبان تسعة وعشرين وغم
الهلال في آخر شعبان فأكمل على والناس العدد لشعبان ثلاثين وصاموا فرأوا الهلال عشية اليوم الثامن
والعشرين من الصوم ولو كان على يقول في الصوم كقول المخالف من اعتماد الغيم لم ير الناس الهلال بعد صوم ثمانية
وعشرين يوما (وأما) ابن مسعود فروى عنه الخطيب باسناده " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فان غم
عليكم فعدوا ثلاثين " وفى رواية عنه " لان أفطر يوما من رمضان ثم أقضيه أحب إلى من أن أزيد
431

فيه يوما ليس منه " وعن صلة قال " كنا عند عمار في اليوم الذي يشك فيه من رمضان فأتى بشاة فتنحى بعض القوم
فقال عمار من صام هذا اليوم فقد عصي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " وعن حذيفة " انه كان ينهى عن صوم اليوم
الذي يشك فيه من رمضان " وعن ابن عباس قال " لا تصلوا رمضان بشئ ولا تقدموه بيوم ولا يومين "
وعنه " من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى الله ورسوله " وعن أبي هريرة " إذا رأيتم الهلال فصوموا
وإذا رأيتموه فأفطروا فان أغمي عليكم فأكملوا العدة ثلاثين " قال الخطيب (وأما) ما رويناه عن معاوية
ابن صالح عن أبي مريم قال " سمعت أبا هريرة يقول " لان أتقدم في رمضان أحب إلى من أن أتأخر لأني
ان تقدمت لم يفتني " فرواية ضعيفه لا تحفظ إلا من هذا الوجه وأبو مريم مجهول فلا يعارض بروايته
ما نقله الحفاظ من أصحاب أبي هريرة عنه * قال الخطيب ومما تعلق به المخالف ما رواه يحيي بن أبي
إسحاق قال رأيت هلال الفطر اما عند الظهر أو قريبا منها فأفطر ناس فأتينا انسا فأخبرناه فقال " هذا
اليوم يكمل إلى أحد وثلاثين يوما لان الحكم بن أيوب ارسل إلى قبل صيام الناس انى صائم غدا فكرهت
الخلاف عليه فصمت وأنا متم يومي هذا إلى الليل " قال الخطيب قال المخالف ولا يتقدم أنس على
صوم الجماعة الا بصوم يوم الشك * قال الخطيب فيقال له قد قال أنس انه لم يصمه معتقدا وجوبه
وإنما تابع الحكم بن أيوب وكان هو الأمير على الامساك فيه ولعل الأمير عزم عليه
432

في ذلك فكره مخالفته والمحفوظ عن أنس أنه أفطر يوم الشك كذا روى عنه محمد بن سيرين
وحسبك به فهما وعقلا وصدقا وفضلا ومن ذلك عن عائشة " لان أصوم يوما من شعبان أحب لي من أن
أفطر يوما من رمضان " قال الخطيب أرادت عائشة صوم الشك إذا شهد برؤية الهلال عدل فيجب
صومه ولو كان قد شهد بباطل في نفس الامر وأرادت بقولها مخالفة من شرط لصوم رمضان شاهدين
والدليل على هذا ان مسروقا روى عنها النهى عن صوم يوم الشك ثم رواه الخطيب باسناده ومن ذلك
عن أسماء بنت أبي بكر انها كانت إذا غم الهلال تقدمته وصامت وتأمر بذلك قال الخطيب ليس في
هذا أكثر من تقدمها بالصوم ويحتمل أنه تطوع لا واجب وإذا احتمل ذلك لم يكن للمخالف فيه
حجة مع أن الحجة إنما هي في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله قال الخطيب ومما جاء عن التابعين
فيه ما رويناه فذكر باسناده عن عكرمة " من صام يوم الشك فقد عصي رسول الله صلى الله عليه وسلم "
وأمر رجلا أن يفطر بعد الظهر وعن القاسم بن محمد " لا تصم اليوم الذي تشك فيه إذا كان فيه سحاب
وفى رواية عنه " لا بأس بصومه الا أن يغم الهلال " وعن الشعبي انه سئل عن اليوم الذي يقول الناس
انه من رمضان قال " لا يصم الا مع الامام " وفى رواية عنه " لو صمت السنة كلها ما صمت يوم الشك " وعن
الضحاك بن قيس لو صمت السنة كلها ما صمت يوم الشك وعن إبراهيم قال ما من يوم أبغض إلى أن أصومه
من اليوم الذي يقال إنه من رمضان وعن إبراهيم وأبي وائل والشعبي والمسيب بن رافع انهم كانوا
433

يكرهون صوم اليوم الذي يقال إنه من رمضان وعن الحسن البصري قال لان أفطر يوما من رمضان
لا أتعمده أحب إلى من أن أصوم يوما من شعبان أصل به رمضان أتعمده وعن الحسن وابن سيرين
انهما كرها صوم يوم الشك قال الخطيب وذكر المخالف شبها من القياس ولم يختلف من اعتمد الآثار
من العلماء أن كل قياس ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص يخالفه فهو باطل ويحرم العمل به وقد
قال أبو حنيفة وهو إمام أهل العراق مع توسعه في القضاء بالقياس البول في المسجد
أحسن من بعض القياس وهذا صحيح وهو إذا قابل القياس نص يخالفه أو كان فاسدا لنقص أو معارضة
الفرع للأصل كقياس المخالف وجوب صوم يوم الشك على من نسي صلاة من صلوات يوم فهذا قياس
باطل لثبوت النص بخلافه ولان الصلاة لم تجب بالشك بل لأنا تيقنا شغل ذمته بكل صلاة وشككنا
434

في براءته منها والأصل بقاؤها بخلاف الصوم ولا طريق له إلى الصلاة المنسية الا بفعل الجميع وإنما
نظير مسألة يوم الشك ان يشك هل دخل وقت الصلاة أم لا فلا تلزمه الصلاة بالاتفاق بل لو صلى
شاكا فيه لم تصح صلاته قال المخالف وقياس آخر وهو القياس على ما إذا غم الهلال في آخر رمضان
فإنه يجب صوم ذلك اليوم قال الخطيب ليس بهذا المخالف من الغباوة ما ينتهي إلى هذه المقالة لكنه
ألزم نفسه أمرا ألجأه إليها وكيف استجاز أن يقول يوم الشك أحد طرفي الشهر مع أن هذا الوصف لا
يلزمه ولا يسلم له (فان قال) بنيته على أصل (قيل) له هو مخالف للنص فيجب اطراحه ويقال له أو قلت يوم
الشك أحد طرفي رمضان فأت بحجة على ذلك وهيهات السبيل إلى ذلك (وان قلت) الشك أحد طرفي
شعبان (قيل) أصبت ولا يجب صوم شعبان (ثم يقال) الأصل بقاء شعبان فلا يزول بالشك قال الخطيب
قال المخالف لا يمتنع ترك الأصل للاحتياط كما في مسألة من نسي صلاة من الخمس وكما لو شك ماسح
الخف في انقضاء مدته فلا يمسح ولو شكت المستحاضة في انقطاع الحيض تلزمها الصلاة قال الخطيب
(أما) مسألة الصلاة فسبق جوابها (وأما) ماسح الخف فشرط مسحه بقاء المدة فإذا شك فيها رجع إلى
الأصل وهو غسل الرجلين (واما) المستحاضة فسقطت عنها الصلاة بسبب الحيض فإذا شكت فيه رجعت إلى
الأصل ومقتضى هذا في مسألتنا أن لا يجب صوم يوم الشك لان الأصل بقاء شعبان هذا آخر كلام
الخطيب رحمه الله * قال المصنف رحمه الله تعالى *
435

{ويكره أن يصوم يوم الجمعة وحده فان وصله بيوم قبله أو بيوم بعده لم يكره لما روى
أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يصومن أحدكم يوم الجمعة الا أن
يصوم قبله أو يصوم بعده "} *
{الشرح} هذا الحديث رواه البخاري ومسلم وفى المسألة أحاديث أخر (من) ذلك حديث
محمد بن عباد قال " سألت جابرا أنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم يوم الجمعة قال نعم " رواه
البخاري ومسلم وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تخصوا ليلة الجمعة بقيام من بين
سائر الليالي ولا تخصوا يوم الجمعة بصيام من بين سائر الأيام الا أن يكون في صوم يصومه أحدكم "
رواه مسلم وعن جويرية بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه وسلم " دخل
عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال أصمت أمس قالت لا قال أتريدين ان تصومي غدا قالت لا قال فأفطري "
436

رواه البخاري وعن ابن مسعود قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم من غرة كل شهر ثلاثة
أيام وقل ما كان يفطر يوم الجمعة " رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وغيرهم قال الترمذي حديث
حسن قال أصحابنا يكره أفراد يوم الجمعة بالصوم فان وصله يصوم قبله أو بعده أو وافق عادة له بأن
نذر صوم يوم شفاء مريضه أو قدوم زيد أبدا فوافق الجمعة لم يكره لحديث أبي هريرة وغيره مما
سبق هذا الذي ذكرته من كراهة أفراد يوم الجمعة بالصوم هو الصحيح المشهور وبه قطع المصنف
والجمهور وقال القاضي أبو الطيب في المجرد روى المزني في الجامع الكبير عن الشافعي أنه قال لا أستحب
صوم يوم الجمعة لمن كان إذا صامه منعه من الصلاة ما لو كان مفطرا فعله هذا نقل القاضي وقال
صاحب الشامل وذكر في جامعه قال الشافعي ولا يبين لي ان أنهى عن صوم يوم الجمعة الا على
اختيار لمن كان إذا صامه منعه عن الصلاة التي لو كان مفطرا فعلها قال صاحب الشامل
وذكر الشيخ أبو حامد في التعليق انه يكره صومه مفردا قال وهذا خلاف ما نقله المزني قال وحمل
الشافعي الأحاديث الواردة في النهي على من كان الصوم يضعفه ويمنعه عن الطاعة هذا كلام صاحب
الشامل ونقل ابن المنذر عن الشافعي هذا الذي قاله صاحب الشامل مختصرا ولم يذكر عنه غيره
وقد قال صاحب البيان في كراهة أفراده بالصوم وجهان (المنصوص) الجواز ويحتج لظاهر
ما قاله الشافعي واختاره صاحب الشامل بحديث ابن مسعود السابق (ومن) قال بالمذهب المشهور
437

أجاب عنه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم الخميس فوصل الجمعة به وهذا لا كراهة فيه
بلا خلاف *
{فرع} قال الأصحاب وغيرهم الحكمة في كراهة إفراد يوم الجمعة بالصوم ان الدعاء فيه مستحب وهو
أرجي فهو يوم دعاء وذكر وعبادة من الغسل والتبكير إلى الصلاة وانتظارها واستماع الخطبة وإكثار
الذكر بعدها لقوله تعالي (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا
الله كثيرا) ويستحب فيه أيضا الاكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من
العبادات في يومها فاستحب له الفطر فيه ليكون أعون على هذه الطاعات وأدائها بنشاط وانشراح
والتذاذ بها من غير ملل ولا سآمة وهو نظير الحاج بعرفات فان الأولى له الفطر كما سبق لهذه الحكمة
(فان قيل) لو كان كذلك لم تزل الكراهة بصيام قبله أو بعده لبقاء المعنى الذي نهى بسببه
(فالجواب) انه يحصل له بفضيلة الصوم الذي قبله أو بعده ما يجبر ما قد يحصل من فتور أو تقصير
في وظائف يوم الجمعة بسبب صومه فهذا هو المعتمد في كراهة افراد يوم الجمعة بالصوم (وقيل) سببه
خوف المبالغة في تعظيمه بحيث يفتتن به كما افتتن قوم بالسبت وهذا باطل منتقض بصلاة الجمعة وسائر
ما شرع في يوم الجمعة مما ليس في غيره من التعظيم والشعائر (وقيل) سببه لئلا يعتقد وجوبه وهذا باطل
ومنتقض بيوم الاثنين فإنه يندب صومه ولا يلتفت إلى هذا الخيال البعيد وبيوم عرفة وعاشوراء وغير
ذلك فالصواب ما قدمناه والله أعلم *
{فرع} في مذاهب العلماء في افراد يوم الجمعة بالصوم * قد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا كراهته
وبه قال أبو هريرة والزهري وأبو يوسف واحمد واسحق وابن المنذر وقال ملك وأبو حنيفة ومحمد بن
الحسن لا يكره قال مالك في الموطأ لم أسمع أحدا من أهل العلم والفقه ومن يقتدى به ينهى عن صيام
يوم الجمعة قال وصامه قال وقد رأيت بعض أهل العلم يصومه وأراه كان يتحراه فهذا كلام مالك
438

وقد يحتج لهم بحديث ابن مسعود السابق * ودليلنا عليهم الأحاديث الصحيحة السابقة في النهي
وسبق الجواب عن حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم الخميس والجمعة
فلا يفرده (وأما) قول مالك في الموطأ أنه ما رأى من ينهي فيعارضه أن غيره رأى فالسنة مقدمة
على ما رآه هو وغيره وقد ثبتت الأحاديث بالنهي عن افراده فيتعين العمل بها لعدم المعارض
لها ومالك معذور فيها فإنها لم تبلغه قال الداوودي من أصحاب مالك لم يبلغ مالكا حديث النهي
ولو بلغه لم يخالفه *
{فرع} يكره افراد يوم السبت بالصوم فان صام قبله. أو بعده معه لم يكره صرح بكراهة افراده
أصحابنا منهم الدارمي والبغوي والرافعي وغيرهم لحديث عبد الله بن بسر بضم الباء الموحدة والسين
المهملة عن أخته الصماء رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا تصوموا يوم السبت
إلا فيما افترض عليكم فإن لم يجد أحدكم إلا لحاء عنبة أو عود شجرة فليمضغه " رواه أبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي وغيرهم وقال الترمذي هو حديث حسن قال ومعنى النهي
أن يختصه الرجل بالصيام لان اليهود يعظمونه وقال أبو داود هذا الحديث منسوخ وليس كما قال
وقال مالك هذا الحديث كذب وهذا القول لا يقبل فقد صححه الأئمة قال الحاكم أبو عبد الله هو
حديث صحيح على شرط البخاري قال وله معارض صحيح وهو حديث جويرة السابق في صوم يوم
الجمعة قال وله معارض آخر باسناد صحيح ثم روى باسناده عن كريب مولي ابن عباس " أن ابن
عباس وناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوه إلى أم سلمة يسألها أي الأيام كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم أكثر صياما لها قالت يوم السبت والأحد فرجعت إليهم فأخبرتهم فكأنهم
أنكروا ذلك فقاموا بأجمعهم إليها فقالوا إنا بعثنا إليك هذا في كذا وكذا فذكر انك قلت كذا
وكذا فقالت صدق ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت
439

ويوم الأحد وكأن يقول إنهما يوما عيد للمشركين وأنا أريد أن أخالفهم " هذا آخر كلام الحاكم وحديث
أم سلمة هذا رواه النسائي أيضا والبيهقي وغيرهما وعن عائشة رضي الله عنها قالت " كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يصوم من الشهر السبت والأحد والاثنين ومن الشهر الآخر الثلاثاء والأربعاء
والخميس " رواه الترمذي وقالت حديث حسن والصواب على الجلة ما قدمناه عن أصحابنا انه يكره
افراد السبت بالصيام إذا لم يوافق عادة له لحديث الصماء (وأما) قول أبى داود أنه منسوخ فغير مقبول
وأي دليل على نسخه (وأما) الأحاديث الباقية التي ذكرناها في صيام السبت فكلها واردة في صومه مع
الجمعة والأحد فلا مخالفة فيها لما قاله أصحابنا من كراهة افراد السبت وبهذا يجمع بين الأحاديث وقوله صلى الله عليه وسلم
في حديث الصماء لحاء عنبة هو بكسر اللام وبالحاء المهملة وبالمد وهو قشر الشجرة ويمضغه بفتح الضاد
وضمها لغتان
* قال المصنف رحمه الله *
{ولا يجوز صوم يوم الفطر ويوم النحر فان صام فيه لم يصح لما روى عمر رضي الله عنه " أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام هذين اليومين أما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم
وأما يوم ففطركم من صيامكم "} *
{الشرح} حديث عمر رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم من رواية عمر ورويا أيضا عن
أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " نهى عن صيام يومين يوم الفطر ويوم النحر "
ورويا معناه من رواية ابن عمر ورواه البخاري من رواية أبي هريرة ومسلم من رواية عائشة وأجمع
العلماء على تحريم صوم يومي العيدين الفطر والأضحى لهذه الأحاديث فان صام فيهما لم يصح صومه
وإن نذر صومهما لم ينعقد نذره ولا شئ عليه عندنا وعند العلماء كافة إلا أبا حنيفة فقال ينعقد نذره
ويلزمه صوم يوم غيرهما قال فان صامهما أجزأه مع أنه حرام ووافق على أنه يصح صومهما عن نذر
مطلق * دليلنا انه نذر صوما محرما فلم ينعقد كمن نذرت صوم أيام حيضها *
440

* قال المصنف رحمه الله * {ولا يجوز ان يصوم أيام التشريق صوما غير صوم التمتع فان صام لم يصح صومه لما روى
أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن صيام ستة أيام يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق
واليوم الذي يشك فيه انه من رمضان " وهل يجوز للمتمتع صومه فيه قولان (قال) في القديم
يجوز لما روى عن ابن عمر وعائشة انهما قالا " لم يرخص في أيام التشريق الا لمتمتع لم يجد
الهدى " (وقال) في الجديد لا يجوز لان كل يوم لا يجوز فيه صوم غير المتمتع لم يجز فيه صوم التمتع
كيوم العيد} *
{الشرح} حديث أبي هريرة هذا رواه البيهقي باسناد ضعيف على أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم " نهى عن صيام قبل رمضان بيوم والأضحى والفطر وأيام التشريق ثلاثة بعد يوم النحر "
هذا لفظه وضعف اسناده ويعني عنه حديث نبيشه بضم النون وفتح الباء الموحدة ثم ياء مثناة تحت
ساكنة ثم شين معجمة الصحابي رضي الله عنه قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام التشريق
أيام اكل وشرب وذكر الله تعالى " رواه مسلم وعن كعب بن مالك " أن النبي صلى الله عليه وسلم
بعثه وأنس من الحدثان أيام التشريق فنادى أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن وأيام التشريق أيام اكل
وشرب " رواه مسلم وعن عقبة بن عامر قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة ويوم النحر
وأيام التشريق عيدنا أهل الاسلام وهي أيام اكل وشرب " رواه أبو داود والترمذي والنسائي قال
441

الترمذي حديث حسن صحيح وعن عمرو بن العاص قال " هذه الأيام التي كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يأمرنا بافطارها وينهي عن صيامها قال مالك هي أيام التشريق " رواه أبو داود وغيره
باسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم (وأما) ما ذكره المصنف عن ابن عمر وعائشة في صوم المتمتع
فصحيح رواه البخاري في صحيحه ولفظه عن عائشة وابن عمر قالا " لم يرخص في أيام التشريق أن
يصمن إلا لمن لم يجد الهدى " وفى للبخاري عنهما قالا " الصيام لمن تمتع بالعمرة إلى الحج إلى
يوم عرفة فإن لم يجد هديا ولم يصم صام أيام منى " فالرواية الأولى مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم
لأنها بمنزلة قول الصحابي أمرنا بكذا ونهينا عن كذا ورخص لنا في كذا وكل هذا وشبهه مرفوع
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنزلة قوله قال صلى الله عليه وسلم كذا وقد سبق بيان هذا في
مقدمة هذا الشرح ثم في مواضع وأيام التشريق هي الثلاثة التي بعد النحر ويقال لها أيام منى لان
الحجاج يقيمون فيها بمني واليوم (الأول) منها يقال له يوم القر بفتح القاف لان الحجاج
يقرون فيه بمنى (والثاني) يوم النفر الأول لأنه يجوز النفر فيه لمن تعجل (والثالث) يوم النفر الثاني
وسميت أيام التشريق لان الحجاج يشرقون فيها لحوم الأضاحي والهدايا أي ينشرونها ويقددونها وأيام
442

التشريق هم الأيام المعدودات (اما) حكم المسألة ففي صوم أيام التشريق قولان مشهوران ذكرهما
المصنف بدليلهما (أحدهما) وهو الجديد لا يصح صومها لا لمتمتع ولا غيره هذا هو الأصح عند
الأصحاب (والثاني) وهو القديم يجوز للمتمتع العادم الهدى صومها عن الأيام الثلاثة الواجبة في الحج
فعلى هذا هل يجوز لغير المتمتع أن يصومها فيه وجهان مشهوران في طريقة الخراسانيين وذكرهما
جماعات من العراقيين منهم القاضي أبو الطيب في المجرد والبندنيجي والمحاملي في كتابيه المجموع
والتجريد وآخرون منهم (أصحهما) عند جميع الأصحاب لا يجوز وبه قطع المصنف وكثيرون
أو الأكثرون لعموم الأحاديث في منع صومها وإنما رخص للمتمتع (والثاني) يجوز قال المحاملي في
كتابيه وصاحب العدة هذا القائل بالجواز هو أبو إسحاق المروزي قال أصحابنا الذين حكوا هذا
الوجه إنما يجوز في هذه الأيام صوم له سبب من قضاء أو نذر أو كفارة أو تطوع له سبب (فاما)
تطوع لا سبب له فلا يجوز فيها بلا خلاف كذا نقل اتفاق الأصحاب عليه القاضي أبو الطيب والمحاملي
والسرخسي وصاحب بالعدة وآخرون وأكثر القائلين قالوا هو نظير الأوقات المنهى عن الصلاة
فيها فإنه يصلى فيها مالها سبب دون مالا سبب لها قال السرخسي مبني الخلاف على أن إباحتها
للمتمتع للحاجة أو لكونه سببا وفيه خلاف لأصحابنا من علل بالحاجة خصه بالتمتع فلم يجوزها لغيره
443

ومن علل بالسبب جوز صومها عن كل صوم له سبب دون مالا سبب له قال السرخسي وعلى هذا
الوجه لو نذر صومها بعينها فهو كنذر صوم يوم الشك وسبق بيانه هذا هو المشهور في المذهب ان
الوجه القائل بجواز الصوم في أيام التشريق لغير المتمتع مختص بصوم له سبب ولا يصح فيها مالا
سبب له بالاتفاق وقال إمام الحرمين اختلف أصحابنا في التفريع على القديم فقال بعضهم لا تقبل
هذه غير صوم التمتع لضرورة تختص به وقال آخرون انها كيوم الشك ثم ذكر متصلا به في يوم
الشك انه ان صامه بلا سبب فهو منهي عنه وفى صحته وجهان قد سبق بيان ذلك (واعلم) أن الأصح
عند الأصحاب هو القول الجديد أنها لا يصح فيها صوم أصلا لا للمتمتع ولا لغيره (والأرجح) في
444

الدليل صحتها للمتمتع وجوازها له لان الحديث في الترخيص له صحيح كما بيناه وهو صريح في
ذلك فلا عدول عنه (وأما) قول صاحب الشامل في كتاب الحج أنه حديث ضعيف فباطل مردود
لأنه رواه من جهة ضعيفة وضعفه بذلك السبب والحديث صحيح ثابت في صحيح البخاري
باسناده المتصل من غير الطريق الذي ذكره صاحب الشامل وإنما ذكرت كلام صاحب الشامل
لئلا يغتر به *
{فرع} في مذاهب العلماء في صوم أيام التشريق * قد ذكرنا مذهبنا فيها وأن الجديد انه لا يصح
فيها صوم (والقديم) صحته لمتمتع لم يجد الهدى وممن قال به من السلف العلماء بامتناع صومها للمتمتع
ولغيره علي بن أبي طالب وأبي حنيفة وداود وابن المنذر وهو أصح الروايتين عن أحمد وحكي ابن
المنذر جواز صومها للمتمتع وغيره عن الزبير بن العوام وابن عمر وابن سيرين وقال ابن عمر وعائشة
والأوزاعي ومالك واحمد واسحق في رواية عنه يجوز للمتمتع صومها *
* قال المصنف رحمه الله * {ولا يجوز ان يصوم في رمضان غير رمضان حاضرا كان أو مسافرا فان صام عن غيره لم يصح صومه
445

عن رمضان لأنه لم ينوه ولا يصح عما نوى لان الزمان مستحق لصوم رمضان فلا يصح فيه غيره} * {الشرح} هذه المسألة كما قالها المصنف وقد سبق بيانها مبسوطة في أوائل كتاب الصيام
في مسائل النية وذكرنا هناك وجها شاذا أنه يصح فيه صوم التطوع وذكرنا بعده خلاف أبي حنيفة *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ويستحب طلب ليلة القدر لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال " من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " ويطلب ذلك في ليالي الوتر من
العشر الأخير من شهر رمضان لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال " التمسوها في العشر الأخير في كل وتر " قال الشافعي رحمه الله والذي يشبه أن يكون ليلة إحدى
وعشرين وثلاث وعشرين والدليل عليه ما روى أبو سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" أريت هذه الليلة ثم أنسيها ورأيتني أسجد في صبيحتها في ماء وطين قال أبو سعيد فانصرف علينا
وعلى جبهته وانفه أثر الماء والطين في صبيحة يوم إحدى وعشرين " وروى عبد الله بن أنيس رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني اسجد في ماء وطين
فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين فصلي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن أثر الماء والطين على جبهته " قال
الشافعي ولا أحب ترك طلبها فيها كلها قال أصحابنا إذا قال لامرأته أنت طالق ليلة القدر فإن كان
في رمضان قبل مضى ليلة من ليالي العشر حكم بالطلاق من الليلة الأخيرة من الشهر وإن كان قد
مضت ليلة وقع الطلاق في السنة الثانية في مثل تلك الليلة التي قال فيها ذلك والمستحب أن يقول
446

فيها اللهم انك عفو تجب العفو فاعف عنى لما روى " ان عائشة رضي الله عنها قالت يا رسول الله أرأيت
ان وافقت ليلة القدر ماذا أقول قال تقولين اللهم انك عفو تحب العفو فاعف عنى "} * {الشرح} حديث أبي هريرة وأبي سعيد الأول وحديثه الثاني رواها كلها البخاري ومسلم
وحديث عبد الله بن أنيس رواه مسلم وهو أنيس بضم الهمزة وحديث عائشة رواه أحمد بن حنبل
والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون قال الترمذي هو حديث حسن صحيح وسيأتي فرع
مستقل في ذكر جملة من الأحاديث الصحيحة الواردة في ليلة القدر إن شاء الله تعالى ومعني
قيامها ايمانا أي تصديقا بأنها حق وطاعة واحتسابا أي طلبا لرضى الله تعالى وثوابه لا للرياء ونحوه
وسبق في مسألة صوم يوم عرفة بيان الذنوب التي تغفر وبيان الأحاديث الصحيحة في ذلك الواردة
فيه (أما) أحكام الفصل ففيه مسائل
(إحداها) ليلة القدر ليلة فاضلة قال الله تعالى (إنا أنزلناه في ليلة
القدر) إلى آخر السورة قال أصحابنا وغيرهم وهي أفضل ليالي السنة قالوا وقول الله تعالى (ليلة القدر
خير من الف شهر) معناه خير من الف شهر ليس فيها ليلة القدر قال أصحابنا لو قال لزوجته أنت
طالق في أفضل ليالي السنة طلقت ليلة القدر ويكون كمن قال أنت طالق ليلة القدر كما سنوضحه
إن شاء الله تعالى (الثانية) ليلة القدر مختصة بهذه الأمة زادها الله شرفا فلم تكن لمن قبلها وسميت
ليلة القدر أي ليلة الحكم والفصل هذا هو الصحيح المشهور قال الماوردي وابن الصباغ وآخرون
وقيل لعظم قدرها قال أصحابنا كلهم هي التي يفرق فيها كل أمر حكيم هذا هو الصواب وبه قال
447

جمهور العلماء وقال بعض المفسرين هي ليلة نصف شعبان وهذا خطأ لقوله تعلي (انا أنزلناه في ليلة مباركة
إنا كنا منذرين فيها يفرق كل امر حكيم) وقال تعالى (انا أنزلناه في ليلة القدر) فهذا بيان الآية
الأولى ومعناه انه يكتب للملائكة فيها ما يعمل في تلك السنة ويبين لهم ما يكون فيها من الأرزاق
والآجال وغير ذلك مما سيقع في تلك السنة ويأمرهم الله تعالى بفعل ما هو من وظيفتهم وكل ذلك
مما سبق علم الله تعالى به وتقديره له وهذا الذي ذكرناه أولا من كون ليلة القدر مختصة بهذه الأمة ولم
تكن لمن قبلها هو الصحيح المشهور الذي قطع به أصحابنا كلهم وجماهير العلماء وقال صاحب العدة
من أصحابنا اختلف الناس هل كانت ليلة القدر للأمم السالفة قال والأصح انها لم تكن إلا لهذه الأمة ثم
استدل بالحديث المشهور في سبب نزول السورة (الثالثة) ليلة القدر باقية إلى يوم القيامة ويستحب طلبها
والاجتهاد في ادراكها وقد سبق في آخر الباب الذي قبل هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان " يجتهد في
448

طلبها في العشر الأواخر من رمضان مالا يجتهد في غيره " وأنه " كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأخير
أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر " وهذان الحديثان في الصحيحين ومذهب الشافعي وجمهور أصحابنا
أنها منحصرة في العشر الأواخر من رمضان مبهمة علينا ولكنها في ليلة معينة في نفس الامر لا تنتقل عنها
ولا تزال في تلك الليلة إلى يوم القيامة وكل ليالي العشر الأواخر محتملة لها لكن ليالي الوتر أرجاها وأرجى
الوتر عند الشافعي ليلة الحادي والعشرين ومال الشافعي في موضع إلى ثلاثة وعشرين وقال البندنيجي
449

مذهب الشافعي أن أرجاها عنده ليلة إحدى وعشرين وقال في القديم ليلة إحدى وعشرين أو ثلاث
وعشرين فهما أرجي لياليها عنده وبعدهما ليلة سبع وعشرين هذا هو المشهور في المذهب أنها
منحصرة في العشر الأواخر من رمضان وقال إمامان جليلان من أصحابنا وهما المزني وصاحبه
أبو بكر محمد ابن إسحاق بن خزيمة أنها منتقلة في ليالي العشر تنتقل في بعض السنين إلى ليلة وفى
بعضها إلى غيرها جمعا بين الأحاديث وهذا هو الظاهر المختار لتعارض الأحاديث الصحيحة في
ذلك كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ولا طريق إلى الجمع بين الأحاديث إلا بانتقالها * قال المحاملي في
التجريد وصاحب التنبه وغيرهما تطلب في جميع شهر رمضان وحكاه الغزالي في الوجيز وجها
وادعى المحاملي أنه مذهب الشافعي فقال في كتابه التجريد مذهب الشافعي أن ليلة القدر تلتمس
في جميع شهر رمضان وآكده العشر الأواخر منه وآكد العشر ليالي الوتر هذا لفظه في التجريد
وسيأتي في الأحاديث ما يدل لها وما يدل لقول جمهور الأصحاب إن شاء الله تعالى قال أصحابنا وصفة
هذه الليلة وعلامتها انها ليلة طلقة لا حارة ولا باردة وان الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء ليس لها
كثير شعاع وفيها حديث بهذه الصفة سنذكره إن شاء الله تعالى (فان قيل) فأي فائدة لمعرفة صفتها
بعد فواتها فإنها تنقضي بمطلع الفجر (فالجواب) من وجهين (أحدهما) انه يستحب أن يكون اجتهاده في
450

يومها الذي بعدها كاجتهاده فيها كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى (والثاني) ان المشهور في المذهب
انها لا تنتقل فإذا عرفت ليلتها في سنة انتفع به في الاجتهاد فيها في السنة الآتية وما بعدها (الرابعة)
يسن الاكثار من الصلاة فيها والدعاء والاجتهاد في ذلك وغيره من العبادات فيها لقوله صلى الله
عليه وسلم " من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " ولحديث عائشة في الدعاء وهما
صحيحان سبق بيانهما ويستحب الدعاء فيها بما في حديث عائشة كما ذكره المصنف والأصحاب ويستحب
احياؤها بالعبادة إلى مطلع الفجر قال الله تعالى (سلام هي حتى مطلع الفجر) قال أصحابنا معناه انها
سلام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى قال الروياني في البحر
قال الشافعي في القديم من شهد العشاء والفجر ليلة القدر فقد اخذ بحظه منها قال الروياني قال
الشافعي في القديم استحب أن يكون اجتهاد في يومها كاجتهاده في ليلتها هذا نصه في القديم ولا يعرف له في
الجديد نص يخالفه وقد قدمنا في مقدمة الشرح ان ما نص عليه في القديم ولم يتعرض له في الجديد بما
يخالفه ولا بما يوافقه فهو مذهبه بلا خلاف والله أعلم (الخامسة) قال أصحابنا إذا قال لزوجته أنت طالق
ليلة القدر أو لعبده أنت حر ليلة القدر فان قاله قبل رمضان أو فيه قبل انقضاء ليلة الحادي
451

والعشرين من رمضان طلقت المرأة وعتق العبد في أول جزء من الليلة الأخيرة من الشهر لأنه قد مرت عليهما
ليلة القدر في إحدى ليالي العشر وإن قال ذلك بعد مضي ليالي العشر طلقت وعتق في السنة الثانية في أول جزء
من الليلة التي قبل تممه سواء كان قاله في الليل أو في النهار لأنه قد مرت بهما ليلة القدر هكذا تحقيق المسألة
وهكذا صرح بها المحققون (وأما) قول المصنف ومن وافقه طلقت في مثل تلك الليلة من السنة
الثانية ففيه تساهل لأنه يتأخر الطلاق ليلة عن محل وقوعه وكذا قول صاحب التتمة ومن وافقه أنه
إن قاله قبل مضي شئ من العشر الأواخر عتق وطلقت في آخر يوم هذا ليس بصحيح لأنه
لا يتوقف إلى آخر يوم بل يقع في أول جزء من الليلة الأخيرة ولأنه يصدق عليه أنه وقع في ليلة
القدر وقد قال أصحابنا لو قال أنت طالق يوم الجمعة أول ليلة الجمعة طلقت في أول جزء من ذلك
لوجود الاسم ومثل قول صاحب التتمة قول الرافعي طلقت بانقضاء ليالي العشر وهو تساهل أيضا
وصوابه أول جزء من الليلة الأخيرة هكذا نقل المصنف المسألة عن الأصحاب ووافقه الجمهور على
هذا التفصيل وهو تفريع منهم على المذهب المشهور ان ليلة القدر معينة في العشر الأواخر لا تنتقل بل
هي في ليلة بعينها كل سنة وقال القاضي أبو الطيب في المجرد وصاحب الشامل وغيرهما إن علق الطلاق
والعتق قبل مضى ليلة من العشر الأواخر من رمضان طلقت في أول الليلة الأخيرة من رمضان وعتق وان علقه
بعد مضى ليلة من العشر الأواخر لم يقع الطلاق والعتق الا في الليلة الأخيرة من رمضان في السنة الثانية وهذا
صحيح على القول بانتقالها لاحتمال أنها كانت في السنة الأولى في الليلة الماضية وتكون في السنة
الثانية في الليلة الأخيرة وكان القاضي أبا الطيب وموافقيه فرعوا على انتقالها مع أن المذهب
عندهم تعيينها ويحتمل أنهم قالوا ذلك مطلقا سواء قلنا تتعين أو تنتقل لأنه ليس على تعيينها دليل
قاطع فلا يقع الطلاق والعتق بالشك وهذا الاحتمال يحتمل في كلام غير صاحب الشامل (وأما)
452

هو فقال لا يقع الطلاق الا في آخر الشهر لجواز اختلافها ويمكن تأويل كلامه أيضا (وأما) الغزالي فقال
في الوسيط قال الشافعي لو قال لزوجته في منتصف رمضان أنت طالق ليلة القدر لم تطلق حتى
تمضي سنة لان الطلاق لا يقع بالشك قال الرافعي وغير لا نعرف اعتبار مضى سنة في هذه المسألة
الا في كتب الغزالي وقوله الطلاق لا يقع بالشك مسلم ولكنه يقع بالظن الغالب قال إمام
453

الحرمين رحمه الله في هذه المسألة الشافعي رحمه الله تعالى متردد في ليالي العشر ويميل إلى بعضها
ميلا لطيفا قال وانحصارها في العشر ثابت عنده بالظن القوى وان لم يكن مقطوعا قال والطلاق
يناط وقوعه بالمذاهب المظنونة هذا كلام الامام وهذا الذي نسبه الرافعي وموافقه إلى الغزالي
454

من الانفراد بما قاله ليس كما قالوه بل هو موافق لما قدمناه عن المحاملي وصاحب التنبيه انه يطلب ليلة القدر في جميع رمضان ولكن المذهب ما سبق عن الجمهور في مسألة الطلاق والعتق وهو تفريع على المذهب
في انحصارها في العشر الأواخر وتعينها في ليلة *
455

{فرع} ذكر الشافعي والأصحاب هنا تفسيرا مختصرا لسورة ليلة القدر ومن أحسنهم له ذكرا
القاضي أبو الطيب في المجرد قالوا قوله تعالى (إنا أنزلناه) أي القرآن فعاد الضمير إلى معلوم معهود قالوا
أنزل الله تعالى القرآن ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم أنزله من السماء
الدنيا على النبي صلى الله عليه وسلم نجوما آية وآيتين والآيات والسورة على ما علم
الله تعالى من المصالح والحكمة في ذلك قالوا وقوله تعالي (ليلة القدر خير من الف شهر) معناه العبادة فيها أفضل
من العبادة في الف شهر ليس فيها ليلة القدر قال القاضي أبو الطيب قال ابن عباس معناه العبادة فيها خير من
456

العبادة في الف شهر بصيام نهارها وقيام ليلها ليس فيها ليلة القدر وقوله تعالى (تنزل الملائكة
والروح) أي جبريل عليه السلام (باذن ربهم) أي بأمره (من كل أمر سلام) أي يسلمون على
المؤمنين قال ابن عباس يسلمون على كل مؤمن إلا مدمن خمر أو مصر على معصية أو كاهن أو مشاحن
فمن أصابه السلام غفر له ما تقدم وقوله تعالى (حتى مطلع الفجر) قال القاضي أبو الطيب وغيره معناه
أنها سلام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر *
457

{فرع} في مذاهب العلماء في مسائل في ليلة القدر وقد جمعها القاضي الإمام أبو الفضل
عياض السبتي المالكي في شرح صحيح مسلم فاستوعبها وأتقنها ومختصر ما حكاه أنه قال اجمع من
يعتد به من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أن ليلة القدر باقية دائمة إلى يوم القيامة للأحاديث
الصريحة الصحيحة في الامر بطلبها قال وشذ قوم فقالوا رفعت وكذا حكي أصحابنا هذا القول عن
قوم ولم يسمهم الجمهور وسماهم صاحب التتمة فقال هو قول الروافض وتعلقوا بقوله صلى الله عليه
وسلم " حين تلاحا رجلان فرفعت " وهو حديث صحيح كما سنوضحه في فرع الأحاديث إن شاء الله تعالى
وهذا القول الذي اخترعه هؤلاء الشاذون غلط ظاهر وغباوة بينة لان آخر الحديث يرد
عليهم لأنه صلى الله عليه وسلم قال " فرفعت وعسى أن تكون خيرا لكم التمسوها في السبع
والتسع " هكذا هو في أول صحيح البخاري وفيه التصريح بان المراد برفعها رفع علمه بعينها ذلك
458

الوقت ولو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها قال القاضي عياض وعلى مذهب الجماعة اختلفوا
في محلها فقيل هي منتقلة تكون في سنة في ليلة وفى سنة في ليلة أخرى وبهذا يجمع بين الأحاديث
ويقال كل حديث جاء بأحد أوقاتها فلا تعارض فيها قال ونحو هذا قول مالك والثوري وأحمد
وإسحق وأبى ثور وغيرهم قالوا وإنما تنتقل في العشر الأواخر من رمضان قال وقيل في كله وقيل
أنها معينة لا تنتقل ابدا بل هي ليلة معينة في جميع السنين لا تفارقها وعلى هذا قيل هي في السنة كلها
وهو قول ابن مسعود وأبي حنيفة وصاحبيه وقيل بل في كل رمضان خاصة وهو قول ابن عمر وجماعة وقيل بل في العشر الأواسط والأواخر وقيل في العشر الأواخر وقيل تختص باوتار العشر
الأواخر وقيل باشفاعها كما ثبت في حديث أبي سعيد الذي سنوضحه إن شاء الله تعالى وقيل بل في ثلاث وعشرين أو سبع وعشرين وهو قول ابن عباس وقيل تطلب في أول ليلة سبع عشرة
459

أو إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين وهو محكي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما وقيل ليلة ثلاث وعشرين وهو قول كثير من الصحابة وغيرهم وقيل ليلة أربع وعشرين وهو محكى
عن بلال وابن مسعود والحسن وقتادة رضي الله عنهم وقيل ليلة سبع وعشرين وهو قول جماعة من الصحابة
منهم أبى وابن عباس والحسن وقتادة رضي الله عنهم وقيل ليلة سبع عشرة وهو قول زيد ابن
أرقم وحكى عن ابن مسعود أيضا وقيل تسع عشرة وحكى عن علي وابن مسعود أيضا وحكي عن علي
أيضا قيل آخر ليلة من الشهر هذا آخر ما حكاه القاضي عياض رحمه الله وذكر غير القاضي
هذه الاختلافات مفرقة (وأما) قول صاحب الحاوي لا خلاف بين العلماء أن ليلة القدر في العشر
460

الأواخر من شهر رمضان فلا يقبل فان الخلاف في غيره مشهور ومذهب أبي حنيفة وغيره كما سبق
(وأما) قول صاحب الحلية إن أكثر العلماء قالوا إنها ليلة سبع وعشرين فمخالف لنقل الجمهور *
{فرع} اعلم أن ليلة القدر يراها من شاء الله تعالى من بني آدم كل سنة في رمضان كما
تظاهرت عليه الأحاديث وأخبار الصالحين بها ورؤيتهم لها أكثر من أن تحصر (وأما) قول
القاضي عياض عن المهلب بن أبي صفرة الفقيه المالكي لا تمكن رؤيتها حقيقة فغلط فاحش نبهت
عليه لئلا يغتر به *
{فرع} قال صاحب الحاوي يستحب لمن رأى ليلة القدر أن يكتمها ويدعو باخلاص ونية
وصحة يقين بما أحب من دين ودنيا ويكون أكثر دعائه للدين والآخرة *
{فرع} قال صاحب العدة قال القفال قوله صلى الله عليه وسلم " أريت هذه الليلة ثم أنسيتها "
461

ليس معناه انه رأى الملائكة والأنوار عيانا ثم أنسى في أول ليلة رأى ذلك لان مثل هذا قل
ما ينسى وإنما معناه انه قيل له ليلة القدر كذا وكذا ثم أنسى كيف قيل له *
{فرع} في بيان جملة من الأحاديث الواردة في ليلة القدر * عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال " من قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه البخاري ومسلم وعن
ابن عمر " ان رجالا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع
462

الأواخر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرى رؤيا كم قد تواطأت في السبع الأواخر فمن
كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر " رواه البخاري ومسلم وعن عائشة قالت " كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان ويقول تحروا ليلة القدر في العشر
الأواخر من رمضان " رواه البخاري ومسلم ولفظه للبخاري وفى رواية للبخاري " تحروا ليلة القدر
في الوتر من العشر الأواخر من رمضان " وعن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال " التمسوها
في العشر الأواخر من رمضان ليلة القدر في تاسعه تبقي في سابعه تبقى في خامسه تبقى " رواه البخاري
وعن عبادة بن الصامت قال " خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبر بليلة القدر فتلاحى رجلان من
463

المسلمين فقال خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت وعسى أن يكون خيرا لكم فالتمسوها
في التاسعة والسابعة والخامسة " رواه البخاري وقد سبق بيان أن معناه رفع بيان عينها لا رفع وجودها فإنه
لو رفع وجودها لم يأمر بطلبها قال العلماء ومعنى " عسى أن يكون خيرا لكم " أي لترغبوا في طلبها والاجتهاد
في كل الليالي وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أريت ليلة القدر ثم
أيقظني بعض أهلي فنسيتها في العشر الغوابر " رواه أمسلم الغوابر البواقي وعن أبي سعيد الخدري قال
" اعتكفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان فخرج صبيحة عشرين فخطبنا
464

وقال إني أريت ليلة القدر ثم أنسيتها أو نسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر في الوتر فاني رأيت
أنى أسجد في ماء وطين فمن كان اعتكف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فليرجع فرجعنا وما
نرى في السماء قزعة فجاءت سحابة فمطرت حتى سال سقف المسجد وكان من جريد النخل
وأقيمت الصلاة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد في الماء والطين حتى رأيت أثر الطين
في جبهته " رواه البخاري بلفظه ومسلم بمعناه وعن أبي سعيد أيضا " ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
اعتكف في العشر الأول من رمضان ثم اعتكف العشر الأوسط ثم كلم الناس فقال إني اعتكفت
العشر الأول التمس هذه الليلة ثم اعتكفت العشر الأوسط ثم أتيت فقيل لي إنها في العشر الأواخر
فمن أحب ان يعتكف فليعتكف فاعتكف الناس معه وقال إني أريتها ليلة وتر وأنى أسجد في
صبيحتها في ماء وطين فأصبح ليلة إحدى وعشرين وقد قام إلى الصبح فمطرت السماء فوكف
المسجد فأبصرت الطين والماء فخرج حين فرغ من صلاة الصبح وجبينه وروثة انفه فيها الطين
والماء وإذا هي ليلة إحدى وعشرين " رواه مسلم وعن عبد الله ابن أنيس ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال " أريت ليلة القدر ثم أنسيتها وأراني صبيحتها اسجد في ماء وطين فمطرنا ليلة ثلاث وعشرين
فصلي بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف واثر الماء والطين على جبهته وأنفه وكان عبد الله
ابن أنيس يقول ثلاث وعشرين " رواه مسلم وعن أبي عبد الله عبد الرحمن بن الصنائحي قال " خرجنا
من اليمن مهاجرين فقدمنا الجحفة ضحي فاقبل راكب فقلت له الخبر فقال دفنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم من خمس قلت ما سبقك الا بخمس هل سمعت في ليلة القدر شيئا قال اخبرني بلال مؤذن
465

رسول الله صلى الله عليه وسلم انها أول السبع من العشر الأواخر " رواه البخاري وعن أبي سعيد
الخدري قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة القدر ليلة أربع وعشرين " رواه أبو داود
الطيالسي في مسنده وقيل إنه جيد ولم أره وعن زر بن حبيش قال " سألت أبي بن كعب فقلت ان أخاك
ابن مسعود يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر فقال رحمه الله أراد ان لا يتكل الناس اما
466

انه قد علم أنها في رمضان وانها في العشر الأواخر وانها ليلة سبع وعشرين ثم حلف لا يستثني انها
ليلة سبع وعشرين فقلت باي شئ تقول ذلك يا أبا المنذر قال بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنها تطلع يومئذ لا شعاع لها " رواه مسلم وفى رواية لمسلم " والله انى لأعلم أي ليلة
هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين " وفى رواية
أبي داود باسناد صحيح قلت يا أبا المنذر أني علمت ذلك فقال بالآية التي أخبرنا رسول الله
467

صلى الله عليه وسلم قيل لزر ما الآية قال تصبح الشمس صبيحة تلك الليلة مثل الطست ليس لها
شعاع حتى ترتفع " وعن معاوية ابن أبي سفيان عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر قال " ليلة
سبع وعشرين " رواه أبو داود باسناد صحيح وعن موسي بن عقبة عن أبي إسحاق عن سعيد بن
جبير عن ابن عمر قال " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر فقال هي في
كل رمضان " رواه أبو داود هكذا باسناد صحيح وقال رواه سفيان وشعبه عن أبي إسحاق موقوفا
على ابن عمر لم يرفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا كلام أبو داود وهذا الحديث صحيح وقد سبق ان
468

الحديث إذا روى مرفوعا وموقوفا فالصحيح الحكم برفعه لأنها رواية ثقة وعن عيسى بن عبد الله
ابن أنيس الجهيني عن أبيه قال " قلت يا رسول الله ان لي بادية أكون فيها وانا أصلي بحمد الله فمرني
بليلة أنزلها إلى هذا المسجد فقال انزل ليلة ثلاث وعشرين فقيل لابنه كيف كان أبوك يصنع قال
كان يدخل المسجد إذا صلى العصر فلا يخرج منه لحاجته حتى يصلى الصبح فإذا صلي الصبح وجد دابته
على باب المسجد فجلس عليها فلحق بباديته " رواه أبو داود باسناد جيد ولم يضعفه وعن أبي سعيد
قال " اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم العشر الأوسط من رمضان يلتمس ليلة القدر قبل أن تبان له ثم
469

أبينت له انها في العشر الأواخر ثم خرج على الناس فقال يا أيها الناس انها كانت أبينت لي ليلة
القدر وانى خرجت لأخبركم فجاء رجلان يحتقان معهما الشيطان فنسيتها فالتمسوها في العشر الأواخر
التمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة قلت يا أبا سعيد انكم اعلم بالعدد منا قال اجل نحن أحق
470

بذلك منكم قلت ما التاسعة والسابعة والخامسة قال فإذا مضت واحدة وعشرون فالتي تليها ثنتان
وعشرون فهي التاسعة فإذا مضى ثلاث وعشرون فالتي تليها السابعة فإذا مضى خمس وعشرون
فالتي تليها الخامسة " رواه مسلم وعن ابن مسعود قال " قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم اطلبوها
في ليلة سبع عشرة من رمضان وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين ثم سكت " رواه أبو داود
471

ولم يضعفه واسناده صحيح الا رجلا واحدا وهو حكيم بن سيف الدقى فقال فيه أبو حاتم هو شيخ
صدوق يكتب حديثه ولا يحتج به ليس بالمتقن وعن مالك بن مرثد عن أبيه قال " قلت لأبي ذر
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر قال إنا كنت اسأل الناس عنها يعنى أشد الناس مسألة
عنها فقلت يا رسول الله اخبرني عن ليلة القدر أفي رمضان أو في غيره فقال لا بل في شهر رمضان
فقلت يا نبي الله أتكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا ورفعوا رفعت معهم أو هي إلى
يوم القيامة قال لا بل هي إلى يوم القيامة قلت فأخبرني في أي شهر رمضان هي قال التمسوها في العشر
472

الأواخر والعشر الأول ثم حدث نبي الله صلى الله عليه وسلم وحدث فاهتبلت غفلته فقلت يا نبي الله
اخبرني في أي عشر هي قال التمسوها في العشر الأواخر ولا تسألني عن شي ء بعد هذا ثم حدث
وحدث فاهتبلت غفلته فقلت يا رسول الله أقسمت عليك بحقي لتحدثني في أي العشر هي فغضب
على رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا ما غضب على مثله قبل ولا بعد ثم قال التمسوها في السبع
الأواخر ولا تسألني عن شئ بعد " رواه البيهقي باسناد ضعيف وعن أبي هريرة قال " تذاكرنا ليلة
القدر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أيكم يذكر حين طلع القمر وهو مثل شق جفنه " رواه
مسلم قال البيهقي قيل إن ذلك إنما يكون لثلاث وعشرين وعن جابر بن عبد الله قال " قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم اني رأيت ليلة القدر فأنسيتها وهي في العشر الأواخر من لياليها وهي ليلة طلقة بلجة
473

لا حارة ولا باردة كأن فيها قمر لا يخرج شيطانها حني يضئ فجرها " رواه أبو بكر بن أحمد بن
عمر بن أبي عاصم النبيل في كتابه *
* قال المصنف رحمه الله *
كتاب الاعتكاف
أصل الاعتكاف في اللغة اللبث والحبس والملازمة قال الشافعي في سنن حرمله الاعتكاف
لزوم المرء شيئا وحبس نفسه عليه برا كان أو اثما قال الله تعالى (ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون)
وقال تعالي (فاتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم) وقال تعالي في البر (ولا تباشروهن وأنتم
عاكفون في المساجد) وسمي الاعتكاف الشرعي اعتكافا لملازمة المسجد يقال عكف يعكف ويعكف
بضم الكاف وكسرها لغتان مشهورتان عكفا وعكوفا أي أقام على الشئ ولازمه وعكفته
أعكفه بكسر الكاف عكفا لا غير قالوا فلفظ عكف يكون لازما ومتعديا كما ذكرنا كرجع
ورجعته ونقص ونقصته ويسمى الاعتكاف جوارا ومنه حديث عائشة الذي سبق قريبا في
في أحاديث ليلة القدر عن صحيح البخاري وهو قولها وهو مجاور في المسجد والاعتكاف
في الشرع هو اللبث في المسجد من شخص مخصوص بنية *
474

* قال المصنف رحمه الله *
{الاعتكاف سنة لما روى أبي ابن كعب وعائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان " يعتكف العشر الأواخر من رمضان " وفى حديث عائشة " لم يزل يعتكف حتى مات " ويجب
بالنذر لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من نذر أن يطع الله فليطعه ومن
نذر أن يعصيه فلا يعصه "} *
{الشرح} حديث عائشة الأول رواه البخاري ومسلم بزيادته المذكورة وحديث أبي ابن
كعب رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بأسانيد صحيحة على شرط البخاري ومسلم أو مسلم فقط
وثبت مثله في الصحيحين من رواية ابن عمر وآخرين من الصحابة (وأما) حديث عائشة " من نذر ان
يطع الله " إلى آخره فرواه البخاري (أما) الحكم فالاعتكاف سنة بالاجماع ولا يجب إلا بالنذر بالاجماع
ويستحب الاكثار منه ويستحب ويتأكد استحبابه في العشر الأواخر من شهر رمضان للأحاديث
السابقة هنا وفى الباب قبله في ليلة القدر لرجائها قال الشافعي والأصحاب ومن أراد الاقتداء
بالنبي صلى الله عليه وسلم في اعتكاف العشر الأواخر من رمضان فينبغي أن يدخل المسجد قبل
غروب الشمس ليلة الحادي والعشرين منه لكيلا يفوته شئ منه ويخرج بعد غروب الشمس
ليلة العيد سواء تم الشهر أو نقص والأفضل أن يمكث ليلة العيد في المسجد حتى يصلى فيه صلاة
العيد أو يخرج منه إلى المصلي لصلاة العيد ان صلوها في المصلى *
* قال المصنف رحمه الله *
{ولا يصح إلا من مسلم عاقل طاهر فأما الكافر فلا يصح منه لأنه من فروع الايمان ولا يصح من الكافر
كالصوم وأما من زال عقله كالمجنون والمبرسم فلا يصح منه لأنه ليس من أهل العبادات فلا يصح منه الاعتكاف
475

كالكافر} *
{الشرح} شروط المعتكف ثلاثة (الاسلام) (والعقل) (والنقاء) عن الحدث الأكبر وهو الجنابة
والحيض والنفاس فلا يصح اعتكاف كافر أصلي ولا مرتد ولا اعتكاف زائل العقل بجنون أو
اغماء أو مرض أو سكر ولا مبرسم ولا صبي غير مميز لأنه لا نية لهم وشرط الاعتكاف النية ولا
يصح اعتكاف حائض ولا نفساء ولا جنب ابتداء لان مكثهم في المسجد معصية ولو طرأ الحيض
أو النفاس أو الردة أو الجنابة في أثناء الاعتكاف فسيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى في أثناء الباب
حيث ذكره المصنف ويصح اعتكاف الصبي المميز والمرأة المزوجة وغيرها والعبد القن والمدبر
والمكاتب والمستولدة كما يصح صيامهم لكن يحرم على المرأة والعبد الاعتكاف بغير اذن الزوج
والسيد فلو خالفا صح مع التحريم والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
{ولا يجوز للمرأة ان تعتكف بغير اذن الزوج لان استمتاعها ملك للزوج فلا يجوز ابطاله
عليه بغير اذنه ولا يجوز للعبد ان يعتكف بغير اذن مولاه لان منفعته للمولي فلا يجوز ابطالها
عليه بغير اذنه فان نذرت المرأة الاعتكاف باذن الزوج أو نذر العبد الاعتكاف بإذن مولاه
نظرت فإن كان غير متعلق بزمان بعينه لم يجز أن يدخل فيه بغير اذنه لان الاعتكاف ليس على
الفور وحق الزوج والمولي على الفور فقدم على الاعتكاف وإن كان النذر متعلقا بزمان بعينه
جاز ان يدخل فيه بغير اذنه لأنه تعين عليه فعله باذنه وان اعتكفت المرأة باذن زوجها أو العبد بإذن مولاه
نظرت فإن كان في تطوع جاز له ان يخرجه منه لأنه لا يلزمه بالدخول فجاز اخراجه منه وإن كان
في فرض متعلق بزمان بعينه لم يجز اخراجه منه لأنه تعين عليه فعله في وقته فلا يجوز اخراجه
منه وإن كان في فرض غير متعلق بزمان بعينه ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز اخراجه منه لأنه
وجب اذنه ودخل فيه باذنه فلم يجز اخراجه منه (والثاني) إن كان متتابعا لم يجز اخراجه منه
لأنه لا يجوز له الخروج فلا يجوز اخراجه منه كالمنذور في زمن بعينه وإن كان غير متتابع جاز
اخراجه منه لأنه يجوز له الخروج منه فجاز اخراجه منه كالتطوع (وأما) المكاتب فإنه
يجوز له ان يعتكف بغير اذن المولى لأنه لا حق للمولي في منفعته فجاز ان يعتكف بغير اذنه كالحر
ومن نصفه حر ونصفه عبد ينظر فيه فإن لم يكن بينه وبين المولي مهايأة فهو كالعبد وإن كان
476

بينهما مهايأة فهو في اليوم الذي هو للمولى كالعبد لان حق السيد متعلق بمنفعته وفى اليوم الذي
هو له كالمكاتب لان حق المولي يتعلق بمنفعته} *
{الشرح} في الفصل مسائل (إحداها) قد سبق انه يصح اعتكاف المرأة والعبد لكن لا يجوز
اعتكافهما بغير اذن الزوج والسيد لما ذكره المصنف فان اعتكفا بغير اذنهما كان لهما اخراجهما منه بلا
خلاف وان نذرا الاعتكاف باذن الزوج والمولى فإن كان متعلقا بزمان معين جاز لهما الدخول فيه
بلا اذن لان الاذن في النذر المعين اذن في الدخول فيه وإن كان غير متعلق بزمان معين لم يجز
دخولهما فيه بغير اذن لما ذكر المصنف (الثانية) إذا دخلت المرأة أو العبد في الاعتكاف فإن كان
الاعتكاف تطوعا اذن الزوج والمولي فيه أو لم يأذنا جاز لهما اخراجهما منه بلا خلاف عندنا * وقال
مالك لا يجوز ان اذنا فيه * وقال أبو حنيفة يجوز للسيد دون الزوج * دليلنا ما ذكره المصنف وان دخلا
في اعتكاف منذور فان نذراه بغير اذن الزوج والسيد فلهما المنع من الشروع فيه فان شرعا فلهما
اخراجهما منه فان اذنا في الشروع وكان الزمان متعينا أو غير متعين ولكن شرطا التتابع فيه لم
يجز لهما إخراجهما لان المتعين لا يجوز تأخيره والمتتابع لا يجوز الخروج منه لأنه يتضمن ابطاله ولا
يجوز إبطال العبادة الواجبة بعد الدخول فيها بلا عذر وان اذنا في الشروع والزمان غير متعين
ولا شرطا التتابع فلهما اخراجهما منه على أصح الوجهين وبه قطع المتولي وقد ذكر المصنف دليلهما
477

هذا كله إذا نذرا بغير اذن الزوج والسيد فان نذرا باذنهما فقد سبق انه ان تعلق بزمن معين
فلهما الشروع فيه بغير اذن والا فلا وإذا شرعا فيه بلا إذن لم يجز للزوج والسيد الاخراج منه هكذا
ذكر المسألة بفروعها أصحابنا العراقيون وهي مفرعة على أن النذر المطلق إذا شرع فيه لزمه اتمامه
وفيه خلاف سبق في آخر كتاب الصيام وفى آخر باب مواقيت الصلاة وسواء في كل هذا العبد
المدبر والقن وأم الولد والأمة القنة (الثالثة) المكاتب له الاعتكاف بغير اذن سيده على الصحيح وبه قطع
المصنف والجمهور وفيه وجه حكاه الخراسانيون انه لا يجوز الا باذن سيده لأنه قد يعجز نفسه فتعود منافعه
وكسبه لسيده وهو مذهب أبي حنيفة (وأما) من بعضه رقيق وبعضه حر فإن لم يكن بينه وبين مولاه
مهايأة فهو كالعبد القن وإن كان مهايأة فهو في نوبة نفسه كالحر وفى نوبة سيده كالعبد القن
والمهايأة بالهمز في آخرها وهي المناوبة وقول المصنف لأنه لا يلزم بالدخول احتراز من الحج
والعمرة إذا اذن الزوج والسيد فيهما فلا يجوز لهما الاخراج منهما لأنهما يلزمان بالشروع وكذا الجمعة
في حقهما في أحد الوجهين *
{فرع} لو نذر العبد اعتكافا في زمن معين باذن سيده فباعه قال المتولي ليس للمشترى منعه
من الاعتكاف لأنه صار مستحقا قبل ملكه لكن ان جهل ذلك فله الخيار في فسخ البيع *
* قال المصنف رحمه الله *
{ولا يصح الاعتكاف من الرجل الا في المسجد لقوله تعالي (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في
المساجد) فدل على أنه لا يجوز الا في المسجد ولا يصح من المرأة الا في المسجد لان من صح اعتكافه في
478

المسجد لم يصح اعتكافه في غيره كالرجل والأفضل ان يعتكف في المسجد الجامع لان رسول الله صلى الله عليه وسلم
اعتكف في المسجد الجامع ولان الجماعة في صلواته أكثر ولأنه يخرج من الخلاف فان الزهري قال لا يجوز في
غيره وان نذر ان يعتكف في مسجد غير المساجد الثلاثة وهي المسجد الحرام ومسجد المدينة
والمسجد الأقصى جاز ان يعتكف في غيره لأنه لا مزية لبعضها على بعض فلم تتعين وان نذر أن
يعتكف من المسجد الحرام لزمه ان يعتكف فيه لما روى أن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله
صلى الله عليه وسلم " انى نذرت ان اعتكف ليلة في المسجد الحرام قال أوف بنذرك " ولأنه أفضل من سائر
المساجد فلا يجوز ان يسقط فرضه بما دونه وان نذر ان يعتكف في مسجد المدينة أو المسجد
الأقصى ففيه قولان (أحدهما) يلزمه ان يعتكف فيه لأنه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه
فتعين بالنذر كالمسجد الحرام (والثاني) لا يتعين لأنه مسجد لا يجب قصده بالشرع فلم يتعين بالنذر
كسائر المساجد} *
479

{الشرح} حديث عمر رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم وسمى الجامع لجمعه الناس واجتماعهم
فيه والزهري أبو بكر بن محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن
زهرة بن كلاب بن مرة القرشي الزهري المدني التابعي الامام في فنون وقد ينكر على المصنف
استدلاله بحديث عمر فإنه نذر في الجاهلية وقد تقرر ان النذر الجاري في الكفر لا ينعقد على
الصحيح * وفى الفصل مسائل (أحدها) لا يصح الاعتكاف من الرجل ولا من المرأة الا في المسجد
ولا يصح في مسجد بيت المرأة ولا مسجد بيت الرجل وهو المعتزل المهيأ للصلاة * هذا هو المذهب
وبه قطع المصنف والجمهور من العراقيين وحكي الخراسانيون وبعض العراقيين فيه قولين (أصحهما)
وهو الجديد هذا (والثاني) وهو القديم يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها وقد أنكر
القاضي أبو الطبيب في تعليقه وجماعة هذا القول وقالوا لا يصح في مسجد بيتها قولا واحدا
وغلطوا من نقل فيه قولين وحكي جماعات من الخراسانيين إنا إذا قلنا بالقديم أنه يصح اعتكافها
في مسجد بيتها ففي صحة اعتكاف الرجل في مسجد بيته وجهان (أصحهما) لا يصح قال أصحابنا
فإذا قلنا بالجديد فكل امرأة كره خروجها إلى الجماعة كره خروجها للاعتكاف ومن لا فلا (الثانية) يصح
الاعتكاف في كل مسجد والجامع أفضل لما ذكره المصنف قال الشيخ أبو حامد والأصحاب وأومأ الشافعي
في القديم إلى اشتراط الجامع وهو غريب ضعيف والصواب جوازه في كل مسجد قال أصحابنا ويصح
الاعتكاف في سطح المسجد ورحبته بلا خلاف لأنهما منه (الثالثة) إذا نذر الاعتكاف في مسجد
480

بعينه فإن كان غير المساجد الثلاثة وهي المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى لم يتعين
على المذهب وبه قطع المصنف والجماهير وقال ابن سريج والبندنيجي وآخرون في تعيينه قولان
وقال إمام الحرمين والمتولي وآخرون من الخراسانيين في تعينه وجهان (أصحهما) عند جمهورهم
لا يتعين للاعتكاف كما لا يتعين للصلاة لو نذرها فيه (والثاني) يتعين قال إمام الحرمين وهو ظاهر
النص لان الاعتكاف حقيقة الانكفاف في سائر الأماكن والتقلب كما أن الصوم انكفاف عن أشياء
في زمن مخصوص فنسبة الاعتكاف إلى المكان كنسبة الصوم إلى الزمان ولو عين الناذر يوما
لصومه تعين على الصحيح فليتعين المسجد بالتعين أيضا هذا كلام الامام والمذهب أنه لا يتعين للاعتكاف
مسجد غير الثلاثة قال أصحابنا إلا أنه يستحب الاعتكاف فيما عينه وفرق الأصحاب بينه وبين
الصوم على المذهب فيهما بأن النذر مردود إلى أصل الشرع وقد وجب الصوم بالشرع في زمن
بعينه لا يجوز فيه غيره في غير النذر وهو صوم رمضان كذا في النذر (وأما) الاعتكاف فلم يجب
منه شئ بأصل الشرع في موضع بعينه فصار كالصلاة المنذورة في مسجد بعينه فإنه لا يتعين لها
ذلك المسجد فالحاصل انه إذا عين في نذره غير المساجد الثلاثة للصلاة لا يتعين وإن عينه للاعتكاف
لم يتعين أيضا على المذهب وان عين يوما للصوم تعين على المذهب (اما) إذا نذر الاعتكاف في المسجد
الحرام فيتعين على المذهب وبه قطع المصنف والجمهور وذكر امام الحرمين وجماعات من الخراسانيين
في تعينه طريقين (أصحهما) يتعين (والثاني) على قولين (أصحهما) يتعين (والثاني) لا وان عين مسجد
481

النبي صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى فقولان مشهوران (أصحهما) يتعين (والثاني) لا ودليل
الجميع في الكتاب قال أصحابنا وإذا قلنا بالتعين فان عين المسجد الحرام لم يقم غيره مقامه قطعا
وان عين مسجد المدينة لم يقم مقامه الا المسجد الحرام لأنه أفضل منه ولا يلتحق بهما غيرهما في
الفضيلة وان عين المسجد الأقصى لم يقم مقامه الا المسجد الحرام ومسجد المدينة لأنهما أفضل وإذا قلنا
بعدم التعين فليس له الخروج بعد الشروع لينتقل إلى مسجد آخر لكن لو كان ينتقل في خروجه
لقضاء الحاجة إلى مسجد آخر على مثل تلك المسافة فوجهان حكاهما امام الحرمين وآخرون (أصحهما)
جوازه وبه قطع المتولي وغيره فإن كان الثاني أطول بطل الاعتكاف *
{فرع} لو عين زمن الاعتكاف في نذره ففي تعينه وجهان (الصحيح) المشهور وبه قطع الجمهور
يتعين ولا يجوز التقديم عليه ولا التأخير فان قدمه لم يجزه وان أخره اثم وأجزأه وكان قضاء (والثاني) لا يتعين
كما لا يتعين في الصلاة قالوا ويجرى الوجهان في تعين زمن الصوم والله أعلم *
482

{فرع} في مذاهب العلماء في مسجد الاعتكاف * قد ذكرنا أن مذهبنا اشتراط المسجد لصحة
الاعتكاف وأنه يصح في كل مسجد وبه قال مالك وداود وحكى ابن المذر عن سعيد ابن المسيب
أنه قال إنه لا يصح إلا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وما أظن أن هذا يصح عنه وحكي هو وغيره عن
حذيفة ابن اليمان الصحابي أنه لا يصح إلا في المساجد الثلاثة المسجد الحرام ومسجد المدينة والأقصى
وقال الزهري والحكم وحماد لا يصح إلا في الجامع * وقال أبو حنيفة وأحمد واسحق وأبو ثور يصح
في كل مسجد يصلى فيه الصلوات كلها وتقام فيه الجماعة * واحتج لهم بحديث عن جوبير عن الضحاك
عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح "
رواه الدارقطني وقال الضحاك لم يسمع من حذيفة قلت وجويبر ضعيف باتفاق أهل الحديث
فهذا الحديث مرسل ضعيف فلا يحتج به * واحتج أصحابنا بقوله تعالي (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون
في المساجد) ووجه الدلالة من الآية لاشتراط المسجد أنه لو صح الاعتكاف في غير المسجد لم يخص
تحريم المباشرة بالاعتكاف في المسجد لأنها منافية للاعتكاف فعلم أن المعنى بيان أن الاعتكاف
إنما يكون في المساجد وإذا ثبت جوازه في المساجد صح في كل مسجد ولا يقبل تخصيص من خصه ببعضها
الا بدليل ولم يصح في التخصيص شئ ء صريح *
483

{فرع} في مذاهبهم في اعتكاف المرأة في مسجد بيتها * قد ذكرنا أنه لا يصح عندنا على
الصحيح وبه قال ملك وأحمد وداود * وقال أبو حنيفة يصح *
* قال المصنف رحمه الله *
{والأفضل ان يعتكف بصوم " لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في شهر رمضان "
فان اعتكف بغير صوم جاز لحديث عمر رضي الله عنه " انى نذرت ان اعتكف ليلة في الجاهلية
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك " ولو كان الصوم شرطا لم يصح بالليل وحده وان نذر أن يعتكف
يوما بصوم فاعتكف بغير صوم ففيه وجهان قال أبو علي الطبري يجزئه الاعتكاف عن النذر وعليه
أن يصوم يوما لأنهما عبادتان تنفرد كل واحدة منهما عن الأخرى فلم يلزم بينهما بالنذر
كالصوم والصلاة وقال عامة أصحابنا لا يجزئه وهو المنصوص في الام لأن الصوم صفة مقصودة
484

في الاعتكاف فلزم بالنذر كالتتابع ويخالف الصوم والصلاة لان أحدهما ليس صفة مقصودة
في الآخر} *
{الشرح} أما اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان فصحيح ثابت في الصحيحين
من رواية ابن عمر وعائشة وأبي سعيد الخدري وصفية أم المؤمنين وغيرهم من الصحابة رضي الله عنه
م (وأما) حديث عمر فرواه البخاري ومسلم كما سبق وفى رواية للبخاري " أوف بنذرك اعتكف
ليلة " وفى رواية لمسلم " قال يا رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن اعتكف يوما قال اذهب فاعتكف
يوما " (أما) الأحكام فقال الشافعي والأصحاب الأفضل أن يعتكف صائما ويجوز بغير صوم وبالليل
وفى الأيام التي لا تقبل الصوم وهي العيد والتشريق * هذا هو المذهب وبه قطع الجماهير في جميع
الطرق وحكي الشيخ أبو محمد الجويني وولده امام الحرمين وآخرون قولا قديما أن الصوم شرط
فلا يصح الاعتكاف في يوم العيد والتشريق ولا في الليل المجرد قال امام الحرمين قال الأئمة إذا قلنا
بالقديم لم يصح الاعتكاف بالليل لا تبعا ولا منفردا ولا يشترط الاتيان بصوم من أجل الاعتكاف
بل يصح الاعتكاف في رمضان وإن كان صومه مستحقا شرعا مقصودا والمذهب أن الصوم ليس
بشرط وسنبسط أدلته إن شاء الله تعالى في فرع مذاهب العلماء فإذا قلنا بالمذهب فنذر أن
يعتكف يوما هو فيه صائم أو أياما هو فيها صائم لزمه الاعتكاف بصوم بلا خلاف وليس له افراد
الصوم عن الاعتكاف ولا عكسه بلا خلاف صرح به المتولي والبغوي والرافعي وآخرون قالوا
ولو اعتكف هذا الناذر في رمضان أجزأه لأنه لم يلتزم بهذا النذر صوما وإنما نذر الاعتكاف بصفة
وقد وجدت قال المتولي وكذا لو اعتكف في غير رمضان صائما عن قضاء أو عن نذر أو عن
كفارة أجزأه لوجود الصفة (أما) إذا نذر ان يعتكف صائما أو يعتكف بصوم فإنه يلزمه
الاعتكاف والصوم وهل يلزمه الجمع بينهما فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف بدليلهما وهما مشهوران (أحدهما) لا يلزمه بل له افرادهما قاله أبو علي الطبري (وأصحهما) يلزمه وهو قول
485

جمهور أصحابنا المتقدمين وهو المنصوص في الام كما ذكره المصنف وهو الصحيح عند المصنفين فعلى
هذا لو شرع في الاعتكاف صائما ثم أفطر لزمه أن يستأنف الصوم والاعتكاف وعلى الأول
يكفيه استئناف الاعتكاف ولو نذر اعتكاف أيام وليال متتابعة صائما فجامع ليلا ففيه هذان
الوجهان (أصحهما) يستأنفهما (والثاني) يستأنف الصوم دون الاعتكاف لأن الصوم لم يفسد ولو
اعتكف في رمضان أجزأه على وجه أبى على الطبري عن الاعتكاف وعليه أن يصوم ولا يجزئه
على الصحيح المنصوص بل يلزمه استئنافهما ولو نذر أن يصوم معتكفا فطريقان (أحدهما) وبه
قال الشيخ أبو محمد الجويني لا يلزمه الجمع بينهما بل له تفريقهما وجها واحدا لان الاعتكاف لا يصلح
وصفا للصوم بخلاف عكسه فان الصوم من مندوبات الاعتكاف (وأصحهما) وبه قال الأكثرون
فيه الوجهان السابقان كعكسه (أصحهما) وبه قال الجمهور لزوم الجمع قال إمام الحرمين لا أرى لما قاله
أبو محمد وجها بل يجرى الوجهان سواء نذر الصوم معتكفا أو الاعتكاف صائما ولو نذر ان
يصلي معتكفا أو يعتكف مصليا لزمه الاعتكاف والصلاة وفى لزوم الجمع بينهما طريقان حكاهما
المتولي والبغوي وآخرون (أحدهما) أنه على الوجهين فيمن نذر الاعتكاف صائما (وأصحهما) وبه قطع امام
الحرمين وغيره من المحققين لا يجب الجمع بينهما بل له التفريق وجها واحدا والفرق ان الصوم والاعتكاف
متقاربان في أن كلا منهما كف بخلاف الصلاة فإنها أفعال مباشرة لا تناسب الاعتكاف فلم
يشترط جمعهما فإن لم يوجب الجمع بين الاعتكاف والصلاة فالذي يلزمه من الصلاة هو الذي يلزمه
لو أفرد الصلاة بالنذر وهي ركعتان في أصح القولين وركعة في الآخر وان أوجبنا الجمع لزمه ذلك
القدر في يوم اعتكافه ولا يلزمه استيعاب اليوم بالصلاة فان نذر اعتكاف أيام مصليا لزمه
ركعتان لكل يوم على الأصح أو ركعة في القول الآخر ولا يلزمه أكثر من ذلك هكذا جزم به
البغوي وغيره قال الرافعي ولك ان تقول ظاهر اللفظ يقتضي الاستيعاب فان تركنا الظاهر فلماذا
يعتبر تكرير القدر الواجب من الصلاة كل يوم وهلا اكتفى به مرة واحدة عن جميع الأيام
ولو نذر ان يصوم مصليا لزمه الصوم والصلاة ولا يلزمه الجمع بينهما بالاتفاق وقد صرح به المصنف في قياسه
ووافقه الأصحاب ولو نذر القران بين الحج والعمرة فله تفريقهما وهو أفضل هذا هو الصواب
المعروف وأشار إمام الحرمين هنا في قياسه إلى وجوب جمعهما فإنه قال في توجيه أصح الوجهين فيمن
نذر الاعتكاف صائما انه يلزمه الجمع كما لو نذر ان يقرن بين الحج والعمرة وهذا الذي قاله
486

شاذ مردود بل غلط لا يعد خلافا والمسألة مشهورة بجواز التفريق وسنزيدها إيضاحا في كتاب النذر
إن شاء الله تعالى ولو نذر ان يصلي صلاة يقرأ فيها سورة معينة لزمه الصلاة وقراءة السورة وفى لزوم
الجمع بينهما وجواز التفريق الوجهان السابقان فيمن نذر الاعتكاف صائما قاله القفال وتابعه امام
الحرمين وآخرون وهو ظاهر *
{فرع} لو نذر ان يعتكف شهر رمضان ففاته لزمه اعتكاف شهر آخر ولا يلزمه الصوم
بلا خلاف صرح به أصحابنا منهم الصيدلاني لأنه لم يلتزم الصوم وإنما كان يحصل الصوم لو
اعتكف في رمضان اتفافا *
{فرع} في مذاهب العلماء في الصوم في الاعتكاف * قد ذكرنا أن مذهبنا انه مستحب
وليس شرطا لصحة الاعتكاف على الصحيح عندنا وبهذا قال الحسن البصري وأبو ثور وداود
وابن المنذر وهو أصح الروايتين عن أحمد قال ابن المنذر وهو مروى عن علي بن أبي طالب وابن
مسعود وقال ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير والزهري ومالك والأوزاعي والثوري
وأبو حنيفة واحمد وإسحق في رواية عنهما لا يصح الا بصوم قال القاضي عياض وهو قول جمهور
العلماء * واحتج لهؤلاء بان النبي صلى الله عليه وسلم " اعتكف هو وأصحابه رضي الله عنهم صياما في
رمضان " وبحديث سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا اعتكاف الا بصيام " رواه الدارقطني وقال تفرد به سويد عن
سفيان بن حسين قلت وسويد بن عبد العزيز ضعيف باتفاق المحدثين وعن عبد الله بن بديل عن
عمرو بن دينار عن ابن عمر عن عمر " أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن اعتكاف عليه فأمره
أن يعتكف ويصوم " رواه أبو داود والدارقطني وقال تفرد به ابن بديل وهو ضعيف وفي رواة
قال " اعتكف وصم " قال الدارقطني سمعت أبا بكر النيسابوري يقول هذا حديث منكر واحتج
أصحابنا بحديث عائشة " أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من شوال " رواه مسلم
بهذا اللفظ ورواه البخاري " وقال عشرة من شوال " والمراد به الأول كما في رواية مسلم وهذا يتناول
اعتكاف يوم العيد ويلزم من صحته أن الصوم ليس بشرط وبحديث عمر رضي الله عنه " انه نذر
487

أن يعتكف ليلة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك " رواه البخاري ومسلم وفي رواية
للبخاري " أوف بنذرك اعتكف ليلة " وفى رواية لمسلم " إني نذرت أن أعتكف يوما فقال اذهب
فاعتكف يوما " وهذا لا يخالف رواية البخاري ولا الرواية المشهورة لأنه يحتمل انه سأله عن
اعتكاف ليلة وسأله عن اعتكاف يوم فأمره بالوفاء بما نذر فيحصل منه صحة اعتكاف الليلة
وحدها ويؤيد هذا رواية نافع عن ابن عمر ان عمر " نذر ان يعتكف ليلة في المسجد الحرام فسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أوف بنذرك فاعتكف عمر ليلة " رواه الدارقطني وقال اسناده
صحيح ثابت وبحديث طاوس عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس على المعتكف
صيام الا أن يجعله على نفسه " رواه الحاكم أبو عبد الله في المستدرك قال هو حديث صحيح على
شرط مسلم ورواه الدارقطني وقال رفعه هذا الشيخ وغيره لا يرفعه يعنى أبا بكر
محمد بن إسحاق السوسي وقد ذكرنا مرات أن الحديث الذي يرويه بعض الثقات مرفوعا وبعضه
موقوفا يحكم بأنه مرفوع لأنها زيادة ثقة هذا هو الصحيح الذي عليه المحققون وبه قال الفقهاء
وأصحاب الأصول وحذاق المحدثين (وأما) الجواب عما احتج به الأولون من اعتكاف النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه في رمضان فمحمول على الاستحباب لا على الاشتراط ولهذا ثبت أن
النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في شوال كما قدمناه فوجب حمل الأول على الاستحباب للجمع
بين الأحاديث مع أنه لا يلزم من مجرد الاعتكاف في رمضان اشتراط الصوم واستدل المزني أيضا
بأنه لو كان الصوم شرطا لم يصح الاعتكاف في رمضان لان صومه مستحق لغير الاعتكاف
(وأما) الجواب عن حديث عائشة " لا اعتكاف إلا بصوم " فمن وجهين (أحدهما) أنه ضعيف بالاتفاق
كما سبق بيانه (والثاني) لو ثبت لوجب حمله على الاعتكاف الأكمل جمعا بين الأحاديث (وأما)
الجواب عن حديث عبد الله بن بديل فمن هذين الوجهين
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ويجوز الاعتكاف في جميع الأوقات والأفضل أن يعتكف في العشر الأخير من شهر
رمضان لحديث أبي بن كعب وعائشة رضي الله عنهما ويجوز أن يعتكف ما شاء من ساعة ويوم
وشهر كما يجوز أن يتصدق بما شاء من قليل وكثير وإن نذر اعتكافا مطلقا أجزأه ما يقع عليه الاسم
488

قال الشافعي رحمه الله تعالى وأحب أن يعتكف يوما وإنما استحب ذلك ليخرج من الخلاف
فان أبا حنيفة لا يجيز أقل من يوم} *
{الشرح} حديث أبي وعائشة سبق بيانه في أول الباب وأبو حنيفة اسمه النعمان بن ثابت
ولد سنة ثمانين من الهجرة وتوفي ببغداد سنة خمسين ومائة وفيها ولد الشافعي قال الشافعي والأصحاب
رحمهم الله تعالى يصح الاعتكاف في جميع الأوقات من الليل والنهار وأوقات كراهة الصلاة
وفى يوم العيدين والتشريق كما سبق دليله وبيانه وأفضله ما كان بصوم وأفضله شهر رمضان وأفضله
العشر الأواخر منه قال الشافعي والأصحاب والأفضل ان لا ينقص اعتكافه عن يوم لأنه لم ينقل
عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتكاف دون يوم وليخرج من خلاف أبي حنيفة
وغيره ممن يشترط الاعتكاف يوما فأكثر (وأما) أقل الاعتكاف ففيه أربعة أوجه (أحدها)
وهو الصحيح المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه يشترط لبث في المسجد وانه يجوز الكثير
منه والقليل حتى ساعة أو لحظة قال إمام الحرمين وغيره وعلى هذا لا يكفي ما في الطمأنينة في الركوع
والسجود ونحوهما بل لابد من زيادة عليه بما يسمى عكوفا وإقامة (والوجه الثاني) حكاه إمام
الحرمين وآخرون أنه يكفي مجرد الحضور والمرور من غير لبث أصلا كما يكفي مجرد الحضور
والمرور بعرفات في الوقوف وبه قطع البندنيجي قال إمام الحرمين وعلى هذا الوجه يحصل الاعتكاف
بالمرور حتى لو دخل من باب وخرج من باب ونوى فقد حصل الاعتكاف وعلى هذا لو نذر اعتكافا
مطلقا خرج عن نذره بمجرد المرور (والوجه الثالث) حكاه الصيدلاني وإمام الحرمين وآخرون
انه لا يصح إلا يوما أو ما يدنو من يوم (والرابع) حكاه المتولي وغيره انه يشترط أكثر
489

من نصف النهار أو نصف الليل لان مقتضى العادة أن تخالف العبادة وعادة الناس القعود في المسجد
الساعة والساعات لانتظار الصلاة أو سماع الخطبة أو العلم أو لغير ذلك ولا يسمى ذلك اعتكافا فشرط
زيادة عليه لتتميز العبادة عن العادة قال المتولي وهذا الخلاف في اشتراط أكثر النهار يشبه الخلاف
في صوم التطوع فإنه يصح بنية قبل الزوال وفى صحته بنية بعده قولان مشهوران (فإذا قلنا) بالمذهب
وهو الوجه الأول أنه يصح الاعتكاف بشرط لبث وان قل فلا فرق بين كثيره وقليله في الصحة
وإنما شرط لبث يزيد. على طمأنينة الصلاة كما سبق وكلما كثر كان أفضل ولا حد لأكثره بل
يصح اعتكاف عمر الانسان جميعه ويصح نذر اعتكاف العمر وسنفرده بمسألة مستقلة ولو نذر
اعتكاف ساعة صح نذره ولزمه اعتكاف ساعة ولو نذر اعتكافا مطلقا كفاه عن نذره
اعتكاف لحظة والأفضل أن يعتكف يوما ليخرج من خلاف أبي حنيفة وموافقيه نص عليه
الشافعي واتفق عليه الأصحاب ولو كان يدخل ساعة ويخرج ساعة وكلما دخل نوى الاعتكاف
صح على المذهب وحكى الروياني فيه وجها ضعيفا وكأنه راجع إلى الوجه الثاني والثالث قال المتولي
وغيره ولو نوى اعتكاف مدة معلومة استحب له الوفاء بها بكمالها فان خرج قبل اكمالها جاز لان
التطوع لا يلزم بالشروع وإن أطلق النية ولم يقدر شيئا دام اعتكافه ما دام في المسجد *
490

{فرع} في مذاهب العلماء في أقل الاعتكاف * قد ذكرنا أن الصحيح المشهور من مذهبنا
أنه يصح كثيره وقليله ولو لحظة وهو مذهب داود والمشهور عن أحمد ورواية عن أبي حنيفة * وقال
مالك وأبو حنيفة في المشهور عنه أقله يوم بكماله بناء على أصلهما في اشتراط الصوم * دليلنا أن
الاعتكاف في اللغة يقع على القليل والكثير ولم يحده الشرع بشئ يخصه فبقي على أصله (وأما)
الصوم فقد سبق الكلام فيه وبينا أنه لم يثبت في اشتراط الصوم شئ صريح *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{وان نذر اعتكاف العشر دخل فيه ليلة الحادي والعشرين قبل غروب الشمس ليستوفى
الفرض بيقين كما يغسل جزءا من رأسه ليستوفي غسل الوجه بيقين ويخرج منه بهلال شوال تاما
كان الشهر أو ناقصا لان العشرة عبارة عما بين العشرين إلى آخر الشهر وان نذر اعتكاف عشرة
أيام من آخره وكان الشهر ناقصا اعتكف بعد الشهر يوما آخر لتمام العشرة لان العشرة عبارة
عن عشرة آحاد بخلاف العشرة} *
{الشرح} هاتان المسألتان ذكرهما أصحابنا كما قد ذكرهما المصنف ويستحب أن يمكث
في معتكفه بعد هلال شوال حتى يصلى العيد أو يخرج منه إلى المصلي إن صلوها في غيره وقد
سبقت هذه المسألة في آخر كتاب الصيام (وقوله) في المسألة الثانية إذا خرج الشهر ناقصا اعتكف
يوما آخر يعني يوما بليلته كذا صرح به البغوي وغيره ويستحب في الثانية أن يعتكف يوما
491

قبل العشر لاحتمال نقص الشهر فيكون ذلك اليوم داخلا في نذره لكونه أول العشر من آخر الشهر
فلو فعل هذا ثم بان نقصه فهل يجزئه عن قضاء يوم قطع البغوي بأنه يجزئه ويحتمل أن يكون فيه
خلاف كالوجهين فيمن تيقن الطهارة وشك في الحدث فتوضأ غلطا فبان محدثا هل يصح وضوؤه
والأصح لا يصح والله أعلم *
{فرع} في مذاهب العلماء فيمن نذر اعتكاف العشر الأواخر من رمضان أو غيره متى يدخل
في اعتكافه * قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يلزمه أن يدخل فيه في ليلة الحادي والعشرين ويخرج عن
نذره بانقضاء الشهر تم أو نقص وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وقال الأوزاعي وإسحق
وأبو ثور يجزئه الدخول طلوع الفجر يوم الحادي والعشرين ولا يلزمه ليلة الحادي والعشرين * دليلنا
أن العشر اسم لليالي مع الأيام والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{وإن نذر أن يعتكف شهرا نظرت فإن كان شهرا بعينه لزمه اعتكافه ليلا ونهارا سواء
كان الشهر تاما أو ناقصا لان الشهر عبارة عما بين الهلالين تم أو نقص وان نذر اعتكاف نهار
الشهر لزمه النهار دون الليل لأنه خص النهار فلا يلزمه الليل فان فاته الشهر ولم يعتكف فيه لزمه
قضاؤه ويجوز أن يقضيه متتابعا ومتفرقا لان التتابع في أدائه بحكم الوقت فإذا فات سقط كالتتابع
في يوم شهر رمضان وان نذر أن يعتكف متتابعا لزمه قضاؤه متتابعا لان التتابع ههنا وجب لحكم
النذر فلم يسقط بفوات الوقت قال في الام إذا نذر اعتكاف شهر وكان قد مضى الشهر لم يلزمه
لان الاعتكاف في شهر ماض محال فان نذر اعتكاف شهر غير معين فاعتكف شهرا بالأهلة أجزأه تم الشهر
أو نقص لان اسم الشهر يقع عليه وان اعتكف شهرا بالعدد لزمه ثلاثون يوما لان الشهر بالعدد ثلاثون يوما ثم
ينظر فيه فان شرط التتابع لزمه التتابع لقوله صلى الله عليه وسلم " من نذر نذر أسماه فعليه الوفاء به " وان
شرط أن يكون متفرقا جاز متفرقا ومتتابعا لان المتتابع أفضل من المتفرق فجاز أن يسقط
أدنى الفرضين بأفضلهما كما لو نذر ان يعتكف في غير المسجد الحرام فله أن يعتكف في المسجد
الحرام وان أطلق النذر جاز متفرقا ومتتابعا كما لو نذر صوم شهر} *
492

{الشرح} هذا الحديث رواه (1) أما الأحكام فقال الأصحاب إذا نذر اعتكاف شهر بعينه وأطلق لزمه
اعتكافه ليلا ونهارا تاما كان الشهر أو ناقصا ويجزئه الناقص بلا خلاف فان قال أيام الشهر فلا يلزمه الليالي أو
يقول الليالي فلا تلزمه الأيام فلو لم يلفظ بالتقييد بالأيام دون الليالي أو عكسه ولكن نواه بقلبه
فوجهان (أصحهما) عند المتولي والبغوي والرافعي وغيرهم لا اثر لنيته لان النذر لا يصح الا باللفظ
(والثاني) يكون كاللفظ لأن النية تميز الكلام المجمل كما لو نذر عشرة أيام أو ثلاثين يوما وأراد
الأيام خاصة فإنه لا يلزمه الا الأيام خاصة بلا خلاف قال البغوي وهذا الوجه هو قول القفال قال
المتولي ولو نذر اعتكافا مطلقا بلسانه ونوى بقلبه عشرة أيام فهل تلزمه العشرة أم يكفيه ما يقع
عليه الاسم فيه هذان الوجهان قال أصحابنا وان فاته الاعتكاف في الشهر الذي عينه لزمه قضاؤه
ويجوز متفرقا ومتتابعا لما ذكره المصنف وحكي أصحابنا عن أحمد أنه قال يلزمه التتابع في القضاء أما
إذا نذر اعتكاف شهر بعينه أو عشرة أيام بعينها وشرط التتابع بان قال نذرت اعتكاف هذا الشهر
متتابعا أو هذه الأيام العشرة متتابعا ففاته ذلك المعين فيلزمه قضاؤه وهل يجب القضاء في هذه
الصورة متتابعا فيه وجهان (أصحهما) وبه قطع المصنف والأكثرون يجب لتصريحه به (والثاني)
حكاه الفوراني والمتولي والبغوي وآخرون من الخراسانيين لا يجب بل يجوز متفرقا لان التتابع يقع
فيه ضرورة فلا أثر لتصريحه أما إذا نذر اعتكاف شهر مضى بان قال اعتكف شهر رمضان سنة
سبعين وستمائة وهو في سنة إحدى وسبعين فلا يلزمه بلا خلاف لفساد نذره نص عليه الشافعي
في الام وتابعه الأصحاب أما إذا نوى اعتكاف شهر غير معين فإنه يكفيه شهر بالهلال تم أو نقص
لان الشهر اسم لما بين الهلالين وإنما يحصل له هذا إذا دخل فيه قبل غروب الشمس ليلة الهلال
فان دخل بعد الغروب فقد صار شهره عدديا فيلزمه استكمال ثلاثين يوما بلياليها ثم إن كان شرط
التتابع لزمه بلا خلاف لما ذكره المصنف وان شرط التفريق جاز متفرقا وهل يجوز متتابعا فيه
طريقان (أصحهما) القطع بجوازه وبه قطع المصنف والأكثرون لأنه أفضل (والثاني) فيه وجهان حكاهما
امام الحرمين وغيره من الخراسانيين (أصحهما) هذا (والثاني) لا يجزئه لأنه خلاف ما سماه وان لم يشرط
التتابع ولا التفريق فيجوز متفرقا ومتتابعا على المذهب وبه قطع المصنف والجمهور لكن يستحب

(1) بياض بالأصل فحرر
493

التتابع وخرج ابن سريج قولا انه يلزمه التتابع حكاه عنه امام الحرمين والمتولي وغيرهما وهذا
شاذ ضعيف والله أعلم ولو نذر اعتكاف العشر الأواخر من شهر بعينه ففاته وخرج الشهر ناقصا لم
يلزمه الا قضاء تسعة أيام بلياليها لان العشر الذي التزمه إنما كان تسعة بلياليها صرح به المتولي وغيره
وهو ظاهر * قال المصنف رحمه الله *
{وان نذر ان يعتكف يوما لزمه ان يدخل فيه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس
ليستوفى الفرض بيقين وهل يجوز ان يفرقه في ساعات أيام فيه وجهان (أحدهما) يجوز كما يجوز ان يعتكف شهرا
من شهور (والثاني) لا يجوز لان اليوم عبارة عما بين طلوع الفجر وغروب الشمس} *
{الشرح} قال أصحابنا إذا نذر اعتكاف يوم لم يلزمه معه ليلة بلا خلاف بل يلزمه أن يدخل
فيه قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس لان حقيقة اليوم ما بين الفجر وغروب الشمس
هكذا قاله الخليل بن أحمد وغيره من أئمة اللغة وغيرهم وإذا كان كذلك وجب الدخول قبل الفجر
والمكث إلى بعد غروب الشمس ليسقط الفرض كما يجب على الصائم إمساك جزء بعد الغروب
لاستكمال اليوم وهل يجوز أن يفرق اليوم في ساعات من أيام بأن يعتكف من كل يوم ساعة أو ساعتين
أو ساعات حتى يستكمل اليوم فيه هذان الوجهان المذكوران في الكتاب بدليلهما (أصحهما) وبه قال
أكثر أصحابنا لا يجوز وحكى الدارمي وجها ثالثا عن القيصري من أصحابنا انه ان نوى اليوم متتابعا
لم يجزئه وإن أطلق أجزأه تفريق ساعاته قال أصحابنا ولو دخل في الاعتكاف في أثناء النهار وخرج
بعد غروب الشمس ثم عاد قبل الفجر ومكث إلى مثل ذلك الوقت ففي إجزائه هذان الوجهان
فلو لم يخرج بالليل فطريقان (أحدهما) وبه قطع الأكثرون وهو ظاهر نص الشافعي أو هو نصه انه
يجزئه سواء جوزنا التفريق في ساعات من أيام أم لا لحصول التواصل (والثاني) انه على الوجهين في
تفريق الساعات كما لو خرج في الليل وبهذا الطريق قال أبو إسحاق المروزي حكاه عنه أصحابنا
العراقيون وإمام الحرمين والمتولي وغيرهما من الخراسانيين لأنه لم يأت بيوم متواصل الساعات
واعتكافه تلك الليلة غير داخل في نذره ولا اثر له فكأنه خرج في الليل ثم عاد فسواء مكث في المسجد
أو خرج ثم عاد فبمجرد حصول الليل حصل التفريق قال إمام الحرمين وهذا الذي قاله أبو إسحاق
494

منقاس متجه وإن كان معظم الأصحاب على خلافه قال وعرض على أبى إسحاق نص الشافعي على
تجويز ذلك مع مصيره إلى أن تفريق ساعات اليوم لا يجزئ فقال نصه محمول على ما إذا قال لله على
أن أعتكف يوما من وقتي هذا فإذا قال ذلك فلا وجه إلا الصبر إلى مثله من الغد هذا كلام الامام
ولو قال لله على أن اعتكف يوما من هذا الوقت فقد اتفق أصحابنا في الطرق كلها على أنه يلزمه
دخول المعتكف من ذلك الوقت إلى مثله من الغد ولا يجوز الخروج بالليل بل يجب مكثه لتحقق
التواصل قال الشافعي وهذا فيه نظر لان الملتزم يوم وليست الليلة منه فلا يمنع التتابع قال والقياس
أن يجعل فائدة التقييد في هذه الصورة القطع بجواز التفريق لا غير ثم حكى امام الحرمين عن الأصحاب
تفريعا على جواز تفريق الساعات انه يكفيه ساعات أقصر الأيام لأنه لو اعتكف اقصر الأيام
جاز ثم قال إن فرق على ساعات أقصر الأيام في سنين فالامر كذلك وإن اعتكف في أيام متباينة
في الطول والقصر فينبغي أن ينسب اعتكافه في كل يوم بالجزئية إن كان ثلثا فقد خرج عن ثلث ما عليه
وعلى هذا القياس نظرا إلى اليوم الذي يقع فيه الاعتكاف ولهذا لو اعتكف من يوم طويل بقدر
ساعات أقصر الأيام لم يكفه قال الرافعي وهو استدراك حسن وقد أجاب عنه بما لا يشفى والله أعلم
قال المتولي وغيره ولو نذر اعتكاف ليلة فهو في معني اعتكاف اليوم على سبق فيدخل المسجد
قبل غروب الشمس ويمكث حتى يطلع الفجر فلو أراد تفريقا من ساعات ليالي ففيه الخلاف السابق
في تفريق ساعات اليوم من أيام وكذا لو دخل نصف الليل وبقى إلى نصف الليلة الأخرى ففيه
الطريقان السابقان (أشهرهما) القطع بالاجزاء وقال أبو إسحاق فيه الوجهان والله أعلم *
{فرع} قال المتولي لو نذر اعتكاف يوم فاعتكف بدله ليلة فإن لم يكن عين الزمان لم يجزئه لأنه
قادر على الوفاء بنذره على الصفة الملتزمة فهو كمن نذر أن يصلي ركعتين بالنهار فصلاهما بالليل وإن
كان عين الزمان في نذره ففات فاعتكف بدل اليوم ليلة أجزأه كما لو فاته صلاة نهار اما مكتوبه أو
منذورة فقضاها في الليل فإنه يجوز وسببه ان الليل صالح للاعتكاف كالنهار وقد فات الوقت
فوجب قضاء القدر الفائت فأما الوقت فيسقط حكمه بالفوات *
495

* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{وان نذر اعتكاف يومين لزمه اعتكافهما وفى الليلة التي بينهما ثلاثة أوجه (أحدها) يلزمه اعتكافها
لأنه ليل يتخلل نهار الاعتكاف فلزمه اعتكافها كالليالي العشر (والثاني) ان شرط التتابع لزمه
اعتكافها لأنه لا ينفك منها اليومان وان لم يشرط التتابع لم يلزمه اعتكافها لأنه قد ينفك منها اليومان فلا يلزمه
اعتكافها (والثالث) لا يلزمه اعتكافها شرط فيه التتابع أم أطلق وهو الأظهر لأنه زمان لا يتناوله
نذره فلا يلزمه يلزمه اعتكافه كليلة ما قبله وما بعده وان نذر اعتكاف ليلتين لزمه اعتكافهما وفى
اليوم الذي بينهما الأوجه الثلاثة وان نذر اعتكاف ثلاثين يوما لزمه اعتكاف ثلاثين يوما وفى لياليها
الأوجه الثلاثة} *
{الشرح} قال أصحابنا إذا نذر اعتكاف يوم لم يلزمه معه ليله هذا هو المذهب وبه قطع
الأصحاب في كل الطرق ونقل امام الحرمين اتفاق الأصحاب عليه فقال قال أصحابنا إذا نذر
اعتكاف يوم لم يلزمه ضم الليلة إليه بالاتفاق الا ان ينويها قال ثم اتفقوا على أنه إذا نواها لزمه اعتكافها
مع اليوم ثم استشكله الامام من حيث إن الليلة لم يذكرها والنية المجردة لا يلزم بها النذر ثم أجاب
عنه بان اليوم قد يطلق ويراد به اليوم بليلته وهذا شائع على الجملة وان لم يكن هو الظاهر من اللفظ
فعملت النية فيه هذا كلامه وهو كلام نفيس وحكي الرافعي قولا غريبا ان الليلة تلزم في نذر
اعتكاف اليوم الا ان ينوى يوما بلا ليلة وهذا شاذ ضعيف ولا تفريع عليه ولو نذر اعتكاف شهر
دخلت الأيام والليالي بلا خلاف ونقل امام الحرمين وغيره اتفاق الأصحاب عليه وقد ذكره
المصنف وشرحناه قبل هذا لان الشهر اسم للجميع وهو ما بين الهلالين ولو نذر اعتكاف يومين
لزمه اليومان وفى الليلة التي بينهما ثلاث طرق (أحدها) حكاه إمام الحرمين عن المراوزة انهم قطعوا
بأنها لا تجب قال وإنما ذكر المراوزة الخلاف في الليالي المتخللة فيما إذا نذر اعتكاف ثلاثة أيام
فصاعدا (والطريق الثاني) طريقة الشيخ أبى حامد وابن الصباغ والمتولي وأكثر أصحابنا المصنفين
انه ان صرح بالتتابع في اليومين أو نواه لزمته الليل المتخللة وجها واحدا والا فوجهان (والطريق
الثالث) طريقه المصنف وقليلين ان في المسألة ثلاثة أوجه (أحدها) تلزمه الليلة الا ان يريد بياض
496

النهار فقط (والثاني) لا تلزمه الا إذا نواها (والثالث) ان نوى التتابع أو صرح به لزمته الليلة والا
فلا قال الرافعي هذا الوجه الثالث هو الراجح عند الأكثرين قال ورجح صاحب المهذب وآخرون
انها لا تلزمه مطلقا قال والوجه ان يتوسط فيقال إن كان المراد بالتتابع توالي اليومين فالصواب
قول صاحب المهذب وإن كان المراد تواصل الاعتكاف فالصواب ما قاله الأكثرون هذا الذي
اختاره الرافعي جزم الدارمي به فقال إذا نوى اعتكاف يومين متتابعا لزمته الليلة معهما وان نوي
المتابعة في النهار كالصوم لم يلزمه الليل وان لم ينو تتابعا فوجهان وان نذر ليالي فان نوى متتابعة
لزمته الأيام وان نوى تتابع الليالي لم تلزمه الأيام وان لم ينو التابع فعلى الوجهين (أصحهما) لا يلزمه هذا كلام
الدارمي والله أعلم * قال أصحابنا ولو نذر اعتكاف ليلتين ففي النهار المتخلل بينهما هذا الخلاف ولو نذر ثلاثة
أيام أو عشرة أو ثلاثين ففي وجوب اعتكاف الليالي المتخللة هذا الخلاف هكذا قطع به الجمهور وحكي البغوي
هذا وحكي طريقا آخر واختاره انه يلزمه الليالي هنا وجها واحدا والمذهب الأول واتفق أصحابنا على أن الخلاف
إنما هو في الليالي المتخللة وهي تنقص عن عدد الأيام بواحد أبدا ولا خلاف انه لا يلزمه ليال بعدد الأيام هكذا
صرحوا في جميع الطرق بأنه لا خلاف فيه وكذا صرح بنفي الخلاف فيه الرافعي وكان ينبغي ان يجئ فيه القول
الذي قدمناه عن حكاية الرافعي ان من نذر يوما لزمته ليلته قال أصحابنا ولو نذر اعتكاف العشر
الأواخر من شهر رمضان دخل فيه الليالي والأيام بلا خلاف لأنه اسم لذلك وقد سبقت المسألة مشروحة
وتكون الليالي هنا بعدد الأيام كما في الشهر ولو نذر عشرة أيام من آخر الشهر ففي دخول الليالي
الخلاف هذا تفصيل مذهبنا * وقال أبو حنيفة إذا نذر اعتكاف يومين لزمه يومان وليلتان وحكاه
المتولي عن أحمد وعندنا لا يلزمه ليلتان وفى لزوم ليلة واحدة الخلاف السابق وبه قال مالك وأبو
يوسف وهو المشهور عن أحمد * واحتج أصحابنا بان اليومين تثنية لليوم وليس في اليوم ليلة فكذا
في اليومين والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
{ولا يصح الاعتكاف الا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ
ما نوى " ولأنه عبادة محضة فلم يصح من غير نية كالصوم والصلاة وإن كان الاعتكاف فرضا لزمه
تعيين الفرض ليتميز عن التطوع فان دخل في الاعتكاف ثم نوى الخروج منه ففيه وجهان (أحدهما)
497

يبطل لأنه قطع شرط صحته فأشبه إذا قطع نية الصلاة (والثاني) لا يبطل لأنه قربة تتعلق بمكان
فلا يخرج منها بنية الخروج كالحج} *
{الشرح} هدا الحديث رواه البخاري ومسلم من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسبق
بيانه واضحا في أول باب نية الوضوء (وقوله) عبادة محضة احتراز من العدة ونحوها مما قدمناه في
نية الوضوء (وقوله) قربة تتعلق بمكان احتراز من الصيام والصلاة (أما) الحكم فلا يصح اعتكاف
الا بنية سواء المنذور وغيره سواء تعين زمانه أم لا فإن كان فرضا بالنذر لزمته ليتميز عن التطوع
ثم إذا نوى الاعتكاف وأطلق كفاه ذلك وان طال مكثه شهورا أو سنين فان خرج من المسجد
ثم عاد احتاج إلى استئناف النية سواء خرج لقضاء الحاجة أم لغيره لان ما مضى عبادة تامة مستقلة
ولم يتناول بنية منه غيرها فاشترط للدخول الثاني نية أخرى لأنها عبادة أخرى قال المتولي وغيره
فلو عزم عند خروجه ان يقضى الحاجة ثم يعود كانت هذه العزيمة قائمة مقام النية قال الرافعي هذا فيه نظر
لان اقتران النية بأول العبادة شرط فكيف يكتفى بعزيمة سابقة قلت ووجه ما قاله المتولي وغيره
وهو الصواب انه لما أحدث النية عند ارادته الخروج صار كمن نوى المدتين بنية واحدة كما قال
أصحابنا فيمن نوى صلاة النفل ركعتين ثم نوى في آخرها جعلها أربعا أو أكثر فإنه تصح صلاته
أربعا بلا خلاف ويصير كمن نوى الأربع في أول دخوله والله أعلم هذا كله إذا لم يعين زمنا فان
عينه بان نوى اعتكاف أول يوم أو شهر ففي اشتراط تجديد النية إذا خرج ثم عاد أربع أوجه
(أصحها) وبه قطع المتولي ان خرج لقضاء الحاجة ثم عاد لم يجب التجديد لأنه لابد منه وان خرج
لغرض آخر اشتراط التجديد سواء طال الزمان أم قصر (والثاني) ان طالت مدة الخروج اشترط
التجديد والا فلا سواء خرج لقضاء الحاجة أم لغيره (والثالث) لا يشترط التجديد مطلقا (والرابع)
وبه قطع البغوي ان خرج لأمر يقطع التتابع في الاعتكاف المتتابع اشترط التجديد وان خرج لما
لا يقطعه ولابد منه كقضاء الحاجة والغسل للاحتلام لم يشترط وإن كان منه بدأ وطال الزمان ففي
498

اشتراط التجديد وجهان وهذه الأوجه جارية في اعتكاف التطوع وفيمن نذر أياما ولم يشترط
فيها التتابع ثم دخل المسجد بقصد الوفاء بالنذر فاما إذا شرط التتابع أو كانت الأيام المنذورة متواصلة
فسنذكر حكم تجديد النية فيها بعد ذكر ما يقطع الاعتكاف المتتابع وما لا يقطعه إن شاء الله تعالى
وإذا شرط في اعتكافه خروجه لشغل وقلنا بالمذهب انه يصح شرطه فخرج لذلك ثم عاد ففي
وجوب تجديد النية وجهان حكاهما البغوي وغيره (صحهما) على قياس ما سبق وجوب التجديد
أما إذا دخل في اعتكاف بالنية ثم قطع النية ونوى ابطاله فهل يبطل فيه الوجهان اللذان ذكرهما
المصنف وغيره (أصحهما) على قياس ما سبق وجوب التجديد أما إذا دخل في اعتكاف بالنية ثم قطع
النية ونوى ابطاله فهل يبطل فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف وهما مشهوران (أصحهما) لا يبطل
وقد سبق ذكر هذه المسألة مع نظائرها في باب نية الوضوء ثم في أول صفة الصلاة والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
{ولا يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد لما روت عائشة رضي الله عنها قالت " كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يدني إلى رأسه لا رجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الانسان " فان خرج من
غير عذر بطل اعتكافه لان الاعتكاف هو اللبث في المسجد فإذا خرج فقد فعل ما ينافيه من
غير عذر فبطل كما لو أكل في الصوم ويجوز أن يخرج رأسه ورجله ولا يبطل اعتكافه لحديث عائشة
ولأنه باخراج الرأس والرجل لا يصير خارجا ولهذا لو حلف لا خرجت من الدار وأخرج رأسه
أو رجله لم يحنث} *
{الشرح} حديث عائشة رواه البخاري ومسلم ولفظهما عن عائشة قالت " إن كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم ليدخل على رأسه وهو في المسجد فأرجله وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الانسان
إذا كان معتكفا " هكذا هو في رواية البخاري ومسلم إلا أن لفظ الانسان ليس في رواية البخاري
وهي ثابتة في رواية مسلم ذكره في أوائل كتاب الطهارة وثبت لفظ الانسان في سنن أبي داود
أيضا وهذا لفظه عن عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه
وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الانسان " رواه أبو داود باسناد على شرط البخاري ومسلم وفى
499

رواية للبخاري " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصغي إلى رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله
وأنا حائض " رواه مسلم كذلك في كتاب الطهارة الا أن في روايته " يخرج إلى رأسه من المسجد
وهو مجاور فاغسله وأنا حائض " وقولها مجاور أي معتكف ويسمى الاعتكاف جوارا وقد ذكرته
في تهذيب اللغات وفى ألفاظ التنبيه وفى رواية للبخاري عن عائشة قالت " كان النبي صلى الله عليه وسلم
يباشرني وأنا حائض وكان يخرج رأسه من المسجد وهو معتكف فاغسله وأنا حائض " وقولها
يباشرني أي باليد ونحوها والمباشرة في زمن الاعتكاف محمولة على أنها بغير شهوة * (أما) الأحكام
فقال الشافعي والأصحاب إذا دخل في اعتكاف منذور شرط فيه التتابع لم يجز أن يخرج من المسجد
بغير عذر فان خرج بغير عذر بطل اعتكافه وان خرج لقضاء حاجة الانسان وهي البول والغائط
لم يبطل لما ذكره المصنف وان أخرج يده أو رجله أو رأسه لم يبطل بلا خلاف سواء كان لحاجة
أم لغيرها لما ذكره المصنف هذا مختصر ما يتعلق بشرح كلام المصنف ولم يذكر المصنف كون
الاعتكاف منذورا ولا بد من تصوير المسألة في المنذور كما نقلناه عن الشافعي والأصحاب والا فالتطوع
يجوز الخروج منه متى شاء والله أعلم * قال أصحابنا الذي يقطع الاعتكاف المتتابع ويحوج إلى
استئناف المنذور أمران (أحدهما) فقد بعض شروط الاعتكاف وهي الأمور التي لابد منها لصحته
كالكف عن الجماع وكذا عن المباشرة على أحد القولين كما سنوضحه إن شاء الله تعالى ويستثني
من هذا طرآن الحيض والاحتلام فإنهما لا يقطعانه وإن كانا يمنعان انعقاده أولا (والثاني) الخروج
بكل البدن عن كل المسجد بلا عذر فهذه ثلاثة قيود (الأول) الخروج بكل بدنه احترزوا به عمن
أخرج رأسه أو يديه أو إحدى رجليه أو كليهما وهو قاعد مادهما فلا يبطل اعتكافه بلا خلاف لما
ذكره المصنف فان أخرج رجليه واعتمد عليهما وبقى رأسه داخل المسجد فهو خارج فيبطل اعتكافه
(القيد الثاني) الخروج عن كل المسجد احترزوا به عن الخروج إلى رحبة المسجد فإنه لا يضر
بلا خلاف كما سنوضحه إن شاء الله تعالى وعن الخروج إلى منارة المسجد وسيأتي حكمهما قريبا إن
شاء الله تعالى والله أعلم (القيد الثالث) الخروج بلا عذر فأما الخروج لعذر ففيه تفصيل نذكره بعد
هذا على ترتيب المصنف إن شاء الله تعالى * قال المصنف رحمه الله *
500

{ويجوز أن يخرج لحاجة الانسان ولا يبطل اعتكافه لحديث عائشة رضي الله عنها ولان ذلك
خروج لما لابد منه فلم يمنع منه وإن كان للمسجد سقاية لم يلزمه قضاء الحاجة فيها لان ذلك نقصان
مروءة وعليه في ذلك مشقة فلم يلزمه وإن كان بقربه بيت صديق له لم يلزمه قضاء الحاجة فيه لأنه
ربما احتشم وشق عليه فلم يكلف ذلك وإن كان له بيتان قريب وبعيد ففيه وجهان (أظهرهما) أنه
لا يجوز أن يمضى إلى البعيد فان خرج إليه بطل اعتكافه لأنه لا حاجة به إليه فأشبه إذا خرج
لغير حاجة وقال أبو علي بن أبي هريرة يجوز أن يمضى إلى الابعد ولا يبطل اعتكافه لأنه خروج لحاجة
الانسان فأشبه إذا لم يكن له غيره} *
{الشرح} حديث عائشة سبق بيانه وفى الفصل مسائل (إحداها) يجوز الخروج لحاجة الانسان
وهي البول والغائط وهذا لا خلاف فيه وقد نقل ابن المنذر والماوردي وغيرهما اجماع المسلمين
على هذا قال أصحابنا وله أيضا الخروج لغسل الاحتلام بلا خلاف ودليلهما في الكتاب (الثانية)
إذا كان للمسجد سقاية لم يكلفه قضاء الحاجة فيها بل له الذهاب إلى داره وكذا لو كان بجنبه دار
صديق له وأمكنه دخولها لم نكلفه ذلك لما ذكره المصنف (الثالثة) إذا كان له بيتان أحدهما
أقرب وكل واحد منهما بحيث لو انفرد جاز الذهاب إليه فهل يجوز الذهاب إلى الابعد فيه الوجهان
اللذان ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) عنده وعند غيره لا يجوز اتفق الأصحاب على
تصحيحه والله أعلم *
{فرع} إذا كانت داره بعيدة بعدا فاحشا فإن لم يجد في طريقه موضعا كسقاية أو بيت صديق
يأذن فيه فله الذهاب إلى داره وجها واحدا لأنه مضطر إلى ذلك وان وجد وكان لا يليق به دخول
غير داره فله الذهاب إلى داره أيضا بلا خلاف والا فوجهان مشهوران حكاهما البندنيجي والدارمي
والفوراني وامام الحرمين والبغوي والسرخسي وصاحبا العدة والبيان وآخرون (أصحهما) لا يجوز
الذهاب إلى غير داره لأنه يذهب جملة مقصودة من أوقات الاعتكاف في الذهاب والمجئ وهو
غير مضطر إليه (والثاني) يجوز لأنه يشق قضاء الحاجة في غير بيته وهذا الوجه هو ظاهر نص
501

الشافعي فإنه قال في المختصر ويخرج المعتكف للغائط والبول إلى منزله وان بعد وممن جزم بهذا
الوجه المحاملي والماوردي وهو ظاهر كلام المصنف وشيخه القاضي أبى الطيب وممن جزم بالأول
الشيخ أبو حامد والصيدلاني وهو ظاهر كلام صاحب الشامل وغيره وصححه البندنيجي والرافعي
وغيره قال الشيخ أبو حامد في التعليق هذه اللفظة التي نقلها المزني وهي قوله وان بعد لا أعرفها
للشافعي وتأولها غير أبى حامد على ما إذا كان المنزل بعيدا بعدا غير متفاحش والله أعلم وذكر المتولي
طريقة تخالف ما ذكرناه عن الجمهور في بعضها فقال إن كان المنزل بعيدا عن المسجد أو لم يجد غيره
فله الذهاب إليه وان وجد غيره كسقاية مسبلة فإن كان عادة مثله قضاء الحاجة في السقاية المذكورة لم
يجز الذهاب إلى منزله فان ذهب بطل اعتكافه المتتابع فإن لم يكن ممن عادة مثله قضاء الحاجة في
السقاية فوجهان قال وهما شبيهان بالوجهين فيمن هدد بما يذهب مروءته على فعل شئ ففعله هل
يكون ذلك اكراها أم لا والله أعلم *
{فرع} قال أصحابنا لا يشترط في الخروج لقضاء الحاجة شدة الحاجة لان في اعتباره ضررا
بينا ونقل امام الحرمين اتفاق الأصحاب على هذا *
(فرع) قال أصحابنا إذا خرج لقضاء الحاجة لا يكلف الاسراع بل له المشي على عادته قال
المتولي ويكره له أن ينقص عن عادة مشيه لأنه لا مشقة في تكليفه المشي على العادة فلو خرج في الثاني
عن حد عادته من غير عذر بطل اعتكافه على الصحيح ذكره المتولي والروياني في البحر *
(فرع) لو كثر خروجه للحاجة لعارض يقتضيه كاسهال ونحوه فوجهان حكاهما امام الحرمين
(أصحهما) وهو مقتضي اطلاق الجمهور لا يضره نظرا إلى جنسه (والثاني) يقطع التتابع لندوره
والله أعلم *
(فرع) أوقات الخروج لقضاء الحاجة لا يجب تداركها وقضاؤها في الاعتكاف المنذور
لعلتين (إحداهما) ان الاعتكاف مستمر فيها على الصحيح من وجهين حكاهما المتولي وغيره وبهذا
الصحيح قطع آخرون قالوا ولهذا لو جامع في أثناء طريقه في الخروج لقضاء الحاجة من غير مكث
بطل اعتكافه على الصحيح ويتصور ذلك بأن يذهب لقضاء الحاجة راكبا مع المرأة في هودج ونحوه
502

وصوروه أيضا في وقفه لطيفة جدا (والعلة الثانية) ان زمن الخروج لقضاء الحاجة مستثني لأنه ضروري
والله أعلم *
(فرع) إذا خرج لقضاء الحاجة في اعتكاف منذور متتابع ثم عاد ففي اشتراط تجديد النية طريقان
(المذهب) انه لا يشترط لان الأولى باقية حكما كما لا يجب تجديد النية في ركعات الصلاة
ولا في أعضاء الوضوء وأفعال الحج (والطريق الثاني) ان قرب الزمان لم يشترط التجديد
والا فوجهان *
(فرع) إذا فرغ من قضاء الحاجة واستنجى فله ان يتوضأ خارج المسجد لان ذلك يقع تابعا ونقل
امام الحرمين الاتفاق على هذا (وأما) إذا احتاج إلى الوضوء لغير بول وغائط ومن غير حاجة إلى
استنجاء فإن لم يمكنه في المسجد جاز الخروج له ولا يقطع الاعتكاف وان أمكنه في المسجد فوجهان
حكاهما امام الحرمين وغيره (أصحهما) لا يجوز الخروج له ونقله الامام عن الأكثرين ثم قال ولا شك
ان هذا الخلاف في الوضوء الواجب يعنى ان التجديد لا يجوز الخروج له وجها واحدا وقد صرح
صاحب الشامل بامتناع الخروج لتجديد الوضوء ولم يذكر فيه خلافا *
(فرع) قد ذكرنا ان زمن الخروج لقضاء الحاجة لا يقطع التتابع ولا يؤثر في الاعتكاف ولكن
هل يكون ذلك الزمان محسوبا من الاعتكاف ويعد في حال خروجه للحاجة إلى أن يرجع إلى المسجد
معتكفا فيه وجهان حكاهما امام الحرمين والمتولي وغيرهما (أحدهما) لا يكون في ذلك معتكفا
قال المتولي لأنه مشغول بضده فلا يكون معتكفا ولكنه زمن مستثنى من الاعتكاف كما أن أوقات
الصلوات تكون مستثناة من زمن الإجارة (والثاني) يكون معتكفا تلك الحال لأنه لو جامع في
تلك الحال أو استمتع بقبلة وأنزل وقلنا بتأثير ذلك بطل اعتكافه على المذهب وبه قطع المتولي وغيره
ولولا أنه معتكف حينئذ لم يبطل لان مفسد العبادة إذا لم يصادفها لا يفسدها كوطئ الصائم في
ليالي رمضان هذا معنى كلام المتولي وأوضح إمام الحرمين هذين الوجهين فقال اتفق الأصحاب
على أن أوقات قضاء الحاجة لا تؤثر في قطع التتابع وإن بلغت ما بلغت قال حتى قال طوائف من
المحققين إن الخارج لقضاء الحاجة معتكف وإن لم يكن في المسجد واستدلوا بالاعتداد بهذا الزمان
503

وكان يمكن أن لا يعتد به وإن حكم بأن التتابع لا يقطع واستدلوا أيضا بأنه لو جامع في حال خروجه
لقضاء الحاجة فله اعتكافه وكان من الممكن أن يقال لا يفسد ويعد الجماع الواقع فيه كالجماع الواقع
في ليالي الصيام المتتابع وقال القائلون ليس الخارج معتكفا ولكن زمان خروجه مستثنى وكأنه قال لله على
اعتكاف عشرة أيام الا أوقات خروجي لقضاء الحاجة وأجابوا عن الجماع وحملوا كونه مفسدا
على اشتغال الخارج بما لا يتعلق بحاجته وقد يقولون لو عاد مريضا ينقطع تتابعه وإن كان خروجه
لقضاء الحاجة كما سنفصله حتى لو فرض الجماع مع الاشتغال بقضاء الحاجة على بعد في تصويره لم
يفسد الاعتكاف وهذا بعيد والصحيح انه يفسد الاعتكاف وان قلنا إنه غير معتكف فإنه عظيم
الموقع في الشريعة وهو وإن قرب زمانه أظهر تأثيرا من عيادة المريض وقد ذكر الأصحاب أن
الخارج لقضاء الحاجة ان عاد مريضا في طريقه ولم يحتج إلى الازورار فلا بأس بذلك ولو ازاو وعاد
المريض انقطع التتابع وان قرب الزمان على وجه كان يحتمل مثله في الأناة فان هذا يقدح في القصد
المجرد إلى قضاء الحاجة وذكر الأصحاب ان الخارج لقضاء الحاجة لو أكل لقما فلا بأس إذا لم يجد
كل مقصوده ولم يظهر طول زمان معتبر والجماع في هذا الوقت مؤثر بلا خلاف ومن تكلف تصويره
فرضه في جريانه مع الاشتغال بالذهاب لقضاء الحاجة هذا آخر كلام امام الحرمين *
(فرع) لو جامع الخارج لقضاء الحاجة في مروره بأن كان في هودج أو جامع في وقفة يسيرة
أو قبل امرأته بشهوة وأنزل وقلنا بالمذهب انه يؤثر ففي بطلان اعتكافه وجهان سبقا في كلام امام
الحرمين وذكرهما آخرون (أصحهما) بطلان اعتكافه وبه قطع المتولي وآخرون لأنه أشد منافاة
للاعتكاف ممن أطال الوقوف لعيادة مريض (والثاني) لا يبطل لأنه لم يصرف إليه زمنا وليس
هو في هذه الحالة معتكفا على أحد الوجهين كما سبق والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
{ويجوز أن يمضي إلى البيت للاكل ولا يبطل اعتكافه وقال أبو العباس لا يجوز فان خرج بطل
اعتكافه لأنه يمكنه أن يأكل في المسجد فلا حاجة له والمنصوص هو الأول لان الاكل في المسجد
ينقص المروءة فلم يلزمه} *
504

{الشرح} قال الشافعي في الام ومختصر المزني له الخروج من المسجد إلى منزله للاكل وان
أمكنه في المسجد فقال بظاهر النص جمهور الأصحاب وقال ابن سريج لا يجوز الخروج للاكل
وحكاه الماوردي عنه وعن أبي الطيب بن سلمة وحملا نص الشافعي على من أكل لقما إذا دخل
بيته مختارا لقضاء الحاجة ولا يقيم للاكل وجعلاه كعيادة المريض وخالفهما جمهور الأصحاب وقالوا
يجوز الخروج للاكل والإقامة في البيت من أجله على قدر حاجته وهذا هو الصحيح عند الأصحاب
لما ذكره الأصحاب واتفق أصحابنا على أنه لا يجوز له الإقامة بعد فراغه من الاكل كما اتفقوا على أنه
لا يجوز الإقامة بعد فراغه من قضاء حاجته لعدم الحاجة إلى ذلك واتفق أصحابنا على أنه يجوز
له الاكل في مروره لقضاء الحاجة (وأما) الخروج لشرب الماء فقال أصحابنا ان عطش فلم يجد الماء
في المسجد فله الخروج للشرب وان وجده في المسجد ففي جواز الخروج إلى البيت للشرب وجهان
حكاهما الماوردي والشاشي وآخرون (أصحهما) لا يجوز صححه الرافعي وغيره لان في الاكل في
المسجد تبذلا بخلاف الشرب قال الماوردي ولان استطعام الطعام مكروه واستسقاء الماء غير مكروه *
* قال المصنف رحمه الله *
{وفى الخروج إلى المنارة الخارجة عن رحبة المسجد ليؤذن ثلاثة أوجه (أحدها) يجوز وإن خرج لم
يبطل اعتكافه لأنها بنيت للمسجد فصارت كالمنارة التي في رحبة الجامع (والثاني) لا يجوز لأنها
خارجة من المسجد فأشبهت غير المنارة وقال أبو إسحاق المروزي إن كان المؤذن ممن يألف الناس
صوته جاز أن يخرج ولا يبطل اعتكافه لان الحاجة تدعو إليه لاعلام الناس بالوقت وإن لم يألفوا
صوته لم يخرج فان خرج بطل اعتكافه لأنه لا حاجة إليه} *
{الشرح} قال الشافعي رحمه الله تعالى في المختصر ولا باس إذا كان مؤذنا أن يصعد المنارة
وإن كانت خارجا هذا نصه قال أصحابنا للمنارة حالان (أحدهما) أن تكون مبنية في المسجد أو
في رحبته أو يكون بابها في المسجد أو رحبته المتصلة به فلا يضر المعتكف صعودها سواء صعدها
للاذان أو غيره كسطح المسجد هكذا قال الجمهور انه لا فرق بين أن تكون المنارة في المسجد
أو رحبته أو بابها متصلا بالمسجد أو رحبته وإن كانت خارجة عن سمت البناء وتربيعه فلا يبطل
505

الاعتكاف بصعودها بلا خلاف سواء صعدها المؤذن أو غيره هكذا صرح به الأصحاب واتفقوا
عليه ونقله إمام الحرمين عن الأصحاب فقال لو كانت المنارة خارجة عن سمت المسجد متصلة به وبابها
لاط فقد قطع الأصحاب بان صعودها لا يقطع التتابع وإن كانت لا تعد من المسجد ولو اعتكف
فيها لم يصح لان حريم المسجد لا يثبت له حكم المسجد في صحة الاعتكاف فيه وتحريم المكث فيه
على الجنب ولكن النص قاطع بما ذكرته ولم أر فيه خلافا مع الاحتمال الظاهر لان الخارج إليها
خارج إلى بقعة لا تصلح للاعتكاف هذا كلام الامام واختصره الرافعي فقال وأبدى امام الحرمين
احمالا في الخارجة عن سمته قال لأنها حينئذ لا تعد من المسجد ولا يصح الاعتكاف فيها قال
الرافعي وكلام الأصحاب ينازعه فيما استدل به وهذا الذي قاله الرافعي صحيح وسيأتي في كلام
المحاملي وغيره في فرع بعد هذا التصريح بخلاف ما استدل به إمام الحرمين رحمه الله والله تعالى
أعلم (الحال الثاني) أن لا يكون بابها في المسجد ولا رحبته المتصلة به بل تكون منفصلة
عنهما فلا يجوز للمعتكف الخروج إليها لغير الاذان بلا خلاف وفى المؤذن أوجه (أصحها) لا يبطل
في المؤذن الراتب في المسجد ويبطل في غيره (والثاني) يبطل فيهما (والثالث) لا يبطل فيهما وهذا
ظاهر النص كما سبق وهو مقتضى اطلاق المصنف في التنبيه لكن يتأول كلامه على موافقة
الأكثرين في الفرق بين المؤذن الراتب وغيره فيقال مراده إذا كان المؤذن راتبا وهكذا يحمل
قول المحاملي في المجموع وقول القاضي أبى الطيب في المجرد فإنهما قالا إذا كانت المنارة خارجة
عن المسجد والرحبة فالذي عليه عامة أصحابنا أن له صعودها للاذان ولا يضره في اعتكافه قالا
وهو ظاهر نص الشافعي قال ومن منعه تأول نص الشافعي على ما إذا كانت المنارة في الرحبة فالحاصل أن من قال لا يبطل الاعتكاف بصعود المنارة المنفصلة أخذ بظاهر نص الشافعي ومن قال يبطل
حمله على المنارة التي في رحبة المسجد قال المتولي وهذا القائل يقول إنما قال الشافعي وإن كانت
خارجا لان الناس في العادة لا يعدون الرحبة من المسجد ومن فرق بين المؤذن الراتب وغيره حمل
النص على الراتب وقد قدمنا أن الفرق بين الراتب وغيره هو الأصح وممن صححه البغوي والرافعي
(واعلم) أن صورة المسألة في منارة قريبة من المسجد مبنية له فاما غيرها فيبطل اعتكافه بالذهاب إليها
506

بلا خلاف وسواء الراتب وغيره هكذا صرح به جميع الأصحاب منهم الماوردي والسرخسي
وآخرون هو المفهوم من كلام المحاملي وابن الصباغ وصاحب العدة وغيرهم (وأما) قول الرافعي
فرض الغزالي المسألة والخلاف فيما إذا كان باب المنارة خارج المسجد وهي ملصقة بحريمه قال ولم
يشرط الجمهور في صورة الخلاف سوى كون بابها خارج المسجد قال وزاد أبو القاسم الكرخي
بالخاء المعجمة فذكر الخلاف فيما إذا كانت المنارة في رحبة منفصلة عن المسجد بينها وبينه طريق
فهذا الذي ذكره الرافعي لا يخالف ما نقلته عن اتفاق الأصحاب لان مراده أنهم لم يشرطوا ما شرطه
الغزالي والله أعلم *
{فرع} قال القاضي أبو الطيب في المجرد قال قال الشافعي في البويطي ويصح الاعتكاف في
المنارة قلت هذا محمول على منارة في رحبة المسجد أو بابها إليها كما سبق *
{فرع} قد ذكرنا أن المنارة التي في رحبة المسجد يجوز للمؤذن وغيره صعودها ولا يبطل
الاعتكاف بذلك نص عليه الشافعي واتفق الأصحاب عليه ومن المهم بيان حقيقة هذه الرحبة قال
صاحب الشامل والبيان المراد بالرحبة ما كان مضافا إلى المسجد محجرا عليه قالا والرجبة من
المسجد قال صاحب البيان وغيره وقد نص الشافعي على صحه الاعتكاف في الرحبة قال القاضي أبو
الطيب في المجرد قال الشافعي يصح الاعتكاف في رحاب المسجد لأنها من المسجد وقال المحاملي في
المجموع للمنارة أربعة أحوال (إحداها) أن تكون مبنية داخل المسجد فيستحب الاذان فيها لأنه
طاعة (الثانية) أن تكون خارج المسجد الا أنها في رحبة المسجد فالحكم فيها كالحكم لو كانت
في المسجد لان رحبة المسجد من المسجد ولو اعتكف فيها صح اعتكافه (الثالثة) أن تكون
خارج المسجد وليست في رحبته إلا أنها متصلة ببناء المسجد ولها باب إلى المسجد فله أن يؤذن
فيها لأنها متصلة بالمسجد ومن جملته (والرابعة) أن تكون خارج المسجد غير متصلة به ففيها الخلاف
السابق هذا كلام المحاملي بحروفه وفيه فوائد وعبارة شيخه أبي حامد في التعليق نحو هذا وكلام
غيرهما نحوه وفيه التصريح بخلاف ما استدل به إمام الحرمين في المنارة المتصل بابها بالمسجد كما
قدمناه عنه قريبا ووعدنا بذكر التصريح بنقل خلافه والله أعلم *
507

{فرع} اتفق الأصحاب على أن المأموم لو صلي في رحبة المسجد مقتديا بالامام الذي في
المسجد صحت صلاته وان حال بينهما حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة لم يضره لان الرحبة من
المسجد كما سبق ومما يتعلق بهذا هذا الموضع الذي هو باب جامع دمشق وهو باب الساعات فلو
صلي المأموم تحت الساعات بصلاة الامام في الجامع هل تصح صلاته لان هذا الموضع رحبة المسجد
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح لا يصح لأنه ليس برحبة وإنما الرحبة صحن الجامع وطال النزاع
بينهما وصفا فيه والصحيح قول ابن عبد السلام وهو الموافق لما قدمناه من كلام المحاملي وابن
508

الصباغ وصاحب البيان وغيرهم وقد تأملت ما صنفه أبو عمرو واستدلاله فلم أر فيه دلالة على
المقصود والله أعلم *
{فرع} لو دخل المؤذن المعتكف إلى حجرة مهيأة للسكنى بجنب المسجد وبابها إلى
المسجد بطل اعتكافه بلا خلاف صرح بالاتفاق عليه إمام الحرمين قال وإنما قلنا ما قلنا في المنارة
لأنها مبنية لإقامة شعار المسجد والله أعلم *
{فرع} المنارة هنا بفتح الميم بلا خلاف وكذلك منارة السراج بفتح الميم بلا خلاف
وجمعهما مناور ومنائر بهمزة بعد الألف والأصل مناور بالواو لأنها من النور قال الجوهري من
قال مناور بالواو لأنه من النور ومن قال منائر بالهمز فقد شبه الأصلي بالزائد كما قالوا مصائب وأصله
مصاوب والمنارة مفعلة من الاستنارة وقال صاحب الحكم جمعها مناور على القياس ومنائر على غير
القياس قال ثعلب من همز شبه الأصلي بالزائد (وأما) سيبويه فيحمل ماهمز من هذا على الغلط *
{فرع} رحبة المسجد قال الجوزي هي بفتح الحاء وجمعها رحب ورحاب ورحبات كقصبات
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{وان عرضت صلاة جنازة نظرت فإن كان في اعتكاف تطوع فالأفضل ان يخرج لان صلاة
الجنازة فرض على الكفاية فقدمت على الاعتكاف وإن كان في اعتكاف فرض لم يخرج لأنه
تعين عليه فرضه فلا يجوز أن يخرج لصلاة الجنازة التي لم يتعين عليه فرضها فان خرج بطل اعتكافه
لأنه غير مضطر إلى الخروج لان غيره يقوم مقامه} *
{الشرح} قوله فإن كان في اعتكاف مفروض هو بتنوين اعتكاف ويجوز اضافته إلى
مفروض قال الشافعي في مختصر المزني ولا يعود المعتكف المريض ولا يشهد الجنائز إذا كان
اعتكافه واجبا قال أصحابنا إن كان الاعتكاف تطوع وأمكنه الصلاة على الجنازة في المسجد
لم يخرج لأنه مستغن عن الخروج وان لم يمكنه خرج لما ذكره المصنف وهذا لا خلاف فيه وإن كان
اعتكافا مندوبا فوجهان (الصحيح) المشهور الذي نص عليه الشافعي وقطع به المصنف والجمهور
أنه لا يجوز الخروج لصلاة الجنازة سواء تعينت عليه أم لا لأنها ان لم تتعين عليه فغيره يقوم مقامه
509

فيها ولا يترك الاعتكاف المتعين لغير متعين وان تعينت عليه أمكن فعلها في المسجد باحضار الميت
فيه فلا يجوز الخروج (والوجه الثاني) ان تعينت عليه جاز الخروج لها والا فلا حكاه الدارمي
والسرخسي وغيرهما ونسبها الدارمي إلى ابن القطان وحكى الماوردي هذا الوجه بعبارة أخرى فقال
إن كان الميت من ذوي أرحامه وليس له من يقوم بدفنه فهو مأمور بالخروج لذلك فيخرج وإذا
رجع بني وفيه أوجه انه يستأنف هذا نقل الماوردي وإذا لم نجوز الخروج لصلاة الجنازة فخرج
لذلك بطل اعتكافه وإن خرج لقضاء الحاجة فصلي في طريقه على جنازة فان وقف لها ينتظرها أو
عدل عن طريقه إليها بطل اعتكافه بلا خلاف وان صلي عليها في طريقه من غير وقوف لها ولا عدول
إليها ففيه طرق (أصحها) وبه قطع الجمهور لا يبطل اعتكافه لأنه زمن يسير ولم يخرج له وممن قطع
بهذا الطريق إمام الحرمين والغزالي وصححه الرافعي (والثاني) فيه وجهان (أحدهما) يبطل اعتكافه
(وأصحهما) لا وبهذا الطريق قطع المتولي وغيره قالوا وهذان الوجهان كوجهين سنذكرهما في عيادة
المريض إن شاء الله تعالى إذا وقف لها ولم يطل الزمان (والصحيح) فيهما أنه لا يبطل في الموضعين
(والطريق الثالث) إن تعينت عليه صلاة الجنازة لم يضر وإلا وجهان حكاهما الرافعي (والرابع)
ان لم يتعين عليه بطل اعتكافه والا فوجهان وبه قطع البغوي وهو غلط أو كالغلط والمذهب
الطريق الأول وجعل إمام الحرمين والغزالي قدر صلاة الجنازة حدا للوقفة اليسيرة وإلا فهي معفو
عنها لكل غرض في حق من خرج لقضاء الحاجة ومن ذلك أن يقف ويأكل لقما قدرها إذا لم نجوز
الخروج للاكل والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ويجوز أن يخرج من اعتكاف التطوع لعيادة المريض لأنها تطوع والاعتكاف تطوع
فخير بينهما فان اختار الخروج بطل اعتكافه لأنه غير مضطر إليه فان خرج لما يجوز الخروج
له من قضاء حاجة الانسان والاكل فسأل عن المريض في طريقه ولم يعرج جاز ولم يبطل اعتكافه
فان وقف بطل اعتكافه لما روى عن عائشة رضي الله عنها " أنها كانت إذا اعتكفت لا تسأل
عن المريض الا وهي تمشى ولا تقف " ولأنه لا يترك والاعتكاف بالمسألة فلم يبطل اعتكافه وبالوقوف
يترك الاعتكاف فبطل} *
510

{الشرح} الأثر المذكور عن عائشة رضي الله عنها صحيح رواه مسلم في صحيحه وهذا
لفظه عن عائشة قالت " أن كنت لأدخل البيت للحاجة والمريض فيه فما أسأل عنه الا وأنا مارة "
ذكره مسلم في كتاب الطهارة (أما) حكم المسألة فقال أصحابنا إن كان اعتكاف تطوع جاز أن
يخرج لعيادة المريض لما ذكره المصنف ونقل القاضي أبو الطيب في المجرد عن الأصحاب أنهم
قالوا البقاء في الاعتكاف أو عيادة المريض سواء لأنهما طاعتان مندوب إليهما فاستويا وهذا
موافق لقول المصنف وآخرين حكاه صاحب الشامل ثم قال وهذا مخالف للسنة لان النبي صلى الله عليه
وسلم كان لا يخرج من الاعتكاف لعيادة المريض وكان اعتكافه نفلا لا نذرا والمذهب
ما قدمناه عن الأصحاب (فاما) الاعتكاف المنذور فلا يجوز الخروج منه لعيادة المريض هكذا
نص عليه الشافعي في المختصر والأصحاب في جميع طرقهم لان الاعتكاف المنذور واجب فلا يجوز
الخروج منه إلى سنة وانفرد صاحب الحاوي فقال إن خرج لعيادة المريض من غير شرط لذلك
في نذره فإن كان من ذوي رحمه وليس له من يقوم به فهو مأمور بالخروج إليه وإذا عاد بنى على
اعتكافه كالمرأة إذا خرجت لقضاء العدة ثم عادت تبنى وفيه وجهان وفيه وجه أنه يستأنف وهذا
الذي ذكره صاحب الحاوي غريب وقد نقله أيضا السرخسي عن صاحب التقريب قال وله أن يبقى
عند المريض إلى أن يبرأ ثم يعود وهذا اختيار لصاحب التقريب لم ينقله والله أعلم * واتفق أصحابنا
وغيرهم على أنه يستحب له عيادة مريض في المسجد (أما) إذا خرج لقضاء الحاجة فعاد في طريقه
مريضا فإن لم يقف لسبب العيادة ولا عدل عن طريقه بسببها بل اقتصر على السؤال جاز ولا
ينقطع اعتكافه المنذور المتتابع بلا خلاف لحديث عائشة السابق ولأنه لم يفوت زمانا بسببه وان
وقف للعيادة وأطال بطل اعتكافه بلا خلاف كما لو خرج للعيادة وإن لم يطل فطريقان (أصحهما)
لا يبطل اعتكافه وجها واحدا وبه قطع البغوي والأكثرون وادعى إمام الحرمين اتفاق الأصحاب
عليه ووجهه أنه قدر يسير ولم يخرج بسببه (والطريق الثاني) فيه وجهان (أحدهما) هذا (والثاني) يبطل وبهذا
الطريق قطع المتولي ووجه البطلان أنه غير محتاج إليه قال المتولي والرجوع في القلة والكثرة في
هذا إلى العرف حتى إن كان المريض في داره التي يقصد لقضاء الحاجة وطريقه في صحنها والمريض
في بيت أو حجرة منها فهو قريب وإن كان في درب آخر فهو طويل ولو أزور عن الطريق لعيادة
511

المريض فإن كان كثيرا بطل اعتكافه بلا خلاف وإن كان قليلا فوجهان حكاهما المتولي وغيره
(أصحهما) يبطل وبه قطع البغوي وهو مقتضى كلام الجمهور قال البغوي ولو وقف للاستئذان على
المريض بطل اعتكافه هذا كلامه ويجئ فيما إذا لم يطل الوقوف الخلاف السابق والله أعلم *
{فرع} لو خرج لزيارة القادم من سفر بطل اعتكافه المنذور فان خرج لقضاء الحاجة فزاره
في طريقه فحكمه حكم عيادة المريض فيجئ ما سبق من التفصيل والخلاف هكذا ذكره المتولي وغيره
وهو ظاهر والله أعلم *
{فرع} في مذاهب العلماء في خروج المعتكف من اعتكاف نذر لعيادة مريض أو صلاة
جنازة * قد ذكرنا أنه لا يجوز عندنا ويبطل به الاعتكاف وحكاه ابن المنذر عن عطاء ومجاهد
وعروة بن الزبير والزهري ومالك وأبي حنيفة واسحق وأبي ثور وهي أصح الروايتين عن أحمد
واختاره ابن المنذر ورواه البيهقي عن سعيد بن المسيب وقال الحسن البصري وسعيد بن جبير
والنخعي يجوز قال ابن المنذر روى ذلك عن علي ولم يثبت عنه * واحتج لهؤلاء بحديث يروى عن أنس
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " المعتكف يتبع الجنازة ويعود المريض " رواه ابن ماجة وهو
من رواية هياج الخراساني عن عنبسة بن عبد الرحمن وهما ضعيفان متروكا الحديث
لا يجوز الاحتجاج برواية واحد منهما * واحتج أصحابنا بحديث عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم
" كان لا يدخل البيت الا لحاجة الانسان " رواه مسلم بهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم بألفاظ أخر
تقدم بيانها في هذا الباب مجموعة وبحديث عائشة الموقوف عليها قالت " أن كنت لأدخل البيت
للحاجة والمريض فيه فما اسأل عنه إلا وأنا مارة " رواه مسلم كما سبق بيانه فهذان هما المعتمدان في
في هذه المسألة * واحتج أصحابنا أيضا بأشياء ضعيفة الاسناد (منها) حديث عائشة " كان النبي صلى الله عليه
وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو ولا يعرج يسأل عنه " رواه أبو داود باسناد ضعيف
فيه ليث ابن أبي سليم وعن عبد الرحمن ابن إسحاق عن الزهري عن عائشة أنها قالت " السنة على
المعتكف أن لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امرأة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة إلا لما لا بد
512

له منه ولا اعتكف إلا بصوم ولا اعتكف إلا في مسجد جامع " رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما وعبد الرحمن
ابن إسحاق هذا مختلف في الاحتجاج به والأكثرون لا يحتجون به وقد روى له مسلم قال أبو داود
عن عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه قالت السنة وجعله قول عائشة وقال الدارقطني فقال إن
قوله السنة إلى آخره ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من كلام الزهري. ومن
أدرجه في الحديث فقد وهم وفال البيهقي ذهب كثير من الحفاظ إلى أن هذا الكلام إنما هو
من قول من دون عائشة وأن من أدرجه في الحديث فقد وهم فيه والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{فان حضرت الجمعة وهو من أهل الفرض والاعتكاف في غير الجامع لزمه أن يخرج إليها
لان الجمعة فرض بالشرع فلا يجوز تركها بالاعتكاف وهل يبطل اعتكافه بذلك أم لا فيه قولان (قال)
في البويطي لا يبطل لأنه خروج لا بد منه فلا يبطل الاعتكاف كالخروج لقضاء حاجة الانسان (وقال)
في عامة كتبه يبطل لأنه يمكنه الاحتراز من الخروج بان يعتكف في الجامع فإذا لم يفعل بطل اعتكافه
كما لو دخل في صوم الشهرين المتتابعين فخرج بصوم رمضان} *
{الشرح} قال أصحابنا إذا اعتكف في غير الجامع وحضرت الجمعة وهو من أهل وجوبها
لزمه الخروج إليها بلا خلاف سواء كان اعتكافه نفلا أو نذرا لأنها فرض عين وهو مقصر حيث
لم يعتكف في الجامع فإن كان اعتكافه تطوعا بطل خروجه وإن كان نذرا غير متتابع لم يحسب له
مدة ذهابه ومكثه في الجامع ورجوعه فإذا عاد إلى المسجد بنى على اعتكافه الأول هذا هو المذهب
وبه قطع الجمهور وحكي السرخسي قولا أنه يحسب له زمان الخروج كما لو خرج لقضاء الحاجة وهذا
غريب ضعيف لان هذا مقصر بترك الجامع أو لا بخلاف قضاء الحاجة وإن كان نذرا متتابعا ولم
ينقض ففي بطلانه بالخروج خلاف حكاه المصنف والمحملي في المجموع والبغوي والسرخسي وخلائق
قولين وحكاه القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي وآخرون وجهين وغلط صاحب البيان حيث
أنكر على صاحب المهذب حكايته الخلاف قولين وقال إنما يحكيهما أكثر أصحابنا وجهين ثم اتفق
الأصحاب على أن الأصح انقطاع التتابع وبطلان اعتكافه وهو المشهور من نصوص الشافعي كما
ذكره المصنف وبه قطع الماوردي والمحاملي في التجريد والجرجاني وآخرون (والثاني) لا يبطل
513

وتعليلهما في الكتاب قال أصحابنا فان قلنا إن خروجه للجمعة يبطل اعتكافه فإن كان اعتكافه
المنذور أقل من أسبوع ابتدأ به من أول الأسبوع في أول مسجد شاء ويخرج للجمعة بعد انقضائه
وإن أراد الاعتكاف في الجامع ابتدأ به متى شاء وإن كان أكثر من أسبوع وجب ان يبتدئه في الجامع
فإن كان قد عين في نذره غير الجامع وقلنا يتعين لم يمكنه الوفاء بنذره الا بان يمرض وتسقط عنه
الجمعة أو يتركها عاصيا ويدوم على اعتكافه والله أعلم *
{فرع} في مذاهب العلماء في خروج المعتكف من اعتكاف منذور متتابع لصلاة الجمعة * ذكرنا
أن الصحيح من مذهبنا بطلان اعتكافه وبه قال مالك وهو رواية عن أبي حنيفة وقال سعيد بن
جبير والحسن البصري والنخعي واحمد وعبد الملك من أصحاب مالك وابن المنذر وداود
وأبو حنيفة في رواية عنه لا يبطل اعتكافه وقد ذكر المصنف دليل المذهبين والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
{فان تعين عليه أداء شهادة لزمه الخروج لأدائها لأنه تعين لحق آدمي فقدم على الاعتكاف
وهل يبطل اعتكافه بذلك ينظر فيه إن كان قد تعين عليه تحملها لم يبطل لأنه مضطر إلى الخروج
والي سببه وإن لم يتعين عليه تحملها فقد روى المزني أنه قال يبطل الاعتكاف وقال في المعتكفة
تخرج وتعتد ولا يبطل اعتكافها فنقل أبو العباس جواب كل واحد من المسألتين إلى الأخرى
وجعلهما على قولين (أحدهما) يبطل فيهما لان السبب حصل باختياره (والثاني) لا يبطل لأنه مضطر
إلى الخروج وحمل أبو إسحاق المسألتين على ظاهرهما فقال في الشهادة تبطل وفى العدة لا تبطل لأن المرأة
لا تتزوج لتطلق فتعتد والشاهد إنما يتحمل ليؤدي ولأن المرأة محتاجة إلى السبب وهو النكاح
للنفقة والعفة والشاهد غير محتاج إلى التحمل} *
{الشرح} قوله لان السبب حصل باختياره هذا يصح في الشاهد والمعتدة التي زوجته برضاها
ولا يصح في المجبرة وهي البكر في حق الأب والجد وكذا الثيب المجنونة وكذا الأمة * (أما) حكم
514

الفصل فقال أصحابنا إذا خرج لأداء الشهادة له أربعة أحوال (إحداها) أن لا يتعين عليه التحمل
ولا الأداء (والثانية) أن يتعين التحمل دون الأداء فيبطل اعتكافه بالخروج لأنه غير مضطر إليه
(الثالثة) أن يتعين الأداء دون التحمل فيبطل على المذهب وهو المنصوص وقول أبى اسحق وقال
أبو العباس فيه قولان وذكر المصنف دليل الجميع (الرابعة) أن يتعين الأداء والتحمل فالمذهب
أنه لا يبطل لأنه مضطر إلى الخروج والي سببه وبهذا قطع المصنف والجمهور وقيل فيه طريقان حكاهما
الماوردي والسرخسي وغيرهما (أصحهما) هذا (والثاني) على وجهين حكاهما الماوردي عن أصحابنا
البصريين (أحدهما) هذا (والثاني) يبطل اعتكافه لأنه يمكنه أداء الشهادة في المسجد بأن يحضره
القاضي وهذا ضعيف غريب هذا كله في اعتكاف منذور متتابع (فأما) إذا كان الاعتكاف تطوعا
وطلب الشهادة فيكون كغير المعتكف فعليه الإجابة حيث تجب على غيره لأنها أفضل من الاعتكاف
المتطوع به وإن كان الاعتكاف نذرا غير متتابع فإن كانت الشهادة متعينة لزمه الإجابة سواء دعى
لأدائها أو لحملها لأنه لا ضرر عليه في ذلك لأنه يمكنه البناء إذا عاد إلى المسجد وفي امتناعه من
الشهادة اضرار بالمشهود له وان لم تكن متعينة بأن كان لصاحب الشهادة شهود آخرون ففي لزوم
الإجابة وجهان حكاهما المتولي وغيره (أحدهما) لا يلزمه لأنه مشتغل بفرض متعين عليه وليس بالمشهود
له ضرورة إليه لتمكنه من غيره (والثاني) يلزمه لان أداء الشهادة عند طلبها فرض كما أن
الاعتكاف فرض ولكن الشهادة آكد لأنها حق آدمي يخاف فوته والاعتكاف يمكن تداركه
وقول القائل الأول لا ضرر على المشهود له يعارضه أن المعتكف لا ضرر عليه أيضا لأنه يمكنه
البناء والله أعلم *
{فرع} إذا دعي لتحمل شهادة قال المتولي إن كان اعتكافه تطوعا ولم يتعين بالتحمل
فالأولى أن لا يخرج وان تعين عليه التحمل لزمه الخروج لان ذلك واجب وإن كان اعتكافه
واجبا لم يلزمه الإجابة سواء كان متتابعا أم لا لأنه مشتغل بفرض فلا يلزمه قطعه وهل يباح له الخروج
ينظر فإن لم يكن شرط التتابع جاز الخروج لأنه لا يبطل بخروجه عبادته فيخرج فإذا عاد بنى وإن كان
شرط التتابع لم يجز الخروج لأنه يبطل ما مضى من عبادته وابطال العبادة الواجبة لا يجوز
هذا آخر كلام المتولي وقال الدارمي إذا دعي لتحمل شهادة وهناك غيره لم يجز فان خرج بطل اعتكافه
ولم يذكر الدارمي غير هذا والله أعلم *
515

{فرع} إذا شرعت المرأة في الاعتكاف فوجبت عليها عدة وفاة أو فراق فخرجت لقضائها
هل يبطل اعتكافها فيه طريقان حكاهما المصنف بدليلهما (أصحهما) عند الأصحاب وهو المنصوص
لا يبطل حتى إذا نذرت متتابعا أكملت العدة ثم عادت إلى المسجد وبنت على ما مضى (والثاني)
في بطلانه قولان (المنصوص) لا يبطل (والثاني) خرجه ابن سريج من مسألة الشهادة انه يبطل وذكر
المصنف والأصحاب الفرق بين الشهادة والعدة هكذا أطلق الجمهور المسألة وقال المتولي إذا نذرت
اعتكافا متتابعا بغير اذن الزوج وشرعت فيه فلزمتها العدة لزمها العود إلى مسكنها للاعتداد فإذا
خرجت ففي بطلان اعتكافها الطريقان قال فأما ان شرعت في الاعتكاف باذنه ولزمتها العدة فهل
يلزمها العود إلى منزلها للاعتداد أم لها البقاء في الاعتكاف حتى ينقضي فيه خلاف نذكره في كتاب
العدد إن شاء الله تعالى (فان قلنا) لها البقاء فخرجت بطل اعتكافها لأنها خرجت من غير ضرورة
(وان قلنا) يلزمها العود إلى المنزل فعادت هل تبنى بعد العدة أم يبطل اعتكافها فيه الطريقان السابقان
هذا كلام المتولي وذكر البغوي نحوه وزاد انها إذا لزمها الخروج للعدة في الصورة الأولى فمكثت
في الاعتكاف ولم تخرج عصت وأجزأها الاعتكاف قال الدارمي ولو قال لها الزوج أنت طالق ان
شئت فقالت وهي معتكفة شئت فيحتمل وجهين (أحدهما) انها كالشاهد المختار (والثاني) انها
كعدة وجبت بغير مشيئتها قلت الأول أصح والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
{وان مرض مرضا لا يأمن معه تلويث المسجد كانطلاق الجوف وسلس البول خرج كما يخرج
لحاجة الانسان وإن كان مرضا يسيرا يمكن معه المقام في المسجد من غير مشقة لم يخرج وان خرج بطل
اعتكافه وإن كان مرضا يحتاج إلى الفراش ويشق معه المقام في المسجد ففيه قولان بناء على القولين
في المريض إذا أفطر في صوم الشهرين المتتابعين فان أغمي عليه فأخرج من المسجد لم يبطل اعتكافه
قولا واحدا لأنه لم يخرج باختياره} *
516

{الشرح} قال الشافعي في المختصر فان مرض أو أخرجه السلطان واعتكافه واجب فإذا برأ
أو خلي بنى فان مكث بعد برئه شيئا من غير عذر ابتدأه هذا نصه قال أصحابنا المرض ثلاثة أقسام
(أحدها) مرض يسير لا تشق معه الا فامة في المسجد كصداع وحمى خفيفة ووجع الضرس والعين
ونحوها فلا يجوز بسببه الخروج من المسجد إذا كان الاعتكاف نذرا متتابعا فان خرج بطل
اعتكافه لأنه غير مضطر إليه (الثاني) مرض يشق معه الإقامة في المسجد لحاجته إلى الفراش والخادم
وتردد الطبيب ونحو ذلك فيباح له الخروج فإذا خرج ففي انقطاع التتابع طريقان حكاهما القاضي
أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي وآخرون (أحدهما) لا ينقطع قولا واحدا وهو ظاهر النص الذي
ذكرناه قال القاضي أبو الطيب في المجرد هو المنصوص للشافعي في كتبه (والثاني) فيه قولان وبهذا
الطريق قطع المصنف والبغوي والسرخسي وآخرون واتفقوا على أن الأصح هنا انه لا ينقطع
وتعليل الجميع في الكتاب (الثالث) مرض يخاف معه تلويث المسجد كانطلاق البطن وإدرار البول
والاستحاضة والسلس ونحوها فله الخروج وفى انقطاع التتابع طريقان الصحيح المشهور وبه قطع
المصنف والجمهور لا ينقطع قولا واحدا لما ذكره المصنف (والثاني) حكاه السرخسي وغيره فيه
قولان أما إذا أغمي عليه في الاعتكاف فإن لم يخرج من المسجد فأفاق فاعتكافه باق لا يبطل قال
المتولي والمذهب ان زمان الاغماء محسوب من الاعتكاف كما ذكرنا في الصائم إذا أغمي عليه بعض
النهار قال وفيه وجه انه لا يحسب ذلك الزمان عن الاعتكاف تخريجا من قولنا في الصائم إذا أغمي عليه
يبطل وبهذا الوجه قطع صاحب الحاوي قال بخلاف ما إذا نام المعتكف فإنه يحسب زمان نومه
كالمستيقظ في جريان الأحكام عليه هذا إذا لم يخرجه أهله من المسجد فأما إذا أخرجوه فلا ينقطع
تتابع اعتكافه لما ذكره المصنف هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وقال المتولي وآخرون هو كالمريض
ان خيف تلويث المسجد منه لم يبطل تتابعه بالاخراج والا ففيه القولان (أصحهما) لا يبطل أما إذا
جن فإن لم يخرجه وليه من المسجد حتى أفاق لم يبطل اعتكافه قال المتولي لكن لا يحسب زمان
الجنون من اعتكافه لان العبادات البدنية لا يصح من المجنون أداؤها في حال الجنون فان أخرجه
المولي فإن كان لا سبيل إلى حفظه في المسجد لم يبطل تتابع اعتكافه بلا خلاف وإن كان يمكن
517

حفظه قال المتولي فهو كالمريض فيكون فيه الخلاف والمذهب انه لا ينقطع تتابعه وهو الجاري على
القاعدة فإن لم يخرج باختياره وبهذا قطع الماوردي والقاضي أبو الطيب في المجرد والسرخسي وصاحب
العدة وآخرون ونقل الماوردي اتفاق الأصحاب عليه ونقل القاضي أبو الطيب عن نص الشافعي في
الام انه لو بقي في الجنون سنين ثم أفاق بنى فهذا هو الصواب والله أعلم *
{فرع} قال صاحب الشامل إذا أراد المعتكف الخروج للفصد والحجامة فإن كانت الحاجة داعية
إليه بحيث لا يمكن تأخره جاز الخروج له وإلا فلا كالمرض يفرق فيه بين الخفيف وغيره كما سبق *
* قال المصنف رحمه الله *
{قال في الام وإن سكر فسد اعتكافه ثم قال وإن ارتد ثم أسلم بنى على اعتكافه واختلف أصحابنا
فيه على ثلاثة طرف (فمنهم) من قال لا يبطل فيهما لأنهما لم يخرجا من المسجد وتأول قوله في السكران
على ما إذا سكر وأخرج انه لا يجوز اقراره في المسجد إذا خرج ليقام عليه الحد (ومنهم) من قال يبطل
فيهما لان السكران خرج عن أن يكون من أهل المقام في المسجد والمرتد خرج عن أن يكون من أهل
العبادات وتأول قوله في المرتد إذا ارتد في اعتكاف غير متتابع انه يرجع ويتم ما بقي (ومنهم) من حمل
المسألتين على ظاهرهما فقال في السكران يبطل لأنه ليس من أهل المقام في المسجد لأنه
لا يجوز اقراه فيه فصار كما لو خرج من المسجد والمرتد من أهل المقام فيه لأنه يجوز
اقراره فيه} *
{الشرح} هذان النصان مشهوران كما ذكرهما المصنف والأصحاب فيهما طرق متشعبة جمعها
الرافعي ونقحها فقال في المسألة ستة طرق (أصحها) بطلان اعتكاف السكران والمرتد جمعيا بطرآن
السكر والردة لأنهما أفحش من الخروج من المسجد وتأول هؤلاء نصه في السكران انه في اعتكاف
متابع فينقطع ونصه في المرتد انه اعتكاف غير متتابع فإذا أسلم بني لان الردة عندنا لا تحبط الأعمال
إلا إذا مات مرتدا (والطريق الثاني) لا يبطل فيهما لما ذكره المصنف (والثالث) فيهما قولان
(والرابع) تقرير النصين وبطلانه في السكران دون المرتد وذكر المصنف الفرق وهذا الطريق هو
الصحيح عند الشيخ أبي حامد وأصحابه ونقله صاحب الشامل عن أكثر الأصحاب (والخامس)
يبطل السكر لامتداد زمانه وكذا الردة إن طال زمنها وان قصر بنى (والسادس) يبطل بالردة
518

دون السكر لأنه كاليوم بخلاف الردة لأنها تنافى العبادات وهذا الطريق حكاه إمام الحرمين
والغزالي قال الرافعي ولم يذكره غيرهما وممن صحح الطريق الأول هو بطلان الاعتكاف فيهما
القفال وإمام الحرمين والبغوي والمتولي وغيرهم ونقل الماوردي وغيره أن الشافعي أمر الربيع أن
يضرب على مسألة المرتد ولا تقرأ عليه قال الماوردي قال هذا النقل عن الشافعي مذهب الشافعي انه
يبطل الاعتكاف لأنها أفحش من السكر وأسوأ حالا والله أعلم قال الرافعي وهذا الخلاف إنما
هو في أنه هل يبطل ما مضى من اعتكافه قبل الردة والسكر ويجب استئنافه إذا كان معتكفا عن نذر
متتابع أم يبقى صحيحا فيبنى عليه إذا زال السكر والردة فأما زمن الردة والسكر فلا يعتد به بلا
خلاف قال وفى وجه شاذ يعتد بزمان السكر قال وأشار امام الحرمين والغزالي إلى أن الخلاف في
الاعتبار بزمان الردة والسكر والصواب ما سبق والله أعلم قال الماوردي (فان قيل) لم قلتم ان الردة
إذا طرأت في الصيام تبطله وفى الاعتكاف خلاف (قلنا) لان الاعتكاف يتخلله ما ليس منه وهو
الخروج لقضاء حاجة الانسان وغير ذلك بخلاف الصيام والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{وان حاضت المعتكفة خرجت من المسجد لأنه لا يمكنها المقام في المسجد وهل يبطل اعتكافها ينظر
فيه فإن كان الاعتكاف في مدة لا يمكن حفظها من الحيض لم يبطل فإذا طهرت بنت عليه كما لو حاضت
في صوم ثلاثة أيام متتابعة} *
{الشرح} قال الشافعي في البويطي إذا حاضت المعتكفة خرجت فإذا طهرت رجعت وبنت
هكذا نص عليه ونقله عن نصه في البويطي القاضي أبو الطيب وغيره وقال أصحابنا إذا حاضت في
اعتكافها لزمها الخروج من المسجد فإذا خرجت وطهرت فإن كان اعتكافها تطوعا وأرادت البناء عليه
بنت وإن كان نذرا غير متتابع بنت وإن كان متتابعا فإن كان مدة لا يمكن حفظها من الحيض غالبا
بأن كان أكثر من خمسة عشر يوما لم يبطل التتابع بل تبنى عليه بلا خلاف وإن كانت مدة يمكن خفظها من
الحيض كخمسة عشر فما دونها فطريقان (أحدهما) ينقطع وبهذا جزم المصنف وطائفة (والثاني) فيه خلاف
كالخلاف في انقطاع تتابع صوم كفارة اليمين بالحيض إذا أوجبنا تتابعه ومنهم من حكى هذا الخلاف
وجهين ومنهم من حكاه قولين وممن حكاه البغوي والأصح الانقطاع قال البغوي ولو نفست فهو
كما لو حاضت والله أعلم *
519

{فرع} والمستحاضة المعتكفة لا يجوز لها الخروج من المسجد إن كان اعتكافها نذرا سواء المتتابع
وغيره لأنها كالطاهر لكن تحترز عن تلويث المساجد وقد ثبت في صحيح البخاري عن عائشة
رضي الله عنها قالت " اعتكفت مع النبي صلى الله عليه وسلم امرأة من أزواجه وهي مستحاضة فكانت
ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي " وممن ذكر المسألة صاحب الحاوي وابن المنذر وأشار
إلى أنها مجمع عليها *
{فرع} في مذاهب العلماء في المعتكفة إذا حاضت * قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يلزمها الخروج من
المسجد وإذا خرجت سكنت في بيتها كما كانت قبل الاعتكاف حتى ينقطع حيضها ثم تعود إلى
اعتكافها وحكاه ابن المنذر عن عمرو بن دينار والزهري وربيعة والأوزاعي ومالك
وأبي حنيفة قال وقال أبو قلابة تضرب خباءها على باب المسجد قال النخعي تضربه في دارها
حتى تطهر فتعود إلى الاعتكاف
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{وان أحرم المعتكف بالحج فان أمكنه أن يتم الاعتكاف ثم يخرج لم يجز أن يخرج فان خرج
بطل اعتكافه لأنه غير محتاج إلى الخروج وان خاف فوت الحج خرج للحج لان الحج يجب
بالشرع فلا يتركه بالاعتكاف فإذا خرج بطل اعتكافه لان الخروج باختياره لأنه كان يسعه
أن يؤخره} *
{الشرح} قال أصحابنا يصح إحرام المعتكف بالحج والعمرة فإذا أحرم بهما أو بأحدهما والوقت
واسع بحيث يمكن إتمام الاعتكاف ثم إدراك الحج لزمه إتمام الاعتكاف وان ضاق الوقت لزمه الخروج
للحج وينقطع اعتكافه المتتابع فإذا عاد من الحج لزمه استئنافه بلا خلاف لما ذكره المصنف والله أعلم
قال المصنف رحمه الله *
{وان خرج من المسجد ناسيا لم يبطل اعتكافه لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه " ولأنه لو أكل في الصوم ناسيا لم يبطل فكذلك إذا خرج من الاعتكاف
ناسيا لم يبطل وان خرج مكرها محمولا لم يبطل اعتكافه للخبر ولائه لو أوجر الصائم في فيه طعاما لم
520

يبطل صومه فكذلك هذا فان أكرهه حتى خرج بنفسه فيه قولان كالصائم إذا أكره حتى أكل
بنفسه وان أخرجه السلطان لإقامة الحد عليه فإن كان قد ثبت الحد باقراره بطل اعتكافه لأنه
خرج باختياره وان ثبت بالبينة ففيه وجهان (أحدهما) يبطل لأنه اختار سببه وهو الشرب والسرقة
(والثاني) لا يبطل لأنه لم يشرب ولم يسرق ليخرج ويقام عليه الحد وان خاف من ظالم فخرج
واستتر لم يبطل اعتكافه لأنه مضطر إلى الخروج بسبب هو معذور فيه فلم يبطل اعتكافه} *
{الشرح} هذا الحديث حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما ولفظهما عن ابن
عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الله تعالى تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما
استكرهوا عليه " (أما) الأحكام ففي الفصل مسائل (إحداها) إذا خرج من المسجد ناسيا للاعتكاف
لم يبطل لما ذكره المصنف هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور قال الرافعي وقيل في بطلانه قولان
قال (فان قلنا) لا يبطل فلم يتذكر الا بعد طول الزمان فوجهان كما لو أكل كثيرا ناسيا ذكر الوجهين
أيضا المتولي وغيره والأصح أنه لا يبطل (الثانية) لو حمل مكرها فاخرج لم يبطل اعتكافه لما ذكره
المصنف هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور قال الرافعي وقيل في بطلانه قولان كالمكره لأنه فارق
المسجد بعذر وان أكره حتى خرج بنفسه فطريقان (أصحهما) فيه قولان كالاكراه على الاكل في
الصوم (أصحهما) لا يبطل اعتكافه (والثاني) يبطل والطريق (الثاني) لا يبطل قولا واحد أو لو خاف
المعتكف من ظالم فخرج واستتر ففي بطلان اعتكافه قولان كالمكره (أصحهما) لا يبطل وممن
ذكر القولين فيه البغوي والرافعي وآخرون وأنكر جماعة على المصنف كونه جزم في مسألة الخائف من
ظالم بأنه لا يبطل وذكر في المكره القولين مع أن حكمهما جميعا سواء وهذا الانكار وإن كان
متجها (فجوابه) أنه فرع مسألة الظالم على الأصح واقتصر عليه قال البغوي ولو خاف من شئ آخر
غير الظالم فخرج ففيه القولان ومراده إذا حاف من حية أو حريق أو انهدام ونحو ذلك (فاما) إذا
خاف ممن يطالبه بحق واجب عليه فهو ظالم بالتغيب عنه فإذا خرج بطل اعتكافه قولا واحدا
521

وان خاف ممن عليه ذين وهو عاجز عنه فخرج ففيه القولان كالمكره لان مطالبته حينئذ حرام
فهو خارج للخوف من ظالم والله أعلم * (الثالثة) إذا أخرجه السلطان قال الشافعي في المختصر إذا
خلاه السلطان عاد إلى المسجد وبنى قال أصحابنا إذا أخرجه فله ثلاثة أحوال (أحدها) أن يكون
السلطان محقا في اخراجه فأخرجه لغير عقوبة بان وجب عليه حق وهو يماطل به مع قدرته عليه أو
يمتنع من أدائه فيبطل اعتكافه بلا خلاف لأنه مقصر وخارج باختياره في الحقيقة (الثاني) أن
يكون السلطان ظالما له في إخراجه بان أخرجه لمصادرة أو نحوها مما ليس عليه أو لدين هو عاجز
عنه ونحو ذلك لم يبطل اعتكافه على المذهب وبه قطع الشيخ أبو حامد والماوردي والمحاملي وابن
الصباغ والجمهور وقيل هو كالمكره فيكون فيه القولان وبهذا جزم البغوي والمتولي والرافعي ولعل
الأولون فرعوه على المذهب وهو أنه لا يبطل (الثالث) ان يخرجه ليقيم عليه عقوبة شرعية من حد أو
قصاص أو تعزير فان ثبت ذلك عليه باقراره بطل اعتكافه لما ذكره المصنف وإن ثبت بالبينة فنص
الشافعي انه لا يبطل ولا ينقطع به تتابعه فإذا عاد بني وللأصحاب طريقان (أصحهما) لا يبطل تتابعه
قولا واحدا كما نص عليه وبهذا قطع الماوردي والقاضي أبو الطيب في المجرد والمحاملي وابن الصباغ
وجمهور العراقيين (والثاني) فيه وجهان (أصحهما) لا يبطل تتابعه بهذا الطريق قطع المصنف والبغوي
والمتولي
وغيرهم وهذا الذي ذكرناه من الفرق بين أن يثبت الحد بالاقرار أو البينة صحيح كما ذكره المصنف
وقد ذكره أيضا البغوي والرافعي وغيرهما وأشار صاحب البيان إلى أن المصنف كالمنفرد بهذا
التفصيل وأن الأكثرين جزموا بأنه لا يبطل اعتكافه إذا أخرجه السلطان لإقامة الحد ولم يتعرضوا
للفرق بين الثبوت باقرار أو بينة وهذا الذي أشار إليه صاحب البيان ضعيف فقد ذكر التفصيل غير
المصنف كما سبق (وأما) الأكثرون فكلامهم محمول على ما إذا ثبت باقرار والله أعلم *
{فرع} قال الشافعي في الام إذا نذر اعتكافا ثم دخل مسجدا فاعتكف فيه ثم انهدم المسجد
فان أمكنه أن يقيم فيه أقام حتى يتم اعتكافه وان لم يمكنه خرج فإذا بني المسجد عاد وتمم اعتكافه
هذا نصه قال أصحابنا ان بقي موضع يمكن الإقامة فيه أقام ولا يجوز أن يخرج إن كان اعتكافا منذورا
وإن لم يبق منه موضع تمكن الإقامة فيه خرج فأتم اعتكافه في غيره من المساجد ولا يبطل اعتكافه
522

بالخروج لأنه لحاجة قال أصحابنا وأما قول الشافعي فإذا بني المسجد عاد وتمم اعتكافه فله تأويلان
(أحدهما) أنه عين المسجد الحرام أو مسجد المدينة والأقصى وقلنا يتعين (والثاني) مراده إذا نذر
اعتكافا غير متتابع ولا متعلق بزمان معين فإذا انهدم فله الخيار إن شاء انتظر بناءه وان شاء اعتكف
في غيره (والثالث) مراده إذا كان في قرية ليس فيها إلا مسجد واحد وانهدم (والرابع) حكاه صاحب
الشامل أنه قاله للاستحباب لأنه يستحب أن يعتكف في المسجد الذي نذر فيه *
* قال المصنف رحمه الله *
{وإن خرج لعذر ثم زال العذر وتمكن من العود فلم يعد بطل اعتكافه لأنه ترك الاعتكاف
من غير عذر فأشبه إذا خرج من غير عذر} *
{الشرح} قال أصحابنا حيث خرج لعذر لا يقطع التتابع ثم قضي شغله وزال عذره لزمه
المبادرة بالرجوع إلى المسجد عند فراغه إن كان نذره متتابعا فان أخر الرجوع من غير عذر بطل
اعتكافه لما ذكره المصنف وهل يجب تجديد النية إذا عاد فيه كلام سنذكره في آخر الباب إن شاء الله
تعالى وقد سبق بعضه في فصل النية من هذا الباب وبالله التوفيق *
* قال المصنف رحمه الله *
{ولا يجوز للمعتكف المباشرة بشهوة لقوله تعالي (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد)
فان جامع في الفرج ذاكرا للاعتكاف عالما بالتحريم فسد اعتكافه لأنه أحد ما ينافي الاعتكاف
فأشبه الخروج من المسجد وان باشر فيما دون الفرج بشهوة أو قبل بشهوة ففيه قولان (قال) في الاملاء
يبطل وهو الصحيح لأنه مباشرة محرمة في الاعتكاف فبطل بها كالجماع (وقال) في الام لا يبطل
لأنها مباشرة لا تبطل الحج فلم تبطل الاعتكاف كالمباشرة بغير شهوة (وقال) أبو إسحاق المروزي لو قال
قائل أنه ان انزل بطل وان لم ينزل لم يبطل كالقبلة في الصوم كان مذهبا وهذا قول لم يذهب إليه
أحد من أصحابنا ويخالف الصوم فان القبلة فيه لا تحرم على الاطلاق فلم يبطل على الاطلاق والقبلة
في الاعتكاف محرمة على الاطلاق فأبطلته على الاطلاق ويجوز أن يباشر بغير شهوة ولا يبطل اعتكافه
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إلى رأسه فأرجله " وان
523

باشر ناسيا لم يبطل اعتكافه. لقوله صلى الله عليه وسلم " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا
عليه " ولان كل عبادة أبطلتها مباشرة العامد لم تبطلها مباشرة الناسي كالصوم وان باشرها وهو جاهل
بالتحريم لم يبطل لان الجاهل كالناسي وقد بينا ذلك في الصلاة والصوم} *
{الشرح} قوله مباشرة محرمة احتراز من المباشرة بغير شهوة (وقوله) مباشرة لا تبطل الحج
احتراز من الجماع * (أما) حكم الفصل فاتفق أصحابنا على أنه يجوز للمعتكف المباشرة بغير شهوة باليد
والقبلة على سبيل الشفقة والاكرام أو لقدومها من سفر ونحو ذلك لحديث عائشة وهو في الصحيحين
قال الماوردي لكنه يكره ويحرم عليه الجماع وجميع المباشرات بالشهوة بلا خلاف واتفق أصحابنا
على ذلك ونقل الماوردي وآخرون اتفاق الأصحاب عليه والقاضي أبو الطيب (وأما) قول صاحب
العدة فأما المباشرة من القبلة واللمس ونحوهما فهل يحرم فيه قولان فغلط منه والصواب القطع بتحريمها
وإنما القولان في إفساد الاعتكاف بها وكلامه في تفريع ذلك يقتضى أن مراده أن التحريم متفق
عليه وإنما الخلاف في الافساد وكأنه وقع منه سبق قلم وقريب من عبارته عبارة الغزالي في الوسيط
فإنه قال في مقدمات الجماع كالقبلة والمعانقة قولان (أحدهما) يحرم ويفسد كما في الحج (والثاني) لا كما
في الصوم هذا لفظه وفيه انكاران (أحدهما) أنه أوهم أن الخلاف جار فيه التحريم والتحريم متفق
عليه وإنما الخلاف في الافساد (والثاني) قوله ويفسد كما في الحج ومعلوم أن الحج لا يفسد بغير
الجماع من المباشرات والصواب الجزم بالتحريم فلا خلاف فيه وإنما ذكرت قول الغزالي وصاحب العدة
لبيان الغلط فيهما لئلا يغتر بهما ويتوهم في المسألة خلاف في التحريم مع أنه حرام بلا خلاف والله
أعلم * فان جامع المعتكف ذاكرا للاعتكاف عالما بتحريمه بطل اعتكافه باجماع المسلمين سواء كان
جماعه في المسجد أو عند خروجه لقضاء الحاجة ونحوه من الاعذار التي يجوز لها الخروج وقد سبق
وجه شاذ أنه لا يبطل إذا جامع حال خروجه لقضاء الحاجة من غير مكث وقد سبق تضعيفه فان
جامع ناسيا للاعتكاف أو جاهلا تحريمه لم يبطل على المذهب وبه قطع العراقيون وجماعات من
الخراسانيين وقال أكثر الخراسانيين فيه الخلاف السابق في نظيره في الصوم والله أعلم * ونقل
المزني عن نص الشافعي في بعض المواضع أن الاعتكاف لا يفسده من الوطئ إلا ما يوجب الحد قال
524

امام الحرمين مقتضي هذا أن لا يفسد بالوطئ في الدبر ووطئ البهيمة إذا لم نوجب فيهما الحد وهذا
الذي قاله الامام عجب فان المذهب المشهور أن الاعتكاف يفسد بكل وطئ سواء المرأة والبهيمة
واللواط وغيره ولا خلاف في هذا (وأما) نص الشافعي المذكور فمحمول على أنه لا يفسد بالمباشرة
بالذكر فيما دون الفرج لا أنه أراد حقيقة الفرج وكلام المزني ثم أصحابنا أجمعين في جميع الطرق
مصرح بما ذكرته ومن أظرف العجائب قول امام الحرمين هذا مع علو مرتبته وتفذذه في العلوم
مطلقا رحمه الله والله أعلم * أما إذا لمس أو قبل بشهوة أو باشر فيما دون الفرج بذكره متعمدا عالما
ففيه نصان للشافعي وقال امام الحرمين وغيره اضطربت النصوص فيه وللأصحاب في المسألة طرق
ذكر المصنف منها طريقين (أحدهما) في فساد الاعتكاف بذلك قولان (أصحهما) يفسد (والثاني)
لا (والطريق الثاني) إن انزل فسد وإلا فلا وذكر الطبري في العدة طريقا آخر أنه لا يفسد قولا
واحدا كما لا يفسد الصوم قال وهذا القائل تأول نص الشافعي في الافساد على أنه أراد بالمباشرة
الجماع قال ومن قال بالقولين اختلفوا (منهم) من قال هما إذا انزل فإن لم ينزل لم يفسد قطعا (ومنهم)
من قال قولان سواء أنزل أم لا هذا نقل الطبري وقال امام الحرمين اللائق بالتحقيق القطع بأن
المباشرة مع الانزال يفسد بها الاعتكاف وإنما القولان إذا لم يكن انزال قال وذكر بعض أصحابنا
قولين في المباشرة مع الانزال قال وهذا مشهور في الحكاية ولا اتجاه له أصلا ثم قال والظاهر اعتبار
فساد الاعتكاف بفساد الصوم وقال المحاملي في كتابيه المجموع والتجريد وصاحب البيان
الصحيح من القولين أنه لا يفسد الاعتكاف سواء انزل أم لا وقال القاضي أبو الطيب في
المجرد المشهور من مذهبه أنه لا يفسد اعتكافه سواء انزل أم لا (والثاني) يفسد انزل أم لا
قال ومن أصحابنا من قال إن لم ينزل لم يبطل وان انزل فقولان قال القاضي هذا غلط لا يعرف
ان الشافعي اعتبر الانزال في شئ من كتبه وقال صاحب التتمة الصحيح انه ان أنزل بطل اعتكافه
كالصوم والا فقولان (أحدهما) لا يبطل كالصوم (والثاني) يبطل والفرق ان هذه المباشرة محرمة
في الاعتكاف لعينها لحرمة المسجد والاعتكاف كالحج وليست في الصوم محرمة لعينها بل لخوف الانزال
فإذا لم ينزل لم يبطل صومه وقال البغوي أصح القولين فساد الاعتكاف ثم قيل هما إذا لم ينزل فان
525

أنزل فسد وقيل هما إذا أنزل والا فلا يفسد وقيل هما في الحالين وذكر الدارمي والسرخسي مثله
لكن لم ينصا على الأصح فهذه طرق الأصحاب ومختصرها ان جمهور العراقيين لا يعتبرون
الانزال واعتبره أبو إسحاق المروزي والدارمي من العراقيين وجماهير الخراسانيين واختلفوا
في الأصح من القولين كما تراه وقال الرافعي الأصح عند الجمهور انه ان أنزل بطل اعتكافه
والا فلا والله أعلم *
{فرع} إذا استمنى بيده فإن لم ينزل لم يبطل اعتكافه بلا خلاف وان أنزل قال البغوي
والرافعي ان قلنا إذا لمس أو قبل فأنزل لا يبطل فهنا أولي والا فوجهان لان كمال اللذة باصطكاك
البشرتين والأصح البطلان أما إذا نظر فلا يبطل اعتكافه قطعا كما سبق في الصوم وممن صرح به هنا
والدارمي والله أعلم *
{فرع} قال البغوي كل موضع لزم المعتكف غسل الجنابة اما باحتلام وإما بجماع ناسيا أو باشر
فيما دون الفرج بشهوة وأنزل وقلنا لا يبطل اعتكافه بذلك فمكث في المسجد عصي الله تعالى بل
يجب عليه الخروج للاغتسال ويحرم المكث مع التمكن من الخروج ولا يحسب زمان الجنابة من
الاعتكاف وكذلك زمان السكر إذا لم يخرج من المسجد لأنهما ممنوعان من المسجد وقيل يحسب
لهما لأنه ليس فيه الا انه عاص كما لو أكل حراما آخر وقيل يحسب زمان السكر دون زمان الجنابة
لان عصيان الجنب للمكث في المسجد وعصيان السكران للشرب والمذهب الأول حتى لو نذر
اعتكافا فاعتكفه جنبا لا يحسب له كما لو نذر أن يقرأ القرآن فقرأه جنبا لا يحسب له عن نذره لان
النذر للقربة وما يفعله ليس بقربة بل معصية ولو حاضت المعتكفة لزمها الخروج فإن لم تخرج لم
يحسب زمان الحيض وكذلك إذا ارتد لان المرتد ليس أهلا للعبادة هذا آخر كلام البغوي وذكر
نحوه الرافعي وغيره قال أصحابنا ويلزم الجنب المبادرة بالغسل في الصور المذكورات لكي لا يبطل
تتابعه قالوا وله الخروج من المسجد للاغتسال سواء أمكنه الغسل في المسجد أم لا لأنه أصون
للمسجد ولمروءته *
{فرع} المرأة المعتكفة كالرجل المعتكف في تحريم الجماع والمباشرة بشهوة وفى افساده بهما
ويفرق بين العالمة الذاكرة المختارة والناسية والجاهلة والمكرهة كما سبق والله أعلم *
526

{فرع} إذا جامع المعتكف عن نذر متتابع ذاكرا له عالما بالتحريم فقد ذكرنا انه يفسد اعتكافه
بالاجماع ولا تلزمه الكفارة عندنا وبه قال جماهير العلماء قال الماوردي هو قول جميع الفقهاء
الا الحسن البصري والزهري فقال عليه كفارة الواطئ في صوم رمضان قال العبدري وهو أصح
الروايتين عن أحمد قال ابن المنذر أكثر أهل العلم على أنه لا كفارة عليه وهو قول أهل المدينة
والشام والعراق وقال الحسن والزهري عليه ما على الواطئ في صوم رمضان وعن
الحسن رواية أخرى انه يعتق رقبة فان عجز أهدى بدنة فان عجز تصدق بعشرين صاعا
من تمر *
{فرع} في مذاهب العلماء في جماع المعتكف ناسيا * قد ذكرنا انه لا يفسد اعتكافه عندنا
وبه قال داود * وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد يفسد * دليلنا الحديث الذي ذكره المصنف وقد سبق
انه حديث حسن وهو عام على المختار فيحتج بعمومه الا ما خرج بدليل كغرامة المتلفات وغيرها *
{فرع} في مذاهبهم في المباشرة دون الفرج بشهوة * قد سبق الخلاف في مذهبنا
وقال أبو حنيفة وأحمد إن أنزل بطل اعتكافه وإلا فلا * وقال مالك يبطل مطلقا وقال عطاء
لا يبطل مطلقا واختاره ابن المنذر والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{ويجوز للمعتكف أن يلبس ما يلبسه في غير الاعتكاف " لان النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف ولم
ينقل انه غير شيئا من ملابسه " ولو فعل ذلك لنقل ويجوز ان يتطيب لأنه لو حرم عليه الطيب لحرم
ترجيل الشعر كالاحرام " وقد روت عائشة أنها كانت ترجل شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الاعتكاف " فدل على أنه لا يحرم عليه التطيب ويجوز أن يتزوج ويزوج لأنه عبادة لا تحرم التطيب
فلا تحرم النكاح كالصوم ويجوز أن يقرأ القرآن ويقرئ غيره ويدرس العلم ويدرس غيره لان
ذلك كله زيادة خير لا يترك به شرط من شروط الاعتكاف ويجوز ان يأمر بالامر الخفيف في
ماله وصنعته ويبيع ويبايع ولكنه لا يكثر منه لان المسجد ينزه عن أن يتخذ موضعا للبيع والشراء
فان أكثر من ذلك كره لأجل المسجد ولم يبطل به الاعتكاف وقال في القديم ان فعل ذلك في اعتكاف
منذور رأيت أن يستقبله ووجهه ان الاعتكاف هو حبس النفس على الله عز وجل فإذا أكثر من
527

البيع والشراء صار قعوده في المسجد للبيع والشراء لا للاعتكاف والصحيح انه لا يبطل والأول
مرجوع عنه لان مالا يبطل قليله الاعتكاف لم يبطل كثيره كالقراءة والذكر ويجوز أن يأكل في
المسجد لأنه عمل قليل لابد منه ويجوز أن يضع فيه المائدة لان ذلك أنظف للمسجد ويغسل فيه
اليد وإن غسل في الطست فهو أحسن} *
{الشرح} حديث عائشة رواه البخاري ومسلم وفى الفصل مسائل (إحداها) قال الشافعي في
المختصر ولا بأس ان يلبس المعتكف والمعتكفة ويأكلا ويتطيبا بما شاءا قال أصحابنا يجوز
لهما من اللباس والطيب والمأكول ما كان جائزا قبل الاعتكاف وسواء رفيع الثياب وغيره ولا كراهة
في شئ من ذلك ولا يقال إنه خلاف الأولى هذا مذهبنا قال العبدري وبه قال أكثر العلماء
وقال احمد يستحب أن لا يلبس رفيع الثياب ولا يتطيب قال الماوردي وحكي عن طاوس وعطاء
انه ممنوع من الطيب كالحج * دليلنا ما ذكره المصنف ويخالف الحج لأنه شرع فيه كشف الرأس
واجتناب المخيط وتحريم النكاح وغير ذلك مما ليس في الاعتكاف (الثانية) يجوز أن يتزوج وأن يزوج
وقد نص عليه الشافعي في المختصر واتفق الأصحاب عليه ولا أعلم فيه خلافا (الثالثة) يجوز أن يقرا
القرآن ويقرئه غيره وأن يتعلم العلم ويعلمه غيره ولا كراهة في ذلك في حال الاعتكاف قال الشافعي
وأصحابنا وذلك أفضل من صلاة النافلة لان الاشتغال بالعلم فرض كفاية فهو أفضل من النفل ولأنه
مصحح للصلاة وغيرها من العبادات ولان نفعه متعد إلى الناس وقد تظاهرت الأحاديث بتفضيل
الاشتغال بالعلم على الاشتغال بصلاة النافلة وقد سبق بيان جملة من ذلك في مقدمة هذا الشرح قال الشافعي
والأصحاب فالأولى للمعتكف الاشتغال بالطاعات من صلاة وتسبيح وذكر وقراءة واشتغال بعلم
تعلما وتعليما ومطالعة وكتابة ونحو ذلك ولا كراهة في شئ من ذلك ولا يقال هو خلاف الأولى
هذا مذهبنا وبه قال جماعة منهم عطاء والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز * وقال مالك واحمد
يستحب له الاشتغال بالصلاة والذكر والقراءة مع نفسه قالا ويستحب أن لا يقرأ القرآن ولا يشتغل
بكتابة الحديث ولا بمجالسة العلماء كما لا يشرع ذلك في الصلاة والطواف * واحتج أصحابنا بان امر
القرآن وتعليم العلم والاشتغال به طاعة فاستحب للمعتكف كالصلاة والتسبيح ويخالف الصلاة
فإنه شرع فيها أذكار مخصوصة والخشوع وتدبرها وذلك لا يمكن مع الأقراء والتعليم (واما)
528

الطواف فقال أصحابنا لا نسلمه ولا يكره اقراء القرآن وتعليم العلم فيه والله أعلم * (الرابعة) قال
الشافعي والأصحاب يجوز للمعتكف ان يأمر في الخفيف من ماله وصنعته ونحو ذلك وأن يتحدث
بالحديث المباح وأن يبيع ويشترى ويؤجر ونحوهما من العقود بحيث لا يكثر ذلك منه فان أكثر
من ذلك كره ولم يبطل اعتكافه وحكي المصنف والأصحاب قولا قديما انه إن كان اعتكاف نذر
متتابع استأنفه وهذا شاذ ضعيف والمذهب الأول قال إمام الحرمين هذا المحكي عن القديم غلط
صريح ودليل الجميع في الكتاب * واستدل أصحابنا لإباحة الحديث المباح في الاعتكاف بحديث
صفية أم المؤمنين رضي الله عنها " أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه
في المسجد فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها حتى إذا
بلغت باب المسجد مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما رسول
الله صلى الله عليه وسلم على رسلكما أنما هي صفية بنت حتى فقالا سبحان الله وكبر عليهما فقال
النبي صلى الله عليه وسلم سبحان الله إن الشيطان يجرى من الانسان مجرى الدم وانى خشيت أن
يقذف في قلوبكما شيئا " رواه البخاري ومسلم *
{فرع} قد ذكر المصنف أنه يجوز للمعتكف أن يبيع ويشتري ولا يكثر منه فان أكثر
كره وهكذا قاله البغوي وكثيرون أو الأكثرون وقد نص الشافعي في المختصر على إباحة البيع
للمعتكف فقال ولا باس على المعتكف أن يبيع ويشترى ويخيط ويجالس العلماء ويتحدث بما أحب
ما لم يكن اثما هذا نصه واختلفت عبارة الأصحاب في ذلك فقال المصنف ما قدمناه ووافقه عليه
من ذكرناه وقطع الماوردي بان البيع والشراء وعمل الصنائع في المسجد مكروه للمعتكف وغيره
ولا يبطل به الاعتكاف وقال صاحب الشامل فان باع المعتكف أو اشترى فلا بأس به نص عليه
الشافعي في الام وفى القديم قال في القديم ولا يكثر من التجارة لئلا يخرج عن حد الاعتكاف
قال وقال في البويطي وأكره البيع والشراء في المسجد قال صاحب الشامل فالمسألة على قولين
(أصحهما) يكره البيع والشراء في المسجد (والثاني) لا يكره قال فإن كان محتاجا إلى شراء قوته
وما لا بد له منه لم يكره قال فاما الخياطة فان خاط ثوبه الذي يحتاج إلى لبسه جاز وإن كان كثيرا
فتركه أولى هذا كلام صاحب الشامل وجزم الشيخ أبو حامد بكراهة البيع والشراء في المسجد
529

وقال القاضي أبو الطيب في المجرد قال الشافعي في البويطي وأكره البيع والشراء في المسجد فان
باع معتكف أو غيره كرهته والبيع جائز قال القاضي بسبب المسجد لا بسبب الاعتكاف قال
وهي كراهة تنزيه لا تحريم هذا كلام القاضي وقال المحاملي في المجموع قال الشافعي في المختصر
والام والقديم ولا باس ان يبيع المعتكف ويشترى ويخيط وفى كراهته قولان (أرجحهما)
الكراهة قال وقول الشافعي لا باس به أراد انه لا يؤثر في الاعتكاف ولا يمنع منه لأجله (فاما) المسجد
فهو مكروه للمعتكف وغيره وقال المتولي إذا اشتغل المعتكف بالبيع والشراء فإن كان محتاجا
إليه لتحصيل قوته لم يكره وان قصد به التجارة وطلب الزيادة فقد نص في الام أنه لا باس به ونقل
530

البويطي أنه يكره البيع والشراء في المسجد فحصل في المسألة قولان (الصحيح) كراهته وقال
السرخسي في البيع والشراء للمعتكف نصان مختلفان وللأصحاب فيهما طريقان (أحدهما) في كراهته
قولان (والثاني) أنهما على حالين فان اتفق البيع نادرا لم يكره وان اتخذه عادة منع منه وقال الدارمي
يكره للمعتكف البيع والشراء في المسجد فإن لم يكن له من يشترى له الخبز خرج له هذا كلام
الأصحاب وحاصله أن الصحيح كراهة البيع والشراء في المسجد الا أن يحتاج إليه لضرورة ونحوها
وقد سبق بيان هذا بادلته في آخر باب ما يوجب الغسل والله أعلم *
{فرع} قد ذكرنا قريبا عن نص الشافعي في المختصر وغيره أنه لا باس على المعتكف أن
يخيط في المسجد وهذا فيه خلاف عندنا في حق المعتكف إذا خاط ما تدعوا حاجته إليه ولا كراهة
حينئذ (فاما) غير المعتكف والمعتكف إذا اتخذ مسجدا محلا لذلك وأكثر فيه من الخياطة ونحوها
531

فهو مكروه ولا يبطل به اعتكافه على المشهور من مذهبنا وفيه القول القديم الذي حكاه المصنف
والأصحاب وهذا غلط كما سبق هذا مختصر كلام الأصحاب في ذلك قال الدارمي تكره الخياطة في المسجد
كالبيع وقليلها لحاجة جائز كالبيع وقال الماوردي البيع والشراء وعمل الصنائع في المسجد مكروه للمعتكف
وغيره وقليل ذلك أخف من كثيره وقال صاحب الشامل ان خاط ثوبه الذي يحتاج إلى لبسه لم
يكره وإن كان كثيرا فتركه أولي وقال البغوي ان عمل عملا مباحا يسيرا أو خاط شيئا من ثوبه
لم يكره فان قعد يحترف بالخياطة أو بحرفة أخرى كره وعبارات باقي الأصحاب نحو هذا والله أعلم *
532

وقد سبق في آخر باب ما يوجب الغسل بيان هذا كله وأشباهه مما يكره في المسجد أو يحرم أو
يباح أو يندب وأن رفع الأصوات فيه مكروه والبول حرام في غير إناء وفى اناء على الأصح والفصد
والحجامة ونحوهما فيه حرام في غير إناء ومكروه في الاناء والله أعلم *
{فرع} قال القاضي أبو الطيب في المجرد قال الشافعي في الام والجامع الكبير لا باس أن
يقص في المسجد لان القصص وعظ وتذكير قال (وأما) الحديث المباح فالأولى تركه فان فعل
533

فلا باس به ما لم يكن اثما وهذا الذي قاله الشافعي رحمه الله في القصص محمول على قراءة الأحاديث
المشهورة والمغازي والرقائق ونحوهما مما ليس فيه موضوع ولا مالا تحتمله عقول العوام ولا ما ذكره
أهل التواريخ والقصص من قصص الأنبياء وحكاياتهم فيها أن بعض الأنبياء جرى له كذا من
فتنة أو نحوها فان هذا كله يمتنع منه وقد سبق بيان هذا في آخر باب ما يوجب الغسل *
{فرع} قال الشافعي في المختصر ولا يفسد الاعتكاف سباب ولا جدال واتفق أصحابنا
على هذا قالوا ويستحب للمعتكف إذا سبه انسان ان لا يجيبه كما لا يجيبه الصائم فان
أجابه وسب غيره أو جادل بغير حق كره ولم يبطل اعتكافه بالاتفاق قال المتولي
ويبطل ثوابه أو ينقص هذا لفظه (المسألة الخامسة) قال الشافعي والأصحاب
يجوز للمعتكف وغيره ان يأكل في المسجد ويشرب ويضع المائدة ويغسل يده بحيث
534

لا يتأذى بغسالته أحد وان غسلها في الطست فهو أفضل ودليل الجميع في الكتاب قال أصحابنا
ويستحب للآكل أن يضع سفرة ونحوها ليكون أنظف للمسجد وأصون قال البغوي يجوز نضح
المسجد بالماء المطلق ولا يجوز بالمستعمل وإن كان طاهرا لان النفس قد تعافه وهذا الذي قاله ضعيف
والمختار أن المستعمل كالمطلق في هذا لان النفس إنما تعاف شربه ونحوه وقد اتفق أصحابنا على
جواز الوضوء في المسجد واسقاط مائه في ارضه مع أنه مستعمل وممن صرح به صاحبا الشامل
والتتمة في هذا الباب وقد قدمنا بيانه في آخر ما يوجب الغسل ونقلنا هناك عن ابن المنذر انه نقل
اجماع العلماء على ذلك ولأنه إذا جاز غسل اليد في المسجد من غير طشت كما صرح به المصنف
وجميع الأصحاب فرشه بالماء المستعمل أولى لأنه أنظف من غسالة اليد والله أعلم * قال الماوردي
والأولى ان يغسل اليد حيث يبعد عن نظر الناس وعن مجالس العلماء قال وكيفما فعل جاز
والله أعلم * قال أصحابنا وللمعتكف النوم والاضطجاع والاستلقاء ومد رجليه ونحو ذلك في المسجد
لأنه يجوز ذلك لغيره فله أولى وقد سبقت المسألة في باب ما يوجب الغسل *
{فرع} في مذاهب العلماء في بيع المعتكف وشرائه * قد ذكرنا ان الأصح من مذهبنا كراهته
الا لما لا بد له منه قال ابن المنذر وممن كرهه عطاء ومجاهد والزهري ورخص فيه أبو حنيفة وقال
سفيان الثوري واحمد يشترى الخبز إذا لم يكن له من يشترى وعن مالك رواية كالثوري ورواية
يشترى ويبيع اليسير قال ابن المنذر وعندي لا يبيع ولا يشترى الا مالا بد له منه إذا لم يكن له من
يكفيه ذلك قال فأما سائر التجارات فان فعلها في المسجد كره وان خرج لها بطل اعتكافه وان
خرج لقضاء حاجة الانسان فباع واشترى في مروره لم يكره والله أعلم *
535

{فرع} مذهبنا انه لا يكره دخول المعتكف تحت سقف ونقله بن المنذر عن الزهري وأبي
حنيفة قال وبه أقول وروينا عن ابن عمر قال لا يدخل تحت سقف وبه قال عطاء والنخعي واسحق
وقال الثوري إذا دخل بيتا انقطع اعتكافه *
{فرع} في مذاهب العلماء في الطيب للمعتكف * مذهبنا انه لا كراهة فيه كما سبق قال ابن المنذر
وبه قال أكثر العلماء منهم مالك وأبو حنيفة وأبو ثور وقال عطاء لا تتطيب المعتكفة قال فان خالفت
لم يقطع تتابعها قال وقال معمر يكره ان يتطيب المعتكف قال ابن المنذر لا معني لكراهة ذلك قال ولعل
عطاء إنما كره طيبها لكونها في المسجد كما يكره لغير المعتكفة الطيب إذا أرادت الخروج إلى المسجد *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
{فصل إذا فعل في الاعتكاف ما يبطله من خروج أو مباشرة أو مقام في البيت بعد زوال العذر
نظرت فإن كان ذلك في تطوع لم يبطل ما مضى من اعتكافه لان ذلك القدر لو أفرده بالاعتكاف
واقتصر عليه أجزأه ولا يجب عليه اتمامه لأنه لا يجب المضي في فاسده ولا يكره بالشروع كالصوم
وإن كان في اعتكاف منذور نظرت فإن لم يشرط فيه التتابع لم يبطل ما مضى من اعتكافه لما ذكرناه
في التطوع ويلزمه أن يتمم لان الجميع قد وجب عليه وقد فعل البغض فوجب الباقي وإن كان
قد شرط فيه التتابع بطل التتابع ويجب عليه أن يستأنفه ليأتي به على الصفة التي وجب عليها] *
{الشرح} هذا الفصل كله كما ذكره وهو متفق عليه قال أصحابنا وكل ما قطع التتابع في النذر
المتتابع يوجب الاستئناف بنية جديدة قال أصحابنا وكل عذر لم نجعله قاطعا للتتابع فعند الفراغ منه
يجب العود فلو أخر انقطع التتابع وتعذر البناء ويجب قضاء الأوقات المصروفة إلى غير قضاء الحاجة
ولا يجب قضاء أوقات الحاجة ولا الذهاب له والمجئ منه وإذا عاد فهل يجب تجديد النية ينظر فان
536

كان خروجه لقضاء الحاجة ومالا بد له منه كالاغتسال والاذان إذا جوزنا الخروج له لم يجب على
المذهب سواء طال الزمان أو قصر وقيل إن طال الزمان ففي وجوب تجديدها وجهان وقد سبق
بيانه (واما) ماله منه بد ففيه وجهان (أحدهما) يجب تجديدها لأنه ليس ضروريا (وأصحهما) لا يجب
لأن النية الأولى شملت جميع المنذور وهذا الخروج لا يقطع التتابع فكأنه لم يخرج وطرد الشيخ
أبو علي السنجي هذا الخلاف فيما إذا خرج لغرض استثناه ثم عاد ولو عين لاعتكافه مدة ولم يتعرض
للتتابع ثم جامع أو خرج خروجا بلا عذر ففسد اعتكافه ثم عاد ليتم الباقي ففي وجوب تجديد النية
هذان الوجهان قال امام الحرمين لكن المذهب هنا وجوب تجديدها وهو كما قال فالصحيح وجوب
تجديد النية هنا لتخلل المنافى القاطع للاعتكاف ولا يغتر بجزم صاحبي الإبانة والبيان بأنه لا يجب
التجديد هنا وقولهما أن الزمان مستحق للاعتكاف وقد صح دخوله فيه لأنه خرج منه ففسدت
نيته والله أعلم *
{فرع} في مسائل تتعلق بكتاب الاعتكاف وبعضها من الضروريات التي تركها المصنف
(أحدها) إذا نذر اعتكافا متتابعا وشرط الخروج منه ان عرض عارض مثل مرض خفيف أو عيادة مريض
أو شهود جنازة أو زيارة أو صلاة جمعة أو شرط الخروج لاشتغال بعلم أو لغرض آخر من اغراض
الدنيا والآخرة صح شرطه على المذهب نص عليه في المختصر وقطع به الأصحاب في جميع الطرق
ومنهم المصنف في التنبيه الا صاحب التقريب والحناطي فحكيا قولا آخر شاذا انه لا يصح شرطه لأنه
مخالف لمقتضاه فبطل كما لو شرط الخروج للجماع فإنه يبطل بالاتفاق وتابعهما على حكاية هذا القول الشاذ
امام الحرمين وغيره من المتأخرين وهو غريب ضعيف وهو مذهب مالك والأوزاعي ودليل المذهب
انه إذا شرط الخروج لعارض فكأنه شرط الاعتكاف في زمان دن زمان وهذا جائز بالاتفاق قال
537

أصحابنا فإذا قلنا بالمذهب نظر إن عين نوعا فقال لا أخرج إلا لعيادة المرضى أو لعيادة زيد أو تشييع
الجنائز أو جنازة زيد خرج لما عينه لا لغيره وإن كان غيره أهم منه لأنه يستبيح الخروج بالشرط
فاختص بالمشروط وإن أطلق وقال لا أخرج إلا لشغل أو عارض جاز الخروج لكل عارض وجاز الخروج
لكل شغل ديني أو دنيوي فالأول كالجمعة والجماعة والعيادة وزيارة الصالحين والمواضع الفاضلة والقبور
وزيارة القادم من سفر ونحوها (والثاني) كلقاء السلطان ومطالبة الغريم ولا يبطل التتابع بشئ من
هذا كله قالوا ويشترط في الشغل الدنيوي كونه مباحا هذا هو المذهب وفيه وجه ضعيف حكاه
الماوردي في الحاوي والرافعي وغيرهم انه لا يشترط فعلى هذا لو شرط الخروج لقتل أو شرب خمر
أو سرقة ونحوها فخرج له لم يبطل اعتكافه وله البناء بعد رجوعه لان نذره بحسب الشرط قالوا
وليست النظارة والنزاهة من الشغل فلا يجوز الخروج لهما قال أصحابنا وإذا قضي
الشغل الذي شرطه وخرج له لزمه العود والبناء على اعتكافه فان اخر العود بعد قضاء الشغل
بلا عذر بطل تتابعه ولزمه استئناف الاعتكاف كما سبق فيمن أقام بعد قضاء حاجته ونحوها
قال أصحابنا ولو نذر اعتكافا متتابعا وقال في نذره إن عرض مانع قطعت الاعتكاف
538

فحكمه حكم من شرط الخروج كما سبق الا أنه إذا شرط الخروج يلزمه بعد قضاء الشغل الرجوع والبناء
على اعتكافه حتى تنقضي مدته وفيما إذا شرط القطع لا يلزمه العود بل إذا عرض الشغل الذي
شرطه انقضى نذره وبرئت ذمته منه وجاز الخروج ولا رجوع عليه ولو قال على أن أعتكف
رمضان الا أن أمرض أو أسافر فمرض أو سافر فلا شئ عليه ولا قضاء ولو نذر صلاة وشرط
الخروج منها ان عرض عارض أو نذر صوما وشرط الخروج منه ان جاع أو ضيفه انسان أو
ضاف به أحد فوجهان حكاهما امام الحرمين والبغوي والمتولي وصاحب البيان وآخرون وذكرهما
الدارمي في الصوم (أصحهما) ينعقد نذره ويصح الشرط فإذا وجد العارض جاز له الخروج منه وبه
قطع الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبندنيجي والمحاملي والماوردي وابن الصباغ والجمهور
ونقله ابن الصباغ عن أصحابنا ودليله القياس على الاعتكاف (والثاني) لا ينعقد نذره بخلاف
الاعتكاف فان ما يتقدم منه على الخروج عبادة مستقلة بخلاف الصوم والصلاة وصحح البغوي في
الصلاة عدم الانعقاد وليس تصحيحه هنا بصحيح بل الصحيح ما قدمناه عن الجمهور والله أعلم *
ولو نذر الحج وشرط فيه الخروج ان عرض عارض انعقد النذر كما ينعقد الاحرام المشروط وفى
جواز الخروج بهذا الشرط قولان معروفان في كتاب الحج مشهوران (أصحهما) يجوز
كالاعتكاف (والثاني) لا قال صاحب الحاوي وغيره والفرق أن الحج أقوى ولهذا يجب المضي
في فاسده قال الرافعي والصوم والصلاة أولي من الحج لجواز الخروج عند أصحابنا العراقيين وقال
الشيخ أبو محمد الحج أولى به والله أعلم * ولو نذر التصدق بعشرة دراهم أو بهذه الدراهم إلا أن
تعرض حارجة ونحوها ففيه الوجهان (أصحهما) صحة الشرط أيضا فإذا احتاج فلا شئ عليه ولو
قال في هذه القربات كلها إلا أن يبدو لي فوجهان (أحدهما) يصح الشرط ولا شئ عليه إذا بدا
كسائر العوارض (وأصحهما) لا يصح لأنه علقه بمجرد الخيرة وذلك يناقض الالزام قال الرافعي فإذا
لم يصح الشرط في هذه الصور فهل يقال الالتزام باطل أم صحيح ويلغو الشرط قال البغوي لا ينعقد
539

النذر على قولنا لا يصح الخروج من الصوم والصلاة ونقل إمام الحرمين وجهين في صورة تقارب
هذا وهي إذا نذر اعتكافا متتابعا وشرط الخروج مهما أراد ففي وجه يبطل التزام التتابع ويبطل
الاستثناء ومتى شرط في الاعتكاف المنذور الخروج لغرض وخرج فهل يجب تدارك الزمان
المنصرف إليه ينظر ان نذر مدة غير معينة كشهر مطلق وجب التدارك ليتم المدة الملتزمة وتكون
فائدة الشرط تنزيل ذلك الغرض منزلة الخروج لقضاء الحاجة في أن التتابع لا ينقطع به وان نذر
زمانا معينا كرمضان أو هذا الشهر أو هذه الأيام العشرة ونحو ذلك لم يجب التدارك لأنه لم يلتزم
غيرها ولا خلاف أن وقت الخروج لقضاء حاجة الانسان لا يجب تداركه في الحالين كما
سبق في النذر الخالي من الشرط وإذا خرج للشغل الذي شرطه ثم عاد هل يحتاج إلى تجديد النية
قال البغوي فيه وجهان وقد سبق بيان ذلك في فصل النية والله أعلم * (المسألة الثانية) إذا نذر اعتكاف
اليوم الذي يقدم فيه زيد قال الشافعي في المختصر فان قدم في أول النهار اعتكف ما بقي فإن كان
مريضا أو مجنونا فإذا قدر قضاه قال المزني يشبه إذا قدم أول النهار أن يقضى مقدار ما مضى من
ذلك اليوم من يوم آخر حتى يكون قد اعتكف يوما كاملا هذا ما ذكره الشافعي والمزني قال
أصحابنا هذا النذر صحيح قولا واحدا ونقل الماوردي وغيره اتفاق الأصحاب على صحته قال الماوردي
والفرق بينه وبين من نذر صوم يوم قدوم زيد فان في صحة نذره قولين انه يمكنه الوفاء بالاعتكاف
كله أو بعضه ولا يمكنه ذلك في الصوم لأنه ان قدم ليلا فلا نذر وان قدم نهارا لم يمكن صيام ما بقي
ويمكنه اعتكاف ما بقي فان تقررت صحة نذره قال أصحابنا فان قدم زيد ليلا لم يلزم ناذر
الاعتكاف شئ بلا خلاف لعدم شرط نذره وهو القدوم نهارا وان قدم نهارا لزمه اعتكاف
بقية يومه بلا خلاف وهل يلزمه قضاء ما مضى من اليوم قبل قدومه من يوم آخر فيه خلاف مشهور
حكاه جماعة قولين وآخرون وجهين قال الماوردي هما مخرجان من القولين فيمن نذر صوم يوم
540

قدوم زيد (ان قلنا) يصح نذر صومه لزمه القضاء وإلا فلا قال المتولي القائل بالوجوب هو المزني
وابن الحداد قال وتقديره عندهما أنه كأنه نذر اعتكاف جميع اليوم الذي علم الله قدوم زيد فيه
واتفقوا على أن الأصح هنا انه لا يلزمه قضاء ما مضى من يومه وهو المنصوص كما سبق قال المزني
والأفضل ان يقضي يوما كاملا ليكون اعتكافه متصلا فإن كان الناذر وقت قدوم زيد مريضا أو
محبوسا أو نحوهما من أسباب العجز لزمه أن يقضي عند زوال عذره وفيما يقضيه القولان هل هو يوم
كامل أم بقدر ما بقي من اليوم عند القدوم (إن قلنا) في الصورة السابقة يلزمه قضاء ما مضى لزمه هنا
قضاء يوم كامل والا فالبقية وهذا الذي ذكرناه من وجوب القضاء هو المذهب وبه قطع كثيرون
وفيه وجه ضعيف حكاه القاضي أبو حامد في جامعه وأبو علي الطبري في الافصاح والماوردي والقاضي
أبو الطيب في المجرد وابن الصباغ وآخرون انه لا يلزمه قضاء شئ أصلا لعجزه وقت الوجوب
كما لو نذرت صوم يوم بعينه فحلفت فيه فإنه لا يلزمها قضاؤه قال الماوردي هو مخرج من أحد القولين
فيمن نذر صوم يوم قدوم زيد انه لا يصح قالوا والمذهب الأول وهو الذي نص عليه الشافعي كما سبق
قال أصحابنا ودليله ان العبادة الواجبة إذا تعذرت بالمرض لزم قضاؤها كصوم رمضان والله أعلم *
(المسألة الثالثة) إذا مات وعليه اعتكاف فهل يطعم عنه فيه خلاف سبق في آخر كتاب الصيام في
مسائل من مات وعليه صوم والصحيح انه لا يطعم عنه في الاعتكاف هو قال أبو حنيفة يطعم عنه وعن ابن
عباس وعائشة وأبى ثور انه يعتكف عنه هكذا ذكر المسألة الأصحاب في كل الطرق إلا المتولي
فقال لو قدم زيد وقد بقي معظم النهار لزم الناذر الاعتكاف بلا خلاف وفيما يلزمه وجهان (المذهب)
ما بقي من النهار (والثاني) قاله المزني وابن الحداد يلزمه ذلك مع قضاء قدر ما مضى وان قدم وقد بقي
من النهار دون نصفه فأربعة أوجه (أحدها) لا شئ عليه قال وهذا على قول من قال أن الاعتكاف لا يصح
541

أقل من نصف النهار كما سبق (والثاني) يلزمه ما بقي مع قضاء ما مضى (والثالث) ما بقي فقط (والرابع) ما بقي
من ساعته من أول الليل بحيث تسمي تلك الساعة اعتكافا والله أعلم * (الرابعة) قال المزني
في الجامع الكبير قال الشافعي إذا قال إن كلمت زيدا فلله على أن أعتكف شهرا فكلمه لزمه
اعتكاف شهر قال أصحابنا مراده إذا كان نذر تبرر بان قصد إن أمكنني كلامه لمحبته أو لعظمته
وصلاحه أو لامتناع زيد من كلام الناذر ورغبة الناذر في كلامه أو لغيبته ونحو ذلك ففي كل هذا
يلزمه (فاما) إذا لم يكن لذلك بل كان نذر لجاج وقصد منع نفسه من كلامه فالمذهب انه لا يتحتم
الوفاء بما التزم بل يتخير بينه وبين كفارة يمين وفيه خلاف مشهور في باب النذر (الخامسة) قال
الأصحاب لو نذر ان يعتكف شهر رمضان من هذه السنة فإن كان النذر في شوال لم ينعقد وإن
كان قبله انعقد فإن لم يعتكف حتى فات رمضان لزمه القضاء ويقضيه كيف شاء متتابعا أو
متفرقا والله أعلم *
542

قال مصححه عفا عنه:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على ختام النبيين سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله
وصحابته ومن تبعهم إلى يوم الدين ورضي الله عن علماء الاسلام العاملين:
قد انتهي بعون الله تعالى وتسهيله طبع {الجزء السادس} من كتابي المجموع للامام
أبي زكريا محيي الدين النووي رضي الله عنه ونور ضريحه * {والشرح الكبير} للامام المحقق
الرافعي مع تخريج أحاديثه المسمى {تلخيص الحبير} * في غرة جمادى الأولى سنة أربعة وأربعين
وثلاثمائة وألف
543