الكتاب: المجموع
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ١٩
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: التكملة الثانية

التكملة الثانية
المجموع
شرح المهذب
للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة 676 ه‍
الجزء التاسع عشر
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الديات
(باب من تجب الدية بقتله، وما تجب به الدية من الجنايات)
تجب الدية بقتل المسلم لقوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة
ودية مسلمة إلى أهله) وتجب بقتل الذمي والمستأمن، ومن بيننا وبينهم هدنة،
لقوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله، وتحرير
رقبة مؤمنة، وتجب بقتل من لم تبلغه الدعوة لأنه محقون الدم مع كونه من أهل
القتال، فكان مضمونا بالقتل كالذمي.
(فصل) وإن قطع طرف مسلم ثم ارتد ومات على الردة وقلنا إنه لا يجب
القصاص في طرفه، أو قلنا يجب فعفى عن القصاص على مال، ففيه قولان
(أحدهما) لا تجب دية الطرف، لأنه تابع للنفس في الدية، فإذا لم تجب دية
النفس لم تجب دية الطرف (والثاني) أنه تجب وهو الصحيح، لان الجناية
أوجبت دية الطرف، والردة قطعت سراية الجرح فلا تسقط ما تقدم وجوبه،
كما لو قطع يد رجل ثم قتل الرجل نفسه، فإن جرح مسلما ثم ارتد ثم أسلم ومات
فإن أقام في الردة زمانا تسرى فيه الجناية ففيه قولان.
(أحدهما) تجب دية كاملة لأن الاعتبار في الدية بحال استقرار الجناية.
والدليل عليه أنه لو قطع يديه ورجليه واندملت وجبت له ديتان، ولو سرت إلى
النفس وجبت دية، وهذا مسلم في حال استقرار الجناية، فوجب فيه دية مسلم
(والثاني) يجب نصف الدية، لان الجناية في حال الاسلام توجب، والسراية
في حال الردة تسقط، فوجب النصف، كما لو جرحه رجل وجرح نفسه فمات.
وإن لم يقم في الردة زمانا تسرى فيه الجناية وجبت دية مسلم، لأنه مسلم في حال
الجناية
، وفى حال استقرار الجناية، ولا تأثير لما مضى في حال الردة، فلم
يكن له حكم.
(فصل) وإن قطع يد مرتد ثم أسلم ومات لم يضمن. ومن أصحابنا من قال
3

تجب فيه دية مسلم لأنه مسلم في حال استقرار الجناية فوجبت ديته والمذهب الأول
لأنها سراية قطع غير مضمون فلم يضمن كسراية القصاص وقطع السرقة.
(فصل) وإن أرسل سهما على حربي فأصابه وهو مسلم ومات وجبت
فيه دية مسلم.
وقال أبو جعفر الترمذي: لا يلزمه شئ لأنه وجد السبب من جهته في حال هو
مأمور بقتله ولا يمكنه تلافى فعله عند الاسلام فلا يجب ضمانه، كما لو جرحه ثم
أسلم ومات، والمذهب الأول، لأن الاعتبار بحال الإصابة دون حال الارسال
لان الارسال سبب والإصابة جناية، والاعتبار بحال الجناية لا بحال السبب،
والدليل عليه أنه لو حفر بئرا في الطريق وهناك حربي فأسلم ووقع فيها ومات
ضمنه، وإن كان عند السبب حربيا، ويخالف إذا جرحه ثم أسلم، ومات، لان
الجناية هناك حصلت وهو غير مضمون، وإن أرسل سهما على مسلم فوقع به
وهو مرتد فمات لم يضمن، لان الجناية حصلت وهو غير مضمون فلم يضمنه،
كما لو أرسله على حي فوقع به وهو ميت.
(الشرح) قوله تعالى (ومن يقتل مؤمنا إلخ الآية) نزلت هذه الآية بسبب
قتل عياش بن أبي ربيعة الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة العامري لحنة (أي إحنة
وحقد) كانت بينهما، حيث كان يعذبه في مكة بسبب إسلامه، فلما هاجر الحارث
مسلما لقيه عياش فقتله ولم يشعر باسلامه، فلما أخبر أتى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال يا رسول الله انه كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، ولم أشعر
باسلامه حتى قتلته، فنزلت الآية. أخرجه ابن جرير عن عكرمة، وأخرج نحوه
عن مجاهد والسدي
وأخرج ابن إسحاق وأبو يعلى والحرث بن أبي أسامة وأبو مسلم الكجي
عن القاسم بن محمد نحوه، وأخرج بن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير عن
ابن عباس نحوه.
أما قوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق الخ الآية) فقد اختلف
فيها أهل العلم فذهب ابن عباس والشعبي النخعي والشافعي. واختاره الطبري
4

في تفسيره أن هذا في الذمي والمعاهد يقتل خطأ فتجب الدية والكفارة. وقال
الحسن وجابر بن زيد وإبراهيم أيضا: إن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم
معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم فكفارته التحرير وأداء
الدية، قرأها الحسن (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق وهو مؤمن) قال
الحسن: إذا قتل المؤمن الذمي فلا كفارة عليه. قال ابن العربي والجملة عندي
محمولة حمل المطلق على المقيد.
وجملة ذلك أن الدية تجب بقتل المسلم والذمي. قال العمراني: معنى قوله تعالى
(ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) إذا قتله في دار
الاسلام. ومعنى قوله تعالى (وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير
رقبة مؤمنة) أي إذا كان رجل من المسلمين في بلاد المشركين فحضر معهم الحرب
ورماه رجل من المسلمين فقتله. تقديره في قوم عدو لكم، ومعنى قوله تعالى
(وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق) أهل الذمة.
ومن السنة ما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه
وسلم كتب إلى أهل اليمن (وفى النفس مائة من الإبل) وهو إجماع ألا خلاف
في وجوب الدية اه‍ قلت والخلاف في وجوب الكفارة.
فإذا ثبت هذا فإن القتل ثلاثة أنواع: خطأ محض وعمد محض وشبه عمد.
ويقال عمد الخطأ، فتجب الدية في الخطأ المحض، وهو أن يكون مخطئا في الفعل
والقصد، مثل أن يقصد طيرا فيصيب إنسانا للآية.
وأما العمد المحض فهو أن يكون عامدا في الفعل عامدا في القصد، فهل يجب
فيه القود، والدية بدل عنه؟ أو يجب فيه أحدهما لا بعينه؟ فيه قولان مضى
ذكرهما آنفا.
وأما شبه العمد وهو أن يكون عامدا في الفعل مخطئا في القصد، مثل أن
يقصد ضربه بما لا يقتل مثله غالبا فيموت منه فتجب فيه الدية. وقال مالك رحمه
الله: القتل يتنوع نوعين: خطأ محض وعمد محض. وأما عمد الخطأ فلا يتصور
لأنه يستحيل أن يكون القائم قاعدا. دليلنا ما أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي
من حديث عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ألا إن قتيل
5

الخطأ شبه العمد، قتيل السوط أو العصا فيه مائة من الإبل، منها أربعون في
بطونها) وعندهم مثله عن عبد الله بن عمرو ما بقي من الفصول فعلى وجهها وقد
تضمنت فصولنا السابقة أيضا حالها وبيانا لمذاهب المسلمين في باب العفو عن
القصاص. وسيأتي في الفصل مزيد.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن قتل مسلما تترس به الكفار لم يجب القصاص، لأنه لا يجوز
أن يجب القصاص القصاص مع جواز الرمي، وأما الدية فقد قال في موضع تجب. وقال
في موضع إن علمه مسلما وجبت، فمن أصحابنا من قال: هو على قولين
(أحدهما) أنها تجب، لأنه ليس من جهته تفريط في الإقامة بين الكفار
فلم يسقط ضمانه.
(والثاني) أنه لا تجب لان القاتل مضطر إلى رميه، ومنهم من قال إن علم
أنه مسلم لزمه ضمانه، وان لم يعلم لم يلزمه ضمانه، لان مع العلم بإسلامه يلزمه أن
يتوقاه، ومع الجهل باسلامه لا يلزمه أن يتوقاه، وحمل القولين على هذين الحالين
وقال أبو إسحاق: إن عنيه بالرمي ضمنه، وإن لم يعنه لم يضمنه، وحمل القولين
على هذين الحالين.
(فصل) وتجب الدية بقتل الخطأ لقوله عز وجل (ومن قتل مؤمنا خطأ
فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) وتجب بقتل العمد في أحد القولين،
وبالعفو على الدية في القول الآخر، وقد بيناه في الجنايات، وتجب بشبه العمد
لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا إن
في دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل، منها أربعون
خلفة في بطونها أولادها، فإن غرز إبرة في غير مقتل فمات، وقلنا إنه لا يجب
عليه القصاص ففي الدية وجهان (أحدهما) أنها تجب لأنه قد يفضى إلى القتل.
(والثاني) لا تجب لأنه لما لم تجب بأقل المثقل وهو الضرب بالقلم والرمي بالحصاة
لم تجب بأقل المحدد.
6

(الشرح) إذا أسر المشركون مسلما فتترسوا به في القتال يتوقون به الرمي
ويختفون وراءه في رميهم فقتله رجل من المسلمين بالرمي لم يجب عليه القصاص،
لأنه يجوز له رميهم. وأما الدية فقد قال الشافعي رحمه الله في موضع تجب.
وقال في موضع لا تجب. فمن أصحابنا من قال فيه قولان (أحدهما) يجب لأنه
ليس من جهته تفريط في الإقامة بينهم فلم يسقط ضمانه (والثاني) لا تجب لان
القاتل مضطر إلى رميه، ومهم من علق ضمانه على علم الرامي بأنه مسلم، وإن
لم يعلم لم يلزمه ضمانه، لأنه يلزمه أن يتوقاه عن الرمي إذا علمه. ولا يلزمه أن
يتوقاه إذا لم يعلم.
وقال أبو إسحاق المروزي: إن عنية بالرمي أي قصده ضمنه، وإن
لم يقصده لم يضمنه، وحملهما على هذين الحالين، ومأخذ الشافعي في قوله بالوجوب
ما رواه عن عروة بن الزبير قال (كان أبو حذيفة اليمان شيخا كبيرا فرفع في
الآكام مع النساء يوم أحد فحرج يتعرض للشهادة فجاء من ناحية المشركين فابتدره
المسلمون فتشقوه بأسيافهم وحذيفة يقول (أبى أبى) فلا يسمعونه من شغل الحرب
حتى قتلوه، فقال حذيفة: يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، فقضى النبي
صلى الله عليه وسلم بديته).
(مسألة) وجوب الدية في كلا الحالين العمد والخطأ سبق لنا شرحه في
الجنايات. أما شبه العمد فقد تقرر وجوبها بحديث ابن عمر رضي الله عنهما
مرفوعا (ألا إن في دية الخطأ شبه العمد ما كان بالسوط والعصا مائة من الإبل
منها أربعون خلفة في بطونها أولادها) وقد أجمع أهل العلم على أن الإبل أصل
في الدية، وأن دية الحر مائة منها، وقد دلت الأحاديث الواردة كحديث ابن
عمر وحديث عمرو بن حزم وحديث ابن مسعود. وظاهر كلام الخرقي من الحنابلة
أن الأصل في الدية الإبل لا غير، وهو إحدى الروايتين عن أحمد، وهو قول
طاوس وابن المنذر.
وقال بعض أصحاب أحمد لا يختلف المذهب أصول الدية الإبل والذهب
والفضة والبقر والغنم، وهو قول عمر وعطاء وطاوس وفقهاء المدينة السبعة.
7

وبه قال الثوري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد، لان عمرو بن حزم روى في
كتابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن (وأن في دية النفس
المؤمنة مائة من الإبل، وعلى أهل الورق ألف دينار) رواه النسائي.
وروى ابن عباس (أن رجلا من بنى عدى قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم
ديته اثنى عشر ألفا) رواه أبو داود وابن ماجة. وروى الشعبي أن عمر جعل
على أهل الذهب ألف دينار.
وعن عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده أن عمر قام خطيبا فقال (ألا ان
الإبل قد غلت فقوم على أهل الذهب ألف دينار، وعلى أهل الورق اثنى عشر
ألفا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل
مائتي حلة) رواه أبو داود، ورواه أبو داود من حديث جابر مرفوعا. قال
الشوكاني: في هذه الأحاديث رد على من قال إن الأصل في الدية الإبل، وبقية
الأصناف مصالحة لا تقدير شرعي اه‍. والمعروف أن أبا حنيفة والشافعي في
قول له أن الدية من الإبل للنص، ومن النقدين تقويما إذ فيهما قيم المتلفات.
وقال مالك والشافعي في قول له: إلى أنها إثنا عشر ألف درهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وتجب على الجماعة إذا اشتركوا في القتل وتقسم بينهم على عددهم
لأنه بدل متلف يتجزأ، فقسم بين الجماعة على عددهم، كغرامة المال، فإن اشترك
في القتل اثنان وهما من أهل القود فللولي أن يقتص من أحدهما ويأخذ من الآخر
نصف الدية، وإن كان أحدهما من أهل القود والآخر من أهل الدية فله أن
يقتص ممن عليه القود ويأخذ من الاخر نصف الدية.
(فصل) وتجب الدية بالأسباب، فإن شهد اثنان على رجل بالقتل فقتل
بشهادتهما بغير حق ثم رجعا عن الشهادة كان حكمهما في الدية حكم الشريكين،
لما روى أن شاهدين شهدا عند علي كرم الله وجهه على رجل أنه سرق فقطعه
ثم رجعا عن شهادتهما: فقال لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما،
وأغرمهما دية يده.
8

(فصل) وإن أكره رجل على قتل رجل فقتله فإن قلنا إنه يجب القود
عليهما فللولي أن يقتل من شاء منهما، ويأخذ نصف الدية من الاخر لأنهما
كالشريكين في القتل إذا كانا من أهل القود، وإن قلنا لا يجب القود إلا على
المكره الآمر دون المكره، فللولي أن يقتل المكره، ويأخذ من الاخر نصف
الدية لأنهما كالشريكين، غير أن القصاص يسقط بالشبهة فسقط عنه، والدية
لا تسقط بالشبهة فوجب عليه نصفها.
(الشرح) إذا اشترك جماعة في قتل رجل وجبت عليه دية، ويقسم بينهم
على عددهم لأنه بدل متلف يتجزأ فقسم بينهم على عددهم كغرامة المتلف فإن كان
القتل موجبا للقود واختار الولي أن يقتل بعضهم ويعفو عن الباقين على
حصتهم من الدية كان له ذلك.
وإن شهد رجلان على رجل بما يوجب القتل والقطع بغير حق مخطئين وجبت
عليهما الدية لما ذكرناه قبل هذا في الشاهدين عند علي رضي الله عنه على رجل
في السرقة. وإن أكره رجل رجلا على قتل إنسان فقتله فصار الامر إلى الدية
فهي عليهما لأنهما كالشريكين، ولهذا إن قلنا يجب عليهما فللولي أن يقتل
من شاء منهما ويأخذ نصف الدية من الثاني. وان قلنا إن القود لا يجب الا على
المكره بكسر الراء وهو الآمر دون المكره بفتح الراء كان
القصاص على الامر ونصف الدية على المأمور، لأنهما وإن كانا كالشريكين إلا
أن القصاص إذا سقط بالشبهة عنه فلا تسقط الدية بالشبهة فلزمه نصفها
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان طرح رجلا في نار يمكنه الخروج منها فلم يخرج حتى مات،
ففيه قولان (أحدهما) أنه تجب الدية، لان ترك التخلص من الهلاك لا يسقط
به ضمان الجناية، كما لو جرحه جراحة وقدر المجروح على مداواتها فترك المداواة
حتى مات. والقول الثاني أنها لا تجب وهو الصحيح لان طرحه في النار
لا يحصل به التلف، وإنما يحصل ببقائه فيها باختياره، فسقط ضمانه كما لو جرحه
9

جرحا يسيرا لا يخاف منه فوسعه حتى مات. وان طرحه في ماء يمكنه الخروج
منه فلم يخرج حتى مات ففيه طريقان. من أصحابنا من قال فيه قولان كالنار.
ومنهم من قال لا تجب قولا واحدا، لان الطرح في الماء ليس بسبب للهلاك،
لان الناس يطرحون أنفسهم في الماء للسباحة وغيرها، وإنما حصل الهلاك بمقامه
فيه فسقط ضمانه بخلاف النار.
(فصل) وان شد يديه ورجليه وطرحه في ساحل فزاد الماء وهلك فيه
نظرت فإن كانت الزيادة معلومة الوجود المد بالبصرة فهو عمد محض ويجب
به القصاص، لأنه قصد تغريقه. وإن كان قد يزيد وقد لا يزيد فهو عمد خطأ
وتجب به الدية المغلظة، فإن كان في موضع لا يزيد فيه الماء فزاد وهلك فيه فهو
خطأ محض وتجب فيه الدية مخففة، وان شد يديه ورجليه وطرحه في أرض
مسبعة فقتله السبع فهو عمد خطأ وتجب فيه دية مغلظة، وإن كان في أرض غير
مسبعة فقتله السبع فهو خطأ محض وتجب فيه دية مخففة
(الشرح) مضى في الجنايات حكم من ألقى آخر في نار أو ماء يغرقه ولا يمكنه
التخلص منه اما لكثرة الماء أو النار، واما لعجزه عن التخلص لمرض أو صغر
أو كونه مربوطا أو منعه الخروج أو كونه في حفرة لا يقدر على الصعود منها
ونحو هذا، أو ألقاه في بئر ذات نفس فمات به عاما بذلك، فهذا كله عمد لأنه
يقتل غالبا، وان ألقاه في ماء يسير يقدر على الخروج منه فلبث فيه اختيارا حتى
مات فلا قود فيه ولا دية، لان هذا الفعل لم يقتله، وإنما حصل موته بلبثه فيه
وهو فعل نفسه فلم يضمنه غيره، وكذلك إذا تركه في نار يمكنه التخلص منها لقلتها
أو لكونه في طرف منها يمكنه الخروج بأدنى حركة فلم يخرج حتى مات فلا قود
وهل يضمنه؟ فيه طريقان لأصحابنا ووجهان لأصحاب أحمد.
(أحدهما) لا يضمنه لأنه مهلك لنفسه بإقامته فلا يضمنه، كما لو ألقاه في
ماء يسير لكن يضمن ما أصابت النار منه
(والثاني) يضمنه لأنه جان بالالقاء المفضى إلى الهلاك، وترك التخلص
لا يسقط الضمان، كما لو فصده فتترك شد فصاده مع امكانه، أو جرحه فترك
10

مداواة جرحه، وفارق الماء لأنه لا يهلك بنفسه، ولهذا يدخله الناس للغسل
والسباحة والصيد، وأما النار فيسيرها يهلك، وإنما تعلم قدرته على التخلص بقوله
أنا قادر على التخلص أو نحو هذا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان سلم صبيا إلى سابح ليعلمه السباحة فغرق ضمنه السابح، لأنه
سلمه إليه ليحتاط في حفظه، فإذا هلك بالتعليم نسب إلى التفريط فضمنه كالمعلم
إذا ضرب الصبي فمات، وان سلم البالغ نفسه إلى السابح فغرق لم يضمنه، لأنه
في يد نفسه فلا ينسب إلى التفريط في هلاكه إلى غيره فلا يجب ضمانه
(فصل) وإن كان صبي على طرف سطح فصاح رجل ففزع فوقع من السطح
ومات ضمنه لان الصباح سبب لوقوعه، وإن كان صباحه عليه فهو عمد خطأ
وان لم يكن صيامه عليه فهو خطأ، وإن كان بالغ على طرف سطح فسمع الصيحة
في حال غفلته فخر ميتا ففيه وجهان (أحدهما) انه كالصبي لان البالغ في حال
غفلته يفزع من الصيحة كما يفزع الصبي (والثاني) لا يضمن لان معه من الضبط
ما لا يقع به مع الغفلة.
(فصل) وان بعث السلطان إلى امرأة ذكرت عنده بسوء ففزعت فألقت
جنينا ميتا وجب ضمانه لما روى (أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى امرأة مغيبة
كان يدخل عليها، فقالت يا ويلها مالها ولعمر، فبينا هي في الطريق إذا فزعت
فضربها الطلق، فألقت ولدا فصاح الصبي صيحتين ثم مات، فاستشار عمر رضي الله عنه
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار بعضهم أن ليس عليك شئ إنما
أنت وال ومؤدب، وصمت علي رضي الله عنه، فأقبل عليه فقال: ما تقول
يا أبا الحسن؟ فقال إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأ رأيهم، وإن كانوا قلوا في
هواك فلم ينصحوا لك، ان ديته عليك، لأنك أنت أفزعتها فألقت) وان
فزعت المرأة فماتت لم تضمن لان ذلك ليس بسبب لهلاكها في العادة
11

(الشرح) إذا دفع ولده الصغير إلى سابح ليعلمه السابحة فغرق الصبي فعلى
عاقلة السابح ديته وعليه الكفارة في ماله لأنه أخذه للتعليم، فإذا تلف في طريق
التعليم كان عليه ضمانه كالمعلم إذا ضرب صبيا فمات، ولان هذا في الغالب لم يغرق
إلا بتفريط من السابح فيكون عمد خطأ، وإن سلم البالغ نفسه إلى السابح ليعلمه
السباحة فغرق لم يجب ضمانه، لأنه في يد نفسه، ولا ينسب التفريط في هلاكه
إلى غيره فلا يجب ضمانه.
(مسألة) إذا كان صبي أو بالغ معتوه على حائط أو حافة نهر فصاح رجل
صياحا شديدا ففزع من الصياح فسقط ومات أو زال عقله وجبت ديته على عاقلة
الصائح، لان صياحه سبب لوقوعه، وإن كان صياحه عليه فهو عمد خطأ، وإن كان
صياحه على غيره فهو خطأ محض.
وإن كان الرجل بالغا عاقلا فسمع الصيحة وسقط ومات أو زال عقله، فإن
كان متيقظا لم يجب ضمانه لان الله تعالى لم يجر العادة لا معتادا ولا نادرا أن يقع
الرجل الكبير العاقل من الصياح، فإذا مات علمنا أن صياحه وافق موته، فهو
كما لو رماه بثوب فمات، وإن كان في حال غفلته فسمع الصيحة فمات أو زال
عقله ففيه وجهان:
(أحدهما) وهو المنصوص أنه لا يجب ضمانه لما ذكرناه
(والثاني) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة، أنه يجب ضمانه، لان الانسان
قد يفزع من ذلك في حال غفلته. وان شهر السيف على بالغ عاقل فزال عقله
لم يجب ضمانه، وان شهره على صبي أو معتوه فزال عقله وجب ضمانه. وقال
أبو حنيفة لا يجب ضمانه.
ولنا أن هذا سبب في تلفه فإن كان متعديا ضمن كما لو حفر بئرا فوقع
فيها. وقال أحمد: لو شهر سيفا في وجه إنسان أو دلاه من شاهق فمات من الروع
أو ذهب عقله بذلك الفعل فعليه دينه، ثم وافقنا احمد في الصبي والبالغ عنده
قول واحد وكذلك عند سائر أصحابه
(مسألة) إذا بعث السلطان إلى امرأة ذكرت عنده بسوء وكانت حاملا
ففزعت فأسقطت جنينها وجب على الامام ضمانه. وقال أبو حنيفة لا يجب.
12

دليلنا ما روى أن امرأة ذكرت عند عمر رضي الله عنه بسوء فبعث إليها فقالت
يا ويلها ما لها ولعمر، فبينما هي في الطريق إذا فزعت فضربها الطلق فألقت ولدا
فصاح صيحتين ثم مات، فاستشار عمر رضي الله عنه عنه أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم فقال له عثمان وعبد الرحمن: لا شئ عليك إنما أنت وال ومؤدب، وصمت
علي رضي الله عنه، فقال له ما تقول؟ فقال على: إن اجتهدا فقد أخطأ وإن لم
يجتهدا فقد غشاك، إن ديته عليك لأنك أنت أفزعتها فألقت، فقال عمر عزمت
عليك لا برحت حتى تفرقها على قومك يعنى قوم عمر ولم ينكر عثمان
وعبد الرحمن ذلك فدل على أنهما رجعا إلى قوله وصار إجماعا. وإن فزعت فماتت
لم يجب ضمانها، لان ذلك ليس بسبب لهلاكها
وقال أحمد: تجب الدية في المرأة أيضا لأنها نفس هلكت بارساله إليها
فضمنها كجنينها، أو نفس هلكت بسببه فغرمها، كما لو ضربها فماتت، ولا
يتعين في الضمان كونه سببا معتادا فإن الضربة والضربتين ليست سببا للهلاك
في العادة، ومتى أفضت إليه وجب الضمان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن طلب رجلا بصيرا بالسيف، فوقع في بئر أو ألقى نفسه من
شاهق فمات لم يضمن، لان الطلب سبب والالقاء مباشرة فإذا اجتمعا سقط
حكم السبب بالمباشرة. ولان الطالب لم يلجئه إلى الوقوع لأنه لو أدركه جاز
أن لا يجنى عليه، فصار كما لو جرحه رجل فذبح المجروح نفسه، وإن طلب ضريرا
فوقع في بئر أو من شاهق ومات فإن كان عالما بالشاهق أو بالبئر لم يضمن، لأنه
كالبصير، وإن لم يعلم وجب ضمانه، لأنه ألجأه إليه فتعلق به الضمان، كالشهود
إذا شهدوا بالقتل ثم رجعوا، وإن كان المطلوب صبيا أو مجنونا ففيه وجهان
بناء على القولين في عمدهما. هل هو عمد أو خطأ؟ فإن قلنا إن عمدهما عمد لم
يضمن الطالب الدية. وان قلنا إنه خطأ ضمن.
وإن طلب رجل رجلا فافترسه سبع في طريقه نظرت، فإن الجاه الطالب
إلى موضع السبع، ضمنه كما لو ألقاه عليه، وان لم يجئه إليه لم يضمنه، لأنه لم
13

يلجئه إليه، وان انخسفت من تحته سقف فسقط ومات ففيه وجهان. أحدهما
لا يضمن كمالا يضمن إذا افترسه سبع. والثاني: يضمن لأنه ألجأه إلى ما
لا يمكنه الاحتراز منه.
(فصل) وان رماه من شاهق فاستقبله رجل بسيف فقده نصفين نظرت،
فإن كان من شاهق يجوز أن يسلم الواقع منه، وجب الضمان على القاطع لان
الرامي كالجارح والقاطع كالذابح، وإن كان من شاهق لا يسلم الواقع منه ففيه
وجهان (أحدهما) انه يجب الضمان عليهما، لان كل واحد منهما سبب للاتلاف
فصار كما لو جرحاه (والثاني) أن الضمان على القاطع، لان الرامي إنما يكون
سبب للتلف إذا وقع المرمى على الأرض، وههنا لم يقع على الأرض وصار
الرامي صاحب سبب، والقاطع مباشرا فوجب الضمان على القاطع.
(فصل) إذا زنى بامرأة وهي مكرهة وأحبلها وماتت من الولادة ففيه قولان
(أحدهما) يجب عليه ديتها لأنها تلفت بسبب من جهته تعدى به فضمنها.
(والثاني) لا يجب لان السبب انقطع حكمه بنفي النسب عنه
(الشرح) إذا طلب رجل رجلا بصيرا بالسيف ففر منه فألقى نفسه من
سطح وهو يراه أو تردى في بئر أو نار وهو يراها فمات لم يجب على الطالب
ضمانه لأنه حصل من الطالب بسبب غير ملجئ، ومن المطلوب مباشرة فتعلق
الحكم بالمباشرة دون السبب، كما لو خاف منه فقتل نفسه.
وان طلب أعمى بالسيف ففر منه ووقع من سطح أو في بئر أو نار فمات
فإن كان عالما بالسطح والبئر والنار فلا ضمان على الطالب لما ذكرنا في البصير.
وإن كان المطلوب غير عالم بالسطح والبئر والنار فلا ضمان على الطالب لما ذكرنا
في البصير، وإن كان المطلوب غير عالم بالسطح والبئر والنار، أو كان المطلوب
بصيرا ولم يعلم السطح والبئر والنار وفر منه على سطح يحسبه قويا فانخسف من
تحته وجبت الدية على عاقلة الطالب لأنه ألجأه إلى الهرب، وان فر منه فافترسه
سبع في طريقه لم يجب على الطالب ضمانه لأنه لم يلجئ السبع إلى قتله. وان
ألجأ المطلوب إلى الفرار، وذلك سبب وأكل السبع فعل، فإذا اجتمع السبب في
14

الفعل تعلق الضمان بالفعل دون السبب. وإن طلب صبيا أو مجنونا بالسيف
ففر منه وألقى نفسه من سطح فمات فإن قلنا إن عمدهما عمد لم يضمن
الطالب الدية وإن قلنا إن عمدهما خطأ ضمن
(مسألة) قوله: وإن رماه من شاهق فاستقبله الخ. فجملة ذلك أنه إذا رمى
رجلا من شاهق مرتفع يموت منه غالبا إذا وقع فقطعه رجل نصفين قبل أن يقع
ففيه وجهان:
(أحدهما) أنهما قاتلان فيجب عليهما القود أو الدية، لان كل واحد منهما
قد فعل فعلا لو انفرد به لمات منه غالبا فصارا كالجارحين
(والثاني) أن القاتل هو القاطع، لان التلف إنما حصل بفعله فصار كما لو
جرحه رجل وذبحه الاخر ويعزر الأول، وإن كان الشاهق مما لا يموت منه غالبا
كان القاتل هو القاطع وجها واحدا، لان ما فعله الأول لا يجوز أن يموت منه،
وإن زنى بامرأة وهي مكرهة فحملت منه وماتت من الولادة ففيه قولان:
(أحدهما) يجب عليه ديتها، لأنها تلفت بسبب من جهته تعدى فيه فضمنها
(والثاني) لا يجب عليه، لان السبب انقطع حمه بنفي النسب عنه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن حفر بئرا في طريق الناس أو وضع فيه حجرا أو طرح فيه
ماء أو قشر بطيخ، فهلك به إنسان وجب الضمان عليه لأنه تعدى به فضمن من
هلك به، كما لو جنى عليه.
وإن حفرا بئرا في الطريق ووضع آخر حجرا فعثر رجل بالحجر ووقع في
البئر فمات وجب الضمان على واضع الحجر، لأنه هو الذي ألقاه في البئر، فصار
كما لو ألقاه فيها بيده. وان وضع رجل حجرا في الطريق فدفعه رجل على هذا
الحجر فمات وجب الضمان على الدافع لان الدافع مباشر وواضع الحجر صاحب
سبب، فوجب الضمان على المباشر
وان وضع رجل حجرا في الطريق ووضع آخر حديدة بقربه، فعثر رجل
بالحجر ووقع على الحديدة فمات. وجب الضمان على واضع الحجر
15

وقال أبو الفياض البصري: إن كانت الحديدة سكينا قاطعة وجب الضمان
على واضع السكين، دون واضع الحجر، لان السكين القاطع موح، وإن كانت
غير قاطع وجب الضمان على واضع الحجر، والأول هو الصحيح، لان الواضع
هو المباشر. وإن حفر بئرا في طريق لا يستضر به الناس فإن حفرها لنفسه
كان حكمه حكم الطريق الذي يستضر الناس بحفر البئر فيه، لأنه لا يجوز أن يختص
بشئ من طريق المسلمين، وإن حفرها لمصلحة الناس فإن كان بإذن الإمام
فهلك به إنسان لم يضمن، لان ما فعله بإذن الامام للمصلحة جائز فلا يتعلق
به الضمان، وإن كان بغير إذنه ففيه وجهان
(أحدهما) أنه لا يضمن لأنه حفرها لمصلحة المسلمين من غير إضرار فصار
كما لو حفرها بإذن الإمام
(والثاني) أنه يضمن لان ما تعلق بمصلحة المسلمين يختص به الامام، فمن
افتات عليه فيه كان متعديا فضمن من هلك به. وإن بنى مسجدا في موضع
لا ضرر فيه، أو على قنديلا في مسجد أو فرش فيه حصيرا من غير إذن الإمام
فهلك به إنسان فهو كالبئر التي حفرها للمسلمين.
وإن حفر بئرا في موات ليتملكها أو لينتفع بها الناس لم يضمن من هلك بها
لأنه غير متعد في حفرها، وإن كان في داره بئر قد غلى رأسها أو كلب عقور
فدخل رجل داره بغير إذنه فوقع في البئر فمات أو عقره الكلب فمات لم يضمنه
لأنه ليس من جهته تفريط فلا هلاكه، فإن دخلها باذنه فوقع في البئر ومات أو
عقره الكلب فمات ففي ضمانه قولان كالقولين فيمن قدم طعاما مسموما إلى رجل
فأكله فمات وإن قدم صبيا إلى هدف فأصابه سهم فمات ضمنه، لان الرامي
كالحافر للبشر، والذي قدمه كالملقى فيها فكان الضمان عليه
وان ترك على حائط جرة ماء فرمتها الريح على إنسان فمات لم يضمنه لأنه وضعها
في ملكه ووقعت من غير فعله، وان بنى حائطا في ملكه فمال الحائط إلى الطريق
ووقع على إنسان فقلته ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق: انه يضمن لأنه لما مال إلى الطريق لزمه
ازالته، فإذا لم يزله صار متعديا بتركه فضمن من هلك به، كما لو أوقع مائلا
16

إلى الطريق وترك نقضه حتى هلك به انسان (والثاني) وهو قول أبي سعيد
الإصطخري انه لا يضمن، وهو المذهب، لأنه بناه في ملكه ووقع من غير فعله
فأشبه إذا وقع من غير ميل
(فصل) وان أخرج جناحا إلى الطريق فوقع على إنسان ومات ضمن نصف
ديته، لان بعضه في ملكه وبعضه خارج عن ملكه فسقط نصف الدية لما في ملكه
وضمن نصفها للخارج عن ملكه، وان انكسرت خشبة من الخارج فوقعت على
انسان فمات ضمن جميع الدية لأنه هلك بالخارج من ملكه، وان نصب ميزابا فوقع
على إنسان فمات به ففيه قولان:
قال في القديم: لا يضمن لأنه مضطر إليه ولا يجد بدا منه بخلاف الجناح.
وقال في الجديد يضمن لأنه غير مضطر إليه لأنه كان يمكنه أن يحفر في ملكه بئرا
يجرى الماء إليها فكان كالجناح.
(فصل) وإن كان معه دابة فأتلفت انسانا أو مالا بيدها أو رجلها أو نابها
أو بالت في الطريق فزلق ببولها انسان فوقع ومات ضمنه، لأنها في يده وتصرفه
فكانت جنايتها كجنايته
(الشرح) إذا وضع رجل حجرا وهذا أحد مفهومات الفصل وذلك
في طريق المسلمين أو في ملك غيره بغير اذنه فعثر بها انسان لم يعلم بها ومات منها
وجبت ديته على عاقلة واضع الحجر ووجبت الكفارة في ماله، لأنه مات بسبب
تعدى به فوجب ضمانه. وهكذا ان نصب سكينا فعثر رجل ووقع عليها فمات
وجبت عليه الدية لما ذكرناه في الحجر.
فأما إذا وضع الحجر أو السكين فدفع آخر عليهما رجلا ومات كان الضمان
على الدافع، لان الواضع صاحب سبب والدافع مباشر. فتعلق الحكم بالمباشرة
وان وضع رجل حجرا في طريق المسلمين أو في ملك غيره بغير اذنه ووضع
آخر سكينا بقرب الحجر فعثر رجل بالحجر ووقع على السكين ومات منها وجب
الضمان على واضع الحجر
وقال أبو الفياض البصري: إن كان السكين قاطعا وجب الضمان على واضع
17

السكين دون واضع الحجر، وإن كان غير قاطع وجب الضمان على واضع الحجر
لان السكين القاطع موح، والأول هو المشهور، لان واضع الحجر كالدافع له
على السكين فوجب عليه ضمانه، كما لو نصب رجل سكينا ودفع عليها آخر ومات
فان وضع رجل حجرا في طريق المسلمين ووضع اثنان حجرا إلى جنبه فعثر بهما
رجل ومات فليس فيها نص لأصحابنا، إلا أن أصحاب أبي حنيفة اختلفوا فيها،
فقال زفر يكون على الرجل الواضع للحجر وحده نصف الدية لان فعله مساو
لفعلهما وعلى الرجلين الواضعين للحجر الآخر النصف
وقال أبو يوسف: تجب الدية عليهم أثلاثا فوجب الضمان عليهم. قال
ابن قدامة من الحنابلة: وهو قياس المذهب. وقال ابن الصباغ من أصحابنا: وهو
قياس المذهب، وأقره العمراني في البيان لان السبب حصل من الثلاثة فوجب
الضمان عليهم وإن اختلفت أفعالهم كما لو جرحه رجل جراحة وآخر
جراحتين ومات منها.
(فرع) إذا وضع رجل في مالك نفسه حجرا أو نصب سكينا فعثر به إنسان
ومات لم يجب على واضع السكين ولا على عاقلته ضمان، لأنه غير متعد بوضع
الحجر والسكين. وإن وضع رجل في ملك غيره حجرا بغير إذنه ووضع صاحب
الملك بقرب الحجر سكينا فعثر رجل بالحجر ووقع على السكين ومات، وجب
الضمان على عاقلة الواضع للحجر لأنه كالدافع للعاثر على السكين. وان وضع رجل
في ملكه حجرا، ووضع أجنبي سكينا بقرب الحجر فعثر رجل بالحجر ووقع على
السكين فمات، وجبت الدية على عاقلة واضح السكين دون واضع الحجر، لان
المتعدى هو واضح السكين دون واضع الحجر
(فرع) إذا حفر رجل بئرا فوقع فيها انسان ومات لم يخر اما أنه حفر في
ملكه أو في ملك غيره أو في طريق المسلمين أو في موات فإن حفرها في ملكه
فإن كانت ظاهرة فدخل ملكه فوقع فيها فمات لم يجب على الحافر ضمانه سواء
دخل باذنه أو بغير اذنه، لأنه غير متعد بالحفر وإن كانت غير ظاهرة بان
غطى رأسها فوقع فيها انسان فمات فإن دخل إلى ملكه بغير اذنه لم يجب
ضمانه، لان متعد بالدخول. وهكذا لو كان في داره كلب عقور فدخل داره
18

بغير اذنه فعقره الكلب لم يجب ضمانه لما ذكرناه، وان استدعاه للدخول ولم
يعلم بالبئر والكلب فوقع فيها أو عقره الكلب ومات فهو كما لو قدم إلى
غيره طعاما مسموما فأكله على قولين. وقد مضى دليلهما. فأما إذا حفرها في
ملك غيره فإن كان بإذنه لم يجب عليه ضمان من يقع فيها، لأنه غير متعد
بالحفر، وان حفرها بغير اذنه وجب عليه ضمان من يقع فيها لأنه متعد بالحفر
فان أبرأه صاحب الملك عن ضمان من يقع فيها فهل يبرأ: فيه وجهان، أحدهما
لا يبرأ لأنه متعد بالحفر، فان أبرأه صاحب الملك عن ضمان من يقع فيها فهل
يبرأ؟ فيه وجهان.
(أحدهما) لا يبرأ لأنه أبرأ عما لم يجب (والثاني) يبرأ كما لو أذن له في حفرها
قال أبو علي الطبري، فان قال صاحب الملك: كان حفرها بإذني لم يصدق خلافا
لأبي حنيفة ووفاقا لقول أحمد. وان حفرها في طريق المسلمين، فإن كان ضيقا
وجب عليه ضمان من يقع فيها لأنه تعدى بذلك، وسواء أذن له الامام في ذلك
أو لم يأذن لأنه ليس للامام أن يأذن له فيما فيه ضرر على المسلمين. وإن كان
الطريق واسعا لا يستضر المسلمون بحفر البئر فيه كالطريق في الصحارى، فإن حفرها
بإذن الإمام لم يجب عليه ضمان من يقع فيها، سواء حفرها لينتفع بها أو لينتفع
بها المسلمون، لان للامام أن يقطع من الطريق إذا كان واسعا، كما له أن يقطع
من الموات. وكذلك ان حفرها بغير اذن الامام فأجاز له الامام ذلك
سقط عنه الضمان.
وقال أحمد وأصحابه: إن كان الطريق واسعا فحفر في مكان منها ما يضر
بالمسلمين فعليه الضمان. وان حفر في موضع لا ضرر فيه نظرنا، فإن حفرها
لنفسه ضمن ما تلف بها، سواء حفرها بإذن الإمام أو غير اذنه. قالوا لأنه
تلف بحفر حفرة في حق مشترك بغير اذن أهله لغير مصلحتهم فضمن، كما لو لم
يأذن له الامام بخلاف الحفر.
ولنا أنه ان حفرها بإذن الإمام لم يضمن لان للامام أن يأذن في الانتفاع
بما لا ضرر فيه بدليل أن ه يجوز له أن يأذن في اشغال جانبيه، ويقطع من طواريه
لمن يشاء ممن يتعاطون البيع والشراء
19

وإن حفرها بغير إذن الإمام فإن حفرها لينتفع هو بها وجب عليه ضمان
من يقع فيها، لأنه ليس له أن ينفرد بما هو حق لجماعة المسلمين بغير إذن الإمام
لان ذلك موضع اجتهاد الامام وإن حفرها لينتفع بها المسلمون فهل يجب عليه
ضمان من يقع فيها؟
حكى الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق فيها وجهين، وحكاهما غيرهما قولين،
أحدهما حكاه القاضي أبو حامد المروروذي عن القديم يجب عليه الضمان، لأنه
حفرها بغير إذن الإمام فهو كما لو حفرها لنفسه، والثاني حكاه القاضي أبو الطيب
عن الجديد أنه لا يجب عليه الضمان لأنه حفرها لمصلحة المسلمين وقد يحتاجون
إلى ذلك فهو كما لو حفرها بإذن الإمام. وإن حفرها في موات ليتملكها لم يجب
عليه ضمان من يقع فيها، لأنه يملكها بالاحياء، فتصير كما لو حفرها في ملكه،
وهكذا إن حفرها في الموات لا ليتملكها ولكن لينتفع بها مدة مقامه، فإذا
ارتحل عنها كانت للمسلمين فلا ضمان عليه، لان له أن ينتفع بالموات، فلا
يكون متعديا بالحفر.
(فرع) إذا حفر بئرا في طريق المسلمين ووضع آخر حجرا في تلك الطريق
فعثر بها انسان ووقع في البئر ومات، وجب الضمان على واضع الحجر لأنه
كالدافع له في البئر. وان حمل السيل حجرا إلى رأس البئر وعثر بها انسان فوقع
في البئر ومات ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يجب ضمانه لأنه إنما تلف بعثرته في الحجر، ولا تفريط من
الحافر في الحجر.
(والثاني) وهو قول أبي حنيفة أن الضمان على حافر البئر لأنه هو المعتدى
فوجب عليه الضمان كما لو وضع رجل في ملكه حجرا ووضع آخر سكينا بقربها
وعشر بالحجر فوقع على السكين ومات فإن الضمان على واضع السكين، وان
حفرا بئرا في طريق المسلمين ووضع آخر في أسفلها سكينا فتردى رجل في البئر ووقع
على السكين فقتله ففيه وجهان
(أحدهما) يجب الضمان على الحافر، وهو قول أبي حنيفة كما قلنا في رجلين
20

وضع أحدهما حجرا والآخر سكينا وعثر بالحجر على السكين فإن الضمان
على واضع الحجر.
(والثاني) أن الضمان على وضع السكين، لان تلفه حصل بوقوعه على
السكين قبل وقوعه في البئر، وان حفر رجل بئرا في طريق المسلمين فطمها فجاء
آخر وأخرج ما طمت به ففيه وجهان (أحدهما) يجب الضمان على الحافر لأنه
المبتدي بالتعدي ((والثاني) أن الضمان على الثاني لان تعدى الأول
قد زال بالطم.
(فرع) إذا حفر بئرا في ملك مشترك بينه وبين رجلين بغير اذنهما وتلف
بها انسان، قال ابن الصباغ فقياس المذهب أن جميع الدية على الحافر، وبه قال
أحمد وأصحابه. وقال أبو حنيفة يضمن ما قابل نصيب شريكه، فلو كان له شريكان
لضمن ثلثي التالف لأنه تعدى في نصيب شريكيه، وقال أبو يوسف عليه نصف
الضمان، لأنه تلف بجهتين فكان الضمان نصفين، كما لو جرحه واحد جرحا
وجرحه آخر جرحين.
دليلنا انه متعد بالحفر فضمن الواقع فيها كما لو كان في ملك غيره، والشركة
أوجبت تعديه بجميع الحفر، فكان موجبا لجميع الضمان، ويبطل ما ذكر
أبو يوسف بما أو حفره في طريق مشترك، فإن له فيها حقا ومع ذلك يضمن،
والحكم فيما إذا أذن له بعض الشركاء في الحفر دون بعض كالحكم فيما إذا حفر في
ملك مشترك بينه وبين غيره لكونه لا يباح الحفر ولا التصرف حتى يأذن الجميع
(فرع) وان بنى مسجدا في طريق لا ضرر على المسلمين فيه بضيق الطريق
فإن بناه لنفسه لم يجز، وان سقط على إنسان ضمنه، وان بناه للمسلمين
فإن كان بإذن الإمام جاز ولا ضمان عليه، وان بناه بغير اذن الامام فهو كما لو
حفر فيها بئرا للمسلمين على ما ذكرناه هناك من الخلاف.
وإن كان هناك مسجد للمسلمين فسقط سقفه فأعاده رجل من المسلمين بآلته
أو بغير آلته وسقط على إنسان لم يجب عليه ضمانه لأنه للمسلمين. وان فرش
في مسجد للمسلمين حصيرا أو علق فيه قنديلا فعثر رجل بالحصير أو سقط عليه
القنديل فمات فإن فعل ذلك باذن الامام فلا ضمان عليه وان فعله بغير
21

إذن الإمام فهو كما لو حفر البئر في الطريق الواسع للمسلمين بغير إذن الإمام على
الخلاف المذكور فيها
وقال أحمد: لا ضمان عليه، سواء كان باذن الامام أو بغير إذنه. وقال
أبو حنيفة: إن فرش الحصير وعلق القنديل يضمن إذا لم يأذن فيه الجيران.
دليلنا أنه فعل أحسن به ولم يتعد، وإن عمارة المسجد من أعظم القربات، ولان
هذا مأذون فيه من جهة العرف، ولان العادة جارية بالتبرع به من غير استئذان
فلم يجب ضمان كالمأذون فيه نطقا
(فرع) إذا بنى حائطا في ملكه مستويا، فسقط على إنسان من غير أن يبقى
مائلا ولا مستهدما فلا ضمان عليه، لأنه لم يفرط، وان بناه معتدلا فمال إلى
ملكه أو بناه مائلا إلى ملكه فسقط على إنسان وقتله لم يجب عليه الضمان
لان له أن ينصرف في ملكه كيف شاء. وان بناه مائلا إلى الشارع فسقط على
إنسان وقتله وجب على عاقلته الدية والكفارة في ماله، لان له أن يرتفق بهو
الشارع بشرط السلامة، فإذا تلف به إنسان وجب ضمانه. وان بناه معتدلا في
ملكه ومال إلى الشارع ثم وقع على إنسان فقتله ففيه وجهان
قال أبو إسحاق: يجب ضمانه على عاقلته لأنه فرط بتركه مائلا فوجب عليه
الضمان كما لو بناه مائلا إلى الشارع
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يجب ضمانه وهو المنصوص، لان الميلان
حدث من غير فعله فهو كما لو سقط على إنسان من غير ميل فإن مال حائطه إلى
هواء دار غيره فلجاره مطالبته بإزالته، لان الهواء ملك لجاره فكان له مطالبته
بازلة بنائه عنه، كما قلنا في الشجرة، فإن لم يزل حتى سقط على إنسان فقتله فهل
يجب عليه ضمانه؟ على الوجهين إذا مال إلى الشارع
وان استهدم من غير ميل فقد قال أبو سعيد الإصطخري والشيخ أبو حامد
ليس للجار مطالبته في نقضه لأنه في ملكه، فان وقع على إنسان فلا ضمان عليه
قال ابن الصباغ وهذا فيه نظر لأنه ممنوع من أن يضع في ملكه ما يعلم أنه يتعدى
إلى ملك غيره كما ليس له أن يؤجج نارا في ملكه تصل إلى ملك غيره مع وجود الريح
ولا يطرح في داره ما يتعدى إلى داره غيره. كذلك هنا مثله، لأن الظاهر إذا كان
22

مستهدما أنه يتعدى إلى ملك غيره. هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة إذا بنى الحائط
معتدلا ثم مال إلى دار الغير، فإن طالبه الغير بنقضه وأشهد عليه فلم ينقضه حتى
سقط فقتل إنسانا فعليه الضمان، وان ذهب ليأتي بالعمال لنقضه فسقط وأتلف
شيئا فلا ضمان عليه
وتوقف أحمد عن الإجابة. وذهب أصحابه إلى أنه يضمن، وقالوا أو ما أحمد
إليه، وبه قال الحسن والنخعي والثوري.
دليلنا أنه بناء وضعه في ملكه فلم يجب عليه ضمان من يقع عليه، كما لو وقع
من غير ميل. أو كما لو مال ووقع من غير أن يطالب بنقضه ويشهد عليه. وان
وضع على حائطه وطابا فوقع في دار غيره أو في الشارع أو سقط حائطه في الشارع
أو في دار غيره فعثر به انسان ومات فهل يجب عليه الضمان؟ على الوجهين.
وإذا أخرج إلى الشارع جناحا أو روشنا يضر بالمارة منع منه وأمر بإزالته، فإن
لم يزله حتى سقط على إنسان فقتله وجب عليه الضمان لأنه متعد بذلك. وإن
أخرج جناحا أو روشنا إلى الشارع لا يضر بالمارة لمن يمنع منه خلافا لأبي حنيفة
وقد مضى في الصلح
فإن وقع على إنسان وقتله نظرت فإن لم يسقط شئ من طرف الخشبة
المركبة على حائط، بل انقصفت من الطرف الخارج عن الحائط ووقعت على
إنسان وقتلته وجب على عاقلته جميع الدية، لأنه إنما يجوز له الارتفاق بهواء
الشارع بشرط السلامة. وان سقطت أطراف الخشب الموضوعة على حائط
له وقتلت انسانا وجبت على عاقلته نصف الدية، لأنه هلك بما وضعه في ملكه
وفى هواء الشارع، فانقسم الضمان عليهما، وسقط ما قابل في ملكه ووجب
ما في هواء الشارع.
وحكى القاضي أبو الطيب قولا آخر أنه ينظر كم على الحائط من الخشب،
وكم على الهواء أو الطرف الخارج منها، فالحكم فيه واحد، لأنه تلف بجميعها،
والأول هو المشهور
وقال أصحاب أحمد: على المخرج المضان لأنه تلف بما أخرجه إلى حق الطريق
23

ضمنه كما لو بنى حائطا مائلا إلى الطريق فأتلف، أو أقام خشبة في ملكه مائلة،
ولأنه إخراج يضمن به البعض فضمن به الكل بناء على أصله
(فرع) إذا أخرج ميزابا إلى الشارع جاز لما سقناه في كتاب الضمان من أن
عمر رضي الله عنه مر تحت ميزاب العباس رضي الله عنه فقطرت عليه قطرة،
فأمر بقلعه فحرج العباس وقال: قلعت ميزابا نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال عمر: لا ينصبه إلا من يرقى على ظهري، فانحنى عمر وصعد العباس على ظهره
فوضعه، وهو إجماع لا خلاف فيه، فإن سقط على إنسان فقتله أو بهيمة فأتلفها
فحكى المصنف وأكثر أصحابنا فيه قولين:
قال في القديم: لا يجب ضمانه، وبه قال مالك، لأنه غير متعد بإخراجه فلم
يضمن ما تلف به، كما لو أخرجه إلى ملكه، ولأنه مضطر إليه لا يجد بدا منه فلم
يلزمه ضمان ما تلف به.
وقال في الجديد: يجب ضمانه، وبه قال أبو حنيفة، وهو المذهب عند أحمد
بلا خلاف بين أصحابه، لأنه ارتفق بهواء طريق المسلمين فإذا تلف به إنسان
وجب عليه ضمانه كما قلنا في الجناح، وقول الأول لا يجد بدا منه غير صحيح،
لأنه يمكنه أن يحفر في ملكه بئرا يجرى الماء إليها، فإذا قلنا بهذا وسقط جميع
الميزاب الذي على ملكه والخارج منه وقتل إنسانا وجب ضمانه، وكم يجب من
ديته؟ على المشهور من المذهب يجب نصف الدية. وعلى القول الثاني الذي حكاه
القاضي أبو الطيب تقسط الدية على الميزاب فيسقط منها بقدر ما على ملكه من
الميزاب ثم يجب بقدر الخارج منه عن ملكه.
وقال أبو حنيفة: إن أصابه بالطرف الذي في الهواء وجبت جميع ديته،
وإن أصابه بالطرف الذي على الحائط لم يجب ضمانه. ودليلنا أنه تلف بنقل
الجميع دون بعضه، وإن انتصف الميزاب فسقط منه ما كان خارجا عن ملكه
وقتل انسانا وجبت جميع ديته على عاقلته، فسيقال في هذه وفى التي قبلها رجل قتل
رجلا بخشبة فوجبت بعض دية المقتول، ولو قتله ببعض تلك الخشبة لوجبت
جميع دية المقتول.
24

وقال الشيخ أبو حامد: إذا وقع الميزاب على إنسان فقتله ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) أن علية الضمان (والثاني) لا ضمان عليه (والثالث) على عاقلته نصف
الدية من غير تفصيل.
(فرع) قال الشيخ أبو حامد: وان طرح على باب داره قشور البطيخ أو
الباقلا الرطب أو الموز أو رشه بالماء فزلق به إنسان فمات كانت ديته على عاقلته
والكفارة في ماله، لان له أن يرتفق بالمباح بشرط السلامة، فإذا أدى إلى التلف
كان عليه الضمان، وان ركب دابة فبالت في الطريق أو راثت وزلق به إنسان
ومات كان عليه الضمان، وكذلك لو أتلفت إنسانا بيدها أو رجلها أو نابها فعليه
ضمانه لان يده عليها، فإذا تلف شئ بفعلها كان كما لو تلف بفعله أو سبب فعله
وان ترك على حائطه جرة فرمتها الريح على إنسان فمات لم يجب عليه الضان لأنه
غير متعد بوضعها على ملكه ووقعت من غير فعله، وكذلك إذا سجر تنورا في
ملكه وارتفعت شرارة إلى دار غيره فأحرقته فلا ضمان عليه لما ذكرناه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان اصطدم فارسان أو راجلان وماتا وجب على كل واحد
منهما نصف دية الآخر. وقال المزني ان استلقى أحدهما فانكب الآخر على وجهه
وجب على المكب دية المستلقي وهدر دمه، لأن الظاهر أن المنكب هو القاتل
والمستلقي هو المقتول، وهذا خطأ لان كل واحد منهما هلك بفعله وفعل صاحبه
فهدر النصف بفعله ووجب النصف بفعل صاحبه، كما لو جرح كل واحد منهما
نفسه وجرحه صاحبه.
ووجه قول المزني لا يصح، لأنه يجوز أن يكون المستلقي صدم صدمة شديدة
فوقع مستلقيا من شدة صدمته، وإن ركب صبيان أو أركبهما وليهما واصطدما
وماتا فهما كالبالغين، وان أركبهما من لا ولاية عليهما فاصطدما وماتا وجب
على الذي أركبهما دية كل واحد منهما النصف، بسبب ما جنى كل وا حد من
الصبيين على نفسه، والنصف بسبب ما جناه الآخر عليه.
وان اصطدمت امرأتان حاملان فماتتا ومات جنيناهما كان حكمهما في ضمانهما
25

حكم الرجلين، فأما الحمل فإنه يجب على كل واحدة منهما نصف دية جنينها ونصف
دية جنين الأخرى لجنايتهما عليهما.
(فصل) وإن وقف رجل في ملكه أو في طريق واسع فصدمه رجل فماتا
هدر دم الصادم، لاه هلك بفعل هو مفرط فيه فسقط ضمانه، كما لو دخل دار
رجل فيها بئر فوقع فيها، وتجب دية المصدوم على عاقلة الصادم، لأنه قتله
بصدمة هو متعد فيها، وإن وقف في طريق ضيق فصدمه رجل وماتا وجب
على عاقلة كل واحد منهما دية الآخر، لان الصادم قتل الواقف بصدمة هو
مفرط فيها، والمصدوم قتل الصادم بسبب هو مفرط فيه، هو وقوفه في
الطريق الضيق، وان قعد في طريق ضيق فعثر به رجل فماتا كان الحكم فيه كالحكم
في الصادم والمصدوم وقد بيناه.
(الشرح) إذا اصطدم راكبان أو راجلان فماتا وجب على كل واحد منهما
نصف دية الآخر وسقط النصف، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة وصاحباه
وأحمد وإسحاق: يجب على عاقلة كل واحد منهما جميع دية الاخر، وروى عن علي
رضي الله عنه المذهبان. دليلنا أنهما استويا في الاصطدام، وكل واحد منهما
مات بفعل نفسه وفعل غيره، فسقط نصف ديته بفعل نفسه ووجب النصف
بفعل غيره، كما لو شارك غيره في قتل نفسه
قال الشافعي رضي الله عنه، وسواء غلبتهما دابتاهما أو لم تغلبهما أو أخطأ
ذلك أو تعمدا، أو رجعت دابتاهما القهقرى فاصطدما، أو كان أحدهما راجعا
والاخر مقبلا. اه‍
وجملة ذلك أنهما إذا غلبتهما دابتاهما أو لم تغلباهما الا أنهما أخطأ فعلى عاقلة
كل واحد منهما نصف دية الاخر مخففة، وان قصد الاصطدام فلا يكون عمدا
محضا، وإنما يكون عمدا خطأ، فيكون على عاقلة كل واحد منهما نصف دية
الآخر مغلظة.
وقال أبو إسحاق المروزي: يكون في مال كل واحد منهما نصف دية الآخر
مغلظة لأنه عمد محض. وإنما لم يجب القصاص لأنه شارك من فعله غير مضمون
26

والأول هو المنصوص، لان الصدمة لا تقتل غالبا. ولو كان كذلك لكان في
القصاص قولان، ولا فرق بين أن يكونا مقبلين أو مدبرين، أو أحدهما مقبلا
والاخر مدبرا، إلا أن الاصطدام قد وجد، وإن كان فعل المقبل أقوى.
وكذلك لا فرق بين أن يكونا فرسين أو حمارين أو بغلين، أو أحدهما على فرس
والاخر على بغل أو حمار، لان الاصطدام قد وجد منهما. وإن كان فعل
أحدهما أقوى من فعل الاخر، كما لو جرح رجل رجلا جراحات وجرحه الاخر
جراحة ومات منها.
قال الشافعي رضي الله عنه: ولا فرق بين أن يكونا بصيرين أو أعميين، أو
أحدهما أعمى والاخر بصيرا لان الاصطدام قد وجد منهما، ولا فرق بين أن
يقعا مكبوبين أو مستلقيين، أو أحدهما مكبوبا والاخر مستلقيا. وقال المزني:
إذا وقع أحدهما مكبوبا على وجهه والاخر مستلقيا على ظهره، فإن القاتل هو
المكبوب على وجهه، فعلى عاقلته جميع الدية للمستلقي ولا شئ على عاقلة المستلقي
والمنصوص هو الأول، لأنهما قد اصطدما، ويحوز أن يقع مستلقيا على ظهره
من شدة صدمته. ألا ترى أن رجلا إذا طرح حجرا على حجر رجع الحجر إلى
خلف من شدة وقوعه وثبوت الاخر، فكذلك هذا مثله. وان ماتت الدابتان
وجب على كل واحد منهما نصف قيمة دابة الاخر، لأنها تلفت بفعله وفعل
صاحبه، ولا تحمله العاقلة، لان العاقلة لا تحمل المال، وإن كان أحدهما راكبا
والاخر ماشيا فالحكم فيهما كما لو كان راكبين أو ماشيين وإنما يتصور هذا إذا
كان الماشي طويلا والراكب أقصر
(فرع) إذا اصطدم صغيران راكبان نظرت فإن ركبا بأنفسهما أو
اركبهما ولياهما فهما كالبالغين، لان للولي أن يركب الصغير ليعلمه، وان
أركبهما أجنبيان فعلى عاقلة كل واحد منهما من المركبين نصف دية كل واحد منهما
لان كل واحد من المركبين هو الجاني على الذي أركبه وعلى الذي جنى عليه.
وإن كان المصطدمتان حاملتين فماتتا ومات جنيناهما وجبت على عاقلة كل واحد
27

منهما نصف دية الأخرى، وكذلك تجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية
جنينها ونصف دية جنين الأخرى، لان كل واحدة منهما قتلت جنينها وجنين
الأخرى. وان خرج جنين إحداهما منها قبل موتها لم ترث من ديته لأنها قاتلة
له، ويجب على كل واحدة منهما أربع كفارات، لان كل واحدة منهما قاتلة
لنفسها وجنينها، والأخرى وجنينها فوجب عليهما أربع كفارات، ولو كانتا
أمي ولد أو أمتين فلهما أحكام أخرى لامكان لها هنا، حيث التزمنا الاقتصار
على المسائل والفروع العملية واختصار ما عدا ذلك أو المرور عليه كراما
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: وإن كان أحدهما واقفا فصدمه الاخر
فماتا، فدية الصادم هدر ودية صاحبه على عاقلة الصادم، اه‍
وجملة ذلك أن الرجل إذا كان واقفا في موضع فصدمه آخر فماتا نظرت،
فإن كان الواقف وقف في ملكه أو في ريق واسع لا يتضرر الناس بوقوفه
فيه، فإن دية المصطدم وهو الواقف تجب على عاقلة الصادم، لأنه مات بفعله،
وتهدر دية الصادم، لان الواقف غير مفرط بالوقوف في موضعه، سواء كان
الواقف قائما أو قاعدا أو مضطجعا أو نائما، وسواء كان بصيرا أو أعمى يمكنه
أن يحترز فلم يفعل، أو لا يمكنه لان فعل الصادم مضمون، وان أمكن المصدوم
الاحتراز منه، كما لو طلب رجلا ليقتله وأمكن المطلوب الاحتراز منه فلم يفعل
حتى قتله، فإن انحرف الواقف فوافق انحرافه صدمة الصادم فماتا فقد مات كل
واحد منهما بفعله وفعل صاحبه فيكونان كالمتصادمتين فيجب على عاقلة كل واحد
منهما نصف دية الاخر ونصف قيمة السيارة إذا كان كل منهما يقود سيارة.
فإذا كان أحدهما يقود سيارة والاخر راجلا وصدم الراكب الراجل، فإن كان
الراجل مخطئا في تعرضه للسيارة وكان يمكن للراكب أن يتوقى الصدام فلم يفعل
كان عليه نصف دية الراجل لأنه مات بفعله وفعل الراكب، فإن لم يكن يمكنه
الاحتراز منه لسبب لا يرجع إلى تقصير منه أو خلل في (فرامل السيارة) فليس
على الراكب دية، فإن كان الراكب غير مقصر في آداب الطريق إلا أنه أراد
أن يتوقى خطرا لاح له فترتب على وقوفه المفاجئ اصطدام من الخلف بسيارة
مسرعة وراءه فمات سائقها، فإن كان يمكنه أن يعطى إشارة حمراء لمن خلفه لم
28

يفعل كانت الدية مخففة، أما إذا أعطى إشارة حمراء فليس عليه دية لان الذي خلفه
مات بفعل نفسه فلم يستحق دية.
قال الشافعي رضي الله عنه، فإن انحرف موليا فمات فعلى عاقلة الصادم دية
كاملة، وصورته أن يكون وجه الواقف إلى المقبل فلما رآه انحرف موليا ليتنحى
عن طريقه فأصابه فمات، فجميع ديته على عاقلة الصادم، لأنه لا فعل له في قتل
نفسه ودية الصادم هدر. وأما إذا كان واقفا في طريق ضيق للمسلمين فعلى عاقلة
كل واحد منهما جميع دية الاخر. أما الصادم فلانه قاتل، وأما المصدوم فلانه
كان السبب في قتل الصادم، وهو وقوفه في الطريق الضيق، لأنه ليس له
الوقوف هناك، والفرق بين هذا وبين المتصادمين أن كل واحد من المتصادمين مات
بفعله وفعل صاحبه. وها هنا كل واحد منهما قاتل لصاحبه منفرد بقتله، لان
الصادم انفرد بالإصابة والمصدوم انفرد بالسبب الذي مات به الصادم
ومن أصحابنا من قال ليس على عاقلة المصدوم شئ بحال، والأول أصح.
هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي، نص الشافعي رحمه الله إذا كان الرجل واقفا في الطريق
فصدمه آخر فما (ا؟) أن دية الصادم هدر ودية الواقف على عاقلة الصادم. وقال
فيمن نام في الطريق فصدمه آخر فماتا أن دم النائم هدر ودية الصادم على عاقلة
النائم، فمن أصحابنا من جعل المسألتين على قولين، ومنهم من أجراهما على ظاهرهما
وفرق بينهما بأن الانسان قد يقف في الريق ليجيب داعيا وما أشبهه، فأما النوم
والقعود فليس له ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فإن اصطدمت سفينتان وهلكتا وما فيهما، فإن كان بتفريط من
القيمين بأن قصرا في آلتهما أو قدرا على ضبط هما فلم يضبطا، أو سيرا في ريح
شديدة لا تسير السفن في مثلها. وإن كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على
كل واحد منهما نصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها. ويهدر النصف.
وإن كانتا لغيرهما وجب على كل واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها
29

ونصف قيمة سفينة صاحبه ونصف قيمة ما فيها، لما بيناه في الفارسين، فإن
كان في السفن رجال فهلكوا صمن عاقلة كل واحد منهما نصف ديات ركاب
سفينته وركاب سفينة صاحبه، فان قصدا الاصطدام وشهد أهل الخبرة أن مثل
هذا يوجب التلف، وجب على كل واحد منهما القصاص لركاب سفينته وركاب
سفينة صاحبه، وان لم يفرطا ففي الضمان قولان
(أحدهما) يجب كما يجب في اصطدام الفارسين إذا عجزا عن ضبط الفرسين.
(والثاني) لا يجب لأنها تلفت من غير تفريط منهما، فأشبه إذا تلفت بصاعقة
واختلف أصحابنا في موضع القولين، فمنهم من قال القولان إذا لم يكن من جهتهما
فعل، بأن كانت السفن واقفة فجاءت الريح فقلعتها
فأما إذا سيرا ثم جاءت الريح فغلبتهما ثم اصطدما وجب الضمان قولا واحدا
لان ابتداء السير كان منهما فلزمهما الضمان كالفارسين
وقال أبو إسحاق وأبو سعيد القولان في الحالين، وفرقوا بينهما وبين الفارسين
بأن الفارس يمكنه ضبط الفرس باللجام، والقيم لا يمكنه ضبط السفينة، فان قلنا
إنه يجب الضمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا فرطا إلا في القصاص، فإنه لا يجب
مع عدم التفريط. وان قلنا إنه لا يجب الضمان نظرت فإن كانت الصفن وما فيها
لهما لم يجب على كل واحد منهما ضمان. وإن كانت السفن مستأجرة والمتاع
الذي فيها أمانة كالوديعة وما المضاربة لم يضمن، لان الجميع أمانة فلا تضمن
مع عدم التفريط.
وإن كانت السفن المستأجرة والمتاع الذي فيها يحمل بأجرة لم يجب ضمان
السفن لأنها أمانة. وأما المال فهو مال في يد أجير مشترك، فإن كان معه صاحبه
لم يضمن، وان لم يكن معه صاحبه فعلى القولين في الأجير المشترك، وإن كان
أحدهما مفرطا، والاخر غير مفرط، كان الحكم في المفرط ما ذكرناه إذا كانا
مفرطين. والحكم في غير المفرط ما ذكرناه إذا كانا غير مفرطين
(فصل) إذا كان في السفينة متاع لرجل فثقلت السفينة، فقال رجل
لصاحب المتاع ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه فألقاه وجب عليه الضمان. وقال
أبو ثور لا يجب لأنه ضمان ما لم يجب، وهذا خطأ لان ذلك ليس بضمان، لان
30

الضمان يفتقر إلى مضمون عنه وليس ههنا مضمون عنه وإنما هو استدعاء إتلاف
بعوض لغرض صحيح، فإن قال ألق متاعك وعلى وعلى ركاب السفينة ألف فألقاه
لزمه بحصته، فإن كلو عشرة لزمه مائة، وإن كانوا خمسة لزمه مائتان لأنه جعل
الألف على الجميع فلم يلزمه فلم يلزمه أكثر من الحصة، فان قال أنا ألقيه على أنى وهم ضمناه
فألقاه ففيه وجهان (أحدهما) أنه يجب عليه الحصة لما ذكرناه (والثاني) يجب
عليه ضمان الجميع لأنه باشر الاتلاف
(الشرح) إذا اصطدمت سفينتان فانكسرتا وتلف ما فيهما فلا يخلو الربانان
وهما القيمان اما ان يكونا مفرطين في الاصطدام أو غير مفرطين، أو أحدهما
مفرطا والآخر غير مفرط، فإن كانا مفرطين بأن أمكنهما ضبط هما أو الانحراف
فلم يفعلا فقد صارا جانيين، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما وجب على كل
واحد منهما نصف قيمة سفينته ونصف قيمة ما فيها ونصف قيمة سفينة صاحبه
ونصف قيمة ما فيها، لان كل واحد منهما تلف بفعلها، وسواء كانت السفينتان
وديعة أو عارية أو بأجرة، وسواء كان المال فيهما وديعة أو قراضا أو يحمل
بأجرة لان الجميع يضمن بالتفريط، وإن كان فيهما أحرار وماتوا وقصدوا
الاصطدام. وقال أهل الخبرة: إن مثل ما قصد إليه وفعلاه يقتل غالبا، فإنها
جناية عمد محض، فقد وجب عليهما القود لجماعة في حالة واحدة، فيقرع بين
أولياء المقتولين، فإذا خرجت عليهما القرعة بواحد قتلا بواحد ووجب للباقين
الدية في أموالهما.
وإن قالوا لا يقتل مثله غالبا أو لم يقصد الاصطدام وإنما فرطا وجب على عاقلة
كل واحد منهما نصف ديات ركاب السفينتين.
وإذا لم يفرط الربانان أو القيمان مثل أن اشتدت الريح واضطرمت الأمواج
فلم يمكنهما إمساكهما بطرح الانجد، ولا بأن يعدل أحدهما عن سمت الأخرى.
حتى اصطدمتا وهلكتا ففيه قولان:
(أحدهما) أن عليهما الضمان لأنهما في أيديهما، فما تولد من ذلك كان عليهما
ضمانه، وان لم يفرطا كالفارسين إذا تصادما وغلب عليهما الفرسان، ولان
31

كل من ابتدأ الفعل منه فإنه يضمن ذلك الفعل إذا صار جناية، وإن كان بمعونة
غيره كما لو رمى سهما إلى عرض فحمل الريح السهم إلى إنسان وقتله
(والثاني) لا ضمان عليهما لأنه لا فعل لهما ابتداء ولا انتهاء، وإنما ذلك
من فعل الريح فهو كما لو نزلت صاعقة فأحرقت السفينتين. واختلف أصحابنا في
موضع القولين، فمنهم من قال: القولان إذا لم يكن للربان فعل لا ابتداء ولا
انتهاء وهو في المراكب التي ينصب الربان الشراع ويمد الحبال ويقيمه نحو الريح
حتى إذا هبت الريح دفعه. فأما السفن البخارية فإن اندفاعها ماخرة في عباب
البحر بمحركاتها التي تقوم مقام المجداف في الزوارق الصغيرة، وهذه السفن يمكن
التحكم في سيرها إلى مسافة تحددها علوم البحار التي تقرر لكل سفينة قوة وحمولة
وسرعة يمكن التحكم في سيرها وتوقى الاصطدام بغيرها إلى مسافة معينة، فإذا
تعذر فلا ضمان.
أما السفن الصغار التي تسير بالمجداف أو الزوارق البخارية فإنه يجب الضمان
قولا واحدا، لان ابتداء الفعل منهما. ومنهم من قال القولان إذا لم يكن منهما
فعل بأن كانتا واقفتين أو لم يسير هما رباناهما فجاءت الريح فقلعتهما فأما إذا سيرا
فقلعتهما فيجب الضمان قولا واحدا، ولم نفرق بين السفن التي تسير بنصف الشراع
أو التي تسير بالبخار أو الصغار التي تسير بالمجداف.
ومنهم من قال القولان في الجميع سواء كانتا واقفتين أو سيراهما، وسواء
كانتا تسيران بالشراع أو البخار أو المجداف، لان الفارس يمكنه ضبط الفرس
باللجام، والسفينتان لا يمكنه أن يسيرها سيرا لا يغلبه الريح عليها (با؟) ان
العوامل الجوية وهياج البحر له تأثير على ضبط القيادة وتفادي المخاطر
فإذا قلنا يجب عليهما الضمان، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما فلا يجب
عليهما الضمان. وكذلك إذا كانت السفينتان معهما وديعة، والمال الذي فيهما
حملاه بأجرة فلا ضمان عليهما في السفينة. وأما المال فإن كان رب المال معه
لم يضمنه الأجير، لان يد صاحبه عليه، وان لم يكن رب المال معه فعلى قولين
لان أجيره مشترك وكذلك إذا استأجر على القيام بالسفينتين وما فيهما فهما
أجيران مشتركان. فإن كان رب السفينة والمال معه فلا مضان. وان لم يكن معه
32

فعلى القولين، وإن كان أحدهما مفرطا والآخر غير مفرط. قال الشيخ أبو حامد
فإن المفرط جان والاخر غير جان، فإن كانت السفينتان وما فيهما لهما كان على
المفرط قيمة سفينة صاحبه وما فيها، لأنها تلفت بفعله، أما سفينته وما فيها فلا
يرجع به على أحد لأنهما هلكتا بفعله، وإن كانتا وما فيهما لغيرهما فإن على
المفرط قيمة سفينته وقيمة ما فيها، وعلية قيمة سفينة صاحبه وقيمة ما فيها،
ولصاحب السفينة الذي لم يفرط قيمتها وله أن يطالب المفرط بذلك، وإن أراد
أن يطالب الربان الذي لم يفرط فإن قلنا أن الربان يضمن وإن لم يفرط
فها هنا له أن يضمنه ثم يرجع الذي لم يفرط بما غرمه على المفرط، وان قلنا إن
الربان لا يضمن إذا لم يفرط فإن كانت السفينة معه وديعة أو المال معه
قراض فلا ضمان عليه وإن كان ذلك بيده استؤجر على حمله فهو أجير
مشترك، وإن لم يكن صاحبه معه فإن قلنا لا يضمن لم يكن له مطالبته، وان
قلنا يضمن فله أن يطالبه ثم يرجع بما غرمه على المفرط، فإن انكسرت إحداهما
دون الأخرى فالحكم في المكسرة حكمهما إذا انكسرتا
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: وإذا صدمت سفينته من غير أن يتعمد
بها الصدم لم يضمن شيئا مما في سفينته بحال
واختلف أصحابنا في صورتها فمنهم من قال صورتها أن يكون الربان قد عدل
سفينته إلى الشط وربطها فطرح الانجد فجاءت سفينة أخرى فصدمتها فتلفت وما
فيها فلا ضمان عليه، لأنه لا فعل لا يلزمه به الضمان. وهذا القائل يقول: قول
الشافعي صدمت سفينته؟ إنما هو بضم الصاد فعل لما لم يسم فاعله، ومنهم من قال
صورتها إذا لم يكن منه تفريط، وأجاب بأحد القولين وهو الأصح لأنه قال:
صدمت سفينته من غير أن يتعمد بها الصدم، ولا يقال ذلك للمصدوم. وإنما
يقال مثله للصادم.
(مسألة) قوله: إذا كان في السفينة متاع الخ. فان جملة ذلك إذا كان قوم
في سفينة وفيها متاع فثقلت السفينة من المتاع ونزلت في الماء وخافوا الغرق فإن
ألقى بعضهم متاعه في البحر لتخفف السفينة وسلموا لم يرجع به على أحد لأنه أتلف
ماله باختياره من غير أن يضمن له غيره عوضا فهو كما لو أعتق عبده. وان طرح
33

مالا لغيره من غير إذنه لتخفف السفينة وجب عليه ضمانه لأنه أتلف مال غيره بغير
اذنه فوجب عليه ضمانه كما وخرق ثوبه وإن قال لغيره ألق متاعك في البحر ولم يضمن
له عوضا فألقاه فقد قال المسعودي هل يجب على الذي أمره بالالقاء ضمانه؟ فيه
وجهان كما قلنا فيه إذا قال لغيره اقض عنى ديني ولم يضمن له عوضه
وقال سائر أصحابنا لا يلزمه ضمانه، وهو المنصوص، لأنه لم يضمن له بدله
فلم يلزمه، كما لو قال: أعتق عبدك فأعتقه، والفرق بين هو بين قضاء الدين متحقق
نفعه للطالب لان ذمته تبرأ بالقضاء، وهاهنا لا يتحقق النفع بذلك، بل يجوز
أن يسلموا ويجوز أن لا يسلموا
وإن قال له ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه أو على أنى أضمن لك قيمته،
فألقاه، وجب على الطالب ضمانه، وهو قول الفقهاء كافة إلا أبا ثور فإنه قال
لا يلزمه لأنه ضمان ما لم يجب، وهذا خطأ، لأنه استدعى إتلاف مال لغرض
صحيح فصح كما لو قال أعتق عبدك وعلى قيمته أو طلق امرأتك وعلى ألف.
(فرع) وإن قال لغيره ألق متاعك في البحر وعلى وعلى ركاب السفينة ضمانه
فألقاه، وجب على الطالب حصته، فإن كانوا عشرة لزمه ضمان عشره. وان قال
ألقه على أن أضمنه وكل واحد من ركاب السفينة، فألقاه، وجب على الطالب
ضمان جميعه لأنه شرط أن يكون كل واحد منهم ضامنا له
وإن قال ألق متاعك وعلى وعلى ركاب السفينة ضمانه، وقد أذنوا لي في ذلك
فإن صدقوه لزم كل واحد منهم بحصته وإن أنكروا حلفوا ولزم الطالب ضمانه
جميعه، وان قال ألق متاعك وعلى وعلى ركاب السفينة ضمانه وعلى تحصيله منهم
فألقاه وجب على الطالب ضمان جميعه.
وان قال صاحب المتاع لآخر ألق متاعي وعليك ضمانه، فقال نعم فألقاه،
وجب عليه ضمانه لان ذلك بمنزلة الاستدعاء منه. وان قال ألق متاعك وعلى
نصف قيمته، وعلى فلان ثلثه وعلى فلان سدسه، فألقاه، فإن صدقه الآخران
أنهما أذنا للطالب في ذلك لزمه نصف قيمته ولزم الآخران النصف، وان
أنكر الآخران حلفا ووجب الجميع على الطالب فإن قال الطالب ألقى أنا متاعك
وعلى ضمانه، فقال صاحب المتاع نعم، فألقاه لم يكن مأثوما ووجب عليه ضمانه
34

فإن قال الطالب: ألقى أنا متاعك وعلى وعلى ركاب السفينة ضمانه. فقال
صاحب المتاع نعم فألقاه ففيه وجهان (أحدهما) لا يلزم الملقى الا بحصته لأنه
قدر ما ضمن (والثاني) يلزمه الجميع لأنه باشر الاتلاف. وان قال لغيره:
ألقى متاع فلان وأنا ضامن لك لو طالبك لم يصح هذا الضمان، ويلزم الضمان
على الملقى لأنه هو المباشر.
(مسألة) استحدث في عصرنا هذا شركات تقوم بالتزام دفع ضمان ما يهلك
من السفن أو السيارات وتصدر القوانين من الحكومات لالزام أصحاب السيارات
والسفن والمصانع أداء قدر من المال إلى هذه الشركات الضامنة وتسمى شركات
التأمين، فأما من جهة الضمن فلا خلاف في جوازه بناء على ما قلنا فيمن قال:
ألق متاعك وأنا ضامن فإنه يلزمه الضمان. وأما ما يؤدى إلى هذه الشركات فهل
يجرى مجرى الاجر على الضمان؟ أم أنها أموال معونة ورفق ترصد لتكون على
أهبة الاستعداد دائما لدفع الضمان عند حدوث التلف؟ أم أنها صور ربوية
محظورة؟ أم هي من القمار المحرم؟ هذا ما سأفرده ببحث خاص في كتاب على
حدة إن شاء الله.
(فرع) وان خرق رجل السفينة فغرق ما فيها، فإن كان مالا، لزمه ضمانه،
سواء خرقها عمدا أو خطأ، لان المال يضمن بالعمد والخطأ، وإن كان فيه
أحرار فغرقوا وماتوا فإن كان عامدا مثل أن يقلع منها لوحا يغرق مثلها من
قلعه في الغالب وجب عليه القود بهم، فيقتل بأحدهم وتجب للباقين الدية في
ماله، وإن كان مخطئا بأن سقط من يده حجر أو فأس فحرق موضعا فيها فغرقوا
كان على عاقلته ديانهم مخففة، وإن كان عمد خطأ مثل أن فيها ثقب فأراد صلاحه
فانخرق عليه كان على عاقلته ديانهم مغلظة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فان رمى عشرة أنفس حجرا بالمنجنيق فرجع الحجر وقتل أحدهم
سقط من ديته العشر ووجب تسعة أعشار الدية على الباقين لأنه مات من فعله
وفعلهم، فهدر بفعله العشر، ووجب الباقي على التسعة
35

(فصل) وإذا وقع رجل في بئر ووقع آخر خلفه من غير جذب ولا دفع،
فإن مات الأول وجبت ديته على الثاني لما روى علي بن رباح اللخمي أن بصيرا
كان يقود أعمى موقعا في بئر فوقع الأعمى فوق البصير فقتله، فقضى عمر رضي الله عنه
بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى ينشد في الموسم
يا أيها الناس لقيت منكرا * هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا
خرا معا كلاهما تكسرا
ولان الأول مات بوقوع الثاني عليه فوجبت ديته عليه، وان مات الثاني
هدرت ديته، لأنه لا صنع لغيره في هلاكه، وإن ماتا جميعا وجبت دية الأول
على الثاني، وهدرت دية الثاني لما ذكرناه، فإن جذب الأول الثاني ومات الأول
هدرت ديته، لأنه مات بفعل نفسه، وإن مات الثاني وجبت ديته على الأول
لأنه مات بجذبه، وان وقع الأول ثم وقع الثاني ثم وقع الثالث، فإن كان وقوعهم
من غير جذب ولا دفع وجبت دية الأول على الثاني والثالث، لأنه مات بوقوعهما
عليه، وتجب دية الثاني على الثالث، لأنه انفرد بالوقوع عليه فانفرد بدينه،
وتهدر دية الثالث لأنه مات من وقوعه، فإن جذب بعضهم بعضا بأن وقع
الأول وجذب الثاني وجذب الثاني الثالث وماتوا وجب للأول نصف الدية على
الثاني، لأنه مات من فعله بجذب الثاني، ومن فعل الثاني بجذب الثالث، فهدر
النصف بفعله ووجب النصف، ويجب للثاني نصف الدية على الأول لأنه جذبه
ويسقط نصفها لأنه جذب الثالث، ويجب للثالث الدية لأنه لا فعل له في هلاك
نفسه، وعلى من تجب؟ فيه وجهان
(أحدهما) أنها تجب على الثاني لأنه هو الذي جذبه
والوجه الثاني أنها تجب على الأول والثاني نصفين، لان الثاني جذبه والأول
جذب الثاني فاضطره إلى جذب الثالث، وكان كل واحد منهما سببا في هلاكه
فوجبت الدية عليهما.
(فصل) وان تجارح رجلان وادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه
قصد قتله فجرحه دفعا عن نفسه فالقول قول كل واحد منهما، مع يمينه أنه ما قصد
36

قتل صاحبه، فإذا حلقا وجب على كل واحد منهما ضمان جرحه، لان الجرح قد
وجد وما يدعيه كل واحد منهما من قصد الدفع عن نفسه لم يثبت فوجب الضمان
(الشرح) خبر علي بن رباح اللخمي أخرجه الدارقطني عن إسماعيل المحاملي
نا زيد بن الحباب نا موسى بن علي بن رباح اللحمي، وقد أخرجه البيهقي في السنن
الكبرى من رواية موسى بن علي بن رباح عن أبيه. قال الحافظ بن حجر: وفيه
انقطاع، ولفظه: فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى، فذكر أن الأعمى كان
ينشد، ثم ذكر الأبيات.
أما المنجنيق فإنه آلة يرمى عنها بالحجارة، يقال بفتح الميم وجاء كسرها عن
ابن قتيبة وجمعه مجانق وهي معربة، وأصلها بالفارسية (من جى نيك) أي
ما أجودني، وهو بمثابة المدافع التي تقذف قذائف النيران في عصرنا هذا، وقد
ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف بالمنجنيق. أما علي بن رباح
أبو عبد الله المصري قال علي بن عمر الحافظ: لقبه على بالضم وثقه النسائي وفى
الخلاصة مات بعد العشر ومائة، وفى التهذيب سنة سبع عشرة
أما الأحكام فإنه إذا رمى عشرة أنفس حجرا بالمنجنيق فأصابوا رجلا من
غيرهم فقتلوه فقد اشتركوا في قتله فإن لم يقصدوا بالرمي أحدا وجبت
ديته مخففة على عاقلة كل واحد منهم عشرها، وإن كانوا قصدوه بالرمي فأصابوه
لم يكن عمد خطأ، لأنه لم يمكن قصد رجل بعينه بالمنجنيق، وإنما يتفق وقوعه
ممن وقع به، فتجب ديته مغلظة على عاقلة كل واحد منهم عشرها، وان رجع
الحجر على أحدهم فقتله سقط من ديته العشر ووجب على عاقلة كل واحد من التسعة
عشر ديته لأنه مات بفعله وفعلهم، فهدر ما يقابل فعله ووجب ما يقابل فعلهم.
وإنما تجب الدية على من مد منهم الحبال ورمى الحجر، كمن وضع القذيفة في
المدفع والاخر ضبط الهدف وغيره ضغط الزناد، فإذا أحضر أحدهم القذيفة ثم
تنحى فلا شئ عليه لأنه صاحب سبب والمباشر غيره فتعلق الحكم بالمباشر
قوله (وإذا وقع في بئر الخ) فجملة ذلك أنه إذا وقع لرجل في بئر أو زبية
وهي حفرة في موضع عال يصاد فيها الأسد ونحوه والجمع زبى مثل مدية
37

ومدى. ومن إطلاق الزبية على المحل المرتفع قول عثمان لعلى أيام الحصار في
الدار: قد بلغ السيل الزبى فوقع عليه آخر فمات الأول وجب ضمان الأول
على الثاني للأثر الذي سقناه عن الأعمى الذي قضى عمر رضي الله عنه عليه أن
يعقل البصير ثم ينظر فيه، فإن كان الثاني رمى بنفسه عليه عمدا وكان وقوعه عليه
يقتله في الغالب وجب على الثاني القود، وان رمى بنفسه عليه وكان وقوعه عليه
لا يقتله غالبا وجبت فيه دية مغلظة على عاقلة الثاني. وان وقع عليه مخطئا وجبت
على عاقلته دية مخففة وتهدر دية الثاني بكل حال، لأنه لم يمت بفعل أحد، وان
وقع الأول ووقع عليه ثان ووقع فوقهما ثالث وماتوا قال ابن الصباغ، فقد
ذكر الشيخ أبو حامد أن ضمان الأول على الثاني والثالث لأنه مات بوقوعهما عليه
وضمان الثاني على الثالث لأنه انفرد بالوقوع عليه ويهدر دم الثالث لأنه لم يمت بفعل أحد
وذكر القاضي أبو الطيب أن الثالث يضمن نصف دية الثاني ويهدر النصف
لان الثاني تلف بوقوعه على الأول، بوقوع الثالث عليه. قال ابن الصباغ:
وهذا أقيس لان وقوعه على غيره كسبب في تلفه كوقوع غيره عليه. قال ابن
الصباغ: فعلى قياس هذا إذا وقع على الأول ثان وماتا أن بهدر نصف دية الأول
لأنه مات بوقوعه وبوقوع الثاني عليه.
وان وقع رجل في بئر وجذب ثانيا وماتا هدرت دم الأول لأنه مات بجذبه
الثاني على نفسه ووجبت دية الثاني على الأول لأنه مات بجذبه، وان جذب
الأول ثانيا وجذب الثاني ثالثا وماتوا فقد مات الأول بفعله وهو جذبه للثاني على
نفسه وبفعل الثاني وهو جذب الثالث فسقط نصف دية الأول، ويجب نصفها
على الثاني، ويجب للثاني نصف ديته على الأول وسقط نصفها لأنه مات بجذبه
الأول له وبجذبه الثالث على نفسه، ويجب للثالث جميع ديته لأنه لا صنع له في
قتل نفسه وعلى من تجب؟ فيه وجهان
(أحدهما) يجب على الثاني لأنه جذبه (والثاني) يجب على الأول والثاني
نصفين، لان الأول جذب الثاني والثاني جذب الثالث فكأن الثالث مات بجذبهما
فإن كانت بحالها وجذب الثالث رابعا وماتوا فقد حصل هاهنا ثلاث جذبات،
فأما الأول فقد مات بفعله وفعل الثاني وفعل الثالث فسقط ثلث الدية لأنه جذب
38

الثاني على نفسه، ويجب له على الثاني ثلث الدية لجذبه الثالث عليه، وعلى الثالث
ثلث الدية بجذبه الرابع عليه. وأما الثاني فقد مات بفعله وفعل الأول وفعل
الثالث، فيجب له على الأول ثلث الدية وعلى الثالث ثلث الدية وبسقط الثلث
وأما الثالث ففيه وجهان:
(أحدهما) يسقط من ديته النصف ويجب له على الثاني النصف لأنه مات بفعله
وهو جذبه الرابع فسقط النصف لذلك، وبفعل الثاني وهو جذبه له
(والثاني) يسقط من ديته الثلث لأنه مات بثلاثة أفعال للرابع ويجذب
الثاني له وبجذب الأول للثاني، فيجب له على الأول ثلث الدية وعلى الثاني ثلث
الدية، فأما الرابع فيجب له جميع الدية لأنه لا صنع له في قتل نفسه وعلى من
يجب؟ فيه وجهان
(أحدهما) يجب على الثالث لأنه هو الذي جذبه (والثاني) يجب على الأول
والثاني والثالث لان وقوعه حصل بالجذبات، فإن قيل فقد روى سماك بن حرب
عن حنش بن المعتمر عن علي رضي الله عنه أن قوما باليمن حفروا زبية ليصطادوا
بها الأسد فوقع فيها الأسد فاجتمع الناس على رأسها يبصرونه فتردى رجل فيها
فتعلق بثان وتعلق الثاني بثالث وتعلق الثالث برابع فوقعوا فيها فقتلهم الأسد،
فرفع ذلك إلى علي رضي الله عنه، فقضى للأول بربع الدية لان فوقه ثلاثة
وقضى للثاني بثلث الدية لان فوقه اثنين، وللثالث بنصف الدية، ولان فوقه
واحدا، وللرابع بكمال الدية، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
هو كما قضى.
قال أصحابنا: هذا الحديث لا يثبته أهل النقل فهو في مسند أحمد وسنن البيهقي
والبزار، قال ولا نعلمه يروى إلا عن علي ولا نعلم له إلا هذه الطريق، وحنش
ضعيف، وقد وثقه أبو داود. قال في مجمع الزوائد: وبقية رجاله رجال الصحيح
وحكم الفقه هو ما قدمنا.
(فرع) وإن حفر رجل بئرا في موضع ليس له الحفر فيه فتردى فيها رجل
وجذب آخر فوقه وماتا ففيه وجهان حكاهما الطبري في العدة (أحدهما) يجب
للأول على الحافر نصف الدية ويهدر النصف لأنه مات بسببين: حفر البئر وجذبه
39

للثاني على نفسه فانقسمت الدية عليهما وسقط ما قابل فعله (والثاني) حكاه
أبو الطيب عن أبي عبد الله الجوني أنه لا يجب له شئ على الحافر لان جذبه الثاني
على نفسه مباشرة والحفر سبب وحكم السبب يسقط بالمباشرة كما قدمنا فيمن أحضر
قذيفة المدفع وتنحى. قال الطبري والأول أصح لان الجذب سبب أيضا لأنه لم
يقصد به إلقاءه على نفسه، وإنما قصد به التحرز من الوقوع فلم يكن أحدهما بأولى
من الآخر، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الديات
دية الحر المسلم مائة من الإبل لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن
أبيه عن جده (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه
الفرائض والسنن والديات، وقرء على أهل اليمن أن في النفس مائة من الإبل
فإن كانت الدية في عمد أو شبه عمد وجبت مائة مغلظة أثلاثا ثلاثون حقة،
وثلاثون جذعة وأربعون خلفة
وقال أبو ثور: دية شبه العمد أخماسا عشرون بنت مخاص، وعشرون بنت
لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، لأنه لما كانت
كدية الخطأ في التأجيل والحمل على العاقلة كانت كدية الخطأ في التخميس، وهذا
خطأ لما روى ابن عمر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب
يوم فتح مكة فقال: ألا إن دية الخطأ شبه العمد قتيل السوط والعصا، دية مغلظة
مائة من الإبل، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها)
وروى مجاهد عن عمر رضي الله عنه (أن دية شبه العمد ثلاثون حقة،
وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، ويخالف الخطأ فإنه لم يقصد القتل ولا الجناية
فجفف من كل وجه، وفى شبه العمد لم يقصد القتل، فجعل كالخطأ في التأجيل،
والحمل على العاقلة وقصد الجناية، فجعل كالعمد في التغليظ بالأسنان، وهل يعتبر
في الخلفات السن مع الحمل؟ فيه القولان. أحدهما لا يعتبر لقوله صلى الله عليه وسلم
40

(منها أربعون خلفه في بطونها أولادها) ولم يفرق (والثاني) يعتبر أن تكون
ثنيات فما فوقها لأنه أحد أقسام أعداد إبل الدية، فاختص بسن كالثلاثين، وإن
كانت في قتل الخطأ والقتل في غير الحرم وفى غير الأشهر الحرم، والمقتول غير
ذي رحم محرم للقاتل، وجبت دية مخففة أخماسا عشرون بنت مخاض وعشرون
بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة، لما روى
أبو عبيدة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال (في الخطأ عشرون جذعة،
وعشرون حقة، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون
بنت مخاض)
وعن سليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون: دية الخطأ مائة من الإبل،
عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن لبون، وعشرون
حقة، وعشرون جذعة.
وإن كان القتل في الحرم أو في أشهر الحرم وهي:
ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل،
وجبت دية مغلظة لما روى مجاهد أن عمر رضي الله عنه (قضى فيمن قتل في الحرم
أو في الأشهر الحرم أو محرما بالدية وثلث الدية)
وروى أبو النجيح عن عثمان رضي الله عنه (أنه قضى في امرأة قتلت في
الحرم فجعل الدية ثمانية آلاف، ستة آلاف الدية وألفين للحرم) وروى نافع
ابن جبير أن رجلا قتل في البلد الحرام في شهر حرام، فقال ابن عباس (ديته
إثنا عشر ألفا وللشهر الحرام أربعة آلاف وللبلد الحرام أربعة آلاف، فكملها
عشرين ألفا) فإن كان القتل في المدينة ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يغلظ لأنها كالحرم في تحريم الصيد، فكذلك في تغليظ الدية
(والثاني) لا تغلظ لأنها لا مزية لها على غيرها في تحريم القتل بخلاف الحرم.
واختلف قوله في عمد الصبي والمجنون، فقال في أحد القولين: عمدهما خطأ لأنه
لو كان عمدا لأوجب القصاص، فعلى هذا يجب بعمدهما دية مخففة
(والثاني) أن عمدهما عمد لأنه يجوز تأديبهما على القتل فكان عمدهما عمدا
كالبالغ العاقل، فعلى هذا يجب بعمدهما دية مغلظة، وما يجب فيه الدية من
41

الأطراف فهو كالنفس في الدية المغلظة والدية المخففة لأنه كالنفس في وجوب
القصاص والدية، فكان كالنفس في الدية المغلظة والدية المخففة
(الشرح) حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أخرجه النسائي وقال:
وقد روى هذا الحديث يونس عن الزهري مرسلا. وأخرجه أيضا أبو داود في
المراسيل، وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي موصولا.
قال الشوكاني: وقد صححه جماعة من أئمة الحديث، منهم الحاكم وأحمد وابن حبان
والبيهقي وأخرجه مالك والشافعي. وقد مضى الكلام على هذا الحديث عند
الكلام على قتل الرجل بالمرأة.
وحديث ابن عمر أخرجه أبو داود بلفظ (خطب رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم الفتح على درجة البيت أو الكعبة) وأخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي
ولهم من حديث عبد الله بن عمرو مثله. وأثر مجاهد عن عمر أخرجه البيهقي في
السنن الكبرى وهو منقطع، وفى إسناده ليث بن أبي سليم، وهو ضعيف قال
البيهقي وروى عن عكرمة عن عمر بن الخطاب ما يدل على التغليظ في الشهر
الحرام. وقال ابن المنذر: روينا عن عمر أنه قال (من قتل في الحرم أو قتل
محرما أو قتل في الشهر الحرام فعليه الدية وثلث الدية)
وروى الشافعي والبيهقي عن عمر أيضا من طريق ابن أبي نجيح عن أبيه أن
رجلا أوطأ امرأة بمكة فقتلها فقضى فيها بثمانية آلاف درهم وثلث. وأثر ابن
مسعود أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة مرفوعا عن الحجاج
ابن أرطاة عن زيد بن جبير عن حشف بن مالك الطائي عن ابن مسعود قال، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطأ عشرون حقه، وعشرون جذعة
وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن مخاض ذكرا)
وقال ابن ماجة في اسناده عن الحجاج، حدثنا زيد بن جبير قال أبو حاتم
الرازي، الحجاج يدلس عن الضعفاء فإذا قال حدثنا فلا فلا يرتاب به. وأخرجه
أيضا البزاز والبيهقي والدارقطني وقال عشرون بنو لبون مكان قوله عشرون
ابن مخاض. وأما الموقوف الذي ساقه المصنف فإن إسناده في سنن الدارقطني
42

من طريق أبى عبيدة عن أبيه، يعنى عبد الله بن مسعود موقوفا، وقال هذا إسناد
حسن، وضعف المرفوع من أوجه عديدة، ولعل المصنف قد تأثر بتضعيف
الدارقطني للمرفوع وتحسينه للموقوف فاختاره شاهدا، ولكن البيهقي تعقب
الدار قنى فاتهمه بالوهم وقال: والجواد قد يعثر. قال وقد رأيته في جامع سفيان
الثوري عن منصور عن إبراهيم عن عبد الله وعن ابن إسحاق عن علقمة عن
عبد الله. وعن عبد الرحمن بن مهدي عن يزيد بن هارون عن سليمان التيمي عن أبي
مجلز عن أبي عبيدة عن عبد الله، ويؤيد المصنف أن دافع الحاف بن حجر
عن الدارقطني، لأنه كان يضعف الرواية المرفوعة لبعض عباراتها، كعبارة
(بنو مخاص) فقال فانتفى أن يكون الدارقطني عثر، وقد تكلم الترمذي على حديث
ابن مسعود فقال: لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وقد روى عن عبد الله
موقوفا. وقال أبو بكر البزاز: وهذا الحديث لا نعلمه روى عن عبد الله مرفوعا
إلا بهذا الاسناد.
وذكر الخطابي أن حشف بن مالك مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث وعدل
الشافعي عن القول به لهذه العلة، ولان فيه بنى مخاض ولا مدخل لبنى المخاض
في شئ من أسنان الصدقات. وأثر عثمان قال الشافعي: أخبرنا سفيان عن أبن أبي
نجيح عن أبيه أن رجلا أوطأ امرأة بمكة فقضى فيها عثمان بثمانمائة ألف درهم
وثلث. وقد روى الجوزجاني باسناده عن أبي الزناد أن عمر بن عبد العزيز كان
يجمع الفقهاء فكان مما أحيا من لك السنن بقول فقهاء المدينة السبعة ونظرائهم أن
ناسا كانوا يقولون: إن الدية تغلظ في الشهر الحرام أربعة آلاف فتكون سنة
عشر ألف درهم، فألغى عمر رحمه الله ذلك بقول الفقهاء وأثبتها اثنى عشر ألف
درهم في الشهر الحرام والبلد الحرام وغيرهما
قال ابن المنذر: وليس بثابت ما روى عن الصحابة في هذا، ولو صح فقول
عمر يخالفه، وقوله أولى من قول من خالفه، وهو أصح في الرواية مع موافقته
الكتاب والسنة والقياس. وسيأتي في شرح الأحكام الراجح من الخلاف
ويؤخذ من كتاب عمر وبن حزم أن دية الحر المسلم مائة من الإبل، وهو
43

إجماع، فإن كانت الدية في العمد المحض أو في شبه العمد وجبت مائة مغلظة وهي
ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة (والخلفة الحامل) وبه قال عمر
وعلى وزيد بن ثابت والمغيرة بن شعبة وعطاء ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة
وأبو يوسف: تجب أرباعا خمس وعشرون بنت مخاض وخمس وعشرون بنت
لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة
وقال أبو ثور (دية قتيل شبه العمد مخففة يجبر به الخطأ) دليلنا ما روى أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح (ألا ان في قتيل العمد الخطأ بالسوط
والعصا مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها) وعن عبادة بن
الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ألا ان في الدية العظمى
مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها)
قال في البيان، فإن قيل فما معنى قوله أربعون خلفة في بطونها أولادها؟
وقد علم أن الخلفة لا تكون إلا حاملا. قلنا له تأويلان. أحدهما أنه أراد التأكيد
في الكلام وذلك جائز كقوله تعالى (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم
تلك عشرة كاملة)
(والثاني) أن الخلفة اسم للحامل التي لم تضع واسم للتي وضعت ويتبعها ولدها
فأراد أن يميز بينها. اه‍
إذا ثبت هذا فهل تختص الخلفة بسن أم لا؟ فيه قولان (أحدهما) لا يختص
بسن، بل إذا كانت حاملا فأي سن كانت جاز (والثاني) يختص بسن هو أن
تكون ثلاثة فما فوقها لحديث عقبة بن أوس عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
أنه صلى الله عليه وسلم قال (ألا ان في قتيل شبه العمد بالسوط والعصا مائة من
الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ما بين الثنية إلى بازل عامها كلهن
خلفة، رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والدارقطني والبخاري في تاريخه
الكبير، ومراسيل الصحابة رضي الله عنهم حجة لأنهم ثقات لا يتهمون
(مسألة) إذا كانت الجناية خطأ ولم يكن القتل في المحرم ولا في الأشهر
الحرم، ولكن المقتول ذو رحم محرم للقاتل، فإن الدية تكون مخففة أخماسا
وهي مائة من الإبل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون
44

وعشرون حقة وعشرون جذعة، وبه قال من الصحابة ابن مسعود ومن التابعين
عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار والزهري ومن الفقهاء مالك وربيعة والليث
والثوري. وقال أبو حنيفة وأصحابه، هي أخماس، إلا أنه يجب مكان بنى لبون
عشرون ابن مخاض.
وروى عن عثمان وزيد بن ثابت أنهما قالا تجب من أربعة أنواع ثلاثين جذعة
وثلاثين حقة وعشرين بنت لبون وعشرين بنت مخاض. وقال الشعبي والحسن
البصري تجب أرباعا خمسا وعشرين جذعة وخمسا وعشرين حقة وخمسا وعشرين
بنت لبون وخمسا وعشرين بنت مخاض. وروى مثل ذلك عن علي رضي الله عنه
دليلنا ما روى الحجاج عن ابن مسعود (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية
الخطأ مائة من الإبل عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنت مخاض
وعشرون بنت لبون، وعشرون ابن مخاض، رواه أحمد وأبو داود النسائي
والترمذي وابن ماجة وقد مضى الكلام فيه. وقد روى موقوفا على ابن مسعود
قال المنذري بعد أن ذكر الخلاف فيه على الحجاج: والحجاج غير محتج به.
وكذا قال البيهقي، والصحيح أنه موقوف على عبد الله.
وروى عن سليمان بن يسار أنهم كانوا يقولون: دية الخطأ مائة من الإبل
عشرون بنت مخاض، وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة
وعشرون جذعة.
أما إذا كان قتل الخطأ في الحرم أو في الأشهر الحرم وهي رجب وذو القعدة
وذو الحجة والمحرم، أو كان المقتول ذا رحم محرم للقاتل كانت دية الخطأ مغلظة
كدية العمد، فيجب ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة، وبه قال عمر
رضي الله عنه فيما أخرجه البيهقي من طريق مجاهد عنه أن قضى فيمن قتل في الحرم
أو في الشهر الحرام أو وهو محرم بالدية وثلث الدية، وهو منقطع وفى سنده
ليث بن أبي سليم وهو ضعيف.
قال البيهقي: وروى عن عكرمة عن عمر ما يدل على التغليظ في الشهر الحرام
وقال ابن المنذر: روينا عن عمر أنه قال فيمن قتل في الحرم أو قتل في الشهر
الحرام أو قتل محرما فعليه الدية وثلث الدية وروى الشافعي والبيهقي من
45

طريق ابن أبي نجيح عن أبيه أن رجلا أوطأ امرأة بمكة فقتلها فقضى فيها بثمانية
آلاف درهم دية وثلثا.
وروى البيهقي وابن حزم عن ابن عباس منريق نافع بن جبير عنه قال:
يزاد في دية المقتول في الأشهر الحرم أربعة آلاف، وفى دية المقتول في الحرم
أربعة آلاف. وروى ابن حزم في المحلى عن ابن عباس أن رجلا قتل في البلد
الحرام في الشهر الحرام، فقال إن ديته إثنا عشر ألفا وللشهر الحرام والبلد الحرام
أربعة آلاف فكلها عشرون ألفا.
وإن قتل خطا في حرم المدينة فهل يتغلظ؟ فيه وجهان (أحدهما) يتغلظ
لأنه كالحرم في تحريم الصيد، فكان كالحرم في تغليظ دية الخطأ (والثاني) لا تغلظ
وهو الأصح لأنه دن الحرم في الحرمة بدليل أنه يجمز قصده بغير إحرام فلم
يلحق به في الحرمة تغليظ
وإن قتل محرما خطأ فهل تغلظ ديته؟ فيه وجهان (أحدهما) تغلظ كما تغلظ
في القتل بالحرم، وبه قال أحمد لان الاحرام يتعلق به ضمان الصيد فغلضت به
الدية كالرحم (والثاني) لا تغلظ به لان الشرع ورد بتغليظ القتل في الحرم دون
الاحرام بدليل ما روى أحمد في رواية الأثرم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (إن أعدى الناس على الله عز وجل من قتل في الحرم أو قتل غير قاتله
أو قتل بذحول الجاهلية، والاحرام لا يلحق الحرم في الحرمة
إذا ثبت هذا فإن تغليظ دية الخطأ عندنا بالحرم أو في الأشهر الحرم أ وإذا
قتل ذا رحم محرم إنما هو بأسنان الإبل كما قلنا في دية العمد، ولا يجمع بين
تغليظين. وقال أحمد: يغلظ بثلث الدية، ويجمع بين تغليظين لما رويناه عن
الصحابة رضي الله عنهم. ولكن دليلنا على أنه لا يغلظ إلا بالأسنان أن ما أوجب
التغليظ في دية القتل أوجبه بالأسنان كدية العمد، ودليلنا على أنه لا يجمع بين
تغليظين أن ما أوجب التغليظ في أوجه الضمان إذا اجتمع سببان يقتضيان
التغليظ لم يجمع بينهما كما لو قتل المحرم صيدا في الحرم فإنه لا يجب عليه إلا جزاء
واحد، وأما ما روى عن الصحابة عن الصحابة أنهم قضوا بالدية وثلث الدية في ذلك وجمعوا
بين تغليظين محمول على أنهم قضوا بدية مغلظة بالأسنان، إلا أنها قومت فبلغت
46

قيمتها دية وثلثا من دية مخففة، أو كانت الإبل قد أعوزت فأوجبوا قيمة الإبل
فبلغت قيمتها ذلك.
(فرع) إذا قتل الصبي أو المجنون عمدا فإن قلنا إن عمدهما عمد
وجب بقتلهما دية مغلظة، وان قلنا عمدهما خطأ وجب بقتلهما دية مخففة. وإن
كانت الجناية على ما دون النفس كان الحكم في التغليظ بديتها حكم دية النفس،
قياسا على دية النفس.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتجب الدية من الصنف الذي يملكه من تجب عليه الدية من القاتل
أو العاقلة كما تجب الزكاة من الصنف الذي يملكه من تجب عليه الزكاة، وإن كان
عند بعض العاقلة من البخاتي وعند البعض من العراب أخذ من كل واحد منهم
من الصنف الذي عنده، وان اجتمع في ملك كل واحد منهم صنفان ففيه وجهان
(أحدهما) انه يؤخذ من الصنف الأكثر، فإن استويا دفع مما شاء منهما
(والثاني) يؤخذ من كل صنف بقسطه بناء على القولين فيمن وجبت عليه
الزكاة وما له أصناف وإن لم يكن عند من تجب عليه الدية إبل وجب من غالب
إبل البلد، فإن لم يكن في البلد إبل وجب من غالب أقرب البلاد إليه، كما قلنا في
زكاة الفطر.
وإن كانت إبل من تجب عليه الدية مراضا أو عجافا كلف أن يشترى إبلا
صحاحا من الصنف الذي عنده لأنه بدل متلف من غير جنسه فلا يؤخذ فيها معيب
كقيمة الثوب المتلف، وان أراد الجاني دفع العوض عن الإبل مع وجودها لم
يجبر الولي على قبوله، وإن أراد الولي أخذ العوض عن الإبل مع وجودها لم
يجبر الجاني على دفعه لان ما ضمن لحق الآدمي ببدل لم يجز الاجبار فيه على دفع
العوض ولا على أخذه مع وجوده كذوات الأمثال، وإن تراضيا على العوض
جاز لأنه بدل متلف فجاز أخذ العوض فيه بالتراضي كالبدل في سائر المتلفات
(فصل) وان أعوزت الإبل أو وجدت بأكثر من ثمن المثل ففيه قولان
قال في القديم يجب ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم، لما روى عمرو بن حزم
47

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في النفس مائة من الإبل،
وعلى أهل الذهب ألف مثقال، وعلى أهلا لورق إثنا عشر ألف درهمه. وروى
ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا قتل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثنى عشر ألفا، فعلى هذا إن كان في قتل يوجب
التغليظ غلظ بثلث الدية، لما رويناه عن عمرو عثمان وابن عباس في تغليظ لدية
للحرم، وقال في الجديد: تجب قيمة الإبل بالغة ما بلغت، لما روى عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم، وكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر
رضي الله عنه فقام عمر خطيبا فقال (ألا إن الإبل قد غلت قال: فقوم على
أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل ا؟ رق اثنا عشر ألف درهم وعلى أهل البقر
مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة) ولان ما ضمن
بنوع من المال وتعذر وجبت قيمته كذوات الامتثال.
(الشرح) أثر عمر أخرجه أبو داود والبيهقي. أما الأحكام فقد قال الشافعي
رضي الله عنه: ولا أكلف أحدا من العاقلة غير إبله، ولا نقل منه دونها.
وجملة ذلك أنه قد مضى الكلام في قدر الدية وجنسها وأسنابها وأما نوعها
فإن كان للعاقلة إبل وجبت عليهم من النوع الذي معهم من الإبل، لان
العاقلة تحمل الدية على طريق المواساة، فكان الواجب من النوع الذي يملكونه
كما قلنا في الزكاة، بان طلب الولي أعلى مما مع العاقلة من النوع، وامتنعت العاقلة
أو طلبت العاقلة أن يدفعوا من النوع دون النوع الذي معها وامتنع الولي لم يجبر
الممتنع منهما كما قلنا في الزكاة، فإن كان عند بعض العاقلة من البخاتي عند
البعض من العراب أخذ من كل واحد من النوع الذي عنده كما قلنا في الزكاة أنه
يجب على كل إنسان مما عنده من النوع، وإن كان في ملك واحد منهم نوعان من
الإبل ففيه وجهان
(أحدهما) يؤخذ منه من النوع الأكثر، فإن استويا دفع من أيهما شاء
(والثاني) يؤخذ من كل نوع بقسطه باء على القولين في الزكاة إذا كان
48

عنده نوعان من جنس الماشية، وإن كانت إبلهم أو إبل بعضهم مراضا بجرب أو
غيره أو مهزولة هزالا فاحشا لم يجبر الولي على قبولها، بل يكلف أن يسلم إبلا
صحاحا من النوع الذي عنده لقوله صلى الله عليه وسلم (في النفس مائة من الإبل)
وإطلاق هذا يقتضى الصحيح
فإن قيل هلا قلتم يجبر الولي على قبول ما عند من عليه الدية وإن كانت مراضا
كما قلنا في الزكاة؟
قلنا الفرق بينهما أن الواجب في الزكاة هو واجب في غير المال الذي عنده أو
في ذمته والمال مرتهن، فلذلك وجب مما عنده، وليس كذلك هاهنا فإن الواجب
على كل واحد منهم هو من النقد في الذمة والمال غير مرتهن به، وإنما الإبل عوض
منه فلم يقبل منه إلا السليم، فإن لم يكن للعاقلة إبل فإن كان في البلد نتاج
غالب وجب عليهم التسليم من ذلك النتاج، وان لم يكن في البلد إبل وجب من
غالب نتاج أقرب بلد إليهم كما قلنا في زكاة الفطر
(فرع) وإن أرادت العاقلة أن تدفع عوضا عن الإبل مع وجودها لم يجبر
الولي على قبولها، وكذلك ان طالب من له الدية عوض الإبل لم تجبر العاقلة على
دفعه، لان ما ضمن لحق الآدمي يبدل لم يجبر على غيره كذوات الأمثال، فإن
تراضيا على ذلك قال أصحابنا جاز ذلك لأنه حق مستقر فجاز أخذ البدل عنه كبدل
المتلفات، والذي يقتضى المذهب أن هذا إنما يجوز على القول الذي يجيز الصلح
على إبل الدية وبيعها في الذمة
(فرع) وإن كانت الدية تجب على الجاني بأن كانت الجناية عمدا أو خطأ
ثبت بإقراره، فإن الواجب عليه من النوع الذي عنده قياسا على العاقلة، والحكم
فيه إذا كان عنده نوعان، أو كانت إبله مراضا في أخذ العوض حكم الإبل إذا
كانت واجبة على العاقلة على ما مضى بيانه
(مسألة) كثير من بلاد الاسلام لا يعرف أهلها الإبل ولم يروها، كالملايو
وإندونيسيا والفلبين وفطانى (1) وبلاد أخرى لا توجد فيها الإبل إلا بأثمان غالية

(1) فطاني هو إقليم من أقاليم ماليزيا ضمه الكفار إلى تايلند، ويبلغ سكان
هذا الإقليم ثلاثة ملايين مسلم سنى شافعي فاللهم خذ بأيديهم وحرر ديارهم.
49

بأكثر من قيمتها ففيه قولان، قال في القديم يعدل إلى بدل مقدر، فيجب على
أهل الذهب ألف مثقال وعلى أهل لورق اثنى عشر ألف درهم، وبه قال مالك
وهي تبلغ نحو خمسة آلاف جنيه أو عشرة آلاف دولار تقريبا. وقد روى
عمرو ابن حرم أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الدية بألف دينار أو إثنا عشر
ألف درهم. فعلى هذا تكون الدية ثلاثة أصول عند إعواز الإبل
وقال في الجديد تجب قيمة الإبل من نقد البلد بالغة ما بلغت، لما روى عمرو
ابن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ثمانمائة دينار. وروى ثمانية آلاف درهم، فكانت كذلك إلى أن استخلف عمر
رضى انه عنه فقلت الإبل، فصعد المنبر خطيبا وقال: ألا ان الإبل قد غلت،
ففرض الدية على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنى عشر ألف درهم
فموضع الدليل من الخبر أنه قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
كذا وكذا، فدل على أن الواجب هو الإبل، ولان عمر رضي الله عنه قال: ألا
ان الإبل قد غلت وفرض عليه مألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم فتعلق بغلاء
الإبل فدل على أن ذلك من طريق القيمة، لان ما وجبت قيمته اختلف بالزيادة
والنقصان ولم يخالف أحد من الصحابة. وما روى من الاخبار للأول فنحمله على
أن ذلك من طريق القيمة، فعليه ذا لا يكون للدية إلا أصل واحد وهي الإبل
فإن كانت الدية مغلظة وأعوزت الإبل فإن قلنا بقوله الجديد قومت مغلظة
بثلاثين حقة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة. وان قلنا بقوله القديم ففيه وجهان
حكاهما في العدة.
(أحدهما) تغلظ بثلث الدية، ولم يذكر المصنف غيره لما ذكره عن عمر
وعثمان وابن عباس رضي الله عنهم
(والثاني) يسقط التغليظ، لان التغليظ عندنا إنما هو بالصفة في الأصل لا
بالزيادة في العدد، وذلك إنما يمكن في الإبل دون النقد، ألا ترى أن العبد لما لم
تجب فيه الا القيمة فيه التغليظ. وما روى عن الصحابة رضي الله عنهم
فقد ذكرنا أنه إنما قيمة ما أوجبوه هذا مذهبنا
وقال أبو حنيفة: الواجب في الدية ثلاثة أصول مائة من الإبل أو ألف دينار
50

أو عشرة آلاف درهم فيجوز له أن يدفع أيها شاء مع وجود الإبل ومع إعوازها
وقال الثوري والحسن البصري وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل
الدية خمسة أصول مائة من الإبل أو ألف دينار أو إثنا عشر ألف درهم أو مائتا
بقرة لحديث جابر (فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدية على أهل الإبل
مائة من الإبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاء، وعلى
أهل الحلل مائتي حلة) رواه أبو داود بسند ضعيف
وروى أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة مثله من حديث عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده.
والأصل الخامس مائتا حلة، وهي برود مكونة من قطعتين كالجبة والقفطان،
أو العباءة والزبون، أو الجاكتة والبنطلون، فجميع الحال في كل قوم مؤلفة من
ثوبين، الا أن أبا يوسف ومحمد يقولان: هو مخير بين الستة أيها شاء دفع مع
وجود الإبل ومع عدمها وعند الباقين لا يجوز العدول عن الإبل مع وجودها،
دليلنا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن يبين فيه الفرائض والسنن،
وأن في النفس مائة من الإبل، وحديث (ألا ان في قتيل العمد الخطأ قتيل السوط
والعصا مائة من الإبل)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ودية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، ودية المجوسي ثلثا عشر
دية المسلم، لما روى سعيد بن المسيب (أن عمر رضي الله عنه جعل دية اليهودي
والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. وأما الوثني إذا دخل
بأمان وعقدت له هدنة فديته ثلثا عشر دية المسلم، لأنه كافر لا يحل للمسلم مناكحة
أهل دينه فكانت ديته ثلثي عشر دية المسلم كالمجوسي
وأما من لم تبلغه الدعوة فإنه ان عرف الدين الذي كان متمسكا به وجبت فيه
دية أهل دينه، وان لم يعرف وجبت فيه دية المجوسي، لأنه متحقق وما زاد
مشكوك فيه فلم يجب.
وقال أبو إسحاق: إن كان متمسكا بدين مبدل وجبت فيه دية أهل ذلك الدين
51

وإن كان متمسكا بدين لم يبدل وجبت فيه دية مسلم، لأنه مولود على الفطرة، ولم
يظهر منه عناد فكملت ديته كالمسلم، والمذهب الأول، لأنه كافر فلم تكمل ديته
كالذمي. وإن قطع يد ذمي ثم أسلم ومات وجبت فيه دية مسلم، لأن الاعتبار في
الدية بحال استقرار الجناية، وهو في حال الاستقرار مسلم. وإن جرح مسلم
مرتدا فأسلم ومات من الجرح لم يضمن.
وقال الربيع: فيه قول آخر أنه يضمن، لان الجرح استقر وهو مسلم. قال
أصحابنا: هذا من كيس الربيع، والمذهب الأول، لان الجرح وجد فيما استحق
إتلافه فلم يضمن سرايته، كما لو قطع الامام يد السارق فمات منه
(فصل) ودية المرأة نصف دية الرجل، لأنه روى ذلك عن عمر وعثمان
وعلى وابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم
(الشرح) خبر سعيد بن المسيب رواه الشافعي والدارقطني والبيهقي. أما قوله
روى ذلك عن عمر وعثمان وعلى الخ، فقد أخرج ابن أبي شيبة عن عمر قال (دية
المرأة نصف دية الرجل) كما أخرج البيهقي عن علي رضي الله عنه (دية المرأة على
النصف من دية الرجل) وهو من رواية إبراهيم النخعي عنه، وفيه انقطاع،
وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق الشعبي عنه
وأخرج البيهقي عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (دية المرأة
نصف دية الرجل) قال البيهقي إسناده لا يثبت مثله. وقال في بداية ا لمجتهد: إن
الأشهر عن ابن معسود وعثمان وشريح وجماعة: أن دية جراحة المرأة مثل دية
جراحة الرجل إلا الموضحة فإنها على النصف
أما الأحكام فإن دية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم، وبه قال عمر وعثمان
رضي الله عنهما وابن المسيب وعطاء وإسحاق. وقال عروة بن الزبير وعمر بن
عبد العزيز ومالك: ديته نصف دية المسلم، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: عقل الكافر نصف دية المسلم) رواه
أحمد والنسائي والترمذي وحسنه، وصححه ابن الجارود. وفى لفظ رواه أحمد
والنسائي وابن ماجة (قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلمين، وهم
52

اليهود والنصارى، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري والزهري وزيد بن علي
والقاسمية (ديته كذية المسلم) وقال أحمد (ان قتله عمدا فديته مثل دية المسلم)
دليلنا ما روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (كانت قيمة الدية
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار وثمانية آلاف درهمه، ودية أهل الكتاب
يومئذ النصف من دية المسلم. قال، وكان ذلك كذلك حتى استخلف عمر فقام
خطيبا فقال إن الإبل قد غلت. قال ففرضها عمر على أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل
الشاء ألفي شاة وعلى أهل الحلل مائتي حلة. قال وترك دية أهل الذمة ليرفعها فيما رفع من الدية)
فإذا كانت الدية ثمانمائة دينار أو ثمانية آلاف درهم للمسلم والذمي على النصف من
ذلك ثم زاد من قيمة الدية للمسلم من حيث لم يزدها لأهل الكتاب تبين لنا أن
دية المسلم التي بلغت ألف دينار أو اثنى عشر ألف درهم مع باء دية الذمي
أربعمائة دينار أو أربعة آلاف درهم، لأنها لم ترفع فيما رفع من الدية. نقول
تبين لنا أن دية الذمي على الثلث من دية المسلم
(فرع) دية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم، وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة
ديته مثل دية المسلم. وقال عمر بن عبد العزيز ديته مثل دية اليهودي والنصراني
وهو نصف دية المسلم عنده
دليلنا ما روى عن عمر وعثمان وابن مسعود وغيرهم أنهم قالوا (دية المجوسي
ثمانمائة درهم ثلثا عشر دية المسلم، فإذا كانت دية المسلم إثنا عشر ألف درهم فان ثلثي
عشرها ثمانمائة، ولا مخالف لهم في الصحابة، فدل على أنه إجماع. وأما عبدة
الأوثان إذا كان بيننا وبينهم هدنة أو دخلوا إلينا بأمان فلا يجوز قتلهم. فمن قتل
منهم وجبت فيه دية المجوسي لأنه كافر لا يحل للمسلم مناكحة أهل دينه فكانت
ديته كالمجوسي ثلثي عشر دية المسلم. وأما الكافر الذي لم تبلغه الدعوة فلا يجوز
قتله حتى يعرف أن ها هنا رسولا يدعو إلى الله، فإن أسلم وإلا فتل، فإن قتله
قاتل قبل أن تبلغه الدعوة وجبت فيه الدية
وقال أبو حنيفة (لا دية فيه) دليلنا أنه محقون الدم فوجبت فيه الدية
كالذمي إذا ثبت هذا فاختلف أصحابنا في قدر ديته، فمنهم من قال تجب فيه دية
المسلم، لأنه مولود على الفطرة. ومنهم من قال إن كان متمسكا بدين مبدل وجبت فيه
53

دية أهل ذلك الدين، مثل أن يكون متمسكا بدين من بدل من اليهودية والنصرانية
وإن كان متمسكا بدين من لم يبدل منهم وجبت فيه دية مسلم لأنه مسلم لم يظهر
منه عناد. ومن هم من قال تجب فيه دية المجوسي لأنه يقين، وما زاد مشكوك فيه
وهذا هو الأصح لان الشافعي رضي الله عنه قال هو كافر لا يحل قتله، وإذا كان
كافرا وجبت فيه أقل دياتهم لأنه اليقين.
وإن قطع يد ذمي ثم أسلم ثم مات من الجراحة وجبت فيه دية مسلم، لأن الاعتبار
بالدية حال الاستقرار. وإن قطع مسلم يد.. ثم أسلم ثم مات من
الجراحة لم يضمن القاطع دية النفس ولا دية اليد. وقال الربيع فيه قول آخر أنه
يضمن دية ا ليد، والمذهب الأول لأنه قطعه في حال لا يجب ضمانه، وما حكاه
الربيع من تخريجه.
(مسألة) دية المرأة نصف دية الرجل، هذا قول العلماء كافة إلا الأصم
وابن علية فإنهما قالا ديتها مثل دية الرجل. دليلنا ما سقناه من كتاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن وفيه (أن دية المرأة نصف دية الرجل) وما
حكاه المصنف عن عمرو عثمان وعلى وابن مسعود وابن عمرو ابن عباس وزيد
ابن ثابت أنهم قالوا (دية المرأة نصف دية الرجل) ولا مخالف لهم في الصحابة
فدل على أنه إجماع، وإن قتل خنثى مشكلا وجبت فيه دية امرأة لأنه يقين،
وما زاد مشكوك فيه فلا يجب بالشك
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ودية الجنبين الحر غرة عبد أو أمة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه
قال (اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما
في بطنها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن دية جنينها غرة عبد أو أمة، فقال حمل
ابن النابغة الهذلي كيف أغرم من لا أكل ولا شرب ولا نطق ولا استهل؟ ومثل
ذلك يطل؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو من إخوان الكهان، من أجل
سجعه) وإن ضرب بطن امرأة منتفخة البطن فزال الانتفاخ، أو بطن امرأة
تجد حركة في بطنها فسكنت الحركة، لم يجب عليه شئ لأنه يمكن أن يكون ريحا
54

فانفشت فلم يجب الضمان مع الشك وإن ضرب بطن امرأة فألقت مضغة لم تظهر
فيها صورة الآدمي فشهد أربع نسوة أن فيها صورة الآدمي وجبت فيها الغرة،
لأنهن يدركن من ذلك ما لا يدرك غيرهن، وإن ألقت مضغة لم تتصور فشهد
أربع نسوة أنه خلق آدمي، ولو بقي لتصور، فعلى ما بيناه في كتاب عتق أم الولد
وان ضرب بطن امرأة فألقت يدا أو رجلا أو غيرهما من أجزاء الآدمي وجبت
عليه الغرة، لأنا تيقنا أنه من حنين، والظاهر أنه تلف من جناية فوجب ضمانه
وإن ألقت رأسين أو أربع أيد لم يجب أكثر من غرة، لأنه يجوز أن يكون جنينا
برأسين أو أربعة أيد، فلا يجب ضمان ما زاد على جنين بالشك
وان ضرب بطنها فألقت جنينا فاستهل أو تنفس أو شرب اللبن ومات في الحال
أو بقي متألما إلى أن مات، وجبت فيه دية كاملة
وقال المزني أن ألقته لدون ستة أشهر ومات ضمنه بالغرة ولا يلزمه دية
كاملة لأنه لم يتم له حياة، وهذا خطأ، لأنا تيقنا حياته، والظاهر أنه تلف من
جنايته فوجب عليه دية كاملة، وإن ألقته حيا وجاء آخر وقتله فإن كان فيه
حياة مستقرة كان الثاني هو القاتل في وجوب القصاص والدية الكاملة،
والأول ضارب في وجوب التعزير
وان قتله وليس فيه حياة مستقرة فالقاتل هو الأول، ولزمته الدية، والثاني
ضارب وليس بقاتل، لان جنايته لم تصادف حياة مستقرة، وان ضرب بطن
امرأة فألقت جنينا وبقى زمانا سالما غير متألم ثم مات لم يضمنه، لأن الظاهر أنه
لم يمت من الضرب ولا يلزمه ضمانه. وان ضربها فألقت جنينا فاختلج ثم سكن
وجبت فيه الغرة دون الدية، لأنه يجوز أن يكون اختلاجه للحياة، ويجوز أن
يكون بخروجه من مضيق، لان اللحم الطري إذا حصل في مضيق انقبض، فإذا
خرج منه اختلج، فلا تجب فيه الدية الكاملة بالشك
(الشرح) حديث أبي هريرة أخرجه أحمد في مسنده، وكذا أخرجه البخاري
في الفرائض عن قتيبة وفى الديات عن عبد الله بن يوسف ومسلم في الحدود
والترمذي وفى الفرائض عن قتيبة، وأخرجه عن المغيرة بن شعبة مسلم في الديات عن
55

إسحاق بن إبراهيم، وعن محمد بن رافع وأبو داود فيه عن حفص بن عمر، وعن
عثمان بن أبي شيبة والترمذي فيه عن الحسن بن علي والنسائي في القود عن علي بن
محمد بن علي وعلي بن سعيد ومحمد بن قدامة ومحمد بن بشار وسويد بن نصر ومحمود
ابن غيلان، وابن ماجة فيه عن علي بن محمد. وكذا أخرجه أحمد، وأخرجه عن
ابن عباس أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححاه.
أما اللغات فإن الجنين سمى بذلك لأنه استجن في البطن، أي استتر واختفى
وهو وصف له ما دام في بطن أمه. والجمع أجنة مثل دليل وأدلة، والغرة عبد
أو أمة، والغرة عند العرب أنفس شئ يملك، وقوله ومثل ذلك يطل. طل
دم فلان مبنى للمجهول فلا يطالب، قال الشاعر:
دماؤهم ليس لها طالب * مطلولة مثل دم العذرة
قال أبو زيد: ولا يقال طل دم فلان بفتح الطاء. قال في الصحاح وأبو عبيدة
والكسائي يقولانه. وقال أبو عبيدة فيه ثلاث لغات، طل بفتح الطاء وضمها،
وأطل بزيادة الهمز المضمونة والطاء المكسورة، والكهان جمع كاهن الذي يدعى
علم الغيب، والسجع هو الكلام المقفى.
وفى رواية أحمد ومسلم وأبى داود والنسائي (سجع مثل سجع الاعراب)
وقد استدل بذلك على ذم السجع ويوضح المراد قوله (أسجع الجاهلية وكهانتها)
فظهر أن المذموم من السجع إنما هو ما كان من ذلك القبيل الذي يراد به إبطال
شرع أو إثبات باطل أو كان متكلفا. وقد حكى النووي عن العلماء أن المكروه
منه ما كان كذلك لا غيره، هكذا أفاده الشوكاني في النيل.
أما الأحكام فإذا ضرب ضارب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا حرا ففيه غرة
عبد أو أمة لحديث المغيرة بن شعبة، وروى أن عمر رضي الله عنه قال (أذكر
الله امرءا سمع من النبي في الجنين شيئا فقام حمل بن مالك فقال كنت بين جاريتين
لي يعنى زوجتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وما في جوفها
فقضى النبي صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة)) رواه أبو داود والنسائي
وابن ماجة وابن حبان والحاكم
والجنين الذي تجب فيه الدية هو أن يسقط جنينا بان فيه شئ من صورة
56

الآدمي إما يد أو رجل أو عين. وكذلك إذا سقطت مضغة لم يتبين فيها عضو
من أعضاء الآدمي، ولكن قال أربع نسوة من القوابل الثقات أو عالمان في الطب
البشرى أو علم الا جنبة أن فيها تخطيطا لآدمي، إلا أنه خفى فتجب فيه الغرة لان
هؤلاء يدركون ما لا يدركه غيرهم. وان قلن أولا قالا لم يخطط إلى الآن ولكنه
مبتدأ خلى آدمي، ولو بقي لتخطط فهل تجب به الغرة والكفارة وتنقضي به العدة
اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال في الجميع قولان، ومنهم من قال تنقضي به
العدة ولا تجب به الغرة ولا الكفارة قولا واحدا، وقد مضى ذلك، وان قلن
أو قالا هذه مضغة تصلح للآدمي ولغيره، ولا ندري لو بقيت هل تتخطط أم لا؟
فلا تجب به الغرة ولا الكفارة ولا تنقضي به العدة، لان الأصل براءة الذمة
من الضمان وثبوت العدة. وان ألقت المرأة جنينين وجبت عليه غرتان، وان
ألقت ثلاثة وجبت عليه ثلاث غرر، وان ألقت رأسين أو أربع أيد لم يجب
فيه الا غرة، لأنه قد يكون له جسد واحد ذا رأسين أو أربع أيد فلا يجب
ضمان ما زاد على جنين بالشك
(فرع) إذا ضرب بطن امرأة منتفخة البطن فزال الانتفاخ، أو بطن امرأة
تجد حركة فسكنت الحركة لم يجب عليه شئ، وان ضرب بطن امرأة فماتت ولم
يخرج الجنين لم يجب عليه ضمان الجنين
وقال الزهري إذا سكنت الحركة التي تجد في بطنها وجب عليه ضمان الجنين
دليلنا أنا إنما نحكم بوجود الحمل في الظاهر، وإنما نتحققه بالخروج، فإذا لم يخرج
لم يتحقق أن هناك حملا بل يجوز أن يكون ريح فينفش فلا يلزمه الضمان بالشك
وان ضرب بطن امرأة فماتت ثم خرج الجنين معها بعد موتها ضمن الام بديتها
وضمن الجنين بالغرة.
وقال أبو حنيفة لا يضمن الجنين. ودليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى
في الجنين بغرة عبد أو أمة، ولم يفرق بين أن يخرج قبل مرت أمه أو بعده،
ولان كل حمل كل مضمونا إذا خرج قبل موت الام كان مضمونا إذا خرج بعد
موتها كما لو ولدته حيا، وان ضرب بطنها فأخرج الجنين رأسه وماتت ولم يخرج
57

الباقي وجب عليه ضمان الجنين وقال مالك لا يجب عليه شئ دليلنا أن بظهور
الرأس تحققنا أن هناك جنينا والظاهر أنه مات من ضربته فوجب عليه ضمانه.
(فرع) إذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينا فصرخ ثم مات عقيبه أو بقي
متألما إلى أن مات وجبت فيه دية كاملة، سواء ولدته لستة أشهر أو لما دونها،
فإن لم يصرخ ولكنه تنفس أو شرب اللبن أو علمت حياته بشئ من ذلك ثم مات
عقيبه أو بقي متألما إلى أن مات وجبت فيه دية كاملة
وقال المزني إن ولدته حيا لدون ستة أشهر لم يجب فيه دية كاملة، إنما يجب
فيه الغرة لأنه لا تتم له حياة لما دون ستة أشهر
وقال مالك والزهري (إذا لم يستهل بالصراخ لم تجب فيه الدية الكاملة وإنما
تجب فيه الغرة) دليلنا اثنا قد تحققنا حياته فوجب فيه دية كاملة كما لو ولدته لستة
أشهر عند المزني، وكما لو استهل صارخا عن مالك
ولو ضرب بطنها فألقت جنينا وفيه حياة مستقرة ثم جاء آخر وقتله فالقاتل
هو الثاني فيجب عليه القود إن كان مكافئا أو الدية الكاملة. وأما الأول فلا يجب
عليه إلا التعزير بالضرب لا غير، لأنه لم يمت من ضربه، وإن ضرب بطنها
فألقت جنينا فلم يستهل ولا تنفس ولا تحرك حركة تدل على حياته ولكنه اختلج
لم تجب فيه الدية الكاملة، وإنما تجب فيه الغرة، لان هذا الاختلاج لا يدل على
حياته، لان اللحم إذا عصر ثم ترك اختلج، ويجوز أن يكون اختلاجه لخروجه
من موضع ضيق.
وإن ضرب بطن امرأة فألقت يدا ثم أسقطت بعد ذلك جنينا ناقص يد
نظرت فإن بقيت المرأة متألمة إلى أن أسقطت الجنين، فإن ألقته ميتا وجبت
فيه الغرة ويدخل فيها اليد، لأن الظاهر أن الضرب قاطع يده، وإن ألقته حيا
ثم مات عقيب الوضع أو بقي متألما إلى أن مات ففيه دية كاملة، ويدخل فيها
دية اليد، وإن خرج الجنين حيا وعاش لم يجب عليه في الجنين شئ ووجب عليه
ضمان اليد فتعرض اليد على القوابل أو عالمين في الأجنة، فإن قلن أو قالا إنها
من جملته لم تنفخ فيها الروح وجبت فيها نصف الغرة، وان قلن أو قالا إنها فارقت
جملة تنفخ فيها الروح وجب فيها نصف دية كامله. فأما إذا سقطت اليد ثم زال
58

ألم الضرب ثم ألقت الجنين ضمن اليد دون الجنين، لأنه بمنزلة من قطع يد رجل
ثم اندملت فإن خرج الجنين ميتا وجب في اليد ثم الغرة، وان خرج حيا
ثم مات أو عاش عرضت اليد على القوابل أو عالمي أجنة فإن قلن أو قالا إنها
فارقت جملة لم ينفخ فيها الروح وجب فيها نصف الغرة، وان قلن أو قالا إنها
فارقت جمله ينفخ فيها الروح كان فيها نصف الدية، وان ضرب بطن امرأة
فألقت يدا ثم ماتت الام ولم يخرج الباقي وجبت دية الام ووجبت في الجنين
الغرة، لأن الظاهر أنه جنى على الجنين فأبان يده ومات من ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يقبل في الغرة ماله دون سبع سنين، لان الغرة هي الخيار،
ومن له دون سبع سنين ليس من الخيار بل يحتاج إلى من يكفله، ولا يقبل الغلام
بعد خمس عشرة سنة لأنه لا يدخل على النساء، ولا الجارية بعد عشرين سنة
لأنها تتغير وتنقص قيمتها فلم تكن من الخيار
ومن أصحابنا من قال يقبل ما لم يطعن في السن عبدا كان أو أمة، ولا يقبل
إذا طعن في السن لأنه يستغنى بنفسه قبل أن يطعن في السن، ولا يستغنى إذا
طعن في السن، ولا يقبل فيه خصى وان كثرت قيمته، ولا معيب وان قل عيه؟
لأنه ليس من الخيار، ولا يقبل الا ما يساوى نصف عشر الدية، لأنه روى
ذلك عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، ولأنه لا يمكن ايجاب دية كاملة لأنه لم
يكمل بالحياة، ولا يمكن اسقاط ضمانه لأنه خلق بشر فضمن بأقل ما قدر به
الأرش وهو نصف عشر الدية، لأنه قدر به أرش الموضحة ودية السن، ولا
يجبر على قبول غير الغرة مع وجودها، كما لا يقبل في دية النفس غير الإبل مع
وجودها، فإن أعوزت الغرة وجب خمس من الإبل، لان الإبل هي أصل في
الدية، فإن أعوزت وجبت قيمتها في أحد القولين، أو خمسون دينارا أو ستمائة
درهم في القول الآخر فإن كانت الجناية خطأ وجبت دية مخففة، وإن كانت
عمدا أو عمد خطأ وجبت دية مغلظة كما قلنا في الدية الكاملة
59

وإن كان أحد أبويه نصرانيا والاخر مجوسيا وجب فيه عشر دية نصراني
لان في الضمان إذا وجد في أحد أبويه ما يوجب وفى الاخر ما يسقط غلب الايجاب
ولهذا لو قتل المحرم صيدا متولدا بين مأكول وغير مأكول وجب على الجزاء
وإن ضرب بطن امرأة نصرانية حامل بنصراني ثم أسلمت ثم ألقت جنينا ميتا،
وجب فيه نصف عشر دية مسلم، لأن الضمان يعتبر بحال استقرار الجناية،
والجنين مسلم عند استقرار الجناية، فوجب فيه نصف عشر دية مسلم، وما يجب
في الجنين يرثه ورثته لأنه بدل حر، فورث عنه كدية غيره.
(الشرح) الكلام في الغرة والسن في حديه الأدنى والأقصى من البحوث غير
العملية التي تلحق بأبواب العتق، أما البدل عند إعواز الغرة ففيه نقول:
اختلاف أصحابنا فيما ينتقل إليه فقال المصنف وابن الصباغ ينتقل إلى خمس من
الإبل لأنها هي الأصل في الدية. فإن أعوزت الإبل انتقل إلى قيمتها في القول
الجديد والى خمسين دينارا أو ستمائة درهم في القول القديم
وقال الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا: إذا أعوزت الغرة انتقل إلى قيمتها في
قوله الجديد، كما لو غصب منه عبدا فتلف، وينتقل إلى خمس من الإبل في قوله
القديم، فإن اعوزت الإبل انتقل إلى قيمتها في أحد القولين، والى خمسين دينارا
أو ستمائة درهم في الاخر.
(فرع) إن كان الأبوان مسلمين وجبت الغرة مقدرة بنصف عشر دية الأب
أو عشر دية الام، وإن كانا ذميين وجبت الدية مقدرة بنصف عشر دية الأب
أو عشر دية الام، وكذلك إذا كان الأبوان مجوسيين فإنهما يعتبر من ديتهما،
وإن كان أحد الأبوين نصرانيا والاخر مجوسيا اعترت دية الجنين بعشر دية
النصراني لأنه إذا اتفق في بدل النفس ما يوجب الاسقاط وما يوجب الايجاب
غلب الايجاب، كما قلنا في السبع المتولد بنى الضب والذئب (1) إذا قتله المحرم.
هذا نقل أصحابنا البغداديين
وقال المسعودي: الجنين اليهودي والنصراني والمجوسي لا تجب فيه الغرة

(1) كتاب الحج باب جزاء الصيد ج 8
60

وإنما يجب فيه نصف عشر دية الأب، وإذا كانا مختلفي الدين فقد خرج فيه قول
آخر أن الاعتبار بالأب. وقال ابن سلمة: يعتبر بأقلهما دية والأول أصح
(فرع) إذا ضرب بطن امرأة نصرانية حامل بنصراني فأسلمت ثم أسقطت
جنينا ميتا ففيه غرة مقدرة بنصف عشر دية المسلم، لأن الاعتبار بالدية حال
الاستقرار، وهي مسلمة حال الاستقرار. وان ضرب بطن مرتدة فأسلمت ثم
أسقطت جنينا ميتا ففيه وجهان
(أحدهما) لا يضمنه وهو قول ابن الحداد المصري لان الابتداء
لم يكن مضمونا (والثاني) يضمنه اعتبارا بحال الاستقرار
(فرع) إذا وطئ مسلم وذمي ذمية بشبهة في طهر واحد ثم ضرب رجل
بطنها وألقت جنينا ميتا عرض على القافة على الصحيح من المذهب، فإن ألحقته
بالمسلم وجب فيه غرة مقدرة بنصف عشر دية المسلم وان ألحقته بالذمي
وجبت فيه غرة مقدرة بنصف عشر دية اليهودي وان أشكل الامر عليها وجب
فيه ما يجب في الجنين اليهودي لأنه يقين، فإن كان يرجو انكشاف الامر لم
نورث هذا المال أحدا ووقف إلى أن يبين الامر، وان لم يرج انكشاف الامر
ترك حتى يصطلحوا عليه، فإن أراد الذمي والذمية ان يصطلحا في قدر الثلث
جاز لأنه لا حق للذمي فيه، ولا يخرج هذا القدر ما بينهما
(فرع) الغرة الواجبة في الجنين الحرير ثنا ورثته، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الليث بن سعد لا يورث عنه، وإنما يكون لامه لأنه بمثابة عضو منها،
دليلنا أنه دية نفس تورث عنه كما لو خرج حيا، وان ضرب بطن نصرانية فألقت
جنينا ميتا فادعت أن هذا الجنين من مسلم زنى بها لم يجب فيه أكثر من دية جنين
نصرانية، لان ولد الزنا لا يلحق بالزاني.
قال الطبري، وان قالت وطئني مسلم بشبهة فكذبها الجاني والعاقلة، حلفوا
على نفى العلم لأن الظاهر أنه تابع لها. وان صدقوها وجبت غرة مقدرة بنصف
عشر دية مسلم، وان صدقها العاقلة دون الجاني لم يؤثر تكذيب الجاني. وان
صدقها الجاني وكذبتها العاقلة حملت العاقلة دية جنين النصرانية ووجب الباقي في
مال الجاني لأنه وجب باعترافه، والله تعالى أعلم
61

قال المصنف رحمه الله:
باب أروش الجنايات
والجنايات التي توجب الأروش ضربان، جروح وأعضاء، فأما الجروح
فضربان، شجاج في الرأس والوجه، وجروح فيما سواهما من البدن، فأما الشجاج
فهي عشر، الخارصة وهي التي تكشط الجلد، والدامية وهي التي يخرج منها
الدم، والباضعة وهي التي تشق اللحم، والمتلاحمة وهي التي تنزل في اللحم،
والسمحاق، وهي التي تسميها أهل البلد الملطاط، وهي التي تستوعب اللحم إلى
أن تبقى غشاوة رقيقة فوق العظم، والموضحة وهي التي تكشف عن العظم، والهاشمة
وهي التي تهشم العظم، والمنقلة وتسمى أيضا المنقولة، وهي التي تنقل العظم من
مكان إلى مكان، والمأمومة وتسمى أيضا الأمة وهي التي تصل إلى أم الرأس وهي
جلدة رقيقة تحيط بالدماغ، والدامغة وهي التي تصل إلى الدماغ
(فصل) والذي يجب فيه أرش مقدر من هذه الشجاج أربع، وهي الموضحة
والهاشمة والمنقلة والمأمومة، فأما الموضحة فالواجب فيها خمس من الإبل، لما روى
أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده (أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كتب إلى أهل اليمن بكتاب فيه الفرائض والسنن والديات، وفي الموضحة خمس
من الإبل) ويجب ذلك في الصغيرة والكبيرة، وفى البارزة والمستورة بالشعر،
لان اسم الموضحة يقع على الجميع، وإن أوضح موضحتين بينهما حاجز وجب عليه
أرش موضحتين، لأنهما موضحتان. وإن أزال الحاجز بينهما وجب أرش موضحة
لأنه صار الجميع بفعله موضحة واحدة، فصار كما لو أوضح الجميع من غير حاجز.
وإن تآكل ما بينهما وجب أرش موضحة واحدة، لان سراية فعله كفعله، وان
أزال المجني عليه الحاجز وجب على الجاني أرش الموضحتين، لان ما وجب بجنايته
لا يسقط بفعل غير ه. وإن جاء آخر فأزال الحاجز وجب على الأول أرش
الموضحتين وعلى الاخر أرش موضحة، لان فعل أحدهما لا يبنى على الاخر فانفرد
كل واحد منهما بحكم جنايته.
62

وان أوضح موضحتين ثم قطع اللحم الذي بينهما في الباطن، وترك الجلد الذي
فوقهما، ففيه وجهان.
(أحدهما) يلزمه أرش موضحتين لانفصالهما في الظاهر
(والثاني) يلزمه أرش موضحة لاتصالهما في الباطن، وإن شج رأسه شجة
واحدة بعضها موضحة وبعضها باضعة لم يلزمه أكثر من أرش موضحة، لأنه
لو أوضح الجميع لم يلزمه أكثر من أرش موضحة، فلان لا يلزمه والايضاح
في البعض أولى. وإن أوضح جميع رأسه وقدره عشرون أصبعا ورأس الجاني
خمس عشرة أصبعا اقتص في جميع رأسه، وأخذ عن الربع الباقي ربع أرش موضحة
وخرج أبو علي بن أبي هريرة وجها آخر أنه يأخذ عن الباقي أرش موضحة، لان
هذا القدر لو انفرد لوجب فيه أرش موضحة، وهذا خطأ لأنه إذا انفرد كان
موضحة فوجب أرشها، وههنا هو بعض موضحة فلم يجب فيه إلا ما يخصه.
(الشرح) حديث كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مضى تخريجه، وكذلك
بيان لغات الفصل.
أما الأحكام فإن الجنايات على ما دون النفس شيئين: جراحات وأعضاء
فأما الجراحات فضربان، شاج في الرأس والوجه، وجراحات فيما سواهما من
البدن، فأما الشجاج في الرأس والوجه فعشرة: الخارصة، والدامية، والباضعة
والمتلاحمة، والسمحاق، والموضحة، والهاشمة، والمنقلة، والمأمومة، والدامغة،
فالتي يجب فيها أرش مقدر من هذه الشجاج الموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة،
فالموضحة فيجب فيها خمس من الإبل صغيرة كانت أو كبيرة، وبه قال أكثر الفقهاء
وقال مالك إن كانت في الانف أو في اللحى الأسفل وجبت فيها حكومة. وقال
ابن المسيب يجب في الموضحة عشر من الإبل.
دليلنا حديث أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن كتابا وكان في كتابه (أن من اعتبط
مؤمنا قتلا عن بينة فإنه قود إلا أن يرضى أولياء المقتول، وأن في النفس الدية
مائة من الإبل وأن في الانف إذا أوعب جدعه الدية، وفى اللسان الدية
63

وفى الشفتين الدية، وفى البيضتين الدية، وفى الذكر الدية، وفى الصلب الدية،
وفى العينين الدية، وفى الرجل الواحدة نصف الدية، وفى المأمومة ثلث الدية،
وفى الجائفة ثلث الدية، وفى المنقلة خمسة عشر من الإبل، وفى كل أصبع من
أصابع اليد والرجل عشر من الإبل. وفى السنن خمس من الإبل، وفى الموضحة
خمس من الإبل،، وان الرجل يقتل بالمرأة وعلى أهل الذهب ألف دينار
أخرجه النسائي وابن خزيمة وابن حبان وابن الجارود والحاكم والبيهقي موصولا
وأبو داود في المراسيل، وصححه أحمد والحاكم وابن حبان والبيهقي، وقد تقدم
الكلام عليه. وقد أثبتنا رواية النسائي هنا لنرجع إليها ما يأتي من الديات عن
كتب منها اتقاء التكرار.
(مسألة) إذا أوضحه موضحتين أو ثلاثا أو أربعا لكل موضحة
خمس من الإبل لعموم الخبر، فإن كثرت المواضح حتى زاد أرشها على دية
النفس ففيه وجهان لأصحابنا الخراسانيين
(أحدهما) لا يجب أكثر من دية النفس، لان ذلك ليس بأكثر حرمة من
نفسه (والثاني) يجب بكل موضحة خمس من الإبل وهو المشهور لقوله
صلى الله عليه وسلم (وفى الموضحة خمس من الإبل) ولم يفرق، ولأنه يجب في
كل واحدة أرش مقدر فوجب، وإن زاد ذلك على دية النفس، كما لو قطع يديه
ورجليه، فإن أوضحه موضحتين بينهما حاجز ثم أزال الجاني هذا الحاجز لم يجب
عليه أكثر من أرش موضحة، لان فعل الانسان يبنى بغضه على بعض، كما لو
قطع يديه ورجليه ثم مات، وكذلك ان تأكل ما بينهما بالجناية صار كما لو خرق
ما بينهما لان سراية فعله كفعله فصار كما لو قطع يديه ورجليه وسرى ذلك إلى
نفسه، وإن خرق أجنبي ما بينهما وجب عليه أرش موضحة إن بلغ إلى العظم.
ووجب على الأول أرش موضحتين، لان فعل الانسان لا يبنى على فعل غيره
وإن خرق المجني عليه ما بينهما صار ما فعله هدرا ولم يسقط بذلك عن الجاني شئ
وإن أوضح رجلان في رأس رجل موضحتين واشتركا فيهما ثم جاء أحدهما وخرق
ما بينهما وجب على الخارق نصف أرش موضحة، وعلى الذي لم يخرق أرش
موضحة، لأنهما لما أوضحاه أولا وجب على كل واحد منهما أرش موضحة
64

فإذا خرق أحدهما الحاجز بينهما صار في حقه كأنهما أوضحاه موضحة واحدة
فكان عليه نصف أرشها ولم يسقط بذلك مما وجب على الاخر شئ
(فرع) إذا شج رجل آخر شجة، بعضها موضحة وبعضها باضعة وبعضها
متلاحمة لم يجب عليه أكثر من أرش موضحة، لأنه لو أوضحها جميعها لم يجب
عليه أكثر من أرش موضحة، فلان لا يلزمه والايضاح في بعضها أولى
وان أوضحه موضحتين وخرق اللحم الذي بينهما ولم يخرق الجلد الظاهر ففيه
وجهان (أحدهما) يلزمه أرش موضحتين اعتبارا بالظاهر (والثاني) لا يلزمه
إلا أرش موضحة اعتبار بالباطن.
وان أوضحه موضحتين وخرق الجلد الذي بينهما ولم يخرق اللحم لم يلزمه إلا
أرش موضحة وجها واحدا، لأنه لو خرق الظاهر والباطن بينهما لم يلزمه الا
أرش موضحة، فلان لا يلزمه الا أرش موضحة ولم يخرق الا الظاهر أولى.
وان أوضحه موضحة في الرأس ونزل فيها إلى القفا وهو العنق وجب عليه
أرش موضحة في الرأس وحكومة فيما نزل إلى القفا، لأنهما عضوان مختلفان،
وان أوضحه موضحة بعضها في الرأس وبعضها في الوجه ففيه وجهان، أحدهما
يلزمه أرش موضحتين لأنهما عضوان مختلفان، فهما كالرأس والقفا، والثاني
لا يلزمه الا أرش موضحة، لان الجميع محل للموضحة بخلاف القفا، والأول
أصح لأنهما مختلفان في الظاهر.
وان أوضح جميع رأسه ورأس المجني عليه عشرون أصبعا ورأس الجاني
خمسة عشر أصبعا فاقتص منه في جميع رأسه، فإنه يجب للمجني عليه فيما بقي
الأرش، لأنه لم يستوف قدر موضحته، وكم يجب له؟ فيه وجهان
(أحدهما) يجب له أرش موضحة، لأنه لو أوضحه قدر ذلك لوجب فيه
أرش موضحة (والثاني) وهو الأصح أنه لا يجب له الا ربع أرش موضحة،
لأنه أوضحه موضحة وقد استوفى ثلاثة أرباعها فبقي له ربع أرشها. وإذا وجب
له أرش موضحة مغلظة فإنه تجب له حقتان وثلاثة أبعرة من النوعين الآخرين
قال القاضي أبو الطيب: فيكون له بعير ونصف من الحقان، وبعير ونصف
من الجذاع.
65

قال ابن الصباغ: وهذا يقتضى أن يأخذ قيمة الكسرين إلا أن يرضى أن
يأخذهما من السن الأول، وهو أن يأخذ حقتين وجذعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب في الهاشمة عشر من الإبل لما روى قبيصة بن ذؤيب عن
زيد بن ثابت أنه قال (في الهاشمة عشر من الإبل) وإن ضرب رأسه بمثقل فهشم
العظم من غير إيضاح ففيه وجهان. أحدهما وهو قول أبى علي بن أبي هريرة أنه
تجب فيه الحكومة، لأنه كسر عظم من غير إيضاح، فأوجب الحكومة ككسر
عظم الساق. والثاني وهو قول أبي إسحاق أنه يجب فيه خمس من الإبل، وهو
الصحيح، لأنه لو أوضحه وهشمه وجب عليه عشر من الإبل، فدل على أن
الخمس الزائدة لأجل الهاشمة، وقد وجدت الهاشمة فوجب فيها الخمس، وان هشم
هاشمتين بينهما حاجز وجب عليه أرش هاشمتين كما قلنا في الموضحتين
(فصل) ويجب في المنقلة خمس عشرة من الإبل لما روى عمر بن حزم
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن في المنقلة خمس عشرة من
الإبل) وإن أوضح رأسه موضحة ونزل فيها إلى الوجه ففيه وجهان، أحدهما أنه
يجب عليه أرش موضحتين لأنه أوضح في عضوين فوجب أرش موضحتين، كما
لو فصل بينهما. والثاني يجب أرش موضحة لأنها موضحة واحدة، فأشبه إذا
أوضح في الهامة موضحة ونزل فيها إلى الناصبة، وإن أوضح في الرأس موضحة
ونزل فيها إلى القفا وجب عليه أرش الموضحة في الرأس، ويجب عليه حكومة
في الجراحة في القفا، لأنه ليس بمحل للموضحة فانفرد الجرح فيه بالضمان
(فصل) ويجب في المأمومة ثلث الدية لما روى عكرمة بن خالد (أن النبي
صلى الله عليه وسلم قضى في المأمومة بثلث الدية، وأما الدامغة فقد قال بعض
أصحابنا يجب فيها ما يجب في المأمومة، وقال أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي
البصري: يجب عليه أرش المأمومة وحكومة لان خرق الجلد جناية بعد
المأمومة فوجب لأجلها حكومة
(فصل) وإن شج رأس رجل موضحة فجاء آخر فجعلها هاشمة، وجاء آخر
66

فجعلها منقلة، وجاء آخر فجعلها مأمومة، وجب على الأول خمس من الإبل،
وعلى الثاني خمس، وعلى الثالث خمس،، وعلى الرابع ثمانية عشر بعيرا وثلث،
لان ذلك جناية كل واحد منهم.
(الشرح) أثر زيد بن ثابت أخرجه البيهقي، ثم حكاه البيهقي عن عدد من
أهل العلم. وقد اتفق أهل العلم على أنه لم يبلغنا عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها
تقدير، وحكوا عن مالك قوله: لا أعرف الهاشمة لكن في الايضاح خمس وفى
الهشم عقوبة. وكان الحسن البصري لا يوقت فيها شيئا. قال ابن المنذر: النظر
يدل على قول الحسن البصري إذ لا سنة فيها ولا إجماع، ولأنه لم ينقل فيها عن
النبي صلى الله عليه وسلم تقدير فوجبت فيها الحكومة كما دون الموضحة،
وسيأتي نقضه.
أما مرسل عكرمة ذلك لأنه ابن خالد بن العاص بن هشام المخزومي من
التابعين، فإن في حديث عمر وبن حزم عن كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل
اليمن ما يغنى عنه.
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه في الام (وقد حفظت عن عدد
لقيتهم وذكر لي عنهم أنهم قالوا في الهاشمة عشر من الإبل وبهذا أقول.
ثم قال ولو كانت الشجة كبيرة فهشمت موضعا أو مواضع بينهما شئ من العظم لم
ينهشم كانت هاشمة واحدة لأنها جناية واحدة، ولو كانت بينهما شئ من الرأس
لم تشققه والضربة واحدة فهشمت مواضع كان في كل موضع منها انفصل حتى
لا يصل به غيره مجروحا بتلك الضربة هاشمة، وهذا هكذا في المنقلة والمأمومة.
وممن قال في الهاشمة عشر من الإبل أحمد بن حنبل وأبو حنيفة وقال مالك
يجب فيها خمس من الإبل وحكومة في كسر العظم، دليلنا ما روى عن زيد بن
ثابت ولا مخالف له في الصحابة فكان اجماعا، ومثل حكم زيد يدل ظاهره على أنه
توقيف ومن ثم لا يخلو من أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنها شجة فوق
الموضحة تختص باسم فكان فيها مقدر كالمأمومة
وإن ضرب وجهه أو رأسه بمثقل فهشم العظم من غير أن يقطع جلدا ولا
67

لحما ففيه وجهان. قال أبو علي بن أبي هريرة فيها حكومة لأنها ليست بموضحة
ولا هاشمة، وإنما كسر عظم، فهو كما لو كسر يده
وقال أبو إسحاق المرزوي عليه خمس من الإبل، وهو الأصح لأنه لو
أوضحه وهشمه لوجب عليه عشر من الإبل، ولو أوضحه ولم يهشمه لم يجب
عليه إلا خمس من الإبل، فدل على أن الخمس الزائدة لأجل الايضاح.
(فرع) إذا شجه شجة بعضها موضحة وبعضها هاشمة وبعضها دون موضحة
لم يجب عليه إلا عشر من الإبل، لأنه لو هشم الجميع لم يجب عليه الا عشر من
الإبل، فلان لا يلزمه الهشم في البعض أولى، وان هشمه هاشمتين بينهما حاجز
لزمه أرش هاشمتين، وان أوضحه موضحتين وهشم العظم بكل واحدة منهما
واتصل الهشم في البطان وجب عليه أرش هاشمتين وجها واحدا، والفرق بينهما
وبين الموضحتين إذا اتصلتا في الباطن، لان الحائل قدر ارتفع بين الموضحتين في
الباطن، وههنا اللحم والجلد بينهما باق فكانتا هاشمتين، وإنما الكسر اتصل ولا
اعتبار به، وبكل ما قلنا ذهب أحمد وأصحابه
قوله (في المنقلة خمس عشرة من الإبل) وفى رواية (خمسة عشر من
الإبل) قال في القاموس هي الشجة التي ينقل منها فراش العظام، وهي قشور
تكون على العظم دون اللحم. وفى النهاية لابن الأثير انها التي تخرج صغار العظام
وتنقل عن أمكانها. وقيل التي تنقل العظم أي تكسره وقد روى ذلك عن علي
وزيد بن ثابت والعترة وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة. قال ابن قدامه وهو
إجماع أهل العلم. أما تفصيلها فكما في تفصيل الموضحة والهاشمة
قوله (ويجب في المأمومة ثلث الدية) قلت ارجع إلى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم
لأهل اليمن في أول الباب
قال ابن عبد البر أهل العراق يقولون لها الأمة وأهل الحجاز المأمومة،
وهي الجراحة الواصلة إلى أم الدماغ، سميت أم الدماغ لأنها تحوطه وتجمعه،
فإذا وصلت الجراحة إليها سميت آمة ومأمومة، وأرشها ثلث الدية في قول عامة
أهل العلم إلا مكحولا فإنه قال إن كانت عمدا ففيها ثلثا الدية، وإن كانت خطأ
ففيها ثلاثا، هكذا نقله الشوكاني عن ابن المنذر
68

أما الدامغة وهي أن يخرق جلدة الدامغ وفيها ما في المأمومة، ولم يذكر
متقدموا أصحاب أحمد الدامغة لمساواتها المأمومة في أرشها، قال ابن قدامة ويحتمل
أنهم تركوا ذكرها لكونها لا يسلم صاحبها في الغالب. وقال أبو الحسن الماوردي
البصري صاحب الحاوي والأحكام السلطانية وأدب الدنيا والدين وغيرها وإمام
أصحابنا العراقيين: يجب فيها حكومة مع ثلث الدية لخرق الغشاوة التي على الدماغ
وبه قال بعض أصحاب أحمد كما أفاده ابن قدامة
(فرع) قال أبو العباس بن سريج: وان أوضحه رجل وهشمه آخر ونقله
آخر وأمه آخر في موضع واحد وجب على الذي أوضحه خمس من الإبل وعلى
الذي هشمه خمس من الإبل وعلى الذي نقله خمس من الإبل وعلى الذي أمه
ثماني عشرة من الإبل وثلث، لان ذلك قدر أرش جناية كل واحد منهم. وهو
اختيار المصنف هنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وأما الشجاج التي قبل الموضحة وهي خمسة: الخارصة والدامية
والباضعة والمتلاحمة والسمحاق، فينظر فيها فإن أمكن معرفة قدرها من الموضحة
بأن كانت في الرأس موضحة فشج رجل بجنبها باضعة أو متلاحمة وعرف قدر
عمقها ومقدارها من الموضحة من نصف أو ثلاث أو ربع، وجب عليه قدر ذلك
من أرش الموضحة، لأنه يمكن تقدير أرشها بنفسها فلم تقدر بغيرها، وإن لم يمكن
معرفة قدرها من الموضحة وجبت فيها الحكومة، لان تقدير الأرش بالشرع
ولم يرد الشرع بتقدير الأرش فيما دون الموضحة، وتعذر معرفة قدرها من الموضحة
فوجبت فيها الحكومة.
(فصل) وأما الجروح فيما سوى الرأس والوجه فضربان، جائفة وغير جائفة
فأما غير الجائفة فهي الجراحات التي لا تصل إلى جوف، والواجب فيها الحكومة
فإن أوضح عظما في غير الرأس والوجه أو هشمه أو نقله وجب فيه الحكومة،
لأنها لا تشارك نظائرها من الشجاج التي في الرأس والوجه في الاسم ولا تساويها
في الشين والخوف عليه منها، فلم تساوها في تقدير الأرش. وأما الجائفة وهي
69

التي تصل إلى الجوف من البطن أو الظهر أو الورك أو الصدر أو ثغرة النحر،
فالواجب فيها ثلث الدية، لما روى في حديث عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كتب إلى أهل اليمن (في الجائفة ثلث الدية) فإن أجاف جائفتين بينهما حاجز
وجب في كل واحدة منهما الدية.
وإن أجاف جائفة فجاء آخر ووسعها في الظاهر والباطن وجب على الثاني ثلث
الدية، لان هذا القدر لو انفرد لكان جائفة فوجب فيه أرش الجائفة فإن وسعها
في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر وجب عليه حكومة، لان جنايته
لم تبلغ الجائفة.
وإن جرح فخذه وجر السكين حتى باغ الورك وأجاف فيه، أو جرح الكتف
وجر السكين حتى باغ الصدر وأجاف فيه، وجب عليه أرش الجائفة وحكومة
في الجراحة، لان الجراحة في غير موضع الجائفة فانفردت بالضمان كما قلنا فيمن
نزل في موضحة الرأس إلى القفا.
وإن طعن بطنه بسنان فأخرجه من ظهره، أو طعن ظهره فأخرجه من بطنه
وجب عليه في الداخل إلى الجوف أرش الجائفة لأنها جائفة، وفى الخارج منه
إلى الظاهر وجهان (أحدهما) وهو المنصوص أنة جائفة، ويجب فيها أرش جائفة
أخرى لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن عمر رضي الله عنه قضى
في الجائفة إذا نفذت من الجوف جائفتان) ولأنها جراحة نافذة إلى الجوف
فوجب فيها أرش جائفة كالداخلة إلى الجوف (والثاني) ليس بجائفة، ويجب فيها
حكومة، لان الجائفة ما تصل من الظاهر إلى الجوف، وهذه خرجت من
الجوف إلى الظاهر فوجب فيها حكومة.
(فصل) وان طعن وجنته فهشم العظم ووصلت إلى الفم ففيه قولان
(أحدهما) أنها جائفة ويجب فيها ثلث الدية، لأنها جراحة من ظاهر إلى
جوف فأشبهت الجراحة الواصلة إلى الباطن
(والثاني) أنه ليس بجائفة، لأنه لا تشارك الجائفة في إطلاق الاسم ولا
تساويها في الخوف عليه منها، فلم تساوها في أرشها، فعلى هذا يجب عليه دية
هاشمة لأنه هشم العظم ويجب عليه حكومة لما زاد على الهاشمة
70

(فصل) وان خاط الجائفة فجاء رجل وفتق الخياطة نظرت فإن كان قبل
الالتحام لم يلزمه أرش لأنه لم توجد منه جناية ويلزمه قيمة الخيط وأجرة
المثل للخياطة، وإن كان بعد التحام الجميع لزمه أرش جائفة، لأنه بالالتحام عاد
إلى ما كان قبل الجناية ويلزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لأنها دخلت
في أرش الجائفة، وإن كان بعد التحام بعضها لزمه الحكومة لجنايته على ما التحم
وتلزمه قيمة الخيط ولا تلزمه أجرة الخياطة لأنها دخلت في الحكومة
(فصل) وإن أدخل خشبة أو حديدة في دبر انسان فحرق حاجزا في الباطن
ففيه وجهان بناء على الوجهين فيمن خرق الحاجز بين الموضحتين في الباطن
(أحدهما) يلزمه أرش جائفة لأنه خرق حاجزا إلى الجوف (والثاني) تلزمه
حكومة لبقاء الحاجز الظاهر.
(فصل) وإن أذهب بكارة امرأة بخشبة أو نحوها حكومة، لأنه
إتلاف حاجز وليس فيه أرش مقدر، فوجبت فيه الحكومة، وان أذهبها بالوطئ
لم يلزمه أرش لأنها ان طاوعته فقد أذنت فيه، وان أكرهها دخل أرشها في
المهر، لأنا نوجب عليه مهر بكر
(الشرح) في مراسيل مكحول (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في الموضحة
خمسا من الإبل ولم يوقت فيما دون ذلك شيئا) فإذا كان تقدير الأرش لا يثبت
إلا بالنص التوقيفي، ولا توقيف هاهنا في الشجاج التي قبل الموضحة بأرش مقدر
فإنه إذا ثبت هذا فإذا أمكن معرفة قدرها من الموضحة بأن كان في رأس المجني
عليه موضحة ثم شج في رأسه دامغة أو باضعة، فإن عرف قدر عمقها من عمق
الموضحة التي في رأسه وجب فيها تقدير ذلك من أرش الموضحة، وان لم يمكن
معرفة قدر عمقها من عمق الموضحة التي في رأسه وجب فيها حكومة يعرف بالتقويم على ما يأتي
بيانه، فإن تيقنا أنها نصف الموضحة وشككنا هل يزيد أم لا؟ فإنه يقوم، فإن
خرجت حكومتها بالتقويم نصف أرش الموضحة لا غير، لم تجب الزيادة لأنا علمنا أن
الزيادة لا حكم لها، وان خرجت حكومتها أكثر من نصف أرش الموضحة
وجب ذلك لأنا علمنا أن الشك له حكم. وان خرجت حكومتها أقل من نصف
71

أرش الموضحة وجب نصف أرش الموضحة. لأنا قد تيقنا وجوب النصف وعلمنا
أن التقويم خطأ.
قوله (وأما الجروح فيما سوى الرأس والوجه الخ) فجملة ذلك أن هذا الجراحة
ضربان جائفة وغير جائفة، فأما غير الجائفة وهي الموضحة والهاشمة والمنقلة وما
دون الموضحة من الجراحات فلا يجب فيها أرش مقدر، وإنما يجب فيها حكومة
لان النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الموضحة وما بعدها من الجراحات وذكر
بعدها المأمومة، والمأمومة لا تكون إلا في الرأس، فعلم أن ما قبلها لا تكون
إلا بالرأس، والوجه في معنى الرأس، ولأن هذه الجراحات في سائر البدن
لا تشارك نظائرها في الرأس والوجه في الشين والخوف عليه منها فلم يشاركها في
تقدير الأرش. وأما الجائفة فهي الجراحات التي تصل إلى الجوف من البطن أو
الصدر أو ثغرة النحر أو الورك فيجب فيها ثلث الدية.
وقال مكحول: إن تعمدها وجب فيها الدية. دليلنا كتاب النبي صلى الله عليه
وسلم إلى أهل اليمن الذي سقنا لك نصه في أول الباب. وعن ابن عمر مثل ذلك
أن في الجائفة ثلث الدية، وهو قول عامة أهل العلم، منهم أهل المدينة وأهل
الكوفة وأهل الحديث وأصحاب الرأي إلا مكحولا حيث قال في عمدها ثلثي الدية
ولأنها جراحة أرشها مقدر فلم يختلف قدر أرشها بالعمد والخطأ كالموضحة،
ولا نعلم في جراح البدن الخالية عن قطع الأعضاء وكسر العظام مقدرا غير
الجائفة، والجائفة ما وصل إلى الجوف من بطن أو ظهر أو صدر أو ثغرة نحر
أو ورك أو غيره.
وذكر ابن عبد البر أن مالكا وأبا حنيفة والشافعي والنبي أصحابهم اتفقوا
على أن الجائفة لا تكون إلا في الجوف. قال ابن القاسم: الجائفة ما أفضى إلى
الجوف ولو بمغرز إبرة. فأما ان خرق شدقه فوصل إلى باطن الفم فليس بجائفة
لان داخل الفم حكمه حكم الظاهر لا حكم الباطن
فإن أجافه جائفتين بينهما حاجز وجب عليه أرش جائفتين، وإن طعنه فأنفذه
من ظهره إلى بطنه ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجب عليه إلا أرش جائفة. لان الجائفة هو ما ينفذ من
72

خارج إلى داخل، فأما الخارج من داخل إلى خارج فليس بجائفة، فيجب فيها
حكومة (والثاني) يجب عليه أرش جائفتين، وبه قال مالك، وهو المذهب،
لأنه روى عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب ولا مخالف لهما في الصحابة رضي الله عنه
م أجمعين، ولأنهما جراحتان نافذتان إلى الجوف فهو كما لو نفذنا من
خارج إلى داخل.
(فرع) وإن أجاف رجلا جائفة ثم جاء آخر وأدخل السكين في تلك الجائفة،
فإن لم يقطع شيئا فلا شئ عليه وإنما يعزر به، وان وسعها في الظاهر والباطن
وجب عليه أرش جائفة لأنه أجاف جائفة أخرى، وان وسعها في الظاهر دون
البان أو في البان دون الظاهر أو أصاب بالسكين كبده أو قلبه وجرحه وجبت
عليه حكومة، وإن قطع أمعاءه أو أبان حشوته فهو قاتل، لان الروح لا تبقى
مع هذا، والأول جارح.
وإن وضع السكين على فحذه فجره حتى بلغ به البطن وأجافه، أو وضعه على
كتفه وجره حتى بلغ به الظهر وأجافه وجب عليه أرش جائفة وحكومة للجراحة
في الكتف والفخذ، لأنهما جراحة في غير محل الجائفة. وان وضع السكين على
صدره وجرها حتى باغ به إلى بطنه أو ثغرة النحر وأجافه لم يجب عليه إلا أرش
جائفة، لان الجميع محل للجائفة، ولو أجافه في الجميع لم يلزمه إلا أرش جائفة
فلئلا يلزمه ولم يجفه إلا في بعضه أولى. هذا هو اتفاق أهل العلم
(فرع) إذا أجافه جائفة فخاط الجائفة، فجاء آخر وفنق تلك الخياطة، فإن
كان الجرح لم يلتحم ظاهرا أو لا باطنا لم يلزم الثاني أرش، وإنما يعزر، كما لو
أدخل السكين في الجائفة قبل الخياطة، ويجب عليه قيمة الخياطة وأجرة المثل،
وإن كانت الجراحة قد التحمت فقطعها ظاهرا وباطنا وجب عليه أرش جائفة،
لأنه عاد كما كان، وان التحمت الجراحة في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون
الظاهر ففتقه وجبت عليه الحكومة، وكل موضع وجب عليه أرش، الجائفة أو
الحكومة فإنه يجب عليه معه قيمة الخيط، وتدخل اجرة الطبيب الذي يجرى
عملية الخياطة في الأرش أو في الحكومة. وهذا هو اتفاق أهل العلم
(فرع) إذا جرحه في جوفه فخرجت الجراحة من الجانب الآخر فهما جائفتان
73

في قول أكثر أهل العلم، منهم عطاء ومجاهد وقتادة ومالك وأحمد وأصحاب
الرأي. قال ابن عبد البر: لا أعلمهم يختلفون في ذلك. وقال بعض أصحابنا:
هي جائفة واحدة.
وحكى هذا عن أبي حنيفة، لان الجائفة هي التي تنفذ من ظاهر البدن إلى
جوف، وهذه الثانية إنما نفذت من الباطن إلى الظهر وقد استدل الجمهور بما أخرجه
سعيد بن منصور في سننه عن سعيد بن المسيب (أن رجلا رمى رجلا بسهم فأنفذه
فقضى أبو بكر رضي الله عنه بثلث الدية) وروى نحوه عن عمر رضي الله عنه من
طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، لأن الاعتبار بوصول الجرح إلى
الجوف لا بكيفية إيصاله، إذ لا أثر لصورة الفعل مع التساوي في المعنى، كما قلنا
فيمن أوضح إنسانا في رأسه ثم أخرج السكين من موضع آخر فهما موضحتان،
وإن هشمه هاشمة لها مخرجان فهما هاشمتان.
(فرع) إذا ضرب وجنته فكسر العظم ووصل إلى فيه، ففيه قولان،
(أحدهما) يجب عليه أرش جائفة، لأنها جراحة وصلت إلى جوف الفم، فهو
كما لو وصلت إلى جوف البطن أو الرأس (والثاني) لا يجب عليه إلا أرش
هاشمة لهشم العظم وحكومة لما زاد، لأن هذه دون الجائفة إلى البطن أو الرأس
في الخوف عليه منها، وإن جرحه في أنفه فحرقه إلى باطنه، قال أبو علي الطبري
ففيه قولان، كما لو هشم عظم وجنته فوصل إلى فيه، وقال ابن الصباغ: لا يجب
عليه أرش جائفة قولا واحدا.
(فرع) إذا أدخل خشبة في دبر إنسان فحرق حائزا في البطن فهل يلزمه
أرش جائفة؟ فيه وجهان كما قلنا فيمن خرق الباطن بين الموضحتين دون الظاهر
وقال أحمد وأصحابه: عليه حكومة ولا يلزمه أرش جائفة وجها واحدا. أما إذا
أذهب بكارة امرأة بخشبة أو بيده فليست بجائفة، لأنه لا يخاف عليها من ذلك
فإن كانت أمة وجب عليه ما نقص من قيمتها، وإن كانت حرة ففيها حكومة،
فإن أكرهها على الزنا وجب عليه حكومة، ولاذهاب البكارة مهر المثل، وهل
يلزمه أرش البكارة؟ عد أصحاب أحمد فيها روايتان إحداهما لا يلزمه لان
أرش البكارة داخل في مهر المثل، فإن مهر المثل أكبر من مهر الثيب، فالتفاوت
74

بينهما هو عوض أرش البكارة فلم يضمنه مرتين (والثانية) يضمنه لأنه
محل أتلفه بعدوانه فلزمه أرشه، كما لو أتلفه بأصبعه
قال المنصف رحمه الله تعالى:
(فصل) وأما الأعضاء فيجب الأرش في إتلاف كل عضو فيه منفعة أو
جمال، فيجب في إتلاف العينين الدية، وفى أحدهما نصفها، لما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال في كتاب كتبه لعمرو بن حزم: هذا كتاب الجروح، في
النفس مائة من الإبل وفى العين خمسون من الإبل، فأوجب في كل عين خمسين
من الإبل، فدل على أنه يجب في العينين مائة، ولأنها من أعظم الجوارح جمالا
ومنفعة ويجب في عين الأعور نصف الدية للخبر، ولان ما ضمن بنصف
الدية مع بقاء نظيره صمن به مع فقد نظيره كاليد.
وان جنبي على عينيه أو رأسه أو غيرهما فذهب ضوء العينين وجبت الدية
لأنه أتلف المنفعة المقصودة بالعضو فوجبت ديته، كما لو جنى على يده فشلت،
وإن ذهب الضوء من إحداهما وجب نصف الدية، لان ما أوجب الدية في
إتلافهما أوجب نصف الدية في إتلاف إحداهما كاليدين. وان أزال الضوء
فأخذت منه الدية ثم عاد وجب رد الدية، لأنه لما عاد علمنا أنه لم يذهب، لان
الضوء إذا ذهب لم يعد.
وإن زال الضوء فشهد عدلان من أهل الخبرة أنه يرجى عوده، فإن لم يقدر
لعوده مدة معلومة لم ينتظر لان الانتظار إلى غير مدة معلومة يؤدى إلى إسقاط
موجب الجناية. وان قدر مدة معلومة انتظر وان عاد الضوء لم يجب شئ وان
لم يعد أخذ الجاني بموجب الجناية من القصاص أو الدية وان مات قبل انقضاء
المدة لم يجب القصاص لأنه موضع شبهة لأنه يجوز أن لا يكون بطل الضوء،
ولعله أو عاش لعاد والقصاص يسقط بالشبهة، وأما الدية فقد قال فيمن قلع سنا
وقال أهل الخبرة: يرجى عوده إلى مدة فمات قبل انقضائها إن في الدية قولين:
أحدهما تجب لأنه أتلف ولم يعد. والثاني لا تجب لأنه لم يتحقق الاتلاف ولعله
75

لو بقي لعاد، فمن أصحابنا من جعل في دية الضوء قولين، ومنهم من قال: تجب
دية الضوء قولا واحدا، لان عود الضوء غير معهود، بخلاف السن فإن
عودها معهود.
(فصل) فإن جنى على عينيه فنقص الضوء منهما، فإن عرف مقدار
النقصان بأن كان يرى الشخص من مافة فصار لا يراه إلا من نصف تلك المسافة
وجب من الدية بقسطها، لأنه عرف مقدار ما نقص فوجب بقسطه، وان لم
يعرف قدر النقصان بأن ساء إداركه وجبت فيه الحكومة لأنه تعذر التقدير،
فوجبت فيه الحكومة، وان نقص الضوء في إحدى العينين عصبت العليلة
وأطلقت الصحيحة، ووقف له شخص في موضع يراه، ثم لا يزال يبعد الشخص
ويسأل عنه إلى أن يقول لا أراه، ويمسح قدر المسافة ثم تطلق العليلة وتعصب
الصحيحة، ولا يزال يقرب الشخص إلى أن يراه، ثم ينظر ما بين المسافتين،
فيجب من الدية بقسطها.
(فصل) وان جنبي على عين صبي أو مجنون فذهب ضوء عينه، وقال أهل
الخبرة قد زال الضوء ولا يعود، ففيه قولان
(أحدهما) أنه لا يجب عليه في الحال شئ، حتى يباع الصبي ويفيق المجنون
ويدعى زوال الضوء، لجواز أن لا يكون الضوء زائلا (والقول الثاني) أنه يجب
القصاص أو الدية، لان الجناية قد وجدت فتعلق بها موجبها.
(فصل) وان جنى على عين فشخصت أو احولت وجبت عليه حكومة،
لأنه نقصان جمال من غير منفعة، فضمن بالحكومة، وان أتلف عينا قائمة وجبت
عليه الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة فوجبت فيها الحكومة.
(فصل) ويجب في الجفون الدية لان فيها جمالا كاملا ومنفعة كاملة، لأنها
تقى العين من كل ما يؤذيها، ويجب في كل واحد منها ربع الدية، لأنه محدود،
لأنه ذو عدد تجب الدية في جميعها، فوجب في كل واحد منها ما يخصها من الدية
كالأصابع، وان قلع الأجفان والعينين وجب عليه ديتان، لأنهما جنسان يجب
باتلاف كل واحد منهما الدية، فوجب بإتلافهما ديتان كاليدين والرجلين، فإن
أتلف الأهداب وجبت عليه الحكومة، لأنه إتلاف جمال من غير منفعة،
76

فضمن بحكومة، إن قلع الأجفان وعليها الأهداب ففيه وجهان، أحدهما لا يجب
للأهداب حكومة لأنه شعر نابت في العضو المتلف فلا يفرد بالضمان كشعر
الذراع. والثاني: يجب للأهداب حكومة، لان فيها جمالا ظاهرا فأفردت
عن العضو بالضمان.
(الشرح) يأخذ المصنف في ديات الأعضاء، فيبحث أولا ديات العين،
فيتقرر من هذا ان في العينين الدية لما عرفناه من كتاب صلى الله عليه وسلم
لأهل اليمن وفيه (وفى العينين الدية) ويجب في إحداهما نصب الدية، وهذا
مطرد فيما فيه زوج كالاذن والرجل واليد، ولا اعلم في ذلك مخالفا إلا في الأعور
فإن مقتضى المذهب أنه لا يجب فيه إلا نصف الدية خمسون من الإبل أو من
النقدين تقويما. وبه قال النخعي والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه
وقال الزهري ومالك والليث وأحمد وإسحاق: يجب فيها جميع الدية
وروى ذلك عن عمر وعلى وابن عمر، وذلك لعماه بسببها فساوت مصيبته
مصيبة من قلعت عيناه.
دليلنا أن الدليل لم يفصل ولم يفرق بين عين الأعور وعين غيره، ولان
ما ضمن ببدل مع بقاء نظيره ضمن به مع فقد نظيره كاليد.
وإن قلع الأعور عين من له عينان وللجاني مثلها كان للمجني عليه القصاص.
وقال أحمد ليس له القصاص منه. دليلنا قوله تعالى (والعين بالعين) ولم يفرق
وإن عفى المجني عليه عن قلع عين الأعور لم يستحق عليه إلا نصف الدية. وقال
مالك يستحق عليه جميع الدية. دليلنا أنه قلع عين واحدة فإذا عفى عن القصاص
لم يجب له أكثر من ديتها كما لو كانتا سليمتين
(فرع) إذا جنبي على عينه أو رأسه فذهب ضوء بصره والحدقة باقية كانفصال
الشبكية وجبت عليه الدية للحديث المرفوع (وفيا لبصر مائة من الإبل) ولكتابه
صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن (وفى العينين الدية) ولأنه أذهب المنفعة المقصودة
بالعين وعطل وظائفها فوجب عليه أرشها، كما لو جنى على يده فشلت. وإن ذهب
البصر من إحدى العينين وجب عليه نصف الدية، كما لو أشل إحدى يديه،
77

فإن قلع عينا عليها بياض فإن كان على غيرا لناظر (القرنية) أو على الناظر
إلا أنه خفيف يبصر بها من تحته وجب عليه جميع ديتها، لان البياض لا يؤثر
في منفعتها، وإنما يؤثر في جمالها، فهو كما لو قطع يدا عليها ثآليل، فإن كان لا يبصر
لم تجب عليه الدية، وإنما عليه الحكومة كما لو قطع بدا شلاء، وإن نقص بصرها
بالبياض وجب عليه من ديتها بقدر ما بقي من بصرها.
(تنبيه) أعلم أن العين الكاملة الابصار مقياسها عند الأطباء 6 على 6 ودونها
6 على 9 ثم 6 على 12 ثم 6 على 18 ثم 6 على 24 ثم 6 على 60، ولها علامات
مرسومة على لوحة مثبتة على حائط يبعد عند الكشف من مترين إلى أربعة أمتار
فيها أقواس كبيرة من أعلاها ثم تأخذ في الصغر حتى تبلغ في الدقة الحد الذي
يجعل رؤيتها دليلا على أن العين كاملة الابصار، وبهذا المقياس يمكن أن نكتفي
به عن الصور التي رسمها المصنف منه وقوف شخص على بعد ثم اقترابه، وما إلى
ذلك مما لم يكن له بديل أدق منه في عصرهم.
أما وقد وصل الكشف الطبي في زماننا إلى الاطلاع على قاع العين بالعدسات
والآلات الحديثة، فإن الاعتبار يكون بالوسائل الحديثة وبها نأخذ، على أن
الصورة التي مثل بها الإمام الشافعي رضي الله عنه لا يمكن أن يقوم مقامها صورة
أخرى للاثبات أو النفي عند التحقيق في دعوى المجني عليه وهي في الفرع التالي. (فرع) إذا جنبي على عينه فذهب ضوؤها فأخذت منه الدية ثم عاد ضوؤها وجب
رد ديتها، لأنا علمنا أنه لم يذهب، وان ذهب ضوؤها وقال رجلان من أطباء
العيون برجاء عودته فإن لم يقدر ذلك إلى مدة لم ينتظر، وان قدراه إلى مدة
انتظر، فإن عاد الضوء لم تجب الدية، وان انقضت المدة ولم يعد الضوء أخذ
الجاني بموجب الجناية.
وإن مات المجني عليه قبل انقضاء تلك المدة لم يجب القصاص لأنه موضع
شبهة. وهل تجب عليه الدية؟ من أصحابنا من قال فيه قولان كما قلنا في السن.
ومنهم من قال تجب الدية قولا واحدا، لان عود الضوء غير معهود،
وعود السن معهود
(فرع) إذا جنبي على عينيه فنقص ضوءها نظرت فإن عرف أنه نقص
78

نصف ضوئهما راجع ما أجملناه في تبيينهما آنفا حول امتحان العين بمقاييس
عصرنا بأن نظره يساوى 6 على 6 فصار يساوى 6 على 12 وجبت عليه نصف
الدية، وإن لم يعرف قدر النقصان، وإنما ساء إدراكه وجبت عليه حكومة.
وإن نقص بصره في إحدى العينين وجبت عليه من دية تلك العين بقدر ما نقص
من ضوئها إن أمكن معرفة ذلك.
قال الشافعي رضي الله عنه: والامكان أن نعصب عينه العليلة ونطلق الصحيحة
ويقام له شخص على ربوة من الأرض، ثم يقال له انظر إليه ثم يتباعد الشخص
عنه إلى أن يأتي إلى غاية يقول لا أدرى إلى أكثر منها، ثم يعلم على ذلك الموضع
ويغير عليه ثياب الشخص لأنه متهم، فإذا غير عليه وأخبر به علمنا صحة ذلك،
ثم نطلق العين العليلة ونعصب الصحيحة ونوقت له الشخص على ربوة ثم لا يزال
يبعد عنه إلى الغاية التي يقول أبصره إليها ولا أبصره إلى أكثر منها، فنعلم على
ذلك الموضع ويوقف له الشخص من جميع الجهات، فإن أخبر أنه يبصره على
أكثر من تلك الغاية أو أقل علمنا كذبه، لان النظر لا يختلف باختلاف الجهات
فإذا اتفقت الجهات علمنا صدقه، ثم ينظر كم الغاية الثانية من الأولى فيؤخذ بقدر
ما نقص من الدية.
(فرع) وإن جنى على عين صبي أو مجنون فقال الطبيب الشرعي: قد زال
ضوءها ولا يرجى عوده، ففيه قولان. أحدهما يحكم على الجاني بموجب الجناية
لان الجناية قد وجدت فيتعلق بها موجبها. والثاني لا يحكم عليه بموجبها حتى
يبلغ الصبي ويفيق المجنون ويدعى زوال الضوء لجواز أن الضوء لم يذهب، وإن
جنى على عين رجل فشخصت، وأي لا يستطيع أن يطرف إذا ارتفعت أو احولت
ولم يذهب من ضوئها شئ، وجب عليه الحكومة لأنه أذهب جمالا من غير
ذهاب منفعة.
وإن قلع عينا قائمة، وهي العين التي ذهب ضوءها وبقيت حدقتها وجبت
عليه الحكومة دون الدية، لأنه أذهب جمالا من غير منفعة.
قوله (ويجب في الجفون الدية الخ) قلت: أجفان العينين أربعة واسمها
الأشفار وفى جميعها الدية، لان فيها منفعة الجنس، وفى كل واحد منها ربع الدية
79

لان كل ذي عدد تجب في جميعه الدية تجب في الواحد منها بحصته من الدية كاليدين
والأصابع، وبهذا قال الحسن والشعبي وقتادة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه
وأحمد وأصحابه
وقال مالك: لا يجب عليه الا الحكومة، لأنه لم يعلم تقديره على النبي صلى الله عليه وسلم
والتقدير لا يثبت بالقياس. دليلنا أن فيها جمالا ظاهرا ونفعا كاملا، لأنها نكن
العين وتحفظها، وندرا عنها الرياح والعواصف، والحر والبرد، وهجوم الغبار
والأجسام المتطايرة في الهواء، وأولاها لقبح منظر العينين، فوجبت فيها الدية
كاليدين، ولا نسلم أن التقدير لا يثبت قياسا، فإذا ثبت هذا فإن في أحدها ربع
الدية. وحكى عن الشعبي أنه يجد في الا على ثلثا دية العين، وفى الأسفل ثلثها
لأنه أكثر نفعا.
وإن قطع الأجفان وعليها الأهداب ففيه وجهان:
(أحدهما) يجب عليه الدية كالأجفان والحكومة للأهداب، كما لو قطع
الأهداب والأجفان
(والثاني) يجب عليه الدية لا غير، كما لو قطع يدا وعليها شعر وأظفار.
وان قلع العينين والأجفان وجبت عليه ديتان، كما لو قطع يديه ورجليه، وإن
أزال الأهداب وحدها ففيه حكومة، وقال أبو حنيفة وأحمد: تجب فيها الدية
وفى كل واحد منها ربعها، ومثل ذلك الحاجبان، فإن فيها حكومة. وقال أبو حنيفة
وأحمد فيهما الدية.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب في الاذنين الدية وفى أحدهما نصفها لما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم (في الاذن خمسون من الإبل)
فأوجب في الاذن خمسين من الإبل، فدل على أنه يجب في الاذنين مائة،
ولان فيها جمالا ظاهرا ومنفعة مقصودة، وهو أنها تجمع الصوت وتوصله إلى
الدماغ، فوجب فيها الدية كالعين
وإن قطع بعضها من نصف أو ربع أو ثلث وجب فيه من الدية بقسطه،
80

لان ما وجبت الدية فيه وجبت في بعضه بقسطه كالأصابع، وإن ضرب أذنه
فاستحشفت ففيه قولان:
(أحدهما) تجب عليه الدية كما لو ضرب يده فشلت
(والثاني) تجب عليه الحكومة، لان منفعة الاذن جمع الصوت، وذلك
لا يزول بالاستحشاف، بخلاف اليد فإن منفعتها بالبطش وذلك يزول بالشلل،
وإن قطع أذنا مستحشفة فإن قلنا إنه إذا ضربها فاستحشفت وجبت عليه الدية،
وجب في المستحشفة الحكومة، كما لو قطع يدا شلاء، وان قلنا إنه تجب عليه
الحكومة وجب في المستحشفة الدية، كما لو قطع يدا مجروحة، فإن قطع أذن
الأصم وجبت عليه الدية، لأن عدم السمع نقص في غير الاذان، فلا يؤثر
في دية الاذان.
(فصل) ويجب في السمع الدية، لما روى أبو المهلب عن أبي قلابة (أن
رجلا رمى رجلا بحجر في رأسه فذهب سمعه وعقله ولسانه ونكاحه، فقضى فيه
عمر رضي الله عنه بأربع ديات والرجل حي) ولأنها حاسة تختص بمنفعة فأشبهت
حاسة البصر. وإن أذهب السمع في أحد الاذنين وجب نصف الدية، لان كل
شيئين وجبت الدية فيهما وجب نصفها في أحدهما كالأذنين وان قطع الاذنين وذهب السمع
وجب عليه ديتان لان السمع في غير الاذن فلا تدخل دية أحدهما في الاخر
وان جنى عليه فزال السمع وأخذت منه الدية ثم عاد وجب رد الدية، لأنه لم
يذهب السمع، لأنه لو ذهب لما عاد.
وإن ذهب السمع فشهد شاهدان من أهل الخبرة أنه يرجى عوده إلى مدة،
فالحكم فيه كالحكم في العين إذا ذهب ضوءها، فشهد شاهدان أنه يرجى عوده،
وقد بيناه.
وإن نقص السمع وجب أرش ما نقص، فإن عرف القدر الذي نقص بأن
كان يسمع الصوت من مسافة فصار لا يسمع إلا من بعضها وجب فيه من الدية
بقسطه، وان لم يعرف القدر بأن ثقلت أذنه وساء سمعه وجبت الحكومة. وان
نقص السمع في أحد الاذنين سدت العليلة وأطلقت الصحيحة، ويؤمر رجل
حتى يصيح من موضع يسمعه ثم لا يزال يبعد ويصيح إلى أن يقول لا أسمع،
81

ثم تمسح المسافة، ثم تطلق العليلة، وتسد الصحيحة، ثم يصبح الرجل ثم لا يزال
يقرب ويصيح إلى أن يسمعه وينظر ما بين المسافتين، ويجب من الدية بقسطه.
(الشرح) خبر عمرو بن حزم مضى تخريجه في أول الباب، وأثر أبى المهلب
عن أبي قلابة، أخرجه أحمد بن حنبل في رواية أبى الحرث، وابنه عبد الله، كما
أخرجه ابن أبي شيبة عن خالد عن عوف: سمعت شيخا في زمن الحاكم، وهو
ابن المهلب عم أبى قلابة قال: رمى رجل رجلا بحجر في رأسه في زمن عمر فذهب
سمعه وبصره وعقله وذكره فلم يقرب النساء، فقضى عمر فيه بأربع ديات وهو
حي) قد دل الخبر على وجوب الدية في كل واحد من الأربعة المذكورة وهو
إجماع الصحابة لأنه لم يثبت له مخالف.
وقال الحافظ بن حجر في تلخيص الحبير: إنه وحد في حديث معاذ في السمع
الدية قال وقد رواه البيهقي من طريق قتادة عن ابن المسيب عن علي رضي الله عنه
وقد زعم الرافعي أنه ثبت في حديث معاذ أن في البصر الدية. قال الحافظ
لم أجده. وروى البيهقي من حديث معاذ في العقل الدية وسنده ضعيف. قال
البيهقي وروينا عن عمر وعن زيد بن ثابت مثله، وقد زعم الرافعي أن ذلك في
حديث عمرو بن حزم وهو غلط.
وأخرج البيهقي عن زيد بن أسلم بلفظ: مضت السنة في أشياء من الانسان
إلى أن قال: وفى اللسان الدية وفى الصوت إذا انقطع الدية)
قال الشوكاني: والحاصل أنه قد ورد النص بايجاب الدية في بعض الحواس
الخمس الظاهرة كما عرفت، ويقاس ما لم يرد فيه نص منها على ما ورد فيه
قلت: روى ذلك عن عمر وعلى، وبه قال عطاء ومجاهد والحسن وقتادة
والثوري والأوزاعي وأحمد وأصحاب الرأي ومالك في إحدى الروايتين عنه.
وقال في الأخرى فيهما حكومة لان الشرع لم يرد في ذلك بتقدير ولا يثبت التقدير
بالقياس. وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولا آخر للشافعي. قال العمراني وليس
بمشهور وروى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال (في الاذنين خمسة
عشر من الإبل) قال ابن المنذر لم يثبت ذلك عنه. قاله ابن قدامه
82

دليلنا كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن عن عمرو بن حزم وفيه
(وفى الاذن خمسون من الإبل) فدل على أنه يجب فيهما مائة
(فرع) وإن قطع بعض الاذن وجب عليه من ديتها ما قطع منها لأنه
يمكن تقسيط الدية عليها. وان جنى على أذنه فاستحشفت أي يبست وانقبضت
وصارت كهيئة الجلد إذا ترك على النار ففيه قولان
(أحدهما) يجب عليه ديتها كما لو جنى على يده فشلت
(والثاني) لا يجب عليه الا الحكومة، لان منفعتها باقية مع استحشافها،
وإنما نقص جمالها وإن أذنا مستحشفة، فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال
إنه إذا جنى عليها فاستحشفت وحب عليه الدية ووجب هاهنا على قاطع المستحشفة
الحكومة، كما لو قطع يدا شلاء
وإن قلنا هناك لا يجب عليه الا الحكومة وجب هاهنا على قاطعها ديتها.
وقال الشيخ أبو حامد هذا تخليط لا يحكى، بل يجب عليه الحكومة قولا واحدا
كما قلنا فيمن قلع عينا قائمة أو قطع يدا شلاء
وان قطع أذن الأصم وجب عليه ديتها، لان ذهاب السمع لعلة في الرأس
لا في الاذن.
قوله (ويجب في السمع الدية) فجملة ذلك أنه إذا أذهب سمعه من أحد الاذنين
وجب عليه نصف الدية، كما لو أذهب البصر من أحد العينين، فإن أذهب سمعه
فأخذت منه الدية ثم عاد السمع وجب رد الدية لأنا علمنا أنه لم يذهب
(فرع) وان جنى عليه جناية فادعى أنه ذهب بها سمعه أو بصره أو شمه
أخذنا رأى اثنين من أهل الخبرة من المسلمين، فإن قالا مثل هذه الجناية لا يذهب
بها السمع والبصر والشم فلا شئ على الجاني، لأنا علمنا كذب المدعى، وان
قالا مثلها يذهب بها السمع أو البصر أو الشم فإن كان في البصر رجع إلى
قولهما أو إلى اثنين من أهل الخبرة، فإن قالا قد ذهب البصر ولا يعود حكمنا على
الجاني بموجب الجناية، وإن كان في السمع والشم لم يرجع إلى قولهما في ذهابه،
لأنه لا طريق لهما إلى المعرفة بذهابه بخلاف البصر، فإذا ادعى المجني عليه ذهاب
السمع أو الشم فإن قال اثنان من أهل الخبرة من المسلمين لا يرجى عوده
83

حكم على الجاني بموجب الجناية. وإن قالا يرجى عوده إلى مدة، فهو كما لو قالا
يرجى عود البصر، وقد مضى بيانه، فإن كانت الجناية عمدا لم يقبل فيه إلا قول
رجلين، وإن كانت خطأ أو عمد خطأ قبل فيه قول رجل وامرأتين، كما قلنا
في الشهادة بذلك.
(فرع) وإن جنبي عليه جناية فنقص سمعه بها فإن عرف قد نقصانه
وجب فيه من الدية بقدره، وإن لم يعرف قدر نصفانه وإنما ثقل وجبت فيه
الحكومة، وإن ادعى نقصان السمع من أحد الاذنين سدت الاذن العليلة
وأطلقت الصحيحة، وأمر من يخاطبه وهو يتباعد منه إلى أن يبلغ إلى غاية يقول
لا أسمعه إلى أكثر منها ويعلم عليها ويمتحن بذلك من جميع الجهات لأنه متهم،
فإذا اتفقت الجهات أطلقت العليلة وسدت الصحيحة وخاطبه كمخاطبته الأولة
وهو يتباعد منه إلى أن يقول لا أسمعه إلى أكثر منها، ويمتحن بمخاطبته أيضا
في ذلك من جميع الجهات، فإذا اتفقت علم على ذلك الموضع وينظر كم قدر
ذلك من المسافة الأولة، ويجب له من دية الأذن بقدر ما نقص من المسافة التي
يسمع منها في العليلة، وإن قطع أذنيه فذهب سمعه منها وجب عليه ديتان، كما لو
قطع يديه ورجليه.
(فائدة) قال الثعالبي: يقال بأذنه وقر فإذا زاد فهو صمم، فإذا زاد فهو طرش
فإذا زاد حتى لا يسمع الرعد فهو صلخ
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب في مارن الانف الدية، لما روى طاوس قال (كان في كتاب
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانف إذا أوعب مارنه جدعا الدية، ولأنه
عضو فيه جمال ظاهر ومنفعة كاملة، ولأنه يجمع الشم ويمنع من وصول التراب
إلى الدماغ، والأخشم كالأشم في وجوب الدية، لأن عدم الشم نقص في غير
الانف فلا يؤثر في دية الأنف، ويخالف العين القائمة، فإن عدم البصر نقص
في العين، فمنع من وجوب الدية في العين.
وان قطع جزءا من المارن كالنصف والثلث وجب فيه من الدية بقدره، لان
84

ما ضمن بالدية يضمن بعضه بقدره من الدية كالأصابع، وإن قطع أحد
المنخرين ففيه وجهان
(أحدهما) وهو المنصوص أن عليه نصف الدية، لأنه أذهب نصف الجمال
ونصف المنفعة (والثاني) يجب عليه ثلث الدية، لان المارن يشتمل على ثلاثة
أشياء المنخرين والحاجز، فوجب في كل واحد من المنخرين ثلث الدية، وان
قطع أحد المنخرين والحاجز وجب عليه على الوجه الأول نصف الدية للحاجز.
وعلى الوجه الثاني يجب عليه ثلثا الدية، ثلث للحاجز وثلث للمنخر. وان شق
الحاجز وجب عليه حكومة، وان قطع المارن وقصبة الانف وجب عليه الدية في
المارن والحكومة في القصبة، لان القصبة تابعة فوجب فيها الحكومة كالذراع
مع الكف. وان جنى على المارن فاستحشف ففيه قولان كالقولين فيمن جنى على
الاذن حتى استحشف.
(أحدهما) تجب عليه الدية (والثاني) تجب عليه الحكومة، وقد مضى
وجههما في الاذن
(فصل) وتجب باتلاف الشم الدية، لأنها حاسة تختص بمنفعة مقصودة
فوجب باتلافها الدية كالسمع والبصر، وان ذهب الشم من أحد المنخرين وجب
فيه نصف الدية، كما تجب في اذهاب البصر من أحد العينين، والسمع من أحد
الاذنين، وان جنى عليه فنقص الشم وجب عليه أرش ما نقص، وأن أمكن أن
يعرف قدر ما نقص وجب فيه من الدية بقدره، وان لم يمكن معرفة قدره وجبت
فيه الحكومة لما بيناه في نقصان السمع، وان ذهب الشم وأخذت فيه الدية ثم عاد
وجب رد الدية، لأنا تبينا أنه لم يذهب، وإنما حال دونه حائل، لأنه
لو ذهب لم يعد.
(الشرح) تخريج خبر كتاب النبي صلى الله عليه وسلم مضى في أول الباب.
أما اللغات فقوله (إذا أوعب مارنه جدعا) أوعب واستوعب استؤصل واستقصى
والمارن الغضاريف اللينة من الانف والجدع قطع الأنف، وقد يقال لقطع
الاذن كما أفاده ابن بطال ومن فقه اللغة أن يقال سمل عينه وصمل أذنه وجدع أنفه
85

أما الأحكام فإنه يجب في الانف الدية (ارجع إلى كتاب النبي صلى الله عليه
وسلم لأهل اليمن في أول الباب لعمرو بن حزم وفيه (وأن في الانف إذا أوعب
جدعه الدية)) وأوعب بضم الهمز على البناء للمجهول أي قطع جميعه، وقد استدل
بهذا من قال بأن الدية تجب في قطع الأنف جميعه، لان الانف مركبة من قصبة
ومارن وأرنبة وروثة، فالدية تجب إذا استؤصلت من أصل القصبة إجماعا وعند
الهادوية في كل واحدة من الأربع حكومة
قال الشوكاني، وقال الناصر الفقهاء بل في المارن الدية وفى بعضه حصته.
قلت ويجاب عنه بما أخرجه الشافعي عن طاوس وأورده المصنف هنا أنه قال
عندنا في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (وفى الانف إذا قطع مارنه
مائة من الإبل.
وأخرج البيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال (قضى النبي
صلى الله عليه وسلم إذ جدعت ثندوة الانف بنصف العقل خمسون من الإبل
وعدلها من الذهب والورق)
قال ابن الأثير، أراد بالثندوة هنا روثة الانف وهي طرفه ومقدمه وفى
البيان للعمراني، والذي تجب به الدية من الانف المارن، وهو مالان منها دون
القصبة اه‍، ولان المنفعة والجمال فيه فوجبت فيه الدية بقسط ما قطع منه، وان
قطع أحد المنخرين ففيه وجهان
(أحدهما) يجب عليه نصف الدية لأنه أذهب نصف الجمال نصف المنفعة
(والثاني) لا يجب عليه الا ثلث الدية، لان المارن يشتمل على المنخرين والحاجز
بينهما، والأول هو المنصوص، فإن قطع الحاجز بين المنخرين وجب عليه على
الوجه الأول حكومة وعلى الثاني ثلث الدية. وان قطع أحد المنخرين والحاجز
بينهما وجب عليه على الأول نصف الدية وحكومة. وعلى الثاني ثلثا الدية،
وان قطع المارن وقصبة الانف وجب عليه دية في المارن وحكومة في القصبة.
كما لو قطع يده من المرفق، وان قطع المارن والجلدة التي تحته إلى الشفة وجبت
عليه دية في المارن وحكومة للجلدة التي تحته، وان أبان مارنه نأخذه المجني عليه فألصقه
فالتصقت خلاياه والتحمت أنسجته كان المجني عليه أن يقتص مارنه حتى يجعله
86

معلقا كمارن المجني عليه. وإن عفا عن القصاص لم تجب له الدية، وإنما تجب له
الحكومة لأنها جناية لم نذهب بها منفعة، وإنما نقص بها جمال، وإن جنى على
أنفه فاستحشف فهل تجب عليه الدية؟ قولان كما قلنا في الاذن إذا استحشف
بالجناية، فإن قطع أنفا مستحشفا ففيه طريقان، كما قلنا فيمن قطع أذنا مستحشفة
وإن قطع أنف أخشم وجب عليه الدية، لعموم الخبر، ولان ذهاب الشم لمعنى
في غير الانف
قوله ((وتجب بإتلاف الشم الدية) وهذا صحيح لما رواه عمر بن حزم في
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم في بعض طرقه وفيها (وفى الشم الدية) كما قلنا فيه
إذا أذهب البصر من إحدى العينين، وإن نقص شمه من المنخرين أو من أحدهما
فهو كما قلنا فيمن نقص سمعه من الاذنين أو من أحدهما، وإن لم يعرف قدر نقصه
وجبت فيه الحكومة، وإن قطع مارنه فذهب شمه وجبت عليه ديتان، لان الدية
تجب في كل أحد منهما إذا انفرد، فوجبت في كل واحد منهما الدية وان اجتمعا
كما لو قطع يديه ورجليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن جنى على رجل جناية لا أرش لها بأن لطمه أو لكمه أو ضرب
رأسه بحجر فزال عقله وجب عليه الدية، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
كتب في كتاب عمرو بن حزم (وفى العقل الدية) ولان العقل أشرف من الحواس
لان به يتميز الانسان من البهيمة، وبه يعرف حقائق المعلومات، ويدخل في
التكليف، فكان بإيجاب الدية أحق
وإن نقص عقله فإن كان يعرف قدر ما نقص بأن يجن يوما ويفيق يوما،
وجب عليه من الدية بقدره، لان ما وجبت فيه الدية وجب بعضها في بعضه،
كالأصابع. وإن لم يعرف قدره بأن صار إذا سمع صيحة زال عقله ثم يعود،
وجبت فيه الحكومة لأنه تعذرا إيجاب جزء مقدر من الدية، فعدل إلى الحكومة
فإن كانت الجناية لها أرش مقدر نظرت، فإن بلغ الأرش قدر الدية أو أكثر
لم يدخل في دية العقل، ولم تدخل فيه دية العقل لما روى أبو المهلب عم أبى قلابة
87

أن رجلا رمى رجلا بحجر في رأسه فذهب عقله وسمعه ولسانه ونكاحه، فقضى
فيه عمر رضي الله عنه بأربع ديات وهو حي)
وإن كان الأرش دون الدية كأرش الموضحة ونحوه ففيه قولان. قال في
القديم: يدخل في دية العقل لأنه معنى يزول التكليف بزواله فدخل أرش
الطرف في ديته كالنفس.
وقال في الجديد: لا يدخل وهو الصحيح، لأنه لو دخل في ديته ما دون
الدية لدخلت فيها الدية كالنفس، ولان العقل في محل والجناية في محل آخر،
فلا يدخل أرشها في ديتها، كما لو أوضح رأسه فذهب بصره، وان شهر سيفا
على صبي أو بالغ مضعوف أو صاح عليه صيحة عظيمة فزال عقله وجبت عليه
الدية. لان ذلك سبب لزوال عقله، وان شهر سيفا على بالغ متيقظ أو صاح
عليه فزال عقله لم تجب عليه الدية، لان ذلك ليس بسبب لزوال عقله
(فصل) ويجب في الشفتين الدية لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب
في كتاب عمر وبن حزم (في الشفتين الدية) ولان فيهما جمالا ظاهرا ومنافع
كثيرة، لأنهما يقيان الفم من كل ما يؤذيه، ويردان الريق وينفخ بهما، ويتم بهما
الكلام ويجب في إحداهما نصف الدية لان كل شيئين وجب فيهما الدية وجب في
أحدهما نصف الدية كالعينين والأذنين، وان قطع بعضها وجب فيه من الدية
بقدره كما قلنا في الاذن والمارن، وان جنى عليهما فيبستا وجبت عليه الدية، لأنه
أتلف منافعهما فوجبت عليه الدية، كما لو جنى على يديه فشلتا، فإن تقلصتا وجبت
عليه الحكومة لان منافعهما لم تبطل، وإنما حدث بهما نقص.
(الشرح) ما ذكره المصنف من اشتمال كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو
ابن حزم على أن (في العقل الدية) لم أجده في طريق من طرقه، وإنما الذي
ثبت أثر عمر رضي الله عنه أنه قضى في رجل ضرب رجلا فذهب سمعه وبصره
ونكاحه وعقله بأربع ديات. وما روى من ذلك مرفوعا كرواية البيهقي عن معاذ
(في العقل الدية) فسنده ضعيف. قال البيهقي وروينا عن عمر وزيد بن ثابت مثله
قال الشوكاني في نيل الأوطار: وقد زعم الرافعي أن ذلك في حديث عمرو
ابن حزم وهو غلط. اه‍
88

وقد أخرج البيهقي عن زيد بن أسلم بلفظ (مضت السنة في أشياء من الانسان
إلى أن قال: وفى الصوت إذا انقطع الدية) فإذا وجبت الدية في ذهاب الصوت
فلان يجب في ذهاب العقل أولى.
فإذا ثبت أنه حكم عمر وقول زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل ولا مخالف لهم في
الصحابة كان إجماعا، ولان التكليف يزول بزوال العقل كما يزول بخروج الروح،
فلما وجبت الدية بخروج الروح وجبت بزوال العقل، فإن ذهب بعض عقله
وعرف قدر الذاهب بأن صار يجن يوما ويفيق يوما وجبت فيه نصف الدية،
وإن لم يعرف قدر الذاهب بأن صار يفزع مما يفزع منه العقلاء وجبت
فيه الحكومة.
إذا ثبت هذا فإن كانت الجناية التي ذهب بها العقل مما لا أرش لها بأن لطمه
أو لكمه أو ضربه بحجر أو غيره ولم يجرحه، وجبت دية العقل، على ما مضى،
وإن كان لها أرش ففيه قولان. قال في القديم: يدخل الأقل منهما في الأكثر،
مثل ان أوضحه فذهب عقله، فإن أرش الموضحة يدخل في دية العقل، وان قطع
يديه من المرفقين دخلت دية العقل في دية اليدين والحكومة فيهما، وبه قال
أبو حنيفة، لان العقل معنى يزول التكليف بزواله فدخل في دينه أرش الطرف
كالروح. وقال في الجديد: لا يدخل أحدهما في الآخر وهو الأصح، لأنه جناية
أذهبت منفعة حالة في غير محل الجناية مع بقاء النفس فلم يتداخل الأرش، كما لو
أوضحه وذهب بصره. هكذا ذكره العمراني عن الشيخ أبى حامد.
وذكرا لشيخ أبو إسحاق هنا: إن كانت الجناية بها دية كاملة لم تدخل
إحدى الديتين في الأخرى قولا واحدا، لما تقدم من حكم عمر رضي الله عنه.
قوله (ويجب في الشفتين الدية) هذا ثابت فيما سقناه في أول الباب من كتاب
عمرو بن حزم وفيه (وفى الشفتين الدية) والى هذا ذهب جمهور أهل العلم قال
في البحر: وحدهما من تحت المنخرين إلى منتهى الشدقين في عرض الوجه، ولا
فضل لإحداهما على الأخرى عند أبي حنيفة والشافعي والناصر والهادوية.
وذهب زيد بن ثابت إلى أن العليا ديتها ثلث والسفلى ثلثان ويرد عليه قوله صلى الله عليه وسلم
(وفى الشفتين الدية) ولم يفرق، وقد أخذ الشوكاني من زيادة منفعة السفلى على
89

العليا القول بالتفرقة ولا دليل عليه. قال الشافعي رضي الله عنه: ما زال عن
جلد الذقن من الخدين من أعلا وأسفل من الشفتين) ولا فرق بين أن يكونا
غليظتين أو رقيقتين أو ناميتين أو صغيرتين، وبه قال أبو بكر وعلى وابن مسعود،
فإن قطع بعض الشفة وجب فيه من الدية بقدره، وان جنى عليهما فشلتا بأن
صارتا مسترخيتين لا ينقبضان أو تقلصتا بحيث لا يبسطان، ولا تنطبق إحداهما
على الأخرى وجبت الدية فيهما، كما لو جنى على يديه فشلتا
قال الشافعي، وان جنى على شفته حتى صارت بحيث إذا مدما امتدت، وان
تركها تقلصت ففيها حكومة لأنها إذا انبسطت وامتدت إذا مدت فلا شلل فيها،
بل فيها روح فلم تصر شلاء، وإنما فيها نقص فوجبت فيها الحكومة، وان شق
شفتيه فعليه الحكومة سواء التأم الشاق أو لم يلتئم، لان ذلك جرح، والجروح
تجب فيها الحكومة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب في اللسان الدية لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب
في كتاب عمر وبن حزم (وفى اللسان الدية) ولان فيه جمالا ظاهرا ومنافع،
فأما الجمال فإنه من أحسن ما يتجمل به الانسان، والدليل عليه ما روى محمد بن
علي بن الحسين ((أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للعباس أعجبني جمالك يا عم النبي
فقال يا رسول الله وما الجمال في الرجل؟ قال اللسان) ويقال المرء بأصغريه قلبه
ولسانه، ويقال ما الانسان لولا اللسان الا صورة مثله، أو بهيمة مهملة. وأما
المنافع فإنه يبلغ به الاغراض ويقضى به الحاجات، وبه تنم العبادات في القراءة
والأذكار، وبه يعرف ذوق الطعام والشراب، ويستعين به في مضغ الطعام،
وان جنى عليه فخرس وجبت عليه الدية لأنه أتلف عليه المنفعة المقصودة فأشبه
إذا جنى على اليد فشلت، أو على العين فعميت
وان ذهب بعض الكلام وجب من الدية بقدره، لان ما ضمن جميعه بالدية
ضمن بعضه ببعضها كالأصابع، ويقسم على حروف كلامه، لان حروف اللغات
مختلفه الاعداد، فإن في بعض اللغات ما عدد حروف كلامها أحد وعشرون حرفا
90

ومنها ما عدد حروفها ستة وعشرون، وحروف لغة العرب ثمانية وعشرون حرفا
فإن كان المجني عليه يتكلم بالعربية قسمت ديته على ثمانية وعشرين حرفا. وقال
أبو سعيد الإصطخري يقسم على حروف اللسان وهي ثمانية عشر حرفا ويسقط
حروف الحلق وهي ستة، الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين، ويسقط
حروف الشفة وهي أربعة الباء والميم والفاء والواو. والمذهب الأول، لأن هذه
الحروف وإن كان مخرجها الحلق والشفة إلا أن الذي ينطق بها هو اللسان، ولهذا
لا ينطق بها الأخرس.
وإن ذهب حرف من كلامه وعجز به عن كلمة وجب عليه أرش الحرف لأن الضمان
يجب لما تلف، وإن جنى على لسانه فصار ألثغ وجب عليه دية الحرف
الذي ذهب، لان ما ابتدل به لا يقوم مقام الذاهب، وان جنبي عليه فحصل في
لسانه ثقل لم يكن أو عجلة لم تكن أو تمتمة لم تجب عليه دية، لان المنفعة باقية،
وتجب عليه حكومة لما حصل من النقص والشين
(فصل) وإن قطع ربع لسانه فذهب ربع كلامه، وجب عليه ربع الدية،
وان قطع نصف لسانه وذهب نصف كلامه، وجب عليه نصف الدية، لان الذي
فات من العضو والكلام سواء في القدر، فوجب من الدية بقدر ذلك، فإن
قطع ربع اللسان فذهب نصف الكلام وجب عليه نصف الدية وان قطع
نصف اللسان وذهب ربع الكلام وجب عليه نصف الدية، واختلف أصحابنا
في علته، فمنهم من قال العلة فيه ان ما يتلف من اللسان مضمون، وما يذهب
من الكلام مضمون، وقد اجتمعا فوجب أكثرهما
وقال أبو إسحاق الاعتبار باللسان الا أنه إذا قطع ربع اللسان فذهب نصف
الكلام دل ذهاب نصف الكلام على شلل ربع آخر من السان فوجب عليه
نصف الدية، ربعها بالقطع وربعها بالشلل، فإن قطع ربع اللسان وذهب نصف
الكلام وقطع آخر ما بقي من اللسان وجب عليه على تعليل الأول ثلاثة أرباع
الدية، اعتبارا بما بقي من اللسان، ويجب عليه على تعليل أبي إسحاق نصف الدية
وحكومة لأنه قطع من اللسان نصفا صحيحا وربعا أشل، وان قطع واحد نصف
91

لسانه وذهب ربع الكلام، وجاء الثاني وقطع الباقي وجب عليه على تعليل الأول
ثلاثة أرباع الدية، اعتبارا بما ذهب من الكلام، ويجب عليه على تعليل أبي إسحاق
نصف الدية اعتبارا بما قطع من اللسان، وإن قطع نصف لسانه فذهب نصف
كلامه فاقتص منه فذهب نصف كلامه، فقد استوفى المجني عليه حقه، وإن ذهب
ربع كلامه أخذ المجني عليه مع القصاص ربع الدية لتمام حقه، فإن ذهب بالقصاص
ثلاثة أرباع كلامه لم يضمن الزيادة، لأنه ذهب بقود مستحق.
(الشرح) حديث العباس أخرجه الحاكم في المستدرك (1) حدثني محمد بن صالح
ابن هانئ حدثنا الحسين بن الفضل قال حدثنا موسى بن داود الضبي حدثنا الحاكم
ابن المنذر عن محمد بن بشر الخثعمي عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عن أبيه
قال (أقبل العباس بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه حلة
وله ضفيرتان وهو أبيض، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم تبسم، فقال العباس
يا رسول الله ما أضحكك؟ أضحك الله سنك، فقال أعجبني جمال عم النبي، فقال
العباس ما الجمال في الرجال؟ قال اللسان) وقال الذهبي في تعليقه على
المستدرك (مرسل).
وأما قوله (المرء بأصغريه قلبه ولسانه) فإن المعروف ان وفدا قدم لبيعة
أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز على رأسه صبي، فأمره عمر ان يتأخر ليتقدم من
هو أسن، فقال يا أمير المؤمنين المرء بأصغريه قلبه ولسانه، وما دام في المرء لسان
لافظ وقلب حافظ فقد استحق الكلام. ولو كان الامر بالسن لكان في مجلسك
هذا من هو أحق منك بالخلافة، فأعجب به عمر
أما الأحكام فإن في اللسان الدية، فإن قطع لسانه كله فالدية، وإن قطع
منه ما أبطل كلامه فالدية أيضا، وإن عجز عن نطق بعض الحروف فماذا يعتبر فيه
وجهان. قال علامة أصحابنا يعتبر بجميع حروف المعجم وهي ثمانية وعشرون حرفا
للعربي ولا اعتبار بلا لأنها مكررة وهي لام وألف، فإن تعذر عليه النطق بحرف
منها وجب عليه جز من ثمانية وعشرين جزءا من الدية، وعلى هذا قال أبو سعيد

(1) ج 3 ص 330 طبعة الهند
92

الإصطخري تعتبر بحروف السان وهي ثمانية عشر حرفا لا غير، ولا تعتبر
حروف الحلق وهي ستة، وهي من أول الحلق الألف والهاء ومن أوسطه العين
والحاء ومن آخره الغين والخاء، ولا تعتبر حروف الشفة وهي أربعة الباء والميم
والفاء والواو، لان الجناية على اللسان فاعتبرت حروفه دون غيره، والمنصوص
هو الأول، لأن هذه الحروف وإن كانت مخارجها في الحلق الشفة إلا أنه لا ينطق
بها إلا باللسان.
إذا ثبت هذا فإن لم يذهب من كلامه الا حرف واحد لكنه تعطل بذهابه
جميع الاسم الذي فيه ذلك الحرف، مثل أن تتعذر الميم لا غير فصار لا ينطق
بمحمد لم يجب عليه الا خاصة الميم من الدية، لان الجاني إنما يضمن ما أتلفه،
فأما ما لم يتلفه بفعله وكان سليما الا أن منفعته تعطلت لتعطل التالف فلا يضمنه
كما لو قصم ظهره فلم تشل رجلاه الا أنه لا يمكنه المشي بهما لقصر ظهره، فلا يلزمه
الا دية قصم الظهر. فكذلك هذا مثله
وان جنى عليه فذهب من كلامه حرف الا أنه استبدل به حرفا غيره بأن ذهب
منه الراء وصار ينطق بالراء ما في موضعه وجبت عليه دية الراء لان ما استبدل
به لا يقوم مقامه.
فإن جنى عليه آخر فأذهب هذا الحرف الذي استبدله بالراء، وجب عليه
دية هذا الحرف لا لأجل أنه أتلف عليه حرفا قام مقام الأول. ولكن لأجل
أن هذا الحرف إذا تلف في هذا الوضع تلف في موضعه الذي هو أصله،
وان لم يذهب بجنايته حرف وإنما كان لثغ فزادت لثغته بالجناية، أو كان خفيف
اللسان سهل الكلام فثقل كلامه أو حصلت بكلامه عجلة أو تمتمة، وجب على
الجاني حكومة لأنه أذهب كما لا من غير منفعة.
قوله (وان قطع ربع لسانه الخ) فجملة ذلك أنه إذا قطع بعض لسانه فذهب
بعض كلامه نظرت فإن استويا بأن قطع ربع لسانه وذهب ربع كلامه
وجب عليه ربع الدية. وان قطع نصف لسانه فذهب نصف كلامه وجب عليه
نصف الدية، لان الذي فات منهما سواء، فإن اختلف اعتبرت الدية بالأكثر
مثل أن يقطع ربع اللسان فيذهب نصف الكلام، فيجب عليه نصف الدية،
93

أو يقطع نصف اللسان فيذهب ربع الكلام فيجب عليه نصف الدية بلا خلاف
من أصحابنا في الحكم، وإنما اختلفا في علته. فمنهم من قال أن منفعة اللسان
وهو الكلام مضمونه بالدية، واللسان مضمون بالدية، فإذا اجتمعا اعتبر أكثر
الامرين منهما، كما وجنى على يده فشلت فيها جميع دية اليد، ولو قطع خنصره
وبنصره وجب فيهما خمسا دية اليد، وإن كان منفعتهما أقل من منفعة خمس اليد
ولكن اعتبارا بأكثر الامرين من منفعة اليد وعضوها
وقال أبو إسحاق المروزي: الاعتبار باللسان لأنها هي المباشرة بالجناية،
إلا أنه إذا قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه فإنما وجب عليه نصف الدية لأنه
دل ذهاب نصف كلامه على شلل ربع آخر غير المقطوع.
إذا ثبت هذا فقطع رجل لسان رجل فذهب نصف كلامه، فقد ذكرنا
أنه يجب عليه نصف الدية، فإن جاء آخر فقطع الثلاثة الأرباع الباقية من لسانه
فإنه يجب عليه على التعليل الأول ثلاثة أرباع الدية اعتبارا بما بقي من اللسان.
وعلى تعليل أبي إسحاق يجب عليه نصف الدية وحكومة، ولأنه قطع نصف
لسان صحيحا وربعا أشل.
وإن قطع رجل نصف لسان رجل فذهب كلامه وقلنا له أن يقتص منه
في نصف اللسان فاقتص منه فذهب نصف كلام الجاني فقد استوفى المجني عليه
حقه، فإن ذهب ربع كلام الجاني وجب للمجني عليه ربع الدية، وان ذهب
ثلاثة أرباع كلام الجاني لم يجب على المقتص شئ لان التالف بالقود غير
مضمون عندنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان لرجل لسان له طرفان فقطع رجل أحد الطرفين فذهب
كلامه وجبت عليه الدية، وإن ذهب نصفه وجب عليه نصف الدية، وإن
ذهب ربعه وجب عليه ربع الدية، وان لم يذهب من الكلام شئ نظرت، فإن
كانا متساويين في الخلقة، فهما كاللسان المشقوق، ويجب بقطعهما الدية وبقطع
أحدهما نصف الدية
94

وإن كان أحدهما تام الخلقة والآخر ناقص الخلقة فالتام هو اللسان الأصلي
والآخر خلقة زائدة، فإن قطعهما قاطع وجب عليه دية وحكومة. وان قطع التام
وجبت عليه دية، وان قطع الناقص وجبت عليه حكومة
(فصل) وان جنبي على لسانه فذهب ذوقه فلا يحس بشئ من المذاق، وهي
خمسة: الحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة والعذوبة وجبت عليه الدية، لأنه
أتلف عليه حاسة لمنفعة مقصودة فوجبت عليه الدية، كما لو أتلف عليه السمع
أو البصر، وإن نقص بعض الذوق نظرت فإن كان النقصان لا يتقدر، بأن
ك ان يحس بالمذاق الخمس إلا أنه لا يدركها على كمالها وجبت عليه الحكومة لأنه
نقص لا يمكن تقدير الأرش فيه، فوجبت فيه حكومة، وإن كان نقصا يتقدر
بأن لا يدرك أحد المذاق الخمس ويدرك الباقي، وجب عليه خمس الدية، وان لم
يدرك اثنين وجب عليه خمسمان، لأنه يتقدر المتلف فيقدر الأرش
(فصل) وإن قطع لسان أخرس فإن كان بقي بعد القطع ذوقه وجبت
عليه الحكومة. لأنه عضو بطلت منفعته فضمن بالحكومة كالعين القائمة واليد
الشلاء، وان ذهب ذوقه بالقطع وجبت عليه دية كاملة لاتلاف حاسة الذوق،
وان قطع لسان طفل فإن كان قد تحرك بالبكاء أو بما يعبر عنه اللسان كقوله
بابا وماما وجبت عليه الدية، لأنه لسان ناطق. وان لم يكن تحرك بالبكاء
ولا بما يعبر عنه اللسان فإن كان بلغ حدا يتحرك اللسان فيه بالبكاء والكلام
وجبت الحكومة. لأن الظاهر أنه لم يكن ناطقا، لأنه أو كان ناطقا لتحرك بما
يدل عليه. وان قطعه قبل أن يمضى عليه زمان يتحرك فيه اللسان وجبت عليه
الدية لأن الظاهر السلامة فضمن كما تضمن أطرافه. وان لم يظهر فيها بطش.
(فصل) وان قطع لسان رجل فقضى عليه بالدية ثم نبت لسانه. فقد قال
فيمن قلع سن من ثغر ثم نبت سنه أنه على قولين
(أحدهما) يرد الدية (والثاني) لا يرد. فمن أصحابنا من جعل اللسان أيضا
على قولين. وهو قول أبي إسحاق لأنه إذا كان في السن التي لا تنبت في العادة إذا
نبتت قولان. وجب أن يكون في اللسان أيضا قولان
ومنهم من قال لا يرد الدية في اللسان قولا واحدا. وهو قول أبى علي بن
95

أبي هريرة، والفرق بينه وبين السن أن في جنس السن ما يعود، وليس في جنس
اللسان ما يعود، فوجب أن يكون ما عاد هبة مجددة فلم يسقط به بدل ما أتلف
عليه. وإن جنى على لسانه فذهب كلامه وقضى عليه بالدية ثم عاد الكلام وجب
رد الدية قولا واحدا، لان الكلام إذا ذهب لم يعد، فلما عاد علمنا أنه لم يذهب
وإنما امتنع لعارض
(الشرح) تتلخص أحكام هذين الفصلين في أنه إن كان لرجل لسان له طرفان
فقطع قاطع أحدهما نظرت فإن أذهب كلامه وجبت عليه الدية، وإن
ذهب بعض كلامه فإن كان الطرفان متساويين فإن كان ما قطعه بقدر
ما نقص من الكلام وجب فيه من الدية بقدره، وإن كان أحدهما أكبر اعتبر
الأكبر على ما مضى في التي قبلها، وإن لم يذهب من الكلام شئ وجب بقدر
ما قطع من اللسان من الدية، وإن قطعهما قاطع وجب عليه الدية، وإن كان
أحدهما منحرفا عن سمت فهي خلقة زائدة يجب فيها الحكومة وفى الآخر الدية
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: وفى لسان الأخرى حكومة، وقال
النخعي تجب فيه الدية. دليلنا أن لسان الأخرس قد ذهبت منفعته فلم يجب فيه
الدية كاليد الشلاء.
وإن قطع لسان طفل فإن كان قد تكلم ولو بكلمة واحدة، أو قال بابا
أو ماما، أو تكلم في بكائه بالحروف وجبت عليه الدية لأنا قد علمنا أنه لسان
ناطق، وإن كان في حد لا يتكلم مثله بحرف، مثل أن يكون ابن شهر وما أشبه
ولم يتكلم فقطع قاطع لسانه وجبت فيه الدية.
وقال أبو حنيفة: لا دية فيه لأنه لسان لا كلام فيه فهو كلسان الأخرس.
دليلنا أن ظاهره السلامة وإنما لم يتكلم لطفوليته فوجبت فيه الدية كما تجب الدية
بأعضائه، وان لم يظهر بها بطش، وإن بلغ حدا يتكلم فيه مثله فلم يتكلم فقطع
قاطع لسانه لم يجب عليه الدية، وإنما يجب فيه الحكومة، لأن الظاهر من حاله
أنه أخرس.
(فرع) وإن جنى عليه فذهب ذوقه قال الشيخ أبو حامد فلا نص فيه
96

للشافعي رحمه الله ولكن يجب فيه الدية، لأنه الحواس التي تختص بمنفعة، فهو
كحاسة السمع والبصر، وقال القاضي أبو الطيب: قد نص الشافعي رحمه الله على
على إيجاب الدية فيه.
قال ابن الصباغ: قلت أنا قد نص الشافعي على أن لسان الأخرس فيه حكومة
وإن كان الذوق يذهب بذهابه. واختار الشيخ أبو إسحاق هنا في هذا الفصل
وجوب الدية في الذوق، وقال إنما تجب في لسان الأخرس الحكومة إذا بقي ذوقه
بعد قطع لسانه، فأما إذا لم يبق ذوقه ففيه الدية.
إذا ثبت هذا فقال المصنف: إذا لم يحس بالحلاوة والمرارة والحموضة والملوحة
والعذوبة وجب على الجاني عليه الدية، فإن لم يحس بواحد منها أو باثنتين وجب
فيه من الدية بقدره، وإن كان يحس بها الا أنه لا يحس بها على الكمال وجب في
ذلك الحكومة دون الدية
(فرع) إذا جنى عليه فذهب كلامه فأخذت منه الدية ثم نبت له لسان مكانه
فاختلفت أصحابنا فيه فمنهم من قال: هل يجب رد الدية؟ فيه قولان كما قلنا
في السن، ومنهم من قال لا يجب رد الدية قولا واحدا، لان عود السن معهود
وعود اللسان غير معهود فعلم أنه هبة محددة.
قال في الام: وإن قطع لهاة رجل قطعت لهاته، فإن أمكن والا وجبت
حكومة، واللهاة لحم في أصل السان
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب في كل سن خمس من الإبل لما روى عمرو بن حزم (أن
(رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن: وفى السن خمس من الإبل)
والأنياب والأضراس والثنايا والرباعيات في ذلك سواء للخبر، ولأنه جنس
ذو عدد فلم تختلف ديتها باختلاف منافعها كالأصابع، وان قلع ما ظهر وخرج
من لحم اللثة وبقى السنخ لزمه دية السن، لان المنفعة والجمال فيما ظهر فكملت
ديته، كما لو قطع الأصابع دون الكف، فإن عاد هو أو غيره وقلع السنخ المغيب
وجبت عليه حكومة، لأنه تابع لما ظهر فوجبت فيه الحكومة، كما لو قطع الكف
97

بعد ما قطع الأصابع وإن قلع السن من أصلها مع السنخ لم يلزمه لما تحتها من
السنخ حكومة، لان السنخ تابع لما ظهر فدخل في ديته كالكف إذا قطع مع
الأصابع، وإن كسر بعض السن طولا أو عرضا وجب عليه من دية السن بقدر
ما كسر منها من النصف أو الثلث أو الربع، لان ما وجب في جميعه الدية وجب
في بعضه من الدية بقدره كالأصابع، ويعتبر القدر من الظاهر دون السنخ المغيب
لان الدية تكمل بقطع الظاهر، فاعتبر المكسور منه، فإن ظهر السنخ المغيب
بعلة اعتبر القدر المكسور بما كان ظاهرا قبل العلة، لا بما ظهر بالعلة، لان الدية
تجب فيما كان ظاهرا فاعتبر القدر المكسور منه
(الشرح) مضى تخريج كتاب عمرو بن حزم في أول الباب بلفظه كاملا
وفيه (وفى السن خمس من الإبل) وقد ذهب إلى هذا الجمهور، وظاهر الحديث
عدم الفرق بين الثنايا والأنياب والضروس، لأنه يصدق على كل منها أنه سن،
ويروى عن علي أنه يجب في الضرس عشر من الإبل وروى عن عمر وابن عباس
أنه يجب في كل ثنية خمسون دينارا وفى الناجذ أربعون وفى الناب ثلاثون، وفى
كل ضرس خمس وعشرون
وقال عطاء: في السن والرباعيتين خمس خمس، وفى الباقي بعيران بعيران،
وهي الرواية الثانية عن عمر. دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (في السن خمس من
الإبل) ولم يفرق، ولأنه جنس ذو عدد فلم تختلف ديتها كدية الأصابع، والسن
الذي يجب فيه خمس من الإبل هو ما ظهر من اللثة، وهو اللحم الذي ينبت فيه
السن، لان المنفعة والجمال في ذلك، كما تجب دية اليد في الأصابع وحدها، فإن
قطع ما ظهر من السن ثم قلع هو أو غيره سنخ السن والسنخ من كل شئ
أصله والجمع أسناخ كحمل واحمال وجب على قالع السنخ الحكومة، كما لو
قطع رجل أصابع رجل ثم قطع هو أو غيره الكف. وإن قلع السن وسنخها
وجبت عليه دية السن لا غير، لان السنخ يتبع السن في الدية إذا قلع معها،
كما لو قطع الأصابع مع الكف. وإن ظهر السنخ المعيب بعلة اعتبر المكسور من
الموضع الذي كان ظاهرا قبل العلة لا بما ظهر بالعلة، فإن اتفقا أنه كسر القدر
98

الذي كان ظاهرا قبل العلة فعليه خمس من الإبل، وإن قال الجاني كسرت بعض
الظاهر فعلى أقل من خمس من الإبل، وقال المجني عليه: بل كسرت كل الظاهر
فالقول قول الجاني مع يمينه، لان الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقربه.
(مسألة) في كل ما قررنا وافقنا أحمد وأصحابه، إلا أنه حكى ابن قدامة رواية
عن أحمد أن في جميع الأسنان الدية، فتعين حمل هذه الرواية على مثل قول سعيد
ابن المسيب للاجماع، على أن في كل سن خمسا من الإبل وورد الحديث به فيكون
في الأسنان ستون بعيرا، لان فيه اثنى عشر سنا، أربع ثنايا وأربع رباعيات
وأربعة أنياب فيها خمس خمس، وفيه عشرون ضرسا في كل جانب عشرة، خمسة
في الفك الاعلى ومثلها في الأسفل، فيكون فيها على رأس أحمد أربعون بعيرا في
كل ضرس بعيران فتكمل الدية.
وحجة من قال هذا أنه ذو عدد تجب فيه الدية فلم تزد على دية الانسان
كالأصابع والأجفان وسائر ما في البدن، ولأنها تشتمل على منفعة جنس فلم تزد
ديتها على الدية كسائر منافع الجنس، وأوبرا هذا بأن الأضراس تختص
بالمنافع دون الجمال، والأسنان بالمنافع والجمال، فاختلفا في الأرش، ولكن يرد
على هذا ما ترجح من المذهب عندنا وعند أصحاب أحمد ومالك وأبي حنيفة ومحمد
ابن الحسن، وهو قول عروة وطاوس وقتادة والزهري، لما أخرج أبو داود
باسناده عن عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الأصابع سواء
والأسنان سواء، الثنية والضرس سواء، هذه وهذه سواء) وهذا نص
في مناط النزاع.
ويجاب عن قولهم بالنافع بأن كل دية وجبت في جملة كانت مقسومة على العدد
دون المنافع كالأصابع والأجفان والشفتين، وقد أومأ ابن عباس إلى هذا فقال
لا أعتبرها بالأصابع.
فأما ما ذكروه من المعنى فلا بد من مخالفة القياس فيه، فمن ذهب إلى قولنا
خالف المعنى ذكروه، ومن ذهب إلى قولهم خالت التسوية الثابتة بقياس
سائر الأعضاء من جنس واحد، فكان ما قررنا من الاذعان للأخبار الصحيحة
وموافقة أكثر أهل العلم.
99

(فرع) وإن كسر بعض سنه من نصف أو ثلث وجب عليه من ديتها بقدر
ما كسر منها، لان ما وجب في جميعه الدية وجب في بعضه بقسطه من الدية
كالأصابع، فإن قلع قالع ما بقي من السن مع السنخ فقد قال الشافعي رضي الله عنه
في الام بقي على الثاني بقدر ما بقي من السن من ديتها، ووجب في السنخ الحكومة
لان السنخ إنما يبتع جميع السن، فأما بعض السن فلا يتبغها، وحكى ابن الصباغ
أن الشيخ أبا حامد الأسفرايني قال وهذا فيه تفصيل، فإن كسر الأول نصف
السن في الطول وبقى النصف فقلع الثاني الباقي منهما مع السنخ وجب نصف دية
السن ويتبعه ما تحته من السنخ في نصف ديته وجبت في نصف السنخ الباقي
الحكومة، كما لو قطع إصبعين وجميع الكف فإنه يجب عليه دية إصبعين ويتبعهما
ما تحتهما من الكف وحكومة في الباقي
وإن كسر الأول نصف السن في العرض وقلع الاخر الباقي مع السنخ تبعه
ما تحته من السنخ كما لو قطع قاطع من كل أصبع من الكف أنملة فجاء آخر فقطع
ما بقي من أنامل الأصابع مع الكف فإنه يجب عليه أرش ما بقي من الأنامل
ويتبعها الكف، كذلك هذا مثله.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قلع سنا فيها شق أو أكلة فإن لم يذهب شئ من أجزائها
وجبت فيها دية السن كاليد المريضة، وان ذهب من أجزائها شئ سقط من ديتها
بقدر الذاهب ووجب الباقي، فإن كانت إحدى ثنيتيه العلياوين أو السفلاوين
أقصر من الأخرى فقلع القصيرة نقص من ديتها بقدر ما نقص منها، لأنهما
لا يختلفان في العادة، فإذا اختلفا كانت القصيرة ناقصة فلم تكمل ديتها، وإن قلع
سنا مضطربة نظرت فإن كانت منافعها باقية مع حركتا من المضغ وحفظ الطعام
والريق وجبت فيها الدية لبقاء المنفعة والجمال، وان ذهبت منافعها وجبت فيها
الحكومة، لأنه لم يبق غير الجمال، لم يجب غير الحكومة كاليد الشلاء، وان
نقصت منافعها فذهب بعضها وبقى البعض ففيه قولان
(أحدهما) يجب فيها الدية لان الجمال تام والمنفعة باقية، وإن كانت ضعيفة
100

فكملت ديتها كما لو كانت ضعيفة من أصل الخلقة (والثاني) يجب فيها الحكومة،
لان المنفعة قد نقصت ويجهل قدر الناقص، فوجب فيها الحكومة، وإن ضرب
سنه فاصفرت أو احمرت وجبت فيها الحكومة، لان منافعها باقية، وإنما نقص
بعض جمالها فوجب فيها الحكومة، فإن ضربها فاسودت فقد قال في موضع تجب
فيها الحكومة، وقال في موضع تجب الدية، وليست على قولين، وإنما هي على
اختلاف حالين، فالذي قال تجب فيها الدية إذا ذهبت المنفعة، والذي قال تجب
فيها الحكومة إذا لم تذهب المنفعة. وذكر المزني أنها على قولين، واختار أنه يجب
فيها الحكومة، والصحيح هو الطريق الأول
(فصل) وإذا قلع أسنان رجل كلها نظرت فإن قلع واحدة بعد واحدة
وجب لكل سن خمس من الإبل فيجب في أسنانه، وهي اثنان وثلاثون سنا مائة
وستون بعيرا، وإن قلعها في دفعة واحدة ففيه وجهان
(أحدهما) أنه لا يجب عليه أكثر من دية لأنه جنس ذو عدد فلم يضمن
بأكثر من دية كأصابع اليدين
(والثاني) أنه يجب في كل سن خمس من الإبل، وهو المذهب لحديث
عمرو بن حزم، ولان ما ضمن ديته بالجناية إذا انفرد لم تنقص ديته بانضمام غيره
إليه كالموضحة.
(فصل) إذا قلع سن صغير لم يثغر لم يلزمه شئ في الحال لان العادة في
سنه أن يعود وينبت فلم يلزمه شئ في الحال كما لو نتب شعره، فإن نبت له مثلها
في مكانها لم يلزمه ديتها، وهل تلزمه حكومة فيه وجهان
(أحدهما) لا تلزمه كما لو نتف شعره فنبت مثله
(والثاني) تلزمه حكومة الجرح الذي حصل بالقلع وإن لم تنبت له ووقع
الإياس من نباتها وجبت ديتها لأنا تحققنا إتلاف السن، وإن مات قبل الإياس
من نباتها ففيه قولان، أحدهما: يجب عليه دية السن لأنه قلع سنا لم تعد.
والثاني لا يجب لأن الظاهر أنها تعود وإنما مات بموته. وان نبتت له سن خارجة
عن صف الأسنان، فإن كانت بحيث ينتفع بها وجبت ديتها، وإنك أنت بحيث
لا ينتفع بها وجبت الحكومة للشين الحاصل بخروجها عن سمت الأسنان، فإن
101

نبتت أقصر من نظيرتها وجب عليه من ديتها بقدر ما نقص لأنه نقص بجنايته
فصار كما لو كسر بعض سن.
وإن نبت أطول منها فقد قال بعض أصحابنا لا يلزمه شئ وان حصل بها شين
لان الزيادة لا تكون من الجناية. قال الشيخ الامام: ويحتمل عندي أن تلزمه
الحكومة للشين الحاصل بطولها، كما تلزمه في الشين الحاصل بقصرها، لأن الظاهر
أن الجميع حصل بسبب قلع السن.
وإن نبتت له سن صفراء أو سن خضراء وجبت عليه الحكومة لنقصان الكمال
فإن قلع سن من أثغر وجبت ديتها في الحال، لأن الظاهر أنه لا ينبت له مثلها،
فان أخذ الدية ثم نبت له مثلها في مكانها ففيه قولان
(أحدهما) يجب رد الدية لأنه عاد له مثلها فلم يستحق بدلها كالذي لم يثغر
(والثاني) أنه لا يجب رد الدية لان العادة جرت في سن من ثغر أنه لا يعود
فإذا عادت كان ذلك هبة مجددة فلا يسقط به ضمان ما أتلف عليه
(فصل) ويجب في اللحيين الدية لان فيهما جمالا وكمالا ومنفعة كاملة،
فوجبت فيهما الدية كالشفتين، وإن قلع أحدهما وتماسك الآخر وجب عليه نصف
الدية، لأنهما عضوان تجب الدية فيهما فوجب نصف الدية في أحدهما كالشفتين
واليدين. وإن قلع اللحيين مع الأسنان وجب عليه دية اللحيين ودية الأسنان
ولا تدخل دية أحدهما في الاخر لأنهما جنسان مختلفان فيجب في كل واحد
منهما دية مقدرة فلم تدخل دية إحداهما في دية الأخرى كالشفتين مع الأسنان،
وتخالف الكف مع الأصابع فإن الكف تابع للأصابع في المنفعة، واللحيان
أصلان في الجمال والمنفعة، فهما كالشفتين مع الأسنان
(الشرح) إذا قلع سنا مضطربة لكبر أو مرض وكانت منافعها باقية من المضغ
وطحن الطعام واستدرار اللعاب وجبت ديتها على أحد الوجهين، وهو قول أحمد
وأصحابه، لان جمالها باق ومنفعتها باقية، إنما نقصت، ونقعان المنفعة لا يوجب
سقوط الدية كاليد العليلة.
(الثاني) لا يجب فيها الدية، وإنما تجب فيها الحكومة، لان معظم منفعتها
102

تذهب بالاضطراب، فصار كاليد الشلاء فإن جنبي على سنه جان فاضطربت
وطالت عن الأسنان، وقيل إنها تعود إلى مدة على ما كانت عليه انتظرنا إليها،
فإن ذهبت وسقطت وجبت ديتها، وإن عادت كما كانت فلا شئ فيها، كما لو جنى
على يده فمرضت ثم برأت، وان بقي فيها اضطراب ففيها حكومة لجنايته، وإن
مضت المدة ولم تعد إلى ما كانت عليه ففيها حكومة، وإن قلعها قالع قبل استقرارها
فهل تجب عليه الدية والحكومة؟ فيه قولان، كما لو قلعها وهي مضطربة
بمرض أو كبر.
قال الشيخ أبو حامد: إلا أنا إذا أوجبنا الحكومة ههنا فإنها تكون أقل من
الحكومة في التي قبلها، لان المجني عليه لم ينتفع بالاضطراب الحادث من المرض
وهاهنا المجني عليه قد انتفع بالاضطراب الحادث من الجناية الأولة، وإن قلع
رجل سنا فيها شق أو أكلة فإن لم يذهب من أجزائها شئ وجب فيها سن
كاليد المريضة، وان ذهب منها شئ سقط من ديتها بقدر الذاهب ووجب الباقي
(فرع) إذا قلع قالع سنة بسنخها وأبانها ثم ردها المجني عليه إلى مكانها فنبتت
وعادت كما كانت وجبت على الجاني الدية. ونص أحمد في رواية جعفر بن محمد أنه
لا تجب فيها الدية. دليلنا أن الدية وجبت عليه بإبانته السن على الفور، ورده
لها لا حكم له لأنه يجب ازالتها، فإن قلعها قالع فلا شئ عليه لأنه يجب قلعها وان
لم يرد المقلوعة وإنما رد مكانها عظما طاهرا أو قطعة ذهب أو فضة فنبت عليها
اللحم ثم قلعها انسان ففيه قولان حكاهما الشيخ أبو حامد الأسفرايني
(أحدهما) لا يجب عليه شئ لأنه أزال مال ليس من بدنه فلم يجب عليه دية
كما لو أعاد سنه المقلوعة ثم قلعها قالع
(والثاني) يجب عليه حكومة لأنه أبيح له أن يتخذ سنا من عظم طاهر أو
ذهب أو فضة، وقد حصل له في ذلك جمال ومنفعة، وقد أزالها فلزمه
الحكومة لذلك.
(فرع) قوله (وإذا قلع أسنان رجل كلها الخ) وقد مضى في شرح ما قال
المصنف قبل هذا تفصيل مفيد، والذي لم نقله هو أنه إذا كان بعض أضراسه
قصارا أو ثنايا طوالا وجب في كل سن ديتها، لان العادة أن الأضراس أقصر
103

من الثنايا، وإن كان بعض الأضراس طوالا وبعضها قصارا، أو كان بعض
الثنايا طوالا وبعضها قصارا قال الشافعي رضي الله عنه: فإن كان النقصان قريبا
ففي كل سن ديتها، لان هذا من خلقة الأصل، وإن كان النقصان كثيرا ففيها
بقسطها من الدية، فإنك أنت القصيرة نصف الطويلة وجب فيها نصف دية السن
وإن كانت ثلثها ففيها ثلث ديتها، لان هذا القدر من النقص لا يكون إلا من
سبب مرض أو غيره. اه‍
(فرع) إذا جنبي على سنه فسودها ففيه قولان، وحكى عن أحمد روايتان
(أحدهما) تجب ديتها كاملة وهو ظاهر كلام الخرقي، ويروى هذا عن زيد بن
ثابت، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين وشريح والزهري وعبد الملك
ابن مروان والنخعي ومالك والليث وعبد العزيز بن أبي سلمة والثوري وأصحاب
الرأي (الثانية) وهو المختار عندنا أنه إن أذهب منفعتها من المضغ عليها
ونحوه ففيه دية، وان لم يذهب نفعها ففيه حكومة.
قال في البيان: وان ضرب رجل سن رجل فاحمرت أو اصفرت ولم يذهب
شئ من منفعتها وجبت فيها الحكومة، لأنه أذهب جمالا من غير منفعة، وان
اسودت فقد قال الشافعي في موضع فيها الحكومة، وقال في موضع فيها الدية،
فقال المزني فيها قولان، وقال سائر أصحابنا ليست على قولين وإنما هي على حالين
فحيث قال تجب فيها الدية إذا ذهبت منفعتها، وحيث قال تجب فيها الحكومة
أراد إذا لم تذهب منفعتها، وكل موضع قلنا تجب فيه الحكومة إذا اسودت فإنه
يجب فيها أكثر من الحكومة إذا احمرت أو اصفرت، لان الشين أي العيب
والقبح في السواد أكثر
وفى حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا (وفى السن السوداء إذا
نزعت ثلث ديتها. قال الشوكاني (لذهاب الجمال والمنفعة) ولقول علي عليه
السلام (إذا اسودت فقد تم عقلها) أي ديتها، فإن لم يضعف فحكومة له
(فرع) إذا نبتت أسنان الصبي سوداء فسقطت ثم نبتت سوداء، فإن كانت
كاملة المنفعة غير مضطربة فقلع قالع بعضها ففي كل سن ديتها، لان هذا السواد
من أصل الخلقة فهو كما أو كانت العين عمشاء من أصل الخلقة فأما إذا نبتت أسنانه
104

بيضا فسقطت، ثم نبتت سوداء، ثم قلع قالع بعضها قال الشافعي رضي الله عنها
سألت أهل الخبرة فإن قالوا لا يكون هذا من مرض ففيها الحكومة لأنها ناقصة
الجمال والمنفعة. وان قالوا قد يكون من مريض وغيره وجبت في كل سن ديتها،
لان الأصل سلامتها من المرض.
(مسألة) قوله (ويجب في اللحيين الخ) فجملة ذلك أن اللحيين وهما العظمان
اللذان تنبت عليهما الأسنان ويقال لهما الفكان تجب فيهما الدية، لان فيهما منفعة
وجمالا وفى أحدهما نصف الدية، لا ما وجبت الدية في اثنتين منه وجبت في
أحدهما نصفها كالعينين، وان قلع اللحيين وعليهما الأسنان فحكى المسعودي
فيه وجهين:
(أحدهما) لا يجب عليه الا دية واحدة، كما لون قطع الأصابع مع الكف
(والثاني) وهو أقول أصحابنا العراقيين أنه يجب في اللحيين الدية، في كل سن خمس
من الإبل، لان كل أحد منهما تجب فيه دية مقدرة فلم يدخل أحدهما في الآخر
كدية الأسنان والشفتين، ولان اللحيين كانا موجودين قبل الأسنان فلم يتبعا
ما حدث عليهما من الأسنان، والكف والأصابع، جدا معا فتبع الكف الأصابع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب في اليدين الدية لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (في الدين الدية) ويجب في إحداهما نصف الدية لما روى أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كتب لعمرو بن حزم حين أمره على نجران في اليد خمسون من
الإبل، واليد التي تجب فيها الدية هي الكف، فإن قطع الكف وجبت الدية، وان
قطع من نصف الذراع أو من المرفق أو من العضد أو من المنكب وجبت الدية
في الكف، ووجب فيما زاد الحكومة.
وقال أبو عبيد بن حرب، الذي تجب فيه الدية هو اليد من المنكب، لان
اليد اسم للجميع، والمذهب الأول، لان اسم اليد يطلق على الكف، والدليل
عليه قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) والمراد به الكف، ولان
المنفعة المقصودة من اليد هو البطش، والاخذ والدفع وهو بالكف، وما زاد
105

تابع للكف، فوجبت الدية في الكف، والحكومة فيما زاد.
ويجب في كل أصبع عشر الدية لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم
عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه كتب إلى أهل اليمن في كل أصبع
من الأصابع من اليد والرجل عشر من الإبل)، ولا يفضل أصبع على أصبع لما
ذكرناه من الخبر، ولما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مسندا (الأصابع
كلها ساء عشر عشر من الإبل) ولأنه جنس ذو عدد تجب فيه الدية فلم تختلف ديتها
باختلاف منافعها كاليدين، ويجب في كل أنملة ن غير الابهام ثلث دية الإصبع
وفى كل أنملة من الابهام نصف دية الإصبع، لأنه لما قسمت دية اليد على عدد
الأصابع وجب أن يقسم دية الإصبع على عدد الأنامل
(فصل) وإن جنبي على يد فشلت، أو على أصبع فشلت، أو على أنملة
فشلت، وجب عليه ما يجب في قطعها، لان المقصود بها هو المنفعة فوجب في
إتلاف منفعتها في إتلافها، وان قطع يدا شلاء أو أصبعا شلاء أو أنملة
شلاء وجب عليه الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير منفعة.
(الشرح) خبر معاذ أخرجه البيهقي، وخبر عمرو بن حزم هو كتاب النبي
صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن، قال ابن كثير في الارشاد وهذا الكتاب متداول
بين أئمة الاسلام قديما وحديثا يعتمدون عليه، ويفزعون في مهمات
هذا الباب إليه.
أما حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده فإن هذه زيادة في حديث رواه
أحمد وأصحاب السنن الأربعة، وصححه ابن خزيمة وابن الجارود ولفظه عندهم
(في المواضح خمس خمس من الإبل وزاد أحمد والأصابع سواء كلهن
عشر عشر من الإبل))
أما قوله (وتجب في اليدين الدية) فجملة ذلك أن أهل العلم قد أجمعوا على
وجوب الدية في الدين ووجوب نصفها في إحداهما لما سقناه من حديث معاذ
وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل اليمن، ولان فيهما جمالا ظاهرا ومنفعة
كاملة، وليس في البدن من جنسهما غيرهما فكان فيهما الدية كالعينين.
106

واليد التي تجب فيها الدية من الكوع لان اسم اليد عند الاطلاق ينصرف إليها
بدليل قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) كان الواجب قطعهما من
الكوع، وكذلك التيمم يجب فيه مسح اليدين إلى الكوعين، فإن قطعها من بعض
الساعد أو من المرفق أو من المنكب وجبت الدية في الكف وفيما زاد عليه الحكومة
وقال أبو يوسف ما زاد على الأصابع إلى المنكب يتبع الأصابع كما تتبعها الكف
نص عليه أحمد في رواية أبى طالب، وهو قول عطاء وقتادة والنخعي وابن أبي
ليلى ومالك وغيرهم أنه أو قطع اليد من الكوع ثم قطعها من المرفق وجب في
المقطوع ثانيا حكومة، لأنه وجبت عليه دية اليد بالقطع الأول فوجبت بالثاني
حكومة كما لو قطع الأصابع ثم قطع الكف أو قطع حشفة الذكر ثم قطع بقيته
أو كما لو فعل ذلك اثنان.
وقال أبو عبيد بن حرب من أصحابنا (اليد التي يجب بقطعها الدية هي اليد من
المنكب) دليلنا الآية، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قطع اليد من مفصل الكوع
فكان فعله بيانا للآية، لان المنفعة المقصودة باليد الاخذ والدفع يحصل بالكف
فوجبت الدية فيه، وإن جنى على كفه فشلت وجبت عليه ديتها لأنه قد أذهب
منفعتها فهو كما لو قطعها، وكما لو أعمى عينيه مع بقائها أو أخرس لسانه.
قال الشوكاني (والحد الموجب للدية من الكوع) كما حكاه صاحب البحر عن
العترة وأبي حنيفة والشافعي، فإن قطعت اليد من المنكب أو الرجل من الركبة
ففي كل واحدة منهما نصف دية وحكومة عند أبي حنيفة ومحمد والقاسمية
والمؤيد بالله. اه‍
(فرع) ويجب في كل أصبع عشر من الإبل ولا تفضل أصبع على أصبع،
وبه قال على وابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، وعن عمر
روايتان، إحداهما مثل قولنا، والثانية يجب في الخنصر ست من الإبل، وفى
البنصر تسع، وفى الوسطى عشرة وفى السبابة اثنا عشر وفى الابهام ثلاثة عشر
فقسم دية اليد على الأصابع. دليلنا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
(أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في كل أصبع مما هناك من اليد والرجل عشر
107

من الإبل وقيل إن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما وجد هذا في الكتاب عند
آل حزم رجع عن التفصيل.
وروى أن ابن عباس كان يقول في كل أصبع عشر من الإبل، فوجه إليه
مروان وقال له أما سمعت قول عمر رضي الله عنه؟ فقال ابن عباس قول رسول
الله صلى الله عليه وسلم أولى من قول عمر، وأن الدية إذا وجبت بعدد قسمت
عليه على عدده لا على منافعه كاليدين والرجلين، ويجب في كل أنملة من الأصابع
ثلث دية الإصبع، إلا الابهام فإنه يجب في كل أنملة منها نصف دية الإصبع،
وهو قول زيد بن ثابت.
وحكى عن مالك أنه قال (للابهام أيضا ثلاث أنامل إحداهن باطنة) دليلنا
أن كل أصبع لها أنملة باطنة ولا اعتبار بها، وإنما الاعتبار بالأنامل الظاهرة،
ووجدنا لكل أصبع غير الابهام ثلاث أنامل وللابهام أنملتين فقسمت الدية عليهما
وإن جنى على أصبع فشلت أو على أنملة فشلت وجب عليه ديتها، لأنه أذهب
منفعتها فهو كما لو قطعها.
(فرع) إذا كان له كفان على كوع أو يدان على مرفق أو منكب، فإن لم
يبطش بواحدة منهما فهما كاليد الشلاء فلا يجب فيهما قود ولا دية، وإنما يجب
فيهما الحكومة، وإن كان يبطش بإحداهما دون الأخرى فالباطشة هي الأصلية
والأخرى زائدة، سواء كانت الباطشة على مستوى الذراع أو منحرفة عن سمت
الذراع، لان الله تعالى جعل البطش في اليد كما جعل البول في الذكر، فاستدل
بالبطش على الأصلية كما يستدل على الخنثى بالبول، وإن كان يبطش بهما إلا أن
إحداهما أكثر من الأخرى، فالتي هي أكثر بطشا هي الأصلية والأخرى خلقة
زائدة، وعلى قول ابن حامد من أصحاب أحمد لا شئ فيها، لأنها عيب، فهي
كالسلعة في اليد.
أما إذا كانت إحداهما على مستوى الخلقة والأخرى زائدة عن الاستواء
فالمستوية هي الأصلية، والزائلة هي الزائدة، وإن كانتا على مستوى الخلقة،
فإن كانت إحداهما لها خمس أصابع وللأخرى أربع أصابع فالأصلية هي كامله
الأصابع والأخرى زائدة، فإن استويا في ذلك كله الا أن في إحداهما أصبعا
108

زائدة لم يحكم بكونها بذلك، لان الإصبع الزائدة قد تكون في اليد الأصلية
وفى الزائدة حكمنا أن إحداهما أصلية والأخرى زائدة أو جبنا في الأصلية القود
والدية الكاملة وفى الآخر الحكومة، وإن تساويا ولم يعلم الزائدة منهما من
الأصلية. قال الشافعي رحمه الله: فهما أكثر من يد وأقل من يدين، فإن قطعهما
قاطع قطعت يده، ووجب عليه مع القصاص حكومة للزيادة، وإن عفا عن
القصاص أو كانت الجناية خطأ وجب على الجاني دية وزيادة حكومة، وإن
قطع قاطع إحداهما لم يجب عليه القصاص لأنه ليس له مثلها، ولكن يجب عليه
نصف دية يد وحكومة، وإن قطع أصبعا من إحداهما وجب عليه نصف دية
أصبع وحكومة، وان قطع أنملة منهما وجب عليه نصف دية أنملة وحكومة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب في الرجلين الدية لما روى معاذ رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال (في الرجلين الدية) ويجب في إحداهما نصف الدية لما
روى عمرو بن حزم (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (في الرجل نصف
الدية) والرجل التي يجب في قطعها نصف الدية القدم، فإن قطع من الساق أو
من الركبة أو من بعض الفخذ من أصل الفخذ وجبت الدية في القدم،
ووجبت الحكومة فيما زاد، لما ذكرناه في اليد، ويجب في كل أصبع من أصابع
الرجل عشر الدية لما ذكرناه في اليد من حيث عمرو بن حزم، ويجب في كل
أنملة من غير الابهام ثلث دية الإصبع، وفى كل أنملة من الابهام نصف دية
الإصبع لما ذكرناه في اليد.
(فصل) ويجب في قدم الأعرج ويد الأعسم إذا كانتا سليمتين الدية، لان
العرج إنما يكون من قصر إحدى الساقين، وذلك ليس بنقص في القدم، والعسم
لقصر العضد أو الذراع أو اعوجاج الرسغ، وذلك ليس بنقص في الكف، فلم
يمنع كمال الدية في القدم، والكف كذكر الخصي وأذن الأصم وأنف الأخشم.
(فصل) إذا كسر الساعد فجبره مجبر أو خلع كفه فاعوجت ثم جبرها فجبرت
وعادت مستقيمة، وجبت الحكومة، لأنه حصل به نقص، وان لم تعد إلى
109

ما كانت، كانت الحكومة أكثر لان النقص أكثر فإن قال الجاني أنا أعيد خلعها
وأعيدها مستقيمة منع من ذلك لأنه استئناف جناية أخرى فإن كابره وخلعه فعاد
مستقيما وجب عليه بهذا الخلع حكومة، ولا يسقط ما وجب من الحكومة الأولى
لأنها حكومة استقرت بالجناية، وما حصل من الاستقامة حصل بمعنى آخر، فلم
يسقط ما وجب، ويخالف إذا جنى على العين فذهب الضوء ثم عاد، لأنا نتيقن
أن الضوء لم يذهب
(فصل) وإن كان لرجل كفان من ذراع، فإن لم يبطش بواحد منهما، لم
يجب فيهما قود ولا دية، لان منافعهما قد بطلت فصارا كاليد الشلاء، ويجب
فيهما حكومة، لان فيهما جمالا، وإن كان أحدهما يبطش دون الآخر فالذي
يبطش به هو الأصلي فيجب فيه القود أو الدية، والآخر خلقة زائدة ويجب
فيها الحكومة، وإن كان أحدهما أكثر بطشا كان الأصلي هو أكثرهما بطشا
سواء كان الباطش على مستوى الذراع أو منحرفا عنه، لان الله تعالى جعل
البطش في الأصلي فوجب أن يرجع في الاستدلال عليه إليه، كما يرجع في الخنثى
إلى بوله. وان استويا في البطش فإن كان أحدهما على مستوى الذراع والاخر
منحرفا عن مستوى الذراع فالأصلي هو الذي على مستوى الذراع فيجب فيه
القود أو الدية، ويجب في الآخر الحكومة، فإن استويا في ذلك فإن كان
أحدهما تام الأصابع والآخر ناقص الأصابع فالأصلي هو التام الأصابع،
فيجب فيه القود أو الدية، والآخر خلقة زائدة ويجب فيها الحكومة، وان
استويا في تمام الأصابع الا أن في أحدهما زيادة أصبع لم ترجح الزيادة، ولأنه
قد يكون الإصبع الزائدة في غير اليد الأصلية، فإذا استويا في الدلائل فهما يد
واحدة، فإن قطعهما قاطع وجب عليه القود أو الدية، ووجب عليه للزيادة
حكومة، فان قطع إحداهما لم يجب القود لعدم المماثلة، وعليه نصف دية يد
وزيادة حكومة لأنها نصف يد زائدة. وان قطع أصبعا من إحداهما فعليه نصف
دية أصبع وزيادة حكومة لأنها نصف أصبع زائدة. وان قطع أنملة أصبع من
إحداهما وجب عليه نصف دية أنملة وزيادة حكومة، لأنها نصف أنملة زائدة
110

(الشرح) قوله (الأعسم) العسم في الكف والقدم، بابه تعب يبس
مفصل الرسغ حتى تعوج الكف والقدم، والرجل أعسم والمرأة عسماء، عسم
عسماء من باب ضرب طمع في الشئ.
وقوله (خلع كفه) أي فكها من معصمها فاسترخت فلا يطيق رفعها، وقد
شلت يده تشل بفتح الشين فيهما إذا يبست وقيل إذا استرخت، ولا تشلل
بفتح التاء واللام إذا دعا لك بالسلامة من الشلل. قال الشاعر
فلا تشلل يد فتكت بعمرو * فإنك لن تذل ولن قضاما
إذا ثبت هذا فإنه يجب في الرجلين الدية وفى إحداهما نصف الدية لما ذكرناه
من حديث معاذ وحديث عمرو بن حزم، وهو قول عمر وعلى ولا مخالف لهما في
الصحابة، والرجل التي يجب بقطعها الدية هي القدم، فإن قطعها من نصف
الساق أو من الركبة أو من الورك وجب الدية في القدم والحكومة فيما زاد لما ذكرناه
في اليد، ويجب في كل أصبع منها وفى كل أنملة ما يجب في أصابع اليد وأناملها
لما ذكرناه في اليد.
فإن خلق له قدمان على كعب واحد أو ساقان على ركبة أو ركبتان على فخذ
فالحكم فيه كالحكم فيمن خلق له كفان على مفصل، إلا أن الشافعي رضي الله عنه
قال ها هنا (إذا كان إحدى القدمين أطول من الأخرى وكان يمشى على الطويلة
فالظاهر أن الأصلية هي الطويلة التي يمشى عليها، فإن قطع قاطع القدم الطويلة
لم يجب على القاطع في الحال الدية، بل ينظر في المقطوع فإن لم يمش على
القصيرة أو مشى عليها مشيا ضعيفا وجبت الدية في الطويلة، لأننا علمنا أن
الأصلية هي الطويلة، والقصيرة زائدة فيجب على قاطعها الحكومة
وإن مشى على القصيرة مشى العادة وجب على قاطع الطويلة الحكومة، لأنا
علمنا أن الأصل هو القصر، وإنما منعه المشي عليها الطويلة. وان قطع قاطع
القصيرة وجبت عليه الدية، فان جنى رجل على الطويلة فشلت وجبت عليه الدية
لأنها هي الأصلية في الظاهر فان قطعها قاطع بعد الشلل وجبت عليه الحكومة
ثم ينظر فيه فإن لم يمش على القصيرة أو مشى عليها مشيا ضعيفا فقد علمنا
أن الأصلية هي الطويلة، واستقر ما أخذه، وإن مشى على القصيرة مشى العادة
111

علمنا أن القصيرة هي الأصلية، فيجب عليه أن يرد على الجاني الأول على الطويلة
ما زاد على الحكومة الا الدية، وان قطع قاطع القصيرة ك ان عليه الدية.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه (وفى يد الأعسم ورجل الأعرج إذا
كانتا سالمتين الدية) وهذا صحيح لقوله صلى الله عليه وسلم (في اليد خمسون من
الإبل وفى الرجل خمسون من الإبل) ولم يفرق، ولان العرج إنما يكون لقصر
الساق أو لمرض فيه أو في غيره من الرجل والقدم سالم بنفسه فلم تنقص دية
القدم لذلك، وأما الأعسم فاختلف أصحابنا فيه، فقال الشيخ أبو حامد هو الأعسر
وهو الذي بطشه بيساره أكثر. وقال ابن الصباغ الأعسم هو الذي يكون في
رسغه مثل اعوجاج، والرسغ طرف الذراع مما بلى الكوع، وهو ظاهر كلام
الشيخ أبي إسحاق.
(فرع) ولا يفضل يمين عن يسار في الدية، لقوله صلى الله عليه وسلم
(في اليد خمسون من الإبل وفى الرجل خمسون من الإبل) ولم يفرق، وان
وجبت عليه الحكومة أكثر مما لو عادت مستقيمة وجبت عليه حكومة للشين،
وان عادت غير مستقيمة وجبت عليه الحكومة أكثر مما لو عادت مستقيمة،
لأنه أحدث بها نقص.
فان قال الجاني أنا أكسرها وأجبرها فتعود مستقيمة لم يجب رد الحكومة
الأولة إليه، لأنها استقرت عليه بالانجبار الأول، قال الشيخان أبو حامد
وأبو إسحاق يجب عليه للكسر الثاني. وقال ابن الصباغ فيه وجان كالجناية إذا
اندملت ولم يكن لها شين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب في الأليتين الدية، لان فيهما جمالا كاملا ومنفعة كامله
فوجب فيهما الدية كاليدين، ويجب في إحداهما نصف الدية، لان ما وجبت
الدية في اثنين منه وجب نصفها في أحدهما كاليدين، وان قطع بعضها وجب
فيه من الدية بقدره، وان جهل قدره وجبت فيه الحكومة
(فصل) وان كسر صلبه انتظر، فان جبر وعاد إلى حالته لزمته حكومة
112

الكسر، وان احدودب لزمه حكومة للشين الذي حصل به، وإن ضعف مشيه
أو احتاج إلى عصا لزمته حكومة لنقصان مشيه، وإن عجز عن المشي وجبت عليه
الدية، لما روى الزهري عن سعيد بن المسيب أنه قال (مضت السنة أن في الصلب
الدية، وفى اللسان الدية، وفى الذكر الدية، وفى الأنثيين الدية) ولأنه أبطل
عليه منفعة مقصودة فوجبت عليه الدية
وإن كسر صلبه وعجز عن الوطئ وجبت عليه الدية، لأنه أبطل عليه منفعة
مقصودة، وإن ذهب مشيه وجماعه ففيه وجهان
(أحدهما) لا تلزمه الا دية واحدة لأنهما منفعتا عضو واحد
(والثاني) يلزمه ديتان، وهو ظاهر النص، لأنه يجب في كل واحد منهما
الدية عند الانفراد فوجبت فيهما ديتان عند الاجتماع، كما لو قطع أذنيه فذهب سمعه
أو قطع أنفه فذهب شمه.
(فصل) ويجب في الذكر الدية لما روى (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب
مع عمرو بن حزم إلى اليمن وفى الذكر الدية) ويجب ذلك في ذكر الشيخ والطفل
والخصي والعنين، لان العضو في نفسه سليم، ولا تجب في ذكر أشل لأنه
بطلت منفعته فلم تكمل ديته، ويجب فيه الحكومة لأنه أتلف عليه جماله، وان
جنى على ذكره فشل وجبت ديته، لان المقصود بالعضو هو المنفعة فوجب في
اتلاف منفعته ما وجب في اتلافه.
وان قطع الحشفة وجبت الدية لان منفعة الذكر تكمل بالحشفة كما تكمل
منفعة الكف بالأصابع، فكملت الدية بقطعها، ان قطع الحشفة وجاء آخر
فقطع الباقي وجبت فيه حكومة، كما لو قطع الأصابع، وجاء آخر وقطع الكف،
وان قطع بعض الحشفة وجب عليه من الدية بقسطها، وهل تتقسط على الحشفة
وحدها أو على جميع الذكر؟ فيه قولان
(أحدهما) تقسط على الحشفة، لان الدية تكل بقطعها فقسطت عليها
كدية الأصابع. (والثاني) يقسط على الجميع، لان الذكر هو الجميع فقسطت
الدية على الجميع.
113

(فصل) ويجب في الأنثيين الدية لما روى (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب
إلى أهل اليمن مع عمرو بن حزم وفى الأنثيين الدية) ويجب في أحدهما نصف
الدية، لان ما وجب في اثنين منه الدية وجبت في أحدهما نصفها كاليد.
(الشرح) قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم يقولون
في الأليتين الدية، وفى كل واحدة منهما نصفها، منهم عمرو بن شعيب والنخعي
والشافعي وأحمد وأصحاب الرأي اه‍ ولأنهما عضوان من جنس فيهما جمال ظاهر
ومنفعة كاملة، فإنه يجلس عليهما كوسادتين فوجب فيهما الدية، وفى إحداهما
نصفها كاليدين.
والأليتان هما ما علا أشرف من الظهر عن استواء الفخذين وفيهما الدية
إذا أخذتا إلى العظم الذي تحتهما، وفى ذهاب بعضهما بقدره، لان ما وجبت الدية
فيه وجب في بعضه بقدره، فإن جهل المقدار وجبت حكومة لأنه نقص لم يعرف
قدره، ولا فرق بين أليتي الرجل والمرأة في ذلك، وإن كان الانتفاع بأليتي المرأة
أكثر، لان الدية لا تختلف بالمنفعة كما قلنا في اليمين واليسار
(مسألة) إذا كسر صلبه (1) فأذهب مشيه وجبت فيه الدية لما روى في كتاب
النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم (وفى الصلب الدية)
وعن سعيد بن المسيب أنه قال مضت السنة أن في الصلب الدية وهذا ينصرف
إلى سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وبهذا قال القاضي من الحابلة، وقال أحمد
وأكثر أصحابه ومنهم ابن قدامة (إذا كسر الصلب فلم ينجبر الدية ولو لم يذهب مشيه أو
جماعه، وبهذا قال زيد بن ثابت وعطاء والحسن والزهري ومالك قالوا إذا ذهب
مشيه أو جماعه بسبب كسر صلبه ففيه دية أخرى غير دية الصلب، وظاهر رواية
أحمد رواها عنه ابنه عبد الله أنه ان ذهب مشيه وجماعه وجبت ديتان، لأنهما

(1) في القاموس الصلب بالضم وبالتحريك عظم من لدن الكاهل إلى العجب
وقد قيل المراد بالصلب هو ما في الجدول المنحدر من الدماغ لتفريق الرطوبة في
الأعضاء لا نفس المتن، بدليل ما رواه ابن المنذر عن علي، والأولى حمل الصلب
في كلام الشارع على المعنى اللغوي
114

منفعتان تجب الدية بذهاب كل واحدة منهما منفردة، فإذا اجتمعتا وجبت ديتان
كالسمع والبصر. ولا أن الدية تجب إذا ذهب مشيه، ولان المشي منفعة
جليلة فأشبه السمع والبصر، وإن لم يذهب المشي ولكن احتاج في مشيه
إلى عكازة وجب فيه حكومة، وان لم يحتج إلى عكازة ولكنه يمشى مشيا
ضعيفا وجبت عليه حكومة أقل من الحكومة الأولة، وان عاد مشيه كما كان إلا
أن ظهره أحدب لزمته حكومة للشين الحاصل بذلك، فإذا كسر صلبه فذهب
جماعه وجبت عليه الدية، لأنه روى ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم
ولا تخالف لهم، ولأنه منفعة جليلة فشابه السمع والبصر
وان كسر صلبه فذهب ماؤه فقد قال القاضي أبو الطيب الذي يقتضى المذهب
أنه تجب فيه الدية، وهو قول مجاهد لأنه منفعة مقصودة فوجب في ذهابه الدية
كالجماع وان كسر صلبه فذهب مشيه وجماعه ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجب عليه الا دية واحدة لأنهما منفعتا عضو واحد
(والثاني) يجب عليه ديتان وهو المنصوص، لأنهما منفعتان يجب في كل
واحدة منهما الدية عند الانفراد فوجب في كل واحدة منهما دية عند الاجتماع
كالسمع والبصر.
وقال ابن قدامة (وان أذهب ماءه دون جماعه احتمل وجوب الدية، وهذا
يروى عن مجاهد، وهذا كما قلنا هو مقتضى النص لأنه ذهب بمنفعة مقصودة
فوجبت الدية.
(فرع) وفى الذكر الدية لما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل
اليمن (وفى الذكر الدية) وهو اجماع أهل العلم، ولان فيه منفعة وجمالا فوجبت
فيه الدية، وسواء قطع ذكر صبي أو شيخ أو شاب أو خصى أو عنين لعموم
الخبر، واختلفت الرواية عن أحمد في العنين على روايتين (إحداهما) تجب فيه
الدية لذلك (والثانية) لا تكمل ديته، وهو مذهب قتادة، لان منفعته الانزال
والاحبال والجماع، وقد عدم ذلك منه في حال الكمال فلم تكمل ديته كالأشل،
وبهذا فارق ذكر الصبي.
وكذلك اختلفت الرواية عن أحمد على روايتين (إحداهما) وهو مذهبنا،
115

وبه قال ابن المنذر: فيه دية كاملة، للخبر، ولان منفعة الذكر الجماع، وهو باق
فيه (والثانية) لا تجب فيه، وهو قول مالك والثوري وأصحاب الرأي وقتادة
وإسحاق لما ذكرنا في ذكر العنين، ولان المقصود منه تحصيل النسل ولا يوجد
ذلك منه فلم تكمل ديته كالأشل، والجماع يذهب في الغالب. واستدلوا على ذلك
بالبهائم يذهب جماعها بخصائها، والفرق بين ذكر العنين وذكر الخصي أن
الجماع في ذكر العنين أبعد منه في ذكر الخصي، واليأس من الانزال متحقق في
ذكر الخصي دون ذكر العنين، فعلى قولهم لا تكمل الدية في ذكر الخصي إن
قطع الذكر والأنثيين دفعة واحدة. أو قطع الذكر ثم قطع الأنثيين لزمته ديتان
فإن قطع الأنثيين ثم قطع الذكر لم تلزمه إلا دية واحدة في الأنثيين، وفى الذكر
حكومة لأنه ذكر خصى، وأفاد ابن قدامة عن القاضي أن أحمد نص على هذا.
(فرع) إذا جنى رجل فقطع الحشفة والقضيب فقال أصحابنا البغداديون يجب
فيه دية، ولا يفرد القضيب بالحكومة، لان اسم الذكر يقع على الجميع، فهو
كما لو قطع يده من مفصل الكوع.
وقال الخراسانيون هل يفرد القضيب بالحكومة؟ فيه وجهان، وكذلك عندهم
إذا قطع المارن مع القصبة أو قلع السن مع السنخ فهل يفرد القصبة عن المارن؟
والسنخ عن السن بالحكومة؟ فيه وجهان
وإن قطع بعض الحشفة ففيه قولان:
(أحدهما) ينظر كم قدر تلك القطعة من الحشفة نفسها فيجب فيها من
الدية بقدرها من الحشفة، لان الدية تجب بقطع الحشفة وحدها
(والثاني) ينظر كم قدر تلك القطعة من جميع الذكر، ويجب فيها من دية
الذكر بقدرها، لأنه أو قطع جميع الذكر لوجبت فيه الدية، فإذا قطع بعضه
اعتبر المقطوع منه، فإن قطع رجل قطعة مما دن الحشفة، والحشفة باقية، قال
الشافعي رضي الله عنه نظر فيه فإن كان البول يخرج على ما كان عليه، وجب
بقدر تلك القطعة من جميع الذكر من الدية. وإن كان البول يخرج من موضع
القطع وجب عليه أكثر الامرين من حصة القطعة من جميع الذكر أو الحكومة
وإن جرح ذكره فاندمل ولم يشل، فادعى المجني عليه أنه لا يقدر على الجماع لم
116

تجب الدية وإنما تجب الحكومة، لان الجماع لا يذهب مع سلامة العضو، فإذا
لم يقدر عليه كان ذلك لعلة أخرى في غير الذكر فلا يلزم الجاني دية الجماع،
وإن جرح ذكره وطالت الجراحة إلى جوف الذكر لم تجب أرش الجائفة وإنما
تجب فيه الحكومة، ولأنه وإن كان له جوف، إلا أنه جوف لا يخاف من
الوصول إليه التلف
قوله (ويجب في الأنثيين الدية) وهذا صحيح لما رويناه من كتاب عمرو بن
حزم في أول الباب. وروى ذلك عن علي وعمر وزيد بن ثابت. والأنثيان
معناهما معنى البيضتين، أفاده في القاموس
وذكر الشوكاني نقلا عن الغيث أن الأنثيين هما الجلدتان المحيطتان بالبيضتين
وفيه نظر لان كتب اللغة على خلاف ذلك. وفى اللسان والأنثيان الخصيتان،
وهما أيضا الأذنان يمانية، وأنشد الأزهري لذي الرمة
وكنا إذا القيسي نب عتوده * ضربناه فوق الأنثيين على الكرد
وقال ابن سيده في المخصص، وقول الفرزدق
وكنا إذا الجار صعر خده * ضربناه تحت الأنثيين على الكرد
وقوله (مضت السنة الخ) قال الشافعي فيما أخرجه البيهقي عنه (ان قول
سعيد من السنة يشبه أن يكن عن النبي صلى الله عليه وسلم أو عن عامة أصحابه)
ثم قال (وقد كنا نقول أنه على هذا المعنى ثم وقفت عنه) وأسأل الله الخير، لأنا
قد نجد منهم من يقول السنة، ثم لا نجد لقوله السنة نفاذا أنها عن النبي صلى الله عليه وسلم
والقياس أولى بنا فيها، وقال الشوكاني، وعلى تسليم أن قوله (من السنة) يدل
على الرفع فهو مرسل.
إذا ثبت هذا فإن الجمهور على أن فيهما الدية لما فيهما من جمال ومنفعة فهما
كاليدين، وفى كل واحدة منهما نصف الدية. وقال ابن المسيب في اليسرى ثلثي
الدية لان النسل منها وفى اليمنى ثلث الدية. دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (وفى
الأنثيين الدية) وظاهر هذا أن الدية مقسطة عليهما بالسوية
وقوله إن النسل من اليسرى لم يصح. وروى هذا في كتب العترة عن علي
ولم يثبت عندنا، وقد روى عن عمرو بن شعيب قوله عجبت لمن يقول إن النسل
117

من اليسرى كان لي غنيمات وأخصيتها فألحقت وإن صح فإن العضو لا تفضل
ديته بزيادة المنفعة، كما لا تفضل اليد اليمنى على اليسرى، وكما لا يفضل الابهام
على الخنصر في الدية.
(فرع) وإن قطع الذكر والأنثيين معا أو قطع الذكر ثم الأنثيين وجبت
عليه ديتان بلا خلاف، وإن قطع الأنثيين ثم قطع الذكر بعدهما وجب عليه
ديتان عندنا. وقال أبو حنيفة تجب عليه دية الأنثيين وحكومة في الذكر، لأنه
بقطع الأنثيين قد ذهبت منفعة الذكر، لان استيلاده قد انقطع، دليلنا قوله
صلى الله عليه وسلم (وفى الذكر الدية) ولم يفرق، ولان كل عضوين لو قطعا
معا وجبت فيهما ديتان، فإذا قطع إحداهما بعد الأخرى وجبت فيهما ديتان،
كما لو قطع الذكر ثم الأنثيين، وما قاله لا نسلمه، لان منفعة الذكر باقية لأنه
يولجه، فأما الماء فإن محله في الظهر لا في الذكر وقد قيل إنه بقطع الأنثيين
لا ينقطع الماء، وإنما يرق فلا ينعقد منه الولد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وما اشترك فيه الرجل والمرأة من الجروح والأعضاء ففيه قولان
قال في القديم: تساوى المرأة الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زادت على ذلك كانت
المرأة على النصف من الرجل، لما روى نافع عن ابن عمر أنه قال (تستوى
دية الرجل والمرأة إلى ثلث الدية ويختلفان فيما سوى ذلك)
وقال في الجديد هي على النصف من الرجل في جميع الأروش، وهو الصحيح
لأنهما شخصان مختلفان في دية النفس فاختلفا في أروش الجنايات كالمسلم والكافر
ولأنه جناية يجب فيها أرش مقدر فكانت المرأة على النصف من الرجل في أرشها
كقطع اليد والرجل، وقول ابن عمر يعارضه قول علي كرم الله وجهه (في جراحات
الرجال والنساء سواء على النصف يما قل أو كثر
(فصل) ويجب في ثديي المرأة الدية لان فيهما جمالا ومنفعة فوجب فيهما
الدية كاليدين والرجلين، ويجب في إحداهما نصف الدية لما ذكرناه في الأنثيين
وان جنى عليهما فشلتا وجبت عليه الدية، لان المقصود بالعضو هو المنفعة فكان
118

إتلاف منفعته كإتلافه، وإن كانتا ناهدين فاسترسلتا وجبت الحكومة، لأنه نقص
جمالهما، وإن كان لها لبن فجنى عليهما فانقطع لبنها وجبت عليه الحكومة لأنه قطع
اللبن بجنايته، وإن جنى عليهما قبل أن ينزل لها لبن فولدت ولم ينزل لها لبن سئل
أهل الخبرة فإن قارا لا ينقطع إلا بالجناية وجبت الحكومة. وان قالوا قد ينقطع
من غير جناية لم تجب الحكومة، لجوا أن يكون انقطاعه لغير الجناية فلا تجب
الحكومة بالشك وتجب الدية في حلمتيهما، وهو رأس الثدي لان منفعة الثديين
بالحلمتين لان الصبي بها يمص اللبن وبذهابهما تتعطل منفعة الثديين فوجب فيهما
ما يجب في الثديين، كما يجب في الأصابع ما يجب في الكف. وأما حلمتا الرجل
فقد قال في موضع يجب فيه حكومة، وقال في موضع قد قيل إن فيهما الدية فمن
أصحابنا من قال فيه قولان
(أحدهما) تجب فيهما الدية، أن ما وجبت فيه الدية من المرأة وجبت فيه
الدية من الرجل كاليدين.
(والثاني) وهو الصحيح أنه يجب فيهما الحكومة لأنه إتلاف جمال من غير
منفعة فوجبت فيه الحكومة، ومنهم من قال يجب فيه الحكومة قولا واحدا.
وقوله قد قيل إن فيهما الدية حكاية عن غيره
(فصل) ويجب في اسكتي المرأة وهما الشفران المحيطان بالفرج
الدية لان فيهما جمالا ومنفعة في المباشرة، يجب في أحدهما نصف الدية لان
كل ما وجب في اثنين منه الدية وجب في أحدهما نصفها كاليدين
(الشرح) قد ذكرنا أن دية نفس المرأة على النصف من دية الرجل، وأما
ما دون النفس فاختلف الناس فيه فذهب الشافعي في الجديد إلى أن أرشها نصف
أرش الرجل في جميع الجراحات والأعضاء، وبه قال علي بن أبي طالب والليث
ابن سعد وابن أبي ليلى وابن شبرمة والثوري وأبو حنيفة وأصحابه
وقال في القديم: تساوى المرأة الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زاد الأرش على
ثلث الدية كانت على النصف من الرجل وبه قال ابن عرم وربيعة لما روى عن عمر وبن شعيب
عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عقل المرأة مثل عقل الرجل حتى
119

يبلغ الثلث من ديته) رواه النسائي والدارقطني، وهو من رواية إسماعيل بن عياش
عنه، وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة.
وقال في بداية المجتهد (إن الأشهر عن ابن مسعود وعثمان وشريح وجماعة
أن دية جراحة المرأة مثل دية جراحة الرجل إلا الموضحة فإنها على النصف
وحكى في البحر عن زيد بن ثابت وسليمان بن يسار أنهما يستويان إلى أن
يباغ أرشها خمس عشرة من الإبل. وعن الحسن البصري يستويان إلى النصف
ثم ينصف.
وحكى في البيان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه (تساوى المرأة الرجل
إلى ثلث الدية، فإذا بلغت إلى ثلث الدية كانت على النصف، وبه قال سعيد بن
المسيب ومالك وأحمد وإسحاق. وروى أن ربيعة الرأي قال، قلت لابن المسيب
كم في أصبع المرأة؟ قال عشر من الإبل، قلت كم في إصبعين؟ قال عشرون،
قلت كم في ثلاث أصابع؟ قال ثلاثون، قلت كم في أربع أصابع؟ قال عشرون
من الإبل، قلت حين عظم جرحها واشتدت مصيبتها نقص عقلها قال سعيد
أعراقي أنت؟ قلت بل عالم متثبت أو جاهل متعلم قال هي السنة يا ابن أخي.
رواه مالك في الموطأ والبيهقي في سننه.
دليلنا حديث عمرو بن حزم (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (دية المرأة
عليا لنصف من دية الرجل ولم يرق بين القليل والكثير، ولأنه جرح له أرش
مقدر فوجب أن يكون في أرشه عن النصف من أرش الرجل أصله مع كل
طائفة ما وافقتنا عليه، وأما حديث عمرو بن شعيب وابن المسيب فهما مرسلان
قوله ويجب في ثديي المرأة الدية لان فيهما جمالا ومنفعة الخ وهذا
صحيح، أما الجمال فظاهر، لأنهما دليل على الأنوثة وتوفر خصائص الاغراء
وجذب الرجل نحوها. وأما المنفعة فلان وظيفتهما تحقيق خصائص الأمومة،
إذ بهما يحيى الصبي فيلتهمهما ويلتقمهما فيدران لبنا يعيش وينمو به، ولان الدية
إذا كانت واجبه في أذنها هي أقل جمالا ومنفعة من ثديها فلان تجب في الثدي
أولى، ويجب في أحدهما نصف الدية لان كل اثنين وجبت الدية فيهما وجب
في أحدهما نصفها كاليدين.
120

والثديان اللذان يجب فيهما لا دية هما الحلمتان، وهما رأس الثدي اللذان يلتقمهما
الصبي، لان الجمال والمنفعة يوجدان فيهما، فإن قطع قاطع الحلمتين ثم قطع آخر
باقي الحملتين ثم قلع آخر باقي الثديين وجب على الأول الدية وعلى الثاني الحكومة
كما لو قطع رجل الأصابع وقطع آخر بعده الكف، وقد أوهم المزني في الثديين
بعد الحلمتين الدية حين قال وفى الثديين الدية وفى حلمتهما ديتان، وليس بشئ،
وقد بينه في الام.
وإن قطع الحلمتين والثديين من أصلهما ففيه وجهان حكاهما المسعودي
(أحدهما) يجب الدية في الحلمتين والحكومة في الثديين، كما لو قطع الحلمتين
ثم قطع الثديين.
(والثاني) وهو قول البغداديين من أصحابنا أنه لا يجب عليه إلا دية، كما لو
قلع السن مع سنخها.
(فرع) قال الشافعي فإن قطع ثديها فأجافها فعليه نصف الدية للثدي وثلث
دية للجائف، وإن قطع ثدييها وأجافها فعليه في الثديين كما الدية وفى الجائفتين
ثلثا الدية، لان كل واحد منهما فيه دية مفردة إذا انفرد، فإذا اجتمعا وجب
في كل واحد منهما ديته، كما لو قطع أذنه فذهب سمعه، وإن قطع ثديها وشيئا من
جلد صدرها ففي الثدي الدية وفى الجلد الحكومة. وإن جنى عليهما فشلا وجبت
فيهما الدية، لان كل عضو وجبت الدية في قطعه وجبت في شلله. وصورة ذلك
أن يضرب الثدي ضربة يصل أثرها إلى الخلايا الداخلية للثدي فتحدث فيه أليافا
تشل نموه كما تشل وظيفته عن إدرار اللبن، فإن لم يشلا ولكن استرخيا وكانا
ناهدين أي مرتفعين وجبت فيهما الحكومة، لأنه نقص جمالهما، وإن كان
لهما لبن فجنى عليهما فانقطع لبنهما أو نقص وجبت فيهما الحكومة، لأنه نقص
منفعتهما. وان جنى عليهما قبل أن ينزل اللبن فلم ينزل في وقته فإن قال أهل
الخبرة ان انقطاع اللبن لا يكون إلا من الجناية وجبت عليه الحكومة. وان
قالوا قد ينقطع من غير جناية لم تجب الحكومة، لأنه لا يعلم أن انقطاعه
من الجناية.
(فرع) وإن قطع حلمتي الرجل فقال الشافعي رضي الله عنه في موضع: فيهما
121

الحكومة، وقال في موضع: قد قيل إن فيهما الدية، فمن أصحابنا من قال فيه
قولان (أحدهما) يجب فيهما الدية، لان كل عضو اشترك فيه الرجل والمرأة
كانت الدية فيه تجب من المرأة تجب فيه من الرجل كاليدين والرجلين
(والثاني) لا يجب فيهما الدية لأنه لا منفعة فيهما من الرجل وإنما فيهما
جمال، ومنهم من قال لا يجب فيهما الدية قولا واحدا لما ذكرناه في أحد قوليه،
وما ذكرناه من قوله الآخر فليس بقول له، وإنما حكى قول غيره.
(فرع) وإن كان للخنثى المشكل ثديان كثدي المرأة فهل يكونان دليلا على
أنوثيته؟ فيه وجهان
قال أبو علي الطبري: يكونان دليلا على أنوثيته لأنهما لا يكونان إلا للمرأة.
وقال عامة أصحابنا: لا يكونان دليلا على أنوثيته لأنهما قد يكونان للرجل، فإن
قطعهما قاطع، فإن قلنا تجب الدية في ثدي الرجل وجبت ها هنا دية ثدي امرأة
لأنه اليقين، فان قلنا لا تجب الدية في ثدي الرجل لم يجب هاهنا إلا الحكومة
وإن ضرب ثدي الخنثى وكان ناهدا فاسترسل ولم يجعله دليلا على أنوثيته. قال
القاضي أبو الفتوح لم يجب على الجاني حكومة، لأنه ربما كان رجلا ولا جمال له
فيهما، ولا يحلقه نقص باسترسالهما، فإن بان امرأة وجبت الحكومة. وإن
كان للخنثى لبن فضرب ضارب ثديه فانقطع لبنه، فإن قلنا بقول أبى على وجبت
عليه الحكومة، وإن قلنا بقول عامة أصحابنا بنى على الوجهين في لبن الرجل،
هل يحكم بطهارته ويثبت التحريم والحرمة بإرضاعه. ويجوز بيعه ويضمن؟
فإن قلنا تثبت هذه الأحكام يجب ها هنا الحكومة وإن قلنا لا تثبت هذه الأحكام
لم تجب هاهنا الحكومة، ولكن يعزر به الجاني إذا كان عامدا للتعدى.
(مسألة) قوله (اسكتي المرأة) الاسكة وزان سدرة سدرة وفتح الهمزة لغة قليلة
جانب فرج المرأة وهما إسكتان الجمع إسك مثل سدر
قال الأزهري: الإسكتان ناحيتا الفرج، والشفران طرفا الناحيتين، وأسكب
المرأة بالبناء للمفعول أخطأتها الخافضة فأصابت غير موضع الختان فهي مأسوكة.
وقال الشافعي رضي الله عنه: وفى إسكتيها وهما شفراها إذا أوعبتا ديتهما
قال في البيان وجملة ذلك أن الإسكتين وهما اللحمان المحيطان بالفرج كإحاطة
الشفتين بالفم يفرق الشافعي بين الإسكتين والشفرين
122

وأهل اللغة يقولون الشفران حاشية الإسكتين، كما أن أشفار العينين أهدابهما
فإذا قطعهما قاطع وجبت عليه الدية، لان فيهما جمالا ومنفعة، فأما الجمال فظاهر
وأما المنفعة فإن لذة الجماع بهما اه‍.
فإن قطع إحداهما وجب عليه نصف الدية، لان كل اثنتين وجبت فيهما
الدية وجب في إحداهما نصف الدية كالدين، ولا فرق بين شفري الصغيرة
والعجوز، والبكر والثيب، وسوء كانتا صغيرتين أو كبيرتين، رقيقتين أو
غليظتين كما قلنا في الشفتين، وسواء كانت قرناء أو رتقاء لان ذلك عيب في
غيرهما، وسواء كانت مخفوضة أو غير مخفوضة (1) لان الخفض لا تعلق له
بالشفرين، فإن جنى على شفريها فشلا وجبت عليه الدية (2)، لان كل عضو
وجبت الدية بقطعه وجبت بشلله كاليدين.
وان قطع الشفرين والركب، وهو عانه المرأة التي ينبت فيها الشعر وجبت
الدية في الشفرين والحكومة في الركب. هكذا أفاده الشافعي في باب الجناية على
ركب المرأة من الام.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) قال الشافعي رحمه الله: إذا وطئ امرأة فأفضاها وجبت عليه
الدية. واختلف أصحابنا في الافضاء، وفقال بعضهم: هو أن يزيل الحاجز الذي
بين الفرج وثقبة البول، وهو قول الشيخ أبى حامد الأسفرايني رحمه الله. وقال
بعضهم: هو أن يزيل الحاجز الذي بين الفرج والدبر، وهو قول أبى علي بن
أبي هريرة وشيخنا القاضي أبى الطيب الطبري، لان الدية لا تجب الا بإتلاف
منفعة كاملة، ولا يحصل ذلك الا بإزالة الحاجز بين السبيلين، فأما إزالة الحاجز

(1) الخفض قطع جزء من البظر، وهو بالنسبة للإناث كالختان للذكران
عند بعض الشعوب. وفى حديث أم عطية الأسدية (أخفضي ولا تنهكي، فإنه
أغض للبصر وأحصن للفرج)
(2) شللهما بأن ينفتحا فلا يقفلان، أو يقفلا فلا يفتحان
123

بين الفرج وثقبة البول فلا تتلف بها المنفعة، وإنما تنقص بها المنفعة، فلا يجوز
أن يجب بها دية كامله، وإن أفضالها واسترسل البول وجب مع دية الافضاء
حكومة للنقض الحاصل باسترسال البول، وإن أفضاها والتأم الجرح وجبت
الحكومة دون الدية، إن أجاف جائفة والتامت لم يسقط أرشها، والفرق
بينهما أن أرش الجائفة وجب باسمها فلم يسقط بالالتئام، ودية الافضاء وجبت
بإزالة الحاجز، وقد عاد الحاجز فلم تجب الدية
(فصل) ولا يجب في إتلاف الشعور غير الحكومة، لأنه إتلاف جمال
من غير منفعة فلم تجب فيه غير الحكومة، كاتلاف العين القائمة واليد الشلاء.
(فصل) ويجب في تعويج الرقبة وتصعير الوجه الحكومة، لأنه إذهاب
جمال من غير منفعه فوجبت فيه الحكومة، فإن كسر الترقوة أو كسر ضلعا فقد
قال في موضع آخر: يجب فيه جمل، وقال في موضع: تجب فيه الحكومة
واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة تجب فيه الحكومة
قولا واحدا، والذي قال فيه جمل، أراد على سبيل الحكومة، لان تقدير الأرش
لا يجوز إلا بنص أو قياس على أصل، وليس في هذا نص ولا له أصل يقاس
عليه، وقال المزني وغيره هو على قولين وهو الصحيح
(أحدهما) أنه يجب فيه جمل لما روى أسلم مولى عمر عن عمر رضي الله عنه
أنه قضى في الترقوة بحمل، وفى الضلع بحمل، وقول الصحابي في قوله القديم
حجة تقدم على القياس.
والقول الثاني وهو الصحيح أنه يجب فيه حكومة، لأنه كسر عظم في غير
الرأس والوجه فلم يجب فيه أرش مقدر ككسر عظم الساق، وما روى عن عمر
يحتمل أنه قضى به على سبيل الحكومة، ولان قول الصحابي ليس بحجة
في قوله الجديد.
(الشرح) قوله: الافضاء مأخوذ من الفضاء وهو المكان الواسع، ويكون بمعنى
الجماع كقوله تعالى (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) ويكون اللمس كقوله صلى الله
عليه وسلم (إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره فليتوضأ)
124

وقوله (تصعير أوجه) الصغر بالتحريك ميل في العنق وانقلاب الوجه إلى
أحد الشدقين، وربما كان الانسان أصعر خلقه، أو صعره غير بشئ يصيبه،
وهو مصدر من باب تعب، وصعر خده بالتثقيل وصاعره أماله عن الناس
إعراضا وتكبرا، والبرقوتان العظمان الناتئان أعلى الصدر والجمع تراقى. قال
تعالى (كلا إذا بلغت التراقي) والضلع كعنب وقد تسكن واحدة الأضلاع
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ولو افتضها فأفضاها أو أفضاها
وهي ثيب كانت عليه ديتها، لأنها جناية واحدة وعليه مهر مثلها. وجملة ذلك
أنه إذا وطئ امرأة فأفضاها أو أفضاها بغير الوطئ، وقد نص عليه بقوله في
الام: ولو افتضتها امرأة أو رجل بعود بلا جماع كانت عليهما ديتها، وليس هذا
من معنى الجائفة بسبيل. اه‍
وقد اختلف أصحابنا في كيفية الافضاء، فقال الشيخ أبو حامد الأسفراييني
هو أن يجعل مسلك البول ومسلك الذكر واحدا، لان ما بين القبل والدبر
فيه بعد وقوة فلا يرفعه الذكر، ولأنهم فرقوا بين أن يستمسك البول أو لا
يستمسك، وهذا إنما يكون إذا انخرق الحاجز بين مسلك البول ومدخل الذكر
وقال أبو علي بن أبي هريرة: وهو أن يزيل الحاجز بنى الفرج والدبر، وهو قول
القاضي أبى الطيب والجويني.
قال الشيخ أبو إسحاق: لان الدية لا تجب الا بإتلاف منفعة كامله، ولا
يحصل ذلك إلا بإتلاف الحاجز بين السبيلين، فأما إزالة الحاجز بين الفرج وثقبة
البول فلا ت؟؟ بها المنفعة وإنما تنقص بها المنفعة، فلا يجوز أن تجب فيه دية
كامله وذكر ابن الصباغ له علة أخرى فقال: لأنه ليس في البدن مثله، ولو
كان المراد به ما بين مسلك البول ومسلك الذكر لكان له مثل، وهو ما بين
القبل والدبر ولا يجب فيه الدية، فإن أفضاها واسترسل البول ولم يستمسك
وجب عليه مع دية الافضاء حكومة للشين الحاصل باسترسال البول
إذا ثبت هذا فلا تخلو المرأة المفضاة إما أن تكون زوجة أو أجنبيه أكرهها
على الوطئ أو وطئها بشبهة، فإن كانت زوجته فأفضاها فإن كان البول
مستمسكا فقد استقر عليه المهر بالوطئ ووجبت عليه دية الافضاء، وان
125

أفضاها بالوطئ واسترسل البول وجب عليه المهر ودية الافضاء والحكومة
لاسترسال البول.
وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه دية الافضاء، وإنما عليه المهر فقط أو لها
أكثر الامرين من مهر مثلها أو أرش افضائها لان الأرش لاتلاف العضو فلا
يجمع بين ضمانه وضمان منفعته كما لو قلع عينا
ولنا أن هذه جناية تنقل عن الوطئ فلم يدخل بدله فيها، كما لو كسر صدرها
وما ذكروه غير صحيح، فإن المهر يجب لاستيفاء منفعة البضع، والدية تجب
لاتلاف الحاجز فلا تدخل المنفعة فيه. وقال أحمد وأصحابه عليه المهر وأرش
اتلاف العضو وقدره ثلث الدية
قلت: الواجب عندنا الدية لأنها جناية وقعت بالوطئ فلم يسقط حكمها
باستحقاق الوطئ، كما لو وطئها وقطع ثديها أو شجها.
وإن كانت أجنبية فأكرهها على الوطئ وأفضاها وجب عليه المهر ودية
الافضاء، وان استرسل البول وجب عليه الحكومة مع دية الافضاء. وقال أحمد
وأصحابه: يلزمه ثلث ديتها ومهر مثلها لأنه حصل بوطئ غير مستحق ولا مأذون
فيه فلزمه ضمان ما أتلف كسائر الجنايات.
وقال أبو حنيفة: لا يجب المهر، وأما الافضاء فإن كان البول لا يحتبس
فعليه دية وإن كان يحتبس فعليه ثلاث دية، وبه قال ابن عمر رضي الله عنهما.
دليلنا على إيجاب المهر أنه وطئ في غير ملك لاحد فيه على الموطوء فوجب على
الواطئ المهر كما لو وطئها بشبهة، وعلى الجاني الدية لأنه افضاء مضمون فوجب
فيه الدية، كما لو لم يحتبس البول فقولنا مضمن احتراز منه إذا وطئ
أمته فأفضاها
إذا ثبت هذا فإن كانت ثيبا وجب عليه مهر ثيب، وإن كانت بكرا وجب
عليه المهر والدية ويدخل أرش البكارة في الدية.
ومن أصحابنا من قال: لا يدخل أرش البكارة، كما لو أكره بكرا فوطئها
وأفضاها. فإن أرش البكارة لا يدخل في المهر، والمذهب الأول، لان الدية
تجب بإتلاف عضو وأرش البكارة بإتلاف العضو فتداخلا، والمهر يجب بغير
126

ما تجب به الدية وهو الوطئ فلم يتداخلا، وإن وطئها بشبهة أو عقد فاسد
وأفضاها وجب عليه المهر والدية.
وقال الحنابلة: إذا أكره امرأة على الزنا فأفضاها لزمه ثلث ديتها ومهر مثلها
فقالوا بقولنا في العلة، إذ أنه وطئ غير مستحق ولا مأذون فيه فلزمه ضمان
ما أتلف كسائر الجنايات. واختلفوا في الدية فجعلوها على الثلث، وهل يلزمه
أرش البكارة مع ذلك؟ عندهم روايتان ذكرهما ابن قدامة في المغنى
(أحداهما) لا يلزمه لان أرش البكارة داخل في مهر المثل، فإن مهر البكر
أكثر من مهر الثيب، فالتفاوت بينهما هو عوض أرش البكارة فلم يضمنه مرتين
كما في حق الزوجة.
(والثانية) يضمنه لأنه محل أتلفه بعدو انه فلزمه أرشه كما لو أتلفه بأصبعه.
فإذا أفضاها وترتب على ذلك استرسال بولها وجبت عليه مع الدية الحكومة
وإن كانت بكرا فهل يدخل أرش البكارة في الدية؟ على وجهين كما قلنا في إكراهها
وقال أحمد لزمته الدية من غير زيادة. وقال أبو حنيفة لا يجب لها دية الافضاء
لأنه تولد من مأذون فيه وهو الوطئ، فهو بمنزلة إذهاب البكارة. ودليلنا أن
الافضاء ينفك عن الوطئ، فكان مضمونا مع الاذن في الوطئ ككسر الصدر،
ويخالف إذهاب البكارة فإنه لا ينفك عن الوطئ
(فرع) إذا أفضى الخنثى المشكل. قال القاضي أبو الفتوح، فإن قلنا الافضاء
ما ذكره الشيخ أبو حامد لم تجب الدية لأنه ليس بفرج أصلى، وإنما تجب
الحكومة. وان وجد في فرج الخنثى المسلكان. وان لم يوجد فيه إلا مسلك
البول فلا يتصور فيه الافضاء على هذا.
وإن قلنا إن الافضاء ما ذكره القاضي أبو الطيب فعلى تعليل قول ابن الصباغ
حيث قال: لأنه ليس في البدن مثله تجب هاهنا دية الافضاء، وعلى تعليل قول
الشيخ أبي إسحاق هنا حيث قال لا تجب الدية الا بإتلاف منفعة كاملة لا تنجب
الدية بإفضاء الخنثى، وإنما تجب الحكومة.
وان افتض البكارة من فرج الخنثى المشكل، قال القاضي أبو الفتوح فإن
الحكومة تجب ولكن لا بموجب حكومة البكارة وإنما بموجب حكومة جراح
127

وأرش جناية وألم، لان البكارة لا تكون الا في الفرج الأصلي
(فرع) قال العمراني في البيان: وكل موضع قلنا تجب الدية بالافضاء فإن
العمد المحض يتصور في الافضاء، وهو أن يطأها صغيرة أو ضعيفة هزيلة الغالب
افضاءها فتجب الدية مغلظة في ماله، ويتصور فيه عمد الخطأ، مثل أن يقال قد
يفضيها وقد لا يفضيها والغالب أنه لا يفضيها، فإن أفضاها فهو عمد خطأ فتجب
فيه دية مغلظة على عاقلته. وهل يتصور فيه الخطأ المحض بالوطئ؟ فيه وجهان
(أحدهما) أنه يتصور، مثل أن يقال لا يفضى فأفضاها أو كان له زوجة
قد تكرر وطؤه لها فوجد امرأة على فراشه فظنها زوجته فوطئها فأفضاها فتكون
خطأ محضا، كما لو رمى هدفا فأصاب انسانا فتجب فيه دية مخففة على العاقلة.
(والثاني) لا يتصور فيه الخطأ المحض، لأنه يكون قاصدا إلى الفعل
بكل حال. اه‍
(مسألة) الشعور لا يجب فيها قصاص ولا دية، قال بهذا أبو بكر الصديق
وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وبهذا قال أحمد وأصحابه، وقال أبو حنيفة:
تجب في شعر الرأس الدية وفى شعر الحاجبين الدية، وفى أهداب العينين الدية
وفى اللحية الدية، وهو إذا لم ينبت هذا الشعر بعد حلقه له
واختلف أصحاب أبي حنيفة في لحية الكوسج، ويقال له الاثط، وهو الذي
لا شعر في عارضيه، فقال الزيلعي: والأصح أنه إذا كان على ذقه شعرات
معدودة وليس في حلقه شئ لا يجب فيها شئ، لان وجودها يشينه ولا يزينه
وإن كان على الخد والذقن جميعا لكنه غير متصل ففيه حكومة عدل، وإن كان
متصلا ففيه كمال الدية لأنه ليس بكوسج وفى لحيته جمال كمال اه‍
وهم يستداون بما روى أن رجلا أفرغ على رجل قدرا فتمعط شعره، فأتى
عليا فقال له: اصبر سنة، فصبر فلم ينبت شعره فقضى فيه بالدية
دليلنا أنه إتلاف شعر فلم يكن فيه أرش مقدر كأرش الشارب والصدر،
وما روى عن علي رضي الله عنه يعارضه ما روى عن أبي بكر الصديق وزيد بن
ثابت أنهما لم يوجبا الدية.
إذا ثبت هذا فإنه إذا حلق شعر رجل وطرح عليه شيئا فتمعط فإن نبت
128

كما كان من غير زيادة ولا نقصان لم يجب على الجاني شئ كما لو قلع سن صغير
ثم نبت، فإن لم ينبت أصلا وأيس من نباته وجبت فيه حكومة للشين الحاصل
بذهابه. ولابن قدامة من الحنابلة. قوله: ولا تجب الدية إلا بذهابه على وجه
لا يرجى عوده، مثل أن يقلب على رأسه ما يتلف منبت الشعر فينقلع بالكلية
بحيث لا يعود، فإن رجى عوده إلى مدة انتظر إليها، وان عاد قبل أخذ الدية لم
تجب، فان عاد بعد أخذها ردها، والحكم فيه عندهم كالحكم في ذهاب السمع
والبصر فيما يرجى عوده وفيما لا يرجى.
(فرع) إذا نبت للمرأة لحية فحلقها حالق فلم تنبت فهل تجب فيها الحكومة؟
فيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبى العباس بن سريج أنه لا حكومة فيها، لان
بقاء اللحية في حقها شين وزوالها في حقها زين (والثاني) وهو المنصوص أنه
يجب فيها الحكومة، لان ما يجب ضمانه من الرجل ضمن من المرأة كسائر
الأعضاء، قال الشافعي رحمه الله: إلا أن الحكومة فيها أقل من الحكومة في لحية
الرجل، لان للرجل جمالا بها ولا جمال بها للمرأة، وإنما الحكومة للألم والعدوان
وإذا ثبت هذا فان نبت للخنثى المشكل لحيه، فهل تكون دليلا على ذكوريته،
فيه وجهان.
قال أبو علي الطبري يكون دليلا على ذكوريته، فعلى هذا إذا نتفها رجل ولم
تنبت كان عليه حكومة كالحكومة في لحية الرجل، وقال عامة أصحابنا لا يكون
دليلنا على ذكوريته، فعلى هذا إذا نتفها رجل ولم تنبت كان في وجوب الحكومة
فيها وجهان كلحية المرأة.
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه (وفى الترقوة جمل، وفى الضلع جمل)
وقال في موضع) يجب في كل واحد منهما حكومة) واختلف أصحابنا فيهما،
فذهب المزني وبعض أصحابنا إلى أن فيهما قولين (أحدهما) يجب في كل واحد
منهما أرش مقدر، وإنما يجب فيها حكومة، وبه قال مالك وأبو حنيفة واختاره
المزني وهو الأصح، لأنه كسر عظم باطن لا يختص بجمال ومنفعه فلم يجب فيه
أرش مقدر كسائر عظام البدن، وما روى عن عمر رضي الله عنه فيحتمل أنه
قضى بذلك على سبيل الحكومة، فمنهم من قال لا يجب فيه أرش مقدر وإنما
129

تجب الحكومة قولا واحدا لما ذكرناه، ولان قول الصحابي ليس بحجة في قوله
الجديد، وقد عرفنا أن بعض الصحابة رضي الله عنهم كان يفتى في المسألة فيبلغه
عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافها فيرجع عن قوله، وقد فعل أبو بكر في
ميراث الجدة ذلك، وكذلك فعل عمر في الاستئذان ثلاثا ورجع عن إنكاره
لقول أبى موسى، ولم يعرف حم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة
وباع معاوية سقاية من ذهب بأكثر من وزنها حتى أنكر عليه ذلك عبادة بن
الصامت وكذلك رد الحيض وقسمة مال الكعبة.
ويسمى الفقهاء قول الصحابي أثرا وكذلك بعض المحدثين بيد أن تعريفه عند
المحدثين (موقوف) وعزا ابن الصلاح تسميته أثرا إلى الخراسانيين قال: وبلغنا
عن أبي القاسم الفوراني أنه قال: الخبر ما كان عن (رسول الله صلى الله عليه وسلم
والأثر ما كان عن الصحابي
قال ابن كثير: ومن هذا يسمى كثير من العلماء الكتاب الجامع لهذا، وهذا
بالسنن، والآثار، ككتابي السنن والآثار للطحاوي والبيهقي وغيرهما اه‍. على أن
مالكا كان يأخذ قول الصحابي لا على أنه رأى له وإنما على أنه حديث لم يسنده
الصحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا جاء عنه انه كان يقدم الموقوف
على المرفوع أحيانا، ولا يخفى ما فيه مما تجنبه الإمام الشافعي في الجديد، وكان
يأخذ به في القديم.
إذا ثبت هذا فإن الضلع معروف، وأما الترقوة فهي العظم المدور في النحر
إلى الكتف، ولكل واحد ترقوتان، وفى كل ترقوة حكومة على أصح القولين،
والثاني بعير، وهذا قول عمر بن الخطاب، وبه قال سعيد بن المسيب ومجاهد
وعبد الملك بن مروان وسعيد بن جبير وقتادة وإسحاق
وقال أحمد وأصحابه في كل ترقوة بعيران، وقال ابن قدامة عند قول الخرقي
وفى الترقوة بعيران، وقال القاضي المراد بقول الخرقي الترقوتان معا، وإنما
اكتفى بلفظ الواحد لادخال الألف واللام المقتضية للاستغراق فيكون في
كل ترقوة بعير.
وقال أبو حنيفة: في كل واحدة منهما حكومة، وهو أظهر قولي الشافعي
130

كما قدمنا، وبه قال مالك ومسروق وابن المنذر، وروى عن الشعبي أن في الترقوة
أربعين دينارا، وقال عمرو بن شعيب: في الترقوتين الدية، وفى إحداهما نصفها
لأنهما عضوان فيهما جمال ومنفعة، وليس في البدن غيرهما من جنسهما فكملك
فيهما الدية كالدين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن لطم رجلا أو لكمه أو ضربه بمثل فإن لم يحصل به أثر
لم يلزمه أرش، لأنه لم يحصل به نقص في جمال ولا منفعة فلم يلزمه أرش. وإن
حصل به شين بأن اسود أو اخضر وجبت فيه الحكومة لما حصل به من الشين،
فإن قضى فيه بالحكومة ثم زال الشين سقطت الحكومة، كما لو جنبي على عين
فابيضت ثم زال البياض. وإن فزع إنسان فأحدث في الثياب لم يلزمه ضمان مال
لان المال إنما يجب في الجناية إذا أحدثت نقضا في جمال أو منفعة، ولم يوجد
شئ من ذلك.
(فصل) إذا جنى على حر جناية ليس فيها أرش مقدر نظرت، فإن كان
حصل بها نقص في منفعة أو جمال، وجبت فيها حكومة، وهو أن يقوم المجني
عليه قبل الجناية، ثم يقوم بعد اندمال الجناية، فان نقص العشر من قيمته وجب
العشر من ديته، وإن نقص الخمس من قيمته وجب الخمس من ديته، لأنه ليس
في أرشه نص فوجب التقدير بالاجتهاد، ولا طريق إلى معرفة قدر النقصان من
جهة الاجتهاد إلا بالتقويم.
وهذا كما قلنا في المحرم إذا قتل صيدا وليس في جزائه نص أنه يرجع إلى
ذوي عدل في معرفة مثله، إن كان له مثل من النعم، أو إلى قيمته إذا لم يكن له
مثل، ويجب القدر الذي نقص من قيمته من الدية، لان النفس مضمونة بالدية
فوجب القدر الناقص منها، كما يقوم المبيع عند الرجوع بأرش العيب، ثم يؤخذ
القدر الناقص من الثمن حيث كان المبيع مضمونا بالثمن.
وقال أصحابنا: يعتبر نقص الجناية من دية العضو المجني عليه، لامن دية
النفس، فإن كان الذي نقص هو العشر والجناية على اليد وجب عشر دية اليد
131

وإن كانت على أصبع وجب عشر دية الإصبع، وإن كانت على الرأس فيما دون
الموضحة وجب عشر أرش الموضحة، وإن كانت على الجسد فيما دون الجائفة وجب
عشر أرش الجائفة، لأنا لو اعتبرناه من دية النفس لم نأمن أن تزيد الحكومة في
عضو على دية العضو، والمذهب الأول وعليه التفريع، لأنه لما وجب تقويم
النفس وجب أن يعتبر النقص من دية النفس، ولان اعتبار النقص من دية
العضو يؤدى إلى أن يتقارب الجنايتان ويتباعد الأرشان، بأن تكون الحكومة
في السمحاق فنوجب فيه عشر أرش الموضحة فيتباعد ما بينها وبين أرش الموضحة
مع قربها منها. فإن كانت الجناية على أصبع فبلغت الحكومة فيها أرش الإصبع
أو على الرأس، فبلغت الحكومة فيها أرش الموضحة، نقص الحاكم
من أرش الإصبع، ومن أرش الموضحة شيئا على قدر ما يؤدى إليه الاجتهاد، لأنه
لا يجوز أن يكون فيما دون الإصبع أو الموضحة ما يجب فيها. وإن كانت الجناية
في الكف فبلغت الحكومة أرش الأصابع نقص شيئا من أرش الأصابع، لان
الكف تابع للأصابع في الجمال والمنفعة فلا يجوز أن يجب فيه ما يجب في الأصابع
(الشرح) إذا جنى على رجل جناية لم يحصل بها جرح ولا كسر ولا إتلاف
حاسة بأن لطمه الجاني أو لكمه أو ضربه بخشبة، فلم يجرح ولم يكسر نظرت،
فإن لم يحصل به أثر أو حصل به سواد (1) أو خضرة ثم زال لم يجب على الجاني
أرش، لأنه لم ينقص شيئا من جماله ولا من منفعته ويعزر الجاني لتعديه، وان
اسود موضع الضرب أو احمر أو اخضر ينظر إلى الوقت الذي يزول فيه مثل ذلك
في العادة، فإن لم يزل وجبت على الجاني حكومة، لان في ذلك شيئا، فان
أخذت منه الحكومة ثم زال ذلك الشين وجبت رد الحكومة، كما لو ابيضت عينه
فأخذ أرشها ثم زال البياض.
وان جنى على حر جناية نقص بها جمال أو منفعه ولا أرش لها مقدر فقد
ذكرنا أنه يجب فيها الحكومة.
وكيفية ذلك أن يقوم هذا المجني عليه قبل الجناية ثم يقوم بعد اندمال الجناية،
فان بقي للجناية شين ونقصت به وجب على الجاني من الدية بقدر ما نقص

(1) احتقان تحت الجلد يحدث من رض جسم صلب بمكان الإصابة
132

من القيمة، وان نقص العشر من قيمته نقص العشر من ديته، وإن نقص التسع
من قيمته وجب التسع من ديته. لأنه لما اعتبر العبد بالحر في الجنايات التي لها
أرش مقدار اعتبر الحر بالعبد في الجنايات التي ليس لها أرش مقدار إلا بالتقويم
كما أنه لا يعلم أرش المبيع إلا من جهة التقويم.
ولما كان الانسان لا يباع في زماننا هذا ولا يوجد رق نستند إليه في تقويم
الحر بقيمة العبد فإنه يمكن اعتبار الانسان مقوما بديته وهذا أصل ثابت، ثم
يمكن اعتبار ما نقص منه من تشوهات، ولا سبيل إلى ذلك إلا بقياس إنتاجه،
فان نقص عمله وإنتاجه قدرا أخذ من الدية بقدر ما نقص من جهده، وذلك كما
قلنا في نقص السمع والبصر. وأما نقص الجمال فيمكن أيضا حزره بالنسبة إلى
ديته، لان جملته مضمونة بالدية فكانت أجزاؤه مضمونة بجزء من الدية، كما أن
المبيع لما كان مضمونا على البائع بالثمن كان أرش العيب الموجود فيه مضمونا بجزء
من الثمن، ولا سبيل إلى معرفة ما ليس فيه أرش مقدر الا بالتقويم، كما أنه لا يعلم
أرش المبيع إلا من جهة التقويم.
وحكى المصنف عن أصحابنا أنهم قالوا: يعتبر ما نقص من القيمة من دية
العضو المنى عليه لامن دية النفس، فإن كان الذي نقص هو عشر القيمة والجناية
على اليد وجب عشر دية اليد، وإن كان على الإصبع وجب عشر دية الإصبع،
فإن كان على الرأس والوجه فيما دون الموضحة وجب عشر دية الموضحة، وإن كان
على البدن فيما دون الجائفة وجب عشر دية الجائفة، والمذهب الأول، لأنه لما
وجب تقويم النفس اعتبر النقص من ديتها، ولان القيمة قد تنقص بالسمحاق
عشر القيمة، فإذا أوجبنا عشر أرش الموضحة تقارب الجنايتان وتباعد الأرشان
فإذا ثبت هذا فإنه لا يبلغ بالحكومة أرش العضو المجني عليه فإن كانت
الجناية على الإصبع فبلغت حكومتها دية الإصبع أو على البدن مما دون الجائفة
فبلغت الحكومة أرش الجائفة نقص الحاكم من الحكومة شيئا بقدر ما يؤديه إليه
اجتهاده لأنه لا يجوز أن يجب فيما دون الإصبع ديتها، ولا فيما دون الجائفة
ديتها، وان قطع كفا لا أصبع له ففيه وجهان حكاهما الخراسانيون.
(أحدهما) لا يبلغ بحكومته دية إصبع (والثاني) لا يبلغ بحكومته دية خمس أصابع
133

(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه (وإن جرحه فشان وجهه أو رأسه شينا
يبقى فإن كان الشين أكثر من الجراح أخذ بالشين، وإن كان الجراح أكثر
من الشين أخذ بالجراح ولم يرد للشين، وجملة ذلك أنه إذا شجه في رأسه أو وجهه
شجة دون الموضحة فان علم قدرها من الموضحة وجب بقدرها من أرش
الموضحة، وإن اختلف قدرها من الموضحة والحكومة وجب أكثرهما وقد مضى
بيان ذلك، ولا تبلغ الحكومة فيما دون الموضحة أرش الموضحة.
وإن كانت الموضحة على الحاجب فأزالته وكان الشين أكثر من أرش الموضحة
وجب ذلك، لان الحاجب تجب بإزالته حكومة، فإذا انضم إلى ذلك الايضاح
لم ينقص عن حكومته.
(فرع) في آخر أول الفصلين للمصنف قوله (وان فرع إنسان) بالبناء للمجهول
مع التضعيف فأحدث حدثا في ثيابه من أحد السبيلين لم يلزم الجاني ضمان، لأنه
لم يصبه بنقص في جمال ولا منفعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن لم يحصل بالجناية نقص في جمال ولا منفعة بأن قطع أصبعا
زائدة أو قلع سنا زائدة أو أتلف لحية امرأة واندمل الموضع من غير نقص ففيه
وجهان (أحدهما) وهو قول أبى العباس بن سريج أنه لا شئ عليه لأنه جناية
لم يحصل بها نقص فلم يجب بها أرش، كما لو لطم وجهه فلم يؤثر (والثاني) وهو
قول أبي إسحاق أنه يجب في الحكومة لأنه اتلاف جزء من مضمون فلا يجوز
أن يعرا من أرش.
فعلى هذا ن كان قد قطع أصبعا زائدة قوم المجني عليه قبل الجنابة ثم يقوم
في أقرب أحواله إلى الاندمال ثم يجب ما بينهما من الدية، لأنه لما سقط اعتبار
قيمته بعد الاندمال قوم في أقرب الأحوال إليه، وهذا كما قلنا في ولد المغرور
بها لم تعذر تقويمه حال العلوق قوم في أقرب حال يمكن فيه التقويم بعد العلوق
وهو عند الوضع، فان قوم ولم ينقص قوم قبيل الجناية ثم يقوم والدم جار،
لأنه لابد أن تنقص قيمته لما يخاف عليه، فيجب بقدر ما بينهما من الدية،
134

وإن قلع سنا زائدة ولم تنقص قيمته قوم، وليس له خلف الزائدة سن أصلية،
ثم يقوم وليس له سن أصلية ولا زائدة، ويجب بقدر ما بينهما من الدية، وإن
أتلف لحية امرأة قوم لو كان رجلا وله لحية ثم يقوم ولا لحية له، ويجب بقدر
ما بينهما من الدية.
(فصل) وإن جنبي على رجل جناية لها أرش مقدر ثم قتله قبل الاندمال
دخل أرش الجناية في دية النفس، وقال أبو سعيد الإصطخري لا يدخل لان
الجناية انقطعت سرايتها بالقتل فلم يسقط ضمانها كما لو اندملت ثم قتله والمذهب
الأول لأنه مات بفعله قبل استقرار الأرش، فدخل في ديته كما لو مات من
سراية الجناية، ويخالف إذا اندملت فان هناك استقر الأرش فلم تسقط
(فصل) ويجب في قتل العبد قيمته بالغة ما بلغت لأنه مال مضمون
بالاتلاف لحق الآدمي بغير جنسه فضمنه بقيمته بالغه ما بلغت كسائر الأموال
وما ضمن مما دون النفس من الجزء بالدية كالأنف واللسان والذكر والأنثيين
والعينين واليدين والرجلين ضمن من العبد بقيمته، وما ضمن من الحر بجزء من
الدية كاليد والإصبع والأنملة الموضحة والجائفة ضمن من العبد بمثله من القيمة
لأنهما متساويان في ضمان الجناية بالقصاص والكفارة، فتساويا في اعتبار
ما دون النفس ببدل النفس، كالرجل والمرأة والمسلم والكافر
(فصل) وان قطع يد عبد ثم أعتق ثم مات من سراية القطع وجبت عليه
دية حر، لان الجناية استقرت في حال الحرية، ويجب للسيد من ذلك أقل الأمرين
من أرش الجناية وهو نصف القيمة أو كمال الدية، فإن كان نصف القيمة
أقل لم يستحق أكثر منه لأنه هو الذي وجب في ملكه، والزيادة حصلت في حال
لاحق له فيها، وإن كانت الدية أقل لم يستحق أكثر منها، لان ما نقص من
نصف القيمة بسبب من جهته وهو العتق.
(فصل) وان فقأ عيني عبد أو قطع يديه وقيمته ألفا دينار ثم أعتق ومات
بعد اندمال الجناية وجب على الجاني أرش الجناية، وهو قيمة العبد، سواء كان
الاندمال قبل العتق أو بعده، لان الجرح إذا اندمل استقر حكمه، ويكون ذلك
لمولاه لأنه أرش جناية كانت في ملكه، وان لم يندمل وسرى إلى نفسه وجب
135

على الجاني دية حر. قال المزني: يجب الأرش وهو ألفا دينار لان السيد ملك
هذا القدر بالجناية، فلا ينقص، وهذا خطأ لأن الاعتبار في الأرش بحال
الاستقرار، ولهذا لو قطع يدي رجل ورجليه وجب عليه ديتان، فإذا سرت
الجناية إلى النفس وجب دية اعتبارا بحال الاستقرار، وفى حال الاستقرار هو
حر فوجبت فيه الدية، ودليل قول المزني يبطل بمن قطع يدي رجل ورجليه ثم
مات فإنه وجبت ديتان ثم نقصت بالموت
(فصل) وان قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع حر آخر يده الأخرى ومات
لم يجب على الأول قصاص لعدم التكافؤ في حال الجناية وعليه نصف الدية لان
المجني عليه حرفي وقت استقرار الجناية. وأما الثاني ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبى الطيب بن سلمة أنه يجب عليه القصاص في الطرف
ولا يجب في النفس، لان الروح خرجت من سراية قطعين، وأحدهما يوجب
القود والآخر لا يوجب، فسقط كحرين قتلا من نصفه حر نصفه عبد
(والثاني) وهو المذهب أنه يجب عليه القصاص في الطرف والنفس لأنهما
متكافئان في حال الجناية، وقد خرجت الروح عن عمد محض مضمون، وإنما
سقط القود عن أحدهما لمعنى في نفسه فلم يسقط عن الآخر، كما لو اشترك حر
وعبد في قتل عبد، ويخالف الحرين إذا قتلا من نصفه حر ونصفه عبد، لان
كل واحد منهما غير مكافئ له حال الجناية، فان عفى على مال كان عليه نصف
الدية لأنهما شريكان في القتل، وللمولى الأقل من نصف قيمته يوم الجناية الأولى
أو نصف الدية، فإن كان نصف القيمة أقل أو مثله كان له ذلك، وإن كان أكثر
فله نصف الدية لان الحرية نقصت ما زاد عليه، والفرق بينه وبين المسألة قبلها
أن الجناية هناك من واحد وجميع الدية عليه، فقوبل بين أرش الجناية وبين
الدية، والجناية ههنا من اثنين والدية عليهما. والثاني جنى عليه في حال الحرية
فقوبل بين أرش الجناية، وبين النصف المأخوذ من الجاني على ملكه، وكان
الفاضل لورثته.
(فصل) وان قطع حر يد عبد ثم أعتق ثم قطع يده الأخرى نظرت، فان
اندمل الجرحان لم يجب في اليد الأولى قصاص، لأنه جنى عليه وهو غير مكافئ له
136

ويجب فيها نصف ديته ويكون للمولى ويجب في اليد الأخرى القصاص لأنه قطعها
وهو مكافئ له، وإن عفى على المال وجب عليه نصف الدية، وإن مات من
الجراحتين قبل الاندمال وجب القصاص في اليد الأخرى التي قطعت بعد عتقه
ولم يجب القصاص فيا لنفس لأنه مات من جنايتين، إحداهما توجب القصاص
والأخرى لا توجب، فإن اقتص منه في اليد وجب عليه نصف الدية لأنه مات
بجنايته، وقد استوفى منه ما يقابل نصف الدية، ويكون للمولى أقل لامرين من
نصف القيمة وقت الجناية أو نصف الدية
وإن عفى عن القصاص على مال وجب كمال الدية ويكون للمولى أقل الأمرين
من نصف القيمة وقت الجناية، أو نصف الدية، ولورثته الباقي، لان الجناية
الثانية في حال الحرية
(فصل) وان قطع حر يد عبد فأعتق ثم قطع آخر يده الأخرى ثم قطع
ثالث رجله ومات لم يجب على الأول القصاص في النفس ولا في الطرف لعدم
التكافؤ، ويجب عليه ثلث الدية ويجب على الآخرين القصاص في الطرف وفى
النفس على المذهب، فإن عفى عنهما كان عليهما ثلثا الدية، وفيما يستحق المولى
قولان (أحدهما) أقل الأمرين من أرش الجناية، أو ما يجب على هذا الجاني
في ملكه وهو ثلث الدية، لان الواجب بالجناية هو الأرش، فإذا أعتق انقلب
وصار ثلث الدية، فيجب أن يكون له أقل الأمرين، فإن كان الأرش أقل لم يكن
له أكثر منه، لأنه هول الذي وجب بالجناية في ملكه وما زاد بالسراية في حال
الحرية لا حق له فيه.
وإن كان ثلث الدية أقل لم يكن له أكثر منه لأنه هو الذي يجب على الجاني
في ملكه ونقص الأرش بسبب من جهته وهو العتق فلم يستحق أكثر منه
والقول الثاني يجب له أقل الأمرين من ثلث للدية أو ثلث القيمة لان الجاني
على ملكه هو الأول والآخران لا حق له في جنايتهما، فيجب أن يكون له أقل الأمرين
من ثلث الدية أو ثلث القيمة
فإن كان ثلث القيمة أقل لم يكن له أكثر منه، لأنه لما كان عبدا كان له هذا
القدر وما زاد وجب في حال الحرية فلم يكن له فيها حق، وإن كان ثلث الدية
137

أقل لم يكن له أكثر منه، لان ثلث القيمة نقص وعاد إلى ثلث الدية بفعله فلم
يستحق أكثر منه.
(فصل) إذا ضرب بطن مملوكة حامل بمملوك فألقت جنينا ميتا وجب فيه
عشر قيمة الام لأنه جنين آدمية سقط ميتا بجنايته فضمن بعشر بدل الام كجنين
الحرة، اختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتبر فيه قيمة الام، فقال المزني
وأبو سعيد الإصطخري: تعتبر قيمتها يوم الاسقاط لأنه حال استقرار الجناية
والاعتبار في قدر الضمان بحال استقرار الجناية، والدليل عليه أنه قطع يد
نصراني ثم أسلم ومات وجب فيه دية مسلم
وقال أبو إسحاق: تعتبر قيمتها يوم الجناية، وهو المنصوص لان المجني عليه
لم يتغير حاله فكان أولى الأحوال باعتبار قيمتها يوم الجناية، لأنه حال لوجوب
ولهذا لو قطع يد عبد ومات على الرق وجبت قيمته يوم الجناية، لأنه حال
الوجوب، وإن ضرب بطن أمة ثم أعتقت وألقت جنينا ميتا وجب فيه دية جنين
حر لأن الضمان يعتبر بحال استقرار الجناية، والجنين حر عند استقرار الجناية
فضمن بالدية.
(الشرح) إذا لم يبق للجناية شين بعد الاندمال أو بقي لها شين لم تنقص به
القيمة ولم يقص فلم تجب الحكومة، كما لو لطمه فاسود الموضع ثم زاد السواد.
وقال أبو إسحاق وأكثر أصحابنا: تجب عليه الحكومة، وهو المنصوص، لان
الشافعي رضي الله عنه قال: وان نتف لحية امرأة أو شاربها فعليه الحكومة أقل
من حكومة في لحية الرجل، لان الرجل له فيها جمال، ولا جمال للمرأة فيها،
ولان جملة الآدمي مضمونة، فإذا أتلف جزءا منه وجب أن يكون مضمونا
كسائر الأعيان، فإذا قلنا بهذا فإنه يقوم في أقرب أحواله إلى الاندمال، لأنه
لا بد أن ينقص، فإن لم ينقص منه قوم قبله، فإن لم ينقص قوم والدم جار.
وإن نتف لحية امرأة وأعدمها النبات قال أبو إسحاق المروزي: اعتبرتها بعبد
كبير فأقول: هذا العبد الكبير كم قيمته وله مثل هذه اللحية؟ فان قيل مائة، قلت
فكم قيمته ولا لحية له؟ فان قيل تسعون، وجب على الجاني عشر دية المرأة،
138

هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال الخراسانيون: يجب ما رآه الحاكم باجتهاده،
وإن قطع أنملة لها طرفان فإنه يجب في الطرف الأصل ديته ويجب في الزائدة
حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده، ولا يبلغ به أرش الأصلي. هذا نقل أصحابنا
البغداديين وقال الخراسانيون: إذا قطع أصبعا زائدة ففيه وجهان.
(أحدهما) يجب ما رآه الحاكم باجتهاده.
(والثاني) يقال: كم ينقص من قيمة العبد وقت الجناية. وإن قلع سنا زائدة
وهو الخارج عن سمت الأسنان ومن ورائه إلى داخل الفم سن أصلية فلم تنقص
قيمته بقلعها فإنه يقال: لو كان هذا عبدا كم كانت قيمته وله هذا السن الزائد
وليس له ما وراءه من السن الأصلي؟ لان الزائد يسد الفرجة إذا لم يكن له السن
الأصلية؟ فإن قيل مائة، قيل فكم قيمته وليس له السن الزائد ولا الأصلي الذي
من ورائه؟ فإن قيل تسعون علم أنه نقص عشر قيمته فيجب له عشر الدية.
(فرع) إذا كسر له عظما في غير الرأس والوجه فجبره فانجبر فإن عاد مستقيما
كما كان فقد قال القاضي أبو الطيب: هل تجب فيه الحكومة؟ فيه وجهان كما قلنا
فيه إذا جرحه جراحة لا أرش لها مقدر واندملت ولم يبق لهاشين
وقال الشيخ أبو حامد الأسفراييني: تجب الحكومة فيه وجها واحدا لأنه
لابد أن يبقى في العظم بعد كسره وانجباره ضعف. وقال ابن الصباغ والأول
أصح، وإن انجبر وبقى له شين وجبت فيه الحكومة أكثر مما لو عاد مستقيما،
وإن انجبر وبقى له شين وجبت فيه الحكومة أكثر من الحكومة إذا بقي الشين
من غير اعوجاج.
(فرع) وإن أفضى امرأة ثم التأم الجرح، قال الشافعي رحمه الله (لم تجب
الدية) وإن أجافه جائفة والتأمت الجائفة ففيه وجهان حكاهما أبو علي في الافصاح
(أحدهما) لا يجب أرش الجائفة وإنما يجب الحكومة كما قلنا فيه إذا أفضى
امرأة والتأم الجرح.
(والثاني) وهو اختيار القاضي أبى الطيب ولم يذكر المصنف غيره أن أرش
الجائفة يجب لان أرش الجائفة إنما وجب لوجوب اسمها، وان عاد الحاجز لم
تجب الدية، كما لو ذهب ضوء العين ثم عاد
139

(مسألة) ما ورد في قتل العبد أو فقأ عينه فإنه مضمون بالاتلاف لحق
الآدمي بغير جنسه فضمن بقيمته بالغة ما بلغت كسائر الأموال، فقولنا بالاتلاف
احتراز مما لو غصب ملك غيره وهو باق في يده فإنه مضمون برده، وقولنا لحق
الآدمي احتراز من الكفارة ومن جزاء الصيد الذي له مثل. وقولنا من غير جنسه
احتراز ممن غصب شيئا من ذوات الأمثال وتلف أو أتلفه، وأما ما دون النفس
من العبد فهو معتبر بالحر، فكل شئ وجب فيه من الحر الدية وجب فيه من
العبد قيمته، وكل شئ مضمون من الحر بحر ومقدر من الدية ضمن من العبد
بمثل ذلك الجزء من قيمته، وكل شئ ضمن من الحر بالحكومة ضمن من العبد
بما نقص من قيمته، وبه قال عمر وعلي رضي الله عنهما وابن المسيب
وعن أبي حنيفة روايتان، إحداهما كقولنا، والثانية ما لا منفعة فيه كالأذنين
والحاجبين فإن فيه ما نقص من قيمته، ونحن نوافقه على الحاجبين في العبد إلا
أنه يخالفنا في الحاجبين من الحر
وقال مالك: يضمن بما نقص من قيمته إلا للوضحة والمنقلة والمأمومة
والجائفة فإنه يضمن بجزء من قيمته، وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولا للشافعي
وليس بمشهور، والدليل على صحة ما قلناه أنه قول عمر وعلى ولا مخالف لهما في
الصحابة، فدل على أنه اجماع، ولأنه كائن حي يضمن بالقصاص والكفارة
فكانت أطرافه وجراحاته مضمونة ببدل مقدر من بدله كالحر، ومما أفدناه من
هذه الفصول هل تعتبر الجناية بحال الاستقرار أم بوقت حدوثها في موت الجنين
بضرب أمه، فذهب المزني وأبو سعيد الإصطخري إلى الأول، وقال أبو إسحاق
وأكثر أصحابنا يعتبر قيمتها يوم الجناية، وهو المنصوص، وقد مضى في الجنايات
بحثنا لهذا الخلاف والاخبار والآثار الواردة فيه. وما قرره المصنف في هذه
الفصل فعلى وجهه والله المستعان
140

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب العاقلة وما تحمله من الديات)
إذا قتل الحر حرا عمد خطأ وله عاقلة وجب جميع الدية على عاقلته، لما روى
المغيرة بن شعبة قال (ضربت امرأة ضرة لها بعمود فسطاطا، فقضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بديتها على عصبة القاتلة) وإن قتله خطأ وجبت الدية على
عاقلته، لأنه إذا تحمل عن القاتل في عمد الخطأ تخفيفا عنه مع قصده إلى الجناية
فلان يحمل عن قاتل الخطأ ولم يقصد الجناية أولى، ولان الخطأ وعمد الخطأ يكثر
فلو أوجبنا ديتهما في مال الجاني أجحفنا به، وإن قطع أطرافه خطأ أو عمد
خطأ ففيه قولان.
قال في القديم (لا تحمل العاقلة ديتهما لأنه لا يضمن بالكفارة ولا تثبت فيه
القسامة، فلم تحمل العاقلة بدله كالمال
وقال في الجديد (تحمل العاقلة ديتها، لان ما ضمن بالقصاص والدية وخففت
الدية فيه بالخطأ حملت العاقلة بدله كالنفس) فعلى هذا تحمل ما قل منه وكثر، كما
تحمل ما قل وكثر من دية النفس. وان قتل عمدا أو جنى على طرفه عمدا لم تحمل
العاقلة ديته، لان الخبر ورد في الحمل عن القاتل في عمد الخطأ تخفيفا عنه. لان
لم يقصد القتل، والعامد قصد القتل فلم يلحق به في التخفيف، وإن وجب له
القصاص في الطرف فاقتص بحديدة مسمومة فمات فعليه نصف الدية، وهل تحمل
العاقلة ذلك أم لا؟ فيه وجهان
(أحدهما) تحمله، لأنا حكمنا بأنه ليس بعمد محض
(والثاني) لا تحمله، لأنه قصد القتل بغير حق فلم تحمل العاقلة عنه. وان
وكل من يقتص له في النفس ثم عفا وقتل الوكيل ولم يعلم بالعفو وقلنا إن
العفو يصح ووجبت الدية على الوكيل فهل تحملها العاقلة؟ فيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق انه لا تحملها العاقلة، وهو الصحيح، لأنه
تعمد القتل فلم تحمل العاقلة عنه، كما لو قتله بعد العلم بالعفو
141

(والثاني) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة انه تحملها العاقلة، لأنه
لم يقصد الجناية.
(فصل) وإن قتل عبدا خطأ أو عمد خطأ ففي قيمته قولان (أحدهما) أنها
تحملها العاقلة، لأنه يجب القصاص والكفارة بقتله فحملت العاقلة بدله كالحر،
(والثاني) أنه لا تحملها العاقلة لأنه مال فلم تحمل العاقلة بدله كسائر الأموال.
(الشرح) حديث المغيرة بن شعبة ولفظه (أن امرأة ضربتها ضربتها بعمود
فسطاطا فقتلتها وهي حبلى) فأتى فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقضى فيها على عصبة
القاتلة بالدية في الجنين غرة، فقال عصبتها: أندى ما لا طعم ولا شرب ولا
صاح ولا استهل، مثل ذلك يطل؟ فقال سجع مثل سجع الاعراب) رواه
أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي ولم يذكر اعترض العصبة وجوابه.
وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححاه من حديث
ابن عباس وأخرجه عبد الرزاق عن حمل بن مالك وكذلك البيهقي، رواه أيضا
من طريق حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن طاوس، وأخرجه البخاري في
الاعتصام بألفاظ مختلفة.
أما اللغات فقوله (العاقلة وما تحمله) العاقلة مأخوذة من العقل وهو الشد
والربط، ومنه قيل لمن له حجار ونهى عاقل، وهو ضد الحمق. قال ابن الأنباري
رجل عاقل وهو الجامع لامره ورأيه، مأخوذ من عقلت البعير إذا جمعت
قوائمه. وفى الحديث (القرآن كالإبل المعقلة) والعقل في العروض إسقاط الياء
من مفاعلين بعد اسكانها في مفاعلين فيصير مفاعلن والعقل الدية وعقل القتيل يعقله
وداه، وعقل عنه أدى جنايته وذلك إذا لزمته دية فأعطاها عنه، وهذا هو الفرق
بين عقلته وعقلت له وعقلت عنه، وعقلت له دم فلان إذا ترك القود للدية.
قالت كبشة أخت عمرو بن معد يكرب:
وأرسل عبد الله إذ حان يومه * إلى قومه لا تعقلوا لهم دمى
وإنما قيل للدية عقل لأنهم كانوا يأتون بالإبل فيعقلونها بفناء ولى المقتول،
والعاقلة العصبة والقرابة من قبل الأب الذين يعطون دية قتل الخطأ، وهي صفة
142

جماعة عاقلة وأصلها اسم فاعلة من الفعل. وفى اللسان قال (ومعرفة العاقلة أن
ينظر إلى إخوة الجاني من قبل الأب فيحملون من تحمل العاقلة، فإن احتملوها
أدوها في ثلاث سنين، وإن لم يحتملوها رفعت إلى بنى جده، فإن لم يحتملوها
رفعت إلى بنى جد أبيه، فإن لم يحتملوها رفعت إلى بنى جد أبى جده، ثم هكذا
لا ترفع عن بنى أب حتى يعجزوا، قال ومن في الديوان ومن لا ديوان له
في العقل سواء.
وقال أهل العراق هم أصحاب الدواوين، قال إسحاق بن منصور، قلت لأحمد
ابن حنبل من العاقلة؟ فقال القبيلة إلا أنهم يحملون بقدر ما يطيقون، قال فإن
لم تكن عاقله لم تجعل في مال الجاني، ولكن تهدر عنه. وقال إسحاق إذا لم تكن
العاقلة أصلا فإنه يكون في بيت المال ولا تهدر الدية
والفسطاط بيت الشعر وفيه لغات فسطاط وفستاط وفستاط. وفسطاط المصر
مجتمع أهله حول جامعه، ومدينة الفسطاط مصر حماها الله، وهي الآن حي في
مدينة القاهرة، ويقال لها مصر القديمة، وهي المدينة التي بناها عمرو بن العاص
وقال الزمخشري الفسطاط ضرب من الأبنية.
أما الأحكام، فإنه إذا قتل الحر حرا خطأ محضا أو عمد خطأ كانت دية
المقتول على عاقلة القاتل، وبه قال أكثر أهل العلم، منهم مالك وأبو حنيفة وأحمد
وقال الأصم وابن علية والخوارج يجب الجميع في مال القاتل، وقال علقمة وابن أبي
ليلى وابن شبرمة وعثمان البتي وأبو ثور دية الخطأ المحض على العاقلة، وأما
دية العمد الخطأ ففي مال القاتل
دليلنا ما روى المغيرة بن شعبة أن امرأتين كانتا تحت رجل من هذيل فضربت
إحداهما الأخرى بمستلح أو بعمود الفسطاط، وقيل رمتها بحجر فقتلتها وأسقطت
جنينها، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم بعقلها على العاقلة، وفى جنينها غرة عبد
أو أمة، فإذا حملت العاقلة دية عمد الخطأ فلان تحمل دية الخطأ المحض أولى.
وروى أن عمر رضي الله عنه ذكرت عنده امرأة معيبه بسوء فأرسل إليها رسولا
فأجهضت ذا بطنها في الطريق من فزعها منه، فاستشار الصحابة رضي الله عنهم
في ذلك فقال عثمان، وعبد الرحمن رضي الله عنهما إنما أنت مؤدب ولا شئ عليك
143

فقال لعلي رضي الله عنه ما تقول؟ فقال إن اجتهدا فقد أخطأ وإن علما فقد
غشاك، عليك الدية، فقال عزمت عليك لتقسمنها على قومك، يعنى على عاقلي
ولم ينكر عينهما عثمان ولا عبد الرحمن.
وروى أن مولاة لصفية جنت جناية فقضى بأرش جنايتها على عاقلة صفية
ولا مخالف لهم في الصحابة فدل على أنه إجماع
إذا ثبت هذا فهل تحمل العاقلة ما دون دية النفس؟ قال الشافعي رضي الله عنه
في الجديد (تحمل العاقلة ما قل أو كثر من الأرش) وبه قال عثمان البتي،
وقال في القديم (تحمل العاقلة دية النفس ولا تحمل ما دون دية النفس، بل تجب
في مال الجاني.
وحكى بعض أصحابنا أن قوله في القديم أن العاقلة تحمل ثلث الدية فأكثر
ولا تحمل ما دون ثلث الدية، وبه قال مالك وابن المسيب وعطاء وأحمد وإسحاق
وقال الزهر، (تحمل العاقلة ما فوق ثلث الدية، فأما ثلث الدية فما دونه ففي مال
الجاني وقال أبو حنيفة تحمل أرش الموضحة فما زاد وما دون أرش الموضحة ففي
مال الجاني فإذا قلنا بقوله القديم فوجهه أن ما دون دية النفس فيجرى ضمانه
مجرى ضمان الأموال بدليل أنه لا يثبت فيه القصاص ولا تجب فيه الكفارة فلم
تحمل العاقلة كما لو أتلف مالا.
وإذا قلنا بقوله الجديد فوجهه أن من حمل دية النفس حمل ما دون الدية
كالجاني، ولان العاقلة إنما حملت الدية عن القاتل في الخطأ وعمد الخطأ لئلا يجحف
ذلك بماله، وهذا يوجد فيما دون دية النفس
قال الشيخ أبو حمد الأسفراييني وهل تحمل العاقلة دية الجنين؟ فيه قولان
قال في الجديد تحمل ديته بكل حال لما ذكرناه من حديث المغيرة بن شعبة. وقال
في القديم لا تحملها، بل يكون في مال الجاني، وبه قال مالك، لان العاقلة
لا تحمل ما دون ثلث الدية، فإن وجب له القصاص في الطرف فاقتص بحديدة
مسمومة فمات وجب على المقتص نصف الدية، وهل تحمله عنه العاقلة؟ فيه
وجهان (أحدهما) تحمله عنه لأنه ليس بعمد محض (والثاني) لا تحمله العاقلة
لأنه قصد قتله بغير حق، هكذا أوضح صاحب البيان
144

ومما يدل على سماحة شرع الله أنه إن قتل الحر عبدا لغيره خطأ أو عمد خطأ
أو جنى على طرفه خطأ أو عمد خطأ فهل تحمل عاقلته بدله؟ فيه قولان. أحدهما
لا تحمله العاقلة بل يكون في مال الجاني، وبه قال مالك والليث وأحمد وإسحاق
وأبو ثور، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تحمل العاقلة
عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا) والثاني تحمله العاقلة، وبه قال الزهري
والحكم وحماد وهو الأصح لأنه يجب بقتله القصاص والكفارة، فحملت العاقلة
بدله كالحر لحر.
وأما الخبر فقيل إنه موقوف على ابن عباس والقياس يقدم على الموقوف،
وان صح كان تأويله لا تحمله العاقلة عن عبد إذا جنى. هذا مذهبنا، وقال
أبو حنيفة تحمل العاقلة بدل نفس العمد ولا تحمل ما دون بدل النفس. دليلنا
أن من حملت العاقلة بدل نفسه حملت ما دون بدل نفسه كالحر وعكسه البهيمة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ومن قتل نفسه خطأ لم تجب الدية بقتله ولا تحمل العاقلة ديته،
لما روى أن عوف بن مالك الأشجعي ضرب مشركا بالسيف فرجع السيف عليه
فقتله، فامتنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وقالوا قد
أبطل جهاده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل مات مجاهدا، ولو وجبت
الدية على عاقلته لبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
(فصل) وما يجب بخطأ الامام من الدية بالقتل ففيه قولان (أحدهما) يجب
على عاقلته لما روى أن عمر رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه في جنين المرأة
التي بعث إليها عزمت عليك أن لا تبرح حتى تقسمها على قومك. والثاني يجب
في بيت المال لان الخطأ يكثر منه في أحكامه واجتهاده، فلو أوجبنا ما يجب
بخطئه على عاقلته أجحفنا بهم، فإذا قلنا إنه يجب على عاقلته وجبت الكفارة في
ماله كغير الامام، وإذا قلنا إنها تجب في بيت المال ففي الكفارة وجهان
(أحدهما) أنها تجب في ماله لأنها لا تتحمل (والثاني) أنها تجب في بيت المال
لأنه يكثر خطؤه، فلو أوجبنا في ماله أجحف به.
145

(فصل) وما يجب بجناية العمد يجب حالا لأنه بدل متلف لا تتحمله العاقلة
بحال فوجب حالا كغرامة المتلفات وما يجب بجناية الخطأ وشبه العمد من الدية
يجب مؤجلا، فإن كانت دية كاملة وجبت في ثلاث سنين، لأنه روى ذلك عن
عمرو ابن عباس رضي الله عنهما، ويجب في كل سنة ثلثها، فإن كان دية نفس
كان ابتداء الأجل من وقت القتل لأنه حق حتى مؤجل فاعتبر الأجل من حين وجود
السبب كالدين المؤجل، وإن كان دية طرف فإن لم تسر اعتبرت المدة من وقت
الجناية لأنه وقت لوجوب، وإن سرت إلى عضو آخر اعتبرت المدة من وقت
الاندمال، لان الجناية لم تقف فاعتبرت المدة من وقت الاستقرار، وإن كان
الواجب أقل من دية نظرت فإن كان ثلث الدية أو دونه لم تجب الا في سنة لأنه
لا يجب على العاقلة شئ في أقل من سنه، فإن كان أكثر من الثلث ولم يزد على
الثلثين وجب في السنة الأولى الثلث ووجب الباقي في السنة الثانية، وإن كان
أكثر من الثلثين ولم يزد على دية وجب في السنة الأولى الثلث وفى الثانية الثلث
وفى الثالثة الباقي
وإن وجب بجنايته ديتان فإن كانتا لاثنتين بأن قتل اثنين وجب في كل سنه
لكل واحد منهما ثلث الدية، لأنهما يجبان لمستحقين فلا ينقص حق كل واحد
منهما في كل سنه من الثلث، فإن كانتا لواحد بأن قطع اليدين والرجلين من رجل
وجب الكل في ست سنين في كل سنه ثلث دية لأنها جناية على واحد فلا يجب
له على العاقلة في كل سنه أكثر من ثلث دية
وان وجب بجناية الخطأ أو عمد الخطأ دية ناقصه، كدية الجنين والمرأة
ودية أهل الذمة ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يجب في ثلاث سنين في كل سنه ثلثها لأنها دية نفس فوجب
في كل سنه ثلثها كالدية الكاملة
(والثاني) أنه كأرش الطرف إذا نقص عن الدية لأنه دون الدية الكاملة
فعلى هذا إن كان ثلث دية وهو كدية اليهودي والنصراني أو أقل من الثلث وهو
دية المجوسي ودية الجنين وجب الكل في سنه واحدة، وإن كان أكثر من الثلث
وهو دية المرأة وجب في السنة الأولى ثلث دية كامله ويجب ما زاد في السنة
146

الثانية كما قلنا في الطرف، وإن كان قيمة عبد وقلنا إنها على العاقلة ففيه وجهان
(أحدهما) أنها تقسم في ثلاث سنين، وان زاد حصة كل سنة على ثلث الدية
لأنها دية نفس.
(والثاني) تؤدى في كل سنة ثلث دية الحر
(الشرح) الخبر الذي ساقه المصنف أن عوف بن مالك الأشجعي قتل نفسا
وامتنع الصحابة عن الصلاة عليه إلى آخر ما ساقه كبوة جواد، فليست خطأ من
النساخين ولا من الطباعين، فالعمراني في البيان ينقلها عن أبي إسحاق بغير
تصرف، وقد قابلنا مخطوطة دار الكتب والوثائق العربية على النسخة المصورة
بالجامعة العربية فوجدناها عوف بن مالك الأشجعي إلا أن العمراني يقول عقب
هذه الرواية. وقيل إن الذي رجع عليه سيفه هو أبو عوف وهو مالك،
وبالرجوع إلى كتب الصحابة لم نجد مالكا الأشجعي فيهم.
والذي جعلنا نهتم هذا الاهتمام أن عوفا له أحاديث رواها عنه أبو هريرة
وأبو مسلم الخولاني وماتا قبله بمدة.
وجبير بن نفير وأبو إدريس الخولاني وراشد بن سعد ويزيد بن الأصم
وشريح بن عبيد والشعبي وسالم أبو النضر وسليم بن عامر وشداد بن عمار، وشهد
غزوة مؤتة وقال: رافقني مددي من أهل اليمن ليس معه غير سيفه الحديث
بطوله و _ يه قوله صلى الله عليه وسلم: هل أنتم تازكو لي أمرائي؟ رواه أحمد
في مسنده ج 6: 26، 27
وقال الواقدي: كانت راية أشجع يوم الفتح مع عوف بن مالك وهذه
الرواية تصحح خطأ وقع في تقريب ابن حجر أنه من مسلمة الفتح ج 2، 90
وقال جعفر بن برقان، ثنا ثابت بن الحجاج الكلابي قال شتونا في حصن دون
القسطنطينية، وعلينا عوف بن مالك فأدركنا رمضان فقال عوف (فذكر حديثا)
قال الواقدي وغيره مات عوف سنة ثلاث وسبعين هذا ما هو معروف عن
عوف بن مالك بإجماع أهل العلم بالاخبار، منهم بالذهبي في سير أعلام النبلاء
ج 2، 348، 349 وابن عبد البر في الاستيعاب، ج 3، 1226 وابن حجر في
147

التقريب والإصابة والفتح والتلخيص. فإذا ثبت هذا رفضنا كل الرفض هذه
الرواية التي ساقها، وهو قد ساقها بحسن نية من غير تحقيق، ولو أعمل شيخنا
رحمه الله فكره قليلا لما أعياه زيفها.
بقي أن نعرف حقيقة الخبر يقول ابن عبد البر في الاستيعاب جزء 2، 786
قرأت على سعيد بن نصر أن قاسم بن أصبغ حدثهم: حدثنا محمد بن وضاح حدثنا
أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا إياس
ابن سلمة بن الأكوع قال: أخبرني أبي قال: لما خرج عمى عامر بن سنان إلى
خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يرتجز بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفيهم النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يسوق الركاب وهو يقول:
تالله لولا الله ما اهتدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا
إن الذين بغوا علينا * إذا أرادوا فتنة أبينا
ونحن عن فضك ما استغنينا * فثبت الاقدام ان لاقينا
وأنزل سكينة علينا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قالوا عامر يا رسول الله،
فقال غفر لك ربنا. قال وما استغفر لانسان قط يخصه بالاستغفار إلا استشهد
قال فلما سمع ذلك عمر بن الخطاب قال يا رسول الله لو متعتنا بعامر، فاستشهد
يوم خيبر. قال سلمة وبارز عمى يومئذ مرحبا اليهودي فقال مرحب
قد علمت خيبر انى مرحب * شاكي السلاح بطل مجرب
إذا الحروب أقبلت تلهب
فقال عامر
قد علمت خيبر أنى عامر * شاكي السلاح بطل مغامر
واختلفا ضربتين، فوقع سيف مرحب في ترس عامر ورجع سيفه على ساقه
فقطع أكحله فكانت فيها نفسه، قال سلمة فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقلت يا رسول الله بطل عمل عامر؟ فقال من قال ذلك؟ فقلت ناس من
أصحابك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد كذب من قال ذلك؟ بل له
148

أجره مرتين (ثم ساق بقية القصة، وهو أن عليا رضي الله عنه هو الذي برز
لمرحب وهد بناءه بسيفه هدا)
أما الأحكام فإنه إذا جنى الرجل على نفسه أو على أطرافه عمدا كان ذلك
هدرا، لان أرش العمد في مال الجاني، والانسان لا يثبت له مال على نفسه،
وإن جنى على نفسه خطأ أو على أطرافه كانت جنايته هدرا، وهو قول أكثر
أهل العلم، منهم ربيعة ومالك والثوري وأصحاب الرأي، وهي الرواية الثانية عن
أحمد بن حنبل، وقد رجحها ابن قدامة على الرواية التي جعلها القاضي أظهرهما،
وهي أن على عاقلته ديته لورثته إن قتل نفسه أو أرش جرحه لنفسه إذا كان
أكثر من الثلث.
وهذا قول الأوزاعي وإسحاق لما روى أن رجلا ساق حمارا فضربه بعصا
كانت معه فطارت منه شظية ففقأت عينه، فجعل عمر ديته على عاقلته وقال هي يد
من أيدي المسلمين لم يصبها اعتداء على أحد. وقالوا ولم نعرف له مخالفا في عصره
ولأنها جناية خطأ فكان عقلها على عاقلته، كما لو قتل غيره.
فعلى هذه الرواية إن كانت العاقلة الورثة لم يجب شئ لأنه لا يجب للانسان
شئ على نفسه، وإن كان بعضهم وارثا سقط عنه ما يقابل نصيبه وعليه ما زاد
على نصيبه، وله ما بقي إن كان نصيبه من الدية أكثر من الواجب عليه. دليلنا
أن عامر بن الأكوع بارز مرحبا اليهودي فارتد عليه سيفه فقطع أكحله فكانت
فيها نفسه، وعلم بأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان في خيبر، ولم
يجعل ديته على عاقلته، ولو وجبت عليهم لبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن أحمد فيمن جنايته على نفسه شبه عمد فهل تجرى مجرى الخطأ؟ على وجهين
(أحدهما) هي كالخطأ لأنها تساويه فيما إذا كانت على غيره (والثاني) لا تحمله
العاقلة لأنه لا عذر له فأشبه العمد المحض
(فرع) وأما خطأ الامام والحاكم في غيرا لحكم والاجتهاد فهو على عاقلته
باتفاق أهل العلم إذا كان مما تحمله العاقلة، وفارق ما إذا كان الخطأ باجتهاده ففيه
قولان (أحدهما) أن عاقلته تحمل ذلك عنه لما ذكرناه من أثر عمر رضي الله عنه
في المرأة التي أجهضت، وهو إحدى الروايتين عن أحمد (والثاني) وهو الرواية
149

الثانية عن أحمد: يجب ذلك في بيت المال، لان الخطأ يكثر منه في اجتهاده
وأحكامه، فإيجابه على عاقلته فيه إجحاف بهم، وبهذا قال الأوزاعي والثوري
وأبو حنيفة وإسحاق، لأنه نائب عن الله تعالى في أحكامه وأفعاله فكان أرش
جنايته في مال الله سبحانه.
فإذا قلنا تجب دية ذلك على عاقلته وجبت كفارة قتله في الخطأ وعمد الخطأ
في ماله. وإذا قلنا تجب دية ذلك في بيت المال ففي الكفارة وجهان (أحدهما) تجب
في بيت المال لما ذكرناه في الدية (والثاني) تجب في ماله لان الكفارة لا تحملها
العاقلة بحال.
(مسألة) فإذا قتل غيره عمدا أو جنى على طرفه عمدا وجبت الدية في مال
الجاني، سواء كانت الجناية مما يجب فيها القصاص أو مما لا يجب فيها القصاص،
وهذا قضية الأصل، وهو أن بدل المتلف يجب على المتلف وأرش الجناية على
الجاني لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يجنى جان الا على نفسه) وبهذا قال أحمد.
وقال مالك: إن كانت لا قصاص لها مثل الهاشمة والمنقلة والمأمومة والجائفة،
فإن العاقلة تحمله، وإن كانت الجناية عمدا.
دليلنا أن الخبر إنما ورد في حمل العاقلة دية الخطأ تخفيفا على القاتل لأنه لم
يقصد القتل والعامد قصد القتل فلم يلحق به في التخفيف، ولأنه أرش جناية
عمد محض فلم تحمله العاقلة، كما لو قتل الأب ابنه
إذا ثبت هذا فإن أرش العمد يجب حالا، وبهذا قال مالك وأحمد، وقال
أبو حنيفة يجب مؤجلا في ثلاث سنين، لأنها دية آدمي فكانت مؤجلة كدية
شبه العمد. دليلنا أن ما وجب بالعمد المحض كان حالا كالقصاص وأرش أطراف
العبيد ولا يشبه شبه العمد، لان القاتل معذور لكونه لم يقصد القتل، وإنما
أفضى إليه من غير اختيار منه فأشبه الخطأ، ولهذا تحمله العاقلة، ولان القصد
التخفيف على العاقلة الذين لم تصدر منهم جناية. وهذا موجود في الخطأ وشبه
العمد على السواء. وأما العمد فإنه يحمله الجاني في غير حال العذر فوجب أن
يكون ملحقا ببدل سائر المتلفات. قال العمراني في الخطأ وشبه العمد. وقال
بعض الناس يجب حالا. وقال ربيعة: يجب مؤجلا في خمس سنين. اه‍
150

وقال الشافعي رحمه الله: ولم أعلم خلافا فيما علمته أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين. هكذا أورد المزني في المختصر
قال الرافعي: تكلم أصحابنا في ورود الخبر بذلك، فمنهم من قال: ورد ونسبه
إلى رواية علي عليه السلام ومنهم من قال ورد أنه صلى الله عليه وسلم قضى
بالدية على العاقلة.
وأما التأجيل فلم برد به الخبر، وأخذ ذلك من اجماع الصحابة وقال ابن
المنذر وما ذكره الشافعي لا نعرفه أصلا من كتاب ولا سنة وقد سئل عن ذلك
أحمد بن حنبل فقال لا نعرف فيه شيئا، فقيل إن أبا عبد الله يعنى الشافعي
رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال لعله سمعه من ذلك المدني فإنه كان حسن
الظن به يعنى إبراهيم بن أبي يحيى وتعقبه ابن الرفعة بأن من عرف حجة
على من لم يعرف.
وخرج العمراني كلام الشافعي على نحو ينفى أنه عزا الثلاث سنين إلى النبي
صلى الله عليه وسلم وإنما هو قال لا أعلم خلافا أن الدية التي قضى بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم على العاقلة أنها في ثلاث سنين، فهو ينفى الخلاف في المدة
ويثبت الدية على العاقلة التي قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمزني
اختصر النص الذي ورد في الام.
وأقول ان البيهقي روى من طريق ابن لهيعة عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن
المسيب قال من السنة أن تنجم الدية في ثلاث سنين، وقد وافق على نقل اجماع
الصحابة الترمذي في جامعه وابن المنذر وقد روى التأجيل ثلاث سنين ابن أبي
شيبة وعبد الرزاق والبيهقي عن عمر، وهو منقطع لأنه من رواية الشعبي
عنه، ورواه عبد الرزاق أيضا عن ابن جريج عن أبي وائل قال (ان عمر بن
الخطاب جعل الدية الكاملة في ثلاث سنين وجعل النصف في سنتين وما دون
النصف في سنة، وروى البيهقي التأجيل المذكور عن علي رضي الله عنه
إذا ثبت هذا فأول ابتداء الأجل إذا كانت الجناية على النفس من حين الموت
لأنه حال استقرار الجناية. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
151

وقال أصحابنا الخراسانيون: من حين الترافع إلى القاضي، وإن كانت الجناية
على الطرف، فإن لم يسر إلى طرف آخر كان ابتداء الأجل من حين الجناية لأنه
حين وجوبه، وإن سرت إلى طرف آخر مثل أن قطع أصبعه فسرت الجناية إلى
كفه كان ابتداء الأجل من حين الأبد مال لأنه وقت استقرار الجناية
وحكى أصحابنا الخراسانيون وجها آخر أن دية الإصبع من حين الجناية ودية
ما زاد عليها من الاندمال والأول أصح. هذا مذهبنا ومذهب أحمد.
وقال أبو حنيفة: أول مدة الأجل من حين يحكم القاضي على العاقلة بالدية.
قالوا لأنها مدة مختلف فيها فكان ابتداؤها من حين حكم الحاكم كمدة العنة.
دليلنا أنه مال يحل بحلول الأجل فكان ابتداؤه من حين وجوبه كالدين المؤجل
والسلم، وننازعهم ادعاء الخلاف فيها فإن الخوارج لا يعتد بخلافهم
(فرع) إذا كان الواجب أقل من الدية نظرت فإن كان ثلث الدية فما
دون وجب في آخر السنة الأولة، لان العاقلة لا تحمل حالا، وإن كان
أكثر من الثلث ولم يزد على الثلثين وجب في آخر السنة الأولة ثلث الدية وفى
آخر السنة الثانية الباقي. وإن كان أكثر من الثلثين ولم يزد على الدية وجبت في
آخر السنة الأولة ثلث الدية وفى السنة الثانية الثلث وفى آخر الثالثة الباقي. وإن كان
الواجب أكثر من دية بأن وجب بجنايته ديتان فإن كانت لابنين حملت
العاقلة لكل واحد من المجني عليهما ثلث الدية في كل سنه. هذا نقل أصحابنا
العراقيين. وقال الخراسانيون فيه وجهان
(أحدهما) وهو الأصح، تحمل لكل واحد من المجني عليهما ثلث الدية
في كل سنة.
(والثاني) أن العاقلة لا تحمل في كل سنه الا ثلث الدية لواحد للمجني عليهما
وإن كانتا لواحد مثل أن قطع يديه ورجليه لم تحملها العاقلة الا في ست سنين في
كل سنة ثلث الدية. وهذا نقل أصحابنا العراقيين. وقال الخراسانيون فيه وجهان
(أحدهما) هذا (والثاني) أن العاقلة تحملها في ثلاث سنين
(فرع) إذا وجب بالخطأ أو بعمد الخطأ دية ناقصه عن دية الحر المسلم
كدية المرأة ودية الجنين والكافر، ففيه وجهان
152

(أحدهما) أنها تقسم في ثلاث سنين، وإن زادت حصة كل سنة على ثلث
الدية أو نقص لأنه بدل نفس (والثاني) أنه كأرش الطرف فتحمل كل سنة ثلث
دية الحر المسلم اعتبارا بما تحمله من دية الحر المسلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والعاقلة هم العصبات الذين يرثون بالنسب أو الولاء غير الأب
والجد والابن وابن الابن. والدليل عليه ما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في المرأة بديتها على عصبة العاقلة، وأما الأب
والجد والابن وابن الابن فلا يعقلون، فلما روى جابر رضي الله عنه أن امرأتين
من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل النبي
صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وبر أزواجها وولدها، وإذا ثبت
هذا في الولد ثبت في الأب لتساويهما في العصبة، ولان الدية جعلت على العاقلة
إبقاء على القاتل حتى لا يكثر عليه فيجحف به، فلو جعلناه على الأب والابن
أجحفنا به، لان مالهما كماله، ولهذا لا تقبل شهادته لهما كما لا تقبل لنفسه،
ويستغنى عن المسألة بما لهما كما يستغنى بمال نفسه.
وإن كان في بنى عمها ابن لها لم يحمل منهم لما ذكرناه، وإن لم يكن له عصبة
نظرت فإن كان مسلما حملت عنه من بيت المال، لان مال بيت المال للمسلمين وهم
يرثونه كما ترث العصبات.
وإن كان ذميا لم يحمل عنه في بيت المال، لان مال بيت المال المسلمين وهم
لا يرثونه، وإنما ينقل ماله إلى بيت المال فيئا. واختلف قوله في المولى من أسفل
فقال في أحد القولين لا يعقل عنه وهو الصحيح، لأنه لا يرثه فلم يعقله وقال
في الآخر يعقله لأنه يعقله المولى فعقل عنه المولى كالأخوين، فعلى هذا يقدم على
بيت المال لأنه من خواص العاقلة فقدم على بيت المال كالمولى من أعلى، وإن لم
يكن له عاقله ولا بيت مال فهل يجب على القاتل؟ فيه وجهان بناء على أن الدية
هل تجب على القاتل؟ ثم تتحمل عنه العاقلة أو تجب على العاقلة ابتداء، وفيه
قولان (أحدهما) تجب على القاتل ثم تنتقل إلى العاقلة لأنه هو الجاني فوجبت
153

الدية عليه، فعلى هذا تجب الدية في ماله. والقول الثاني: تجب على العاقلة ابتداء
لأنه لا يطالب غيرهم، فعلى هذا لا تجب عليه
وقال أبو علي الطبري: إذا قلنا إنها تجب على القاتل عند عدم بيت المال حمل
الأب والابن ويبدأ بهما قبل القاتل، لأنا لم نحمل عليهما ابقاء على القاتل،
وإذا حمل على القاتل كانا بالحمل أولى
قال الشيخ الامام حرس الله مدته: ويحتمل عندي أنه لا يجب عليهما لأنا
إنما أوجبنا على القاتل على هذا القول، لأنه وجب عليه في الأصل، فإذا لم يجد
من يتحمل بقي الوجوب في محله، والأب والابن لم يجب عليهما في الأصل ولا
حملا مع العاقلة فلم يجب الحمل عليهما
(الشرح) حديث المغيرة بن شعبة مضى تخريجه. أما الأحكام فإن العاقلة
هم العصبة، ولا يدخل فيهم أبو الجاني ولا جده وان علا ولا ابنه ولا ابن ابنه
وان سفل. وقال مالك وأبو حنيفة: يدخلون، وعن أحمد بن حنبل روايتان:
إحداهما كل العصبة من العاقلة يدخل فيه آباء القاتل وأبناؤه واخوته وعمومته
وأبناؤهم، وهذا اختيار أبى بكر والشريف أبي جعفر لما روى عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده قال (قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عقل المرأة بين
عصبتها من كانوا لا يرثون منها شيئا الا ما فضل عن ورثتها، وان قتلت فعقلها
بين ورثتها) رواه أبو داود، ولأنهم عصبة فأشبهوا الاخوة، يحققه عندهم أن
العقل موضوع على التناصر وهم من أهله، ولان العصبة في تحمل العقل كهم في
الميراث في تقديم الأقرب فالأقرب، وآباؤهم وأبناؤه أحق العصبات بميراثه فكانوا
أولى بتحمل عقله.
والرواية الثانية: ليس آباؤه وأبناؤه من العاقلة دليلنا ما أخرجه الشيخان
وغيرهما عن أبي هريرة قال (اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى
فقتلتها فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه فحكم بدية المرأة على عاقلتها وورثها
ولدها ومن معهم)
وفي رواية (ثم ماتت العاقلة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ميراثها لبنيها والعقل على العصبة)
154

رواه أبو داود والنسائي. وفى رواية عن جابر بن عبد الله قال (فجعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلتها وبرأ زوجها وولدها. قال فقالت عاقلة
المقتولة ميراثها لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثها لزوجها وولدها)
رواه أبو داود.
أما حديث عمرو بن شعيب الذي أخد به أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى
الروايتين عنه فقد أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجة والدارقطني وفى إسناده
محمد بن راشد الدمشقي المكحولي، وثقه أحمد وابن معين والنسائي. وقال دحيم
يذكر بالقدر، وقال النسائي في موضع ليس به بأس. وقال في موضع آخر ليس
بالقوى، وال ابن حبان كثير المناكير في روايته فاستحق ترك الاحتجاج به،
وقال أبو زرعة لم يكتب عنه أبو مهر لأنه كان يرى الخروج على الأئمة، هذا
بالإضافة إلى ما قيل في إسناد عمرو بن شعيب، على أن القاعدة عند أصحابنا من
أهل الحديث أن المتفق عليه مقدم على ما سواهما ومن ثم سقط الاحتجاج
بحديث عمرو بن شعيب وتعين العمل بحديث أبي هريرة.
وروى أبو رمثة قال (خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم فرأيت برأسه ردع حناء وقال لأبي هذا إفك؟ قال نعم. قال أما إنه
لا يجنى عليك ولا تجنى عليه، وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ولا تزر
وازرة وزر أخرى) رواه أحمد وأبو داود. ومعلوم أنه لم يرد أنه لا يجرحك
ولا تجرحه، وإنما أراد لا تؤخذ بجنايته ولا يؤخذ بجنايتك
وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا ترجعوا بعدي
كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض، ولا يؤخذ أحد بجريرة ابنه ولا يؤخذ
بجريرة أبيه) أخرجه البزار ورجاله رجال الصحيح، ورواه النسائي عنه بلفظ
(لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه) وفى هذا المعنى عند أبي داود
وأحمد وابن ماجة والترمذي عن عمرو بن الأحوص. وعند أحمد وابن ماجة
عن الخشاش العنبري وروى نحوه الطبراني مرسلا بإسناد رجاله ثقات. وعند
أحمد والنسائي عن رجل من بنى يربوع. ولان مال الولد والوالد كماله ولهذا لم
155

تقبل شهادتهما له ولا العكس، بدليل أن نفقتهما تجب في مالها، كما تجب في ماله
فلما لم تجب في ماله لم يحملا عنه، فإن كان للمرأة ابن هو ابن ابن عمه لم يعقل
عنها لعموم الخبر.
وقال أبو علي الشيخي: ويحتمل أن قال يحمل عنها لان فيه شيئين يحمل
بأحدهما دون الآخر، فغلب الآخر، كولايته في النكاح على أمه، والأول
هو المشهور.
(فرع) ولا يحمل القاتل مع العاقلة من الدية شيئا، وبه قال مالك وأحمد،
وقال أبو حنيفة يحمل ما يحمل أحدهم، دليلنا ما ذكرناه من خبر جابر رضي الله عنه
في المرأتين، فإن لم يكن للجاني عصبة وله مولى حمل عنه لقوله صلى الله عليه
وسلم (الولاء لحمة كلحمة النسب) والنسب يعقل به فكذلك الولاء، والمولى
لا يحمل إلا بعد العاقلة من النسب، كما لا يرث إلا بعدهم، فإن لم يكن المعتق
موجودا حمل عصبته كالأخ والعم وابن العم ابن الأخ وفى حمل ابن المعتق وأبيه
وجهان، فإن لم يحن للجاني عصبة ولا مولى ولا عصبة مولى ولا مولى مولى،
فإن كان مسلما، حملت عنه الدية في بيت المال، لأنه لما نقل ماله إلى بيت المال إذا
مات إرثا حمل عنه بيت المال كالعصبة، وإن كان كافرا لم يحمل عنه بيت المال
لان مال بيت المال للمسلمين وليس هو منهم، وإنما ينقل ماله إلى بيت المال إذا
لم يكن له وارث.
وروى أن رجلا من الأنصار قتل عام خيبر فوداه النبي صلى الله عليه وسلم
من بيت المال، وروى أن رجلا قتل في زحام في زمن عمر فلم يعرف قاتله،
فقال على: يا أمير المؤمنين لا يطل دم امرئ مسلم، فأدى ديته من بيت المال.
(مسألة) لا يعقل العديد، وهو الرجل الغريب الذي يدخل ويعد فيهم،
ويقال له دخيل، ولا يحمل الحليف، وهو أن يحالف الرجل الرجل على أن
يتناصرا على دفع الظلم، كالمشتركين في الجمعيات والمساهمين في الشركات والمنتسبين
للنقابات المهنية والحرفية والفئوية، كل هؤلاء لا يعقل بعضهم على بعض. ولو
اتفقوا على ذلك.
وهذا هو مذهب أحمد ووافقنا أبو حنيفة في العديد وخالفنا في الحليف إذا
156

لم يكن له قرابة من النسب فإنه يرث ويعقل، وهل الهيئات الفئوية لها صفة بيت
المال كما عرف عند الفقهاء الوضعيين من وصفها بالشخصية الاعتبارية؟ خصوصا
في بلد لا توجد فيه حكومة إسلامية؟
نقول: إذا كان المسلمون قلة في بلد كفر أو كانوا كثرة تحكمهم حكومة
نصرانية أو يهودية أو إلحادية فإن لهم أن ينتظموا متكافلين وتعقل عنهم فئتهم
كما لو كان لهم بيت مال، كالمسلمين في تايلاند والفلبين وقبرص وفلسطين والحبشة
أما أهل الديوان من غير العصبات فلا مدخل لهم في المعاقلة، به قال أحمد،
وقال أبو حنيفة ومالك: إذا خرج الامام والناس وجعلهم فرقا تحت يد كل
عريف فرقه، فإذا جنى فانتسب إلى قبيلة وأمكن صدقه وصادقوه على ذلك ثبت
نسبه منهم وعقلوا عنه.
فإن قال جماعة من الناس: سمعنا أنه ليس منهم وشهدوا بذلك لم ينتف
نسبه منهم بذلك.
وقال مالك ينتفى نسبه، وهذا غلط لأنه نفى محض فلم يزل به نسب حكم بثبوته
فإن جاء آخر من غيرهم وقال هو ابني وولد على فراشي وأقام بينة على ذلك ثبت
نسبه منه وانتفى نسبه من الأولين، لان البينة أقوى من مجرد الدعوى
(فرع) إذا لم يكن للجاني عصبة من النسب ولا من يحمل من جهة الولاء،
وليس هناك بيت فهل يجب الدية في ماله؟ فيه قولان بناء على أن الدية هل تجب
على العاقلة ابتداء أو على الجاني؟ ثم تحمل العاقلة عنه، وفيه قولان
(أحدهما) أنها تجب الدية على العاقلة ابتداء، لأنهم المطالبون بها، فعلى هذا
لا تجب في مال الجاني
(والثاني) أنها تجب على الجاني ابتداء ثم تتحملها العاقلة عنه لأنه هوء المباشر
للجناية، فعلى هذا يجب أداء الدية من ماله، فإذا قلنا بهذا وكان له أب وابن
فهل يحملان؟ فيه وجهان:
قال أبو علي الطبري: يحملان ويقدمان على الجاني، لأنا إنما نحمل عليهما
ابقاء على الجاني، فإذا حمل الجاني كانا أولى بالحمل، وقال الشيخ الامام: يحتمل
عندي أنه لا يجب عليهما الخ العبارة
157

وقوله: الشيخ الامام حرس الله مدته، يحتمل أنه يعنى بهذا إمام الحرمين
أبا المعالي المولود ثامن المحرم سنة 419 والمتوفى ليلة الأربعاء الخامس والعشرين
من ربيع الاخر سنة 478
فإذا عرفنا أن المصنف رحمه الله توفى سنة 476 عرفنا أن الله استجاب دعاءه
إلا أنه يرد على هذا أن إمام الحرمين أصغر من المصنف بنحو ست وعشرين سنة
فيبعد أن ينقل عنه بهذا الاحتفاء، ولعله لم ترد في المهذب هذه العبارة إلا في هذا
الموضع إذ لم ينتبه إليها الامام النووي رحمه الله وإلا أوضحها في خطبته العظيمة
في مقدمة المجموع، ويحتمل أن يكون مراده بالامام حرس الله مدته شيخه
القاضي أبا الطيب، وهذا هو الراجح عندي، وقد ولد القاضي أبو الطيب بآمل
سنة 348، ووفى ببغداد يوم السبت لعشر بقين من ربيع الأول سنة 450 عن
مائه سنة واثنتين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يعقل مسلم عن كافر، ولا كافر عن مسلم، ولا ذمي عن
حربي، ولا حربي عن ذمي، لأنه لا يرث بعضهم من بعض، فإن رمى نصراني
سهما إلى صيد ثم أسلم ثم أصاب السهم إنسانا وقتله وجبت الدية في ماله، لأنه
لا يمكن إيجابها على عاقلته من النصارى، لأنه وجد القتل وهو مسلم، ولا يمكن
إيجابها على عاقلته من المسلمين، لأنه رمى وهو نصراني، فإن قطع نصراني يد
رجل ثم أسلم ومات المقطوع عقلت عنه عصباته من النصارى دون المسلمين،
لان الجناية وجدت منه وهو نصراني، ولهذا يجب بها القصاص ولا تسقط عنه
بالاسلام، وإن رمى مسلم سهما إلى صيد ثم ارتد ثم أصاب السهم إنسانا فقتله
وجبت الدية في ذمته، لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من المسلمين، لأنه وجد
القتل وهو مرتد، ولا يمكن إيجابها على الكفار لأنه ليس منهم عاقلة يرثونه،
فوجبت في ذمته.
وإن جرح مسلم إنسانا ثم ارتد الجارح وبقى في الردة زمانا يسرى في مثله
الجرح ثم أسلم ومات المجروح وجبت الدية، وعلى من تجب؟ فيه قولان
158

(أحدهما) تجب على عاقلته لان الجناية في حال الاسلام وخروج الروح في
حال الاسلام، والعاقلة تحمل ما يجب بالجنايتين في حال الاسلام فوجبت ديته
عليها، والقول الثاني: أنه يجب على العاقلة نصف الدية، ويجب في مال الجاني
النصف، لأنه وجد سراية في حال الاسلام وسراية في حال الردة، فحملت
ما سرى في حال الاسلام ولم تحمل ما سرى في الردة.
(فصل) ولا يعقل صبي ولا معتوه ولا امرأة لان حمل الدية على سبيل
النصرة، بدلا عما كان في الجاهلية من النصرة بالسيف، ولا نصرة في الصبي
والمعتوه والمرأة، ويعقل المريض والشيخ الكبير إذا لم يبلغ المريض حد الزمانة
والشيح حد الهرم، لأنهما من أهل النصرة بالتدبير، وقد قاتل عمار في محفة.
وأما إذا بلغ الشيخ حد الهرم والمريض حد الزمانة ففيه وجهان بناء على القولين
في قتلهما في الأسر، فإن قلنا إنهما يقتلان في الأسر عقلا، وان قلنا لا يقتلان
في الأسر لم يعقلا.
(الشرح) لا يعقل مسلم عن كافر ولا كافر عن مسلم لأنهما لا يتوارثان
ويعقل أهل الذمة بعضهم عن بعض إذا ثبت اتصال نسبهم إلى أب، سواء كانوا
على ملة واحدة كاليهودية، أو على ملتين كاليهودية والنصرانية. وقال أبو حنيفة
ولا يعقل ذمي عن ذمي، دليلنا أنهم يتوارثون فتعاقلوا كالمسلمين، ولا يعقل
ذمي عن حربي ولا حربي عن ذمي وإن جمعتهما ملة واحدة وأب واحد، لأنهما
لا يتوارثان فلم يتعاقلا كالأجنبيين، فإن لم يكن للذمي عاقلة من النسب وله
مولى من أعلا حمل عنه إذا كان يرثه، وكذلك إن كان له عصبة موالي أو مولى.
مولى، وهل يحمل عنه المولى من أسفل على القولين فيمن لم يكن له عاقلة أو كان
له عاقلة، ولا يقدر على جميع الدية فهل يجب في ماله؟ على القولين في المسلم،
فإن قلنا يجب في ماله فهل يحمل عنه أبوه وابنه؟ على الوجهين
(فرع) إذا رمى ذمي سهما إلى غرض فأسلم ثم وقع السهم في انسان فقتله
وجبت الدية في ماله لأنه لا يمكن ايجابها على عاقلته من المسلمين، لان الرمي
وجد منه وهو ذمي، ولا يمكن ايجابها على عاقلته من أهل الذمة، لان الإصابة
159

وجدت وهو مسلم فلم يبق إلا ايجابها في ماله لأنه لا يمكن إيجابها على عاقلته من
المسلمين، لان الإصابة وجدت وهو مرتد، ولا يمكن ايجابها على عاقلته من الكفار
لأنه لا عاقلة له منهم، فإن قطع ذمي يد رجل خطأ فأسلم الذمي ثم مات المقطوع
من الجناية قال أبو إسحاق المروزي: عقلت عنه عصبانه من أهل الذمة دون
المسلمين، لان الجناية وجدت وهو ذمي، ولهذا يجب بها القصاص ولا يسقط
عنه بالاسلام.
وقال ابن الحداد: يجب على عاقلته من أهل الذمة أرش الجراحة لا غير،
ولا تحمل ما زاد لأنه وجب بعد الاسلام، وتجب الزيادة في مال الجاني ولا
تحمل عاقلته من المسلمين، لان سببها كان في الكفر
قال ابن الحداد: وإن جنى دمى على رجل خطأ ثم أسلم الجاني ثم جنى على
المجني عليه جناية أخرى خطأ ومات من الجنايتين فإن على عاقلته من المسلمين
نصف الدية. وعلى عاقله من أهل الذمة أقل الأمرين من أرش الجناية في حال
الذمة أو نصف الدية، فإن كان نصف الدية أقل لزمهم ذلك وإن كان أرش
الجناية أقل لزمهم قدر الأرش وما زاد عليه إلى تمام نصف الدية يجب في مال
الجاني، لأنه وجب بعد الاسلام، ولا فرق بين أن يجرحه في حال الذمية
جراحة أو بعد الاسلام جراحة واحدة، فإن الدية مقسومة على الحالين، فيجب
على عاقلته من المسلمين نصف الدية وعلى عاقلته من أهل الذمة أقل الأمرين من
نصف الدية وأرش الجراحة أو الجراحات في حال الذمة، فإن حرجه في حال
الذمة خطأ ثم أسلم ثم قتله خطأ دخل الأرش في دية النفس على المذهب فكانت
الدية على عاقلته من المسلمين، وعلى قول أبي سعيد الإصطخري، وأبى العباس
ابن سريج لا يدخل فيكون أرش الجراحة على عاقلته من أهل الذمة ودية النفس
على عاقلته من المسلمين.
وإن جرح مسلم إنسانا خطأ ثم ارتد الجارح وبقى في الردة زمانا يسرى في
مثله الجرح ثم أسلم ثم مات المجروح وجبت الدية، وعلى من تجب؟ فيه قولان
(أحدهما) تجب على عاقلته، لان الجراحة والموت وجدا في الاسلام.
(والثاني) يجب على العاقلة نصف الدية، وفى مال الجاني النصف لأنه وجد
160

سراية في حال الاسلام وسراية في حال الردة، فحملت ما سرى في الاسلام ولم
تحمل ما سرى في الردة.
قوله (ولا يعقل صبي ولا معتوه ولا امرأة) الخ، فجملة ذلك أنه إذا جنى
الصبي أو المجنون أو المعتوه جناية خطأ أو عمد خطأ أو عمدا محضا وقلنا إن عمده خطأ فإن
عاقلته تحمل عنه الدية لان تحمل العاقلة للدية جعل بدلا عن التناصر في الجاهلية
بالسيف، وهو ممن لا تنصرهم عاقلتهم.
وان جنى أحد من عصبة الصبي والمجنون والمعتوه خطأ أو عمد خطأ لم يحمل
الصبي والمجنون والمعتوه لأنهم ليسوا من أهل النصرة، وان جنت المرأة أو الخنثى
المشكل خطأ أو عمد خطأ حملت عاقلتهما عنهما الدية، وان جنى أحد من عصبانهما
لم يحملا عنه الدية لما ذكرناه في الصبي والمجنون، فإن بان الخنثى رجلا
يحمل العقل.
(فرع) ويحمل المريض إذا لم يبلغ الزمانة، أي دوام المرض زمانا طويلا،
وكذلك الشيخ إذا لم يبلغ الهرم، لأنهما من أهل النصرة، فإن بلغ الشيخ الهرم
والشاب المريض الزمانة فهل يحملان الدية؟
قال الشيخ المصنف: فيه وجهان بناء على القولين في جواز قتلهما إذا أسرا
وقال ابن أبي هريرة: إن كانت الزمانة من اليدين والرجلين لم يحملا. وذكر
الشيخ أبو حامد الأسفراييني: أنهما يحملان وجها واحدا
قوله (وقد قاتل عمار على محفة) فإن عمارا يقول: كنت تربا للنبي صلى الله
عليه وسلم لسنه. وروى عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال: رأيت
عمارا يوم صفين شيخ آدم طوال، وان الحربة في يده لترعد. وعن ابن عمر
قال (رأيت عمارا يوم اليمامة على صخرة وقد أشرف يصيح يا معشر المسلمين أمن
الجنة تفرون؟ هلموا إلى، وأنا أنظر إلى أذنه قد قطعت فهي تذبذب وهو يقاتل
أشد القتال) وكلام المصنف صريح في أنه كان لا يستطيع الثبات والاستقرار على
راحلته، ولعله جاء من توهم بعض الرواة من أحداث الشيخوخة حيث قتل
وعمره ثلاث وتسعون سنة، بيد أن القضية التي ساقها المصنف يرد عيبها ما رواه
الذهبي في سير أعلام النبلاء بسنده عن يحيى بن سعيد عن عمه قال (لما كان اليوم
161

الذي أصيب فيه عمار إذا رجل قد برز من الصفين جسيم على فرس جسيم،
ضخم على ضخم ينادى: يا عباد الله بصوت موجع روحوا إلى الجنة،
ثلاث مرات، الجنة تحت ظلال الأسل، فثار الناس فإذا هو عمار، فلم
يلبث أن قتل.
وروى ابن عبد البر في الاستيعاب عن الأعمش عن أبي عبد الرحمن السلمي
قال: شهدنا مع علي رضي الله عنه صفين، فرأيت عمار بن ياسر لا يأخذ في
ناحية ولا واد من أودية صفين إلا رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يتبعونه
كأنه علم لهم، وسمعت عمارا يقول يومئذ لهاشم بن عقبة: يا هاشم تقدم، الجنة
تحت الأبارقة اليوم ألقى الأحبة، محمدا وحزبه الخ
وروى الشعبي عن الأحنف بن قيس في خبر صفين، قال ثم حمل عمار فحمل
عليه ابن السكسكي وأبو الغادية الفزاري، فأما أبو الغادية فطعنه، وأما ابن جزء
فاحتز رأسه. فإذا عرفنا أن المحفة مركب من مراكب النساء كالهودج استبعدنا
صحة من أثبته المصنف هنا لما ذكرناه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يعقل فقير لان حمل الدية على العاقلة مواساة والفقير ليس
من أهل المواساة، ولهذا لا تجب عليه الزكاة، ولا نفقة الأقارب، ولان العاقلة
تتحمل لدفع الضرر عن القاتل، والضرر لا يزال بالضرر، ويجب على المتوسط
ربع دينار، لان المواساة لا تحصل بأقل قليل، ولا يمكن إيجاب الكثير، لان
فيه اضرارا بالعاقلة، فقدر أقل ما يؤخذ بربع دينار، لأنه ليس في حد التافه.
والدليل عليه أنه تقطع فيه يد السارق، وقد قالت عائشة رضي الله عنها (يد
السارق لم تكن تقطع في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشئ التافه)
ويجب على الغنى نصف دينار أنه لا يجوز أن يكون ما يؤخذ من الغنى والمتوسط
واحدا فقدر بنصف دينار، لأنه أقل قدر يؤخذ من الغنى في الزكاة التي قصد بها
المواساة، فيقدر ما يؤخذ من الغنى في الدية بذلك، لأنه في معناه، ويجب هذا
القدر في كل سنة لأنه حق يتعلق بالحال على سبيل المواساة فتكرر بتكرر الحول
162

كالزكاة، ومن أصحابنا من قال يجب ذلك القدر في الثلاث سنين، لأنا لو أوجبنا
هذا القدر في كل سنة أجح‍؟ به، ويعتبر حالة في الفقر والغنى والتوسط عند
حلول النجم، لأنه حق مال يتعلق بالحلو على سبيل المواساة، فاعتبر فيه حاله
عند حلول الحول كالزكاة، فإن مات قبل حلول الحول لم تجب كما لا تجب الزكاة
إذا مات قبل الحول، وإن مات بعد الحول لم يسقط ما وجب كما لا يسقط
ما وجب من الزكاة قبل الموت
(فصل) وإذا أراد الحاكم قسمة الدية على العاقلة قدم الأقرب فالأقرب
من العصبات على ترتيبهم في الميراث، لأنه حق يتعلق بالتعصيب فقدم فيه الأقرب
فالأقرب كالميراث، وإن كان فيهم من يدلى بالأبوين وفيهم من يدلى بالأب ففيه
قولان (أحدهما) أنهما سواء لتساويهما في قرابة الأب، لان الام لا مدخل
لها في النصرة وحمل الدية فلا يقدم بها (والثاني) يقدم من يدلى بالأبوين على
من يدلى بالأب لأنه حق يستحق بالتعصيب، فقدم من يدلى بالأبوين على من
يدلى بالأب كالميراث، فإن أمكن أن يقسم ما يجب على الأقربين منهم لم يحمل
على من بعدهم، وإن لم يمكن أن يقسم على الأقربين لقلة عددهم قسم ما فصل
على من بعدهم على الترتيب، فإن كان القاتل من بني هاشم قسم عليهم، فإن عجزوا
دخل معهم بنو عبد مناف، فإن عجزوا دخل معهم بنو قصي، ثم كذلك حتى
تستوعب قريش، ولا يدخل معهم غير قريش، لان غيرهم لا ينسب إليهم،
وان غاب الأقربون في النسب وحضر الأبعدون ففيه قولان
(أحدهما) يقدم الأقربون في النسب لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم فيه
الأقربون في النسب كالميراث
(والثاني) يقدم الأقربون في الحضور على الأقربين في النسب، لان تحمل
العاقلة على سبيل النصرة الحاضرون أحق بالنصرة من الغيب، فعليه ذا إن كان القاتل
بمكة وبعض العاقلة بالمدينة وبعضهم بالشام قدم من بالمدينة على من بالشام لأنهم أقرب إلى
القاتل وإن استوت جماعة في النسب وبعضهم حضور وبعضهم غيب ففيه قولان
(أحدهما) يقدم الحضور لأنهم أقرب إلى النصرة
(والثاني) يسوى بين الجميع كما يسوى في الميراث. وان كثرت العاقلة وقل
163

المال المستحق بالجناية بحيث إذا قسم عليهم خص المتوسط دن ربع دينار والغنى
دون نصف دينار، ففيه قولان
(أحدهما) أن الحاكم يقسمه على من يرى منهم، لان في تقسيط القليل
على الجميع مشقة.
(والثاني) وهو الصحيح أنه يقسم على الجميع لأنه حق يستحق بالتعصيب،
فقسم قليله وكثيره بين الجميع كالميراث.
(فصل) وإن جنى عبد على حر أو عبد جناية توجب المال تعلق المال برقبته
لأنه لا يجوز إيجابه على المولى، لأنه لم يوجد منه جناية، ولا يجوز تأخيره إلى
أن يعتق، لأنه يؤدى إلى إهدار الدماء فتعلق برقبته، والمولى بالخيار بين أن
يبيعه ويقضى حق الجناية من ثمنه وبين أن يفديه، ولا يجب عليه تسليم العبد
إلى المجني عليه، لأنه ليس من جنس حقه، وإن اختار بيعه فباعه فإن كان
الثمن بقدر مال الجناية صرفه فيه، وإن كان أكثر قضى ما عليه والباقي للمولى
وإن كان أقل لم يلزم المولى ما بقي لان حق المجني عليه لا يتعلق بأكثر من الرقبة
فإن اختار أن يفديه ففيه قولان
(أحدهما) يلزمه أن يفديه بأقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمة العبد،
لأنه لا يلزمه ما زاد على واحد منهما.
والقول الثاني: يلزمه أرش الجناية بالغا ما بلغ أو يسلمه للبيع، لأنه قد
يرغب فيه راغب فيشتريه بأكثر من قيمته، فإذا امتنع من البيع لزمه الأرش
بالغا ما بلغ. وإن قتل عشرة أعبد لرجل عبدا لآخر عمدا فاقتص مولى المقتول
من خمسة وعفا عن خمسة على المال تعلق برقبتهم نصف القيمة في رقبة كل واحد
منهم عشرها، لأنه قتل خمسة بنصف عبده، وعفا عن خمسة على المال
وبقى له النصف.
(الشرح) خبر عائشة رضي الله عنها سيأتي تخريجه في كتاب الحدود. أما
أحكام هذه الفصول فإنه لا يحمل العقل من العاقلة إلا الغنى والمتوسط، فأما
الفقير وهو من لا يملك ما يكفيه على الدوام فإنه لا يحمل العقل، وعلى
164

هذا أكثر أهل العلم، وهذا قول مالك وأحمد وأصحاب الرأي، وحكى بعضهم
عن مالك وأبي حنيفة أن للفقير مدخلا في التحمل، وذكره أبو الخطاب رواية
عن أحمد لأنه من أهل النصرة كالغنى. والصحيح الأول لان العاقلة إنما تحمل
الدية عن القاتل على طريق الرفق والمواساة، والفقير ليس من أهل المواساة،
ولان الدية إنما نقلت إلى العاقلة تخفيفا عن القاتل لئلا يجحف بماله، فلو أوجبنا
ذلك على الفقير لدفعنا الضرر على القاتل وألحقناه بالفقير، والضرر لا يزال
بالضرر ويجب على المتوسط ربع دينار مثقال لأنه لا يمكن ايجاب الكسر
عليه لئلا يجحف به فقدر ما يؤخذ منه بربع دينار، لأنه ليس في حد التافه.
وهذا إحدى الروايتين عن أحمد لان اليد لا تقطع في الشئ التافه، على ما ورد
في قول عائشة
وقد ثبت أن اليد لا تقطع بدون ربع دينار، فإذا كان الدينار نحو خمسة
عشر جراما وكان الجرام من عيار 21 يساوى 90 قرشا كان ربع الدينار يساوى
ثلاثة جنيهات مصرية وثلثا ونحو عشرة دولارات أو ما يقابلها من عملات
ونقود، ويجب على الغنى نصف دينار، لأنه لا يجوز أن يكون ما يؤخذ من
الغنى والمتوسط، واحدا فقدر ما يؤخذ من الغنى بنصف دينار لأنه أول قدر
يؤخذ منه في زكاة الذهب.
إذا ثبت هذا فهل يجب هذا القدر على المتوسط والغنى مقسوما على الثلاث
سنين أو يجب هذا القدر في كل سنة من الثلاث سنين؟ فيه وجهان
(أحدهما) أن هذا القدر يجب مقسوما في ثلاث سنين لا غير، فعلى هذا
لا يجب على المتوسط أكثر من ربع دينار في كل سنة نصف سدس دينار،
ويجب على الغنى نصف دينار في ثلاث سنين، في كل سنة سدس دينار، لان
الشافعي رضي الله عنه قال: يحمل من كثر ماله نصف دينار، وهذا يقتضى أن
هذا جميع ما يحمله، ولان ايجاب ما زاد على ذلك عليه يجحف به
(والثاني) وهو الأصح أن هذا القدر يجب في كل سنة من الثلاث سنين،
فيكون جميع ما يجب على المتوسط في الثلاث سنين ثلاثة أرباع دينار، وجميع
ما يجب على الغنى في الثلاث سنين دينار أو نصف، لان الشافعي رحمه الله قال:
165

يحمل الغنى نصف دينار والمتوسط ربع دينار حتى يشترك النفر في بعير. وظاهر
هذا أنهم يحملون هذا القدر كل سنة من الثلاث، ولأنه حق يتعلق بالحول على
سبيل المواساة فتكرر بتكرر الأحوال كالزكاة.
إذا ثبت هذا فإن الجماعة من العاقلة يشتركون في شراء بعير، لان الواجب
عليهم الإبل لا الدنانير. هذا مذهبنا
وقال مالك وأحمد: يحملون قدر ما يطيقون، فعلى هذا لا يتقدر شرعا وإنما
يرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم فيفرض على كل واحد قدرا يسهل ولا يؤذى، لان
التوقيت لا يثبت إلا بتوقيف، ولا يثبت بالرأي والتحكم، ولا نص في هذه
المسألة فوجب الرجوع فيها إلى اجتهاد الحاكم كمقادير النفقات. وعن أحمد رواية
أخرى كمذهبنا.
وقال أبو حنيفة: الفقير والمتوسط والغنى سوا، فأكثر ما يحمله الواحد
منهم أربعة دراهم وأقله ليس له حد. واختار ابن قدامة من مجتهدي الحنابلة
استواءهم في الواجب كاستوائهم في القرابة فكانوا سواء كما لو قلوا وكالميراث.
دليلنا أنه حق مخرج على وجه المواساة فاختلف بكثرة المال وقلته كالزكاة، ويعتبر
حال كل واحد منهم في البلوغ والعقل واليسار والاعسار والتوسط عند حلول
الحول كما يعتبر النصاب في آخر الحول. فإن كان معسرا عند حلول الحول لم يجب
عليه شئ، فإن أيسر بعد ذلك لم يجب عليه شئ من الثلث الواجب قبل يساره
فإن كان موسرا عند حلول الحول الثاني وجب عليه، وإن كان معسرا عند حلول
الحول فأعسر قبل دفع ما عليه كان دينا في ذمته إلى أن يوسر، لأنه قد وجب
عليه، وإن مات واحد منهم بعد الحول وهو موسر لم يسقط عنه، بل يجب
قضاؤه من تركته.
وقال أبو حنيفة (يسقط) دليلنا أنه مال استقر وجوبه في حال الحياة، فلم
يسقط بالموت كالدين.
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه (ومعرفة العاقلة أن ينظر إلى إخوته
لأبيه وأمه فيحملهم) وجملة ذلك أن الحاكم إذا أراد قسمة العقل فإنه يبدأ
بالاخوة للأب والام وللأب، لأنهم أقرب العاقلة، فيؤخذ من الغنى منهم
166

نصف دينار، ومن المتوسط ربع دينار، فإن وفى ذلك ثلث الدية لم يحمل على
من بعدهم، وإن لم يف حمل علي بنى الاخوة وإن سفلوا، فإن لم يف ذلك حمل
على الأعمام، فإن لم يف ذلك حمل علي بنى الأعمام إلى أن يستوعب جميع القبيل
الذي يتصل أبو الجاني بأبيهم، فإن لم يف ما حمل عليهم بثلث الدية حمل عنه
المولى ومن أدلى به، فإن لم يف ما حمل عليهم بثلث الدية حملت تمام الثلث في
بيت المال، وعلى هذا في الحول الثاني والثالث، وبما ذكرناه قال أحمد، وقال
أبو حنيفة: يسوى بين القريب البعيد ويقسم على جميعهم، لان النبي صلى الله عليه وسلم
جعل دية المقتولة على عصبة القاتلة
دليلنا أنه حكم تعلق بالتعصيب فوجب أن يقدم فيه الأقرب فالأقرب
كالميراث، والخبر لا حجة فيه، لأننا نقسمه على الجماعة إذا لم يف به الأقرب
فنحمله على ذلك.
إذا ثبت هذا واجتمع في درجة واحدة ابنان، أحدهما يدلى بالأب والام
والآخر بالأب لا غير، كأخوين أو ابني أخ أو عمين أو ابني عم ففيه قولان.
قال في القديم: هما سواء لأنهما متساويان في قرابة الأب وأما الام فلا مدخل
لها في النصرة وحمل العقل فلم يرجح بها
وقال في الجديد: يقدم من يدلى بالأب والام لأنه حق يستحق بالتعصيب
فقدم فيه من يدلى بالأبوين على من يدلى بأحدهما كالميراث. وعند أحمد وجهان
كالقولين آنفا، فإذا اجتمع جماعة من العاقلة في درجة واحدة، فكان الأرش
الواحد بحيث إذا قسم عليهم خص الغنى منهم دون نصف دينار، والمتوسط منهم
دون ربع دينار ففيه قولان:
(أحدهما) يقسط عليهم على عددهم لأنهم استووا في الدرجة والتعصيب،
فقسم المال بينهم على عددهم كالميراث
(والثاني) يخص به الحاكم من رأى نهم لأنه ربما كان العقل قليلا فحص
كل أحد منهم فلس أو مليم. وفى تقسيط ذلك سفه
(فرع) إذا كان جميع العاقلة حضورا في بلد القاتل فإن الحاكم يقسم الدية
عليهم على ما مضى، وإن كانوا كلهم غائبين عن بلد القاتل وهم في بلد واحد،
167

فإن حاكم البلد الذي فيه القاتل إذا ثبت عنده القتل يكتب إلى حاكم البلد الذي
فيه العاقلة ليقسم الدية عليهم، فإن كان بعض العاقلة حضورا في بلد القاتل وبعضهم
غائبا عنه في بلد آخر نظرت فإن حضر معه الأقربون إليه، وأمكن أن يحمل
ثلث الدية على الأقربين لم يحمل على من بعدهم، وإن لم يكن حمل ثلث الدية
على الأقربين حمل على من بعدهم، وإن كانوا غائبين، وبهذا قال أحمد وأصحابه
وأبو حنيفة. وإن كان جماعة من العاقلة في درجة واحدة وبعضهم حاضر في بلد
القاتل وبعضهم غائب عنه في بلد آخر، فإن لم يكن في الحضور سعة لاستغراق
الدية ففيه قولان
(أحدهما) أن الحاكم يقسم الدية على الحاضرين دون الغائبين، وهو قول
مالك رضي الله عنه.
(والثاني) تقسم الدية على الجميع، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، فان حضر معه
الأبعدون وغاب الأقربون، فاختلف أصحابنا فيه، فقال الشيخ أبو إسحاق
والمسعودي هي على القولين في التي قبلها، وقال الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا
يقدم الأقربون قولا أحدا، لأنه مبنى على التعصيب، وكل من قرب كان
أولى كالميراث.
إذا ثبت هذا فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يقدم نجم الا بعد حلوله
وجملة ذلك أن الدية إذا وجبت على العاقلة فإن كانت الإبل موجودة معهم أو
في بلدهم بثمن مثلها عند الحول وجبت عليهم أن يجمعوا ما وجب على كل واحد
منهم ويشتروا به إبلا فإن كانت معدومة أو موجودة بأكثر من ثمن مثلها
انتقلوا إلى بدلها، وبدلها في قوله القديم اثنا عشر ألف درهم أو ألف مثقال،
وفى قوله الجديد قيمتها، فإذا قلنا: تجب قيمتها فإنها تقوم عليهم عند حلول
الحول أقل إبل لو بذلوها لزم الولي قبول ذلك، فان أخذ الولي القيمة ثم وجدت
الإبل لم يكن له المطالبة بالإبل، لان الذمة قد برئت بالقبض، وان قومت
الإبل ثم وجدت الإبل قبل قبض القيمة كان للولي أن يطالب بالإبل، لان
حقه في الإبل لم يسقط بالتقويم، والله تعالى أعلم بالصواب
168

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب اختلاف الجاني وولى الدم)
إذا قتل رجلا ثم ادعى أن المقتول كان عبدا، وقال الولي بل كان حرا،
فالمنصوص أن القول قول الولي مع يمينه، وقال فيمن قذف امرأة ثم ادعى أنها
أمة ان القول قول القاذف، فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة من المسئلتين
إلى الأخرى وجعلهما على قولين. أحدهما أن القول قول الجاني والقاذف، لان
ما يدعيان محتمل، لأنا لدار تجمع الأحرار والعبيد، والأصل فيه حمى الظهر
وحقن الدم. والثاني أن القول قول ولى المجني عليه والمقذوف، لأن الظاهر من
الدار الحرية، ولهذا لو وجد في الدار لقيط حكم بحريته
ومن أصحابنا من قال القول في الجناية قول الولي، والقول في القذف قول
القاذف، والفرق بينهما أنا إذا جعلنا القول قول القاذف أسقطنا حد القذف
وأوجبنا التعزير فيحصل به الردع، وإذا جعلنا القول قول الجاني سقط القصاص
ولم يبق ما يقع به الودع.
(فصل) إذا وجب له القصاص في موضحة فاقتض في أكثر من حقه أو
وجب له القصاص في أصبع فاقتص في إصبعين وادعى أنه أخطأ في ذلك وادعى
المستقاد منه أنه تعمد، فالقول قول المقتص مع يمينه، لأنه أعرف بفعله وقصده
وما يدعيه يجوز الخطأ في مثله فقبل قوله فيه.
وان قال المقتص منه ان هذه الزيادة حصلت باضطرابه وأنكره المستقاد منه
ففيه وجهان (أحدهما) أن القول قول المقتص، لان ما يدعيه كل واحد منهما
محتمل والأصل براءة الذمة (والثاني) أن القول قول المستفاد منه لان الأصل
عدم الاضطراب.
(فصل) إذا اشترك ثلاثة في جرح رجل ومات المجروح ثم ادعى أحدهم
أن جراحته اندملت وأنكر الآخران وصدق الولي المدعى نظرت فان أراد
القصاص قبل تصديقه، ولم يجب على المدعى الا ضمان الجراحة، لأنه
169

لا ضرر على الآخرين لان القصاص يجب عليهما في الحالين، وان أراد أن يأخذ
الدية لم يقبل تصديقه لأنه يدخل الضرر على الآخرين، لأنه إذا حصل القتل
من الثلاثة وجب على كل واحد منهم ثلث الدية، وإذا حصل من جراحهما
وجب على كل واحد منهما نصف الدية، والأصل براءة ذمتهما مما زاد على الثلث
(فصل) إذا قد رجلا ملفوفا في كساء ثم ادعى أنه قده وهو ميت. وقال
الولي بل كان حيا ففيه قولان
(أحدهما) أن القول قول الجاني لان ما يدعيه محتمل، والأصل براءة ذمته
(والثاني) أن القول قول الولي، لان الأصل حياته وكونه مضمونا، فصار
كما لو قتل مسلما وادعى أنه كان مرتدا
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو أن رجلا ادعى أن رجلا قتل
أباه عمدا بما فيه القود وأقر المدعى عليه أنه قتله خطأ، فالقتل خطأ والدية عليه
في ثلاث سنين بعد أن يحلف ما قتله إلا خطأ، فإن نكل حلف المدعى لقتله عمدا
وكان له القود، وهكذا إن أقر أنه أقر أنه قتله عمدا بالشئ الذي إذا قتله به لم
يقد منه، ولو ادعى رجل على رجل أنه قتل أباه وحده خطأ فأقر المدعى عليه
أنه قتله عمدا بالشئ الذي إذا قتله به لم يقد منه.
ولو ادعى رجل على رجل أنه قتل أباه وحده خطأ، فأقر المدعى عليه أنه
قتله هو وغيره معه، كان القول قول المقر مع يمينه ولم يغرم إلا نصف الدية،
ولا يصدق على الذي زعم أنه قتله معه
ولو قال قتلته وحدي عمدا وأنا مغلوب على عقلي بمرض فإن علم أنه كان
مريضا مغلوبا على عقله قبل قوله مع يمينه، وإن لم يعلم ذلك فعليه القود بعد
أن يحلف ولى الدم لقتله غير مغلوب على عقله، وهكذا لو قامت بينة بأنه قتله
فقال قتلته وأنا مغلوب على عقلي اه‍
وجملة ذلك أنه إذا قال الجاني قتلته وأنا صبي، وقال الولي بل قتلته وأنت بالغ
ولا بينة فالقول قول الجاني مع يمينه لان الأصل فيه الصغر. وإن قال القاتل:
قتلته وأنا مجنون، وقال الولي بل قتلته وأنت عاقل فإن لم يعرف له حال
170

جنون فالقول قول الولي مع يمينه، لان الأصل عدم الجنون وان عرف
له حال جنون ولم يعلم أنه قتله في حال الجنون أو في حال العقل، فالقول قول
الجاني مع يمينه لأنه أعرف بحاله، والأصل براءة ذمته مما يدعى عليه وحكى
ابن الصباغ وجها آخر أن القول قول الولي مع يمينه، لان الأصل السلامة
والأول أصح، فإن أقام الولي شاهدين أنه قتله وهو عاقل وأقام القاتل شاهدين
أنه قتله وهو مجنون تعارضت البينات وسقطنا. وان اتفق الجاني والولي أنه قتله
وهو زائل العقل لكن اختلفا بما زال به عقله، فقال الجاني زال بالجنون. وقال
الولي بل زال بالسكر وقلنا يجب القصاص على السكران، فالقول قول الجاني
لأنه أعرف بحاله لان الأصل عدم وجوب القصاص عليه
إذا ثبت هذا فإنه إذا وجب القصاص في أصبع فقطع له إصبعين، وقال
المقتص أخطأت وقال المقتص منه بل تعمدت فالقول قول المقتص مع يمينه لأنه
أعلم بفعله. وان قال المقتص حصلت الزيادة باضطراب الجاني وقال الجاني:
بل قطعتها عامدا ففيه وجهان (أحدهما) القول قول الجاني لان الأصل عدم
الاضطراب (والثاني) القول قول المقتص لان الأصل براءة ذمته من الضمان
(فرع) وان جرح ثلاثة رجلا ومات، فقال أحدهما اندملت جراحتي ثم
مات من جراحة الآخرين أو صدقه الولي وكذبه الاخر، فإن كانت الجنايات
موجبة للقصاص فأراد الولي القصاص لم يؤثر تكذيب الآخرين، لان القصاص
يجب عليهما بكل حال، وان عفا الولي عن القصاص إلى الدية أو كانت الجنايات
غير موجبة للقصاص قبل تصديق الولي في حق نفسه دون الآخرين، لان عليهما
في ذلك ضررا، الا أنه إذا مات من جراحة ثلاث وجب على كل واحد منهم
ثلث الدية، وإذا مات من جراحة اثنين وجب على على كل واحد منهم نصف الدية
وان قد رجلا ملفوفا، فقال الضارب: كان ميتا، وقال الولي بل كان حيا
ففيه قولان:
(أحدهما) القول قول الجاني، لان الأصل براءة ذمته (والثاني) القول
قول الولي، لان الأصل فيه الحياة
171

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن جنى على عضو ثم اختلفا في سلامته فادعى الجاني أنه جنى
عليه وهو أشل، وادعى المجني عليه أنه جنى عليه وهو سليم،، فقد اختلف أصحابنا
فيه، فمنهم من قال فيه قولان (أحدهما) أن القول قول الجاني، لان ما يدعيه
كل واحد منهما محتمل، والأصل براءة ذمته (والثاني) أن القول قول المجني عليه
لان الأصل سلامة العضو، ومنهم من قال القول في الأعضاء الظاهرة قول
الجاني، وفى الأعضاء الباطنة القول قول المجني عليه، لأنه لا يتعذر عليه إقامة
البينة على السلامة في الأعضاء الظاهرة، فكان القول قول الجاني، ويتعذر عليه
إقامة البينة في الأعضاء الباطنة، والأصل السلامة فكان القول قول المجني عليه
ولهذا لو علق طلاق امرأته على ولادتها، فقالت ولدت لم يقبل قولها، لأنه يمكن
إقامة البينة على الولادة.
ولو علق طلاقها على حيضها فقالت حضت قبل قولها لأنه يتعذر إقامة البينة
على حيضها، فإن اتفقا على سلامة العضو الظاهر وادعى الجاني أنه طرأ عليه
الشلل وأنكر المجني عليه ففيه قولان
(أحدهما) أن القول قول الجاني، لأنه لا يتعذر إقامة البينة على سلامته.
(والثاني) أن القول قول المجني عليه، لأنه قد ثبتت سلامته فلا يزال عنه
حتى يثبت الشلل.
(فصل) إذا أوضح رأس رجل موضحتين بينهما حاجز ثم زال الحاجز،
فقال الجاني تأكل ما بينهما بسراية فعلى فلا يلزمني إلا أرش موضحة، وقال المجني
عليه أنا خرقت ما بينهما فعليك أرش موضحتين، فالقول قول المجني عليه، لان
ما يدعيه كل واحد منهما محتمل، والأصل بقاء الموضحتين ووجوب الأرشين،
وإن أوضح رأسه فقال الجاني أو ضحته موضحة واحدة، وقال المجني عليه أوضحتني
موضحتين وأنا خرقت ما بينهما، فالقول قو الجاني لان ما يدعيه كل واحد منهما
محتمل، والأصل براءة الذمة.
172

(الشرح) إذا قطع رجل عضوا من رجل ثم اختلفا، فقال الجاني قطعته
وهو أشل وقال المجنى عليه قطعته وهو سليم، فاختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال
فيه قولان (أحدهما) القول قول الجاني، وهو قول أبي حنيفة، لان الأصل
براءة ذمته من الضمان (والثاني) القول قول المجني عليه، وهو قول أحمد، لان
الأصل سلامته من الشلل.
ومنهم من قال إن كان اختلافهما في الأعضاء الظاهرة كاليد والرجل وما
أشبهما فالقول قول الجاني، وإن كان اختلافهما في الأعضاء الباطنة كالذكر
والأنثيين، فالقول قول المجني عليه لان الأعضاء الظاهرة يمكن المجني عليه إقامة البينة
على سلامتها فلم يقبل قوله في سلامتها والباطنة لا يمكن إقامة البينة على سلامتها فقبل قوله في
سلامتها كما قلنا فيمن علق طلاق امرأته على دخول الدار فإنه لا يقبل قولها، فلو علق
طلاقها على حيضها قبل قولها، فإذا قلنا القول قول الجاني في الأعضاء الظاهرة،
وإنما لا يكون ذلك إذا لم يقر الجاني أن المجني عليه كان صحيحا
فأما إذا أقر أنه كان صحيحا ثم ادعى أنه علته الشلل وجنى عليه وهو أشل،
وقال المجني عليه بل كان صحيحا وقت الجناية ففيه قولان
(أحدهما) القول قول الجاني مع يمينه، لان البينة لا تتعذر على المجني عليه
على سلامته فلم يقبل قوله في سلامته.
(والثاني) القول قول الجاني، فأراد المجني عليه لأنهما قد اتفقا على سلامته
قبل الجناية، والأصل بقاء سلامتها، ومتى قلنا القول قول المجني عليه لأنهما
قد اتفقا على سلامته قبل الجناية، والأصل بقاء سلامتها، ومتى قلنا قلنا القول
الجاني فأراد المجني عليه إقامة البينة على سلامة العضو والمجني عليه نظرت فإن
شهدت أن الجاني جنى عليه وهو سليم قبلنا، وان شهدت عليه أنه كان سليما قبل
الجناية. فإن قلنا إن الجاني إذا أقر سلامته قبل الجناية أن القول قوله لم تقبل
هذه البينة. وان قلنا هناك القول قول المجني عليه قبلت لان المجني عليه يحتاج
أن يختلف معها لجواز أن يكون قد حدث لها شلل بعد الشهادة وقبل الجناية.
قوله (إذا أوضح رأس رجل موضحتين الخ) فإنه حدث هذا ثم زال الحاجز
بين الموضحتين، فقال الجاني تأكل ما بينهما بجنايتي فلا يلزمني الا أرش موضحة،
173

وقال المجني عليه بل أوضحته موضحتين، وأنا خرقت ما بينهما فالقول قول الجاني
مع يمينه، لان الأصل براءة ذمته مما زاد على أرش موضحة.
وإن قطع أصبعه ثم زال كفه فقال المجني عليه سرى القطع إليه، وقال الجاني
لم يسر إليه القطع، وإنما زال سبب آخر، فالقول قول الجاني مع يمينه، لان
الأصل عدم السراية. فأما إذا داوى المجني عليه موضع القطع، فقال الجاني
تأكلت بالدواء، وقال المجني عليه تأكلت بالقطع سئل أهل الخبرة بذلك الدواء
فإن قالوا إنه يأكل اللحم الميت والحي، فالقول قول الجاني مع يمينه لأن الظاهر أنه
تأكل، وإن قالوا إنه يأكل الميت دون الحي فالقول قول المجني عليه مع يمينه
فإن لم يعرف ذلك فالقول قول المجني عليه مع يمينه، لأنه أعلم بصفة الدواء،
ولأن الظاهر أنه لا يداوي الجرح بما يضره ويزيد فيه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قطع رجل يدي رجل ورجليه ومات واختلف الجاني والولي
فقال الجاني مات من سراية الجنايتين فعلى دية واحدة. وقال الولي بل اندملت
الجنايتان ثم مات فعليك ديتان، فإن كان قد مضى زمان يمكن فيه اندمال
الجراحتين، فالقول قول الولي، لان الأصل وجوب الديتين، وان لم يمض
زمان يمكن فيه الاندمال، فالقول قول الجاني لان ما يدعيه الولي غير محتمل،
وان اختلفا في المدة فقال الولي مضت مدة يمكن فيها الاندمال، وقال الجاني لم
يمض فالقول قول الجاني لان الأصل عدم المدة
(فصل) وان قطع يد رجل ومات فقال الولي مات من سراية قطعك فعليك
الدية، وقال الجاني اندملت جنايتي ومات بسبب آخر فعلى نصف الدية نظرت
فإن لم تمض مدة يمكن فيها الاندمال، فالقول قول الولي، لأن الظاهر أنه مات
من سراية الجناية، ويحلف على ذلك لجواز أن يكون قتله آخر، أو شرب سما
فمات منه، وان مضت مدة يمكن فيها الاندمال ثم مات، فإن كان مع الولي بينة
أنه لم يزل متألما ضمنا إلى أن مات فالقول قوله مع يمينه، لأن الظاهر أنه مات
من الجناية، وان لم يكن معه بينة على ذلك فالقول قول الجاني، لان ما يدعيه
174

كل واحد منهما ممكن، والأصل براءة ذمة الجاني مما زاد على نصف الدية.
(فصل) وان قطع يد رجل ومات ثم اختلف الولي والجاني، فقال الجاني
شرب سما أو جنى عليه آخر بعد جنايتي فلا يجب على الا نصف الدية. وقال
الولي مات من سراية جنايتك فعليك الدية فيها نص، ويحتمل أن يكون
القول قول الولي، لان الأصل حصول جنايته وعدم غيرها، ويحتمل أن يكون
القول قول الجاني، لأنه يحتمل ما يدعيه والأصل براءة ذمته
(الشرح) إذا قطع رجل يدي رجل ورجليه ومات المجني عليه، فقال الجاني
مات من الجناية فلا يلزمني الا دية واحدة، وقال الولي بل اندمل الجرحان ثم
مات بسبب آخر فعليك ديتان فإن كان بين الجنايتين والموت زمان لا يمكن
أن تندمل فيه الجراحات فالقول قول الجاني بلا يمين، لأنا قد علمنا صدقه
وحكى ابن الصباغ أن الشيخ أبا حامد الأسفراييني قال في التعليق يحلف مع ذلك
لجواز أن يكون مات بحادث آخر كلدغ الحية والعقرب
وقال ابن الصباغ، والأول أولى، لان الولي ما ادعى ذلك وإنما ادعى
الاندمال وقد علم كذبه، فأما إذا ادعى أنه مات بسبب آخر حلفنا الجاني
لامكانه، وإن كان بينهما زمان لا تبقى إليه الجراحات غير مندملة كالسنين الكثيرة
فالقول قول الولي بلا يمين. وإن كان بينهما زمان يمكن أن تندمل فيه الجراحات
ويمكن ألا تندمل فيه، فالقول قول الولي فيه مع يمينه، لان الديتين قد وجبتا
بالقطع وشك في سقوط إحداهما بالاندمال، والأصل بقاؤهما. فان أقام الجاني
بينة أنه لم يزل ضمنا من حين الجراحة إلى أن مات فالقول قوله مع يمينه، ولا
يجب عليه الا دية، لأن الظاهر أنه مات من الجنايتين، وان اختلفا فيما مضى
مدة يندمل في مثلها الجراحات فالقول قول الجاني مع يمينه، لان الأصل
عدم مضيها.
وإن كان بينهما زمان لا تندمل في مثله الجراحات وادعى الولي أنه مات
بسبب آخر، بأن قال ذبح نفسه أو ذبحه آخر، وقال الجاني بل مات من سراية
الجناية ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبى على الطبري أن القول قول الولي
175

مع يمينه لان الأصل بقاء الديتين، وإن قطع يده ثم مات فقال الولي: مات من
سراية الجناية فعليك الدية. وقال الجاني بل اندملت الجناية ثم مات بسبب آخر
فلا يلزمني م‍؟ سراية الجناية، وهل يحلف على ذلك؟ يحتمل وجهين
(أحدهما) يحلف لجواز أن يكون قتله آخر وشرب سما فمات منه
(والثاني) لا يحلف كما قال ابن الصباغ في التي قبلها، لأنا قد علمنا كذب
الجاني، ولأنه لم يدع في ذلك، وإنما ادعى الاندمال، وإن كان قد مضى من
الزمان ما تندمل في مثله الجراحات فإن كان مع الولي بينة أنه لم يزل ضمنا
من حين الجناية إلى الموت فالقول قول الجاني مع يمينه، لأن الظاهر أنه مات
بذلك وإن لم يكن مع بينة على ذلك فالقول قول الجاني، وهل يلزمه اليمين؟
يحتمل الوجهين في التي قبلها.
وإن مضى زمان يمكن أن يندمل في مثله الجراحات ويمكن ألا يندمل،
فالقول قول الجاني مع يمينه، لان الأصل براءة ذمته مما زاد على نصف الدية،
وإن قلع يده مات في زمان لا تندمل فيه الجراحات فقال الولي مات من سراية
الجناية فعليك الدية وقال الجاني: بل شرب سما فمات منه أو قتله آخر ففيه
وجهان كالتي قبلها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان جنى عليه جناية ذهب بها ضوء العين، وقال أهل الخبرة:
يرجى عود البصر فمات، واختلف الولي والجاني، فقال الجاني عاد الضوء ثم
مات، وقال الولي لم يعد فالقول قول الولي مع يمينه، لان الأصل ذهاب الضوء
وعدم العود، وإن جنى على عينه فذهب الضوء ثم جاء آخر فقلع العين واختلف
الجانيان، فقال الأول عاد الضوء ثم قلعت أنت فعليك الدية، وقال الثاني قلعت
ولم يعد الضوء فعلى حكومة وعليك الدية، فالقول قول الثاني لان الأصل عدم
العود، فإن صدق المجني عليه الأول قبل قوله في ابراء الأول لأنه يسقط عنه
حقا له، ولا يقبل قوله على الثاني: لأنه يوجب عليه حقا له، والأصل عدمه
(فصل) إذا جنى على رجل جناية فادعى المجني عليه أنه ذهب سمعه وأنكر
176

الجاني امتحن في أوقات غفلاته بالصياح مرة بعد مرة، فإن ظهر منه أمارات
السماع فالقول قول الجاني لأن الظاهر يشهد له ولا يقبل قوله من غير يمين لأنه
يحتمل أن يكون ما ظهر من أمارة السماع اتفاقا، وإن لم يظهر منه أمارة السماع
فالقول قول المجني عليه لأن الظاهر معه ولا يقبل قوله فيذلك من غير يمين،
لجواز أن يكون ما ظهر من عدم السماع لجودة تحفظه، وان ادعى نقصان السمع
فالقول قوله مع يمينه لأنه يتعذر إقامة البينة عليه ولا يعرف ذلك إلا من جهته
ما يدعيه محتمل فقبل قوله مع يمينه كما يقبل قول المرأة في الحيض، وان ادعى
ذهاب السمع من إحدى الاذنين سد التي لم يذهب السمع منها ثم يمتحن بالصياح
في أوقات غفلاته، فإن ظهر منه أمارة السمع فالقول قول الجاني مع يمينه،
وان لم يظهر منه أمارة السماع فالقول قول المجني عليه مع يمينه لما ذكرناه
(فصل) وإن ادعى المجني عليه ذهاب شمه وأنكر الجاني، امتحن في
أوقات غفلاته بالروائح الطيبة والروائح المنتنة، فإن كان لا يرتاح إلى الروائح
الطيبة ولا تظهر منه كراهية الروائح المنتنة فالقول قوله لأن الظاهر معه ويحلف
عليه لجواز أن يكون قد تصنع لذلك وان ارتاح إلى الروائح الطيبة وظهرت
منه الكراهية للروائح المنتنة فالقول قول الجاني، لأن الظاهر يشهد له ويحلف
على ذلك لجواز أن يكون ما ظهر من المجني عليه من الارتياح والتكره اتفاقا
وإن حلف المجني عليه على ذهاب شمه ثم غطى أنفه عند رائحة منتنة، فادعى
الجاني أنه غطاه لبقاء شمه، وادعى المجني عليه أنه غطاه لحاجة أو لعادة، فالقول
قول المجني عليه، لأنه يحتمل ما يدعيه.
(فصل) وان كسر صلب رجل فادعى المجني عليه أنه ذهب جماعه فالقول
قوله مع يمينه لان ما يدعيه محتمل؟ ولا يعرف ذلك إلا من جهته فقبل قوله
مع يمينه كالمرأة في دعوى الحيض
(الشرح) إذا جنى على عين رجل ثم اختلفا فقال الجاني: جنيت عليها
وهو لا يبصر بها، وقال المجني عليه بل كنت أبصر بها نظرت، فإن قال الجاني
جنيت عليها عمياء لا يبصر بها، فالقول قول الجاني مع يمينه لأنه لا يتعذر على
177

المجني عليه إقامة البينة على أنه كان يبصر بها، فالقول قول الجاني مع يمينه، لأنه
لا يعذر على المجني عليه إقامة البينة على أنه كان يبصر بها.
وإن قال الجاني: قد كان يبصر بها ولكن طرا عليها العمى قبل الجناية ففيه
قولان كما قلنا في الجناية إذا أقر بصحة العضو ثم ادعى أن الشلل طرأ عليه قبل
الجناية. وإذا أراد المجني عليه أن يقيم البينة إن كان يبصر بها فيكفي الشاهدين أن
شهدا أنه كان يبصر بها، ويسوغ لهما أن يشهدا بذلك إذا رأياه يبصر الشخص ويتبعه
في النظر كلما عطف الشخص جهته أتبعه البصر أو يتوفى البئر إذا أتاها أو يغمض
عينه إذا جاء إنسان يلمسها، لأن الظاهر ممن فعل هذا أنه يبصر، ويسعهما أن
يشهدا على سلامة اليد إذا رأياه يرفع بها ويضع، وليس للحاكم أن يسألهما عن
الجهة التي تحملا بها الشهادة على ذلك، كما ليس له أن يسألهما إذا شهدا للرجل بملك
عين عن الجهة التي علما بها ملكه
(فرع) وإن جنى على عين رجل فذهب ضوءها وقال أهل الخبرة انه يرجى
عوده إلى مدة فمات المجني عليه ادعى الجاني أن ضوءها قد عاد قبل موته. وقال
الولي لم يعد فالقول قول الولي مع يمينه لان الأصل عدم العود فيحلف أنه
لا يعلم أن ضوء عين مورثه قد عاد، لأنه يحلف على نفى فعل غيره، وإن جنى
على عين رجل جناية ذهب بها ضوء عينه وبقيت الحدقة ثم جاء آخر وقلع الحدقة
فادعى الجاني الأول أن الثاني قلع الحدقة بعد أن عاد ضوءها. وقال الجاني الثاني
قل‍؟ تها قبل عود ضوئها فإن صدق المجني عليه الجاني الأول قبل تصديقه في
حق الأول، لان ذلك يتضمن إسقاط حقه عنه ولا يقبل قوله على الثاني، لان
ذلك يوجب الضمان عليه. والأصل براءة ذمته من الضمان فيحلف الثاني أنه قلعها
قبل أن عاد ضوءها ولا يلزمه الا الحكومة.
قوله (فادعى المجني عليه أنه ذهب سمعه الخ) فجملة ذلك أنه إذا جنى على أذنه
جناية وادعى المجني عليه أنه ذهب سمعه وكذبه الجاني فإن المجني عليه يراعى
أمره في وقت غفلاته، فإن كان يضطرب عند صوت الرعد، وإذا صبح به وهو
عاقل أجاب أو اضطرب أو ظهر منه شئ يدل على أنه سامع، فالقول قول الجاني
لأن الظاهر أنه لم يذهب سمعه، ويحلف الجاني أنه لم يذهب سمعه لجواز أن
178

يكون ما ظهر منه اتفاقا إلا أنه يسمع وإن كان لا يضطرب لصوت الرعد ولا
يجيب إذا صيح به مع غفلته ولا يضطرب لذلك فالقول قول المجني عليه لأن الظاهر
أنه لا يسمع، ويحلف أنه قد ذهب سمعه، لجواز أن يكون قد تصنع
لذلك، فإن ادعى أنه ذهب سمعه في إحدى الاذنين دون الأخرى سدت الصحيحة
وأطلقت العليلة وامتحن في أوقات غفلاته على ما ذكرناه. وان ادعى أنه نقص
سمعه بالجناية ولم يذهب فالقول قوله مع يمينه في قدر نقصه لأنه لا يتوصل إلى
معرفة ذلك الا من جهته.
(فرع) إذا جنى على أنفه جناية فادعى المجني عليه أنه ذهب بها شمه وأنكر
الجاني أنه لم يذهب شمه قربت إليه الروائج الطيبة والمنتنة في أوقات غفلاته،
فإن هش إلى الروائح الطيبة أو عبس للروائح المنتنة، فالقول قول الجاني مع
يمينه، وان لم يظهر مه ذلك فالقول قول المجني عليه مع يمينه لما ذكرناه في
السمع، وان ادعى ذهاب شمه من أحد المنخرين أو ادعى نقصانه فعلى ما ذكرناه
في السمع. وإذا حلف المجني عليه أن سمعه أو شمه قد ذهب بالجناية وأخذ
الدية فاضطرب عند صوت رعد، فإن ادعى الجاني أن سمعه قد عاد وارتاح إلى
رائحة طيبة أو غطى أنفه عند رائحة منتنة فادعى الجاني أن شمه قد عاد وادعى
المجني عليه أنه لم يعد فالقول قول المجني عليه مع يمينه لان الأصل عدم عوده
وما ظهر منه يحتمل أن يكون اتفاقا أو مصادفة، أو عطى أنفه لغبار أو
لريح دخل بها.
(فرع) إذا قطع لسان رجل فادعى الجاني أنه كان أبكم قبل الجناية وادعى
المجني عليه أنه لم يكن أبكم نظرت فإن ادعى الجاني أنه خلق أبكم فالقول
قول الجاني مع يمينه لأنه لا يتعذر على المجني عليه إقامة البينة على الكلام.
وان أقر الجاني أنه كان يتكلم بلسانه وادعى أن البكم طرأ عليه قبل الجناية ففيه
قولان كما قلنا فيمن أقر بصحة العضو وادعى طرء ان الشلل عليه قبل الجناية
وان جنى على ظهره فادعى المجني عليه أنه ذهب بذلك جماعة، وأنكر الجاني
فالقول قول المجني عليه مع يمينه لأنه لا يتوصل إلى العلم بذلك الا من جهته.
179

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن اصطدمت سفينتان فتلفتا ادعى صاحب السفينة على القيم
أنه فرط في ضبطها وأنكر القيم ذلك فالقول قوله مع يمينه، لان الأصل عدم
التفريط وبراءة الذمة.
(فصل) إذا ضرب بطن امرأة فألقت حنينا ميتا ثم اختلفا فقال الضارب:
ما أسقطت من ضربي، وقالت المرأة أسقطت من ضربك نظرت فإن كان
الاسقاط عقيب الضرب فالقول قولها لأن الظاهر معها، وإن كان الاسقاط
بعد مدة نظرت فإن بقيت المرأة متألمة إلى أن أسقطت فالقول قولها لأن الظاهر
معها، وإن لم تكن متألمة فالقول قوله، لأنه يحتمل ما يدعيه كل واحد
واحد منهما، والأصل براءة الذمة. وإن اختلفا في التألم فالقول قول الجاني.
لان الأصل عدم التألم.
وإن ضربها فأسقطت جنينا حيا ومات واختلفا، فقالت المرأة مات من ضربك
وقال الضارب مات بسبب آخر، فإن مات عقيب الاسقاط فالقول قولها، لأن الظاهر
معها وأنه مات من الجناية، وإن مات بعد مدة ولم تقم البينة أنه بقي متألما
إلى أن مات فالقول قول الضارب مع يمينه، لأنه يحتمل ما يدعيه والأصل براءة
الذمة وان أقامت بينة أنه بقي متألما إلى أن مات فالقول فولها مع اليمين، لأن الظاهر
أنه مات من جنايته.
(فصل) وان اختلفا فقالت المرأة استهل ثم مات وأنكر الضارب فالقول
قوله لان الأصل عدم الاستهلال، وان ألقت جنينا حيا ومات ثم اختلفا فقال
الضارب كان أنثى، وقالت المرأة كان ذكرا فالقول قول الضارب، لان الأصل
براءة الذمة مما زاد على دية الأنثى
(الشرح) ما جاء في اصطدم السفينتين على وجهه، أما إذا أسقطت امرأة
جنينا ميتا فادعت على إنسان أنه ضربها وأسقطت من ضربته، فإن أنكر الضرب
ولا بينة فالقول قوله مع يمينه، لان الأصل عدم الضرب، وان أقر بالضرب
180

وأنكر أنها أسقطت جنينا فعليها أن تقيم البينة أنها أسقطت جنينا لأنه يمكنها
إقامة البينة على ذلك، فإن لم يكن معها بينة فالقول قول الضارب مع يمينه أنه
لا يعلم أنها أسقطت جنينا، لان الأصل عدم الاسقاط، وان أقامت البينة أنها
أسقطت جنينا أو أقر الضارب أنها أسقطت جنينا الا أنه أنكر أنها أسقطته من
ضربه نظرت، فإن أسقطت عقيب الضرب أو بعد الضرب بزمان. الا أنها
بقيت متألمة من حين الضرب إلى أن سقطت فالقول قولها مع يمينها، لأن الظاهر
أنها أسقطته من ضربه، وان أسقطت بعد الضرب بزمان وكانت غير متألمة بعد
الضرب فالقول قوله مع يمينه، لان الأصل براءة ذمته من الضمان، وان اختلفا
فادعت أنها بقيت متألمة بعد الضرب إلى أن أسقطت وأنكر ذلك ولا بينة لها على
التألم فالقول قوله مع يمينه لان الأصل عدم التألم.
إذا ثبت هذا فإنه إذا ضربها فأسقطت جنينا حيا ثم مات، فقال ورثة الجنين
مات من الضرب، وقال الجاني مات بسبب آخر، فإن مات عقيب الاسقاط أو
بعد الاسقاط بزمان الا أنه بقي متألما إلى أن مات فالقول قول ورثة الجنين مع
أيمانهم، لأن الظاهر أنه مات من الضرب
وان مات بعد الاسقاط بزمان، وكان غير متألم بعد الاسقاط، فالقول قول
الضارب مع يمينه لان الأصل براءة ذمته من الضمان. وان اختلفوا في تألمه
فالقول قول الضارب لان الأصل عدم تألمه.
وإذا ادعى ورثة الجنين أنه سقط حيا ومات من الضرب، وقال الجاني
بل سقط ميتا فالقول قول الجاني مع يمينه لان الأصل عدم الحياة فيه، فإن أقام
ورثته بينة أنه سقط حيا وأقام الجاني وعاقلته بينة أنه سقط ميتا قدمت بينة ورثة
الجنين لان معها زيادة علم، وان أسقطت من ضربه جنينا حيا ومات من الضرب
فقال ورثة الجنين انه كان ذكرا فعليك دية ذكر، وقال الجاني بل كان أنثى
فالقول قول الجاني مع يمينه لان الأصل براءة ذمته مما زاد على دية أنثى وان
ضربها فأسقطت جنينين ذكر أو أنثى فاستهل أحدهما ومات من الضرب وأحدهما
سقط ميتا، فان عرف المستهل منهما وجبت فيه الدية الكاملة وفى الآخر الغرة،
181

وإن لم يعرف المستهل نهما لم يلزم العاقلة إلا دية أنثى وغرة عبد أو أمة أو
تقدير قيمة العبد أو الأمة عند تعذر وجودهما لأنه اليقين وما زاد مشكوك فيه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان ادعى رجل على رجل قتلا تجب فيه الدية على العاقلة،
وصدقه المدعى عليه وأنكرت العاقلة وجبت الدية على الجاني بإقراره ولا تجب
على العاقلة من غير بينة، لما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال (لا تحمل
العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا) ولأنا لو قبلنا إقراره على العاقلة
لم يؤمن إن لم يواطئ في كل وقت من يقر له بقتل الخطأ، فيؤدى إلى الاضرار
بالعاقلة، وإن ضرب بطن امرأة فألقت جنينا، فقال الجاني كان ميتا، وقالت
المرأة كان حيا فالقول قول الجاني لأنه يحمل ما يدعيه كل واحد منهما والأصل
براءة الذمة، وإن صدق الجاني المرأة وأنكرت العاقلة وجب على العاقلة قدر
الغرة لأنها لم تعترف بأكثر منها ووجبت الزيادة في ذمة الجاني، لان قوله
مقبول على نفسه دون العاقلة
(فصل) إذا سلم من عليه الدية الإبل في قتل العمد ثم اختلفا فقال الولي: لم
يكن فيها خلفات، وقال من عليه الدية: كانت فيها خلفات فإن لم يرجع في حال
الدفع إلى أهل الخبرة، فالقول قول الولي، لان الأصل عدم الا حمل، فإن رجع
في الدفع إلى قول أهل الخبرة ففيه وجهان
(أحدهما) أن القول قول الولي لما ذكرناه
(والثاني) أن القول قول من عليه الدية لأنا حكمنا بأنها خلفات بقول أهل
الخبرة فلم يقبل فيه قول الولي
(الشرح) أثر ابن عباس أخرجه أحمد في مسنده والبيهقي ولفظه (لا تحمل
العاقلة عمدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما جنى المملوك) وأخرجه الدارقطني
عن عمر رضي الله عنه بلفظ (قال عمر: العمد والعبد والصلح والاعتراف
لا تعقله العاقلة) وأخرجه أيضا البيهقي عن عمر قال في التلخيص: وهو منقطع
182

وفى إسناده عبد الملك بن حسين وهو ضعيف قال البيهقي: والمحفوظ أنه عن
عامر عن الشعبي من قوله، وقال مالك في الموطأ: وقال الزهري مضت السنة
أن العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد إلا أن يشاءوا
فإن قيل ولما ذا اختار المصنف أثرا موقوفا على ابن عباس مع وروده مرفوعا
من حديث عبادة بن الصامت عند الدارقطني والطبراني (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: لا تجعلوا على العاقلة من دية المعترف شيئا) قلنا في إسناده محمد بن سعيد
المصلوب وهو كذاب تحرم الرواية عنه، والحرث بن نبهان وهو منكر الحديث
وقول الزهري الذي حكاه مالك روى معناه البيهقي عن أبي الزناد عن الفقهاء
من أهل المدينة.
أما الأحكام فإنه إذا ادعى على رجل قتلا ثبت فيه الدية على عاقلته، فأقر
بذلك فكذبه العاقلة كانت الدية في ماله لما قدمنا من الآثار عن ابن عباس وعمر
والزهري وأبى الزناد واتفاق أهل المدينة، وهو وان لم يكن حجة عندنا إلا أنه
لا مخالف لهم فيه فكان اجماعا، ولأنا لو قبلنا إقراره على العاقلة لم يؤمن أن
يتواطأ مع من يقر له بقتل الخطأ ليدخل الضرر على العاقلة فلم يقبل اقراره.
فإن ضرب بطن امرأة فأسقطت جنينا من ضربه فادعى ورثة الجنين أنه سقط
حيا ومات من ضربته وصدقهم الجاني، وقالت العاقلة بل سقط ميتا، فالقول
قولهم مع أيمانهم. فإذا حلفوا لم يلزمهم أكثر من قدر الغرة، ويجب تمام الدية
في مال الجاني، لأنه وجبت باعترافه، وهكذا لو أسقطت جنينا حيا ومات من
الضرب فقال ورثة الجنين: كان ذكرا وصدقهم الجاني، وقالت العاقلة بل كان
أنثى فالقول قول العاقلة مع أيمانهم، فإذا حلفوا لم يلزمهم الا دية امرأة ووجب
في مال الجاني تمام دية الرجل، لأنه وجب باعترافه
(فرع) الخلفة من الإبل هي الحامل وجمعها مخاض من غير لفظها، كما تجمع
المرأة على النساء وربما جمعت على لفظها فقيل خلفات كما في كلام المصنف فإذا
وجب على قاتل العمد الخلفات فأحضر إبلا ليدفعها. وقال هن خلفات وقال
الولي لسن بخلفات، عرضت على أهل الخبرة بالإبل، فان قالوا هن حوامل
كلف الولي أخذها.
183

فإن قالوا لسن بحوامل كلف الجاني إحضار الحوامل ودفعهن، فإن أخذ
الولي الإبل بقول أهل الخبرة أنهن حوامل واتفق هو والقاتل أنهن حوامل،
فإن صح أنهن حوامل فقد استوفى حقه. وإن خرجن حوامل نظرت فإن
كانت الإبل حاضرة ولم يعينها كان للولي ردها والمطالبة بحوامل، وإن كان الولي
قد غيبها مدة يمكن أن تضع فيها فقال القاتل: كن حوامل وقد وضعن في يدك،
وقال الولي لم تكن حوامل، فإن كان الولي قد أخذ الإبل باتفاقهما لا بقول أهل
الخبرة فالقول قول الولي مع يمينه، لان الأصل عدم الحمل، وإن كان قد أخذها
بقول أهل الخبرة ففيه وجهان:
(أحدهما) القول قول الولي مع يمينه لان أهل الخبرة إنما يخبرون من طريق
الظن والاستدلال، ويجوز ألا يكون صحيحا، فكان القول قول الولي مع يمينه
كما لو أخذها الولي باتفاقها.
(والثاني) أن القول قول الجاني مع يمينه لأنا قد حكمنا بكونها حوامل بقول
أهل الخبرة، فإذا ادعى الولي أنها ليست بحوامل كان قوله مخالفا للظاهر فلم يقبل
والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب كفارة القتل
من قتل من يحرم عليه قتله من مسلم أو كافر له أمان خطأ وهو من أهل
الضمان وجبت عليه الكفارة، لقوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير
رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله) وقوله تبارك وتعالى (فإن كان من قوم عدو
لكن وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية
مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) فإن قتله عمدا أو شبه عمد وجبت عليه
الكفارة، لأنها إذا وجبت في قتل الخطأ مع عدم المأثم فلان تجب في العمد وشه
العمد وقد تغلظ بالإثم أولى.
وإن توصل إلى قتله بسبب يضمن فيه النفس، كحفر البئر، وشهادة الزور
184

والاكراه وجبت عليه الكفارة، لان السبب كالمباشرة في إيجاب الضمان فكان
كالمباشرة في ايجاب الكفارة فإن ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا وجبت
عليه الكفارة لأنه آدمي محقون الدم لحرمته فضمن بالكفارة كغيره. وان قتل
نفسه أو قتل عبده وجبت عليه الكفارة، لان الكفارة تجب لحق الله تعالى وقتل
نفسه وقتل عبده كغيرهما في التحريم لحق الله تعالى، فكان كقتل غيرهما في ايجاب
الكفارة، فإن اشترك جماعة في قتل واحد وجب على كل واحد منهم كفارة.
ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر أنه يجب على الجميع كفارة واحدة، لأنها
كفارة تجب بالقتل، فإذا اشترك الجماعة فيه وجبت عليهم كفارة واحدة كالكفارة
في قتل الصيد، والمشهور هو الأول لأنها كفارة لا تجب على سبيل البدل، فإذا
اشترك الجماعة في سببها وجب على كل واحد منهم كفارة ككفارة الطيب واللباس
(فصل) والكفارة عتق رقبة مؤمنة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين
لقوله تعالى (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله
إلى قوله تعالى فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين) فإن لم يستطع ففيه قولان
(أحدهما) يلزمه اطعام ستين مسكينا، كل مسكين مدا من الطعام، لأنه
كفارة يجب فيها العتق أو صيام شهرين، فوجب فيها اطعام ستين مسكينا قياسا
على كفارة الظهار والجماع في رمضان
(والثاني) لا يلزمه الاطعام لان الله تعالى ذكر العتق والصيام ولم يذكر
الاطعام، ولو وجب ذلك لذكره كما ذكره في كفارة الظهار، وصفة الرقبة
والصيام والطعام إذا أوجبناه على ما ذكرنا في الظهار فأغنى عن الإعادة
(الشرح) هذه الآيات القرآنية من أمهات الأحكام. ذكرا أبو حاتم بسنده
عن ابن عمر أن عياش بن أبي ربيعة قتل الحارث بن يزيد بن أبي أنيسة العامري
لحية كانت بينهما إذ هاجر الحارث مسلما فلقيه عياش فقتله ولم يشعر بإسلامه،
فلما أخر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله انه كان من أمري وأمر
الحارث ما قد علمت ولم أشعر باسلامه حتى قتلته، فنزلت الآية.
أما الأحكام فان هذه الآية أصل في وجوب الكفارة، فذكر الله تعالى في
185

الآية ثلاث كفارات، إحداهن إذا قتل مؤمنا في دار الاسلام بقوله (ومن
قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) الثانية: إذا قتل مؤمنا في دار الحرب بأن
كان أسيرا في صفهم أو مقيما باختياره بقوله تعالى (فإن كان من قوم عدو لكم
وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة) ومعناه في قوم عدو لكم. والثالثة: إذا قتل
ذميا بقوله تعالى (وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير
رقبة مؤمنة)
إذا ثبت هذا فظاهر الآية بقوله تعالى (وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا
خطأ) أنه ما ينبغي لمؤمن أن يقتل مؤمنا الا خطأ
قال العمراني: الاستثناء من النفي اثبات، فليس له أن يقتله عمدا وله قتله
خطأ، وقال القرطبي: ليس على النفي وإنما هو على التحريم والنهى كقوله تعالى
(وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله) ولو كانت على النفي لما وجد مؤمن قتل مؤمنا
قط، لان ما نفاه الله تعالى لا يجوز وجوده كقوله تعالى (ما كان لكم أن تنبتوا
شجرها) فلا يقدر العباد أن ينبتوا شجرها، ثم استثنى استثناء منقطعا ليس من
الأول، وهو الذي يكون فيه (الا)) بمعنى لكن
والتقدير ما كان له أن يقتله البتة، لكن أن قتله خطأ فعليه كذا هذا قول
سيبويه والزجاج اه‍
وللاستثناء المنقطع شواهد كثيرة في القرآن كقوله تعالى (ما لهم به من علم
الا اتباع الظن) وقوله تعالى (وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب الا
رحمة من ربك)
قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني: ولا خلاف بين أهل العلم أن قتل الخطأ
محرم كقتل العمد، الا أن قتل العمد يتعلق به الاثم، وقتل الخطأ لا اثم فيه،
واختلف أصحابنا في تأويل قوله (الا خطأ) فمنهم من قال هو استثناء منقطع من
غير الجنس كما أوضحناه عن القرطبي من المالكية، واستشهد هؤلاء الأصحاب بقوله
تعالى (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم)
وتقدير لكن كلوا بالتجارة، لأنه لو كان استثناء من الجنس لكان تقديره: الا
أن تكون تجارة بينكم عن تراض منكم فكلوها بالباطل. وهذا لا يجوز
186

ومنهم من قال: هو استثناء من مضمن محذوف فيكون تقديره: وما كان
لمؤمن أن يقتل مؤمنا، فإن قتله أثم إلا أن يكون خطأ، فاستثنى الخطأ من الاثم
المحذوف المضمن في الآية.
ومنهم من قال: تأويل قوله تعالى (إلا خطأ) بمعنى ولا خطأ، كقوله تعالى
(لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم) يعنى ولا الذين ظلموا.
قال ابن الصباغ: وهذا التأويل يبعد، لان الخطأ لا يتوجه إليه النهى. قال
وقول الشيخ أبى حامد أن قتل الخطأ محرم يناقضه، لان حد المحرم ما يأثم فيه
والخطأ لا يوصف بالتحريم ولا بالإباحة كفعل المجنون والبهيمة
إذا ثبت هذا فإنه إذا قتل من يحرم قتل لحق الله تعالى عمدا أو خطأ أو عمد
خطأ وجبت عليه بقتله الكفارة وبه قال الزهري وقال ربيعة وأبو حنيفة
وأصحابه يجب الكفارة بقتل الخطأ، لان الخطأ أخف حالا من قتل العمد، لأنه
لا قود فيه ولا اثم والدية فيه محققة، فإذا وجبت فيه الكفارة فلان تجب في قتل
العمد المحض وعمد الخطأ أولى
وروى واثلة بن الأسقع قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا
قد استوجب النار بالقتل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أعتقوا عنه رقبة يعتق
الله بكل عضو منها عضوا من النار. ولا يستوجب النار الا في قتل العمد.
وروى أنع عمر رضي الله عنه قال، يا رسول الله انى وأدت في الجاهلية، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم أعتق بكل موءودة رقبة. والموؤودة البنت المقتولة عندما
تولد، كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك مخافة العار والفقر، ولأنه حيوان يضمن
بالكفارة إذا قتل خطأ فوجب أن يضمن بالكفارة إذا قتل عمدا كالصيد وعكسه
المرتد، فإن قتل نساء أهل الحرب وذراريهم لم تجب عليه الكفارة، لان قتلهم
إنما حرم لحق المسلمين لا لحق الله، فلم تجب به الكفارة، كما لو ذبح بهيمة
غيره بغير اذنه.
وكذلك لو قتل عبدا لنفسه أو لغيره، أو قتل ذميا أو معاهدا وجبت عليه
الكفارة. وقال مالك: لا يجب في كله الكفارة. دليلنا قوله تعالى (ومن قتل
187

مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) وهذا عام في الحر والعبد. وقوله تعالى (وإن
كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة) وهذا
يقع على الذمي والمعاهد، ولأنه آدمي يجرى القصاص بينه وبين نظيره، فوجبت
بقتله الكفارة كالحر المسلم، إن قتل نفسه وجبت الكفارة في ماله.
وقال بعض أصحابنا الخراسانيين لا تجب الكفارة، دليلنا قوله تعالى (ومن
قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) وهذا عام، ولأنه يحرم عليه قتل نفسه،
بل لا يجوز له قتل نفسه بحال، فإذا وجبت عليه الكفارة بقتل غيره فلان تجب
بقتل نفسه أولى.
(فرع) وإن ضرب بطن امرأة فألقت من ضربه جنينا ميتا وجبت عليه
الكفارة، وبه قال عمر والزهري والنخعي والحسن البصري والحكم. وقال
أبو حنيفة لا تجب فيه الكفارة. دليلنا قوله تعالى (من قتل مؤمنا خطأ فتحرير
رقبة مؤمنة) وقد حكمنا للجنين بالايمان تبعا لأبويه، فيكون داخلا في عموم
الآية، ولأنه آدمي محقون الدم لحرمته فوجبت فيه الكفارة كغيره.
وقولنا (آدمي) احتراز من غير الآدمي من الحيوان وقولنا محقون الدم،
احتراز من المرتد والحربي ومن جاز قتله. وقولنا لحرمته احتراز من نساء أهل
الحرب وذراريهم، فإنه ممنوع من قتلهم لا لحرمتهم، ولكن لحق الغانمين
(فرع) وإن قتل من يحرم قتله لحق الله تعالى بسبب يجب به ضمانه بأن حفر
بئرا في غير ملكه متعديا، فسقط فيها انسان ومات وجبت عليه الكفارة
وقال أبو حنيفة لا تجب الكفارة إلا بالمباشرة، دليلنا قوله تعالى (ومن قتل
مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) ولم يفرق بين أن يقتله بالمباشرة أو بالسبب،
ولأنه قتل آدميا ممنوعا من قتله لحرمته فوجب عليه الكفارة، كما لو قتله بالمباشرة
(فرع) إذا كان القاتل صبيا أو مجنونا أو كافرا وجبت عليهم الكفارة،
وقال أبو حنيفة لا يجب على واحد منهم الكفارة. دليلنا قوله تعالى (ومن قتل
مؤمنا خطأ) ولم يفرق بين أن يكون القاتل صبيا أو مجنونا أو كافرا، فإن قيل
الصبي والمجنون لا يدخلان في الخطاب
قلنا إنما لا يدخلان في خطاب المواجهة لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا
188

اتقوا الله) ويدخلان في خطاب الأنام، كقوله صلى الله عليه وسلم: في كل
أربعين شاة شاة.
وروى أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله انى وأدت في الجاهلية؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتق بكل موءودة رقبة. وهذا نص في إيجاب
الكفارة على الكافر، ولأنه حق مال يتعلق بالقتل فتعلق بقتل الصبي والمجنون
كالدية، ولان الكفارة تجب على المسلم للتكفير، وعلى الكافر عقوبة كما أن الحدود
تجب على المسلم كفارات وعلى الكافر عقوبة
(فرع) إذا اشترك جماعة في قتل واحد وجب على كل واحد منهم كفارة،
قال عثمان البتي: تجب عليهم كفارة واحدة. وحكى أبو علي الطبري أن هذا
قول آخر للشافعي لأنها كفارة تتعلق بالقتل، فإذا اشترك الجماعة في سببها
وجب عليهم كفارة واحدة، كما لو اشتركوا في قتل صيد، والأول هو المشهور
لأنها كفارة وجبت لا على سبيل البدل عن النفس، فوجب أن يكون على كل
واحد من الجماعة إذا اشتركوا في سببها ما كان يجب على الواحد إذا انفرد ككفارة
الطيب للمحرم، وقولنا: لا على سبيل البدل. احتراز من جزاء الصيد
قوله والكفارة عتق رقبة مؤمنة. وهذا صحيح لمن وجدها، ولا خلاف في
ذلك، فإذا لم يجد الرقبة وجب عليه صوم شهرين متتابعين لقوله تعالى (فمن لم
يجد فصيام شهرين متتابعين) فإن لم يقدر على الصوم ففيه قولان
(أحدهما) يجب عليه أن يطعم ستين مسكينا، لان الله تعالى ذكر الاطعام
في كفارة الظهار ولم يذكر في كفارة القتل فوجب أن يحمل المطلق في القتل على
المقيد في الظهار، كما قيد الله الرقبة في القتل بالأثمان، وأطلقها في كفارة الظهار
فحمل مطلق الظهار على مقيد القتل.
(والثاني) لا يجب عليه الاطعام، وهو الأصح، لان الله أوجب
الرقبة في كفارة القتل، ونفل عنها إلى صوم الشهرين، ولم ينقل إلى الاطعام،
فدل على أن هذا جميع الواجب فيها، وما ذكره الأول فغير صحيح، ولان
المطلق إنما تحمل على المقيد إذا كان الحكم مذكورا في موضعين الا أنه قيده في
موضع بصفة، وأطلقه في الموضع الآخر، كما ذكر الله الرقبة في كفارة القتل
189

مقيدا بالايمان، وذكرها في الظهار مطلقة فحمل مطلق الظهار على مقيد القتل،
وكما ذكر الله اليدين في الطهارة وقيدهما إلى المرفقين، وذكرهما في التيمم مطلقا،
فحمل مطلق التيمم فيهما على ما قيده فيهما في الطهارة. وهاهنا الاطعام لم يذكره
في الموضعين، إنما ذكره في الظهار فلم يجز نقل حكمه إلى كفارة القتل، كما لم
يجز نقل حكم مسح الرأس وغسل الرجلين إلى التيمم، وحكم الرقبة والصوم
الاطعام إذا أوجبناه قدم في كفارة الظهار. والله تعالى أعلم بالصواب، وهو
حسبي ونعم الوكيل
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب قتال أهل البغي
لا يجوز الخروج عن الامام لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (من نزع يده من طاعة امامه فإنه يأتي يوم القيامة ولا حجة له. ومن مات
وهو مفارق للجماعة فإنه يموت ميتة جاهلية.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،
من حمل علينا السلاح فليس منا.
(الشرح) حديث عبد الله بن عمر أخرجه مسلم بإسناده عن نافع قال (جاء
عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع حين كان من أمر الحرة ما كان زمن يزيد بن
معاوية فقال اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال إني لم آتك لأجلس أتيتك
لأحدثك حديثا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من خلع يدا من
طاعة لقى الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة
جاهلية. وأخرجه عن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر بمعنى حديث نافع،
وأخرجه الحاكم عن ابن عمر بلفظ (من خرج من الجماعة فقد خلع ربقة
الاسلام من عنقه حتى يراجعه، ومن مات وليس عليه امام جماعة فإن ميتته
ميتة جاهلية. وأخرج مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ (من خرج من الطاعة
وفارق الجماعة فميتته جاهليه.
190

أما حديث أبي هريرة (من حمل علينا السلاح فليس منا) فقد أخرجه مسلم
من حديث أبي هريرة وسلمة بن الأكوع، وأخرجه الشيخان من حديث أبي
موسى الأشعري وابن عمر. وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم من حديث أبي
ذر: من فارق الجماعة قدر شبر فقد خلع ربقة الاسلام من عنقه
أما اللغات فإن البغي التعدي وكل مجاوزة وإفراط وخروج عن حد الشئ،
والبغي الظلم، وبغيته أبغيه بغيا طلبته، وابتغيته وتبغيته مثله والاسم البغاء
كغراب. وينبغي أن يكون كذا معناه يندب ندبا مؤكدا لا يحسن تركه، واستعمال
ماضيه مهجور، وقد عدوا ينبغي من الافعال التي لا تتصرف، فلا يقال إنبغى
وقيل في توجيهه أن انبغى مطاوع بغى، ولا يستعمل انفعل في المطاوعة إلا إذا
كان فيه علاج وانفعال، مثل كسرته فانكسر، وكما لا يقال طلبته فانطلب وقصدته
فانقصد لا يقال بغيته فانبغى، لأنه لا علاج فيه، وبغى على الناس بغيا سعى
بالفساد أو ظلم واعتدى، وبغت المرأة تبغى بغاء فجرت فهي بغى والجمع بغايا،
وهو وصف تختص به المرأة، ولا يقال للرجل بغى، ولى عنده بغية أي حاجة
والفئة الباغية التي تعدل عن الحق وما عليه أئمة المسلمين. يقال بغى الجرح إذا
ترامى إلى الفساد.
أما الأحكام، فإن مما استقر في الفطر وارتكز في الطباع أن الجماعة لا تصلح
حياتها فوضى لا سراة لها من أهل العقل والحكمة والعلم والزكانه، ومن ثم يأتي
خطأ بعض المتكلمين في قولهم لو تكاف الناس عن الظلم لم يجب نصب الإمام
لان الصحابة رضي الله عنهم اجتمعوا على نصب الإمام، والمراد بالامام الرئيس
الا على للدولة، والإمامة والخلافة وإمارة المؤمنين مترادفة، والمراد بها الرياسة
العامة في شؤون الدين والدنيا. ويرى ابن حزم أن الامام إذا أطلق انصرف إلى
الخليفة، أما إذا قيد انصرف إلى ما قيد به من إمام الصلاة وإمام الحديث وإمام
القوم. ويقول الدكتور عبد الحميد متولي أستاذ القانون الدستوري بكلية الحقوق
بالإسكندرية في كتابه مبادئ نظام الحكم في الاسلام ص 497 (ونلاحظ أن
الصحافة المصرية بدأت في الآونة الأخيرة تطلق على شيخ الأزهر لقب الامام
الأكبر بدلا من الأستاذ الأكبر ويبدو لنا أن من الأوفق العدول عن هذا
191

اللقب (أولا) لان الإمامة الكبرى إنما يقصد بها الخلافة كما قدمنا (وثانيا)
لان نزعة الاغراق في ألقاب التفخيم والتعظيم إنما هي أثر من آثار الحكم التركي
في حين أن اتجاه التطور لدنيا لا سيما منذ عهد الثورة إنما يسير ضد هذه
النزعة، ومنصف شيخ الاسلام ليس من المناصب التي جاء بها الاسلام، وعجيب
أن يقال عن علي بن أبي طالب وهو من هو (الامام على) والشيخ محمد عبده
(الأستاذ الامام) ثم يقال عن شيخ الأزهر الامام الأكبر. اه‍ ملخصا
فإذا عرفت أن المجتمع في حاجة إلى من يسوس أمره في دينه ودنياه ليكف
الناس عن أن يتظالموا
والظلم من شيم النفوس فإن تجد * ذا عفة فلعلة لا يظلم
فإنما تظهره القدرة وبخفيه العجز، ولأنهم وان تكافوا عن الظلم فهم
مفتقرون إليه لتجهيز الجيوش في جهاد الأعداء، وغير ذلك من رعاية مصالحهم
وحماية حوزتهم، وحفظ أرزاقهم وتنمية مواردهم.
فإذا ثبت هذا فمن شروط الامام أن يكون ذكرا بالغا عاقلا مسلما عدلا
عالما من الفقه ما يخرجه عن أن يكن مقلدا، لأن هذه الشروط هي التي تعتبر
في حق القاضي فلان تعتبر في حق الامام أولى.
ومن شرط الامام أن يكون شجاعا له تدبير وهداية إلى مصالح المسلمين،
لأنه لا يتأهل لتحمل أعباء الأمة الا بذلك ومن شرطه أن يكون قرشيا.
هكذا أفاده أكثر الأصحاب
وقال أبو المعالي الجويني من أصحابنا من يجوز أن يكون من غير قريش.
مع ورود حديث أنس عند أحمد والطبراني (الأئمة من قريش ولى عليكم حق
عظيم، ولهم ذلك ما فعلوا ثلاثا، إذا استرحموا رحموا، وإذا حكموا عدلوا،
وإذا عاهدوا وفوا، فمن لم يفعل ذلك فعليه لعنة الله والملائكة الناس أجمعين)
قال القاضي أبو الفتوح، ومن شرطه ألا يكون أعمى، ويجوز أن يكون
النبي أعمى لان شعيبا كان أعمى، فإذا اجتمعت في الرجل شروط الإمامة، فإن
الإمامة لا تنعقد الا بأن يستخلفه الامام الذي كان قبله، أو بأن لم يكن هناك
امام فيقهر الناس بالغلبة والصولة، أو بأن تنعقد له الإمامة باختيار أهل الحل
192

والعقد له. ولا يلتفت إلى إجماع الدهماء، فإن ذلك لا يصح لان طبقة الدهماء
لابد أن تكون مقلدة لفئة منها تؤثر عليها بالدعاية والضجيج فلا تستطيع أن تحكم في
أناة وتعقل لتختار الإمام العادل، ومن ثم فإن أهل الحل والعقد وهم الطليعة
الواعية والفئة المستنيرة من أهل الاجتهاد من الأمة هم الجديرون باختيار الإمام
لأنهم سيحملون وزره إذا لم يتحروا في اختياره الصواب، وسيكونون شركاءه
في مآثمه ومظالمه.
وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي في كتابه التنبيه: ولا يعقد إلا بعقد جماعة
من أهل الحل والعقد ومقتضى كلامه أن أقلهم ثلاثة، لان ذلك أقل الجمع
عندنا، وعند القاضي أبى الفتوح ينعقد بواحد، ومن شرط العاقد أن يكون
ذكرا بالغا عاقلا مسلما عدلا مجتهدا. وهل من شرط العقد أن يكون بحضرة
شاهدين؟ قال العمراني فيه وجهان. ومن شرط العاقد والشاهد إذا اعتبرناه أن
يكون عدلا ظاهرا وباطنا، لأنه لا يشق مراعاة ذلك فيهما، ولا يجوز نصب
إمامين. وقال أبو المعالي الجويني: يجوز عقد الإمامة لامامين في صقعين متباعدين
وقد خطأه العمراني
فإن عقدت الإمامة لرجلين فإن علم السابق منهما صح العقد الأول
وبطل الثاني، ثم ينظر في الثاني فإن عقد له مع الجهل بالأول أو مع العلم به
لكن بتأويل شائع لم يعزر المعقود له ولا العاقد، وان عقد للثاني مع العلم
بالأول من غير تأويل شائع عزر العاقد والمعقود له، لما أخرج أحمد ومسلم عن
عرفجة الأشجعي قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من أتاكم
وأمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه)
قال الخطابي من أصحابنا: ولم يرد القتل وإنما أراد اجعلوه كمن مات أو قتل فلا
تقبلوا له قولا. وقد قيل لعلي رضي الله عنه في الخوارج انهم كفروا، فقال هم
من الكفر فروا، قيل هم منافقون؟ فقال إن المنافقين إذا قاموا إلى الصلاة قاموا
كسالى، وهؤلاء تحقرون صلاتكم بجانب صلاتهم. قيل ماذا تقول فيهم؟ قال
قوم تأولوا فأخطأوا.
فإذا وقع عقدان لامامين معا بطلا ويستأنف العقد لأحدهما، والمستحب
193

أن يعقد لأفضلهما وأصلحهما، فإن عقدت الإمامة للمفضول صح كما يصح في
إمامة الصلاة أن يؤم من يصلح للإمامة، وإن كان هناك من هو أولى منه بها.
فإذا انعقدت الإمامة لرجل كان العقد لازما فإن أراد أن يخلع نفسه لم
يكن له ذلك.
فان قيل فكيف خلع الحسن بن علي نفسه؟ قلنا لعله علم من نفسه ضعفا عن
تحملها أو علم أنه لا ناصر له ولا معين فخلع نفسه تقية، وإن أراد أهل الحل
والعقد خلع الامام لم يكن لهم ذلك إلا أن يتغير، فان فسق الامام فهل ينخلع؟
فيه ثلاثة أوجه حكاها الجويني (أحدها) ينخلع بنفس الفسق وهو الأصح،
كما لو مات (والثاني) لا ينخلع حتى يحكم بخلعه، كما إذا فك عنه الحجر ثم صار
مبذرا فإنه لا يصح أن يصير محجورا عليه إلا بالحكم (والثالث) إن أمكن استتابته
وتقويم اعوجاجه لم يخلع، وإن لم يمكن ذلك خلع
إذا ثبت هذا فلا يجوز خلع الامام بغير معنى موجب لخلعه ولا الخروج
عن طاعته لقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم)
وروى الشيخان عن عبادة بن الصامت قال ((بايعنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا،
وأن لا ننازع الامر أهله الا أن تروا كفرا بواخا عندكم فيه من الله برهان)
وقد روى أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
(يا أبا ذر كيف بك عند ولاة يستأثرون عليك بهذا الفئ؟ قال: والذي بعثك
بالحق أضع سيفي على عاتقي وأضرب حتى ألحقك، قال لا، ألا أدلك على ما هو
خير لك من ذلك؟ تصبر حتى تلحقني)
وعن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يكون بعدي
أئمة لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب
الشياطين في جثمان انس. قال قلت كيف أصنع يا رسول الله ان أدركت ذلك؟
قال: تسمع وتطيع، وان ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع) رواه
أحمد ومسلم.
194

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا خرجت على الامام طائفة من المسلمين ورامت خلعه بتأويل
أو منعت حقا توجه عليها بتأويل، وخرجت عن قبضة الامام وامتنعت بمنعة،
قاتلها الامام لقوله عز وجل (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما
فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله) ولان
أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة، وقاتل علي كرم الله وجهه أهل
البصرة يوم الجمل، وقاتل معاوية بصفين، وقاتل الخوارج بالنهروان، ولا
يبدأ بالقتال حتى يسألهم ما ينقمون منه، فإن ذكروا مظلمة أزالها، وان ذكروا
علة يمكن أزاحتها أزاحها، وان ذكروا شبهة كشفها لقوله تعالى (فأصلحوا بينهما)
وفيما ذكرناه اصلاح.
وروى عبد الله بن شداد بن الهاد (أن عليا كرم الله وجهه لما كاتب معاوية
وحكم، عتب عليه ثمانية آلاف ونزلوا بأرض يقال لها حروراء، فقالوا
انسلخت من قميص ألبسك الله، وحكمت في دين الله، ولا حكم الا لله، فقال
على: بيني وبينكم كتاب الله. يقول الله تعالى في رجل وامرأة (وأن خفتم شقاق
بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما)
وأمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم دما وحرمة من امرأة ورجل، ونقموا أنى
كاتبت معاوية: من (علي بن أبي طالب) وجاء سهيل بن عمرو ونحن مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صالح قومه قريشا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
اكتب من محمد رسول الله، فقالوا: لو نعلم أنك رسول الله لم نخالفك، فقال
اكتب فكتب (هذا ما قاضى عليه محمد قريشا) يقول الله عز وجل (لقد كان
لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجوا الله واليوم الآخر) وبعث إليهم
عبد الله بن عباس فواضعوا عبد الله كتاب الله تعالى ثلاثة أيام، ورجع منهم
أربعة آلاف، فإن أبوا وعظهم وخوفهم القتال، فإن أبوا قاتلهم، فإن طلبوا
الانظار نظرت، فإن كان يومين أو ثلاثة أنظرهم، لان ذلك مدة قريبة ولعلهم
يرجعون إلى الطاعة، فان طلبوا أكثر من ذلك بحث عنه الامام، فإن كان قصدهم
195

الاجتماع على الطاعة أمهلهم، وإن كان قصدهم الاجتماع على القتال لم ينظرهم،
لما في الانظار من الاضرار، وان أعطوا على الانظار رهائن لم يقبل منهم، لأنه
لا يؤمن أن يكون هذا مكرا وطريقا إلى قهر أهل العدل. وان بذلوا عليه مالا لم يقبل
لما ذكرناه، ولان فيه اجراء صغار على طائفة من المسلمين، فلم يجز،
كأخذ الجزية منهم.
(الشرح) قوله تعالى (وان طائفتان من المؤمنين. الآية) روى المعتمر بن
سليمان عن أنس قال، قلت (يا نبي الله لو أتيت عبد بن أبي؟ فانطلق إليه النبي
صلى الله عليه وسلم، فركب حمارا وانطلق المسلمون يمشون، وهي أرض سبخة
فلما أتاه النبي صلى الله عليه وسلم قال إليك عنى فإنه أذاني نتن حمارك، فقال رجل
من الأنصار والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحا منك، فغضب
لعبد الله رجل من قومه، وغضب لكل واحد منهما أصحابه، فكان بينهم حرب
بالجريد والأيدي والنعال، فبلغنا أنه أنزل فيهم هذه الآية
وقال مجاهد نزلت في الأوس والخزرج. وقال مجاهد تقاتل حيان من الأنصار
بالعصي والنعال فنزلت الآية، وروى في أسباب نزولها روايات كثيرة، والعبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
أما أخبار الحرورية فقد أخرجها مفرقة على المصادر الآتية، مسلم في الزكاة
عن عبد بن حميد وفى استتابة المرتدين، أبو داود في السنة عن الحسن الخلال
وعن محمد بن كثير ومحمد بن عبيد بن حسان والبخاري في علامات النبوة والنسائي
عن محمد بن بشار، وابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة، كما أخرج ذلك كله
ابن سعد في الطبقات وغيره.
وأما قتال أبى بكر لمانعي الزكاة فهي مما تواتر واستفاضت أخباره جملة وتفصيلا
أثبتناها في كتابنا عن خالد بن الوليد
أما اللغات فالتأويل تفسير ما يؤول إليه الشئ وقوله وامتنعت بمنعة.
ومنعة ومنعة، هكذا في اللسان وقال ابن بطال في غريب المهذب السماع
بسكون النون والقياس فتحها جمع مانع مثل كافر وكفرة.
196

وقال ابن الاعرابي: رجل منوع يمنع غيره، ورجل منع يمنع نفسه.
وقوله (تفي إلى أمر الله) أي ترجع، والخوارج سموا بذلك لأنهم خرجوا عن
الطاعة، فواضعوا عبد الله أي راهنوه، أي وضعوا رهنا ووضع رهنا على أن
من غلب أخذ الرهن الصغار الذل والهوان.
أما الأحكام فإنه إذا بغت على الامام طائفة من المسلمين وأرادت خلعه أو
منعت حقا عليها تعلقت بهم أحكام يختصون بها دون قطاع الطريق، ولا تثبت
هذه الأحكام في حقهم إلا بشروط توجد فيهم (أحدها) أن يكونوا طائفة فيهم
منعة يحتاج الامام في كفهم إلى عسكر، فإن لم تكن فيهم منعة، وإنما كانوا عددا
قليلا لم تتعلق بهم أحكام البغاة، وإنما هم قطاع الطريق، لما روى أن عبد الرحمن
ابن ملجم لعنه الله قتل علي بن أبي طالب وكان متأولا في قتله فأقيد به، ولم ينتفع
بتأويله لأنه لم يكن في طائفة ممتنعة، وإنما كانوا ثلاثة رجال تبايعوا على أن
يقتلوا عليا ومعاوية وعمرو بن العاص في يوم واحد، فأما صاحب عمرو فذهب
إلى مصر فلم يخرج عمرو بن العاص يومئذ وقتل خارجة بن زيد، ولما سئل قال:
أردت عمرا وأراد الله خارجة.
وأما صاحب معاوية فلم يتمكن من قتله وإنما جرحه في أليته وكواه طبيب
قال له: إنه ينقطع نسلك فقال في يزيد كفاية
الشرط الثاني: أن يخرجوا من قبضة الامام، فإن لم يخرجوا من قبضته لم
يكونوا بغاة، لما روى أن رجلا قال على باب المسجد وعلى يخطب على المنبر:
لا حكم إلا لله ولرسوله تعريضا له في التحكيم في صفين فقال على: كلمة حق أريد
بها باطل، ثم قال: لكم علينا ثلاث، لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها
اسم الله، ولا نمنعكم الفئ ما دامت أيديكم معنا ولا نبدؤكم بقتال، فأخبر أنهم
ما لم يخرجوا من قبضته لا يبدؤهم بقتال، ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم
يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه في المدينة، فلئلا يتعرض لأهل البغي
وهم مسلمون أولى.
الشرط الثالث، أن يكون لهم تأويل شائع مثل أن تقع لهم شبهة يعتقدون
عنها الخروج عن الامام أو منع حق عليهم وان أخطأوا في ذلك كما تأول
197

بنو حنيفة منع الزكاة بقوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة) الآية فقالوا أمر
الله بدفع الزكاة إلى من صلاته سكن لنا، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم
فأما ابن أبي قحافة فليست صلاته سكنا لنا، ولذلك لما انهزموا قالوا والله ما كفرنا
بعد ايماننا ولكن شححنا على أموالنا، فإذا لم يكن لهم تأويل شائع فحكمهم حكم
قطاع الطريق. وهل من شرطهم أن ينصبوا إماما؟ فيه وجهان
(أحدهما) أن ذلك من شرطهم، لان الشافعي رضي الله عنه قال وأن
ينصبوا إماما، فعلى هذا ان لم ينصبوا إماما كانوا لصوصا وقطاعا للطريق
(والثاني) وهو المذهب أن ليس من شرطهم أن ينصبوا إماما، لان أهل
البصرة وأهل النهروان طبق عليهم علي رضي الله عنه أحكام البغاة ولم ينصبوا
إماما وأما ما ذكره الشافعي رضي الله عنه فإنما ذكره لان الغالب من أمرهم
أنهم ينصبوا إماما.
قال القفال، وسواء كان الامام عادلا أو جائرا فإن الخارج عليه باغ، فإذا
اجتمعت هذه الشروط في الخارجين على الامام قاتلهم لقوله تعالى (وان طائفتان
الخ الآية) وفى الآية خمسة معالم ظاهرة
(أحدها) أن البغي لا يخرج عن الايمان لان الله سماهم مؤمنين في حال بغيهم
(والثاني) وجوب قتالهم (قاتلوا التي تبغى)
(والثالث) إذا رجعوا إلى الطاعة لم يقاتلوا (حتى تفئ إلى أمر الله)
(الرابعة) ألا يجب عليهم ضمان ما أتلفوا في القتال
(الخامس) وجوب قتال كل من عليه حق فمنعه. ويدل على جواز قتال أهل
البغي ما روى أن أبا بكر رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة وكانوا بغاة، لأنهم
كانوا متأولين، وقاتل على أهل الجمل وأهل صفين والخوارج بالنهروان، ولا
يبدؤهم الامام بالقتال حتى يراسلهم ويسألهم ما ينقمون، فإن ذكروا مظلمة ردها
وان ذكروا شبهة كشفها وبين لهم الصواب
وقال أبو حنيفة: يبدؤهم بالقتال. دليلنا قوله تعالى (وان طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) فبدأ بالصلح قبل القتال، وفى هذا اصلاح.
وروى أن عليا رضي الله عنه لما كاتب معاوية وحكم خرج من معسكره ثمانية آلاف
198

ونزلوا بحروراء وأرادوا قتاله، فأرسل إليهم عبد الله بن عباس يسألهم ما ينقمون
منه؟ قالوا ثلاث، فقال ابن عباس ان رفعتها رجعتم؟ قالوا نعم. قال وما هي؟
قالوا حكم في دين الله ولا حكم الا لله، وقتل ولم يسب، فإنه ان حل لنا قتلهم
حل لنا سبيهم، ومحا اسمه من الخلافة فقد عزل نفسه من الخلافة يعنون
اليوم الذي كتب الكتاب بينه وبين أهل الشام، فكتب فيه: أمير المؤمنين
فقالوا لو أقررنا بأنك أمير المؤمنين ما قاتلناك، فمحاه من الكتاب، فقال ابن عباس
أما قولكم انه حكم في الدين فقد حكم الله في الدين فقال تعالى (فابعثوا حكما من
أهله وحكما من أهلها) فحكم الله بين الزوجين، وقال الله تعالى (فجزاء مثل ما قتل
من النعم يحكم به ذوا عدل منكم) فحكم الله في أرنب قيمتها درهم، أفلا يجوز
أن يحكم في هذا الامر العظيم بين المسلمين.
وأما قولكم أنه قتل ولم يسب، فأيكم كان يأخذ عائشة عليها السلام في سهمه
وقد قال تعالى (وأزواجه أمهاتهم)
وإذا ثبت أن سبى عائشة لا يجوز كان غيرها من النساء مثلها وأما قولكم
انه محا اسمه من الخلافة فقد عزل نفسه فغلط، لان النبي صلى الله عليه وسلم محا
اسمه من النبوة، وذلك أنه لما قاضى سهيل بن عمرو يم الحديبية كتب الكتاب
هذا ما قاضي عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو، فقال لو اعترفنا بأنك
رسول الله لما احتجت إلى كتاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين
رسول الله؟ فأراه إياه فمحاه للكاتب، وكان علي بن أبي طالب أبى أن يمحوه
حين أمره، فرجع منهم أربعة آلاف وقاتل الباقين
(فرع) وإذا أراد الامام أن يقتلهم فسألوه أن ينظرهم نظرت، فإن سألوه
أن ينظرهم أبدا لم يجز له ذلك، لأنه لا يجوز لبعض المسلمين ترك طاعة الامام
وان سألهم أن ينظرهم مدة، فاختلف أصحابنا فيه، فقال الشيخ أبو إسحاق ان
سألوه أن ينظرهم يوما أو يومين أو ثلاثا أنظرهم، لان ذلك مدة قريبة ولعلهم
يرجعون إلى الطاعة. وان طلبوا أكثر من ذلك بحث فيه الامام فإن كان قصدهم
الاجتماع على الطاعة أنظرهم، وإن كان قصدهم الاجتماع على القتال لم ينظرهم لما
في ذلك من الاضرار.
199

وقال ابن الصباغ: إذا سألوه أن ينظرهم مدة مديدة كشف الامام عن حالهم
فإن كانوا إنما سألوا ذلك ليجتمعوا أو يأتيهم مدد عاجلهم بالقتال ولم ينظرهم.
وإن سألوا ليتفكروا ويعودوا إلى الطاعة أنظرهم لأنه يجوز أن يلحقهم مدد في
اليوم واليومين والثلاث كما يلحقهم فيما زاد على ذلك وكل موضع قلنا لا يجوز
إنظارهم فبذلوا على الانظار مالا لا يجوز إنطارهم، لأنه يأخذ المال على اقرارهم
فيما لا يجوز له إقرارهم عليه، ولان فيه إجراء صغار على المسلمين فلم يجز
وإن بذلوا على الانظار رهائن منهم أو من أولادهم لم يجز قبول ذلك منهم
لأنهم ربما قويت شوكتهم على أهل العدل فهزموهم وأخذوا الرهائن، وأن كان
في أيديهم أسارى من أهل العدل فسألوا الكف عنهم على أن يطلقوا الأسارى
من أهل العدل وأعطوا بذلك رهائن من أولادهم قبل الامام ذلك منهم واستظهر
لأهل العدل، فإن أطلق أهل البغي الأسارى الذين عندهم أطلق الامام رهائنهم
وإن قتلوا من عندهم من الأسارى لم يقتل رهائنهم، لأنهم لا يقتلون بقتل غيرهم
فإذا انقضت الحرب خلى رهائنهم، وإن كان في أهل العدل ضعف عن قتالهم
أخر الامام قتالهم إلا أن يكون بهم قوة، لأنه إذا قاتلهم مع الضعف لم يؤمن
الهلاك على أهل العدل.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يتبع في القتال مدبرهم، ولا يذفف على جريحهم، لما روى
عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا بن أم عبد، ما حكم من
بغى من أمتي؟ فقلت الله ورسوله أعلم، فقال لا يتبع مدبرهم ولا يجاز على
جريحهم، ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم، فيؤهم).
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال، لا تجيزوا على جريح، ولا تتبعوا مدبرا
وعن أبي أمامة قال شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح ولا يطلبون موليا
ولا يسلبون قتيلا. ولان قتالهم للدفع والرد إلى الطاعة دون القتل، فلا يجوز
فيه القصد إلى القتل من غير حاجة، وان حضر معهم من لا يقاتل ففيه وجهان
(أحدهما) لا يقصد بالقتل، لان القصد من قتالهم كفهم، وهذا قد كف نفسه
200

فلم يقصد (والثاني) يقتل، لان عليا كرم الله وجهه نهاهم عن قتل محمد بن طلحة
السجاد، وقال إياكم وقتل صاحب البرنس، فقتله رجل وأنشأ يقول
وأشعث قوام بآيات ربه * قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه * فخر صريعا لليدين وللفم
على غير شئ غير أن ليس تابعا * عليا ومن لا يتبع الحق يظلم
يناشدني حم والرمح شاجر * فهلا تلا حم قبل التقدم
ولم ينكر علي كرم الله وجهه قتله، ولأنه صار ردءا لهم، ولا تقتل النساء
والصبيان، كما لا يقتلون في حرب الكفار، فإن قاتلوا جاز قتلهم كما يجوز قتلهم
إذا قصدوا قتله في غير القتال، ويكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم، كما يكره في
قتال كفار، فإن قاتله لم يكره كما لا يكره إذا قصد قتله في غير القتال
(الشرح) محمد بن طلحة بن عبيد الله القرشي التيمي، أمه حمنة بنت جحش
أخت زينب، أتى به أبوه طلحة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فمسح رأسه وسماه
محمدا وكناه أبا القاسم، وفى تكنيته بأبي سليمان خلاف، وقد رجح ابن عبد البر
في الاستيعاب أبا القاسم، وقد قتل يوم الجمل مع أبيه، وكان علي رضي الله عنه
قد نهى عن قتله في ذلك اليوم وقال: إياكم وصاحب البرنس.
قال ابن عبد البر: وروى أن عليا مر به وهو قتيل يوم الجمل، فقال هذا
السجاد ورب الكعبة، هذا الذي قتله؟ بره بأبيه يعنى أن أباه أكرهه على
الخروج في ذلك اليوم، وكان طلحة قد أمره أن يتقدم للقتال فتقدم ونثل درعه
بين رجليه وقام عليها، وجعل كلما حمل عليه رجل قال نشدتك بحاميم، حتى شد
عليه رجل فقتله، وقد روى ابن عبد البر شعره هكذا مختلفا عما ساقه المصنف.
فالبيت الأول كما ذكره والبيت الثاني جاء هكذا
ضممت إليه بالقاة قميصه * فخر صريعا لليدين وللفم
ويروى في رواية أخرى، خرقت له بالرخ جيب قيمصه الخ
والبيت الثالث، على غير ذنب، وبقية البيت كما هو
والبيت الرابع يروى (والرمح شارع) ويقال قتله رجل من بين أسد بن خزيمة
201

اسمه كعب بن مدلج، وقيل بل قتله شداد بن معاوية العبسي، وقيل بل الأشتر
وقيل بل قتله عصام بن مقعشر النصرى، وهو قول أكثرهم، وهو الذي يقول
وأشعث قوام بآيات ربه * قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
دلفت له بالرمح من تحت نحره * فجر صريعا لليدين وللفم
شككت إليه بأسنان قميصه * فأذريته عن ظهر طرف مسوم
أقمت له في دفعة الخيل صلبه * بمثل قدامي النسر حران لهذم
على غير شئ غير أن ليس تابعا * عليا ومن لا يتبع الحق يظلم
يذكرني حاميم لما طعنته * فهلا تلا حاميم قبل التقدم
وقد ادعى قتل محمد بن طلحة جماعة، منهم المكعبر الضبي وغفار بن المسعر
البصري. قال ابن عبد البر، وروينا عن محمد بن حاطب قال لما فرغنا من قتال
يوم الجمل قام علي بن أبي طالب والحسن بن علي وعمار بن ياسر وصعصعة بن
صوحان والأشتر ومحمد بن أبي بكر يطء فون في القتلى، فأبصر الحسن بن علي قتيلا
مكبوبا على وجهه فأكبه على قفاه، فقال إنا لله وإنا إليه راجعون. هذا فرع
قريش والله، فقال له أبوه ومن هو يا بنى؟ فقال محمد بن طلحة، فقال إنا لله
وإنا إليه راجعون، إن كان ما علمته لشابا صالحا، ثم قعد كئيبا حزينا، فقال له
الحسن يا أبت، قد كنت أنهاك عن هذا المسير فغلبك على رأيك فلان وفلان،
قال قد كان ذلك يا بنى، فلوددت أني مت قبل هذا بعشرين سنة روى عند محمد
ابن طلحة ابنه إبراهيم وعبد الرحمن بن أبي ليلى
أما قولهم يسجد كل يوم ألف سجدة، فإن اليوم بدقائقه وساعاته لا يتسع
لمثل ذلك، ولعل المقصود انه كان كثير العبادة
أما الأحكام فإذا قال أهل البغي رجعنا إلى طاعة الامام لم يجز قتالهم لقوله
تعالى (فقاتلوا التي تبغى حتى تفئ إلى أمر الله) والفيئة الرجوع. وهكذا إذا
ألقوا سلاحهم لم يجز قتالهم، لأن الظاهر من حالهم ترك القتال والرجوع إلى الطاعة
فإن انهزموا نظرت، فإن انهزموا إلى غير فئة لم يجز اتباعهم ولا يجاز على جريحهم
لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن مسعود: يا ابن
أم عبد ما حكم من يفئ من أمتي؟ فقلت الله ورسوله أعلم، فقال لا يتبع مدبرهم
202

ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم رواه البيهقي والحاكم، وفى لفظ: ولا
يذفف على جريحهم، وزاد ولا يغنم فيئهم. سكت عنه الحاكم
وقال ابن عدي: هذا الحديث غير محفوظ. وقال البيهقي ضعيف قال ابن
حجر في بلوغ المرام وصححه الحاكم فوهم، لان في إسناده كوثر بن حكيم وهو
متروك. قال وصح عن علي من طرق نحوه موقوفا، أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم
وأخرج البيهقي عن أبي أمامة قال: شهدت صفين فكانوا لا يجيزون على جريح
ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا
وأخرج أيضا عن أبي فاختة أن عليا أتى بأسير يوم صفين فقال لا تقتلني
صبرا، فقال علي رضي الله عنه لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين ثم خلى
سبيله ثم قال أفيك خير تبايع؟
وأخرج أيضا أن عليا لم يقاتل أهل الجمل حتى دعا الناس ثلاثا حتى إذا كان
يوم الثالث دخل عليه الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر، فقالوا قد أكثروا
فينا الجراح، فقال ما جهلت من أمرهم شيئا ثم توضأ وصلى ركعتين حتى إذا فرغ
رفع يديه ودعا ربه وقال لهم ان ظفرتم على القوم فلا تطلبوا مدبرا ولا تجيزوا
على جريح، وانظروا إلى ما حضروا به الحرب من آلة فاقبضوه وما سوى ذلك
فهو لورثتهم.
قال البيهقي هذا منقطع، والصحيح أنه لم يأخذ شيئا ولم يسلب قتيلا، ودخل
علي بن الحسين على مروان بن الحكم فقال ما رأيت أ كرم علينا من أبيك ما هو
إلا أن ولينا يوم الجمل حتى نادى مناديه لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح
(يذفف) يروى بالدال والذال وقد مضى معناها في الصيد، فإن انهزموا إلى فئة
ومدد ليستغيثوا بهم ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي حنيفة واختيار أبي إسحاق المروزي أنهم يتبعون
ويقتلون، لأنهم إذا لم يتبعا لم يؤمن أن يعودوا على أهل العدل فيقاتلونهم
ويظفروا بهم.
(والثاني) وهو ظاهر النص أنه لا يجوز أن يتبعوا ويقاتلوا لعموم الخبر
203

ولان دفعهم قد حصل وما يخاف من رجوعهم لا يوجب قتالهم كما لو تفرقوا،
وإن حضر معهم من لا يقاتل ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز قتله، لان قتالهم للكف وقد كف نفسه، وهو مذهب
أحمد (والثاني) يجوز قصد قتله، لان عليا رضي الله عنه نهاهم عن قتل محمد بن
طلحة فقلته، ولم ينكر على، ولأنه صار ردا لهم، وإن قاتل مع أهل البغي
نساؤهم وصبيانهم جاز قتلهم مقبلين، لان هذا القتال لدفعهم عن النفس كما يجوز
له قتل من قصد نفسه في غير أهل البغي، وإن كان لرجل من أهل العدل قريب
في أهل البغي يقاتل فيستحب له أن ينحرف من قتله ما دام يمكنه ذلك لقوله تعالى
(وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في
الدنيا معروفا) فأمره بمصاحبتهما بالمعروف في أسوا حالهما، وهو دعوتهما
إياه إلى الشرك.
وروى أن أبا بكر أراد أن يقتل أبا قحافة يوم أحد فكفه النبي صلى الله عليه وسلم عن
ذلك، فإن لم يمكنه قتال أهل البغي إلا بقتل أبيه فقتله فلا شئ عليه لما روى أن
أبا عبيدة قتل أباه، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم سمعته يسبك
وإذا ثبت هذا في حق المشرك كان في حق أهل البغي مثله
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يقتل أسيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله
ابن مسعود (ولا يقتل أسيرهم) فإن قتله ضمنه بالدية، لأنه بالأسر صار محقون
الدم، فصار كما لو رجع إلى الطاعة، وهل يضمنه بالقصاص؟ فيه وجهان
(أحدهما) يضمنه لما ذكرناه
(والثاني) لا يضمنه، لان أبا حنيفة رحمه الله يجيز قتله فصار ذلك شبهة
في إسقاط القود، فإن كان الأسير حرا بالغا فدخل في الطاعة أطلقه، وإن لم
يدخل في الطاعة حبسه إلى أن تنقضي الحرب ليكف شره ثم يطلقه، ويشرط
عليه أن لا يعود إلى القتال، وإن كان عبدا أو صبيا لم يحبسه، لأنه ليس من أهل
البيعة. ومن أصحابنا من قال يحبسه، لان في حبسه كسرا لقلوبهم
204

(فصل) ولا يجوز قتالهم بالنار والرمي عن المنجنيق من غير ضرورة،
لأنه لا يجوز أن يقتل إلا من يقاتل، والقتل بالنار أو المنجنيق يعم من يقاتل
ومن لا يقاتل، وإن دعت إليه الضرورة جاز، كما يجوز أن يقتل من لا يقاتل
إذا قصد قتله للدفع، ولا يستعين في قتالهم بالكفار ولا بمن يرى قتلهم مدبرين
لان القصد كفهم وردهم إلى الطاعة دون قتلهم، وهؤلاء يقصدون قتلهم، فإن
دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم فإن كان يقدر على منعهم من ابتاع المدبرين
جاز وان لم يقدر لم يجز.
(فصل) وان اقتتل فريقان من أهل البغي، فإن قدر الامام على قهرهما لم
يعاون واحدا منهما، لان الفريقين على الخطأ، وان لم يقدر على قهرهما ولم
يأمن أن يجتمعا على قتاله ضم إلى نفسه أقربهما إلى الحق، فإن استويا في ذلك
اجتهد في رأيه في ضم أحدهما إلى نفسه، ولا يقصد بذلك معاونته على الآخر،
بل يقصد الاستعانة به على الآخر، فإذا انهزم الآخر لم يقاتل الذي ضمه إلى
نفسه حتى يدعوه إلى الطاعة لأنه حصل بالاستعانة به في أمانه
(فصل) ولا يجوز أخذ مالهم لحديث ابن مسعود وحديث أبي أمامة في
صفين، ولان الاسلام عصم دمهم ومالهم، وإنما أبيح قتالهم للدفع والرد إلى
الطاعة وبقى حكم المال على ما كان، فلم يجز أخذه كمال قطاع الطريق، ولا يجوز
الانتفاع بسلاحهم وكراعهم من غير اذنهم من غير ضرورة لقوله صلى الله عليه
وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم الا بطيب نفس منه) ولان من لا يجوز أخذ
ماله لم يجز الانتفاع بماله من غير اذنه ومن غير ضرورة كغيرهم، وان اضطر
إليه جاز كما يجوز أكل مال غيره عند الضرورة
(الشرح) حديث عبد الله بن مسعود أخرجه الحاكم والبيهقي عن عبد الله
ابن عمر، وأثر أبى أمامة في صفين أخرجه البيهقي قال (شهدت صفين فكانوا
لا يجيزون على جريح ولا يقتلون موليا ولا يسلبون قتيلا)
وحديث (لا يحل ما أمري الخ) مضى في الزكاة والبيوع والربا وغيرها
أما الأحكام فإنه إذا أسر أهل العدل من البغي حرا بالغا فإن كان شابا
205

جلدا فإن للامام أن يحبسه ما دامت الحرب قائمة إن لم يرجع إلى الطاعة،
فإن بدل الرجوع إلى الطاعة أخذت منه البيعة وخلى، وان انقضت الحرب أو
انهزموا إلى غير فئة فإنه يخلى، وان انهزموا إلى فئة خلى على المذهب ولم يخل على
قول أبي إسحاق، ولا يجوز قتله
وقال أبو حنيفة: يجوز قتله. دليلنا قوله صلى الله عليه (ولا يقتل سبيهم)
فإن قتله رجل من أهل العدل عامدا فهل يجب عليه القصاص فيه وجهان
(أحدهما) يجب عليه القصاص لأنه صار بالأسر محقون الدم فصار كما لو
رجع إلى الطاعة، وللولي أن يعفو عن القود إلى الدية
(والثاني) لا يجب عليه القصاص، لان قول أبي حنيفة شبهة تسقط عنه
القصاص، فعلى هذا تجب فيه الدية، وإن كان الأسير شيخا لا قتال فيه أو مجنونا
أو امرأة أو صبيا أو عبدا لم يحبسوا لأنهم ليسوا من أهل البيعة على القتال.
ومن أصحابنا من قالوا يحبسون لان في ذلك كسرا لقلوبهم واقلالا لجمعهم واضعافا
من روحهم ومعنوياتهم، ولكن المنصوص هو الأول
قوله ((ولا يجوز قتالهم بالنار الخ) فجملة ذلك أنه يحرم رمى أهل البغي بالنار
أو المنجنيق من غير ضرورة، لان القصد بقتالهم كفهم وردهم إلى الطاعة فيجب
تجنب ما يهلكهم أ ويبيدهم، ولان رميهم بالمدافع والرشاشات يصيب منهم من
يقاتل ومن لا يقاتل، وإنما يجوز قتل من يقاتل فقط، فإذا أحاط أهل البغي
من كل جهة ولم يمكنهم التخلص منهم الا بالرمي بالنار أو رشقهم بالمدافع جاز
ذلك للضرورة. وقال ابن الصباغ: وكذلك ان رماهم أهل البغي بالنار وكان هذا
سلاحا لهم جاز لأهل العدل رميهم بمثل سلاحهم
(فرع) ولا يجوز للامام أن يستعين على قتال أهل البغي بمن يرى جواز
قتلهم مدبرين من المسلمين، لأنه يعرف أنهم يظلمون فإن كان لا يقدر على
قتال أهل البغي الا بالاستعانة بهم جاز إذا كان مع الامام من يمنعهم من
قتلهم مدبرين، ولا يجوز للامام أن يستعين على قتالهم بالكفار، لأنهم يرون
قتل المسلمين مدبرين، تشفيا لما في قلوبهم
قوله: وان اقتتل فريقان الخ. فجملة ذلك أنهم إذا افترقوا فريقين واقتتلا،
206

فإن قدر الامام على قهرهما لم يعاون إحداهما على الأخرى لأنهما على الخطأ
والمعونة على الخطأ خطأ، وإن كان لا يقدر على قهرهما ضم إلى نفسه أقربهما إلى
الحق وقاتل معها الطائفة الأخرى، ولا يقصد بقتاله معاونة الطائفة التي ضمها
إلى نفسه، وإنما يقصد رد الذين يقاتلون إلى طاعته، فإذا انهزمت الطائفة التي
قاتلها أو رجعت إلى طاعته لم يقاتل الطائفة التي ضم إلى نفه حتى يدعوهم إلى
طاعته، لأنه بضمهم إليه صار إماما لهم، فإذا امتنعت من الدخول في طاعته
قاتلهم فإن استوت الطائفتان اجتهد في أقربها إلى الحق وضم نفسه إليها. وهذا
كله كمذهب أحمد.
ولا يجوز لأهل العدل أخذ أموال أهل البغي لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا
يقسم فيؤهم) وقد استؤذن على يوم الجمل في النهب فقال: إنهم يحرمون بحرمة
الاسلام ولا يحل مالهم، فإن انقضت الحرب ورجعوا إلى الطاعة وكان في يد أهل
العدل مال لأهل البغي أو في يد أهل البغي مال لأهل العدل وجب رد كل مال
إلى مالكه لقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم الا بطيب
نفس منه) ولأنه مسلم فلم يجز الانتفاع بماله من غير اذنه كغير الكراع والسلاح
وكأهل العدل.
وان دعته ضرورة بأن ذهب سلاحه أو خاف على نفسه جاز أن يندفع عن
نفسه بسلاحه، فكذلك ان خاف على نفسه وأمكنه أن ينجو على دابة لهم جاز له
ذلك، لأنه لو اضطر إلى ذلك من مال أهل العدل لجاز له الانتفاع به فكذلك
إذا اضطر إلى ذلك من أموال أهل البغي
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان أتلف أحد الفريقين على الاخر نفسا أو مالا في غير القتال
وجب عليه الضمان، لان تحريم نفس كل واحد منهما وماله كتحريمهما قبل البغي
فكان ضمانهما كضمانهما قبل البغي، وان أتلف أهل العدل على أهل البغي نفسا
أو مالا في حال الحرب بحكم القتال لم يجب عليه الضمان، لأنه مأمور بإتلافه
فلا يلزمه ضمانه، كما لو قتل من يقصد نفسه أو ماله من قطاع الطريق. وإذا
207

أتلف أهل البغي على أهل العدل ففيه قولان (أحدهما) يجب عليه الضمان لأنه
أتلف عليه بعدوان فوجب عليه الضمان، كما لو أتلف عليه في غير القتال
(والثاني) لا يجب عليه الضمان وهو الصحيح، لما روى عن الزهري أنه قال
(كانت الفتنة العظمى بين الناس وفيهم البدريون، فأجمعوا على أن لا يقام حد
على رجل ارتكب فرجا حراما بتأويل القرآن، ولا يقتل رجل سفك دما حراما
بتأويل القرآن، ولا يغرم مالا أتلفه بتأويل القرآن) ولأنها طائفة ممتنعة بالحرب
بتأويل فلم تضمن ما تتلف على الأخرى بحكم الحرب كأهل العدل. ومن أصحابنا
من قال: القولان في غير القصاص، فأما القصاص فلا يجب قولا واحدا لأنه
يسقط بالشبهة ولهم في القتل شبهة.
(فصل) وان استعان أهل البغي بأهل الحرب في القتال وعقدوا لهم أمانا
أو ذمة بشرط المعاونة لم ينعقد، لان من شرط الذمة والأمان أن لا يقاتلوا
المسلمين فلم ينعقد على شرط القتال، فإن عاونوهم جاز لأهل العدل قتلهم مدبرين
وجاز أن يذفف على جريحهم، وان أسروا جاز قتلهم واسترقاقهم والمن عليهم
والمفاداة لهم لأنه لا عهد له ولا ذمة فصاروا كما لو جاءوا منفردين عن أهل
البغي ولا يجوز شئ من ذلك لمن عاونهم من أهل البغي لأنهم بذلوا الهم الذمة
والأمان فلزمهم الوفاء به، وان استعانوا بأهل الذمة فعاونوهم نظرت فإن قالوا
كنا مكرهين أو ظنا انه يجوز أن نعاونهم عليكم كما يجوز أن نعاونكم عليهم لم
تنتقض الذمة لان ما ادعوه محتمل فلا يجوز نقص العقد مع الشبهة وان قاتلوا
معهم عالمين من غير اكراه، فإن كان قد شرط عليهم ترك المعاونة في عقد الذمة
انتقض العهد لأنه زال شرط الذمة، وإن لم يشترط ذلك ففيه قولان.
(أحدهما) ينتقض كما لو لو انفردوا بالقتال لأهل العدل (والثاني) لا ينتقض
لأنهم قاتلوا تابعين لأهل البغي، فإذا قلنا لا ينتقض عهدهم كانوا في القتال كأهل
البغي لا يتبع مدبرهم ولا يذفف على جريحهم، وان أتلفوا نفسا أو مالا في
الحرب لزمهم الضمان قولا واحدا، والفرق بينهم وبين أهل البغي أن في تضمين
أهل البغي تنفيرا عن الرجوع إلى الطاعة، فسقط عنهم الضمان في أحد القولين
ولا يخاف تنفير أهل الذمة لأنا قد أمناهم على هذا القول، وإن استعانوا بمن له
208

أمان إلى مدة فعاونوهم انتقض أمانهم، فإن ادعوا أنهم كانوا مكرهين ولم تكن
لهم بينة على الاكراه انتقض الأمان، والفرق بينهم، وبين أهل الذمة في أحد
القولين أن الأمان المؤقت ينتقض بالخوف من الخيانة فانتقض بالمعاونة، وعقد
الذمة لا ينتقض بالخوف من الخيانة فلم ينتقض بالمعاونة.
(الشرح) قال الشافعي رحمه الله تعالى: فإن كانت لأهل البغي جماعة تكثر
ويمتنع مثلها بموضعها الذي هي بعض الامتناع حتى يعرف أن مثلها لا ينال حتى
تكثر نكايته واعتقدت، ونصبوا إماما وأظهروا حكما وامتنعوا من حكم الإمام العادل
، فهذه الفئة الباغية التي تفارق حكم من ذكرنا قبلها يقصد القلة من
النفر اليسير الذين لا يتأتى لهم أن يقيموا دولة أو حكومة ذات سلطان بإزاء
حكومة أهل العدل فينبغي إذا فعلوا هذا أن نسألهم ما نقموا، فإن ذكروا
مظلمة ببنة ردت فإن لم يذكروها بينة قيل لهم: عودوا لما فارقتم من طاعة الإمام
العادل وأن تكون كلمتكم وكلمة أهل الدين الله على المشركين واحدة، إلى أن قال،
وما أصابوا في هذه الحال على وجهين
(أحدهما) ما أصابوا من دم ومال وفرج على التأويل ثم ظهر عليهم بعد لم
يقم عليهم من ذلك شئ إلا أن يوجد مال رجل بعينه فيؤخذ
والوجه الثاني: ما أصابوا على غير وجه التأويل من حد لله تعالى أو للناس
ثم ظهر عليهم رأيت أن يقام عليهم كما يقام على غيرهم ممن هرب من حد أو أصابه
وهو في بلاد لا والى فيها ثم جاء لها وال. وهكذا غيرهم من أهل دار غلبوا الامام
عليها فصار لا يجرى له بها حكم، فمتى قدر عليهم أقيمت عليهم تلك الحدود ولم
يسقط عنهم ما أصابوا بالامتناع، ولا يمنع الامتناع حقا يقام إنما يمنعه التأويل
والامتناع معا. اه‍
وكان الشافعي قد قال قبل ذلك في أول كتاب قتال أهل البغي والردة (وأمر
الله تعالى أن فاءوا أن يصلح بينهما بالعدل، ولم يذكر تباعة في دم ولا مال،
وإنما ذكر الله تعالى الصلح آخرا كما ذكر الاصلاح بينهم أولا قبل الاذن بقتالهم
فأشبه هذا والله أعلم أن تكون التباعات في الجراح والدماء وما فات من
209

الأموال ساقطة بينهم. قال وقد يحتمل قول الله عز وجل: فإن فاءت فأصلحوا
بينهما بالعدل، والعدل أخذ الحق لبعض الناس من بعض، قال وإنما ذهبنا إلى
أن القود ساقط، والآية تحتمل المعنيين، أخبرنا مطرف بن مازن عن معمر بن
راشد عن الزهري قال: أدركت الفتنة الأولى أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فكانت فيها دماء وأموال فلم يقتص فيها من دم ولا مال ولا قرح أصيب
بوجه التأويل الا أن يوجد مال رجل بعينه فيدفع إلى صاحبه اه‍
أما أحكام الفصل فإنه إذا أتلف أحد الفريقين على الآخر نفسا أو مالا قبل
قيام الحرب أو بعدها وجب عليه الضمان لأنه أتلف مالا محرما عليه بغير القتال
فلزمه ضمانه كما لو أتلفوه قبل البغي، وإن أتلفوه في حال القتال نظرت فإن أتلف
ذلك أهل العدل لم يلزمه ضمانه بلا خلاف لأنهم مأمورون بقتالهم، والقتال
يقتضى اتلاف ذلك.
وان أتلف ذلك أهل البغي على أهل العدل ففيه قولان. قال في القديم يجب
عليه ضمان ذلك، وبه قال مالك لقوله تعالى (ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه
سلطانا) والباغي ظالم فوجب أن يكون عليه السلطان وهو القصاص، ولأن الضمان
يجب على آحاد أهل البغي، فوجب أن يكون على جماعتهم وعكسه أهل
الحرب. وقال في الجديد لا يجب وعليهم الضمان، وبه قال أبو حنيفة وأحمد
ابن حنبل وهو الأصح، لقوله تعالى (وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) الخ
الآية، فأمر بقتالهم ولم يوجب ضمان ما أتلفوا عليهم.
وروى أن هشام بن عبد الملك أرسل إلى الزهري يسأله عن امرأة من أهل
العد ذهبت إلى أهل البغي وكفرت زوجها وتزوجت من أهل البغي ثم تابت
ورجعت هل يقام عليها الحد؟ فقال الزهري: كانت الفتنة العظمى بين أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم البدريون، فأجمعوا على أنه لا حد على من ارتكب
فرحا محظورا بتأويل القرآن، وأن لا ضمان على من سفك دما محرما بتأويل
القرآن وألا غرم على من أتلف مالا بتأويل القرآن
وروى أن عليا رضي الله عنه قاتل أهل الجمل وقتل منهم خلق عظيم وأتلف
مال عظيم ثم ملكهم ولم ينقل أنه ضمن أحدا منهم ما أتلف من نفس أو مال،
210

فدل على أنه إجماع، ومن أصحابنا من قال: القولان في الأموال والديات، فأما
القصاص فلا يجب قولا واحدا لأنه يسقط بالشبهة
(مسألة) إذا عقد أهل البغي لأهل الحرب الذمة أو الأمان بشرط أن
يعاونهم على قتال أهل العدل، لم يصح هذا العقد في حق أهل العدل، فيجوز
لهم قتلهم مقبلين ومدبرين، ويجاز على جريحهم، ويجوز سبى ذراريهم، ويتخير
الامام فيمن أسر منهم بين المن والقتل والاسترقاق والفداء، لان شرط صحة
العقد لهم ألا يقاتلوا المسلمين، فإذا وقع القد على شرط قتال المسلمين لم يصح،
وإن أتلفوا على أهل العدل نفسا أو مالا لم يجب عليهم ضمانه قولا واحدا، كما
لو قاتلوا المسلمين منفردين. وهل يكونون في أمان من أهل البغي؟ فيه وجهان
حكاهما المسعودي.
(أحدهما) ولم يذكر المصنف وابن الصباغ في الشامل غيره أنهم في
أمان منهم، لأنهم قد بذلوا لهم الأمان فلزمهم الوفاء به
(والثاني) أنهم لا يكونون في أمان منهم، لان من لم يصح أمانه في بعض
المسلمين لم يصح في حق بعضهم كمن أمنه صبي أو مجنون، وأما إذا استعان أهل
الغى بأهل الذمة على قتال أهل العدل وأعانوهم فهل تنتقض ذمتهم في حق أهل
العدل؟ ينظر فيهم فإن قالوا: لم نعلم أنهم يستعينون بنا على المسلمين وإنما ظننا
أنهم يستعينون بنا على الحرب، أو قالوا اعتقدنا أنه لا يجوز لنا إعانتهم عليكم
إلا أنهم أكرهونا على ذلك لم تنتقض ذمتهم، لان عقد الذمة قد صح فلا ينتقض
لأمر محتمل، وان لم دعوا شيئا من ذلك فهل تنقض ذمتهم؟ فيه قولان؟
(أحدهما) تنقض كما لو انفردوا بقتال المسلمين
(والثاني) لا تنقض، لان أهل الذمة لا يعلمون المحق من المبطل،
وذلك شبهة لهم.
وقال أبو إسحاق المروزي: القولان إذا لم يكن الامام قد شرط عليهم في
عقد الذمة الكف عن القتال لفظا، وان شرط عليهم الكف عن ذلك انتقضت
ذمتهم قولا واحدا، والطريق الأول هو المنصوص، فإذا قلنا تنتقض ذمتهم لم
يجب عليهم ضمان ما أتلفوا على أهل العدل من نفس ومال قولا واحدا كأهل
211

الحرب قال الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق: ويجوز قتلهم على هذا مقبلين
ومدبرين، ويتخير الامام في الأسير منهم كما قلنا في أهل الحرب.
وقال ابن الصباغ: هل يجوز قتلهم على هذا مقبلين ومدبرين؟ فيه قولان
بناء على القولين فيهم إذا نقضوا الذمة، هل يقتلون في الحال؟ أو يجب ردهم
إلى مأمنهم؟ وهل تنتقض ذمتهم في حق أهل البغي؟ ينبغي أن يكون على الوجهين
اللذين مضيا في صحة أمان أهل البغي لأهل الحرب، وإذا قلنا لا تنتقض ذمتهم
فحكمهم حكم أهل البغي فيجوز قتلهم مقبلين ولا يجوز قتلهم مدبرين، ولا
يجاز على جريحهم ولا يجوز سبى أموالهم ومن أسر منهم كان كمن أسر من أهل
البغي إلا أنهم إذا أتلفوا على أهل العدل نفسا أو مالا لزمهم ضمانه قولا واحدا
والفرق بينهم وبين أهل البغي أن لأهل البغي شبهة، فلذلك سقط عنهم الضمان
في أحد القولين، وليس لأهل الذمة شبهة فوجب عليهم الضمان، ولان في
إيجاب الضمان على أهل البغي تنفيرا عن رجوعهم إلى الطاعة، وقد أمرنا
بإصلاحهم، وأهل الذمة لا يخاف من نفورهم، ولم نؤمر بالاصلاح بيننا وبينهم
فإن استعان أهل البغي بمن بيننا وبينهم هدنة فأعانوهم انتقض أمانهم الا إذا
ادعو انهم أكرهوا على ذلك، وأقاموا على ذلك بينة، والفرق بينهم وبين أهل
الذمة أن أهل الذمة أقوى حكما ولهذا لا تنتقض الذمة لخوف جنايتهم والهدنة
تنتقض لخوف جنايتهم فلان تنتقض بنفس الإعانة أولى، وإذا انتقض أمانهم
كان حكمهم حكم أهل الحرب.
قال الشافعي رحمه الله: فإن جاء أحد تائبا لم يقتص منه لأنه مسلم محقون
الدم، فمن أصحابنا من قال أراد بذلك الحربي والمستأمن وأهل الذمة إذا قلنا
تنتقض ذمتهم، فإن الواجد من هؤلاء إذا قتل أحدا من أهل العدل ثم رجع
إليهم تائبا لم يقتص منه لأنه قتله قبل اسلامه، فأما أهل البغي فلا يسقط عنهم
الضمان بالتوبة لأنهم مسلمون.
ومنهم قال: ما أراد الشافعي بذلك الا أهل البغي، وقد نص في الام عليه
ويجوز أن يعلل بأنه مسلم محقون الدم، لان قتله كان بتأويل فلم يزل خفر ذمته
212

وإنما سقط القصاص في أحد القولين، ومذهب كمذهبنا في كل ما مضى من أوجه
وأقوال وتأويلات. والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان ولوا فيما استولوا عليه قاضيا نظرت، فإن كان ممن يستبيح
دماء أهل العدل وأموالهم لم ينفذ حكمه لان من شرط القضاء العدالة
والاجتهاد، وهذا ليس بعدل ولا مجتهد، وإن كان ممن لا يستبيح دماءهم ولا
أموالهم نفذ من حكمه ما ينفذ من حكم قاضى أهل العدل، ورد من حكمه ما يرد
من حكم قاضى أهل العدل، لان لهم تأويلا يسوغ فيه الاجتهاد، فلم ينقض من
حكمه ما يسوغ فيه الاجتهاد.
وإن كتب قاضيهم إلى قاضى أهل العدل استحب أن لا يقبل كتابه استهانة
بهم وكسرا لقلوبهم، فإن قبله جاز، لأنه ينفذ حكه فجاز الحكم بكتابه كقاضي
أهل العدل.
(فصل) وان استولوا على بلد وأقاموا الحدود وأخذوا الزكاة والخراج
والجزية اعتد به، لان عليا كرم الله وجهه قاتل أهل البصرة ولم يلغ ما فعلوه
وأخذوه، ولان ما فعلوه وأخذوه بتأويل سائغ فوجب امضاؤه كالحاكم إذا حكم
بما يسوغ فيه الاجتهاد، فإن عاد البلد إلى أهل العدل فادعى من عليه الزكاة أنه
دفعها إلى أهل البغي قبل قوله، وهل يحلف عليه مستحبا أو واجبا؟ فيه وجهان
ذكرناهما في الزكاة.
وإن ادعى من عليه الجزية أنه دفعها إليهم لم يقبل قوله، لأنها عوض فلم
يقبل قوله في الدفع كالمستأجر إذا ادعى دفع الأجرة، وان ادعى من عليه الخراج
أنه دفعه إليهم ففيه وجهان، أحدهما يقبل قوله، لأنه مسلم فقبل قوله في الدفع
كما قلنا فيمن عليه الزكاة، والثاني لا يقبل لان الخراج ثمن أو أجرة فلم يقبل
قوله في الدفع كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه في الام في الأمان (وقال بعض
الناس: لا ينبغي لقاضي أهل البغي أن يحكم في الدماء والحدود وحقوق الناس
213

وإذا ظهر الامام على البلد الذي فيه قاض لأهل البغي لم يرد من حكمه إلا ما يرد
من حكم غيره من قضاة غير أهل البغي، وان حكم على غير أهل البغي فلا ينبغي
للامام أن يجيز كتابه خوف استحلاله أمواله الناس بما لا يحل له. قال وإذا كان
غير مأمون برأيه على استحلال ما لا يحل له من مال امرئ أو دمه لم يحل قبول
كتابه ولا انفاذ حكمه، وحكمه أكثر من كتابه، فكيف يجوز أن ينفذ حكمه
وهو الأكثر، ويرد كتابه وهو الأقل اه‍
وجملة ذلك أنه إذا نصب أهل البغي قاضيا فإن كان يستحل دماء أهل
العدل وأموالهم لم يصح قضاؤه، ولأنه ليس بعدل، وإن كان لا يستحل دماء
أهل العدل وأموالهم نفذ من أحكامه ما ينفذ من أحكام قاضى أهل العدل سواء
كان القاضي من أهل العدل أو من أهل البغي
وقال أبو حنيفة: إن كان من أهل العدل العدل نفذ حكمه، وإن كان من أهل البغي
لم ينفذ حكمه بناء على أصله أن أهل البغي يفسقون بالبغي، وعدنا لا يفسقون
وهو قول أحمد وأصحابه.
دليلنا أنه اختلاف في الفروع بتأويل سائغ فلم يمنع صحة القضاء ولم يفسق
كاختلاف الفقهاء، ولان عليا رضي الله عنه لما غلب على أهل البغي وكانوا قد
حكموا مدة طويلة بأحكام لم يرو أنه رد شيئا منها، ولم يرد قضاء قاضيهم،
كقاضي أهل العدل.
إذا ثبت هذا فإن حكم قاضى أهل البغي بسقوط الضمان عن أهل
البغي فيما أتلفوه حال الحرب جاز حكمه لأنه موضع اجتهاد، وإن كان حكمه فيما
أتلفوه قبل قيام الحرب لم ينفذ لأنه مخالف للاجماع. وان حكم على أهل العدل
بوجوب الضمان فيما أتلفوه حال الحرب لم ينفذ حكمه لمخالفته للاجماع، وان حكم
بوجوب ضمان ما أتلفوه في غير حال الحرب نفذ حكمه، فإن كتب قاضى أهل
البغي إلى قاضى أهل العدل بحكم فالمستحب ألا يقبل كتابه استهانة بهم وكسرا
لقلوبهم، أو كما يعبر المعاصرون بإضعاف روحهم المعنوية، فان قبله جاز.
وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأنه محكوم بفسقهم وولاية القضاء تنافى الفسوق
ولنا اننا قد أقمنا الدليل على تنفيذ حكمه، ومن نفذ حكمه جاز قبول كتابه،
214

كقاضي أهل العدل، هذا نقل أصحابنا العراقيين، وقال الخراسانيون: إن كان
قد نفذ الفضاء قبل كتابه، وإن لم ينفذ القضاء فهل يقبل كتابه؟ فيه قولان
وإن شهد عدل من أهل البغي قبلت شهادته، ووافقنا أبو حنيفة على ذلك
لأنهم وإن كانوا فسقة عنده من جهة التدين، إلا أن ذلك لا يوجب رد الشهادة
عنده، وإنما قبلت شهادتهم عندنا وعند الحنابلة لأنهم ليسوا بفسقة فهم كأهل
العدل المختلفين في الأحكام
قوله: وإن استولوا على بلد وأقاموا الحدود الخ، فجملة ذلك أنه إذا استولى
أهل البغي على بلد وأقاموا فيه الحدود وأخذوا الزكوات والجزية والخراج
وقع ذلك موقعه.
وحكى المسعود وجها آخر أنه لا يعيد بما أخذوه من الجزية وليس بشئ
لان عليا رضي الله عنه لما ظهر على أهل البغي لم يطالب بشئ مما كانوا قد جبوه من ذلك
إذا ثبت هذا فظهر الامام على البلدة التي كانوا قد غلبوا عليها، فادعى من عليه
الزكاة أنه قد كان دفع إليهم الزكاة فإن علم الإمام بذلك وقامت به عنده بينة
لم يطالبه بشئ، وان لم يعلم الإمام بذلك ولا قامت به بينة فإن دعوى من عليه
الزكاة مخالفة للظاهر فيحلفه، وهل تكون يمينه واجبة أو مستحبة؟ فيه وجهان
مضى ذكرهما في الزكاة للامام النووي رضي الله عنه
فإن ادعى من عليه الجزية أنه دفعها إليهم فإن علم الإمام بذلك أو قامت
به بينة لم يطالبه بشئ، وان لم يعلم الإمام بذلك ولا قامت به بينة لم يقبل قول
من عليه الجزية، لأنه يجب عليه الدفع إلى الامام لأنهم كفار ليسوا بمأمونين،
ولان الجزية عوض عن المساكنة فلا يقبل قولهم في دفعها من غير بينة كثمن
المبيع والأجرة.
وان ادعى من عليه الخراج أنه دفعه إليهم، فان علم الإمام بذلك أو قامت
به بينة، لم يطالب بشئ، وان لم يعلم بذلك ولا قامت به بينة ففيه وجهان
(أحدهما) يقبل قوله مع يمينه لأنه مسلم فقبل قوله مع يمينه فيما دفع كما قلنا
فيمن عليه الزكاة (والثاني) لا يقبل قوله لان الخراج ثمن أو أجرة فلا يقبل قوله في
دفعه من غير بينة كالثمن والأجرة في غير ذلك
215

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن أظهر قوم رأى الخوارج ولم يخرجوا عن قبضة الامام لم
يتعرض لهم، لان عليا كرم الله وجهه سمع رجلا من الخوارج يقول: لا حكم
إلا لله تعريضا له في التحكيم في صفين، فقال كلمة حق أريد بها باطل) ثم قال
لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أنه تذكروا فيها اسم الله ولا نمنعكم من الفئ
ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال) ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم
يتعرض للمنافقين الذين كانوا معه في المدينة، فلان لا نتعرض لأهل البغي وهم
من المسلمين أولى، وحكمهم في ضمان النفس والمال والحد حكم أهل العدل، لان
ابن ملجم جرح عليا كرم الله وجهه، فقال (أطعموه واسقوه واحبسوه، فإن
عشت فأنا ولى دمى، أعفو إن شئت، وإن شئت استقدت، وان مت فاقتلوه
ولا تمثلوا به) فان قتل فهل يتحتم قتله؟ فيه وجهان
(أحدهما) يتحتم لأنه قتل بشهر السلاح، فتحتم قتله كقاطع الطريق
(والثاني) لا يتحتم وهو الصحيح لقول علي كرم الله وجهه (أعفو إن شئت
وان شئت استقدت)
وان سبوا الامام أو غيره من أهل العدل عزروا، لأنه محرم ليس فيه حد
ولا كفارة فوجب فيه التعزير. وإن عرضوا بالسب ففيه وجهان
(أحدهما) يعزرون لأنهم إذا لم يعزروا على التعريض صرحوا وخرقوا الهيبة
(والثاني) لا يعزرون لما روى أبو يحيى قال صلى بنا علي رضي الله عنه صلاة
الفجر فناداه رجل من الخوارج (لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من
الخاسرين) فأجابه على رضوان الله عليه وهو في الصلاة (فاصبر ان وعد الله
حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) ولم يعزره
(فصل) وإن خرجت على الامام طائفة لا منعة لها أو أظهرت رأى
الخوارج كان حكمهم في ضمان النفس والمال والحدود حكم أهل العدل، لأنه
لا يخاف نفورهم لقتلهم وقدرة الامام عليهم، فكان حكمهم فيما ذكرناه حكم
الجماعة، كما لو كانوا في قبضته
216

(فصل) وإن خرجت طائفة من المسلمين عن طاعة الامام بغير تأويل
واستولت على البلاد ومنعت ما عليها وأخذت ما لا يجوز أخذه قصدهم الامام
وطالبهم بما منعوا ورد ما أخذوا، وغرمهم مما أتلفوه بغير حق، وأقام عليهم
حدود ما ارتكبوا، لأنه لا تأويل لهم فكان حكمهم ما ذكرناه كقطاع الطريق
(الشرح) الخارج هم جمع خارجة، أي طائفة، سموا بذلك لخروجهم على
خيار المسلمين، وقد حكيا الرافعي في الشرح الكبير أنهم خرجوا على علي رضي الله عنه
حيث اعتقدوا أنه يعرف قتلة عثمان ويقدر عليهم ولا يقتص منهم لرضاه
بقتله أو مواطأته، كذا قال، وهذا خلاف المستفيض من حقائق التاريخ وصادق
الاخبار، فإن كل أولئك تقرر أن الخارج لم يطلبوا بدم عثمان، بل كانوا
ينكرون عليه شيئا ويتبرأون منه.
وأصل ذلك أن بعض أهل العراق أنكروا سيرة بعض أقارب عثمان فطعنوا
على عثمان بذلك، وكان يقال لهم القراء، لشدة اجتهادهم في التلاوة والعبادة،
إلا أنهم يتأولون القرآن على غير المراد منه ويستبدون بآرائهم ويبالغون في الزهد
والخشوع فلما قتل عثمان قاتلوا مع علي واعتقدوا كفر عثمان ومن تابعه واعتقدوا
إمامة علي وكفر من قاتله من أهل الجمل بقيادة طلحة والزبير، فإنهما خرجا إلى
مكة بعد أن بايعا عليا فلقيا عائشة وكانت حجت تلك السنة، فاتفقوا على طلب
قتلة عثمان، وخرجوا إلى البصرة يدعون الناس إلى ذلك، فبلغ عليا فخرج إليهم
فوقعت بينهم وقعة الجمل المشهورة، وانتصر علي وقتل طلحة في المعركة، وقتل
الزبير بعد أن انصرف من الوقعة.
فهذه الطائفة هي التي كانت تطلب بدم عثمان بالاتفاق ثم قام معاوية بالشام
في مثل ذلك وكان عاملا على الشام وقد أرسل إليه على أن يبايع له أهل الشام،
فاعتل بأن عثمان قتل مظلوما وأنها تجب المبادرة إلى الاقتصاص من قتلته، وأنه
أقوى الناس على الطلب بذلك، والتمس من علي أن يمكنه منهم ثم يبايع له بعد
ذلك وعلى يقول ادخل فيما دخل فيه الناس وحاكمهم إلى أحكم فيهم بالحق،
فلما طال الامر خرج علي في أهل العراق طالبا قتال أهل الشام، فخرج معاوية في
217

أهل الشام قاصدا لقتاله فالتقيا بصفين فدامت الحرب بينهم أشهرا وكاد معاوية
وأهل الشام أن يكسروا، فرفعوا المصاحف على الرماح ونادوا: ندعوكم إلى
كتاب الله، وكان ذلك بإشارة عمرو بن العاص وهو مع معاوية فنكر القتال جمع
كثير ممن كان مع علي خصوصا القراء بسبب ذلك تدينا محتجين بقوله تعالى (ألم
تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم) الآية
فراسلوا أهل الشام في ذلك فقالوا: ابعثوا حكما منكم وحكما منا ويحضر معهما
من لم يباشر القتال فمن رأوا الحق معه أطاعوه، فأجاب علي ومن معه إلى ذلك
وأنكرت ذلك الطائفة التي صارت خوارج وفارقوا عليا وهم ثمانية آلاف ونزلوا
بمكان يسمى حروراء، ومن ثم سموا بالحرورية، وكانوا بقيادة كبيرهم عبد الله
ابن الكواء اليشكري وشبث التميمي، فأرسل إليهم علي عبد الله بن عباس
فناظرهم فرجع كثير منهم، ثم خرج إليهم علي فأطاعوه ودخلوا معه الكوفة ومعهم
رئيساهم المذكوران ثم أشاعوا أن عليا تاب من الحكومة ولذلك رجعوا معه
فبلغ ذلك عليا فخطب فيهم وأنكر ذلك فتنادوا من جانب المسجد لا حكم إلا لله
فقال كلمة حق يراد بها باطل. ثم قال: لكم علينا ثلاث، ألا نمنعكم من المساجد
ولا من رزقكم من الفئ، وألا نبدؤكم بقتال ما لم تحدثوا فسادا، وخرجوا شيئا
بعد شئ إلى أن اجتمعوا بالمدائن فراسلهم علي في الرجوع فأصروا على الامتناع
حتى يشهد على نفسه بالكفر لرضاه بالتحكيم ويتوب، ثم راسلهم أيضا فأرادوا
قتل رسوله، ثم اجتمعوا أيضا على ألا يعتقد معتقدهم بكفر ويباح دمه وماله
وأهله، واستعرضوا الناس فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين ومر بهم عبد الله
ابن خباب بن الأرت واليا لعلي على بعض تلك البلاد ومعه سريته وهي حامل
فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد، فبلغ عليا فخرج إليها في الجيش الذي كان
هيأه للخروج إلى الشام، فأوقع بهم في النهروان ولم ينج منهم الا دون العشرة،
ولا قتل ممن معه الا نحو العشرة.
فهذا ملخص أمرهم ثم انضم إلى من بقي منهم ممن مال إلى رأيهم فكانوا مختفين
في خلافة علي حتى كان منهم ابن ملجم الذي قتل عليا رضي الله عنه بعد أن دخل
في صلاة الصبح، ثم لما وقع صلح الحسن ومعاوية ثارت منهم طائفة فأوقع بهم
218

عسكر الشام بمكان يقال له النخيلة، وكانوا منقمعين في إمارة زياد وابنه طول
مدة ولاية معاوية وابنه يزيد، وظفر زياد وابنه بجماعة منهم فأبادهم بين قتل
وحبس طويل، ثم بعد ذلك ظهر الخوارج بالعراق في خلافة ابن الزبير وادعاء
مروان الخلافة وكانوا بقيادة نافع بن الأزرق وباليمامة مع نجدة بن عامر، وزاد
نجدة على معتقد الخوارج أن من لم يخرج ويحارب الملمين فهو كافر، ولو اعتقد
معتقدهم، وعظم البلاء بهم وتوسعوا حتى أبطلوا رجم المحصن وقطعوا يد السارق
من الإبط، وأوجبوا الصلاة على الحائض حال حيضها، وكفروا من ترك
الامر بالمعروف والنهى عن المنكر إن كان قادرا، وإن لم يكن قادرا فقد ارتكب
كبيرة، وحكم مرتكب الكبيرة عندهم حكم الكافر، وكفوا عن أموال أهل
الذمة وعن التعرض لهم مطلقا، وفتكوا في المنتسبين إلى الاسلام بالقتل والسبي
والنهب، فمنهم من يفعل ذلك مطلقا، ومهم من يدعوا أولا ثم يفتك.
هذا معتقد الخوارج والسبب الذي لأجله خرجوا، ويتبين بذلك بطلان
ما حكاه الرافعي.
قال الشوكاني: وقد وردت بما ذكرنا من أصل حال الخوارج أخبار جياد.
منها ما أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري الخ وعدة فرق الخوارج
نحو عشرين فرقة.
قال ابن حزم: وأقربهم إلى الحق الأباضية. قلت وهم يعيشون الآن في جبال
القبائل في شمال إفريقية من تونس والجزائر ومراكش، كما أن لهم إماما في عمان
وقد قرأت في كتبهم أنهم يتبعون في فقههم أبا الشعثاء جابر بن زيد، وهو موثق
في جميع كتب أهل السنة وله عندهم أخبار وروايات رواها عنه عبد الله بن إباض
لم أجدها عندنا.
فإذا ثبت هذا فأظهر قوم رأى الخوارج فتجنبوا الجماعات وسبوا السلف
وأكفروهم وقالوا: من أتى بكبيرة خرج من الملة واستحق الخلود في النار،
ولكنهم لم يخرجوا من قبضة الامام فإنه لا يقاتلهم في ذلك كما رويناه في الرجل
الذي قال على باب المسجد وعلى يخطب: لا حكم الا لله، وكان خارجيا،
219

لان هذا كلامهم. وروى أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب إليه أن قوما
يرون رأى الخوارج يسبونك، فقال إذا سبوني سبوهم، وإذا حملوا السلاح
فاحملوا السلاح، وإذا ضربوا فاضربوهم اه‍
فإذا سبوا الامام أو غيره عزروا، وإن عرضوا بسبب الامام عن طريق
الكناية أو النكتة أو الفكاهة ففيه وجهان
(أحدهما) لا يعزرون، لان عليا رضي الله عنه سمع رجلا خلفه في صلاة
الفجر يقول (لئن أشركت ليحبطن عملك) ورفع بها صوته تعريضا له بذلك،
فأجابه على (فاصبر أن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون) ولم يعزره
ولان التعريض يحتمل السب وغيره.
(والثاني) يعزرون لأنه إذا لم يعزرهم بالتعريض بالسب ارتقوا إلى التصريح
بالسب وإلى أعظم منه، فإن بعث لهم الامام واليا فقتلوه وجب عليهم القصاص
لان عليا بعث عبد بن خباب إلى أهل النهروان واليا كما قلنا فقتلوه، فبعث إليهم
أن ابعثوا بقاتله فأبوا وقالوا (كلنا قلته) فسار إليهم وقاتلهم، وهل يتحتم القصاص
على القاتل؟ فيه وجهان
(أحدهما) يتحتم لأنه قتل بإشهار السلاح فصار بمنزلة قاطع الطريق.
(والثاني) لا يتحتم لأنه لم يقصد بذلك إخافة الطريق وأخذ الأموال
فأشبه من قتل رجلا منفردا
220

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب قتل المرتد
تصح الردة من كل بالغ عاقل مختار، فأما الصبي والمجنون فلا تصح ردتهما
لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم
حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق)
وأما السكران ففيه طريقان، من أصحابنا من قال تصح ردته قولا واحدا،
ومنهم من قال فيه قولان، وقد بينا ذلك في الطلاق، فأما المكره فلا تصح ردته
لقوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) وإن تلفظ بكلمة الكفر وهو
أسير لم يحكم بردته لأنه مكره، وإن تلفظ بها في دار الحرب في غير الأسر حكم
بردته، لان كونه في دار الحرب لا يدل على الاكراه، وإن أكل لحم الخنزير
أو شرب الخمر لم يحكم بردته، لأنه قد يأكل ويشرب من غير اعتقاد، ومن أكره
على كلمة الكفر فالأفضل أن لا يأتي بها لما روى أنس رضي الله عنه (أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان. أن يكون الله
ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يجب للمرء لا يحبه الا الله عز وجل، وأن
يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن توقد نار فيقذف فيها)
وروى خباب بن الإرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أن كان الرجل ممن
كان قبلكم ليحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بمنشار فتوضح على رأسه
ويشق باثنتين، فلا يمنعه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه
من لحم وعصب ما يصده ذلك عن دينه)
ومن أصحابنا من قال: إن كان ممن يرجو النكاية في العدو أو القيام بأحكام
221

الشرع فالأفضل له أن يدفع القتل عن نفسه، ويتلفظ بكلمة الكفر، لما في بقائه
من صلاح المسلمين، وإن كان لا يرجو ذلك اختار القتل.
(الشرح) قوله تعالى (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان) ورد في سبب
نزولها ثلاث روايات. الأولى ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال (لما
أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر إلى المدينة أخذ المشركون بلالا وخبابا
وعمارا، فأما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، فلما رجع إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم حدثه فقال: كيف كان قلبك حين قلت أكان منشرحا بالذي قلت؟
قالا لا، فنزلت)
الثانية: ما أخرجه أيضا عن مجاهد قال: نزلت هذه الآية في أناس من أهل
مكة آمنوا، فكتب إليهم بعض الصحابة بالمدينة أن هاجروا، فخرجوا يريدون
المدينة فأدركتهم قريش بالطريق ففتنوهم فكفروا مكرهين، ففيهم نزلت هذه
الآية. الثالثة: أخرج ابن سعد في الطبقات عن عمر بن الحكم قال: كان عمار
ابن ياسر يعذب حتى لا يدرى ما يقول وبلال وعامر بن فهيرة وقوم من المسلمين وفيهم
نزلت هذه الآية.
وقال مجاهد: أول من أظهر الاسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأبو بكر وبلال وخباب وعمار وصيهب وسمية فأما رسول الله فمنعه أبو طالب
وأما أبو بكر فمنعه قومه، وأما الآخرون فألبسوهم أدراع الحديد وأوقفوهم في
الشمس فبلغ منهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ من حر الحديد والشمس، فلما كان
من العشاء أتاهم أبو جهل ومعه حربة، فجعل يشتمهم ويوبخهم، ثم أتى سمية
فطعن بالحربة في قبلها حتى خرجت من فمها، فهي أول شهيد استشهد في الاسلام
أما حديث (رفع القلم عن ثلاثة الخ) فقد أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم
عن علي وعن عمر رضي الله عنهما، وحديث أنس (ثلاث من كن فيه وجد
حلاوة الايمان. الحديث) فقد أخرجه أحمد في المسند والشيخان والترمذي
وابن ماجة والنسائي.
وحديث خباب بن الأرت ولفظه (أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
222

متوسد بردة في ظل الكعبة فشكونا إليه فقلنا ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو الله لنا؟
فجلس محمرا وجهه فقال (قد كان من قبلكم الخ الحديث) فقد أخرجه البخاري
في الاكراه عن مسدد، وفى علامات النبوة عن محمد بن المثنى، وفى مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم عن الحميدي، وأخرجه أبو داود في الجهاد عن عمرو بن عون
والنسائي في الزينة عن يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن المثنى
أما اللغات فإن الارتداد الرجوع عن الدين والاسم الردة، ورد عن الشئ ء
رجع عنه، الاطمئنان السكون واستئناس القلب.
قوله (فيقذف فيها) أي يرمى فيها ويطرح، والمنشار والميشار غير مهموز. الآلة
المعروفة، والنكاية في العدو أصله الوجع والألم، وقيل هو قشر الجرح. قال الشاعر
(ولا تنكئى قرح الفؤاد فينجعا)
أما الأحكام فإن المرتد هو الراجع عن دين الاسلام إلى الكفر. قال تعالى
(ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا
والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)
إذا ثبت هذا فإن الردة إنما تصح من كل بالغ عاقل مختار، فأما الصبي والمجنون
فلا تصح ردتهما. وقال أبو حنيفة تصح ردة الصبي ولكن لا يقتل حتى يبلغ.
ومرد هذا الخلاف إلى صحة إسلام الصبي، فعند الشافعي وزفر أن الصبي لا يصح
إسلامه حتى يبلغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي
حتى يبلغ) ولأنه قول تثبت به الأحكام فلم يصح من الصبي كالهبة، ولأنه أحد
من رفع القلم عنه فلم يصح إسلامه كالمجنون والنائم، ولأنه ليس بمكلف أشبه
الطفل وقال أبو حنيفة وصاحباه وأحمد بن حنبل وسائر أصحابه، وإسحاق
وابن أبي شيبة وأبو أيوب يصح إسلام الصبي إذا كان له عشر سنين وعقل الاسلام
لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (من قال لا إله إلا الله دخل الجنة)
وقوله (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها
عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) وقوله صلى الله عليه
وسلم (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه حتى يعرب عنه
لسانه إما شاكرا واما كفورا) وهذه الأخبار يدخل في عمومها الصبي، ولان
223

الاسلام عبادة محضة فصحت من الصبي العقال كالصلاة والحج، ولان الله تعالى
دعا عباده إلى دار السلام وجعل طريقها الاسلام، وجعل من لم يجب دعوته في
الجحيم والعذاب الأليم، ولان عليا أسلم صبيا وقال
سبقتكم إلى الاسلام طرا * صبيا ما بلغت أوان حلم
ولذا قيل، أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن الصبيان على، ومن
النساء خديجة، ومن العبيد بلال. وقال عروة أسلم على والزبير وهما ابنا ثمان
سنين، وقد اختلف القائلون بصحة إسلام الصبي في حد السن، فقال الخرقي
عشر سنين لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر بضربه على الصلاة لعشر، وقال
ابن قدامة أكثر المصححين لاسلامه لم يشترطوا ذلك ولم يحدوا له حدا من السنين
وحكاه ابن المنذر عن أحمد، لان المقصود متى ما حصل لا حاجة إلى زيادة عليه
وروى عن أحمد إذا كان ابن سبع سنين فإسلامه إسلام لقوله صلى الله عليه وسلم
مروهم بالصلاة لسبع
وقال ابن أبي شيبة (إذا أسلم وهو ابن خمس سنين صح اسلامه) وقال
أبو أيوب (أجيز اسلام ابن ثلاث سنين فمن أصاب الحق من صغير أو كبير
أجزناه. الا أنهم قالوا لا يقتل الا إذا بلغ وجاوز البلوغ بثلاثة أيام
فإذا ثبت هذا فإذا ارتد صحت ردته عندهم، وهو الظاهر من مذهب أبي حنيفة
ومالك. وفى رواية عن أحمد بهذا، ورواية انه يصح اسلامه ولا تصح ردته
وهل تصح ردة السكران؟ ذكر الشيخ أبو إسحاق هنا فيها طريقين، أحدهما
أنها على قولين، والثانية لا تصح ردته قولا واحدا، ولم يذكر الشيخ أبو حامد
وابن الصباغ وأكثر أصحابنا غير هذه الطريقة. ومن أكره على كلمة الكفر
فالأفضل ألا يأتي بها.
ومن أصحابنا من قال (إن كان ممن يرجوا النكاية في أمر العدو والقيام في أمر
الشرع فالأفضل أن يدفع القتل عن نفسه ويتلفظ بها، وإن كان لا يرجو ذلك
اختار القتل، والمذهب الأول، لما روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه
مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه الا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره
224

أن يقذف في النار،) فإن أكره على التلفظ بكلمة الكفر فقالها وقصد بها الدفع عن
نفسه ولم يعتقد الكفر بقلبه لم يحكم بردته، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد،
وقال محمد بن الحسن هو كافر في الظاهر تبين منه امرأته ولا يرثه المسلمون أن
مات ولا يغسل ولا يصلى عليه، وعزا العمراني في البيان هذا إلى أبى يوسف.
دليلنا قوله تعالى (الا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان، ولكن من شرح بالكفر
صدرا فعليهم غضب من الله) وفى الآية تقديم وتأخير، وتقديرها من كفر بالله
بعد ايمانه وشرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله من أكره وقلبه مطمئن
بالايمان، فإذا أكره الأسير على كلمة الكفر فقالها لم يحكم بكفره لما ذكرناه،
فإن مات ورثه ورثته المسلمون، لأنه محكوم ببقائه على الاسلام فإن عاد إلى
دار الاسلام عرض عليه السلام وأمر بالاتيان به لاحتمال أن يكون قال ذلك
اعتقادا، فإن أتى بكلمة الاسلام علمنا أنه أتى بكلمة الكفر مكرها، وان لم يأت
بالاسلام علمنا أنه يأتي بكلمة الكفر معتقدا له.
قال الشافعي رحمه الله وان قامت بينة على رجل أنه تلفظ بكلمة الكفر وهو
محبوس أو مقيد ولم يقل البينة أنه أكره على التلفظ بذلك لم يحكم بكفره، لان
القيد والحبس اكراه في الظاهر. وهكذا قال في الاقرار إذا أقر بالبيع أو غيره
من العقود وهو محبوس أو مقيد، ثم قال بعد ذلك كنت مكرها على الاقرار،
قبل قوله في ذلك، لان القيد والحبس اكراه في الظاهر، وان قامت بينة أنه
كان يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير في دار الكفر لم يحكم بكفره لأنها معاص
وقد يفعلها المسلم وهو يعتقد تحريمها فلم يحكم بكفره. وان مات ورثه ورثته
المسلمون لأنه محكوم ببقائه على الاسلام.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا ارتد الرجل وجب قتله لما روى أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه
قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يحل دم امرئ
مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل كفر بعد اسلامه، أو، زنى بعد احصانه، أو قتل
نفسا بغير نفس) فإن ارتدت امرأة وجب قتلها لما روى جابر رضي الله عنه
225

أن امرأة يقال لها أم رومان ارتدت عن الاسلام، فبلغ أمرها إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فأمر أن تستناب، فإن تابت وإلا قتلت) وهل يجب أن يستناب أو
يستحب؟ فيه قولان
(أحدهما) لا يجب لأنه لو قتل قبل الاستتابة لم يضمنه القاتل، ولو وجبت
الاستتابة لضمنه.
(والثاني) أنها تجب لما روى أنه (لما ورد على عمر رضي الله عنه فتح تستر
فسألهم هل كان من مغربة خبر؟ قالوا نعم، رجل ارتد عن الاسلام ولحق
بالمشركين فأخذناه وقتلناه، قال فهلا أدخلتموه بيتا وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه
كل يوم رغيفا واستتبتموه ثلاثا، فإن تاب والا قتلتموه، اللهم إني لم أشهد ولم
آمر ولم أرض إذ بلغني) ولو لم تجب الاستتابة لما تبرأ من فعلهم.
فإن قلنا إنه تجب الاستتابة أو تستحب ففي مدتها قولان.
(أحدهما) أنها ثلاثة أيام لحديث عمر رضي الله عنه، ولان الردة لا تكون
إلا عن شبهة وقد لا يزول ذلك بالاستتابة في الحال فقدر بثلاثة أيام، لأنه مدة
قريبة يمكن فيها الارتياب والنظر، ولهذا قدر به الخيار في البيع.
(والثاني) وهو الصحيح أنه يستتاب في الحال، فإن تاب وإلا قتل لحديث
أم رومان، ولأنه استتابة من الكفر فلم تتقدر بثلاث كاستتابة الحربي، وإن كان
سكرانا فقد قال الشافعي رحمه الله تؤخر الاستتابة، فمن أصحابنا من قال
تصح استتابته والتأخير مستحب، لأنه تصح ردته فصحت استتابته.
ومنهم من قال لا تصح استتابته ويجب التأخير، لان ردته لا تكون إلا عن
شبهة، ولا يمكن بيان الشبهة ولا إزالتها مع السكر، وان ارتد ثم جن لم يقتل
حتى يفيق ويعرض عليه الاسلام، لان القتل يجب بالردة، والاصرار عليها،
والمجنون لا يوصف بأنه مصر على الردة.
(الشرح) حديث عثمان (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث)
أخرجه أبو داود في الديات عن سليمان بن حرب والترمذي في الفتن عن أحمد
أبن عبده والنسائي في الاحباس عن زيدا بن أيوب، وعن عمران بن بكار بن
226

راشد، وأخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود
وحديث جابر أن أم رومان، وفى تلخيص الحبير أن الصواب أم مروان
أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريقين، وزاد في أحدهما فأبت أن تسلم فقتلت
قال الحافظ ابن حجر وإسناداهما ضعيفان.
وأخرج البيهقي من وجه آخر ضعيف عن عائشة أن امرأة ارتدت يوم أحد
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت
وأخرج الدارقطني والبيهقي أن أبا بكر رضي الله عنه استتاب امرأة يقال لها
أم قرفة كفرت بعد إسلامها فلم تتب فقلتها
قال الحافظ ابن حجر: وفى السير أن النبي صلى الله عليه وسلم أم قرفة
يوم قريظة، وهي غير تلك. وفى الدلائل عن أبي نعيم أن زيد بن ثابت قتل
أم قرفة في سريته إلى بنى فزارة.
أما أثر عمر رضي الله عنه فقد أخرجه الشافعي عن محمد بن عبد الله بن
عبد القاري قال (قدم على عمر بن الخطاب رجل من قبل أبى موسى فسأله عن
الناس فأخبره، ثم قال هل من مغربة خبر؟ قال نعم، كفر رجل بعد إسلامه،
قال فما فعلتم؟ قال قربناه فضربنا عنقه، فقال هلا حبستموه ثلاثا وأطعمتموه
كل يوم رغيفا واستتبتموه لعله يتوب ويراجع أمر الله، اللهم إني لم أحضر ولم
أرض إذ بلغني) وأخرجه مالك في الموطأ عن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله
ابن عبد القاري عن أبيه
قال الشافعي رضي الله عنه (من لا يتأنى بالمرتد) زعموا أن هذا الأثر عن
عمر ليس بمتصل. اه‍
ورواه البيهقي من حديث أنس قال (لما نزلنا على تستر) فذكر الحديث وفيه
(فقدمت على عمر رضي الله عنه فقال يا أنس ما فعل الستة الرهط من بكر بن
وائل الذين ارتدوا عن الاسلام فلحقوا بالمشركين؟ قال يا أمير المؤمنين قتلوا
بالمعركة، فاسترجع عمر، قلت وهل كان سبيلهم الا القتل؟ قال نعم، قال كنت
أعرض عليهم الاسلام فإن أبوا أودعتهم السجن)
227

أما اللغات فقوله (هل من مغربة خبر) بضم الميم وسكون الغين. قال
أبو عبيد وكسر الراء وفتحها مع الإضافة فيهما، معناه من خبر جديد.
قال الرافعي شيوخ الموطأ فنحو الغين وكسروا الراء وشددوها قلت وأصله
من الغرب وهو البعد. يقال (دار غربة) أي بعيدة. الارتياء والنظر هو
الافتعال من الرأي والتدبير والتفكر في الامر وعاقبته وصلاحه، والنظر
هو التفكر أيضا.
وقوله (الاصرار عليها) أي الإقامة والدوام
أما الأحكام فإنه إذا ارتد الرجل وجب قتله، سواء كان حرا أو عبدا،
لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، رجل
كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصان، أو قتل نفسا بغير نفس) وقد قدم معاذ
على أبى موسى باليمن، فوجد عنده رجلا موثقا كان يهوديا فأسلم ثم تهود منذ
شهرين، فقال والله لا قعدت حتى تضرب عنقه، قضاء الله ورسوله أن من رجع
عن دينه فاقتلوه) أخرجه أحمد والشيخان، ولأبي داود (فأتى أبو موسى برجل
قد ارتد عن الاسلام، فدعاه عشرين ليلة أو قريبا منها، فجاء معاذ فدعاه
فأبى فضرب عنقه)
وقد انعقد الاجماع على قتل المرتد، وان ارتدت امرأة حرة أو أمة وجب
قتلها، وبه قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه والحسن والزهري والأوزاعي
والليث ومالك وأحمد واسحق وقال على (إذا ارتدت المرأة استرقت) وبه قال
قتادة، وهي إحدى الروايتين عن الحسن. وقال أبو حنيفة لا تقتل وإنما تحبس
وتطالب بالرجوع إلى الاسلام، وان لحقت بدار الحرب سبيت واسترقت،
ويروى ذلك عن عبد الله بن عباس، دليلنا ما روى ابن عباس أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (من بدل دينه فاقتلوه)
وقال معاذ رضي الله عنه (قضى الله ورسوله أن من رجع عن دينه فاقتلوه،
وهذا عام في النساء والرجال، ولحديث جابر في أم رومان أو أم مروان.
(فرع) إذا قال المرتد ناظروني واكشفوا إلى الحجة، فهل يناظر؟ قال
المسعودي فيه وجهان
228

(أحدهما) يناظر لأنه هو الانصاف (والثاني) لا يناظر لان الاسلام قد
وضح فلا معنى لحجته عليه.
(فرع) يستتاب المرتد قبل أن يقتل وقال الحسن البصري لا يستتاب،
وإن كان كافرا فأسلم ثم ارتد فإنه يستتاب. دليلنا أثر عمر (فهلا أدخلتموه بيتا
وأغلقتم عليه بابا وأطعمتموه كل يوم رغيفا واستتبتموه ثلاثا فإن تاب والا
قتلتموه، اللهم إني لم أشهد ولم آمر ولم أرض إذا بلغني)
إذا ثبت هذا فهل الاستتابة مستحبة أو واجبة؟ فيه قولان، قال الشيخ
أبو حامد، وقيل هما وجهان (أحدهما) أنها مستحبة، وبه قال أبو حنيفة لقوله
صلى الله عليه وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) فأوجب قتله ولم يوجب استتابته،
ولأنه لو قتله قاتل قبل الاستتابة لم يجب عليه ضمانه، ولهذا لم يوجب عمر رضي الله عنه
الضمان على الذين قتلوا المرتد قبل استتابته، فلو كانت الاستتابة واجبة
لوجب ضمانه، فعلى هذا لا يأثم إذا قتله قبل الاستتابة
(والثاني) أن الاستتابة واجبة لقوله تعالى (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر
لهم ما قد سلف) فأمر الله بمخاطبة الكفار بالانتهاء ولم يفرق بين الأصلي والمرتد
ولما رويناه عن عمر وعثمان رضي الله عنهما، وبالقول الأول قال عبيد بن عمير
وطاوس والحسن وأحمد في إحدى روايتيه، وبالقول الثاني قال عطاء والنخعي
ومالك والثوري والأوزاعي وإسحاق وأصحاب الرأي، والرواية الأخرى عن
أحمد، وعزا ابن قدامة الوجوب إلى عمر وعلى، وفند القول بعدم الوجوب
ورجح الوجوب. قال الشوكاني بعدم الوجوب قال أهل الظاهر ونقله ابن المنذر
عن معاذ وعبيد بن عمير وعليه يدل تصرف البخاري، فإنه استظهر بالآيات التي
لا ذكر فيها للاستتابة، والتي فيها أن التوبة لا تنفع، وبعموم قوله صلى الله عليه
وسلم (من بدل دينه فاقتلوه) وبقصة معاذ المذكورة ولم يذكر غير ذلك.
وقال الطحاوي في شرح معاني الآثار ذهب هؤلاء إلى أن حكم من ارتد عن
الاسلام حكم الحربي الذي بلغته الدعوة، فإنه يقاتل من اقبل أن يدعى. قالوا
وإنما تشرع الاستتابة لمن خرج عن الاسلام لاعن بصيرة، فأما من خرج عن
229

بصيرة فلا، ثم نقل عن أبي يوسف موافقتهم، لكن إن جاء مبادرا بالتوبة خلى
سبيله ووكل أمره إلى الله
واختلف القائلون بالاستتابة هل يكتفى بالمرة أم لابد من ثلاث، وهل
الثلاث في مجلس أو في يوم أو في ثلاثة أيام، ونقل ابن بطال عن علي أنه
يستتاب شهرا. وعن النخعي يستتاب أبدا
قلت، وقولهم لو وجبت الاستتابة لوجبت الضمان يبطل بقتال نساء أهل
الحرب وذراريهم، فإنه يحرم قتلهم، ولو قتلهم لم يجب ضمانهم، فعلى هذا إذا
قتله قبل الاستتابة أثم لا غير، وفى قدر مدة الاستتابة سواء قلنا بالاستحباب
أو الوجوب فبالثلاثة الأيام. قال مالك وأحد قولي الشافعي وأحمد وأبو حنيفة
ووجهه ما رويناه عن عمر، ولان الاستتابة تراد لزوال الشبهة فقدر ذلك
بثلاث لأنها آخر حد القلة وأول حد الكثرة، والثاني وهو الذي نصره
الشافعي يستتاب في الحال.
وقال الزهري يستتاب ثلاث مرات في حالة واحدة، وقال أبو حنيفة يستتاب
ثلاث في ثلاث جمع كل جمعة مرة، وقال الثوري يستتاب أبدا ويحبس إلى أن
يتوب أو يموت.
(فرع) وأما السكران فإنه لا يستتاب في حال سكره وإنما يؤخر إلى أن
يفيق ثم يستتاب، لان استتابته في حال إفاقته أرجى لاسلامه، فإن استتيب في
حال سكره صح إسلامه.
وقال أبو علي بن أبي هريرة لا يصح إسلامه وبه قال أبو حنيفة، والمنصوص
هو الأول لقوله تعالى (لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) فخاطبه في حال السكر
فدل على أنه مخاطب مكلف فكل من كان مخاطبا مكلفا صح إلا سلامه كالصاحي،
وإذا أسلم في حال السكر فالمستحب ألا يخلى بل يحبس إلى أن يفيق فان أفاق
وثبت على إسلامه خلى سبيله، وإن أعاد الكفر قتل، فإن ارتد ثم جن
أو تبرسم لم يقتل حتى يفيق من جنونه ويبرأ من برسامه، لان المرتد لا يقتل
230

إلا بالردة والمقام عليها باختياره، والمجنون والمبرسم لا يعلم إقامته على الردة
باختياره فلم يقتل.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا تاب المرتد قبلت توبته سواء كانت ردته إلى كفر ظاهر به
أهله أو إلى كفر يستتر به أهله كالتعطيل والزندقة، لما روى أنس رضي الله عنه
قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا
لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله واستقبلوا قبلتنا وصلوا صلاتنا، وأكلوا ذبيحتنا فقد حرمت علينا
دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ولهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، ولان
النبي صلى الله عليه وسلم كف عن المنافقين لما أظهروا من الاسلام مع ما كانوا
يبطنون من خلافه، فوجب أن يكف عن المعطل والزنديق لما يظهرونه من
الاسلام، فإن كان المرتد ممن لا تأويل له في كفره فأتى بالشهادتين حكم بإسلامه
لحديث أنس رضي الله عنه فإن صلى في دار الحرب حكم بإسلامه، وان صلى في
دار الاسلام لم يحكم بإسلامه، لأنه يحتمل أن تكون صلاته في دار الاسلام
للمرأة والتقية، وفى دار الحرب لا يحتمل ذلك، فدل على إسلامه وإن كان ممن
يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى العرب وحدها أو ممن يقول إن محمدا
نبي يبعث وهو غير الذي بعث، لم يصح إسلامه حتى يتبرأ مع الشهادتين من
كل دين خالف الاسلام، لأنه إذا اقتصر على الشهادتين احتمل أن يكون أراد
ما يعتقده، وان ارتد بجحود فرض أو استباحة محرم لم يصح اسلامه حتى يرجع
عما اعتقده ويعيد الشهادتين لأنه كذب الله وكذب رسوله بما اعتقده في خبره
فلا يصح اسلامه حتى يأتي بالشهادتين، وان ارتد ثم أسلم ثم ارتد ثم أسلم،
وتكرر منه ذلك قبل اسلامه ويعزر على تهاونه بالدين.
وقال أبو إسحاق لا يقبل اسلامه إذا تكررت ردته، وهذا خطأ لقوله
عز وجل (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) ولأنه أتى بالشهادتين
بعد الردة فحكم بإسلامه كما لو ارتد مردة ثم أسلم.
231

(الشرح) حديث أنس (أمرت أن أقاتل الناس) أخرجه الطبراني عن
أفس وقد اعتبره السيوطي من المتواتر، وكذلك فعل عبد الله الصديق في الكنز
الثمين، والسيوطي جعل شرطه في التواتر أن يرويه عشرة من الصحابة، وهذا
رواه من الصحابة ابن عمر عند البخاري ومسلم وأبو هريرة عندهما وجابر عند
مسلم وأبو بكر الصديق وعمر وأوس وجرير البجلي في مصنف ابن أبي شيبة
وأفس وسمرة وسهل بن سعد وابن عباس وأبو بكرة وأبو مالك الأشجعي عند
الطبراني وعياض الأنصاري والنعمان بن بشير عند البزار.
أما اللغات: فالتعطيل مذهب قوم يذهبون إلى أن لا إله يعبد ولا جنة
ولا نار، وقد ذهب بعض الدعاة لمذهب السلف في الصفات إلى إطلاق هذا
على من يدعو لمذهب الخلف من الأولين. والزندقة كلمة فارسية معربة، وهو
مذهب المثنوية والواحد زنديق والجمع زنادقة، وكان مذهب قوم من قريش في
الجاهلية، والثنوية يزعمون أن مع الله ثانيا تعالى الله عن ذلك
قال الأزهري والذي يقول الناس زنديق، فإن أحمد بن يحيى زعم أن العرب
لا تعرفه. ويقال زندق وتزندق
قال أبو حامد السجستاني الزنديق فارسي معرب أصله زنده كرد، أي يقول
بدوام الدهر، وقال ثعلب ليس في كلام العرب، زنديق، وإنما يقال زندقي لمن
يكون شديد التحيل، وإذا أراد ما تريد العامة قالوا ملحد ودهري (بفتح الدال)
وإذا ضموها أرادوا كبر السن
أما الأحكام فإن المرتد إذا أسلم ولم يقتل صح اسلامه، سواء كانت ردته
إلى كفر مظاهر به أهله، كاليهودية والنصرانية وعبادة الأصنام، أو إلى كفر
يستتر به أهله كالزندقة.
والزنديق هو الذي يظهر الاسلام ويبطن الكفر، فمتى قامت بينة أنه تكلم
بما يكفر به فإنه يستتاب وإن تاب والا قتل. فإن استتيب فتاب قبلت توبته،
وقال بعض الناس إذا أسلم المرتد لم يحقن دمه بحال، لقوله صلى الله عليه وسلم
232

من يدل عينه فاقتلوه. وهذا قد بدل. وقال مالك وأحمد وإسحاق لا تقبل توبة
الزنديق ولا يحقن دمه بذلك، وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة، والرواية
الأخرى كمذهبنا.
دليلنا قوله تعالى (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد
إسلامهم إلى قوله تعالى فإن يتوبوا بك خيرا لهم) فأثبت لهم التوبة بعد
الكفر بعد الاسلام
وروى عمر وأبو بكر وأبو هريرة وأنس وغيرهم أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا
منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها) وهذا قد قالها.
233

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن ارتد ثم أقام على الردة، فإن كان حرا كان قتله إلى الامام
لأنه قتل يجب لحق الله تعالى، فكان إلى الامام، كرجم الزاني، فإن قتله غيره
بغير إذنه عزر لأنه افتات على الامام، فإن كان عبدا ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يجوز للمولى قتله لأنه عقوبة تجب لحق الله تعالى فجاز للمولى
إقامتها كحد الزنا.
(والثاني) لا يجوز للمولى قتله لأنه حق الله عز وجل لا يتصل بحق المولى
فلم يكن للمولى فيه حق بخلاف حد الزنا فإنه يتصل بحقه في إصلاح ملكه
(الشرح) من أسلم وعرف الاسلام إجمالا أو تفصيلا رجلا كان أو امرأة
ثم انقلب عنه أو طعن فيه أو أنكر منه شيئا معروفا بالضرورة بين المسلمين
استنيب وبين له ما أشكل عليه من غير إمهال ولا انظار، فإن تاب والا قتل
وأن يكون التنفيذ للامام وفى عصرنا الحاضر للحكومة ولا يجيز القانون الاسلامي
أحدا غيرها أن يقيم الحد، فقد أجمعت فقهاء الأمة على هذا، فإن اعترض
معترض بقول الله تعالى (فاجلدوا) رد عليه بأن الأحكام جميعها من عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين كانت تنفذ بأمرهم، ولما رواه
البخاري من أنه بعث معاذ بن جبل إلى اليمن، فلما قدم عليه ألقى له وسادة وإذا
رجل موثق، فقال ما هذا؟ قال كان يهوديا فأسلم ثم تهود، قال لا أجلس حتى
يقتل (قضاء الله ورسوله) ثلاث مرات، فأمر به فقتل، كما أنه حفاظا لكيان
الدولة من أن يطغى أحد أفرادها على الآخر رجما بالغيب وافتئاتا على حقوق
الآخرين، وقد توقفنا عن الكلام في إقامة السيد الحد على مملوكه ائتساءا بسلفنا
ولما عرفناه في وقتنا الحاضر من أن تعاليم الاسلام محت الرق على مرور الزمن.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا ارتد وله مال ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) أنه لا يزول ملكه
عنه ماله، وهو اختيار المزني رحمه الله، لأنه لم يوجد أكثر من سبب يبيح
234

الدم وهذا لا يوجب زوال الملك عن ماه، كما لو قتل أو زنى، والقول الثاني أنه
يزول ملكه عن ماله، وهو الصحيح لما روى طارق به شهاب أن أبا بكر الصديق
رضي الله عنه قال لوفد بزاخة وغطفان: نغنم ما أصبنا منكم وتردون إلينا ما أصبتم
منا، ولأنه عصم بالاسلام دمه ماله ثم ملك المسلمون دمه بالردة فوجب أن
يملكوا ماله بالردة.
والقول الثالث أنه مراعى فإن أسلم حكمنا بأنه لم يزل ملكه وإن قتل أو مات
على الردة حكمنا بأنه زال ملكه، لان ماله معتبر بدمه، ثم استباحة دمه موقوفة
على توبته فوجب أن يكون زوال ملكه عن المال موقوفا، وعلى هذا في ابتداء
ملكه بالاصطياد، الابتياع وغيرهما، الأقوال الثلاثة، أحدها يملك، والثاني
لا يملك، والثالث أنه مراعى.
فإن قلنا إن ملكه قد زال بالردة صار المال فيئا للمسلمين وأخذ إلى بيت المال.
وإن قلنا إنه لا يزول أو مرعى حجر عليه ومنع من التصرف فيه، لأنه تعلق به
حق المسلمين وهو متهم في إضاعته، فحفظ كما يحفظ مال السفيه، وأما تصرفه
في المال فإنه إن كان بعد الحجر لم يصح لأنه حجر ثبت بالحاكم فمنع صحة التصرف
فيه كالحجر على السفيه، وإن كان قبل الحجر ففيه ثلاثة أقوال بناء على الأقوال
في بقاء ملكه.
(أحدها) أنه يصح (والثاني) أنه لا يصح (والثالث) أنه موقوف
(فصل) وان ارتد وعليه دين قضى من ماله لأنه ليس بأكثر من موته،
ولو مات قضيت ديونه فكذلك إذا ارتد
(الشرح) أثر طارق بن شهاب أخرج بعضه البخاري وأخرجه البيهقي من
حديث ابن إسحاق عن عاصم بن حمزة، وأخرجه البرقاني في مستخرجه على
شرط البخاري بلفظ (عن طارق بن شهاب قال جاء وفد بزاخة من أسد وغطفان
إلى أبى بكر يسألونه الصلح، فخيرهم بين الحرب المجلية والسلم المخزية والكراع،
ونغنم ما أصبنا منكم وتردون علينا ما أصبتم منا، وتدون قتلانا وتكون قتلاكم
235

في النار، وتتركون أقواما يتبعون أذناب الا بل حتى يرى الله خليفة رسوله
والمهاجرين والأنصار أمرا يعذرونكم به، فعرض أبو بكر ما قال على القوم،
فقام عمر بن الخطاب فقال قد رأيت رأيا وسنشير عليك، أما ما ذكرت من
الحرب المجلية والسلم المخزية فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت أن نغنم ما أصبنا
منكم وتردون ما أصبتم منا فنعم ما ذكرت، وأما ما ذكرت تدون قتلانا وتكون
قتلاكم في النار، فإن قتلانا قاتلت فقتلت على أمر الله أجورها على الله ليس لها
ديات، فتبايع القوم على ما قال عمر)
اللغة (بزاخة) بالضم والخاء معجمة. قال الأصمعي بزاخة ماء لطئ بأرض
نجد. وقال أبو عمرو الشيباني ماء لبنى أسد كانت فيه وقعة عظيمة في أيام أبى بكر
الصديق مع طليحة بن خويلد الأسدي، وكان قد تنبأ بعد النبي صلى الله عليه وسلم
انتهى من معجم البلدان.
(المجلية) قال في القاموس جلا القوم عن الموضع ومنه جلوا وجلاه وأجلوا
تفرقوا أو جلا من الخوف وأجلى من الجدب، ويحتمل أن تكون بالخاء أي
المهلكة، والمراد الحرب المفرقة لأهلها لشدة وقعها وتأثيرها
(السلم المخزية) بالخاء المعجمة والزاي أي المذلة
(الحلقة) بفتح الحاء المهملة وسكون اللام بعدها قاف، قال في القاموس
الحلقة الدرع والخيل. اه‍. وقال في النهاية والحلقة بسكون اللام السلاح عاما
وقيل الدروع خاصة.
(الكراع) الخيل. قال في القاموس هو اسم لجميع الخيل
(تدون قتلانا) قال في المختار وديت القتيل أدية دية، أعطيت دينه
(يتبعون أذناب الإبل) أي يمتهنون بخدمة الإبل ورعيها والعمل بها لما في
ذلك من الذلة الصغار.
اختلف الناس في ميراث المرتد، فقالت طائفة هو لورثته، لما روى أن على
ابن أبي طالب قال (ميراث المرتد لولده) وعن الأعمش عن الشيباني قال
أتى علي بن أبي طالب بشيخ كان نصرانيا فأسلم ثم ارتد عن الاسلام، فقال له
على لعلك إنما ارتددت لان تصيب ميراثا ثم ترجع إلى الاسلام؟ قال لا. قال
236

فلعلك خطبت امرأة فأبوا أن يزوجوكها فأردت أن تتزوجها ثم تعود إلى الاسلام
قال لا قال فارجع إلى الاسلام؟ قال لا حتى ألقى المسيح، فأمر به فضربت
عنقه، فدفع ميراثه إلى ولده، من المسلمين. وعن ابن مسعود مثله، وبهذا قال
الليث بن سعد وإسحاق بن راهويه
وقال الأوزاعي إن قتل في أرض السلام فماله لورثته من المسلمين.
وقالت طائفة إن كان له وارث على دينه فهو أحق به وإلا فماله لورثته من المسلمين
لما روى أن عمر بن عبد العزيز كتب في رجل من المسلمين أسر فتنصر، إذا علم
ذلك ترث منه امرأته وتعتد ثلاثة قروء ودفع ماله إلى ورثته من المسلمين،
لا أعلمه قال إلا أن يكون له وارث على دينه في أرض فهو أحق به. وقالت
طائفة ميراث لأهل دينه فقط، لما روى عن قتادة قال (ميراث المرتد لأهله)
وقال ابن جريج الناس فريقان، منهم من يقول ميراث المرتد للمسلمين، لأنه
ساعة يكفر يوقف فلا يقدر منه على شئ حتى ينظر أيسلم أم يكفر، منهم النخعي
والشعبي والحكم بن عتيبة، وفريق يقول لأهل دينه
وقالت طائفة إن راجع الاسلام فماله له، وإن قتل فماله لبيت مال المسلمين
لا لورثته من الكفار، قال بهذا ربيعة ومالك وابن أبي ليلى والشافعي. وقالت
طائفة إن راجع الاسلام فماله له، وان قتل فماله لورثته من الكفار، قال بهذا
أبو سليمان، وقال أبو حنيفة وأصحابه إن قتل المرتد فماله لورثته من المسلمين
وترثه زوجته كسائر ورثته، وأن فر ولحق بأرض الحرب وترك ماله عندنا فإن
القاضي يقضى بذلك ويعتق أمهات أولاده ومدبره ويقسم ماله بين ورثته من
المسلمين على كتاب الله تعالى، فإن جاء مسلما أخذ من ماله ما وجد في أيدي
ورثته ولا ضمان عليهم فيما استهلكوه، هذا فيما كان بيده قبل الردة، وأما ما
اكتسبه في حال ردته ثم قتل أو مات فهو فئ للمسلمين.
وقالت طائفة مال المرتد ساعة يرتد لجميع المسلمين قتل أو مات أو لحق
بأرض الحرب أو راجع الاسلام، كل ذلك سواء، وهو قول بعض أصحاب مالك
وقال ابن حزم لا يرث المسلم الكافر، مستندا إلى الحديث الذي رواه أسامة بن
زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم)
237

وعلى هذا فلا يرث ولد المرتد وهم مسلمون مال أبيهم المرتد لأنه كافر، أما قضاء دينه
فقالت الحنبلية في كتاب الفروع يقضى دينه وينفق على من تلزمه نفقته. وقال ابن حزم
كل وصية أوصى بها قبل ردته بما يوافق البر ودين الاسلام فكل ذلك نافذ في ماله
الذي لم يقدر عليه حتى قتل لأنه ماله وحكمه نافذ، فإذا قتل أو مات فقد وجبت
فيه وصاياه بموته قيل أن يقدر على ذلك المال. وأما إذا قدرنا عليه قبل موته
من عبد وذمي أو مال فهو للمسلمين كله لا تنفذ فيه وصية، لأنه إذا وجبت
الوصية بموته لم يكن ذلك المال له بعد، ولا تنفذ وصية أحد فيما لا يملكه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز استرقاقه لأنه لا يجوز إقراره على الكفر، فإن ارتد
وله ولد أو حمل كان محكوما بإسلامه فإذا بلغ ووصف الكفر قتل. وقال أبو العباس
فيه قول آخر انه لا يقتل، لان الشافعي رحمه الله قال ولو بلغ فقتله قاتل قبل
أن يصف الاسلام لم يجب عليه القود، والمذهب الأول لأنه محكوم بإسلامه
وإنما أسقط الشافعي رحمه الله القود بعد البلوغ للشبهة هو أنه بلغ ولم يصف
الاسلام، ولهذا لو قتل قبل البلوغ وجب القود، وإن ولد له ولد بعد الردة من
ذمية فهو كافر لأنه ولد بين كافرين، وهو يجوز استرقاقه؟ فيه قولان
(أحدهما) لا يجوز لأنه لا يسترق أبواه فلم يسترق
(والثاني) لأنه كافر ولد بين كافرين فجاز استرقاقه كولد الحربيين، فإن قلنا
لا يجوز استرقاقه استتيب بعد البلوغ فإن تاب وإلا قتل، وان قلنا يجوز استرقاقه
فوقع في الأسر فللامام أن يمن عليه، وله أن يفادى به، وله أن يسترقه كولد
الحربيين، غير أنه إذا استرقه لم يجز إقراره على الكفر، لأنه دخل في الكفر
بعد نزول القرآن.
(فصل) وإن ارتدت طائفة وامتنعت بمنعة وجب على الامام قتالها، لان
أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل المرتدة، ويتبع في الحرب مدبرهم ويذفف على
جريحهم، لأنه إذا وجب ذلك في قتال أهل الحرب فلان يجب ذلك في قتال
238

المرتدة وكفرهم أغلظ أولى، وان أخذ منهم أسير استتيب فإن تاب وإلا قتل
لأنه لا يجوز إقراره على الكفر
(فصل) ومن أتلف منهم نفسا أو مالا على مسلم، فإن كان ذلك في غير
القتال وجب عليه ضمانه، لأنه التزم ذلك بالاقرار بالاسلام فلم يسقط عنه
بالجحود كما لا يسقط عنه ما التزمه بالاقرار عند الحاكم بالجحود، فان أتلف ذلك
في حال القتال ففيه طريقان
(أحدهما) وهو قول الشيخ أبى حامد الأسفرايني وغيره من البغداديين أنه
على قولين كما قلنا في أهل البغي
(والثاني) وهو قول القاضي أبى حامد المروروذي وغيره من البصريين أنه
يجب عليه الضمان قولا واحدا لأنه لا ينفذ قضاء قاضيهم لكان حكمهم في الضمان
حكم قاطع الطريق، والأول هو الصحيح أنه على قولين أصحهما أنه لا يجب الضمان
لما روى طارق بن شهاب قال جاء وقد بزاخة وغطفان إلى أبى بكر يسألونه الصلح
فقال تدون قتلانا وقتلاكم في النار، فقال عمر إن قتلانا قتلوا على أمر الله ليس
لهم ديات، فتفرق الناس على قول عمر رضي الله عنه
(الشرح) أثر طارق بن شهاب سبق الكلام عليه
(ذفف) قال في القاموس ذف على الجريح ذفا وذفافا ككتاب وذففا محركة
أجهز والاسم الذفاف كسحاب، قال في مادة جهاز وجهز على الجريح كمنع،
وأجهز أثبت قتله وأسرعه وتمم عليه، وموت مجهز وجهيز سريع. اه‍
نقل الحافظ بن حجر في تلخيص الحبير أن حديث (أم محمد بن الحنفية كانت
مرتدة فاسترقها على واستولدها) الواقدي في كتاب الردة من حديث خالد بن
الوليد أنه قسم سهم بنى حنيفة خمسة أجزاء وقسم على الناس أربعة وعزل الخمس
حتى قدم به على أبى بكر.
ثم ذكر من عدة طرق أن الحنفية كانت من ذلك السبي، ثم قال الحافظ
قلت وروينا في جزء ابن لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الحنفية في بيت
فاطمة فأخر عليا أنها ستصير له وأنه لود له منها ولد اسمه محمد، وقد ثبت فيه
239

في صحيح البخاري في باب أهل الدار من كتاب الجهاد أن النبي صلى الله عليه وسلم
سئل عن أولاد المشركين هل يقتلون مع آبائهم؟ فقال هم منهم
وقال الحافظ في الفتح: ليس المراد إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل
المراد إذا لم يكن الوصول إلى الآباء إلا بوطئ الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم
بهم جاز قتلهم. وقد ذهب مالك والأوزاعي إلى أنه لا يجوز قتل النساء
والصبيان بحال، حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان لم يجز رميهم ولا
تحريقهم. وذهب الكوفيون والشافعيون أنه إذا قاتلت المرأة جاز قتلها، ويؤيد
ذلك ما أخرجه أبو داود والنسائي وابن حبان من حديث رباح بن الربيع التميمي
قال (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فرأى الناس مجتمعين فرأى
امرأة مقتولة فقال ما كانت هذه لتقاتل) فان مفهومه أنها لو قاتلت لقتلت
وأما مقاتلة أهل الردة فقد ثبت بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (أمرت
أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإذا قالوها عصموا
دماءهم، أموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله) رواه الجماعة، ولاجماع الصحابة
على غزو المرتدين في عهد الخليفة الأول
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وللسحر حقيقة وله تأثير في إيلام الجسم وإتلافه، وقال أبو جعفر
الاستراباذي من أصحابنا لا حقيقة له ولا تأثير له، والمذهب الأول لقوله تعالى
(وكمن شر النفاثات في العقد) والنفاثات السواحر، ولو لم يكن للسحر حقيقة
لما أمر بالاستعاذة من شره
وروت عائشة رضي الله عنها قالت سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
أنه ليخيل إليه أنه قد فعل الشئ وما فعله، ويحرم فعله لما روى ابن عباس رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس منا من سحر أو سحر له، وليس
منا من تكهن أو تكهن له، وليس منا من تطير أو تطير له) ويحرم تعلمه لقوله
تعالى (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) فذمهم على تعليمه،
ولان تعلمه يدعو إلى فعله، وفعله محرم فحرم ما يدعو إليه
240

فإن علم أو نعلم واعتقد تحريمه لم يكفر، لأنه إذا لم يكفر يتعلم الكفر فلان
لا يكفر بتعلم السحر أولى، وإن اعتقد إباحته مع العلم بتحريمه فقد كفر، لأنه
كذب الله تعالى في خبره ويقتل كما يقتل المرتد
(الشرح) لقوله تعالى (ومن شر النفاثات في العقد.. الخ)
روى النسائي عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن
الناس لم يتعوذوا بمثل هذين) قل أعوذ برب الفلق و (قل أعوذ برب الناس)
وطريق أخرى عنه قال: كنت أمشى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
يا عقبة قل. قلت ما ذا أقول، فسكت عنى ثم قال قل. قلت ماذا أقول يا رسول الله
قال (قل أعوذ برب الفلق) فقرأتها حتى أتيت على آخرها، ثم قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك (ما سأل سائل بمثلها ولا استعاذ مستعيذ بمثلها)
ومن طريق ثالث عن أبي عبد الله بن عابس الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال له (يا ابن عابس ألا أدلك أو ألا أخبرك بأفضل ما يتعوذ به
المتعوذون) قال بلى يا رسول الله قال (قل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب
الناس هاتان السورتان)
ومن طريق رابع عن عبد الله الأسلمي هو ابن أنيس أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وضع يده على صدره ثم قال قل، فلم أدر ما أقول،
ثم قال لي (قل) قلت (هو الله أحد) ثم قال لي قل قلت (أعوذ برب الفلق من
شر ما خلق) حتى فرغت منها، ثم قال لي قل قلت (أعوذ برب الناس) حتى
فرغت منها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (هكذا فتعوذوا، وما تعوذ
المتعوذون بمثلهن قط)
وقال الامام مالك عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوذتين وينفث فيهما، فلما اشتد
وجعه كنت أقرأ عليه بالمعوذات وأمسح بيده عليه رجاء بركتها) ورواه البخاري
عن عبد الله بن يوسف ومسلم عن يحيى بن يحيى وأبو داود عن القعنبي والنسائي
عن قتيبة وابن ماجة من حديث معن وبشر بن عمر ثمانيتهم عن مالك به
241

حديث عائشة رواه البخاري في كتاب الطب لفظ (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
سحر حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن. قال سفيان وهذا أشد ما يكون
من السحر إذا كان كذا، فقال يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه
أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي، فقال الذي عند رأسي
للآخر ما بال الرجل، قال مطبوب، قال ومن طبه؟ قال لبيد بن أعصم رجل
من بنى زريق حليف اليهود كان منافقا، قال وفيم؟ قال في مشط ومشاطه، قال وأبن
قال في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان) قالت فأتى البئر حتى
استخرجه فقال (هذه بئر التي أريتها، وكأن ماءها نقاعة الحناء وكأن نخلها
رؤوس الشياطين، قال فاستخرج فقلت أفلا نشرت؟ فقال (أما الله فقد شفاني
وأكره أن أثير على أحد من الناس شرا.
وفى رواية قالت: حتى كان بخيل إليه أنه فعل الشئ ولم يفعله وعنده فأمر
بالبئر فدفنت.
وروى مسلم وأحمد عنها قالت لبث النبي صلى الله عليه وسلم ستة أشهر
يرى أنه يأتي ولا يأتي فأتاه ملكان. وذكر تمام الحديث. وقال ابن جرير ان
جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اشتكيت يا محمد؟ فقال نعم، فقال
باسم الله أرقيك من كل داء يؤذيك، ومن شر كل حامد وعين والله يشفيك.
وقال المفسر الثعلبي، قال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما كان غلام من اليهود
يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس
النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من أسنان مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها،
وكان الذي تولى ذلك رجل منهم يقال له ابن أعصم ثم دسها في بئر لبنى زريق
يقال له ذروان فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتثر شعر رأسه ولبث ستة أشهر يرى
أنه يأتي النساء ولا يأتيهن وجعل يذوب ولا يدرى ما عراه، فبينما هو نائم إذا
أتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه، فقال الذي عند
رجليه للذي عند رأسه ما بال الرجل؟ قال طب، قال وما طب؟ قال سحر،
قال ومن سحره؟ قال لبيد بن الأعصم اليهودي، قال وبم طبه؟ قال بمشط
ومشاطة، قال وأين هو؟ قال في جف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان
242

والجف قشر الطلع والراعوفة حجر في أسفل البئر ناتئ يقوم عليه الماتح، فانتبه
رسول الله صلى الله عليه وسلم مذعورا وقال يا عائشة أما شعرت أن الله أخبرني
بدائي. ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا والزبير وعمار بن ياسر
فنزحوا ماء البئر كأنه نقاعة الحناء، ثم رفعوا الصخرة وأخرجوا الجف فإذا فيه
مشاطة رأسه وأسنان من مشطه، وإذا فيه وتر معقود فيه إثنا عشر عقدة مغروزة
بالإبر، فأنزل الله تعالى السورتين، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة ووجد
رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حين انحلت العقدة الأخيرة، فقام كأنما نشط من عقال
وجعل جبريل عليه السلام يقول باسم الله أرقيك من كل شئ يؤذيك من حاسد
وعين الله يشفيك، فقالوا يا رسول الله أفلا نأخذ الخبيث نقتله؟ فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم أما أنا فقد شفاني الله وأكره أن يثير على الناس شرا. قال
ابن كثير هكذا أورده بلا إسناد وفيه غرابة وفى بعضه نكارة شديدة ولبعضه
شواهد (قلت) وأكتفي بهذا القدر من أحاديث سحر الرسول صلى الله عليه وسلم
(تنبيه) قال الشهاب نقل في التأويلات عن أبي بكر الأصم أنه قال: إن
حديث سحره صلى الله عليه وسلم المروى هنا متروك لما يلزمه من صدق قول
الكفرة أنه مسحور، وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم الله فيه، ونقل
الرازي عن القاضي أنه قال: هذه الرواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها،
والله تعالى يقول (والله يعصمك من الناس) المائدة الآية 67 وقال (ولا يفلح
الساحر حيث أتى) طه آية 69، ولان تجويزه يفضى إلى القدح في النبوة ولأنه
لو صح ذلك لكان من الواجب أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين،
ولقدروا على تحصيل الملك العظيم لأنفسهم، وكل ذلك باطل، ولكان الكفار
يعيرونه بأنه مسحور، فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك
الدعوى ولحصل فيه عليه السلام ذلك العيب، ومعلوم أن ذلك غير جائز. اه‍
ويقول القاسمي في محاسن التأويل: ولا غرابة في أن لا يقبل هذا الخبر لما برهن
عليه، وإن كان مخرجا في الصحاح، وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالما من
النقد سندا أو معنى كما يعرفه الراسخون، على أن المناقشة في خبر الآحاد معروفة
من عبد الصحابة.
243

وقال الغزالي في المستصفى: ما من أحد من الصحابة إلا وقد رد خبر الآحاد
كرد علي رضي الله عنه خبر أبي سنان الأشجعي في قصة (بروع بنت واشق)
وأورد أمثلة.
وقال الإمام ابن تيمية في المسودة: الصواب أن من رد الخبر الصحيح كما
كانت الصحابة ترده لاعتقاد غلط الناقل أو كذبه لاعتقاد الراد أن الدليل قد دل
على أن الرسول لا يقول هذا، فإن هذا لا يكفر ولا يفسق، وإن لم يكن اعتقاده
مطابقا فقد رد غير واحد من الصحابة غير واحد من الاخبار التي هي صحيحة عند
أهل الحديث. اه‍
وقال العلامة الفناري في فصول البدائع: ولا يضلل جاحد الآحاد (قلت)
والبحث في هذا الحديث شهير قديما وحديثا وقد أوسع المقال فيه شراح (الصحيح)
وابن قتيبة في شرح (تأويل مختلف الحديث) والرازي، والحق لا يخفى على
طالبه. والله أعلم (1).
حديث ابن عباس أخرجه الطبراني في الأوسط وفيه زمعة بن صالح عن سلمة
ابن وهرام وهما ضعيفان، وأخرجه الطبراني من طريق آخر عن عمران بن
حصين وفيه إسحاق بن الربيع ضعفه الفلاس والراوي عنه أيضا لين، وأخرجه
أبو نعيم عن علي بن أبي طالب وفيه مختار بن غسان مجهول
الآية (ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر) البقرة الآية 102

(1) هذا ما كتبه الاسناد السارح، ولكن الناشر يرى أن كل ما ورد في
الصحيحين صحيح، وأن ما أصاب الرسول صلى الله عليه وسلم من السحر إنما هو
نوع من المرض، وقد أصيب صلى الله عليه وسلم بالحمى وغيرها، والمسألة
خلافية، وقد رأيت بعض الأحاديث في مسلم كانت في نظري تتعارض مع
بعض الآيات، ولكن مع مرور الأيام وسعة الاطلاع والبحث، وقفت على
شروح للأحاديث توفق بينها وبين الآيات مما زادني ثباتا على رأيي أن كل ما في
الصحيحين صحيح.
244

معنى السحر في اللغة: وهو مشتق من سحرت الصبي إذا خدعته، وقيل أصله
الخفا، فإن الساحر يفعله خفية، وقيل أصله الصرف لان السحر مصروف عن
جهته، وقيل أصله الاستمالة، لان من سحرك استمالك، وقال الجوهري السحر
الآخذة وكل ما لطف ودق فهو سحر والساحر العالم
وقد وافق أبو جعفر الاستراباذي المعتزلة والحنفية فقالوا إنه خداع لا أصل
له ولا حقيقة، وإذا أردت الاستزادة فارجع إلى كتاب أحكام القرآن للجصاص
وكتب المعتزلة ترى فصلا ضافيا عن هذا الموضوع، وذهب من عداهم أن له
حقيقة مؤثرة.
(قلت) كنت أود أن أطيل في هذا الموضوع شرحا وتنقيبا مع تصحيح
وتضعيف وتقوية للآراء الصحيحة، إلا أن الكتاب كتاب فقه لا يحتمل
أكثر من هذا.
وقال تقى الدين السبكي في فتاويه ((أما مذهب الشافعي فحاصله أن الساحر له
ثلاثة أحوال، حال يقتل كافرا، وحال يقتل قصاصا، وحال لا يقتل أصلا بل
يعزر. أما الحالة التي يقتل فيها كفرا فقال الشافعي رحمه الله أن يعمل بسحره
ما يبلغ الكفر، وشرح أصحابه ذلك بثلاثة أمثلة
(أحدها) أن يتكلم بكلام وهو كفر ولا شك في أن ذلك موجب القتل،
ومتى تاب منه قبلت توبته وسقط عنه القتل، وهو يثبت بالاقرار والبينة
(المثال الثاني) أن يعتقد ما اعتقده من التقريب إلى الكواكب السبعة وأنها
تفعل بأنفسها فيجب عليه أيضا القتل، كما حكاه ابن الصباغ وتقبل توبته، ولا
يثبت هذا القسم إلا بالاقرار.
(المثال الثالث) أن يعتقد أنه حق يقدر به على قلب الأعيان فيجب عليه
القتل، كما قاله القاضي حسين والماوردي، ولا يثبت ذلك أيضا الا بالاقرار،
وإذا تاب قبلت توبته وسقط عنه القتل.
وأما الحالة التي يقتل فيها قصاصا، فإذا اعترف أنه قتل بسحره إنسانا فكما
قاله انه مات به وان سحره يقتل غالبا فها هنا يقتل قصاصا ولا يثبت هذه الحالة
إلا الاقرار ولا يسقط القصاص بالتوبة.
245

وأما الحالة التي لا يقتل فيها أصلا ولكن يعزر فهي ما عدا ذلك. ودليل
الشافعي قوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى
ثلاث.. إلخ) قلت القتل في الحالة الأولى بقوله كفر بعد إيمان، وفى الحالة
الثالثة بقوله وقتل نفس بغير نفس، وامتنع في الثانية لأنها ليست بإحدى الثلاث
فلا يحل دمه فيها عملا بصدر الحديث. وأما الأحاديث فلم يصح عن النبي صلى الله
عليه وسلم فيها شئ يقتضى القتل. وورد عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال (حد
الساحر ضربه بالسيف) وضعف الترمذي إسناده وقال الصحيح أنه عن جندب
موقوف، يعنى فيكون قول صحابي. اه‍
وأقول في إسناد هذا الحديث إسماعيل بن مكي وهو ضعيف.
وقالت الحنابلة في كتاب الفروع ويكفر الساحر كاعتقاد حله، وعنه اختاره
ابن عقيل وجزم به في البصرة، وكفره أبو بكر بعمله. وقال في الترغيب وهو
أشد تحريما، وحمل ابن عقيل كلام أحمد في كفره على معتقده وإن فاعله يفسق
ويقتل حدا. وفى عيون المسائل إن الساحر يكفر، وهل تقبل توبته؟ على
روايتين. انتهى. قال في المسوى شرح الموطأ، السحر كبيرة واتفقت المالكية
على قتل الساحر، واستدل الموجبون للقتل بما في صحيح البخاري عن بجالة بن
عبدة قال كتب عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر فقتلنا ثلاث سواحر)
وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت، رواه مالك في
الموطأ، ولعفوه صلى الله عليه وسلم عمن سحروه (؟ سق تخريجه)
قال تقى الدين السبكي في فتاويه وحمل الشافعي ما روى عن عمر وحفصة
على السحر الذي فيه كفر، وما يقال عن عائشة أنها باعت جارية لها سحرتها
وجعلت ثمنها في الرقاب. على السحر الذي ليس فيه كفر توفيقا بين الآثار،
واعتمد في ذلك حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله)
ومن المعلوم أن الصحابة إذا اختلفوا وجب اتباع أشبههم قولا بالكتاب والسنة
وقد سئل الزهري شيخ مالك أعلى من سحر من أهل العهد قتل؟ قال قد بلغنا
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صنع له ذلك فلم يقتل من صنعه، وكان
من أهل الكتاب
246

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب صول الفحل
من قصده رجل في نفسه أو ماله أو أهله بغير حتى فله أن يدفعه لما روى
سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قاتل دون أهله أ ماله فقتل
فهو شهيد) وهل يجب عليه الدفع؟ ينظر فيه فإن كان في المال لم يجب لان المال
يجوز إباحته، وإن كان في أهله، وجب عليه الدفع لأنه لا يجوز إباحته، وإن كان
في النفس ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يجب عليه الدفع لقوله عز وجل (ولا تلقوا بأيديكم إلى
التهلكة) والثاني: أنه لا يجب، لان عثمان رضي الله عنه لم يدفع عن نفسه،
ولأنه ينال به الشهادة إذا قتل فجاز له ترك الدفع لذلك
(فصل) وإذا أمكنه الدفع بالصباح والاستغاثة لم يدفع باليد، وإن كان
في موضع لا يلحقه الغوث دفعه باليد فإن لم يندفع باليد دفعه بالعصا، فإن لم
يندفع بالعصا دفعه بالسلاح، فإن لم يندفع إلا بإتلاف عضو دفعه بإتلاف العضو
فإن لم يندفع إلا بالقتل دفعه بالقتل. وإن عض يده ولم يمكنه تخليصها إلا بفك
لحيبه، وإن لم يندفع إلا بأن يبعج جوفه بعج جوفه، ولا يجب عليه في شئ من
ذلك ضمان، لما روى عمران بن الحصين قال، قاتل يعلي بن أمية رجلا فعض
أحدهما يد صاحبه فانتزع يده من فيه فنزع ثنيته فاختصما إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال (يعض أحدكم أخاه كما بعض الفحل، لا دية له) ولان فعله ألجأه
إلى الاتلاف فلم يضمنه، كما لو رمى حجرا فرجع الحجر عليه فأتلفه
وإن قدر على دفعه بالعصا فقطع عضوا أو قدر على دفعه بالقطع فقتله وجب
عليه الضمان لأنه جناية بغير حق فأشبه إذا جنى عليه من غير دفع، وإن قصده
ثم انصرف عنه لم يتعرض له، وإن ضربه فعطله لم يجز أن يضربه ضربة أخرى
لان القصد كف أذاه، فإن قصد فقطع يده فولى عنه فقطع يده الأخرى وهو
مول لم يضمن الأولى لأنه قطع بحق ويضمن الثانية لأنه قطع بغير حق، وإن
247

مات منهما لم يجب عليه القصاص في النفس لأنه مات من مباح ومحظور، ولولي
المقتول الخيار بين أن يقتص من اليد الثانية وبين أن يأخذ نصف دية النصف.
(الشرح) اللغة (صال الفحل يصول) إذا وثب، والمصاولة المواثبة، وذلك
مثل أن يعدو على الناس يقتلهم، قال الشافعي رحمه الله في كتاب مختصر المزني
إذا طلب الفحل رجلا ولم يقدر على دفعه إلا بقتله فقتله لم يكن عليه غرم
وحديث سعيد بن زيد أخرجه البخاري عن ابن عمرو (من قتل دون ماله
فهو شهيد) وابن ماجة والترمذي عن عمرو بن نفيل نحوه. ومن طريق آخر
لابن ماجة عن ابن عمر (من أتى عند ماله فقوتل فقاتل فقتل فهو شهيد) وفى
إسناده يزيد بن سنان التميمي وأبو فروة الرهاوي ضعيفان. ومن طريق ثالث
لابن ماجة عن أبي هريرة (من أريد ماله ظلما فقتل فهو شهيد) وإسناده حسن.
وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن عمرو (من أريد ماله بغير حق فقاتل فقتل
فهو شهيد)
ومن طريق آخر عن سعيد بن زيد (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن
قتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد) ورواه الترمذي بتقديم في
بعض الألفاظ وتأخير فيه ولكن بنصه. ورواه النسائي عن ابن عمرو بلفظ (من قاتل
دون ماله فهو شهيد وفى رواية من قتل دون مظلمته فهو شهيد)
حديث عمران بن حصين رواه البخاري وأحمد ومسلم والحاكم بنحوه والنسائي
بلفظ (أن رجلا عض يد رجل فنزع يده من فمه فوقعت ثنيتاه، فاختصموا إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يعض أحدكم أخاه كما يعض الفحل، لا دية لك)
ومن طريق آخر البخاري عن صفوان عن أبيه قال (خرجت في غزوة فعض
رجل فانتزع ثنيته فأبطلها النبي صلى الله عليه وسلم) ولفظ مسلم (فأهدر ثنيته)
وابن ماجة والنسائي بلفظ (يعمد أحدكم إلى أخيه فيعضه كعضاض الفحل ثم يأتي
يلتمس العقل، لا عقل لها، فأبطلها رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأخرج مسلم أن رجل عض ذراع أخيه فجذبه فسقطت ثنيته فرفع إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فأبطله وقال: أردت أن تأكل لحمه) وفى رواية عن صفوان
248

ابن يعلى له أن أجيرا ليعلي بن منية عض رجل ذراعه فجذبها فسقطت ثنيته فرفع
إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال أردت أن تقضمها كما يقضم الفحل) وكذا
ابن ماجة وروى النسائي عن حصين بن أبي يعلى في الذي عض فندرت ثنيته
إن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا دية لك)
وفى رواية (كما يعض البكر فأبطلها) وفى لفظ (فأطلها) وفى رواية عن يعلى
(أنه استأجر أجيرا فعض يده فانتزعت ثنيته فخاصمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقال: أيدعها يقضمها كقضم الفحل، وفى رواية: أيدعها في فيك تقضمها كقضم
الفحل. وفى رواية: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جيش العسرة
وكان أوثق عمل لي في نفسي، وكان لي أجير فقاتل إنسانا، فعض أحدهما إصبع
صاحبه فانتزع أصبعه فأندر ثنيته فسقطت فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فأهدر ثنيته وقال أفيدع يده في فيك تقضمها.
اللغة: شهيد، أصل الشهادة الحضور، ومنه الشهادة على الخصم، وكأن
الشهداء أحضرت أنفسهم دار السلام وشاهدوا الجنة وأرواح غيرهم لا تشهدها
إلا بعد البعث.
وقيل سمى شهيدا لان الله تعالى وملائكته يشهدون له بالجنة. وقيل سموا
شهداء لأنهم يستشهدون يوم القيامة مع النبي صلى الله عليه وسلم على الأمم.
وقال الامام السيد رشيد رضا في التفسير فيه وجهان
(أحدهما) أنه من الشهادة في القتال، وهي أن يقتل المؤمن في سبيل الله،
أي مدافعا عن الحق قاصدا إعلاء كلمته
(والثاني) أنه من الشهادة على الناس (بالصياح والاستغاثة) يقال صياح
صياح بضم الصاد وكسرها، والاستغاثة دعاء الناس والاستنصار بهم (بأن
يبعج جوفه) بعج جوفه بعجا إذا شقه فهو مبعوج (الفحل) هو بالحاء، أي
الفحل من الإبل.
قوله (وهل يجب عليه الدفع) ينظر فيه.. الخ قال ابن المبارك يقاتل عن
ماله ولو درهمين.
249

قال الشوكاني: إن الأحاديث فيها دلالة على أنه تجوز مقاتلة من أراد أخذ
مال إنسان من غير فرق بين القليل والكثير إذا كان الاخذ بغير حق، وهو
مذهب الجمهور كما حكاه النووي والحافظ في الفتح
وقال بعض العلماء إن المقاتلة واجبة، وقال بعض المالكية لا تجوز إذا طلب
الشئ الخفيف، ولعل متمسك من قال بالوجوب ما في حديث أبي هريرة من
الامر بالمقاتلة والنهى عن تسليم المال إلى من رام غصبه
وأما القائل بعدم الجواز في الشئ الخفيف فعموم الأحاديث ترده ولكنه
ينبغي تقديم الأخف فالأخف، فلا يعدل المدافع إلى القتل مع إمكان الدفع
بدونه، ويدل على ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بإنشاد الله قبل المقاتلة، وكما
تدل الأحاديث على جواز المقاتلة لمن أراد أخذ المال تدل على جواز المقاتلة لمن
أراد إراقة الدم والفتنة في الدين والأهل
وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنه قال (من أريد ماله أو نفسه أو حريمه
فله المقاتلة وليس له عقل ولا دية ولا كفارة
قال ابن المنذر: والذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا
أريد ظلما بغير تفصيل، ويدل على عدم لزوم القود والدية في قتل من كان على
الصفة المذكورة ما رواه أحمد والنسائي وأبو داود والبيهقي وابن حبان من
حديث أبي هريرة (ولا قصاص ولا دية)
وفي رواية البيهقي من حديث ابن عمر (ما كان عليك في شئ) حمل
الأوزاعي هذا إذا لم يكن للناس إمام، وأما حالة الفرقة والاختلاف فليستسلم
المبغى على نفسه وماله ولا يقاتل أحدا
قال في الفتح ويرد عليه حديث أبي هريرة عند مسلم بلفظ (جاء رجل فقال
يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال فلا تعطه مالك، قال
أرأيت أن قاتلني؟ قال قاتله، قال أرأيت ان قتلني، قال فأنت شهيد، قال
أرأيت أن قتلته؟ قال هو في النار. اه‍
قال ابن مفلح في كتاب الفروع (ويلزمه الدفع عن نفسه على الأصح كحرمته
في المنصوص وعنه ولو في فتنه) اه‍
250

وقال الصنعاني في سبل السلام في حديث عبد الله بن خباب سمعت أبي يقول
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (تكون فتن فكن فيها يا عبد الله
للمقتول ولا تكن القاتل) فيه دليل على أنه لا يجب الدفاع عن النفس
(قلت) إن الدفاع عن النفس حق مقرر وضريبة لازمة على كل مسلم ضد
كل مخلوق، لأن عدم الدفاع يعرضها للهلاك والله يقول (ولا تلقوا
بأيديكم إلى التهلكة) ولان الدفاع عن النفس ليس بأقل من الدفاع عن
العرض أو المال.
روى الإمام الشافعي في مختصر المزني (رفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
جارية كانت تحتطب فأتبعها رجل فراودها عن نفسها فرمته بفهر أو صخر
فقتلته، فقال عمر هذا قتيل الله، والله لا يؤدى أبدا) ولقد قال هذا الشيخ
محمد عبد العزيز الخولي الأستاذ بدار العلوم في تعليقه على سبل السلام (أما ما
قيل بخصوص الحديث الذي اعتمد عليه الصنعاني فقد روى من طرق كثيرة
وفيها كلها راو لم يسم) وأخرجه أحمد والطبراني، وفيه علي بن زيد بن
جدعان وفيه مقال.
ولما رواه أبو بكر بن أبي شيبة عن جحير بن الربيع قال، قلت لعمران بن
حصين أرأيت إن دخل على داخل يريد نفسي ومالي؟ قال عمران لو دخل على
داخل يريد نفسي ومالي لرأيت أن قد حل لي قتله.
وعن محمد بن سيرين أنه قال ما علمت أن أحدا من المسلمين تركه، فقال رجل
يقطع عليه الطريق أو يطرقه في بيته قائما من ذلك. وعن إبراهيم النخعي إذا
دخل اللص دار رجل فقتله فلا ضرار عليه
قوله (وإذا أمكنه الدفع بالصياح.. الخ) فقد اتفقت الفقهاء جميعا على
ذلك، وفي النص الذي أورده المهذب دليل على المهذب الشافعي
وقالت الحنابلة، قال أحمد (لا تريد قتله وضربه ولكن ادفعه) وقال ابن
حزم (فمن أراد أخذ مال إنسان ظلما من نص أو غيره، فإن تيسر له طرده منه
251

ومنعه فلا يحل له قتله، فإن قتله حينئذ فعليه القود، وإن توقع أقل توقع أن
يعاجله اللص فليقتله ولا شئ عليه لأنه مدافع عن نفسه، فإن قيل اللص
محارب فعليه ما على المحارب، قلنا فإن كابر وغلب فهو محارب، واختيار القتل
في المحارب إلى الامام لا إلى غيره أو إلى من قام بالحق إن لم يكن هنالك إمام،
وإن لم يكابر ولا غلب ولكن تلصص فليس محاربا ولا يحل قتله أصلا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وجد رجلا يزني بامرأته ولم يمكنه المنع إلا بالقتل فقتله لم
يجب عليه شئ فيما بينه وبين الله عز وجل، لأنه قتله بحق، فإن ادعى أنه قتله
لذلك، وأنكر الولي ولم يكن بينة لم يقبل قوله، فإذا حلف الولي حكم عليه بالقود
لما روى أبو هريرة أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله أرأيت لو وجدت مع
امرأتي رجلا أأمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال نعم، فدل على أنه لا يقبل
قوله من غير بينة.
وروى سعيد بن المسيب قال (أرسل معاوية أبا موسى إلى علي كرم الله
وجهه يسأله عن رجل وجد على امرأته رجلا فقتله، فقال علي كرم الله وجهه
لتخبرني لم تسأل عن هذا؟ فقال إن معاوية كتب إلى، فقال على أنا أبو الحسن.
إن جاء بأربعة شهداء يشهدون على الزنا وإلا أعطى برمته، يقول يقتل
(الشرح) حديث أبي هريرة أحرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة بلفظ أن
سعد بن عبادة الأنصاري قال يا رسول الله أرأيت الرجل يجد مع امرأته رجلا
أيقتله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا، قال سعد: بلى والذي أكرمك
بالحق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اسمعوا إلى ما يقول سيدكم) ومن
طريق آخر ومالك في الموطأ (إن وجدت مع امرأتي رجلا أأمهله حتى آتي
أربعة شهداء، قال: نعم) ومن طريق ثالث (لو وجدت مع أهلي رجلا لم أمسه
حتى آتي بأربعة شهداء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم، قال: كلا والذي
بعثك بالحق ان كنت لا عاجله بالسيف قبل ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه
252

وسلم (اسمعوا إلى ما يقول سيدكم إنه لغيور وأنا أغير منه والله أغير منى) ومن
طريق رابع (لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح عنه فبلغ
ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أتعجبون من غيرة سعد فوالله
لأنا أغير منه والله أغير منى من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها
وما بطن.. الخ
وروى ابن ماجة حين نزلت آية الحدود وكان رجلا غيورا أرأيت لو أنك
وجدت مع امرأتك رجلا أي شئ كنت تصنع، قال كنت ضاربها بالسيف. انتظر
حتى أجئ بأربعة إلى ما ذاك قد قضى حاجته وذهب أو أقول رأيت كذا وكذا
فتضربوني الحد ولا تقبلوا لي شهادة أبدا قال فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم
فقال. كفى بالسيف شاهدا، ثم قال إني أخاف أن يتتابع في ذلك السكران
والغيران) قال أبو عبد الله. يعنى ابن ماجة سمعت أبا زرعة يقول هذا حديث
علي بن محمد الطنافسي وفاتني منه (قلت) وفى إسناده قبيصة بن حريث، قال
البخاري في حديثه نظر، وذكره ابن حبان في الثقات.
أثر سعيد بن المسيب رواه مالك في الموطأ بلفظ (أن رجلا من أهل الشام
يقال له ابن خيبري وجد مع امرأته رجلا فقتله أو قتلهما معا فأشكل على معاوية
ابن أبي سفيان القضاء فيه، فكتب إلى أبى موسى الأشعري يسأل له علي بن أبي
طالب عن ذلك، فقال أبو موسى عن ذلك علي بن أبي طالب فقال له على أن
هذا الشئ ما هو بأرضي عزمت عليك لتخبرني فقال له أبو موسى كتب إلى معاوية
ابن أبي سفيان أن أسألك عن ذلك، فقال على أنا أبو حسن إن لم يأت بأربعة
شهداء فليعط برمته) وبمقارنة هذا النص بما ورد في المهذب نجد اختلافا ظاهرا
لعله خطأ في الطباعة.
اللغة: (ان لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته) أي يسلم إلى أولياء المقتول
يقتلونه قصاصا (والرمة) قطعة من حبل لأنهم كانوا يقودون القاتل إلى ولى
المقتول بحبل ولذا قيل القود.
253

مصفح: هو بكسر الفاء أي غير ضارب بصفح السيف وهو جانبه بل
أضربه بحده.
قال الامام المطلبي في مختصر المزني: ولو قتل رجل رجلا فقال: وجدته
على امرأتي فقد أقر بالقود وادعى، فإن لم يقم البينة قتل، واستشهد بما رواه
مسلم ومالك.
قال النووي في شرح مسلم، قال الماوردي وغيره ليس قوله هو ردا لقول
النبي صلى الله عليه وسلم ولا مخالفة سعد بن عبادة لامره صلى الله عليه وسلم،
وإنما معناه الاخبار عن حالة الانسان عند رؤيته الرجل عند امرأته واستيلاء
الغضب عليه فإنه حينئذ يعاجله بالسيف إن كان عاصيا.
واختلف العلماء من السلف في من وجد مع امرأته رجلا فقتله هل يقتل به
أم لا، فقال بعضهم يقتل به لأنه ليس له أن يقيم الحد بغير إذن الحاكم،
وقال بعضهم لا يقتل ويعذر في ما فعله إذا ظهرت أمارات صدقه، وشرط أحمد
وإسحاق رحمهما الله أن يأتي بشاهدين على أنه قتله بسبب ذلك، وقد وافقهما
على هذا الشرط ابن القاسم وابن حبيب من المالكيين ولكن زادا عليه أن يكون
المقتول محصنا والا فان القاتل عليه القصاص إن كان بكرا، أما الجمهور فذهبوا
إلى أنه لا يعفى من القصاص إلا أن يأتي بأربعة يشهدون على الزنا أو يعترف به
المفتول قبل موته بشرط أن يكون محصنا، وروى عن عمر أنه أهدر دمه ولم ير
فيه قصاصا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن صالت عليه بهيمة فلم تندفع إلا بالقتل فقتلها لم يضمن لأنه
إتلاف بدفع جائز فلم يضمن كما لو قصده آدمي فقتله للدفع.
(الشرح) إذا كان الاسلام قد فرض على المسلم أن يدافع عن نفسه حتى
يصل بالدفاع إلى أن يقتل فيكون شهيدا أو يقتل فلا دية عليه فأولى أن يدفع
254

عن نفسه البهيمة حتى إن أدى الامر إلى قتلها، وارجع إلى ما سبق شرحه
في نفس الباب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فإن اطلع رجل أجنبي في بيته على أهله فله أن يفقأ عينه لما روى
سهل بن سعد قال أطلع رجل من حجر في حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرا يحك به رأسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
لو علمت أنك تنظر لطعنت به عينك إنما جعل الاستئذان من أجل البصر وهل
له أن يصيبه قبل أن ينهاه بالكلام فيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول القاضي أبى حامد المروروذي والشيخ أبى حامد
الأسفرايني أنه يجوز للخبر.
(والثاني) أنه لا يجوز كما لا تجوز إصابة من يقصد نفسه بالقتل إذا اندفع
بالقول، ولا يجوز أن يصيبه إلا بشئ خفيف، لان المستحق بهذه الجناية فق ء
العين وذلك يحصل بسبب خفيف فلم تجز الزيادة عليه وان فقأ عينه فمات منه
لم يضمن، لأنه سراية من مباح فلم يضمن كسراية القصاص، فان رماه بشئ
يقتل فمات منه ضمنه، لأنه قتله بغير حق، وان رماه فلم يرجع استغاث عليه،
فإن لم يكن من يغيثه فالمستحب أن يخوفه بالله تعالى، فإن لم يقبل فله أن يصيبه
بما يدفعه فإن أتى على نفسه لم يضمن، لأنه تلف بدفع جائز، فإن أطلع أعمى
لم يجز له رميه، لأنه لا ينظر إلى محرم، وان أطلع ذو رحم محرم لأهله لم يجز
رميه، لأنه غير ممنوع من النظر، وإن كانت زوجته متجردة فقصد النظر إليها
جاز له رميه لأنه محرم عليه النظر إلى ما دون السرة وفوق الركبة منها كما يحرم
على الأجنبي، وإن اطلع عليه من باب مفتوح أو كوة واسعة، فإن نظر وهو
على اجتيازه لم يجز رميه لان المفرط صاحب الدار بفتح الباب وتوسعة الكوة،
وإن وقف وأطال النظر ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يجوز له رميه لأنه مفرط في الاطلاع فأشبه إذا اطلع من
255

ثقب (والثاني) أنه لا يجوز له رميه، وهو قول القاضي أبى القاسم العمرى،
لان صاحب الدار مفرط في فتح الباب وتوسعة الكوة.
(فصل) وإذا دخل رجل داره بغير إذنه أمره بالخروج، فإن لم يقبل فله
أن يدفعه بما يدفع به من قصد ماله أو نفسه، فإن قتله فادعى أنه قتله للدفع عن
داره وأنكر الولي لم يقبل قول القاتل من غير بينة، لان القتل متحقق وما يدعيه
خلاف الظاهر، فإن أقام بينة أنه دخل داره مقبلا عليه بسلاح شاهر لم يضمن
لأن الظاهر أنه قصد قتله، وإن أقام الولي بينة أنه دخل داره بسلاح غير شاهر
ضمنه بالقود أو بالدية لان القتل متحقق وليس ههنا ما يدفعه
(الشرح) حديث سهل بن سعد رواه البخاري ومسلم في الاستئذان (أن
رجلا اطلع في حجرة باب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم
مدرى يحك به رأسه، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لو أعلم أنك
تنظر لطعنت به في عينك، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الاذن من أجل
البصر) وفى رواية البخاري في الديات (عن حميد أن رجلا اطلع في بيت النبي
فسدد إليه مشقصا) فقلت من حدثك بهذا قال أنس بن مالك
وفى رواية لمسلم عن أنس أن رجلا اطلع من بعض حجر النبي صلى الله عليه
وسلم فقام إليه بمشقص فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله فيطعنه وفى
رواية له عن أبي هريرة (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقئوا
عينه) وفى أخرى له (لو أن رجلا اطلع عليك بغير إذن فخذفته بحصاة ففقأت
عينه ما كان عليك من جناح)
وللترمذي في الاستئذان عن سهل أن رجلا اطلع من حجر في حجرة النبي
صلى الله عليه وسلم ومع النبي صلى الله عليه وسلم مداراة يحك بها رأسه، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: لو علمت أنك تنظر لطعنتك بها في عينك، إما جعل
الاستئذان من أجل البصر. وفى رواية له عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان في بيته فاطلع عليه رجل فأهوى إليه بمشقص فتأخر الرجل، وروى النسائي
في القود بنحو ما ذكر.
256

اللغة (مدرى) فبكسر الميم وإسكان الدال المهملة وبالقصر وهي حديدة
يسوى بها شعر الرأس، وقيل هو شبه المشط، وقيل هو أعواد تحدد تجعل شبه
المشط، وقيل هي عود تسوى به المرأة شعرها وجمعه مدارى، ويقال في الواحد
مدراة أيضا ومدراية.
(مشقص) هو نصل عريض للسهم (يختله) فبفتح أوله وكسر التاء، أي
يراوغه ويستغفله (حذفته) بالخاء المعجمة أي رميته بها من بين إصبعيك
(يختل) بفتح الياء التحتية وسكون الخاء المعجمة بعدها مثناة مكسورة،
وهو الخدع والاختفاء على ما في القاموس
قال الامام المطلبي في مختصر المزني: ولو تطلع إليه رجل من ثقب فطعنه
بعود أو رماه بحصاة أو ما أشبهها فذهبت عينه فهي هدر. واحتج بما روى.
وقال النووي في شرحه لصحيح مسلم قال العلماء محمول على ما إذا نظر في بيت
الرجل فرماه بحصاة ففقأ عينه، وهل يجوز رميه قبل إنذاره فيه وجهان لأصحابنا
أصحهما جوازه لظاهر الأحاديث والله أعلم
وقد استدل بالأحاديث من قال إن قصد النظر إلى مكان لا يجوز له الدخول
إليه بغير إذن جاز للمنظور إلى مكانه أن يفقأ عينه ولا قصاص عليه ولادية
للتصريح بذلك في الأحاديث لقوله (فقد حل لهم أن يفقئوا عينه) ومقتضى الحل
أنه لا يضمن ولا يقتص منه، ولقوله (ما كان عليك من جناح) وايجاب
القصاص أو الدية جناح، ولان قوله صلى الله عليه وسلم المذكور لو أعلم انك
تنظر طعنت به في عينك يدل على الجواز، وقد ذهب إلى مقتضى هذه الأحاديث
جماعة من العلماء منهم الشافعي، وخالفت المالكية هذه الأحاديث فقالت إذا فعل
صاحب المكان بمن اطلع عليه ما أذن به النبي صلى الله عليه وسلم وجب عليه
القصاص أو الدية، وساعدهم على ذلك جماعة من العلماء، وغاية ما عولوا عليه
قولهم إن المعاصي لا تدفع بمثلها. وهذا من الغرائب التي يتعجب المنصف من الاقدام
على التمسك بمثلها في مقابلة تلك الأحاديث الصحيحة، فإن كل عالم يعلم أن ما أذن
فيه الشارع ليس بمعصية، فكيف يجعل فق ء عين المطلع من باب مقابلة المعاصي
بمثلها. ومن جملة ما عولوا عليه قولهم إن الحديث وارد على سبيل التغليظ
257

والارهاب، ويجاب عنه بالمنع وللسند وأن ظاهر ما بلغنا عنه صلى الله عليه وسلم
محمول على التشريع إلا لقرينة تدل على إرادة المبالغة، وقد تخلص بعضهم من
الحديث بأنه مؤول بالاجماع، على أن من قصد النظر إلى عورة غيره لم يكن ذلك
مبيحا لفق ء عينه ولا سقوط ضمانها، ويجاب أولا بمنع الاجماع، وقد نازع
القرطبي في ثبوته وقال إن الحديث يتناول كل مطلع، قال لان الحديث المذكور
إنما هو لمظنة الاطلاع على العورة فبالأولى نظرها المحقق. ولو سلم الاجماع
المذكور لم يكن معارضا لما ورد به الدليل لأنه في أمر آخر، فإن النظر إلى البيت
ربما كان مفضيا إلى النظر إلى الحرم وسائر ما يقصد صاحب البيت ستره عن
أعين الناس.
وفرق بعض الفقهاء بين من كان من الناظرين في الشارع وفى خالص ملك
المنظور إليه، وبعضهم فرق بين من رمى الناظر قبل الانذار وبعده، وظاهر
الأحاديث عدم الفرق.
ثم قال الشوكاني: والحاصل أن لأهل العلم في هذه الأحاديث تفاصيل
وشروطا واعتبارات يطول استيفاؤها، وغالبها مخالف لظاهر الحديث وعاطل
عن دليل خارج عنه، وما كان هذا سبيله فليس في الاشتغال ببسطه ورده
كثير فائدة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا أفسدت ماشيته زرعا لغيره ولم يكن معها فإن كان ذلك بالنهار
لم يضمن وإن كان بالليل ضمن، لما روى حزام بن سعد بن محيصة أن ناقة للبراء
ابن عازب دخلت حائط قوم فأفسدت زرعا، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم أن
على أهل الأموال حفظ أموالهم بالنهار، وعلى أهل المواشي ما أصابت مواشيهم
بالليل، وإن كان له هرة تأكل الطيور فأكلت طيرا لغيره، أو له كلب عقور
فأتلف إنسانا وجب عليه الضمان لأنه مفرط فيترك حفظه
(فصل) وإن مرت بهيمة له بجوهرة لآخر فابتلعتها نظرت فإن كان معها
ضمن الجوهرة لان فعلها منسوب إليه
258

وقال أبو علي بن أبي هريرة: إن كانت شاة لم يضمن وإن كان بعيرا ضمن
لان العادة في البعير أنه يضبط وفى الشاة أن ترسل، وهذا فاسد لأنه يبطل بإفساد
الزرع، لأنه لا فرق فيه بين الجميع، فإن لم يكن معها ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة إنه إن كان ذلك نهارا لم يضمن
وإن كان ليلا ضمن كالزرع.
(والثاني) وهو قول القاضي أبى الحسن الماوردي البصري أنه يضمنها ليلا
ونهارا، والفرق بينه وبين الزرع أن رعى الزرع مألوف صاحبه فلزم صاحبه
حفظه منها، وابتلاع الجوهرة غير مألوف فلم يلزم صاحبها حفظها منها، فعلى
هذا إن طلب صاحب الجوهرة ذبح البهيمة لأجل الجوهرة لم تذبح ويغرم قيمة
الجوهرة، فإن دفع القيمة ثم ماتت البهيمة ثم أخرجت الجوهرة من جوفها وجب
ردها إلى صاحبها لأنها عين ماله واسترجعت القيمة، فإن نقصت قيمة الجوهرة
بالابتلاع ضمن صاحب البهيمة ما نقص، وإن كانت البهيمة مأكولة ففي ذبحها
وجهان بناء على القولين فيمن غصب خيطا وخاط به جرح حيوان مأكول.
(الشرح) حديث حزام بن سعد بن محيصة (صحة الاسم) حرام، ولعله
خطأ مطبعي في الأصل، أخرجه أبو داود في البيوع عن حرام بن محيصة
الأنصاري عن البراء بن عازب قال: كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا فأفسدت
فيه فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها
وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت
ماشيتهم بالليل)
ومن طريق آخر عن حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة البراء بن عازب دخلت
حائط رجل فأفسدته، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الأموال
حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها بالليل)
وأخرج ابن ماجة في كتاب الأحكام عن ابن شهاب أن ابن محيصة الأنصاري
أخبره أن ناقة البراء بن عازب كانت ضارية دخلت في حائط قوم فأفسدت فيه
فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقضى أن حفظ الأموال على أهلها بالنهار
وعلى أهل الماشية ما أصابت مواشيهم بالليل)
259

وفى رواية أخرى (أن ناقة لآل البراء أفسدت شيئا فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بمثله) وروى مالك في الموطأ في كتاب الأقضية عن ابن شهاب عن حرام بن
سعد بن محيصة أن ناقة البراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدت فيه فقضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل الحوائط حفظها بالنهار وأن ما أفسدت
المواشي بالليل ضامن على أهلها. قال ابن عبد البر: هكذا رواه مالك وأصحاب
ابن شهاب عنه مرسلا، والحديث من مراسيل الثقات وتلقاه أهل الحجاز
وطائفة من العراق بالقبول وجرى عمل أهل المدينة عليه، ورواه الشافعي وأحمد
وأبو داود والنسائي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي
وقال الشافعي أخذنا به لثبوته ومعرفة رجاله، وقال الحافظ ابن حجر مداره
على الزهري واختلف عليه فقيل هكذا. وهذه رواية الموطأ وكذلك رواية الليث
عن الزهري عن ابن محيصة لم يسمه (أن ناقة) ورواه معن بن عيسى عن مالك
فزاد فيه عن جسده محيصة، ورواه معمر عن الزهري عن حرام عن أبيه ولم
يتابع عليه، أخرجه أبو داود وابن حبان ورواه الأوزاعي وإسماعيل بن أمية
وعبد الله بن عيسى كلهم عن الزهري عن حرام عن البراء، وحرام لم يسمع من
البراء، قاله عبد الحق تبعا لابن حزم، ورواه النسائي من طريق محمد بن أبي حفصة
عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن البراء، ورواه ابن جريج عن الزهري
أخبرني أبو أمامة بن سهل أن ناقة البراء، ورواه ابن أبي ذئب عن الزهري قال
بلغني أن ناقة البراء.
اللغة (الضواري) قال الباجي يريد العوادي، البهائم التي ضريت أكل زروع
الناس. وقال عياض يعنى المواشي الضارية لرعى زروع الناس المعتادة له
(حائط رجل) أي بستانه
قوله (إذا أفسدت ماشيته.. الخ) قال البغوي في شرح السنة: ذهب أهل
العلم إلى أن ما أفسدت الماشية بالنهار من مال الغير فلا ضمان على أهلها، وما
أفسدت بالليل ضمنه مالكها، لان في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين
يحفظونها بالنهار وأصحاب المواشي بالليل، فمن خالف هذه العادة كان خارجا عن
رسوم الحفظ، هذا إذا لم يكن مالك الدابة معها، فإن كان معها فعليه ضمان
260

ما أتلفته سواء كان راكبها أو سائقها أو قائدها أو كانت واقفة وسواء أتلفت
بيدها أو رجلها أو فمها، وإلى هذا ذهب مالك والشافعي، وذهب أصحاب
أبي حنيفة إلى أن المالك إن لم يكن معها فلا ضمان عليه ليلا كان أو نهارا. اه‍
من عون المعبوه.
وقال الامام الخطابي: هذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة في
هذا الباب (بعد أن أورد الحديثين المشار إليهما لأبي داود) ويشبه أن يكون
إنما فرق بين الليل والنهار في هذا لان في العرف أن أصحاب الحوائط والبساتين
يحفظونها بالنهار ويوكلون بها الحفاظ النواطير. ومن عادة أصحاب المواشي أن
يسرحوها بالنهار ويردوها مع الليل إلى المراح، فمن خالف هذه العادة كان به
خارجا عن رسوم الحفظ إلى حدود التقصير والتضييع، فكان كمن ألقى متاعه في
طريق شارع أو تركه في غير موضع حرز فلا يكون على آخذه قطع.
وبالتفريق بين حكم النهار والليل قال الشافعي وقال أصحاب الرأي لا فرق
بين الامرين، ولم يجعلوا على أصحاب المواشي غرما، واحتجوا بقوله صلى الله
عليه وسلم (العجماء جبار)
قال الخطابي: وحديث (العجماء جبار) عام وهذا حكم خاص والعام ينبنى
على الخاص ويرد إليه، فالمصير في هذا إلى حديث البراء الله أعلم
261

كتاب السير
ترجم الكتاب بالسير لان الأحكام المودعة فيه متلقاة من سير رسول الله
صلى الله عليه وسلم في غزواته. قال الحافظ بن حجر فمقتضى هذا أن يتتبع ما ذكر
فيه ويعزى إلى من خرجه إن وجد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
من أسلم في دار الحرب ولم يقدر على اظهار دينه وقدر على الهجرة وجبت
عليه الهجرة لقوله عز وجل (ان الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم، قالوا فيم
كنتم؟ قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة
فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا)
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنا برئ من كل مسلم مع مشرك،
فإن لم يقدر على الهجرة لم يجب عليه لقوله عز وجل (الا المستضعفين من الرجال
والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن
يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) وان قدر على اظهار الدين ولم يخفف الفتنة
في الدين لم تجب عليه الهجرة، لأنه لما أوجب على المستضعفين دل على أنه لا تجب
على غيرهم. ويستحب له أن يهاجر لقوله عز وجل (لا تتخذوا اليهود والنصارى
أولياء بعضهم أولياء بعض) ولأنه إذا أقام في دار الشرك كثر سوادهم، ولأنه
لا يؤمن أن يميل إليهم، ولأنه ربما ملك الدار فاسترق ولده
(الشرح) قول الله تعالى (ان الذين توفاهم الملائكة..) الآية 97
من سورة النساء.
قول الله تعالى (الا المستضعفين...) الآية 98، 99 من سورة النساء
قول الله تعالى (لا تتخذوا اليهود...) الآية 54 من سورة المائدة
الحديث الذي رواه أبو إسحاق الشيرازي في النص بدون ذكر الصحابي فقد
أخرجه الترمذي في كتاب السير باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين
262

عن جرير بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى خثعم
فاعتصم ناس بالسجود فأسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر
لهم بنصف العقل وقال أنا برئ من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا
يا رسول الله ولم قال لا تراءى ناراهما) ومن طريق آخر ولم يذكر فيه عن جرير
وقال وهذا أصح، وأخرجه أبو داود في كتاب الجهاد عن جرير والنسائي عن
معاوية وابن ماجة عن جرير. وذكر أبو داود أن جماعة رووه مرسلا والترمذي
مرسلا وقال أصح، وذكر أن أكثر أصحاب إسماعيل يعنى ابن أبي خالد
لم يذكروا فيه جريرا وذكر عن البخاري أنه قال الصحيح مرسل ولم يخرجه
النسائي إلا مرسلا، ورواه الطبراني موصولا.
اللغة (السير) جمع سيرة وهو الطريق
(المهاجرة) من أرض إلى أرض هي ترك الأولى للثانية، والجهاد مشتق من الجهد
وهو المشقة. يقال أجهد دابته إذا حمل عليها في السير فوق طاقتها، وقيل هو
المبالغة واستفرغ ما في الوسع، يقال جهد الرجل في كذا، أي جد فيه وبالغ،
ويقال أجهد جهدك في هذا الامر أي وأبلغ غايتك. وقوله تعالى (وجاهدوا
في الله حق جهاده وأقسموا بالله جهد أيمانهم) أي بالغوا في اليمين واجتهدوا
فيها. والغزو أصله الطلب، يقال ما مغزاك من هذا الامر، أي ما مطلبك،
وسمى الغازي غازيا لطلبه الغزو وجمعه غزاة وغزى كناقص ونقص
(العقل) نصف الدية
قوله (من أسلم في دار الحرب) قلت: رويت أحاديث توافق ما ذكر
أو تعارضه وهاك عن سمرة بن جندب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله) رواه أبو داود. وعن معاوية: لا تنقطع
الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها.
رواه أحمد وأبو داود والنسائي وقال الخطابي معلول
وعن ابن عباس: لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا.
رواه الجماعة الا ابن ماجة لكن له منه: إذا استنفرتم فانفروا. وروت عائشة
متنه، متفق عليه، والأول قال الذهبي فيه اسناده مظلم لا تقوم بمثله حجة،
263

وقد اختلف في الجمع بين الأحاديث، فقال الخطابي وغيره كانت الهجرة فرضا في
أول الاسلام على من أسلم لقلة المسلمين بالمدينة وحاجتهم إلى الاجتماع فلما فتح
الله مكة دخل الناس في دين الله أفواجا، فسقط فرض الهجرة إلى المدينة وبقى
فرض الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدو. اه‍
قال الحافظ وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم ليسلم من
اذى من يؤذيه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن
دينه، وفيهم نزلت الآية (ان الذين توفاهم..) وهذه الهجرة باقية الحكم في حق
من أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها.
وقال الماوردي: إذا قدر على اظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت
البلدة دار اسلام فالاقامة فيها أفضل من الرحلة عنها لما يترجى من دخول غيره
في الاسلام، ولا يخفى ما في هذا الرأي من المصادمة لأحاديث الباب القاضية
بتحريم الإقامة في دار الكفر.
وقال البغوي في شرح السنة: يحتمل الجمع بطريق أخرى، فقوله لا هجرة
بعد الفتح، أي من مكة إلى المدينة. وقوله لا تنقطع، أي من دار الكفر في حق
من أسلم إلى دار الاسلام، قال ويحتمل وجها آخر وهو أن قوله لا هجرة، أي
إلى النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان بنية عدم الرجوع إلى الوطن المهاجر منه
الا بإذن. فقوله لا تنقطع، أي هجرة من هاجر على غير هذا من الاعراب
ونحوهم، وقد أفصح ابن عمر بالمراد فيما أخرجه الإسماعيلي بلفظ: انقطعت
الهجرة بعد الفتح إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تنقطع الهجرة ما قوتل
الكفار. أي ما دام في الدنيا دار كفر فالهجرة واجبة منها على من أسلم وخشي
أن يفتن على دينه.
وأطلق ابن التين أن الهجرة من مكة إلى المدينة كانت واجبة وأن من أقام
بمكة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بغير عذر كان كافرا. قال
الحافظ وهو اطلاق مردود، وقال ابن العربي الهجرة هي الخروج من دار الحرب
إلى دار السلام وكانت فرضا في عهد النبي (ص) واستمرت بعده لمن خاف على
نفسه والتي انقطعت أصلا هي القصد إلى حيث كان.
264

وقد حكى في البحر أن الهجرة عن دار الكفر واجبة إجماعا حيث حمل على
معصية فعل أو ترك أو طلبها الامام بقوته لسلطانه، وقد ذهب جعفر بن مبشر
والهادوية إلى وجوب الهجرة عن دار الفسق قياسا على دار الكفر، وهو قياس
مع الفارق والحق عدم وجوبها من دار الفسق لأنها دار الاسلام. وقال الإمام ابن
تيمية: المشابهة والمشاكلة في الأمور الظاهرة توجب مشابهة ومشاكلة في
الأمور الباطنة، والمشابهة في الهدى الظاهر توجب مناسبة وائتلافا وإن بعد
الزمان والمكان أمر محسوس فمرافقتهم ومساكنتهم ولو قليلا سبب لنوع ما من
انتساب أخلاقهم التي هي ملعونة وما كان مظنة لفساد خفى غير منضبط علق
الحكم به وأدير التحريم عليه، فمساكنتهم في الظاهر سبب ومظنة لمشابهتهم في
الأخلاق والافعال المذمومة بل في نفس الاعتقادات فيصير مساكن الكافر مثله
وأيضا في المشاركة في الظاهر تورث نوع مودة ومحبة وموالاة في الباطن، كما أن
المحبة في الباطن تورث المشابهة في الظاهر، وهذا مما يشهد به الحس، فإن الرجلين
إذا كانا من بلد واجتمعا في دار غربة كان بينهما من المودة والائتلاف أمر عظيم
بموجب الطبع، وإذا كانت في أمور دنيوية تورث المحبة والموالاة فكيف
بالمشابهة في الأمور الدينية، فالموالاة للمشركين تنافى الايمان (ومن يتولهم
منكم فإنه منهم)
وقال ابن القيم في كتاب الهدى: ومنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من
إقامة المسلم بين المشركين إذا قدر على الهجرة من بينهم. وقال لا تنقطع الهجرة
حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها. وقال:
ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجرا إبراهيم ويبقى في
الأرض شرار أهلها، يلفظهم أرضوهم، تقذرهم نفس الله، ويحشرهم الله مع
القردة والخنازير.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والجهاد فرض، والدليل عليه قوله عز وجل (كتب عليكم
القتال وهو كره لكم) وقوله تعالى (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) وهو فرض
265

على الكفاية إذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين لقوله عز وجل
(لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله
بأموالهم وأنفسهم، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله
الحسنى) ولو كان فرضا على الجميع لما فاضل بين من فعل وبين من ترك، ولأنه وعد
الجميع بالحسنى فدل على أنه ليس بفرض على الجميع
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعث إلى بنى لحيان وقال ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعدين أيكم خلف
الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج، ولأنه لو جعل فرضا
على الأعيان لاشتغل الناس به عن العمارة وطلب المعاش فيؤدى ذلك إلى خراب
الأرض وهلاك الخلق.
(فصل) ويستحب الاكثار منه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال:
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أفضل؟ قال الايمان بالله ورسوله
وجهاد في سبيل الله.
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال يا أبا سعيد من رضى بالله ربا وبالاسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم
نبيا وجبت له الجنة، فقال أعدها يا رسول الله ففعل ثم قال وأخرى يرفع الله
بها للعبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، قلت
وما هي يا رسول الله؟ قال الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
والذي نفسي بيده لوددت أن أقاتل في سبيل الله فأقتل ثم أحيا فأقتل ثم أحيا
فأقتل. وكان أبو هريرة يقول ثلاثا أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها
ثلاثا، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا سبعا وعشرين غزوة وبعث
خمسا وثلاثين سرية
(فصل) وأقل ما يجزئ في كل سنة مرة، لان الجزية تجب في كل سنة مرة
وهي بدل عن القتل فكذلك القتل، ولان في تعطيله في أكثر من سنة يطمع
العدو في المسلمين، فإن دعت الحاجة في السنة إلى أكثر من مرة وجب لأنه
266

فرض على الكفاية، فوجب منه ما دعت الحاجة إليه، فإن دعت الحاجة إلى
تأخيره لضعف المسلمين أو قلة ما يحتاج إليه من قتالهم من العدة أو للطمع في
إسلامهم ونحو ذلك من الاعذار جاز تأخيره لان النبي صلى الله عليه وسلم
أخر قتال قريش بالهدنة وأخر قتال غيرهم من القبائل بغير هدنة، ولان ما يرجى
من النفع بتأخيره أكثر مما يرجى من النفع بتقديمه فوجب تأخيره
(فصل) ولا يجاهد أحد عن أحد بعوض وغير عوض لأنه إذا حضر
تعين عليه الفرض في حق نفسه، فلا يؤديه عن غيره، كما لا يحج عن غيره
وعليه فرضه.
(الشرح) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (بعث إلى بنى لحيان..)
أخرجه مسلم وأبو داود في الجهاد بلفظ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعث إلى بنى لحيان وقال ليخرج من كل رجلين رجل، ثم قال للقاعد أيكم خلف
الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج) وفى رواية أخرى
لمسلم (بعث بعثا إلى بنى لحيان من هذيل، فقال ليبعث من كل رجلين أحدهما
والاجر بينهما)
حديث أبي هريرة رضي الله عنه (أي الأعمال أفضل..) أخرجه الترمذي
في باب فضائل الجهاد بلفظ (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال
أفضل أو أي الأعمال خير؟ قال إيمان بالله ورسوله، قيل ثم أي شئ؟ قال
الجهاد سنام العمل، قيل ثم أي شئ يا رسول الله؟ قال ثم حج مبرور) وفى
رواية للبخاري (قيل ثم ماذا؟ قال الجهاد في سبيل الله) كما أخرجه الشيخان والنسائي
حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (من رضى بالله ربا..) أخرجه
النسائي في الجهاد وأبو داود ومسلم في الجهاد بلفظ (من رضى بالله ربا
وبالاسلام دينا وبمحمد نبيا وجبت له الجنة، فعجب أبو سعيد فقال أعدها
على يا رسول الله؟ ففعل، ثم قال وأخرى يرفع بها العبد مائة درجة في الجنة
ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، قال وما هي يا رسول الله؟ قال
الجهاد في سبيل الله الجهاد في سبيل الله
267

حديث أبي هريرة رضي الله عنه (والذي نفسي بيده لوددت..) أخرجه
البخاري في الجهاد، التمني، النسائي في الجهاد والحاكم ومسلم في الجهاد ولفظه في
مسلم (تضمن الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمانا بي
وتصديق برسلي فهو على ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج
منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة، والذي نفس محمد بيده ما من كلم يكلم في
سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كلم لونه لون دم وريحه ريح مسك، والذي
نفس محمد بيده لولا أن يشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل
الله أبدا، ولكن لا أجد سعة فأحملهم، ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يختلفوا
عنى، والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل، ثم أغزو
فأقتل، ثم أغزو فأقتل) ومن طريق آخر به (والذي نفسي بيده لوددت
أن أقتل في سبيل الله ثم أحيى..)
(أثر) روى أن النبي (ص) غزا سبعا وعشرين غزوة) فقد أخرجه ابن سعد
في الطبقات الكبرى
اللغة: الغزوات جمع غزوة وأصل الغزو القصد، ومغزى الكلام مقصده
والمراد بالغزوات ما وقع من قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم الكفار بنفسه
(غير أولى الضرر) هم الأعمى والأعرج والمريض
(بنو لحيان) بطن هذيل بكسر اللام
(السرية) قطعة من الجيش من خمسين إلى أربعمائة اختارهم الأمير مأخوذ
من السرى وهو الجهد، وقيل سميت السرية سرية لأنها تستخفي في قصدها فتسرى
ليلها، وهي فعلية بمعنى فاعلة، يقال سرى وأسرى ولا يكون إلا بالليل
(هدنة) هي ترك الحرب وأصلها للسكون
قوله (الجهاد فرض) حكى عن ابن شبرمة والثوري أن الجهاد تطوع وليس
بفرض، وقالوا (كتب عليكم القتال) ليس على الوجوب بل على الندب كقوله
تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) وقد روى عن ابن عمر نحو ذلك
وإن كان مختلفا في صحة الرواية عنه
وروى عن عطاء وعمرو بن دينار عن ابن جريج قال: قلت لعطاء أواجب
268

الغزو على الناس؟ فقال هو وعمرو بن دينار ما علمناه وأبو حنيفة
وأبو يوسف ومحمد ومالك وسائر فقهاء الأمصار أن الجهاد فرض إلى يوم القيامة
إلا أنه فرض على الكفاية إذا قال به بعضهم كان الباقون في سعة من تركه. وذكر
أن سفيان الثوري كان يقول ليس بفرض ولكن لا يسع الناس أن يجمعوا على
تركه ويجزى فيه بعضهم على بعض، وبهذا يكون مذهبه فرض على الكفاية ان
صح القول عنه.
(قلت) والجهاد فرض عين على كل مسلم إذا انتهكت حرمة المسلمين في أي
بلد فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله، وكان على الحاكم أن يدعو للجهاد وأن
يستنفر المسلمين جميعا، وكانت الطاعة له واجبة بل فريضة كالفرائض الخمس،
لقول الله تعالى (انفروا خفافا وثقالا) ولقول معمر كان مكحول يستقبل القبلة
ثم يحلف عشر أيمان أن الغزو واجب، ثم يقول إن شئتم زدتكم
ولما روى عن بشير بن الخصاصية قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه فقال علام
تبايعني يا رسول الله؟ فمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يده فقال على أن تشهد أن لا إله إلا
الله وأن محمدا عبد الله ورسوله، وتصلى الصلوات الخمس المكتوبات لوقتهن،
وتؤدى الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، وتحج البيت، وتجاهد في سبيل الله
فقلت يا رسول الله كلا لا أطيق إلا اثنتين إيتاء الزكاة فما لي إلا حمولة أهلي وما
يقومون به، وأما الجهاد فأنى رجل جبان، فإني أخاف أن تخشع نفسي فأفر فأبوء
بغضب من الله، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال: يا بشير لا جهاد ولا صدقة
فبم تدخل الجنة، فقلت يا رسول الله أبسط يدك، فبسط يده فبايعته عليهن.
وغير هذا كثير جدا نكتفي بهذا.
أما جزاؤه فالجنة، يشهد بذلك ما يردده القرآن على مسامعنا (إن الله اشترى
من المؤمنين. بأن لهم الجنة) وما امتلأت به كتب السنة جميعها
اما قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم غزا سبعا وعشرين غزوة، فقد ورد في
الترمذي عن زيد بن أرقم قال (تسع عشرة) قال الحافظ في الفتح: لكن روى
أبو يعلى من طريق أبى الزبير عن جابر أن عدد الغزوات إحدى وعشرون.
269

وإسناده صحيح وأصله في مسلم، ثم قال وقد توسع ابن سعد فبلغ عدة المغازي
التي خرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه سبعا وعشرين، وتبع في ذلك الواقدي وهو
مطابق لما عده ابن إسحاق
وأخرج عبد الرزاق بإسناده صحيح عن سعيد بن المسيب قال: غزا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أربعا وعشرين، وأما البعوث والسرايا فعند ابن إسحاق ستا
وثلاثين، وعند الواقدي ثمانيا وأربعين، وحكى ابن الجوزي في التلقيح ستا
وخمسين وعند المسعودي ستين ووقع عند الحاكم في الإكليل أنها تزيد على المائة
وقوله (ولا يجاهد أحد..) فهو إجماع فقهاء الأمة وعلماء المسلمين،
كما لا يجوز أن يحج عن غيره قبل أدائه الفريضة، فارجع إلى كتاب الحج وراجع
حديث شبرمة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجب الجهاد على المرأة لما روت عائشة رضي الله عنها قالت
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد فقال (جهاد كن الحج، أو حسبكن
الحج) ولان الجهاد هو القتال وهن لا يقاتلن، ولهذا رأى عمر بن أبي ربيعة
امرأة مقتولة فقال
إن من أكبر الكبائر عندي * قتل بيضاء حرة عطبول
كتب القتل والقتال علينا * وعلى الغانيات جر الذيول
ولا يجب على الخنثى المشكل لأنه يجوز أن يكون امرأة فلا يجب عليه بالشك
ولا يجب على العبد لقوله عز وجل (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على
الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) والعبد لا يجد ما ينفق.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أسلم عنده رجل لا يعرفه قال
أحر هو أو مملوك، فإن قال أنا حر بايعه على الاسلام والجهاد، وإن قال أنا
مملوك بايعه على الاسلام ولم يبايعه على الجهاد، ولأنه عبادة تتعلق بقطع
مسافة بعيدة فلا يجب على العبد كالحج
(فصل) ولا يجب على الصبي والمجنون لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي
270

صلى الله عليه وسلم قال (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى
يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق.
وروى عروة بن الزبير قال (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر
كفرا من أصحابه استصغرهم، منهم عبد الله بن عمر وهو يومئذ ابن أربع عشرة
سنة وأسامة بن زيد والبراء بن عازب وزيد بن ثابت وزيد بن أرقم وعرابة
ابن أوس ورجل من بنى حارثة، فجعلهم حرسا للذراري والنساء، ولأنه عبادة
على البدن فلا يجب على الصبي والمجنون كالصوم والصلاة والحج
(فصل) ولا يجب على الأعمى لقوله عز وجل (ليس على الأعمى حرج
ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج) ولا يختلف أهل التفسير أنها
في سورة الفتح أنزلت في الجهاد، ولأنه لا يصلح للقتال فلم يجب عليه، وإن كان
في بصره شئ فإن كان يدرك الشخص وما يتقيه من السلاح وجب عليه
لأنه بقدر على القتال، وإن لم يدرك ذلك لم يجب عليه لأنه لا يقدر على القتال
ويجب على الأعور والأعشى، وهو الذي يبصر بالنهار دون الليل لأنه كالبصير
في القتال ولا يجب على الأعرج الذي يعجز عن الركوب والمشي للآية، ولأنه
لا يقدر على القتال، ويجب عليه إذا قدر على الركوب والمشي لأنه يقدر على
القتال، ولا يجب على الأقطع والأشل لأنه يحتاج في القتال إلى يد يضرب بها
ويد يتقى بها، وان قطع أكثر أصابعه لم يجب عليه لأنه لا يقدر على القتال،
وان قطع الأقل وجب عليه لأنه يقدر على القتال ولا يجب على المريض الثقيل
للآية، ولأنه لا يقدر على القتال ويجب على من به حمى خفيفة أو صداع قليل
لأنه يقدر على القتال.
(فصل) ولا يجب على الفقير الذي لا يجد ما ينفق في طريقه فاضلا عن
نفقة عياله لقوله عز وجل (ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) فإن كان
القتال على باب البلد أو حواليه وجب عليه، لأنه لا يحتاج إلى نفقة الطريق،
وإن على مسافة تقصر فيها الصلاة ولم يقدر على مركوب يحمله لم يجب عليه
لقوله عز وجل (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم
عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون)
271

لأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة فلم تجب من غير مركوب كالحج، وإن بذل
له الامام ما يحتاج إليه من مركوب وجب عليه أن يقبل ويجاهد، لان ما يعطيه
الامام حق له، وان بذل له غيره لم يلزمه قبوله، لأنه اكتساب مال لتجب به
العبادة فلم يجب كاكتساب المال للحج والزكاة
(الشرح) حديث عائشة أخرجه البخاري بلفظ (عن عائشة قالت استأذنت
النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد فقال جهادكن الحج وفى رواية أخرى (سأله نساؤه عن
الجهاد فقال نعم الجهاد الحج) وفى رواية ثالثة عنها أنها قالت يا رسول الله ترى
الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد؟ قال لكن أفضل الجهاد حج مبرور)
حديث على أخرجه أبو داود والحاكم والترمذي وابن ماجة (رفع القلم عن
ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ وعن النائم حتى يستيقظ،
وعن الصبي حتى يحتلم) و (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن
المبتلى حتى يبرأ وعن الصبي حتى يكبر) و (رفع القلم عن ثلاث عن النائم حتى
يستيقظ وعن الصبي حتى يشب وعن المعتوه حتى يعقل
اللغة: قوله (حسبكن الحج) أي يكفيكن الحج، أي حسبكن من المشقة
والتعب ما تجدن من ألم السير للحج ومشقته، قال الله تعالى (يا أيها النبي
حسبك الله) أي كافيك الله، يقال أحسبني الشئ أي كفاني.
قوله (حرة عطبول) الحرة الخالصة الحسب البرية من الريب. والحر
الخالص من كل شئ. والعطبول المرأة الحسناء مع تمام خلق وتمام طول،
وهذه المرأة ابنة النعمان بن بشير امرأة المختار بن أبي عبيد قتلها مصعب بن الزبير
حين قتله فأنكر الناس عليه ذلك وأعظموه لارتكابه ما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم
قوله (كتب القتل) أي فرض وأوجب، والغانيات جمع غانية، وهي التي
استغنت بزوجها عن غيره، وقيل استغنت بحسنها عن لباس الحلى والزينة.
وجر الذيول أراد ما تجره المرأة خلفها من فضل ثوبها، وهو منهى عنه مكروه
وبعد البيتين:
قتلت باطلا على غير شئ * إن الله درها من قتيل
272

قوله (فجعلهم حرسا للذراري) جمع حارس، والحراسة هي الحفظ، حرسه
حراسة أي حفظه، ومنه حرس السلطان الذين يحفظونه
قوله (وصابرا محتسبا) أي طالبا للثواب
قوله (التقاء الزحفين) الزحف الجيش، يزحفون إلى العدو أي يمشون
قوله (التغرير) التغرير بالنفس المخاطرة والتقدم على غير ثقة وما يؤدى
إلى الهلاك.
قوله: ولا يجب الجهاد. قلت لا يجب عليها القتال، أما خروجها للغزو
فقد أخرج أبو داود عن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار يسقين الماء ويداوين الجرحى. وروى أن
نسوة خرجن معه فأمر بردهن. وقال الامام الخطابي في الحديث الأول دلالة
على جواز الخروج بهن في الغزو لنوع من الرفق والخدمة، ثم قال يشبه أن يكون
رده إياهن لاحد معنيين، إما أن يكون في حال ليس بالمستظهر بالقوة الغلبة
على العدو فخاف عليهن فردهن أو يكون الخارجات معه من حداثة السن الجمال
بالموضع الذي يخاف فتنتهن.
وقال الشوكاني: لا يجوز قتل النساء والصبيان، وإلى ذلك ذهب مالك
والأوزاعي، وذهب الشافعي والكوفيون إلى أنه إذا قاتلت المرأة جاز قتلها.
وقال ابن حبيب من المالكية لا يجوز القصد إلى قتلها إذا قاتلت إلا إن باشرت
القتل أو قصدت إليه، ويدل على ما رواه أبو داود في المراسيل عن عكرمة
أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين فقال من قتل هذه؟ فقال
رجل أنا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى قائم
سبقي لتقتلني فقتلتها، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصله
الطبراني في الكبير وفيه حجاج بن أرطاة، ونقل ابن بطال أنه اتفق الجميع على
المنع من القصد إلى قتل النساء والولدان، ولا يوجب القتال على الصبي والأعمى
والأعرج ولا على من لا يجد القوة عليه مالا أو جسدا.
273

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجب على من عليه دين حال أن يجاهد من غير إذن غريمه،
لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
يا رسول الله: أرأيت إن قتلت في سبيل الله كفر الله خطاياي، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر كفر الله
خطاياك إلا الدين، كذلك قال لي جبريل، ولان فرض الدين متعين عليه فلا
يجوز تركه لفرض على الكفاية يقوم عنه غيره مقامه، فإن استناب من يقضيه من
مال حاضر جاز لان الغريم يصل إلى حقه، وإن كان من مال غائب لم يجز لأنه
قد يتلف فيضيع حق الغريم، وإن كان الدين مؤجلا ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يجوز أن يجاهد من غير إذن الغريم كما يجوز أن يسافر لغير الجهاد
(والثاني) أنه لا يجوز لأنه يتعرض للقتل طلبا للشهادة فلا يؤمن أن يقتل
فيضيع دينه.
(الشرح) حديث أبي قتادة رواه أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وصححه
ولأحمد والنسائي من حديث أبي هريرة مثله ولفظه (عن أبي قتادة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والايمان بالله
أفضل الأعمال، فقام رجل فقال يا رسول الله أرأيت إن قتلت في سبيل الله
تكفر عنى خطاياي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم إن قتلت في
سبيل الله وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف
قلت؟ قال أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عنى خطاياي، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم نعم وأنت صابر محتسب مقبل غير مدبر إلا الدين، فإن جبريل
عليه السلام قال لي كذلك)
لا يجوز لمن عليه دين أن يخرج إلى الجهاد الا بإذن من له الدين لأنه حق
لآدمي والجهاد حق الله تعالى وينبغي أن يلحق بذلك سائر حقوق الآدميين كدم
وعرض لعدم الفرق بين حق وحق، وقد استدل بحديث عبد الله بن عمرو
274

يغفر الله للشهيد كل ذنب الا الدين، فإن جبريل عليه السلام قال لي ذلك رواه
مسلم وأحمد على عدم جواز خروج المديون إلى الجهاد بغير اذن غريمه أن الدين
يمنع من فائدة الشهادة وهي المغفرة العامة وذلك يبطل ثمرة الجهاد، وقد أشار
صاحب البحر إلى مثل ذلك فقال ومن عليه دين حال لم يخرج إلا بإذن الغريم
لقوله صلى الله عليه وسلم نعم الا الدين. الخبر، فإذا منع الشهادة بطلت ثمرة
الجهاد. اه‍
ولا يخفى ان بقاء الدين في ذمة الشهيد لا يمنع من الشهادة بل هو شهيد مغفور
له كل ذنب الا الدين وغفر ان ذنب واحد يصح جعله ثمرة للجهاد فكيف بمغفرة
جميع الذنوب الا واحدا منها، فالقول بأن ثمرة الشهادة مغفرة جميع الذنوب
ممنوع كما أن القول بأن عدم غفران ذنب واحد يمنع من الشهادة ويبطل ثمرة
الجهاد ممنوع أيضا وغاية ما اشتملت عليه الأحاديث هو أن الشهيد يغفر له جميع
ذنوبه الا الدين، وذلك لا يستلزم عدم جواز الخروج إلى الجهاد الا بإذن من
له الدين، بل إن أحب المجاهد أن يكون جهاده سببا لمغفرة كل ذنب استأذن
صاحب الدين في الخروج، وان رضى بأن يبقى عليه ذنب واحد منها جاز له
الخروج بدون استئذان، وهذا إذا كان الدين حالا وأما كان مؤجلا
ففي ذلك وجهان
قال الامام يحيى أصحهما يعتبر الاذن أيضا إذ الدين مانع للشهادة وقيل لا
كالخروج للتجارة قال في البحر ويصح الرجوع عن الاذن قبل التحام القتال إذ
الحق له لا بعده لما فيه من الوهن
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان أحدا أبويه مسلما لم يجز أن يجاهد بغير إذنه لما روى
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
يستأذنه في الجهاد، فقال أحي والداك؟ قال نعم، قال ففيهما فجاهد. وروى
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال، سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الأعمال
أفضل، فقال الصلاة لميقاتها، قلت ثم ماذا؟ قال بر الوالدين، قلت ثم ماذا؟
275

قال الجهاد في سبيل الله، فدل على أن بر الوالدين مقدم على الجهاد، ولان الجهاد
فرض على الكفاية ينوب عنه فيه غيره، وبر الوالدين فرض يتعين عليه لأنه
لا ينوب عنه فيه غيره، ولهذا قال رجل لابن عباس رضي الله عنه إني نذرت
أن أغزوا الروم وأن أبوي منعاني، فقال أطع أبويك فإن الروم ستجد من يغزوها
غيرك. وإن لم يكن له أبوان وله جدا أو جدة لم يجز أن يجاهد من غير إذنهما،
لأنهما كالأبوين في البر، وإن كان له أب وجد أو أم وحدة فهل يلزمه استئذان
الأب مع الجد أو استئذان الجدة مع الام فيه وجهان
(أحدهما) لا يلزمه لان الأب والام يحجبان الجد وللجدة عن الولاية
والحضانة (والثاني) يلزمه وهو الصحيح عندي لان وجود الأبوين لا يسقط
بر الحدين ولا ينقص شفقتهما عليه.
وإن كان الأبوان كافرين جاز أن يجاهد من غير إذنهما لأنهما متهمان في
الدين، وإن كانا مملوكين فقد قال بعض أصحابنا أنه يجاهد من غير اذنهما لأنه
لا إذن لهما في أنفسهما فلم يعتبر اذنهما لغيرهما
قال الشيخ الامام وعندي أنه لا يجوز أن يجاهد الا بإذنهما، لان المملوك
كالحر في البر والشفقة فكان كالحر في اعتبار الاذن. وان أراد الولد أن يسافر
في تجارة أو طلب علم جاز من غير اذن الأبوين لان الغالب في سفره السلامة
(فصل) وان أذن الغريم لغريمه أو الوالد لولده ثم رجعا أو كانا كافرين
فأسلما، فإن كان ذلك قبل التقاء الزحفين لم يجز الخروج الا بالاذن، وإن كان
بعد التقاء الزحفين ففيه قولان
أحدهما أنه لا يجوز أن يجاهد الا بالاذن لأنه عذر يمنع وجوب الجهاد
فإذا طرا منع من الوجوب كالعمى والمرض
والثاني أنه يجاهد من غير اذن، لأنه اجتمع حقان متعينان وتعين الجهاد
سابق فقدم، وان أحاط العدو بهم تعين فرض الجهاد وجاز من غير اذن الغريم
ومن غير اذن الأبوين، لان ترك الجهاد في هذه الحالة يؤدى إلى الهلاك فقدم
على حق الغريم والأبوين.
276

(الشرح) حديث عبد الله بن عمرو رواه البخاري والنسائي وأبو داود
والترمذي وصححه، ولمسلم من طريق آخر (ارجع إلى والدتك فأحسن صحبتها)
حديث ابن مسعود قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب
إلى الله قال الصلاة على وقتها، قلت ثم أي؟ قال بر الوالدين، قلت ثم أي؟ قال
الجهاد في سبيل الله، حدثني بهن ولو استزدته لزادني) متفق عليه
قال الشوكاني: يجب استئذان الأبوين في الجهاد، وبذلك قال الجمهور
وجزموا بتحريم الجهاد إذا منع منه الأبوان أو أحدهما، لان برهما فرض عين
والجهاد فرض كفاية، فإذا تعين الجهاد فلا إذن، ويشهد له ما أخرجه ابن حبان
من حديث عبد الله بن عمرو قال، جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فسأله عن أفضل الأعمال قال الصلاة، قال ثم مه؟ قال الجهاد، قال فإن لي
والدين، فقال آمرك بوالديك خير، فقال والذي بعثك نبيا لأجاهدن ولأتركنهما
قال فأنت أعلم، وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقا بين الأحاديث، وهذا
بشرط أن يكون الأبوان مسلمين. وهل يلحق بهما الجد والجدة؟ الأصح عند
الشافعية ذلك، وظاهره عدم الفرق بين الأحرار والعبيد. اه‍
قال ابن حزم ولا يجوز الجهاد إلا بإذن الأبوين إلا أن ينزل العدو بقوم
من المسلمين ففرض على كل من يمكنه إعانتهم أن يقصدهم مغيثا لهم أذن الأبوان
أم لا يأذنا إلا أن يضيعا أو أحدهما بعده فلا يحل له ترك من يضيع منهما
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويكره الغزو من غير اذن الامام أو الأمير من قبله، لان الغزو
على حسب حال الحاجة، والامام الأمير أعرف بذلك، ولا يحرم لأنه ليس
فيه أكثر من التغرير بالنفس والتغرير بالنفس يجوز في الجهاد
(فصل) ويجب على الامام أن يشحن ما يلي الكفار من بلاد المسلمين
بجيوش يكفون من يليهم ويستعمل عليهم امراء ثقات من أهل الاسلام مدبرين
لأنه إذا لم يفعل ذلك لم يؤمن إذا توجه في جهة الغزو أن يدخل العدو من جهة
أخرى فيملك بلاد الاسلام
277

وإن احتاج إلى بناء حصن أو حفر خندق فعل، لان النبي صلى الله عليه وسلم
حفر الخندق. وقال البراء بن عازب رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق
ينقل التراب حتى وارى التراب شعره وهو يرتجز برجز عبد الله بن رواحة وهو
يقول (اللهم لولا أنت ما أهدينا * ولا تصدقنا ولا صلينا * فأنزلن سكينة علينا *
وثبت الاقدام إن لاقينا، وإذا أراد الغزو وبدأ بالأهم فالأهم لقوله عز وجل
(قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) فإذا استوت الجهاد في الخوف اجتهد وبدأ
بأهمها عنده.
(الشرح) حديث البراء بن عازب أخرجه البخاري في الجهاد ومسلم في المغازي
اللغة: قوله (ويجب أن يشحن) أي يملا. يقال شحنت البلد بالخيل ملأته
وبالبلد شحنة من الخيل أي رابطة، قال الله تعالى (في الفلك المشحون) أي المملوء
قوله (مدبرين) المدبر الذي ينظر في دبر الامر أي عاقبته قوله (برجز عبد الله
ابن رواحة وهو يقول اللهم لولا أنت ما اهتدينا) فيه خزم من طريق العروض
ويستقيم وزنه لا هم والألف واللام زائدتان على الوزن، وذلك يجئ في الشعر
كما روى عن علي كرم الله وجهه
أشدد حيازيمك للموت * فإن الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت * إذا حل بواديكا
فإن قوله اشدد خزم كله، والخزم بالزاي وزنه مفاعيلن ثلاث مرات وهو هزج
قوله (فأنزلن سكينة علينا) السكينة فعيلة من السكون وهو الوفار والطمأنينة وما
يسكن به الانسان، وقيل هي الرحمة، فيكون المعنى أنزل علينا رحمة أو ما تسكن
به قلوبنا من خوف العدو ورعبه. وأما السكينة التي في القرآن في قوله تعالى
(التابوت فيه سكينة من ربكم) قيل له وجه مثل وجه الانسان ثم هي بعد ريح
هفافة. وقيل لها رأس مثل رأس الهر وجناحان، وهي من أمر الله عز وجل،
ولعلهم كانوا ينتصرون بها كما نصر بها طالوت على جالوت
قوله (وثبت الاقدام ان لا قينا) يقال رجل ثبت في الحرب وثبت، أي
لا يزول عن مكانه عند لقاء العدو، وقال الله تعالى (وثبت أقدامنا) ويجوز أن
278

يكون ثابت القلب كما قيل. ثبت إذا صبح بالقوم وفر. قوله (عرض الجيش)
يقال عرضت الجيش أي أظهرتهم فنظرت ما حولهم، وكذلك عرضت الجارية
على البيع عرضا، أي أظهرتها لذلك.
وقوله (ولا يأذن لمخذل) هو الذي يقول بالكفار وكثرة خيلهم جيدة وما
شاكله يقصد بذلك خذلان المسلمين، وهو التخلف عن النصرة وترك الإعانة،
يقال للظبي إذا تخلف عن القطيع خذل، ويقال خذلت الوحشية إذا أقامت على
ولدها وتخلفت، قال طرفة: خذول تراعى ربربا بحميلة
قال أبو بكر الحصاص في أحكام القرآن: الجهاد واجب مع الفساق كوجوبه
مع العدول وسائر الآية الموجبة لفرض الجهاد لم يفرق بين فعله مع الفساق ومع
العدول الصالحين، وأيضا فان الفساق إذا جاهدوا فهم مطيعون في ذلك.
وقال ابن حزم: ومن أمره الأمير بالجهاد إلى دار الحرب ففرض عليه أن
يطبعه في ذلك إلا من له عذر قاطع.
وقال الشوكاني: ان الجهاد لا يزال ما دام الاسلام والمسلمون إلى ظهور
الدجال، وأخرج أبو داود وأبو يعلى مرفوعا وموقوفا من حديث أبي هريرة
(الجهاد ماض مع البر والفاجر) ولا بأس بإسناده إلا أنه من رواية مكحول
عن أبي هريرة ولم يسمع منه، ثم قال لا فرق في حصول فضيلة الجهاد بين أن
يكون الغزو مع الإمام العادل أو الجائر
(قلت) أما كراهة الغزو إلا بإذن الإمام فحقا إلا إذا تخاذل الامام ونكص
على عقبيه فقد وقع الفرض على المسلمين بالقتال فورا، أما وجوب الاستعداد
بكافة الأسلحة على اختلاف أنواعها فقد أوجبها المصدر الأول للمسلمين إذ يقول
الله عز وجل (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به
عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم).
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا أراد الخروج عرض الجيش ولا يأذن لمخذل ولا لمن يعاون
الكفار بالمكاتبة لقوله عز وجل (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا
279

خلالكم يبغونكم الفتنة) قيل في التفسير لأوقعوا بينكم الاختلاف، وقيل
لا شرعوا في تفريق جمعكم، ولان في حضورهم إضرار بالمسلمين
ولا نستعين
بالكفار من غير حاجة، لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين، فقال له تؤمن بالله ورسوله
قال: لا، قال فارجع فلن أستعين بمشرك، فان احتاج أن يستعين بهم فإن لم يكن
من يستعين به حسن الرأي في المسلمين لم نستعن به، لان ما يخاف من الضرر
بحضورهم أكثر مما يرجى من النفعة، وإن كان حسن الرأي في المسلمين جاز أن
نستعين بهم، لان صفوان بن أمية شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في
شركه حرب هوازن، وسمع رجلا يقول غلبت هوازن، وقتل محمد فقال بفيك
الحجر لرب من قريش أحب إلى من رب من هوازن، وإن احتاج إلى أن
يستأجرهم جاز، لأنه لا يقع الجهاد له وفى القدر الذي يستأجر به وجهان.
(أحدهما) لا يجوز له أن تبلغ الأجرة سهم راجل لأنه ليس من أهل فرض
الجهاد فلا يبلغ حقه سهم راجل كالصبي والمرأة.
(والثاني) وهو المذهب أنه يجوز، لأنه عوض في الإجارة فجاز أن يبلغ
قدر سهم الراجل كالأجرة في سائر الإجارات، ويجوز أن يأذن للنساء لما روت
الربيع بنت معوذ قالت: كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخدم
القوم ونسقيهم الماء ونرد الجرحى والقتلى إلى المدينة، ويجوز أن يأذن لمن اشتد
من الصبيان لان فيهم معاونة، ولا يأذن لمجنون لأنه يعرضه للهلاك من غير
منفعة، وينبغي أن يتعاهد الخيل فلا يدخل حطبا وهو الكسير ولا فحما وهو
الكبير ولا ضرعا هو الصغير ولا أعجف وهو الهزيل لأنه ربما كان سببا للهزيمة
ولأنه يزاحم به الغانمين في سهمهم ويأخذ البيعة على الجيش أن لا يفروا لما روى
جابر رضي الله عنه قال: كنا يوم الحديبية ألف رجل وأربعمائة فبايعناه تحت
الشجرة على أن لا نفر ولم نبايعه على الموت يعنى النبي صلى الله عليه وسلم
ويوجه الطلائع ومن يتجسس أخبار الكفار، لما روى جابر رضي الله عنه قال
280

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق من يأتينا بخبر القول فقال الزبير
أنا، فقال إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير
والمستحب أن يخرج يوم الخميس، لما روى كعب بن مالك قال: قلما كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج في سفر الا يوم الخميس، ويستحب أن
يعقد الرايات ويجعل تحت كل راية طائفة، لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن
أبا سفيان أسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عباس احبسه على
الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها، قال العباس فحبسته حيث أمرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم ومرت به القبائل على راياتها حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم
في الكتبية الخضراء كتيبة فيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلا الحدق من
الحديد، فقال من هؤلاء يا عباس؟ قال قلت هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
في المهاجرين والأنصار، فقال ما لاحد بهؤلاء من قبل، والله يا أبا الفضل لقد
أصبح ملك ابن أخيك الغداة عظيما، والمستحب أن يدخل إلى دار الحرب بتعبية
الحرب، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم
يوم فتح مكة فجعل خالد بن الوليد على إحدى المجنبتين، وجعل الزبير على الأخرى
وجعل أبا عبيدة على الساقة وبطن الوادي، ولان ذلك أحوط للحرب وأبلغ
في إرهاب العدو.
(الشرح) حديث عائشة (خرج النبي صلى الله عليه وسلم قبل بدر فلما كان مجرة
الوبرة أدركه رجل قد كان تذكر منه جرأة ونجدة ففرح به أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال جئت لأتبعك فأصيب معك،
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم تؤمن بالله ورسوله؟ قال لا، قال فارجع
فلن أستعين بمشرك، قالت ثم مضى حتى إذا مر بالشجرة أدركه الرجل فقال له كما قال
أول مرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم كما قال أول مرة فقال لا، قال فارجع
فلن أستعين بمشرك،، قال فرجع فأدركه بالبيداء فقال له كما قال أو مرة تؤمن
بالله ورسوله؟ قال نعم، قال فانطلق) روى احمد ومسلم، وفى رواية أخرى
لأحمد (انا لا نستعين بالمشركين على المشركين فأسلمنا وشهدنا معه)
281

حديث صفوان (قال الحافظ بنى حجر في تلخيص الحبير أنه أعطى عيينة بن
حصن والأقرع بن حابس وأبا سفيان بن حرب وصفوان بن أمية) مسلم
ثم قال والصواب أنه من الغنائم.
وذكر النووي في شرح مسلم (وقد جاء في الحديث الآخر أن النبي صلى الله عليه وسلم
استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه، وذكره الشوكاني ولم يشر إلى مخرجه،
وبالبحث عنه في مسلم لم أعثر عليه ولكن أخرج أبو داود في مراسيله والترمذي
عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بناس من اليهود في خبير في
حربه فأسهم لهم)
حديث الربيع بنت معوذ أخرجه البخاري وأحمد
(جابر (كنا يوم الحديبية) مسلم في المغازي والترمذي في السير
والنسائي في البيعة.
حديث جابر (من يأتينا بخبر القوم) متفق عليه
حديث كعب رواه البخاري ومسلم بلفظ (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج
يوم الخميس في غزوة تبوك، وكان يجب أن يخرج يوم الخميس
حديث ابن عباس في البخاري رواه ابن سعد في الطبقات وكتب السيرة
وأبو بنحوه
حديث أبو هريرة جزء من حديث أخرجه أحمد وأبو داود ومسلم والنسائي
اللغة: قوله (ما زادوكم إلا خبالا) أي فسادا وقد خبله خبله واختبله إذا
أفسد عقله أو عضوه ولأوضعوا خلالكم أي أسرعوا في السير، يقال وضع
البعير يضع وأوضعه راكبه إذا حمله على العدو السريع. وخلالكم بينكم والخلة
الفرجة بين الشيئين والجمع الخلال.
قوله (بفيك الحجر) يقال هذا لمن يتكلم بغير الحق دعاء على طريق التكذيب
قوله (لرب من قريش) أي سيد والرب السيد الرئيس، وكان يقال لحذيفة بن
بدر رب معد أي سيدها.
قوله (ويوجه الطلائع ومن يتجسس، الطلائع جمع طليعة وهو من يبعث
أمام الجيش ليطلع طلع العدو أي ينظر إليهم. والتجسس بالجيم طلب الاخبار
282

والبحث عنها، وكذلك تجسس الخبر بالحاء، ومنهم من يفرق بينهما فيقول
تحسست بالحاء في الخير والشر وبالجيم في الشر لا غير. قالوا والجاسوس صاحب
سر الشر، والناموس صاحب سر الخير، وقيل بالحاء أن تطلبه لنفسك وبالجيم
لغيرك. قوله (إن لكل نبي حواريا وحواري الزبير) قيل معناه أنه مخصص من
أصحابي ومفضل من الخبز الحوارى وهو أفضل الخبز وأرفعه. وحواري عيسى
هم المفضلون عنده وخاصته. وقيل لأنهم كانوا يحورون ثيابهم أي يبيضونها،
والتحوير التبييض. وقيل لأنهم كانوا قصارين، وقيل لان الحوارى الناصر،
والصحيح أنه الخالص النقي من حورت الدقيق إذا أخلصته ونقيته من الحشو،
ويقال لنساء الحضر حواريات لبياضهن ونعمتهن
قوله (في الكتيبة الخضراء) الكتيبة قطعة من الجيش من أربعمائة إلى ألف
اشتقاقها من الكتب وهو الجمع والانضمام وقد ذكر. وسميت خضراء لما يرى
عليها من لون الحديد وخضرته وسواده، والخضرة عند العرب السواد، يقال
دليل أخضر قاله ابن الاعرابي وأنشد:
ناق خبى خببا زورا * وعارضي الليل إذا ما اخضرا
أي اسود. قوله (ما لاحد بهؤلاء من قبل) أي طاقة. قال الله تعالى (فلنأتينهم
بجنود لا قبل لهم بها.
قوله (إحدى المجنبتين) بكسر النون، أي كتيبتين أخذتا الجانبين اليمين
والشمال من جانبي الطريق، ويقال المجنبة اليمنى والمجنبة اليسرى
قوله (على الساقة) أي على آخر العسكر، كأنهم يسوقون الذين قبلهم.
قوله (حمر النعم) خص الحمر دون غيرها، لأنها عندهم خير المال، والنعم هي
الإبل والانعام، الإبل والبقر والغنم، قد سمى أيضا نعما، قال الله تعالى (فجزاء
مثل ما قتل من النعم)
قال النووي في شرح مسلم: أخذ طائفة من العلماء بكراهة الاستعانة في الغزو
بكافر إلا لحاجة على إطلاقه. وقال الشافعي وآخرون إن كان الكافر حسن الرأي
في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به أستعين به وإلا فيكره
283

وقال الشوكاني ان الظاهر من الأدلة عدم جواز الاستعانة بمن كان مشركا
مطلقا لما في قوله صلى الله عليه وسلم (إنا لا نستعين بالمشركين) من العموم.
وكذلك قوله (أنا لا أستعين بمشرك) ولا يصلح مرسل الزهري لمعارضة ذلك
لما قيل أن مراسيل الزهري ضعيفة، ثم قال ويؤيده قوله تعالى (ولن يجعل الله
الكافرين على المؤمنين سبيلا)
وقد أخرج الشيخان عن البراء بن عازب قال (جاء رجل مقنع بالحديد
فقال يا رسول الله أقاتل أو أسلم؟ قال أسلم ثم قاتل فأسلم ثم قاتل فقتل، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمل قليل وأجر كثير. وأما استعانته صلى الله عليه
وسلم بابن أبي فليس ذلك الا لاظهاره الاسلام. وأما مقاتلة قزمان مع المسلمين
فلم يثبت أنه صلى الله عليه وسلم أذن له بذلك في ابتداء الامر، وغاية ما فيه أنه
يجوز للامام السكوت عن كافر قاتل مع المسلمين وقال ابن حزم ولا يحضر
مغازي المسلمين كافر.
ثم روى عن الزهري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغزو باليهود
فيسهم لهم كسهام المسلمين. وروى عن سعد بن أبي وقاص غزا بقومه من اليهود
فرضخ لهم. وروى عن الشعبي حينما سأل عن المسلمين يغزون بأهل الكتاب،
فقال الشعبي أدركت الأئمة الفقيه منهم وغير الفقيه يغزون بأهل الذمة فيقسمون
لهم ويضعون عنهم جزيتهم، فذلك لهن نقل حسن ثم قال وقال أبو حنيفة ومالك
والشافعي وأبو سليمان لا يسهم لهم، قال أبو سليمان ولا يرضخ لهم ولا يستعان
بهم. قال أبو ممد حديث الزهري مرسل ولا حجة في مرسل، ولقد كان يلزم
الحنفيين والمالكيين القائلين بالمرسل أن يقولوا بهذا لأنه من أحسن المراسيل،
لا سيما مع قول الشعبي انه أدرك الناس على هذا، ولا نعلم لسعد مخالفا في ذلك
من الصحابة ثم قال لكن الحجة في ذلك ما رويناه عن عائشة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال (انا لا نستعين بمشرك) فصح أنه لا حق في الغنائم
لغير المسلمين.
وقال الشوكاني يجوز للمرأة الأجنبية معالجة الرجل الأجنبي للضرورة قال
ابن بطال ويختص بذلك بذوات المحارم وان دعت الضرورة فليكن بغير مباشرة ولامس
284

ويدل على ذلك اتفاقهم على أن المرأة إذا ماتت ولم توجد امرأة تغسلها أن الرجل
لا يباشر غسلها، بل غسلها من وراء حائل في قول بعضهم كالزهري وفى قول
الأكثر تيمم وقال الأوزاعي تدفن كما هي
قال ابن المنير: الفرق بين حال المداواة وغسل الميت أن الغسل عبادة والمداواة
ضرورة والضرورات تبيح المحظورات، وهكذا يكون حال المرأة في رد القتلى
والجرحى فلا تباشر بالمس مع إمكان ما هو دونه
(قلت) وقد توقفت عن الكلام في عدم استعمال المجانين في القتال، وكذا
أنواع الخيول التي أشار إليها المؤلف، وأخذ البيعة والتجسس لحساب المسلمين
لأنها من الأمور المسلم بها التي لم يختلف فيها أحد، والتي لا زال معمولا بها
عسكريا حتى في القرن العشرين عصر المدنية، ألا فليستيقظ المسلمون بالرجوع
إلى ربهم وسنة نبيهم
قوله (والمستحب أن يخرج يوم الخميس) قال الحافظ في الفتح: لعل سببه
ما روى من قوله صلى الله عليه وسلم (بورك لامتي في بكورها يوم الخميس) وهو
حديث ضعيف أخرجه الطبراني. قال وكونه صلى الله عليه وسلم كان يحب
الخروج يوم الخميس لا يستلزم المواظبة عليه لقيام مانع منه، وقد ثبت أنه
صلى الله عليه وسلم خرج لحجة الوداع يوم السبت اه‍. وقال ابن حزم ونستحب
الخروج للسفر يوم الخميس
قوله (ويستحب أن يعقد الرايات) و (أن يدخل دار الحرب بتعبئة)
فصلاة الله وسلامه عليك يا رسول الله فلقد قلت وشرعت نظم الحرب الحديثة فلا
زال العمل جار بالألوية والرايات
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان العدو ممن لم تبلغهم الدعوة لم يجز قتالهم حتى يدعوهم
إلى الاسلام، لأنه لا يلزمهم الاسلام قبل العلم، والدليل عليه قوله عز وجل
(وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) ولا يجوز قتالهم على ما لا يلزمهم وإن
بلغتهم الدعوة فالأحب أن يعرض عليهم الاسلام لما روى سهل بن سعد قال،
285

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى كرم الله وجهه يوم خيبر (إذا نزلت
بساحتهم فادعهم إلى الاسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لان يهدى الله بهداك
رجلا واحدا خير لك من حمر النعم، وان قاتلهم من غير أن يعرض عليهم
الاسلام جاز لما روى نافع قال (أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على
بنى المصطلق وهم غارون وروى وهم غافلون.
(الشرح) حديث سهل بن سعد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يوم خيبر
فقال أين على؟ فقيل إنه يشتكي عينيه، فأمر فدعى له فبصق في عينيه فبرأ مكانه
حتى كأن لم يكن به شئ، فقال فقاتلهم حتى يكونوا مثلنا، فقال على رسلك حتى
تنزل بساحتهم ثم أدعهم إلى الاسلام وأخبرهم بما يجب عليهم فوالله لان يهتدى
بك رجل واحد خير لك من حمر النعم) متفق عليه
حديث نافع ولفظه (عن ابن عوف قال كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل
القتال فكتب إلى إنما كان ذلك في أول الاسلام وقد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم
على بنى المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم
وأصاب يومئذ جويرية ابنة الحارث، حدثني بن عبد الله بن عمر وكان في ذلك
الجيش) متفق عليه
قوله (أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بنى المصطلق وهم غارون)
أي غافلون على غير علم ولا حذر. يقال رجل غر إذا لم يحرب الأمور بالكسر
وفى الحديث المؤمن غر وكريم الغرة الغفلة والغار الغافل، وسمى المصطلق
لحسن صوته والصلق الصوت الشديد عن الأصمعي، وفى الحديث ليس منا من
صلق ولا حلق.
قوله (عصموا منى دماءهم وأموالهم) أي منعوا، والعصمة المنع، يقال
عصمه الطعام أي منعه من الجوع، لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم.
قال الشوكاني في المسألة ثلاثة مذاهب (الأول) أنه يجب تقديم الدعاء
للكفار إلى الاسلام من غير فرق بين من بلغته الدعوة منهم ومن لم تبلغه، وبه
قال مالك والهادوية وغيرهم، وظاهر الحديث معهم
286

(والثاني) أنه لا يجب مطلقا (الثالث) أنه يجب لمن لم تبلغهم الدعوة ولا
يجب إن بلغتهم لكن يستحب. قال ابن المنذر وهو قول جمهور أهل العلم وقد
تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه، وبه يجمع ما بين ظاهر الاختلاف
من الأحاديث، وقد زعم الامام المهدى أن وجوب تقديم دعوة من لم تبلغه
الدعوة مجمع عليه، ويرد ذلك ما ذكرنا من المذاهب الثلاثة وقد حكاها المازري
وأبو بكر بن العربي
وقال الخطابي: وقد اختلف العلماء، فقال مالك بن أنس لا يقاتلون حتى
يدعوا أو يؤذنوا. وقال الحسن البصري. يجوز أن يقاتلوا قبل أن يدعوا قد
بلغتهم الدعوة، وكذلك قال الثوري وأصحاب الرأي، وهو قول الشافعي وأحمد
وإسحاق. واحتج الشافعي في ذلك بقتل ابن أبي الحقيق
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فإن كانوا ممن لا يجوز إقرارهم على الكفر بالجزية قاتلهم إلى أن
يسلموا، لقوله صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله
إلا الله؟ فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها) وإن كانوا ممن يجوز
إقرارهم على الكفر بالجزية قاتلهم إلى أن يسلموا أن يبذلوا الجزية، والدليل عليه
قوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم
الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية
عن يد وهم صاغرون)
وروى بريدة رضي الله عنه قال، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا
بعث أميرا على جيش أو سرية قال إذا أنت لقيت عدوا من المشركين فادعهم
إلى إحدى ثلاث خصال فأيتهن ما أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم، أدعهم
إلى الدخول في الاسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم أدعهم إلى التحول
من دارهم إلى دار الهجرة، فإن فعلوا فأخبرهم أن لهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على
المهاجرين، فإن دخلوا في الاسلام وأبوا أن يتحولوا إلى دار الهجرة، فأخبرهم
أنهم كاعراب المؤمنين الذين يجرى عليه حكم الله تعالى ولا يكون لهم في الفئ
287

والغنيمة شئ حتى يجاهدوا مع المؤمنين فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم، وإن
أبو فادعهم إلى إعطاء الجزية فإن فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم وإن أبوا فاستعن
بالله عليهم ثم قاتلهم، ويستحب الاستنصار بالضعفاء لما روى أبو الدرداء رضي الله عنه
قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ائتوني بضعفائكم فإنما
تنصرون وترزقون بضعفائكم، ويستحب أن يدع عند التقاء الصفين لما روى
أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا قال: الهم
أنت عضدي وأنت ناصري وبك أقاتل
وروى أبو موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف
أمرا قال اللهم إني أجعلك في نحورهم وأعوذ بك من شرورهم، ويستحب أن
يحرض الجيش على القتال لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال يا معشر الأنصار هذه أوباش قريش قد جمعت لكم إذا لقيتموهم غدا
فاحصدوهم حصدا.
وروى سعد رضي الله عنه قال نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد
وقال ارم فداك أبي وأمي، ويستحب أن يكبر عند لقاء العدو لما روى أنس
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا خيبر، فلما رأى القرية قال الله
أكبر خربت خيبر إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، قالها ثلاثا،
ولا يرفع الصوت بالتكبير لما روى أبو موسى الأشعري قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
في غزوة فأشرفوا على واد، فجعل الناس يكبرون ويهللن الله أكبر الله أكبر،
يرفعون أصواتهم، فقال يا أيها الناس انكم لا تدعون أصم ولا غائبا إنما
تدعون قريبا سميعا إنه معكم
(الشرح) حديث (أمرت أن أقاتل الناس..) أخرجه البخاري ومسلم
والأربعة عن أبي هريرة، وفى رواية متفق عليها عن ابن عمر (والنسائي) عن أبي
بكرة والحاكم عن أبي هريرة.
حديث بريدة رضي الله عنه أخرجه مسلم في المغازي، أبو داود في المغزى
الترمذي في السير ابن ماجة في الجهاد والحاكم من طريق أبى نجيح
288

حديث أبي الدرداء أخرجه أبو داود في الجهاد الترمذي في الجهاد
النسائي في الجهاد.
حديث أنس أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد باب ما يدعى عند اللقاء
(اللهم أنت عضدي ونصيري بك أحول وبك أصول وبك أقاتل) وأخرجه
الترمذي وقال حسن غريب والنسائي.
حديث أبي موسى الأشعري (كان إذا خاف أمر) أخرجه أبو داود والنسائي
حديث أنس متفق عليه
(أبى موسى الأشعري (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في عزوة فأشرفوا على
واد) متفق عليه.
اللغة: قوله (هذه أوباش قريش) الأوباش الجماعات والاخلاط من قبائل شتى
ويقال أو شاب بتقديم الشين أيضا. قوله (فاحصدوهم) أي استأصلوهم بالقتل
وأصله من حصاد الزرع وهو قطعه. قال الله تعالى (فجعلناهم حصيدا)
قوله (نثل لي كنانته) أي صبها واستخرج ما فيها ما النبل بمنزلة نثرها.
قوله (أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين) ساحة القوم هي العرصة
التي يديرون أخبيتهم حولها وساء نقيض سر، يقال ساءه ساءه يسوء سواءا بالفتح،
وساءه نقيض سره
تمسك القائلون بأنه لا تؤخذ الجزية من الكتابي إذا كان عربيا بما رواه
أحمد والترمذي عن ابن عباس قال مرض أبو طالب فجاءته قريش وجاءه النبي
صلى الله عليه وسلم وشكوه إلى أبى طالب، فقال يا ابن أخي ما تريد من قومك
قال أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم بها العجم الجزية، قال كلمة
واحدة، قولوا لا إله إلا الله، قالوا إلها واحدا؟ ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة
ان هذا الاختلاق، قال فنزل فيهم القرآن (ص والقرآن ذي الذكر إلى قوله إن
هذا الاختلاق)
وقال الحافظ في الفتح: فأما اليهود والنصارى فهم المراد أهل الكتاب
بالاتفاق، وفرق الحنفية فقالوا تؤخذ من مجوس العجم دون مجوس العرب.
وحكى الطحاوي عنهم أنها تقبل الجزية من أهل الكتاب ومن جميع كفار العجم
289

ولا يقبل من مشركي العرب إلا الاسلام أو السيف. وعن مالك تقبل من جميع
الكفار إلا من ارتدوا به. قال الأوزاعي وفقهاء الشام وحكى ابن القاسم عن
مالك أنها لا تقبل من قريش، وحكى ابن عبد البر الاتفاق على قبولها من
المجوس، لكن حكى ابن التين عن عبد الملك أنها لا تقبل إلا من اليهود
والنصارى فقط.
وقال الشافعي تقبل من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ويلتحق بهم المجوس
في ذلك مستدلا بما رواه أحمد والبخاري وغيرهما عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من
المجوس حتى حدثني بها عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخذها من مجوس هجر.
قال أبو عبيد في كتاب الأموال: ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب
وعلى المجوس بالسنة.
أما ما أورده من نصيحته للأمراء بأن يبينوا للأعداء أن القتال ما فرض
في الاسلام إلا لانتشال الناس من عبادة بعضهم لبعض إلى عبادة الله الواحد
القهار والاستنصار بالضعفاء والدعاء عند الالتحام وتحريض الجيوش على القتال
وتذكيرهم بحق الله والتكبير عند الهجوم وعدم رفع الصوت، فهي من المبادئ
الأساسية التي ما زال معمولا بها في الحروب وليت المسلمون اليوم يكبرون بدل
أن يقولوا ألفاظا غير مفهومة منقولة عن من لا دين لهم حتى يكون الله معهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا التقى الزحفان ولم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين ولم يخافوا
الهلاك تعين عليهم فرض الجهاد لقوله عز وجل (الآن خفف الله عنكم وعلم أن
فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين، وان يكن منكم ألف يغلبوا
ألفين) وهذا أمر بلفظ الخبر، لأنه لو كان خبرا لم يقع الخبر بخلاف المخبر فدل
على أنه أمر المائة بمصابرة المائتين، وأمر الانف بمصابرة الألفين، ولا يجوز
لمن تعين عليه أن يولى إلا منحرفا لقتال، وهو أن ينتقل من مكان إلى مكان
أمكن للقتال أو متحيزا إلى فئة، وهو أن ينضم إلى قوم ليعود معهم إلى القتال،
290

والدليل عليه قوله عز وجل (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا
فلا تولوهم الادبار، ومن يولهم يومئذ دبره الا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة
فقد باء بغضب من الله) وسواء كانت الفئة قريبة أو بعيدة، والدليل عليه ما روى
ابن عمر رضي الله عنه أنه كان في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فحاص الناس حيصة عظيمة وكنت ممن حاص، فلما برزنا قلت كيف نصنع وقد
فررنا من الزحف وبؤنا بغضب ربنا فجلسنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل صلاة الفجر
فلما خرج قمنا وقلنا نحن الفرارون، فقال لا بل أنتم العكارون، فدنونا فقبلنا
يده فقال إنا فئة المسلمين.
وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إنا فئة كل مسلم، وهو بالمدينة
وجيوشه في الآفاق، فإن ولى غير متحرف لقتال أو متحيزا إلى فئة أثم وارتكب
كبيرة. والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال الكبائر سبع أولهن الشرك بالله، وقتل النفس بغير حقها وأكل الربا وأكل
مال اليتيم بدارا أن يكبروا، وفرار يوم الزحف، ورمى المحصنات وانقلاب إلى
الاعراب، فإني غلب على ظنهم أنهم ان ثبتوا لمثليهم هلكوا ففيه وجهان
(أحدهما) أن لهم أن يولوا لقوله عز وجل (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
(والثاني) أنه ليس لهم أن يولوا وهو الصحيح لقوله عز وجل (إذا لقيتم فئة
فاثبتوا) ولان المجاهد إنما يقاتل ليقتل أو يقتل
وان زاد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين فلهم أن يولوا، لأنه لما أوجب
الله عز وجل على المائة مصابرة المائتين دل على أنه لا يجب عليهم مصابرة ما زاد
على المائتين.
وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال (من فر من اثنين فقد
فرو من فر من ثلاثة فلم يفر) وان غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون فالأفضل أن
يثبتوا حتى لا ينكسر المسلمون، وان غلب على ظنهم أنهم يهلكون ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يلزمهم أن ينصرفوا لقوله عز وجل (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
(والثاني) أنه يستحب أن ينصرفوا ولا يلزمهم، لأنهم ان قتلوا فازوا بالشهادة
وان لقى رجل من المسلمين رجلين من المشركين في غير الحرب، فإن طلباه ولم
291

يطلبهما فله أن يولى عنهما، لأنه غير متأهب للقتال، وإن طلبهما ولم يطلباه ففيه
وجهان (أحدهما) أن له أن يولى عنهما لان فرض الجهاد في الجماعة دون الانفراد
(والثاني) أنه يحرم عليه أن يولى عنهما، لأنه مجاهد لهما فلم يول عنهما، كما لو
كان مع جماعة.
(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه أبو داود وابن ماجة والترمذي وحسنه
وقال لا نعرفه إلا من حديث زيد بن أبي زياد، ويزيد بن أبي زياد تكلم فيه
غير واحد من الأئمة.
حديث عمر أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي من حديث ابن عمر مرفوعا
حديث أبي هريرة متفق عليه
قول ابن عباس بلفظ (من فر من ثلاثة لم يفر ومن فر من اثنين فقد فر)
أخرجه الحاكم والطبراني والشافعي
اللغة: قوله (إذا لقيتم الذين كفروا زحفا) الزحف سير القوم إلى القوم في الحرب
يقال زحفوا ودلفوا إذا تقاربوا ودنوا قليلا قليلا، وقيل لبعض نساء العرب
ما بالكن رسحا، فقال ارسحتنا نار الزحفين والرسحاء التي لا عجيزة لها، ومعنى
نار الزحفين أن النار إذا اشتد لهبها رجعن عنها تباعدن بجر أعجازهن ولا يمشين
فإذا سكن لهبها وهان وهجها زحفن إليها وقربن منها
قوله (متحرفا لقتال) تحرف وانحرف إذا مال، مأخوذ من حرف الشئ
وهو طرفه، أي مال عن معظم القتال، ووسط الصف إلى مكان أمكن له الكر
والفر أو متحيزا، يقال تحيز وانحاز وتحوز إذا انضم إلى غيره والحين الفريق
والفئة الجماعة مشتق من الفأو وهو القطع كأنها انقطعت عن غيرها والجمع فئات
وفئون، وقال الهروي من فأيت رأسه وفأوته إذا شققته فانفا.
قوله (فقد باء بغضب من الله) أي لزمه الغضب ورجع به، وقد ذكر.
قوله (فحاص الناس حيصة) أي حادوا عن القتال وانهزموا، يقال حاص عن
القتال يحيص حيصا إذا حاد عنه، وبؤنا بغضب ربنا، أي انصرفنا وقد لزمنا
الغضب، وتبوأ المنزل إذا لزمه، وروى حاص بالحاء والصاد المهملتين، ومعناه
292

هربوا من قوله تعالى (ولا يجدون عنها محيصا) أي هربا ومفرا، وقوله تعالى
(مالنا من محيص) أي مفر
قوله (بل أنتم العكارون) هم الكرارون العطافون في القتال، يقال عكر
يعكر عكرا إذا عطف والعكرة الكرة. قوله (وانقلاب إلى الاعراب) لعله ترك
الجمعة والجماعة والجهاد.
قال الجصاص في كتاب إحكام الأحكام في الآية (الآن خفف الله عنكم)
ايجاب فرض القتال على الواحد لرجلين من الكفار فإن زاد عدد الكفار على
اثنين فجائز حينئذ للواحد التحيز إلى فئة من المسلمين فيها نصرة، فأما أن أراد
الفرار ليلحق بقوم من المسلمين لا نصرة معهم فهو من أهل الوعيد المذكور في
قوله تعالى (ومن يولهم يومئذ دبره) وقال عمر بن الخطاب لما بلغه أن أبا عبيد
ابن مسعود استقتل يوم الجيش حتى قتل ولم ينهزم: رحم الله أبا عبيد لو انحاز
إلى لكنت له فئة، فلما رجع إليه أصحاب أبي عبيد قال أنا فئة لكم ولم يعنفهم،
وهذا الحكم عندنا ثابت ما لم يبلغ عدد جيش المسلمين اثنى عشر ألفا لا يجوز
لهم أن ينهزموا عن مثلهم الا متحرفين لقتال، وهو أن يصيروا من موضع إلى
غيره مكايدين لعدوهم من نحو خروج من مضيق إلى فسحة أو من سعة من
المسلمين يقاتلونهم معهم، فإذا بلغوا اثنى عشر ألفا فإن محمد بن الحسن ذكر
أن الجيش إذا بلغوا كذلك فليس لهم أن يفروا من عدوهم وان كثر عددهم،
ولم يذكر خلافا بين أصحابنا فيه.
واحتج بحديث ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير
الأصحاب أربعة وخير السرايا أربع مائة وخبر الجيوش أربعة آلاف ولن يؤتى
اثنى عشر ألفا من قلة ولن يغلب. وفى بعضها ما غلب قوم يبلغون اثنى عشر
ألفا إذا اجتمعت كلمتهم.
وذكر الطحاوي أن مالكا سئل فقيل له أيسعنا التخلف عن قتال من خرج
عن أحكام الله وحكم بغيرها؟ فقال له مالك إن كان معك اثنا عشر ألفا مثلك
لم يسعك التخلف والا فأنت في سعة من التخلف، وكان السائل له عبد الله بن
عمر بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر، وهذا المذهب موافق لما ذكر محمد بن الحسن
293

وإن كثر عدد المشركين فغير جائز لهم أن يفروا منهم وإن كانوا أضعافهم لقوله
صلى الله عليه وسلم: إذا اجتمعت كلمتهم، وقد أوجب عليهم بذلك جمع كلمتهم.
(قلت) والآية تدل على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي وقد جاء
التصريح بذلك في أحاديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم التي أوردها المؤلف،
وقد قيد بعض العلماء هذا بما إذا كان لا يزيدون على ضعف المؤمنين. قال
الشافعي: إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم ان يولوا إلا
متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم
أحب لهم أن يولوا ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير
التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة. وقد روى عنه عمر وابنه وابن عباس
وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري وأبى بصرة وعكرمة ونافع والحسن وقتادة
وزيد أبى حبيب والضحاك أن تحريم الفرار في هذه الآية خاص بيوم بدر،
ولكن هذا خلاف قاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ويؤيده
نزول الآية بعد انتهاء الغزو، وإن اعترض معترض بالآية (ان الذين تولوا منكم
يوم التقى) (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم
الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين.. الخ)
قلت هذا لا ينافي كون التولي حراما وكبيرة من الكبائر ولا يقتضى أن يكون
كل قول لغير السببين المستثنيين في آية الأنفال يبوء صاحبه بغضب عظيم من الله
ومأواه جهنم وبئس المصير، بل قد يكون دون ذلك، ويتقيد بآية رخصة الضعف
وبالنهي عن إلقاء النفس في التهلكة من حيث عمومها.
وإذا تمسك المعترضون بالحديث الذي أورده المؤلف عن ابن عمر (كنت
في سرية.. الخ) قلت فيه يزيد بن أبي زياد وهو مختلف فيه ضعفه الكثيرون
وقال ابن حبان كان صدوقا الا أنه لما كبر ساء حفظه وتغير فوقعت المناكير
في حديثه، فمن سمع منه قبل التغيير صحيح، ومعروف ما قيل من أنه لا يعتد
بتصحيح ابن حبان.
وجملة القول أن هذا الحديث لا وزن له في هذه المسألة لا متنا ولا سندا،
وفى معناه أثر عن عمر هو دونه فلا يعتد به في المسألة
294

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم
منع أبا بكر رضي الله عنه من قتل ابنه فإن قتله لم يكره أن يقصد قتله كما لا يكره
إذا قصد قتله وهو مسلم، وإن سمعه يذكر الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه
وسلم بسوء لم يكره أن يقتله، لان أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قتل أباه
وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته يسبك، ولم ينكره عليه
(فصل) ولا يجوز قتل نسائهم ولا صبيانهم إذا لم يقاتلوا لما روى ابن عمر
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان ولا
يجوز قتل الخنثى المشكل، لأنه يجوز أن يكون رجلا ويجوز أن يكون امرأة فلم
يقتل مع الشك، وإن قاتلوا جاز قتلهم لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة يوم حنين، فقال من قتل هذه؟ فقال
رجل أنا يا رسول الله غنمتها فأردفتها خلفي فلما رأت الهزيمة فينا أهوت إلى سيفي
أو إلى قائم سيفي لتقتلني فقتلتها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ما بال النساء ما شأن
قتل النساء، ولو حرم ذلك لا نكره النبي صلى الله عليه وسلم، ولأنه إذا جاز
قتلهن إذا قصدن القتل وهن مسلمات فلان يجوز قتلهن وهن كافرات أولى.
(فصل) وأما الشيخ الذي لا قتال فيه فإن كان له رأى في الحرب جاز قتله
لان دريد بن الصمة كان شيخا كبيرا وكان له رأى، فإنه أشار على هوازن يوم
حنين ألا يخرجوا معهم بالذراري، فخالفه مالك بن عوف فخرج بهم فهزموا،
فقال دريد في ذلك:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى * فلم يستبينوا الرشد الا ضحى الغد
وقتل ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم قتله، ولان الرأي في الحرب أبلغ
من القتال لأنه هو الأصل وعنه يصدر القتال، ولهذا قال المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان * هو أول وهي المحل الثاني
فإذا هما اجتمعا لنفس مرة * بلغت من العلياء كل مكان
ولربما طعن الفتى أقرانه * بالرأي قبل تطاعن الفرسان
295

وإن لم يكن له رأى ففيه وفى الراهب قولان (أحدهما) أنه يقتل لقوله عز
وجل (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ولأنه ذكر مكلف حربي فجاز قتله
بالكفر كالشاب (والثاني) أنه لا يقتل لما روى أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه
قال ليزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة لما بعثهم إلى الشام
لا تقتلوا الولدان ولا النساء ولا الشيوخ، وستجدون أقواما حبسوا أنفسهم على
الصوامع فدعوهم وما حبسوا له أنفسهم، ولأنه لا نكاية له في المسلمين فلم يقتل
بالكفر الأصلي كالمرأة.
(فصل) ولا يقتل رسولهم لما روى أبو وائل قال لما قتل عبد الله بن مسعود
ابن النواحة قال: إن هذا وابن أثال قد كانا أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم
رسولين لمسيلمة، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أتشهد أنى رسول الله
قالا نشهد أن مسيلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت
قاتلا رسولا لضربت أعناقكما، فجرت سنة أن لا تقتل الرسل
(فصل) فإن تترسوا بأطفالهم ونسائهم، فإن كان في حال التحام الحرب جاز
رميهم ويتوقى الأطفال والنساء، لأنا لو تركنا رميهم جعل ذلك طريقا إلى
تعطيل الجهاد وذريعة إلى الظفر بالمسلمين، وإن كان في غير حال الحرب ففيه
قولان (أحدهما) أنه يجوز رميهم. لان ترك قتالهم يؤدى إلى تعطيل الجهاد
(والثاني) أن ه لا يجوز رميهم لأنه يؤدى إلى قتل أطفالهم ونسائهم من غير
ضرورة، وان تترسوا بمن معهم من أسارى المسلمين، فإن كان ذلك في حال
التحام الحرب جاز رميهم ويتوقى المسلم لما ذكرناه، وإن كان في غير حال التحام
الحرب لم يجز رميهم قولا واحدا، والفرق بينهم وبين أطفالهم ونسائهم ان المسلم
محقون الدم لحرمة الدين فلم يجز قتله من غير ضرورة، والأطفال والنساء حقن
دمهم لأنهم غنيمة للمسلمين فجاز قتلهم من غير ضرورة، وان تترسوا بأهل
الذمة أو بمن بيننا وبينهم أمان كان الحكم فيه كالحكم فيه إذا تترسوا بالمسلمين،
لأنه يحرم قتلهم كما يحرم قتل المسلمين.
(فصل) وان نصب عليهم منجنيقا أو بيتهم ليلا وفيهم نساء وأطفال
جاز لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق على
296

أهل الطائف، وإن كانت لا تخلوا من النساء والأطفال، وروى الصعب بن حثامة
قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصاب
من نسائهم وذراريهم، فقال هم منهم، ولان الكفار لا يخلون من النساء
والأطفال فلو تركنا رميهم لأجل النساء، والأطفال بطل الجهاد، وإن كان فيهم
أسارى من المسلمين نظرت فإن خيف منهم أن هم إن تركوا قاتلوا وظفروا
بالمسلمين جاز رميهم، لان حفظ من معنا من المسلمين أولى من حفظ من معهم
وان لم يخف منهم نظرت، فإن كان الأسرى قليلا جاز رميهم لأن الظاهر أنه
لا يصيبهم، والأولى أن لا ترميهم، لأنه ربما أصاب المسلمين وإن كانوا
كثيرا لم يجز رميهم، لأن الظاهر أنه يصيب المسلمين، وذلك لا يجوز من
غير ضرورة.
(فصل) ويجوز قتل ما يقاتلون عليه من الدواب، لما روى أن حنظلة
ابن الراهب عقر بأبي سفيان فرسه، فسقط عنه فجلس على صدره، فجاء
ابن شعوب فقال
لاحمين صاحبي ونفسي * بطعنة مثل شعاع الشمس
فقتل حنظلة واستنقذ أبا سفيان ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم فعل حنظلة،
ولان بقتل الفرس يتوصل إلى قتل الفارس.
(فصل) وان احتيج إلى تخريب منازلهم وقطع أشجارهم ليظفروا بهم جاز ذلك،
وان لم يحتج إليه نظرت فإن لم يغلب على الظن أنها تملك عليهم جاز فعله وتركه وان غلب على الظن
أنها تملك عليهم ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز لأنها تصير غنيمة فلا يجوز اتلافها
(والثاني) أن الأولى أن لا يفعل فإن فعل جاز لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حرق على بنى النضير وقطع البويرة، فأنزل الله عز وجل (ما قطعتم من لينة أو
تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين)
(الشرح) حديث منع أبا بكر رضي الله عنه..)) أخرجه الحاكم والبيهقي
من طريق الواقدي، وهو متكلم فيه، بل رماه بعضهم بالكذب. وأخرجه
ابن أبي شيبة والحاكم من طريق آخر عن أيوب، قال عبد الرحمن بن أبي بكر
297

لأبيه: قد رأيتك يوم أحد فضفت عنك، فقال أبو بكر لو رأيتك
لم أضف عنك.
حديث (لان أبا عبيدة قتل أباه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم سمعته
يسبك. هذا الحديث أخرجه الحاكم والبيهقي من طريق الواقدي عن ابن أبي الزناد
عن أبيه قال شهدا أبو حذيفة بدرا ودعاه أباه عتبة إلى البزاز فمنعه عنه رسول الله
صلى الله عليه وسلم، والواقدي متكلم فيه حتى رماه بعضهم بالكذب وروى ابن أبي
شيبة والحاكم من رواية أبى أيوب قال، قال عبد الرحمن بن أبي بكر لأبيه
قد رأيتك يوم أحد فضفت عنك، فقال أبو بكر لو رأيتك لم أضف عنك،
ورواية الحاكم عن أيوب رجاله ثقات مع إرساله
روى الحاكم والبيهقي منقطعا عن عبد الله بن شوذب قال جعل أبو أبي عبيدة بن
الجراح ينعت الآلهة لأبي عبيدة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه، فلما أكثر
قصده أبو عبيدة وهذا معضل وكان الواقدي ينكره ويقول مات والد
أبى عبيدة قبل الاسلام.
وروى أبو داود في مراسيله والبيهقي من رواية مالك بن عمير قال (جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله انى لقيت العدو ولقيت أبى فيهم،
فسمعت منه مقالة قبيحة فطعنته بالرمح فقتلته، فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم
صنيعه) وهذا مبهم
حديث ابن عمر (نهى عن قتل النساء) أخرجه البخاري ومسلم
حديث ابن عباس (مر بامرأة مقتولة..) أخرجه الطبراني في الكبير وفيه
أرطاة بن الحاج وهو ضعيف، وأخرجه ابن أبي شيبة مرسلا وأبو داود في
مراسيله الا أنه قال (امرأة مقتولة بالطائف)
حديث (أن دريد بن الصمة كان شيخا كبيرا وكان له رأى..) في
الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري قال (لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم
من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس فلقي دريد من الصمة فقتله فهزم أصحابه)
وباقي القصة ذكرها ابن إسحاق في السيرة مطولا.
298

أثر (أن أبا بكر قال ليزيد بن أبي سفيان...) أخرجه البيهقي. وروى أن
الإمام أحمد أنكره، ورواه مالك في الموطأ ورواه سيف في الفتوح مرسلا
حديث أبي وائل (لما قتل عبد الله بن مسعود.) أخرجه أحمد والحاكم
من حديث ابن مسعود وأبو داود مختصرا والنسائي وأبو نعيم في معرفة الصحابة
في ترجمة دبيو بن شهر الحنفي
حديث على (أن النبي صلى الله عليه وسلم نصب المنجنيق) أخرجه أبو داود
وابن سعد في الطبقات مرسلا عن مكحول ووصله العقيلي من وجه آخر عن علي
حديث الصعب بن جثامة (سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من
المشركين..) متفق عليه
حديث (أن حنظلة الراهب عقر بأبي سفيان فرسه..) أخرجه البيهقي من
طريق الشافعي بغير إسناد، وذكر الواقدي في المغازي عن شيوخه مطولا،
وابن إسحاق في المغازي بدون العقر
حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق على بنى النضير..
متفق عليه.
اللغة. قوله (بمنعرج اللوى) منعرج الوادي منعطفه يمنة ويسرة، واللوى
منقطع الرمل وهو الجدد بعد الرمة. قوله (الرشد) ضد الغى شبيه بالصواب
ضد الخطأ. قوله (لنفس مرة) بضم الميم والخفض صفة لنفس، أي قوى،
والمرة القوة، وهو مضبوط في ديوانه هكذا، وكذا رواه الكرماني بالضم
وسماعنا بفتح الميم والنصب.
قوله (أقرانه) جمع قرن بكسر القاف وهو الكفؤ في الشجاعة، يقال فلان
قرن فلان أي نظيره وكفؤه عند القتال. قوله (لا نكاية) النكاية أن يقتل
ويخرج، يقال نكيت في العدو أنكى نكاية بغير همز إذا بالغت نميهم قتلا وجرحا
أو جرحا، وقد ذكر قوله (أو بيتهم ليلا) يقال بيت العدو إذا أوقع بهم
ليلا والاسم البيات ومثله يبيتون
قوله (الذراري) هم الأطفال والصغار الذين لم يبلغوا الحلم، وأصلها من
299

ذرأ الله الخلق أي خلقهم فترك همزها استخفافا كما ترك همز البرية، وأصلها من
برأ الله الخلق ووزنها فعلية.
وقال بعضهم هي مأخوذة من الذر لان الله أخرج الخلق من صلب آدم أمثال
الذر وأشهد هم على أنفهم ألست بربكم قالوا بلى. وقيل أصلها ذروووة على وزن
فعلولة فأبدلت الواو الأخيرة باء فاجتمعت الواو والياء وسكنت الأولى منهما
فقلبت الواو باء وأدغمت
قوله (وقطع البويرة) بغير همز اسم موضع وليس بتصغير بئر. وقوله
تعالى (ما قطعتم من لبنة) اللين نوع من النخل، قيل هو الدقل، وقيل هو
الجعرور ضربان رديان من التمر. واللينة النخلة الواحدة وأصلها لونة فقلبت
الواو ياء لانكسار ما قبلها وأصلها من اللون على هذا، وهو قول العزيزي.
قالوا ألوان النخل ما عدا البرنى والعجوة
قوله (ويكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم)
(قلت) يحرم قتل كل رحم لم تخرج للقتال أو تتجهز له، فإن خرجت للقتال
فقد حق قلتها ولابد لقول الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا آباؤكم
واخوانكم أولياء ان استحبوا الكفر على الايمان..) الخ.
يقول صديق حسن خان في الروضة الندية: ويحرم قتل النساء والأطفال
والشيوخ إلا أن يقاتلوا فيدفعوا بالقتل، فقد أجاز قتلهم مع ورود النص صريحا
في الصحيحين بتحريم قتلهم.
ويقول الامام السيد رشيد رضا في تفسير المنار: كان موضع الضعف من
بعض المسلمين في ذلك نعرة القرابة ورحمه الرحم وبقية عصبية النسب، إذ كان
لا يزال لكثير منهم أولو قربى من المشركين يكرهون قتلهم، ثم قال: لا يتخذ
أحد منكم أحدا من أب أو أخ وليا له ينصره في القتال. أما الاستدلال بالحديث
(منع أبا بكر..) فغير جائز لان الحديث فيه من رمى بالكذب
قوله (ولا يجوز قتل نسائهم..) قال ابن دقيق العيد في أحكام الأحكام
بعد أن أورد حديث عبد الله بن عمر (أن امرأة وجدت في بعض مغازي النبي
صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان) هذا حكم
300

مشهور متفق عليه فيمن لا يقاتل، ويحمل هذا الحديث على ذلك لغلبة عدم
القتال على النساء والصبيان، ولعل سر هذا الحكم أن الأصل عدم إتلاف النفوس
وإنما أبيح منه ما يقتضى دفع المفسدة.
قال الشوكاني: وأحاديث الباب (بعد أن أوردها) تدل على أنه لا يجوز قتل
النساء والصبيان، وإلى ذلك ذهب مالك والأوزاعي فلا يجوز ذلك عندهما بحال
من الأحوال حتى لو تترس أهل الحرب بالنساء والصبيان أو تحصنوا بحصن أو
سفينة وجعلوا معهم النساء والصبيان لم يجز رميهم ولا تحريقهم. وذهبت
الشافعية والكوفيون إلى الجمع بين الأحاديث المذكورة فقالوا إذا قاتلت المرأة
جاز قتلها وقال ابن حبيب من المالكية لا يجوز القصد إلى قتلها إذا قاتلت إلا أن
باشرت القتل أو قصدت إليه. ونقل ابن بطال أنه اتفق الجميع على المنع من
القصد إلى قتل النساء والولدان.
وقال الحافظ في الفتح: حكى الحازمي قولا بجواز قتل النساء والصبيان على
ظاهر حديث الصعب، وزعم أنه ناسخ لأحاديث النهى وهو غريب. قلت وما
أورده ابن دقيق العيد هو الصحيح
قوله (وأما الشيخ الذي لا قتال..) قلت روى الترمذي وصححه وأحمد
(اقتلوا شيوخ المشركين واستحيوا شرخهم) وهو في ظاهره يخالف حديث
(أن دريد بن الصمة..) وفى الحقيقة لا تعارض بينهما إذ يمكن الجمع بين
الحديثين بأن الشيخ المنهى عنه هو الفاني الذي لم يبق فيه نفع للكفار ولا مضرة
منه على المسلمين، وقد وقع التصريح بهذا الوصف بقوله شيخا فانيا، والشيخ
المأمور بقتله هو من بقي فيه نفع للكفار ولو بالرأي
وقال الإمام أحمد بن حنبل في تعليل أمره صلى الله عليه وسلم بقتل الشيوخ
أن الشيخ لا يكاد يسلم والصغير أقرب إلى الاسلام وقال الشوكاني لا يجوز قتل
من كان متخليا للعبادة من الكفار كالرهبان لاعراضه عن ضر المسلمين، وحديث
ابن عباس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال اخرجوا
باسم الله تعالى تقاتلون في سبيل الله من فكر بالله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا
301

تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع) وإن كان فيه مقال لكنه معتضد
بالقياس على الصبيان والنساء.
قوله (ولا يقتل رسولهم..) وهو إجماع لا شك
قوله (فإن تترسوا بأطفالهم) فقد سبق الكلام عليه في أول الفصل
قوله (وإن نصب عليهم منجنيقا..) قال الشوكاني يجوز تبييت الكفار،
وقال الترمذي (ورخص بعض أهل العلم في البيات وقتل النساء وفيهم الولدان)
وهو قول أحمد وإسحاق ورخصا في البيات
وقال الحافظ في الفتح قال أحمد لا بأس في البيات ولا أعلم أحدا كرهه.
ثم قال ليس المراد (في حديث الصعب) إباحة قتلهم بطريق القصد إليهم، بل
المراد إذا لم يكن الوصول إلى الآباء إلا بوطئ الذرية، فإذا أصيبوا لاختلاطهم
بهم جاز قتلهم.
وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي (كان الزهري إذا حدث بحديث
الصعب قال قلت يا رسول الله ان خيلنا أوطأت من نساء المشركين وأولادهم؟
قال هم من آبائهم) قال وأخبرني ابن كعب بن مالك عن عمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
لما بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء والصبيان) ثم قال في الفتح (وكأن
الزهري أشار بذلك إلى نسخ حديث الصعب) قلت وما قاله الحافظ هو الصحيح
استنادا إلى أن الشافعي أنكر على الزهري النسخ، وقال ابن الجوزي النهى
محمول على التعمد.
قوله (ويجوز قتل ما يقاتلون عليه...) وهذا حق لا مرية فيه
قوله (وان احتيج إلى تخريب منازلهم..) قال الترمذي، قال الشافعي
لا بأس بالتحريق في أرض العدو وقطع الأشجار والثمار، وقال أحمد وقد تكون
في مواضع لا يجدون منه بدا، فأما البعث فلا تحرق، قال إسحاق التحريق سنة
إذا كان أنكى فيهم.
وقال الحافظ في الفتح، ذهب الجمهور إلى جواز التحريق والتخريب في بلاد
العدو، وكرهه الأوزاعي والليث وأبو ثور، واحتجوا بوصية أبى بكر لجيوشه
وأجاب الطبري بأن النهى محمول على القصد لذلك، بخلاف ما إذا أصابوا ذلك
302

في خلال القتال، ثم قال وبهذا قال أكثر أهل العلم، ونحو ذلك القتال بالتغريق
وقال غيره إنما نهى أبو بكر جيوشه عن ذلك لأنه علم أن تلك البلا ستفتح فأراد
إبقائها على المسلمين.
وقال القاري بجواز قطع شجر الكفار وإحراقه، وبه قال الجمهور، وقيل
لا يجوز، قال ابن الهمام يجوز لان ذلك المقصود كبت أعداء الله وكسر شوكتهم
فيفعلون ما يمكنهم من التحريق وقطع الأشجار وإفساد الزرع، لكن إذا لم يغلب
على الظن أنهم مأخوذون بغير ذلك، فإن كان الظاهر أنهم مغلوبون وأن الفتح
بادكره ذلك لأنه إفساد في غير محل الحاجة وما أبيح إلا لها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجوز للمسلم أن يؤمن من الكفار آحادا لا يتعطل بأمانهم
الجهاد في ناحية كالواحد والعشرة والمائة وأهل القلعة، لما روى عن علي كرم الله
وجهه أنه قال (ما عندي شئ إلا كتاب الله عز وجل وهذه الصحيفة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أن ذمة المسلمين واحدة، فمن أخفر مسلما فعليه لعنة الله
والملائكة والناس أجمعين) ويجوز للمرأة من ذلك ما يجوز للرجل لما روى ابن
عباس رضي الله عنه عن أم هانئ رضي الله عنها أنها قالت يا رسول الله يزعم
ابن أمي أنه قاتل من أجرت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجرت
من أجرت يا أم هانئ. ويجوز ذلك للعبد لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال يجير على المسلمين أدناهم
وروى فضل بن يزيد الرقاشي قال (جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه جيشا
كنت فيه فحصرنا قرية من قرى رام هرمز فكتب عبد منا أمانا في صحيفة وشدها
مع سهم ورمى به إليهم فأخذوها وخرجوا بأمانه، فكتب بذلك إلى عمر رضي الله عنه
فقال العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم، ولا يصح ذلك من صبي
ولا مجنون ولا مكره لأنه عقد فلم يصح منهم كسائر العقود، فإن دخل مشرك
على أمان واحد منهم، فإن عرف أن أمانة لا يصح حل قتله لأنه حربي ولا
أمان له، وان لم يعرف أن أمانة لا يصح فلا يحل قتله إلى أن يرجع إلى مأمنه،
303

لأنه دخل على أمان ويصح الأمان بالقول، وهو أن يقول أمنتك أو أجرتك
أو أنت آمن أو مجار أو لا بأس عليك أو لا خوف عليك أو لا تخف أو مترس
بالفارسية وما أشبه ذلك، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة (من
دخل دار أبي سفيان فهو آمن) وقال لام هاني (قد أجرت من أجرت) وقال
أنس لعمر رضي الله عنه في قصة هرمز أن ليس لك إلى قتله من سبيل، قلت له
تكلم لا بأس عليك فأمسك عمر.
وروى زر عن عبد الله أنه قال (إن الله يعلم كل لسان فمن أتى منكم أعجميا
وقال مترس فقد أمنه) ويصح الأمان بالإشارة لما روى أبو سلمة قال، قال عمر
رضي الله عنه (والذي نفس عمر بيده لو أن أحدكم أشار بأصبعه إلى مشرك ثم
نزل إليه على ذلك ثم قتله لقتلته)
فإن أشار إليه بالأمان ثم قال لم أرد الأمان قبل قوله لأنه أعرف بما أراده
ويعرف المشرك أنه لا أمان له ولا يتعرض له إلى أن يرجع إلى مأمنه لأنه دخل
على أنه آمن، وإن أمن مشركا فرد الأمان لم يصح الأمان لأنه ايجاب حق لغيره
بعقد فلم يصح مع الرد كالايجاب في البيع والهبة، وان أمن أسيرا لم يصح الأمان
لأنه يبطل ما ثبت للامام فيه من الخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء
وان قال كنت أمنته قبل الأسر لم يقبل قوله لأنه لا يملك عقد الأمان في هذه
الحال فلم يقبل إقراره به.
(فصل) وان أسر امرأة حرة أو صبيا حرا رق بالأسر، لان النبي صلى الله عليه وسلم
قسم سبى بنى المصطلق واصطفى صفية من سبى خيبر وقسم سبى هوازن ثم استنزلته
هوازن فنزل واستنزل الناس فنزلوا، وان أسر حر بالغ من أهل القتال فللامام
أن يختار ما يرى من القتل والاسترقاق والمن والفداء، فان رأى القتل قتل،
لقوله عز وجل (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ولان النبي صلى الله عليه
وسلم قتل يوم بدر ثلاثة من المشكين من قريش، مطعم بن عدي، والنضر
ابن الحارث. وعقبة بن أبي معيط. وقتل يوم أحد أبا عزة الجمحي، وقتل يوم
الفتح بن خطل، وان رأى المن عليه جاز، لقوله عز وجل (فإما منا بعد واما
فداء) ولان النبي صلى الله عليه وسلم من على أبى عزة الجمحي ومن على ثمامة
304

الحنفي ومن على أبى العاص بن الربيع وإن رأى أن يفادى بمال أو بمن أسر من
المسلمين فادى به لقوله عز وجل (فإما منا بعد وإما فداء)
وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى
أسيرا من عقيل برجلين من أصحابه أسرتهما ثقيف. وإن رأى أن يسترقه فإن
كان من غير العرب نظرت فإن كان ممن له كتاب أو شبه كتاب استرقه، لما روى
عن ابن عباس أنه قال في قوله عز وجل (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى
يثخن في الأرض) وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد
سلطانهم أمر الله عز وجل في الأسارى (فإما منا بعد وإما فداء) فجعل سبحانه
وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار إن شاؤوا
قتلوا وإن شاءوا استعبدوهم وان شاءوا فادوم، فإن كان من عبدة الأوثان
ففيه وجهان:
(أحدهما) وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يجوز استرقاقه لأنه
لا يجوز اقراره على الكفر بالجزية فلم يجز الاسترقاق كالمرتد
(والثاني) أنه يجوز لما رويناه عن ابن عباس، ولانى من جاز المن عليه في
الأسر جاز استرقاقه كأهل الكتاب، وإن كان من العرب ففيه قولان
قال في الجديد يجوز استرقاقه والمفاداة به وهو الصحيح، لان من جاز المن
عليه والمفاداة به من الأسارى جاز استرقاقه كغير العرب. وقال في القديم
لا يجوز استرقاقه لما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
يوم حنين (لو كان الاسترقاق ثابتا على العرب لكان اليوم، وإنما هو أسر وفداء)
فإن زوج عربي بأمة فأتت منه بولد فعلى القول الجديد الولد مملوك، وعلى القديم
الولد حر ولا ولاء عليه لأنه حر من الأصل
(الشرح) حديث على (ما عندي شئ الا كتاب الله..) متفق عليه مسلم
عن أبي هريرة والبخاري عن أنس
حديث أم هانئ (أنها قالت يا رسول الله يزعم ابن أمي...) أصله في
الصحيحين وساقه الحاكم في ترجمة بن هشام من حديث طويل، والأزرقي عن
305

أبي هريرة عنها، وفيه الواقدي وسبق الكلام عنه فيما قبله، والطبراني وادعى
الحاكم تواتره.
. حديث ابن عمر (يجير على المسلمين أدناهم..) أخرجه أبو داود والنسائي
والحاكم عن علي وأحمد وأبن ماجة وأبو داود من طريق آخر عن عمرو بن
شعيب عن أبيه وابن حبان
حديث (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن..) النسائي وأحمد وأبو داود
حديث أنس (في قصة هرمز أن ليس لك إلى قتله من سبيل) ابن أبي شيبة
ويعقوب بن سفيان في تاريخه والبيهقي والشافعي وعلقه البخاري مختصرا
حديث عبد الله بن عمر أنه قال (ان الله يعلم كل لسان..) ذكره البخاري
تعليقا والبيهقي موصولا من حديث أبي وائل ومالك بلاغا عن عمر، وابن أبي شيبة
والحديث عن عمر وليس عن ابنه
أثر عمر (والذي نفس عمر بيده.) أخرجه سعيد بن منصور في سننه
وابن أبي شيبة في مصنفه
حديث (قسم سبى بنى المصطلق.) عن عائشة قالت لما قسم رسول الله
صلى الله عليه وسلم صبايا بنى المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في السبي لثابت
ابن قيس بن شماس أو لابن عم له فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملاحة
فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار
سيد قومه وقد أصابني من البلاء ما لم يخف عليك فجئتك أستعينك على كتابتي؟
قال فهل لك في خير من ذلك؟ قالت وما هو يا رسول الله؟ قال أقضى كتابتك
وأتزوجك، قالت نعم يا رسول الله قال قد فعلت، قال وخرج الخبر إلى الناس
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج جويرية بنت الحارث، فقال الناس: أصهار رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم، قالت فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة
أهل بيت من بنى المصطلق فما أعلم امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها)
أخرجه أحمد والحاكم وأبو داود والبيهقي وأصله في الصحيحين من حديث ابن عمر
حديث (قسم سبى هوازن..) عن مروان بن الحكم ومسور بن مخرمة أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين جاءه وقد هوازن مسلمين فسألوه أن يرد إليهم أموالهم
306

وسبيهم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الحديث إلى أصدقه،
فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بكم، وقد
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم انتظرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف
فلما تبين لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير راد إليهم إلا إحدى للطائفتين قالوا فإنا
نختار سبينا، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال:
أما بعد فإن إخوانكم هؤلاء قد جاءوا تائبين وانى رأيت أن أرد إليهم سبيهم،
فمن أجب أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على حظه حتى
نعطيه إياه من أول ما يفئ الله علينا فليفعل، فقال الناس قد طيبنا ذلك يا رسول
الله لهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم انا لا ندري من اذن منكم في
ذلك ممن لم يأذن، فارجعوا حتى ترفع إلينا عرفاؤكم أمركم، فرجع الناس فكلمهم
عرفاؤهم ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه أنهم قد طيبوا أذنوا، فهذا
الذي بلغني عن سبى هوازن) أخرجه أحمد والبخاري وأبو داود
حديث (قتل يوم بدر..) في مراسيل أبى داود عن سعيد بن جبير.
وقال الحافظ في التلخيص وفى قوله المطعم بن عدي تحريف والصواب طعيمة بن عدي
، وأخرجه ابن أبي شيبة، ووصله الطبراني في الأوسط بذكر ابن عباس
والبيهقي من طريق سعيد بن المسيب بهذه القصة مطولا وفى اسناده الواقدي
حديث (من على أبى عزة الجحى..) أخرجه البيهقي من طريق سعيد بن
المسيب مطولا وفيه (من على أبى عزة الجمحي عن أن لا يقاتله فلم يوف فقاتله
يوم أحد فقتل فأسر وقتل، وفيه (فقال له أين ما أعطيتني من العهد والميثاق،
والله لا تمسح عارضيك بمكة تقول سخرت بمحمد مرتين، قال شعبة فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: ان المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين. وفى اسناده الواقدي
حديث (من على ثمامة الحنفي..) روى مسلم عن أبي هريرة: بعث رسول الله
صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بنى حنيفة يقال له ثمامة بن
أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه
وسلم فعال له ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال يا محمد عندي خير ان تقتل تقتل ذا دم
307

وإن تنعم تنعم على شاكر، وان كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، وفيه
(أطلقوا ثمامة) وأصله في البخاري
(من على أبى العاص..) روى أحمد وأبو داود والحاكم من حدث عائشة
لما بعث أهل مكة في فدى أساراهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء
زوجها أبي العاص بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها
على أبى العاص، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال: إن رأيتم
أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها، فقالوا نعم فأطلقوه وردوا عليه
الذي لها، اللفظ لأحمد.
حديث عمران بن الحصين (فادى أسيرا من عقيل..) أخرجه مسلم في
صحيحه مطولا وأحمد والترمذي وابن حبان مختصرا
حديث ابن عباس (ما كان لنبي أن يكون له أسرى..) أخرجه البيهقي من
حديث علي بن أبي طلحة بنحوه، ويقال إن على لم يسمع من ابن عباس لكنه إنما
أخذ التفسير عن ثقات أصحابه مجاهد وغيره، وقد اعتمده البخاري وأبو حاتم
في التفسير.
حديث (لوك ان الاسترقاق ثابتا..) أخرجه البيهقي من طريق الواقدي
والطبراني في الكبير من طريق فيها يزيد بن عياض وهو أضعف من الواقدي
قوله (فمن أخفر مسلما) أي نقض عهده وذمته، يقال أخفرت الرجل إذا
نقضت عهده وخفرته بغير همز أجرته
قوله (أصطفى صفية من سبى خيبر) أي أختارها، مأخوذ من صفوة المال
وهو خياره، وسميت صفية لذلك، وقيل كان ذلك اسمها من قبل أن تسبى
قوله (استنزلته هوازن فنزل) يقال استنزل فلان أي حط عن منزلته،
فمعناه طلبوا منه أن ينحط عما ملكه، واستنزل الناس طلبهم أن يحطوا ويتركوا
ما ملكوه من السبي، ومثله استنزله من ثمن المبيع
قوله (ويجوز للمسلم أن يؤمن الكفار) قال ابن مفلح وهو حنبلي
في الفروع باب الأمان، ويصح منجزا ومعلقا من كل مسلم عاقل مختار حتى عبد
أو أسيرا أ أنثى، نص على ذلك، قال في عيون المسائل وغيرها، وإذا عرف
308

المصلحة فيه، وذكر غير واحد الاجماع في المرأة بدون هذا الشرط، وعنه
مكلف، وقيل يصح للأسير من الامام، وقيل والأمير بما يدل عليه من قول
أو إشارة أوقف أو ألق سلاحك أمان لما لو أمن يده أو بعضه أو سلم
عليه أو لا تذهل أو لا بأس وقيل كناية، فإن اعتقده الكافر أمانا ألحق بمأمنه
وجوبا وكذا نظائره.
قال أحمد إذا أشير بشئ غير الأمان فظنه أمانا فهو أمان، وكل شئ
يرى العلج انه أمان فهو أمان، وقال إذا اشتراه ليقتله فلا يقتله لأنه إذا اشتراه
فقد آمنه ويصح من الامام للكل ومن الأمير لمن جعل بإزائه ومن غيرهما
لقافلة فأقل، قيل لقافلة صغيرة وحصن صغير، وأطلق في الروضة لحصن أو بلد
وأنه يستحب استحبابا أن لا يجار على الأمير الا بإذنه وقيل لمائه ويقبل من عدل
أنى أمنته في الأصح وعند الآجري يصح لأهل الحصن ولو هموا بفتحه من عبد
أو امرأة أو أسير عندهم يروى من عمر، وأنه قول فقهاء المسلمين سأله أبو داود
لو أن أسيرا في عمورية نزل بهم المسلمون فأمن الأسير أهل القرية، قال يرحلون
عنهم، ويشترط للأمان عدم الضرب علينا وان لا تزيد مدته على عشر سنين،
وقال الشوكاني في الدرر البهية: ومن أمنه أحد المسلمين صار آما، وقال صديق
حسن خان في الروضة الندية أجمع أهل العلم على أن من أمنه أحد المسلمين صار
آمنا، قال ابن المنذر أجمع أهل العلم على جواز أمان امرأة، وأما العبد فأجاز
أمانه الجمهور، واما الصبي فقال ابن المنذر اجمع أهل العلم على أن أمان الصبي
غير جائز، واما المجنون فلا يصح أمانه بلا خلاف
(قلت) إنما يصح الأمان من آحاد المسلمين إذا امن واحدا أو اثنين، فأما
عقد الأمان لأهل ناحية على العموم فلا يصح الامن الامام على سبيل الاجتهاد
وتحرى المصلحة كعقد الذمة، ولو جعل ذلك لآحاد الناس صار ذريعة إلى ابطال
الجهاد، قال الشوكاني في نيل الأوطار (يسعى بها أدناهم) فدخل كل وضيع
بالنص وكل شريف بالفحوى، ودخل في الأدنى المرأة والعبد والصبي والمجنون
فأما المرأة فيدل على ذلك حديث أبي هريرة وحديث أم هاني.
قال ابن المنذر: الجمع أهل العلم على جواز أمان المرأة، الا شيئا ذكره
309

عبد الملك بن الماجشون صاحب مالك، لا أحفظ ذلك عن غيره، قال إن أمر
الأمان إلى الامام، وتأول ما ورد مما يخالف ذلك على قضايا خاصة. قال ابن
المنذر وفى قول النبي صلى الله عليه وسلم (يسعى بذمتهم أدناهم) دلالة على إغفال
هذا القائل، قال في الفتح: وجاء عن سحنون مثل قول ابن الماجشون فقال هو
إلى الامام وإن أجازه جاز وان رده رداه
وأما العبد فأجاز الجمهور أمانه قاتل أو لم يقاتل، وقال أبو حنيفة ان قاتل
جاز والا فلا، وقال سحنون ان أذن له سيده في القتال صح أمانه والا فلا.
وأما الصبي فقال ابن المنذر أجمع أهلا لعلم أن أمان الصبي غير جائز. قال الحافظ
وكلام غيره يشعر بالتفرقة بين المراهق وغيره، وكذا المميز الذي يعقل،
والخلاف عن المالكية والحنابلة.
وأما المجنون فلا يصح أمانه بخلاف الكافر، لكن قال الأوزاعي ان غزا
الذي مع المسلمين فأمن أحدا فإن شاء الامام أمضاه والا فليرده إلى مأمنه.
وحكى ابن المنذر عن الثوري أنه استثنى من الرجال الأحرار الأسير في أرض
الحرب فقال لا ينفذ أمانه وكذلك الأجير
قوله (وان أسر امرأة حرة أو صبيا حرا..) ولا خلاف في أن ما أسر استرق
ولا جدال، أما أن يسترق الرجل الحر المقاتل أو يقتل فقد اختلف فيه الأقوال
فقال صديق حسن خان في الروضة: ذهب الجمهور إلى أن الامام يفعل ما هو
الأحوط للاسلام والمسلمين في الأسارى فيقتل أو يأخذ الفداء أو يمن، وقال
الزهري ومجاهد وطائفة لا يجوز أخذ الفداء من أسرى الكفار أصلا، وعن
الحسن وعطاء لا يقتل الأسير بل يتخير بين المن والفداء، وعن مالك لا يجوز
المن بغير فداء، وعن الحنفية لا يجوز المن أصلا لا بفداء ولا بغيره
وقال الإمام ابن جرير الطبري في صفحة 42 جزء 16 في تفسير الآية (فإما
منا بعد واما فداء) والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير
منسوخة، وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ أنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال
واحدة أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الآخر وغير مستنكر أن يكون جعل
الخيار في المن والقتل إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم والى القائمين بعده بأمر
310

الأمة وان لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية، لأنه قد أذن بقتلهم في آية
أخرى، وذلك قوله تعال (فاقتلوا المشركين) بل ذلك كذلك لان رسول الله
صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا من أهل الحرب فيقتل
بعضا ويفادى ببعض ويمن ببعض
وقال العلامة القاسمي في محاسن التأويل: وبالجملة فالذي عول عليه الأئمة
المحققون رضي الله عنهم أن الأمير يخير بعد الظفر تخيير مصلحة لا شهوة في
الاسراء المقاتلين بين قتل واسترقاق ومن وفداء، ويجب عليه اختيار الأصلح
للمسلمين لأنه يتصرف لهم على سبيل النظر فلم يجز له ترك ما فيه الحظ، ثم قال
فإن منهم (أي الأسرى) من له قوة ونكاية في المسلمين فقتله أصلح، ومنهم
الضعيف ذو المال الكثير ففداؤه أصلح، ومنهم حسن الرأي في المسلمين يرجى
اسلامه فالمن عليه أولى ومن ينتفع بخدمته ويؤمن شره فاسترقاقه أصلح. وذكر
ذلك في شرح الاقناع
وقال ابن حزم (أبطل الله تعالى كل عهد ولم يقره ولم يجعل للمشركين الا
القتل أو الاسلام، ولأهل الكتاب خاصة اعطاء الجزية وأمن المستجير
والرسول حتى يؤدى رسالته، ويسمع المستجير كلام الله ثم يردان إلى بلادهما
ولا مزيد، فكل عهد غير هذا فهو باطل مفسوخ لا يحل الوفاء به لأنه خلاف
شرط الله عز وجل وخلاف أمره
وقال الشوكاني (والحاصل أن القرآن والسنة قاضيان بما ذهب إليه الجمهور
فإنه قد وقع منه صلى الله عليه وسلم المن وأخذ الفداء كما في الأحاديث، ووقع
منه القتل، فإنه قتل النضر بن الحرث وعقبه بن معبط وغيرهما ووقع منه فداء
رجلين من المسلمين برجل من المشركين
قال الترمذي بعد أن ساق حديث عمران بن حصين في فداء أسيرين من
المسلمين (والعمل على هذا عن أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم وغيرهم ان للامام ان يمن على من شاء من الأسارى ويقتل من شاء منهم
ويفدى ن شاء) واختار بعض أهل العلم القتل على الفداء، ويروى أنه قيل
لأحمد (إذا أسر الأسير يقتل أو يفادى أحب إليك؟ قال إن قدر ان يفادى
311

فليس به بأس وإن قتل فما أعلم به بأسا، قال إسحاق: الاثخان أحب إلي الا أن
يكون معروفا يطمع به الكثير.
(قلت) والصحيح في هذا ما ذهب إليه العلامة القاسمي وكان بودي أن أقدم
للقارئ بحثا مستفيضا عن الرق في الاسلام، وكيف قضى عليه الدين الحكيم،
ولكن ضيق المقام وطلب الناشر الاختصار قدر الامكان لا يمنعنا من أن نقول إن
عادة استرقاق أسر ى الحرب التي كانت عامة شاملة في جميع الأمم والبلاد،
والتي كانت المصدر الرئيسي للرقيق الانساني والتي ظلت جارية في كثير من البلاد
والأمم غير الاسلامية مدة طويلة إلى عهد قريب قد ضربت بآية (فإما منا بعد
وإما فداء) ضربة حاسمة والتعديل الذي دخل عليها ليس من شأنه أن يخفف من
شدتها لأنه تخيير وليس إيجابها، وإذا أضفنا إلى هذا ما احتواه القرآن المكي
والمدني من وسائل عديدة لتحرير الرقيق، وما احتوته السنة من مثل ذلك بدا
أن القرآن والسنة قد هدفا إلى الغاء الرقيق، وأن ما جاء فيهما من تشريع في
صدده إنما كان تنظيما ومجاراة الواقع وليس إيجابا وتأييدا له
أما قوله في استرقاق العرب، قال الشوكاني استدل المصنف (يعنى ابن تيمية
الجد) رحمه الله تعالى بأحاديث الباب على جواز استرقاق العرب، والى ذلك
ذهب الجمهور كما حكاه الحافظ في كتاب العتق من فتح الباري، وحكى في البحر
عن العترة وأبي حنيفة أنه لا يقبل من مشركي العرب إلا الاسلام أو السيف،
واستدل لهم بقوله تعالى (فإذا انسلخ الأشهر الحرم...) قال والمراد مشركوا
العرب اجماعا، فإن كان أعجميا أو كتابيا جاز لقول ابن عباس في تفسير (فإما منا
بعد..) خير الله تعالى نبيه في الأسرى بين القتل والفداء والاسترقاق، وإن كان
عربيا غير كتابي لم يجز
وقال الشافعي يجوز لنا قوله صلى الله عليه وسلم (لو كان الاسترقاق ثابتا على
العرب، الخبر، اه‍. وهو يشير إلى حديث معاذ الذي أخرجه الشافعي والبيهقي
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين (لو كان الاسترقاق جائزا على العرب
لكان اليوم، إنما هو أسرى وفى اسناده الواقدي ضعيف جدا، ورواه الطبراني
من طريق أخرى فيها يزيد بن عياض وهو أشد ضعفا من الواقدي، ومثل هذا
312

لا تقوم به حجة، وظاهر الآية عدم الفرق بين العربي والعجمي، وقد خصصت
الهادوية عدم جواز الاسترقاق بذكور العرب دون إناثهم، ثم قال والحاصل
(أنه قد ثبت في جنس أسارى الكفار جواز القتل والمن والفداء والاسترقاق
فمن ادعى أن بعض هذه الأمور تختص ببعض الكفار دون بعض لم يقبل منه
ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات، والمجوز قائم في مقام المنع، وقول
ذلك إلا بدليل ناهض يخصص العمومات، والمجوز قائم في مقام المنع، وقول
على وفعله عند بعض المانعين من استرقاق ذكور العرب حجة، وقد استرق
بنى ناحية ذكورهم وإناثهم وباعهم كما هو مشهور في كتب السير والتواريخ،
وبنو ناجية من قريش فكيف ساغت له مخالفته
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يختار الامام في الأسير من القتل والاسترقاق والمن والفداء
إلا ما فيه الحظ للاسلام والمسلمين، لأنه ينظر لهما فلا يفعل ما فيه الحظ لهما
فإن بذل الأسير الجزية وطلب أن تعقد له الذمة وهو ممن يجوز أن تعقد له الذمة
ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يجب قبولها كما يجب إذا بذل وهو في غير الأسر، وهو ممن
يجوز أن تعقد لمثله الذمة.
(والثاني) أنه لا يجب لأنه يسقط بذلك ما ثبت من اختيار القتل والاسترقاق
والمن والفداء، وإن قتله مسلم قبل أن يختار الامام ما يراه عزر القاتل لافتياته
على الامام ولا ضمان عليه لأنه حربي لا أمان له، وان أسلم حقن دمه لقوله
صلى الله عليه وسلم (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله الا الله فإذا قالوها
عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وهل يرق بالاسلام أو يبقى الخيار فيه
بنى الاسترقاق والمن والفداء، فيه قولان
(أحدهما) أنه يرق بنفس الاسلام ويسقط الخيار في الباقي لأنه أسير
لا يقتل فرق كالصبي والمرأة
(والثاني) انه لا يرق بل يبقى الخيار في الباقي، لما روى عمران بن الحصين
رضي الله عنه ان الأسير العقيلي قال يا محمد انى مسلم ثم فأداه برجلين، ولان
313

ما ثبت الخيار فيه بين أشياء إذا سقط أحدهما لم يسقط الخيار في الباقي ككفارة
اليمين إذا عجز فيها عن العتق، فعلى هذا إذا اختار الفداء لم يجز أن يفادى به إلا
أن يكون له عشيرة يأمن مهم على دينه ونفسه
وإن أسر شيخ لا قتال فيه ولا رأى له في الحرب، فإن قلنا إنه يجوز قتله
فهو كغيره في الخيار بين القتل والاسترقاق والمن والفداء، وإن قلنا لا يجوز قتله
فهو كغيره إذا أسلم في الأسر وقد بيناه:
(فصل) وإن رأى الامام القتل ضرب عنقه لقوله عز وجل (فإذا لقيتم
الذين كفروا فضرب الرقاب) ولا يمثل به لما روى بريدة قال: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على جيش أو سرية قال اغزوا بسم الله قاتلوا
من كفر بالله ولا تعذروا ولا تمثلوا ولا تغلوا، ويكره حمل رأس من قتل من
الكفار إلى بلاد المسلمين لما روى عقبة بن عامر أن شرحبيل بن حسنة وعمرو بن
العاص بثا بريدا إلى أبى بكر الصديق رضي الله عنه برأس بناق البطريق، فقال
أتحملون الجيف إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت يا خليفة
رسول الله إنهم يفعلون بنا هكذا، قال لا تحملوا إلينا منهم شيئا، وان اختار
استرقاقه كان للغانمين، وإن فأداه بمال كان للغانمين وإن أراد أن يسقط منهم
شيئا من المال لم يجز إلا برضا الغانمين، لما روى عروة بن الزبير أن مروان بن
الحكم والمسور بن مخرمة أخبراه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه وفد
هوازن مسلمين، فقال إن اخوانكم هؤلاء جاؤونا تائبين وانى قد رأيت أن أرد
إليهم، فمن أحب منكم أن يطيب ذلك فليفعل، ومن أحب منكم أن يكون على
حقه حتى نعطيه إياه من أول ما بقئ الله علينا فليفعل، فقال الناس قد طيبنا لك
يا رسول الله.
قال الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ستة آلاف سبى من سبى هوازن من النساء والصبيان والرجال إلى هوازن حين
أسلموا، وان أسر عبد فرأى الامام أن يمن عليه لم يجز الا برضا الغانمين،
وان رأى قتله لشره وقوته قتله وضمن قيمته للغانمين لأنه مال لهم
314

(الشرح) حديث (أمرت أن أقاتل..) متفق عليه من حديث عمر
وأبي هريرة.
حديث عمران بن الحصين (أن الأسير العقيلي قال يا محمد..) مسلم
(بريدة (إذا أمر أميرا على جيش أو سرية..) أخرجه مسلم بطوله
(عمرو بن العاص (بعثا بريدا إلى أبى بكر برأس يناق البطريق..)
في كتاب أخبار زياد لمحمد بن زكريا الغلابي الأخباري
حديث (جاء وفد هوازن مسلمين) سبق تخريجه
(جاء ستة آلاف سبى من هوازن) الواقدي وابن إسحاق في المغازي
اللغة: قوله (لا تغدروا) لا تتركوا الوفاء بالذمة، ولا تمثلوا لا تجدعوا الانف
ولا تصلموا الاذن ونحوه، ولا تغلوا لا تخونوا لتخفوا شيئا من الغنيمة.
قوله (بعثا بريدا) أي رسولا وقد ذكر
قوله (يناق البطريق) بتقديم الياء على النون والتشديد، قال الصنعاني في
التكلمة ويخفف نونه أيضا، وهو جد الحسن بن مسلم بن يناق من تابع التابعين
والبطريق عند الروم مثل الرئيس عند العرب وجمعه بطارقة
قوله (فمن أحب منكم ان يطيب) معناه من أحب أن يهب بطيب نفس منه
(وطيبنا لك) وهبنا لك عن طيب أنفسنا ومنه (سبى طيبية) بكسر الطاء وفتح
الياء صحيح السباء لم يكن عن غدر ولا نقض عهد
قوله (ولا يختار الامام ما في الأسير من القتل والاسترقاق) سبق ايضاحه
فيما قبله مباشرة بشئ من التوسع، الا أن ابن حزم قال: ولا يحل فداء الأسير
المسلم إلا بمال واما بأسير كافر، ولا يحل ان يرد صغير سبى من ارض الحرب
إليهم لا بفداء ولا بغير فداء، لأنه قد لزمه حكم الاسلام بملك المسلمين فهو
وأولاد المسلمين سواء ولا فرق، وهو قول المزني
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان دعا مشرك إلى المبارزة فالمستحب ان يبرز إليه مسلم، لما
روى أن عتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة دعوا إلى المبارزة فبرز إليهم
315

حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحرث، ولأنه إذا لم يبرز
إليه أحد ضعفت قلوب المسلمين وقويت قلوب المشركين، فإن بدأ المسلم ودعا
إلى المبارزة لم يكره. وقال أبو علي بن أبي هريرة يكره لأنه ربما قتل وانكسرت
قلوب المسلمين، والصحيح أنه لا يكره لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المبارزة بين الصفين فقال لا بأس،
ويستحب ان لا يبارز إلا قوى في الحرب لأنه إذا بارز ضعيف لم يؤمن أن يقتل
فيضعف قلوب المسلمين، وإن بارز ضعيف جاز، ومن أصحابنا من قال لا يجوز
لان القصد من المبارزة إظهار القوة، وذلك لا يحصل من مبارزة الضعيف،
والصحيح هو الأول لان التغرير بالنفس يجزو في الجهاد، ولهذا يجوز للضعيف
أن يجاهد كما يجوز للقوى، والمستحب أن لا يبارز الا بإذن الأمير ليكون ردءا
له إذا احتاج، فإن بارز بغير إذنه جاز، ومن أصحابنا من قال لا يجوز، لأنه
لا يؤمن أن يتم عليه ما ينكسر به الجيش، والصحيح أنه يجوز، لان التغرير
بالنفس في الجهاد جائز.
وإن بارز مشرك مسلما نظرت فإن بارز من غير شرط جاز لكل أحد أن
يرميه لأنه حربي لا أمان له، وان شرط أن لا يقاتله غير من برز إليه لم يجز
رميه وفاء بشرطه، فإن ولى عنه مختارا أو مثخنا، أو ولى عنه المسلم مختارا أو
مثخنا جاز لكل أحد رميه لاه شرط الأمان في حال القتال وقد انقضى القتال
فزال الأمان.
وإن استنجد المشرك أصحابه في حال القتال فأنجدوه أو بدأ المشركون بمعاونته
فلم يمنعهم جاز لكل أحد رميه لأنه نقض الأمان، وإن أعانوه فمنعهم فلم يقبلوا
منه فهو على أمانه لأنه لم ينقض الأمان ولا انقضى القتال، وإن لم يشترط
ولكن العادة في المبارزة أن لا يقاتله غير من يبرز إليه، فقد قال بعض أصحابنا
انه يستحب ان لا يرميه غيره، وعندي أنه لا يجوز لغيره رميه، وهو ظاهر
النص لان العادة كالشرط
فإن شرط أن لا يقاتله غيره ولا يتعرض له إذا انفضى القتال حتى يرجع إلى
316

موضعه وفى له بالشرط فإن ولى عنه المسلم فتبعه ليقتله جاز لكل أحد أن يرميه
لأنه نقض الشرط فسقط أمانة
(فصل) وان غرر بنفسه من له سهم في قتل كافر مقبل على الحرب فقتله
استحق سلبه لما روى أبو قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم حنين فرأيت رجلا من المشركين علا رجلا من المسلمين فاستدرت له حتى
أتيته من وراثه فضربته على حبل عاتقه فأقبل على فضمني ضمة وجدت منها ريح
الموت ثم أدركه الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل قتيلا له
عليه بينة فله سلبه، فقصصت عليه فقال رجل صدق يا رسول الله وسلب ذلك
الرجل عندي فأرضه، فقال أبو بكر رضي الله عنه لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد
من أسد الله تعالى يقاتل عن دين الله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
صدق فأعطه إياه فأعطاني إياه، فبعث الدرع فابتعت به مخرفا في بنى سلمة،
وانه لأول مال تأثلته في الاسلام.
فإن كان ممن لا حق له في الغنيمة كالمخذل والكافر إذا حضر من غير اذن
لم يستحق لأنه لا حق له في السهم الراتب، فلان لا يستحق السلب وهو غير
راتب أولى، فإن كان ممن يرضخ له كالصبي والمرأة والكافر إذا حضر بالاذن
ففيه وجهان:
(أحدهما) انه لا يستحق لما ذكرناه
(والثاني) انه يستحق لان له حقا في الغنيمة، فأشبه من له سهم، وان لم
يغرر بنفسه في قتله بأن رماه من وراء الصف فقتله لم يستحق سلبه، وان قتله
وهو غير مقبل على الحرب كالأسير والمثخن والمنهزم لم يستحق سلبه، وقال
أبو ثور (كل مسلم قتل مشركا استحق سلبه) لما روى أنس رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (من قتل كافرا فله سلبه) ولم يفصل، وهذا لا يصح
لان ابن مسعود رضي الله عنه قتل أبا جهل وكان قد أثخنه غلامان من الأنصار
فلم يدفع النبي صلى الله عليه وسلم سلبه إلى ابن مسعود، وان قتله وهو مول
ليكر استحق السلب، لان الحرب كر وفر. وان اشترك اثنان في القتل اشتركا
317

في السلب لاشتراكهما في القتل، وإن قطع أحدهما يديه أو رجليه وقتله الآخر
ففيه قولان:
(أحدهما) أن السلب للأول لأنه عطله
(والثاني) أن السلب للثاني لأنه هو الذي كف شره دون الأول، لان بعد
قطع اليدين يمكنه أن يعود أو يجلب، وبعد قطع الرجلين يمكنه أن يقاتل إذا
ركب، وإن غرر من له سهم فأسر رجلا مقبلا على الحرب وسلمه إلى الامام حيا
ففيه قولان (أحدهما) لا يستحق سلبه لأنه لم يكف شره بالقتل (والثاني) أنه
يستحق لان تغريره بنفسه في أسره ومنعه من القتال أبلغ من القتل، وإن من
عليه الامام أو قتله استحق الذي أسره سلبه، وإن استرقه أو فأداه بمال ففي رقبته
وفى المال المفادى به قولان (أحدهما) أنه للذي أسره (والثاني) أنه لا يكون له
لأنه مال حصل بسبب تغريره فكان فيه قولان كالسلب
(فصل) والسلب ما كان يده عليه من جنة الحرب، كالثياب التي يقاتل
فيها والسلاح الذي يقاتل به والمركوب الذي يقاتل عليه، فأما ما لابد له عليه
كخيمته وما في رجله من السلاح والكراع فلا يستحق سلبه لأنه ليس من السلب
وأما ما في يده مما لا يقاتل به، كالطوق والمنطقة والسوار والخاتم وما في وسطه
من النفقة ففيه قولان:
(أحدهما) أنه ليس من السلب لأنه ليس من جنة الحرب
(والثاني) أنه من السلب لان يده عليه فهو كجنة الحرب، ولا يخمس
السلب لما روى عوف بن مالك وخالد بن الوليد رضي الله عنهما أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قضى في السلب للقاتل ولم يخمس السلب.
(الشرح) حديث (عتبة وشيبة ابني الربيع..) أخرجه البخاري مختصرا
وأبو داود من حديث على
حديث أبي هريرة (أن رسول الله سئل عن المبارزة..) في الصحيحين
من حديث عهد الرحمن بن عوف أن عوفا ومعوذا ابني العفراء خرجا يوم بدر
إلى البراز فلم ينكر عليهما
318

حديث أبي قتادة (أن رجلا من المشركين علا..) متفق عليه من
حديث طويل.
حديث أنس (من قتل كافرا فله سلبه الخ) متفق عليه والترمذي من حديث أبي
قتادة بلفظ (من قتل قتيلا فله سلبه) وأحمد من سمرة بن جندب وأبو داود
عن أنس بلفظ (من قتلا رجلا) وسنده لا بأس به، وقال مالك في الموطأ لم
يبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من قتل قتيلا فله سلبه الا يوم حنين،
قال الحافظ في الصحيح انه صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل، ثم قال
الحافظ (فائدة) وقع في كتب بعض أصحابنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك
يوم بدر وهو وهم وإنما قاله يوم حنين، وهو صريح عند مسلم
حديث ابن مسعود (قتل أبا جهل) أبو داود وأحمد انه وجد أبا جهل يوم
بدر وقد ضربت رجله وهو صريع يذب الناس عنه بسيف له فأخذه عبد الله
ابن مسعود فقتله به، فنفله رسول الله صلى الله عليه وسلم بسلبه، أما الرواية
في الصحيحين عن عبد الرحمن بن عوف أيكما قتله، فقال كل واحد منهما أنا قتلته
فقال هل مسحتما سيفيكما؟ قالا لا، فنظر في السيفين فقال كلا كما قتله وقضى
بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح، والرجلان معاذ عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء
اللغة: قوله (وان دعا مشرك إلى المبارزة) أصل البروز الظهور في البراز
وهو المكان الفضاء الواسع، وهو ههنا ظهور المتحاربين بين الصفين لا يستتران
بغيرهما من أهل الحرب، قال الله تعالى (وترى الأرض بارزة) أي ظاهرة
ليس فيها ظل ولا فئ.
قوله (مختارا أو مثخنا) أثخنته الجراحة إذا وهنته بألمها، وأثخنه المرض
اشتد عليه، وقال الأزهري أثخنه تركه وقيدا لا حراك به مجروحا، وقوله تعالى
(حتى يثخن في الأرض) أي يكثر القتل والايقاع بالعدو، وقال الأزهري
يثخن يبالغ في قتل أعدائه
قوله (استنجد المشرك) أي استعان وأنجدته أعنته والنجدة الشجاعة أيضا
يقال رجل نجد ونجد أي شجاع
قوله (حبل عاتقه) قال الأزهري حبل العاتق عرق يظهر على عاتق الرجل
319

يتصل بحبل الوريد في باطن العنق، قال وإنما سمى السلب سلبا لان قاتله يسلبه
فهو مسلوب وسليب، كما يقال خبطت الشجر ونفضته، والورق المخبوط خبط
ونفض. قوله (فابتعت به مخرفا في بنى سلمة) المخرف بالفتح البستان. وفى
الحديث عائد المريض في مخرف من مخارف الجنة حتى يرجع، يقال خرف التمر
واخترفه إذا جناه. واشتقاقه من الخريف وهو الفصل المعروف من السنة لان
إدراكه يكون فيه.
قوله (تأثلته) التأثل اتخاذ أصل المال، ومجد مؤثل أي أصيل، وفى الحديث
في وصى اليتيم فليأكل غير متأثل مالا، وأصله من الأثلة التي هي الشجرة،
قال امرؤ القيس:
ولكنما أسعى لمجد مؤثل * وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
قوله (يرضخ له) الرضخ أن يعطيه أقل من سهم المقاتل والرضخ العطاء
القليل. قوله (يعدو أو يجلب) الجلبة رفع الصوت جلب وأجلب إذا صوت
قوله (جنة الحرب) هو ما يستره ويمنعه من وصول السلاح، وكلما
استقر به فهو جنة
قوله (وان دعا مشرك إلى المبارزة الخ) قال الشوكاني بعد أن أورد حديث
على الذي بارز فيه هو وسيد الشهداء حمزة وعبيدة عتبة بن ربيعة ومعه ابنه
وأخاه، دليل على أنها تجوز المبارزة، والى ذلك ذهب المجهور، والخلاف في
ذلك للحسن البصري وشرط الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق اذن الأمير
كما في هذه الرواية فإن النبي صلى الله عليه وسلم أذن للمذكورين، والجميع متفق
على باق ما أورده المصنف
قوله (وان غرر بنفسه من له سهم) قال الترمذي في الجامع الصحيح بعد
أن أورد حديث قتادة: والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم وغيرهم، وهو قول الأوزاعي والشافعي وأحمد، وقال بعض
أهل العلم للامام ان يخرج من السلب الخمس، وقال الثوري النفل أن يقول
الامام من أصاب شيئا فهو له، ومن قتل قتيلا فله سلبه فهو جائز وليس فيه الخمس
320

وقال إسحاق السلب للقاتل إلا أن يكون شيئا كثيرا فرأى الامام أن يخرج منه
الخمس كما فعل عمر بن الخطاب
وقال المباركفوري في التحفة (ذهب المجهور إلى أن القاتل يستحق السلب،
سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلا فله سلبه أم لا، واستدلوا بحديث أبي
قتادة. وروى عن مالك أنه يخير الامام بين أن يعطى القاتل السلب أو
يخمسه، واختاره القاضي إسماعيل، واحتج القائلون بتخميس السلب لعموم قوله
تعالى (واعلموا أنما غنمتم..) فإنه لم يستثن شيئا، قلت والآية عامة والأحاديث
مخصصة، وبذا يمكن الجمع كما أن حديث عوف بن مالك وخالد لا خمس فيها
قال الشوكاني يستحق القاتل جميع السلب وإن كان كثيرا، وعلى أن القاتل
يستحق السلب في كل حال، حتى قال أبو ثور وابن المنذر يستحقه، ولو كان
المقتول منهزما.
وقال أحمد لا يستحقه الا بالمبارزة، وعن الأوزاعي إذا التقى الزحفان فلا
سلب، وقد اختلف إذا كان المقتول امرأة هل يستحق سلبها القاتل أم لا؟
فذهب أبو ثور وابن المنذر إلى الأولى، وقال الجمهور شرطه أن يكون المقتول
من المقاتلة، واتفقوا على أنه لا يقبل قول من ادعى السلب الا ببينة تشهد له
بأنه قتله والحجة في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه)
فمفهومه أنه إذا لم يكن له بينة لا تقبل
وعن الأوزاعي يقبل قوله بغير بينة، لان النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه
أبا قتادة بغير بينة، وفيه نظر لأنه وقع في مغازي الواقدي، وعلى تقدير أنه
لا يصح فيحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه القاتل بطريق من الطرق، وأبعد
من قال من المالكية أن المراد بالبينة هنا الذي أقر له أن السلب عنده فهو شاهد
والشاهد الثاني وجود المسلوب فإنه بمنزلة الشاهد على أنه قتله، وقيل إنما
استحقه أبو قتادة بإقرار الذي هو بيده، وهذا ضعيف لان الاقرار إنما يفيد
إذا كان المال منسوبا لمن هو بيده فيؤاخذ بإقراره والمال هنا لجميع الجيش، ونقل
ابن عطية عن أكثر الفقهاء أن البينة هنا يكفي فيها شاهد واحد
وقد اختلف في المرأة والصبي هل يستحقان سلب من قتلاه، وفى ذلك وجهان.
321

قال الامام يحيى أصحهما يستحقان لعموم من قتل قتيلا، قال في البحر وإنما يستحق
السلب حيث قتله والحرب قائمة لا لو قتله نائما أو فارا قبل مبارزته أو مشغولا
بأكل، ولا لو رماه بسهم إذ هو في مقابلة المخاطرة بالنفس، ولا مخاطرة هنا،
ولا لو قتل أسيرا أو عزيلا من السلاح، ولا لو قتل من لا سطوة له كالمقعد،
فإن قطع يديه ورجليه استحق سلبه، إذ قد كفى شره، ولو جرحه رجل ثم قتله
آخر فالسلب للآخر، إذ لم يعط النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود سلب أبى جهل وقد
جرحه، بل أعطى قاتليه من الأنصار، قال فلو ضرب أحدهما يده والآخر
رقبته فالسلب لضارب الرقبة ان لم تكن ضربة الآخر قاتلة والا اشتركا، والمراد
بالسلب هو ما أجلب به المقتول من ملبوس ومركب وسلاح لا ما كان باقيا
في بيته، قال الامام يحيى ولا المنطقة والخاتم وللسوار والجنيب من الخيل فليس
بسلب، قال المهدى بل ذهب ان كل ما ظهر على القتيل أو معه فهو سلب لا يخفى
من جواهر أو دراهم أو نحوها اه‍.
والظاهر من الأحاديث أنه يقال للكل شئ وجد مع المقتول وقت السلب
سواء كان مما يظهر أو يخفى. واختلفوا هل يدخل الامام في العموم إذا قال من
قتل قتيلا، فذهب أبو حنيفة والهادوية إلى الأول العموم اللفظ الا لقرينة مخصصة
نحو أن يقول من قتل منكم وذهب الشافعي والمؤيد بالله في قول انه لا يدخل
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان حاصر قلعة ونزل أهلها على حكم حاكم جاز لان بني قريظة
نزلوا على حكم سعد بن معاذ فحكم بقتل رجالهم وسبى نسائهم وذراريهم، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة ويجب
أن يكون الحاكم حرا مسلما ذكرا بالغا عاقلا عدلا عالما، لأنه ولاية حكم فشرط
فيها هذه الصفات كولاية القضاء، ويجوز أن يكون أعمى لان الذي يقتضى
الحكم هو الذي يشتهر من حالهم وذلك يدرك بالسماع فصح من الأعمى كالشهادة
فيما طريقه الاستفاضة، ويكره أن يكون الحاكم حسن الرأي فيهم لميله إليهم،
ويجوز حكمه لأنه عدل في الدين.
322

وإن نزلوا على حكم حالكم يختاره الامام جاز، لأنه لا يختار الامام إلا من يجوز
حكمه، وإن نزلوا على حكم من يختارونه لم يجز إلا أن يشترط أن يكون الحاكم
على الصفات التي ذكرناها
وإن نزلوا على حكم اثنين جاز لأنه تحكيم في مصلحة طريقها الرأي فجاز أن
يجعل إلى اثنين كالتحكيم في اختيار الإمام، وإن نزلوا على حكم من لا يجوز أن
يكون حاكما أو على حكم من يجوز أن يكون حاكما فمات، أو على حكم اثنين فماتا
أو مات أحدهما وجب ردهم إلى القلعة لأنهم على أمان فلا يجوز أخذهم
إلا برضاهم ولا يحكم الحاكم إلا بما فيه مصلحة للمسلمين من القتل والاسترقاق
والمن والفداء.
وإن حكم بعقد الذمة وأخذ الجزية ففيه وجهان (أحدهما) أنه لا يجوز إلا
برضاهم لأنه عقد معاوضة فلا يجوز من غير رضاهم (والثاني) يجوز لأنهم نزلوا
على حكمه وإن حكم أن من أسلم منهم استرق ومن أقام على الكفر قتل جاز.
وإن حكم بذلك ثم أراد أن يسترق من حكم بقتله لم يجز لأنه لم ينزل على هذا
الشرط، وان حكم عليهم بالقتل ثم رأى هو أو الامام أن يمن عليهم جاز لان
سعد بن معاذ رضي الله عنه حكم بقتل رجال بني قريظة، فسأل ثابت الأنصاري
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي ففعل، فإن
حكم باسترقاقهم لم يجز أن يمن عليهم الا برضا الغانمين لأنهم صاروا مالا لهم.
(الشرح) (حديث لقد حكمت فيهم..) أخرجه البخاري ومسلم من
حديث طويل وأحمد.
حديث (سألت ثابت الأنصاري..) أخرجه البيهقي
اللغة: قوله (من فوق سبعة أرقعة) الرقيع سماء الدنيا وكذلك سائر السماوات
وهي طباقها، لان كل سماء رقعة التي تليها، كما يرقع الثوب بالرقعة، وجاء به
على التذكير كأنه ذهب به إلى السقف، والزبير بن باطا بفتح الرأي وكسر الباء
قوله (وان حاصر قلعة..) مذهب الجمهور أن الامر في الأسارى الكفرة
من الرجال إلى الامام يفعل ما هو الاحظ للاسلام والمسلمين، وقد سبق شرح
ما ورد فيما سبق ولا خلاف فيما أورده المؤلف بين الجمهور
323

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ومن أسلم من الكفار قبل الأسر عصم دمه وماله، لما روى
عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحقها، فإن
كانت له منفعة بإجارة لم تملك عليه لأنها كالمال، وإن كانت له زوجة جاز
استرقاقها على المنصوص
ومن أصحابنا من قال لا يجوز كما لا يجوز أن يملك ماله ومنفعته، وهذا خطأ
لان منفعة البضع ليست بمال ولا تجرى مجرى المال، ولهذا لا يضمن بالغصب
بخلاف المال والمنفعة
وإن كان له ولد صغير لم يجز استرقاقه، لان النبي صلى الله عليه وسلم حاصر
بني قريظة فأسلم ابنا شعبة فأحرز بإسلامهما أموالهما وأولادهما، ولأنه مسلم فلم
يجز استرقاقه كالأب، وإن كان حمل من حربية لم يجز استرقاقه لأنه محكوم
بإسلامه فلم يسترق كالولد، وهل يجوز استرقاق الحامل؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز لأنه إذا لم يسترق الحمل لم يسترق الحامل، ألا ترى أنه
لما لم يجز بيع الحر لم يجز بيع الحامل به
(والثاني) أنه يجوز لأنها حربية لا أمان لها
(الشرح) حديث (أمرت أن أقاتل) متفق عليه
حديث (حاصر بني قريظة فأسلم ابنا شعبة) رواه ابن إسحاق في المغازي
والبيهقي بلفظ على شيخ من بين قريظة والنضير أنه قال: هل تدرى كيف كان إسلام
ثعلبة وأسيد ونفر من هذيل لم يكونوا من بني قريظة، والنضير كانوا فوق ذلك
أنه قدم علينا رجل من الشام من يهود يقال له ابن الهيبان، فأقام عندنا فوالله
ما رأينا رجلا قط لا يصلى الخمس خيرا منه، فقدم علينا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم
بسنين وكان يقول أنه يتوقع خروج نبي قد أظل زمانه، فلما كانت الليلة التي
324

افتتح فيها قريظة قال أولئك الفتية الثلاثة يا معشر يهود، والله إنه كان للرجل
الذي ذكر لكم ابن الهيبان قالوا ما هو إياه، قال بلى والله انه لهو، قال فنزلوا
وأسلموا وكانوا شبابا فخلوا أموالهم وأولادهم وأهليهم في الحصن عند المشركين
فلما فتح رد ذلك عليهم.
اللغة: قوله (ومن أسلم من الكفار) ذهب الجمهور إلى أن الحربي إذا أسلم
طوعا كانت جميع أمواله في ملكه ولا فرق بين أن يكون إسلامه في دار الاسلام
أو دار الكفر على ظاهر الدليل.
وقال بعض الحنيفة: ان الحربي إذا أسلم في دار الحرب وأقام بها حتى غلب
المسلمون عليها فهو أحق بجميع ماله إلا أرضه وعقاره فإنها تكون فيئا للمسلمين
وقد خالفهم أبو يوسف في ذلك فوافق الجمهور. وذهبت الهادوية إلى مثل ما ذهب
به بعض الحنيفة: إذا كان اسلامه في دار الحرب، قالوا وإن كان اسلامه في دار
الاسلام كانت أمواله جميعها فيئا من غير فرق بين المنقول وغيره إلا أطفاله فإنه
لا يجوز سبيهم.
ويدل على ما ذهب إليه الجمهور أنه صلى الله عليه وسلم أقر عقيلا على تصرفاته
فيما كان لأخويه على وجعفر وللنبي صلى الله عليه وسلم من الدور والرباع بالبيع
وغيره ولم يغير ذلك ولا انتزعها ممن هي في يده لما ظفر، فكان ذلك دليلا على
تقرير من بيده دار أو أرض إذا أسلم وهي في يده بطريق الأولى، وقد بوب
البخاري على قصة عقيل فقال: باب إذا أسلم قوم في دار الحرب ولهم مال
وأرضون فهي لهم.
قال القرطبي: يحتمل أن يكون مراد البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم من على أهل
مكة بأموالهم ودورهم قبل أن يسلموا، فتقرير من أسلم يكون بطريق الأولى،
ثم قال: إن عبد الحربي إذا أسلم صار حرا بإسلامه، إلا إذا أسلم سيده قبله.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان أسلم رجل وله ولد صغير تبعه الولد في الاسلام لقوله عز
وجل (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم)
325

وإن أسلمت امرأة ولها ولد صغير تبعها في الاسلام لأنها أحد الأبوين فتبعها
الولد في الاسلام كالأب، وإن أسلم أحدهما والولد حمل تبعه في الاسلام لأنه
لا يصح إسلامه بنفسه فتبع المسلم منهما كالولد، وإن أسلم أحد الأبوين دون
الآخر تبع الولد المسلم منهما لان الاسلام أعلى فكان إلحاقه بالمسلم منهما أولى
وإن لم يسلم واحد منهما فالولد كافر، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه
أو يمجسانه، فإن بلغ وهو مجنون فأسلم أحد أبويه تبعه في الاسلام لأنه لا يصح
إسلامه بنفسه فتبع الأبوين في الاسلام كالطفل وان بلغ عاقلا ثم جن ثم
أسلم أحد أبويه ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه لا يتبعه لأنه زال حكم الاتباع ببلوغه عاقلا فلا يعود إليه
(والثاني) أنه يتبعه، وهو المذهب، لأنه لا يصح اسلامه بنفسه فتبع أبويه
في الاسلام كالطفل.
(فصل) وان سبى المسلم صبيا فإن كان معه أحدا أبويه كان كافرا لما
ذكرناه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وان سبى وحده ففيه وجهان
(أحدهما) انه باق على حكم كفره ولا يتبع السابي في الاسلام، وهو ظاهر
المذهب لان يد السابي يد ملك فلا توجب اسلامه كيد المشترى
(والثاني) أنه يتبعه لأنه لا يصح اسلامه بنفسه ولا معه من يتبعه في كفره
فجعل تابعا للسابي لأنه كالأب في حضانته وكفالته فتبعه في الاسلام
(الشرح) حديث أبي هريرة (كل مولود يولد على الفطرة) أخرجه البخاري
ومسلم (ما من مولود الا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه أو يمجسانه
كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء) أخرجه أحمد
اللغة: قوله (جمعاء) بفتح الجيم وسكون الميم بعدها عين مهملة، قال في
القاموس والجمعاء الناقة المهزولة ومن البهائم التي لم يذهب من بدنها شئ
(جدعاء) والجدع قطع الأنف أو الاذن أو اليد أو الشفة كما في القاموس،
قال والجدعة محركة ما بقي بعد القطع. اه‍
326

(قلت) المقصود أن البهائم كما أنها تولد سليمة من الجدع كاملة الخلقة وإنما
يحدث لها نقصان الخلقة بعد الولادة بالجدع ونحوه، كذلك أولاد الكفار
يولدون على الدين الحق الدين الكامل، وما يعرض لهم من التلبس فإنما هو حادث
بعد الولادة بسبب الأبوين أو من يقوم مقامهما، وحديث أبي هريرة فيه دليل
على أن أولاد الكفار حكم لهم عند الولادة بالاسلام، وانه إذا وجد الصبي في
دار الاسلام دون أبويه كان مسلما لأنه إنما صار يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا
بسبب أبويه فإذا عدما فهو باق على ما ولد عليه وهو الاسلام، كما سبق الإفاضة
في شرح هذا فيما سبق
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وصف الاسلام صبي عاقل من أولاد الكفار، لم يصح
إسلامه على ظاهر المذهب، لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (رفع القلم عن ثلاثة: عن المجنون المغلوب على عقله حتى يفيق، وعن
النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم) ولأنه غير مكاف فلم يصح إسلامه
بنفسه كالمجنون، فعلى هذا يحال بينه وبين أهله من الكفار إلى أن يبلغ لأنه إذا
ترك معهم خدعوه وزهدوه في الاسلام فإن بلغ ووصف الاسلام حكم
بإسلامه، وإن وصف الكفر هدد وضرب وطولب بالاسلام، وإن أقام على
الكفر رد إلى أهله من الكفار.
ومن أصحابنا من قال يصح اسلامه، لأنه يصح صومه وصلاته، فصح
اسلامه كالبالغ.
(فصل) وان سبيت امرأة ومعها ولد صغير لم يجز التفريق بينهما، وقد
بيناه في البيع، وان سبى رجل ومعه ولد صغير ففيه وجهان (أحدهما) أنه
لا يجوز التفريق بينهما لأنه أحد الأبوين فلم يفرق بينه وبين الولد الصغير كالأم
(والثاني) أنه يجوز أن يفرق بينهما، لان الأب لابد أن يفارقه في الحضانة،
لأنه لا يتولى حضانته بنفسه وإنما يتولاها غيره فلم يحرم التفريق بينهما، بخلاف
327

الام فإنها لا تفارقه في الحضانة، فإنه إذا فرق بينهما ولهت بمفارقته فحرم
التفريق بينهما.
(فصل) وان سبى الزوجان أو أحدهما انفسخ النكاح، لما روى أبو سعيد
الخدري رضي الله عنه قال: أصبنا فساء يوم أوطاس فكرهوا أن يقعوا عليهن
فأنزل الله تعالى (والمحصنات من النساء الا ما ملكت أيمانكم فاستحللناهن) قال
الشافعي رحمه الله: سبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوطاس وبنى المصطلق
وقسم الفئ وأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض، ولم يسأل
عن ذات زوج ولا غيرها
وإن كان الزوجان مملوكين فسبيا أو أحدهما فلا نص فيه، والذي يقتضيه
قياس المذهب أن لا ينفسخ النكاح لأنه لم يحدث بالسبي رق وإنما حدث انتقال
الملك فلم ينفسخ النكاح، كما لو انتقل الملك فيهما بالبيع، ومن أصحابنا من قال
ينفسخ النكاح لأنه حدث سبى يوجب الاسترقاق، وان صادق رقا، كما أن
الزنا يوجب الحد وان صادف حدا
(الشرح) حديث على أخرجه الحاكم وأبو داود عن علي وعمر بلفظ (رفع
القلم عن ثلاثة، عن المجنون المغلوب على عقله حتى يبرأ، وعن النائم حتى
يستيقظ، وعن الصبي حتى يحتلم) وأخرجة الحاكم وأبو داود والنسائي عن عائشة
بلفظ (رفع القلم عن ثلاثة، عن النائم حتى يستيقظ، وعن المبتلى حتى يبرأ،
وعن الصبي حتى يكبر) وأخرجه الترمذي وابن ماجة والحاكم عن علي بلفظ
(رفع القلم عن ثلاث، عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يشب، وعن
المعتوه حتى يعقل)
حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أحمد وأبو داود والحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال في سبايا أو طاس (لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض
حيضة) واسناده حسن. وروى الدارقطني عن ابن عباس فهي رسول الله صلى الله عليه وسلم
ان توطأ حامل حتى تضع أو حائل حتى تحيض، ثم نقل عن ابن صاعد أن العابدي
تفرد بوصله وأن غيره أرسله، ورواه الطبراني في الصغير من حديث أبي هريرة
328

بإسناده ضعيف وأبو داود من حديث رويفع بن ثابت (لا يحل لامرئ يؤمن
بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي حتى يستبرئها بحيضة)
وروى ابن أبي شيبة عن علي قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توطأ الحامل
حتى تضع أو الحائل حتى تستبرأ بحيضة) لكن في إسناده ضعف وانقطاع.
وروى مسلم عن أبي سعيد (أصبنا نساء يوم أوطاس فكرهوا أن يقعوا عليهن
من أجل أزواجهن من المشركين فأنزل الله تعالى (والمحصنات من النساء إلا
ما ملكت إيمانكم) فاستحللناهن، وفى آخره فهن لكم حلال إذا انقضت عدتهن.
اللغة: قوله (وان وصف الاسلام صبي عاقل..) (قلت) إنه لا يصح
إسلامه ويحال بينه وبين أهله ولا يرد إليهم، وقد سبق شرحه بإفاضة.
أما القول الثاني بأنه يصح اسلامه لأنه يصح صلاته فقد اختلفت فيه الآراء
كثيرا، قال الشيخ محمود خطاب في المنهل في حديث (مروا الصبي بالصلاة)
الخطاب للأولياء لان الصغير غير مكلف لحديث (رفع القلم..) وأمره
صلى الله عليه وسلم للأولياء للوجوب وليس أمرا للصبي، لان الامر بالامر
بالشئ ليس أمرا به كما هو رأى الجمهور، خلافا للمالكية حيث قالوا إن الامر
بالامر بالشئ أمر بذلك الشئ، فالصبي عندهم مأمور بالصلاة ندبا وتكتب له
عليها، سواء أكان الولي أبا أم جدا أم وصيا أم قيما من جهة القاضي لقوله تعالى
(وأمر أهلك بالصلاة)
قال الشافعي في المختصر: على الآباء والأمهات أن يؤدبوا أولادهم ويعلموهم
الطهارة والصلاة، ويضربوهم على ذلك إذا عقلوا، وقيل إن الامر للولي
مندوب لا واجب.
قوله (وان سبيت امرأة معها ولد صغير..) قال الخطابي في المعالم: لم
يختلف أهل العلم في أن التفريق بين الولد الصغير وبين والدته غير جائز الا أنهم
اختلفوا في الحد بين الصغر الذي لا يجوز معه التفريق وبين الكبر الذي يجوز
معه، فقال أصحاب الرأي الحد في ذلك الاحتلام. وقال الشافعي إذا بلغ سبعا
أو ثمانيا. وقال الأوزاعي إذا استغنى عن أمه فقد خرج من الصغر. وقال مالك
إذا اثغر (أي نبتت أسنانه)
329

وقال أحمد: لا يفرق بينهما بوجه وإن كبر الولد واحتلم، قلت ويشبه أن
يكون المعنى في التفريق عند أحمد قطيعة الرحم، وصلة الرحم واجبة مع الصغر
والكبر، ولا يجوز عند أصحاب الرأي التفريق بين الأخوين إذا كان أحدهما
صغيرا والآخر كبيرا، فإن كانا صغيرين جاز وأما الشافعي فإنه يرى التفريق
بين المحارم في البيع، ويجعل المنع في ذلك مقصورا على الولد، ولا تختلف
مذاهب العلماء في كراهة التفريق بين الجارية وولدها الصغير، سواء كانت مسبية
من بلاد الكفر أو كان الولد من زنا أو كان زوجها أهلها في الاسلام فجاءت بولد
قوله (وإن سبى الزوجان أو أحدهما..) ولا خلاف فيما ذهب إليه المصنف
ولذلك قال ابن حزم في مراتب الاجماع (واتفق أن من سبى من نساء أهل
الكتاب المتزوجات وقتل زوجها وأسلمت هي أن وطأها حلال لمالكها بعد أن تستبرأ
قال المباركفوري في التحفة (ويحرم على الرجل أن يطأ الأمة المسبية إذا كانت
حاملا حتى تستبرئ بحيضة، وقد ذهب إلى ذلك الشافعية والحنفية والثوري
والنخعي ومالك، وظاهر قوله (ولا غير حامل) أنه يجب الاستبراء للكبر،
ويؤيده القياس على العدة فإنها تجب مع العلم ببراءة الرحم
وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الاستبراء إنما يجب في حق من لم تعلم
براءة رحمها، وأما من علمت براءة رحمها فلا استبراء في حقها، وقد روى
عبد الرزاق عن ابن عمر أنه قال إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرئها ان شاء،
وهو في صحيح البخاري عنه.
وقول الشوكاني ومن القائلين بأن الاستبراء إنما هو للعلم ببراءة الرحم فيحث
تعلم البراءة لا يجب، وحيث لا يعلم ولا يظن يجب. أبو العباس بن سريج،
وأبو العباس بن تيمية وابن القيم، ورجحه جماعة من المتأخرين، منهم الجلال
والمقيلي والمغربي والأمير وهو الحق، لان العلة معقولة، فإذا لم توجد علامة كالحمل
ولا مظنة كالمرأة المزوجة فلا وجه لا يجاب الاستبراء، والقول بأن الاستبراء
تعدى وأنه يجب في حق الصغيرة، وكذا في حق البكر والآيسة ليس
عليه دليل. انتهى
330

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا دخل الجيش دار الحرب فأصابوا ما يؤكل من طعام أو
فاكهة أو حلاوة واحتاجوا إليه جاز لهم أكله من غير ضمان، لما روى ابن عمر
رضي الله عنه قال كنا نصيب من المغازي العسل والفاكهة فنأكله ولا نرفعه،
وسئل ابن أبي أوفى عن طعام خيبر فقال: كان الرجل يأخذ منه قدر حاجته،
ولان الحاجة تدعو إلى ما يؤكل ولا يوجد من يشترى منه مع قيام الحرب فجاز
لهم الاكل وهل يجوز لهم الاكل من غير حاجة فيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة أنه لا يجوز كما لا يجوز في غير
دار الحرب أ: ل مال الغير بغير إذنه من غير حاجة.
(والثاني) أنه يجوز وهو ظاهر المذهب وهو قول أكثر أصحابنا، لما روى
عبد الله بن مغفل رضي الله عنه قال دلى جراب من شحم يوم خيبر فأتيته فالتزمته
ثم قلت: لا أعطى من هذا أحدا اليوم شيئا فالتفت فإذا برسول الله صلى الله
عليه وسلم يتبسم إلى، ولو لم يجز أكل ما زاد على الحاجة لنهاه عن منع ما زاد
على الحاجة ويخالف طعام الغير بأن ذلك لا يجوز أكله من غير ضرورة وهذا
يجوز أكله من غير ضرورة قطعا وطعام الغير يأكله بعوض وهذا يأكله بغير
عوض فجاز أن يأكله من غير حاجة، ولا يجوز لاحد منهم أن يبيع شيئا منه
لان حاجته إلى الاكل دون البيع، وان باع شيئا منه نظرت، فان باعه من بعض
الغانمين وسلمه إليه صار المشترى أحق به، لأنه من الغانمين، وقد حصل في يده
ما يجوز له أخذه للاكل فكان أحق به، فإن رده إلى البائع صار البائع أحق به
لما ذكرناه في المشترى، وان باعه من غير الغانمين وسلمه إليه وجب على
المشترى رده إلى الغنيمة، لأنه ابتاعه ممن لا يملك بيعه ولى سهو من الغانمين
فيمسكه لحقه فوجب رده إلى الغنيمة.
(فصل) ويجوز أن يعلف منه المركوب وما يحمل عليه رجله من البهائم
لان حاجته إليه كحاجته ولا يدهن منه شعره ولا شعر البهائم لأنه لا حاجة به
331

إليه ولا يعلف منه ما معه من الجوارح كالصقر والفهد، لأنه لا حاجة به إليه،
وإن خرج إلى دار الاسلام ومعه بقية من الطعام ففيه قولان.
(أحدهما) أنه لا يلزمه ردها في المغنم، لأنه مال اختص به من الغنيمة
فلا يجب رده فيها كالسلب.
(والثاني) أنه يجب ردها، لأنه إنما أجيز أخذه في دار الحرب للحاجة،
ولا حاجة إليه في دار الاسلام، ومن قال إن كان كثيرا وجب رده قولا واحدا
وإن كان قليلا فعلى القولين، والصحيح الأول، ولا يجوز تناول ما يصاب من
الأدوية من غير حاجة، وان دعت الحاجة إليه جاز تناوله ويجب ضمانه، لأنه
ليس من الأطعمة التي يحتاج إليها في العادة، ولا يجوز له ليس ما يصلب من
الثياب لما روى رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فئ المسلمين
حتى إذا أعجفها ردها فيه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من
فئ المسلمين حتى إذا أخلقه رده فيه، ولأنه لا يحتاج إليه في العادة، فان لبسه
لزمته أجرته لأنه كالغاصب.
(فصل) ويجوز ذبح ما يؤكل للاكل، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز
والمذهب الأول، لأنه مما يؤكل في العادة فهو كسائر الطعام، ولا يجوز أن
يعمل من أهبها حذاء ولا سقاء ولا دلاء ولا فراء، فان اتخذ منه شيئا من ذلك
وجب رده في المغنم وان زادت بالصنعة قيمته لم يكن له في الزيادة حق وان نقص
لزمه أرش منا نقص لأنه كالغاصب.
(فصل) وإن أصابوا كتبا فيها كفر لم يجز تركها على حالها لان قراءتها
والنظر فيها معصية، وإن أصابوا التوراة والإنجيل لم يجز تركها على حالها، لأنه
لا حرمة لها، لأنها مبدلة، فان أمكن الانتفاع بما كتب عليه إذا غسل كالجلود
غسل وقيم مع الغنيمة وان لم يمكن الانتفاع به إذا غسل كالورق مزق ولا يحرق
لأنه إذا حرق لم يكن له قيمة فإذا مرزق كانت له قيمة فلا يجوز إتلافه على الغانمين.
(فصل) وإذا أصابوا خمرا وجب إراقتها كما يجب إذا أصيبت في يد مسلم
332

فإن أصابوا خنزيرا فقد قال في سير الواقدي يقتل إن كان به عدو، فمن أصحابنا
من قال إن كان فيه عدو قتل لما فيه من الضرر، وان لم يكن فيه عدو لم يقتل،
لأنه لا ضرر فيه.
ومنهم من قال يجب قتله بكل حال، لأنه يحرم الانتفاع به فوجب اتلافه
فالخمر، وان أصابوا كلبا، فإن كان عقورا قتل لما فيه من الضرر، وإن كان فيه
منفعة دفع إلى من ينتفع به من الغانمين أو من أهل الخمس وان لم يكن فيهم من
يحتاج إليه خلى، لان اقتناءه لغير حاجة محرم وقد بيناه في البيوع.
(فصل) وان أصابوا مباحا لم يملكه الكفار كالصيد والحجر والحشيش
والشجر فهو لمن أخذه كما لو وجده في دار الاسلام، وان وجد ما يمكن أن
يكون للمسلمين ويمكن أن يكون للكفار كالسيف والقوس عرف سنة، فإن لم
يوجد صاحبه فهو غنيمة.
(فصل) وان فتحت أرض عنوة وأصيب فيها موات، فإن لم يمنع الكفار
عنها فهو لمن أحياه كموات دار الاسلام، وان منعوا عنها كان للغانمين لأنه يثبت لهم
بالمنع عنها حق التملك فانتقل ذلك الحق إلى الغانمين كما لو تحجروا مواتا للاحياء
ثم صارت الدار للمسلمين، وان فتحت صلحا على أن تكون الأرض لهم
لم يجز للمسلمين أن يملكوا فيها مواتا بالاحياء، لان الدار لهم فلم يملك
المسلم فيها بالاحياء.
(فصل) وما أصاب المسلمون من مال الكفار وخيف أن يرجع إليهم ينظر
فيه فإن كان غير الحيوان أتلف حتى لا ينتفعوا به ويتقووا به على المسلمين، وإن كان
حيوانا لم يجز اتلافه من غير ضرورة، لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من قتل عصفورا فما فوقها
بغير حقها سأله الله تعالى عن قتلها، قيل يا رسول الله وما حقها قال أن تذبحها
فتأكلها ولا تقطع رأسها فترمى بها، وان دعت إلى قتله ضرورة بأن كان
الكفار لا خيل لهم وما أصابه المسلمون خيل وخيف أن يأخذوه ويقاتلونا عليه
جاز قتله، لأنه إذا لم يقتل أخذه الكفار وقاتلوا به المسلمين.
333

(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه البخاري وأبو داود وابن حبان (أن
جيشا غنموا طعاما وعسلا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يأخذ منهم
الخمس، وأخرجه البيهقي ورجح الدارقطني وقفه
أثر ابن أبي أوفى أخرجه أبو داود والحاكم والبيهقي
حديث عبد الله بن مغفل أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن مغفل قال
أصبنا جرابا من شحم يوم خيبر فالتزمته وقلت لا أعطى أحدا اليوم من هذا
شيئا، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مبتسما)
حديث رويفع الأنصاري (من كان يؤمن بالله) أخرجه أحمد وأبو داود
وابن حبان وزاد: روى ذلك يوم حنين بلفظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم
حنين (لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبتاع مغنما حتى يقسم ولا
يلبس ثوبا من فئ حتى إذا أخلقه رده فيه ولا أن يركب دابة من فئ المسلمين
حتى إذا أعجفها ردها فيه)
حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أخرجه البيهقي وسكت عنه التركماني
في الجوهر النقي.
اللغة، قوله (إذا دخل الجيش دار الحرب..) قال الشوكاني في النيل يجوز
أخذ الطعام، ويقاس عليه العلف للدواب بغير قسمة، ولكنه يقتصر من ذلك
على مقدار الكفاية، كما في حديث ابن أبي أوفى، وإلى ذلك ذهب الجمهور،
سواء اذن الامام أم لم يأذن، والعلة في ذلك أن الطعام يقل في دار الحرب،
وكذلك العلف فأبيح للضرورة، والجمهور أيضا على جواز الاخذ، ولو لم تكن
ضرورة. وقال الزهري لا تأخذ شيئا من الطعام ولا غيره إلا بإذن الإمام.
وقال سليمان بن موسى يأخذ إلا أن نهى الامام.
وقال ابن المنذر قد وردت الأحاديث الصحيحة في التشديد في الغلول،
واتفق علماء الأمصار على جواز أكل الطعام، وجاء الحديث بنحو ذلك فليقتصر
عليه، وقال الشافعي ومالك يجوز ذبح الانعام للاكل كما يجوز أخذ الطعام،
ولكن قده الشافعي بالضرورة إلى الاكل حيث لا طعام. اه‍
وحديث أبي رويفع فيه دليل على أنه لا يحل لاحد من المجاهدين أن يبيع
334

شيئا من الغنيمة قبل قسمتها، لان ذلك من الغلول، وقد وردت الأحاديث
الصحيحة بالنهي عنه.
ولا يحل أيضا أن يأخذ ثوبا منها فيلبسه حتى يخلقه ثم يرده، أو يركب دابة
منها حتى إذا أعجفها ردها لما في ذلك من الاضرار بسائر الغانمين والاستبداد بما
لهم فيه نصيب بغير إذن منهم.
قال في الفتح وقد اتفقوا على جواز ركوب دوابهم يعنى أهل الحرب
وليس ثيابهم واستعمال سلاحهم حال الحرب، ورد ذلك بعد انقضاء الحرب،
ولا ينتظر برده انقضاء الحرب لئلا يعرضه للهلاك قال وحجته حديث رويفع
ونقل عن أبي يوسف أنه حمله على ما إذا كان الآخذ غير محتاج يتقى به دابته أو
ثوبه بخلاف من ليس له ثوب ولا دابة.
وقال الخطابي، فأما الثياب والأدوات فلا يجوز استعمالها إلا أن يقول قائل
الثياب انه إذا احتاج إلى شئ منها حاجة ضرورة كان له أن يستعمله، مثل أن
يشتد البرد فيستدفئ بثوب.
قوله (ويجوز ذبح ما يؤكل للاكل..) أقول بوب الجد ابن تيمية في كتابه
المنتفى بابا ذكر فيه (باب ان الغنم تقسم بخلاف الطعام والعلف) وأورد فيه
حديثين عن رجل من الأنصار قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
في سفر فأصاب الناس حاجة شديدة وجهد وأصابوا غنما فانتهبوها، فإن قدورنا
لتغلى إذ جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى على قوسه فأكفا قدورنا بقوسه
ثم جعل يرمل اللحم بالتراب ثم قال إن النهبة ليست بأحل من الميتة، وان الميتة
ليست بأحل من النهبة. رواه أبو داود
والحديث الثاني عن معاذ قال غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر
فأصبنا فيها غنما فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم طائفة وجعل بقيتها في المغنم رواه
أبو دود وفيه مجهول.
إلا أن الشوكاني تعقبه فقال الحديث الأول ليس فيه دليل على ما ترجم له
المصنف من أن الغنم تقسم، لان النبي صلى الله عليه وسلم إنما منع من أكلها
لأجل النهى، كما وقع التصريح بذلك لا لأجل كونها غنيمة مشتركة لا يجوز
335

الانتفاع بها قبل القسمة. نعم الحديث الثاني فيه دليل على أن الامام يقسم بين
المجاهدين من الغنم ونحوها من الانعام ما يحتاجونه حال قيام الحرب ويترك الباقي
في جملة المغنم، وهذا مناسب لمذهب الجمهور المتقدم فإنهم يصرحون بأنه يجوز
للغانمين أخذ القوت وما يصلح به، وكل طعام يعتاد أكله على العموم من غير
فرق بين أن يكون حيوانا أو غيره.
وقد استدل على أن المنع من ذبح الحيوانات المغنومة بغير إذن الإمام بما في
الصحيح من حديث رافع بن خديج في ذبحهم الإبل التي أصابوها لأجل الجوع
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بإكفاء القدور.
قال ابن المهلب إنما أكفا القدور ليعلم ان الغنيمة إنما يستحقونها بعد القسمة
ويمكن أن يحمل ذلك على أنه وقع الذبح في غير للوضع الذي وقع فيه القتال،
وقد ثبت في هذا الحديث أن القصة وقعت في دار الاسلام لقوله فيها بذى الحليفة
وقال القرطبي المأمور بإكفائه إنما هو المرق عقوبة للذين تعجلوا، وأما نفس
اللحم فلم يتلف، بل يحمل على أنه جمع ورد إلى المغانم لأجل النهى عن
إضاعة المال.
قوله (وان أصابوا كتبا..) لم يقل أحد أن النظر في كتب الديانات
الأخرى معصية، بل الواجب يحتم علينا أن تعلم ما عندهم حتى تكون على بينة
من أمرهم، وهاهم علماء المسلمين وأئمتهم ألفوا كتبا في الرد عليهم كابن حزم
وغيره، وان عبد الله بن عمرو وقع له كتاب من كتبهم فكان يقرأه ويروى منه
وكتب الفلسفة التي عربت والطب وغيرها من العلوم لم يقل أحد أن النظر
فيها معصية.
قوله (وإذا أصابوا خمرا..) وهذا لا خلاف فيه فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
بإهراقها وهي ملك لأيتام مسلمين فكيف إذا كانت ملكا للحربيين وكذا الخنزير
أما الكلب فقد بينه المؤلف، كما أشار في البيوع
قوله (وما أصاب المسلمون من مال الكفار..) فقد سبق تبيانه في وصية
أبى بكر الصديق لجيشه وما قيل في التحريق من آراء.
336

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا سرق بعض الغانمين نصابا من الغنيمة، فإن كان قبل إخراج
الخمس لم يقطع لمعنيين (أحدهما) أن له حقا في خمسها (والثاني) أن له حقا في
أربعة أخماسها، وإن سرق بعد إخراج الخمس فظرت فإن سرق من الخمس لم
يقطع لان له حقا فيه، وإن سرق من أربعة أخماسها نظرت فإن سرق قدر حقه
أو دونه لم يقطع لان له في ذلك القدر شبهة، وإن كان أكثر من حقه ففيه
وجهان (أحدهما) أنه يقطع لأنه لا شبهة له في سرقة النصاب (والثاني) أنه
لا يقطع لان حقه شائع في الجميع فلم يقطع فيه، وإن كان السارق من غير الغانمين
نظرت فإن كان قبل إخراج الخمس لم يقطع لان له حقا في خمسها، وإن كان بعد
إخراج الخمس فإن سرق من الخمس لم يقطع لان فيه حقا، وان سرق ذلك من
أربعة أخماسها فإن كان في الغانمين من للسارق شبهة في ماله كالأب والابن لم يقطع
لان له شبهة فيما سرق، وإن لم يكن له فيهم من له شبهة في ماله قطع لأنه لا شبهة
له فيما سرق.
(الشرح) والغال من الغنيمة بوب له أبو داود في سننه فقال باب في الغلول
إذا كان يسيرا يتركه الامام ولا يحرق رحله، وروى حديث عبد الله بن عمر كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس
فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال
يا رسول الله هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة، فقال أسمعت بلالا نادى ثلاثا؟
قال نعم، قال فما منعك أن تجئ به فاعتذر فقال كن أنت تجئ به يوم القيامة
فلن أقبله عنك.
وبوب البيهقي في سننه الكبرى ج 9 ص 100 (باب الرجل يسرق من الغنم
وقد حضر القتال) وأورد ثلاثة أحاديث، الأول عن ابن عباس رضي الله عنه
أن عبدا من رقيق الخمس سرق من الخمس، فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم
يقطعه، فقال مال الله سرق بعضه بعضا وهذا إسناد فيه ضعف
337

ورواه من طريق آخر عن ميمون بن مهران عن النبي صلى الله عليه وسلم
مرسلا، ورينا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلا سرق مغفرا من
المغنم فلم يقطعه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وطئ بعض الغانمين جارية من الغنيمة لم يجب عليه الحد
وقال أبو ثور يجب، وهذا خطأ لان له فيها شبهة وهو حق التملك ويجب عليه
المهر لأنه وطئ يسقط فيه الحد على الموطوءة للشبهة فوجب المهر على الواطي ء
كالوطئ في النكاح الفاسد، وان أحبلها ثبت النسب للولد وينعقد الولد حرا الشبهة
وهل تقسم الجارية في الغنيمة أو تقوم على الواطئ؟ فيه طريقان، من أصحابنا
من قال إن قلنا إنه إذا ملكها صارت أم ولد قومت عليه، وان قلنا إنها لا تصير
أم ولد له لم تقوم عليه.
وقال أبو إسحاق تقوم على القولين، لأنه لا يجوز قسمتها كما لا يجوز بيعها
ولا يجوز تأخير القسمة لان فيه اضرارا بالغانمين فوجب أن تقوم، وان
وضعت فهل تلزمه قيمة الولد؟ ينظر فيه فإن كان قد قومت عليه لم تلزمه لأنها
تضع في ملكه، وان لم تكن قومت عليه لزمه قيمة الولد لأنها وضعته في غير ملكه
(فصل) ومن قتل في دار الحرب قتلا يوجب القصاص أو أتى بمعصية توجب
الحد وجب عليه ما يجب في دار الاسلام، لأنه لا تختلف الداران في تحريم
الفعل فلم تختلفا فيما يجب به من العقوبة.
(الشرح) روى البيهقي في سننه الكبرى ما يخالف ما أورده المصنف إذ قال
بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه خالد بن الوليد في جيش، فبعث خالد ضرار
ابن الأزور في سرية في خيل فأغاروا على حي من بنى أسد فأصابوا امرأة عروسا
جميلة فأعجبت ضرار، فسألها أصحابه فأعطوها إياه فوقع عليها، فلما قفل ندم
وسقط به في يده، فلما رفع إلى خالد أخبره بالذي فعل، فقال خالد فإني قد أجزتها
لك وطيبتها لك، قال لا حتى تكتب بذلك إلى عمر، فكتب عمر أن أرضخه
بالحجارة، فجاء كتاب عمر رضي الله عنه وقد توفى، فقال ما كان الله ليخزى
ضرار بن الأزور.
338

وروى البيهقي أن ابن عمر سئل عن جارية كانت بين رجلين وقع عليها أحدهما
قال هو خائن ليس عليه حد تقوم عليه قيمة، وفى رواية أخرى ليس عليه حد
يقوم عليه قيمتها ويأخذها، وسكت عنه ابن التركماني
قوله (ومن قتل في دار الحرب..) وقد بوب البيهقي في سننه الكبرى باب
إقامة الحدود في أرض الحرب، ثم أورد فيه، قال الشافعي رحمه الله قد أقام
رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد بالمدينة والشرك قريب منها وفيها شرك كثير
موادعون وضرب الشارب بحنين والشرك قريب منه وروى عن عبد الرحمن
ابن أزهر الزهري قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يتخلل الناس
يسأل عن منزل خالد بن الوليد وأتى بسكران فأمر من كان عنده فضربوه بما كان
في أيديهم وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من التراب.
وذكر أن أبا داود روى في مراسيله: قال صلى الله عليه وسلم وأقيموا
الحدود في الحضر والسفر على القريب والبعيد ولا تبالوا في الله لومة لاثم،
وذكر أثر عمر إلى خالد السابق، ولم يتعقبه ابن التركماني بشئ، ثم بوب بابا
آخر فقال: باب من زعم لا تقام الحدود في أرض الحرب حتى يرجع، وروى
فيه آثارا منها أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عمير بن سعد الأنصاري وإلى عماله
أن لا يقيموا حدا على أحمد من المسلمين في أرض الحرب حتى يخرجوا إلى أرض
المصالحة، قال الشافعي: ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مستنكر،
وهو يعيب أن يحتج بحديث غير ثابت، ويقول حدثنا شيخ، ومن هذا الشيخ؟
ويقول مكحول عن زيد بن ثابت ومكحول لم ير زيد بن ثابت، قال الشافعي،
وقوله يلحق بالمشركين، فإن لحق بهم فهو أشقى له، ومن ترك الحد خوف أن
يلحق المحدود ببلاد المشركين تركه في سواحل المسلمين ومسالحهم التي تتصل ببلاد
الحرب، ثم تعقبه ابن البركماني في الجوهر النقي (قال الشافعي ما روى عن عمر
مستنكر) بقوله قلت أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف بسنده قال: كتب عمر
ابن الخطاب: ألا لا يجلدن أمير جيش ولا سرية أحدا الحد حتى يطلع على
الدرب لئلا يحمله حمية الشيطان أن يلحق بالكفار، وعن أبي الدرداء: نهى أن
يقام على أحد حد في أرض العدو
339

واحتج أبو يوسف في كتاب الخراج لهذه المسألة فروى بسنده عن علقمة
قال: غزونا بأرض الروم ومعنا حذيفة وعلينا رجل من قريش فشرب الخمر،
فأردنا أن نحده، فقال حذيفة تحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم
وذكره ابن أبي شيبة عن الأعمش، وروى عبد الرزاق عن علقمة قال أصاب
أمير الجيش وهو الوليد بن عقبة شرابا فسكر، فقال الناس لابن مسعود وحذيفة
ابن اليمان أقيما عليه الحد، فقالا لا نفعل، نحن بإزاء العدو ونكره أن يعلموا
فيكون جرأة منهم علينا وضعفا بنا، وفى المعالم قال الأوزاعي لا يقطع أمير
العسكر حتى يقفل من الدرب فإذا قفل قطع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان تجسس رجل من المسلمين الكفار لم يقتل، لما روى عن علي
كرم الله وجهه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد
وقال إنطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فيها ظعينة معها كتاب فخذوه منها،
فانطلقنا حتى أتينا الروضة فإذا بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب، فأخرجته من
عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة
رضي الله عنه إلى أناس بمكة يخبرهم ببعض أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال يا حاطب ما هذا؟ قال يا رسول الله لا تعجل على أنما كنت امرأ ملصقا
فأحببت أن أتخذ عندهم يدا يحمون بها قرابتي ولم أفعل ذلك ارتدادا عن ديني
ولا أرضى الكفر بعد الاسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما انه قد
صدق، فقال عمر دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال إنه قد شهد
بدرا، فقال سفيان بن عيينة فأنزل الله (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي
وعدوكم أولياء) وقرأ سفيان إلى قوله (فقد ضل سواء السبيل)
(الشرح) حديث على عن عبيد الله بن أبي رافع قال: سمعت عليا رضي الله عنه
يقول: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال إنطلقوا
حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب، فخرجنا تعادى بنا خيلنا فإذا
نحن بظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب؟ فقالت ما معي كتاب، فقلنا لها لتخرجن
340

الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم
فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة يخبر ببعض أمر
النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما هذا يا حاطب؟ قال لا تعجل على إني كنت امرأ
ملصقا في قريش ولم أكن من أنفسها وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات
يحمون بها قراباتهم ولم يكن لي بمكة قرابة، فأحببت إذا فاتني ذلك أن أتخذ عندهم
يدا والله ما فعلنه شكا في ديني ولا رضا بالكفر بعد الاسلام، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم انه قد صدق، فقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله دعني
أضرب عنق هذا المنافق؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم انه قد شهد بدرا وما يدريك لعل الله
اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ونزلت (يا أيها الذين
آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) أخرجه
البخاري ومسلم.
اللغة: قوله (فإن فيها ظعينة) الظعينة المرأة في الهودج، وأصل الظعينة هو الهودج
ثم سميت المرأة ظعينة لكونها فيه مأخوذ من الظعن وهو الارتحال، قال الله تعالى
(يوم ظعنكم ويوم إقامتكم) وقال بعضهم لا يقال للمرأة ظعينة إلا إذا كانت في
الهودج. قوله (فأخرجته من عقاصها) عقص الشعر ليه وضفره على الرأس،
ومنه سميت الشاة الملتوية القرن عقصاء، والعقاص جمع عقصة مثل رهمة ورهام
قال امرؤ القيس:
يضل العقاص في مثنى ومرسل
قوله (كنت امرأ ملصقا) الملصق بالقوم والملتصق المنضم إليهم وليس منهم
قوله (يدا) أراد صنيعة منهم يمنعون بها قرابتي قال:
تكن لك في قومي يد يشكرونها * وأيدي الندى في الصالحين قروض
قوله (دعني أضرب نق هذا المنافق) قد ذكرنا أن المنافق الذي يظهر
الايمان ويستر الكفر، وفى اشتقاقه ثلاثة أوجه (أحدهما) أنه مشتق من النفق
وهو ال‍؟ رب من قوله تعالى (فإن استطعت أن تبتغى نفقا في الأرض) فشبه بالذي
يدخل النفق ويستنر به (والثاني) أنه مشتق من نافقاء اليربوع وهو جحره لان
له حجرا يسمى النافقاء وآخر يقال له القاصعاء، فإذا طلب من النافقاء قصع
341

فحرج من القاصعاء وإن طلب من القاصعاء نفق فخرج من النافقاء، وكذلك
المنافق يدخل في الكفر ويخرج من الاسلام مراءاة للكفار، ويخرج من الكفر
ويدخل في الاسلام مراءاة للمسلمين (والثالث) أنه مشتق من النافقاء بمعنى آخر
ذلك أنه يحفر في الأرض حتى إذا كاد أن يبلغ ظاهرها أرق التراب، فإذا
خاف خرق الأرض وبقى في ظاهره تراب وظاهر حجره تراب وباطنه حفر،
المنافق باطنه كفر وظاهره إيمان، ولليربوع أربعة أجحرة الراهطاء والنافقاء
والقاصعاء والدأماء.
قوله (عدوي وعدوكم) قال الهروي العداوة تباعد القلوب والنيات، وقال
ابن الأنباري لأنه يعدو بالمكروه والظلم، ويقال عدا عليه عدوا إذا ظلمه، قال
الله تعالى (فيسبوا الله عدوا بغير علم) أي ظلما والعدو يقع على الواحد والاثنين
والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد، قال الله تعالى (فإنهم عدو لي) وقال (وهم
لكم عدو) وقال الشاعر:
إذا أنا لم أنفع خليلي بوده * فإن عدوى لن يضرهم بغضي
وقد يجمع فيقال أعداء، قال الله تعالى (فلا تشمت بي الأعداء)
قال أبو يوسف في كتاب الخراج (وسألت يا أمير المؤمنين عن الجواسيس
يوجدون وهم من أهل الذمة أو أهل الحرب أو من المسلمين، فإن كانوا من أهل
الحرب أو من أهل الذمة ممن يؤدى الجزية من اليهود والنصارى والمجوس
فاضرب أعناقهم، وإن كانوا من أهل الاسلام معروفين فأوجعهم عقوبة وأطل
حبسهم حتى يحدثوا توبة. اه‍
قال النووي قتل الجاسوس الحربي الكافر هو باتفاق، وأما المعاهد والذمي
فقال مالك والأوزاعي ينتقض عهده بذلك، وعند الشافعية خلاف، أما لو شرط عليه
ذلك في عهدة فينتقض اتفاقا. قال الشوكاني: حديث فرات بن حيان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتله
وكان ذميا وكان عينا لأبي سفيان وحليفا لرجل من الأنصار فمر بحلقة من الأنصار
فقال إني مسلم، فقال رجل من الأنصار يا رسول الله إنه يقول إنه مسلم. فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم إن منكم رجالا نكلهم إلى إيمانهم منهم فرات بن
حيان) أخرجه أحمد وأبو داود، يدل على جواز قتل الجاسوس الذي،
342

وذهبت الهادوية إلى قتل جاسوس الكفار والبغاة إذا ان قتل أو حصل القتل
بسببه وكانت الحرب قائمة، وإذا اختل شئ من ذلك حبس فقط
قال الخطابي في المعالم في شرح حديث على (فيه دليل على أن الجاسوس إذا
كان مسلما لم يقتل، واختلفوا فيما يفعل به من العقوبة، فقال أصحاب الرأي في
المسلم إذا كتب إلى العدو ودله على عورات المسلمين يوجع عقوبة ويطال حبسه
وقال الأوزاعي: إن كان مسلما عاقبه الامام عقوبة منكلة، وغربه إلى بعض
الآفاق في وثاق، وإن كان ذميا فقد نقض عهده، وقال مالك: لم أسمع فيه شيئا
وأرى فيه اجتهاد
وقال الشافعي: إذا كان هذا من الرجل ذي الهيئة بجهالة كما كان من حاطب
بجهالة وكان غير متهم أحببت أن يتجافى عنه، وإن كان من غير ذي الهيئة كان للامام
تعزيره، وفى الحديث من الفقه أيضا جواز النظر إلى ما ينكشف من النساء
لإقامة حد أو إقامة شهادة في إثبات حق إلى ما أشبه ذلك من الأمور
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا أخذ المشركون مال المسلمين بالقهر لم يملكوه، وإذا استرجع
منهم وجب رده إلى صاحبه لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم
الا بطيب نفس منه)
وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه قال: أغار المشركون على سرح
رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهبوا به وذهبوا بالعضباء وأسروا امرأة من
المسلمين، فركبتها وجعلت لله عليها إن نجاها الله لتنحرنها، فقدمت المدينة
وأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بئس ما جزيتها لا وفاء لنذر
في معصية الله عز وجل ولا فيما لا يملكه ابن آدم، فإن لم يعلم به حتى قسم دفع
اليمن وقع في سهمه العوض من خمس الخمس ورد المال إلى صاحبه لأنه يشق
نقض القسمة.
(الشرح) حديث (لا يجل مال امرئ مسلم..) أخرجه أبو داود
عن خيفة الرقاشي
343

حديث عمران بن حصين (قال أسرت امرأة من الأنصار وأصيبت العضباء
فكانت المرأة في الوثاق وكان القوم يريحون نعيمهم بين يدي بيوتهم فانفلتت ذات
ليلة من الوثاق فأتت الإبل فجعلت إذا دنت من البعير رغا فتتركه حتى تنهى إلى
العضباء فلم ترغ وهي ناقة منوقة (وفى رواية) مدربة فقعدت في عجزها ثم زجرتها
فانطلقت ونذروا بها فأعجزتهم، قال ونذرت لله إن نجاها الله عليه لتنحرنها، فلما
قدمت المدينة رآها الناس فقالوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إنها نذرت
لله إن نجاها الله عليها لتنحرنها، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا
ذلك فقال سبحان الله بئسما جزتها نذرت إن نجاها الله عليها لتنحرها، لا وفاء
لنذر في معصية ولا فيما لا يملك العبد) أخرجه مسلم
(قلت) ورويت أحاديث أخرى في الباب، فعن ابن عمر أنه ذهب فرس له
فأخذه العدو فظهر عليهم المسلمون فرد عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبق عبد له فلحق بأرض الروم وظهر عليهم المسلمون فرده عليه خالد بن
الوليد بعد النبي صلى الله عليه وسلم. أخرجه البخاري وأبو داود وابن ماجة
وفى رواية أن غلاما لابن عمر أبق إلى العدو، فظهر عليه المسلمون، فرده
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ابن عمر ولم يقسم. أخرجه أبو داود، كما أن
البيهقي روى حيث عمران من طرق في بعضها زيادات تعقبها ابن التركماني فقال
تحت باب ما أحرزه المشركون على المسلمين ذكر فيه خروج المرأة بناقة النبي
صلى الله عليه وسلم من وجهين، ثم أخرجه من وجه ثالث فقال: ثنا أبو زكريا
وأبو سعيد قالا ثنا أبو العباس أنا الربيع ثنا سفيان وعبد الوهاب عن أيوب
عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران (الحديث) وفى آخره قالا معا أو
أحدهما في الحديث، وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم ناقته، قلت هذا الحديث
أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة من حصر جماعة عن
أيوب، وليس في حديث أحد منهم هذه الزيادة، وقد شك الشافعي هل قالاها
أو قالها أحدهما، وأحدهما وهو عبد الوهاب، وان خرج له في الصحيح ففيه
ضعف، كذا قال ابن سعد، واختلط أيضا، وإذا دارت هذه الزيادة بينه وبين
ابن عيينة ضعفت، على أن النسائي والترمذي وابن ماجة أخرجوا الحديث من
344

طريق ابن عيينة بدون الزيادة، وأخرجها الطحاوي في كتاب اختلاف العلماء
من جهة عبد الوهاب، فدل ذلك على أنه هو الذي قالها دون ابن عيينة، مع أن
عبد الوهاب اختلف عليه، فرواه مسلم عن إسحاق بن إبراهيم عنه بدون الزيادة
وليس الضمير في قوله قالا أو أحدهما راجعا إلى أبى زكريا وأبي سعيد شيخي البيهقي
لأنه روى الحديث في كتاب المعرفة عن أبي عبد الله وأبى زكريا وأبي سعيد،
وفى آخره قالا فتعين عود الضمير إلى سفيان وعبد الوهاب
وأخرج البيهقي في كتاب المعرفة الزيادة من وجه آخر، وفيه يحيى بن أبي طالب
عن علي بن عاصم، وابن أبي طالب وثقه الدارقطني وغيره، وقال موسى بن
هارون أشهد أنه يكذب ولم يعن في الحديث، فالله أعلم.
وقال أبو عبيد الآجري خط أبو داود على حديثه، ذكره صاحب الميزان
وابن عاصم، قال يزيد بن هارون: ما زلنا نعرفه بالكذب، وكان أحمد سيئ
الرأي فيه، وقال يحيى ليس بشئ، وقال النسائي متروك، وقال ابن عدي الضعف
على حديثه تبين.
اللغة: قوله (ذهبوا بالعضباء) العضب القطع في الاذن، يقال بعير أعضب
وناقة عضباء، وهو هنا اسم علم لها لا لأجل أنها مقطوعة
قال الشوكاني في النيل وقد اختلف أهل العلم في ذلك فقال الشافعي وجماعة
لا يملك أهل الحرب بالغلبة شيئا من المسلمين، ولصاحبه أخذه قبل القسمة
وبعدها، وعن علي والزهري وعمرو بن دينار والحسن لا يرد أصلا ويختص
به أهل المغانم.
وقال عمر وسلمان بن ربيعة وعطاء والليث ومالك وأحمد وآخرون، وهي
رواية عن الحسن أيضا، ونقلها ابن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء السبعة إن
وجده صاحبه قبل القسمة فهو أحق به، وان وجده بعد القسمة فلا يأخذه إلا
بالقيمة، واحتجوا بحديث عن ابن عباس مرفوعا بهذا التفصيل، أخرجه
الدارقطني وإسناده ضعيف جدا، وإلى هذا التفصيل ذهبت الهادوية، وعن
أبي حنيفة كقول مالك إلا في الآبق، فقال هو والثوري صاحبه أحق به مطلقا
345

قال أبو حفص عمر الغزنوي في الغرة المنيفة (مسألة) إذا استولى الكفار
على أموال المسلمين وأحرزوها بدارا لحرب ملكوها عند أبي حنيفة رضي الله عنه
وعند الشافعي رحمه الله لم يملكوها، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه قوله تعالى
(للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) أسماهم فقراء مع إضافة
الأموال إليهم، والفقير من لا مال له لا من بعدت يده عن المال، ومن ضرورته
ثبوت الملك لمن استولى على أموالهم من الكفار
وروى عن علي رضي الله عنه أنه قال يوم الفتح: يا رسول الله ألا نزل
دارك؟ فقال (وهل ترك لها عقيل من منزل) وكان للنبي صلى الله عليه وسلم دار
بمكة ورثها من خديجة رضي الله عنه فاستولى عليها عقيل وكان مشركا
وروى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا أصاب بعيرا له في الغنيمة، فأخبر به
النبي صلى الله عليه وسلم فقال (إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شئ، وإن
وجدته بعد القسمة فهو لك بالثمن)
وروى تميم عن طرفة أنه عليه الصلاة والسلام قال في بعير أخذه المشركون
فاشتراه رجل من المسلمين ثم جاء المالك الأول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال صلى الله عليه وسلم (إن شئت أخذته بالثمن) فلو بقي في ملك المالك القديم
لكان له الاخذ بغير شئ، حجة الشافعي رحمه الله قوله تعالى (ولن يجعل الله
للكافرين على المؤمنين سبيلا) فينبغي أن لا يصير مال المسلم للكافر بالغلبة
والاستيلاء عليه.
الحجة الثانية أن المسلم خير من الكافر، والمسلم إذا استولى على مال مسلم
آخر لا يصير ملكا له فالكافر أولى
الجواب عنه أما الآية فمقتضاها نفى السبيل على نفس المسلم، ونحن نقول
بموجبه، فإذا استولى على نفسه يملكه ونحن نملكهم، ولكن الأصل في الأموال
عدم العصمة، وإنما صار معصوما بالاحراز بدار الاسلام، فإذا أحرزوها بدار
الحرب زالت العصمة بزوال سببها فبقيت أموالا مباحة فتملك بالاستيلاء عليه
وفيه وقع الفرق بين استيلاء المسلم والكافر وأن المسلم لم يحرزها إلى دارا لحرب
والحربي أحرزها فافترقا.
346

وقال ابن حزم في مراتب الاجماع (واختلفوا فيما صار بأيدي المشركين من
أموال المسلمين أيملكونه أم لا يملكونه أصلا.
ثم قال في كتاب المحلى: ولا يملك أهل الكفر الحربيون مال مسلم ولا مال
ذمي أبدا إلا بالابتياع الصحيح أو بميراث من ذمي كافرا أو بمعاملة صحيحة في دين
الاسلام، فكل ما غنموه من مال ذمي أو مسلم أو آبق إليهم فهو باق على ملك
صاحبه فمتى قدر عليه رد على صاحبه قبل القسمة وبعدها دخلوا به أرض الحرب
أو لم يدخلوا، ولا يكلف مالكه عوضا ولا ثمنا لكن يعوض الأمير من كان
صار في سهمه من كل مال لجماعة المسلمين، ولا ينفذ فيه عتق من وقع في سهمه
ولا صدقته ولا هبته ولا بيعه ولا تكون له الأمة أم ولد، وحكه حكم الشئ
الذي يغصبه المسلم من المسلم ولا فرق
ثم دلل على صحة أقواله مدعما بالأحاديث والآثار في ثماني صفحات كان بودنا
نقل ما أورد لولا ضيق المقام واستعجال الناشر لنا، ورد أقوال أبي حنيفة
والآثار التي ذكرها صاحب الغرة بما فيه الحق، وكذا رد أقوال المالكيين
وبين الصحيح فيها من الضعيف.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن أسر الكفار مسلما وأطلقوه من غير شرط فله أن يغتالهم
في النفس والمال لأنهم كفار لا أمان لهم، وإن أطلقوه على أنه في أمان ولم
يستأمنوه ففيه وجهان:
(أحدهما) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة أنه لا أمان لهم لأنهم لم يستأمنوه
(والثاني) وهو ظاهر المذهب أنهم في أمانه، لأنهم جعلوه في أمان فوجب أن
يكونوا منه في أمان، وإن كان محبوسا فأطلقوه واستحلفوه أنه لا يرجع إلى دار
الاسلام لم يلزمه حكم اليمين ولا كفارة عليه إذا حلف لان ظاهره الاكراه،
فإن ابتدأ وحلف أنه إن أطلق لم يخرج إلى دار الاسلام ففيه وجهان
(أحدهما) أنها يمين إكراه، فإن خرج لم تلزمه كفارة، لأنه لم يقدر على
347

الخروج إلا باليمين فأشبه إذا حلفوه على ذلك (والثاني) أنه يمين اختيار، فإن
خرج لزمته الكفارة لأنه بدا بها من غير إكراه، وإن أطلق ليخرج إلى دار
الاسلام وشرط عليه أن يعود إليهم أو يحمل له مالا لم يلزمه العود لان مقامه
في دار الحرب لا يجوز ولا يلزمه بالشرط ما ضمن من المال، لأنه ضمان من
مال بغير حق، والمستحب أن يحمل لهم ما ضمن ليكون ذلك طريقا إلى
إطلاق الأسرى.
(الشرح) قال ابن حزم في المحلى (ومن كان أسيرا عند الكفار فعاهدوه على
الفداء وأطلقوه فلا يحل له أن يرجع إليهم ولا أن يعطيهم شيئا، ولا يحل للامام
أن يجبره على أن يعطيهم شيئا، فإن لم يقدر على الانطلاق إلا بالفداء ففرض
على المسلمين أن يفدوه إن لم يكن له مال يفي بفدائه، قال الله عز وجل (ولا
تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) واسار المسلم أبطل الباطل والعون عليه،
وتلك العهود والايمان التي أعطاهم لا شئ عليه فيها، لأنه مكره عليها، إذ
لا سبيل إلى الخلاص إلا بها، ولا يحل له البقاء في أرض الكفر وهو قادر على
الخروج، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه) وهكذا كل عهد أعطيناهم حتى نتمكن من استنقاذ المسلمين
وأموالهم من أيديهم.
اللغة: قوله (أن يغتالهم) غاله واغتاله إذا أخذه من حيث لا لم يدر، وقال
الأزهري (الغيلة هو أن يخدع بالشئ حتى يسر إلى موضع كمن له فيه
الرجال فيقتل.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب الأنفال)
(الشرح) الأنفال جمع نفل بالتحريك وبسكونها الغنيمة. قال لبيد
ان تقوى ربنا خير نفل
وأصله العطية بغير وجوب على المعطى، ومنه قيل لصلاة التطوع نافلة،
348

وقيل أصله الزيادة لأنها زائدة على الفرائض، ولان الغنيمة زادها الله هذه
الأمة في الحلال، ومنه قوله تعالى (ووهبنا له إسحاق ويعقوب) نافلة أي زيادة
على إسحاق، ويسمى ولد الولد نافلة، لأنه زيادة على الولد، وقوله تعالى
(ويسألونك عن الأنفال) إنما كان سؤالهم عنها لأنها كانت حراما على من
قبلهم، كانت تنزل نار من السماء فتحرقها فأحلها الله لهم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
يجز لأمير الجيش أن ينفل لمن فعل فعلا يفضى إلى الظفر بالعدو كالتجسيس
والدلالة على طريق أو قلعة أو التقدم بالدخول إلى دار الحرب أو الرجوع إليها
بعد خروج الجيش منها لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان ينفل في البدأة الربع وفى القفول الثلث، وتقدير النفل
إلى رأى أمير الجيش، لأنه بذل لمصلحة الحرب فكان تقديره إلى رأى الأمير،
ويكون ذلك على قدر العمل لان النبي صلى الله عليه وسلم جعل في البدأة الربع
وفى القفول الثلث، لان التغرير في القفول أعظم لأنه يدخل إلى دار الحرب
والعدو منه على حذر وفى البدأة يدخل والعدو منه على غير حذر، ويجوز شرط
النفل من بيت مال المسلمين، ويجوز شرطه من المال الذي يؤخذ من المشركين،
فإن جعل في بيت مال المسلمين كان ذلك من خمس الخمس لما روى سعيد بن المسيب
قال: كان الناس يعطون النفل من الخمس، ولأنه مال يصرف في مصلحة فكان
من خمس الخمس ولا يجوز أن يكون مجهولا لأنه عوض في عقد لا تدعو الحاجة
فيه إلى الجهل به فلم يجز أن يكون مجهولا كالجهل في رد الآبق، وإن كان النفل
من مال الكفار جاز أن يكون مجهولا، لان النبي صلى الله عليه وسلم جعل في
البدأة الربع وفى القفول الثلث وذلك جزء من غنيمة مجهولة
(فصل) وان قال الأمير من دلى على القلعة الفلانية فله منها جارية، فدله
عليها رجل نظرت فإن لم تفتح القلعة لم يجب الدليل شئ، ومن أصحابنا من قال
يرضخ له لدلالته، والمذهب الأول لأنه لما جعل له الجارية من القلعة صار
تقديره من دلى على القلعة وفتحت كانت له منها جارية لأنه لا يقدر على تسليم
349

الجارية إلا بالفتح فلم يستحق من غير الفتح شيئا، وان فتحت عنوة ولم تكن
فيها جارية لم يستحق شيئا لأنه شرط معدوم وإن كانت فيها جارية سلمت إليه
ولا حق فيها للغانمين ولا لأهل الخمس لأنه استحقها بسبب سابق الفتح، وان
أسلمت الجارية قبل القدرة عليها لم يستحقها لان اسلامها يمنع من استرقاقها،
ويجب له قيمتها، لان النبي صلى الله عليه وسلم صالح أهل مكة على أن يرد إليهم
من جاء من المسلمات فمنعه الله عز وجل من ردهن وأمره أن يرد مهورهن،
وان أسلمت بعد القدرة عليها فإن كان الدليل مسلما سلمت إليه، وإن كان كافرا
فإن قلنا إن الكافر يملك العبد المسلم بالشراء استحقها ثم أجبر على إزالة الملك
عنها، وان قلنا إنه لا يملك، دفع إليه قيمتها، وان أسلم الدليل بعد ذلك لم
يستحقها، لأنه أسلم بعد ما انتقل حقه إلى قيمتها، وان فتحت والجارية قد
ماتت ففيه قولان:
(أحدهما) أن له قيمتها لأنه تعذر تسليمها فوجب قيمتها كما لو أسلمت.
(والثاني) أنه لا يجب له قيمتها لأنه غير مقدور عليها فلم يجب قيمتها، كما
لو لم تكن فيها جارية، وان فتحت صلحا نظرت فإن لم تدخل الجارية في الصلح
كان الحكم فيها كالحكم إذا فتحت عنوة، فإن دخلت في الصلح ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق ان الجارية للدليل وشرطها في الصلح
لا يصح ما لو زوجت امرأة من رجل ثم زوجت من آخر
(والثاني) أن شرطها في الصلح صحيح لان الدليل لو عفا عنها أمضينا الصلح
فيها، ولو كان فاسدا لم يمض الا بعقد مجدد، فعلى هذا ان رضى الدليل بغيرها
من جواري القلعة أو رضى بقيمتها أمضينا الصلح وان لم يرض ورضى أهل
القلعة بتسليمها فكذلك.
وان امتنع أهل القلعة من دفع الجارية وامتنع الدليل من الانتقال إلى البدل
ردوا إلى القلعة وقد زال الصلح لأنه اجتمع أمران متنافيان وتعذر الجمع بينهما
وحق الدليل سابق ففسخ الصلح ولصاحب القلعة أن يحصن القلعة كما كانت من
غير زيادة، وان فتحت بعد ذلك عنوة كانت الجارية للدليل وان لم تفتح لم يكن له شئ
350

(فصل) إذا قال الأمير قبل الحرب من أخذ شيئا فهو له فقد أومأ فيه
إلى قولين (أحدهما) أن الشرط صحيح لان النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر
(من أخذ شيئا فهو له)
(والثاني) وهو الصحيح أنه لا يصح الشرط لأنه جزء من الغنيمة شرطه
لمن لا يستحقه من غير شرط فلا يستحقه بالشرط، كما لو شرطه لغير الغانمين،
والخبر ورد في غنائم بدر وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعضها حيث شاء
(الشرح) حديث عبادة بن الصامت أخرجه أحمد بلفظ (كان ينفل في البدأة
الربع وفى الرجعة الثلث) ورواه ابن ماجة والترمذي وصححه وابن حبان
وعن حبيب بن سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع بعد الخمس في
بدأته ونفل الثلث بعد الخمس في رجعته) أخرجه أجمد وأبو داود وابن ماجة
وصححه وابن الجارود وبان حبان والحاكم
وأخرجه ابن أبي داود من طرق ثلاثة، منها عن مكحول بن عبد الله الشامي
قال: كنت عبدا بمصر لامرأة من بنى هذيل فأعتقتني فما خرجت من مصر وبها علم
إلا حويت عليه فيما أرى، ثم أتيت الحجاز فما خرجت منها وبها علم إلا حويته
فيما أرى، ثم أتيت العراق، فما خرجت منها وبها علم الا حويت عليه فيما أرى،
ثم أتيت الشام فغربلتها، كل ذلك أسأل عن النفل فلم أجد أحدا يخبرني فيه بشئ،
حتى لقيت شيخا يقال له زياد بن جارية التميمي، فقلت له هل سمعت في النفل
شيئا؟ قال نعم، سمعت حبيب بن مسلمة الفهري يقول: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم
نفل الربع في البدأة والثلث في الرجعة) قال المنذري: وأنكر بعضهم أن يكون
لحبيب هذا صحبة وأثبتها له غير واحد
أثر سعيد بن المسيب أخرجه البيهقي وأبو عبيد في الأموال
حديث (صالح أهل مكة) عن مروان والمسور، قالا لما كاتب سهيل بن عمرو
يومئذ كان فيما اشترط على النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأتيك أحد منا وإن
كان على دينك الا رددته إلينا وخليت بيننا وبينه، فكره المسلمون ذلك وامتعضوا
منه وأبى سهيل إلا ذلك: فكاتب النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك، فرد يومئذ
351

أبا جندل إلى أبيه سهيل ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان
مسلما وجاء المؤمنات مهاجرات وكانت أم كلثوم بنت عقبة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم
أن يرجعها فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله عز وجل فيهن (إذا جاءكم المؤمنات
مهاجرات..) رواه البخاري
وعن معن بن يزيد قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا نفل
إلا بعد الخمس) رواه أحمد وأبو داود وصححه الطحاوي
اللغة: قوله (يجوز لأمير الجيش..) قول الشوكاني في النيل: يجوز للامام
أن ينفل بعض الجيش ببعض الغنيمة إذا كان له من العناية والمقاتلة ما لم يكن
لغيرة. وقال عمرو بن شعيب ذلك مختص بالنبي صلى الله عليه وسلم دون من
بعده، وكره مالك أن يكون بشرط من أمير الجيش، كأن يحرض على القتال
ويعد بأن ينفل الربع أو الثلث قبل القسمة أو نحو ذلك لان القتال حينئذ يكون
الدنيا فلا يجوز.
قال الحافظ في الفتح: وفى هذا رد على من حكى الاجماع على مشروعيته،
وقد اختلف العلماء هل هو من أصل الغنيمة أو من الخمس أو من خمس الخمس أو
مما عدا الخمس على أقوال، واختلفت الرواية عن الشافعي في ذلك، فروى عنه
أنه من أصل الغنيمة، وروى عنه أنه من الخمس، وروى عنه أنه من خمس الخمس
والأصح عند الشافعية أنهم من خمس الخمس، ونقله منذر بن سعيد عن مالك
وهو شاذ عندهم.
ثم قال الشوكاني بعد أن أورد حديث حبيب ومعن فيهما دليل على أنه يصح
أن يكون النفل زيادة على مقدار الخمس، ورد على من قال أنه لا يصح التنفيل
إلا من الخمس أو خمس الخمس.
وقال الأوزاعي وأحمد وأبو ثور وغيرهم: النفل من أصل الغنيمة، وإلى
ذلك ذهبت الهادوية، وقال مالك وطائفة لا نفل الا عن الخمس وقال
الخطابي: أكثر ما روى من الاخبار يدل على أن النفل من أصل الغنيمة. قال
ابن عبد البر (ان أراد الامام تفضيل بعد الجيش لمعنى فيه فذلك من الخمس
لا من رأس الغنيمة
352

وإن انفردت قطعة فأراد أن ينفلها مما غنمت دون سائر الجش فذلك من
غير الخمس بشرط أن لا يزيد على الثلث، وقد وقع الخلاف بين الرواة في
القسمة والتنفيل هل كانا جميعا من أمير ذلك الجيش أو من النبي صلى الله عليه
وسلم أو من أحدهما
وفى رواية ابن عمر المتفق عليها صريحة أن الذي نفلهم هو النبي صلى الله
عليه وسلم، وفى رواية أبى داود قال (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية
قبل نجد فأصبنا نعما كثيرا فنفلنا أميرنا بعير بعير الكل، ثم قدمنا على رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا غنيمتنا فأصاب
كل رجل منا أثنى عشر بعيرا بعد الخمس وما حاسبنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالذي أعطانا صاحبنا ولا عاب عليه ما صنع، فكان لكل رجل منا ثلاثة
عشر بعير بنفله) مصرحة بأن الذي نفلهم هو الأمير.
وكذلك ما رواه مسلم من طريق نافع أن ذلك صدر من أمير الجيش،
ويمكن الجمع بأن المراد بالرواية التي صرح فيها بأن المنفل هو النبي صلى الله عليه وسلم أنه
وقع منه التقرير.
قال النووي (معناه أن أمير السرية نفلهم فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم
فجازت نسبته إلى كل منهما))
وفى هذا التنفيل دليل على أنه يصح أن يكون التنفيل أكثر من خمس الخمس
قال ابن بطال وهذا مردود لأنهم نفلوا نصف السدس وهو أكثر من خمس
الخمس، وقد زاده ابن المنبر ايضاحا فقال (لو فرضنا أنهم كانوا مائة لكان قد
حصل لهم ألف ومائتا بعير، ثم بين مقدار الخمس وخمسه وأنه لا يمكن أن
يكون لكل انسان منه بعير.
قال ابن التين قد انفصل من قال من الشافعية بأن التنفيل من خمس الخمس
بالوجه، منها أن الغنيمة لم تكن كلها أبعرة بل كان فيها أصناف أخر فيكون
التنفيل وقع من بعض الأصناف دون بعض.
(ثانيها) أن يكون نقلهم من سهمه من هذه الغزاة وغيرها، فضم هذا إلى
هذا فلذلك زادت العدة
353

(ثالثها) أن يكون نفل بعض الجيش دون بعض، قال وظاهر السياق يرد
هذه الاحتمالات، قال وقد جاء أنهم كانوا عشرة وأنهم غنموا مائة وخمسين بعيرا
فخرج منها الخمس وهو ثلاثون وقسم عليهم البقية فحصل لكل واحد إثنا عشر
ثم نفلوا بعير ا بعيرا، فعلى هذا يكون نفلوا ثلث الخمس، وقد قال ابن عبد البر
إن أراد الامام تفضيل بعض الجيش لمعنى فيه، فذلك من الخمس لا من رأس
الغنيمة، وإن انفردت قطعة فأراد أن ينفلها مما غنمت دون سائر الجيش فذلك
من غير الخمس بشرط ألا يزيد عن الثلث. اه‍
قال الحافظ في الفتح: وهذا الشرط قال به الجمهور. وقال الشافعي لا يتحدد
بل هو راجع إلى ما يراه الامام من المصلحة، ويدل قوله تعالى (قل الأنفال لله
والرسول) ففوض إليه أمرها (قلت) ولم يرد في الأحاديث الصحيحة ما يلزم
بالاقتصار على مقدار معلوم، ولا على نوع معين، والظاهر تفويض الامر
إلى رأي الامام.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب قسم الغنيمة)
والغنيمة ما أخذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب، فإن كان فيها سلب
للقاتل أو مال لمسلم سلم إليه لأنه استحقه قبل الاغتنام ثم يدفع منها أجرة النقال
والحافظ لأنه لمصلحة الغنيمة فقدم، ثم يقسم الباقي على خمسة أخماس، خمس
لأهل الخمس، ثم يقسم أربعة أخماسها بين الغانمين لقوله عز وجل (واعلموا
أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل) فأضاف الغنيمة إلى الغانمين ثم جعل الخمس لأهل الخمس، فدل
على أن الباقي للغانمين، والمستحب أن يقسم ذلك في دار الحرب ويكره تأخيرها
إلى دار الاسلام من غير عذر، لان النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر
بشعب من شعاب الصفراء قريب من بدر وقسم غنائم بنى المصطلق على مياههم
وقسم غنائم حنين بأوطاس، وهو واد أودية حنين، فإن كان الجيش رجالة
سوى بينهم وإن كانوا فرسانا سوى بينهم، وإن كان بعضهم فرسانا وبعضهم
354

رجالة جعل للراجل سهما وللفارس ثلاثة أسهم لما روى ابن عمر رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، للرجل سهم
وللفرس سهمان ولا يفضل من قاتل على من لم يقاتل لان من لم يقاتل كالمقاتل
في إرهاب العدو، ولأنه أرصد نفسه للقتال ولا يسهم لمركوب غير الخيل لأنه
لا يلحق بالخيل في التأثير في الحرب من الكر والفر فلم يلحق بها في السهم،
ويسهم للفرس العتيق، وهو الذي أبواه عربيان وللبرذون وهو الذي أبواه
عجميان، وللمقرف وهو الذي أمه عربية وأبوه عجمي، وللهجين وهو الذي أبوه
عربي وأمه عجمية، لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) ولأنه حيوان يسهم
له فلم يختلف سهمه باختلاف أبويه كالرجل، وان حضر بفرس حطم أو صرع
أو أعجف فقد قال في الام، قيل لا يسهم له وقيل يسهم له، فمن أصحابنا من قال
فيه قولان (أحدهما) أنه لا يسهم له لأنه لا يغنى غناء الخيل فلم يسهم له كالبغل
(والثاني) يسهم له لان ضعفه لا يسقط سهمه كضعف الرجل.
وقال أبو إسحاق ان أمكن القتال عليه أسهم له، وان لم يمكن القتال عليه لم
يسهم له، لان الفرس يراد القتال عليه وهذا أقيس، والأول أشبه بالنص ولا
يسهم للرجل لا كثر من فرس لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن الزبير حضر
يوم حنين بأفراس فلم يسهم له النبي صلى الله عليه وسلم الا لفرس واحد، ولأنه
لا يقاتل إلا على فرس واحد فلا يسهم لأكثر منه، وان حضر بفرس والقتال
في الماء أو على حصن استحق سهمه لأنه أرهب بفرسه فاستحق سهمه، كما لو حضر
به القتال ولم يقاتل، ولأنه قد يحتاج إليه إذا خرجوا من الماء والحصن
(فصل) فإن غصب فرسا حضر به الحرب استحق للفرس سهمين لأنه
حصل به الارهاب، وفى مستحقه وجهان (أحدهما) انه له (والثاني) أنه لصاحب
الفرس بناء على القولين في رمح الدراهم المغصوبة، أحدهما انه للغاصب، والثاني
أنه للمغصوب منه، وان استعار فرسا أو استأجره للقتال فحضر به الحرب
استحق به السهم لأنه ملك القتال عليه، وان حضر دار الحرب بفرس وانقضت
الحرب ولا فرس معه بأن نفق أو باعه أو أجره أو أعاره أو غصب منه لم يسهم له
355

وإن دخل دار الحرب راجلا ثم ملك فرسا أو استعاره وحضر به الحرب استحق
السهم، لان استحقاق المقاتل بالحضور فكذلك لاستحقاق بالفرس، وان
حضر بفرس وعار الفرس إلى أن انقضت الحرب لم يسهم له، ومن أصحابنا من
قال يسهم له لأنه خرج من يده بغير اختياره، والمذهب الأول لان خروجه من
يده يسقط السهم، وإن كان بغير اختياره كما يسقط سهم الراجل إذا ضل عن
الوقعة وإن كان بغير اختياره.
(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه أحمد وأبو داود، وبلفظ آخر (للفرس
سهمين وللرجل سهم) متفق عليه، وفى لفظ آخر (أسهم يوم حنين للفارس
ثلاثة أسهم، للفرس سهمان وللرجل سهم) أخرجه ابن ماجة وأخرج أحمد
بلفظ عن المنذر بن الزبير عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الزبير سهما وأمه سهما
وفرسه سهمين) وفى لفظ آخر (قال ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر للزبير
أربعة أسهم، سهما للزبير وسهما لذي القربى لصفية أم الزبير وسهمين للفرس)
النسائي. وعن أبي عمرة عن أبيه قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة نفر ومعنا
فرس فأعطى كل انسان منا سهما وأعطى الفرس سهمين) أحمد وأبو داود
وعن أبي وهم قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي ومعنا فرسان،
أعطانا ستة أسهم، أربعة أسهم لفرسينا وسهمين لنا) وفى إسناده عبد الرحمن
ابن عبد الله بن مسعود وفيه مقال، وقد استشهد به البخاري. وعن أبي كبشة
الأنماري قال: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كان الزبير على المجنبة اليسرى وكان
المقداد على المجنبة اليمنى، فلما تقدم رسول الله مكة وهذا الناس جاءا بفرسيهما،
فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح الغبار عنهما وقال إني جعلت للفرس سهمين وللفارس
سهما فمن نقصهما نقصه الله) الدارقطني، وفى اسناده عبد الله بن بشر الجداني،
وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور.
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم لمائتي فرس بخيبر سهمين سهمين)
وعن خالد الحذاء قال لا يختلف فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم للفارس ثلاثة أسهم وللراجل
سهم) الدارقطني وعن مجمع بن جارية الأنصاري قال: قسمت خيبر على أهل
الحديبية فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألف وخمسمائة
356

فيهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين والراجل سهما) أحمد وأبو داود وذكر أن
حديث ابن عمر أصح، قال وأن الوهم في حديث مجمع أنه قال ثلاثمائة فارس،
وإنما كانوا مائتي فارس) وقال الحافظ في إسناده ضعفا
حديث ابن عمر (الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة) أخرجه
البخاري ومسلم عن عروة بن الجعد البارقي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الخيل معقود في
نواصيها الخير الاجر والمغنم اليوم القيامة) وأخرج أحمد ومسلم والنسائي من حديث جرير
البجلي نحوه وأخرج أحمد من طريق آخر عن أسماء بنت يزيد (الخيل في نواصيها
الخير أبدا اليوم القيامة، فمن ربطها عدة في سبيل الله واتفق عليها احتسابا كان
شبعها وجوعها وريها وظمؤها وأرواثها وأبوالها فلاحا في موازينه يوم القيامة)
حديث أن الزبير حضر بأفراس فلم بسهم له النبي صلى الله عليه وسلم إلا لفرس واحد،
رواه الشافعي، وروى الواقدي (كان مع الزبير يوم خيبر فرسان فأسهم له
النبي صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم) وهو مرسل، ويوافق مرسل مكحول، لكن الشافعي
كان يكذب الواقدي.
اللغة:
قوله (بإيجاف الخيل والركاب) قيل وجيفها سرعتها في سيرها وقد أوجفها
راكبها، وقوله تعالى (قلوب يومئذ واجفة) أي شديده الاضطراب، وإنما
سمى الوجيف في السير الشدة هزه واضطرابه. ذكره العزيزي. وقال الجوهري
هو ضرب من سير الإبل والخيل، يقال وجف البعير يجف وجفا ووجيفا،
وأوجفته أنا، ويقال أوجف فاتجف)
قوله (فإن حضر بفرس حطم أو صرع أو أعجف) الحطم المنكسر في نفسه
يقال الفرس إذا انهدم لطول عمره حطم، ويقال حطمت الدابة أي أسنت،
والصرع بالتحريك الضعيف، والأعجف المهزول. قوله (لا يغنى غناء الخيل)
أي لا يكفي كفايتها والغناء بالفتح والمد الكفاية. قوله (فإن نفق أو باعه) نفقت الدابة
تنفق نفوقا أي ماتت. قوله (فإن عار فرسه) أي ذهب على وجهه وأفلت من
يده، ويقال سمى العير عيرا لتفلته، ومنه قيل للغلام الذي خلع عذاره وذهب
حيث شاء عبار وفرس عبار ومعيار إذا كان مضمرا، ونفور الطحال هو ورمه
357

قال أبو عبيد: إنما هو من نفور الشئ من الشئ وهو تجافيه عنه وتباعده
وقوله المخذل قد ذكر.
تمسك أبو حنيفة والعترة بحديث مجمع المذكور فجعلوا للفارس وفرسه سهمين
وقد حكى ذلك عن علي وعمر وأبي موسى، قال أبو يوسف في الخراج كان الفقيه
المقدم أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول للرجل سهم وللفرس سهم وقال لا أفضل
بهيمة على رجل مسلم، ويحتج بما حدثناه عن زكريا بن الحارث عن المنذر بن أبي
خميصة الهمداني أن عاملا لعمر بن الخطاب (رض) قسم في بعض الشام
للفرس سهم وللراجل سهم، فرفع ذلك إلى عمر فسلمه وأجازه، فكان أبو حنيفة
يأخذ بهذا الحديث ويجعل للفرس سهما وللرجل سهما، وما جاء من الأحاديث
والآثار أن للفرس سهمين وللرجل سهما أكثر من ذلك وأوثق والعامة عليه
ليس هذا على وجه التفضيل، ولو كان على وجه التفضيل ما كان ينبغي أن يكون
للفرس سهم وللرجل سهم، لأنه قد سوى بهيمة برجل مسلم، إنما هذا على أن
يكون عدة الرجل أكثر من عدة الآخر وليرغب الناس في ارتباط الخيل في
سبيل الله ألا ترى أن سهم الفرس إما يرد على صاحب الفرس، فلا يكون
للفرس دونه، المتطوع وصاحب الديوان في القسمة سواء
(قلت) وأزف هذا للمتعصبين تعصبا بغيضا لمذاهبهم، فلا فض الله فوك
يا ابن يوسف، فرغم تلمذتك للامام أبي حنيفة أن تناقض قوله وترده، حتى
قيل إنه خالفه في مسائل هامة. قال الشوكاني وذهب الجمهور إلى أن يعطى الفرس
سهمين وللفارس سهما والراجل سهما
وقال الحافظ في الفتح والثابت عن عمرو على كالجمهور، وحكى في البحر عن علي
وعمرو الحسن البصري وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز وزيد بن علي والباقر
والناصر والامام يحيى ومالك والشافعي والأوزاعي وأبى يوسف ومحمد وأهل
المدينة وأهل الشام أنه يعطى الفارس وفرسه ثلاثة سهام، واحتج لهم ببعض
أحاديث، ثم أجاب عن ذلك فقال قلت يحتمل أن الثالث في بعض الحالات
تنفل جمعا بين الاخبار. اه‍
358

قال الشوكاني: والأدلة القاضية بأن للفارس وفرسه سهمين مرجوحة
لا يشك في ذلك من له أدنى إلمام بعلم السنة، ثم نقل دليل أبي حنيفة السابق
الإشارة إليه من تفضيل البهيمة وقال: وهذه حجة ضعيفة وشبهة ساقطة ونصبها
في مقابلة السند الصحيحة المشهورة مما لا يليق بعالم، وأيضا السهام في الحقيقة كلها
الرجل لا البهيمة، وأيضا قد فضلت الحنفية الدابة على الانسان في بعض الأحكام
فقالوا: لو قتل كلب صيد قيمته أكثر من عشرة آلاف أداها، فان قتل عبدا
مسلما لم يؤد فيه إلا دون عشر آلاف درهم.
وقد استدل الجمهور في مقابلة الشبهة بأن الفرس تحتاج إلى مؤنة لخدمتها
وعلفها وبأنه يحصل بها من الغناء في الحرب ما لا يخفى، وقد اختلف فيمن حضر
الوقعة بفرسين فصاعدا، هل يسهم لكل فرس أم لفرس واحدة فروى عن
سليمان بن موسى أنه يسهم لكل فرس سهمان بالغا ما بلغت.
قال القرطبي في المفهم: ولم يقل أحد أنه يسهم لأكثر من فرسين إلا ما روى
عن سليمان بن موسى، وحكى في البحر عن الشافعية والحنفية والهادوية أن من
حضر بفرسين أو أكثر أسهم لواحد فقط، وعن زيد بن علي والصادق والناصر
والأوزاعي وأحمد بن حنبل، وحكاه في الفتح عن الليث وأبى يوسف وأحمد
وإسحاق أنه يسهم لفرسين لا أكثر.
قال الحافظ في التلخيص فيه أحاديث منقطعة (أحدها) عن الأوزاعي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسهم للحيل ولا يسهم للرجل فوق فرسين،
وإن كان معه عشرة أفراس رواه سعيد بن منصور عن إسماعيل بن عياش عنه
وهو معضل، ورواه سعيد من طريق الزهري أن عمر كتب إلى عبيدة أنه يسهم
للفرس سهمين وللفرسين أربعة أسهم ولصاحبه سهما فذلك خمسة أسهم وما كان
فوق الفرسين فهو جنائب.
وروى الحسن عن بعض الصحابة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يقسم إلا لفرسين، وأخرج الدارقطني بإسناد ضعيف عن أبي عمرة قال:
أسهم لي رسول الله صلى الله عليه وسلم لفرسي أربعة ولى سهما فأخذت خمسا.
359

وقد اختلف في الرواية في حضور الزبير بفرسين هل أعطاه النبي صلى الله عليه
وسلم سهم فرس واحدة أو سهم فرسين، والاسهام للدواب خاص بالأفراس
دون غيرها من الحيوانات قال في البحر (مسألة) ولا يسهم لغير الخيل من البهائم
إجماعا إذ لا إرهاب في غيرها ويسهم للبرذون والمقرف والهجين عند الأكثر،
وقال الأوزاعي لا يسهم للبرذون.
قال ابن حزم في المحلى: ومن حضر بخيل لم يسهم له إلا ثلاثة أسهم فقط،
وقد قال قوم يسهم لفرسين فقط، وقال آخرون يسهم لكل فرس منها، وهذا
لا يقوم به برهان.
فان قيل قد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم للزبير لفرسين، قلنا هذا
مرسل لا يصح، وأصح حديث فيه الذي رويناه من طريق ابن وهب عن سعيد
ابن عبد الرحمن عن هشام عن عروة عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن
جده قال (ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر للزبير بأربعة أسهم، سهم للزبير
وسهم للقربى لصفية بنت عبد المطلب وسهمين للفرس
(قلت) وما روى في الأحاديث الصحيحة المتفق عليها أن للفرس سهمين
هو ما ندين الله عليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ومن حضر الحرب ومرض فإن كان مرضا بقدر معه على القتال
كالسعال ونفور الطحال والحمى الخفيفة أسهم له، لأنه من أهل القتال، ولان
الانسان لا يخلو من مثله فلا يسقط سهمه لأجله، وإن كان لا يقدر على القتال
لم يسهم له، لأنه ليس من أهل القتال فلم يسهم له كالمجنون والطفل.
(فصل) ولا حق في الغنيمة لمخذل ولا لمن برجف بالمسلمين ولا لكافر
حضر بغير إذن، لأنه لا مصلحة للمسلمين في حضورهم ويرضخ للصبي والمرأة
والعبد والمشرك إذا حضر بالاذن ولم يسهم لهم: لما روى عمير قال غزوت مع
النبي صلى الله عليه وسلم وأنا عبد مملوك، فلما فتح الله على نبيه خيبر (قلت) يا رسول الله
سهمي فلم يضرب لي بسهم وأعطاني سيفا فتقلدته وكنت أخط بنعله في الأرض
360

وأمر لي من خرثى المتاع، وروى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن عباس يسأله
هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء وهل كان يضرب لهن سهم
فكتب إليه ابن عباس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء فيداوين
الجرحى ويحذين من الغنيمة، وأما سهم فلم يضرب لهن بسهم.
(الشرح) عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغزو بالنساء
فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة وأما بسهم فلم يضرب لهن، وعنه أيضا أنه
كتب إلى نجدة الحروري: سألت عن المرأة والعبد هل كان لهما سهم معلوم إذا
حضر الناس وأنه لم يكن لهما سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم) أحمد
ومسلم الترمذي وأبو داود، وعنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطى المرأة
والمملوك من الغنائم دون ما يصيب الجيش
وعن عمير مولى أبى اللحم قال: شهدت خيبر مع سادتي فكلموا في رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأمر بي فقلدت سيفا فإذا أنا أجره فأخبر بأني مملوك فأمر بي
بشئ من خرثى المناع) أحمد وأبو داود والترمذي وصححه وابن ماجة والحاكم
وصححه، وعن حشرج بن زياد عن جدته أم أبيه أنها خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم
غزوة سادس ست نسوة فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث إلينا فجئنا فرأينا فيه الغضب
فقال مع من خرجتن وبإذن من خرجتن، فقلت: يا رسول الله خرجنا نغزل
الشعر ونعين في سبيل الله، ومعنا دواء للجرحى ونناول السهام ونسقي السويق
قال فحسن: قال فانصرفن حتى إذا فتح الله عليه خيبر أسهم لنا كما أسهم للرجال،
قال: فقلت لها يا جدة وما كان ذلك، فقالت تمرا) أحمد وأبو داود والنسائي،
وسكت عنه أبو داود وفى إسناده رجل مجهول وهو حشرج قاله في التلخيص،
وقال الخطابي إسناده ضعيف لا تقوم به حجة.
وعن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لقوم من اليهود قاتلوا
معه) رواه الترمذي، وقال هذا حديث حسن غريب وأبو داود في مراسيله،
وقال الشوكاني هذا مرسل.
وعن الأوزاعي قال أسهم النبي صلى الله عليه وسلم للصبيان بخيبر وأسهم
361

أئمة الاسلام لكل مولود ولد في أرض الحرب وأسهم النبي صلى الله عليه وسلم للنساء والصبيان
بخيبر وأخذ بذلك المسلمون بعده) الترمذي، وقال الشوكاني مرسل.
اللغة: قوله لمن يرجف بالمسلمين، أي يخوفهم ويفزعهم من قوله تعالى (يوم
ترجف الراجفة) يعنى يوم الفزع والخوف وأصله حركة الأرض واضطرابها،
وأما الارجاف فهو واحد أراجيف الاخبار، ومعناه التخويف والرعب، وقد
ذكر وارجفوا في الشئ إذا خاضوا فيه
قوله (ويرضخ للصبي) قد ذكرنا أنه العطاء ليس بالكثير دون سهام المقاتلين
وأصله مأخوذ من الشئ المرضوخ وهو المرضوخ المشدوخ.
قوله (من خرثى المتاع) الخرثى متاع البيت وإسقاطه، ونعل السيف يكون
في أسفله من حديد أو غيره.
قوله (يحذين من الغنيمة) قال الجوهري حذيته من الغنيمة إذا أعطيته منها
والاسم الحذيا على وزن فعلى بالضم وهي القسمة من الغنيمة وكذلك الحذيا والحذية
والحذوة كله العطية.
اختلف أهل العلم هل يسهم للنساء إذا حضرن، فقال الترمذي انه لا يسهم
لهن عند أكثر أهل العلم قال: وهو قول سفيان الثوري والشافعي، وقال
بعضهم يسهم للمرأة والصبي وهو قول الأوزاعي، وقال الخطابي أن الأوزاعي
قال يسهم لهن قال وأحسبه ذهب إلى حديث حشرج بن زياد وإسناده ضعيف
لا تقوم به حجة.
وقد حكى في البحر عن العترة والشافعية والحنفية أنه لا يسهم للنساء والصبيان
والذميين، وعن مالك أنه قال لا أعلم العبد يعطى شيئا، وعن الحسن بن صالح
أنه يسهم العبد كالحر.
وعن الزهري أنه يسهم للذمي لا للعبد والنساء والصبيان فيرضخ لهم، وقال
الترمذي بعد أن أخرج حديث عمير مولى أبى اللحم، والعمل على هذا عند
بعض أهل العلم أنه لا يسهم للمملوك ولكن يرضخ له بشئ وهو قول الشافعي
وأحمد وإسحاق.
قال الشوكاني والظاهر أنه لا يسهم النساء والصبيان والعبيد والذميين وما ورد
362

من الأحاديث مما فيه إشعار بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لاحد من هؤلاء
فينبغي حمله على الرضخ، وهو العطية القليلة جمعا بين الأحاديث
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتقدير الرضح إلى اجتهاد أمير الجيش ولا يبلغ به سهم راجل
لأنه تابع لمن له سهم فنقص عنه كالحكومة لا يبلغ بها أرش العضو، ومن أين
يرضح لهم، فيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يرضخ لهم من أصل الغنيمة، لأنهم أعوان المجاهدين فجعل
حقهم من أصل الغنيمة كالقتال والحافظ
(والثاني) أنه من أربعة أخماس الغنيمة، لأنهم من المجاهدين فكان حقهم
من أربعة أخماس الغنيمة.
(والثالث) أنه من خمس الخمس، لأنهم من أهل المصالح، فكان حقهم
من سهم المصالح.
(فصل) وإن حضر أجير في إجارة مقدرة بالزمان ففيه ثلاثة أقوال
(أحدها) أنه يرضخ له مع الأجرة لان منفعة مستحقة لغيره فرضخ له كالعبد
(والثاني) أنه يسهم له مع الأجرة لان الأجرة تجب بالتمكين والسهم بالحضور
وقد وجد الجميع (والثالث) أنه يخير بين السهم والأجرة، فإن اختار الأجرة
رضخ له مع الأجرة، وإن اختار السهم أسهم له وسقطت الأجرة، لان المنفعة
الواحدة لا يستحق بها حقان، واختلف قوله في تجار الجيش، فقال في أحد
القولين يسهم لهم لأنهم شهدوا الوقعة، والثاني أنه لا يسهم لهم لأنهم لم يحضروا
للقتال، واختلف أصحابنا في موضع القولين، فمنهم من قال القولان إذا حضروا
ولم يقاتلوا، وأما إذا حضروا فقاتلوا فإنه يسهم لهم قولا واحدا، ومنهم من
قال القولان إذا قاتلوا، فأما إذا لم يقاتلوا فإنه لا يسهم لهم قولا واحدا
(فصل) وإذا لحق بالجيش مدد أو أفلت أسير ولحق بهم نظرت فإن كان
قبل انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة أسهم لهم لقول عمر رضي الله عنه الغنيمة لمن
363

شهد الوقعة، وإن كان بعد انقضاء الحرب وحيازة الغنيمة لم يسهم لهم لأنهم
حضروا بعد ما صارت الغنيمة للغانمين، وإن كان بعد انقضاء الحرب وقبل حيازة
الغنيمة ففيه قولان (أحدهما) أنه لا يسهم لهم لأنهم لم يشهدوا الوقعة
(والثاني) أنه يسهم لهم لأنهم حضروا قبل أن يملك الغانمون
(فصل) وان خرج أمير في جيش وأنفذ سرية من الجيش إلى الجهة التي
يقصدها أو إلى غيرها فغنمت السرية شاركهم الجيش، وان غنم الجيش شاركتهم
السرية، لان النبي صلى الله عليه وسلم حين هزم هوازن بحنين أسرى قبل أوطاس
سرية وغنمت فقسم غنائمهم بين الجمع وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (المسلمون يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم
ويرد عليهم أقصاهم وترد سراياهم على قاعدهم، ولان الجميع جيش واحد فلم يختص
بعضهم بالغنيمة. وان أنفذ سريتين إلى جهة واحدة من طريق أو طريقين اشترك
الجيش والسريتان فيما يغنم كل واحد منهم لان الجميع جيش واحد، وإن أنفذ
سريتين إلى جهتين شارك السريتان الجيش فيما يغنمه، وشارك الجيش السريتين
فيما يغنمان، وهل تشارك كل واحدة من السريتين السرية الأخرى فيما تغنمه؟
فيه جهان (أحدهما) أنها لا تشارك لان الجيش أصل السريتين، وليست
إحدى السريتين أصلا للأخرى (والثاني) وهو الصحيح انها تشارك لأنهما من
جيش واحد، وإن أنفذ الأمير سرية من الجيش وأقام هو مع الجيش فغنمت
السرية لم يشاركها الجيش المقيم مع الأمير، لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث
السرايا من المدينة فلم يشاركهم أهل المدينة فيما غنموا، ولان الغنيمة للمجاهدين
والجيش مقيم مع الأمير ما جاهدوا فلم يشارك السرية فيما غنمت والله أعلم.
(الشرح) قول عمر (الغنيمة لمن شهد الوقعة) أخرجه عبد الرزاق بإسناد
صحيح وابن أبي شيبة والطبراني والبيهقي مرفوعا وموقوفا، وقال الصحيح وقفه
وابن عدي عن علي موقوفا والشافعي وفيه انقطاعا.
حديث عمرو بن شعيب عن جده، أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجة
(المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويجير عليهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم
364

وهم يد على من سواهم) وابن ماجة عن معقل بن يسار (المسلمون يد على من
سواهم تتكافأ دماؤهم) والحاكم عن أبي هريرة
اللغة. قوله (وتقدير الرضخ إلى الاجتهاد أمير الجيش) وقد ذهب الحنابلة إلى مثل
ما قال المصنف فقال ابن مفلح في الفروع ويرضخ من أربعة الأخماس وقيل من
أصل الغنيمة وقيل من سهم للصالح لامرأة وعبد مميز وقل مراهق وله التفضيل
ولا يبلغ بالرضخ القسمة.
قوله (وان حضر أجير..) قال ابن حزم فإن ذكروا في الأجير خبرين
فيهما أن أجيرا استؤجر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بثلاثة دنانير فلم يجعل له
عليه السلام سهما غيرهما، فلا يصحان لان أحدهما من طريق عبد العزيز بن أبي
رواد وعن أبي سلمة الحمصي، وأبو سلمه مجهول وهو منقطع أيضا، والثاني
من طريق ابن وهب عن عاصم بن حكيم عن يحيى بن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله
ابن الديلمي أن يعلي بن منية وعاصم بن حكيم وعبد الله بن الديلمي مجهولان.
وقال الحسن وابن سيرين والأوزاعي والليث لا يسهم للأجير، وقال أبو حنيفة
ومالك لا يسهم لهما إلا أن يقاتلا
قوله (وان لحق بالجيش مدد) للدد الزيادة المتصلة، وأمددنا القوم، أي
صرنا مددا لهم، وقد ذكرنا السرية أنها قطعة من الجيش، قال القتيبي أصلها
من السرى وهو سير الليل وكانت تخفى خروجها لئلا ينتشر الخبر فيكتب به العيون
فيقال سرت سرية أي سارت ليلا.
وقال في البيان بل يختارهم الأمير من السرى وهو الجودة، كأنه يختار خيار
الخيل وأبطال الرجال.
قوله (والمسلمون يد على من سواهم) قال الهروي يقال للقوم هم يد على
الآخرين، أي هم قادرون عليهم، ويحتمل أن يكون من اليد التي هي الجماعة،
يقال هم عليه يد أي مجتمعون لا يسعهم التخاذل بل يعاون بعضهم بعضا على جميع
أهل الأديان والملل.
قوله (يسعى بذمتهم أدناهم) الذمة ههنا الأمان، ويسمى المعاهد ذميا لأنه
365

أعطى الأمان على ذمة. وقال في الفائق أدناهم العبد من الدناءة وهي الخساسة،
وأقصاهم، أبعدهم من القصاء، وهو البعد، وهذا يدل على أن أدناهم أقربهم
بلدا من العدو.
وأخرج أبو داود وسكت عنه المنذري عن عبيد الله بن سليمان أن رجلا من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حدثه قال: لما فتحنا خيبرا أخرجوا غنائمهم من
المتاع والسبي، فجعل الناس يتبايعون غنائهم، فجاء رجل فقال يا رسول الله لقد
ربحت ربحا ما ريح اليوم مثله أحد من أهل هذا الوادي، فقال ويحك وما ربحت
قال ما زلت أبيع وأبتاع حتى ربحت ثلاثمائة أوقية، فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: أنا أنبئك بخبر رجل ريح؟ قال وما هو يا رسول الله؟ قال ركعتين
بعد الصلاة.
وقال الشوكاني فيه دليل على جواز التجارة في الغزو، وعلى أن الغازي مع
ذلك يستحق نصيبه من المغنم وله الثواب الكامل بلا نقص، ولو كانت التجارة
في الغزو موجبة لنقصان أجر الغازي لبينه صلى الله عليه وسلم، فلما لم يبين ذلك
بل قرره دل على عدم النقصان، ويؤيد ذلك جواز الاتجار في سفر الحج.
وأخرج أبو داود عن يعلي بن منية قال: أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالغزو وأنا شيخ كبير ليس لي خادم، فالتمست أجيرا يكفيني وأجرى له سهمه
فوجدت رجلا، فلما دنا الرجل أتاني فقال ما أدرى ما السهمان وما يبلغ سهمي
قسم لي شيئا كان السهم أو لم يكن، فسميت له ثلاثة دنانير، فلما حضرت غنيمة
أردت أن أجرى له سهمه فذكرت الدنانير، فجئت النبي صلى الله عليه وسلم
فذكرت أمره فقال ما أحد له في غزوته هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانير التي
سمى) وسكت عنه المنذري وأخرجه الحاكم وصححه، وأخرجه البخاري بنحوه
وبوب عليه باب الأجير.
قال الشوكاني: وقد اختلف العلماء في الاسهام للأجير إذا استؤجر للخدمة
فقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق لا يسهم له، وقال الأكثر يسهم له، ثم قال وأما
إذا استؤجر الأجير ليقاتل، فقال الحنفية والمالكية لا سهم له، وقال
الأكثر له سهمه.
366

وقال أحمد لو استأجر الامام قوما على الغزو لم يسهم لهم سوى الأجرة.
وقال الشافعي هذا فيمن لم يجب عليه الجهاد، وأما الحر البالغ المسلم إذا حضر الصف
فإنه يتعين عليه الجهاد فيسهم له ولا يستحق أجره
وقال الثوري لا يسهم للأجير إلا إن قاتل، وقال الحسن وابن سيرين يقسم
للأجير من المغنم، هكذا رواه البخاري عنهما تعليقا ووصله عبد الرزاق عنهما
بلفظ يسهم للأجير، ووصله ابن أبي شيبة عنهما بلفظ العبد والأجير إذا شهد
القتال أعطوا من الغنيمة والأولى المصير إلى الجمع الذي ذكره المصنف رحمه الله
فمن كان من الاجراء قاصدا للقتال استحق الاسهام من الغنيمة ومن لم يقصد فلا
يستحق إلا الأجرة المسماة.
قوله (إذا لحق بالجيش مدد..) قال ابن حزم وتقسم الأربعة الأخماس
الباقية على من حضر الواقعة أو الغنيمة.
وروى الترمذي عن أبي موسى قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه
وسلم في نفر من الأشعريين خيبر فأسهم لنا مع الذين افتتحوها) ثم قال والعمل
على هذا عند بعض أهل العلم.
قال الأوزاعي (من لحق بالمسلمين قبل أن يسهم للخيل أسهم له) قال
المباركفوري (استدل بهذا الحديث من قال إنه يسهم لمن حضر بعد الفتح قبل
قسمة الغنيمة)
قال ابن التين (يحتمل أن يكون إنما أعطاهم من جميع الغنيمة لكونهم وصلوا
قبل القسمة وبعد حوزها) وهو أحد الأقوال للشافعي
قال ابن بطال: لم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم فيغير من شهدا لوقعة إلا
في خيبر فهي مستثناة من ذلك فلا تجعل أصلا يقاس عليه فإنه قسم لأصحاب
السفينة لشدة حاجتهم، وكذلك أعطى الأنصار عوض ما كانوا أعطوا المهاجرين
عند قدومهم عليهم، ويحتمل أن يكون استطاب أنفس أهل الغنيمة بما أعطى
الأشعريين وغيرهم ومما يؤيد أنه لا نصيب لمن جاء بعد الفراغ من القتال ما رواه
عبد الرزاق بإسناد صحيح، وذكر قول ابن عمر ورواه الشافعي من قول أبى بكر
367

وفيه انقطاع. وروى أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله (ص) بعث أبان
أبن سعيد بن العاص على سرية من المدينة قبل نجد فقدم أبان بن سعيد وأصحابه
على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد فتحها وإن حزم خيلهم ليف فقال
ابان قسم لنا يا رسول الله، قال أبو هريرة: فقلت لا تقسم لهم يا رسول الله،
فقال ابان أنت بها يا وبر تحد علينا من رأس ضال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
اجلس يا أبان ولم يقسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال المنذري:
أخرجه البخاري تعليقا.
وقال الخطابي وفيه من الفقه أن الغنيمة لمن شهد الوقعة دون من لحقهم بعد
إحرازها، وقال أبو حنيفة من لحق الجيش بعد أخذ الغنيمة قبل قسمها في
دار الحرب فهو شريك الغانمين.
وقال الشافعي الغنيمة لمن حضر الوقعة أو كان رداء لهم، فاما من لم يحضرها
فلا شئ له منها، وهو قول مالك وأحمد، وكان الأوزاعي يقول إذا أدرب
قاصدا في سبيل الله أسهم له شهد القتال أو لم يشهد.
وجزم موسى بن عقبة بأنه أعطى أبان ومن معه برضا بقية الجيش، وجزم
أبو عبيد في كتاب الأموال بإنما أعطاهم من الخمس.
وقال الشوكاني وقد استدل بقصة عثمان في تغيبه عن بدر لمرض زوجته ابنة
الرسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه يسهم الامام لمن كان غائبا في حاجة له بعثه لقضائها،
وأما ما كان غائبا عن القتال لا لحاجة الامام وجاء بعد الواقعة فذهب أكثر
العترة والشافعي ومالك والأوزاعي والثوري والليث أنه لا يسهم له، وذهب
أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يسهم لمن حضر قبل احرازها إلى دار الاسلام.
368

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب قسم الخمس
ويقسم الخمس على خمسة أسهم سهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وسهم
لذوي القربى وسهم لليتامى وسهم للمساكين وسهم لابن السبيل، والدليل عليه
قوله عز وجل (واعلموا أنما غنمتم من شئ فأن لله خمسه والرسول ولدى القربى
واليتامى والمساكين وابن السبيل) فأما سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه
يصرف في مصالح المسلمين.
والدليل عليه ما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم حين صدر من خيبر تناول بيده نبذة من الأرض أو وبرة من بعيره
وقال والذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله إلا الخمس، والخمس مردود عليكم فجعله
لجميع المسلمين ولا يمكن صرفه إلى جميع المسلمين إلا بأن يصرف في مصالحهم
وأهم المصالح سد الثغور لأنه يحفظ به الاسلام والمسلمين ثم الأهم فالأهم.
(فصل) وأما سهم ذوي القربى فهو لمن ينتسب إلى هاشم والمطلب ابني عبد
مناف لما روى جبير بن مطعم رضي الله عنه قال لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم
ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب جئت أنا وعثمان، فقلنا يا رسول الله
هؤلاء بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله فيهم أرأيت إخواننا
من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وإياهم منك بمنزلة واحدة، قال إنهم
لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد ثم
شبك بين أصابعه، ويسوى فيه بين الأغنياء والفقراء، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم
أعطى منه العباس وكان موسرا يقول عامة بنى عبد المطلب، ولأنه حق يستحق
بالقرابة بالشرع فاستوى فيه الغنى والفقير كالميراث ويشترك فيه الرجال والنساء
لما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لام الزبير في ذوي
القربى ولأنه حق يستحق بالقرابة بالشرع فاستوى فيه الذكر والأنثى كالميراث
ويجعل الذكر مثل حظ الأنثيين
369

وقال المزني وأبو ثور يسوى بين الذكر والأنثى، لأنه مال يستحق باسم
القرابة فلا يفصل الذكر فيه على الأنثى كالمال المستحق بالوصية القرابة، وهذا
خطأ، لأنه مال يستحق بقرابة الأب بالشرع ففضل الذكر فيه على الأنثى
كميراث ولد الأب ويدفع ذلك إلى القاضي منهم والداني.
وقال أبو إسحاق يدفع ما في كل إقليم إلى من فيه منهم، لأنه يشق نقله من
إقليم إلى إقليم، والمذهب الأول لقوله عز وجل (ولذي القربى) فعمم ولم يخص
ولأنه حق مستحق بالقرابة فاستوى فيه القاصي والداني كالميراث
(فصل) وأما سهم اليتامى فهو لكل صغير فقير لا أب له فأما من له أب
فلا حتى له فيه لان اليتيم هو الذي لا أب له وليس لبالغ فيه حق، لأنه لا يسمى
بعد البلوغ يتيما.
والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لا يتم بعد الحلم، وليس للغنى فيه حق
ومن أصحابنا من قال للغنى فيه حق، لان اليتيم هو الذي لا أب له غنيا كان أو
فقيرا، والمذهب الأول، لان غناه بالمال أكثر من غناه بالأب فإذا لم يكن لمن
له أب فيه حق فلان لا يكون لمن له مالي أولى.
(فصل) وأما سهم المساكين فهو لكل محتاج من الفقراء والمساكين لأنه
إذا أفرد المساكين تناول الفريقين.
(فصل) وأما سهم ابن السبيل فهو لكل مسافر أو مريدا لسفر في غير
معصية وهو محتاج على ما ذكرناه في الزكاة.
(فصل) ولا يدفع شئ من الخمس إلى كافر لأنه عطية من الله تعالى فلم
يكن الكافر فيها حق كالزكاة، ولأنه مال مستحق على الكافر بكفره فلم يجز أن
يستحقه الكافر وبالله التوفيق.
(الشرح) حديث جبير بن مطعم (والذي نفسي بيده مالي مما أفاء الله إلا
الخمس..) أخرجه أبو داود مختصرا وابن حبان في صحيحة عن عبادة بن
الصامت وقال (وأخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وبرة من جنب
بعير، ثم قال يا أيها الناس انه لا يحل لي مما أفاء الله عليكم قدر هذه إلا الخمس،
370

والخمس مردود عليكم فأدوا الخيط والمخيط، وإياكم والغلول فإنه عار على أهله
يوم القيامة).
حديث جبير بن مطعم (لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي
للقربى من بني هاشم وبنى عبد المطلب، قال مشيت أنا وعثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقلنا أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا قال إنما بنو المطلب وبنو هاشم
شئ واحد، قال جبير ولم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم لبني هاشم ولا لبنى
نوفل شيئا) أخرجه البخاري وأحمد والنسائي وابن ماجة، وفى رواية لما قسم
رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى من خيبر من بني هاشم وبنى
عبد المطلب جئت أنا وعثمان بن عفان، فقلنا: يا رسول الله هؤلاء بنو هاشم
لا ينكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله عز وجل منهم، أرأيت إخواننا من
بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة فقال: إنهم
لما يفارقوني في جاهلية ولا إسلام وإنما بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد قال
ثم شبك بين أصابعه) أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والبرقاني كما قال القرطبي
في تفسيره والشوكاني في النيل، وقال البرقاني أنه على شرط مسلم.
حديث (لا يتم بعد احتلام) أخرجه أبو داود عن علي وباقيه (ولا صمات
يوم إلى الليل).
اللغة: قال ابن العربي في كتاب أحكام القرآن، الأنفال، الغنائم، الفئ
فالنفل الزيادة وتدخل فيه الغنيمة فإنها زيادة الحلال لهده الأمة، والغنيمة
ما أخذ من أموال الكفار بقتال، والفئ ما أخذ بغير قتال لأنه رحل إلى موضعه
الذي يستحقه وهو انتفاع المؤمن به
قوله (ويقسم الخمس على خمسة...) قال الغزنوي الحنفي في الغرة
المنيفة (كان الخمس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقسم على خمسة أسهم سهم
لله ورسوله وكان يشترى به السلاح، وسهم لذوي قربى النبي صلى الله عليه وسلم
وسهم للمساكين، وسهم لليتامى، وسهم لأبناء السبيل وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
سقط سهم النبي صلى الله عليه وسلم، وسهم ذوي القربى فيأخذون بالفقر دون
371

القرابة عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعند الشافعي رحمه الله سهم النبي صلى الله عليه وسلم
يدفع إلى الامام وسهم ذوي القربى باق.
حجة أبي حنيفة إجماع الصحابة على عهد الخلفاء الراشدين فإنهم قسموا خمس
الغنيمة على ثلاثة أسهم ولم يعطوا ذوي القربى شيئا لقربهم بل لفقرهم، مع أنهم
شاهدوا قسمة النبي صلى الله عليه وسلم وعرفوا تأويل الآية، وكان ذلك بمحضر
من الصحابة من غير نكير فحل محل الاجماع، فلو كان سهمهم باقيا لما منعوهم،
وهذا لان المراد بالقربى قربى النصرة دون القرابة بدليل، وذكر حديث جبير
الثاني المذكور في صدرا لشرح، واستدل بحديث أم هانئ مرفوعا، قال عليه
الصلاة والسلام (سهم ذوي القربى لهم في حياتي وليس لهم بعد وفاتي) وكذا سهم
النبي صلى الله عليه وسلم سقط بعد وفاته إذ غيره ليس في معناه من كل وجه.
حجة الشافعي قوله تعالى (واعلموا أنما غنمتم من شئ..) وهذا نص
صريح في المسألة.
ثم قال مؤيدا لمذهبه (الجواب عنه أن المراد بالقربى قربى النصرة لا قربى
القرابة بما ذكرنا من الدليل وقد زالت النصرة بعد وفاته)
(قلت) وقد اطلعت على كثير من كتب الفقه كالمغني والشرح الكبير عليه
والفروع والاقناع للحنابلة وشرحي الموطأ والبداية للمالكية وفتاوى السبكي وابن
حجر وروضة الطالبين للشافعية وبدائع الصنائع (1) وحاشية ابن عابدين للحنفية
والنيل والمحلى وتحفة الأحوذي وتهذيب السنن وأحكام القرآن للجصاص وكذا
لابن عربي والتفاسير للقرطبي، صديق حسن خان وابن كثير وللقاسمي والرازي
والمنار وغير ذلك كثير مما ذكرناه من مراجع سابقة، وقد وجدت خير ما أضعه
بين يديك ما أورده القرطبي متمشيا مع ما أشار إليه المنار، إلا أنى أخالفه في
أنه أشار أن ما نقله في الخاتمة هو خير ما أورده صديق حسن خان، إلا أنى بعد
المراجعة تبين لي أن صديق حسن خان نقل ما ذكره القرطبي مع اختصار كثير
فلم يأت بجديد، ورأيت ردا للأمور في نصابها أن أحيل إلى القرطبي لأنه
هو السابق. قال القرطبي اختلف العلماء في كيفية قسمة الخمس على ستة أقوال

(1) وقد طبعناه قريبا ويطلب من مطبعة الامام بالقلعة بمصر
372

(الأول) قالت طائفة يقسم الخمس على ستة فيجعل السدس للكعبة وهو
الذي لله والثاني لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثالث لذوي القربى، والرابع
لليتامى والخامس للمساكين والسادس لابن السبيل، وقال بعض أصحاب هذا
القول يرد السهم الذي لله على ذوي الحاجة.
(الثاني) قال أبو العالية والربيع تقسم الغنيمة على خمسة فيعزل منها قسم
واحد وتقسم الأربعة على الناس ثم يضرب بيده على السهم الذي عزله فما قبض
عليه من شئ جعله للكعبة ثم يقسم بقية السهم الذي عزله على خمسة، سهم
للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين
وسهم لابن السبيل
(الثالث) قال المنهال بن عمرو سألت عبد الله بن محمد بن علي وعلي بن الحسين
الخمس فقال هولنا، قلت لعلى إن الله تعالى يقول (واليتامى والمساكين وابن
السبيل) فقال أيتامنا ومساكيننا
(الرابع) قال الشافعي يقسم على خمسة ورأي أن سهم الله ورسوله واحد
وأنه يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف
المذكورين في الآية
(الخامس) قال أبو حنيفة يقسم على ثلاثة اليتامى والمساكين وابن السبيل
وارتفع عنده حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته كما ارتفع حكم سهمه
قالوا ويبدأ من الخمس بإصلاح القناطر وبناء المساجد وأرزاق القصاة والجند،
وروى نحو هذا عن الشافعي أيضا
(السادس) قال مالك هو موكول إلى نظر الامام واجتهاده فيأخذ منه من
غير تقدير ويعطى منه القرابة باجتهاد ويصرف الباقي في مصالح المسلمين، وبه
قال الخلفاء الأربعة وبه عملوا وعليه يدل قوله صلى الله عليه وسلم (مالي مما أفاء
الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود عليكم) فإنه لم يقسمه أخماسا ولا أثلاثا
وإنما ذكر في الآية من ذكر على وجه التنبيه عليهم لأنهم من أهم من يدفع إليهم
قال الزجاج محتجا لمالك قال الله عز وجل (يسئلونك ماذا ينفقون)
373

وللرجل جائز بإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إذا رأى ذلك وذكر
النسائي عن عطاء قال (خمس الله وخمس رسوله واحد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يحمل منه ويعطى منه ويضعه حيث شاء ويصنع به ما شاء.
وروى ابن حزم عن قتادة قال تقسم الغنائم خمسة أخماس، فأربعة أخماس
لمن قاتل عليها ثم يقسم الباقي على خمسة أخماس، فخمس منها لله تعالى وللرسول
وخمس لقرابة الرسول الله صلى الله عليه وسلم وخمس لليتامى وخمس لا بن السبيل
وخمس للمساكين، ثم قال وهو قول الأوزاعي وسفيان الثوري والشافعي
وأبى ثور وإسحاق وأبي سليمان والنسائي وجمهور أصحاب الحديث وآخر قولي
أبى يوسف القاضي الذي رجع إليه، إلا أن الشافعي قال للذكر من ذوي القربى
مثل حظ الأنثيين، وهذا خطأ لأنه لم يأت به نص أصلا وليس ميراثا فيقسم
كذلك، وإما هي عطية من الله تعالى فهم فيها سواء.
وقال مالك يجعل الخمس كله في بيت المال ويعطى أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم
على ما يرى الامام ليس في ذلك حد محدود
قال أصبع بن فرج أقرباؤه عليه السلام هم جميع قريش، وقال أبو حنيفة
يقسم الخمس على ثلاثة أسهم، الفقراء والمساكين وابن السبيل، قال على: هذه
أقوال في غاية الفساد لأنها خلاف القرآن نصا وخلاف السنة الثابتة، ولا
يعرف قول أبي حنيفة عن أحد من أهل الاسلام قبله وجماع نصوصهم لكل من
تأملها أنهم يحتجون بأحاديث موضوعة أو مرسلة أو صحاح، ليس فيها دليل أو
قول صاحب قد خالفه غيره منهم ولا مزيد
وقال الشوكاني: في الأحاديث دلالة على أن من مصارف الخمس قربى
رسول الله، وذكر حديثا رواه أبو داود أن أبا بكر كان يقسم الخمس نحو قسمة
رسول الله صلى الله عليه وسلم غير أنه لم يكن يعطى قربى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان
عمر يعطيهم منه وعثمان بعده وقد استدل من قال إن الامام يقسم الخمس حيث
شاء بما أخرجه أبو داود وغيره عن ضباعة بنت الزبير قالت أصاب النبي صلى الله عليه وسلم
سبيا فذهبت أنا وأختي فاطمة فسأله فقال سبقتكما يتامى بدر، وفى حديث الصحيح
أن فاطمة شكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرحى.. الخ
374

قال إسماعيل القاضي هذا الحديث يدل على أن للامام أن يقسم الخمس حيث
يرى، لان الأربعة الأخماس استحقاق للغانمين والذي يختص بالامام هو الخمس
وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم ابنته وأعز الناس عليه من قرابته وصرفه إلى غيرهم، وقال
بنحو ذلك الطبري والطحاوي.
قال الحافظ في الفتح في الاستدلال بذلك نظر، لأنه يحتمل أن يكون
ذلك من الفئ.
قلت أما باقي الأقوال التي ذكرها المصنف فلم يخالفه فيها أحد
قوله (نبذة من الأرض) النبذة الشئ اليسير، يقال في رأسه نبذ من الشيب
وأصاب الأرض نبذ من مطر أي شئ يسير
قوله (سد الثغور) الثغر موضع المخافة. وقال الأزهري أصل الثغر الهدم
والكسر، يقال ثغرت الجدار إذا هدمته. وقيل للموضع الذي تخاف منه العدو
ثغر لانثلامه وإمكان دخول العدو منه. وقيل النصيب سهم لأنه يعلم عليه بالسهام
قوله (بنو هاشم وبنو المطلب شئ واحد) بالشين المعجمة وهو المثل،
وقد ذكر في الزكاة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب قسم الفئ)
الفئ هو المال الذي يؤخذ من الكفار من غير قتال، وهو ضربان، أحدهما
ما انجلوا عنه خوفا من المسلمين أو بدلوه للكف عنهم فهذا يخمس ويصرف
خمسه إلى من يصرف إليه خمس الغنيمة، والدليل عليه قوله عز وجل (ما أفاء
الله على رسوله من أهل القرى فالله وللرسول والذي القربى واليتامى والمساكين
وابن السبيل).
(والثاني) ما أخذ من غير خوف كالجزية وعشور تجاراتهم ومال من مات
منهم في دار الاسلام ولا وارث له ففي تخميسه قولان، قال في القديم لا يخمس
لأنه مال أخذ من غير خوف لم يخمس كالمال المأخوذ بالبيع والشراء.
375

وقال في الجديد يخمس وهو الصحيح للآية، ولأنه مال مأخوذ من الكفار بحق
الكفر يختص به بعض المسلمين فوجب تخميسه كالمال الذي انجلوا عنه، وأما
أربعة أخماسه فقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، والدليل عليها قوله عز
وجل (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فالله وللرسول ولذي القربى
واليتامى والمساكين وابن السبيل) ولا ينتقل ما ملكه إلى ورثته، لما روى
أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تقتسم ورثتي دينارا
ولا درهما ما تركته بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فإنه صدقة
وروى مالك بن أوس بن الحدثان رضي الله عنه عن عمر رضي الله عنه أنه
قال لعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف: أنشدكم بالله أيها الرهط هل
سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنا لا نورث، ما تركنا صدقة، إن
الأنبياء لا تورث، فقال القول بلى قد سمعناه، ثم أقبل على على وعباس فقال
أنشد كما بالله هل سمعتما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما تركناه صدقة إن الأنبياء
لا تورث، فقالا نعم، أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود، واختلف قول
الشافعي فيما يحصل من من مال الفئ بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
في أحد القولين يصرف في المصالح لأنه مال راتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصرف
بعد موته في المصالح كخمس الخمس، فعلى هذا يبدأ بالأهم وهو سد الثغور
وأرزاق المقاتلة ثم الأهم فالأهم.
وقال في القول الثاني هو للمقاتلة، لان ذلك كان لرسول الله صلى الله عليه
وسلم لما كان فيه من حفظ الاسلام والمسلمين، ولما كان له في قلوب الكفار من
الرعب، وقد صار ذلك بعد موته في المقاتلة فوجب أن يصرف إليهم.
(الشرح) حديث أبي هريرة (لا تقتسم ذريتي دينارا، ما تركت بعد نفقة
نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة) متفق عليه، وأخرجه الحاكم وأبو داود
عن أبي هريرة.
حديث عمر (لا نورث ما تركنا فهو صدقة، وإنما هذا المال لآل محمد لنائبهم
ولضعيفهم، فإذا مت فهو إلى ولى الامر من بعدي) أخرجه أبو داود عن علي
376

وفى إسناده يحيى بن محمد المدني متكلم فيه، والترمذي في الشمائل عن أسامة،
وأسامة مختلف فيه وروى له مسلم، وحديث عمر الآخر فقد خرجه المصنف.
اللغة. قوله (الفئ هو المال الذي يأخذ..) قلت بوب الترمذي فقال:
باب من يعطى من الفئ، وذكر فيه أحاديث الغزو بالنساء هل يسهم لهن
وللصبيان حتى أن المباركفوري بعد أن شرح كلمة الفي لغويا قال: والظاهر أن
المراد من الفئ هنا الغنيمة ولم يذكر فيه أقوالا.
وقال أبو يوسف في كتاب الخراج (فصل في الفئ) فأما الفئ يا أمير المؤمنين
فهو الخراج عندنا، خراج الأرض والله أعلم. واستشهد بالآية (ما أفاء الله على
رسوله..) حتى فرغ من هؤلاء ثم قال (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من
ديارهم..) ثم قال تعالى (والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون من
هاجر إليهم.. والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا..) فهذا والله
أعلم لمن جاء من بعدهم من المؤمنين إلى يوم القيامة ثم استشهد بأعمال عمر في عدم
تقسيمه أرض الشام والعراق.
وقال أبو بكر الجصاص في أحكام القرآن: والفئ في مثل هذا الموضع ما صار
للمسلمين من أموال أهل الشرك، واستشهد بقول لعمر (كانت أموال بنى النضير
فيئا مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكانت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في
الكراع والسلاح عدة في سبيل الله.
وذكر في المنتفى للجد ابن تيمية حديث عوف بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان إذا أتاه الفئ قسمه في يومه فأعطى الآهل حظين وأعطى العزب حظا) رواه
أبو داود وذكره أحمد وقال حديث حسن
(قلت) هذا الحديث وإن كان في الفئ إلا أن فيه كفالة حق الفرد الآهل
أكثر من الأعزب، كما أن فيه الضمان الاجتماعي الذي يتغنى به الأوربيون
وأبناء جلدتنا وبنى جنسنا ممن ساروا في ركاب الثقافة الغربية أو الشيوعية فليتهم
يعودون إلى أحضان دينهم فيجدوا فيه الخير الكثير لهم ولنا، وفيه دافعا للشباب
377

على الزواج وحلا للأزمة التي نراها وبقاء لبعض أنوثة المرأة التي أهدرت بالعمل
دون مبرر ولا حاجة.
قال ابن العربي في أحكام القرآن بعد أن أورد الآيتين من سورة الحشر:
لا خلاف أن الآية الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، وهذه الآية (وهي الثانية)
اختلف الناس فيها على أربعة أقوال
(الأول) أنها هذه القرى التي قوتلت فأفاء الله بمالها فهي لله وللرسول ولذي
القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، قال عكرمة وغيره: ثم نسخ ذلك
في سورة الأنفال.
(الثاني) هو ما غنمتم بصلح من غير إيجاف خيل ولا ركاب فيكون لمن سمى
الله فيه، والأولى للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة إذا أخذ منه حاجته كان الباقي
في مصالح المسلمين.
(الثالث) قال معمر الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم والثانية في الجزية والخراج
للأصناف المذكورة فيه، والثالثة الغنيمة في سورة الأنفال للغانمين
(الرابع) روى ابن القاسم وابن وهب في قوله تعالى (فما أوجفتم عليه من
خيل..) هي النضير لم يكن فيها خمس ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب،
وكان صافية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمها بين المهاجرين وثلاث من الأنصار،
وقوله تعالى (ما أفاء الله..) هي قريظة، وكانت قريظة والخندق
في يوم واحد.
قال ابن ضويان في شرح منار السبيل (مذهب الحنابلة) والفئ هو ما أخذ
من مال الكفار بحق من غير قتال، كالجزية والخراج وعشر التجارة من الحربي
ونصف العشر من الذمي، وما تركوه فزعا أو عن ميت ولا وارث له ومصرفه
في مصالح المسلمين، ثم شرحه بقوله لعموم نفعها ودعاء الحاجة إلى تحصيلها،
قال عمر رضي الله عنه ما من أحد من المسلمين الا له في هذا المال نصيب إلا
العبيد فليس لهم في شئ، وقرأ (ما أفاء الله على رسوله..) فقال هذه
استوعبت المسلمين، ولئن عشت ليأتين الراعي بسرد حمير نصيبه منها لم يعرق
فيها جبينه. وقال أحمد (الفئ حق لكل المسلمين، وهو بين الغنى والفقير)
378

وتبدأ بالأهم فالأهم من سعد ثغر وكفاية أهل وحاجة من يدفع عن المسلمين وعمارة
القناطر ورزق القضاة والفقهاء وغير ذلك، فإن فضل شئ قسم بين أحرار
المسلمين غنيهم وفقيرهم وبيت المال ملك للمسلمين ويضمنه متلفه ويحرم الاخذ
منه بلا إذن الإمام.
وأفضل ما قرأنه في الفئ ما صنفه ابن رشد في البداية، وأما الفئ عند الجمهور
فهو كل ما صار للمسلمين من الكفار قبل الرعب والخوف من غير أن يوجف
عليه بخيل أو رجل. واختلف الناس في الجهة التي يصرف إليها، فقال قوم إن
الفئ لجميع المسلمين، الفقير والغنى، وأن الامام يعطى منه للمقاتلة وللحكام
وللولاة. وينفق منه في النوائب التي تنوب المسلمين كبناء القناطر وإصلاح
المساجد غير ذلك، ولا خمس في شئ منه، وبه قال الجمهور، وهو الثابت عن أبي
بكر وعمر.
وقال الشافعي بل فيه الخمس، والخمس مقسوم على الأصناف التي ذكروا في
آية الغنائم وهم الأصناف الذين ذكروا في الخمس بعنيه من الغنيمة وأن الباقي هو
مصروف إلى اجتهاد الامام ينفق منه على نفسه ومن رأى، وأحسب أن قوما
قالوا إن الفئ غير مخمس، ولكن يقسم على الأصناف الخمس الذين يقسم عليهم
الخمس، وهو أحد أقوال الشافعي فيما أحسب.
وسبب اختلاف من رأى أنه يقسم جميعه على الأصناف الخمسة أو هو
مصروف إلى اجتهاد الامام هو سبب اختلافهم في قسمة الخمس من الغنيمة.
ثم قال: إن من جعل الأصناف في الآية تنبيها على المستحقين له قال هو لهذه
الأصناف المذكورين ومن فوقهم، ومن جعل ذكر الأصناف تعديدا للذين
يستوجبون هذا المال قال لا يتعدى بهم هؤلاء الأصناف، أعني أنه جعله من
باب الخصوص لا من باب التنبيه.
وأما تخميس الفئ فلم يقل به أحد قبل الشافعي، وإنما حمله على هذا القول
أنه رأى الفئ قد قسم في الآية على عدد الأصناف الذين قسم عليهم الخمس،
فاعتقد لذلك أنه فيه الخمس، لأنه ظن أن هذه القسمة مختصة بالخمس،
379

وليس ذلك بظاهر بل الظاهر أن هذه القسمة تخص جميع الفي لا جزءا منه،
وهو الذي ذهب إليه فيما أحسب قوم.
وخرج مسلم عن عمر وذكر الحديث السابق الإشارة إليه في مذهب
الأحناف. ثم قال وهذا يدل على مذهب مالك
(قلت) وفى آخر الكتاب سنفرد بحثا لمصارف هذه الأموال في عصرنا
الحاضر كما ذكرها الدهلوي في كتابه حجة الله البالغة، وكذا الرق في الاسلام
وما اشتملته سورة الأنفال من الاستعداد للقتال إن شاء الله
قوله (انجلوا عنه) أي هربوا، يقال جلا القوم عن منازلهم إذا هربوا،
قال الله تعالى (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء)
قوله (ومؤنة عاملي) أي مؤنة خليفتي، والعامل هو الذي يتولى أمور الرجل
في ماله وملكه وعمله، ومنه قيل للذي يستخرج الزكاة عامل والذي يأخذه العامل
من الأجرة يقال له عمالة بالضم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وينبغي للامام أن يضع ديوانا يثبت فيه أسماء المقاتلة وقدر
أرزاقهم، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: قدمت على عمر رضي الله عنه
من عند أبي موسى الأشعري بثمانمائة ألف درهم، فلما صلى الصبح اجتمع إليه
نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم قد جاء للناس مال لم يأتهم
مثله منذ كان الاسلام، أشيروا على بمن أبدا منهم؟ فقالوا بك يا أمير المؤمنين
إنك ولى ذلك، قال لا، ولكن أبدا برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الأقرب
فالأقرب إليه، فوضع الديوان على ذلك.
ويستحب أن يجعل على كل طائفة عريفا لان النبي صلى الله عليه وسلم جعل
عام خيبر على كل عشرة عريفا، ولان في ذلك مصلحة، وهو أن يقوم التعريف
بأمورهم ويجمعهم في وقت العطاء وفى وقت الغزو ويجعل العطاء في كل عام مرة
أو مرتين ولا يجعل في كل شهر ولا في كل أسبوع لان ذلك يشغلهم عن الجهاد
380

(فصل) ويستحب أن يبدأ بقريش لقوله صلى الله عليه وسلم (قسموا
قريشا ولا تتقدموها، ولان النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فإنه محمد بن عبد الله
ابن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مره بن كعب بن
لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة.
واختلف الناس في قريش، فمنهم من قال كل من ينتسب إلى فهر بن مالك
فهو من قريش.
ومنهم من قال: كل من ينتسب إلى النضر بن كنانة فهو من قريش، ويقدم من
قريش بني هاشم لأنهم أقرب قبائل قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ويضم إليهم بنو المطلب، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (إنما بنو هاشم
وبنو المطلب شئ واحد وشبك بين أصابعه)
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم
فإذا كان السمن في الهاشمي قدمه على المطلبي، وإذا كان في المطلبي قدمه على الهاشمي
ثم يعطى بنى عبد شمس وبنى نوفل ابني عبد مناف، ويقدم بنى عبد شمس على
بنى نوفل، لان عبد شمس أقرب إليه لأنه أخو هاشم من أبيه وأمه ونوفل أخوه
من أبيه، وأنشد آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز:
يا أمين الله إني قائل * قول ذي بر ودين وحسب
عبد شمس لا تهنها إنما * عبد شمس عم عبد المطلب
عبد شمس كان يتلو هاشما * وهما بعد لام ولأب
ثم يعطى بنى عبد العزى وبنى عبد الدار، ويقدم عبد العزى على عبد الدار
لان فيهم أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خديجة بنت خويلد منهم
ولان فيهم من حلف المطيبين وحلف الفضول، وهما حلفان كانا من قوم من
قريش اجتمعوا فيهما على نصر المظلوم ومنع الظالم.
وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: شهدت حلف
الفضول ولو دعيت إليه لأجبت، وعلى هذا يعطى الأقرب فالأقرب حتى
تنقضي قريش، فإن استوى اثنان في القرب قدم أسنهما لما رويناه من حديث
381

عمر في بني هاشم وبني المطلب، فإن استويا في السن قدم أقدمهما وسابقة،
فإذا انقضت قريش قدم الأنصاري على سائر العرب لما لهم من السابقة والآثار
الحميدة في الاسلام، ثم يقسم على سائر العرب ثم يعطى العجم ولا يقدم بعضهم
على بعض إلا بالسن والسابقة دون النسب
(فصل) ويقسم بينهم على قدر كفايتهم لأنهم كفوا المسلمين أمر الجهاد
فوجب أن يكفوا أمر النفقة، ويتعاهد الامام في وقت العطاء عدد عيالهم لأنه
قد يزيد وينقص ويتعرف الأسعار وما يحتاجون إليه من الطعام والكسوة لأنه
قد يغلو ويرخص، ليكون عطيتهم على قد حاجتهم، ولا يفضل من سبق إلى
الاسلام أو إلى الهجرة على غيره لان الاستحقاق بالجهاد وقد تساووا في الجهاد
فلم يفضل بعضهم على بعض كالغانمين في الغنيمة.
(فصل) ولا يعطى من الفئ صبي ولا مجنون ولا عبد ولا امرأة ولا
ضعيف لا يقدر على القتال لان الفئ للمجاهدين وليس هؤلاء من أهل الجهاد
وإن مرض مجاهد فإن كان مرضا يرجى زواله أعطى، لان الناس لا يخلون من
عارض مرض، وإن كان مرضا لا يرجى زواله سقط حقه من الفئ لأنه خرج
عن أن يكون من المجاهدين.
وإن مات المجاهد وله ولد صغير أو زوجة ففيه قولان (أحدهما) أنه لا يعطى
ولده ولا زوجته من الفئ شيئا، لان ما كان يصل إليهما على سبيل التبع لمن
يعواهما وقد زال الأصل وانقطع التبع (والثاني) أنه يعطى الولد إلى أن يبلغ
وتعطى الزوجة إلى أن تتزوج، لان في ذلك مصلحة، فإن المجاهد إذا علم أنه
يعطى عياله بعد موته توفر على الجهاد، وإذا علم أنه لا يعطى اشتغل بالكسب
لعياله وتعطل الجهاد.
فإذا قلنا بهذا فبلغ الولد فإن كان لا يصلح للقتال كالأعمى والزمن أعطى
الكفاية كما كان يعطى قبل البلوغ، وإن كان يصلح للقتال وأراد الجهاد فرض له
وإن لم يرد الجهاد لم يكن له في الفئ حق، لأنه صار من أهل الكسب، وإن
تزوجت الزوجة سقط حقها من الفئ، لأنها استغنت بالزوج، وان دخل
382

وقت العطاء فمات المجاهد انتقل حقه إلى ورثته لأنه مات بعد الاستحقاق فانتقل
حقه إلى الوارث.
(الشرح) اثر أبي هريرة (عن عمر أنه قال يوم الجابية وهو يخطب الناس
إن الله عز وجل جعلني خازنا لهذا المال وقاسمه، ثم قال بل الله قاسمه وأنا بادئ
بأهل النبي صلى الله عليه وسلم ثم أشرفهم، ففرض لأزواج النبي عشرة آلاف
إلا جويرية وميمونة، فقالت عائشة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعدل
بيننا، فعدل عمر بينهن ثم قال إني بادئ بأصحابي المهاجرين الأولين فإنا أخرجنا
من ديارنا ظلما وعدوانا، ثم أشرها ففرض لأصحاب بدر منهم خمسة آلاف
ولمن شده بدرا من الأنصار أربعة آلاف، وفرض لمن شهد أحدا ثلاثة آلاف
وقال من بقي أسرع في الهجرة وأسرع به في العطاء، ومن أبطأ في الهجرة أبطئ
به في العطاء فلا يلومن رجل الا مناخ راحلته) أخرجه أحمد، وقال الهيثمي
رجاله ثقات نقلا من مجمع الزوائد
حديث (جعل عام خيبر على كل عشرة عريفا) أخرجه البيهقي وأصحاب السير
حديث (قدموا قريشا) أخرجه الطبراني عن عبد الله بن السائب والبزار
كما في مجمع الزوائد بلفظ (قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا من قريش ولا
تعلموها ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها ما لخيارها عند الله تعالى)
وأخرج الشافعي والبيهقي في المعرفة عن ابن شهاب بلاغا وابن عدي عن
أبي هريرة (قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا من قريش ولا تعالموها)
حديث (إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب..) سبق تخريجه فيما قبله
حديث عمر (حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيهم..) البيهقي والشافعي.
حديث (شهدت حلب الفصول) أخرجه الحاكم بلفظ: شهدت غلاما مع
عمومتي حلف المطيبين فما يسرني أن لي حمر النعم وانى أنكثه. عن عبد الرحمن
ابن عوف.
383

قوله (أنشدكم بالله) أي أسألكم بالله وأقسم عليكم. قوله (في قلوب الكفار
من الرعب) أي الخوف، يقال رعبته فهو مرعوب إذا أفزعته ولا يقال أرعبته
ومنه الحديث نصرت بالرعب.
قوله (يضع ديوانا) أي كتابا يجمع فيه أسماء الجند، وأصله دوان فعرض
من أحد الواوين ياء لأنه يجمع على دواوين، ولو كانت الواو أصلية لقيل دياوين
بل يقال دونت دواوين. قوله (لؤي) تصغير لأي وهو ثور الوحش، سمى
به الرجل. قوله (قول ذي بر ودين وحسب) البر فعل الخير والحسب كرم
الآباء والأجداد.
قوله (يتلو هاشما) أي يتبعه في كرمه وفخره وسائر مناقبه. قوله (حلف
المطيبين وحلف الفضول) هما حلفان كانا في الجاهلية من قريش، وسموا المطيبين
لان عاتكة بنت عبد المطلب عملت لهم طيبا في جفنة وتركتها في الحجر فغمسوا
أيديهم فيها وتحالفوا، وقيل إنهم مسحوا به الكعبة توكيدا على أنفسهم، ولأي
أمر تحالفوا؟ قيل على منع الظالم ونصر المظلوم، وقيل لان بنى عبد الدار
أرادت أخذ السقاية والرفادة من بني هاشم فتحالفوا على منعهم، ونحر الآخرون
جزورا وغمسوا أيديهم في الدم
وقيل سموا المطيبين لأنهم تحالفوا على أن ينفقوا أن يطعموا الوفود من طيب
أموالهم، وفى حلف الفضول وجهان (أحدهما) أنه اجتمع فيه رجال الفضل بن
الحارث والفضل بن وداعة والفضل بن فضالة، والفضول جمع الفضل. قال
الهروي يقال فضل وفضول كما يقال سعد وسعود. وقال الواقدي هم قوم من
جرهم تحالفوا يقال لهم فضل وفضالة، فلما تحالفت قريش على مثله سموا
حلف الفضول.
وقيل كان تخالفهم على أن يجدوا بمكة مظلوما من أهلها ومن غيرهم إلا
قاموا معه (والثاني) أنهم تحالفوا على أن ينفقوا من فضول أموالهم فسموا بذلك
حلف الفضول، وسموا حلف الفضول لفاضل ذلك الطيب، وتوفر على الجهاد
أي كثرت رغبته وهمته فيه من الوفر وهو كثرة المال
قال الشوكاني: كان عمر يفاضل في العطاء على حسب البلاء في الاسلام
384

والقدم فيه والغناء والحاجة، ويفضل من شهد بدرا على غيره ممن لم يشهد،
وكذلك من شهد أحدا ومن تقدم في الهجرة، وقد أخرج الشافعي في الام أن
أبا بكر وعليا ذهبا إلى التسوية بين الناس في القسمة وأن عمر كان يفضل،
وروى البزار والبيهقي عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: قدم على أبى بكر مال
البحرين فقال من كان له على رسول الله صلى الله عليه وسلم عدة فليأت،
فذكر الحديث بطوله في تسويته بين الناس في القسمة، وفى تفضيل عمر الناس
على مراتبهم.
وروى البيهقي من طريق آخر قال: أتت عليا امرأتان، فذكرا لقصة وفيها
إني نظرت في كتاب الله فلم أر فضلا لولد إسماعيل على ولد إسحاق، ثم روى عن
عثمان أنه كان يفاضل بين الناس كما كان يفاضل عمر، كما أنه لا فضل للامام على
الناس في تقديم ولا توفير نصيب، وأن العبد المملوك فيه نصيب، لما أخرجه
أبو داود عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أنى بظبية بها خرز فقسمها للحرة
والأمة. وقول عائشة أن أبا بكر كان يقسم للحر والعبد، ولا شك أن أقوال
الصحابة لا تعارض المرفوع فمنع العبيد اجتهاد من عمر، والنبي قد أعطى الأمة
ولا فرق بينها وبين العبد، ولهذا كان أبو بكر يعطى العبيد، وأنه لا بد من
التفضيل فالرجل وسبقه للاسلام.
قلت: روى الشافعي أن عمر لما دون الدواوين قال بمن ترون أبدا؟ قيل له
ابدا بالأقرب فالأقرب بك، قال بد أبدا بالأقرب فالأقرب برسول الله صلى الله عليه وسلم
وهذا سبق للاسلام على سائر الأنظمة الحديثة التي يتشدق بها المتشدقون
قوله (ولا يعطى من الفئ صبي..) ففي ما قيل رده له. وأما قوله (وان
مات المجاهد وله ولد صغير أو زوجة ففيه قولان)
قلت الصواب فيه والله أعلم هو إعطاء الولد وأمه لما ثبت عن عمر في صحيح
البخاري عن أسلم مولى عمر قال: خرجت مع عمر بن الخطاب إلى السوق
فلحقت عمر امرأة شابة فقالت يا أمير المؤمنين هلك زوجي وترك صبية صغارا
والله ما ينضجون كراعا ولا لهم زرع ولا ضرع وخشيت أن تأكلهم الضبع وأنا
ابنة خفاف بن إيماء الغفاري وقد شهد أبى الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
385

فوقف معها عمرو لم يمض وقال مرحبا بنسب قريب، ثم انصرف إلى بعير ظهير
كان مربوطا في الدار فحمل عليه غرارتين ملاهما طعاما وجعل بينهما نفقة وثيابا
ثم ناولها خطامه فقال اقتاديه فلن ينفى هذا حتى يأتيكم الله بخير، فقال رجل
يا أمير المؤمنين أكثر لها، فقال ثكلتك أمك فوالله لأني لأرى أبا هذه
وأخاها قد حاصرا حصنا زمانا فافتتحناه فأصبحنا نستفئ سهمانهما فيه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان في الفئ أراض كان خمسها لأهل الخمس، فأما أربعة
أخماسها فقد قال الشافعي رحمه الله تكون وقفا، فمن أصحابنا من قال هذا على
القول الذي يقول إنه للمصالح، فإن المصلحة في الأراضي أن تكون وقفا لأنها
تبقى فتصرف غلتها في المصالح.
وأما إذا قلنا إنها للمقاتلة فإنه يجب قسمتها بين أهل الفئ لأنها صارت لهم
فوجبت قسمتها بينهم كأربعة أخماس الغنيمة ومن أصحابنا من قال تكون وقفا
على القولين، فإن قلنا إنها للمصالح صرفت غلتها في المصالح، وإن قلنا إنها للمقاتلة
صرفت غلتها في مصالحهم، لان الاجتهاد في مال الفئ إلى الامام، ولهذا يجوز
أن يفضل بعضهم على بعض، ويخالف الغنيمة فإنه ليس للامام فيها الاجتهاد،
ولهذا لا يجوز أن يفضل بعض الغانمين على بعض وبالله التوفيق
(الشرح) وقد تقدم الكلام على هذا في أول الفئ، وآراء المذاهب
والصواب منها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الجزية
(الشرح) سميت جزية لأنها قضاء عما عليهم مأخوذ من قولهم جزى يجزى إذا قضى
قال الله تعالى (لا تجزى نفس عن نفس شيئا) أي لا تقضى ولا تعين، وفى
الحديث أنه قال لأني بردة بن نيار في الأضحية بالجزعة من المعز تجزئ عنك ولا
386

تجزئ عن أحد بعدك، والمتجازي المتقاضي عند العرب، وقيل الجزاء،
الغذاء، قال الشاعر:
مقيم عندها لم يجز مكبول
أي لم يفد، ويدينون دين الحق أي يطيعون، والدين الطاعة والانقياد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
لا يجوز أخذ الجزية ممن لا كتاب له ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان لقوله
عز وجل (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم
الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية
عن يد وهم صاغرون) فخص أهل الكتاب بالجزية فدل على أنها لا تؤخذ من
غيرهم، ويجوز أخذها من أهل الكتابين وهم اليهود والنصارى للآية، ويجوز
أخذها ممن بدل منهم دينه، لأنه وإن لم تكن لهم حرمة بأنفسهم فلهم حرمة
بآبائهم، ويجوز أخذها من المجوس لما روى عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال سفوا بهم سنة أهل الكتاب
وروى أيضا عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية
من مجوس هجر، واختلف قول الشافعي رحمه الله هل كان لهم كتاب أم لا؟ فقال
فقال فيه قولان (أحدهما) أنه لم يكن لهم كتاب، والدليل عليه قوله عز وجل
(وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما
أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين) (والثاني) أنه
كان لهم كتاب، والدليل عليه ما روى عن علي كرم الله وجهه أنه قال: كان لهم
علم يعلمونه وكتاب يدرسونه، وان ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع
عليه بعض أهل مملكته فجاءوا يقيمون عليه الحد فامتنع فرفع الكتاب من بين
أظهرهم وذهب العلم من صدروهم.
(فصل) وان دخل وثنى في دين أهل الكتاب نظرت فإن دخل قبل
التبديل أخذت منه الجزية وعقدت له الذمة لأنه دخل في دين حق، وان دخل
بعد التبديل نظرت فإن دخل في دين من بدل لم تؤخذ منه الجزية ولم تعقد له
387

الذمة لأنه دخل في دين باطل، وإن دخل في دين من لم يبدل فإن كان ذلك قبل
النسخ بشريعة بعده أخذت منه الجزية لأنه دخل في دين حق، وإن كان بعد
النسخ بشريعة بعده لم تؤخذ منه الجزية
وقال المزني رحمه الله تؤخذ منه، ووجهه أنه دخل في دين يقر عليه أهله،
وهذا خطأ لأنه دخل في دين باطل فلم تؤخذ منه الجزية كالمسلم إذا ارتد، وإن
دخل في دينهم ولم يعلم أنه دخل في دين من بدل أو في دين من لم يبدل كنصارى
العرب وهم بهراء وتنوخ وتغلب أخذت منهم الجزية، ولان عمر رضي الله عنه
أخذ منهم الجزية باسم الصدقة، ولأنه أشكل أمره فحقن دمه بالجزية احتياطا
للدم، وأما من تمسك بالكتب التي أنزلت على شيث وإبراهيم وداود ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق انهم يقرون ببذل الجزية لأنهم أهل كتاب
فأقروا ببذل الجزية كاليهود والنصارى
(والثاني) لا يقرون لأن هذه الصحف كالأحكام التي تنزل بها الوحي،
وأما السامرة والصابئون ففيهم وجهان (أحدهما) أنه تؤخذ منهم الجزية
(والثاني) لا تؤخذ وقد بيناهما في كتاب النكاح، وأما من كان أحد أبويه وثنيا
والآخر كتابيا فعلى ما ذكرناه في النكاح. وإن دخل وثنى في دين أهل الكتاب
وله ابن صغير فجاء الاسلام وبلغ الابن واختار المقام على الدين الذي انتقل إليه
أبوه أخذت منه الجزية، لأنه تبعه في الدين فأخذت منه الجزية، وإن غزا
المسلمون قوما من الكفار لا يعرفون دينهم، فادعوا أنهم من أهل الكتاب
أخذت منهم الجزية لأنه لا يمكن معرفة دينهم إلا من جهتهم فقيل قولهم. وإن
أسلم منهم اثنان وعدلا وشهدا أنهم من غير أهل الكتاب نبذ إليهم عهدهم لأنه
بان بطلان دعواهم.
(الشرح) حديث عبد الرحمن بن عوف (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)
رواه الشافعي ومالك في الموطأ أن عمر ذكر المجوس فقال ما أدرى كيف أصنع
في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
سنوا بهم سنة أهل الكتاب وقال الجد ابن تيمية: هو دليل على أنهم ليسوا
من أهل الكتاب.
388

حديث عبد الرحمن بن عوف (أخذ الجزية من مجوس هجر) عن عمر أنه لم
يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أخذها من مجوس هجر رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي
وروى أبو عبيد في كتاب الأموال بسند صحيح عن حذيفة: لولا أنى رأيت
أصحابي يأخذوا الجزية من المجوس ما أخذتها
أثر على (كان لهم علم..) روى الشافعي وعبد الرزاق بإسناد حسن عن علي
كان المجوس أهل الكتاب يدرسونه وعلم يقرأونه فشرب أميرهم الخمر فوقع على
أخته فلما أصبع دعا أهل الطمع فأعطاهم. وقال إن آدم كان ينكح أولاده بناته
فأطاعوه وقتل من خالفه، فأسرى على كتابهم ما في قلوبهم منه فلم يبق عندهم منه
شئ وهذا الأثر ضعيف لان فيه على أبى سعد البقال
وروى ابن حميد في تفسيره في سورة البروج بإسناد صحيح عن ابن أ؟ ى لما
هزم المسلمون أهل فارس قال عمر اجتمعوا فقال إن المجوس ليسوا أهل كتاب
فنضع عليهم الجزية ولا من عبدة الأوثان فتجرى عليهم أحكامهم، فقال على بل هم
أهل كتاب، وذكر الأثر السابق
اللغة قوله (لا يجوز أخذ الجزية..) قال ابن التركماني في الجوهر النفي:
وعند الحنفية تخصيص أهل الكتاب بأداء الجزية لا ينفى الحكم عن غيرهم،
والوثني والعجمي لا يتحتم قتله بل يجوز استرقاقه، فلم يتداوله قوله تعالى (اقتلوا
المشركين) بل هو مختص بالوثني العربي الذي يسقط قتله بعلة واحدة وهي الاسلام
بخلاف العجمي لأنه يسقط قتله بعلة أخرى وهي الاسترقاق. وذكر البيهقي في
هذا الباب حديث بريدة: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث
خصال، وفيه فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية.
(قلت) التبويب خاص ولفظ المشركين عام فهو غير مطابق لمدعاه
قال النووي في شرح مسلم: هذا مما يستدل به مالك والأوزاعي وموافقوهما
في جواز أخذ الجزية من كل كافر، عربيا كان أو أعجميا أو كتابيا أو مجوسيا أو
غيرهما، وذكر الخطابي في المعالم ثم قال ظاهره (أي الحديث) موجب قبول
الجزية من كل مشرك كتابي أو غير كتابي من عبدة الشمس والنيران والأوثان.
389

ويؤيد هذا المذهب قوله عليه السلام في حديث ابن عباس (ويؤدى إليهم العجم الجزية) أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وذكره البيهقي في باب من زعم
إنما تؤخذ الجزية من العجم.
قال ابن عبد البر بعد أن ذكر (سنوا بهم..) هذا من الكلام العام الذي
أريد به الخاص، لان المراد سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية فقط، واستدل
بقوله سنة أهل الكتاب على أنهم ليسوا أهل كتاب
وقال ابن بطال لو كان لهم كتاب ورفع لرفع حكمه، ولما استثنى حل ذبائحهم
ونكاح نسائهم، فالجواب أن الاستثناء وقع تبعا للأثر الوارد، لان في ذلك
شبهة تقتضي حقن الدم، بخلاف النكاح فإنه مما يحتاط له
قال ابن المنذر ليس تحريم نكاحهم وذبائحهم متفقا عليه. ولكن الأكثر من
أهل العلم عليه.
وقال الشوكاني بعد أن أورد حديث ابن عباس قال: مرض أبو طالب
فجاءته قريش وجاء النبي صلى الله عليه وسلم وشكوه إلى أبى طالب، فقال يا ابن
أخي ما تريد من قومك؟ قال أريد منهم كلمة تدين لهم بها العرب وتؤدى لهم بها
العجم الجزية. الخ)
رواه الترمذي وحسنه والنسائي وصححه والحاكم، وحديث المغيرة بن شعبة
أنه قال لعامل كسرى أمرنا نبينا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا
الجزية) البخاري، فيه الاخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتال المجوس
حتى يؤدوا الجزية، زاد الطبراني وإنا والله لا نرجع إلى ذلك الشقاء حتى نغلبكم
على ما في أيديكم.
وحديث ابن عباس فيه متمسك لم قال لا تؤخذ الجزية من الكتابي إذا
كان عربيا، قال في الفتح: فأما اليهود والنصارى فهم المراد بأهل الكتاب
بالاتفاق، وفرق الحنفية فقالوا تؤخذ من مجوس العجم دون مجوس العرب.
وحكى الطحاوي عنهم أنهم تقبل الجزية من أهل الكتاب ومن جميع كفار العجم
ولا يقبل من مشركي العرب إلا الاسلام أو السيف
390

وعن مالك تقبل من جميع الكفار إلا من ارتدوا به، قال الأوزاعي وفقهاء
الشام: وحكى ابن القاسم عن مالك أنها لا تقبل من قريش وحكى ابن عبد البر
الاتفاق على قبولها من المجوس، لكن حكى ابن التين عن عبد الملك أنها لا تقبل
إلا من اليهود النصارى فقط، ونقل الاتفاق على أنه لا يحل نكاح نسائهم ولا
أكل ذبائحهم. وحكى غيره عن أبي ثور حل ذلك. قال ابن قادمة وهذا خلاف
إجماع من تقدمه
وقال الشافعي: تقبل من أهل الكتاب، عربا كانوا أو عجما، ويلتحق بهم
المجوس في ذلك، قال أبو عبيد: ثبتت الجزية على اليهود والنصارى بالكتاب،
وعلى المجوس بالسنة
قال الامام الخطابي في العالم: جواز أخذ الجزية من العرب كجوازه من
العجم، وكان أبو يوسف يذهب إلى أن الجزية لا تؤخذ من عربي، وقال مالك
والأوزاعي والشافعي: العربي والعجمي في ذلك سواء، وكان الشافعي يقول:
إنما الجزية على الأديان لا على الأنساب، ولولا أن فأثم بتمني الباطل وددنا أن
الذي قال أبو يوسف كما قال وأن لا يجرى على عربي صغار، ولكن الله أجل
في أعيننا من أن نحب غير ما قضى به.
قوله (سنوا بهم سنة أهل الكتاب) أي خذوهم على طريقهم، أي أمنوهم
وخذوا عنهم الجزية، والسنة الطريق قوله (نبذ إليهم عهدهم) أي رمى به.
والنبذ رمى.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وأقل الجزية دينار لما روى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال
(بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا
أو عدله معافريا) وإن التزم أكثر من دينار عقدت له الذمة أخذ بأدائه لأنه
عوض في عقد منع الشرع فيه من النقصان عن دينار وبقى الامر فيما زاد على
ما يقع عليه التراضي، كما لو وكل وكيلا في بيع سلعة وقال لا تبع بما دون دينار
فإن امتنع قوم من أداء الجزية باسم الجزية وقالوا نؤدى باسم الصدقة، ورأي
391

الامام أن يأخذ باسم الصدقة جاز، لان نصارى العرب قالوا لعمر رضي الله عنه
لا نؤدي ما تؤدى العجم، ولكن خذ منا باسم الصدقة كما تأخذ من العرب
فأبى عمر رضي الله عنه وقال لا أقركم إلا بالجزية، فقالوا خذ منا ضعف ما تأخذ
من المسلمين، فأبى عليهم، فأرادوا اللحاق بدار الحرب فقال زرعة بن النعمان
أو النعمان بن زرعة لعمر: إن بنى تغلب عرب وفيه قوة فخذ منهم ما قد بذلوا
ولا تدعهم أن يلحقوا بعدوك، فصالحهم على أن يضعف عليهم الصدقة، وإن
كان ما يؤخذ منهم باسم الصدقة لا يبلغ الدينار وجب إتمام الدينار، لان الجزية
لا تكون أقل من دينار، وان أضعف عليهم الصدقة فبلغت دينارين، فقالوا
أسقط عنا دينارا وخذ منا دينارا باسم الجزية وجب أخذ الدينار، لان الزيادة
وجبت لتغيير الاسم، فإذا رضوا بالاسم وجب إسقاط الزيادة
(الشرح) حديث معاذ بن جبل (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وجهه إلى
اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا أو تبيعة ومن كل أربعين مسنة
ومن كل حالم يعنى محتلم دينارا أو عدله من المعافري ثياب تكون باليمن)
قال أبو دود في بعض النسخ هذا حديث منكر بلغني عن أحمد أنه كان ينكر هذا
الحديث إنكارا شديدا.
قال البيهقي في السنن الكبرى إنما المنكر رواية أبى معاوية عن الأعمش عن
إبراهيم عن مسروق عن معاذ، فأما رواية الأعمش عن أبي وائل عن مسروق
فإنها محفوظة، أخرجه أبو داود والنسائي من رواية أبى وائل، ورواه النسائي
وباقي أصحاب السنن وابن حبان والدارقطني، والحاكم من رواية أبى وائل عن
مسروق، قال الحافظ في التلخيص رجح الترمذي والدارقطني في العلل الرواية
المرسلة، ويقال إن مسروقا أيضا لم يسمع من معاذ وقد بالغ ابن حزم في تقرير
ذلك، وقال ابن عبد البر في التمهيد إسناده متصل صحيح ثابت، وهو عبد الحق
فنقل عنه أنه قال مسروق لم يلق معاذا. وتعقبه ابن القطان بأن أبا عمر إنما قال
ذلك في رواية مالك عن حميد بن قيس عن طاوس عن معاذ، وقد قال الشافعي
طاوس عالم بأمر معاذ. وإن لم يقله لكثرة من لقيه ممن أدرك معاذا، وهذا مما
392

لا أعلم من أحد فيه خلافا، وقد رواه الدارقطني من طريق المسعودي عن الحكم
أيضا عن طاوس عن ابن عباس قال لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا
وهذا موصول لكن المسعودي اختلط، ويفرد وصله عنه بقية بن الوليد،
وقد رواه الحسن بن عمارة عن الحكم أيضا، لكن الحسن ضعيف، ويدل على
ضعفه قوله فيه إن معاذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن فسأله، ومعاذ
لها قدم على النبي صلى الله عليه وسلم كان قد مات، ورواه مالك في الموطأ من
حديث طاوس عن معاذ أنه أخذ من ثلاثين بقرة تبيعا ومن أربعين بقرة مسنة
وأتى بما دون ذلك فأبى أن يأخذ منه شيئا وقال لم نسمع فيه من رسول الله
صلى الله عليه وسلم شيئا حتى ألقاه، فتوفى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن
يقدم عاذ بن جبل
قال ابن عبد البر ورواه قوم عن طاوس عن ابن عباس عن معاذ، إلا أن
الذين أرسلوه أثبت من الذين أسندوه، قلت ورواه البزار والدارقطني من طريق
ابن عباس لكنه من طريق بقية عن المسعودي وهو ضعيف
أثر عمر (أن نصارى العرب قالوا لعمر..) أخرجه الشافعي أنه طلب
الجزية من نصارى الحرب تنوخ وبهرا وبنو تغلب، فقالوا نحن عرب لا نؤدي
ما يؤدى العجم، فخذ منا ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم على أن
يضعف عليهم الصدقة، وقالوا هؤلاء حمقى رضوا بالاسم وأبو المعنى
وروى ابن أبي شيبة عن عمر أنه صالح نصارى بنى تغلب على أن يضعف
عليهم الزكاة مرتين على أن لا ينصروا صغيرا وعلى أن لا يكرهوا على دين غيرهم
ورواه البيهقي في السنن.
قال ابن رشد في بداية المجتهد (وهي كم الواجب؟ فإنهم اختلفوا في ذلك،
فرأى مالك أن القدر الواجب في ذلك هو ما فرضه عم رضي الله عنه، وذلك
على أهل الذهب أربعة دنانير، وعلى أهل الورق أربعون درهما، ومع ذلك
أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام لا يزاد على ذلك ولا ينقص منه
وقال الشافعي: أقله محدود وهو دينار وأكثره غير محدود، وذلك بحسب
ما يصالحون عليه.
393

وقال قوم لا توقيت في ذلك، وذلك مصروف إلى اجتهاد الامام، وبه قال
الثوري، وقال أبو حنيفة وأصحابه الجزية إثنا عشر درهما وأربعة وعشرون درهما
وثمانية وأربعون لا ينقص الفقير من اثنى عشر درهما ولا يزاد الغنى على ثمانية
وأربعون والوسط أربعة وعشرون درهما، وقال أحمد دينار أو عدله معافري
لا يزاد عليه ولا ينقص منه وسبب اختلافهم اختلاف الآثار في هذا الباب وذلك أنه
روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث معاذا إلى اليمن، وذكر الحديث
وثبت أن عمر ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق
أربعين درهما مع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام.
وروى عنه أيضا أنه بعث عثمان بن حنيف فوضع الجزية على أهل السواد
ثمانية وأربعين وأربعة وعشرين واثنى عشر، فمن حمل هذه الأحاديث كلها على
التخيير وتمسك في ذلك بعموم ما ينطلق عليه اسم جزية إذ ليس في توقيت ذلك
حديث على النبي صلى الله عليه وسلم متفق على صحته، وإنما ورد الكتاب في ذلك
عاما قال لاحد فيذلك. وهو الأظهر والله أعلم
ومن جمع بين حديث معاذ والثابت عن عمر قال أقله محدود ولا حد لأكثره
ومن رجح حديثي عمر قال إما بأربعين درهما وأربعة دنانير وإما بثمانية وأربعين
درهما وأربعة وعشرين واثنى عشر على ما تقدم
ومن رجح حديث معاذ لأنه مرفوع قال دينار فقط أو عدله معافري لا يزاد
على ذلك ولا ينقص منه.
وقال صديق حسن خان في الروضة: وأما قدرها فضرب عمر بن الخطاب
الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما مع ذلك
أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام، قلت قد صح من حديث معاذ بعثه النبي
صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافريا)
فاختلفوا في الجمع بينه وبين حديث عمر فقال الشافعي أقل للجزية دينار على كل
بالغ في كل سنة، ويستحب للامام المماكسة ليزداد ولا يجوز أن ينقص من دينار
وأن الدينار مقبول من الغنى والمتوسط والفقير.
394

وتأويل أبو حنيفة حديث عمر على الموسرين وحديث معاذ على الفقراء،
لان أهل اليمن أكثرهم فقراء، فقال على كل موسر أربعة دنانير وعلى كل متوسط
ديناران وعلى كل فقير دينار
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والمستحب أن يجعل الجزية على ثلاث طبقات فيجعل على الفقير
المعتمل دينارا وعلى المتوسط دينار بن وعلى الغنى أربعة دنانير، لان عمر رضي
الله عنه بعث عثمان بن حنيف إلى الكوفة، فوضع عليهم ثمانية وأربعين وأربعة
وعشرين واثنى عشر، ولان بذلك يخرج من الخلاف، لان أبا حنيفة
لا يجيز إلا كذلك.
(فصل) ويجوز أن يضرب الجزية على مواشيهم وعلى ما يخرج من
الأرض من ثمر أو زرع، فإن كان لا يبلغ ما يضرب على الماشية وما يخرج من
الأرض دينارا لم يجز، لان الجزية لا تجوز أن تنقص عن دينار، وان شرط
أنه ان نقص عن دينار تمم الدينار جاز لأنه يتحقق حصول الدينار، وان غلب
على الظن أنه يبلغ الدينار ولم يشترط أنه لم نقص الدينار تمم الدينار ففيه وجهان
(أحدهما) أنه لا يجوز لأنه قد ينقص عن الدينار (والثاني) أنه يجوز لان
الغالب في الثمار أنها لا تختلف.
وان ضرب الجزية على ما يخرج من الأرض فباع الأرض من مسلم صح البيع
لأنه مال له، وينتقل ما ضرب عليها إلى الرقبة لأنه لا يمكن أخذ ما ضرب عليها
من المسلم لقوله صلى الله عليه وسلم (لا ينبغي لمسلم أن يؤدى الخراج) ولأنه
جزية فلا يجوز أخذها من المسلم ولا يجوز إقرار الكافر على الكفر من غير جزية
فانتقل إلى الرقبة.
(فصل) وتجب الجزية في آخر الحول لان النبي صلى الله عليه وسلم كتب
إلى أهل اليمن أن يؤخذ من كل حالم في كل سنة دينار. وروى أبو مجلز أن عثمان
ابن حنيف وضع على الرؤوس على كل رجل أربعة وعشرين في كل سنة، فإن
395

مات أو أسلم بعد الحول لم يسقط ما وجب لأنه عوض عن الحقن والمساكنة
وقد استوفى ذلك فاستقر عليه العوض كالأجرة بعد استيفاء المنفعة، فإن مات
أو أسلم في أثناء الحول ففيه قولان
(أحدهما) أنه لا يلزمه شئ لأنه مال يتعلق وجوبه بالحول فسقط بموته
في أثناء الحول كالزكاة.
(والثاني) وهو الصحيح أنه يلزمه من الجزية بحصة ما مضى لأنها تجب عوضا
عن الحقن والمساكنة، وقد استوفى البعض فوجب عليه بحصته، كما لو استأجر
علينا مدة واستوفى المنفعة في بعضها ثم هلكت العين
(فصل) ويجوز أن يشترط عليهم في الجزية ضيافة من يمر بهم من المسلمين
لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم صالح أكيدر دومة من نصارى أبلة على
ثلاثمائة دينار، وكانوا ثلاثمائة رجل، وأن يضيفوا من يمر بهم من المسلمين.
وروى عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح
نصارى أهل الشام (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر بن الخطاب
أمير المؤمنين من نصارى مدينة كدى إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان
لأنفسنا وذرارينا وأموالنا، وشرطنا لكم أن تنزل من يمر بنا من المسلمين ثلاثة
أيام نطعمهم) ولا يشترط ذلك عليهم إلا برضاهم، لأنه ليس من الجزية
ويشترط عليهم الضيافة بعد الدينار لحديث أكيدر دومة، لأنه إذا جعل الضيافة
من الدينار لم يؤمن أن لا يحصل من بعد الضيافة مقدار الدينار، ولا تشترط
الضيافة إلا على غنى أو متوسط وأما الفقير فلا تشترط عليه وإن وجب عليه
الجزية، لان الضيافة تتكرر فلا يمكنه القيام بها.
ويجب أن تكون أيام الضيافة من السنة معلومة، وعدد من يضاف من
الفرسان والرجالة وقدر الطعام والأدم والعلوفة معلوما، ولأنه من الجزية فلم
يجز مع الجهل بها، ولا يكلفون إلا من طعامهم وإدامهم لما روى أسلم أن أهل
الجزية من أهل الشام أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا إن المسلمين إذا
مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم، فقال أطعموهم مما تأكلون ولا
تزيدوهم على ذلك.
396

ويقسط ذلك على قدر جزيتهم ولا تزاد أيام الضيافة على ثلاثة أيام، لما
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الضيافة ثلاثة أيام، وعليهم أن يسكنوهم
في فضول مساكنهم وكنائسهم، لما روى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذي
كتب على نصارى الشام، وشرطنا أن لا تمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين
من ليل ونهار وأن توسع أبوابها للمارة وأبناء السبيل، فإن كثروا وضاق المكان
قدم من سبق، فإذا جاءوا في وقت واحد أقرع بينهم لتساويهم، وإن لم تسعهم
هذه المواضع نزلوا في فضول بيوت الفقراء من غير ضيافة
(الشرح) أثر عمر (بعث عثمان بن حنيف) أخرجه أبو عبيد في الأموال
أثر عمر أنه ضرب في الجزية على الغنى ثمانية وأربعين درهما وعلى المتوسط
أربعة وعشرين وعلى الفقير المكتسب اثنى عشر) أخرجه البيهقي في السنن من
طرق كلها مرسلة.
حديث (لا ينبغي لمسلم..) عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(ليس على مؤمن جزية) أخرجه البيهقي وابن جرير
حديث عمر بن عبد العزيز أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن
أن على كل انسان منكم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافر، يعنى أهل الذمة
منهم) رواه الشافعي في مسنده وهو مرسل
أثر عثمان بن حنيف سبق تخريجه
حديث (صالح أكيدر دومة.) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث
خالد بن الوليد دومة فأخذوه فأتوا به فحص دمه وصالحه على الجزية. أخرجه
أبو داود وسكت عنه المنذري ورجال اسناده ثقات وفيه عنعنة محمد بن إسحاق
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك رجل من كنده كان ملكا
على دومة وكان نصرانيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد إنك ستجده
يصيد البقر، فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه منظر العين وفى ليلة مقمرة
صافية وهو على سطح ومعه امرأته، فأتت البقر تحك بقرونها باب القصر،
397

فقالت له امرأته هل رأيت مثل هذا قط؟ قال لا والله، قالت فمن يترك مثل هذا
قال لا أحد، فنزل فأمر بفرسه فسرج وركب معه نفر من أهل بيته فيهم أخ له
يقال له (حسان) فخرجوا معه بمطارفهم فتلقاهم خيل رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأخذته وقتلوا أخاه حسان وكان عليه قباء ديباج مخوص بالذهب فاستلبه إياه
خالد بن الوليد فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل قدومه عليه، ثم إن
خالد قدم بالأكيدر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن له دمه وصالحه على
الجزية وأخلى سبيله فرجع إلى قرينه)
أثر عبد الرحمن بن غنم (قال كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح
أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من
نصارى مدينة كذا وكذا، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا
وأموالنا وأهل ملتنا، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا ولا فيما
حولها دير ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا نجدد ما خرب منها
ولا نحيى ما كان منها في خطط المسلمين، وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد
من المسلمين في ليل ولا نهار ولا نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل، وأن نزل
من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام ونطعمهم، وأن لا نؤمن في كنائسنا ولا
منازلنا جاسوسا ولا نكتم غشا للمسلمين ولا نعلم أولادنا القرآن ولا نظهر شركا
ولا ندعوا إليه أحدا ولا نمنع أحدا من قرابتنا الدخول في الاسلام إن أراده،
وأن نوقر المسلمين وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا جلوسا ولا نتشبه بهم
في شئ من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا نتكلم
بكلامهم ولا نتكنى بكناهم، ولا نركب السروج ولا نتقلد السيوف ولا نتخذ شيئا
من السلاح ولا نحمله معنا ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ولا نبيع الخمور، وأن
نجز مقاديم رؤوسنا وأن فلزم زينا حيث ما كنا وأن نشد الزنانير على أوساطنا
وأن لا نظهر صلبنا وكتبنا في شئ من طريق المسلمين ولا أسواقهم، وأن
لا نظهر الصليب على كنائسنا، وأن لا نضرب بناقوس في كنائسنا بين حضرة
المسلمين وان لا نخرج شعانينا ولا باعونا، ولا نرفع أصواتنا مع أمواتنا ولا
نظهر النيران معهم في شئ من طريق المسلمين ولا نجاوزهم موتانا ولا نتخذ من
398

الرقيق ما جرى عليه سهام للمسلمين، وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في
منازلهم، فلما أتيت عمر رضي الله عنه بالكتاب زاد فيه وأن لا نضرب أحدا
من المسلمين، شرطنا لهم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا وقبلنا منهم الأمان، فإن
نحن خالفنا شيئا مما شرطناه لكم فضمناه على أنفسنا فلا ذمة لنا وقد حل لكم ما يحل
لكم من أهل المعاندة والشقاوة. أخرجه البيهقي في السن
أثر أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام قال الحافظ لم أجده، وذكر ابن أبي
حاتم من طريق صعصعة بن يزيد أو يزيد بن صعصعة عن ابن عباس من قوله
أثر عبد الرحمن بن غنم سبق تخريجه في نفس الباب
حديث (الضيافة ثلاثة أيام) روى البيهقي عن أسلم مولى عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير
وعلى أهل الوراق أربعين درهما ومع ذلك أرزاق المسلمين وضيافة ثلاثة أيام
وروى البيهقي عن حارثة بن مضرب أن عمر بن الخطاب فرض على أهل السواد
ضيافة يوم وليلة فمن حبسه مرض أو مطر أنفق من ماله.
قال الشافعي وحديث أسلم بضيافة ثلاث أشبه لان رسول الله صلى الله عليه
وسلم جعل الضيافة ثلاثا، وقد يجوز أن يكون جعلها على قوم ثلاثا وعلى قوم
يوما وليلة، ولم يجعل على آخرين ضيافة، كما يختلف صلحه لهم، فلا يرد بعض
الحديث بعضا.
وعن أبي شريح قال: سمعت أذناي وأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرمن ضيفه، ومن كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قيل يا رسول الله وما جائزته؟ قال يوم
وليلة والضيافة ثلاثة أيام، فما كان أكثر من ذلك فهو صدقة، ولا يثوى عنده
حتى يحرجه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت) رواه
البخاري ومسلم عن الليث بن سعد
اللغة: قوله (يضرب عليها الجزية) أي يجعل ضريبة تؤدى كل سنة مثل
ضريبة العبد وهي غلته.
قوله (دومة) اسم حصن وأصحاب اللغة يقولون بضم الدال، وأصحاب
399

الحديث يفتحونها، قال ذلك الجوهري، وقد أخطأ من همزها قوله (والأدم
والعلوفة) وهي علف الدواب بضم العين، فأما العلوفة بالفتح فهي الناقة والشاة
يعلفها ولا يرسلها ترعى وكذا العليفة
الباعوث للنصارى كالاستسقاء للمسلمين، وهواسم سرياني والشعانين
عيد عندهم.
قوله (والمستحب أن يجعل الجزية..) وسبق إيضاحه فيما قبله
قوله (ويجوز أن يضرب الجزية..) قال صديقي حسن خان في الروضة،
عن عمرو بن عبد العزيز: من مربك من أهل الذمة فخذ بما يديرون به من
التجارات من كل عشرين دينارا فما نقص فبحساب ذلك حتى يبلغ عشرة دنانير،
فإن نقصت ثلث دينار فدعها ولا تأخذ مها شيئا واكتب لهم بما تأخذ منهم
كتابا إلى مثله من الحول، قلت عليه أبو حنيفة
وقال الشافعي: الذي يلزم اليهود والنصارى من العشور هو ما صولحوا عليه
وقت عقد الذمة، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عماله أن يضعوا الجزية عمن
أسلم من أهل الجزية حين يسلمون. قلت عليه أبو حنيفة
وقال الشافعي: لا تسقط بالاسلام وبالموت لأنه دين حل عليه كسائر الديون.
وقال ابن التركماني: ذكر صاحب الاستذكار عن الشافعي قال: إذا أسلم في بعض
السنة أخذت منه بحسابه.
وحكى عن مالك وأبي حنيفة وأصحابه وابن حنبل أنه يسقط عنه ما مضى.
قال ابن التركماني هو الصواب لعموم قوله عليه السلام (ليس على المسلم جزية)
وقول عمر ضعوا الجزية عمن أسلم ولا يوضع إلا ما مضى
قال ابن ضويان في كتاب منار السبيل: من أسلم منهم بعد الحول سقطت
عن الجزية، نص عليه لحديث ابن عباس مرفوعا (ليس على مسلم جزية) رواه
أحمد وأبو داود.
وقال أحمد: قد روى عن عمر أنه قال (إذا أخذها في كفه ثم أسلم ردها)
وروى أبو عبيد أن يهوديا أسلم فطولب بالجزية، وقيل إنما أسلمتم تعوذا،
400

قال إن في الاسلام معاذا، فرفع إلى عمر فقال (إن في الاسلام معاذا وكتب
أن لا تؤخذ منه الجزية) وفى قدر الجزية ثلاث روايات
(إحداهن) يرجع إلى ما فرضه عمر على الموسر ثمانية وأربعون درهما،
وعلى المتوسط أربعة وعشرون، وعلى الفقير المعتمل إثنا عشر فرضها عمر
كذلك بمحضر من الصحابة وتابعه سائر الخلفاء بعد فصار إجماعا.
وقال ابن أبي نجيح: قلت لمجاهد (ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل
اليمن عليهم دينار؟ قال جعل ذلك من قبل اليسار) رواه البخاري
(والثانية) يرجع فيه إلى اجتهاد الامام في الزيادة والنقصان
(والثالثة) تجوز الزيادة لا النقصان (لان عمر زاد على ما فرض رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقص) ويجوز أن يشرط عليهم مع الجزية ضيافة
من يمر بهم من المسلمين، لما روى الأحنف بن قيس أن عمر شرط على أهل
الذمة ضيافة يوم وليلة وأن يصلحوا القناطر، وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم
فعليهم ديته) رواه أحمد
وروى أسلم أن أهل الجزية من أهل الشام أتوا عمر رضي الله عنه فقالوا
إن المسلمين إذا مروا بنا كلفونا ذبح الغنم والدجاج في ضيافتهم، فقال أطعموهم
مما تأكلون ولا تزيدوهم على ذلك
قوله (وتجب الجزية في آخر الحول..) قال ابن رشد وهي متى تجب الجزية
فإنهم اتفقوا على أنها لا تجب إلا بعد الحول وأنها تسقط عنه إذا أسلم قبل
انقضاء الحول، واختلفوا إذا أسلم بعد ما يحول عليه الحول هل تؤخذ منه جزية
للحول الماضي بأسره أو لما مضى منه، فقال قوم إذا أسلم فلا جزية عليه بعد
انقضاء الحول كان إسلامه أو قبل انقضائه، وبهذا القول قال الجمهور
وقالت طائفة إن أسلم بعد الحول وجبت عليه الجزية، وإن أسلم قبل حلول
الحول لم تجب عليه وانهم اتفقوا على أنه لا تجب عليه قبل انقضاء الحول لان
الحول شرط في وجوبها، فإذا وجد الرافع لها وهو الاسلام قبل تقرر الوجوب
أعني قبل وجود شرط الوجوب لم تجب وإنما اختلفوا بعد انقضاء الحول لأنها
قد وجب، فمن رأى أن الاسلام يهدم هذا الواجب في الكفر كما يهدم كثيرا من
401

الواجبات قال تسقط عنه، وإن كان إسلامه بعد الحول ومن رأى أنه لا يهدم
الاسلام هذا الواجب كما لا يهدم كثيرا من الحقوق المرتبة مثل الديون وغير ذلك
قال لا تسقط بعد انقضاء الحول، فسبب اختلافهم هو هل الاسلام يهدم الجزية
الواجبة أو لا يهدمها.
قال الغزنوي الحنفي في كتابه الغرة (مسألة) إذا أسلم الذي أو مات بعد
وجوب للجزية بمرور الحول سقطت عند أبي حنيفة وعند الشافعي لا تسقط.
حجة أبي حنيفة قوله صلى الله عليه (لا جزية على مسلم) وقوله صلى الله عليه وسلم
(الاسلام يجب ما قبله) وروى أن ذميا طولب بالجزية في زمن عمر فأسلم،
فقيل إنك أسلمت تعوذا. سبق ايرادها فيما ذكره منار السبيل، ولان
الجزية وجبت عقوبة على الكفر وهي تسقط بالاسلام
حجة الشافعي أن الجزية وجبت على العصمة والامن فيما مضى ماله كان في
معرض التلف فحصلت له الصيانة بقبول الجزية، وقد وصل إليه العوض فلا
تسقط عنه المعوض بالاسلام والموت، والجواب عنه أن هذا قياس في مقابلة
النص والآثار فلا يقبل.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا تؤخذ الجزية من صبي لحديث معاذ قال: أمرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن آخذ من كل حالم دينار أو عدله معافريا، ولان الجزية
تجب لحقن الدم والصبي محقون الدم وإن بلغ صبي من أولاد أهل الذمة فهو
في أمان لأنه كان في الأمان فلا يخرج منه من غيره عناد، فإن اختار أن يكون
في الذمة ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يستأنف له عقد الذمة، لأن العقد الأول كان للأب دولة
فعلى هذا جزيته على ما يقع عليه التراضي
(والثاني) لا يحتاج إلى استئناف عقد لأنه تبع الأب في الأمان فتبعه في
الذمة، فعلى هذا يلزمه جزية أبيه وجده من الأب ولا يلزمه جزية جده من الام
لأنه لا جزية على الام فلا يلزمه جزية أبيها
402

(فصل) ولا تؤخذ الجزية من مجنون لأنه محقون الدم فلا تؤخذ منه
الجزية كالصبي، وإن كان يجن يوما ويفيق يوما لفق أيام الإفاقة، فإذا بلغ قدر
سنة أخذت منه الجزية لأنه ليس تغليب أحد الامرين بأولى من الآخر فوجب
التلفيق، وإن كان عاقلا في أول الحول ثم جن في أثنائه وأطبق الجنون ففي جزية
ما مضى من أول الحول قولان، كما قلنا فيمن مات أو أسلم في أثناء الحول.
(فصل) ولا تؤخذ الجزية من امرأة لما روى أسلم أن عمر رضي الله عنه
كتب إلى امراء الجزية ان لا تضربوا الجزية على النساء ولا تضربوا إلا على من
جرت عليه الموسى، ولأنها محقونة الدم فلا تؤخذ منها الجزية كالصبي، ولا
تؤخذ من الخنثى المشكل لجواز أن يكون امرأة، وان طلبت المرأة من دار
الحرب أن تعقد لها الذمة وتقيم في دار الاسلام من غير جزية جاز لأنه لا جزية
عليها ولكن يشترط عليها أن تجرى عليها أحكام الاسلام، وإن نزل المسلمون
على حصن فيه نساء بلا رجال فطلبن عقد الذمة بالجزية ففيه قولان
(أحدهما) أنه لا يعقد لهن لان دماءهن محقونة، فعلى هذا يقيمون حتى
يفتحوا الحسن ويستبقوهن
(والثاني) أنه يجوز أن يعقد لهن الذمة وتجرى عليهن أحكام المسلمين كما قلنا
في الحربية إذا طلبت عقد الذمة، فعلى هذا لا يجوز سبيهن وما بذلن من الجزية
الهدية، وان دفعن أخذ منهن وان امتنعن لم يخرجن من الذمة
(فصل) ولا يؤخذ من العبد ولا من السيد بسببه لما روى عن عمر رضي الله عنه
أنه قال (لا جزية على مملوك) ولأنه لا يقتل بالكفر فلم تؤخذ منه
الجزية كالصبي والمرأة ولا تؤخذ ممن نصفه حر ونصفه عبد لأنه محقون الدم
فلم تؤخذ منه الجزية كالعبد.
ومن أصحابنا من قال فيه وجه آخر أنه يؤخذ منه بقدر ما فيه من الحرية
لأنه يملك المال بقدر ما فيه من الحرية، وان أعتق العبد نظرت فإن كان المعتق
مسلما عقدت له الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية، وإن كان ذميا ففيه
وجهان (أحدهما) أنه يستأنف له عقد الذمة بما يقع عليه التراضي من الجزية
403

لان عقد المولى كان له دون العبد (والثاني) يلزمه جزية المولى لأنه تبعه في
الأمان فلزمه جزيته
(فصل) وفى الراهب الشيخ الفاني قولان بناء على القولين في قتلهما، فإن
قلنا يجوز قتلهما أخذت منهما الجزية ليحقن بها دمهما، وإن قلنا إنه لا يجوز قتلهما
لم تؤخذ منهما لان دمهما محقون فلم تؤخذ منهما الجزية كالصبي والمرأة وفى الفقير
الذي لا كسب له قولان
(أحدهما) أنه لا تجب عليه الجزية لان عمر رضي الله عنه جعل أهل الجزية
طبقات وجعل أدناهم الفقير المعتمل، فدل على أنها لا تجب على غير المعتمل،
ولأنه إذا لم يجب خراج الأرض في أرض لا نبات لها لم يجب خراج الرقاب في
رقبة لا كسب لها، فعلى هذا يكون مع الأغنياء في عقد الذمة، فإذا أيسر
استؤنف الحول.
(والثاني) أنها تجب عليه لأنها على سبيل العروض فاستوى فيه المعتمل
وغير المعتمل كالثمن والأجرة، ولان المعتمل وغير المعتمل يستويان في القتل
بالكفر فاستويا في الجزية، فعلى هذا ينظر إلى الميسرة، فإذا أيسر طولب بجزية
ما مضى. ومن أصحابنا من قال لا ينظر لأنه يقدر على حقن الدم بالاسلام فلم
ينظر، كما لا ينظر من وجبت عليه كفارة ولا يجد رقبة وهو يقدر على الصوم،
فعلى هذا قول له إن توصلت إلى أداء الجزية خليناك وان لم تفعل نبذنا
إليك العهد.
(الشرح) حديث معاذ (أمرني أن آخذ..) سبق تخريجه
أثر أسلم (أن عمر كتب إلى امراء الجزية) روى البيهقي من طريق زيد بن
أسلم عن أبيه أن عمر كتب إلى أمراء الأجناد أن لا تضربوا الجزية الا على
من جرت عليه المواسى والا تضعوا الجزية على النساء والصبيان
وأخرج أبو عبيد في كتاب الأموال عن عروة: كتب رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى أهل اليمن أنه من كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا ينزعها
وعليه الجزية، على كل حالم ذكر أو أنثى، عبد أو أمة دينار واف أو قيمته،
404

ورواه أبو زنجويه في الأموال عن الحسن (قال كتب رسول الله صلى الله عليه
وسلم وذكره وقال الحافظ هذان مرسلان يقوى أحدهما الآخر
وروى أبو عبيد في الأموال عن عمر قال (لا تشتروا رقيق أهل الذمة فإنهم
أهل خراج يؤدى بعضهم عن بعض)
أثر عمر (لا جزية على مملوك) قال الحافظ في التلخيص (لا جزية على العبد)
روى مرفوعا وروى موقوفا على عمر، وليس له أصلى
اللغة: قوله (أو عدله معافريا) العدل بالكسر المثل المساوي للشئ، ومنه
عدل الحمل. قال ابن الأنباري العدل بالكسر ما عادله الشئ من جنسه، والعدل
بالفتح ما عادله من غير جنسه، وقال البصريون العدل والعدل لغتان وهما المثل،
والمعافر البرود تنسب إلى معافر باليمن، وهم حي من همدان، أي تنسب إليهم
الثياب المعافرية.
قوله (لا تضربوا الجزية) وفى بعضها لا تضعوا، ومعناه لا تلزموهم ولا
تجعلوها ضريبة.
قوله (الفقير المعتمل) يقال اعتمل اضطرب في العمل، قال:
إن الكريم وأبيك يعتمل * إن لم يجد يوما على ما يتكل
والمعتمل قد يكون المكتسب بالعمل من الصناعة وغيرها
قال ابن رشد في بداية المجتهد: وهي أي الأصناف من الناس تجب عليهم
فإنهم اتفقوا على أنها إنما تجب بثلاثة أوصاف: الذكورية والبلوغ والحرية،
وأنها لا تجب على النساء ولا على الصبيان إذا كانت، إنما هو عرض من القتل
والقتل إنما هو متوجه بالامر نحو الرجال البالغين، إذ قد نهى عن قتل النساء
والصبيان، وكذلك أجمعوا أنها لا تجب على العبيد، واختلفوا في أصناف من
هؤلاء، منها المجنون وفى المقعد، ومنها في الشيخ، ومنها في أهل الصوامع،
ومنها في الفقير هل يتبع بها دينا متى أيسر أم لا، وكل هذه مسائل اجتهادية
ليس فيها توقيت شرعي، وسبب اختلافهم مبنى على هل يقتلون أم لا؟ أعني
هؤلاء الأصناف
405

وقال في منار السبيل: ولا تؤخذ الجزية من امرأة وخنثى وصبي ومجنون
قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافا، ثم قال وقن (أي عبد) وزمن وأعمى وشيخ
قال وراهب بصومعته، لان دماءهم محقونة أشبهوا النساء والصبيان
قال أبو يوسف في الخراج: وإنما تجب الجزية على الرجال منهم دون النساء
والصبيان، ولا تؤخذ الجزية من المسكين الذي يتصدق عليه ولا من أعمى
لا حرفة له ولا عمل ولا ذمي يتصدق عليه ولا من مقعد، والمقعد والزمن إذا
كان لهما يسار أخذ منهما، وكذلك الأعمى وكذلك المترهبون الذين في الديارات
إذا كان لهم يسار أخذ منهم، وإن كانوا إنما هم مساكين يتصدق عليهم أهل
اليسار منهم لو تؤخذ منهم، وكذلك أهل الصوامع وإن كان لهم غنى ويسار.
ثم قال ولا تؤخذ الجزية من الشيخ الكبير الذي لا يستطيع العمل ولا شئ له.
وكذلك المغلوب على عقله.
وقال الحافظ في الفتح (واختلف السلف في أخذها من الصبي، فالجمهور
قالوا لا تؤخذ على مفهوم حديث معاذ، وكذلك لا تؤخذ من شيخ فان ولا زمن
ولا امرأة ولا مجنون ولا عاجز عن الكسب ولا أجير ولا من أصحاب الصوامع
والأصح عند الشافعية الوجوب على من ذكر آخرا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويثبت الامام عدد أهل الذمة وأسماءهم ويجليهم بالصفات التي
لا تتغير بالأيام، فيقول طويل أو قصير أو ربعة أو أبيض أو أسود أو أسمر
أو أشقر أو أدعج العينين أو مقرون الحاجبين أو أقنى الانف، ويكتب ما يؤخذ
من كل واحد منهم، ويجعل على كل طائفة عريفا ليجمعهم عند أخذ الجزية
ويكتب من يدخل معهم في الجزية بالبلوغ ومن يخرج منهم بالموت والاسلام،
وتؤخذ منهم الجزية برفق كما تؤخذ سائر الديون، ولا يؤذيهم في أخذها بقول
ولا فعل لأنه عوض في عقد علم يؤذهم في أخذه بقول ولا فعل كأجرة الدار،
ومن قبض منه جزيته كتبت له براءة لتكون حجة له إذا احتاج إليها.
(فصل) وإن مات الامام أو عزل وولى غيره ولم يعرف مقدار ما عليهم
406

من الجزية رجع إليهم في ذلك لأنه لا تمكن معرفته مع تعذر البينة إلا من جهتهم
ويحلفهم استظهارا ولا يجب لان ما يدعونه لا يخالف الظاهر، فإن قال بعضهم
هو دينار وقال بعضهم هو ديناران أخد من كل أحد منهم ما أقربه، لان
إقرارهم مقبول، وتقبل شهادة بعضهم على بعض، لان شهادتهم لا تقبل،
وإن ثبت بعد ذلك بإقرار أو بينة أن الجزية كانت أكثر استوفى منهم، فإن
قالوا كنا ندفع دينارين دينارا عن الجزية ودينارا هدية فالقول قولهم مع يمينهم
واليمين واجبة لان دعواهم تخالف الظاهر، وإن غاب منهم رجل سنين ثم قدم
وهو مسلم وادعى أنه أسلم في أول ما غاب ففيه قولان
(أحدهما) أنه لا يقبل قوله ويطالب بجزية ما مضى في غيبته في حال
الكفر، لان الأصل بقاؤه على الكفر (والثاني) أنه يقبل لان الأصل براءة
الذمة من الجزية.
(الشرح) قال أبو يوسف في الخراج (ولا يضرب أحد من أهل الذمة في
استيدائهم الجزية، ولا يقاموا في شمس ولا غيرها ولا يجعل عليهم في أبدانهم
من المكاره، ولكن يرفق بهم ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم ولا يخرجون من
الحبس حتى تستوفى منهم الجزية.
اللغة قوله (أدعج العينين) الدعج شدة سواد المقلة وشدة بياض بياضها
قوله (مقرون الحاجبين) هو التقاء طرفيهما، وهو مذموم وضده البلج وهو أن
ينقطعا حتى يكون ما بينهما نقيا من الشعر وهو محمود، والقنا حد يداب الانف
مع ارتفاع قصبته.
قوله (ويحلفهم استظهارا) مأخوذ من الظهور وهو الظاهر الذي لاخفاء به
والاستظهار الاخذ بالجزم واليقين، وأصله عند العرب أن الرجل إذا سافر
أخذ مع بعيرا آخر خوف أن يعبأ بعيره فيركب الاخر والبعير هو الظهر
ذكره الأزهري.
407

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب عقد الذمة
لا يصح عقد الذمة إلا من الامام أو ممن فوض إليه الامام لأنه من المصالح
العظام فكان إلى الامام، ومن طلب عقد الذمة وهو ممن يجوز إقراره على الكفر
بالجزية وجب العقد له لقوله عز وجل (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم
الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق) ثم قال (حتى
يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) فدل على أنهم إذا عطوا الجزية وجب
الكف عنهم.
وروى بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أميرا
على جيش قال إذا لقيت عدوا من المشركين فادعهم إلى الدخول في الاسلام،
فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وان أبا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن
فعلوا فاقبل منهم وكف عنهم، ولا يجوز عقد الذمة إلا بشرطين، بذل الجزية
والتزام أحكام المسلمين في حقوق الآدميين في العقود والمعاملات وغرامات
المتلفات فإن عقد على غير هذين الشرطين لم يصح العقد، والدليل عليه قوله عز
وجل (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله
ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن
يد وهم صاغرون) والصغار هو أن تجرى عليهم أحكام المسلمين، ولا فرق بين
الخيابرة وغيرهم في الجزية، والذي يدعيه الخيابرة أن معهم كتابا من علي بن أبي
طالب كرم الله وجهه بالبراءة من الجزية لا أصل له ولم يذكره أحد من
علماء الاسلام، وأخبار أهل الذمة لا تقبل وشهادتهم لا تسمع
(الشرح) حديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم..) سبق تخريجه
اللغة قوله (عن يد) أي عن قهر، وقد تقدم ذكره
408

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان أهل الذمة في دار الاسلام أخذوا بلبس الغيار وشد
الزنار، والغيار أن يكون فيما يظهر من ثيابهم ثوب يخالف لونه لون ثيابهم،
كالأزرق والأصفر ونحوهما، والزنار أن يشدوا في أوساطهم خيطا غليظا فوق
الثياب، وإن لبسوا القلانس جعلوا فيها خرقا ليتميزوا عن قلانس المسلمين،
لما روى عبد الرحمن بن غنم في الكتاب الذي كتبه لعمر حين صالح نصارى
الشام فشرطنا أن لا نتشبه بهم في شئ من لباسهم من قلنسوة ولا عمامة ولا
نعلين ولا فرق شعر، وأن نشد الزنانير في أوساطنا، ولان الله عز وجل أعز
الاسلام وأهله وندب إلى إعزاز أهله، وأذل الشرك وأهله وندب إلى إذلال
أهله، والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله ولا يشرك به شئ، وجعل
الصغار والذل على من خالف أمري، فوجب أن يتميزوا عن المسلمين لنستعمل
مع كل واحد منهم ما ندبنا إليه.
وإن شرط عليهم الجمع بين الغيار والزنار أخذوا بهما، وإن شرط أحدهما
أخذوا به لان التمييز يحصل بأحدهما، ويجعل في أعناقهم خاتم ليتميزوا به عن
المسلمين في الحمام وفى الأحوال التي يتجردون فيها عن الثياب، ويكون ذلك من
حديد أو رصاص أو نحوهما ولا يكون من ذهب أو فضة لان في ذلك إعظاما لهم
وإن كان لهم شعر أمروا بجز النواصي ومنعوا من ارساله كما تصنع الاشراف
والأخيار من المسلمين، لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر على نصارى
الشام: وشرطنا أن نجز مقادم رؤوسنا ولا يمنعون من لبس العمائم والطيلسان
لان التمييز يحصل بالغيار والزنار.
وهل يمنعن من لبس الديباج؟ فيه وجهان (أحدهما) أنهم يمنعون لما فيه
من التجبر والتفخيم والتعظيم (والثاني) أنهم لا يمنعون كما لا يمنعون من لبس
المرتفع من القطن والكتان، وتؤخذ نساؤهم بالغيار والزنار لما روى أن عمر
كتب إلى أهل الآفاق أن مروا نساء أهل الأديان أن يعقدن زنانير هن أو تكون
409

زنانير هن تحت الإزار لأنه إذا كان فوق الإزار انكشفت رؤوسهن واتصفت
أبدانهم ويجعلن في أعناقهن خاتم حديد ليتميزن به عن المسلمات في الحمام كما قلنا
في الرجال، وان لبسن الخفاف جعلن الخفين من لونين ليتميزن عن النساء
المسلمات ويمنعون من ركوب الخيل، لما روى في حديث عبد الرحمن بن غنم:
شرطنا أن لا نتشبه بالمسلمين في مراكبهم، وان ركبوا الحمير والبغال ركبوها
على الأكف دون السروج ولا يتقلدون السيوف ولا يحملون السلاح لما روى
عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر ولا تركب بالسروج ولا نتقلد بالسيوف ولا
نتخذ شيئا من السلاح ولا نحمله ويركبون عرضا من جانب واحد لما روى ابن
عمر أن مر كان يكتب إلى عماله يأمرهم أن يجعل أهل الكتاب المناطق في
أوساطهم وأن يركبوا الدواب عرضا على شق
(الشرح) أثر عبد الرحمن بن غنم حين صالح عمر نصارى الشام سبق تخريجه
آثار (أن نجز مقادم رؤوسنا..) أن مروا نساء أهل الأديان..)
(أن لا نتشبه بالمسلمين..) (ولا نركب السروج..) أخرج أبو عبيد في
كتاب الأموال عن نافع عن أسلم أن عمر أم ر في أهل الذمة أن تجز نواصيهم،
وأن يركبوا على الأكف عرضا ولا يركبوا كما يركب المسلمين، وأن لا يوثقوا
كما يوثق المسلمون)
وقال الحافظ في التلخيص (وأن يوثقوا المناطق)
وروى البيهقي عن عمر أنه كتب إلى أمراء الأجناد أن يختموا رقاب أهل
الذمة بخاتم الرصاص وأن تجز نواصيهم وأن تشد المناطق، ورواه أبو يوسف
في كتاب الخراج.
قوله (أخذوا بلبس الغيار) بالفتح وهو الاسم، وأما الغيار بالكسر فهو
المصدر كالفخار وقال الصنعاني في تكملته: الغيار بالكسر علامة أهل الذمة
كالزنار وعلامة المجوس، جعله اسما كالشعار والدثار
قوله (الطيلسان) هو الرداء يشتمل به الرجل على كتفيه ورأسه وظهره،
وقد يكن مقورا.
410

وقوله (ركبوها على الأكف) هو جمع إكاف آلة تجعل على الحمار يركب
عليها بمنزلة السرج، قال كالبرذون المشدود بالأكف، يقال إكاف ووكاف.
ويلجئون إلى أضيق الطرق، أي يضطرون، يقال ألجأته إلى الشئ اضطررته إليه
قال الحنابلة: ويمنعون من ركوب الخيل وحمل السلاح ومن احداث
الكنائس ومن بناء ما انهدم منها ومن إظهار المنكر والعيد والصليب وضرب
الناقوس ومن الجهر بكتابهم، ومن الأكل والشرب نهار رمضان، ومن شرب
الخمر وأكل لحم الخنزير.
وقال أبو يوسف في الخراج: وينبغي مع هذا أن تختم رقابهم في وقت جباية
رؤوسهم حتى يفرع من عرضهم، ثم تكسر الخواتيم كما فعل بها عثمان بن حفيف
ان سألوا كسرها، وأن يتقدم في أن لا يترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في
لباسه ولا في مركبه ولا في هيئته، ويؤخذون بأن يجعلوا في أوساطهم الزنارات
مثل الخيط الغليظ يعقده في وسطه كل واحد منهم، وبأن تكون قلانسهم مضربة
وأن يتخذوا على سروجهم في موضع القرابيس مثل الرمانة من خشب، وبأن
يجعلوا شراك نعالهم مثنية ولا يحذوا حذوا المسلمين، وتمنع نساؤهم من
ركوب الرحائل.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يبدؤون بالسلام ويلجئون إلى أضيق الطرق لما روى
أبو هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا لقيتم
المشركين في طريق فلا تبدءوهم بالسلام واضطروهم إلى أضيقها) ولا يصدرون
في المجالس لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر وأن نوقر المسلمين ونقوم
لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، ولان في تصديرهم في المجالس إعزازا لهم
وتسوية بينهم وبين المسلمين في الاكرام فلم يجز ذلك.
(فصل) ويمنعون من إحداث بناء يعلو بناء جيرانهم من المسلمين لقوله
صلى الله عليه وسلم (الاسلام يعلو ولا يعلى) وهل يمنعون مساواتهم في البناء
411

فيه وجهان (أحدهما) أنهم لا يمنعون لأنه يؤمن أن يشرف المشرك على المسلم
(والثاني) أنهم يمنعون، لان القصد ان يعلو الاسلام، ولا يحصل ذلك مع
المساواة، وإن ملكوا دارا عالية أقروا عليها، وإن كانت أعلى من دور جيرانهم
لأنه ملكها على هذه الصفة، وهل يمنعون من الاستعلاء في غير محلة المسلمين؟
فيه وجهان (أحدهما) أنهم لا يمنعون لأنه يؤمن مع البعد أن يعلو على المسلمين
(والثاني) أنهم يمنعون في جميع البلاد لأنهم يتطاولون على المسلمين
(فصل) ويمنعون من اظهار الخمر والخنزير وضرب النواقيس والجهر
بالتوراة والإنجيل وإظهار الصليب واظهار أعيادهم ورفع الصوت على موتاهم،
لما روى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر رضي الله عنه على نصارى الشام
شرطنا أن لا نبيع الخمور ولا نظهر صلباننا ولا كتبنا في شئ من طرق المسلمين
ولا أسواقهم ولا نضرب نواقيسنا الا ضربا خفيا، ولا نرفع أصواتنا بالقراءة
في كنائسنا في شئ من حضرة المسلمين، ولا نخرج شعانيننا ولا باعوثنا ولا
نرفع أصواتنا على موتانا.
(فصل) ويمنعون من احداث الكنائس والبيع والصوامع في بلاد المسلمين
لما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال (أيما مصر مصرته العرب فليس
للعجم أن يبنوا فيه كنيسة)
وروى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر على نصارى الشام (انكم لما قدمتم
عليا شرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدائننا ولا فيما حولها دبرا ولا قلاية
ولا كنيسة ولا صومعة راهب، وهل يجوز اقرارهم على ما كان منها قبل الفتح
ينظر فيه فإن كان في بلد فتح صلحا واستثنى فيه الكنائس والبيع جاز اقرارهما
لأنه إذا جاز أن يصالحوا على أن لنا النصف ولهم النصف جاز أن يصالحوا
على أن لنا البلد الا الكنائس والبيع.
وإن كان في بلد فتح عنوة أو فتح صلحا ولم تستثن الكنائس والبيع ففيه
وجهان (أحدهما) أنه لا يجوز كما لا يجوز اقرار ما أحدثوا بعد الفتح
(والثاني) أنه يجوز لأنه لما جاز اقرارهم على ما كانوا عليه من الكفر جاز
اقرارهم على ما يبنى للكفر، وما جاز تركه من ذلك في دار الاسلام إذا انهدم
412

فهل يجوز إعادته؟ فيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبي سعيد الإصطخري
وأبى علي بن أبي هريرة أنه لا يجوز لما روى كثير بن مرة قال: سمعت عمر بن
الخطاب رضي الله عنه يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تبنى
الكنيسة في دار الاسلام ولا يجدد ما خرب منها.
وروى عبد الرحمن بن غنم في كتاب عمر بن الخطاب على نصارى الشام:
ولا يجدد ما خرب منها، ولأنه بناء كنيسة في دار الاسلام فمنع منه كما لو بناها
في موضع آخر.
(والثاني) أنه يجوز لأنه لا جاز تشييد ما تشعب منها جاز إعادة ما انهدم
وإن عقدت الذمة في بلد لهم ينفردون به لم يمنعوا من إحداث الكنائس والبيع
والصوامع ولا من إعادة ما خرب منها، ولا يمنعون من إظهار الخمر والخنزير
والصليب وضرب الناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل وإظهار مالهم من الأعياد
ولا يؤخذون بلبس الغيار وشد الزنانير لأنهم في دار لهم فلم يمنعوا من
إظهار دينهم فيه.
(الشرح) حديث أبي هريرة (قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تبدءوا
اليهود والنصارى بالسلام، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقها)
متفق عليه.
وعن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سلم عليكم أهل
الكتاب فقولوا وعليكم، متفق عليه، وفى رواية لأحمد (فقولوا عليكم) بغير واو
وعن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن اليهود إذا سلم
أحدهم إنما يقول السام عليكم فقل عليك) متفق عليه، وفى رواية لأحمد ومسلم
(وعليك) بالواو.
وعن عائشة قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال السام عليك. قالت عائشة ففهمتها فقلت عليكم السام واللعنة، قالت فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم مهلا يا عائشة إن الله يحب الرفق في الامر كله،
فقلت يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ فقال قد قلت وعليكم، متفق عليه
413

وعن عقبة بن عامر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إني راكب غدا
إلى يهود فلا تبدءوهم بالسلام، وإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم. رواه أحمد
أثر عبد الرحمن بن غنم (أن نوقر المسلمين) سبق تخريجه
حديث (الاسلام يعلو) أخرجه الدارقطني من حديث عائذ المزني وعلقه
البخاري، ورواه الطبراني في الصغير من حديث عمر مطولا في قصة الضب،
وإسناده ضعيف جدا.
أثر عبد الرحمن بن غنم (أن لا نبيع الخمور) سبق تخريجه
أثر ابن عباس (كل مصر مصره المسلمون لا تبنى فيه بيعة ولا كنيسة ولا
يضرب فيه ناقوس ولا يباع فيه لحم خنزير) رواه البيهقي وفى اسناده حنش
وهو ضعيف.
أثر عبد الرحمن بن غنم سبق تخريجه
أثر عمر (لا تبنى الكنيسة) سبق تخريجه
أثر عبد الرحمن ((ولا تجددوا ما خرب منها) سبق تخريجه
اللغة. قوله (ولا يصدرون في المجالس) أي لا يجعلون صدورا. وهم
السادة الذين يصدر عن أمرهم ونهيهم.
قوله (ولا نخرج شعانيننا ولا باعوئنا) قال الزمخشري والخطابي الشعانين
عيدهم الأول قبل فصحهم بأسبوع يخرجون لصلبانهم، والباعوث بالعين المهملة
والثاء المثلثة استسقاؤهم يخرجون بصلبانهم إلى الصحراء يستسقون قال وروى
ولا باعوثا وجدته مضبوطا بالعين والغين والثاء بثلاث فيهما وأظن النون خطأ
تصحيف، قال وهو عيد لهم صولحوا على أن لا يظهروا زيهم للمسلمين فيفتنوهم
قوله (ديرا ولا قلاية) قال الخطابي الدير والقلاية متعبداتهم تشبه الصومعة،
وروى قلية وروى بتخفيف الياء المعجمة باثنتين من تحتها
قال أبو يوسف في الخراج ويمنعوا نم أن يحدثوا بناء بيعة أو كنيسة في
المدينة الا ما كانوا صولحوا عليه وصاروا ذمة وهي بيعة لهم أو كنيسة، فما كان
كذلك تركت لهم ولم تهدم وكذلك بيوت النيران، ويتركون يسكنون في أمصار
414

المسلمين وأسواقهم يبيعون ويشترون، ولا يبيعون خمرا ولا خنزيرا ولا
يظهرون الصلبان في الأمصار ولتكن فلانسهم طوالا مضربة.
قالت الحنابلة ويمنعون من تعلية البناء على المسلمين ويحرم القيام لهم وتصديرهم
في المجالس وبداء تهم بالسلام وبكيف أصبحت أو أمسيت أو كيف أنت أو حالك
وتحرم تهنئتهم وتعزيتهم وعيادتهم، وروى حديث أبي هريرة، وما عدا السلام
مما ذكر في معناه فقس عليه، وعنه تجوز عيادتهم لمصلحة راجحة كرجاء السلام
اختاره الشيخ تقى الدين والآجري، وصوبه في الانصاف. ومن سلم على ذمي
ثم علمه سن قوله رد على سلامي لان ابن عمر مر على رجل فسلم عليه، فقيل له
إنه كافر، فقال رد على ما سلمت عليك، فرد عليه فقال أكثر الله مالك وولدك
ثم التفت إلى أصحابه فقال أكثر للجزية.
وإن سلم الذمي لزم رده فيقال وعليكم، لحديث أبي بصرة قال، قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (إنا غادون فلا تبدأوهم بالسلام، فإن سلموا عليكم فقولوا
وعليكم) وعن أنس قال (نهينا أو أمرنا أن لا نزيد أهل الذمة على (وعليكم)
رواه أحمد. وإن شمت كافر أجابه يهديك الله، وكذا إن عطس الذمي لحديث أبي
موسى أن اليهود كانوا يتعاطسون عند النبي صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول
لهم يرحمكم الله فكان يقول لهم يهديكم الله ويصلح بالكم، رواه أحمد وأبو داود
والنسائي والترمذي وصححه وتكره مصافحته
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب على الامام الذب عنهم ومنع من يقصدهم من المسلمين
والكفار واستنقاذ من أسر منهم، واسترجاع ما أخذ من أموالهم، سواء كانوا
مع المسلمين أو كانوا منفردين عنهم في بلد لهم، لأنهم بدلوا الجزية لحفظهم
وحفظ أموالهم، فإن لم يدفع حتى مضى حول لم تجب الجزية عليهم لان الجزية
للحفظ وذلك لم يوجد لم يجب ما في مقابلته كما لا تجب الأجرة إذا لم يوجد
التمكين من المنفعة، وإن أخذ منهم خمر أو خنزير لم يجب استرجاعه لأنه يحرم
فلا يجوز اقتناؤه في الشرع فلم تجب المطالبة به
415

(فصل) وإن عقدت الذمة بشرط أن لا يمنع عنهم أهل الحرب فظرت
فإن كانوا مع المسلمين أو في موضع إذا قصدهم أهل الحرب كان طريقهم على
المسلمين لم يصح العقد لأنه عقد على تمكني الكفار من المسلمين فلم يصح، وإن
كانوا منفردين عن المسلمين في موضع ليس لأهل الحرب طريق على المسلمين
صح العقد لأنه ليس فيه تمكين الكفار من المسلمين، وهل يكره هذا الشرط؟
قال الشافعي رضي الله عنه في موضع يكره، وقال في موضع لا يكره، وليست
المسألة على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال يكره إذا
طلب الامام الشرط، لان فيه اظهار ضعف المسلمين، والموضع الذي قال
لا يكره إذا طلب أهل الذمة الشرط لأنه ليس فيه اظهار ضعف المسلمين، وإن
أغار أهل الحرب على أهل الذمة، وأخذوا أموالهم ثم ظفر الامام بهم واسترجع
ما أخذوه من أهل الذمة وجب على الامام رده عليهم، وان أتلفوا أموالهم أو
قتلوا منهم لم يضمنوا لأنهم لم يلتزموا أحكام المسلمين، وان أغار من بيننا
وبينهم هدنة على أهل الذمة وأخذوا أموالهم وظهر بها الامام واسترجع ما أخذوه
وجب رده على أهل الذمة، وان أتلفوا أموالهم وقتلوا منهم وجب عليهم
الضمان لأنهم التزموا بالبدنة حقوق الآدميين، وان نقصوا العهد وامتنعوا في
ناحية ثم أغاروا على أهل الذمة وأتلفوا عليهم أموالهم وقتلوا منهم ففيه قولان
(أحدهما) أنه يجب عليهم الضمان (والثاني) لا يجب كالقولين فيما يتلف أهل
الردة إذا امتنعوا وأتلفوا على المسلمين أموالهم أو قتلوا منهم
(الشرح) قوله (ويجب على الامام) قالت الحنابلة (ويحرم قتال أهل الذمة
وأخذ مالهم ويجب على الامام حفظهم ومنع من يؤذيهم) لأنهم إنما بذلوا الجزية
لحفظهم وحفظ أموالهم.
روى عن علي رضي الله عنه أنه قال (إنما بذلوا الجزية لتكون دماؤهم كدمائنا
وأموالهم كأموالنا.
وقال الكاساني الحنفي في البدائع: وأما بيان حكم العقد فنقول وبالله التوفيق
أن لعقد الذمة أحكاما منها عصمة النفس لقوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون
416

بالله إلى قوله عز وجل حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) نهى
سبحانه وتعالى إباحة لقتال إلى غاية قبول الجزية ز، وإذا انتهت الإباحة تثبت
العصمة ضرورة، ومنها عصمة المال لأنها تابعة لعصمة النفس.
وعن علي رضي الله عنه وذكر نفس الأثر السابق. قلت وان الاجماع منعقد
عليه هذا، وخير ما أختم لك به ما ذكره الامام رشيد في تفسيره، وإذا كان
من المسلم الثابت أن المرتزق والمتطوع سيان في الحقوق الكلية التي تمنح العسكر
كان من الحق الواضح أن يعفى المسلمون كلهم من ضريبة الجزية، أما أهل الذمة
فما كان يحق للاسلام أن يجيرهم على مباشرة القتال في حال من الأحوال بل الامر
بيدهم ان رضوا بالقتال عن أنفسهم وأموالهم عفوا عن الجزية، وان أبوا أن
يخاطروا بالنفس فلا أقل من أن يسامحوا بشئ من المال وهي الجزية، ولعلك
تطالبني بإثبات بعض القضايا المنطوية في هذا البيان، أي أثبات أن الجزية
ما كانت تؤخذ من الذميين الا للقيام بحمايتهم والمدافعة عنهم، وان الذميين لو
دخلوا في الجند أو تكفلوا أمر الدفاع لعفوا عن الجزية، فإن صدق ظني فاصغ
إلى الروايات التي تعطيك الثلج في هذا الباب وتحسم مادة القيل والقال (قلت
وسنكتفي بواحدة كوعدنا مع الناشر)
منها ما كتب خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا حينما دخل الفرات وأوغل
فيها، وهذا نصه:
هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه (انى عاهدتكم على
الجزية والمنعة وما منعناكم (أي حميناكم) فلنا الجزية والا فلا؟ كتب سنة
اثنى عشر في صفر)
اللغة. قوله (ويجب على الامام الذب عنهم) هو المنع والدفع عنهم لمن
يريد ظلمهم وهلاكهم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان تحاكم مشركان إلى حاكم المسلمين نظرت فإن كان معاهدين فهو
بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم لقوله عز وجل (فإن جاءوك فاحكم
417

بينهم أو أعرض عنهم) ولا يختلف أهل العلم أن هذه الآية نزلت فيمن وادعهم
رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود المدينة قبل فرض الجزية، وإن حكم بينهما
لم يلزمهما حكمه.
وإن دعا الحاكم أحدهما ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور، وإن كانا ذميين
نظرت فإن كان على دين واحد ففيه قولان
(أحدهما) أنه بالخيار بين أن يحكم بينهما وبين أن لا يحكم، لأنهما كافران
فلا يلزمه الحكم بينهما كالمعاهدين، وإن حكم بينهما لم يلزمهما حكمه، وإن دعا
أحدهما ليحكم بينهما لم يلزمه الحضور.
والقول الثاني أنه يلزمه الحكم بينهما، وهو اختيار المزني لقوله تعالى (وأن
احكم بينهم بما أنزل الله) ولأنه يلزمه دفع ما قصد كل واحد منهما بغير حق فلزمه
الحكم بينهما كالمسلمين، وان حكم بينهما لزمهما حكمه، وإن دعا أحدهما ليحكم
بينهما لزمه الحضور، وإن كانا على دينين كاليهودي والنصراني ففيه طريقان
(أحدهما) أنه على القولين كالقسم قبله، لأنهما كافران فصارا كما لو كانا
على دين واحد.
(والثاني) قول أبى علي بن أبي هريرة انه يجب الحكم بينهما قولا واحدا لأنهما
إذا كانا على دين فلم يحكم بينهما تحاكما إلى رئيسهما فيحكم بينهما، وإذا كانا
على دينين لم يرض كل واحد منهما برئيس الاخر فيضيع الحق. واختلف أصحابنا
في موضع القولين، فمنهم من قال القولان في حقوق الآدميين وفى حقوق الله
تعالى، ومنهم من قال القولان في حقوق الآدميين وأما حقوق الله تعالى فإنه يجب
الحكم بينهما قولا واحدا، لان لحقوق الآدميين من يطالب بها ويتوصل إلى
استيفائها فلا تضيع بترك الحكم بينهما، وليس لحقوق الله تعالى من يطالب بها
فإذا لم يحكم بينهما ضاعت.
ومنهم من قال القولان في حقوق الله تعالى فأما في حقوق الآدميين فإنه
يجب الحكم بينهما قولا واحدا، لأنه إذا لم يحكم بينهما في حقوق الآدميين ضاع
حقه واستضر، ولا يوجد ذلك في حقوق الله تعالى، فإن تحاكم إليه ذمي
ومعاهد ففيه قولان كالذميين وان تحاكم إليه مسلم وذمي أو مسلم ومعاهد لزمه
418

الحكم بينهما قولا واحدا لأنه يلزمه دفع كل واحد منهما عن ظلم الاخر فلزمه
الحكم بينهما، ولا يحكم بينهما إلا بحكم الاسلام لقوله تعالى (وأن الحكم بينهم
بما أنزل الله) ولقوله تعالى (وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط)
وإن تحاكم إليه رجل وامرأة في نكاح، فإن كانا على نكاح لو أسلما عليه لم
يجز إقرارهما عليه كنكاح ذوات المحارم حكم بإبطاله، وإن كانا على نكاح لو أسلمنا
عليه جاز إقرارهما عليه حكم بصحته، لان أنكحة الكفار محكوم بصحتها،
والدليل عليه قوله تعالى (وقالت امرأة فرعون) فأضاف إلى فرعون زوجته.
وقوله تعالى (وامرأته حمالة الحطب) فأضاف إلى أبى لهب زوجته. ولأنه أسلم
خلق كثير على أنكحة في الكفر فأقروا على أنكحتهم، فإن طلقها أو آلى منها
وظاهر منها حكم في الميع بحكم الاسلام
(فصل) وإن تزوجها على مهر فاسد وسلم إليها بحكم حاكمهم ثم ترافعا إلينا
ففيه قولان (أحدهما) يقرون عليه لأنه مهر مقبوض فأقرا عليه، كما لو أقبضها
من غير حكم (والثاني) أنه يجب لها مهر المثل لأنها قبضت عن إكراه بغير حق
فصار كما لو لم تقبض.
(فصل) ومن أتى من أهل الذمة محرما يوجب عقوبة نظرت فإن كان ذلك
محرما في دينه كالقتل والزنا والسرقة والقذف وجب عليه ما يجب على المسلم،
والدليل عليه ما روى أنس رضي الله عنه أن يهوديا قتل جارية على أوضاح لها
بحجر فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين.
وروى ابن عمر النبي صلى الله عليه وسلم اتى بيهوديين قد فجرا بعد
إحصانهما فأمر بهما فرجما، ولأنه محرم في دينه وقد التزم حكم الاسلام بعقد
الذمة فوجب عليه ما يجب على المسلم، وإن كان يعتقد إباحته كشرب الخمر لم
يجب عليه الحد لأنه لا يعتقد تحريمه فلم يجب عليه عقوبة كالكفر، فإن تظاهر
به عزر لأنه إظهار منكر في دار الاسلام فعزر عليه.
(الشرح) حديث أنس أن يهوديا رض رأس جارية بين حجرين فقيل لها
من فعل بك هذا؟ فلان أو فلان؟ حتى سمى اليهودي فأومأت برأسها، فجئ به
419

فاعترف فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فرض رأسه محجرين) رواه الجماعة.
وفى رواية لمسلم (فقتلها بحجر فجئ بها إلى النبي صلى الله عليه وبها رمق) وفى
رواية أخرى (قتل جارية من الأنصار على حلى لها ثم ألقاها في قطيب ورضخ
رأسها بالحجارة فأمر به أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات)
حديث ابن عمر أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم رجل وامرأة منهم
قد زنيا، فقال ما تجدون في كتابكم؟ فقالا تسخم وجوههما ويخزيان، قال
كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين، فجاءوا بالتوراة
وجاءوا بقارئ لهم فقرأ حتى إذا انتهى إلى موضع منها وضع يده عليه، فقيل له
ارفع يدك، فرفع يده فإذا هي تلوح، فقال أو قالوا يا محمد إن فيها الرجم ولكنا
كنا نتكاتمه بيننا، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما، قال فلقد رأيته
يجنا عليها يقبها الحجارة بنفسه) متفق عليه
وفى رواية أخرى (بقارئ لهم أعور يقال له ابن صوريا) وفى رواية لأحمد
ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: رجم النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم ورجلا
من اليهود وامرأة.
وعن البراء بن عازب قال: مر على النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي محمم
مجلود فدعاهم فقال: أهكذا تجدون حد الزنا في كتابكم؟ قالوا نعم فدعا رجلا من
علمائهم فقال: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى؟ أهكذا تجدون حد
الزاني في كتابكم؟ قال لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك بحد الرجم، ولكن
كثر أشرافنا وكنا إذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد، فقلنا تعالوا فلنجتمع على
شئ نقيمه على الشريف والوضيع، فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه، فأمر به فرجم
فأنزل الله عز وجل (يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من
الذين قالوا إلى قوله إن أوتيتم هذا فخذوه) يقولون ائتوا محمدا فإن أمركم
بالتحميم والجلد فخذوه، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا، فأنزل الله تبارك وتعالى
(ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك
هم الفاسقون) قال هي في الكفار كلها. رواه أحمد ومسلم وأبو داود
420

اللغة: التسخيم من السخام وهو سواد القدر. التحميم من الحمه وهي الفحة
والآية تدل على فإن جاءوك متحاكمين إليك فأنت مخير بين الحكم بينهم
والاعراض عنهم وتركهم إلى رؤسائهم، وقد اختلف العلماء في هذا التخيير أهو
خاص بتلك الواقعة وهي حد الزنا هل هو الجلد أو الرجم أو دية القتيل، إذ كان
بنو النضير يأخذون دية كاملة على قتلاهم لقوتهم وشرفهم، وبنو قريظة يأخذون
نصف دية لضعفهم، وقد تحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الدية سواء
أم هو خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة وغيرهم، أم الآية عامة في جميع القضايا
من جميع الكفار عملا بقاعدة العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والمرجح
المختار أن التخيير خاص بالمعاهدين دون أهل الذمة
وقال القرطبي في الجامع: إذا ترافع أهل الذمة إلى الامام، فإن كان ما رفعوه
ظلما كالقتل والعدوان والغصب حكم بينهم ومنعه منه بلا خلاف، وأما إذا لم
يكن كذلك فالامام مخير في الحكم بينهم، وتركه عند مالك والشافعي، غير أن
مالكا رأى الاعراض عنهم أولى، فإن حكم حكم بينهم بحكم الاسلام قال الشافعي
لا يحكم بينهم في الحدود، وقال أبو حنيفة يحكم بينهم على كل حال، وهو قول
الزهري وعمر بن عبد العزيز والحكم
وروى عن ابن عباس وهو أحد قولي الشافعي لقوله تعالى (وأن احكم بينهم)
واحتج مالك بقوله تعالى (فإن جاءوك) وهو نص في التخيير، قال ابن القاسم
والزائيان فالحاكم مخير، لان إنفاذ الحكم حق للأساقفة، والمخالف يقول لا يلتفت
إلى الأساقفة.
قال ابن العربي وهو الأصح، وقال عيسى عن ابن القاسم لم يكونوا أهل ذمة
إنما كانوا أهل حرب، وهذا الذي قاله عيسى عنه إنما نزع به لما رواه الطبري
وغيره أن الزانيين كانا من أهل خيبر أو فدك، وكانوا حربا لرسول الله صلى الله عليه وسلم
وكانوا بعثوا إلى يهود المدينة يقولون لهم اسألوا محمدا عن هذا فإن أفتاكم بغير
الرجم فخذوه منه واقبلوه، وان أفتاكم به فاحذروه.
قال ابن العربي: وهذا لو كان صحيحا لكان مجيئهم بالزانيين وسؤالهم عهدا
421

وأمانا، وإن لم يكن عهد وذمة ودار لكان له حكم الكف عنهم والعدل فيهم،
فلا حجة لرواية عيسى في هذا.
وقال الشوكاني في النيل: وحديث أنس يدل على أنه يقتل الرجل بالمرأة،
واليه ذهب المجهور.
وحكى ابن المنذر الاجماع عليه إلا رواية عن علي وعن الحسن البصري
وعطاء، ورواه البخاري عن أهل العلم، وروى في البحر عن عمر بن عبد العزيز
والحسن البصري وعكرمة وعطاء ومالك وأحد قولي الشافعي أنه لا يقتل الرجل
بالمرأة وإنما تجب الدية، وقد رواه أيضا عن الحسن البصري أبو الوليد الباجي
والخطابي. وحكى هذا القول عن صاحب الكشاف، وقد أشار السعد في حاشيته
على الكشاف إلى أن الرواية التي ذكرها الزمخشري وهم محض، قال ولا يوجد
في كتب المذهبين يعنى مذهب مالك والشافعي تردد في قتل الذكر بالأنثى
وقال في مكان آخر: حديث ابن عمر يدل على أن حد الزنا يقام على الكافر كما
يقام على المسلم.
وقد حكى صاحب البحر الاجماع على أنه يجلد الحربي، وأما الرجم فذهب
الشافعي وأبو يوسف والقاسمية إلى أنه يرجم المحصن من الكفار، وذهب أبو حنيفة
ومحمد وزيد بن علي والناصر والامام يحيى إلى أنه يجلد ولا يرجم، قال الامام
يحيى: والذمي كالحربي في الخلاف، وقال مالك لاحد عليه
وأما الحربي المستأمن فذهبت العترة والشافعي وأبو يوسف إلى أنه يحد،
وذهب مالك وأبو حنيفة ومحمد إلى أنه لا يحد، وقد بالغ ابن عبد البر فنقل
الاتفاق على شرط الاحصان الموجب للرجم هو الاسلام، وتعقب بأن الشافعي
وأحمد لا يشترطان ذلك
ومن جملة من قال بأن الاسلام شرط ربيعة شيخ مالك وبعض الشافعية،
ثم قال: ومن غرائب التعصبات ما روى عن مالك أنه قال إنما رجم النبي صلى الله عليه وسلم
اليهوديين، لان اليهود يومئذ لم يكن لهم ذمة فتحاكموا إليه، وتعقب بأنه صلى
الله عليه وسلم إذا أقام الحد على من لا ذمة له فلان يقيمه على من له ذمة بالأولى
كذا قال الطحاوي.
422

وقال القرطبي معترضا على قول مالك: إن مجئ اليهود سائلين له صلى الله
عليه وسلم يوجب لهم عهد، كما لو دخلوا للتجارة فإنهم في أمان إلى أن يردوا إلى
مأمنهم، ثم قال ومن جملة ما تمسك به من قال إن الاسلام شرط حديث ابن عمر
مرفوعا وموقوفا (من أشرك بالله فليس بمحصن) ورجح الدارقطني وغيره الوقف
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا امتنع الذمي من التزام الجزية أو امتنع من التزام أحكام
المسلمين انتقض عهده، لان عقد الذمة لا ينعقد إلا بهما فلم يبق دونهما، وإن
قاتل المسلمين انتقض عهده، سواء شرط عليه تركه في العقد أو لم يشرط، لان
مقتضى عقد الذمة الأمان من الجانبين، والقتال ينافي الأمان فانتقض به العهد،
وان فعل ما سوى ذلك نظرت فإن كان مما فيه اضرار بالمسلمين فقد ذكر الشافعي
رحمه الله تعالى ستة أشياء، وهو أن يزني بمسلمة أو يصيبها باسم النكاح، أو يفتن
مسلما عن دينه أو يقطع عليه الطريق أو يؤوى عينا لهم أو يدل على عوراتهم،
وأضاف إليه أصحابنا أن يقتل مسلما، فإن لم يشرط الكف عن ذلك في العقد لم
ينتقض عهده لبقاء ما يقتضى العقد من التزام أداء الجزية والتزام أحكام المسلمين
والكف عن قتالهم.
وان شرط عليهم الكف عن ذلك في العقد ففيه وجهان:
(أحدهما) أن ه لا ينتقض به العقد، لأنه لا ينتقض به العهد من غير شرط
فلا ينتقض به مع الشرط، كإظهار الخمر والخنزير وترك الغيار
(الثاني) أنه ينتقض به العهد لما روى أن نصرانيا استكره امرأة مسلمة
على الزنا فرفع إلى أبى عبيدة بن الجراح فقال: ما على هذا صالحنا كم، وضرب
عنقه، ولان عقوبة هذه الأفعال تستوفى عليه من غير شرط فوجب أن يكون
لشرطها تأثير، ولا تأثير الا ما ذكرناه من نقض العهد، فإن ذكر الله عز وجل
أو كتابه أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو دينه بما لا ينبغي فقد اختلف
أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق في حكمه حكم الثلاثة، الأولى وهي الامتناع من
423

التزام الجزية والتزام أحكام المسلمين والاجتماع على قتالهم، وقال عامة أصحابنا
حكمه حكم ما فيه ضرر بالمسلمين، وهي الأشياء السبعة ان لم يشترط في العقد
الكف عنه لم ينقض العهد، وان شرط الكف عنه فعلى الوجهين، لان في
ذلك اضرارا بالمسلمين لما يدخل عليهم من العار فألحق بما ذكرناه مما فيه اضرار
بالمسلمين ومن أصحابنا من قال: من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب
قتله، لما روى أن رجلا قال لعبد الله بن عمر سمعت راهبا يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال لو سمعته لقتلته، انا لم نعطه الأمان على هذا
وان أظهر من منكر دينهم ما لا ضرر فيه على المسلمين كالخمر والخنزير وضرب
الناقوس والجهر بالتوراة والإنجيل وترك الغيار لم ينتقض العهد، شرط أولم
بشرط، واختلف أصحابنا في تعليله، فمنهم من قال لا ينتقض العهد لأنه اظهار
مالا ضرر فيه على المسلمين، ومنهم من قال ينتقض لأنه اظهار ما يتدينون به
وإذا فعل ما ينتقض به لعهد ففيه قولان
(أحدهما) أنه يرد إلى مأمنه لأنه حصل في دار الاسلام بأمان فلم يجز قتله
قبل الرد إلى مأمنه كما لو دخل دار الاسلام بأمان صبي
(والثاني) وهو الصحيح أنه لا يجب رده إلى مأمنه، لان أبا عبيدة بن
الجراح قتل النصراني الذي استكره المسلمة على الزنا ولم يرده إلى مأمنه ولأنه
مشرك لا أمان له فلم يجب رده إلى مأمنه كالأسير، ويخالف من دخل بأمان
الصبي، لان ذلك غير مفرط لأنه اعتقد صحة عقد الأمان فرد إلى مأمنه وهذا
مفرط لأنه نقص العهد فلم يرد إلى ما مأمنه، فعلى هذا يختار الامام ما يراه من
القتل والاسترقاق والمن والفداء، كما قلنا في الأسير
(الشرح) أثر (أن نصرانيا استكره) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى بلفظ
(عن سويد بن غفلة كنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو أمير المؤمنين
بالشام فأتاه نبطي مضروب مشيجح، فغضب غضبا شديدا، فقال لصهيب انظر
من صاحب هذا، فانطلق صهيب فإذا هو عوف بن مالك الأشجعي، فقال له
ان أمير المؤمنين قد غضب غضبا شديدا، فلو أتيت معاذ بن جبل فمشى معك
424

إلى أمير المؤمنين فإني أخاف عليك بادرته، فجاء معه معاذ فلما انصرف عمر من
الصلاة قال أبن صهيب؟ فقال أنا هذا يا أمير المؤمنين، فقال أجئت بالرجل
الذي ضربه؟ قال نعم، فقام إليه معاذ بن جبل فقال يا أمير المؤمنين إنه عوف
ابن مالك فاسمع منه ولا تعجل عليه، فقال له عمر مالك ولهذا، قال يا أمير
المؤمنين رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها فلم تصرع ثم دفعها
فخرت عن الحمار ثم تغشاها ففعلت ما ترى، قال ائتني بالمرأة لتصدقك،
فأتى عوف المرأة فذكر بالذي قال له عمر رضي الله عنه، قال أبوها وزوجها
ما أردت بصاحبتنا فضحتها، فقالت المرأة والله لأذهبن معه إلى أمير المؤمنين،
فلما أجمعت على ذلك قال أبوها وزوجها نحن نبلغ عنك أمير المؤمنين فأتيا فصدقا
عوف بن مالك بما قال، قال فقال عمر لليهودي والله ما على هذا عاهدناكم فأمر
به فصلب، ثم قال يا أيها الناس فوا بذمة محمد صلى الله عليه وسلم فمن فعل منهم
هذا فلا ذمة له. قال سويد به غفلة وإنه لأول مصلوب رأيته.
أثر (أن رجلا قال لعبد الله بن عمر سمعت راهبا يشتم) رواه البيهقي بلفظ
(أن عرفة بن الحارث الكندي مر به نصراني فدعاه إلى الاسلام فتناول النبي
صلى الله عليه وسلم وذكره فرفع عرفة يده فدق أنفه، فرفع إلى عمر وبن العاص
فقال عمرو أعطيناهم العهد، فقال عرفة معاذ الله أن نكون أعطيناهم على أن
يظهروا شتم النبي صلى الله عليه وسلم إنما أعطيناهم على أن نخلي بينهم وبين كنائسهم
يقولون فيها ما بدا لهم وأن لا نحملهم ما لا يطيقون وإن أرادهم عدو قاتلناهم من
ورائهم ونخلي بينهم وبين أحكامهم إلا أن يأتوا راضين بأحكامنا، فنحكم بينهم
بحكم الله وحكم رسوله، وإن غيبوا عنا لم نعرض لهم فيها. قال عمرو صدقت.
وروى أبو داود والنسائي (عن ابن عباس أن أعمى كانت له أم ولد تشتم
النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فنهاها فلا تنهى، ويزجرها فلا تنزجر، فلما كان
ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ المغول فجمله في
بطنها واتكأ عليه فقتلها، فلما أصبح ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فجمع الناس
فقال أنشد الله رجلا فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى
الناس وهو يتدلدل حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله
425

أنا صاحبها كانت تشتمك وتقع فيك فإنها ها فلا تنهى وأزجرها فلا تنزجر ولى
منها ابنان مثل اللؤلؤتين وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك
وتقع فيك فأخذت المغول فوضعته في بطنها واتكأت عليه حتى قتلتها فقال النبي
صلى الله عليه وسلم ألا اشهدوا أن دمها هدر
وروى أبو داود من طريق آخر عن علي أن يهودية كانت تشتم النبي صلى الله عليه وسلم
وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذمتها)
اللغة: المغول بالغين المعجمة قال الخطابي شبيه المشمل نصله دقيق ماضن
وكذلك قال غيره هو سيف رقيق له قفا يكون غمده كالسيوط، واشتقاق
المغول من غاله الشئ واغتاله إذا أخذه من حيث لم يدر
قوله (إذا امتنع الذمي) قالت الحنابلة ومن أبى من أهل الذمة بذل الجزية
أو أبى الصغار، أو أبى التزام أحكامنا انتقض عهده، أو زنى بمسلمة أو أصابها
بنكاح انتقض عهده، نص عليه لما روى عن عمر (أنه رفع إليه رجل أراد
استكراه امرأة مسلمة على الزنى، فقال ما على هذا صالحناكم، فأمر به فصلب
في بيت المقدس أو قطع الطريق، أو ذكره الله تعالى أو رسوله بسوء أو ذكر
كتابه أو دينه بسوء، نص عليه لما روى أنه قيل لابن عمران راهبا يشتم النبي
صلى الله عليه وسلم فقال لو سمعته لقتلته انا لم نعط الأمان على هذا، أو تعدى
على مسلم يقتل أو فتنه عن دينه انتقض عهده لأنه ضرر يعم المسلمين، أشبه
ما لو قاتلهم. ومثل ذلك أن تجسس أو أوى جاسوسا، ويخير الامام فيه كالأسير
الحربي بين رق وقتل ومن وفداء، لأنه كافر لا أمان له قدرنا عليه في دارنا بغير
عقد ولا عهد وما له فئ ولا ينقض عهد نسائه وأولاده، فإن أسلم حرم قتله
ولو كان سب النبي صلى الله عليه وسلم، لعموم حديث الاسلام يجب ما قبله،
وقياسا على الحربي إذا سبه صلى الله عليه وسلم ثم تاب بإسلام قبلت توبته اجماعا
قال في الفروع وذكر ابن أبي موسى أن ساب الرسول يقتل ولو أسلم، اقتصر
عليه في المستوعب.
وذكره ابن البنا في الخصال قال الشيخ تقى الدين وهو الصحيح من المذهب
ونقل ابن المنذر الاتفاق على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم صريحا وجب
426

قتله ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب الاجماع أن من سب
النبي صلى الله عليه وسلم بما هو قذف صريح كفر باتفاق العلماء، فلو تاب لم
يسقط عنه القتل، لان حد قذفه القتل وحد القذف لا يسقط بالتوبة، وخالفه
القفال فقال كفر بالسب فسقط القتل بالاسلام.
وقال الصيدلاني يزول القتل ويجب حد القذف. قال الخطابي لا أعلم خلافا
في وجوب قتله إذا كان مسلما، وقال ابن بطال: اختلف العلماء فيمن سب النبي
صلى الله عليه وسلم. فأما أهل العهد والذمة كاليهود فقال ابن القاسم عن مالك
يقتل من سبه منهم إلا أن يسلم، وأما المسلم فيقتل بغير استتابة، ونقل ابن المنذر
عن الليث والشافعي وأحمد وإسحاق مثله في حق اليهود نحوه
وحكى عن عياض هل كان ترك من وقع منه ذلك لعدم التصريح أو لمصلحة
التأليف، ونقل عن بعض المالكية أنه لم يقتل اليهود الذين كانوا يقولون له السام
عليك لأنهم لم تقم عليهم البينة بذلك ولا أقروا به فلم يقض فيهم بعلمه، وقيل
إنهم لما لم يظهروه ولووه بألسنتهم ترك قتلهم، وقيل إنه لم يحمل ذلك منهم على
السب بل على الدعاء بالموت الذي لا بد منه، ولذلك قال في الرد عليهم وعليكم
أي الموت نازل علينا وعليكم فلا معنى للدعاء به، أشار إلى ذلك القاضي عياض
واحتج الطحاوي لأصحابه بحديث أنس الذي فيه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لم يقتل من كانوا يقولون له السام عليك، وأيده بأن هذا الكلام لو صدر
من مسلم لكانت ردة، وأما صدوره من اليهودي فالذي هم عليه من الكفر أشد
فلذلك لم يقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وتعقب بأن دمائهم لم تحقن إلا بالعهد وليس في العهد
أنهم يسبون النبي صلى الله عليه وسلم فمن سبه منهم تعدى العهد فينقض فيصير كافرا بلا عهد
فيهدر دمه إلا أن يسلم
ويؤيده أنه لو كان كل ما يعتقدونه لا يؤاخذون به لكانوا لو قتلوا مسلما لو يقتلوا
لان من معتقدهم حل دماء المسلمين ومع ذلك لو قتل منهم أحد مسلما قتل،
فإن قيل إنما يقتل بالمسلم قصاصا، بدليل انه يقتل به ولو أسلم، ولو سب ثم
أسلم لم يقتل.
427

ومسك الختام أورد لك بعض ما ذكره الامام المناضل شيخ الاسلام ابن
تيمية في كتابة الصارم المسلول على شاتم الرسول (طبعة الهندسة 1322 ه‍)
فيقول (فصل) في إيراد السنن والأحاديث الدالة على حكم شاتم النبي صلى الله عليه وسلم
فيورد حديث شعبة السابق الإشارة إليه، وقال رواه أبو دود وابن بطة في سننه
وهو من جملة ما استدل به الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله، وذكره بألفاظ
متقاربة، ثم ذكر حديث ابن عباس وقال: سئل الإمام أحمد في قتل الذمي إذا
سب أحاديث؟ قال نعم، منهم حديث الأعمى الذي قتل المرأة، قال سمعها تشتم
النبي صلى الله عليه وسلم.
وذكر الحديث الثالث فقال: ما احتج به الشافعي على أن الذمي إذا سب
قتل وبرئت منه الذمة، وهو قصة كعب بن الأشرف اليهودي، قلت
وهي في الصحيحين.
قال الخطابي، قال الشافعي يقتل الذمي إذا سب النبي صلى الله عليه وسلم وتبرأ منه الذمة
واحتج في ذلك بخبر ابن الأشرف.
وكان بودي أن أسير شوطا طويلا مع هذا الامام العظيم وأسرد لك
ما ذكره في كتابه المذكور لولا الخوف من الإطالة وتنبيه الناشر بالاقتصار على
أقل القليل حتى لا يخرج الكتاب عن الحيز المرسوم له، ومن أراد الزيادة
فليرجع إلى الصارم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يمكن مشرك من الإقامة في الحجاز، قال الشافعي رحمه الله
هي مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها، قال الأصمعي سمى حجازا لأنه حاجز بين
تهامة وتجد، والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال (اشتد برسول
الله صلى الله عليه وسلم وجعه فقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وأراد
الحجاز والدليل عليه ما روى أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال (آخر
ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجوا اليهود من الحجاز وأهل نجران من جزيرة
العرب وروى ابن عمر أن عمر رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى من الحجاز
428

ولم ينقل أن أحدا من الخلفاء أجلى من كان باليمن من أهل الذمة، وإن كانت من
جزيرة العرب، فإن جزيرة العرب في قول الأصمعي من أقصى عدن إلى ريف
العراق في الطول، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشام
في العرض، وفى قول أبى عبيدة ما بين حفر أبى موسى الأشعري إلى أقصى اليمن
في الطول وما بين النهرين إلى السماوة، وفى العرض قال يعقوب حفر أبى موسى
على منازل من البصرة من طريق مكة على خمسة أو ستة منازل، وأما نجران
فليست من الحجاز ولكن صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن
لا يأكلوا الربا فأكلوا ونقضوا العهد فأمر بإجلائهم فأجلاهم عمر، ويجوز
تمكينهم من دخول الحجاز لغير الإقامة، لان عمر رضي الله عنه أذن لمن دخل
منهم تاجرا في مقام ثلاثة أيام ولا يمكنون من الدخول بغير إذن الإمام، لان
دخولهم إنما أجيز لحاجة المسلمين، فوقف على رأى الامام، فإن استأذن في
الدخول فن كان للمسلمين فيه منفعة بدخوله لحمل ميرة أو أداء رسالة أو عقد ذمة
أو عقد هدنة أذن فيه، لان فيه مصلحة للمسلمين، فإن كان في تجارة لا يحتاج
إليها المسلمون لم يؤذن له إلا بشرط أن يأخذ من تجارتهم شيئا، لان عمر رضي الله عنه
أمر أن تؤخذ من أنباط الشام من حمل القطنية من الحبوب العشر ومن
حمل الزيت والقمح نصف العشر ليكون أكثر للحمل، وتقدير ذلك إلى رأى
الامام، لان أخذه باجتهاده فكان تقديره إلى رأيه، فإن دخل للتجارة فله أن
يقيم ثلاثة أيام ولا يقيم أكثر منها لحديث عمر رضي الله عنه، ولأنه لا يصير
مقيما بالثلاثة ويصير مقيما بما زاد.
وإن أقام في موضع ثلاثة أيام ثم انتقل إلى موضع آخر وأقام ثلاثة أيام،
ثم كذلك ينتقل من موضع إلى موضع ويقيم في كل موضع ثلاثة أيام جاز، لأنه
لم يصر مقيما في موضع، ولا يمنع من ركوب بحر الحجاز، لأنه ليس بموضع
للإقامة، ويمنع من المقام في سواحله والجزائر المسكونة فيه لأنه من بلاد الحجاز
وإن دخل لتجارة فمرض فيه ولم يمكنه الخروج أقام حتى يبرأ لأنه موضع ضرورة
وان مات فيه وأمكن نقله من غير تغير لم يدفن فيه لان الدفن إقامة على التأييد
وان خيف عليه التغير في النقل عنه لبعد المسافة دفن فيه لأنه موضع ضرورة.
429

(الشرح) حديث ابن عباس (اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه،
رواه البخاري عن قتيبة وغيره، ورواه مسلم عن سعيد بن منصور وغيره بلفظ
سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى ثم
قال: اشتد وجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ائتوني أكتب لكم كتابا
لا تضلوا بعد أبدا فتتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع، فقال ذروني فالذي أنا
فيه خير مما تدعوني إليه وأمرهم بثلاث، فقال اخرجوا المشركين من جزيرة
العرب وأجيزوا الوقد بنحو مما كنت أجيزهم. والثالثة نسيتها)
حديث أبي عبيدة بن الجراح (آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم)
رواه البيهقي في السنن الكبرى وأحمد بلفظ عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه
قال: آخر ما تكلم به رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أخرجوا يهود
الحجاز وأهل نجران من جزيرة العرب، واعلموا أن شر الناس الذين اتخذوا
قبورهم مساجد)
وروى مسلم وأحمد والترمذي عن عمر بن الخطاب قال، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (لئن عشت لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب
حتى لا أترك فيها الا مسلما)
أثر ابن عمر: روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنه قال: لما فدعت
بخيبر قام عمر رضي الله عنه خطيبا في الناس فقال إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم عامل يهود خيبر على أموالها وقال نقركم ما أقركم الهل، وإن عبد الله بن عمر
خرج إلى ماله هناك فعدى عليه في الليل ففدعت بداه وليس لنا عدو هناك غيرهم
وهم تهمئنا وقد رأيت اجلاءهم فلما أجمع على ذلك أتاه أحد بنى أبى الحقيق فقال
يا أمير المؤمنين تخرجنا وقد أقرنا محمد وعاملنا على الأموال وشرط ذلك لنا،
فقال عمر رضي الله عنه أظننت أنى نسيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
(كيف بك إذا خرجت من خيبر تعدو بك قلوصك ليلة بعد ليلة، فأجلاهم
وأعطاهم قيمة مالهم من الثمر مالا وإبلا وعروضا من أقتاب وحبال وغير ذلك)
ومن طريق آخر عن ابن عمر أن عمر رضي الله عنه أجلى اليهود والنصارى
430

من أرض الحجاز وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر أراد
إخراج اليهود منها وكانت الأرض إذا أظهر عليها لله ولرسوله وللمسلمين، فسأل
اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم بها على أن يكفوا العمل ولهم
نصف الثمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أقركم على ذلك ما شئنا، فأقروا
بها وأجلاهم عمر رضي الله عنه في إمارة إلى تيماه وأريحا
حديث (صالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يأكلوا الربا)
سبق تخريجه.
أثر (لان عمر رضي الله عنه أذن) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى أن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضرب اليهود والنصارى والمجوس بالمدينة إقامة ثلاثة
أيام يتسوقون بها ويقضون حوائجهم ولا يقيم أحد منهم فوق ثلاث ليال
أثر عمر (أن عمر رضي الله عنه أمر أن تؤخذ من أنباط الشام) رواه
البيهقي في السنن الكبرى عن سالم عن أبيه أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه
كان يأخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر، يريد بذلك أن يكثر الحمل
إلى المدينة ويأخذ من القطنية العشر.
اللغة قوله (جزيرة العرب) سميت جزيرة لان البحرين، بحر فارس وبحر الحبشة
والرافدين قد أحاطت بها والرافدان دجلة والفرات، قال
ووليت العراق ورافديه * فزاريا أجذيد القميص
قوله (ريف العراق) حيث المزارع ومواضع الخصب منها
قوله (إلى أطرار الشام) الجوهري، أطرار الشام أطرافها. وحفر أبى موسى
ركايا احتفرها بطريق مكة من البصرة بين ماوية والنجشانيات، وكان لا يوجد
بها قطرة ماء، ولها حكاية والميرة الطعام الذي يمتاره الانسان أي يجئ به
من بعد، يقال مار أهله يميرهم إذا حمل إليهم الميرة، قال الله تعالى (ونمير أهلنا)
وأنباط الشام قوم من العجم.
والقطنية بكسر القاف هو ما سوى الطعام كالعدس واللوبيا والحمص
وما شاكله.
وقيل الكلام في الفقه أورد لك ما ذكره البيهقي تحت باب ما جاء في تفسير
431

أرض الحجاز وجزيرة العرب (أولا) قال سعيد بن العزيز: جزيرة العرب ما بين
الوادي إلى أقصى اليمن إلى تخوم العراق إلى البحر
(ثانيا) قال أبو عبد الرحمن يعنى المقرى جزيرة العرب من لدن القادسية إلى
لدن قعر عدن إلى البحرين.
(ثالثا) قال مالك عمر أجلى أهل نجران ولم يجلوا من تيماء لأنها ليست من
بلاد العرب، فأما الوادي فإني أرى إنما لا يجلى من فيها من اليهود انهم لم يروها
من أرض العرب.
(رابعا) قال الشافعي والحجاز مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها كلها. وفى
رواية أخرى وليست اليمن بحجاز
وأما ما ذكره ياقوت في المعجم في الجزء الأول طبعة بيوت سنة 1374 ه‍
في ذكر الأقاليم السبعة داخل دائرة الثاني، الحجاز حدة مما يلي مصر وعدن أبين
واليمن وبادية العرب وبلاد الجزيرة بين نهري الفرات ودجلة إلى أرض لثعلبية
مما يلي العراق.
وقال في الجزء 20 في كلمة يمن يفصل بينها وبين باقي جزيرة العرب خط يأخذ
من حدود عمان ويبربن إلى حد ما بين اليمن واليمامة فإلى حدود الهجيرة وتثليث
وكثبة وجرش منحدرا في السراء إلى شعف عنيز وشعف الجبل أعلاه إلى تهامة
إلى أم جحدم إلى البحر يقال له كرمل بالقرب من حمضة، وذلك حد
ما بين كنانة واليمن من بطن تهامة.
(قلت أنا) وهو لياقوت هذا الخط من البحر الهندي إلى البحر اليمنى عرضا
في البرية من الشرق إلى جهة الغرب. الخ
الحجاز وحده ما بين اليمامة واليمن ونجد والمدينة الشريفة قيل نصفها تهامي
ونصفها حجازي وقيل كلها حجازي. وقال الكلبي حد الحجاز ما بين جبل
طئ وطريق العراق، وسمى الحاجز حجاز لأنه حجز بين تهامة ونجد، وقيل
لأنه حجز بين نجد والسراه، وقيل لأنه حجز بين نجد وتهامة والشام قال
الحربي (وتبوك من الحجاز)
وما بهمنا من هذا أن اليمن تخرج عن أرض الحجاز كما ذكر الإمام الشافعي.
432

وحكى الحافظ في الفتح في كتاب الجهاد عن الجمهور أن الذي يمنع منه المشركون
من جزيرة العرب هو الحجاز خاصة، قال وهو مكة والمدينة واليمامة وما والاها
لا فيما سوى ذلك مما يطلق عليه اسم جزيرة العرب لاتفاق الجميع، على أن اليمن
لا يمنعون منها مع أنها من جملة جزيرة العرب قال وعن الحنفية يجوز مطلقا
إلا المسجد، وعن مالك يجوز دخولهم المسجد الحرام للتجارة وقال الشافعي
لا يدخلون أصلا إلا بإذن الإمام لمصلحة المسلمين اه‍
قال ابن عبد البر في الاستذكار ما لفظه، قال الشافعي جزيرة العرب التي
أخرج عمر اليهود والنصارى منها، مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها، فأما اليمن
فليس من جزيرة العرب. اه‍
قال في البحر (مسألة) ولا يجوز إقرارهم في الحجاز إذا أوصى صلى الله عليه
وسلم بثلاثة أشياء: إخراجهم من جزيرة العرب، الخبر ونحوه، والمراد بجزيرة
العرب في هذه الأخبار مكة والمدينة واليمامة ومخاليفها ووج والطائف وما ينسب
إليهما، وسمى الحجاز حجازا لحجزه بين نجد وتهامة.
ثم قال في حديث أبي عبيدة (أجلى عمر أهل الذمة من الحجاز فلحق بعضهم
بالشام وبعضهم بالكوفة) وأجلى أبو بكر قوما فلحقوا بخيبر، فاقتضى أن المراد
الحجاز لا غير اه‍. وباقي كلام المؤلف في الفصل سبق بيانه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يمكن مشرك من دخول الحرم لقوله عز وجل (إنما المشركون
نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) والمسجد الحرام عبارة عن
الحرم، والدليل عليه قوله عز وجل (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من
المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) وأراد به مكة، لأنه أسرى به من منزل
خديجة. وروى عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يدخل مشرك المسجد
الحرام، فإن جاء رسولا خرج إليه من يسمع رسالته، وإن جاء لحمل ميرة خرج
إليه من يشترى منه، وإن جاء ليسلم خرج إليه من يسمع كلامه، وإن دخل
ومرض فيه لم يترك فيه، وإن مات لم يدفن فيه، وإن دفن فيه نبش وأخرج منه
433

للآية، ولأنه إذا لم يجز دخوله في حياته فلان لا يجوز دفن جيفته فيه أولى، وإن
تقطع ترك، لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بنقل من مات فيه منهم ودفن
قبل الفتح، وإن دخل بغير إذن فإن كان عالما بتحريمه عزر، وإن كان جاهلا أعلم
فإن عاد عزر، وان أذن له في الدخول بمال لم يجز فإن فعل استحق عليه المسمى
لأنه حصل له المعوض ولا يستحق عوض المثل، وإن كان فاسدا، لأنه لا أجرة
لمثله، والحرم من طريق المدينة على ثلاثة أميال، ومن طريق العراق على تسعة
أميال ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال ومن طريق الطائف على عرفة على
سبعة أميال، ومن طريق جدة على عشرة أميال
(فصل) وأما دخول ما سوى المسجد الحرام من المساجد فإنه يمنع منه من
غير اذن، لما روى عياض الأشعري أن أبا موسى وفد إلى عمر ومعه نصراني
فأعجب عمر خطه فقال قل لكاتبك هذا يقرأ لنا كتابا، فقال إنه لا يدخل
المسجد، فقال لم؟ أجنب هو؟ قال لا، هو نصراني، قال فانتهره عمر، فإن
دخل من غير اذن عزر لما روت أم غراب قالت: رأيت عليا كرم الله وجهه
على المنبر وبصر بمجوسي فنزل فضربه وأخرجه من باب كندة، فإن استأذن في
الدخول، فإن كان لنوم أو أكل لم يأذن له، لأنه يرى ابتذاله تدينا فلا نحميه من
أقذاره، وإن كان لسماع قرآن أو علم فإن كان ممن يرجى إسلامه أذن له لقوله
عز وجل (وان أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله)
ولأنه ربما كان ذلك سببا لاسلامه.
وقد روى أن عمر رضي الله عنه سمع أخته تقرأ طه فأسلم، وإن كان جنبا
ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يمنع من المقام فيه، لأنه إذا منع المسلم إذا كان جنبا فلان
يمنع المشرك أولى.
(والثاني) أنه لا يمنع لان المسلم يعتقد تعظيمه فمنع، والمشرك لا يعتقد
تعظيمه فلم يمنع، وان وفد قوم من الكفار ولم يكن للامام موضع ينزلهم فيه
جاز أن ينزلهم في المسجد لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل سبى بنى قريضة
والنضير في مسجد المدينة وربط ثمامة بن أثال في المسجد
434

(الشرح) حديث عطاء لم أعثر على رواية هذا الحديث عن عطاء، والذي
رواه البخاري أن أبا هريرة رضي الله عنه قال بعثني أبو بكر رضي الله عنه فيمن
يؤذن يوم النحر بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك وأن لا يطوف بالبيت عريان
ويوم الحج الأكبر يوم النحر، وإنما قيل الحج الأكبر من أجل قول الناس
الحج الأصغر، فنبذ أبو بكر رضي الله عنه إلى الناس في ذلك العام فلم يحج في
العام القابل الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مشرك،
وأنزل الله في العام الذي نبذ فيه أبو بكر رضي الله عنه إلى المشركين (يا أيها الذين
آمنوا إنما المشركون نجس إلى بعد عامهم هذا)
وروى البيهقي عن علي قال (أرسلت إلى أهل مكة بأربع لا يطوفن بالكعبة
عريان، ولا يقربن بالمسجد الحرام مشرك بعد عامه، ولا يدخل الجنة إلا نفس
مؤمنة، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته،
ومن طريق آخر عن زيد بن يتبع قال، سألنا عليا رضي الله عنه بأي شئ بعثت
قال بأربع فذكر هن إلا أنه قال لا يجتمع مسلم ومشرك بعد عامهم هذا في
الحج، وزاد ومن لم يكن له عهد فأربعة أشهر
أثر عياض سبق للامام النووي تخريجه في أوائل أجزاء المجموع، رواه
ابن أبي شيبة والبيهقي
أثر على رواه ابن أبي شيبة والبيهقي
أثر عمر رواه ابن أبي إسحاق وابن هشام في السيرة والبيهقي
حديث أنزل سبى بني قريظة والنضير في مسجد المدينة سبق تخريجه
وروى الطبراني والبيهقي أن وفد ثقيف قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم
فأنزلهم المسجد ليكون أرق لقلوبهم فاشترطوا على النبي صلى الله عليه وسلم أن
لا يحشروا ولا يعشروا ولا يجبوا (أي لا يصلوا) ولا يستعمل عليهم من
غيرهم، فقال لا تحشروا ولا تعشروا ولا تجبوا ولا يستعمل عليكم من غيركم،
ولا خير في دين ليس فيه ركوع)
قلت وفى سنده محمد بن إسحاق وهو مدلس ولكنه عنعنه
حديث (وربط ثمامة بن أثال في المسجد) أخرجه البخاري عن
435

أبي هريرة بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلا قبل نجد فجاءت برجل من بنى حنيفة
يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نجل قريب من المسجد فاغتسل
ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)
اللغة: وبصر بمجوسي، أي نظر وقيل علم، قال أبو عبيد في قوله تعالى
(بصرت بما لم يبصروا به) نظرت من البصر وقال قتادة فطنت من البصيرة
وقال مقاتل علمت. قال الهروي: يقال بصر يبصر إذا صار عليما بالشئ فإذا
نظرت قلت أبصرت أبصر
التجبية: أن يقوم الانسان قيام الراكع، وقيل السجود، والمراد بقولهم
انهم لا يصلون، من النهاية لابن الأثير
النجل بفتح فسكون الماء النابع من الأرض
وقد اختلف الفقهاء في دخول غير المشركين من الكفار المسجد الحرام
وغيره من المساجد وبلاد الاسلام، فقال البغوي في تفسيره (أراد بالمشركين
عبدة الأصنام دون غيرهم من أصناف الكفار، وقيل أراد جميع أصناف
الكفار عبدة الأصنام وغيرهم من اليهود والنصارى. ثم قاد والمراد من منعهم
من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا من المسجد، ثم قال، قال
العلماء وجملة بلاد الاسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام
(أحدهما) الحرم فلا يجوز لكافر أن بدخله بحال، ذميا كان أو مستأمنا
لظاهر الآية، وبه قال الشافعي وأحمد ومالك، فلو جاء رسول من دار الكفر
والامام في الحرم فلا يأذن له في دخول الحرم بل يخرج إليه بنفسه أو يبعث إليه
من يسمع رسالته خارج الحرم، وجوز أبو حنيفة وأهل الكوفة للمعاهد
دخول الحرم.
القسم الثاني من بلاد الاسلام الحجاز (وحددها بما سبق الإشارة إليه
في الفصل قبله) ثم قال فيجوز للكفار دخول أرض الحجاز بالاذن، ولكن
لا يقيمون فيها أكثر من مقام المسافر وهو ثلاثة أيام، وروى الأحاديث
في صدر الفصل.
436

القسم الثالث سائر بلاد الاسلام فيجوز للكافر أن يقيم فيها بعهد وأمان
وذمة ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن المسلم
وقوله (وأما دخول ما سوى المسجد) قلت ويجوز دخول الكافر المسجد
بإذن المسلم لقول عطية بن شعبان قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه
وسلم في رمضان فضرب لهم قبة في المسجد، فلما أسلموا صاموا معه، أخرجه
الطبراني، ولحديث أبي هريرة الذي أسروا فيه ثمامة بن أثال، ولهذا قالت
الشافعية يجوز دخول الكافر ولو غير كتابي المسجد بإذن المسلم إلا مسجد مكة
وحرمها. قال النووي في المجموع، قال أصحابنا لا يكن كافر من دخول حرم
مكة، وأما غيره فيجوز أن يدخل كل مسجد ويبيت فيه بإذن المسلمين ويمنع منه
بغير إذن، ولو كان الكافر جنبا فهل يمكن من اللبث في المسجد فيه وجهان
أصحهما يمكن اه‍
وقالت الحنفية ومجاهد يجوز دخول الكتابي دون غيره لحديث جابر أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل
العهد وخدمهم، أخرجه أحمد بسند جيد، وهذا هو الظاهر
وقالت المالكية (لا يجوز للكافر دخول مسجد الحل والحرم إلا لحاجة)
قال العلامة الصاوي يمنع دخول الكافر المسجد وإن أذن له مسلم إلا لضرورة
عمل، ومنها قلة أجرته عن المسلم على الظاهر. اه‍
وقالت الحنبلية (لا يجوز لكافر دخول الحرم مطلقا ولا مسجد الحل إلا
لحاجة) قال في كشاف القناع (ولا يجوز لكافر دخول مسجد الحل ولو بإذن
مسلم لقوله تعالى (إنما يعمر مساجد الله..) ويجوز دخول مساجد الحل للذمي
والمعاهد والمستأمن إذا استؤجر لعمارتها لأنه لمصلحتها اه‍
وقال عمر بن عبد العزيز وقتادة والمزني (لا يجوز دخوله مطلقا)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يمكن حربي من دخول دار الاسلام من غير حاجة، لأنه
لا يؤمن كيده، ولعله للتجسيس أو شراء سلاح، فإن استأذن في الدخول
437

لأداء رسالة أو عقد ذمة أو هدنة أو حمل ميرة وللمسلمين إليها حاجة جاز الاذن
له من غير عوض، لان في ذلك مصلحة للمسلمين، وإذا انقضت حاجته لم يمكن
من المقام، فإن دخل من غير ذمة ولا أمان فالامام أن يختار ما يراه من القتل
والاسترقاق والمن والفداء.
والدليل عليه ما روى ابن عباس في فتح مكة ومجئ أبي سفيان مع العباس
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر دخل وقال يا رسول الله هذا أبو سفيان
قد أمكن الله منه من غير عقد ولا عهد فدعني أضرب عنقه، فقال العباس
يا رسول الله إني قد أجرته، ولأنه حربي لا أمان له فكان حكمه ما ذكرناه
كالأسير، وإن دخل وادعى أنه دخل لرسالة قبل قوله، لأنه يتعذر إقامة البينة
على الرسالة، وإن ادعى أنه دخل بأمان مسلم ففيه وجهان
(أحدهما) أنه لا يقبل قوله لأنه لا يتعذر إقامة البينة على الأمان
(والثاني) أنه يقبل قوله وهو ظاهر المذهب، لان الأظهر أنه لا يدخل من
غير أمان، وإن أراد الدخول لتجارة ولا حاجة للمسلمين إليها لم يؤذن له إلا
بمال يؤخذ من تجارته، لان عمر رضي الله عنه أخذ العشر من أهل الحرب،
ويستحب أن لا ينقص عن ذلك اقتداء بعمر رضى الله، فان نقص باجتهاده جاز
لان أخذه باجتهاده فكان تقديره إليه ولا يؤخذ ما يشترط على الذمي في دخول
الحجاز في السنة إلا مرة، كما لا تؤخذ الجزية منه في السنة إلا مرة، وما يؤخذ
من الحربي في دخول دار الاسلام فيه وجهان
(أحدهما) أنه يؤخذ منه في كل سنة مرة كأهل الذمة في الحجاز
(والثاني) أنه يؤخذ منه في كل مرة يدخل، لان الذمي تحت يد الامام،
ولا يفوت ما شرط عليه بالتأخير، والحربي يرجع إلى دار الحرب، فإذا لم
يؤخذ منه فات ما شرط عليه، وإن شرط أن يؤخذ من تجارته أخذ منه، باع
أو لم يبع، وإن شرط أن يؤخذ من ثمن تجارته فكسد المتاع ولم يبع لم يؤخذ
منه لأنه لم يحصل الثمن، وان دخل الذمي الحجاز أو الحربي دار الاسلام ولم
يشرط عليه في دخوله مال لم يؤخذ منه شئ، ومن أصحابنا من قال يؤخذ من
تجارة الذمي نصف العشر ومن تجارة الحربي العشر، لأنه قد تقرر هذا في الشرع
438

بفعل عمر رضي الله عنه، فحمل مطلق العقد عليه، والمذهب الأول لأنه أمان
من غير شرط المال فلم يستحق به مال كالهدنة.
(الشرح) حديث ابن عباس سهق تخريجه
أثر عمر سبق تخريجه
(قلت) سبق إيضاح هذا الفصل ضمن ما سبق بيانه من الفصول
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الهدنة
(الشرح) أصل الهدنة السكون، يقال هدن يهدن هدونا إذا سكن، وهدنة
أي سكنة يتعدى ولا يتعدى، وهادنته صالحته والاسم منها الهدنة، والموادعة
بمعنى المهادنة ومعناها المتاركة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
لا يجوز عقد الهدنة لإقليم أو صفع عظيم إلا للامام أو لمن فوض إليه الامام
لأنه أو جعل ذلك إلى كل واحد لم يؤمن أن يهادن الرجل أهل إقليم، والمصلحة
في قتالهم فيعظم الضرر فلم يجز إلا للامام أو للنائب عنه، فإن كان الامام
مستظهرا نظرت فإن لم يكن في الهدنة مصلحة لم يحز عقدها لقوله عز وجل
(فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الا علون والله معكم)
وإن كان فيها مصلحة بأن يرجو إسلامهم أو بذل الجزية أو معاونتهم على
قتال غيرهم جاز أن يهادن أربعة أشهر لقوله عز وجل (براءة من الله ورسوله
إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ولا يجوز أن
يهادنهم سنة فما زاد لأنها مدة يجب فيها الجزية فلا يجوز إقرارهم فيها من غير
جزية، وهل يجوز فيما زاد على أربعة أشهر وما دون سنة فيه قولان
(أحدهما) أنه لا يجوز لان الله تعالى أمر بقتال أهل الكتاب إلى أن
يعطوا الجزية لقوله تعالى (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا
439

يحرمون ما حرم الله ورسوله) وأمر بقتال عبدة الأوثان إلى أن يؤمنوا، لقوله
عز وجل (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ثم اذن في الهدنة في أربعة أشهر
وبقى ما زاد على ظاهر الآيتين.
والقول الثاني أنه يجوز لأنها مدة تقصر عن مدة الجرية فجاز فيها عقد الهدنة
كأربعة أشهر. وإن كان الامام غير مستظهر بأن كان في المسلمين ضعف وقلة،
وفى المشركين قوة وكثرة. أو كان الامام مستظهرا لكن العدو على بعد ويحتاج
في قصدهم إلى مؤنة مجحفة جاز عقد الهدنة إلى مدة تدعو إليها الحاجة، وأكثرها
عشر سنين، لان رسول الله صلى الله عليه وسلم هادن قريشا في الحديبية عشر
سنين، ولا يجوز فيما زاد على ذلك لان الأصل وجوب الجهاد إلا فيما وردت
فيه الرخصة، وهو عشر سنين وبقى ما زاد على الأصل
وإن قد على عشر سنين وانقضت والحاجة باقية استأنف العقد فيما تدعو
الحاجة إليه، وإن عقد على أكثر من عشر سنين بطل فيما زاد على الشعر، وفى
العشر قولان بناء على تفريق الصفقة في البيع، وإن دعت الحاجة إلى خمس سنين
لم تجز الزيادة عليها، فإن عقد على ما زاد على الخمس سنين بطل العقد فيما زاد،
وفى الخمس قولان.
فإن عقد الهدنة مطلقا من غير مدة لم يصح لان إطلاقه يقتضى التأبيد وذلك
لا يجوز، وإن هادن على أن له أن ينقض إذا شاء جاز لان النبي صلى الله عليه
وسلم وادع يهود خيبر وقال: أقركم ما أقركم الله.
وان قال غير النبي صلى الله عليه وسلم هادنتكم إلى أن يشاء الله تعالى أو
أقررتكم ما أقركم الله تعالى لم يجز لأنه لا طريق له إلى معرفة ما عند الله تعالى،
ويخالف الرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه كان يعلم ما عند الله تعالى بالوحي،
وان هادنهم ما شاء فلان وهو رجل مسلم أمين عالم له رأى جاز، فإن شاء فلان
أن ينقض نقض.
وان قال هادنتكم ما شئتم لم يصح لأنه جعل الكفار محكمين على المسلمين،
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (الاسلام يعلو ولا يعلى)
ويجوز عقد الهدنة على مال يؤخذ منهم، لان في ذلك مصلحة للمسلمين،
440

ولا يجوز بمال يؤدى إليهم من غير ضرورة لان في ذلك الحاق صغار بالاسلام
فلم يجز من غير ضرورة، فإن دعت إلى ذلك ضرورة بأن أحاط الكفار
بالمسلمين وخافوا الاصطلام، أو أسروا رجلا من المسلمين وخيف تعذيبه جاز
بذل المال لاستنقاذه منهم لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن الحرث بن عمرو
الغطفاني رئيس غطفان قال النبي صلى الله عليه وسلم: ان جعلت لي شطر ثمار
المدينة ولأملأنها عليك خيلا ورجلا؟ فقال النبي صلى الله عليه حتى أشاور
السعديين يعنى سعد بن معاذ وسعد بن عبادة وأسعد بن زيارة فقالوا إن
كان هذا بأمر من السماء فتسليم لأمر الله عز وجل، وإن كان برأيك فرأينا تبع
لرأيك، وان لم يكن بأمر من السماء ولا برأيك فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية
ثمرة الا شراء أو قراء، وكيف وقد أعزنا الله بك، فلم يعطهم شيئا، فلو لم
يجز عند الضرورة لما رجع إلى الأنصار ليدفعوه ان رأوا ذلك، ولان ما يخاف
من الاصطلام وتعذيب الأسير أعظم في الضرورة من بذل المال فجاز دفع أعظم
الضررين بأخذهما وهل يجب بذل المال؟ فيه وجهان بناء على الوجهين في
وجوب الدفع عن نفسه، وقد بيناه في الصول، فإذا بذل لهم على ذلك مال لم
يملكوه لأنه مال مأخوذ بغير حق فلم يملكوه كالمأخوذ بالقهر.
(الشرح) حديث (أنه صلى الله عليه وسلم هادن قريشا) أخرجه البخاري
مطولا في كتاب الشروط عن الزهري، وأخرجها الحاكم في الإكليل من طريق
أبو الأسود عن عروة منقطعة، وأخرجها بن عائذ في المغازي، ورواه ابن
إسحاق في الدلائل عن موسى بن عقبة، رواه عاصم العمرى عن عبد الله بن
دينار عن ابن عرم أنها كانت أربع سنين، وعاصم ضعفه البخاري وغيره، قال
الحافظ وصححه من طريق الحاكم في التخليص.
حديث (وادع يهود خيبر..) أخرجه البخاري
حديث (الاسلام يعلو..) الدارقطني وعلقه البخاري والطبراني في الصغير
واسناده ضعيف جدا
حديث أبي هريرة أخرجه الطبراني، وفيه حسان بن الحارث ضعيف.
441

ورواه ابن إسحاق في المغازي عن الزهري قال: لما اشتد على الناس البلاء بعث
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عيينة بن حصن بن وحذيفة بن بدر إلى الحارث
ابن أبي عوف المزني وهما قائدا غطفان، فأعطاهما ثلث ثمار المدينة على أن يرجعا
بمن معهما، فجرى بينه وبينهما الصلح ولم تقع الشهادة، فلما أراد فلما أراد ذلك بعث إلى
سعد بن معاذ وسعد بن عبادة فاستشار هما فيه فذكره مطولا
اللغة (مجحفة) أي تذهب بالمال وقد ذكر قوله (وخافوا الاصطلام
هو الاستئصال بالقتل وغيره والطاء بدل من التاء وأصله استئصال قطع الاذن
يقال ظليم مصطلم وهو خلقة فيه، والظليم ذكر النعام
والحق أن الامام وأهل الشورى معه هم الذين يفوضون الامام في عقد
الهدنة أو لمن يفوضه، إلا الحنفية فإنهم قالوا. ولا يشترط إذن الإمام بالموادعة
فإذا وادعهم الامام أو فريق من المسلمين من غير إذن الإمام جازت موادعتهم
لان كون عقد الموادعة مصلحة للمسلمين
وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره في (براءة من الله ورسوله..) اختلف
المفسرون ههنا اختلافا كثيرا فقال قائلون هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير
المؤقتة أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر، فأما من كان له
عهد مؤقت فأجله إلى مدته فهما كان لقوله تعالى (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم)
وللحديث (ومن كان بين وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى
مدته) وهذا أحسن الأقوال وأقواها، وقد اختاره ابن جرير رحمه الله، وروى
عن الكلبي ومحمد بن كعب القرظي وغير واحد.. اه‍
وقال الشوكاني في النيل: وقد اختلف العلماء هل يجوز الصلح مع المشركين
على أن يرد إليهم من جاء مسلما من عندهم إلى بلاد المسلمين أم لا؟ فقيل نعم على
ما دلت عليه قصة أبى جندل وأبي بصير، وقيل لا، وإن الذي وقع في القصة
منسوخ وإن ناسخ حديث (أنا برئ من كل مسلم بين مشركين) وهو قول
الحنفية، وعند الشافعية يفصل بين العاقل وبين المجنون والصبي فلا يردان.
وقال الشافعية: جواز الرد أن يكون المسلم بحيث لا تجب عليه الهجرة من دار
الحرب، وباقي أقوال المصنف سبق شرحها فيما سبق
442

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز عقد الهدنة على رد من جاء من المسلمات، لان النبي
صلى الله عليه وسلم عقد الصلح بالحديبية، فجاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط
مسلمة، فجاء أخواها فطلباها فأنزل الله عز وجل (فلا ترجعوهن إلى الكفار)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ان الله تعالى منع من الصلح في النساء) ولأنه
لا يؤمن أن تزوج أن تزوج بمشرك فيصيبها، ولا يؤمن أن تفتن في دينها لنقصان عقلها
ولا يجوز عقدها على رد من لا عشيرة له من الرجال تمنع عنه، لأنه لا يأمن
على نفسه في اظهار دينه فيما بينهم، ويجوز عقدها على رد من له عشيرة تمنع
عنه لأنه يأمن على نفسه في اظهار دينه، ولا يجوز عقدها مطلقا على رد من
جاء من الرجال مسلما، لأنه يدخل فيه من يجوز رده ومن لا يجوز
(فصل) وان عقدت الهدنة على ما لا يجوز مما ذكرناه أو عقدت الذمة
على ما لا يجوز من النقصان عن دينار في الجزية والمقام في الحجاز أو الدخول
إلى الحرم أو بناء كنيسة في دار الاسلام أو ترك الغيار أو اظهار الخمر والخنزير
في دار الاسلام وجب نقضه، لقوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس
عليه أمرنا فهو رد) ولما روى عن عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس وقال:
ردوا الجهالات إلى السنة، ولأنه عقد على محرم فلم يجز الاقرار عليه كالبيع
بشرط باطل أو عوض محرم.
(فصل) وان عقدت الهدنة على ما يجوز إلى مدة وجب الوفاء بها إلى أن
تنقضي المدة ما أقاموا على العهد لقوله عز وجل (أوفوا بالعقود) ولقوله تعالى
(وبشر الذين كفروا بعذاب أليم الا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم
شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم ان الله يحب المتقين)
ولقوله عز وجل (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم)
وروى سليمان بن عامر قال: كان بين معاوية وبين الروم هدنة فسار معاوية
في أرضهم كأنه يريد أن يغير عليهم، فقال له عمرو بن عبسة سمعت رسول الله
443

صلى الله عليه وسلم يقول: من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحل عقدة ولا يضدها
حتى يمضى أمدها أو ينبذ إليهم على سواء، قال فانصرف معاوية ذلك العام،
ولان الهدنة عقدت لمصلحة المسلمين فإذا لم يف لهم عند قدرتنا عليهم لم يفوا لنا
عند قدرتهم علينا فيؤدى ذلك إلى الاضرار بالمسلمين
وإن مات الامام الذي عقد الهدنة وولى غيره لزمه إمضاؤه لما روى أن نصارى
نجران أتوا عليا كرم الله وجهه وقالوا إن الكتاب كان بيديك والشفاعة إليك
وإن عمر أجلانا من أرضنا فردنا إليها، فقال على إن عمر كان رشيدا في أمره
وإني لا أغير أمرا فعله عمر رضي الله عنه.
(الشرح) حديث عقد صلح الحديبية..) أخرجه البخاري من حديث
المسور وفيه (فجاءت أم كلثوم..)
حديث (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) متفق عليه
أثر (ردوا الجهالات إلى السنة..) أخرجه البيهقي في السنن
أثر (أن نصارى نجران..) أخرجه البيهقي في السنن
اللغة: قوله (ولم يظاهروا عليكم أحدا) أي لم يعاونوا، والمظاهرة المعاونة
والظهير العون، قال الله تعالى (وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب)
قوله (أو ينبذ إليهم على سواء) قال المفسرون في تفسير قوله تعالى (فانبذ
إليهم على سواء) أي اطرح إليهم عهدهم حتى تكون أنت وهم في العلم سواء،
وأصله الوسط وحقيقته العدل، ومنه (في سواء الجحيم) أي وسطه
قوله (وأن عمر أجلانا من أرضنا) أي أخرجنا منها، قال الله تعالى
(ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء) وهو الخروج عن الأوطان، تقول العرب
إما حرب مجلية أو سلم مخزية، معناه إما حرب أو دمار وخروج عن الديار،
وإما صلح وقرار على صغار.
قوله (زهدوها في الاسلام) أي قللوا رغبتها فيه، زهدت في الشئ وعن
الشئ لم أرغب فيه.
444

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجب على الامام منع من يقصدهم من المسلمين ومن معهم من
أهل الذمة، لان الهدنة عقدت على الكف عنهم، ولا يجب عليه منع من
قصدهم من أهل الحرب ولا منع بعضهم من بعض لان الهدنة لم تعقد على حفظهم
وإنما عقدت على تركهم، بخلاف أهل الذمة فإن أهل الذمة عقدت على حفظهم
فوجب منع كل من يقصدهم، ويجب على المسلمين ومن معهم من أهل الذمة ضمان
أنفسهم وأموالهم والتعزير بقذفهم، لان الهدنة تقتضي الكف عن أنفسهم
وأموالهم وأعراضهم فوجب ضمان ما يجب في ذلك.
(فصل) إذا جاءت منهم حرة بالغة عاقلة مسلمة مهاجرة إلى بلد فيه الامام
أو نائب عنه ولها زوج مقيم على الشرك وقد دخل بها وسلم إليها مهرا حلالا،
فجاء زوجها في طلبها فهل يجب رد ما سلم إليها من المهر؟ فيه قولان
(أحدهما) يجب لقوله تعالى عز وجل (فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن
حل لهم ولا هم يحلون لهن وآتوهم ما أنفقوا) ولان البضع مقوم حيل بينه وبين
مالكه فوجب رد بدله، كما لو أخذ منهم مالا وتعذر رده
والقول الثاني وهو الصحيح، وهو اختيار المزني أنه لا يجب، لان البضع
ليس بمال والأمان لا يدخل فيه الا المال، ولهذا لو أمن مشركا لم تدخل امرأته
في الأمان ولأنه لو ضمن البضع الحيلولة لضمن بمهر المثل كما يضمن المال عند
تعذر الرد بالمثل بقيمته، ولا خلاف أنه لا يضمن البضع بمهر المثل فلم يضمن
بالمسمى، وأما الآية فإنها نزلت في صلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية
قبل تحريم رد النساء، وقد منع الله تعالى من ذلك بقوله تعالى (فلا ترجعوهن
إلى الكفار) فسقط ضمان المهر.
فإن قلنا لا يجب رد المهر فلا تفريع، وان قلنا إنه يجب وعليه التفريع
وجب ذلك في خمس الخمس، لأنه مال يجب على سبيل المصلحة فوجب في خمس
الخمس، وان لم يكن قد دفع إليها المهر لم يجب له المهر، لقوله تعالى (وآتوهم
ما انفقوا) وهذا لم ينفق
.
445

وإن دفع إليه مهرا حراما كالخمر والخنزير لم يجب له شئ لأنه لا قيمة لما
دفع إليها فصار كما لو لم يدفع إليها شيئا، فإن دفع إليها بعض مهرها لم يجب له أكثر
منه لان الوجوب يتعلق بالمدفوع فلم يجب إلا ما دفع. وإن جاءت إلى بلد ليس
فيها إمام ولا نائب عنه لم يجب رد المهر، لأنه يجب في سهم المصالح، وذلك إلى
الامام أو النائب عنه فلم يطالب به غيره.
(فصل) وإن جاءت مسلمة عاقلة ثم جنت وجب رد المهر لان الحيلولة
حصلت بالاسلام، وإن جاءت مجنونة ووصفت الاسلام ولم يعلم هل وصفته
في حال عقلها أو في حال جنونها لم ترد إليه لجواز أن يكون وصفته في حال عقلها
فإذا ردت إليهم خدعوها وزهدوها في الاسلام فلم يجز ردها احتياطا للاسلام
وإن أفاقت ووصفت الكفر وقالت إنها لم تزل كافرة ردت إلى زوجها، وإن
وصفت الاسلام لم ترد، فإذا جاء الزوج في طلبها دفع إليه مهرها لأنه حيل
بينهما بالاسلام، وإن طلب مهرها قبل الإفاقة لم يدفع إليه لان المهر يجب
بالحيلولة، وذلك لا يتحقق قبل الإفاقة لجواز ان تفيق وتصف الكفر فترد إليه
فلم يجب مع الشك.
(فصل) فإن جاءت صبية ووصفت الاسلام لم ترد إليهم، وان لم يحكم
بإسلامها، لأنا نرجو اسلامها، فإذا ردت إليهم خدعوها وزهدوها في الاسلام
فإن بلغت ووصفت الكفر قرعت، فإن أقامت على الكفر ردت إلى زوجها فإن
وصفت الاسلام دفع إلى زوجها المهر لأنه تحقق المنع بالاسلام، فإن جاء
يطلب مهرها قبل البلوغ ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يدفع إليه مهرها لأنها منعت منه بوصف الاسلام فهي
كالبالغة (والثاني) أنه لا يدفع لان الحيلولة لا تتحق قبل البلوغ لجواز أن تبلغ
وتصف الكفر فنرد إليه فلم يجب المهر كما قلنا في المجنونة
(فصل) وان جاءت مسلمة ثم ارتدت لم ترد إليهم لأنه يجب قتلها،
وان جاء زوجها يطلب مهرها، فإن كان بعد القتل لم يجب دفع المهر لان
الحيلولة حصلت بالقتل، وإن كان قبل القتل ففيه وجهان (أحدهما) أنه يجب
لان المنع وجب بحكم الاسلام.
446

(والثاني) لا يجب لان المنع وجب لإقامة الحد لا بالاسلام.
(فصل) وان جاءت مسلمة ثم جاء زوجها ومات أحدهما، فإن كان
الموت بعد المطالبة بها وجب المهر، لان الحيلولة حصلت بالاسلام، وإن كان
قبل المطالبة لم يجب لان الحيلولة حصلت بالموت
(فصل) فإن أسلمت ثم طلقها الزوج، فإن كان الطلاق بائنا فهو كالموت
وقد بيناه وإن كان رجعيا لم يجب دفع المهر لأنه تركها برضاه، وان راجعها
ثم طالب بها وجب دفع المهر لاه حيل بينهما بالاسلام، وان جاءت مسلمة
ثم أسلم الزوج، فإن أسلم قبل انقضاء العدة لم يجب المهر لاجتماعهما على النكاح،
وان أسلم بعد انقضاء العدة فإن كان قد طالب بها قبل انقضاء العدة وجب المهر
لأنه وجب قبل البينونة، وان طالب بعد انقضاء العدة لم يجب لان الحيلولة
حصلت بالبينونة باختلاف الدين
(فصل) وان هاجرت منهم أمة وجاءت إلى بلد فيه الامام نظرت فإن
فارقتهم وهي مشركة ثم أسلمت صارت حرة لأنا بينا أن الهدنة لا توجب أمان
بعضهم من بعض فملكت نفسها بالقهر، فإن جاء مولاها في طلبها لم ترد عليه
لأنها أجنبية منه لاحق له في رقبتها، ولأنها مسلمة فلا يحوز ردها إلى مشرك
وان طلب قيمتها فقد ذكر الشيخ أبو حامد الأسفرايني رحمه الله فيها قولين
كالحرة إذا هاجرت وجاء الزوج يطلب مهرها، والصحيح أنه لا تجب قيمتها
قولا واحدا، وهو قول شيخنا القاضي أبى الطيب الطبري رحمه الله، لان
الحيلولة حصلت بالقهر قبل الاسلام وتخالف الحرة فإنها منعت بالاسلام
والأمة منعت بالملك وقد زال الملك فيها قبل الاسلام
وان أسلمت وهي عندهم ثم هاجرت لم تصر حرة لأنهم في أمان منا وأموالهم
محظورة علينا فلم يزل الملك فيها بالهجرة، فإن جاء مولاها في طلبها لم ترد إليه
لأنها مسلمة فلم يجز ردها إلى مشرك، وإن طلب قيمتها وجب دفعها إليه كما لو
غصب منهم مال وتلف.
وإن كانت الأمة مزوحة من حر فجاء زوجها في طلبها لم ترد إليه وان طلب
مهرها فعلى القولين في الحرة، وإن كانت مزوجة من عبد فعلى القولين أيضا،
447

إلا أنه لا يجب دفع المهر إلا أن يحضر الزوج فيطالب بها لان البضع له فلا يملك
فالمولى المطالبة به ويحضر المولى ويطالب بالمهر، لان المهر له فلا يملك الزوج
المطالبة به
(فصل) وإن هاجر منهم رجل مسلم فإن كان له عشيرة تمنع عنه جاز له
العود إليهم، والأفضل أن لا يعود، وقد بينا ذلك في أول السير، فإن عقد
الهدنة على رده واختار العود لم يمنع، لان النبي صلى الله عليه وسلم أذن
لأبي جندل وأبي بصير في العود
وإن اختار المقام في دار الاسلام لم يمنع لأنه لا يجوز إجبار المسلم على
الانتقال إلى دار الشرك، وإن جاء من يطلبه قلنا للمطالب إن قدرت على رده لم
نمنعك منه، وإن لم تقدر لم نمنعك عليه، ونقول للمطلوب في السر إن رجعت
إليهم ثم قدرت أن تهرب منهم وترجع إلى دار الاسلام كان أفضل، لان النبي
صلى الله عليه وسلم أبا بصير فهرب منهم وأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال
قد وفيت لهم ونجاني الله منهم.
(الشرح) حديث (اذن لأبي جندل وأبي بصير في العود) أخرجه البخاري
عن عروة بن الزبير في حديث طويل في صلح الحديبية، وفيه ثم رجع النبي
صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فجاء أبو بصير رجل من قريش وهو مسلم
فأرسلوني في طلبه رجلين فقالوا العهد الذي جعله لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى
بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون تمرا لهم، فقال أبو بصير لاحد الرجلين والله
سيفك هذا يا فلان جيد، فاستله الآخر فقال أجل إنه جيد، لقد جربت به ثم
جربت، فقال أبو بصير أرني أنصر إليه، فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر
حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
رآه: لقد رأى هذا ذعرا، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال قتل
صاحبي والله وإني لمقتول، فجاء أبو بصير فقال يا نبي الله قد أوفى الله ذمتك
رددتني إليهم ثم أنجاني الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم ويل أمه مسعر حرب
لو كان له أحد، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى
448

سيف البحر، قال وتفلت منهم أبو جندل بن سهل فلحق بأبي بصير)
وأخرجه أحمد وفيه: يا أبا جندل أصبر واحتسب فإن الله جاعل لك ولمن
معك من المستضعفين فرجا ومخرجا) وفى رواية البخاري عن مروان والمسور
(فرد يومئذ أبا جند إلى أبيه سهيل)
حديث (رد أبي بصير..) جزء من الحديث السابق الإشارة إليه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ومن أتلف منهم على مسلم مالا وجب عليه ضمانه وإن قتله وجب
عليه القصاص، وإن قذفه وجب عليه الحد لان الهدنة تقتضي أمان المسلمين في
النفس والمال والعرض فلزمهم ما يجب في ذلك، ومن شرب منهم الخمر أو زنى
لم يجب عليه الحد لأنه حق لله تعالى، ولم يلتزم بالهدنة حقوق الله تعالى، فإن سرق
مالا لمسلم ففيه قولان.
(أحدهما) أنه لا يجب عليه القطع لأنه حد خالص لله تعالى فلم يجب عليه
كحد الشرب والزنا.
(والثاني) أنه يجب عليه، لأنه حد يجب لصيانة حق الآدمي، فوجب
عليه كحد القذف.
(الشرح) قوله (والمال والعرض) (الأمان في العرض) هو أن لا يذكر
سلفه وآباءه وأن لا يذكره نفسه بسوء وبما ينزل قدره ومحله
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا نقص أهل الهدنة عهدهم بقتال أو مظاهرة عدو أو قتل مسلم
أو أخذ مال انقضت الهدنة لقوله عز وجل (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم)
فدل على أنهم إذا لم يستقيموا لنا لم نستقم لهم لقوله عز وجل (إلا الذين عاهدتم
من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى
مدتهم) فدل على أنهم إن ظاهروا علينا أحدا لم نتم إليهم عهدهم، ولان الهدنة
تقتضي الكف عنا فانتقضت بتركه ولا يفتقر تقضها إلى حكم الامام بنقضها لان
449

الحكم إما يحتاج إليه في أمر محتمل وما تظاهروا به لا يحتمل غير نقض العهد،
وإن نقض بعضهم وسكت الباقون ولم ينكروا ما فعل الناقض انتقضت الهدنة
في حق الجميع.
والدليل عليه أن ناقة صالح عليه السلام عقرها القدار العيزار بن سالف
وأمسك عنها القوم فأخذهم الله تعالى جميعهم به، فقال الله عز وجل (فدمدم
عليهم ربهم بذنبهم فسواها ولا يخاف عقباها) ولان النبي صلى الله عليه وسلم
وادع بني قريظة وأعان بعضهم أبا سفيان بن حرب على حرب رسول الله صلى الله
عليه وسلم في الخندق، وقيل إن الذي أعان منهم ثلاثة: حي بن أخطب وأخوه
وآخر معهم، فنقض النبي صلى الله عليه وسلم عهدهم وغزاهم وقتل رجالهم وسبى
ذراريهم، ولان النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشا بالحديبية وكان بنو بكر
حلفاء قريش وخزاعة حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاربت بنو بكر
خزاعة، وأعان نفر من قريش بنى بكر على خزاعة، وأمسك سائر قريش،
فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك نقضا لعهدهم وسار إليهم حتى فتح مكة،
ولأنه لما كان عقد بعضهم الهدنة أمانا لمن عقد ولمن أمسك وجب أن يكون
نقض بعضهم نقضا لمن نقض ولم أمسك.
وإن نقض بعضهم العهد وأنكر الباقون أو اعتزلوهم أو راسلوا إلى الامام
بذلك انتقض عهد من نقض وصار حربا لنا بنقضه ولم ينتقض عهد من لم يرض
لأنه لم ينقض العهد ولا رضى بفعل من نقض، فإن كان من لم ينقض مختلطا بمن
نقض أمر من لم ينقض بتسليم من نقض إن قدروا أو بالتميز عنهم، فإن لم يفعلوا
أحد هذين مع القدرة عليه انتقضت هدنتهم، لأنهم صاروا مظاهرين لأهل
الحرب، وإن لم يقدروا على ذلك كان حكمهم حكم من أسره الكفار من المسلمين
وقد بيناه في أول السير، وإن أسر الامام قوما منهم وادعوا أنهم ممن لم ينقض
العهد وأشكل عليه حالهم قبل قولهم، لأنه لا يتوصل إلى معرفة ذلك إلا
من جهتهم.
(فصل) وان ظهر مهم من يخاف معه الخيانة جاز للامام أن ينبذ إليهم
عهدهم لقوله عز وجل (وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله
450

لا يحب الخائنين) ولا تنتقض الهدنة إلا أن يحكم الامام بنقضها لقوله عز وجل
(فانبذ إليهم على سواء) ولان نقضها لخوف الخيانة وذلك يفتقر إلى نظر واجتهاد
فافتقر إلى الحاكم، وان خاف من أهل الذمة خيانة لم ينبذ إليهم، والفرق بينهم
وبين عقد أهل الهدنة أن النظر في عقد الذمة وجب لهم، ولهذا إذا طلبوا عقد
الذمة وجب العقد لهم فلم ينقض لخوف الخيانة والنظر في عقد الهدنة لنا، ولهذا
لو طلبوا الهدنة كان النظر فيها إلى الامام، وان رأى عقدها عقد وان لم يرد عقدها
لم يعقد فكا النظر إليه في نقضها عند الخوف، ولان أهل الذمة في قبضته فإذا
ظهرت منهم خيانة أمكن استدراكها وأهل الهدنة خارجون عن قبضته فإذا
ظهرت خيانتهم لم يمكن استدراكها فجاز نقضها بالخوف، وان لم يظهر منهم
ما يخاف معهم الخيانة لم يجز نقضها، لان الله تعالى أمر بنبذ العهد عند الخوف
فدل على أنه لا يجوز مع عدم الخوف، ولان نقض الهدنة من غير سبب يبطل
مقصود الهدنة ويمنع الكفار من الدخول فيها والسكون البها وإذا نقض الهدنة
عند خوف الخيانة ولم يكن عليهم حق ردهم إلى مأمنهم، لأنهم دخلوا على أمان
فوجب ردهم إلى المأمن إن كان عليهم حق استوفاه منهم ثم ردهم إلى مأمنهم.
(الشرح) حديث (وادع بني قريظة) أما الموادعة فرواها أبو داود
في حديث طويل من طريق عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن رجل من الصحابة
وأم ا النقض فرواه ابن إسحاق في المغازي كان الذين حزبوا الأحزاب نفرا من
بنى النضير فكان منهم حيى بن أخطب وكنانة بن أبي الحقيق ونفر من بنى وائل
فذكر الحديث قال: وخرج حي بن أخطب حتى أتى كعب بن أسد صاحب
عقد بني قريظة، فلما سمع به أغلق حصنه وقال: إني لم أر من محمد إلا صدقا
ووفاء وقد وادعني ووادعته فدعني وارجع عنى فلم يزل به حتى فتح له، فقال له
ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر بقريش ومن معها أنزلتها بردمه وجئتك
بغطفان على قادتها وسادتها أنزلتها إلى جانب أحد جئتك ببحر طام لا يرده شئ
فقال جئتني والله بالذل فلم يزل به حتى وادعه فنقض العهد وأظهر البراءة من رسول الله
صلى الله عليه وسلم.
451

وفى البخاري من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن يهود
بنى النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى بنى النضير وأقر
قريظة ومن عليهم حتى حاربوا معه فقتل رجالهم وقسم أموالهم وأولادهم بين
المسلمين إلا بعضهم لحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا.
حديث (ولن النبي صلى الله عليه وسلم هادن قريشا..) مسلم في صحيحه
عن أنس (أن قريشا صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم..) وأصل الحديث
في صحيح البخاري من حديث المسور.
اللغة: قوله (فدمدم عليهم ربهم) قال الجوهري: دمدمت الشئ إذا
ألصقته بالأرض وطحطحته.
وقال العزيزي: أرجف أرضهم وحركها عليهم.
وقال الأزهري: أطبق عليهم والكل معناه أهلكهم، فسواها أي سواها
بالأرض قال الشاعر:
فدمدموا بعد ما كانوا ذوي نعم * وعيشة أسكنوا من بعدها الحفرا
ولا خلاف فيما ذكره المصنف.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا دخل الحربي دار الاسلام بأمان في تجارة أو رسالة ثبت له
الأمان في نفسه وماله ويكون حكمه في ضمان النفس، والمال وما يجب عليه من
الضمان والحدود حكم المهادن لأنه مثله في الأمان فكان مثله فيما ذكرناه، وإن
عقد الأمان ثم عاد إلى دار الحرب في تجارة أو رسالة فهو على الأمان في النفس
والمال كالذمي إذا خرج إلى دار الحرب في تجارة أو رسالة وان رجع إلى
دار الحرب بنية المقام وترك ماله في دار الاسلام انتقص الأمان في نفسه ولم
ينتقض في ماله، فان قتل أو مات انتقل المال إلى وارثه وهل يغنم أم لا،
فيه قولان.
قال في سير الواقدي: ونقله المزني أنه يغنم ماله وينتقل إلى بيت المال فيئا
وقال في المكاتب: يرد إلى ورثته فذهب أكثر أصحابنا إلى أنها على قولين.
452

(أحدهما) أنه يرد إلى ورثته وهو اختيار المزني، والدليل عليه أن المال لوارثة
ومن ورث مالا ورثه بحقوقه، وهذا الأمان من حقوق المال فوجب أن يورث
والقول الثاني أنه يغنم وينتقل إلى بيت المال فيئا، ووجهه أنه لما مات انتقل ماله
إلى وارثه وهو كافر لا أمان له في نفسه ولا في ماله فكان غنيمة.
وقال أبو علي بن خيران: المسألة على اختلاف حالين، فالذي قال يغنم إذا
عقد الأمان مطلقا ولم يشرط لوارثه والذي قال لا يغنم إذا عقد الأمان لنفسه
ولوارثه، وليس للشافعي رحمه الله ما يدل على هذه الطريقة، وأما إذا مات في
في دار الاسلام فقد قال في سير الواقدي انه يرد إلى ورثته واختلف أصحابنا
فيه، فمنهم من قال هو أيضا على قولين كالتي قبلها، والشافعي نص على أحد القولين
ومنهم من قال يرد إلى وارثه قولا واحدا، والفرق بين المسألتين أنه إذا مات في
دار الاسلام مات على أمانه فكان ماله على الأمان، وإذا مات في دار الحرب
فقد مات بعد زوال أمانه فبطل في أحد القولين أمان ماله، فإن استرق زال
ملكه عن المال بالاسترقاق، وهل يغنم؟ فيه قولان، أحدهما يغم فيئا لبيت المال
والقول الثاني أنه موقوف لأنه لا يمكن نقله إلى الوارث لأنه حي ولا إلى مسترقه
لأنه مال له أمان، فإن عتق دفع المال إليه بملكه القديم، وان مات عبدا ففي
ماله قولان حكاهما أبو علي بن أبي هريرة (أحدهما) انه يغنم فيئا ولا يكون
موروثا، لان العبد لا يورث (والثاني) أنه لوارثه لأنه ملكه في حريته
(فصل) فإن اقترض حربي من حربي مالا ثم دخل إلينا بأمان أو أسلم
فقد قال أبو العباس عليه رد البدل على المقرض لأنه أخذه على سبيل المعاوضة
فلزمه البدل، كما لو تزوج حربية ثم أسلم، قال ويحتمل أنه لا يلزمه البدل، فإن
الشافعي رحمه الله قال في النكاح: إذا تزوج حربي حربية ودخل بها وماتت ثم
أسلم الزوج أو دخل إلينا بأمان فجاء وارثها يطلب ميراثه من صداقها أنه لا شئ
له لأنه مال فائت في حال الكفر، قال والأول أصح ويكون تأويل المسألة أن الحربي
تزوجها على غير مهر، فإن دخل مسلم دار الحرب بأمان فسرق منهم مالا أو اقترض
منهم مالا وعاد إلى دار الاسلام ثم جاء صاحب المال إلى دار الاسلام بأمان وجب
على المسلم رد ما سرق أو اقترض لان الأمان يوجب ضمان المال في الجانبين فوجب رده
453

باب خراج السواد
(الشرح) الخراج الإتاوة، وهو ما يؤخذ من الأرض أو من الكفار بسبب
الأمان قال الأزهري: الخراج يقع على الضريبة ويقع على مال الفئ ويقع
على الجزية، وسواد العراق قراها ومزارعها، سميت سوادا لكثرة حضرتها،
والعرب تقول لكل أخضر أسود
قال المصنف رحمه الله تعالى:
سواد العراق ما بين عبادان إلى الموصل طولا، ومن القادسية إلى حلوان
عرضا، قال الساجي هو اثنان وثلاثون ألف ألف جريب، وقال أبو عبيد هو
ستة وثلاثون ألف ألف جريب، وفتحها عمر رضي الله عنه وقسمها بين الغانمين
ثم سألهم أن يردوا ففعلوا، والدليل عليه ما روى قيس بن أبي حازم البجلي قال:
كنا ربع الناس في القادسية فأعطانا عمر رضي الله عنه ربع السواد وأخذناها
ثلاث سنين، ثم وفد جرير بن عبد الله البجلي إلى عمر رضي الله عنه بعد ذلك
فقال: أما والله لولا أنى قاسم مسؤول لكنتم على ما قسم لكم وأرى أن تردوا على
المسلمين ففعلوا. ولا تدخل في ذلك البصرة. وإن كانت داخلا في حد السواد،
لأنها كانت أرضا سبخة فأحياها عمرو بن العاص الثقفي وعتبة بن غزوان بعد
الفتح الا مواضع من شرقي دخلتها تسميها أهل البصرة الفرات، ومن غربي
دخلتها نهر يعرف بنهر المرة.
واختلف أصحابنا فيما فعل عمر رضي الله عنه فيما فتح من أرض السواد فقال
أبو العباس وأبو إسحاق: باعها من أهلها وما يؤخذ من الخراج ثمن، والدليل
عليه أن من لدن عمر إلى يومنا هذا تباع وتبتاع من غير انكار. وقال أبو سعيد
الإصطخري وقفها عمر رضي الله عنه على المسلمين فلا يجوز بيعها ولا شراؤها
ولا هبتها ولا رهنها، وإنما تنقل من يد إلى يدوما يؤخذ من الخراج فهو أجرة
وعليه نص في سير الواقدي، والدليل عليه ما روى بكير بن عامر عن عامر قال
اشترى عقبة ابن فرقد أرضا من أرض الخراج، فأتى عمر فأخبره، فقال ممن
اشتريتها؟ قال من أهلها، قال فهؤلاء أهلها المسلمون أبعتموه شيئا؟ قالوا لا،
قال فاذهب فاطلب مالك، فإذا قلنا إنه وقف فهل تدخل المنازل في الوقف؟ فيه
454

وجهان (أحدهما) أن الجميع وقف (والثاني) أنه لا يدخل في الوقف غير
المزارع، لأنا لو قلنا إن المنازل دخلت في الوقف أدى إلى خرابها، وأما الثمار
فهل يجوز لمن هي في يده الانتفاع بها؟ فيه وجهان (أحدهما) أنه لا يجوز وعلى
الامام أن يأخذها ويبيعها ويصرف ثمنها في مصالح المسلمين والدليل عليه
ما روى الساجي في كتابه عن أبي الوليد الطيالسي أنه قال: أدركت الناس بالبصرة
ويحمل إليهم الثمر من الفرات فيؤتى به ويطرح على حافة الشط ويلقى عليه الحشيش
ولا يطير ولا يشترى منه الا أعرابي أو من يشتريه فينبذه، وما كان الناس
يقدمون على شرائه. والوجه الثاني أنه يجوز لمن في يده الأرض الانتفاع بثمرتها
لان الحاجة تدعو إليه فجاز كما تجوز المساقاة والمضاربة على جزء مجهول
(فصل) ويؤخذ الخراج من كل جريب شعير درهمان، ومن كل جريب
حنطة أربعة دراهم، ومن كل جريب شجر وقصب وهو الرطبة ستة دراهم.
واختلف أصحابنا في خراج النخل الكرم، فمنهم من قال يؤخذ من كل جريب
نخل عشرة دراهم، ومن كل جريب كرم ثمانية دراهم، لما روى مجاهد عن الشعبي
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث عثمان بن حنيف فجعل على جريب الشعير
درهمين وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب الشجر والقضب ستة
دراهم وعلى جريب الكرم ثمانية دراهم وعلى جريب النخل عشرة دراهم وعلى
جريب الزيتون اثنى عشر، ومنهم من قال يجب على جريب الكرم عشرة وعلى
جريب الزيتون اثنى عشر، ومنهم من قال يجب على جريب الكرم عشرة وعلى
جريب النخل ثمانية، لما روى أبو قتادة عن لاحق بن حميد يعنى أبا مجلز قال
بعث عمر بن الخطاب عثمان بن حنيف وفرض على جريب الكرم عشرة وعلى جريب
النخل ثمانية وعلى جريب البر أربعة وعلى جريب الشعير درهمين وعلى جريب القضب
ستة وكتب بذلك إلى عمر فأجازه ورضى به وروى عباد بن كثير عن قحزم قال
جبى عمر العراق مائة ألف ألف وسبعة وثلاثين ألف ألف وجباها عمر بن عبد العزيز
مائة ألف وأربعة وعشرون ألف ألف وجباها الحجاج ثمانية عشر ألف ألف
وما يؤخذ من ذلك يصرف في مصالح المسلمين الأهم فالأهم لأنه للمسلمين فصرف
في مصالحهم والله أعلم
455

(الشرح) قال أبو يوسف في كتاب الخراج: فلما افتتح السواد شاور عمر
رضي الله عنه الناس فيه فرأى عامتهم أن يقسمه، وكان بلال بن رباح من أشدهم
في ذلك وكان رأى عبد الرحمن بن عوف أن يقسمه، كان رأى عثمان وعلى
وطلحة رأى عمر رضي الله عنه، وكان رأى عمر (رض) أن يتركه ولا يقسمه
حتى قال عند إلحاحهم عليه في قسمته: اللهم اكفني بلالا وأصحابه فمكثوا بذلك
أياما حتى قال عمر رضي الله عنه لهم قد وجدت حجة في تركه وأن لا أقسمه
قول الله تعالى (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون
فضلا من الله ورضوانا) فتلا عليهم حتى بلغ إلى قوله تعالى (والذين جاءوا من
بعدهم) قال: فكيف أقسمه لكم وأدع من يأتي بغير قسم فأجمع على تركه وجمع
خراجه واقراره في أيدي أهله ووضع الخراج على أرضيهم والجزية على رؤوسهم
ومسح عمر السواد فبلغ ستة وثلاثين ألف ألف جريب وأنه وضع على جريب
الزرع درهما وقفيزا، وعلى الكرم عشرة دراهم، وعلى الرطبة خمسة دراهم،
وعلى الرجل اثنى عشر درهما وأربعة وعشرين درهما وثمانية وأربعين درهما.
وبعث عمر عمار بن ياسر على الصلاة والحرب، وعبد الله بن مسعود على القضاء
وبيت المال، وعثمان بن حنيف على مساحة الأرضين، وجعل بينهم شاة كل يوم
شطرها وبطنها لعمار بن ياسر وربعها لعبد الله بن مسعود، والربع الآخر لعثمان
ابن حنيف وقال: إني أنزلت نفسي وإياكم من هذا المال بمنزلة والى اليتيم فإن الله
تبارك وتعالى قال (ومن كان غنيا).. إلى.. (بالمعروف) والله ما أرى
أرضا يؤخذ منها شاة في كل يوم الا استسرع خرابها قال: فمسح عثمان الأرضين
وجعل على جريب العنب عشرة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى
جريب القصب ستة دراهم، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم، وعلى جريب
الشعير درهمين، وعلى الرأس اثنى عشر درهما وأربعة وعشرين درهما وثمانية
وأربعين درهما، وعطل من ذلك النساء والصبيان.
قال سعيد بن أبي عروبة خالفني بعض أصحابي فقال على جريب النخل عشرة
دراهم، وعلى جريب العنب ثمانية دراهم.
456