الكتاب: المجموع
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ٢٠
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: التكملة الثانية

التكملة الثانية
المجموع
شرح المهذب
للإمام أبي زكريا محيي الدين بشرف النووي المتوفى سنة 676 ه‍
الجزء العشرون
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

قال المصنف رحمه الله تعالى
كتاب الحدود
(الشرح) أصل الحد في اللغة: المنع، وقيل للبواب حداد، لأنه يمنع من
يدخل الدار من غير أهلها، قال الأعشى:
فقمنا ولما يصح ديكنا * إلى جونة عند حدادها
وسمى الحديد حديدا لمنعه من السلاح ووصوله إلى لابسه: وحد الشئ
يمنع أن يدخل فيه ما ليس منه وأن يخرج منه ما هو منه، والحد في الشرع يمنع
المحدود من العود إلى ما كان ارتكبه، وكذا السجان سمى حدادا لهذا المعنى
قال الشاعر:
لقد ألف الحداد بين عصابة * فسائل في الأقياد ماذا ذنوبها
قال القائد الاعلى للقوات الأندلسية في حينه في كتابه المحلى لم يصف الله تعالى
حدا من العقوبة محدودا لا يتجاوز في النفس أو الأعضاء أو البشرة الا في
سبعة أشياء وهي:
1 - المحاربة 2 - الردة 3 - الزنا 4 - القذف بالزنا
5 - السرقة 6 - جحد العارية 7 - تناول الخمر في شرب أو أكل
قال المصنف رحمه الله:
(باب حد الزنا)
الزنا حرام وهو من الكبائر العظام، والدليل عليه قوله عز وجل (ولا تقربوا
الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا) وقوله تعالى (والذين لا يدعون مع الله إلها
آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزفون ومن يفعل ذلك يلق
أثاما) وروى عبد الله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم
عند الله عز وجل قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قلت: إن ذلك لعظيم،
قال: قلت: ثم أي قال أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك، قال قلت: ثم أي
قال أن تزاني حليلة جارك.
3

(الشرح) حديث عبد الله (سألت النبي صلى الله عليه وسلم..) متفق عليه
وأخرج أحمد والطبراني في الكبير والأوسط عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه
لأصحابه ما تقولون في الزنا؟ قالوا حرام حرمه الله عز وجل ورسوله
فهو حرام إلى يوم القيامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: لان
يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره)
وروى بن أبي الدنيا والخرائطي عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
الزاني بحليلة جاره لا ينظر الله إليه يوم القيامة ولا يزكيه، ويقول ادخل النار
مع الداخلين)
اللغة قوله (أن تجعل لله ندا) الند المثل والنظير وكذلك النديد والنديدة.
أجمعت الشرائع القديمة والحديثة على حرمة الزنا، وهو أن يأتي رجل وامرأة
بفعل الجماع بغير أن تكون بينهما علاقة الزوجية المشروعة، وما زالت المجتمعات
البشرية مجمعة عليه منذ أقدم عصور التاريخ إلى يومنا الحاضر ولم يخالفها فيه حتى
اليوم إلا شرذمة قليلة من الذين جعلوا عقولهم تابعة لأهوائهم وشهواتهم البهيمية
أو أوتوا من قبل عقولهم، ويظنون كل مخالفة للنظام والعرف الجاري اختراعا
لفلسفة جديدة، والعلة في هذا الاجماع العالمي أن الفطرة الانسانية بنفسها تقتضي
حرمة الزنا، ومما يتوقف عليه بقاء النوع الانساني وقيام التمدن الانساني أن
لا تكون الحرية للرجل والمرأة في أن يجتمعا ابتغاء اللذة وقضاء لشهوتهما
النفسية متى شاء اثم يفترقا متى أرادا، بل يجب أن تكون العلاقة بين كل رجل
وامرأة قائمة على عهد للوفاء دائم بحكم معروف في المجتمع، وتكون مستندة إلى
ضمان المجتمع كله.
قالت الحنابلة في منار السبيل: الزنى هو فعل الفاحشة في قبل أو دبر وهو
من أكبر الكبائر، قال الإمام أحمد لا أعلم حدا بعد القتل ذنبا أعظم من الزنا،
وأجمعوا على تحريمه.
ولقد كان الزنا في الجاهلية على قسمين سرا وعلانية، وعاما وخاصا، فالخاص
السرى هو أن يكون للمرأة خدن يزني بها سرا فلا تبذل نفسها لكل أحد،
4

والعام الجهري هو المراد بالسفاح، كما قال ابن عباس وهو البغاء، وكان البغايا
من الإماء وكن ينصبن الرايات الحمر لتعرف منازلهن.
وروى عن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما ظهر من الزنا
ويقولون انه لؤم، ويستحلون ما خفى ويقولون لا بأس به، وهذان النوعان
معروفان الآن وفاشيان في بلاد الإفرنج والبلاد التي تقلد الإفرنج في شرور
مدنيتهم كمصر والآستانة.
وقبل الكلام في الأحكام علينا أن نلقى نظرة سريعة على أحكام الشرائع
السابقة، ففي الكتاب المقدس لليهود الأصحاح الثاني والعشرون 16، 17 (وإذا
أراد رجل عذراء لم تخطب فاضطجع معها يمهرها لنفسه زوجة إن أبى أبوها أن
يعطيه إياها يزن له فضة كمهر العذارى)
وفى 28، 29، من نفس المرجع، إذا وجد رجل فتاة عذراء غير مخطوبة فأمسكها
واضطجع معها فوجدا يعطى الرجل الذي اضطجع معها لأبي الفتاة خمسين مثقالا
من الفضة وتكون هي له زوجة من أجل أنه قد أذلها، غير أنه إذا زنى أحد
ببنت القسيس عوقب بالشنق بموجب القانون اليهودي وعوقبت البنت بالاحراق
وهذه الفكرة هي شبيهة بفكرة الهنادك، ففي كتاب القانون الديني لمانو (أيما رجل
زنى ببنت من طبقته عن رضاها فليس عليه شئ من العقوبة، وله أن يؤدى
الأجرة إلى والدها وينكحها ان رضى به. وأما إذا كانت البنت من طبقة أعلى
من طبقته فلتخرج البنت من بيتها ويعاقب الرجل بقطع الأعضاء، ويجوز تغيير
هذه العقوبة بإحراق البنت حية إذا كانت من الطبقة البرهمية.
أما عقوبة الزنا بالمتزوجة فعند المصريين الفراعنة أن يضرب الرجل ضربا
شديدا بالعصا ويجدع أنفه، وكذا في بابل وآشور وفارس القديمة، أما الهنود
فكانت عقوبة المرأة عندهم أن تطرح أمام الكلاب حتى تمزقها، وعقوبة الرجل
أن يضجع على سرير محمى من الحديد وتشعل حوله النار، وقد كان من حق
الرجل عند اليونان والروم في بدء الامر أنه إذا وجد أحدا يزني بامرأته أن
يقتله أو ينال منه إن شاء غرامة مالية، ثم أصدر قيصر أغسطس مرسوما بأن
5

يصادر الرجل بنصف ما يملك من المال والبيوت وينفى من موطنه، وأن تحرم
المرأة من نصف صداقها وتصادر بنصف ما تملك من المال وتنفى إلى بقعة أخرى
ثم جاء قسطنطين وغير هذا القانون بإعدام الرجل والمرأة، ثم تغير هذا في
عهد ليون مارسين بالحبس المؤبد، ثم جاء قيصر جستينين وخفف هذه العقوبة
وغيرها بضرب الأسواط ثم حبسها في دير الراهبات وإعطاء زوجها الحق في
أنه إن شاء استخرجها من الدير في ضمن مدة سنتين، أو تركها فيه إن
شاء طول حياتها.
وأما الأحكام في القانون اليهودي عن الزنا بامرأة الغير فهي (إذا اضطجع
رجل مع امرأة اضطجاع زرع وهي أمة مخطوبة لرجل ولم تفد فداء ولا أعطيت
حريتها فليكن تأديب ولا يقتلا لأنها لم تعتق)
(إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان، الرجل
المضطجع مع المرأة والمرأة).
(إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع
معها فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا،
الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، والرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه
فتنتزع الشر من وسطك، ولكن إن وجد الرجل الفتاة المخطوبة في الحقل
وأمسكها الرجل واضطجع معها يموت الرجل الذي اضطجع معها وحده، وأما
الفتاة فلا يفعل بها شيئا) الأصحاح الثاني والعشرون 22 - 26. وقد استنبط
المسيحيون استنباطات خاطئة.
ومن بعض أقوال المسيح في المرأة التي جاء بها اليهود وهي زانية ليحكم، فإذا
زنى عندهم رجل بكر بامرأة باكرة فإن فعلهما على كونه ذنبا ليس بجريمة مستلزمة
للعقوبة على كل حال.
وأما إذا كان أحد المرتكبين لهذا الفعل الرجل أو المرأة أو كلاهما متزوجا
فإنه الجريمة غير أن الذي يجعله الجريمة إنما هو نقض العهد لا الزنا المحض، فكل
من أتى بفعل الزنا بعد كونه متزوجا فإنه مجرم لأنه نقض العهد الذي كان عقده
مع زوجته أو زوجها إن كانت المرتكبة امرأة أمام المذبح بواسطة القسيس،
6

أما عقوبته على إتيانه بهذه الجريمة فإنما هي أن تقيم زوجته عليه الدعوى وتشكو
غدره إلى المحكمة وتطلب منها التفريق بينهما، وكذلك ليس من حق زوج المرأة
الزانية أن يقيم عليها الدعوى في المحكمة ويطلقها أمامها فحسب، بل له كذلك أن
ينال غرامة مالية من الرجل الذي أفسد زوجته. ومن العجيب أن هذه العقوبة
سيف يقطع من جانبين، فإن المرأة وإن كان لها أن تقيم الدعوى على زوجها
الغادر وتنال من المحكمة حكم تفريقها منه، ولكن لا يجوز لها أن تنكح
رجلا آخر طول حياتها، وكذلك الرجل إن فعل بزوجته الغادرة، ومعنى ذلك
أن كل من أحب من الزوجين أن يحيا في الدنيا حياة الرهبان والراهبات فعليه أن
يشكو إلى المحكمة.
أما الاسلام فإنه يراها جريمة مستلزمة للمؤاخذة والعقوبة ويغلظ في نظره شدة
هذه الجريمة لا على أساس أنه نقض العهد أو تعدى على فراش غيره، ولكن على
أساس أنه سلك لقضاء شهوته طريقا غير مشروع، وعلى أساس أنه إذا أطلق
عناس الناس لاتيانها متى شاؤوا، فإنها لا تلبث أن تستأصل شأفة نوع
الانسان وتمدنه معا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا وطئ رجل من أهل دار الاسلام امرأة محرمة عليه من غير
عقد ولا شبهة عقد وغير ملك ولا شبهة ملك وهو عاقل بالغ مختار عالم بالتحريم
وجب عليه الحد، فإن كان محصنا وجب عليه الرجم لما روى ابن عباس رضي الله عنه
قال، قال عمر: لقد خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائلهم ما نجد
الرجم في كتاب الله فيضلون ويتركون فريضة أنزلها الله، ألا إن الرجم إذا أحصن
الرجل وقامت البينة أو كان الحمل أو الاعتراف، وقد قرأتها الشيخ والشيخة إذا
زنيا فارجموهما البتة، وقد رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا، ولا يجلد
المحصن مع الرجم لما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجني رضي الله عنهما قالا:
كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه رجل فقال إن ابني كان عسيفا
على هذا فزنى بامرأته، فقال على ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس
7

على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها فاعترفت فرجمها، ولو وجب
الجلد مع الرجم لأمر به.
(فصل) والمحصن الذي يرجم هو أن يكون بالغا عاقلا حرا وطئ في نكاح
صحيح، فإن كان صبيا أو مجنونا لم يرجم، لأنهما ليسا من أهل الحد، وإن كان
مملوكا لم يرجم.
وقال أبو ثور: إذا أحصن بالزوجية رجم، لأنه حد لا يتبعض فاستوى فيه
الحر والعبد كالقطع في السرقة، وهذا خطأ لقوله عز وجل (فإذا أحصن فإن
أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب) فأوجب مع
الاحصان خمسين جلدة.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا زنت
أمة أحدكم فليجلدها الحد، ولان الرجم أعلى من جلد مائة، فإذا لم يجب على
المملوك جلد مائة فلان لا يجب الرجم أولى، ويخالف القطع في السرقة فإنه ليس
في السرقة حد غير القطع، فلو أسقطناه سقط الحد وفى ذلك فساد، وليس
كذلك الزنا فإن فيه حدا غير الرجم فإذا أسقطناه لم يسقط الحد. وأما من لم يطأ
في النكاح الصحيح فليس بمحصن وإذا زنى لم يرجم، لما روى مسروق عن عبد الله
قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله
الا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك
لدينه المفارق للجماعة) ولا خلاف أن المراد بالثيب الذي وطئ في نكاح صحيح
واختلف أصحابنا هل يكون من شرطه أن يكون الوطئ بعد كماله بالبلوغ والعقل
والحرية أم لا؟ فمنهم من قال ليس من شرطه أن يكون الوطئ بعد الكمال
فلو وطئ وهو صغير أو مجنون أو مملوك ثم كمل فزنى رجم، لأنه وطئ أبيح
للزوج الأول فثبت به الاحصان، كما لو وطئ بعد الكمال، ولان النكاح يجوز
أن يكون قبل الكمال فكذلك الوطئ.
ومنهم من قال من شرطه أن يكون الوطئ بعد الكمال، فإن وطئ في حال
الصغر أو الجنون أو الرق ثم كمل وزنى لم يرجم، وهو ظاهر النص، والدليل
عليه ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
8

(خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب
عام، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم، فلو جاز أن يحصن الوطئ في حال
النقصان لما علق الرجم بالزنا، ولان الاحصان كمال فشرط أن يكون وطؤه في
حال الكمال، فعلى هذا إذا وطئ في نكاح صحيح فإن كانا حرين بالغين عاقلين
صارا محصنين، وإن كانا مملوكين أو صغيرين أو مجنونين لم يصيرا محصنين، وإن
كان أحدهما حرا بالغا عاقلا والآخر مملوكا أو صغيرا أو مجنونا ففيه قولان
(أحدهما) أن الكامل منهما محصن والناقص منهما غير محصن وهو الصحيح
لأنه لما جاز أن يجب بالوطئ الواحد الرجم على أحدهما دون الاخر جاز أن
يصير أحدهما بالوطئ الواحد محصنا دون الاخر
والقول الثاني أنه لا يصير واحد منهما محصنا لأنه وطئ لا يصير به أحدهما
محصنا فلم يصر الاخر به محصنا كوطئ الشبهة، ولا يشترط في إحصان الرجم
أن يكون مسلما لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى
بيهوديين زنيا فأمر برجمهما.
(فصل) وإن كان غير محصن نظرت فإن كان حرا جلد مائة وغرب سنة
لقوله عز وجل (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) وروى
عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خذوا
عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر جلد مائه وتغريب عام،
والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. وإن كان مملوكا جلد خمسين عبدا كان أو أمة
لقوله عز وجل (فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب)
فجعل ما على الأمة نصف ما على الحرة لنقصانها بالرق، والدليل عليه أنها لو
أعتقت كمل حدها، والعبد كالأمة في الرق فوجب عليه نصف ما على الحر،
وهل يغرب العبد بعد الجلد؟ فيه قولان.
(أحدهما) أنه لا يغرب لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد. ولم يذكر النفي، ولان القصد
بالتغريب تعذيبه بالاخراج عن الأهل، والمملوك لا أهل له
والقول الثاني: أنه يغرب، وهو الصحيح، لقوله عز وجل (فعليهن نصف
9

ما على المحصنات من العذاب) ولأنه حد يتبعض فوجب على العبد كالجلد، فإذا
قلنا إنه يغرب ففي قدره قولان:
(أحدهما) أنه يغرب سنة، لأنها مدة مقدرة بالشرع، فاستوى فيها الحر
والعبد كمدة العنين.
(والثاني) أنه يغرب نصف سنة للآية، ولأنه حد يتبعض فكان العبد فيه
على النصف من الحر كالجلد.
(الشرح) أثر ابن عباس (لقد خشيت أن يطول بالناس...) متفق عليه
وفى رواية أخرى (قال عمر وهو جالس على مقبر رسول الله صلى الله عليه
وسلم: إن الله بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان فيما أنزل الله عليه
آية الرجم قرأناها ووعيناها، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا
بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل ما نجد الرجم في كتاب الله
فيضلون بترك فريضة أنزلها الله، وان الرجم في كتاب الله حق على كل من زنى
إذا أحصن من الرجال أو النساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف)
رواه مسلم عن أبي الطاهر وحرملة، ورواه البخاري عن يحيى بن سلمان عن ابن
وهب. ورواه البيهقي. وقال الحافظ وعزاه الشيخين ومراده أصل الحديث،
وفى رواية الترمذي (لولا انى أكره أن أزيد في كتاب الله لكتبته في المصحف،
فإني قد خشيت أن يجئ قوم فلا يجدونه في كتاب الله فيكفرون به)
وروى الحاكم والطبراني (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة لما
قضيا من اللذة)
وروى ابن حبان والبيهقي ((عن زر بن حبيش قال، قال لي أبي بن كعب
كأين تعد أو كأين تقرأ سورة الأحزاب؟ قلت ثلاث وسبعين آية، قال أقط
لقد رأيتها وإنها لتعدل سورة البقرة وان فيها الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما
البتة نكالا من الله والله عزيز حكيم.
حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني أنهما قالا (ان رجلا من الاعراب
أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أنشدك الله إلا قضيت لي
10

بكتاب الله، وقال الخصم الآخر وهو أفقه منه نعم ناقض بيننا بكتاب الله وائذن
لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قل: قال إن ابني كان عسيفا على هذا
فزنى بامرأته وإني أخبرت أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاة ووليدة
فسألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وان على امرأة
هذا الرجم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لأقضين
بينكما بكتاب الله، الوليدة والغنم رد وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد
يا أنيس (لرجل من أسلم) إلى امرأة هذا، فان اعترفت فارجمها قال فغدا عليها
فاعترفت فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجمت) رواه الجماعة والبيهقي.
حديث أبي هريرة (إذا زنت أمة أحدكم....) رواه البخاري ومسلم
وأحمد وأبو داود (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها
ثم إن زنت فليجلدها الحد ولا يثرب ثم إن زنت الثالثة فليبعها ولو بحب من شعر)
وفى رواية أبى داود (في الرابعة الحد والبيع).
حديث عبد الله (لا يحل دم امرئ....) متفق عليه، وأبو داود
والترمذي والنسائي.
وعن عائشة (لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله إلا في إحدى ثلاث زنا بعد إحصان فإنه يرجم ورجل خرج محاربا لله
ولرسوله فإنه يقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض أو يقتل نهسا فيقتل بها)
رواه أبو داود والنساء.
حديث عبادة بن الصامت (خذوا عنى...) (أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان إذا نزل عليه الوحي كرب لذلك وتريد وجهه فأنزل الله عليه
ذات يوم فلقي ذلك فلما سرى عنه قال خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا الثيب
بالثيب، والبكر بالبكر جلد مائة ثم رجم بالحجارة والبكر جلد مائة ونفى سنة)
رواه مسلم.
وفى رواية (خذوا عنى خذوا عنى قد جعل الله لهن سبيلا البكر بالبكر جلد مائة
ونفى سنة والثيب بالثيب جلد مائة والرجم) رواه الجماعة الا البخاري والنسائي
11

حديث ابن عمر (أتى بيهوديين.) سبق تخريجه.
اللغة. قوله (وجب عليه الرجم) وأصله الرمي بالرجام وهي الحجارة
الضخام. وكل رجم في القرآن فمعناه القتل. وأما الجلد فمأخوذ من جلد الانساني
وهو الضرب الذي يصل إلى جلده. قال الجوهري جلده الحد جلدا أي ضربه
وأصاب جلده كقولك رأسه وبطنه، وإنما جعلت العقوبة في الزنا بذلك ولم تجعل
بقطع آلة الزنا كما جعلت عقوبة السرقة والمحاربة بقطع آلة السرقة وهي اليد
والرجل لأنه يودي إلى قطع النسل، ولعل قطع يد السارق يكون عاما في
السارق والسارقة وقطع الذكر يختص بالرجل دون المرأة.
قوله (كان عسيفا) العسيف الأجير والجمع عسفاء قال:
أطعت النفس في الشهوات حتى أعادتني عسيفا عند عبدي
(لا يثرب) قال الخطابي لا يقتصر على التثريب.
(العسيف) قال مالك الأجير، ويطلق العسيف على السائل والعبد والخادم
والعسف في أصل اللغة الجور وسمى الأجير بذلك لان المستأجر يعسفه على
العمل أي يجوز عليه.
(تنبيه) قوله يا أنيس بضم الهمزة بعدها نون إثم تحتية ثم سين مهملة مصغرا
قال ابن عبد البر هو ابن الضحاك الأسلمي، وقيل ابن مرشد، وقال ابن السكن
في كتاب الصحابة لم أدر من هو ولا ذكر الا في هذا الحديث، وغلط بعضهم
فقال إنه أنس بن مالك.
قوله (إذا وطئ رجل من أهل دار الاسلام..) وهو من باب
ما لا خلاف فيه، وهذا قول امام الأئمة ابن حزم في مراتب الاجماع، واتفقوا
أن من زنى وهو حر بالغ غير محصن وهو عاقل مسلم غير سكران ولا مكره في
أرض غير حرم مكة ولا في أرض الحرب بامرأة بالغه ليست أمة لزوجته ولا
لولده ولا لاحد من رقيقه ولا لاحد من أبويه ولا ممن ولده بوجه من الوجعة
ولا ادعى أنها زوجته ولا ادعى أنها أمته بوجه من الوجوه ولا هي من المعنم
ولا هي مخدمة له ولا مباحة الفرج له من مالكها، وهي عاقلة غير سكرى ولا
12

مكرهة ولا هي مستأجرة للزنا، ولا هي أمنه متزوجة من عبده، ولا هي ذمية
ولا هي حربية وهو يعلم أنها حرام عليه أو ليست ملكا له ولا عقد عليها نكاحا
ولم يتب ولا تقادم زناه قبل أخذه بشهر ولا تزوجها ولا اشتراها بعد أن زنى
بها أن عليه جلد مائة، واتفقوا أنه إذا زنى كما ذكرنا وكان قد تزوج قبل ذلك
وهو بالغ مسلم حر عاقل بحرة مسلمة بالغة عاقلة نكاحا صحيحا ووطئها وهو في
عقله قبل أن يزني ولم يتب ولا طال الامر أن عليه الرجم بالحجارة حتى يموت.
قوله (المحصن الذي يرجم..) قال ابن حزم في المحلى قال الله تعالى (فإذا
أحصن...) فبيقين ندري أن الله تعالى أراد فإذا تزوجن ووطئن فعليهن نصف
ما على الحرائر المحصنات من العذاب، والحرة المحصنة فإن عليها جلد مائة والرجم
وبالضرورة ندري أن الرجم لا نصف له فبقي عليهن نصف المائة.
ثم قال: واختلف الناس في المملوك الذكر إذا زنى، فقالت طائفة ان حده
حد الحر من الجلد والنفي والرجم.
وقال الكاساني في البدائع (ان وجوب الحد على المرأة في باب الزنا ليس
لكونها زانية، لان فعل الزنا لا يتحقق وهو الوطئ، لأنها موطوءة وليست
بواطئة، وتسميتها في الكتاب العزيز زانية مجاز لا حقيقة، وإنما وجب عليها
لكونها مزنيا بها وفعل الصبي والمجنون ليس بزنا فلا تكون هي مزنيا بها فلا
يجب عليها الحد، وفعل الزنا يتحقق من العاقل البالغ فكانت الصبية أو المجنونة
مزنيا بها، الا أن الحد لم يجب عليها لعدم الأهلية، والأهلية ثابتة في جانب
الرجل فيجب.
قالت الحنابلة في منار السبيل: فإذا زنى المحصن وجب رجمه حتى يموت.
وروى حديث عمر السابق الإشارة إليه وحديث ماعز، ولا يجب الرجم الا
على المحصن بإجماع أهل العلم، والمحصن هو من وطئ زوجته في قبلها بنكاح
صحيح لا باطل ولا فاسد لأنه ليس بنكاح في الشرع، وهما حران مكلفان فلا
احصان مع صغر أحدهما أو جنونه أو رقه، ولان الاحصان كمال فيشترط أن
يكون في حال الكمال وتصير الزوجة أيضا محصنة حيث كانا بالصفات المتقدمة
13

حال الوطئ ولا يشترط الاسلام في الاحصان، ولا خلاف بين أهل العلم في
أن الزنى ووطئ الشبهة لا يصير به أحدهما محصنا، ولا نعلم بينهم خلافا في أن
التسري لا يحصل به الاحصان لواحد منهما، لكونه ليس بنكاح ولا تثبت فيه
أحكامه، وإن زنى الحر غير المحصن جلد مائة جلدة وغرب عاما إلى مسافة قصر
لان أحكام السفر من القصر والفطر لا تثبت بدونه، وفى الكافي وحيث رأى الامام
الزيادة في المسافة فله ذلك، لان عمر رضي الله عنه غرب إلى الشام والعراق،
وإن رأى زيادة على الحول لم يجز لان مدة الحول منصوص عليها فلم يدخلها الاجتهاد
والمسافة غير منصوص عليها فرجع فيها إلى الاجتهاد اه‍.
وتغرب المرأة مع محرم لعموم نهيها عن السفر بلا محرم وعليها أجرته،
ويغرب غريب إلى غير وطنه. وإن زنى الرقيق جلد خمسين جلدة، بكرا أو ثيبا
لقوله تعالى (فعليهن نصف ما على المحصنات...) والعذاب المذكور في القرآن
مائة جلدة فينصرف التنصيف إليه دون غيره والرجم لا يتأتى تنصيفه.
وعن عبد الله بن عباس المخزومي قال (أمرني عمر بن الخطاب في فتية من
قريش فجلدنا ولائد من ولائد الامارة خمسين خمسين في الزنى) رواه مالك.
ولا يغرب لان تغريبه إضرارا بسيده دونه، ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمر
بتغريب الأمة إذا زنت في حديث أبي هريرة وزيد بن خالد) وقد سبق
قالت المالكية: والزناة الذين تختلف العقوبة باختلافهم أربعة أصناف،
محصنون ثيب وأبكار، وأحرار وعبيد، وذكور وإناث، والحدود الاسلامية
ثلاثة: رجم وجلد وتغريب:
فأما الثيب الأحرار المحصنون فإن المسلمين أجمعوا على أن حدهم الرجم إلا
فرقة من أهل الأهواء، فإنهم رأوا أن حد كل زان الجلد، وإنما صار الجمهور
للرجم لثبوت أحاديث الرجم، فخصصوا الكتاب بالسنة، أعني قوله تعالى
(الزانية والزاني) الآية. واختلفوا موضعين، أحدهما هل يجلدون مع
الرجم أم لا، والموضع الثاني في شروط الاحصان.
قال القرطبي في تفسيره: قوله تعالى (مائة جلدة) هذا حد الزاني الحر البالغ
البكر، وكذلك الزانية البالغة البكر الحرة، وثبت بالسنة تغريب عام على الخلاف
14

في ذلك، وأما المملوكات فالواجب خمسون جلدة لقوله تعالى (فإن أتين بفاحشة)
وهذا في الأمة ثم العبد في معناها، وأما المحصن من الأحرار فعليه الرجم دون
الجلد، ومن العلماء من يقول يجلد مائة ثم يرجم.
ثم قال في مكان آخر فإن زنى بالغ بصبية أو عاقل بمجنونة أو مستيقظ بنائمة
فإن ذلك من جهة الرجل زنى فهذا زان نكح غير زانية، ثم قال قلنا هو زنى من
كل جهة إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والاخر ثبت فيه.
قال الشوكاني: والحاصل أن أحاديث التغريب قد جاوزت حد الشهرة المعتبرة
عند الحنفية فيما ورد من السنة زائدا على القرآن، فليس لهم معذرة عنها بذلك
وقد عملوا بما هو دونها، وقد أجاب صاحب البحر عن أحاديث التغريب بأنه
عقوبة لا حد، ويجاب عن ذلك بالقول بموجبه، فإن الحدود كلها عقوبات،
والنزاع في ثبوته لا في مجرد التسمية.
(قلت) فإن العلماء اختلفوا هل يجلد من وجب عليه الرجم، وقال الحسن
البصري وإسحاق وأحمد وأبو داود (الزاني المحصن يجلد ثم يرجم) عمدة الجمهور
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا ورجم امرأة من جهينة ورجم
يهوديين وامرأة من عامر من الأزد، كل ذلك مخرج في الصحاح ولم يرو أنه
جلد واحد منهم.
ومن جهة المعنى أن الحد الأصغر ينطوي في الحد الأكبر، وذلك أن الحد
إنما وضع للزجر فلا تأثير للزجر بالضرب مع الرجم. وعمدة الفريق الثاني عموم
قوله تعالى (الزانية والزاني...) فلم يخص محصن من غير محصن.
واحتجوا أيضا بحديث علي رضي الله عنه خرجه مسلم وغيره أن عليا رضي الله عنه
جلد شراحة الهمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال جلدتها
بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله.
وأما الاحصان فإنهم اتفقوا على أنه من شرط الرجم، واختلفوا في شروطه
فقال مالك البلوغ والاسلام والحرية والوطئ في عقد صحيح وحالة جائز فيها
الوطئ والوطئ المحظور هو عنده الوطئ في الحيض أو في الصيام، فإذا زنا
بعد الوطئ الذي هو بهذه الصفة وهو بهذه الصفات فحده الرجم.
15

ووافق أبو حنيفة مالكا في هذه الشروط إلا في الوطئ المحظور واشترط في
الحرية أن تكون من الطرفين أعني أن يكون الزاني والزانية حرين ولم يشترط الاسلام الشافعي. وعمدة الشافعي ما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر، وهو
حديث متفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهودية واليهودي، وعمدة
مالك من طريق المعنى أن الاحصان عنده فضيلة، ولا فضيلة مع عدم الاسلام
وهذا مبناه على أن الوطئ في نكاح صحيح هو مندوب إليه فهذا هو حكم الثيب.
وأما الأبكار فان المسلمين أجمعوا على أن حد البكر في الزنا جلد مائة،
واختلفوا في التغريب فقال أبو حنيفة وأصحابه لا تغريب أصلا.
وقال الشافعي: لابد من التغريب مع الجلد لكل زان ذكرا كان أو أنثى
حرا كان أو عبدا.
وقال مالك يغرب الرجل ولا تغرب المرأة، وبه قال الأوزاعي ولا تغريب
عند مالك على العبيد فعمدة من أوجب التغريب على الاطلاق حديث عبادة بن
الصامت، ومن خصص المرأة من هذا العموم فإنما خصصه بالقياس، لأنه رأى
أن المرأة تعرض بالغربة لأكثر من الزنا، وهذا من القياس المرسل أعني
المصلحي الذي كثيرا ما يقول به مالك.
وأما عمدة الحنفية فظاهر الكتاب وهو مبنى على رأيهم أن الزيادة على النص
فسخ وأنه ليس ينسخ الكتاب بأخبار الآحاد، ورووا عن عمر أنه حد ولم
يغرب، وروى الكوفيون عن أبي بكر وعمر أنهم غربوا.
وأما حكم العبيد في هذه الفاحشة فان العبيد صنفان ذكور وإناث، أما
الإناث فان العلماء أجمعوا على أن الأمة إذا تزوجت وزنت أن حدها خمسون
جلدة، واختلفوا إذا لم تزوج، فقال جمهور فقهاء الأمصار حدها خمسون جلدة
وقالت طائفة. لا حد عليها وإنما عليها تعزير فقط، وروى ذلك عن عمر بن
الخطاب، وقال قوم لا حد على الأمة أصلا، والسبب في اختلافهم الاشتراك
الذي في اسم الاحصان في قوله تعالى (فان أحصن) فمن فهم الاحصان التزوج
قال بدليل الخطاب لا تجلد الغير المتزوجة، ومن فهم من الاحصان الاسلام
16

جعلة عاما في المتزوجة وغيرها، واحتج على من لم ير على غير المتزوجة حدا
بحديث أبي هريرة وزيد بن خالد، وأما الذكر من العبيد ففقهاء الأمصار على
أن حد العبد نصف حد الحر قياسا على الأمة، وقال أهل الظاهر حده مائة جلدة
مصيرا إلى عموم قوله تعالى (فاجلدوا..) ولم يخصص حرا من عبد، ومن
الناس من درأ الحد عنه قياسا على الأمة، وهذا شاذ وروى عن ابن عباس.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن زنى وهو بكر فلم يحد حتى أحصن وزنى ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يرجم ويدخل فيه الجلد والتغريب لأنهما حدان يجبان بالزنا
فتداخلا، كما لو وجب حدان وهو بكر.
(والثاني) أنه لا يدخل فيه لأنهما حدان مختلفان فلم يدخل أحدهما في الاخر
كحد السرقة والشرب، فعلى هذا يجلد ثم يرجم ولا يغرب، لان التغريب
يحصل بالرجم.
(الشرح) أخرج البيهقي في سننه الكبرى عن سعيد بن المسيب أنه سئل
عن رجل تزوج امرأة ولم يمسها ثم زنى، فقال سعيد السنة فيه أن يجلد ولا يرجم
وأخرج عن رجل من بنى عجل قال: جئت مع علي رضي الله عنه بصفين فإذا
رجل في زرع ينادى أنى قد أصبت فاحشة فأقيموا على الحد، فرفعته إلى علي
رضي الله عنه، فقال له علي رضي الله عنه هل تزوجت؟ قال نعم، قال فدخلت
بها؟ قال لا، قال فجلده مائة وأغرمه نصف الصداق وفرق بينهما.
ورواه من طريق أخرى: ثم قال، قال الشيخ أما التفريق بينهما بالزنا حكما
فلا نقول به.
وأخرج عن أبي الزناد عن الفقهاء من أهل المدينة كانوا يقولون (من تزوج
ممن لم يكن أحصن قبل ذلك فزنى أن يدخل بامرأته فلا رجم عليه، والمرأة
مثل ذلك، فإن دخل بامرأته ساعة من ليل أو نهار أو أكثر فزنى بعد ذلك فعليه
الرجم والمرأة مثل ذلك والإماء وأمهات الأولاد لا يوجبن الرجم.
17

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والوطئ الذي يجب به الحد أن يغيب الحشفة في الفرج فإن أحكام
الوطئ تتعلق بذلك ولا تتعلق بما دونه وما يجب بالوطئ في الفرج من الحد يجب
بالوطء في الدبر لأنه فرج مقصود فتعلق الحد بالايلاج فيه كالقبل، ولأنه إذا
وجب بالوطئ في القبل، وهو مما يستباح، فلان يجب بالوطئ في الدبر وهو مما
لا يستباح أولى.
(فصل) ولا يجب على الصبي والمجنون حد الزنا لقوله صلى الله عليه وسلم:
رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن
المجنون حتى يفيق، ولأنه إذا سقط عنه التكليف في العبادات والمآثم في المعاصي
فلان يسقط الحد ومبناه على الدرء والاسقاط. أولى، وفى السكران قولان وقد
بيناهما في الطلاق.
(فصل) ولا يجب على المرأة إذا أكرهت على التمكين من الزنا لقوله
صلى الله عليه وسلم (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ولأنها
مسلوبة الاختيار فلم يجب عليها الحد كالنائمة، وهل يجب على الرجل إذا أكره
على الزنا؟ فيه وجهان
(أحدهما) وهو المذهب أنه لا يجب عليه لما ذكرنا في المرأة (والثاني) أنه
يجب لان الوطئ لا يكون إلا بالانتشار الحادث عن الشهوة والاختيار.
(فصل) ولا يجب على من لا يعلم تحريم الزنا لما روى سعيد بن المسيب قال
ذكر الزنا بالشام، فقال رجل زنيت البارحة، فقالوا ما تقول؟ قال ما علمت أن
الله عز وجل حرمه، فكتب - يعنى عمر - إن كان يعلم أن الله حرمة فخذوه
وإن لم يكن قد علم فأعلموه فإن عاد فارجموه.
وروى أن جارية سوداء رفعت إلى عمر رضي الله عنه وقيل إنها زنت فخفقها
بالدرة خفقات، وقال أي لكاع زنيت؟ فقالت من غوش بدرهمين - تخبر
بصاحبها الذي زنى بها ومهرها الذي أعطاها - فقال عمر رضي الله عنه ما ترون؟
وعنده على وعثمان وعبد الرحمن بن عوف، فقال علي رضي الله عنه أرى أن
18

ترجمها، وقال عبد الرحمن أرى مثل ما ر أي أخوك، فقال لعثمان ما تقول؟
قال أراها تستهل بالذي صنعت لا ترى به بأسا، وإنما حد الله على من علم أمر
الله عز وجل، فقال صدقت، فإن زنى رجل بامرأة وادعى أنه لم يعلم بتحريمه
فإن كان قد نها فيما بين المسلمين لم يقبل قوله لأنا نعلم كذبه، وإن كان قريب
العهد بالاسلام أو نشأ في بادية بعيدة من المسلمين أو كان مجنونا فأفاق وزنى قبل
أن يعلم الأحكام قبل قوله لأنه يحتمل ما يدعيه فلم يجب الحد، وإن وطئ
المرتهن الجارية المرهونة بإذن الراهن، وادعى أنه جهل تحريمه ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه لا يقبل دعواه إلا أن يكون قريب العهد بالاسلام أو نشأ في
موضع بعيد من المسلمين كما لا يقبل دعوى الجهل إذا وطئها من غير إذن الراهن
(والثاني) أنه يقبل قوله لان معرفة ذلك تحتاج إلى فقه.
(فصل) وإن وجد امرأة في فراشه فظنها أمته أو زوجته فوطئها لم يلزمه
الحد لأنه يحتمل ما يدعيه من الشبهة.
(فصل) وإن كان أحد الشريكين في الوطئ صغيرا والآخر بالغا أو أحدهما
مستيقظا والاخر نائما، أو أحدهما عاقلا والاخر مجنونا، أو أحدهما عالما
بالتحريم والاخر جاهلا، أو أحدهما مختارا والاخر مستكرها، أو أحدهما
مسلما والاخر مستأمنا وجب الحد على من هو من أهل الحد ولم يجب على
الاخر، لان أحدهما انفرد بما يوجب الحد وانفرد الاخر بما يسقط الحد
فوجب الحد على أحدهما وسقط عن الاخر.
وإن كان أحدهما محصنا والاخر غير محصن وجب على المحصن الرجم وعلى
غير المحصن الجلد والتغريب، لان أحدهما انفرد بسبب الرجم والاخر انفرد
بسبب الجلد والتغريب، وإن أقر أحدهما بالزنا وأنكر الاخر وجب على المقر
الحد لما روى سهل بن سعد الساعدي أن رجلا أقر أنه زنى بامرأة، فبعث النبي
صلى الله عليه وسلم إليها فجحدت فحد الرجل.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه وزيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: على
ابنك جلد مائة وتغريب عام واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها.
فأوجب الحد على الرجل وعلق الرجم على اعتراف المرأة
19

(فصل) وإن استأجر امرأة ليزني بها فزنى بها أو تزوج ذات رحم محرم
فوطئها وهو يعتقد تحريمها وجب عليه الحد لأنه لا تأثير للعقد في إباحة وطئها
فكان وجوده كعدمه، وإن ملك ذات رحم محرم ووطئها ففيه قولان
(أحدهما) أنه يجب عليه الحد لان ملكه لا يبيح وطأها بحال فلم يسقط الحد
(والثاني) أنه لا يجب عليه الحد، وهو الصحيح لأنه وطئ في ملك فلم يجب به
الحد كوطئ أمته الحائض، ولأنه لا يختلف المذهب أنه يثبت به النسب وتصير
الجارية أم ولد له فلم يجب به الحد، فإن وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره لم
يجب عليه الحد. وقال أبو ثور: إن علم بتحريمها وجب عليه الحد، لان ملك
البعض لا يبيح الوطئ فلم يسقط الحد كملك ذات رحم محرم. وهذا خطأ لأنه
اجتمع في الوطئ ما يوجب الحد وما يسقط فغلب الاسقاط، لان مبنى الحد على
الدرء والاسقاط، وإن وطئ جارية ابنه لم يجب عليه الحد، لان له فيها شبهة
ويلحقه نسب ولدها فلم يلزمه الحد بوطئها
(الشرح) حديث (رفع القلم...) سبق تخريجه
حديث (رفع عن أمتي...) أخرجه الطبراني عن ثوبان.
أثر سعيد بن المسيب أخرجه البيهقي في السنن من رواية بكر بن عبد الله عن
عمر أنه كتب إليه في رجل قيل له متى عهدك بالنساء فقال البارحة، قبل بمن؟
قال بأم مثواي - يعنى ربة منزلي - فقيل له قد هلكت، قال ما علمت أن الله حرم
الزنا، فكتب عمر أن يستحلف ثم يخلى سبيله
وقال الحافظ في التلخيص: وروينا في فوائد عبد الوهاب بن عبد الرحيم
الجويري قال: أنا سفيان عن عمر وبن دينار أنه سمع سعيد بن المسيب يقول:
ذكر الزنا بالشام فقال رجل قد زنيت البارحة، فقالوا ما تقول؟ فقال أو
حرمه الله؟ ما علمت أن الله حرمه، فكتب إلى عمر فقال: إن كان علم أن الله
حرمه فحدوه، وإن لم يكن علم فعلموه فإن عاد فحدوه. ثم قال وهكذا
أخرجه عبد الرزاق
حديث سهل أخرجه البيهقي بألفاظ مقاربة وأحمد وأبو داود وفيه عبد السلام
20

ابن حفص متكلم فيه أثر (أن جارية سوداء) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى
وأخرج عن سعيد بن المسيب أنه سمع ابن عباس يقول: بينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم يخطب الناس يوم الجمعة أتاه رجل من بنى ليث بن بكر بن
عبد مناه فتخطى الناس حتى اقترب إليه فقال يا رسول الله أقم على الحد، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم اجلس فانتهره، فجلس ثم قام الثانية فقال مثل ذلك،
فقال اجلس ثم قام الثالثة فقال مثل ذلك، فقال ما حدك؟ قال أتيت امرأة
حراما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجال من أصحابه فيهم علي بن أبي طالب
وعباس وزيد بن حارثة وعثمان بن عفان رضي الله عنهم انطلقوا به فاجلدوه
مائة جلدة، ولم يكن الليثي تزوج، فقيل يا رسول الله ألا نجلد التي خبث بها؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم ائتوني به مجلودا، فلما أتى به قال له من صاحبتك؟
قال فلانة لامرأة من بنى بكر فدعاها فسألها عن ذلك فقالت كذب والله ما أعرفه
وأنى مما قال لبريئة، الله على ما أقول من الشاهدين، فقال النبي صلى الله عليه
وسلم من شهودك أنك خبثت بها فإنها تنكر، فإن كان لك شهداء جلدتها وإلا
جلدتك حد الفرية، فقال يا رسول الله ما لي شهداء، فأمر به فجلد حد الفرية
ثمانين) وفيه القاسم بن فياض تكلم فيه غير واحد، وقال النسائي هذا حديث منكر
حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني سبق تخريجه
اللغة. قوله (فخفقها بالدرة خفقات) أي ضربها ضربا خفيفا، يقال خفقه
يخفقه ويخفقه، والمخفقة الدرة التي يخفق بها، وهي آلة عريضة فيها جلود مخفوقة
قوله (أي لكاع) اللكع اللئيم والمرأة لكاع ولا يستعمل الا في النداء. وقال
أبو عبيد اللكع عند العرب العبد، وقال الليث يقال امرأة لكاع وملكعانة،
ورجل لكع وملكعان ولكيع كل ذلك يوصف به الأحمق
قوله (من غوش بدرهمين) هو اسم طائر سمى به الرجل قوله (أراها تستهل)
أراها أظنها وكل ما كان أرى بالضم لما لم يسم فاعله فمعناه أظن وكل ما كان مفتوحا
فهو الذي من الرأي أو رؤية البصر وتستهل بتخفيف اللام أي تراه سهلا لا بأس
به عندها ومن رواه بالتشديد فهو خطأ وان صح فمقتضاه تضحك. قوله (ومبناه
على الدرء والاسقاط) الدرء الدفع ودرأه دفعه وقد ذكر
21

قوله (والوطئ الذي يجب به الحد..) قلت فيه مسألتان:
الأولى: غياب الحشفة في الفرج فإن أحكام الوطئ تتعلق بذلك لا بما دونه
وهذا ما لا خلاف فيه:
الثانية: ما يجب بالوطئ في الفرج من الحد يجب بالوطئ في الدبر....)
ففيه خلاف.
قال الكاساني في البدائع (الوطئ في الدبر في الأنثى أو الذكر لا يوجب الحد
عند أبي حنيفة، وإن كان حراما لعدم الوطئ في القبل فلم يكن زنا.
ثم قال: ولأبي حنيفة ما ذكرنا أن اللواطة ليست بزنا لما ذكرنا أن الزنا
اسم للوطئ في قبل المرأة، ألا ترى أنه يستقيم أن يقال لاط وما زنا وزنا
وما لاط (ويقال فلان لوطي وفلان زاني فكذا يختلفان اسما واختلاف الأسامي
دليل اختلاف المعاني، ولهذا اختلف الصحابة في حد هذا الفعل، ولو كان هذا
زنا لم يكن لاختلافهم معنى، لان موجب الزنا كان معلوما لهم بالنص فثبت أنه
ليس بزنا ولا في معنى الزنا أيضا لما في الزنا من اشتباه الأنساب وتضييع الولد
ولم يوجد ذلك في هذا الفعل إنما فيه تضييع الماء المهين الذي يباح مثله بالعزل.
والشافعي يوجب الحد وهو الرجم إن كان محصنا والجلد إن كان غير محصن
لا لأنه زنا بل لأنه في معنى الزنا المشاركة الزنا في المعنى المستدعى لوجوب الحد
وهو الوطئ الحرام.
وقالت الحنابلة: وشرط وجوب الحد ثلاثة (أحدها) تغييب الحشفة في
فرج أو دبر لآدمي حي ذكر أو أنثى، واستدلوا بحديث أبي هريرة في حديث
الأسلمي الذي رواه أبو داود والدارقطني (فأقبل عليه في الخامسة قال أنكتها؟
قال: نعم، قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرشا في البئر، قال: نعم، وفى
آخره فأمر به فرجم، ولو تلوط بغلام لزمه الحد، لحديث أبي موسى مرفوعا
(إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان) وعنه حده الرجم بكل حال، لأنه إجماع
الصحابة فإنهم أجمعوا على قتله وإنما اختلفوا في الكيفية.
قال الخطابي في معالم السنن: بعد أن أورد حديثي ابن عباس (من وجدتموه
22

يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به) والثاني (البكر يؤخذ على
اللوطية قال يرجم) قلت: وفى كليهما ضعف، بل قال الحافظ في التلخيص عن
الأول استنكره النسائي، ورواه ابن ماجة والحاكم وإسناده أضعف من رواية
الترمذي وغيره.
وقال ابن الطلاع في أحكامه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
رجم في اللواط ولا أنه حكم فيه، وفى الثاني قال لا يصح وقد أخرجه البزار وفيه
عاصم متروك. في هذا الصنع هذه العقوبة العظيمة، وكأن معنى الفقهاء فيه أن
الله سبحانه أمطر الحجارة على قوم لوط فقتلهم بها ورتبوا للقتل المأمور به على
معاني ما جاء فيه من أحكام الشريعة فقالوا: يقتل بالحجارة رجما إن كان محصنا
ويجلد مائة إن كان بكرا ولا يقتل، وإلى هذا ذهب سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي
رباح والنخعي والحسن وقتادة وهو أظهر قولي الشافعي. وحكى ذلك أيضا
عن أبي يوسف ومحمد.
وقال الأوزاعي: حكمه حكم الزاني، وقال مالك بن أنس وإسحاق بن
راهويه يرجم ان أحصن أو لم يحصن وروى ذلك عن الشعبي، وقال أبو حنيفة
يعزر ولا يحد وذلك أن هذا الفعل ليس عندهم بزنا.
وقال بعض أهل الظاهر لا شئ على من فعل هذا الصنيع (قلت) وهذا
أبعد الأقاويل عن الصواب دعاها إلى إغراء الفجار به وتهوين ذلك بأعينهم
وهو قول مرغوب عنه.
قال الشيخ الفقي في تعليقه: والأظهر والله أعلم هو قتل الفاعل والمفعول به
كما هو ظاهر الحديث، لان في هذه الفاحشة القذرة إفسادا أي افساد للفطرة
وعكسا للأوضاع: ولذلك جمع الله تعالى لأهلها الفاعلين والمفعول بهم عقوبتين
عظيمتين الخسف والحصب بحجارة من سجيل (قلت) ردا عليه، أما الفعلة
فأوافقه على ما قاله فيها بل ثبت فيها اللعن والخسف لقوم لوط، أما الحد استنادا
إلى حديث لم يصح سنده فهذا تشريع حكم لم يأذن به الله ولا فعله رسوله وحكم بغير
ما أنزل الله، وللحاكم أن يختار ما يشاء من التعذيب لهؤلاء الفسقة حتى يردعهم
23

وقد أخرج أبو داود الطيالسي في مسنده والبيهقي عن علي أنه رجم لوطيا،
قال الشافعي وبهذا نأخذ محصنا كان أو غير محصن، وأخرج البيهقي عن أبي بكر
أنه جمع الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء فسأل أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن ذلك فكان أشدهم يومئذ قولا علي بن أبي طالب قال: هذا ذنب
لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة صنع الله بها ما قد علمتم نرى أن تحرقه
بالنار فاجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أن يحرقه بالنار فكتب أبو بكر
إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار، وفى إسناده إرسال.
وروى من وجه آخر عن علي في غير هذه القصة قال يرجم ويحرق بالنار،
وأخرج البيهقي عن ابن عباس أنه سئل عن حد اللوطي فقال ينظر أعلي بناء في
القرية فيرمى به منكسا ثم يتبع بالحجارة، وقد اختلف أهل العلم في عقوبة
الفاعل للواط والمفعول به بعد اتفاقهم على تحريمه وأنه من الكبائر.
قوله (ولا يجب على الصبي....) فهذا مما لا خلاف فيه.
قوله (ولا يجب على المرأة إذا أكرهت....)
قال الكاساني في البدائع (وكذلك الوطئ عن اكراه لا يوجب الحد)
قلت: أما الرجل فلا اكراه عليه، لان الوطئ لا يكون إلا بالانتشار الحادث
عن الشهوة.
قوله (وإن كان أحد الشريكين....)
وقال الشوكاني: استدل بحديث سهل بن سعد مالك والشافعي فقالا يحد من
أقر بالزنا بامرأة معينة للزنا لا للقذف، وقال الأوزاعي وأبو حنيفة يحد للقذف
فقط قال: لان إنكارها شبهة وأجيب بأنه لا يبطل اقراره، وذهبت الهادوية
ومحمد، وروى عن الشافعي إلى أنه يحد للزنا وللقذف، واستدلوا بحديث ابن
عباس الذي ذكرناه (قلت السابق تخريجه) وهذا هو الظاهر لوجهين، الأول
أن غاية ما في حديث سهل أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد ذلك الرجل للقذف
وذلك لا ينتهض للاستدلال به على السقوط لاحتمال أن يكون ذلك لعدم الطلب
من المرأة أو لوجود مسقط بخلاف حديث ابن عباس فان فيه أنه أقام الحد عليه
24

والوجه الثاني أن ظاهر أدلة القذف العموم فلا يخرج من ذلك إلا ما خرج بدليل
وقد صدق على من كان كذلك أنه قاذف
قوله (وإن استأجر امرأة.) روى محمد بن حزم بسنده أن امرأة جاءت
إلى عمر بن الخطاب فقالت يا أمير المؤمنين أقبلت أسوق غنما لي فلقيني رجل فحفن
لي حفنة من تمر ثم حفن لي حفنة من تمر ثم حفن لي حفنة من تمر ثم أصابني،
فقال عمر ما قلت؟ فأعادت، فقال عمر ويشير بيده مهر مهر مهر ثم تركها.
وبه إلى عبد الرزاق أن امرأة أصابها الجوع فأتت راعيا فسألته الطعام فأبى عليها
حتى تعطيه نفسها، قالت فحثى لي ثلاث حثيات من تمر وذكرت أنها كانت جهدت
من الجوع، فأخبرت عمر فكبر وقال مهر مهر مهر ودرأ عنها الحد
وقال أبو محمد (ذهب إلى هذا أبو حنيفة ولم ير الزنا إلا ما كان عن مطارفة
وأما ما كان عن عطاء أو استئجار فليس زنا ولا حد فيه.
وقال أبو يوسف ومحمد وأبو ثور وأصحابنا وسائر الناس هو زنا كله وفيه الحد
وأما المالكيون والشافعيون فعهدنا بهم يشنعون خلاف الصاحب الذي لا يعرف
له مخالف من الصحابة إذا وافق تقليدهم، وهم قد خالفوا عمر، ولا يعرف له
مخالف من الصحابة بل هم يعدون مثل هذا إجماعا، ويستدلون على ذلك بسكوت
من بالحضرة من الصحابة عن النكير لذلك.
وأما الحنفيون المقلدون لأبي حنيفة في هذا فمن عجائب الدنيا التي لا يكاد
يوجد لها نظير أن يقلدوا عمر في إسقاط الحد ههنا بثلاث حشيات من تمر مهر،
وقد خالفوا هذه القضية بعينها فلم يجيزوا النكاح الصحيح مثل هذا وأضعافه مهرا
بل متعوا من أقل من عشرة دراهم في ذلك، فهذا هو الاستخفاف حقا والاخذ
بما اشتهوا من قول الصاحب حيث اشتهوا وترك ما اشتهوا، فما هذا دينا وأف
لهذا عملا، ثم قال: وعلى هذا لا يشاء زان ولا زانية أن يزنيا علانية إلا فعلا
وهما في أمن من الحد بأن يعطيها درهما يستأجرها به الزنا
ثم قال: وحد الزنا واجب على المستأجر والمستأجرة بل جرمهما أعظم من
جرم الزاني والزانية بغير استئجار لان المستأجر والمستأجرة زادا على سائر الزنا
حراما آخر، وهو أكل المال بالباطل، وأما المخدمة فروى ابن الماجشون
25

صاحب مالك أن المخدمة سنين كثيرة لا حد على المخدم إذا وطئها، وهذا قول
فاسد، ومع فساده ساقط. أما فساده فإسقاطه الحد الذي أوجبه الله تعالى في
الزنا، وأما سقوطه فتفريقه بين المخدمة مدة طويلة والمخدمة مدة قصيرة ويكلف
تحديد تلك المدة المسقطة للحد التي يسقط فيها الحد، فإن حد مدة كان متزايدا
من القول بالباطل بلا برهان، وإن لم يحد شيئا كان محرما موجبا شارعا مالا يدرى
فيما لا يدرى، وهذه تخاليط نعوذ بالله منها.
والحد كامل واجب على المخدم والمخدمة ولو أخدمها عمر نوح في قومه لأنه
زنا وعمر من ليست له فراشا. ثم قال من زنى بامرأة ثم تزوجها لم يسقط الحد
بذلك، لان الله تعالى قد أوجبه عليه فلا يسقطه زواجه إياها، وكذلك إذا
زنى بأمة ثم اشتراها، وهو قول جمهور العلماء
وقال أبو حنيفة لا حد عليه في كلتا المسألتين، وهذه من تلك الطوام.
قال الشوكاني بعد أن أورد حديث البراء (لقيت خالي ومعه الراية فقلت أبن
تريد، قال بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعد
أن أضرب عنقه وآخذ ماله، رواه الخمسة ولم يذكر ابن ماجة والترمذي أخذ
المال. وأخرج أبو داود عن البراء بينما أطوف على إبل لي ضلت إذ أقبل ركب
أو فوارس معهم لواء، فجعل الاعراب يطيفون بي لمنزلتي من النبي صلى الله عليه وسلم إذ
أتوا قبة فاستخرجوا منها رجلا فضربوا عنقه، فسألت عنه فذكروا أنه أعرس
بامرأة أبيه)
ثم أورد الاختلافات في الروايات، ثم قال وللحديث أسانيد كثيرة منها ما
رجاله رجال الصحيح، والحديث فيه دليل على أنه يجوز للامام أن يأمر بقتل
من خالف قطعيا من قطعيات الشريعة، ثم قال ولكنه لابد من حمل الحديث
على أن ذلك الرجل الذي أمر صلى الله عليه وسلم بقتله عالم بالتحريم وفعله مستحلا
وذلك من موجبات الكفر والمرتد يقتل، وفيه أيضا متمسك لقول مالك أنه
يجوز التعزير بالقتل، وفيه دليل أيضا على أنه يجوز أخذ مال من ارتكب معصية
مستحلا لها بعد إراقة دمه.
26

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) واللواط محرم لقوله عز وجل (ولوطا إذ قال لقومه أتأتون
الفاحشة ما سبقكم بها أحد من العالمين) فسماه فاحشة، وقد قال عز وجل (ولا
تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن) ولان الله عز وجل عذب بها قوم لوط
بما لم يعذب به أحدا، فدل على تحريمه، ومن فعل ذلك وهو ممن يجب عليه حد
الزنا وجب عليه الحد، وفى حده قولان
(أحدهما) وهو المشهور من مذهبه أنه يجب فيه ما يجب في الزنا، فإن كان
غير محصن وجب عليه الجلد والتغريب، وإن كان محصنا وجب عليه الرجم،
لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا
أتى الرجل الرجل فهما زانيان وإذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان، ولأنه حد يجب
بالوطئ فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا
والقول الثاني أن يجب قتل الفاعل والمفعول به لما روى ابن عباس رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا
الفاعل والمفعول به) ولان تحريمه أغلظ فكان حده أغلظ، وكيف يقتل؟ فيه
وجهان (أحدهما) أنه يقتل بالسيف لأنه أطلق القتل في الخبر فانصرف إطلاقه
إلى القتل بالسيف.
(والثاني) أنه يرجم لأنه قتل يجب بالوطئ فكان بالرجم كقتل الزنا
(الشرح) حديث أبي موسى الأشعري في إسناده محمد بن عبد الرحمن كذبه
أبو حاتم. وقال البيهقي لا أعرفه، والحديث منكر بهذا الاسناد، وأخرجه
البيهقي في السنن الكبرى.
حديث ابن عباس أخرجه الخمسة الا النسائي والحاكم والبيهقي، وقال الحافظ
رجاله موثقون الا أن فيه اختلافا، وقال الترمذي إنما يعرف هذا الحديث عن
ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الوجه
وروى محمد بن إسحاق هذا الحديث عن عمرو بن أبي عمرو فقال (ملعون
27

من عمل عمل قوم لوط. ولم يذكر القتل) وقال يحيى بن معين: عمرو بن أبي عمرو
مولى المطلب ثقة ينكر عليه حديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (اقتلوا الفاعل والمفعول به) قال الشوكاني ويجاب عن ذلك بأنه قد
احتج الشيخان به، وروى عنه مالك في الموطأ وقد استنكر النسائي هذا الحديث
وقد سبق الكلام في هذا الموضوع
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ومن حرمت مباشرته في الفرج بحكم الزنا أو اللواط حرمت
مباشرته فيما دون الفرج بشهوة، والدليل عليه قوله عز وجل (والذين هم
لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين)
ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يخلون أحدكم بامرأة ليست له بمحرم فإن
ثالثهما الشيطان، فإذا حرمت الخلوة بها، فلان تحرم المباشرة أولى لأنها أدعى
إلى الحرام، فإن فعل ذلك لم يجب عليه الحد ما روى ابن مسعود رضي الله عنه
أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال (إني أخذت امرأة في البستان
وأصبت منها كل شئ غير أنى لم أنكحها فاعمل بي ما شئت، فقرأ عليه أقم الصلاة
طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات. ويعزر عليه لأنه
معصية ليس فيها حد ولا كفارة فشرع فيها التعزير.
(فصل) ويحرم إتيان المرأة المرأة لما روى أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (إذا أتت المرأة المرأة فهما زانيتان) ويجب فيه التعزير دون الحد لأنها
مباشرة من غير ايلاج فوجب بها التعزير دون الحد كمباشرة الرجل المرأة
فيما دون الفرج.
(الشرح) حديث (لا يخلون رجل بامرأة.) رواه البخاري ومسلم عن
ابن عباس (لا يخلون أحدكم بامرأة الا مع ذي محرم)
وروى الطبراني عنه (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يخلون بامرأة
ليس بينه وبينها محرم)
28

وروى عن أبي أمامة (إياك والخلوة بالنساء، والذي نفسي بيده ما خلا
رجل بامرأة الا ودخل الشيطان بينهما، ولان يزحم رجل خنزيرا متلطخا بطين
أو حمأة خير له من أن يزحم منكبه منكب امرأة لا تحل له) حديث غريب
وأخرج الخطيب في تاريخ بغداد عن عمر بن الخطاب (لا يخلون رجل
بامرأة فإن ثالثهما الشيطان، ومن سائته سيئة وسرته حسنته فذاكم مؤمن)
حديث أبي موسى سبق تخريجه
اللغة. قوله (وزلفا من الليل) الزلفة الطائفة من الليل، وجمعها زلف وزلفات
وما ذكره المصنف لا خلاف فيه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويحرم اتيان البهيمة لقوله عز وجل (والذين هم لفروجهم حافظون
الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) فإن أتى البهيمة وهو
ممن يجب عليه حد الزنا ففيه ثلاثة أقوال
(أحدها) أنه يجب عليه القتل لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه) وكيف يقتل؟
على الوجهين في اللواط.
والقول الثاني أنه كالزنا، فإن كان غير محصن جلد وغرب، وإن كان محصنا
رجم، لأنه حد يجب بالوطئ فاختلف فيه البكر والثيب كحد الزنا
والقول الثالث أنه يجب فيه التعزير، لان الحد يجب للردع عما يشتهى وتميل
النفس إليه، ولهذا وجب في شرب الخمر ولم يجب في شرب البول وفرج البهيمة
لا يشتهى فلم يجب فيه الحد.
وأما البهيمة فقد اختلف أصحابنا فيها، فمنهم من قال يجب قتلها لحديث ابن
عباس وأبي هريرة، ولأنها ربما أتت بولد مشوه الخلق، ولأنها إذا بقيت كثر
تعبير الفاعل بها.
ومنهم من قال لا يجب قتلها، لان البهيمة لا تذبح لغير مأكلة، وحديث
29

ابن عباس يرويه عمرو بن عمرو وهو ضعيف، وحديث أبي هريرة يرويه علي بن
مسهر، وقال أحمد رحمه الله: إن كان روى هذا الحديث غير على وإلا فليس
بشئ ومنهم من قال إن كانت البهيمة مما تؤكل ذبحت، وإن كانت مما لا تؤكل لم
تذبح، لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلة، فإن قلنا
إنه يجب قتلها وهي مما يؤكل ففي أكلها وجهان
(أحدهما) أنه يحرم لان ما أمر بقتله لم يؤكل كالسبع
(والثاني) أنه يحل أكلها لأنه حيوان مأكول ذبحه من هو من أهل الذكاة
وإن كانت البهيمة لغيره وجب عليه ضمانها إن كانت مما لا تؤكل وضمان ما نقص
بالذبح إذا قلنا إنها تؤكل لأنه هو السبب في إتلافها وذبحها.
(فصل) وإن وطئ امرأة ميتة وهو من أهل الحد ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يجب عليه الحد لأنه إيلاج في فرج محرم ولا شبهة له فيه
فأشبه إذا كانت حية
(والثاني) أنه لا يجب لأنه لا يقصد فلا يجب فيه الحد (
الشرح) حديث ابن عباس (من أتى بهيمة...) أخرجه أبو يعلى، وقال
في اسناده كلام، ورواه ابن عدي عن أبي يعلى، ثم قال، قال لنا أبو يعلى: بلغنا
أن عبد الغفار رجع عنه، وقال ابن عدي انهم كانوا لقنوه
حديث أبي هريرة (من وقع على بهيمة..) رواه أحمد وأبو داود والترمذي
وقال لا نعرفه إلا من حديث عمرو بن أبي عمرو وسبق الكلام عليه
حديث نهى النبي عن ذبح الحيوان الا لأكله) أبو داود في المراسيل وفى الموطأ
وروى البيهقي عن ابن عباس: من وجدتموه وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا
البهيمة معه، فقيل لابن عباس ما شأن البهيمة؟ فقال ما سمعت من رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئا، ولكن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كره
أن يؤكل من لحمها أو ينتفع بها بعد ذلك العمل
قال الشوكاني: وقد روى سفيان الثوري عن عاصم عن أبي رزين عن ابن
عباس أنه قال (من أتى بهيمة فلا حد عليه)
30

حدثنا بذلك محمد بن بشار حدثنا عبد الرحمن بن مهدي حدثنا سفيان، وهذا
أصح من حديث ابن عباس
اللغة قوله (مشوه الخلق) أي قبيح الخلق، ومنه الحديث شاهت الوجوه
قبحت. وشوهه الله فهو مشوه، قال الشاعر يصف فرسا:
فهي شوهاء كالجوالق فوها * مستجاف يضل فيه الشكيم
قال الشوكاني اختلف أهل العلم فيمن وقع على بهيمة، فأخرج البيهقي عن
جابر بن زيد أنه قال من أتى بهيمة أقيم عليه الحد وأخرج أيضا عن الحسن أنه
قال إن كان محصنا رجم. وروى عن الحسن البصري أنه قال هو بمنزلة الزاني،
قال الحاكم أرى أن يجلد ولا يبلغ به الحد، وهو مجمع على تحريم اتيان البهيمة،
كما حكى ذلك صاحب البحر، وقد ذهب إلى أنه يوجب الحد كالزنا الشافعي في
قول له والهادوية وأبو يوسف، وذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي في قول له
والمرتضى والمؤيد بالله والناصر والامام يحيى إلى أنه يوجب التعزير فقط، إذ
ليس بزنا، ورد بأنه فرج محرم شرعا مشتهى طبعا فأوجد الحد كالقبل، وذهب
الشافعي في قول له إلى أنه يقتل أخذا بحديث الباب
وقد ذهب إلى تحريم لحم البهيمة المفعول بها والى أنها تذبح علي عليه السلام
والشافعي في قول، وذهبت القاسمية والشافعي في قول له وأبو حنيفة وأبو يوسف
إلى أنه يكره أكلها تنزيها فقط، قال في البحر انها تذبح البهيمة، ولو كانت غير
مأكولة لئلا تأتى بولد مشوه، كما روى أن راعيا أتى بهيمة فأتت بولد مشوه اه‍
(قلت) أما الاتيان بولد مشوه من بهيمة فهذا يعتبر من الفروض الغير
معقولة التي أوردها هؤلاء في وقت الفراغ الذهني
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويحرم الاستمناء لقوله عز وجل (والذين هم لفروجهم حافظون
الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين) ولأنها مباشرة تفضى
إلى قطع النسل فحرم كاللواط. فإن فعل عزر ولم يحد، لأنها مباشرة محرمة من
غير ايلاج فأشبهت مباشرة الأجنبية فيما دون الفرج وبالله التوفيق
31

(الشرح) قال الكاساني في البدائع: وكذا وطئ المرأة الميتة لا يوجب الحد
ويوجب التعزير لعدم وطئ المرأة الحية. وقالت الحنابلة وإن زنى بميته فروايتان
وأطلقهما في الهداية، والمذهب ومسبوك الذهب، والمستوعب، والخلاصة،
والمغني، والكافي، والمقنع، والمحرر، والشرح، والحاوي الصغير، وغيرهما،
وحكاهما في الكافي وغيره وجهين.
(أحدهما) لا حد عليه وهو الصحيح من المذهب اختاره ابن عبدوس في
تذكرته وصححه في التصحيح، وجزم به في الوجيز والآدمي ومنوره وغيرهما.
(والوجه الثاني) يجب عليه الحد اختاره أبو بكر والناظم وقدمه في الرعايتين
قوله (ويحرم الاستمناء..) قالت الحنابلة ومن استمنى بيده بلا حاجة
عزر وعنه يكره ذلك نقل ابن منصور لا يعجبني بلا ضرورة.
قال مجاهد كانوا يأمرون فتيانهم أن يستعفوا به، وقال العلاء بن زياد كانوا
يفعلونه في مغازيهم وعنه يحرم مطلقا.
وقال ابن عقيل إن كان غنيا بوجود طول زوجة أو أمة أو حرة لم يجز له
الاستمناء، وأصحابنا وشيخنا لم يطلقوا التحريم ولم يذكروا سوى الكراهة قال
وإن كان غير قادر على طول امرأة لكنه لا شهوة له تحمل على الزنا ولا يخاف
غلبان اللذة حرم عليه أيضا للخبر، فإن كان متردد الحال به للفتور والشهوة
وليس له ما يتزوج به لم يحرم، لان حاله دون القادر ودون حال المتغلب للشهوة
وإن كان متغلب الشهوة خائفا من العنت للضيق والشهوة ولا جدة له على النكاح
جاز له ذلك، قال في الفصول وإن استمنى وصور في نفسه شخصا أو دعا باسمه
فإن كانت زوجته أو أمته وكان غائبا عنها فلا بأس وإن كان الشخص الذي يتصوره
أو نادى أجنبية أو غلاما كره ذلك.
وقال في المفردات: الاستمناء أحب إلى من نكاح الأمة، وقال إذا قور
بطيخة أو سوى عجينة أو أديما أو كدة في صنم فاستمنى به كان على ما قدمنا س
التفصيل، قال أبو العباس وهذا ليس بجيد، ولو خرجه على الآلة الذي تستمنى به
32

المرأة لكان أقرب، مع أن الرجل أغنى عن الآلة منها وقال ابن مفلح في
الفروع: والمرأة كرجل فتستعمل شيئا مثل الذكر، ويحتمل المنع وعدم
القياس. ذكره ابن عقيل
وفى هامش مخطوطة الأزهر حاشية: قال القاضي في ضمن المسألة لما ذكر
المرأة قال بعض أصحابنا لا بأس به إذا قصد به طفي الشهوة والتعفف عن الزنا،
قال والصحيح عندي أنه لا يباح والله أعلم
قال ابن العربي في أحكام القرآن، قال محمد بن عبد الحكم: سمعت حرملة بن
عبد العزيز قال سألت مالكا عن الرجل يجلد عميرة فتلا هذه (والذين هم لفروجهم
حافظون... هم العادون) وهذا لأنهم يكنون عن الذكر بعميرة، وفيه يقول
الشاعر: إذا حللت بواد لا أنيس به فاجلد عميرة لا داء ولا حرج
ويسميه أهل العراق الاستمناء، وهو استفعال من المنى، وأحمد بن حنبل
على ورعه يجوزه بأنه إخراج فضلة من البدن فجاز عند الحاجة، أصله الفصد
والحجامة. وعامة العلماء على تحريمه وهو الحق الذي لا ينبغي أن يدان الله إلا
به. وقال بعض العلماء إنه كالفاعل بنفسه وهي معصية أحدثها الشيطان وأجراها
بين الناس حتى صارت قيلة، ويا ليتها لم تقل، ولو قام الدليل على جوازها لكان
ذو المروءة يعرض عنها لدناءتها.
فإن قبل فقد قيل إنها خير من نكاح الأمة، قلنا نكاح الأمة ولو كانت كافرة
على مذهب العلماء خير من هذا، وإن كان قد قال به قائل، ولكن الاستمناء
ضعيف في الدليل عار بالرجل الدنئ فكيف بالرجل الكبير (وهذا نص ما نقله
القرطبي ولم يشر إلى مصدره)
وقال الخازن في تفسير (فمن ابتغى وراه ذلك...) فيه دليل على أن
الاستمناء باليد حرام، وهو قول أكثر العلماء. سئل عطاء فقال مكروه،
سمعت أن قوما يحشرون وأيديهم حبالى فأظن أنهم هؤلاء وقال سعيد بن جبير
عذب الله أمة كانوا يعبثون بمذاكيرهم.
وقال ابن كثير في تفسير الآية، وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن
وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة (والذين هم لفروجهم
33

حافظون.. أيمانهم) قال فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين، وقد قال الله
تعالى (فمن ابتغى...) وقد استأنسوا بحديث رواه الإمام الحسن بن عرفة في
جزئه المشهور حيث روى بعنعنته إلى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم ولا يجمعهم مع العاملين
ويدخلهم النار أول الداخلين الا أن يتوبوا، ومن تاب تاب الله عليه، الناكح
يده والفاعل والمفعول به، ومن شرب الخمر والضارب والديه حتى يستغيثا،
والمؤذي جيرانه حتى يلعنوه والناكح حليلة جاره، وقال ابن كثير حديث غريب
واسناده فيه من لا يعرف لجهالته.
وقال ابن حزم في مراتب الاجماع (واختلفوا في الاستمناء أحرام هو أم
مكروه أم مباح؟)
(قلت) ولو كان الامر لي لأفضت كثيرا في هذا الموضوع الذي أصبح بهم
كثيرا من شبابنا في هذه الأيام إلى تأخر فيها سن الزواج لطول مدة التعليم،
ولكن الامر لله ومراعاة لطلب الناشر لذكرت ما قاله أهل الظاهر وما رووه
عن الصحابة وبعض التابعين حينما سئلوا (إنما هو عضوك تدلكه) ونشرت مجلة
الدكتور بحثا عن الاستمناء قررت أن الافراط فيه مضر
قال المصنف رحمه الله تعالى
باب إقامة الحد
لا يقيم الحدود على الأحرار الا الامام أو من فوض إليه الامام لأنه لم يقم
حد على حر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الا بإذنه ولا في أيام الخلفاء
الا بإذنهم، ولأنه حق لله تعالى يفتقر إلى الاجتهاد ولا يؤمن في استيفائه الحيف
فلم يجز بغير اذن الامام، ولا يلزم الامام أن يحضر إقامة الحد ولا أن يبتدئ
بالرجم، لان النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم جماعة ولم ينقل أنه حضر بنفسه
ولا أنه رماهم بنفسه، فإن ثبت الحد على عبد بإقراره، ومولاه حر مكلف عدل
فله أن يجلده في الزنا والقذف والشرب، لما روى علي كرم الله وجهه أن النبي
34

صلى الله عليه وسلم قال: أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم. وقال عبد الرحمن
ابن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم
إذا زنت، وهل له أن يغربه؟ فيه وجهان
(أحدهما) أنه لا يغرب الا الامام لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا
يثرب عليها، ثم إذا زنت فليجلدها الحد ولا يثرب عليها، ثم إذا زنت الثالثة
فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر، فأمر بالجلد دون النفي
(والثاني) وهو المذهب أن له أن يغرب لحديث علي كرم الله وجهه، ولان
ابن عمر جلد أمة له زنت ونفاها إلى فدك، ولان من ملك الجلد ملك النفي
كالامام، وان ثبت عليه الحد بالبينة ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يجوز أن يقيم عليه الحد، وهو المذهب، لأنا قد جعلناه في
حقه كالامام، وكذلك في إقامة الحد عليه بالبينة
(والثاني) أنه لا يجوز لأنه يحتاج إلى تزكية الشهود، وذلك إلى الحاكم،
فعلى هذا إذا ثبت عند الحاكم بالبينة جاز للسيد أن يقيم الحد من غير اذنه، وهل
له أن يقطعه في السرقة؟ فيه وجهان. أحدهما أنه لا يملك، لأنه لا يملك من
جنس القطع ويملك من جنس الجلد وهو التعزير. والثاني أنه يملك وهو
المنصوص في البويطي لحديث علي كرم الله وجهه، ولان ابن عمر قطع عبدا
له سرق، وقطعت عائشة رضي الله عنها أمة لها سرقت، ولأنه حد فملك السيد
اقامته على مملوكه كالجلد، وله أن يقتله بالردة على قول من ملك إقامة الحد على
العبد، وعلى قول من منع من القطع يجب أن لا يجوز له القتل، والصحيح أن
له أن يقتله، لان حفصة رضي الله عنها قتلت أمة لها سحرتها، والقتل بالسحر
لا يكون الا في كفر، ولأنه حد فملك المولى اقامته على المملوك كسائر الحدود
وإن كان المولى فاسقا ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يملك إقامة الحد لأنه ولاية تثبت بالملك فلم يمنع الفسق منها
كتزويج الأمة.
35

(والثاني) أنه لا يملكه لأنه ولاية في إقامة الحد فمنع الفسق منها كولاية
الحاكم، وإن كانت امرأة فالمذهب أنه يجوز لها إقامة الحد، لان الشافعي استدل
بأن فاطمة عليها السلام جلدت أمة لها زنت.
وقال أبو علي بن أبي هريرة لا يجوز لها لأنها ولاية على الغير فلا تملكها
المرأة كولاية التزويج، فعلى هذا فيمن يقيم وجهان (أحدهما) أنه يقيمه وليها
في النكاح قياسا على تزويج أمتها (والثاني) أنه يقيمه عليها الامام لان الأصل
في إقامة الحد هو الامام، فإذا سقطت ولاية المولى ثبت الأصل، وإن كان للمولى
مكاتب ففيه وجهان ذكرناهما في الكتابة.
(الشرح) حديث (أقيموا الحدود...)
عن علي قال: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمة فجرت فقال أقم عليها الحد
فانطلقت فوجدتها لم تجف من دمائها، فرجعت فقال أفرغت؟ فقلت وجدتها
ولم تجف من دمائها، قال فإذا جفت من دمائها فأقم عليها الحد، قال، وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقيموا الحد على ما ملكت أيمانكم، أخرجه البيهقي
ومن طريق آخر (عن علي قال: ولدت أمة لبعض أزواج النبي صلى الله عليه
وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم أقم عليها الحد فذكر نحوه
ومن طريق آخر قال: خطبنا علي رضي الله عنه فقال أيها الناس أيما عبد
وأمة فجرا فأقيموا عليهما الحد وإن زنيا اجلدوهما الحد... ثم ذكر باقي الحديث
الأول في أن دمها لم يجف بعد.
وأخرج مسلم قال خطب على فقال يا أيها الناس أقيموا الحدود على أرقاتكم
من أحصن منهم ومن لم يحصن، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم
زنت فأمرني أن أجلدها فإذا هي حديثة عهد بالنفاس.. وذكر ما سبق
حديث أبي هريرة (إذا زنت أمة أحدكم...) أخرجه مسلم والبخاري عن
أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني وأحمد وأبو داود، وذكر فيها الرابعة
الحد والبيع)
أثر فاطمة رضي الله عنها (أن فاطمة جلدت أمة لها زنت) أخرجه البيهقي في
36

السنن الكبرى أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حدت جارية لها زنت
وأخرج أن أنس بن مالك كان إذا زنى مملوكه أمر بعض بنيه فأقام عليه الحد.
وروى عن عبد الله بن عمر أنه حد جارية له زنت. وروى عن سعيد بن جبير
يقول إذا زنت الأمة لم تجلد الحد ما لم تزوج، فسألت عبد الرحمن بن أبي ليلى
فقال أدركت بقايا الأنصار وهم يضربون الوليدة من ولائدهم في مجالسهم إذا زنت
وروى البيهقي عن أبي الزناد عن أبيه عن الفقهاء الذين ينتهى إلى قولهم من أهل
المدينة كانوا يقولون لا ينبغي لاحد أن يقيم شيئا من الحدود دون السلطان إلا
إن للرجل أن يقيم حد الزنا على عبده وأمته
اللغة. قوله (يضربون الوليدة من ولائدهم) الوليدة الأمة وجمعها ولائد
قيل سميت بذلك لأنها تربى تربية الأولاد وتعلم الآداب
قوله (ولا يثرب عليها) التثريب التعبير والاستقصاء في اللوم، قال الله
تعالى (لا تثريب عليكم) أي لا توبيخ عليكم ولا تعداد لذنوبكم
(ولا يثرب عليها) بمثناة تحتية مضمومة ومثلثة مفتوحة ثم راء مشددة
وبعدها موحدة وهو التعنيف
قوله (لا يقيم الحدود..) فهذا كما قلنا سابقا لا خلاف فيه
قوله (فإن ثبت الحد على عبد...) قال الشوكاني أن المراد بالتبين أن يعلم
السيد بذلك، وإن لم يقع إقرار ولا قامت شهادة، واليه ذهب بعضهم، وحكى
في البحر الاجماع على أنه يعتبر شهادة أربعة في العبد كالحر، والأمة حكمها حكمه
وقد ذهب الأكثر إلى أن الشهادة تكون إلى الامام أو الحاكم. وذهب بعض
أصحاب الشافعي إلى أنها تكون عند السيد، ثم قال وفى الرابعة الحد والبيع نص
في محل النزاع، وبها يرد على النووي حيث قال إنه لما لم يحصل المقصود من الزجر
عدل إلى الاخراج عن الملك دون الجلد مستدلا على ذلك بقوله فليبعها، وكذا
وافقه ابن دقيق العبد وهو مردود.
وأما الحافظ في الفتح فقال الأرجح انه يجلدها قبل البيع ثم يبيعها، وصرح
بأن السكوت عن الجلد للعلم به، ولا يخفى أنه لم يسكت عن ذلك، وظاهر الامر
37

بالبيع أنه واجب، وذهب الجمهور إلى أنه مستحب فقط، وزعم بعض الشافعية
أن الامر بالبيع منسوخ كما حكاه ابن الرفعة في المطلب ولا أعرف له ناسخاء فإن
كان هو النهى عن إضاعة المال كما زعم بعضهم، فيجاب عنه أولا بأن الإضاعة
إنما تكون إذا لم يكن شئ في مقابل المبيع، والمأمور به ها هنا هو البيع
لا الإضاعة وذكر الحبل من الشعر للمبالغة، ولو سلم عدم إرادة المبالغة لما
كان في البيع بحبل من شعر إضاعة وإلا لزم أن يكون بيع الشئ الكثير بالحقير
إضاعة وهو ممنوع.
وقد ذهب داود وأهل الظاهر إلى أن البيع واجب لان ترك مخالطة الفسقة
ومفارقتهم واجبان، وبيع الكثير بالحقير جايز إذا كان البائع عالما به بالاجماع.
قال ابن بطال حمل الفقهاء الامر بالبيع على الحض على مباعدة من تكرر منه الزنا
لئلا يظن بالسيد الرضا بذلك ولما في ذلك من الوسيلة إلى تكثير أولاد الزنا،
قال وحمله بعضهم على الوجوب ولا سلف له في الأمة فلا يشتغل به. اه‍
وظاهره أنه أجمع السلف على عدم وجوب البيع، فإن صح ذلك كان هو
القرينة الصارفة للامر عن الوجوب وإلا كان الحق ما قاله أهل الظاهر،
والأحاديث دالة على أن السيد يقيم الحد على مملوكه، وإلى ذلك ذهب جماعة من
السلف والشافعي.
وذهبت العترة إلى أن حد المماليك إلى الامام إن كان ثم إمام وإلا كان إلى
سيده وذهب مالك إلى أن الأمة إن كانت مزوجة كان أمر حدها إلى الامام،
إلا أن يكون زوجها عبدا لسيدها فأمر حدها إلى السيد، واستثنى مالك أيضا
القطع في السرقة، وهو وجه للشافعية، وفى وجه لهم آخر يستثنى حد الشرب.
وروى عن الثوري والأوزاعي أنه لا يقيم السيد الا حد الزنا وذهبت الحنفية
إلى أنه لا يقيم الحدود على المماليك الا الامام مطلقا، الا أن الأحاديث التي
ذكرت سابقا أنه يحد المملوك سيده من غير فرق بين أن يكون الامام موجودا
أو معدوما، وبين أن يكون السيد صالحا لإقامة الحد أم لا
وقال ابن حزم: يقيمه السيد الا إذا كان كافرا، وروى قول ابن أبي ليلى
38

المذكور سابقا. وروى الشافعي عن ابن عباس أنه قطع يد عبده، وجلد
عبدا له زنى.
وأخرج مالك عن عائشة أنها قطعت يد عبد لها، وأخرج أيضا أن حفصة
قتلت جارية لها سحرتها، وقد احتج من قال أنه لا يقيم الحدود مطلقا إلا الامام
بما رواه الطحاوي عن مسلم بن يسار أنه قال: كان رجل من الصحابة يقول الزكاة
والحدود والفئ والجمعة إلى السلطان. وقال الطحاوي لا نعلم له مخالفا من الصحابة
وتعقبه ابن حزم بأنه خالفه اثنى عشر صحابيا، والأحاديث تدل على أن الأمة
والعبد يجلدان سواء كانا محصنين أم لا. وقد اختلف أهل العلم في المملوك إذا
كان محصنا هل يرجم أم لا، فذهب الأكثر إلى الثاني، وذهب الزهري والثوري
إلى الأول، واحتج الأولون بأن الرجم لا يتنصف، واحتج الآخرون
بعموم الأدلة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والمستحب أن يحضر إقامة الحد جماعة لقوله عز وجل (وليشهد
عذابهما طائفة من المؤمنين) والمستحب أن يكونوا أربعة، لان الحد يثبت
بشهادتهم، فإن كان الحد هو الجلد وكان صحيحا قويا والزمان معتدل أقام الحد
ولا يجوز تأخيره، فإن الفرض لا يجوز تأخيره من غير عذر ولا يجرد ولا يمد
لما روى عن عبد الله بن مسعود أنه قال: ليس في هذه الأمة مد ولا تجريد
ولا غل ولا صفد ويفرق الضرب على الأعضاء ويتوقى الوجه والمواضع المخوفة
لما روى هنيدة بن خالد الكندي أنه شهد عليا كرم الله وجهه أقام على رجل حدا
وقال للجلاد اضربه واعط كل عضو منه حقه واتق وجهه ومذاكيره
وعن عمر أنه أتى بجارية قد فجرت فقال اذهبا بها واضرباها ولا تخرقا لها
جلدا، ولان القصد الردع دون القتل، وإن كان الحر شديدا أو البرد شديدا
أو كان مريضا مرضا يرجى برؤه، أو كان مقطوعا أو أقيم عليه حد آخر ترك إلى
أن يعتدل الزمان ويبرأ من المرض أو القطع ويسكن ألم الحد، لأنه إذا أقيم
عليه الحد في هذه الأحوال أعان على قتله.
39

وإن كان نضو الخلق لا يطيق الضرب أو مريضا لا يرجى برؤه جمع مائة
شمراخ فضربت به دفعة واحدة، لما روى سهل بن حنيف أنه أخبره بعض أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار أنه اشتكى رجل منهم حتى أضى، فدخلت
عليه جارية لبعضهم فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال من قومه يعودنه ذكر
لهم ذلك وقال استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم وقالوا ما رأينا بأحد من الضر مثل الذي هو به لو حملناه
إليك يا رسول الله لتفسخت عظامه، ما هو الا جلد على عظم، فأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة، ولأنه
لا يمكن ضربه بالسوط لأنه يتلف به ولا يمكن تركه لأنه يؤدى إلى تعطيل الحد
قال الشافعي رحمه الله ولأنه إذا كانت الصلاة تختلف باختلاف حاله فالحد بذلك
أولى، وإن وجب الحد على امرأة حامل لم يقم عليها الحد حتى تضع، وقد
بيناه في القصاص.
(فصل) وإن أقيم الحد في الحال التي لا تجوز فيها إقامته فهلك منه لم يضمن
لان الحق قتله، وإن أقيم في الحال التي لا يجوز إقامته، فإن كانت حاملا فتلف
منه الجنين وجب الضمان، لأنه مضمون فلا يسقط ضمانه بجناية غيره، وإن
تلف المحدود فقد قال إذا أقيم الحد في شدة حر أو برد فهلك لا ضمان عليه.
وقال في الام إذا ختن في شدة حر أو برد فتلف وجبت على عاقلته الدية، فمن
أصحابنا من نقل جواب كل واحدة من المسئلتين إلى الأخرى وجعلهما على قولين
(أحدهما) لا يجب لأنه هلك من حد (والثاني) أنه يجب لأنه مفرط، ومنهم
من قال لا يجب الضمان في الحد لأنه منصوص عليه ويجب في الختان لأنه ثبت
بالاجتهاد، وإن قلنا إنه يضمن ففي القدر الذي يضمن وجهان (أحدهما) أنه
يضمن جميع الدية لأنه مفرط (والثاني) أنه يضمن نصف الدية لأنه مات من
واجب ومحظور فسقط النصف ووجب النصف
(الشرح) حديث سهل بن حنيف، الحديث عن أبي أمامة بن سهل بن
حنيف أن رجلا مقعدا زنا بامرأة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلد بأثكال النخل،
40

يروى أنه أمر أن يأخذوا مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة، أخرجه
الشافعي، ورواه البيهقي وقال هذا هو المحفوظ عن أبي أمامة مرسلا، ورواه أحمد
وابن ماجة من حديث أبي الزناد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن سعيد
ابن سعد بن عبادة قال: كان بين أبياتنا رجل مخدج ضعيف فلم يرع إلا وهو على
أمة من إماء الدار يخبث بها، فرفع شأنه سعد بن عبادة إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال اجلدوه مائة سوط، فقال يا نبي الله هو أضعف من ذاك لو
ضربناه مائة سوط لمات، قال فخذوا له عشكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه واحدة
وخلوا سبيله) ورواه الدارقطني وقال وهم فيه فليح، ورواه أبو داود عن رجل
من الأنصار، ورواه النسائي عن سهل بن حنيف، ورواه الطبراني عن أبي سعيد
الخدري. قال الحافظ بن حجر: فإن كانت الطرق كلها محفوظة فيكون أبو أمامة
قد حمله عن جماعة من الصحابة وأرسله مرة.
اللغة. قوله (ليس في هذه الأمة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفد) الغل
بالفتح شد العنق بحبل أو غيره، والغل بالضم الحبل، والصفد بإسكان الفاء
مصدر صفده بالحديد يصفده يخفف ويشدد. والصفد بالتحريك القيد وهو
الغل في العنق أيضا، وجمعه أيضا أصفاد وصفد، قال الله تعالى (مقرنين
في الأصفاد)
قوله (نضو الخلق) أي مهزول، وأصل النضو البعير المهزول والناقة نضوة
وقد أنضاه السفر هزله.
قوله (مائة شمراخ) الشمراخ واحد الشماريخ، وهو العثكال الذي يكون
عليه البسر والرطب
قوله (اشتكى رجل منهم حتى أضنى) أي مرض، والضنى المرض، يقال
أضناه المرض أي أثقله. قوله (مسرف الحر) أي مفرط في شدة الحر، وأصل
السرف ضد القصد.
قوله (والمستحب أن يحضر..) قلت بل الواجب، لقول الله عز وجل
(وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين)
قوله (والمستحب أن يكونوا أربعا...) قال ابن حزم: واتفقوا أنه إن
41

صف الناس صفوفا كصفوف الصلاة فرجمه الشهود أو لا ثم الناس ورجمه الامام
في المقر أو لا ثم الناس، واختلفوا فيما يدل عليه اسم الطائفة فقال مالك أربعة
وقيل ثلاثة وقيل اثنان، وقيل سبعة وقيل ما فوقها. وقال ابن حزم: وبيقين
ندري أن الله لو أراد بذلك عددا لبينه ولا وقفنا عليه ولم يدعنا نخبط فيه عشواء
قوله (وكان صحيحا قويا..) وهذا ما لا خلاف فيه من تنفيذ الحد فورا
دون إبطاء لكثرة الأحاديث في ذلك
قوله (كان مريضا...) قال النووي في شرحه لصحيح مسلم أن النفساء
والمريضة ونحوهما يؤخر جلدهما إلى البرء. قال الخطابي في المعالم: ان المريض
إذا كان ميؤوسا منه ومن معاودة الصحة والقوة إياه، وقد وجب عليه الحد،
فإنه يتناول بالضرب الخفيف الذي لا يهده
وقال الشافعي (إذا ضربه ضربة واحدة بما يجمع له من الشماريخ فعلم أن قد
وصلت كلها إليه ووقعت به أجزأه ذلك. وكان بعض أصحاب الشافعي يقول (إذا
كان السارق ضعيف البدن فخيف عليه من القط التلف لم يقطع) وقال بعضهم
في وجوب القصاص على من قتل رجلا مريضا بنوع من الضرب لو ضرب
بمثله صحيحا لم يهلك، فإنه يعتبر خلفة المقتول في الضعف والقوة وبنيته في احتمال
الألم، فإن من الناس من لو ضرب الضرب المبرح الشديد لاحتمله بدنه وسلم
عليه. ومنهم من لا يحتمله ويسرع إليه التلف بالضرب الذي ليس بالمبرح الشديد
فإذا مات هذا الضعيف كان ضاربه قاتلا وكان حكم الاخر بخلافه لقوة هذا
وضعف ذلك.
(قلت) وهذا قول فيه نظر وضبط ذلك غير ممكن واعتباره متعذر والله أعلم
وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه لا تعرف الحد إلا حدا واحدا الصحيح والزمن
فيه سواء، قالوا ولو جاز هذا لجاز مثله في الحامل أن تضرب بشماريخ النخل
ونحوه فلما أجمعوا أنه لا يجرى ذلك في الحامل كان الزمن مثل ذلك.
(قلت) إن أول إشارة عن كيفية ضرب السوط تتضمنها كلمة (فاجلدوا)
من آية القرآن نفسه، فإن الجلد مأخوذ من الجلد وهو ظاهر البشرة من جسد
الانسان، ومن ثم قد اتفق أصحاب المعاجم وعلماء التفسير على أن الضرب
42

بالسوط ينبغي أن يصيب الجلد فقط ولا يعدوه إلى اللحم، فكل ضرب بقطع
اللحم أو ينزع الجلد ويجرح اللحم مخالف للقرآن، ويجب أن لا يكون كل عصا
أو سوط يستعمل للضرب شديدا جدا ولا رقيقا لينا جدا، بل يجب أن يكون
بين اللين والشدة، والغلظة والدقة، فقد روى مالك في الموطأ أن رجلا اعترف
على نفسه بالزنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بسوط فأتى بسوط مكسور، فقال فوق ذلك، فأتى بسوط جديد لم تقطع ثمرته
فقال بين هذين، فأتى بسوط قد لان وركب به، فأمر به فجلد
وروى أبو عثمان الهندي عن عمر أنه أتى بسوط فيه شدة، فقال أريد ألين
من هذا، فأتى بسوط فيه لين، فقال أريد أشد من هذا، فأتى بسوط بين
السوطين فقال اضرب.
وكذلك لا يجوز أن يستعمل في الضرب سوط فيه العقود أو له فرعان أو
ثلاثة فروع. وكذلك يجب أن يكون الضرب بين الضربين، وقد كان عمر يقول
للضارب لا ترفع إبطك (ذكره الجصاص وابن العربي في كتابيهما أحكام القرآن)
أي لا تضرب بكل قوة يدك، والفقهاء متفقون على أن الضرب لا ينبغي أن
يكون مبرحا أي موجعا، ولا ينبغي أن يكون في موضع واحد من الجسد، بل
يفرق على الجسد كله حيث يأخذ كل عضو من أعضائه حقه، إلا الوجه والفرج
والرأس أيضا عند الحنفية فإنها لا يجوز ضربها
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه)
رواه أبو داود. وروى عن علي أنه أتى برجل سكران أو في حد فقال (اضرب
واعط كل عضو حقه واتق الوجه والمذاكير) ذكره الجصاص في أحكام القرآن
ولا يجوز الضرب في ساعة يشتد فيها الحر أو البرد بل يجب في ساعة اعتدال
الجو في الصيف والشتاء. وكذلك لا يجوز شد الجاني ولا مده للضرب، اللهم
إلا أن يحاول الفرار.
وإذا أريد ضرب امرأة حامل يجب أن يؤخر حتى تضع حملها وتقضى أيام
نفاسها، وإذا أريد رجمها يجب أن يؤخر حتى تضع حملها وتفطم صبيها، وإذا
كان الزنا ثبت بشهادة الشهود فليبدأ بالضرب الشهود. وإن كان ثبت بإقرار
43

الجاني فليبدأ به القاضي نفسه حتى لا يستهين الشهود بجسامة شهادتهم والقاضي
بجسامة قضائه ان عليا رضي الله عنه لما قضى بالرجم لشراحة الهمدانية المذكورة
قال إن الرجم سنة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان شهد على هذه
أحد لكان أول من يرمى الشاهد يشهد ثم يتبع شهادته حجره، ولكنها أقرت
فأنا أول من رماها فرماها بحجر ثم رماها الناس) أخرجه الإمام أحمد وهذا
واجب عند الحنفية وليس بواجب عند الشافعية
44

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وجب التغريب نفى إلى مسافة يقصر فيها الصلاة، لان
ما دون ذلك في حكم الموضع الذي كان فيه من المنع من القصر والفطر والمسح على
الخف ثلاثة أيام، فان رجع قبل انقضاء المدة رد إلى الموضع الذي نفى إليه،
فإن انقضت المدة فهو بالخيار بين الإقامة وبين العود إلى موضعه، وإن رأى
الامام أن ينفيه إلى أبعد من المسافة التي يقصر فيها الصلاة كان له ذلك لان عمر
رضي الله عنه غرب إلى الشام وغرب عثمان رضي الله عنه إلى مصر، وان رأى
أن يزيد على سنة لم يجز، لان السنة منصوص عليها والمسافة مجتهد فيها.
وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال يغرب إلى حيث ينطلق عليه اسم
الغربة، وإن كان دون ما تقصر إليه الصلاة، لان القصد تعذيبه بالغربة وذلك
يحصل بدون ما تقصر إليه الصلاة ولا تغرب المرأة الا في صحبة ذي رحم محرم
أو امرأة ثقة في صحبة مأمونة، وان لم تجد ذا رحم محرم ولا امرأة ثقة يتطوع
بالخروج معها استؤجر من يخرج معها ومن أين يستأجر فيه وجهان، من أصحابنا
من قال يستأجر من مالها، لأنه حق عليها فكانت مؤنته عليها، وان لم يكن لها
مال استؤجرت من بيت المال. ومن أصحابنا من قال يستأجر من بيت المال،
لأنه حق لله عز وجل فكانت مؤنته من بيت المال، فإن لم يكن في بيت المال
ما يستأجر به استؤجر من مالها.
(الشرح) أثر عمر وأثر عثمان أخرجه البيهقي في السنن الكبرى.
قوله (مسرف الحر) أي مفرط في شدة الحر، وأصل السرف ضد القصد
واختلفوا في التغريب مع الجلد فقال أبو حنيفة وأصحابه لا تغريب أصلا.
وقال الشافعي لا بد من التغريب مع الجلد لكل زان ذكرا أو أنثى حرا كان أو عبدا
وقال مالك يغرب الرجل ولا تغرب المرأة، به قال الأوزاعي، ولا
تغريب عند مالك على العبيد فعمدة من أوجب التغريب على الاطلاق حديث عبادة
ابن الصامت وفيه البكر بالبكر.. الخ. وكذلك حديث أبي هريرة وزيد بن خالد
الجهني في الباب. ومن خصص المرأة من هذا العموم فإنما خصصه بالقياس،
45

لأنه رأى أن المرأة تعرض بالغربة لأكثر من الزنا، وهذا من القياس المرسل
أعني المصلحي الذي كثيرا ما يقول به مالك. وأما عمدة الحنفية فظاهر الكتاب
وهو مبنى على رأيهم أن الزيادة على النص نسخ وأنه ليس ينسخ الكتاب بأخبار
الآحاد. ورووا عن عمر أنه حد ولم يغرب. وروى الكوفيون عن أبي بكر
وعمر أنهم غربوا.
وقالت الحنابلة: وإن زنى الحر غير المحصن جلد مائة وغرب عاما إلى مسافة
قصر لان أحكام السفر من القصر والفطر لا تثبت بدونه، قاله في الكافي. وقال
وحيث رأى الامام الزيادة في المسافة فله، وإن رأى الزيادة على الحول لم يجز له
ذلك لان مدة الحول منصوص عليها فلم يدخلها الاجتهاد والمسافة غير منصوص
عليها فرجع فيها إلى الاجتهاد. اه‍
وتغرب امرأة مع محرم ولعموم نهيها عن السفر بلا محرم وعليها أجرته،
ويغرب غريب إلى غير وطنه.
قال ابن حزم بعد أن أورد الآراء وناقش الأدلة لكل من المانعين والمجوزين
هذه آثار متظاهرة رواها ثلاثة من الصحابة، عبادة بن الصامت، وأبو هريرة
وزيد بن خالد الجهني بإيجاب تغريب عام مع جلد مائة على الزاني الذي لم يحصن
مع اقسام النبي صلى الله عليه وسلم بالله تعالى في قضائه به أنه كتاب الله تعالى،
وكتاب الله تعالى هو وحيه وحكمه، وفرق عليه السلام بين حد المملوك وحد
الحر فصح النص أن على المماليك ذكورهم وإناثهم نصف حد الحر والحرة وذاك
جلد خمسين ونفى ستة أشهر
وقال الشوكاني في النيل: إن أحاديث التغريب قد جاوزت حد الشهرة المعتبرة
عند الحنفية فيما ورد من السنة زائدا على القرآن فليس لهم معذرة عنها بذاك
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان الحد رجما وكان صحيحا والزمان معتدل رجم، لان الحد
لا يجوز تأخيره من غير عذر، وإن كان مريضا مرضا يرجى زواله أو الزمان
مسرف الحر أو البرد ففيه وجهان.
46

(أحدهما) أنه لا يؤخر رجمه لان القصد قتله فلا يمنع الحر والبرد والمرض
منه (والثاني) أنه يؤخر لأنه ربما رجع في خلال الرجم، وقد أثر في جسمه
الرجم فيعين الحر والبرد والمرض على قتله، وإن كان امرأة حاملا لم ترجم حتى
تضع لأنه يتلف به الجنين.
(فصل) فإن كان المرجوم رجلا لم يحفر له، لان النبي صلى الله عليه وسلم
لم يحرف لماعز، ولان ليس بعورة، وإن كان امرأة حفر لها لما روى بريدة قال
جاءت امرأة من غامد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترفت بالزنا، فأمر
فحفر لها حفرة إلى صدرها ثم أمر برجمها لان ذلك أستر لها
(فصل) وإن هرب المرجوم من الرجم، فإن كان الحد ثبت بالبينة أتبع
ورجم لأنه لا سبيل إلى تركه، وإن ثبت بالاقرار لم يتبع لما روى أبو سعيد
الخدري قال: جاء ماعز إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الاخر زنى
وذكر إلى أن قال اذهبوا بهذا فارجموه، فأتينا به مكانا قليل الحجارة فلما رميناه
اشتد من بين أيدينا يسعى فتبعناه فأتى بنا حرة كثيرة الحجارة فقال ونصب نفسه
فرميناه حتى قتلناه ثم اجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله فهلا خليتم عنه حين سعى من بين
أيديكم، وإن وقف وأقام على الاقرار رجم، وان رجع عن الاقرار لم يرجم
لان رجوعه مقبول وبالله التوفيق
(الشرح) حديث لم يحفر لماعز..) رواه أحمد عن أبي سعيد بلفظ (لما
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نرجم ماعز بن مالك خرجنا به إلى البقيع
فوالله ما حفرنا له ولا أوثقناه، ولكن قام لنا فرميناه بالعظام والخزف،
فاشتكى فخرج يشتد حتى أنتصب لنا في عرض الحرة فرمينا بجلاميد الجندل حتى
سكت) وأخرجه مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبو داود
حديث (جاءت امرأة من غامد..) أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود عن
عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: جاءت الغامدية فقالت يا رسول الله إني قد
زنيت فطهرني، وأنه ردها، فلما كان الغد قالت يا رسول الله لم تردني؟ لعلك
47

تردني كما رددت ماعزا فوالله إني لحبلى، قال إما لا فاذهبي حتى تلدي، فلما ولدت
أتته بالصبي في خرقة، قالت هذا قد ولدته، قال اذهبي فارضعيه حتى تفطميه،
فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت هذا يا نبي الله قد فطمته وقد
أكل الطعام، فدفع الصبي إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها
وأمر الناس فرجموها، فيقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على
وجه خالد فسبها، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال مهلا يا خالد
فوالذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له، ثم أمر بها
فصلى عليها ودفنت)
وعن عبد بن بريدة عن أبيه أن ماعز بن مالك الأسلمي أتى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني زنيت وإني أريد أن تطهرني، فرده،
فلما كان من الغد أتاه فقال يا رسول الله إني قد زنيت، فرده الثانية، فأرسل
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه هل تعلمون بعقله بأسا تنكرون منه
شيئا، قالوا ما نعلمه الا وفى العقل من صالحينا فيما نرى، فأتاه الثالثة فأرسل إليهم
أيضا، فسأل عنه فأخبروه أنه لا بأس به ولا بعقله، فلما كان الرابعة حفر له
حفرة ثم أمر به فرجم) رواه أحمد ومسلم. وقال أحمد في آخره فأمر النبي
صلى الله عليه وسلم فحفر حفرة فجعل فيها إلى صدرة ثم أمر الناس برجمه.
اللغة. قوله (ان الاخر زنى) بقصر الألف وكسر الخاء معناه الابعد.
ويقال في الشتم أبعد الله الاخر. وقال في التلويح أي الغائب البعيد المتأخر،
ويقال هذا عند شتم الانسان من يخاطبه كأنه نزهه بذلك
قوله (فأتى بنا حرة) الحرة أرض ذات أحجار كثيره سود نخرة كأنها
أحرقت بالنار والجمع الحرار والحرات وأحرون بالواو والنون كما قالوا أرضون
وأحرون جمع أحرة قال الراجز * لا حمس الا جندل الاحرين.
قول (وإن كان الحد...) وقد سبق الكلام عليه
قوله (فإن كان المرجوم رجلا..) قال الشوكاني اختلف الروايات في ذلك
48

فحديث أبي سعيد فيه أنهم لم يحفروا لماعز. وحديث عبد الله بن بريدة فيه أنهم
حفروا، وقد جمع بين الروايتين بأن المنفي حفيرة لا يمكنه الوثوب منها والمثبت
عكسه أو أنهم لم يحفروا له أول الأمر، ثم لما وجد مس الحجارة خرج من
الحفرة فتبعوه، وعلى فرض عدم إمكان الجمع فالواجب تقديم رواية الاثبات
على النفي، ولو فرضنا أن ذلك غير مرجح توجه إسقاط الروايتين والرجوع إلى
غيرهما لوجدنا حديث خالد بن اللجلاج الذي أخرجه أبو داود وأحمد بلفظ أن
أباه أخبره، فذكر قصة رجل اعترف بالزنا، فقال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم أحصنت؟ قال نعم، فأمر برجمه، فذهبنا فحفرنا له حتى أمكننا ورميناه
بالحجارة حتى هدأ) فإن فيه التصريح بالحفر بدون تسمية المرجوم. وكذلك
حديثه أيضا في الحفر للغامدية.
وقد ذهبت العترة إلى أنه يستحب الحفر إلى سرة الرجل وثدي المرأة.
وذهب أبو حنيفة والشافعي إلى أنه لا يحفر للرجل. وفى قول للشافعي أنه إذا
حفر فلا بأس، وبه قال الامام يحيى.
وفى وجه للشافعية أنه يخير الامام.
وفى المرأة ثلاثة أوجه ثالثها يحفر ان ثبت زناها بالبينة لا بالاقرار،
والمروى عن أبي يوسف وأبى ثور أنه يحفر للرجل والمرأة على المشهور عن
الأئمة الثلاثة أنه لا يحضر مطلقا، والظاهر مشروعية الحفر.
ثم قال: قالت الحنابلة والشافعية والحنفية والعترة: ويروى عن مالك في
قول له أن يقبل من المقر الرجوع عن الاقرار ويسقط عنه الحد
وذهب ابن أبي ليلى وأبو ثور ورواية عن مالك وقول للشافعي أنه لا يقبل
منه الرجوع عن الاقرار بعد كماله كغيره من الاقرارات، قال الأولون ويترك
إذا هرب لعله يرجع.
قال في البحر (مسألة) وإذا هرب المرجوم بالبينة أتبع بالرجم حتى يموت
لا بالاقرار لقوله صلى الله عليه وسلم لماعز (هلا خليتموه) ولصحة الرجوع عن
الاقرار، ولا ضمان إذا لم يضمنهم صلى الله عليه وسلم لاحتمال كون هربه رجوعا أو غيره اه‍
49

وذهبت المالكية إلى أن المرجوم لا يترك إذا هرب وعن أشهب أن ذكر
عذرا فقيل يترك والا فلا، ونقله العتبى عن مالك، وحكى اللخمي عنه قولين
فيمن رجع إلى شبهة.
قال المصنف رحمه الله تعالى
باب حد القذف
القذف محرم والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا يا رسول الله وما هن؟
قال (الشرك بالله عز وجل، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله الا بالحق،
وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات.
(الشرح) حديث أبي هريرة متفق عليه، والطبراني والنسائي وابن مردويه
وابن حبان والحاكم بنحوه.
وعنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تحاسدوا ولا تباغضوا
ولا تناجشوا ولا تدبروا ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله اخوانا
المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا يشير إلى صدره
ثلاث مرات، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم
حرام دمه وماله وعرضه) مسلم
اللغة: أصل القذف الرمي بالحجارة وغيرها والقذف بالزنا مأخوذ منه،
والسبع الموبقات هي المهلكات، وأوبقه الله أهلكه، يقال منه وبقى يبق وأوبق
يوبق إذا هلك قال الله تعالى (أو يوبقهن بما كسبوا)
قوله (التولي يوم الزحف) التولي الادبار فرارا من القتال، والزحف هو
المشي إلى القتال.
قالت الحنابلة: والقذف حرام وواجب ومباح فيحرم (قلت) من أتى
ما نصت عليه الآية (والذين يرمون المحصنات...) وواجب على من يرى
50

زوجته تزني، ويباح إذا رآها تزني ولم تلد أو استفاض زناها بين الناس أو
أخبره به ثقة لا عداوة بينه وبينها أو برى معروفا به عندها خلوة، لان ذلك مما
يغلب على الظن زناها، ولم يجب لأنه لا ضرر على غيرها حيث لم تلد وفراقها
أولى. وصريح القذف: يا منيوكة، يا منيوك، يا عاهر، يا لوطي، ولست
ولد فلان فقذف لأنه وكنايته زنت يداك أو رجلاك، أو يدك أو بدنك،
ويا مخنث يا قحبة يا فاجرة يا خبيثة، أو يقول لزوجه شخص فضحت زوجك
وغطيت رأسك وجعلت له قرونا وعلقت عليه أولادا من غيره وأفسدت فراشه
فإذا أراد بهذه الألفاظ حقيقة الزنى حد والا عزر
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا قذف بالغ عاقل مختار مسلم أو كافر التزم حقوق المسلمين من
مرتد أو ذمي أو معاهد محصنا ليس بولد له بوطئ يوجب الحد وجب عليه الحد
فإن كان حرا جلد ثمانين جلدة لقوله تعالى (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) وإن كان مملوكا جلد أربعين لما روى يحيى
ابن سعيد الأنصاري قال (ضرب أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم مملوكا افترى
على حر ثمانين جلدة، فبلغ ذلك عبد الله بن عامر بن ربيعة فقال أدركت الناس
من زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى اليوم فما رأيت أحدا ضرب المملوك
المفترى على الحر ثمانين قبل أبى بكر بن محمد بن عمر بن حزم. وروى خلاس
أن عليا كرم الله وجهه قال في عبد قذف حرا فصف الحد، ولأنه حد يتبعض
فكان المملوك على النصف من الحر كحد الزنا.
(فصل) وان قذف غير محصن لم يجب عليه الحد لقوله عز وجل (والذين
يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) فدل على أنه
إذا قذف غير محصن لم يجلد والمحصن الذي يجب الحد بقذفه من الرجال والنساء
من اجتمع فيه البلوغ والعقل والاسلام والحرية والعفة عن الزنا، فإن قذف
صغيرا أو مجنونا لم يجب به عليه الحد، لان ما يرمى به الصغير والمجنون لو تحقق
لم يجب به الحد فلم يجب الحد على القاذف، كما لو قذف بالغا عاقلا بما دون الوطئ
وان قذف كافرا لم يجب عليه الحد لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
51

قال (من أشرك بالله فليس بمحصن) وان قذف مملوكا لم يجب عليه الحد، لان
نقص الرق يمنع كمال الحد فيمنع وجوب الحد على قاذفه.
وإن قذف زانيا لم يجب عليه الحد لقوله عز وجل (والذين يرمون المحصنات
ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة) فأسقط الحد عنه، إذا ثبت أنه
زنى فدل أنه إذا قذفه وهو زان لم يجب عليه الحد.
وإن قذف من وطئ في غير ملك وطنا محرما لا يجب به الحد كمن وطئ
امرأة ظنها زوجته أو وطئ في نكاح مختلف في صحته ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه لا يجب عليه الحد، لأنه وطئ محرم لم يصادف ملكا فسقط
به الاحصان كالزنا (والثاني) أنه يجب لأنه وطئ لا يجب به الحد فلم يسقط به
الاحصان كما لو وطئ زوجته وهي حائض.
(فصل) وإن قذف الوالد ولده أو قذف الجد ولد ولده لم يجب عليه الحد
وقال أبو ثور يجب عليه الحد لعموم الآية، والمذهب الأول، لأنه عقوبة تجب
لحق الآدمي فلم تجب للولد على الوالد كالقصاص وان قذف زوجته فماتت وله منها ولد
سقط الحد، لأنه لما لم يثبت له عليه الحد بقذفه لم يثبت له عليه بالإرث عن أمه
وإن كان لها ابن آخر من غيره وجب له، لان حد القذف يثبت لكل واحد من
الورثة على الانفراد.
(الشرح) حديث يحيى بن سعيد أخرجه البيهقي في السنن الكبرى.
وأخرج مالك في الموطأ والبيهقي عن عبد الله بن عامر بن ربيعة أدركت
أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك إذا قذف
إلا أربعين سوطا.
حديث ابن عمر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، وفى رواية أخرى عنه
(لا يحص أهل الشرك بالله شيئا).
وفى رواية عن كعب بن مالك أنه أراد أن يتزوج يهودية أو نصرانية فسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عنها وقال إنها لا تحصنك.
وقال الدارقطني: فيه أبو بكر بن أبي مريم ضعيف، وعلي بن أبي طلحة لم
يدرك كعبا الصحابي، قال البيهقي: وروى من وجه آخر الا أنه منقطع.
52

اللغة: قوله (افترى على حر) أي كذب قال الله تعالى (لا تفتروا على الله
كذبا) وقد ذكر.
الاحصان: قالت المالكية في تفسير (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب)
فالاحصان هاهنا هو الحرية.
قالت الحنفية في أحكام القرآن للجصاص: المحصنات هن العفائف، ثم قالوا
في البدائع هن الحرائر لا العفائف عن الزنا فدل أن الحرية شرط.
وقال الشوكاني: والمراد بالمحصنات المرأة العفيفة:
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
وقد ورد الاحصان في القرآن لمعان منها الحرية ومنها ذوات الأزواج،
وقال ابن حزم احصان الفرج.
قال ابن العربي في أحكام القرآن (وهو مالكي) وشروط القذف عند العلماء
تسعة: شرطان في القاذف، وشرطان في المقذوف به، وخمسة في المقذوف،
فأما الشرطان في القاذف فالعقل والبلوغ، وأما الشرطان في الشئ المقذوف به
فهو أن يقذفه بوطئ يلزمه فيه الحد وهو الزنا أو اللواط أو ينفيه من أبيه دون
سائر المعاصي، وأما الخمس التي في المقذوف فهي العقل والبلوغ والاسلام
والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمى بها كان عفيفا عن غيرها أو لا
وقال ابن رشد في البداية: واختلفوا في العبد يقذف الحر كم حده، فقال
الجمهور من فقهاء الأمصار حده نصف حد الحر وذلك أربعون جلدة، وروى
ذلك عن الخلفاء الأربعة وعن ابن عباس، وقالت طائفة حده حد الحر، وبه
قال ابن مسعود من الصحابة وعمر بن عبد العزيز وجماعة من فقهاء الأمصار
أبو ثور والأوزاعي وداود وأصحابه من أهل الظاهر فعمدة الجمهور قياس حده
في القذف على حده في الزنا، وأما أهل الظاهر فتمسكوا في ذلك بالعموم،
ولما أجمعوا أيضا أن حد الكتابي ثمانون فكان العبد أحرى بذلك. قالت الحنابلة
في الفروع من قذف بزنا في قبل وهو مكلف مختار محصنا ولو ذات محرم نص
عليه جلد الحر ثمانين والعبد أربعين ولو عتق قبل حد.
53

قوله (وان قذف غير محصن..) قالت الحنابلة في الفروع: ومن قذف
غير محصن عزر، لان الآية مفهومها أنه لا يجلد بقذف غير المحصن.
قال ابن حزم في المراتب، واتفقوا أن الحر العاقل البالغ المسلم غير المكره
إذا قذف حرا عاقلا بالغا مسلما عفيفا لم يحد قط في زنا أو حرة بالغة عاقلة
مسلمة عفيفة غير ملاعنة لم تحد في زنا قط بصريح الزنا أنه يلزمه ثمانون جلدة.
قوله (وان قذف صغيرا أو مجنونا...) قال مالك: إذا بلغت الصبية حتى
توطأ فعلى قاذفها الحد، وكذلك يجلد المجنون وقال أبو حنيفة والشافعي
وأصحابهما والحسن بن حي لا حد على قاذف صغير ولا مجنون.
قال ابن حزم: الصغار محصنون بمنع الله تعالى لهم من الزنا وبمنع أهليهم،
وكذلك المجانين، وكذلك المجبوب والرتقاء والقرناء والعنين، وقد يكون كل
هؤلاء محصنين بالعفة، وأما البكر والمكره فمحصنان بالعفة فإذا كل هؤلاء
يدخلون في جملة المحصنات بمنع الفروج من الزنا فعلى قاذفهم الحد، ولا سيما
القائلون إن الحرية إحصان وكل حرة محصنة واسقاط الحد عن قاذفهم خطأ
محض لا إشكال فيه.
قوله (وإن قذف كافرا..) قال مالك: سواء كانت حرة أو أمة أو مسلمة
أو كافرة يجب الحد، وقال إبراهيم النخعي: لا حد عليه إذا كانت أم المقذوف
أمة أو كتابية وهو قياس قول الشافعي.
وقالت الحنفية شرائط الاحصان خمسة: العقل والبلوغ والحرية والاسلام
والعفة عن الزنا فلا يجب الحد بقذف الصبي والمجنون والرقيق والكافر ومن
لا عفة له عن الزنا، وقالوا إن الحد إنما وجب بالقذف دفعا لعار الزنا عن
المقذوف وما في الكافر من عار الكفر أعظم.
قوله (وان قذف مملوكا) قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وسفيان الثوري
وعثمان البتي والحسن بن حي والشافعي وأصحابهم لا حد على قاذف العبد والأمة
وقال الحسن البصري الزوج يلاعن الأمة وان قذفها وهي أمة جلد لأنها امرأته
54

وسأل أميرا من الامراء ابن عمر عن رجل قذف أم ولد لرجل، فقال ابن عمر
يضرب الحد صاغرا.
وعن ابن سيرين قال أراد عبد الله بن زياد أن يضرب قاذف أم ولد فلم
يتابعه على ذلك أحد، وروى عن عطاء والزهري لا حد على قاذف أم ولد.
قال ابن حزم: أما قولهم لا حرمة للعبد والأمة فكلام سخيف والمؤمن له حرمة
عظيمة ورب عبد جلف خير من خليفة قرشي، وسوى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بين حرمة العرض من الحر والعبد.
قوله (وان قذف زانيا) قلت: هذا ما لا خلاف فيه في حالة ثبوت الزنا.
قوله (وان قذف الوالد ولده..) قال عطاء: إذا افترى الأب على الابن
فلا يحد، وقال الحسن ليس على الأب لابنه حد، وبه يقول أبو حنيفة والشافعي
وأحمد بن حنبل وأصحابهم والحسن بن حي وإسحاق بن راهويه
وقال سفيان الثوري في الأب يقذف ابنه انهم يستحبون الدرأ عنه، وقال
في المرأة تزني وهي محصنة وتقتل ولدها أنه يدرأ عنها الحد، وقال ابن حزم:
الحدود والقود واجبان على الأب للولد لأنه حد لله تعالى وليس حدا للمقذوف
ثم قال: والحكم عند الحنفيين في إسقاط الحد عن الجد إذا قذف ولد الولد كالحكم
في قاذف الأبوين الادنين، والعجب بأن الحنفيين قد فرقوا بين حكم الولد
وبين حكم ولد الولد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن رفع القاذف إلى الحاكم وجب عليه السؤال عن إحصان
المقذوف لأنه شرط في الحكم فيجب السؤال عنه كعدالة الشهود، ومن أصحابنا
من قال لا يجب، لان البلوغ والعقل معلوم بالنظر إليه، والظاهر الحرية
والاسلام والعفة.
وإن قال القاذف أمهلني لأقيم البينة على الزنا أمهل ثلاثة أيام، لأنه قريب
لقوله عز وجل (ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب) ثم قال (تمتعوا في
داركم ثلاثة أيام).
55

(فصل) وإن قذف محصنة ثم زنى المقذوف أو وطئ وطئا زال به
الاحصان سقط الحد عن القاذف.
وقال المزني وأبو ثور لا يسقط لأنه معنى طرأ بعد وجوب الحد فلا يسقط
ما وجب من الحد كردة المقذوف وثيوبة الزاني وحريته، وهذا خطأ لان ما ظهر
من الزنا بوقع شبهة في حال القذف، ولهذا روى أن رجلا زنى بامرأة في زمان
أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقال والله ما زنيت إلا هذه المرة، فقال له عمر
كذبت إن الله لا يفضح عبده في أول مرة، والحد يسقط بالشبهة، وأما ردة
المقذوف ففيها وجهان.
(أحدهما) أنها تسقط الحد (والثاني) أنها لا تسقط، لان الردة ندين
والعادة فيها الاظهار، وليس كذلك الزنا فإنه يكم، فإذا ظهر دل على تقدم أمثاله
وأما ثيوبة الزاني وحريته فإنها لا تورث شبهة في بكارته ورقه في حال الزنا.
(الشرح) أثر عمر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى
قوله (وإن قذف محصنا.....) قال ابن حزم في المحلى: إن من قذفه
قاذف ثم زنى المقذوف لم يسقط ذلك الزنا قد وجب من الحد على قاذفه لأنه زنا غير الذي رماه به فهو إذا رمى محصن أو محصنة فعليه الحد ولا بد ولا يسقط
حد قد وجب إلا بنص أو إجماع، ولا نص ولا إجماع ها ههنا أصلا على سقوطه
بعد وجوبه بنص.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجب الحد إلا بصريح القذف أو بالكناية مع النية، فالصريح
مثل أن يقول زنيت أو يا زاني، والكناية كقوله: يا فاجر أو يا خبيث، أو
يا حلال بن الحلال، فإن نوى به القذف وجب به الحد، لان مالا تعتبر فيه
الشهادة كانت الكناية فيه مع النية بمنزلة الصريح كالطلاق والعتاق، وإن لم ينو
به القذف لم يجب به الحد، سواء كان ذلك في حال الخصومة أو غيرها، لأنه
يحتمل القذف وغيره فلم يجعل قذفا من غير نية كالكناية في الطلاق والعناق
56

(فصل) وإن قال لطت أو لاط بك فلان باختيارك فهو قذف لأنه قذفه
بوطئ يوجب الحد فأشبه القذف بالزنا.
وإن قال يا لوطي وأراد به أنه على دين قوم لوط لم يجب به الحد لأنه
يحتمل ذلك، وإن أراد أنه يعمل عمل قوم لوط وجب الحد، وإن قال لامرأته
يا زانية فقالت بك زنيت لم يكن قولها قذفا له من غير نية، لأنه يجوز أن تكون
زانية ولا يكون هو زانيا بأن وطئها وهو يظن أنها زوجته وهي تعلم أنه أجنبي
ولأنه يجوز أن تكون قصدت نفى الزنا، كما يقول الرجل لغيره سرقت، فيقول
معك سرقت، ويريد أنى لم أسرق كما لم تسرق، ويجوز أن يكون معناه ما وطئني
غيرك، فإن كان ذلك زنا فقد زنيت.
وإن قال لها يا زانية فقالت أنت أزنى منى لم يكن قولها قذفا له من غير نية
لأنه يجوز أن يكون معناه ما وطئى غيرك، فإن كان ذلك زنا فأنت أزنى منى،
لان المغلب في الجماع فعل الرجل. وإن قال لغيره أنت أزنى من فلان أو أنت
أزنى الناس لم يكن قذفا من غير نية، لان لفظة أفعل لا تستعمل إلا في أمر
يشتركان فيه ثم ينفرد أحدهما فيه بمزية، وما ثبت أن فلانا زان ولا أن الناس
زناة فيكون هو أزنى مفهم. وان قال فلان زان وأنت أزنى منه، أو أنت أزنى
زناة الناس فهو قذف لأنه أثبت زنا غيره ثم جعله أزنى منه.
(فصل) وان قال لامرأته يا زاني فهو قذف لأنه صرح بإضافة الزنا إليها
وأسقط الهاء للترخيم، كقولهم في مالك يا مال، وفى حارث يا حار. وان قال
لرجل يا زانية فهو قذف لأنه صرح بإضافة الزنا إليه وزاد الهاء للمبالغة، كقولهم
علامة ونسابة وشتامة ونوامة، فإن قال زنأت في الجبل فليس بقذف من غير
نية، لان الزن ء هو الصعود في الجبل، والدليل عليه قول الشاعر.
وارق إلى الخيرات زنئا في الجبل.
وان قال زنأت ولم يذكر الجبل ففيه وجهان (أحدهما) أنه قذف لأنه لم
يقرن به ما يدل على الصعود (والثاني) وهو قول أبى الطيب بن سلمة رحمه الله
أنه إن كان من أهل اللغة فليس بقذف، وإن كان من العامة فهو قذف لان
العامة لا يفرقون بين زنيت وزنأت.
57

(فصل) وإن قال زنى فرجك أو دبرك أو ذكرك فهو قذف لان الزنا يقع
بذلك، وان قال زنت عينك أو بدك أو رجلك فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم
من قال هو قذف، وهو ظاهر ما نقله المزني رحمه الله، لأنه أضاف الزنا إلى
عضو منه فأشبه إذا أضاف إلى الفرج، ومنهم من قال ليس بقذف من غير نية.
وخطأ المزني في النقل لان الزنا لا يوجد من هذه الأعضاء حقيقة، ولهذا قال
النبي صلى الله عليه وسلم (العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق
ذلك كله الفرج أو يكذبه، فإن قال زنى بدنك ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه قذف من غير نية، لان الزنا بجميع البدن يكون
بالمباشرة فلم يكن صريحا في القذف.
(والثاني) أنه قذف لأنه أضاف إلى جميع البدن والفرج داخل فيه، وان
قال لا ترد يد لا مس لم يكن قاذفا، لما روى أن رجلا من بنى فزارة قال للنبي
صلى الله عليه وسلم ان امرأتي لا ترد يد لامس، ولم يجعله النبي صلى الله عليه
وسلم قاذفا. وان قال زنى بك فلان وهو صبي لا يجامع مثله لم يكن قاذفا، لأنه
لا يوجد منه الوطئ الذي يجب به الحد عليها، وإن كان صبيا يجامع مثله فهو
قذف لأنه يوجد منه الوطئ الذي يجب به الحد عليها وان قال لامرأته زنيت
بفلانة أو زنت بك فلانة لم يحب به الحد، لان ما رماها به لا يوجب الحد.
(فصل) وان أتت امرأته بولد فقال ليس منى لم يكن قاذفا من غير نية
لجواز أن يكون معناه ليس منى خلقا أو خلقا أو من زوج غيري أو من وطئ
شبهة أو مستعار. وان نفى نسب ولده باللعان فقال رجل لهذا الولد لست بابن
فلان لم يكن قذفا، لأنه صادق في الظاهر أنه ليس منه، لأنه منفى عنه. قال
الشافعي رحمه الله: إذا أقر بنسب ولد فقال له رجل لست بابن فلان فهو قذف
وقال في الزوج: إذا قال للولد الذي أقر به لست بابني أنه ليس بقذف
واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال إن أراد القذف فهو قذف في المسألتين،
وان لم يرد القذف فليس بقذف في المسألتين، وحمل جوابه في المسألتين على
هذين الحالين. ومن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى
وجعلهما على قولين.
58

(أحدهما) أنه ليس بقذف فيهما لجواز أن يكون معناه لست بابن فلان أو
لست بابني خلقا أو خلقا.
(والثاني) أنه قذف لأن الظاهر منه النفي والقذف، ومن أصحابنا من قال
ليس بقذف من الزوج وهو قذف من الأجنبي، لان الأب يحتاج إلى تأديب
ولده فيقول لست بابني مبالغة في تأديبه، والأجنبي غير محتاج إلى تأديبه
فجعل قذفا منه.
(فصل) وإن قال لعربي يا نبطي، فإن أراد نبطي اللسان أو نبطي الدار لم
يكن قذفا، وإن أراد نفى نسبه من العرب ففيه وجهان (أحدهما) أنه ليس بقذف
لان الله تعالى علق الحد على الزنا فقال (والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا
بأربعة شهداء) وشهادة الأربعة يحتاج إليها في إثبات الزنا.
(والثاني) أنه يجب به الحد لما روى الأشعث بن قيس أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: لا أوتى برجل يقول إن كنانة ليست من قريش إلا جلدته وعن
ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا حد إلا في اثنتين، قذف محصنة ونفى
رجل من أبيه.
(فصل) ومن لا يجب عليه الحد لعدم إحصان المقذوف أو للتعريض
بالقذف من غير نية عزر لأنه آذى من لا يجوز أذاه، وإن قال لامرأته
استكرهت على الزنا ففيه وجهان (أحدهما) أنه يعزر لأنه يلحقها بذلك عار
عند الناس (والثاني) أنه لا يعزر، لأنه لا عار عليها في الشريعة بما
فعل بها مستكرهة.
(الشرح) قوله (ولا يجب الحد إلا بصريح القذف، قالت الحنابلة: وصريح
القذف يا زان يا عاهر، قد زنيت، زنا فرجك ونحوه. وكذا يا لوطي.
لقله واختاره الأكثر.
قال أحمد (يحده) قالوا وإن فسر يا منيوكة بفعل زوج فليس قذفا، ذكروه
في الرعاية والتبصرة. وان أراد بزاني العين أو يا عاهر اليد لم يقبل منه مع سبقه
ما يدل على قذف صريح، وكنايته زنت يداك أو رجلاك أو يدك أو بدنك
59

ويا مخنث، ويا قحبة، ويا فاجرة ويا خبيثة، أو يقول لزوجة شخص فضحت
زوجك وغطيت رأسه وجعلت له قرونا وعلقت عليه أولاد من غيره وأفسدت
فراشه، قال الإمام أحمد في رواية حنبل لا أرى الحد الا على من صرح بالقذف
أو الشتمة، فإن أراد بهذه الألفاظ حقيقة الزنى حد والا عزر.
قال ابن رشد في البداية: إذا كان القذف بلفظ صريح وجب الحد، واختلفوا
إن كان بتعريض فقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى لا حد في
التعريض، الا أن أبا حنيفة والشافعي يريان فيه التعزير. وممن قال بقولهم من
الصحابة ابن مسعود.
وقال مالك وأصحابه: في التعريض الحد، وهي مسألة وقعت في زمان عمر
فشاور عمر فيها الصحابة فاختلفوا فيها، فرأى عمر فيها الحد، وعمدة مالك أن
الكناية قد تقوم بعرف العادة والاستعمال مقام النص الصريح، وإن كان اللفظ
فيها مستعملا في غير موضعه، أعني مقولا بالاستعارة، وعمدة الجمهور أن
الاحتمال الذي في الاسم المستعار شبهة والحدود تدرأ بالشبهات والحق أن الكناية
قد تقوم في مواضع مقام النص وقد تضعف في مواضع، وذلك أنه إذا لم يكثر
الاستعمال لها.
قال ابن حزم: من قال لآخر فرجت بفلانة أو قال فسقت بها، فإن أبا حنيفة
والشافعي وأصحابهما قالوا لا حد في ذلك، ثم قال إن كان لهذين اللفظين وجه
غير الزنا فكما قالوا، وإن كان لا يفهم منهما غير الزنا فالحد في ذلك، فلما نظرنا
فيهما وجدناهما يقعان على اتيانهما في الدبر فسقط الحد في ذلك، وكذلك لو قال
جامعتها حراما ولا فرق، قال على فلو أخبر بهذا عن نفسه لم يكن معترفا بالزنا
قوله (وان قال لطت...) قالت الحنابلة: وصريح القذف يا لوطي ولا
تحتمل غيره. أورد ابن حزم في المحلى آثار عن قتادة أن رجلا قال لأبي الأسود
الدؤلي يا لوطي، قال يرحم الله لوطا.
وعن عكرمة حينما سأل عن رجل قال لآخر يا لوطي؟ قال عكرمة ليس
عليه حد. وعن الزهري وقتادة أنهما قالا جميعا في رجل قال لرجل يا لوطي.
أنه لا يحد، وبه يقول أبو حنيفة وأبو سليمان وأصحابنا.
60

وقال آخرون لا حد في ذلك إلا أن يبين عن ابن جريج قال. قلت لعطاء
في رجل قال لآخر يا لوطي، قال لا حد عليه حتى يقول إنك لتصنع بفلان.
وعن النخعي قال نيته يسأل عما أراد بذلك.
وقالت طائفة عليه الحد واستدلوا بحكم عمر بن عبد العزيز حينما رفع إليه
مثل هذا الامر، فجعل عمر يقول يا لوطي يا محمدي، فكأنه لم ير عليه الحد
وضربه بضعة عشر سوطا، ثم أرسل إليه من الغد فأكمل له الحد. وعن الشعبي
قال يجلد، وبإيجاب الحد يقول مالك والشافعي.
قال ابن حزم في المحلى: واللواط ليس عندنا زنا فلا حد في الرمي به، فإن
قالوا إن الرمي بذلك حرام، قلنا نعم وإثم، ولكن ليس كل حرام وإثم تجب
فيه الحدود، فالغصب حرام ولا حد فيه، وأكل لحم الخنزير حرام ولا حد فيه
والرمي بالكفر حرام ولا حد فيه.
قوله (وإن قال لامرأته...) فهذا ما لا خلاف فيه.
قوله (وإن قال لامرأته يا زاني..) قالت الحنابلة: وإن قال لرجل
يا زانية أو لامرأة يا زان فصريح كفتح التاء وكسرها لهما خلافا لصاحب الرعاية
في عالم بعربية، وقيل كناية.
وإن قال زنأت في الجبل فصريح، وقيل إن عرف العربية وقال أردت
الصعود في الجبل، قيل فإن لم يقل في الجبل، وقيل لا قذف.
قوله (وإن قال زنى فرجك أو دبرك) سبق الكلام عليه في الباب.
قوله (وإن أتت امرأة بولد) قال ابن حزم: اختلف الناس فيمن نفى آخر
عن نسبه، فقالت طائفة فيه الحد، وقالت طائفة لا حد فيه، فأما من أوجب
فيه الحد فهو كما قال ابن مسعود لا حد إلا في اثنين، أن يقذف محصنة أو ينفى
رجلا عن أبيه، وإن كانت أمه أمة.
وعن الشعبي في الرجل ينفى الرجل من فخذه، قال ليس عليه حد إلا أن ينفيه
من أبيه، وعنه والحسن يضرب الحد، وعن النخعي من نفى رجلا عن أبيه كان
أبوه ما كان، كان عليه الحد، وعنه في رجل نفى رجلا عن أبيه قال له لست.
61

لأبيك وأمه نصرانية أو مملوكة، قال لا يجلد، وفى قضية رفعت لعمر بن عبد العزيز
أن رجلا قال لآخر يهودي بن يهودي، فقال له أجل والله إني اليهودي ابن
اليهودي، قال إن كان الذي قال له ذلك يعرف أبوه فحد اليهودي.
وعن معاذ بن جبل وعهد الله بن عمر قالا: ليس الحد إلا في الكلمة ليس لها
مصرف وليس لها إلا وجه واحد. وعن علي إذا بلغ الحد لعل وعسى فالحد
معطل. وعن ابن عباس فيمن قال لرجل يا نبطي أنه لا حد عليه، وكذا الشعبي
وعطاء، قال ابن حزم فلما اختلفوا كما ذكرنا وجب أن ننظر لنعلم الحق فنتبعه
فوجدنا الزهري يقول في نفى المرء عن أبيه أو عن نسبه أن السنة على الغافي في
كتاب الله تعالى وسنة نبية صلى الله عليه وسلم أن يأتي بأربعة شهداء، فنظرنا
هل نجد هذا الذي ذكر الزهري في كتاب الله تعالى فلم نجده.
فإن قالوا النافي قاذف ولابد، قلنا لا ما هو قاذف ولا قذف أحدا، وقد
ينفيه عن نسبه بأنه استلحق وأنه من غيرهم ابن نكاح صحيح، فقد كانت العرب
تفعل هذا فلا قذف هاهنا أصلا. ثم نظرنا فوجدنا الله تعالى قد أوجب القذف
بالزنا الحد، وجاءت به السنة الصحيحة، وصح به الاجماع المتيقن.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (فصل) وما يجب بالقذف من الحد أو التعزير بالأذى فهو حق للمقذوف
يستوفى إذا طالب به ويسقط إذا عفا عنه، والدليل عليه ما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان يقول تصدقت
بعرضي والتصدق بالعرض لا يكون الا بالعفو عما يجب له، ولأنه لا خلاف
أنه لا يستوفى الا بمطالبته فكان له العفو كالقصاص، وان قال لغيره اقذفني
فقذفه ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه لا حد عليه لأنه حق له فسقط بإذنه كالقصاص.
(والثاني) أنه يجب عليه الحد لان العار يلحق بالعشيرة فلا يملك الا بإذن
فيه، وإذا أسقط الاذن وجب الحد، ومن وجب له الحد أو التعزير لم يجز أن
62

يستوفى الا بحضرة السلطان لأنه يحتاج إلى الاجتهاد ويدخله التخفيف، فلو
فوض إلى المقذوف لم يؤمن أن يجف للتشفي.
(فصل) وأن مات من له الحد أو التعزير وهو ممن يورث انتقل ذلك إلى
الوارث، وفيمن يرثه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يرثه جميع الورثة لأنه موروث فكان لجميع الورثة كالمال
(والثاني) أنه لجميع الورثة الا لمن يرث بالزوجية، لان الحد يجب لدفع
العار ولا يلحق الزوج عار بعد الموت لأنه لا تبقى زوجية.
(والثالث) أنه يرثه العصبات دون غيرهم لأنه حق ثبت لدفع العار فاختص
به العصبات كولاية النكاح، وإن كان له وارثان فعفا أحدهما ثبت للآخر جميع
الحد لأنه جعل الردع ولا يحصل الردع الا بما جعله الله عز وجل للردع، وان
لم يكن له وارث فهو للمسلمين ويستوفيه للسلطان.
(فصل) وأن جن من له الحد أو التعزيز لم يكن لوليه أن يطالبه باستيفائه
لأنه حق يجب للتشفي ودرك الغيظ فأخر إلى الإفاقة كالقصاص، وان قذف
مملوكا كانت المطالبة بالتعزير للمملوك دون السيد، لأنه ليس بمال ولا له بدل،
هو مال فلم يكن السيد فيه حق كفسخ النكاح إذا عتقت الأمة تحت عبد، وان
مات المملوك ففي التعزير ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يسقط لأنه لا يستحق عنه بالإرث فلا يستحق المولى لأنه
لو ملك بحق الملك لملك في حياته (والثاني) أنه للمولى لأنه حق ثبت للمملوك
فكان المولى أحق به بعد الموت كمال المكاتب (والثالث) أنه ينتقل إلى عصباته
لأنه حق ثبت لنفى العار فكان عصباته أحق به.
(الشرح) الحديث أخرجه ابن السني.
اللغة. قوله (تصدقت بعرضي) قال أبو بكر بن الأنباري، قال أبو العباس
العرض موضع الذم والمدح من الانسان، ومعناه أموره التي يرتفع بها أو يسقط
بذكرها ومن جهتها يحمد أو يذم، ويجوز أن يكون ذكر أسلافه لأنه يلحقه
النقيصة بعيبهم.
63

وقال ابن قتيبة رض الرجل نفسه، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: أهل
الجنة لا يبولون ولا يتغوطون، إنما هو عرق يخرج من أعراضهم مثل المسك
أي أبدانهم. واحتج بهذا الحديث المذكور (تصدقت بعرضي) أي بنفسي
وأحللت من يغتابني. قال ولو كان العرض الأسلاف لما جاز له أن يحل من يغتابهم
وله كلام يطول.
قوله (العار يلحق بالعشيرة) هم القبيلة.
قوله (لم يؤمن أن يحيف) الحيف الجور والظلم وقد ذكر مرارا، وأصل
التشفي من شفاه الله من المرض إذا زال عنه، فكأنه يزول ما يجد من الغيظ
والحزن. قوله (جعل للردع) الردع الكف، ردعته فارتدع أي كففته فانكف
قوله (وما يجب بالقذف من الحد) قال ابن رشد وأما سقوطه فإنهم اختلفوا
في سقوطه بعفو القاذف، فقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي لا يصح العفو
أي لا يسقط الحد، وقال الشافعي يصح العفو أي يسقط الحد بلغ الامام أو لم يبلغ
وقال قوم إن بلغ الامام لم يجز العفو، وإن لم يبلغه جاز العفو، واختلف قول
مالك في ذلك، فمرة قال بقول الشافعي ومرة قال يجوز إذا لم يبلغ الامام، وان
بلغ لم يجز الا أن يريد بذلك المقذوف الستر على نفسه. وهو المشهور عنهم.
والسبب في اختلافهم هل هو حق لله أو حق للآدميين أو حق لكليهما، فمن قال
حق لله لم يجز العفو كالزنا، ومن قال حق للآدميين أجاز العفو، ومن قال لكليهما
وغلب حق الامام إذا وصل إليه قال بالفرق بين أن يصل الامام أو لا يصل
وقياسا على الأثر الوارد في السرقة، وعمدة من رأى أنه حق للآدميين وهو
الأظهر أن المقذوف إذا صدقه فيما قذفه به سقط عنه الحد.
قال ابن حزم فنظرنا في قول مالك فوجدناه ظاهر التناقض، وكذا قول
أبي حنيفة ثم قال فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام حد القذف ولم
يشاور عائشة أن تعفو أم لا، فلو كان لها في ذلك حق لما عطله صلى الله عليه
وسلم، فصح أن الحد من حقوق الله تعالى لا مدخل للمقذوف فيه أصلا ولا
عفو له عنه.
قالت الحنابلة والصدقة بالعرض لا تكون الا بالعفو عما وجب له، ولأنه
64

حق له لا يقام الا بطلبه فيسقط بعفوه كالقصاص (قلت) وما ذهب إليه ابن حزم
فهو الحق والله أعلم.
قوله (وان مات من له الحد) قالت الحنابلة في الفروع وحق القذف للورثة
فص عليه، وقيل سوى الزوجين، وفى المغنى للعصبة) وان عفا بعضهم حده
الباقون كاملا، وقيل يسقط. وسأله ابن منصور افترى على أبيه وقد مات فعفا
ابنه، قال جائز وسأله الأثرم (أله العفو بعد رفعه؟ قال في نفسه، فإنما هو
حقه، وإذا قذف أباه فهذا شئ يطلبه غيره.
قال في الروضة (ان مات بعد طلبه ملكه وارثه، فإن عفا بعضهم حد لمن
يطلب منهم بقسطه وسقط قسط من عفا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قذف جماعة نظرت فإن كانوا جماعة لا يجوز أن يكونوا
كلهم زناة كأهل بغداد لم يجب الحد، لان الحد يجب لنفى العار ولا عار على
المقذوف لأنا نقطع بكذبه ويعزر الكذب. وإن كانت جماعة يجوز أن يكونوا
كلهم زناة نظرت، فإن كان قد قذف كل واحد منهم على الانفراد وجب لكل
واحد منهم حد، وان قذفهم بكلمة واحدة ففيه قولان.
قال في القديم يجب حد واحد، لان كلمة القذف واحدة، فوجب حد
واحد، كما لو قذف امرأة واحدة.
وقال في الجديد يجب لكل واحد منهم حد، وهو الصحيح لأنه ألحق العار
بقذف كل واحد منهم فلزمه لكل واحد منهم حد، كما لو أفرد كل واحد منهم
بالقذف، فإن قذف زوجته برجل ولم يلاعن ففيه طريقان، من أصحابنا من
قال هي على قولين، كما لو قذف رجلين أو امرأتين، ومنهم من قال يجب حد
واحد قولا واحدا، لان القذف ههنا بزنا واحد، والقذف هناك بزناءين،
فإن وجب عليه حد لاثنين فإن وجب لأحدهما قبل الاخر وتشاحا قدم السابق
منهما لان حقه أسبق، وان وجب عليه لهما في حالة واحدة بأن قذفهما معا
وتشاحا أقرع بينهما، لأنه لا مزية لأحدهما على الاخر فقدم بالقرعة
65

وإن قال لزوجته يا زانية بنت الزانية وهما محصنتان لزمه حدان، ومن حضر
منهما وطالبت بحدها حد لها، وإن حضرتا وطالبتا بحدهما ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يبدأ بحد البنت لأنه بدأ بقذفها (والثاني) وهو المذهب أنه
يبدأ بحد الام لان حدها مجمع عليه وحد البنت مختلف فيه، لان عند أبي حنيفة
لا يجب على الزوج بقذف زوجته حد، ولان حد الام آكد لأنه لا يسقط إلا
بالبينة وحد البنت يسقط بالبينة وباللعان فقدم آكدهما.
(فصل) وإن وجب حدان على حر لاثنين فحد لأحدهما لم يحد للآخر حتى
يبرأ ظهره من الأول، لان الموالاة بينهما تؤدى إلى التلف، وإن كان الحدان
على عبد ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه لا يجوز الموالاة بينهما، كما لو كانا على حر (والثاني) أنه يجوز
لان الحدين على العبد كالحد الواحد.
(فصل) وان قذف أجنبيا بالزنا فحد ثم قذفه ثانيا بذلك الزنا عزر للأذى
ولم يحد، لان أبا بكرة شهد على المغيرة بالزنا فجلده عمر رضي الله عنه ثم أعاد
القذف وأراد أن يجلده، فقال له علي كرم الله وجهه: إن كنت تريد أن تجلده
فارجم صاحبك، فترك عمر رضي الله عنه جلده، ولأنه قد حصل التكذيب
بالحد، وإن قذفه بزنا ثم قذفه بزنا آخر قبل أن يقام عليه الحد ففيه قولان.
(أحدهما) أنه يجب عليه حدان لأنه من حقوق الآدميين فلم تتداخل كالديون
(والثاني) يلزمه حد واحد، وهو الصحيح لأنهما حدان من جنس واحد لمستحق
واحد فتداخلا، كما لو زنى ثم زنى.
وان قذف زوجته ولاعنها ثم قذفها بزنا أضافه إلى ما قبل اللعان ففيه وجهان
(أحدهما) أنه لا يجب عليه الحد لان اللعان في حق الزوج كالبينة، ولو
أقام عليها البينة ثم قذفها لم يلزمه الحد فكذلك إذا لاعنها.
(والثاني) أنه يجب عليه الحد، لان اللعان إنما يسقط احصانها في الحالة
التي يوجد فيها وما بعدها وما يسقط فيما تقدم فوجب الحد بما رماها به، وان
قذف زوجته وتلاعنا ثم قذفها أجنبي وجب عليه الحد، لان اللعان يسقط
الاحصان في حق الزوج لأنه بينة يختص بها، فأما في حق الأجنبي فهي باقية على
66

إحصانها فوجب عليه الحد بقذفها، وإن قذفها الزوج ولاعنها ولم تلاعن فحدث
ثم قذفها الأجنبي بذلك الزنا ففيه وجهان (أحدهما) أنه لا حد عليه لأنه قذفها
بزنا حدث فيه فلم يجب، كما لو أقيم عليها الحد بالبينة (والثاني) أنه يجب لان
اللعان يختص به الزوج فزال به الاحصان في حقه وبقى في حق الأجنبي.
(الشرح) أثر (أبا بكرة شهد على المغيرة) سبق تخريجه.
قوله (وإن قذف جماعة) قالت الحنابلة في الفروع: ومن قذف جماعة بكلمة
فحد طالبوا أو بعضهم فيحد لمن طلب ثم لا حد نقله الجماعة، وفى رواية لكل
واحد حد. وقالوا في منار السبيل (ومن قذف أهل بلدة أو جماعة لا يتصور
الزنى منهم عزر ولا حد، وإن كان يتصور الزنى منهم عادة وقذف كل واحد
بكلمة فلكل واحد حد، وإن كان إجمالا كقوله هم زناة فحد حد واحد لقوله
(والذين يرمون المحصنات) ولم يفرق بين قذف واحد وجماعة، ولأنه قذف
واحد فلا يجب به أكثر من حد.
قال ابن رشد واختلفوا إذا قذف جماعة فقالت طائفة ليس عليه إلا حد
واحد جمعهم في القذف أو فرقهم، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد
وجماعة. وقال قوم بل عليه لكل واحد حد، وبه قال الشافعي والليث وجماعة
حتى روى عن الحسن بن حيى أنه قال، إن قال إنسان من دخل هذه الدار فهو
زان جلد الحد لكل من دخلها.
وقالت طائفة ان جمعهم في كلمة واحدة، مثل أن يقول لهم يا زناة فحد واحد
وان قال لكل واحد منهم يا زان فعليه لكل انسان منهم حد، فعمدة من لم
يوجب على قاذف الجماعة الا حد واحد حديث أنس وغيره أن هلال بن أمية
قذف امرأته بشريك بن سحماء، فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلاعن
بينهما ولم يحده لشريك، وذلك اجماع من أهل العلم فيمن قذف زوجته برجل
وعمدة من رأى أن الحد لكل واحد منهم أنه حق للآدميين، وأنه لو عفا
بعضهم ولم يعف الكل لم يسقط الحد.
وأما من فرق بين قذفهم في كلمة واحدة أو كلمات، أو في مجلس واحد أو في
67

مجالس فلانه رأى أنه واجب أن يتعدد الحد بتعدد القذف، لأنه إذا اجتمع
تعدد المقذوف وتعدد القذف كان أوجب أن يتعدد الحد.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا سمع السلطان رجلا يقول زنى رجل لم يقم عليه الحد لان
المستحق مجهول ولا يطالبه بتعيينه لقوله عز وجل (لا تسألوا عن أشياء ان تبد
لكم تسؤكم) ولان الحد يدرأ بالشبهة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (ألا سترته
بثوبك يا هزال).
وان قال سمعت رجلا يقول إن فلانا زنى لم يحد لأنه ليس بقاذف وإنما هو
حاك ولا يسأله عن القاذف، لان الحد يدرأ بالشبهة. وان قال زنى فلان فهل
يلزم السلطان أن يسأل المقذوف فيه وجهان (أحدهما) أنه يلزمه لأنه قد ثبت
له حق لا يعلم به فلزم الامام اعلامه، كما لو ثبت له عنده مال لا يعلم به، فعلى
هذا ان سأل المقذوف فأكذبه وطالب بالحد حد، وان صدقه حد المقذوف
لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن اعترفت
فارجمها) وأوجه الثاني أنه لا يلزم الامام اعلامه لقوله صلى الله عليه وسلم
(ادرءوا الحد بالشبهات).
(الشرح) حديث (يا أنيس اغد على امرأة هذا...) سبق تخريجه
حديث (ادرءوا الحد بالشبهات...) سبق تخريجه
قوله (إذا سمع السلطان رجلا يقول زنى رجل...) سبق الكلام عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا قذف محصنا وقال قذفته وأنا ذاهب العقل فإن لم يعلم له حال
جنون فالقول قول المقذوف مع يمينه أنه لا يعلم أنه مجنون، لان الأصل عدم
الجنون. وان علم له حال جنون ففيه قولان بناء على القولين في الملفوف إذا
قده ثم اختلفا في حياته، أحدهما أن القول قول المقذوف لان الأصل الصحة
والثاني أن القول قول القاذف، لأنه يحتمل ما يدعيه والأصل حمى الظهر.
68

ولان الحد يسقط بالشبهة، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (ادرءوا الحدود
بالشبهات وادرءوا الحدود ما استطعتم، ولان يخطئ الامام في العفو
خير من أن يخطئ في العقوبة.
(فصل) وإن عرض بالقذف وادعى المقذوف أنه أراد قذفه وأنكر
القاذف فالقول قوله لان ما يدعيه محتمل والأصل براءة ذمته.
(فصل) وإن قال لمحصنة زنيت في الوقت الذي كنت فيه نصرانية أو أمة،
فإن عرف أنها كانت نصرانية أو أمة لم يجب الحد لأنه أضاف القذف إلى
حال هي فيها غير محصنة. وإن قال لها زنيت ثم قال أردت في الوقت الذي كنت
فيه نصرانية أو أمة، وقالت المقذوفة بل أردت قذفي في هذا الحال وجب الحد
لأن الظاهر أنه أراد قذفها في الحال، فإن قذف امرأة وادعى أنها مشركة أو
أمة وادعت أنها أسلمت أو أعتقت فالقول قول القاذف، لان الأصل بقاء
الشرك والرق.
وإن قذف امرأة وأقر أنها كانت مسلمة وادعى أنها ارتدت، وأنكرت
المرأة ذلك فالقول قولها، لان الأصل بقاؤها على الاسلام. وان قذف مجهولة
وادعى أنها أمة أو نصرانية، وأنكرت المرأة، ففيه طريقان ذكرناهما
في الجنايات.
(فصل) وإن ادعت المرأة على زوجها أنه قذفها، وأنكر، فشهد شاهدان
أنه قذفها جاز أن يلاعن، لان انكاره للقذف لا يكذب ما يلاعن عليه من
الزنا، لأنه يقول إنما أنكرت القذف، وهو الرمي بالكذب وما كذبت عليها
لأني صادق أنها زنت فجاز أن يلاعن، كما لو ادعى على رجل أنه أودعه مالا،
فقال المدعى عليه مالك عندي شئ، فشهد شاهدان أنه أودعه فإن له أن يحلف
لان انكاره لا يمنع الايداع لأنه قد يودعه ثم يتلف فلا يلزمه شئ.
(الشرح) حديث ادرءوا الحدود بالشبهات) سبق تخريجه
(قلت) وفى نهاية باب القذف أجمل أحكام هذا الباب.
69

إن الآية الكريمة وإن جاءت بكلمة (يرمون المحصنات) تدل على أنه
ليس المراد بالرمي في هذا المقام الرمي بكل نوع من أنواع الجرائم، بل المراد به
ههنا الرمي بالزنا خاصة.
2 - ان الرمي حكم شامل سواء كان القذف من الرجال أو النساء للرجال
أو للنساء - 3 - وحكم القذف أن يضرب ثمانين جلدة
4 - وهذا الحكم إنما ينفذ في ما إذا كان القاذف قذف محصنا من الرجال
أو النساء ولا ينفذ في ما إذا كان المقذوف غير محصن، أما إذا كان معروفا
بفجوره لا ينشأ السؤال عن قذفه، ولكنه إذا لم يكن كذلك فللقاضي أن يعين
برأيه عقوبة من يقذفه أو لمجلس الشورى أن يضع في هذا الباب قانونا حسب
الظروف والحاجات.
5 - لا يدان أحد باقتراف القذف بمجرد أنه رمى غيره بالزنا بدون أن
يقيم عليه الشهادة، بل لادانته باقتراف القذف عدة شروط لا بد من استيفائها
في القاذف والمقذوف وفعلة القذف نفسها، واليك بيانها.
أما الشروط التي لا بد من جودها في القاذف.
(ا) أن يكون بالغا فإذا كان القاذف صبيا لا يقام عليه الحد، وإنما يقام
عليه التعزير (ب) أن يكون عاقلا فإذا كان القاذف مجنونا لا يقام عليه الحد،
وكذلك لا يقام حد القذف على من كان في سكر، الا إذا سكر بمحرم، لأنه
كالصاحي فيما فيه حقوق العباد كسكر الكلوروفارم مثلا.
(ج) أن يكون قد قذف بإرادته الحرة طائعا، فمن قذف مكرها لا يقام
عليه الحد (د) أن لا يكون والدا ولا جدا للمقذوف لأنه لا يقام عليه الحد.
هذه الشروط متفق عليها بين الفقهاء الا أن الحنفية قد أضافوا إليها شرطا
خامسا هو أن يكون القاذف ناطقا، فإذ قذف الأخرس غيره بالإشارة والكناية
لا يقام عليه الحد، وقد خالفهم الإمام الشافعي في ذلك وقال إن الأخرس إذا
كانت إشارته أو كنايته واضحة يعرف بها مقصوده فهو قاذف، لان إشارته
لا تقل عن صريح القول في تشويه سمعة المقذوف وإلحاق العار بذيله، ولكن
70

إشارة الأخرس عند الحنفية ليست بقوية التأثير حتى يضرب على أساسها ثمانين
جلدة وإنما التعزير عندهم.
أما الشروط المطلوبة في المقذوف:
ا - أن يكون عاقلا قد رمى بارتكاب الزنا في حالة العقل، فإذا قذف أحد
مجنونا، سواء أكان أفاق من جنونه فيما بعد أو لم يفق لا يستحق حد القذف،
لان المجنون لا يستطيع الاهتمام بحفظ عفافه، ولأنه لو قامت عليه الشهادة
بالزنا لما استحق الحد ولا قدح ذلك في عرضه، ولكن مالكا والليث بن سعد
يقولان ان قاذف المجنون يستحق الحد لأنه على كل حال يرميه بما هو برئ منه
ب - أن يكون بالغا، فإذا قذف أحد صبيا أو قال عن شاب أنه ارتكب
الزنا في صباه فإنه لا يوجب عليه الحد، لان الصبي كالمجنون، الا أن مالكا يقول
بأنه إذا قذف أحد طفلا يكاد يبلغ الحلم لا يستحق الحد، وأما إذا قذف بنتا
وهي في سن من الممكن أن يزني بها فيها فإنه يستحق الحد، لان ذلك لا يمس
عرضها وحدها بل يمس كذلك بعرض أسرتها ويفسد عليها مستقبلها.
ج - أن يكون مسلما أي رمى بأنه ارتكب الزنا في حالة اسلامه فإذا قذف
أحد الكافر أو قال عن مسلم أنه ارتكب الزنا في حال الكفر فإنه لا يستحق الحد
د - أن يكون حرا فمن قذف للعهد أو الأمة أو قال عن حر انه ارتكب
الزنا أيام كان عبدا لم يعتق بعد فإنه لا يستحق الحد لان العبد قد لا يستطيع
الاهتمام بحفظ عفافه لما يكون به من الضعف والغلبة على أمره، الا أن داود
الظاهري وابن حزم قالا إن قاذف العبد والأمة أيضا يستحق الحد.
ه‍ - أن يكون عفيفا بريئا عن فعل الزنا وشبهته ومعنى البراءة من الزنا أن
لا تكون جريمة الزنا قد ثبتت فعلا عليه قبلا، ومعنى البراءة من شبهة الزنا أن
لا يكون وطئ بنكاح فاسد أو ملكية مشتبهة ولا تكون حياته ماجنة خليعة،
ولا يأتي الافعال القبيحة المحظورة، لأن هذه الأمور قادحة في عفافه على كل
حال ولا ينبغي أن يستحق ثمانين جلدة من يقذف صاحب مثل هذا العرض
المقدوح فيه، ولذا إذا قامت على المقذوف بينة بجريمة الزنا قبل أن يقام عليه
71

حد القذف ترك القاذف لان المقذوف لم يعد عفافه ثابتا، ولكن ليس معنى
عدم إقامة الحد في هذه الصور الخمس أن قاذف المجنون أو الصبي أو الكافر أو
العبد أو غير العفيف لا يستحق عقوبة بل إنه يستحق التعزير ويبلغ به غايته
الشروط اللازمة في فعلة القذف نفسها:
أن كل رمى بحوله إلى القذف أحد الامرين: إما أن يرمى القاذف المقذوف
بصريح الزنا إذا ثبتت بشهادة الشهود وجب عليه الحد أو يقول عنه أنه ولد الزنا
ولكن يجب التصريح بارتكابه للزنا في كلتا الحالتين، ولا عبرة بالكناية، فإن
إرادة الرمي بالزنا أو الطعن في النسب متوقفة في الكناية على نية القاذف،
فإن كي بألفاظ سبق ذكرها كيا فاجر وكيا ابن الحرام فلا قذف فيها، غير أن
الفقهاء قد اختلفوا حول اعتبار التعريض قذفا، والتعريض هو أن يقول أحد
لغيره مثلا (يا ابن الحلال أما أنا فما زنيت أو ما ولدتني أمي بالزنا) فقال مالك
رحمه الله إن من جاء بتعريض يفهم به قطعا أنه يريد أن يقول عن مخاطبه أنه زنا
أو أنه ولد الزنا وجب عليه حد القذف.
أما أبو حنيفة وأصحابه، والشافعي وسفيان وابن شبرمة والحسن بن صالح
فقالوا إنه ليس التعريض قذفا، لأنه على كل حال يحتمل الشك، ولان الأصل
براءة الذمة فلا ينبغي أن يرجع عنه بالشك.
وأما أحمد وإسحاق بن راهويه فقالا: ان التعريض ليس بقذف في حال
الرضى والمزاح، وهو قذف في حال الغضب والمجادلة، فقد أقام عمر وعلى الحد
على التعريض. وروى أن رجلين استبا في زمن عمر، فقال أحدهما للآخر:
ما أنا بزان ولا أمي بزانية، فاستشار عمر الصحابة فقال بعضهم مدح أباه وأمه
وقال الآخرون: أما كان لأبيه مدح غير هذا؟ فجلده عمر ثمانين جلدة (أحكام
القرآن للجصاص ج: ص 330)
وكذلك أن الفقهاء بينهم الخلاف حول اعتبار الرمي بعمل قوم لوط قذفا،
فيقول أبو حنيفة أنه ليس قذفا، ويقول أبو يوسف ومحمد من أصحابه ومالك
والشافعي انه قذف يجب عليه الحد
72

6 - وكذلك هناك خلاف بين الفقهاء حول اعتبار القذف من الجنايات
التي تؤاخذ الناس عليها شرطة الدولة ومحكمتها، فيقول ابن أبي ليلى أنه من حق
الله فيجب أن يقام عليه الحد سواء أطالب به المقذوف أو لم يطالب وهو من
حق الله ولكن المقذوف فيه حق من حيث دفع العار عنه عند أبي حنيفة وأصحابه
أيضا، ولكن بمعنى أنه إذا ثبتت الجريمة على أحد وجب أن يقام عليه الحد،
ولكن يتوقف رفع أمره إلى الحكام على إرادة المقذوف ومطالبته فهو من هذه
الجهة من حقوق العباد.
وهذا الرأي هو الذي ذهب إليه الشافعي والأوزاعي، وأما مالك فعنده
التفصيل، فيقول: ان قذف القاذف بحضور من الامام يؤخذ عليه والا فإن
إقامة الدعوى عليه متوقفة على مطالبة المقذوف.
7 - ليس القذف من الجرائم التي يجوز التراضي عليها بين الفريقين
8 - وعند الحنفية لا يطالب بإقامة الحد على القاذف الا المقذوف نفسه
أو من لحق بنسبه العار لقذفه عندما لم يكن المقذوف نفسه حاضرا للمطالبة
كالوالد والوالدة والأولاد وأولاد الأولاد.
وعند مالك الشافعي هذا حق من الحقوق القابلة للموارثة، فإذا مات المقذوف
قبل استيفائه الحد على القاذف فلورثته أن يطالبوا به، غير أنه من العجب أن
الشافعي يستثنى من الورثة الزوج والزوجة، ويستدل على ذلك بأن علاقة
الزوجية ترتفع بالموت وأن المقصود من الحد دفع العار عن النسب وهو لا يلحق
بالزوج وبالزوجة - وهذا استدلال غير قوى في حقيقة الامر - فإذا كانت
المطالبة بإقامة الحد على القاذف حقا يرثه ورثة المقذوف بعد موته فما هناك
سبب معقول لان يحرم منه الزوجان.
9 - وإذا ثبت عن رجل أنه ارتكب القذف فإن الشئ الوحيد الذي ينقذه
من الحد هو أن يأتي بأربعة شهداء، ويجب أن يحضر هؤلاء الشهداء المحكمة
مجتمعين ويؤدوا الشهادة في وقت واحد، وبهذا قال الحنفيون أما الشافعيون
فقد ذهبوا إلى أنه لا يحصل أي فرق بحضور الشهداء المحكمة مجتمعين أو متفرقين
73

بل الأفضل أن يأتوا واحدا بعد الاخر مثل ما يكون في سائر الأقضية، ويجب
أن يكون الشهداء متصفين بالعدل.
10 - ومن لم يستطع أن يقدم إلى المحكمة شهادة تبريه من جريمة القذف
فقد حكم عليه القرآن بثلاثة أحكام.
(ا) أن يجلد ثمانين جلدة (ب) أن لا تقبل له شهادة (ج) أنه فاسق.
وقد اتفقوا على أنه لا يسقط الحد عن القاذف بتوبته وأنه لا بد له من الحد
واختلفوا هل القاذف يفسق بفعل القذف ذاته أو إنما يفسق بعد ما تحكم عليه
المحكمة بالحد، فهو يفسق بفعل القذف ذاته عند الشافعي والليث بن سعد وعلى
العكس من ذلك يقول أبو حنيفة وأصحابه ومالك أنه لا يفسق إلا بعد ما يقام
عليه الحد والصحيح عندي في هذا الشأن أن كون القاذف فاسقا عند الله
نتيجة لفعل القذف نفسه، وأما كونه فاسقا عند الناس فمتوقف على أن تثبت
جريمته ويقام عليه الحد.
وهناك خلاف شديد حول (ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) هل إليه أيضا
يرجع العفو المذكور في جملة إلا اللذين تابوا وأصلحوا أم لا، فتقول طائفة
منهم القاضي شريح وسعيد بن المسيب، والحسن البصري والنخعي وابن سيرين
ومكحول وعبد الرحمن بن زيد وأبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد وسفيان
الثوري والحسن بن صالح أن من تاب وأصلح لا يبقى فاسقا عند الله ولا عند
الناس مع إقامة الحد عليه وعدم الاعتداد بشهادته إلى الأبد.
وتقول طائفة أخرى منهم عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي والقاسم بن محمد
وسالم والزهري وعكرمة وعمر بن عبد العزيز وابن أبي نجيح وسليمان بن يسار
ومسروق والضحاك ومالك وعثمان البنى والليث بن سعد والشافعي وأحمد بن
حنبل والطبري أن جملة (إلا الذين تابوا وأصلحوا) لا يرجع العفو المذكور فيها
إلى إقامة الحد، ولكنه يرجع إلى أن من أقيم عليه الحد إذا تاب وحسنت حاله
تقبل شهادته ولا يبقى فاسقا، واستدلوا بقصة إقامة عمر الحد على أبى بكرة حينما
قذف المغيرة بن شعبة.
74

والصحيح عندي أن حقيقة توبة المرء لا يعلمها إلا الله، ومن تاب عندنا فإن
غاية ما لنا أن نجامله به هو أن لا نسميه الفاسق ولا نذكره بالفسق، وليس من
الصحيح أن نبالغ في مجاملته حتى نعود إلى الثقة بقوله لمجرد أنه قد تاب عندنا
في ظاهر الامر.
11 - أن يكون حد القذف في الضرب أخف من ضرب الزاني.
12 - اتفق الفقهاء على أن من لقى حده مرة في القذف لا يؤاخذ إلا إذا
جاء بتهمة جديدة أخرى.
13 - والفقهاء بينهم خلاف حول قذف الجماعة، فالحنفية يرون أن من
قذف عدة أفراد بلفظ أو بألفاظ لا يلقى إلا حدا واحد، لأنه ما من تهمة بالزنا
إلا وهي تتناول عرض شخصين، وعلى العكس من ذلك يقول الشافعي إن من
قذف جماعة بلفظ أو بألفاظ متكررة يقام عليه الحد لكل فرد منهم على حدة،
وبهذا يقول عثمان البتي وابن أبي ليلى ويوافق عليه الشعبي والأوزاعي
هذه الخلاصة التي أوردتها لك هي ما كنت أحب أن أتبع كل باب من
أبواب الفقه الواردة بمثلها لولا ضيق المقام.
قال المصنف رحمه الله تعالى: باب حد السرقة.
اللغة: السارق الذي يأخذ الشئ على وجه الاستخفاء بحيث لا يعلم به المسروق
منه، مأخود من مسارقة النظر، ومن قوله تعالى (إلا من استرق السمع)
والمنتهب الذي يأخذ بالقهر والغلبة مع العلم به، وأصل النهب الغنيمة، والانتهاب
الافتعال من ذلك، والمختلس الذي يأخذ الشئ عيانا ثم يهرب، مثل أن يمد يده
إلى منديل إنسان فيأخذه، هكذا ذكره في البيان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
ومن سرق وهو بالغ عاقل مختار التزم حكم الاسلام نصابا من المال الذي
يقصد إلى سرقته من حرز مثله لا شبهة له فيه وجب عليه القطع، والدليل عليه
75

قوله تعالى (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) ولان السارق يأخذ المال على
وجه لا يمكن الاحتراز منه ولو لم يجب القطع عليه لأدى ذلك إلى هلاك الناس
بسرقة أموالهم ولا يجب القطع على المنتهب ولا على المختلس لما روى جابر رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس على المنتهب قطع ولا على المختلس
قطع ومن انتهب نهبة مشهورة فليس منا) ولان المنتهب والمختلس يأخذان المال
على وجه يمكن انزاعه منه بالاستغاثة بالناس وبالسلطان فلم يحتج في ردعه إلى
القطع ولا يجب على من جحد أمانة أو عارية لأنه يمكن أخذ المال منه بالحكم فلم
يحتج إلى القطع.
(فصل) ولا يجب على صبي ولا على مجنون لقوله صلى الله عليه وسلم:
رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن
المجنون حتى يفيق.
وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن صلى الله عليه وسلم أتى
بجارية قد سرقت فوجدها لم تحض فلم يقطعها. وهل يجب على السكران؟ فيه
قولان ذكرناهما في الطلاق، ولا يجب على مكره لقوله صلى الله عليه وسلم: رفع
عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، ولان ما أوجب عقوبة الله عز
وجل على المختار لم يوجب على المكره ككلمة الكفر، ولا تجب على الحربي لأنه
لم يلتزم حكم الاسلام، وهل يجب على المستأمن فيه قولان ذكرناهما في السير.
(الشرح) حديث جابر (ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع)
رواه الخمسة وصححه الترمذي والحاكم والبيهقي وابن حبان وصححه. وفى رواية
له عن ابن جريج عن عمر وبن دينار وأبى الزبير عن جابر، وليس فيه ذكر
الخائن، ورواه ابن الجوزي في العلل وقال لم يذكر فيه الخائن غير مكي. قال
الحافظ قد رواه ابن حبان من غير طريقه فأخرجه من حديث سفيان عن أبي الزبير
عن جابر بلفظ (ليس على المختلس ولا على الخائن قطع)
وقال ابن أبي حاتم في العلل لم يسمعه ابن جريج من أبى الزبير إنما سمعه من
ياسين بن معاذ الزيات وهو ضعيف، وكذا قال أبو داود. وقال الحافظ أيضا.
76

وقد رواه المغيرة بن مسلم عن أبي الزبير عن جابر، وأسنده النسائي من حديث
المغيرة، ورواه سويد بن نصر عن ابن المبارك عن ابن جريج أخبرني أبو الزبير
قال النسائي ورواه عيسى بن يونس والفضل بن موسى وابن وهب ومخلد بن زيد
وجماعة فلم يقل واحد منهم عن ابن جريج حدثني أبو الزبير ولا أحسبه سمعه عنه
وقد أعله ابن القطان بعنعنة أبى الزبير عن جابر، وأجيب بأنه قد أخرجه
عبد الرزاق في مصنفه، وصرح بسماع أبى الزبير من جابر. وعن عبد الرحمن
ابن عوف عند ابن ماجة بإسناد صحيح بنحو الحديث المذكور وعن أنس عند
ابن ماجة أيضا والطبراني في الأوسط، وعن ابن عباس عند ابن الجوزي في
العلل وضعفه.
قال الشوكاني: وهذه الأحاديث يقوى بعضها بعضا ولا سيما بعد تصحيح الترمذي
وابن حبان، وياسين الزيات هو الكوفي وأصله يمامي: قال المنذري لا يحتج
بحديثه، والمغيرة بن مسلم هو السراج خراساني، وكنيته أبو سلمة. قال ابن معين
صالح الحديث صدوق، وقال أبو داود الطيالسي انه كان صدوقا.
حديث (رفع القلم عن ثلاث..) سبق تخريجه
حديث (أتى بجارية..) أخرجه البيهقي عن القاسم قال (أتى عبد الله بجارية
قد سرقت ولم تحصن فلم يقطعها)
وأخرج البخاري ومسلم والبيهقي عن ابن عمر قال: عرضت على رسول الله
صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة فاستصغرني، وعرضت
عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة فقبلني (قال ابن نافع حدثت بهذا الحديث
عمر بن عبد العزيز فقال إن هذا الحد بين الصغير والكبير.
حديث (رفع عن أمتي.. سبق تخريجه).
اللغة: قوله (نصابا من المال) النصاب الأصل، ومنه قولهم كريم النصاب
وقد ذكره في الزكاة.
قوله (من الخلاص) الخلاص بالكسر ما أخلصته النار من الذهب ومثله
الخلاصة، وهو الذي أخلص ولم يضرب، والتبر غير مخلص.
قوله (من حرز مهتوك) قد ذكرنا أن أصل الهتك خرق الستر.
77

قوله (ومن سرق وهو بالغ)
قال ابن حزم في مراتب الاجماع: واتفقوا
أنه من سرق من حرز من غير مغنم ولا من بيت المال بيده لا بآلة وحده منفردا
وهو بالغ عاقل مسلم حر في غير الحرم بمكة وفى غير دار الحرب فسرق من غير
زوجته ومن غير ذي رحمه ومن غير زوجها إن كانت امرأة وهو غير سكران
ولا مضطر بجوع ولا مكره فسرق مالا متملكا يحل للمسلمين بيعه وسرقه من غير
غاصب له وبلغت قيمة ما سرق عشرة دراهم من الورق المحض بوزن مكة ولم يكن
لحما ولا حيوانا مذبوحا ولا شيئا يؤكل أو يشرب ولا طيرا ولا صيدا ولا كلبا
ولا سنورا ولا زبلا ولا عذرة ولا ترابا ولا زرنيخا ولا حصى ولا حجارة
ولا فخارا ولا زجاجا ولا ذهبا ولا قصبا ولا خشبا ولا فاكهة ولا حمارا ولا
حيوانا سارحا ولا مصحفا ولا زرعا من فدانه ولا تمرا من حائطه ولا شجرا
ولا حرا ولا عبدا يتكلم ويعقل، ولا أحدث فيه جناية قبل إخراجه له من مكان
لم يؤذن له في دخوله من حرزه وتولى إخراجه من حرزه بيده فشهد عليه بكل
ذلك شاهدان رجلان ولم يختلفا ولا رجعا عن شهادتهما ولا ادعى هو ملك
ما سرق وكان سالم اليد اليسرى وسالم الرجل اليمنى لا ينقص منها شئ ولم يهبه
المسروق منه ما سرق ولا ملكه بعد ما سرق ولا رد السارق على المسروق منه
ولا أعاده السارق وحضر الشهود على السرقة ولم يمض للسرقة شهر فقد وجب
عليه الحد، واتفقوا أن الغاصب المجاهر الذي ليس محاربا لا قطع عليه،
واختلفوا في المختلس أتقطع يده أم لا.
قالت الحنابلة لا قطع على منتهب الذي يأخذ المال على وجه الغنيمة لحديث
جابر ولا مختطف وهو الذي يختلس الشئ ويمر به غاصب.
قال ابن رشد أجمعوا على أنه ليس على الغاصب ولا على المكابر المغالب قطع
وقال الشوكاني ذهب إلى أنه لا يقطع المختلس والمنتهب والخائن العنرة والشافعية
والحنفية. وذهب أحمد وإسحاق وزفر والخوارج إلى أنه يقطع، وذلك لعدم
اعتبارهم الحرز.
78

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجب فيما دون النصاب، والنصاب ربع دينار أو ما قيمته ربع
دينار، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
لا يقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعدا، فإن سرق غير الذهب قوم
بالذهب، لان النبي صلى الله عليه وسلم قدر النصاب بالذهب فوجب أن يقوم
غيره به. وإن سرق ربع مثقال من الخلاص وقيمته دون ربع دينار ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي سعيد الإصطخري وأبى علي بن أبي هريرة أنه لا يقطع
لان النبي صلى الله عليه وسلم نص على ربع دينار، وهذا قيمته دون ربع دينار
وهو قول عامة أصحابنا أنه يقطع لان الخلاص يقع عليه اسم الدينار، وإن لم
يصرف، لأنه يقال دينار خلاص كما يقال دينار قراضة.
وإن نقب اثنان حرزا وسرقا نصابين قطعا لان كل واحد منهما سرق نصابا
وإن أخرج أحدهما نصابين ولم يخرج الآخر شيئا قطع الذي أخرج دون الآخر
لأنه هو الذي انفرد بالسرقة، فإن اشتركا في سرقة نصاب لم يقطع واحد منهما
وقال أبو ثور يجب القطع عليهما، كما لو اشترك رجلان في القتل وجب القصاص
عليهما، وهذا خطأ لان كل واحد منهما، لم يسرق نصابا، ويخالف القصاص فإنا
لو لم نوجب على الشريكين جعل الاشتراك طريقا إلى إسقاط القصاص، وليس
كذلك السرقة، فإنا إذا لم نوجب القطع على الشريكين في سرقة نصاب لم يصر
الاشتراك طريقا إلى إسقاط القطع، لأنهما لا يقصدان إلى سرقة نصاب واحد
لقلة ما يصيب كل واحد منهما، فإذا اشتركا في نصابين أوجبنا القطع.
وإذا لقب حرز أو سرق منه ثمن دينار ثم عاد وسرق ثمنا آخر ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) وهو قول أبى العباس أنه يجب القطع لأنه سرق نصابا من حرز
مثله فوجب عليه القطع، كما لو سرقه في دفعة واحدة.
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق أنه لا يجب القطع لأنه سرق تمام النصاب
من حرز مهتوك.
(والثالث) وهو قول أبى علي بن خيران أنه إن عاد وسرق الثمن الثاني بعد
79

ما اشتهر هتك الحرز لم يقطع لأنه سرق من حرز اشتهر خرابه، وإن سرق
قبل أن يشتهر خرابه قطع لأنه سرق من قبل ظهور خرابه.
(الشرح) حديث (لا يقطع السارق الا في ربع دينار...) رواه الجماعة
الا ابن ماجة والبيهقي. وفى رواية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقطع يد
السارق الا في ربع دينار فصاعدا) رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة.
وفى رواية قال (تقطع يد السارق في ربع دينار) رواه البخاري والنسائي
وأبو داود. وفى رواية قال (تقطع اليد في ربع دينار فصاعدا) البخاري وفى رواية قال (اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك، وكان
ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم، والدينار اثنى عشر درهما) رواه أحمد وفى
رواية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن
المجن، قيل لعائشة ما ثمن المجن؟ قالت ربع دينار) رواه النسائي.
وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعن الله السارق
يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده) قال الأعمش كانوا يرون
أنه بيض الحديد، والحبل كانوا يرون أن منها ما يساوى دراهم) متفق عليه،
وليس لمسلم فيه زيادة.
أخرج البيهقي أن أمير المؤمنين عليا قطع في ربع دينار، وكانت قيمته
درهمين ونصفا وأخرج عنه أنه قال القطع في ربع دينار فصاعدا. وعنه (أنه
قطع يد سارق في بيضه من حديد ثمنها ربع دينار ورجاله ثقات ولكنه منقطع
ذهب الخلف والسلف إلى ثبوت القطع في ثلاثة دراهم أو ربع دينار،
واختلفوا فيما يقوم به ما كان من غير الذهب والفضة، فذهب مالك في المشهور
عنه أنه يكون التقويم بالدراهم لا بربع الدينار إذا كان الصرف مختلفا.
اللغة: قوله (حريسة الجبل) الحرية هي الشاة المسروقة من المرعى،
يقال فلان يأكل الحرائس إذا كان يأكل أغنام الناس، والسارق يحترس، قال
لنا حلماء لا يشيب غلامنا * غريبا ولا تؤوى إلينا الحرائس
وكأنها لا حارس لها هناك الا الجبل.
80

وقال ابن السكيت: الحريسة المسروقة ليلا، قال في الشامل حريسة بمعنى
محروسة أي مسروقة، كما يقال قتيل بمعنى مقتول، وسمى السارق حارسا.
قوله (المجن) بكسر الميم وفتح الجيم وتشديد النون وهو الترس، ويقال له
مجنة بكسر الميم.
وقال الشافعي: الأصل في تقويم الأشياء هو الذهب، لأنه الأصل في
جواهر الأرض كلها، حتى قال إن الثلاثة الدراهم إذا لم تكن قيمتها ربع دينار
لم توجب القطع.
قال مالك: وكل واحد من الذهب والفضة معتبر في نفسه لا يقوم بالآخر.
وذكر بعض البغداديين أنه ينظر في تقويم العروض بما كان غالبا في نقود أهل
البلد. وذهبت العترة وأبو حنيفة وأصحابه وسائر فقهاء العراق إلى أن النصاب
الموجب للقطع هو عشرة دراهم ولا قطع في أقل من ذلك. واحتجوا بما أخرجه
البيهقي والطحاوي عن ابن عباس قال: كان ثمن المجن على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقوم بعشرة دراهم. وأخرج نحو ذلك النسائي عنه. وأخرج
أبو داود أن ثمنه كان دينارا أو عشرة دراهم.
وأخرج البيهقي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان ثمن المجن
على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم. وأخرج النسائي عن عطاء
مرسلا: أدنى ما يقطع فيه ثمن المجن، قال وثمنه عشرة دراهم. قالوا هذه
الروايات في تقدير ثمن المجن أرجح من الروايات الأولى، وإن كانت أكثر
وأصح، ولكن هذا أحوط، والحدود تدفع بالشبهات كأنها شبهة في العمل بما
دونها وروى نحو ذلك عن ابن العربي قال: واليه ذهب سفيان مع جلالته.
قال الشوكاني ويجاب بأن الروايات المروية عن ابن عباس وابن عمرو في
إسنادهما جميعا محمد بن إسحاق وقد عنعن، ولا يحتج بمثله إذا جاء بالحديث
معنعنا فلا يصلح لمعارضة ما في الصحيحين، وقد تعسف الطحاوي فزعم أن
حديث عائشة في الصحيحين مضطرب ثم بين الاضطراب بما يفيد بطلان قوله،
وقد استوفى الرد عليه صاحب الفتح.
81

ونقل ابن عياض عن النخعي أنه لا يجب القطع الا في أربعة دنانير أو أربعين
درهما، وهذا قول لا دليل عليه.
وحكى ابن المنذر عن الحسن البصري أنه يقطع في درهمين، وحكاه في البحر
عن زياد بن أبي زياد ولا دليل على ذلك من المرفوع وقد أخرج أبن أبي شيبة
عن أنس بسند قوى أن أبا بكر قطع في شئ ما يساوى درهمين، في لفظ
لا يساوى ثلاثة دراهم.
ونقل ابن المنذر عن أبي هريرة وأبي سعيد في أربعة دراهم، وهو مردود بما
سلف. وروى ابن المنذر عن الباقر ثلث دينار، وروى عن النخعي وابن شبرمة
وابن أبي ليلى والحسن البصري أنه في خمسة، واستدلوا بما أخرجه ابن المنذر
عن عمر أنه قال: لا تقطع الخمس الا في خمس.
وروى ابن المنذر عن النخعي وحكاه ابن حزم عن طائفة أنه في دينار
وذهب ابن حزم ونقل نحوه ابن عبد البر أنه في ربع دينار من ذهب ومن غيره
في القليل والكثير واستدل ابن حزم بأن التحديد في الذهب منصوص، ولم
يوجد نص في غيره فيكون داخلا تحت عموم الآية قال الشوكاني ويجاب عن
ذلك برواية النسائي المذكورة سابقا، وبحديث (اقطعوا في ربع دينار ولا
تقطعوا فيما دون ذلك) كما في الباب، لأنه يصدق على ما لم تبلغ قيمته ربع دينار
أنه دونه، وإن كان من غير الذهب فإنه يفضل الجنس على جنس آخر مغير له
باعتبار الزيادة في الثمن، وكذلك العرض على العرض باعتبار اختلاف ثمنهما
وذهب الحسن البصري وداود والخوارج إلى أنه يثبت القطع في القليل والكثير
واستدلوا بالآية (والسارق والسارقة...) ويجاب بأن اطلاق الآية مقيد
بالأحاديث، واستدلوا بحديث أبي هريرة في الباب فإن فيه يسرق البيضة...)
وقد أجيب عن ذلك أن المراد تحقير شأن السارق وخسار ما ربحه، هكذا قال
الخطابي وابن قتيبة وفيه تعسف وذهب البنى وربيعة أنه يثبت القطع في درهم
فصاعدا لا دونه.
هذه جملة المذاهب المذكورة في المسألة، وقد جعلها في الفتح عشرين
82

مذهبا ولكن البقية على ما ذكرنا لا يصلح جعلها مذاهب مستقلة لرجوعها
إلى ما ذكر.
قوله (وإن نقب اثنان..) قالت الحنابلة، ولو اشترك جماعة في هتك حرز
وإخراج النصاب قطعوا جميعا، وإن هتك الحرز أحدهما ودخل الآخر فأخرج
المال فلا قطع عليهما ولو تواطأ، لان الأول لم يسرق والثاني لم يهتك الحرز
قال في الكافي ويحتمل أن يقطع إذا كانا شريكين.
وقال ابن رشد: اختلفوا فيما إذا سرقت الجماعة ما يجب فيه القطع أعني
نصابا دون أن يكون حظ كل واحد منهم نصابا، وذلك بأن يخرجوا النصاب
من الحرز معا مثل أن يكون عدلا أو صندوقا يساوى النصاب، فقال مالك
يقطعون جميعا، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو نور، وقال أبو حنيفة لا قطع
عليهم حتى يكون ما أخذه كل واحد منهم نصابا، فمن قطع الجميع رأى العقوبة
إنما تتعلق بقدر مال المسروق، أي أن هذا القدر من المال المسروق هو الذي
يوجب القطع لحفظ المال، قال ومن رأى أن القطع إنما علق بهذا القدر لا بما
دونه لمكان حرمة اليد، قال: لا تقطع أيد كثيرة فيما أوجب الشرع فيه قطع
يد واحدة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجب القطع فيما سرق من غير حرز، لما روى عبد الله بن
عمر وبن العاص رضي الله عنه أن رجلا من مزينة قال يا رسول الله كيف ترى
في حريسة الجبل؟ قال ليس في شئ من الماشية قطع إلا ما أواه المراح، وليس
في شئ من الثمر المعلق قطع إلا ما أواه الجرين فما أخذ من الجرين فبلغ ثمن
المجن ففيه القطع، فأسقط القطع في الماشية إلا ما أواه المراح، وفى الثمر المعلق
إلا ما أواه الجرين، فدل على أن الحرز شرط في ايجاب القطع، ويرجع في الحرز
إلى ما يعرفه الناس حرزا، فما عرفوه حرزا قطع بالسرقة منه وما لا يعرفونه
حرزا لم يقطع بالسرقة منه، لان الشرع دل على اعتبار الحرز وليس له حد من
جهة الشرع فوجب الرجوع فيه إلى العرف كالقبض والتفرق في البيع وإحياء
83

الموات، فإن سرق مالا مثمنا كالذهب والفضة والخز والقز من البيوت أو
الخانات الحريزة والدور المنيعة في العمران ودونها أغلاق وجب القطع لان
ذلك حرز مثله، وإن لم يكن دونها أغلاق، فإن كان في الموضع حافظ مستيقظ
وجب القطع لأنه محرز به، وإن لم يكن حافظ أو كان فيه حافظ نائم لم يجب القطع
لأنه غير محرز، فإن سرق من بيوت في غير العمران كالرباطات التي في البرية،
والجواسق التي في البساتين، فإن لم يكن فيها حافظ لم تقطع مغلقا كان الباب أو
مفتوحا، لان المال لا يحرز فيه من غير حافظ، وإن كان فيها حافظ فإن كان
مستيقظا قطع السارق مغلقا كان الباب أو مفتوحا لأنه محرز به، وإن كان نائما
فإن كان مغلقا قطع لأنه محرز، وإن كان مفتوحا لم يقطع لأنه غير محرز، وان
سرق متاع الصيادلة والبقالين من الدكاكين في الأسواق ودونها أغلاق أو درابات
وعليها قفل أو سرق أواني الخزف ودونها شرايح القصب، فإن كان الامن
ظاهرا قطع السارق لان ذلك حرز مثله وإن قل الامن، فإن كان في السوق
حارس قطع لأنه محرز به، وإن لم يكن حارس لم يقطع لأنه غير محرز، وإن
سرق باب دار أو دكان قطع لان حرزه بالنصب، وإن سرق حلقة الباب وهي
مسمرة فيه قطع لأنها محرزة بالتسمير في الباب، وإن سرق آجر الحائط قطع
لأنه محرز بالتشريج في البناء.
وإن سرق الطعام أو الدقيق في غراثر شد بعضها إلى بعض في موضع البيع
قطع على المنصوص، فمن أصحابنا من قال: إن كان في موضع مأمون في وقت
الامن فيه ظاهر ولم يمكن أخذ شئ منه إلا بحل رباطه أو فتق طرفه قطع لان
العادة تركها في موضع البيع.
ومن أصحابنا من قال لا يقطع إلا أن يكون في بيت دونه باب مغلق، والذي
نص عليه الشافعي رحمه الله في غير العراق.
وان سرق حطبا شد بعضه إلى بعض بحيث لا يمكن أن يسل منه شئ الا بحل
رباطه قطع لأنه محرز بالشد، وإن كان متفرقا لم يقطع لأنه غير محرز، ومن
أصحابنا من قال لا يقطع الا أن يكون في بيت دونه باب مغلق مجتمعا كان أو
84

متفرقا، وان سرق أجزاعا ثقالا مطروحة على أبواب المساكن قطع لان العادة
فيها تركها على الأبواب.
(فصل) وان نبش قبرا وسرق منه الكفن فإن كان في برية لم يقطع لأنه
ليس بحرز للكفن وإنما يدفه في البرية للضرورة، وإن كان في مقبرة تلى العمران
قطع لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه ومن نبش قطعناه، ولان القبر حرز الكفن
وإن كان الكفن أكثر من خمسة أثواب فسرق ما زاد على الخمسة لم يقطع، لان
ما زاد على الخمسة ليس بمشروع في الكفن فلم يجعل القبر حرزا له كالكيس المدفون
معه، وان أكل السبع الميت وبقى الكفن ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه ملك للورثة يقسم عليهم، وهو قول أبى علي بن أبي هريرة،
وأبى على الطبري، لان ذلك المال ينتقل إليهم بالإرث، وإنما اختص الميت
بالكفن للحاجة وقد زالت الحاجة فرجع إليهم.
(والثاني) أنه لبيت المال لأنهم لم يورثوه عند الموت فلم يرثوه بعده.
(فصل) وان نام رجل على ثوب فسرقه سارق قطع لما روى صفوان بن
أمية أنه قدم المدينة فنام في المسجد متوسدا رداءه فجاءه سارق فأخذ رداءه من
تحت رأسه، فأخذ صفوان السارق فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر
رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يده، فقال صفوان انى لم أرد هذا هو عليه
صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلا قبل أن تأتيني به، ولأنه
محرز به. وان زحف عنه في النوم فسرق لم يقطع لأنه زال الحرز فيه، وان
ضرب فسطاطا وترك فيه مالا فسرق وهو فيه، أو على بابه نائم أو مستيقظ
قطع لان عادة الناس احراز المتاع في الخيم على هذه الصفة، وان لم يكن صاحبه
معه لم يقطع السارق لأنه لا يترك الفسطاط بلا حافظ.
(فصل) وإن كان ماله بين يديه وهو ينظر إليه فتغفله رجل وسرق ماله
قطع لأنه سرق من حرزه، وان نام أو اشتغل عنه أو جعله خلفه بحيث تناله
اليد فسرق لم يقطع لأنه سرقه من غير حرز، وان علق الثياب في الحمام ولم
85

يأمر الحمامي بحفظها فسرقت لم يضمن الحمامي لأنه لا يلزمه حفظها ولا يقطع
السارق لأنه سرق من غير حرز، لان الحمام مستطرق، وإن أمر الحمامي بحفظها
فسرقت، فإن كان الحمامي مراعيا له لم يضمن لأنه لم يفرط ويقطع السارق لأنه
سرق من حرز، وإن نام الحمامي أو تشاغل عن الثياب فسرقت ضمن الحمامي لأنه
فرط في الحفظ ولم يقطع السارق لأنه سرق من غير حرز.
(فصل) فإن سرق ماشية من الرعى نظرت فإن كان الراعي ينظر إليها
ويبلغها صوته إذا زجرها قطع السارق لأنها في حرز، وإن سرق والراعي نائم
أو سرق منها ما غاب عن عينه بحائل لم يقطع لان الحرز بالحفظ، وما لا يراه
غير محفوظ، وإن سرق ما لا يبلغها صوته لم يقطع لأنها تجتمع وتفترق بصوته
وإذا لم يبلغها صوته لم تكن في حفظه فلم يجب القطع بسرقته. وإن سرق ماشية
سائرة أو جمالا مقطرة فإن كان خلفها سائق ينظر إليها جميعها ويبلغها صوته إذا
زجرها قطع لأنها محرزة به.
وإن سرق منه ما غاب عن عينه أو ما لم يبلغه صوته لبعده لم يقطع لما ذكرناه
في الراعية، وإن كان مع الجمال قائد إذا التفت نظر إلى جميعها وبلغها صوته إذا
زجرها وأكثر الالتفات إليها قطع لأنها محرزة بالقائد، وإن سرق ما لا ينظر
إليه إذا التفت أو لا يبلغه صوته أو لم يكثر الالتفات إليها لم يقطع لأنه سرق من
غير حرز، وإن كانت الجمال باركة فإن كان صاحبها ينظر إليها قطع السارق لأنها
محرزة بحفظه وإن سرق وصاحبها نائم فإن كانت غير معقلة لم يقطع لأنها غير
محرزة، وإن كانت معقلة قطع لان عادة الجمال إذا نام أن يعقلها، وإن كان على
الجمال أحمال كان حرزها كحرز الجمال، لان العادة ترك الأحمال على الجمال.
(الشرح) حديث البراء بن عازب (من حرق...) أخرجه البيهقي في المعرفة
من حديث بشر بن حازم عن عمران بن يزيد بن البراء عن أبيه عن جده، وقال
البيهقي في هذا الاسناد بعض من يجهل حاله.
وقال البخاري في التاريخ، قال هشيم نا سهيل شهدت ابن الزبير قطع نباشا
وسكت عليه الحافظ في التلخيص بينما قال البيهقي في السنن الكبرى، قال البخاري
86

قال عباد بن العوام (عن سهيل) كنا نتهمه بالكذب - يعنى سهيلا - وهو
سهيل بن ذكوان.
حديث صفوان بن أمية (أنه قدم المدينة..) أخرجه البيهقي، وقال
الشوكاني في النيل، وكذا الحافظ في التلخيص، قال البيهقي ليس بصحيح، وفى
النسخة المصورة للسنن الكبرى لم أعثر على ما أورداه، رغم أن البيهقي أورده
فيها من طريقين.
وروى الخمسة الا الترمذي نحوه وأحمد ومالك والشافعي والحاكم بطرق منها
عن طاوس عن صفوان وطعن في سماع الأول من الثاني، وقال ابن عبد البر
سماع طاوس من صفوان ممكن لأنه أدرك زمن عثمان، وروى عنه أنه قال:
أدركت سبعين صحابيا، ورواه مالك عن الزهري عن عبيد الله بن صفوان عن
أبيه وقد صححه ابن الجارود والحاكم وله شاهد من حديث عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده، قال الحافظ ضعيف ورواه البزار مرسلا.
حديث أبو الزبير عن جابر قال: أضاف رجل رجلا..) قال الحافظ لم
أجده (قلت) وقد أخرج البيهقي في السنن الكبرى عن ابن لعبيد بن الأبرص
قال شهدت عليا أتى برجل اختلس من رجل ثوبه، فقال المختلس انى كنت أعرفه
(وفى فسخ انى كنت أعرته) فلم يقطعه على.
حديث محمد بن حاطب أو الحارث أن رجلا قدم المدينة... أخرجه مالك
والشافعي وفى سنده انقطاع، والدارقطني وسعيد بن منصور وعبد الرزاق.
حديث ادرءوا الحدود بالشبهات.. سبق تخريجه.
أثر (أن عاملا كتب إلى عمر.. روى البيهقي من طريق الشعبي يقول ليس
على من سرق من بيت المال قطع.
وروى ابن ماجة عن ابن عباس أن عبدا من رقيق الخمس سرق من المغنم،
فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقطعه وقال: مال الله سرق بعضه بعضا.
واسناده ضعيف.
وأخرج ابن أبي شيبة أن رجلا سرق من بيت المال، فكتب فيه سعد إلى
87

عمر ثم ذكر أثر (أن عمر قطع سارقا سرق نبطية) قال الحافظ في التلخيص لم
أجده أثر عبد الله بن عمر والحضرمي (أن غلاما سرق مرآة امرأتي) أخرجه
مالك والشافعي والدارقطني.
قول عمر في سرقة غلام الحضرمي سبق تخريجه.
قول عمر لا قطع في عام؟؟ لم أجده وقرأته في منار السبيل بدون تخريج
وفيه قيل لأحمد تقول به؟ قال إي لعمري لا أقطعه إذا حملته الحاجة والناس
في شدة ومجاعة.
حديث (أمر في سارق رداء صفوان) سبق تخريجه.
حديث عائشة (أتى بسارق قد سرق) أخرجه البيهقي ومتفق عليه بنحوه
حديث أبي هريرة (وان سرق فاقطعوا يده)
أخرجه الدارقطني وفى اسناده الواقدي، ورواه الشافعي عن أبي هريرة:
السارق إذا سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق
فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله) ورواه الطبراني بإسناد ضعيف.
اللغة: قوله (ليس في الثمر المعلق قطع الا ما أواه الجرين) المعلق ما دام
على النخلة فهو معلق على القنو، والجرين موضع يجفف فيه الثمر، وهو الجرن
أيضا، ويسمى أيضا المربد والبيدر والابدر، والمجن البرس لأنه يجن أي يستر
والجمع المجان بالفتح وأصله مجابن بوزن مفاعل فأدغم، ومنه الحديث: كأن
وجوههم المجان المطرقة.
قوله (فإن سرق مالا مثمنا) يقال شئ مثمن وثمين، أي مرتفع الثمن
لا يباع الا بالثمن الكثير، والخانات جمع يبيع التجار، والخان أيضا
موضع ينزله المسافرون.
قوله (ودونها أغلاق) جمع غلق وهو المغلاق الذي يغلق به الباب معروف
ويقال الغلوق أيضا بالضم، والرباطات جمع رباط وهو ما يسكنه النساك والعباد.
والجواسق جمع جوسق وهو منظر يبنى في البساتين، والجوسق القصر أيضا
قوله (متاع الصيادلة) هم الذين يبيعون العقاقير والأدوية وأحدهم صيدلاني
88

والصيدناني بالنون أيضا لغة فيه، وزيادة الألف والنون فيه للمبالغة، وهو في
النسب كثير.
قوله (ودونها أغلاق أو درابات) هي شباك من خيوط تجعل على الدكاكين
بالنهار. قوله (شرائح القصب) جمع شريحة، هو شئ ينسج من القصب بعد
أن يشق يكون مشبكا مثل الشريحة التي تعمل من سعف النخل يحمل فيها البطيخ
وسميت بذلك لتماثلها واستوائها: يقال أشبه شرح شرحا وهو مثل. قيل إن يوسف
ابن عمر شريح الحجاج. أي مثله، وتشريح الشئ بالشئ مداخلته وتشريح العيبة
مداخلة عراها.
قوله (وان زحف عنه) أي تزلج وافسل قليلا قليلا، من زحف الصبي على
الأرض قبل أن يمشى. والفسطاط قد ذكر والمحجن عود معقف الطرف وأصله
من الحجن بالتحريك وهو الاعوجاج. قوله (طعام فانثال) أي انصب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجب القطع إلا بأن يخرج المال من الحرز بفعله، فإن دخل
الحرز ورمى المال إلى خارج الحرز أو نقب الحرز وأدخل يده أو محجنا معه
فأخرج المال قطع، وإن دخل الحرز وأخذ المال ودفعه إلى آخر خارج الحرز
قطع لأنه هو الذي أخرجه، فإن أخرجه ولم يأخذ منه الآخر فرده إلى الحرز
لم يسقط القطع لأنه وجب القطع بالاخراج فلم يسقط بالرد، وإن ربط جيبه
أو كمه فوقع منه المال أو نقب حرزا فيه طعام فانثال قطع لأنه خرج بفعله،
وإن كان في الحزر ماء جار فترك فيه المال حتى خرج إلى خارج الحرز قطع لأنه
خرج بسبب فعله، وإن تركه في ماء راكد فحركه حتى خرج المال قطع لما ذكرناه
وإن حركه غيره لم يقطع، لأنه لم يخرج المال بفعله، وان تفجر الماء وخرج
المال ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يقطع لأنه سبب لخروجه (والثاني) أنه لا يقطع لان
خروجه بالانفجار الحادث من غير فعله.
89

وإن وضع المال في النقب في وقت هبوب الريح فأطارته الريح إلى خارج
الحرز قطع كما لو تركه في ماء جار، وان وضعه ولا ريح ثم هبت ريح فأخرجته
ففيه وجهان كما قلنا فيما لو تركه في ماء راكد فتفجر الماء فخرج به، فإن وضع
المال على حمار ثم قاده أو ساقه حتى خرج من الحرز قطع لأنه خرج بسبب فعله
وان خرج الحمار من غير سوق ولا قود ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يقطع لان عادة البهائم إذا أثقلها الحمل أن تسير.
(والثاني) أنه لا يقطع لأنه سار باختياره. وان ثقب الحرز وأمر صغيرا
لا يميز بإخراج المال من الحرز فأخرجه قطع، لان الصغير كالآلة، وإن دخل
الحرز وأخذ جوهرة فابتلعها وخرج ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه لا يقطع لأنه استهلكها في الحرز، ولهذا يجب عليه قيمتها
فلم يقطع كما لو أخذ طعاما فأكله.
(والثاني) أنه يقطع لأنه أخرجه من الحرز في وعاء فأشبه إذا جعلها في
جيبه ثم خرج، وان أخذ طيبا فتطيب به ثم خرج، فإن لم يمكن أن يجتمع منه
قدر النصاب لم يقطع لأنه استهلكه في الحرز فصار كما لو كان طعاما فأكله، وان
أمكن أن يجتمع منه قدر النصاب ففيه وجهان (أحدهما) أنه لا يقطع لان
استعمال الطيب اتلاف له فصار كالطعام إذا أكله في الحرز (والثاني) أنه يقطع
لان عينه باقية، ولهذا يجوز لصاحبه أن يطالبه برده.
(فصل) ولا يجب القطع حتى ينفصل المال عن جميع الحرز، فإن سرق
جذعا أو عمامة فأخذ قبل أن ينفصل الجميع من الحرز لم يقطع لأنه لا ينفرد
بعضه عن بعض، ولهذا لو كان في طرف منه نجاسة لم تصح صلاته فيه، فإذا لم
يجب القطع فيما بقي من الحرز لم يجب فيما خرج منه.
وان ثقب رجلان حرزا فأخذ أحدهما المال ووضعه على باب الثقب وأخذه
الآخر ففيه قولان:
(أحدهما) أنه يجب عليهما القطع، لأنا لو لم نوجب القطع عليهما صار
هذا طريقا إلى اسقاط القطع.
90

(والثاني) أنه لا يقطع واحد منهما، وهو الصحيح، لان كل واحد منهما
لم يخرج المال من كمال الحرز، وإن ثقب أحدهما الحرز ودخل الاخر واخرج
المال ففيه طريقان، من أصحابنا من قال فيه قولان كالمسألة قبلها، ومنهم من قال
لا يجب القطع قولا واحدا، لان أحدهما نقب ولم يخرج المال والاخر أخرج.
المال من غير حرزه.
(فصل) وإن فتح مراحا فيه غنم فحلب من ألبانها قدر النصاب وأخرجه
قطع لان الغنم مع اللبن في حرز واحد فصار كما لو سرق قصابا من حرزين في بيت واحد
(فصل) فإن دخل السارق إلى دار فيها سكان ينفرد كل واحد منهم ببيت
مقفل فيه مال ففتح بيتا وأخرج المال إلى صحن الدار قطع لأنه أخرج المال من
حرزه، وإن كانت الدار لواحد وفيها بيت فيه مال فأخرج السارق المال من البيت
إلى الصحن، فإن كان باب البيت مفتوحا وباب الدار مغلقا لم يقطع لان ما في
البيت محرز بباب الدار، وإن كان باب الدار مفتوحا وباب البيت مغلقا قطع
لان المال محرز بالبيت دون الدار، وإن كان باب البيت مفتوحا وباب الدار
مفتوحا لم يقطع لان المال غير محرز. وإن كان باب البيت مغلقا وباب الدار
مغلقا ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يقطع لان البيت حرز لما فيه فقطع، كما لو كان باب الدار
مفتوحا (والثاني) أنه لا يقطع لان البيت المغلق في دار مغلقة حرز في حرز
فلم يقطع بالاخراج من أحدهما، كما لو كان في بيت مقفل صندوق مقفل فأخرج
المال من الصندوق ولم يخرجه من البيت.
(فصل) وإن سرق الضيف من مال المضيف نظرت فإن سرقه من مال لم
يحرزه عنه لم يقطع لما روى أبو الزبير عن جابر قال: أضاف رجل رجلا فأنزله
في مشربة له فوجد متاعا له قد اختانه فيه، فأتى به أبا بكر رضي الله عنه فقال
خل عنه فليس بسارق وإنما هي أمانة اختانها، ولأنه غير محرز عنه فلم يقطع
فيه، وإن سرقه من بيت مقفل قطع، لما روى محمد بن حاطب أو الحارث أن
رجلا قدم المدينة فكان يكثر الصلاة في المسجد وهو أقطع اليد والرجل، فقال له
91

أبو بكر رضى الله أنه ماليك بليل سارق، فلبثوا ما شاء الله ففقدوا حليا لهم،
فجعل الرجل يدعو على من سرق أهل هذا البيت الصالح، فمر رجل بصائغ فرأى
عنده حليا، فقال ما أشبه هذا الحلى بحلي آل أبي بكر، فقال للصائغ ممن اشتريته
فقال من ضعيف أبى بكر فأخذ فأقر، فجعل أبو بكر رضي الله عنه يبكى، فقالوا
ما يبكيك من رجل سرق، فقال أبكى لغرته بالله تعالى، فأمر به فقطعت يده،
ولان البيت المغلق حرز لما فيه فقطع بالسرقة منه.
(فصل) ولا يجب القطع بسرقة ما ليس بمال كالكلب والخنزير والخمر
والسرجين، سواء سرقه من مسلم أو من ذمي لان القطع جعل لصيانة الأموال
وهذه الأشياء ليس بمال فإن سرق اناء يساوى نصابا فيه خمر ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه لا يقطع لان ما فيه تجب اراقته ولا يجوز اقراره فيه (والثاني)
أنه يقطع لان سقوط القطع فيما فيه لا يوجب سقوط القطع فيه، كما لو سرق
اناء فيه بول.
(فصل) وان سرق صنما أو بربطا أو مزمارا، فإن كان إذا فصل لم يصلح
لغير معصية لم يقطع، لأنه لا قيمة لما فيه من التأليف، وإن كان إذا فصل يصلح
لمنفعة مباحة ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يقطع لأنه مال يقول على متلفه (والثاني) أنه لا يقطع لأنه
آلة معصية فلم يقطع بسرقته كالخمر (والثالث) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة
رحمه الله أنه ان أخرجه مفصلا قطع لزوال المعصية، وان أخرجه غير مفصل
لم يقطع لبقاء المعصية، وان سرق أواني الذهب والفضة قطع، لأنها تتخذ
للزينة لا المعصية.
(فصل) وان سرق حرا صغيرا لم يقطع لأنه ليس بمال، وان سرقه وعليه
حلي بقدر النصاب ففيه وجهان (أحدهما) أنه يقطع لأنه قصد سرقة ما عليه
من المال (والثاني) أنه لا يقطع لان يده ثابتة على ما عليه، ولهذا لو وجد
لقيط ومعه مال كان المال له فلم يقطع، كما لو سرق جملا وعليه صاحبه، وان
سرق أم ولد نائمة ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يقطع لأنها تضمن باليد فقطع بسرقتها كسائر الأموال
92

(والثاني) أنه لا يقطع لأنه معنى المال فيها ناقص لأنه لا يمكن نقل الملك
فيها، وإن سرق عينا موقوفة على غيره ففيه وجهان كالوجهين في أم الولد، وإن
سرق من غلة وقف على غيره قطع لأنه مال يباع ويبتاع، وان سرق الماء ففيه
وجهان (أحدهما) أنه يقطع لأنه يباع ويبتاع (والثاني) أنه لا يقطع لأنه
لا يقصد إلى سرقته لكثرته.
(فصل) ولا يقطع فيما له فيه شبهة لقوله عليه الصلاة والسلام: ادرءوا
الحدود بالشبهات، فإن سرق مسلم من مال بيت المال لم يقطع لما روى أن عاملا
لعمر رضي الله عنه كتب إليه يسأله عمن سرق من مال بيت المال؟ قال لا تقطعه
فما من أحد الا وله فيه حق.
وروى الشعبي أن رجلا سرق من بيت المال فبلغ عليا كرم الله وجهه فقال إن
له فيه سهما ولم يقطعه وان سرق ذمي من بيت المال قطع لأنه لا حق له فيه
وان كفن ميت بثوب من بيت المال فسرقه سارق قطع، لان بالتكفين به انقطع
عنه حق سائر المسلمين، وان سرق من غلة وقف على المسلمين لم يقطع لان له
فيه حقا، وان سرق فقير من غلة وقف على الفقراء لم يقطع لان له فيها حقا،
وان سرق منها غنى قطع لأنه لا حق لها فيها.
(فصل) وان سرق رتاج الكعبة أو باب المسجد أو تأزيره قطع لما روى
عن عمر رضي الله عنه أنه قطع سارقا سرق قبطية من منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولأنه مال محرز بحرز مثله لا شبهة له فيه، وان سرق مسلم من قناديل المسجد
أو من حصره لم يقطع لأنه جعل ذلك لمنفعة المسلمين وللسارق فيها حق، وان
سرقه ذمي قطع لأنه لا حق له فيها.
(فصل) ومن سرق من ولده أو ولد ولده وان سفل، أو من أبيه أو من
جده وان علا لم يقطع. وقال أبو ثور يقطع، لقوله عز وجل (والسارق
والسارقة فاقطعوا أيديهما) فعم ولم يخص، وهذا خطأ لقوله عليه الصلاة
والسلام (ادرءوا الحدود بالشبهات) وللأب شبهة في مال الابن وللابن شبهة
في مال الأب، لأنه جعل ماله كماله في استحقاق النفقة ورد الشهادة فيه، والآية
نخصها بما ذكرناه.
93

ومن سرق ممن سواهما من الأقارب قطع لأنه لا شبهة له في ماله ولا يقطع
العبد بسرقة مال مولاه. وقال أبو ثور يقطع لعموم الآية، وهذا خطأ لما روى
السائب بن يزيد أنه حضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد جاءه عبد الله بن
عمرو الحضرمي فقال: إن غلامي هذا سرق فاقطع يده، فقال عمر ما سرق؟
فقال مرآة امرأتي، فقال له أرسله، خادمكم أخذ متاعكم، ولكن لو سرق من
غيركم قطع، ولان يده كيد المولى بدليل أنه لو كان بيده مال فادعاه رجل كان
القول فيه قول المولى، فيصير كما لو نقل ماله من زاوية داره إلى زاوية أخرى،
ولان له في ماله شبهة في استحقاق النفقة فلم يقطع كالأب والابن، وان سرق
من غيره قطع لقول عمر رضي الله عنه، ولأنه لا شبهة له في مال غيره، وان
سرق أحد الزوجين من الاخر ما هو محرز عنه ففيه ثلاثة أقوال.
(أحدها) أنه يقطع لان النكاح عقد على المنفعة فلا يسقط القطع في
السرقة كالإجارة.
(والثاني) أنه لا يقطع لان الزوجة تستحق النفقة على الزوج والزوج يملك
أن يحجر عليها ويمنعها من التصرف على قول بعض الفقهاء فصار ذلك شبهة
(والثالث) أنه يقطع الزوج بسرقة مال الزوجة ولا تقطع الزوجة بسرقة
مال الزوج، لان للزوجة حقا في مال الزوج بالنفقة، وليس للزوج حق في
مالها، ومن لا يقطع من الزوجين بسرقة مال الاخر لا يقطع عبده بسرقة
ماله لقول عمر رضي الله عنه في سرقه غلام الحضرمي الذي سرق مرآة امرأته
أرسله فلا قطع عليه خادمكم أخذ متاعكم، ولان يد عبده كيده فكانت سرقته
من ماله كسرقته.
(فصل) وإن كان له على رجل دين فسرق من ماله، فإن كان جاحدا له أو
مماطلا له لم يقطع، لان له أن يتوصل إلى أخذه بدينه، وإن كان مقرا مليا قطع
لأنه لا شبهة له في سرقته، وان غصب مالا فأحرزه في بيت فنقب المعصوب
منه البيت وسرق مع ماله نصابا من مال الغاصب ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه لا يقطع لأنه هتك حرزا كان له هتكه لاخذ ماله
94

(والثاني) أنه يقطع لأنه لما سرق مال الغاصب علم أنه قصد سرقة مال
الغاصب (والثالث) أنه إن كان ما سرقه متميزا عن ماله قطع لأنه لا شبهة له
في سرقته، وإن كان مختلطا بماله لم يقطع لأنه لا يتميز ما يحب فيه القطع مما
لا يجب فيه فلم يقطع.
وان سرق الطعام عام المجاعة نظرت إن كان الطعام موجودا قطع لأنه
غير محتاج إلى سرقته، وإن كان معدوما لم يقطع لما روى عن عمر رضي الله عنه
أنه قال: لا قطع في عام المجاعة أو السنة، ولان له أن يأخذه فلم يقطع فيه.
(فصل) وان نقب المؤجر الدار المستأجرة وسرق منها مالا للمستأجر قطع
لأنه لا شبهة له في ماله ولا في هتك حرزه، وان نقب المعير الدار المستعارة
وسرق منها مالا للمستعير ففيه وجهان.
(أحدهما) انه لا يقطع لان له أن يرجع في العارية فجعل النقب رجوعا.
(والثاني) وهو المنصوص أنه يقطع لأنه أحرز ماله بحرز يحق فأشبه إذا نقب
المؤجر الدار المستأجرة وسرق مال المستأجر، وان غصب رجل مالا أو سرقه
وأحرزه فجاء سارق فسرقه ففيه وجهان (أحدهما) أنه لا يقطع لأنه حرز لم
يرضه مالك (والثاني) أنه يقطع لأنه سرق ما لا شبهة له فيه من حرز مثله
(فصل) وان وهب المسروق منه العين المسروقة من السارق بعد ما رقع
إلى السلطان لم يسقط القطع لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر في سارق
رداء صفوان أن تقطع يده: فقال صفوان انى لم أرد هذا هو عليه صدقة، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم فهلا قبل أن تأتيني به، ولان ما حدث بعد
وجوب الحد ولم يوجب شبهة في الوجوب فلم يؤثر في الحد كما لو زنى وهو عبد
فصار حرا قبل أن يحد أو زنى وهو بكر فصار ثيبا قبل أن يحد.
وان سرق عينا قيمتها ربع دينار فنقصت قيمتها قبل أن يقطع لم يسقط
القطع لما ذكرناه، وان ثبتت السرقة بالبينة فأقر المسروق منه بالملك السارق
أو قال كنت أبحته له سقط القطع لأنه يحتمل أن يكون صادقا في اقراره، وذلك
شبهة فلم يجب معها الحد.
95

وإن ثبتت السرقة بالبينة فادعى السارق أن المسروق ماله وهبه منه أو أباحه
له وأنكر المسروق منه ولم يكن للسارق بينة لم يقبل دعواه في حق المسروق منه
لأنه خلاف الظاهر بل يجب تسليم المال إليه. وأما القطع فالمنصوص أنه لا يجب
لأنه يجوز أن يكون صادقا وذلك شبهة فمنعت وجوب الحد.
وذكر أبو إسحاق وجها آخر أنه يقطع لأنا لو أسقطنا القطع بدعواه أفضى
إلى أن لا يقطع سارق، وهذا خطأ لأنه يبطل به إذا ثبت عليه الزنا بامرأة
وادعى زوجيتها فإنه يسقط الحد وان أفضى ذلك إلى اسقاط حد الزنا، وان
ثبتت السرقة بالبينة والمسروق منه غائب فالمنصوص في السرقة أنه لا يقطع حتى
يحضر فيدعى، وقال فيمن قامت البينة عليه أنه زنى بأمة ومولاها غائب أنه يحد
ولا ينتظر حضور المولى فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة مذاهب.
(أحدها) وهو قول أبى العباس ابن سريج رحمه الله انه لا يقام عليه الحد
في المسألتين حتى يحضر، وما روى في حد الزنا سهو من الناقل، ووجهه أنه
يجوز أن يكون عند الغائب شبهة تسقط الحد بأن يقول المسروق منه كنت أبحته
له، ويقول مولى الأمة كنت وقفتها عليه، والحد يدرأ بالشبهة فلا يقام عليه
قبل الحضور.
(والثاني) وهو قول أبى اسحق أنه ينقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى
فيكون في المسألتين قولان (أحدهما) أنه لا يحد لجواز أن يكون عند الغائب
شبهة (والثاني) أنه يحد لأنه وجب الحد في الظاهر فلا يؤخر.
(والثالث) وهو قول أبى الطيب ابن سلمة وأبى حفص بن الوكيل أنه يحد
الزاني ولا يقطع السارق على ما نص عليه، لان حد الزنا لا تمنع الإباحة من
وجوبه، والقطع في السرقة تمنع الإباحة من وجوبه، وان ثبتت السرقة والزنا
بالاقرار فهو كما لو ثبتت بالبينة فيكون على ما تقدم من المذاهب.
ومن أصحابنا من قال فيه وجه آخر أنه يقطع السارق ويحد الزاني في الاقرار
وجها واحدا، والصحيح أنه كالبينة، وإذا قلنا إنه ينتظر قدوم الغائب ففيه
وجهان (أحدهما) أنه يحبس لأنه قد وجب الحد وبقى الاستيفاء فحبس كما يحبس
96

من عليه القصاص إلى أن يبلغ الصبي ويقدم الغائب (والثاني) أنه إن كان السفر
قريبا حبس إلى أن يقدم الغائب، وإن كان السفر بعيدا لم يحبس لان في حبسه
اضرارا به والحق لله عز وجل فلم يحبس لأجله.
(فصل) وإذا ثبت الحد عند السلطان لم يجز العفو عنه ولا تجوز الشفاعة
فيه، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بسارق قد سرق فأمر به فقطع، فقيل يا رسول الله ما كنا نراك تبلغ به هذا؟
قال لو كانت فاطمة بنت محمد لاقمت عليها الحد.
وروى عروة قال: شفع الزبير في سارق فقيل حتى يأتي السلطان، قال إذا
بلغ السلطان فلعن الله الشافع والمشفع كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولان الحد لله
فلا يجوز فهي العفو والشفاعة.
(فصل) وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى فإن سرق ثانيا قطعت رجله
اليسرى، فإن سرق ثالثا قطعت يده اليسرى فإن سرق رابعا قطعت رجله اليمنى
لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق
وان سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن
سرق فاقطعوا رجله، وان سرق خامسا لم يقتل لان النبي صلى الله عليه وسلم
بين في حديث أبي هريرة ما يجب عليه في أربع مرات، فلو وجب في الخامسة
قتل لبين، ويعزر لأنه معصية ليس حد فيها ولا كفارة فعزر فيها.
(فصل) وتقطع اليد من مفصل الكف لما روى عن أبي بكر رضي الله عنهما
أنهما قالا: إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه من الكوع، ولان البطش بالكف
وما زاد من الذراع تابع ولهذا تجب الدية فيه، ويجب فيما زاد الحكومة،
وتقطع الرجل من مفصل القدم.
وقال أبو ثور: تقطع الرجل من شطر القدم لما روى الشعبي قال: كان علي عليه
السلام يقطع الرجل من شطر القدم ويترك له عقبا ويقول أدع له ما يعتمد
عليه، والمذهب ما ذكرناه، والدليل عليه ما روى عن عمر رضي الله عنه أنه
كان يقطع القدم من مفصلها، ولان البطش بالقدم ويجب فيها الدية
فوجب قطعه.
97

(فصل) وإن سرق ولا يمين له قطعت الرجل اليسرى، فإن كانت له يمين
عند السرقة فذهبت بآكلة أو جنابة سقط الحد، ولم ينتقل الحد إلى الرجل
والفرق بين المسئلتين أنه إذا سرق ولا يمين له تعلق الحد بالعضو الذي يقطع
بعدها، وإذا سرق وله يمين تعلق القطع بها، فإذا ذهبت زال ما تعلق به القطع
فسقط، وإن سرق وله يده ناقصة الأصابع قطعت، لان اسم اليد يقع عليها،
وإن لم يبق غير الراحة ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يقطع وينتقل الحد إلى الرجل، لأنه قد ذهبت المنفعة
المقصودة بها، ولهذا لا يضمن بأرش مقدر فصار كما لو لم يبق منها شئ.
(والثاني) أنه يقطع ما بقي لأنه بقي جزء من العضو الذي تعلق به القطع
فوجب قطعه، كما لو بقيت أنملة، فإن سرق وله يد شلاء فإن قال أهل الخبرة إنها
إذا قطعت انسدت عروقها قطعت، وان قالوا لا تنسد عروقها لم تقطع لان
قطعها يؤدى إلى أن يهلك.
(فصل) وإذا قطع فالسنة أن يعلق العضو في عنقه ساعة، لما روى فضالة
ابن عبيد قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بسارق فأمر به فقطعت يده ثم أمر
فعلقت في رقبته، ولان في ذلك ردعا للناس ويجسم موضع القطع لما روى
أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بسارق فقال
اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموه ثم ائتوني به، فقطع فأتى به فقال: تب إلى الله
تعالى، فقال تبت إلى الله تعالى، فقال تاب الله عليك والحسم هو أن يغلى
الزيت غليا جيدا ثم يغمس فيه موضع القطع لتنحسم العروق وينقطع الدم،
فإن ترك الحسم جاز لأنها مداواة فجاز تركها
وأما ثمن الزيت وأجرة القاطع فهو في بيت المال لأنه من المصالح، فإن قال
أنا أقطع بنفسي ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه لا يمكن كما لا يمكن في القصاص.
(والثاني) أنه يمكن لان الحق لله تعالى والقصد به التنكيل، وذلك قد
يحصل بفعله بخلاف القصاص فإنه يجب للآدمي للتشفي فكان الاستيفاء إليه
98

(فصل) وإن وجب عليه قطع يمينه فأخرج يساره فاعتقد أنها يمينه أو
اعتقد أن قطعها يجزئ عن اليمين فقطعها القاطع ففيه وجهان
(أحدهما) وهو المنصوص أنه يجزئه عن اليمين لان الحق لله تعالى ومبناه
على المساهلة فقامت اليسار فيه مقام اليمين.
(والثاني) أنه لا يجزئه لأنه قطع غير العضو الذي تعلق به القطع، فعلى
هذا إن كان القاطع تعمد قطع اليسار وجب عليه القصاص في يساره، وان
قطعها وهو يعتقد أنها يمينه، أو قطعها وهو يعتقد أن قطعها يجزئه عن اليمين
. وجب عليه نصف الدية.
(فصل) إذا تلف المسروق في يد السارق ضمن بدله وقطع ولا يمنع أحدهما
الآخر، لأن الضمان يجب لحق الآدمي والقطع يجب لله تعالى فلا يمنع أحدهما
الآخر كالدية والكفارة.
(الشرح) الشرط في وجوب هذا الحد فهو الحرز، وذلك أن جميع فقهاء.
الأمصار الذين تدور عليهم الفتوى وأصحابهم متفقون على اشتراط الحرز في
وجوب القطع، وإن كان قد اختلفوا فيما هو حرز مما ليس بحرز، والأشبه أن
يقال في حد الحرز أنه ما شأنه أن تحفظ به الأموال كي يعسر أحذها، مثل
الاغلاق والحظائر وما أشبه ذلك، وفى الفعل الذي إذا فعله السارق اتصف
بالاخراج من الحرز.
وممن ذهب إلى هذا مالك وأبو حنيفة والشافعي والثوري وأصحابهم وقال
أهل الظاهر وطائفة من أهل الحديث القطع على من سرق النصاب، وان سرقه
من غير حرز. فعمدة الجمهور حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا قطع في ثمر معلق ولا في حريسة جبل، فإذا أواه
المراح أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن، ومرسل مالك بنحوه، وعمدة أهل
الظاهر عموم الآية، قالوا فوجب أن تحمل الآية على عمومها الا ما خصصته
السنة الثابتة من ذلك، وقد خصصت المقدار الذي يقطع فيه من الذي لا يقطع
وردوا حديث شعيب لموضع الاختلاف فيه وقال ابن عبد البر العمل بها واجب
99

إذا رواها الثقات وأما الحرز عند الذين أوجبوه فإنهم اتفقوا منه على أشياء
واختلفوا في أشياء مثل اتفاقهم على أن باب البيت وغلقه حرز، واختلافهم في
الأوعية، مثل اتفاقهم على أن من سرق من بيت دار غير مشتركة السكنى أنه
لا يقطع حتى يخرج من الدار، واختلافهم في الدار المشتركة، فقال مالك وكثير
ممن اشترط الحرز تقطع يده إذا أخرج من البيت، وقال أبو يوسف ومحمد:
لا قطع عليه إلا إذا أخرج من الدار.
ومنها اختلافهم في القبر هل هو حرز حتى يجب القطع على النباش أو ليس
بحرز، فقال مالك والشافعي وأحمد وجماعة (هو حرز وعلى النباش القطع)
وبه قال عمر بن عبد العزيز. وقال أبو حنيفة (لا قطع عليه) وكذلك قال سفيان
الثوري، وروى ذلك عن زيد بن ثابت، والحرز عند مالك بالجملة هو كل شئ
جرت العادة بحفظ ذلك الشئ المسروق فيه. فمرابط الدواب عنده أحراز وكذلك
الأوعية وما على الانسان من اللباس فالانسان حرز لكل ما عليه أو هو عنده.
وإذا توسد النائم شيئا فهو له حرز على ما جاء في حديث صفوان، وما
أخذ من المنتبه فهو اختلاس، ولا يقطع عند مالك سارق ما كان على الصبي
من الحلى أو غيره إلا أن يكون معه حافظ يحفظه، ومن سرق من الكعبة شيئا لم
يقطع عنده وكذلك من المساجد.
وقد قيل في المذهب أنه ان سرق منها ليلا قطع، واتفق القائلون بالحرز
على أن كل من سمى مخرجا للشئ من حرزه وجب عليه القطع، وسواء كان
داخل الحرز أو خارجه وإذا ترددت التسمية وقع الخلاف، مثل اختلاف
إذا كان سارقان أحدهما داخل البيت والآخر خارجه، فقرب أحدهما المتاع
المسروق إلى ثقب في البيت فتناوله الاخر، فقيل القطع على الخارج المتناول له،
وقيل لا قطع على واحد منهما، وقيل القطع على المقرب للمتاع من الثقب،
والخلاف في هذا كله آيل إلى انطلاق اسم المخرج من الحرز عليه أو لا انطلاقه
فهذا هو القول في الحرز واشتراطه في وجوب القطع، ومن رمى بالمسروق من
الحرز ثم أخذه خارج الحرز قطع، وقد توقف مالك فيه إذا أخذ بعد رميه
وقبل أن يخرج، وقال ابن القاسم يقطع.
100

وأما جنس المسروق فإن العلماء اتفقوا على أن كل متملك غير ناطق يجوز
بيعه وأخذ العوض عنه فإنه يجب في سرقته القطع ما عدا الأشياء الرطبة المأكولة
والأشياء التي أصلها الإباحة فإنهم اختلفوا في ذلك فذهب الجمهور إلى أن القطع
في كل متمول يجوز بيعه وأخذ العوض فيه.
وقال أبو حنيفة: لا قطع في الطعام ولا فيما أصله مباح كالصيد فعمدة
الجمهور عموم الآية الموجبة للقطع وعموم الآثار الواردة في اشتراط النصاب،
وعمدة أبي حنيفة في منعه القطع في الطعام الرطب قوله عليه السلام (لا قطع في
ثمر ولا كثر) وعمدته أيضا في منع القطع فيما أصله مباح الشبهة التي فيه لكل
مالك، وذلك أنهم اتفقوا على أن من شرط المسروق الذي يجب فيه القطع أن
لا يكون للسارق فيه شبهة ملك.
واختلفوا في سرقة المصحف، فقال مالك والشافعي يقطع سارقه، وقال
أبو حنيفة لا يقطع، ولعل هذا من أبي حنيفة بناء على أنه لا يجوز بيعه أو أن
لكل أحد فيه حقا إذ ليس بمال.
واختلفوا فيمن سرق صغيرا مملوكا أعجميا ممن لا يفقه ولا يعقل الكلام،
فقال الجمهور يقطع، وأما إن كان كبيرا يفقه، فقال مالك: يقطع، وقال
أبو حنيفة: لا يقطع.
وقالت الحنابلة: فان سرق حرا صغيرا فلا قطع، لأنه ليس بمال، ثم روى
عنهم أنه يقطع لحديث عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل يسرق
الصبيان ثم يخرج بهم فيبيعهم في أرض أخرى فأمر بيده فقطعت) رواه الدارقطني
وقال المالكيون إن سارقه (الحر الصغير) يقطع ولا يقطع عند أبي حنيفة
وهو قول ابن الماجشون - واختلفوا إذا سرق العبد من مال سيده، فالجمهور
على أنه لا يقطع، وقال أبو ثور يقطع، وقال أهل الظاهر يقطع إلا أن يأتمنه
سيده واشترط مالك أن يكون بلى الخدمة لسيده بنفسه، والشافعي مرة اشترط
هذا ومرة لم يشترطه ويدرأ الحد.
101

قال عمر وابن مسعود ولا مخالف لهما من الصحابة، وكذا إذا سرق الزوج
من زوجته من مالها الخاص أو العكس فقال مالك: إذا كان كل واحد ينفرد
ببيت فيه متاعه فالقطع على من سرق من مال صاحبه.
وقال الشافعي: الاحتياط أن لا قطع على أحد الزوجين لشبهة الاختلاط
وشبهة المال، وقد روى عنه مثل قول مالك واختاره المزني.
وقالت الحنابلة: ولا يقطع أحد الزوجين بسرقته من ماله المحرز عنه اختاره
الأكثر كمنعه نفقتها فتأخذها، أما مال القرابات فقال مالك: أن لا يقطع
الأب فيما سرق من مال الابن لقوله عليه السلام (أنت ومالك لأبيك) ويقطع
ما سواهم من القرابات.
وقال الشافعي: لا يقطع عمود النسب الاعلى والأسفل، يعنى الأب
والأجداد والأبناء وأبناء الأبناء.
وقال أبو حنيفة: لا يقطع ذوا الرحم المحرمة، وقال أبو ثور: تقطع يد
كل من سرق إلا ما خصصه الاجماع.
وقالت الحنابلة: ويقطع كل قريب بسرقة مال قريبه إلا عمودي نسبه،
وقيل إلا أبويه وان علوا، وقيل إلا ذي رحم محرم، وظاهر الواضح قطع غير
أب ومن سرق من المغنم أو من بيت المال فقال مالك: يقطع، وقال عبد الملك
من أصحابه لا يقطع.
وقالت الحنابلة: لا قطع على مسلم سرق من بيت المال لقول عمر وابن
مسعود (من سرق من بيت المال فلا قطع ما من أحد إلا وله في هذا المال حق)
وروى عن علي (ليس على من سرق من بيت المال قطع) واتفقوا على أنه إذا
ثبتت أركان الجريمة فقد وجب القطع والغرم إذا لم يجب القطع، واختلفوا هل
يجمع الغرم مع القطع، فقال قوم عليه الغرم والقطع، وبه قال الشافعي وأحمد
والليث وأبو ثور وجماعة.
وقال قوم: ليس عليه غرم إذا لم يجد المسروق منه متاعه بعينه، وبه قال
أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى وجماعة، وفرق مالك وأصحابه فقال: إن كان
102

موسرا اتبع السارق بقيمة المسروق، وإن كان معسرا لم يتبع به إذا أثرى،
واشترط مالك دوام اليسر إلى يوم القطع فيما حكى عنه ابن القاسم
وحجة من جمع الامرين أن في السرقة حقان، حق لله وحق للآدمي، فاقتضى
كل حق موجبه، وأيضا فإنهم لما أجمعوا على أخذ ه منه إذا وجد بعينه لزم إذا لم
يوجد بعينه عنده أن يكون في ضمانه قياسا على سائر الأموال الواجبة، وعمدة الكوفيين
حديث عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يغرم
السارق إذا أقيم عليه الحد) وهذا الحديث ضعيف لأنه مقطوع ووصله بعضهم
وخرجه النسائي.
ويقولون إن القطع هو بدل الغرم وأن اجتماع حقين في حق واحد مخالف
للأصول، وأما تفرقة مالك فاستحسان على غير قياس، والقطع محله اليد اليمنى
باتفاق من الكوع وقال قوم الأصابع فقط، ولا دليل عليه، واختلفوا فيمن
قطعت يده اليمنى في السرقة، ثم عاد فقال أهل العراق والحجاز تقطع رجله
اليسرى بعد اليمنى وقال بعض أهل الظاهر وبعض التابعين تقطع اليد اليسرى
بعد اليمنى ولا يقطع منه غير ذلك.
واختلف مالك والشافعي وأبو حنيفة بعد اتفاقهم على قطع الرجل اليسرى
بعد اليد اليمنى هل يقف القطع إن سرق ثالثة أم لا، فقال سفيان وأبو حنيفة يقف
القطع في الرجل وإنما عليه في الثالثة الغرم فقط وقال مالك والشافعي إن سرق
ثالثة قطعت يده اليسرى، ثم إن سرق رابعه قطعت رجله اليمنى، فإذا ذهب محل
القطع من غير سرقة إن كانت اليد شلاء فقيل ينتقل القطع إلى اليد اليسرى
وقيل إلى الرجل.
واختلف في موضع القطع من القدم، فقيل يقطع من المفصل الذي في أصل
الساق، وقيل يدخل الكعبان في القطع، وقيل لا يدخلان، وقيل إنها تقطع
من المفصل الذي في وسط القدم، واتفقوا على أن لصاحب السرقة أن يعفو
ما لم يرفع ذلك إلى الامام، واتفقوا على أن السرقة تثبت بشاهدين عدلين أو
بإقرار السارق الحر.
103

واختلفوا في العبد فقال جمهور فقهاء الأمصار إقراره على نفسه موجب للحد
وليس يوجب عليه غرما وقال زفر لا يجب اقرار العبد على نفسه بما يوجب
قتله ولا قطع لكونه مالا لمولاه، وبه قال شريح والشافعي وقتادة وجماعة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب حد قاطع الطريق
من شهر السلاح وأخاف السبيل في مصر أو برية وجب على الامام طلبه
لأنه إذا ترك قويت شوكته وكثر الفساد به في قتل النفوس وأخذ الأموال،
فإن وقع قبل أن يأخذ المال ويقتل النفس عزر وحبس على حسب ما يراه
السلطان لأنه تعرض للدخول في معصية عظيمة فعزر كالمتعرض للسرقة بالنقب
والمتعرض للزنا بالقبلة، وان أخذ نصابا محرزا بحرز مثله ممن يقطع بسرقة ماله
وجب عليه قطع يده اليمنى ورجله اليسرى لما روى الشافعي عن ابن عباس أنه
قال في قطاع الطريق إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، وإذا قتلوا ولم
يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم
وأرجلهم من خلاف ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يؤخذوا وتقام عليهم
الحدود لأنه ساوى السارق في أخذ النصاب على وجه لا يمكن الاحتراز منه
فساواه في قطع اليد وزاد عليه بإخافة السبيل بشهر السلاح فغلظ بقطع الرجل
فإن لم يكن له اليد اليمنى وله الرجل اليسرى قطع الرجل فأن الحد تعلق بهما،
فإذا فقد أحدهما تعلق الحد بالباقي، كما قلنا في السارق إذا كانت له يد ناقصة
الأصابع، وان لم يكن له اليد اليمنى ولا الرجل اليسرى انتقل القطع إلى اليد
اليسرى والرجل اليمنى، لان ما يبدأ به معدوم فتعلق الحد بما بعده، وان أخذ
دون النصاب لم يقطع.
وخرج أبو علي بن خيران قولا آخر أنه لا يعتبر النصاب كما لا يعتبر التكافؤ
في القتل في المحاربة في أحد القولين، وهذا خطأ لأنه قطع يجب بأخذ المال
104

فشرط فيه النصاب كالقطع في السرقة، فإن أخذ المال من غير حرز بأن انفرد
عن القافلة أو أخذ من جمال مقطرة ترك القائد تعاهدها لم يقطع لأنه قطع يتعلق
بأخذ المال فشرط فيه الحرز كقطع السرقة.
(فصل) وإن قتل ولم يأخذ المال انحتم قتله ولم يجز لولي الدم العفو عنه،
لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: نزل جبريل عليه السلام بالحد فيهم أن
من قتل ولم يأخذ المال قتل، والحد لا يكون إلا حتما، ولان ما أوجب عقوبة
في غير المحاربة تغلظت العقوبة فيه بالمحاربة، كأخذ المال يغلظ بقطع الرجل.
وإن جرح جراحة توجب القود قهل يتحتم القود؟ فيه قولان
(أحدهما) أنه يتحتم، لان ما أوجب القود في غير المحاربة انحتم القود فيه
في المحاربة كالقتل.
(والثاني) أنه لا يتحتم لأنه تغليظ لا يتبعض في النفس فلم يجب فيما دون
النفس كالكفارة.
(فصل) وإن قتل وأخذ المال قتل وصلب، ومن أصحابنا من قال يصلب
حيا ويمنع الطعام والشراب حتى يموت، وحكى أبو العباس بن القاص في التخليص
عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: يصلب ثلاثا قبل القتل، ولا يعرف هذا
للشافعي، والدليل على أنه يصلب بعد القتل قوله صلى الله عليه وسلم: إذا قتلتم
فأحسنوا القتلة.
وإن كان الزمان باردا أو معتدلا صلب بعد القتل ثلاثا، وإن كان الحر
شديدا وخيف عليه التغير قبل الثلاث حنط وغسل وكفن وصلى عليه وقال
أبو علي بن أبي هريرة رحمه الله يصلب إلى أن يسيل صديده وهذا خطأ لان
في ذلك تعطيل أحكام الموتى من الغسل والتكفين والصلاة والدفن، وإن مات
فهل يصلب فيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول الشيخ أبى حامد الأسفرايني رحمه الله أنه لا يصلب،
لان الصلب تابع للقتل وصفة له، وقد سقط القتل فسقط الصلب،
(والثاني) وهو قول شيخنا القاضي أبى الطيب الطبري رحمه الله أنه يصلب
لأنهما حقان فإذا تعذر أحدهما لم يسقط الآخر.
105

(فصل) وإن وجب عليه الحد ولم يقع في يده الامام طلب إلى أن يقع فيقام
عليه الحد لقوله عز وجل (أو ينفوا من الأرض) وقد روينا عن ابن عباس
أنه قال: ونفيهم إذا هربوا أن يطلبوا حتى يوجدوا فتقام عليهم الحدود
(فصل) ولا يجب ما ذكرناه من الحد إلا على من باشر القتل أو أخذ المال
فأما من حضر ردءا لهم أو عينا فلا يلزمه الحد لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل
دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، أو قتل
نفس بغير حق ويعزر لأنه أعان على معصية فعزر، وإن قتل بعضهم وأخذ
بعضهم المال وجب على من قتل القتل وعلى من أخذ المال القطع لان كل واحد
منهم انفر بسبب حد فاختص بحده.
(فصل) إذا قطع قاطع الطريق اليد اليسرى من رجل وأخذ المال قدم
قطع القصاص سواء تقدم على أخذ المال أو تأخر، لان حق الآدمي آكد،
فإذا اندمل موضع القصاص قطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لاخذ المال، ولا
يوالي بينهما لأنهما عقوبتان مختلفتان فلا تجوز الموالاة بينهما، وإن قطع اليد
اليمنى والرجل اليسرى وأخذ المال وقلنا إن القصاص يتحتم، نظرت فإن تقدم
أخذ المال سقط القطع الواجب بسببه، لأنه يجب تقديم القصاص عليه لتأكد
حق الآدمي. وإذا قطع للآدمي زال ما تعلق الوجوب به الاخذ المال فسقط
وإن تقدمت الجناية لم يسقط الحد لاخذ المال فتقطع يده اليسرى ورجله اليمنى
لأنه استحق بالجناية فيصير كمن أخذ المال، وليس له يد يمنى ولا رجل يسرى
فتعلق باليد اليسرى والرجل اليمنى
(فصل) وإن تاب قاطع الطريق بعد القدرة عليه لم يسقط عنه شئ مما
وجب عليه من حد المحاربة لقوله عز وجل (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا
عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم) فشرط في العفو عنهم أن تكون التوبة قبل
القدرة عليهم، فدل على أنهم إذا تابوا بعد القدرة لم يسقط عنهم، وان تاب قبل
القدرة عليه سقط عنه ما يختص بالمحاربة، وهو انحتام القتل والصلب وقطع
الرجل للآية، وهل يسقط قطع اليد؟ فيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة أنه يسقط لأنه قطع عضو
106

وجب بأخذ المال في المحاربة فسقط بالتوبة قبل القدرة كقطع الرجل (والثاني)
وهو قول أبي إسحاق انه لا يسقط لأنه قطع يد لاخذ المال فلم يسقط بالتوبة
قبل القدرة كقطع السرقة
(فصل) فأما الحد الذي لا يختص بالمحاربة ينظر فيه فإن كان للآدمي وهو
حد القذف لم يسقط بالتوبة لأنه حق للآدمي فلم يسقط بالتوبة كالقصاص،
وإن كان لله عز وجل وهو حد الزنا واللواط والسرقة وشرب الخمر ففيه قولان
(أحدهما) أنه لا يسقط بالتوبة لأنه حد لا يختص بالمحاربة فلم يسقط بالتوبة
كحد القذف (والثاني) أنه يسقط وهو الصحيح، والدليل عليه قوله عز وجل
في الزنا (فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما ان الله كان توابا رحيما) وقوله تعالى
في السرقة (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه ان الله غفور رحيم)
وقوله صلى الله عليه وسلم (التوبة تجب ما قبلها) ولأنه حد خالص لله تعالى
فسقط بالتوبة كحد قاطع الطريق.
فإن قلنا إنها تسقط نظرت فإن كانت وجبت في غير المحاربة لم تسقط بالتوبة
حتى يقترن بها الاصلاح في زمان يوثق بتوبته لقوله تعالى (فإن تابا وأصلحا
فأعرضوا عنهما) وقوله تعالى (فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب
عليه) فعلق العفو بالتوبة والاصلاح، ولأنه قد يظهر التوبة التقية فلا يعلم
صحتها حتى يقترن بها الاصلاح في زمان يوثق فيه بتوبته، وان وجبت عليه
الحدود في المحاربة سقطت بإظهار التوبة والدخول في الطاعة لأنه خارج من
يد الامام ممتنع عليه فإذا أظهر التوبة لم تحمل توبته على التقية.
(الشرح) أثر ابن عباس (إذا قتلوا وأخذوا المال) أخرجه البيهقي والشافعي
في مسنده أثر ابن عباس (نزل جبريل بالحد فيهم) أخرجه البيهقي، قلت وفى
حديث العرنيين المتفق عليه وعتاب الله عز وجل لنبيه حينما قتلهم وسمل أعينهم
ما ينص على وجوب الحد عليهم بما اجترحوا فقط، واختلاف الحدود باختلاف
الافعال كما قال ابن عباس حديث (إذا قتلتم) أخرج مسلم عن أبي يعلى شداد
ابن أوس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ان الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم
فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته)
107

حديث (لا يحل دم امرئ مسلم) سبق تخريجه حديث (التوبة تجب ما قبلها)
لم أجده وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي (التوبة النصوح الندم على
الذنب حين يفرط منك فتستغفر الله تعالى ثم لا تعود إليه أبدا)
اللغة: قوله (من شهر السلاح) أي سله وأخرجه من غمده، وأخاف
السبيل أي الطريق والمصر البلد العظيم، قوله (قويت شوكته) الشوكة شدة
البأس والحدة في السلاح وقد شاك يشاك شوكا أي ظهرت شوكته وحدته، قوله
(انحتم قتله) أي وجب ولم يسقط بالعفو ولا الفداء، والحتم قطع الامر وإبرامه
من غير شك ولا نظر. قوله (أو ينفوا من الأرض) أي يطردوا نفيت فلانا
أي طردته، وأما الفقهاء فقال بعضهم نفيهم أن يطلبوا حيث كانوا فيوجدوا،
وقال بعضهم نفيهم أن يحبسوا، وقال بعضهم نفيهم أن يقتلوا فلا يبقوا.
قوله (فأما من حضر ردءا) أي عونا، قال الله تعالى (ردءا يصدقني)
وأردأته أعنته. قوله (إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم) أي رجعوا
عما كانوا عليه من المعصية إلى الطاعة وفعل الخير. وتوبة الله تعالى على عباده
رجوعه عن الغضب إلى الرضا، وقد تكون توبة الله عليهم الرجوع من التشديد
إلى التخفيف ومن الحظر إلى الإباحة كقوله (علم أن لن تحصوه فتاب عليكم)
أي رجع بكم إلى التخفيف بعد التشديد وقوله (علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم
فتاب عليكم) أي أباح لكم ما حظر عليكم.
قوله (الصلب) أصل الصلب سيلان الصليب وهو الصديد والودك.
قال الشاعر: جريمة ناهض في رأس فيق * نرى لعظام ما جمعت صليبا.
وقيل للمقتول الذي يربط على خشبة حتى يسيل صليبه صليب ومصلوب،
وسمى ذلك الفعل صلبا، قوله عليه الصلاة والسلام (التوبة تجب ما قبلها) أصل
التوبة الرجوع تاب إذا رجع، والجب القطع ولهذا قيل لمقطوع الذكر مجبوب
قال ابن حزم في المراتب: واتفقوا أن الغاصب المجاهر الذي ليس محاربا
لا قطع عليه، واتفقوا على أن المحارب هو قاطع الطريق وهو من شهر السلاح
بلا سلاح خارج المصر سواء كان مسلما أو ذميا، وقال ابن حزم هو مسلم عاص
واختلفوا في داخل المصر، فقال مالك داخله وخارجه سواء اشترط الشافعي
108

الشوكة ولم يشترط العدد والشوكة عنده قوة المغالبة، وقال أبو حنيفة لا تكون
محاربة في المصر، وقالت الحنابلة: في صحراء أو في مصر وهو الأصح،
والله تعالى أعلم.
أما ما يجب على المحارب فقال مالك إن قتل قتل ولا بد وليس للامام تخيير
في قطعه ولا نفيه وإنما التخيير في قتله أو صلبه، وأما إن أخذ المال ولم يقتل
فلا تخيير في نفيه وإنما التخيير في قتله أو صلبه أو قطعه أو نفيه والتخيير راجع
إلى اجتهاد الامام، وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجماعة من العلماء إلى أن هذه
العقوبة مرتبة على الجنايات فلا يقتل من المحاربين الا من قتل ولا يقطع الا
من أخذ المال ولا ينفى الا من لم يأخذ المال ولا قتل، وقال قوم الامام يخير
فيهم على الاطلاق.
واختلفوا في صلبه فقال قوم: انه يصلب حتى يموت جوعا، وقال قوم بل
يقتل ويصلب معا، وهؤلاء منهم من قال: يقتل أولا ثم يصلب، وهو قول
أشهب، وقيل أنه يصلب حيا ثم يقتل في الخشبة، وهو قول ابن القاسم وابن
الماجشون، ومن رأى أنه يقتل أولا ثم يصلب صلى عليه عنده قبل الصلب،
ومن رأى أنه يقتل في الخشبة، فقال بعضهم: لا يصلى عليه تنكيلا له، وقيل
يقف خلف الخشبة ويصلى عليه، وقال سحنون: ينزل من عليها ويصلى عليه
وهل يعاد إلى الخشبة بعد الصلاة فيه قولان، وذهب أبو حنيفة وأصحابه أنه
لا يبقى على الخشبة أكثر من ثلاثة أيام.
وقال ابن حزم: ان قتل فقد حرم صلبه وقطعه ونفيه، وان قطع فقد حرم
قتله وصلبه ونفيه، وان نفى فقد حرم قتله وصلبه وقطعه، وان صلب فقد حرم
قتله وقطعه ونفيه لا يجوز البتة غير هذا.
أما القطع في حقهم فهو أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم إن عاد قطعت
يده اليسرى ورجله اليمنى، واختلف إذا لم تكن له اليمنى، فقال ابن القاسم تقطع
يده اليسرى ورجله اليمنى، وقال أشهب تقطع اليد والرجل اليسرى.
واختلفوا في النفي فقيل إن النفي هو السجن، وقيل إن النفي هو أن ينفى من
109

بلد إلى بلد فيسجن فيه إلى أن تظهر توبته، وهو قول ابن القاسم عن مالك ويكون
أقل البلدين ما تقصر فيه الصلاة، والقولان عن مالك وبالأول قال أبو حنيفة
وقال ابن الماجشون النفي هو فرارهم من الامام لإقامة الحد عليهم، فأما أن ينفى
بعد أن يقدر عليه فلا.
وقال الشافعي: أما النفي فغير مقصود، ولكن إن هربوا شردناهم في البلاد
بالاتباع. وقيل هي عقوبة مقصودة، فقيل على هذا ينفى ويسجن دائما وكلها عن
الشافعي، وقالت الحنابلة: إن أخافوا الناس ولم يأخذوا مالا نفوا من الأرض
فلا يتركون يأوون إلى بلد حتى تظهر توبتهم، وقيل فلا يأووا إلى بلد عاما،
وقيل يعزروا بما يردعهم.
والظاهر أن النفي هو تغريبهم عن وطنهم.
وأما حكم المحاربين فأن يحاربهم الامام، فإذا قدر على واحد منهم لم يقتل
إلا إذا كانت الحرب قائمة، أما إذا أسر بعد انقضاء الحرب فإن حكمه حكم
البدعي واختلفوا في توبته على:
(أ) هل تقبل توبته؟ (ب) إن قبلت فما صفة المحارب الذي تقبل
توبته. (ج) هل يسقط الحكم بالتوبة؟
قال أهل العلم تقبل توبته، وأما صفة التوبة التي تسقط الحكم فقد اختلفوا
فيها على ثلاثة أقوال.
(أحدهما) أن تكون توبته بوجهين، بأن يترك ما هو عليه وإن لم يأت
الامام (والثاني) أن يلقى سلاحه ويأتي الامام طائعا، وهو مذهب ابن القاسم
والقول الثاني أن توبته إنما تكون بأن يترك ما هو عليه، وهذا هو قول
ابن الماجشون. والقول الثالث أن توبته إنما تكون بالمجئ إلى الامام، وإن
ترك ما هو عليه لم يسقط ذلك عنه حكما من الأحكام إن أخذ قبل أن يأتي الامام
وتحصيل ذلك هو أن توبته قيل إنها تكون بأن يأتي الامام قبل أن يقدر عليه
وقيل إنها إنما تكون إذا ظهرت توبته قبل القدرة فقط، وقيل تكون بالأمرين
جميعا. وأما صفة المحارب الذي تقبل توبته فإنهما اختلفوا فيها أيضا على ثلاثة
110

أقوال (أحدها) أن يلحق بدار الحرب (والثاني) أن تكون له فئة (والثالث) كيفما
كإن كانت له فئة أو لم تكن لحق بدار الحرب أو لم يلحق.
واختلف في المحارب إذا امتنع فأمنه الامام على أن ينزل، فقيل له الأمان
ويسقط عنه حد الحرابة، وقيل لا أمان له لأنه إنما يؤمن للشرك، وأما ما تسقط
عنه التوبة فاختلفوا في ذلك على أربعة أقوال.
(أحدها) أن التوبة إنما تسقط عنه حد الحرابة فقط، ويؤخذ بما سوى
ذلك من حقوق الله وحقوق الآدميين وهو قول مالك.
(والثاني) أن التوبة تسقط عنه حد الحرابة وجميع حقوق الله، ويتبع بحقوق
الناس من الأموال والدماء إلا أن يعفو أولياء المقتول.
(والثالث) أن التوبة ترفع جميع حقوق الله ويؤخذ بالدماء، وفى الأموال
بما وجد بعينه في أيديهم ولا تتبع ذممهم
(والرابع) أن التوبة تسقط جميع حقوق الله وحقوق الآدميين من مال ودم
إلا ما كان من الأموال قائم العين بيده.
وما احتواه هذا الباب من أحكام أوجزها فيما يلي:
1 - تعددت الأقوال فيمن تتحقق فيه صفة المحارب من المسلمين، منها أنه
اللص المجاهر بلصوصيته المكابر المصر على ذلك في المدينة، ومنها أنه اللص
المجاهر بلصوصيته المصر على ذلك في الصحراء دون المدينة، ومنها أنه المكابر في
الفسق والفجور، وقد أوردها الطبراني في تفسيره.
ثم قال إن أولاها بالصواب قول من قال إن المحارب لله ورسوله من حارب
سابلة المسلمين وأمتهم وأغار عليهم في أمصارهم وقراهم وأخاف عباد الله وقطع
طريقهم وأخذ أموالهم وتوثب على حرماتهم فجورا وفسقا
2 - للامام أن يعاقب المحارب بأية عقوبة من عقوبات الآية، وقال
الطبري بعد أن أورد كافة الآراء، وإن أولاها بالصواب من أوجب على المحارب
العقوبة على قدر استحقاقه وجعل الحكم على المحاربين مختلفا باختلاف أفعالهم
3 - المحاربون من المسلمين توبتهم بينهم وبين الله، وعلى الامام أن يقيم
111

عليهم حدود ما ارتكبوه من جرائم، وإن بقي في يد المحارب النائب من المال
الذي أخذه فللامام أن يسترده منه ويرده إلى أصحابه، وإذا طلب ولى قتيل دم
قتيله منه وأقام البينة فعلى الامام أن يقيم عليه الحد وقال الشافعي: ليس لولي
الدم حق قود ولا قصاص.
4 - فرض بعضهم حالة ارتداد مسلم إلى الكفر ثم ارتكابه القتل والنهب
ثم عودته إلى الاسلام تائبا قبل القدرة عليه منع بعضهم سقوط الحد عنه بالتوبة
عزاه الطبري إلى عكرمة والحسن البصري.
5 - للامام أن يقيم عليه حد واحد مما ذكرته الآية ولا يجمع عليه حدين
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب حد الخمر
كل شراب أسكر كثيره حرم قليله وكثيره، والدليل عليه قوله تعالى (إنما
الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم
تفلحون) واسم الخمر يقع على كل مسكر، والدليل عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل مسكر خمر وكل خمر حرام.
وروى النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن
من التمر لخمرا، وإن من البر لخمرا، وإن من الشعير لخمرا وإن من العسل خمرا.
وروى سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أنهاكم عن قليل
ما أسكر كثيره) وروت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام)
(فصل) ومن شرب مسكرا وهو مسلم بالغ عاقل مختار وجب عليه الحد،
فإن كان حرا جلد أربعين جلدة لما روى أبو ساسان قال (لما شهد على الوليد بن
عقبة قال عثمان لعلي عليه السلام دونك ابن عمك فاجلده، قال قم يا حسن فاجلده
قال فيما أنت وذاك ول هذا غيري، قال ولكنك ضعفت وعجزت ووهنت،
112

فقال قم يا عبد الله بن جعفر فاجلده فجلده، وعلي عليه السلام بعد ذلك فعد
أربعين وقال جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر أربعين وأبو بكر أربعين
وعمر ثمانين وكل سنة.
وإن كان عبدا جلد عشرين لأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من
الحر كحد الزنا، فإن رأى الامام أن يبلغ بحد الحر ثمانين وبحد العبد أربعين جاز
لما روى أبو وبرة الكلبي قال (أرسلني خالد بن الوليد إلى عمر رضي الله عنه
فأتيته ومعه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وعلى وطلحة والزبير رضي الله عنهم،
فقلت ان خالد بن الوليد رضي الله عنه يقرأ عليك السلام ويقول إن الناس قد
انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه، قال عمر هم هؤلاء عندك فسلهم، فقال
علي عليه السلام تراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفترى ثمانون.
فقال عمر بلغ صاحبك ما قال، فجلد خالد ثمانين وجلد عمر ثمانين. قال وكان
عمر إذا أتى بالرجل القوى المتهمك في الشراب جلده ثمانين، وإذا أتى بالرجل
الضعيف الذي كانت منه الزلة جلده أربعين، فإن جلده أربعين ومات لم يضمن
لان الحق قتله، وان جلده ثمانين ومات ضمن نصف الدية، لان نصفه حد
ونصفه تعزير، وسقط النصف بالحد ووجب النصف بالتعزير.
وإن جلد إحدى وأربعين فمات ففيه قولان.
(أحدهما) أنه يضمن نصف ديته لأنه مات من مضمون وغير مضمون
فضمن نصف ديته، كما لو جرحه واحد جراحة وجرح نفسه جراحات.
(والثاني) أنه يضمن جزءا من أحد وأربعين جزءا من الدية لان الأسواط
متماثلة فقسطت الدية على عددها، ومخالف الجراحات فإنها لا تتماثل، وقد يموت
من جراحة ولا يموت من جراحات، ولا يجوز أن يموت من سوط ويعيش
من أسواط.
وان أمر الامام الجلاد أن يضرب في الخمر ثمانين فجلده إحدى وثمانين ومات
المضروب، فإن قلنا إن الدية تقسط على عدد الضرب سقط منها أربعون جزءا
لأجل الحد ووجب على الامام أربعون جزءا لأجل التعزير ووجب على الجلاد.
113

جزء وإن قلنا إنه يقسط على عدد الجناية ففيه وجهان (أحدهما) يسقط
نصفها لأجل الحد ويبقى النصف، على الامام نصفه وعلى الجلاد نصفه، لان
الضرب نوعان، مضمون وغير مضمون، فسقط النصف بما ليس بمضمون
ووجب النصف بما هو مضمون (والثاني) انه تقسط الدية أثلاثا فسقط ثلثها
بالحد، وثلثها على الامام، وثلثها على الجلاد، لان الحد ثلاثة أنواع، فجعل
لكل نوع الثلث.
(فصل) ويضرب في حد الخمر بالأيدي والنعال وأطراف الثياب على ظاهر
النص، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى
برجل قد شرب الخمر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اضربوه، قال فمنا
الضارب بيده ومنا الضارب بنعله ومنا الضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض
الناس أخزاك الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا هكذا ولا
تعينوا عليه الشيطان ولكن قولوا رحمك الله. ولأنه لما كان أخف من غيره
في العدد وجب أن يكون أخف من غيره في الصفة.
وقال أبو العباس وأبوا سحاق يضرب بالسوط. ووجهه ما روى أن عليا
رضي الله عنه لما أقام الحد على الوليد بن عقبة قال لعبد الله بن جعفر أقم عليه
الحد، قال فأخذ السوط فجلده حتى انتهى إلى أربعين سوطا فقال له أمسك
وإن قلنا إنه يضرب بغير السوط فضرب بالسوط أربعين سوطا فمات ضمن،
لأنه تعدى بالضرب بالسوط، وكم يضمن؟ فيه وجهان
(أحدهما) أنه يضمن بقدر ما زاد ألمه على ألم النعال.
(والثاني) أنه يضمن جميع الدية لأنه عدل من جنس إلى غيره فأشبه إذا
ضربه بما يجرح فمات منه.
(فصل) والسوط الذي يضرب به سوط بين سوطين ولا يمد ولا يجرد
ولا تشديده، لما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال (ليس في هذه
الأمة مد ولا تجريد ولا غل ولا صفة).
(فصل) ولا يقام الحد في المسجد لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن
114

النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحد في المسجد، ولأنه لا يؤمن أن يشق
الجلد بالضرب فيسيل منه الدم أو يحدث من شدة الضرب فينجس المسجد.
وإن أقيم الحد في المسجد سقط الفرض لان النهى لمعنى يرجع إلى المسجد لا إلى
الحد فلم يمنع صحته، كالصلاة في الأرض المغصوبة.
(فصل) إذا زنى دفعات حل للجميع حدا واحدا، وكذلك ان سرق دفعات
أو شرب الخمر دفعات حد للجميع حدا واحدا، لان سببها واحد فتداخلت،
وان اجتمعت عليه حدود بأسباب بأن زنى وسرق وشرب الخمر وقذف لم تتداخل
لأنها حدود وجبت بأسباب فلم تتداخل، وان اجتمع عليه الجلد في حد الزنا
والقطع في السرقة، أو في قطع الطريق قدم حد الزنا، تقدم الزنا أو تأخر
لأنه أخف من القطع، فلما تقدم أمكن استيفاء القطع بعده، وإذا قدم القطع
لم يؤمن أن يموت منه فيبطل حد الزنا، وان اجتمع عليه مع ذلك حد الشرب
أو حد القذف قدم حد الشرب وحد القذف على حد الزنا، لأنهما أخف منه،
وأمكن للاستيفاء. وان اجتمع حد الشرب وحد القذف ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يقدم حد القذف لأنه للآدمي (والثاني) أنه يقدم حد
الشرب وهو الصحيح لأنه أخف من حد القذف، فإذا أقيم عليه حد لم يقم عليه
حد آخر حتى يبرأ من الأول، لأنه إذا توالى عليه حدان لم يؤمن أن يتلف،
وان اجتمع عليه حد السرقة والقطع في قطع الطريق قطعت يمينه للسرقة وقطع
الطريق، ثم تقطع رجله لقطع الطريق، وهل تجوز الموالاة بينهما فيه وجهان:
(أحدهما) أنه تجوز لان قطع الرجل مع قطع اليد حد واحد فجاز الموالاة بينهما
(والثاني) أنه لا يجوز قطع الرجل حتى تندمل اليد، لان قطع الرجل لقطع
الطريق وقطع اليد للسرقة وهما سببان مختلفان فلا يوالي بين حديهما، والأول
أصح، لان اليد تقطع لقطع الطريق أيضا، فأشبه إذا قطع الطريق ولم يسرق
وإن كان مع هذه الحدود قتل فإن كان في غير المحاربة أقيمت الحدود على ما ذكرناه
من الترتيب والتفريق بينها، فإذا فرغ من الحدود قتل، وإن كان القتل في
المحاربة ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق أنه يوالي بين الجميع، والفرق بينه وبين
115

القتل في غير المحاربة أن القتل في غير المحاربة غير متحتم وربما عفى عنه فتسلم
نفسه، والقتل في المحاربة متحتم فلا معنى لترك الموالاة.
والوجه الثاني أنه لا يوالي بينهما، لأنه لا يؤمن إذا والى بين الحدين أن
يموت في الثاني فيسقط ما بقي من الحدود.
(الشرح) حديث (كل مسكر خمر) متفق عليه وغيرهما، ولفظ لمسلم (كل
مسكر خمر وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها لم
يتب منها لم يشربها في الآخرة)
وروى أحمد وابن ماجة والدارقطني والبيهقي (كل مسكر خمر، ما أسكر
كثيره فقليله حرام)
حديث النعمان بن بشير (ان من التمر لخمرا) رواه أحمد في مسنده عن ابن
عمر وروى أيضا عنه (أن عمر خطب على المنبر وقال: ألا ان الخمر قد حرمت
وهي من خمسة، من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر
العقل) ورواه البخاري ومسلم بنحوه.
حديث سعد (أنهاكم عن قليل) أخرجه البيهقي والنسائي والدارقطني وقالوا
احتج بأكثر رجال هذا البخاري ومسلم في الصحيحين.
حديث عائشة (ما أسكر الفرق منه) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي
وقال حديث حسن، وروى البيهقي (كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء
الكف منه حرام) وروى كل مسكر حرام، وما أسكر منه الفرق فالحسوة
منه حرام
أثر أبى ساسان أخرجه البيهقي، وأخرج مسلم عن حصين بن المنذر قال
شهدت عثمان بن عفان أتى بالوليد وقد صلى الصبح ركعتين ثم قال أزيدكم فشهد
عليه رجلان أحدهما حمران أنه شرب الخمر، وشهد آخر أنه رآه يتقيؤها، فقال
عثمان انه لم يتقيؤها حتى شربها، فقال يا علي قم فاجلده، فقال على قم يا حسن
فاجلده، فقال الحسن ول حارها من تولى قارها، فكأنه وجد عليه، فقال
يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده وعلى يعد حتى بلغ أربعين، فقال أمسك، ثم قال
116

جلد النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر أربعين وعمر ثمانين وكل سنة، وهذا
أحب إلى).
أثر أبى وبرة الكلبي أخرجه البيهقي.
حديث أبي هريرة رواه أحمد والبخاري وأبو داود.
حديث ابن مسعود أخرجه البيهقي. حديث ابن عباس أخرجه البيهقي
اللغة: في تسمية الخمر خمرا ثلاثة أقوال (أحدها) أنها تخمر العقل، أي
تستره، أخذ من خمار المرأة التي تستر به رأسها، والخمر الشجر الكثير الذي
يغطى الأرض. قال (فقد جاوزتما خمر الطريق).
(الثاني) أنها تخمر نفسها لئلا يقع فيها شئ يفسدها وخصت بذلك لدوامها
تحت الغطاء لتزداد جودتها وشدة صورتها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام
(خمروا الآنية) أي غطوها (الثالث) لأنها تخامر العقل أي تخالطه. قال الشاعر
فخامر القلب من ترجيع ذكرتها * رس لطيف ورهن منك مكبول.
قوله (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان)
الميسر القمار. قال مجاهد كل شئ فيه قمار فهو ميسر حتى لعب الصبيان بالجوز.
وقال الأزهري الميسر الجزور التي كانوا يتقامرون عليها، وسمي ميسرا لأنه
يجزأ أجزاء، وكل ما جزأته أجزاء فقد يسرته، والياسر الجزار الذي يجزئها،
والجمع أيسار، والأزلام القداح واحدها زلم بفتح الزاي وضمها وهي السهام
التي كان أهل الجاهلية يستقسمون بها على الميسر قاله العزيزي.
وقال الهروي كانت زلت وسويت، أي أخذ من حروفها، وكان أحد
الجاهلية يجعلها في وعاء له وقد كتب الأمر والنهي، فإذا أراد سفرا أو حاجة
أدخل يده في ذلك الوعاء فإن خرج الآمر مضى لطيته، وان خرج الناهي كف
وانصرف وفيها كلام يطول.
وأما الأنصاب فهو جمع نصب بفتح النون وضمها، وهو حجر أو صنم
منصوب يذبحون عنده، يقال نصب ونصب ونصب ثلاث لغات.
والرجس القذر والنتن ومنه قوله تعالى (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس)
117

أي العمل الخبيث المستقذر، وقيل الشك والرجس أيضا العذاب، وسميت
الأصنام رجسا لأنها سبب الرجس وهو العذاب.
قوله (فيه شدة مطربة (1) الطرب خفة تعتري الانسان من شدة فرح أو حزن
قال في الطرب بمعنى الحزن.
وقالوا قد بكيت فقلت كلا * وهل يبكى من الطرب الجليد.
وقال في معنى الفرح. يا ديار الزهو والطرب * ومغاني اللهو واللعب.
قوله (ما أسكر الفرق منه) الفرق بإسكان الراء مائة وعشرون رطلا
وبفتحها ستة عشر رطلا. وقال ثعلب الفرق بفتح الراء اثنا عشر مدا، ولا
تقل فرق بالاسكان. وقال الزمخشري هما لغتان والفتح أعلى
قوله (وهنت) يقال وهن الانسان ووهنه غيره يتعدى ولا يتعدى ووهن
أيضا بالكسر وهنا أي ضعف.
قوله (انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة) أي لجوا فيها، يقال إنهمك
الرجل في الامر أي جد ولج، وكذلك تهمك، وتحاقروا العقوبة، أي رأوها
حقيرة صغيرة. وحقره واستحقره استصغره، والحقير الصغير.
قوله (إذا سكر هذى) أي تكلم بالهذيان، وهو مالا حقيقة له من الكلام
يقال هذى يهذي ويهذو. قوله (افترى) أي كذب، والفرية الكذب والمفترى
الكاذب، وأصله الخلق فرى الأديم خلقه، قال الله تعالى (وتخلقوني افكا) أي
تتقولون وتفترون كذبا. قوله (أخزاك الله) أي أذلك وأهانك، يقال خزى
يخزي خزيا، أي ذل وهان، والخزي في القرآن بمعنى الذل في قوله تعالى (لهم
في الدنيا خزي) وبمعنى الهلاك في قوله تعالى (من قبل أن نذل ونخزى) أي نهلك
الخمر يطلق على عصير العنب المشتد اطلاقا حقيقيا اجماعا، واختلفوا هل
يطلق على غيره حقيقة أو مجازا، وعلى الثاني هو مجاز لغة كما جزم به صاحب
المحكم؟ قال صاحب الهداية من الحنفية (الخمر عندنا ما اعتصر من ماء العنب

(1) هذه القولة لا توجد لها مناسبة هنا
118

إذا اشتد وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم قال الخطابي زعم قوم أن العرب
لا تعرف الخمر إلا من العنب، فيقال لهم إن الصحابة الذين سموا غير المتخذ من
العنب خمرا عرب فصحاء، فلو لم يكن هذا الاسم صحيحا لما أطلقوه اه‍
وروى ابن عبد البر عن أهل المدينة وسائر الحجازيين وأهل الحديث كلهم
أن كل مسكر خمر. وقال القرطبي الأحاديث الواردة عن أنس وغيره على صحتها
وكثرتها تبطل مذهب الكوفيين القائلين بأن الخمر لا يكون إلا من العنب. وما
كان من غيره لا يسمى خمرا ولا يتناوله اسم الخمر، وهو قول مخالف للغة العرب
وللسنة الصحيحة وللصحابة، لأنهم لما نزل تحريم الخمر فهموا من الامر بالاجتناب
تحريم كل ما يسكر، ولم يفرقوا بين ما يتخذ من العنب وبين ما يتخذ من غيره،
بل سووا بينهما وحرموا كل ما يسكر نوعه ولم يتوقفوا ولم يستفصلوا ولم يشكل
عليهم شئ من ذلك، بل بادروا إلى إتلاف ما كان من غير عصير العنب، وهم
أهل اللسان وبلغتهم نزل القرآن، فلو كان عندهم تردد لتوقفوا عن الإراقة حتى
يستفصلوا ويتحققوا التحريم.
واختلفوا في مقدار الحد الواجب، فقال الجمهور الحد في ذلك ثمانون: وقال
الشافعي وأبو ثور وداود الحد في ذلك أربعون، وقالت الحنابلة من شرب مسكرا
مائعا أو استعط به أو احتقن به، أو أكل عجينا ملتوتا به ولو لم يسكر حد ثمانين
إن كان حرا وأربعين إن كان رقيقا.
واختلفوا في حد العبد، فقال الجمهور هو على النصف من حد الحر، وقال
أهل الظاهر حد الحر والعبد سواء وهو أربعون، وعند الشافعي عشرون،
وعند من قال ثمانون أربعون.
وادعى القاضي عياض الاجماع على مشروعية حد الشرب، وقال في البحر
(مسألة) ولا ينقص حد الشرب عن الأربعين اجماعا، وذكر أن الخلاف إنما
هو في الزيادة على الأربعين، وحكى ابن المنذر والطبري وغيرهما عن طائفة من
أهل العلم أن الخمر لا حد فيها وإنما فيها التعزير.
وإذا مات رجل بحد من الحدود لم يلزم الامام ولا نائبه القصاص الا حد
119

الشرب، وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فذهب الشافعي وأحمد بن حنبل
والهادي والقاسم والناصر وأبو يوسف ومحمد إلى أنه لا شئ فيمن مات بحد أو
قصاص مطلقا من غير فرق بين حد الشرب وغيره، وقد حكى النووي الاجماع
على ذلك، وفيه نظر، فإنه قد قال أبو حنيفة وابن أبي ليلى إنها تجب الدية
على العاقلة.
واختلفوا في الجلد فقال بعض الشافعية الجلد بالجريد، وقد صرح القاضي
أبو الطيب ومن تبعه بأنه لا يجوز بالسوط، وصرح القاضي حسين بتعين
السوط، واحتج بأنه إجماع الصحابة، وخالفه النووي في شرح مسلم فقال أجمعوا
على الاكتفاء بالجريد والنعال وأطراف الثياب، ثم قال والأصح جوازه
بالسوط، وحكى الحافظ عن بعض المتأخرين أنه يتعين السوط للمتمردين وأطراف
الثياب والنعال للضعفاء ومن عداهم بحسب ما يليق بهم.
واليك موجز ما مر بك: يتفق الفقهاء في أمور ويختلفون في أخرى.
الأمور المتفق عليها:
1 - الخمر المستخرجة من العنب محرمة اتفاقا.
2 - يحل للمكره والمضطر أن يشربها.
الأمور المختلف عليها.
1 - يحل شرب القليل الذي لا يذكر من النبيذ المستخرج من غير العنب
2 - الحكم في المخدرات التي لا ينطبق عليها تعريف ولكنها تعمل عملها وأشد
3 - ثبت في أحاديث صحيحة رواها الخمسة قتل شارب الخمر في المرة الرابعة
ولأستاذي الشيخ شاكر رسالة في ذلك.
وإن بالنفس لرغبة في الايضاح أكثر ولكن ما باليد من حيلة، ولكن هذا
لا يمنعنا أن ننقل رأيا لشيخنا وإمامنا، وأظن أن الناشر يحب هذا الامام كحبنا
فلن يبخل بالنشر، وهو الذي أفنى زهرة شبابه في خدمة كتب الشيخ.
يقول ابن تيمية (الحشيشة داخلة فيما حرمه الله ورسوله من الخمر والسكر
لفظا ومعنى ووردت به الأحاديث الصحيحة، فقد جمع رسول الله صلى الله عليه
120

وسلم بما أوتيه من جوامع الكلم كل ما غطى العقل وأسكر ولم يفرق بين نوع
ونوع، ولا تأثير لكونه مأكولا أو مشروبا، على أن الخمر قد يصطبغ بها
والحشيشة قد تذاب في الماء وتشرب، فكل خمر يشرب ويؤكل، والحشيشة
تؤكل وتشرب وكل ذلك حرام)
أقول: والحق في هذا الموضوع ما نقل عن الإمام ابن تيمية فهو الموافق
لرأى العارفين بخواص النباتات كابن البيطار وغيره، كما يساير روح الاسلام في
علة تحريم المسكرات.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب التعزير
من أتى معصية لا حد فيها ولا كفارة، كمباشرة الأجنبية فيما دون الفرج
وسرقة ما دون النصاب أو السرقة من غير حرز أو القذف بغير الزنا أو الجناية
التي لا قصاص فيها وما أشبه ذلك من المعاصي عزر على حسب ما يراه السلطان
لما روى عبد الملك بن عمير قال (سئل علي كرم الله وجهه عن قول الرجل للرجل
يا فاسق يا خبيث، قال هن فواحش فيهن التعزير وليس فيهن حد.
وروى عن ابن عباس أنه لما خرج من البصرة استخلف أبا الأسود الدئلي
فأتى بلص نقب حرزا على قوم فوجدوه في النقب، فقال مسكين أراد أن يسرق
فأعجلتموه، فضربه خمسة وعشرين سوطا وخلى عنه، ولا يبلغ بالتعزير أدنى
الحدود، فإن كان على حر لم يبلغ به أربعين، وأن كان على عبد لم يبلغ به عشرين
لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من بلغ بما ليس بحد حدا فهو من
المعتدين) وروى عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبى موسى لا تبلغ بنكال
أكثر من عشرين سوطا، وروى عنه ثلاثين سوطا، وروى عنه ما بين الثلاثين
إلى الأربعين سوطا) ولأن هذه المعاصي دون ما يجب فيه الحد فلا تلحق بما
يجب فيه الحد من العقوبة. وان رأى السلطان ترك التعزير جاز تركه إذا لم يتعلق
به حق آدمي، لما روى أن النبي صلى الله عليه قال (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم
121

إلا في الحدود. روى عبد الله بن الزبير أن رجلا خاصم الزبير عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم في شراج الحرة الذي يسقون به النخل، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم للزبير: اسق أرضك الماء ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب
الأنصاري، فقال يا رسول الله وأن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال يا زبير اسق أرضك الماء ثم احبس الماء حتى يرجع إلى
الجدر، فقال الزبير فوالله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك (فلا وربك
لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) ولو لم يجز ترك التعزير لعزره رسول الله
صلى الله عليه وسلم على ما قال.
(فصل) وإن عزر الامام رجلا فمات وجب ضمانه لما روى عمرو بن سعيد
عن علي كرم الله وجهه أنه قال: ما من رجل أقمت عليه حدا فمات فأجد في نفسي
أنه لا دية له إلا شارب الخمر فإنه لو مات وديته، لان النبي صلى الله عليه وسلم
لم يسنه ولا يجوز أن يكون المراد به إذا مات من الحد، فإن النبي صلى الله عليه
وسلم حد في الخمر فثبت أنه أراد من الزيادة على الأربعين، ولأنه ضرب جعل
إلى اجتهاده فإذا أدى إلى التلف ضمن كضرب الزوج زوجته.
(فصل) وإن كان على رأس بالغ عاقل سلعة لم يجز قطعها بغير إذنه، فان
قطعها قاطع بإذنه فمات لم يضمن لأنه قطع بإذنه، وان قطعها بغير اذنه فمات
وجب عليه القصاص لأنه تعدى بالقطع، وإن كانت على رأس صبي أو مجنون
لم يجز قطعها لأنه جرح لا يؤمن معه الهلاك، فإن قطعت فمات منه نظرت فإن
كان القاطع لا ولاية له عليه وجب عليه القود لأنها جناية يعدى بها، وإن
كان أبا أو جدا وجبت عليه الدية، وإن كان وليا غيرهما ففيه قولان.
(أحدهما) أنه يجب عليه القود لأنه قطع منه ما لا يجوز قطعه.
(والثاني) أنه لا يجب القود لأنه لم يقصد القتل وإنما قصد المصلحة، فعلى
هذه يجب عليه دية مغلظة لأنها عمد خطأ وبالله التوفيق.
(الشرح) أثر عبد الملك بن نمير رواه البيهقي وسعيد بن منصور
أثر ابن عباس رواه البيهقي.
122

أثر عمر أنه كتب إلى أبى موسى، قال الحافظ روى الأول ابن المنذر
وروى عن أبي بردة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لا يجلد
فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله تعالى) رواه الجماعة إلا النسائي
حديث (أقيلوا ذوي الهيئات) رواه البيهقي عن عائشة (أقيلوا ذوي
الهيئات زلاتهم) وفى رواية أخرى عنها (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا حدا
من حدود الله) وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وابن عدي والعقيلي وقال له
طرق ليس فيها شئ يثبت وفى رواية ابن عدي ضعيف، ورواه ابن حبان
وأبو الشيخ وفى إسنادهما ضعيف والطبراني في الأوسط بإسناد ضعيف.
وقال الشافعي ذوي الهيئات الذين يقالون عثراتهم الذين ليسوا يعرفون
بالشر فيزل أحدهم الزلة.
حديث عبد الله بن الزبير في شراج الحرة متفق عليه وغيرهما.
أثر على (ما من رجل أقمت عليه الحد..) متفق عليه والبيهقي والشافعي
وأبو داود.
اللغة: التعزير التأديب والإهانة، والتعزير أيضا التعظيم، ومنه قوله عز
وجل (وتعزروه وتوقروه) وهو من الأضداد
قوله (كمباشرة الأجنبية) وكذا المباشرة في مواضع كثيرة من الكتاب هو
الصاق بشرة الرجل ببشرة المرأة، والبشرة ظاهر الجلد.
قوله (فهو من المعتدين) المعتدى هو الذي يجاوز حده وفعل ما لا يجوز فعله
قوله (لا تبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطا) النكال ههنا العقوبة التي
تنكل عن فعل جعلت له جزاء أي تمنع عن معاودة فعله وقوله تعالى (فجعلناها
نكالا لما بين يديها) أي لمن يأتي بعدها فيتعظ بها فتمنعه عن فعل مثلها وسمى
اللجام نكلا لأنه يمنع الفرس، وسمى القيد نكلا لأنه يمنع المحبوس، قال الله
تعالى (ان لدنيا أنكالا وجحيما) أي قيودا.
قوله (أقيلوا ذوي الهيئات) الهيئة الشارة، يقال فلان حسن الهيئة، والهيئة
وأراد ذوي المروءات والأحساب.
قوله (شراج الحرة) هي مسايل الماء من بين الحجارة إلى السهل وقد ذكر
123

قوله (فيما شجر بينهم) أي فيما وقع فيه خلاف بينهم، يقال اشتجر القوم
وتشاجروا إذا اختلفوا واختصموا وتنازعوا، وقد ذكر أيضا.
قوله (فأجد في نفسي) فيه حذف واختصار، أي فأوجد في نفسي منه شكا
ويحصل في صدري منه ارتياب، وهذا يشبه قوله عليه الصلاة والسلام (الاثم
ما حاك في صدرك) والسلعة ذكرت.
ذهب إلى أنه لا يجلد فوق العشرة أسواط إلا في حد الليث وأحمد في المشهور
عنه وإسحاق وبعض الشافعية. وذهب أبو حنيفة والشافعي وزيد بن علي
والمؤيد بالله والامام يحيى إلى جواز الزيادة على عشرة أسواط، ولكن لا يبلغ
إلى أدنى الحدود، وذهب الهادي والقاسم والناصر وأبو طالب إلى أنه يكون في
كل موجب للتعزير دون حد جنسه، والى مثل ذلك ذهب الأوزاعي، وهو
مروى عن محمد بن الحسن الشيباني.
وقال أبو يوسف انه ما يراه الحاكم بالغا ما بلغ وقال مالك وابن أبي ليلى
أكثره خمسة وسبعون. هكذا حكى ذلك صاحب البحر والذي حكاه النووي عن
مالك وأصحابه وأبى ثور وأبى يوسف ومحمد انه إلى رأى الامام بالغا ما بلغ.
وقال الرافعي: الأظهر أنها تجوز الزيادة على العشرة.
وقال البيهقي: عن الصحابة آثار مختلفة في مقدار التعزير، وأحسن ما يصار
إليه في هذا ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر حديث أبي بردة عن
الجماعة وذكره المصنف. قال الحافظ فتبين بما نقله البيهقي عن الصحابة أنه لا اتفاق
على عمل في ذلك، فكيف يدعى نسخ الحديث الثابت ويصار إلى ما يخالفه.
من غير برهان.
قالت الحنابلة يجب التعزير على كل مكلف. وقال الشيخ تقى الدين: لا نزاع
بين العلماء أن غير المكلف كالصبي المميز يعاقب على الفاحشة تعزيرا بليغا ويجب
في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة وهي من حقوق الله تعالى لا يحتاج في اقامته
إلى مطالبة، الا إذا شتم الولد والده فلا يعزر الا بمطالبة والده، ولا يعزر
الوالد بحقوق ولده، ولا يزاد في جلد التعزير على عشرة أسواط، وإذا شرب
مسكرا في نهار رمضان فيعزر بعشرين مع الحد، ولا بأس بتسويد وجهه
124

والمناداة عليه ويحرم حلق لحيته وأخذ ماله، ومن الألفاظ الموجبة للتعزير قوله
لغيره يا فاسق يا كافر يا فاجر يا شقي يا كلب يا حمار يا تيس يا رافضي يا خبيث
يا كذاب يا خائن يا قرنان يا قواد يا ديوث يا علق.
ويعزر من قال لذمي يا جاح أو لعنه بغير موجب، وسبق الكلام فيمن مات
وهو يقام عليه الحد أو يعزر.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الأقضية
(باب ولاية القضاء وأدب القاضي)
القضاء فرض على الكفاية، والدليل عليه قوله عز وجل (يا داود إنا جعلناك
خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق) وقوله عز وجل (إن الله يأمركم أن
تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) وقوله
تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) ولان النبي صلى الله عليه وسلم حكم بين
الناس، وبعث عليا كرم الله وجهه إلى اليمن للقضاء بين الناس، ولان الخلفاء
الراشدين رضي الله عنهم حكموا بين الناس، وبعث عمر رضي الله عنه أبا موسى
الأشعري إلى البصرة قاضيا، وبعث عبد الله بن مسعود إلى الكوفة قاضيا،
ولان الظلم في الطباع فلا بد من حاكم ينصف المظلوم من الظالم فإن لم يكن من
يصلح للقضاء إلا واحد تعين عليه ويلزمه طلبه وإذا امتنع أجبر عليه، لان
الكفاية لا تحصل إلا به، فإن كان هناك من يصلح له غيره نظرت، فإن كان
حاملا وإذا ولى القضاء انتشر علمه استحب أن يطلبه لما يحصل به من المنفعة
بنشر العلم وإن كان مشهورا، فإن كانت له كفاية كرة له الدخول فيه، لما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من استقضى فكأنما ذبح بغير سكين، ولأنه
يلزمه بالقضاء حفظ الأمانات وربما عجز عنه وقصر فيه فكره له الدخول فيه،
وإن كان فقيرا يرجو بالقضاء كفاية من بين المال لم يكره له الدخول فيه، لأنه
125

يكتسب كفاية بسبب مباح، وإن كان جماعة يصلحون للقضاء اختار الامام
أفضلهم وأورعهم وقلده، فإن اختار غيره جاز لأنه تحصل به الكفاية، وإن
امتنعوا من الدخول فيه أثموا لأنه حق وجب عليهم فأثموا بتركه كالأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر، وهل يجوز للامام ان يجبر واحدا منهم على الدخول فيه
أم لا فيه وجهان:
(أحدهما) أنه ليس له إجباره لأنه فرض على الكفاية، فلو أجبرناه عليه
تعين عليه (والثاني) أن له إجباره لأنه إذا لم يجبر بقي الناس بلا قاض وضاعت
الحقوق وذلك لا يجوز.
(فصل) ومن تعين عليه القضاء وهو في كفاية لم يجز أن يأخذ عليه رزقا
لأنه فرض تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه مالا من غير ضرورة، فإن لم يكن
له كفاية فله أن يأخذ الرزق عليه، لان القضاء لا بد منه والكفاية لا بد منها
فجاز أن يأخذ عليه الرزق، فإن لم يتعين عليه فإن كانت له كفاية كره أن يأخذ
عليه الرزق لأنه قربة فكره أخذ الرزق عليها من غير حاجة، فإن أخذ جاز لأنه
لم يتعين عليه، وان لم يكن له كفاية لم يكره أن يأخذ عليه الرزق، لان أبا بكر
الصديق رضي الله عنه لما ولى خرج برزمة إلى السوق، فقيل ما هذا؟ فقال أنا
كاسب أهلي فأجروا له كل يوم درهمين.
وعن عمر رضي الله عنه أنه قال: أنزلت نفسي من هذا المال بمنزلة ولى اليتيم
ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف، وبعث عمر رضي الله عنه
إلى الكوفة عمار بن ياسر واليا وعبد الله بن مسعود قاضيا وعثمان بن
حنيف ماسحا وفرض لهم كل يوم شاة. نصفها وأطرافها لعمار والنصف الآخر
بين عبد الله وعثمان، ولأنه لما جاز للعامل على الصدقات أن يأخذ مالا على
العمالة جاز للقاضي أن يأخذ على القضاء، ويدفع إليه مع رزقه شئ للقرطاس،
لأنه يحتاج إليه لكتب المحاضر ويعطى لمن على بابه من الاجرياء لأنه يحتاج
إليهم لاحضار الخصوم، كما يعطى من يحتاج إليه العامل على الصدقات من العرفاء
ويكون ذلك من سهم المصالح لأنه من المصالح.
(فصل) ولا يجوز أن يكون القاضي كافرا ولا فاسقا ولا عبدا ولا صغيرا
126

ولا معتوها، لأنه إذا لم يجز أن يكون واحد من هؤلاء شاهدا فلان لا يجوز
أن يكون قاضيا أولى، ولا يجوز أن يكون امرأة لقوله صلى الله عليه وسلم:
ما أفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة، ولأنه لا بد للقاضي من مجالسة الرجل
من الفقهاء والشهود والخصوم والمرأة ممنوعة من مجالسة الرجل لما يخاف عليهم
من الافتتان بها ولا يجوز أن يكون أعمى لأنه لا يعرف الخصوم والشهود،
وفى الأخرس الذي يفهم الإشارة وجهان كالوجهين في شهادته، ولا يجوز أن
يكون جاهلا بطرق الأحكام لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: القضاة ثلاثة، قاضيان
في النار وقاض في الجنة، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فحكم به فهو في
الجنة، وأما اللذان في النار فرجل عرف الحق فجار في حكمه فهو في النار،
ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ولأنه إذا لم يجز أن يفتى الناس وهو
لا يلزمهم الحكم، فلان لا يجوز أن لا يقضى بينهم وهو يلزمهم الحكم أولى،
ويكره أن يكون القاضي جبارا عسوفا، وأن يكون ضعيفا مهينا، لان الجبار
يهابه الخصم فلا يتمكن من استيفاء حجته، والضعيف يطمع فيه الخصم ويتشط
عليه، ولهذا قال بعض السلف وجدنا هذا الامر لا يصلحه الا شدة من غير
عنف ولين من غير ضعف.
(فصل) ولا يجوز ولاية القضاء الا بتولية الامام أو تولية من فوض إليه
الامام لأنه من المصالح العظام فلا يجوز الا من جهة الامام، فإن تحاكم رجلان
إلى من يصلح أن يكون حاكما ليحكم بينهما جاز، لأنه تحاكم عمر وأبي بن كعب
إلى زيد بن ثابت، وتحاكم عثمان وطلحة إلى جبير بن مطعم واختلف قوله في
الذي يلزم به حكمه، فقال في أحد القولين لا يلزم الحكم إلا بتراضيهما بعد الحكم
وهو قول المزني رحمه الله تعالى، لأنا لو ألزمناهما حكمه كان ذلك عزلا للقضاة
وافتياتا على الامام، ولأنه لما اعتبر تراضيهما في الحكم اعتبر رضاهما في لزوم
الحكم. والثاني أنه يلزم بنفس الحكم، لان من جاز حكمه لزم حكمه كالقاضي
الذي ولاه الامام، واختلف أصحابنا فيما يجوز فيه التحكيم، فمنهم من قال يجوز
في كل ما تحاكم فيه الخصمان كما يجوز حكم القاضي الذي ولاه الامام، ومنهم من
قال يجوز في الأموال، فأما في النكاح والقصاص واللعان وحد القذف فلا يجوز
127

فيها التحكيم لأنها حقوق بنيت على الاحتياط فلم يجز فيها التحكيم.
(فصل) ويجوز أن يجعل قضاء بلد إلى اثنين وأكثر على أن يحكم كل واحد
منهم في موضع ويجوز أن يجعل إلى أحدهما القضاء في حق وإلى الآخر في حق آخر
وإلى أحدهما في زمان والى الآخر في زمان آخر لأنه نيابة عن الامام فكان على
حسب الاستنابة، وهل يجوز أن يجعل إليهما القضاء في مكان واحد في حق واحد
وزمان واحد فيه وجهان (أحدهما) أنه يجوز لأنه نيابة فجاز أن يجعل إلى اثنين
كالوكالة. والثاني أنه لا يجوز لأنهما قد يختلفان في الحكم فتقف الحكومة ولا
تنقطع الخصومة.
(فصل) ولا يجوز أن يعقد تقلد القضاء على أن يحكم بمذهب بعينه لقوله
عز وجل (فاحكم بين الناس بالحق) والحق ما دل عليه الدليل، وذلك لا يتعين
في مذهب بعينه فإن قلد على هذا الشرط بطلت التولية لأنه علقها على شرط،
وقد بطل الشرط فبطلت التولية.
(فصل) وإذا ولى القضاء على بلد كتب له العهد بما ولى، لان النبي صلى الله عليه وسلم
كتب لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن وكتب أبو بكر الصديق رضي الله عنه
لانس حين بعثه إلى البحرين كتابا وختمه بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى حارثة
ابن مضرب أن عمر كتب إلى أهل الكوفة: أما بعد فإني بعثت إليكم عمارا أميرا
وعبد الله قاضيا ووزيرا، فاسمعوا لهما وأطيعوا فقد آثرتكم بهما، فإن كان البلد
الذي ولاه بعيدا أشهد له على التولية شاهدين ليثبت بهما التولية، وإن كان قريبا
بحيث يتصل به الخبر في التولية ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبي إسحاق أنه
يجب الاشهاد لأنه عقد فلا يثبت بالاستفاضة كالبيع (والثاني) وهو قول أبي سعيد
الإصطخري أنه لا يجب الاشهاد لأنه يثبت بالاستفاضة فلا يفتقر إلى الاشهاد
والمستحب للقاضي أن يسأل عن أمناء البلد ومن فيه من العلماء، لأنه لا بد له
منهم فاستحب تقدم العلم بهم. والمستحب أن يدخل البلد يوم الاثنين، لان
النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الاثنين، والمستحب أن ينزل وسط
البلد ليتساوى الناس كلهم في القرب منه ويجمع الناس ويقرأ عليهم العهد ليعلموا
التولية وما فرض إليه.
128

(فصل) فإذا أذن له من ولاه أن يستخلف فله أن يستخلف، وإن نهاه عن
الاستخلاف لم يجز له أن يستخلف لأنه نائب عنه فتبع أمره ونهيه، وإن لم
يأذن له ولم ينهه نظرت فإن كان ما تقلده يقدر أن يقضى فيه بنفسه ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يجوز أن يستخلف لأنه ينظر في
المصالح فجاز أن ينظر بنفسه وبغيره (والثاني) وهو المذهب انه لا يجوز لان الذي
ولاه لم يرض بنظر غيره، وإن كان ما ولاه لا يقدر أن يقضى فيه بنفسه لكثرته
جاز أن يستخلف فيما لا يقدر عليه، لان تقليده لما لا يقدر عليه بنفسه إذن له
في الاستخلاف فيما لا يقدر عليه كما أن توكيل الوكيل فيما لا يقدر عليه بنفسه
إذن له في استنابة غيره، وهل له ان يستخلف فيما يقدر عليه ان يقضى فيه بنفسه
فيه وجهان (أحدهما) أن له ذلك لان ما جاز له أن يستخلف في البعض جاز أن
يستخلف في الجميع كالامام (والثاني) أنه لا يجوز لأنه إنما أجيز له أن يستخلف
فيما لا يقدر عليه للعجز فوجب أن يكون مقصورا على ما عجز عنه.
(فصل) ولا يجوز أن يقضى ولا يولى ولا يسمع البينة ولا يكاتب قاضيا
في حكم في غير عمله، فإن فعل شيئا من ذلك في غير عمله لم يعتد به لأنه لا ولاية
له في غير عمله فكان حكمه فيما ذكرناه حكم الرعية.
(فصل) ولا يحكم لنفسه وإن اتفقت له حكومة مع خصم تحاكما فيها إلى
خليفة له لان عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحاكم مع أبي بن كعب إلى زيد بن
ثابت وتحاكم عثمان رضي الله عنه مع طلحة إلى جبير بن مطعم، وتحاكم علي عليه
السلام مع يهودي في درع إلى شريح، ولأنه لا يجوز أن يكون شاهدا لنفسه فلا
يجوز أن يكون حاكما لنفسه ولا يجوز أن يحكم لوالده وإن علا ولا لولده وان سفل
وقال أبو ثور يجوز، وهذا خطأ لأنه متهم في الحكم لهما كما يتهم في الحكم لنفسه
وان تحاكم إليه والده مع ولده فحكم لأحدهما فقد قال بعض أصحابنا انه يحتمل وجهين
(أحدهما) أنه لا يجوز كما لا يجوز إذا حكم له مع أجنبي (والثاني) أنه يجوز
لأنهما استويا في التعصيب فارتفعت عنه تهمة الميل، وان أراد أن يستخلف في
أعماله والده وولده جاز لأنهما يجريان مجرى نفسه، ثم يجوز أن يحكم في أعماله
فجاز أن يستخلفهما للحكم في أعماله، وأما إذا فوض الامام إلى رجل ان يختار
129

قاضيا لم يجز أن يختار والده أو ولده لأنه لا يجوز أن يختار نفسه فلا يجوز أن
يختار والده أو ولده.
(فصل) ولا يجوز أن يرتشي على الحكم لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم، ولأنه أخذ مال على حرام فكان حرام
كمهر البغي، ولا يقبل هدية ممن لم يكن له عادة أن يهدى إليه قبل الولاية لما روى
أبو حميد الساعدي قال: استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من بنى أسد يقال له
ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدى إلي، فقام النبي صلى الله عليه وسلم
على المنبر فقال: ما بال العامل نبعثه على بعض أعمالنا فيقول هذا لكم وهذا أهدى
إلي: ألا جلس في بيت أبيه أو أمه فينظر أيهدى إليه أم لا، والذي نفسي بيده
لا يأخذ أحد منها شيئا الا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، فدل على أن ما أهدى
إليه بعد الولاية لا يجوز قبوله، وأما من كانت له عادة بأن يهدى إليه قبل الولاية
برحم أو مودة فإنه إن كانت له في الحال حكومة لم يجز قبولها منه لأنه لا يأخذ
في حال يتهم فيه وإن لم يكن له حكومة فإن كان أكثر مما كان يهدى إليه أو أرفع منه
لم يجز له قبولها لان الزيادة حدث بالولاية، وان لم يكن أكثر ولا أرفع مما
كان يهدى إليه جاز قبولها لخروجها عن تسبب الولاية والأولى أن لا يقبل لجواز
أن يكون قد أهدى إليه لحكومة منتظرة.
(فصل) ويجوز أن يحضر الولائم لان الإجابة إلى وليمة غير العرس مستحبة
وفى وليمة العرس وجهان (أحدهما) أنها فرض على الأعيان (والثاني) أنها فرض
على الكفاية، ولا يخص في الإجابة قوما دون قوم لان في تخصيص بعضهم ميلا
وتركا للعدل، فإن كثرت عليه وقطعته عن الحكم ترك الحضور في حق الجميع لان
الإجابة إلى الوليمة اما أن تكون سنة أو فرضا على الكفاية أو فرضا على الأعيان
الا أنه لا يستضر بتركها جميع المسلمين والقضاء فرض عليه ويستضر بتركه جميع
المسلمين فوجب تقديم القضاء.
(فصل) ويجوز أن يعود المرضى ويشهد الجنائز ويأتي مقدم الغائب لقوله
صلى الله عليه وسلم: عائد المريض في مخرف من مخارف الجنة حتى يرجع وعاد
النبي صلى الله عليه وسلم سعدا وجابرا وعاد غلاما يهوديا في جواره وعرض عليه الاسلام
130

فأجاب، وكان يصلى على الجنائز فإن كثرت عليه أتى من ذلك ما لا يقطعه عن
الحكم، والفرق بينه وبين حضور الولائم حيث قلنا إنها إذا كثرت عليه ترك
الجميع أن الحضور في الولائم لحق أصحابها فإذا حضر عند بعضهم كان ذلك للميل
إلى من يحضره، والحضور في هذه الأشياء لطلب الثواب لنفسه فلم يترك ما قدر عليه
(فصل) ويكره أن يباشر البيع والشرع بنفسه لما روى أبو الأسود المالكي
عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما عدل وال اتجر في رعيته
أبدا، وقال شريح: شرط على عمر رضي الله عنه حين ولاني القضاء أن لا أبيع
ولا أبتاع ولا أرتشي ولا أقضى وأنا غضبان، ولأنه إذا باشر ذلك بنفسه لم
يؤمن أن يحابى فيميل إلى من حاباه، فإن احتاج إلى البيع والشراء وكل من
ينوب عنه ولا يكون معروفا به، فان عرف أنه وكيله استبدل بمن لا يعرف به
حتى لا يحابى فتعود المحاباة إليه، فإن لم يجد من ينوب عنه تولى بنفسه، لأنه
لا بد له منه، فإذا وقعت لمن بايعه حكومة استخلف من يحكم بينه وبين خصمه
لأنه إذا تولى الحكم بنفسه لم يؤمن أن يميل إليه.
(فصل) ولا يقضى في حال الغضب ولا في حال الجوع والعطش ولا في حال الحزن والفرح، ولا يقضى والنعاس يغلبه ولا يقضى والمرض يقلقه ولا
يقضى وهو بدافع الأخبثين ولا يقضى وهو في حر مزعج ولا في رد مؤلم لما روى
أبو بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ينبغي للقاضي أن يقضى بين اثنين وهو غضبان
وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا يقضى القاضي إلا وهو شبعان ريان، ولان في هذه الأحوال يشتغل
قبله فلا يتوفر على الاجتهاد في الحكم، وان حكم في هذه الأحوال صح حكمه
لان الزبير ورجلا من الأنصار اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
شراج الحرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير اسق زرعك ثم أرسل
الماء إلى جارك، فقال الأنصاري: وأن كان ابن عمتك يا رسول الله فغضب
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، ثم قال للزبير اسق زرعك والحبس الماء
حتى يبلغ الجدر ثم أرسله إلى جارك فحكم في حال الغضب.
131

(فصل) والمستحب أن يجلس للحكم في موضع بارز يصل إليه كل أحد
ولا يحتجب من غير عذر، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ولى
من أمر الناس شيئا فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم احتجب الله دون فاقته وفقره
والمستحب أن يكون المجلس فسيحا حتى لا يتأذى بضيقه الخصوم ولا يزاحم فيه
الشيخ والعجوز وأن يكون موضعا لا يتأذى فيه بحر أو برد أو دخان أو رائحة
منتنة، لان عمر رضي الله عنه كتب إلى أبى موسى الأشعري رضي الله عنه
وإياك والقلق والضجر، وهذه الأشياء تفضى إلى الضجر وتمنع الحاكم من
التوفر على الاجتهاد وتمنع الخصوم من استيفاء الحجة فإن حكم مع هذه الأحوال
صح الحكم كما يصح في حال الغضب، ويكره أن يجلس للقضاء في المسجد لما روى
معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال جنبوا مساجدكم صبيانكم
ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم وحدودكم وسل سيوفكم وشراءكم
وبيعكم، ولان الخصومة يحضرها اللغط والسفه فينزه المسجد عن ذلك، ولأنه
قد يكون الخصم جنبا أو حائضا فلا يمكنه المقام في المسجد للخصومة، فإن
جلس في المسجد لغير الحكم فحضر خصمان لم يكره أن يحكم بينهما، لما روى
الحسن البصري قال: دخلت المسجد فرأيت عثمان رضي الله عنه قد ألقى رداءه
ونام فأتاه سقاء بقربة ومعه خصم فجلس عثمان وقضى بينهما، وإن جلس في
البيت لغير الحكم فحضره خصمان لم يكره أن يحكم بينهما، لما روت أم سلمة
رضي الله عنها قالت اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان من
الأنصار في مواريث متقادمة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في بيتي.
(فصل) وان احتاج إلى أجرياء لاحضار الخصوم اتخذ أجرياء أمناء
ويوصيهم بالرفق بالخصوم، ويكره أن يتخذ حاجبا، لأنه لا يؤمن أن يمنع من
له ظلامة أو يقدم خصما على خصم، فان دعت الحاجة إلى ذلك اتخذ أمينا بعيدا
من الطمع ويوصيه بما يلزمه من تقديم من سبق من الخصوم ولا يكره للامام
أن يتخذ حاجبا. لان يرفأ كان حاجب عمر والحسن البصري كان حاجب عثمان
وقنبر كان حاجب علي عليه السلام، ولان الامام ينظر في جميع المصالح فتدعوه
الحاجة إلى أن يجعل لكل مصلحة وقتا لا يدخل فيه كل أحد.
132

(فصل) ويستحب أن يكون له حبس، لان عمر رضي الله عنه اشترى
دارا بمكة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجنا واتخذ علي عليه السلام سجنا وحبس
عمر رضي الله عنه الحطيئة الشاعر فقال:
ماذا تقول لافراخ بذى مرخ * حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة * فارحم عليك سلام الله يا عمر
فخلاه وحبس عمر آخر فقال:
يا عمر الفاروق طال حبسي * ومل منى إخوتي وعرسي
في حدث لم تقترفه نفسي * والامر أضوأ من شعاع الشمس
ولأنه يحتاج إليه للتأديب ولاستيفاء الحق من المماطل بالدين، ويستحب أن
يكون له درة للتأديب، لان عمر رضي الله عنه كانت له درة يؤدب بها الناس.
(فصل) وان احتاج إلى كتاب اتخذ كاتبا، لان النبي صلى الله عليه وسلم
كان له كتاب منهم علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما ومن شرطه
أن يكون عارفا بما يكاتب به القضاة من الأحكام وما يكتبه من المحاضر والسجلات
لأنه إذا لم يعرف ذلك أفسد ما يكتبه بجهله وهل من شرطه أن يكون مسلما
عدلا فيه جهان.
(أحدهما) أن ذلك شرط فلا يجوز أن يكون كافرا لان أبا موسى الأشعري
قدم على عمر رضي الله عنه ومعه كاتب نصراني فانتهره عمر رضي الله عنه وقال
لا تأمنوهم وقد خونهم الله ولا تدنوهم وقد أبعدهم الله ولا تعزوهم وقد أذلهم
الله، ولان الكافر عدو للمسلمين فلا يؤمن أن يكتب ما يبطل به حقوقهم،
ولا يجوز أن يكون فاسقا، لأنه لا يؤمن أن يخون.
(والوجه الثاني) أن ذلك يستحب، لان ما يكتبه لا بد أن يقف عليه
القاضي ثم يمضيه فيؤمن فيه من الخيانة.
(فصل) ولا يتخذ شهودا معينين لا تقبل شهادة غيرهم، لان في ذلك
133

تضييقا على الناس وإضرارا بهم في حفظ حقوقهم، ولان شروط الشهادة
لا تختص بالمعينين فلم يجن تخصيصهم بالقول.
(فصل) ويتخذ قوما من أصحاب المسائل ليتعرف بهم أحوال من جهلت
عدالته من الشهود، وينبغي أن يكونوا عدولا برآء من الشحناء بينهم وبين
الناس بعداء من العصبية في نسب أو مذهب حتى لا يحملهم ذلك على جرح عدل
أو تزكية غير عدل وان يكونوا وافري العقول ليصلوا بوفور عقولهم إلى
المطلوب ولا يسترسلوا فيسألوا عدوا أو صديقا، لان العدو يظهر القبيح ويخفى
الجميل والصديق يظهر الجميل ويخفى القبيح، وإن شهد عنده شاهد نظرت، فإن
علم عدالته قبل شهادته، وإن علم فسقه لم يقبل شهادته ويعمل في العدالة والفسق
بعلمه، وإن جهل إسلامه لم يحكم حتى يسأل عن إسلامه ولا يعمل في إسلامه
بظاهر الدار كما يعلم في إسلام اللقيط بظاهر الدار، لان أعرابيا شهد عند
النبي صلى صلى الله عليه وسلم برؤية الهلال فلم يحكم بشهادته حتى سأل عن إسلامه،
ولأنه يتعلق بشهادته إيجاب حق على غيره فلا يعمل فيه بظاهر الدار ويرجع
في إسلامه إلى قوله، لان النبي صلى الله عليه وسلم رجع إلى قول الاعرابي وان
جهل حريته ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو ظاهر النص أنها تثبت بقوله، لأن الظاهر من الدار حرية
أهلها كما أن الظاهر من الدار اسلام أهلها ثم يثبت الاسلام بقوله فكذلك الحرية
(والثاني) وهو الأظهر أنها لا تثبت بقوله، والفرق بينها وبين الاسلام
أنه يملك الاسلام إذا كان كافرا فقبل اقراره به ولا يملك الحرية إذا كان عبدا
فلم يقبل اقراره بها، وان جهل عدالته لم يحكم حتى تثبت عدالته لقوله تعالى
(فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء) ولا يعلم أنه
مرضى قبل السؤال.
وروى سليمان عن حريث قال: شهد رجل عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه
، فقال له عمر رضي الله عنه انى ليست أعرفك ولا يضرك انى لا أعرفك
فأتني بمن يعرفك، فقال رجل أنا أعرفه يا أمير المؤمنين فقال بأي شئ تعرفه
134

قال بالعدالة، قال هو جارك الأدنى تعرف ليله ونهاره ومدخله ومخرجه، قال
لا، قال فمعاملك بالدينار والدرهم اللذين يستدل بهما على الورع، قال لا، قال
فصاحبك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق، قال لا قال لست
تعرفه، ثم قال للرجل ائتني بمن يعرفك، ولأنه لا يؤمن أن يكون فاسقا فلا
يحكم بشهادته.
وإن أراد أن يعرف عدالته كتب اسمه ونسبه وحليته وصنعته وسوقه ومسكنه
حتى لا يشتبه بغيره، ويذكر من يشهد له حتى لا يكون ممن لا تقبل شهادته له
من والد أو ولد، ويذكر من يشهد عليه حتى لا يكون عدوا لا تقبل شهادته
عليه، ويذكر قدر ما يشهد به. لأنه قد يكون ممن يقبل قوله في قليل ولا يقبل
قوله في كثير، ويبعث ما يكتبه مع أصحاب المسائل، ويجتهد أن لا يكون أصحاب
المسائل معروفين عند المشهود له حتى لا يحتال في تعديل الشهود ولا عند المشهود عليه
حتى لا يحتال في جرح الشهود ولا عند الشهود حتى لا يحتالوا في تعديل أنفسهم
ولا عند المسؤولين عن الشهود حتى لا يحتال لهم الأعداء في الجرح ولا الأصدقاء
في التعديل، ويجتهد أن لا يعلم أصحاب المسائل بعضهم ببعض فيجمعهم الهوى
على التواطؤ على الجرح والتعديل.
قال الشافعي رحمه الله: ولا يثبت الجرح والتعديل إلا باثنين، ووجهه أنه
شهادته فاعتبر فيها العدد.
واختلف أصحابنا هل يحكم القاضي في الجرح والتعديل بأصحاب المسائل أو
بمن عدل أو جرح من الجيران، فقال أبو إسحاق يحكم بشهادة الجيران لأنهم
يشهدون بالجرح والتعديل، فعلى هذا يجوز أن يقتصر على قول الواحد من
أصحاب المسائل، ويجوز بلفظ الخبر ويسمى للحاكم من عدل أو جرح، ثم
يسمع الشهادة بالتعديل والجرح من الجيران على شرط الشهادة في العدد
ولفظ الشهادة.
وحمل قول الشافعي رحمه الله في العدد على الجيران. وقال أبو سعيد
الإصطخري يحكم بشهادة أصحاب المسائل وهو ظاهر النص لان الجيران لا يلزمهم
الحضور للشهادة بما عندهم فحكم بشهادة أصحاب المسائل، فعلى هذا لا يجوز
135

أن يكون أصحاب المسائل أقل من اثنين ويجوز أن يكون من يخبرهم من الجيران
واحدا إذا وقع في نفوسهم صدقه، ويجب أن يشهد أصحاب المسائل عند الحاكم
على شرط الشهادة في العدد ولفظ الشهادة. وحمل قول الشافعي رحمه الله تعالى
في العدد على أصحاب المسائل.
وإن بعث اثنين فعادا بالجرح حكم بالجرح وان عادا بالتعديل حكم بالتعديل
وان عاد أحدهما بالتعديل وعاد الآخر بالجرح لم يحكم بقول واحد منهما في جرح
ولا تعديل ويبعث ثالثا، فإن عاد بالجرح كملت بينة الجرح، وان عاد بالتعديل
كملت بينة التعديل، وان شهد اثنان بالجرح واثنان بالتعديل حكم بالجرح لان
شاهدي الجرح يخبران عن أمر باطن وشاهدي العدالة يخبران عن أمر ظاهر،
فقدم من يخبر بالباطن، كما لو شهد اثنان بالاسلام وشهد آخران بالردة.
وان شهد اثنان بالجرح وشهد ثلاثة بالعدالة قدمت بينة الجرح، لان بينة
الجرح كملت فقدمت على بينة التعديل، ولا يقبل الجرح إلا مفسرا، وهو أن
يذكر السبب الذي به جرح، ولان الناس يختلفون فيما يفسق به الانسان،
ولعل من شهد بفسقه شهد على اعتقاده والحاكم لا يعتقد أن ذلك فسق والجرح
والتعديل إلى رأى الحاكم فوجب بيانه لينظر فيه، ولا يشهد بالجرح من يشهد
من الجيران وأهل الخبرة إلا أن يعلم الجرح بالمشاهدة في الافعال كالسرقة وشرب
الخمر أو بالسماع في الأقوال كالشتم والقذف والكذب وإظهار ما يعتقده من البدع
أو استفاض عنه ذلك بالخبر لأنه شهادة على علم.
فأما إذا قال بلغني أو قيل لي انه يفعل أو يقول أو يعتقد لم يجز أن يشهد
به لقوله تعالى (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون)
قال الشافعي رحمه الله: ولا تقبل الشهادة بالتعديل حتى يقول هو عدل على
ولى، فمن أصحابنا من قال يكفي أن يقول هو عدل، وهو قول أبي سعيد
الإصطخري، لان قوله عدل يقتضى أنه عدل عليه وله، وما ذكره الشافعي
رحمه الله تعالى ذكره على سبيل الاستحباب، منهم من قال لا يقبل حتى يقول
عدل لي وعلى، وهو قول أبي إسحاق، لان قوله عدل لا يقتضى العدالة على
136

الاطلاق لأنه قد يكون عدلا في شئ دون شئ، وإذا قال عدل على ولى دل على
العدالة على الاطلاق.
(فصل) ولا يقبل التعديل إلا ممن تقدمت معرفته وطالت خبرته بالشاهد
لان المقصود معرفة العدالة في الباطن، ولا يعلم ذلك ممن لم يتقدم به معرفته،
ويقبل الجرح من تقدمت معرفته به وممن لم يتقدم معرفته، لأنه لا يشهد في
الجرح إلا بما شاهد أو سمع أو استفاض عنه وبذلك يعلم فسقه.
(فصل) وإن شهد مجهول العدالة فقال المشهود عليه هو عدل ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يجوز للحاكم أن يحكم بشهادته لان البحث عن العدالة لحق المشهود
عليه وهو قد شهد له بالعدالة (والثاني) أنه لا يحكم لان حكمه بشهادته حكم
بتعديله وذلك لا يجوز بقول الواحد، ولان اعتبار العدالة في الشاهد حق لله
تعالى، ولهذا لو رضى المشهود عليه بشهادة الفاسق لم يجز للحاكم أن يحكم بشهادته
(فصل) وإن ثبت عدالة الشاهد ومضى على ذلك زمان ثم شهد عند الحاكم
بحق نظرت فإن كان بعد زمان قريب حكم بشهادته ولم يسأل عن عدالته، وإن كان
بعد زمان طويل ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يحكم بشهادته لان الأصل بقاء العدالة.
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق أنه لا يحكم بشهادته حتى يعيد السؤال عن
عدالته لأنه مع طول الزمان يتغير الحال.
(فصل) وإن شهد عنده شهود وارتاب بهم فالمستحب أن يسألهم عن تحمل
الشهادة ويفرقهم ويسأل كل واحد منهم على الانفراد عن صفة التحمل ومكانه
وزمانه، لما روى أن أربعة شهدوا على امرأة بالزنا عند دانيال ففرقهم وسألهم
فاختلفوا فدعا عليهم فنزلت عليهم نار من السماء فأحرقتهم.
وإن فرقهم فاختلفوا سقطت شهادتهم وان اتفقوا وعظهم لما روى أبو حنيفة
رحمه الله قال: كنت جالسا عند محارب بن دثار، وهو قاضى الكوفة، فجاءه
رجل فادعى على رجل حقا فأنكره، فأحضر المدعى شاهدين فشهدا له، فقال
المشهود عليه والذي تقوم به السماوات والأرض لقد كذبا على في الشهادة،
وكان محارب بن دثار متكئا فاستوى جالسا وقال: سمعت ابن عمر يقول: سمعت
137

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الطير لتخفق بأجنحتها وترمى بما في
حواصلها من هول يوم القيامة، وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ
مقعده من النار، فإن صدقتما فأثبتا، وان كذبتما فغطيا على رؤوسكما وانصرفا،
فغطيا رؤوسهما وانصرفا.
(فصل) والمستحب أن يحضر مجلسه الفقهاء ليشاورهم فيما يشكل لقوله تعالى
(وشاورهم في الامر) قال الحسن: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
مشاورتهم لغنيا، ولكن أراد الله تعالى أن يستسن بذلك الحكام، ولان النبي
صلى الله عليه وسلم شاور في أسارى بدر، فأشار أبو بكر بالفداء وأشار عمر
رضي الله عنه بالقتل.
وروى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر رضي الله عنه كان إذا نزل
به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي والفقه دعا رجالا من المهاجرين ورجالا
من الأنصار، ودعا عمر وعثمان وعليا وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل
وأبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم، فمضى أبو بكر على ذلك ثم ولى
عمر رضي الله عنه وكان يدعو هؤلاء النفر فإن اتفق أمر مشكل شاورهم فيه،
فإن اتضح له الحق حكم به، فإن لم يتضح أخره إلى أن يتضح، ولا يقلد غيره
لأنه مجتهد فلا يقلد.
وقال أبو العباس: إن ضاق الوقت وخاف الفوت بأن يكون الحكم بين
مسافرين وهم على الخروج قلد غيره وحكم كما قال في القبلة إذا خاف فوت الصلاة
وقد بينا ذلك في كتاب الصلاة.
وان اجتهد فأداه اجتهاده إلى حكم فحكم به، ثم بان له أنه أخطأ، فإن كان
ذلك بدليل مقطوع به كالنص والاجماع والقياس الجلي نقض الحكم لقوله تعالى
(وأن احكم بينهم بما أنزل الله) ولما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال:
ردوا الجهالات إلى السنة وكتب إلى أبى موسى: لا يمنعنك قضاء قضيت به ثم
راجعت فيه نفسك فهديت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم لا يبطله
شئ، وان الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل، ولأنه مفرط في حكمه
غير معذور فيه فوجب نقضه.
138

(فصل) وان ولى قضاء بلد وكان القاضي قبله لا يصلح القضاء نقض أحكامه
كلها أصاب فيها أو أخطأ لأنه حكم ممن لا يجوز له القضاء فوجب نقضه كالحكم
من بعض الرعية، وإن كان يصلح القضاء لم يجب عليه أن يتتبع أحكامه لأن الظاهر
أنها صحيحة، فإن أراد أن يتتبعها من غير متظلم فهل يجوز له ذلك أم لا
فيه وجهان (أحدهما) وهو اختيار الشيخ أبى حامد الأسفرايني أنه يجوز لان
فيه احتياطا (والثاني) أنه لا يجوز لأنه يشتغل بماض لا يلزمه عن مستقبل
يلزمه، وإن تظلم منه متظلم فإن سأل احضاره لم يحضره حتى يسأله عما بينهما،
لأنه ربما قصد أن يبتذله ليحلف من غير حق.
وإن قال لي عليه مال من معاملة أو غصب أو إتلاف أو رشوة أخذها منه
على حكم أحضره. وان قال حكم على بشهادة عبدين أو فاسقين ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يحضره كما يحضره إذا ادعى عليه مالا (والثاني) أنه لا يحضره
حتى يقيم بينة بما يدعيه لأنه لا تتعذر إقامة البينة على الحكم، فإن حضر وقال
ما حكمت عليه إلا بشهادة حرين عدلين فالقول قوله لأنه أمين، وهل يحلف؟
فيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يحلف لأنه عدل
والظاهر أنه صادق.
(والثاني) أنه يحلف لأنه أمين ادعى عليه خيانة فلم يقبل قوله من غير
يمين كالمودع إذا ادعى عليه خيانة وأنكرها. وان قال جار على في الحكم نظرت
فإن كان ما حكم به مما لا يسوغ فيه الاجتهاد نقضه كما ينقض على نفسه إذا حكم
بمن لا يسوغ فيه الاجتهاد، وإن كان مما يسوغ فيه الاجتهاد كثمن الكلب وضمان
ما أتلف على الذمي من الخمر لم ينقضه كما لا ينقض على نفسه ما حكم فيه مما يسوغ
فيه الاجتهاد، لأنا لو نقضنا ما يسوغ فيه الاجتهاد لم يستقر لاحد حق ولا
ملك لأنه كلما ولى حاكم نقض ما حكم به من قبله فلا يستقر لاحد حق ولا ملك
(فصل) وإذا خرج إلى مجلس الحكم فالمستحب له أن يدعو بدعاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو ماروت أم سلمة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته يقول: اللهم إني أعوذ بك من أن أزل أو
أزل أو أضل أو أضل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل على،
139

والمستحب أن يجلس مستقبل القبلة لقوله صلى الله عليه وسلم خير المجالس
ما استقبل به القبلة، ولأنه قربة فكانت جهة القبلة فيها أولى كالاذان.
والمستحب أن يقعد وعليه السكينة والوقار من غير جبرية ولا استكبار
لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وهو متكئ على يساره فقال
هذه جلسة المغضوب عليهم ويترك بين يديه القمطر مختوما ليترك فيه ما يجتمع
من المحاضر والسجلات ويجلس الكاتب بقربه ليشاهد ما يكتبه فإن غلط في
شئ رده عليه.
(فصل) والمستحب أن يبدأ في نظره بالمحبسين لان الحبس عقوبة وعذاب
وربما كان فيهم من تجب تخليته فاستحب البداية بهم ويكتب أسماء المحبسين
وينادى في البلدان القاضي يريد النظر في أمر المحبسين في يوم كذا فليحضر من
له محبوس، فإذا حضر الخصوم أخرج خصم كل واحد منهم، فإن وجب إطلاقه
أطلقه، وإن وجب حبسه أعاده إلى الحبس، فان قال المحبوس حبست على دين
وأنا معسر، فإن ثبت إعساره أطلق، وإن لم يثبت إعساره أعيد إلى الحبس،
فإن ادعى صاحب الدين أن له دارا وأقام على ذلك البينة فقال المحبوس هي لزيد
سئل زيد، فإن أكذبه بيعت الدار وقضى الدين، لان إقراره يسقط بإكذابه
وإن صدقه زيد نظرت، فإن أقام زيد بينة أن الدار له حكم له بالدار ولم تبع
في الدين، لان له بينة وبدا بإقرار المحبوس ولصاحب الدين بينة من غير يد
فقدمت بينة زيد، وإن لم يكن لزيد بينة ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يحكم بها لزيد ولا تباع في الدين لان بينة صاحب الدين بطلت
بإكذاب المحبوس وبقى إقرار المحبوس بالدار لزيد.
(والثاني) أنه لا يحكم بها لزيد وتباع في الدين، لان بينة صاحب الدين
شهدت للمحبوس بالملك وله بقضاء الدين من ثمنها فإذا أكذبها المحبوس سقطت
البينة في حقه ولم تسقط في حق صاحب الدين.
(فصل) ثم ينظر في أمر الأوصياء والامناء لأنهم يتصرفون في حق من
لا يملك المطالبة بماله وهم الأطفال فإذا ادعى رجل أنه وصى للميت لم يقبل قوله
140

إلا ببينة، لان الأصل عدم الوصية، فإن أقام على ذلك بينة، فإن كان عدلا
قويا أقر على الوصية، وإن كان فاسقا لم يقر على الوصية، لان الوصية ولاية
والفاسق ليس من أهل الولاية، وإن كان عدلا ضعيفا ضم إليه غيره ليتقوى به
وإن أقام بينة أن الحاكم الذي كان قبله أنفذ الوصية إليه أقره ولم يسأل عن عدالته
لأن الظاهر أنه لم ينفذ الوصية إليه إلا وهو عدل، فإن كان وصيا في تفرقة ثلثه
فإن لم يفرقه فالحكم في إقراره على الوصية على ما ذكرناه، وإن كان قد فرقه
فإن كان عدلا لم يلزمه شئ، وإن كان فاسقا، فإن كانت الوصية لمعينين لم يلزمه
شئ لأنه دفع الموصى به إلى مستحقه، وإن كانت الوصية لغير معينين ففيه وجهان
(أحدهما) أنه لا يغرم، لأنه دفع المال إلى مستحقه فأشبه إذا كانت
الوصية لمعينين.
(والثاني) أنه يغرم ما فرقه، لأنه فرق ما لم يكن له تفرقته فغرمه كما لو فرق
ما جعل تفرقته إلى غيره.
(فصل) ثم ينظر في اللقطة والضوال وأمر الأوقاف العامة وغيرها
من المصالح ويقدم الأهم فالأهم لأنه ليس لها مستحق معين فتعين على الحاكم
النظر فيها.
(الشرح) حديث بعث عليا، رواه أبو داود والحاكم وابن ماجة والبزار
والترمذي وفى طرقه مقال.
أثر بعث أبا موسى الأشعري، رواه البيهقي.
أثر بعث عبد الله بن مسعود، رواه البيهقي.
حديث (من استقضى....) أخرجه أصحاب السنن والحاكم والبيهقي من
حديث أبي هريرة، وأعله ابن الجوزي فقال هذا حديث لا يصح، قال الحافظ
وليس كما قال وكفاه قوة تخريج النسائي ولفظه (من جعل قاضيا بين الناس فقد
ذبح بغير سكين).
أثر أبى بكر (لما استقضى خرج برزمة..) روى ابن مسعود بسند
صحيح إلى ميمون الجزري قال: لما استحلف أبو بكر جعلوا له ألفين قال زيدوني
141

فإن لي عيالا وقد شغلتموني عن التجارة فزادوه خمسمائة) أخرجه البيهقي.
أثر عمر (أنزلت نفسي..) لم أجده وروى البخاري عن عائشة أن عمر
لما استخلف أكل هو هو وأهله من المال واحترف في مال نفسه.
أثر عمر (بعث عمار وعبد الله بن مسعود..) أخرجه البيهقي.
حديث (ما أفلح قوم ولو أمرهم..) أخرجه البخاري من حديث أبي بكرة
(لن يفلح قوم وليتهم امرأة).
أثر (تحاكم عمر وأبي بن كعب...) أخرجه البيهقي عن الشعبي (كان بين
عمر وأبى خصومة في حائط، فقال عمر بيني وبينك زيد بن ثابت فانطلقا فطرق
عمر الباب فعرف زيد صوته فقال: يا أمير المؤمنين ألا بعثت إلى حتى آتيك؟
فقال في بيته يؤتى الحكم).
أثر (تحاكم عثمان وطلحة..) أخرجه البيهقي من رواية ابن أبي مليكة (أن
عثمان ابتاع من طلحة أرضا بالمدينة بأرض له بالكوفة ثم ندم عثمان فقال بعتك
ما لم أره، فقال طلحة إنما النظر لي لأنك بعث ما رأيت وأنا ابتعت مغيبا،
فجعلا بينهما جبير بن مطعم حكما، فقضى أن البيع جائز وأن النظر لطلحة لأنه
ابتاع مغيبا).
حديث (كتاب عمرو بن حزم..) رواه مالك والشافعي وعبد الرزاق
والدارقطني عن معمر، وأبو داود والنسائي عن الزهري مرسلا وابن حبان
والحاكم والبيهقي موصولا، وفرقه الدارمي في مسنده، وقد اختلف أهل
الحديث في صحته، فقال أبو داود لا يصح، وقال ابن حزم صحيفة عمرو بن حزم
منقطعة لا تقوم بها حجة، وسليمان بن داود من الرواة لها متفق على تركه،
وقال عبد الحق عنه ضعيف، وقال أبو زرعة عرضته على أحمد فقال ليس بشئ
ووثق بن حبان سليمان بن داود الخولاني الراوي عن الزهري، وقال ليس هو
الحراني، قال الحافظ: ولولا أن الحكم بن موسى وهم في قوله سليمان بن داود
وإنما هو سليمان بن الأرقم لكان لكلامه وجه صحيح، وصححه الحاكم والبيهقي
وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور يستغنى بشهرته عن الاسناد.
(قلت) وما كان لمثل هذا الحافظ بن عبد البر الذي شهد ابن حزم لكتابه
142

التمهيد أن يقول مثل هذا فما يترك السند تصحح الأحاديث وقال العقيلي حديث
ثابت محفوظ إلا أنا نرى أنه كتاب مسموع عمن فوق الزهري.
أثر (كتب عمر إلى أهل الكوفة) أخرجه البيهقي.
حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الاثنين، أخرجه
البخاري عن عائشة في حديث الهجرة.
أثر تحاكم على ويهودي إلى شريح أخرجه الحاكم في ترجمه أبى سمير وقال
منكر، وأورده ابن الجوزي في العلل وقال لا يصح، تفرد به أبو سمير وأخره
البيهقي، وفيه عمرو بن شمر عن جابر الجعفي وهما ضعيفان، وقال ابن الصلاح
لم أجد له اسناد، وقال ابن عسكر في الكلام على أحاديث المهذب اسناده مجهول
حديث لعن الله الراشي. أخرجه أحمد والترمذي وابن حبان وابن ماجة،
وفى اسناده مقال في بعض الروايات.
حديث استعمل ابن اللتبية على الصدقة. متفق عليه وغيرهما.
حديث عائد المريض في مخرفة. أخرجه البزار عن عبد الرحمن بن عوف
حديث عاد صلى الله عليه وسلم سعدا وغلاما يهوديا. البيهقي
حديث ما عدل وال اتجر. الحاكم في الكنى عن رجل
أثر شريح شرط على عمر أن لا أبيع قال الحافظ لم أجده، وروى البيهقي
في السنن ص 107 ج 10 المصورة (أن تجارة الأمير في إمارته خسارة)
حديث لا ينبغي القاضي أن يقضى. متفق عليه من حديث أبي بكرة، ورواه
ابن ماجة بلفظ (لا يقضى حكم بين اثنين وهو غضبان) وفى رواية مسلم
لا يحكمن حكم بين اثنين وهو غضبان) وفى أخرى (لا يقضى القاضي بين
اثنين وهو غضبان).
حديث لا يقضى القاضي وهو شبعان. أخرجه الطبراني في الأوسط
والحارث في مسنده والدارقطني والبيهقي من حديث أبي سعيد وفيه القاسم
العمرى وهو منهم بالوضع.
حديث من ولى شيئا من أمر الناس. أخرجه أبو داود والحاكم من حديث
143

القاسم بن مخيمرة عن أبي مريم ورواه أحمد والترمذي عن عمر وبن مرة الجهني
ورواه الطبراني في الكبير عن ابن عباس، وقال أبو حاتم في العلل: هذا
حديث منكر.
أثر كتب عمر إلى أبى موسى إياك والضجر. أخرجه البيهقي.
حديث جنبوا مساجدكم صبيانكم. أخرجه ابن ماجة من حديث مكحول
وواثلة به وأتم منه والبيهقي كذلك وقال ليس بصحيح، وقال ابن الجوزي حديث
لا يصح، ورواه البزار وقال ليس له أصل من حديث ابن مسعود، وله طريق
أخرى عن أبي هريرة واهية.
أثر رأى عثمان نام في المسجد وأتاه سقاء بقربة. أخرجه البيهقي
حديث أم سلمة اختصم رجلان أخرجه البيهقي.
أثر كان يرفأ حاجب عمر. أخرجه البيهقي.
أثر اشترى عمر دار وجعلها سجنا. أخرجه البيهقي.
وروى الخمسة إلا ابن ماجة عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم
حبس رجلا في تهمة ثم خلى عنه.
كتاب النبي صلى الله عليه وسلم على.. أخرجه البخاري تعليقا ووصله أبو داود
عن زيد بن ثابت.
أثر أبى موسى في استعمال كاتبا نصرانيا. رواه البيهقي من حديث نافع بن
الحارث وعلقه البخاري.
حديث شهد أعرابيا برؤية الهلال. أخرجه أصحاب السنن وابن خزيمة وابن
حبان والدارقطني والبيهقي والحاكم، وقال الترمذي مرسلا، وقال النسائي انه
أولى بالصواب، وفى رواته سماك، وإذا تفرد بأصل لم يكن حجة
اللغة. قال ابن الاعرابي: القضاء في اللغة إحكام الشئ وإمضاؤه والفراغ
منه، وهو قوله تعالى (ثم اقضوا إلى) أي افرغوا من أمركم وامضوا ما في
أنفسكم، وأصله قضاي لأنه من قضيت، لان الياء لما جاءت بعد الألف أبدلت
همزة، والجمع الأقضية، القضية مثلها وجمعها قضايا على فعالى وأصله فعائل.
144

وقضى أي حكم، قال الله تعالى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) وقضى في
القرآن واللغة يأتي على وجوه تتقارب معانيها، ومرجعها كلها إلى انقطاع الشئ
وتمامه والفراغ منه، منها قوله تعالى (فقضاهن سبع سماوات) أراد قطعهن
وأحكم خلقهن وفرغ منهن، وقوله تعالى (فلما قضى ولوا إلى قومهم) أي فرغ
من تلاوته، وقوله تعالى (ولولا أجل مسمى لقضى بينهم) لفصل الحكم وقطع
وقال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما * داود أو صنع التوابع تبع
أي صنعهما وأحكام صنعتهما.
قوله (فإن كان خاملا) الخامل الساقط الذي لا نباهة له، وقد خمل يخمل
خمولا وأخملته أنا.
قوله (من استقضى فكأنما ذبح بغير سكين) قال في الشامل: لم يخرج مخرج
الذم للقضاء وإنما وصفه بالمشقة فكأن من قلده فقد حمل على نفسه مشقة كمشقة
الذبح، والمعتوه الناقص العقل، وقد ذكر في الوصايا.
قوله (وقلده) هو من القلادة التي تكون في العنق.
قوله (برزمة إلى السوق) الرزمة البكارة من الثياب، وقد رزمها ترزيما،
أي شد رزمها.
قوله (جبارا) قيل الجبار الذي يقتل على الغضب، وقيل هو ذو السطوة
والقهر، ومنه يقال جبرته عل كذا، وأجبرته إذا أكرهته عليه وقهرته، ومنه
جبر العظم لأنه كالاكراه على الاصلاح.
قوله (عسوفا) أي ظلوما، والعسف الظلم، وأصل العسف الاخذ على غير
الطريق، ومثله التعسف والاعتساف.
قوله (مهينا) أي حقيرا، وفسر قوله تعالى (من ماء مهين) أي حقير.
وقال الفراء: المهين العاجز، وأراد بالضعيف ضعيف الرأي والتدبير لا ضعيف
الجسم. قوله (من غير عنف) العنف ضد الرفق يقال عنف عليه وعنف به أيضا
قوله (بنيت على الاحتياط) الاحتياط على الشئ الأحداق به من جميع
145

جهله ومنه سمى الحائط وأصله الحفظ، حاطه يحوطه أي حفظه، والمعنى أن
يحكم باليقين والقطع من غير تخمين ويأخذ بالثقة في أموره وأحكامه.
قوله (كتب له العهد) أصل العهد الوصية، وقد عهدت إليه أي وصيته.
ومنه اشتق العهد الذي يكتب للولاة، قال الله تعالى (ولقد عهدنا إلى آدم من
قبل نفسي) أي أوصيناه أن لا يأكل من الشجرة فنسي، والعهد اليمين، من قوله
على عهد، والعهد من قولك عهدته بمكان كذا.
قوله (قاضيا ووزيرا) الوزير مشتق من الوزر وهو الجبل والملجأ، كأنه
يستند إليه في الأمور، قال الله تعالى (كلا لا وزر) أي لا ملجأ، وقيل بل
هو مشتق من الوزر وهو الثقل، كأنه يحمل أثقال أموره وأعباءه، والوزر
هو الحمل المثقل الظهر، من قوله تعالى (ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك)
قوله (فقد آثرتكم بهما) قيل فضلتكم بهما وقيل اخترتكم، والمراد ههنا
خصصتكم بهما دون غيركم، يقال استأثر فلان بكذا، أي خص به دون غيره
وانفرد به. قال الشاعر:
استأثر الله بالبقاء وبالعد * ل وولى الملامة الرجلا.
أي تفرد بالبقاء عز وجل.
قوله (ابن اللتبية) بضم اللام وإسكان التاء منسوب إلى بنى لتب، وهم حي
من أزد قوله (عائد المريض في مخرف من مخارف الجنة) المخرف بالفتح
البستان، قال الأصمعي واحد المخارف مخرف وهو جنس النخل، سمى بذلك لأنه
يخرف، أي يجتني.
قوله (لم يؤمن أن يحابى) المحاباة أن يبيع إليه بأقل من ثمن المثل، وقد ذكر
قوله (والمرض يقلقه) قال الجوهري: القلق الانزعاج، يقال بات قلقا وأقلقه
غيره قوله (يدافع الأخبثين) تثنية الأخبث، وهما البول والغائط، ومعناه
الخبيثين أي النجسين المستقذرين، لكن لفظة أفعل أبلغ وأكثر.
قوله (في حر مزعج) أزعجه أي أقلقه من مكانه وانزعج بنفسه، والمزعاج
المرأة التي لا تستقر في مكان والقلق ضيق الصدر وقلة الصبر.
146

قوله (فلا يتوفر على الاجتهاد) أي لا يستوفيه ويتمه، والموفور التام
والموفور التمام، والوفر المال الكثير، وشراج الحرة قد ذكر.
قوله (لي موضع بارز) أي ظاهر غير مستور، وبرزوا لله الواحد القهار.
أي ظهروا ولم يسترهم عنه شئ.
قوله (دون فاقته وفقره) الفاقة الحاجة والفقر ضد الغنى وهما متقاربان
قوله (يحضرها اللغط والسفه) هو الصوت والجلبة. يقال لغطوا يلغطون لغطا
ولغطا ولغاطا، والسفه ههنا التشاتم وذكر المعايب.
قوله (وإن احتاج إلى أجرياء) الاجرياء جمع جرى مشدد غير مهموز وهو
الوكيل والرسول، يقال جرى بين الجراية والجراية والجمع أجرياء. وسمى
الوكيل جريا لأنه يجرى مجرى موكله، وفى الحديث: قولوا بقولكم ولا
يستجرينكم الشيطان، والحاجب مشتق من الحجاب وهو الستر والمنع كأنه يستره
ويمنع من الدخول إليه، ويرفا غير مهموز هكذا السماع.
قوله (الحطيئة) سمى الحطيئة لقصره والحطيئة الرجل القصير، وقال ثعلب
سمى الحطيئة لدمامته، وقيل إنه كان في صغره يلعب مع الصبيان فضرط، فقيل
ما هذا؟ قال حطيئة، يريد ضرطة فسمى حطيئة.
قوله (بذى مرخ) بالخاء اسم موضع بعينه ومن رواه مرج بالجيم فمخطئ
لان المرج بإسكان الراء هو الموضع الذي يكون كثير الماء والشجر، وقد قال
لا ماء ولا شجر فدل على غيره، ولا يستقيم وزن البيت من غير تسكين الراء
أيضا. قوله:
وما منى اخوتي وعرسي * في حدث لم تقترفه نفسي.
العرس الزوجة، ولم تقترفه لم تكتسبه والاقتراف الاكتساب، وفلان
يقترف لعياله أي يكتسب، في حدث في أمر وقع ولم يكن قبل
قوله (برآء من الشحناء) الشحناء العداوة وكذلك الشحنة، وعدو مشاحن
ولعل اشتقاقه من الشحن وهو المل ء، أي ممتلئ عداوة من قوله تعالى (في الفلك
المشحون) أي المملوء.
قوله (على جرح عدل أو تزكية غير عدل) الجرح العيب والفساد، وجرح
147

الشاهد إظهار معايبه. والعدل أصله من الاستقامة وترك الميل، والعدل أيضا
الميل والجور. يقال عدل عن الطريق إذا مال عنها وهو من الأضداد، والتزكية
ههنا التطهير من قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) فكان
المزكى يشهد لهم بالطهارة والبراءة من العيوب.
قوله (وافري العقول) أي تامي العقول كاملين بأوفر والتمام والكمال.
قوله (ولا يسترسلوا) استرسل إليه أي انبسط واستأنس به، وأراد ترك
التحفظ وأخذ الامر بالحزم والتيقظ قوله (جارك الأدنى) أي الأقرب،
والدنو القرب ضد البعد
قوله (يستدل بهما على الورع) الورع التقى والورع التقى، وقد ورع
يرع بالكسر فهيما ورعا ورعة، وتورع من كذا أي تحرج
قوله (فيجمعهم الهوى على التواطؤ) أي تحكمهم الشهوة على التوافق،
واطأه على الامر أي وافقه.
قوله (وارتاب بهم) أي شك فيهم، والريب والارتياب الشك وكذا الريبة
ودانيال بالدال المهملة وكسر النون وكان ممن أسره بختنصر وحبسه ثم رأى رؤيا
ففسرها له فأكرمه وخلاه.
قوله (ان الطير لتخفق بأجنحتها وترمى بما في حواصلها) يقال خفق الطائر
إذا طار وأخفق إذا ضرب بجناحه، الحوصلة من الطائر بمنزلة الكرش مما يجتر
يجمع فيها الطائر الحب، وجمعها حواصل، والتشديد في اللام لغة فيها. قوله
(يتبوأ مقعده من النار) أي يلزمه ويقيم فيه وقد ذكر.
قوله (وشاورهم في الامر) أصله من شرت العسل إذا استخرجته من الخلية
وهي بيت النحل، كأنه يستخرج ما عنده من الرأي وقد ذكر.
قوله (قلد غيره) التقليد في الفتيا والحكم والقبلة وغيرها مأخوذ من القلادة
التي تكون في العنق كأن العامي يجعل ما يلحقه من عهدة العمل والاثم الذي
يعمل فيه بفتوى العالم وقضاء القاضي في عنق المفتى والقاضي ويتخلص من مأثمه
لان الأعمال توصف بكونها في الأعناق، قال الله تعالى (وكل انسان ألزمناه
طائره في عنقه) جاء في التفسير انه عمله، وان اجتهد وبذل الجهد فأخطأ فلا
148

وزر عليه وله أجر وإن تعمد الفتوى بغير الحق أو أخطأ ولم يجتهد في فتواه
كان عليه وزره ولا شئ على المستفتى، ويدل عليه قوله عليه السلام (إذا اجتهد
الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر).
قوله (أولى من التمادي في الباطل) التمادي اللجاج في الشئ والإقامة عليه
يقال تمادى في غيه إذا أقام عليه ولج في اتباعه. قوله (ربما قصد أن يبتذله)
الابتذال الامتهان وترك الصون، وثياب البذلة التي تمتهن ولا تصان.
قوله (يسوغ فيه الاجتهاد) أي يليق ويسهل من قولهم ساغ الطعام إذا سهل
مدخله في الحلق.
قوله (وعليه السكينة والوقار) السكينة أصلها من السكون وهو ضد الحركة
والوقار الحلم والرزانة، وقد وقر الرجل يقر وقارا وقرة فهو وقور. قوله
(ويترك بين يديه القمطر) وهو وعاء الكتب، وهو الذي يترك فيه المحاضر
والسجلات. قال الخليل حرف في صدرك خير من ألف في قمطرك، وهو أيضا
الرجل القصير، المحاضر والسجلات، المحاضر التي يكتب فيها قصة المتحاكمين
عند حضورهما مجلس الحكم وما جرى بينهما وما أظهر كل واحد منهما من حجة
من غير تنفيذ ولا حكم مقطوع به والسجلات الكتب التي تجمع المحاظر وتزيد
عليها بتنفيذ الحكم وإمضائه، وأصل السجل الصحيفة التي فيها الكتاب أي كتاب
كان ذكر في تفسير قوله تعالى (كطي السجل للكتب) وقيل هو كاتب للنبي
صلى الله عليه وسلم وهو مذكر، ويقال عندي ثلاثة سجلات وأربعة سجلات
ولا يؤنث، لان المراد به الكتاب وهو مذكر، ولا يقال ثلاث سجلات
على لفظه.
وكالتعليمات فسنكتب في أضيق الحدود بأن ننقل المتفق عليه بدون آراء،
أما المختلف فيه فتحاول أن ننقل الآراء بإيجاز شديد
قال ابن حزم في مراتب الاجماع: اتفقوا أن من ولاه الامام القرشي
الواجب طاعته، فإن أحكامه إذا وافق الحق نافذة، على أنه إن حكم بما يخالف
149

الاجماع فإن حكمه مردود، واتفقوا أن من لم يكن محجورا عليه وكان بالغا
حسن الدين سالم الاعتقاد حرا غير معتق عالما بالحديث والقرآن والنظر والاجماع
والاختلاف لم يبلغ الثمانين جائز أن يولى القضاء.
واتفقوا أن ما حكم به لغير نفسه ولغير أبويه ولغير عبده ولغير كل من يختلف
في قبول شهادته له من ذوي رحمه ومن ولده أو من ولد ولده بكل وجه وإخوانه
وأخوته ومن هو في كفالته وصديقه الملاطف وعلى عدوه أن حكمه جائز إذا
وافق الحق، واتفقوا أن من ولى القضاء كما ذكر في جهة ما أو وقت ما أو أمر ما
أو بين قوم ما فإن له أن يحكم بينهم.
واتفقوا على أن للقاضي أن يحكم في منزله، واتفقوا على أنه فرض عليه أن
يحكم بالعدل والحق، اتفقوا على تحريم الرشوة على قضاء بحق أو باطل أو تعجيلا
لقضاء بحق أو باطل، واتفقوا أن الامام إذا أعطى الحاكم مالا من وجه طيب
دون أن يسأله إياه فإنه له حلال، وسواء رتبه له كل شهر أو كل وقت محدود
أو قطعه عنه، واتفقوا أنه لا يحل لقاضي ولا مفت تقليد رجل بعينه بعد موت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحكم ولا يفتى إلا بقوله، سواء كان ذلك
الرجل قديما أو حديثا.
واتفقوا على وجوب الحكم بالقرآن والسنة والاجماع، واتفقوا أن من حكم
بغيره هذه الثلاثة أو القياس أو الاستحسان أو قول صاحب لا مخالف له منهم
أو قول تابع لا مخالف له من التابعين ولا من الصحابة، أو قول الأكثر من
الفقهاء فقد حكم بباطل لا يحل، واتفقوا على قبول شاهدين مسلمين عدلين
فاضلين في دينهما ومعتقدهما حرين بالغين معروفي النسب ضابطين للشهادة.
واختلفوا في كونه من أهل الاجتهاد، فقال الشافعي يجب أن يكون من
أهل الاجتهاد، ومثله حكى عبد الوهاب عن المذهب، وقال أبو حنيفة يجوز
حكم العامي، قال القاضي وهو ظاهر ما حكاه جدي رحمة الله عليه من المقدمات
عن المذهب لأنه جعل كون الاجتهاد فيه من الصفات المستحبة.
واختلفوا في اشتراط الذكورة، فقال الجمهور هي شرط، وقال أبو حنيفة
150

يجوز أن تكون المرأة قاضيا في الأموال، قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة
حاكما على الاطلاق في كل شئ.
واختلفوا في عدد القضاة، فقال مالك واحدا في المصر كله، والشافعي يجوز
أن يكون في المصر قاضيان.
واختلفوا في نفوذ حكم من رضيه المتداعيان ممن ليس بوال على الأحكام،
فقال مالك يجوز، وقال الشافعي في أحد قوليه لا يجوز، وقال أبو حنيفة يجوز
إذا وافق حكمه حكم قاضى البلدة.
واختلفوا هل له أن يقوم الأئمة في المساجد الجامعة، وكذلك هل يستخلف
في المرض والسفر، وينظر في التحجير على السفهاء وفى الأنكحة، فقال الجمهور
الأموال والفروج في ذلك سواء لا يحل حكم الحاكم منها حراما ولا يحل حراما
وذلك مثل أن شهد شاهد زور في امرأة أجنبية أنها زوج لرجل أجنبي ليست له
بزوجة، فقال الجمهور: لا تحل له وإن أحلها الحاكم، وقال أبو حنيفة وجمهور
أصحابه تحل له.
قال المصنف رحمه الله:
(باب ما يجب على القاضي في الخصوم والشهود)
إذا حضر خصوم واحد بعد واحد قدم الأول فالأول، لان الأول سبق
إلى حق له فقدم على من بعده، كما لو سبق إلى موضع مباح، وان حضروا في
وقت واحد أو سبق بعضهم وأشكل السابق أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة
قدم لأنه لا مزية لبعضهم على بعض فوجب التقديم بالقرعة كما قلنا فيمن أراد
السفر ببعض فسانه، فإن ثبت السبق لأحدهم فقدم السابق غيره على نفسه جاز
لان الحق له فجاز أن يؤثر به غيره، كما لو سبق إلى منزل مباح، ولا يقدم السابق
في أكثر من حكومة، لأنا لو قدمناه في أكثر من حكومة استوعب المجلس
بدعاويه وأضر بالباقين.
151

وإن حضر مسافرون ومقيمون في وقت واحد نظرت فإن كان المسافرون
قليلا وهم على الخروج قدموا لان عليهم ضررا في المقام ولا ضررا على المقيمين
وحكى بعض أصحابنا فيه وجها آخر أنهم لا يقدمون إلا بإذن المقيمين لتساويهم
في الحضور، وظاهر النص هو الأول.
وإن كان المسافرون مثل المقيمين أو أكثر لم يجز تقديمهم من غير رضى
المقيمين لان في تقديمهم إضرارا بالمقيمين والضرر لا يزال بالضرر، وإن تقدم
إلى الحاكم اثنان فادعى أحدهما على الآخر حقا، فقال، المدعى عليه أنا جئت به
وأنا المدعى قدم السابق بالدعوى، لان ما يدعيه كل واحد منهما محتمل وللسابق
بالدعوى حق السبق فقدم.
(فصل) وعلى الحاكم أن يسوى بين الخصمين في الدخول والاقبال عليهما
والاستماع منهما، لما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: من ابتلى بالقضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لحظه ولفظه وإشارته
ومقعده. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبى موسى الأشعري: آس بين الناس
في وجهك وعدلك ومجلسك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف
من عدلك، ولأنه إذا قدم أحدهما على الآخر في شئ من ذلك انكسر الآخر
ولا يتمكن من استيفاء حجته، والمستحب أن يجلس الخصمان بين يديه لما روى
عبد الله بن الزبير قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الخصمان
بين يدي القاضي، ولان ذلك أمكن لخطابهما، وإن كان أحدهما مسلما والآخر
ذميا ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يسوى بينهما في المجلس كما يسوى بينهما في الدخول والاقبال
عليهما والاستماع منهما.
(والثاني) أنه يرفع المسلم على الذمي في المجلس لما روى أن عليا رضي الله عنه
حاكم يهوديا في درع إلى شريح، فقام شريح من مجلسه وأجلس عليا كرم الله
وجهه فيه، فقال علي عليه السلام لولا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
لا تسووا بينهم في المجالس لجلست معه بين يديك، ولا يضيف أحدهما دون
152

الآخر لما روى أن رجلا نزل بعلي بن أبي طالب عليه السلام فقال له ألك خصم
قال نعم قال تحول هنا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا يضيفن
أحد الخصمين إلا ومعه خصمه، ولان في إضافة أحدهما إظهار الميل وترك
العدل ولا يسار أحدهما ولا يلقنه حجة لما ذكرناه، ولا يأمر أحدهما بإقرار
لان فيه إضرارا به ولا بإنكار لان فيه إضرارا بخصمه. وإن ادعى أحدهما
دعوى غير صحيحة فهل له أن يلقنه كيف يدعى، فيه وجهان، أحدهما وهو قول
أبي سعيد الإصطخري أنه يجوز لأنه لا ضرر على الآخر في تصحيح دعواه.
والثاني أنه لا يجوز لأنه ينكسر قلب الآخر ولا يتمكن من استيفاء حجته،
وله أن يزن عن أحدهما ما عليه لان في ذلك نفعا لهما، وله أن يشفع لأحدهما
لان الإجابة إلى المشفوع إليه ان شاء شفعه وان شاء لم يشفعه، وان مال قلبه
إلى أحدهما أو أحب أن يفلح أحدهما على خصمه ولم يظهر ذلك منه بقول ولا
فعل جاز لأنه لا يمكنه التسوية بينهما في المحبة والميل بالقلب، ولهذا قلنا يلزمه
التسوية بين النساء في القسم ولا يلزمه التسوية بينهن في المحبة والميل بالقلب.
(فصل) ولا ينتهر خصما لان ذلك يكسره ويمنعه من استيفاء الحجة،
وان ظهر من أحدهما لدد أو سوء أدب نهاه، فإن عاد زجره وان عاد عزره،
ولا يزجر شاهدا ولا يتعنته، لان ذلك يمنعه من الشهادة على وجهها ويدعوه
إلى ترك القيام بتحمل الشهادة وأدائها وفى ذلك تضييع للحقوق.
(فصل) فإن كان بين نفسين حكومة فدعا أحدهما صاحبه إلى مجلس الحكم
وجبت عليه اجابته لقوله تعالى (إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله
ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا) فإن لم يحضر فاستعدى عليه الحاكم وجب
عليه أن يعديه، لأنه إذا لم يعده أدى ذلك إلى ابطال الحقوق، فإن استدعاه
الحاكم فامتنع من الحضور تقدم إلى صاحب الشرطة ليحضره، وإن كان بينه وبين
غائب حكومة ولم يكن عليه بينة فاستعدى الحاكم عليه فإن كان الغائب في موضع
فيه حاكم كتب إليه لينظر بينهما، وان لم يكن حاكم وهناك من يتوسط بينهما
كتب إليه لينظر بينهما، وان لم يكن من ينظر بينهما لم يحضره حتى يحقق الدعوى
153

لأنه يجوز أن يكون ما يدعيه ليس بحق عنده كالشفعة للجار وثمن الكلب وقيمة
خمر النصراني فلا يكلفه تحمل المشقة للحضور لما لا يقضى به، ويخالف الحاضر
في البلد حيث قلنا إنه يحضر قبل أن يحقق المدعى دعواه لأنه لا مشقة عليه في
الحضور، فإن حقق الدعوى على الغائب أحضره لما روى أن أبا بكر الصديق
رضي الله عنه كتب إلى المهاجر بن أمية أن ابعث إلى بقيس بن مكشوح في وثاق
فأحلفه خمسين يوما على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قتل دادويه،
ولأنا لو لم نلزمه الحضور جعل البعد طريقا إلى إبطال الحقوق، فإن استعداه
على امرأة، فإن كانت برزة فهي كالرجل لأنها كالرجل في الخروج للحاجات.
وإن كانت غير برزة لم تكلف الحضور بل توكل من يخاطب عنها، وإن توجهت
عليها يمين بعث إليها من يحلفها، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال يا أنيس اغد
على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها فبعث من يسمع اقرارها ولم يكلفها الحضور
(الشرح) ما روى أن أربعة شهدوا على امرأة بالزنا... أخرجه البيهقي
وأخرج ابن عساكر في ترجمة سليمان من طريقه من حديث ابن عباس في قصة
طويله لسليمان بن داود في الأربعة الذين شهدوا على المرأة بالزنا لكونها امتنعت
منهم أن يزنوا بها، فأمر داود برجمها، فمروا على سليمان ففرق بين الشهود ودرأ
الحد عنها، فعلى هذا هو أول من فرق.
حديث ابن عمر (ان الطير لتخفق)
أخرج البيهقي عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (شاهد
الزور لا تزول قدماه حتى توجب له النار، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
الطير يوم القيامة ترفع مناقيرها وتضرب بأذنابها وتطرح ما في بطونها وليس
عندها طلبه فاتقه) وفى رواته محمد بن الفرات ضعيف.
حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم شاور في أسارى..
أخرجه مسلم والبيهقي عن ابن عباس عن عمر قال: لما كان يوم بدر قال
ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا نبي الله بنو العم والعشيرة
والاخوان، غير انا نأخذ منهم الفداء ليكون لنا قوة على المشركين، وعسى الله
154

أن يهديهم إلى الاسلام ويكونوا لنا عضدا، قال فماذا ترى يا ابن الخطاب؟ قلت
يا نبي الله ما أرى الذي رأى أبو بكر ولكن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدهم فقربهم
فاضرب أعناقهم، قال فهوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو
ما قلت أنا وأخذ منهم الفداء، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت يا نبي الله اخبرني من أي شئ تبكى
أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما، قال الذي
عرض على أصحابك لقد عرض على عذابكم أدنى من هذه الشجرة وشجرة قريبة
حينئذ، فأنزل الله عز وجل (ما كان لنبي..)
أثر عمر (ردوا الجهالات إلى السنة) لم أجده
أثر عمر في كتابه إلى أبى موسى (لا يمنعنك قضاء قضيت) رواه الدارقطني
والبيهقي وساقه ابن حزم من طريقين وأعلهما بالانقطاع، لكن اختلاف المخرج
فيهما مما يقوى أصل الرسالة لا سيما وفى بعض طرقه أن راوية أخرج الرسالة
مكتوبة، رواه أحمد (لا يمنعنك قضاء قضيته بالأمس راجعت فيه نفسك
وهويت فيه لرشدك أن تراجع الحق، فإن الحق قديم، وإن الحق لا يبطله شئ
ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل).
وروى البيهقي عن عمر بن عبد العزيز (ما من طينة أهون على فكا وما من
كتاب أيسر على ردا من كتاب قضيت به ثم أبصرت أن الحق في غيره ففسخته)
حديث أم سلمة في السنن الأربعة، وقال الترمذي حسن صحيح
حديث (خير المجالس..) أخرجه البيهقي.
اللغة: قوله (آس بين الناس) أي أصلح، يقال أسوت بينهم أي أصلحت
بينهم، ويحتمل أن يكون معناه سو بينهم حتى يكون كل واحد منهم أسوة
لصاحبه، والأسوة القدرة.
قوله (حتى لا يطمع شريف في حيفك) أصل الشرف العلو والرفعة مأخوذ
من الجبل المشرف وهو العالي قال الشاعر:
يبدو وتضمره البلاد كأنه * سيف على شرف يسل ويغمد
أي موضع عال، والشريف من القوم الرفيع المنزلة العالي القدر والحسب
155

قوله (في حيفك) أي في جورك والحيف الجور، حاف أي جار، قال الله
تعالى (أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله)
قوله (يميل إليه طبعه) الطبع والطباع ما ركب في الانسان من الطعم
والمشرب وغيرهما من الأخلاق التي لا يزيلها، يقال فلان كريم الطباع، وهو
اسم مؤنث على فعال نحو مثال ومهاد.
قوله (أو أحب أن يفلح) أي يغلب، يقال فلح خصمه أي غلبه. قوله
(لدد) اللدد شدة الخصومة، يقال رجل الد بين اللدد، وهو الشديد الخصومة
وقوم لد، قال الله تعالى (ألد الخصام) وقال (وتنذر به قوما لدا) وقال
الأزهري (اللدد) التواء الخصم في محاكمته، مأخوذ من لديدى الوادي وهما
جانباه. قوله (فإن عاد زبره) الزبر الزجر والمنع، يقال زبره يزبره بالضم زبرا
إذا انتهره، كذا ذكره الجوهري.
قوله (ولا يتعنته) أي يطلب زلته، تقول جاءني فلان متعنتا إذا جاء
يطلب زلتك، وأصل العنت المشقة، واستعدى عليه الحاكم أي استعانه، يقال
استعديت على فلان الأمير فأعداني أي استعنت به فأعانني، والاسم منه العدوي
وهي المعونة قال زهير:
وإني لتعديني على الهم جسرة * تخب بوصال صروم وتعنق
وصاحب الشرطة، يقال أشرط فلان نفسه لأمر كذا أي أعلمها وأعدها،
قال الأصمعي ومنه سمى الشرط لأنهم جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها،
الواحد شرطة وشرطي. وقال أبو عبيد سموا شرطة لأنهم أعدوا.
قوله (ما قتل دادويه) ذكر القلعي أنه بدالين مهملتين مفتوحتين وتخفيف
الياء تسكينها قوله (فإن كانت برزة) أي ظاهرة غير محتجبة وقد ذكر
156

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب صفة القضاء
إذا حضر عند القاضي خصمان وادعى أحدهما على الآخر حقا يصح فيه
دعواه وسأل القاضي مطالبة الخصم بالخروج من دعواه طالبه وإن لم يسأله
مطالبة الخصم ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه لا يجوز للقاضي مطالبته لان ذلك حق للمدعى فلا يجوز
استيفاؤه من غير إذنه.
(والثاني) وهو المذهب أنه يجوز له مطالبته لان شاهد الحال يدل على
الاذن في المطالبة، فإن طولب لم يخل إما أن يقر أو ينكر أو لا يقر ولا ينكر
فإن أقر لزمه الحق ولا يحكم به إلا بمطالبة المدعى، لان الحكم حق له فلا يستوفيه
من غير إذنه، فإن طالبه بالحكم حكم له عليه وإن أنكر فإن كان المدعى لا يعلم
أن له إقامة البينة قال له القاضي ألك بينة، وإن كان يعلم فله أن يقول ذلك وله
أن يسكت، وإن لم تكن له بينة وكانت الدعوى في غير دم فله أن يحلف المدعى
عليه ولا يجوز للقاضي إحلافه إلا بمطالبة المدعى، لأنه حق له فلا يستوفيه من
غير اذنه، وان أحلفه قبل المطالبة لم يعتد بها لأنها يمين قبل وقتها وللمدعى أن
يطالب بإعادتها لان اليمين الأولى لم تكن يمينه، وان أمسك المدعى عن احلاف
المدعى عليه ثم أراد أن يحلفه بالدعوى المتقدمة جاز لأنه لم يسقط حقه من
اليمين وإنما أخرها.
وان قال أبرأتك من اليمين سقط حقه منها في هذه الدعوى وله أن يستأنف
الدعوى لان حقه لم يسقط بالابراء من اليمين، فإن استأنف الدعوى فأنكر
المدعى عليه فله أن يحلفه لأن هذه الدعوى غير الدعوى التي أبرأه فيها من اليمين
فإن حلف سقطت الدعوى، لما روى وائل بن حجر أن رجلا من حضرموت
ورجلا من كندة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الحضرمي هذا غلبني
على أرض ورثتها من أبى، وقال الكندي أرضى وفى يدي أزرعها لا حق له
157

فيها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه، قال إنه لا يتورع عن
شئ، فقال ليس لك الا ذلك، فإن امتنع عن اليمين لم يسأل عن سبب امتناعه
فإن ابتدأ وقال امتنعت لأنظر في الحساب أمهل ثلاثة أيام لأنها مدة قريبه
ولا يمهل أكثر منها لأنها مدة كثيرة، فإن لم يذكر عذرا لامتناعه جعله ناكلا
ولا يقضى عليه بالحق بنكوله لان الحق إنما يثبت بالاقرار أو البينة. والنكول
ليس بإقرار ولا بينة، فإن بذل اليمين بعد النكول لم يسمع لان بنكوله ثبت
للمدعى حق وهو اليمين فلم يجز ابطاله عليه، فإن لم يعلم المدعى أن اليمين صارت
إليه قال له القاضي أتحلف وتستحق، وإن كان يعلم فله أن يقول ذلك وله أن
يسكت وان قال أحلف ردت اليمين عليه لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم رد اليمين على صاحب الحق.
وروى أن المقداد استقرض من عثمان مالا فتحاكما إلى عمر، فقال المقداد
هو أربعة آلاف، وقال عثمان سبعة آلاف، فقال المقداد لعثمان احلف أنه
سبعة آلاف فقال عمر انه أنصفك فلم يحلف عثمان، فلما ولى المقداد قال عثمان
والله لقد أقرضته سبعة آلاف، فقال عمر لم لم تحلف؟ فقال خشيت أن يرافق
ذلك به قدر بلاء فيقال بيمينه.
واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى في نكول المدعى عليه مع يمين المدعى
فقال في أحد القولين هما بمنزلة البينة لأنه حجة من جهة المدعى، وقال في القول
الآخر هما بمنزلة الاقرار وهو الصحيح، لان النكول صادر من جهة المدعى
عليه واليمين ترتب عليه وله فصار كإقراره، فإن نكل المدعى عن اليمين سئل عن
سبب نكوله، والفرق بينه وبين المدعى عليه يحث لم يسأل عن سبب نكوله
أن بنكول المدعى عليه وجب للمدعى حق في رد اليمين والقضاء له فلم يجز سؤال
المدعى عليه وبنكول المدعى لم يجب لغيره حق فيسقط بسؤاله، فإن سئل فذكر
أنه امتنع من اليمين لان له بينة يقيمها وحسابا ينظر فيه فهو على حقه من اليمين
ولا يضيق عليه في المدة ويترك ما تارك والفرق بينه وبين المدعى عليه حيث
قلنا إنه لا يترك أكثر من ثلاثة أيام أن يترك المدعى عليه يتأخر حق المدعى
158

في الحكم له وبترك المدعى لا يتأخر إلا حقه وإن قال امتنعت لأني لا أختار
أن أحلف حكم بنكوله، فإن بذل اليمين بعد النكول لم يقبل في هذه الدعوى
لأنه أسقط حقه منها، فإن عاد في مجلس آخر واستأنف الدعوى وأنكر المدعى
عليه وطلب يمينه حلف، فإن حلف ترك وإن نكل ردت اليمين على المدعى فإذا
حلف حكم له لأنها يمين في غير الدعوى التي حكم فيها بنكوله، فإن كان له شاهد
واختار أن يحلف المدعى عليه جاز وتنتقل اليمين إلى جنبة المدعى عليه، فإن
أراد أن يحلف مع شاهده لم يكن له في هذا المجلس، لان اليمين انتقلت عنه إلى
جنبة غيره فلم تعد إليه، فإن عاد في مجلس آخر واستأنف الدعوى جاز أن يقيم
الشاهد ويحلف معه لان حكم الدعوى الأولى قد سقط، وان حلف المدعى
عليه في الدعوى الأولى سقطت عنه المطالبة، وان نكل عن اليمين لم يقض عليه
بنكوله وشاهد المدعى، لان للشاهد معنى تقوى به جنبة المدعى فلم يقض به
مع النكول من غير يمين كاللوث في القسامة، وهل ترد اليمين على المدعى ليحلف
مع الشاهد، فيه قولان.
(أحدهما) أنه لا ترد لأنها كانت في جنبته وقد أسقطت وصارت في جنبة
غيره فلم تعد إليه كالمدعى عليه إذا نكل عن اليمين فردت إلى المدعى فنكل فإنها
لا ترد على المدعى عليه.
والقول الثاني وهو الصحيح أنها ترد لأنه هذه اليمين غير الأولى لان سبب
الأولى قوة جنبة المدعى بالشاهد وسبب الثانية قوة جنبته بنكول المدعى عليه
واليمين الأولى لا يحكم بها إلا في المال وما يقصد به المال، والثانية يقضى بها في
جميع الحقوق التي تسمع فيها الدعوى فلم يكن سقوط إحداهما موجبا لسقوط
الأخرى، فإن قلنا إنها لا ترد حبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر لأنه تعين
عليه ذلك، وإن قلنا إنها ترد حلف مع الشاهد واستحق:
(فصل) وإن كانت الدعوى في موضع لا يمكن رد اليمين على المدعى بأن
ادعى على رجل دينا ومات المدعى ولا وارث له غير المسلمين وأنكر المدعى
عليه ونكل عن اليمين ففيه وجهان ذكرهما أبو سعيد الإصطخري.
159

(أحدهما) أنه يقضى بنكوله لأنه لا يمكن رد اليمين على الحاكم لأنه
لا يجوز أن يحلف عن المسلمين، لان اليمين لا تدخلها النيابة ولا يمكن ردها
على المسلمين لأنهم لا يتعينون فقضى بالنكول لموضع الضرورة.
(والثاني) وهو المذهب أنه يحبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر، لان
الرد لا يمكن لما ذكرناه والقضاء بالنكول لا يجوز لما قدمناه لأنه إما أن يكون
صادقا في إنكاره فلا ضرر عليه في اليمين أو كاذبا فيلزمه الاقرار.
وإن ادعى وصى دينا لطفل في حجره على رجل وأنكر الرجل ونكل عن
اليمين وقف إلى أن يبلغ الطفل فيحلف، لأنه لا يمكن رد اليمين على الوصي،
لان اليمين لا تدخلها النيابة ولا على الطفل فالحال لأنه لا يصح يمينه فوجب
التوقف إلى أن يبلغ.
(فصل) وإن كان للمدعى بينة عادلة قدمت على يمين المدعى عليه لأنها
حجة لا تهمة فيها لأنها من جهة غيره واليمين حجة يتهم فيها لأنها من جهته،
ولا يجوز سماع البينة ولا الحكم بها إلا بمسألة المدعى لأنه حق له فلا يستوفى
إلا بإذنه، فإن قال المدعى عليه أحلفوه أنه يستحق ما شهدت به البينة لم يحلف
لان في ذلك طعنا في البينة العادلة.
وإن قال أبرأني منه فحلفوه أنه لم يبرئني منه أو قضيته فحلفوه إني لم أقضه
حلف لأنه ليس في ذلك قدح في البينة وما يدعيه محتمل فحلف عليه، وإن كان
ت البينة غير عادلة قال له القاضي زدني في شهودك، وان قال المدعى لي بينة
غائبة وطلب يمين المدعى عليه أحلف لان الغائبة كالمعدومة لتعذر اقامتها،
فإن حلف المدعى عليه ثم حضرت البينة وطلب سماعها والحكم بها وجب سماعها
والحكم بها لما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: البينة العادلة أحق من اليمين
الفاجرة ولان البينة كالاقرار ثم يجب الحكم بالاقرار بعد اليمين فكذلك بالبينة
وان قال لي بينة حاضرة ولكني أريد أن أحلفه حلف، لأنه قد يكون له
غرض في احلافه بأن يتورع عن اليمين فيقر، واثبات الحق بالاقرار أقوى
وأسهل من اثباته بالبينة، وان قال ليس لي بينة حاضره ولا غائبة أو قال كل بينة
160

تشهد لي فهي كاذبة وطلب إحلافه فحلف ثم أقام البينة على الحق ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) أنها لا تسمع لأنه كذبها بقوله (والثاني) أنه إن كان هو الذي
استوثق بالبينة لم تسمع لأنه كذبها، وإن كان غيره المستوثق بالبينة سمعت لأنه
لم يعلم بالبينة فرجع قوله لا بينة لي إلى ما عنده (والثالث) أنها تسمع بكل حال وهو
الصحيح لأنه يجوز أن يكون ما علم، وإن علم فلعله نسي فرجع قوله لا بينة لي إلى ما يعتقده
(فصل) وان قال المدعى لي بينة بالحق لم يجز له ملازمة الخصم قبل
حضورها لقوله صلى الله عليه وسلم: شاهداك أو يمينه ليس لك الا ذلك،
وان شهد له شاهدان عدلان عند الحاكم وهو لا يعلم أن له دفع البينة بالجرح
قال له قد شهد عليك فلان وفلان وقد ثبتت عدالتهما عندي وقد أطردتك
جرحهما، وإن كان يعلم فله أن يقول وله أن يسكت، فإن قال المشهود عليه لي
بينة بحرجهما نظر فإن لم يأت بها حكم عليه لما روى عن عمر رضي الله عنه أنه
قال في كتابه إلى أبى موسى الأشعري رضي الله عنه واجعل لمن ادعى حقا غائبا
أمدا ينتهى إليه، فإن أحضر بينته أخذت له حقه والا استحللت عليه القضية
فإنه أنفى للشك وأجلى العمى، ولا ينظر أكثر من ثلاثة أيام، لأنه كثير وفيه
اضرار بالمدعى، وان قال لي بينة بالقضاء أو الابراء أمهل ثلاثة أيام فإن لم
يأت بها حلف المدعى أنه لم يقضه ولم يبرئه ثم يقضى له لما ذكرناه وله أن يلازمه
إلى أن يقيم البينة بالجرح أو القضاء لان الحق قد ثبت له في الظاهر، وان شهد
له شاهدان ولم تثبت عدالتهما في الباطن فسأل المدعى أن يحبس الخصم إلى أن
يسأل عن عدالة الشهود ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبي إسحاق وهو
ظاهر المذهب أنه يحبس لأن الظاهر العدالة وعدم الفسق (والثاني) وهو قول
أبي سعيد الإصطخري أنه لا يحبس لأنه الأصل براءة ذمته، وان شهد له شاهد
واحد وسأل أن يحبسه إلى أن يأتي بشاهد آخر ففيه قولان (أحدهما) أنه يحبس
كما يحبس إذا جهل عدالة الشهود (والثاني) أنه لا يحبس وهو الصحيح لأنه لم
يأت بتمام البينة، ويخالف إذا جهل عدالتهم، لان البينة تم عددها والظاهر
عدالتها وقال أبو إسحاق إن كان الحق مما يقضى فيه بالشاهد واليمين حبس قولا
واحدا لان الشاهد الواحد حجة فيه لأنه يحلف معه
161

(فصل) وإذا علم القاضي عدالة الشاهد أو فسقه عمل بعلمه في قبوله
ورده، وإن علم حال المحكوم فيه نظرت، فإن كان ذلك في حق الآدمي ففيه قولان
(أحدهما) أنه لا يجوز أن يحكم فيه بعلمه لقوله عليه الصلاة والسلام للحضرمي
شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذلك، ولأنه لو كان علمه كشهادة اثنين لانعقد
النكاح به وحده.
(والثاني) وهو الصحيح وهو اختيار المزني رحمه الله أن يجوز أن يحكم بعلمه
لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يمنع أحدكم هيبة
الناس أن يقول في حق إذا رآه أو علمه أو سمعه، ولأنه إذا جاز أن يحكم
بما شهد به الشهود وهو من قولهم على ظن فلان يجوز أن يحكم بما سمعه أو رآه
وهو على علم أولى، وإن كان ذلك في حق الله تعالى ففيه طريقان.
(أحدهما) وهو قول أبى العباس وأبى علي بن أبي هريرة إنها على قولين
كحقوق الآدميين.
(والثاني) وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يجوز أن يحكم فيه بعلمه قولا
واحد، لما روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: لو رأيت رجلا
على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي، ولأنه مندوب إلى ستره ودرئه.
والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم هلا سترته بثوبك يا هزال، فلم يجز
الحكم فيه بعلمه.
(فصل) وإن سكت المدعى عليه ولم يقر ولم ينكر قال له الحاكم إن أجبت
وإلا جعلتك ناكلا، والمستحب أن يقول له ذلك ثلاثا، فإن لم يجب جعله
ناكلا وحلف المدعى وقضى له، لأنه لا يخلو إذا أجاب من يقر أو ينكر، فان
أقر فقد قضى عليه ما يحب على المقر، وان أنكر فقد وصل انكاره بالنكول
عن اليمين فقضينا عليه بما يحب على المنكر إذا نكل عن اليمين.
(فصل) وإذا تحاكم إلى الحاكم أعجمي لا يعرف لسانه لم يقبل في الترجمة
الا عدلين، لأنه اثبات قول يقف الحكم عليه فلم يقبل الا من عدلين كالاقرار
وإن كان الحق مما يثبت بالشاهد والمرأتين قبل ذلك في الترجمة وإن كان مما لا يقبل
162

فيه الا ذكرين لم يقبل في الترجمة الا ذكرين، فإن كان اقرارا بالزنا ففيه قولان
(أحدهما) أنه يثبت بشاهدين (والثاني) أنه لا يثبت الا بأربعة.
(فصل) وان حضر رجل عند القاضي وادعى على غائب عن البلد أو
على حاضر فهرب أو على حاضر في البلد استتر وتعذر احضاره، فإن لم يكن بينة
لم يسمع دعواه، لان استماعها لا يفيد، وإن كانت معه بينة سمع دعواه وسمعت
بينته، لأنا لو لم تسمع جعلت الغيبة والاستتار طريقا إلى اسقاط الحقوق التي
نصب الحاكم لحفظها ولا يحكم عليه الا أن يحلف المدعى أنه لم يبرئ من الحق
لأنه يجوز أن يكون قد حدث بعد ثبوته بالبينة ابراء أو قضاء أو حوالة.
ولهذا لو حضر من عليه الحق وادعى البراءة بشئ من ذلك سمعت دعواه
وحلف عليه المدعى، فإذا تعذر حضوره وجب على الحاكم أن يحتاط له ويحلف
عليه المدعى، وان ادعى على حاضر في البلد يمكن احضاره ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه تسمع الدعوى والبينة ويقضى بها بعد ما يحلف المدعى،
لأنه غائب عن مجلس الحكم فجاز القضاء عليه كالغائب عن البلد والمستتر في البلد
(والثاني) أنه لا يجوز سماع البينة عليه ولا الحكم وهو المذهب، لأنه
يمكن سؤاله فلا يجوز القضاء عليه قبل السؤال كالحاضر في مجلس الحكم.
وان ادعى على ميت سمعت البينة وقضى عليه، فإن كان له وارث كان احلاف
المدعى إليه، وان لم يكن له وارث فعلى الحاكم أن يحلفه ثم يقضى له، وإن كان
على صبي سمعت البينة وقضى عليه بعد ما يحلف المدعى، لأنه تعذر الرجوع إلى
جوابه فقضى عليه مع يمين المدعى كالغائب والمستتر، وان حكم على الغائب ثم
قدم أو على الصبي ثم بلغ كان على حجته في القدح في البينة والمعارضة ببينة يقيمها
على القضاء أو الابراء.
(فصل) ويجوز للقاضي أن يكتب إلى القاضي فيما ثبت عنده ليحكم به
ويجوز أن يكتب إليه فيما حكم به لينفذه، لما روى الضحاك بن قيس قال كتب
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها
163

ولان الحاجة تدعو إلى كتاب القاضي إلى القاضي فيما ثبت عنده ليحكم به وفيما
حكم به لينفذه، فإن كان الكتاب فيما حكم به جار قبول ذلك في المسافة القريبة
والبعيدة، لان ما حكم به يلزم كل أحد إمضاؤه، وإن كان فيما ثبت عنده ولم يجز
قبوله إذا كان بينهما مسافة لا تقصر فيها الصلاة، لان القاضي الكاتب فيما حمل
شهود الكتاب كشاهد الأصل، والشهود الذين يشهدون بما في الكتاب كشهود
الفرع وشاهد الفرع لا يقبل مع قرب شاهد الأصل.
(فصل) ولا يقبل الكتاب إلا أن يشهد به شاهدان، وقال أبو ثور:
يقبل من غير شهادة، لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتب ويعمل بكتبه من
غير شهادة.
وقال أبو سعيد الإصطخري: إذا عرف المكتوب إليه خط القاضي الكاتب
وختمه جاز قبوله وهذا خطأ، لان الخط يشبه الخط والختم يشبه الختم
فلا يؤمن أن يزور على الخط والختم، وإذا أراد انفاذ الكتاب أحضر شاهدين
ويقرأ الكتاب عليهما أو يقرأ غيره وهو يسمعه، والمستحب أن ينظر الشاهدان
في الكتاب حتى لا يحذف منه شئ، وان لم ينظرا جاز لأنهما يؤديان ما سمعا.
وإذا وصلا إلى القاضي المكتوب إليه قرآ الكتاب عليه وقالا فشهد أن هذا الكتاب
كتاب فلان إليك وسمعناه وأشهدنا أنه كتب إليك بما فيه، وان لم يقرءا الكتاب
ولكنهما سلماه إليه وقالا نشهد أنه كتب إليك بهذا لم يجز، لأنه ربما زور
الكتاب عليهما، وان انكسر ختم الكتاب لم يضر، لان المعول على ما فيه وان
محى بعضه، فإن كانا يحفظان ما فيه أو معهما نسخة أخرى شهدا وان لم يحفظاه
ولا معهما نسخة أخرى لم يشهدا لأنهما لا يعلمان ما أمحى منه.
(فصل) وان مات القاضي الكاتب أو عزل جاز للمكتوب إليه قبول
الكتاب والعمل به، لأنه إن كان الكتاب بما حكم به وجب على كل من بلغه أن
ينفذه في كل حال، وإن كان الكتاب بما ثبت عنده فالمكاتب كشاهد الأصل،
وشهود الكتاب كشاهد الفرع وموت شاهد الأصل لا يمنع من قبول شهادة
شهود الفرع وان فسق المكاتب ثم وصل كتابه، فإن كان ذلك فيما حكم به لم يؤثر
164

فسقه لان الحكم لا يبطل بالفسق الحادث بعده، وإن كان فيما ثبت عنده لم يجز
الحكم به لأنه كشاهد الأصل، وشاهد الأصل إذا فسق قبل الحكم لم يحكم
بشهادة شاهد الفرع، وإن مات القاضي المكتوب إليه أو عزل أو ولى غيره قبل
الكتاب لان المعول على ما حفظه شهود الكتاب وتحملوه، ومن تحمل شهادة
وجب على كل قاض أن يحكم بشهادته.
(فصل) فإن وصل الكتاب إلى المكتوب إليه فحضر الخصم وقال لست
فلان بن فلان فالقول قوله مع يمينه لان الأصل أنه لا مطالبة عليه، فإن أقام
المدعى بينة أنه فلان بن فلان فقال أنا فلان بن فلان الا أنى غير المحكوم عليه لم
يقبل قوله إلا أن يقيم البينة أن له من يشاركه في جميع ما وصف به، لان الأصل
عدم من يشاركه فلم يقبل قوله من غير بينة، وان أقام بينة أن له من يشاركه في
جميع ما وصف به توقف عن الحكم حتى يعرف من المحكوم عليه منهما، وإذا
حكم المكتوب إليه على المدعى عليه بالحق فقال المحكوم عليه اكتب إلى الحاكم
الكاتب انك حكمت على حتى لا يدعى على ثانيا ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أنه يلزم لأنه لا يأمن
أن يدعى ثانيا ويقيم عليه البينة فيقضى عليه ثانيا.
(والثاني) أنه لا يلزمه لان الحاكم إنما يكتب ما حكم به أو ثبت عنده
والكاتب هو الذي حكم أو ثبت عنده دون المكتوب إليه
(فصل) إذا ثبت عند القاضي حق بالاقرار فسأله المقر له أن يشهد على
نفسه بما ثبت عنده من الاقرار لزمه ذلك لأنه لا يؤمن أن ينكر المقر فلزمه
الاشهاد ليكون حجة له إذا أنكر، وان ثبت عنده الحق بيمين المدعى بعد نكول
المدعى عليه فسأله المدعى أن يشهد على نفسه لزمه لأنه لا حجة للمدعى غير
الاشهاد، وان ثبت عنده الحق بالبينة فسأله المدعى الاشهاد ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه لا يجب لان له بالحق بينة فلم يلزم القاضي تجديد بينة أخرى
(والثاني) أنه يلزمه لان في اشهاده على نفسه تعديلا لبينته واثباتا لحقه والزاما
لخصمه، فإن ادعى عليه حقا فأنكره وحلف عليه وسأله الحالف أن يشهد على
165

براءته لزمه ليكون حجة له في سقوط الدعوى حتى لا يطالبه بالحق مرة أخرى
وان سأله أن يكتب له محضر في هذه المسائل كلها وهو أن يكتب ما جرى وما
ثبت به الحق، فإن لم يكن عنده قرطاس من بيت المال ولم يأته المحكوم له بقرطاس
لم يلزمه أن يكتب لان عليه ان يكتب وليس عليه أن يغرم، وإن كان عنده
قرطاس من بيت المال، أو أتاه صاحب الحق بقرطاس، فهل يلزمه أن يكتب
المحضر؟ فيه وجهان.
(أحدهما) أنه يلزمه لأنه وثيقة بالحق فلزمه كالاشهاد على نفسه.
(والثاني) أنه لا يلزمه لان الحق يثبت باليمين أو بالبينة دون الحضر،
وان سأله أن يسجل له وهو أن يذكر ما يكتبه في المحضر ويشهد على إنفاذه
ويسجل له فهل يلزم ذلك أم لا؟ على ما ذكرناه في كتب المحضر وما يكتب من
المحاضر والسجلات يكتب في نسختين (أحدهما) تسلم إلى المحكوم له والأخرى
تكون في ديوان الحكم، فان حضر عند القاضي رجلان لا يعرفهما وحكم بينهما
ثم سأل المحكوم له كتب محضر أو سجل كتب: حضر إلى رجلان قال أحدهما
انه فلان بن فلان وقال الآخر انه فلان بن فلان ويحليهما ويذكر ما جرى بينهما
ويشهد على ذلك.
(فصل) وان اجتمعت عنده محاضر وسجلات كتب على كل محضر اسم
المتداعيين ويضم ما اجتمع منها في كل شهر أو في كل سنة على قدر قلتها وكثرتها
وضم بعضها إلى بعض ويكتب عليها محاضر شهر كذا وكذا من سنة كذا ليسهل
عليه طلبته إذا احتاج إليه.
وان حضر رجلان عند القاضي فادعى أحدهما أن له في ديوان الحكم حجة
على خصمه فوجدها، فإن كان حكما حكم به غيره لم يعمل به الا أن يشهد به
شاهدان أن هذا حكم به فلان القاضي، ولا يرجع في ذلك إلى الخط والختم فإنه
يحتمل التزوير في الخط والختم، وإن كان حكما حكم هو به فإن كان ذاكرا للحكم
به عالما به عمل به وألزم الخصم حكمه، وإن كان غير ذاكر لم يعمل به لأنه
يجوز أن يكون قد زور على خطه وختمه
166

وإن شهد اثنان عليه أنه حكم به لم يرجع إلى شهادتهما لأنه يشك في فعله فلا
يرجع فيه إلى قول غيره، كما لو شك في فرض من فروض صلابته، فان شهد
الشاهدان على حكمه عند حاكم آخر أنفذ ما شهدا به، فإن شهد شاهدان أن الأول
توقف في شهادتهما لم يجز للثاني أن ينفذ الحكم الذي شهدا به، لان الشهود فرع
للحاكم الأول، فإذا توقف الأصل لم يجز الحكم بشهادة الفرع، كما لو شهد
شاهدان على شهادة شاهد الأصل، ثم شهد شاهدان أن شاهد الأصل توقف
في الشهادة.
(فصل) إذا اتضح الحكم للقاضي بين الخصمين فالمستحب أن يأمرهما بالصلح
فإن لم يفعلا لم يجز ترددهما لان الحكم لازم فلا يجوز تأخيره من غير رضا من له الحكم
(فصل) إذا قال القاضي حكمت لفلان بكذا قبل قوله لأنه يملك الحكم
فقبل الاقرار به كالزوج لما ملك الطلاق قبل إقراره به، وإن عزل ثم قال حكمت
لفلان بكذا لم يقبل إقراره لأنه لا يملك الحكم فلم يملك الاقرار به، وهل يكون
شاهدا في ذلك؟ فيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه يكون شاهدا لأنه ليس فيه
أكثر من أنه يشهد على فعل نفسه، وذلك لا يوجب رد شهادته، كما لو قالت
امرأة أرضعت هذا الصبي.
(والثاني) وهو المذهب أنه لا يكون شاهدا، لأنه شهادته بالحكم تثبت
لنفسه العدالة لان الحكم لا يكون إلا من عدل فتلحقه التهمة في هذه الشهادة فلم
تقبل ويخالف المرضعة لان شهادتها بالرضاع لا تثبت عدالة لنفسها لان
الرضاع يصح من غير عدل، ولان المغلب في الرضاع فعل المرتضع، ولهذا
يصح به دونها، والمغلب في الحكم فعل الحاكم، فيكون شهادته على فعله فلم يقبل
وبالله التوفيق.
(الشرح) حديث أم سلمة (من ابتلى...) رواه أبو يعلى والدارقطني
والطبراني في الكبير من حديث أم سلمة وفى إسناده عبادة بن كثير وهو ضعيف
ورواه البيهقي عن أم سلمة وقال: هذا اسناد فيه ضعف.
167

(قلت) قال الحافظ في إسناده عبادة بن كثير وهو ضعيف، وذكر في
السنن الكبرى البيهقي أنه عباد بن كثير.
أثر عمر (آس بين الناس في وجهك..) أخرجه البيهقي (هذا كتاب عمر
إلى أبى موسى أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة أفهم إذا أدلى إليك
فإنه لا ينفع كلمة حق لا نفاذ له، آسى بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك
حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا يخاف ضعيف من جورك، البينة على من
ادعى واليمين على من أنكر، والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما
وحرم حلالا، ومن ادعى حقا غائبا أو بينة فاضرب له أمدا ينتهى إليه فإن جاء
ببينة أعطيته بحقه).
أثر (أن عليا حاكم يهوديا في درع..) أخرجه أبو أحمد الحاكم في الكنى
في ترجمة أبى سمية عن الأعمش عن إبراهيم التيمي وقال منكر، وأورده ابن
الجوزي في العلل من هذا الوجه وقال لا يصح، تفرد به أبو سمية ورواه البيهقي
من وجه آخر وفى إسناده عمرو بن سمرة عن جابر الجعفي، وهما ضعيفان، قال
ابن الصلاح في كلامه على الوسيط: لم أجد له إسنادا يثبت، وقال ابن عساكر
في الكلام على أحاديث المهذب: إسناده مجهول.
أثر (أن رجلا نزل بعلى فقال ألك خصم..) أخرجه البيهقي بإسناد ضعيف
منقطع وهو في مسند إسحاق بن راهويه، وأخرجه عبد الرزاق من هذا الوجه
ورواه ابن خزيمة في صحيحه عن علي قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يضيف
الخصم الا وخصمه معه، وأخرج الطبراني في الأوسط نهى النبي صلى الله عليه
وسلم أن يضيف أحد الخصمين، وقال تفرد به الواسطي.
أثر (أن أبا بكر كتب إلى المهاجرين أمية أن ابعث إلى بقيس..) أخرجه
البيهقي، وقال التركماني على تقدير صحته فقد خالفه الشافعي.
حديث (يا أنيس اغد على امرأة هذا..) سبق تخريجه
اللغة: قوله (لا يتورع) أي لا يتقى، والورع التقوى واجتناب الظلم،
وقد ذكر.
168

قوله (أن يوافق قدر بلاء) القدر ما يقدر على الانسان ويقضى عليه من
حكم الله السابق في علمه، يقال قدر وقدر بالفتح والاسكان، وأنشد الأخفش:
ألا يا لقومي النوائب والقدر * وللامر يأتي الهرء من حيث لا يدرى
والبلاء ما يصيب الانسان من الشدة والتعب في النفس والمال
قوله (جنبة المدعى) جنبة بمعنى جانب.
قوله (ونكل عن اليمين) قيل جبن وهاب الاقدام عليها. قال:
(فلم أنكل عن الضرب مسمعا) أي لم أجبن ولم أمتنع، وقيل نكل امتنع
ومنه سمى القيد نكلا لأنه يمنع المحبوس.
قوله (لطفل في حجره) الحجر بمعنى الحضن وهو ما بين الإبط إلى الكشح
وهو الجنب لأنه يحمل هنالك.
قوله (طعنا في البينة) طعن فيه بالقول يطعن إذا انتقصه وجرحه
قوله (أحق من اليمين الفاجرة) معناه الكاذبة وقد ذكرنا أن الفجر أصله
الشق ومنه سمى الفجر، وقيل إنه الميل عن القصد، فقيل للكاذب فاجر لأنه
مال عن الصدق، وقيل للمائل عن الخير والعادل عنه فاجر لأنه مال عن الرشد
قوله (ملازمة الخصم) هو أن يقعد معه حيث قعد، ويذهب معه حيث
ذهب ولا يفارقه.
قوله (أطردتك جرحهما) يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون من الطرد
بالتحريك وهو مزاولة الصيد للصيد كأنه يزاول جرحه ويختله من حيث لا يعلم.
والثاني يحتمل أن يكون معناه الاتباع، أي جعلت لك، أن تتبعه وتنظر زلاته
ومعايبه، من مطاردة الفرسان.
قوله (أمدا ينتهى إليه) الأمد الغاية كالمدى، يقال ما أمدك أي منتهى عمرك
قوله (والا استحالت عليه القضية) يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون من
الحلال ضد الحرام، أي جعل لك أن تقضى عليه ولم يحرم عليك والثاني أن
يكون من الحول ضد التأجيل، أي قد وجب القضاء عليه وحان حلوله ولم
يجز تأجيله.
قوله (أنفى للشك وأجلى العمى) أي أوضح وأبين، من جلا لي الخبر،
169

أي وضح وبان. والعمى ههنا أراد به عمى القلب والتحير عن الصواب.
قوله (هيبة الناس) الهيبة الاجلال والمخافة، وهبت الشئ وتهيبته أي خفته
قوله (لم يقبل في الترجمة إلا عدلين) يقال ترجم كلامه إذا فسره بلسان آخر
ومنه الترجمان والجمع والتراجم مثل زعفران وزعافر، ويقال ترجمان، ولك أن
تضم التاء بضم الجيم، فتقول ترجمان مثل سروع وسروع. قال:
كالترجمان لقي الانباطا.
القياس الجلي (1) نقيض الخفي. وجلوت الشئ أظهرته بعد خفائه، ولهذا
سمى الصبح ابن جلاء لأنه يجلو الأشخاص ويظهرها من ظلم الليل.
قوله (لا يؤمن أن يحرف (2) تحريف الكلام عن مواضعه تغييره
قوله (ختم الكتاب) أي يجعل عليه شئ من شمع أو ما شاكله ويعلم عليه
بعلامة من كتاب أو غيره، وأصله عند العرب ختم الدن وهو وعاء الخمر
بالطين. قال الأعشى:
وصهباء يطاوف يهوديها * وأبرزها وعليها ختم
دادويه هو خليفة باذام عامل النبي صلى الله عليه وسلم على اليمن، وهو أحد
قتلة الأسود العنسي الكذاب.
حديث (أن رجلا من حضرموت ورجلا من كنده...) أخرجه مسلم
والترمذي وصححه.
حديث (رد اليمين على صاحب الحق..) أخرجه البيهقي.
أثر أن المقداد استقرض من عثمان مالا فتحاكما... أخرجه البيهقي.
حديث عمر (البينة العادلة أحق...) أخرجه البيهقي

(1) كثيرا ما يأتي المقرر بكلمات لا مناسبة لها في المهذب ويشرحها، ومنها قوله (القياس الجلي) الخ
(2) الموجود في المهذب (فلا يؤمن أن يزوروا، ولكن المقرر غير يزور يحرف وفسر التحريف
170

حديث (شاهداك أو يمينه..)
عن الأشعث بن قيس قال: كان بيني وبين رجل خصومة في بئر فاختصما إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (شاهداك أو يمينه) فقلت انه إذا يحلف
ولا يبالي، فقال (من حلف عن يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر
لقى الله وهو عليه غضبان) متفق عليه.
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قضى بيمين وشاهد)
مسلم وأحمد، وفيها (إنما كان ذلك في الأموال).
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قضى باليمين مع الشاهد)
أحمد وابن ماجة والترمذي.
أثر كتب عمر إلى أبى موسى (واجعل لمن ادعى حقا غائبا..) سبق تخريجه
حديث (لا يمنع أحدكم هيبة الناس...) أخرجه البيهقي عن أبي سعيد
الخدري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم
بحق إذا علمه) قال أبو سعيد: فما زال بنا البلاء حتى قصرنا وإنا لنبلغ في السر،
وفى رواية قال: وذلك الذي حملني على أن رحلت إلى معاوية فملأت مسامعه ثم
رجعت. وفى رواية عنه (لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله عليه فيه مقال
لا يقوم به فيلقى الله فيقول ما منعك أن تقول يوم كذا وكذا؟ قال يا رب انى
خشيت الناس، قال إياي أحق أن تخشى)
حديث (هلا سترته بثوبك...) سبق تخريجه.
حديث كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الضحاك أن أورث امرأة
أقيم... أخرجه البيهقي.
171

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب القسمة.
تجوز قسمة الأموال المشتركة لقوله عز وجل (وإذا حضر القسمة أولو
القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا) ولان النبي
صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بشعب يقال له الصفراء، وقسم غنائم خيبر
على ثمانية عشر بينهما، وقسم غنائم حنين بأوطاس وقيل بالجعرانة، ولان
بالشركاء حاجة إلى القسمة ليتمكن كل واحد منهم من التصرف في ماله على الكمال
ويتخلص من كثرة الأيدي وسوء المشاركة.
(فصل) ويجوز لهم أن يتقاسموا بأنفسهم ويجوز أن ينصبوا من يقسم
بينهم ويجوز أن يرفعوا إلى الحاكم لينصب من أنفسهم بينهم، ويجب أن يكون
القاسم عالما بالقسمة ليوصل كل واحد منهم إلى حقه، كما يجب أن يكون الحاكم
عالما ليحكم بينهم بالحق، فإن كان القاسم من جهة الحاكم لم يجز أن يكون فاسقا
ولا عبدا، لأنه نصبه لالزام الحكم فلم يجز أن يكون فاسقا ولا عبدا فالحاكم،
فإن لم يكن فيها تقويم جاز قاسم واحد، وإن كان فيها تقويم لم يجز أقل من اثنين
لان التقويم لا يثبت إلا باثنين، وإن كان فيها خرص ففيه قولان.
(أحدهما) أنه يجوز أن يكون الخارص واحدا.
(والثاني) أنه يجب أن يكون الخارص اثنين
(فصل) إن كان القاسم نصبه الحاكم كانت أجرته من سهم المصالح، لما
روى أن عليا رضي الله عنه أعطى القاسم من بيت المال، ولأنه من المصالح
فكانت أجرته من سهم المصالح، فإن لم يكن في بيت المال شئ وجبت على
الشركاء على قدر أملاكهم لأنه مؤنة تجب لمال مشترك فكانت على قدر الملك
كنفقة العبيد والبهائم المشتركة، وإن كان القاسم نصبه الشركاء جاز أن يكون
فاسقا وعبدا لأنه وكيل لهم وتجب أجرته عليهم على ما شرطوا لأنه أجير لهم.
(فصل) وإن كان في القسمة رد فهو بيع لان صاحب الرد بذل المال
172

في مقابلة ما حصل له من حق شريكه عوضا، وإن لم يكن فيها رد ففيه قولان:
(أحدهما) أنها بيع لان كل جزء من المال مشترك بينهما فإذا أخذ نصف
الجميع فقد باع حقه بما حصل له من حق صاحبه.
(والقول الثاني) أنها فرز النصيبين وتمييز الحقين، لأنها لو كانت بيعا لم يجز
تعليقه على ما تخرجه القرعة، ولأنها لو كانت بيعا لافتقرت إلى لفظ التمليك
ولثبتت فيها الشفعة ولما تقدر بقدر حقه كسائر البيوع، فإن قلنا إنها بيع لم يجز
فيما لا يجوز بيع بعضه ببعض كالرطب والعسل الذي انعقدت أجزاؤه بالنار،
وإن قلنا إنها فرز النصيبين جاز.
وإن قسم الحبوب والادهان فإن قلنا إنها بيع لم يجز أن يتفرقا من غير قبض
ولم يجز قسمتها إلا بالكيل كما لا يجوز في البيع، وان قلنا إنها فرز النصيبين لم
يحرم التفرق فيها قبل التقابض ويجوز قسمتها بالتكيل والوزن.
وإن كانت بينهما ثمرة على شجرة، فإن قلنا إن القسمة بيع لم يجز قسمتها
خرصا كما لا يجوز بيع بعضها ببعض خرصا، وإن قلنا إنها تمييز الحقين فإن
كانت ثمرة غير الكرم والنخل لم تجز قسمتها لأنها لا يصح فيها الخرص، وإن كان
ت ثمرة النخل والكرم جاز لأنه يجوز خرصها للفقراء في الزكاة فجاز الشركاء
(فصل) وان وقف على قوم نصف أرض وأراد أهل الوقف أن يقاسموا
صاحب الطلق، فإن قلنا إن القسمة بيع لم يصح، وان قلنا إنها تمييز الحقين نظرت
فإن لم يكن فيها رد صحت وإن كان فيها رد، فإن كان من أهل الوقف جاز لأنهم
يتنازعون الطلق، وإن كان من أصحاب الطلق لم يجز لأنهم يتنازعون الوقف.
(فصل) وأن طلب أحد الشريكين القسمة وامتنع الآخر نظرت فإن لم يكن
على واحد منهم ضرر في القسمة كالحبوب والادهان والثياب الغليظة وما تساوت
أجزاؤه من الأرض والدور أجبر الممتنع لان الطالب يريد أن ينتفع بماله على
الكمال وأن يتخلص من سوء المشاركة من غير إضرار بأحد فوجبت اجابته إلى
ما طلب، وإن كان عليهما ضرر كالجواهر والثياب والمرتفعة إلى تنقص قيمتها
بالقطع والرحى الواحدة والبئر والحمام الصغير لم يجبر الممتنع لقوله صلى الله عليه
وسلم (لا ضرر ولا إضرار) وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إضاعة
173

المال، ولأنه إتلاف مال وسفه يستحق بها الحجر فلم يجبر عليه، وإن كان على
أحدهما ضرر دون الآخر نظرت فإن كان الضرر على الممتنع أجبر عليها. وقال
أبو ثور رحمه الله: لا يجبر لأنها قسمة فيها ضرر فلم يجبر عليها كما لو دخل الضرر
عليهما، وهذا خطأ لأنه يطلب حقا له فيه منفعة فوجبت الإجابة إليه، وإن كان
على المطلوب منه ضرر كما لو كان له دين على رجل لا يملك إلا ما يقصى به دينه،
وإن كان الضرر على الطالب دون الآخر ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يجبر لأنه قسمة لا ضرر فيها على أحدهما فأجبر الممتنع كما لو كان
الضرر على الممتنع دون الطالب.
(والثاني) أنه لا يجبر وهو الصحيح، لأنه يطلب ما لا يستضر به فلم يجبر
الممتنع، ويخالف إذا لم يكن على الطالب ضرر لأنه يطلب ما ينتفع به، وهذا
يطلب ما يستضر به، وذلك سفه فلم يجبر الممتنع.
(فصل) وإن كان بينهما دور أو أراض مختلفة في بعضها نخل وفى بعضها
شجر، أو بعضها يسقى بالسيح وبعضها يسقى بالناضح وطلب أحدهما أن يقسم
بينهما أعيانا بالقيمة وطلب الآخر قسمة كل عين، قسم كل عين
لان كل واحد منهما له حق في الجميع فجاز له أن يطالب بحقه في الجميع، وإن
كان بينهما عضائد متلاصقة وأراد أحدهما أن يقسم أعيانا وطلب الاخر أن
يقسم كل واحد منها على الانفراد ففيه وجهان (أحدهما) أنها تقسم أعيانا
كالدار الواحدة إذا كان فيها بيوت (والثاني) أنه يقسم كل واحدة منها، لان
كل واحدة على الانفراد فقسم كل واحد منها فالدور المتفرقة.
(فصل) فإن كان بينهما دار وطلب أحدهما أن تقسم فيجعل العلو لأحدهما
والسفل للآخر وامتنع الاخر لم يجبر الممتنع لان العلو تابع العرصة في القسمة
ولهذا لو كان بينهما عرصة وطلب أحدهما القسمة وجبت القسمة، ولو كان
بينهما غرفة فطلب أحدهما القسمة لم يجب، ولا يجوز أن يجعل التابع في
القسمة متبوعا.
(فصل) وإن كان بين ملكهما عرصة حائط فأراد أن تقسم طولا فيجعل.
174

لكل واحد منهما نصف الطول في كمال العرض واتفقا عليه جاز، وإن طلب
أحدهما ذلك وامتنع الآخر أجبر عليها لأنه لا ضرر فيها، وإن أرادا قسمتها
عرضا في كمال الطول واتفقا عليه جاز، وان طلب أحدهما وامتنع الآخر
ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه لا يجبر لأنه لا تدخله القرعة، لأنه إذا أقرع بينهما ربما
صار بهما مال كل واحد منهما إلى ناحية ملك الاخر ولا ينتفع به، وكل قسمة
لا تدخلها القرعة لا يجبر عليها كالقسمة التي فيها رد.
(والثاني) وهو الصحيح أنه يجبر عليها، لأنه ملك مشترك يمكن كل واحد
من الشريكين أن ينتفع بحصته إذا قسم فأجبر على القسمة، كما لو أراد أن يقسماها
طولا، فإن كان بينهما حائط فأراد قسمته نظرت فإن أراد قسمته طولا في كمال
العرض واتفقا عليه جاز، وإن أراد ذلك واحد وامتنع الآخر ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه لا يجبر لأنه لا بد من قطع الحائط وفى ذلك إتلاف (والثاني) أنه
يجبر وهو الصحيح لأنه تمكن قسمته على وجه ينتفعان به فأجبرا عليها كالعرصة
فإن أرادا قسمته عرضا في كمال الطول واتفقا عليها جاز، وان طلب أحدهما
وامتنع الاخر لم يجبر لان ذلك إتلاف وإفساد.
(فصل) وإن كان بينهما أرض مختلفة الاجزاء بعضها عامر وبعضها خراب
أو بعضها قوى وبعضها ضعيف أو بعضها شجر أو بناء وبعضها بياض أو بعضها
يسقى بالسيح وبعضها بالناضح نظرت، فإن أمكن التسوية بين الشريكين في جيده
ورديئه بأن يكون الجيد في مقدمها والردئ في مؤخرها، فإذا قسمت بينهما
نصفين صار إلى كل واحد منهما من الجيد والردئ مثل ما صار إلى الآخر من
الجيد والردئ فطلب أحدهما هذه القسمة أجبر الآخر عليها، لأنها كالأرض
المتساوية الاجزاء في امكان التسوية بينهما فيها، وان لم تمكن التسوية بينهما
في الجيد والردئ بأن كانت العمارة أو الشجر أو البناء في أحد النصفين دون
الآخر نظرت، فإذا أمكن أن يقسم قسمة تعديل بالقيمة بأن تكون الأرض
ثلاثين جريبا وتكون عشرة أجربة من جيدها بقيمة عشرين جريبا من رديئها
فدعا إلى ذلك أحد الشركين وامتنع الآخر ففيه قولان،
175

(أحدهما) أنه لا يجبر الممتنع لتعذر التساوي في الزرع وتوقف القسمة إلى
أن يتراضيا.
(والقول الثاني) أنه يجبر لوجود التساوي بالتعديل، فعلى هذا في أجرة
القسام وجهان:
(أحدهما) أنه يجب على كل واحد منهما نصف الأجرة، لأنهما يتساويان
في أصل الملك.
(والثاني) أنه يجب على صاحب العشرة ثلث الأجرة وعلى صاحب العشرين
ثلثاها لتفاضلهما في المأخوذ بالقسمة، وان أمكن قسمته بالتعديل وقسمة الرد
فدعا أحدهما إلى قسمة التعديل ودعا الآخر إلى قسمة الرد، فإن قلنا: إن قسمة
التعديل يجبر عليها فالقول قول من دعا إليها، لان ذلك مستحق، وان قلنا:
لا يجبر وقف إلى أن يتراضيا على إحداهما.
(فصل) وإن كانت بينهما أرض مزروعة وطلاب أحدهما قسمة الأرض
دون الزرع وجبت القسمة، لان الزرع لا يمنع القسمة في الأرض فلم يمنع
وجوبها كالقماش في الدار، وان طلب أحدهما قسمة الأرض والزرع لم يجبر،
لان الزرع لا يمكن تعديله، فإن تراضيا على ذلك فإن كان بذرا لم يجز قسمته
لأنه مجهول، وإن كان قد ظهر فإن كان مما لا ربا فيه كالقصيل والقطن جاز لأنه
معلوم مشاهد، وإن كان قد انعقد فيه الحب لم يجز لأنا ان قلنا إن القسمة بيع
لم يجز لأنه بيع أرض وطعام بأرض وطعام، ولأنه قسمة مجهول ومعلوم،
وان قلنا إن القسمة فرز النصيبين لم يجز لأنه قسمة مجهول ومعلوم
(فصل) وإن كان بينهما عبيد أو ماشية أو أخشاب أو ثياب فطلب أحدهما
قسمتها أعيانا وامتنع الآخر، فإن كانت متفاضلة يجبر الممتنع، وإن كانت
متماثلة ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبى العباس وأبي إسحاق وأبي سعيد
قول أبى علي بن خيران وأبى علي بن أبي هريرة أنه لا يجبر الممتنع لأنها أعيان
مختلفة فلم يجبر على قسمتها أعيانا كالدور المتفرقة.
176

(فصل) وإن كان بينهما منافع فأرادا قسمته مهايأة، وهو أن تكون العين
في يد أحدهما مدة ثم في يد الآخر مثل تلك المدة جاز، لان المنافع كالأعيان
فجاز قسمتها كالأعيان، وإن طلب أحدهما وامتنع الاخر لم يجبر الممتنع، ومن
أصحابنا من حكى فيه وجها آخر أنه يجبر كما يجبر على قسمة الأعيان، والصحيح
أنه لا يجبر لأنه حق كل واحد منهما تعجل فلا يجبر على تأخيره بالمهايأة، ويخالف
الأعيان فإنه لا يتأخر بالقسمة حق كل واحد، فإذا عقدا على مدة اختص كل
واحد منهما بمنفعة تلك المدة، وإن كان يحتاج إلى النفقة كالعبد والبهيمة كانت
نفقته على من يستوفى منفعته، وإن كسب العبد كسبا معتادا في مدة أحدهما
كان لمن هو في مدته، وهل تدخل فيها الأكساب النادرة كاللقطة والركاز والهبة
والوصية فيه قولان.
(أحدهما) أنها تدخل فيها لأنها كسب فأشبه المعتاد.
(والثاني) أنها لا تدخل فيها لان المهايأة بيع لأنه يبيع حقه من الكسب
في أحد اليومين بحقه في اليوم الآخر والبيع لا يدخل فيه إلا ما يقدر على تسليمه
في العادة، والنادر لا يقدر على تسليمه في العادة، فلم يدخل فيه، فعلى هذا
يكون بينهما.
(فصل) وينبغي للقاسم أن يحصى عدد أهل السهام ويعدل السهام بالاجزاء
أو بالقيمة أو بالرد، فإن تساوى عددهم وسهامهم كثلاثة بينهم أرض أثلاثا فله
أن يكتب الأسماء ويخرج على السهام، وله أن يكتب السهام ويخرج على الأسماء،
فإن كتب الأسماء كتبها في ثلاث رقاع في كل رقعة اسم واحد من الشركاء ثم يأمر
من لم يحضر كتب الرقاع والبندقة أن يخرج رقعة على السهم الأول، فمن خرج
اسمه أخذه ثم يخرج على السهم الثاني فمن خرج اسمه أخذه وتعين السهم الثالث
للشريك الثالث، فإن كتب السهام كتب في ثلاث رقاع، في رقعة السهم الأول،
وفى رقعة السهم الثاني، وفى رقعة السهم الثالث ثم يأمر بإخراج رقعة على اسم
أحد الشركاء، أي سهم خرج أخذه، ثم يأمر بإخراج رقعة على اسم آخر، فأي
سهم خرج أخذه الثاني، ثم يتعين السهم الباقي للشريك الثالث.
177

وإن اختلفت سهامهم فإن كان لواحد السدس وللآخر الثلث والثالث النصف
قسمتها على أقل السهام وهو السدس فيجعلها أسداسا ويكتب الأسماء ويخرج على
السهام فيأمر أن يخرج على السهم الأول، فإن خرج اسم صاحب السدس أخذه
ثم يخرج على السهم الثاني إن خرج اسم صاحب الثلث أخذ الثاني والذي يليه،
لأنه له سهمين وتعين الباقي لصاحب النصف.
وإن خرجت الرقعة الأولى على اسم صاحب النصف أخذ السهم الأول
والذين يليانه وهو الثاني والثالث ثم يخرج على السهم الرابع، فإن خرج اسم
صاحب الثلث أخذه والسهم الذي يليه وهو الخامس وتعين السهم السادس
لصاحب السدس، وإنما قلنا إنه يأخذ مع الذي يليه لينتفع بما يأخذه ولا يستضر
به ولا يخرج في هذا القسم السهام على الأسماء لأنا لو فعلنا ذلك ربما خرج السهم
الرابع لصاحب النصف فبقول آخذه وسهمين قبله، ويقول الآخران بل نأخذه
وسهمين بعده فيؤدى إلى الخلاف والخصومة.
(فصل) وإذا ترافع الشريكان إلى الحاكم وسألاه أن ينصب من يقسم بينهما
فقسم قسمة اجبار لم يعتبر تراضى الشركاء، لأنه لما لم يعتبر التراضي في ابتداء
القسمة لم يعتبر بعد خروج القرعة، فإن نصب الشريكان قاسما فقسم بينهما
فالمنصوص أنه يعتبر التراضي في ابتداء القسمة وبعد خروج القرعة، وقال في
رجلين حكما رجلا ليحكم بينهما ففيه قولان.
(أحدهما) أنه يلزم الحكم ولا يعتبر رضاهما.
(والثاني) أنه لا يلزم الحكم إلا برضاهما والقاسم ههنا بمنزلة هذا الحاكم لأنه
نصبه الشريكان فيكون على قولين، أحدهما وهو المنصوص أنه يعتبر الرضى
بعد خروج القرعة، لأنه لما اعتبر الرضا في الابتداء اعتبر بعد خروج القرعة
والثاني أن لا يعتبر، لان القسام مجتهد في تعديل السهام والاقراع، فلم يعتبر
الرضى بعد حكمه كالحاكم، وإن كان في القسمة رد وخرجت القرعة لم تلزم إلا
بالتراضي. وقال أبو سعيد الإصطخري تلزم من غير تراض كقسمة الاجبار،
178

وهذا خطأ لان في قسمته الاجبار لا يعتبر الرضى في الابتداء، وههنا يعتبر
فاعتبر بعد القرعة.
(فصل) إذا تقاسما أرضا ثم ادعى أحدهما غلطا، فإن كان في قسمة اجبار
لم يقبل قوله من غير بينة، لان القاسم كالحاكم فلم تقبل دعوى الغلط عليه من
غير بينة كالحاكم، فإن أقام البينة على الغلط نقضت القسمة، وإن كان في قسمة
اختيار نظرت فإن تقاسما بأنفسهما من غير قاسم لم يقبل قوله لأنه رضى بأخذ
حقه ناقصا، وان أقام بينة لم تقبل لجواز أن يكون قد رضى دون حقه ناقصا
وان قسم بينهما قاسم نصباه، فإن قلنا إنه يفتقر إلى التراضي بعد خروج القرعة
لم تقبل دعواه لأنه رضى بأخذ الحق ناقصا، وان قلنا إنه لا يفتقر إلى التراضي
بعد خروج القرعة فهو كقسمة الاجبار فلا يقبل قوله الا ببينة، فإن كان في
القسمة رد لم يقبل قوله على المذهب، وعلى قول أبي سعيد الإصطخري هو
كقسمة الاجبار فلم يقبل قوله الا ببينة.
(فصل) وان تنازع الشريكان بعد القسمة في بيت في دار اقتسماها فادعى
كل واحد منهما أنه في سهمه ولم يكن له بينة تحالفا ونقضت القسمة كما قلنا في
المتبايعين، وأن وجد أحدهما بما صار إليه عينا فله الفسخ كما قلنا في البيع
(فصل) إذا اقتسما أرضا ثم استحق مما صار لأحدهما شئ بعينه نظرت
فإن استحق مثله من نصيب الاخر أمضيت القسمة، وان لم يستحق من حصة
الاخر مثله بطلت القسمة، لان لمن استحق ذلك من حصته أن يرجع في سهم
شريكه، وإذا استحق ذلك عادت الإشاعة، وإذا استحق جزء مشاع بطلت
القسمة في المستحق، وهل تبطل في الباقي فيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة أنه يبنى على تفريق الصفقة
فإن قلنا إن الصفقة لا تفرق بطلت القسمة في الجميع، وان قلنا إنها تفرق
صحت في الباقي.
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق أن القسمة تبطل في الباقي قولا واحدا،
179

لان القصد من القسمة تمييز الحقين ولم يحصل ذلك لان المستحق صار شريكا
لكل واحد منهما فبطلت القسمة.
(فصل) إذا قسم الوارثان التركة ثم ظهر دين على الميت فإنه يبنى على بيع
التركة قبل قضاء الدين، وفيه وجهان ذكرناهما في التفليس، فإن قلنا إن القسمة
تمييز الحقين لم تنقض القسمة، وإن قلنا إنها بيع ففي نقضها وجهان والله أعلم
(الشرح) قسم غنائم بدر بشعب.. سبق تخريجه في باب الغنائم.
وروى البخاري ومسلم من حديث جابر ومن حديث ابن مسعود وغيرهما
أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم الغنائم بين المسلمين.
حديث (قسم غنائم خيبر...) سبق تخريجه في باب الغنائم
حديث (قسم غنائم حنين...) سبق تخريجه في باب الغنائم
أثر (أن عليا رضي الله عنه أعطى القاسم...) لم أجده
حديث (لا ضرر ولا ضرار) أخرجه ابن ماجة والدارقطني من حديث
أبي سعيد، وكذلك رواه مالك مرسلا وحسنه النووي في الأربعين النووية
حديث (نهى عن إضاعة المال) أخرج البخاري ومسلم عن المغير بن شعبة
(إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ووأد البنات ومنعا وهات وكره لكم قيل
وقال وكثرة السؤال وإضاعة المال)
اللغة قوله (فارزقوهم منه) أي أعطوهم، والرزق العطاء، ورزق الجند
عطاؤهم، وقولوا لهم قولا معروفا. قال في التفسير قولا جميلا للاعتذار
قوله (وإن كان في القسمة رد) الرد ما يرده أحد الشريكين إلى صاحبه إذا
لم يتعادل الجزءان فيرد صاحب الجزء الكثير على صاحب القليل، من رده
إذا رجعه إليه.
قوله (فرز النصيبين) الفرز مصدر فرزت الشئ أفرزه فرزا إذا عزلته
عن غيره وميزته، والقطعة منه فرزة بالكسر، وكذلك أفرزته بالهمز وكذلك
التمييز مثله، لا ضرر ولا إضرار، وقد ذكر
قوله (صاحب الطلق) بكسر الطاء هو ضد الوقف، سمى طلقا لان مالكه
180

مطلق التصرف فيه والوقف غير مطلق التصرف بل هو ممنوع من بيعه وهبته،
والمطلق أيضا الحلال.
قوله (أراض) قال أهل النحو لا يجوز جمع أرض على أراض والصواب
أرضون بفتح الراء لان أفاعل جمع أفعل كأحمر وأحامر وأفكل وأفاكل، ولا
يجمع فعل على أفاعل بل يجمع على أرضين وأراض في القليل وأروض
أيضا، وقال الجوهري: أراض جمع وآراض جمع الجمع
قوله (يسقى بالسيح) هو الماء الجاري على وجه الأرض، وقد ذكر في
الزكاة، والناضح البعير الذي يستقى عليه، والأنثى ناضحة وسانية، والناضح الذي
ينضح على البعير أي يسوق السانية ويسقى بخلاف غيره.
قوله (وإن كان بينهما عضائد) أراد دكاكين متلاصقة متوالية البناء، قال
الجوهري: أعضاء كل شئ ما يسند حوله من البناء وغيره كأعضاد الحوض،
وهي حجارة تنصب حول شفيره، ولعلها سميت عضائد من هذا البناء، ويقال
عضد من نخل إذا كانت منعطفة متساوية، والعرصة هي ساحة فارغة لا بناء
فيها بين الدور، والجمع العراص والعرصات، والحائط معروف وهو الجدار،
سمى حائطا لأنه يحيط بما دونه.
قوله (فأراد قسمتها مهايأة) المهايأة أصلها الاصلاح، وهيأت الشئ أصلحته
وهي مفاعلة من ذلك، فإذا تصالحا على هذه القسمة قيل تهايأ مهايأة، والأكساب
المبادرة التي تشذ ويعدم وجودها في كل حين.
قوله (جزء مشاع) من أشعت الخبر أي أذعته فهو شائع في الناس لا يعلمه
واحد دون واحد، كذلك الشئ المشاع بين الشركاء لا يختص به واحد
دون واحد قوله (التركة) ذكرنا أن التركة ما يتركه الميت تراثا فعلة من الترك
والنظر في هذا الكتاب في:
1 - القاسم 2 - المقسوم عليه 3 - القسمة
والقسمة تنقسم أولا إلى قسمين (1) قسمة رقاب الأموال (2) منافع الرقاب
181

فأما قسمة الرقاب التي لا تكال ولا توزن فتقسم بالجملة إلى ثلاثة أقسام:
1 - قسمة قرعة بعد تقويم وتعديل
2 - قسمة مراضاة بعد تقويم وتعديل
3 - قسمة مراضاة بغير تقويم ولا تعديل
وأما ما يكال أو يوزن فبالكيل والوزن. وأما الرقاب فإنها تنقسم إلى ثلاثة
أقسام: ما لا ينقل ولا يحول وهي الرباع والأصول، وما ينقل ويحول، وهذا
قسمان، إما غير مكيل ولا موزون وهو الحيوان والعروض، وإما مكيل أو
موزون، ففي هذا الباب ثلاثة فصول: الأول في الرباع والأصول، والثاني في
العروض، والثالث في المكيل والموزون.
الرباع والأصول
فيجوز أن تقسم بالتراضي وبالسهمة إذا عدلت بالقيمة، اتفق أهل العلم على
ذلك اتفاقا مجملا. وإن كانوا اختلفوا في محل ذلك وشروطه، والقسمة لا تخلو
أن تكون في محل واحد أو في محال كثيرة، فإذا كانت في محل واحد فلا خلاف
في جوازها إذا انقسمت إلى أجزاء متساوية بالصفة ولم تنقص منفعة الاجزاء
بالانقسام ويجبر الشركاء على ذلك، وأما إذا انقسمت إلى ما لا منفعة فيه،
فاختلف في ذلك مالك وأصحابه، فقال مالك أنها تقسم بينهم إذا دعى أحدهم
لذلك، ولو لم يصر لواحد منهم الا مالا منفعة فيه، مثل قدر القدم، وبه قال
ابن كنانة من أصحابه فقط، وهو قول أبي حنيفة والشافعي.
وقال ابن القاسم لا يقسم إلا أن يصير لكل واحد في حظه ما ينتفع به من
غير مضرة داخلة عليه في الانتفاع من قبل القسمة، وإن كان لا يراعى في ذلك
نقصان الثمن.
وقال ابن الماجشون يقسم إذا صار لكل واحد منهم ما ينتفع به، وإن كان
من غير جنس المنفعة التي كانت في الاشتراك أو كانت أقل، وقال مطرف من
أصحابه: إن لم يصر في حظ كل واحد ما ينتفع به لم يقسم، وان صار في حظ
بعضهم ما ينتفع به وفى حظ بعضهم مالا ينتفع به قسم وجبروا على ذلك، سواه
182

دعا إلى ذلك صاحب النصيب القليل أو الكثير، وقيل يجبر إن دعا صاحب
النصيب القليل، ولا يجبر ان دعا صاحب النصيب الكثير، وقيل بعكس هذا
وهو ضعيف.
واختلفوا من هذا الباب فيما إذا قسم انتقلت منفعته إلى منفعة أخرى مثل
الحمام، فقال مالك يقسم إذا طلب ذلك أحد الشريكين، وبه قال أشهب. وقال
ابن القاسم لا يقسم، وهو قول الشافعي، فعمدة من منع القسمة قوله صلى الله
عليه وسلم (لا ضرر ولا ضرار).
وقوله (لا تعضية على أهل الميراث إلا ما حمل القسم) والتعضية التفرقة وعمدة من رأى
القسمة قوله تعالى (مما قل أو كثر نصيبا مفروضا). أما إذا كانت الرباع أكثر
من واحد فإنها لا تخلو أيضا أن تكون من نوع واحد ومختلفة الأنواع، فإذا
كانت متفقة الأنواع فإن فقهاء الأمصار في ذلك مختلفون، فقال مالك إذا كانت
متفقة الأنواع قسمت بالتقويم والتعديل والسهمة.
وقال أبو حنيفة والشافعي: بل يقسم كل عقار على حدته، فعمدة ذلك أنه
أقل للضرر الداخل على الشركاء من القسمة، وعمدة الفريق الثاني أن كل عقار
قائم بنفسه لأنه تتعلق به الشفعة.
واختلف أصحاب مالك إذا اختلفت الأنواع المتفقة في النفاق وإن تباعدت
مواضعها على ثلاثة أقوال.
وأما إذا كانت الرباع مختلفة مثل أن يكون منها دور ومنها حوائط ومنها
أرض فلا خلاف أنه لا يجمع في القسمة بالسهمية، ومن شرط قسمة الحوائط
المثمرة أن لا تقسم مع الثمرة إذا بدا صلاحها باتفاق، وأما قسمتها قبل بدو
الصلاح ففيه اختلاف، وأما إن كان بعد الإبار فإنه لا يجوز الا بشرط.
وصفة القسم بالقرعة أن تقسم الفريضة وتحقق وتضرب إن كان في سهامها
كسر إلى أن تصح السهام، ثم تقوم كل موضع منها وكل نوع من غراساتها، ثم
يعدل على أقل السهام بالقيمة، فإذا قسمت على هذه الصفات وعملت وكتبت في
بطائق أسماء المشتركين وأسماء الجهات، فمن خرج اسمه في جهة أخذ منها، وقيل
يرمى بالأسماء في الجهات، فهذه هي حال قرعة السهم في الرقاب، والسهمة إنما
183

جعلها الفقهاء في القسمة تطيبا لنفوس المتقاسمين، وهي موجودة في الشرع في
قوله تعالى (فساهم فكان من المدحضين) (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم)
والأثر الصحيح الذي جاء فيه أن رجلا أعتق ستة أعبد عند موته فأسهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم بينهم فأعتق ثلث ذلك الرقيق.
وأما القسمة بالتراضي سواء كانت بعد تعديل وتقويم أو بغير تقويم وتعديل
فتجوز في الرقاب المتفقة والمختلفة.
(العروض)
وأما الحيوان والعروض فاتفق الفقهاء على أنه لا يجوز قسمة واحد منها
للفساد الداخل في ذلك، واختلفوا إذا تشاح الشريكان في العين الواحدة منهما
ولم يتراضيا الانتفاع بها على الشياع وأراد أحدهما أن يبيع صاحبه معه، فقال
مالك وأصحابه يجبر على ذلك، فإن أراد أحدهما أن يأخذ بالقيمة التي أعطى
فيها أخذه.
وقال أهل الظاهر لا يجبر لان الأصول تقتضي أن لا يخرج ملك أحد من
يده الا بدليل من كتاب أو سنة أو اجماع، وحجة مالك أن في ترك الاجبار
ضررا وهذا من باب القياس المرسل، وقد قلنا في غير ما موضع أنه ليس يقول
به أحد من فقهاء الأمصار الا مالك، ولكنه كالضروري في بعض الأشياء،
وأما إذا كانت العروض أكثر من جنس واحد فاتفق العلماء على قسمتها على
التراضي واختلفوا في قسمتها بالتعديل والسهمة.
(المكيل والموزون)
فلا تجوز فيه القرعة باتفاق، والمكيل لا يخلو أن يكون صبرة أو صبرتين
فزائدا فلا يخلو أن تكون قسمته على الاعتدال بالكيل أو الوزن إذا دعا إلى
ذلك أحد الشريكين، ولا خلاف في جواز قسمته على التراضي على التفصيل
البين كان ذلك من الربوي أو من غير الربوي، أعني الذي لا يجوز فيه التفاضل
ويجوز ذلك بالكيل المعلوم والمجهول، ولا يجوز قسمته جزافا بغير كيل ولا
وزن وأما إن كانت قسمته تحريا فقيل لا يجوز في المكيل ويجوز في الموزون
184

ويدخل في ذلك من الخلاف ما يدخل في جواز بيعه تحريا، وأما إن لم يكن
ذلك من صبرة واحدة وكانا صنفين، فإن كان ذلك مما لا يجوز فيه التفاضل فلا
تجوز قسمتها على جهة الجمع إلا بالكيل المعلوم فيم يكال وبالوزن بالصنجة
المعروفة فيما يوزن، لأنه إن كان بمكيال مجهول لم يدر كم يحصل فيه من الصنف
الواحد إذا كانا مختلفين من الكيل المعلوم، وهذا كله مذهب مالك، وأما إن
كان مما يجوز فيه التفاضل فيجوز قسمته على الاعتدال والتفاضل المعروف
بالمكيال المعروف أو الصنجة المعروفة.
(قسمة المنافع)
فإنها لا تجوز بالسهمة على مذهب ابن القاسم ولا يجبر عليها من أباها ولا
تكون القرعة على قسمة المنافع، وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أنه يجبر على
قسمة المنافع، وقسمة المنافع هي عند الجميع بالمهايأة، وذلك اما بالأزمان واما
بالأعيان، أما قسمة المنافع بالأزمان فهو أن ينتفع كل واحد منهما بالعين مدة
مساوية لمدة انتفاع صاحبه، وأما قسم الأعيان بأن يقسما الرقاب على أن ينتفع
كل واحد منهما بما حصل له مدة محدودة والرقاب باقية على أصل الشركة، وفى
قسمة المنافع بالزمان واختلاف في تحديد المدة التي يجوز فيها القسمة لبعض
المنافع دون بعض للاغتلال أو الانتفاع مثل استخدام العبد وركوب الدابة
وزراعة الأرض، وذلك أيضا فيما ينقل ويحول أو لا ينقل ولا يحول، فأما
فيما ينقل ويحول فلا يجوز عند مالك وأصحابه في المدة الكثير ويجوز في المدة
اليسيرة وذلك في الاغتلال الانتفاع واما فيما لا ينقل ولا يحول فيجوز
المدة البعيدة والأجل البعيد وذلك في الاغتلال والانتفاع.
واختلفوا في المدة اليسيرة فيما ينقل ويحول في الاغتلال، فقيل اليوم الواحد
ونحوه، وقيل لا يجوز ذلك في الدابة والعبد وأما الاستخدام فقيل يجوز في
الخمسة الأيام، وقيل في الشهر وأكثر من الشهر قليلا.
وأما التهايؤ في الأعيان بأن يستعمل هذا دارا مدة من الزمان وهذا دارا
تلك المدة بعينها، فقيل يجوز في سكنى الدار وزراعة الأرضين ولا يجوز ذلك
185

في الغلة والكراء إلا في الزمان اليسير، وقيل يجوز على قياس التهايؤ بالأزمان
وكذلك القول في استخدام العبد والدواب يجرى القول فيه على الاختلاف
في قسمتها بالزمان.
وقالت الحنابلة: والقسمة نوعان عن تراض أو إجبار ولا قسمة في مشترك
إلا برضا الشركاء كلهم حيث كان في القسمة ضرر ينقص القيمة كحمام ودور
صغار وشجر مفرد وحيوان، وحيث تراضيا صحت وكانت بيعا يثبت فيها ما يثبت
فيه من الأحكام.
وإن لم يتراضيا ودعا أحدهما شريكه إلى البيع في ذلك أو إلى بيع عبد أو
بهيمة أو سيف ونحوه مما هو شركة بينهما أجبر ان امتنع، فإن أبى بيع عليهما
وقسم الثمن ولا إجبار في قسمة المنافع، فإن اقتسماها بالزمن كهذا شهرا والآخر
مثله أو بالمكان كهذا في بيت والاخر في بيت صح جائزا ولكل الرجوع.
النوع الثاني قسمة إجبار وهي ما لا ضرر فيها ولا رد عوض، وتتأتى في
مكيل وموزون وفى دار كبيرة وأرض واسعة ويدخل الشجر تبعا، وهذا النوع
ليس بيعا فيجبر الحاكم أحد الشريكين إذا امتنع، ويصح أن يتقاسما بأنفسهما
وأن ينصبا قاسما بينهما، ويشترط إسلامه وعدالته وتكليفه ومعرفته بالقسمة
وأجرته على قدر أملاكهما، وان تقاسما بالقرعة جاز ولزمت القسمة بمجرد
خروج القرعة ولو فيما فيه رداءة وضرر.
وان خير أحدهما الاخر بلا قرعة وتراضيا لزمت بالتفرق، وان خرج في
نصيب أحدهما عيب جهله خير بين فسخ وامساك ويأخذ الأرش، وان غبن
غبنا فاحشا بطلت، وان ادعى كل أن هذا من سهمه تحالفا ونقضت، وان
حصلت الطريق في حصة أحدهما ولا منفذ للآخر بطلت.
186

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الدعوى والبينات
لا تصح دعوى مجهول في غير الوصية، لان القصد بالحكم فصل الحكومة
والتزام الحق ولا يمكن ذلك في المجهول، فإن كان المدعى دينا ذكر الجنس والنوع
والصفة، وإن كان عينا باقيا ذكر صفتها، وإن ذكر قيمتها كان أحوط، وإن
كانت العين تالفة، فإن كان لها مثل ذكر صفتها، وإن ذكر القيمة كان أحوط،
وإن لم يكن لها مثل ذكر قيمتها، وإن كان المدعى سيفا محلى أو لجاما محلى، فإن
كان بفضة قومه بالذهب، وإن كان بالذهب قومه بالفضة، وإن كان محلى بالذهب
والفضة قومه بما شاء منهما.
وإن كان المدعى مالا عن وصية جاز أن يدعى مجهولا، لان بالوصية يملك
المجهول، ولا يلزم في دعوى المال ذكر السبب الذي ملك به لان أسبابه كثيرة
فيشق معرفة سبب كل درهم فيه، وإن كان المدعى قتلا لزمه ذكر صفته وأنه عمد
أو خطأ وأنه انفرد به أو شاركه فيه غيره، ويذكر صفته وأنه عمد
أو خطأ وأنه انفرد به أو شاركه فيه غيره، ويذكر صفة العمد لان القتل
لا يمكن تلافيه، فإذا لم يبين لم تؤمن أن يقتص فيما لا يجب فيه القصاص، وإن كان
المدعى نكاحا فقد قال الشافعي رحمه الله: لا يسمع حتى يقول نكحتها بولي
وشاهدين ورضاها، فمن أصحابنا من قال لا يشترط لأنه دعوى ملك فلا يشترط
فيه ذكر السبب كدعوى المال، وما قال الشافعي رحمه الله ذكره على سبيل
الاستحباب، كما قال في امتحان الشهود إذا ارتاب بهم.
ومنهم قال إن ذلك شرط لأنه مبنى على الاحتياط وتتعلق العقوبة بجنسه،
فشرط في دعواه ذكر الصفة كدعوى القتل.
ومنهم قال إن كان يدعى ابتداء النكاح لزمه ذكره لأنه شرط في الابتداء،
وإن كان يدعى استدامة النكاح لم يشترط لأنه ليس بشرط في الاستدامة، وان
ادعت امرأة على رجل نكاحا، فإن كان مع النكاح حق تدعيه من مهر أو نفقة
سمعت دعواها، وان لم تدع حقا سواه ففيه وجهان
187

(أحدهما) أنه لا تسمع دعواها لان النكاح حق للزوج على المرأة فإذا
ادعت المرأة كان ذلك اقرارا، والاقرار لا يقبل مع انكار المقر له، كما لو
أقرت له بدار.
(والثاني) أنه تسمع لان النكاح يتضمن حقوقا لها فصح دعواها فيه، وإن كان
المدعى بيعا أو إجارة ففيه ثلاثة أوجه:
(أحدها) أنه لا يفتقر إلى ذكر شروطه لان المقصود به المال فلم يفتقر
إلى ذكر شروطه كدعوى المال.
(والثاني) أنه يفتقر إلى ذكر شروطه لأنه دعوى عقد فافتقر إلى ذكر
شروطه كالنكاح.
(والثالث) أنه إن كان في غير الجارية لم تفتقر لأنه لا يقصد به غير المال
وإن كان في جارية افتقر لأنه يملك به الوطئ فأشبه النكاح، وما لزم ذكره في
الدعوى ولم يذكره، سأله الحاكم عنه ليذكره، فتصير الدعوى معلومة
فيمكن الحكم بها.
(فصل) وإن ادعى عليه مالا مضافا إلى سببه فإن ادعى عليه ألفا اقترضه
أو أتلف عليه فقال ما أقرضني أو ما أتلفت عليه صح الجواب لأنه أجاب عما
ادعى عليه، وان لم يتعرض لما ادعى عليه بل قال لا يستحق على شيئا صح
الجواب ولا يكلف انكار ما ادعى عليه من القرض أو الاتلاف لأنه يجوز أن
يكون قد أقرضه أو أتلف عليه ثم قضاه أو أبرأه منه، فإن أنكره كان كاذبا في
إنكاره وإن أقر به لم يقبل قوله إنه قضاء أو أبرأه منه فيستضر به، وان أنكر
الاستحقاق كان صادقا ولم يكن عليه ضرر.
(فصل) وان ادعى على رجل دينا في ذمته فأنكره لم تكن بينة فالقول
قوله مع يمينه لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم، لكن
اليمين على المدعى عليه، ولان الأصل براءة ذمته فجعل القول قوله وان ادعى
عينا في يده فأنكره ولا بينة فالقول قوله مع يمينه لما روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال في قصة الحضرمي والكندي شاهداك أو يمينه، ولأن الظاهر من اليد
188

الملك فقبل قوله، وإن تداعيا عينا في يدهما ولا بينة حلفا وجعل المدعى بينهما
نصفين لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رجلين تداعيا دابة ليس
لأحدهما بينة فجعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما، ولان يد كل واحد
منهما على نصفها فكان القول فيه قوله، كما لو كانت العين في يد أحدهما.
(فصل) وإن تداعيا عينا ولأحدهما بينة وهي في يدهما أو في يد أحدهما
أو في يد غيرهما حكم لمن له البينة لقوله صلى الله عليه وسلم (شاهدان أو يمينه)
فبدأ بالحكم بالشهادة، ولان البينة حجة صريحة في إثبات الملك لا تهمة فيها،
واليد تحتمل الملك وغيره، والذي يقويها هو اليمين وهو متهم فيها فقدمت البينة
عليها، وإن كان لكل واحد منهما بينة نظرت فإن كانت العين في يد أحدهما
قضى لمن له اليد من غير يمين ومن أصحابنا من قال لا يقضى لصاحب اليد من
غير يمين لان بينته تعارضها بينة المدعى فتسقطها ويبقى له اليد. واليد لا يقضى
بها من غير يمين، المنصوص أنه يقضى له من غير يمين لان معه بينة معها
ترجيح وهو اليد ومع الآخر بينة لا ترجيح معها، والحجتان إذا تعارضتا ومع
إحداهما ترجيح قضى بالتي معها الترجيح، كالخبرين إذا تعارضا ومع أحدهما
قياس، وإن كانت العين في يد أحدهما فأقام الآخر بينة فقضى له وسلمت العين
إليه ثم أقام صاحب اليد بينة أنها له نقض الحكم وردت العين إليه، لأنا حكمنا
للآخر ظنا منا أنه لا بينة له، فإذا أتى بالبينة بان لنا أنه كانت له يد وبينة فقدمت
على بينة الآخر.
(فصل) وإن كان لكل واحد منهما بينة والعين في يدهما أو في يد غيرهما
أو لا يد لأحدهما عليها تعارضت البينتان، وفيهما قولان (أحدهما) أنهما
يسقطان وهو الصحيح لأنهما حجتان تعارضتا ولا مزية لإحداهما على الأخرى
فسقطتا كالنصين في الحادثة، فعلى هذا يكون الحكم فيه، كما لو تداعيا ولا بينة
لواحد منهما.
(والثاني) أنهما يستعملان وفى كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال. أحدها أنه
يوقف الامر إلى أن ينكشف أو يصطلحا، لان إحداهما صادقة والأخرى كاذبة
ويرجى معرفة الصادقة فوجب التوقف، كالمرأة إذا زوجها وليان أحدهما بعد
189

الآخر وفى السابق منهما. والثاني أنه يقسم بينهما لان البينة حجة كاليد،
ولو استويا في اليد قسم بينهما فكذلك إذا استويا في البينة. والثالث أنه يقرع
بينهما فمن خرجت له القرعة حكم له لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى فوجب
التقديم بالقرعة كالزوجتين إذا أراد الزوج السفر بإحداهما.
(فصل) وإن كانت بينة أحدهما شاهدين وبينة الآخر أربعة وأكثر فهما
متعارضتان وفيهما القولان لان الاثنين مقدران بالشرع فكان حكمهما وحكم
ما زاد سواء، وإن كانت إحدى البينتين أعدل من الأخرى فهما متعارضتان
وفيهما القولان، ولأنهما متساويتان في إثبات الحق.
وإن كانت بينة أحدهما شاهدين وبينة الآخر شاهدا وامرأتين فهما
متعارضتان وفيهما القولان لأنهما يتساويان في إثبات المال، وإن كانت بينة
أحدهما شاهدين وبينة الاخر شاهدا ويمينا ففيه قولان (أحدهما) أنهما يتعارضان
وفيهما القولان لأنهما تساويا في اثبات المال (والقول الثاني) أنه يقضى لمن له
الشاهدان لان بينته مجمع عليها وبينة الاخر مختلف فيها.
(فصل) وإن كانت العين في يد غيرهما فشهدت بينة أحدهما بأنه ملكه من
سنة وشهدت بينة الآخر أنه ملكه من سنتين ففيه قولان. قال في البويطي هما
سواء لان القصد إثبات الملك في الحال وهما متساويتان في اثبات الملك في الحال
والقول الثاني أن التي شهدت بالملك المتقدم أولى وهو اختيار المزني وهو الصحيح
لأنها انفردت بإثبات الملك في زمان لا تعارضها فيه البينة الأخرى. وأما إذا
كان الشئ في يد أحدهما فإن كان في يد من شهد له بالملك المتقدم حكم له، وإن كان
في يد الآخر فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبوا لعباس رحمه الله بيني على
القولين في المسألة قبلها ان قلنا إنهما يتساويان حكم لصاحب اليد، وان قلنا إن
التي شهدت بالملك المتقدم تقدم قدمت ههنا أيضا لان الترجيح من جهة البينة
أولى من الترجيح باليد.
ومن أصحابنا من قال يحكم به لمن هو في يده قولا واحدا لان اليد الموجودة
أولى من الشهادة بالملك المتقدم.
وأما إذا تداعيا دابة وأقام أحدهما بينة أنها ملكه نتجت في ملكه، وأقام
190

الآخر أنها دابته ولم يذكر النتاج فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو العباس
الحكم فيه كالحكم في الشهادة بالملك المتقدم وفيها قولان، لان الشهادة بالنتاج
كشهادته بالملك المتقدم.
وقال أبو إسحاق: يحكم لمن شهدت له البينة بالنتاج قولا واحدا، لان بينة
النتاج تنفى أن يكون الملك لغيره، والبينة بالملك المتقدم لا تنفى أن يكون الملك
قبل ذلك لغير المشهود له
(فصل) إذا ادعى رجل دارا في يد رجل وأقام بينة أن هذه الدار كانت
في يده أو في ملكه أمس فقد نقل المزني والربيع أنه لا يحكم بهذه الشهادة،
وحكى البويطي أن يحكم بها، فقال أبو العباس فيها قولان: أحدهما أنه يحكم
بذلك لأنه قد ثبت بالبينة أن الدار كانت له والظاهر بقاء الملك. والقول الثاني
أنه لا يحكم بها وهو الصحيح لأنه ادعى ملك الدار في الحال وشهدت له البينة
بما لم يدعه فلم يحكم بها، كما لو ادعى دارا فشهدت له البينة بدار أخرى. وقال
أبو إسحاق لا يحكم بها قولا واحدا، وما ذكره البويطي من تخريجه.
(فصل) وان ادعى رجل على رجل دارا في يده وأقر بها لغيره نظرت فإن
صدقه المقر له حكم له، لأنه مصدق فيما في يده، وقد صدقه المقر له فحكم له
وتنتقل الخصومة إلى المقر له، فإن طلب المدعى يمين المقر أنه لا يعلم أنها له
ففيه قولان بناء على من أقر بشئ في يده لغيره ثم أقر به لآخر، وفيه قولان:
(أحدهما) يلزمه أن يغرم الثاني.
(والثاني) لا يلزمه، فإن قلنا يلزمه أن يغرم حلف لأنه ربما خاف أن يحلف
فيقر للثاني فيغرم له، وان قلنا لا يلزمه لم يحلف لأنه ان خاف من اليمين فأقر
للثاني لم يلزمه شئ فلا فائدة في تحليفه، وان كذبه المقر ففيه وجهان:
(أحدهما) وهو قول أبى العباس أنه يأخذها الحاكم ويحفظها إلى أن يجد
صاحبها، لان الذي في يده لا يدعيها والمقر له أسقط اقراره بالتكذيب وليس
للمدعى بينة فلم يبق الا أن يحفظها الحاكم كالمال الضال
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق أنه يسلم إلى المدعى، لأنه ليس ههنا من
191

يدعيه غيره، وهذا خطأ لأنه حكم بمجرد الدعوى، وان أقر بها لغائب ولا بينة
وقف الامر إلى أن يقدم الغائب لان الذي في يده لا يدعيها ولا بينة تقضى بها
فوجب التوقف، فإن طلب المدعى يمين المدعى عليه أنه لا يعلم أنها له فعلى
ما ذكرناه من القولين. وإن كان للمدعى بينة قضى له، وهل يحتاج إلى أن
يحلف مع البينة فيه وجهان:
(أحدهما) أنه يحتاج أن يحلف مع البينة لأنا حكمنا بإقرار المدعى عليه أنها
ملك للغائب، ولا يجوز القضاء بالبينة على الغائب من غير يمين.
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق انه لا يحتاج أن يحلف لأنه قضاء على
الحاضر وهو المدعى عليه، وإن كان مع المدعى عليه بينة أنها للغائب فالمنصوص
أنه يحكم ببينة المدعى وتسلم إليه، ولا يحكم ببينة المدعى عليه وإن كان معها يد
لان بينة صاحب اليد إنما يقضى بها إذا أقامها صاحب الملك أو وكيل له والمدعى
عليه ليس بمالك ولا هو وكيل للمالك فلم يحكم ببينته.
وحكى أبو إسحاق رحمه الله عن بعض أصحابنا أنه قال: إن كان المقر للغائب
يدعى أن الدار في يده وديعة أو عارية لم تسمع بينته، وإن كان يدعى أنها في
يده بإجارة سمعت بينته وقضى بها، لأنه يدعى لنفسه حقا فسمعت بينته فيصح
الملك للغائب ويستوفى بها حقه من المنفعة، وهذا خطأ لأنه إذا لم تسمع البينة في
اثبات الملك وهو الأصل، فلان لا تسمع لاثبات الإجارة وهي فرع على الملك
أولى، وان أقر بها لمجهول فقد قال أبو العباس فيه وجهان.
(أحدهما) أنه يقال له اقرارك لمجهول لا يصح، فإما أن تقر بها لمعروف
أو تدعيها لنفسك أو نجعلك ناكلا ويحلف المدعى ويقضى له
(والثاني) أن يقال له اما أن تقر بها لمعروف أو نجعلك ناكلا ولا يقبل
دعواه لنفسه لأنه بإقراره لغيره نفى أن يكون الملك له فلم تقبل دعواه بعد
(فصل) إذا ادعى جارية وشهدت البينة أنها ابنة أمته لم يحكم له بها لأنها
قد تكون ابنة أمته ولا تكون له بأن تلدها في ملك غيره ثم يملك الأمة دونها
فتكون ابنة أمته ولا تكون له.
وان شهدت البينة أنها ابنة أمته ولدتها في ملكه فقد قال الشافعي رحمه الله
192

حكمت بذلك، وذكر في الشهادة بالملك المتقدم قولين، فنقل أبو العباس
جواب تلك المسألة إلى هذه وجعلها على قولين، وقال سائر أصحابنا يحكم بها ههنا
قولا واحدا وهناك على قولين، والفرق بينهما أن الشهادة هناك بأصل الملك
فلم تقبل حتى يثبت في الحال، والشهادة ههنا بتمام الملك وأنه حدث في ملكه فلم
يفتقر إلى اثبات الملك في الحال.
وان ادعى غزلا أو طيرا أو آجرا وأقام البينة أن الغزل من قطنه والطير
من بيضه والآخر من طينه قضى له، لان الجميع عين ماله وإنما تغيرت صفته
(فصل) إذا ادعى رجل أن هذه الدار ملكه من سنتين وأقام على ذاك بينة
وادعى آخر أنه ابتاعها منذ سنتين وأقام على ذاك بينة قضى ببينة الابتياع،
لان بينة الملك شهدت بالملك على الأصل وبينة الابتياع شهدت بأمر حادث خفى
على بينة الملك فقدمت على بينة الملك كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل.
(فصل) وإن كان في يد رجل دار وادعى رجل أنه ابتاعها من زيد وهو
يملكها وأقام على ذلك بينة حكم له لأنه ابتاعها من مالكها، وان شهدت له البينة
أنه ابتاعها منه وسلمها إليه حكم له لأنه لا يسلم الا ما يملكه، وان شهدت أنه
ابتاعها منه ولم تذكر الملك ولا التسليم لم يحكم بهذه الشهادة ولم تؤخذ الدار ممن
هي في يده لأنه قد يبيع الانسان ما يملكه وما لا يملكه فلا تزال يد صاحب اليد
(فصل) وإن كان في يد رجل دار فادعاها رجل وأقام البينة أنها له أجرها
ممن هي في يده وأقام الذي في يده الدار بينة أنها له قدمت بينة الخارج الذي لا
يد له، لان الدار المستأجرة في ملك المؤجر وبيده وليس للمستأجر الا الانتفاع
فتصير كما لو كانت في يده دار وادعى رجل أنها له غصبه عليها الذي هي في يده
وأقام البينة فإنه يحكم بها للمغصوب منه.
(فصل) وان تداعى رجلان دارا في يد ثالث فشهد لأحدهما شاهدان أن
الذي في يده الدار غصبه عليها وشهد للآخر شاهدان أنه أقر له بها قضى
للمغصوب منه لأنه ثبت بالبينة أنه غاصب، واقرار الغاصب لا يقبل فحكم
بها للمغصوب منه.
(فصل) إذا ادعى رجل أنه ابتاع دارا من فلان ونقده الثمن وأقام على
193

ذلك بينة وادعى آخر أنه ابتاعها منه ونقده الثمن وأقام على ذلك بينة وتاريخ
أحدهما في رمضان وتاريخ الآخر في شوال قضى لمن ابتاعها في رمضان، لأنه
ابتاعها وهي في ملكه والذي ابتاعها في شوال ابتاعها بعد ما زال ملكه عنها، وإن كان
تاريخهما واحدا، أو كان تاريخهما مطلقا أو تاريخ أحدهما مطلقا وتاريخ
الآخر مؤرخا، فإن كانت الدار في يد أحدهما قضى له لان معه بينة ويدا،
وإن كانت في يد البائع تعارضت البينتان وفيهما قولان، أحدهما أنهما يسقطان
والثاني أنهما يستعملان.
فإن قلنا إنهما يسقطان رجع إلى البائع فإن أنكرهما حلف لكل واحد
منهما يمينا على الانفراد وقضى له، وإن أقر لأحدهما سلمت إليه. وهل يحلف
للآخر؟ فيه قولان، وان أقر لهما جعلت لهما نصفين، وهل يحلف كل واحد
منهما للآخر على النصف الآخر؟ على القولين.
وان قلنا إنهما يستعملان نظرت فإن صدق البائع أحدهما ففيه وجهان:
(أحدهما) وهو قول أبى العباس أنها تجعل لمن صدقه البائع لان الدار في
يده فإذا أقر لأحدهما فقد نقل يده إليه فتصير له يد وبينة.
وقال أكثر أصحابنا لا يرجح بإقرار البائع وهو الصحيح لان البينتين اتفقتا
على إزالة ملك البائع وإسقاط يده فعلى هذا يقرع بينهما في أحد الأقوال ويقسم
بينهما في الثاني فيجعل لكل واحد منهما نصف الدار بنصف الثمن الذي ادعى
أنه ابتاع به، ولا يجئ القول بالوقف لأن العقود لا توقف.
(فصل) وان ادعى رجل أنه ابتاع هذه الدار من زيد وهو يملكها ونقده
الثمن وأقام عليه بينة وادعى آخر أنه ابتاعها من عمرو وهو يملكها ونقده الثمن
وأقام عليه بينة، فإن كانت في يد أجنبي أو في أحد البائعين وقلنا على المذهب
الصحيح أنه لا ترجح البينة بقول البائع تعارضت البينتان، وفيهما قولان:
(أحدهما) أنهما يسقطان (والثاني) أنهما يستعملان، فإن قلنا إنهما
يسقطان رجع إلى من هو في يده، فان ادعاه لنفسه فالقول قوله ويحلف لكل
واحد منهما، وان أقر لأحدهما سلم إليه. وهل يحلف للآخر؟ فيه قولان،
194

وإن أقر لهما جعل لكل واحد منهما نصفه، وهل يحلف للآخر على النصف الآخر
؟ على القولين، وإن قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما في أحد الأقوال
ويقسم بينهما في القول الثاني فيجعل لكل واحد منهما النصف بنصف الثمن الذي
ادعى أنه ابتاعه ولا يجئ الوقف لأن العقود لا توقف.
(فصل) وإن كان في يد رجل دار فادعى زيد أنه باعها منه بألف وأقام
عليه بينة وادعى عمرو أنه باعها منه بألف وأقام عليه بينة، فإن كانت البينتان
بتاريخ واحد تعارضتا، وفيهما قولان:
(أحدهما) أنهما يسقطان.
(والثاني) أنهما يستعملان، فإذا قلنا إنهما يسقطان رجع إلى قول من هي
في يده، فإن ادعاها لنفسه وأنكر الشراء حلف لكل واحد منهما وحكم له
وإن أقر لأحدهما لزمه الثمن لمن أقر له وحلف للآخر قولا واحدا، لأنه لو أقر
له بعد إقراره للأول لزمه له الألف لأنه يقر له بحق في ذمته فلزمه أن يحلف
قولا واحدا، وان قلنا إنهما يستعملان أقرع بينهما في أحد الأقوال ويقسم في
القول الثاني، ولا يجئ الوقف لأن العقود لا توقف وإن كانتا بتاريخين
مختلفين، بأن شهدت بينة أحدهما بعقد في رمضان، وبينة أحدهما بعقد في
شوال لزمه الثمنان، لأنه يمكن الجمع بينهما بأن يكون قد اشتراه في رمضان من
أحدهما ثم باعه واشتراه من الاخر في شوال.
وإن كانت البينتان مطلقتين ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يلزمه الثمنان، لأنه يمكن استعمالهما بأن يكون قد اشتراه
في وقتين مختلفين.
(والثاني) انهما يتعارضان فيكون على القولين، لأنه يحتمل أن يكونا في
وقتين فيلزمه الثمنان، ويحتمل أن يكونا في وقت واحد، والأصل براءة الذمة.
(فصل) وان ادعى رجل ملك عبد فأقام عليه بينة وادعى آخر أنه باعه
أو وقفه أو أعتقه وأقام عليه بينة قدم البيع والوقف والعتق. لان بينة الملك شهدت
بالأصل وبينة البيع والوقف والعتق شهدت بأمر حادث خفى على بينة الملك
فقدمت على بينة الملك.
195

وإن كان في يد رجل عبد فادعى رجل أنه ابتاعه وأقام عليه بينة، وادعى
العبد أن مولاه أعتقه وأقام عليه بينة، فإن عرف السابق منهما بالتاريخ قضى
بأسبق التصرفين، لان السابق منهما يمنع صحة الثاني فقدم عليه، وان لم يعرف
السابق منهما تعارضتا، وفيهما قولان.
(أحدهما) أنهما يسقطان ويرجع إلى من في يده العبد، وإن كان كذبهما
حلف لكل واحد منهما يمينا على الانفراد، وان صدق أحدهما قضى لمن صدقه
والقول الثاني أنهما يستعملان فيقرع بينهما في أحد الأقوال فمن خرجت له
القرعة قضى له ويقسم في القول الثاني فيعتق نصفه ويحكم للمبتاع بنصف الثمن
ولا يجئ القول بالوقف لأن العقود لا توقف.
(فصل) قال في الامام: إذا قال لعبده إن قتلت فأنت حر، فأقام العبد بينة
أنه قتل وأقام الورثة بينة أنه مات ففيه قولان
(أحدهما) أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبد، لان بينة القتل
تثبت القتل وتنفى الموت، وبينة الموت تثبت الموت وتنفى القتل فتسقطان ويبقى
العبد على الرق.
(والثاني) أنه تقدم بينة القتل ويعتق العبد لان بينة الورثة تشهد بالموت
وبينة العبد تشهد بالقتل، لان المقتول ميت، ومعها زيادة صفة وهي القتل
فقدمت، وإن كان له عبدان سالم وغانم، فقال لغانم ان مت في رمضان فأنت
حر، وقال لسالم أن مت في شوال فأنت حر، ثم مات. فأقام غانم بينة أنه مات
في رمضان، وأقام سالم بينة بالموت في شوال ففيه قولان:
(أحدهما) أنه تتعارض البينتان ويسقطان ويرق العبدان، لان الموت في
رمضان ينفى الموت في شوال، والموت في شوال ينفى الموت في رمضان فيسقطان
ويبقى العبدان على الرق.
والقول الثاني أنه تقدم بينة الموت في رمضان لأنه يجوز أن يكون قد علمت
البينة بالموت في رمضان وخفي ذلك على البينة الأخرى إلى شوال فقدمت بينة
رمضان لما معها من زيادة العلم.
وإن قال لغانم إن مت من مرضى فأنت حر، وقال لسالم إن برئت من مرضى
196

فأنت حر ثم مات فأقام غانم بينة بالموت من مرضه، وأقام سالم بينة بأنه برئ
من المرض ثم مات تعارضت البينتان وسقطتا ورق العبدان، لان بينة أحدهما
أثبتت الموت من مرضه ونفت البرء منه والأخرى أثبتت البرء من مرضه ونفت
موته منه فتعذر الجمع بينهما فتعارضتا وسقطتا وبقى العبدان على الرق.
(فصل) وإن اختلف المتبايعان في قدر الثمن أو اختلف المتكاريان في
في قدر الأجرة أو في مدة الإجارة، فإن لم يكن بينة فالحكم في التحالف والفسخ
على ما ذكرناه في الفسخ في البيع، وإن كان لأحدهما بينة قضى له، وإن كان
لكل واحد منهما بينة فنظرت فإن كانا مؤرختين بتاريخين مختلفين قضى بالأولى
منهما لأن العقد الأول يمنع صحة العقد الثاني، وإن كانتا مطلقتين أو مؤرختين
تاريخا واحدا، أو إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة فهما متعارضتان، وفيهما
قولان (أحدهما) أنهما يسقطان ويصير كما لو لم تكن بينة فيتحالفا على
ما ذكرناه في البيع (والثاني) أنهما يستعملان فيقرع بينهما فمن خرجت له القرعة
قضى له ولا يجئ القول بالوقف لأن العقود لا توقف ولا يجئ القول بالقسمة
لأنهما يتنازعان في عقد والعقد لا يمكن قسمته.
وخرج أبو العباس قولا آخر أنه إذا كان الاختلاف في قدر المدة أو
في قدر الأجرة قضى بالبينة التي توجب الزيادة كما لو شهدت بينة أن لفلان عليه
ألفا وشهدت بينة أن له عليه الفين، وهذا خطأ لان الشهادة بالألف لا تنفى
الزيادة عليه فلم يكن بينها وبين بينة الأخرى تعارض، وههنا أحد البينتين ينفى
ما شهدت به البينة الأخرى، لأنه إذا عقد بأحد العوضين لم يجز أن يعقد
بالعوض الآخر فتعارضتا.
(فصل) إذا ادعى رجلان دارا في يد رجل وعزيا الدعوى إلى سبب
يقتضى اشتراكهما كالإرث عن ميت والابتياع في صفقة، فأقر المدعى عليه
بنصفها لأحدهما شاركه الآخر، لان دعواهما تقتضي اشتراكهما في كل جزء
منهما، ولهذا لو كان طعاما فهلك بعضه كان هالكا منهما وكان الباقي بينهما، فإذا
197

جحد النصف وأقر بالنصف جعل المجحود بينهما والمقر به بينهما، وان ادعيا
ولم يعزيا إلى سبب فأقر لأحدهما بنصفها لم يشاركه الآخر لان دعواه لا تقتضي
الاشتراك في كل جزء منه.
(فصل) وان ادعى رجلان دارا في يد ثالث لكل واحد منهما نصفها وأقر
الذي هي في يده بجميعها لأحدهما نظرت فإن كان قد سمع من المقر له الاقرار
للمدعى الاخر بنصفها لزمه تسليم النصف إليه لأنه أقر بذلك، فإذا صار إليه
لزمه حكم إقراره كرجل أقر لرجلين بعين ثم صارت العين في يده، وان لم
يسمع منه اقرار فادعى جميعها حكم له بالجميع، لأنه يجوز أن يكون الجميع له
ودعواه للنصف صحيح لان من له الجميع فله النصف، ويجوز أن يكون قد خص
النصف بالدعوى، لان على النصف بينة، أو يعلم أنه مقر له بالنصف وتنقل
الخصومة إليه مع المدعى الاخر في النصف.
وان قال الذي الذي في يده الدار نصفها لي والنصف الآخر لا أعلم لمن هو،
ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يترك النصف في يده لأنه أقر لمن لا يدعيه فبطل الاقرار
وبقى على ملكه.
(والثاني) أن الحاكم ينتزعه منه ويكون عنده لان الذي في يده لا يدعيه
والمقر له لا يدعيه فأخذه الحاكم للحفظ كالمال الضال.
(والثالث) أنه يدفع إلى المدعى الاخر لأنه يدعيه وليس له مستحق آخر
وهذا خطأ لأنه حكم بمجرد الدعوى.
(فصل) إذا مات رجل وخلف ابنا مسلما وابنا نصرانيا وادعى كل واحد
منهما أنه مات أبوه على دينه وأنه يرثه وأقام على ما يدعيه بينة، فان عرف أنه
كان نصرانيا نظرت فإن كانت البينتان غير مؤرختين حكم ببينة الاسلام، لان
من شهد بالنصرانية شهد بالأصل والذي شهد بالاسلام شهد بأمر حادث خفى
على من شهد بالنصرانية، فقدمت شهادته كما تقدم بينة الجرح على بينة التعديل
فان شهدت إحداهما بأنه مات وآخر كلامه الاسلام وشهدت الأخرى بأنه مات
198

وآخر كلامه النصرانية فهما متعارضتان، وفيهما قولان (أحدهما) أنهما يسقطان
فيكون كما لو مات ولا بينة فيكون القول قول النصراني لأن الظاهر معه
(والثاني) أنهما يستعملان، فإن قلنا بالقرعة أقرع بينهما فمن خرجت له القرعة
ورث، وان قلنا بالوقف وقف، وإن قلنا بالقسمة ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يقسم كما يقسم في غير الميراث
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق أنه لا يقسم، لأنه إذا قسم بينهما تيقن
الخطأ في توريثهما وفى غير الميراث يجوز أن يكون المال مشتركا بينهما فقسم،
وإن لم يعرف أصل دينه تعارضت البينتان، سواء كانتا مطلقتين أو مؤرختين
وفيها قولان.
(أحدهما) أنهما تسقطان، فإن كان المال في يد غيرهما فالقول قول من في
يده المال، وأن كان في يديهما كان بينهما، وان قلنا إنهما يستعملان، فإن قلنا
يقرع أقرع بينهما، وإن قلنا يوقف وقف إلى أن ينكشف، وان قلنا يقسم
قسم. وقال أبو إسحاق لا يقسم لأنه يتيقن الخطأ في توريثهما، والمنصوص أنه
يقسم، وما قاله أبو إسحاق خطأ لأنه يجوز أن يموت وهو نصراني فورثه ابناه
وهما نصرانيان ثم أسلم أحدهما وادعى أن أباه مات مسلما ليأخذ الجميع، ويغسل
الميت ويصلى عليه في المسائل كلها ويدفن في مقابر المسلمين وينوى بالصلاة عليه
وإن كان مسلما كما قلنا في موتى المسلمين إذا اختلطوا بموتى الكفار.
(فصل) وان مات رجل وخلف ابنين واتفق الابنان أن أباهما مات
مسلما وأن أحد الابنين أسلم قبل موت الأب، واختلفا في الاخر فقال أسلمت
أنا أيضا قبل موت أبى فالميراث بيننا وأنكر الاخر فالقول قول المتفق على
اسلامه لان الأصل بقاؤه على الكفر.
ولو اتفقا على اسلامهما واختلفا في وقت موت الأب، فقال أحدهما مات
أبى قبل اسلامك فالميراث لي، وقال الآخر بل مات بعد اسلامي أيضا فالقول
قول الثاني لان الأصل حياة الأب.
وان مات رجل وخلف أبوين كافرين وابنين مسلمين، فقال الأبوان مات
كافرا وقال الابنان مات مسلما فقد قال أبو العباس يحتمل قولين:
199

(أحدهما) أن القول قول الأبوين، لأنه إذا ثبت أنهما كافران كان الولد
محكوما بكفره إلى أن يعلم الاسلام.
(والثاني) أن الميراث يوقف إلى أن يصطلحوا أن ينكشف الامر لان الولد
إنما يتبع الأبوين في الكفر قبل البلوغ، فأما بعد البلوغ فله حكم نفسه، ويحتمل
أنه كان مسلما ويحتمل أنه كان كافرا فوقف الامر إلى أن ينكشف.
(فصل) وإن مات رجل وله ابن حاضر وابن غائب وله دار في يد رجل
فادعى الحاضر أن أباه مات وأن الدار بينه وبين أخيه وأقام بينة من أهل الخبرة
بأنه مات وأنه لا وارث له سواهما انتزعت الدار ممن هي في يده ويسلم إلى
الحاضر نصفها وحفظ النصف للغائب، وإن كان له دين في الذمة قبض الحاضر
نصفه، وفى نصيب الغائب وجهان:
(أحدهما) أنه يأخذه الحاكم ويحفظه عليه كالعين.
(والثاني) أنه لا يأخذه لان كونه في الذمة أحفظ له ولا يطالب الحاضر
فيما يدفع إليه بضمين لان في ذلك قدحا في البينة، وان لم تكن البينة من أهل
الخبرة الباطنة أو كانت من أهل الخبرة إلا أنها لم تشهد بأنها لا تعرف له وارثا
سواه لم يدفع إليه شئ حتى يبعث الحاكم إلى البلاد التي كان يسافر إليها فيسأل
هل له وارث آخر؟ فإذا سأل ولم يعرف له وارث غيره دفع إليه. قال الشافعي
رحمه الله: يأخذ منه ضمينا، وقال في الام: وأحب أن يأخذ منه ضمينا، فمن
أصحابنا من قال فيه قولان:
(أحدهما) أنه يجب أخذ الضمين لأنه ربما ظهر وارث آخر.
(والثاني) أنه يستحب ولا يجب لأن الظاهر أنه لا وارث له غيره، ومنهم من
قال إن كان الوارث ممن يحجب كالأخ والعم وجب، وإن كان ممن لا يحجب
كالابن استحب، لان من لا يحجب يتيقن أنه وارث، ويشك فيمن يزاحمه فلم
يترك اليقين بالشك، ومن يحجب يشك في إرثه، وحمل القولين على هذين
الحالين. ومنهم من قال إن كان الوارث غير مأمون وجب لأنه لا يؤمن أن
يضيع حق من يظهر، وإن كان مأمونا لم يجب لأنه لا يضيع حق من يظهر،
وحمل القولين على هذين الحالين.
200

وإن كان الوارث ممن له فرض لا ينقص كالزوجين، فإن شهد الشهود أنه
لا وارث له سواه وهم من أهل الخبرة دفع إليه أكمل للفرضين ولا يؤخذ منه
ضمين، وان لم يشهدوا أنه لا وارث له سواه، أو شهدوا بذلك ولم يكونوا من
أهل الخبرة دفع إليه أنقص الفرضين، فإن كان زوجا دفع إليه ربع المال عائلا،
وإن كان زوجة دفع إليها ربع الثمن عائلا ويوقف الباقي، فإن لم يظهر وارث
آخر دفع إليه الباقي.
(فصل) وان ماتت امرأة وابنها، فقال زوجها ماتت فورثها الابن، ثم
مات الابن فورثته، وقال أخوها بل مات الابن أولا فورثته الام ثم ماتت
فورثتها لم يورث ميت من ميت، بل يجعل مال الابن للزوج ومال المرأة للزوج
والأخ، لأنه لا يرث الا من تيقن حياته عند موت مورثه، وههنا لا تعرف
حياة واحد من الميتين عند موت مورثه فلم يورث أحدهما من الآخر كالغرقى
(فصل) وإن مات رجل وله دار وخلف ابنا وزوجة، فادعى الابن أنه
تركها ميراثا، وادعت الزوجة أنه أصدقها الدار، وأقام كل واحد منهما بينة،
قدمت بينة الزوجة على بينة الإرث، لان بينة الإرث تشهد بظاهر الملك المتقدم
وبينة الصداق تشهد بأمر حادث على الملك خفى على بينة الإرث.
(فصل) وإن تداعى رجلان حائطا بين داريهما، فإن كان مبنيا على تربيع
إحداهما مساويا لها في السمك والحد ولم يكن بناؤه مخالفا لبناء الدار الأخرى
ولم تكن بينة لأحدهما فالقول قول من بنى على تربيع داره، لأن الظاهر أنه بنى
لداره. وإن كان لأحدهما عليه أزج فالقول قوله لأن الظاهر أنه بنى للأزج،
وإن كان مطلقا وهو الذي لم يقصد به سوى السترة ولم تكن بينة حلفا وجعل
بينهما لأنه متصل بالملكين اتصالا واحدا.
وإن كان لأحدهما عليه جذوع ولم يقدم على الآخر بذلك لأنهما لو تنازعا
فيه قبل وضع الجذوع كان بينهما، ووضع الجذوع يجوز أن يكون بإذن من
الجار أو بقضاء حاكم يرى وضع الجذوع على حائط الجار بغير رضاه يزيل
ما تيقناه بأمر محتمل، كما لو مات رجل عن دار ثم وجد الدار في يد أجنبي
201

(فصل) وإن تداعى صاحب السفل وصاحب العلو السقف ولا بينة حلف
كل واحد منهما وجعل بينهما، لأنه حاجز توسط ملكيهما فكان بينهما كالحائط
بين الدارين، فإن تنازعا في الدرجة، فإن كان تحتها مسكن فهي بينهما لأنهما
متساويان في الانتفاع بها، وأن كان تحتها موضع جب ففيه وجهان.
(أحدهما) أنهما يحلفان ويجعل بينهما لأنهما يرتفقان بها
(والثاني) أنه يحلف صاحب العلو ويقضى له لان المقصود بها منفعة صاحب
العلو، وإن تداعيا سلما منصوبا حلف صاحب العلو وقضى له، لأنه يختص
بالانتفاع به في الصعود، وإن تداعيا صحن الدار نظرت فإن كانت الدرجة في
الصحن حلفا وجعل بينهما، لان لكل واحد منهما يدا عليه، وإن كانت الدرجة
في الدهليز ففيه وجهان:
(أحدهما) أنها بينهما لان لكل واحد منهما يدا، ولهذا لو تنازعا في أصل
الدار كانت بينهما.
(والثاني) أنه لصاحب السفل لأنها في يده، ولهذا يجوز أن يمنع صاحب
العلو من الاستطراق فيها.
(فصل) وان تداعى رجلان مسناة بين نهر أحدهما وأرض الآخر حلفا
وجعل بينهما لان فيها منفعة لصاحب النهر لأنها تجمع الماء في النهر ولصاحب
الأرض منها منفعة لأنها تمنع الماء من أرضه.
(فصل) وان تداعى رجلان دابة وأحدهما راكبها والآخر آخذ بلجامها
حلف الراكب وقضى له. وقال أبو إسحاق رحمه الله هي بينهما لان كل واحد
منهما لو انفرد لكانت له، والصحيح هو الأول، لان الراكب هو المنفرد
بالتصرف فقضى له وإن تداعيا عمامة وفى يد أحدهما منها ذراع وفى يد الآخر
الباقي حلفا وجعلت بينهما، لان يد كل واحد منهما ثابتة على العمامة، وان
تداعيا عبدا ولأحدهما عليه ثياب حلف وجعل بينهما، ولا يقدم صاحب الثياب
لان منفعة الثياب تعود إلى العبد لا إلى صاحب الثياب.
(فصل) وإن كان في يد رجل عبد بالغ عاقل فادعى أنه عبده، فإن صدقه
حكم له بالملك، وان كذبه فالقول قوله مع يمينه لأن الظاهر الحرية، وإن كان
202

طفلا لا يميز فالقول قول المدعى لأنه لا يعبر عن نفسه وهو في يده فهو كالبهيمة
وان بلغ هذا الطفل فقال لست بمملوك له لم يقبل قوله، لأنا حكمنا له بالملك
فلا يسقط بإنكاره.
وان جاء رجل فادعى أنه ابنه لم يثبت نسيه بمجرد دعواه لان فيه اضرارا
بصاحب الملك لأنه ربما يعتقه فيثبت له عليه الولاء. وإذا ثبت نسبه لمن يدعى
النسب سقط حق ولائه، وإن كان مراهقا وادعى أنه مملوكه فأنكر ففيه وجهان
(أحدهما) أنه لا يحكم بالملك لأنه يعبر عن نفسه فلم يحكم بملكه مع انكاره
كالبالغ (والثاني) أنه يحكم له بالملك وهو الصحيح لأنه لا حكم لقوله.
(فصل) وان تداعى الزوجان متاع البيت الذي يسكنانه ولا بينة حلفا
وجعل الجميع بينهما نصفين لأنه في يدهما فجعل بينهما، كما لو تداعيا الدار التي
يسكنان فيها، وان تداعى المكرى والمكترى المتاع الذي في الدار المكراة
فالقول قول المكترى لان يده ثابتة على ما في الدار، وان تداعيا سلما غير
مسمر فهو للمكترى لأنه كالمتاع. وان تداعيا سلما مسمرا فالقول قول المكرى
لأنه من أجزاء الدار، وان تداعيا الرفوف المسمرة فالقول قول المكرى لأنها
متصلة بالدار فصارت كأجزائها، وإن كانت غير مسمرة فقد قال الشافعي رحمه
الله أنهما يتحالفان وتجعل بينهما لان الرفوف قد تترك في العادة وقد تنقل عنها
فيجوز أن تكون للمكترى ويجوز أن تكون للمكري فجعل بينهما
(فصل) ومن وجب له حق على رجل وهو غير ممتنع من دفع لم يجز
لصاحب الحق أن يأخذ من ماله حقه بغير اذنه لان الخيار فيما يقضى به الدين
إلى من عليه الدين ولا يجوز أن يأخذ الا ما يعطيه، وان أخذ بغير إذنه لزمه
رده، فإن تلف ضمنه لأنه أخذ مال غيره بغير حق، وإن كان ممتنعا من أدائه
فإن لم يقدر على أخذه بالحاكم فله أن يأخذ من ماله لقوله صلى الله عليه وسلم
(لا ضرر ولا إضرار) وفى منعه من أخذ ماله في هذا الحال اضرار به، وإن كان
يقدر على أخذه بالحاكم بأن تكون له عليه بينة ففيه وجهان
(أحدهما) أنه لا يجوز أن يأخذه لأنه يقدر على أخذه بالحاكم فلم يجز أن
يأخذه بنفسه.
203

(والثاني) وهو المذهب أن يجوز لان هندا قالت يا رسول الله إن أبا سفيان
رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما آخذه سرا، فقال عليه
السلام خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف، فأذن لها في الاخذ مع القدرة
على الاخذ بالحاكم، ولان عليه في المحاكمة مشقة فجاز له أخذه، فإن كان الذي
قدر عليه من جنس حقه أخذ قدر حقه، وإن كان من غير جنسه أخذه ولا يجوز
أن يتملكه لأنه من غير جنس ماله فلا يجوز أن يتملكه ولكن يبيعه ويصرف
ثمنه في حقه، وفى كيفية البيع وجهان:
(أحدهما) أنه يواطئ رجلا ليقر له بحق وأنه ممتنع من أدائه فيبيع الحاكم
المال عليه.
(والثاني) وهو المذهب أنه يبيع المال بنفسه لأنه يتعذر عليه أن يثبت
الحق عند الحاكم وأنه ممتنع من بيعه فملك بيعه بنفسه، فإن تلفت العين قبل البيع
ففيه وجهان: أحدهما أنها تتلف من ضمان من عليه الحق ولا يسقط دينه لأنها
محبوسة لاستيفاء حقه منها، فكان هلاكها من ضمان المالك كالرهن. والوجه
الثاني: أنها تتلف من ضمان صاحب الحق لأنه أخذها بغير إذن المالك فتلفت
من ضمانه بخلاف الرهن فإنه أخذه بإذن المالك فتلف من ضمانه
(الشرح) حديث ابن عباس (لو أن الناس أعطوا...) متفق عليه بلفظ
(لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء رجال وأموالهم ولكن اليمين على
المدعى عليه) وأخرجه البيهقي عن نافع عن ابن عمر وابن حبان عن مجاهد عن
ابن عمر، والترمذي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، والدارقطني
وإسناده عنده ضعيف.
حديث (في قصة الحضرمي..) سبق تخريجه.
حديث أبي موسى الأشعري (أن رجلين تداعيا دابة..) أخرجه الدارقطني
والبيهقي من حديث جابر بلفظ (أن رجلين تداعيا دابة وأقام كل واحد منهما
بينة أنها دابته فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للتي في يده، واسناده
ضعيف. وأخرج أحمد وأبو داود والنسائي والحاكم والبيهقي (أن رجلين اختصما
204

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعير، فأقام كل واحد منهما بينة أنه له،
فجعله النبي صلى الله عليه وسلم بينهما) وذكر الاختلاف فيه على قتادة، وقال
البيهقي هو معلول فقد رواه حماد بن سلمة عن قتادة عن النضر بن أنس عن
بشر بن نهيك عن أبي هريرة.
ومن هذا الوجه أخرجه ابن حبان في صحيحه، واختلف فيه على سعيد بن أبي
عروبة، فقيل عنه عن قتادة عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى
وقيل عنه عن سماك بن حرب عن تميم بن طرفة قال: أنبئت أن رجلا، قال
البخاري قال سماك بن حرب أنا حدثت أبا بردة بهذا الحديث، فعلى هذا لم يسمع
أبو بردة هذا الحديث من أبيه، ورواه أبو كامل مظفر بن مدرك عن حماد عن
قتادة عن النضر بن أنس عن أبي بردة مرسلا، قال حماد فحدثت به سماك بن
حرب فقال أنا حدثت أبا بردة وقال الدارقطني والبيهقي والخطيب: الصحيح أنه
عن سماك مرسلا. ورواه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص عن سماك عن تميم بن
طرفة أن رجلين ادعيا بعيرا فأقام كل واحد منهما البينة أنه له فقضى النبي صلى الله عليه وسلم
به بينهما، ووصله الطبراني بذكر جابر بن سمرة بإسنادين في أحدهما حجاج بن
أرطاة والراوي عنه سويد بن عبد العزيز، وفى الآخر ياسين الزيات
والثلاثة ضعفاء.
حديث (شاهداك أو يمينه) سبق تخريجه
حديث (لا ضرر ولا ضرار) سبق تخريجه
حديث (أن هندا قالت يا رسول الله ان أبا سفيان رجل شحيح..) متفق
عليه عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله ان أبا سفيان رجل
شحيح لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفى بنى إلا ما أخذت من ماله بغير علمه
فهل على في ذلك من جناح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خذي من ماله بالمعروف
ما يكفيك ويكفى بنيك)
اللغة: المدعى في اللغة كل من ادعى نسبا أو علما أو ادعى ملك شئ نوزع
205

فيه أو لم ينازع، ولا يقال في الشرع مدع إلا إذا نازع غيره، وسميت البينة بينة
وهي الشهود، لأنها تبين عن الحق وتوضحه بعد خفائه من بان الشئ. إذا ظهر،
وأبنته أظهرته وتبين لي ظهر ووضح.
قوله (امتحان الشهود) وهو اختبارهم، محنت الشئ وامتحنته أي اختبرته
والاسم المحنة وأصله من محنت البئر محنا إذا خرجت ترابها وطينها.
قوله (الترجيح) مأخوذ من رجحان الميزان، ورجحت بفلان إذا كنت
أرزن منه، وقوم مراجيح في الحلم، ومعناه أن يكون إحدى الحجتين أقوى
بزيادة شئ ليس في الأخرى.
قوله (ونقده الثمن) النقد ضد الفقد وهو إحضاره في المجلس
قوله (وعزيا الدعوى) يقال عزيته إلى أبيه، وعزوته أي نسبته إليه،
واعتزى هو أي انتمى وانتسب، وفى الحديث من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه
بهن أبيه، ولا تكنوا أي من انتسب وانتمى، وذلك قولهم يا آل فلان
قوله (قدحا في البينة) القدح مثل الجرح، يقال قدحت في نسبه أي طعنت
قوله (أزج) على وزن فعل محرك مخفف، الأزج ضرب من الأبنية والجمع
آزج وآزاج، قال الأعشى:
بناه سلميان بن داود حقة * له أزج صم وطئ موثق
ويروى أرج عال وهو كالعقود في محاريب المساجد وبين الأساطين
قوله (موضع جب) هو السرداب ووعاء الماء، وقد ذكرنا أن صحن
الدار وسطها.
قوله (مسناة) قال الهروي: المسناة ضفين يبنى للسبيل يرده. سميت مسناة
لان فيها مفاتيح الماء، يقال سنيت الشئ إذا فتحته قال الشاعر:
إذا الله سنى عقد أمر تيسرا
وذكر في مواضع من الكتاب ما يدل أن المسناة تجمع الماء من النهر، ولم
أقف منه على حقيقة، وقد ذكر أهل التفسير في قوله تعالى (سيل العرم) أن
العرم المسناة، وكان ذلك سدا يجمع فيه ماء السيول
قوله (مراهقا) هو الذي قارب الاحتلام، وقد ذكر
206

قوله (المتاع الذي في الدار) هو ههنا الأثاث وآلات البيت والأبنية
ولا تصح الدعوى إلا من جائز التصرف حر مكلف رشيد، وإن تداعيا
عينا لم تخل من أربعة أحوال.
1 - أن لا تكون بيد أحد ولا ثم ظاهر يعمل به ولا بينة فيتحالفان
ويتناصفانها، وإن وجد ظاهر يرجح أنها لأحدهما عمل به فيحلف بها ويأخذها
2 - أن تكون بيد أحدهما فهي له بيمينه، فإن لم يحلف قضى عليه بالنكول
ولو أقام بينة.
3 - أن تكون بينيهما كشئ كل ممسك ببعضه فيتحالفان ويتناصفانه
فإن قويت يد أحدهما كحيوان واحد سائقة والآخر راكبه فللثاني بيمينه لان
تصرفه أقوى، ومتى كان لأحدهما بينة فالعين له لحديث الحضرمي والكندي
فإن كان لكل واحد منهما بينة به وتساوتا من كل وجه وتعارضتا وتساقطتا
فيتحالفان ويتناصفان ما بأيديهما ويقترعان فيما عداه، فمن خرجت له القرعة
فهو بيمينه، وإن كانت العين بيد أحدهما فهو داخل والاخر خارج، وبينة الخارج
مقدمة على بينة الداخل لحديث (البينة على المدعى واليمين على المدعى
عليه) الترمذي.
لكن لو أقام الخارج بينة أنها ملكه والداخل بينة أنه اشتراها منه قدمت
بينة الداخل لما معها من زيادة العلم
4 - أن تكون بيد ثالث فإن ادعاها لنفسه حلف لكل واحد يمينا، فإن
نكل أخذاها منه مع بدلها أي مثلها واقترعا عليها، وان أقر بها لهما اقتسماها
وحلف لكل واحد يمينا وحلف كل واحد لصاحبه على النصف المحكوم له به،
وإن قال هي لأحدهما وأجمله فصدقاه لم يحلف وإلا حلف يمينا واحدة ويقرع
بينهما، فمن قرع حلف وأخذها لحديث أبي هريرة (أن رجلين تداعيا عينا
لم يكن لواحد منهما بينة، فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستهما على
اليمين أحبا أم كرها) أبو داود. وروى الشافعي نحوه عن ابن المسيب.
207

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب اليمين في الدعاوي
إذا ادعى رجل على رجل حقا فأنكره ولم يكن للمدعى بينة، فإن كان ذلك
في غير الدم حلف المدعى عليه، فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعى،
وقد بينا ذلك في باب الدعاوي، وإن كانت الدعوى في دم ولم يكن للمدعى بينة
فإن كان في قتل لا يوجب القصاص نظرت فإن كان هناك لوث حلف المدعى
خمسين يمينا وقضى له بالدية.
والدليل عليه ما روى سهل بن أبي جثمة أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خبير
من جهد أصابهما، فأتى محيصة وذكر أن عبد الله طرح في فقير أو عين ماء فأتى
يهودا فقال أنتم والله قلتموه؟ قالوا والله ما قتلناه، فأقبل هو وأخوه حويصة
وعبد الرحمن أخو المقتول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهب محيصة
يتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر الكبر، فتكلم حويصة ثم تكلم
محيصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم وإما أن
يأذنوا بحرب من الله ورسوله، فكتب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك
فكتبوا إنا والله ما قتلناه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة
وعبد الرحمن: أتحلفون خمسين وتستحقون دم صاحبكم؟ فقالوا لا، قال
أتحلف لكم يهود؟ قالوا لا ليسوا بمسلمين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم
من عنده فبعث إليهم بمائة ناقة، قال سهل لقد ركضتني منها ناقة حمراء، ولان
باللوث تقوى جنبة المدعى ويغلب على الظن صدقه فسمعت يمينه كالمدعى إذا شهد
له عدل وحلف معه.
وإن كانت الدعوى في قتل يوجب القود ففيه قولان: قال في القديم يجب
القود بأيمان المدعى لأنها حجة يثبت بها قتل العمد فوجب بها القود كالبينة.
وقال في الجديد لا يجب لقوله صلى الله عليه وسلم: إما أن يدوا صاحبكم أو يأذنوا
يحرب من الله ورسوله، فذكر الدية ولم يذكر القصاص، ولأنه حجة لا يثبت
208

بها النكاح فلا يثبت بها القصاص كالشاهد واليمين، فإن قلنا بقوله القديم وكانت
الدعوى على جماعة وجب القود عليهم.
وقال أبو إسحاق رحمه الله لا يقتل إلا واحد يختاره الولي لأنها بينة ضعيفة
فلا يقتل بها جماعة، وهذا خطأ لان الجماعة عندنا تقتل بالواحد، والقسامة
على هذا القول كالبينة في إيجاب القود فإذا قتل بها الواحد قتل بها الجماعة.
(فصل) وإن كان المدعى جماعة ففيه قولان (أحدهما) أنه يحلف كل
واحد منهم خمسين يمينا، لان ما حلف به الواحد إذا انفرد حلف به كل واحد
من الجماعة كاليمين الواحدة في سائر الدعاوي.
والقول الثاني: أنه يقسط عليهم الخمسون يمينا على قدر مواريثهم لأنه لما
قسط عليهم ما يجب بأيمانهم من الدية على قدر مواريثهم وجب أن تقسط الايمان
أيضا على قدر مواريثهم، وإن دخلها كسر جبر الكسر، لان اليمين الواحدة
لا تتبعض فكملت، فإن نكل المدعى عن اليمين ردت اليمين على المدعى عليه
فيحلف خمسين يمينا لقوله عليه الصلاة والسلام (تبرئكم يهود منهم بخمسين يمينا)
ولان التغليظ بالعدد لحرمة النفس، وذلك يوجد في يمين المدعى والمدعى عليه
وإن كان المدعى عليه جماعة ففيه قولان:
(أحدهما) أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا.
(والثاني) أن الخمسين تقسط على عددهم، والصحيح من القولين ههنا أن
يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، والصحيح من القولين في المدعين أنهم يحلفون
خمسين يمينا، والفرق بينهما أن كل واحد من المدعى عليه ينفى عن نفسه ما ينفيه
لو انفرد، وليس كذلك المدعون، فإن كل واحد منهم لا يثبت لنفسه
ما يثبته إذا انفرد.
(فصل) فأما إذا لم يكن لوث ولا شاهد فالقول قول المدعى عليه مع يمينه
لقوله صلى الله عليه وسلم (لو أن الناس أعطوا بدعواهم لادعى ناس من الناس
دماء ناس وأموالهم ولكن اليمين على المدعى عليه) ولان اليمين إنما جعلت في
جنبة المدعى عند اللوث لقوة جنبته باللوث، فإذا عدم اللوث حصلت القوة في
جنبة المدعى عليه لان الأصل براءة ذمته وعدم القتل فعادت اليمين إليه.
209

وهل تغلظ بالعدد؟ فيه قولان (أحدهما) أنها لا تغلظ بل يحلف يمينا واحدة،
وهو اختيار المزني لأنها يمين توجهت على المدعى عليه ابتداء فلم تغلظ بالعدد كما
في سائر الدعاوي.
(والثاني) أنها تغلظ فيحلف خمسين يمينا وهو الصحيح لان التغليظ بالعدد
لحرمة الدم وذلك موجود مع عدم اللوث، فإن قلنا إنها يمين واحدة فإن كان
المدعى عليه جماعة حلف كل واحد منهم يمينا واحدة، فإن نكلوا ردت اليمين على
المدعى، فإن كان واحدا حلف يمينا واحدة، وإن كانوا جماعة حلف كل واحد
منهم يمينا واحدة، وإن قلنا يغلظ بالعدد وكان المدعى عليه واحدا حلف خمسين
يمينا. وإن كانوا جماعة فعلى القولين.
(أحدهما) أنه يحلف كل واحد خمسين يمينا.
(والثاني) أنه يقسط على عدد رؤوسهم فإن نكلوا ردت اليمين على المدعى
فإن كان واحدا حلف خمسين يمينا، وإن كانوا جماعة فعلى القولين (أحدهما) أنه
يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا (والثاني) أنه يقسط عليهم خمسون يمينا على
قدر مواريثهم من الدية. وإذا نكل المدعى عليه فحلف المدعى وقضى له، فإن
كان في قتل يوجب المال قضى له بالدية، وإن كان في قتل يوجب القصاص وجب
القصاص قولا واحدا، لان يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالبينة في أحد
القولين وكالاقرار في القول الآخر والقصاص يجب بكل واحد منهما.
(فصل) وإن ادعى القتل على اثنين وعلى أحدهما لوث دون الاخر حلف
المدعى على صاحب اللوث لوجود اللوث وحلف الذي لا لوث عليه لعدم اللوث
وإن ادعى القتل على جماعة لا يصح اشتراكهم على القتل لم تسمع دعواه لأنها
دعوى محال، وإن ادعى القتل على ثلاثة وهناك لوث فحضر منهم واحد وغاب
اثنان وأنكر الحاضر حلف المدعى خمسين يمينا، فإن حضر الثاني وأنكر
ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يحلف عليه خمسين يمينا، لأنهما لو حضرا ذكر كل واحد
منهما في يمينه فإذا انفرد وجب أن يكرر ذكره.
والوجه الثاني أنه يحلف خمسا وعشرين يمينا لأنهما لو حضرا حلف عليهما
210

خمسين يمينا، فإذا انفرد وجب أن يحلف عليه نصف الخمسين، فإن حضر
الثالث وأنكر ففيه وجهان (أحدهما) أنه يحلف عليه خمسين يمينا (والثاني) أنه
يحلف عليه ثلث خمسين يمينا ويجبر الكسر فيحلف سبع عشرة يمينا.
وإن قال قتله هذا عمدا ولا أعلم كيف قتله الآخران أقسم على الحاضر ووقف
الامر إلى أن يحضر الآخران، فإن حضرا وأقرا بالعمد ففي القود قولان، وان
أقرا بالخطأ وجب على الأول ثلث الدية مغلظة، وعلى كل واحد من الآخرين
ثلث الدية مخففة، وان أنكر القتل ففيه وجهان (أحدهما) أنه لا يحلف لأنه
لا يعلم ما يحلف عليه، ولا يعلم الحاكم ما يحكم به (والثاني) وهو قول أبي إسحاق
أن يحلف لان جهله بصفة القتل ليس بجهل بأصل القتل، فإذا حلف حبسا حتى
يصفا القتل. وإن قال قتله هذا وتفر لا أعلم عددهم، فإن قلنا إنه لا يجب القود
لم يقسم على الحاضر لأنه لا يعلم ما يخصه، وان قلنا إنه يجب القود ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يقسم لان الجماعة تقتل بالواحد فلم يضر الجهل بعددهم
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق أنه لا يقسم لأنه ربما عفا عن القود على
الدية ولا يعلم ما يخصه منها.
(فصل) واللوث الذي يثبت لأجله اليمين في جنبة المدعى هو أن يوجد
معنى يغلب معه على الظن صدق المدعى، فإن وجد القتيل في محلة أعدائه لا يخالطهم
غيرهم كان ذلك لوثا فيحلف المدعى، لان قتيل الأنصار وجد في خبير وأهلها
أعداء للأنصار، فجعل النبي ى صلى الله عليه وسلم اليمين على المدعين، فصار هذا أصلا لكل من
يغلب معه على الظن صدق المدعى، فيجعل القول قول المدعى مع يمينه، وإن كان
يخالطهم غيرهم لم يكن لوثا لجواز أن يكون قتله غيرهم، وان تفرقت جماعة
عن قتيل في دار أو بستان وادعى الولي أنهم قتلوه فهو لوث، فيحلف المدعى
أنهم قتلوه لأن الظاهر أنهم قتلوه، وان وجد قتيل في زحمة فهو لوث، فإن
ادعى الولي أنهم قتلوه حلف وقضى له، وان وجد قتيل في أرض وهناك رجل
معه سيف مخضب بالدم وليس هناك غيره فهو لوث، فإن ادعى الولي عليه القتل
حلف عليه لأن الظاهر أنه قتله فإن كان هناك غيره من سبع أو رجل مول لم
يثبت اللوث على صاحب السيف لأنه يجوز أن يكون قتله السبع أو الرجل المولى
211

ان تقابلت طائفتان فوجد قتيل من إحدى الطائفتين فهو لوث على الطائفة
الأخرى، فإن ادعى الولي أنهم قتلوه حلف وقضى له بالدية، لأن الظاهر أنه
لم تقتله طائفة، وان شهد جماعة من النساء أو العبيد على رجل بالقتل نظرت،
فان جاءوا دفعة واحدة وسمع بعضهم كلام البعض لم يكن ذلك لوثا، لأنه يجوز
أن يكونوا قد تواطأوا على الشهادة، وان جاؤوا متفرقين واتفقت أقوالهم ثبت
اللوث ويحلف الولي معهم، وان شهد صبيان أو فساق أو كفار على رجل
بالقتل وجاءوا دفعة واحدة وشهدوا لم يكن ذلك لوثا، لأنه يجوز أن يكونوا
قد تواطأوا على الشهادة، فإن جاءوا متفرقين وتوافقت أقوالهم ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه ذلك لوث: لأنه اتفاقهم على شئ واحد من غير تواطؤ
يدل على صدقهم.
(والثاني) أنه ليس بلوث لأنه لا حكم لخبرهم فلو أثبتنا بقولهم لوثا لجعلنا
خبرهم حكما، وان قال المجروح قتلني فلان ثم مات لم يكن قوله لوثا، لأنه دعوى
ولا يعلم به صدقه فلا يجعل لوثا، فان شهد عدل على رجل بالقتل، فإن كانت
الدعوى في قتل يوجب المال حلف المدعى يمينا وقضى له بالدية، لان المال يثبت
بالشاهد واليمين، وإن كانت في قتل يوجب القصاص حلف خمسين يمينا ويجب
القصاص في قوله القديم والدية في قوله الجديد.
(فصل) وان شهد واحد أنه قتله فلان بالسيف وشهد آخر أنه قتله بالعصا
لم يثبت القتل بشهادتهما، لأنه لم تتفق شهادتهما على قتل واحد، وهل يكون
ذلك لوثا يوجب القسامة في جانب المدعى، قال في موضع: يوجب القسامة،
وقال في موضع: لا يوجب القسامة.
واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو إسحاق هو لوث يوجب القسامة قولا
واحدا لأنهما اتفقا على اثبات القتل وإنما اختلفا في صفته وجعل القول الآخر
غلطا من الناقل.
وقال أبو الطيب بن سلمة وابن الوكيل ان ذلك ليس بلوث ولا يوجب
القسامة قولا واحدا، لان كل واحد منهما يكذب الآخر فلا يغلب على الظن
212

صدق ما يدعيه، والقول الآخر غلط من الناقل، ومنهم من قال في المسألة
قولان (أحدهما) أنه لوث يوجب القسامة،
(والثاني) ليس بلوث، ووجههما ما ذكرناه، وإن شهد واحد انه قتله
فلان وشهد آخر أنه أقر بقتله لم يثبت القتل بشهادتهما، لان أحدهما شهد بالقتل
والآخر شهد بالاقرار وثبت اللوث على المشهود عليه وتخالف المسألة قبلها فان
هناك كل واحد منهما يكذب الاخر، وههنا كل واحد منهما غير مكذب للآخر
بل كل واحد منهما يقوى الآخر فيحلف المدعى مع من شاء منهما، فإن كان
القتل خطأ حلف يمينا واحدة وثبتت الدية، فإن حلف مع من شهد بالقتل
وجبت الدية على العائلة لأنها تثبت بالبينة، وإن حلف مع من شهد بالاقرار
وجبت الدية في ماله لأنها تثبت بالاقرار، وإن كان القتل موجبا للقصاص حلف
المدعى خمسين يمينا ووجب له القصاص في أحد القولين والدية في الاخر، وإن
ادعى على رجل أنه قتل وليه ولم يقل عمدا ولا خطأ وشهد له بما ادعاه شاهد لم
يكن ذلك لوثا، لأنه لو حلف مع شاهده لم يمكن الحكم بيمينه، لأنه لا يعلم
صفة القتل حتى يستوفى موجبه فسقطت الشهادة وبطل اللوث.
(فصل) وإن شهد شاهدان أن فلانا قتله أحد هذين الرجلين ولم يعينا
ثبت اللوث فيحلف الولي على من يدعى القتل عليه، لأنه قد ثبت أن المقتول
قتله أحدهما فصار كما لو وجد بينهما مقتول، فإن شهد شاهد على رجل أنه قتل
أحد هذين الرجلين لم يثبت اللوث، لان اللوث ما يغلب معه على الظن صدق
ما يدعيه المدعى ولا يعلم أن الشاهد لمن شهد من الوليين فلا يغلب على الظن صدق
واحد من الوليين فلم يثبت في حقه لوث، وان ادعى أحد الوارثين قتل مورثه
على رجل في موضع اللوث وكذبه الاخر سقط حق المكذب من القسامة وهل
يسقط اللوث في حق المدعى فيه قولان.
(أحدهما) أنه لا يسقط فيحلف ويستحق نصف الدية وهو اختيار المزني
لان القسامة مع اللوث كاليمين مع الشاهد، ثم تكذيب أحد الوارثين لا يمنع
213

الآخر من أن يحلف مع الشهادة فكذلك تكذيب أحد الوارثين لا يمنع الاخر
من أن يقسم مع اللوث.
(والقول الثاني) أنه يسقط، لأنه اللوث يدل على صدق المدعى من جهة
الظن وتكذيب المنكر يدل على كذب المدعى من جهة الظن فتعارضا وسقطا
وبقى القتل بغير لوث فيحلف المدعى عليه على ما ذكرناه
وإن قال أحد الابنين قتل أبى زيد ورجل آخر لا أعرفه، وقال الآخر
قتله عمرو ورجل آخر لا أعرفه أقسم كل واحد على من عينه ويستحق عليه
ربع الدية، لان كل واحد منهما غير مكذب للآخر لجواز أن يكون الاخر هو
الذي ادعى عليه أخوه، فإن رجعا وقال كل واحد منهما علمت أن الآخر هو
الذي ادعى عليه أخي أقسم كل واحد منهما على الذي ادعى عليه أخوه ويستحق
عليه ربع الدية.
وإن قال كل واحد منهما علمت أن الاخر غير الذي ادعى عليه أخي صار
كل واحد منهما مكذبا للآخر، فإن قلنا: إن تكذيب أحدهما لا يسقط اللوث
أقسم كل واحد منهما على الذي يمينه ثانيا واستحق عليه ربع الدية.
وإن قلنا: إن التكذيب يسقط اللوث بطلت القسامة، فإن أخذ شيئا رده
ويكون القول قول المدعى عليه مع يمينه، وإن ادعى القتل على رجل عليه لوث
فجاء آخر وقال أنا قتلته ولم يقتله هذا لم يسقط حق المدعى من القسامة بإقراره
وإقراره على نفسه لا يقبل، لان صاحب الدم لا يدعيه وهل للمدعى أن يرجع
ويطالب المقر بالدية فيه قولان.
(أحدهما) أنه ليس له مطالبته، لان دعواه على الأول ابراء لكل من سواه
(والثاني) أن له أن يطالب، لان دعواه على الأول باللوث من جهة الظن
والاقرار يقين فجاز أن يترك الظن ويرجع إلى اليقين، وان ادعى على رجل قتل
العمد فقيل له صف العمد ففسره بشبه العمد فقد نقل المزني أنه لا يقسم، وروى
الربيع أنه يقسم، فمن أصحابنا من قال فيه قولان.
214

(أحدهما) أنه لا يقسم لان بقوله قتله عمدا أبرأ العائلة، وبتفسيره أبرأ
القاتل (والقول الثاني) أنه يقسم وتجب الدية على العاقلة، لان المعول على
التفسير وقد فسر بشبه العمد، ومنهم من قال يقسم قولا واحدا لما بينا.
وقوله (لا يقسم) معناه لا يقسم على ما ادعاه
(فصل) وإن كانت الدعوى في الجنابة على الطرف ولم تكن شهادة فالقول
قول المدعى عليه مع يمينه لان اللوث قضى به في النفس بحرمة النفس فلا يقضى
به في الطرف كالكفارة، وهل تغلظ اليمين فيه بالعدد؟ فيه قولان.
(أحدهما) لا تغلظ لأنه يسقط فيه حكم اللوث فسقط فيه حكم التغليظ بالعدد
(والثاني) أنه تغلظ بالعدد لأنه يجب فيه القصاص والدية للغلظة فوجب فيه
تغليظ اليمين، فإن قلنا لا تغلظ حلف المدعى عليه يمينا واحدة، وإن قلنا تغلظ
فإن كان في جناية توجب دية كاملة كاليدين غلظ بخمسين يمينا، وإن كان فيما
لا توجب دية كاملة كاليد الواحدة ففي قدر التغليظ قولان.
(أحدهما) أنه يغلظ بخمسين يمينا لأنه التغليظ لحرمة الدم، وذلك موجود
في اليد الواحدة.
(والثاني) أنه تغلظ بحصته من الدية، لان ديته دون دية النفس فلم تغلظ
بما تغلظ به في النفس.
(فصل) فإن كانت الدعوى في قتل عبد وهناك لوث ففيه طريقان:
(أحدهما) أنه يبنى ذلك على أن العاقلة هل تحمل قيمته بالجناية، فإن قلنا تحمل
العاقلة قيمته ثبتت فيه القسامة للسيد، وان قلنا لا تحمل لم تثبت القسامة.
(والثاني) وهو قول أبى العباس أن للسيد القسامة قولا واحدا، لان القسامة
لحرمة النفس فاستوى فيه الحر والعبد كالكفارة، فإن قلنا إن السيد يقسم أقسم
المكاتب في قتل عبده، فإن لم يقسم حتى عجز عن أداء الكتابة أقسم المولى، وان
قتل عبد وهناك لوث ووصى مولاه بقيمته لام ولده ولم يقسم السيد حتى مات
ولم تقسم الورثة فهل تقسم أم الولد؟ فيه قولان.
(أحدهما) تقسم (والثاني) لا تقسم كما قلنا في غرماء الميت إذا كان له دين
215

وله شاهد ولم تحلف الورثة الغرماء يقسمون في أحد القولين ولا يقسمون
في الآخر وقد بينا ذلك في التفليس.
(فصل) وإن قتل مسلم وهناك لوث فلم يقسم وليه حتى ارتد المدعى لم يقسم
لأنه إذا أقدم على الردة وهي من أكبر الكبائر لم يؤمن أن يقدم على اليمين الكاذبة
فإن أقسم صحت القسامة.
وقال المزني رحمه الله لا تصح لأنه كافر فلا يصح يمينه بالله، وهذا خطأ لان
القصد بالقسامة اكتساب المال والمرتد من أهل الاكتساب، فإذا أقسم وجب
القصاص لوارثه أو الدية، فإن رجع إلى الاسلام كان له، وإن مات على الردة
كان ذلك لبيت المال فيئا.
وقال أبو علي بن خيران وأبو حفص بن الوكيل: يبنى وجوب الدية يقسامته
على حكم ملكه، فإن قلنا إن ملكه لا يزول بالردة أو قلنا إنه موقوف فعاد إلى
الاسلام ثبتت الدية، وإن قلنا إن ملكه يزول الردة أو قلنا إنه موقوف فلم
يسلم حتى مات لم تثبت الدية، وهذا غلط لان اكتسابه للمال يصح على الأقوال
كلها، وهذا اكتساب.
(فصل) ومن توجهت عليه يمين في دم غلظ عليه في اليمين لما روى أن
عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه مر بقوم يحلفون بين الركن والمقام، فقال
أعلى دم؟ قيل لا، قال أفعلي عظيم من المال؟ قيل لا، قال لقد خشيت أن يبها
الفاس بهذا المقام، وإن كانت اليمين في نكاح أو طلاق أو حد قذف أو غيرهما مما
ليس بمال ولا المقصود منه المال غلظ لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال
فغلظ اليمين فيه كالدم.
وإن كانت اليمين في مال أو ما يقصد به المال، فإن كان يبلغ عشرين مثقالا
غلظ وان لم يبلغ ذلك لم يغلظ، لان عبد الرحمن بن عوف فرق بين المال العظيم
وبين ما دونه، فإن كانت اليمين في دعوى عتق فإن كان السيد هو الذي يحلف،
فإن كانت قيمة العبد تبلغ عشرين مثقالا غلظ اليمين، وان لم تبلغ عشرين مثقالا
لم يغلظ لان المولى يحلف لاثبات المال ففرق بين القليل والكثير كأروش
216

الجنايات فإن كان الذي يحلف هو العبد غلظ قلت قيمته أو كثرت لأنه يحلف
لاثبات العتق، والعتق ليس بمال ولا المقصود منه المال فلم تعتبر قيمته كدعوى
القصاص، ولا فرق بين أن يكون في طرف قليل الأرش، أو في طرف
كثير الأرش.
(فصل) والتغليظ قد يكون بالزمان وبالمكان وفى اللفظ، فأما التغليظ
بالمكان ففيه قولان (أحدهما) أنه يستحب (والثاني) أنه واجب، وأما التغليظ
بالزمان فقد ذكر الشيخ أبو حامد الأسفرايني رحمه الله أنه يستحب، وقد بينا
ذلك في اللعان. وقال أكثر أصحابنا: إن التغليظ بالزمان كالتغليظ بالمكان. وفيه
قولان. وأما التغليظ باللفظ فهو مستحب، وهو أن يقول والله الذي لا إله هو
عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، لما
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم احلف رجلا فقال قل والله الذي لا إله إلا
هو، ولان القصد باليمين الزجر عن الكذب، وهذه الألفاظ أبلغ في الزجر
وأمنه من الاقدام على الكذب.
وان اقتصر على قوله (والله) أجزأه، لان النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في
احلاف ركانة على قوله والله.
وان اقتصر على صفة من صفات الذات كقوله وعزة الله أجزأه لأنها بمنزلة
قوله والله في الحنث في اليمين وايجاب الكفارة. وأن حلف بالمصحف وما فيه
من القرآن فقد حكى الشافعي رحمه الله عن مطرف أن ابن الزبير كان يحلف على
المصحف. قال ورأيت مطرفا بصنعاء يحلف على المصحف، قال الشافعي وهو
حسن، ولان القرآن من صفات الذات، ولهذا يجب بالحنث فيه الكفارة.
وإن كان الحالف يهوديا أحلفه بالله الذي أنزل التوراة على موسى ونجاه
من الغرق، وإن كان نصرانيا أحلفه بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، وإن كان
مجوسيا أو وثنيا أحلفه بالله الذي خلقه وصوره
(فصل) ولا يصح اليمين في الدعوى الا أن يستحلفه القاضي لان ركمانة
ابن عبد يزيد قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله انى طلقت امرأتي
سهيبة البتة والله ما أردت الا واحدة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
217

والله ما أردت إلا واحدة، قال ركانة والله ما أردت إلا واحدة، ولأن الاعتبار
بنية الحاكم فإذا حلف من غير استحلافه نوى مالا يحنث به فيجعل ذلك طريقا
إلى إبطال الحقوق، وإن وصل بيمينه استثناء أو شرطا أو وصله بكلام لم يفهمه
أعاد عليه اليمين من أولها، وإن كان الحالف أخرس ولا يفهم إشارته وقف
الامر إلى أن يفهم إشارته، فإن طلب المدعى أن يرد اليمين عليه لم يرد اليمين عليه
لان رد اليمين يتعلق بنكول المدعى عليه، ولا يوجد النكول، فإن كان الذي عليه
اليمين حلف بالطلاق أنه لا يحلف بيمين مغلظة، فإن كان التغليظ مستحقا عليه
لزمه أن يحلف.
وان حنث في يمينه بالطلاق كما لو حلف بالطلاق أنه لا يحلف عند القاضي
فان امتنع جعل ناكلا وردت اليمين على خصمه، وإن كان التغليظ غير مستحق
لم يلزمه أن يحلف يمينا مغلظة، وان امتنع من التغليظ لم يجعل ناكلا.
(فصل) وان حلف على فعل نفسه في نفى أو إثبات حلف على القطع لان
علمه يحيط بحاله فيما فعل وفيما لم يفعل، وان حلف على فعل غيره فإن كان في
إثبات حلف على القطع لان له طريقا إلى العلم مما فعل غيره، وإن كان على نفى
حلف على نفى العلم فيقول: والله لا أعلم أن أبى أخذ منك مالا ولا أعلم أن أبى
أبرأك من دينه لأنه لا طريق له إلى القطع بالنفي فلم يكلف اليمين عليه.
(فصل) وإن ادعى عليه دين من بيع أو قرض فأجاب بأنه لا يستحق
عليه شئ ولم يتعرض إليه والقرض لم يحلف الا على ما أجاب ولا يكلف أن
يحلف على نفى البيع والقرض لأنه يجوز أن يكون قد استقرض منه أو ابتاع
ثم قضاه أو أبرأه منه، فإذا حلف على نفى البيع والقرض حلف كافيا، وان
أجاب بأنه ما باعني ولا أقرضني ففي الاحلاف وجهان،
(أحدهما) أنه يحلف أنه لا يستحق عليه شئ ولا يكلف أن يحلف على
نفى البيع والقرض لما ذكرناه من التعليل
(الثاني) أنه يحلف على نفى البيع والقرض لأنه نفى ذلك في الجواب فلزمه
أن يحلف على النفي، فان ادعى رجل على رجل ألف درهم فأنكر حلف أنه
218

لا يستحق عليه ما يدعيه ولا شيئا منه فان حلف أنه لا يستحق عليه الألف لم
يجزه لان يمينه على نفى الألف لا يمنع وجوب بعضها.
(فصل) وإن كان لجماعة على رجل حق فوكلوا رجلا في استحلافه لم يجز
أن يحلف لهم يمينا واحدة، لان لكل واحد منهم عليه يمينا فلم تتداخل، فإن
رضوا بأن يحلف لهم يمينا واحدة ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يجوز كما يجوز أن يثبت ببينة واحدة حقوق الجماعة
(والثاني) وهو المذهب أنه لا يجوز لان القصد من اليمين الزجر وما يحصل
من الزجر بالتفريق لا يحصل بالجمع فلم يجز، وان رضوا كما لو رضيت المرأة
أن يقتصر الزوج في اللعان على شهادة واحدة.
(الشرح) حديث سهل بن أبي خيثمة أن عبد الله ومحيصة خرجا..
أخرجه مسلم والشافعي، وأخرج بعضه البخاري والبيهقي عن سهل بن أبي حثمة
أن عبد الله بن سهل الأنصاري ومحيصة ابنا مسعود خرجا إلى خيبر فتفرقا
لحاجتهما، فقتل عبد الله بن سهل، فجاء عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة
ابنا مسعود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذهب عبد الرحمن أخو المقتول
ليتكلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبر الكبر فتكلم حويصة ومحيصة
فذكروا له شأن عبد الله بن سهل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيحلف
منكم خمسون فتستحقون قاتلكم أو صاحبكم، فقالوا يا رسول الله لم نحضر ولم
نشهد، قال رسول الله صلى عليه وسلم: تبرئكم يهود بخمسين يمينا؟ قالوا
يا رسول الله كيف نقبل ايمان قوم كفار، قال فعقله النبي صلى الله عليه وسلم
من عنده.
حديث (اما أن يدوا صاحبكم..) أخرجه البيهقي
حديث (يبرئكم يهود بخمسين يمينا..) سبق تخريجه
حديث (لو أن الناس أعطوا بدعواهم..) سبق تخريجه
حديث (اليمين على المدعين..) سبق تخريجه.
حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في احلاف ركانة على قوله والله
219

أخرجه البيهقي وذكره الشوكاني في نيل الأوطار بدون تخريج في الشرح
حديث أن مطرف بن الزبير كان يحلف على المصحف.
قال الشافعي أخبرني مطرف بن مازن بإسناد لا أحفظه أن الزبير أمر بأن
يحلف على المصحف وقال رأيت مطرف بصنعاء يحلف على المصحف وقال قد
كان من حكام الآفاق من يستحلف على المصحف وذلك عندي حسن ذكر
البيهقي هذا كله في السنن الكبرى.
حديث (لان ركانة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله إني
طلقت...) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى والشافعي.
اللغة: اللوث بالفتح القوة. قال الأعشى.
بذات لوث عفرناه إذا عثرت * فالتعس أدنى لها من أن يقال لغا
ومنه سمى الأسد ليثا، فاللوث قوه جنبة المدعى، وأما اللوث بالضم فهو
الاسترخاء، واللوثة مس جنون، وسميت الايمان ههنا القسامة لتكرارها
وكثرتها، وإن كانت كل يمين قسما، وقيل لأنها تقسم على الأولياء في الدم
قوله (من جهد أصابهما) الجهد بالفتح المشقة وجهد الرجل فهو مجهود من
المشقة، يقال أصابهم قحط من المطر فجهدوا.
قوله (طرح في فقير) الفقير مخرج الماء من القناة، وهو حفير كالبئر.
وعبد الله بن سهل المقتول وأخوه عبد الرحمن بن سهل وحويصة ومحيصة
ابنا مسعود.
قوله (الكبر الكبر) معناه ليبدأ الكلام الأكبر، وكان عبد الرحمن أصغر
من صاحبيه.
قوله (وإما أن يأذنوا بحرب من الله) يأذنوا يعلموا والاذان الاعلام،
كأنه الايقاع في الاذن.
قوله (لحويصة ومحيصة) السماع فيهما بسكون الياء وياء التخفيف وبرهان
الدين بن الحضرمي أسمعناه يكسر الياء وبالتشديد.
قوله (يبرئكم يهود) أي يحلفون فيبرءون من القتل، يقال برئ من الدين
وأبرأته أنا فهو برئ وخلى منه.
220

قوله (مغلظة) الغلظ في الجسم الكثافة والثخونة والامتلاء، وفيما سواه
الكثرة، فتغلظ الايمان بكثرة العدد وبالصفات، وتغليظ الدية تكثيرها بالأسنان
التي تكثر قيمتها.
قوله (تواطأوا على الشهادة) توافقوا
قوله (لان المعول) أي المعتمد. والعرب تقول عولت عليه في الامر أي
استعنت به فيه واعتمدت عليه.
قوله (لقد خشيت أن يبهأ الناس) أي يأنسوا به فتقل هيبته عندهم فيتهاونوا
به ويحتقروه وقد ذكر.
قوله (من صفات الذات) أي حقيقته وثبوت وجوده في النفس من غير
صورة ولا شخص ولا مثال.
إن ادعى ولى قتيل على رجل أو على جماعة وعليهم لوث ظاهر، وهو
ما يغلب على القلب صدق المدعى بأن وجد فيما بين قوم أعداء لا يخالطهم غيرهم
كقتيل خيبر وجد بينهم، والعداوة بين الأنصار وبين أهل خيبر ظاهرة، أو
اجتمع جماعة في بيت أو صحراء وتفرقوا عن قتيل، أو وجد في ناحية قتيل وثم
رجل مختضب بدمه، أو يشهد عدل واحد على أن فلانا قتله أو قاله جماعة من
العبيد والنسوان جاءوا متفرقين بحيث لا يمكن تواطؤهم ونحو ذلك فيبدأ بيمين
المدعى فيحلف خمسين يمينا ويستحق دعواه، فإن نكل المدعى عن اليمين ردت
إلى المدعى عليه فيحلف خمسين يمينا على نفى القتل ويجب بها الدية المغلظة، فإن
لم يكن هناك لوث فالقول قول المدعى عليه مع يمينه كما في سائر الدعاوي، ثم
يحلف يمينا واحدا أو خمسين يمينا قولان أصحهما الأول
فإن كان المدعون جماعة توزع الايمان عليهم على قدر مواريثهم على أصح
القولين ويجبر الكسر.
والقول الثاني يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا، وإن كان المدعى عليهم
جماعة وزع على عدد رؤوسهم على أصح القولين إن كان الدعوى في الأطراف
سواء كان اللوث أو لم يكن فالقول قول المدعى عليه مع يمينه هذا كله بيان
مذهب الشافعي.
221

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يبدأ بيمين المدعى بل يحلف المدعى عليه مع
يمينه. هذا كله بيان مذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة: إذا وجد قتيل في محلة يختار الامام خمسين رجلا من صلحاء
أهلها ويحلفهم على أنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلا، ثم يأخذ الدية من أرباب
الخطة، فإن لم يعرفوا فمن سكانها.
قال صديق حسن خان في الروضة الندية: اعلم أن هذا الباب قد وقع فيه
لكثير من أهل العلم مسائل عاطلة من الدلائل، ولم يثبت في حديث صحيح ولا
حسن قط ما يقتضى الجمع بين الايمان والدية بعض الأحاديث مصرح بوجوب الايمان
فقط وبعضها بوجوب الدية فقط والحاصل أنه قد كثر الخلط والخبط في هذا الباب إلى غاية
فلم يتعبدنا الله بإثبات الأحكام العاطلة عن الدلائل، ولا سيما إذا خالفت ما هو
شرع ثابت وكانت تستلزم أخذ المال الذي هو معصوم إلا بحقه.
وإذا كان القاتل من جماعة محصورة ثبتت وهي خمسين يمينا يختارهم ولى
القتيل والدية إن نكلوا عليهم، وإن حلفوا سقطت، وان التبس الامر كانت
الدية من بيت المال.
222

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الشهادات
تحمل الشهادة وأداؤها فرض لقوله عز وجل (ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا)
وقوله تعالى (ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) قال ابن عباس
رضي الله عنه من الكبائر كتمان الشهادة، لان الله تعالى يقول (ومن يكتمها فإنه
آثم قلبه) فهي فرض على الكفاية، فإن قام بها من فيه كفاية سقط الفرض
عن الباقين لان المقصود بها حفظ الحقوق وذلك يحصل ببعضهم، وإن كان في
موضع لا يوجد فيه غيره ممن يقع به الكفاية تعين عليه، لأنه لا يحصل المقصود
إلا به فتعين عليه، ويجب الاشهاد على عقد النكاح وقد بيناه في النكاح وهل
يحب على الرجعة؟ فيه قولان وقد بيناهما في الرجعة.
وأما ما سوى ذلك من العقود فالبيع والإجارة وغيرهما فالمستحب أن يشهد
عليه لقوله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) ولا يجب لما روى أن النبي صلى الله
عليه وسلم ابتاع من أعرابي فرسا فجحده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من
يشهد لي؟ فقال خزيمة بن ثابت الأنصاري أنا أشهد لك، قال لم تشهد ولم تحضر
فقال نصدقك على أخبار السماء ولا نصدقك على أخبار الأرض، فسماه النبي
صلى الله عليه وسلم ذا الشهادتين.
(فصل) ومن كانت عنده شهادة في حد لله تعالى فالمستحب أن لا يشهد
به لأنه مندوب إلى ستره ومأمور بدرئه، فإن شهد به جاز، لأنه شهد أبو بكرة
ونافع وشبل بن معبد على المغيرة بن شعبة بالزنا عند عمر رضي الله عنه فلم ينكر
عمر ولا غيره من الصحابة عليهم ذلك.
ومن كانت عنده شهادة لآدمي، فإن كان صاحبها يعلم بذلك لم يشهد قبل أن
يسأل لقوله عليه الصلاة والسلام: خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين
يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى شهد الرجل قبل أن يستشهد، وإن كان صاحبها
لا يعلم شهد قبل أن يسأل، لما روى زيد بن خالد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
223

قال (خير الشهود الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها)
(فصل) ولا يجوز لمن تعين عليه فرض الشهادة أن يأخذ عليها أجرة
لأنه فرض تعين عليه فلم يجز أن يأخذ عليه أجرة كسائر الفرائض، ومن لم
يتعين عليه ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يجوز له أخذ الأجرة، لأنه لا يتعين عليه فجاز أن يأخذ
عليه أجرة كما يجوز على كتب الوثيقة.
(والثاني) أنه لا يجوز لأنه تلحقه التهمة بأخذ العوض
(الشرح) أثر ابن عباس (من الكبائر..)
لم أجده ويشهد له ما أخرجته كتب السنة، ومن المتفق عليه (ألا أحدثكم
بأكبر الكبائر، الاشراك بالله وعقوق الوالدين، وكان متكئا، فجلس وقال
شهادة الزور ثلاثا أو قول الزور.. الخ
حديث (النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا..)
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى عن عمارة بن خزيمة أن عمه أخبره أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتاع فرسا من رجل من الاعراب، وفى رواية
(ابتاع فرسا من سواه بن الحارث المحاسبي) فاستتبعه رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليقضى ثمن فرسه، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ
الاعرابي فطفق رجال يعترضون الاعرابي ويساومونه الفرس ولا يشعرون أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ابتاعه حتى زاد بعضهم الاعرابي في السوم فلما
زادوا نادى الاعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم إن كنت مبتاعا هذا الفرس
فابتعه والا بعته، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الاعرابي
حتى أتى الاعرابي فقال: أو ليس قد ابتعت منك؟ قال لا والله ما بعتكه، قال
أين ابتعته منك، فطفق الناس يلوذون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالأعرابي
وهما يتراجعان، فطفق الاعرابي يقول هلم شهيدا انى بايعتك؟ فقال خزيمة أنا
أشهد أنك بايعته، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال بم تشهد
224

قال بتصديقك، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة شهادة رجلين
وفى رواية (من شهد له خزيمة أو شهد عليه فهو حسبه)
أثر (شهد أبو بكرة ونافع...) أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه والبيهقي.
حديث (خير الصحابة قرني..) متفق عليه والترمذي من حديث عمران
ابن حصين. وروى ابن حبان في صحيحه من حديث عمر في خطبته وفيه: ثم
يفشوا الكذب حتى يحلف الرجل على اليمين قبل أن يستحلف عليها، ويشهد
على الشهادة قبل أن يستشهد عليها.) الحديث.
حديث زيد بن خالد (خير الشهود الذي يأتي..) أخرجه مسلم من حديث
زيد بن خالد الجهني.
اللغة: أصل الشهادة الحضور، من قولهم شهد المكان، وشهد الحرب أي
حضرها، وللشاهدة المعاينة مع الحضور، والشهادة خير قطع بما حضر وعاين
ثم قد يكون بما علم واستفاض وقيل إن الشهادة مأخوذة من العلم، من قوله
تعالى (شهد الله) قيل علم وبين، كأن الشاهد يبين ما يوجب حكم الحاكم
قوله (شهد أبو بكرة ونافع) وزياد هم اخوة أمهم سمية جارية للحارث بن
كلدة الثقفي، وكان أبو بكرة نسب في الموالي. قال البيهقي: أبو بكرة بن مسروح،
وقيل اسمه نفيع بن الحارث، ونافع ينسب إلى الحارث وزياد ينسب إلى
أبي سفيان بن حرب وصدقه معاوية رضي الله عنه وانتفى عن أبيه غبيل زوج
سمية أمه، فهجره أخوه أبو بكرة إلى أن مات حين انتسب إلى الزاني وصدق أن
أمه زنت، لان أبا سفيان زعم أنه زنى بأمه في الجاهلية
قوله (خير الناس قرني) القرن من الناس أهل زمان واحد واشتقاقه من
الاقران. وكل طبقة مقترنين في وقت فهم قرن، قال:
إذا ذهب القرن الذي أنت منهم * وخلفت في قرن فأنت غريب
والقرن مثلك في السن تقول هذا على قرني أي على سنى
قوله (ثم يفشو) أي يكثر وينشر من فشا المال إذا تناسل وكثر، وفشا الخبر
أيضا إذا ذاع.
قلت: وهذا الباب مما لا خلاف فيه كثيرا وسبق الكلام عليه
225

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب من تقبل شهادته ومن لا تقبل
لا تقبل شهادة الصبي لقوله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم
يكونا رجلين فرجل وامرأتان) والصبي ليس من الرجال، ولما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ. وعن النائم
حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق) ولأنه إذا لم يؤتمن على حفظ أمواله
فلان لا يؤتمن على حفظ حقوق غيره أولى. ولا تقبل شهادة المجنون للخبر
والمعنى الذي ذكرناه، ولا تقبل شهادة المغفل الذي يكثر منه الغلط لأنه لا يؤمن
أن يغلط في شهادته. وتقبل الشهادة ممن يقل منه الغلط لان أحدا لا ينفك
من الغلط.
واختلف أصحابنا في شهادة الأخرس، فمنهم من قال تقبل لان إشارته
كعبارة الناطق في نكاحه وطلاقه فكذلك في الشهادة، ومنهم من قال لا تقبل
لان إشارته أقيمت مقام العبارة في موضع الضرورة وهو في النكاح والطلاق
لأنها لا تستفاد إلا من جهته ولا ضرورة بنا إلى شهادته لأنها تصح من غيره
بالنطق فلا تجوز بإشارته.
(فصل) ولا تقبل شهادة العبد لأنها أمر لا يتبعض بنى على التفاضل فلم
يكن للعهد فيه مدخل كالميراث والرحم، ولا تقبل شهادة الكافر لما روى معاذ
رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجوز شهادة أهل
دين على أهل دين آخر إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم وعلى غيرهم، ولأنه
إذا لم تقبل شهادة من يشهد بالزور على الآدمي، فلان لا تقبل شهادة من شهد
بالزور على الله تعالى أولى، ولا تقبل شهادة فاسق لقوله تعالى (إن جاءكم فاسق
بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين)
فإن ارتكب كبيرة كالغصب والسرقة والقذف وشرب الخمر فسق وردت
شهادته، سواء فعل ذلك مرة أو تكرر منه والدليل عليه قوله عز وجل
226

(والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا
تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون)
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة
ولا زان ولا زانية ولا ذي غمر على أخيه، فورد النص في القذف والزنا وقسنا
عليهما سائر الكبائر، ولان من ارتكب كبيرة ولم يبال شهد بالزور ولم يبال،
وإن تجنب الكبائر وارتكب الصغائر فإن كان ذلك نادرا من أفعاله لم يفسق ولم
ترد شهادته، وإن كان ذلك غالبا في أفعاله فسق وردت شهادته لأنه لا يمكن رد
شهادته بالقليل من الصغائر لأنه لا يوجد من يمحض الطاعة ولا يخلطها بمعصية
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (ما منا إلا من عصى أو هم بمعصية إلا يحيى
ابن زكريا (ولهذا قال الشاعر:
من لك بالمحض وليس محض * يخبث بعض ويطيب بعض
ولا يمكن قبول الشهادة مع الكثير من الصغائر، لان منى استجاز الاكثار من
الصغائر استجاز أن يشهد بالزور فعلقنا الحكم على الغالب من أفعاله، لان الحكم
الغالب، والنادر لا حكم له ولهذا قال الله تعالى (فمن ثقلت موازينه فأولئك هم
الفالحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون)
(فصل) ولا تقبل شهادة من لا مروءة له كالقوال والرقاص ومن يأكل
في الأسواق ويمشي مكشوف الرأس في موضع لا عادة له في كشف الرأس فيه
لان المروءة هي الانسانية، وهي مشتقة من المرء، ومن ترك الانسانية لم يؤمن
أن يشهد بالزور، ولان من لا يستحيي من الناس في ترك المروءة لم يبال بما
يصنع، والدليل عليه ما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (ان مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستحي فاصنع ما شئت)
واختلف أصحابنا في أصحاب الصنائع الدنيئة إذا حسنت طريقتهم في الدين
كالكناس والدباغ والزبال والنخال والحجام والقيم بالحمام، فمنهم من قال لا تقبل
شهادتهم لدناءتهم ونقصان مروءتهم، ومنهم من قال تقبل شهادتهم لقوله تعالى
(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ولأن هذه صناعات مباحة وبالناس إليها حاجة
فلم ترد بها الشهادة.
227

(فصل) ويكره اللعب بالشطرنج لأنه لعب لا ينتفع به في أمر الدين
ولا حاجة تدعو إليه فكان تركه أولى ولا يحرم، لأنه روى اللعب به عن ابن
عباس وابن الزبير وأبي هريرة وسعيد بن المسيب رضي الله عنهم.
وروى عن سعيد بن جبير أنه كان يلعب به استدبارا ومن لعب به من غير
عوض ولم يترك فرضا ولا مروءة لم ترد شهادته، وان لعب به على عوض
نظرت فإن أخرج كل واحد منهما مالا على أن من غلب منهما أخذ المالين فهو
قمار تسقط به العدالة وترد به الشهادة لقوله تعالى (إنما الخمر والميسر والأنصاب
والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) والميسر القمار
وإن أخرج أحدهما مالا على أنه ان غلب أخذ ماله وان غلبه صاحبه أخذ
المال لم يصح العقد لأنه ليس من آلات الحرب فلا يصح بذلك العوض فيه ولا
ترد به الشهادة لأنه ليس بقمار، لان القمار أن لا يخلو أحد من أن يغنم أو
يغرم، وههنا أحدهما يغنم ولا يغرم، وان اشتغل به عن الصلاة في وقتها مع
العلم فإن لم يكثر ذلك منه لم ترد شهادته، وإن أكثر منه ردت شهادته لأنه من
الصغائر ففرق بين قليلها وكثيرها، فإن ترك فيه المروءة بأن يلعب به على طريق
أو تكلم في لعبه بما يسخف من الكلام، أو اشتغل بالليل والنهار ردت شهادته
لترك المروءة.
(فصل) ويحرم اللعب بالنرد وترد به الشهادة، وقال أبو إسحاق رحمه الله
هو كالشطرنج، وهذا خطأ لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله وروى بريدة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من لعب بالنرد فكأنما غمس
يده في لحم الخنزير ودمه، ولان المعول فيه على ما يخرجه الكعبان فشابه
الأزلام، ويخالف الشطرنج فإن المعول فيه على رأيه، ويحرم اللعب بالأربعة
عشر لان المعول فيها على ما يخرجه الكعبان فحرم كالنرد.
(فصل) ويجوز اتخاذ الحمام لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن
رجلا شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوحشة فقال اتخذ زوجا من حمام،
228

ولان فيه منفعة لأنه يأخذ بيضه وفرخه، ويكره اللعب به لما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يسعى بحمامة فقال: شيطان يتبع شيطانة، وحكمه
في رد الشهادة حكم الشطرنج وقد بيناه.
(فصل) ومن شرب قليلا من النبيذ لم يفسق ولم ترد شهادته، ومن أصحابنا
من قال إن كان يعتقد تحريمه فسق وردت شهادته، والمذهب الأول، لان
استحلال الشئ أعظم من فعله بدليل أن من أستحل الزنا كفر، ولو فعله لم يكفر
فإذا لم ترد شهادة من استحل القليل من النبيذ فلان لا يرد شربه أولى ويجب عليه
الحد، وقال المزني رحمه الله لا يجب كما لا ترد شهادته، وهذا خطأ لان الحد
المردع والنبيذ كالخمر في الحاجة إلى الردع لأنه يشتهى كما يشتهى الخمر ورد الشهادة
لارتكاب كبيرة لأنه إذا أقدم على كبيرة أقدم على شهادة الزور وشرب النبيذ
ليس بكبيرة، لأنه مختلف في تحريمه، وليس من أقدم على مختلف فيه أقدم على
شهادة الزور وهي من الكبائر.
(فصل) ويكره الغناء وسماعه من غير آلة مطربة، لما روى ابن مسعود
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل)
ولا يحرم لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بجارية لحسان بن ثابت وهي
تقول: هل على ويحكما * إن لهوت من حرج
فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا حرج إن شاء الله.
وروت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان عندي جاريتان تغنيان
فدخل أبو بكر رضي الله عنه فقال: مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهما فإنهما أيام عيد، فإن
غنى لنفسه أو سمع غناء جاريته ولم يكثر منه لم ترد شهادته، لان عمر رضي الله عنه
كان إذا دخل في داره يرنم بالبيت والبيتين، واستؤذن عليه لعبد الرحمن بن
عوف رضي الله عنه وهو يترنم، فقال أسمعتني يا عبد الرحمن، قال نعم، قال إنا
إذا خلونا في منازلنا نقول كما يقول الناس.
229

وروى عن أبي الدرداء رضي الله عنه. وهو من زهاد الصحابة وفقهائها
أنه قال إني لأجم قلبي شيئا من الباطل لأستعين به على الحق، فأما إذا أكثر
من الغناء أو اتخذه صنعة يغشاه الناس للسماع أو يدعى إلى المواضع ليغنى ردت
شهادته لأنه سفه وترك للمروءة، وإن اتخذ جارية ليجمع الناس لسماعها ردت
شهادته لأنه سفه وترك مروءة ودناءة.
(فصل) ويحرم استعمال الآلات التي تطرب من غير غناء كالعود والطنبور
والمعزفة والطبل والمزمار، والدليل عليه قوله تعالى (ومن الناس من يشترى
لهو الحديث ليضل عن سبيل الله) قال ابن عباس انها الملاهي. وروى عبد الله
ابن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله حرم على أمتي الخمر
والميسر والمزمار والكوبة والقنين) فالكوبة الطبل القنين البربط.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (تمسخ أمة من أمتي بشربهم الخمر
وضربهم بالكوبة والمعازف) ولأنها تطرب وتدعو إلى الصد عن ذكر الله تعالى
وعن الصلاة والى اتلاف المال فحرم كالخمر، ويجوز ضرب الدف في العرس
والختان دون غيرهما لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أعلنوا النكاح
واضربوا عليه بالدف) ويكره القضيب الذي يزيد الغناء طربا ولا يطرب إذا
انفرد لأنه تابع الغناء، فكان حكمه حكم الغناء، وأما رد الشهادة فما حكمنا
بتحريمه من ذلك فهو من الصغائر، فلا ترد الشهادة بما قل منه وترد بما كثر منه
كما قلنا في الصغائر، وما حكمنا بكراهيته واباحته فهو كالشطرنج في رد الشهادة
وقد بيناه.
(فصل) وأما الحداء فهو مباح لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة نام بالوادي حاديان. وروت عائشة
رضي الله عنها قالت: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، وكان
عبد الله بن رواحة جيد الحداء وكان مع الرجال، وكان أنجشة مع النساء، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن رواحه (حرك بالقوم) فاندفع يرتجز فتبعه
أنجشة فأعتقت الإبل في السير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أنجشة رويدك
رفقا بالقوارير.
230

ويجوز استماع نشيد الاعرابي لما روى عمر وبن الشريد عن أبيه قال: أردفني
رسول الله صلى الله عليه وسلم وراءه ثم قال أمعك شئ من شعر أمية بن أبي الصلت
فقلت نعم فأنشدته بيتا فقال هيه فأنشدته بيتا آخر فقال هيه، فأنشدته إلى أن
بلغ مائة بيت.
(فصل) ويستحب تحسين الصوت بالقرآن لما روى الشافعي رحمه الله
بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ما أذن الله لشئ كإذنه لنبي حسن
الترنم بالقرآن، وروى حسن الصوت بالقرآن، وروى البراء بن عازب رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حسنوا القرآن بأصواتكم، وقال عليه
الصلاة والسلام (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) وحمله الشافعي على تحسين
الصوت وقال: لو كان المراد به الاستغناء بالقرآن لقال من لم يتغان بالقرآن.
وأما القراءة بالألحان فقد قال في موضع أكرهه، وقال في موضع آخر لا أكرهه
وليست على قولين وإنما هي على اختلاف حالين، فالذي قال أكرهه أراد إذا
جاوز الحد في التطويل وادغام بعضه في بعض، والذي قال لا أكرهه إذا
لم يجاوز الحد.
(فصل) ويجوز قول الشعر لأنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم شعراء،
منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة، ولأنه وفد عليه
الشعراء ومدحوه وجاءه كعب بن زهير وأنشده:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول * متيم عندها لم يفد مكبول
فأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم بردة كانت عليه فابتاعها منه معاوية
بعشرة آلاف درهم وهي التي مع الخلفاء إلى اليوم وحكمه حكم الكلام في حظره
واباحته وكراهيته واستحبابه ورد الشهادة به، والدليل عليه ما روى عبد الله
ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الشعر
بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام)
(فصل) ومن شهد بالزور فسق وردت شهادته لأنها من الكبائر، والدليل
عليه ما روى خريم بن فاتك قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح
231

ولما انصرف قام قائما ثم قال عدلت شهادة الزور بالاشراك بالله (ثلاث مرات) ثم
تلا قوله عز وجل (فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور)
وروى محارب بن دثار عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (شاهد الزور لا يزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار ويثبت أنه شاهد
زور) من ثلاثة أوجه (أحدها) أن يقر أنه شاهد زور (والثاني) أن تقوم
البينة أنه شاهد زور (والثالث) أن يشهد بما يقطع بكذبه بأن شهد على رجل
أنه قتل أو زنى في وقت معين في فوضع معين، والمشهود عليه في ذلك الوقت
كان في بلد آخر، وأما إذا شهد بشئ أخطأ فيه فلم يكن شاهد زور لأنه لم يقصد
الكذب. وإن شهد لرجل بشئ وشهد به آخر أنه لغيره لم يكن شاهد زور،
لأنه ليس تكذيب أحدهما بأولى من تكذيب الآخر فلم يقدح ذلك في عدالته.
وإذا ثبت أنه شاهد زور ورأي الامام تعزيره بالضرب أو الحبس أو الزجر
فعل، وإن رأى أن يشهر أمره في صوته ومصلاه وقبيلته وينادى عليه أنه شاهد
زور فاعرفوه فعل، لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (إذكروا الفاسق بما فيه ليحذره الناس) ولان في ذلك زجرا له
ولغيره عن فعل مثله.
وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه قال (إن كان من أهل الصيانة لم يناد
عليه لقوله عليه الصلاة والسلام (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) وهذا غير صحيح
لان بشهادة الزور يخرج عن أن يكون من أهل الصيانة.
(فصل) ولا تقبل شهادة جار إلى نفسه نفعا ولا دافع عن نفسه ضررا
لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقبل شهادة
خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة) والظنين المتهم، والجار إلى نفسه نفعا والدافع
عنها ضررا متهمان، فإن شهد المولى لمكاتبه بمال لم تقبل شهادته لأنه يثبت لنفسه
حقا، لان مال المكاتب يتعلق به حق المولى.
وإن شهد الوصي اليتيم والوكيل للموكل فيما فوض النظر فيه إليه لم تقبل لأنهما
يثبتان لأنفسهما حق المطالبة والتصرف، وان وكله في شئ ثم عزله لم يشهد فيها
232

كان النظر فيه إليه، فإن كان قد خاصم فيه لم تقبل شهادته، وان لم يكن قد خاصم
فيه ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه تقبل لأنه لا يلحقه تهمة.
(والثاني) أنه لا تقبل لأنه بعقد الوكالة يملك الخصومة فيه. وان شهد
الغريم لمن له عليه دين وهو محجور عليه بالفلس لم تقبل شهادته لأنه يتعلق حقه
بما يثبت له بشهادته، وان شهد لمن له عليه دين وهو موسر قبلت شهادته لأنه
لا يتعين حقه فيما شهد به، وان شهد له وهو معسر قبل الحجر ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه لا يقبل لأنه يثبت له حق المطالبة
(والثاني) أنه يقبل لأنه لا يتعلق بما يشهد به له حق
(فصل) وان شهد رجلان على رجل أنه جرح أخاهما وهما وارثاه قبل
الاندمال لم تقبل لأنه قد يسرى إلى نفسه فيجب الدم به لهما، وان شهدا له بمال
وهو مريض ففيه وجهان، أحدهما وهو قول أبي إسحاق أنه لا تقبل لأنهما
متهمان لأنه قد يموت فيكون المال لهما فلم تقبل، كما لو شهدا بالجراحة، والثاني
وهو قول أبى الطيب بن سلمة أنه تقبل لان الحق يثبت للمريض ثم ينتقل بالموت
إليهما، وفى الجناية إذا وجبت الدية وجبت لهما لأنها تجب بموته فلم تقبل.
وان شهدا له بالجراحة وهناك ابن قبلت شهادتهما لأنهما غير متهمين وان
مات الابن وصار الاخوان وارثين نظرت فإن مات الابن بعد الحكم بشهادتهما
لم تسقط الشهادة لأنه حكم بها. وان مات قبل الحكم بشهادتهما سقطت الشهادة
كما لو فسقا قبل الحكم.
وان شهد المولى على غريم مكاتبه والوصي على غريم الصبي أو الوكيل على
غريم الموكل بالابراء من الدين أو بفسق شهود الدين لم تقبل الشهادة لأنه دفع
بالشهادة عن نفسه ضررا وهو حق المطالبة.
وان شهد شاهدان من عاقلة القاتل بفسق شهود القتل، فإن كانا موسرين لم
تقبل شهادتهما لأنهما يدفعان بهذه الشهادة عن أنفسهما ضررا وهو الدية،
وإن كانا فقيرين فقد قال الشافعي رضي الله عنه ردت شهادتهما، وقال في موضع
233

آخر إذا كانا من أباعد العصبات بحيث لا يصل العقل إليهما حتى يموت من
قبلهما قبلت شهادتهما، فمن أصحابنا من نقل جواب إحداهما إلى الآخرى وجعلهما
على قولين:
(أحدهما) أنه تقبل لأنهما في الحال لا يحملان العقل.
(والثاني) أنه لا تقبل لأنه قد يموت القريب قبل الحول ويوسر الفقير
فيصيران من العاقلة، ومنهم من حملهما على ظاهرهما فقال تقبل شهادة الأباعد
ولا تقبل شهادة القريب الفقير، لان القريب معدود في العاقلة واليسار يعتبر
عند الحول وربما يصير موسرا عند الحول، والبعيد غير معدود في العاقلة وإنما
يصير من العاقلة إذا مات الأقرب.
(فصل) ولا تقبل شهادة الوالدين للأولاد وان سفلوا، ولا شهادة
الأولاد للوالدين وان علوا وقال المزني رحمه الله وأبو ثور: تقبل، ووجهه
قوله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) فعم ولم يخص، ولأنهم كغيرهم
في العدالة فكانوا كغيرهم في الشهادة، وهذا خطأ لما روى ابن عمر رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة)
والظنين المتهم، وهذا متهم لأنه يميل إليه ميل الطبع، ولان الولد بضعة من
الوالد، ولهذا قال عليه السلام: يا عائشة ان فاطمة بضعة منى يريبني ما يربيها)
ولان نفسه كنفسه وماله كماله، ولهذا قال عليه السلام لأبي معشر الدارمي:
أنت ومالك لأبيك. وقال صلى الله عليه وسلم: ان أطيب ما أكل الرجل من
كسبه، وان ولده من كسبه، ولهذا يعتق عليه إذا ملكه ويستحق عليه النفقة
إذا احتاج، والآية نخصها بما ذكرناه.
والاستدلال بأنهم كغيرهم في العدالة يبطل بنفسه فإنه كغيره في العدالة، ثم
لا تقبل شهادته لنفسه، وتقبل شهادة أحدهما على الآخر في جميع الحقوق.
ومن أصحابنا من قال: لا تقبل شهادة الولد على الوالد في ايجاب القصاص وحد
القذف لأنه لا يلزمه القصاص بقتله ولا حد القذف بقذفه فلا يلزمه ذلك بقوله
والمذهب الأول لأنه إنما ردت شهادته له للتهمة ولا تهمة في شهادته عليه.
234

ومن عدا الوالدين والأولاد من الأقارب كالأخ والعم وغيرهما تقبل شهادة
بعضهم لبعض لأنه لم يجعل نفس أحدهما كنفس الآخر في العتق ولا ماله كماله
في النفقة، وإن شهد شاهدان على رجل أنه قذف ضرة أمهما ففيه قولان: قال
في القديم لا تقبل لأنهما يجران إلى أمهما نفعا لأنه يجب عليه بقذفها الحد
فيحتاج أن يلاعن، وتقع الفرقة بينه وبين ضرة أمها، وقال في الجديد تقبل
وهو الصحيح، لان حق أمهما لا يزيد بمفارقة الضرة، وإن شهد أنه طلق ضرة
أمهما ففيه قولان (أحدهما) أنه تقبل (والثاني) أنه لا تقبل، وتعليلهما ما ذكرناه
(فصل) وتقبل شهادة أحد الزوجين للآخر لان النكاح سبب لا يعتق
به أحدهما على الآخر بالملك فلم يمنع من شهادة أحدهما للآخر كقرابة ابن العم
ولا تقبل شهادة الزوج على الزوجة في الزنا، لان شهادته دعوى خيانة في حقه
فلم تقبل كشهادة المودع على المودع بالخيانة في الوديعة، ولأنه خصم لها فيما يشهد
به فلم تقبل، كما لو شهد عليها أنها جنت عليه.
(فصل) ولا تقبل شهادة العدو على عدوه لقوله عليه الصلاة والسلام
(لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي إحنة) وذو الإحنة هو العدو، ولأنه
متهم في شهادته بسبب منهى عنه فلم تقبل شهادته.
(فصل) ومن جمع في الشهادة بين أمرين فردت شهادته في أحدهما نظرت
فإن ردت العداوة بينه وبين المشهود عليه، مثل أن يشهد على رجل أنه قذفه
وأجنبيا ردت شهادته في حقه وفى حق الأجنبي، لأن هذه الشهادة تضمنت
الاخبار عن عداوة بينهما وشهادة العدو على عدوه لا تقبل، فإن ردت شهادته
في أحدهما لتهمة غير العداوة بأن شهد على رجل أنه اقترض من أبيه ومن أجنبي
مالا ردت شهادته في حق أبيه، وهل ترد في حق الأجنبي؟ فيه قولان.
(أحدهما) أنها ترد كما لو شهد أنه قذفه وأجنبيا (والثاني) أنها لا ترد لأنها
ردت في حق أبيه للتهمة ولا تهمة في حق الأجنبي فقبلت.
(فصل) ومن ردت شهادته بمعصية فتاب قبلت شهادته لقوله تعالى (والذين
يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم
235

شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا) التوبة توبتان، توبة في الباطن
وتوبة في الظاهر، فأما التوبة في الباطن فهي ما بينه وبين الله عز وجل، فينظر في
المعصية فإن لم يتعلق بها مظلمة لآدمي ولا حد لله تعالى كالاستمتاع بالأجنبية فيما
دون الفرج فالتوبة منها أن يقلع عنها ويندم على ما فعل ويعزم على أن لا يعود
إلى مثلها، والدليل عليه قوله تعالى (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم
ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب الا الله ولم يصروا على ما فعلوا
وهم يعلمون، وأولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجرى من تحتها الأنهار
خالدين فيها ونعم أجر العاملين).
وإن تعلق بها حق آدمي فالتوبة منها أن يقلع عنها ويندم على ما فعل ويعزم
على أن لا يعود إلى مثلها وأن يبرأ من حق الآدمي اما أن يؤديه أو يسأله حتى
يبرئه منه، لما روى إبراهيم النخعي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا
يصلى مع النساء فضربه بالدرة، فقال الرجل والله لئن كنت أحسنت فقد ظلمتني
وإن كنت أسأت فما علمتني، فقال عمر اقتص، قال لا أقتص، قال فاعف، قال
لا أعفو، فافترقا على ذلك، ثم لقيه عمر من الغد فتغير لون عمر، فقال له الرجل
يا أمير المؤمنين أرى ما كان منى قد أسرع فيك، قال أجل، قال فأشهد أنى قد
عفوت عنك.
وان لم يقدر على صاحب الحق نوى أنه ان قدر أوفاه حقه، وان تعلق
بالمعصية حد لله تعالى كحد الزنا والشرب، فإن لم يظهر ذلك فالأولى أن يستره
على نفسه لقوله عليه السلام: من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله
تعالى، فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه حد الله، وان أظهره لم يأثم، لان
ما عزا والغامدية اعترفا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا فرجمهما ولم ينكر
عليهما، وأما التوبة في الظاهر وهي التي تعود بها العدالة والولاية وقبول الشهادة
فينظر في المعصية فإن كانت فعلا كالزنا والسرقة لم يحكم بصحة التوبة حتى يصلح
عمله مدة لقوله تعالى (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا) وقدر أصحابنا
المدة بسنة. لأنه لا تظهر صحة التوبة في مدة قريبة فكانت أولى المدد بالتقدير
سنة، لأنه تمر فيها الفصول الأربعة التي تهيج فيها الطبائع وتغير فيها الأحوال
236

وإن كانت المعصية بالقول فإن كانت ردة فالتوبة منها أن يظهر الشهادتين، وإن
كانت قذفا فقد قال الشافعي رحمه الله التوبة منه إكذابه نفسه.
واختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الإصطخري رحمه الله: هو أن يقول
كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله. ووجهه ما روى عن عمر رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (توبة القاذف إكذابه نفسه) وقال أبو إسحاق
وأبو علي بن أبي هريرة: هو أن يقول قذفي له كان باطلا، ولا يقول إني كنت
كاذبا لجواز أن يكون صادقا فيصير بتكذيبه نفسه عاصيا كما كان بقذفه عاصيا،
ولا تصح التوبة منه إلا بإصلاح العمل على ما ذكرناه في الزنا والسرقة.
فأما إذا شهد عليه بالزنا ولم يتم العدد فإن قلنا إنه لا يجب عليه الحد فهو على
عدالته ولا يحتاج إلى التوبة، وإن قلنا إنه يجب عليه الحد وجبت التوبة، وهو
أن يقول ندمت على ما فعلت ولا أعود إلى ما أنهم به، فإذا قال هذا عادت
عدالته، ولا يشترط فيه إصلاح العمل، لان عمر رضي الله عنه قال لأبي بكرة
تب أقبل شهادتك، وان لم يتب لم تقبل شهادته ويقبل خبره لان أبا بكره ردت
شهادته وقبلت أخباره، وإن كانت معصية بشهادة زور فالتوبة منها أن يقول
كذبت فيما قلت ولا أعود إلى مثله، ويشترط في صحة توبته إصلاح العمل
على ما ذكرناه.
(فصل) وان شهد صبي أو عبد أو كافر لم تقبل شهادته، فإن بلغ الصبي
أو أعتق العبد أو أسلم الكافر وأعاد تلك الشهادة قبلت، وان شهد فاسق
فردت شهادته ثم تاب وأعاد تلك الشهادة لم تقبل.
وقال المزني وأبو ثور رحمهما الله تقبل كما تقبل من الصبي إذا بلغ والعبد إذا
أعتق والكافر إذا أسلم، وهذا خطأ لان هؤلاء لا عار عليهم في رد شهادتهم
فلا يلحقهم تهمة في إعادة لشهادة بعد الكمال، والفاسق عليه عار في رد شهادته
فلا يؤمن أن يظهر لتوبة لإزالة العار فلا تنفك شهادته من التهمة، وان شهد
المولى لمكاتبه بمال فردت شهادته ثم أدى المكاتب مال الكتابة وعتق وأعاد المولى
الشهادة له بالمال فقد قال أبو العباس فيه وجهان.
(أحدهما) أنه تقبل لان شهادته لم ترد بمعرة وإنما ردت لأنه ينسب لنفسه
237

حقا بشهادته وقد زال هذا المعنى بالعتق (والثاني) أنها لا تقبل وهو الصحيح
لأنه ردت شهادته للتهمة فلم تقبل إذا أعادها كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب
وأعاد الشهادة.
وإن شهد رجل على رجل أنه قذفه وزوجته فردت شهادته ثم عفا عن قذفه
وحسنت الحال بينهما ثم أعاد الشهادة للزوجة لم تقبل شهادته لأنها شهادة ردت
للتهمة فلم تقبل، وإن زالت التهمة كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد
الشهادة، وإن شهد لرجل أخوان له بجراحة لم تندمل وهما وارثان له فردت
شهادتهما ثم اندملت الجراحة فأعاد الشهادة ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه تقبل لأنها ردت للتهمة وقد زالت التهمة
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق وظاهر المذهب أنها لا تقبل لأنها شهادة
ردت التهمة فلم تقبل كالفاسق إذا ردت شهادته ثم تاب وأعاد
(الشرح) حديث (رفع القلم...) سبق تخريجه
حديث معاذ (لا تجوز شهادة أهل دين.)
أخرجه البيهقي من طريق الأسود بن عامر قال شاذان: كنت عند سفيان
الثوري فسمعت شيخا يحدث عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة
نحوه وأتم منه، قال شاذان فسألت عن اسم الشيح فقالوا عمر بن راشد، قال
البيهقي وكذا رواه الحسن بن موسى وعلي بن الجعد عن عمر بن راشد، وعمر
ضعيف، وضعفه أبو حاتم، وفى معارضة حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم
أجاز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض، أخرجه وفى اسناده مجالد
وهو شئ الحفظ.
حديث (لا تجوز شهادة خائن.)
روى بلفظ (لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة.) أخرجه أبو داود وابن
ماجة والبيهقي من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وسياقهم أتم وليس
فيه ذكر الزاني والزانية إلا عند أبي داود وسنده قوى، ورواه الترمذي
والدارقطني والبيهقي من حديث عائشة وفيه زياد بن يزيد الشامي وهو ضعيف
238

وقال الترمذي: لا يعرف هذا من حديث الزهري الا من هذا الوجه، ولا
يصح عندنا اسناده.
وقال أبو زرعة في العلل منكر، وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي
ورواه الدارقطني والبيهقي من حديث عبد الله بن عمرو وفيه عبد الاعلى وهو
ضعيف وشيخه يحيى بن سعيد الفارسي وهو ضعيف. قال البيهقي: لا يصح من
هذا شئ عن النبي صلى الله عليه وسلم
حديث (ما منا من عصى أو هم..)
قال الحافظ بن حجر (ما من آدمي الا وقد أخطأ أو هم بخطيئة الا يحيى بن
زكريا لم يهم بخطيئة ولم يعملها) رواه أحمد وأبو يعلى والحاكم من حديث ابن
عباس وهذا لفظه (ما من أحد من ولد آدم الا وقد أخطأ أو هم بخطيئة ليس
يحيى بن زكريا) وهو من رواية علي بن زيد بن جدعان عن يوسف بن مهران
وهما ضعيفان، وفى الباب عن أبي هريرة وفى الطبراني في الأوسط وكامل بن عدي
في ترجمة حجاج بن سليمان، وأخرجه البيهقي بإسناد صحيح إلى الحسن عن
النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، وأخرجه عبد الرزاق من طريق سعيد
ابن المسيب مرسلا.
حديث (ان مما أدرك الناس...)
رواه البخاري وأحمد والطبراني من حديث أبي مسعود البدري ومالك في
الموطأ: إذا لم تستح فاصنع ما شئت، وأن نصنع أيماننا على شمائلنا في الصلاة
ينمى ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
أثر (روى اللعب بالشطرنج عن ابن عباس...)
قال الحافظ أما ابن الزبير فلم أره، ويحتمل أنه يريد بهشام بن عروة بن
الزبير كما ذكره الشافعي، وأما أبو هريرة فرواه أبو بكر الصولي في كتاب
الشطرنج بسنده إليه وأخرج الشافعي وحكاه أيضا عن محمد بن سيرين وهشام
ابن عروة أن سعيد بن جبير كان يلعب بالشطرنج استدبارا وكذا البيهقي
حديث (من لعب بالنرد..) أخرجه مالك وأحمد وأبو داود وابن ماجة
239

والحاكم والدارقطني والبيهقي من حديث الجاموسي الأشعري، قال الحافظ
ووهم من عزاه إلى تخريج مسلم.
حديث (من لعب بالنرد...)
أخرجه مسلم وقال أحمد عن موسى بن عبد الرحمن الخطمي أنه سمع محمد بن
كعب يسأل عبد الرحمن: أخبرني ما سمعت أباك؟ قال سمعت أبي يقول سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول (مثل الذي يلعب بالنرد ثم يقوم فيصلى مثل الذي
يتوضأ بالقيح ودم الخنزير ثم يقوم فيصلى)
حديث عبادة بن الصامت (أن رجلا شكى إلى النبي صلى الله عليه وسلم...)
لم أجده.
حديث (أن رجلا يسعى بحمامة..) أخرجه البيهقي وأبو داود
حديث (الغناء ينبت النفاق..)
أخرجه أبو داود بدون التشبيه والبيهقي من حديث ابن مسعود مرفوعا
وفيه شيخ لم يسم، ورواه البيهقي أيضا موقوفا، وفى الباب عن أبي هريرة رواه
ابن عدي، وقال ابن طاهر أصح الأسانيد في ذلك أنه من قول إبراهيم، وروى
في السنن الكبرى البيهقي أنه من قول ابن مسعود.
حديث (مر بجارية لحسان بن ثابت وهي تقول..) أخرجه البيهقي
حديث عائشة (قالت كان عندي جاريتان تغنيان...) متفق عليه
أثر عمر (كان إذا دخل داره ترنم..)
ذكره المبرد في الكامل في قصة، وذكره البيهقي في المعرفة عن عمر وغيره
ورواه المعافى النهرواني في كتاب الجليس والأنيس وابن مسنده في المعرفة في
ترجمة أسلم الحاوي في قصة، وروى أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب شيئا
من ذلك في قصة.
أثر عمر (واستؤذن عليه لعبد الرحمن بن عوف...)
أخرج البيهقي قال السائب بن يزيد: فبينا نحن مع عبد الرحمن بن عوف في
طريق الحج ونحن نؤم مكة اعتزل عبد الرحمن رضي الله عنه الطريق ثم قال لرباح
240

ابن المغترف غننا يا أبا حسان، وكان يحسن النصب، فبينا رباح يغنيه أدركهم
عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته فقال ما هذا؟ فقال عبد الرحمن ما بأس
بهذا نلهو، فقال عمر رضي الله عنه: فإن كنت آخذا فعليك بشعر ضرار بن
الخطاب، وضرار رجل من بي محارب بن فهر.
أثر أبي ذر (انى لاجم.) لم أجده
أثر ابن عباس عن آلات الطرب قال إنها الملاهي
أخرجه البيهقي بلفظ عن ابن عباس قال: الدف حرام والمعازف حرام
والكوبة حرام والمزمار حرام.
حديث عبد الله بن عمرو (ان الله حرم على أمتي الخمر..)
رواه أحمد وأبو داود وابن حبان والبيهقي من حديث ابن عباس بهذا وزاد
وهو الطبل وقال كل مسكر حرام من حديث ابن عمر، وبين في رواية أخرى
أن تفسير الكوبة من كلام علي بن بذيمة، ورواه أبو داود من حديث ابن عمرو
وزاد والغبيراء، وزاد أحمد فيه والمزمار، ورواه أحمد من حديث قيس بن
سعد بن عبادة.
حديث (تمسخ أمة من الأمم بشربهم الخمر...)
أخرجه البخاري عن أبي عامر بلفظ (ليكون في أمتي أقوام يستحلون الحرير
والخمر والمعازف، ولينزلن أقوام إلى جنب علم تروح عليهم سارحة لهم فيأتيهم
رجل لحاجة فيقولون ارجع إلينا غدا فبيتهم الله فيضع العلم ويمسخ آخرين
قردة وخنازير إلى يوم القيامة) ومسلم نحوه.
حديث (أعلنوا النكاح...)
أخرجه الترمذي وابن ماجة والبيهقي عن عائشة وفيه (واضربوا عليه
بالغربال) وفى اسناده خالد بن الياس وهو منكر الحديث، قال أحمد وفى رواية
الترمذي عيسى بن ميمون وهو يضعف قاله الترمذي، وضعفه ابن الجوزي من
الوجهين، فعم روى أحمد وابن حبان والحاكم من حديث عبد الله بن الزبير
(أعلنوا النكاح.)
وروى أحمد والنسائي والترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث محمد بن حاطب
241

(فصل ما بين الحلال والحرام الضرب بالدف) وادعى ابن الكمال جعفر الادنوى
في كتاب الامتاع بأحكام السماع أن مسلما أخرج الحديث في صحيحه ووهم في
ذلك وهما قبيحا.
حديث ابن مسعود (كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة نام بالوادي
حاديان..) لم أجده.
حديث عائشة كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر وكان عبد الله
ابن رواحة..) أخرجه النسائي من حديث قيس بن أبي حازم عن عمر بن
الخطاب، ورواه أيضا من حديث قيس عن أبي رواحة مرسلا وقوله صلى الله
عليه وسلم (ارفق يا أنجشة ويحك رفقا بالقوارير) متفق عليه
حديث عبد الله بن الشريد عن أبيه قال: أردفني رسول الله صلى الله عليه
وسلم وراءه..) رواه مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: أردفني
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شئ
قال نعم، قال هيه، قال فأنشدته بيتا فقال هيه، فأنشدته حتى بلغت مائة بيت،
وفى رواية (وإن كان في شعره ليسلم)
ما رواه الشافعي (ما أذن الله كإذنه لنبي...)
(ما أذن الله لشئ ما أذن لنبي حسن الصوت بالقرآن يجهر به، رواه البخاري ومسلم
من وجه آخر.
حديث (حسن الصوت بالقرآن..)
أخرج البيهقي عن عبد الرحمن بن السائب قال. قدم علينا سعد بن مالك
فأتيته مسلما فنسبني فانتسبت، فقال مرحبا يا ابن أخي بلغني أنك حسن الصوت
بالقرآن، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. ان هذا القرآن نزل بحزن
فإذا قرأتموه فابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)
حديث البراء بن عازب (حسنوا القرآن بأصواتكم) رواه أحمد وأبو داود
والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم من حديث البراء بن عازب (زينوا القرآن
بأصواتكم) قلت: علقه البخاري بالجزم، ولابن حبان عن أبي هريرة والتزار
عن عبد الرحمن بن عوف وللحاكم من طريق أخرى عن البراء (زينوا أصواتكم
242

بالقرآن) وهي في الطبراني من حديث ابن عباس، ورجح هذه الرواية الخطابي
وفيه نظر لما رواه الدارمي والحاكم بلفظ (زينوا القرآن بأصواتكم فإن الصوت
الحق يزيد القرآن حسنا) فهذه الزيادة تؤيد معنى الرواية الأولى.
حديث (ليس منا من لم يتغن بالقرآن) رواه البخاري وأحمد من حديث
أبي هريرة وأحمد وأبو داود وابن ماجة والحاكم وابن حبان من حديث سعد بن أبي
وقاص، وفى الباب عن ابن عباس وعائشة في الحاكم، وعن أبي لبابة في سنن أبي
داود، وقال الشافعي معنى هذا الحديث تحسين الصوت بالقرآن، وفى رواية
أبى داود قال ابن أبي مليكة يحسنه ما استطاع، وقال ابن عيينة يجهر به، وقال
وكيع يستغنى به. وقيل غير ذلك في تأويله.
حديث (كان للنبي شعراء منهم حسان...)
حسان بن ثابت (في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال اهجوا قريشا فإنها أشد على من رشق النبل، فأرسل إلى
عبد الله بن رواحة فقال اهج فهجاهم، فأرسل إلى كعب بن مالك ثم أرسل إلى
حسان بن ثابت فلما دخل عليه قال حسان قد آن لكم أن ترسلوا إلى هذا الأسد
الضاري ثم أدلع لسانه فجعل يحركه ثم قال: والذي بعثك بالحق لأفرينهم فرى
الأديم فقال لا تعجل فإن أبا بكر أعلم قريش بأنسابها وان لي فيهم نسبا حتى
يخلص لك نسبي، فأتاه حسان ثم رجع فقال يا رسول الله قد لخص لي نسبك
والذي بعثك بالحق لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين...) الحديث
بطوله وفيه الشعر رواه مسلم.
ابن رواحة: في البخاري عن أبي هريرة أنه كان يقول في قصصه يذكر
رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أخا لكم لا يقول الرفث، يعنى بذلك
عبد الله بن رواحة.
حديث عبد الله بن عمرو (الشعر بمنزلة الكلام) أخرجه الدارقطني مرفوعا
من حديث عائشة وفيه عبد العظيم بن حبيب ضعيف
حديث خريم بن فاتك (قال صلى صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح...)
أخرجه البيهقي.
243

حديث (شاهد الزور) أخرجه ابن ماجة وانفرد به وفيه محمد بن الفرات
الكوفي كذبه أحمد، وقال في التقريب كذبوه.
حديث بهز بن حكيم (اذكروا الفاسق بما فيه..) قال الشوكاني في مجموعة
الرسائل المنيرية صفحة 58 لم يصح ذلك بوجه من الوجوه.
حديث (أقيلوا ذوي الهيئات..) أخرجه البيهقي
حديث ابن عمر (لا تقبل شهادة ظنين) سبق تخريجه
حديث (يا عائشة ان فاطمة بضعة...) عن المسور بن محزمة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال فاطمة بضعة منى من أذاها فقد آذاني، متفق عليه
حديث معشر الدارمي أنت ومالك لأبيك أخرجه ابن ماجة عن جابر
والطبراني عن سمرة وابن مسعود.
حديث (ان أطيب ما أكل.) أخرجه الحاكم وأبو داود وابن ماجة عن
عمرو بلفظ (أنت ومالك لوالدك، إن أولادكم من أطيب كسبكم، فكلوا من
كسب أولادكم)
أثر إبراهيم النخعي أن عمر ضرب رجلا يعتلى. أخرجه البيهقي
أثر عمر (توبة القاذف إكذابه نفسه) أخرجه البيهقي، وقال الحافظ
لم أره مرفوعا.
أثر عمر قال لأبي بكرة: تب أقبل شهادتك. أخرجه البخاري.
اللغة: قوله (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) يقال أشهدت واستشهدت
بمعنى واحد، والشهيد والشاهد سواء بمعنى كالعالم والعليم، ومجمع على أشهاد
وشهداء وشهود وشهد، سمى خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين لأنه حكم بشهادته
وحده وأقام شهادته مقام شاهدين.
قوله (المغفل) الذي تكثر منه الغفلة وليس بمتيقظ ولا ذاكر
قوله (لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة) الخائن الذي أؤتمن فأخذ أمانته وقد
وهم من قال هو السارق، وقد تقع الخيانة في غير المال، وذلك بأن يستودع سرا
فيفشيه أو يؤمن على حكم فلا يعدل فيه.
244

قوله (ولا ذي غمر) الغمر الحقد والغل، وقد غمر صدره على بالكسر
يغمر غمرا وغمراء عن يعقوب، قوله (شهد بالزور) الزور الكذب وأصله
الميل كأنه مال عن الصدق إلى الكذب، ومثله قوله تعالى (وترى الشمس إذا
طلعت تزاور عن كهفهم) وقيل هو مشتق من قولهم زورت في نفسي حديثا
أصلحته وهيأته كأن شاهد الزور قد زور الشهادة في نفسه وهيأها ولم يسمع ولم
ير. قوله (بمحض الطاعة) أي يخلصها والمحض الخالص من كل شئ، قوله
(يخبث بعض) الخبيث ضد الطيب، وقد خبثت خباثة وخبثا. قوله (من
استجاز) أي رآه جائزا سائغا، يقال جوز له ما صنع وأجاز له أي سوغ له ذلك
والمروءة تهمز وتخفف، ويجوز التشديد وترك الهمزة فيها وهي الانسانية كما ذكر
قال أبو زيد: مرؤ الرجل صار ذا مروءة، فهي مرء على فعيل وتمرأ تكلف
المروءة قوله (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) معناه إنما يمنع من فعل السوء
والقبيح الحياء، فإذا عدم الحياء لم يمنعه منه مانع. وقيل معناه إذا لم تستح
صنعت ما شئت، وقيل اصنع ما شئت فأنت مجازى. قوله (الصنائع الدنيئة)
هي الخسيسة مأخوذة من الدنى. وهو الخسيس مهموز، وقد دنأ الرجل إذا
صار دنيئا لا خير فيه. قوله (والزبال) الذي يحمل الزبل وهو السرجين
وموضعه المزبلة، والنخال هو الذي ينخل التراب يلتمس فيه الشئ التافه
والشطرنج بكسر الشين في اللغة الفصيحة. قوله (يلعب به استدبارا) الاستدبار
خلاف الاستقبال أي يجعله خلف ظهره قوله (تكلم في لعبه بما يسخف) هو
الكلام القذع الساقط، وأصل السخف رقة العقل، وقد سخف الرجل بالضم
سخافة فهو سخيف، ويحرم اللعب بالنرد - ليس النرد بعربي _ وصورته أن
يكون ثلاثون بندقا مع كل واحد من اللاعبين خمسة عشر ويكون فيه ثلاث
كعاب مربعة، تكون في أرباع كل واحدة في ربع ست نقط وفى المقابلة نقطة،
وفى الربع الثاني خمس نقط، وفى المقابلة نقطتان، وفى الربع الثالث أربع نقط
وفى المقابلة ثلاث نقط، والأربعة عشر هي قطعة من خشب يحفر فيها ثلاثة
245

أسطر فيجعل في تلك الحفر حضى صغار يلعبون بها، ذكره في البيان ويحرم
اللعب بالأربعة عشر هي اللعبة التي تسميها العامة شاردة، وهو أربعة عشر
بالفارسية، لان شعار أربعة وده عشرة بلغتهم، وهو حفيرات تجعل في لوح
سطرا في أحد جانبيه وسطرا في الجانب الآخر، وتجعل في الحفر حصى صغار
يلعبون بها. وقال في الشامل ثلاثة أسطر.
قوله (من غير آلة مطربة) قد ذكرنا أن الطرب خفة نصيب الانسان
لشدة حزن أو سرور. قال الشاعر:
وأراني طربا في إثرهم * طرب الواله أو كالمختبل
وبين الجارية التي تنشد:
هل على ويحكما * إن لهوت من حرج؟
فقال لا حرج إن شاء الله. قال ابن الأنباري في الويح قولان، قال أهل
التفسير: الويح الرحمة، وقالوا حسن أن يقول الرجل لمن يخاطبه ويحك.
والثاني قاله الفراء الويح والويس كنايتان عن الويل، ومعنى ويحك ويلك بمنزلة قول
العرب قانعه الله كناية عن قولهم قاتله الله. وكنى آخرون فقالوا كاتعه الله. وقال
غيره ويح كلمة رحمة ضد ويل كلمة عذاب.
وقال البريدي هما بمعنى واحد، يقال ويح لزيد وويل برفعهما على
الابتداء ولك أن تقول ويحا لزيد وويلا لزيد فتنصبهما بإضمار فعل، كأنك
قلت ألزمه الله ويحا وويلا. قوله (لا حرج) أي لا ضيق أو لا إثم وقد ذكر
قوله (ترنم بالبيت والبيتين) الرنم بالتحريك الصوت وقد رنم بالكسر وترنم
إذا رجع صوته. والترنيم مثله وترنم الطائر في هديره، وقيل إن البيت الذي
أنشده عمر (رض)
وان ثوائى بالمدينة بعد ما * قضى وطرا منها جميل بن معمر
أراد جميل بن معمر الجحى لا العذري فإنه متأخر. قوله (انى لأجم قلبي)
أي أريحه. والجمام بالفتح الراحة يقال جم الفرس جما وجماما إذا ذهب إعياؤه
وكذلك إذا ترك الضراب يجم ويجم، وأجم الفرس إذا ترك أن يركب، وقيل
246

يجمعه ويكمل صلاحه ونشاطه، يقال جم الماء يجم إذا زاد، وجم الفرس
إذا زاد جريه.
قوله (المعزفة) بكسر الميم من آلات الملاهي، والمعازف الملاهي والعزيف
صوت الجن يعزف عزيفا. قوله (لهو الحديث) فسر بالغناء وسمى لهوا لأنه
يلهى عن ذكر الله تعالى يقال لهوت عن الشئ إذا أعرضت عنه
قوله (ان الله حرم على أمتي الخمر والميسر والمزر والكوبة والقنين) الخمر
يكون من العنب، ويقال لما سواها مجازا واتساعا، والميسر القمار وقد ذكر
والمزر خمرة الذرة، واما الكوبة والقنين فقد فسرهما الشيخ في الكتاب وفسر
القنين بالبربط وهو عود الغناء، قال الزمخشري القنين بوزن السكيت الطنبور
عن ابن الاعرابي، وقن إذا ضرب به، يقال قنقته بالعصا قنا إذا ضربته، قال
وقيل لعبة الروم يتقامرون بها، وهو قول ابن قتبة. قال ابن الاعرابي وهو
الطنبور بالحبشة، والكوبة النرد، ويقال الطيل، وقال في الوسيط هو طبل
المخنثين دقيق الوسط غليظ الطرفين.
وقال الجوهري الكوبة الطبل الصغير المخصر وهو قريب مما قال في الوسيط
وقال في العين هن قصبا يجمعن قطعة من أديم ويخرج عليهن ثم ينفخ فيها اثنان
يزمران فيها وسميت كوبة لان بعضها كوب على بعض أي ألزم قوله (تمسخ)
المسخ تحويل صورة إلى ما هو أقبح منها، يقال مسخه الله قردا، والمسيخ من
الرجال الذي لا ملاحة له، ومن اللحم الذي لا طعم له.
قوله (أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف) الاعلان والعلانية ضد الاسرار
وهو إظهار الشئ وترك إخفاته ليخالف الزنا الذي عادته أن يستسر به ويخفى،
والدف بالضم وحكى أبو عبيد أن الفتح فيه لغة.
قوله (الحداء) الحدا والحدو: سوق الإبل والغناء لها، وقد حدوت الإبل
حدوا وحدا، قوله (فأعتقت الإبل في السير) أي أسرعت والعنق ضرب من السير
سريع كأن الإبل ترفع أعناقها فيه، قوله (رويدك) تصغير رود وقد أرود به
أي رفق به، وقد وضع موضع الامر، أي أرود بمعنى أرفق، قيل أصله من
رادت الريح ترود إذا تحركت حركة خفيفة، قال الله تعالى (أمهلهم رويدا)
247

أي إمهالا رويدا قوله (رفقا بالقوارير) شبههن بها لضعفهن ورقة قلوبهن،
والقوارير يسرع إليها الكسر، وكان ينشد من الرجز ما فيه نسيب فلم يأمن أن
يصيبهن أو يوقع في قلوبهن حلاوة أمر بالكف عن ذلك، يقال الغناء رقبة الزنا
ويقال إن سليمان بن عبد الملك سمع في معسكره مغنيا فدعا به فخصاه، فقال إن
الغناء رقية الزنا، وكان شديد الغيرة، وأنشد بعض أهل العصر
يا حادي العيس رفقا بالقوارير * فقد أذاب سراها بالقواريري
وشفها السير حتى ما بها رمق * في مهمه ليس فيه القواريري
جمع قارية وهي الفاتحة.
قوله (فأنشدته بيتا فقال هيه) معناه زد وهو اسم فعل يؤمر به، أي زد
في إنشادك ينون فمن نون فمعناه زدني حديثا لان التنوين للتكثير، ومن لم ينون
فمعناه زدني من الحديث المعروف منك، وأصله إيه والهاء مبدلة من الهمزة،
تقوله الرجل إذا استزدته من حديث أو عمل، قال ذو الرمة:
وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم * وما بال تكليم الديار البلاقع
وأما إيها فمعناه كف ولم يجئ إلا منكرا، قال النابغة
إيها فذا لك الأقوام كلهم * وما أثمر من مال ومن ولد
في الحديث ما أذن الله لشئ إذنه لنبي يتغنى بالقرآن، يريد ما استمع الله لشئ
والله تعالى لا يشغله سمع عن سمع، يقال أذن يأذن إذنا إذا سمع، ومنه قوله
تعالى (وأذنت لربها وحقت) أي استمعت، قال ابن أحمر
أيها القلب تمتع بددن * إن همى في سماع وأذن
ومن ذلك سميت الاذن.
قوله (من لم يتغن بالقرآن) مفسر في الكتاب والأولى الجمع بين التفسيرين
الاستغناء به والتأدب بآدابه وتحسين الصوت به وترقيقه ليتعظ به من يسمعه
ويتعظ هو. قوله (وأما القراءة بالألحان) الألحان واللحون واحدها اللحن
وهو الغناء والتطريب، وقد لحن في قراءته إذا طرب بها وغرد، وفى الحديث
(اقرءوا القرآن بلحون العرب)
قوله (بانت سعاد فقلبي اليوم متبول) بانت فارقت والبيت الفراق والبين
248

أيضا الوصل لقد تقطع بينكم وهو من الأضداد. متبول أي سقيم فاسد، يقال
أتبله الحب وتبله أي أسقمه وأفسده.
قوله (عدلت شهادة الزور الاشراك بالله) أي ساوته وماثلته، تقول عدلت
فلانا بفلان إذا ساويت بينهما. قوله (يتبؤا مقعده) ذكر
قوله (وان رأى أن يشهر أمره) أي يكشفه الناس ويوضحه، والشهرة
وضوح الامر، يقال شهرت الامر أشهره شهرا وشهر فاشتهر، وكذلك شهرته
تشهيرا. قوله (أهل الصيانة) الذين يصانون عن التنكيل والتأديب بالتعزير
وغيره قوله (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم) هم أهل المروءات وقد ذكر
قوله (لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين) الظنين المتهم، ومنه قوله تعالى
(وما هو على الغيب بظنين) أي بمتهم في قراءة من قرأ بالظاء، والظنة التهمة،
قال ابن سيرين لم يكن على يظن في قتل عثمان أي يتهم، وأما من قرأ بالضاد فإنه
أراد ببخيل.
قوله (ذي إحنة) يقال في صدره إحنة أي حقد، ولا تقل حنة، والجمع
إحن، وقد أحنت عليه بالكسر، قال:
إذا كان في صدر ابن عمك إحنة * فلا تستثرها سوف يبدو دفينها
قوله (الطبع) هو السحية بما جبل عليه الانسان من أصل الخلقة والطبيعة
مثله والجمع الطباع.
قوله (صلى الله عليه وسلم فاطمة بضعة منى) البضعة بفتح الباء هي القطعة
من اللحم، هذه وحدها بالفتح وأخوانها بالكسر كالغدة والقدرة والخرقة
والكسفة. قوله (يريبني ما يربيها) أي يدخل على الشك كما أدخل عليها الشك
والتهمة، يقال رابني فلان إذا رأيت منه ما يريبك وتكرهه، والريبة الشك
قال الهروي: يقال أر ابني الشئ أي شككني وأوهمني الريبة، وإذا استيقنته
قلت ما رابني بغير همزة. وقال الفراء راب وأراب بمعنى واحد، والضرة قد
ذكرت وهي إحدى الزوجتين سميت بذلك لادخال الضرر عليها
قوله (فالتوبة أن يقلع عنها ويندم) وقد ذكرنا التوبة وأصلها الرجوع،
والاقلاع عن الامر الكف عنه يقال أقلع فلان عما كان عليه إذا تركه فكف عنه
249

قوله (ولم يصروا) لم يقيموا، والاصرار الإقامة على الذنب أو ترك التوبة
منه. قوله (أجل) بمعنى نعم، وقد ذكرت
قوله (من أتى من هذه القاذورات شيئا) هي جمع قاذورة وهي الفعل القبيح
واللفظ السيئ، وقذرت الشئ وتقذرته أي عقته وكرهته.
قوله (من أبدى لنا صفحته) الصفحة جانب العنق، ومعناه من أظهر لنا
أمره أي أقر به وأقمنا عليه الحد
قوله (تهيج فيه الطبائع) أي تثور، يقال هاج الشئ يهيج هيجا وهيجانا،
أي ثار، الطبائع جمع طبيعة، وقد ذكر
قوله (لم ترد بمعرة) أي عيب وعاره لحقه، والمعرة أيضا الاثم، قال الله
تعالى (فتصيبكم منهم معرة) أي إثم
ونستطيع أن نلخص الشهود الواردين في كتب المصنف في نقاط أجاز
بعضهم ورد الآخرين وهم:
(من رد شهادتهم)
1 - الصبي والمغفل 2 - العبد والكافر 3 - أهل دين على أهل دين آخر
4 - أهل الزور 5 - أهل الفسق 6 - أصحاب الكبائر 7 - الخائن
والخائنة والزاني والزانية 8 - من لا مروءة له كالرقاص 9 - لا عب
القمار 10 - لاعب النرد 11 - جار لنفسه نفعا 12 - الأخ لأخيه
(من أجاز شهادتهم)
1 - أصحاب للصغائر 2 - لا عب الشطرنج 3 - من لعب بالحمام
4 - الحاوي
(من اختلف فيه)
1 - من شرب القليل من النبيذ 2 - من لم يكثر من الغناء
3 - من قلل استعمال آلات الطرب 4 - الولد لأبيه وبالعكس
5 - العدو. أحد الزوجين للآخر 6 - التائب
250

ولا تقبل شهادة من ليس بعدل، وقد حكى في البحر الاجماع على أنها لا تصح
شهادة فاسق وشرط الشاهد كونه مسلما حرا مكلفا، أي عاقلا بالغا ضابطا ناطقا
عدلا ذا مروءة ليست به تهمة، وعليه أكثر أهل العلم، غير أنهم اختلفوا في
بعض التفاصيل، فشهادة الذمي لا تقبل عند الشافعي على الاطلاق.
وقال أبو حنيفة: شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض جائزة وإن اختلفت
مللهم،
وشهادة الصبيان لا تقبل عند الأكثرين إلا عند مالك في الجراح فيما
بينهم خاصة ما لم يصلوا إلى أهل بيتهم وأثر عبد الله بن الزبير أنه كان يقضى
بشهادة الصبيان فيما بينهم من الجراح معارض يقول ابن عباس أنها لا تجوز،
وحد العدالة أن يكون محترزا عن الكبائر غير مصر على الصغائر، والمروءة
وهي ما تتصل بآداب النفس مما يعلم أن تاركه قليل الحياء، وهي حسن الهيئة
والسيرة والعشرة والصناعة، فإذا كان الرجل يظهر من نفسه شيئا مما يستحى
أمثاله من إظهاره في الأغلب يعلم به قلة مروءته وترد شهادته، وإن كان ذلك
مباحا، ولا تقبل شهادة الخائن ولا ذي العداوة، وإن كان مقبول الشهادة على
غيره لأنه متهم في حق عدوه، ولا يؤمن أن تحمله عداوته على إلحاق ضرر به
فإن شهد لعدوه تقبل إذا لم يظهر في عداوته فسق، وكذا المتهم والقانع لأهل
البيت ولا شهادة العدو على العدو.
وحكى في البحر الاجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده، قال في المسوى
ولا تجوز شهادة الوالد لولده ولا الولد لوالده ويجوز عليهما، وكذا لا تقبل
شهادة من جر إلى نفسه نفعا، كمن شهد لرجل بشراء دار وهو شفيعها، أو شهد
للمفلس واحد من غرمائه بدين على رجل، واتفقوا على قبول شهادة
الأخ لأخيه وسائر الأقارب، واختلفوا في شهادة أحد الزوجين لصاحبه فلم
يجزها أبو حنيفة، وأجازها الشافعي والحق أن القرابة بمجردها ليست بمانعة
سواء كانت قريبة أو بعيدة، إنما المانع التهمة، فإذا كان القريب ممن تأخذه حمية
الجاهلية فشهادته غير مقبولة، وإن كان على العكس من ذلك شهادته مقبولة.
وقد وقت الخلاف في كتب التفسير والأصول في حكم التوبة.
251

قال مالك: الامر الذي لا اختلاف فيه عندنا أن الذي يجلد الجلد ثم تاب
وأصلح تجوز شهادته، وهو أحب ما سمعت إلى في ذلك وعليه الشافعي
وذهب أبو حنيفة إلى أن شهادة القاذف لا ترد بالقذف، فإذا حد ردت
شهادته على التأييد وان تاب وأصل المسألة أن الاستثناء يعود إلى الفسق فقط
في قول أهل الحجاز العراق وإلى الفسق وعدم قبول الشهادة جميعا فيقول أهل الحجاز
وقال الشافعي هو قبل أن يحد شر منه حين يحد، لان الحدود كفارات فكيف
تردونها في أحسن حاليه وتقبلونها في شر حاليه، وإذا قبلتم توبة الكافر والقاتل
عمدا كيف ولا تقبلون توبة القاذف وهو أيسر ذنبا؟ قيل معنى قول أبي حنيفة
أن القاذف ما لم يحد يحتمل أن يكون صادقا وأن يكون معه شهود تشهد بالزنا،
فإذا لم يأت بالشهداء وأقيم عليه الحد صار مكذبا بحكم الشرع فوجب رد شهادته
ثم رد شهادة المحدوه في القذف تأبيدي، ولا تجوز شهادة أهل الزور لان
صنيعهم من أكبر الكبائر.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب عدد الشهود
لا يقبل في الشهادة على الزنا أقل من أربعة أنفس ذكور لقوله تعالى (واللاتي
يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن
في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا) الآية
وروى أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله أرأيت ان وجدت مع امرأتي
رجلا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء؟ قال نعم.
وشهد على المغيرة بن شعبة ثلاثة: أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد، وقال
زياد رأيت استا تنبو ونفسا يعلو ورجلان كأنهما أذنا حمار لا أدرى ما وراء
ذلك، فجلد عمر رضي الله عنه الثلاثة ولم يجلد المغيرة.
ولا يقبل في اللواط إلا أربعة لأنه كالزنا في الحد فكان كالزنا في الشهادة،
فأما إتيان البهيمة فإنا إن قلنا إنه يجب فيه الحد فهو كالزنا في الشهادة لأنه كالزنا
252

في الحد فكان كالزنا في الشهادة، وإن قلنا إنه يحب فيه التعزير ففيه وجهان:
(أحدهما) وهو قول أبى علي بن خيران واختيار المزني رحمه الله أنه يثبت
بشاهدين لأنه لا يلحق بالزنا في الحد فلم يلحق به في الشهادة
(والثاني) وهو الصحيح أنه لا يثبت إلا بأربعة، لأنه فرج حيوان يحب
بالايلاج فيه العقوبة فاعتبر في الشهادة عليه أربعة كالزنا، ونقصانه عن الزنا في
العقوبة لا يوجب نقصانه عنه في الشهادة، كزنا الأمة ينقص عن زنا الحرة في
الحد ولا ينقص عنه في الشهادة.
واختلف قوله في الاقرار بالزنا فقال في أحد القولين يثبت بشاهدين لأنه
إقرار فثبت بشاهدين كالاقرار في غيره (والثاني) أنه لا يثبت إلا بأربعة لأنه
سبب يثبت به فعل الزنا فاعتبر فيه أربعة كالشهادة على القتل، وإن كان المقر
أعجميا ففي الترجمة وجهان: (أحدهما) أنه يثبت باثنين كالترجمة في غيره
(والثاني) أنه كالاقرار فيكون على قولين كالاقرار
(فصل) وإن شهد ثلاثة بالزنا فيه قولان (أحدهما) أنهم قذفوه ويحدون
وهو أشهر القولين، لان عمر رضي الله عنه جلد الثلاثة الذين شهدوا على المغيرة
وروى ابن الوصي أن ثلاثة شهدوا على رجل بالزنا، وقال الرابع رأيتهما في
ثوب واحد، فإن كان هذا زنا فهو ذلك، فجلد علي بن أبي طالب رضي الله عنه
الثلاثة وعزر الرجل والمرأة، ولأنا لو لم نوجب الحد جعل القذف بلفظ الشهادة
طريقا إلى القذف.
والقول الثاني أنهم لا يحدون لان الشهادة على الزنا أمر جائز فلا يوجب
الحد كسائر الجائزات، ولان إيجاب الحد عليهم يؤدى إلى أن لا يشهد أحد
بالزنا خوف من أن يقف الرابع عن الشهادة فيحدون فتبطل الشهادة على الزنا،
وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وأحدهم الزوج ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق، وظاهر النص أنه يحد الزوج قولا واحدا
لأنه لا تجوز شهادته عليها بالزنا فجعل قاذفا، وفى الثلاثة قولان
253

(والثاني) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة أن الزوج كالثلاثة لأنه أتى بلفظ
الشهادة فيكون على القولين.
(فصل) فإن شهد أربعة على رجل بالزنا فرد الحاكم شهادة أحدهم، فإن
كان بسبب ظاهر بأن كان عبدا أو كافرا أو متظاهرا بالفسق كان كما لو لم يتم العدد
لان وجوده كعدمه، وإن كان بسبب خفى كالفسق الباطن ففيه وجهان
(أحدهما) أن حكمه حكم ما لو نقص بالعدد، لأن عدم العدالة كعدم العدد
(والثاني) أنهم لا يحدون قولا واحدا، لأنه إذا كان الرد بسبب في الباطن
لم يكن من جهتهم تفريط في الشهادة لأنهم معذورون فلم يحدوا، وإذا كان
بسبب ظاهر كانوا مفرطين فوجب عليهم الحد.
وإن شهد أربعة بالزنا ورجع واحد منهم قبل أن يحكم بشهادتهم لزم الراجع
حد القذف لأنه اعترف بالقذف. ومن أصحابنا من قال في حده قولان، لأنه
أضاف الزنا إليه بلفظ الشهادة وليس بشئ، وأما الثلاثة فالمنصوص أنه لا حد
عليهم قولا وحدا لأنه ليس من جهتهم تفريط لأنهم شهدوا والعدد تام ورجوع
من رجع لا يمكنهم الاحتراز منه.
ومن أصحابنا من قال في حدهم قولان وهو ضعيف، فإن رجعوا كلهم قالوا
تعمدنا الشهادة وجب عليهم الحد، ومن أصحابنا من قال فيه قولان وليس بشئ
وإن شهد أربعة على امرأة بالزنا وشهد أربع نسوة أنها بكر لم يجب عليها الحد
لأنه يحتمل أن تكون البكارة أصلية لم تزل، ويحتمل أن تكون عائدة، لان
البكارة تعود إذا لم يبالغ في الجماع فلا يجب الحد مع الاحتمال ولا يجب الحد على
الشهود، لأنا إذا درأنا الحد عنها لجواز أن تكون البكارة أصلية وهم كاذبون
وجب أن ندرأ الحد عنهم لجواز أن تكون البكارة عائدة وهم صادقون
(فصل) ويثبت المال وما يقصد به كالبيع والإجارة والهبة والوصية
والرهن والضمان بشاهد وامرأتين لقوله تعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم
فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) فنص على ذلك في السلم وقسنا عليه المال
وكل ما يقصد به المال
254

(فصل) وما ليس بمال ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال كالنكاح
والرجعة والطلاق والعتاق والوكالة والوصية إليه وقتل العمد والحدود سوى
حد الزنا لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين لقوله عز وجل في الرجعة (وأشهدوا
ذوي عدل منكم) ولما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال، لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)
وعن الزهري أنه قال: جرت السنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة للنساء في الحدود، فدل النص على الرجعة
والنكاح والحدود، وقسنا عليها كل ما لا يقصد به المال ويطلع عليه الرجال. وإن اتفق الزوجان على النكاح واختلفا فيه للصداق، ثبت الصداق بالشاهد
والمرأتين لأنه اثبات مال، وإن ادعت المرأة الخلع وأنكر الزوج لم يثبت الا
بشهادة رجلين وان ادعى الزوج الخلع وأنكرت المرأة ثبت بشهادة رجلين
أو رجل وامرأتين، لان بينة المرأة لاثبات الطلاق وبينة الرجل لاثبات المال
وان شهد رجل وامرأتان بالسرقة ثبت المال دون القطع، وان شهد رجل
وامرأتان بقتل العمد لم يثبت القصاص ولا الدية، والفرق بين القتل والسرقة
أن قتل العمد في أحد القولين يوجب القصاص والدية بدل عنه تجب بالعفو عن
القصاص، وإذا لم يثبت القصاص لم يثبت بدله، وفى القول الثاني يوجب أحد
البدلين لا بعينه. وإنما يتعين بالاختيار، فلو أوجبنا الدية دون القصاص
أوجبنا معينا، وهذا خلاف موجب القتل، وليس كذلك السرقة فإنها توجب
القطع والمال على سبيل الجمع، وليس أحدهما بدلا عن الآخر فجاز أن يوجب
أحدهما دون الآخر.
(فصل) ولا يقبل في موضحة العمد الا شاهدان ذكران لأنها جناية
توجب القصاص، وفى الهاشمة والمنقلة قولان (أحدهما) أنه لا يثبت الا
بشاهدين ذكرين لأنها جناية تتضمن القصاص (والثاني) أنها تثبت بالشاهد
والمرأتين، لان الهاشمة والمنقلة لا قصاص فيهما، وإنما القصاص في ضمنهما
فثبت بالشاهد والمرأتين، فعلى هذا يجب أرش الهاشمة والمنقلة، ولا يثبت القصاص
255

في الموضحة، وإن اختلف السيد والمكاتب في قدر المال أو صفته أو أدائه قضى
فيه بالشاهد والمرأتين، لان الشهادة على المال. وان أفضى إلى العتق الذي
لا يثبت بشهادة الرجل والمرأتين كما تثبت الولادة بشهادة النساء، وإن أفضى
إلى النسب الذي لا يثبت بشهادتهن.
(فصل) وإن كان في يد رجل جارية لها ولد فادعى رجل أنها أم ولده
وولدها منه وأقام على ذلك شاهدا وامرأتين قضى له بالجارية لأنها مملوكة فقضى
فيها بشاهد وامرأتين، وإذا مات عتقت بإقراره، وهل يثبت نسب الولد
وحريته؟ فيه قولان
(أحدهما) أنه لا يثبت لأنه النسب والحرية لا تثبت بشاهد وامرأتين،
فيكون الولد باقيا على ملك المدعى عليه.
والقول الثاني أنه يثبت لان الولد نماء الجارية وقد حكم له بالجارية فحكم له
بالولد، فعلى هذا يحكم بنسب الولد وحريته، لأنه أقر بذلك، وان ادعى رجل
أن العبد الذي في يد فلإن كان له وأنه أعتقه وشهد له شاهد وامرأتان فقد
اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال فيه قولان:
(أحدهما) أنه لا يحكم بهذه البينة لأنها تشهد له بملك متقدم فلم يحكم بها،
قالوا ادعى على رجل عهدا وشهد له شاهد وامرأتان أنه كان له.
(والثاني) أنه يحكم بها لأنه ادعى ملكا متقدما وشهدت له البينة فيما ادعاء
ومن أصحابنا من قال يحكم بها قولا واحدا، والفرق بينه وبين المسألة قبلها أن
هناك لا يدعى ملك الولد وهو يقر أنه حر الأصل فلم يحكم ببينته في أحد القولين
وههنا ادعى ملك العبد وأنه أعتقه فحكم ببينته.
(فصل) ويقبل فيما لا يطلع الرجال من الولادة والرضاع والعيوب
التي تحت الثياب شهادة النساء منفردات لان الرجال لا يطلعون عليها في العادة
فلو لم تقبل فيها شهادة النساء منفردات بطلت عند التجاحد ولا يثبت شئ من
ذلك الا بعدد لأنها شهادة فاعتبر فيها العدد ولا يقبل أقل من أربع نسوة لان
أقل الشهادات رجلان وشهادة امرأتين بشهادة رجل، والدليل عليه قوله تعالى
256

(فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان) فأقام المرأتين مقام الرجل وروى
عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما رأيت
من ناقصات عقل ودين أغلب على ذي لب منكن، قالت امرأة يا رسول الله
ما ناقصات العقل والدين؟ قال أما نقصان العقل فشهادة امرأتين كشهادة رجل
فهذا نقصان العقل، وأما نقصان الدين فإن إحداكن تمكث الليالي لا تصلى وتفطر
في شهر رمضان فهذا من نقصان الدين، فقبل فيها شهادة الرجلين وشهادة الرجل
والمرأتين، لأنه إذا أجيز شهادة النساء منفردات لتعذر الرجال، فلان تقبل
شهادة الرجال. والرجال والنساء أولى.
وتقبل ى ي الرضاع شهادة المرضعة لما روى عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى
بنت أبي إهاب فجاءت امرأة سوداء فقالت قد أرضعتكما، فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فذكرت له ذلك، فقال كيف وقد زعمت أنها أرضعتكما، فنهاه عنها، ولأنها
لا تجر بهذه الشهادة نفعا إلى نفسها ولا تدفع عنها ضررا. ولا تقبل شهادة المرأة
على ولادتها لأنه تثبت لنفسها بذلك حقا وهو النفقة، وتقبل شهادة النساء
منفردات على استهلال الولد وانه بقي متألما إلى أن مات. وقال الربيع رحمه الله
فيه قول آخر أنه لا يقبل الا شهادة رجلين، والصحيح هو الأولى لان الغالب
أنه لا يحضرها الرجال
(فصل) وما يثبت بالشاهد والمرأتين يثبت بالشاهد واليمين، لما روى
عمرو بن دينار عن أبن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قضى بيمين وشاهد، قال عمرو ذلك في الأموال
واختلف أصحابنا في الوقف فقال أبو إسحاق وعامة أصحابنا يبنى على القولين
فإن قلنا إن الملك للموقوف عليه قضى فيه بالشاهد واليمين لأنه نقل ملك فقضى
فيه بالشاهد واليمين كالبيع، وان قلنا إنه ينتقل إلى الله عز وجل لم يقض فيه
بالشاهد واليمين لأنه إزالة ملك إلى غير الآدمي فلم يقض فيه بالشاهد واليمين
كالعتق. وقال أبو العباس رحمه الله: يقضى فيه بالشاهد واليمين على القولين جميعا
لان القصد بالوقف تمليك المنفعة فقضى فيه بالشاهد واليمين كالإجارة
257

(الشرح) حديث أن سعد بن عبادة قال يا رسول الله أرأيت ان وجدت
مع امرأتي رجلا أمهله...) أخرجه عبد الرزاق في مصنفه، وأصل الحديث
في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة، ورواه أبو داود من حديث عبادة بن
الصامت وأحمد من حديث سعيد بن سعد بن عبادة
أثر: شهد على المغيرة ثلاثا... سبق تخريجه
أثر: لأنه عمر جلد الثلاثة الذين شهدوا... سبق تخريجه
حديث ابن مسعود (لا نكاح الا بولي وشاهدي عدل...) أخرجه الشافعي
والبيهقي عن سعيد بن جبير موقوفا بلفظ (لا نكاح الا بولي مرشد وشاهدي
عدل) ورواه البيهقي من طريق آخر مرفوعا بلفظ (لا نكاح الا بإذن ولى مرشد
أو سلطان) قال والمحفوظ الموقوف. وفى رواية ثالثة (لا نكاح الا بولي
وشاهدي عدل، فإن أنكحها ولى مسخوط عليه فنكاحها باطل) وفيه عدى
وهو ضعيف.
أثر الزهري (جرت السنة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من
بعده...) أخرجه ابن أبي شيبة. وروى عن مالك عن عقيل عن الزهري،
وزاد ولا في نكاح ولا في طلاق وقال الحافظ ابن حجر ولا يصح عن مالك،
ورواه أبو يوسف في كتاب الخراج
حديث عبد الله بن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما رأيت
من ناقصات عقل ودين...) أخرجه البخاري مطولا
حديث (عن عقبة بن الحارث أنه تزوج أم يحيى بنت أبي أهاب فجاءت
امرأة سوداء...) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات من طرق، وقال الحافظ
ووهم من ذكر هذا الحديث في المتفق عليه
حديث ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بيمين)
سبق تخريجه.
اللغة: قوله (رأيت استا) الاست العجز وقد يراد به حلقة الدبر. وأصلها
سته على وزن فعل بالتحريك، يدل على ذلك أن جمعه أستاه مثل جمل وأجمال
ولا يجوز أن يكون مثل جذع وقفل اللذين يجمعان أيضا على أفعال، لأنك
258

إذا زدت الهاء التي هي لام الفعل وحذفت العين قلت سه بالفتح، قال الشاعر:
شأنك قعين غثها وسمينها * وأنت السه السفلى إذا ذكرت نصر
تقول أنت فيهم بمنزلة الاست من الناس.
قوله (تنبو) أي ترتفع أراد ههنا العجز دون حلقة الدبر.
قوله (وإنما القصاص في ضمنهما) أي فيما يشتملان عليه من قولهم فهمت
ما تضمنه كتابك، أي ما اشتمل عليه وكان في ضمنه، وأنفذته ضمن كتابي أي
في طيه. قوله (أغلب على ذي لب منكن) اللب العقل والجمع الألباب، قال
تعالى (إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب) أي لذوي العقول
اتفق المسلمون على أنه لا يثبت الحد في الزنا بأقل من أربعة عدول ذكور
واتفقوا على أنه تثبت جميع الحقوق ما عدا الزنا بشاهدين عدلين ذكرين ما خلا
الحسن البصري فإنه قال لا تقبل بأقل من أربعة شهداء تشبيها بالرجم، وهذا
ضعيف لقوله سبحانه وتعالى (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) وكل متفق
على أن الحكم يجب بالشاهدين من غير يمين المدعى، إلا ابن أبي ليلى فإنه قال
لا بد من يمينه، واتفقوا على أنه تثبت الأموال بشاهد عدل ذكر وامرأتين،
لقوله تعالى (فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء)
واختلفوا في قبولهما في الحد فالذي عليه الجمهور أنه لا تقبل شهادة النساء
في الحدود لا مع رجل ولا مفردات
وقال أهل الظاهر تقبل إذا كان معهن رجل وكان النساء أكثر من واحدة
في كل شئ على ظاهر الآية.
وقال أبو حنيفة: تقبل في الأموال ما عدا الحدود من أحكام الأبدان مثل
الطلاق والرجعة والنكاح والعتق، ولا تقبل عند مالك في حكم من أحكام البدن
واختلف أصحاب مالك في قبولهن في حقوق الأبدان المتعلقة بالمال مثل الوكالات
والوصية التي لا تتعلق الا بالمال فقط، فقال مالك وابن القاسم وابن وهب يقبل
فيه شاهد وامرأتان، وقال أشهب وابن الماجشون لا يقبل فيه الا رجلان.
وأما شهادة النساء مفردات - أعني النساء دون الرجال - فهي مقبولة
259

عند الجمهور في حقوق الأبدان التي لا يطلع عليها الرجال غالبا، مثل الولادة
والاستهلال وعيوب النساء، ولا خلاف في شئ من هذا الا في الرضاع
فإن أبا حنيفة قال لا تقبل فيه شهادتين الا مع الرجال، لأنه عنده من حقوق
الأبدان التي يطلع عليها الرجال والنساء، والذين قالوا بجواز شهادتهن منفردات
في هذا الجنس اختلفوا في العدد المشترط في ذلك منهن، فقال مالك يكفي في
ذلك امرأتان، قيل مع انتشار الامر وقيل وان لم ينتشر
وقال الشافعي ليس يكفي في ذلك أقل من أربع لان الله عز وجل قد جعل
عديل الشاهد الواحد امرأتين واشترط الاثنينية. وقال قوم لا يكتفى في ذلك
بأقل من ثلاث، وهو قول لا معنى له.
وأجاز أبو حنيفة شهادة المرأة فيما بين السرة والركبة، والظاهرية أو بعضهم
لا يجيزون شهادة النساء مفردات في شئ كما يجيزون شهادتهن مع الرجال في كل
شئ وأما شهادة المرأة الواحدة بالرضاع فإنهما أيضا اختلفوا فيها لقوله عليه
السلام في المرأة الواحدة التي شهدت بالرضاع (كيف وقد أرضعتكما) وهذا
ظاهره الانكار ولذلك لم يختلف قول مالك في أنه مكروه
وقالت الحنابلة: ولا يقبل في الزنا واللواط والاقرار به الا أربعة رجال
ويكفى في الشهادة على من أتى بهيمة رجلان، ومن عرف بغنى وادعى أنه فقير
ليأخذ من الزكاة لم يقبل الا بثلاثة رجال، ويقبل في بقيه الحدود والقصاص
رجلان، ولا تقبل فيه شهادة النساء، وما ليس بعقوبة ولا مال ولا يقصد به
المال ويطلع عليه الرجال غالبا كالنكاح والطلاق والرجعة والخلع والنسب يقبل
فيه رجلان دون النساء، ويقبل في المال وما يقصد به كالبيع والأجل والخيار
فيه ونحوه رجلان أو رجل وامرأتان أو رجل ويمين المدعى، وما لا يطلع عليه
الرجال غالبا كعيوب النساء تحت الثياب والبكارة والثيوبة والحيض والولادة
والرضاع والاستهلال ونحوه يقبل فيه شهادة امرأة عدل والرجل فيه كالمرأة
ومن أتى رجل وامرأتين أو شاهد ويمين فيما يوجب القود لم يثبت به قود ولا
مال، وان أتى برجل وامرأتين أو رجل ويمين في سرقة ثبت المال دون القطع
260

وان أتى بذلك في خلع امرأته على عوض سماه ثبت له العوض وتثبت البينونة
بمجرد دعواه لاقراره على نفسه وان ادعته لم يقبل فيه الا رجلان
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب تحمل الشهادة وأدائها
لا يجوز تحمل الشهادة وأداؤها الا عن علم، والدليل عليه قوله تعالى
(ولا تقف ما ليس لك به علم أن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه
مسؤولا) وقوله تعالى (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) يأمر الله تعالى أن يشهد
عن علم. وقوله عز وجل (ستكتب شهادتهم ويسألون) وهذا الوعيد يوجب
التحفظ في الشهادة وأن لا يشهد الا عن علم
وروى طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: هل ترى الشمس؟ قال نعم، قال فعلى
مثلها فاشهد أو دع، وإن كانت الشهادة على فعل كالجناية والغصب والزنا والسرقة
والرضاع والولادة وغيرها مما يدرك بالعين لم تجز الشهادة به الا عن مشاهدة
لأنها لا تعلم الا بها، وإن كانت الشهادة على عورة ووقع بصره عليها من غير
قصد جاز أن يشهد بما شاهد، وان أراد أن يقصد النظر ليشهد فالمنصوص أنه
يجوز، وهو قول أبي إسحاق المروزي، لان أبا بكرة ونافعا وشبل بن سعيد
شهدوا على المغيرة بالزنا عند عمر رضي الله عنه فلم ينكر عمر ولا غيره نظرهم.
وقال أبو سعيد الإصطخري لا يجوز أن يقصد النظر لأنه في الزنا مندوب إلى
الستر، وفى الولادة والرضاع يقبل شهادة النساء فلا حاجة بالرجال إلى النظر
الشهادة. ومن أصحابنا من قال يجوز في الزنا دون غيره، لان الزاني هتك حرمة
الله تعالى بالزنا فجاز أن تهتك حرمته بالنظر إلى عورته، وفى غير الزنا لم يوجد من
المشهود عليه هتك حرمة فلم يجز هتك حرمته ومنهم من قال يجوز في غير الزنا
ولا يجوز في الزنا، لان حد الزنا يبنى على الدرء والاسقاط فلا يجوز أن يتوصل
261

إلى اثباته بالنظر، وغيره لم يبن على الدرء والاسقاط فجاز أن يتوصل إلى
اثباته بالنظر
(فصل) وإن كانت الشهادة على قول كالبيع والنكاح والطلاق والاقرار
لم يجز التحمل فيها الا بسماع القول ومشاهدة القائل، لأنه لا يحصل العلم بذلك
الا بالسماع والمشاهدة، وإن كانت الشهادة على ما لا يعلم الا بالخير وهو ثلاثة:
النسب والملك والموت جاز أن يشهد فيه بالاستفاضة، فإن استفاض في الناس
أن فلانا ابن فلان، أو أن فلانا هاشمي أو أموي جاز أن يشهد به، لان سبب
النسب لا يدرك بالمشاهدة.
وان استفاض في الناس أن هذه الدار وهذا العبد لفلان جاز أن يشهد به
لان أسباب الملك لا تضبط فجاز أن يشهد فيه بالاستفاضة، وان استفاض أن
فلانا مات جاز أن يشهد به لان أسباب الموت كثيرة، منها خفية ومنها ظاهرة
ويتعذر الوقوف عليها، وفى عدد الاستفاضة وجهان.
(أحدهما) وهو قول الشيخ أبى حامد الأسفرايني رحمه الله أن أقله أن
يسمع من اثنين عدلين لان ذلك بينة.
(والثاني) وهو قول أقضى القضاة أبى الحسن الماوردي رحمه الله أنه لا يثبت
الا بعدد يقع العلم بخبرهم لان ما دون ذلك من أخبار الآحاد فلا يقع العلم من
جهتهم، فإن سمع انسانا يقر بنسب أب أو ابن، فإن صدقه المقر له جاز له أن
يشهد به لأنه شهادة على اقرار، وان كذبه لم يجز أن يشهد به لأنه لم يثبت
النسب، وان سكت فله أن يشهد به، لان السكوت في النسب رضى بدليل أنه
إذا بشر بولد فسكت عن نفيه لحقه نسبه.
ومن أصحابنا من قال لا يشهد حتى يتكرر الاقرار به مع السكوت، وان رأى شيئا
في يد انسان مدة يسيرة جاز أن يشهد له باليد، ولا يشهد له بالملك وان رآه في يده
مدة طويلة يتصرف فيه جاز أن يشهد له باليد وهل يجوز أن يشهد له بالملك؟ فيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي سعيد الإصطخري رحمه الله أنه يجوز، لان اليد
والتصرف يدلان على الملك.
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق رحمه الله أنه لا يجوز أن يشهد له بالملك،
262

لأنه قد تكون اليد والتصرف عن ملك وقد تكون عن إجارة أو وكالة أو
غصب فلا يجوز أن يشهد له بالملك مع الاحتمال.
واختلف أصحابنا في النكاح والعتق والوقف والولاء، فقال أبو سعيد
الإصطخري رحمه الله يجوز أن يشهد فيها بالاستفاضة لأنه يعرف بالاستفاضة
أن عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلى الله عليه وسلم وأن نافعا مولى ابن عمر
رضي الله عنه، كما يعرف أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال
أبو إسحاق رحمه الله لا يجوز لأنه عقد فلا يجوز أن يشهد فيه بالاستفاضة كالبيع
(فصل) ويجوز أن يكون الأعمى شاهدا فيما يثبت بالاستفاضة لان
طريق العلم به السماع والأعمى كالبصير في السماع، ويجوز أن يكون شاهدا في
الترجمة لأنه يفسر ما سمعه بحضرة الحاكم وسماعه كسماع البصير، ولا يجوز أن
يكون شاهدا على الافعال كالقتل والغصب والزنا، لان طريق العلم بها البصر،
ولا يجوز أن يكون شاهدا على الأقوال كالبيع والاقرار والنكاح والطلاق إذا
كان المشهود عليه خارجا عن يده.
وحكى عن المزني رحمه الله أنه قال: يجوز أن يكون شاهدا فيها إذا عرف
الصوت. ووجهه أنه إذا جاز أن يروى الحديث إذا عرف المحدث بالصوت،
ويستمتع بالزوجة إذا عرفها بالصوت جاز أن يشهد إذا عرف المشهود عليه
بالصوت، وهذا خطأ لان من شرط الشهادة العلم وبالصوت لا يحصل له العلم
بالمتكلم لان الصوت يشبه الصوت، ويخالف رواية الحديث والاستمتاع
بالزوجة لان ذلك يجوز بالظن وهو خبر الواحد.
وأما إذا جاء رجل وترك فمه على أذنه وطلق أو أعتق أو أقر ويد الأعمى
على رأس الرجل فضبطه إلى أن حضر عند الحاكم فشهد عليه بما سمعه منه قبلت
شهادته لأنه شهد عن علم وان تحمل الشهادة على فعل أو قول وهو يبصر ثم
عمى نظرت فإن كان لا يعرف المشهود عليه الا بالعين وهو خارج عن يده لم
تقبل شهادته عليه لأنه لا علم له بمن يشهد عليه، وان تحمل الشهادة ويده في
يده وهو بصير ثم عمى ولم تفارق يده يده حتى حضر إلى الحاكم وشهد عليه قبلت
263

شهادته لأنه يشهد عليه عن علم، وإن تحمل الشهادة على رجل يعرفه بالاسم
والنسب وهو بصير ثم عمى قبلت شهادته لأنه يشهد على من يعلمه
(فصل) ومن شهد بالنكاح ذكر شروطه لان الناس يختلفون في شروطه
فوجب ذكرها في الشهادة وإن رهن رجل عبدا عند رجل بألف ثم زاده
ألفا آخر وجعل العين رهنا بهما وأشهد الشهود على نفسه أن العين رهن بألفين
وعلم الشهود حال الرهن في الباطن، فإن كانوا يعتقدون أنه لا يجوز إلحاق الزيادة
بالدين في الرهن لم يجز أن يشهدوا إلا بما جرى الامر عليه في الباطن، وإن
كانوا يعتقدون أنه يجوز إلحاق الزيادة بالدين في الرهن ففيه وجهان:
(أحدهما) يجوز أن يشهدوا بأن العين رهن بألفين لأنهم يعتقدون انهم
صادقون في ذلك.
(والثاني) أنه لا يجوز أن يشهدوا إلا بذكر ما جرى الامر عليه في الباطن
لأن الاعتبار في الحكم باجتهاد الحاكم دون الشهود.
(فصل) ومن شهد بالرضاع وصف الرضاع وأنه ارتضع الصبي من ثديها
أو من لبن حلب منها خمس رضعات متفرقات في حولين لاختلاف الناس في
شروط الرضاع، فإن شهد أنه ابنها من الرضاع لم تقبل لان الناس يختلفون فيما
يصير به ابنا من الرضاع، وإن رأى امرأة أخذت صبيا تحت ثيابها وأرضعته
لم يجز أن يشهد بالرضاع، لأنه يجوز أن يكون قد أعدت شيئا فيه لبن من غيرها
على هيئة الثدي فرأى الصبي يمص فظنه ثديا.
(فصل) ومن شهد بالجناية ذكر صفتها، فإن قال ضربه بالسيف فمات،
أو قال ضربه بالسيف فوجدته ميتا لم يثبت القتل بشهادته لجواز أن يكون مات
من غير ضربه، وان قال ضربه بالسيف فمات منه، أو ضربه فقتله ثبت القتل
بشهادته، وان قال ضربه بالسيف فأنهر دمه فمات مكانه ثبت القتل بشهادته على
المنصوص لأنه إذا أنهر دمه فمات علم أنه مات من ضربه، فإن قال ضربه فاتضح
أو قال ضربه بالسيف فوجدته موضحا لم تثبت الموضحة بشهادته لما ذكرناه في
النفس، وان قال ضربه فأوضحه ثبتت الموضحة بشهادته لأنه أضاف الموضحة
264

إليه، وان قال ضربه فسال دمه لم تثبت الدامية بالشهادة لجواز أن يكون سيلان
الدم من غير الضرب، وان قال ضربه فأسال دمه ومات قبلت شهادته في الدامية
لأنه أضافها إليه، ولا تقبل في الموت لأنه يحتمل أن يكون الموت من غيره.
وان قال ضربه بالسيف فأوضحه فوجدت في رأسه موضحتين لم يجز القصاص
لأنا لا نعلم على أي الموضحتين شهد، ويجب أرش موضحة لان الجهل بعينها
ليس بجهل لأنه قد أوضحه.
(فصل) ومن شهد بالزنا ذكر الزاني ومن زنى به، لأنه قد يراه على بهيمة
فيعتقد أن ذلك زنا والحاكم لا يعتقدان أن ذلك زنا، أو يراه على زوجته أو جارية
ابنه فيظن أنه زنى ويذكر صفة الزنا، فإن لم يذكر أنه أولج أو رأى ذكره في
فرجها لم يحكم به، لان زيادا لما شهد على المغيرة عند عمر رضي الله عنه ولم يذكر
ذلك لم يقم الحد على المغيرة، فإن لم يذكر الشهود ذلك سألهم الامام عنه، فإن
شهد ثلاثة بالزنا ووصفوا الزنا وشهد الرابع ولم يذكر الزنا لم يجب الحد على
المشهود عليه، لان البينة لم تكمل، ولم يحد الرابع عليه لأنه لم يشهد بالزنا.
وهل يجب الحد على الثلاثة؟ فيه قولان.
وان شهد أربعة بالزنا وفسر ثلاثة منهم الزنا وفسر الرابع بما ليس بزنا لم
يحد المشهود عليه لأنه لم تكمل البينة، ويجب الحد على الرابع قولا واحدا،
لأنه قذفه بالزنا ثم ذكر ما ليس بزنا. وهل يحد الثلاثة على القولين؟ فإن شهد
أربعة بالزنا ومات واحد منهم قبل أن يفسر وفسر الباقون بالزنا لم يجب الحد
على المشهود عليه لجواز أن يكون ما شهد به الرابع ليس، بزنا، ولا يحب على
الشهود الباقين الحد، لجواز أن يكون ما شهد به الرابع زنا، فلا يحب الحد
مع الاحتمال.
(فصل) ومن شهد بالسرقة ذكر السارق والمسروق منه والحرز والنصاب
وصفة السرقة لان الحكم يختلف باختلافها فوجب ذكرها ومن شهد بالردة
بين ما سمع منه لاختلاف الناس فيما يصير به مرتدا فلم يجز الحكم قبل البيان،
كما لا يحكم بالشهادة على جرح الشهود قبل بيان الجرح، وهل يجوز للحاكم أن
265

يعرض الشهود بالوقف في الشهادة في حدود الله تعالى فيه وجهان (أحدهما) أنه
لا يجوز لان فيه قدحا في الشهود (والثاني) أنه يجوز لان عمر رضي الله عنه
عرض لزياد في شهادته على المغيرة فروى أنه قال: أرجو أن لا يفضح الله تعالى
على يديك أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأنه يجوز أن
يعرض للمقر بالتوقف فجاز أن يعرض للشاهد.
(الشرح) حديث ابن عباس: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الشهادة فقال: هل ترى الشمس. أخرجه العقيلي والحاكم وأبو نعيم في الحلية
وابن عدي والبيهقي من حديث طاوس عن ابن عباس وصححه الحاكم وفى إسناده
محمد بن سليمان بن مسمول وهو ضعيف. وقال البيهقي لم يرو من وجه يعتمد
عليه، وقال الحافظ في بلوغ المرام: أخرجه ابن عدي بسند ضعيف وصححه
الحاكم فأخطأ، وقال منصور البهوتي في الروض المربع رواه الخلال في جامعه.
أثر أن أبا بكرة ونافعا وشبل بن معبد شهدوا على المغيرة.. سبق تخريجه
أثر أن زيادا لما شهد على المغيرة عند عمر. سبق تخريجه
أثر أن عمر عرض لزياد في شهادته على المغيرة. سبق تخريجه
اللغة: قوله (ولا تقف ما ليس لك به علم) أي لا تتبعه فتقول فيه بغير علم
يقال قفوته أقفوه وقفته أقوفه إذا اتبعت أثره، ومنه سميت القافة لتتبعهم الآثار
وأصله من القفا.
قوله (لان الزاني هتك حرمة الله) هتك خرق وأصله خرق الستر وقد
ذكره. والحرمة ما يحرم انتهاكه
قوله (بالاستفاضة) هي مأخوذة من فاض يفيض إذا شاع، وهو حديث
مستفيض أي منتشر في الناس.
قوله (أخبار الآحاد) الآحاد ما انحط عن حد التواتر، والتواتر على محصور
على الصحيح من الأقوال. قوله (فضبطه إلى أن حضر عند الحاكم) أي أمسكه
وضبط الشئ إذا حفظه بالحزم.
266

قوله (أنهر دمه) أي أسأله، وكل شئ جرى فقد نهر. قوله (أن يعرض)
التعريض التورية بالشئ عن الشئ وقد ذكر.
تحمل الشهادة في غير حق الله تعالى فرض كفاية، فإذا قام من يكفي سقط
عن بقية المسلمين، وان لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه وأداؤها فرض عين على
من تحملها متى دعى إليها، وتحل وجوبها أن قدر على أدائها بلا ضرر يلحقه في
بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله، وكذا في التحمل، ولا يحل كتمانها، ويحرم
أخذ أجرة وجعل عليها، ولو لم تتعين عليه، لكن إن عجز عن المشي أو تأذى به
فله أجرة مركوب ومن عنده شهادة بحد لله فله إقامتها وتركها، ولا يحل أن
يشهد أحد إلا بما يعلمه، والعلم إما برؤية أو سماع أو استفاضة فيما يتعذر علمه
بدونها كنسب وموت وملك مطلق ونكاح ووقف ونحوها، ولا يحل لمن تحمل
شهادة بحق وأخبره عدل باقتضاء الحق أن يشهد الا به.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الشهادة على الشهادة
وتجوز الشهادة على الشهادة في حقوق الآدميين وفيما لا يسقط بالشبهة من
حقوق الله تعالى لآن الحاجة تدعو إلى ذلك عند تعذر شهادة الأصل بالموت
والمرض والغيبة وفى حدود الله تعالى، وهو حد الزنا وحد السرقة وقطع الطريق
وشرب الخمر قولان.
(أحدهما) أنه يجوز لأنه حق يثبت بالشهادة فجاز أن يثبت بالشهادة على
الشهادة كحقوق الآدميين
(والثاني) أنه لا يجوز لان الشهادة على الشهادة تراه لتأكيد الوثيقة ليتوصل
بها إلى اثبات الحق، وحدود الله تعالى مبنية على الدرء والاسقاط فلم يجز
تأكيدها وتوثيقها بالشهادة على الشهادة، وما يثبت بالشهادة على الشهادة يثبت
بكتاب القاضي إلى القاضي، وما لا يثبت بالشهادة على الشهادة لا يثبت بكتاب
267

القاضي إلى القاضي، لان الكتاب لا يثبت إلا بتحمل الشهادة من جهة القاضي
الكاتب فكان حكمه حكم الشهادة على الشهادة.
(فصل) ولا يجوز الحكم بالشهادة على الشهادة إلا عند تعذر حضور شهود
الأصل بالموت أو المرض أو الغيبة، لان شهادة الأصل أقوى لأنها تثبت نفس
الحق والشهادة على الشهادة لا تثبت نفس الحق فلم تقبل مع القدرة على شهود
الأصل والغيبة التي يجوز بها الحكم بالشهادة على الشهادة أن يكون شاهد الأصل
من موضع الحكم على مسافة إذا حضر لم يقدر أن يرجع بالليل إلى منزله فإنه
تلحقه المشقة في ذلك. وأما إذا كان في موضع إذا حضر أمكنه أن يرجع إلى
بيته بالليل لم يجز الحكم بشهادة شهود الفرع لأنه يقدر على شهادة شهود الأصل
من غير مشقة.
(فصل) ولا يقبل في الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي
شهادة النساء لأنه ليس بمال ولا المقصود منه المال وهو مما يطلع عليه الرجال فلم
يقبل فيه شهادة النساء كالنكاح
(فصل) ولا يقبل الا من عدد لأنه شهادة فاعتبر فيها العدد كسائر
الشهادات، وإن كان شهود الأصل اثنين فشهد على أحدهما شاهدان وعلى الآخر
شاهدان جاز لأنه يثبت قول كل واحد منهما بشاهدين، وان شهد واحد على
شهادة أحدهما وشهد الآخر على شهادة الثاني لم يجز لأنه إثبات قول بشهادة
واحد، فإن شهد اثنان على شهادة أحدهما ثم شهدا على شهادة الاخر ففيه قولان
(أحدهما) أنه يجوز لأنه إثبات قول اثنين فجاز بشاهدين كالشهادة
على إقرار نفسين.
(والثاني) أنه لا يجوز وهو اختيار المزني رحمه الله تعالى لأنهما قاما في
التحمل مقام شاهد واحد في حق واحد، فإذا شهدا فيه على الشاهد الاخر سارا
كالشاهد إذا شهد بالحق مرتين، وإذا كان شهود الأصل رجلا وامرأتين قبل
في أحد القولين شهاد اثنين على شهادة كل واحد منهم، ولا يقبل في الآخر
إلا ستة يشهد كل اثنين على شهادة واحد منهم.
268

وإن كان شهود الأصل أربع نسوة وهو في الولادة والرضاع قبل في أحد
القولين شهادة رجلين على كل واحدة منهن ولا يقبل في الاخر الا شهادة ثمانية
يشهد كل اثنين على شهادة واحدة منهن، وإن كان شهود الأصل أربعة من
الرجال وهو في الزنا وقلنا إنه تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود، فإن قلنا
يقبل شاهدان على شاهدي الأصل في غير الزنا ففي حد الزنا قولان
(أحدهما) أنه يكفي شاهدان في إثبات شهادة الأربعة كما يكفي شاهدان
في إثبات شهادة اثنين.
(والثاني) أنه يحتاج إلى أربعة لان فيها يثبت باثنين تحتاج شهادة كل واحد
منهما إلى العدد الذي يثبت به أصل الحق وهو اثنان، وأصل الحق ههنا لا يثبت
إلا بأربعة فلم تثبت شهادتهم الا بأربعة، فإن قلنا إنه لا يقبل فيما يثبت بشاهدين
إلا أربعة ففي حد الزنا قولان:
(أحدهما) أنه يحتاج إلى ثمانية ليثبت بشهادة كل شاهدين شهادة واحد.
(والثاني) أنه يحتاج إلى ستة عشر. لان ما يثبت بشاهدين لا يثبت كل شاهد
إلا بما يثبت به أصل الحق. وأصل الحق لا يثبت الا بأربعة فلا تثبت شهادة
كل واحد منهم الا بأربعة فيصير الجميع ستة عشر.
(فصل) ولا تقبل الشهادة على الشهادة حتى يسمى شاهد الفرع شاهد
الأصل بما يعرف به، لان عدالته شرط، فإذا لم تعرف لم تعلم عدالته، فإن
سماهم شهود الفرع وعدلوهم حكم بشهادتهم لأنهم غير متهمين في تعديلهم، وان
قالوا نشهد على شهادة عدلين ولم يسموا لم يحكم بشهادتهم لأنه يجوز أن يكونوا
عدولا عندهم غير عدول عند الحاكم.
(فصل) ولا يصح تحمل الشهادة على الشهادة الا من ثلاثة أوجه:
(أحدها) أن يسمع رجلا يقول أشهد أن لفلان على فلان كذا مضافا إلى
سبب يوجب المال من ثمن مبيع أو مهر، لأنه لا يحتمل مع ذكر السبب الا
الوجوب (والثاني) أن يسمعه يشهد عند الحاكم على رجل بحق لأنه لا يشهد
عند الحاكم إلا بما يلزم الحكم به
269

(والثالث) أن يسترعيه رجل بأن يقول: أشهد أن لفلان على فلان كذا
فاشهدوا على شهادتي بذلك لأنه لا يسترعيه إلا على واجب، لان الاسترعاء
وثيقة، والوثيقة لا تكون إلا على واجب، وأما إذا سمع رجلا في دكانه أو
طريقه يقول أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم ولم يقل فاشهد على شهادتي لم
يحكم به لأنه يحتمل أنه أراد أن له عليه ألفا من وعد وعده بها فلم يجز تحمل
الشهادة عليه مع الاحتمال، وإن سمع رجلا يقول: لفلان على ألف درهم فهل
يجوز أن يشهد عليه بذلك؟ فيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق أنه لا يجوز أن يشهد عليه، كما لا يجوز
أن يتحمل الشهادة عليه.
(والثاني) وهو المنصوص أنه يجوز أن يشهد عليه، والفرق بينه وبين
التحمل أن المقر يوجب الحق على نفسه فجاز من غير استرعاء والشاهد يوجب
الحق على غيره فاعتبر فيه الاسترعاء، ولان الشهادة آكد لأنه يعتبر فيها العدالة
ولا يعتبر ذلك في الاقرار.
(فصل) وإذا أراد شاهد الفرع أن يؤدى الشهادة أداها على الصفة التي
تحملها، فإن سمعه يشهد بحق مضاف إلى سبب يوجب الحق ذكره، وإن سمعه
يشهد عند الحاكم ذكره، وإن أشهد شاهد الأصل على شهادته أو استرعاه قال
أشهد أن فلانا يشهد أن لفلان على فلان كذا وأشهدني على شهادته
(فصل) وان رجع شهود الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع بطلت شهادة
الفرع لأنه بطل الأصل فبطل الفرع: وإن شهد شهود الفرع ثم حضر شهود
الأصل قبل الحكم لم يحكم بشهادتهم لأنه قدر على الأصل فلا يجوز الحكم
بالبدل والله أعلم.
(الشرح) حديث أم سلمة (انكم تختصمون إلى وإنما أنا بشر...)
متفق عليه.
اللغة: قوله (الفرع) مأخوذ من فروع الشجرة وهي أغصانها التي تنمى عن
الأصول، وفروع كل شئ أعلاه أيضا.
270

قوله (ان يسترعيه) الاسترعاء في الشهادات مأخوذ من قولهم أرعيته سمعي
أي أصغيت إليه، ومنه قوله راعنا. قال الأخفش معناه أرعنا سمعك
ولا تقبل الشهادة على الشهادة إلا في حق يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي
وهو حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى، لان الحدود مبنية على الستر
والدرء بالشبهات ولا يحكم بها، أي بالشهادة على الشهادة، إلا أن تتعذر شهادة
الأصل بموت أو مرض أو غيبة مسافة قصر أو خوف من سلطان أو غيره،
لأنه إذا أمكن الحاكم أن يسمع شهادة شاهدي الأصل استغنى عن البحث عن
عدالة شاهدي الفرع وكان أحوط الشهادة ولا بد من ثبوت عدالة الجميع، ولا
يجوز لشاهد الفرع أن يشهد إلا بما يسترعيه شاهد الأصل، فيقول اشهد على
شهادتي بكذا، أو بسمعه يقر أو يعزوها إلى سبب من قرض أو بيع أو نحوه
فيجوز الفرع أن يشهد، لان هذا كالاسترعاء، ويؤديها الفرع بصفة تحمله
وتثبت شهادة شاهدي الأصل بفرعين، ولو على كل أصل فرع، ويثبت الحق
بفرع مع أصل آخر. ويقبل تعديل فرع لأصله وبموته ونحوه لا تعديل شاهد
لرفيقه. وإذا رجع شهود المال بعد الحكم لم ينقض الحكم لأنه قد تم ووجب
المشهود به المشهود له، ولو كان قبل الاستيفاء ويلزمهم الضمان أي يلزم الشهود
الراجعين بدل المال الذي شهدوا به قائما كان أو تالفا، لأنهم أخرجوه من يد
مالكه بغير حق وحالوا بينه وبينه دون من زكاهم، فلا غرم على مزك إذا رجع
المزكى، لان الحكم تعلق بشهادة الشهود، ولا تعلق له بالمزكيين لأنهم أخبروا
بظاهر حال الشهود، وأما باطنه فعلمه إلى الله تعالى
وإن حكم القاضي بشاهد ويمين ثم رجع الشاهد غرم الشاهد المال كله لان
الشاهد حجة الدعوى، ولان اليمين قول الخصم.
وقول الخصم ليس مقبولا على خصمه، وإنما هو شرط الحكم فهو كطلب
الحكم، وان رجعوا قبل الحكم لغت ولا حكم ولا ضمان، وان رجع شهود
قود أو حد بعد حكم وقبل استيفاء لم يستوف ووجبت دية وقود
271

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب اختلاف الشهود في الشهادة
إذا ادعى رجل على رجل ألفين وشهد له شاهد أنه أقر له بألف وشهد آخر
أنه أقر بألفين ثبت له ألف بشهادتهما لأنهما اتفقا على إثباتها وله أن يحلف مع
شاهد الألفين ويثبت له الألف الآخرى لأنه شهد له بها شاهد، وإن ادعى
ألفا فشهد له شاهد بألف وشهد آخر بألفين ففيه وجهان
(أحدهما) أنه يحلف مع الذي شهد له بالألف ويقضى له وتسقط شهادة
من شهد له بالألفين لأنه صار مكذبا له فسقطت شهادته له في الجميع
(والثاني) أنه يثبت له الألف بشهادتهما ويحلف ويستحق الألف الأخرى
ولا يصير مكذبا بالشهادة لأنه يجوز أن يكون له حق ويدعى بعضه ويجوز أنه
لم يعلم أن له من يشهد له بالألفين
(فصل) وان شهد شاهد على رجل أنه زنى بامرأة في زاوية من بيت
وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية ثانية، وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية ثالثة،
وشهد آخر أنه زنى بها في زاوية رابعة لم يجب الحد على المشهود عليه لأنه لم تكمل
البينة على فعل واحد، وهل يحب حد القذف على الشهود؟ على القولين
وإن شهد اثنان أنه زنى بها وهي مطاوعة وشهد اثنان أنه زنى بها وهي مكرهة
لم يجب الحد عليها لأنه لم تكمل بينة الحد في زناها وأما الرجل فالمذهب أنه
لا يحب عليه الحد.
وخرج أبو العباس وجها آخر أنه يجب عليه الحد لأنهم اتفقوا على أنه زنى
وهذا خطأ لان زناه بها وهي مطاوعة غير زناه بها وهي مكرهة. فصار كما لو
شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية وشهد آخران أنه زنى بها في زاوية أخرى
(فصل) وإن شهد شاهد أنه قذف رجلا بالعربية وشهد آخر أنه قذفه
بالعجمية أو شهد أحدهما أنه قذفه يوم الخميس وشهد آخر أنه قذفه يوم الجمعة لم
يجب الحد لأنه لم تكمل البينة على قذف واحد
272

وإن شهد أحدهما أنه أقر بالعربية أنه قذفه وشهد آخر أنه أقر بالعجمية
أنه قذفه أو شهد أحدهما أنه أقر بالقذف يوم الخميس وشهد الآخر أنه أقر
بالقذف يوم الجمعة وجب الحد لان المقر به واحد وإن اختلفت العبارة فيه
(فصل) وإن شهد شاهد أنه سرق من رجل كبشا أبيض غدوة وشهد
آخر أنه سرق ذلك الكبش بعينه عشية لم يجب الحد لأنه لم تكمل بينة الحد على
سرقة واحدة وللمسروق منه أن يحلف ويقضى له بالغرم، لان الغرم يثبت
بشاهد ويمين، فإن شهد شاهدان أنه سرق كبشا أبيض غدوة وشهد آخران أنه
سرق منه ذلك الكبش بعينه عيشة تعارضت البينتان ولم يحكم بواحدة منهما،
وتخالف المسألة قبلها، فإن كل واحد من الشاهدين ليس ببينة والتعارض لا يكون
في غير بينة، وههنا كل واحد منهما بينة فتعارضتا وسقطتا
وإن شهد شاهد أنه سرق منه كبشا غدوة وشهد آخر أنه سرق منه كبشا
عشية ولم يعينا الكبش لم يجب الحد، لأنه لم تكمل بينة الحد وله أن يحلف مع
أيهما شاء ويحكم له، فإن ادعى الكبشين حلف مع كل واحد منهما يمينا وحكم
له بهما لأنه لا تعارض بينهما.
وإن شهد شاهدان أنه سرق كبشا غدوة وشهد آخران أنه سرق منه كبشا
عشية وجب القطع والغرم فيهما لأنه كملت بينة الحد والغرم. وان شهد شاهد
أنه سرق ثوبا وقيمته ثمن دينار، وشهد آخر أنه سرق ذلك الثوب وقيمته ربع
دينار لم يجب القطع، لأنه لم تكمل بينة الحد ووجب له الثمن لأنه اتفق عليه
الشاهدان وله أن يحلف على الثمن الآخر ويحكم له، لأنه انفرد به شاهد فقضى
به مع اليمين، وان أتلف عليه ثوبا فشهد شاهدان أن قيمته عشرة وشهد آخران
أن قيمته عشرون قضى بالعشرة، لان البينتين اتفقتا على العشرة وتعارضتا في
الزيادة لان إحداهما تثبتها والأخرى تنفيها فسقطت.
(فصل) وان شهد شاهدان على رجلين أنهما قتلا فلانا وشهد المشهود
عليهما على الشاهدين أنهما قتلاه، فإن صدق الولي الأولين حكم بشهادتهما ويقتل الآخران، لان الأولين غير متهمين فيما شهدا به والآخران متهمان
لأنهما يدفعان عن أنفسهما القتل
273

وإن كذب الولي الأولين وصدق الآخرين بطلت شهادة الجميع، لان
الأولين كذبهما الولي والآخران يدفعان عن أنفسهما القتل
(فصل) وإن ادعى رجل على رجل أنه قتل مورثه عمدا، وقال المدعى
عليه قتلته خطأ، فأقام المدعى شاهدين، فشهد أحدهما أنه أقر بقتله عمدا وشهد
الاخر على إقراره بالقتل خطأ فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، لان صفة
القتل لا تثبت بشاهد واحد، فإذا حلف ثبتت دية الخطأ فإن نكل حلف المدعى
أنه قتله عمدا ويجب القصاص أو دية مغلظة.
(فصل) وإن قتل رجل عمدا وله وارثان إبنان أو أخوان فشهد أحدهما
على أخيه أنه عفا عن القود والمال سقط القود عن القاتل، عدلا كان أو فاسقا،
لان شهادته على أخيه تضمنت الاقرار بسقوط القود. فأما الدية فإن نصيب
الشاهد يثبت لأنه ما عفا عنه، وأما نصيب المشهود عليه فإنه إن كان الشاهد
ممن لا تقبل شهادته حلف المشهود عليه أنه ما عفا ويستحق نصف الدية، وإن كان
ممن تقبل شهادته حلف القاتل معه ويسقط عنه حقه من الدية، لان ما طريقه
المال يثبت بالشاهد واليمين. وفى كيفية اليمين وجهان
(أحدهما) أنه يحلف أنه قد عفا عن المال
(والثاني) أنه يحلف أنه قد عفا عن القود والمال وهو ظاهر النص، لأنه
قد يعفو عن الدية ولا يسقط حقه منها، وهو إذا قلنا إن قتل العمد لا يوجب
غير القود. فإذا عفا عن الدية كان ذلك كلا عفو فوجب أن يحلف أنه ما عفا
عن القود والدية.
(فصل) وان شهد شاهد أنه قال وكلتك وشهد آخر أنه قال أديت لك
أو أنت جربي لم تثبت الوكالة لان شهادتهما لم تتفق على قول واحد، وان شهد
أحدهما أنه قال وكلتك وشهد الآخر أنه أذن له في التصرف أو أنه سلطه على
التصرف ثبتت الوكالة لان أحدهما ذكر اللفظ والاخر ذكر المعنى، ولم يخالفه
الاخر الا في اللفظ.
(فصل) وان شهد شاهدان على رجل أنه أعتق في مرضه عبده سالما وقيمته
ثلث ماله وشهد آخر أنه أعتق غانما وقيمته ثلث ماله فإن علم السابق منهما عتق
274

ورق الآخر، وإن لم يعلم ذلك ففيه قولان (أحدهما) أنه يقرع بينهما لأنه
لا يمكن الجمع بينهما، لان الثلث لا يحتملهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر
فأقرع بينهما، كما لو أعتق عبدين وعجز الثلث عنهما
والقول الثاني أنه يعتق من كل واحد منهما النصف لان السابق حر والثاني
عبد فإذا أقرع بينهما لم يؤمن أن يخرج سهم الرق على السابق وهو حر فيسترق
وسهم العتق على الثاني فيعتق وهو عبد فوجب أن يعتق من كل واحد منهما
النصف لتساويهما، كما لو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر بالثلث ولم يجز الورثة
ما زاد على الثلث فإن الثلث يقسم عليهما.
وان شهد شاهدان على رجل أنه أوصى لرجل بثلث ماله وشهد آخران أنه
رجع عن الوصية وأوصى لآخر بالثلث بطلت الوصية الأولى وصحت الوصية
للثاني، وإن ادعى رجل على رجلين أنهما رهنا عبدا لهما عنده بدين له عليهما
فصدقه كل واحد منهما في حق شريكه وكذبه في حق نفسه ففيه وجهان
(أحدهما) أنه لا تقبل شهادتهما لأنه يدعى أن كل واحد منهما كاذب
(والثاني) تقبل شهادتهما ويحلف مع كل واحد منهما ويصير العبد رهنا
عنده لأنه يجوز أن يكون قد نسي فلا يكون كذبه معلوما
اللغة: قوله (في زاوية) الزاوية واحدة الزوايا، وأصله فاعلة من زويت
الشئ أي قبضته وجمعته، كأنها تقبض وتجمع، ما فيها، وفى الحديث (زويت
لي الأرض)
قوله (سرق كبشا) هو بالشين المعجمة والباء بواحدة، ومن قال كيسا بالباء
باثنتين من تحتها والسين المهملة فقد أخطأ.
(الشرح) قال الإمام الشافعي في الام صفحة 51 جزء 7 طبعة حسين امبابي
وإذا شهد ثلاثة على رجل بالزنا فأثبتوه فقال الرابع رأيته نال منها ولا
أدرى أغاب ذلك منه في ذلك منها، فمذهب أكثر المفتين أن يحد الثلاثة ولا يحد
الرابع. ولو كان الرابع قال أشهد أنه زان ثم قال هذا القول انبغى أن يحد في
قولهم لأنه قاذف لم يثبت الزنا الذي في مثله الحد ولم يحدوا. وهكذا لو شهد
275

أربعة فقالوا رأيناه على هذه المرأة فلم يثبتوا لم يحد ولم يحدوا، ولو قالوا زنا
بهذه المرأة ثم لم يثبتوا حدوا بالقذف لأنهم قذفة لم يخرجوا بالشهادة
قال: وإذا شهد الشاهدان على سرقة فاختلفا في الشهادة فقال أحدهما سرق
من هذه الدار كبشا لفلان، وقال الآخر بل سرقه من هذه الدار أو شهدا
بالرؤية معا وقالا معا سرقه من هذا البيت وقال أحدهما بكرة وقال الآخر عشية
أو قال أحدهما سرق الكبش وهو أبيض وقال الآخر سرقه وهو اسود، أو قال
أحدهما كان الذي سرق أقرن وقال الآخر أجم أي غير أقرن، أو قال أحدهما
كان كبشا وقال الآخر كان نعجة، فهذا اختلاف لا يقطع به حتى يجتمعا على شئ
واحد يجب في مثله القطع ويقال المسروق منه كل واحد من هذين يكذب
صاحبه فادع شهادة أيهما شئت واحلف مع شاهدك، فإن قال أحدهما سرق كبشا
ووصفه بكرة وقال الآخر سرق كبشا ووصفه عشية فلم يدع المسروق الا كبشا
حلف على أي الكبشين شاء وأخذه أو ثمنه ان فات وان ادعى كبشين حلف
مع شهادة كل واحد منهما وأخذ كبشين إذا لم يكونا وصفا أن السرقة واحدة
واختلفا في صفتهما، فهذه سرقتان يحلف مع كل واحد منهما ويأخذه قال
وكذلك لو شهد شاهد أنه شرب خمرا اليوم وشهد آخر أنه شرب خمرا أمس لم
يحد من قبل أن أمس غير اليوم
وإذا شهد شاهد على رجل أنه قذف رجلا اليوم وشهد آخر عليه أنه قذفه
أمس فلا يحد من قبل أنه ليس ثم اثنان يشهدان على قذف واحد
قالت الحنابلة في كتاب منار السبيل طبعة دمشق صفحة 416:
وان اختلف اثنان قدم قول المثبت، لأنه يشهد بزيادة لم يدركها النافي.
ثم قال صفحة 502: ولا يمين على شاهد أنكر شهادته وحاكم أنكر حكمه،
لان ذلك لا يقضى فيه بالنكول فلا فائدة بإيجاب اليمين فيه.
وقالوا في الفروع صفحة 518:
ومن زاد في شهادته أو نقص قبل الحكم أو أذى بعد انكارها قيل نص
عليهما، كقوله لا أعرف الشهادة، وقيل لا كبعد الحكم، وقيل يؤخذ بقوله
276

المتقدم، وإن رجع لغت ولا حكم ولم يضمن وتقدم هل يجد في قذف، وفى
الترغيب يحد، فإن ادعى غلطا فمبنى على ما إذا اتى بحد في صورة الشهادة ولم
يكمل، وفى الرعاية يحد، فإن ادعى غلطا فلا، وإن لم يصرح بالرجوع بل قال
للحاكم توقف فتوقف ثم عاد إليها قبلت في الأصح ففي وجوب إعادتها احتمالان
وإن رجع شهود مال أو عتق بعد الحكم قبل الاستيفاء أو بعده لم ينقض
ويضمنون ما لم يصدقهم مشهود له لا من زكاهم.
وان رجع شهود القرابة وشهود الشراء غرم شهود القرابة وخرج في
الانتصار كشهود زنا وإحصان، وفيه لو رجع شهود يمين بعتقه وشهود بحنثه
فظاهر اختياره يغرمه شهود اليمين وفاقا لأبي حنيفة. وعن أصحابنا بينهما وفاقا
للشافعي، وإن رجع شهود طلاق فلا غرم إلا قبل الدخول نصف المسمى أو
بدله وإن رجع شهود قود أو حد لم يستوف فتجب دية القود، فإن وجب عينا
فلا، وقيل بالاستيفاء إن كان لآدمي، وإن كان بعده وقالوا أخطأنا غرموا دية
ما تلف أو أرش الضرب، وان رجع واحد غرم بقسطه وقيل الكل، وإن
رجع الزائد على البينة قبل الحكم أو بعده استوفى ويحد الراجع لقذفه
ثم قالوا: وان رجع شهود تعليق عتق أو طلاق وشهود شرطه غرموا بعددهم
قال ابن حزم في المحلى صفحة 513 جزء 9 طبعة الامام:
وإذا رجع الشاهد عن شهادته بعد أن حكم بها أو قبل أن يحكم بها فسخ بها
فيه، فلو مات أو جن أو تغير بعد أن شهد قبل أن يحم بشهادته أو بعد أن حكم
بها نفذت على كل حال ولم ترد قال على: أما موته وجنونه وتغيره فقد تمت
الشهادة الصحيحة ولم يوجب فسخها بعد ثبوتها ما حدث بعد ذلك، وأما رجوعه
عن شهادته فلو أن عدلين شهدا بجرحته حين شهد لوجب رد ما شهد به واقراره
على نفسه بالكذب أو الغفلة أثبت عليه من شهادة غيره عليه بذلك، وقولنا هو
قول حماد بن أبي سليمان والحسن البصري
وقالت الشيعة في المختصر النافع صفحة 214:
ولا بد في الشهادة من ذكر المشاهدة كالميل في المكحلة ولا بد من تواردهم
277

على الفعل الواحد في الزمان الواحد والمكان الواحد، ولو أقام الشهادة بعض
حدوا لو لم يرتقب إتمام البينة وتقبل شهادة الأربعة على الاثنين فما زاد
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الرجوع عن الشهادة
إذا شهد الشهود بحق ثم رجعوا عن الشهادة لم يخل إما أن يكون قبل الحكم
أو بعد الحكم وقبل الاستيفاء أو بعد الحكم وبعد الاستيفاء، فإن كان قبل الحكم
لم يحكم بشهادتهم.
وحكى عن أبي ثور أنه قال يحكم وهذا خطأ لأنه يحتمل أن يكونوا صادقين
في الشهادة كاذبين في الرجوع، ويجوز أن يكونوا صادقين في الرجوع
كاذبين في الشهادة ولم يحكم مع الشك، كما لو جهل عدالة الشهود، فإن رجعوا بعد الحكم وقبل الاستيفاء فإن كان في حد أو قصاص لم يجز الاستيفاء
لأن هذه الحقوق تسقط بالشبهة والرجوع شبهة ظاهرة فلم يجز الاستيفاء بالشبهة
معها، وإن كان مالا أو عقد فالمنصوص أنه يجوز الاستيفاء
ومن أصحابنا من قال لا يجوز لان الحكم غير مستقر قبل الاستيفاء، وهذا
خطأ لان الحكم نفذ والشبهة لا تؤثر فيه فجاز الاستيفاء، وإن رجعوا بعد الحكم
والاستيفاء لم ينقض الحكم ولا يجب على المشهود له رد ما أخذه لأنه يجوز أن
يكونوا صادقين، ويجوز أن يكونوا كاذبين، وقد اقترن بأحد الجائزين الحكم
والاستيفاء فلا ينقض برجوع محتمل.
(فصل) وإن شهدوا بما يوجب القتل ثم رجعوا نظرت فإن قالوا تعمدنا
ليقتل بشهادتنا وجب عليهم القود، لما روى الشعبي أن رجلين شهدا عند علي رضي الله عنه
على رجل أنه سرق فقطعه، ثم أتيا برجل آخر فقالا إنا أخطأنا
بالأول وهذا السارق، فأبطل شهادتهما على الآخر وضمنهما دية يد الأول وقال
لو أعلم أنكما تعمدتما لقطعتكما، ولأنهما الجاه إلى قتله بغير حق فلزمهما القود،
كما لو أكرهاه على قتله.
وإن قالوا تعمدنا الشهادة ولم نعلم أنه يقتل وهم يجهلون قتله وجبت عليهم
278

دية مغلظة لما فيه من العمد ومؤجلة لما فيه من الخطأ، فإن قالوا أخطأنا وجبت
دية مخففة لأنه خطأ ولا تحمله العاقلة لأنها وجبت باعترافهم، فإن اتفقوا أن
بعضهم تعمد وبعضهم أخطأ وجب على المخطئ قسطه من الدية المخففة وعلى
المتعمد قسطه من الدية المغلظة ولا يجب عليه القود لمشاركة المخطئ.
وان اختلفوا فقال بعضهم تعمدنا كلنا وقال بعضهم أخطأنا كلنا وجب على
المقر بعمد الجميع القود وعلى المقر بخطأ الجميع قسطه من الدية المخففة، وإن كانوا
أربعة شهدوا بالرجم، فقال اثنان منهم تعمدنا وأخطأ هذان، وقال الآخران
تعمدنا وأخطأ الأولان ففيه قولان:
(أحدهما) أنه يجب القود على الجميع، لان كل واحد منهم أقر بالعمد
وأضاف الخطأ إلى من أقر بالعمد، فصاروا كما لو أقر جميعهم بالعمد.
والقول الثاني، وهو الصحيح، أنه لا قود على واحد منهم بل يجب على كل
واحد منهم قسطه من الدية المغلظة، لأنه لا يؤخذ كل واحد منهم الا بإقراره
وكل واحد منهم مقر بعمد شاركه فيه مخطئ فلا يجب عليه القود بإقرار غيره
بالعمد وان قال اثنان تعمدنا كلنا، وقال الآخران تعمدنا وأخطأ الأولان،
فعلى الأولين القود وفى الآخرين القولان:
(أحدهما) يجب عليهما القود (والثاني) وهو الصحيح أنه يجب عليهما
قسطهما من الدية المغلظة، وقد مضى توجيههما.
وان قال بعضهم تعمدت ولا أعلم حال الباقين، فإن قال الباقون تعمدنا
وجب القود على الجميع، وان قالوا أخطأنا سقط القود عن الجميع.
(فصل) فإن رجع بعضهم نظرت فإن لم يزد عددهم على عدد البينة بأن
شهد أربعة على رجل بالزنا فرجم ثم رجع واحد منهم وقال أخطأت ضمن ربع
الدية. وان رجع اثنان ضمنا نصف الدية، وان زاد عددهم على عدد البينة بأن
شهد خمسة على رجل بالزنا فرجم ورجع واحد منهم لم يجب القود على الراجع
لبقاء وجوب القتل على المشهود عليه، وهل يجب عليه من الدية شئ؟ فيه
وجهان (أحدهما) وهو الصحيح أنه لا يجب لبقاء وجوب القتل (والثاني) أنه
279

يجب عليه خمس الدية لان الرجم حصل بشهادتهم فقسمت الدية على عددهم.
فإن رجع اثنان وقالا تعمدنا كلنا وجب عليهما القود، وان قالا أخطأنا كلنا
ففي الدية وجهان:
(أحدهما) أنهما يضمنان الخمس من الدية اعتبارا بعددهم
(والثاني) يضمنان ربع الدية لأنه بقي ثلاثة أرباع البينة
(فصل) وإن شهد أربعة بالزنا على رجل وشهد اثنان بالاحصان فرجم
ثم رجعوا كلهم عن الشهادة فهل يجب على شهود الاحصان ضمان؟ فيه ثلاثة أوجه
(أحدها) أنه لا يجب لأنهم لم يشهدوا بما يوجب القتل (والثاني) أنه يجب على
الجميع لان الرجم لم يستوف إلا بهم (والثالث) أنهما إن شهدا بالاحصان قبل
ثبوت الزنا لم يضمنا لأنهما لم يثبتا إلا صفة، وإن شهدا بعد ثبوت الزنا ضمنا
لان الرجم لم يستوف إلا بهما، وفى قدر ما يضمنان من الدية وجهان:
(أحدهما) أنهما يضمنان نصف الدية لأنه رجم بنوعين من البينة: الاحصان
والزنا فقسمت الدية عليهما.
(والثاني) أنه يجب عليهما ثلث الدية، لأنه رجم بشهادة ستة فوجب على
الاثنين ثلث الدية، وإن شهد أربعة بالزنا وشهد اثنان منهم بالاحصان قبلت
شهادتهما لأنهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما نفعا ولا يدفعان عنهما
ضررا، فإن شهدوا فرجم المشهود عليه ثم رجعوا عن الشهادة، فأن قلنا لا يجب
الضمان على شهود الاحصان وجبت الدية عليهم أرباعا على كل واحد منهم ربعها
وإن قلنا إنه يجب الضمان على شهود الاحصان ففي هذه المسألة وجهان:
(أحدهما) أنه لا يجب لأجل الشهادة بالاحصان شئ بل يجب على من شهد
بالاحصان نصف الدية وعلى الآخرين نصفها، لان الرجوع عن الشهادة صار
كالجناية فوجب على كل اثنين نصف الدية كأربعة أنفس جنى اثنان جنايتين،
وحتى اثنان أربعة جنايات.
والوجه الثاني أنه يجب الضمان لأجل الشهادة بالاحصان، فإن قلنا يجب
على شاهدي الاحصان نصف الدية وعلى شهود الزنا النصف وجب ههنا على
الشاهدين بشهادتهما بالاحصان نصف الدية، وقسم النصف بينهم نصفين على
280

شاهدي الاحصان النصف وعلى الآخرين النصف فيصير على شاهدي الاحصان
ثلاثة أرباع الدية وعلى الآخرين ربعها، وإذا قلنا إنه يجب على شاهدي
الاحصان ثلث الدية وجب ههنا عليهما الثلث بشهادتهما بالاحصان ويبقى الثلثان
بينهم النصف على من شهد بالاحصان والنصف على الآخرين فيصير على من شهد
بالاحصان ثلثا الدية وعلى من انفرد بشهادة الزنا ثلثها.
(فصل) وان شهد على رجل أربعة بالزنا وشهد اثنان بتزكيتهم فرجم ثم
بان أن الشهود كانوا عبيدا أو كفارا وجب الضمان على المزكيين لان المرجوم
قتل بغير حق ولا شئ على شهود الزنا، لأنهم يقولون انا شهدنا بالحق ولولي
الدم أن يطالب من شاء من الامام أو المزكيين، لان الامام رجم المزكيين
الجاه، فإن طالب الامام رجع على المزكيين لأنه رجمه بشهادتهما، وان طالب
المزكيين لم يرجعا على الامام لأنه كالآلة لهما،
(فصل) وان شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبده ثم رجعا عن الشهادة
وجب عليهما قيمة العبد لأنهما أتلفاه عليه فلزمهما ضمانه كما لو قتلاه، وان شهدا
على رجل أنه طلق امرأته ثم رجعا عن الشهادة، فإن كان بعد الدخول وجب
عليهما مهر المثل لأنهما أتلفا عليه مقوما فلزمهما ضمانه، كما لو أتلفا عليه ماله
وإن كان قبل الدخول ففيه طريقان ذكرناهما في الرضاع.
(فصل) وان شهدا عليه بمال وحكم عليه ثم رجعا عن الشهادة فالمنصوص
أنه لا يرجع على المشهود
وقال فيمن في يده دار فأقر أنه غصبها من فلان ثم أقر أنه غصبها من آخر
أنها تسلم إلى الأول بإقراره السابق: وهل يجب عليه أن يغرم قيمتها للثاني؟
فيه قولان ورجوع الشهود كرجوع المقر، فمن أصحابنا من قال هو على قولين
وهو قول أبى العباس:
(أحدهما) أنه يرجع على المشهود بالغرم، لأنهم حالوا بينه وبين ماله
بعدوان وهو الشهادة فلزمهم الضمان.
(والثاني) أنه لا يرجع عليهم لأن العين لا تضمن إلا باليد أو بالاتلاف
ولم يوجد من الشهود واحد منهما ومن أصحابنا من قال لا يرجع على الشهود
281

قولا واحدا، والفرق بينهم وبين الغاصب أن الغاصب ثبتت يده على المال
بعدوان والشهود لم تثبت أيديهم على المال، والصحيح أن المسألة على قولين،
والصحيح من القولين أنه يجب عليهم الضمان، فإن شهد رجل وامرأتان بالمال
ثم رجعوا وجب على الرجل النصف وعلى كل امرأة الربع، لان كل امرأتين
كالرجل. وإن شهد ثلاثة رجال ثم رجعوا وجب على كل واحد منهم الثلث،
فإن رجع واحد وبقى اثنان ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يلزمه ضمان الثلث لان المال يثبت بشهادة الجميع
(والثاني) وهو المذهب أنه لا شئ عليه لأنه بقيت بينة يثبت بها المال،
فإن رجع آخر وجب عليه وعلى الأول ضمان النصف لأنه انحل نصف البينة،
وإن شهد رجل وعشر نسوة ثم رجعوا عن الشهادة وجب على الرجل ضمان
السدس وعلى كل امرأة ضمان نصف السدس.
وقال أبو العباس يجب على الرجل ضمان النصف وعلى النسوة ضمان النصف
لان الرجل في المال بمنزلة نصف البينة فلزمه ضمان النصف، والصحيح هو الأول
لان الرجل في المال بمنزلة امرأتين، وكل امرأتين بمنزلة رجل فصاروا كستة
رجال شهدوا ثم رجعوا فيكون حصة الرجل السدس وحصة كل امرأتين السدس
وإن رجع ثماني نسوة لم يجب على الصحيح من المذهب عليهن شئ لأنه بقيت
بينة ثبت بها الحق، فإن رجعت أخرى وجب عليها وعلى الثماني ضمان الربع،
وأن رجعت أخرى وجب عليها وعلى النسع النصف.
(فصل) وإن شهد شاهد بحق ثم مات أو جن أو أغمي عليه قبل الحكم
لم تبطل شهادته لان ما حدث لا يوقع شبهة في الشهادة فلم يمنع الحكم بها، وإن
شهد ثم فسق قبل الحكم لم يجز الحكم بشهادته، لان الفسق يوقع شكا في عدالته
عند الشهادة فمنع الحكم بها. وإن شهد على رجل ثم صار عدوا له بأن قذفه
المشهود عليه لم تبطل شهادته لأن هذه عداوة حدثت بعد الشهادة فلم تمنع من
الحكم بها، وإن شهد وحكم الحاكم بشهادته ثم فسق فإن كان في مال أو عقد لم
يؤثر في الحكم لأنه يجوز أن يكون حادثا ويجوز أن يكون موجودا عند
الشهادة فلا ينقض حكم نفذ بأمر محتمل، وإن كان في حد أو قصاص لم يجز
282

الاستيفاء لان ذلك يوقع شبهة في الشهادة والحد والقصاص مما يسقطان بالشبهة
فلم يجز استيفاؤه مع الشبهة.
(فصل) وإن حكم بشهادة شاهد ثم بان أنه عبد أو كافر نقض الحكم لأنه
تيقن الخطأ في حكمه فوجب نقضه كما لو حكم بالاجتهاد ثم وجد النص بخلافه،
وإن حكم بشهادة شاهد ثم قامت البينة أنه فاسق، فإن لم تسند الفسق إلى حال
الحكم لم ينقض الحكم لجواز أن يكون الفسق حدث بعد الحكم فلم ينقض
الحكم مع الاحتمال.
وإن قامت البينة أنه كان فاسقا عند الحكم فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال
أبو إسحاق رحمه الله ينقض الحكم قولا واحدا، لأنه إذا نقص بشهادة العبد
ولا نص في رد شهادته ولا اجماع، فلان ينقض بشهادة الفاسق وقد ثبت رد
شهادته بالنص والاجماع أولى.
وقال أبو العباس رحمه الله فيه قولان، أحدهما أنه ينقض لما ذكرناه، والثاني
أنه لا ينقض لأنه فسقه ثبت بالبينة من جهة الظاهر فلا ينقض حكم نفذ في
الظاهر، والصحيح هو الأول لان هذا يبطل به إذا حكم بالاجتهاد فيه ثم وجد
النص بخلافه، فإن النص ثبت من جهة الظاهر، وهو خبر الواحد ثم ينقض
به الحكم.
(فصل) وإذا نقض الحكم نظرت فإن كان المحكوم به قطعا أو قتلا
وجب على الحاكم ضمانه لأنه لا يمكن إيجابه على الشهود لأنهم يقولون شهدنا
بالحق ولا يمكن إيجابه على المشهود له، لأنه يقول استوفيت حقي فوجب على
الحاكم الذي حكم بالاتلاف ولم يبحث عن الشهادة، وفى الموضع الذي يضمن
قولان (أحدهما) في بيت المال (والثاني) على عاقلته وقد بيناه في الديات،
وإن كان المحكوم به مالا فإن كان باقيا في يد المحكوم له وجب عليه رده، وإن كان
تالفا وجب عليه ضمانه لأنه حصل في يده بغير حق ويخالف ضمان القطع
والقتل حيث لم يوجب على المحكوم له، لان الجناية لا تضمن الا أن تكون
محرمة وبحكم الحاكم خرج عن أن يكون محرما فوجب على الحاكم دونه
283

(فصل) ومن حكم له الحاكم بمال أو بضع أو غيرهما بيمين فاجرة أو شهادة
زور لم يحل له ما حكم له به لما روت أم سملة رضي الله عنها أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: إنكم تختصمون إلى وإنما أنا بشر ولعل بعضكم أن يكون ألحن
بحجته من بعض فأقضى له بما أسمع وأظنه صادقا، فمن قضيت له بشئ من حق
أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار فليأخذها أو ليدعها، ولأنه يقطع بتحريم
ما حكم له به فلم يحل له بحكمه كما لو حكم له بما يخالف النص والاجماع
(الشرح) أثر الشعبي أن رجلين شهدا عند على ثم رجعا...) أخرجه البيهقي
في السنن الكبرى.
حديث أم سلمة متفق عليه، وقد خرجه مسلم بصيغ منها ما ذكر، ومنها
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته، فخرج إليهم
فقال: ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض
فأحسب أنه صادق فأقضى له، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار
فليحملها أو بذرها، وأخرجه البخاري في غير موضع بألفاظ متقاربة وأبو داود
والنسائي والترمذي وابن ماجة والإمام أحمد في مسنده.
اللغة: قوله (بتزكيتهم) تزكية الشهود مدحهم والثناء عليهم، يقال زكى
فلان بينته أي مدحها، وزكى أي فمي صلاحه من زكى المال، ويقال تطهيرهم،
من قوله تعالى (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم) وقوله تعالى (غلاما
زكيا) أي طاهرا. وقوله تعالى (ما زكى منكم من أحد أبدا) أي ما طهر
قوله (ولعل بعضكم أن يكون الجن بحجته) أي أفطن وأقوم بها، يقال
لحن يلحن لحنا بفتح الحاء إذا أصاب وفطن، قالوا وأما اللحن بإسكان الحاء فهو
الخطأ واللحن أيضا اللغة، ومنه قول عمر رضي الله عنه: أبى اقرؤنا وإنا لترغب
عن كثير من لحنه أي لغته وكان يقرأ التابوه قال:
وقوم لهم لحن سوى لحن قومنا * وشكل وبيت الله لسنا نشاكله
واللحن أيضا التعريض والإشارة، قال أبو زيد: يقال لحنت له بالفتح لحنا
إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى عن غيره، ومنه قوله تعالى (ولتعرفنهم في
284

لحن القول) قال ابن الأنباى معناه ولتعرفنهم في معنى القول. وقال العزيزي:
فحوى القول ومعناه، وقال الهروي في نحوه وقصده، وأنشدوا للقتال الكلابي:
وقد لحنت لكم لكيما تفهموا * ووحيت وحيا ليس بالمرتاب
وقبل أن أنقل لك ما قبل فقهيا أحببت أن أنقل لك ما ذكره ابن دقيق العهد
في أحكام الأحكام لان فيه رد قوى على أرباب الطرق وأصحاب التصوف ومن
سار في ركابهم، واخراجهم رسولنا الكريم عن بشريته ومدحهم فيه بطريقة
لا تتفق مع شرع ولا دين، بل حتى المعتدلين منهم حسب رأيهم في أنفسهم
أخرجوا في هذه الأيام كتيبا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تخبطوا فيه خبط
عشواء ولم يستطيعوا أن يتحللوا من صوفيتهم البغيضة
يقول ابن دقيق العبد في شرحه لحديث أم سلمة (فيه دليل على اجراء
الأحكام على الظاهر وإعلام الناس بأن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك كغيره
وإن كان يفترق مع الغير في اطلاعه على ما يطلعه الله عز وجل عليه من الغيوب
الباطنة وذلك في أمور مخصوصة لا في الأحكام العامة، وعلى هذا يدل قوله عليه
السلام (إنما أنا بشر)
ولا أطيل عليك فهذا ليس من موضوعات كتابنا ولكن أتمنى لأمثال هؤلاء
السابقين أن يفتح الله قلوبهم للحق وأبصارهم على الاسلام الصحيح فيسيروا على
نهج رسول الله عملا وقولا ويلتزموا بالسنة الصحيحة.
قال المزني في مختصره، قال الشافعي رحمه الله: الرجوع عن الشهادة ضربان
فإن كانت على رجل بشئ يتلف من بدنه أو ينال بقطع أو قصاص فأخذ منه
ذلك ثم رجعوا فقالوا عمدناه بذلك فهي كالجناية فيها القصاص. واحتج في ذلك
بعلى، وما لم يكن من ذلك فيه القصاص أغرموه وعزروا دون الحدود، وإن
قالوا لم نعلم أن هذا يجب عليه عزروا وأخذ منهم العقل، ولو قالوا أخطأنا كان
عليهم الأرش، ولو كان هذا في طلاق ثلاث أغرمتهم للزوج صداق مثلها، دخل
بها أو لم يدخل بها، لأنهم حرموها عليه، فلم يكن لها قيمة إلا مهر مثلها، ولا
التفت إلى ما أعطاها.
285

قال المزني رحمه الله: ينبغي أن يكون هذا غلطا من غير الشافعي، ومعنى
قوله المعروف أن يطرح عنهم ذلك بنصف مهر مثلها إذا لم يكن دخل بها قال
الشافعي رحمه الله: وإن كان في دار فأخرجت من يده إلى غيره عزروا على شهادة
الزور ولم يعاقبوا على الخطأ ولم أغرمهم من قبل أنى جعلتهم عدولا بالأول
فأمضينا بهم الحكم ولم يكونوا عدولا بالآخر، فترد الدار ولم يستفيدوا شيئا
لا يؤخذ ولم يأخذوا شيئا لأنفسهم فانتزعه منهم، وهم كمبتدئين شهادة لا تقبل
منهم فلا أغرمهم ما أقروه في أيدي غيرهم.
قال ابن دقيق العبد: واتفق أصحاب الشافعي على أن القاضي الحنفي إذا قضى
بشفعة الجار للشافع أخذها في الظاهر واختلفوا في حل ذلك في الباطن له على
وجهين. والحديث (أي حديث أم سملة) عام بالنسبة إلى سائر الحقوق، والذي
يتفقون عليه أعني أصحاب الشافعي - أن الحجج إذا كانت باطلة في نفس
الامر بحيث لو اطلع عليها القاضي لم يجز له الحكم بها أن ذلك لا يؤثر وإنما وقع
التردد في الأمور الاجتهادية إذا خالف اعتقاد القاضي اعتقاد المحكوم له كما قلنا
في شفعة الجار.
قالت الحنابلة: وان رجع شهود المال أو العتق بعد حكم الحاكم لم ينقض
الحكم لتمامه، ووجوب المشهود المحكوم له ورجوعهم لا ينقض الحكم، لأنهم
ان قالوا عمدنا فقد شهدوا على أنفسهم بالفسق، فهما متهمان بإرادة تقض الحكم
وان قالوا أخطأنا لم يلزم نقضه أيضا لجواز خطئهم في قولهم الثاني بأن
اشتبه عليهم الحال.
وقبل الانتهاء من هذا الباب ألخص لك الموضوع:
1 - (تعريف الشهادة) أن يخبر بها المرء صادقا بما شاهد أو سمع
2 - (حكمها) تحمل الشهادة كأدائها فرض كفاية على من تعينت عليه،
لقول الله تعالى (فاستشهدوا شهيدين من رجالكم...) البقرة وقوله تعالى
(ولا تكتموا الشهادة.) ولقول سيد البشر (ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي
يأتي بشهادته قبل أن يسألها) أخرجه مسلم.
286

3 - (شروط الشاهد) أن يكون مسلما عاقلا بالغا عدلا غير متهم، أي
ممن لا تقبل شهادتهم كعمودي النسب لبعضهم والزوجين كل منهما للآخر والذي
يجر نفعا لنفسه أو يدفع ضررا والعدو على عدوه لقوله صلى الله عليه وسلم:
لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه، ولا تجوز شهادة القانع
لأهل البيت) أحمد والبيهقي وأبو داود، وقال في التلخيص اسناده قوى
4 - (أحكام الشهادة) (أ) لا يجوز للشاهد أن يشهد الا بما علمه يقينا
برؤية أو سماع لقوله صلى الله عليه وسلم لمن سأله عن الشهادة: ترى الشمس؟
قال نعم، قال على مثلها فاشهد أو دع) ابن عدي بسند ضعيف وصححه الحاكم
وخطأه الذهبي في تصحيحه له.
(ب) تجوز الشهادة على شهادة شاهد آخر إذا تعذر حضوره لمرض أو
غياب أو موت وللضرورة إذا توقف عليه حكم الحاكم
(ج) يزكى الشاهد بشهادة عدلين على أنه عدل مرضى إذا كان الشاهد غير
مبرز العدالة، أما مبرز العدالة فلا يحتاج القاضي إلى تزكية له:
(د) إن زكى رجلان رجلا وجرح فيه آخران قدم جانب التجريح على جانب
التعديل لأنه الأحوط.
(ه‍) يجب تأديب شاهد الزور بما يردعه
5 - أنواع الشهادات:
(أ) شهادة الزنا ويتعين فيها أربعة شهود ولا يعتد بالأقل من ذلك، وأن
تكون رؤيا العين فيها صحيحة بدخول المرود في المكحلة.
(ب) شهادة غير الزنا من جميع الأمور يكفي فيها شاهد عدل
(ج) شهادة الأموال يكفي فيها شهادة رجل وامرأتين
(د) شهادة الأحكام يكفي فيها شاهد ويمين
(ه‍) شهادة الحمل والحيض وما لا يطلع عليه إلا النساء يكفي فيه
شهادة امرأتين.
287

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الاقرار
الحكم بالاقرار واجب لقوله صلى الله عليه وسلم: يا أنيس اغد على امرأة
هذا فإن اعترقت فارجمها، ولان النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزا والغامدية
بإقرارهما، ولأنه إذا وجب الحكم بالشهادة فلان يجب بالاقرار وهو من
الريبة أبعد وأولى.
(فصل) وإن كان المقر به حقا لآدمي أو حقا لله تعالى لا يسقط بالشبهة
كالزكاة والكفارة ودعت الحاجة إلى الاقرار به لزمه الاقرار به لقوله عز وجل
(كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم) ولقوله تعالى (فإن كان
الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل)
والاملال هو الاقرار، فإن كان حقا لله تعالى يسقط بالشبهة فقد بيناه في
كتاب الشهادات.
(الشرح) حديث يا أنيس اغد على امرأة هذا. سبق تخريجه
حديث (رجم ماعز والغامدية..) حديث رجم ماعزا أصله في الصحيحين
عن أبي هريرة وابن عباس ولم يسم، ورواه مسلم من حديث بريدة فسماه.
حديث الغامدية أخرجه أبو داود ومسلم
اللغة: الاقرار اخبار عما قر وثبت وتقدم، ومعناه الاعتراف وترك
الانكار، من استقر بالمكان إذا وقف فيه ولم يرتحل عنه، وقرار الماء وقرارته
حيث ينتهى جريانه ويستقر، قال عنترة.
جادت علينا كل بكر حرة * فتركن كل قرارة كالدرهم
قوله (قوامين بالقسط) أي بالعدل بكسر القاف وبفتحها الجواز. وقال آخر:
ليتهم أقسطوا إذا قسطوا * فالزمان قسط وقسط
قوله (فليملل وليه بالعدل) يقال أمل عليه بمعنى أملى وأمللت عليه الكتاب
288

الاقرار هو اعتراف الانسان بكل حق عليه بكل لفظ دال على الاقرار،
بشرط كون المقر مكلفا وهو أبلغ البينات، ويدخل في جميع أبواب العلم من
العبادات والمعاملات والأنكحة والجنايات وغيرها، وفى الحديث (لا عذر
لمن أقر) ذكره عبد الرحمن بن ناصر السعدي في منهج السالكين ولم
أجد من خرجه.
ويجب على الانسان أن يعترف بجميع الحقوق التي عليه للآدميين ليخرج من
التبعة بأداء أو استحلال قالت الحنابلة وهو الاعتراف بالحق والحكم به واجب
لقوله صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)
ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا والغامدية والجهنية بإقرارهم، ولأنه إذا
وجب الحكم بالبينة فلان يجب بالاقرار مع بعده من الريبة أولى قاله في الكافي
قال أبو محمد بن حزم في المحلى: اختلف الناس في الاقرار بالحد بعد مدة
وأيهما أفضل الاقرار أم الاستتار، فلما اختلفوا وجب أن ننظر فيما اختلفوا فيه
لنعلم الحق من ذلك فنتبعه بعون الله تعالى، فنظرنا فيها احتجت به الطائفة المختارة
الستر وأن جميع الأمة متفقون على أن الستر مباح وأن الاعتراف مباح، إنما
اختلفوا في الأفضل، ولم يقل أحد من أهل الاسلام أن المعترف بما عمل بما
يوجب الحد عاص لله تعالى في اعترافه. ولا قال أحد من أهل الاسلام قط أن
السائر على نفسه ما أصاب من حد عاص لله تعالى، فنظرنا في تلك الأخبار التي
جاءت في ذلك فوجدناها كلها لا يصح منها شئ إلا خبرا واحدا وهو إعراض
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعترف بالزنا مرات، ولا حجة لهم فيه.
وبعد أن أورد نصوص كل من الفريقين وردها سندا وناقشها متنا قرر قائلا
فصح يقينا أن الاعتراف بالذنب ليقام عليه الحد أفضل من الاستتار له بشهادة
النبي صلى الله عليه وسلم - أي للغامدية ولماعز - أنه لا أفضل من جودة
المعترف بنفسه لله تعالى، ثم قال وأن الستر مباح بالاجماع
289

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يصح الاقرار الا من بالغ عاقل مختار، فأما الصبي والمجنون
فلا يصح إقرارهما لقوله عليه الصلاة والسلام (رفع القلم عن ثلاثة، عن الصبي
حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق) ولأنه التزام حق
بالقول فلم يصح من الصبي والمجنون كالبيع.
فإن أقر مراهق وادعى أنه غير بالغ فالقول قوله وعلى المقر له أن يقيم البينة
على بلوغه ولا يحلف المقر لأنا حكمنا بأنه غير بالغ.
وأما السكران فإن كان سكره بسبب مباح فهو كالمجنون، وإن كان بمعصية
الله فعلى ما ذكرنا في الطلاق.
وأما المكره فلا يصح إقراره لقوله عليه الصلاة والسلام (رفع عن أمتي
الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه، ولأنه قول أكره عليه بغير حق فلم يصح
كالبيع، ويصح إقرار السفيه والمفلس بالحد والقصاص لأنه غير متهم، وأما
إقراره بالمال فقد بيناه في الحجر والتفليس.
(فصل) ويصح إقرار العبد بالحد والقصاص لان الحق عليه دون مولاه
ولا يقبل إقرار المولى عليه في ذلك لان المولى لا يملك من العبد الا المال، وأن
جنى رجل على عبد جناية توجب القصاص، أو قذفه قذفا يوجب التعزير ثبت
القصاص والتعزير له، وله المطالبة به والعفو عنه، وليس للمولى المطالبة به ولا
العفو عنه لأنه حق غير مال فكان له دون المولى، ولا يقبل إقرار العبد بجناية
الخطأ لأنه ايجاب مال في رقبته ويقبل إقرار المولى عليه لأنه إيجاب حق في ماله
ويقبل إقرار العبد المأذون في دين المعاملة ويجب قضاؤه من المال الذي في يده
لان المولى سلطه عليه، ولا يقبل اقرار غير المأذون في دين معاملة في الحال،
ويتبع به إذا عتق، لأنه لا يمكن أخذه من رقبته لأنه لزمه برضى من له الحق.
وان أقر بسرقة مالا لا يجب فيه القطع، كمال دون النصاب وما سرق من غير حرز
وصدقه المولى وجب التسليم إن كان باقيا وتعلق برقبته إن كان تالفا لأنه لزمه
بغير رضى صاحبه، وان كذبه المولى كان في ذمته يتبع به إذا عتق، وان وجب
290

فيه القطع قطع لأنه غير متهم في إيجاب القطع، وفى المال قولان، واختلف
أصحابنا في موضع القولين على ثلاثة طرق.
(أحدها) وهو قول أبي إسحاق أنه إن كان المال في يده ففيه قولان،
أحدهما أنه يسلمه إليه لأنه انتفت التهمة عنه في إيجاب القطع على نفسه، والثاني
أنه لا يسلم لان يده كيد المولى فلم يقبل إقراره فيه، كما لو كان المال في يد المولى
وإن كان المال تالفا لم يقبل إقراره ولا يتعلق برقبته قولا واحدا، لان للغرم
محلا يثبت فيه وهو ذمته.
والطريق الثاني وهو قول القاضي أبى حامد المروروذي رحمه الله انه إن كان
المال تالفا ففيه قولان، أحدهما يتعلق برقبته يباع فيه، والثاني أنه لا يتعلق برقبته
وإن كان باقيا لم يقبل إقراره قولا واحدا لان يده كيد المولى فلم يقبل إقراره
فيه، كما لو أقر بسرقة مال في يد المولى.
والطريق الثالث وهو قول أبى علي بن أبي هريرة أن القولين في الحالين
سواء كان المال باقيا أو تالفا، لان العبد وما في يده في حكم ما في يد المولى،
فإن قبل في أحدهما قبل في الآخر، وإن رد في أحدهما رد في الآخر، فلا
معنى للفرق بينهما.
(فصل) وان باع السيد عبده من نفسه فقد نص في الام أنه يجوز. وقال
الربيع رحمه الله فيه قول آخر أنه لا يجوز واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق
وأبو علي بن أبي هريرة يجوز قولا واحدا، وذهب القاضي أبو حامد المروروذي
والشيخ أبو حامد الأسفرايني رحمهما الله إلى أنها على قولين
(أحدهما) أنه يجوز لأنه إذا جازت كتابته فلان يجوز بيعه وهو أثبت
والعتق فيه أسرع أولى.
(والثاني) أنه لا يجوز لأنه لا يجوز بيعه بما في يده لأنه للمولى ولا يجوز
بمال في ذمته لان المولى لا يثبت له مال في ذمة عبده، فإذا قلنا إنه يجوز وهو
الصحيح فأقر المولى أنه باعه من نفسه وأنكر العبد عتق بإقراره وحلف العبد
أنه لم يشتر نفسه ولا يجب عليه الثمن.
291

(الشرح) حديث رفع القلم.. سبق تخريجه
حديث: رفع عن أمتي الخطأ والنسيان... أخرجه الطبراني عن ثوبان،
ورمز السيوطي لصحته وهو غير صحيح، فقد تعقبه الهيثمي بأن فيه يزيد بن ربيعة
الرجى وهو ضعيف، وقصارى أمر الحديث أن النووي ذكر في الطلاق من الروضة
أنه حسن، ولم يسلم له ذلك بل اعترض باختلاف فيه وتباين الروايات وبقول
أبى حاتم في العلل عن أبيه: هذه أحاديث منكرة كأنها موضوعة.
وذكر عبد الله بن أحمد في العلل أن أباه أنكره، ونقل الخلال عن أحمد:
من زعم أن الخطأ والنسيان مرفوع فقد خالف الكتاب والسنة، وقال ابن نصر:
هذا الحديث ليس له سند يحتج بمثله.
اللغة: قوله (فإن أقر مراهق) يقال راهق العلام فهو مراهق إذا
قارب الاحتلام.
قال الشافعي في الام: وان رهن الرجل الرجل عبدا وأقبضه المرتهن فادعى
عليه المرتهن أنه جنى عليه أو على رجل هو وليه جناية عمدا في مثلها قود فأقر
بذلك العبد المرهون وأنكر الراهن ذلك أو لم يقر به ولم ينكره فإقرار العبد
لازم له وهو كقيام البينة عليه.
قالت الحنفية في بدائع الصنائع: لا يصح اقرار المجنون والصبي الذي لا يعقل
فأما البلوغ فليس بشرط، فيصح اقرار الصبي العاقل بالدين والعين، لان ذلك
من ضرورات التجارة، الا أنه لا يصح اقرار المحجور عليه لأنه من التصرفات
الضارة المحضة من حيث الظاهر والقبول من المأذون للضرورة ولم يوجد. وأما
الحرية فليست بشرط لصحة الاقرار، فيصح اقرار العبد المأذون بالدين والعين
وكذا بالحدود والقصاص، وكذا العبد المحجور يصح اقراره بالمال لكن لا ينفذ
على المولى للحال حتى لا تباع رقبته بالدين بخلاف المأذون، لان اقرار المأذون
إنما صح لكونه من ضرورات التجارة والمحجور عليه لا يملك التجارة فلا يملك ما هو
من ضروراتها، الا أنه يصح إقراره في حق نفسه حتى يؤاخذ به بعد الحرية
لأنه من أهل الاقرار لوجود العقل والبلوغ، الا أنه امتنع النفاذ على المولى للحال
292

لحقه، فإذا عتق فقد زال المانع فيؤاخذ به وكذا يصح إقراره الحدود والقصاص
فيؤاخذ به الحال لأنه نفسه في حق الحدود والقصاص كالخارج على ملك المولى،
ولهذا لو أقر المولى عليه بالحدود والقصاص لا يصح، وكذا الصحة ليست
بشرط لصحة الاقرار.
قالت الحنابلة في الروض المربع ويصح الاقرار من مكلف لا من صغير
غير مأذون في تجارة فيصح في قدر ما أذن له فيه ومختار غير محجور عليه فلا يصح
من سفيه إقرار بمال، ولا يصح الاقرار من مكره. هذا محترز قوله مختار إلا
أن يقر بغير ما أكره عليه، كان يكره على الاقرار بدرهم فيقر بدينار، ويصح
من سكران ومن أخرس بإشارة معلومة، ولا يصح بشئ في يد غيره أو تحت
ولاية غيره، كما لو أقر أجنبي على صغير أو وقف في ولاية غيره أو اختصاصه،
وتقبل من مقر دعوى إكراه بقرينة كترسيم عليه، وتقدم بينة إكراه على
طواعية، وان أكره على وزن مال فباع ملكه لذلك، أي لوزن ما أكره عليه
صح البيع لأنه لم يكره على البيع، ويصح اقرار صبي أنه بلغ باحتلام إذا بلغ
عشرا ولا يقبل بسن الا ببينة كدعوى جنون
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويقبل اقرار المريض بالحد والقصاص لأنه غير متهم، ويقبل
اقراره بالمال لغير وارث لأنه غير متهم في حقه، وان أقر لرجل بدين في الصحة
وأقر لآخر بدين في المرض وضاق المال عنهما قسم بينهما على قدر الدينين لأنهما
حقان يجب قضاؤهما من رأس المال ولم يقدم أحدهما على الآخر، كما لو أقر لهما
في حال الصحة.
واختلف أصحابنا في اقراره للوارث، فمنهم من قال فيه قولان، أحدهما أنه
لا يقبل لأنه اثبات مال للوارث بقوله من غير رضى الورثة فلم يصح من غير
رضى سائر الورثة كالوصية. والثاني أنه يقبل وهو الصحيح، لان من صح
اقراره له في الصحة صح اقراره في المرض كالأجنبي
293

ومن أصحابنا من قال يقبل اقراره قولا واحدا، والقول الآخر حكاه عن
غيره، وإن كان وارثه أخا فأقر له بمال فلم يمت المقر حتى حدث له ان صح
اقراره للأخ قولا واحدا لأنه خرج عن أن يكون وارثا، وان أقر لأخيه وله
ابن فلم يمت حتى مات الابن صار الاقرار للوارث، فيكون على ما ذكرناه من
الطريقين في الاقرار للوارث.
وان ملك رجل أخاه ثم أقر في مرضه أنه كان أعتقه في صحته وهو أقرب
عصبته بعد عتقه هل يرث أم لا؟ ان قلنا إن الاقرار الوارث لا يصح لم يرث
لان توريثه يوجب ابطال الاقرار بحريته، وإذا بطلت الحرية سقط الإرث
فثبتت الحرية وسقط الإرث، وان قلنا إن الاقرار للوارث يصح نفذ العتق
بإقراره وثبت الإرث بنسبه.
(الشرح) قوله (ويقبل اقرار المريض بالحد والقصاص..)
قال الحنفيون في بدائع الصنائع ص 224 ج 7:
(ولنا ما روى عن سيدنا عمر وابنه سيدنا عبد الله رضي الله عنهما أنهما قالا
إذا أقر المريض لوارثه لم يجز، وإذا أقر لأجنبي جاز، ولم يرو عن غيرهما
خلاف ذلك فيكون اجماعا، ولأنه متهم في هذا الاقرار لجواز أنه آثر بعض
الورثة على بعض بميل الطبع أو بقضاء حق موجب البعث على الاحسان وهو
لا يملك ذلك بطريق التبرع والوصية به فأراد تنفيذ غرضه بصورة الاقرار من
غير أن يكون للوارث عليه دين فكان متهما في اقراره فيرد، ولأنه لما مرض
مرض الموت فقد تعلق حق الورثة بماله، ولهذا لا يملك أن يتبرع عليه بشئ
من الثلث مع أنه خالص ملكه لا حق لأجنبي فيه فكان اقراره البعض ابطالا
لحق الباقين فلا يصح في حقهم، ولان الوصية لم تجز لوارث فالاقرار أولى
لأنه لو جاز الاقرار لارتفع بطلان الوصية، لأنه يميل إلى الاقرار اختيارا
للايثار بل هو أولى من الوصية بالطريق الأولى)
ثم قالوا (ولو أقر المريض بديون لأناس كثيرة متفرقة بأن أقر بدين ثم
بدين جاز ذلك كله، واستوى فيه المتقدم والمتأخر استواء الكل في التعلق
294

لاستوأهما في زمان التعلق وهو زمان المرض، إذ زمن المرض مع امتداده
بتجدد أمثاله حقيقة بمنزلة زمان واحد في الحكم فلا يتصور فيه التقدم والتأخر.
ولو أقر وهو مريض بدين ثم بعين بأن أقر أن هذا الشئ الذي في يده وديعة
لفلان فهما دينان، ولا تقدم الوديعة لان إقراره بالدين قد صح فأوجب تعلق
حق الغرماء بالعين لكونها مملوكة من حيث الظاهر والاقرار بالوديعة لا يبطل
التعلق لان حق الغير يصان عن الابطال ما أمكن، وأمكن أن يجعل ذلك إقرارا
بالدين لاقراره باستهلاك الوديعة بتقديم الاقرار بالدين عليه، وإذا صار مقرا
باستهلاك الوديعة فالاقرار باستهلاك الوديعة يكون إقرارا بالدين لذلك فانا
دينين، ولو أقر بالوديعة أولا ثم أقر بادين فالاقرار بالوديعة أولى، لان
الاقرار بالوديعة لما صح خرجت الوديعة من أن تكون محلا للتعلق لخروجها
عن ملك فلا يثبت الاقرار. لان حق غريم المرض يتعلق بالتركة لا بغيرها ولم
يوجد: وكذلك لو أقر المريض بمال في يده أنه بضاعة أو مضاربة فحكمه وحكم
الوديعة سواء، والله سبحانه وتعالى أعلم
هذا إذا أقر المريض بالدين وليس عليه دين ظاهر معلوم في حال الصحة
يعتبر إقراره، فأما إذا كان عليه دين ظاهر معلوم بغير اقراره ثم أقر بدين آخر
نظر في ذلك فإن لم يكن المقر به ظاهرا معلوما بغير اقراره تقدم الديون الظاهرة
لغرماء الصحة في القضاء فتقضى ديونهم أولا من التركة فما فضل يصرف إلى غير
غرماء الصحة، وهذا عندنا وعند الشافعي رحمه الله يستويان.
وقالوا (وكذلك إذا تزوج امرأة في مرضه بألف درهم. ومهر مثلها ألف درهم
جاز ذلك على غرماء الصحة والمرأة فحاصصهم بمهرها لأنه لما جاز النكاح ولا
يجوز الا بوجوب المهر كان وجوب ظاهر معلوما لظهور سبب وجوبه وهو
النكاح فلم يكن وجوبه محتملا الرد فيتعلق بماله ضرورة.
يحققه أن النكاح إذا لم يجز بدون مهر والنكاح من الحوائج الأصلية للانسان
كذلك وجوب المهر الذي هو من لوازمه شرعا، والمريض غير محجور عن
صرف ماله إلى حوائجه الأصلية كثمن الأغذية والأدوية، وإن كان عليه
دين للصحة،
295

وقالوا (وليس للمريض أن يؤثر بعض غرمائه على بعض، سواء كانوا
غرماء المرض أو غرماء الصحة، حتى أنه لو قضى دين أحدهم شاركه الباقون في
المقبوض، لان المرض أوجب تعلق الحق بالتركة، وحقوقهم في التعلق على
السواء فكان في ايثار البعض ابطال حق الباقين الا أن يكون ذلك بدل قرض
أو ثمن مبيع بأن استقرض في مرضه أو اشترى شيئا بمثل قيمته وكان ذلك ظاهرا
معلوما فله أن يقضى القرض وينقد الثمن ولا يشاركه الغرماء في المقبوض
والمنقود لان الايثار في هذه الصورة ليس ابطالا لحق الباقين)
وقالوا (وأما اقرار المريض بالابراء بأن أقر المريض أنه كان أبرأ فلانا من
الدين الذي عليه في صحته لا يجوز لأنه لا يملك انشاء الابراء للحال فلا يملك
الاقرار به، بخلاف الاقرار باستيفاء الدين، لأنه اقرار بقبض الدين وأنه
يملك انشاء القبض فيملك الاخبار عنه بالاقرار)
وقالوا في النسب (ولا يشترط صحة المقر لصحة اقراره بالنسب حتى يصح
من الصحيح والمريض جميعا، لان المرض ليس بمانع لعينه بل لتعلق حق الغير
أو التهمة فكل ذلك منعدم)
وقالوا (ولو أقر بأخ في مرض الموت وصدقه المقر له ثم أنكر المريض
بعد ذلك وقال ليس بيني وبينك قرابة بطل اقراره في حق الميراث أيضا)
قالت الحنابلة في كتاب الفروع ص 608 ج 6
والمريض كالصحيح فيصح اقراره بوارث على الأصح، وان أقر بمال لوارث
قبل ببينة نص عليه، قال جماعة أو إجازة وظاهر نصه لا، وهو ظاهر الانتصار
وغيره، واختار فيه يصح ما لم يتهم وفاقا لمالك، وأن أصله من المذهب وصيته
لغير وارث يصير وارثا يصح لانتفاء التهمة
وقال الأزجي: قال أبو بكر: في صحة اقراره لوارثه روايتان.
(أحدهما) لا يصح (والثانية) يصح لأنه يصح لوارث، وفى الصحة أشبه
الأجنبي، والأولى أصح، كذا قال
وقال في الفنون يلزمه أن يقر وان لم يقبل، وقال أيضا ان حنبليا استدل
296

بأنه لا يصح إقراره لوارثه في مرضه بالوصية له. فقال له حنبلي: لو أقر له في
الصحة صح ولو نحله لم يصح، والنحلة تبرع كالوصية فقد افترق الحال للتهمة في
أحدهما دون الآخر، كذا في المرض، ولأنه لولا يلزم التبرع فيما زاد على الثلث
لأجنبي ويلزم الاقرار، وقد افترق التبرع والاقرار فيما زاد على الثلث، كذا
يفترقان في الثلث للوارث) وقال (ويصح الاقرار بأخذ دين في صحة ومرض
من أجنبي)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويصح الاقرار لكل من يثبت له الحق المقر به، فإن أقر لعبد
بالنكاح أو القصاص أو تعزير القذف صح الاقرار له، صدقه السيد أو كذبه،
لان الحق له دون المولى، فإن أقر له بمال فإن قلنا إنه يملك المال صح الاقرار،
وإن قلنا إنه لا يملك كان الاقرار لمولاه يلزم بتصديقه ويبطل برده.
(فصل) وإن أقر لحمل بمال فإن عزاه إلى ارث أو وصية صح الاقرار فإن أطلق ففيه قولان: (أحدهما) انه لا يصح لأنه لا يثبت له الحق من جهة المعاملة ولا من
جهة الجناية.
(والثاني) انه يصح، وهو الصحيح لأنه يجوز أن يملكه بوجه صحح وهو
الإرث أو الوصية فصح الاقرار له مطلقا كالطفل، ولا يصح الاقرار إلا لحمل
يتيقن وجوده عند الاقرار كما بيناه في كتاب الوصية، وإن أقر لمسجد أو مصنع
وعزاه إلى سبب صحيح من غلة وقف عليه صح الاقرار، فإن أطلق ففيه وجهان
بناء على القولين في الاقرار للحمل.
اللغة: قوله (فإن عزاه إلى ارث) أي لسبه وأضافه،. قد ذكر
وقوله (مصنع) المصنع كالحوض يجمع فيه ماء المطر، وكذلك المصنعة
بضم النون، هكذا ذكره الجوهري وحقيقته البركة وحدث أبو الحسن اللؤلؤي
وكان خيرا فاضلا قال: كنت مولعا بالحج فحججت في بعض السنين وعطشت
297

عطشا شديدا فأجلست عديلي في وسط المحمل ونزلت أطلب الماء والناس قد
عطشوا، فلم أزل أسال رجلا رجلا ومحملا محملا: معكم ماء؟ وإذا الناس شرع
واحد حتى صرت في ساقة القافلة بميل أو ميلين، فمررت بمصنع مصهرج فإذا
رجل فقير جالس في ارض المصنع وقد غرز عصاه في أرض المصنع والماء ينبع
من موضع العصا وهو يشرب، فنزلت إليه فشربت حتى رويت وجئت إلى القافلة
والناس قد نزلوا فأخرجت قربة ومضيت فملأتها، ورأني الناس فتبادروا بالقرب
فرووا عن آخرهم، فلما روى الناس وسارت القافلة جئت لأنظر فإذا البركة ملاى
تلتطم أمواجها، والمصانع أيضا الحصون، وقد فسر قوله تعالى (وتتخذون
مصانع) قال مجاهد قصور مشيدة. قال:
تركن ديارهم منهم قفارا * وتبقى وهد من المصانع والبروجا
وقال قتادة هي برك الماء، وقال:
لبيد بلينا وما تبلى النجوم الطوالع * وتبقى جبال بعدنا ومصانع
قوله (ويصح الاقرار لكل من ثبت له الحق المقر به) قلنا وهذا ما لا
خلاف فيه بينهم.
وقوله (فإن أقر لعبد بالنكاح أو القصاص..) قال الحنفيون (فيصح
إقرار العبد المأذون بالدين والعين، وكذا بالحدود والقصاص، وكذا العبد
المحجور يصح إقراره بالمال لكن لا ينفذ على المولى للحال حتى لا تباع رقبته
بالدين بخلاف المأذون لان اقرار المأذون إنما صح لكونه من ضرورات التجارة
والمحجور لا يملك التجارة فلا يملك ما هو من ضروراتها، الا أنه يصح اقراره
في حق نفسه حتى يؤاخذ بعد الحرية لأنه من أهل الاقرار لوجود العقل والبلوغ
إلا أنه امتنع النفاذ على المولى للحال لحقه فإذا أعتق فقد زال المانع فيؤاخذ به
وكذا يصح اقراره بالحدود والقصاص فيؤاخذ به الحال، لان نفسه في حق
الحدود والقصاص كالخارج عن ملك المولى، ولهذا لو أقر المولى عليه الحدود
والقصاص لا يصح
قالت الحنابلة (ويقبل اقرار سيد على عبده بما يوجب مالا فقط لأنه
ايجاب حق في ماله، وفى الكافي: ان أقر بقود وجب المال ويفدى السيد منه
298

ما لا يتعلق، وفى لفظ (ما يتعلق) بالرقبة لو ثبت ببينة وان أقر مكاتب
بالجناية تعلقت بذمته في الأصح وبرقبته، ولا يقبل اقرار سيده عليه بذلك،
وان أقر غير مكاتب لسيده أو سيده له بمال لم يصح، وقيل بلى ان ملك، وان
أقر أنه باعه نفسه بألف عتق فإن صدقه لزمه والا حلف وقيل لا.
قوله (وان أقر لحمل بمال فإن عزاه.)
قالت الحنابلة (وان أقر لحمل امرأة بمال صح في لأصح فإن ولدت حيا وميتا
فهو للحي، وحيين ذكرا وأنثى لهما بالسوية، وقيل أثلاثا، وان عزاه إلى
ما يقتضى التفاضل كإرث ووصية عمل به وقال القاضي ان أطلق كلف ذكر
السبب فيصح منه ما يصح، ويبطل ما يبطل، فلو مات قبل أن يفسر بطل.
وقالوا: وصحح التميمي الاقرار لحمل ان ذكر إرثا أو وصية فقط، لأنه لا يملك
بغيرهما ويعمل بحسبه.
قوله (وان أقر لمسجد أو مصنع وعزاه...)
قالت الحنابلة (وان أقر لمسجد أو مقبرة أو طريق ونحوه وذكر سببا صحيحا
لعلة وقفه صح، وان أطلق فوجهان، وأطلقهما في لمعنى والشرح والرعايتين
والحاوي وغيرهم (أحدهما) يصح، اختاره ابن حامد وهو الصواب ويكون
لمصالحها. والوجه الثاني لا يصح، اختاره التميمي وقدمه ابن رزين في شرحه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان أقر بحق لآدمي أو بحق لله تعالى لا يسقط بالشبهة ثم رجع
في قراره لم يقبل رجوعه، لأنه حق ثبت لغيره فلم يملك اسقاط بغير رضاه.
وان أقر بحق لله عز وجل يسقط بالشبهة نظرت فإن كان حد الزنا أو حد الشرب
قبل رجوعه وقال أبو ثور رحمه الله: لا يقبل لأنه حق ثبت بالاقرار فلم
يسقط بالرجوع كالقصاص وحد القذف، وهذا خطأ لما روى أبو هرير ة رضي الله عنه
قال: أتى رجل من أسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول
الله ان الاخر زنى، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق
وجهه الذي أعرض عنه، فقال يا رسول ان الاخر زنى، فأعرض عنه
299

رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنحى لشق وجهه الذي أعرض عنه،، فقال
يا رسول الله إن الاخر زنى فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه سلم فتنحى
له الرابعة، فلما شهد على نفسه أربع مرات دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: هل بك جنون؟ فقال لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اذهبوا
به فارجموه، وكان قد أحصن، فلو لم يسقط بالرجوع لما عرض له، ويخالف
القصاص وحد القذف، فإن ذلك يجب لحق الآدمي وهذا يجب لحق الله تعالى،
وقد ندب فيه إلى الستر، وإن كان حد السرقة أو قطع الطريق ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه لا يقبل فيه الرجوع لأنه حق يجب لصيانة حق الآدمي فلم
يقبل فيه الرجوع عن الاقرار كحد القذف.
(والثاني) وهو الصحيح أنه يقبل لما روى أبو أمية المخزومي أن النبي
صلى الله عليه وسلم أتى بلص قد اعترف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما إخالك سرقت، فقال له، مرتين أو ثلاثة ثم أمر بقطعه فلو لم يقبل
فيه رجوعه لما عرض له، ولأنه حق لله تعالى يقبل فيه الرجوع عن الاقرار
كحد الزنا والشرب
(الشرح) حديث أبي هريرة (أتى رجل من أسلم إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال يا رسول الله ان الاخر زنى.. أخرجه البخاري من حديث
ابن عباس بلفظ (لعلك قبلت أو غمزت أو نظرت؟ قال لا، قال أنكتها؟
لا يكنى، قال نعم وأخرجه أبو داود والنسائي والدارقطني من حديث
أبي هريرة قال جاء الأسلمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشهد على نفسه
أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات، كل ذلك يعرض عنه، فأقبل عليه في الخامسة فقال أنكتها؟ قال نعم، قال كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر
قال نعم، فيه ابن المضاض واسمه عبد الرحمن بن الصامت، قال البخاري حديثه
في أهل الحجاز ليس يعرف إلا بهذا الواحد.
حديث أبي أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بلص قد اعترف.
أخرجه أبو داود في لمراسيل من حديث محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان ووصله
300

الدارقطني والحاكم والبيهقي بذكر أبي هريرة فيه: ورجح ابن خزيمة وابن المديني
وغير واحد ارساله، وصحح ابن القطان للوصول، ورواه أبو داود في السنن
والنسائي وابن ماجة من طريق أبى أمية، قال الخطابي في إسناده مقال، قال
والحديث إذا رواه مجهول لم يكن حجة ولم يجب الحكم.
اللغة: قوله (ان الاخر زنى) ذكر
قوله (فتنحى لشق وجهه) أي أتاه من ناحيته الأخرى، وقيل مال واعتمد
وكذا الانتحاء الاعتماد والميل.
قوله (ما إخالك سرقت) أي ما أظنك، يقال أخال بفتح الهمزة وإخال
بكسرها والكسر أفصح والقياس الفتح
قوله (وان أقر بحق لآدمي.) قال الحنفيون ان المقر به في الأصل نوعان
(أحدهما) حق الله تعالى عز شأنه (والثاني) حق العبد. أما حق الله سبحانه
وتعالى فنوعان أيضا (أحدهما) أن يكون خالصا لله تعالى وهو حد الزنا والسرقة
والشرب (والثاني) أن يكون للعبد فيه حق، وهو حد القذف، ولصحة
الاقرار بها شرائط.
وأما حق العبد فهو المال من العين والدين والنسب والقصاص والطلاق
والعتاق ونحوها، ولا يشترط لصحة الاقرار بها ما يشترط لصحة الاقرار بحقوق
الله تعالى من العدد ومجلس القضاء والعبارة، حتى أن الأخرس إذا كتب الاقرار
بيده أو أومأ بما يعرف أنه اقرار بهذه الأشياء يجوز، بخلاف الذي اعتقل لسانه
لان للأخرس إشارة معهودة، فإذا أتى بها يحصل العلم بالمشار إليه، وليس ذلك
لمن اعتقل لسانه، ولان إقامة الإشارة مقام العبارة أمر ضروري، والخرس
ضرورة لأنه أصلى، فأما اعتقال اللسان فليس من باب الضرورة لكونه على
شرف الزوال بخلاف الحدود، لأنه لا يجعل ذلك اقرارا بالحدود لما بينا أن
الحدود على صريح البيان بخلاف القصاص فإنه غير مبنى على صريح البيان، فإنه
إذا أقر مطلقا عن صفة التعمد بذكر آلة دالة عليه وهي السيف ونحوه يستوفى
بمثله القصاص، وحقوق العباد تثبت مع الشبهات بخلاف حقوق الله تعالى
301

وأما بيان ما يبطل به الاقرار بعد وجوده فيبطل بشيئين (أحدهما) تكذيب
المقر له في أحد نوعي الاقرار بحقوق العباد، لان إقرار المقر دليل لزوم المقر
به، وتكذيب المقر له دليل عدم اللزوم، واللزوم لم يعرف ثبوته فلا يثبت مع
الشك (والثاني) رجوع المقر عن إقراره فيما يحتمل الرجوع في أحد نوعي
الاقرار بحقوق الله تبارك وتعالى خالصا، كحد الزنا يحتمل أن يكون صادقا في
الانكار فيكون كاذبا في الاقرار ضرورة فيورث شبهة في وجوب الحد، وسواء
رجع قبل القضاء أو بعده، قبل تمام الجلد أو الرجم قبل الموت لما قلنا
وروى أن ماعزا لما رجم بعض الحجارة هرب من أرض قليلة الحجارة إلى أرض
كثيرة الحجارة، فلما بلغ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة
والسلام (سبحان الله هلا خليتم سبيله)
وكذلك الرجوع عن الاقرار بالسرقة والشرب لان الحد الواجب بهما حق
الله سبحانه وتعالى خالصا فيصح الرجوع عن الاقرار بهما، إلا أن في السرقة
يصح الرجوع في حق القطع لا في حق المال، لان القطع حق الله تعالى على
الخلوص فيصح الرجوع عنه، فأما المال فحق العبد فلا يصح الرجوع فيه. وأما
حد القذف فلا يصح الرجوع عن الاقرار فيه، لان للعبد فيه حقا فيكون متهما في
الرجوع فلا يصح الرجوع عن سائر الحقوق المتمحضة للعباد، وكذلك الرجوع عن
الاقرار بالقصاص، لان القصاص خالص حق العباد فلا يحتمل الرجوع
قال ابن حزم في مراتب الاجماع بعد أن ذكر وجوب الرجم على من أقر
بالزنا (واختلفوا أيقبل رجوعه أم لا؟ واختلفوا إذا أقر بعد البينة أتبطل البينة
ويرجع الحكم إلى حكم الاقرار ويسقط عنه الحد برجوعه أم لا)
قال الشوكاني في الدرر البهية (ويسقط الحد بالشبهات وبالرجوع عن الاقرار)
وقال في السرقة (ويكفى الاقرار مرة واحدة).
وقال صديق حسن خان في الروضة الندية شرح الدرر البهية، وبالرجوع
عن الاقرار، لحديث أبي هريرة عند أحمد والترمذي (أن ماعزا لما وجد مس
الحجارة فر يشتد حتى مر برجل معه لحي جمل (أي عظم الحنك) فضربه به
302

وضربه الناس حتى مات، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
هلا تركتموه، قال الترمذي انه حديث حسن، وقد روى من غير وجه عن
أبي هريرة ورجال إسناده ثقات.
وأخرج أبو داود والنسائي من حديث جابر نحوه وزاد (أنه لما وجد مس
الحجارة صرخ يا قوم ردوني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قومي قتلوني
وغروني من نفسي وأخبروني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير قاتلي فلم ننزع
عنه حتى قتلناه، فلما رجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرناه قال
فهلا تركتموه وجئتموني به)
وقد أخرج البخاري ومسلم طرفا منه، وفى الباب روايات. وقد ذهب إلى
ذلك أحمد والشافعية والحنفية، وهو مروى عن مالك في قول له، وقد ذهب
ابن أبي ليلى والبتي وأبو ثور ورواية عن مالك وقول الشافعية أنه لا يقبل فيه
الرجوع عن الاقرار.
قوله (ومن أقر لرجل بمال في يده..) واتفقوا ان كذب المقر له المقر بطل
الاقرار وكان للمقر أن يتصرف فيما أقر به بما شاء)
وقوله (فإن أقر الزوج..) واتفقوا ان أقر رجل أو امرأة تزوجية الآخر
فسكت صح وورث كل منهما الآخر في حال الوفاة بالزوجية لقيامها بينهما
بالاقرار أو جحده ثم صدقه صح وورثته لحصول الاقرار، إلا إذا بقي على
تكذيبه حتى مات.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وما قبل فيه الرجوع عن الاقرار إذا أقر به فالمستحب للامام
أن يعرضه للرجوع لما رويناه من حديث أبي هريرة وحديث أبي أمية المخزومي
فإن أقر فأقيم عليه بعض الحد ثم رجع عن الاقرار قبل لأنه إذا سقط بالرجوع
جميع الحد سقط بعضه، وان وجد ألم الحد فهرب فالأولى أن يخلى لأنه ربما رجع
عن الاقرار فيسقط عنه الحد، وان أتبع وأقيم عليه تمام الحد جاز لما روى
الزهري قال: أخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجم ماعزا
303

فرجمناه في المصلى بالمدينة، فلما أذلقنه الحجارة تجمز حتى أدركناه بالحرة فرجمناه
حتى مات، فلو لم يجز ذلك لأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وضمنهم،
ولان الهرب ليس بصريح في الرجوع فلم يسقط به الحد.
(فصل) ومن أقر لرجل بمال في يده فكذبه المقر له بطل الاقرار لأنه
رده، وفى المال وجهان:
(أحدهما) أنه يؤخذ منه ويحفظ لأنه لا يدعيه والمقر له لا يدعيه فوجب
على الامام حفظه كالمال الضائع.
(والثاني) أنه لا يؤخذ منه، لأنه محكوم له بملكه، فإذا رده المقر له
بقي على ملكه.
(فصل) فإن أقر الزوج أن امرأته أخته من الرضاع وكذبته المرأة قبل
قوله في فسخ النكاح لأنه إقرار في حق نفسه ولا يقبل إقراره في إسقاط مهرها
لان قوله لا يقبل في حق غيره، وإن أقرت المرأة أن الزوج أخوها من الرضاع
وأنكر الزوج لم يقبل قولها في فسخ النكاح، لأنه إقرار في حق غيرها، وقبل
قولها في إسقاط المهر لأنه إقرار في حق نفسها.
(الشرح) حديث (أخبرني من سمع جابر بن عبد الله قال: كنت فيمن رجم
ماعزا) أخرجه الترمذي وأحمد والصحيحين من غير تسمية وأبو داود.
اللغة: قوله (فلما أذلقته الحجارة) أي أصابته بحدها، والحجارة المذلقة
المحدودة، وذلق كل شئ حده وفلان ذلق اللسان حديده.
قوله (تجمز) أي عدا وأسرع، المجز ضرب من السير أشد من العتق
والناقة تعدو المجزى.
قال ابن حزم في مراتب الاجماع (واتفقوا أن من أقر على نفسه بالزنا في
مجلس حاكم يجوز حكمه أربع مرات مختلفات يغيب بين كل مرتين عن المجلس
حتى لا يرى، وهو حر مسلم، غير مكره ولا سكران، ولا مجنون ولا مريض،
ووصف الزنا وعرفه ولم يثبت ولا طال الامر أنه يقام عليه الحد ما لم يرجع
عن اقراره، واختلفوا أيقبل رجوعه أم لا،
304

قلت (لم يثبت الاجماع على أربع مرات كما قال ابن حزم، قال الشوكاني في
الدرر البهية: ويكفى إقراره مرة، وما ورد من التكرار في وقائع الأعيان
فلقصد الاستثبات.
قال صديق حسن خان في الروضة الندية في الشرح (لان أخذ المقر بإقراره
هو الثابت في الشريعة، فمن أوجب تكرار الاقرار في فرد من أفراد الشريعة
كان الدليل عليه، ولا دليل هنا بيد من أوجب تربيع الاقرار إلا مجرد ما وقع
من ماعز من تكرار الاقرار، ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمره
أو أمر غيره بأن يكرر الاقرار، ولا ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن إقرار
الزنا لا يصح إلا إذا كان أربع مرات، وإنما لم يقم على ماعز الحد بعد الاقرار
الأول لقصد التثبت في أمره، ولهذا قال له صلى الله عليه وسلم (أبك جنون؟)
ووقع منه السؤال لقوم ماعز عن عقله، وقد اكتفى بالاقرار مرة واحدة، كما
ثبت في الصحيحين وغيرهما من قوله صلى الله عليه وسلم (واغد يا أنيس إلى
امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها)
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم رجم الغامدية ولم تقر إلا مرة واحدة،
كما في صحيح مسلم وغيره، وكما أخرجه أبو داود والنسائي من حديث خالد بن
اللجلاج عن أبيه (أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم رجلا أقر مرة واحدة)
ومن ذلك حديث الرجل الذي ادعت المرأة أنه وقع عليها فأمر برجمه، ثم قام
آخر فاعترف أنه الفاعل فرجمه، وفى رواية أنه عفا عنه، والحديث في سنن
النسائي والترمذي، ومن ذلك رجم اليهودي واليهودية، فإنه لم ينقل أنهما كررا
الاقرار، فلو كان الاقرار أربع مرات شرطا في حد الزاني لما وقع منه صلى الله
عليه وسلم المخالفة في عدة قضايا.
وقد ذهب إلى ما ذكرنا جماعة من أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم، وحكاه
صاحب البحر عن أبي بكر وعمر والحسن البصري ومالك وحماد وأبو ثور والبتي
والشافعي. وذهب الجمهور إلى التربيع في الاقرار.
أقول: هذه المسألة من المعارك، والحق أن الاقرار الذي يستباح به الجلد
والرجم لا يشترط فيه أن يكون زيادة على مرة
305

قال الحنفيون: يستحب للامام تلقين المقر بالرجوع بقوله لعلك لمستها أو
قبلتها، كما لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا، وكما لقن صلى الله عليه وسلم
السارق والسارقة بقوله صلى الله عليه وسلم: ما أخاله سرق، أو أسرقت؟ قولي
لا. لو لم يكن محتملا الرجوع لم يكن للتلقين معنى وفائدة، فكان التلقين منه
صلى الله عليه وسلم احتيالا للدرء، لأنه أمرنا به بقوله صلى الله عليه وسلم:
ادرءوا الحدود بالشبهات وقوله صلى الله عليه وسلم (ادرءوا الحدود ما استطعتم)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال لرجل لي عندك ألف، فقال لا أنكر لم يكن إقرارا،
لأنه يحتمل أن يريد أنى لا أنكر أنه مبطل في دعواه، وان قال أقر لم يكن
إقرارا لأنه وعد بالاقرار.
وإن قال لا أنكر أن تكون محقا لم يكن إقرارا، لأنه يحتمل أنه يريد أنى
لا أنكر أن تكون محقا في اعتقاده. وان قال لا أنكر أن تكون محقا في دعواك
كان إقرارا لأنه لا يحتمل غير الاقرار. وان قال أنا مقر ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول الشيخ أبى حامد الأسفرايني رحمه الله أنه لا يكون
إقرارا، لأنه يحتمل أنه يريد أنى مقر ببطلان دعواك.
والوجه الثاني أن يكون إقرارا لأنه جواب عن الدعوى فانصرف الاقرار
إلى ما ادعى عليه.
وإن قال لي عليك ألف فقال نعم أو أجل أو صدق أو لعمري كان مقرا،
لأن هذه الألفاظ وضعت للتصديق وإن قال لعل أو عسى لم يكن اقرارا
لأنها ألفاظ وضعت للشك والترجي وان قال أظن أو أحسب أو أقدر لم يكن
إقرارا لأن هذه الألفاظ تستعمل في الشك، وان قال له على في علمي كان إقرارا
لان ما عليه في علمه لا يحتمل الا الوجوب، وان قال اقض الألف التي لي
عليك فقال نعم كان اقرارا لأنه تصديق لما ادعاه.
وإن قال اشتر عبدي هذا فقال نعم أو أعطى عبدي هذا فقال نعم كان اقرارا
بالعبد لما ذكرناه وان ادعى عليه ألفا فقال خذ أو انزن لم يكن اقرارا لأنه
306

يحتمل أنه أراد خذ الجواب منى أو الزن إن كان ذلك على غيري، وإن قال
خذها أو أتزنها ففيه وجهان:
(أحدهما) وهو قول أبى عبد الله الزبيري رحمه الله أنه يكون إقرارا، لأنه
هاء الكناية ترجع إلى ما تقدم من الدعوى.
(والثاني) وهو قول عامة أصحابنا أنه لا يكون إقرارا لان هاء الصفات
ترجع إلى المدعى له ولم يقر أنه واجب. وان قال وهي صحاح فقد قال أبو عبد الله
الزبيري أنه اقرار لأنها صفة للمدعى والاقرار بالصفة إقرار بالموصوف وقال
عامة أصحابنا لا يكون اقرارا لان الصفة ترجع إلى المدعى ولا تقتضي الوجوب
عليه. وإن قال له على ألف أن شاء الله لم يلزمه شئ لان ما علق على مشيئة الله
تعالى لا سبيل إلى معرفته.
وان قال له على ألف ان شاء زيد أو له على ألف ان قدم فلان لم يلزمه شئ
لان ما لا يلزمه لا يصير واجبا عليه بوجود الشرط. وان قال إن شهد لك فلان
وفلان بدينار فهما صادقان ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه ليس بإقرار لأنه اقرار معلق على شرط فلم يصح، كما لو قال إن
شهد فلان على صدقته أو وزنت لك، ولان الشافعي رحمه الله تعالى قال: إذا
قال لفلان على ألف ان شهد بها على فلان وفلان لم يكن اقرارا، فإن شهدا عليه
وهما عدلان لزمه بالشهادة دون الاقرار.
(والثاني) وهو قول أبى العباس بن القاص أنه اقرار، وان لم يشهد به،
وهو قول شيخنا القاضي أبى الطيب الطبري رحمه الله، لأنه أخبر أنه ان شهدا
به فهما صادقان ولا يجوز أن يكونا صادقين الا والدينار واجب عليه لأنه لو لم
يكن واجبا عليه لكان الشاهد به كاذبا، فإذا قال يكون صادقا دل على أن المشهود
به ثابت فصار كما لو شهد عليه رجل بدينار فقال صدق الشاهد، ويخالف قوله إن
شهد فلان صدقته أو وزنت لك لأنه قد يصدق الانسان من ليس بصادق
وقد يزن بقوله ما لا يلزمه.
ويخالف ما قال الشافعي رحمه الله لفلان على ألف ان شهد به فلان وفلان،
لان وجوب الألف لا يجوز أن يتعلق بشهادة من يشهد عليه، فإذا علق
307

بشهادته دل على أنه غير واجب، وههنا لم يعلق وجوب الدينار بالشهادة، وإنما
أخبر أن يكون صادقا، وهذا تصريح بوجوب الدينار عليه في الحال، وإن كان
قال له على ألف ففيه وجهان (أحدهما) أنه يلزمه لأنه أقر بالوجوب والأصل
بقاؤه (والثاني) أنه لا يلزمه لأنه أقر به في زمان مضى فلا يلزمه في الحال شئ
وان أقر أعجمي بالعربية أو عربي بالعجمية ثم ادعى أنه لم يعلم بما قال فالقول
قوله مع يمينه لأن الظاهر ما يدعيه.
اللغة: قوله (فإن قال نعم أو أجل) قال الجوهري: قولهم أجل إنما هو
جواب مثل نعم. قال الأخفش الا أنه أحسن من نعم في التصديق ونعم أحسن
منه في الاستفهام، فإذا قال أنت سوف تذهب، قلت أجل وكان أحسن من
نعم، وإذا قال أتذهب قلت نعم وكان أحسن من أجل
قوله (أو لعمري) لعمري ولعمرك قسم كأنه حلف ببقائه وحياته، والعمر
والعمر واحد، فإذا أدخلت اللام فتحت لا غير، ومعناه في الاقرار كأنه أقسم
بثبوته ولزومه عليه
قوله (وان قال لرجل عندك ألف فقال..) قالت الحنابلة (من أدعى عليه
بألف فقال نعم أو صدقت أو أنا مقر أو خذها أو أتزنها أو اقبضها فقد أقر،
لأن هذه الألفاظ تدل على تصديق المدعى وتتصرف إلى الدعوى لوقوعها
عقبها لا ان قال أنا أقر فليس اقرارا بل وعد أو لا أنكر لأنه لا يلزم من
عدم الانكار الاقرار، لان بينهما قسما آخر وهو السكوت، ولأنه يحتمل لا
أنكر بطلان دعواك أو خذ لاحتمال أن يكون مراده خذ الجواب منى أو انزن
أو افتح كمك لاحتمال أن يكون لشئ غير المدعى به أو انزن من غيري أو افتح
كمك للطمع، وبلى في جواب أليس لي عليك كذا اقرار بلا خلاف، لان نفى
النفي اثبات لا نعم الا من عامي فيكون اقراره كقوله عشرة غير درهم يلزمه تسعة
لان ذلك لا يعرفه الا الحذاق من أهل العربية. وفى حديث عمرو بن عنبسة
(فدخلت عليه فقلت يا رسول الله أتعرفني؟ فقال نعم أنت الذي لقيتني بمكة:
قال فقلت بلى،
308

قال في شرح مسلم: فيه صحة الجواب ببلى، وإن لم يكن قبلها، وصحة الاقرار
بها، قال وهو الصحيح من مذهبنا أي مذهب الشافعية
وإن قال اقض ديني عليك ألفا، أو هل لي أو لي عليك ألف فقال نعم فقد
أقر له، لان نعم صريحة في صديقه، أو قال امهلني يوما أو حتى أفتح الصندوق
فقد أقر، لان طلب المهلة يقتضى أن الحق عليه، أو قال له على ألف إن شاء الله
فقد أقر له به نص عليه أو الا أن يشاء الله فقد أقر له به لأنه علق رفع الاقرار
على أمر لا يعلمه فلا يرتفع، أو قال له على ألف لا تلزمني الا أن يشاء زيد فقد
أقر له بالألف.
وإن علق بشرط لم يصح سواء قدم الشرط كان شاء زيد فله على دينار،
أو إن قدم زيد فلعمرو على كذا، لأنه لم يثبت على نفسه شيئا في الحال وإنما
علق ثبوته على شرط، والاقرار إخبار سبق فلا يتعلق بشرط مستقبل بخلاف
تعليقه على مشيئة الله عز وجل فإنها تذكر في الكلام تبركا وتفويضا إلى الله تعالى.
كقوله، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله، وقد علم الله أنهم سيدخلونه بلا شك
وقال القاضي يكون اقرارا صحيحا لان الحق الثابت في الحال لا تقف على شرط
مستقبل فسقط الاستثناء قاله في الكافي، أو أخره كله على دينار ان شاء زيد
أو قدم الحاج أو جاء المطر فلا يصح الاقرار لما بين الاخبار والتعليق على
شرط مستقبل من التنافي، الا إذا قال إذا جاء وقت كذا فله على دينار فليلزمه
في لحال، فإن فسره بأجل أو وصهة قبل بيمينه، ومن ادعى عليه بدينار فقال إن
شهد به زبد فهو صادق لم يكن مقرا، وقد أفاض الحنفيون في هذا الامر
في بدائع الصنائع من صحفة 208 إلى 210 بما يتفق مع ما سبق ايضاحه
309

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب جامع الاقرار
إذا قال لفلان على شئ طولب بالتفسير فإن امتنع عن التفسير جعل ناكلا
ورد اليمين على المدعى وقضى له لأنه كالساكت عن جواب المدعى. ومن
أصحابنا من حكى فيه قولين (أحدهما) ما ذكرناه (والثاني) أنه يحبس حتى يفسر
لأنه قد أقر بالحق وامتنع من أدائه فحبس. وإن شهد شاهدان على رجل بمال
مجهول ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يثبت بالحق كما يثبت بالاقرار، ثم يطالب المشهود عليه
كما يطالب المقر.
(والثاني) أنه لا يثبت الحق لان البينة ما أبانت عن الحق وهذه ما أبانت
عن الحق، وإن أقر بشئ وفسره بما قل أو كثر من المال قبل، لان اسم الشئ
يقع عليه، وإن فسره بالخمر والخنزير أو الكلب أو السرجين أو جلد الميتة قبل
الدباغ ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يقبل لأنه يقع عليه اسم الشئ
(والثاني) أنه لا يقبل لان الاقرار إخبار عما يجب ضمانه، وهذه الأشياء
لا يجب ضمانها.
(والثالث) أنه إن فسره بالخمر والخنزير لم يقبل لأنه لا يجب تسليمه،
وإن فسره بالكلب والسرجين وجلد الميتة قبل الدباغ قبل لأنه يجب تسليمه،
وإن قال غصبتك أو غصبتك ما تعلم لم يلزمه شئ لأنه قد يغصبه نفسه فيحبسه
وإن قال غصبتك شيئا ثم قال غصبته نفسه لم يقبل لان الاقرار يقتضى غصب
شئ منه ويطالب بتفسير الشئ.
(فصل) وإن قال له على مال ففسره بما قل أو كثر قبل لان اسم المال
يقع عليه، وإن قال له على مال عظيم أو كثير قبل في تفسيره القليل والكثير،
لان ما من مال إلا وهو عظيم وكثير بالإضافة إلى ما هو دونه، ولأنه يحتمل
310

أنه أراد به أنه عظيم أو كثير عنده لقلة ماله أو لفقر نفسه، فإن قال له على أكثر
من مال فلان قبل في بيانه القليل والكثير، لأنه يحتمل أنه يريد أنه أكثر من
مال فلان لكونه من الحلال أو أكثر بقاء لكونه في ذمته
(فصل) وان قال له على درهم لزمه درهم من دراهم الاسلام وهو ستة دوانتى
وزن كل عشرة سبعة مثاقيل فإن فسره بدرهم طبري كطبرية الشام، وهو الذي
فيه أربعة دوانق، فإن كان ذلك متصلا بالاقرار قبل منه، كما لو قال له على درهم
إلا دانقين، وإن كان منفصلا نظرت فإن كان الاقرار في غير الموضع الذي
يتعامل فيه بالدراهم الطبرية لم يقبل، كما لا يقبل الاستثناء المنفصل عن الجملة،
وإن كان في الموضع الذي يتعامل فيه الدراهم الطبرية ففيه وجهان
(أحدهما) وهو المنصوص أنه يقبل لأن اطلاق الدراهم يحمل على دراهم
البلد كما يحمل في البيع دراهم البيع.
(والثاني) أنه لا يقبل ويلزمه درهم من دراهم الاسلام لأنه إخبار عن
وجوب سابق، بخلاف البيع فإنه إيجاب في الحال فحمل على دراهم الموضع الذي
يجب فيه، وإن قال له على درهم كبير لزمه درهم من دراهم الاسلام، لأنه درهم
كبير في العرف، فإن فسره بما هو أكبر منه وهو الدرهم البغلي قبل منه لأنه
يحتمل ذلك وهو غير متهم فيه.
وإن قال له على درهم صغير أوله على درهم لزمه درهم وازن لأنه هو المعروف
فإن كان في البلد دراهم صغار ففسره بها قبل لأنه يحتمل اللفظ، وإن قال له على
مائة درهم عدد ألزمه مائة وازنة عددها مائة، لان الدراهم تقتضي الوازنة وذكر
العدد لا ينافيها توجب الجمع بينهما.
(فصل) وان قال له على دراهم ففسرها بدراهم مزيفة لا فضة فيها لم يقبل
لان الدارهم لا تتناول مالا فضة فيه، وان فسرها بدراهم مغشوشة فالحكم فيها
كالحكم فيمن أقر بدراهم وفسرها بالدراهم الطبرية، وقد بيناه
وان قال له على دراهم وفسرها بسكة دون سكة دراهم البلد الذي أقر فيه ولا
تنقص عنها في الوزن فالمنصوص أنه يقبل منه. وقال المزني لا يقبل منه لان
311

إطلاق الدراهم يقتضى سكة البلد كما يقتضى ذلك في البيع، وهذا خطأ لان البيع
إيجاب في الحال فاعتبر الموضع الذي يجب فيه، والاقرار إخبار عن وجوب
سابق وذلك يختلف فرجع إليه
(فصل) وإن أقر بدرهم في وقت ثم أقر بدرهم في وقت آخر لزمه درهم
واحد لأنه إخبار فيجوز أن يكون ذلك خبرا عما أخبر به في لأول، ولهذا لو
قال رأيت زيدا ثم قال رأيت زيدا لم يقتض أن يكون الثاني إخبارا عن رؤية
ثانية، وإن قال له على درهم من ثمن ثوب ثم قال له على درهم من ثمن عبد لزمه درهمان
لأنه لا يحتمل أن يكون الثاني هو الأول. وإن قال له على درهم ودرهم لزمه
درهمان لان الواو تقتضي أن يكون المعطوف غير المعطوف عليه. وان قال له
على درهم ودرهمان لزمه ثلاثة دراهم لما ذكرناه.
وان قال له على درهم فدرهم لزمه درهم واحد، وان قال لامرأته أنت طالق
فطالق وقعت طلقتان.
واختلف أصحابنا في ذلك، فقال أبو علي بن خيران رحمه الله لا فرق بين
المسئلتين فجعلهما على قولين، ومنهم من قال يلزمه في الاقرار درهم وفى الطلاق
طلقتان، والفرق بينهما أن الطلاق لا يدخله التفصيل والدراهم يدخلها التفصيل
فيجوز أن يزيد: له على درهم فدرهم خير منه. وان قال له على درهم ودرهم ودرهم
لزمه ثلاثة درهم. وان قال أنت طالق وطالق وطالق ولم ينو شيئا ففيه قولان
(أحدهما) أنه يقع طلقتان (والثاني) أنه يقع ثلاث طلقات، فنقل أبو علي
ابن خيران جوابه في لطلاق إلى الاقرار وجعلهما على قولين ومن أصحابنا من
قال يقع طلقتان في أحد القولين وفى الاقرار يلزمه ثلاثة دراهم قولا واحدا،
لان الطلاق يدخله التأكيد فحمل التكرار على التأكيد، والاقرار لا يدخله
التأكيد فحمل التكرار على العدد.
وان قال له على درهم فوق درهم أو درهم تحت درهم لزمه درهم واحد لأنه
يحتمل أن يكون فوق درهم أو تحت درهم في الجودة، ويحتمل فوق درهم أو تحت
درهم لي فلم يلزمه زيادة مع الاحتمال.
312

وأن قال على درهم مع درهم لزمه درهم لأنه يحتمل مع درهم لي فلم يلزمه
ما زاد مع الاحتمال، وان قال له على درهم قبله درهم أو بعده درهم لزمه درهمان
لان قبل وبعد تستعمل في التقديم والتأخير في الوجوب، وان قال له على درهم
في عشرة فإن أراد الحساب لزمه عشرة. لان ضرب الواحد في عشرة عشرة،
وان لم يرد الحساب لزمه درهم، لأنه يحتمل أن له على درهما مختلطا بعشرة لي،
وان قال له على درهم بل درهم لزمه درهم، لأنه لم يقر بأكثر من درهم، وان
قال له على درهم بل درهمان لزمه درهمان.
وان قال له على درهم بل دينار لزمه الدرهم والدينار، والفرق بينهما أن
قوله بل درهمان ليس برجوع عن الدرهم، لان الدرهم داخل في الدرهمين وإنما
قصد الحاق الزيادة به.
وقوله بل دينار رجوع عن الدرهم واقرار بالدينار فلم يقبل رجوعه عن
الدرهم فلزمه وقبل اقراره بالدينار فلزمه، وان قال له على درهم أو دينار لزمه
أحدهما وأخذ بتعيينه لأنه أقر بأحدهما، وان قال له على درهم في دينار لزمه
الدرهم ولا يلزمه الدينار لأنه يجوز أن يكون أراد في دينار لي.
(فصل) وان قال له علي دراهم لزمه ثلاثة دراهم لأنه جمع وأقل الجمع
ثلاثة، وان قال دراهم كثيرة لم يلزمه أكثر من ثلاثة لأنه يحتمل أنه أراد بها
كثيرة بالإضافة إلى ما دونها أو أراد أنها كثيرة في نفسه، وان قال له على ما بين
درهم إلى عشرة لزمه ثمانية لان ما بينهما ثمانية، وان قال له على من درهم إلى
عشرة ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يلزمه ثمانية لان الأول والعاشر حدان فلم يدخلا في الاقرار
فلزمه ما بينهما (والثاني) أنه يلزمه تسعة لان الواحد أول العدد، وإذا قال من
واحد كان ذلك اقرارا بالواحد وما بعده فلزمه والعاشر حد فلم يدخل فيه
(فصل) وان قال له على كذا رجع في التفسير إليه لأنه أقر بمبهم فصار
كما لو قال له على شئ، وان قال له على كذا درهم لزمه درهم لأنه فسر المبهم
بالدرهم، وان قال له على كذا وكذا رجع في التفسير إليه لأنه أقر بمبهم وأكده
313

بالتكرار فرجع إليه، كما لو قال له على كذا، وان قال له على كذا كذا درهما
لزمه درهم، لأنه فسر المبهم به، وان قال له على كذا وكذا رجع في
التفسير إليه لأنه أقر بمبهمين، لان العطف بالواو يقتضى أن يكون الثاني غير
الأول فصار كما لو قال له على شئ وشئ وإن قال له على كذا وكذا درهم فقد
روى المزني فيه قولين (أحدهما) أنه يلزمه درهم (والثاني) يلزمه درهمان، فمن
أصحابنا من قال فيه قولان:
(أحدهما) أنه يلزمه درهمان لأنه ذكر مبهمين ثم فسر بالدرهم فرجع إلى
كل واحد منهما.
(والثاني) أنه يلزمه درهم لأنه يجوز أن يكون فسر المبهمين بالدرهم لكل
واحد منهما نصفا فلا يلزمه ما زاد مع الاحتمال
وقال أبوا سحاق وعامة أصحابنا: إذا قال كذا وكذا درهما بالنصب لزمه
درهمان لأنه جعل الدرهم تفسيرا فرجع إلى كل واحد منهما، وان قال كذا
وكذا درهم بالرفع لزمه درهم لأنه يخبر عن المبهمين بأنهما درهم، وحمل القولين
على هذين الحالين، وقد نص الشافعي رحمة الله عليه في الاقرار والمواهب.
(فصل) وان قال له على ألف رجع في البيان إليه وبأي جنس من المال
فسره قبل منه. وإن فسره بأجناس قبل منه لأنه يحتمل الجميع، وان قال له
على ألف ودرهم لزمه درهم ورجع في تفسير الألف إليه. وقال أبو ثور يكون
الجميع دراهم، وهذا خطأ لان العطف لا يقتضى أن يكون المعطوف من جنس
المعطوف عليه، لأنه قد يعطف الشئ على غير جنسه كما يعطف على جنسه،
ألا ترى أنه يجوز أن يقول رأيت رجلا وحمارا، كما يجوز أن يقول رأيت رجلا
ورجلا، وان قال له على مائة وخمسون درهما، أو له على ألف وعشرة دراهم
ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يلزمه خمسون درهما وعشرة دراهم ويرجع في تفسير المائة
والألف إليه، كما قلنا في قوله ألف ودرهم
(والثاني) أنه يلزمه مائة درهم وخمسون درهما أو ألف درهم وعشرة دراهم
والفرق بينها وبين قوله ألف ودرهم أن الدرهم المعطوف على الألف لم يذكره
314

التفسير وإنما ذكره للايجاب، ولهذا يجب به زيادة على الألف والدراهم المذكورة
بعد الخمسين والألف ذكرها التفسير، ولهذا لا يجب به زيادة على الخمسين
والألف فجعل تفسيرا لما تقدم.
(فصل) وإذا قال لفلان على عشرة دراهم إلا درهما لزمه تسعة لان
الاستثناء لغة العرب وعادة أهل اللسان، وان قال على عشرة إلا تسعة لزمه
ما بقي لان استثناء الأكبر من الجملة لغة العرب، والدليل عليه قوله عز وجل
(قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) ثم قال عز وجل
(إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) فاستثنى الغاوين
من العباد وإن كانوا أكثر.
وان قال له على عشرة إلا عشرة لزمه عشرة لان ما يرفع الجملة لا يعرف
في لاستثناء فسقط وبقى المستثنى منه وان قال له على مائة درهم إلا ثوبا
وقيمة الثوب دون المائة لزمه الباقي، لان الاستثناء من غير جنس المستثنى منه
لغة العرب، والدليل عليه قول تعالى (فسجد الملائكة كلهم أجمعون الا إبليس)
فاستثنى إبليس من الملائكة وليس منهم قال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير وإلا العيس
فاستثنى اليعافير والعيس من الأنيس، وان لم يكن منهم، وإن قال له على
ألف إلا درهما ثم فسر الألف بجنس قيمته أكثر من درهم سقط الدرهم ولزمه
الباقي، وان فسره بجنس قيمته درهم أو أقل ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يلزمه الجنس الذي فسر به الألف ويسقط الاستثناء لأنه
استثناء يرفع جميع ما أقر به فسقط وبقى المقر به، كما لو قال له على عشرة دراهم
الا عشرة دراهم.
(والثاني) أنه يطالب بتفسير الألف بجنس قيمته أكثر من درهم لأنه فسر
اقرار المبهم بتفسير باطل، فسقط التفسير لبطلانه. وبقى الاقرار بالمبهم
فلزمه تفسيره،
315

اللغة: قوله (على شئ) أنكر النكرات شئ لأنه يجمع المعرفة والنكرة
والمذكر والمؤنث والموجود والمفقود، فهو أحق الكلام في التفسير.
قوله (ستة دوانق) جمع دانق وهو سدس الدرهم، يقال دانق ودانق بفتح
النون وكسرها، وربما قالوا داناق كما قالوا للدرهم درهام.
قوله (الدرهم البغلي) وزنه ثمانية دوانق، والدانق منه أربعة قراريط مشبه
بالدرهم الذي يكون في يد البغل، والدرهم البغلي والشهليل كبيران، وقال بعض
المشايخ لعله أن يكون نسب إلى بغلان بلد ببلخ كالنسب إلى البحرين، يقال فيه
يحرى على الصحيح.
قوله (فإن فسره بدراهم مزيفة) أي رديئة. قال ابن القوطية زافت الدراهم
تزيف زيفا بارت. ولعله لرداءتها ودرهم زيف وزائف والجمع زيف مثل
ناقص ونقص إذا لم تجز بأن تكون رصاصا أو نحاسا مغشوشا وزيفتها أنا.
قوله (بدراهم مغشوشة) مأخوذ من الغش بالكسر وهو ضد النصيحة، وقيل
مأخوذ من الغشش وهو المشرب الكدر، قاله ابن الأنباري
قوله (وفسرها بسكة) السكة الحديدة المنقوشة التي يطبع عليها أي يضرب
وجمعها سكك. قوله (وان قال على كذا وكذا) هو اسم مبهم الكاف للتشبيه
وذا اسم إشارة تقول فعلت كذا وقد تجرى مجرى كم فتنصب ما بعده على التمييز
ويقول عندي له كذا وكذا درهما لأنه كالكناية.
قوله (الاستثناء) مأخوذ من الثنى وهو الكف والرد، يقال حلف يمينا
لا ثنى فيها ولا مثنوية. وقيل أنه مأخوذ من أثناء الحبل وهي أعطافه كأنه
رجوع عن الشئ وانعطاف إلى غيره.
قوله (وعادة أهل اللسان) أي أهل الفصاحة، واللسن بالتحريك الفصاحة
وقد لسن بالكسر فهو لسن وألسن، وقوله في بيت الشعر:
وبلدة ليس بها أنيس * الا اليعافير والا العيس
أي رب بلدة الواو بمعنى رب واليعافير جمع يعفور وهو ولد الظبية وولد البقرة
الوحشية، وقال بعضهم اليعافير تيوس الظباء والعيس الإبل البيض واحدها
316

أعيس والأنثى عيساء بينة العيس، وهو استثناء منقطع، معناه الذي يقوم مقام
الأنيس اليعافير والعيس
قوله (إذا قال لفلان على شئ طولب بالتفسير) قالت الحنابلة (إذا
قال له على شئ وشئ أو كذا وكذا صح اقراره وقيل له فسر ويلزمه تفسيره،
قال في الشرح بغير خلاف، فإن أبى حبس حتى يفسر لأنه أمتنع من حق عليه
فجس به كما لو عينه وامتنع من أدائه.
وقال القاضي: إذا امتنع من البهان قيل للمقر له فسره أنت، ثم يسأل المقر
فإن صدقه ثبت عليه وان أبى جعل ناكلا وقضى عليه، قاله في الكافي، ويقبل
تفسيره بأقل متمول لأنه شئ، فإن مات قيل التفسير لم يؤاخذ وارثه بشئ
ولو خلف تركة.
ولو قال له على مال عظيم أو خطير أو كثير أو جليل أو نفيس فسر بأقل متمول
لأنه ما من مالا الا وهو عظيم كثير بالنسبة إلى ما دونه، ويحتمل أنه أراد عظمة
عنده لقلة ماله وفقر نفسه، ولأنه لا حد له شرعا ولا لغة ولا عرفا، ويختلف
الناس فيه فقد يكون عظيما عند بعض حقيرا عند غيره. وله دراهم كثيرة قبل
تفسير بثلاثة دراهم فأكثر أو له على كذا وكذا درهم بالرفع أو بالنصب لزمه
درهم. وان قال بالجر لزمه بعض درهم، ولو قال له على ألف ودرهم أو
ألف ودينار أو ألف وثوب أو ألف إلا دينار كان المبهم في هذه الأمثلة ونحوها
من جنس المعين.
وإذا قال له ما بين درهم وعشرة لزمه ثمانية، ومن درهم إلى عشرة لزمه
تسعة أو ما بين درهم إلى عشرة لزمه تسعة، وإذا قال وله درهم قبله درهم
وبعده درهم أو درهم ودرهم ودرهم لزمه ثلاثة، وكذا درهم درهم درهم
فإذا أراد التأكيد فعلى ما أراد أو وله درهم بل دينار لزماه أو وله درهم في دينار لزمه درهم
فإن قال أردت العطف أو معنى مع لزماه، وإذا قال له درهم في عشرة
لزمه درهم ما لم يخالفه عرف فيلزمه مقتضاه، أو يريد الحساب ولو جاهلا
فيلزمه عشرة أو يريد الجمع فيلزمه أحد عشر، أو وله تمر في جراب أو سكين
317

في قراب أو ثوب في منديل ليس بإقرار بالثاني، أوله خاتم في فص أو سيف
بقراب اقرار بهما، لان الفص جزء من الخاتم، أشبه ما لو قال ثوب في علم،
واقراره بشجرة ليس اقرارا بأرضها فلا يملك غرس مكانها لو ذهبت، لأنه
غير مالك للأرض.
قال في الفروع: ورواية مهنا هي له بأصلها، فإن ماتت أو سقطت لم يكن
له موضعها ولا أجرة على ريها ما بقيت وليس لرب الأرض قلعها وثمرتها للمقر له
والبيع مثله، وإذا قال له على درهم أو دينار يلزمه أحدهما وبعينه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قال هؤلاء العبيد لفلان الا واحدا طولب بالتعيين لأنه ثبت
بقوله فرجع في بيانه إليه، فإن ماتوا الا واحدا منهم فقال الذي بقي هو المستثنى
ففيه وجهان (أحدهما) أنه لا يقبل لأنه يرفع به الاقرار فلم يقبل، كما لو استثنى
الجميع بقوله (والثاني) وهو المذهب أنه يقبل لأنه يحتمل أن يكون هو المستثنى
فقبل قوله فيه، ويخالف إذا استثنى الجميع بقوله لأنه رفع المقر به بقوله وههنا
لم يرفع بالاستثناء الا واحدا وإنما سقط في الباقي بالموت فصار كما لو أعتق
واحدا منهم ثم ماتوا الا واحدا، وان قتل الجميع الا واحدا فقال الذي بقي هو
المستثنى قبل وجها واحدا، لأنه لا يسقط حكم الاقرار، لان المقر له يستحق
قيمة المقتولين. وان قال غصبت من فلان هؤلاء العبيد الا واحدا منهم ثم ماتوا
الا واحدا منهم، وقال المستثنى هو الذي بقي قبل وجها واحدا لأنه لا يسقط
حكم الاقرار، لان المقر له بهم يستحق قيمتهم بالموت.
(فصل) وان قال هذه الدار لفلان الا هذا البيت لم يدخل البيت في الاقرار
لأنه استثناء، وان قال هذه الدار لفلان وهذا البيت لي قبل لأنه أخرج بعض
ما دخل في الاقرار بلفظ متصل وصار كما لو استثناه بلفظ الاستثناء.
(فصل) وان قال له هذه الدار هبة سكنى أو هبة عارية لم يكن اقرارا
بالدار لأنه رفع بآخر كلامه بعض ما دخل في أوله وبقى البعض فصار كما لو أقر
318

بجملة واستثنى بعضها، وله أن يمنعه من سكناها لأنها هبة منافع لم يتصل بها
القبض فجاز له الرجوع فيها.
(الشرح) قوله (وإن قال هؤلاء العبيد لفلان،) قالت الشافعية في كتاب
الأنوار لأعمال الأنوار (إن قال لفلان على ألف إلا ثوبا أو عبدا صح إذا
بين الثوب أو العبد بما لا يستغرق قيمته ألفا، فإن استغرقت بطل الاستثناء
ولزم الألف)
قالت الحنابلة في كتاب الفروع (فإن قال له هؤلاء العبيد العشرة إلا واحدا
لزمه تسعة، فإن ماتوا إلا واحدا فقال هو المستثنى قبل في الأصح كقتلهم الا
واحدا، وان قال له الدار الا هذا البيت أو الدار له والبيت لي صح ولو كان
أكثرها، وإن قال إلا ثلثيها ونحوه، أو الدار له ولى نصفها فاستثناء
للأكثر والنصف.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن أقر لرجل بمال في ظرف بأن قال له عندي زيت في جرة
أو تين غرارة أو سيف في غمد أو فص في خاتم لزمه المال دون الظرف لان
الاقرار لم يتناول الظرف، ويجوز أن يكون المال في ظرف المقر، وان قال له
عندي جرة فيها زيت أو غرارة فيها تبن أو غمد فيه سيف أو خاتم عليه فص
لزمه الظرف دون ما فيه لأنه لم يقر إلا بالظرف، ويجوز أن يكون ما فيه للمقر
وإن قال له عندي خاتم لزمه الخاتم والفص، لان اسم الخاتم يجمعهما، وإن
قال له عندي ثوب مطرز لزمه الثوب بطرازه ومن أصحابنا من قال: إن كان
الطراز مركبا على الثوب بعد النسج ففيه وجهان:
(أحدهما) ما ذكرناه (والثاني) أنه لا يدخل فيه لأنه متميز عنه، وان
قال له في يدي دار مفروضة لزمه الدار دون الفرش، لأنه يجوز أن تكون
مفروشة بفرش لمقر.
وان قال له عندي فرس عليه سرج لزمه الفرس دون السرج، وان قال له
319

عندي عبد وعليه ثوب لزمه تسليم العبد والثوب، والفرق بينهما أن العبد له يد
على الثوب وما في يد العبد لمولاه، والفرس لا يد له على السرج.
(فصل) وان قال لفلان على ألف درهم ثم أحضر ألفا وقال هي التي
أقررت بها وهي وديعة، فقال المقر له هذه وديعة لي عنده والألف التي أقر بها
دين لي عليه غير الوديعة ففيه قولان.
(أحدهما) أنه لا يقبل قوله لان قوله على اخبار عن حق واجب عليه فإذا
فسر بالوديعة فقد فسر بما لا يجب عليه فلم يقبل
(والثاني) أنه يقبل لان الوديعة عليه ردها وقد يجب عليه ضمانها إذا تلفت
وان قال له على ألف في ذمتي، ثم فسر ذلك بالألف التي هي وديعة عنده وقال
المقر له بل هي دين لي في ذمته غير الوديعة، فإن قلنا في التي قبلها أنه لا يقبل
قوله فيها فههنا أولى أن لا يقبل، وان قلنا يقبل هناك قوله ففي هذه وجهان:
(أحدهما) أنه لا يقبل وهو الصحيح، لان الألف التي أقر بها في الذمة والعين
لا تثبت في الذمة.
(والثاني) أنه يقبل لأنه يحتمل أنها في ذمتي لأني تعديت فيها فيجب ضمانها
في ذمتي، وان قال له على ألف ثم قال هي وديعة كانت عندي وظننت أنها باقية
وقد هلكت لم يقبل قوله لان الاقرار يقتضى وجوب ردها أو ضمانها والهالكة
لا يجب ردها ولا ضمانها فلم يصح تفسير الاقرار بها.
(فصل) وان قال له على ألف درهم وديعة دينا لزمه الألف، لان
الوديعة قد يتعدى فيها فتصير دينا، وان قال له على ألف درهم عارية لزمه
ضمانها لان إعارة الدراهم تصح في أحد الوجهين فيجب ضمانها، وفى الوجه
الثاني لا تصح اعارتها فيجب ضمانها لان ما وجب ضمانه في العقد الصحيح وجب
ضمانه في العقد الفاسد.
اللغة: قوله (فص في خاتم) فتح الفاء والعامة تكسره والجمع فصوص،
وفى الخاتم ثلاث لغات: خاتم بالفتح، وخاتم بالكسر، وخاتام، ومنهم من
زاد لغة رابعة فقال خيتام.
320

قوله (ثوب مطرز) أي معلم والطراز على الثوب فارسي معرب وقد طرزت
الثوب فهو مطرز والطراز الهيئة قال حسان.
بيض الوجوه كريمة أحسابهم * شم الأنوف من الطراز الأول
أي من النمط الأول.
قوله (وان أقر لرجل بمال في ظرف..) قالت الشافعية في الأنوار لأعمال
الأبرار (ولو قال لفلان من هذه النخلة إلى هذه النخلة دخلت الأولى في الاقرار
ولو قال عندي سيف في غمد أو ثوب في صندوق لم يكن إقرار بالظرف، ولو
على رأسه عمامة لم يكن إقرار بالعمامة، ولو قال دابة بسرجها أو ثوب مطرز
أو سفينة بحملها أو عبد بثيابه فهو إقرار بهما، ولو قال هذه الجارية أو الدابة
لفلان لم يدخل الحمل. ولو قال هذه الشجرة لفلان لم تدخل الثمرة مؤبرة أو
غيرها، قال القفال وغيره والضابط أن ما يدخل تحت مطلق البيع يدخل تحت
الاقرار ومالا فلا إلا الثمرة المؤبرة والحمل والجدار.
قال الحنفيون: الاقرار بالظرف أو المظروف إقرار بهما إذا كان ذلك مما
يجوز في الظرف غالبا، كالتمر في الجراب والزيت في الجرة بخلاف الفرس في
الإصطبل وقالوا: ولو أقر إنسان لانسان بدار واستثنى بناءها لنفسه
فالاستثناء باطل، لان اسم الدار لا يتناول البناء لغة بل وضع دلالة على العرصة
في اللغة، وإنما البناء فيها بمنزلة الصفة فلم يكن المستثنى من جنس المستثنى منه
فلم يصح الاستثناء وتكون الدار مع البناء للمقر له، لأنه ان لم يكن له اسما عاما
لكنه يتناول هذه الاجزاء بطريق التضمن، كمن أقر لغيره بخاتم كان له الحلقة
والفص، لا لأنه اسم عام، بل هو اسم لمسمى واحد وهو المركب من الحلقة
والفص ولكنه يتناوله بطريق التضمن، وكذا من أقر بسيف لغيره كان له
النصل والجفن والحمائل.
قالت الحنابلة: وان قال له عندي تمر في جراب أو سيف في قراب أو ثوب
في منديل أو جراب فيه تمر أو قرار فيه سيف أو منديل فيه ثوب أو فص فيه
321

خاتم أو دابة مسروجة أو عليها سرج، أو عبد عليه عمامة أو بالعكس، فقيل
مقر بالثاني كالأول. وكسيف بقراب وثوب مطرز ونحوه، وقيل لا.
وقال ابن حامد والقاضي وأصحابه: الأشهر أنه يكون مقرا بالمظروف دون
ظرفه وقال ابن عبدوس: إذا قال ذلك يكون مقر بالأول والثاني الا إذا حلف
ما قصدته، وان قال خاتم فيه فص فقيل الوجهان والأشهر لزومهما لأنه جزؤه
فلو أطلق لزماه وقال الشيخ الموفق يحتمل أن يخرج على الوجهين، وحكم في
الكافي والرعاية في المسألة وجهين:
قوله (وان قال لفلان على ألف درهم..)
قالت الشافعية: ولو قال لفلان على ألف أو لفلان في ذمتي ألف فهو اقرار
بالدين، ولو قال عندي أو معي فهو اقرار بالعين. فلو قال أنه وديعة قبل في
الصورتين، وصل ذكر الوديعة أو فصل، ولو ادعى الرد أو التلف قبل في العين
مطلقا وفى الدين ان وصل وان فصل، فإن ادعى أنه رد أو تلف قبل الاقرار
لم يقبل ولزمه الضمان وبعد الاقرار قبل بيمينه، ولو أتى به وقال المقر له هو
وديعة لي وعليك ألف آخر صدق المقر بيمينه، وناقض في الروضة وقال في
أول ركن الصيغة.
ومعنى قوله اقرار بالعين أنه محمول على الوديعة ويقبل دعوى الرد والتلف
ومعنى قوله اقرار بالدين أنه لا تقبل دعوى الوديعة والرد والتلف. وذكر هنا
أنه يقبل بالوديعة وفى الرد والتلف تفصيل سمعت.
ولو قال له على ألف في ذمتي أو ألف دينا ثم جاء بألف وفسر بالوديعة
لم يقبل والقول للمقر له بيمينه ولزمه ألف آخر، ولو قال دفع فلان إلى ألفا أو
أخذت منه ألفا وفسره بالوديعة أو المضاربة وادعى التلف أو الرد قبل بيمينه
قالت الحنابلة: وان قال له عندي رهن قبل قول المالك أنه وديعة نقل
أحمد بن سعيد: إذا قال لي عندك وديعة قال هي رهن على كذا فعليه البينة أنها
رهن. وذكر الأزجي تخريجا: من كان له على وقضبته، وان قال له عندي
ألفا قبل تفسيره بدين أو وديعة، وان قال على أو في ذمتي الف لم يقبل تفسيره
322

بوديعة، وقيل بلى كمتصل، فإن زاد المتصل وقد تلفت لم يقبل، ذكره القاضي
وغيره بخلاف المنفصل لان إقراره تضمن الأمانة ولا مانع، وان أحضره وقال
هو هذا وهو وديعة، ففي قبول قول المقر له أن المقر به غيره وجهان، أحدهما
لا يقبل وهو قول الأزجي واختاره القاضي والثاني يقبل وهو الصحيح،
ومقتضى كلام الخرقي ولو قال له عندي مائة وديعة بشرط الضمان لغا وصفه
لها بالضمان وبقيت على الأصل.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن قال له في هذا العبد ألف درهم أو له من هذا العبد ألف
درهم ثم قال أردت أنه وزن في ثمنه ألف درهم وزنت أنا ألف درهم في
صفقة واحدة كان ذلك إقرارا بنصفه، وإن قال اشترى ثلثه أو ربعه بألف في
عقد واشتريت أنا الباقي بألف في عقد آخر قبل قوله لان اقراره متهم، وما
فسر به محتمل والعبد في يده فقبل قوله فيه.
وإن قال جنى عليه العبد جناية أرشها ألف درهم قبل قوله وله أن يبيع
العبد ويدفع إليه الأرش وله أن يفديه وان قال وصى له من ثمنه بألف درهم
بيع ودفع إليه من ثمنه ألف درهم، فإن أراد أن يدفع إليه ألفا من ماله لم يجز
لان بالوصية يتعين حقه في ثمنه، وان قال العبد مرهون عنده بألف ففيه
وجهان (أحدهما) أنه لا يقبل لان حق المرتهن في الذمة لا في العين (والثاني)
وهو الصحيح أنه يقبل لان المرتهن متعلق حقه بالذمة والعين
(فصل) وان قال له في ميراث أبى ألف درهم لزمه تسليم ألف إليه.
وان قال له في ميراثي من أبى ألف درهم ثم قال أردت هبة قبل منه لأنه أضاف
الميراث إلى نفسه فلا ينتقل ماله إلى غيره الا من جهته، وان قال في هذا المال
ألف درهم لزمه، وان قال له في مالي هذا ألف درهم لم يلزمه لان ماله
لا يصير لغيره بإقراره.
(فصل) وإذا قال لفلان على ألف درهم من ثمن مبيع لم أقبضه لم يلزمه
تسليم الألف لان الأصل أنه لم يقبض المبيع فلا يلزمه تسليم ما في مقابلته،
323

وإن قال له على ألف درهم ثم قال بعد ذلك من ثمن مبيع لم أقبضه لم يقبل لأنه
لزمه الألف بإقراره فلم يقبل قوله في إسقاطه.
(فصل) وإن أقر بحق ووصله بما يسقطه بأن أقر بأنه تكفل بنفس أو مال
على أنه بالخيار أو أقر أن عليه لفلان ألف درهم من ثمن خمر أو خنزير أو لفلان
عليه ألف درهم قضاها ففيه قولان:
(أحدهما) أنه يلزمه ما أقر به ولا يقبل ما وصله به لأنه يسقط ما أقر به
فلم يقبل، كما لو قال له على عشرة إلا عشرة.
(والثاني) أنه لا يلزمه الحق لأنه يحتمل ما قاله فصار كما لو قال له على ألف
إلا خمسمائة، وإن قال له على ألف درهم مؤجلة ففيه طريقان، من أصحابنا من
قال هي على القولين لان التأجيل كالقضاء، ومنهم من قال يقبل قولا واحدا،
لان التأجيل لا يسقط الحق وإنما يؤخره، فهو كاستثناء بعض الجملة بخلاف
القضاء فإنه يسقطه.
(فصل) وان قال هذه الدار لزيد بل لعمرو أو قال غصبتها من زيد لا بل
من عمر وحكم بها لزيد لأنه أقر له بها، ولا يقبل قوله لعمرو لأنه رجوع عن
الاقرار لزيد، وهل يلزمه أن يغرم قيمتها لعمرو فيه قولان:
(أحدهما) أنه لا يلزمه لأن العين قائمة فلا يستحق قيمتها
(والثاني) أنه يلزمه وهو الصحيح، لأنه حال بينه وبين ماله فلزمه ضمانه،
كما لو أخذ ماله ورمى به في البحر، فإن قال غصبت هذا من أحد هذين الرجلين
طولب بالتعيين، فإن عين أحدهما فإن قلنا إنه إذا أقر به لأحدهما بعد الآخر
غرم للثاني حلف لأنه إذا نكل غرم له، وان قلنا إنه لا يغرم الثاني لم يحلف
لأنه لا فائدة في تحليفه، لأنه إذا نكل لم نقض عليه بشئ، وإن كان في يده
دار فقال غصبتها من زيد وملكها لعمر وحكم بها لزيد لأنها في يده فقبل إقراره
بها، ولا يقبل قوله إن ملكها لعمر ولأنه اقرار في حق غيره ولا يغرم لعمرو
شيئا لأنه لم يكن منه تفريط لأنه يجوز أن يكون ملكها لعمرو وهي في يد زيد
بإجارة أو رهن أو غصبها منه فأقر بها على ما هي عليه. فأما إذا قال هذه الدار
ملكها لعمرو وغصبها من زيد ففيه وجهان:
324

(أحدهما) أنها كالمسألة قبلها، إذ لا فرق بين أن يقدم ذكر الملك وبين
أن يقدم ذكر الغصب.
(والثاني) أنها تسلم إلى زيد وهل يغرم لعمرو؟ على قولين، كما لو قال هذه
الدار لزيد لا بل لعمرو
اللغة: قوله (مبهم) معنى المبهم في الاقرار وغيره الذي خفى معناه ولم يعلم
واستبهم الشئ خفى، ومنه سميت البهيمة لاستعجامها، والليل البهيم الذي يخفى
ما فيه، وأسود بهيم لا بياض فيه.
قوله (وان قال له في هذا العبد ألف درهم..)
قالت الحنابلة (من باع أو وهب أو عتق عبدا ثم أقر به لغيره لم يقبل
اقراره لأنه اقرار على غيره، وكذا لو ادعى بعد البيع ونحوه أن المبيع رهن
أو أم ولد ونحوه بما يمنع صحة التصرف ويغرمه للمقر له لأنه فوته عليه بتصرفه
فيه. وان قال غصبت هذا العبد من زيد لا بل من عمرو فهو لزيد لاقراره له
به ولا يقبل رجوعه عنه لأنه حق آدمي ويغرم قيمته لعمرو أو ملكه لعمرو
وغصبته من زيد فهو لزيد لاقراره باليد له، ويغرم قيمته لعمرو لاقراره له
بالملك ولوجود الحيلولة بالاقرار باليد لزيد وغصبته من زيد وملكه لعمرو فهو
لزيد لاقراره باليد ولا يغرم لعمرو شيئا لأنه إنما شهد له به أشبه ما لو شهد له
بمال بيد غيره.
قوله (وإذا قال لفلان على ألف درهم من ثمن مبيع.)
قال الحنفيون (إذا أقر بألف ثمن عبد اشتراه ولم يقبضه فهذا لا يخلو من
أحد وجهين، إما أن ذكر عبدا معينا مشارا إليه بأن قال ثمن هذا العبد، وإما
ان ذكر عبدا من غير تعيين بأن قال لفلان على ألف درهم ثمن عبد اشتريته منه
ولم أقبضه، فإن ذكر عبدا بعينه فإن صدقه في البيع يقال للمقر له ان شئت أن
تأخذ الألف تسلم العبد والا فلا شئ لك لان المقر به ثمن المبيع وقد ثبت البيع
بتصادقهما، والبيع يقتضى تسليما.
م 37 مجموع 18
325

وإن كذبه في البيع وقال ما بعث منك شيئا والعبد عبدي ولى عليك ألف
درهم بسبب آخر فالعبد للمقر له، لأنه يدعى عليه البيع وهو ينكر، ولا شئ له
على المقر من الثمن لان المقر به ثمن المبيع لا غيره ولم يثبت البيع.
قال الامام في النهاية والغزالي في الوسيط والقشير في الموضح: ولو باع
عينا وكتب الصك وأشهد الشهود على قبض الثمن ثم قال ما كنت قبضت ولكن
جريت على العادة وأقررت وأشهدت لم تقبل هذه الدعوى
وقوله (وإن أقر بحق ووصله بما يسقطه..)
قال يوسف الأردبيلي في الأنوار لأعمال الأبرار فقه شافعي: فلو قال لزيد
على ألف من ثمن خمر أو خنزير أو كلب أو بيع فاسد أو ضمان بشرط الخيار
أو براءة الأصيل لم يقبل النافي وصل أو فصل ويبعض إقراره فيعتبر أوله
ويلغى آخره.
نعم لو صدقه المقر له على ذلك فلا شئ على المقر، وإن كذبه وحلف لزمه
المقر به إلا أن يقيم بينة على الباقي فلا يلزم، ولو قدم ذكر النافي فقال لفلان
من ثمر الخمر أو بيع فاسد على ألف لم يلزمه شئ. ولو قال لفلان على ألف
قضبته أو أقبضته أو أبرأني منه لم يقبل للتحليف إلا بتأويل كإرادة كان ولزمه
إلا أن يقيم بينة على القضاء والاقباض والأداء والابراء.
ولو قال كان لفلان على ألف قضبته قبل مطلقا للتحليف والبينة. ولو قال
له ألف من ثمن عبد لم أقبضه قبل وثبت الألف ثمنا فلا يطالب قبل قبض
العبد، ولو قال من ثمن عبد ثم قال مفصولا لم أقبضه قبل أيضا باليمين ولا يلزمه
الألف الا أن يقيم المقر به البينة على القبض فيلزم. ولو قال ألف مؤجل إلى
وقت كذا، فإن ذكر الأجل مفصولا لم يقبل وموصولا قبل الا إذا أسند إلى
جهة لا تقبل التأجيل كالقرض.
قال الحنفيون: فإن ذكر عبدا بغير عينه فعليه الألف عند أبي حنيفة ولا
يصدق في عدم القبض، سواء وصل أم فصل صدقه المقر له في البيع أو كذبه
وكان أبو يوسف أولا يقول إن وصل صدق وان فصل لا يصدق ثم رجع وقال
يسئل المقر له عن الجهة، فإن صدقه فيها لكن كذبه في القبض كان القول قول
326

المقر سواء وصل أم فصل، وان كذبه في البيع وادعى عليه ألفا أخرى أن
وصل يصدق وان فصل لا يصدق، وهو قول محمد قالت الحنابلة (وإذا قال على من ثمن خمر ألف لم يلزمه لأنه أقر بثمن خمر
وقدره بالألف، وثمن الخمر لا يجب.
وان قال له على ألف من ثم خمر لزمه، وكذا ان قال له على ألف من ثمن
مبيع لم أقبضه أو ألف لا تلزمني أو مضاربة أو وديعة تلفت وشرط على ضمانها
ونحو ذلك، لان ما ذكر بعد قوله على ألف رفع لجميع ما أقر به فلا يقبل
كاستثناء للكل. وقالوا إذا فسره بكلب مباح نفعه فهل يقبل أم لا؟ أطلق
الخلاف فيه (أحدهما) لا يقبل صححه في التصحيح، وبه قطع القاضي وصاحب
الوجيز والآدمي في منتخبه (والوجه الثاني) يقبل تفسيره، بذلك جزم
ابن عبدوس وغيره.
(قلت) يحتمل أن يرجع في ذلك إلى القرائن والعوائد فإن دلت على شئ
مثل أن يكون عادة بصيد ونحوه قبل وإلا فلا. والقول للمردواي
قوله (وان قال هذه الدار لزيد بل لعمرو...)
قالت الحنفية: والرجوع عن الاقرار في حقوق العباد غير صحيح (قلت) ومما
سبق شرحه في هذا الباب من أقوال المذاهب الأخرى كاف
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وأن أقر رجل على نفسه بنسب مجهول النسب يمكن أن يكون
منه، فإن كان المقر به صغيرا أو مجنونا ثبت نسبه لأنه أقر له بحق فثبت، كما لو
أقر له بمال، فإن بلغ الصبي أو أفاق المجنون وأنكر النسب لم يسقط النسب لأنه
نسب حكم بثبوته فلم يسقط برده: وإن كان المقر به بالغا عاقلا لم يثبت الا
بتصديقه، لان له قولا صحيحا فاعتبر تصديقه في الاقرار، كما لو أقر له بمال،
وإن كان المقر به ميتا فإن كان صغيرا أو مجنونا ثبت نسبه لأنه يقبل اقراره به
إذا كان حيا فقبل إذا كان ميتا، وإن كان عاقلا بالغا ففيه وجهان
(أحدهما) أنه لا يثبت لان نسب البالغ لا يثبت الا بتصديقه، وذلك
327

معدوم بعد الموت (والثاني) أنه يثبت وهو الصحيح، لأنه ليس له قول فثبت
نسبه بالاقرار كالصبي والمجنون وإن أقر بنسب بالغ عاقل ثم رجع عن الاقرار
وصدقه المقر له في الرجوع ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يسقط النسب، وهو قول أبى على الطبري رحمه الله، كما لو
أقر له بمال ثم رجع في الاقرار وصدقه المقر له في الرجوع.
(والثاني) وهو قول الشيخ أبى حامد الأسفرايني رحمه الله أنه لا يسقط،
لان النسب إذا ثبت لا يسقط بالاتفاق على نفيه كالنسب الثابت بالفراش.
(فصل) وإن مات رجل وخلف ابنا فأقر على أبيه بنسب فإن كان لا يرثه
بأن كان عبدا أو قاتلا أو كافرا والأب مسلم لم يقبل إقراره لأنه لا يقبل إقراره
عليه بالمال فلا يقبل إقراره عليه في النسب كالأجنبي، وإن كان يرثه فأقر عليه
بنسب لو أقر به الأب لحقه، فإن كان قد نفاه الأب لم يثبت لأنه يحمل عليه
نسبا حكم ببطلانه، وان لم ينفه الأب ثبت النسب بإقراره، لما روت عائشة
رضي الله عنها قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ابن أمة زمعة، فقال سعد بن أبي وقاص أوصاني أخي
عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة زمعة وأقبضه فإنه ابنه، وقال عبد بن
زمعة أخي وابن وليدة أبى ولد على فراشه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
الولد للفراش وللعاهر الحجر.
وإن مات وله إبنان فأقر أحدهما بنسب ابن وأنكر الآخر لم يثبت، لان
النسب لا يتبعض، فإذا لم يثبت في حق أحدهما لم يثبت في حق الآخر ولا
يشاركهما في الميراث لان الميراث فرع على النسب والنسب لم يثبت فلم يثبت الإرث
وإن أقر أحد الابنين بزوجة لأبيه وأنكر الجخر ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه لا نشارك بحصتها من حق المقر، كما لا يشارك الابن إذا
اختلف الوارثان في نسبه.
(والثاني) أنها تشارك بحصتها من حق المقر لان المقر به حقها من الإرث
لان الزوجية زالت بالموت. وان مات وخلف بنتا فأقرت بنسب أخ لم يثبت
النسب لأنها لا ترث جميع المال، فإن أقر معها الامام ففيه وجهان
328

(أحدهما) أنه يثبت لان الامام نافذ الاقرار في مال بيت المال
(والثاني) أنه لا يثبت لأنه لا يملك المال بالإرث وإنما يملكه المسلمون وهم
لا يتعينون فلم يثبت النسب.
وإن مات رجل وخلف ابنين عاقلا ومجنونا فأقر العاقل بنسب ابن آخر لم
يثبت النسب لأنه لم يوجد الاقرار من جميع الورثة، فإن مات المجنون قبل
الإفاقة، فإن كان له وارث غير الأخ المقر قام وارثه مقامه في الاقرار، وإن لم
يكن له وارث غيره ثبت النسب لأنه صار جميع الورثة، فإن خلف الميت ابنين
فأقر أحدهما بنسب صغير وأنكر الآخر ثم مات المنكر فهل يثبت النسب؟ فيه
وجهان (أحدهما) أنه يثبت نسبه لان المقر صار جميع الورثة (والثاني) أنه
لا يثبت نسبه، لان تكذيب شريكه يبطل الحكم بنسبه فلم يثبت النسب، كما لو
أنكر الأب نسبه في حياته ثم أقر به الوارث.
وإن مات رجل وخلف ابنا وارثا فأقر بابن آخر بالغ عاقل وصدقه المقر
له ثم أقرا معا بابن ثالث ثبت نسب الثالث، فإن قال الثالث ان الثاني ليس بأخ
لنا ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه لا يسقط نسب الثاني لان الثالث ثبت نسبه بإقرار الأول
والثاني فلا يجوز أن يسقط نسب الأصل بالفرع
(والثاني) أنه يسقط نسبه وهو الأظهر لأنه الثالث صار ابنا فاعتبر إقراره
في ثبوت نسب الثاني.
وإن أقر الابن الوارث بأخوين في وقت واحد، فصدق كل واحد منهما
صاحبه ثبت نسبهما وميراثهما، وان كذب كل واحد منهما صاحبه لم يثبت نسب
واحد منهما، وان صدق أحدهما صاحبه وكذبه الآخر ثبت نسب المصدق
دون المكذب وإن أقر الابن الوارث بنسب أحد التوأمين ثبت نسبهما، وان
أقر بهما وكذب أحدهما الآخر لم يؤثر التكذيب في نسبهما لأنهما لا يفترقان
في النسب.
(فصل) وإن كان بين المقر وبين المقر به واحد وهو حي لم يثبت النسب
329

الا بتصديقه، وإن كان بينهما اثنان أو أكثر لم يثبت النسب الا بتصديق من
بينهما، لان النسب يتصل بالمقر من جهتهم فلا يثبت الا بتصديقهم
(فصل) وإن كان المقر به لا يحجب المقر عن الميراث ورث معه ما يرثه،
كما إذا أقر به الموروث وإن كان يحجب المقر مثل أن يموت الرجل ويخلف أخا
فيقر الأخ بابن الميت، أو يخلف الميت أخا من أب فيقر بأخ من الأب والام
ثبت له النسب ولم يرث، لأنا لو أثبتنا له الإرث أدى ذلك إلى اسقاط ارثه،
لان توريثه يخرج المقر عن أن يكون وارثا، وإذا خرج عن أن يكون وارثا
بطل اقراره وسقط نسبه وميراثه فأثبتنا النسب وأسقطنا الإرث.
وقال أبو العباس: يرث المقر به ويحجب المقر، لأنه لو كان حجبه يسقط
اقراره لأنه اقرار من غير وارث لوجب أن لا يقبل اقرار ابن بابن آخر لأنه
اقرار من بعض الورثة والنسب لا يثبت بإقرار بعض الورثة، وهذا خطأ
لأنه إنما يقبل إذا صدقه المقر به فيصير الاقرار من جميع الورثة.
(فصل) وان وصى المريض بأبيه فقتله ومات عتق ولم يرث، لان توريثه
يؤدى إلى اسقاط ميراثه وعتقه، لان عتقه في المرض وصية وتوريثه يمنع من
الوصية، والمنع من الوصية يوجب بطلان عتقه وارثه، فثبت العتق وسقط
الإرث، وان أعتق موسر جارية في مرضه وتزوجها ومات من مرضه لم ترثه
لان توريثها يبطل عتقها وميراثها، لان العتق في المرض وصية والوصية للوارث
لا تصح، وإذا بطل العتق بطل النكاح، وإذا بطل النكاح سقط الإرث فثبت
العتق وسقط الإرث.
وان أعتق عبدين وصارا عدلين وادعى رجل على المعتق أن العبدين له
وشهد العبدان بذلك تقبل شهادتهما، لان قبول شهادتهما يؤدى إلى ابطال الشهادة
لأنه يبطل بها العتق فإذا بطل للعتق بطلت الشهادة.
(فصل) وان مات رجل وخلف أخاه فقدم رجل مجهول النسب وقال أنا
ابن الميت فالقول قول الأخ مع يمينه. لان الأصل عدم النسب، فإن نكل
وحلف المدعى، فإن قلنا إن يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كالاقرار لم
يرث كما لا يرث إذا أقر به، وان قلنا إنه كالبينة ورث كما يرث إذا أقام البينة
330

(فصل) وإذا مات رجل ولا يعلم له وارث فجاء رجل وادعى أنه وارثه لم
تسمع الدعوى حتى يبين سبب الإرث لجواز أن يعتقد أنه وارث بسبب لا يورث
به، ولا يقبل قوله حتى يشهد له شاهدان من أهل الخبرة بحاله، ويشهدان أنه
وارثه ولا نعلم له وارثا سواء، ويبينان سبب الإرث كما يبين المدعى، فإذا شهدا
على ما ذكرناه حكم به لأن الظاهر مع هذه الشهادة أنه لا وارث له غيره وإن لم
يكونا من أهل الخبرة أو كانا من أهل الخبرة ولكنهما لم يقولا ولا نعلم له وارثا
سواء نظرت فإن كان المشهود له ممن له فرض لا ينقص أعطى اليقين، فيعطى
الزوج ربعا عائلا والزوجة ثمنا عائلا ويعطى الأبوان كل واحد منهما سدسا عائلا
وإن كان ممن ليس له فرض، وهو من عدا الزوجين والأبوين، بعث الحاكم إلى
البلاد التي دخلها الميت فإن لم يجدوا وارثا توقف حتى تمضي مدة لو كان له وارث
ظهر، وإن لم يظهر غيره فإن كان الوارث ممن لا يحجب بحال كالأب والابن
دفعت التركة كلها إليه لان البحث مع هذه الشهادة بمنزلة شهادة أهل الخبرة،
ويستحب أن يؤخذ منه كفيل بما يدفع إليه، وإن كان المشهود له ممن يحجب
كالجد والأخ والعم ففيه وجهان:
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق أنه لا يدفع إليه إلا نصيبه لأنه يجوز أن
يكون له وارث يحجبه فلم يدفع إليه أكثر منه.
(والثاني) وهو المذهب أنه يدفع إليه الجميع لان البحث مع هذه البينة بمنزلة
شهادة أهل الخبرة، وهل يستحب أخذ الكفيل أو يجب؟ فيه وجهان،
(أحدهما) أنه يستحب (والثاني) أنه واجب.
(فصل) وإن كان لرجل أمتان ولكل واحدة منهما ولد ولا زوج لواحدة
منهما ولا أقر المولى بوطئ واحدة منهما، فقال أحد هذين الولدين ابني من أمتي
طولب بالبيان، فإن عين أحدهما لحقه نسبه وحكم بحريته ثم يسأل عن الاستيلاد
فإن قال استولدتها في ملكي فالولد حر لا ولاء عليه لأنه لم يمسه رق وأمه أم
ولد، وان قال استولدتها في نكاح عتق الولد بالملك وعليه الولاء لأنه مسه الرق
وأمه مملوكة لأنها علقت منه بمملوك وترق الأمة الأخرى وولدها، وان ادعت
331

أنها هي التي استولدها فالقول قول المولى مع يمينه لأنه الأصل عدم الاستيلاد
وإن مات قبل البيان وله وارث يجوز ميراثه قام مقامه في البيان، لأنه يقوم
مقامه في الحاق النسب وغيره، فإن لم يعلم الوارث جهة الاستيلاد ففيه وجهان:
(أحدهما) أن الأمة لا تصير أم ولد لان الأصل الرق فلا يزال بالاحتمال
(والثاني) وهو المنصوص أنها تكون أم ولد، لأن الظاهر من ولده منها أنه
استولدها في ملكه.
وان لم يكن وارث أو كان له وارث ولكنه لم يعيق الولد عرض الولدان
على القافة، فإن ألحقت به أحد الولدين ثبت نسبه ويكون الحكم فيه كالحكم فيه
إذا عينه الوارث، وان لم تكن قامة أو كانت ولم تعرف أو ألحقت الولدين به
سقط حكم النسب لتعذر معرفته، وأقرع بينهما لتمييز العتق، لان القرعة لها
مدخل في تمييز العتق، فإن خرجت القرعة على أحدهما عتق ولا يحكم لواحد
منهما بالإرث لأنه لم يتعين، وهل يوقف ميراث ابن؟ فيه وجهان:
(أحدهما) أنه يوقف، وهو قول المزني رحمه الله، لأنا نتيقن أن
أحدهما ابن وارث.
(والثاني) أنه لا يوقف، لان الشئ إنما يوقف إذا رجى انكشافه،
وههنا لا يرجى انكشافه.
(فصل) وإن كان له أمة ولها ثلاثة أولاد ولا زوج لها ولا أقر المولى
بوطئها فقال أحد هؤلاء ولدى أخذ البيان فان عين الأصغر ثبت نسبه وحريته
ثم يسأل عن جهة الاستيلاد فان قال استوليتها في ملكي فالولد حر لا ولاء عليه
والجارية أم ولد، وللولد الأكبر والأوسط مملوكان.
وان قال استولدتها في نكاح ثم ملكتها فقد عتق الولد بالملك وعليه الولاء
لأنه مسه الرق وأمه أمة فن والأكبر والأوسط مملوكان، وان عين الأوسط
تعين نسبه وحريته ويسأل عن استيلاده، فان قال استولدتها في ملكي فالولد
حر الأصل وأمه أم ولد، وأما الأصغر فهو ابن أم ولد وثبت لها حرمة
الاستيلاد، وهل يعتق بموته كأمه؟ فيه وجهان
332

(أحدهما) أنه يعتق لأنه ولد أم ولده (والثاني) أنه عبد قن لا يعتق بعنق
أمه لجواز أن يكون عبدا قنا بأن أحبل أمه وهي مرهونة فثبت لها حرمة
الاستيلاد فتباع على أحد القولين، وإذا ملكها بعد ذلك صارت أم ولده وولده
الذي اشتراه معها عبد قن فلا يعتق مع الاحتمال.
وإن قال استولدتها في نكاح عتق الولد بالملك وعليه الولاء لأنه مسه الرق
وأمه أمة قن والولدان الآخران مملوكان وان عين الأكبر تعين نسبه وحريته
ويسأل عن الاستيلاد فان قال استولدتها في ملكي فهو حر الأصل وأمه أم ولد
والأوسط والأصغر على الوجهين.
وإن قال استولدتها في نكاح فالولد حر وعليه الولاء والأمة قن والأوسط
والأصغر مملوكان وإن مات قبل البيان وخلف ابنا يجوز الميراث قام مقامه في التعيين
فان عين كان الحكم فيه على ما ذكرناه في الموروث إذا عين، وإن لم يكن له ابن
أو كان له ولم يعين عرض على القافة، فإن عينت القافة فان الحكم على ما ذكرناه
وإن لم تكن قافة أو كانت وأشكل عليها أقرع بينهم لتمييز الحربة لأنها تتميز
بالقرعة، فإن خرجت على أحدهما حكم بحريته ولا يثبت النسب، لان القرعة
لا يتميز بها النسب، وأما الأمة فان يبحث عن جهة استيلادها، فإن كانت في
ملكه فهي أم ولده، وإن كان في نكاح فهي أمة قن، وإن لم يعرف فعلى ما ذكرناه
من الوجهين فلا يرث الابن الذي لم يتعين نسبه، وهل يوقف له نصيب ابن أو
يعطى الابن المعروف النسب حقه؟ فيه وجهان:
(أحدهما) يوقف له ميراث ابن، وهو قول المزني رحمه الله
(والثاني) وهو المذهب أنه لا يوقف له شئ بل تدفع التركة إلى المعروف
النسب وقد بينا ذلك فيما تقدم.
(الشرح) حديث (اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة...)
أخرجه البخاري في باب (الولد للفراش) واتفقا عليه من حديث، سفيان ومالك
في الموطأ وابن ماجة من حديث عائشة، وأورده ابن حجر في ترجمة سعد بن أبي
وقاص في الإصابة والسخاوي في فتح المغيث،
333

اللغة: قوله (وابن وليدة أبى) الوليدة الجارية قال حسان:
وتغدو ولائدهم لقف الحنظل
قوله (الولد للفراش) أي لمالك للفراش، وهو الزوج، أو لمالك الأمة
لأنه يفترشها بالحق، وهذا من مختصر الكلام، وهو على حذف مضاف كقوله
تعالى (واسأل القرية) أي أهل القرية. والفراش الزوجة، يقال افترش فلان
فلانة إذا تزوجها، ويقال لامرأة الرجل هي فراشه وإزاره ولحافه
قوله (وللعاهر الحجر) العاهر الزاني، يقال عهر الرجل المرأة يعهر عهرا
إذا أتاها بفجور، والعهر الزنا، وفى الحديث: اللهم أبدله بالعهر العفة، ومعنى
وللعاهر الحجر أي لا شئ له في نسب الولد وإنما يستحق الحجر الذي لا ينتفع
به. أو يرمى بالحجر ويطرد، وقول من قال إنه يرجم الحد بالحجر ليس بشئ
لأنه ليس كل زان يجب رجمه، وهذا كما قالوا في معنى له التراب أي لا شئ له.
وروى أن أبا العيناء ولد له ولد وكان أعمى فأتاه الناس يهنئونه به، فأنى الجماز
في جملتهم فوضع بين يديه حجرا ومضى، فتكلم بذلك فقال: أتدرون ما أراد
لعنه الله؟ قالوا لا، قال أراد قول النبي صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش
وللعاهر الحجر)
قالت الشافعية في الأنوار (الاقرار بالنسب قسمان، الأولى أن يلحقه
بنفسه وله شروط:
1 - أن يكون الملحق رجلا مكلفا فلا يصح إقرار المرأة والصبي والمجنون،
خلية كانت أو ذات زوج، ولو أقامت بينة لحق، ولا يشترط الاسلام
والحرية وإطلاق التصرف.
2 - أن لا يكذبه الحس، فلو كان في سن لا يتصور أن يكون ولدا للملحق لم يلحق
وان صدقه المقر.
3 - أن لا يكذبه الحال فان جاءت امرأة من بلدة بعيدة ومعها طفل فألحقه
رجل ما سافر قط إلى بلدها ولا هي إلى بلده لم يلحقه.
4 - أن لا يكذبه الشرع، فإن كان المقر له مشهور النسب من غيره لم يلحق
334

صدقه أو كذبه 5 - أن لا يكذبه المقر له إن كان بالغا فان كذبه أو سكت لم
يثبت نسبه الا ببينة فإن لم تكن وحلف للمقر له سقط نسبه وان نكل وحلف
المقر ثبت، ولو استلحق صغيرا ثبت نسبه ويتوارثان، فإن بلغ وكذب لم يندفع
النسب، والمجنون كالصغير، ولو استلحق صغيرا أو بالغا بعد موته لحق، سواء
كان له مال أو لم يكن، ولو قتله ثم استلحقه لحق وسقط القصاص.
6 - أن لا يزاحمه غيره، فإن ادعى آخر نسبه أيضا لم يلحق به الا بتصديقه
وتكذيب الآخر إن كان بالغا أو ببينة مع عجز الاخر عنها أو الحاق القائف
وحده إن كان صغيرا، والاقرار بنسب الغير لا يكون إقرار النكاح أمه فلا
يتوارث ولو استحق عبد الغير أو معتقه لم يلحق إلا ببينة، صغيرا كان أو
كبيرا وصدقه، وإذا لحق بقي رقيقا لمولاه، ولو استلحق عبدا في يده فإن لم يكن
لغا قوله، وان أمكن فإن كان مجهول النسب لحقه إن كان صغيرا أو كبيرا
وصدقه وعتق ويرث، وان كذبه لم يلحق وعتق ولا يرث، ولو كانت له جارية
خلية ذات ولد فقال هذا ولدى من هذه لحقه ان أمكن ولا تصير الجارية أم ولد
له. ولو قال هذا ولدى استولدتها به في ملكي أو علقت به في ملكي أو هذا
ولدى منها وهي في ملكي منذ عشر سنين، وكان الولد ابن سنة ثبت النسب
وهي أم ولد قطعا. ولو كانت الأمة مزوجة فالولد للزوج ولا أثر لالحاق السيد
ولو كانت فراشا للسيد لاقراره بوطئها لحقه الولد بالفراش ولا حاجة إلى الاقرار
ولا يعتبر الا الامكان، ولا فرق في الاقرار بالاستيلاد بين الصحة والمرض.
القسم الثاني: أن يلحقه بغيره كهذا أخي أو عمى، ويشترط فيه وراء ما تقدم
من الشروط شرطان:
1 - أن يكون الملحق به ميتا، فما دام حيا لم يكن لغيره الالحاق، وإن كان
مجنونا في حياته وألحقه وارثه بعد موته لحقه
2 - أن يصدر الاقرار من الوارث الجائز للتركة فلا يثبت بإقرار الأجانب
ولا بإقرار القريب غير الأجانب، ولا بإقرار القريب غير الوارث لكفر أو
رق أو قتل، ولا بإقرار الوارث غير الجائز، فلو مات وخلف ابنا واحدا فأقر
بأخ ثبت، فلو خلف بنين وبنات فلا بد من اتفاقهم ومن اتفاق الزوج أو
335

الزوجة والصغير والمجنون بعد البلوغ والإفاقة لا الكافر والرقيق بعد الاسلام
والحرية، ولو خلف بنتا حائزة لكونها معتقة أو غير حائزة ووافقها الامام لحق
ولو أقر بنسب من يحجب المقر بأن مات عن أخ أو عم فأقر بابن للميت لحق
ولم يرث، ولو أحد الابنين باح وأنكر الآخر لم يثبت إرثه في الظاهر،
وعلى المقر أن يشركه بثلث ما يخصه إن كان صادقا، والطريق أن يضرب أصل
المسألة على قول المنكر وهو اثنان في أصل المسألة على قول المقر وهو ثلاثة تبلغ
ستة، ثلاثة منها للمنكر وثلاثة للمقر فيكون بينهما أثلاثا.
قال القاضي حسين في الفتاوى: ولو زوج الحاكم امرأة وجاء رجل وقال أنا
أبو وكنت في البلد وصدقته ثبت النسب وبطل النكاح
قال القفال في الفتاوى: ولو أتت الجارية المشتركة بابن فقال أحد الشريكن
هو ابني عتق عليه، موسرا كان أو معسرا، ولزمه غرم نصيب الاخر وتصير
الجارية أم ولد له إن كان موسرا ونصيبه إن كان معسرا
وقال في الحاشية المسماة بالكمثرى ردا عليه في مسألة بطلان النكاح واعلم
أن بطلان النكاح مرجوع، فكأنه تبع فيه البغوي والمعتمد الراجح صحته، وإنما
يبطل بالبينة على ما يدعيه. وفى حاشية الحاج إبراهيم في نفس الموضوع فيه نظر
والظاهر أن النكاح لا يبطل إلا أن يقيم بينة على الحضور.
قالت الحنابلة: وإن أقر رجل أو امرأة بزوجية الاخر فجحده ثم صدقه صح
قال القاضي وغيره تحل له بنكاح جديد، وان لم يصدقه إلا بعد موت المقر صح
وورثه ويتخرج من مسألة الوارث بعدها لا أرث، فإن كذبه في حياته فوجهان
(أحدهما) لا يصح تصديقه ولا يرثه: جزم به في الوجيز (والثاني) يصح
ويرثه، وهو ظاهر الكلام في المقنع، وفى الروضة الصحة قول أصحابنا وقال
شيخنا فيمن أنكر الزوجية فأبرأته فأقر بها لها طلبه بحقها، وان أقر بزوج أو
مولى أعضه فصدقه وأمكن ولم يدفع به نسب غيره قبل، ولو أسقط وارثه،
وكذا بولد ولا يعتبر تصديقه مع صغر وجنون وإلا اعتبر، وقيل لا يرثه إن كان
ميتا التهمة، وقيل ولا يثبت نسبه إن كان كبيرا عاقلا ميتا، في اقرار
امرأة مزوجة بولد روايتان.
336

(أحدهما) يلحقها وهو الصحيح من المذهب (والثانية) لا يحلقها وان
أقر بأب فكولد وفى الوسيلة ان قال عن بالغ هو ابني أو أبى فسكت المدعى
عليه ثبت نسبه في ظاهر قوله، ولا يعتبر في تصديق أحدهما بالآخر، فيشهد
الشاهد بنسبهما بدونه
نقل أحمد بن سعيد: النسب بالولد ثبت بإقرار الرجل به أنه ابنه فلا ينكر
أو بولد على فراشه أو يدخل على أهله وولده وحرمه. ومن ثبت نسبه فادعت
أمه بعد موت المقر زوجته لم يثبت، وكذا دعوى أخته البنوة ومن نسبه
معروف فأقر بغير الأربعة المذكورين كابن ابن وجد وأخ وعم لم يصح، وان
أقر مجهول نسبه ولا ولاء عليه بنسب وارث حتى بأخ أو عم فصدقه وأمكن قبل
ومع الولاء يقبل ان صدقه مولاه ويتخرج أو لا واختاره شيخنا وقافا
لأبي حنيفة، ومن أقر بالرق وكان تصرف بنكاح وغيره، ومن عنده أمة له
منها أولاد فأقر بها لرجل قبل إقراره على الأمة لا على أولادها نقله
ابن مشيش.
قال الحنفيون: وأما الاقرار بالنسب فهو الاقرار بالوارث وهو نوعان:
(أحدهما) إقرار الرجل بوارث (والثاني) إقرار الوارث بوارثه ويتعلق بكل
واحد منهما حكمان، حكم النسب وحكم الميراث. أما الاقرار بوارث فلصحته
في حق ثبات النسب شرائط. منها أن يكون المقر به محتمل الثبوت لان الاقرار
إخبار عن كائن، فإذا استحال كونه فالاخبار عن كائن يكون كذبا محضا.
ومنها أن لا يكون المقر بنسبه معروف النسب من غيره، فإن كان لم يصح لأنه
إذا ثبت نسبه من غيره لا يحتمل ثبوته له بعده.
ومنها تصديق المقر بنسبه إذا كان في يد نفسه لان اقراره يتضمن ابطال
يده فلا تبطل الا برضاه.
ومنها أن يكون في حمل النسب على الغير، سواء كذبه المقر بنسب أو صدقه
لان إقرار الانسان حجة على نفسه لا على غيره لأنه على غيره شهادة أو دعوى
والدعوى المفردة ليست بحجة وشهادة الفرد فيما يطلع عليه الرجال، وهو من
337

باب حقوق العباد غير مقبولة، والاقرار الذي فيه حمل نسب الغير على غيره
إقرار على غيره لا على نفسه فكان دعوى أو شهادة، وكل ذلك لا يقبل الا بحجة
وعلى هذا يجوز إقرار الرجل بخمسة نفر: الوالدين والولد والزوجة والمولى،
ويجوز إقرار المرأة بأربعة نفر الوالدين والزوج والمولى، ولا يجوز بالولد لأنه
ليس في الاقرار بهؤلاء حمل نسب نسب الغير على غيره. أما الاقرار بالولاء
فظاهر لأنه ليس فهي حمل نسب إلى أحد. وكذلك الاقرار بالزوجية ليس فيه
حمل نسب الغير على غيره لكن لا بد التصديق لما ذكرنا، ثم إن وجد التصديق
في حال حياة المقر جاز بلا خلاف وان وجد بعد وفاته فإن كان الاقرار من
الزوج يصح تصديق المرأة، سواء صدقته في حال حياته أو بعد وفاته بالاجماع
بأن أقر الرجل الزوجية فمات ثم صدقته المرأة، لان النكاح يبقى بعد الموت من
وجه لبقاء بعض أحكامه في العدة فكان محتملا التصديق
وإن كان الاقرار بالزوجية من المرأة فصدقها الزوج بعد موتها لا يصح
عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد يصح
وأما الاقرار بالولد فلانه ليس فيه حمل نسب غيره على غيره بل على نفسه
فيكون إقرارا على نفسه لا على غيره فيقبل لكن لا بد من التصديق إذا كان في
يد نفسه لما قلنا، وسواء وجده في حال حياته أو بعد وفاته، لان النسب
لا يبطل بالموت فيجوز التصديق في الحالين جميعا وكذلك الاقرار بالوالدين
ليس فيه حمل نسب غيره على غيره فيكون إقرارا على نفسه لا على غيره فيقبل
وكذلك اقرار المرأة بهؤلاء لما ذكرنا الا الولد لان فيه حمل نسب غيره على
غيره وهو نسب الولد على الزوج فلا يقبل الا إذا صدقها الزوج أو تشهد امرأة
على الولادة بخلاف الرجل لان فيه حمل نسب الولد على نفسه ولا يجوز الاقرار
بغير هؤلاء من العم والأخ غيره على غيره وهو الأب والجد
وكذلك الاقرار بوارث في حق حكم الميراث يشترط له ما يشترط للاقرار
به في حق ثبات النسب، وهو ما ذكرنا، الا شرط حمل النسب على الغير، فإن
الاقرار بنسب يحمله المقر على غيره لا يصح في حق ثبات النسب أصلا ويصح
338

في حق الميراث لكن بشرط ان لا يكون له وارث أصلا ويكون ميراثه له لان
تصرف العاقل واجب التصحيح ما أمكن، فإن لم يمكن في حق ثبات النسب
لفقد شرط الصحة أمكن في حق الميراث وأن ثمة وارث قريبا كان أو بعيدا
لا يصح إقراره أصلا ولا شئ له في الميراث بأن أقر أخ وله عمة أو خالة فميراثه
لعمته أو خالته ولا شئ للمقر له لأنهما وارثان بيقين فكان حقهما ثابتا بيقين
فلا يجوز إبطاله بالصرف إلى غيرهما.
وكذلك إذا أقر بأخ أو ابن ابن وله مولى الموالاة مات فالميراث للمولى ولا
شئ للمقر له، لان الولاء من أسباب الإرث
وأما اقرار بوارث فالكلام فيه في موضعين: أحدهما في حق ثبات النسب
والثاني في حق الميراث.
اما الأول فالامر فيه لا يخلو من أحد وجهين، اما إن كان الوارث واحد
وأما إن كان أكثر من واحد بأن مات رجل وترك ابنا فأقر بأخ هل يثبت نسبه
من الميت؟ اختلف فيه، قال أبو حنيفة ومحمد لا يثبت النسب بإقرار وارث
واحد، وقال أبو يوسف يثبت، وبه أخذ الكرخي رحمه الله، وإن كان أكثر
من واحد، بأن كان رجلين، أو رجلا وامرأتين فصاعدا، يثبت النسب
بإقرارهم بالاجماع.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان مات رجل وخلف أبنين فأقر أحدهما على أبيه بدين وأنكر
الآخر، نظرت فإن كان المقر عدلا جاز أن يقضى بشهادته مع شاهد آخر أو مع
امرأتين أو مع يمين المدعى، وان لم يكن عدلا حلف المنكر ولم يلزمه شئ.
وأما المقر ففيه قولان:
(أحدهما) أنه يلزمه جميع الدين في حصته لان الدين قد يتعلق ببعض التركة
إذا هلك بعضها كما يتعلق بجميعها فوجب قضاؤه من حصة المقر
والقول الثاني وهو الصحيح أنه لا يلزمه من الدين الا بقدر حصته، لأنه
339

لو لزمه بالاقرار جميع الدين لم تقبل شهادته بالدين لأنه يدفع بهذه الشهادة عن
نفسه ضررا والله أعلم
(الشرح) قوله (وإن مات رجل وخلف ابنين..)
قال يوسف الأردبيلي في الأنوار (ولو أقر بعض الورثة على الميت بدين
وأنكر بعضهم فلا يلزم المقر إلا بقسط نصيبه من التركة. كما لو أقر أحد المالكين
بجناية العبد المشترك، فإن كان نصبه من الميراث يلزمه نصف الدين وإن كان
الربع فالربع، ولو مات المنكر ووارثه المقر لزمه الآن كل الدين، ولو شهد
المقر على المورث، وهو عدل قبلت، سواء شهد قبل الاقرار أو بعده، ولو لم
يكن للميت تركة لم يلزم الوارث قضاء الدين، ولو أبرأ صاحب الدين الموسر أو
المعسر صح وبرئ، ولو أبرأ الوارث لم يصح ولم يبرأ الميت، ولو أقر أجنبي
بدين على الميت ثم وقعت تركته في يده أمر بصرفها إلى ذلك الدين، ولو ادعى
على ابني ميت أن بعض أعيان التركة ملكه فصدقه أحدهما، فإن كان قبل قسمة
التركة سلم النصف إليه في الحال، وإن كان بعدها فإن كانت المدعاة في يد المصدق
سلم ولا شئ على المكذب، وإن كانت في يد الآخر فعلى المصدق نصف القيمة
ولا شئ على الاخر ودعوى للعين لا تسمع الا على من هي في يده. ولو شهد
على الاخر سمع وغرم نصف قيمة العهد المشهود عليه
ولو أقر رجل على ولده أو أخيه بدين أو جناية لم يقبل، ولو أقر على عبده
بما يوجب بعقوبة من قصاص أو حد قذف أو شرب لم يقبل، وبما يوجب مالا
قبل ولم يقبل بدين المعاملة والقرض.
قال صاحب التهذيب في كناية التعليق: ولو قال الدار التي تركها أبى لفلان
بل لفلان سلمت إلى الأول ولا يغرم الثاني، ولو قال العين الفلانية تركة فلان لم
يكن إقرارا بالملك لفلان ولو لوارثه ويكون اقرارا باليد
قالت الحنابلة (وان أقر ورثة بدين على موروثهم قضوه من التركة، وان
أقر بعضهم بلا شهادة فيقدر إرثه. إن ورث النصف فنصف الدين كإقراره
بوصية لا كل إرثه.
340

وفى التبصرة إن أقر منهم عدلان أو عدل ويمين ثبت، وإن خلف وارثا
واحدا لا يرق كل المال كبنت وأخت فأقر بما يستغرق التركة أخذ رب الدين
كل ما بيدها ويقدم ما ثبت بإقرار الميت وقبل ما ثبت بإقرار ورثته. ويحتمل
التسوية، وذكره الأزجي وجها ويقدم ما ثبت ببينة)
وقد أجملت لك ما قاله المالكية هكذا:
الاقرار إذا كان بينا فلا خلاف في وجوب الحكم به، وإنما النظر فيمن
يجوز إقراره ممن لا يجوز، وأما إذا كان الاقرار محتملا وقع الخلاف ولا يصح
الاقرار إلا من مكلف مختار، ولو هازلا بلفظ أو كتابة لا بإشارة إلا من
أخرس، لكن لو أقر صغير أو قن أذن لهما في تجارة في قدر ما أذن لهما فيه صح
ومن أكره ليقر بدرهم فأقر بدينار، أو ليقر لزيد فأقر لعمرو صح ولزمه لأنه
غير مكره، وليس الاقرار بإنشاء تمليك فيصح حتى مع إضافة الملك لنفسه،
ويصح إقرار المريض بمال لغير وارث، حكاه ابن المنذر إجماعا، لأنه غير متهم
في حقه ويكون من رأس المال كإقراره في صحته وبأخذ دين من غير وارث،
لا إن أقر لوارث إلا ببينة.
وقال مالك: يصح إذا لم يتهم إلا أن يقر لزوجته بمهر مثلها فأقل فيصح في
قول الجميع إلا الشعبي، والاعتبار بكون من أقر له وارثا أو لا حال الاقرار لا
الموت، وان كذب المقر له المقر بطل الاقرار وكان للمقر أن يتصرف فيما أقر
به بما شاء، وان أقر رجل أو امرأة بزوجية الاخر فسكت صح وورثه بالزوجية
لقيامها بينهما بالاقرار، أو جحده ثم صدقه صح وورثه لحصول الاقرار لا ان
بقي على تكذيبه حتى مات
ومن ادعى عليه بدينار فقال إن شهد به زيد فهو صادق لم يكن مقرا، ومن
باع أو وهب أو عتق عبدا ثم أقر به لغيره لم يقبل ويغرمه للمقر له، ومن
خلف ابنين ومأتين فادعى شخص مائة دينار على الميت فصدقه أحدهما وأنكر
الآخر لزم المقر نصفها الا أن يكون عدلا ويشهد ويحلف معه المدعى فيأخذها
341

وتكون الباقية بين الاثنين، ويحكم بإسلام من أقر بالشهادتين ولو مميزا، لان
عليا رضي الله عنه أسلم وهو ابن ثمان سنين.
وقال البخاري: وكان ابن عباس مع أمه من المستضعفين ولم يكن مع أبيه
على دين قومه) وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه عرض الاسلام على ابن
صياد صغيرا متفق عليه.
قال ابن رشد في بداية المجتهد: ولا خلاف بينهم أن الاقرار مرة واحدة
عامل في المال، وأما المسائل التي اختلفوا فيها من ذلك فهن من قبل احتمال اللفظ
وقال ابن حزم في المحلى (وصح بنص كلام رسول الله واعلامه أمته إياهم
بأحسن ما عليه ربه تعالى أن من أصاب حدا فستره الله عليه فإن أمره إلى الله
تعالى ان شاء عذبه وانشاء غفر له، وأن من أقر وأقيم عليه الحد فقد سقط
عنه ذلك الذنب وكفره الله تعالى عنه.
وبالضرورة ندري أن يقين المغفرة أفضل من التعزير في امكانها أو عذاب
الآخرة، وأين عذاب الدنيا كلها من غمسة في النار، نعوذ بالله منها، فكيف
بأكثر من ذلك)
وهاك ملخصا وجيزا عن الاقرار:
تعريفه: الاقرار هو أن يعترف المرء بالشئ في ذمته لغيره، كأن يقول إن
لزيد عندي ألف درهم مثلا أو مناعا أو دارا أو ضباعا
ممن يقبل: من العاقل البالغ ولا يقبل من المجنون أو الصبي أو المكره لقوله
صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة...) الحديث، إلا أن اقرار الصبي
إذا كان مميزا ومأذونا له في التصرف صح، فإن كان غير مميز أو محجور
عليه فلا يصح.
حكمه: اللزوم فمن أقر بشئ لزمه لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن
اعترفت فارجمها)
بعض أحكام الاقرار:
(ا) اعتراف المفلس أو المحجور عليه في الشؤون المالية لا يلزم لاتهام
342

المفلس بحد الغرماء، ولان المحجور عليه إذا قبل إقراره أصبح وكأنه لم يحجر
عليه ويبقى بذمتيهما ما أقرا به فيسددانه بعد زوال المانع.
(تم كتاب المجموع والحمد لله رب العالمين)
343