الكتاب: روضة الطالبين
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ٨
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ، الشيخ علي محمد معوض
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

روضة الطالبين
للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي
المتوفى سنة 676
ومعه
المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي
منتقى الينبوع
فيما زاد على الروضة من الفروع
للحافظ جلال الدين السيوطي
تحقيق
الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معرض
الجزء الثامن
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
1

جميع الحقوق محفوظة
الدار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
يطلب من: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
ص ب: 9424 / 11 تلكس: 41245
هاتف: 366135 - 810073
2

كتاب الايمان
فيه ثلاثة أبواب:
الأول: في نفس اليمين وللأئمة عبارات في حقيقة اليمين، أجودها وأصوبها
عن الانتقاض والاعتراض عبارة البغوي، قال: اليمين تحقيق الامر أو توكيده بذكر
اسم الله تعالى أو صفة من صفاته. ويتعلق بالضبط مسائل إحداها: تنعقد اليمين
على المستقبل والماضي، فإن حلف على ماض كاذبا وهو عالم، فهو اليمين
الغموس، سميت غموسا، لأنها تغمس صاحبها في الاثم أو في النار، وهي من
الكبائر، وتتعلق بها الكفارة. فإن كان جاهلا، ففي وجوب الكفارة القولان: فيمن
فعل المحلوف عليه ناسيا.
الثانية: من سبق لسانه إلى لفظ اليمين بلا قصد، كقوله في حالة غضب أو
لجاج أو عجلة أو صلة كلام: لا والله، وبلى والله، لا تنعقد يمينه، ولا يتعلق به
3

كفارة. ولو كان يحلف على شئ، فسبق لسانه إلى غيره.، فكذلك. وهذا كله
يسمى: لغو اليمين. وإذا حلف وقال: لم أقصد اليمين صدق، وفي الطلاق
والعتاق والايلاء لا يصدق في الظاهر، لتعلق حق الغير به. قال الامام في الفرق:
جرت العادة بإجراء ألفاظ اليمين بلا قصد بخلاف الطلاق والعتاق، فدعواه فيها
تخالف الظاهر، فلا يقبل. قال: فلو اقترن باليمين ما يدل على القصد، لم يقبل
قوله على خلاف الظاهر.
الثالثة: إذا قال غيره: أسألك بالله، أو أقسم عليك بالله، أو أقسمت
عليك بالله: لتفعلن كذا، فان قصد به الشفاعة، أو قصد عقد اليمين للمخاطب،
فليس بيمين في حق واحد منهما وإن قصد عقد اليمين لنفسه، كان يمينا على
الصحيح، كأنه قال: أسألك ثم حلف. وقال ابن أبي هريرة: ليس بيمين وهو
ضعيف. ويستحب للمخاطب إبراره، فإن لم يفعل وحنث الحالف، لزمه الكفارة،
وإن أطلق ولم يقصد شيئا يحمل على الشفاعة
قلت: يسن إبرار المقسم، كما ذكر للحديث الصحيح فيه، وهذا إذا لم
يكن في الأبرار مفسدة، بأن تضمن ارتكاب محرم، أو مكروه. ويكره السؤال بوجه
4

الله، ورد من سأل به، للحديث المعروف فيهما. والله أعلم.
الرابع: يجوز تعقيب اليمين بالاستثناء وهو قوله: إن شاء الله تعالى، فإن
عقب، لم يحنث بالفعل المحلوف عليه ولا كفارة، وهل نقول: انعقدت اليمين؟
وجهان أحدهما: نعم، لكن المشيئة مجهولة فلا يحنث نقله الروياني، والثاني:
لا، نقله البغوي. ويشترط أن يتلفظ بالاستثناء، وأن يقصد لفظه، ويصله
باليمين، فلا يسكت بينهما إلا سكتة لطيفة لتذكر أو عي أو تنفس كما ذكرنا في
الطلاق، وأن يقصد الاستثناء من أول اليمين، فلو قصده، في خلال اليمين، فوجهان
سبقا في الطلاق، وممن صححه الداركي والقاضيان أبو الطيب والروياني، وممن منعه
ابن القطان وابن المرزبان وابن كج. ولو قال: إن شاء الله، والله: لأفعلن
كذا، أو: لا أفعل كذا، صح الاستثناء، وكذا لو قدم الاستثناء، في الطلاق
والعتاق، وكذا لو قال: لفلان علي إلا عشرة دراهم مائة درهم وفي هذه الصورة وجه
ضعيف، وقال القاضي أبو الطيب: لو قال: إن شاء الله أنت طالق وعبدي حر، أو
قال: 0 إن شاء الله أنت طالق عبدي حر، لم تطلق ولم يعتق، لأن حرف العطف قد
يحذف مع إرادة العطف. ومن هذا القبيل قولنا: التحيات المباركات الصلوات،
وليكن هذا فيما إذا نوى صرف الاستثناء إليها جميعا، فإن أطلق فيشبه أن يجئ
خلاف في أنه يختص بالجملة الأولى أم يعمهما؟ ولو قال: أنت طالق
وعبدي حر إن شاء الله فيجئ الخلاف في أنه يختص بالجملة الثانية أم يعمهما؟
5

. قلت: الصحيح التعميم في الصورتين. والله أعلم.
ولو قال: عبدي حر إن شاء الله، أو امرأتي طالق، ونوى صرف الاستثناء
إليهما، صح ذكره ابن كج. وكما يجوز أن يقدم الاستثناء ويؤخره، يجوز أن
يوسطه. ولو قال: والله لأفعلن كذا إن لم يشأ الله أو إلا أن يشاء الله، ففيه خلاف
كما سبق في نظيره في الطلاق، والأصح عند ابن كج في قوله: إلا أن يشاء الله
أنه لا يحنث. وقال إبراهيم المروزي إن قال: والله لأفعلن إلا أن يشاء الله ولم يفعل،
حنث، وإن قال: والله لأفعلن كذا إلا أن يشاء الله، فلم يفعل، لم يحنث، وإن
فعل حنث.
فرع قال: والله لأدخلن هذه الدار اليوم إلا أن يشاء زيد، وقصد إلا أن
يشاء أن لا أدخلها، فقد عقد اليمين على الدخول، فإن دخلها في ذلك اليوم أو لم
6

يدخل وشاء زيد أن لا يدخل، لم يحنث، وإن شاء أن يدخل فلم يدخل، حنث،
وكذا لو لم يعرف مشيئة بأن جن، أو أغمي عليه حتى مضى اليوم، حنث هكذا نقله
المزني عن النص، ولو قال: والله لا أدخل إلا أن يشاء زيد الدخول، فإن لم
يدخل، لم يحنث، وإن دخل وقد شاء زيد دخوله قبل ذلك، لم يحنث أيضا، وإن
كان شاء أن لا يدخل، حنث، ولا تغني مشيئة الدخول بعد ذلك، وإن لم يعرف
مشيئته، فرواية الربيع عن الشافعي أنه لا يحنث، والروايتان
مختلفتان والصورتان متشابهتان، وللأصحاب فيهما طريقان، أحدهما: القطع
بالحنث، وحمل رواية الربيع على ما إذا لم يحصل اليأس من مشيئة، أو أنه رجع
عنه ولم يعلم الربيع رجوعه. والثاني فيهما قولان: أظهرهما: يحنث، لأن المانع
من حنثه المشيئة وقد جعلناها، والثاني: لا، للشك. ولو قال: والله لأدخلن إن شاء
فلان، إن دخل، فاليمين معلقة بالمشيئة، فلا ينعقد قبلها ولا حكم للدخول قبلها،
فإن شاء انعقدت، فان دخل بعده، بر، وإلا حنث. وينظر هل قيد الدخول بزمان
أو أطلق؟ وعند الاطلاق عمره وقت الدخول، فان مات قبله، حكمنا بالحنث قبل
الموت، وإن شاء فلان أن لا يدخل أو لم يشأ شيئا، أو لم تعرف مشيئته، فلا حنث
لأن اليمين لم تنعقد، وكذا لو قال: والله لا أدخل إن شاء فلان أن لا أدخل،
فلا تنعقد يمينه حتى يشاء فلان أن لا يدخل.
الخامسة: الحلف بالمخلوق مكروه كالنبي والكعبة وجبريل والصحابة
والآل. قال الشافعي رحمه الله: أخشى أن يكون الحلف بغير الله تعالى
معصية. قال الأصحاب: أي حراما وإثما، فأشار إلى تردد فيه، قال الامام:
والمذهب القطع بأنه ليس بحرام، بل مكروه. ثم من حلف بمخلوق لم تنعقد يمينه
ولا كفارة في حنثه. قال الأصحاب: فلو اعتقد الحالف في المحلوف به من التعظيم ما
يعتقده في الله تعالى كفر، وعلى هذا يحمل ما روي أن النبي (ص)
قال: من حلف بغير الله تعالى فقد كفر، ولو سبق لسانه إليه بلا قصد لم
يوصف بكراهة، بل هو لغو يمين وعلى هذا يحمل ما ثبت في الصحيحين أن النبي (ص)
7

قال: أفلح وأبيه إن صدق.
السادسة: إذا قال إن فعلت كذا، فأنا يهودي، أو نصراني، أو برئ من الله
تعالى، أو من رسول الله (ص)، أو من الاسلام، أو من الكعبة، أو مستحل الخمر أو
الميتة، لم يكن يمينا ولا كفارة في الحنث به، ثم إن قصد بذلك تبعيد نفسه عنه
لم يكفر، وإن قصد به الرضا بذلك وما في معناه إذا فعله، فهو كافر في الحال.
قلت: قال الأصحاب: وإذا لم يكفر في الصورة الأولى، فليقل: لا إله إلا
الله محمد رسول الله ويستغفر الله، ويستدل بما ثبت في الصحيحين أن
رسول الله (ص) قال: من حلف فقال في حلفه: باللات والعزى، فليقل لا إله إلا
الله. ويستحب أيضا لكل من تكلم بقبح أن يستغفر الله. وتجب التوبة من كل
كلام قبيح محرم، وستأتي صفة التوبة إن شاء الله تعالى في كتاب الشهادات. وقد
ذكرت في آخر كتاب الأذكار جملا كثيرة من حكم الألفاظ القبيحة، واختلاف أحوالها
وطرق الخروج منها. والله أعلم.
8

السابعة: قال أهل اللسان: حروف القسم ثلاثة الباء والواو والتاء المثناة
فوق، قالوا: والأصل الباء وهي من صلة الحلف، كأن القائل يقول: حلفت
بالله، أو أقسمت بالله، أو آليت بالله، ثم لما كثر الاستعمال وفهم المقصود، حذف
الفعل، ويلي الباء الواو، لأن الباء تدخل على المضمر تقول: بك وبه لأفعلن،
كما تدخل في المظهر، والواو تختص بالمظهر فتأخرت، والتاء بعد الواو، لأنها
لا تدخل إلا على الله، فإذا قال بالله - بالباء الموحدة - لأفعلن، فإن نوى
اليمين، أو أطلق، فهي يمين لاشتهار الصبغة بالحلف لغة وشرعا.
وحكى ابن كج خلافا فيما إذا أطلق، والمذهب أنه يمين، وبه قطع
الأصحاب، وإن نوى غير ذلك اليمين بأن قال: أردت بالله وثقت، أو اعتصمت بالله
أو أستعين أو أؤمن بالله ثم ابتدأت لأفعلن، فالمذهب وبه قطع العراقيون والبغوي
والروياني وغيرهم: أنه ليس بيمين، واستبعد الامام هذا وجعله زللا أو خللا من
ناسخ. ونقل أنه لو نوى غير اليمين وادعى التورية لم يقيل فيما تعلق بحق آدمي،
وهل يدين باطنا؟ قبل: وجهان، وقال القاضي حسين: لا يدين قطعا، لأن الكفارة
تتعلق باللفظ المحرم الذي أظهر ما يخالفه، وأما قوله: والله، فالمذهب أنه
كقوله: بالله على ما ذكرنا، وأشار بعضهم إلى القطع بأنه يمين بكل حال، ووجه
المذهب أنه قد يريد به القائل والله المستعان ثم يبتدئ لأفعلن، وليس في ذلك إلا
لحن في الاعراب وسيأتي نظائره إن شاء الله تعالى. وأما إذا قال: تالله لأفعلن
بالمثناة فوق، فالمنصوص هنا وفي الايلاء أنه يمين، وعن نصه في القسامة أنه ليس
9

بيمين، وللأصحاب فيه طرق، أحدها: العمل بظاهر النص. والثاني: فيهما
قولان، والثالث وهو المذهب وبه قال ابن سلمة وأبو إسحاق وابن الوكيل: القطع
بأنه يمين. قالوا: ورواية النص في القسامة مصحفة إنما هي بالياء المثناة تحت،
لأن الشافعي رحمه الله علل، فقال: لأنه دعاء وهذا إنما يليق بالمثناة تحت. ثم قيل
أراد إذا قال يا الله على النداء أو قيل أراد يا لله بفتح اللام على الاستغاثة، وهذا أشبه
وأقرب إلى التصحيف، وقيل: ليست مصحفه، بل هي محمولة على ما إذا قال له
القاضي: قل: بالله، فقال: تالله، فلا يحسب ذلك، لأن اليمين يكون على وفق
التحليف، وكذا لو قال: قل: بالله فقال: بالرحمن، لا تحسب يمينه. وعكسه لو
قال: قل: الطرف الثاني: في كيفية كفارة اليمين، وهي مختصة باشتمالها على تخيير
في الابتداء، وترتيب في الانتهاء، فيتخير الحالف بين أن يطعم عشرة مساكين، أو
يكسوهم، أو يعتق رقبة، فإن اختار الاطعام، أطعم كل واحد مدا، والقول في
جنس الطعام، وكيفية إخراجه، ومن يصرف إليه، وامتناع إخراج القيمة، وصرف
الامداد العشرة إلى بعض، وسائر المسائل على ما سبق في الكفارات، وإن اختار
الكسوة، كساهم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وإن اختار الاعتاق، فلتكن
الرقبة بالصفات المذكورة في الكفارات. ولو أطعم بعض العشرة، وكسا بعضهم،
لم يجزئه، كما لا يجوز أن يعتق نصف رقبة، ويطعم أو يكسو خمسة، ولو أطعم
عشرة، وكسا عشرة، وأعتق رقبة، أو أطعم ثلاثين مسكينا، أو كساهم عن ثلاث
كفارات ولم يعين، أجزأه عنهن، فإن عجز عن الخصال الثلاث صام ثلاثة أيام،
والقول فيما يحصل به العجز ذكرناه في الكفارات، ومن له أن يأخذ سهم الفقراء أو
قال: قل: تالله بالمثناة فوق، فقال: بالله الموحدة، قال القفال: يكون يمينا،
لأنه أبلغ وأكثر استعمالا، ولو قال: قل: بالله، فقال: والله، قال الامام: فيه
تردد، لأن الباء والواو لا تكادان تتفاوتان، ولا يمتنع المنع للمخالفة. وهذا المعنى
يجئ في مسألة القفال، وهذا الخلاف إذا قال: تالله ولم يقصد اليمين ولا غيرها،
فإن نوى غير اليمين، فليس بيمين بلا خلاف، صرح به العراقيون والروياني
وغيرهم.
قلت: قال الدارمي: لو قال يا الله بالمثناة تحت، أو فالله بالفاء، أو أألله
بالاستفهام ونوى اليمين، فيمين، وإلا فلا. والله أعلم.
فرع: لو قال: والله لأفعلن برفع الهاء أو نصبها، كان يمينا، واللحن
لا يمنع الانعقاد، وقال القفال: في الرفع لا يكون يمينا إلا بالنية.
فرع: لو حذف حرف القسم، فقال: الله لأفعلن كذا بجر الهاء أو نصبها أو
رفعها ونوى اليمين، فهو يمين، وإن لم ينو، فليس بيمين في الرفع على المذهب،
ولا في الناصب على الصحيح، ولا في الجر على الأصح، لأن الرفع يحتمل
الابتداء فيبعد الحنث، ويقرب في الجر الاستعارة بالصلة الجارة ويليه النصب بنزع
الجار.
فرع: لو قال: بله فشد اللام كما كانت وحذف الألف بعدها، فهو غير ذاكر
لاسم الله تعالى ولا حالف، لأن البلة هي الرطوبة، فلو نوى بذلك اليمين، فقال
الشيخ أبو محمد والامام الغزالي: وهو يمين ويحمل حذف الألف على اللحن، لان
10

الكلمة تجري كذلك على ألسنة العوام أو الخواص.
قلت: ينبغي أن لا يكون يمينا، لأن اليمين لا يكون إلا باسم الله تعالى أو
صفته، ولا يسلم أن هذا لحن، لأن اللحن مخالفة صواب الاعراب، بل هذه كلمة
أخرى (1) والله أعلم.
الثامنة: في ضبط ما يحلف به، وفيه طريقان، إحداهما وهي أقصرهما: أن
اليمين ينعقد إذا حلف بما مفهومه ذات الباري سبحانه وتعالى، أو صفة من صفاته،
والثانية وهي أقرب إلى سياق " المختصر " (2): أنها لا تنعقد إلا حلف بالله، أو
باسم من أسمائه، أو صفة من صفاته، وأراد بالقسم الأول أن يذكر ما يفهم منه ذات
الله تعالى ولا يحتمل غيره من غير أن يأتي باسم مفرد، أو مضاف من أسمائه
الحسنى، وذلك كقوله: والذي أعبده، أو أسجد له، أو أصلي له، والذي فلق
الحبة، أو نفسي بيده، أو مقلب القلوب فتنعقد يمينه، سواء أطلق أو نوى الله
سبحانه وتعالى أو غيره، وإذا قال قصدت غيره، لم يقبل ظاهرا قطعا، وكذا لا يقبل
أيضا فيما بينه وبين الله على الصحيح المعروف في المذهب (3)، وحكي فيه وجه
ضعيف.
وأما القسم الثاني وهو الحلف بالأسماء، فالأسماء ثلاثة أنواع:
أحدها: ما يختص بالله تعالى ولا يطلق في حق عيره، كالله والإله، والرحمن
ورب العالمين، ومالك يوم الدين، وخالق الخلق، والحي الذي لا يموت، والأول
الذي ليس قبله شئ، والواحد الذي ليس كمثله شئ، فحكم الحلف به حكم
11

القسم الأول، وفي كتاب ابن كج: أنه ليس في الأسماء صريح في الحلف إلا
بالله، وهذا غريب ضعيف.
النوع الثاني: ما يطلق في حق الله وفي حق غير الله تعالى، لكن الغالب
استعماله في حق الله تعالى وأنه يقيد في حق غيره بضرب تقييد، كالجبار والحق
والرب والمتكبر والقادر والقاهر، فإن حلف باسم منها ونوى الله تعالى أو أطلق
فيمين، وإن نوى غير الله (تعالى) (1) فليس بيمين والخالق والرازق والرحيم من هذا
النوع على الصحيح، وبه قطع الجمهور، وقيل من الأول.
النوع الثالث: ما يطلق في حق الله تعالى وفي حق غيره ولا يغلب استعماله
في أحد الطرفين كالحي والموجود والمؤمن والكريم والغني (2) وشبهها، فإن نوى به غير
الله تعالى، أو أطلق فليس بيمين، وإن نوى الله تعالى، فوجهان: أحدهما يمين،
وبع قطع صاحبا " المهذب " و " التهذيب "، وفي شرح الموفق به طاهر أن صاحب
" التقريب " وأبا يعقوب قطعا به، ونقلاه عن شيوخ الأصحاب، والثاني وهو الأصح
وبه أجاب الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وسائر العراقيين والامام والغزالي: لا يكون
يمينا، لأن اليمين إنما تنعقد باسم معظم، والأسماء التي تطلق في حق الخالق
والمخلوق إطلاقا واحدا ليس لها حرمة ولا عظمة.
قلت: الأصح أنه يمين، وبه قطع الرافعي في " المحرر " و صاحب " التنبه "
والجرجاني وغيرهما من العراقيين لأنه اسم يطلق على الله وقد نواه، وقولهم: ليس
له حرمة مردود. والله أعلم.
والسميع والبصير أو العليم والحكيم من هذا النوع، لا من الثاني على الأصح،
فقد عد البغوي العالم من هذا النوع. واعلم أن ابن كج نقل وجها أن الحلف بأي
اسم كان من الأسماء التسعة والتسعين المذكورة في الحديث صريح، ولا فرق بين
بعضها وبعض، وهذا غريب، وأما القسم الثالث: فالحلف بالصفات. فمتكلم في
صور:
12

منها: إذا قال: وحق الله (1) لأفعلن كذا، فإن نوى به اليمين، فيمين، وإن نوى
غيرها من العبادات وغيرها، فليس بيمين، وإن أطلق فوجهان، أحدهما: ليس
بيمين، حكي عن المزني وأبي إسحاق، واختاره الامام والغزالي، والصحيح
المنصوص الذي قطع به الجمهور أنه يمين، لأنه غلب استعماله في اليمين، فتصير
هذه القرينة صارفه للفظ إلى معنى استحقاق الإلهية والعظمة وقال المتولي: ولو قال
وحق الله بالرفع ونوى اليمين فيمين، وإن أطلق، فلا، وإن قاله بالنصب وأطلق
فوجهان: والذي أجاب به البغوي المنع في النصب أيضا.
ومنها: قوله وحرمة الله، وهو كقوله وحق الله، وقيل هو كقوله وعظمة الله،
كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
ومنها: قوله وقدرة الله، وعلم الله، ومشيئة الله، وسمع الله، وبصر الله فهذه
صفات قديمة، فإن نوى بها اليمين، أو أطلق انعقدت يمينه، وإن أراد بالعلم
المعلوم، وبالقدرة المقدورة قيل قوله، ولم يكن يمينا، لأن اللفظ محتمل له،
ولهذا يقال في الدعاء: اغفر علمك فينا، أي معلومك، ويقال: انظر إلى قدرة الله
أي مقدورة، فيكون كقوله: ومعلوم الله، ومقدوره، وخلق الله، وذلك ليس
بيمين، وبمثله أجاب الامام في: إحياء الله تعالى، وإن قال: وعظمة الله وكبرياء
الله وعزته وجلاله وبقائه، فالحكم كما في العلم والقدرة، ولم يفرقوا بين الصفات
المعنوية الزائدة على الذات وغيرها، هذا هو المذهب الذي قطع به الجمهور في
هذه الصفات، وحكى الامام وجهان: ان الحلف بهذه الصفات كالحلف بالله.
حتى لو قال أردت غير اليمين، لا يقبل ظاهرا، ووجها أنه إن أراد غير اليمين، يقبل
في العلم والقدرة، للاحتمال المذكور، ولا يقبل في العظمة والجلال والكبرياء إذ
لا يتخيل فيها مثل ذلك الاحتمال، وضعف هذا، وقال: قد يقال عاينت عظمة الله
وكبرياءه، ويريد مثل ذلك، ومنها لو قال وكلام (2) الله، انعقدت يمينه، قال
البغوي: وكذا لو قال: وكتاب الله وقرآن الله، قال إبراهيم المروذي: وكذا لو
13

قال: والقرآن أو والمثبت (1) في المصحف، قال المتولي: وإن حلف بالمصحف
نطر، إن قال: وحرمة ما هو مكتوب فيه، فهو يمين، وكذا لو قال: وحرمة هذا
المصحف، لأن احترامه لما هو مكتوب فيه، وك ذا أراد الرق والجلد لم يكن يمينا.
قلت: لم يتعرض لما إذا قال: والمصحف، وأطلق، وهو يمين، صرح به
بعض الأصحاب، وبه أفتى الإمام أبو القاسم الدولعي (2) خطيب دمشق، من
متأخري أصحابنا، قال: لأنه إنما يقصد به الحلف بالقرآن المكتوب ومذهب
أصحابنا وغيرهم من أهل السنة أن القرآن مكتوب في المصاحف محفوظ في
الصدور، ولا يقصد الحالف نفس الورق والمداد، ويؤيده أن الشافعي رضي الله
عنه، استحسن التحليف بالمصحف، واتفق الأصحاب عليه، ولو لم ينعقد
اليمين، به عند الاطلاق لم يحلف (3) به. والله أعلم.
وقو قال: والقرآن، وأراد غير اليمين لم يكن يمينا، فقد يراد بالقرآن الخطبة
والصلاة.
التاسعة: ذا قال: أقسم بالله، أو أقسمت بالله، أو أحلف بالله، أو حلفت
بالله فله أحوال:
أحدها: أن يقول أردت بالأول الوعد بالحلف، وبالثاني الاخبار عن ماض،
فيقبل باطنا، وأما في الظاهر، فإن علم له يمين ماضية قبل قوله في ارادتها بأقسمت
وحلفت بلا خلاف، وإلا فالنص أنه يقبل أيضا قوله في إرادة الوعد والاخبار، وقال
في الايلاء: إذا قال: أقسمت بالله لا وطئتك، ثم قال، أردت يمينا ماضية
لم يقبل، وللأصحاب فيها ثلاثة طرق، المذهب في أن في الايلاء وسائر الايمان
14

قولين أظهرهما: القبو ل، لظهور الاحتمال، والثاني: المنع، لظهوره في
الانشاء، والطريق الثاني: القطع بالمنع، وحمل ما ذكره هنا على القبول باطنا،
والثالث: تقرير النصين، والفرق أن الايلاء متعلق حق المرأة، وحق الآدمي مبني
على المضايقة، وسائر الايمان واجبها الكفارة، وهي حق الله تعالى.
الحال الثاني: أن يقول: أردت اليمين، فيكون يمينا قطعا.
الحال الثالث: أن يطلق، فالمذهب عند الجمهور أنه يمين، وخالفهم الامام
في الترجيح، وقيل: وجهان، وقيل: قولان، وقيل: أقسم صريح، بخلاف
أقسمت، وهو ضعيف.
قلت: لو قالت: آليت أو أؤلي، فهو كحلف أو أحلف، ذكره الدارمي، وهو
ظاهر. والله أعلم.
العاشرة: إذا قال أشهد بالله أو شهدت بالله، فإن نوى اليمين، فيمين، وإن
أراد غير اليمين، فليس بيمين، وإن أطلق: فالمذهب أنه ليس بيمين، لتردد
الصيغة، وعدم اطراد عرف شرعي أو لغوي، ونقل الامام هذا عن العراقيين، وبه
قال ابن سلمة.
فرع: لو قال أعزم بالله، أو عزمت بالله، لأفعلن، فإن نوى غير اليمين، أو
أطلق، فليس بيمين، وإن نوى اليمين فيمين.
فرع (1): لو قال: أقسم أو أقسمت، أو أحلف أو حلف، أو اشهد أو
شهدت، أو اعزم أو عزمت لأفعلن كذا، ولم يقل بالله، لم يكن يمينا، وإن نوى
اليمين، لأنه لم يحلف باسم الله تعالى ولا بصفته.
فرع: لو قال الملاعن في لعانه: أشهد بالله وكان كاذبا هل يلزمه الكفارة؟
وجهان أصحهما: نعم، والخلاف شبيه بالخلاف في وجوب الكفارة على المؤلي إذا
وطئ، قال الامام: والصورة مفروضة فيما إذا زعم أنه قصد اليمين أو أطلق،
وجعلنا مطلقه يمينا، قال: ويمكن أن يجئ الخلاف وإن قصد غير اليمين، لان
15

ألفاظ اللعان معروضة عليه في مجلس الحكم، ولا أثر للتورية في مجلس الحكم.
الحادية عشرة: إذا قال: وأين الله، أو وأيمن الله لأفعلن كذا، فإن نوى
اليمين فيمين، وإن أطلق فليس بيمين، على الأصح، لأنه وإن كان مشهورا في
اللغة فلا يعرفه إلا خواص الناس، قال الأصحاب: ولو قال: لاها الله ولم ينو
اليمين فليس بيمين، وإن كان مستعملا في اللغة، لعدم اشتهاره.
قلت: وقوله: وأين الله بكسر الميم وضمها والضم أشهر، ولاها الله بالمد
والقصر، وإن نوى بن اليمين كان يمينا قطعا. والله أعلم.
الثانية عشرة: إذا قال: علي عهد الله وميثاقه وذمته وأمانته وكفالته لأفعلن
كذا، فإن نوى اليمين فيمين، والمراد من عهد الله استحقاقه لايجاب ما أوجبه
علينا، أو تعبدنا (2) به، وإن أراد غير اليمين، كالعبادات، فليس بيمين، وإن أطلق
فوجهان، قال أبو إسحاق: يمين للعادة الغالبة، والأصح المنع، لتردد اللفظ، وقد
فسرت الأمانة في قول الله تعالى: (إنا عرضنا الأمانة) (3) بالعبادات وإذا أراد
اليمين بهذه الألفاظ، انعقدت يمين واحدة، والجمع بين الألفاظ تأكيد، كقوله:
والله الرحمن الرحيم لا يتعلق بالحنث فيها إلا كفارة واحدة، ولك أن تقول: إن قصد
بكل لفظ يمينا، فليكن، كما لو حلف على الفعل الواحد مرارا.
قلت: هذا الذي استدركه الرافعي رحمه الله صحيح موافق للنقل، قال
الدارمي قال ابن القطان: إذا نوى التكرار، ففي تكرار الكفارة القولان فيمن حلف
على الفعل الواحد مرارا، وطرده في قوله: والله الرحمن الرحيم. والله أعلم.
أما إذا قال: وعهد الله، وميثاق الله، وأمانة الله، فقال المتولي: إن نوى
اليمين فيمين، وإن أطلق فلا.
16

قلت: قد ذكر الرافعي نذر اللجاج والغضب في هذا الموضع، وقد قدمته في
كتاب النذور. (والله أعلم) (1).
الباب الثاني في كفارة اليمين (2)
فيه ثلاثة أطراف:
الأول: في سبب الكفارة، وهي واجبة على من حنث، وفي سبب وجوبها
وجهان: الصحيح عند الجمهور أنه اليمين والحنث جميعا (3) والثاني أنه اليمين
فقط، ولكن الحنث شرط.
فصل: يجوز التكفير قبل الحنث إن كفر بغير الصوم (4) ولم يكن الحنث
معصية، ويستحب أن يؤخر التكفير عن الحنث، ليخرج من خلاف أبي حنيفة رحمه
الله (5)، وإن كفر بالصوم فالصحيح المشهور أنه لا يجوز تقديمه على الحنث، وفيه
وجه. وقول قديم أنه يجوز، وإن كان الحنث بمعصية بأن حلف لا يزني فهل يجزئه
التكفير قبله؟ وجهان: أصحهما عند الأكثرين نعم. ولو قال: أعتقت هذا العبد عن
كفارة يميني إذا حنثت، عتق العبد عن الكفارة إذا حنث بخلاف ما لو قال: أعتقته
عن الكفارة إذا حلفت، فإنه لا يجزئه عن الكفارة، لأنه قدم التعليق على اليمين،
وفي الصورة السابقة قدمه على الحنث فقط، ولو قال: إذا حنثت في يمني غذا،
فهو حر عن كفارتي، فإن حنث غدا، عتق عن الكفارة، وإلا لم يعتق، لأن المعلق
عليه لم يوجد، ولو قال: أعتقته عن كفارة يميني إن حنثت، ثم بان أنه حنث، عتق
عن الكفارة، وألا لم يعتق، ولو قال: أعتقته عن كفارة يميني إن حلفت وحنثت، فبان
17

حالفا قال البغوي: ينبغي ألا يجزئه، لأنه شاك في اليمين، وفي الصورة السابقة
الشك في الحنث، والتكفير قبل الحنث جائز، وعلى قياسه لو قال: هو حر عن
ظهاري إن ظاهرت، فبان أنه ظاهر، ينبغي أن لا يجوز.
فرع: أعتق عبدا عن الكفارة قبل الحنث، ثم ارتد العبد، أو مات قبل
الحنث، لم يجزئه عن الكفارة، كما لو عجل الزكاة، ثم ارتد المدفوع إليه قبل تمام
الحول، وتغير الحال في التكفير قبل الحنث كهو في تعجيل الزكاة، قال البغوي:
ويحتمل أن يجزئه إذا ارتد أو مات، كما لو ماتت الشاة المعجلة قبل الحول.
فرع: يجوز تقديم كفارة القتل على الزهوق بعد حصول الجرح، وتقديم
جزاء الصيد على الزهوق بعد جرح الصيد، هذا هو المذهب، وقيل: فيهما
الخلاف، في تقديم الكفارة على الحنث المحرم، لأن سراية فعله كفعله، وهو
حرام، وهذا ليس بشئ، قال الامام: وقياسه أن يقال: لو حلف (1) لا يقتل زيدا
فجرحه وكفر عن اليمين قبل حصول الزهوق، ففي الاجزاء الوجهان. قال: وهو
بعيد، ثم هذا في التكفير بالاعتاق، وأما الصوم فلا يقدم على الصحيح كما سبق،
ولا يجوز تقديم كفارة بالاعتاق، وأما الصوم فلا يقدم على الصحيح كما سبق،
ولا يجوز تقديم كفارة القتل على الجرح بحال لا في الآدمي ولا في الصيد، وفيه
احتمال لابن سلمة، تنزيلا للعصمة منزلة أحد السببين، وحكى ابن كج وجها في
جواز التقديم على جرح الصيد، ووجها إنه إن كان يقتله مختارا بلا ضرورة لم يجز،
وإن اضطر الصيد إليه جاز، والمذهب الأول.
فرع: التكفير عن الظهار بالمال بعد الظهار وقبل العود جائز على المذهب
وقيل: فيه الخلاف في الحنث المحرم وليس بشئ لأن العود ليس بحرام، ويتصور
التكفير بين الظهار والعود، فيما إذا ظاهر من رجعية، ثم كفر ثم راجع أو طلق بائنا وكفر ثم نكحها، وقلنا: يعود
الحنث فيما إذا ظاهر مؤقتا وصححنا، وكفر وصار عائدا بالوطء، وفيما إذا ظاهر
وارتدت الزوجة عقبه، فهذا ليس بتكفير قبل العود، بل هو تكفير مع العود، لان
اشتغاله بالاعتاق عود والحكم الاجزاء أيضا.
18

فرع: لا يجوز تقديم كفارة الجماع في شهر رمضان، ولا في الحج والعمرة
على الجماع، وقيل: يجوز لكفارة اليمين، والصحيح الأول، لأن هذه الكفارة
لا تنسب إلى الصوم والاحرام بل إلى الجماع، وتلك تنسب إلى اليمين، وكذا
لا يجوز تقديم فدية الحلق والتطيب واللبس عليها، فإن وجد سبب يجوز فعلها، بأن
احتاج إلى الحقل أو التطيب لمرض أو اللبس لبرد جاز التقديم على الأصح.
فرع: يجوز تعجيل المنذور إذا كان ماليا، بأن قال: إن شفى الله مريضي،
أو رد غائبي، فلله علي أن أعتق أو أتصدق بكذا، فيجوز تقديم الاعتاق والتصدق
على الشفاء ورجوع الغائب، وفي فتاوى القفال ما ينازع فيه.
فرع: الحامل والمرضع إذا شرعتا في الصوم ثم أرادتا الافطار، فأخرجتا
الفدية قبل الافطار جاز على الأصح، وعلى هذا ففي جواز تعجيل الفدية لسائر الأيام
وجهان: كتعجيل زكاة عامين.
فصل: تكره اليمين إلا إذا كانت في طاعة كالبيعة على الجهاد، ويستثنى
أيضا الايمان الواقعة في الدعاوي، إذا كانت صادقة، فإنها لا تكره.
قلت: وكذا لا يكره إذا دعت إليه حاجة كتوكيد كلام أو تعظيم أمره، كقول
النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " فوالله لا يمل الله حتى تملوا " وفي الحديث
الاخر، " والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا " (1) وأشباهه في
الصحيح كثيرة مشهورة. والله أعلم.
ثم إن حلف على فعل واجب، أو ترك حرام، فيمينه طاعة، والإقامة عليها
واجبة، والحنث معصية، وتجب به الكفارة، وإن حلف على ترك واجب، أو فعل
حرام، فيمينه معصية، ويجب عليه أن يحنث ويكفر. وإن حلف على فعل نفل
كصلاة تطوع، وصدقة تطوع، فالاقامة على ذلك طاعة، والمخالفة مكروهة، وإن
حلف على ترك نفل، فاليمين مكروهة والإقامة عليها مكروهة، والسنة أن يحنث،
19

وعد الشيخ أبو حامد وجماعة من هذا القبيل، ما. ذا حلف لا يأكل طيبا، ولا يلبس
ناعما، وقالوا: اليمين عليه مكروهة، لقول الله تعالى: (قل من حرم زينة الله التي
أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (1) واختار القاضي أبو الطيب أنها يمين طاعة،
لما عرف من اختيار السلف خشونة العيش، وقال ابن الصباغ: يختلف ذلك
باختلاف أحوال الناس، وقصودهم وفراغهم للعبادة، وإشغالهم بالضيق والسعة،
وهذا أصوب، وإن حلف على مباح، لا يتعلق به مثل هذا الغرض، كدخول دار،
وأكل طعام، ولبس ثوب، وتركها، فله أن يقيم على اليمين، وله أن يحنث، وهل
الأفضل الوفاء باليمين؟ أم الحنث؟ أم يتخير بينهما ولا ترجيح كما كان قبل اليمين؟
فيه أوجه، أصحها: الأول، وبه قال أبو علي الطبري، واختاره الصيدلاني، وابن
الصباغ، والغزالي وغيرهم، لقول الله تعالى: (ولا تنقضوا الايمان بعد
توكيدها) (2) ولما فيه من تعظيم اسم الله تعالى، وقد حصل مما ذكرناه أن اليمين
لا تغير حال المحلوف عليه عما كان، وجوبا وتحريما وندبا وكراهة وإباحة.
الطرف الثاني: في كيفية كفارة اليمين، وهي مختصة باشتمالها على تخيير
في الابتداء، وترتيب في الانتهاء فيتخير الحالف بين أن يطعم عشرة مساكين، أو
يكسوهم، أو يعتق رقية، فإن اختار الاطعام، أطعم كل واحد مدا، والقول في
جنس الطعام، وكيفية اخراجه، ومن يصرف إليه، وامتناع اخراج القيمة، وصرف
الامداد العشرة إلى بعض، وسائر المسائل على ما سبق في الكفارات، وإن اختار
الكسوة، كساهم على ما سنذكره إن شاء الله تعالى، وإن اختار الاعتاق، فلتكن
الرقبة بالصفات المذكورة في الكفارات. ولو أطعم بعض العشرة، وكسا بعضهم،
ولم يجره، كما لا يجوز أن يعتق نصف رقبة، أو أطعم ثلاثين مسكينا، أو كساهم عن ثلاث
كفارات ولم يعين، اجزاء فإن عجر من الخصال الثلاث صام ثلاثة أيام،
والقول فيما يحصل به العجر ذكرناه في الكفارات، ومن له أن يأخذ سهم الفقراء أو
20

المساكين من الزكوات، أو الكفارات، له أن يكفر بالصوم، لأنه فقير في الاخذ،
فكذا في الاعطاء، وقد يملك نصابا، ولا يفي دخله بخرجه، فيلزمه الزكاة وله
أخذها والفرق بين البابين أنا لو أسقطنا الزكاة خلا النصاب عنها بلا بدل، وللتكفير
بالمال بدل، وهو الصوم. وهل يجب التتابع في صوم الثلاثة؟ قولان: أظهرهما:
عند الأكثرين لا، قال الامام: وهو الجديد، فإن أوجبناه، فالفطر في اليوم الثاني
أو الثالث بعذر المرض أو السفر على الخلاف في كفارة الظهار، والحيض هنا يقطع
التتابع، لامكان الاحتراز عنه بخلاف الشهرين، وقيل: لا يقطعه كالشهرين، وقيل
قولان: كالمرض، والمذهب الأول، فإن كانت لم تحض قط، فشرعت في
الصوم، فابتدأها الحيض، فهو كالمرض.
فرع تجب في الكسوة التمليك، والواجب ثوب قميص، أو سراويل، أو
عمامة، أو جبة، أو قباء، أو مقنعة، أو إزار، أو رداء، أو طيلسان، لأن الاسم يقع
على كل هذا، وحكي قول: أنه يشترط ساتر العورة، بحيث تصح الصلاة فيه،
فتختلف الحال بذكورة الآخذ وأنوثته، فيجزئ الإزار إن أعطاه لرجل، ولا يجزئ
إن أعطاه لامرأة، والمشهور الأول.
قلت: ويجزئ المنديل، صرح به أصحابنا، والمراد به هذا المعروف الذي
يحمل في اليد، وقد صرح الدارمي بأن كل واحد من المنديل والعمامة يجزئ.
والله أعلم.
وأما الثوب الصغير الذي يكفي لرضيع وصغير دون كبير، فإن أخذه الولي
لصغير، جاز، لأن صرف طعام الكفارة وكسوتها للصغار جائز كما في الزكاة،
ويتولى الولي الاخذ، وإن أخذه كبير لنفسه، جاز على الأصح، وبه قال القاضي
حسين، لأنه لا يشترط أن يلبس الآخذ ما يأخذه، ولهذا يجوز أن يعطي الرجل كسوة
المرأة، وعكسه، ولا يشترط المخيط، بل يجوز دفع الكرباس، ويستحب أن يكون
جديدا، خاما كان أو مقصورا، فإن كان ملبوسا، نظر: إن تخرق أو ذهبت قوته
لمقاربة الانمحاق، لم يجزئه، كالطعام المعيب، وإن لم ينته إلى ذلك الحد
أجزأه، كالطعام العتيق، لا يجزئ المرقع إن رقع للتخرق والبلى، إن خيط في
21

الابتداء مرقعا لزينة وغيرها أجزأه، ولو كساه ثوبا لطيفا، مهلهل النسج غير بال في
جنسه، لكن مثله إذا لبس لا يدوم، إلا بقدر ما يدوم الثوب البالي، قال الامام:
يظهر أنه لا يجزئ لضعف النفع فيه، وأما الجنس فيجزئ المتخذ من صوف وشعر
وقطن وكتان وقز وإبريسم، سواء كان المدفوع إليه رجلا لا يحل له لبسه، أو امرأة،
وفي الرجل وجه تضعيف، وسواء في كل جنس، الجيد والردئ والمتوسط،
وللقاضي حسين احتمال في اشتراط الكسوة الغالبة في البلد، كالطعام، وفي الدرع
والمكعب وهو المداس والنعل والجوارب والخف والقلنسوة والتبان وهو سراويل
قصيرة لا تبلغ الركبة، فوجهان: أصحهما: المنع لعدم اسم الكسوة، والثاني:
الاجزاء، لاطلاق اسم اللبس، ومنهم من قطع بالمنع في الخف والنعل
والجوارب، ولا تجزئ المنطقة والخاتم قطعا، وكذا التكة على المذهب، وفي
جمع الجوامع للروياني: طرد الخلاف فيها، قال الصيدلاني: ويجزئ قميص
اللبد في بلد جرت عادة غالب الناس أو نادرهم بلبسه.
قلت: قال الدارمي: فإن دفع ما لا يعتاد لبسه كجلود ونحوها، لم يجزئه.
والله أعلم.
الطرف الثالث: فيمن تلزمه الكفارة، وهو كل مكلف حنث في يمينه، سواء
فيه الحر والعبد، والمسلم والكافر، فإن مات قبل إخراجها، أخرجت من تركته.
فصل العبد يكفر عن اليمين وغيرها بالصوم، لأنه لا يملك على الأظهر،
وإن قلنا يملك بتمليك سيده، فإن أطلق التمليك، لم يملك إخراج الكفارة بغير إذن
سيده، وإن ملكه الطعام أو الكسوة ليخرجه في الكفارة، أو ملكه مطلقا ثم أذن له في
ذلك، كفر بالاطعام أو الكسوة. وقد ذكرنا ذلك في الكفارات، وذكرنا أنه لو ملكه
عبدا ليعتقه عن الكفارة لم يقع عن الكفارة على المذهب، وبناه الامام على أنه لو
ملكه عبدا، وأذن في إعتاقه متبرعا، فلمن الولاء فيه؟ أقوال. أحدها: للسيد،
لقصور العبد عن استحقاق حقوق الولاء من الإرث والولاية. والثاني، يوقف. فإن
عتق العبد، بان أن الولاء له، وإن مات رقيقا، فلسيده. والثالث: للعبد، فعلى
هذا، إن أذن له في الاعتاق عن الكفارة، وقع عنها، وثبت له الولاء، وإن قلنا الولاء
للسيد، وقع العتق له على الأصح، وكأن الملك انقلب إليه، وفي وجه وقول: يقع
22

عن العبد، ويجزئه عن الكفارة، ويختص التعذر بالولاء، وإن قلنا بالتوقف في
الولاء، فوجهان: قال القفال: تجزئ عن الكفارة، وقال الصيدلاني، والقاضي
حسين: يتوقف في الوقوع عن الكفارة، تبعا للولاء، فإذا قلنا في هذه التفاريع،
يقع العتق عن الكفارة فأذن السيد في الاعتاق في كفارة مرتبة، فهل له أن يكفر
بالصوم لضعف ملكه؟ فيه احتمالان للامام، لأنه لا يعد موسرا، ولهذا ينفق على
زوجته نفقة المعسر، وإن ملكه السيد أموالا عظيمة. ولو أعتق المكاتب عن كفارته
بإذن سيده، وصححنا تبرعاته بإذن سيده، قال الصيدلاني: الذي ذكره الأصحاب
أنه تبرأ ذمته عن الكفارة، وعندي أن الامر موقوف، فقد يعجز، فيرق، فيكون
الولاء موقوفا، فيجب التوقف في الكفارة، ولو كفر السيد عن العبد باطعام، أو
كسوة، أو إعتاق باذنه، فهو على الخلاف في أنه يملك بالتمليك بتفريعه، وإذا كفر
بالصوم، فهل يستقبل به؟ أم يحتاج إلى إذن السيد؟ فيه خلاف وتفصيل، سبق في
الكفارات. وحيث يحتاج، فللسيد منع الأمة من الصوم، لأنه يفوت الاستمتاع،
والكفارة على التراخي، وله منع العبد عن الصوم إن كان يضعف به عن الخدمة،
أو يناله ضرر، وإلا فلا منع على الأصح، وعلى هذا لا يمنعه من صوم التطوع،
وصلاة التطوع، في مثل هذه الحالة في غير زمان الخدمة، كما لا يمنعه من الذكر،
وقراءة القرآن، في تردداته، وحيث احتاج إلى الاذن، فصام بلا إذن، أجزأه،
كما لو صلى الجمعة بلا إذن. ولو مات العبد، وعليه كفارة يمين، فللسيد أن يكفر
عنه بالاطعام، وإن قلنا: لا يملك بالتمليك، لأن التكفير عنه في الحياة يتضمن
دخوله في ملكه، والتكفير بعد الموت لا يستدعي ذلك، ولأنه ليس للميت ملك
محقق، ولان الرق لا يبقى بعد الموت، فهو الحر سواء، هذا ما قطع به
الأصحاب، وفيه احتمال للامام، فعلى الأول: لو أعتق عنه، لم يجزئه، على
الأصح، لما ذكرنا من اشكال الولاء.
فصل في الحر يموت وعليه كفارة، فتخرج من تركته، سواء أوصى بها أم
لا، وسبيلها سبيل الديون، وذكرنا في كتاب الوصية وجها: أنه إن أوصى بها،
23

حسبت من الثلث، ووجها: أنها من الثلث، وإن لم يوص، والصحيح الأول،
وإذا وفت التركة بحقوق الله تعالى وحقوق الآدمي، قضيت جميعا، وإن لم تف،
وتعلق بعضها بالعين، وبعضها بالذمة، قدم التعلق بالعين، سواء اجتمع النوعان،
أو انفرد أحدهما، وإن اجتمعا، وتعلق الجميع بالعين أو الذمة، فهل يقدم حق الله
تعالى؟ أم الآدمي؟ أم يستويان؟ فيه ثلاثة أقوال، سبقت في مواضع، أظهرها
الأول، ولا تجري هذه الأقوال في المحجور عليه بفلس، إذا اجتمع النوعان، بل
تقدم حقوق الآدمي، وتؤخر حقوق الله تعالى، ما دام حيا، وإن كانت الكفارة مرتبة
أعتق عنه الوارث، وكذا لو أوصى الوصي ويكون الولاء للميت، فإن تعذر الاعتاق،
أطعم من التركة، وإن كانت كفارة تنجيز، جاز الاطعام والكسوة من التركة، وكذا
الاعتاق على الأصح، والواجب من الخصال أقلها قيمة، فإن لم تكن تركة فتبرع
أجنبي بالاطعام أو الكسوة عنه من مال نفسه، جاز على الأصح، فإن تبرع بهما
الوارث، جاز على الصحيح، وقيل: لا، لبعد العبادات عن النيابة، وإن تبرع
الأجنبي بالاعتاق في كفارة التنجيز، لم يصح على المذهب، لعلتين، إحداهما:
سهولة التكفير بغير اعتاق، ولا يعتق لما فيه من عسر إثبات الولاء، والثانية: فيه
إضرار بأقارب الميت، لأنهم يؤاخذون بجناية عتيقه، فإن كان المعتق وارثا، جاز
على العلة الثانية دون الأولى، وفي الكفارة المرتبة للوارث أن يتبرع بالاعتاق، وكذا
للأجنبي على الأصح، بناء على العلة الأولى، وفي صوم الولي والأجنبي خلاف،
سبق في الصيام، وإذا أوصى بأن يعتق عنه في كفارة التنجيز وزادت قيمة العبد على
قيمة الطعام والكسوة، فثلاثة أوجه أضعفها: يتعين الاعتاق، وتحسب قيمة العبد من
رأس المال، والثاني: تحسب قيمة العبد من الثلث، لأن براءة الذمة تحصل
بلزومها، فعلى هذا إن وفى الثلث بقيمة عبد مجزئ، أعتق عنه، وإلا بطلت
الوصية، وعدل إلى الاطعام والكسوة، وهذا الوجه أصح، وهو ظاهر النص.
والثالث: تحسب قيمة أقلها قيمة من رأس المال، والزيادة إلى تمام قيمة العبد من
الثلث، فإن وفى ثلث الباقي مضموما إلى الأقل المحسوب من رأس المال بقيمة
عبد، أعتق عنه، وإلا بطلت الوصية، وعدل إلى الاطعام والكسوة.
فرع من بعضه حر وبعضه رقيق، إن كان معسرا، كفر بالصوم، وإن كان
موسرا فوجهان، وإن شئت قلت: قولان، منصوص ومخرج. الصحيح المنصوص
24

لا يكفر بالصوم، بل يطعم ويكسو، والمذهب: أنه لا يكفر بالاعتاق لتضمنه
الولاية والإرث، وليس هو من أهلها، وقيل: في تكفيره بالعتق قولان، كاعتاق
المكاتب باذن سيده عن كفارته، وهو ضعيف، وخرج المزني أنه يكفر بالصوم،
وصوبه ابن سريج، وبالله التوفيق.
الباب الثالث فيما يقع به الحنث
الأصل المرجوع إليه في البر والحنث، اتباع مقتضى اللفظ الذي تعلقت به
اليمين، وقد يتطرق إليه التقييد والتخصيص، بنية تقترن به، أو باصطلاح
خاص، أو قرينة، والصور التي تدخل في الباب لا تتناهى، لكن تكلم الشافعي
والأصحاب رحمهم الله في أنواع تغلب ويكثر استعمالها، ويقاس عليها غيرها، وفيه
أنواع:
الأول: الدخول والمساكنة وفيه مسائل: إحداها: لو حلف لا يدخل
الدار، حنث بالحصول في عرصة الدار، وأبنيتها من البيوت والغرف وغيرها، فإن
صعد سطحها، بأن تسور جدارها، أو جاء من دار الجار لم يحنث، إن كان السطح
غير محوط، ولا عليه سترة، فإن كان فوجهان، الأصح وظاهر النص: لا يحنث
أيضا، كما لو حصل على الجدار، والثاني: إن كان التحويط من الجوانب
الأربعة، حنث، وإن كان من جانب، فلا، وإن كان من الجانبين، أو ثلاثة،
فوجهان مرتبان. هذا إذا لم يكن السطح مسقفا، فإن كان مسقفا كله أو بعضه حنث
قطعا إذا كان يصعد إليه من الدار، لأنه من أبنية الدار، ولو حلف ليخرجن من
الدار، فهل يبر بصعود السطح، وجهان، أحدهما: لا، وبه قال الشيخ أبو
محمد، لأنه لا يعد خارجا حتى يفارق السطح، وأصحهما نعم، وبه قال القاضي
حسين، لأنه يصح أن يقال: ليس هو في الدار، وإذا لم يكن فيها كان خارجا
ويؤيده: أن ابن الصباغ حكى عن الأصحاب، أنه: لو حلف لا يخرج من الدار،
فصعد سطحها، حنث، ولا يخفى أنه ينظر في الخروج أيضا إلى كون السطح
25

محوطا أو غيره، ولو حلف لا يدخل، فدخل الطاق المضروب خارج الباب لم
يحنث، على الأصح، لأنه لا يقال: دخل الدار، والثاني: يحنث، لأنه من
الدار، ولهذا يدخل في بيعها، فلو دخل الدهليز خلف الباب، أو بين البابين
حنث، لأنه من الدار، وحكى الفوراني نصا ان داخل الدهليز لا يحنث، وحملوه
على الطاق خارج الباب، وأشار الامام إلى إثباته قولا في الدهليز، وقال: لا يبعد
أن يقال: دخل الدهليز ولم يدخل الدار، وجعل المتولي الدرب المختص بالدار
أمام البيت، إذا كان داخلا في حد الدار، ولم يكن فيأولها باب كالطاق، قال:
فإن كان عليه باب، فهو من الدار مسقفا كان أو غيره.
فرع حلف لا يدخل الدار، وهو فيها، لا يحنث بالمكث، وحكي قول،
ووجه أنه يحنث، والمشهور الأول، وعليه نص في حرملة، ولو حلف لا يخرج
وهو خارج، لا يحنث بترك الدخول، وكذا لو حلف لا يتزوج وهو متزوج، أو
لا يتطهر وهو متطهر، أو لا يتوضأ وهو متوضئ، فاستدام النكاح والطهارة والوضوء
لا يحنث. ولو حلف لا يلبس وهو لابس، فلم ينزع، أو لا يركب وهو راكب فلم
ينزل، حنث بالاستدامة، لأنه يسمى لبسا وركوبا، ولهذا يصلح أن يقال: لبست
شهرا وركبت ليلة، ولا يصح أن يقال: دخلت شهرا أو تزوجت شهرا، وإنما يقال:
سكنت أو أقمت شهرا ولو حنث باستدامة اللبس ثم حلف لا يلبس، فاستدام، لزمه
كفارة أخرى، لأن اليمين الأولى انحلت بالاستدامة الأولى، وهذه يمين أخرى، وقد
26

حنث فيها، واستدامة القيام والقعود واستقبال القبلة قيام وقعود واستقبال، وهل
استدامة التطيب بطيب؟ وجهان: أصحهما: لا. ولهذا لو تطيب، ثم أحرم،
واستدام، لا يلزمه الفدية، وذكر الوجهان: فيما لو حلف أن لا يطأ، وهو في خلال
الوطئ، فلم ينزع، أو أن لا يصوم أو لا يصلي وهو شارع فيهما، فلم يترك،
ويتصور ذلك في الصلاة إذا حلف ناسيا في الصلاة، فإن اليمين تنعقد، وإن
حلف لا يغصب، لم يحنث باستدامة المغصوب في يده، ولو حلف لا يسافر وهو في
السفر، فوقف، أو أخذ في العود في الحال، لم يحنث في العود، وكأن الصورة
فيمن حلف على الامتناع عن ذلك السفر، وإلا فهو مسافر أيضا.
فرع إذا حلف لا يدخل الدار، حنث بالحصول فيها، سواء دخلها من
الباب أو من ثقب في الجدار، أو كان في الدار نهر خارج فطرح نفسه في الماء
فحمله، أو سبح، أو ركب سفينة فدخلت السفينة الدار ونزل من السطح. وفي
صورة السطح وجه ضعيف، وسواء دخلها راكبا أو ماشيا. ولو أدخل في الدار يده أو
رأسه أو إحدى رجليه، لم يحنث، وكذا لو مد رجليه فأدخلهما الدار وهو قاعد
خارجها، لم يحنث، وإنما يحنث إذا وضعهما في الدار واعتمد عليهما، أو حصل
في الدار متعلقا بشئ. ولو حلف: لا يخرج، فأخرج يده أو رجله، أو رجليه وهو قاعد فيها،
لم يحنث. ولو كان في الدار شجرة منشرة الأغصان، فتعلق ببعضها، فان حصل في
محاذاة البنيان بحيث صارت محيطة به عالية عليه، حنث. وإن حصل في محاذاة
سترة السطح، ففيه الوجهان. وإن كان أعلى من ذلك، لم يحنث.
المسألة الثانية: حلف لا يدخل أو لا يسكن بيتا، فاسم البيت يقع على المبني
من طين أو آجر ومدر وحجر، وعلى المتخذ من خشب وصوف ووبر وشعر وجلد
وأنواع الخيام، فإن نوى نوعا منها، حمل عليه، وإن أطلق، حمل على أي بيت
كان منها، إن كان الحالف بدويا، وإن كان قرويا فثلاثة أوجه. الأصح وظاهر النص:
يحنث أيضا. والثاني: لا. والثالث: إن كانت قريته قريبة من البادية، حنث،
وإلا فلا، ولا يحنث بدخول البيع، والكنائس، وبيوت الحمام، والغار في الجبل،
27

والكعبة، والمساجد، على المذهب لأنها ليست للايواء والسكن، ولا يقع عليها اسم
البيت إلا بتقييد، وخرج ابن سريج الجميع على قولين، وحكى المتولي في الكعبة
والمساجد وجها.
ولو دخل دهليز دار، أو صحنها، أو صفتها، لم يحنث على الصحيح. وعن
القاضي أبي الطيب الميل إلى الحنث، لأن جميع الدار بيت بمعنى الايواء.
قلت: ولا يحنث بدخول بيت الرحى على الصحيح، ذكره الغزالي وغيره.
والله أعلم.
الثالثة: حلف لا يسكن هذه الدار، ولا يقيم فيها، وهو عند الحلف فيها،
فمكث ساعة بلا عذر، حنث، وإذا مكث، فسواء أخرج أهله ومتاعه أم لا، لأنه
حلف على سكنى نفسه، لا أهله ومتاعه. فلو خرج وترك فيها أهله ومتاعه،
لم يحنث. ولو حلف: لا يسكن دارا، فانتقل إليها بنفسه، دون أهله وماله،
حنث. ولو مكث لعذر، بأن أغلق عليه الباب، أو منع من الخروج، أو - خاف على
نفسه أو ماله لو خرج، أو كان مريضا، أو زمنا لا يقدر على الخروج، ولم يجد من
يخرجه، لم يحنث. وإن مرض، وعجز بعد الحلف، ففي الحنث الخلاف في
حنث المكره. وقد تخرج سائر الصور على ذلك الخلاف. فإن وجد المريض من
يخرجه، فينبغي أن يأمره باخراجه، فإن لم يفعل، حنث. وإن مكث الحالف
مشتغلا بأسباب الخروج، بأن انتهض لجمع المتاع، ويأمر أهله بالخروج، ويلبس
ثوب الخروج، لم يحنث على الأصح، لأنه لا يعد ساكنا، كما لو خرج في الحال
ثم عاد لنقل متاع، أو زيارة أو عيادة أو عمارة، فإن الأصحاب قالوا: لا يحنث،
لأنه فارقها، وبمجرد العود لا يصير ساكنا. ولو احتاج إلى أن يبيت فيها ليلة لحفظ
متاع، ففيه احتمالان لابن كج. والأصح عنده أنه لا يحنث. ولو خرج في الحال ثم
اجتاز بها، بأن دخل من باب، وخرج من آخر، فقال القاضي حسين: الصحيح أنه
28

لا يحنث، وإن تردد فيها ساعة بلا غرض، حنث. وينبغي أن لا يحنث بالتردد،
لأنها لا تصير به مسكنا قال البغوي: ولو عاد مريضا مارا في خروجه، لم يحنث،
وإن قعد عنده حنث، ولو خرج في الحال ثم دخل، أو كان خارجا حين حلف، ثم
دخل لا يحنث بالدخول ما لم يمكث، فان مكث حنث، إلا أن يشتغل بحمل متاع
كما في الابتداء.
الرابعة: في الحلف على المساكنة. قال الشافعي رحمه الله:
المساكنة: أن يكونا في بيت أو بيتين حجرتهما واحدة، ومدخلهما واحد. قال
الشيخ أبو حامد: أراد بالحجرة: الصحن، فإن أقام كل واحد في دار،
فلا مساكنة، سواء كانت الداران كبيرتين، أو صغيرتين، أو إحداهما كبيرة والأخرى
صغيرة، كحجرة لطيفة بجنب دار، وسواء كانتا في درب نافذ أو غير نافذ. فإن سكنا
في بيتين من خان كبير أو صغير، أو من دار كبيرة، فثلاثة أوجه. الأصح:
لا مساكنة، سواء كان البيتان متلاصقين أو متفرقين، والثاني: بلى. والثالث:
تثبت المساكنة في الدار دون الخان، لأنها تعد مسكنا لواحد، والخان يبنى لسكني
جماعة، ويشبه أن لا يشترط في الخان أن يكون على البيت باب وغلق، كالدور في
الدرب، ويشترط في الدار الكبيرة أن يكون على كل بيت منها باب وغلق، فإن لم
يكونا، أو سكنا في صفتين منها، أو في بيت وصفة، فهما متساكنان في العادة. ولو
أقاما في بيتين من دار صغيرة، فهما متساكنان وإن كان لكل واحد باب وغلق،
لمقاربتهما وكونهما في الأصل مسكنا واحدا بخلاف الخان الصغير، وهكذا فصل
الأكثرون، ومنهم من أطلق وجهين في بيتي الدار، ولم يفرق بين الصغيرة والكبيرة،
ورأي الأصح حصول المساكنة. وعلى هذا لو كان أحدهما في الدار، والآخر في
حجرة منفردة المرافق وبابها في الدار، فلا مساكنة على الأصح، وبه قطع البغوي
في حجرتين منفردتي المرافق في دار. والمرفق المستحم والمطبخ، والمرقى
وغيرها، ولم يذكروا في الحجرة في الخان خلافا وإن كان المرقى في الخان.
إذا تقرر هذا فقال: والله لا أساكن زيدا، فإما أن يقيد المساكنة ببعض
29

المواضع لفظا، بأن يقول: في هذا البيت، أو هذه الدار، وإما أن لا يقيد.
الحالة الأولى: أن يقيد، فيحنث بتساكنهما في ذلك الموضع، فان كانا فيه
عند الحلف، ففارق أحدهما الآخر، لم يحنث، وإن مكثا فيه بلا عذر، حنث.
فإن بني بينهما حائل من طين أو غيره، ولكل واحد من الجانبين مدخل، أو أحدثا
مدخلا، فوجهان، أحدهما: لا يحنث لاشتغاله برفع المساكنة، ورجحه
البغوي. وأصحهما عند الجمهور: يحنث لحصول المساكنة إلى تمام البناء بغير
ضرورة. فإن خرج أحدهما في الحال فبني الجدار، ثم عاد، ليحنث الحالف.
ولا يخفى أنه لا بأس والحالة هذه بالمساكنة في موضع آخر.
الحالة الثانية: أن لا يقيدها لفظا، فينظر، إن نوى موضعا معينا من بيت أو دار
أو درب أو محلة أو بلد، فالمذهب، والذي قطع به الجمهور أن اليمين محمولة
على ما نوى. وقيل: إن كانا يسكنان بيتا من دار متحدة المرافق، ونوى أن
لا يساكنه، حملت اليمين عليه، وإن لم يكن كذلك، ولا جر ذكر تلك
المساكنة، كقول صاحبه: ساكني في هذا البيت، لم يقبل قوله، وتحمل اليمين
على الدار وفي البلد وجه أن اللفظ لا ينزل عليه، لأنه لا يسمى مساكنة. وقيل:
يجئ هذا الوجه في المحلة. وإن لم ينو موضعا، وأطلق المساكنة، حيث
بالمساكنة في أي موضع كان، وحكى المتولي قولا أنه إذا أطلق وكل واحد منهما في
دار وحجرة منفردة، حملت اليمين على الاجتماع الحاصل، فإن كانا في درب،
فلا بد من مفارقة أحدهما الدرب، وإن كانا في محلة فلا بد من مفارقة أحدهما
المحلة، والمشهور الأول، فعلى هذا لو كانا عند الحلف في بيتين من خان،
فلا مساكنة، ولا حاجة إلى مفارقة أحدهما الآخر، وعلى القول الشاذ يشترط
مفارقته. وإن كانا في بيت من الخان، فهل يكفي مفارقة أحدهما ذلك البيت، أم
يشترط مفارقته الخان؟ فيه هذا الخلاف. ثم سواء نوى موضعا معينا أو أطلق،
فالقول في أن استدامة المساكنة مساكنة، وفي الحائل المبني بينهما على ما سبق في
30

الحالة الأولى. والاعتبار بالانتقال بالبدن، دون الأهل والمال كما سبق.
النوع الثاني: ألفاظ الأكل والشرب، وفيه مسائل. الأولى: حلف، فقال:
لا أشرب من ماء هذه الإداوة أو الجرة، حنث بما شرب من مائها من قليل أو
كثير. ولو قال: لأشربن من مائها، بر بما شرب وإن قل. وإن قال: لا أشرب من
ماء هذا النهر، أو لأشربن منه، فالحكم كالإداوة. ولو قال: لا أشرب من ماء هذه
الإداوة أو الحب أو المصنع أو غيرها مما يمكن شرب جميعه ولو في مدة طويلة، لم
يحنث إلا بشرب جميعه. ومتى
بقي شئ منه، لم يحنث. قال في شرح مختصر الجويني: سوى البلل الذي يبقى
في العادة. ولو قال: لأشربن ماء هذه الإداوة أو الحب، لم يبر إلا بشرب الجميع.
ولو قال: لا أشرب ماء هذا النهر أو البحر أو البئر العظيمة، فهل يحنث بشرب
بعضه؟ وجهان: أحدهما: نعم، وبه قال ابن سريج، وابن أبي هريرة وأصحهما:
لا، وبه قال أبو إسحاق، وعامة الأصحاب، وصححه الشيخ أبو حامد، والقاضي
أبو الطيب والروياني كمسألة الإداوة. قال القاضي: وينبغي أن يقال: لا تنعقد يمينه
كما لو حلف: لا يصعد السماء، لأن الحنث فيه غير متصور. ولو حلف ليشربن
ماء هذا النهر أو البحر، فوجهان: أحدهما: يبر بشرب بعضه وإن قل،
وأصحهما: لا يبر ببعضه، وعلى هذا هل يلزمه الكفارة في الحال أم قبيل الموت؟
وجهان، أصحهما: الأول، لأن العجز متحقق في الحال، وإنما يحسن الانتظار
فيما يتوقع حصوله. وقيل: لا تنعقد اليمين أصلا، لأن البر غير متصور، ولو
حلف: ليصعدن السماء، ففي انعقاد يمينه وجهان، الأصح: الانعقاد، وعلى هذا
فيحكم بالحنث في الحال، أم قبل الموت؟ فيه الوجهان. ولو قال: لأصعدن
السماء غدا، وفرعنا على انعقاد اليمين، فهل يحنث وتجب الكفارة في الحال، أم
بعد مجئ الغد؟ فيه الوجهان. ويشبه أن يرجح هنا الثاني. وعلى هذا، فهل
يحنث قبيل غروب الشمس من الغد، أم قبل ذلك؟ فيه خلاف سيأتي في نظيره إن
شاء الله تعالى. ولو حلف: لا يصعد السماء، فهل ينعقد يمينه؟ وجهان،
أحدهما: نعم، وإن لم يتصور الحنث، كما لو حلف أنه فعل كذا أمس، وهو
31

صادق، وأصحهما: لا، بخلاف صورة الاستشهاد، لأن الحلف هناك محتمل
الكذب.
فرع قال: لأشربن ماء هذه الإداوة، ولا ماء فيها، أو لأقتلن فلانا وهو
ميت، فأربعة أوجه. أصحها: أنه يحنث وتجب الكفارة في الحال، والثاني: قبيل
الموت، والثالث: لا تنعقد اليمين، والرابع: يحنث في القتل دون الشرب. ولو
قال: لأقتلن فلانا وهو يظنه حيا وكان ميتا، ففي الكفارة خلاف بناء على يمين
الناسي.
فرع قال القاضي أبو الطيب: قال الأصحاب: لو قال: والله لا آكل خبز
الكوفة، أو خبز بغداد، لم يحنث بأكل بعضه، إلا أن ينوي غير ذلك.
فرع قال: لأشربن ماء هذه الإداوة. فانصب قبل أن يشرب، أو مات
الحالف، نظر، إن كان بعد الامكان، حنث. وإن كان قبله، فقولان كالمكره.
ولو قال: لأشربن منه، فصبه في حوض، ثم شرب منه من موضع يعلم أنه وصل
إليه، بر، وإن حلف: لا يشرب منه، فصبه في حوض وشرب منه، حنث. وكذا
لو حلف: لا يشرب من لبن هذه البقرة، فخلط بلبن غيرها، بخلاف ما لو حلف:
لا يأكل هذه التمرة، فخلطها بصبرة، لا يحنث إلا بأكل جميع الصبرة، والفرق
ظاهر.
فرع حلف: لا يشرب ماء فراتا أو من ماء فرات، حمل على الماء العذب
من أي موضع كان. وإن قال: من ماء الفرات، حمل على النهر المعروف. ولو
قال: لا أشرب ماء الفرات، أو لا أشرب من ماء الفرات، فسواء أخذ الماء بيده، أو
في إناء فشرب أو كرع فيه، حنث. ولو قال: لا أشرب من ماء نهر كذا، فشرب من
ساقية تخرج منه، أو من بئر محفورة بقرب النهر، يعلم أن ماءها منه، حنث. ولو
قال: لا أشرب من نهر كذا، ولم يذكر الماء، فشرب من ساقية بخرج منه، حنث
على الأصح، كما لو أخذ الماء في إناء. ولو حلف: لا يشرب من هذه الجرة أو
غيرها مما وعتاد الشرب منه، فجعل ماءه في كوز وشربه، لم يحنث.
32

المسألة الثانية: قال: لا آكل هذين الرغيفين، أو لا ألبس هذين الثوبين،
لم يحنث إلا بأكلهما أو لبسهما سواء لبسهما معا، أو لبس أحدهما ونزعه، ثم لبس
الآخر. وكذا لو قال: لا أكلتهما أو لا لبستهما، لم يبر إلا بأكلهما ولبسهما. ولو
قال: لا أكلم زيدا وعمرا، ولا آكل اللحم والعنب، لم يحنث إلا إذا أكلهما، أو
كلمهما، إلا إذا نوى غير ذلك، لأن الواو العاطفة تجعلهما كشئ واحد، فكأنه
قال: لا آكلهما، ولو قال: لا أكلم زيدا ولا عمرا، ولا آكل اللحم ولا العنب،
حنث بكل واحد منهما، وهما يمينان تنحل إحداهما بالحنث في الأخرى. فلو
قال: لا أكلم أحدهما، أو قال: واحدا منهما، ولم يقصد واحدا منهما بعينه،
فيحنث إذا كلم أحدهما، وتنحل اليمين، ولا يحنث بكلام الآخر. قال المتولي:
وكذا في الاثبات إذا قال: لألبسن هذا الثوب الثوب، وهذا فهما يمينان،
لوجود حرف العطف، ولكل واحد حكمها، وفي هذا توقف. ولو أوجب حرف
العطف كونهما يمينين، لا كما لو قال: لا ألبسهما، لأوجب في قوله: لا أكلم زيدا
وعمرا ولا آكل اللحم والعنب كونهما يمينين، لا كما لو قال: لا أكلم هذين ولا آكل
هذين.
فرع قال: لا آكل هذا الرغيف، لم يحنث بأكل بعضه. ولو قال:
لآكلنه، لم يبر إلا بأكل جميعه. فلو بقي في الصورة الأولى ما يمكن التقاطه وأكله،
لم يحنث، كما لو قال: لا آكل ما على هذا الطبق من التمر، فأكل ما عليه إلا
تمرة، لا يحنث وإن جرت العادة بترك بعض الطعام للاحتشام من استيفائه أو لغير
ذلك. وكذا لو قال: لآكلن هذه الرمانة، فترك حبة، لم يبر، وإن قال: لا آكلها،
فترك حبة، لم يحنث.
المسألة الثالثة: إذا حلف: لا يأكل الرأس أو الرؤوس، أو لا يشتريها، حمل
على التي تميز عن الأبدان وتباع مفردة، وهي رؤوس الإبل والبقر والغنم. وفي
رؤوس الإبل وجه شاذ عن ابن سريج، فطرده ابن أبي هريرة في البقر والغنم.
وقيل: إن كان في بلد لا تباع فيه إلا رؤوس الغنم، لم يحنث إلا بغيرها،
والصحيح الأول، وبه قطع الجمهور، فإن أكل رأس طير، أو حوت، أو ظبي، أو
صيد آخر، لم يحنث على المشهور. فإن كانت رؤوس الصيد والحيتان تباع مفردة
33

في بلد، حنث بأكلها هناك. وهل يحنث بأكلها في غير ذلك البلد؟ وجهان رجح
الشيخ أبو حامد والروياني المنع، والأقوى الحنث، وهو أقرب إلى ظاهر النص.
وهل يعتبر نفس البلد الذي يثبت فيه العرف، أم كون الحالف من أهله؟ وجهان.
هذا كله عند الاطلاق. وقال المتولي: فإن قصد أن لا يأكل ما يسمى رأسا، حنث
برأس السمك والطير. وإن قصد نوعا خاصا، لم يحنث بغيره.
فرع حلف: لا يأكل البيض، حمل على ما يزايل بايضه وهو حي، لأنه
المفهوم، فلا يحنث ببيض السمك والجراد، ويحنث ببيض الدجاج، والنعام،
والإوز، والعصافير، وقيل: لا يحنث إلا ببيض الدجاج، وقيل: بالدجاج والإوز.
وقال الامام: الطريقة المرضية أنه لا يحنث إلا بما يفرد بالاكل في العادة، دون بيض
العصافير والحمام ونحوها، والمذهب الأول. ولا يحنث بأكل خصية الشاة، لأنها
لا تفهم عند الاطلاق. وإن خرجت البيضة وهي منعقدة من الدجاجة، فأكلها،
حنث، وإن أخرجت بعد موتها، فأكلها، فوجهان.
قلت: الأصح الحنث. والله أعلم.
المسألة الرابعة: حلف لا يأكل الخبز، حنث بأي خبز كان، سواء فيه خبز
البر، والشعير، والذرة، والباقلاء، والأرز، والحمص، لأن الجميع خبز،
ولا يضر كونه غير معهود بلده، كما لو حلف: لا يلبس ثوبا، حنث بأي ثوب كان
وإن لم يكن معهود بلده وذكر السرخسي وجها أنه لا يحنث بخبز الأرز إلا في
طبرستان، وبه قطع الغزالي، ونسبه إلى الصيدلاني، وهي نسبة باطلة، وغلط في
النقل، بل الصواب الذي قطع به الأصحاب في جميع الطرق أنه يحنث به كل
أحد، وقد صرح بذلك الصيدلاني أيضا. قال المتولي: ويحنث بخبز البلوط
أيضا، ويحنث بأكل الأقراص والرغفان وخبز الملة والمشحم وغيره، وسواء أكله
على هيئته أو جعله ثريدا. لكن لو صار في المرقة كالحسو، فتحساه، لم يحنث،
34

وسواء ابتلعه بعد مضغ، أو ابتلعه على هيئته، فيحنث في الحالين، وإن مضغه ولم
يبتلعه، لم يحنث، سواء أدرك طعمه أم لا. ولو أكل جوزينقن، فوجهان حكاهما
البغوي، أحدهما: يحنث، لأنه لو نزع منه الحشو صار خبزا، والأصح: المنع.
قلت: والرقاق والبقسماط والبسيسة.... والله أعلم.
المسألة الخامسة: حلف: لا يأكل اللحم أو لا يشتريه، لم يحنث بشحم
البطن وشحم العين. والأصح: أنه لا يحنث بشحم الظهر والجنب، وهو الأبيض
الذي لا يخالطه الأحمر، لأنه لحم سمين. ولهذا يحمر عند الهزال. ولو حلف:
لا يأكل الشحم، حنث بشحم البطن، ولا يحنث باللحم قطعا، ولا بشحم الظهر
على الأصح. وعن الشيخ أبي زيد وجه ثالث: أنه إن كان الحالف عربيا، فشحم
الظهر شحم في حقه، لأنهم يعدونه شحما، وإن كان عجميا، فهو لحم في حقه.
وفي شحم العين وجهان. ويدخل في اليمين على اللحم لحم النعم، والوحش،
والطير المأكول كله. وفيما لا يؤكل كالميتة، والخنزير، والذئب، والحمار،
وغيرها وجهان، رجح الشيخ أبو حامد والروياني المنع، والقفال وغيره الحنث.
قلت: المنع أقوى. والله أعلم.
ولا يحنث بأكل السمك على الصحيح. والصحيح أن الألية ليست بلحم
35

ولا شحم. وقيل: لحم. وقيل: شحم، والسنام كالألية. ولو حلف على الألية،
لم يحنث بالسنام، وكذا العكس. ولو حلف على الدسم، تناول شحم الظهر
والبطن والألية والسنام والأدهان كلها، والمذهب أنه لا يدخل في اللحم الأمعاء
والطحال والكرش والكبد والرئة، ولا يدخل المخ قطعا وقد يجئ فيه الخلاف،
ولا يدخل القلب على الأصح، ويحنث بأكل لحم الرأس والخد واللسان والأكارع
على المذهب، وقيل: وجهان.
فرع حلف: لا يأكل لحم بقر، حنث بلحم الجاموس وبالبقر الأهلي
والوحشي. وقيل: في الوحشي وجهان وهو ضعيف. ولو حلف لا يركب الحمار،
فركب حمار الوحش، فوجهان بناء على أن الحمارين جنس في الربا أم جنسان وقد
سبق في الربا وجهان في أن الجراد هل هو من جنس اللحوم ويمكن أن يخرج عليهما
الحنث بأكله في يمين اللحم.
قلت: الصواب الجزم بعدم الحنث، لعدم اطلاق الاسم لغة وعرفا. والله
أعلم.
فرع حلف: لا يأكل ميتة، لم يحنث بالمذكاة وإن حلها الموت للعرف.
وهل يحنث بأكل السمك؟ وجهان، أحدهما: نعم للحديث أحلت لنا ميتتان
وأصحهما: لا، للعرف، كما لو حلف: لا يأكل دما، لا يحنث بالكبد والطحال.
المسألة السادسة: حلف: لا يأكل الزبد، لا يحنث بأكل السمن. ولو
حلف: لا يأكل السمن، لا يحنث بالزبد على الأصح، لاختلاف الاسم والصفة.
ولو حلف على الزبد والسمن، لا يحنث باللبن، ويدخل في اللبن لبن الانعام
36

والصيد والحليب والرائب والماست والشيراز والمخيض، وتوقف بعضهم في
الشيراز. قال القاضي أبو الطيب: لا معنى لتوقفه، وفي المخيض وجه ضعيف،
فإن أكل الزبد، فثلاثة أوجه، أصحها وبه قطع ابن الصباغ: إن كان اللبن ظاهرا
فيه، حنث، وإن كان مستهلكا فلا. ولا يحنث بالسمن والجبن والمصل والأقط.
وقال أبو علي ابن أبي هريرة، والطبري: يحنث بكل ما يستخرج من اللبن،
والصحيح الأول.
فرع حلف: لا يأكل السمن، لا يحنث بالأدهان، ولو حلف على
الدهن: لم يحنث بالسمن على الأصح.
السابعة: حلف: لا يأكل الجوز، قال الغزالي: يحنث بالجوز الهندي،
قال: ولو حلف لا يأكل التمر، لم يحنث بالهندي، لأن الجوز الهندي قريب من
الجوز المعروف طبعا وطعما، بخلاف التمر الهندي. وقطع البغوي بأنه لا يحنث
بالهندي في الصورتين، وكذا لو حلف: لا يأكل البطيخ لا يحنث بالهندي. ولو
حلف: لا يأكل الخيار، لا يحنث بهذا الذي يقال له: خيار شنبر.
الثامنة: كما أن الأعيان أجناس مختلفة الأسماء والصفات، كذلك الأفعال
أجناس مختلفة، ولا يتناول بعضها بعضا، فالشرب ليس بأكل، وكذا العكس، فإذا
37

حلف: لا يأكل، فشرب ماء أو غيره، أو حلف: لا يشرب، فأكل طعاما،
لا يحنث. واللبن والخل وباقي المائعات إذا حلف لا يأكلها، فأكلها بخبز، حنث،
أو شربها لم يحنث. وإن حلف: لا يشربها، فالحكم بالعكس. ولو حلف:
لا يأكل سويقا، فاستفه، أو تناوله بملعقة أو بإصبع مبلولة، حنث. ولو ماثه في
الماء وشربه، لم يحنث. ولو حلف: لا يشرب السويق، فالحكم بالعكس. ولو
كان السويق خاثرا، بحيث يؤخذ بالملاعق، فتحساه، ففيه خلاف، والأصح أنه
ليس بشرب. ولو قال: لا أطعم أو لا أتناول، دخل في اليمين الأكل والشرب
جميعا.
فرع حلف: لا يأكل السكر، حنث بنفس السكر، دون ما يتخذ منه، إلا
إذا نوى. وكذا الحكم في التمر والعسل. ثم إن ابتلع السكر بلا مضغ، فقد أكله،
كما لو أكل الخبز على هيئته، وإن مضغه وازدرده ممضوغا، حنث أيضا، وإن
وضعه في فمه فذاب ونزل، لم يحنث على الأصح، وبه قطع المتولي والبغوي،
كما أنه لا يسمى أكلا للسكر.
فرع حلف: لا يأكل العنب والرمان، لم يحنث بأكل عصيرهما وشربه.
ولو امتصهما، ورمى الثفل، لم يحنث أيضا، لأنه ليس آكلا.
حلف: لا يأكل السمن، فأكله وهو جامد وحده، حنث، وإن شربه ذائبا،
لم يحنث على الصحيح، وإن أكله بخبز وهو جامد أو ذائب، حنث على الصحيح،
وخالف فيه الإصطخري. وإن جعله في عصيدة أو سويق، فالنص أنه يحنث
ونص أنه لو حلف: لا يأكل خلا، فأكله سكباجا، لا يحنث، فقال الجمهور:
ليس ذلك باختلاف، بل إن كان السمن ظاهرا في العصيدة والسويق يرى جرمه،
حنث وهذا مراده بنص السمن، وكذا حكم الخل إذا كان ظاهرا بلونه، وطعمه، بأن
أكل مرقة وهي حامضة وإن كان السمن أو الخل مستهلكا، لم يحنث. وهذا مراده
بنص الخل. وصوروا ذلك فيما إذا أكل لحم السكباج أو ما فيه من سلق وغيره،
38

ومنهم من أطلق وجهين أو قولين فيهما.
فرع حلف: لا يأكل أو لا يشرب، لا يحنث بمجرد الذوق، ولو حلف:
لا يذوق، فأكل أو شرب، حنث على الصحيح، لتضمنهما الذوق. وإن أدرك طعم
الشئ بالمضغ والامساك في الفم، ثم مجه ولم ينزل إلى حلقه، فوجهان.
أحدهما: لا يحنث، كما لا يفطر. وأصحهما: يحنث، لأن الذوق إدراك الطعم.
ولو حلف: لا يأكل ولا يشرب ولا يذوق، فأوجر في حلقه حتى صار في جوفه، لم
يحنث. ولو قال: لا أطعم كذا فأوجره، حنث، لأن معناه: لا جعلته لي
طعاما.
التاسعة: حلف لا يأكل الفاكهة، حنث بأكل العنب، والرمان، والرطب،
والتفاح، والسفرجل، والكمثرى، والمشمش، والخوخ، والإجاص،
والأترج، والنارنج، والليمون، والنبق، والموز، والتين، ولا يحنث بالقثاء والخيار
والباذنجان والجزر، ويحنث بالبطيخ على الأصح، وبه قال ابن سريج، لأن له
نضجا وإدراكا، ويدخل في اسم الفاكهة الرطب واليابس، كالتمر والزبيب والتين
اليابس، ومفلق الخوخ والمشمش، وهل يحنث بلب الفستق والبندق وغيرهما؟
وجهان أصحهما: نعم، لأنه يعد من يابس الفاكهة، كذا قاله الجمهور، وقالوا: لو
حلف لا يأكل الثمار، حنث بالرطب دون اليابسات. وقال المتولي: لا يحنث
باليابس في يمين الفاكهة أيضا. والصحيح: الأول. العاشرة: حلف: لا يأكل
البيض، ثم حلف: ليأكلن ما في كم زيد، فإذا هو بيض، فجعله في الناطف وأكله
كله، لا يحنث في واحدة من اليمينين، ولا بد من أكل جميعه.
فرع يتعلق بهذا النوع: الرطب ليس بتمر، والعنب ليس بزبيب، وعصير
39

العنب ليس بعنب، وعصير التمر ودبسه ليس س بتمر، والسمسم ليس بشيرج، وكذا
العكوس. والرطب ليس ببسر ولا بلح. ولو حلف: لا يأكل الرطب، فأكل
المنصف، نظر، إن أكل النصف الذي أرطب، حنث قطعا، وإن أكل الجميع،
حنث على الصحيح، وخالف فيه الإصطخري، وأبو علي الطبري. وإن أكل
النصف الذي لم يرطب، لم يحنث، ولو حلف: لا يأكل البسر، فأكل المنصف،
ففيه هذا التفصيل، والحكم بالعكس. ولو حلف: لا يأكل بسرة ولا رطبة، فأكل
منصفا، لم يحنث. ولو حلف: لا يأكل طعام، تناول اللفظ القوت والأدام
والفاكهة والحلواء. وفي الدواء وجهان.
ولو حلف: لا يأكل قوتا، حنث بأكل ما يقتات من الحبوب، ويحنث بالتمر
والزبيب واللحم إن كان ممن يقتاتها، وحلا فوجهان.
ولو حلف: لا يأكل إداما، حنث بكل ما يؤتدم به، سواء كان مما يصطبغ به،
كالخل والدبس والشيرج والزيت والسمن والمربى، أو لا يصطبغ به كاللحم
والجبن والبقل والبصل والفجل والثمار، وكذا التمر والملح على الصحيح فيهما.
واسم الماء يتناول العذب والملح، ومياه الآبار والأنهار، وكذا ماء البحر، وفيه
احتمال للشيخ أبي حامد. فلو حلف: لا يشرب الماء، لم يحنث بأكل الجمد
والثلج، ويحنث بشرب مائهما.
ولو حلف: لا يأكل الجمد والثلج، لم يحنث بشرب مائهما. والثلج ليس
بجمد، وكذا العكس. ولو حلف: لا يأكل مما طبخه زيد، فالاعتبار فيه بالايقاد
إلى الادراك، أو وضع القدر في التنور بعد سجره، فان أوقد زيد تحته حتى أدرك،
أو وضعها في التنور فأكل منه، حنث، سواء وجد نصب القدر وتقطيع اللحم،
وصب الماء عليه، وجمع التوابل، وسجر التنور منه، أو من غيره. ولو أوقد، أو
40

وضع في التنور مع غيره، لم يحنث، لأنه لم ينفرد بالطبخ، وكذا لو أوقد هذا
ساعة، وهذا ساعة.
قال الامام: ولو جلس الحاذق بالطبخ قريبا، واستخدم صبيا في الايقاد،
وقلل أو كثر ففيه تردد، إذ يضاف الطبخ هنا إلى الأستاذ.
ولو قال: لا آكل ما خبزه فلان، فالاعتبار بالصاقه إلى التنور، لا بالعجن
وسجر التنور وتقطيع الرغفان وبسطها.
قلت: ولو حلف: لا يأكل ثريدا، لم يحنث بخبز غير مثرود في مرق. والله
أعلم.
النوع الثالث: في العقود وفيه مسائل:
إحداها: حلف: لا يأكل طعاما اشتراه زيد، أو من طعام اشتراه زيد، أو لا يلبس
ثوبا اشتراه زيد، لم يحنث بما ملكه بإرث أو هبة أو وصية، أو رجع إليه برد
بعيب أو بإقالة وإن جعلنا الإقالة بيعا، لأنه لا يسمى بيعا عند الاطلاق، وكذا
لا يحنث بما خلص له بالقسمة وإن جعلناها بيعا. ويحنث بما ملكه بالتولية والاشراك
والسلم، لأنها بيوع، ولا يحنث بما ملكه بالصلح على الصحيح، وبه قطع
الصيدلاني والبغوي والمتولي والروياني وغيرهم. ولو قال: لا أدخل دارا اشتراها
زيد، لم يحنث بدار ملك بعضها بالشفعة. ولا يحنث بم اشتراه لزيد وكيله،
ويحنث بما اشتراه زيد لغيره بوكالة أو ولاية. ولو اشتراه زيد ثم باعه، فأكله،
حنث، لأنه موصوف بأن زيدا اشتراه. وكذا لو باع بعضه وأكل من ذلك البعض
ولو أكل طعاما اشتراه زيد وعمرو، لم يحنث على الصحيح. وقيل: يحنث، لأنه
41

ما من جزء إلا وقد ورد عليه شراء زيد، وهذا اختيار القاضي أبي الطيب. وقيل: إن
أكل النصف فما دونه، لم يحنث، وإن أكل أكثر منه، حنث، لأنا تتحقق أنه أكل
مما اشتراه زيد، ثم لم يفرق الجمهور بين قوله: لا آكل من طعام اشتراه زيد،
وقوله: طعاما اشتراه زيد. وخص البغوي الأوجه بما إذا قال: من طعام اشتراه
زيد، وقطع بعدم الحنث فيما إذا قال: طعاما اشتراه زيد، قال: إلا أن يريد أن
لا يأكل طعامه أو من طعامه، فيحنث بالمشترك. ولو اشترى زيد طعاما، وعمرو
طعاما، وخلطا، فأكل الحالف من المختلط، فثلاثة أوجه.
أحدها: لا يحنث وإن أكل الجميع، وبه قال ابن أبي هريرة، لأنه لا يمكن
الإشارة إلى شئ منه بأنه اشتراه زيد.
والثاني، وهو قول الإصطخري، واختاره القاضي أبو الطيب: إن أكل أكثر
من النصف، حنث، وإلا، فلا، وهو عند استواء القدرين.
والثالث، وهو الأصح، وبه قال أبو إسحاق: أنه إن أكل قليلا يمكن أن يكون
مما اشتراه عمرو، كعشر حبات من الحنطة، وعشرين حبة، لم يحنث، وإن أكل
قدرا صالحا، كالكف والكفين، حنث، لأنا نتحقق أن فيه مما اشتراه زيد.
فرع قال: لا أسكن دارا لزيد، فسكن دارا له فيها حصة قليلة، أو
كثيرة، لا يحنث. نص عليه في الام.
فرع في تعليقة إبراهيم المروذي: أنه لو حلف: لا يأكل طعام زيد،
فأكل مشتركا بينه وبين غيره، حنث، وقد سبق عن البغوي ما يوافقه، قال: ولو
حلف لا يلبس ثوب زيد، أو لا يركب دابته، فلبس أو ركب مشتركا، لم يحنث.
المسألة الثانية: حلف لا يشتري أو لا يبيع، فوكل من باع واشترى له، أو
لا يضرب عبده، فأمر من ضربه، أو حلف الأمير أو القاضي: لا يضرب، فأمر
الجلاد فضرب، لم يحنث، وذكر الربيع أن الحالف إن كان ممن لا يتولى البيع
والشراء، أو الضرب بنفسه كالسلطان، أو كان الفعل المحلوف عليه لا يعتاد الحالف
42

فعله، أو لا يجئ منه، كالبناء والتطيين، حنث إذا أمر به. فمنهم من جعل هذا
قولا آخر، وأثبت قولين، والمذهب القطع بأنه لا يحنث، والامتناع من جعله قولا،
ولو حلف:
لا يزوج، أو لا يطلق، أو لا يعتق، فوكل وعقد الوكيل، فكالتوكيل في البيع. ولو
فوض الطلاق إلى زوجته، فطلقت نفسها، لم يحنث على المذهب. وحكي قول
أنه يحنث هنا وإن لم يحنث في التوكيل، لأنه فوضه إلى من لا يملكه، وكأنه هو
المطلق. فلو قال: إن فعلت كذا، أو إن شئت، فأنت طالق، ففعلت، أو
شاءت، حنث، لأن الموجود منها مجرد صفة، وهو المطلق. ولو حلف:
لا يتزوج، أو لا ينكح، فوكل من قبل له نكاح امرأة، فهل يحنث؟ وجهان حكاهما
المتولي. أحدهما: لا، كالبيع، وبه قطع الصيدلاني، والغزالي. والثاني:
نعم، لأن الوكيل هنا سفير محض، ولهذا يجب تسمية الموكل، وبه قطع
البغوي. ولو قبل لغيره نكاحا، فمقتضى الوجه الأول الحنث، ومقتضى الثاني
المنع. ولو حلف: لا يبيع ولا يشتري، فتوكل لغيره فيهما، حنث على الأصح،
وهو الذي أطلقه جماعة، وقيل: لا يحنث، وقيل: إن صرح بالإضافة إلى
الموكل، لم يحنث، وإن نواه ولم يصرح، حنث. ولو قال: لا أكلم عبدا اشتراه
زيد، لم يحنث بتكليم عبد اشتراه وكيله. ولو قال: لا أكلم امرأة تزوجها زيد،
فكلم من تزوجها لزيد وكيله، ففيه الوجهان، فيما لو حلف: لا يتزوج، فتزوج
وكيله له. ولو حلف: لا يكلم زوجة زيد، حنث بتكليم من تزوجها بنفسه أو بوكيله
بلا خلاف.
واعلم أن كل هذه الصور فيمن أطلق ولم ينو، فأما إن نوى أن لا يفعل ولا يفعل
بإذنه، أو لا يفعل ولا يأمر به، فيحنث إذا أمر به ففعل، هكذا أطلقوه مع
قولهم: إن اللفظ حقيقة لفعل نفسه، واستعماله في المعنى الآخر مجاز. وفي هذا
استعمال اللفظ في الحقيقة والمجاز جميعا، وهو بعيد عند أهل الأصول، والأولى
أن يؤخذ معنى مشترك بين الحقيقة والمجاز جميعا، فيقال: إذا نوى أن لا يسعى في
43

تحقيق ذلك الفعل، حنث بمباشرته، وبالأمر به، لشمول المعنى وإرادة هذا المعنى
إرادة المجاز فقط.
قلت: هذا الذي ذكره الرافعي حسن، والأول صحيح على مذهب الشافعي،
وجمهور أصحابنا المتقدمين في جواز إرادة الحقيقة والمجاز بلفظ واحد. والله
أعلم.
فرع حلف: لا يحلق رأسه، فأمر غيره، فحلقه، فقيل: يحنث
للعرف. وقيل: فيه الخلاف، كالبيع. ولو حلف: لا يبيع من زيد، فباع من
وكيله، أو وكل من باع من زيد، لم يحنث. ولو حلف: لا يبيع لزيد مالا، فباع
ماله بإذنه أو بإذن الحاكم بحجر، أو امتناع الحاكم، حنث. وإن باع بغير إذن، لم
يحنث، لفساد البيع. فلو وكل زيد وكيلا في بيع ماله، وأذن له في التوكيل، فوكل
الوكيل الحالف وهو لا يعلم، نص في الام أنه لا يحنث، وهو تفريع على أحد
القولين في حنث الناسي. وقال المتولي: إن كان أذن لوكيله أن يوكل عنه، حنث،
لأنه باع لزيد يعني إذا علم، أو قلنا: يحنث الناسي، وإن كان أذن له في التوكيل
عن نفسه، فباع، لم يحنث، لأنه لم يبع لزيد، بل لوكيله وإن أطلق الاذن في
التوكيل، فعلى الخلاف في أن من يوكله وكيل الموكل، أم وكيل الوكيل؟ ولو قال:
لا يبيع لي زيد مالا، فوكل الحالف رجلا في البيع، وأذن له في التوكيل، فوكل
الوكيل زيدا، فباع، حنث الحالف، سواء علم زيد أم لم يعلم، لأن اليمين منعقدة
على نفي فعل زيد، وقد فعله زيد باختياره.
المسألة الثالثة: حلف لا يبيع، فباع بيعا فاسدا، أو لا يهب، فوهب هبة
فاسدة، لم يحنث، وتنزل ألفاظ العقود على الصحيح. هذا إذا أطلق اليمين، فإن
أضاف العقد إلى مالا يقبله، بأن حلف: لا يبيع الخمر، أو المستولدة، أو مال
زوجته، أو غيرها بغير إذن، ثم أتى بصورة البيع، فإن مقصوده أن لا يتلفظ بلفظ
العقد مضافا إلى ما ذكره، حنث، وإن أطلق، لم يحنث، لأن البيع هو السبب
44

المملك، وذلك لا يتصور في الخمر، أو المستولدة، أو مال زوجته، أو غيرها بغير
إذن، ثم أتى بصورة يحنث بصورة البيع، وهو وجه لغيره حكاه صاحب التقريب
والصحيح الأول، وسيأتي خلاف إن شاء الله تعالى في أنه هل يتعين حمل لفظ
العبادات كصوم وصلاة على الصحيح؟ ولا خلاف أنه لو حلف أن لا يحج، يحنث
بالفاسد، لأنه منعقد يجب المضي فيه كالصحيح. ولو حلف لا يبيع بيعا فاسدا،
لم يحنث بالبيع الفاسد، ذكره الصيدلاني والروياني. وقال الامام: الوجه عندنا أنه
يحنث.
الرابعة: إذا حلف لا يهب، حنث بكل تمليك في الحياة خال عن العوض،
كالهبة والصدقة والرقبى والعمرى، لأنها أنواع خاصة من الهبة، وقيل: لا يحنث بما
سوى الهبة. وقيل: يحنث بالرقبى والعمرى دون الصدقة، حكاه المتولي، ووجهه
بأن الهبة والصدقة تختلفان اسما ومقصودا وحكما. أما الاسم، فلان من تصدق
على فقير لا يقال: وهب له، وأما ا المقصود، فلان الصدقة للتقرب إلى الله تعالى،
والهبة لاكتساب المودة. وأما الحكم، فلان النبي (ص) كان لا يأكل الصدقة، ويأكل
الهبة والهدية. هذا في صدقة التطوع، أما إذا أدى الزكاة، أو صدقة الفطر،
فلا يحنث، كما لو أدى دينا. وعن القفال ترديد جواب فيه، والمذهب الأول.
ولا يحنث بالإعارة، إذ لا تمليك فيها، ولا بالوصية، لأنها تمليك بعد الموت،
والميت لا يحنث ولا بالضيافة. وقال ابن القطان: يحنث بالوصية. وفي الضيافة
وجه حكاه المتولي بناء على أن الضيف يملك ما يأكله، والصحيح الأول في
المسألتين. ولا يحنث بالوقف عليه إن قلنا: الملك فيه للواقف، أو لله تعالى، وهو
المذهب، وإن قلنا للموقوف عليه، حنث. وقيل: فيه خلاف. ولو قال الحالف
لرجل: وهبتك كذا فلم يقبل لم يحنث على الصحيح، لأن العقد لم يتم قال
ابن سريج: يحنث، لأنه يقال: وهبه كذا، فلم يبل، وخرج على هذا الخلاف
فيما إذا أعمره أو أرقبه، ولم نصحح العقدين. ولو تم الايجاب والقبول في الهبة،
لكن لم تقبض، فوجهان، أصحهما عند المتولي: يحنث لأن الهبة حصلت،
والمتخلف الملك. وعند البغوي: لا يحنث، لأن مقصود الهبة ليحصل.
45

قلت: الأصح لا يحنث، وصححه آخرون غير البغوي، منهم الرافعي في
المحرر. والله أعلم.
فرع حلف: لا يتصدق، فتصدق فرضا أو نفلا، يحنث، لشمول
الاسم، وسواء تصدق على فقير أو غني. وقال المتولي: لو دفع إلى ذمي لا
يحنث، لأنه لا قربة فيه، وهذا ممنوع، ويحنث بالاعتاق دون الإعارة والضيافة،
وفي الهبة وجهان. أحدهما: يحنث بها كعكسه. وأصحهما، لا. والصدقة والهبة
تتداخلان تداخل العموم والخصوص، فكل صدقة هبة، ولا ينعكس. ولو وقف،
فقد أطلق المتولي أنه يحنث، وقال غيره: يبنى على الأقوال في ملك الوقف لمن
هو؟ إن قلنا: للواقف، لم يحنث. وإن قلنا: لله تعالى، حنث، وإن قلنا:
للموقوف عليه، فوجهان، كالهبة.
فرع حلف: لا يبر فلانا، دخل في اليمين جميع التبرعات من الهبة
والهدية والإعارة والضيافة والوقف وصدقة التطوع، فيحنث بأيها وجد ولو كان
المحلوف عليه عبده، فأعتقه، حنث، وكذا لو كان عليه دين، فأبرأه، ولا يحنث
بأن يدفع إليه الزكاة. ولو حلف: لا يعتق عبدا فكاتبه، وعتق بالأداء، لم يحنث،
ذكره ابن القطان. ولو حلف: لا يضمن لفلان مالا، فكفل بدن مديونه،
لم يحنث
. الخامسة: حلف: لا مال له، حنث بكل مال حتى ثياب بدنه، وداره التي
يسكن فيها، وعبده الذي يخدمه، ولا يختص بنوع من المال إلا أن ينويه، ولو كان
له دين حال على ملئ مقر، حنث، كالوديعة. قال المتولي: وخرج فيه وجه من
قوله القديم: لا زكاة في الدين، والمذهب الأول، وإن كان مؤجلا أو على معسر،
أو جاحد، حنث على الأصح، لأنه ثابت في الذمة يصح الابراء منه. وقيل: في
الجاحد وجه ثالث: إن كان له مغضوب بينة، حنث قطعا، وإلا، فلا. ولو كان له عبد
آبق، أو مال ضالة، أو مغصوب، أو مسروق، وانقطع خبرها، ففي الحنث
وجهان، لتعارض أصل بقائها، وعدم الحنث. ولو كان الغاصب حاضرا،
46

والمالك قادر على الانتزاع منه، أو على بيعه ممن يقدر على انتزاعه، حنث قطعا،
ذكره المتولي. ولو كان له مدبر أو معلق عتقه بصفة أو مال أو وصى به، حنث، لأنها
باقية على ملكه، ولا يحنث بالمكاتب على الأصح. ويقال: الأظهر، وقيل:
قطعا، ويحنث بأم الولد على الأصح، لأن رقبتها له، وله منافعها، وأرش الجناية
عليها. ولو كان يملك منفعة بوصية أو إجارة، لم يحنث على الصحيح، ولا يحنث
بالموقوف إن قلنا: الملك فيه لله تعالى أو للواقف، وإن قلنا: له، فكالمستولدة.
ولو كان قد جنى عليه خطأ أو عمدا، أو عفا على مال، حنث، وإن كانت الجناية عمدا،
ولم يقتص ولم يعف، قال في البيان يحتمل أن يبنى على أن موجب العمد ماذا؟
إن قلنا: القود، لم يحنث، وإن قلنا: القود أو المال، حنث، وقد يتوقف في
هذا.
قلت: الصواب الجزم بأن لا حنث. والله أعلم.
وكون المال مرهونا لا يمنع الحنث، وكذا عدم استقرار الملك. وقال ابن
القطان: لا يحنث بالأجرة المقبوضة إذا لم تنقض المدة، وغلطه ابن كج.
فرع حلف لا ملك له، حنث بالآبق والمغصوب، وإن كان له زوجة،
قال المتولي: يبنى على أن النكاح هل هو عقد تمليك، أو عقد حل؟ فإن قلنا:
تمليك، حنث.
قلت: المختار أنه لا حنث إذا لم تكن نية، لأنه لا يفهم منه الزوجة، وينبغي
أن لا يحنث بالكلب والسرجين وغيرهما من النجاسات، ولا بالزيت النجس إذا لم
نجز بيعه. ولو حلف: لا رقيق له، أو لا عبد له، أو لا أمة له، وله مكاتب، لم
يحنث على المنصوص، وهو المذهب، ويحنث بمدبر قطعا. والله أعلم.
الرابع في الإضافات والصفات، وفيه مسائل:
إحداها: حلف لا يدخل دار زيد أو بيته، أو لا يلبس ثوبه، أو لا يركب
47

دابته، قال الأصحاب: مطلق الإضافة إلى من يملك مقتضى ثبوت الملك، ولهذا
لو قال: هذه الدار لزيد، كان إقرارا بملكه. فلو قال: أردت أنها مسكنه،
لا يقبل، وقد تضاف الدار والبيت إلى الانسان بجهة أنها مسكنه، لكنه مجاز،
ولهذا يصح نفي الإضافة مع إثبات السكنى، فيقال: هذه الدار ليست ملك زيد،
لكنها مسكنه. إذا عرف هذا فلا يحنث الحالف بدخول دار يسكنها زيد بإجارة أو
إعارة أو غصب، إلا أن يقول أردت المسكن، ويحنث بدخول دار يملكها وإن
لم يسكنها، إلا أن يقول: أرد ت مسكنه. ولو حلف: لا يدخل مسكن فلان، حنث
بدخول مسكنه المملوك والمستأجر. وفي المغصوب وجهان، لأنه لا يملك سكناه.
قلت: أصحهما: الحنث. والله أعلم.
وفي دخول داره التي لا يسكنها أوجه، أصحهما: لا يحنث، والثالث: إن كان
سكنه ولو يوما، حنث، وإلا، فلا، ولو أراد مسكنه المملوك، لم يحنث بغيره
بحال.
فرع حلف: لا يدخل دار زيد، وقد وقف زيد على غيره دارا، قال
المتولي: إن قلنا: الوقف ملك للواقف، حنث بدخولها، وإلا فلا. وإن دخل دارا
موقوفة على زيد، فإن قلنا: الوقف ملك للموقوف عليه، حنث، وإلا، فلا. ولو
دخل دارا لمكاتب زيد، لم يحنث.
فرع حلف: لا يدخل دار المكاتب، حنث بدخولها على الصحيح، لأنه
مالك نافذ التصرف.
المسألة الثانية: حلف: لا يدخل دار زيد، فباعها زيد، ثم دخلها، لم
يحنث، لأنه لم يدخل دار زيد، وكذا لو قال: لا أكلم عبد فلان أو أجيره أو
زوجته، فكلم بعد زوال ملكه عن العبد وانقطاع الإجارة والنكاح، أو قال: لا أكلم
سيد هذا العبد، أو زوج هذه ا المرأة، فكلم بعد زوال الملك والنكاح، لم يحنث.
فلو اشترى زيد بعد ما باعها دارا أخرى، قال الصيدلاني: إن قال: أردت الأولى
بعينها، لم يحنث بدخول الثانية، وإن قال: أردت أي دار تكون في ملكه، حنث
بالثانية دون الأولى، وإن قال: أردت أي دار جرى عليها ملكه، حنث بأيتها دخل.
48

هذا كله إذا قال: دار زيد ولم يعين، فأما إذا قال: لا أدخل دار زيد هذه، فباعها
زيد، ثم دخلها، فيحنث على الصحيح، لأنه عقد اليمين على عين تلك الدار،
ووصفها بإضافة قد تزول، فغلب التعيين كما لو قال: لا أكلم زوجة زيد هذه، أو
عبده هذا، فكلمهما بعد الطلاق والعتق، يحنث. ولو قال: لا آكل لحم هذه
البقرة، وأشار إلى شاة، فإنه يحنث بأكل لحمها، فيجئ فيها الخلاف فيما لو
قال: بعتك هذه البقرة وهي شاة، لأن العقود يراعى فيه شروط وتعبدات لا يعتبر
مثلها في الايمان. ولو حلف: لا يكلم زيدا هذا، فبدل اسمه، واشتهر بالاسم
المبدل، ثم كلمه، حنث اعتبارا بالتعيين.
الثالثة: حلف: لا يدخل هذه الدار من هذا الباب، فدخلها من موضع آخر
عتيق أو محدث، وذلك الباب بحاله، لم يحنث، فلو قلع الباب، وحول إلى منفذ
آخر من تلك الدار، فثلاثة أوجه، أصحها: تحمل اليمين على المنفذ الأول، لأنه
المحتاج إليه في الدخول، فإن دخل منه، حنث، وإن دخل من المنفذ المحول
إليه، لم يحنث. والثاني: يحمل على الباب المتخذ من الخشب ونحوه، لان
اللفظ له حقيقة، فيحنث بدخول المنفذ المحول إليه دون الأول. والثالث: يحمل
عليهما لأن الإشارة وقعت إليهما، فلا يحنث بدخول منفذ آخر، وإن نصب عليه ذلك
الباب، ولا بدخول المنفذ الأول، هذا إذا أطلق. فإن قال: أردت بعض هذه
المحامل، حمل عليه، وارتفع الخلاف، ولو قلع الباب، ولم يحول إلى موضع
آخر، حنث بدخول ذلك المنفذ على الأصح ويعبر عن الخلاف بأن الاعتبار
بالمنفذ، أم بالباب المنصوب عليه؟ قال المتولي: بناء عليه لو قال: لا أدخل هذا
الباب، وقلنا: تنعقد اليمين على الباب المنصوب. فنقل إلى دار أخرى، فدخلها
منه، حنث، والمذهب أنه لا يحنث إلا أن يريد: لا أدخل منه حيث نصب. ولو
قال: لا أدخل باب هذه الدار، ولا أدخل هذه الدار من بابها، ففتح باب جديد،
فدخلها منه، حنث على الأصح. ولو قال: لا أدخلها من بابها، فتسلق ونزل من
السطح، لم يحنث.
49

الرابعة: حلف: لا يركب دابة عبد زيد، ولا يدخل داره، لا يحنث بالدابة
والدار المجعولين باسم العبد، إلا أن يريد: فإن ملكه السيد دابة أو دارا، بني على
أنه هل يملك؟ إن قلنا: نعم، حنث، وإلا، فلا. هذا هو الصحيح، وقول
الجمهور. وقال ابن كج: لا يحنث وإن قلنا: يملك لأن ملكه ناقص، والسيد
متمكن من إزالته، فكأنه بينه وبينه، وصار كمن حلف لا يركب دابة زيد وركب
مشتركة بينه وبين غيره. ولو حلف: لا يركب دابة زيد، فركب دابة ملكها زيد
لعبده، إن قلنا: لم يملك، لم يحنث، وإلا فيحنث. ولو حلف: لا يركب دابة
العبد، فعتق وركب دابة يملكها، فقطع الغزالي بالحنث، وابن كج بالمنع إذا لم
يكن له بينة، لأنه إنما يركب دابة حر. وينبغي أن يقال: إن قال: لا أركب دابة
هذا، حنث، وإن قال: دابة عبد، فلا، وإن قال: دابة هذا العبد، فليكن على
خلاف يأتي إن شاء الله فيما لو حلف لا يكلم هذا العبد، فعتق، ثم كلمه.
ولو قال: لا أركب سرج هذه الدابة، فركب السرج المعروف بها، حنث وإن كان
على دابة أخرى، ويقرب من هذا ما إذا حلف على دار أو خان منسوب، فيحمل
على التعريف، كخان أبي يعلى عندنا، وكدار العقيقي بدمشق.
المسألة الخامسة: حلف: لا ألبس ثوبا من به فلان علي، أو ما من به علي،
فلبس ثوبا وهبه له، أو أوصى له به، حنث. ولو لبس ما باعه إياه بمحاباة، لم
يحنث، لأن المنة في نقص الثمن لا بالثوب. وكذا لو باعه ثوبا ثم أبرأه من ثمنه،
فلبسه، أو أبدل الموهوب، أو الموصى به بغيره، أو باعه واشترى بثمنه ثوبا فلبسه،
لم يحنث، لأن الايمان تبنى على الألفاظ، لا على القصود التي لا يحتملها اللفظ،
ولهذا لو من عليه رجل، فحلف: لا يشرب له ماء من عطش، فشربه من غير
عطش، أو أكل له طعاما، أو لبس له ثوبا، لا يحنث، لأن اللفظ لا يحتمله، وإن
كان يقصد في مثل هذا الوضع الامتناع من جميع هذا.
السادسة: حلف: لا يلبس من غزل فلانة، أو ثوبا من غزلها، فلبس ثوبا
خيط بغزلها، لم يحنث وإن لبس ثوبا سداه من غزلها، واللحمة من غيره، فإن
50

كان قال: لا ألبس ثوبا من غزلها، لم يحنث. وإن قال: لا ألبس من غزلها،
حنث، بخلاف الخيط، فإنه لا يوصف بأنه ملبوس.
فرع يراعى مقتضى اللفظ في هاتين المسألتين ونظائرهما في تناول
الماضي والمستقبل أو أحدهما، فإذا قال: لا ألبس ما من به علي، فإنما يحنث
بلبس ما تقدمت المنة به بالهبة وغيرها، ولا يحنث بما يمن به فيما بعد. وإذا قال:
لا ألبس ما غزلته فلانة، فإنما يحنث بما غزلته من قبل دون ما تغزله فيما بعد. ولو
قال: لا ألبس ما يمن به، أو ما تغزله، حنث بما تحدث المنة به وغزله دون
ما سبق.
ولو قال: لا ألبس من غزلها، دخل فيه الماضي والمستقبل
. السابعة: حلف: لا يلبس ثوبا، حنث بلبس القميص والرداء والسراويل
والجبة والقباء ونحوها، وسواء المخيط وغيره، والقطن والكتان والصوف
والإبريسم، وسواء لبسه على الهيئة المعتادة أو بخلافها، بأن ارتدى أو اتزر
بالقميص، أو تعمم بالسراويل، ولا يحنث بلبس الجلود وما يتخذ منها،
ولا بلبس الحلي والقلنسوة، ولا بوضع الثوب على الرأس، ولا بأن يفرشه ويرقد
عليه. ولو تدثر به، لم يحنث على الأصح، لأنه لا يسمى لبسا، ولو قال:
لا ألبس حليا، حنث بالسوار والخلخال والطوق والدملج، وخاتم الذهب والفضة،
51

ولا يحنث بالمتخذ من شبه أو حديد، ويحنث بمخنقة اللؤلؤ والجواهر وإن لم
يكن فيها ذهب، ولا يحنث بتقلد السيف المحلى. وفي المنطقة المحلاة
وجهان، أصحهما: أنها من حلي الرجل، ويحنث بلبس الخرز والسبج إن كان
الحالف من قوم يعتادون التحلي بهما، كأهل السواد. وفي غيرهم وجهان، كما لو
حلف غير البدوي: لا يدخل بيتا، فدخل بيت شعر. ولو حلف: لا يلبس شيئا،
حنث بلبس الثياب والحلي والقلنسوة والجلود وفي الدرع والخف والنعل والجوشن
وجهان. أصحهما: يحنث، وقد يطرد الخلاف في الحلي والقلنسوة. ولو قال:
لا ألبس قميصا، فارتدى أو اتزر بقميص، حنث على الأصح، ولو فتقه وقطعه
وارتدى، أو اتزر به، لم يحنث، لفوات اسم القميص. ولو قال: لا ألبس هذا
القميص، فارتدى به أو اتزر، أو قال: لا ألبس هذا الرداء، فاتزر به، أو تعمم،
حنث على الصحيح، لتعلق اليمين بعين القميص. ولو قال: لا ألبس هذا الثوب،
وكان المحلوف عليه قميصا أو رداء، ففتقه واتخذ منه نوعا آخر، بأن جعل القميص
رداء، أو الرداء جبة أو تككا، أو الخف نعلا، ثم لبس المتخذ، حنث على
الأصح، إلا أن ينوي لا يلبسه ما دام على تلك الهيئة. فلو لم يذكر الثوب، بل
قال: لا ألبس هذا القميص، أو هذا الرداء، ففتقه، واتخذ منه نوعا آخر ولبسه،
ففيه الوجهان، لكن الأصح هنا: لا يحنث، كما سيأتي في نظائره إن شاء الله
تعال. فإن قلنا: لا يحنث، فأعاد الهيئة الأولى، ففي الحنث الوجهان في الدار تعاد
بعد الانهدام بذلك النقص. ولو كان قال في يمينه: لا ألبس هذا القميص، أو الثوب
قميصا، أو هذا الثوب أو الرداء رداء، فإن تقمص بالقميص، أو ارتدى بالرداء،
حنث، وإن اتزر بالقميص أو تعمم بالرداء، لم يحنث. وكذا لو اتخذ من القميص
غير قميص، ومن الرداء غير رداء، ثم لبسهما، ولو قال: لا ألبسه وهو قميص،
فارتدى به، أو تعمم أو اتزر، حنث، لأنه لبس وهو قميص، وإن اتخذ منه غير
القميص ولبسه، لم يحنث.
فرع الوجهان فيمن قال: لا ألبس هذا القميص، فاتخذ منه غيره ولبسه،
52

يجريان في صور. منها: لو أشار إلى صبرة حنطة، وقال: لا آكل هذه، حنث بأكلها على
هيئتها، وبأكلها بعد الطحن والعجن والخبز والطبخ. ولو قال: لا آكل حنطة، لم
يحنث بالخبز والعجين والدقيق والسويق، ويحنث بأكل الحنطة نيئة ومقلية ومطبوخة
ومبلولة. ولو قال: لا آكل هذه الحنطة، حنث بأكلها نيئة فقط، ومطبوخة، وهل
يحنث بأكل دقيقها وسويقها وعجينها وخبزها؟ وجهان. أصحهما: لا، وبه قطع
بعضهم، لزوال اسم الحنطة، فصار كما لو زرعها وأكل حشيشها. أو قال: لا آكل
هذا البيض، فصار فرخا فأكله، فلو قال: لا آكل من هذه الحنطة، فكذلك
الحكم، إلا أن هنا يحنث بأكل بعضها. وحكي وجه أنه إذا قال: من هذه الحنطة،
حنث بأكل كل ما يتخذ منها. ولو قال: لا آكل هذا الدقيق، فأكل عجينه أو خبزه،
أو هذا العجين، فأكل خبزه، فعلى الخلاف.
ومنها: لو قال: لا آكل هذا الحيوان، فذبحه وأكله، حنث، لأن الحيوان
هكذا يؤكل، وهو كما لو حلف: لا يلبس هذا الغزل، فلبس ثوبا نسج منه،
حنث. ولو قال: لا آكل لحم هذه السخلة أو الخروف، فصار كبشا فذبحه وأكله،
فمن قال في مسألة الحنطة: يحنث، قال هنا: يحنث، ومن قال هناك:
لا يحنث، قال هنا: وجهان، أصحهما: لا يحنث، ويجري الوجهان فيما لو
قال: لا أكلم هذا الصبي، فكلمه بعد مصيره شابا، أو هذا الشاب فكلمه بعد
مصيره شيخا.
ومنها: لو قال: لا أكلم هذا وأشار إلى عبد فعتق، ثم كلمه، حنث، ولو
قال: لا أكلم هذا العبد، فعتق، فهو كمسألة السخلة.
ومنها: لو قال: لا آكل هذا الرطب، فصار تمرا، أو هذا البسر فصار رطبا،
أو العنب فصار زبيبا، أو لا أشرب هذا العصير، فصار خمرا، أو هذا الخمر فصار
خلا، أو لا آكل هذا التمر، فاتخذ منه عصيدة، ثم أكل أو شرب، ففيه هذا
الخلاف، وذكر الصيدلاني أن الشافعي رحمه الله نص على عدم الحنث في مسألة
الحنطة والتمر، وعلى الحنث في الصبي والسخلة. فقيل: قولان: وقيل: بتقرير
النصين. والفرق من وجهين: أحدهما: أن مسألة الحنطة والتمر تبدل الاسم، وفي
السخلة والصبي تبدل الصفة، وتبدل الصفة لا يسقط الحنث، والثاني: أن التبدل
53

في الأول بمعالجة، بخلاف الثاني.
فرع حلف: لا يلبس الخاتم، فجعله في غير الخنصر من أصابعه، فعن
المزني في الجامع أنه لا يحنث، وتابعه البغوي، وقاسه على ما لو حلف:
لا يلبس القلنسوة، فجعلها في رجله، والذي حكاه الروياني عن الأصحاب أنه
يحنث.
الثامنة: حلف: لا يخرج فلان إلا بإذنه، فأذن بحيث لم يسمح المأذون له، ولم
يعلم وخرج، فطريقان: المذهب المنصوص والذي قطع به الجمهور: لا يحنث،
لأن الاذن والرضى قد حصل. وقيل وجهان، وقيل: قولان منصوص ومخرج:
انه يحنث، وهو مخرج من مسألة عزل الوكيل. وعلى هذا الخلاف ما لو قال
لزوجته: إن خرجت بغير إذني، فأنت طالق، فأذن وخرجت وهي جاهلة بالاذن،
فينبغي أن يشهد على الاذن ليثبته عند التنازع. فإن لم تكن بينة، فهي المصدقة
بيمينها في إنكار الاذن. وفي كتاب ابن كج أن الزوج هو المصدق، كما لو أنكر
أصل التعليق. ثم قال الشافعي رحمه الله: الورع أن يحنث نفسه، وليس معناه أن
يعدها مطلقة من غير أن يطلقها، لأنا حكمنا بأنها زوجته، فكيف تنكح غيره؟ بل إن
كان علق الطلاق الثلاث، فالورع أن يطلقها ثلاثا، وإن كان المعلق طلقة رجعية،
وأراد إمساكها، راجعها، وإلا، طلقها لتحل للأزواج، فإن راجعها، ثم طلقها
طلقتين، فالورع أن لا ينكحها إلا بعد زوج، وإذا نكحها بعد زوج، كانت عنده
بطلقة، فإن طلقها، لم تحل إلا بزوج، لأنه لم يقع عليها بالخروج شئ، وقد
طلقها بعده ثلاثا، والزوج الثاني قبل استيفاء الثلاث لا أثر له.
فرع حلف: لا يخرج فلان بغير إذنه، أو إلا بإذنه، فخرج بغير إذنه،
حنث، وإن خرج بإذنه، لم يحنث. وعلى التقديرين تنحل اليمين حتى لو خرج بعد
ذلك بإذن أو بغير إذن، لم يحنث. وكذا لو قال لزوجته: إن خرجت بغير إذني أو إلا
بإذني فأنت طالق، إن خرجت بغير إذنه، طلقت، وإن خرجت بالاذن، لم
تطلق، وتنحل اليمين على التقديرين. وكذا الحكم لو قال: إن خرجت حتى آذن
لك، أو إلى أن آذن لك أو إلا أن آذن لك، فأنت طالق. وحكي قول أو وجه وهو
54

اختيار المزني والقفال، أنه لا تنحل اليمين بخروجها بالاذن، كما لو قال: إن
خرجت لابسة للحرير، فأنت طالق، فخرجت غير لابسة، لا تنحل اليمين، حتى
لو خرجت بعده لابسة طلقت، والمذهب الأول، وهو المنصوص، لأن اليمين
تعلقت بخرجة واحدة، وهي الأولى. قال البغوي: ومقتضى هذا أنه لو قال: إن
خرجت غير لابسة للحرير أو لابسة، فأنت طالق، فخرجت لابسة تنحل اليمين،
وهذه يخالف قول الغزالي: لو قال إن خرجت بلا خف، فأنت طالق، فخرجت
بخف، لا تنحل اليمين، وفرق بينه وبين مسألة الاذن بفرق ضعيف، فالوجه التسوية
بين الصورتين، كما ذكره البغوي. ولو قال: كلما خرجت، أو كل وقت خرجت
بغير إذني، فأنت طالق، فخرجت مرة بالاذن، لم تنحل اليمين، لأنها صيغة
تكرار. فلو قال: أذنت لك في الخروج كلما أرد ت، أغناه ذلك عن تجديد الاذن
لكل خرجة. ولو قال: متى خرجت، أو متى ما، أو مهما، أو أي وقت، أو أي
حين، فالحكم كما لو قال: إن خرجت، لأن هذه الصيغ لا تقتضي التكرار. وفي
الرقم للعبادي: إلحاق متى ما، ومهما بكلما وهو خلاف نصه في الام.
ولو قال: إن خرجت أبدا إلا بإذني، فأنت طالق، لم يلزم التكرار أيضا، بل معناه
في أي وقت خرجت، قريب أم بعيد وإذا علق الطلاق كما صورنا، ثم أذن لها في
الخروج، ثم رجع عن الاذن، وخرجت بعده، نص في الام أنها لا تطلق، لان
الاذن قد وجد، فزال حكم اليمين، والمنع بعده لا يفيد. ورأي أبو بكر الفارسي
والمحققون تنزيل النص على ما إذا قال في التعليق: حتى آذن لك، لأنه جعل إذنه
غاية اليمين، وقد حصل الاذن، فأما إذا قال: بغير إذني أو إلا بإذني، فإذا رجع
، ثم خرجت، فهذا خروج بغير إذن، وهو أول ما وجد بعد اليمين، فيقع الطلاق.
ومنهم من قال: قوله: إلا بإذني محتمل أيضا للغاية، فيحمل عليها. ولو قال: إن
خرجت بغير إذني لغير عيادة، فأنت طالق، فخرجت لعيادة، ثم عرضت حاجة
فاشتغلت بها، لم تطلق. وإن خرجت لعيادة وغيرها. فالمذكور في الشامل
منسوبا إلى نصه في الام أنه لا يحنث، وذكر البغوي أنه الأصح. ويشبه أن
يقال: إن كان المقصود بقوله لغير عيادة ما هو بمعزل عنها، لم يحنث، وهذا هو
السابق إلى الفهم منه، وإن كان المقصود ما يغايره في الحقيقة، فمجموع العيادة
والحاجة الأخرى يغاير مجرد العيادة.
55

قلت: الصواب الجزم بأنه لا يحنث. والله أعلم.
وإن قال: إن خرجت إلا لعيادة، فينبغي أن يحنث، لأنه يصدق أن يقال:
لم تخرج للعيادة بل لها ولغيرها.
النوع الخامس في الكلام وفيه مسائل:
إحداها: إذا قال: والله لا أكلمك فتنح عني، أو قم أو اخرج، أو شتمه، أو
زجره، حنث، سواء عقب هذا لليمين متصلا أم فصله، لأنه كلمه. وقيل:
لا يحنث إذا وصله، لأن المقصود به تأكيد اليمين، والصحيح الأول. ولو كتب إليه
كتابا أو أرسل رسولا، فقولان: الجديد: لا يحنث، ومنهم من قطع به، وقيل:
القديم إنما هو إذا نوى بيمينه المكاتبة. وقيل: القولان في الغائب، فإن كان معه
في المجلس، لم يحنث قطعا، والمذهب طردهما في كل الأحوال. ويجريان في
الإشارة بالرأس والعين، ولا فرق على الجديد بين إشارة الأخرس والناطق، وإنما
أقيمت إشارة الأخرس في المعاملات مقام النطق للضرورة.
فرع هجران المسلم فوق ثلاثة أيام، فلو كاتبه أو راسله، فهل يزول
الاثم؟ نظر إن كانت مواصلتهما قبل الهجران بالمكاتبة أو المراسلة، ارتفع الاثم،
وإلا فإن تعذر الكلام لغيبة أحدهما، فكذلك، وإلا، فوجهان بناء على القولين
الجديد والقديم، حتى لو حلف أن يهاجره، فهل يحنث بالمكاتبة والمراسلة؟ فيه
هذا الخلاف. وأطلق ابن أبي هريرة أنه يرتفع الاثم بالمكاتبة والمراسلة، ثم
لا يخفى أن المكاتبة إنما ترفع الاثم إذا خلت عن الايذاء والايحاش، وإلا، فهو كما
56

لو كلمه بالشتم والإيذاء، فإنه لا تزول به المهاجرة، بل هو زيادة وحشة، وتأكيد
للمهاجرة، ولا وحنث بمثل هذه المكاتبة إذا حلف على المهاجرة.
قلت: تحريم المهاجرة فوق ثلاثة أيام إنما هو فيما إذا كانت المهاجرة لحظوظ
النفوس وتعنتات أهل الدنيا، فأما إذا كان المهجور مبتدعا أو مجاهرا بالظلم
والفسوق، فلا تحرم مهاجرته أبدا، وكذا إذا كان في المهاجرة مصلحة دينية،
فلا تحريم، وعلى هذا يحمل ما جرى للسلف من هذا النوع، والأصح أنه لا يزول
التحريم بالمكاتبة والمراسلة، قال صاحب البيان: وينبغي أن تكون الإشارة
والرمز كالمكاتبة كما قلنا في الحنث. والله أعلم.
فرع حلف: لا يكلمه، ثم سلم عليه، حنث، لأن السلام كلام، وأن
يسلم على قوم هو فيهم، فإن قصده بالسلام حنث. قال في البيان ويجئ أن
لا يحنث على قول من قال: إذا حلف لا يأكل السمن، فأكله مع غيره، لا يحنث وإن
استثنى لفظا، لم يحنث، وإن استثناه بالنية، لم يحنث أيضا على المذهب. وإن أطلق،
حنث على الأظهر. ولو سلم من صلاته، والمحلوف عليه من المأمومين، ففيه هذا
التفصيل. ولو صلى الحالف خلف المحلوف عليه، فسبح لسهوه، أو فتح عليه
القراءة، لم يحنث، ولو قرأ آية، فهم المحلوف عليه منها مقصوده، فإن قصد
القراءة، لم يحنث، وإلا، فيحنث.
المسألة الثانية: حلف: لا يتكلم حنث بترديد الشعر مع نفسه، لأن الشعر
كلام، ولا يحنث بالتسبيح والتهليل والتكبير والدعاء على الصحيح، لأن اسم الكلام عند
الاطلاق ينصرف إلى كلام الآدميين في محاوراتهم. وقيل: يحنث، لأنه يباح
للجنب، فهو كسائر الكلام، ولا يحنث بقراءة القرآن.
57

قلت: قال القفال في شرح التلخيص: لو قرأ التوراة الموجودة اليوم، لم
يحنث، لأنا نشك أن الذي قرأه مبدل أم لا. والله أعلم.
الثالثة: حلف: ليثنين على الله أحسن الثناء، فطريق البر أيقول: لا
أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك زاد إبراهيم المروزي في آخره:
فلك الحمد حتى ترضى فصور المتولي المسألة فيما لو قال: لاثنين على الله
تعالى بأجل الثناء، أو أعظمه، وزاد في أول الذكر سبحانك ولو قال: لأحمدن
الله بمجامع الحمد، وقال المتولي: بأجل التحاميد، فطريق البر أن يقول:
الحمد لله حمدا يوافي نعمه ويكافئ مزيده ولو قال: لأصلين على النبي (ص)
أفضل الصلاة عليه، فطريق البر أن يقول: اللهم صل على الله محمد وعلى آل محمد
كلما ذكره الذاكرون وكلما سها عن ذكره الغافلون. ذكره إبراهيم المروذي.
قلت: أما الصورتان الأوليان، فذكرهما جماعة من متأخري الخراسانيين،
وليس لهما دليل يعتمد. ومعنى يوافي نعمه أي: يلاقيها، فتحصل معه،
ويكافئ مزيده بهمزة في آخره، أي: يساوي مزيد نعمه ومعناه: يقوم لشكر
ما زاد من النعم والاحسان. وأما مسألة الصلاة على النبي (ص)، فقد ذكرها عن
إبراهيم المروزي وحده، وقد يستأنس لذلك بأن الشافعي رحمه الله كان يستعمل هذه
العبارة، ولعله أول من استعملها، ولكن الصواب والذي ينبغي أن يجزم به أن أفضل
ما يقال عقيب التشهد في الصلاة: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما
58

صليت على إبراهيم إلى آخره، فقد ثبت في الصحيح أنهم قالوا يا رسول الله: كيف
نصلي عليك، فقال: قولوا: اللهم صل على محمد إلى آخره. والله أعلم.
فصل حلف: لا يصلي، فهل يحنث بالتحرم بالصلاة أم لا يحنث حتى
يركع؟ أم حتى يفرغ من الصلاة؟ فيه أوجه: أصحها الأول. ولو أفسدها بعد
الشروع، حنث على الأول، ولا يحنث على الثالث، ولا على الثاني إن لم يكن
ركع، ولا يجئ الثاني إذا صلى على جنازة. ولو أحرم مع إخلاله ببعض الشروط،
لم يحنث، لأنه لم يصل لعدم انعقادها. ولو حلف: ما صليت وقد أتى بصورة
صلاة فاسدة، لم يحنث ولو لم يجد ماء ولا ترابا، وصلى، حنث، لأنها صلاة إلا
أن يريد الصلاة المجزئة. ولو قال: لا أصلي صلاة، لا يحنث حتى يفرغ.
قلت: وينبغي أن لا يحنث بسجود الشكر والتلاوة والطواف، ويحنث بالصلاة
بالايماء، حيث يحكم بصحتها. والله أعلم.
ولو حلف: لا يصوم، فهل يحنث بأن يصبح صائما، أو بأن ينوي صوم
التطوع قبل الزوال، أم لا يحنث حتى يتم؟ فيه الخلاف. وإذا قلنا: لا يحنث إ
بالفراغ، فهل نتبين استناد الحنث إلى الأول فيه وجهان.
النوع السادس في تأخير الحنث وتقديمه وفيه مسائل:
59

إحداها: حلف: ليأكلن هذا الطعام غدا، فلا يخفى البر إن أكل غدا،
والحنث إن أخره عن الغد مع الامكان. فلو تلف الطعام قبل الغد بنفسه، أو بإتلاف
أجنبي، فقد فات البر بغير اختياره، فيخرج حنثه على قولي المكره، والأظهر أنه
لا يحنث. ويقال: إنه المنصوص، فإن قلنا: يحنث، فهل يحنث في الحال
الحصول اليأس، أم بعد مجئ الغد؟ فيه قولان أو وجهان، فقطع ابن كج
بالثاني. قال المتولي: وفائدة الخلاف أنه لو كان معسرا يكفر بالصوم، جاز أن ينوي
صوم الغد عن كفارته إن قلنا: يحنث قبل الغد.
قلت: ومن فوائده لو مات الحالف قبل مجئ الغد أو أعسر، وقلنا: يعتبر في
الكفارة حال الوجوب. والله أعلم.
فإن قلنا: لا يحنث قبل مجئ الغد، فهل يحنث إذا مضى من الغد زمن
إمكان الاكل أم قبيل غروب الشمس؟ وجهان. قال البغوي: أصحهما الأول ولو
مات الحالف قبل مجئ الغد، فقيل: هو كتلف الطعام، فيكون على الخلاف،
والمذهب القطع بأن لا حنث، وهو الذي يقتضي كلام ابن كج والبغوي وغيرهما،
لأنه لم يبلغ زمن البر والحنث. ولو مات بعد مجئ الغد وقبل امكان الاكل، فهو
كتلف الطعام بعد مجئ الغد على ما سنذكره إن شاء الله تعالى من التفصيل، وقطع
المتولي بأن لا حنث.
أما إذا تلف الطعام أو بعضه بعد مجئ الغد، فينظر، إن كان قبل التمكن من
الاكل، فهو كتلف الطعام قبل الغد، وفيه الخلاف. وإن تلف بعد التمكن، أو مات
الحالف بعد التمكن، فالمذهب الحنث، لأنه تمكن من البر، فصار كما لو قال:
لآكلن هذا الطعام، وتمكن من أكله ولم يأكله حتى تلف، فإنه يحنث قطعا. فعلى
60

هذا هل يحنث في الحال، أم قبل غروب الشمس؟ فيه الوجهان. ولو أتلف الحالف
الطعام قبل الغد بأكله أو بغيره، أو أتلف بعضه، حنث، وهل يحنث في الحال، أم
بعد مجئ الغد؟ فيه الخلاف، هما لو تلف. ولو قال: لآكلن هذا الطعام قبل
غد، فتلف قبل الغد وبعد التمكن، حنث. وهل يكون حنثه في الحال، أم إذا جاء
أول الغد؟ وجهان حكاهما الصيدلاني. ولو قال: لآكلنه اليوم، فيقاس بما
ذكرناه في الغد.
الثانية: قال: والله لأقضين حقك، ومات قبل القضاء، نظر، إن تمكن من
القضاء فلم يفعل، حنث. وإن مات قبل التمكن، فعلى قولي الاكراه، كذا نقله
البغوي والمروزي وغيرهما، وقطع المتولي بأنه لا يحنث ولو قال: لأقضين حقك
غدا، ومات قبل مجئ الغد أو بعد مجيئه وقبل التمكن، فمن أثبت القولين إذا لم
يقيد بالغد، أثبتهما هنا، ومن قطع بالمنع، قطع بالمنع هنا أيضا. ولو مات بعد
التمكن جاء الطريقان المذكوران في مسألة الطعام وموت صاحب الحق: لا يقتضي
الحنث، لا عند الاطلاق، ولا عند التقييد بالغد، لامكان القضاء بالدفع إلى
الورثة. ولو قال: لأقضينك حقك غدا، فهو كقوله: لآكلن هذا الطعام غدا،
فطريق البر والحنث ظاهر، وموت صاحب الحق هنا كتلف الطعام. فإن مات قبل
مجئ الغد أو بعده وقبل التمكن من القضاء، فعلى قولي الاكراه، وإن مات بعد
التمكن، ففيه الطريقان السابقان. فإن حنثناه، فهل يحنث في الحال أم بعد
مجئ الغد؟ فيه القولان. وموت الحالف والحالة هذه قبل مجئ الغد وبعده على
ما ذكرنا في مسألة الطعام. فإن حنثناه، فلا يستبعد كون وقت الحنث دخل وهو
ميت، لأن السبب هو اليمين، وكانت في الحياة، وهو كما لو حفر بئرا متعديا
، فتلف بها إنسان بعد موته، يجب الضمان والكفارة في ماله. وإن قضاه قبل مجئ
الغد، فقد فوت البر، فيحنث إلا أن يريد أنه لا يؤخر القضاء عن الغد، وهو كإتلاف
الطعام قبل الغد ولو أبرأه صاحب الحق في هذه الصور. فإن قلنا: الابراء يحتاج إلى
القبول، فقبل، حنث لتفويته البر باختياره، إلا أن يريد باليمين: لا يمضي
61

الغد، وحقه باق عليه. وإن لم يقبل، لم يحنث، لبقاء الحق عليه وإمكان قضائه.
وإن قلنا: لا يحتاج الابراء إلى قبول، سقط الدين. وفي الحنث قولا الاكراه،
لفوات البر بغير اختياره. والهبة في العين والصلح عن الدين، كالابراء إذا قلنا: إنه
يحتاج إلى القبول. ولو قال: لأقضينك حقك غدا إلا أن تشاء أن أؤخره، فإن
قضاه غدا، بر، سواء شاء صاحب الحق أم لا. وإن لم يقضه في الغد، فإن شاء
صاحبه تأخيره قبل مضي الغد، لم يحنث، وإن لم يشأ، حنث. وكذا لو قال: إلا
أن يشاء زيد أن أؤخره، إلا أنه إذا مات صاحب الحق قبل مجئ الغد، فالحنث
على قولي الاكراه، وإن مات بعده وبعد التمكن، ففيه الطريقان. وإن مات زيد قبل
الغد أو في أثنائه ولم يعلم مشيئته، لم يحنث في الحال، لامكان القضاء بعد موته،
فإذا غربت الشمس ولم يقض، حنث حينئذ. ولو قال: لأقضينك ك حقك إلى الغد
إلا أن تشاء تأخيره، فينبغي أن يقدم القضاء على طلوع الفجر من
الغد، فإن لم يفعل ولم يشأ صاحب الحق تأخيره، حنث.
فرع حلف: ليطلقن زوجته غدا، فطلقها اليوم، نظر إن لم يستوف
الثلاث، فالبر ممكن، وإن استوفاه، فقد فوت البر، فيحنث، وكذا لو كان عليه
صلاة عن نذر، فحلف ليصلينها غدا، فصلاها اليوم، حنث.
الثالثة: قال: لأقضين حقك عند رأس الهلال، أو مع رأس الهلال، أو عند
الاستهلال، أو مع رأس الشهر، فهذه الألفاظ تقع على أول جزء من الليلة الأولى من
الشهر، ولفظتا عند ومع تقتضيان المقارنة. فإن قضاه قبل ذلك أو بعده،
حنث، فينبغي أن يعد المال ويترصد ذلك الوقت فيقضيه فيه، وحكى الامام
والغزالي وجها أن له فسخه في الليلة الأولى ويومها، لأن اسم رأس الهلال والشهر
يقع عليهما والصحيح الأول. وإذا أخذ في الكيل أو الوزن عند رؤية الهلال، وتأخر
الفراغ لكثرة المال، لم يحنث، وبمثله أجيب فيما لو ابتدأ حينئذ بأسباب القضاء
ومقدماته، كحمل الميزان. ولو أخر القضاء عن الليلة الأولى للشك في الهلال
، فبان كونها من الشهر، ففي الحنث قولا حنث الناسي والجاهل. ولو قال: لأقضين
62

حقك أول الشهر، فهو كقوله: عند رأس الشهر. ولو قال: أول اليوم، فينبغي أن
يشتغل بالقضاء عند طلوع الفجر. ولو قال: لأقضين حقك إلى رأس الشهر، أو إلى
رمضان، فالأصح أنه يشترط تقديم القضاء على رأس الشهر، وعلى رمضان.
وقيل: هو كقوله عند رأس الشهر.
فرع لو قال: لأقضين حقك إلى حين، لم يختص ذلك بزمان مقدر، بل
يقع على القليل والكثير، كما سبق في كتاب الطلاق، فيكون كقوله: لأقضين
حقك، فمتى قضاه، بر، وإنما يحنث إذا مات قبل القضاء مع التمكن. ولو قال:
إلى زمان أو دهر أو حقب، أو أحقاب، فكذلك، وجميع العمر مهلة له. ولو قال:
لا أكلمك حينا أو دهرا أو زمانا أو حقبا، بر بأدنى زمان، ولو قال: أنت طالق بعد
حين، طلقت إذا مضى لحظة. والفرق أن قوله: طالق بعد حين تعليق، فيتعلق
بأول ما يسمى حينا. وقوله: لأقضين حقك، وعد، والوعد لا يختص بأول ما يقع
عليه الاسم ولو قال: لأقضين حقك إلى مدة قريبة أو بعيدة، لم يتقدر أيضا، وهو
كالحين. فلو قال: إلى أيام، فوجهان. قال القاضي أبو الطيب والصيدلاني
والبغوي وغيرهم: يحمل على ثلاثة أيام إذا لم يكن نية. وقال آخرون، منهم
المحاملي: هو كالحين، لأنه يقع على القليل والكثير. يقال: أيام العدل، وأيام
الفتنة، فلا يتقدر.
قلت: الأول أصح، لأنه المفهوم عند الاطلاق. وأما أيام الفتنة ونحوه،
فتخرج بالقرينة. والله أعلم.
النوع السابع في الخصومات ونحوها فيه مسائل:
إحداها: حلف لا يرى منكرا إلا رفعه إلى القاضي، فله أحوال. إحداها
: أن يعين القاضي فيقول: إلى القاضي فلان، فإذا رأى منكرا، لا يلزمه المبادرة
بالدفع إليه، بل له مهلة مدة عمره وعمر القاضي، فمتى رفعه إليه، بر، ولا يشترط
في الرفع أن يذهب إليه مع صاحب المنكر، بل يكفي أن يحضر وحده عند
القاضي، ويخبره أو يكتب إليه بذلك، أو يرسل رسولا بذلك فيخبره، أو يكتب به
كتابا (إليه)، فإن لم يرفعه إليه حتى مات أحدهما بعد التمكن، حنث، فإن لم يتمكن
من الرفع لمرض أو حبس، أو جاء إلى باب القاضي فحجب، ففيه قولا حنث
63

المكره. ولو بادر بالرفع، فمات القاضي قبل وصوله إليه فطريقان. قال الشيخ أبو
حامد: فيه القولان، وقال أبو إسحاق والقاضي أبو الطيب: لا يحنث قطعا وهو
المذهب لأنه لم يتمكن. ولو مات الحالف في صورة المبادرة قبل وصوله إلى
القاضي، قال المتولي: لا كفارة بلا خلاف. فلو عزل ذلك القاضي، فإن كان
نيته أن يرفع إليه وهو قاض، أو تلفظ به لم يبر بالرفع إليه وهو معزول، ولا يحنث.
وإن كان تمكن، لأنه ربما ولي ثانيا، واليمين على التراخي. فإن مات أحدهما قبل
أن يولى، تبينا الحنث، وإن نوى غير ذلك القاضي، وذكر القضاء تعريفا له، بر
بالرفع إليه وهو معزول. وإن أطلق، فهل يبر بالرفع إليه وهو معزول؟ وجهان:
أصحهما: نعم، كما لو قال: لا أدخل دار زيد هذه فباعها، فإنه يحنث به تغليبا
للعين، فلا يحنث هنا تغليبا للعين.
الثانية: أن يقول: إلا رفعته إلى قاض، فيبر بالرفع إلى أي قاض كان في
ذلك البلد وغيره.
الثالثة: يقول: إلا رفعته إلى القاضي، ولا يعين أحدا بلفظه ولا بنيته، فهل
يختص بقاضي البلد؟ وجهان أحدهما: لا، بل يبر بالرفع إلى أي قاض كان،
والصحيح اختصاصه بقاضي البلد حملا له على المعهود. وهل يتعين قاضي البلد
في الحال، لأنه المعهود، أم يقوم مقامه من ينصب بعده؟ وجهان ويقال: قولان
أصحهما: الثاني، حتى لو عزل الأول وولي غيره يبر بالرفع إلى الثاني دون الأول.
فإذا قلنا: يتعين قاضي البلد في الحال، فالحكم كما ذكرنا في الحالة الأولى،
وعلى هذا الوجه، هل الاعتبار بحال اليمين، أم بحال رؤية المنكر؟ وجهان
أصحهما: الأول. ولو كان في ا لبلد قاضيان، وجوزناه، فيرفع إلى من شاء منهما.
ولو رأى المنكر بين يدي القاضي المرفوع إليه، قال في الوسيط: لا معنى للرفع
إليه وهو يشاهده. وقال المتولي: إنما يحصل البر بأن يخبره به. ولو رأى المنكر بعد
اطلاع القاضي عليه، فوجهان، أحدهما أنه فات البر بغير اختياره، فيكون على
القولين، وأصحهما وبه أجاب البغوي: أنه يبر بالاخبار وصورة الرفع في الأحوال
الثلاث. ولو لم ير الحالف منكرا حتى مات، فلا شئ عليه، وفي حال تعيين
القاضي. ولو لم ير منكرا حتى مات القاضي، فكذلك لا شئ عليه. ولو رآه بعد
64

عزله، فإن نوى الرفع إليه في حال القضاء، فلا شئ عليه. وإن قصد عينه،
فليخبره. ولو حلف: لا يرفع منكرا إلى القاضي فلان، حنث بالرفع إليه وهو
قاض. فلو رفع بعد العزل، عاد التفصيل المذكور. وإن قال: إلى القاضي، فهل
يحمل على قاضي البلد حينئذ، أم يحنث بالرفع إلى من ينصب بعد عزله؟ فيه
الخلاف السابق.
المسألة الثانية: حلف: لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه منه، ففي المسألة
نظران، أحدهما: في حقيقة المفارقة، والقول فيها على ما سبق في افتراق
المتبايعين عن المجلس، والرجوع إلى العادة. فإن فارق الحالف قبل الاستيفاء
مختارا، حنث، وإن كان ناسيا أو مكرها، فعلى القولين في الناسي والمكره. ولو
فارقه الغريم وفر منه، فقيل قولان كالمكره، والمذهب القطع بأنه لد يحنث سواء
تمكن من التعلق به ومنعه أو من متابعته أم لا، بل لو كانت مفارقته بإذن الحالف، لم
يحنث، لأنه حلف على فعل نفسه، فلا يحنث بفعل الغريم. وقال ابن كج:
يحنث إن أذن له. وقال الصيدلاني: يحنث إن أمكنه منعه فلم يفعل. وقال القاضي
حسين: يحنث إن أمكنه متابعته، لأنه بالمقام مفارق، والصحيح الأول: ولو كانا
يتماشيان، فمشى الغريم، ووقف الحالف، فذكر الغزالي أنه لا يحنث، لان
الفارقة حصلت بحركة الغرم، لا بسكون الحالف، والصحيح الذي أجاب به
القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي أنه إذا مضى أحدهما في مشيه ووقف
الآخر، حنث الحالف، لأنه إن وقف الغريم، فقد فارقه الحالف بمشيه، وإن وقف
الحالف فقد فارقه بالوقوف لأن الحادث هو الوقوف، فنسب المفارقة إليه بخلاف ما
إذا كانا ساكنين، فابتدأ الغريم بالمشي، لأن الحادث هناك المشي، وحيث قلنا:
لا حنث بمفارقة الغريم. فلو فارق الحالف مكانه بعد ذلك، لم يحنث. أما إذا
قال: لا تفارقني حتى استوفي منك حقي أو حتى توفيني حقي، فاليمين منعقدة على
فعل الغريم. فإن فارقه الغريم مختارا، حنث الحالف، سواء كانت مفارقته بإذنه أم
دون إذنه. وقيل: إن فر منه، ففي حنثه القولان في المكره، والمذهب الأول، لان
اليمين على فعله، وهو مختار في الفرار. فإن فارقه ناسيا أو مكرها، خرج الحنث
على القولين. ونقل البغوي طريقا قاطعا بالحنث، وأن الاختيار إنما يعتبر في فعل
الحالف، والمذهب الأول. ولو فر الحالف من الغريم، لم يحنث، ويجئ وجه
65

أنه إن أمكن الغريم متابعته فلم يفعل، حنث. ولو قال: لا افترقت أنا وأنت حتى
أستوفي، أو لا تفترق لا أنا ولا أنت حتى أستوفي فاليمين على فعل كل منهما،
فأيهما فارق الآخر مختارا، حنث الحالف. فإن فارق ناسيا أو مكرها، ففيه
الخلاف. ولو قال: لا افترقنا حتى أستوفي، أو لا نفترق، فوجهان: أحدهما:
لا يحنث حتى يفارق كل واحد منهما الآخر. وأصحهما: يحنث بمفارقة أحدهما
الآخر، لأنه يقال: افترقا.
فرع النظر الثاني في استيفاء الحق، فإذا قال: لا أفارقك حتى أستوفي
حقي منك، ثم أبرأه وفارقه، حنث، لأنه فوت البر باختياره، وهل يحكم بالحنث
بنفس الابراء، أم بعد المفارقة؟ يجئ فيه الخلاف السابق في نظائره. ولو أفلس
الغريم، فمنعه الحاكم من ملازمته ففارقه، ففيه قولا حنث المكره. وإن فارقه
باختياره، حنث. وإن كان تركه واجبا كما لو قال: لا أصلي الفرض، حنث.
ولو أحاله الغريم على رجل، أو أحال هو على الغريم غريما له عليه دين، ثم فارقه،
فطريقان: أحدهما: البناء على أن الحوالة استيفاء أم اعتياض؟ إن قلنا: استيفاء،
لم يحنث، والمذهب القطع بالحنث بكل حال، لأنه ليس استيفاء حقيقة وحيث
جعلناها استيفاء، فمعناه أنها كالاستيفاء في الحكم، لكن لو نوى أنه لا يفارقه وعليه
حق، لم يحنث. ولو أخذ عوضا عن حقه، وفارقه، حنث إلا أن ينوي ما ذكرنا،
وسواء كانت قيمة العوض مثل حقه، أو أقل أو أكثر، لأنه لم يستوف حقه، وإنما
استوفى بدله. وإن استوفى حقه من وكيل الغريم، أو من أجنبي تبرع به، وفارقه،
حنث إن كان قال: حتى أستوفي حقي منك، ولا يحنث إن اقتصر على قوله: حتى
أستوفي حقي. ولو استوفى ثم فارقه، ثم وجد ما استوفاه ناقصا، لم يحنث إن
كان من جنس حقه، فإن لم يكن من جنسه، بأن كان حقه الدراهم، فخرج
66

المأخوذ نحاسا أو مغشوشا، فإن كان عالما بالحال، حنث، وإلا، فعلى قولي
الناسي والجاهل.
فرع حلف الغريم: ليقضين حقه قبل أن يفارقه، أو لا يفارقه حتى يقضي
حقه، فالقول في مفارقته مختارا أو مكرها وفي الحوالة والمصالحة وغيرها على قياس
ما سبق. ولو حلف: لا يعطيه حقه، فأعطاه مكرها أو ناسيا، فهو على الخلاف.
ولو قال: لا يأخذ ولا يستوفي، فأخذ، حنث، سواء كان المعطي مكرها أو
مختارا. فلو كان الآخذ مكرها، ففيه الخلاف.
المسألة الثالثة: حلف على الضرب، تعلقت اليمين بما يسمى ضربا،
ولا يكفي وضع اليد والسوط ورفعهما، ولا العض والقرص ونتف الشعر. وفي
الوكز واللكز واللطم وجهان، أصحهما: أنه ضرب، ولا يشترط الايلام، ولهذا
يقال: ضربه ولم يؤلمه، بخلاف الحد والتعزير، فإنه يعتبر فيهما الايلام، لان
المقصود بهما الزجر، ولا يحصل إلا بإيلام، واليمين تتعلق بالاسم. وحكي وجه
ضعيف أنه يشترط الايلام، وقد سبق فكتاب الطلاق.
قلت: ولو ضرب ميتا، لم يحنث، ولو ضرب مغمى عليه أو مجنونا أو
سكران، حنث، لأنه محل للضرب بخلاف الميت ذكره المتولي. والله أعلم.
فرع حلف: ليضربن عبده مائة خشبة، أو ليجلدنه مائة سوط، فإن شد
مائة سوط وضربه بها، فقد وفى بموجب اللفظ، وإن ضربه بعثكال عليه مائة
شمراخ ضربة واحدة، حصل البر إن تحقق أن الجميع أصاب بدنه. وفي المراد
بإصابة الجميع وجهان، أصحهما: أنه لا يشترط أن يلاقي جميع القضبان بدنه أو
ملبوسه، بل يكفي أن ينكبس بعضها على بعض، بحيث يناله ثقل الجميع،
ولا يضر كون البعض حائلا بين بدنه وبين البعض، كالثياب وغيرها، مما لا يمنع
67

تأثر البشرة بالضرب. والثاني: لا يكفي الانكباس، بل يشترط ملاقاة الجميع بدنه
أو ملبوسه، وإن تيقن أنه لم يصبه الجميع، لم يبر. وإن شك في ذلك، فالنص أنه
لا يحنث. ونص أنه لو حلف: ليدخلن الدار اليوم إلا أن يشاء زيد، فلم يدخل،
ومات زيد ولم يعلم هل شاء أم لا: أنه يحنث، فقيل بتقرير النصين، والفرق أن
الضرب سبب ظاهر في الانكباس، وفي مسألة المشيئة لا أمارة لها، والأصل
عدمها. وقيل: فيهما قولان. والمذهب: أنه لا يحنث هنا، ويحنث في مسألة
المشيئة.
قلت: هكذا صور الجمهور مسألة الخلاف فيما إذا شك، وذكر الدارمي وابن
الصباغ والمتولي أنه إذا شك، حنث، وإنما لا يحنث على المنصوص إذا غلب على
ظنه إصابة الجميع، وهذا حسن، لكن الأول أصح، لأن بعد هذا الضرب شك في
الحنث، والأصل عدمه قال أصحابنا: وإذا قلنا: لا يحنث، فالورع أن يحنث
نفسه، فيكفر عن يمينه. والله أعلم.
ولو حلف: ليضربنه مائة مرة فضربه مرة بالعثكال أو بالمائة المشدودة،
لم يبر، لأنه لم يضربه إلا مرة. ولو حلف: ليضربنه مائة ضربة، لم يبر أيضا على
الأصح. ولو حلف: ليضربنه بالسوط، لم يبر بالعصا والشماريخ، لأنه ليس
بسوط. ولو قال: مائة سوط، فالصحيح أنه لا يبر بعثكال عليه مائة شمراخ، وإنما
يبر بأن يجمع مائة سوط ويشدها ويضربه بها دفعة، أو خمسين ويضربه دفعتين، أو
سوطين ويضربه بهما خمسين مرة، بشرط أن يعلم إصابة الجميع على ما سبق
وقيل: يبر بالعثكال، كما في لفظ الخشبة.
فصل في حنث الناسي والجاهل والمكره. فإذا وجد القول أو الفعل
المحلوف عليه على وجه الاكراه أو النسيان أو الجهل، سواء كان الحلف بالله تعالى أو
بالطلاق، فهل يحنث؟ قولان، أظهرهما: لا يحنث. وممن صححه أبو حامد
القاضي والشيخ وابن كج والروياني وغيرهم. وقال ابن سلمة: لا حنث قطعا.
وقيل: الناسي أولى بالحنث من المكره. وقيل: عكسه. وقيل: الجاهل أولى
68

بالحنث من الناسي. وقال القفال: يحنث في الطلاق دون اليمين، وهو ضعيف،
فالمذهب ما سبق. فإذا قلنا: لا حنث، لم تنحل اليمين على الأصح. ولو حلف:
لا يدخل الدار طائعا ولا مكرها ولا ناسيا، حنث مع الاكراه والنسيان. ولو حلف:
لا يدخل فانقلب ب في نومه وحصل في الدار، لم يحنث، ولو حمل قهرا وأدخل،
فقيل: قولان كالمكره والمذهب القطع بأنه لا يحنث، لأن اليمين على دخوله،
ولم يدخل، وإنما أدخل، ولهذا لا تنحل اليمين والحالة هذه بلا خلاف. ولو حمل
بغير إذنه، لكن قدر على الامتناع، فلم يمتنع، لم يحنث على الصحيح، لأنه
لم يدخل بل أدخل. ولو حمل بأمره. حنث كما لو ركب دابة ودخل. واعلم أنه
لا فرق في أصل المسألة بين أن يعلق على فعله أو فعل غيره، فإذا وجد بالاكراه أو
النسيان، ففيه الخلاف، هذا هو المذهب، وفيه شئ سبق في مسألة الحلف على
مفارقة الغريم.
ومن صور الفعل جاهلا أن يدخل دارا لا يعرف أنها المحلوف عليها، أو
حلف: لا يسلم على زيد، فسلم عليه في ظلمة ولا يعلم أنه زيد.
فصل حلف: لا يسلم على زيد، فسلم على قوم هو فيهم، ولم يعلم أنه
فيهم، ففي الحنث قولا حنث الناسي والجاهل، وإن علم أنه فيهم ونوى السلام
عليه معهم، حنث، وفيه ما حكينا عن البيان فيما لو حلف لا يكلمه، فسلم على قوم
هو فيهم وقصده، فأما إذا استثناه بلفظه فقال: السلام عليكم إلا على زيد،
فلا يحنث. وإن استثناه بنيته، لم يحنث أيضا على المذهب. وإن أطلق، حنث
على الأظهر. ولو حلف: لا يدخل على زيد، فدخل على قوم هو فيهم فاستثناه
بقلبه، وقصد الدخول على غيره، حنث على المذهب. والفرق بينه وبين السلام،
أن الدخول فعل لا يدخله الاستثناء، فلا ينتظم أن يقول: دخلت عليكم إلا على
فلان، ويصح أن يقول: سلام عليكم إلا على فلان. ولو دخل بيتا فيه زيد، ولم
يعلم أنه فيه، ففي حنثه قولا الجاهل والناسي. ولو كان في جماعة ولم يعلم به
فأولى بعدم الحنث، وإن دخل لشغل، ولم يعلم أنه في البيت، فأولى بعدم
69

الحنث لانضمام قصد الشغل إلى الجهل. قال الامام: نص الشافعي رحمه الله في
هذه الصورة أنه لا يحنث، وخرج الربيع قولا، وجعله كالناسي. ولو علم أنه في
البيت، وقصد الدخول لشغل، فقيل: يحنث قطعا. وقيل: هو كما لو دخل على
قوم هو فيهم واستثناه بقلبه ولو كان الحالف في بيت، فدخل عليه زيد، فإن خرج
الحالف في الحال، لم يحنث، وإلا، فقيل: لا يحنث، وقيل: فيه خلاف بناء
على أن استدامة الدخول هل هي دخول؟ وأجاب ابن الصباغ عن هذا بأن الاستدامة
إن جعلت دخولا كانا كالداخلين معا، فلا يكون أحدهما داخلا على الآخر.
قلت: الذي قاله ابن الصباغ حسن، والمذهب أنه لا يحنث. قال القاضي
أبو الطيب: ونص عليه في الام. والله أعلم.
فصل في أصول تتعلق بالكتاب لا تنعقد يمين صبي، ولا مجنون ولا مكره
وفي السكران الخلاف فطلاقه، وتنعقد يمين الكافر. ومن حلف: لا يدخل
الدار، ثم قال: أردت شهرا أو يوما. فإن كانت اليمين بطلاق أو عتاق، لم تقبل في
الحكم، ويدين، ويلحق بهما الايلاء، لتعلق حق الآدمي به. وإن كانت بالله
تعالى، ولم يتعلق بها حق آدمي، قبل قوله ظاهرا وباطنا، لأنه أمين في حقوق الله
تعالى. ولو حلف: لا يكلم أحدا، ثم قال: أردت زيدا، أو من سوى زيد، أو
لا يأكل طعاما، ونوى طعاما بعينه، تخصصت اليمين بما نوى، فلا يحنث بغيره.
فرع قال الشيخ أبو زيد رحمه الله: لا أدري على ماذا بنى الشافعي رحمه
الله مسائل الايمان، إن اتبع اللغة، فمن حلف لا يأكل الرؤوس ينبغي أن يحنث
برؤوس الطير والسمك، وإن اتبع العرف، فأهل القرى لا يعدون الخيام بيوتا. وقد
قال الشافعي: لا فرق بين القروي والبدوي. واعلم أن الشافعي تتبع مقتضى اللغة
تارة، وذلك عند ظهورها وشمولها، وهو الأصل، وتارة يتبع العرف إذا استمر
واطرد.
فرع اللفظ الخاص في اليمين لا يعمم بالسبب والنية والعام، وقد
يتخصص. مثال الأول، إذا من عليه رجل بما نال منه فقال: والله لا أشرب لك ماء
من عطش، انعقدت اليمين على الماء من عطش خاصة. فلا يحنث بطعامه وثيابه،
70

وإن نوى أنه لا ينتفع بشئ منه، وإن كانت المنازعة بينهما تقتضي ما نواه. وإنما
تؤثر النية إذا احتمل اللفظ ما نوى بجهة يتجوز بها، وعند مالك رحمه الله يحنث بكل
ما ينتفع به من ماله. قال الشيخ أبو حامد: وسبب الخلاف أن الاعتبار عندنا
باللفظ، ويراعى عمومه وإن كان السبب خاصا، وخصوصه وإن كان السبب عاما،
وعنده الاعتبار بالسبب دون اللفظ. وأما تخصيص العام فتارة يكون بالنية كما ذكرنا
فيما إذا قال: والله لا أكلم أحدا ونوى زيدا. وتارة بعرف الاستعمال، كما في
قوله: لا آكل الرؤوس، وتارة بعرف الشرع كما يحمل قوله: لا أصلي على الصلاة
الشرعية.
فرع يعتبر اللفظ بحقيقته، وقد يصرف إلى المجاز بالنية، كما لو قال:
لا أدخل دار زيد، وقال: أردت ما يسكنه دون ما يملكه، فيقبل في اليمين بالله
تعالى، ولا يقبل في الحكم إذا حلف بطلاق وعتاق ذكره ابن الصباغ وغيره، وتارة
لكون المجاز متعارفا وكون الحقيقة بعيدة، ومثله القاضي حسين بما إذا حلف:
لا يأكل من هذه الشجرة، تحمل اليمين على الاكل من ثمرها دون الورق
والأغصان، وإن كانت الحقيقة متعارفة، مثل أن يقول: لا آكل من هذه الشاة،
يحمل على لحمها، فلا يحنث بلبنها ولحم ولدها.
فرع قال ابن كج: لو قال: والله لا دخلت الدار، والله لا دخلت الدار
ونوى التأكيد، فهو يمين واحد، وإن نوى بالثاني يمينا أخرى، أو أطلق، فهل
يلزمه بالحنث كفارة أم كفارتان؟ وجهان.
قلت: الأصح كفارة. والله أعلم.
وإن قال: والله لا دخلت الدار، لا دخلت الدار، لا دخلت الدار، فإن نوى
التأكيد، فيمين واحدة، وكذا إن أطلق، أو نوى الاستئناف على المذهب.
فرع قال الحليمي: اليمين المعقودة على المملو ك المضاف يعتمد المالك
دون المملوك، والمعقودة على غير المملوك المضاف يعتمد المضاف دون المضاف
إليه، فإذا حلف لا يكلم عبيد فلان ولا عبد له، ثم ملك عبيدا وكلمهم، حنث.
71

ولو حلف لا يكلم، بنيه ولا ابن له، ثم ولد له بنون فكلمهم، لم يحنث، لأنهم لم
يكونوا موجودين وقت اليمين.
فرع حلف: لا يكلم الناس، ذكر ابن الصباغ وغيره، أنه يحنث إذا كلم
واحدا، كما إذا قال: لا آكل الخبز يحنث بما أكل منه. ولو حلف: لا يكلم ناسا
حمل على ثلاثة.
فرع في كتب أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله أن المعرفة لا تدخل تحت
النكرة لمغايرتهما، فإذ قال: لا يدخل داري أحد، أو لا يلبس ثوبي أحد، دخل
في اليمين غير الحالف، ولم يدخل الحالف، لأنه صار معرفا بإضافة الدار أو
القميص إليه، قالوا: لو عر ف نفسه بإضافة الفعل بأن قال: لا ألبس هذا القميص
أحدا، أو عرف غيره بالإضافة إليه فقال: لا يدخل دار فلان أحد، أو لا يلبس
قميصه أحد، لم يدخل المضاف إليه، لأنه صار معرفا. وكذا لو قال: لا يقطع هذه
اليد أحد، وأشار إلى يده، لم يدخل هو، وقد يتوقف في هذه الصورة الأخيرة،
والسابق إلى الفهم في غيرها ما ذكروه، ويجوز أن تخرج الصورة الأولى على
الخلاف في أن المخاطب هل يندرج تحت الخطاب
. قلت: الوجه الجزم بكل ما ذكروه. والله أعلم.
وفي كتبهم أن كلمة أو إذا دخلت بين نفيين، اقتضت انتفائهما كما قال الله
تعالى: * (فلا تطع منهم آثما أو كفورا) *، وإذا دخلت بين إثباتين، اقتضت
ثبوت أحدهما، فإذا قال: لا أدخل هذه الدار أو هذه، فأيتهما دخلها، حنث، وإن
قال: لأدخلن هذه الدار اليوم أو هذه، بر بدخول إحداهما. ويشبه أن يقال: إذا
دخلت بين نفيين، كفى للبر أن لا يدخل واحدة منهما، ولا يضر دخول الأخرى،
كما أنها إذا دخلت بين إثباتين، كفى للبر أن يدخل إحداهما، ولا يضر أن لا يدخل
الأخرى. ولو قال: لا أدخل هذه الدار أبدا، ولأدخلن الدار الأخرى اليوم، فإن دخل الأخرى
اليوم، بر، وإن لم يدخلها اليوم، ولم يدخل الأخرى، بر أيضا. وفي الاقناع
72

للماوردي أنه لو قال 0 إن أكلت خبزا أو لحما يرجع إلى مراده منهما، فيتعلق اليمين
به.
فصل في مسائل منثورة. حلف: لا يدخل هذه وأشار إلى دار،
فانهدمت، حنث بدخوله عرصتها. ولو قال: لا أدخل هذه الدار فانهدمت، نظر إن
بقيت أصول الحيطان والرسوم، حنث، وإن صارت فضاء، فدخلها، لم يحنث
على المذهب، وبه قطع الأكثرون، وجعله الامام على الوجهين فيمن قال: لا آكل
هذه الحنطة، فأكل دقيقها. وكذا لو حلف: لا يدخل دارا أو بيتا، فدخل عرصة
كانت دارا أو بيتا. ولو جعلت الدار مسجدا، أو بستانا أو حماما، لم يحنث
بدخوله، ولو أعيدت الدار بغير الآلة الأولى، فدخلها، لم يحنث، وإن أعيدت
بتلك الآلة فوجهان.
قلت: أصحهما الحنث. والله أعلم.
ولو حلف: لا يشم الريحان، حنث بشم الضيمران دون الورد والبنفسج
والياسمين والنرجس والمرزنجوش والزعفران، ويمكن أن يقال: هذا فيما إذا ذكر
الريحان معرفا، فأما إذا نكره، فقال: لا أشم ريحانا، فيحنث بها كلها.
قلت: الظاهر من حيث الدليل، ومن مقتضى كلام الأصحاب أنه لا فرق،
ولا يحنث مطلقا بما بعد الضيمران. والله أعلم.
ولو حلف: لا يشم مشموما، حنث بشم جميع ذلك، ولا يحنث بشم المسك
والكافور والعود والصندل. ولو حلف: لا يشم الورد والبنفسج، فشمهما بعد
الجفاف، فوجهان ولا يحنث بشم دهنهما. ولو حلف: لا يستخدم زيدا، فخدمه
من غير أن يطلب الحالف ذلك، لم يحنث، سواء فيه عبده وغيره. ولو حلف:
لا يتسرى فثلاثة أوجه، الأصح المنصوص: أن التسري إنما يحصل بثلاثة أشياء:
73

ستر الجارية عن أعين الناس والوطئ والانزال، والثاني: يكفي الستر والوطئ،
والثالث: يكفي الوطئ. ولو حلف: لا يقرأ القرآن، فقرأ جنبا، حنث. وإن
حلف: ليقرأن، فقرأه جنبا، بر، بخلاف ما لو نذر أن يقرأ فقرأ جنبا، لا يجزئه،
لأن المقصود من النذر التقرب، والمعصية لا يتقرب بها. ولو حلف: ليقرأن جنبا،
بر بالقراءة جنبا، وإن عصى ولو نذر أن يقرأ جنبا، لغا نذره.
فرع في فتاوى القفال أنه لو قال: لا أصلي على هذا المصلى، ففرش
فوقه ثوبا وصلى عليه، فإن نوى أنه لا يباشره بقدميه وجبهته وثيابه، لم يحنث، وإلا
فيحنث، كما لو قال: لا أصلي في هذا المسجد، فصلى على حصير فيه، وإن
علق به الطلاق، ثم قال: أردت أني لا أباشره، دين، ولم يقبل في الحكم، وأنه
لو حلف: لا يكلم زيدا شهرا، فولاه ظهره، ثم قال: يا زيد إفعل كذا، حنث،
ولو أقبل على الجدار، وقال: يا جدار إفعل كذا، لم يحنث وإن كان غرضه إفهام
زيد. وكذا لو أقبل على الجدار وتكلم ولم يقل: يا زيد ولا يا جدار، لم يحنث،
وأنه لو حلف: لا يلبس ثوبا من غزلها، فرقع ثوبه برقعة كرباس من غزلها، حنث،
وقال أبو عاصم العبادي: لا يحنث وتلك الرقعة تبع.
قلت: قول أبي عاصم هو الصحيح، لأنه لا يسمى لابسا ثوبا من غزلها.
والله أعلم.
ولو تعمم بعمامة، نسجت من غزلها، حنث إن حلف بالعربية، وإن حلف
بالفارسية، فلا، وإن التحف بلحاف من غزلها، لم يحنث.
قلت: يجئ فيه الخلاف السابق في التدثر. والله أعلم.
وأنه لو حلف: لا يفعل كذا، ففعله في حال جنونه، ففي الحنث قولان.
فرع في المبتدأ في الفقه للقاضي الروياني أنه لو قال: لا أدخل
حانوت فلان، فدخل الحانوت الذي يعمل فيه وهو ملك غيره، لم يحنث، نص
74

عليه الشافعي رحمه الله، قال: والفتوى أنه يحنث، لأنه لا يراد به إلا الذي يسكنه
ويعمل فيه. ولو قيل له: كلم زيدا اليوم، فقال: والله لا كلمته، انعقدت اليمين
على الأبد إلا أن ينوي اليوم، فإن كان ذلك في طلاق وقال: أردت اليوم، لم يقبل
في الحكم.
قلت: الصواب قبوله في الحكم كما سبق في نظائره في كتاب الطلاق. والله
أعلم.
فرع في كتب أصحاب أبي حنيف رضي الله عنه أنه لو قال: وسلطان الله
فهو بيمين إن أراد القدرة، وإن أراد المقدور، فلا، وبه نقول نحن. وأنه لو قال:
ورحمة الله وغضبه، فليس بيمين، ويشبه أن يقال: إن أراد إرادة النعمة والعقوبة
فيمين، وإن أراد الفعل، فلا. وأنه لو حلف: ليضربن زوجته حتى يغشى عليها أو
تبول، حمل على الحقيقة. ولو قال: حتى أقتلها أو ترفع ميتة، حمل على أشد
الضرب، ويظهر على أصلنا الحمل على الحقيقة أيضا. وأنه لو حلف: لا يدخل
هذه الخيمة، فقلعت ونصبت في موضع آخر، فدخلها، حنث، ولو حلف:
لا يجلس على هذه الأسطوانة أو الحائط، فأعيد بناؤهما بعد النقض، فجلس على
المعاد، لم يحنث، وكذا لو حلف على مقص أو سيف أو سكين فكسر وأعيدت
الصنعة، لم يحنث. وإن نزع مسمار المقص ونصاب السكين، وأعيد مسمار آخر،
ونصاب آخر، حنث. ولو حلف: لا يقرأ في المصحف فجعل بين يديه، وقلبت
أوراقه، فقرأ فيه، حنث، ولو حلف: لا يدخل هذا المسجد، فزيد فيه، فدخل
الزيادة، حنث، ولو حلف: لا يكتب بهذا القلم، فكسره، ثم براه وكتب به،
لم يحنث وبجميع هذه الأجوبة نقول إلا في مسألة القلم.
قلت: في موافقتهم في مسألة زيادة المسجد، نظر، وينبغي أن لا يحنث
بدخولها، لأن اليمين لم يتناولها حالة الحلف. وأما قول الإمام الرافعي: إنا
75

نخالفهم في مسألة القلم، فليس كما قال، بل مذهبنا فيها كما ذكروه قال القاضي أبو
الطيب في كتاب الصلح من تعليقه: ولو حلف لا يكتب بهذا القلم وهو مبري
فكسره، ثم براه وكتب به، لم يحنث، وإن كانت الأنبوبة واحدة، لأن القلم اسم
للمبري دون القصبة، وإنما تسمى القصبة قبل البري قلما مجازا، لأنها ستصير
قلما، قال: وكذا إذا قال: لا أقطع بهذا السكين، فأبطل حدها، وجعله في
ظهرها، وقطع بها لم يحنث. قال: ولو حلف: لا يستند إلى هذا الحائط،
فهدم، ثم بني واستند، إن بني بتلك الآلة، حنث، وإن أعيد بغيرها أو ببعضها،
لم يحنث. والله أعلم.
وأنه لو حلف: لا يأكل من كسب زيد، فكسبه ما يتملكه من المباحثات،
العقود دون ما يرثه. ولو كسب شيئا ومات، فورثه الحالف وأكله، حنث، ولو انتقل
إلى غيره بشراء أو وصية، لم يحنث. ولك أن لا تفرق، ويشترط لكسبه أن يكون
باقيا في ملكه. وأن الحلواء كل حلو ليس من جنسه حامض، كالخبيص والعسل
والسكر دون العنب والإجاص والرمان، والأشبه أن يشتر في إطلاق الحلو أن يكون
معمولا، وأن يخرج منه العسل والسكر فالحلواء غير الحلو.
قلت: هذا الذي اختاره الرافعي رحمه الله هو الصواب، وفي الحديث
الصحيح: كان يحب الحلواء والعسل. والله أعلم.
قال العبادي من أصحابنا في الرقم: لو حلف على الحلواء، دخل فيه
المتخذ من الفانيذ والسكر والعسل والدبس والقند، وفي اللوزينج والجوزينج
وجهان، وأن الشواء يقع على اللحم خاصة دون السمك المشوي، وأن الطبيخ يقع
على اللحم يجعل في الماء ويطبخ، وعلى مرقتها وعن بعضهم أنه يقع على
76

الشحم، ولو طبخ عدس أو أرز بودك فهو طبيخ، وإن طبخ بزيت أو سمن، فليس
بطبيخ.
قلت: الصواب أن الكل طبيخ. والله أعلم.
وذكر العبادي في الرقم أنه لو حلف: لا يأكل المرق، فهو ما يطبخ باللحم
أي لحم كان، وفيما يطبخ بالكرش والبطون والشحم وجهان. وإذا حلف: لا يأكل
المطبوخ، حنث بما طبخ بالنار أو أغلي، ولا يحنث بالمشوي. والطباهجة
مشوية، ويحتمل غيره، وذكروا أن الغداء: من طلوع الفجر إلى الزوال،
والعشاء: من الزوال إلى نصف الليل، والسحور: ما بين نصف الليل وطلوع
الفجر. ومقدار الغداء والعشاء أن يأكل أكثر من نصف شبعه. ولو حلف: ليأتينه
غدوة، فهي ما بين طلوع الفجر إلى نصف النهار، والضحوة بعد طلوع الشمس من
حين تزول كراهة الصلاة إلى نصف النهار، والصباح ما بعد طلوع الشمس إلى
ارتفاع الضحى، وقد يتوقف في كون العشاء من الزوال، وفي مقدار الغداء
والعشاء، وفي امتداد الغدوة إلى نصف النهار، وفي أن الضحوة من الساعة التي
تحل فيها الصلاة. وأنه لو حلف: لا يكلمه، فنبهه من النوم، حنث، وإن لم ينتبه
وهذا غير مقبول. ولو دق المحلوف عليه الباب، فقال: من هذا؟ حنث، وينبغي
أن يفرق بين علمه به وجهله، وأنه لو قال: لا أكلمه اليوم ولا غدا، لم تدخل الليلة
المتخللة في اليمين، ولو قال: لا أكلمه اليوم وغدا، دخلت، والصواب التسوية.
قلت: يعني في عدم الدخول وهذا إذا لم ينو مواصلة الهجران. والله أعلم.
ولو قال: لا أكلمه يوما ولا يومين، فاليمين على يومين، فلو كلمه في
الثالث، لم يحنث، وهكذا ذكره أبو الحسن العبادي من أصحابنا. ولو قال: يوما
ويومين، فاليمين على ثلاثة، وأنه لو حلف: ليهدمن هذه الدار، فهدم سقوفها،
بر، ويجوز أن يقال: يشترط أن لا يبقى ما يسمى دارا. ولو حلف: ليهدمن هذا
الحائط اليوم، أو لينقضنه، اشترط هدمه، حتى لا يبقى منه ما يسمى حائطا. ولو
حلف: ليكسرنه، لم يشترط ما يزيل اسم الحائط.
فرع حلف: لا يزوره حيا ولا ميتا، فشيع جنازته، لم يحنث. وفي
77

فتاوى الغزالي أنه لو حلف: لا يدخل داره صوفا، فأدخل داره كبشا عليه صوف، أو
لا يدخلها بيضا، فأدخلها دجاجة، فباضت في الحال، لم يحنث. وأنه لو حلف:
لا يقعد معه تحت سقف، فقعدا تحت أزج حنث، وأنه لو حلف: لا يفطر،
فمطلق هذا ينصرف إلى الاكل والجماع ونحوهما، ولا يحنث بالردة والجنون
والحيض ودخول الليل. وبالله التوفيق.
78

كتاب القضاء
فيه ثلاثة أبواب:
الأول: في التولية وفيه طرفان: الأول: في التولية، وفيه مسائل:
الأولى: القضاء والإمامة فرض كفاية بالاجماع، فإن قام به من يصلح،
79

سقط الفرض عن الباقين، وإن امتنع الجميع، أثموا، وأجبر الامام أحدهم على
القضاء، وقيل: لا يجبر، والصحيح: الأول، ثم من لا يصلح للقضاء تحرم
توليته، ويحرم عليه التولي والطلب، وأما من يصلح، فله حالان، أحدهما: أن
يتعين للقضاء، فيجب عليه القبول، ويلزمه أن يطلبه ويشهر نفسه عند الامام إن
كان خاملا، ولا يعذر بأن يخاف ميل نفسه وخيانتها، بل يلزمه أن يقبل ويحترز، فإن
امتنع، عصا، وهل يجبر؟ وجهان الصحيح نعم، وبه قال الأكثرون، كما يجبر
على القيام بسائر فروض الكفاية عند التعين، فإن قيل: امتناعه من هذا الواجب
المتعين المتعلق بالمصالح العامة، ويشبه أن تكون كبيرة، فيفسق به، ويخرج عن
الأهلية، فكيف يولى ويجبر، فالجواب أنه يمكن أن يقال: إنه يؤمر بالتوبة أولا،
فإذا تاب، ولي.
قلت: وينبغي أن يقال: لا يفسق، لأنه لا يمتنع غالبا إلا متأولا، وهذا ليس
بعاص قطعا، وإن كان مخطئا. والله أعلم.
الحال الثاني: أن يكون
هناك غيره ممن يصلح، فذلك الغير إما أن يكون أصلح، وأولى منه، وإما مثله، وإما دونه فإن كان أصلح منه، بني على أن الإمامة
العظمى هل تنعقد للمفضول مع وجود الفاضل، وفيه خلاف للمتكلمين والفقهاء،
والأصح الانعقاد، لأن تلك الزيادة خارجة عن شرط الإمامة. وفي القضاء خلاف
مرتب، وأولى بالانعقاد، فإن لم نجوز للمفضول القضاء حرمت توليته، وحرم عليه
80

الطلب والقبول، وإن جوزناه، جاز القبول. وأما الطلب، فمكروه، وقيل:
حرام، وإن كان الأصلح لا يتولى، فهو كالمعدوم، وأما إذا كان هناك مثله، فله
القبول، ولا يلزمه على الأصح، فربما قام به غيره وأما الطلب، فإن كان خامل
الذكر، ولو تولى، اشتهر وانتفع الناس بعلمه، استحب له الطلب على الصحيح،
وقال القفال: لا يستحب. وإن كان مشهورا ينتفع الناس بعلمه، فإن لم يكن له
كفاية ولو ولي، حصلت كفايته من بيت المال، قال الأكثرون: يستحب، وقيل:
لا يستحب ولا يكره، وإن كان له كفاية، فالصحيح أن الطلب مكروه، وقيل:
الأولى تركه، ثم كما يكره الطلب والحالة هذه يكره القبول، ولو ولي بلا طلب،
وعلى هذا حمل امتناع السلف. وإن كان هناك من هو دونه، فإن لم نجوز تولية
المفضول، فقد تعين عليه، وإن جوزناها، استحب له القبول. وفي الوجوب
الوجهان، ويستحب له الطلب إذا وثق بنفسه، وهكذا حيث استحببنا الطلب والتولي
أو أبحناهما، فذلك عند الوثوق، وغلبة الظن بقوة النفس، وأما عند الخوف،
فيحترز.
81

فرع التفصيل الذي ذكرنا فيما إذا لم يكن هناك قاض متول فإن
كان، نظر، إن كان غير مستحق لجور أو جهل، فهو كما لو لم يكن، وإن كان
مستحقا والطالب يروم عزله، فالطلب حرام، والطالب مجروح، ذكره الماوردي.
قلت: وسواء كان فاضلا أو مفضولا إذا صححنا تولية المفضول. والله أعلم.
فرع ما ذكرناه هو حكم الطلب بلا بذل، فلو بذل مالا ليتولى، فقد أطلق ابن
القاص وآخرون أنه حرام وقضاؤه مردود، والصحيح تفصيل ذكره الروياني وهو أنه إن
تعين عليه القضاء أو كان ممن يستحب له، فله بذل المال، ولكن الاخذ ظالم
بالأخذ، وهذا كما إذا تعذر الامر بالمعروف إلا ببذل مال، وإن لم يتعين ولم يكن
مستحبا، جاز له بذل المال ليتولى، ويجوز له البذل بعد التولية لئلا يعزل، والآخذ
ظالم بالأخذ، وأما بذل المال لعزل قاض، فإن لم يكن بصفة القضاة، فمستحب
لما فيه من تخليص الناس منه، ولكن أخذه حرام على الآخذ، وإن كان بصفتهم
فحرام. فإن فعل، وعزل الأول، وولي الباذل، قال ابن القاص: توليته باطلة،
والمعزول على قضائه، لأن العزل بالرشوة حرام، وتولية المرشي والراشي حرام،
وليكن هذا عند تمهد الأصول الشرعية، فأما عند الضرورات، وظهور فرع طرق
الفتن، فلا بد من تنفيذ العزل والتولية جميعا، كتولية البغاة.
الأصحاب متفقة على أن النظر في تعين الشخص للقضاء وعدم
تعينه إلى البلد والناحية لا غير، ومقتضا أنه لا يجب على من يصلح للقضاء طلب
القضاء ببلدة أخرى ليس بها صالح، ولا قبوله إذا ولي ويجوز أن يفرق بينه وبين
القيام بسائر فروض الكفاية المحوجة إلى السفر، كالجهاد وتعلم العلم ونحوهما،
فإن تلك يمكن القيام بها، والعود إلى الوطن، وعمل القضاء لا غاية له.
المسألة الثانية: في صفات القاضي والمفتي وفيها فصلان:
الأول: في صفات القاضي وله ثمانية شروط
أحدها: الحرية، والثاني:
82

الذكورة، والثالث: الاجتهاد، فلا يجوز تولية جاهل بالأحكام الشرعية وطرقها
المحتاج إلى تقليد غيره فيها، وإنما يحصل أهلية الاجتهاد لمن علم أمورا أحدها
كتاب الله تعالى، ولا يشترط العلم بجميعه، بل مما يتعلق بالأحكام، ولا يشترط
حفظه عن ظهر القلب، ومن الأصحاب من ينازع ظاهر كلامه فيه. الثاني: سنة
رسول الله (ص) لا جميعها، بل ما يتعلق منها بالأحكام، ويشترط أن يعرف منها العام
والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، ومن السنة
المتواتر والآحاد، والمرسل والمتصل، وحال الرواة جرحا وتعديلا. الثالث:
أقاويل علماء الصحابة ومن بعدهم رضي الله عنهم إجماعا واختلافا. الرابع:
القياس فيعرف جليه وخفيه، وتمييز الصحيح من الفاسد. الخامس: لسان العرب
لغة وإعرابا، لأن الشرع ورد بالعربية وبهذه الجهة يعرف عموم اللفظ وخصوصه
وإطلاقه وتقييده، وإجماله وبيانه. قال أصحابنا: ولا يشترط التبحر في هذه
العلوم، بل يكفي معرفة جمل منها، وزاد الغزالي تخفيفات ذكرها في أصول الفقه
منها: أنه لا حاجة إلى تتبع الأحاديث على تفرقها وانتشارها، بل يكفي أن يكون له
أصل مصحح وقعت العناية فيه بجميع أحاديث الاحكام كسنن أبي داود، ويكفي أن
يعرف مواقع كل باب، فيراجعه إذا احتاج إلى العمل بذلك الباب.
قلت: لا يصح التمثيل بسنن أبي داود فإنه لم يستوعب الصحيح من أحاديث
الاحكام ولا معظمه، وذلك ظاهر، بل معرفته ضرورية لمن له أدنى اطلاع.
وكم في صحيح البخاري ومسلم من حديث حكمي ليس في سنن أبي داود. وأما ما في
كتابي الترمذي والنسائي وغيرهما من الكتب المعتمدة فكثرته وشهرته غنية عن
التصريح بها. والله أعلم.
83

ومنها: أنه لا يشترط ضبط جميع مواضع الاجماع والاختلاف، بل يكفي أن
يعرف في المسألة التي يفتي فيها أن قوله لا يخالف الاجماع، بأن يعلم أنه وافق
بعض المتقدمين، أو يغلب على ظنه أن المسألة لم يتكلم فيها الأولون بل تولدت
في عصره، وعلى قياس معرفة الناسخ والمنسوخ. ومنها: أن كل حديث أجمع
السلف على قبوله أو تواترت عدالة رواته فلا حاجة إلى البحث عن عدالة رواته، وما
عدا ذلك ينبغي أن يكتفي في عدالة رواته بتعديل إمام مشهور عرفت صحة مذهبه في
الجرح والتعديل.
قلت: هذه المسألة مما أطبق جمهور الأصحاب عليه، وشذ من شرط في
التعديل اثنين، وقوله: تواترت عدالة رواته يعني مع ضبطهم. ولو قال: أهلية رواته
كان أولى ليشمل العدالة والضبط. وقوله: أجمع السلف على قبوله يعني على العمل
به، ولا يكفي عملهم على وفقه، فقد يعملون على وفقه بغيره. والله أعلم.
ومنها: أن اجتماع هذه العلوم إنما يشترط في المجتهد المطلق الذي يفتي في
جميع أبواب الشرع، ويجوز أن يكون للعالم منصب الاجتهاد في باب دون باب،
وعد الأصحاب من شروط الاجتهاد معرفة أصول الاعتقاد. قال الغزالي: وعندي أنه
يكفي اعتقاد جازم، ولا يشترط معرفتها على طرق المتكلمين وبأدلتهم التي
يحررونها.
الشرط الرابع: البصر، فلا يصح تولية أعمى وفي جمع الجوامع للروياني
وجه أنه يجوز، والصحيح الأول وبه قطع الجمهور، لأنه لا يعرف الخصوم
والشهود.
الخامس: التكليف، فلا يصح تولية الصبي.
السادس: العدالة فلا يصح تولية فاسق ولا كافر ولو على الكفار، قال
الماوردي: وما جرت به عادة الولادة من نصب حاكم بين أهل الذمة، فهو تقليد
84

رئاسة وزعامة لا تقليد حكم وقضاء، ولا يلزمهم حكمه بالزامه بل بالتزامهم.
السابع: أن يكون ناطقا سميعا، فلا يجوز تقليد أخرس لا تعقل إشارته،
وكذا إن عقلت على الصحيح، ولا أصم لا يسمع أصلا، فإن كان يسمع إذا
صيح به، جاز تقليده.
الثامن: الكفاية، فلا يصح قضاء مغفل اختل رأيه ونظره بكبر أو مرض
ونحوهما. ولا يشترط أن يحسن الكتابة على الأصح. ويستحب أن يكون وافر العقل
حليما متثبتا ذا فطنة وتيقظ، كامل الحواس والأعضاء، عالما بلغة الذين يقضي
بينهم، بريئا من الشحناء والطمع، صدوق اللهجة، ذا رأي ووفاء، وسكينة ووقار،
وأن لا يكون جبارا يهابه الخصوم، فلا يتمكنون من استيفاء الحجة، ولا ضعيفا
يستخفون به، ويطمعون فيه، وأن يكون قرشيا، ورعاية العلم والتقى أولى من رعاية
النسب.
فرع إن عرف الامام أهليته ولاه، وإلا فيبحث عن حاله، فلو ولى من لم
تجتمع فيه الشروط مع العلم بحاله، أثم المولي والمتولي ولم ينفذ قضاؤه، وإن
أصاب، هذا هو الأصل في الباب. قال في الوسيط: لكن اجتماع هذه الشروط
متعذر في عصرنا لخلو العصر عن المجتهد المستقل، فالوجه تنفيذ قضاء كل من ولاه
سلطان ذو شوكة وإن كان جاهلا أو فاسقا لئلا تتعطل مصالح الناس، ويؤيده أنا ننفذ
قضاء قاضي البغاة لمثل هذه الضرورة، وهذا حسن، لكن في بعض الشروح أن
قاضي البغاة إذا كان منهم، وبغيهم لا يوجب فسقا كبغي أصحاب معاوية رضي الله
عنه، جاز قضاؤه، وإن أوجب الفسق، كبغي أهل النهروان، لم يجز.
قلت: هذا المنقول عن بعض الشروح مشهور، قد ذكره صاحب المهذب وغيره، ففي المهذب
ان قاضي البغاة إن كان من يستبيح دم أهل العدل ومالهم،
85

لم ينفذ حكمه، لأن شرطه العدالة والاجتهاد، وهذا ليس بعدل ولا مجتهد، وقد
جزم الرافعي في المحرر بما ذكره الغزالي، فقال: إن تعذر اجتماع هذه
الشروط، فولى سلطان ذو شوكة فاسقا، أو مقلدا، نفذ قضاؤه للضرورة. والله
أعلم.
وذكر أن القاضي العادل إذا استقضاه أمير باغ، أجابه إليه، ونفذ قضاؤه، فقد
سئلت عائشة رضي الله عنها عن ذلك لمن استقضاه زياد، فقالت: إن لم يقض لهم
خياركم قضى شراركم.
فرع من لا تقبل شهادته من أهل البدع، لا يصح تقليده القضاء قال
الماوردي: وكذا لا يجوز تقليد من لا يقول بالاجماع، أو لا يقول بأخبار الآحاد،
وكذا حكم نفاة القياس الذين لا يقولون بالاجتهاد أصلا، بل يتبعون النصوص، فإن
لم يجدوا، أخذوا بقول سلفهم، كالشيعة، فإن كانوا مجتهدين في فحوى الكلام،
ويبنون الاحكام على عموم النصوص وإشاراتها، جاز تقليدهم على الأصح.
86

الفصل الثاني في المفتي: ومتى لم يكن في الموضع إلا واحد يصلح
للفتوى، تعين عليه أن يفتي، وإن كان هناك غيره، فهو من فروض الكفايات، ومع
هذا فلا يحل التسارع إليه، فقد كانت الصحابة رضي الله عنهم مع مشاهدتهم الوحي
يحيل بعضهم على بعض في الفتوى، ويحرزون عن استعمال الرأي والقياس ما
أمكن.
ثم نتكلم في ثلاث جمل إحداها في المفتي، فيشترط إسلامه وبلوغه
وعدالته، فالفاسق لا تقبل فتواه، ويلزمه أن يعمل لنفسه باجتهاده، ويشترط في
المفتي أيضا التيقظ، وقوة الضبط، فلا يقبل ممن تغلب عليه الغفلة والسهو،
ويشترط فيه أهلية الاجتهاد، فلو عرف العامي مسألة أو مسائل بدليلها لم يكن له أن
يفتي بها، ولا لغيره أن يقلد، ويأخذ بقوله فيها، وقيل: يجوز، وقيل: إن كان
نقليا، جاز، وإن كان قياسيا، فلا، والصحيح الأول. والعالم الذي لم يبلغ غاية
الاجتهاد كالعامي في أنه لا يجوز تقليده على الصحيح. وموت المجتهد هل يخرجه
عن أن يقلد ويؤخذ بقوله؟ وجهان الصحيح: أنه لا يخرج، بل يجوز تقليده كما
يعمل بشهادة الشاهد بعد موته، ولأنه لو بطل قوله بموته، لبطل الاجماع بموت
المجمعين، ولصارت المسألة اجتهادية، ولان الناس اليوم كالمجمعين على أنه
لا مجتهد اليوم، فلو منعنا تقليد الماضين، لتركنا الناس حيارى، وبنوا على هذين
الوجهين أن من عرف مذهب مجتهد، وتبحر فيه، لكن لم يبلغ رتبة الاجتهاد، هل
له أن يفتي ويأخذ بقول ذلك المجتهد؟ فعلى الصحيح يجوز هكذا صوروا الفرع،
ولك أن تقول: إذا كان المأخذ ما ذكرنا، فسواء المتبحر وغيره، بل العامي إذا عرف
87

حكم تلك المسألة عند ذلك المجتهد فأخبر به، وأخذ غيره به تقليدا للميت وجب أن
يجوز على الصحيح.
قلت: هذا الاعتراض ضعيف أو باطل، لأنه إذا لم يكن متبحرا ربما ظن
ما ليس مذهبا له مذهبه، لقصور فهمه، وقلة اطلاعه على مظان المسألة، واختلاف
نصوص ذلك المجتهد، والمتأخر منها، والراجح وغير ذلك، لا سيما مذهب
الشافعي رحمه الله الذي لا يكاد يعرف ما يفتى به منه إلا أفراد، لكثرة انتشاره،
واختلاف ناقليه في النقل والترجيح. فإن فرض هذا في مسائل صارت كالمعلومة
علما قطعيا عن ذلك المذهب، كوجوب النية في الوضوء، والفاتحة في الصلاة،
ووجوب الزكاة في مال الصبي والمجنون، ووجوب تبييت النية في صوم الفرض،
وصحة الاعتكاف بلا صوم، وعدم وجوب نفقة البائن الحامل، ووجوب القصاص
في القتل بالمثقل وغير ذلك عند الشافعي رضي الله عنه، فهذا حسن محتمل. والله
أعلم.
وإذا جوزنا الفتوى إخبارا عن مذهب الميت، فإن علم من حاله أنه يفتي على
مذهب إمام معين، كفى إطلاق الجواب، وإلا فلا بد من إضافته إلى صاحب
المذهب.
فرع ليس لمجتهد أن يقلد مجتهدا لا ليعمل به، ولا ليفتي به، ولا إذا
كان قاضيا ليقضي به، سواء خاف الفوت لضيق وقت أم لا. وقال ابن سريج: له
التقليد إذا ضاق الوقت ليعمل به، لا ليفتي، وقياسه أن لا يجوز للقضاء وأولى.
وفي الشامل والتهذيب طرد قول ابن سريج في القضاء وصورة الضيف فيه: أن
يتحاكم مسافران والقافلة ترتحل، ومن قال به، فقياسه طرده في الفتوى.
فرع هل يلزم المجتهد تجديد الاجتهاد إذا وقعت الحادثة مرة أخرى، أو
سئل عنها مرة أخرى، أم يعتمد اجتهاده الأول؟ وجهان كما سبق في القبلة.
قلت: أصحهما لزوم التجديد، وهذا إذا لم يكن ذاكرا لدليل الأولى، ولم
يتجدد ما قد يوجب رجوعه، فإن كان ذاكرا، لم يلزمه قطعا، وإن تجدد ما يوجب
الرجوع، لزمه قطعا. والله أعلم.
88

فرع المنسوب إلى مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك ثلاثة أصناف.
أحدها: العوام وتقليدهم الشافعي مثلا مفرع على تقليد الميت وقد سبق.
والثاني: البالغون لرتبة الاجتهاد، وقد ذكرنا أن المجتهد لا يقلد مجتهدا وإنما
ينسب هؤلاء إلى الشافعي، لأنهم جروا على طريقته في الاجتهاد، واستعمال
الأدلة، وترتيب بعضها على بعض، ووافق اجتهادهم اجتهاده وإذا خالف أحيانا
لم يبالوا بالمخالفة.
والصنف الثالث: المتوسطون وهم الذين لم يبلغوا رتبة الاجتهاد في أصول
الشرع، لكنهم وقفوا على أصول الامام في الأبواب وتمكنوا من قياس ما لم يجدوه
منصوصا له على ما نص عليه، وهؤلاء مقلدون له تفريعا على تقليد الميت، وهكذا
من يأخذ بقولهم من العوام تقليدا له، والمعروف للأصحاب أنه لا يقلدهم في
أنفسهم، لأنهم مقلدون، وقد نجد ما يخالف هذا فإن أبا الفتح الهروي وهو من
أصحاب الإمام يقول في الأصول: مذهب عامة أصحابنا أن العامي لا مذهب له،
فإن وجد مجتهدا قلده. وإن لم يجده، ووجد متبحرا في مذهب، فإنه يفتيه على
مذهب نفسه، وإن كان العامي لا يعتقد مذهبه. وهذا تصريح بأنه يقلد المتبحر في
نفسه. وإذا اختلف متبحران في نفسه، وإذا اختلف متبحران في مذهب لاختلافهما في قياس أصل مذهب إمامهما،
ومن هذا يتولد وجوه الأصحاب، فنقول: أيهما يأخذ العامي؟ فيه ما سنذكره في
اختلاف المجتهدين إن شاء الله تعالى، وإذا نص صاحب المذهب على الحكم
والعلة، ألحق بتلك العلة غير المنصوص بالمنصوص، وإن اقتصر على الحكم،
فهل يستنبط المتبحر العلة ويعدي الحكم بها، قال محمد بن يحيى: لا، والأشبه
بفعل الأصحاب جوازه، لأنهم ينقلون الحكم، ثم يختلفون في علته، وكل منهم
يطرد الحكم في فروع علته.
فرع ذكر الشيخ أبو إسحاق أنه إذا نص الامام في واقعة على حكم، وفي
أخرى شبهها على خلافه لا يجوز نقل قوله من إحداهما إلى الأخرى وتخريجهما على
قولين، وأن ما يقتضيه قوله لا يجعل قولا له إلا إذا لم يحتمل، كقوله: ثبتت الشفعة
في الشقص من الدار، فيقال: قوله: في الحانوت كذلك والمعروف في المذهب
89

خلاف ما قاله، لكن الأولى أن يقال: إنه قياس أصله أو قياس قوله، ولا يقال: هو
قوله.
فرع للمفتي أن يشدد في الجواب بلفظ متأول عنده زجرا وتهديدا في
مواضع الحاجة. قلت: المراد ما ذكره الصيمري وغيره قالوا: إذا رأى المفتي المصلحة أن
يقول للعامي ما فيه تغليظ وهو لا يعتقد ظاهره، وله فيه تأويل، جاز زجرا، كما روي
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن توبة القاتل، فقال: لا توبة له، وسأله
آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول، فرأيت في عينيه إرادة القتل فمنعته، أما
الثاني، فجاء مسكينا قد قتل، فلم أقنطه، قال الصيمري: وكذا إن سأله، فقال:
إن قتلت عبدي، فهل علي قصاص، فواسع أن يقال: إن قتلته قتلناك، فعن
النبي (ص): من قتل عبده قتلناه ولان القتل له معان وهذا كله إذا لم يترتب على
إطلاقه مفسدة. والله أعلم.
الجملة الثانية في المستفتي، فيلزمه سؤال المفتي عند حدوث مسألته، وإنما
يسأل من عرف علمه وعدالته، فإن لم يعرف العلم، بحث عنه بسؤال الناس،
وإن لم يعرف العدالة، فقد ذكر الغزالي فيه احتمالين أحدهما: أن الحكم كذلك،
وأشبههما الاكتفاء، لأن الغالب من حال العلماء العدالة، بخلاف البحث عن
العلم، فليس الغالب من الناس العلم، ثم ذكر احتمالين في أنه إذا وجب البحث،
يفتقر إلى عدد التواتر، أم يكفي إخبار عدل أو عدلين؟ أصحهما: الثاني.
قلت: الاحتمالان فيما إذا لم تعرف العدالة، هما فيمن كان مستورا وهو الذي
90

ظاهره العدالة ولم يختبر باطنه وهما وجهان ذكرهما غيره، أصحهما الاكتفاء، لان
العدالة الباطنة يعسر معرفتها على غير القضاة، فيعسر على العوام تكليفهم بها،
وهذا الخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين. أما الاحتمالان في
اشتراط عدد التواتر، والاكتفاء بعدل، فهما محتملان، ولكن المنقول خلافهما،
فالذي قاله الأصحاب أنه يجوز استفتاء من استفاضت أهليته، وقيل: لا يكفي
الاستفاضة، ولا التواتر، بل إنما يعتمد قوله: أنا أهل للفتوى، لأن الاستفاضة
والشهرة بين العامة لا وثوق بها، فقد يكون أصلها التلبيس، وأما التواتر، فلا يفيد
العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس، والصحيح الأول، لأن إقدامه عليها إخبار
منه بأهليته، لأن الصورة فيمن وثق بدينه.. ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور
بأهليته قال الشيخ أبو إسحاق وغيره: نقبل في أهليته خبر عدل واحد، وهذا محمول
على من عنده معرفة يميز بها الملتبس من غيره، ولا يعتمد في ذلك خبر آحاد العامة
لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك. والله أعلم.
فرع إذا وجد مفتيين فأكثر هل يلزمه أن يجتهد، فيسأل أعلمهم؟
وجهان، قال ابن سريج: نعم، واختاره ابن كج والقفال، لأنه يسهل عليه،
وأصحهما عند الجمهور أنه يتخير، فيسأل من شاء، لأن الأولين كانوا يسألون علماء
الصحابة رضي الله عنهم مع تفاوتهم في العلم والفضل، ويعملون بقول من سألوه
من غير إنكار، قال الغزالي: فإن اعتقد أن أحدهم أعلم، لم يجز أن يقلد غيره،
وإن كان لا يلزمه البحث عن الأعلم إذا لم يعتقد اختصاص أحدهم بزيادة علم.
قلت: هذا الذي قاله الغزالي قد قاله غيره أيضا وهو وإن كان ظاهرا، ففيه نظر
لما ذكرنا من سؤال آحاد الصحابة رضي الله عنهم مع وجود أفاضلهم الذين فضلهم
متواتر وقد يمنع هذا وعلى الجملة المختار ما ذكره الغزالي. فعلى هذا يلزمه تقليد
أورع العالمين، وأعلم الورعين، فإن تعارضا قدم الأعلم على الأصح. والله
أعلم.
فرع وإذا استفتى وأجيب، فحدثت له تلك الحادثة ثانيا، فإن عرف استناد
91

الجواب إلى نص أو اجماع، فلا حاجة إلى السؤال ثانيا، وكذا لو كان المقلد ميتا
وجوزناه، وإن عرف استناده إلى الرأي والقياس أو شك والمقلد حي، فوجهان،
أحدهما: لا يحتاج إلى السؤال ثانيا، لأن الظاهر استمراره على جوابه، وأصحهما
يلزمه السؤال ثانيا.
فرع لو اختلف عليه جواب مفتيين، فإن أوجبنا البحث وتقليد الأعلم،
اعتمده، وإلا فأوجه، أصحها: يتخير، ويأخذ بقول أيهما شاء، والثاني: بأخذ
بأغلظ الجوابين، والثالث: بأخفهما، والرابع: بقول من يبني قوله على الأثر دون
الرأي، والخامس: بقول من سأله أولا.
قلت: وحكي وجه سادس أنه يسأل ثالثا، فيأخذ بفتوى من وافقه. وهذا
الذي صححه من التخيير هو الذي صححه الجمهور، ونقله المحاملي في أول
المجموع عن أكثر أصحابنا لأن فرضه أن يقلد عالما وقد حصل. والله أعلم.
ونقل الروياني وجهين في أن من سأل مفتيا ولم تسكن نفسه إلى فتواه هل يلزمه
أن يسأل ثانيا وثالثا لتسكن نفسه، أم له الاقتصار على جواب الأول؟ والقياس في
وجه الثاني.
الجملة الثالثة فيما يتعلق بهما، فيجوز للمستفتي أن يسأل بنفسه، ويجوز أن
يكتفي برسول ثقة يبعثه وبالرقعة، ويكفي ترجمان واحد إذا لم يعرف لغته.
قلت: له اعتماد خط المفتي إذا أخبره من يقبل خبره أنه خطه، أو كان يعرف
خطه ولم يشك فيه. والله أعلم.
ومن آداب المستفتي أن لا يسأل المفتي وهو قائم، أو مشغول بما يمنعه من
تمام الفكر، وأن لا يقول إذا أجابه: هكذا قلت أنا، وأن لا يطالب بالدليل، فإن
أراد معرفته، سأل عنه في وقت آخر. وإذا سأل في رقعة، فليكن كاتبها حاذقا،
ليبين مواضع السؤال، وينقط مواضع الاشتباه، وليتأمل المفتي الرقعة كلمة كلمة،
وليكن اعتناؤه بآخر الكلام أشد، لأنه موضع السؤال، وليتثبت في الجواب وإن
كانت المسألة واضحة، وأن يشاور من في مجلسه ممن يصلح لذلك إلا أن يكون فيها
92

ما لا يحسن إظهاره. وله أن ينقط من الرقعة مواضع الاشكال، وأن يصلح ما فيها من
خطأ ولحن فاحش، وإذا رأى في آخر بعض السطور بياضا، شغله بخطه، لئلا
يلحق فيه بعد جوابه شئ، وليبين المفتي بخطه، وليكن قلمه بين قلمين. ولو كتب
مع الجواب حجة من آية أو حديث فلا بأس، ولا يعتاد ذكر القياس، وطرق
الاجتهاد. فإن تعلقت الفتوى بقاض، فحسن أن يومئ إلى الطريق للاجتهاد، وإذا
رأى في الفتوى جواب من لا يصلح للفتوى، لم يفت معه. قال الصيمري: وله أن
يضرب عليه بإذن صاحب الرقعة وبغير إذنه، ولا يحبسها إلا بإذنه، واستحبوا أن
يكون السؤال بخط غير المفتي.
فرع متى تغير اجتهاد المجتهد، دار المقلد معه، وعمل في المستقبل بقوله
الثاني، ولا ينقض ما مضى، ولو نكح المجتهد امرأة، ثم خالعها ثلاثا، لأنه رأى
الخلع فسخا، ثم تغير اجتهاده قال الغزالي: يلزمه مفارقتها، وأبدى ترددا فيما لو
فعل المقلد مثل ذلك، ثم تغير اجتهاد مقلده، قال: والصحيح أن الجواب كذلك،
كما لو تغير اجتهاد المقلد في الصلاة، فإنه يتحول. ولو قال مجتهد للمقلد والصورة
هذه: أخطأ بك من قلدته، فإن كان الذي قلده أعلم من الثاني، أو استويا، فلا أثر
لقوله، وإن كان الثاني أعلم، فالقياس أنا إن أوجبنا تقليد الأعلم، فهو كما لو تغير
اجتهاد مقلده، وإلا فلا أثر له.
قلت: هذا الذي زعم الامام الرافعي رحمه الله أنه القياس ليس بشئ، بل
الوجه الجزم بأنه لا يلزمه شئ، ولا أثر لقول الثاني، وهذا كله إذا كانت المسألة
اجتهادية، وقد لخص الصيمري، والخطيب البغدادي وغيرهما من أصحابنا هذه
المسألة بتفصيل حسن، فقالوا: إذا أفتى، ثم رجع، فإن علم المستفتي رجوعه ولم
يكن عمل بالأول لم يجز له العمل به، وكذا إذا نكح بفتواه، أو استمر على نكاح
بفتواه، ثم رجع، لزمه فراقها، كنظيره في القبلة. وإن كان عمل به قبل الرجوع،
فإن كان مخالفا لدليل قاطع، لزم المستفتي نقض عمله، وإن كان في محل
الاجتهاد، فلا، لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، ولا يعمل خلاف هذا لأصحابنا،
وما ذكره صاحبا المستصفى والمحصول، فليس فيه تصريح بمخالفة هذا.
قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله: وإن كان المفتي إنما يفتي على مذهب
إمام معين، فرجع لكونه تيقن مخالفة نص إمامه، وجب نقضه، وإن كان اجتهاديا،
93

لأن نص إمامه في حقه كنص الشارع في حق المستقل، وأما إذا لم يعلم
المستفتي برجوعه. فكأنه لم يرجع في حقه، ويلزم المفتي إعلامه برجوعه قبل
العمل، وكذا بعده حيث يجب النقض، وإذا عمل بفتواه في إتلاف، ثم بان أنه
أخطأ، وخالف القاطع، فقال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني: إن كان أهلا
للفتوى، ضمن، وإلا، فلا، لأن المستفتي مقصر، وهذا الذي قاله فيه نظر،
وينبغي أن يخرج على قولي الغرور أو يقطع بعدم الضمان مطلقا إذا لم يوجد منه
الاتلاف، ولا ألجأ إليه بإلزام. والله أعلم.
فرع لا يشترط أن يكون للمجتهد مذهب مدون، وإذا دونت المذاهب،
فهل يجوز للمقلد أن ينتقل من مذهب إلى مذهب؟ إن قلنا: يلزمه الاجتهاد في
طلب الأعلم، وغلب على ظنه أن الثاني أعلم ينبغي أن يجوز، بل يجب وإن
خيرناه، فينبغي أن يجوز أيضا، كما لو قلد في القبلة هذا أياما، وهذا أياما. ولو قلد
مجتهدا في مسائل، وآخر في مسائل أخرى، واستوى المجتهدان عنده أو خيرناه،
فالذي يقتضيه فعل الأولين الجواز، وكما أن الأعمى إذا قلنا: لا يجتهد في الأواني
والثياب له أن يقلد في الثياب واحدا، وفي الأواني آخر، لكن الأصوليون منعوا منه
لمصلحة. وحكى الحناطي وغيره عن أبي إسحاق فيما إذا اختار من كل مذهب ما
هو أهون عليه أن يفسق به، وعن ابن أبي هريرة أنه لا يفسق، وبالله التوفيق.
قلت: قد استقصى الامام الرافعي رحمه الله هذا الباب، فاستوعب وأجاد،
وقد استوعبت أنا هذا الباب في أول شرح المهذب وجمعت فيه من مجموعات
كلام الأئمة ومتفرقاتها هذا المذكور هنا مع مثله أو أمثاله، وأنا أذكر منه هنا نبذا أشير
إليها، ولا ألتزم ترتيبه.
فيستحب للمعلم والمفتي الرفق بالمتعلم والمستفتي، ليتمكن من الفهم عنه،
وقد استوعبت آداب العالم والمعلم في أول شرح المهذب وذكرت فيه ما لا
ينبغي لطالب علم أن يخفى عليه شئ منه، قال الخطيب الحافظ أبو بكر البغدادي:
ينبغي للامام أن يتفقد أحوال المفتين، فمن صلح لها، أقره، ومن لم يصلح،
94

منعه، وأمره أن لا يعود، ويواعده على العود، وطريقه في ذلك أن يسأل العلماء
المشهورين من أهل عصره عن حاله، ويعتمد خبرهم، وينبغي أن يكون المفتي مع
شروطه السابقة متنزها عن خوارم المروءة، فقيه النفس، سليم الذهن، رصين
الفكر، حسن التصرف والاستنباط، وسواء الحر والعبد، والمرأة والأعمى والأخرس
إذا كتب أو فهمت إشارته. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: وينبغي أن
يكون المفتي كالراوي في أنه لا تؤثر فيه القرابة والعداوة، وجر النفع، ودفع الضر،
لأنه في حكم من يخبر عن الشرع بما لا اختصاص له بشخص، فكان كالراوي
لا كالشاهد وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي. قال: ووجدت عن
صاحب الحاوي إن المفتي إذا نابذ في فتواه شخصا معينا، صار خصما معاندا،
ترد فتواه على من عاداه، كما ترد شهادته. قال الصيمري: ويقبل فتاوى أهل الأهواء
والخوارج، ومن لا يكفر ببدعته ولا بفسقه، وذكر الخطيب هذا ثم قال: وأما الشراة
وهم بضم الشين المعجمة، والرافضة الذين يسبون السلف، ففتاويهم مردودة،
وأقاويلهم ساقطة. ومن كان من أهل الفتوى وهو قاض، فهو كغيره، فلا يكره له
الفتوى هذا هو الصحيح الذي عليه الجمهور، وقيل: له أن يفتي في العبادات
وغيرها، مما لا يتعلق بالأحكام، وفي الاحكام وجهان. وقال ابن المنذر: يكره
فتواه في الاحكام دون غيرها، وهل يشترط في المفتي أن يعرف من الحساب ما يصح
به المسائل الحسابية الفقهية؟ وجهان، حكاهما الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني،
وصاحبه ويشترط في المفتي المنتسب إلى مذهب إمام كما سبق أن أبو منصور البغدادي
يكون فقيه النفس، حافظا مذهب إمامه، ذا خبرة بقواعده، وأساليبه ونصوصه، وقد قطع إمام الحرمين
وغيره بأن الأصولي الماهر المتصرف في الفقه لا يحل له الفتوى بمجرد ذلك، ولو
وقعت له واقعة، لزمه أن يستفتي فيها، ويلتحق به المتصرف البحاث في الفقه من
أئمة الخلاف، وفحول المناظرين، لأنه ليس أهلا لادراك حكم الواقعة استقلالا،
لقصور آلته، ولا من مذهب إمام لعدم حفظه له على الوجه المعتبر. وإذا استفتى
95

العامي عما لم يقع، لم يجب جوابه ولا يجوز للمفتي أن يتساهل في فتواه، ومن
عرف بذلك، لم يجز أن يستفتى، وتساهله قد يكون بأن لا يتثبت، ويسرع بالجواب
قبل استيفاء الفكر والنظر، فإن تقدمت معرفته بالمسؤول عنه، فلا بأس بالاسراع،
وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من المسارعة، وقد يكون تساهله بأن تحمله
أغراض فاسدة على تتبع الحيل المحرمة المكروهة، والتمسك بالشبهة طلبا للترخيص
على من يروم نفعه، أو التغليظ على من يروم ضره، ومن فعل هذا، فلا وثوق به.
وأما إذا صح قصده، فأحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها، ولا تجر إلى مفسدة،
ليخلص بها المستفتي من وريطة يمين ونحوها، فذلك حسن، وعليه يحمل ما جاء
عن بعض السلف من هذا. وينبغي أن لا يفتي في كل حال تغير خلقه، وتشغل
قلبه، وتمنعه التثبت والتأمل كحالة الغضب أو الجوع أو العطش والحزن والفرح
الغالب، والنعاس، والملالة، والمرض المقلق، والحر المزعج، ومدافعة
الأخبثين ونحو ذلك، ومتى أحس بشغل قلبه، وخروجه عن الاعتدال، لم
يفت، فإن أفتى في شئ من هذه الأحوال وهو يعتقد أن ذلك لم يمنعه من إدراك
الصواب، صحت فتواه، وإن كان مخاطرا. والأولى للمتصدي للفتوى أن يتبرع
بذلك، ويجوز أن يأخذ عليه رزقا من بيت المال إلا إذا تعين عليه، وله كفاية،
فالصحيح أنه لا يجوز. ثم إن كان له رزق لا يجوز له أخذ أجرة، وإن لم يكن له
رزق، لم يجز له أخذ أجرة من أعيان المستفتين كالحاكم. واحتال الشيخ أبو حاتم
القزويني في حيلة، فقال: يقول للمستفتي: يلزمني أن أفتيك قولا، ولا يلزمني أن
أكتب لك، فإن استأجره على الكتابة، جاز، وهذا الذي ذكره وإن كان مكروها،
فينبغي أن لا يأخذ من الأجرة إلا قدر أجرة كتابة ذلك القدر ولو لم يكن فتوى، لئلا
يكون آخذا زيادة بسبب الافتاء. قال الصيمري والخطيب وغيرهما: ولو اجتمع أهل
البلد على أن جعلوا له رزقا من أموالهم ليتفرغ لفتاويهم، جاز.
وأما الهدية، فقال أبو المظفر السمعاني من أصحابنا: ويجوز له قبولها بخلاف
الحاكم، لأنه يلزمه حكمه قال الشيخ أبو عمرو: وينبغي أن يحرم قبولها إن كانت
رشوة على أن يفتيه بما يريد، كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل بالأعواض. قال
96

الخطيب: وعلى الامام أن يفرض من بيت المال لمن نصب نفسه لتدريس العلم أو
للفتوى في الاحكام ما يغنيه عن التكسب، ولا يجوز أن يفتي فيما يتعلق بالألفاظ
كالأيمان والاقرار والوصايا ونحوها، إلا إذا كان من أهل بلد اللافظ أو نازلا منزلتهم
في الخبرة بمرادهم في العادة، وليس للمفتي والعامل على مذهب الإمام الشافعي
في المسألة ذات الوجهين أو القولين أن يفتي أو يعمل بما شاء منهما من غير نظر وهذا
لا خلاف فيه، بل عليه في القولين أن يعمل بالمتأخر منهما إن علمه، وإلا فبالذي
رجحه الشافعي، فإن لم يكن رجح أحدهما ولا علم السابق، لزمه البحث عن
أرجحهما، فيعمل به، فإن كان أهلا للترجيح، اشتغل به متعرفا ذلك من نصوص
الشافعي ومآخذه وقواعده، وإلا فلينقله عن الأصحاب الموصوفين بهذه الصفة، فإن
لم يحصل له ترجيح بطريق، توقف. وأما الوجهان فيتعرف أرجحهما بما سبق إلا أنه
لا اعتبار بالتأخر إلا إذا وقعا من شخص واحد، وإذا كان أحدهما منصوصا
للشافعي، والآخر مخرجا، فالمنصوص هو الراجح المعمول به غالبا، كما إذا رجح
الشافعي في أحد القولين، بل هذا أولى. ولو وجد من ليس أهلا لترجيح خلافا
للأصحاب في الأرجح من القولين أو الوجهين، فليعتمد ما صححه الأكثر، والأعلم
والأورع، فإن تعارض أعلم وأورع، قدم الأعلم، فإن لم يبلغه عن أحد ترجيح،
اعتبر صفات الناقلين للقولين، والقائلين للوجهين فما رواه البويطي والمزني والربيع
المرادي مقدم عند أصحابنا على ما رواه الربيع الجيزي وحرملة، كذا نقله الخطابي
من أصحابنا عن أصحابنا، إلا أنه لم يذكر البويطي، وزدته أنا لكونه أجل من
الربيع، وأقدم من المزني، وأخص بالشافعي منه. قال الشيخ أبو عمرو: ويترجح
أيضا ما وافق أكثر أئمة المذاهب. وحكى القاضي حسين فيما إذا كان للشافعي
قولان، أحدهما كقول أبي حنيفة رضي الله عنه وجهين، قال الشيخ أبو حامد:
المخالف لأبي حنيفة رضي الله عنه أرجح، فلو لم يطلع الشافعي على معنى مخالف
لما خالفه، والصحيح أن الموافق أولى، وبه قال القفال، وهذا إذا لم نجد مرجحا
مما سبق. ولو تعارض جزم مصنفين، فهو كتعارض الوجهين، فيرجع إلى البحث
كما سبق، ويرجح أيضا بالكثرة، فإذا جزم مصنفان بشئ، وجزم ثالث مساو
لأحدهما بخلافهما، رجحناهما عليه.
واعلم أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه، ووجوه
97

المتقدمين من أصحابنا أتقن وأثبت من نقل أصحابنا الخراسانيين غالبا إن لم يكن
دائما وهذا مما يتعلق بما نحن فيه. ومما ينبغي أن يرجح به أحد القولين أن يكون
الشافعي رحمه الله ذكره في بابه ومظنته، والآخر جاء مستطردا في باب آخر.
واعلم أن هذا الكتاب الذي اختصرته وهذبته محصل لك جميع ما ذكرته ولا
أقول هذا تبجحا بل نصيحة للمسلمين ومناصحة للدين، وهما واجبان علي وعلى
سائر المكلفين.
واعلم أنه يكره للمفتي أن يقتصر في جوابه على قوله: فيه قولان، أو
وجهان، أو خلاف ونحو ذلك، فإن هذا ليس جوابا صحيحا للمستفتي، ولا يحصل
به مقصوده، وهو بيان ما يعمل به لما ذكرنا، بل ينبغي أن يجزم بما هو الراجح، فإن
لم يظهر له الراجح، انتظر ظهوره، أو امتنع من الافتاء في المسألة، كما فعله كثير
من أصحابنا وغيرهم.
واعلم أنه متى كان قولان قديم وجديد، فالعمل على الجديد إلا في نحو
عشرين أو ثلاثين مسألة قد أوضحتها مفصلة في أول شرح المهذب مع ما يتعلق
بها ويترتب بها، ويترتب عليها، وبالله التوفيق، وإذا كان في رقعة الاستفتاء
مسائل، فحسن أن يرتب الجواب على ترتيب الأسئلة، وإذا كان في المسألة تفصيل
لم يطلق الجواب، فإنه خطأ بالاتفاق، وليس له أن يكتب الجواب على ما يعلمه من
صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعرض له، بل يذكر جواب ما في الرقعة فإن أراد
الجواب على خلاف ما فيها، فليقل، وإن كان الامر كذا، فجوابه كذا، وإذا كتب
الجواب، أعاد نظره فيه وتأمله، وإذا كان هو المبتدئ بالافتاء في الرقعة، قال
الصيمري وغيره: فالعادة قديما وحديثا أن يكتب في الناحية اليسرى، لأنه أمكن.
قال الصيمري وغيره: ولو كتب وسط الرقعة، أو في حاشيتها، فلا عتب عليه،
ولا يكتب فوق البسملة بحال.
ويستحب عند إرادة الافتاء أن يستعيذ من الشيطان ويسمي الله تعالى
98

ويحمده، ويصلي على النبي (ص)، ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ويقول: رب
اشرح لي صدري الآية، ويستحب أن يكتب في أول فتواه: الحمد لله، أو الله
الموفق، أو حسبنا الله، أو حسبي الله ونحو ذلك، نقل ذلك الصيمري عن كثيرين،
قال: وحذفه آخرون. قال: ولا يدع أن يختم جوابه بقوله: والله أعلم، أو وبالله
التوفيق ونحوه. قال: ولا يقبح أن يقول: الجواب عندنا، أو الذي
عندنا، أو الذي نذهب إليه كذا، لأنه من أهله قال: وإذا كان السائل قد أغفل الدعاء للمجيب، أو
الصلاة على رسول الله (ص) في آخر الفتوى، ألحق المفتي ذلك بخطه فإن العادة
جارية به، ويكتب بعد: والله أعلم، ونحوه: كتبه فلان، أو فلان بن فلان
الفلاني، فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلد أو غيرهما، ثم ينتسب إلى
المذهب، فيقول الشافعي أو الحنفي ونحوهما، قال الصيمري: وإن كانت الفتوى
تتعلق بالسلطان، دعا له، فقال: وعلى السلطان أو على ولي الأمر وفقه الله، أو
أصلحه، أو سدده، أو شد أزره، ولا يقول: أطال الله بقاءه، فإنه ليس من ألفاظ
السلف. وقد نقل النحاس اتفاق العلماء على كراهية أطال الله بقاءك. وقد
أوضحت هذه اللفظة وما يتعلق بها ويشبهها في آخر كتاب الأذكار. وينبغي أن
يختصر جوابه، ويكون بحيث يفهم للعامة فهما جليا، قال الصيمري والخطيب
وغيرهما: وإذا سئل عمن قال: أنا أصدق من محمد بن عبد الله، أو الصلاة لغو
ونحو هذه العبارات، فلا يبادر بقوله: هذا حلال الدم، أو عليه القتل، بل يقول:
إن ثبت هذا بإقراره، أو ببينة، استتابه السلطان، فإن تاب، قبلت توبته، وإلا فعل
كذا وكذا وأشبع القول فيه، وإن سئل عن شئ يحتمل وجوها يكفر ببعضها دون
بعض قال: يسأل القائل، فإن قال: أردت كذا، فالجواب كذا، وإن قال: أرددت
كذا، فالجواب كذا. وإذا سئل عمن قتل أو قلع سنا أو عينا، احتاط في الجواب،
فيذكر الشروط التي يجب باجتماعها القصاص، وإذا سئل عمن فعل ما يقتضي
تعزيره، ذكر ما يعزر به، فيقول: ضربه السلطان ما بين كذا وكذا، ولا يزاد على
كذا، وينبغي أن يلصق الجواب بآخر الاستفتاء، ولا يدع بينهما فرجة مخافة أن يزيد
السائل شيئا يفسد الجواب. وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصقة، كتب على
99

موضع الالصاق، وإذا ضاق آخر الورقة عن الجواب، لم يكتبه في ورقة أخرى، بل
في ظهر هذه أو حاشيتها وأيهما أولى؟ فيه ثلاثة أوجه، ثالثها: هما سواء،
والراجح أن حاشيتها أولى، وبه قطع الصيمري وغيره، وليحذر أن يميل في فتواه مع
المستفتي أو خصمه، ووجوه الميل معروفة. ومنها أن يكتب ما له دون ما عليه،
وليس له أن يعلم أحدهما ما يدفع به حجة صاحبه، وإذا ظهر له أن الجواب خلاف
غرض المستفتي، وأنه لا يرضى بكتابته في ورقته، اقتصر على مشافهته بالجواب،
ويجب عليه عند اجتماع الرقاع أن يقدم الأسبق فالأسبق، كالقاضي وهذا فيما يجب
فيه الافتاء، فإن تساووا وجهل السابق، أقرع والصحيح أنه يجوز تقديم المرأة،
والمسافر الذي شد رحله، ويتضرر بتخلفه عن رفقته إلا إذا كثر المسافرون والنساء
بحيث يتضرر غيرهم تضررا ظاهرا، فيقدم حينئذ بالسبق، ثم القرعة، ثم لا يقدم
أحدا إلا في فتيا واحدة. قال الصيمري وغيره: إذا سئل عن ميراث، فالعادة أن
لا يشترط في الورثة عدم الرق والكفر والقتل وغيرهما مما يمنع الإرث، بل المطلق
محمول على ذلك بخلاف ما إذا أطلق الأخوة والأخوات، ولا بد أن يقول في
الجواب: من أبوين أو أب أو أم، وإذا سئل عن المنبرية وهي زوجة وأبوان وبنتان،
لا يقول: للزوجة الثمن، ولا التسع، لأنه لم يطلقه أحد من السلف، بل يقول:
لها الثمن عائلا، وهو ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين سهما، أولها ثلاثة أسهم من
سبعة وعشرين، وإذا كان في المذكورين من لا يرث أفصح بسقوطه، فقال: وسقط
فلان، فإن كان سقوطه في حال دون حال، قال: وسقط فلان في هذه الحالة ونحو
ذلك، لئلا يتوهم أنه لا يرث بحال. قال: وينبغي أن يكون شديد الاحتراز في
جواب المناسخات. قال الصيمري وغيره: وحسن أن يقول: تقسم التركة بعد
إخراج ما يجب تقديمه من دين أو وصية إن كانا. قالوا وإذا رأى في الرقعة فتوى
غيره ممن هو أهل للافتاء، وخطه موافق لما عنده، كتب تحته الجواب صحيح، أو
جوابي مثل هذا، أو بهذا أقول وله أن يكتب الجواب بعبارة أخصر من عبارة السابق.
100

وإن كان فيها خط من ليس بأهل، قال الصيمري وغيره: لم يفت معه، لأن ذلك
تقرير للخطأ، بل يضرب عليه، وينهر المستفتي، ويعرفه قبح ما فعله، وأنه كان
واجبا عليه البحث عن أهل الفتوى. وإن رأى فيها اسم من لا يعرفه، سأل عنه، فإن
لم يعرفه، فله الامتناع خوفا مما قلناه. والأولى أن يأمر صاحبها بإبدالها، فإن أبى،
أجابه شفاها، وإذا خاف فتنة من الضرب عليها، ولم تكن فتياه خطأ، امتنع من
الافتاء معه.
وهل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء، نظر إن كان منتسبا إلى
مذهب، بني على وجهين، حكاهما القاضي حسين في أن العامي هل له مذهب أم
لا؟ أحدهما: لا، لأن المذهب لعارف الأدلة، فعلى هذا له أن يستفتي من شاء،
وأصحهما عند القفال له مذهب، فلا تجوز مخالفته. وإن لم يكن منتسبا، بني على
وجهين، حكاهما ابن برهان بفتح الباء من أصحابنا في أن العامي هل يلزمه التقيد
بمذهب معين؟ أحدهما: لا، فعلى هذا هل له أن يقلد من شاء أم يبحث عن أسد
المذاهب، فيقلد أهله وجهان، كالبحث عن الأعلم. والثاني وبه قطع أبو الحسن
إلكيا: يلزمه. وهو جار في كل من يبلغ رتبة الاجتهاد من الفقهاء وأصحاب سائر
العلوم، لئلا يتلقط رخص المذاهب بخلاف العصر الأول، ولم تكن مذاهب
مدونة، فيتلقط رخصها. فعلى هذا يلزمه أن يختار مذهبا يقلده في كل شئ، وليس
له التمذهب بمجرد التشهي، ولا بما وجد عليه أبده، هذا كلام الأصحاب. والذي
يقتضيه الدليل أنه لا يلزمه التمذهب بمذهب، بل يستفتي من شاء، أو من اتفق،
لكن من غير تلقط للرخص. ولعل من منعه لم يثق بعدم تلقطه. وإذا استفتى وأفتاه
المفتي، فقال أبو المظفر السمعاني: لا يلزمه العمل به إلا بإلزامه، قال: ويجوز أن
يقال: يلزمه إذا أخذ في العمل به، وقيل: يلزمه إذا وقع في نفسه صحته، قال:
وهذا أولى الأوجه، والمختار ما نقله الخطيب وغيره، أنه إذا لم يكن هناك مفت
101

آخر، لزمه بمجرد فتواه، وإن لم تسكن نفسه، وإن كان هناك آخر لم يلزمه بمجرد
إفتائه، إذ له أن يسأل غيره، وحينئذ فقد يخالفه، فيجئ فيه الخلاف السابق في
اختلاف المفتيين، وينبغي للمستفتي أن يبدأ من المفتين بالأسن الأعلم وبالأولى
فالأولى فإن أراد جمعهم في رقعة، وإن أراد إفرادهم في رقاع، بدأ بمن شاء،
وتكون رقعة الاستفتاء واسعة، ويدعو في الورقة لمن يستفتيه، ويدفع الورقة إلى
المفتي منشورة، ويأخذها منشورة، فيريحه من نشرها وطيها. وإذا لم يجد صاحب
الواقعة مفتيا في بلده ولا غيره، ولا من ينقل حكمها، قال الشيخ أبو عمرو: هذه
مسألة فترة الشريعة الأصولية وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع، والصحيح في كل
ذلك أن لا تكليف ولا حكم في حقه أصلا، فلا يؤاخذ إذا صاحب الواقعة شئ
بصنعه. فهذا آخر النبذ التي يسر الله الكريم إلحاقها وهي وإن كانت طويلة بالنسبة
إلى هذا المختصر فهي قصيرة بالنسبة إلى ما ذكرته في شرح المهذب، وموضع
بسطها والزيادات والفروع هناك. وهذا الفصل مما يكثر الاحتياج إليه، فلهذا بسطناه
أدنى بسط. والله أعلم.
المسألة الثالثة: يستحب للامام أن يأذن للقاضي في الاستخلاف، فإن لم
يأذن، فله حالان أحدهما: أن يطلق التولية، ولا ينهاه عن الاستخلاف، فإن أمكنه
القيام بما تولاه، كقضاء بلدة صغيرة، فليس له الاستخلاف على الأصح، وإن لم
يمكنه كقضاء بلدتين أو بلد كبير، فله الاستخلاف في القدر الزائد على ما يمكنه،
وليس له الاستخلاف في الممكن على الأصح، والقياس فيما إذا أذن له أن يكون في
القدر المستخلف فيه هذان الوجهان إلا أن يصرح بالاستخلاف في الجميع، وقطع
ابن كج بالجواز في الكل عند مطلق الاذن. الحال الثاني: أن ينهاه عن
الاستخلاف، فلا يجوز الاستخلاف، فإن كان ما فوضه إليه لا يمكنه القيام به،
فقال القاضي أبو الطيب: هذا النهي كالعدم، والأقرب أحد أمرين إما بطلان
التولية، وبه قال ابن القطان، وإما اقتصاره على الممكن، وترك الاستخلاف.
قلت: هذا أرجحهما. والله أعلم.
102

وجميع ما ذكرناه في الاستخلاف العام، أما في الأمور الخاصة، كتحليف
وسماع بينة، فقطع القفال بجوازه للضرورة، وقال غيره: هو على الخلاف، وهو
مقتضى إطلاق الأكثرين.
فروع أحدها: يشترط في الذي يستخلفه ما يشترط في القاضي، قال
الشيخ أبو محمد وغيره: فإن فوض إليه أمرا خاصا، كفاه من العلم ما يحتاج إليه في
ذلك الباب حتى إن نائب القاضي في القرى إذا كان المفوض إليه سماع البينة ونقلها
دون الحكم، كفاه العلم بشروط سماع البينة ولا يشترط فيه رتبة الاجتهاد.
الثاني: قال الروياني في التجربة: نص الشافعي رحمه الله في
المبسوط يدل على أن الحاكم الشافعي لا يجوز أن يستخلف من يخالفه،
والمعروف في المذهب خلافه، لأن الحاكم يعمل باجتهاده حتى لو شرط على النائب
أن يخالف اجتهاده، ويحكم باجتهاد المنيب لم يجز، وكذا إذا جوزنا تولية المقلد
للضرورة، فاعتقاد المقلد في حقه كاجتهاد المجتهد، فلا يجوز أن يشرط عليه
الحكم بخلاف اعتقاد مقلده، فلو خالف وشرط القاضي الحنفي على النائب
الشافعي الحكم بمذهب أبي حنيفة قال في الوسيط: له الحكم في المسائل التي
اتفق عليها الإمامان دون المختلف فيها، وهذا حكم منه بصحة الاستخلاف، لكن
قال الماوردي وصاحبا المهذب والتهذيب وغيرهم: لو قلد الامام رجلا
القضاء على أن يقضي بمذهب عينه، بطل التقليد. ومقتضى هذا بطلان
الاستخلاف هناك، وفي فتاوى القاضي حسين أن الامام الحنفي لو ولى شافعيا بشرط
أن لا يقضي بشاهد ويمين، ولا على غائب، صحت التولية، ولغا الشرط، فيقضي
بما أدى إليه اجتهاده، ومقتضى هذا أن لا يراعى الشرط هناك، قال الماوردي: ولو
لم تجر صيغة الشرط، بل قال الامام: قلدتك القضاء، فاحكم بمذهب الشافعي،
ولا تحكم بمذهب أبي حنيفة، صح التقليد، ولغا الأمر والنهي، وفيه احتمال،
قال: ولو قال: لا تحكم في قتل المسلم بالكافر والحر بالعبد، جاز، وقد قصر
عمله على باقي الحوادث، وحكى وجهين فيما لو قال: لا تقض فيهما بقصاص أنه
103

يلغو أم يكون منعا له في الحكم في القصاص نفيا وإثباتا.
الثالث: حيث منعنا الاستخلاف، فاستخلف فحكم الخليفة باطل، لكن لو
تراضى خصمان بحكمه، كان كالمحكم وليس للقاضي إنفاذ حكمه، بل يستأنف
الحكم بينهما، وإذا جوزنا الاستخلاف، فاستخلف من لا يصلح للقضاء، فحكمه
باطل أيضا، ولا يجوز إنفاذه.
المسألة الرابعة: إذا نصب الإمام قاضيين في بلد واحد، نظر إن خص كل
واحد بطرف منه، أو بزمان، أو جعل أحدهما قاضيا في الأموال، والآخر في الدماء
والفروج، جاز، قال ابن كج: وكذا لو ولاهما على أن يحكم كل واحد منهما في
الواقعة التي يرفعها المتخاصمان إليه، وإن عمم ولا يتهما مكانا وزمانا وحادثة، فإن
شرط عليهما الاجتماع في الحكم، لم يجز، لأن الخلاف يكثر في محل الاجتهاد،
فتتعطل الحكومات، وإن أثبت لكل واحد الاستقلال فوجهان، أحدهما: لا يجوز
كالإمامة 8 العظمى، فعلى هذا إن ولاهما معا، بطلت توليتهما، وإن ولاهما
متعاقبين، صحت تولية الأول دون الثاني، وأصحهما الجواز، الوكيلين
والوصيين. فعلى هذا لو تنازع الخصمان في إجابة داعي القاضيين يجاب من سبق
داعيه، فإن جاءا معا أقرع، وإن تنازعا في اختيار القاضيين، فقد أطلق الغزالي أنه
يقرع، وقال الماوردي: القول قول الطالب دون المطلوب، فإن تساويا، حضرا
عند أقرب القاضيين إليهما، فإن استويا في القرب فالأصح أنه يقرع، وقيل: يمنعان
من التخاصم حتى يتفقا على أحدهما وإن أطلق نصب قاضيين، ولم يشرط
اجتماعهما، ولا استقلالهما، قال صاحب التقريب: يحمل على إثبات
الاستقلال تنزيلا للمطلق على ما يجوز، وقال غيره: التولية باطلة حتى يصرح
بالاستقلال.
104

قلت: قول صاحب التقريب أصح، وبه قطع الرافعي في المحرر.
والله أعلم.
الخامسة: هل يجوز أن يحكم الخصمان رجلا غير القاضي، وهل لحكمه
بينهما اعتبار، قولان أظهرهما عند الجمهور نعم، وخالفهم الامام والغزالي،
فرجحا المنع، وقيل القولان في الأموال فقط، فأما النكاح واللعان، والقصاص،
وحد القذف وغيرها، فلا يجوز فيها التحكيم قطعا، والمذهب طرد القولين في
الجميع، وبه قطع الأكثرون، ولا يجزئ في حدود الله تعالى على المذهب، إذ
ليس لها طالب معين، وفي التهذيب وغيره ما يقضي ذهاب بعضهم إلى طرد
الخلاف فيها وليس بشئ، وقيل القولان في التحكيم في حقوق الآدميين مخصوصان
بما إذا لم يكن في البلد قاض، فإن كان لم يجز، وقيل: هما إذا كان قاض وإلا
فيجوز قطعا والمذهب طردهما في الحالين، فإذا جوزنا التحكيم اشترط في المحكم
صفات القاضي، ولا ينفذ حكمه إلا على من رضي بحكمه حتى لا تضرب دية
الخطأ على العاقلة إذا لم يرضوا بحكمه، ولا يكفي رضى القاتل، وقيل: يكفي،
والعاقلة تبع له، والصحيح الأول. قال السرخسي: الخلاف مخصوص بقولنا تجب
الدية على الجاني، ثم تحملها العاقلة، فإن قلنا: تجب عليها ابتداء لم تضرب
عليهم إلا برضاهم قطعا وهذا حسن. قال السرخسي: وإنما يشترط رضا
المتحاكمين إذا لم يكن أحدهما القاضي نفسه، فإن كان، فهل يشترط رضا الآخر؟
فيه اختلاف نص، والمذهب أنه لا يشترط، وليكن هذا مبنيا على جواز الاستخلاف
إن جاز، فالمرجوع إليه نائب القاضي. قال: ويشترط على أحد الوجهين كون
المتحاكمين بحيث يجوز للمحكم أن يحكم لكل واحد منهما، فإن كان أحدهما ابنه
أو أباه، لم يجز. وليس للمحكم الحبس، بل غايته الاثبات والحكم
وقيل: يحبس وهو شاذ وهل يلزم حكمهما بنفس الحكم كحكم القاضي أم
لا يلزمه إلا بتراضيهما بعد الحكم؟ فيه قولان، ويقال: وجهان، أظهرهما الأول،
105

ومتى رجع أحدهما قبل الحكم، امتنع الحكم حتى لو أقام المدعي شاهدين، فقال
المدعى عليه: عزلتك، لم يكن له أن يحكم. وقال الإصطخري: إن أحسن
المدعى عليه بالحكم فرجع، ففي تمكينه من الرجوع وجهان خرجهما، والمذهب
الأول، وإذا جوزنا التحكيم في غير الأموال، فخطب امرأة، وحكما رجلا في
التزويج، كان له أن يزوج قال الروياني: وهذا هو الأصح، واختيار الأستاذين أبي
إسحاق الأسفراييني، وأبي طاهر الزيادي وغيرهما من المشايخ، وإنما يجوز فيه
التحكيم إذا لم يكن لها ولي خاص من نسيب أو معتق، وشرط في بعض الشروح أن
لا يكون هناك قاض، وحكى صاحب العدة القاضي أبو المكارم الطبري ابن
أخت الروياني وجهين في اشتراطه. وليكن هذا مبنيا على الخلاف في أنه هل يفرق
في التحكيم بين أن يكون في البلد قاض أم لا، وإذا رفع حكم المحكم إلى
القاضي، لم ينقضه إلا بما ينقض قضاء غيره.
المسألة السادسة في أحكام منثورة تتعلق بالتولية.
يجب على الامام نصب القاضي في كل بلدة وناحية خالية عن قاض، فإن
عرف حال من يوليه عدالة وعلما، فذاك، وإلا أحضره، وجمع بينه وبين العلماء
ليعرف علمه، ويسأل عن سيرته جيرانه وخلطاءه، فلو ولى من لا يعرف حاله،
لم تنعقد توليته، وإن علم بعد ذلك كونه بصفة القضاة، ويجوز ان يجعل الامام
نصب القاضي إلى والي الإقليم وأمير البلدة، وإن لم يكن المجعول إليه صالحا
للقضاء، لأنه وكيل محض، وكذا لو فوض إلى واحد من المسلمين اختيار قاض،
ثم ليس له أن يختار والده ولا ولده، كما لا يختار نفسه. ولو قال لأهل بلد: اختاروا
رجلا منكم، وقلدوه القضاء، قال ابن كج: جاز على الأصح. ويشترط في التولية
تعيين محل ولايته من قرية، أو بلدة، أو ناحية، ويشترط تعيين المولى، فلو
قال: وليت أحد هذين أو من رغب في القضاء ببلدة كذا من علمائها، لم يجز. ولو
قال: فوضت القضاء إلى فلان وفلان، فهذا نصب قاضيين. وفي الأحكام السلطانية
للقاضي الماوردي: إن تولية القضاء تنعقد بما تنعقد به الوكالة، وهو
106

المشافهة باللفظ، والمراسلة، والمكاتبة
عند الغيبة، ويجئ في المراسلة والمكاتبة خلاف كما سبق في الوكالة، وإن كان المذهب الصحة كما ذكره. وفيه أن صريح
اللفظ: وليتك القضاء، واستخلفتك، واستنبتك، ولم يذكر التفويض بصيغة
الامر، كقوله: اقض بين الناس، أو احكم ببلدة كذا، وهو ملحق بالصرائح، كما
في الوكالة. وفيه أن الكنايات: اعتمدت عليك في القضاء، أو رددته إليك، أو
اعتمدت، أو فوضت، أو وكلت، أو أسندت، وينبغي أن يقترن بها ما يلحقها
بالصرائح ولا يكاد يتضح فرق بين: وليتك القضاء، وفوضته إليك.
قلت: الفرق واضح فإن قوله: وليتك متعين لجعله قاضيا، وفوضت إليك
محتمل أن يراد توكيله في نصب قاض. والله أعلم.
وفيه أن عند المشافهة يشترط القبول على الفور، وفي المراسلة والمكاتبة
لا يشترط الفور، وقد سبق في الوكالة خلاف في اشتراط القبول، وأنه إذا اشترط،
فالأصح أنه لا يعتبر الفور فليكن هكذا هنا.
فرع يجوز تعميم التولية وتخصيصها، إما في الاشخاص بأن يوليه القضاء
بين سكان محلة أو قبيلة، أو في خصومات شخصين معينين، أو ولاه القضاء بين من
يأتيه في داره أو في مسجده من الخصوم، وإما في الحوادث بأن يوليه القضاء في
الأنكحة دون الأموال أو عكسه، أو في قدر معين من المال، وإما في طرف الحكم
بأن يوليه القضاء بالاقرار دون البينة أو عكسه، وإما في الأمكنة وهو ظاهر، وإما في
الأزمنة بأن يوليه سنة أو يوما معينا، أو يوما سماه من كل أسبوع. وحكى ابن كج
وجها أنه إذا قال: وليتك سنة، بطلت التولية كما في الإمامة، والمذهب الأول
كالوكالة، ولو كان كالإمامة، لما جاز باقي التخصيصات. ومن ولي القضاء مطلقا،
استفاد سماع البينة والتحليف، وفصل الخصومات بحكم بات أو إصلاح عن
تراض، واستيفاء الحقوق والحبس عند الحاجة والتعزير، وإقامة الحدود، وتزويج
من ليس لها ولي حاضر، والولاية في مال الصغار والمجانين والسفهاء والنظر في
107

الضوال وفي الوقف حفظا للأصول، وإيصالا للغلات إلى مصارفها بالفحص عن
حال المتولي إذا كان لها متول، وبالقيام به إذا لم يكن. قال الماوردي: ويعم نظره في
الوقوف العامة والخاصة، لأن الخاصة ستنتهي إلى العموم والنظر في الوصايا وتعيين
المصروف إليه إن كانت لجهة عامة بالقيام بها إن لم يكن وصي، وبالفحص عن حاله
إن كان، والنظر في الطرق، والمنع من التعدي فيها بالأبنية، وإشراع ما لا يجوز
إشراعه قال القاضي أبو سعد الهروي: ونصب المفتين والمحتسبين وأخذ الزكوات.
وفصل الماوردي أمر الزكوات، فقال: إذا أقام الامام لها ناظرا خرجت عن عموم
ولاية القاضي، وإلا فوجهان، ويشبه أن يطرد هذا التفصيل، في المحتسبين، وكذا
القول في إقامة صلاة الجمعة والعيد، ويقرب من هذه الأمور نصب الأئمة في
المساجد، وليس للقاضي جباية الجزية والخراج بالتولية المطلقة على الأصح.
الطرف الثاني في العزل والانعزال وفيه مسائل:
الأولى: إذا جن، أو أغمي عليه، أو عمي، أو خرس، أو خرج عن أهلية
الضبط والاجتهاد لغفلة أو نسيان لم ينفذ حكمه، وكذا لو فسق على الأصح، فلو
زالت هذه الأحوال، ففي عود ولايته من غير تولية مستأنفة وجهان سبقا في كتاب
الوصايا، الأصح، لا يعود، وقطع السرخسي بعودها في صورة الاغماء. ولو أخبر
108

الامام بموت القاضي أو فسقه، فولى قاضيا، ثم بان خلافه، لم يقدح في تولية
الثاني.
الثانية: في الحال الذي يجوز فيه عزله،
فإن ظهر منه خلل، فللامام عزله، قال في الوسيط: ويكفي فيه غلبة الظن. وإن لم يظهر خلل، نظر إن لم يكن من
يصلح للقضاء، لم يجز عزله، ولو عزله، لم ينعزل، وإن كان هناك صالح، نظر
إن كان أفضل منه، جاز عزله وانعزل المفضول بالعزل، وإن كان مثله أو دونه، فإن
كان في العزل به مصلحة من تسكين فتنة ونحوها، فللامام عزله به، وإن لم يكن فيه
مصلحة، لم يجز، فلو عزله، نفذ على الأصح مراعاة لطاعة السلطان، ومتى كان
العزل في محل النظر، واحتمل أن يكون فيه مصلحة، فلا اعتراض على الامام
فيه، ويحكم بنفوذه وفي بعض الشروح أن تولية قاض بعد قاض هل هي عزل
للأول؟ وجهان، وليكونا مبنيين على أنه هل يجوز أن يكون في بلد قاضيان.
فرع هل ينعزل القاضي قبل أن يبلغه خبر العزل؟ قيل: قولان كالوكيل،
والمذهب القطع بأنه لا ينعزل قبله، لعظم الضرر في نقض أقضيته، ثم الخلاف
فيما إذا عزله لفظا، أو كتب إليه: أنت معزول، أو عزلتك، فأما إذا كتب إليه: إذا
أتاك كتابي هذا، فأنت معزول، فلا ينعزل قبل أن يصله الكتاب قطعا، وإن كتب إذا
قرأت كتابي فأنت معزول، لم ينعزل قبل القراءة، ثم إن قرأ بنفسه انعزل، وكذا إن
قرئ عليه على الأصح، لأن الغرض إعلامه بصورة الحال. ولو كان القاضي أميا
وجوزناه، فقرئ عليه، فالانعزال أولى.
109

فرع للقاضي أن يعزل نفسه، كالوكيل وفي الاقناع للماوردي أنه إذا
عزل نفسه لا ينعزل إلا بعلم من قلده.
المسألة الثالثة: فيمن ينعزل بموت القاضي وانعزاله، فينعزل به كل مأذون له
في شغل معين، كبيع على ميت أو غائب، وسماع شهادة في حادثة معينة، وأما من
استخلفه في القضاء، ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: ينعزل كالوكيل، والثاني: لا،
للحاجة، وأصحها ينعزل إن لم يكن القاضي مأذونا له في الاستخلاف، لان
الاستخلاف في هذا لحاجته، وقد زالت بزوال ولايته، وإن كان مأذونا له فيه لم
ينعزل إن كان قال: استخلف عني فامتثل، وإن قال: استخلف عن نفسك، أو
أطلق، انعزل، ولو نصبه الامام نائبا عن القاضي، قال السرخسي: لا ينعزل بموت
القاضي وانعزاله، لأنه مأذون له من جهة الامام، وفيه احتمال، ويتخرج على هذا
الخلاف أن القاضي هل له عزل خليفته.
فرع القوام على الأيتام والأوقاف جعلهم الغزالي كالخلفاء، والمذهب
الذي قطع به الأصحاب الجزم بأنهم لا ينعزلون بموت القاضي وانعزاله، لئلا تتعطل
أبواب المصالح وهم كالمتولي من جهة الواقف.
110

فرع القضاة والولاة لا ينعزلون بموت الامام الأعظم، وانعزاله لشدة الضرر
في تعطيل الحوادث.
المسألة الرابعة إذا قال القاضي بعد الانعزال: كنت حكمت لفلان بكذا
لم يقبل إلا ببينة، وهل تقبل شهادته بذلك مع آخر؟ وجهان قال الإصطخري:
نعم، والصحيح باتفاق الأصحاب المنع، لأنه يشهد على فعل نفسه، فعلى هذا لو
شهد مع غيره أن حاكما جائز الحكم حكم بكذا، ولم يضف إلى نفسه، قبلت
شهادته على الأصح، كما لو شهدت المرضعة برضاع محرم، ولم يذكر فعلها.
ووجه المنع أنه قد يريد نفسه، فوجب البيان، ليزول اللبس، والوجهان مفرعان على
أنه لو قامت البينة على حكم حاكم، قبلت ولا يشترط تعيينه، وهذا هو المذهب
والمعروف، وأشار بعضهم إلى وجه آخر، فعلى هذا الوجه لا تقبل شهادة واحد
منهما. ثم يجوز أن يقال: الوجهان فيما إذا لم يعلم القاضي أنه يشهد على فعل
نفسه، فإن علم، فهو كما لو أضاف. ويجوز أن يقال: هما إذا علم، فإن لم يعلم
قبل قطعا لجواز إرادة غيره. وعلى هذا الاحتمال لو شهد المعزول أن حاكما حكم
بكذا، وشهد معه آخر أن المعزول حكم به، وجب أن نقبل، لأنا على هذا التقدير
لا نعتني إلا بتصحيح الصيغة.
قلت: الاحتمال الأول هو الصحيح. والله أعلم.
ولو شهد المعزول أنه ملك فلان، أو أن فلانا أقر في مجلس حكمي بكذا،
قبلت شهادته، لأنه لم يشهد على فعله، وقول القاضي في غير محل ولايته:
حكمت لفلان بكذا، كقول المعزول. وأما إذا قال قبل العزل: حكمت بكذا،
فيقبل لقدرته على الانشاء في الحال وحتى لو قال على سبيل الحكم: نساء القرية
111

طوالق من أزواجهن، قبل قوله، ولا حاجة إلى حجة.
فرعان ذكرهما الهروي، أحدهما: قال القاضي المعزول: المال الذي
في يد هذا الأمين دفعته إليه أيام قضائي ليحفظه لزيد، وقال الأمين: إنه لعمرو، وما
قبضته منك، فالقول قول الأمين، وإن وافقه على القبض منه، فالقول قول
القاضي. والثاني: يجوز أن يكون الشاهدان بحكم القاضي هما اللذان شهدا عنده،
وحكم بشهادتهما، لأنهما يشهدان على فعل القاضي. قال الأستاذ أبو طاهر: وعلى
هذا تفقهت، وأدركت القضاة.
الخامسة: ليس على القاضي تتبع أحكام القاضي قبله، لأن الظاهر منها
السداد، وله التتبع على أحد الوجهين، واختاره الشيخ أبو حامد احتياطا. وإذا جاءه
متظلم على القاضي المعزول، وطلب إحضاره، لم يسارع إلى إجابته، فقد يقصد
ابتذاله، بل يسأله عما يريد منه، فإن ذكر أنه يدعي عليه عينا، أو دين معاملة، أو
إتلاف أو غصب، أحضره، وفصل خصومتهما، كغيرهما. ولو قال: أخذ مني كذا
112

على سبيل الرشوة المحرمة، أو أخذ مني مالا بشهادة عبدين أو غيرهما ممن لا تقبل
شهادته، ودفعه إلى فلان، فكذلك الجواب، لأن هذا الاخذ كالغصب، وأما فلان
الذي ادعى الدفع إليه، فإن قال: أخذته بحكم المعزول لي، لم يقبل قوله،
ولا قول المعزول له، بل يحتاج إلى بينة تشهد على حكم المعزول له أيام قضائه،
وإن لم يكن بينة، انتزع منه المال، وإن اقتصر على أنه لي، ولم يتعرض الآخذ من
المدعي لحكم المعزول، فالقول قوله بيمينه، ولو لم يتعرض المتظلم للآخذ، بل
قال: حكم علي بشهادة عبدين ونحوهما، فقد حكى الغزالي وجها أن دعواه
لا تسمع، ولا يصغى إليه وهذا الوجه خطأ لا نعرفه لاحد من الأصحاب، بل اتفق
الأصحاب على أن دعواه مسموعة، وبينته محكوم بها، ولكن هل يحضر المعزول بمجرد
دعواه وجهان: أصحهما: نعم كغيره، والثاني: لا يحضره إلا ببينة تقوم بما يدعيه،
أو على إقرار المعزول بما يدعيه، لأن الظاهر جريان أحكامه على الصواب، فيكفي
هذا الظاهر حتى تقوم بينة بخلافه، وعلى هذا فليس المراد أن البينة تقام في
غيبته، ويحكم بها لكن الغرض أن يكون إحضاره ثبت فيقيم المدعي شهودا يعرف
القاضي بهم أن لدعواه أصلا وحقيقة، ثم إذا حضر المعزول ادعى المدعي، وشهد
الشهود في وجهه، فإن أحضر بعد البينة أو من غير بينة، فأقر، طولب بمقتضاه،
وإن أنكر صدق بيمينه على الأصح عند العراقيين والروياني كالمودع وسائر الامناء،
وقيل: يصدق بلا يمين، وبه قال ابن القاص، والاصطخري، وصاحب
التقريب والماوردي، وصححه الشيخ أبو عاصم، والبغوي. ولا فرق في ذلك
113

بين أن يدعي عليه الحكم في مال أو دم حتى إذا ادعى عليه أنه قتل ظلما بالحكم
جرى الخلاف في أن إحضاره هل يتوقف على بينة، وأنه إذا أنكر هل يحلف؟ ولو
ادعى على نائب المعزول في القضاء، فهو كالدعوى على المعزول، وأما أمناؤه
الذين يجوز لهم أخذ الأجرة فلو حوسب بعضهم فبقي عليه شئ، فقال: أخذت
هذا المال أجرة عملي، فصدقه المعزول، لم ينفعه تصديقه، بل يسترد منه ما يزيد
على أجرة المثل، وهل يصدق بيمينه في أجرة المثل؟ وجهان، أحدهما: لا، بل
عليه البينة بجريان ذكر الأجرة. والثاني: نعم، لأن الظاهر أنه لا يعمل مجانا. قال
الامام: والخلاف مبني على أن من عمل لغيره ولم يسم أجرة، هل يستحقها؟
فرع لو ادعى رجل على القاضي الباقي على قضائه، نظر إن ادعى ما لا
يتعلق بالحكم، حكم بينهما خليفته أو قاض آخر، وإن ادعى ظلما في الحكم، وأراد
تغريمه، لم يمكن، ولا يحلف القاضي ولا تغني إلا البينة، وكذا لو ادعى على
الشاهد أنه شهد بالزور، وأراد تغريمه، لأنهما أمينان شرعا. ولو فتح باب تحليفهما
لتعطل القضاء، وأداء الشهادة، وكذا الحكم لو قال للقاضي: قد عزلت، فأنكر
وعن الشيخ أبي حامد أن قياس المذهب التحليف في جميع هذا كسائر الامناء إذا
ادعيت خيانتهم.
114

الباب الثاني في جامع آداب القضاء فيه أطراف
الأول في آداب متفرقة وهي عشرة:
الأول: أن يكتب الامام كتاب العهد لمن ولاه القضاء، ويذكر فيه ما يحتاج
القاضي إلى القيام به، ويعظه فيه، فإن كان يبعثه إلى بلد آخر، نظر إن كان بعيدا
لا ينتشر الخبر إليه، فليشهد شاهدين على التولية على الوجه الذي تضمنه الكتاب
ويقرآنه، أو يقرؤه الامام عليهما، فإن قرأ غير الامام، فالأحوط أن ينظر الشاهدان
فيه، ثم يخرج الشاهدان معه، فيخبران بالحال هناك، قال الأصحاب: وليس هذا
على قواعد الشهادات، إذ ليس هناك قاض يؤدي عنده الشهادة. ولو أشهد ولم
يكتب، كفى، فإن الاعتماد على الشهود وإن كان البلد قريبا ينتشر الخبر إليه
ويستفيض، فإن أشهد شاهدين يخرجان معه كما ذكرنا، فذاك، وإلا ففي الاكتفاء
بالاستفاضة وجهان، أحدهما: المنع، وبه قال أبو إسحاق، لأن العقود لا تثبت
بالاستفاضة كالوكالة والإجارة، وأصحهما الاكتفاء، وبه قال الإصطخري: إذ لم
ينقل عن رسول الله (ص)، ولا عن الخلفاء الاشهاد، ومن الأصحاب من أطلق
الوجهين، ولم يفرق بين البلد البعيد والقريب، ويشبه أن لا يكون خلاف، ويكون
التعويل على الاستفاضة، ولا يجوز اعتماد مجرد الكتابة بغير استفاضة، ولا إشهاد
هذا هو المذهب والمفهوم من كلام الجمهور. وذكر الغزالي في اعتماده وجهين.
115

الأدب الثاني: إذا أراد الخروج إلى بلد قضائه، سأل عن حال من فيه
العدول والعلماء، فإن لم يتيسر، سأل في الطريق حتى يدخل على علم بحال
البلد، فإن لم يتيسر، سأل حين يدخل، ويستحب أن يدخل يوم الاثنين.
قلت: قال الأصحاب: فإن تعسر يوم الاثنين فالخميس، وإلا فالسبت. والله
أعلم.
وأن يكون عليه عمامة سوداء، فقد صح أن النبي (ص) دخل مكة يوم الفتح
وعليه عمامة سوداء، وأن ينزل في وسط البلد أو الناحية، لئلا يطول الطريق على
بعضهم، وإذا دخل، فإن رأى أن يشتغل في الحال بقراءة العهد، فعل، وإن رأى
أن ينزل منزله، ويأمر مناديا ينادي يوما فأكثر أو أقل على حسب صغر البلد أو كبره أن
فلانا جاء قاضيا، وأنه يخرج يوم كذا لقراءة العهد، فمن أحب، فليحضر، فإذا
اجتمعوا، قرأ عليهم العهد، وإن كان معه شهود، شهدوا ثم ينصرف إلى منزله،
ويستحضر الناس، ويسألهم عن الشهود والمزكين سرا وعلانية. قال الأصحاب:
ويتسلم ديوان الحكم وهو ما كان عند القاضي قبله من المحاضر والسجلات، وحجج
الأيتام والأوقاف، وحجج غيرهم المودعة في الديوان، لأنها كانت في يد الأول
بحكم الولاية، وقد انتقلت الولاية إليه، ثم إذا أراد النظر في الأمور نظر أولا في
المحبوسين هل يستحقونه أم لا؟ ويأمر قبل أن يجلس للنظر فيهم من ينادي يوما
فأكثر على حسب الحاجة أن القاضي ينظر في المحبوسين يوم كذا، فمن له
محبوس، فليحضر، ويبعث إلى الحبس أمينا ليكتب اسم كل محبوس وما حبس
به، ومن حبس له في رقعة. وذكر القاضي أبو الطيب أنه يبعث أمينين وهو أحوط.
فإذا جلس في اليوم الموعود، وحضر الناس، صبت الرقاع بين يديه، فيأخذ رقعة
وينظر في الاسم المثبت فيها، ويسأل عن خصمه فمن قال: أنا خصمه بعث معه ثقة
إلى الحبس ليأخذ بيده ويحضره، وهكذا يحضر من المحبوسين من يعرف أن
116

المجلس يحتمل النظر في أمرهم وفي أمالي السرخسي أنه يقرع بينهم للابتداء.
وإذا اجتمع عنده المحبوس وخصمه، سأل المحبوس عن سبب حبسه، وجوابه
يفرض على وجوه، منها أن يعترف أنه حبس بحق، فإن كان ما حبس به مالا، أمر
بأدائه، فإن قال: أنا معسر، فعلى ما سبق في التفليس، فإن لم يؤد ولم يثبت
إعساره، رد إلى الحبس، وإن أدى أو ثبت إعساره نودي عليه، فلعل له خصما
آخر، فإن لم يحضر أحد خلي، وإن كان ما حبس به حدا، أقيم عليه، وخلي كما
ذكرناه. ومنها أن يقول: شهدت على بينة، فحبسني القاضي ليبحث عن حال
الشهود، ففي جواز الحبس بهذا السبب خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى، فإن
قلنا: لا يحبس به، أطلقه، وإلا رده، وبحث عن حال الشهود، ومنها أن يقول:
حبست بخمر أو كلب أتلفته على ذمي، وهذا القاضي لا يعتقد التغريم بذلك،
فالأظهر أنه يمضيه، والثاني: يتوقف، ويسعى في اصطلاحهما على شئ. ومنها
أن يقول: حبست ظلما، فإن كان الخصم معه، فعلى الخصم البينة، ويصدق
المحبوس بيمينه، فإن ذكر خصما غائبا، فقيل: يطلق قطعا، والأصح أنه على
وجهين، فإن قلنا: لا يطلق حبس، أو يؤخذ منه كفيل، ويكتب إلى خصمه في
الحضور، فإن لم يفعل، أطلق حينئذ، وإن قال: لا خصم لي أصلا، أو قال:
لا أدري فيم حبست، نودي عليه لطلب الخصم، فإن لم يحضر أحد، حلف وأطلق
قال في الوسيط: وفي مدة المناداة لا يحبس، ولا يخلى بالكلية، بل يرتقب،
117

وحيث أطلق الذي ادعى أنه مظلوم لا يطالب بكفيل على الأصح.
فرع لو كان قد حبسه الأول تعزيرا قال الغزالي: أطلقه الثاني، ولم
يتعرض الجمهور لهذا، فإن بانت جنايته عند الثاني، ورأي إدامة حبسه، فالقياس
الجواز.
فرع فإذا فرغ من المحبوسين، نظر في الأوصياء، فإذا حضر من ادعى أنه
وصي، بحث الحاكم عن شيئين أحدهما أصل الوصاية، فإن أقام بينة أن القاضي
المعزول نفذ وصايته، وأطلق تصرفه، قرره، ولم يعزله إلا أن يطرأ فسقه ونحوه
وينعزل، فينزع المال منه، وإن شك في عدالته فوجهان، قال الإصطخري: يقر
المال في يده، لأن الظاهر الأمانة، وقال أبو إسحاق: ينتزعه حتى تثبت عدالته،
وإن وجده ضعيفا، أو كان المال كثيرا لا يمكنه القيام بحفظه، والتصرف فيه، ضم
إليه من يعينه، والثاني تصرفه في المال، فإن قال: فرقت ما أوصى به، نظر إن
كانت الوصية لمعينين، لم يتعرض له، لأنهم يطالبون إن لم يكن وصلهم، وإن كانت
لجهة عامة، فإن كان عدلا أمضى تصرفه ولم يضمنه، وإن كان فاسقا، ضمنه
لتعديه بالتفريق بغير ولاية صحيحة، ولو فرق الثلث الموصى به غير الوصي خوفا
118

عليه من أن يضيع، نظر إن كانت الوصاية لمعينين، وقع الموقع، لأن لهم أن يأخذوه
بلا واسطة، وإلا فيضمن على الأصح.
فرع ثم بعد الأوصياء ينظر في أمناء القاضي المنصوبين على الأطفال،
وتفرقة الوصايا، فمن تغير حاله بفسق أو غيره، فعلى ما ذكرناه في الأوصياء ومن لم
يتغير حاله، أقره، قال الروياني: وله أن يعزله ويولي غيره بخلاف الأوصياء، لان
الأمين يولى من جهة القاضي بخلاف الوصي.
فرع ثم ينظر في الأوقاف العامة والمتولين لها، وفي اللقط والضوال،
فما لا يجوز تملكه للملتقط، أو يجوز ولم يختر تملكه بعد الحول، حفظه على
صاحبه، أو باعه، وحفظ ثمنه لمصلحة المالك، وله أن يحفظ هذه الأموال معزولة
عن أمثالها في بيت المال، وله أن يخلطها بمثلها فإذا ظهر المالك، غرم له من
بيت المال.
فرع ليقدم من كل نوع من ذلك الأهم فالأهم، وإن عرضت حادثة وهو
مشغول بهذه المهمات استخلف من ينظر في تلك الحالة أو فيما هو فيه.
الأدب الثالث: يرتب القاضي بعد المذكورات أمر الكتاب والمزكين
والمترجمين، أما الكتاب فللحاجة إلى كتابة المحاضر والسجلات، والكتب
الحكمية، لأن القاضي لا يتفرغ لها غالبا. ويشترط في الكاتب أن يكون عارفا بما
يكتبه من المحاضر وغيرها، وأن يكون مسلما عدلا. وفي المهذب وجه أن
الاسلام والعدالة ليسا بشرط بل مستحبان، لأن القاضي لا يمضي ما كتبه حتى يقف
119

عليه، وليس بشئ. ويستحب أن يكون فقيها وافر العقل، عفيفا عن الأطماع،
جيد الخط، ضابطا للحروف،
وأن يجلسه القاضي بين يديه ليملي عليه، ويشاهد ما يكتبه. وأما المزكون
فسيأتي فيهم فصل مفرد إن شاء الله تعالى. وأما المترجمون، فللحاجة إلى معرفة كلام
من لا يعرف القاضي لغته من خصم أو شاهد، ويشترط في المترجم التكليف
والحرية والعدالة، لأنه ينقل إلى القاضي قولا لا يعرفه، فأشبه الشاهد والمزكي
بخلاف الكاتب، ولهذه العلة شرطنا العدد فيه وفي المزكي. قال الأصحاب: فإن
كان الحق مما يثبت برجل وامرأتين، قبلت الترجمة من رجلين أو من رجل وامرأتين،
وانفرد الامام باشتراط رجلين، واختاره البغوي لنفسه. وأما النكاح والعتق وسائر
ما لا يثبت إلا برجلين، فيشترط في ترجمته رجلان، وفي الزنا هل يكفي رجلان
أم يشترط أربعة؟ قولان كالشهادة على الاقرار بالزنا، وقيل: يكفي رجلان قطعا،
ولو كان الشاهدان أعجميين فهل يكفي لهما مترجمان أم يشترط لكل مترجمان؟
قولان كشهود الفرع، وبالأول قطع العبادي في الرقم، ويجوز أن يكون المترجم
أعمى على الأصح، لأنه يفسر اللفظ، ولا يحتاج إلى معاينة وإشارة بخلاف
الشهادة، وإذا كان بالقاضي صمم، واحتاج إلى من يسمعه فثلاثة أوجه أصحها:
يشترط العدد كالمترجم، والثاني: لا، لأن المسمع لو غير أنكر عليه الخصم،
والحاضرون بخلاف المترجم. والثالث: إن كان الخصمان أصمين، اشترط، لان
غيرهما لا يعتني اعتناءهما، وإن كانا سميعين، فلا. فأما إسماع الخصم ما يقوله
القاضي، وما يقوله الخصم، فحكى الروياني عن القفال، أنه لا يشترط فيه العدد،
وإذا شرطنا العدد. اشترط لفظ الشهادة على الأصح، فيقول: أشهد أنه يقول كذا،
ومن منع، قال: ليست بشهادة محققة، وإذا لم يشترط العدد، اشترطت الحرية
على الأصح، كهلال رمضان، ولا يسلك به مسلك الروايات وليجري الخلاف في
لفظ الشهادة والحرية مع بعده من المترجم، ويشبه أن يكون الاكتفاء بإسماع رجل
120

وامرأتين في المال على ما ذكرنا في المترجم.
فرع إذا لم يجد القاضي كفاية، فله أن يأخذ رزقا من بيت المال ليتفرغ
للقضاء، وإن وجدها وتعين عليه، لم يجز أخذ شئ، وإلا فيجوز. ويستحب ترك
الاخذ، ولا يجوز عقد الإجارة على القضاء، وفي فتاوي القاضي حسين وجه أنه
يجوز، والمذهب الأول وبه قطع الجمهور، وينبغي للامام أن يجعل من بيت
المال شيئا مع رزق القاضي لثمن ورق المحاضر والسجلات، ولأجرة الكاتب، فإن
لم يكن في بيت المال شئ أو احتيج إليه لما هو أهم، فإن أتى المدعي بورقة تثبت
فيها خصومته وشهادة الشهود، وبأجرة الكاتب، فذاك، وإلا فلا يجبر عليه، لكن
يعلمه القاضي أنه إذا لم يثبت ما جرى، فقد تنسى شهادة الشهود وحكم نفسه،
وليكن رزق القاضي بقدر كفايته وكفاية عياله على ما يليق بحالهم من النفقة والكسوة
وغيرهما، وكذا الامام يأخذ لنفسه ما يليق به من الخيل والغلمان، الدار الواسعة،
ولا يلزمه الاقتصار على ما اقتصر عليه رسول الله (ص) والخلفاء الراشدون رضي الله
عنهم، لأنه قد بعد العهد بزمن النبوة التي كانت سبب النصر وإلقاء الرعب والهيبة في
القلوب، فلو اقتصر الامام اليوم على ذلك، لم يطع، وتعطلت الأمور. ولو رزق
121

الامام القاضي من مال نفسه، أو رزقه أهل ولايته، أو واحد منهم فالذي خرجه
صاحب التلخيص أنه لا يجوز له قبوله، وقد سبق في الاذان أنه يجوز أن يكون
رزق المؤذن من مال الإمام، أو أحد الرعية، ويجوز أن يفرق بأن ذلك لا يورث تهمة
وميلا في المؤذن بخلاف القاضي، وكما يرزق الامام القاضي من بيت المال يرزق
أيضا من يرجع مصلحة عمله إلى عامة المسلمين كالأمير والمفتي والمحتسب، وإمام
الصلاة والمؤذن، ومن يعلم الناس القرآن، ومن يقيم الحدود والقاسم، وكاتب
الصكوك، فإن لم يكن في بيت المال شئ، لم يعين قاسما ولا كاتبا لئلا يغالي
بالأجرة وألحق بهؤلاء المقوم، وفي المترجم وجهان، أصحهما: يرزق من بيت
المال كهؤلاء، والثاني: لا، كالوكيل قاله ابن القاص، وأبو زيد، وعلى هذا فمؤنة
ما يترجم به للمدعى عليه على المدعى عليه، والمسمع كالمترجم، ففي مؤنته
الوجهان، وهما جاريان في المزكي، والقول في الشاهد يأتي في الشهادات إن شاء
الله تعالى.
الأدب الرابع: يستحب أن يكون مجلس القضاء فسيحا بارزا نزها لا يؤذي
فيه حر ولا برد وريح وغبار ودخان، فيجلس في الصيف حيث يليق به، وكذا في
الشتاء وزمن الرياح، واستحب أبو عبيد بن حربويه وغيره من الأصحاب أن يكون
موضع جلوسه مرتفعا كدكة ونحوها ليسهل عليه النظر إلى الناس، وعليهم المطالبة،
وحسن أن يوطأ له الفراش، وموضع الوسادة، ليعرفه الداخل، ويكون أهيب عند
الخصوم، وأرفق بالقاضي لئلا يمل، والمستحب أن يكون مستقبل القبلة،
ولا يتكئ، ويستحب أن لا يتخذ المسجد مجلسا للقضاء، فإن اتخذ، كره على
الأصح، لأنه ينزه عن رفع الأصوات، وحضور الحيض، والكفار والمجانين
122

وغيرهم ممن يحضرون مجلس القضاء، والثاني: لا يكره كما لا يكره الجلوس فيه
لتعليم القرآن وسائر العلوم والافتاء، وإذا أثبتنا الكراهة، فهي في إقامة الحد أشد،
وكراهة اتخاذه مجلسا للقضاة كراهة تنزيه، فإن ارتكبها لم يمكن الخصوم من
الاجتماع فيه والمشاتمة ونحوها، بل يقعدون خارجه، وينصب من يدخل خصمين خصمين،
ولو اتفقت قضية أو قضايا وقت حضوره في المسجد لصلاة أو غيرها،
فلا بأس بفصلها، وإذا جلس للقضاء ولا زحمة، كره أن يتخذ حاجبا على الأصح،
ولا كراهة فيه في أوقات حلوته على الصحيح.
الأدب الخامس: يكره أن يقضي في كل حال يتغير فيه خلقه، وكمال عقله
لغضب أو جوع أو شبع مفرطين أو مرض مؤلم، وخوف مزعج، وحزن وفرح
شديدين، وغلبة نعاس أو ملال أو مدافعة أحد الأخبثين، أو حضور طعام يتوق إليه،
ثم قال الامام والبغوي وغيرهما: الكراهة فيما إذا لم يكن الغضب لله تعالى، وظاهر
كلام آخرين أنه لا فرق، ولو قضى في هذه الحال، نفذ.
فصل إذا أقر المدعى عليه أو نكل، فحلف المدعي، ثم يسأل المدعي
القاضي أن يشهد على أنه أقر عنده أو نكل، وحلف المدعي، لزمه إجابته. ولو أقام
بينة بما ادعاه، وسأل القاضي الاشهاد عليه، لزمه أيضا في الأصح، ولو حلف
المدعى عليه، وإن سأله الاشهاد ليكون حجة له، فلا يطالبه مرة أخرى، لزمه
إجابته، وسأله أحد المتداعيين أن يكتب له محضرا بما جرى ليحتج به إذا
احتاج، نظر إن لم يكن عنده قرطاس من بيت المال، ولم يأت به الطالب، لم يلزمه
123

إجابته وإن كان فهل يجب أم يستحب؟ وجهان أصحهما: الاستحباب، لأن الحق
يثبت بالشهود لا بالكتاب، وإن طلب أن يحكم له بما ثبت، لزمه الحكم، فيقول:
حكمت له به، أو أنفذت الحكم به، أو ألزمت خصمه الحق، وإذا حكم، فطلب
الاشهاد على حكمه، لزمه الاشهاد، وإن طلب أن يكتب له به سجلا، فعلى
التفصيل والخلاف المذكور في كتابة المحضر، ونقل ابن كج وجها ثالثا أنه يجب
التسجيل في الدين المؤجل الوقوف وأموال المصالح، فلا يجب في الحال والحقوق
الخاصة، وسواء أوجبنا الكتابة أم استحببناها، فيحتاج إلى بيان المكتوب، وأنه كيف
يضبط ويحفظ، أما الأول، فالمكتوب محضر وسجل، أما المحضر، فصورته،
بسم الله الرحمن الرحيم حضر القاضي فلان ابن فلان، وأحضر معه فلان ابن فلان،
ويرفع في نسبهما ما يفيد التمييز، وهذا إذا عرفهما القاضي، ويستحب مع ذلك
التعرض لحليتهما طولا وقصرا في القد، وسمرة وشقرة في الوجه، ويصف منهما
الحاجب والعين والفم والأنف. وإن لم يعرفهما، كتب: حضر رجل ذكر أنه فلان ابن فلان،
وأحضر معه رجلا ذكر هذا المحضر أنه فلان ابن فلان ابن فلان، ولا بد والحالة
هذه من التعرض لحليتهما، ثم يكتب: وادعى عليه كذا من عين أو دين بصفتهما،
فأقر المدعى عليه بما ادعى، فإن أنكر، وأقام المدعي بينة كتب، فأحضر المدعي
فلانا وفلانا شاهدين، وسأل القاضي استماع شهادتهما، فسمعها في مجلس
حكمه، وثبت عنده عدالتهما، وسأله أن يكتب محضرا بما جرى، فأجابه إليه،
وذلك في تاريخ كذا، ويثبت على رأس المحضر علامته من الحمدلة وغيرها،
ويجوز أن يبهم الشاهدين فيكتب: وأحضر عدلين شهدا له بما ادعاه، ولو كان مع
المدعي كتاب فيه خط الشاهدين، كتب تحت خطهما: شهد عندي بذلك، وأثبت
علامته في رأس الكتاب، واكتفى به عن المحضر، جاز، وإن كتب المحضر،
وضمنه ذلك الكتاب، جاز، وعلى هذا قياس محضر يذكر تحليف المدعى عليه أو
المدعي بعد نكول المدعى عليه.
وأما السجل، فصورته: بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أشهد عليه فلان
القاضي بموضع كذا في تاريخ كذا أنه ثبت عنده كذا، فأقر فلان لفلان، أو بشهادة
فلان وفلان، وقد ثبتت عدالتهما عنده، أو بيمينه بعد نكول المدعى عليه، وأنه
124

حكم بذلك لفلان على فلان، وأنفذه بسؤال المحكوم له. ويجوز أن يكتب: ثبت
عنده ما في كتاب هذه نسخته، وينسخ الكتاب إلى آخره، ثم يكتب: وإنه حكم
بذلك وكيفية التعرض لنسب المتداعيين وحليتهما على ما ذكرنا في المحضر. وفي
تعليق الشيخ أبي حامد أن ابن خيران لم يجوز للقاضي التسجيل إذا لم يعرف
المتداعيين، والصحيح الأول، وإذا كان المتداعيان، أو أحدهما امرأة، واحتاج
إلى إثبات الحلية، فليكن النظر لذلك، كالتحمل للشهادة، وأما أنه كيف يضبط
ويحفظ، فينبغي للقاضي أن يجعل المحاضر والسجلات نسختين يدفع إلى صاحب
الحق إحداهما غير مختومة، وتحفظ الأخرى في ديوان القضاء مختومة، ويكتب
على رأسها اسم الخصمين، ويضعها في خريطة أو قمطر، وهو السفط الذي يجمع
فيه المحاضر والسجلات، ويكون بين يديه إلى آخر المجلس، فإذا أراد أن
يقوم، ختمه بنفسه، أو ختمه أمين وهو ينظر، ثم أمر بحمله إلى موضعه، ثم يدعو
به في اليوم الثاني وينظر في الختم، ويفكه بنفسه أو يفكه أمينه وهو ينظر ويضع
فيه كتب اليوم الثاني كما ذكرنا، وهكذا يفعل حتى يمضي الأسبوع، فإن كثرت،
جعلها إضبارة وكتب عليها: خصومات أسبوع كذا من شهر كذا من سنة كذا
وسجلاته، ويعزلها. وإن لم يكتب، تركها حتى يمضي شهر، ثم بعزلها، فإذا
مضت سنة، جمعها، وكتب عليها: كتب سنة كذا ليسهل الوقوف عليها عند
الحاجة، ويجعلها في موضع لا يعلمه غيره، وإذا احتاج إلى شئ منها تولى أخذه
بنفسه، ونظر أولا إلى ختمه وعلاماته.
فرع قال الهروي: إن أوجبنا التسجيل على القاضي، لم يجز له أخذ الأجرة
عليه، وإلا فيجوز. وأطلق بعضهم القول بالجواز، وهو موافق لمنع
الوجوب، وهو الأصح، وكذا استئجار المفتي ليكتب الفتوى.
الأدب السادس: يستحب للقاضي المشاورة وإنما يشاور العلماء الأمناء،
125

ويستحب أن يجمع أصحاب المذاهب المختلفة ليذكر كل واحد دليله فيتأملها
القاضي ويأخذ بأرجحها عنده، ثم الذين يشاورهم إن شاء أقعدهم عنده، وإن شاء
أقعدهم ناحية، فإذا احتاج استدعاهم.
قلت: الأول أولى. والله أعلم.
ثم المشاورة تكون عند اختلاف وجوه النظر، وتعارض الآراء، فأما الحكم
المعلوم بنص أو إجماع أو قياس جلي، فلا مشاورة فيه وإذا حضر المستشارون،
فإنما يذكرون ما عندهم إذا سألهم ولا يبتدئون بالاعتراض والرد على حكمه إلا إذا
كان حكما يجب نقضه، كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وذكر الغزالي أنهم يحضرون
قبل خروجه، وهذا وإن كان لم يتعرض له الجمهور يوجه بأنهم بانتظاره أولى كما في
الصلاة.
الأدب السابع: يكره للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه، بل يوكل من
لا يعرفه الناس، فإن عرفوه بوكالته أبدله، فإن لم يجد من يوكله، عقد بنفسه
للضرورة، فإن وقعت خصومة لمعاملة، أناب من يحكم بينه وبين خصمه خوفا من
أن يميل إليه، ولا يختص هذا الحكم بالبيع والشراء، بل يعم الإجارة وسائر
126

المعاملات، بل نص في الام أنه لا ينظر في نفقة عياله ولا أمر ضيعته، ويكل
إلى غيره ليتفرغ قلبه.
فصل يحرم على القاضي الرشوة، ثم إن كان له رزق في بيت المال، لم
يجز أخذ عوض من الخصوم، فإن لم يكن، فقال الشيخ أبو حامد: لو قال
للخصمين: لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي رزقا، جاز، ومثله عن القاضي أبي
الطيب وغيره، وهذا نحو ما نقل الهروي أن القاضي إذا لم يكن له رزق من بيت
المال وهو محتاج، ولم يتعين عليه القضاء، فله أن يأخذ من الخصم أجرة مثل
عمله، وإن تعين، قال أصحابنا: لا يجوز الاخذ وجوزه صاحب التقريب وأما
باذل الرشوة، فإن بذلها ليحكم له بغير الحق، أو بترك الحكم بحق حرم عليه
البذل، وإن كان ليصل إلى حقه، فلا يحرم كفداء الأسير.
127

قلت: وأما المتوسط بين المرتشي والراشي، فله حكم موكله منهما، فإن
وكلا، حرم عليه، لأنه وكيل للآخذ وهو محرم عليه. والله أعلم.
وأما الهدية فالأولى أن يسد بابها ولا يقبلها، ثم إن كان للمهدي خصومة في
الحال، حرم قبول هديته في محل ولايته، وهديته في غير محل ولايته، كهدية من
عادته أن يهدى له قبل الولاية لقرابة أو صداقة ولا يحرم قبولها على الصحيح،
وحكى ابن الصباغ في تحريمها وجها وهو مقتضى إطلاق الماوردي، وإن لم يكن له
عادة بالهدية قبل الولاية، فإن زاد المهدي على القدر المعهود، صارت هديته كهدية
من لم يعهد منه الهدية، وحيث حكمنا بأن القبول ليس بحرام، فله الاخذ
والتملك، والأولى أن يثبت عليها أو يضعها في بيت المال، وحيث قلنا بالتحريم،
فقبلها، لم يملكها على الأصح، فعلى هذا لو أخذها، قيل: يضعها في بيت
المال، والصحيح أنه يردها على مالكها، فإن لم يعرفه، جعلها في بيت المال.
فرع قد ذكرنا أن الرشوة حرام مطلقا، والهدية جائزة في بعض الأحوال،
فيطلب الفرق بين حقيقتيهما مع أن الباذل راض فيهما، والفرق من وجهين، أحدهما
ذكره ابن كج: أن الرشوة هي التي يشرط على قابلها الحكم بغير الحق، أو الامتناع
عن الحكم بحق، والهدية: هي العطية المطلقة. والثاني قال الغزالي في
الاحياء: المال إما يبذل لغرض آجل فهو قربة وصدقة، وإما لعاجل، وهو إما
مال، فهو هبة بشرط ثواب، أو لتوقع ثواب، وإما عمل، فإن كان عملا محرما، أو
128

واجبا متعينا، فهو رشوة، وإن كان مباحا فإجارة أو جعالة، وإما للتقرب والتودد إلى
المبذول له، فإن كان بمجرد نفسه، فهدية، وإن كان ليتوسل بجاهه إلى أغراض
ومقاصد، فإن كان جاهه بالعلم أو النسب، فهو هدية، وإن كان بالقضاء والعمل،
فهو رشوة.
الأدب الثامن: في تأديبه المسيئين عمن أساء الأدب في مجلسه من الخصوم
بأن صرح بتكذيب الشهود، أو ظهر منه مع خصمه لدد، أو مجاوزة حد، زجره
ونهاه، فإن عاد، هدده وصاح عليه، فإن لم ينزجر، عزره بما يقتضيه اجتهاده من
توبيخ وإغلاظ القول، أو ضرب وحبس، ولا يحبسه بمجرد ظهور اللدد، وعن
الإصطخري أنه على قولين. وفي يتيمة اليتيمة أنه إنما يضربه بالدرة دون السياط
إذ الضرب بالسياط من شأنه الحدود. وهذا الذي ادعاه غير مقبول، بل الضرب
بالسياط جائز في غير الحدود، ألا ترى أن لفظ الشافعي رحمه الله في تعزير القاضي
شاهد الزور حيث قال: عزره ولم يبلغ بالتعزير أربعين سوطا. ومثال اللدد أن تتوجه
اليمين على الخصم، فيطلب يمينه، ثم يقطعها عليه، ويزعم أن له بينة، ثم
يحضره ثانيا وثالثا، ويفعل كذلك، وكذا لو أحضر رجلا، وادعى عليه وقال: لي
بينة وسأحضرها، ثم فعل ذلك ثانيا وثالثا إيذاء وتعنتا. ولو اجترأ خصم على القاضي
وقال: أنت تجور أو تميل، أو ظالم، جاز أن يعزره وأن يعفو، والعفو أولى إن لم
يحمل على ضعفه، والتعزير أولى إن حمل عليه.
فرع شهادة الزور من أكبر الكبائر، ومن ثبت أنه شهد بزور، عزره
القاضي بما يراه من توبيخ وضرب وحبس، وشهر حاله، وأمر بالنداء عليه في سوقه
إن كان من أهل السوق، أو قبيلته إن كانت له قبيلة، أو مسجده تحذيرا للناس منه،
وتأكيدا لامره، وإنما تثبت شهادة الزور بإقرار الشاهد إن تيقن القاضي، بأن شهد أن
فلانا زنى بالكوفة يوم كذا، وقد رآه القاضي ذلك اليوم ببغداد. هكذا أطلقه الشافعي
والأصحاب رحمهم الله تعالى، ولم يخرجوه على أن القاضي هل يحكم بعلمه، ولا
يكفي قيام البينة بأنه شاهد زور، فقد تكون هذه بينة زور.
الأدب التاسع: لا ينفذ قضاء القاضي لنفسه، ولا لمملوكه القن وغير
129

القن، ولا لشريكه فيما له فيه شرك، ولا
لشريك مكاتبه فيما له فيه شرك، ولا يقضي لاحد من أصوله وإن علوا،. ولا فروعه وإن نزلوا، ولا لمملوك أحدهم،
ولا لشريكه، فإن فعل، لم ينفذ على الصحيح. ولو أراد أن يقضي لهم بعلمه، لم
ينفذ قطعا، وإن جوزنا قضاءه بعلمه للأجانب، ويجوز أن يقضي على أصوله
وفروعه، كما يشهد عليهم وفصل البغوي الحكم للولد وعليه، فقال: له أن
يحلف ابنه على نفي ما يدعى عليه، لأنه قطع للخصومة لا حكم له، وله أن يسمع
بينة المدعي على ابنه، ولا يسمع بينة الدفع من ابنه، وهل له أن يحكم بشهادة
ابنه؟ وجهان، لأنه يتضمن تعديله، فإن عدله شاهدان، فالمتجه أنه يقضي،
131

ولو تحاكم إليه أبوه وابنه، هل له الحكم لأحدهما؟ وجهان في المهذب
أصحهما: لا، وبه قطع البغوي. ومتى وقعت له خصومة، أو لاحد هؤلاء الذين
يمنع حكمه لهم، قضى فيها الامام، أو قاضي بلدة أخرى، أو نائبه، وفي النائب
وجه ضعيف.
قلت: قال البغوي: وللقاضي أن يستخلف أباه أو ابنه، لأنهما كنفسه.
قال: ولو جعل الامام إلى رجل أن يختار قاضيا، لم يجز أن يختار والده ولا ولده،
كما لا يختار نفسه، وسيأتي قريبا في مسائل التزكية أنه لا يصح تزكية ولد ولا والد
على الصحيح. والله أعلم.
فرع لا يقضي على عدوه على الصحيح، وبه قطع الجمهور، كالشهادة
عليه، وجوزه الماوردي في كتابه الأحكام السلطانية لأن أسباب الحكم ظاهرة
بخلاف الشهادة.
فرع تولى وصي اليتيم القضاء هل له أن يسمع البينة ويحكم له؟ وجهان،
أصحهما: نعم، وبه قال القفال، ومنعه ابن الحداد.
الأدب العاشر: فيما ينقض من قضائه وقضاء غيره، وذلك يتعلق بقواعد،
إحداها الأصول التي يقضي بها القاضي، ويفتي بها المفتي كتاب الله تعالى، وسنة
رسول الله (ص)، والاجماع، والقياس، وقد يقتصر على الكتاب والسنة، ويقال:
الاجماع يصدر عن أحدهما، والقياس يرد إلى أحدهما. وأما قول الواحد من
الصحابة رضي الله عنهم. فإن لم ينتشر فيهم، فقولان: القديم أنه حجة، والجديد
ليس بحجة، ثم قال أبو بكر الصيرفي والقفال القولان إذا لم يكن معه قياس، فإن
كان معه قياس ولو ضعيف احتج به قطعا، ورجح على القياس القوي، وقال
الأكثرون في الجميع القولان، فإن قلنا بالقديم، وجب الاخذ به، وترك القياس،
وفي تخصيص العموم به وجهان، وإن قلنا بالجديد، فهو كقول آحاد المجتهدين،
لكن لو تعارض قياسان أحدهما وافق قول صحابي، قال الغزالي: قد تميل نفس
132

المجتهد إلى الموافق ويرجح عنده.
قلت: قد صرح الشيخ أبو إسحاق في اللمع وغيره من الأصحاب بالجزم
بالأخذ بالموافق. والله أعلم.
وإن انتشر قول الصحابي، فله ثلاثة أحوال، أحدها: أن يخالفه غيره، فعلى
الجديد هو كاختلاف سائر المجتهدين، وعلى القديم هما حجتان تعارضتا، فإن
اختص أحد الطرفين بكثرة عدد، أو بموافقة أحد الخلفاء الأربعة أبي بكر وعمر
وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ترجح، نص عليه في القديم في غير علي وألحق
الجمهور بهم عليا، ومنهم من لم يلحقه، لأن الثلاثة كانوا في دار الهجرة والصحابة
متوافرون، وكانوا في حكمهم وفتواهم يتشاورون، وعلي رضي الله عنه انتقل إلى
الكوفة، وتفرقت الصحابة.
وإن لم يوجد واحد من الامرين في واحد من الصرفين، أو وجد في أحدهما
أحدهما، وفي الآخر الآخر، فهما سواء. ولو كان في أحدهما أبو بكر أو عمر،
وفي الآخر عثمان أو علي رضي الله عنهم، فهل يستويان، أم يرجح طرف
الشيخين؟ وجهان. ويشبه أن يجئ مثلهما في تعارض الشيخين، فيستويان في
وجه، ويقدم طرف أبي بكر رضي الله عنه في وجه.
الحال الثاني: أن يوافقه سائر الصحابة رضي الله عنهم، ويقولوا بما قاله،
فهذا إجماع منهم على الحكم، ولا يشترط فيه انقراض عصر المجتمعين على
الأصح، ولا يتمكن أحدهم من الرجوع، بل يكون قوله الأول مع قول سائر
المجتمعين حجة عليهم، كما هو حجة على غيرهم.
الحال الثالث: أن يسكتوا، فلا يصرحوا بموافقته ولا مخالفته فاختار الغزالي
في المستصفى أنه ليس بحجة. والصحيح الذي عليه جماهير الأصحاب أنه
حجة، لأنهم لو خالفوه، لاعترضوا عليه، لكن هل هو إجماع أم حجة غير
إجماع؟ وجهان، قال الروياني: هذا إذا لم يظهر أمارات الرضى ممن سكت، فإن
ظهرت فإجماع بلا خلاف، قالوا: والأصح هنا اشتراط انقراض العصر في كونه
133

حجة أو إجماعا، وهل يفرق في كونه حجة وإجماعا بين أن يكون ذلك القول مجرد
فتوى، أو حكما من إمام أو قاض؟ فيه طرق قال ابن أبي هريرة: فإن كان فتوى،
فحجة، وإن كان حكما، فلا، لأن الاعتراض على الامام ليس من الأدب، ولعل
السكوت لذلك. وقال أبو إسحاق عكسه، لأن الحكم يصدر عن مشاورة ومراجعة،
وقال الأكثرون: لا فرق، وكانوا يعترضون على الامام كغيره، فقد خالفوا أبا بكر
رضي الله عنه في الحد، وعمر رضي الله عنه في المشركة. ومختصر هذا الاختلاف
أوجه، الصحيح أنه حجة، والثاني حجة وإجماع، والثالث ليس بحجة، والرابع
من المفتي حجة، ومن الحاكم لا، الخامس عكسه هذا إذا نقل السكوت، أما إذا
لم ينقل قول ولا سكوت، فيجوز أن لا يلحق بهذا، ويجوز أن يستدل به على
السكوت.
قلت: المختار أن عدم النقل كنقل السكوت، لأنه الأصل والظاهر. والله
أعلم.
القاعدة الثانية: اختلفت عبارات الأصحاب في تفسير القياس، والأقرب
إلى كلام الشافعي رحمه الله أن القياس نوعان جلي وغيره، وأما الجلي، فهو الذي
يعرف به موافقة الفرع للأصل بحيث ينتفي احتمال مفارقتهما، أو يبعد، وذلك
كظهور التحاق الضرب بالتأفيف في قوله تعالى: * (فلا تقل لهما أف) * وما فوق
الذرة بالذرة في قوله تعالى: * (فمن يعمل مثقال ذرة) * الآية، وما فوق النقير
بالنقير في قوله تعالى: * (ولا يظلمون نقيرا) * ونظائره، فإن فروع هذه الأحكام
أولى من الأصول، وبعض الأصحاب لا يسمي هذا قياسا، ويقول: هذه الالحاقات
134

مفهومة من النص، ويقرب من هذا إلحاق العمياء بالعوراء في حديث النهي عن
التضحية بالعوراء وسائر الميتات بالفأرة، وغير السمن بالسمن في حديث الفأرة تقع
بالسمن إن كان مائعا فأريقوه، وإن كان جامدا فألقوها وما حولها والغائط بالبول في
قوله (ص): لا يبولن أجدكم في الماء الدائم ومن الجلي ما ورد النص فيه على
العلة كحديث إنما نهيتكم من أجل الدافة وكذا قوله تعالى: * (وكيف تأخذونه
وقد أفضى بعضكم إلى بعض) * وأما غير الجلي فما لا يزيل احتمال المفارقة ولا
يبعده كل البعد، فمنه ما العلة فيه مستنبطة، كقياس الأرز على البر بعلة
الطعم، وقال ابن القاص: هو من الجلي، والصحيح الأول، ومنه قياس الشبه،
وهو أن يشبه الحادثة أصلين إما في الأوصاف بأن يشارك كل واحد من الأصلين في
بعض المعاني والأوصاف الموجودة فيه، وإما في الاحكام كالعبد يشارك الحر في
بعض الأحكام والمال في بعضها، فيلحق بما المشاركة فيه أكثر، وربما سمي قياس
الشبه خفيا والذي قبله غير الجلي واضحا، وربما خص الجلي ببعض الأول، وهو
ما كان الفرع فيه أولى بحكم الأصل.
قلت: واختلف أصحابنا في صحة قياس الشبه، وأنه هل هو حجة. والله
أعلم.
القاعدة الثالثة: المسائل الفروعية الاجتهادية إذا اختلف المجتهدون فيها
طريقان أشهرهما قولان، أظهرهما: المحق فيها واحد، والمجتهد مأمور بإصابته،
والذاهب إلى غيره مخطئ، والثاني: أن كل مجتهد مصيب، والطريق الثاني
القطع بالقول الأول، وبه قال أبو إسحاق، والقاضي أبو الطيب، فإن قلنا:
المصيب واحد، فالمخطئ مغدور غير آثم، بل مأجور، لقوله (ص) إذا اجتهد
الحاكم، فأصاب، فله أجران، وإذا اجتهد، فأخطأ، فله أجر وقال الشيخ أبو
135

إسحاق في اللمع قال ابن أبي هريرة: يأثم، والصواب الأول، وفيما يؤجر عليه
وجهان عن أبي إسحاق أحدهما - وهو ظاهر النص، واختيار المزني -: يؤجر على
قصده الصواب، ولا يؤجر على الاجتهاد، لأنه أفضى به إلى الخطأ، وكأنه لم
يسلك الطريق المأمور به، والثاني يؤجر عليه، وعلى الاجتهاد جميعا. وإذا قلنا:
كل مجتهد مصيب، فهل نقول: الحكم والحق في حق كل واحد من المجتهدين ما
ظنه، أم الحق واحد، وهو أشبه مطلوب إلا أن كلا منهم مكلف بما ظنه لا بإصابة
الأشبه؟ وجهان، اختار الغزالي الأول، وبالثاني قطع أصحابنا العراقيون، وحكوه
عن القاضي أبي حامد والداركي.
فرع متى حكم القاضي بالاجتهاد، ثم بان له الخطأ في حكمه، فله حالان، أحدهما: إن تبين أنه خالف قطعيا كنص كتاب، أو سنة متواترة، أو
إجماع، أو ظنا محكما بخبر الواحد، أو بالقياس الجلي، فيلزمه نقض حكمه.
وهل يلزم القاضي تعريف الخصمين صورة الحال ليترافعا إليه، فينقض الحكم؟
وجهان، قال ابن سريج: لا يلزمه إن علما أنه بان له الخطأ، فإن ترافعا إليه،
نقض، وقال سائر الأصحاب: يلزمه وإن علما أنه بان له الخطأ، وهذا هو
الصحيح، لأنهما قد يتوهمان أنه لا ينقض وإن بان الخطأ. هذا في حقوق
الآدميين، وأما ما يتعلق بحدود الله تعالى، فيبادر إلى تداركه إذا بان له الخطأ، وما
لا يمكن تداركه سبق حكم ضمانه.
الحال الثاني: إن تبين له بقياس خفي رآه أرجح مما حكم به، وأنه
الصواب، فليحكم فيما يحدث بعد ذلك من أخوات الحادثة بما رآه ثانيا، ولا ينقض
ما حكم به أولا، بل يمضيه، ثم ما نقض به قضاء نفسه نقض به قضاء غيره،
وما لا، فلا. ولا فرق بينهما إلا أنه لا يتبع قضاء غيره، وإنما ينقضه إذا رفع إليه،
وله تتبع قضاء نفسه لينقضه، ولو كان المنصوب للقضاء قبله لا يصلح للقضاء،
نقض أحكامه كلها، وإن أصاب فيها، لأنها صدرت ممن لا ينفذ حكمه، هذا هو
القول الجملي فيما ينقض ولا ينقض. ثم تكلموا في صور، منها لو قضى قاض
بصحة نكاح المفقود زوجها بعد مضي أربع سنين، ومدة العدة، فوجهان أشهرهما
136

وظاهر النص، نقضه، لمخالفة القياس الجلي، لأنه يجعل حيا في المال، فلا
يقسم بين ورثته، فلا يجعل ميتا في النكاح. والثاني: لا ينقض كغيره من
الاجتهاديات، قال الروياني: هذا هو الصحيح. وقرب من هذا الخلاف الخلاف
في نقض حكم من قضى بحصول الفرقة في اللعان بأكثر الكلمات الخمس، أو
بسقوط الحد عمن نكح أمه ووطئها، ومنها حكم الحنفي ببطلان خيار المجلس
والعرايا بالتقييد الذي يجوزه، وفي ذكاة الجنين، ومنع القصاص في القتل بالمثقل،
وصحة النكاح بلا ولي، أو بشهادة فاسقين، أو حكم غيره بصحة بيع أم الولد،
وثبوت حرمة الرضاع بعد حولين، وصحة نكاح الشغار والمتعة، وقتل المسلم
بالذمي، وبأنه لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف، وجريان التوارث بين
المسلم والكافر، ورد الزوائد مع الأصل في الرد بالعيب على ما قاله ابن أبي ليلى،
وفي نقض هذه الأحكام وجهان، قال الروياني: الأصح لا نقض، لأنها
اجتهادية، والأدلة متقاربة، ومن نقض، قال: فيها نصوص وأقيسة جلية، وينقض
قضاء من حكم بالاستحسان الفاسد.
فرع ما ينقض من الاحكام لو كتب به إليه لا يخفى أنه لا يقبله ولا ينفذه،
وأما ما لا ينقض ويرى غيره أصوب منه، فنقل ابن كج عن الشافعي رضي الله عنه أنه
يعرض عنه، ولا ينفذه، لأنه إعانة على ما يعتقده خطأ. وقال ابن القاص: لا أحب
تنفيذه. وفي هذا إشعار بتجويز التنفيذ، وقد صرح السرخسي بنقل الخلاف،
فقال: إذا رفع إليه حكم قاض قبله، فلم ير فيه ما يقتضي النقض، لكن أدى اجتهاده
إلى غيره، فوجهان، أحدهما: يعرض عنه، وأصحهما: ينفذه، وعلى هذا العمل
كما لو حكم بنفسه، ثم تغير اجتهاده تغيرا لا يقتضي النقض، وترافع خصماء
الحادثة إليه فيها، فإنه يمضي حكمه الأول، وإن أدى اجتهاده إلى أن غيره أصوب
منه.
فرع إذا استقضي مقلد للضرورة، فحكم بمذهب غير مقلده، قال
137

الغزالي في الأصول: إن قلنا: لا يجوز للمقلد تقليد من شاء بل عليه اتباع مقلده،
نقض حكمه، وإن قلنا: له تقليد من شاء، لم ينقض.
فصل حكم القاضي ضربان، أحدهما: مما ليس بإنشاء، وإنما هو تنفيذ
لما قامت به حجة، فينفذ ظاهرا لا باطنا، فلو حكم بشهادة زور بظاهري العدالة،
لم يحصل بحكمه الحل باطنا، سواء كان المحكوم به مالا أو نكاحا أو غيرهما،
فإن كان نكاحا، لم يحل للمحكوم له الاستمتاع، ويلزمها الهرب والامتناع ما
أمكنها،
فإن أكرهت فلا إثم عليها، فإن وطئ، قال الشيخ أبو حامد: هو زان
ويحد، وخالفه ابن الصباغ والروياني، لأن أبا حنيفة رحمه الله يجعلها منكوحة
بالحكم، وذلك شبهة للخلاف في الإباحة، وإن كان المحكوم به الطلاق، حل
للمحكوم عليه وطؤها إن تمكن، لكن يكره، لأنه يعرض نفسه للتهمة والحد
ويبقى التوارث بينهما، ولا تبقى النفقة للحيلولة، ولو تزوجت لآخر، فالحل
مستمر للأول، فإن وطئها الثاني جاهلا بالحال، فهو وطئ شبهة، ويحرم على الأول
في العدة، وإن كان الثاني عالما، أو نكحها أحد الشاهدين ووطئ، فوجهان
أحدهما يحد، ولا يحرم على الأول في العدة، والأشبه أنه وطئ شبهة لما سبق.
الضرب الثاني: الانشاءات كالتفريق بين المتلاعنين، وفسخ النكاح بالعيب،
والتسليط على الاخذ بالشفعة ونحو ذلك، فإن ترتبت على أصل كاذب، بأن فسخ
بعيب قامت بشهادة زور، فهو كالضرب الأول، وإن ترتبت على أصل صادق، فإن
لم تكن في محل اختلاف المجتهدين، نفذ ظاهرا وباطنا، وإن كان مختلفا فيه،
138

نفذ ظاهرا، وفي الباطن أوجه، أصحها عند جماعة، منهم البغوي، والشيخ أبو
عاصم: النفوذ مطلقا لتتفق الكلمة، ويتم الانتفاع، والثاني: المنع، وبه قال
الأستاذ أبو إسحاق، واختاره الغزالي. والثالث: إن اعتقده الخصم أيضا، نفذ
باطنا، وإلا فلا، هذه الأوجه تشبه الأوجه في اقتداء الشافعي بالحنفي وعكسه، فإن
منعنا النفوذ باطنا مطلقا، أو في حق من لا يعتقده لم يحل للشافعي الاخذ بحكم
الحنفي بشفعة أو بالتوريث بالرحم إذا لم نقل به نحن، وعلى هذا هل
يمنعه القاضي لاعتقاد المحكوم له أم لا، لاعتقاد نفسه؟ وجهان أصحهما الثاني.
ومن قال بالمنع، فقد يقول لا ينفذ القضاء في حقه لا ظاهرا ولا باطنا.
فرع هل تقبل شهادته بما لا يعتقده كشافعي بشفعة الجوار؟ وجهان في
التهذيب.
قلت: الأصح القبول. والله أعلم.
فرع قال للقاضي رجلان: كانت بيننا خصومة في كذا، فحكم القاضي
فلان بيننا بكذا، ونحن نريد أن تستأنف الحكم بيننا باجتهادك، ونرضى بحكمك،
فهل يجيبهما أم يتعين إمضاء الحكم الأول، ولا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد؟
وجهان، حكاهما ابن كج، الصحيح الثاني.
فصل في آداب منثورة. يستحب أن يدعو أصدقاءه الامناء، ويلتمس منهم
أن يطلعوه على عيوبه ليسعى في إزالتها، ويستحب أن يكون راكبا في مسيره إلى
مجلس حكمه، وأن يسلم على الناس في طريقه، وعلى القوم إذا دخل، وأن يدعو
إذا جلس، ويسأل الله تعالى التوفيق والتسديد، وأن يقوم على رأسه أمين ينادي هل
من خصم؟ ويرتب الناس، ويقدم الأول فالأول قال ابن المنذر: يستحب أن يكون
حصينا لمكان النساء، ويجوز أن يعين للقضاء يوما أو يومين على حسب حاجة الناس
ودعاويهم، وأن يعين وقتا من النهار، فإن حضر خصمان في غير الوقت المعين،
139

سمع كلامهما إلا أن يكون في صلاة، أو حمام، أو على طعام ونحوه، فيؤخره قدر
ما يفرغ. ويستحب أن يكون للقاضي درة يؤدب بها إذا احتاج، ويتخذ سجنا للحاجة
إليه في التعزير، واستيفاء الحق من المماطل.
وهذه فروع تتعلق بالحبس قال ابن القاص: إذا استشعر القاضي من المحبوس
الفرار من الحبس، فله نقله إلى حبس الجرائم، ولو دعا المحبوس زوجته أو أمته
إلى فراشه فيه، لم يمنع إن كان في الحبس موضع خال، فإن امتنعت، أجبرت
الأمة، ولا تجبر الزوجة الحرة، لأنه لا يصلح للسكنى، والزوجة الأمة تجبر إن
رضي سيدها. ولو قال مستحق الدين: أنا ألازمه بدلا عن الحبس، مكن، لأنه
أخف إلا أن يقول الغريم: تشق علي الطهارة والصلاة بسبب ملازمته، فاحبسني،
فيحبس. وسبق الخلاف في أن الأب هل يحبس بدين ولده، وقياس حبسه أن
يحبس المريض، والمخدرة، وابن السبيل منعا لهم من الظلم. وعن أبي عاصم
العبادي أنهم لا يحبسون، بل يوكل بهم ليترددوا ويتمحلوا. قال: ولا يحبس أبو
الطفل ولا الوكيل والقيم في دين لم يجب بمعاملتهم، ولا يحبس الصبي ولا المجنون، ولا
المكاتب بالنجوم، ولا العبد الجاني، ولا سيده ليؤدي أو يبيع، بل
يباع عليه إذا وجد راغب، وامتنع من البيع والفداء، ونقل الهروي وجهين في حبس
كل غريم قدرنا على ماله، وتمكنا من بيعه. وأجرة السجان على المحبوس وأجرة
140

الوكيل على من وكل به إذا لم يكن في بيت المال مال، وصرف إلى جهة أهم من هذه.
قلت: وقد ألحقت في كتاب التفليس مسائل كثيرة تتعلق بالحبس. والله أعلم.
الطرف الثاني في مستند قضائه، وفيه مسائل إحداها: يقضي بالحجة بلا شك، فلو
لم يكن حجة، وعلم صدق المدعي، فهل يقضي بعلمه؟ طريقان أحدهما: نعم قطعا،
وأشهرهما قولان، أظهرهما عند الجمهور: نعم، لأنه يقضي بشهادة شاهدين، وهو
يفيد ظنا، فالقضاء بالعلم أولى، والجواب عما احتج به المانع من التهمة أن
القاضي لو قال: ثبت عندي وصح لدي كذا، لزمه قبوله بلا خلاف، ولم يبحث عما
ثبت به وصح، والتهمة قائمة، وسواء على القولين ما علمه في زمن ولايته
ومكانها، وما علمه في غيرهما، فإن قلنا: لا يقضي بعلمه، فذلك إذا كان
مستنده مجرد العلم، أما إذا شهد رجلان تعرف عدالتهما، فله أن يقضي ويغنيه
علمه بها عن تزكيتهما، وفيه وجه ضعيف للتهمة. ولو أقر بالمدعى في
مجلس قضائه. قضى، وذلك قضاء بإقرار لا بعلمه، وإن أقر عنده سرا، فعلى
القولين، وقيل: يقضي قطعا. ولو شهد عنده واحد، فهل يغنيه علمه عن الشاهد
الآخر على قول المنع؟ وجهان. أصحهما: لا. وإذا قلنا: يقضي بعلمه، فذلك
في المال قطعا وكذا في القصاص، وحد القذف على الأظهر، ولا يجوز في
حدود الله تعالى على المذهب، وقيل: قولان، ولا يقضي بخلاف علمه بلا
خلاف، بل إذا علم أن المدعي أبرأه عما ادعاه، وأقام به بينة، أو أن المدعي قبله
141

حي، أو رآه قبله غير المدعى عليه، أو سمع مدعي الرق بعتقه، ومدعي النكاح
يطلقها ثلاثا، وتحقق كذب الشهود، امتنع من القضاء قطعا. وكذا إذا علم فسق
الشهود، ثم إن الأصحاب مثلوا القضاء بالعلم الذي هو محل القولين بما ادعى عليه
مالا وقد رآه القاضي أقرضه ذلك، أو سمع المدعى عليه أقر بذلك، ومعلوم أن رؤية
الاقراض، وسماع الاقرار لا يفيد اليقين بثبوت المحكوم به وقت القضاء، فيدل أنهم
أرادوا بالعلم الظن المؤكد لا اليقين.
الثانية: إذا رأى القاضي ورقة فيها ذكر حكمه لرجل، وطلب منه إمضاءه
والعمل به، نظر إن تذكره أمضاه على المذهب، وبه قطع الجمهور، وفي أمالي أبي،
الفرج الزاز إنه على القولين في القضاء بعلمه وإن لم يتذكره، لم يعتمده قطعا
لامكان التزوير، وكذا الشاهد لا يشهد بمضمون خطه إذا لم يتذكر، فلو كان
الكتاب محفوظا عنده، وبعد احتمال التزوير والتحريف، كالمحضر والسجل الذي
يحتاط فيه القاضي على ما سبق، فالصحيح والمنصوص والذي عليه الجمهور أنه لا
يقضي به أيضا ما لم يتذكر، لاحتمال التحريف، وكذا الشاهد في مثل هذه الحالة
لا يشهد، وفيهما وجه حكاه الشيخ أبو محمد وغيره أنه يجوز إذا لم يتداخله ريبة. وفي
جواز رواية الحديث اعتمادا على الخط المحفوظ عنده وجهان، أحدهما: المنع،
ولا تكفيه رواية السماع بخطه أو خط ثقة، والصحيح الجواز، لعمل العلماء به
142

سلفا وخلفا، وباب الرواية على التوسعة، ولو كتب إليه شيخ بالإجازة، وعرف
خطه، جاز له أن يروي عنه تفريعا على اعتماد الخط، فيقول: أخبرني فلان كتابة،
أو في كتابة، أو كتب إلي وهذا على تجويز الرواية بالإجازة وهو الصحيح، ومنعها
القاضي حسين.
قلت: وقد منعها أيضا الماوردي في الحاوي ونقل هو منعها عن الفقهاء،
وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله، ولكن أظهر قوليه، والمشهور من مذاهب السلف
والخلف، والذي عليه العمل صحة الإجازة، وجواز الرواية بها، ووجوب العمل
بها. ثم هي سبعة أنواع قد لخصتها بفروعها وأمثلتها وما يتعلق بها في الارشاد في
مختصر علوم الحديث، وأنا أذكر منها هنا رموزا إلى مقاصدها تفريعا على الصحيح،
وهو جوازها. الأول: إجازة معين لمعين، كأجزتك رواية صحيح البخاري، أو ما
اشتملت عليه فهرستي وهذه أعلى أنواعها.
الثاني: إجازة غير معين لمعين، كأجزتك مسموعاتي أو مروياتي والجمهور على
أنه كالأول، فتصح الرواية به، ويجب العمل بها، وقيل بمنعه مع قبول الأول.
الثالث: أن يجيز لغير معين بوصف العموم، كأجزت المسلمين، أو كل أحد
أو من أدرك زماني ونحوه، فالأصح أيضا جوازها، وبه قطع القاضي أبو الطيب،
وصاحبه الخطيب البغدادي وغيرهما من أصحابنا، وغيرهم من الحفاظ. ونقل
الحافظ أبو بكر الحازمي المتأخر من أصحابنا أن الذين أدركهم من الحفاظ كانوا
يميلون إلى جوازها.
الرابع: إجازة مجهول أو لمجهول، كأجرتك كتاب السنن وهو يروي كتبا من
السنن، أ أجزت لزيد بن محمد وهناك جماعة كذلك، فهذه باطلة. فإن أجاز
لمسمين معينين لا يعرف أعيانهم ولا أنسابهم ولا عددهم، صحت، كما لو سمعوا
منه في مجلسه في مثل هذا الحال.
الخامس: الإجازة لمعدوم، كأجزت لمن يولد لفلان أو لفلان، ومن يولد
له، فالصحيح بطلانها، وبه قطع القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ، وجوزه
الخطيب وغيره. والإجازة للطفل الذي لا يميز صحيحة على الصحيح، وبه قطع
القاضي أبو الطيب، ونقله الخطيب عن شيوخه كافة.
143

السادس: إجازة ما لم يسمعه المجيز، ولم يتحمله بوجه ليرويه المجاز له إذا
تحمله المجيز، وهي باطلة قطعا.
السابع: إجازة المجاز وهي صحيحة عند أصحابنا، وهو الصواب الذي قطع
به الحفاظ الاعلام من أصحابنا وغيرهم، منهم الدارقطني وأبو نعيم الأصفهاني،
والشيخ أبو الفتح نصر المقدسي وغيرهم من أصحابنا. وإذا كتب الإجازة، استحب أن
يتلفظ بها، ولو اقتصر على الكتابة مع قصد الإجازة، صحت كالقراءة عليه مع
سكوته. والله أعلم.
فرع إذا رأى بخط أبيه أن لي على فلان كذا، أو أديت إلى فلان كذا، قال
الأصحاب: فله أن يحلف على الاستحقاق والأداء اعتمادا على خط أبيه إذا وثق
بخطه وأمانته. قال القفال: وضابط وثوقه أن يكون بحيث لو وجد في تلك التذكرة:
لفلان علي كذا لا يجد من نفسه أن يحلف على نفي العلم به، بل يؤديه من التركة،
وفرقوا بينه وبين القضاء والشهادة بأن خطرهما عظيم وعام، ولأنهما يتعلقان به،
ويمكن التذكر فيهما، وخط المورث لا يتوقع فيه يقين، فجاز اعتماد الظن فيه حتى لو
وجد بخط نفسه أن لي على فلان كذا، أو أديت إلى فلان دينه، لم يجز الحلف
حتى يتذكر قاله في الشامل.
فرع قال الصيمري: ينبغي للشاهد أن يثبت حلية المقر إذا لم يعرفه بعد
الشهادة، ليستعين بها على التذكر، ويقرب من هذا ذكر التاريخ، وموضع التحمل،
ومن كان معه حينئذ، ونحو ذلك.
144

الثالثة: شهد عنده عدلان أنك حكمت لزيد بكذا، وهو لا يذكره، لم يحكم
بقولهما إلا أن يشهدا بالحق بعد تجديد دعوى، وعن ابن القاضي تخريج قول: إنه
يمضي الحكم الأول بشهادتهما، والمذهب الأول، ولو شهد أنك تحملت الشهادة
في واقعة كذا، ولم يتذكر، لم يجز أن يشهد، وهذا بخلاف رواية الحديث، فإن
الراوي لو نسي، جاز له أن يقبل الرواية ممن سمعها منه على الصحيح، وفيها وجه
حكاه ابن كج وعلى الصحيح الفرق ما سبق أن باب الرواية على التوسعة، ولهذا
يقبل من العبد والمرأة، ومن الفرع مع وجود الأصل وغير ذلك وإذا لم يتذكر القاضي
فحقه أن يتوقف، ولا يقول: لم أحكم. وهل للمدعي والحالة هذه تحليف الخصم
أنه لا يعرف حكم القاضي؟ قال صاحب التهذيب: يحتمل وجهين. ولو
شهد الشاهدان على حكمه عند قاض آخر قبل شهادتهما، وأمضى حكم الأول إلا إذا
قامت بينة بأن الأول أنكر حكمه، وكذبهما، فإن قامت بينة بأنه توقف، فوجهان،
أوفقهما لكلام الأكثرين أنه يقبل شهادتهما، وقال الأودني وصاحب المهذب:
لا تقبل، لأن توقفه يورث تهمة وعلى هذا لو شهد عدلان أن شاهدي الأصل توقفا في
الشهادة، لم يجز الحكم بشهادة الفروع.
الرابعة: ادعى على القاضي أنك حكمت لي بكذا. قال الأصحاب: ليس له
أن يرفعه إلى قاض آخر، ويحلفه كمالا يحلف الشاهد إذا أنكر الشهادة. وعن
القاضي حسين أنا إن قلنا: اليمين المردودة كالاقرار، فله تحليفه ليحلف المدعي إن
نكل هذا إذا ادعى عليه وهو قاض، فإن ادعى عليه بعد عزله، أو في غير محل ولايته
145

عند قاض، فنقل الامام أنه يجوز سماع البينة، ولا يقبل إقراره. ولا يحلف إن
قلنا: اليمين المردودة كالاقرار، وإن قلنا: كالبينة، حلف، ولك أن تقول: سماع
الدعوى على القاضي معزولا، كان أو غيره بأنه حكم ليس على قواعد الدعاوي
الملزمة، وإنما يقصد بها التدرج إلى إلزام الخصم، فإن كان له بينة، فليقمها في
وجه الخصم، وينبغي أن لا يسمع على القاضي بينة، ولا يطالب بيمين، كما لو
ادعى على رجل أنك شاهدي.
الطرف الثالث في التسوية وفيه مسائل:
الأولى: ليسوا القاضي بين الخصمين في دخولهما عليه، وفي القيام لهما،
والنظر فيهما والاستماع، وطلاقة الوجه، وسائر أنواع الاكرام، فلا يخص
أحدهما بشئ من ذلك، ويسوي في جواب سلامهما، فإن سلما، أجابهما معا،
وإن سلم أحدهما، قال الأصحاب: يصبر حتى يسلم الآخر، فيجيبهما: وقد
يتوقف في هذا إذا طال الفصل، وذكروا أنه لا بأس أن يقول للآخر: سلم، فإذا
سلم، أجابهما، وكأنهم احتملوا هذا الفصل محافظة على التسوية، وحكى الامام
أنهم جوزوا له ترك الجواب مطلقا واستبعده.
ويسوي بينهما في المجلس، فيجلس أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله
إن كانا شريفين، أو بين يديه وهو الأولى على الاطلاق، فلو كان أحدهما مسلما
والآخر كافرا، فالصحيح - وبه قطع العراقيون - أنه يرفع المسلم في المجلس،
والثاني يسوي. ويشبه أن يجري الوجهان في سائر وجوه الاكرام، ثم التسوية بين
146

الخصمين في الأمور المذكورة واجبة على الصحيح، وبه قطع الأكثرون، واقتصر
ابن الصباغ على الاستحباب.
الثانية: ليقبل عليهما بمجامع قلبه، وعليه السكينة، ولا يمازح أحدهما، ولا
يضاحكه، ولا يشير إليه، ولا يساره، ولا ينهرهما، ولا يصيح عليهما إذا لم يفعلا
ما يقتضي التأديب، ولا يتعنت الشهود بأن يقول: لم تشهدون؟ وما هذه الشهادة؟
ولا يلقن المدعي الدعوى بأن يقول: ادع عليه كذا، ولا المدعى عليه الاقرار
والانكار، ولا يجري المسائل إلى النكول على اليمين، وكذا لا يلقن الشاهد
الشهادة، ولا يجرئه إذا مال إلى التوقف، ولا يشككه ولا يمنعه إذا أراد الشهادة
هذا في حقوق الآدميين، وأما في حدود الله تعالى، فالقاضي يرشد إلى الانكار على
ما هو موضح في موضعه، وإذا كان يدعي دعوى غير محررة، قال الإصطخري:
يجوز أن تبين له كيفية الدعوى الصحيحة، وقال غيره: لا يجوز، وتعريف الشاهد
كيفية أداء الشهادة على هذين الوجهين قال في العدة: أصحهما الجواز، ولا
بأس بالاستفسار بأن يدعي دراهم، فيقول: أهي صحاح أم مكسورة؟ ويستحب إذا
أراد الحكم أن يجلس المحكوم عليه، ويقول: قامت البينة عليك بكذا، ورأيت
الحكم عليك ليكون أطيب لقلبه، وأبعد عن التهمة، ونص في الام أنه يندبهما
إلى الصلح بعد ظهور وجه الحكم، ويؤخر الحكم اليوم واليومين إذا سألهما،
فجعلاه في حل من التأخير، فإن لم يجتمعا على التحليل لم يؤخر.
الثالثة: إذا جلسا بين يديه، فله أن يسكت حتى يتكلما، وله أن يقول:
ليتكلم المدعي منكما، وأن يقول للمدعي إذا عرفه: تكلم، ولو خاطبهما
بذلك الأمين الواقف على رأسه، كان أولى، فإذا ادعى المدعي، طالب خصمه
بالجواب، وقال: ما تقول؟ وفيه وجه ضعيف أنه لا يطالبه بالجواب حتى يسأله
147

المدعي، ثم ينظر في الجواب إن أقر بالمدعى، فللمدعي أن يطلب من القاضي
الحكم عليه، وحينئذ يحكم، بأن يقول له: اخرج من حقه، أو كلفتك الخروج من
حقه، أو ألزمتك وما أشبههما. وهل يثبت المدعى بمجرد الاقرار، أم يفتقر ثبوته
إلى قضاء القاضي؟ وجهان أحدهما: يفتقر كالثبوت بالبينة، وأصحهما لا، لان
دلالة الاقرار على وجوب الحق جلية، والبينة تحتاج إلى نظر واجتهاد هكذا ذكرت
المسألة، ولا يظهر الخلاف فيها، لأنه إن كان الكلام في ثبوت المدعى به في
نفسه، فمعلوم لأنه لا يتوقف على الاقرار، فكيف على الحكم بعد الاقرار؟ وإن
كان المراد المطالبة والالزام، فلا خلاف أن للمدعي الطلب بعد الاقرار وللقاضي
الالزام، وإن أنكر المدعى عليه، فللقاضي أن يسكت، وله أن يقال للمدعي:
ألك بينة، وقيل: لا يقول ذلك، لأنه كالتلقين والصحيح الأول، فإن قال
المدعي: لي بينة، وأقامها، فذاك، وإن قال: لا أقيمها، وأريد يمينه، مكن
منه، وإن قال: ليس لي بينة حاضرة فحلف القاضي المدعى عليه ثم جاء ببينة
سمعت، وإن قال: لا بينة لي حاضرة، ولا غائبة، سمعت أيضا على الأصح، لأنه
ربما لم يعرف، أو نسي، ثم عرف أو تذكر، وقيل: لا يسمع للمناقضة إلا أن يذكر
لكلامه تأويلا، ككنت ناسيا أو جاهلا. ولو قال: لا بينة لي، واقتصر عليه، فقال
البغوي: هو كقوله لا بينة لي حاضرة، وقيل: كقوله لا حاضرة ولا غائبة، فيكون
فيه الوجهان، ولو قال: شهودي عبيد أو فسقة، ثم أتى بعدول، قبلنا شهادتهم إن
مضى زمان يمكن فيه العتق والاستبراء.
فرع حكى الهروي وجهين في أن الحق يجب بفراغ المدعي من اليمين
148

المردودة، أم لا بد من حكم الحاكم، أو أشار إلى بنائهما على أن اليمين المردودة
كالبينة أم كالاقرار؟.
الرابعة: إذا ازدحم جماعة مدعين، فإن عرف السبق، قدم الأسبق
فالأسبق، والاعتبار سبق المدعي دون المدعى عليه، وإن جاؤوا معا، أو جهل
السبق، أقرع، فإن كثروا وعسر الاقراع، كتب أسماءهم في رقاع، وصبت بين
يدي القاضي ليأخذها واحدة واحدة، ويسمع دعوى من خرج اسمه في كل مرة،
ويستحب أن يرتب ثقة يكتب أسماءه يوم قضائه ليعرف ترتيبهم، ولو قدم الأسبق
غيره على نفسه، جاز، والمفتي والمدرس يقدمان عند الازدحام أيضا بالسبق أو
بالقرعة، ولو كان الذي يعلمه ليس من فروض الكفاية، فالاختيار إليه في تقديم من
شاء. ولا يقدم القاضي مدعيا بشرف ولا غيره إلا في موضعين، أحدهما: إذا كان
في المدعين مسافرون مستوفزون وقد شدوا الرحال، ليخرجوا ولو أخروا،
لتخلفوا عن رفقتهم، فإن قلوا، قدموا على الصحيح، وإلا فلا، بل يعتبر السبق
بالقرعة. والثاني لو كان في الحاضرين نسوة، ورأي القاضي تقديمهن لينصرفن،
قدمهن على الصحيح بشرط أن لا يكثرن. وينبغي أن لا يفرق بين أن يكون
المسافر والمرأة مدعيا، أو مدعى عليه. ثم تقديم المسافر والمرأة ليس بمستحق
على الصحيح، بل هو رخصة لجواز الاخذ به، وهذا ظاهر نصه في المختصر
ومنهم من يشعر كلامه بالاستحقاق.
قلت: المختار أنه مستحب لا يقتصر به على الإباحة. والله أعلم.
ثم لا يخفى أن المراد تقديم المسافر على المقيمين، والمرأة على الرجال،
فأما المسافرون بعضهم مع بعض، وكذا النسوة، فالرجوع فيهم إلى السبق أو
القرعة.
149

فرع المقدم بالسبق أو القرعة لا يقدم إلا في دعوى واحدة، لئلا يطول
على الباقين، فإن كان له دعوى أخرى، فليحضر في مجلس آخر، أو ينتظر فراغ
القاضي من حكومات سائر الحاضرين، وحينئذ تسمع دعواه الثانية إن لم يضجر
القاضي، ولا فرق بين أن تكون الدعوى الثانية والثالثة على الذي ادعى عليه الدعوى
الأولى أو على غيره، وفيه وجه ضعيف أن الزيادة على الأولى مسموعة
إذا اتحد المدعى عليه، وعلى هذا قال في الوسيط: تسمع إلى ثلاث
دعاوى، ومنهم من أطلق، ولا خلاف أنه يسمع على المدعى عليه دعوى ثان
وثالث، لأن الدعوى للمدعي وقد تعدد، ونقل ابن كج هنا وجهين غريبين ضعيفين
أحدهما: أن المقدم بدعوى لا تسمع منه الثانية إلا في مجلس آخر، وإن فرغ
القاضي من دعاوي الحاضرين، وعليهم بعد ذلك ترفيهه. الثاني: لا يسمع على
الواحد إلا دعوى شخص واحد. وأما المقدم بالسفر، فيحتمل أن لا يقدم إلا
بدعوى، ويحتمل أن يقدم بجميع دعاويه، لأن سبب تقديمه أن لا يتخلف عن
رفقته، ويحتمل أن يقال: إذا عرف أن له دعاوى، فهو كالمقيمين، لأن تقديمه
بالجميع يضر غيره، وتقديمه بدعوى لا يحصل الغرض.
قلت: الأرجح أن دعاويه إن كانت قليلة، أو ضعيفة بحيث لا يضر بالباقين
إضرارا بينا، قدم بجميعها، وإلا فيقدم بواحدة، لأنها مأذون فيها، وقد يقنع
بواحدة، ويؤخر الباقي إلى أن يخصه. والله أعلم.
الخامسة: تنازع الخصمان، وزعم كل واحد أنه هو المدعي، نظر إن سبق
أحدهما إلى الدعوى، لم يلتفت إلى قول الآخر: إني كنت المدعي، بل عليه أن
يجيب ثم يدعي إن شاء. وإن لم يسبق وتنازعا، سأل العون، فمن أحضره العون
فهو المدعى عليه، فيدعي الآخر عليه، وكذا لو قامت بينة لأحدهما أنه أحضر الآخر
ليدعي عليه، وإن استوى الطرفان، أقرع، فمن خرجت قرعته ادعى، وقيل: يقدم
القاضي أحدهما باجتهاده.
150

السادسة: قد سبق في باب الوليمة الخلاف في أن الإجابة إليها واجبة أم
مستحبة؟ وذلك في غير القاضي. أما القاضي، فلا يحضر وليمة أحد الخصمين في
حال خصومتهما ولا وليمتهما، لأنه قد يزيد أحدهما في إكرامه، فيميل إليه قلبه،
وأما وليمة غير الخصمين، فثلاثة أوجه، أحدها: تحرم عليه الإجابة إليها،
والثاني: تجب إذا أوجبناها على غيره، والثالث وهو الصحيح: لا تحرم ولا تجب،
بل تستحب بشرط التعميم، فإن كثرت وقطعته عن الحكم، تركها في حق الجميع،
ولا يخص بعض الناس، لكن لو كان يخص بعض الناس قبل الولاية بإجابة وليمة،
فنقل ابن كج عن نص الشافعي رحمه الله أنه لا بأس بالاستمرار، وتكره إجابته إلى
دعوة اتخذت لأجل القاضي خاصة أو للأغنياء ودعي فيهم، ولا يكره إلى ما اتخذ
للجيران وهو منهم، أو للعلماء ودعي فيهم. واعلم أن إجابة غير وليمة العرس من
الدعوات مستحبة، وظاهر ما أطلقه الأصحاب ثبوت الاستحباب في حق القاضي
أيضا، وإن كان الاستحباب في الوليمة آكد، ومنهم من خص الاستحباب بالوليمة،
وبه قال ابن القاص.
فرع لا يضيف القاضي أحد الخصمين دون الآخر ويجوز أن يضيفهما معا
على الصحيح، ومنعه أبو إسحاق، لأنه قد يتوهم كل واحد أن المقصود بالضيافة
صاحبه، وأنه تبع، وهذا يشكل بسائر وجوه التسوية.
السابعة: له أن يشفع لأحدهما، وأن يؤدي المال عمن عليه، لأنه ينفعهما.
الثامنة: يعود المرضى، ويشهد الجنائز، ويزور القادمين، وإذا لم يمكنه
الاستيعاب، فعل الممكن من كل نوع، ويخص به من عرفه، وقرب منه. قال
القاضي أبو حامد: هو كإجابة الوليمة يعم الجميع أو يترك الجميع، والصحيح
الأول، وبه قطع الجمهور، لأن معظم المراد بهذه الأنواع الثواب، ولا فرق في هذه
الأنواع بين المتخاصمين وغيرهما هكذا قاله الأكثرون. وفي أمالي أبي الفرج أنه لا
يعود الخصم ولا يزوره إذا قدم، لكن يشهد جنازته.
الطرف الرابع في البحث عن حال الشهود وتزكيتهم وفيه مسائل:
الأولى: لا يجوز للقاضي أن يتخذ شهودا معينين لا يقبل شهادة غيرهم، لما
فيه من التضييق على الناس.
151

الثانية: إذا شهد عنده شهود، نظر إن عرف فسقهم، رد شهادتهم، ولم
يحتج إلى بحث، وإن عرف عدالتهم، قبل شهادتهم، ولا حاجة
إلى التعديل، وإن طلبه الخصم وفيه وجه سبق في القضاء بالعلم، وإن لم يعرف
حالهم، لم يجز قبول شهادتهم، والحكم بها إلا بعد الاستزكاء والتعديل، سواء
طعن الخصم فيهم، أو سكت ولو أقر الخصم بعدالتهما، ولكن قال: أخطأ في
هذه الشهادة، فوجهان، أحدهما: يحكم بشهادتهما بلا بحث عنهما، لأن البحث
لحقه، وقد اعترف بعدالتهما، وأصحهما لا بد من البحث والتعديل لحق الله
تعالى، ولهذا لا يجوز الحكم بشهادة فاسق وإن رضي الخصم، ولان الحكم
بشهادته يتضمن تعديله، والتعديل لا يثبت بقول واحد. وإن صدقهما فيما شهدا
به، قضى القاضي بإقراره بالحق، واستغنى عن البحث عن حالهما، وكذا لو شهد
واحد فصدقه، ولو شهد معلوما العدالة، ثم أقر المشهود عليه بما شهدا به قبل
حكم القاضي، فهل يستند الحكم إلى الاقرار دون الشهادة أم إليهما جميعا؟ وجهان
حكاهما الهروي، قال: والصحيح منهما الأول، والثاني حكاه الفوراني في
المناظرة، وذكر الهروي أنه لو بعد الحكم بشهادتهما، فقد مضى الحكم مستندا إلى
الشهادة، سواء وقع إقراره بعد تسليم المال إلى المشهود له أم قبله، وفيما قبل
التسليم وجه ضعيف، وأنه لو قال الخصم للشاهد قبل أداء الشهادة ما تشهد به علي
فأنت عدل صادق، لم يكن ذلك إقرارا، لكنه تعديل للشاهد إن كان من أهل
التعديل.
152

فرع إذا جهل القاضي إسلام الشاهد، لم يقنع بظاهر الدار، بل يبحث
عنه، ويكفي فيه قول الشاهد. ولو جهل حريته بحث أيضا، ولا يكفي فيه قوله على
الأصح، لأنه لا يستقل بها بخلاف الاسلام، وحكى ابن كج وجها أن الاستزكاء لا
يجب مطلقا إلا إذا طلبه الخصم وليس بشئ.
فرع قال في العدة: إذا استفاض فسق الشاهد بين الناس، فلا حاجة
إلى البحث والسؤال، ويجعل المستفيض كالمعلوم.
الثالثة: ينبغي أن يكون للقاضي مزكون وأصحاب مسائل، فالمزكون هم
المرجوع إليهم ليبينوا حال الشهود، وأصحاب المسائل هم الذين يبعثهم إلى
المزكين، ليبحثوا ويسألوا، وربما فسر أصحاب المسائل في لفظ الشافعي
بالمزكين، ثم المخبرون عن فسق الشهود وعدالتهم ضربان، أحدهما: من نصبه
الحاكم للجرح والتعديل مطلقا أو في واقعة خاصة، فيسمع الشهادة عليهما، وما
ثبت عنده أنهاه إلى القاضي. والثاني من يشهد بالعدالة أو الفسق، ثم من هؤلاء من
يشهد أصالة، ومنهم من يشهد على شهادة غيره، والأول قد يعرف الحال فيشهد،
وقد لا يعرف فيأمره القاضي بالبحث ليعرف فيشهد كما يوكل القاضي بالغريب الذي
يدعي الافلاس من يبحث عنه ويخالطه، ليعرف إفلاسه فيشهد، وأما الثاني، فهو
شاهد فرع، والقياس أنه لا يشهد إلا عند غيبة الأصل، أو تعذر حضوره، وكذا ذكره
الهروي، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ينازع فيه. وإذا أراد الحاكم البحث عن حال
الشهود، كتب اسم الشاهد، وكنيته إن اشتهر بها، وولاءه إن كان عليه ولاء، واسم
أبيه وجده وحليته وحرفته وسوقه ومسجده، لئلا يشتبه بغيره، فإن كان مشهودا وحصل
التمييز ببعض هذه الأوصاف، كفى، ويكتب أيضا اسم المشهود له، والمشهود
عليه، فقد يكون بينهما ما يمنع شهادته له، أو عليه من قرابة أو عداوة. وفي قدر
المال وجهان أحدهما: لا يكتبه، لأنه العدالة لا تتجزأ، والصحيح المنصوص أنه
يذكره، لأنه قد يغلب على الظن صدق الشاهد في القليل دون الكثير، وأما دعوى
الأول أن العدالة لا تتجزأ، فقد حكى أبو العباس الروياني في ذلك وجهين وبنى
عليهما أنه لو عدل، وقد شهد بمال قليل، ثم شهد في الحال بمال كثير هل يحتاج
إلى تجديد تزكية ويكتب إلى كل مزك كتابا، ويدفعه إلى صاحب مسألة، ويخفي كل
كتاب عن غير من دفعه إليه وغير من بعثه إليه احتياطا، ثم إذا وقف القاضي على ما
153

عند المزكين، فإن كان جرحا لم يظهره، وقال للمدعي: زدني في الشهود، وإن
كان تعديلا، عمل بمقتضاه، ثم حكى الأصحاب والحالة هذه وجهين في أن الحكم
بقول المزكين، أم بقول أصحاب المسائل؟ قال أبو إسحاق: بقول المزكين، لان
أصحاب المسائل شهود على شهادة، فكيف تقبل مع حضور الأصل؟ وإنما هم
رسل وعلى هذا يجوز أن يكون صاحب المسألة واحدا، فإن عاد بالجرح، توقف
القاضي، وإن عاد بالتعديل، دعا مزكيين ليشهدا عنده بعدالة الشاهد، ويشيرا إليه،
ويأمن بذلك من الغلط من شخص إلى شخص. قال الإصطخري: إنما يحكم بقول
أصحاب المسائل، ويبنى على ها ثبت عندهم بقول المزكين. قال ابن الصباغ:
وهذا وإن كان شهادة على شهادة تقبل للحاجة، لأن المزكي لا يكلف الحضور،
وقول الإصطخري أصح عند الشيخ أبي حامد، والقاضي أبي الطيب وغيرهما.
قالوا: وعلى هذا إنما يعتمد القاضي قول اثنين من أصحاب المسائل، فإن وصفاه
بالفسق، فعلى ما سبق، وإن وصفاه بالعدالة أحضر الشاهدين ليشهدا
بعدالته، ويشيرا إليه وإذا تأملت كلام الأصحاب، فقد تقول:
ينبغي أن لا يكون في هذا خلاف محقق، بل إن ولي صاحب المسألة الجرح
والتعديل، فحكم القاضي مبني على قوله، ولا يعتبر العدد، لأنه حاكم، وإن أمره
بالبحث، بحث ووقف على حال الشاهد، وشهد بما وقف عليه، فالحكم أيضا
مبني على قوله، لكن يعتبر العدد، لأنه شاهد، وإن أمره بمراجعة مزكيين، فصاعدا
وبأن يعلمه بما عندهما، فهو رسول محض، والاعتماد على قولهما فليحضرا
ويشهدا. وكذا لو شهد على فرع من نصب حاكما في شهادتهما، لأن الشاهد الفرع لا يقبل مع حضور
الأصل
الجرح والتعديل اعتبر فيه صفات القضاة، ومن
شهر بالعدالة أو الفسق، اشترط فيه صفات الشهود، ويشترط مع ذلك العلم بالعدالة
والفسق وأسبابهما، وأن يكون المعدل خبيرا بباطن حال من يعدله لصحبة أو جوار أو
معاملة ونحوها، قال في الوسيط: ويلزم القاضي أن يعرف أن المزكي خبير
بباطن الشاهد في كل تزكية إلا إذا علم من عادته أنه لا يزكي إلا بعد الخبرة، ثم
ظاهر لفظ الشافعي رحمه الله اعتبار التقادم في المعرفة الباطنة، لأنه لا يمكن الاختبار
154

في يوم أو يومين، ويشبه أن يقال: شدة الفحص والامعان تقوم مقام التقادم في
المعرفة الباطنة. ويمكن الاختبار في مدة يسيرة، وليس ذكر التقادم على سبيل
الاشتراط، بل لأن الغالب أن المعرفة الباطنة لا تحصل إلا بذلك، ويوضح هذا ما
ذكرنا أن القاضي يأمر بالبحث، ليعرف حال الشاهد فيزكيه، ولو اعتبرنا التقادم
لطالت المدة، وتضرر المتداعيان بالتأخير الطويل. أما الجرح، فيعتمد فيه المعاينة
أو السماع، فالمعاينة أن يراه يزني أن يشرب الخمر، والسماع بأن يسمعه يقذف، أو
يقر على نفسه بزنا أو شرب خمر، فإن سمع من غيره، نظر إن بلغ المخبرون حد
التواتر جاز الجرح لحصول العلم، وكذا إن لم يبلغ التواتر، لكن استفاض، جاز
الجرح أيضا، صرح به ابن الصباغ والبغوي وغيرهما. ولا يجوز الجرح بناء على
خبر عدد يسير، لكن يشهد على شهادتهم بشرط الشهادة على الشهادة، وذكر البغوي
تفريعا على قول الإصطخري في أن الحكم بقول أصحاب المسائل أنه يجوز أن
يعتمد فيه أصحاب المسائل خبر واحد من الجيران إذا وقع في نفوسهم صدقه، وهل
يشترط ذكر سبب رؤية الجرح أو سماعه؟ وجهان أحدهما: نعم، فيقول مثلا: رأيته
يزني، وسمعته يقذف. وعلى هذا لقياس يقول في الاستفاضة: استفاض
عندي. والثاني - هو المذكور في الشامل -: لا حاجة إليه، وليس للحاكم أن
يقول: من أين عرفت حاله، وعلى أي شئ بنيت شهادتك؟ كما في سائر
الشهادات، وهذا أقيس ويحكى عن ابن أبي هريرة، والأول أشهر. ولا يجعل
الجارح بذكر الزنى قاذفا للحاجة، كما لا يجعل الشاهد قاذفا، فإن لم يوافقه غيره،
فليكن كما لو شهد ثلاثة بالزنى هل يجعلون قذفة؟ فيه القولان.
قلت: المختار أو الصواب أنه لا يجعل قاذفا، وإن لم يوافقه غيره، لأنه
معذور في شهادته بالجرح، فإنه مسؤول عنهما وهي في حقه فرض كفاية أو متعينة
155

فهو معذور بخلاف شهود الزنى، فإنهم مندوبون إلى الستر، فهم مقصرون. والله
أعلم.
ولو أخبره بعدالته من يحصل بخبره الاستفاضة وهم من أهل الخبرة بباطن من
يعدلون، لم يبعد أن يجوز له تعديله بذلك، وتقام خبرتهم مقام خبرته، كما أقيم في
الجرح رؤيتهم مقام رؤيته.
فرع وينبغي أن يكون المزكون وافري العقول لئلا يخدعوا وبرآء من
الشحناء والعصبية في النسب والمذهب ويجتهد في إخفاء أمرهم لئلا يشهروا في
الناس بالتزكية، وهل يشترط لفظ الشهادة من المزكي؟ وجهان أصحهما: نعم
فيقول: أشهد أنه عدل.
فرع لا يجوز أن يزكي أحد الشاهدين الآخر، وفيه وجه ضعيف. وعن
كتاب حرملة أنه لو شهد اثنان، وعدلهما آخران لا يعرفهما القاضي، وزكى الآخرين
مزكيان للقاضي، جاز. ولو زكى ولده أو والده لم يقبل على الصحيح، وبه قطع
العبادي وغيره.
فرع لا تثبت العدالة بمجرد رقعة المزكي على الصحيح، لأن الخط لا
يعتمد في الشهادة كما سبق، وجوزه القاضي حسين للاعتماد على الرقعة، قال في
الوسيط تفريعا على الأول: يكفي رسولان مع الرقعة، وأن الصحيح وجوب
المشافهة وهذا ظاهر إن كان القاضي يحكم بشهادة المزكين، فأما إن ولي بعضهم
الحكم بالعدالة والجرح، فليكن كتابه ككتاب القاضي إلى القاضي، وليكن
الرسولان كالشاهدين على كتاب القاضي.
فرع لا يقبل الجرح المطلق، بل لا بد من بيان سببه، ولا حاجة إلى
بيان سبب التعديل، لأن أسبابه غير منحصرة، وفيه وجه ضعيف حكاه في العدة،
وليس بشئ والأصح أنه يكفي أن يقول: هو عدل. وقيل: ويشترط أن يقول: عدل
علي ولي، وهو ظاهر نصه في الام والمختصر لكن تأوله الأولون أو جعلوه
156

تأكيدا لا شرطا. ولا يحصل التعديل بقوله: لا أعلم منه إلا خيرا، أو لا أعلم منه ما
ترد به الشهادة.
المسألة الرابعة: إذا ارتاب القاضي بالشهود، أو توهم غلطهم لخفة عقل
وجدها فيهم، فينبغي أن يفرقهم، ويسأل كل واحد منهم عن وقت تحمل الشهادة
عاما وشهرا ويوما وغدوة أو عشية، ومكان محلة وسكة، ودار وصفة، ويسأل أتحمل
وحده أم مع غيره وأنه كتب شهادته أم لا، وأنه كتب قبل فلان أم بعده، وكتبوا بحبر
أم بمداد ونحو ذلك، ليستدل على صدقهم إن اتفقت كلمتهم، ويقف إن لم تتفق.
وإذا أجابه أحدهم، لم يدعه يرجع إلى الباقين حتى يسألهم القاضي لئلا يخبرهم
بجوابه ومتى اتفقوا على الجواب، أو لم يتعرضوا للتفصيل، ورأي أن يعظهم،
ويحذرهم عقوبة شهادة الزور، فعل، فإن أصروا، وجب القضاء إذا وجد شروطه،
ولا عبرة بما يبقى من ريبة، وإن لم يجد فيهم خفة ولا ريبة، فالصحيح الذي عليه
الجمهور أنه لا يفرقهم، لأن فيه غضا منهم. وقال الروياني: يفرقهم، وقال
البغوي: إن فرقهم، بمسألة الخصم، فلا بأس، ثم إن التفريق والاستفصال جعله
الغزالي بعد التزكية، والصحيح الذي علله العراقيون وغيرهم أنه قبل الاستزكاء،
فإن اطلع على عورة، استغنى عن الاستزكاء والبحث عن حالهم، وإن لم يطلع،
فإن عرفهم بالعدالة، حكم، وإلا فحينئذ يستزكي، وهل هذا التفريق والاستفصال
واجب أم مستحب؟ فيه أوجه الصحيح الذي ذكره ابن كج والبغوي، وعامة
الأصحاب وهو الموافق للفظ المختصر أنه مستحب والثاني واجب، قاله الامام
والغزالي. قالا: ولو تركه وقضى مع الارتياب، لم ينفذ. والثالث: إن سأل
الخصم وجب، وإلا فلا.
الخامسة: تقدم بينة الجرح على بينة التعديل، لزيادة علم الجارح، فلو
انعكس الامر بأن قال المعدل: قد عرفت السبب الذي ذكره الجارح، لكنه تاب
منه، وحسنت حاله، قدمت بينة التعديل، لأن مع المعدل هنا زيادة علم، كذا ذكره
جماعة، منهم صاحب الشامل وقول الواحد لا يقبل في الجرح فضلا عن
تقديمه.
157

السادسة: عدل الشاهد، ثم شهد في واقعة أخرى، فإن لم يطل الزمان،
حكم بشهادته، ولا يطلب تعديله ثانيا، وإن طال، فوجهان، أصحهما يطلب
تعديله ثانيا، لأن طول الزمان يغير الأحوال، ثم يجتهد الحاكم في طوله وقصره.
السابعة: شهادات المسافرين والمجتازين من القوافل، كشهادة غيرهم في
الحاجة إلى التعديل، فإن عدلهما مزكيان في البلد، أو عدل مزكيان اثنين من
القافلة، ثم هما عدلا الشاهدين، قبلت شهادتهما وإلا فلا.
الثامنة: سأل القاضي عن الشهود في غير محل ولايته، فعدلوا ثم عاد إلى
محل ولايته، قال ابن القاص: له الحكم بشهادتهم إن جوزنا القضاء بالعلم،
وخالفه أبو عاصم وآخرون، وقالوا: القياس منعه، كما لو سمع البينة خارج
ولايته.
التاسعة: عدل شاهد، والقاضي يتحقق فسقه بالتسامع، قال الامام: الذي
يجب القطع به أنه يتوقف ولا يقضي.
العاشرة: تقبل شهادة الحسبة على العدالة والفسق، لأن البحث عن حال
الشهود، ومنع الحكم بشهادة الفاسق حق لله تعالى.
الباب الثالث في القضاء على الغائب
هو جائز في الجملة، وحكى صاحب التقريب قولا عن رواية حرملة أنه
158

لا يجوز إلا إذا كان للدعوى اتصال بحاضر، والمشهور الأول، وبه قطع
الأصحاب، وفي الباب أطراف:
الأول: في الدعوى، ويشترط في الدعوى على الغائب ما يشترط فيها على
الحاضر من بيان المدعى وقدره وصفته وقوله: إني مطالب بالمال. ولا يكفي
الاقتصار على قوله: لي عليك كذا ويشترط أن يكون للمدعي بينة وإلا فلا فائدة،
وأن يدعي جحوده، فإن قال: هو مقر لم تسمع بينته ولغت دعواه، وإن لم يتعرض
لجحوده ولا إقراره، فهل تسمع بينته؟ وجهان أصحهما: نعم لأنه قد لا يعلم جحوده
في غيبته، ويحتاج إلى الاثبات، فجعلت الغيبة كالسكوت. وفي فتاوي القفال أن
هذا كله فيما إذا أراد إقامة البينة على ما يدعيه، ليكتب القاضي به إلى حاكم بلد
الغائب، فأما إذا كان للغائب مال حاضر، وأراد إقامة البينة على دينه ليوفيه القاضي
تسمع بينته ويوفيه، سواء قال: هو مقر، أو جاحد، وهل على القاضي لسماع
159

الدعوى على الغائب أن ينصب مسخرا ينكر على الغائب وجهان أحدهما: نعم
لتكون البينة على إنكار منكر، وأصحهما ما ذكره البغوي، لأن الغائب قد يكون
مقرا، فيكون إنكار المسخر كذبا. ومقتضى هذا التوجيه أن لا يجوز نصب
المسخر، لكن الذي ذكره أبو الحسن العبادي وغيره أن القاضي مخير إن شاء نصب
وإلا فلا.
الطرف الثاني: في التحليف، فيحلف القاضي المدعي على الغائب بعد قيام
البينة وتعديلها أنه ما أبرأه من الدين الذي يدعيه، ولا من شئ منه، ولا اعتاض
ولا استوفى، ولا أحال عليه هو، ولا أخذ من جهته، بل هو ثابت في ذمة المدعى
عليه يلزمه أداؤه، ويجوز أن يقتصر، فيحلفه على ثبوت المال في ذمته، ووجوب
تسليمه، وكذا يحلف مع البينة الوارث إذا كان المدعى عليه صبيا أو مجنونا أو ميتا
ليس له وارث حاضر، فإن كان حلف بسؤال الوارث، وحكى أبو الحسين
الطرسوسي من أصحابنا قولا أنه لا يحلف في الدعوى مع البينة وهو مذهب المزني،
والمشهور الدول، لكن هذا التحليف واجب أم مستحب؟ وجهان، ويقال: قولان،
أصحهما: الوجوب، ومنهم من قطع به. ومن قال بالاستحباب قال: لأن تدارك
التحليف باق، والوجوب في الميت والصبي والمجنون أولى لعجزهم عن التدارك،
لكن الخلاف مطرد فيهم، حكاه أبو الحسن العبادي وجماعة، وبنى على هذا ما لو
أقام قيم طفل بينة على قيم طفل، فإن أوجبنا التحليف، انتظرنا حتى يبلغ المدعى
له، فيحلف، وإن قلنا بالاستحباب، قضى بها، ولا يشترط في اليمين هنا
160

التعرض لصدق الشهود بخلاف اليمين مع الشاهد، لأن البينة هنا كاملة وقيل:
يشترط.
إذا لم يدع بنفسه، بل ادعى وكيله على غائب لا يحلف، بل يعطى المال إن
كان المدعى عليه هناك مال، ولو كان المدعى عليه حاضرا، وقال للمدعي بالوكالة
بعد أقام البينة عليه: أبرأني موكلك الغائب، وأراد التأخير إلى أن يحضر
الموكل، فيحلف، لم يمكن منه، بل عليه تسليم الحق، ثم يثبت الابراء من بعد
إن كانت له حجة، وكذا لو ادعى ولي الصبي دينا للصبي، فقال المدعى عليه: إنه
أتلف علي من جنس ما تدعيه قدر دينه لم ينفعه بل عليه أداء ما أثبته الولي، فإذا
بلغ الصبي، حلفه. ولو قال المدعى عليه في مسألة التوكيل: أبرأني موكلك
الغائب، فاحلف أنك لا تعلم ذلك، قال الشيخ أبو حامد: له تحليفه على نفي
العلم ومن الأصحاب من يخالفه ولا يحلف الوكيل ولك أن تقول: مقتضى ما ذكره
الشيخ أن يحلف القاضي وكيل المدعي على الغائب على نفي العلم بالابراء وسائر
الأسباب المسقطة نيابة عن المدعى عليه فيما يتصور منه لو حضر كما ناب عنه في
تحليف من يدعي لنفسه.
فرع يجوز القضاء على الغائب بشاهد ويمين كالحاضر وهل يكفي يمين أم
يشترط يمينان إحداهما لتكمل الحجة، والثاني لنفي المسقطات وجهان أصحهما
الثاني.
فرع تعلق برجل وقال: أنت وكيل فلان الغائب، ولي عليه كذا، وأدعي
161

عليك وأقيم البينة في وجهك، فإن علم أنه وكيل، وأراد أن لا يخاصم، فليعزل
نفسه، وإن لم يعلم، فينبغي أن يقول: لا أعلم أني وكيل ولا يقول: لست بوكيل
فيكون. مكذبا لبينة قد تقوم بالوكالة، وهل للمدعي إقامة البينة على وكالة من تعلق
به؟ وجهان أحدهما: نعم ليستغني عن ضم اليمين إلى البينة، وليكون القضاء
مجمعا عليه، وأصحهما: لا، لأن الوكالة حق له، فكيف يقام بينة بها قبل دعواه.
الطرف الثالث في كتاب القاضي إلى القاضي، فالقاضي بعد سماع الدعوى
والبينة على الغائب قد يقتصر عليه، وينهي الامر إلى قاضي بلد الغائب ليحكم
ويستوفي، وقد يحلفه كما سبق، ويحكم وعلى التقدير الثاني قد يكون للغائب
مال حاضر يمكن أداء الحق منه فيؤدى، وقد لا يكون كذلك، فيسأل المدعي
القاضي إنهاء الحكم إلى قاضي بلد الغائب، فيجيبه إليه. وللانهاء طريقان،
أحدهما: أن يشهد على حكمه عدلين يخرجان إلى ذلك البلد، والأولى أن يكتب
بذلك كتابا أولا، ثم يشهد، وصورة الكتاب: حضر فلان، وادعى على فلان
الغائب المقيم ببلد كذا، وأقام عليه شاهدين وهما فلان وفلان، وقد عدلا عندي،
وحلفت المدعي، وحكمت له بالمال، فسألني أن أكتب إليك في ذلك فأجبته،
وأشهدت بذلك فلانا وفلانا. ولا يشترط تسمية الشاهدين على الحكم، ولا ذكر
أصل الاشهاد، ولا تسمية شهود الحق، بل يكفي أن يكتب: شهد عندي عدول
ويجوز أن لا يصفهم بالعدالة، ويكون الحكم بشهادتهم تعديلا لهم، ذكره في
العدة، ويجوز أن لا يتعرض لأصل الشهادة، فيكتب: حكمت بكذا بحجة أوجبت
الحكم، لأنه قد يحكم بشاهد ويمين وقد يحكم بعلمه إذا جوزناه، وهذه حيلة يدفع
بها القاضي قدح الحنفية إذا حكم بشاهد ويمين. وفي فحوى كلام الأصحاب وجه
ضعيف مانع من إبهام الحجة، لما فيه من سد باب الطعن والقدح على الخصم.
162

ويستحب للقاضي أن يختم الكتاب ويدفع إلى الشاهدين نسخة غير مختومة
ليطالعاها، ويتذاكرا عند الحاجة، وأن يذكر في الكتاب نقش خاتمه الذي يختم به،
وأن يثبت اسم نفسه، واسم المكتوب إليه في باطن الكتاب، وفي العنوان أيضا.
وأما الاشهاد، فإن أشهدهما أنه حكم بكذا، ولا كتاب، شهدا به، وقبلت
شهادتهما، وإن أنشأ الحكم بين أيديهما، فلهما أن يشهدا عليه وإن لم يشهدهما،
وإن كتب، ثم أشهد، فينبغي أن يقرأ الكتاب أو يقرأ بين يديه عليهما ثم يقول لهما:
إشهدا علي بما فيه، أو على حكمي المبين فيه، وفي الشامل أنه لو اقتصر بعد
القراء على قوله: هذا كتابي إلى فلان، أجزأ، وحكى ابن كج وجها أنه يكفي
مجرد القراءة عليهما، والأحوط أن ينظر الشاهدان وقت القراءة عليهما في الكتاب،
فلو لم يقرأ الكتاب عليهما، ولم يعلما ما فيه، قال القاضي: أشهدكما على أن هذا
كتابي أو ما فيه خطي، لم يكف، ولم يكن لهما أن يشهدا على حكمه، لأن الشئ قد
يكتب من غير قصد بحقيقة. ولو قال: أشهدكما على أن ما فيه حكمي، أو على أني
قضيت بمضمونه، فوجهان، أصحهما: لا يكفي حتى يفصل ما حكم به،
والثاني: يكفي لامكان معرفة التفصيل بالرجوع إليه، ويجري الخلاف فيما لو قال
المقر: أشهدتك على ما في هذه القبالة وأنا عالم به، لكن الأصح عند الغزالي في
الاقرار أنه يكفي، حتى إذا سلم القبالة إلى الشاهد، وحفظها الشاهد، وأمن
التحريف، جاز له أن يشهد على إقراره، لأنه يقر على نفسه، والاقرار بالمجهول
صحيح، وقطع الصيمري بأنه لا يكفي في الاقرار أيضا حتى يقرأه ويحيط بما فيه،
قال: وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله، ويشبه أن يكون الخلاف في أن
الشاهد هل يشهد أنه أقر بمضمون القبالة مفصلا. فأما الشهادة على أنه أقر بما في
هذا الكتاب مبهما، فينبغي أن يقبل بلا خلاف كسائر الأقارير المبهمة، ثم سواء
شهد كذا أو كذا، فإنما يشهد إذا كان الكتاب محفوظا عنده، وأمن التصرف.
فرع التعويل على شهادة الشهود والمقصود من الكتاب التذكر، ومن
الختم الاحتياط، وإكرام المكتوب إليه، فلو ضاع الكتاب، أو أمحي، أو انكسر
الختم، وشهدا بمضمونه المضبوط عندهما، قبلت شهادتهما، وقضي بها، فلو
شهدا بخلاف ما في الكتاب، عمل بشهادتهما، ولا يكفي الكتاب المجرد. وقال
الإصطخري: إذا وثق المكتوب إليه بالخط والختم، كفى، والصحيح الأول.
163

ويشترط إشهاد رجلين عدلين، فلا يقبل رجل وامرأتان، وقيل: يقبل إن تعلقت
الحكومة بمال، وذكر ابن كج أنه لو كان الكتاب برؤية هلال رمضان، كفى شهادة
واحد على قولنا: يثبت بواحد، وأنه لو كتب بالزنى وجوزنا كتاب القاضي إلى قاض
في العقوبات هل يثبت برجلين أم يشترط أربعة؟ وجهان بناء على القولين في الاقرار
بالزنى.
فرع إذا وصل كتاب القاضي وحامله إلى قاضي البلد الآخر، أحضر
الخصم، فإن أقر بالمدعى، استوفاه، وإلا فيشهد الشاهدان أن هذا كتاب القاضي
فلان وختمه، حكم فيه لفلان بكذا على هذا وقرأه علينا، وأشهدنا به، ولو لم
يقولوا: أشهدنا به، جاز، ولا يكفي ذكرهما الكتاب والختم، بل لا بد من التعرض
لحكمه. ثم في التهذيب والرقم أن القاضي إنما نقض الختم بعد شهادة
الشهود وتعديلهم، وذكر الهروي أنه يفتح الكتاب أولا: ثم يشهدون ويوافق هذا قول
كثير من الأصحاب أن الشهود يقرؤون الكتاب، ثم يشهدون ليقفوا على ما فيه،
ويعلموا أنه لم يخرق، وليس هذا خلافا في الجواز، وكيف وقد عرف أن الختم من
أصله لا اعتبار به، فكما تقبل الشهادة على ما لا ختم عليه تقبل على المفضوض
ختمه، وسواء فضه القاضي أو غيره، وإنما هو في الأدب والاحتياط.
فرع يجوز أن يكتب إلى قاض معين، ويجوز أن يطلق فيكتب إلى كل من
يصل إليه من القضاة، وإذا كان الكتاب إلى معين، فشهد شاهدا الحكم عند حاكم
آخر قبل شهادتهما، وأمضاه، وإن لم يكتب: وإلى كل من يصل إليه من القضاة
اعتمادا على الشهادة، وكذا لو مات الكاتب، وشهدا على حكمه عند المكتوب إليه
أو مات المكتوب إليه، وشهدا عند من قام مقامه، قبل شهادتهما، وأمضى الحكم.
والعزل والجنون والعمى والخرس كالموت. ولو كتب القاضي إلى خليفته، ثم مات
القاضي، أو عزل، تعذر على الخليفة القبول والامضاء إن قلنا: ينعزل بانعزال
الأصل، ولو ارتد القاضي الكاتب أو فسق، ثم وصل الكتاب إلى المكتوب إليه،
فوجهان قطع ابن القاص، وصاحبا المهذب والتهذيب وآخرون بأن الكتاب
إن كان بالحكم المبرم، أمضي، لأن الفسق الحادث لا يؤثر في الحكم السابق،
وإن كان بسماع الشهادة، لم يقبل ولم يحكم به، كما لو فسق الشاهد قبل الحكم،
وأطلق ابن كج أنه لا يقبل كتابه إذا فسق، وهو مقتضى كلام الشيخ أبي حامد وابن
164

الصباغ. فرع شهود الكتاب والحكم يشترط ظهور عدالتهم عند المكتوب إليه،
وهل تثبت عدالتهم بتعديل الكاتب إياهم؟ وجهان، قال القفال الشاشي: نعم
للحاجة، والأصح المنع، لأنه تعديل قبل أداء الشهادة، ولأنه كتعديل المدعي
شهوده، ولان الكتاب إنما يثبت بقولهم، فلو ثبت به عدالتهم لثبتت بقولهم،
والشاهد لا يزكي نفسه.
فرع ينبغي أن يثبت القاضي في الكتاب اسم المحكوم له، والمحكوم
عليه، وكنيتهما، واسم أبويهما، وجديهما، وحليتهما، وصنعتهما، وقبيلتهما
ليسهل التمييز، وإن كان مشهورا ظاهر الصيت، وحصل الاعلام ببعض ما
ذكرنا، اكتفي به. وإذا أثبت الأوصاف كما ذكرنا، فحمل الكتاب إلى المكتوب
إليه، وأحضر الحامل عنده من زعم محكوما عليه، نظر إن شهد شهود الكتاب
والحكم على عينه، لأن القاضي الكاتب حكم عليه، طولب بالحق، وإن لم
يشهدوا على عينه، لكن شهدوا على موصوف بالصفات المذكورة في الكتاب،
فأنكر المحضر أن ما في الكتاب اسمه ونسبه، فالقول قوله مع يمينه، وعلى المدعي
البينة على أنه اسمه ونسبه، فإن لم تكن بينة، ونكل المحضر، حلف المدعي،
وتوجه له الحكم. ولو قال: لا أحلف على أنه ليس اسمي ونسبي، ولكن أحلف
على أنه لا يلزمني تسليم شئ إليه، فحكى الامام والغزالي عن الصيدلاني أنه يقبل
منه اليمين هكذا، كما لو ادعى عليه قرض، فأنكر، وأراد أن يحلف على أنه
لا يلزمه شئ، فإنه يقبل، واختارا أنه لا يقبل، وفرقا بأن مجرد الدعوى ليس
بحجة، وهنا قامت بينة على المسمى بهذا الاسم، وذلك يوجب الحق عليه إن ثبت
كونه المسمى، وإن قامت البينة بأنه اسمه ونسبه، فقال: نعم، لكن لست
165

المحكوم عليه، فإن لم يوجد هناك من يشاركه في الاسم والصفات المذكورة، لزمه
الحكم، لأن الظاهر أنه المحكوم عليه، وإن وجد بأن عرفه القاضي، أو قامت عليه
بينة، وأحضر المشارك، فإن اعترف بالحق، طولب به، وخلص الأول، وإن
أنكر، بعث الحاكم إلى الكاتب بما وقع من الاشكال، ليحضر الشاهدين،
ويطلب منهما مزيد صفة يتميز بها المشهود عليه، فإن ذكرا مزيدا، كتب إليه ثانيا،
وإلا وقف الامر حتى تنكشف. ولو أقام المحضر بينة على موصوف بتلك الصفات
كان هناك وقد مات، فإن مات بعد الحكم، فقد وقع الاشكال، وإن مات قبله، فإن
لم يعاصره المحكوم له، فلا إشكال، وإن عاصره، حصل الاشكال على الأصح،
هذا كله إذا أثبت القاضي اسم المحكوم عليه، ونسبه، وصفته كما سبق، أما إذا
اقتصر على قوله: حكمت على محمد بن أحمد مثلا، فالحكم باطل، لان
المحكوم عليه مبهم، ولم يتعين بإشارة، ولا وصف كامل بخلاف ما إذا استقصى
الوصف، فظهر اشتراك على الندور، حتى لو اعترف رجل في بلد المكتوب إليه بأنه
محمد بن أحمد وأنه المعني بالكتاب، لم يلزمه ذلك الحكم لبطلانه في نفسه إلا أن
يقر بالحق، فيؤاخذ به هذا هو الصحيح، وهو الذي نقله الامام والغزالي وغيرهما،
وذكر ابن القاص وأبو علي الطبري أنه إذا ورد الكتاب، أحضر القاضي المكتوب
عليه، وقرأ عليه الكتاب، فإن أقر أنه المكتوب عليه، أخذه به، سواء كان رفع نسبه
وذكر صفته أم لا، ولا شك أنه لو شهد الشهود كما ينبغي إلا أنه أبهم في الكتاب اسم
المكتوب عليه يقبل الشهادة، ويعمل بمقتضاها، لما سبق أن الاعتبار بقول الشهود
لا بالكتاب.
فصل سبق أن لانهاء حكم القاضي إلى قاض آخر طريقين، أحدهما:
المكاتبة وسبق.
والطريق الثاني المشافهة، وتتصور من أوجه.
أحدها: أن يجتمع القاضي الذي حكم، وقاضي بلد الغائب في غير
البلدين، ويخبره بحكمه.
والثاني: أن ينتقل الذي حكم إلى بلد الغائب، ويخبره، ففي الحالين لا يقبل
166

قوله، ولا يمضي حكمه، لأن إخباره في غير موضع ولايته، كإخبار القاضي بعد
العزل.
والثالث: أن يحضر قاضي بلد الغائب في بلد الذي حكم فيخبره، فإذا عاد إلى
محل ولايته، فهل يمضيه، إن قلنا: يقضي بعلمه فنعم، وإلا فلا على الأصح،
كما لو قال ذلك القاضي: سمعت البينة على فلان بكذا، فإنه لا يترتب الحكم عليه
إذا عاد إلى محل ولايته.
والرابع: أن يكونا في محل ولايتهما، بأن وقف كل واحد في طرف محل
ولايته، وقال الحاكم: حكمت بكذا فيجب على الآخر إمضاؤه، لأنه أبلغ من
الشهادة والكتاب، وكذا لو كان في البلد قاضيان وجوزناه، فقال أحدهما للآخر:
حكمت بكذا فإنه يمضيه، وكذا إذا قاله القاضي لنائبه في البلد وبالعكس.
ولو خرج القاضي إلى قرية له فيها نائب، فأخبر أحدهما الآخر بحكمه
أمضاه الآخر، لأن القرية محل ولايتهما، ولو دخل النائب البلد، فقال للقاضي:
حكمت بكذا لم يقبله، ولو قال له القاضي: حكمت بكذا، في إمضائه إياه، إذا
عاد إلى قريته الخلاف في القضاء بالعلم.
فرع إذا حكم القاضي بحق، وشافه به واليا غير قاض ليستوفيه، فله أن
يستوفي في محل ولاية القاضي، وكذا خارجه على الصحيح.
ولو كاتب القاضي واليا غير قاض، فإن كان صالحا للقضاء وقد فوض إليه
الامام نظر القضاة وتولية من يراه، جازت مكاتبته، كما تجوز مكاتبة الامام الأعظم،
نص عليه في المختصر وإن لم يكن صالحا، أو كان، ولم يفوض إليه، نظر
القضاة، لم تجز مكاتبته، لأن سماع البينة يختص بالقضاة.
فصل ذكرنا في أول الطرف أن القاضي بعد سماع البينة قد يحكم، وينهيه
إلى حاكم آخر، وقد يقتصر على السماع وينهيه، وفرغنا من القسم الأول، وأما
167

الثاني فنقدم عليه مقدمة فيما يمتاز به أحد القسمين على الثاني وفي فروع تتعلق
بالحكم.
أعلم أن صيغ الحكم في قوله: حكمت على فلان لفلان بكذا، وألزمته لما
سبق في الأدب الخامس من الباب الثاني، فلو قال: ثبت عندي كذا بالبينة العادلة،
أو صح، فهل هو حكم؟ فيه وجهان أحدهما: نعم، لأنه إخبار عن تحقيق الشئ
جزما وأصحهما لا، لأنه قد يراد به قبول الشهادة، واقتضاء البينة صحة الدعوى،
فصار كقوله: سمعت البينة وقبلتها ولان الحكم هو الالزام، والثبوت ليس بإلزام.
وأما ما يكتب على ظهور الكتب الحكمية وهو: صح ورود هذا الكتاب علي، فقبلته
قبول مثله، وألزمت العمل بموجبه، فليس بحكم لاحتمال أن المراد تصحيح
الكتاب، وإثبات الحجة، ولا يجوز الحكم على المدعى عليه إلا بعد سؤال المدعي
على الأصح، وهل يصح أن يلزم القاضي الميت بموجب إقراره في حياته؟ وجهان.
ويشترط تعيين ما يحكم به، ومن يحكم له، لكن قد يبتلى القاضي بظالم يريد ما لا
يجوز، ويحتاج إلى ملاينته، فرخص له دفعه بما يوهم أنه أسعفه بمراده. مثاله:
أقام خارج بينة وداخل بينة، والقاضي يعلم فسق بينة الداخل، ولكنه يحتاج إلى
ملاينته، وطلب الحكم بناء على ترجيح بينة الداخل، فيكتب: حكمت بما هو
مقتضى الشرع في معارضة بينة فلان الداخل، وفلان الخارج، وقررت المحكوم به
في يد المحكوم له، وسلطته عليه، ومكنته من التصرف فيه إذا ثبتت هذه المقدمة،
فإذا لم يحكم القاضي، وأنهى ما جرى من الدعوى والبينة بالكتاب، سمي بذلك
كتاب نقل الشهادة، وكتاب التثبيت، أي: تثبيت الحجة. وينص على الحجة،
فيذكر أنه قامت عنده بينة أو شاهد ويمين، أو نكل المدعى عليه، وحلف المدعي،
وإنما ينص على الحجة، ليعرف المكتوب إليه تلك الحجة، فقد لا يرى بعض ذلك
الحجة، وهل يجوز أن يكتب بعلم نفسه ليقضي به المكتوب إليه؟ قال في العدة:
لا يجوز وإن جوزنا القضاء بالعلم، لأنه ما لم يحكم به هو كالشاهد والشهادة
لا تتأدى بالكتابة. وفي أمالي السرخسي جوازه، ويقضي به المكتوب إليه إذا جوزنا
القضاء بالعلم. وإذا كتب بسماع البينة، فليسم الشاهدين، والأولى أن يبحث عن
168

حالهما ويعدلهما، لأن أهل بلدهما أعرف بهما، فإن لم يفعل، فعلى المكتوب إليه
البحث والتعديل. إذا عدل، فهل يجوز أن يترك اسم الشاهدين؟ قال الامام
والغزالي: لا، والقياس الجواز، كما أنه إذا حكم، استغنى عن تسمية الشهود،
وهذا هو المفهوم من كلام البغوي وغيره، وهل يأخذ المكتوب إليه بتعديل الكتاب أم
له البحث وإعادة التعديل؟ لفظ الغزالي يقتضي الثاني، والقياس الأول.
قلت: هذا الذي جعله القياس هو الصواب. والله أعلم.
ولا حاجة في هذا القسم إلى تحليف المدعي، والقول في إشهاد القاضي،
وفي أداء الشهود الشهادة عند المكتوب إليه وفي دعوى الخصم إن كان هناك من يشاركه
في الاسم على ما سبق في القسم الأول، وإذا عدل الكاتب شهود الحق، فجاء
الخصم ببينته على جرحهم سمعت، ويقدم على التعديل، وإن استمهل البينة
الجرح أمهل ثلاثة أيام هكذا ذكره الأصحاب على طبقاتهم، وكذا لو قال: أبرأتني،
أو قضيت الحق واستمهل ليقيم البينة عليه. ولو قال: أمهلوني حتى أذهب إلى
بلدهم وأجرحهم، فإني لا أتمكن من جرحهم إلا هناك، أو قال: لي بينة أخرى
هناك دافعة، لم يمهل، بل يؤخذ الحق منه، فإذا أثبت جرحا أو دفعا، استرد،
وسواء في ذلك كتاب الحكم، وكتاب نقل الشهادة: وفي العدة أنه لو سأله المحكوم
عليه إحلاف الخصم أنه لا عداوة بينه وبينهم وقد حضر الخصم عند المكتوب إليه
أجابه إليه، ولو سأل إحلافه على عدالتهم، لم يجبه، وكفى تعديل الحاكم إياهم،
وأنه لو ادعى قضاء الدين، وسأل إحلافه: أنه لم يستوفه، لم يحلف، لأن الكاتب
أحلفه. وذكر البغوي في مثله في دعوى الابراء أنه يحلفه: أنه لم يبرئه فحصل
وجهان.
فرع في مشافهة القاضي قاضيا بسماع البينة فإذا نادى قاض من طرف ولايته قاضيا من طرف
ولايته: إني سمعت البينة بكذا، أو جوزنا قاضيين في بلد،
فقال ذلك قاض لقاض، هل للمقول له الحكم بذلك؟ قال الامام والغزالي: يبنى
ذلك على أن سماع البينة وإنهاء الحال إلى قاض آخر هل هو نقل كشهادة الشهود
كنقل الفروع شهادة الأصول، أم حكم بقيام البينة؟ وفيه وجهان، فعلى الأول
لا يجوز، كما لا يحكم بالفرع مع حضور الأصل. وعلى الثاني يجوز كما في
الحكم المبرم، وهذا أرجح عند الامام والغزالي، والصحيح الأول، وبه قال عامة
169

الأصحاب، وقالوا أيضا: كتاب السماع إنما يقبل إذا كانت المسافة بين
الكاتب وبين الذي بلغه الكتاب بحيث يقبل في مثلها الشهادة على الشهادة، وهذا نصه في عيون
المسائل ولو قال الحاكم لخليفته: اسمع دعوى فلان وبينته، ولا تحكم به حتى
تعرفني، ففعل هل للحاكم أن يحكم به؟ القياس أنه كإنهاء أحد القاضيين في البلد
إلى الآخر، لامكان حضور الشهود عنده، لكن الأشبه هنا الجواز، وبه أجاب أبو
العباس الروياني مع توقف فيه.
الطرف الرابع في الحكم بالشئ الغائب على غائب. الغيبة والحضور إنما
تتعاقبان الأعيان، فأما إذا كانت دعوى نكاح أو طلاق أو رجعة، أو إثبات وكالة،
فلا يوصف المدعي بغيبة ولا حضور، وكذا إذا كان المدعى دينا. ومتى ادعى عينا،
فإن كانت حاضرة مشارا إليها، سلمت إلى المدعي إذا تمت حجته، وإن كانت
غائبة، فلها حالان الأولى أن تكون غائبة عن البلد، فهي إما عين يؤمن فيها الاشتباه
والاختلاط، كالعقار وعبد وفرس معروفين، وإما غيرها، والقسم الأول يسمع
القاضي البينة عليه، ويحكم ويكتب إلى قاضي بلد ذلك المال ليسلمه إلى
المدعي، ويعتمد في العقار على ذكر البقعة والسكة والحدود، وينبغي أن يتعرض
لحدوده الأربعة، ولا يجوز الاقتصار على حدين أو ثلاثة، ولا يجب التعرض للقيمة
على الأصح، لحصول التمييز دونه. وأما القسم الثاني كغير المعروف من المعروف من العبيد
والدواب وغيرها فهل يسمع البينة على عينها وهي غائبة؟ قولان: أحدهما نعم، كما
يسمع على الخصم الغائب اعتمادا على الحلية والصفة، ولأنه يحتاج إليه كالعقار.
والثاني: لا، لكثرة الاشتباه، وبهذا قال المزني، ورجحه طائفة، منهم أبو الفرج
الزاز، والأول اختيار الكرابيسي، والاصطخري، وابن القاص، وأبي علي
الطبري، وبه أفتى القفال. فإذا قلنا به، فهل يحكم للمدعي بما قامت به البينة؟
قولان، أحدهما: نعم كالعقار، وأظهرهما: لا، لأن الحكم مع خطر الاشتباه
والجهالة بعيد. والحاصل ثلاثة أقوال، أظهرها: تسمع البينة فينبغي أن يبالغ البينة
ولا يحكم، والثاني لا يسمع ولا يحكم، والثالث يسمع ويحكم، هذه طريقة
الجمهور، وطردوها في جميع المنقولات التي لا تعرف، وقال الامام والغزالي:
ما لا يؤمن فيه الاشتباه ضربان ما يمكن تمييزه بالصفات والحلي كالحيوان، وما لا
يمكن لكثرة أمثاله كالكرباس، فالأول على الأقوال الثلاثة، وقطعا في الكرباس
170

ونحوه بأنه لا ترتبط الدعوى والحكم بالعين، فإن قلنا: يسمع البينة، فينبغي أن
يبالغ المدعي في الوصف بما يمكن الاستقصاء والتعرض للثبات. وبماذا يضبط بعد
ذكر الجنس والنوع؟ قولان حكاهما الهروي وغيره، أحدهما لتعرض الأوصاف
المعتبرة في السلم، والثاني يتعرض للقيمة، وتكفي عن ذلك الصفات، قالوا:
والأظهر أن الركن في تعريف ذوات الأمثال ذكر الصفات وذكر القيمة مستحب في
ذوات القيم، الركن القيمة، وذكر الصفات مستحب، ثم يكتب القاضي إلى قاضي
بلد المال بما جرى عنده من مجرد قيام البينة، أو مع الحكم إن جوزنا الحكم
المبرم، فإن أظهر الخصم هناك عبدا آخر بالاسم والصفات المذكورة في يده، أو
في يد غيره، فقد صار القضاء مبهما، وانقطعت المطالبة في الحال، كما سبق في
المحكوم عليه، وإن لم يأت بدافع، فإن كان الكتاب كتاب حكم، وجوزناه، حلف
المدعي أن هذا المال هو الذي شهد به شهوده عند القاضي فلان، وتسلم إليه، ذكره
ابن القاص في كتاب آداب القضاء، وإن كان كتاب سماع البينة، انتزع المكتوب
إليه المال، وبعثه إلى الكاتب، ليشهد الشهود على عينه، وفي طريقه قولان،
أظهرهما وأشهرهما، وبه قطع ابن الصباغ وغيره: يسلم إلى المدعي، ويؤخذ منه
كفيل ببدنه. وقال أبو الحسن العبادي: يكفله قيمة المال، فإن ذهب إلى القاضي
الكاتب، وشهد الشهود على عينه، وسلم به، كتب القاضي بذلك إبراء الكفيل وإلا
فعلى المدعي الرد، ومؤنته، ويختم العين عند تسليمها إليه بختم لازم، فإن كان
عبدا، جعل في عنقه القلادة، ويختم عليها، والمقصود من الختم أن لا يبدل
المأخوذ بما لا يستريب الشهود في أنه له، وأخذ الكفيل واجب، والختم مستحب،
وعلى هذا القول لو كان للمدعي جارية، فثلاثة أوجه، أحدها: أنها كالعبد،
والثاني: لا تبعث أصلا، والثالث: تسلم إلى أمين في الرفقة لا إلى المدعي،
وهذا حسن.
قلت: هذا الثالث هو الصحيح أو الصواب. والله أعلم.
ثم المفهوم من كلام الجمهور أن الشهود إذا شهدوا على عينه عند الكاتب،
سلمه إلى المدعي، وقد تم الحكم له، ثم يكتب إبراء الكفيل على ما ذكرنا، وفي
الفروق للشيخ أبي محمد أنه يختم على رقبته ختما ثانيا، ويكتب بأني حكمت به
لفلان، ويسلمه إلى المكتوب له، ليرده إلى القاضي الثاني، فيقرأ الكتاب، ويطلق
171

الكفيل، ويسلم العبد إلى المدعي. والقول الثاني أن القاضي بعد الانتزاع يبيعه
للمدعي، ويقبض منه الثمن، ويضعه عند عدل، أو يكفله بالثمن، فإن سلم
للمدعي بشهادة الشهود على عينه عند القاضي الكاتب، كتب برد الثمن، أو براءة
الكفيل، وبان بطلان البيع، وإلا فالبيع صحيح، ويسلم الثمن إلى المدعى
عليه، وهذا بيع يتولاه القاضي للمصلحة، كما يبيع الضوال، وحكى الفوراني بدل
هذا القول أنه يسلم إليه المال، ويأخذ القيم ويدفعها إلى المدعى عليه للحيلولة
بينه وبين ما يزعمه ملكا له، ثم يسترد هذه القيمة، سواء ثبت المال للمدعي أم لا.
الحالة الثانية: أن تكون العين المدعاة غائبة عن مجلس الحكم دون البلد،
فإن كان الخصم حاضرا أمر بإحضاره لتقوم البينة على عينها، ولا تسمع الشهادة على
صفتها هذا هو الجواب في فتاوى القفال. ويشبه أن يجئ فيه وجه فيما إذا كان
المدعى عليه في البلد، هل تسمع الشهادة عليه مع غيبته عن المجلس؟ ثم إنما
يؤمر بإحضار ما يمكن إحضاره بتيسر فأما ما لا يمكن، كالعقار، فيحده المدعي
ويقيم البينة عليه بتلك الحدود، فإن قال الشهود: نعرف العقار بعينه، ونعرف
الحدود، بعث القاضي من يسمع البينة على عينه، أو حضر بنفسه، فإن كان المشار
إليه بالحدود المذكورة في الدعوى، حكم وإلا فلا، ولو كان العقار مشهورا
لا يشتبه، فلا حاجة للتحديد، وأما ما يعسر إحضاره كشئ ثقيل، وما أثبت في
الأرض، أو ركب في الجدار، وأورث قلعة ضررا، فيصفه المدعي، ويحضر
القاضي عنده، أو يبعث من يسمع الشهادة على عينه، وإن لم يمكن وصفه حضر
القاضي عنده، أو بعث من يسمع الدعوى على عينه، وذكر الغزالي أن العبد
المدعى لو كان يعرفه القاضي، حكم به دون الاحضار، وجعل هذه الصورة كالمستثناة
عن صورة وجوب الاحضار. وهذا الذي قاله إن أراد به العبد المعروف بين
الناس، فهو صحيح كما ذكرنا في العقار المعروف والعبد المشهور الغائب عن
البلد، فأما إن اختص القاضي بمعرفته، فإن كان عالما بصدق المدعي، وحكم
بعلمه تفريعا على جوازه، فهو قريب أيضا، وإن حكم بالبينة فالبينة تقوم على
الصفة، فإذا لم يسمع البينة بالصفة، وجب أن يمتنع الحكم ومتى أوجبنا الاحضار،
172

فذلك إذا اعترف المدعى عليه باشتمال يده على مثل تلك العين، وإن أنكر اشتمال يده
على غير تلك الصفة، صدق بيمينه، فإن حلف، كان للمدعي أن يدعي عليه القيمة،
لاحتمال أنها هلكت ذكره البغوي وغيره. وإن نكل وحلف المدعى، أو أقام بينة
حين أنكر، كلف إحضارها وحبس، ولا يطلق إلا بالاحضار، أو بأن يدعي التلف،
فتؤخذ منه القيمة، وتقبل منه دعوى التلف، وإن كانت خلاف قوله الأول للضرورة،
وقيل: لا يطلق إلا بإحضار، أو بينة التلف، فإن لم يدر المدعي أن العين باقية
ليطالب بها، أو تالفة ليطالب بقيمتها فادعى على التردد، وقال: غصب مني
كذا، فإن كان باقيا، فعليه رده، وإن كان تالفا، فقيمته، فوجهان أحدهما: لا يسمع
دعواه، لعدم الجزم، بل يدعي العين، ويحلف عليها، ثم ينشئ دعوى القيمة،
ويحلف عليها، وأصحهما وعليه عمل القضاء: يسمع للحاجة فيه، وعلى هذا
يحلف أنه لا يلزمه رد العين، ولا قيمتها، ويجري الوجهان فيما لو سلم ثوبا إلى
دلال ليبيعه فطالبه به، فجحد، فلم يدر صاحب الثوب أباعه، فيطالبه بالثمن، أم
تلف، فيطالبه بالقيمة، أم هو باق ليطالبه بالعين؟ فعلى الأول يدعي العين في
دعوى، والقيمة في أخرى، والثمن في أخرى، وعلى الثاني يدعي أن عليه رد
الثوب أو ثمنه أو قيمته، ويحلف الخصم يمينا واحدة أنه لا يلزمه تسليم الثوب
ولا ثمنه ولا قيمته، ولو شهدوا أنه غصب منه عبدا بصفة كذا، فمات العبد استحق
بتلك الشهادة قيمته على تلك الصفة. وجميع ما ذكرنا فيما إذا كان الخصم
حاضرا، فإن كان غائبا والمال في البلد، كما وصفنا أحضر مجلس الحكم أيضا،
وأخذ ممن في يده ليشهد الشهود على عينه.
فرع لو كان الخصم حاضرا، والمدعي ببلدة أخرى، فقياس ما سبق أنا
إن قلنا: تسمع البينة بالمال الغائب، ويحكم به، فالقاضي يحكم عليه، وإن لم
نجوز إلا السماع، فإذا سمع البينة، أمر بنقل المدعي إلى مجلسه، كما يفعله
القاضي المكتوب إليه عند غيبة الخصم.
173

فرع ذكرنا أن المدعي إن كان في البلد، كلف المدعى عليه إحضاره،
وإن كان غائبا يبعثه القاضي المكتوب إليه على يد المدعى، ولا يكلف المدعى عليه
الاحضار للمشقة، كما يكلف الحضور هناك ولا يكلفه هنا، قال البغوي: فحيث
أمر المدعي هنا بالاحضار، فمؤنة الاحضار عليه إن ثبت أنه للمدعي، وإلا فعلى
المدعى مؤنة الاحضار والرد جميعا، وحيث يبعثه القاضي المكتوب إليه إلى بلد
الكاتب إن لم يثبت أنه للمدعي، فعليه رده إلى موضع بمؤناته، وتستقر عليه مؤنة
الاحضار إن تحملها من عنده، وإن ثبت أنه للمدعي، فقياس ما ذكره البغوي أنه
يرجع بمؤنة الاحضار على المدعي عليه. وفي أمالي السرخسي أن القاضي ينفق
على النقل من بيت المال، فإن لم يكن في بيت المال شئ، اقترض، فإن ثبت
المال للمدعى عليه، لزمه رد القرض بظهور تعديه، وإلا كلف المدعي رده لظهور
تعنته، ثم قال العراقيون والبغوي وغيرهم: إذا نقل المدعي المال إلى بلد القاضي
الكاتب، ولم يثبت كونه له، لزم المدعي مع مؤنة الرد أجرة المثل لمدة الحيلولة،
ولم يتعرضوا لذلك في مدة تعطل المنفعة، وإذا أحضره المدعى عليه وهو في البلد،
فاقتضى سكوتهم المسامحة وقد صرح بهذا الاقتضاء الغزالي، والفرق بين الحالين
زيادة الضرر هناك.
الطرف الخامس في المحكوم عليه، والأصل أن لا يسمع القاضي البينة،
ولا يحكم إلا بحضرة المدعى عليه، لكن هذا الأصل قد يترك لأسباب. وتفصيلها
أن يقال: إذا لم يكن الخصم في مجلس القاضي، فإما أن يكون في الخلد، وإما
لا، فإن كان، نظر إن كان ظاهرا يتأتى إحضاره، فهل يجوز سماع البينة عليه
والحكم من غير حضوره أم لا، أم يجوز سماعها دون الحكم؟ فيه أوجه، الصحيح
المنع منهما، وأجري الخلاف في الحاضر في مجلس الحكم هل يسمع البينة
عليه، ويحكم بغير سؤاله ومراجعته، والمنع هنا أظهر وأولى. وإن تعذر إحضاره
بتواريه أو بعذره، جاز سماع الدعوى والبينة والحكم عليه على الصحيح، ومنعه
174

القاضي حسين، فإن قلنا بالصحيح، فهل يحلف المدعي، كما يحلف المدعي
على غائب؟ وجهان، وقطع صاحب العدة بأنه لا يحلف، لأن الخصم قادر على
الحضور وإن لم يكن في البلد، فإن غاب إلى مسافة بعيدة، جاز الحكم عليه، وإن
كانت قريبة، فهو كالحاضر، وفي ضبط البعيدة وجهان، أحدهما: تقصر فيه
الصلاة، والقريبة دونها، وأصحهما: أن القريبة ما يمكن المبكر الرجوع منها إلى
مسكنه ليلا، فإن زادت، فبعيدة، ولو كان للمتمرد وكيل نصبه بنفسه، فهل يتوقف
التحليف على طلبه؟ جوابان لأبي العباس الروياني: لأن الاحتياط والحالة هذه من
وظيفة الوكيل، وكذا لو كان للغائب وكيل.
فصل من أتى القاضي مستعديا على خصم ليحضره، فلخصمه حالان.
الأولى: أن يكون بالبلد وظاهرا يمكن إحضاره، فيجب إحضاره، وقال
ابن سريج: يحضر ذوي المروءات في داره لا في مجلسه، والصحيح أنه لا فرق.
ثم الاحضار قد يكون بختم من طين رطب أو غيره يدفعه إلى المدعي، ليعرضه على
الخصم. وليكن مكتوبا عليه: أجب القاضي فلانا، وقد يكون بشخص من الأعوان
المرتبين على باب القاضي، وتكون مؤنته على الطالب إن لم يكن لهم رزق من بيت
المال، وإن بعث الختم، فلم يجب، بعث إليه العون، وإن ثبت عند القاضي
امتناعه بلا عذر، أو ثبت سواد به بكسر الختم ونحوه، استعان على إحضاره بأعوان
السلطان، فإذا حضر عزره بما يراه، وتكون مؤنة المحضر والحالة هذه على
المطلوب، لامتناعه. وقيل: على المدعي، والصحيح الأول، فإن اختفى بعث
من ينادي على باب داره أنه إن لم يحضر إلى ثلاث سمر باب داره، أو ختم عليه،
فإن لم يحضر بعد الثلاث، وسأل المدعي التسمير أو الختم، أجابه إليه، وينبغي أن
يتقرر عنده أن الدار داره، وإذا عرف له موضع قال ابن القاص: يبعث القاضي
جماعة من النسوة والصبيان والخصيان يهجمون عليه على هذا الترتيب، ويفتشون.
175

ومتى كان للمطلوب عذر مانع من الحضور، لم يكلف، بل يبعث إليه من يحكم بينه
وبين خصمه، أو يأمره بنصب وكيل ليخاصم عنه، فإن وجب تحليفه، بعث إليه من
يحلفه، والعذر كالمرض، أو حبس ظالم، أو الخوف منه وفي المرأة المخدرة
خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى.
الحالة الثانية: أن يكون خارج البلد، فينظر إن كان خارجا عن محل ولاية
القاضي لم يكن له أن يحضره، وإن كان فيها، فإن كان له في ذلك الموضع نائب،
لم يحضره، بل يسمع البينة ويكتب إليه، هذا هو الصحيح، وقيل: يلزم إحضاره
إذا طلب الخصم، وقيل: يتخير بين الامرين، ذكره السرخسي في الأمالي وإن
لم يكن هناك، فثلاثة أوجه. أحدهما - وبه قطع العراقيون -: يحضره قربت المسافة
أم بعدت، لكن له أن يبعث إلى بلد المطلوب من يحكم بينه وبين المستعدي،
والثاني إن كان دون مسافة القصر أحضره، وإلا فلا، والثالث إن كان على مسافة
العدوي، أحضره وإلا فلا، وهذا أصح عند الامام. وإذا قلنا: لا يحضره إذا كان
هناك حاكم، فكذا لا يحضره إذا كان هناك من يتوسط ويصلح بينهما، بل يكتب إليه
أن يتوسط ويصلح، فإن تعذر فحينئذ يحضره، وحيث قلنا: يحضر الخارج عن
البلد، فذكر الامام والغزالي، وصاحب العدة أنه إنما يحضره إذا أقام المدعي بينة
على ما يدعيه، فقد لا يكون له حجة فيتضرر الخصم بالاحضار، لكن قد لا يكون له
حجة، ويقصد تحليفه لعله ينزجر فيقر، ولم يتعرض الجمهور لما ذكره، لكن
قالوا: يبحث القاضي عن جهة دعواه، فقد يريد مطالبته بما لا يعتقده، كذمي أراد
مطالبة مسلم بضمان خمر، بخلاف الحاضر في البلد لا يحتاج إلى البحث في
إحضاره، لأنه ليس في الحضور عليه مشقة شديدة ولا مؤنة.
فرع لو استعدى على امرأة خارجة عن البلد هل يحضرها، وهل يشترط
أمن الطريق ونسوة ثقات، وهل على القاضي أن يبعث إليها محرما لها لتحضر معه؟
قال أبو العباس الروياني في كل ذلك وجهان الأصح أن يبعث إليها محرما أو نسوة
ثقات.
176

فصل إذا ثبت على غائب دين، وله مال حاضر، فعلى القاضي توفيته منه
إذا طالب المدعي، وإذا وفى هل يطالب المدعي بكفيل؟ وجهان، أحدهما:
نعم فقد يكون للغائب دافع، وأصحهما: لا، لأن الحكم قد تم، والأصل عدم
الدافع.
فصل ذكرنا أن القضاء على الغائب جائز، وذلك في غير العقوبات، وفي
العقوبات ثلاثة أقوال المشهور ثالثها إن كانت لآدمي، كقصاص وحد قذف، جاز،
وإن كانت حدا لله تعالى، كالزنا والشرب، وقطع الطريق فلا، فإن جوزنا، كتب
إلى قاضي بلد المشهود عليه، ليأخذه بالعقوبة ثم لا فرق بين كتاب الحكم، وكتاب
النقل عند الجمهور وقال الفوراني: الخلاف في كتاب النقل، فأما كتاب الحكم
فيقبل قطعا في العقوبتين.
فصل إذا سمع القاضي بينة، فعزل، ثم ولي ثانيا، لم يحكم بالسماع
الأول لبطلانه بالعزل، بل تجب الاستعادة، ولو خرج عن محل ولايته، ثم عاد،
فله الحكم بالسماع الأول على الصحيح لبقاء ولايته. ولو سمع الشهادة على غائب،
فقدم قبل الحكم، لم تجب الاستعادة، لكن يخير ويمكن من الجرح، وإن قدم بعد
الحكم، فهو على حجته في إقامة البينة بالأداء والابراء، وجرح الشهود، لكن
يشترط أن يؤرخ الجارح فسقه بيوم الشهادة، لأنه إذا أطلق احتمل حدوثه بعد
الحكم وبلوغ الصبي بعد سماع البينة عليه، أو بعد الحكم كقدوم الغائب.
177

فصل المرأة المخدرة هل تكلف حضور مجلس الحكم؟ وجهان:
أحدهما نعم قاله القفال كغيرها، فعلى هذا لو حضر القاضي دارها، ليحكم بينها
وبين خصمها، أو بعث نائبا كان للخصم أن يمتنع من دخول دارها، ويطلب
إخراجها، وأصحهما لا كالمريض، وسبيل القاضي في حقها كما سبق في المريض،
فعلى هذا قال ابن الصباغ: إذا حضر دارها نائب القاضي، تكلمت من وراء الستر
إن اعترف الخصم أنها خصمه، أو شهد اثنان من محارمها أنها هي التي ادعى
عليها، وإلا تلففت بملحفة، وخرجت من الستر، ثم من لا تخرج أصلا إلا لضرورة
فهي مخدرة، ومن لا تخرج إلا نادرا لعزاء، أو زيارة أو حمام مخدرة أيضا على
الأصح. ويكفي أن لا تصير متبذلة بكثرة الخروج للحاجات المتكررة، كشراء الخبز
والقطن، وبيع الغزل ونحوها، ثم إنما يتحتم حضور المخدرة على الوجه الأول
للتحليف، وأما ما عداه، فيقنع فيه بالتوكيل من المخدرة وغيرها.
فصل القاضي يزوج من لا ولي لها إذا كانت في محل ولايته، سواء كانت
مستوطنة محل ولايته، أم غيرها، ولا يزوج خارجة عن محل ولايته، وإن رضيت.
ولا يكفي حضور الخاطب، لأن الولاية عليها لا تتعلق بذلك بخلاف ما لو حكم
بحاضر على غائب، لأن المدعي حاضر، والحكم يتعلق به، بخلاف ما لو كان
ليتيم غائب عن محل ولايته مال حاضر، فإنه يتصرف فيه، لأن الولاية عليه ترتبط
بماله، ثم تصرفه في مال اليتيم الغائب يكون بالحفظ والتعهد، وإذا أشرف على
الهلاك أتى بما يقتضيه الحال بشرط الغبطة اللائقة، وهكذا يفعل في مال كل غائب
أشرف على الهلاك، فإن كان حيوانا، وخيف هلاكه، باعه، وإن حصلت الصيانة
بالإجارة اقتصر عليها. وهل له أن يتصرف في مال اليتيم الغائب للاستنماء، وأن
ينصب قيما كذلك، وأن يتصرف للتجارة، وطلب الفائدة كتصرفه في أموال
الحاضرين؟ وجهان، لأن نصب القيم يرتبط بالمال والمالك جميعا، فلو جاز
النصب بحضور المال، جاز لقاضي بلد اليتيم بحضور المالك، وحينئذ يتمانع
178

تصرفاهما. قال الغزالي: والأولى أن يلاحظ مكان اليتيم دون المال، وله نصب
القيم للحفظ والصيانة بلا خلاف. وللقاضي إقراض مال الغائب ليحفظه بحفظه
في الذمة، وذكره صاحب التلخيص وهو موافق لما سبق في الحجر في إقراض
مال الصبي. وأما ما لا يتعين له مالك، وحصل اليأس من معرفته، فذكر بعضهم أن
له أن يبيعه، ويصرف ثمنه إلى المصالح، وأن له حفظه.
قلت: هذا المحكي عن بعضهم متعين، وقد قاله جماعة، ولا نعرف
خلافه. والله أعلم.
فصل في مسائل منثورة كتاب قاضي البغاة مقبول على المشهور، وعن
القديم منعه، أطلق بعضهم أنه لا يجوز للقاضي أن يكتب كتابا في غير محل
ولايته، والذي يستمر على أصل الشافعي رحمه الله ما ذكره ابن القاص أنه لا يحكم
ولا يشهر في غير محل ولايته، وأما الكتاب، فلا بأس به. ولو حكم القاضي ببينة
أقامها وكيل رجل في وجه وكيل آخر، فحضر المدعى عليه، وقال: كنت عزلت
وكيلي قبل قيام البينة، لم ينفعه، لأن القضاء على الغائب جائز. ولو حضر
المدعي، وقال: كنت عزلت وكيلي، وقلنا بانعزال الوكيل قبل بلوغ الخبر، لم
يصح الحكم، لأن القضاء للغائب باطل، وإذا أراد شهود كتاب حكمي التخلف في
الطريق في موضع فيه قاض وشهود، فصاحب الكتاب إما أن يشهد على كل واحد
منهم شاهدين يحضران معه ويشهدان عند القاضي الذي يقصده، وإما أن يعرض
الكتاب على قاضي البلد الذي يتخلفون فيه، ليشهدوا عنده به، فيضمنه، ويكتب
به إلى القاضي الذي يقصده. وإن كان التخلف حيث لا قاض ولا شهود، قال
البغوي: ليس لهم ذلك، بل عليهم الخروج إلى موضع فيه قاض وشهود، فإن طلبوا
أجرة الخروج إليه، فليس لهم إلا نفقتهم، وكذا دوابهم بخلاف ما لو طلبوا أكثر من
ذلك عند ابتداء الخروج من بلد القاضي الكاتب، حيث لا يكلفون الخروج،
179

والقناعة به، لأن هناك يتمكن من إشهاد غيرهم، وإذا ألزم المكتوب إليه الخصم
بالحق، فطلب أن يكتب له كتابا بقبضه، فهل على القاضي إجابته؟ وجهان، قال
الإصطخري: نعم، لئلا يطالب مرة أخرى، وقال الجمهور: لا، لأن الحاكم إنما
يطالب بإلزام ما حكم به، وثبت عنده، ويكفي للاحتياط إشهاد المدعي على قبضه
الحق. ولو طالبه بتسليم الكتاب الذي ثبت الحق به، لم يلزمه دفعه إليه، وكذا من
له كتاب بدين، واستوفاه، أو بعقار فباعه، لا يلزمه دفعه إلى المستوفى منه، وإلى
المشتري، لأنه ملكه، ولأنه قد يظهر استحقاق فيحتاج إليه، وبالله التوفيق.
180

كتاب القسمة
قد يتولاها الشركاء بأنفسهم أو منصوب للقاضي أو لهم، ويشترط في منصوب
القاضي الحرية والعدالة، والتكليف والذكورة، والعلم بالمساحة والحساب،
وهل يشترط معرفته للتقويم؟ وجهان، لأن في أنواع القسمة ما يحتاج إليه،
181

ولا يشترط في منصوب الشركاء العدالة والحرية، لأنه وكيل لهم، كذا أطلقوه.
وينبغي أن يكون في توكيل العبد في القسمة الخلاف في توكيله في البيع. ولو حكم
الشركاء رجلا ليقسم بينهم، فهو على القولين في التحكيم، فإن جوزناه، فهو كمنصوب
القاضي، فإن كان في سهم المصالح مال يتفرع لمؤنة القاسمين، لزم الامام أن
ينصب في كل بلد قاسما، فإن لم تحصل الكفاية بواحد، زاد بحسب الحاجة، وإلا
فلان يعين قاسما لئلا يغالي في الأجرة، ولئلا يواطئه بعضهم، فيحيف، بل يدع
الناس ليستأجروا من شاؤوا، وإذا لم تكن في القسمة تقويم، كفى قاسم على
المذهب، وقيل قولان ثانيهما يشترط اثنان، وإن كان تقويم، اشترط اثنان،
وللامام أن ينصب قاسما، لجعله حاكما في التقويم، ويعتمد في التقويم عدلين،
وهل للقاضي أن يحكم بمعرفته في التقويم؟ قولان، كقضائه بعلمه، وقيل:
لا يجوز قطعا، لأنه تخمين مجرد، ولو فوض الشركاء القسمة إلى واحد بالتراضي،
جاز قطعا.
فرع القاسم المنصوب من جهة الامام يدر رزقه من بيت المال على
الصحيح، وبه قطع الجمهور. وقال أبو إسحاق: لا يدر، وهذا ضعيف. وإذا لم
يكف مؤنته من بيت المال، فأجرته على الشركاء، سواء طلب جميعهم القسمة أم
بعضهم، وقال ابن القطان وغيره: على الطالب وحده، والصحيح الأول، ثم إن
182

استأجر الشركاء قاسما، وسموا له أجرة، وأطلقوا، فتلك الأجرة توزع على قدر
الحصص على المذهب، وقيل قولان ثانيهما على عدد الرؤوس، ويجري
الطريقان فيما لو استأجروه استئجارا فاسدا، فقسم، أن أجرة المثل كيف توزع؟
وفيما لو أمروا قاسما فقسم، ولم يذكروا أجرة، وقلنا: تجب أجرة المثل في مثل
ذلك، وفيما لو أمر القاضي قاسما فقسم قسم إجبار. ولو استأجروا قاسما، وسمى
كل واحد أجرة التزمها، فله على كل واحد ما التزم، هذا إذا استأجروا جميعا بأن
قالوا: استأجرناك لتقسم بيننا كذا بدينار على فلان، ودينارين على فلان مثلا أو وكلوا
وكيلا عقد لهم كذلك، فلو استأجروا في عقود مترتبة، فعقد واحد لافراز نصيبه، ثم
الثاني كذلك، ثم الثالث، فقد جوزه القاضي حسين، وأنكره الامام، وقال: هذا بناء
على أنه يجوز استقلال بعض الشركاء باستئجار القاسم لافراز نصيبه، ولا سبيل
إليه، لأن إفراز نصيبه لا يمكن إلا بالتصرف في نصيب الآخرين ترددا وتقريرا
ولا سبيل إليه إلا برضاهم، لكن يجوز انفراد أحدهم برضى الباقين فيكون أصلا ووكيلا
ولا حاجة إلى عقد الباقين، وحينئذ إن فصل ما على كل واحد بالتراضي،
فذاك، وإن أطلق، عاد الخلاف في كيفية التوزيع.
فرع إذا كان أحد الشريكين طفلا، نظر إن كان في القسمة غبطة له،
فعلى الولي طلب القسمة، وبدل حصته من الأجرة من مال الطفل وإلا فلا يطلبها،
وإن طلبها الشريك الآخر وأجيب، فإن قلنا: الأجرة على الطالب خاصة، فذاك،
وإن قلنا: على الجميع، فوجهان، أحدهما: على الطالب لئلا يجحف بالصبي بلا
غبطة، وأصحهما تؤخذ حصة الصبي من ماله.
فصل للعين المشتركة حالان:
الأولى أن يعظم ضرر قسمتها، فإن طلبها
أحدهما، وامتنع الآخر، لم يجبر، وفي ضبط الضرر المانع ثلاثة أوجه سبقت في
باب الشفعة، فلا يكسر جوهر نفيس، ولا يقطع ثوب رفيع، ولا يقسم زوجا خف،
183

ومصراعا باب إن طلبه أحدهما، فلو تراضوا بقسمة ذلك، وطلبوها من القاضي،
فإن بطلت المنفعة بالكلية، لم يجبهم ويمنعهم أن يقتسموا بأنفسهم، لأنه سفه،
وإن نقصت كسيف يكسر، لم يجبهم على الأصح، لكن لا يمنعهم أن يقتسموا
بأنفسهم وما يبطل القسمة منفعته المقصودة منه، كطاحونة وحمام صغيرين إذا امتنع
أحدهما لا يجبر الآخر على أصح الأوجه المشار إليها، فإن كانا كبيرين، وأمكن
جعل الطاحونة طاحونتين، والحمام حمامين، أجبر الممتنع، فإن كان يحتاج إلى
إحداث بئر أو مستوقد فوجهان، أحدهما: لا إجبار، لتعطل المنفعة إلى الاحداث،
وأصحهما: يجبر ليسر التدارك. وإن تضرر أحدهما بالقسمة دون الآخر كدار بين
اثنين، لأحدهما عشرها، وللآخر باقيها، ولو قسمت، لم يصلح العشر للسكن،
ويصلح الباقي، فإن طلب القسمة صاحب العشر، لم يجبر الآخر على الأصح،
وإن طلبها الآخر، أجبر صاحب العشر على الأصح، لأن صاحب العشر متعنت في
طلبه، والآخر معذور.
وإن كان نصف الدار لواحد، ونصفها لخمسة، فطلب صاحب النصف إفراز
نصيبه، أجيب إليه، والباقون إن اختاروا القسمة قسم، وإن كان العشر لا يصلح
للسكن، لأن في القسمة فائدة لبعض الشركاء، وإن استمروا على الشيوع، جاز فلو
طلب أحدهم القسمة بعد ذلك، لم يجبر الباقون، لأن هذه القسمة تضر الجميع،
ولو طلب الخمسة أولا إفراز النصف، ليكون بينهم شائعا، أجيبوا إليه، كذا ذكره
الروياني وغيره، وكذا لو كانت بين عشرة، فطلب خمسة القسمة، ليكون النصف
بينهم يجابون.
الحالة الثانية: أن لا يعظم ضرر القسمة، فقد لا ينقسم من غير رد من أحد
184

الشريكين أو الشركاء، وقد ينقسم بلا رد باعتبار الاجزاء، وتسمى قسمة
المتشابهات، أو باعتبار القيمة وتسمى قسمة التعديل، فهذه ثلاثة أنواع. الأول:
قسمة المتشابهات، وإنما تجري في الحبوب والدراهم والأدهان وسائر المثليات،
وفي الدار المتفقة الأبنية، والأرض المتشابهة الاجزاء وما في معناها، فتعدل
الأنصباء في المكيل بالكيل، والموزون بالوزن، والأرض المتساوية تجزأ أجزاء
متساوية بعدد الأنصباء إن تساوت، بأن كانت لثلاثة أثلاثا، فتجعل ثلاثة أجزاء
متساوية، ثم تؤخذ ثلاث رقاع متساوية، ويكتب على كل رقعة اسم شريك أو جزء
من الاجزاء ويميز بعضها عن بعض بحد أو جهة أو غيرها، وتدرج في بنادق
متساوية وزنا وشكلا من طين مجفف أو شمع، وتجعل في حجر من لم يحضر الكتابة
والادراج، فإن كان صبيا أو أعجميا كان أولى، ثم يؤمر بإخراج رقعة على الجزء
الأول إن كتب في الرقاع أسماء الشركاء، فمن خرج اسمه، أخذه، ثم يؤمر بإخراج
أخرى على الجزء الذي يلي الأول، فمن خرج اسمه أخذه، ويعين الباقي للثالث،
وإن كتب في الرقاع أسماء الاجزاء أخرجت رقعة باسم زيد، ثم أخرى باسم عمرو،
ويتعين الثالث للثالث، ويعين من يبتدئ به من الشركاء والاجزاء منوط بنظر
القاسم، فيقف أولا على أي طرف شاء ويسمي أي شريك شاء، وإن كانت الأنصباء
مختلفة، بأن كان لزيد نصف، ولعمرو ثلث، وللثالث سدس، جزأ الأرض على
أقل السهام وهو السدس، فيجعلها ستة أجزاء، ثم نص الشافعي رحمه الله أنه يثبت
اسم الشركاء في رقاع، وتخرج الرقاع على الاجزاء، وقال في العتق:
يكتب على رقعتين: رق، وعلى رقعتين: حرية، وتخرج على أسماء
العبيد، ولم يقل تكتب أسماء العبيد، وفيهما طريقان، أحدهما فيهما
قولان، ففي قول يثبت اسم الشركاء والعبيد، وفي قول يثبت الاجزاء هنا،
والرق والحرية هناك، والطريق الثاني وهو المذهب، وبه قطع الجمهور
الفرق، ففي العتق يسلك ما شاء من الطريقين، وهنا لا يثبت الاجزاء على
الرقاع، لأنه لو أثبتها وأخرج الرقاع على الأسماء ربما خرج لصاحب السدس الجزء
الثاني أو الخامس، فيفرق ملك من له النصف أو الثلث، وأيضا قال في
المهذب: لو فعلنا ذلك ربما خرج السهم الرابع لصاحب النصف، فيقول:
185

آخذه وسهمين قبله ويقول الآخران، بل خذه وسهمين بعده، فيفضي إلى النزاع،
ثم هل هذا الخلاف في الجواز أم الأولوية؟ وجهان، أرجحهما: الثاني وبه قال
الامام والغزالي، وسنوضح إن شاء الله تعالى ما يحصل به الاحتراز عن تفريق الملك،
وأما ما ذكره في المهذب فيجوز أن يقال: لا نبالي بقول الشركاء بل يتبع نظر
القاسم كما في الجزء المبدوء به، واسم الشريك المبدوء به، فإن أثبت أسماء
الشركاء فقيل: يثبت أسماءهم على ثلاث رقاع، ويأمر بإخراج رقعة على الجزء
الأول، فإن خرج اسم صاحب السدس أخذه، وأخرجت رقعة على الجزء الثاني،
فإن خرج اسم عمرو، أخذه مع الجزء الثالث، تعينت الثلاثة الباقية لزيد، وإن خرج
اسم زيد، أخذ الثاني والثالث والرابع، وتعين الآخران لعمرو، فإن خرج اسم زيد
أولا، أخذ الثلاثة الأولى، ثم يخرج رقعة، فإن خرج اسم عمرو، أخذ الرابع
والخامس، ويعين السادس لصاحب السدس. وإن خرج اسم صاحب السدس،
أخذ الرابع، وتعين الباقيان لعمرو، وإن خرج اسم عمرو أولا، لم يخف الحكم.
وقيل: تثبت أسماؤهم في ست رقاع، اسم زيد في ثلاث، وعمرو في ثنتين،
والثالث في رقعة، ويخرج على ما ذكرنا. وليس في هذا إلا أن اسم زيد يكون أسرع
خروجا لكن سرعة الخروج لا توجب حيفا، لأن السهام متساوية، فالوجه تجويز كل
واحد من الطريقين. وإن أثبت الاجزاء في الرقاع، فلا بد من إثباتها في ست رقاع،
وحينئذ فالتفريق المحذور لو لزم إنما يلزم إذا خرج أولا اسم صاحب السدس وهو
مستغن عنه، بأن يبدأ باسم صاحب النصف، فإن خرج الأول باسمه، فله الأول
والثاني والثالث، وإن خرج الثاني فكذلك، فيعطى معه ما قبله وما بعده، وإن خرج
الثالث، ففي شرح مختصر الجويني أنه يتوقف فيه، ويخرج لصاحب الثلث، فإن
خرج الأول أو الثاني، فله الأول والثاني، ولصاحب النصف الثالث والرابع
والخامس. وإن خرج الخامس، فله الخامس والسادس، ثم أهمل باقي
الاحتمالات، وكان يجوز أن يقال: إذا خرج لصاحب النصف الثالث، فهو له مع
اللذين قبله، وإن خرج الرابع، فهو له مع اللذين قبله، ويتعين الأول لصاحب
السدس، وإن خرج الخامس، فهو له مع اللذين قبله، ويتعين السادس لصاحب
السدس، وإن خرج السادس، فهو له مع اللذين قبله. وإذا أخذ زيد حقه، ولم
يتعين حق الآخرين، أخرج رقعة أخرى باسم أحدهما، فلا يقع تفريق ويمكن أن يبدأ
186

بصاحب السدس، فإن خرج باسم الجزء الأول دفع إليه، ثم يخرج باسم أحد
الجزئين، فلا يقع تفريق. وإن خرج له الثالث دفع إليه ويعين الأول والثاني
لصاحب الثلث والثلاثة الآخرة لصاحب النصف. وإن خرج له الرابع، دفع إليه،
وتعين الأخيران لصاحب الثلث، والثلاثة الأولى لصاحب النصف. ويمكن أن يبدأ
بصاحب الثلث، فإن خرج له الأول أو الثاني، دفعا إليه، وإن خرج له الخامس أو
السادس دفعا إليه، ثم يخرج باسم أحد الآخرين، وإن خرج الثالث، فله الثالث
والثاني، ويتعين الأول لصاحب السدس، والثلاثة الأخيرة لصاحب النصف، وإن
خرج الرابع، فله الرابع والخامس، وتعين السادس لصاحب السدس، والثلاثة
الأول لصاحب النصف.
فرع كيفية إدراج الرقاع وإخراجها على التفصيل المذكور لا يختص بقسمة
المتشابهات، بل هي في قسمة التعديل إذا عدلت الاجزاء بالقيمة كذلك.
فرع كما تجوز القسمة بالرقاع المدرجة في البنادق تجوز بالأقلام والعصي
والحصى ونحوها.
فرع إذا امتنع أحد الشركاء من نوع القسمة الذي نحن فيه، وهو قسمة
المتشابهات، أجبر عليها، سواء كانت الأنصباء متساوية، أم متفاوتة، وفي
المتفاوتة وجه لابن أبي هريرة أنه لا إجبار، والصحيح الأول.
فصل إذا قسم قاسم القاضي بالاجبار، ثم ادعى أحد الشريكين غلطا أو
حيفا، نظر إن لم يبين ما يزعم به الحيف أو الغلط، لم يلتفت إليه، وإن بينه، لم
يمكن تحليف القاسم، كما لا يحلف القاضي أنه لم يظلم، والشاهد أنه لم
يكذب، لكن إن قامت بينة، سمعت ونقضت القسمة. قال الشيخ أبو حامد وغيره:
وطريقه أن يحضر قاسمين حاذقين لينظرا، ويمسحا، ويعرفا الحال، ويشهدا.
وألحق أبو الفرج بقيام البينة ما إذا عرف أنه يستحق ألف ذراع. ومسحنا ما أخذه،
187

فإذا هو سبعمئة ذراع، ولو لم تقم حجة، وأراد تحليف الشريك، مكن منه، فإن
نكل وحلف المدعي، نقضت القسمة، ولو حلف بعض الشركاء، ونكل بعضهم،
فحلف المدعي لنكول بعضهم، قال في الوسيط: تنقض القسمة في حق
الناكلين دون الحالفين ولا يطالب الشريك بإقامة بينة أن القسمة الجارية عادلة،
لأن الظاهر الصواب. وحكى ابن أبي هريرة قولا أن على الشريك البينة بأنها عادله،
ولا بينة على مدعي الغلط. وقال أبو إسحاق: إن قال مدعي الغلط: إن القاسم
الذي قسم لا يحسن القسمة والمساحة والحساب، فالأصل ما يقوله: وعلى صاحبه
البينة. وإن قال: سها، فعليه البينة، والمذهب الأول. ولو اعترف القاسم بالغلط أو
الحيف، فإن صدقه الشركاء، انتقضت القسمة، وإلا فلا تنتقض وعليه رد
الأجرة. قال البغوي: وهو كما لو قال القاضي: غلطت في الحكم، أو تعمدت
الحيف، فإن صدقه المحكوم له، استرد المال، وإلا فلا، وعلى القاضي الغرم.
أما إذا جرت القسمة بالتراضي بأن نصبا قاسما، أو اقتسما بأنفسهما، ثم ادعى
أحدهما غلطا، فإن لم يعتبر الرضى بعد خروج القرعة، فالحكم كما لو ادعى الغلط
في قسمة الاجبار، وإن اعتبرناه وتراضيا بعد خروج القرعة، فإن قلنا: القسمة
إفراز، فالافراز لا يتحقق مع التفاوت، فتنقض القسمة إن قامت به بينة، ويحلف
الخصم إن لم تقم، وإن قلنا: القسمة بيع، فوجهان أحدهما الجواب كذلك،
فإنهما تراضيا لاعتقادهما أنها قسمة عدل، وأصحهما أنه لا فائدة لهذه الدعوى، ولا
أجر للغلط، وإن تحقق، كما لا أثر للغبن في البيع والشراء، وبهذا قطع
الجمهور. كأنهم اقتصروا على الجواب الأصح.
فصل إذا قسمت التركة بين الورثة، ثم ظهر دين، فإن قلنا: القسمة
إفراز، فهي صحيحة، ثم تباع الأنصباء في الدين إن لم يوفوه، وإن قلنا: بيع،
فقد سبق في كتاب الرهن وجهان في صحة بيع الوارث التركة قبل قضاء الدين، وأنه
لو تصرف ولا دين في الظاهر، ثم ظهر. فالأصح صحة التصرف ففي القسمة هذان
الوجهان، فإن صححنا البيع، فالقسمة الجارية صحيحة، فإن وفوا الدين،
استمرت صحتها، وإلا نقضت وبيعت التركة في الدين، وإن لم نصححه، فالقسمة
باطلة، ولو جرت قسمة، ثم استحق بعض المقسوم، نظر إن استحق جزء شائع
188

كالثلث، فمطلت القسمة في المستحق وفي الباقي طريقان، أصحهما قولان:
أحدهما:. يبطل فيه، والثاني: يصح، ويثبت الخيار، وبهذا الطريق قال
الأكثرون. وقال أبو إسحاق: يبطل فيه قولا واحدا، لأن مقصود القسمة تمييز
الحقوق، وبالاستحقاق يصير المستحق شريك كل واحد، لأن المستحق كان
شريكا، وانفراد بعض الشركاء بالقسمة ممتنع، وإن استحق شئ معين، نظر إن
اختص المستحق بنصيب أحدهما، أو كان المستحق من نصيب أحدهما أكثر،
بطلت القسمة، وإن كان المستحقان من نصيبهما، سواء بقيت القسمة في الباقي
على الصحيح، وقيل: تبطل بمعنى التفريق. ولو ظهرت وصية بعد قسمة التركة،
فإن كانت مرسلة، فهو كظهور دين على التركة، وإن كانت بجزء شائع أو معين،
فعلى ما ذكرناه في الاستحقاق، ثم ظهور الدين والاستحقاق، ودعوى الغلط
لا تختص بقسمة المتشابهات، بل تعم أنواع القسمة.
النوع الثاني: قسمة التعديل والمشترك الذي تعدل سهامه بالقيمة ينقسم إلى ما
يعد شيئا واحدا، وإلى ما يعد شيئين فصاعدا، أما الأول، فكالأرض تختلف أجزاؤها
لاختلافها في قوة الانبات والقرب من الماء، وفي أن بعضها يسقى بالنهر، وبعضها
بالناضح فيكون ثلثها لجودتها كثلثيها بالقيمة مثلا، فيجعل هذا سهما، وهذا
سهما إن كانت بينهما نصفين. وإذا اختلفت الأنصباء، كنصف وثلث وسدس،
جعل ستة أسهم بالقيمة دون المساحة، وإذا طلب أحدهما هذه القسمة، فهل يجبر
الممتنع؟ قولان أظهرهما عند العراقيين وغيرهم نعم إلحاقا للتساوي في القيمة،
بالتساوي في الاجزاء على هذا هل توزع أجرة القاسم بحسب الشركة في الأصل أم
بحسب المأخوذ منها؟ وجهان، أصحهما: الثاني، لأن العمل في الكثير أكثر،
وكما يجري القولان فيما إذا اختلفت الصفات تجري فيما إذا كان الاختلاف لاختلاف
الجنس، كالبستان الواحد بعضه نخل، وبعضه عنب، والدار المبني بعضها
بالآجر، وبعضها بالخشب والطين، ويشبه أن يكون الخلاف مخصوصا بما إذا لم
يمكن قسمة الجيد وحده، وقسمة الردئ وحده، فإن أمكن لم يجبر كما لو كانا
189

شريكين في أرضين تمكن قسمة كل واحدة بالاجزاء، لا يجري الاجبار على
التعديل.
القسم الثاني: ما يعد شيئين فصاعدا وهو ضربان عقار وغيره، أما العقار،
فإذا اشتركا في دارين أو حانوتين متساويتي القيمة وطلب أحدهما القسمة بأن يجعل
لهذا دار ولهذا دار، أو حانوت وحانوت، لم يجبر الممتنع، سواء تجاور الحانوتان
والداران، أم تباعدا، لشدة اختلاف الأغراض باختلاف المحال والأبنية. ولو
اشتركا في دكاكين صغار متلاصقة لا تحتمل آحادها القسمة، ويقال لها: العضايد،
فطلب أحدهما أن يقسم أعيانا، فهل يجبر الممتنع؟ وجهان: أحدهما كالمتفرقة
وكالدور، وأصحهما: نعم للحاجة، وكالخان المشتمل على بيوت ومساكن،
هكذا صور هذه المسألة الجمهور، وهو الصواب، وصورها صاحب المهذب
فيما إذا احتملت كل واحدة منهما القسمة وحكى وجهين فيما إذا طلب أحدهما
قسمتها أعيانا والآخر قسمة كل واحد منها. وأما الأقرحة، فإن كانت متفرقة،
فهي كالدور. وإن كانت متجاورة، ففي الشامل أن أبا إسحاق جعلها كالقراح
الواحد المختلف الاجزاء، وأن غيره قال: إنما يكون كالقراح الواحد إذا اتحد
الشرب والطريق، فإن تعدد، فهو كما لو تفرقت، قال: وهذا أشبه بكلام الشافعي
رحمه الله.
الضرب الثاني غير العقار إذا اشتركا في عبيد أو دواب، أو أشجار، أو ثياب
ونحوها، فلها حالان أحدهما: أن يكون من نوع واحد، ويمكن التسوية بين
الشريكين عددا وقيمة، كعبدين متساويي القيمة بين شريكين، وكثلاث دواب، أو
أثواب متساوية القيمة بين ثلاثة، فالمذهب أنه يجبر على قسمتها أعيانا، لقلة
اختلاف الأغراض فيها بخلاف الدور، وقال أبو علي بن خيران، وابن أبي هريرة:
190

هي كالدور، وقيل: يخير في العبيد وفي غيرها الخلاف. وإن لم تمكن التسوية في
العدد كثلاثة أعبد لرجلين بالسوية إلا أن أحدهم يساوي الآخرين في القيمة، فإن قلنا
بالاجبار عند استواء القيمة، فهنا قولان، وهما كالقولين في الأرض المختلفة
الاجزاء، وإن كانت الشركة لا ترفع إلا عن بعض الأعيان، كعبدين بين اثنين قيمة
أحدهما مائة، وقيمة الآخر مائتان، فطلب أحدهما القسمة ليختص من خرجت له
قرعة الخسيس بالخسيس، ويكون له مع ذلك ربع النفيس، فإن قلنا: لا إجبار
في الصورة السابقة، فهنا أولى وإلا فوجهان، أو قولان، الأصح لا إجبار، لان
الشركة لا ترتفع بالكلية.
الحال الثاني: أن يكون الأعيان أجناسا، كعبد وثوب، وحنطة وشعير، ودابة
ونحوها، أو أنواعا كعبدين تركي وهندي، وثوبين إبريسم وكتان، فطلب أحدهما أن
يقسم أجناسا وأنواعا لا يجبر الآخر وإنما يقسم كذلك بالتراضي. ولو اختلطت
الأنواع وتعذر التمييز كتمر جيد وردئ، فلا قسمة إلا بالتراضي هذا ما قطع به
الجمهور، وطرد السرخسي الخلاف في الاجبار عند اختلاف النوع، وزاد الامام
والغزالي فأجرياه عند اختلاف الجنس، وليس بشئ، والمذهب الأول.
فرع إذا كان بينهما عرصة وثلثها بالمساحة نصف بالقيمة، لقربه من الماء
فهي قسمة تعديل، وفيها الخلاف. وقال الغزالي: يجبر عليها قطعا ولا يبالي بهذا
التفاوت، والمذهب الأول، وهو المعروف عن الأصحاب.
فرع اللبنات إن تساوت قوالبها، فقسمتها قسمة المتشابهات، فيجبر
قطعا، وإن اختلفت قوالبها، فقسمة تعديل، وفيها الخلاف.
فرع دار بين اثنين، لها علو وسفل طلب أحدهما قسمتها علوا وسفلا،
أجبر الآخر عند الامكان، وإن طلب أحدهما أن يجعل العلو لواحد، والسفل لآخر
لا يجبر، هكذا أطلقه الأصحاب. ويجوز أن يقال: إن لم يمكن القسمة سفلا
191

وعلوا، جعل السفل لأحدهما والعلو للآخر من جملة قسمة التعديل، ولو طلب
أحدهما أن يقسم السفل، ويترك العلو مشاعا، لم يجبر الآخر، لأنهما قد يقتسمان
العلو بعده، فيقع ما فوق هذا لذاك.
النوع الثالث: قسمة الرد، وصورتها أن يكون في أحد جانبي الأرض بئر أو
شجر، أو في الدار بيت لا يمكن قسمته، فيضبط قيمة ما اختص ذلك الجانب به،
ويقسم الأرض والدار على أن يرد من يأخذ ذلك الجانب بتلك القيمة، وهذه
لا إجبار عليها قطعا وكذا لو كان بينهما عبدان قيمة أحدهما مائة، والآخر
خمسمائة، واقتسما على أن يرد آخذ النفيس مائتين ليستويا وقيل في الاجبار قول
مخرج حكاه السرخسي وهو غلط. ولو تراضيا بقسم الرد، جاز أن يتفقا على أن يأخذ
أحدهما النفيس ويرد، ويجوز أن يحكما القرعة ليرد من خرج له النفيس.
فصل قسمة المتشابهات هل هي بيع أم إفراز حق؟ قولان، قال البغوي
وآخرون: الأظهر كونها بيعا، وقال الغزالي: الأظهر كونها إفرازا، قال صاحب
العدة: وعليه الفتوى، وهذا يوافقه جواب الأصحاب في مسائل متفرقة تتفرع
على القولين.
قلت: أشار الرافعي في المحرر إلى اختيار الافراز، فإنه قال فيه قولان
ذكر أن الفتوى على الافراز هذا كلامه، فالمختار ترجيح الافراز. والله أعلم.
192

ثم قيل القولان فيما إذا جرت القسمة إجبارا، فإن جرت بالتراضي فبيع قطعا.
وقيل القولان في الحالين، قال البغوي: والأصح الطريق الأول، ثم القول بأنها بيع
لا يمكن إطلاقه في كل ما حصل لكل منهما، بل النصف الذي صار في يده، كان
نصفه له، ونصفه لصاحبه، فالقسمة إفراز فيما كان لصاحبه على هذا القول. وأما
قسمة التعديل، فالمذهب أنها بيع، وقيل فيه القولان، وقسمة الرد بيع، كذا قاله
الجمهور، وقيل: بيع فيما يقابل المردود، وفيما سواه الخلاف في قسمة التعديل.
فرع إذا قلنا: القسمة بيع، فاقتسما ربويا، وجب التقابض في
المجلس، ولم تجز قسمة المكيل وزنا ولا العكس، ولا يجوز قسمة الرطب
والعنب، وما أثرت فيه النار بتعقيد الاجزاء، وإن قلنا: إفراز جاز كل ذلك.
وتجوز قسمة الحص والنورة كيلا ووزنا على القولين، ولا تقسم الثمار على رؤوس
الشجر خرصا إن قلنا: القسمة بيع، كما لا تباع خرصا، وإن قلنا: إفراز، فإن
كانت رطبا وعنبا، جاز، وإن كان غيرهما، فلا، لأن الخرص لا يدخل غيرهما،
وإن كان بينهما أرض مزروعة، فأرادا قسمة الأرض وحدها، جاز، وإن طلبها
أحدهما أجبر الآخر، ويجئ على قول: القسمة بيع وجه مذكور في البيع، وإن
أرادا قسمة الأرض وما فيها لم يجز إن اشتد الحب. أما إن جعلناها إفرازا، فلأنه
قسمة مجهول ومعلوم، وأما إن جعلناها بيعا فلأنه بيع طعام وأرض بطعام وأرض،
وكذا لو كان بذرا بعد، وإن كان قصيلا، جاز، لأنه معلوم مشاهد. وإن أرادا قسمة
ما فيها وحده، فكذا الحكم إن لم ينبت، أو اشتد الحب، لم يجز، وإن كان
قصيلا، جاز. وإن طلب أحدهما قسمة الأرض، وما فيها أو قسمة ما فيها وحده،
وامتنع الآخر والحال حال جواز القسمة بالتراضي قال الشيخ أبو حامد وصاحبا
المهذب والتهذيب: لا يجبر الممتنع، ولم يوجهوه بمقنع.
193

فرع اقتسما، ثم تقابلا، إن قلنا: القسمة بيع، صحت الإقالة، وعاد
الشيوع، وإلا فهي لاغية.
فرع قسمة الملك عن الوقف إن قلنا: بيع، لا يجوز، وإن قلنا: إفراز،
جازت، قال الروياني: وهو الاختيار.
قلت: هذا الذي اختاره الروياني هو المختار، وهذا إذا لم يكن فيها رد، أو
كان رد من أصحاب الوقف، فإن كان من صاحب الملك، لم يجز، لأنه يأخذ بإزائه
جزءا من الوقف، ذكره صاحب المهذب وغيره. والله أعلم.
وأما قسمة الوقف بين الموقوف عليهم، فلا يجوز على القولين، لأن فيها تغيير
شرط الواقف، وقيل: يجوز على قول الافراز ليرغبوا في العمارة ولا يتواكلوا، وهذا
الوجه حكاه ابن كج عن ابن القطان وحده، وخصصه بقولنا: الملك في الموقوف
للموقوف عليه، قال: فلو انقرض البطن الأول، وصار الوقت للبطن الثاني، انتقضت القسمة.
فصل: قسمة الاجبار لا يعتبر فيها التراضي عند إخراج القرعة ولا بعدها،
وإذا تراضيا بقاسم يقسم بينهما، فهل يشترط الرضى بعد خروج القرعة أم يكفي
الرضى الأول؟ قولان، أظهرهما: الاشتراط، وإليه مال المعتبرون، وذكروا أنه
المنصوص، وفي قسمة الرد يشترط الرضى بعد خروج القرعة كما في الابتداء وعن
الإصطخري وجه أنه يلزم بخروج القرعة، والصحيح الأول. وإذا اشترطنا الرضى
بعد خروجها، فصيغته أن يقولا: رضينا بهذه القسمة، أو بما أخرجت القرعة، أو
بما جرى، ولا يشترط لفظ البيع، وإن قلنا: القسمة بيع، وقيل: إن قلنا بيع،
اشترط لفظ البيع أو التمليك، وقيل: لا يكفي قولهما رضينا بهذا أو بما جرى، بل
يشترط تلفظهما بالقسمة بأن يقولا: تقاسمنا أو رضينا بهذه القسمة ليؤدي معنى
التمليك والتملك، والمذهب الأول، وحيث وجب الرضى، فلا بد منه في
الابتداء، وإنما الخلاف في الرضى بعد خروج القرعة.
فصل: تقسم المنافع كما تقسم الأعيان، وطريق قسمتها المهايأة مياومة أو
مشاهرة أو مسانهة، فإن كانت العين قابلة للقسمة، فلا إجبار على المهايأة
194

بحال، وكذا لو طلب أحدهما أن يزرع هذا بعض الأرض وذاك بعضها، أو يسكن
هذا بعض الدار وذاك بعضها من غير أن يقسم الأرض، وامتنع الآخر فلا اجبار، فإن
لم تكن العين قابلة للقسمة، كالقناة والعبد والبهيمة والحمام، فإن اتفقا فيها على
المهايأة، فذاك، ثم قد يتفقان على من يبدأ، وقيل: يتنازعان، فيقرع، وإن
طلبها أحدهما، وامتنع الآخر، فوجهان أحدهما قاله ابن سريج: يجبر الممتنع،
كما في قسمة الأعيان، ولئلا يعطل على شريكه مضارة، فعلى هذا يبدأ بالقرعة،
وأصحهما: لا يجبر. ولو رضيا بالمهايأة، ثم رجع المبتدئ بالانتفاع قبل استيفاء
نوبته، مكن، فإن مضت مدة لمثلها أجرة، غرم نصف أجرة المثل، وإن رجع بعد
استيفاء نوبته، فإن قلنا: لا إجبار على المهايأة مكن، وغرم نصف الأجرة، وإن قلنا
بالاجبار لم يمكن، بل يستوفي الأجرة مدته، وإن استوفى الأول نوبته، وامتنع الآخر
من أن ينتفع، ويستوفي نوبته، فإن قلنا بالاجبار، فهو مضيع حق نفسه ولا أجرة له،
وإن قلنا: لا إجبار، فله ذلك، وله نصف الأجرة على الأول، وكذا لو انهدمت الدار، أو
مات العبد بعد نوبة الأول، فعليه نصف أجرة المثل، وإن قلنا: لا إجبار وأصرا على
النزاع في المهايأة، فهل يبيع القاضي العين عليهما قطعا للنزاع؟ وجهان أصحهما لا،
وعلى هذا هل يتركان حتى يصطلحا ولا يؤجر عليهما، أم يؤجر وتوزع الأجرة
بينهما؟ وجهان أصحهما: الثاني وهو الذي ذكره ابن كج والبغوي. ولو استأجر اثنان
أرضا، وطلب أحدهما المهايأة، وامتنع الآخر فينبغي أن يعود الخلاف في الاجبار،
وإن أراد قسمتها ففي فتاوى القاضي حسين أنها جائزة على قول ابن سريج. ثم إذا
اقتسما، وحدث بنصيب أحدهما عيب، فله الفسخ. قال القاضي: وينبغي أن
يقال: لشريكه الفسخ أيضا. ولو طلب أحدهما هذه القسمة، وامتنع الآخر، حكي
في إجباره وجهان.
فرع: إذا جرت المهايأة في عبد مشترك بين مالكين، أو فيمن بعضه حر بينه
وبين مالك باقيه، فالأكساب العامة، والمؤن العامة، كالنفقة تدخل في المهايأة،
وفي الأكساب النادرة، كما يقبله بهبة أو وصية، وفي المؤن النادرة، كأجرة الطبيب
195

والحجام خلاف سبق في كتاب اللقطة ومواضع، والأظهر دخولها أيضا. وينبغي أن
ينظر في الكسوة إلى قدر النوبة حتى تبقى على الاشتراك إن جرت المهايأة مياومة.
فرع: لا تجوز المهايأة في الحيوان اللبون ليحلب هذا يوما،
وهذا يوما، ولا في الشجرة المثمرة، ليكون ثمرها لهذا عاما ولهذا عاما لما فيه من التفاوت
الظاهر.
قلت: طريقها والحالة هذه أن يبيح كل واحد نصيبه لصاحبه مدة. والله أعلم.
فصل: جماعة في أيديهم دار أو أرض، طلبوا من القاضي قسمتها بينهم،
فإن أقاموا بينة أنها ملكهم، أجابهم إلى القسمة، وإن لم يقيموها، فطريقان،
أصحهما قولان، أحدهما: لا يجيبهم، فربما كانت في أيديهم بإجارة أو إعارة،
فإذا قسمها ربما ادعوا ملكها محتجين بقسمة القاضي. والثاني: يجيبهم، لأن اليد تدل
على الملك، لكن يكتب أنه إنما قسم بينهم بدعواهم، لئلا يتمسكوا بقسمته.
وحكى السرخسي وجها أنه لا يحتاج إلى هذا التقييد، والطريق الثاني القطع بالقول
الأول، وبه قال ابن سلمة، وإذا قلنا بالقولين، فأظهرهما عند الامام، وابن
الصباغ، والغزالي: الثاني، وعند الشيخ أبي حامد وطبقته: الأول، ويدل عليه أن
الشافعي رحمه الله لما ذكر القول الثاني، قال: ولا يعجبني هذا القول.
قلت: المذهب أنه لا يجيبهم. والله أعلم.
196

هذا في العقار، وأما المنقول، فالمذهب أنه كالعقار أيضا، وقيل: يقسم
قطعا بلا بينة، لأن العقار يتأبد ضرره، فيخص بالاحتياط، ولهذا تثبت فيه الشفعة
ولو طلب بعضهم القسمة، وامتنع الآخرون، واتفقوا جميعا على الملك، فهل
يقسم القاضي؟ فيه هذا الخلاف. وإذا شرطنا البينة، قبل رجل وامرأتان، قال ابن
كج: ولا يقبل شاهد ويمين، لأن اليمين إنما تشرع حيث يكون خصم ترد عليه لو
حصل نكول، وقال ابن أبي هريرة: تقبل.
فصل: في مسائل منثورة إذا كانت القسمة بالاجبار والقاسم على ولايته،
فقوله: قسمت مقبول، كقول الحاكم: حكمت وهو في ولايته، وإن لم يكن
كذلك، لم يقبل قوله وهل تسمع شهادته لاحد الشريكين؟ وجهان الأصح المنع،
والثاني - وهو قول الإصطخري - تسمع إن لم يطلب أجرة. وإذا تقاسما، ثم تنازعا
في بيت أو قطعة من الأرض، فقال كل واحد: هذا من نصيبي ولا بينة تحالفا،
ونقضت القسمة، قال الشيخ أبو حامد: فإن اختص أحدهما باليد فيما تنازعا فيه،
197

فهو المصدق بيمينه، وإذا اطلع أحدهما على عيب بنصيبه، فله فسخ القسمة.
فرع: الديون المشتركة في ذمم الناس أطلق مطلقون، منهم صاحب
العدة أنه يمتنع قسمتها، وقال السرخسي: إن أذن أحد الشريكين للآخر في
قبض ما على زيد على أن يختص به، فهل يختص إذا قبض؟ قولان أظهرهما
المنع، وإن تراضيا على أن يكون ما في ذمة زيد لهذا، وما في ذمة عمرو لهذا،
فطريقان أحدهما على هذين القولين، والثاني وهو المذهب القطع بالمنع، لان
القسمة إن جعلت بيعا فهذا بيع دين في ذمة بدين في ذمة أخرى، وإن جعلت إفرازا
فإفراز ما في الذمة ممتنع لعدم قبضه، ولا يدخل الاجبار في قسمة الديون بحال،
والقول في قسمة الجدار وعرضه ما سبق في كتاب الصلح. وبالله التوفيق.
198

كتاب الشهادات
فيه ستة أبواب:
الأول فيما يفيد أهلية الشهادة، ولها شروط،
منها التكليف والحرية والاسلام، فلا تقبل شهادة صبي ولا مجنون، ولا من
فيه رق، ولا كافر ما، سواء شهد على مسلم أو كافر.
الشرط الرابع العدالة
فالمعاصي صغائر وكبائر، وقال الأستاذ أبو إسحاق: ليس فيها صغيرة، والصحيح
الأول، وفي حد الكبيرة أوجه أحدها: أنها المعصية الموجبة لحد، والثاني: أنها
ما لحق صاحبها وعيد شديد بنص كتاب أو سنة، وهذا أكثر ما يوجد لهم، وهم إلى
ترجيح الأول أميل، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفصيل الكبائر، والثالث ما قاله
199

الامام في الارشاد وغيره: كل جريمة تؤذن بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة
الديانة، فهي مبطلة للعدالة. والرابع قال أبو سعد الهروي: الكبيرة كل فعل نص
الكتاب على تحريمه، أو وجب في جنسه حد من قتل أو غيره، وترك فريضة تجب
على الفور، والكذب في الشهادة والرواية واليمين، هذا ما ذكروه على سبيل
الضبط. وفصله جماعة، فعدوا من الكبائر القتل والزنى واللواط، وشرب قليل
الخمر، والسرقة، والقذف، وشهادة الزور، وغصب المال، وشرط الهروي في
المغصوب كونه نصابا، والفرار من الزحف، وأكل الربا ومال اليتيم، وعقوق
الوالدين، والكذب على رسول الله (ص) عمدا، وكتمان الشهادة بلا عذر. وأضاف
إليها صاحب العدة الافطار في رمضان بلا عذر، واليمين الفاجرة، وقطع
الرحم، والخيانة في كيل أو وزن، وتقديم الصلاة على وقتها، أو تأخيرها عنه
بلا عذر، وضرب مسلم بلا حق، وسب الصحابة رضي الله عنهم، وأخذ
الرشوة، والدياثة والقيادة من الرجل والمرأة، والسعاية عند السلطان، ومنع الزكاة،
وترك الامر بالمعروف، والنهي عن المنكر مع القدرة، ونسيان القرآن، وإحراق
الحيوان، وامتناعها من زوجها بلا سبب، واليأس من رحمة الله والامن من مكر الله
تعالى، ويقال: الوقيعة في أهل العلم وحملة القرآن. ومما عد من الكبائر الظهار،
وأكل لحم الخنزير والميتة بلا عذر، وللتوقف مجال في بعض هذه الخصال، كقطع
الرحم، وترك الامر بالمعروف على إطلاقهما، ونسيان القرآن، وإحراق مطلق
الحيوان. وقد أشار الغزالي في الاحياء إلى مثل هذا التوقف، وفي التهذيب
وجه أن ترك صلاة واحدة ليس كبيرة، ولا ترد به شهادة حتى يعتاده.
200

قلت: قد روى أبو داود والترمذي أن رسول الله (ص) قال: عرضت علي
ذنوب أمتي، فلم أر ذنبا أعظم من سورة من القرآن أو آية أقرئها رجل، ثم نسيها
لكن في إسناده ضعف، وتكلم فيه الترمذي. ومن الكبائر السحر ثبت في صحيح
مسلم أن رسول الله (ص) جعله من السبع الموبقات ونقل المحاملي في كتاب
الحيض من مجموعة أن الشافعي رحمه الله تعالى قال: الوطئ في الحيض
كبيرة، وفي صحيح البخاري أن النبي (ص) جعل النميمة كبيرة. والله أعلم.
قال صاحب العدة: ومن الصغائر النظر إلى ما لا يجوز، والغيبة،
201

والكذب الذي لا حد فيه ولا ضرر، والاشراف على بيوت الناس، وهجرة المسلم
فوق ثلاث، وكثرة الخصومات وإن كان محقا، والسكوت على الغيبة والنياحة
والصياح وشق الجيب في المصيبة، والتبختر في المشي، والجلوس مع الفساق
إيناسا لهم، والصلاة المنهي عنها في أوقات النهي، والبيع والشراء في المسجد،
وإدخال الصبيان والمجانين والنجاسات إليه، وإمامة قوم يكرهونه لعيب فيه، والعبث
في الصلاة، والضحك فيها، وتخطي رقاب الناس يوم الجمعة، والكلام والامام
يخطب، والتغوط مستقبل القبلة، وفي طريق المسلمين، وكشف العورة في
الحمام، ولك أن تقول: وكثرة خصومات المحق ينبغي أن لا تكون معصية إذا راعى
حد الشرع. وتخطي الرقاب، فإنه معدود من المكروهات لا محرم وكذا الكلام
والامام يخطب على الأظهر.
قلت: المختار أن تخطي الرقاب حرام للأحاديث فيه، والصواب في
الخصومات ما قاله الرافعي، وأن البيع والشراء في المسجد وإدخاله الصبيان إذا لم
يغلب تنجيسهم إياه، والعبث في الصلاة من المكروهات مشهور في كتب
الأصحاب، وفي كون الصلاة في وقت النهي مكروهة أو محرمة خلاف سبق. ومن
الصغائر القبلة للصائم الذي يحرك الشهوة، والوصال في الصوم على الأصح،
والاستمناء وكذا مباشرة الأجنبية بغير جماع، ووطئ الزوجة المظاهر منها قبل التكفير
والرجعية، والخلوة بالأجنبية، ومسافرة المرأة بغير زوج ولا محرم، ولا نسوة
ثقات، والنجش والاحتكار، والبيع على بيع أخيه، وكذا السوم والخطبة، وبيع
الحاضر للبادي، وتلقي الركبان، والتصرية، وبيع المعيب من غير بيانه، واتخاذ
الكلب الذي لا يحل اقتناؤه، وإمساك الخمر غير المحترمة، وبيع العبد المسلم
لكافر، وكذا المصحف وسائر كتب العلم، واستعمال النجاسة في البدن بغير
حاجة، وكشف العورة في الخلوة لغير حاجة على الأصح، وأشباه هذه. والله
أعلم.
إذا تقرر هذا فقال الأصحاب: يشترط في العدالة اجتناب الكبائر، فمن
ارتكب كبيرة واحدة، فسق، وردت شهادته، وأما الصغائر، فلا يشترط اجتنابها
202

بالكلية، لكن يشترط أن لا يصر عليها، فإن أصر كان الاصرار كارتكاب كبيرة، وهل
الاصرار السالب للعدالة المداومة على نوع من الصغائر، أم الاكثار من الصغائر،
سواء كان من نوع أو أنواع؟ فيه وجهان، ويوافق الثاني قول الجمهور أن من غلبت
طاعته معاصيه، كان عدلا، وعكسه فاسق، ولفظ الشافعي رحمه الله في
المختصر يوافقه، فعلى هذا لا تضر المداومة على نوع من الصغائر إذا غلبت
الطاعات، وعلى الأول يضر.
فرع اللعب بالشطرنج مكروه، وقيل: مباح لا كراهة فيه، ومال
الحليمي إلى تحريمه، واختاره الروياني، والصحيح الأول، فإن اقترن به قمار أو
فحش أو إخراج صلاة عن وقتها عمدا، ردت شهادته بذلك المقارن وإنما يكون
قمارا إذا شرط المال من الجانبين، فإن أخرج أحدهما ليبذله إن غلب، ويمسكه إن
غلب، فليس بقمار، ولا ترد به شهادة، لكنه عقد مسابقة على غير آلة قتال، فلا
يصح. ولو لم تخرج الصلاة عن الوقت عمدا، لكن شغله اللعب به حتى خرج وهو
غافل، فإن لم يتكرر ذلك منه، لم ترد شهادته، وإن كثر منه فسق وردت شهادته
بخلاف ما إذا تركها ناسيا مرارا، لأنه هنا شغل نفسه بما فاتت به الصلاة هكذا
ذكروه، وفيه إشكال لما فيه من تعصية الغافل اللاهي، ثم قياسه الطرد في شغل
النفس بغيره من المباحات، وأشار الروياني إلى وجه أنه يفسق وإن لم يتكرر،
وفي المهذب اشتراط التكرر في إخراجها عن الوقت وإن كان عالما وهو خلاف
ما سبق أن إخراج الفريضة عن الوقت عمدا كبيرة، وأما اللعب بالنرد ففي وجه مكروه
203

والصحيح تحريمه، فعلى هذا قال الشيخ أبو محمد: هو صغيرة، قال الامام:
والصحيح أنه من الكبائر، قال في الام وأكره اللعب بالحزة والقرق، فالحزة:
قطع خشب يحفر فيها حفر في ثلاثة أسطر يجعل فيها حصى صغار يلعب بها وقد
تسمى الأربعة عشر، والقرق: أن يخط في الأرض خط مربع، ويجعل في وسطه
خطان كالصليب، ويجعل على رؤوس الخطوط حصى صغار يلعب بها. وهذه
اللفظة رأيتها بخط الروياني بفتح القاف والراء، وضبطها بعضهم بكسر القاف
وإسكان الراء، قال في الشامل اللعب بهما كالنرد وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنه
كالشطرنج.
فرع اتخاذ الحمام للفرخ والبيض، أو الأنس، أو حمل الكتب جائز
بلا كراهة، وأما اللعب بها بالتطيير والمسابقة، فقيل: لا يكره، والصحيح أنه
مكروه، ولا ترد الشهادة بمجرده، فإن انضم إليه قمار ونحوه ردت.
فرع غناء الانسان قد يقع بمجرد صوته، وقد يقع بآلة، أما القسم الأول
فمكروه وسماعه مكروه، وليسا محرمين، فإن كان سماعه من أجنبية فأشد كراهة،
وحكى القاضي أبو الطيب تحريمه وهذا هو الخلاف الذي سبق في أن صوتها هل
204

هو عورة، فإن كان في السماع منها خوف فتنة، فحرام بلا خلاف، وكذا السماع من
صبي يخاف منه الفتنة، وحكى أبو الفرج الزاز وجها أنه يحرم كثير السماع دون
قليله، ووجه أنه يحرم مطلقا، والصحيح الأول، وهو المعروف للأصحاب.
وأما الحداء، وسماعه، فمباحان، وأما تحسين الصوت بقراءة القرآن، فمسنون،
وأما القراءة بالألحان، فقال في المختصر: لا بأس بها وعن رواية الربيع بن
سليمان الجيزي أنها مكروهة، قال جمهور الأصحاب: ليست على قولين، بل
المكروه أن يفرط في المد وفي إشباع الحركات حتى تتولد من الفتحة ألف، ومن
الضم واو، ومن الكسرة ياء، أو يدغم في غير موضع الادغام، فإن لم ينته إلى هذا
الحد، فلا كراهة، وفي أمالي السرخسي وجه أنه لا يكره وإن أفرط.
قلت: الصحيح أنه إذا أفرط على الوجه المذكور، فهو حرام، صرح به
صاحب الحاوي فقال: هو حرام يفسق به القارئ، ويأثم المستمع، لأنه عدل
به عن لهجة التقويم، وهذا مراد الشافعي بالكراهة. ويسن ترتيل القراءة وتدبرها،
والبكاء عندها، وطلب القراءة من حسن الصوت، والجلوس في حلق القراءة ولا
بأس بترديد الآية للتدبر، ولا باجتماع الجماعة في القراءة، ولا بإدارتها وهو أن
يقرأ بعض الجماعة قطعة، ثم البعض قطعة بعدها، وقد أوضحت هذا كله وما يتعلق
به من النفائس في آداب حملة القرآن. والله أعلم.
القسم الثاني: أن يغني ببعض آلات الغناء مما هو من شعار شاربي الخمر وهو
مطرب كالطنبور والعود والصنج وسائر المعازف والأوتار يحرم استعماله واستماعه
وفي اليراع وجهان صحح البغوي التحريم والغزالي الجواز، وهو الأقرب، وليس
المراد من اليراع كل قصب بل المزمار العراقي وما يضرب به الأوتار حرام بلا
خلاف.
205

قلت: الأصح أو الصحيح تحريم اليراع، وهو هذه الزمارة التي يقال لها
الشبابة وقد صنف الإمام أبو القاسم الدولعي كتابا في تحريم اليراع مشتملا على
نفائس، وأطنب في دلائل تحريمه. والله أعلم.
أما الدف، فضربه مباح في العرس والختان، وأما في غيرهما، فأطلق
صاحب المهذب والبغوي وغيرهما تحريمه، وقال الامام والغزالي:
حلال: وحيث أبحناه هو فيما إذا لم يكن فيه جلاجل، فإن كان،
فالأصح حله أيضا. ولا يحرم ضرب الطبول إلا الكوبة، وهو طبل طويل متسع
الطرفين ضيق الوسط، وهو الذي يعتاد ضربه المخنثون، والطبول التي تهيأ لملاعب
الصبيان إن لم تلحق بالطبول الكبار، فهي كالدف، وليست كالكوبة بحال،
والضرب بالصفاقتين حرام، كذا ذكره الشيخ أبو محمد وغيره، لأنه من عادة
المخنثين، وتوقف فيه الامام، لأنه لم يرد فيه خبر بخلاف الكوبة. وفي تحريم
الضرب بالقضيب على الوسائد وجهان، قطع العراقيون بأن مكروه لا حرام،
والرقص ليس بحرام، قال الحليمي: لكن الرقص الذي فيه تثن وتكسر يشبه أفعال
المخنثين حرام على الرجال والنساء.
فرع إنشاء الشعر وإنشاده واستماعه جائز، فلو هجا الشاعر في شعره
ولو بما هو صادق فيه ردت شهادته، وليس إثم حاكي الهجو كإثم منشئه، ويشبه
أن يكون التعريض هجوا كالتصريح، وقال ابن كج: ليس التعريض هجوا، وترد
شهادة الشاعر إذا كان يفحش ويشب بامرأة بعينها، أو يصف أعضاء باطنة، فإن
206

شبب بجاريته أو زوجته، فوجهان، أحدهما: يجوز ولا ترد شهادته، وهذا القائل
يقول: إذا لم تكن المرأة معينة، لا ترد شهادته لاحتمال أنه يريد من تحل له،
والصحيح أن ترد شهادته إذا ذكر جاريته أو زوجته بما حقه الاخفاء، لسقوط مروءته.
ولو كان يشبب بغلام، ويذكر أنه يعشقه، قال الروياني: يفسق وإن لم يعينه، لان
النظر إلى الذكور بالشهوة حرام بكل حال. وفي التهذيب وغيره اعتبار التعيين في
الغلام كالمرأة. وإن كان يمدح الناس ويطري، نظر إن أمكن حمله على ضرب
مبالغة، جاز، وإن لم يكن حمله على المبالغة وكان كذبا محضا، فالصحيح الذي
عليه الجمهور وهو ظاهر نصه أنه كسائر أنواع الكذب، فترد شهادته إن كثر منه، وقال
القفال، والصيدلاني: لا يلحق بالكذب، لأن الكاذب يوهم الكذب صدقا بخلاف
الشاعر، فعلى هذا لا فرق بين قليله وكثيره، وهذا حسن بالغ، وينبغي أن يقال على
قياسه: إن التشبيب بالنساء والغلمان بغير تعيين لا يخل بالعدالة وإن كثر منه، لان
التشبيب صنعة، وغرض الشاعر تحسين الكلام لا تحقيق المذكور، وكذلك ينبغي
أن يكون الحكم لو سمى امرأة لا يدري من هي.
فرع ما حكمنا بإباحته في هذه الصورة قد يقتضي الاكثار منه رد الشهادة،
لكونه خارما للمروءة فمن داوم على اللعب بالشطرنج والحمام، ردت شهادته وإن
لم يقترن به ما يوجب التحريم، لما فيه من ترك المروءة، وكذا من داوم على الغناء
أو سماعه وكان يأتي الناس ويأتونه، أو اتخذ جارية أو غلاما ليتغنيا للناس، وكذا
المداومة على الرقص، وضرب الدف، وكذا إنشاد الشعر، واستنشاده إذا أكثر منه،
فترك به مهماته، كان خارما للمروءة، ذكره الامام، قال: وكذا لو كان الشاعر
يكتسب بشعره. والمرجع في المداومة والاكثار إلى العادة، ويختلف الامر فيه
بعادات النواحي والبلاد، ويستقبح من شخص قدر لا يستقبح من غيره، وللأمكنة فيه
أيضا تأثير، فاللعب بالشطرنج في الخلوة مرارا لا يكون كاللعب به في سوق مرة على
ملا من الناس، وهل يقال على هذا: لما استمرت العادة أن الشاعر يكتسب بشعره
وعد صنعة الغناء حرفة ومكسبا، فالاشتغال به ممن يليق بحاله، لا يكون تركا
للمروءة؟ وكلام الأصحاب محمول على ما لا يليق به، وقد رأيت ما ذكرته في
الشاعر يكتسب بشعره لابن القاص.
207

فرع ما حكمنا بتحريمه في هذه المسائل، كالنرد وسماع الأوتار، ولبس
الحرير، والجلوس عليه ونحوها، هل هو من الكبائر فترد الشهادة بمرة أم من
الصغائر، فيعتبر المداومة والاكثار؟ وجهان يميل كلام الامام إلى أولهما، والأصح
الثاني، وهو المذكور في التهذيب وغيره، وزاد الامام، فقال: ينظر إلى عادة
البلد والقطر، فحيث يستعظمون النرد وسماع الأوتار ترد الشهادة بمرة واحدة، لان
الاقدام في مثل تلك الناحية لا يكون إلا من جسور منحل عن ربقة المروءة، فتسقط
الثقة بقوله، وحيث لا يستعظمونه لا يكون مطلق الاقدام مشعرا بترك المبالاة،
وسقوط المروءة، وحينئذ يقع النظر في أنه صغيرة أم كبيرة.
فرع الخمر العينية لم يشبها ماء ولا طبخت بنار محرمة بالاجماع، ومن
شربها عامدا عالما بحالها، حد وردت شهادته، سواء شرب قدرا يسكره أم لا، قال
أصحابنا العراقيون: وكذا حكم بائعها ومشتريها في رد شهادتهما، ولا ترد الشهادة
بإمساكها، لأنه قد يجوز أن يقصد به التخلل أو التخليل، وأما المطبوخ من عصير
العنب المختلف في تحريمه، وسائر الأنبذة، فإن شرب منها القدر المسكر، حد
وردت شهادته، وإن شرب قليلا وهو يعتقد إباحته كالحنفي، ففيه أوجه،
الأصح المنصوص: يحد، ولا ترد شهادته، والثاني: ترد ويحد، والثالث: لا ترد
ولا يحد، واحتج الأصحاب للأصح بأن الحد إلى الامام، فاعتبر اعتقاده، والشهادة
تعتمد اعتقاد الشاهد، ولهذا لو غصب جارية ووطئها معتقدا أنه يزني بها، فبان أنها
ملكه، فسق وردت شهادته، ولو وطئ جارية غيره يعتقدها جاريته، لم ترد
شهادته، ولان الحد للزجر، والنبيذ يحتاج إلى زجر، ورد الشهادة لسقوط الثقة
بقوله، ولا يوجد ذلك إذا لم يعتقد التحريم، وأما إذا شربه من يعتقد تحريمه،
فالمذهب أنه يحد، وترد شهادته، وعن القفال أن من نكح بلا ولي ووطئ، لا ترد
شهادته إن اعتقد الحل، وترد إن اعتقد التحريم، وعلى هذا قياس سائر
المجتهدات، ولكن عن نص الشافعي رحمه الله أنه لا ترد شهادة مستحل نكاح
المتعة والمفتي به والعامل به ونقل القاضي أبو الفياض مثله.
208

قلت: قال ابن الصباغ: قال في الام إذا أخذ من النثار في الفرح لا ترد
شهادته، لأن من الناس من يحل ذلك، وأنا أكرهه. قال في الام: ومن ثبت أنه
يحضر الدعوة بغير دعاء من غير ضرورة، ولا يستحل صاحب الطعام، وتكرر ذلك
منه، ردت شهادته، لأنه يأكل محرما إذا كانت الدعوة دعوة رجل من الرعية، وإن
كانت دعوة سلطان، أو من يتشبه بالسلطان فهذا طعام عام، فلا تأثير به. قال ابن
الصباغ: وإنما اشترط تكرر ذلك، لأنه قد يكون له شبهة حتى يمنعه صاحب
الطعام، فإذا تكرر، صار دناءة، وقلة مروءة. والله أعلم.
الشرط الخامس: المروءة، وهي التوقي عن الأدناس، فلا تقبل شهادة من
لا مروءة له، فمن ترك المروءة لبس ما لا يليق بأمثاله بأن لبس الفقيه القباء والقلنسوة
ويتردد فيهما في بلد لم تجر عادة الفقهاء بلبسهما فيه، أو لبس التاجر ثوب الجمال،
أو تعمم الجمال وتطلس، وركب بغلة مثمنة، وطاف في السوق، واتخذ نفسه
ضحكة، ومنه المشي في السوق مكشوف الرأس والبدن إذا لم يكن الشخص سوقيا
ممن يليق به مثله، وكذا مد الرجل بين الناس، والاكل في السوق والشرب من
سقاياتها إلا أن يكون الشخص سوقيا، أو شرب لغلبة عطش، ومنه أن يقبل امرأته
أو جاريته بحضرة الناس، أو يحكي ما يجري بينهما في الخلوة، أو يكثر من
الحكايات المضحكة، أو يخرج عن حسن العشرة مع الأهل والجيران والمعاملين،
ويضايق في اليسير الذي لا يستقصى فيه، ومنه الاكثار على اللعب بالشطرنج
والحمام والغناء على ما سبق، ومنه أن يتبذل الرجل المعتبر نفسه بنقل الماء والأطعمة
إلى بيته إذا كان ذلك عن شح، فإن فعله استكانة، واقتداء بالسلف التاركين
للتكلف، لم تقدح ذلك في المروءة، وكذا لو كان يلبس ما يجد ويأكل حيث يجد
209

لتقلله وبراءته من التكلف المعتاد، وهذا يعرف بتناسب حال الشخص في الأعمال
والأخلاق، وظهور مخايل الصدق فيما يبديه، وقد يؤثر فيه الزي واللبسة. وفي قبول
شهادة أهل الحرف الدنيئة كحجام وكناس ودباغ وقيم حمام وحارس ونخال وإسكاف
وقصاب ونحوهم وجهان، أصحهما: القبول، وفي الحائك الوجهان، وقيل: يقبل
قطعا وقيل: يقبل من لا يحتاج إلى مباشرة نجاسة أو قذر كالحائك والنخال والحارس
دون غيرهم، وفي الصباغ والصائغ طريقان، أحدهما: طرد الوجهين، والمذهب
القبول قطعا، لكن من أكثر منهم، ومن سائر المحترفة كذبا وخلفا في الوعد، ردت
شهادته، ولذلك قال الغزالي: الوجهان في أصحاب الحرف هما فيمن يليق به،
وكان ذلك صنعة آبائه، فأما غيره، فتسقط مروءته بها، وهذا حسن، ومقتضاه أن
يقال: الإسكاف والقصاب إذا اشتغلا بالكنس، بطلت مروءتهما بخلاف العكس.
قلت: لم يتعرض الجمهور لهذا القيد، وينبغي أن لا يقيد بصنعة آبائه، بل
ينظر هل يليق به هو أم لا. والله أعلم.
ثم الذين يباشرون النجاسة إنما يجري فيهم الخلاف إذا حافظوا على الصلوات
في أوقاتها، واتخذوا لها ثيابا طاهرة، وإلا فترد شهادتهم بالفسق.
فرع من ترك السنن الراتبة، وتسبيحات الركوع والسجود أحيانا، لا ترد
شهادته، ومن اعتاد تركها، ردت شهادته لتهاونه بالدين وإشعار هذا بقلة مبالاته
بالمهمات، وحكى أبو الفرج في غير الوتر وركعتي الفجر وجهان أنه لا ترد شهادته
باعتياد تركها.
فرع نص أن مستحل الأنبذة إن أدام المنادمة عليها، والحضور مع أهل
السفه، ردت شهادته لطرحه المروءة، وتقبل شهادة الطوافين على الأبواب، وسائر
السؤال إلا أن يكثر الكذب في دعوى الحاجة وهو غير محتاج، أو يأخذ ما لا يحل له
أخذه، فيفسق. ومقتضى الوجه الذاهب إلى رد شهادة أصحاب الحرف رد شهادته
لدلالته على خسته.
210

الشرط السادس الانفكاك عن التهمة، وللتهمة أسباب، الأول أن يجر بشهادته
إلى نفسه نفعا، أو يدفع بها ضرا، فلا تقبل شهادة السيد لعبده المأذون له،
ولا لمكاتبه بدين ولا عين، ولا شهادة الوارث لمورثه، ولا الغريم للميت، والمفلس
المحجور عليه، وتقبل شهادته لغريمه الموسر، وكذا المعسر قبل الحجر عليه على
الأصح، ولا تقبل شهادة الضامن للمضمون عنه بالأداء، ولا الابراء، ولا الوكيل
لموكله فيما هو وكيل فيه، ولا الوصي والقيم في محل تصرفهما، ولا الشريك لشريكه
فيما هو شريك فيه، بأن يقول: هذه الدار بيننا، ويجوز أن يشهد بالنصف
لشريكه، ولا تقبل شهادته لشريكه ببيع الشقص، ولا للمشتري من شريكه، لأنها
تتضمن إثبات الشفعة لنفسه، فإن لم يكن فيه شفعة بأن كان مما لا ينقسم، قال
الشيخ أبو حامد: تقبل، وكذا لو عفا عن الشفعة، ثم شهد، ولو شهد أن زيدا جرح
مورثه، لم يقبل للتهمة. ولو شهد بمال آخر لمورثه المجروح، أو المريض إن
يشهد بعد الاندمال، قبلت قطعا، وكذا قبله على الأصح.
فرع ذكر القاضي أبو سعد الهروي في شرح أدب القضاء لأبي عاصم
العبادي رحمه الله أنه لا تقبل شهادة المودع للمودع إذا نازعه في الوديعة أجنبي، لأنه
يستديم اليد لنفسه، ويقبل للأجنبي، وكذا شهادة المرتهن لا يقبل للراهن، ويقبل
للأجنبي، وإن شهادة الغاصب على المغصوب منه بالعين لأجنبي لا تقبل لفسقه،
ولتهمته بدفع الضمان، ومؤنة لرد، فإن شهد بعد الرد، قبلت شهادته، وإن شهد
بعد التلف، لم تقبل، لأنه يدفع الضمان، وإن شهادة المشتري شراء فاسدا بعد
القبض لا تقبل للأجنبي لما ذكرنا، وإن شهادة المشتري شراء صحيحا بعد الإقالة،
والرد بالعيب، لا تقبل للبائع، لأنه يستبقي لنفسه الغلات، وإن كان المدعي يدعي
الملك من تاريخ متقدم على البيع. ولو شهد بعد الفسخ بخيار الشرط أو المجلس،
فوجهان بناء على أنه يرفع العقد من أصله، وترجع الفوائد إلى البائع أم حينه
211

ولا يرجع، وأنه لو كان لميت دين على شخص، فشهد أجنبيان لرجل بأنه أخو
الميت، ثم شهد الغريمان لآخر بأنه ابنه، لم تقبل شهادة الغريمين، لأنهما ينقلان
ما عليهما للأخ إلى الآخر بخلاف ما لو تقدمت شهادة الغريمين، وأنه لا تقبل شهادة
الوارثين على موت المورث، ولا شهادة الموصى لهما على الموصى، وتقبل شهادة
الغريمين على موت من له الدين، لأنهما لا ينتفعان بهذه الشهادة، ولا ينظر إلى نقل
الحق من شخص إلى شخص، لأن الوارث خليفة المورث، فكأنه هو، ولو شهد
شهود بقتل الخطأ، فشهد اثنان من العاقلة بفسق شهود القتل، لم تقبل شهادتهما،
لأنهما يدفعان ضرر التحمل. ولو شهد اثنان على مفلس بدين، فشهد غرماؤه
الآخرون بفسقهما، لم تقبل شهادتهم، لأنهم يدفعون عنه ضرر المزاحمة. ولو
شهد اثنان لاثنين بوصية من تركة، فشهد المشهود لهما للشاهدين بوصية للشاهدين،
فوجهان، أحدهما: لا تقبل الأربعة، لتهمة المواطأة، بوصية للشاهدين، فوجهان، أحدهما لا تقبل الأربعة، لتهمة المواطأة، والصحيح قبول الشهادتين،
لانفصال كل شهادة عن الأخرى، ولا يجر بشهادته نفعا، ولهذا قلنا: تقبل شهادة
بعض القافلة لبعض في قطع الطريق إذا قال كل واحد منهم: أخذ مالي فلان، ولم
يقل: أخذ مالنا.
السبب الثاني: البعضية، فلا تقبل شهادة أصل ولا فرع. وروى ابن القاص
قولا قديما أنها تقبل، واختاره المزني، وابن المنذر، والمشهور الأول، ولا تقبل
لمكاتب ولده أو والده، وما دونهما. ولو شهد اثنان أن أباهما قذف ضرة أمهما أو
طلقها أو خالعها، ففي قبول شهادتهما قولان، الجديد الأظهر: القبول. ولو ادعت
الطلاق، فشهد لها ابناها، لم يقبل، ولو شهدا حسبة ابتداء، قبلت، وكذا في
الرضاع، ولو شهد الأب مع ثلاثة على زوجة ابنه بالزنى، فإن سبق من الابن قذف،
فطولب بالحد، فحاول إقامة البينة لدفعه، لم يقبل، وإن لم يقذف أو لم يطالب
بالحد، وشهد الأب حسبة، قبلت شهادته.
فرع في يد زيد عبد ادعى شخص أنه اشتراه من عمرو بعدما اشتراه عمرو من
زيد صاحب اليد وقبضه، وطالبه بالتسليم فأنكر زيد جميع ذلك، فشهد ابناه
للمدعي بما يقوله، فقولان حكاهما أبو سعد الهروي، أحدهما: لا يقبل لتضمنها
إثبات الملك لأبيهما، وأظهرهما القبول، لأن المقصود بالشهادة في الحال المدعى
وهو أجنبي.
212

فرع تقبل شهادة الوالد على الولد، وعكسه، سواء شهد بمال أو عقوبة،
وقيل: لا تقبل شهادته على الوالد بقصاص أو حد قذف، والصحيح الأول، ومن
شهد لولد، أو والد وأجنبي، قبلت للأجنبي في الأصح أو الأظهر.
فرع في حبس الوالدين بدين الولد أوجه، الأصح المنع قال الامام: وإليه
صار معظم أئمتنا، والثالث: يحبس في نفقة ولده، ولا يحبس في ديونه، حكاه
الامام، واختاره ابن القاص، وقد سبق الوجهان في كتاب التفليس.
فرع تقبل شهادة أحد الزوجين للآخر على الأظهر، وقيل قطعا، وفي قول لا، وفي قول
شهادة الزوج لها دون عكسه. وتقبل شهادة أحدهما على الآخر إلا
أنه لا يقبل شهادته عليها بزنى، لأنه دعوى خيانتها فراشه.
السبب الثالث: العداوة، فلا تقبل شهادة عدو على عدوه، والعداوة التي ترد
بها الشهادة أن تبلغ حدا يتمنى زوال نعمته، ويفرح لمصيبته، ويحزن لمسرته،
وذلك قد يكون من الجانبين، وقد يكون من أحدهما، فيخص برد شهادته على
الآخر. وإن أفضت الشهادة إلى ارتكاب ما يفسق به، ردت شهادته على الاطلاق.
ولو عادى من يريد أن يشهد عليه، وبالغ في خصومته، فلم يجبه، وسكت عنه، ثم
شهد عليه، قبلت شهادته، لأنا لو لم نقبلها لاتخذ الخصوم ذلك ذريعة إلى
إسقاط الشهادة. هكذا حكاه الروياني عن القفال، وذكره جماعة، منهم البغوي في
كتاب اللعان أن شهادة المقذوف على قاذفه قبل طلب الحد مقبولة، وبعده لا تقبل،
لظهور العداوة، وأنه لو شهد بعد الطلب، ثم عفا وأعاد تلك الشهادة، لم تقبل
كالفاسق إذا شهد، ثم تاب وأعاد تلك الشهاد، وأنه لو شهد قبل الطلب، ثم طلب
قبل الحكم، لم يحكم بشهادته، كما لو فسق الشاهد قبل الحكم، لكن في تعليق
الشيخ أبي حامد وغيره أن الشافعي رحمه الله صور العداوة الموجبة للرد فيما إذا قذف
رجل رجلا، أو ادعى عليه أنه قطع الطريق عليه، وأخذ ماله، فيقال: يصيران
عدوين، فلا تقبل شهادة أحدهما على الآخر، فاكتفى بالقذف دليلا على العداوة،
213

ولم يتعرض لطلب الحد، قال الروياني: لعل القفال أراد غير صورة القذف، ثم
على ما ذكره البغوي الحكم غير منوط بأن يطلب المقذوف الحد، بل بأن يظهر
العداوة، ولا شك أنه لو شهد على رجل، فقذفه المشهود عليه، لم يمنع ذلك من
الحكم بشهادته، نص عليه.
فرع العداوات الدينية لا توجب رد الشهادة، بل يقبل للمسلم على الكافر
والسني على المبتدع، وكذا من أبغض الفاسق لفسقه لا ترد شهادته عليه. ولو قال
عالم ناقد: لا تسمعوا الحديث من فلان، فإنه مخلط، أو لا تستفتوه، فإنه
لا يعرف الفتوى، لم ترد شهادته، لأن هذا نصيحة للناس، نص عليه.
فرع تقبل شهادة العدو لعدوه إذ لا تهمة.
فرع العصبية أن يبغض الرجل لكونه من بني فلان، فإن انضم إليها دعاء
الناس، وتآلفهم للاضرار به والوقيعة فيه، اقتضى رد شهادته عليه، ومجرد هذا
لا يقتضيه، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه وعترته، فتقبل شهادته لهم،
وشهادتهم له، وتقبل شهادته لصديقه وأخيه وإن كان يصله ويبره.
فرع في شهادة المبتدع. جمهور الفقهاء من أصحابنا وغيرهم لا يكفرون
أحدا من أهل القبلة، لكن اشتهر عن الشافعي رضي الله عنه تكفير الذين ينفون علم
الله تعالى بالمعدوم، ويقولون: ما يعلم الأشياء حتى يخلقها، ونقل العراقيون عنه
تكفير الناهين للرؤية والقائلين بخلق القرآن، وتأوله الامام، فقال: ظني أنه ناظر
بعضهم، فألزم الكفر في الحجاج، فقيل: إنه كفرهم.
قلت: أما تكفير منكري العلم بالمعدوم أو بالجزئيات، فلا شك فيه، وأما من
نفى الرؤية أو قال بخلق القرآن، فالمختار تأويله، وسننقل إن شاء الله تعالى عن
نصه في الام ما يؤيده، وهذا التأويل الذي ذكره الامام حسن، وقد تأوله الامام
الحافظ الفقيه الأصولي أبو بكر البيهقي رضي الله عنه وآخرون تأويلات متعارضة،
على أنه ليس المراد بالكفر الاخراج من الملة، وتحتم الخلود في النار. وهكذا
تأولوا ما جاء عن جماعة من السلف من إطلاق هذا اللفظ، واستدلوا بأنهم لم
214

يلحقوهم بالكفار في الإرث والأنكحة، ووجوب قتلهم وقتالهم وغير ذلك. والله
أعلم.
ثم من كفر من أهل البدع لا تقبل شهادته، وأما من لا يكفره من أهل البدع
والأهواء، فقد نص الشافعي رحمه الله في الام و المختصر على قبول
شهادتهم إلا الخطابية وهم قوم يرون جواز شهادة أحدهم لصاحبه إذا سمعه يقول:
لي على فلان كذا، فيصدقه بيمين أو غيرها، ويشهد له اعتمادا على أنه لا يكذب
هذا نصه. وللأصحاب فيه ثلاث فرق: فرقة جرت على ظاهر نصه، وقبلت شهادة
جميعهم، وهذه طريقة الجمهور، منهم ابن القاص، وابن أبي هريرة، والقضاة ابن
كج، وأبو الطيب، والروياني، واستدلوا بأنهم مصيبون في زعمهم ولم يظهر منهم
ما يسقط الثقة بقولهم، وقبل هؤلاء شهادة من سب الصحابة والسلف رضي الله
عنهم، لأنه تقدم عليه عن اعتقاد لاعن عداوة وعناد، قالوا: ولو شهد خطابي وذكر
في شهادته ما يقطع احتمال الاعتماد على قول المدعي بأن قال: سمعت فلانا يقر
بكذا لفلان، أو رأيته أقرضه، قبلت شهادته. وفرقة منهم الشيخ أبو حامد ومن
تابعه حملوا النص على المخالفين في الفروع، وردوا شهادة أهل الأهواء كلهم،
وقالوا: هم بالرد أولى من الفسقة. وفرقة ثالثة توسطوا، فردوا شهادة بعضهم دون
بعض، فقال أبو إسحاق: من أنكر إمامة أبي بكر رضي الله عنه، ردت شهادته
لمخالفته الاجماع، ومن فضل عليا على أبي بكر رضي الله عنهما لم ترد شهادته،
ورد الشيخ أبو محمد شهادة الذين يسبون الصحابة، ويقذفون عائشة رضي الله عنها،
فإنها محصنة كما نطق به القرآن، وعلى هذا جرى الامام والغزالي والبغوي، وهو
حسن. وفي الرقم أن شهادة الخوارج مردودة لتكفيرهم أهل القبلة.
قلت: الصواب ما قالته الفرقة الأولى وهو قبول شهادة الجميع، فقد قال
الشافعي رحمه الله في الام: ذهب الناس في تأويل القرآن والأحاديث إلى أمور
تباينوا فيها تباينا شديدا، واستحل بعضهم من بعض ما تطول حكايته، وكان ذلك
متقادما، منه ما كان في عهد السلف إلى اليوم، فلم نعلم أحدا من سلف الأمة
يقتدى به، ولا من بعدهم من التابعين رد شهادة أحد بتأويل، وإن خطأه وضلله،
215

ورآه استحل ما حرم الله تعالى عليه، فلا ترد شهادة أحد بشئ من التأويل كان له
وجه يحتمله، وإن بلغ فيه استحلال المال والدم. هذا نصه بحروفه وفيه التصريح
بما ذكرنا، وبيان ما ذكرناه في تأويل تكفير القائل بخلق القرآن، ولكن قاذف عائشة
رضي الله عنها كافر، فلا تقبل شهادته. ولنا وجه أن الخطابي لا تقبل شهادته وإن
بين ما يقطع، لاحتمال اعتماده، وقول صاحبه. والله أعلم.
السبب الرابع: الغفلة، وكثرة الغلط، ولا تقبل شهادة المغفل الذي
لا يحفظ، ولا يضبط، فإن شهد مفسرا، وبين وقت التحمل ومكانه، فزالت الريبة
عن شهادته، قبلت، ولا تقبل شهادة من كثر غلطه ونسيانه، وأما الغلط اليسير،
فلا يقدح في الشهادة، لأنه لا يسلم منه أحد قال الامام: ومعظم شهادات العوام
يشوبها جهل وغرة، فيحوج إلى الاستفصال كما سبق في آداب القضاء.
السبب الخامس: أن يدفع بالشهادة عن نفسه عار الكذب، فإن شهد فاسق،
ورد القاضي شهادته، ثم تاب بشرط التوبة، فشهادته المستأنفة مقبولة بعد ذلك،
ولو أعاد تلك الشهادة التي ردت، لم تقبل، وقال المزني: تقبل. ولو شهد كافر أو
عبد أو صبي، فردت شهادته، ثم كمل فأعادها، قبلت، لعدم تهمتهم بدفع العار
بخلاف الفاسق، فإن كان يخفي فسقه، والرد يظهره، فيسعى في دفع العار بإعادة
الشهادة، فلو كان معلنا بفسقه حين شهد، ففي قبول شهادته المعادة بعد التوبة
وجهان، أصحهما عند الأكثرين: لا يقبل أيضا، وإنما يجئ الوجهان إذا أصغى
القاضي إلى شهادته مع ظهور فسقه، ثم ردها. وفي الاصغاء وجهان، أصحهما -
وبه قال الشيخ أبو محمد، واستحسنه الامام -: لا يصغي، كشهادة العبد والصبي.
ولو كان الكافر يستتر بكفره، وردت شهادته، ثم أسلم وأعادها، لم تقبل على
الأصح، ولو ردت شهادته لعداوة، فزالت، وأعادها، لم تقبل على الأصح،
ويجريان فيما لو شهد لمكاتبه بمال، أو لعبده بنكاح، فردت فأعادها بعد عتقهما،
وأجاب ابن القاص هنا بالقبول، ويجريان فيما لو شهد اثنان من الشفعاء بعفو شفيع
ثالث قبل عفوهما، فردت شهادتهما، ثم عفوا، وأعاداها، وفيما شهد اثنان
لمورثهما بجراحة غير مندملة، فردت، ثم أعادها بعد الاندمال، ولو شهد فرعان
216

على شهادة أصل، فردت شهادتهما لفسق الأصل، فقد صارت شهادة مردودة.
فلو تاب، وشهد بنفسه، وأعاد الفرعان شهادتهما على شهادته، أو شهد على شهادته
فرعان آخران، لم تقبل، ولو ردت شهادة الفرعين، لفسقهما، لم تتأثر به شهادة
الأصل.
السبب السادس: الحرص على الشهادة بالمبادرة: اعلم أن الحقوق
ضربان: ضرب لا تجوز المبادرة إلى الشهادة عليه، وضرب يجوز، وتسمى الشهادة
على هذا الثاني على وجه المبادرة شهادة حسبة، فحيث لا يجوز، فالمبادر متهم،
فلا تقبل شهادته، والمبادرة أن يشهد من غير تقدم دعوى، فإن شهد بعد دعوى قبل
أن يستشهد، ردت شهادته أيضا على الأصح للتهمة، وإذا رددناها، ففي مصيره
مجروحا وجهان، الأصح لا، وبه قطع أبو عاصم، وظاهر هذا كون الخلاف في
سقوط عدالته مطلقا، ويؤيده أن القاضي أبا سعد الهروي، قال: الوجهان مبنيان
على أن المبادرة من الصغائر، أم من الكبائر، لكن منهم من يفهم كلامه اختصاص
الخلاف برد تلك الشهادة وحدها إذا أعادها، فقد قال البغوي: وإذا قلنا: يصير
مجروحا لا يشترط استبراء حاله حتى لو شهد في حادثة أخرى تقبل، فأشعر كلامه
باختصار الخلاف.
فرع تقبل شهادة من احتبى وجلس في زاوية محتبيا لتحمل الشهادة، ولا
تحمل على الحرص، لأن الحاجة قد تدعو إليه، وحكى الفوراني قولا قديما أنها
لا تقبل، وهو شاذ، قال: وعلى المشهور يستحب أن يخبر الخصم أني شهدت
عليك لئلا يبادر إلى تكذيبه، فيعزره القاضي. ولو قال رجلان لثالث: توسط بيننا
لنتحاسب ونتصادق، فلا تشهد علينا بما يجري، فهذا شرط باطل، وعليه أن
يشهد.
الضرب الثاني: ما تقبل فيه شهادة الحسبة، وهو ما تمحض حقا لله تعالى،
أو كان له فيه حق متأكد لا يتأثر برضى الآدمي، فمنه الطلاق، وأما الخلع، فأطلق
217

البغوي المنع فيه، وقال الامام: يقبل في الفراق دون المال، قال: ولا أبعد ثبوته
تبعا، ولا إثبات الفراق دون البينونة، ومنه العتق والاستيلاد دون التدبير، ويقبل في
العتق بالتدبير، ولا يقبل في الكتابة، فإن أدى النجم الأخير، شهد بالعتق. وفي
شراء القريب وجهان، أحدهما: تقبل شهادة الحسبة فيه لحق الله تعالى، وأصحهما
لا، لأنهم يشهدون بالملك. ومنه العفو عن القصاص، والصحيح قبولها فيه، ومنه
الوصية والوقف إذا كانا لجهة عامة، فإن كان لجهة خاصة، فالأصح المنع، ونقله
الامام عن الجمهور لتعلقه بحظوظ خاصة، ومنه تحريم الرضاع والنسب وفي النسب
وجه، ومنه بقاء العدة وانقضاؤها، وتحريم المصاهرة، وكذا الزكوات والكفارات،
والبلوغ والاسلام، والكفر والحدود التي هي حقوق لله تعالى، كالزنى، وقطع
الطريق، وكذا السرقة على الصحيح، لكن الأفضل في الحدود الستر. ومنه
الاحصان والتعديل. وأما ما هو حق آدمي، كالقصاص، وحد القذف والبيوع،
والأقارير، فلا تقبل فيه شهادة الحسبة، فإن لم يعلم صاحب الحق بالحق، أخبره
الشاهد حتى يدعي ويستشهده فليشهد، وقيل: تقبل شهادة الحسبة في الدماء
خاصة، وقيل: تقبل في الأموال أيضا، وقيل: تقبل إن لم يعلم المستحق بالحق،
والصحيح المنع مطلقا.
فرع ما قبلت فيه شهادة الحسبة هل يسمع فيه دعوى الحسبة؟ وجهان:
أحدهما لا، وبه قطع القفال في الفتاوى، لأن الثبوت بالبينة وهي غنية عن
الدعوى. وقال القاضي حسين: تسمع، لأن البينة قد لا تساعد، وقد يراد
استخراج الحق بإقرار المدعى عليه.
218

فرع شهود الحسبة يجيئون إلى القاضي، ويقولون: نشهد على فلان
بكذا، فأحضره لنشهد عليه، فإن ابتدؤوا، وقالوا: فلان زنى فهم قذفة، وفي
الفتاوى: أنه لو جاء رجلان، وشهدا بأن فلانا أخو فلانة من الرضاع، لم يكف حتى
يقولا: وهو يريد أن ينكحها، وأنه لو شهد اثنان بطلاق، وقضى القاضي
بشهادتهما، ثم جاء آخران يشهدان بأخوة بين المتناكحين،، لم تقبل هذه الشهادة،
إذ لا فائدة لها في الحال، ولا بكونهما قد يتناكحان بعد، وان الشهادة على أنه أعتق
عبده إنما تسمع إذا كان المشهود عليه يسترقه، وهذه الصورة تفهمك أن شهادة
الحسبة إنما تسمع عند الحاجة. ولو جاء عبدان لرجل، فقالا: إن سيدنا أعتق
أحدنا، وقامت بينة بما يقولان، سمعت، وإن كانت الدعوى فاسدة، لأن البينة
على العتق مستغنية عن تقدم الدعوى.
فصل شهادة الأخرس إن لم يعقل الإشارة مردودة، وكذا إن عقلها على
الأصح عند الأكثرين، فعلى هذا يعتبر في الشاهد سوى الشروط الستة كونه ناطقا،
وذكر الصيمري أنه لا تقبل شهادة محجور عليه بالسفه، فإن كان كذلك، زاد شرط
ثامن.
فصل في أمور لا تمنع الشهادة. وفيها خلاف لبعض العلماء. منها شهادة
البدوي على القروي وعكسه مقبولة، وكذا شهادة المحدود في القذف وغيره بعد
التوبة مقبولة في جنس ما حد وفي غيره، وتقبل شهادة ولد الزنى، ويجوز أن يكون
قاضيا.
فصل في التوبة. قد سبق أن من لا تقبل شهادته لمعصية تقبل إذا تاب،
وظهر إعراضه عما كان عليه، قال الأصحاب: التوبة تنقسم إلى توبة بين العبد وبين
الله تعالى، وهي التي يسقط بها الاثم، وإلى توبة في الظاهر، وهي تتعلق بها عود
الشهادة والولايات، أما الأولى، فهي أن يندم على فعل، ويترك فعله في الحال،
219

ويعزم أن لا يعود إليه، ثم إن كانت المعصية لا يتعلق بها حق مالي لله تعالى ولا
للعباد، كقبلة الأجنبية ومباشرتها فيما دون الفرج، فلا شئ عليه سوى ذلك، وإن
تعلق بها حق مالي، كمنع الزكاة، والغصب، والجنايات في أموال الناس، وجب
مع ذلك تبرئة الذمة عنه، بأن يؤدي الزكاة، ويرد أموال الناس إن بقيت، ويغرم بدلها
إن لم تبق، أو يستحل المستحق، فيبرئه ويجب أن يعلم المستحق إن لم يعلم به،
وأن يوصله إليه إن كان غائبا إن كان غصبه منه هناك، فإن مات، سلمه إلى وارثه،
فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره، دفعه إلى قاض ترضى سيرته وديانته، فإن
تعذر، تصدق به على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده، ذكره العبادي في الرقم
والغزالي في غير كتبه الفقهية. وإن كان معسرا، نوى الغرامة إذا قدر، فإن مات قبل
القدرة، فالمرجو من فضل الله تعالى المغفرة.
قلت: ظواهر السنن الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة وإن مات معسرا
عاجزا إذا كان عاصيا بالتزامها، فأما إذا استدان في مواضع يباح له الاستدانة،
واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات، أو أتلف شيئا خطأ، وعجز عن غرامته حتى
مات، فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة، إذ لا معصية منه، والمرجو أن
الله تعالى يعوض صاحب الحق، وقد أشار إلى هذا إمام الحرمين في أول كتاب
النكاح: وتباح الاستدانة لحاجة في غير معصية ولا سرف إذا كان يرجو الوفاء به
جهة، أو سبب ظاهر. والله أعلم.
وإن تعلق بالمعصية حق ليس بمالي، فإن كان حدا لله تعالى بأن زنى أو
شرب، فإن لم يظهر عليه، فله أن يظهره، ويقر به ليقام عليه الحد، ويجوز أن يستر
على نفسه وهو الأفضل، فإن ظهر، فقد فات الستر، فيأتي الامام ليقيم عليه الحد،
قال ابن الصباغ: إلا إذا تقادم عليه العهد، وقلنا: يسقط الحد. وإن كان حقا
220

للعباد، كالقصاص وحد القذف، فيأتي المستحق، ويمكنه من الاستيفاء، فإن لم
يعلم المستحق، وجب في القصاص أن يعلمه، فيقول: أنا الذي قتلت أباك،
ولزمني القصاص، فإن شئت، فاقتص، وإن شئت فاعف. وفي حد القذف سبق
في كتب اللعان خلاف في وجوب إعلامه، وقطع العبادي وغيره هنا بأنه يجب
إعلامه، كالقصاص. وأما الغيبة إذا لم تبلغ المغتاب، فرأيت في فتاوى الحناطي
أنه يكفيه الندم والاستغفار، وإن بلغته، أو طرد طارد قياس القصاص والقذف فيها،
فالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه، فإن تعذر لموته، أو تعسر لغيبته البعيدة،
استغفر الله تعالى، ولا اعتبار بتحليل الورثة، هكذا ذكره الحناطي وغيره، قال
العبادي: والحسد كالغيبة وهو أن يهوى زوال نعمة الغير، ويسر ببليته، فيأتي
المحسود ويخبره بما أضمره ويستحله، ويسأل الله تعالى أن يزيل عنه هذه الخصلة،
وفي وجوب الاخبار عن مجرد الاضمار بعيد.
قلت: المختار بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود، بل لا يستحب، ولو
قيل: يكره لم يبعد. وهل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة، أم يشترط معرفتها
للعافي؟ فيه وجهان سبقا في كتاب الصلح. والله أعلم.
فرع لو قصر فيما عليه من دين ومظلمة، ومات المستحق، واستحقه
وارث بعد وارث، ثم مات ولم يوفهم، فمن يستحق المطالبة به في الآخرة؟ فيه
أوجه أرجحها - وبه أفتى الحناطي - أنه صاحب الحق أولا، والثاني أنه آخر من مات
من ورثته، أو ورثة ورثته وإن نزلوا، والثالث ذكره العبادي في الرقم: أنه يكتب
الاجر لكل وارث مدة حياته، ثم بعده لمن بعده، ولو دفع إلى بعض الوارثين عند
انتهاء الاستحقاق إليه، خرج عن مظلمة الجميع فيما سوف ومطل. وأما التوبة في
الظاهر، فالمعاصي تنقسم إلى فعلية وقولية، أما الف علية، كالزنى والسرقة
والشرب، فإظهار التوبة منها لا يكفي في قبول الشهادة، وعود الولاية، بل يختبر
مدة يغلب على الظن فيها أنه قد أصلح عمله وسريرته، وأنه صادق في توبته، وفي
تقدير هذه المدة أوجه الأكثرون أنها سنة، والثاني: ستة أشهر، ونسبوه إلى النص،
221

والثالث: لا يتقدر بمدة إنما المعتبر حصول غلبة الظن بصدقه، ويختلف ذلك
بالاشخاص، وأمارات الصدق، وهذا اختيار الإمام والعباد والغزالي. وأما
القولية، فمنها القذف، ويشترط في التوبة منه القول، كما أن التوبة من الردة
بكلمتي الشهادة. قال الشافعي رحمه الله: التوبة منه إكذابه نفسه، فأخذ
الإصطخري بظاهره، وشرط أن يقول: كذبت فيما قذفت، ولا أعود إلى مثله.
وقال الجمهور: لا يكلف أن يقول: كذبت، فربما كان صادقا، فكيف نأمره
بالكذب؟ ولكن يقول: القذف باطل وإني نادم على ما فعلت، ولا أعود إليه، أو
يقول: ما كنت محقا في قذفي، وقد تبت منه، ونحو ذلك. وسواء في هذا القذف
على سبيل السب والإيذاء، والقذف على صورة الشهادة إذا لم يتم عدد الشهود،
إن قلنا بوجوب الحد على من شهد، فإن لم نوجب، فلا حاجة بالشاهد إلى
التوبة. ويشبه أن يشترط في هذا الاكذاب كونه عند القاضي. ثم إذا تاب بالقول،
فهل يستبرئ المدة المذكورة إذا كان عدلا قبل القذف؟ ينظر إن كان القذف على
صورة الشهادة لم يشترط على المذهب، وإن كان قذف سب وإيذاء، اشترط على
المذهب. واعلم أن اشتراط التوبة بالقول في القذف مشكل، وإلحاقه بالردة
ضعيف، فإن اشتراط كلمتي الشهادة مطرد في الردة القولية والفعلية، كإلقاء
المصحف في القاذورات، ثم مقتضى ما ذكروه في القذف أن يشترط التوبة بالقول
في سائر المعاصي القولية، كشهادة الزور والغيبة والنميمة وقد صرح صاحب
المهذب بذلك في شهادة الزور، فقال: التوبة منها أن يقول: كذبت فيما فعلت
ولا أعود إلى مثله.
فروع لو قذف وأتى ببينة على زنى المقذوف، فوجهان، حكاهما
الامام، أحدهما: لا تقبل شهادته، لأنه ليس له أن يقذف، ثم يقيم البينة، بل كان
ينبغي أن يجئ مجئ الشهود، والصحيح القبول، لأن صدقه قد تحقق بالبينة،
وكذا الحكم لو اعترف المقذوف، وكذا لو قذف زوجته ولاعن، وسواء في رد
الشهادة، وكيفية التوبة قذف محصنا أو غيره حتى لو قذف عبد نفسه، ردت شهادته،
222

ويكفي تحريم القذف سببا للرد، وشاهد الزور يستبرئ، كسائر الفسقة فإذا ظهر
صلاحه، قبلت شهادته في غير تلك الواقعة، ومن غلط في شهادة لا يشترط
استبراؤه، وتقبل شهادته في غير واقعة الغلط، ولا تقبل فيها.
قلت: التوبة من أصول الاسلام المهمة، وقواعد الدين، وأول منازل
السالكين، قال الله تعالى: * (وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون) * فالتوبة من
المعصية واجبة على الفور بالاتفاق، وقد تقدمت صفتها، وتصح التوبة من ذنب وإن
كان ملابسا ذنبا آخر مصرا عليه، ولو تاب من ذنب، ثم فعله مرة أخرى، لم تبطل
التوبة، بل هو مطالب بالذنب الثاني دون الأول. ولو تكررت التوبة، ومعاودة
الذنب، صحت، هذا مذهب الحق في المسلمين خلافا للمعتزلة. قال إمام
الحرمين في الارشاد: والقتل الموجب للقود تصح التوبة منه قبل تسليم القاتل
نفسه ليقتص منه، فإذا ندم، صحت توبته في حق الله تعالى، وكان منعه القصاص
من مستحقه معصية مجددة، ولا يقدح في التوبة، بل يقتضي توبة منها، ومن تاب
عن معصية ثم ذكرها قال الامام القاضي أبو بكر بن الباقلاني رحمه الله: يجب عليه
تجديد الندم عليها كلما ذكرها إذ لو لم يندم، لكان مستهينا بها، وذلك ينافي
الندم. واختار إمام الحرمين أنه لا يجب، ولا يلزم من ذكرها بلا ندم الاستهانة، بل
قد يذكر، ويعرض عنها. قال القاضي: وإذا لم يجدد التوبة كان ذلك معصية
جديدة، والتوبة الأولى صحيحة، لأن العبادة الماضية لا ينقضها شئ بعد فراغها،
قال: فيجب تجديد توبة عن تلك المعصية، وتجب توبة من ترك التوبة إذا حكمنا
بوجوبها. قال الامام: وإذا أسلم الكافر، فليس إسلامه توبة عن كفره، وإنما توبته
ندمه على كفره، ولا يتصور أن يؤمن ولا يندم على كفره، بل تجب مقارنة الايمان
للندم على الكفر، ثم وزر الكفر يسقط بالايمان، والندم على الكفر بالاجماع، هذا
مقطوع، وما سواه من ضروب التوبة، فقبوله مظنون غير مقطوع به، وقد أجمعت
الأمة على أن الكافر إذا أسلم وتاب عن كفره، صحت توبته، وإن استدام معاصي
223

أخر، هذا كلام الامام، وهذا الذي قاله ان القبول مظنون هو الصحيح. وقال
جماعة من متكلمي أصحابنا: هو مقطوع. والله أعلم.
فصل إذا حكم القاضي بشهادة اثنين، ثم بان له أنهما كانا عبدين، أو
كافرين، أو صبيين، أو امرأتين، نقض حكمه، لأنه تيقن الخطأ، كما لو حكم
باجتهاده، فوجد النص خلافه، ولو بان ذلك لقاض آخر نقضه أيضا. فإن قيل: قد
اختلف العلماء في شهادة العبد، فكيف نقض الحكم في محل الاختلاف
والاجتهاد؟ فالجواب أن الصورة مفروضة فيمن لا يعتقد الحكم بشهادة العبد وحكم
بشهادة من ظنهما حرين، ولا اعتداد بمثل هذا الحكم، ولأنه حكم يخالف القياس
الجلي، لأن العبد ناقص في الولايات، وسائر الأحكام، فكذا الشهادة. وإن بان
أنه حكم بشهادة فاسقين، نقض حكمه على الأظهر، وقيل: قطعا. ولو شهد
عدلان، ثم فسقا قبل أن نحكم بشهادتهما لم نحكم بها قطعا، لأن الفسق يخفى
غالبا، فربما كانا فاسقين عند الشهادة. ولو ارتدا قبل الحكم، لم يحكم على
الصحيح، لأنها توقع ريبة، وقيل: لا يؤثر حدوثها بعد شهادتهما. وقال الداركي:
إن ارتد إلى كفر يستسر أهله به، فكالفسق، وإلا فلا يؤثر. ولو شهدا في حد أو
مال، ثم ماتا أو جنا أو عميا، أو خرسا، لم يمنع حدوث هذه الأحوال الحكم
بشهادتهما، لأنها لا توهم ريبة فيما مضى. ويجوز وقوع التعديل بعد حدوثها. ولو
فسق الشاهدان، أو ارتدا بعد الحكم بشهادتهما، وقبل الاستيفاء، فهو كرجوع
الشاهدين بعد الحكم، وقبل الاستيفاء، وفيه خلاف وتفصيل سنذكره في بابه إن شاء
الله تعالى، والمذهب أنه لا يؤثر في المال، بل يستوفى.
فرع قال القاضي بعد الحكم بشهادة شاهدين: قد بان لي أنهما كانا
فاسقين، ولم تظهر بينة بفسقهما، قال الغزالي في الفتاوي: إذا لم يتهم في
224

قضائه بعلمه مكن من ذلك أيضا، قال: ولو قال: أكرهني السلطان على الحكم
بقولهما، وكنت أعرف فسقهما، قبل قوله من غير بينة الاكراه، ولو بان بالبينة أن
الشاهدين كانا والدين للمشهود له، أو ولدين، أو عدوين للمشهود عليه، نقض
الحكم، وبالله التوفيق.
الباب الثاني في العدد والذكورة
قول الشاهد الواحد لا يكفي الحكم به إلا في هلال رمضان على الأظهر،
وأما القضاء بشاهد ويمين وإن قلنا على وجه: إن القضاء بالشاهد، فليس فيه اكتفاء
بشاهد، بل يشترط معه اليمين.
ثم الشهادات ثلاثة أضرب،
الأول: الشهادة على
الزنى، فلا تثبت إلا بأربعة رجال، وتثبت الشهادة على الاقرار بالزنى برجلين على الأظهر
، وفي قول: يشترط أربعة، ولا يثبت اللواط وإتيان البهيمة إلا بأربعة على
المذهب، ويثبت القذف بشاهدين على المشهور، ونقل أبو عاصم قولا قريبا في
اشتراط أربعة.
فرع سبق في السرقة أنه يشترط في الشهادة على الزنى أن يذكروا التي زنى
225

بها، وأن يذكروا الزنى مفسرا، فيقولون: رأينا أدخل ذكره، أو قدر الحشفة
منه في فرج فلانة على سبيل الزنى. ولا يكفي إطلاقه الزنى، فقد يظنون المفاخذة
زنى، وقد تكون الموطوءة جارية ابنه، أو مشتركة بينه وبين غيره بخلاف ما لو ادعت
وطئ شبهة، وطلبت المهر، فإنه يكفي الشهادة على الوطئ، ولا يشترط قولهم:
رأينا ذلك منه في ذلك منها، لأن المقصود هناك المال، فلم يلزم هذا الاحتياط،
وقد وقع في كلام الغزالي وغيره أن الشاهد يقول: رأينا ذكره في فرجها كالمرود في
المكحلة، وهذا التشبيه زيادة بيان، وليس بشرط، صرح به القاضي أبو سعد.
فرع هل يجوز النظر إلى الفرج لتحمل شهادة الزنى أو ولادة، أو عيب
باطن أم لا، وإنما يشهد عليه عند وقوع النظر إليه اتفاقا؟ فيه أوجه سبقت في أول
النكاح، الأصح المنصوص الجواز، والثاني: المنع، والثالث: المنع في الزنى
دون غيره، والرابع عكسه.
الضرب الثاني: ما ليس بمال، ولا يقصد منه مال، فإن كان عقوبة، لم تثبت
إلا برجلين سواء فيه حق الله تعالى، كحد الشرب، وقطع الطريق، وقتل الردة،
وحق العباد كالقصاص في النفس، أو الطرف، وحد القذف. والتعزير كالحد، ولا
مدخل لشهادة النساء فيها. وإن كان غير عقوبة، فهو نوعان أحدهما: يطلع عليه
الرجال غالبا، فلا يقبل فيه إلا رجلان، وذلك كالنكاح والرجعة، والطلاق والعتاق،
والاسلام والردة، والبلوغ والايلاء، والظهار والاعسار، والموت، والخلع من
جانب المرأة، والولاء وانقضاء العدة، وجرح الشهود وتعديلهم، والعفو عن
القصاص والاحصان، والكفالة والشهادة برؤية هلال غير رمضان، والشهادة على
الشهادة، والقضاء والولاية إن اشترطنا فيهما الشهادة، والتدبير والاستيلاد، وكذا
الكتابة على الصحيح، وقيل: تثبت الكتابة برجل وامرأتين، ومنه الوكالة والوصاية
226

وإن كانتا من المال، لأنهما ولاية وسلطنة. ومنه القراض، وكذا الشركة على الأصح،
وقيل: تثبت برجل وامرأتين. النوع الثاني: ما لا يطلع عليه الرجال، وتختص
النساء بمعرفته غالبا، فيقبل فيه شهادتهن منفردات، وذلك كالولادة، والبكارة،
والثيابة، والرتق، والقرن، والحيض، والرضاع، وعيب المرأة من برص وغيره
تحت الإزار، حرة كانت أو أمة، وكذا استهلال الولد على المشهور، فكل هذا
النوع لا يقبل فيه إلا أربع نسوة أو رجلين، أو رجل وامرأتين، قال البغوي: والعيب
في وجه الحرة وكفيها لا يثبت إلا برجلين، وفي وجه الأمة وما يبدو منها في المهنة
يثبت برجل وامرأتين، لأن المقصود منه المال. قال: والجراحة على فرج المرأة لا
يلحق بالعيب، لأن جنس الجراحة مما يطلع عليه الرجل غالبا، هكذا قاله، لكن
جنس العيب مما يطلع عليه الرجال غالبا، لكن لا يطلعون على العيب الخاص،
وكذا هذه الجراحة.
قلت: الصواب إلحاق الجراحة على فرجها بالعيوب تحت الثياب، وعجب
من البغوي كونه ذكر خلاف هذا، وتعلق بمجرد الاسم. والله أعلم.
الضرب الثالث: ما هو مال أو المقصود منه مال، كالأعيان والديون، والعقود
المالية، فيثبت برجلين وبرجل وامرأتين، ولا يثبت بنسوة منفردات، فمن هذا
الضرب البيع والإقالة، والإجارة، والرد بالعيب، والحوالة، والضمان، والصلح،
والقرض والشفعة والمسابقة، وخيول المسابقة، والغصب، والايلاء، والوصية
بمال، والمهر في النكاح، ووطئ الشبهة، والجنايات التي لا توجب إلا المال،
كقتل الخطأ وقتل الصبي والمجنون، وقتل الحر العبد، والمسلم الذمي، والوالد
الولد، والسرقة التي لا قطع فيها، وكذا حقوق الأموال، والعقود كالخيار، وشرط
227

الرهن، والأجل وفي الاجل وجه، لأنه ضرب سلطنة، ومنه قبض الأموال، منها
نجوم الكتابة، وفي النجم الأخير وجه ضعيف أنه يشترط له رجلان، لتعلق العتق
به، ومنه الرهن والابراء على الصحيح فيهما، ومنه طاعة الزوجة لاستحقاق النفقة،
وقتل الكافر لاستحقاق السلب، وإدمان الصيد، لتملكه، وعجز المكاتب عن
النجوم، ومنه الوقف، وفي ثبوته برجل وامرأتين ما سنذكره إن شاء الله تعالى في
الباب الرابع في ثبوته بشاهد ويمين. ولو مات سيد المدبر، فادعى الوارث أنه
كان رجع عن التدبير، وقلنا: يجوز الرجوع، ثبت برجل وامرأتين. ولو ادعى رق
شخص، أو ادعى جارية في يد غيره أنها أم ولد، ثبت برجل وامرأتين، ولو توافق
الزوجان على الطلاق، وقال الزوج: طلقتك على كذا، وقالت: بل مجانا، ثبتت
دعواه برجل وامرأتين، وكذا لو قال لعبده: أعتقتك بكذا، فقال: مجانا. ولو توافقا
على النكاح، واختلفا في قدر المهر أو صفته، أو على الخلع، واختلفا في إ قدر
العوض، أو صفته، ثبت برجل وامرأتين، وكذا لو توافق السيد والعبد على الكتابة،
واختلفا في قدر النجوم أو صفتها، والاقرار بكل ما يثبت برجلين يثبت برجل
وامرأتين، وفسخ العقود المالية يثبت برجل وامرأتين، وفسخ الطلاق لا يثبت إلا
برجلين.
فرع الخنثى المشكل كالمرأة في الشهادة.
فرع لو شهد بالسرقة رجل وامرأتان ثبت المال، وإن لم يثبت القطع،
وحكي قول أنه لا يثبت المال، كما لو شهد بقتل العمد رجل وامرأتان، فإنه لا يثبت
الدية كما لا يثبت القصاص، والمشهور الأول. ولو شهد رجل وامرأتان على صداق
228

في نكاح، ثبت الصداق، لأنه المقصود. ولو علق طلاق امرأته، أو عتق عبده على
الولادة، فشهد بالولادة أربع نسوة ثبتت الولادة دون الطلاق والعتق، وكذا لو علقهما
على الغصب والاتلاف، فشهد بهما رجل وامرأتان ثبت الغصب والاتلاف، ولا
يقع الطلاق والعتق كما سبق في كتاب الصوم أنا إذا أثبتنا هلال رمضان بعدل لا يحكم
بوقوع الطلاق والعتق المعلقين برمضان، ولا بحلول الدين المؤجل به، هذا إذا تقدم
التعليق، فلو ثبت الغصب أولا برجل وامرأتين، وحكم الحاكم به، ثم جرى
التعليق، فقال لها: إن كنت غصبت، فأنت طالق، وقد ثبت غصبها برجل وامرأتين
وقع الطلاق، هكذا قاله ابن سريج وجمهور الأصحاب، وقياسه أن يكون الحكم
هكذا في التعليق برمضان، وحكى الامام عن حكاية شيخه وجها أنه لا يقع.
فصل إذا ادعى على إنسان مالا، وشهد له به اثنان، نظر إن كان عينا
وطلب المدعي الحيلولة بينهما وبين المدعى عليه إلى أن يزكى الشاهدان، أجيب
إليه على الأصح، وقيل: لا يجاب، وقيل: يجاب إن كان المال مما يخاف تلفه أو
تعيبه، وإن كان عقارا ونحوه، فلا، وإن كان المدعى دينا، لم يستوف قبل
التزكية، وقيل: يستوفى ويوقف، حكاه ابن القطان، والصحيح الأول، فلو طلب
المدعي أن يحجر على المدعى عليه، نقل الامام عن الجمهور أنه لا يجيبه، وعن
القاضي حسين أنه إن كان يتهمه بحيلة حجر عليه، لئلا يضيع ماله بالتصرفات
والأقارير، ولم يتعرض عامة الأصحاب للحجر، لكن قالوا: هل يحبس المدعى
عليه إذا كان المدعى دينا، فيه وجهان، قال البغوي: أصحهما نعم، فإن قلنا:
لا، فللمدعي ملازمته إلى أن يعطيه كفيلا وأجرة من يبعثه القاضي معهما للتكفيل
على المدعى، وإن كان المدعى قصاصا، أو حد قذف، حبس المشهود عليه، لان
الحق متعلق ببدنه، فيحتاط له.
قلت: قال البغوي: سواء قذف زوجته أو أجنبيا. والله أعلم.
ولا يحبس في حدود الله تعالى، وأما في دعوى النكاح، فتعدل المرأة عند
229

امرأة ثقة، وتمنع من الانتشار والخروج، وفيه وجه ضعيف، فعلى هذا الوجه هل
يؤخذ منها كفيل؟ وجهان، قال القاضي أبو سعد: فإن كانت المرأة مزوجة، لم
يمنع منها زوجها قبل التعديل، لأنه ليس مدعى عليه، ولو شهد اثنان لعبد بأن سيده
أعتقه، وطلب العبد الحيلولة قبل التزكية، أجله القاضي، وحال بينه وبين سيده،
ويؤجره وينفق عليه، فما فضل فموقوف بينه وبين السيد، فإن لم يكن له كسب،
أنفق عليه من بيت المال، ثم يرجع على سيده إن بان جرح الشهود واستمر
الرق، وكذا الأعيان المنتزعة يؤجرها، وهل تتوقف الحيلولة على طلب العبد؟
وجهان، الأصح: لا، بل إذا رأى الحاكم الحيلولة، فعلها، وفي الأمة تتحتم
الحيلولة احتياطا للبضع، وكذا لو ادعت المرأة الطلاق، وأقامت شاهدين، فرق
الحاكم بينهما قبل التزكية، والوجهان في اشتراط طلب العبد للحيلولة جاريان في
انتزاع العين المدعاة، ويقرب منها وجهان، حكاهما ابن كج في أن إجارة العبد هل
تفتقر إلى طلب السيد أو العبد، أم يؤجره بغير طلبهما؟ والثاني أقرب إلى ظاهر
النص، هذا كله إذا أقام المدعي شاهدين، فلو أقام شاهدا، وطلب الانتزاع قبل أن
يأتي بآخر هل يجاب؟ قولان أظهرهما عند الجمهور: لا، لأن الشاهد وحده ليس
بحجة، وفي الشاهدين تمت الحجة، وهل يحبس المدعى عليه في القصاص
والقذف بشاهد؟ فيه القولان، ويجري فيه الخلاف في دعوى النكاح تعديلا، ثم
تكفيلا إن لم يعدل، وفي دعوى العتق والطلاق هل يحال؟ فيه القولان، ثم ذكر
العراقيون والروياني أن الحيلولة والحبس قبل التعديل يتعينان إلى ظهور الامر للقاضي
بالتزكية أو الجرح، ولا تقدر له مدة، والحيلولة والحبس بشاهد إذا قلنا به لا
يزادان على ثلاثة أيام، وعن أبي إسحاق أنه لا حيلولة ولا حبس إذا كان الشاهد
الآخر غائبا لا يحضر إلا بعد ثلاثة أيام، وإنما محل القولين إذا كان قريبا، والمذهب
ما سبق.
فرع قال البغوي: إذا حال القاضي بين العبد وسيده، أو انتزع العين
المدعاة بعد شهادة الشاهدين وقبل التزكية، لم ينفذ تصرف المتداعيين فيه، لكن لو
230

أقر أحدهما بالموقوف لآخر أو أوصى به أو دبره أو أعتقه، انتظرنا ما يستقر عليه الامر
آخرا، وحكى القاضي أبو سعد وجهين في نفوذ تصرفه، وصوره فيما إذا حجر
القاضي على المشهود عليه في المشهود به، فإن أراد بالحجر الحيلولة، حصل
الخلاف، وإن أراد التلفظ بالحجر أشعر ذلك باشتراط الحجر القولي في امتناع
التصرف، قال: وإذا قامت البينة، وحصل التعديل، والقاضي ينظر في وجه
الحكم، فينبغي أن يحجر عليه في مدة النظر، فإن حجر لم ينفذ تصرفه، قال
البغوي: وقبل الحيلولة والانتزاع لا ينفذ تصرف المدعي، وينفذ تصرف المدعى
عليه، إن قلنا: إن طلب المدعي شرط في الوقف، وإلا فوجهان.
فرع الثمرة والغلة الحادثان بعد شهادة الشاهدين وقبل التعديل تكون
للمدعي وبين شهادة الأول وشهادة الثاني لا يكون للمدعي إلا إذا أرخ الثاني ما شهد
به بيوم الأول أولا أو بما قبله، فإن استخدم السيد العبد المدعي للعتق بين
شهادة الأول والثاني على قولنا لا يحال بينهما وشهد الثاني هكذا لزمه أجرة المثل،
وبالله التوفيق.
الباب الثالث في مستند علم الشاهد، وحكم
تحمل الشهادة وأدائها
فيه ثلاثة أطراف.
الأول: فيما يحتاج إلى الابصار، والأصل في الشهادة البناء على العلم
واليقين، لكن من الحقوق ما لا يحصل اليقين فيه، فأقيم الظن المؤكد فيه مقام
اليقين، وجوزت الشهادة بناء على ذلك الظن كما سيأتي إن شاء الله تعالى،
وقد
قسم الشافعي والأصحاب رحمهم الله المشهود به ثلاثة أقسام
أحدها: ما يكفي فيه
السماع، ولا يحتاج إلى الابصار، وموضع بيانه الطرف الثاني.
الثاني:
ما يكفي فيه الابصار وهو الأفعال، كالزنى، والشرب، والغصب،
والاتلاف، والولادة، والرضاع، والاصطياد، والاحياء، وكون المال في يد
الشخص، فيشترط فيها الرؤية المتعلقة بها وبفاعلها، فلا يجوز بناء الشهادة فيها
231

على السماع من الغير، وتقبل فيها شهادة الأصم.
الثالث: ما يحتاج إلى السمع والبصر معا، كالأقوال، فلا بد من سماعها
ومشاهدة قائلها، وذلك كالنكاح والطلاق، والبيع، وجميع العقود، والفسوخ،
والاقرار بها، فلا يقبل فيها شهادة الأصم الذي لا يسمع شيئا، ولا تقبل شهادة
الأعمى فيما يحتاج إلى الابصار، ولا يصح منه التحمل اعتمادا على الصوت،
فإن الأصوات تتشابه ويتطرق إليها التخييل والتلبيس مع أنه لا ضرورة إلى شهادته
للاستغناء بالبصراء بخلاف الوطئ، فإن له أن يطأ زوجته اعتمادا على صوتها
بالاجماع للضرورة، ولان الوطئ يجوز بالظن، ولا تقبل شهادته على زوجته التي
يطأها كما لا تقبل على الأجانب، لأن الوطئ ضرورة، وقد سبق وجه أن العمى لا
يقدح في القضاء وهو مع ضعفه جار في الشهادة، والصواب المنع، ويستثنى عن
هذا صورة الضبطة، وهي أن يضع رجل فمه على أذنه ويد الأعمى على رأسه،
فينظر إن سمعه يقر بطلاق أو عتق أو لرجل معروف الاسم، والنسب بمال، ويتعلق
232

به الأعمى، ولا يزال يضبطه حتى يشهد بما سمع منه عند القاضي، فيقبل هذه
الشهادة على الصحيح لحصول العلم، وقيل: لا يقبل سدا للباب مع عسر ذلك،
وتقبل رواية الأعمى ما سمعه حال العمى على الصحيح، وبه قطع الجمهور إذا
حصل الظن الغالب بضبطه، واختار الامام المنع، فأما ما سمعه قبل العمى، فتقبل
روايته في العمى بلا خلاف، ولو تحمل شهادة تحتاج إلى البصر وهو بصير، ثم
عمي، نظر إن تحمل على رجل معروف الاسم والنسب يقر لرجل بهذه الصفة، فله
أن يشهد بعدما عمي، ويقبل لحصول العلم، وكذا لو عمي ويد المقر في يده،
فشهد عليه لمعروف الاسم والنسب. وإن لم يكن كذلك، لم تقبل شهادته، ويجوز
الاعتماد على ترجمة الأعمى على الأصح، ولو عمي القاضي بعد سماع البينة
وتعديلها، ففي نفوذ قضائه في تلك الواقعة وجهان، أحدهما لا، لانعزاله بالعمى،
كما لو انعزل بسبب آخر، وأصحهما: نعم إن لم يحتج إلى الإشارة، كما لو تحمل
الشهادة وهو بصير، ثم عمي، وأما شهادة الأعمى فيما يثبت بالاستفاضة، فسيأتي
في الطرف الثاني إن شاء الله تعالى.
فصل إذا شاهد فعل إنسان، أو سمع قوله، فإن كان يعرفه بعينه واسمه
ونسبه، شهد عليه عند حضوره بالإشارة إليه، وعند غيبته وموته باسمه ونسبه، فإن
كان يعرفه باسمه واسم أبيه دون جده، قال الغزالي: يقتصر عليه في الشهادة، فإن
عرفه القاضي بذلك، جاز، وكان يحتمل أن يقال: هذه شهادة على مجهول، فلا
تصح كما سبق في القضاء على الغائب أن القاضي لو لم يكتب إلا أني حكمت على
محمد بن أحمد، فالحكم باطل. وقد ذكر الشيخ أبو الفرج أنه إذا لم يعرف نسبه
قدر ما يحتاج إلى رفعه لا يحل له أن يشهد إلا بما عرف، لكن الشهادة والحالة هذه
لا تفيد، وقال الامام: لو لم يعرفه إلا باسمه لم يتعرض لاسم أبيه، لكن الشهادة
على مجرد الاسم قد لا تنفع في الغيبة، وبالجملة لا يشهد بما لا معرفة له به. ولو
سمع اثنين يشهدان أن فلانا وكل هذا الرجل في بيع داره، وأقر الوكيل بالبيع، شهد
على إقراره بالبيع، ولم يشهد بالوكالة. وكتب القفال في مثله أنه يشهد على
شاهدي الوكالة، وكأنهما أشهداه على شهادتهما، ولو حضر عقد نكاح زعم الموجب
233

أنه ولي المخطوبة، أو وكيل وليها وهو لا يعرفه وليا ولا وكيلا، أو
عرف الولاية أو الوكالة، ولم يعرف رضى المرأة وهي ممن يعتبر رضاها، لم يشهد على أنها
زوجته، لكن يشهد أن فلانا أنكح فلانة فلانا، وقيل: فلان فإن لم يعرف المرأة
بنسبها لم يشهد إلا أن فلانا قال: زوجت فلانة فلانا، وإن كان يعرف المشهود عليه
بعينه دون اسمه ونسبه، شهد عليه حاضرا لا غائبا، فإن مات أحضر ليشاهد
صورته، ويشهد على عينه، فإن دفن، لم ينبش، وقد تعذرت الشهادة عليه، هكذا
قاله القاضي حسين، وتابعه الامام والغزالي، لكن استثنى الغزالي ما إذا اشتدت
الحاجة إليه، ولم يطل العهد بحيث يتغير منظره وهذا احتمال ذكره الامام، ثم
قال: والأظهر ما ذكره القاضي. وإن لم يعرف اسمه ونسبه، لم يكن له أن يعتمد
قوله: إنه فلان ابن فلان، لكن لو تحمل الشهادة وهو لا يعرف اسمه ونسبه، ثم
سمع الناس يقولون: إنه فلان ابن فلان، واستفاض ذلك، فله أن يشهد في غيبته
على اسمه ونسبه، كما لو عرفهما عند التحمل. ولو قال له عدلان عند التحمل أو
بعده: هو فلان ابن فلان، قال الشيخ أبو حامد: له أن يعتمدهما، ويشهد على
اسمه ونسبه، وهذا مبني على جواز الشهادة على النسب من عدلين، وفيه خلاف
يأتي إن شاء الله تعالى.
فرع كما أن المشهود عليه تارة تقع الشهادة على عينه، وتارة على اسمه
ونسبه، فكذلك المشهود له، فتارة يشهد أنه أقر لهذا، وتارة لفلان ابن فلان، وكذا
عند غيبة المشهود له، وإذا شهد الشاهدان أن لهذا على فلان ابن فلان الفلاني
كذا، فقال الخصم: لست فلان ابن فلان الفلاني، ففي فتاوى القفال أن على
234

المدعي بينة أن اسمه فلان، ونسبه ما ذكراه، فإن لم يكن بينة حلفه، فإن نكل،
حلف واستحق، وإن سلم ذلك الاسم والنسب، فادعى أن هناك من يشاركه فيهما،
لم يقبل منه حتى يقيم البينة على ما يدعيه، فإن أقامها احتاج إلى اثبات زيادة يمتاز
بها المدعى عليه على الآخر، وهذا كما سبق في كتاب القاضي إذا بلغ المكتوب
إليه، وأحضر من زعم المدعي أنه المحكوم عليه، ولتكن الصورة فيما إذا ادعى أنه
يستحق على هذا الحاضر كذا، واسمه ونسبه كذا، أو أنه يستحق على من اسمه
ونسبه كذا وهو هذا الحاضر، وأقام البينة بالاستحقاق على فلان ابن فلان، فيستفيد
بها مطالبة الحاضر إن اعترف أنه فلان ابن فلان، أو يقيم بينة أخرى على الأمم و
النسب إن أمكن، ثم يطالبه وإلا فكيف يدعي على فلان ابن فلان من غير أن يربط
الدعوى بحاضر، وفي الفتاوى أيضا أنه لو أحضر رجلا عند القاضي، وقال: إن هذا
أقر لفلان ابن فلان بكذا وأنا ذلك المقر له، فقال الرجل: نعم أقررت، لكن هنا أو
بموضع آخر رجل آخر بهذا الاسم والنسب، وإنما أقررت له، لزمه إقامة البينة على
ما يدعيه، فإذا أقامها، سئل ذلك الآخر، فإن صدقه، دفع المقر به إليه، ويحلف
الأول على أنه لا شئ له عليه، وإن كذبه، فهو للمدعي، وإن قال: هناك رجل
آخر بهذا الاسم والنسب وأنا أقررت لأحدهما، لا أعلم عينه، وأقام البينة برجل آخر
سئل ذلك الآخر، فإن قال: لا شئ لي عليه، فينبغي أن يجب عليه التسليم إلى
الأول كما لو كانت عنده وديعة، فقال: هي لأحدكما، ولا أدري أنها لأيكما، فقال
أحدهما: ليست لي، فإنها تكون للآخر، وإن صدقه الآخر، فهو كما في صورة
الوديعة إذا قال كل واحد: هي لي، وقد حكينا في الوكالة فيما لو وكل رجلا
بالخصومة بناء على اسم ونسب ذكره أنه لا بد من بينة على أنه وكيله فلان ابن فلان، أو على
أن الذي وكله عند القاضي هو فلان ابن فلان وحكينا عن القاضي حسين أن
هذه المسألة يكتفي القضاة فيها بالعدالة الظاهرة، ويتساهلون في البحث
والاستزكاء. وعن القاضي أبي سعد الهروي أنه يكتفى فيها بمعرف واحد، وكل
واحد من هذين الكلامين ينبغي أن يعود هنا حيث احتيج إلى إثبات كونه فلان ابن
235

فلان. فصل المرأة المتنقبة لا يجوز الشهادة عليها اعتمادا على الصوت، كما لا
يجوز أن يتحمل الأعمى اعتمادا على الصوت، وكذا البصير في الظلمة، أو من وراء
حائل صفيق، والحائل الرقيق لا يمنع على الأصح. وإذا لم يجز التحمل بالصوت،
فإن عرفها متنقبة باسمها ونسبها أو بعينها لا غير، جاز التحمل، ولا يضر النقاب،
ويشهد عند الأداء بما يعلم، فإن لم يعرفها، فلتكشف عن وجهها ليراها الشاهد
ويضبط حليتها وصورتها، ليتمكن من الشهادة عليها عند الحاجة إلى الأداء،
وتكشف وجهها حينئذ. ولا يجوز التحمل بتعريف عدل أو عدلين أنها فلانة بنت
فلان، فإن قال عدلان يشهدان: هذه فلانة بنت فلان تقر بكذا، فهما شاهدا
الأصل، والذي يسمع منهما شاهد فرع يشهد على شهادتهما عند اجتماع الشروط.
ولو سمعه من عدل واحد، شهد على شهادته، والشهادة على الشهادة والحالة هذه
تكون على الاسم والنسب دون العين، هذا ما ذكره أكثر المتكلمين في المسألة،
وفي وجه ثان عن الشيخ أبي محمد أنه يكيفه لتحمل الشهادة عليها معرف واحد سلوكا
به مسلك الاخبار، وبهذا قال جماعة من المتأخرين، منهم القاضي شريح
الروياني، ووجه ثالث أنه يجوز التحمل إذا سمع من عدلين أنها فلانة بنت فلان،
ويشهد على اسمها ونسبها عند الغيبة، وهذا ما سبق عن الشيخ أبي حامد بناء على
أنه تجوز الشهادة على النسب بالسماع من عدلين، ووجه عن الإصطخري أنه إذا كان
يعرف نسب امرأة، ولا يعرف عينها، فدخل دارها وفيها نسوة سواها، فقال لابنها
الصغير: أيتهن أمك، أو لجاريتها أيتهن سيدتك، فأشارا إلى امرأة، فسمع
إقرارها، جاز له أن يشهد أن فلانة بنت فلان أقرت بكذا، حكاه ابن كج عنه، ولم
يجعل قول شاهدين على قول الإصطخري كإخبار الصغير والجارية، وادعى أن ذلك
أشد وقعا في القلب وأثبت. ولك أن تقول: ينبغي أن لا يتوقف جواز التحمل على
كشف الوجه لا على المعرف، لأن من أقرت تحت نقاب، ورفعت إلى القاضي
236

والمتحمل ملازمها أمكن الشهادة على عينها، وقد يحضر قوم يكتفى بإخبارهم في
التسامع قبل أن تغيب المرأة إذا لم يشترط في التسامع طول المدة كما سيأتي إن شاء
الله تعالى، فيخبرون عن اسمها ونسبها، فيتمكن من الشهادة على اسمها
ونسبها، بل ينبغي أن يقال: لو شهد اثنان تحملا الشهادة على امرأة لا يعرفانها أن
امرأة حضرت يوم كذا مجلس كذا، فأقرت لفلان بكذا، وشهد عدلان أن المرأة
الحاضرة، يومئذ في ذلك المكان هي هذه، ثبت الحق بالتبيين، كما لو قامت بينة
أن فلان ابن فلان الفلاني أقر بكذا وقامت أخرى على أن الحاضر هو فلان ابن
فلان، ثبت الحق. وإذا اشتمل التحمل على هذه الفوائد، وجب أن يجوز مطلقا،
ثم إن لم يحصل ما يفيد جواز التحمل على العين، أو على الاسم والنسب، أو لم
ينضم إليه ما يتم به الاثبات، فذاك لشئ آخر. ويجوز النظر إلى وجهها، لتحمل
الشهادة وسماع كلامها، وهذا عند الامن من الفتنة، فإن خاف فتنة، فقد سبق أنه
يحرم النظر إلى وجهها بلا خلاف فيشبه أن يقال: لا ينظر الخائف للتحمل، لان
في غيره غنية، فإن تعين عليه، نظر واحترز.
فرع إذا قامت بينة على عين رجل أو امرأة بحق، وأراد المدعي أن يسجل
له القاضي، فالتسجيل على العين ممتنع، لكن يجوز أن يسجل بالحلية، ولا
237

سبيل إلى التسجيل بالاسم والنسب ما لم يثبتا، ولا يكفي فيهما قول المدعي،
ولا إقرار من قامت عليه البينة، لأن نسب الشخص لا يثبت بإقراره، فلو قامت بينة
على نسبه على وجه الحسبة بني على أن شهادة الحسبة هل تقبل في النسب، إن
قبلناها - وهو الصحيح - أثبت القاضي النسب، وسجل، وإن لم نقبلها وهو اختيار
القاضي حسين، فقال: الطريق هنا أن ينصب القاضي من يدعي على فلان ابن فلان
دينا، أو على فاطمة بنت زيد، أو يدعي على زيد، ويقول: هذه بنته، وتركته
عندها، وينكر المدعي عليه النسب، فيقيم المدعي البينة عليه. قال: وتجوز هذه
الحيلة للحاجة، واعترض الامام بأن الدعوى الباطلة كالعدم، فكيف يجوز بناء
الشهادة عليها، وكيف يأمر القاضي بها. لكن الوجه أن يقال: وكلاء المجلس
يتفطنون لمثل ذلك، فإذا نصبوا مدعيا لم يفحص القاضي، ولم يضيق، بل يسمع
الدعوى والبينة للحاجة. ولو أمر المدعي الذي ثبت له الحق بالبينة أن
ينقل الدعوى عن العين إلى الدعوى على بنت زيد لينكر، فيقيم البينة على النسب، كان أقرب من
نصب مدع جديد، وأمره بدعوى باطلة.
فرع عن فتاوى القفال: شهد الشهود على امرأة باسمها ونسبها، ولم
يتعرضوا لمعرفة عينها، صحت شهادتهم فإن سألهم الحاكم هل تعرفون عينها؟ فلهم
أن يسكتوا، ولهم أن يقولوا: لا يلزمنا الجواب عن هذا. الطرف الثاني فيما تجوز
الشهادة فيه بالتسامع وهو الاستفاضة، فمنه النسب، فيجوز أن يشهد بالتسامع أن
هذا الرجل ابن فلان، أو هذه المرأة إذا عرفها بعينها بنت فلان، أو أنهما من قبيلة
كذا، ويثبت النسب من الام بالتسامع أيضا على الأصح، وقيل قطعا كالأب، ووجه
238

المنع إمكان رؤية الولادة. ثم ذكر الشافعي والأصحاب رحمهم الله في صفة التسامع
أنه ينبغي أن يسمع الشاهد المشهود بنسبه، فينسب إلى ذلك الرجل أو القبيلة،
والناس ينسبونه إليه، وهل يعتبر في ذلك التكرر، وامتداد مدة السماع، قال
كثيرون: نعم، وبهذا أجاب الصيمري، وقال آخرون: لا بل لو سمع انتساب
الشخص، وحضر جماعة لا يرتاب في صدقهم، فأخبروه بنسبه دفعة واحدة، جاز له
الشهادة. ورأي ابن كج القطع بهذا، وبه أجاب البغوي في انتسابه بنفسه، فإن
قلنا بالأول، فليست المدة مقدرة بسنة على الصحيح، ويعتبر مع انتساب الشخص
ونسبة الناس أن لا يعارضهما ما يورث تهمة وريبة، فلو كان المنسوب إليه حيا
وأنكر، لم تجز الشهادة، وإن كان مجنونا، جازت على الصحيح، كما لو كان ميتا،
ولو طعن بعض الناس في ذلك النسب هل يمنع جواز الشهادة؟ وجهان أصحهما:
نعم لاختلال الظن.
فرع يثبت الموت بالاستفاضة على المذهب، وبه قطع الأكثرون، وقيل:
وجهان، وهل يثبت بها الولاء والعتق والوقف والزوجية؟ وجهان، قال
الإصطخري، وابن القاص، وأبو علي بن أبي هريرة، والطبري: نعم، ورجحه
ابن الصباغ، وقال أبو إسحاق: لا، وبه أفتى القفال، وصححه الامام، وأبو
الحسن العبادي، والروياني، قالوا: ويستحب تجديد شهود كتب الوقف إذا
خاف انقراض الأصول، قال في العدة: هذا ظاهر المذهب، لكن الفتوى
الجواز للحاجة.
قلت: الجواز أقوى وأصح وهو المختار. والله أعلم.
239

فرع المعتبر في الاستفاضة أوجه، أصحها: أنه يشترط أن يسمعه من
جمع كثير يقع العلم أو الظن القوي بخبرهم، ويؤمن تواطؤهم على الكذب، وهذا
هو الذي رجحه الماوردي، وابن الصباغ، والغزالي وهو أشبه بكلام الشافعي
رحمه الله، والثاني: يكفي عدلان، اختاره أبو حامد، وأبو حاتم، ومال إليه
الامام، والثالث: يكفي خبر واحد إذا سكن القلب إليه، حكاه السرخسي
240

وغيره، فعلى الأول ينبغي أن لا يشترط العدالة ولا الحرية والذكورة.
فرع لو سمع رجلا يقول لآخر: هذا ابني وصدقه الآخر، أو قال: أنا ابن
فلان، وصدقه فلان، قال كثير من الأصحاب: يجوز أن يشهد به على النسب،
وكذا لو استلحق صبيا، أو بالغا وسكت، لأن السكوت في النسب كالاقرار. وفي
المهذب وجه أنه لا يشهد عند السكوت إلا إذا تكرر عنده الاقرار والسكوت،
والذي أجاب به الامام والغزالي أنه لا تجوز الشهادة على النسب بذلك، بل يشهد
والحالة هذه على الاقرار، وهذا قياس ظاهر.
فصل الشهادة على الملك تنبني على ثلاثة أمور وهي اليد والتصرف
والتسامح، فأما اليد فلا تفيد بمجردها جواز الشهادة على الملك، لكن إذا رأى
الشئ في يده، جاز أن يشهد له باليد، وشرط البغوي لذلك أن يراه في يده مدة
طويلة، وحكى الامام قولا أنه لا تجوز الشهادة بالملك بمجرد اليد، والمشهور
الأول، وأما التصرف المجرد، فكاليد المجردة لا يفيد جواز الشهادة بالملك، فإن
اجتمع يد وتصرف فإن قصرت المدة، فهو كاليد المجردة، وإن طالت، ففي
جواز الشهادة له بالملك وجهان، أصحهما: الجواز، صححه البغوي، ونقله الامام
عن اختيار الجمهور، وعن الشيخ أبي محمد القطع به، فلو انضم
إلى اليد والتصرف الاستفاضة، ونسبة الناس الملك إليه، جازت الشهادة بالملك بلا
241

خلاف، ونقل الروياني قولا انه لا تجوز الشهادة على الملك حتى يعرف سببه وهو
شاذ ضعيف. وأما الاستفاضة وحدها، فهل تجوز الشهادة على الملك بها؟ وجهان
أقربهما إلى إطلاق الأكثرين الجواز، والظاهر أنه لا يجوز، وهو محكي عن نصه في
حرملة، واختارها القاضي حسين، والامام الغزالي وهو الجواب في الرقم.
واعلم أن جواز الشهادة بالملك بالاستفاضة مشهورة في المذهب، فلعل من لا
يكتفي به يكتفي بانضمام أحد الامرين من اليد والتصرف إليه، أو يعتبرهما جميعا، لكن لا
يعتبر طول المدة فيهما، وإذا انضما إلى الاستفاضة، وإلا فهما كافيان إذا طالت
المدة على الأصح، ولا يبقى للاستفاضة أثر، ويشترط في جواز الشهادة بناء على
اليد أو اليد والتصرف أن لا يعرف له منازعا فيه، ونقل ابن كج وجهين في أن منازعة
من لا حجة معه هل تمنع؟
فرع طول مدة اليد والتصرف يرجع فيه إلى العادة، وقيل: أقلها سنة،
والصحيح الأول، وعن الشيخ أبي عاصم أنه إن زادت على عشرة، فطويلة، وفيما
دونها وجهان، والقول في عدد المخبرين هنا، وامتداد المدة كما سبق في النسب،
ونقل ابن كج وجهين في أنه هل يشترط أن يقع في قلب السامع صدق المخبرين.
فرع ذكر ابن كج أنه تجوز الشهادة على اليد بالاستفاضة، وقد ينازع فيه،
لامكان مشاهدة اليد.
فرع لا يكفي أن يقول الشاهد: سمعت الناس يقولون: إنه لفلان، وكذا
في النسب، وإن كانت الشهادة مبنية عليه، بل يشترط أن يقول: أشهد بأنه له،
242

وبأنه ابنه، لأن قد يعلم خلاف ما سمعه من الناس، لكن عن الشيخ أبي عاصم أنه
لو شهد رجل بالملك، وآخر بأنه في يده مدة طويلة وتصرف فيه بلا منازع، تمت
الشهادة. وقال الشارح لكلامه: هذا مصير منه إلى الاكتفاء بذكر السبب، والصحيح
الأول.
فرع سواء في الشهادة على الملك بالاستفاضة والتصرف العقار والثوب
والعبد وغيرها إذا ميز الشهود به عن أمثاله.
فرع التصرف المعتبر في الباب تصرف الملاك من السكنى، والدخول
والخروج، والهدم والبناء، والبيع والفسخ بعده، والرهن، وفي مجرد الإجارة
وجهان، لأنها وإن تكررت قد تصدر ممن استأجر مدة طويلة ومن الموصى له
بالمنفعة، وليجر هذا الخلاف في الرهن، لأنه قد يصدر من مستعير، والأوفق
لاطلاق الأصحاب الاكتفاء، لأن الغالب صدورها من المالكين، ولا يكفي التصرف
مدة واحدة، لأنه لا يحصل ظنا.
فرع لا يثبت الدين بالاستفاضة على الصحيح.
فرع في قبول شهادة الأعمى فيما يشهد فيه بالاستفاضة وجهان، قال ابن
243

سريج والجمهور: تقبل إلا أن شهادته إنما تقبل إذا لم يحتج إلى تعيين وإشارة بأن
يكون الرجل معروفا باسمه ونسبه الأدنى، ويحتاج إلى إثبات نسبه الأعلى وصور
أيضا في النسب الأدنى بأن يصف الشخص، فيقول: الرجل الذي اسمه كذا، وكنيته كذا، ومصلاه ومسكنه كذا،
هو فلان ابن فلان، ثم يقيم المدعي بينة أخرى
أنه الذي اسمه كذا، وكنيته كذا إلى آخر الصفات، وصورته في الملك أن يشهد
الأعمى بدار معروفة أنها لفلان ابن فلان، ويمكن أن يقال: الوجه القائل بأن شهادته
لا تقبل، مخصوص بما إذا سمع من عدد يمكن اتفاقهم على الكذب، فأما إذا
حصل السماع من جمع كبير، فلا حاجة فيه إلى المشاهدة، ومعرفة حال المخبرين.
فرع ما جازت الشهادة به اعتمادا على الاستفاضة، جاز الحلف عليه
اعتمادا عليها بل أولى، لأنه يجوز الحلف على خط الأب دون الشهادة.
الطرف الثاني في تحمل الشهادة وأدائها. أما الأداء، فواجب في الجملة،
والكتمان حرام، ويجب الأداء على متعين للشهادة، متحمل لها قصدا، دعي من
دون مسافة العدوي، عدل، لا عذر له، فهذه خمسة قيود. الأول: التعيين، فإن
لم يكن في الواقعة إلا شاهدان بأن لم يتحمل سواهما، أو مات الباقون، أو جنوا،
أو فسقوا، أو غابوا، لزمهما الأداء، فلو شهد أحدهما، وامتنع الآخر، وقال
للمدعي: احلف مع الشاهد، عصا، وكذا الشاهدان على رد الوديعة لو امتنعا،
وقال للمودع: احلف على الرد، عصيا، لأن من مقاصد الاشهاد التورع عن
اليمين، ولو لم تكن في الواقعة إلا شاهد، فإن كان الحق يثبت بشاهد ويمين، لزمه
الأداء، وإلا فلا على الصحيح، وحكى ابن كج وجها في لزومه، لأنه ينفع في
اندفاع بعض تهمة الكذب. وإن كان في الواقعة شهود، فالأداء عليهم فرض كفاية
إذا فعله اثنان منهم، سقط عن الباقين، وإن طلب الأداء من اثنين، ففي وجوب
الإجابة عليهما وجهان، وقال ابن القاص قولان، أصحهما: الوجوب، وليس
244

موضع الخلاف ما إذا علمنا من حالهم رغبة أو إباء.
القيد الثاني: كونه متحملا عن قصد، أما من سمع الشئ، أو وقع بصره
عليه اتفاقا، فالأصح الموافق لاطلاق الجمهور أنه يلزمه الأداء أيضا، لأنها أمانة
وشهادة عنده، والثاني: لا، لعدم التزامه.
القيد الثالث: أن يدعى لأداء الشهادة من مسافة قريبة، ومتى كان القاضي في
البلد فالمسافة قريبة، وكذا لو دعي إلى مسافة يتمكن المبكر إليها من الرجوع إلى
أهله في يومه، وإن دعي إلى مسافة القصر لم تجب الإجابة، وإن كان بينهما لم
تجب أيضا على الأصح، وهذا كله تفريع على الصحيح، وهو أن الشاهد يلزمه
الحضور إلى القاضي لأداء الشهادة وعن القاضي أبي حامد أنه ليس على الشاهد إلا
أداء الشهادة إن اجتمع هو والقاضي.
القيد الرابع: كون الشاهد عدلا، فإن كان فاسقا، ودعي لأداء الشهادة نظر
إن كان فسقه مجمعا عليه، ظاهرا أو خفيا، حرم عليه أن يشهد، وإن كان مجتهدا
فيه، كشرب النبيذ، لزمه أن يشهد، وإن كان القاضي يرى التفسيق به ورد
الشهادة، لأنه قد يتغير اجتهاده. وفي أمالي السرخسي وجه أنه لا يجب في الفسق
المجتهد فيه إذا كان ظاهرا، وحكى ابن كج وجها أنه يجب مطلقا في الفسق
245

الخفي، وفي الظاهر وجهان، والمذهب ما سبق، وحكى ابن كج وجهين في أنه
هل للشاهد أن يشهد بما يعلم أن القاضي يرتب عليه ما لا يعتقده الشاهد، كالبيع
الذي يترتب عليه شفعة الجوار، والشاهد لا يعتقدها. ولو كان أحد الشاهدين عدلا
والآخر فاسقا فسقا مجمعا عليه، لم يلزم العدل الأداء إن كان الحق لا يثبت بشاهد
ويمين.
القيد الخامس: عدم العذر، كالمرض ونحوه، فالمريض الذي يشق عليه
الحضور لا يكلف أن يحضر، بل إما أن يشهد على شهادته، وإما أن يبعث القاضي
إليه، بأن يسمع شهادته، والمرأة المخدرة كالمريض، وفيها الخلاف السابق في
الباب الثالث من أدب القضاء، وغير المخدرة يلزمها الحضور والأداء، وعلى الزوج
أن يأذن لها فيه، وحكى الشيخ أبو الفرج وجهين في أنه هل يجب الحضور عند
القاضي الجائر والمتعنت لأداء الشهادة، لأنه لا يؤمن أن يرد شهادته جورا وتعنتا فيعير
بذلك، فعلى هذا عدالة القاضي وجمعه الشروط المعتبرة شرط سادس.
قلت: الراجح الوجوب. والله أعلم.
وإذا اجتمعت شروط الوجوب لم يرهق القاضي إرهاقا، بل إن كان في صلاة
أو حمام، أو على طعام، فله التأخير إلى أن يفرغ، ولا يمهل ثلاثة أيام على
المشهور، قال ابن كج: ولو شهد ورد القاضي شهادته بعلة الفسق، ثم طلب
المدعي أن يشهد له عند قاض آخر، لزمه الإجابة ولا يلزمه عند ذلك القاضي على
الصحيح، قال ابن كج: ولو دعي لأداء الشهادة عند أمير أو وزير، قال ابن القطان:
لا تلزمه الإجابة، وإنما يلزمه عند من له أهلية سماع البينة وهو القاضي، قال ابن
كج: وعندي أنه يلزمه إذا علم أنه يصل به إلى الحق.
246

قلت: قول ابن كج أصح. والله أعلم.
فرع إذا امتنع الشاهد من أداء الشهادة بعد وجوبه حياء من المشهود عليه،
قال القاضي حسين: يعصي، ولا يجوز للقاضي قبول شهادته في شئ أصلا حتى
يتوب، ويوافق هذا ما قيل: إن المدعي لو قال للقاضي: عند فلان شهادة، وهو
ممتنع من أدائها، فأحضره ليشهد، لم يجبه القاضي، لأنه فاسق بالامتناع بزعمه،
فلا ينتفع بشهادته.
قلت: ينبغي أن يعمل هذا على ما إذا قال: هو ممتنع بلا عذر. والله
أعلم.
فصل وأما تحمل الشهادة، ففرض كفاية في عقد النكاح، لتوقف الانعقاد
عليه، فإن امتنع الجميع منه، أثموا. ولو طلب من اثنين التحمل، وهناك غيرهما،
لم يتعينا بلا خلاف، وأما في التصرفات المالية والأقارير، فهل التحمل فرض كفاية
أم مستحب؟ وجهان الصحيح الأول، وبه قطع العراقيون للحاجة إليها، ومنهم من
يقتضي كلامه طرد الخلاف في النكاح أيضا وليس بشئ وإذا قلنا بالافتراض، فذلك
إذا حضر المحمل، أما إذا دعي للتحمل فقيل: تجب الإجابة أيضا، والأصح الذي
247

قاله القاضي أبو حامد، والبغوي، وأبو الفرج، أنه لا يجب إلا أن يكون المحمل
معذورا بمرض أو حبس، أو كانت امرأة مخدرة إذا أثبتنا للتخدير أثرا وكذا إذا دعاه
القاضي ليشهده على أمر ثبت عنده لزمه الإجابة.
فرع إن تطوع الشاهد بتحمل الشهادة وأدائها، فقد أحسن، وإن طمع في
مال، فهو إما رزق من بيت المال، وإما من مال المشهود له، فأما الرزق من بيت
المال، فقد ذكر الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ وآخرون أن الشاهد ليس له أخذ
الرزق من بيت المال لتحمل الشهادة، وقيل: له ذلك، فإن قلنا بالأول، فرزقه
الامام من ماله، أو واحد من الرعية، فالحكم كما ذكرنا في القاضي، وأما مال
المشهود له، فليس للشاهد أخذ أجرة على أداء الشهادة، ووجهوه بأنه فرض عليه،
فلا يستحق عليه عوضا، ولأنه كلام يسير لا أجرة لمثله. وأما إتيان القاضي والحضور
عنده، فإن كان معه في البلد فلا يأخذ شيئا، وإن كان نائبه من مسافة العدوي، فما
فوقها، فله طلب نفقة المركوب. قال البغوي: وكذا نفقة الطريق، وحكى
248

وجهين فيما لو أعطاه شيئا ليصرفه في نفقة الطريق، وأجرة المركوب هل له أن يصرفه
إلى غرض آخر، ويمشي وهما كالوجهين فيما لو أعطى فقيرا شيئا وقال: اشتر لك به
ثوبا، هل له أن يصرفه إلى غير الثوب، والأصح الجواز فيهما، فهذا ما قيل: إن
الشاهد يأخذه من المشهود له ولم يتعرض أكثرهم لما سوى هذا، لكن في تعليق
الشيخ أبي حامد أن الشاهد لو كان فقيرا يكسب قوته يوما يوما وكان في صرف الزمان
إلى أداء الشهادة ما يشغله عن كسبه، لم يلزمه الأداء إلا إذا بذل له المشهود له قدر
كسبه في ذلك الوقت، هذا حكم الأداء. فلو طلب الشاهد أجرة لتحمل الشهادة،
فإن لم يتعين عليه، فله ذلك، وكذا إن تعين على الأصح، قال أبو الفرج: هذا إذا
دعي ليتحمل، فأما إذا أتاه المحمل، فليس للتحمل والحالة هذه أجرة، وليس له أن
يأخذ شيئا، ومقتضى قولنا: له طلب الأجرة إذا دعي للتحمل أن يطلب الأجرة إذا
دعي للأداء، سواء كان القاضي معه في البلد أم لا، كما لا فرق في التحمل، وأن
يكون النظر إلى الأجرة مطلقا لا إلى أجرة المركوب ونفقة الطريق خاصة، ثم هو
يصرف المأخوذ إلى ما يشاء، ولا يمنع ذلك كون الأداء فرضا عليه كما ذكرنا في
التحمل مع تعينه على الأصح.
قلت: هذا الذي أورده الرافعي رحمه الله ضعيف مع أنه خلاف قول
الأصحاب كما سبق، فإن فرض من يحتاج إلى الركوب في البلد، فهو محتمل،
والوجوب ظاهر حينئذ. والله أعلم.
249

فرع كتابة الصكوك هل هي فرض كفاية، أم مستحب؟ وجهان أصحهما
الأول، وبه قطع السرخسي، فإن قلنا: مستحبة أو فرض، ولم يتعين لها شخص،
فله طلب الأجرة. وإن تعين، فكذلك على الأصح، هذا إذا لم يرزق الكاتب من
بيت المال لكتابة الصكوك، فإن رزق لذلك، فلا أجرة.
فصل في آداب التحمل والأداء منقولة من مختصر الصيمري ينبغي
للشاهد أن لا يتحمل، وبه ما يمنعه من الضبط، وتمام الفهم، كجوع وعطش،
وهم وغضب، كما لا يقضي في هذه الأحوال، وإذا أتاه من لا تجوز الشهادة عليه،
كصبي ومجنون، لم يلتفت إليه، وإن أتي بكتاب أنشئ على خلاف الاجماع،
فكذلك، وتبين فساده، وإن أنشئ على مختلف فيه بين العلماء وهو لا يعتقده،
فهل يعرض عنه أم يشهد ليؤدي ويحكم الحاكم باجتهاده؟ وجهان سبقا، وإذا رأى
كلمة مكروهة أو معادة، فلا بأس بالضرب عليها لا سيما إذا لم يسبقه بالشهادة أحد،
وإن أغفل الكاتب ما لا بد منه، ألحق به، وإن رأى سطرا ناقصا شغله بخط أو
خطين، وإذا قرأ الكتاب على المتبايعين مثلا، وقال: عرفتما ما فيه؟ أشهد
250

عليكما به؟ فقالا: نعم أو أجل أو بلى، كفى للتحمل، ولا يكفي أن يقول
المحمل: الامر إليك أو إن شئت، أو كما ترى، أو أستخير الله تعالى، وإذا سمع
إقرارا بدين أو طلاق أو عتق، فله أن يشهد به، ولكن لا يقول ولا يكتب: أشهدني
بذلك، ويكتب الشاهد في الكتاب الذي تحمل فيه اسمه واسم أبيه وجده، ويجوز
أن يترك اسم الجد، وأن يتخطى إلى جد أعلى لشهرته به، ولا يكتب الكنية إلا أن
يكون في الشهود من يشاركه في الاسم والنسب فيميز بالكنية، وقد يستحب الاستعانة
بما يفيد التذكر كما ذكرناه في الباب الثاني من أدب القضاء، وإذا أشهده القاضي
على شئ قد سجل به كتب الشهادة على إنفاذ القاضي ما فيه، أو حكم بما فيه،
ولا يكتب الشهادة على إقراره يعني إذا حضر الانشاء، والأولى في كتابة الدين المؤجل
أن يقرر صاحب الدين أولا بأن يقول: ما الذي لك على هذا؟ فإن قال: كذا مؤجلا
قرر المدين، لأنه لو أقر المدين أولا قد ينكر صاحب الاجل، وفي السلم يقرر
المسلم أولا خوفا من أن ينكره المسلم لو أقر أولا، ويطالبه بالمدفوع إليه. وإذا أتى
القاضي شاهد لأداء شهادة أقعده عن يمينه، وإن كانت شهادته مثبتة في كتاب
أخذه وتأمله، فإذا سأله المشهود له، استأذن القاضي، ليصغي إليه، ولو شهد قبل
استئذان القاضي وسؤاله، صحت على الصحيح، لكن لو شهد قبل استئذانه، فقال
القاضي: كنت ذاهلا لم أسمع، لم يعتد بها. والله المستعان.
251

الباب الرابع في الشاهد مع اليمين
يجوز القضاء بشاهد ويمين في الجملة، فما ثبت برجل وامرأتين ثبت بشاهد
ويمين إلا عيوب النساء وما في معناها، وما لا يثبت برجل وامرأتين لا يثبت بشاهد
ويمين، ولا يقضى بشهادة امرأتين ويمين في الأموال قطعا، ولا فيما يثبت بشهادة
النسوة منفردات على الأصح. ثم هل القضاء بالشاهد وحده، واليمين مؤكدة أم بها
وحدها، وهو مؤكد، أم بهما؟ أوجه، أصحها الثالث، فلو رجع الشاهد، فإن قلنا
بالأول، غرم، أو بالثاني، فلا، أو بالثالث، غرم النصف، ثم يحلف المدعي
بعد شهادة الشاهد وتعديله، وجوز ابن أبي هريرة تقديم اليمين على شهادته، كما
يجوز تقديم المرأتين على الرجل، والصحيح الأول، ويجب أن يتعرض الحالف في
اليمين لصدق الشاهد، فيقول: والله إن شاهدي لصادق، وإني مستحق لكذا، قال
الامام: ولو أخر تصديق الشاهد، وقدم ذكر الاستحقاق، جاز، ولم أجد أحدا
يضايق فيه. ولو فسق الشاهد بعد القضاء، لم ينقض الحكم، وإن فسق قبله، صار
كأن لا شاهد، فيحلف المدعى عليه، فإن نكل، حلف المدعي، ولم يعتد بما
مضى، ولو لم يحلف المدعي مع شاهده، وطلب يمين الخصم، فله ذلك، فإن
حلف، سقطت الدعوى. قال ابن الصباغ: وليس له أن يحلف بعد ذلك مع شاهده
بخلاف ما لو أقام بعد يمين المدعى عليه بينة، فيسمع، وإن نكل المدعى عليه،
فأراد المدعي يمين الرد مكن منها على الأظهر، ويجري القولان فيما لو ادعى مالا ونكل المدعى عليه، ولم يحلف المدعي يمين الرد، ثم أقام شاهدا واحدا، وأراد
أن يحلف معه، فإن قلنا: ليس له أن يحلف يمين الرد، فالمنقول أنه يحبس
252

المدعى عليه حتى يحلف، أو يقر، لأن يمينه حق المدعي، فلا يتمكن من
إسقاطها، لكن التقصير منه حيث لم يحلف مع شاهده، فينبغي أن لا يحبس
المدعى عليه. وقد ذكر ابن الصباغ نحو هذا. ولو أن المدعي بعد امتناعه من
الحلف مع شاهده واستحلافه الخصم أراد أن يعود، فيحلف مع شاهده، نقل
المحاملي أنه ليس له ذلك لأن اليمين صارت في جانب صاحبه إلا أن يعود في
مجلس آخر، ويستأنف الدعوى، ويقيم الشاهد، فحينئذ يحلف معه.
فصل جارية وولدها في يد رجل يسترقهما، فقال آخر: هذه مستولدتي
والولد مني علقت به في ملكي، فإن أقام بذلك شاهدين ثبت ما يدعيه، وإن أقام
رجلا وامرأتين، أو رجلا وحلف معه، ثبت الاستيلاد، لأن حكم المستولدة حكم
المال، فيسلم إليه، وإذا مات، حكم بعتقها بإقراره، وهل يحكم له بالولد؟
قولان، أظهرهما: لا، لأنه لا يدعي ملكه، بل نسبه وحريته، وهما لا يثبتان بهذه
الحجة، فيبقى الولد في يد صاحب اليد. وهل يثبت نسبه بإقرار المدعي، فيه ما
ذكرنا في الاقرار واللقيط في استلحاق عبد غيره، والثاني: نعم تبعا لها، فينتزع من
المدعى عليه، فيكون حرا نسبيا بإقرار المدعي. ولو كان في يد رجل شخص ادعى
أنه رقيقه، فادعى آخر أنه كان له، وأنه أعتقه، وأقام شاهدا وحلف، أو رجلا
وامرأتين، نص الشافعي أنه ينتزع منه، ويحكم بأنه عتق على المدعي بإقراره، فمن
الأصحاب من قال: في قبول هذه البينة والانتزاع قولان، كالصورة السابقة، لأنها
253

شهادة بملك متقدم، والمذهب القطع بالعتق بالقبول والانتزاع، كما نص عليه،
والفرق أن المدعي هنا يدعي ملكا، وحجته تصلح لاثباته، والعتق يترتب عليه
بإقراره. ولو قال المدعي في صورة الاستيلاد لصاحب اليد: استولدتها أنا في
ملكك، ثم اشتريتها مع الولد، فعتق الولد علي، وأقام عليه حجة ناقصة، فالعتق
الآن مرتب على الملك الذي قامت به الحجة الناقصة، فيكون على الطريقين، كذا
ذكره القفال. هذا كلام الأصحاب في جميع طرقهم في الصورتين، وانفرد الامام
والغزالي فحكيا عن الأصحاب والمزني والنص أشياء منكرة محولة عن وجهها،
وفي المختصر التصريح بخلافها، وكذا كتب الأصحاب.
فصل ادعى ورثة ميت دينا أو عينا لمورثهم، فإنما يحكم على المدعى
عليه إذا ثبت لهم ثلاثة أشياء: الموت والوراثة والمال، والأول والثاني لا مدخل فيهما
للشاهد واليمين، بل لا يثبتان إلا بشاهدين أو إقرار المدعى عليه، وأما المال،
فيدخله الشاهد واليمين، فإن حضر جميع الورثة وهم كاملون، وأقاموا شاهدا
وحلفوا معه استحقوا، والمأخوذ تركة يقضى منها ديون الميت ووصاياه، وإن امتنع
جميعهم وعلى الميت دين، فهل للغريم أن يحلف؟ ذكرنا في التفليس فيه قولين،
الجديد الأظهر المنع، ويجريان فيما لو كان أوصى لرجل، ولم يحلف الورثة، هل
يحلف الموصى له؟ فإن كانت الوصية بعين وادعاها في يد أجنبي فينبغي أن لا يكون
فيه خلاف، ويقطع بالجواز، فإن حلف بعض الورثة دون بعض، أخذ الحالف
نصيبه والنص أنه لا يشاركه فيه من لم يحلف، ونص في كتاب الصلح أنهما لو ادعيا
دارا إرثا، فصدق المدعى عليه أحدهما في نصيبه شاركه المكذب، فخرج بعضهم
من الصلح هنا قولا أن ما أخذه الحالف يشاركه فيه من لم يحلف، لأن الإرث يثبت
على الشيوع، وقطع الجمهور بأن لا شركة هنا، كما نص والفرق من وجهين
حكاهما الامام، أحدهما: أن صورة الصلح مصورة في عين، وأعيان التركة مشتركة
بين الورثة، والمصدق معترف بأنه من التركة، والصورة هنا في دين، والدين إنما
254

يتعين بالتعيين والقبض، فالذي أخذه الحالف يتعين لنصيبه بالقبض، فلم يشاركه
الآخر فيه، فعلى هذا لو كانت صورة الصلح في دين، لم تثبت الشركة. ولو فرض
شاهد ويمين بعض الورثة في عين، تثبت الشركة. والفرق الثاني وهو الذي ذكره
الجمهور أن الثبوت هنا بشاهد ويمين، فلو أثبتنا الشركة لملكنا الناكل بيمين غيره
وهناك ثبت بإقرار المدعى عليه، ثم ترتب عليه إقرار المصدق بأنه إرث، فعلى هذا
لا فرق بين العين والدين، ولا في صورة إقرار المدعى عليه، وأشار في الوسيط
إلى تخريج خلاف في مسألة الصلح بما نحن فيه، ولا يعرف هذا لغيره، وهل يقضى
من نصيب الحالف جميع الدين أم بالحصة؟ قال في الشامل يبنى على أن الغريم
هل يحلف؟ إن قلنا: نعم لم يلزمه إلا قضاء حصته، وإن قلنا: لا، بني على أن
من يحلف من الورثة هل يشارك الحالف إن قلنا: نعم قضى الجميع، لأنا أعطيناه
حكم التركة وإلا فبالحصة. هذا حكم نصيب الحالف، أما من لم يحلف، فإن كان
حاضرا كامل الحال، ونكل عن اليمين، ذكر الامام أن حقه يبطل بالنكول، ولو
مات، لم يكن لوارثه أن يحلف. وفي كتاب ابن كج ما ينازع فيه. قال الامام: ولو
أراد وارثه أن يقيم شاهدا آخر ليحلف معه، لم يكن له أيضا، لكن هل يضم هذا
الشاهد إلى الشاهد الأول، ليحكم بالبينة؟ فيه احتمالان جاريان فيما لو أقام مدع
شاهدا في خصومة، ثم مات، فأقام وارثه شاهدا آخر، فيجوز أن يقال: له البناء
عليه، ويجوز أن يقال: عليه تجديد الدعوى، وإقامة البينة، وأنه لو أقام الورثة
شاهدا، وحلف معه بعضهم، ومات بعضهم قبل أن يحلف أو ينكل، كان لوارثه أن
يحلف، لكن هل يحتاج إلى إعادة الدعوى والشاهد؟ فيه التردد المذكور، والأصح
أنه لا يحتاج. وإن كان الذي لم يحلف صبيا أو مجنونا أو غائبا، نص الشافعي رحمه
الله في المجنون أنه يوقف نصيبه. واختلفوا في معناه، فقال أبو إسحاق وعامة
الأصحاب: المراد أنا نمتنع من الحكم في نصيبه، ويتوقف حتى يفيق، فيحلف
أو ينكل، ولا يؤخذ نصيبه وقيل: أراد أنه يؤخذ نصيبه ويوقف، وهذا أحد قوليه أن
255

الحيلولة هل تثبت بشاهد؟ والصبي والغائب كالمجنون. وينبغي أن يكون
الحاضر الذي لم يشرع في الخصومة، أو لم يشعر بالحال، كالمجنون في بقاء حقه
بخلاف ما سبق في الناكل، فإن قلنا بالصحيح وهو أنه لا يؤخذ نصيب المعذورين،
فإذا زال عذرهم حلفوا وأخذوا نصيبهم، ولا حاجة إلى إعادة الشهادة بخلاف ما لو
كانت الدعوى لا عن جهة الإرث، بأن قال: أوصى لي ولأخي الغائب أو الصبي
أبوك بكذا، أو اشتريت مع أخي الغائب منك كذا، وأقام شاهدا، وحلف معه، فإنه
إذا قدم الغائب، وبلغ الصبي يحتاجان إلى تجديد الدعوى وإعادة الشهادة أو
شاهد آخر، ولا يؤخذ نصيبهما قبل ذلك، لأن الدعوى في الميراث عن شخص
واحد وهو الميت، وكذلك يقضى دينه من المأخوذ، وفي غير الميراث الدعوى
وألحق الاشخاص، فليس لأحد أن يدعي ويقيم البينة عن غيره بغير إذن أو ولاية. ثم
ما ذكرنا في الميراث أنه لا حاجة إلى إعادة الشهادة مفروض فيما إذا لم يتغير حال
الشاهد، فإن تغير، فوجهان، أحدهما وبه قال القفال: لا يقدح وللصبي والمجنون
والغائب إذا زال عذرهم أن يحلفوا، لأنه قد اتصل الحكم بشهادته، فلا أثر للتغير،
والثاني، وهو اختيار الشيخ أبي علي: لا يحلفون، لأن الحكم اتصل بشهادته في
حق الحالف فقط، ولهذا لو رجع الشاهد لم يكن لهم أن يحلفوا، ولو مات
الغائب أو الصبي، فلوارثه أن يحلف ويأخذ حصته، فإن كان وارثه هو الحالف، لم
تحسب يمينه الأولى، ولو ادعى شخص على ورثة رجل أن مورثكم أوصى لي
ولأخي، أو ولأجنبي بكذا، وأقام شاهدا، وحلف معه، وأخذ نصيبه، لم يشاركه
الآخر فيه بلا خلاف، ثم ذكر الشيخ أبو الفرج أن من يحلف من الورثة على دين أو
عين للمورث يحلف على الجميع لا على حصته فقط، سواء حلف كلهم أو
بعضهم، وكذا الغريم والموصى له إذا قلنا: يحلفان، وفي كلام غيره إشعار
بخلافه، وجميع ما ذكرناه فيما إذا أقام بعض الورثة شاهدا واحدا، وحلف معه،
256

فأما إذا أقام بعضهم شاهدين، فإنه يثبت المدعى كله، فإذا حضر الغائب من
الورثة، أو بلغ صبيهم، أو عقل مجنونهم، أخذ نصيبه، ولا حاجة إلى تجديد
الدعوى وإقامة البينة، وينتزع القاضي بعد تمام البينة نصيب الصبي والمجنون، دينا
كان أو عينا، ثم يأمر بالتصرف فيه بالغبطة كيلا يضيع عين ماله، وأما نصيب
الغائب، فإن كان عينا انتزعها، وكلام الأصحاب يقتضي أن هذا الانتزاع واجب وهو
الظاهر، لكن سبق في باب الوديعة أن الغاصب لو حمل المغصوب إلى القاضي
والمالك غائب، ففي وجوب قبوله وجهان، فيجوز أن يعود ذلك الخلاف هنا مع قيام
البينة، وإن كان المدعى دينا، ففي انتزاع نصيب الغائب وجهان جاريان فيمن أقر
لغائب بدين، وحمله إلى القاضي هل على القاضي أن يستوفيه، والأصح في
الصورتين عدم الوجوب، وحكاه ابن كج في مسألتنا عن النص. واعلم أنه سبق في
كتاب الشركة أن أحد الوارثين لا ينفرد بقبض شئ من التركة، ولو قبض شاركه
الآخر فيه، وقالوا هنا: يأخذ الحاكم نصيبه، كأنهم جعلوا غيبة الشريك عذرا في
تمكين الحاضر من الانفراد، ولو ادعى على رجل أن أباه أوصى له ولفلان بكذا،
وأقام شاهدين وفلان غائب أو صبي، لم يؤخذ نصيب فلان بحال، وإذا حضر
وبلغ فعليه إعادة الدعوى والبينة لما ذكرنا أن الدعوى في الإرث لشخص واحد.
فرع لو كان للوارث الغائب وكيل وقد أقام الحاضر البينة، قال أبو
عاصم: يقبض الوكيل نصيب الغائب دون القاضي، فإن لم يكن، قبض القاضي،
ويؤجر لئلا تفوت المنافع.
فصل هل يثبت الوقف بشاهد ويمين، إن قلنا: الملك فيه للواقف أو
الموقوف عليه، فنعم، وإن قلنا: لله تعالى، فوجهان، أو قولان، أحدهما: لا،
وبه قال المزني وأبو إسحاق كالعتق، والثاني: نعم، وبه قال ابن سريج وابن
سلمة، والعراقيون يميلون إلى ترجيح الأول، وينسبونه إلى عامة الأصحاب، لكن
الثاني أقوى في المعنى وهو المنصوص، وصححه الامام والبغوي وغيرهما، وجزم
257

به الغزالي. ولو ادعى ورثة ميت على رجل أنه غصب هذه الدار، وقالوا: كانت
لأبينا وقفها علينا وعلى فلان، تثبت دعوى الغصب بشاهد ويمين، ويثبت بهما أيضا
الوقف إن أثبتناه بشاهد ويمين، وإلا فيثبت بإقرارهم. ولو مات عن بنين، فادعى ثلاثة
منهم أن أباهم وقف عليهم هذه الدار، وأنكر سائر الورثة، فأقدموا شاهدا ليحلفوا
معه تفريعا على ثبوت الوقف بشاهد ويمين، فلدعواهم صورتان إحداهما: أن يدعوا
وقف ترتيب، فيقولوا: وقف علينا وبعدنا على أولادنا وعلى الفقراء، فلهم بعد إقامة
البينة ثلاثة أحوال: أن يحلفوا جميعا، فيثبت الوقف، ولا حق لسائر الورثة في
الدار، فإذا انقرض المدعون، أخذ البطن الثاني الدار وقفا، وهل يأخذونه بيمين أم
بلا يمين؟ وجهان، ويقال قولان، الأصح عند الجمهور: بلا يمين وهو ظاهر نصه
في المختصر وإذا انتهى الاستحقاق إلى البطن الثالث والرابع عاد الخلاف، فإن
قلنا: يأخذون بيمين مكان الحق بعد البنين الثلاثة للفقراء، نظر إن كانوا
محصورين، كفقراء قرية ومحلة، فكذلك الجواب، وإن لم يكونوا محصورين فهل
يبطل الوقف وتعود الدار إرثا، أم يصرف إليهم بلا يمين أم يصرف إلى أقرب الناس
إلى الواقف بناء على تعذر مصرفه كالوقف المنقطع؟ فيه ثلاثة أوجه.
قلت: الأصح يأخذون بلا يمين وتسقط هنا لتعذرها ولا يبطل الوقف بعد
صحته ووجود المصرف بخلاف المنقطع. والله أعلم.
ولو مات أحد الحالفين، صرف نصيبه إلى الآخرين، فإن مات آخر، صرف
الجميع إلى الثالث، لأن استحقاق البطن الثاني إنما هو بعد انقراض الأولين، ثم
أخذ الآخرين يكون بلا يمين على المذهب، وقيل: وجهان كالبطن الثاني.
الحال الثاني: أن ينكلوا جميعا عن اليمين مع الشاهد، فالدار تركة يقضى
منها الدين والوصية، ويقسم الباقي بين الورثة، ويكون حصة المدعين وقفا
بإقرارهم، وحصة سائر الورثة طلقا لهم، فإذا مات المدعون، لم يصرف نصيبهم
إلى أولادهم على سبيل الوقف إلا بيمين على الأصح، وقيل: يصرف إليهم وقفا
بلا يمين، ولو أراد الأولاد أن يحلفوا ويأخذوا جميع الدار وقفا، فلهم ذلك على
258

الأظهر، لأنهم أصحاب حق، فإذا أبطل آباؤهم حقهم بالنكول، فلهم أن لا يبطلوا
حقهم، ويجري القولان، سواء قلنا: لو لم يحلفوا لا يكون شئ منها وقفا، أم
قلنا: حصة الأولين تبقى وقفا، وإن لم يحلفوا، وهل يجري القولان في حياة
الأولين إذا نكلوا؟ وجهان، أحدهما: نعم، لبطلان حقهم، وتعذر الصرف إليهم
بنكولهم، كما لو ماتوا، وأصحهما: لا، لأن استحقاق البطن الثاني شرطه انقراض
الأول.
الحال الثالث: أن يحلف بعضهم دون بعض، فإذا حلف واحد، ونكل
اثنان، أخذ الحالف الثلث وقفا، وأما الباقي، فهو تركة تقضى منها الديون
والوصايا، فما فضل، ففيه وجهان، قال في الشامل: يقسم بين جميع الورثة
، فما خص البنين الثلاثة كان وقفا على الناكلين، لأن الحالف معترف لهما بذلك
، والأصح وبه قطع المحاملي والبغوي وغيرهما أنه يقسم بين المنكرين من الورثة
واللذين نكلا دون الحالف، لأنه مقر بانحصار حقه فيما أخذ، ثم حصة الناكلين
تكون وقفا بإقرارهما، فإذا مات الناكلان والحالف حي، فنصيبهما للحالف على ما
شرط الواقف بإقرارهما، وفي اشتراط يمينه الوجهان، فإذا مات الحالف،
فالاستحقاق للبطن الثاني، وفي حلفهم الخلاف السابق، وإن كان الحالف ميتا عند
موت الناكلين، فأراد أولادهما أن يحلفوا، فعلى القولين السابقين في أولاد الجميع
إذا نكلوا، الأظهر لهم الحلف، وفي نصيب الحالف الميت قبلهما ثلاثة أوجه،
أحدها: يصرف إلى الناكلين، فعلى هذا في حلفهما الخلاف، فإن قلنا:
يحلفان، فنكلا سقط هذا الوجه، والثاني: يصرف إلى البطن الثاني، وهو الأصح
عند الجمهور، وهو ظاهر إشارته في الام لأنهما أبطلا حقهما بنكولهما، وصارا
كالمعدومين. والثالث أنه وقف تعذر مصرفه، فعلى هذا هل يبطل أم يبقى، وإذا
بقي فهل يصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف أم كيف حاله؟ فيه خلاف سبق في
الوقف بتفريعه، والمذهب أنه يبقى وقفا، ويصرف إلى أقرب الناس إلى الواقف،
259

فعلى هذا إذا زال التعذر بموت الناكلين، صرف إلى البطن الثاني، ويجئ في
حلف أقرب الناس إذا قلنا: يصرف إليهم الخلاف.
فرع إذا تصادقت الورثة على أن الدار وقف أبيهم، ثبت الوقف، ولا
حاجة إلى شاهد ويمين.
فرع ادعوا على رجل دارا في يده أنه وقفها عليهم، أو على ورثة أن
مورثهم وقفها عليهم وأقاموا شاهدا نظر: أحلفوا مع شاهدهم، أم نكلوا، أم
حلف بعضهم، ونكل بعضهم، وتجئ الأحوال الثلاثة كما سبق، لكن حيث جعلنا كل المدعى أو
بعضه تركة هناك ترك هنا في يد المدعى عليه.
الصورة الثانية: أن يدعوا وقف تشريك، فيقول البنون الثلاثة في المثال
المذكور: هو وقف علينا وعلى أولادنا وأولاد أولادنا ما تناسلنا، فإذا انقرضنا، فعلى
الفقراء، فأقاموا بذلك شاهدا، وإن حلفوا معه أخذوا الدار وقفا، ثم إذا حدث
لأحدهم ولد، فمقتضى الوقف شركته، فيوقف ربع الغلة إلى أن يبلغ، فيصرف إليه
إن حلف، ولم يجعلوه على الخلاف في أن البطن الثاني هل يحتاجون إلى يمين إذا
حلف البطن الأول، بل جزموا باحتياجه إلى اليمين بعد البلوغ إلا السرخسي،
فحكى فيه وجها. ثم إن الربع الموقوف هل يوقف في يد البنين الثلاثة، أم ينتزع،
ويجعله في يد أمين؟ وجهان أصحهما: الثاني، فإن نكل بعد بلوغه صرف الموقوف
إلى الثلاثة، وجعل كأنه لم يولد، هذا هو المنصوص، وبه قال الجمهور، وحكي
وجه أو تخريج أن نصيب المولود وقف تعذر مصرفه، فيجئ الخلاف السابق، لأن الثلاثة
معترفون بأنه له، فكيف يأخذونه بامتناعه باليمين، ولو مات بعد البلوغ والنكول، لم
260

يستحقها. فأما رقبة الوقف وغلتها بعد موت الولد، فمقتضى الشرط أن يستغرقها
الثلاثة الحالفون، وليس عليهم تجديد يمين على المذهب، وكأن المولود لم
يكن. ولو مات أحد الحالفين في صغر الولد وقف من يوم موته للولد ثلث الغلة، لان
المستحقين صاروا ثلاثة فإن بلغ وحلف، أخذ الربع والثلث الموقوفين، وإن نكل
صرف الربع إلى الابنين الباقيين وورثة الميت، وصرف الثلث إلى الباقين خاصة، ويعود فيه
التخريج السابق. ولو بلغ الولد مجنونا أدمنا الوقف طمعا في إفاقته، فإن ولد له قبل
أن يفيق وقف له الخمس، وللمولود الخمس من يوم ولادة الولد، فإن أفاق
المجنون، وبلغ ولده وحلفا، أخذ المجنون الربع من يوم ولادته إلى يوم ولادة
ولده، والخمس من يومئذ، وأخذ ولده الخمس من يومئذ. ولو مات المجنون في
جنونه بعدما ولد ولد له، فالقلة الموقوفة لورثته إذا حلفوا، ويوقف لولده من يوم ثبوته
ربع الغلة، هذا كله إذا حلف المدعون الثلاثة أولا، فإن نكلوا عن اليمين مع
الشاهد، فلمن حدث بعدهم أيحلف بلا خلاف، لأنه شريك الأولين بتلقي الوقف
من الواقف لا محالة، وإن حلف بعضهم دون بعض، أخذ الحالف نصيبه، وبقي
الباقي على ما كان. وبالله التوفيق.
الباب الخامس في الشهادة على الشهادة
هي مقبولة في غير العقوبات، كالأموال والأنكحة والبيع، وسائر العقود،
والفسوخ، والطلاق، والعتاق، والرضاع، والولادة، وعيوب النساء سواء حق
الآدمي، وحق الله تعالى، كالزكاة ووقف المساجد، والجهات العامة. وأما
العقوبات، فالمذهب القبول في القصاص، وحد القذف، والمنع في حدود الله
تعالى. قال ابن القاص: والاحصان كالحد. ولو شهد اثنان على شهادة آخرين أن
الحاكم حد فلانا، قبلت بلا خلاف، ذكره ابن الصباغ، لأنه حق آدمي فإنه اسقاط
حد عنه، ثم في الباب أربعة أطراف:
الأول في تحملها وإنما يجوز التحمل إذا علم أن عند الأصل شهادة جازمة
بحق ثابت، ولمعرفته أسباب، أحدها أن يسترعيه الأصل، فيقول: أنا شاهد
261

بكذا، وأشهدتك على شهادتي، أو يقول: أشهدك أو أشهد على شهادتي بكذا، أو
يقول: إذا استشهدت على شهادتي، فقد أذنت لك في أن تشهد، أما إذا سمع
انسانا يقول: لفلان على فلان كذا، أو أشهد أن لفلان على فلان كذا، لا على
صورة أداء الشهادة، فلا يجوز أن يشهد على شهادته، لأن الناس قد يتساهلون في
إطلاق ذلك على عدة ونحوها، وكذا لو قال: عندي شهادة بكذا فلو قال: عندي
شهادة مجزومة أو شهادة أثبتها أو لا أتمارى فيها وما أشبه ذلك، فوجهان،
أصحهما وأوفقهما لاطلاق الأكثرين: المنع أيضا. ويشترط تعرض الأصل للفظ
الشهادة، فلو قال: أعلم، أو أخبر، أو أستيقن، لم يكف كما لو أتى الشاهد عند
إقامة الشهادة بهذه الألفاظ، فإن القاضي لا يحكم بها، قال الامام: وأبعد بعض
الأصحاب، فأقام اللفظ الذي لا تردد فيه مقام لفظ الشهادة، ولا يشترط أن يقول في
الاسترعاء: أشهدك على شهادتي، وعن شهادتي، لكنه أتم، فقوله: أشهدك على
شهادتي تحميل، وقوله: عن شهادتي إذن في الأداء كأنه قال: أدها عني، ولاذنه
أثر، ولهذا لو قال بعد التحمل: لا تؤد عني امتنع عليه الأداء، وقيل: يشترط ذلك
في الاسترعاء، حكاه ابن الصباغ، وإذا حصل الاسترعاء، لم يختص التحمل بمن
استرعاه.
السبب الثاني: أن يسمعه يشهد عند القاضي أن لفلان على فلان كذا، فله أن
يشهد على شهادته وإن لم يسترعه، لأنه لا يتصدى لإقامة الشهادة عند القاضي إلا
تحقق الوجوب، وللقاضي أيضا أن يشهد على شهادته عند قاض آخر، والشهادة
عند المحكم كالشهادة عند القاضي سواء جوزنا التحكيم أم لا، وقال
الإصطخري: إنما تجوز إذا جوزناه، والصحيح الأول، لأنه لا يشهد عند المحكم
إلا وهو جازم بثبوت المشهود به.
السبب الثالث: أن يبين سبب الوجوب، فيقول: أشهد أن لفلان على فلان
262

كذا من ثمن مبيع، أو قرض، أو أرش جناية، فتجوز الشهادة على شهادته، وإن لم
يشهد عند القاضي، ولم يؤخذ منه استرعاء، لأن الاسناد إلى السبب يقطع احتمال
الوعد والتساهل، هذا ما يوجد لعامة الأصحاب، ونقل الشيخ أبو حاتم القزويني
وجها أن الاسناد إلى السبب لا يكفي للتحمل، ووجها أن الشهادة عند القاضي
لا تكفي أيضا، بل يشترط الاسترعاء، والصحيح ما سبق.
فرع إذا قال: علي لفلان ألف، فوجهان، قال أبو إسحاق: لا يجوز أن
يشهد عليه بهذا القدر، بل يشترط مع ذلك قرينة تشعر بالوجوب بأن يسنده إلى
سبب، فيقول: من ثمن مبيع، أو يسترعيه، فيقول: فاشهد علي به، والثاني وهو
الصحيح: أن مجرد الاقرار كاف للتحمل بخلاف الشهادة على الشهادة، لان
الشهادة يعتبر فيها ما لا يعتبر في الاقرار، ولهذا يقبل إقرار الفاسق والمغفل
والمجهول دون شهادتهم.
فرع الفرع عند أداء الشهادة يبين جهة التحمل، فإن استرعاه الأصل،
قال: أشهد أن فلانا شهد أن لفلان على فلان كذا، وأشهدني على شهادته، وإن لم
يسترعه، بين أنه شهد عند القاضي أو أنه أسند المشهود به إلى سبب، قال
الامام: وذلك لأن الغالب على الناس الجهل بطريق التحمل، فإن كان ممن يعلم،
ووثق به القاضي، جاز أن يكتفى بقوله: أشهد على شهادة فلان بكذا، ويستحب
للقاضي أن يسأله بأي سبب ثبت هذا المال، وهل أخبرك به الأصل؟ هذا إذا لم
يبين السبب.
الطرف الثاني في صفات شاهد الأصل، وما يطرأ عليه. لا يصح تحمل
الشهادة على شهادة فاسق، أو كافر، أو عبد، أو صبي، أو عدو، لأنهم غير مقبولي
263

الشهادة، فلو تحمل والأصل بصفات الشهود، ثم طرأ ما يمنع قبولها، أو الوصول
إليها، نظر إن كان الطارئ موتا أو غيبة أو مرضا، لم يؤثر، وإن عرض فسق أو
عداوة أو ردة، لم تقبل شهادة الفرع ما دامت هذه الأحوال بالأصل، فإن زالت هل
يشهد الفرع بالتحمل الأول، أم يشترط تحمل جديد؟ وجهان، أصحهما: الثاني،
قاله ابن سريج، وصححه الامام. ولو حدث الفسق، أو الردة بعد الشهادة، وقبل
القضاء امتنع القضاء، ولو طرأ على الأصل جنون، فقيل: تبطل شهادة الفرع
كالفسق، والصحيح الذي قاله الجمهور: لا أثر له، كالموت، لأنه لا يوقع ريبة
فيما مضى، ويجري الوجهان فيما لو عمي، وأولى بأن لا يؤثر، لأنه لا يبطل أهلية
الشهادة بالكلية. ولو أغمي عليه، قال الامام: إن كان غائبا لم يؤثر، وإن كان
حاضرا، لم يشهد الفرع، بل ينتظر زواله، لأنه قريب الزوال، ومقتضى هذا أن
يكون الجواز كذلك في كل مرض يتوقع زواله، كتوقع زوال الاغماء.
قلت: ليس كما قال الرافعي رحمه الله، بل الصواب أن المرض لا يلحق
بالاغماء، وإن توقع زواله قريبا، لأن المريض أهل للشهادة بخلاف المغمى
عليه. والله أعلم.
ولا أثر لحدوث شئ من هذه المعاني بعد القضاء، وكذا لو شهد الفرع في
غيبة الأصل، ثم حضر بعد القضاء، لم يؤثر، وإن حضر قبله، امتنع القضاء،
لحصول القدرة على الأصل، وكذا لو كذب الأصل الفرع قبل القضاء، امتنع
القضاء، والتكذيب بعده لا يؤثر. ولو قضى القاضي بالفرع، ثم قامت بينة بأن
الأصل كذب الفرع قبل القضاء، فالقضاء منقوض ذكره الامام.
264

فرع هذا الذي سبق حكم صفة الأصل، أما الفرع، فلو تحمل الشهادة،
وهو عبد، أو صبي، أو فاسق، أو أخرس، صح تحمله، كتحمل الأصل في هذه
الأحوال، ثم الأداء يكون بعد زوالها.
فرع لا تقبل الشهادة على الشهادة إلا من الرجال، ولا مدخل للنساء فيها
وإن كانت الأصول أو بعضهم نساء، وكانت الشهادة في ولادة أو رضاع أو مال، لان
شهادة الفرع تثبت الأصل لا ما شهد به الأصل، ونفس الشهادة ليست بمال، ويطلع
عليها الرجال. وحكى ابن كج وجها في الولادة وهو شاذ.
الطرف الثالث: في عدد شهود الفرع، فإن شهد اثنان على شهادة أصل،
وآخران على شهادة الثاني، فقد تم النصاب، ولو شهد فرع على أصل، وفرع آخر
على شهادة الأصل الثاني، لم يصح قطعا، ولو شهد فرعان على شهادة الأصلين
معا، ففي قبوله قولان، أظهرهما: الجواز، وهو الذي رجحه العراقيون، والامام،
والغزالي، والروياني، وصاحب العدة، وخالفهم البغوي، والسرخسي، فإن قلنا
بالمنع، فأقام شاهدين على شهادة الأصلين معا، فله أن يحبسهما على أيهما، ويحلف
معه، ولو شهد أربعة على شهادة الأصلين جاز على الصحيح، وجميع ما ذكرنا فيما
إذا شهد الفروع على شهادة رجلين، فإن شهدوا على شهادة رجل وامرأتين، فعلى
قول المنع في الاثنين يشترط ستة يشهد كل اثنين منهم على شهادة واحد، وعلى الأظهر
يكفي اثنان للجميع، وعلى ما نقله ابن كج في قبول النساء على النساء في
الولادة هل يكفي شهادة أربع على شهادة أربع، أم يشترط ست عشرة، ليشهد كل
أربع على واحدة؟ وجهان. ولو شهد على شهادة الفروع فروع، وشرطنا أن يشهد
265

فرعان على كل أصل، وجب أن يشهد على شهادة كل فرع من الفروع الأربعة
اثنان، فيجتمع ثمانية، ثم شهادتهم لا تثبت إلا بستة عشر، وعلى هذا القياس.
وإذا أجرينا الشهادة على الشهادة في حدود الله تعالى، فهل تثبت الشهادة على شهود
الزنى بأربعة، أم يكفي اثنان؟ قولان كالقولين في الاقرار بالزنى، فإن اكتفينا
باثنين، وجوزنا شهادة فرعين على شهادة الأصلين معا، كفى اثنان، وإن شرطنا
لكل أصل اثنين، اشترط ثمانية، وإن شرطنا في الشهادة على الشهادة في الزنى
أربعة، فإن جوزنا شهادة فرعين على الأصلين معا، كفى أربعة على الأصول الأربعة،
وإن شرطنا أن يشهد على شهادة كل أصل فرعان، اشترطنا هنا ستة عشر كل أربعة
على أصل.
الطرف الرابع: في أن شهادة الفروع متى تسمع. وإنما تسمع إذا تعذر
الوصول إلى شهادة الأصل، أو تعسر، وقيل: تقبل شهادة الفرع مع حضور
الأصل، كالرواية، والصحيح الأول، لأن باب الرواية واسع، ولهذا تقبل من المرأة
والعبد، والشهادة على الشهادة وجوزت للضرورة، ولا ضرورة هنا. فمن وجوه
التعذر الموت والعمى، ومن التعسر المرض، ولا يشترط أن لا يمكنه الحضور،
وإنما المعتبر أن يناله بالحضور مشقة ظاهرة، ويلحق خوف الغريم وسائر ما تترك به
الجمعة بالمرض، هكذا أطلق الامام والغزالي، وليكن ذلك في الاعذار الخاصة
دون ما يعم الأصل والفرع، كالمطر والوحل الشديد، ولا يكلف القاضي أن يحضر
عند شاهد الأصل، أو يبعث نائبه إليه لما فيه من الابتذال.
266

ومنها: الغيبة إلى مسافة القصر، فإن كانت دون مسافة القصر، فمنهم من
أطلق وجهين، منهم ابن القطان، والأصح أنه إن كانت المسافة بحيث لو خرج
الأصل بكرة لأداء الشهادة، أمكنه الرجوع إلى أهله ليلا، لم تسمع شهادة الفرع،
وتسمى هذه مسافة العدوي، وإن كانت بحيث لا يمكنه الرجوع فهو موضع الوجهين
وأصحهما تسمع.
فصل يجب على الفروع تسمية الأصول وتعريفهم، لأنه لا بد من معرفة
عدالتهم، ولا تعرف عدالتهم ما لم يعرفوا. ولو وصفوهم بالعدالة ولم يسموهم بأن
قالوا: نشهد على شهادة عدلين أو عدول، لم يكف، لأن القاضي قد يعرف جرحهم
لو سموهم، ولأنه ينسد باب الجرح على الخصم، ولا يشترط في شهادة الفرع تزكية
شهود الأصل، بل لهم إطلاق الشهادة، ثم القاضي يبحث عن عدالتهم، وحكى
البغوي وجها في اشتراطها، والصحيح الأول، وحكي وجه أنه يشترط أن يقول
الفروع: أشهدنا على شهادته، وكان عدلا إلى اليوم أو إلى أن مات تفريعا على ما
سبق أنه لو فسق الأصل، ثم تاب، لم يكن للفرع أن يشهد على شهادته إلا بإشهاد
جديد، والصحيح عدم الاشتراط. فإن قلنا بالصحيح إنه لا يشترط في شهادة الفرع
تزكية الأصل، فلو زكوهم وهم بصفات المزكين، فالمذهب - وبه قطع الجمهور - أنه
تقبل تزكيتهم، وتثبت عدالتهم، والمعروف فيما لو شهد اثنان في واقعة، وزكى
أحدهما الآخر أنه لا تثبت عدالة الثاني، فمنهم من جعلها على وجهين بالتخريج،
والمذهب الفرق أن تزكية الفروع الأصول من تتمة شهادتهم، ولذلك شرط بعضهم
التعرض لها، فقبلت وهناك قام الشاهد المزكى بأحد شطري الشهادة، فلا يصح
قيامه بالثاني، ولا يشترط أن يتعرض الفروع في شهادتهم، لصدق الأصول، لأنهم
لا يعرفونه بخلاف ما إذا حلف المدعي مع شاهده حيث يتعرض لصدقه، لأنه
يعرفه، وبالله التوفيق.
الباب السادس في الرجوع عن الشهادة
رجوع الشهود عن الشهادة إما أن يقع قبل القضاء بشهادتهم، وإما بعده.
الحالة الأولى قبله، فيمتنع من القضاء ثم إن اعترفوا بتعمد الكذب، فهم فسقة
يستترون، وإن قالوا: غلطنا، لم يفسقوا، لكن لا تقبل تلك الشهادة إن
267

أعادوها، وإن كانوا شهدوا بالزنى فرجعوا، واعترفوا بالتعمد، فسقوا وحدوا حد
القذف، وإن قالوا: غلطنا، ففي حد القذف وجهان، أحدهما: المنع، لأنهم
معذورون، وأصحهما يجب لما فيه من التغيير، وكان حقهم أن يثبتوا، فعلى هذا
ترد شهادتهم، وإن قلنا: لا حد، فلا ترد، وإن قال الشهود للقاضي بعد الشهادة:
توقف في القضاء، وجب التوقف، فإن قالوا بعد ذلك: اقض، فنحن على
شهادتنا، ففي جواز القضاء بشهادتهم وجهان، أصحهما: الجواز، فعلى هذا هل
تجب إعادة الشهادة؟ وجهان، أصحهما: لا، لأنهم جزموا بها، والشك الطارئ
زال.
الحالة الثانية: إذا رجعوا بعد القضاء، فرجوعهم إما قبل الاستيفاء وإما
بعد، فإن كان قبله، نظر إن كانت الشهادة في مال استوفي على الصحيح
المنصوص، وإن كانت في قصاص، أو حد القذف، لم يستوف على المذهب،
لأنها عقوبة تسقط بالشبهة، والرجوع شبهة بخلاف المال، فإنه لا يتأثر بالشبهة،
ووجه الجواز أن حقوق الآدميين مبنية على الضيق، وإن كانت في حدود الله تعالى لم
تستوف، وقيل: كالقصاص. وإن كانت في شئ من العقود أمضي على الأصح،
وقيل: النكاح كحد القذف، وحيث قلنا بالاستيفاء، بعد الرجوع، فاستوفى،
فالحكم كما لو رجعوا بعد الاستيفاء، أما إذا رجعوا بعد الاستيفاء، فلا ينقض
الحكم. ثم قد تكون الشهادة فيما يتعذر تداركه ورده، وقد تكون فيما لا يتعذر،
فهما ضربان الأول المتعذر وهو نوعان، أحدهما: العقوبات، فإذا شهدوا بالقتل،
فاقتص من المشهود عليه، ثم رجعوا، وقالوا: تعمدنا قتله، فعليهم القصاص، أو
الدية المغلظة موزعة على عدد رؤوسهم، كما سبق في الجنايات، وكذا الحكم لو
شهدوا بالردة فقتل، أو بزنى المحصن فرجم، أو على بكر، فجلد ومات منه، أو
268

بسرقة أو قطع فقطع، أو بقذف أو شرب فجلد ومات منه، ثم رجعوا. ويحدون في
شهادة الزنى وحد القذف أولا، ثم يقتلون، وهل يرجمون أو يقتلون بالسيف؟ فيه
احتمالان، ذكرهما أبو الحسن العبادي، والصحيح الأول. ثم هنا صور إحداها:
لو رجع القاضي دون الشهود، وقال: تعمدت، لزمه القصاص، أو الدية المغلظة
وبكمالها، ولو رجع القاضي والشهود جميعا، لزمهم القصاص، وإن قالوا:
أخطأنا، أو عفا على مال، فالدية منصفة، عليهما نصفها، وعليه نصفها، هكذا
نقله البغوي وغيره، وقياسه أن لا تجب كمال الدية عند رجوعه وحده، كما لو رجع
بعض الشهود، ولو رجع ولي الدم وحده، لزمه القصاص، أو كمال الدية، ولو
رجع مع الشهود، فوجهان أصحهما عند الامام أن القصاص أو كمال الدية على
الولي، لأنه المباشر، وهم معه كالممسك مع القاتل، وأصحهما عند البغوي أنهم
معه، كالشريك لتعاونهم على القتل، لا كالممسك، لأنه جعلهم كالمحقين، فعلى
هذا على الجميع القصاص أو الدية، نصفها على الولي، ونصفها على الشهود، ولو
رجع القاضي معهم، فالدية مثلثة، ثلثها على القاضي، وثلث على الولي، وثلث
على الشهود، وينبغي على هذا الوجه أن لا يجب كمال الدية على الولي إذا رجع
وحده.
قلت: لم يرجح الرافعي واحدا من الوجهين، بل حكى اختلاف الامام
والبغوي في الصحيح، والأصح ما صححه الامام وقد سبق في أول كتاب الجنايات
من هذا الكتاب القطع به، فهو الأصح نقلا ودليلا. والله أعلم.
269

الثانية: يتعلق بالمزكي الراجع قصاص وضمان؟ فيه أوجه، أحدها:
لا، لأنه لم يتعرض للمشهود عليه، وإنما أثنى على الشاهد، والحكم يقع
بالشاهد، فكان كالممسك مع القاتل، وأصحهما: نعم، لأنه بالتزكية ألجأ القاضي
إلى الحكم المفضي إلى القتل، والثالث يتعلق به الضمان دون القصاص، قال
القفال: الخلاف فيما إذا قال المزكيان: علمنا كذب الشاهدين، فإن قالا: علمنا
فسقهما، فلا شئ عليهما، لأنهما قد يكونان صادقين مع الفسق، وطرد الامام
الخلاف في الحالين.
الثالثة: ما ذكرنا من وجوب القصاص على الشهود الراجعين هو فيما إذا قالوا:
تعمدنا، فلو قالوا: أخطأنا، وكان الجاني أو الزاني غيره، فلا قصاص، وتجب
الدية مخففة، وتكون في مالهم، لأن إقرارهم لا يلزم العاقلة، فإن صدقهم
العاقلة، فهي على العاقلة. قال الامام: وقد يرى القاضي والحالة هذه تعزيز الشهود
لتركهم التحفيظ، ولو قال أحد شاهدي القتل: تعمدت ولا أدري أتعمد صاحبي أم
لا، واقتصر على قوله: تعمدت وقال صاحبه: أخطأت، فلا قصاص على واحد
منهما، لأن شريك المخطئ لا قصاص عليه، وقسط المخطئ من الدية يكون
مخففا، وقسط المتعمد يكون مغلظا ولو قال كل واحد: تعمدت، وأخطأ
صاحبي، فوجهان، أحدهما: يجب القصاص لاعترافهما بالعمدية،
270

وأصحهما: المنع، ولا خلاف أن الدية تجب عليهما مغلظة. ولو قال أحدهما:
تعمدت وأخطأ صاحبي، أو قال: ولا أدري أتعمد صاحبي أم أخطأ، وصاحبه غائب
أو ميت، فلا قصاص، ولو قال: تعمدت وتعمد صاحبي، وصاحبه غائب أو ميت،
لزمه القصاص. ولو قال: تعمدت ولا أعلم حال صاحبي، وقال صاحبه مثله، أو
اقتصر على قوله: تعمدت، لزمهما القصاص، ذكره البغوي وغيره. ولو قال
أحدهما: تعمدت أنا وصاحبي، وقال الآخر: أخطأت أو أخطأنا معا، فلا قصاص
على الثاني، ويلزم الأول على الأصح. ولو قال أحدهما: تعمدت وتعمد
صاحبي، وقال صاحبه: تعمدت وأخطأ هو، وجب القصاص على الأول، ولا
يجب على الثاني على الصحيح، لأنه لم يعترف إلا بشركة مخطئ. ولو رجع أحد
الشاهدين، وأصر الآخر، وقال الراجع: تعمدت، لزمه القصاص، وإن اقتصر على
قوله: تعمدت، فلا.
الرابعة: ما ذكرنا من وجوب القصاص على الشهود الراجعين فيما إذا قالوا:
تعمدنا، وعلمنا أنه يقتل بشهادتنا، فإن قالوا: تعمدنا، ولم نعلم أنه يقتل، فإن
كانوا ممن لا يخفى عليه ذلك، وجب القصاص، ولا اعتبار بقولهم، كمن رمى
سهما إلى رجل، واعترف بأنه قصده، ولكن قال: لم أعلم أنه يبلغه، وإن كانوا
ممن يجوز خفاؤه عليهم لقرب عهدهم بالاسلام، فالذي قال الأصحاب: إنه شبه
عمد لا يوجب قصاصا، ومال الإمام إلى وجوبه، وحكى الروياني وجها شاذا
مأخوذا، مما لو ضرب المريض ضربا يقتل المريض دون الصحيح، ولم يعلم
مرضه، وأما الدية، فتجب في مال الشهود مؤجلة في ثلاث سنين إلا أن تصدقهم
العاقلة، فيجب عليها، وقال القفال: حالة لتعمدهم، والصحيح الأول، وبه قطع
الجمهور.
فرع قال ابن القطان: لو رجع الشهود، وقال: أخطأنا، وادعوا أن
العاقلة تعرف أنهم أخطؤوا، وأن عليهم الدية، فأنكرت العاقلة العلم، فليس
للشهود تحليفهم، وأنما يطالب العاقلة إذا قامت البينة، قال ابن كج: ويحتمل أن
لهم تحليفهم، لأنهم لو أقروا لغرموا.
النوع الثاني: غير العقوبات، فمنه الابضاع فإذا شهدوا بطلاق بائن أو رضاع
محرم، أو لعان أو فسخ بعيب، أو غيرها من جهات الفراق، وقضى القاضي
271

بشهادتهما، ثم رجعا لم يرتفع الفراق، لكن يغرمان، سواء كان قبل الدخول أو
بعده، فإن كان بعد الدخول، غرما مهر المثل على المشهور، وفي قول:
المسمى، وإن كان قبله، فهل يغرمان مهر المثل أم نصفه؟ فيه نصان، ونص فيما
لو أفسدت امرأة نكاحه برضاع أنها تغرم نصف مهر المثل، وللأصحاب طرق
، المذهب وجوب النصف في الرضاع، وجميع مهر المثل في الرجوع عن الشهادة،
وفي قول نصفه، وفي قول نصف المسمى، وفي قول جميعه، وقيل: يجب جميع
مهر المثل قطعا، وقيل: نصفه قطعا، وقيل: إن كان الزوج سلم إليها الصداق،
غرم الشهود جميع مهر المثل، لأنه لا يتمكن من استرداد شئ، وإلا فنصفه، ولو
تزوجها مفوضة، وشهدا بالطلاق قبل الدخول والفرض، وقضى القاضي بالطلاق
والمتعة، ثم رجعا فالخلاف في أنهما يغرمان مهر المثل أو نصفه، كما في غير
التفويض، وفي قول قديم يغرمان المتعة التي غرمها الزوج ولو شهدا بطلاق
رجعي، ثم رجعا، فلا غرم إذا لم يفوتا شيئا، فإن لم يراجع حتى انقضت
العدة، التحق بالبائن، ووجب الغرم على الصحيح، وقيل: لا لتقصيره بترك
الرجعة، وأطلق ابن كج في وجوب الغرم بالرجوع عن شهادة الطلاق الرجعي
وجهين، فإن أوجبنا الغرم في الحال، فغرموا، ثم راجعها الزوج، فهل عليه رد ما
أخذ، فيه احتمالان، ذكرهما أو الحسن العبادي.
قلت: الصواب الجزم بالرد. والله أعلم.
ولو شهد بطلاق، وقضى به، ثم رجعا، وقامت بينة أنه كان بينه وبين
الزوجة رضاع محرم، أو شهدا بأنه طلقها اليوم، ورجعا، ثم قامت بينة أنه كان
طلقها ثلاثا أمس، فلا شئ عليهما، إذ لم يفوتا، فإن غرما قبل البينة استرداد، ولو
شهدا أنها زوجة فلان بألف، وحكم بشهادتهما القاضي، ثم رجعا، قال البغوي:
لا غرم، وقال ابن الصباغ: إن كان بعد الدخول غرما ما نقص عن مهر المثل إن كان
الألف دونه، قال وعلى هذا لو كان قبل الدخول، ثم دخل بها ينبغي أن يغرما ما
نقص، وهذا هو الذي أطلقه ابن كج. ولو شهدا أنه طلقها بألف، ومهرها
272

ألفان، فقال ابن الحداد، والبغوي: عليهما ألف وقد وصل إليه من المرأة ألف،
وقال ابن كج: عليهما مهر المثل بعد الدخول، ونصفه قبله، كما لو يذكرا
عوضا، وأما الألف، فهو محفوظ عند للمرأة، لأنها لا تدعيه، وإن لم يكن
قبضه، فهو في يدها.
فرع ومن هذا النوع العتيق، فإذا شهدا بعتق عبد، وقضى به القاضي، ثم
رجعا، غرما قيمة العبد، ولم يرد العتق، سواء كالمشهود بعتقه قنا أو مدبرا، أو
مكاتبا أو أم ولد، أو معلقا عتقه بصفة، ولو شهدا بتدبير عبد، أو استيلاد جارية،
ثم رجعا بعد القضاء، لم يغرما في الحال لأن الملك لم يزل، فإذا مات، غرما
273

بالرجوع السابق، وهكذا لو شهدا بتعليق عتق أو طلاق بصفة، ثم رجعا وفيهما
وجه، لأنهما لم يشهدا بما يزيل الملك ولو شهدا بكتابته، ثم رجعا، وأدى
النجوم، وعتق ظاهرا، ففيم يغرمان؟ وجهان، أحدهما: كل القيمة، والثاني:
ما بين قيمته والنجوم. ولو شهدا أنه أعتقه على مال هو دون القيمة، فالمنقول أنه
كما لو شهدا أنه طلقها بألف، ومهرها ألفان.
فرع ومنه أنه إذا شهدا أنه وقف على مسجد أو جهة عامة، ثم رجعا بعد
القضاء، غرما قيمته، ولا يرد الوقف، وكذا لو شهدا أنه جعل هذه الشاة أضحية.
الضرب الثاني: ما لا يتعذر تداركه وهو الأموال أعيانها وديونها، فإذا شهدوا
لرجل بمال، ثم رجعوا بعد دفع المال إليه، لم ينقض الحكم، ولم يرد المال إلى
المدعي عليه، هذا هو الصحيح، وبه الجمهور، وحكى في العدة وجها
أنه ينقض، ويرد المال وهو شاذ، وهل يغرمون؟ قولان أظهرهما عند العراقيين
والامام وغيرهم: نعم، وقيل: لا يغرمون قطعا، وقيل: يغرمون الدين دون العين،
والمذهب الغرم مطلقا.
فصل شهدوا على أحد الشريكين في عبد أنه أعتق حصته وهو موسر،
فقضى القاضي بعتقه والسراية، ثم رجعوا، لزمهم قيمة نصف المشهود عليه وفي
قيمة نصيب الشريك الخلاف في غرم المال شهود قتل الخطأ إذا رجعوا بعد غرم
العاقلة هل يغرمون؟ فيه الخلاف. ولو حكم القاضي بشهادة شهود الفرع. ثم
رجعوا غرموا، ولو رجع شهود الأصل، وقالوا: كذبنا، غرموا أيضا، ولو رجع
الأصول والفروع، فالغرم على شهود الفرع، لأنهم ينكرون إشهاد الأصول،
ويقولون: كذبنا فيما قلنا، والحكم وقع بشهادتهم. وحيث وجب على الراجح
عقوبة من قصاص أو حد قذف، دخل التعزيز فيها، وإذا لم تجب عقوبة، واعترف
بالتعمد، عزر.
فصل الرجوع المغرم إما أن يوجد والمحكوم بشهادتهم على الحد المعتبر
في الباب، وإما أكثر عددا، فإن كانوا على الحد بأن حكم في العتق أو القتل
274

بشهادة رجلين، ثم رجعا، لزمهما الغرم بالسوية، وإن رجع أحدهما، لزمه
النصف، وكذا لو رجم في الزنى بشهادة أربعة، فرجعوا جميعا، فعليهم الدية
أرباعا، وإن رجع بعضهم، فعليه حصته منها، وإن زادوا على الحد المعتبر بأن
شهد القتل أو الحد ثلاثة، أو بالزنى خمسة، فإن رجع الجميع، فالغرم عليهم
بالسوية، وإن رجع البعض، نظر، فإن ثبت على الشهادة الحد المعتبر بأن رجع من
الثلاثة في القتل واحد، أو من الخمسة في الزنى واحد فلا غرم على الراجع على
الأصح، وبه قال ابن سريج والاصطخري، وابن الحداد، والثاني: يغرم بحصته
من العدد، قال المزني وأبو إسحاق. ولا يجب القصاص والحالة هذه بلا خلاف،
كذا قال البغوي، وفي الفروق للشيخ أبي محمد عن القفال أنه يلزمه القصاص
إن اعترف بالتعمد، أما إذا لم يثبت من العدد المعتبر إلا بعضهم بأن رجع من الثلاثة
أو الخمسة اثنان، فعلى الوجهين السابقين، فإن قلنا: لا غرم هناك وزع الغرم الثلاثة أو الخمسة اثنان، فعلى الوجهين السابقين، فإن قلنا: لا غرم هناك وزع الغرم هنا
على العدد المعتبر، وحصة من نقص من العدد المعتبر توزع على من رجع بالسوية،
ففي صور الثلاثة يكون نصف الغرم على الراجعين، وإن قلنا: يغرم هناك وزع هنا
على جميع الشهود، فعلى الاثنين الراجعين من الثلاثة ثلثا الغرم، هذا كله إذا كان
جميع الشهود ذكورا أو إناثا بأن كان رضاعا أو نحوه، فإن كانوا ذكورا وإناثا نظر إن لم
يزيدوا على العدد المعتبر، كرجل وامرأتين، في رضاع أو مال، فإذا رجعوا، فعلى
الرجل نصف الغرم، وعلى كل امرأة ربعه، وإن زادوا على العدد، فالمشهود به
قسمان: أحدهما ما يثبت بالنسوة منفردات، كالرضاع، فإذا شهد به أربع نسوة
ورجل، ورجعوا، فعليه ثلث الغرم، وعليهن ثلثاه، وإن رجع وحده، فلا شئ
275

عليه على الأصح، لبقاء الحجة، وكذا لو رجع امرأتاه، وعلى الثاني عليه أو
عليهما ثلث الغرم. ولو شهد رجل وعشر نسوة، ثم رجعوا، فعليه سدس الغرم،
وعلى كل واحدة نصف سدسه، وإن رجع وحده أو مع ست، فما دونهن، فلا غرم
على الأصح لبقاء الحجة، وعلى الثاني يجب على من رجع حصته، وإن رجع مع
سبع، فعلى الأصح عليهم ربع الغرم، لبطلان ربع البينة، وإن رجع مع ثمان،
فنصفه ومتسع ثلاثة أرباعه، ويكون على الذكر ضعف ما على المرأة، وعلى
الثاني عليهم قدر حصتهم لو رجعوا جميعا، ولو رجع النسوة وحدهن. فعليهن
نصف الغرم على الأصح، وخمسة أسداسه في الثاني.
القسم الثاني: ما لا يثبت بالنسوة منفردات، كالمال إذا أوجبنا الغرم فيه
بالرجوع، فشهد رجل وأربع نسوة ورجعوا، فهل على الرجل نصف الغرم أم ثلثه؟
وجهان أصحهما الأول، فإن قلنا به، فرجع النسوة، فعليها نصف الغرم، ولو
رجعت امرأتان، فلا شئ عليهما على الأصح لبقاء الحجة، وعلى قول المزني وأبي
إسحاق، عليهما ربع الغرم. ولو شهد رجل وعشر نسوة، ورجعوا، فعليه نصف
الغرم، وعليهن نصفه على الأصح، وعلى الثاني عليه سدسه، وعليهن الباقي ولو رجع
وحده، فعليه النصف على الأصح، وعلى الآخر إنما عليه السدس، ولو رجعن دونه،
فعليهن النصف في الأصح، وفي الآخر خمسة أسداس، وإذا علقنا نصف الغرم
برجوع الرجل، فرجع معه ثمان نسوة، فعليه النصف، ولا شئ عليهن بناء على أنه
لا يثبت بشهادتين إلا نصف الغرم، وقد بقي من النساء من يتم به ذلك، وعلى قول
المزني، وأبي إسحاق عليهن أربعة أخماس النصف، ولو رجع مع تسع نسوة، لزمه
النصف، وعليهن الربع، لبقاء الحجة، وعلى قول المزني عليه نصف،
وعليهن تسعة أعشار النصف الآخر، وإن رجع ثمان نسوة لا غير، فلا شئ عليهن،
وعلى قوله عليهن أربعة أخماس النصف.
فرع هل يتعلق الغرم بشهود الاحصان مع شهود الزنى، وبشهود الصفة مع
شهود تعليق الطلاق والعتق؟ وجهان، وقيل: قولان، أصحهما: لا، وقيل: إن
276

شهدوا بالاحصان بعد شهادة الزنى غرموا، وإلا فلا، فإن غرمناهم، فقالوا:
تعمدنا، لزمهم القصاص، كشهود الزنى. وفي كيفية توزيع الغرم عليهم وعلى
شهود الزنى وجهان، أصحهما: اعتبار النصابين، فعلى شهود الاحصان ثلث
الغرم، والآخرين ثلثاه، والثاني يوزع نصفين اعتبارا بالجنسين، كالقاضي مع
الشهود، وإذا غرمنا شهود الصفة، غرموا النصف قطعا، فإذا شهد أربعة بالزنى،
واثنان بالاحصان، ورجعوا كلهم بعد الرجم، فإن قلنا بالأصح: إن شهود الاحصان
لا يغرمون، فالضمان على شهود الزنى، وإلا فعلى الجميع أثلاثا على الأصح،
ومناصفة على الآخر، وإن رجع واحد من شهود الزنى، وواحد من شاهدي
الاحصان، فإن لم نغرم شهود الاحصان، فعلى الرابع من شهود الزنى ربع الغرم،
وإن غرمناهم، فإن نصفنا، فعليه ثمن الغرم، على الآخر ربع، وإن ثلثنا، فعلى
كل واحد منهما سدسه، وإن رجع واحد من أحد الصنفين لا غير، ففيما عليه هذا
الخلاف ولو شهدا أربعة بالزنى والاحصان جميعا، ثم رجع أحدهم، فإن لم نغرم
شهود الاحصان، فعليه ربع الغرم، وإن غرمناهم، فقد بقي هنا من تقوم به بحجة
الاحصان، فإن غرمنا الرابع مع ثبات من تقوم به الحجة، لزمه الربع أيضا، كما لو
رجعوا كلهم، وإن لم نغرمه، فلا ضمان عليه بسبب الاحصان، وأما بسبب
الزنى، فإن نصفنا، فعليه ثمن الغرم، وإن ثلثنا، فسدسه، وإن رجع ثلاثة وبقي
واحدة، فقد بطل ثلاثة أرباع حجة الزنى، ونصف حجة الاحصان، فإن لم نغرم
شهود الاحصان، لزمهم ثلاثة أرباع الغرم، وإن غرمناهم، فعلى كل واحد إن نصفنا
للرجوع عن الزنى ثمن الغرم، وعن الاحصان نصف سدسه بتوزيع نصف غرم
الاحصان عليهم، وإن ثلثنا، فعلى كل واحد للرجوع عن شهادة الزنى سدس الغرم
توزيعا للثلثين على الأربعة، وعن الاحصان ثلث سدسه توزيعا لنصف غرم الاحصان
على الراجعين، ولو شهد أربعة بالزنى، واثنان منهم بالاحصان، ثم رجعوا بعد
الرجم، فإن لم نغرم شهود الاحصان في المسائل السابقة، فكذا هنا، وإن
غرمناهم، فهل يغرم شاهد الأصل هنا زيادة؟ وجهان، فإن قلنا: نعم عاد
الخلاف، فإن نصفنا فعلى اللذين شهدا بالاحصان ثلاثة أرباع الغرم: النصف
بشهادة الاحصان، والربع بالزنى، وعلى الآخرين الربع، وإن ثلثنا، فعلى شاهدي
277

الاحصان ثلثان، وعلى الآخرين ثلث، وإن رجع واحد منهم، فإن لم نغرم شهود
الاحصان، فعليه ربع الغرم، وإن غرمناهم، فإن كان الراجع من شاهدي
الاحصان، فإن نصفنا، لزمه ثمن الغرم، وإن ثلثنا، فالسدس ولو شهد ثمانية
بالزنى والاحصان، ثم رجع أحدهم فلا غرم على الأصح لبقاء الحجتين، وكذا لو
رجع ثان وثالث ورابع، فإن رجع خامس، فقد بطلت حجة الزنى، ولم تبطل حجة
الزنى، ولم تبطل حجة الاحصان، فإن لم نغرم شهود الاحصان، فعلى الخمسة ربع الغرم لبطلان ربع
الحجة، وإن غرمناهم، فلا غرم هنا لشهادة الاحصان على الأصح، لبقاء حجته،
ويغرم الراجعون ربع غرم الزنى وهو السدس إن ثلثنا، والثمن إن نصفنا، وإن رجع
ستة، لزمه نصف غرم الزنى، وهو الثلث إن ثلثناه، والربع إن نصفناه، وإن رجع
سبعة، بطلت الحجتان، ولا يخفى قياسه.
شهد أربعة على رجل بأربعمائة، ثم رجع أحدهم عن مائة وآخر عن مائتين،
وثالث عن ثلاثمائة، والرابع عن الجميع، فالبينة باقية بتمامها في مائتين، فالأصح
أنه لا يجب غرمهما، ويجب عن الأربعة غرم المائة بالرجوع عنها باتفاقهم، وعلى
الثاني والثالث والرابع ثلاثة أرباع المائة التي اختصوا بالرجوع عنها، والوجه الثاني
على كل واحد حصته فيما رجع عنه، فعلى الأول ربع المائة، وعلى الثاني
خمسون، وعلى الثالث خمسة وسبعون، وعلى الرابع مائة.
فصل إذا حكم القاضي بشهادة اثنين، ثم بان كونهما كافرين، أو
عبدين، أو صبيين، فقد سبق أنه ينقض حكمه، وكذا لو بانا فاسقين على الأظهر،
قال الامام: ومعنى نقضه أنا نتبين الامر على خلاف ما ظنه وحكم به، فإن كان
المشهود به طلاقا أو عتقا أو عقدا فقد بان أنه لا طلاق ولا عتق ولا عقد، فإن كانت
المرأة ماتت، فقد ماتت وهي زوجته، وإن مات العبد مات وهو رقيق له، ويجب
278

ضمانه، وإن كان المشهود به قتلا أو قطعا أو حدا استوفى وتعذر التدارك، فضمانه
على عاقلة القاضي على الأظهر، وفي بيت المال على قول كما سبق في ضمان
الولاة. وإنما تعلق الضمان بالقاضي، لتفريطه بترك البحث التام على حال الشهود،
ولا ضمان على المشهود له، لأنه يقول: استوفيت حقي، ولا على الشهود، لأنهم
ثابتون على شهادتهم زاعمون صدقهم بخلاف الراجعين. وإذا غرمت العاقلة أو
بيت المال، فهل يثبت الرجوع على الشهود فيه خلاف وتفصيل سبق في باب
ضمان الولاة، والذي قطع به العراقيون أنه لا ضمان عليهم، وقالوا: وكذا لا ضمان
على المزكين، لأن الحكم غير مبني على شهادتهم، قال القاضي أبو حامد: يرجع
الغارم على المزكين، ويستقر عليهم الضمان بخلاف الشهود، لأنه ثبت عند
القاضي أن الامر على خلاف قول المزكين، ولم يثبت أنه خلاف قول الشهود وإلى
هذا مال القاضيان أبو الطيب والروياني، ومفهوم ما ذكروه أنه يجوز تغريم المزكين،
أولا، ثم لا رجوع لهم على القاضي، وأشار الامام إلى مثل ذلك في الشهود إذا قلنا
بالرجوع عليهم، ولا فرق فيما ذكرناه من تعليق الضمان بالقاضي بين أن يكون
الحكم في حد الله تعالى أو قصاص، وسواء في القصاص استوفاه المدعي أو القاضي
بنفسه، أو فوض استيفاءه بإذن المدعي إلى شخص، وسبق في إذن القاضي عن
الإصطخري أن المدعي إن استوفاه بنفسه، فالضمان عليه، أنه إنما يعلق الضمان
بالقاضي إذا باشر الاستيفاء أو فوضه إلى غيره بإذن المدعي، وإن كان المحكوم به
مالا، فإن كان باقيا عند المحكوم له انتزع، وإن كان تالفا، أخذ منه ضمانه،
وقيل: إن تلف بآفة سماوية، فلا ضمان والصحيح الأول، وفرقوا بينه وبين
الاتلاف حيث قلنا: لا غرم عليه فيه بأن الاتلاف إنما يضمن إذا وقع على وجه
التعدي، وحكم القاضي أخرجه عن التعدي، وأما المال، فإذا حصل في يد إنسان
بغير حق كان مضمونا، وإن لم يوجد منه تعد، فإن كان المحكوم له معسرا أو غائبا،
فللمحكوم عليه مطالبة القاضي ليغرم له من بيت المال في قول ومن خالص ماله في
قول، لأنه ليس بدل نفس تتعلق بالعاقلة، ثم القاضي يرجع على المحكوم له إذا
279

ظفر به موسرا، وهل له الرجوع على الشهود؟ جعله الامام على الخلاف والتفصيل
المشار إليهما في الاتلافات، ويجئ أن يقال على قياس ما سبق: إن المحكوم عليه
يتخير في تغريم القاضي، وتغريم المحكوم له، وبالله التوفيق.
280

كتاب الدعوى والبينات
فيه سبعة أبواب، لأن الدعوى تدور على خمسة أشياء: الدعوى وجوابها،
واليمين، والبينة والنكول، فهذه خمسة، والسادسة في مسائل تتعلق بهذه الأصول،
والسابع في دعوى النسب، وإلحاق القائف.
الأول في الدعوى، وفيه مسائل:
إحداها في أن المستحق متى يحتاج إلى المرافعة والدعوى، كالحق إذا كان
عقوبة كالقصاص، وحد القذف، اشترط رفعه إلى القاضي، لعظم خطره، وإن
281

كان مالا، فهو عين، أو دين، فإن كان عينا، فإن قدر على استردادها من غير
تحريك فتنة، أشغل به، وإلا فلا بد من الرفع. وأما الدين، فإن كان من عليه
مقرا غير ممتنع من الأداء طالبه ليؤدي، وليس له أن يأخذ شيئا من ماله، لأن الخيار في
تعيين المال المدفوع إلى من عليه، فإن خالف، وأخذ شيئا من ماله، لزمه رده،
فإن تلف عنده، وجب ضمانه، فإن اتفقا، جاء خلاف التقاص. وإن لم يكن
كذلك، فإما أن يمكن تحصيل منه بالقاضي، وإما أن لا يمكن، فإن لم يمكن بأن
كان منكرا، ولا بينة لصاحب الحق، فله أن يأخذ جنس حقه من ماله إن ظفر به،
ولا يأخذ غير الجنس مع ظفره بالجنس، وفي التهذيب وجه أنه يجوز وهو
ضعيف، فإن لم يجد إلا غير الجنس، جاز الاخذ على المذهب، وبه قطع
الجمهور، وقيل: قولان، وإن أمكن تحصيل الحق بالقاضي بأن كان مقرا
مماطلا، أو منكرا عليه وله بينة، أو كان يرجو إقراره لو حضر عند القاضي وعرض
282

عليه اليمين، فهل يستقل بالأخذ أم يجب الرفع إلى القاضي؟ وجهان، أصحهما
جواز الاستقلال، قاله أبو إسحاق، وابن أبي هريرة، وصححه القاضيان أبو
الطيب والروياني، للحديث الصحيح في قصة هند، ولان في المرافعة مشقة
ومؤنة، وتضييع زمان. ومتى جاز للمستحق الاخذ، فلم يصل إلى المال إلا بكسر
الباب، ونقب الجدار، جاز له ذلك، ولا يضمن ما فوته، كمن لم يقدر على دفع
الصائل إلا بإتلاف ماله، فأتلفه لا يضمن، وقيل: يضمن وهو شاذ، ثم إن كان
المأخوذ من جنس الحق فله تملكه، وإن كان من غير جنسه، لم يكن له
283

التملك، وقيل: يتملك قدر حقه، ويستقل بالمعاوضة للضرورة، كما يستقل
بالتعيين عند أخذه الجنس، والصحيح الأول، ثم هل يرفعه إلى القاضي ليبيعه، أم
يستقل ببيعه؟ وجهان، ويقال: قولان، أصحهما عند الجمهور الاستقلال، هذا إن
كان القاضي جاهلا بالحال، ولا بينة للاخذ، فإن كان القاضي عالما، فالمذهب
أنه لا يبيعه إلا بإذنه، فإن أوجبنا الرفع إلى القاضي، فهل للقاضي أن يأذن له في
بيعه، أو يفوضه إلى غيره؟ وجهان، أصحهما: الأول، وفي طريقة عند الرفع
وجهان، أحدهما: يبيعه القاضي بعد إقامة البينة على استحقاق المال، وهذا يبطل
فائدة تجويز البيع عند العجز عن البينة. والثاني: يواطئ رجلا يقر له بالحق،
ويمتنع من الأداء، ويقر له الاخذ بالمال حتى يبيعه القاضي، وهذا إرشاد إلى
الكذب من الطرفين، ويضعف وجوب الرفع. ثم عند البيع إن كان الحق من جنس
نقد البلد، بيع المأخوذ به، وإن لم يكن بأن ظفر بثوب والدين حنطة، بيع الثوب
بنقد البلد، ثم يشتري به حنطة. وحكى الامام عن محققي الأصحاب أنه يجوز أن
يشتري غير الحنطة بالثوب، ولا يوسط النقد بينهما، وهل يكون المأخوذ مضمونا
على الاخذ حتى لو تلف قبل البيع، أو التملك بتلف من ضمانه أم لا؟ وجهان،
أصحهما: نعم وهو الذي ذكره الصيدلاني والامام، والغزالي، لأنه أخذه
لغرضه، كالمستام بل أولى، لأن المالك لم يسلطه فعلى هذا ينبغي أن نبادر إلى
284

البيع بحسب الامكان، فإن قصر، فنقصت قيمته، ضمن النقصان، ولو انخفضت
القيمة، وارتفعت، وتلف، فهي مضمونة عليه بالأكثر، ولو اتفق رد العين، لم
يضمن نقص القيمة كالغاصب، ولو باعه، وتملك ثمنه، ثم قضى المستحق دينه،
ففيما علق عن الامام أنه يجب أن يرد إليه قيمة المأخوذ، كما إذا ظفر المالك بغير
جنس المغصوب من مال الغاصب، فأخذه، وباعه، ثم رد الغاصب المغصوب،
فإن على المالك أن يرد قيمة ما أخذه وباعه، وينبغي أن لا يرد شيئا ولا يعطي
شيئا.
فرع ليس له الانتفاع بالعين المأخوذة، فإن انتفع، لزمه أجرة المثل.
فرع لا يأخذ أكثر من حقه إذا أمكنه الاقتصار عليه، فإن زاد، فالزيادة
مضمونة عليه، فإن لم يمكنه بأن لم يظفر إلا بمتاع يزيد قيمته على قدر حقه، فإن
قلنا: لو كان المأخوذ قدر حقه لا يكون مضمونا، فكذا الزيادة، وإن قلنا: يكون
مضمونا لم يضمن الزيادة على الأصح، ثم إذا كان المأخوذ أكثر من حقه، فإن
كان مما يتجزأ باع منه قدر حقه، وسعى في رد الباقي إليه بهبة ونحوها، وإن كان
لا يتجزأ، فإن قدر على بيع البعض بما هو حقه، باعه وسعى في رد الباقي إليه،
وإن لم يقدر باع الجميع، وأخذ من ثمنه قدر حقه، وحفظ الباقي إلى أن يرده.
285

فرع حقه دراهم صحاح، فظفر بمكسرة، فله أخذها، وتملكها بحقه،
ولو استحق مكسرة، فظفر بصحاح، فالمذهب جواز الاخذ، لاتحاد الجنس،
وقيل: فيه الخلاف في اختلاف الجنس، لاختلاف الغرض، وإذا أخذها،
فليس له تملكها، ولا يشتري بها مكسرة لا متفاضلا، لما فيه من الربا، ولا
متساويا لأنه يجحف بالمأخوذ منه، لكن يبيع صحاح الدراهم بدنانير، ويشتري
بها دراهم مكسرة ويتملكها.
فرع شخصان ثبت لكل واحد منهما على صاحبه مثل ماله عليه، ففي
حصول التقاص أقوال مشهورة في كتاب الكتابة، فإن قلنا: لا يحصل التقاص،
فجحد أحدهما الاخر، فهل للآخر جحده، ليحصل التقاص للضرورة؟ وجهان،
أصحهما: نعم.
فرع كما يجوز الاخذ من مال الغريم الجاحد، أو المماطل يجوز الاخذ
من مال غريم الغريم، بأن يكون لزيد على عمرو دين، ولعمرو على بكر مثله،
يجوز لزيد أن يأخذ مال بكر بماله على عمر، ولا يمنع من ذلك رد عمرو، وإقرار
بكر ولا جحود بكر استحقاق زيد على عمرو.
فرع جحد دينه، وله عليه صك بدين آخر قد قبضه، وشهود الصك
لا يعلمون القبض، قال القاضي أبو سعد: له أن يدعي ذلك، ويقيم البينة،
ويقبض بدينه الاخر، وفي فتاوى القفال أنه ليس له ذلك.
قلت: الصحيح قول أبي سعد ولو حدثت من المأخوذ زيادة قبل تملكه حيث
286

جوز أو قبل بيعه، فهي على ملك المأخوذ منه. والله أعلم.
المسألة الثانية في حد المدعي والمدعى عليه، ويحتاج إلى معرفته، لان
البينة على المدعي، واليمين على المدعى عليه، لقوة جانبه، وفيه قولان مستنبطا
من اختلاف قول الشافعي رحمة الله عليه في مسألة إسلام الزوجين التي سنذكرها
الآن إن شاء الله تعالى، أظهرها عند الجمهور أن المدعي من يدعي أمرا خفيا
يخالف الظاهر، والمدعى عليه من يوافق قوله الظاهر، والثاني: المدعي من لو
سكت خلي ولم يطالب بشئ، والمدعى عليه من لا يخلى ولا يكفيه السكوت،
فإذا ادعى زيد دينا في ذمة عمرو، أو عينا في يده، فأنكر، فزيد هو الذي لو سكت
ترك، وهو الذي يذكر خلاف الظاهر، لأن الظاهر براءة ذمة عمرو، وفراغ يده من
حق غيره، وعمرو هو الذي لا يترك، ويوافق قوله الظاهر، فزيد مدع بمقتضى
القولين وعمرو مدعى عليه ولا يختلف موجبهما غالبا، وقد يختلف كما إذا أسلم
زوجان قبل الدخول، فقال الزوج: أسلمنا معا، فالنكاح باق، وقالت: بل على
التعاقب ولا نكاح، فإن قلنا: المدعي من لو سكت ترك، فالمرأة مدعية وهو مدعى
عليه، لأنه لا يترك لسكت، لأنها تزعم انفساخ النكاح، فيحلف، ويستمر
النكاح، وإن قلنا بالأظهر، فالزوج مدع، لأن ما يزعمه خلاف الظاهر، وهي مدعى
عليها، فتحلف، ويرتفع النكاح. ولو قال الزوج: أسلمت قبلي، فلي النكاح ولا
مهر، وقالت: بل أسلمنا معا، وهما بحالهما، فقوله في الفراق يلزمه، وأما
المهر، فالقول قوله على الأظهر، وعلى الثاني قولها، لأنها لا تترك بالسكوت، لان
الزوج يزعم سقوط المهر، فإذا سكتت ولا بينة، جعلت ناكلة، وحلف وسقط
المهر. قال الأصحاب: والامناء الذين يصدقون في الرد بيمينهم مدعون، لأنهم
يزعمون الرد الذي هو خلاف الظاهر، لكن اكتفي منهم باليمين، ولأنهم أثبتوا
أيديهم، لغرض المالك، وقد ائتمنهم، فلا يحسن تكليفهم بنية الرد، وأما على
287

القول الثاني، فهم مدعى عليهم، لأن المالك هو الذي لو سكت ترك. قال
الروياني وغيره: وقد يكون الشخص مدعيا ومدعى عليه في المنازعة الواحدة، كما
في صورة التحالف، هذا كلام الأصحاب، وبالله التوفيق.
فصل في حد الدعوى الصحيحة، وشرطها أن تكون معلومة ملزمة. الأول
العلم بالمدعى به، فإن كان نقدا، اشترط ذكر جنسه ونوعه وقدره، قال ابن
الصباغ: وإن اختلف الصحاح والمكسرة بين أنها صحاح أو مكسرة، ومطلق الدينار
ينصرف إلى الدينار الشرعي، ولا حاجة إلى بيان وزنه، وإن كان غير نقد، نظر إن
كان عينا وهي مما تضبط بالصفة، كالحبوب والحيوان والثياب، وصفها بصفات
السلم، ولا يشترط ذكر القيمة في الأصح، وإن كانت تالفة، كفى الضبط بالصفات
إن كانت مثلية، ولا يشترط ذكر القيمة، وإن كانت متقومة، اشترط ذكر القيمة،
لأنها الواجب عند التلف. وإن ادعى سيفا محلى، اشترط ذكر قيمته، ويقومه
بالذهب إن كان محلى بالفضة، وبالفضة إن كان محلى بالذهب، فإن كان محلى
بهما، قومه بأحدهما للضرورة، وفي الدراهم والدنانير المغشوشة يدعي مائة
درهم من نقد كذا قيمتها كذا دينارا. أو دينارا من نقد كذا قيمته كذا درهما، هكذا
ذكره الشيخ أبو حامد وغيره، وكأنه جواب على أن المغشوش متقوم، فإن جعلناه
مثليا، فينبغي أن لا يشترط التعرض للقيمة، وفي العقار يتعرض للناحية والبلدة،
والمحلة والسكة، وتبين الحدود، ويستثنى من اشتراط العلم صورا، إحداها: إنما
يعتبر إذا طلب معينا، فأما من حضر ليعين، ويفرض له القاضي، كالمفوضة تطلب
الفرض على قولنا: لا يجب المهر بالعقد، والواهب يطلب الثواب، فلا يتصور
الاعلام.
288

الثانية: قال: أدعي أن مورثك أوصى لي بثوب، أو بشئ تسمع الدعوى،
لأن الوصية تحتمل الجهالة، فكذا دعواها، وألحق ملحقون دعوى الاقرار بالمجهول
بدعوى الوصية، ومنهم من ينازع كلامه فيه، ويصح دعوى الابراء عن المجهول
إن صححنا الابراء عن المجهول.
الثالثة: ادعى أن له طريقا في ملك غيره، وادعى حق إجراء الماء، قال
القاضي أبو سعد: الأصح أنه لا يحتاج إلى إعلام قدر الطريق والمجرى، ويكفي
لصحة الدعوى تحديد الأرض التي يدعي فيها الطريق والمجرى، وكذا لا تصح
الشهادة المرتبة عليها، وقال أبو علي الثقفي: يشترط إعلام قدر الطريق والمجرى،
وقال: وكذا لو باع بيتا من دار، وسمى له طريقا، ولم يبين قدره لا يصح، قال
القاضي: وعندي أنه لا يشترط هذا الاعلام في الدعوى، لكن يؤخذ على الشهود
إعلام الطريق والمسيل بالذرعان، لأن الشهادة أعلى شأنا، فإنها تستقل بقوة إيجاب
الحكم بخلاف الدعوى، ولو أحضر المدعي ورقة، وحرر فيها دعواه، وقال:
أدعي ما فيها، وأدعي ثوبا بالصفات المكتوبة فيها، ففي الاكتفاء به لصحة الدعوى
وجهان.
الشرط الثاني: كونها ملزمة، فلو قال: وهب لي كذا أو باع، لم تسمع دعواه
289

حتى يقول: ويلزمه التسليم إلي، لأنه قد يهب ويبيع، وينقضها قبل القبض هكذا
نقله الروياني والغزالي وغيرهما، ويقرب منه ما ذكره القاضي أبو سعد أنه يقول في
دعوى الدين: لي في ذمته كذا، وهو ممتنع من الأداء الواجب عليه، قال: وإنما
يتعرض لوجوب الأداء، لأن الدين المؤجل لا يجب أداؤه في الحال، وكان هذا إذا
قصد بالدعوى تحصيل المدعى، ويجوز أن يكون المقصود بالدعوى دفع المنازعة،
ولا يشترط التعرض لوجوب التسليم. قال ابن الصباغ: لو قال هذه الدار لي وهو
يمنعنيها، صحت الدعوى، ولا يشترط أن يقول: هي في يده، لأنه يجوز أن
ينازعه، وإن لم تكن في يده، وإذا ادعى ولم يقل للقاضي: مره بالخروج عن
حقي، أو سله جواب دعواي، فهل يطالبه القاضي؟ وجهان، قال ابن الصباغ:
الأصح نعم، للعلم بأنه الغرض من الحضور، وإنشاء الدعوى، قال القاضي أبو
سعد: الأصح لا، لأنه حقه، فلا يستوفى إلا باقتراحه كاليمين.
قلت: الأول أقوى. والله أعلم
فعلى هذا الثاني طلب الجواب شرط آخر في صحة الدعوى، وسواء شرطنا
هذا الاقتراح، أم لم نشرطه، فاقترحه، فيمكن أن يقال: يغني ذلك عن قوله:
ويلزمه التسليم إلي، وأن من شرطه بناه على أنه لا يشترط الاقتراح المذكور.
فرع لا يشترط لصحة الدعوى أن يعرف بينهما مخالط أو معاملة، ولا فرق
فيه بين طبقات الناس، فتصح دعوى دنئ على شريف، وقال الإصطخري: إن
شهدت قرائن الحال بكذب المدعي، لم يلتفت إلى دعواه، مثل أن يدعي الدنئ
استئجار الأمير، أو الفقيه، لعلف الدواب، أو كنس بيته، ومثله دعوى المعروف
290

بالتعنت، وجر ذوي الاقدار إلى القضاة، وتحليفهم ليفتدوا منه بشئ.
فرع ادعى عليه مالا، وقام، وأقام شاهدين، شهدا على إقراره بشئ،
أو قالا: نعلم أن له عليه مالا، ولا نعلم قدره، ففي سماع شهادتهما هكذا وجهان،
حكاهما البغوي وغيره، أحدهما: نعم، ويرجع في التفسير إلى المشهود عليه،
كما لو أقر بمبهم، وأصحهما: لا، ويجريان فيما لو شهدا بغصب عبد، أو ثوب،
ولم يصفاه.
فرع عن فتاوي القفال: ادعى دراهم مجهولة لا يسمع القاضي دعواه،
ويقول له: بين الأقل الذي تتحققه، وإن ادعى ثوبا ولم يصفه أيضا، لم يصغ
إليه، بل لو قال: هو كرباس، ولم يصف، أمره أن يأخذ بالأقل، وهذا فيه
ارشاد وتلقين، ثم الاخذ بالأقل في قدر الدراهم مستقيم، لكن الاخذ بالأقل من
صفة الثوب عينه لا وجه له
المسألة الثالثة: إذا قامت بينة على المدعى عليه، فطلب من القاضي تحليف
المدعي على استحقاق ما ادعاه، لم يجبه، لأنه تكليف حجة بعد قيام حجة، ولأنه
كطعن في الشهود، وإن ادعى إبراء أو قضاء في الدين، أو بيعا، أو هبة وإقباضا في
العين، نظر إن ادعى حدوث شئ من ذلك بعد قيام البينة، حلف المدعي على نفي
ما يقوله إن مضى زمان إمكانه، وإلا فلا يلتفت إلى قوله، وإن ادعى أنه جرى قبل
شهادة الشهود، فإن لم يحكم القاضي بعد، حلف المدعي على نفيه، وإن حكم،
لم يحلفه على الأصح، ولو قال المدعى عليه: الشهود فسقة، أو كذبة، والمدعي
يعلم ذلك، فهل له تحليفه على أنه لا يعلم؟ وجهان، وطردا في كل صورة ادعى
ما لو أقربه الخصم لنفعه ولكن لم يكن المدعى عين حق له، بأن قال المدعى
عليه: إنك أقررت لي بكذا، أو قال وقد توجهت عليه الدعوى: إن المدعي حلفني
مرة، وأراد تحليفه، أو قذفه، فطلب الحد، فادعى زنى المقذوف، وأراد تحليفه،
291

ويشبه أن يكون الأصح أن له التحليف، ويؤيده ما سبق من قول الأصحاب: إن
دعوى الاقرار بالمجهول صحيحة، وإن جواب الأكثرين في مسألة القذف التحليف.
وإن كان المقذوف ميتا، وأراد القاذف تحليف الوارث أنه لا يعلم زنى مورثه،
حلف، وهذه الصورة محكية عن النص، لكن ذكر البغوي أن الأصح أنه لا يحلفه
إذا ادعى فسق الشهود، أو كذبهم، وأما تحليف القاضي والشهود، فلا يجوز
قطعا، لارتفاع منصبيهما.
المسألة الرابعة: قامت بينة على المدعى عليه، وادعى أن المدعي باعه العين
المدعاة، أو باعها لبائعه، أو ادعى أنه أبرأه من الدين المدعى، فأنكر، فلا يخفى
أن القول قول المدعي، وأن المدعى عليه مدع فيما ذكره يحتاج إلى بينة، فإن
استمهل ليأتي بها أمهل ثلاثة أيام على الصحيح، وقيل: يوم فقط. ولو ادعى الابراء
ولم يأت ببينة، وقال: حلفوه أنه لم يبرئني، حلفناه، ولا يكلف توفية الدين أولا،
وعن القاضي وجه أنه يستوفى منه الدين أولا، ثم إن شاء حلفه، لأنها دعوى
جديدة، والصحيح الأول، وليس كما لو قال لوكيل المدعي: أبرأني موكلك حيث
يستوفى الحق منه، ولا يؤخر إلى حضور الموكل وحلفه، لعظم الضرر في التأخير
وهنا الحلف متيسر في الحال. ولو قال: إنه أبرأني من هذه الدعوى، فهل يحلف
المدعي أنه لم يبرئه؟ وجهان اختار القفال، والغزالي المنع، وادعى الروياني أن
المذهب التحليف، لأنه لو أقر أنه لا دعوى له عليه، برئ.
فرع مدعي الدفع إن قال: قضيت أو أبرأني فذاك، وإن أطلق،
وقال: لي بينة دافعة واستفسر، لأنه قد يتوهم ما ليس بدافع دافعا إلا أن يعرف
معرفته، وإن عين جهة، ولم يأت ببينة عليها، وادعى عند انقضاء مدة المهلة بلا
جهة أخرى، واستمهل، فينبغي أن لا يجاب، وإن ادعى في المدة جهة أخرى
وجب أن تسمع.
292

الخامسة: الدعوى أنواع، منها دعوى الدم، ويشترط تفصيلها كما سبق في
القسامة، وأما دعوى النكاح والبيع، وسائر العقود، فقال الشافعي رحمه الله: لو
ادعى أنه نكح امرأة، لم يقبل منه حتى يقول: نكحتها بولي وشاهدي عدل، فمن
الأصحاب من اكتفى في دعوى النكاح بالاطلاق، ولم يشترط التعرض لهذا
التفصيل، كما يكتفى في دعوى استحقاق المال بالاطلاق، وحملوا النص على
الاستحباب والتأكيد، وقال أبو علي الطبري: إن ادعى ابتداء النكاح، وجب
التفصيل، وإن ادعى دوامه، فلا، لأن الشروط لا تعتبر في الدوام، أخذ عامة
الأصحاب بظاهر النص، وأوجبوا التفصيل والتعرض للشروط ابتداء ودواما، لان
الفروج يحتاط لها، كالدماء، والوطئ المستوفى لا يتدارك، كالدم. وأما الجواب عن
المال، فإن كان المدعى نفس المال، فإنما اكتفى بالاطلاق، لأن أسبابه
لا تنحصر، فيشق ضبطها، وإن كان عقدا على مال، كبيع وإجارة وهبة، فثلاثة
أوجه أحدها قاله ابن سريج: يشترط التفصيل، وذكر الشروط كالنكاح، والثاني:
إن تعلق العقد بجارية، اشترط احتياطا للبضع، وإلا فلا، والثالث وهو أصحها،
ونقله ابن كج عن النص: لا يشترط مطلقا، لأن المقصود المال وهو أخف شانا،
ولهذا لا يشترط فيها الاشهاد بخلاف النكاح. وأما التعرض في دعوى النكاح، لعدم
293

مانع النكاح، كالردة والعدة والرضاع، فلا يشترط على الصحيح، لأن الأصل
عدمها، ولكثرتها، فان شرطنا التفصيل في النكاح، فيقول: نكحتها بولي
وشاهدين. ويشترط وصف الولي والشاهدين بالعدالة على الصحيح، وقياسه وجوب
التعرض لسائر الصفات المعتبرة في الأولياء (1)، ولا يشترط تعيين الشاهدين والولي،
والغرض ان يعرف ان النكاح لم يخل عن ولي وشاهدين، ويشترط التعرض لرضى
المرأة إن كان رضاها شرطا، فإن كانت أمة، اشترط التعرض للعجز عن الطول،
ولخوف العنت على الأصح، وان شرطنا التفصيل في دعوى البيع، قالوا: يقول:
تعاقدنا بثمن معلوم ونحن جائزا التصرف، وتفرقنا عن تراض، ويشترط في الشهادة
على النكاح التفصيل ان قلنا باشتراطه في دعوى النكاح، وفي فتاوى القفال انه
يشترط ان يقولوا بعد تفصيل النكاح: ولا نعلم أنه فارقها، أو وهي اليوم زوجته،
والاقرار بالنكاح يكفي فيه الاطلاق على المذهب، لأنها لا تقر الا عن تحقق (2)،
وقيل: في اشتراط التفصيل فيه الخلاف في الدعوى والشهادة، وهو ضعيف. ولو
شهدوا على اقرارها، لم يشترط ان يقولوا: ولا نعلم أنه فارقها، ولتكن الشهادة على
البيع والاقرار إذا أوجبنا التفصيل في البيع على قياس ما ذكرنا في النكاح، ونقلوا في
اشتراط تقييد النكاح والبيع المدعيين بالصحة وجهين، وبالاشتراط أجاب الغزالي في
" الوجيز " وقال في " الوسيط ": الوجه القطع باشتراطه في النكاح، وأشار إلى أن
الوجهين مفرعان على أنه لا يشترط بفصيل الشرائط، وايراد الهروي يقتضي
اطرادهما مع اشتراط التفصيل ليتضمن ذكر الصحة نفي المانع (3).
واعلم أن دعوى النكاح تارة تكون على المرأة، وتارة على وليها المجبر، كما
سبق في مسألة تزويج الوليين المرأة بشخص، وسبق هناك أن الأئمة قالوا: لو ادعى
كل واحد من الزوجين سبق نكاحه، وعلم المرأة به، بني على أن إقرارها به هل
يقبل؟ إن قلنا: لا، فلا تسمع دعواهما عليها، وإن قلنا: نعم وهو الأظهر
294

سمعت، وهذا يقتضي كون سماع دعوى النكاح عليها أبدا فيه هذا الخلاف،
فكأنهم لم يذكروه هنا اقتصارا على الأظهر.
المسألة السادسة: دعوى المرأة النكاح إن اقترن بها حق من حقوق النكاح،
كصداق ونفقة، وقسم وميراث بعد موته، سمعت، وإن تمحضت دعوى الزوجية،
سمعت أيضا على الأصح، فان سمعت، نظر، إن سكت المدعى عليه، وأصر
على السكوت، أقامت البينة عليه، وإن أنكر، فهل يكون إنكاره طلاقا؟ وجهان،
أصحهما: لا، فإن قلنا: هو طلاق، سقط في ادعته، ولها أن تنكح زوجا غيره،
ولو رجع عن الانكار، وقال: غلطت في الانكار، لم يقبل رجوعه، وإن قلنا: ليس
إنكاره طلاقا، فإنكاره كسكوته، فيقيم البينة عليه، وإن رجع. قبلنا رجوعه،
وسلمنا الزوجة إليه، وإن لم تكن بينة، وحلف الرجل، فلا شئ عليه، وله أن
ينكح أختها وأربعا سواها، وليس لها أن تنكح زوجا غيره إذا لم نجعل الانكار
طلاقا. وإن اندفع النكاح ظاهرا حتى يطلقها أو يموت. قال البغوي: أو يفسخ
بإعساره، أو امتناعه إذا جعلنا الامتناع مع القدرة ممكنا من الفسخ وليكن هذا مفرعا
على إن لها أن تفسخ بنفسها أما إذا أحوجناها إلى الرفع إلى القاضي، فما لم يظهر له
النكاح كيف يفسخ أو يأذن في الفسخ، وينبغي أن يرفق الحاكم به حتى يقول: إن
كنت نكحتها، فهي طالق، ليحل لها النكاح، وإن نكل الرجل، حلفت هي،
واستحقت المهر والنفقة.
فرع امرأة تحت رجل ادعى آخر أنها زوجته، فالصحيح أن هذه الدعوى
عليها لا على الرجل، لأن الحرة لا تدخل تحت اليد، فلو أقام كل واحد منهما
بينة، لم يقدم بينة من هي تحته. بل هي كاثنين أقام كل واحد منهما بينة على
نكاح خلية، فينظر إن كانتا مؤرختين بتاريخ واحد، أو مطلقتين، فقد تعارضتا ولا
يجئ قولا القسمة والقرعة، وإن كانتا مؤرختين بتاريخين مختلفين، قدمت البينة
التي سبق تاريخها بخلاف ما لو كان هذا التعارض في مال، فإن في الترجيح بالسبق
295

قولين، لأن الانتقال في الأموال غالب دون النكاح، ولو قامت بينة أحدهما على
النكاح، وبينة الآخر على إقرارها بالنكاح، فبينة النكاح أولى، كما لو شهدت بينة
واحد بأنه غصب منه كذا، وبينة الآخر بأنه أقر له به، ولو أقرت لأحدهما، فعلى ما
ذكرنا إذا زوجها وليان لشخصين، وادعى كل واحد سبق نكاحه.
فرع ادعت ذات ولد أنها منكوحته، وأن الولد منه، وسمعنا دعوى النكاح
منها، فإن أنكر النكاح والنسب، فالقول قوله بيمينه، وإن قال: هذا ولدي من
غيرها، أو هذا ولدي، لم يكن مقرا بالنكاح، وإن قال: هو ولدي منها، وجب
المهر، وإن أقر بالنكاح، فعليه النفقة والمهر والكسوة، فإن قال: كان نكاح تفويض، فلها المطالبة بالفرض إن لم يجر دخول، وإن جرى، فقد وجب المهر
بالدخول، فلا معنى لانكاره.
المسألة السابعة: ادعى رق بالغ، فقال البالغ: أنا حر الأصل، فالقول
قوله، وعلى المدعي البينة، وسواء كان المدعي استخدمه قبل الانكار،
وتسلط عليه، أم لا، وسواء جرى عليه البيع مرارا، وتداوله الأيدي أم لا،
فإن كان اشتراه من غيره، وحلف على نفي الرق، فهل يرجع المشتري على
بائعه بالثمن؟ فيه كلام سنذكره إن شاء الله تعالى في المسألة الرابعة من الباب
الثاني. فإن قال البالغ لمن هو في يده: إنك أعتقتني أو أعتقني من باعني لك،
طولب بالبينة، ولو ادعى رق صغير، فإن لم يكن في يده، لم يصدق إلا ببينة، وإن
كان في يده، نظر إن استندت إلى النقاط، فكذلك على الأظهر، وفي قول:
تقبل، ويحكم له بالرق، وإن لم يعرف استنادها إلى الالتقاط، صدق وحكم له،
كما لو ادعى الملك في دابة أو ثوب في يده، فلو كان مميزا فأنكر، فالأصح أنه
296

يحكم له برقه، ولا أثر لانكاره، والثاني: أنه كالبالغ، وإذا حكمنا له برقه في
الصغير، فبلغ، وأنكر الرق، فالأصح استمرار الرق حتى تقوم بينة بخلافه،
والثاني: يصدق منكر الرق إلا أن تقوم به بينة، ولا فرق في جريان الوجهين بين أن
يدعي في الصغير ملكه ويستخدمه، ثم يبلغ وينكر، وبين أن يتجرد الاستخدام
إلى البلوغ، ثم يدعي ملكه، وينكر المستخدم واليد على البالغ المسترق، وإن لم
يغن عن البينة عند إنكاره، فهي غير ساقطة بالكلية، بل يجوز اعتمادها في الشراء إن
سكت المسترق اكتفاء بأن الظاهر أن الحر لا يسترق، وقال الشيخ أبو محمد:
لا يجوز شراؤه مع سكوته، كما لا يجوز مع إنكاره الرق، بل يسأل، فإن أقر،
اشتري.
الثامنة: في سماع الدعوى بدين مؤجل أوجه، أصحها: لا، إذ لا يتعلق بها
إلزام ومطالبة في الحال، والثاني: نعم، والثالث: تسمع إن كان له نية، ليستحل
فيأمن غيبتها وموتها، وإلا فلا، أو في دعوى الأمة الاستيلاد والرقيق التدبير، وتعليق
العتق بالصفة طريقان أحدهما: تقبل، لأنها حقوق ناجزة، والثاني: على الخلاف
في الدين المؤجل الاستيلاد أولاهما بالقبول، وهذا المذكور في التدبير إذا
لم نجوز الرجوع عنه بالقبول، فإن جوزناه، فإنكاره رجوع يبطل مقصود
المدعي.
297

قلت: المذهب سماع دعوى الاستيلاد والتدبير، وتعليق العتق. والله
أعلم.
فرع ادعي عليه دين مؤجل قبل المحل، فله أن يقول في الجواب:
لا يلزمني دفع شئ إليك الآن، ويحلف عليه، وهل له أن يقول: لا شئ علي
مطلقا، قال القفال: فيه وجهان بناء على أن الدين المؤجل هل يوصف قبل الحلول
بالوجوب؟ وفيه وجهان.
298

التاسعة: سلم ثوبا أو غيره إلى دلال ليبيعه، فجحده، وشك في بقاء
الثوب، فلا يدري أيطالب بالعين، أم بالقيمة، فقد سبق في أواخر باب القضاء على
الغائب وجهان، أصحهما: له أن يدعي على الشك، فيقول: لي عنده كذا، فإن
بقي، فعليه رده، وإلا فقيمته أو مثله، والثاني: يشترط في الدعوى الجزم، فيفرد
لكل واحد من المطالبة دعوى برأسها، فإن قلنا بالأول، فأنكر المدعى عليه ولا
بينة، حلف على نفي الجميع، وإن نكل، وردت اليمين على المدعي، فهل
يحلف على التردد، كما لو ادعى على التردد، أم يشترط التعيين؟ وجهان، وإن
قلنا: يفرد لكل مطلب دعوى، فادعى ما رآه أقرب، ونكل الخصم، فنكوله يؤكد
ظن المدعي بكذبه، فهل له أن يحلف اليمين المردودة بذلك؟ وجهان، أصحهما:
نعم استدلالا بنكوله على كذبه، كما يستدل بخط أبيه، وأجري الوجهان فيما إذا
أنكر المودع التلف، وتأكد ظنه بنكول المودع هل يحلف اليمين المردودة، وفي
فتاوى القفال، انه ادعى عليه ثوبا، فقال: كان في يدي وهلك، فأغرم لك
القيمة، فقال المدعي للحاكم: قد أقر بالثوب، فحلفه أنه لا يلزمه تسليمه إلي،
حلفه، فإن حلف، قنع منه بالقيمة، وإن نكل وحلف المدعي على بقاء الثوب
طولب بالعين.
الباب الثاني في جواب الدعوى
جواب المدعى عليه إقرار، أو إنكار، فإن سكت، وأصر على السكوت،
جعل كالمنكر الناكل، فترد اليمين على المدعي، فهو كالانكار. والكلام في
299

الاقرار وصيغته على ما سبق في كتاب الاقرار، وقول المدعى عليه: لي عن دعواك
مخرج، ليس بإقرار، لاحتمال الخروج بالانكار، وكذا قوله: لفلان علي أكثر مما
لك، ليس بإقرار للمخاطب بما دعاه، لاحتمال إرادة الاستهزاء. قال القاضي أبو
سعد: وكذا لو قال: لك علي أكثر مما ادعيت، لم يكن إقرارا لاحتمال أن يريد.
لك من الحق عندي ما يستحق له أكثر مما ادعيت، وكما لا يكون قوله: لفلان علي
أكثر مما لك إقرار للمخاطب، لا يكون إقرارا لفلان أيضا، لاحتمال أن يريد بالحق
الحرمة. فلو قال: لفلان علي مال أكثر مما ادعيت، فهذا إقرار لفلان، إلا أنه يقبل
تفسيره بما دونه في القدر تنزيلا على كثرة التركة أو الرغبة، كما سبق في الاقرار.
ولو قال: الحق أحق أن يؤدى، فليس بإقرار، لأن المعنى حيث يكون حقا فأما أنا
فبرئ.
فصل في مسائل الباب هي ست،
الأولى: ادعى عليه عشرة، فقال:
لا يلزمني العشرة، فليس بجواب تام، بالتام أن يضيف إليه ولا شئ منها، أو ولا
بعضها، وكذا يحلف إن حلف، لأن مدعي العشرة مدع لكل جزء منها، فاشترط
مطابقة الانكار واليمين دعواه، وقال القاضي حسين: لا يكلف في الانكار أن
يقول: ولا شئ منها، وإنما يكلف ذلك في اليمين، والصحيح الأول، وإذا حلفه
القاضي على أنه لا يلزمه العشرة، ولا شئ منها، فحلف على نفي العشرة،
واقتصر عليه، لم تلزمه العشرة بتمامها، لكنه نأكل عما دون العشرة، فللمدعي أن
يحلف على استحقاق ما دونها بقليل، ويأخذه، ولو نكل المدعى عليه عن مطلق
اليمين، وأراد المدعي أن يحلف على بعض العشرة، قال البغوي: إن عرض
القاضي عليه اليمين على العشرة وعلى كل جزء منها، فله أن يحلف على بعضها،
وإن عرض عليه اليمين على العشرة وحدها، لم يكن له الحلف على بعضها، بل
300

يستأنف الدعوى للبعض الذي يريد الحلف عليه، وحيث جوزنا للمدعي الحلف
على بعض المدعى، فذلك إذا لم يسنده إلى عقد، فإن أسنده، بأن قالت المرأة:
نكحني بخمسين وطالبته به، ونكل الزوج، لم يمكنها الحلف على أنه نكحها
ببعض الخمسين، لأنه يناقض ما ادعته أولا. وإذا ادعى أن الدار التي في يدك ملكي
يلزمك تسليمها إلي، فإذا أنكر المدعى عليه، يحلف أنها ليست ملكا له، ولا شئ
منها، ولو ادعى أنه باعه إياها، كفاه أن يحلف أنه لم يبعها.
الثانية: إذا ادعى مالا وأسنده إلى جهة بأن قال: أقرضتك كذا، وطالبه
ببدله، أو قال: غصبت عبدي، فتلف عندك، فعليك كذا ضمانا، أو مزقت
ثوبي، فعليك كذا أرشا، أو اشتريت منك كذا، وأقبضتك ثمنه، أو اشتريت مني
كذا، فعليك ثمنه، وطالبه بالمدعى، فليس على المدعى عليه أن يتعرض في
الجواب لتلك الجهة، بل يكفيه أن يقول: لا يستحق علي شيئا، ولا يلزمني تسليم
شئ إليك، وكذا يكفيه في جواب طالب الشفعة: لا شفعة لك عندي، أو
لا يلزمني تسليم هذا الشقص إليك، لأن المدعي قد يكون صادقا في الاقراض
والغصب وغيرهما، ويعرض ما يسقط الحق من أداء أو إبراء أو هبة، فلو نفى
الاقراض ونحوه كان كاذبا، وإن اعترف به، وادعى المسقط طولب بالبينة، وقد
يعجز عنها، فدعت الحاجة إلى قبول الجواب المطلق، ولو قالت المرأة:
طلقتني، فقال: أنت زوجتي، كفاه وإذا اقتصر المدعى عليه على الجواب
المطلق، وأفضى الامر إلى الحلف، حلف على ما أجاب، ولم يكلف التعرض
لنفي الجهة المدعاة، ولو حلف على نفي الجهة المدعاة بعد الجواب المطلق،
جاز، ذكره البغوي. ولو تعرض في الجواب للجهة، فقال: ما بايعتك، أو ما
أقرضتني، أو ما مزقت، فالجواب صحيح، إن حلف على وفق الجواب، فذاك،
وإن أراد أن يقتصر في الحلف على أنه لا يلزمه شئ، فهل يمكن، كما لو أجاب
301

كذلك، أم لا ليطابق اليمين الانكار؟ وجهان، أصحهما: الثاني، وهو
المنصوص. ولو كان في يده مرهون، أو مستأجر، وادعاه مالكه، كفاه أن
يقول: لا يلزمني تسليمه، ولا يجب التعرض للملك، فإن أقام المدعي بينة
بالملك نقل في الوسيط عن القاضي أنه يجب عليه تسليمه، واعترض عليه بأنه
قد يصدق الشهود، ولا يجب التسليم لاجارة أو رهن، ولو اعترف بالملك، وادعى
رهنا أو إجارة، وكذبه المدعي، فمن المصدق منهما؟ وجهان سبقا في باب اختلاف
المتراهنين،، فإن صدقه صاحب اليد فذاك، وإن صدق المالك - وهو الصحيح -،
احتاج مدعي الرهن أو الإجارة إلى البينة، فإن لم توافقه بينة، وخاف جحود
الراهن لو اعترف له بالملك، فما حيلته؟ وجهان، قال القفال: حيلته تفصيل
الجواب، فيقول: إن ادعيت ملكا مطلقا فلا يلزمني التسليم، وإن ادعيت مرهونا
عندي، فاذكره لأجيب، وقال القاضي حسين: لا يقبل الجواب المردد، بل حيلته
أن يجحد ملكه إن جحد صاحبه الدين والرهن، وعلى عكسه لو ادعى المرتهن،
وخاف الراهن جحود الرهن لو اعترف بالدين، فعلى الوجه الأول يفصل، فيقول:
إن ادعيت ألفا لي عندك به كذا رهنا فحتى أجيب، وإن ادعيت ألفا، فلا يلزمني.
وعلى الثاني صارت العين مضمونة عليه بالجحود، فلمن عليه الدين أن يجحده،
ويجعل هذا بذاك، ويشترط التساوي، والوجه الأول أصح، وبه قطع الفوراني،
302

وذكر أن المدعى عليه يفصل الجواب أبدا، ولا يكون ذلك إقرارا بشئ مثل أن
يدعي عليه ألفا، فيقول: إن ادعيت عن ثمن كذا فحتى أجيب، وإن ادعيت عن
جهة أخرى، فلا يلزمني.
فرع ادعت على رجل ألفا صداقا يكفيه أن يقول: لا يلزمني تسليم شئ
إليها، قيل للقفال: هل للقاضي أن يقول: هل هي زوجتك؟ فقال: ما للقاضي
ولهذا السؤال؟ لكن لو سأل، فقال: نعم، قضى عليه بمهر المثل إلا أن يقيم البينة
أنه نكحها بكذا، فلا يلزمه أكثر منه.
الثالثة: إذا ادعى عقارا أو منقولا على إنسان، وقال المدعى عليه: ليس هو
لي، نظر، أيقتصر عليه، أم يضيفه إلى مجهول، أم إلى معلوم؟ فإن اقتصر عليه،
أو أضافه إلى مجهول بأن قال: هو لرجل لا أعرفه، أو أسميه، فثلاثة أوجه،
أحدهما: يسلم المال إلى المدعي، إذ لا مزاحم له، والثاني: تنصرف الخصومة
عنه، وينتزع الحاكم المال من يده، فإن أقام المدعي بينة على الاستحقاق،
أخذه، وإلا حفظه إلى أن يظهر مالكه، وأصحهما: لا ينصرف، ولا ينتزع المال
من يده، فعلى هذا إن أقر بعد ذلك لمعين، قبل، وانصرفت الخصومة إلى ذلك
المعين، وإلا فيقيم المدعي البينة عليه أو يحلفه، وهل يمكن من أن يعود، فيدعيه
لنفسه؟ وجهان. ولو قال في الجواب: نصفه لي، ولا أدري لمن النصف
الآخر، ففي النصف الآخر الأوجه الثلاثة، وأما إذا أضافه إلى معلوم، فالمضاف إليه
ضربان، أحدهما: من تتعذر مخاصمته، وتحليفه بأن قال: هو وقف على
الفقراء، أو على المسجد الفلاني، أو على ابني الطفل، أو هو ملك له، فالذي
قطع به الغزالي، والشيخ أبو الفرج أن الخصومة تنصرف عنه، ولا سبيل إلى تحليف
الولي ولا طفله، ولا تغني إلا البينة، قال أبو الفرج: وإذا قضى له القاضي بالبينة
303

كتب صورة الحال في السجل، ليكون الطفل على حجته إذا بلغ، وقال البغوي:
إذا قال: هو لابني الطفل، أو وقف عليه، لم تسقط الدعوى، فإن أقام بينة أخذه
وإلا حلف المدعى عليه: انه لا يلزمه تسليمه إليه إذا كان هو قيم الطفل.
قلت: اختار في المحرر قول البغوي. والله أعلم.
الضرب الثاني: من لا تتعذر مخاصمته وتحليفه، كشخص معين، وهو
نوعان، حاضر في البلد، وغائب، فالحاضر يراجع، فإن صدق المدعى عليه،
انصرفت الخصومة إليه، وإن كذبه، فأربعة أوجه الثلاثة السابقة في الاقرار، ورابعه
حكاه ابن الصباغ أنه يقال للمدعى عليه: ادعه لنفسك، فتكون الخصم، أو لمن
يصدقك، فيكون هو الخصم، فإن امتنعت، جعلناك ناكلا وحلفنا المدعي.
النوع الثاني: الغائب، فإذا أضاف المدعي إلى غائب، ففي انصراف
الخصومة عنه أوجه، أصحها - وبه قال الأكثرون - ينصرف، والثاني: لا،
والثالث: إن قال: ليس لي، وإنما هو لفلان، فلا، فإن قلنا: لا ينصرف، نظر
إن لم يكن للمدعى بينة، فله تحليف المدعى عليه على أنه لا يلزمه تسليمه إليه،
فإن نكل حلف المدعي، وأخذ المال من يده، ثم إذا عاد الغائب، وصدق المقر،
رد المال عليه بلا حجة، لأن اليد له بإقرار صاحب اليد، ثم يستأنف المدعي
الخصومة معه، وإن أقام المدعي بينة على الحاضر، أخذ المال من يده أيضا، وهل
هو قضاء على الحاضر الذي تجري الخصومة معه، أم على الغائب، لأن المال
بمقتضى الاقرار له؟ وجهان، أصحهما: الأول، ولا يحتاج المدعي مع البينة إلى
اليمين، ويثبت القاضي في السجل أنه قضي له بالبينة بعد ما أقر المدعى عليه أنه
لفلان الغائب، ليكون الغائب على حجته، وإذا عاد، وأقام البينة، قضى له لترجح
جانبه باليد، وإن لم يقمها، أقر المال في يد المدعي، فإن التمس من القاضي أن
يزيد في السجل أن الغائب قدم، ولم يأت ببينة، أجابه إليه، وإن قلنا: تنصرف
الخصومة عنه، فإن لم يكن للمدعي بينة، وقف الامر إلى أن يحضر الغائب، وإن
كانت له بينة، قضى له بالمال، وهل هو قضاء على الغائب، ويحتاج معه إلى
اليمين، أم على الحاضر الذي تجري الخصومة معه، فلا يحتاج إليها؟ وجهان،
رجح العراقيون، والروياني الثاني، ولكن الأول أقوى، وأليق بالوجه المفرع عليه،
304

واختاره الامام والغزالي، هذا كله إذا لم يقم المدعى عليه بينة أن المال للغائب، فإن
أقامها، نظر إن ادعى أنه وكيل من جهة الغائب، وأدبت الوكالة فبينته على أن المال
للغائب مسموعة مرجحة على بينة المدعي. وإن لم يثبت الوكالة، فذكر الامام
والغزالي فيه ثلاثة أوجه، أصحها: لا تسمع بينته، وبه قال الشيخ أبو محمد،
لأنه ليس بمالك ولا نائب، فعلى هذا الحكم كما لو لم يقم بينة. والثاني: تسمع،
والثالث: إن اقتصرت البينة على أنه لفلان الغائب، لم تسمع، وإن تعرضت مع
ذلك لكونه في يد المدعى عليه بعارية، أو غيرها، سمعت، فإن لم يسمعها فادعى
لنفسه حقا لازما، كرهن وإجارة، وتعرضت البينة لذلك، ففي السماع وجهان.
وإذا سمعنا بينته لصرف اليمين عنه، حكم للمدعي ببينته، فإن رجع الغائب، وأعاد
البينة، قدمت بينته، وإن سمعناها لعلقة الإجارة والرهن، فهل تقدم هذه البينة، أم
بينة المدعي؟ وجهان، أصحهما: تقديم بينة المدعي، ويكون فائدة بينته صرف
اليمين عنه، هذا ما ذكره الامام، والغزالي، والذي يفتى به - وهو المفهوم من كلام
الأصحاب - أن المدعي إذا أضاف المدعى عليه إلى الغائب خصومة معه، وأخرى
مع الغائب، فإذا أقام البينة، انصرفت الخصومة عنه لا محالة، ولا يجئ فيه
الوجهان المذكوران فيما لو اقتصر على الاقرار للغائب، وبنوا على انصراف الخصومة
عنه أن المدعي لو أقام البينة والحالة هذه، فلا بد له من اليمين مع البينة، والقضاء
قضاء على غائب بلا خلاف، وهي بالإضافة إلى الغائب غير مسموعة، فلا يحكم
للغائب بالملك بالبينة التي أقامها الحاضر على أنه للغائب فإن تعرض الشهود مع
ذلك لكونه في رهن الحاضر، وإجارته، فوجهان، أحدهما: تسمع هذه البينة
للغائب أيضا، وترجح بينته على بينة المدعي، لقوتها باليد، وأصحهما:
لا تسمع، فعلى هذا تعمل بينة المدعي.
فرع متى حكمنا بانصراف الخصومة عن المدعى عليه بإقراره لحاضر أو
لغائب أو مجهول على وجه، فهل للمدعي تحليفه؟ قولان بناء على أنه لو أقر له بعد
إقراره لغيره، هل يغرم القيمة، وفيه خلاف سبق في الاقرار، إن قلنا: نعم،
حلفه، فلعله يقر فيغرم القيمة، وإن قلنا: لا، فإن قلنا: النكول ورد اليمين،
305

كالاقرار، لم يحلفه، وإن قلنا: كالبينة حلفه، لأنه قد ينكل، فيحلف المدعى،
ويأخذ القيمة، وكأن العين تالفة. وهل يستر العين من المقر له وفاء بتنزيله منزلة
البينة؟ وإذا أوجبنا القيمة، وأخذها بإقرار المدعى عليه ثانيا، أو بيمين المدعي بعد
نكوله، ثم سلمت له العين ببينة، أو يمينه بعد نكول المقر له، لزمه رد القيمة، لأنه
أخذها للحيلولة وقد زالت.
فرع ادعى أن هذه الدار وقف علي، وقال من هي في يده: ملك
لفلان، وصدقه المقر له، انتقلت الخصومة إليه، وليس له طلب القيمة من
المقر، لأنه يدعي الوقف، ولا يعتاض عنه، كذا قاله البغوي. وكان لا يبعد طلب
القيمة، لا الوقف يضمن بالقيمة عند الاتلاف والحيلولة في الحال كالاتلاف. ولو
رجع الغائب وكذب المدعى عليه في إقراره، فالحكم كما سبق فيمن أضاف إلى
جاحد، فكذبه، ولو أقام المقر له الحاضر، أو الغائب بعد الرجوع بينة على
الملك، لم يكن للمدعي تحليف المقر، ليغرمه، لأن الملك استقر بالبينة، وخرج
الاقرار عن تكون الحيلولة به.
المسألة الرابعة: اشترى ثوبا وعبدا من رجل، فادعاه آخر، أن تكون الحيلولة به نظر إن ساعده
المشتري، وأقر له بما ادعاه، لم يكن له أن يرجع بالثمن على بائعة، وإن
استحلف، فنكل، فحلف المدعي، وأخذ المال، قال الشيخ أبو علي: ليس له
الرجوع بالثمن أيضا بلا خلاف، لتقصيره بالنكول وحلف المدعي بعد نكوله
كإقراره ويجوز أن يفرض في هذا الخلاف بناء على أنه كالبينة.
قلت: هذا ضعيف أو باطل، لأن المذهب أنه إنما يكون كالبينة في حق
المتنازعين دون غيرهما، وكذا نقل الشيخ أبو علي تحرير المذهب الاتفاق على عدم
الرجوع. والله أعلم.
306

وإن أثبت المدعي الاستحقاق بالبينة، وأخذ المال، نظر إن لم يصرح في
منازعته للمدعى بأنه كان ملكا لبائعي، ولا بأنه ملكي بأن قامت البينة - وهو
ساكت -، فله الرجوع بالثمن قطعا، وإن صرح بذلك، فوجهان، أحدهما:
لا يرجع، لأن المدعي ظالم باعترافه، وأصحهما الرجوع مهما قال ذلك على وجه
الخصومة، أو اعتمد ظاهر اليد، ثم بان خلاف ذلك بالبينة، ويجري الوجهان فيما
لو قال في الابتداء: بعني هذه الدار، فإنها ملكك، ثم قامت بينة بالاستحقاق، ولا
يجريان فيما لو كان الموجود مجرد الشراء، وإن كان الشراء إقرارا للبائع بالملك،
وفرقوا بأن ذلك إقرار تضمنه الشراء، فبطل ببطلان المبايعة والاقرار المستقل بخلافه
ولو اشترى عبدا في الظاهر، فقال: أنا حر الأصل، فقد سبق أن القول قوله، وأن على
المشتري البينة على رقه، أو على إقراره بالرق له، أو للذي باعه إياه، فإذا حلف
حكم بحريته في الظاهر، ثم أطلق ابن الحداد أنه لا يرجع المشتري على البائع
بالثمن، وفصل أكثرهم، فقالوا: إن لم يصرح في منازعته بأنه رقيق، رجع، وإن
صرح، فعلى الوجهين.
فروع من كلام القاضي أبي سعد الهروي: أقر المشتري للمدعي
بالملك، ثم أراد إقامة البينة على أنه للمدعي، ليرجع بالثمن على البائع، لم
يمكن، لأنه يثبت الملك لغيره بلا وكالة ولا نيابة، كيف والمدعي لو أراد إقامة
البينة - والحالة هذه - لم يلتفت إليه لاستغنائه عن البينة بالاقرار، وله تحليف البائع،
لأنه ربما أقر، فيرجع عليه، فإن نكل، فهل يحلف المشتري يمين الرد، إن
قلنا: النكول واليمين كالاقرار، فنعم، وإن قلنا: كالبينة، فلا. ولو ادعى
المسترق المبيع أنه حر الأصل، أو اعترف به المشتري، ثم أراد المشتري إقامة البينة
أنه حر الأصل، مكن، لأن الحرية حق الله تعالى، ولكل أحد إثباتها، وإذا ثبتت،
ثبت الرجوع، ولا يكفي في الرجوع بينة بمطلق الحرية، لاحتمال أن المشتري هو
الذي أعتقه. ولو أقام المشتري بعد ما أقر للمدعي بينة على إقرار البائع بأن المال
للمدعي قبلت، وثبت الرجوع، لأنه إذا بان إقرار البائع من قبل، لغا إقرار
307

المشتري، ولو أقام مدعي الاستحقاق البينة، وأخذ العين، ثم قامت بينة بأن
البائع كان اشتراها من هذا المدعي سمعت، يرد الحكم الأول، وتكون العين
للمشتري بالمبايعة السابقة.
فصل جارية في يد رجل ادعى رجل أنها له، فأنكر صاحب اليد، فأقام
المدعي بينة، أو حلف بعد نكول المدعى عليه، وحكم له بها فأخذها، فوطئها،
ثم قال: كذبت في دعواي ويميني، والجارية لمن كانت في يده، لزمه ردها
ومهرها، وأرش نقصها إن نقصت، ولا يقبل قوله: إنها كانت زانية، لأنها تنكر ما
يقول. وإن أولدها، ثم كذب نفسه، لم يقبل قوله في إبطال حرية الولد
والاستيلاد، لأن إقراره لا يلزم غيره، ولكن عليه قيمة الولد والأم مع المهر، وليس
له وطؤها بعد ذلك إلا أن يشتريها منه، فإن مات، عتقت وولاؤها موقوف، فإن
وافقته الجارية في الرجوع، لم يبطل الاستيلاد على الأصح، ولو أن صاحب اليد
أنكر وحلف، فأولد الجارية، ثم عاد، وقال: كنت مبطلا في الانكار والجارية
المدعي، فالكلام في المهر، وقيمة الولد، والجارية، والاستيلاد على ما سبق في
طرف المدعي.
المسألة الخامسة: ما يقبل إقرار العبد فيه، كالحد، والقصاص، فالدعوى
فيه يكون على العبد، والجواب بطلب منه، وما لا يقبل إقراره فيه وهو الأرش،
وضمان الأموال، فالدعوى فيه تتوجه على السيد، لأن الرقبة التي تتعلق بها حق
للسيد ولو وجهت الدعوى على العبد، فوجهان، أحدهما - وهو اختيار الإمام
والغزالي - المنع، لأن إقراره به غير مقبول، فعلى هذا هل للمدعي تحليفه؟ يبنى
على أن الأروش المتعلقة بالرقبة هل تتعلق بالذمة أيضا؟ وفيه قولان سيأتيان في كتاب
العتق إن شاء الله تعالى، فإن قلنا: نعم، فلا طلبة في الحال، ولا إلزام، وإنما هو
شئ يتوقع فيما بعد، كالدين المؤجل، ويجئ الخلاف السابق في سماع الدعوى
بالدين المؤجل، فإن سمعناها، فله تحليف العبد، فإن نكل، وحلف المدعي
308

اليمين المردودة، لم يكن له التعلق بالرقبة، لأن اليمين المردودة وإن جعلت
كالبينة، فلا تؤثر إلا في حق المتداعيين، والرقبة حق السيد. وقيل: له التعلق
بالرقبة إن جعلناها كالبينة، والوجه الثاني وهو المقطوع به في التهذيب في باب
مداينة العبيد: أن الدعوى مسموعة على العبد إن كان للمدعي بينة، وكذا إن لم تكن
بينة، وقلنا: اليمين المردودة كالبينة، وإن قلنا: كالاقرار فلا، وفي كل واحد
من الوجهين إشكال، والمتوجه أن يقال: تسمع الدعوى عليه لاثبات الأرش في ذمته
تفريعا على الأصلين المذكورين، ولا تسمع الدعوى، والبينة عليه لتعلقه بالرقبة.
المسألة السادسة: من ادعى على رجل عينا، أو دينا ولم يحلفه، وطلب
كفيلا منه ليأتي بالبينة، لم يلزمه إعطاء كفيل، وإن اعتاد القضاة خلافه، هذا هو
المعروف للأصحاب، وقال بعض المتأخرين: الامر فيه إلى رأي الحاكم، وإن أقام
شاهدين، وطلب كفيلا إلى أن يعدلا، فالصحيح أنه يطالب به فإن امتنع، حبس
لامتناعه لا لثبوت الحق، وقال القفال: لا يلزمه إعطاء الكفيل، لكن للحاكم أن
يطالبه إذا رأى اجتهاده إليه، وخاف هربه، وقد سبق في الضمان قول إن كفالة البدن
باطلة، وبالله التوفيق.
الباب الثالث في اليمين
فيه أطراف:
الأول في نفس الحلف، وصيغ الايمان مستوفاة في موضعها، والمقصود الآن
بيان قاعدتين
إحداهما: أن للتغليظ مدخلا في الايمان المشروعة في الدعاوي مبالغة
في الزجر وفيه مسائل: الأولى التغليظ يقع بوجوده، أحدها التغليظ اللفظي، وهو
ضربان، أحدهما: التعديد، وهو مخصوص باللعان والقسامة، وواجب فيهما،
الثاني: زيادة الأسماء والصفات، بأن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب
والشهادة، الرحمن الرحيم، الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، أو والله
الطالب الغالب، المدرك، المهلك، الذي يعلم السر وأخفى، وهذا الضرب
مستحب، فلو اقتصر على: الله كفى، واستحب الشافعي رحمه الله أن يقرأ
309

على الحالف * (إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا) * الآية وأن يحضر
المصحف، ويوضع في حجر الحالف، وذكر بعضهم أنه يحلف قائما زيادة في
التغليظ. والوجه الثاني: التغلظ بالمكان، والثالث: التغليظ بالزمان، وهما
مفصلان في كتاب اللعان. وهل التغليظ بالمكان مستحب، أم واجب لا يعتد
بالحلف في غيره قولان، أظهرهما: الأول، وقيل: مستحب قطعا، والتغليظ
بالزمان مستحب، وقيل كالمكان، ورأي الامام طرد الخلاف في الضرب الثاني من
التغليظ اللفظي، ومن وجوه التغليظ المذكورة في اللعان التغليظ بحضور جمع،
ولم يذكروه هنا، ويشبه أن يقال: الايمان المتعلقة بإثبات حد، أو دفعه يكون
التغليظ فيها بالجمع، كما هو في اللعان.
قلت: الصواب القطع بأنه لا يعتبر هنا. والله أعلم.
ثم التغليظ هل يتوقف على طلب الخصم، أم يغلظ القاضي وإن لم يطلب
الخصم؟ وجهان، أصحهما: الثاني، حكاه ابن كج، ويشبه أن يجريا، سواء قلنا
بالاستحباب أو بالايجاب.
المسألة الثانية: يجري التغليظ في دعوى الدم والنكاح، والطلاق والرجعة،
والايلاء واللعان، والعتق والحد، والولاء والوكالة والوصاية، وكل ما ليس بمال،
ويقصد منه المال حتى يجري في الولادة والرضاع، وعيوب النساء، وليس
قبول شهادة النساء فيها منفردات لقلة خطرها، بل لأن الرجال لا يطلعون عليها
غالبا، وتوقف الامام في الوكالة، وأما الأموال فيجري التغليظ في كثيرها وهو نصاب
الزكاة عشرون دينارا أو مائتا درهم، وأما قليلها وهو ما دون ذلك، فلا تغليظ فيه إلا
310

أن يرى القاضي التغليظ لجرأة الحالف، فله التغليظ. وعن ابن القطان وجه غريب
أن المال الواجب بجناية عمدا وخطأ يغلظ فيه وإن قل.
الثالثة: ما جرى فيه التغليظ يستوي فيه يمين المدعى عليه، واليمين
المردودة، واليمين مع الشاهد، وقد يقتضي الحال تغليظ اليمين من أحد الطرفين
دون الآخر مثل ان ادعى عبد على سيده عتقا، أو كتابة فأنكر السيد، فإن بلغت قيمته
نصابا، غلظ عليه، وإلا فلا، فإن نكل، غلظ على العبد بكل حال، والوقف من
جانب المدعى عليه لا تغليظ فيه إلا إذا بلغ نصابا، وكذا من جانب المدعي إن أثبتناه
بشاهد ويمين، وإن لم نثبته بهما، غلظ كالعتق، وفي وجه ما غلظ من طرف غلظ
من الآخر، والصحيح الأول، وإذا ادعى الزوج الخلع على مال، وأنكرته حصلت
البينونة بقوله، وتصدق الزوجة في إنكار المال بيمينها، وينظر في التغليظ إلى قلة
المال وكثرته، فإن ردت اليمين، وحلف الزوج، فكذلك، لأن مقصوده المال،
وإن ادعت هي الخلع، وأنكر، غلظ عليه، لا مقصوده استدامة النكاح، وإن نكل،
فحلفت غلظ، لأن مقصودها الفراق.
الرابعة: من به مرض أو زمانة، لا يغلظ عليه في المكان لعذره، وكذا
الحائض، إذ لا يمكنها اللبث في المسجد، والمرأة المخدرة في إحضارها مجلس
الحكم خلاف سبق، فإن أحضرت، فكالرجل في التغليظ، وإن قلنا: لا تحضر،
بل يبعث القاضي من يحكم بينها وبين خصمها، فإن اقتضى الحال تحليفها، فهل
يغلظ عليها بالمكان، وتكلف حضور الجامع أم لا؟ وجهان، أصحهما: نعم، وبه
أجاب الشيخ أبو حامد، ومتابعوه والغزالي.
311

فرع من توجهت عليه يمين مغلظة، وكان حلف بالطلاق أن لا يحلف يمينا
مغلظة، فإن قلنا: التغليظ واجب، غلظ ويحنث، وإن امتنع، جعل ناكلا، وإن
قلنا: مستحب، لم يغلظ. عليه إتلاف ثوب قيمته عشرة، فإن قال في الجواب: ما
أتلفت، يحلف.
القاعدة الثانية: يشترط كون اليمين مطابقة للانكار، فإن ادعى كذلك، وإن
قال: لا يلزمني شئ، حلف كذلك، ويشترط وقوعها بعد تحليف القاضي، فلو
حلف قبله، لم يعتد به، فلو قال الحاكم في تحليفه: قل: بالله، فقال: بالرحمن، لم
يكن مجيبا، وكان نكولا. ولو قال: قل: بالله، فقال: والله، أو تالله، فهل هو
نكول كالصورة الأولى أم لا، لأنه حلف بالاسم الذي حلفه به؟ وجهان،
ويجريان فيهما لو غلظ عليه باللفظ، فامتنع، واقتصر على قوله: والله، وفيما لو
أراد التغليظ بالزمان والمكان فامتنع، فقال القفال في امتناعه من التغليظ اللفظي:
الأصح أنه نأكل، لأنه ليس له رد اجتهاد القاضي، وقطع بعضهم بأنه نأكل في
الامتناع من المكاني والزماني دون اللفظي.
الطرف الثاني: في كيفية الحلف، فإن حلف على فعل نفسه، حلف على
البت، سواء كان يثبته أم ينفيه، لأنه يعلم حال نفسه، وإن حلف على فعل
غيره، فإن حلف على إثباته، حلف على البت، وإن حلف على نفيه، حلف انه لا
يعلمه، وقد يختصر، فيقال: اليمين على البت إلا إذا حلف على نفي فعل
غيره، فإذا ادعي عليه مال، فأنكر حلف على البت، وإن حلف على نفيه،
312

حلف على البت، فإن ادعى إبراء أو قضاء، وأنكر المدعي، حلف على البت، ولو
ادعى على وارث على رجل أن لمورثي عليك كذا، فقال المدعى عليه: أبرأني، أو
قضيته، حلف المدعي على نفي العلم بإبراء المورث وقبضه، ولو كان في يده دار،
فقال رجل: غصبها مني أبوك أو بائعك، فأنكر، حلف على نفي العلم لغصبه، ولو
ادعى رجل وارث الميت دينا على الميت، لم يكف ذكر الدين ووصفه، بل
يذكر مع ذلك موت من عليه، وأنه حصل في يده من التركة ما يفي بجميعه أو
ببعضه، وأن يعلم دينه على مورثه، وهكذا كل ما يحلف المنكر فيه على العلم
يشترط في الدعوى عليه التعرض للعلم، فيقول: غصب مني مورثك كذا، وأنت
تعلم أنه غصبه، ثم إذا تعرض لجميع ذلك، فإن أنكر الوارث الدين، حلف على
نفي العلم، فإن نكل، حلف المدعي على البت، وإن أنكر موت من عليه، فهل
يحلف على نفي العلم، أم على البت، لأن الظاهر اطلاعه عليه، أم يفرق بين
تعهده حاضرا، أم غائبا؟ فيه أوجه، أصحها: الأول، وإن أنكر حصول التركة
عنده، حلف على البت، وإن أنكر الدين، وحصول التركة معا وأراد أن يحلف على
نفي التركة وحده، وأراد المدعي تحليفه على نفي التركة، ونفي العلم بالدين
جميعا، حلف عليهما، لأن له غرضا في إثبات الدين، فلعله يظفر بوديعة للميت أو
دين فيأخذ منه حقه. ولو ادعى على رجل أن عبدك جنى علي بما يوجب كذا،
وأنكر فهل يحلف على نفي العلم أم على البت؟ وجهان، أصحهما: الثاني،
313

لأن عبده ماله، وفعله كفعله، ولذلك سمعت الدعوى عليه، ولو ادعى أن بهيمتك
أتلفت لي زرعا أو غيره حيث يجب الضمان، فأنكر، حلف على البت، لأنه لا ذمة
لها، والمالك لا يضمن بفعل البهيمة، بل بتقصيره في حفظها وهو أمر يتعلق
بالحالف، ولو نصب البائع وكيلا، ليقبض الثمن، ويسلم المبيع، فقال له
المشتري: إن موكلك أذن في تسليم المبيع، وترك حق الجنس، وأنت تعلم، فهل
يحلف على البت، أم على نفي العلم؟ قولان اختيار أبي زيد البت، لأنه يثبت
لنفسه استحقاق اليد على المبيع.
قلت: نفي العلم أقوى. والله أعلم.
ولو طلب البائع تسليم المبيع، فادعى حدوث عجز عنه، وقال للمشتري:
أنت عالم به، فأنكر، حلف على البت، لأنه يستبقي بيمينه وجوب تسليم المبيع
إليه، ولو مات عن ابن في الظاهر، فقال آخر: أنا أخوك والميراث بيننا، فأنكر،
حلف على البت، لأن الأخوة رابطة بينهما، فهو حالف في نفسه، هكذا ذكر
الصورتين ابن القاص، ونازعه آخرون، وقالوا: يحلف على نفي العلم.
قلت: نفي العلم هو الصحيح. والله أعلم.
فرع ما حلف فيه على البت لا يشترط لجوازه اليقين، بل يجوز البت بناء
على ظن مؤكد يحصل من خطه أو خط أبيه، أو نكول خصمه.
فرع لو استحلفه القاضي على البت حيث يكون اليمين بنفي العلم، فقد
مال عن العدل.
314

فرع النظر في اليمين إلى نية القاضي المستحلف وعقيدته، وأما النية
والتورية والتأويل على خلاف قصد القاضي لا يغني، ولا يدفع إثم اليمين
الفاجرة، ولو استثنى، أو وصل باللفظ شرطا بقلبه ونيته أو بلسانه، ولم يسمعه الحاكم،
فكذلك، وإن سمعه، عزره، وأعاد اليمين عليه، وإن وصله بكلام، لم يفهمه
القاضي منعه منه، وأعاد اليمين عليه، فإن قال: كنت أذكر الله تعالى قيل له: ليس
هذا وقته، وأما العقيدة، فإذا ادعى حنفي على شافعي شفعة الجار، والقاضي يرى
إثباتها، وأنكر المدعى عليه، فليس له أن يحلف عملا باعتقاده، بل عليه اتباع
القاضي، ويلزمه في الظاهر ما ألزمه القاضي، وهل يلزمه في الباطن؟ وجهان،
الصحيح باتفاقهم: نعم، والثاني: لا، وعن صاحب التقريب أن القضاء في
المجتهد فيه ينفذ في حق المقلد ظاهرا وباطنا، ولا ينفذ في حق المجتهد باطنا، فلو
حلفه المجتهد على حسب اجتهاده لم يأثم.
315

قلت: هذا إذا حلفه القاضي أو نائبه، أما إذا حلف الانسان ابتداء، أو حلفه
غير القاضي من قاهر، أو خصم، أو غيرهما، فالاعتبار بنية الحالف بلا خلاف،
وينفعه التورية قطعا، سواء حلف بالله تعالى، أو بطلاق وعتاق وغيرهما صرح به
الماوردي، ونقله ابن الصباغ عن الأصحاب ذكراه في كتاب الطلاق. والله
أعلم.
الطرف الثالث: في الحالف، وهو كل من يتوجه عليه دعوى صحيحة، وقيل:
كل من توجهت عليه دعوى لو أقر لمطلوبها ألزم به، فإذا أنكر، حلف عليه، وقبل
منه، ويستثنى عن هذا الضبط صور، فنذكرها مع ما يدخل فيه ويخرج منه،
إحداها: يجزئ التحليف في النكاح والطلاق والرجعة والفيأة، وفي الايلاء، وفي
العتق والاستيلاد، والولاء، والنسب، ولا تسمع دعوى في حدود الله تعالى، ولا
يطلب الجواب، لأنها ليست حقا للمدعي، فإن تعلق به حق آدمي، بأن قذفه،
فطلب حد القذف، فقال القاذف: حلفوه انه لم يزن فالأصح أنه يحلف، كما سبق
في المسألة الثالثة من الباب الأول، فإن حلف، أقيم على القاذف، وإن نكل،
وحلف القاذف، سقط حد القذف، ولا يثبت بحلفه حد الزنى على المقذوف ولو
ادعى سرقة ماله، سمعت دعواه للمال، وحلف المدعى عليه، فإن نكل، حلف
المدعي، واستحق المال، ولا يقطع المدعى عليه، لأن حدود الله تعالى لا تثبت
باليمين المردودة، وإذا أقر بما يوجب حدا، وادعى شبهة بأن وطئ جارية أبيه،
وقال: ظننتها تحل لي، وهو ممن يجوز أن يشتبه عليه مثله، حلف وسقط بحلفه
الحد، ولزم المهر، وتسمع الدعوى. ويجري التحليف في القصاص وحد
القذف، وكذا في الشتم، والضرب الموجبين للتعزير.
316

الثانية: ادعى على القاضي أنه ظلمه في الحكم، أو على الشاهد أنه تعمد
الكذب أو الغلط، أو ادعى عليه ما يسقط شهادته، لم يحلفا، لارتفاع منصبهما عن
التحليف، وقد سبق هذا في الباب الأول، وفي أول أدب القضاء، ولو ادعى على
المعزول أنه حكم أيام قضائه عليه ظلما، وأنكر، فقد سبق وجهان في أنه يحلف
أم يصدق بلا يمين وهو الأصح، هذا في دعوى تتعلق بالحكم، وأما ما لا يتعلق
بالحكم، كدعوى مال وغيره، فهو كسائر الناس في الخصومات الشرعية يحكم فيها
بينه وبين المدعي خليفته، أو قاض آخر.
الثالثة: الصبي إذا ادعى البلوغ بالاحتلام في وقت الامكان، صدق بلا
يمين، كما سبق في الاقرار، ومن ادعى عليه بشئ، فقال: أنا صبي بعد وهو
محتمل، لم يحلف، وتوقف الخصومة حتى يبلغ، وإن وقع في السبي من أنبت،
وقال: استنبت الشعر بالعلاج، وأنا غير بالغ، بني على القولين السابقين في الحجر
أن إنبات العانة نفس البلوغ أم علامته، إن قلنا بالأول، فلا حاصل لكلامه، وإن
قلنا بالثاني وهو الأظهر فالمنصوص المعروف في المذهب أنه يحلف وهو مشكل من
جهة أنه يدعي الصبي، وتحليف من يدعى الصبي لا وجه له، كما سبق في
الاقرار، فقال ابن القطان والقفال: هذا التحليف احتياط واستظهار، ومقتضى كلام
الجمهور أنه واجب، وصرح به الروياني، ونفى الخلاف فيه، واعتمدوا في تحليفه
الانبات، وقالوا: كيف نتر ك الدليل الظاهر بزعم مجرد؟ فإذا حلف، ألحق
بالصبيان، وحقن دمه، وإن نكل، فالمنصوص أنه يقتل، والثاني: يخلى،
والثالث: يحبس حتى يحلف أو يقر، والرابع: يحبس حتى يتحقق بلوغه، ثم
يحلف على ما ادعاه من الاستعجال، فإن لم يحلف قتلناه.
الرابعة: ادعى رجل دينا على ميت، أو أنه أوصى له بشئ، وللميت وصي
في قضاء دينه، وتنفيذ وصاياه، فأنكر، فإن كان للمدعي بينة، حكم بها، وإن لم
يكن وأراد تحليف الوصي على نفي العلم، لم يمكن، لأن مقصود التحليف أن
يقر، والوصي لا يقبل إقراره بالدين والوصية، فلا معنى لتحليفه، فلو كان وارثا،
317

حلف بحق الوراثة وقيم القاضي كالوصي.
فرع على إنسان حق لرجل، فطلبه به رجل، وزعم أنه وكيل المستحق،
ولم يقم بينة، وأراد تحليفه على نفي العلم بالوكالة، لم يكن له، لأنه لو اعترف
بالوكالة، لم يلزمه تسليم الحق، هذا هو المذهب، وسبق في الوكالة وجه أنه يلزمه
التسليم، وعلى هذا له تحليفه، وان له تحليفه، وإن لم يلزمه التسليم باعترافه إذا
قلنا: اليمين المردودة كالبينة.
فرع هل للوكيل بالخصومة إقامة بينة على وكالته من غير حضور الخصم؟
وجهان، حكاهما الامام عن القاضي حسين اشتراطه، وغيره منعه، وقد سبق في
الوكالة أن الامام حكى عن القاضي حسين أنه إذا كان الخصم غائبا، نصب الحاكم
مسخرا عنه، كان المراد هنا إذا كان حاضرا في البلد، وهناك إذا كان غائبا،
والأصح سماع البينة من غير حاجة إلى حضوره، ولا إلى نصب مسخر، ولو وكل
بالخصومة في مجلس الحكم، استغنى عن حجة يقيمها إن كان الخصم حاضرا فإن
لم يكن، فيبنى على أن القاضي هل يقضي بعلمه؟
الطرف الرابع: فائدة اليمين وحكمها، وهو انقطاع الخصومة، والمطالبة في
الحال، لا سقوط الحق وبراءة الذمة، فلو أقام المدعي بينة بعد حلف المدعى
عليه، سمعت، وقضى بها، وكذا لو ردت اليمين على المدعي، فنكل، ثم أقام
بينة، وهذا إذا لم يتعرض وقت التحليف للبينة، فإن كان قال حينئذ: لا بينة لي
حاضرة ولا غائبة، فهذه الصورة ذكرناها في الطرف الثاني من الباب الثاني من
أدب القضاء مضمومة، إلى ما لو اقتصر على قوله: لا بينة لي، وفيهما خلاف،
والأصح السماع أيضا، وذكرنا هناك أنه لو قال: لا بينة لي حاضرة، ثم أقام بينة
سمعت، فلعلها حضرت، وأنه لو قال: لي بينة ولا أقيمها، بل أردت يمينه، أجابه
القاضي، وحلف المدعى عليه، هذا هو الأصح. وفي فتاوى القفال أنه لا يجيبه،
بل يقول: أحضر البينة.
318

فرع أقام المدعي بدعواه شهودا، ثم قال: كذب شهودي، أو شهدوا
مبطلين، فلا شك في سقوط بينته، وامتناع الحكم، وفي بطلان دعواه وجهان،
أحدهما: يبطل، كما لو كذب نفسه، فليس له أن يقيم بعد ذلك بينة أخرى،
وأصحهما: لا، لاحتمال كونه محقا في دعواه والشهود مبطلين لشهادتهم بما
لا يعلمون، وفي مثل هذا قال الله تعالى: * (والله يعلم إنك لرسوله، والله يشهد إن
المنافقين لكاذبون) * وبني على الوجهين ما لو أقام المدعي شهودا، فزعم
المدعى عليه أن المدعي أقر بأن شهوده كذبة، وأقام عليه شاهدا، وأراد أن يحلف
معه هل يمكن، ويحكم بشاهده ويمينه، إن قلنا: هذا الاقرار لا يبطل أصل
الدعوى، فلا، لأن المقصود حينئذ الطعن في الشهود، وإخراج شهادتهم عن أن
يحكم بها، وجرح الشهود، والطعن فيهم لا يثبت بشاهد ويمين، وإن كانت
الشهادة بمال، وإن قلنا: يبطلها، مكن، لأن المقصود حينئذ إسقاط الدعوى
بالمال، فهو كادعاء الابراء بشاهد ويمين.
فروع في فتاوى القفال وغيره: أقام شاهدين في حادثة، وكانا استباعا
الدار منه، بطلت شهادتهما، ولو أقام شاهدين بأن هذه الدار ملكه، وأقام
المشهود عليه شاهدين بأن شاهدي المدعي قالا: لا شهادة لنا في ذلك سألهما
الحاكم متى قال ذلك شاهدي المدعي؟ فإن قالا: قالاه أمس، أو من شهر، لم
تندفع شهادتهما بذلك، لأنهما قد لا يكونان شاهدين، ثم يصيران. وإن قالا: قالا
حين تصديا لإقامة الشهادة، اندفعت شهادتهما. ولو أقام المشهود عليه بشاهدين
319

أن المدعي، أقر بأن شاهديه شربا الخمر وقت كذا، فإن طالت المدة بينه وبين أداء
الشهادة، لم يقتض ذلك رد الشهادة، وإن قصرت، ردت شهادتهما، وإن شهدا أنه
أقر بأنهما شربا الخمر من غير تعيين وقت، سئل المدعي عن وقته، وحكم بما
يقتضيه تعيينه، ولو أقام المدعي بينة، ثم قال للقاضي: لا تحكم بشئ حتى
تحلفه، بطلت بينته، لأنه كالمعترف بأنها مما لا يجوز الحكم بها.
قلت: هذا مشكل، فقد يقصد تحليفه ليقيم البينة، ويظهر إقدامه على
يمين فاجرة، أو غير ذلك من المقاصد التي لا تقتضي قدحا في البينة، فينبغي أن
لا تبطل البينة. والله أعلم.
فصل إذا طلب المدعي يمين المدعى عليه عند الحاكم، فقال للحاكم:
قد حلفني مرة على هذا بطلبه، فليس له تحليفي، فإن حفظ القاضي ما قاله، لم
يحلفه ومنع المدعي مما طلب، وإن لم يحفظه، حلفه، ولا ينفعه إقامة البينة
عليه، لما سبق أن القاضي متى تذكر حكمه أمضاه، وإلا فلا يعتمد بينة، وعن ابن
القاص جواز سماع البينة فيه، حكاه الهروي ومقتضاه الطرد في كل باب، وإن قال:
حلفني عند قاض آخر وأطلق، وأراد تحليفه على ذلك، فوجهان، قال ابن القاص
بالمنع، إذ لا يؤمن أن يدعي المدعي أنه حلفه على أنه ما حلفه، وهكذا فيدور
الامر، ولا ينفصل، وأصحهما، وبه قطع البغوي وغيره يمكن منه، لأنه محتمل غير
مستبعد، ولا يسمع مثل ذلك من المدعي، لئلا يتسلسل، فعلى هذا إن كانت له
320

بينة أقامها وتخلص عن الخصومة، وإن استمهل ليقيم، فقياس البينات الدوافع أن
يمهل ثلاثة أيام، وعن القاضي حسين أنه لا يمهل أكثر من يوم، وإن لم يكن بينة،
حلف المدعي أنه ما جلفه، ثم يطلب المال، فإن نكل، حلف المدعى عليه،
وسقطت الدعوى. فلو أراد أن يحلف يمين الأصل لا يمين التحليف المردودة عليه،
قال البغوي: ليس له ذلك إلا بعد استئناف الدعوى، لأنها الآن في دعوى أخرى.
ولو قال المدعي فجواب المدعى عليه: حلفني مرة على أني ما حلفته، وأراد
تحليفه، لم يجب، لأنه يؤدي إلى ما لا يتناهى، ولو ادعى مالا على رجل، فأنكر
وحلف، ثم قال المدعي بعد أيام: حلفت يومئذ، لأنك كنت معسرا لا يلزمك
تسليم شئ إلي وقد أيسرت الآن فهل يسمع لامكانه، أم لا لئلا يتسلسل؟
وجهان.
قلت: الأصح أنه يسمع إلا إذا تكرر. والله أعلم.
فرع إنما يحلف المدعى عليه إذا طلب المدعي يمينه، فإن لم يطلب،
ولم يقلع عن المخاصمة، لم يحلفه القاضي، ولو حلف لم يعتد بتلك اليمين
وقال القفال الشاشي: لا يتوقف التحليف على طلبه، والصحيح الأول، ولو امتنع
من تحليفه بالدعوى السابقة، جاز، لأنه لم يسقط حقه من اليمين، فإن قال:
أبرأتك عن اليمين، سقط حقه من اليمين في هذه الدعوى، وله استئناف الدعوى
321

وتحليفه.
الباب الرابع في النكول
إذا أنكر المدعى عليه، واستحلف، فنكل عن اليمين، لم يقض عليه
بالنكول، بل ترد على المدعي، فإن حلف قضى له، فإن لم يعرف المدعى
، تحول اليمين إليه بنكول المدعى عليه عرف القاضي، وبين أنه إن حلف استحق،
وإنما يحصل النكول بأن يعرض القاضي اليمين عليه، فيمتنع، وفسر العرض بأن
يقول: قل والله، والامتناع بأن يقول: لا أحلف، أو أنا نأكل، قال الامام: قوله:
قل: والله ليس أمرا جازما، وإنما المراد بيان وقت اليمين المعتمد بها على
المدعي، ولو قال: أتحلف بالله، وقال: لا، فليس بنكول، ولو بدر حين سمع
هذه الكلمة وحلف، لم يعتد بيمينه، لأنه استنجاز لا استحلاف. ولو قال له
احلف، فقال: لا أحلف، قال البغوي: ليس بنكول، وقال الامام: نكول وهو
أوضح، ولا فرق بين قوله: قل: بالله، وقوله: أحلف بالله، ولو استحلف، فلم
يحلف، ولا تلفظ بأنه نأكل أو ممتنع، فسكوته نكول، كما أن السكوت عن الجواب
في الابتداء يجعل كالانكار، ثم ذكر الامام وغيره أنه إن صرح بالنكول، لم يشترط
حكم القاضي بأنه نأكل، وإن سكت حكم القاضي بأنه نأكل ليرتب عليه رد اليمين،
وقول القاضي للمدعي: احلف نازل منزلة قوله: حكمت بأن المدعى عليه نأكل،
وإنما يحكم بأنه نأكل بالسكوت إذا لم يظهر كون السكوت لدهشة وغباوة ونحوهما،
ويستحب للقاضي أن يعرض اليمين على المدعى عليه ثلاث مرات، والاستحباب
فيما إذا سكت أكثر منه فيما إذا صرح بالنكول، ولو تفرس فيه سلامة جانب، شرح له
حكم النكول، وإن لم يشرح، وحكم بأنه نأكل، وقال المدعى عليه: لم أعرف
النكول، ففي نفوذ الحكم احتمالان للامام أصحهما النفوذ. وكان من حقه أن يسأل
ويعرف قبل أن ينكل، ولو أراد المدعى عليه بعد الامتناع أن يعود، فيحلف، نظر
322

إن كان ذلك بعد أن حكم القاضي بأنه نأكل، أو قال للمدعي: احلف، لم يكن له
الحلف، وإن أقبل عليه ليحلفه، ولم يقبل بعد ما حلف، فهل هو كما لو قال:
احلف؟ وجهان، وإن لم يجر شئ من ذلك، فله الحلف حتى لو هرب المدعى
عليه قبل أن يحكم القاضي بأنه نأكل، وقبل أن يعرض اليمين على المدعي، لم
يكن للمدعى أن يحلف اليمين المردودة، وكان للمدعى عليه أن يحلف إذا عاد،
هكذا أطلق البغوي وغيره، ومقتضاه التسوية بين التصريح بالنكول، وبين السكوت
حتى لا يمتنع من العود إلى اليمين في الحالين إلا بعد الحكم بالنكول، أو بعد
عرض اليمين على المدعي، وفي التصريح احتمال، وحيث منعناه العود إلى
الحلف، فذلك إذا لم يرض به المدعي، فإن رضي، فله العود إليه على الأصح،
لأن الحق لا يعدوهما، فلو رضي بأن يحلف المدعى عليه والحالة هذه، فلم
يحلف، لم يكن للمدعي أن يعود إلى يمين، الرد، لأنه أبطل حقه برضاه بيمين
المدعى عليه.
فرع نقل الروياني أن قول القاضي للمدعي: أتحلف أنت؟ كقوله:
احلف حتى لا يتمكن المدعى عليه من الحلف بعد ذلك، قال: وعندي فيه
نظر.
فصل المدعي إذا ردت اليمين عليه قد يحلف، وقد يمتنع، فإن حلف،
استحق المدعى، وهل يمينه بعد نكول المدعى عليه كالبينة، أم كإقرار المدعى
عليه؟ فيه قولان، أظهرهما الثاني، ويتفرع عليهما مسائل كثيرة مذكورة في
مواضعها. ومنها أن المدعى عليه لو أقام بينة بالأداء، أو الابراء بعد ما حلف
المدعي، فإن قلنا: يمينه كالبينة، سمعت بينة المدعى عليه، وإن قلنا:
323

كالاقرار، فلا، لكونه مكذبا للبينة بالاقرار، وهل يجب الحق بفراغ المدعي من
اليمين المردودة، أم لا بد من حكم الحاكم بالحق؟ وجهان، حكاهما الهروي،
الأرجح الأول، أما إذا امتنع المدعي من الحلف، فيسأله القاضي عن امتناعه، فإن
لم يتعلل بشئ أو قال: لا أريد الحلف، فهذا نكول يسقط حقه من اليمين، وليس
له مطالبة الخصم وملازمته، وهل يتمكن من استئناف الدعوى، وتحليفه في
مجلس آخر، فإن نكل، حلف المدعي، أم لا يتمكن من ذلك، ولا ينفعه بعده إلا
البينة؟ وجهان، الذي ذكره العراقيون، والهروي، والروياني الأول، وبالثاني قال
الامام والغزالي والبغوي، وهو أحسن وأصح، لئلا تتكرر دعواه في القضية
الواحدة، وإن ذكر المدعي لامتناعه سببا، فقال: أريد أن آتي بالبينة أو أسأل
الفقهاء، أو أنظر في الحساب، ترك ولم يبطل حقه من اليمين وهل تقدر مدة
324

الامهال بثلاثة أيام؟ وجهان، أصحهما: نعم، لئلا تطول مدافعته، والثاني:
لا تقدير، لأن اليمين حقه، فله تأخيره إلى أن يشاء كالبينة. ولم يذكر الشافعي
رحمه الله فيما إذا امتنع المدعى عليه من اليمين أنه يسأل عن سبب امتناعه، فقال ابن
القاص: قياس ما ذكره في امتناع المدعي أن يسأل المدعى عليه عن سبب امتناعه
أيضا، وامتنع عامة الأصحاب من هذا الالحاق فارقين بأن امتناع المدعي عليه أثبت
للمدعي حق الحلف، والحكم بيمينه، فلا يؤخر حقه بالسؤال، وامتناع المدعي
لا يثبت حقا لغيره، فلا يضر السؤال. ولو قال المدعى عليه حين استحلف:
أمهلوني لأنظر في الحساب، أو أسأل الفقهاء، فهل يمهل ثلاثة أيام، أم لا يمهل
شيئا إلا برضى المدعي؟ وجهان، أصحهما وأشهرهما الثاني، لأنه مقهور محمول
على الاقرار، أو اليمين بخلاف المدعي، فإنه مختار في طلب حقه وتأخيره، ولو
استمهل المدعى عليه في ابتداء الجواب لينظر في الحساب، وذكر الهروي أنه ينظر
إلى آخر المجلس إن شاء. ولو علل المدعي امتناعه بعذر كما ذكرنا، ثم عاد بعد
مدة ليحلف، مكن منه، وإن لم يتذكر القاضي نكول خصمه، أثبته بالبينة، وكذا لو
أثبت عند قاض آخر نكول خصمه له أن يحلف، وكذا لو نكل المدعى عليه في
جواب وكيل المدعي، ثم حضر الموكل له أن يحلف، ولا يحتاج إلى استئناف
دعوى، ولو أقام المدعي شاهدا ليحلف معه، فلم يحلف، فهو كما لو ارتدت
اليمين، إليه، فلم يحلف، فإن علل امتناعه بعذر، عاد الوجهان في أنه على خيرته
أبدا، أم لا يزاد على ثلاثة أيام؟ وإن لم يعلل بشئ، أو صرح بالنكول، فقد ذكر
الغزالي والبغوي أنه يبطل حقه من الحلف، وليس له العود إليه، واستمر العراقيون
على ما ذكروه هناك، قال الأصحاب: لو امتنع من الحلف مع شاهده، واستحلف
الخصم، انقلبت اليمين من جانبه إلى جانب صاحبه، فليس له أن يعود ويحلف إلا
إذا استأنف الدعوى في مجلس آخر، وأقام الشاهد، فله أن يحلف معه، وعلى
الأول لا ينفعه إلا بينة كاملة.
فصل ما ذكرناه من أنه يرد اليمين على المدعي، ولا يقضى على المدعى
325

عليه بالنكول هو الأصل المقرر في المذهب، لكن قد يتعذر رد اليمين، وحينئذ من
الأصحاب من يقول بالقضاء بالنكول، وبيانه بصور، إحداها طولب صاحب المال
بالزكاة، فقال: بادلت بالنصاب في أثناء الحول، أو دفعت الزكاة إلى ساع آخر، أو
غلط الخارص في الخرص، أو أصاب الثمر جائحة، واتهمه الساعي، فيحلف على
ما يدعيه إيجابا أو استحبابا على الخلاف السابق في كتاب الزكاة، فإن نكل، لم
يطالب بشئ إن قلنا بالاستحباب، وإن قلنا بالايجاب، فإن انحصر المستحقون في
البلد، وقلنا بامتناع النقل، ردت اليمين عليهم، وإلا فيتعذر الرد على الساعي
والسلطان، وفيما يفعل أوجه، أحدها: لا يطالب بشئ إذا لم تقم عليه حجة،
والثاني: يحبس حتى يقر، فيؤخذ منه، أو يحلف، فيترك، والثالث إن كان
صاحب المال على صورة المدعي بأن قال: أديت في بلد آخر، أو إلى ساع آخر،
أخذت منه الزكاة، وإن كان على صورة المدعى عليه بأن قال: ما تم حولي أو الذي
في يدي لفلان المكاتب، لم يؤخذ منه. والرابع - وهو الأصح الأشهر - يؤخذ منه
الزكاة، وكيف سبيله؟ وجهان قال ابن القاص: هو حكم بالنكول، ورواه عن ابن
سريج، وسببه الضرورة، وقال الجمهور: ليس حكما بالنكول، لكن مقتضى ملك
النصاب، ومقتضى الحول الوجوب، فإذا لم يثبت دافع، أخذنا الزكاة.
الثانية: إذا مات ذمي في أثناء السنة، فهل عليه قسط ما مضى، أم لا شئ
عليه؟ قولان سبقا، فلو غاب ذمي، ثم عاد مسلما، فقال: أسلمت قبل تمام
السنة، فليس علي جزية، أو ليس تمامها، وقال عامل الجزية: بل أسلمت
بعدها، فعليك تمام الجزية، حلف الذي أسلم استحبابا في وجه، وإيجابا في
وجه، فإن قلنا بالايجاب فنكل، فهل يقضى عليه بالجزية، أم لا يطالب بشئ، أم
يحبس ليقر، فيؤخذ منه، أو يحلف، فيترك؟ فيه أوجه. قال الامام: وقيد ابن
القاص بما إذا غاب، ثم عاد مسلما، وظاهر هذا أنه لو كان عندنا، وصادفناه مسلما
بعد السنة، وادعى أنه أسلم قبل تمامها، وكتم إسلامه، لم يقبل قوله، لان
326

الظاهر أن من أسلم بدار الاسلام لم يكتمه.
الثالثة: ولد المرتزقة إذا ادعى البلوغ بالاحتلام، وطلب إثبات اسمه في
الديوان، فوجهان، أحدهما: يصدقه بلا يمين، لأنه إن كان كاذبا، فكيف نحلفه
وهو صبي؟ وإن كان صادقا، وجب تصديقه، وأصحهما: يحلف عند التهمة، فإن
نكل، لم يثبت اسمه إلى أن يظهر بلوغه، ويقرب منه أن من شهد الوقعة من
المراهقين إذا ادعى الاحتلام، وطلب سهم المقاتلة، أعطي إن حلف، وإلا
فوجهان، أحدهما: يعطى، ثم قيل: هو إعطاء، لأن احتلامه لا يعرف
إلا منه، فصدق فيه، كما تصدق المرأة في الحيض، ويقع الطلاق المعلق عليه،
وقيل: لأن شهود الوقعة تقتضي استحقاقهم السهم، وأصحهما: لا يعطى، قال ابن
القاص: وهو قضاء بالنكول، وقال غيره: إنما لم يعط، لأن حجته في الاعطاء
اليمين ولم توجد.
الرابعة: مات من لا وارث له، فادعى القاضي، أو منصوبه دينا له على رجل
وجده في تذكرته، فأنكر المدعى عليه، ونكل، فهل يقضى عليه بالنكول،
ويؤخذ منه المال، أم يحبس حتى يقر، أو يحلف، أم يترك لكن يأثم إن كان
معاندا؟ فيه ثلاثة أوجه، ويجري فيما لو ادعى ولي صبي ميت على وارثه أنه
أوصى بثلثه للفقراء، وأنكر الوارث، ونكل. ولو ادعى ولي صبي، أو مجنون دينا
له على رجل، فأنكر، ونكل، ففي رد اليمين على الولي أوجه، أحدهما: ترد،
لأنه المستوفي، والثاني: لا، لأن إثبات الحق لغير الحالف بعيد. والثالث: إن
ادعى ثبوته بسبب باشره بنفسه، ردت، وإلا فلا، وأجري الخلاف فيما لو أقام
327

شاهدا هل يحلف معه، وفيما لو ادعي على الولي دين في ذمة الصبي هل يحلف
الولي إذا أنكر. والوصي والقيم في ذلك كالولي، ويجري في قيم المسجد والوقف
إذا ادعى للمسجد أو للوقف، وأنكر المدعى عليه، ونكل. وتحليف الولي والصبي
سبق لهما ذكر في آخر كتاب الصداق، ثم ميل الأكثرين إلى ترجيح المنع من الأوجه
الثلاثة، ولا بأس بوجه التفصيل، وقد رجحه أبو الحسن العبادي، وبه أجاب
السرخسي في الأمالي، فإن منعنا رد اليمين إلى الولي والوصي، انتظرنا بلوغ
الصبي، وإفاقة المجنون، وكتب القاضي المحضر بنكول المدعى عليه، وتصير
اليمين موقوفة على البلوغ، والإفاقة، ويعود في قيم المسجد والوقف الوجهان في
أنه يقضى لا بالنكول، أم يحبس ليحلف أو يقر، والأصح في مسألة من لا وارث له أن
يقضى بالنكول، بل يحبس ليحلف أو يقر، وإنما حكمنا فيما قبلها من الصور
بالمال، لأنه سبق أصل يقتضي الوجوب، ولم يظهر دافع. ولو ادعى قيم المحجور
عليه، ونكل المدعى عليه، حلف المحجور عليه أنه يلزمه تسليم هذا المال، ولكن
لا يقول إلي، وقيمه يقول في الدعوى: يلزمك تسليمه إلي.
الخامسة: للقاذف أن يحلف المقذوف أنه لم يزن كما سبق، فإن نكل،
فالصحيح الذي قطع به الجمهور أنه يرد اليمين على القاذف، فإن حلف، اندفع عنه
حد القذف، وقيل: يسقط بنكوله حد القذف ولا يرد اليمين، حكاه الهروي.
الباب الخامس في البينة
أما صفة الشهود، فسبق بيانها في الشهادات، والمقصود هنا بيان حكم
تعارض البينتين، وتعارضهما قد يقع في الاملاك، وقد يقع في غيرها، كالعقود،
والموت، والوصية، ويشتمل الباب على أربعة أطراف:
الأول في الاملاك، فإذا تعارضتا فيه، فإما أن يفقد أسباب الرجحان، وإما
لا، القسم الأول أن يفقد، فإما أن يكون المدعى في يد ثالث، وإما في
328

أيديهما، ولا يدخل في هذا القسم ما إذا كان في يد أحدهما، لأن ذلك من
أسباب الرجحان.
الحالة الأولى: إذا ادعى اثنان عينا في يد ثالث، فلا يخفى أن المدعى عليه
يحلف لكل واحد منهما يمينا إن ادعاها لنفسه، ولا بينة لواحد منهما، وأنه لو اختص
أحدهما ببينة على ما يدعيه، قضي له، وإن أقام كل واحد بينة، تعارضتا، وفيهما
قولان أظهرهما: يسقطان، فكأنه لا بينة فيصار إلى التحليف، والثاني:
يستعملان، فينتزع العين ممن هي في يده.
ثم في كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال، أحدها: تقسم العين المدعاة بينهما،
والثاني: توقف إلى تبين الامر أو يصطلحا، والثالث: يقرع، فيأخذها من خرجت
قرعته، وهل يحتاج معها إلى يمين؟ قولان، أحدهما لا، والقرعة مرجحة
لبينته، والثاني نعم، والقرعة تجعل أحدهما أحق باليمين، فعلى هذا يحلف من
خرجت قرعته أن شهوده شهدوا بالحق، ثم يقضي له، ثم قيل القولان في الأصل
فيما إذا لم تتكاذب البينتان صريحا، فإن تكاذبتا، سقطتا قطعا، والأشهر طردهما
329

في الحالين، وصريح التكاذب أن لا يمكن الجمع بتأويل، بأن شهدت إحداهما
بقتله في وقت، والأخرى بجناية في ذلك الوقت، فإن أمكن الجمع بتأويل، فليس
تكاذبا بأن شهدت هذه أنه ملك زيد، وهذه أنه ملك عمرو، فإنه يحتمل أن كل
واحدة علمت سببا، كشراء ووصية، واستصحب حكمه، أو شهدت هذه بأنه أوصى
به لزيد، وهذه أنه أوصى به لعمرو، فإنه يحتمل الايصاء مرتين، وقيل: القولان إذا
لم يمكن الجمع، فإن أمكن قسم قطعا، وقيل: إن لم يمكن سقطتا قطعا وإلا
استعملتا قطعا، كما في الوصية وقيل: يبقى قول التوقيف، وقيل: لا تجتمع
الأقوال الثلاثة بل موضع القسمة إذا أمكن الجمع، والقرعة إذا لم يمكن، والمذهب
ما سبق، فلو تنازعا في زوجية امرأة، أقام كل واحد بينة، وتعارضتا، فقول السقوط
بحاله، ولا مجال للقسمة، ولا للقرعة على الأصح، ويجئ الوقف على الصحيح
لو أقر صاحب اليد لأحدهما بعدما أقاما البينتين، إن قلنا بالسقوط، قبل إقراره
، وحكم به، وإن قلنا بالاستعمال، فوجهان، أحدهما: يصير المقر له كصاحب يد،
فترجح بينته، والثاني: لا، لأن يده بعد البينة مستحقة الإزالة، وإن أقر قبل
تمام البينتين قبل إقراره قطعا، وصار المقر له صاحب يد.
الحالة الثانية: أن تكون العين في يدهما وادعاها كل واحد، فإن أقامتا
بينتين، فطريقان، أحدهما - وبه قال الفوراني والغزالي - يجئ القولان في السقوط
والاستعمال، فإن أسقطنا، بقي المال في أيديهما كما كان، وإن استعملنا، فعلى
قول القسمة يجعل بينهما، ولا يجئ الوقف، وفي القرعة وجهان، والثاني - وبه
قال ابن الصباغ والبغوي - يجعل المال بينهما، لأن بينة كل واحد ترجحت في
النصف الذي في يده، والحاصل للفتوى من الطريقين بقاء المال في يدهما كما
كان، ولو شهدت بينة كل واحد له بالنصف الذي في يد صاحبه، حكم القاضي لكل
منهما بما في يد صاحبه، ويكون المال في يدهما أيضا، كما كان، لكن لا لجهة
السقوط، ولا بالترجيح باليد، ثم قال الأئمة: من أقام البينة أولا، وتعرض شهوده
للكل، لم يضر وإن كان صاحب يد في النصف الذي في يده، وقلنا: بينة صاحب
330

اليد لا تسمع ابتداء كما سيأتي الخلاف فيه إن شاء الله تعالى، لأن هنا غير مستغن
عن البينة للنصف الذي يدعيه، ثم إذا أقام الثاني البينة على الكل، سمعت،
وترجحت بينته في النصف الذي في يده، فيحتاج الأول إلى إعادة البينة للنصف
الذي في يده، وقال في الوسيط: لا يبعد أن يتساهل في الإعادة، وإن كان
لأحدهما بينة دون الآخر، قضى له بالكل، سواء شهد شهوده بالكل، أم بالنصف
الذي في يد صاحبه، وإن لم يكن لواحد منهما بينة، فكل واحد مدع في نصف،
ومدعى عليه في نصف، فيحلف كل واحد على نفي ما يدعيه الآخر، ولا يتعرض
واحد منهما في يمينه، لاثبات ما في يده، بل يقتصر على أنه لاحق لصاحبه فيما في
يده، نص عليه وهو المذهب، ومنه خلاف سبق في باب التحالف في البيع، فإن
حلفا، أو نكلا، ترك المال في يدهما كما كان، وإن حلف أحدهما دون الآخر،
قضى للحالف بالكل، ثم إن حلف الذي بدأ القاضي بتحليفه، ونكل الآخر بعده،
حلف الأول اليمين المردودة. وإن نكل الأول، ورغب الثاني في اليمين، فقد
اجتمع عليه يمين النفي للنصف الذي ادعاه صاحبه، ويمين الاثبات للنصف الذي
ادعاه هو، فهل يكفيه الآن يمين واحد يجمع فيها النفي والاثبات أم لا بد من يمين
للنفي، وأخرى للاثبات؟ وجهان، أصحهما: الأول، فيحلف أن الجميع له،
ولا حق لصاحبه فيه، أو يقول: لا حق له في النصف الذي يدعيه، والنصف الآخر
لي.
فرع ادعى نصف دار، وادعى آخر كلها، وأقام كل واحد بينة، والدار في
331

يد ثالث، تعارضتا في النصف، فإن قلنا بالسقوط، سقطتا في النصف الذي فيه
التعارض، وأما النصف الآخر، ففيه طريقان، قال ابن سريج، وأبو إسحاق
وغيرهما: فيه قولا تبعيض الشهادة، فإن بعضناها، سلم ذلك النصف لمدعي
الكل، وإلا بطلت في ذلك النصف أيضا، وصار كما لو لم تكن بينة، والثاني - وبه
قال الشيخ أبو حامد، وصححه الشيخ أبو علي -: يسلم إليه النصف قطعا، وإن قلنا
بالاستعمال، سلم النصف لمدعي الكل، ويقسم النصف الآخر إن قلنا بالقسمة،
وإن قلنا بالقرعة أو بالوقف، أقرع في النصف أو وقف، ولو تداعيا كذلك، والدار
في يدهما، فالقول قول مدعي النصف في النصف الذي في يده، فإن أقام مدعي
الكل بينة، قضي له الكل، وإن أقام كل واحد بينة بما يدعيه، بقيت الدار في
يدهما كما كانت. ولو ادعى أحدهما بالكل، والآخر الثلث، فإن كان في يد ثالث،
فعلى قول السقوط تسقطان في الثلث. وهل تبطل بينة الكل في الثلثين؟ فيه
الطريقان السابقان، وعلى الاستعمال تجري الأقوال الثلاثة، وإن كانت في
يدهما، وأقام كل واحد بينة بما يدعي، فلمدعي الثلث، الثلث، والباقي لمدعي
الكل.
دار في يد رجل ادعى زيد نصفها، فصدقه، وعمرو نصفها، فكذبه صاحب
اليد وزيد معا، ولم يدعه أحد منهما لنفسه، فالنصف الذي يدعيه المكذب هل
يسلم إليه أم يوقف في يد صاحب اليد، أم ينتزعه ويحفظ إلى ظهور مالكه؟ فيه ثلاثة
أوجه، حكاها الفوراني.
قلت: أقواها الثالث. والله أعلم.
فرع ادعى رجل دارا وآخر ثلثيها، وآخر نصفها، ورابع ثلثها، وهي في
332

يد خامس، وأقام كل واحد من الأربعة بينة بدعواه فلا تعارض في الثلث الذي
يختص مدعي الكل بدعواه، وفي الباقي يقع التعارض، فالسدس الزائد على
النصف يتعارض فيه بينة مدعي الكل، ومدعي الثلثين، وفي السدس الزائد على
الثلث يتعارض بينهما، وبين مدعي النصف، وفي الثلث الباقي تتعارض بينات
الأربعة، فإن قلنا بالسقوط، سقطت البينات في الثلثين، وأما الثلث، ففيه الطريقان
في تبعيض الشهادة، والمذهب أنه يسلم لمدعي الكل، وإن قلنا بالاستعمال، فإن
قسمنا، فالسدس الزائد علي النصف بين مدعي الكل، ومدعي الثلثين بالسوية،
والسدس الزائد على الثلث لهما، ولمدعي النصف أثلاثا، والثلث الباقي للأربعة
أرباعا، فيجعل ستة وثلاثين سهما لحاجتنا إلى عدد ينقسم سدسه على اثنين وعلى
ثلاثة، فيضرب اثنين في ستة، ثم في ثلاثة، فلمدعي الكل ثلثها وهو اثنا عشر،
ونصف السدس الزائد على النصف هو ثلاثة، وثلث السدس الزائد وهو اثنان،
وربع الثلث الباقي وهو ثلاثة، فالجملة عشرون وهي خمسة أتساع الدار، ولمدعي
الثلثين ثلاثة من السدس الزائد على النصف، وسهمان من السدس الزائد على
النصف، وسهمان من السدس الزائد على الثلث، وثلاثة من الثلث الباقي،
فالجملة ثمانية هي تسعا الدار، ولمدعي النصف سهمان من السدس الزائد على
الثلث، وثلاثة من الثلث الباقي، ولمدعي الثلث ثلاثة من الثلث الباقي، وإن قلنا
بالقرعة، أقرع ثلاث مرات، مرة في السدس الزائد على النصف بين مدعي الكل،
ومدعي الثلثين، وأخرى في السدس الزائد على الثلث بينهما، وبين مدعي الكل،
ومدعي الثلثين، وأجري في السدس الزائد الثلث بينهما وبين مدعي النصف،
وأجري في الثلث بين الأربعة. وإن قلنا بالوقف توقفنا، وإن كانت الدار في يد
المتداعيين الأربعة، وأقام كل واحد بينة، جعلت بينهم أرباعا لأن بينة كل واحد
ترجح في الربع الذي في يده اليد، وإن لم يكن بينة، فالقول قول كل واحد في
الربع الذي في يده، فإذا حلفوا كانت بينهم أرباعا أيضا.
فرع دار في يد ثلاثة، ادعى أحدهم نصفها، وآخر ثلثها، وثالث
سدسها، ولا بينة جعلت بينهم أثلاثا، نص عليه في المختصر واعترض عليه
333

بأن مدعي السدس لا يدعي غيره، فكيف يعطى الثلث، فأجاب الأصحاب بأن
صورة النص فيما إذا ادعى كل واحد منهم استحقاق اليد في جميعها إلا أن الأول
يقول: النصف ملكي والنصف الآخر لفلان الغائب، وهو في يدي عارية أو
وريعة، والآخران يقولان نحو ذلك، فكل واحد منهم صاحب اليد في الثلث،
وتبقى الدار في أيديهم كما كانت، ثم جعل نصف الثلث الذي في يد مدعي السدس
لذلك الغائب بحكم الاقرار، فأما إذا اقتصر كل واحد منهم على أن لي منها كذا،
فلا يعطي لمدعي السدس إلا السدس، ولا يتحقق بينهم والحال هذه نزاع، ولو أقام
كل واحد منهم بينة على ما يدعيه لنفسه، حكم المدعي الثلث بالثلث، لأن له فيه
بينة ويدا، ولمدعي السدس بالسدس لمثل ذلك، وفيما يحكم به لمدعي النصف
وجهان، أحدهما بالنصف، لأن له في الثلث يدا وبينة، وفي السدس الباقي بينة،
والآخران لا يدعيانه، والثاني بالثلث ونصف السدس، والأول أصح، وبه أجاب ابن
كج والقفال، ثم مدعي الثلث، ومدعي السدس لا يحتاجان إلى إقامة البينة في
الابتداء، ولكن مدعي النصف يحتاج إلى إقامتها للسدس الزائد على ما في يده،
ويتصور إقامة البينة من جهتهم فيما إذا أقام مدعي النصف، ثم أقام الآخران على
نحو ما ذكرنا في الفرع الأول، ويجوز أن يفرض من مدعي السدس إقامة البنية على
أن السدس للغائب مع إقامة البنية على أن السدس له بناء على أن المدعى عليه إذا
أقر بما في يده للغائب يجوز له إقامة البينة على أنه للغائب، وقد سبق بيانه.
فرع دار في يد ثلاثة ادعى أحدهم كلها، وآخر نصفها، والثالث ثلثها،
وأقام واحد من الأولين بينة بما ادعاه دون الثالث، فلمدعي الكل الثلث بالبينة
وباليد، ولمدعي النصف كذلك، ثم لمدعي الكل أيضا نصف ما في يد الثالث ببينته
السليمة عن المعارض، وفي النصف الآخر تتعارض بينته وبينة مدعي النصف،
فإن قلنا بالسقوط، فالقول قول الثالث فهذا السدس، وفي بطلان البينتين فيما
سوى هذا السدس الطريقان السابقان في تبعيض الشهادة، وإن قلنا بالاستعمال، لم
الاقراع والتوقف، وإن قلنا بالقسم، قسم بينهما هذا السدس بالسوية، فيصير
334

لمدعي الكل النصف ونصف السدس، ولمدعي النصف الباقي هكذا أورد المسألة
الشيخ أبو علي وغيره.
القسم الثاني: أن تتعارض البينتان، وهناك ما يرجح أحدهما، فيعمل
بالراجحة، وللرجحان أسباب: أحدها أن تختص، إحداهما بزيادة قوة، وفيه صور
إحداها: لو أقام أحدهما شاهدين، والآخر شاهدا، وحلف معه، فقولان،
أحدهما: يتعادلان، وأظهرهما: يرجح الشاهدان، لأنها حجة بالاجماع، وأبعد
عن تهمته بالكذب في يمينه، فعلى هذا لكان مع صاحب الشاهد واليمين يد، فهل
يرجح صاحب اليد، أم صاحب الشاهدين، أم يتعادلان؟ أوجه، أصحها الأول،
وحكى البغوي الأولين قولين.
الثانية: لو زاد عد الشهود في أحد الجانبين، أو زاد ورعهم، فالمذهب أنه
لا ترجيح، وقيل قولان، وفي الرواية يثبت الترجيح بذلك، وقيل: هي
كالشهادة، والمذهب الفرق، لأن الشهادة نصابا فيتبع ولا ضبط للرواية،
فيعمل بأرجح الظنين.
الثالثة: أقام أحدهما رجلا وامرأتين، والآخر رجلين، فلا يرجح الرجلان
على المذهب، وقيل: قولان، السبب الثاني: اليد، فإذا ادعى عينا في يد غيره،
وأقام بينة أنها ملكه وأقام من هي في يده بينة أنها ملكه، رجحت بينة من هي في
يده على بينة الخارج، وهل يشترط في سماع بينة الداخل أن يبين سبب الملك
335

من شراء أو إرث وغيرهما؟ وجهان، أحدهما: نعم لأنهما ربما اعتمدا ظاهر اليد،
وأصحهما: لا، كبينة الخارج، فإنها تسمع مطلقة مع احتمال أنهم اعتمدوا يدا
سابقة، ولا فرق في ترجيح بينة الداخل بين أن يبين الداخل والخارج سبب الملك
أو يطلقا، ولا بين إسناد البينتين، وإطلاقهما إذا سمعنا بينة الداخل مطلقة. ولو
تعرضنا للسبب، فلا فرق بين أن يتفق السببان، أو يختلفا، ولا بين أن يسند الملك
إلى شخص، بأن يقول: كل واحد اشتريته من زيد، أو يسند إلى شخصين وفيما إذا
أسند إلى شخص واحد أنهما يتساويان، لأنهما اتفقا على أن اليد كانت لثالث، وكل
واحد يدعي الانتقال منه.
فرع متى تسمع بينة الداخل، لها أربعة أحوال، أحدها: أن يقيمها قبل
أن يدعى عليه شئ، فالصحيح أنها لا تسمع، لأن البينة إنما تقام على خصم،
وقيل: تسمع لغرض التسجيل. الثاني: يقيمها بعد الدعوى عليه، وقبل أن يقيم
المدعي بينة، فالأصح أنها لا تسمع أيضا، لأن الأصل في جانبه اليمين، فلا يعدل
عنها ما دامت كافية، وقال ابن سريج: تسمع بينته لدفع اليمين كالمودع تسمع
بينته على الرد والتلف، وإن كفته اليمين. الثالث: يقيمها بعد أن أقام الخارج
البينة، لكن قبل أن يعدلها، فوجهان، أحدهما: لا تسمع، لأنه مستغن عنها
بعد، وأصحهما تسمع، ويحكم بها، لأن يده بعد البينة معرضة للزوال، فيحتاج
إلى تأكيدها. الرابع: يقيمها بعد بينة المدعي وتعديلها، فقد أقامها في أوان
إقامتها، فإن لم يقمها حتى قضى القاضي للمدعي، وسلم المال إليه، نظر إن لم
336

يسند الملك إلى ما قبل إزالة اليد، فهو الآن مدع خارج، وإن أسنحه، واعتذر بغيبة
الشهود ونحوها، فهل تسمح بينته، وهل تقدم باليد المزالة بالقضاء،؟ وجهان،
أصحهما: نعم، وينقض القضاء الأول، لأنها إنما أزيلت، لعدم الحجة، وقد
ظهرت الحجة، فلو أقام البينة بعد الحكم للمدعي، وقبل التسليم إليه، سمعت
بينته، وقدمت على الصحيح لبقاء اليد حسا.
فرع هل يشترط أن يحلف الداخل مع بينته، ليقضى له؟ وجهان، أو
قولان، أصحهما: لا، كما لا يحلف الخارج مع بينته، وبنوا الخلاف على خلاف
في أن القضاء للداخل باليد، أم بالبينة المرجحة باليد، إن قلنا باليد، حلف، وإلا
فلا.
فرع إذا أطلق الخارج دعوى الملك، وأقام بينة، وقال الداخل: هو
ملكي اشتريته منك، وأقام به بينة، فالداخل أولى، لأن مع بينته زيادة علم، وهو
الانتقال، ولأنه عند الاطلاق مقدم، فهنا أولى، ولو قال الخارج: هو ملكي ورثته
من أبي، وقال الداخل: ملكي اشتريته من أبيك، فكذلك الحكم، ولو انعكست
الصور، فقال الخارج: هو ملكي، اشتريته منك، وأقام بينة، وأقام الداخل بينة
أنه ملكه، فالخارج أولى لزيادة علم بينته، ولو قال كل واحد لصاحبه: اشتريته
منك، وأقام به بينة، وخفي التاريخ، فالداخل أولى، ثم في الصورة الأولى، وهي
أن يطلق الخارج، ويقول الداخل: اشتريته منك لا تزال يد الداخل قبل إقامته
337

البينة. وقال القاضي حسين: تزال، ويؤمر بالتسليم إلى المدعي، لاعترافه بأنه كان
له، ثم يثبت ما يدعيه من الشراء، والصحيح الأول، لأن البينة إذا كانت حاضرة،
فالتأخير إلى إقامتها سهل، فلا معنى للانتزاع والرد، فلو زعم أن بينته غائبة لم
يتوقف، بل يؤمر في الحال بالتسليم، ثم إن أثبت ما يدعيه، استرد، ويجري
الخلاف فيما لو ادعى دينا، فقال المدعى عليه: أبرأني، وأراد إقامة البينة،
لا يكلف توفية الدين على قول الأكثرين، وعلى قول القاضي يكلف، ثم إن أثبت ما
يقول، استرد.
فصل من أقر بعين لرجل، ثم ادعاها لا تسمع دعواه إلا أن تذكر تلقي
الملك منه، ولو أخذت منه ببينة، ثم ادعاها هل يحتاج إلى ذكر التلقي؟ وجهان،
أحدهما: نعم، لأنه صار مؤاخذا بالبينة، كما لو أقر، وأصحهما: لا،
كالأجنبي، ولا خلاف أنه لو ادعى عليه أجنبي وأطلق، سمعت.
فروع أكثرها عن ابن سريج رحمه الله. أقام الخارج بينة أن هذه العين
ملكي غصبها مني الداخل، أو قال: أجرتها له، أو أودعها عنده، وأقام الداخل بينة
أنها ملكه، فهل يقدم الخارج أم الداخل؟ وجهان، الأصح: الخارج، وبه قال ابن
سريج، وصححه العراقيون، وبه أجاب الهروي، وخالفهم البغوي، فصحح
تقديم الداخل، فلو لم تكن بينة، ونكل الداخل عن اليمين، فحلف الخارج،
وحكم له، ثم جاء الداخل ببينة، سمعت على الصحيح، كما لو أقامها بعد بينة
الخارج، وقيل: لا تسمع بناء على أن اليمين المردودة كالاقرار، ولو تنازعا شاة
مذبوحة في يد أحدهما رأسها وجلدها وسواقطها، وفي يد الآخر باقيها، وأقام كل
338

واحد بينة أن الشاة له، قضي لكل واحد بما في يده، ولو كان في يد كل واحد شاة،
فادعى كل واحد أن الشاتين له، وأقاما بينتين تعارضتا، فلكل واحد التي في يده،
لاعتقاد بينته باليد. وإن أقام كل واحد بينة أن التي في يد الآخر ملكه قضي لكل واحد
بما في يد الآخر.
السبب الثالث: اشتمال أحدهما على زيادة تاريخ، فإذا أرختا، نظر إن اتفق
تاريخهما، فلا ترجيح، وإن اختلف، بأن شهدت بينة زيد أنه ملكه منذ سنة، وبينة
عمرو أنه ملكه منذ سنتين، فهل تتعارضان، أم يقدم أسبقهما تاريخا؟ طريقان،
المذهب التقديم، ويطرد الخلاف في بينتي شخصين تنازعا نكاح امرأة إذا اختلف
تاريخهما، وفيما إذا تعارضتا مع اختلاف التاريخ لسبب الملك، بأن أقام أحدهما
بينة أنه اشتراه من زيد منذ سنة، والآخر أنه اشتراه من عمرو منذ سنتين، فلو نسبا
العقدين إلى شخص واحد، فأقام هذا بينة أنه اشتراه من زيد منذ سنة، وذاك بينة أنه
اشتراه من زيد منذ سنتين، فالسابق أولى بلا خلاف، وطردوا الخلاف أيضا فيما
إذا تنازعا أرضا مزروعة، فأقام أحدهما بينة أنها أرضه زرعها، والآخر أنها ملكه
مطلقا، لأن بينة الزرع تثبت الملك من وقت الزراعة. هكذا ذكره البغوي، وفيه
تصريح بأن سبق التاريخ لا يشترط أن يكون بزمان معلوم حتى لو قامت بينة أنه ملكه
منذ سنة، وبينة الآخر أنه ملكه من أكثر من سنة كان فيه الخلاف، فإن رجحنا بسبق
التاريخ، حكمنا بها لصاحب السبق، وله الأجرة والزيادات الحادثة من يومئذ، وإن
لم نرجح به، ففيه الخلاف السابق في أصل التعارض، وإن كانت إحداها
339

مؤرخة، والأخرى مطلقة، فالمذهب أنهما سواء فتتعارضان، وقيل: تقدم
المؤرخة. ولو تنازعا دابة، فأقام أحدهما بينة أنها ملكه، والآخر بينة أنها ملكه،
وهو الذي نتجها، قال الأكثرون: هو على الخلاف في سبق التاريخ، وطردوه في
كل بينتين أطلقت إحداهما الملك، ونصت الأخرى على سببه من إرث وشراء
وغيره، وقيل: تقدم بينة النتاج قطعا، لأنها تثبت ابتداء الملك له، والتي سبق
تاريخها لا تثبت ابتداء ملكه، وهذا التوجيه يقتضي اطراد الطريقين فيما لو تنازعا ثمرة
وحنطة، فشهدت إحداهما بأنها حدثت من شجرته، أو بذرته، ولا يقتضي جريان
القطع فيما لو تعرضت إحداهما للشراء وسائر الأسباب، لأنها لا توجب ابتداء ملكه،
ثم المسألة من أصلها مفروضة فيما إذا كان المدعى في يد ثالث، فلو كان في يد
أحدهما، وقامت بينتان مختلفتا التاريخ، فإن كانت بينة الداخل أسبق تاريخا،
قدمت قطعا، وإن كانت بينة الخارج أسبق، فإن لم نجعل سبق التاريخ مرجحا،
قدم الداخل، وإن جعلناه مرجحا، فهل يقدم الداخل أم الخارج، أم يتساويان؟
أوجه، أصحها: الأول.
فصل ادعى دارا، أو عبدا، أو نحوه في يد رجل، فشهدت له بينة
بالملك في الشهر الماضي، أو بالأمس، ولم يتعرض للحال، نقل المزني والربيع
أنها لا تسمع، ولا يحكم بها، ونقل البويطي أنها تسمع، ويحكم بها، وقال
الجمهور: هما قولان، أظهرهما، المنع، والطريق الثاني القطع بالمنع، ويجري
الخلاف فيما لو ادعى اليد، وشهدوا أنه كان في يده أمس، فإذا قلنا بالمنع، فينبغي
للشاهد أن يشهد على الملك في الحال، أو يقول: كان ملكه ولم يزل، أو لا أعلم
له مزيلا، ولا يجوز أن يشهد بالملك في الحال استصحابا لحكم ما عرفه من قبل،
كشراء وإرث وغيرهما، وإن احتمل زواله، فلو صرح في شهادته أنه يعتمد
340

الاستصحاب، فوجهان، قال الغزالي: قال الأصحاب: لا يقبل،
كما لا تقبل شهادة الرضاع على امتصاص الثدي، وحركة الحلقوم. وقال القاضي حسين،
تقبل، لأنا نعلم أنه لا مستند له سواه، ولو قال: لا أدري أزال ملكه، أم لا، لم
يقبل قطعا، لأنها صيغة مرتاب بعيدة عن أداء الشهادة، ولو شهدت بينة بأنه أقر أمس
للمدعي بالملك، قبلت الشهادة، واستديم حكم الاقرار، وإن لم يصرح الشاهد
بالملك في الحال وقيل بطرد القولين، والمذهب الأول لئلا تبطل فائدة الأقارير.
ولو قال المدعى عليه: كان ملكك أمس، فوجهان، أحدهما: لا يؤاخذ به، كما لو
قامت بينة بأنه كان ملكه أمس، وأصحهما، وبه قطع ابن الصباغ: يؤاخذ، فينتزع
، منه، كما لو شهدت البينة أنه أقر أمس، والفرق أن الاقرار لا يكون إلا عن تحقيق،
والشاهد قد يتساهل ويخمن، فلو أسند الشهادة إلى تحقيق، بأن قال الشاهد: هو
ملكه بالأمس، اشتراه من المدعى عليه بالأمس، أو أقر له به المدعى عليه بالأمس،
قبلت الشهادة، ولو قال: كان في يدك أمس، فهل يؤاخذ بإقراره؟ وجهان،
حكاهما ابن الصباغ.
قلت: الأصح المنع. والله أعلم.
فإذا عرفت ما يحتاج إليه الشاهد إلى التعرض له على قولنا: لا تسمع الشهادة
على الملك السابق، فكذلك إذا قلنا: الشهادة على اليد السابقة لا تسمع، فينبغي
أن يتعرض الشاهد لزيادة، فيقول: كان في يد المدعي، وأخذه المدعى عليه منه،
أو غصبه، أو قهره عليه، أو بعث العبد في شغل، فأبق منه، فاعترضه هذا،
وأخذه، فحينئذ تقبل الشهاد ويقضى بها للمدعي، ويجعل صاحب يد.
فرع قد ذكرنا أن الشهود لو قالوا: ولا نعلم زوال ملكه، قبلت شهادتهم،
ثم نقل ابن المنذر أن الشافعي رحمه الله قال: يحلف المدعي مع البينة، فإن ذكروا
مع ذلك أنه غاصب، فلا حاجة إلى اليمين، قال الهروي: هذا غريب.
341

فرع دار في يد رجل ادعاها آخران، وأقام أحدهما بينة أنها له، غصبها
منه المدعى عليه، وأقام الآخر بينة أن من في يده أقر بها له، فلا منافاة بينهما،
فثبت الملك والغصب بالبينة الأولى، ويلغو إقرار الغاصب لغير المغصوب منه.
فصل بينة المدعي لا توجب ثبوت الملك له، ولكنها تظهره فيجب أن
يكون الملك سابقا على إقامتها، لكن لا يشترط السبق بزمان طويل يكفي لصدق
الشهود لحظة لطيفة، ولا يقدر ما لا ضرورة إليه، فلو أقام بينة بملك دابة أو شجرة،
لم يستحق النتاج والثمرة الحاصلين قبل إقامة البينة، والثمرة الظاهرة عند إقامة البينة
تبقى للمدعى عليه، وفي الحمل الموجود عند إقامتها وجهان، أصحهما:
يستحقه المدعي تبعا للام، كما في العقود، والثاني: لا، لاحتمال كونه لغير مالك
الام بوصية. ومقتضى هذا الأصل أن من اشترى شيئا، فادعاه مدع، وأخذه منه
بحجة مطلقة لا يرجع على بائعه بالثمن، لاحتمال انتقال الملك من المشتري إلى
المدعي، وتكون المبايعة صحيحة مصادفة محلها، لكن الذي أطبق عليه الأصحاب
ثبوت الرجوع، بل لو باع المشتري أو وهب، وانتزع المال من المتهب أو المشتري
منه، كان للمشتري الأول الرجوع أيضا، وسبب الحاجة إليه في عهدة العقود، ولان
الأصل أن لا معاملة بين المشتري والمدعي، ولا انتقال منه، فيستدام الملك
المشهود به إلى ما قبل الشراء، وعن القاضي حسين وجه أنه لا رجوع إذا كان دعوى
المدعي ملكا سابقا وفاء بالأصل المذكور، وحمل ما أطلقه الأصحاب عليه، وحكى
الهروي وجها أن قيام البينة يقتضي سبق الملك حتى يكون النتاج للمدعي.
342

فرع المشتري من المشتري إذا استحق المال في يده، وانتزع منه، ولم
يظفر ببائعه، هل له أن يطالب الأول بالثمن؟ في فتاوى القاضي حسين: الأصح أنه
لا يطالبه.
فصل ادعى ملكا مطلقا، فشهد الشهود بالملك، وذكروا سببه، لم
يضر، فلو أراد المدعي تقديم بينته بذكر السبب بناء على أن ذكر السبب مرجح، لم
يكف للترجيح تعرضهم للسبب أولا، لوقوعه قبل الدعوى والاستشهاد، بل يدعى
الملك وسببه، ثم يعيدون الشهادة، فحينئذ ترجح بينته، وقيل: لا حاجة إلى إعادة
البينة، وتكفي الشهادة على ما هو المقصود واقعة بعد الدعوى والاستشهاد، ولو
ادعى الملك، وذكر سببه، وشهدوا بالملك، ولم يذكروا السبب، قبلت
شهادتهم، لأنهم شهدوا بالمقصود، ولا تناقض، ولو ادعي الملك وسببه، وذكر
الشهود سببا آخر، فالصحيح بطلان شهادتهم، للتناقض، وقيل: تقبل على أصل
الملك، ويلغو السبب، ولو شهد شاهد بألف عن ثمن، وآخر بألف عن قرض،
والدعوى مطلقة، فقد سبق في الاقرار أنه لا يثبت بشهادتهما شئ، وقياس الوجه
الثاني على ضعفه ثبوت الألف.
فرع في يده دار حكم له حاكم بملكها، فادعى خارج انتقال الملك منه
إليه، وشهدوا بانتقاله إليه بسبب صحيح، ولم يبينوه، قال الهروي: وقعت هذه
المسألة، فأفتى فيها فقهاء همدان بسماع الدعوى، والحكم بها للخارج، كما لو
عينوا السبب، وكذا أفتى الماوردي، والقاضي أبو الطيب، قال: وميلي إلى أنها
لا تسمع ما لم يبينوا، وهو طريقة القفال وغيره، لأن أسباب الانتقال مختلف فيها بين
العلماء، فصار كالشهادة بأن فلانا وارث لا يقبل ما لم يبين جهة الإرث.
الطرف الثاني في العقود، وفيه أربع مسائل:
343

الأولى: إذا قال المكري: أكريتك هذا البيت شهر كذا بعشرة، فقال:
اكتريت جميع الدار بالعشرة، فإن لم يكن بينة تحالفا، ثم يفسخ العقد أو ينفسخ
على ما سبق في باب التحالف، وعلى المستأجر أجرة مثل ما سكن في الدار أو
البيت، فلو أقام أحدهما بينة دون الآخر، قضي بالبينة، فإن أقاما بينتين، فقولان
، وقيل: وجهان أحدهما خرجه ابن سريج، تقدم بينة المستأجر، لاشتمالهما على
زيادة وهي اكترا جميع الدار، وأظهرهما، وهو المنصوص: يتعارضان، فيكون
على قولي التعارض، وإن قلنا: بالسقوط، تحالفا، وإن قلنا: بالاستعمال، جازت
القرعة على الصحيح، وفي اليمين معها الخلاف السابق. وقال ابن سلمة:
لا يقرع، لأن القرعة عند تساوي الجانبين، ولا تساوي، لأن جانب المكري أقوى
لملك الرقبة، وأما الوقف والقسمة، فلا يجبان هكذا أطبق عليه الأصحاب، وفيه
إشكال، ونقل الماسرجسي قولا أنه تجئ القسمة في الملك، والوقف في الأجرة.
ولو اختلفا والزيادة في جانب المكري، بأن قال: أكريتك بعشرين، قال: بل
بعشرة، فقول التعارض بحاله، وعلى تخريج ابن سريج: بينة المكري راجحة
للزيادة. ويطرد ما ذكره في اختلاف المتبايعين إذا كان في بينة أحدهما زيادة، ولو
وجدت الزيادة في الجانبين بأن قال: أكريتك هذا البيت بعشرين، فقال: بل جميع
الدار بعشرة، فلابن سريج رأيان، الصحيح منهما: الرجوع إلى التعارض،
والثاني: الاخذ بالزيادة من الجانبين، فيجعل جميع مكري بعشرين، وهذا فاسد،
لأنه خلاف قول المتداعيين، والشهود، ثم قال العراقيون والروياني وغيرهم: هذا
إذا كانت البينتان مطلقتين، أو إحداهما مطلقة، أو اتفق تاريخهما، فإن اختلف بأن
شهدت إحداهما أن كذا مكري من سنة من أول رمضان، والأخرى من أول شوال،
فقولان، أظهرهما وبه قطع العراقيون والروياني تقدم أسبقهما تاريخا، لأن العقد
السابق صحيح، ولا مخالفة، والثاني تقدم المتأخرة، لأن العقد الثاني ناسخ،
وربما تخللت إقالة، قال صاحب التقريب وغيره: موضع القولين إذا لم يتفقا
على أنه لم يجر إلا عقد، فإن اتفقا عليه، تعارضتا.
المسألة الثانية: في يده دار جاء رجلان ادعى كل واحد منهما أني اشتريتها من
صاحب اليد بكذا، وسلمت الثمن، وطالبه بتسليم الدار، فإن أقر لأحدهما،
سلمت الدار إليه، وهل يحلف الآخر؟ قال الشيخ أبو الفرج: إن قلنا إتلاف البائع
344

كآفة سماوية، فلا وإن قلنا: كإتلاف الأجنبي، وأثبتنا الخيار، فأجاز، وأراد
أن يطلب من البائع قيمتها، بني التحليف على الخلاف في أنه لو أقر للثاني بعد
الاقرار الأول هل يغرم فيحلف أم لا؟ فلا وقد سبق نظائره، وللآخر أن يدعي الثمن فإنه
كهلاك المبيع قبل القبض في زعمه، وإن أنكر ما ادعيا ولا بينة، حلف لكل واحد
يمينا، وبقيت الدار في يده، وإن أقام أحدهما بينة، سلمت الدار إليه، وليس
للآخر تحليفه لتغريم العين، لأنه لم يفوتها عليه، إنما أخذت بالبينة، وله دعوى
الثمن، وإن أقاما بينتين،، نظر، إن كانتا مؤرختين بتاريخ مختلف، قدم أسبقهما تاريخا،
وإن لم تكونا كذلك، فله حالان، الأولى أن يستمر صاحب اليد على التكذيب،
فيتعارضان، فإن قلنا بالسقوط سقطتا، وحلف المدعى عليه لكل واحد منهما،
كما لو لم يكن بينة، وهل لهما استرداد الثمن؟ وجهان، أصحهما: نعم، هذا
إذا لم تتعرض البينة لقبض المبيع، فإن تعرضت، فلا رجوع بالثمن، لأن العقد
استقر بالقبض، وليس على البائع عهدة ما يحدث بعده، وإن قلنا: بالاستعمال،
فالأشهر أنه لا يجئ الوقف، والأصح مجيئه، فتنزع الدار من يده، والثمنان،
ويوقف الجميع، وإن قلنا بالقرعة، فمن خرجت قرعته، سلمت إليه الدار بالثمن
الذي سماه، واسترد الآخر الثمن الذي أداه، وإن قلنا بالقسمة، فلكل واحد منهما
نصف الدار بنصف الثمن الذي سماه، ولهما خيار الفسخ، لأنه لم يسلم جميع
المعقود عليه، فإن فسخا استردا جميع الثمن المشهود به، وإن أجاز، استرد كل
345

واحد نصف الثمن المشهود به بناء على الأظهر، وهو أن الإجازة بالقسط، ويجوز أن
يجيز أحدهما، ويفسخ الآخر، ويسترد جميع الثمن. ثم إن سبقت الإجازة
الفسخ، رجع المجيز بنصف الثمن، وليس له أن يأخذ النصف المردود، ويضمه
إلى ما عنده، لأنه حين أجاز، رضي بالنصف، وإن سبق الفسخ الإجازة، فهل
للمجيز أخذ الجميع؟ وجهان، أحدهما: لا، لأنا نفرع على قول القسمة، فلا
يأخذ إلا ما اقتضته، والمردود يعود إلى البائع، وأصحهما، وبه قطع العراقيون له
ذلك، لأن بينته قامت بالجمع، وقد زال المزاحم، ونقل الربيع قولا: ان البيعين
مفسوخان، وروي باطلان، وهو معنى مفسوخان هنا، ويعمل بمقتضى قول المدعى
عليه، وامتنع جماعة من جعله قولا، منهم من غلظه، ومنهم من قال: هو تخريج
له.
الحالة الثانية: أن يصدق صاحب اليد أحدهما، فعلى قول السقوط تسلم
الدار للمصدق، وكأنه أقر له ولا بينة، وعلى قول الاستعمال وجهان، قال ابن
سريج: يقدم المصدق، وكأنه نقل إليه يده، فصار معه يد وبينة، والأصح المنع
لاتفاق البينتين على إسقاط يده، وانتزاع المال منه باتفاق الأقوال، واليد المزالة
لا يرجح بها، فعلى هذا هو كما لو لم يصدق واحد منهما. ثم إن الأصحاب لم
يفرقوا فيما إذا لم تكن البينتان مختلفتي التاريخ بين أن يكونا مطلقتين أو متحدتي
التاريخ أو إحداهما مطلقة، والأخرى مؤرخة، بل صرحوا بالتسوية، إلا أن أبا
الفرج الزاز استدرك، فقال: هذا إذا لم يقدم المؤرخة على المطلقة، فإن قدمناها
قضينا لصاحبها ولا تجئ الأقوال.
عن الشيخ أبي عاصم: لو تعرضت إحدى البينتين، لكون الدار ملك البائع
وقت البيع، أو لكونها ملك المشتري الآن كانت مقدمة، وإن لم يذكرا تاريخا. ولو
ذكرت إحداهما، نقد الثمن دون الأخرى كانت مقدمة، سواء كانت سابقة، أم
346

مسبوقة، لأن التعرض للنقد يوجب التسليم، والأخرى لا توجب لبقاء حق
الحبس للبائع، فلا تكفي المطالبة بالتسليم.
فرع في يده دار جاء اثنان يدعيانها، قال أحدهما: اشتريتها من زيد وهي
ملكه وقال الآخر: اشتريتها من عمرو وهي ملكه، وأقام كل واحد بينة بما يقوله،
فهما متعارضتان، فإن قلنا بالسقوط، فكأنه لا بينة، ويحلف صاحب اليد لكل واحد
يمينا، وإن قلنا بالاستعمال ففي مجئ قول الوقف الخلاف السابق، ويجئ قولا
القرعة والقسمة والتفريع كما سبق، وإلا أن على قول القسمة إذا اختار أحدهما
فسخ العقد، والآخر إجازته لا يكون للمجيز أخذ النصف الآخر، سواء تقدم الفسخ
أو الإجازة إذا ادعيا الشراء بين شخصين، لأن المردود يعود إلى غير من يدعي المجيز
الشراء منه، فكيف يأخذه، وحيث أثبتنا الخيار على قول القسمة، فذلك إذا لم
تتعرض البينة لقبض المبيع، ولا اعترف به المدعي، وإلا فإذا جرى القبض، استقر
العقد، وما يحدث بعده ليس على البائع عهدته، وإنما شرطنا في صورة الفرع أن
يقول كل واحد: وهي ملكه، لأن من ادعى مالا في يد شخص، وقال: اشتريته من
فلان، لم تسمع دعواه حتى يقول: اشتريته منه وهو ملكه ويقوم مقامه أن يقول:
وتسلمته منه، أو سلمه إلي، لأن الظاهر أنه إنما يسلم ما يملكه، وفي دعوى الشراء
من صاحب اليد لا يحتاج أن يقول وأنت تملكه، ويكتفى بأن اليد تدل على
الملك، وكذا يشترط أن يقول الشاهد في الشهادة: اشتراه من فلان وهو يملكه،
أو اشتراه وتسلمه منه، أو وسلمه إليه. قال الامام: ويجوز أن يقيم شهودا على أنه
347

اشترى من فلان وآخرين أن فلانا كان يملكه إلى أن باعه، لكن هؤلاء شهدوا بالملك
والمبيع جميعا، فكأن المراد إذا أقام شهودا بالشراء وقت كذا، وآخرين أنه كان
يملكه إلى ذلك الوقت.
فرع أقام أحد المدعيين بينة أنه اشترى الدار من فلان، وكان يملكها،
وأقام الآخر بينة أنه اشتراها من مقيم البينة الأولى، حكم ببينة الثاني، ولا يحتاج أن
يقول المقيم البينة: وأنت تملكها، كما لا يحتاج أن يقول لصاحب اليد، لأن البينة
تدل على الملك كما أن اليد تدل عليه.
المسألة الثالثة: دار في يده جاء اثنان، قال كل منهما: بعتك هذه الدار،
وكانت ملكي بكذا، فأد الثمن، فإن أقر لهما، طولب بالثمنين، وإن أقر
لأحدهما، طولب بالثمن الذي سماه، وحلف للآخر، وإن أنكما ادعياه، ولا
بينة حلف لهما يمينين، وإن أقام أحدهما بينة قضي له، وحلف للآخر، وإن أقاما
بينتين، نظر إن أرختا تاريخين مختلفين، لزمه الثمنان، لامكان، الجميع، وإن اتحد
تاريخهما بأن أرختا بطلوع الشمس، أو زوالها، تعارضتا، لامتناع كونه ملكا في
وقت واحد لهذا وحده، ولذاك وحده، فعلى قول السقوط كأنه لا بينة، وعلى القرعة
يقرع، فمن خرجت قرعته، قضي له بالثمن الذي شهدت به بينة، وللآخر تحليفه
بلا خلاف، لأنه لو اعترف به بعد ذلك لزمه، وعلى القسمة لكل واحد نصف الثمن
الذي سماه، وكأن الدار لهما وباعاه بثمنين متفقين أو مختلفين، وفي مجئ الوقف
الخلاف السابق، والمذهب مجيئه، وإن كانت البينتان مطلقتين أو إحداهما مطلقة،
والأخرى مؤرخة، فوجهان، أصحهما أنهما كمختلفتي التاريخ، فيلزمه الثمنان
لامكان الجمع، والثاني: أنهما كمتحدتي التاريخ، لأن الأصل براءة ذمة
المشتري، فلا يلزمه إلا اليقين، وبهذا قال القاضي أبو حامد، وابن القطان، فعلى
348

هذا يعود خلاف التعارض وفيه طريق ثان وهو القطع بالوجه الأول، وقيل: إن
شهدت البينتان على الاقباض مع البيع، وجب الثمنان قطعا، ولو شهدت البينتان
على إقرار المدعى عليه بما ادعيا، فالصحيح أن الحكم كما لو قامتا على البيعين،
فينظر أقامتا على الاقرار مطلقا، أم على الاقرار بالشراء من زيد في وقت، ومن عمرو
كذلك، وقيل: يجب الثمنان، وإن كانت الشهادة على الاقرارين مطلقا، وما
ذكرناه من أنهما إذا أرختا تاريخين مختلفين يلزمه الثمنان يشترط فيه أن يكون بينهما
زمن يمكن فيه العقد الأول، ثم الانتقال من المشتري إلى البائع الثاني، ثم العقد
الثاني، فإن عين الشهود زمنا لا يتأتى فيه ذلك، لم يجب الثمنان، قال الامام:
ولو شهد اثنان أنه باع فلانا في ساعة كذا، وشهد آخران أنه كان ساكنا تلك
الحالة، أو شهد اثنان أنه قبل فلانا ساعة كذا، وآخر أنه كان ساكنا تلك الحالة
لا يتحرك ولا يعمل شيئا، ففي قبول الشهادة الثانية وجهان، لأنها شهادة على
النفي، وإنما تقبل شهادة النفي في المضايق، وأحوال الضرورات، فإن قبلناها،
جاز التعارض.
قلت: الأصح القبول، لأن النفي المحصور، كالاثبات في إمكان الإحاطة
به. والله أعلم.
فرع قال الأكثرون: صورة المسألة أن يقول كل واحد: بعتك كذا وهو
ملكي وهكذا لفظ الشافعي رحمه الله في المختصر وقال أبو الفياض: لا يشترط
ذلك، وإذا قلنا: بالقسمة عند التعارض، فقسم الثمن بلا خيار لصاحب اليد، لأنه
حصل له تمام البيع، ولا غرض له في عين البائع، وقال ابن القطان: له الخيار،
349

فقد يرضى بمعاملة واحد دون اثنين.
المسألة الرابعة: عبد في يد رجل، ادعى أن سيده أعتقه، وادعى رجل أنه
باعه إياه بكذا، وأنكر صاحب اليد ما ادعياه، ولا بينة حلف لهما يمينين، وإن أقر
بالعتق، ثبت العتق، ولم يكن للمشتري تحليفه، وإن قلنا: إتلاف البائع كالآفة
السماوية، لأنه بالاقرار متلف قبل القبض، فينفسخ البيع، لكن لو ادعى تسليم
الثمن، حلف له وإن أقر بالبيع، قضى به، وليس للعبد تحليفه، لأنه لو اعترف
به، لم يقبل، ولم يلزمه غرم، قال الروياني: وليس لنا موضع يقر لاحد
المدعيين، ولا يحلف للآخر قولا واحدا إلا هذا، وإن أقام كل واحد بينة، نظر
إن اختلف تاريخهما، قضى بأسبقهما، وإن اتحد تعارضتا، وفيهما القولان، فإن
قلنا بالسقوط، فهو كما لو لم يكن، وإن قلنا بالاستعمال، ففي مجئ قول الوقف
الخلاف السابق، وإن قلنا بالقرعة قضى لمن خرجت له، وإن قلنا بالقسمة، عتق
نصف العبد، ونصفه لمدعي الشراء بنصف الثمن، وله الخيار، فإن فسخ،
فالصحيح أنه يعتق النصف الآخر أيضا، لأن البينة شهدت بإعتاقه الجميع، وإنما لم
يحكم بموجبها لزحمة مدعي الشراء وقد زالت، وقيل: لا يعتق وإن أجاز، فإن كان
المدعى عليه معسرا، لم يسر العتق، وإن كان موسرا، فقولان، أو وجهان،
أحدهما لا يسري، لأنه عتق قهرا، فأشبه ما لو ورث بعض قريبه،
وأظهرهما يسري، لقيام البينة أنه أعتق باختياره، وقيل: لا يجري قول القسمة
هنا تحرزا من تبغيض الحرية، وصرح المزني قولا أنه يقدم بينة العتق، لأن العبد في
يد نفسه، وبينة صاحب اليد مقدمة وضعف الأصحاب هذا، وامتنعوا من إثباته قولا
قالوا: وإنما يكون في يد نفسه لو ثبتت حريته، ولو كانت البينتان مطلقتين أو
350

إحداهما مطلقة، والأخرى مؤرخة، فهو كما لو اتحد تاريخهما، هذا هو المذهب،
وقيل: لا يجري هنا قول السقوط، لأن صدقهما ممكن، بأن باعه صاحب اليد
لمدعي الشراء، ثم اشتراه منه، ثم أعتقه، وتصديق صاحب اليد بعد قيام البينتين
لا يوجب الرجحان إلا عند ابن سريج كما سبق.
الطرف الثالث: في التداعي والتعارض في الموت والإرث، وفيه مسائل:
الأولى: مات رجل عن اثنين مسلم ونصراني، فقال كل منهما: مات على
ديني فأرثه، فللأب حالان، الأولى أن يكون معروفا بالتنصر، فقال المسلم:
أسلم ثم مات، وقال النصراني: مات على ما كان، فيصدق النصراني بيمينه، لان
الأصل بقاؤه، فإن أقاما بينتين، نظر إن أطلقتا، فقالت إحداهما: مات مسلما،
والأخرى مات نصرانيا، قدمت بينة المسلم، لأن معها زيادة علم، وهو انتقاله من
النصرانية، فقدمت الناقلة على المستصحبة، كما تقدم بينة الجرح على التعديل،
وكما لو مات عن ابن وزوجة، فقال الابن: داره هذه ميراث، وقالت: أصدقنيها أو
باعنيها، وأقاما بينتين، فبينتها أولى، وكما لو ادعى على مجهول أنك عبدي، وأقام
به بينة، وأقام المدعى عليه بينة أنه كان ملكا لفلان، وأعتقه، تقدم بينة المدعى
عليه، لعلمها بالانتقال من الرق إلى الحرية، وعلى هذا قياس المسائل، وإن قيدنا
بأنه تكلم في آخر عمره كلمة، وأقام المسلم بينة أنها كانت كلمة الاسلام، وأقام
الآخر بينة بأنها كانت النصرانية، تعارضتا، فعلى قول السقوط يسقطان، ويصير كأن
لا بينة، فيصدق النصراني بيمينه، وإن قلنا بالاستعمال، فعلى الوقف يوقف،
وعلى القرعة يقرع، فمن خرجت له، فله التركة، وعلى القسمة تقسم، فيجعل
بينهما نصفين كغير الإرث، وقال أبو إسحاق: لا تجئ القسمة، لأنها تكون حتما
بالخطأ يقينا، لأنه لا يموت مسلما كافرا، وفي غير صورة الإرث لا يتحقق الخطأ في
القسمة، لاحتمال كون المدعى مشتركا بينهما، والصحيح الأول، وليست القسمة
حكما بأنه مات مسلما كافرا، بل لأن بينة كل واحد اقتضت كون جميع المال له،
ومزاحمتها الأخرى، فعملنا بكل واحدة بحسب الامكان، قال العراقيون: وليس
351

القسمة خطأ يقينا، لاحتمال أنه مات نصرانيا، فورثاه، ثم أسلم أحدهما. ولو
قيدت بينة النصراني أن آخر كلامه النصرانية، فهو كتقييد البينتين.
الحالة الثانية: أن لا يكون الا ب معروف الدين، فإن لم يكن بينة، نظر إن
كان المال في يد غيرهما، فالقول قوله: وإن كان في يدهما، حلف كل واحد
لصاحبه وجعل بينهما، وإن كان في يد أحدهما، فوجهان، أحدهما - وبه قال
الشيخ أبو حامد والقاضي حسين وجماعته -: القول قوله بيمينه، والصحيح: أنه
يجعل بينهما، ولا أثر لليد بعد اعترافه بأنه كان للميت. وإن أقاما بينتين،
تعارضتا، سواء أطلقنا أو قيدنا. ويجئ في القسمة خلاف أبي إسحاق وقيل: تقدم
بينة الاسلام، لأن الظاهر من حال من هو في دار الاسلام. والمذهب الأول.
ويصلي على هذا الميت، ويدفنه في مقابر المسلمين، ويقول: أصلي عليه إن كان
مسلما.
فرع يشترط في بينة النصراني أن يفسر كلمة التنصر بما يختص به
النصارى، كقولهم: (ثالث ثلاثة) هل يجب في بينة الاسلام تفسير كلمته، لأنهم
قد يتوهمون ما ليس بإسلام إسلاما؟ وجهان. وإذا قلنا بالقسمة، هل يحلف كل
واحد من الاثنين للآخر؟ وجهان، الأصح: لا. وإذا قلنا بالقسمة: فمات عن ابن
وبنت، فقال ابن سلمة: يقسم مناصفة، وقال غيره: مثالثة، والصواب: أنهما
كرجلين ادعى أحدهما جميع دار، والآخر نصفها، وأقاما بينتين، وقد سبق أن
على قول القسمة للأول ثلاثة أرباعها، وللآخر ربعها. ثم الموت على كلمة الاسلام
يوجب إرث الابن المسلم، لكن الموت على التنصر لا يوجب بمجرده إرث
النصراني، لاحتمال أنى أسلم ثم تنصر، وكان التصوير فيما إذا تعرض الشهود
352

لاستمراره على النصرانية حتى مات، أو اكتفوا باستصحاب ما عرف من دينه مضموما
إلى الموت عليه، وإن لم يتعرض له الشهود.
فرع مات عن زوجة وأخ مسلمين وأولاد كفرة، فقال المسلمان: مات
مسلما، وقال الأولاد: مات كافرا، فإن كان أصل دينه الكفر، صدق الأولاد.
وإن أقاموا بينتين، فإن أطلقنا، قدمت بينة المسلمين، وإن قيدنا، فعلى الخلاف
في التعارض. ويعود خلاف أبي إسحاق في جريان القسمة، فإذا رجحنا طائفة،
قسم المال بينهم، كما يقسم لو انفردوا. وإن جعلنا المال بين الطائفتين تفريعا على
القسمة، فالنصف للزوجة وللأخ، والنصف للأولاد، وفيما تأخذ الزوجة من
النصف وجهان، أحدهما: ربعه وكأنه جميع التركة، وبه قطع السرخسي.
والثاني نصفه، ليكون لها ربع التركة، لأن الأخ معترف به، والأولاد لا يحجبونها
باتفاقهما، وبه قطع الامام.
قلت: الأول أصح، لأنها معترفة أيضا باستحقاق الأخ ثلاثة أرباع التركة.
والله أعلم.
المسألة الثانية: مات نصراني وله ابنان مسلم ونصراني، فقال المسلم:
أسلمت بعد موت أبينا، فالميراث بيننا. وقال النصراني: قبله، فلا ترثه، فلهما
ثلاثة أحوال، إحداها: أن يقتصر على هذا القدر ولا يتعرضا لتاريخ موت الأب،
ولا لتاريخ إسلام المسلم.
والثانية: أن يتفقا على وقت موت الأب كرمضان. وقال المسلم: أسلمت في
شوال، وقال النصراني: بل أسلمت في شعبان، ففي الحالتين إن لم يكن بينة،
فالقول قول المسلم، لأن الأصل بقاؤه على دينه، يحلف ويشتركان في المال.
353

وإن أقام أحدهما بينة قضى بها. ولن أقاما بينتين، قدمت بينة النصراني، لأنها ناقلة
من النصرانية إلى الاسلام في شعبان، والأخرى مستصحبة لدينه في شوال، فمع
الأولى زيادة علم.
الحالة الثالثة: أن يتفقا على تاريخ إسلام المسلم، فإن اتفقا على أنه أسلم
في رمضان، ولكن ادعى المسلم أن الأب مات في شعبان. وقال النصراني: مات
في شوال، صدق النصراني، لأن الأصل بقاء الحياة. وإن أقاما بينتين، قدمت بينة
المسلم، لأنها تنقل من الحياة إلى الموت في شعبان، والأخرى تستصحب الحياة
إلى شوال. وإن شهدت بينة النصراني في هذه الحالة الثالثة أنهم عاينوه حيا في
شوال، أو شهدت بينة المسلم في الحالتين الأوليين بأنهم كانوا يسمعون منه كلمة
التنصر في نصف شوال مثلا تعارضتا.
فرع مات مسلم وله ابنان أسلم أحدهما قبل موت الأب بالاتفاق، وقال
الآخر: أسلمت أيضا قبله. وقال المتفق على إسلامه: بل بعد موته، فعلى الأحوال
الثلاث، فإن اقتصر على ذلك أو اتفقا على أن الأب مات في رمضان. وقال قديم
الاسلام لحادث الاسلام: أسلمت في شوال. وقال الحادث: بل أسلمت في
شعبان، صدق قديم الاسلام. وإن أقاما بينتين، قدمت بينة الحادث. وإن اتفقا أن
الحادث أسلم في رمضان، وقال قديم الاسلام: مات الأب في شعبان. وقال
الحادث: بل في شوال، فالمصدق الحادث، والمقدم بينة قديم الاسلام، وعلى
هذا يقاس نظائر الصورة الأولى، وصورة الفرع بأن مات الأب حرا، وأحد ابنيه حرا
بالاتفاق، واختلفا هل عتق الآخر قبل موته أم بعده. ولو اتفقا في صورة الفرع أن
أحدهما لم يزل مسلما. وقال الآخر: لم أزل مسلما أيضا، ونازعه الأول، فقال:
كنت نصرانيا، وإنما أسلمت بعد موت الأب، فالقول قوله إنه لم يزل مسلما، لان
ظاهر الدار يشهد له ولو قال كل واحد منهما: لم أزل مسلما، وكان صاحبي
نصرانيا أسلم بعد موت الأب، فوجهان خرجهما القفال. أحدهما: لا شئ لهما،
لأن الأصل عدم الاستحقاق، وأصحهما: يحلفان، ويجعل المال بينهما، لان
ظاهر اليد يشهد لكل واحد فيما يقوله في حق نفسه.
فرع مات عن أبوين كافرين، وابنين مسلمين، فقال الأبوان: مات
354

كافرا، وقال الابنان: مات مسلما، قال ابن سريج: فيه قولان، أشبههما بقول
العلماء: ان القول قول الأبوين، لأن الولد محكوم بكفره في الابتداء تبعا لهما،
فيستصحب حتى يعلم خلافه. والثاني: يوقف المال حتى ينكشف الامر أو
يصطلحا، والتبعية تزول بالبلوغ وحصول الاستقلال. وقيل: القول قول الابنين،
لأن ظاهر الدار الاسلام.
قلت: الوقف أرجح دليلا، ولكن الأصح عند الأصحاب أن القول قول
الأبوين، وأنكروا على صاحب التنبيه ترجيحه قول الابنين، وهو ظاهر الفساد.
والله أعلم.
فرع له زوجة وابن ماتا، فاختلف الزوج وأخو المرأة، فقال الزوج: ماتت
أولا، فورثتها أنا وابني، ثم مات الابن، فورثته. وقال الأخ: مات الابن أولا،
فورثت منه أختي، ثم ماتت، فأرث منها، فإن لم يكن بينة، فالقول قول الأخ في
مال أخته، وقول الزوج في مال ابنه. فإن حلفا أو نكلا، فهي من صور استبهام
الموت، فلا يورث ميت من ميت، بل مال الابن لأبيه، ومالها للزوج والأخ. وإن
أقاما بينتين، تعارضتا، وجرت أقوال التعارض. هذا إذا لم يتفقا على وقت موت
أحدهما، فإن اتفقا على وقت موت أحدهما، واختلفا في أن الآخر مات قبله أم
بعده، صدق من قال: بعده، لأن الأصل دوام الحياة. وإن أقاما بينتين، قدمت
بينة من قال: قبله، لأن معها زيادة علم.
فرع مات عن زوجة وأولاد فقالوا لها: كنت أمة، فعتقت بعد موته، أو
ذمية، فأسلمت بعد موته، فقالت: بل عتقت وأسلمت قبله، فهم المصدقون.
وإن قالت: لم أزل حرة مسلمة، فهي المصدقة، لأن الظاهر معها. وفي قول:
تصدق في الحرية دون الاسلام. وخرج قول: أن الأولاد يصدقون، لأن الأصل عدم
وراثتها.
المسألة الثالثة: سيد قال لعبده: إن قتلت، فأنت حر، وتنازع بعده العبد
والوارث، وأقام العبد بينة أنه قتل، والوارث بينة أنه مات حتف أنفه، فقولان،
355

أظهرهما: تقدم بينة العبد، ومنهم من قطع به، لأن معها زيادة علم بالقتل.
والثاني: يتعارضان، للمنافاة بينهما. فعلى هذا إن قلنا بالسقوط، فكأنه لا بينة،
فيحلف الوارث، ويستمر الرق. وإن قلنا بالقسم عتق نصفه، أو بالقرعة وإن
خرجت له، ورق إن خرجت للوارث، ولا يخفى الوقف. وإذا قدمنا بينة القتل،
فلا قصاص، لأن الوارث ينكره. وإن قال إن مت في رمضان فعبدي حر، وأقام
العبد بينة أنه مات في رمضان، والوارث بينة أنه مات في شوال، فعلى القولين
أحدهما: التعارض، وأظهرهما: تقدم بينة العبد، لزيادة العلم بحدوث الموت في
رمضان. وقال المزني: تقدم بينة الوارث، لأن معها زيادة علم، وهي بقاء الحياة
إلى شوال. ومن حقه أن يطرد في نظائره المسألة السابقة واللاحقة. ولو أقام الوارث
البينة أنه مات في شعبان، فالقياس مجئ الخلاف وانعكاس القول الثاني وقول
المزني. ولو حكم القاضي بشهادة شاهدي رمضان، ثم شهد آخر أنه مات في
شوال، فهل ينقض الحكم، ويجعل كما لو شهدت البينتان معا؟ خرجه ابن سريج
على قولين، كما لو بان فسق الشهود بعد الحكم.
فرع قال لسالم: إن مت في رمضان، فأنت حر، ولغانم: إن مت في شوال
، فأنت حر، وأقام كل واحد بينة تقتضي حريته، فقولان، أحدهما: لا للتعارض،
والثاني: تقدم بينة سالم، لأن معها زيادة علم وهي حدوث الموت في رمضان.
وقال المزني وابن سريج: تقدم بينة غانم. فإن قلنا: بالتعارض، فعلى السقوط يرق
العبدان، وعلى القسمة يعتق من كل عبد نصفه، ولو قال لسالم: إن مت من
مرضي فأنت حر، وقال لغانم: إن برئت منه، فأنت حر، وأقام سالم بينة بموته،
وغانم بينة ببرئه، فهل تقدم بينة سالم أم غانم، أم يتعارضان؟ أوجه، أصحهما:
356

الثالث، فيكون على الخلاف السابق في التعارض. وقيل: إذا وجد التعارض في
مثل هذا غلبت الحرية.
قلت: معنى تغليبها أنه لا يحكم بسقوط البينتين. والله أعلم.
فصل من ادعى وراثة شخص، وطلب تركته، أو شيئا منها، فليبين جهة
الوراثة من بنوة أو أخوة وغيرهما. وذكر السرخسي أن المذهب أنه لا يكفي لطلب
التركة ذكر الجهة، بل يذكر معها الوراثة، فيقول: أنا أخوه ووارثه، وإذا شهد
عدلان من أهل الخبرة بباطن حال الميت أن هذا ابنه لا يعرف له وارثا سواه، دفعت
إليه التركة. وإن شهدا لصاحب فرض دفع إليه فرضه، ولا يطالبان بضمين. وذكر
الفوراني أنه يشترط هنا ثلاثة شهود، كما ذكره في شهادة الافلاس. والصحيح
المعروف الأول. وإذا لم يكن الشهود من أهل الخبرة، أو كانوا من أهلها، ولم
يقولوا: لا نعلم له وارثا سواه، فالمشهود له إما أن لا يكون له سهم مقدر، وإما أن
يكون، القسم الأول أن لا يكون، فلا يعطى شيئا في الحال، بل يبحث القاضي
عن حال الميت في البلاد التي سكنها أو طرقها، فيكتب إليها الاستكشاف، أو يأمر
من ينادي فيها: إن فلانا مات، فإن كان له وارث، فليأت القاضي، أو ليبعث إليه.
فإذا بحث مدة يغلب على الظن في مثلها أنه لو كان له وارث هناك، لظهر ولم يظهر،
دفع المال إلى المشهود له. وحكى السرخسي قولا أنه لا يدفع إليه، وقيل: إن كان
ممن لا يحجب كالابن، دفع إليه، وإن كان يحجب كالأخ، فلا، والمذهب
الأول. وإن دفع إليه، فهل يؤخذ منه ضمين؟ قولان، أحدهما: يجب،
وأظهرهما: لا يجب، لكن يستحب، وقيل: لا يجب قطعا، وقيل: إن كان
يحجب، وجب، وإلا فلا وقيل: إن كان ثقة موسرا، لم يجب، وإلا فيجب.
القسم الثاني: أن يكون له سهم مقدر، فإن كان ممن لا يحجب، دفع إليه
أقل فرضه عائلا من غير بحث، فالزوجة تعطى ربع الثمن عائلا، لاحتمال أبوين
وبنتين وأربع زوجات، والزوج يعطى الربع عائلا، لاحتمال أبوين وبنتين معه،
357

والأب السدس عائلا على تقدير أبوين، وبنتين وزوج أو زوجة، وللأم السدس عائلا
على تقدير أختين لأب، وأختين لام، وزوج أو زوجة معها. ولو حضر مع الزوجة
ابن، أعطيت ربع الثمن غير عائل، لأن المسألة لا تعول إذا كان فيها ابن. ثم إذا
بحث ولم يظهر غير المشهود له، أعطي تمام حقه، وفيه وجه أنه لا يعطى تمام حقه
إلا أن تقوم بينة بخلاف الأخ، فإنه لو لم يعط شيئا، لصار محروما بالكلية،
والصحيح الأول ولا يؤخذ ضمين للمتيقن، وفي أخذه الزيادة, الخلاف. وإن كان من
يحجب، لم يعط شيئا قبل البحث، وبعد البحث يعطى على الصحيح، وفيه الوجه
السابق فيمن له سهم مقدر وهو ممن يحجب. ولو قطع الشهود بأنه لا وارث له
سواه، فقد أخطؤوا بالقطع في غير موضعه، ولا تبطل به شهادتهم. ولو قالوا: هذا
ابنه، ولم يذكروا كونه وارثه، فقد أطلق البغوي أنه لا يحكم بشهادتهم، لأنه قد
يكون ابنا غير وارث، وجعل العراقيون هذه الصورة، كما لو لم يكن الشهود من أهل
الخبرة الباطنة، أو كانوا ولم يقولوا: لا وارث سواه، وقالوا: ينزع المال من يد
من هو في يده بهذه الشهادة، ويدفع المال إليه بعد البحث المذكور، ونقلوا عن ابن
سريج فيما إذا شهدوا بأنه أخوه ولم يذكروا الوراثة، أنه لا يعطى شيئا بعد
البحث، لأن الابن لا يحجب غيره فقرابته مورثة والأخ يحجبه غيره فقرابته غير مورثة
بمجردها. وذكر الامام في الابن ما ذكره العراقيون، وحكى في الأخ وجهين،
فحصل فيهما وجهان.
فرع لو قالوا: لا نعرف له في البلد وارثا سواه، لم يعط شيئا، ولا يصح
الضمان المذكور حتى يدفع إليه المال.
الطرف الرابع في العتق والوصية:
من الأصول الممهدة أن من أعتق في مرض موته عبدين. كل واحد منهما ثلث
ماله على الترتيب، ولم تجز الورثة، ينحصر العتق في الأول، وإن أعتقهما معا،
وأقرع، فإن علم سبق أحدهما، ولم يعلم عينه، فهل يقرع بينهما، أم يعتق من كل
358

واحد نصفه؟ قولان، أظهرهما: الثاني، ورجح جماعة الأول. ولو علم عين
السابق، ثم جهلت، فقيل بطرد القولين، والمذهب القطع بأنه يعتق من كل عبد
نصفه. ولو علق عتق عبدين بالموت، أو أوصى بعتقهما ومات، وكل واحد ثلث
ماله، أقرع، سواء وقع التعليقان أو الوصيتان معا أو مرتبا. ولو قامت بينة أن
المريض أعتق سالما وبينة أنه أعتق غانما، وكل واحد ثلث ماله، فإن أرختا تاريخا
مختلفا، عتق من أعتقه أولا، وإن اتحد تاريخهما، أقرع وإن أطلقت إحداهما،
ففي التهذيب أنه يقرع، لاحتمال الترتيب والمعية وقال جماعة منهم الامام
والغزالي: احتمال الترتيب أقرب، وأغلب من احتمال المعية، والسابق منهما غير
معلوم. وإذا كان كذلك، وتعارضتا، وأطلقتا، عرفنا أن أحد الصنفين سابق، ولم
نعرفه بعينه، فيجئ القولان في أنه يقرع بينهما، أم يعتق مكل عبد نصفه؟
ومن فروع القولين ما لو قامت البينتان كذلك، لكن أحد العبدين سدس المال،
فإن قلنا بالقرعة، فخرجت للعبد الخسيس، عتق وعتق معه نصف الآخر ليكمل
الثلث، وإن خرجت للنفيس، عتق وحده، وإن قلنا هناك: يعتق من كل واحد
نصفه، فهاهنا وجهان، الصحيح وبه قطع الأكثرون: يعتق من كل واحد ثلثاه،
كما لو أوصى لرجل بثلث ماله، ولآخر بسدسه، أعطى كل واحد ثلثي ما أوصى له
به. والثاني: يعتق من النفيس ثلاثة أرباعه، ومن الخسيس نصفه، لأنه إن سبق عتق
النفيس، عتق كله، وإن سبق الخسيس، فنصف النفيس بعده حر، فأحد نصفيه
حر على التقديرين والنزاع في النصف الثاني وهو قدر سدس المال، فيقسم
بينهما، فيعتق من النفيس ربع آخر، ومن الخسيس نصفه. ولو قامت بينتان بتعليق
عتق عبدين بالموت أو بالوصية بإعتاقهما، وكل واحد ثلث المال، ولم تجز الورثة
أقرع بينهما، سواء أطلقت البينتان أو أرختا، لأن المعلقين بالموت كالواقعين معا في
359

المرض. هذا هو المذهب. وقيل: قولان أحدهما: يقرع، والثاني: يعتق من كل
عبد نصفه.
فصل لا فرق في شهود العتق والوصية بين أن يكونوا أجانب، أو من
ورثة المشهود عليه. فلو شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق غانم، وهو ثلث ماله، وشهد
وارثان أنه رجع عن تلك الوصية، وأوصى بعتق سالم وهو ثلث ماله أيضا، قبلت
شهادتهما على الرجوع عن الوصية الأولى، وتثبت بها الوصية الثانية، لأنهما أثبتا
للرجوع بدلا يساويه، فارتفعت التهمة عنهما، ولا نظر إلى تبديل الولاء، لان
الثاني قد لا يكون أهدى لجمع المال، وقد لا يورث بالولاء، ومجرد هذا الاحتمال
لوردت به الشهادة، لما قبلت شهادة قريب لمن يرثه. هذا إذا كان الوارثان عدلين
، فإن كانا فاسقين، لم يثبت الرجوع بقولهما، فيحكم بعتق غانم بشهادة الأجنبيين
، ويعتق من سالم قدر ما يحتمله ثلث الباقي من المال بعد غانم، وهو الثلثان،
وكأن غانما هلك أو غصب من التركة. فإن قال الوارثان: أوصى بعتق سالم، ولم
يتعرضا للرجوع عن عتق غانم، فالحكم كما سبق فيما لو كانت البينتان أجانب،
فالمذهب القرعة. وقيل: قولان، ثانيهما: يعتق من كل عبد نصفه. ولو كانت
المسألة بحالها، لكن سالم سدس المال، فالوارثان متهمان برد العتق من الثلث إلى
السدس، فلا تقبل شهادتهما في الرجوع في النصف الذي لم يثبتا له بدلا. وفي
الباقي الخلاف في تبعيض الشهادة، فإن قلنا: لا تبعيض، وبه أجاب الشافعي
رضي الله عنه في هذه المسألة ردت شهادتهما فيه أيضا، ويعتق العبدان، الأول
بشهادة الأجانب، والثاني بإقرار الورثة، فإن لم يكونا جائزين، عتق منه قدر ما
يستحقانه، فإن قلنا: تبعض، عتق نصف الأول، وكل الثاني. وحكي وجه أن الرجوع
لا يتبعض، فإذا لم يثبت في البعض، لم يثبت في الباقي، فتبقى الشهادة بالوصية
بعتق العبدين، فيقرع كما سبق، وهذا الخلاف إذا لم يكن في التركة وصية أخرى.
360

فإن كان أوصى بثلث ماله لرجل، وقامت البينتان لغانم وسالم كما ذكرنا، قبلت
شهادة الورثة بالرجوع عن وصية غانم، لأن للورثة رد الزيادة على الثلث، فليس في
الشهادة على الرجوع تهمة، فيجعل الثلث أثلاثا بين الموصى له بالثلث، وعتق
سالم، فيعطى الموصى له ثلث الثلث، ويعتق من سالم ثلثاه، وهو ثلث الثلث،
هكذا ذكروه، لكن برد الزيادة على الثلث لا يوجب حرمان بعض أصحاب الوصايا،
بل يوزع عليهم الثلث. وقبول شهادة الثلث توجب إرقاق غانم وحرمانه، وهو محل
تهمة، لتعلق الأغراض بأعيان العبيد. فإن كان الوارثان فاسقين، عتق غانم بشهادة
الأجنبيين، وعتق سالم بإقرارهما. ولو كانت قيمة غانم سدس المال، وسالم ثلثه،
قبل شهادتهما على الرجوع عن وصية غانم، وأعتق سالم. فإن كانا فاسقين، عتق
الأول، وعتق من سالم بقدر ثلث الباقي من المال، وهو خمسة أسداس سالم،
وكأن الأول تلف. ولو شهد أجنبيان أنه نجز عتق غانم في المرض ووارثان أنه نجز
عتق سالم، وكل منهما ثلث المال، نظر، إن كذب الوارثان الأجنبيين وقالا: لم
يعتق غانما، وإنما عتق سالما، عتق العبدان (فإن) لم يكونا جائزين، عتق من
سالم قدر حصتهما، واستدرك بعض المتأخرين فقال: قياس ما سبق أن لا يعتق من
سالم إلا قدر ما يحتمله ثلث الباقي من المال بعد عتق غانم، وكان غانما تلف،
وهذا حسن. وإن لم يكذباهما، بل قالا: أعتق سالما، ولا يدرى هل أعتق غانما
أم لا. فإن كان الوارثان عدلين، فالحكم كما سبق فيما لو كان شهود العبدين
أجانب، وإن كانا فاسقين، عتق غانم بشهادة الشهود. وأما سالم، فقال الشيخ أبو
حامد، وتابعه كثيرون: يعتق منه نصفه إذا قلنا: يعتق من كل واحد نصفه لو كانا
عدلين. وقال ابن الصباغ: هذا سهو، وصوابه أن يعتق خمساه، وذكر توجيهه
361

بطريق الجبر. ولو شهد أجنبيان لغانم، ووارثان لسالم
كما ذكرنا، إلا أن سالما سدس المال، فإن كذب الوارثان الأجنبيين، عتقا جميعا، وإن لم يكذباهما، فإن
كانا عدلين، فهو كما لو كان شهود العبدين أجانب، وقد سبق بيانه. وإن كانا
فاسقين، فنقل البغوي أن الأول حر بشهادة الأجنبيين، ويقرع بينهما. فإن خرجت
القرعة له، انحصر العتق فيه، وإن خرجت للثاني، عتق الأول بالشهادة، وعتق من
الثاني ثلث ما بقي من المال بإقرار الوارثين، قال: وقياس هذا أن يقرع أيضا إذا كان
كل عبد ثلث المال والوارثان فاسقان، وكأن هذا جواب على قول القرعة فيما إذا كان
الشهود كلهم أجانب، وما نقلناه عن الشيخ أبي حامد وغيره على قول القسمة.
فصل شهد اثنان أن فلانا الميت أوصى لزيد بالثلث، وآخران أنه أوصى
لبكر بالثلث، فالثلث بينهما سواء، فإن قال الآخران: رجع عن زيد، وأوصى لبكر
بالثلث، سلم له الثلث، ويستوي في شهادة الرجوع الوارث والأجنبي إذا جرى ذكر
بدل. ولو شهد آخران أنه رجع عن وصية بكر أيضا، وأوصى بالثلث لعمرو، سلم
الثلث له. ولو شهد اثنان أنه أوصى بالثلث لزيد، واثنان أنه أوصى لبكر، ثم شهد
اثنان أنه رجع عن إحدى الوصيتين، فإن عينا المرجوع عنها، ثبت الرجوع، وكان
الثلث كله للآخر. وقال ابن القطان: ليس للآخر الا السدس، وإنما يكون له الثلث
إذا ثبت أن وصيته وقعت بعد الرجوع عن الوصية الأخرى. وإن لم يعينا المرجوع
عنها، نص في المختصر أن الثلث بينهما. واختلف في وجهه، فقال
الجمهور: إبهام الشهادة بالرجوع يمنع قبولها، كما لو شهد أنه أوصى لأحدهما،
وقال القفال: تقبل الشهادة لأن الوصية تحتمل الابهام، ويقسم الرجوع بينهما
وكأنه رد وصية كل واحد إلى السدس، فتظهر فائدة الخلاف فيما لو شهدت بينة أنه
أوصى لزيد بالسدس، وأخرى لعمرو بالسدس أيضا، وأخرى أنه رجع عن إحدى
الوصيتين، فعلى قول الأكثرين: لا يقبل شهادة الرجوع المبهم، ويعطى كل واحد
السدس الموصى به، وعلى قول القفال: تقبل وكأنه رجع عن نصف كل وصية،
فيعطى كل واحد منهما نصف سدس.
362

الباب السادس في مسائل منثورة تتعلق بأدب القضاء والشهادات والدعاوي،
لأنها يتعلق بعضها ببعض
يوم الجمعة كغيره في إحضار الخصم مجلس الحكم، لكن لا يحضر إذا صعد
الخطيب المنبر حتى يفرغ من الصلاة، واليهودي يحضر يوم السبت، ويكسر عليه
سبته.
شهد اثنان أنه غصت كذا، أو سرقه غدوة، وآخران أنه غصبه، أو سرقه
عشية، تعارضتا ولا يحكم بواحدة منهما، بخلاف ما لو شهد واحد هكذا، وآخر
هكذا حيث يحلف مع أحدهما، ويأخذ الغرم، لأن الواحد ليس بحجة فلا
تعارض.
شهد واحد على إتلاف ثوب قيمته ربع دينار، وآخر على إتلاف ذلك الثوب
بعينه، وقال قيمته ثمن دينار، يثبت الأقل وللمدعي أن يحلف مع الآخر. ولو شهد
بدل الواحد والواحد اثنان واثنان، ثبت الأقل أيضا وتعارضتا في الزيادة. ولو شهد
اثنان أن وزن الذهب الذي أتلفه نصف دينار، وآخران أن وزنه دينار، ثبت الدينار،
لأن مع شاهديه زيادة علم، بخلاف الشهادة على القيمة، فإن مدركها الاجتهاد،
وقد يقف شاهد القليل على عيب. ولو ادعى عبدا في يد رجل، وأقام بينة أنه ولد
أمته، لم يقض له بها، فقد تلد قبل أن تملكها، فإن شهدت أنه ولد أمته ولدته في
ملكه فنص أنه يقضى له بهذه البينة، وبه قطع الجمهور، وخرج ابن سريج قولا،
لأنها شهادة بملك سابق، والمذهب الدول، لأن النماء تابع للأصل. ولو شهدوا أن
هذه الشاة نتجت في ملكه، وهذه الثمرة حصلت في ملكه، فهو كقولهم: ولدته أمته
في ملكه، ولا يكفي نتاج شاته، وثمر شجرته. ولو شهدوا أن هذا الغزل من غزله،
أو الفرخ من بيضه، والدقيق من حنطته، أو الخبز من دقيقه، كفى، لأن ذلك عين
ماله تغيرت صفته، بخلاف ولد الجارية والشاة. ولو أقام بينة على رق شخص،
363

وأقام المدعى عليه بينة أنه حر الأصل، فبينة المدعي أولى، لأن معها زيادة علم وهو
إثبات الرق. ولو ادعى دينا، وشهد به اثنان، لكن قال أحدهما متصلا بشهادته:
إنه قضاه، أو أبرئ منه، فشهادته باطلة، للقضاء، وإن ذكره مفصولا عن
الشهادة، فإن كان بعد الحكم لم يؤثر. وللمدعى عليه أن يحلف معه على القضاء
والابراء وإن كان قبل الحكم، سئل: متى قضاه؟ فإن قال: قبل أن شهدت،
364

فكذلك الجواب عند ابن القاص. وذكر فيما إذا شهد على إقراره بالدين شاهدان،
ثم عاد أحدهما، وقال: قضاه أو أبرأه بعد أن شهدت أن شهادته لا تبطل، بل يحكم
بالدين ويؤخذ، إلا أن يحلف المدعى عليه مع شاهد القضاء والابراء. والفرق أن
هناك شهد على نفس الحق، والقضاء والابراء ينافيانه، فبطلت الشهادة، وهنا شهد
على الاقرار، والقضاء والابراء لا ينافيانه، فلا تبطل الشهادة. وحكي وجه أن
شهادته على نفس الحق لا تبطل أيضا، والصحيح الأول، ويقرب من هذا
الخلاف، الخلاف فيما لو ادعى ألفا، وشهد له شاهدان بألف مؤجل، لكن قال
أحدهما: قضى منه خمسمائة، ففي وجه: لا تصح شهادتهما، إلا في خمسمائة،
أن يحلف لباقي الألف مع الشاهد الآخر. وفي وجه: تصح شهادتهما
على الألف، وللمدعى عليه أن يحلف مع شاهد القضاء. وفي وجه ثالث: لا يثبت
بشهادتهما شئ، لأنهما لم يتفقا على ما ادعاه، ويقرب منه قولان عن ابن سريج
فيما لو شهد اثنان أن فلانا وكل فلانا، ثم قال أحدهما: عزله بعد أن شهدت، ففي
قول: تبطل شهادته. وفي قول: تثبت شهادة الوكالة، فيعمل بها، والعزل لا يثبت
بواحد.
ادعى شريكان فأكثر حقا على رجل، فأنكر، يحلف لكل واحد يمينا، فإن
رضي بيمين واحدة، ففي جوازه وجهان
قلت: الأصح: المنع. والله أعلم.
ولو شهد اثنان أنه أوصى بعتق غانم، وهو ثلث ماله، فحكم الحاكم بعتقه،
ثم رجعا عن الشهادة، وشهد آخران أنه أوصى بسالم، وهو ثلث ماله، ولم يجز
الورثة إلا الثلث، قال البغوي: يقرع بينهما، فان خرجت القرعة للأول، رق
الثاني، ويغرم الراجعان قيمة الأول للورثة. وإن خرجت للثاني، عتق ورق الأول،
ولا غرم على الراجعين، لأنهما لم يتلقياه. قال: وعندي يعتق الثاني بلا قرعة،
365

وعلى الراجعين قيمة الأول للورثة. ولو شهد رجل أنه وكله بكذا، وآخر أنه فوضه
إليه، أو سلطه عليه، ثبتت الوكالة. ولو شهد أحدهما أنه قال: وكلتك بكذا،
والآخر أنه أقر بوكالته، لم يثبت شئ، ولو شهد أحدهما أنه وكله بالبيع، والآخر أنه
وكله بالبيع وقبض الثمن، ثبت البيع. ولو ادعى رجل على رجل أنه اشترى منه هذا
العبد، ونقده الثمن وأعتقه، وأقام به بينة، وادعى آخر أنه اشتراه
ونقد الثمن، وأقام به بينة، تعارضتا، وذكر العتق لا يقتضي ترجيحا على
الصحيح. وقيل: يرجح، لأن العتق كالقبض، نص في الام أنه لو ادعى دابة
في يد غيره، وأقام بينة أنها له منذ عشر سنين، ونظر الحاكم في سنها، فإذا لها
ثلاث سنين فقط، لم يقبل الشهادة، لأنها كذب، وأن المسناة الحائلة بين نهر
شخص، وأرض آخر، يجعل بينهما كالجدار الحائل. ولو ادعى مائة درهم على
إنسان، فقال: قبضت خمسين، لم يكن مقرا بالمائة، وكذا لو قال: قضيت منها
خمسين. ولو اختلف الزوجان في متاع البيت، فإن كان لأحدهما بينة، قضى بها،
وإن لم يكن بينة، فما اختص أحدهما باليد عليه حسا أو حكما، بأن كان في ملكه،
فالقول قوله فيه بيمينه، وما كان في يدهما حسا، أو في البيت الذي يسكنانه، فلكل
واحد تحليف الآخر، فإن حلفا، جعل بينهما، وإن حلف أحدهما دون الآخر،
قضي للحالف، وسواء دوام النكاح، أم بعد الفراق، وسواء اختلفا هما أو
ورثتهما، أو أحدهما وورثة الآخر، وسواء ما يصلح للزوج كالسيف والمنطقة، أو
للزوجة كالحلي والغزل، أولهما. ولو اختلف مالك الدار، وساكنها بالإجارة في
متاع الدار، فالقول قول الساكن، فان تنازعا في رف فيها، نظر، إن كان مسمرا أو
مثبتا، فالقول قول المالك، وإلا فهو بينهما، نص عليه. ولو تنازعا أرضا ولأحدهما
فيها زرع أو بناء أو غراس، فهي في يده، أو دابة أو جارية حاملا، والحمل
366

لأحدهما بالاتفاق، فهي في يده، أو دار لأحدهما فيها متاع، فهي في يده. فإن لم
يكن المتاع إلا في بيت، لم يجعل في يده إلا ذلك البيت، هكذا ذكروه. ولو
تنازعا عبدا، ولأحدهما عليه ثياب، لم يجعل صاحب يد في العبد، لأن منفعة
الثوب الملبوس تعود إلى العبد، لا إلى المدعي. ولو قال رجل: استأجرت هذه
الدار من زيد سنة في أول رمضان، وقال آخر: استأجرتها منه سنة من أول شوال،
وأقام كل واحد بينة، فقولان حكاهما الفوراني، المشهور، وبه قطع البغوي
وغيره: تقدم بينة رمضان، لسبق تاريخها. والثاني: بينة شوال، لأنها ناسخة،
ويحتمل أنهما تقايلا، واستأجر الثاني في شوال، ويجئ هذا في بينتي البيع على
ضعفه.
قامت بينة أن هذا ابنه لا يعرف له وارثا سواه، وبينة أن هذا الآخر ابنه لا يعرف
له وارثا سواه، ثبت نسبهما، فلعل كل بينة اطلعت على ما لم تطلع عليه الأخرى.
فصل فيما جمع من فتاوى القفال وغيره. ان الضيعة إذا صارت معلومة
بثلاثة حدود، جاز الاقتصار على ذكرها، وهذا خلاف ما سبق في باب القضاء على
الغائب من إطلاق ابن القاص. قال القفال: لكن لو ذكر الشهود الحدود
الأربعة وأخطأوا في واحد، لم تصح شهادتهم، فترك الذكر خير من الخطأ،
لأنهم إذا أخطؤوا، لم يكن بتلك الحدود ضيعة في يد المدعى عليه، وإذا غلط
المدعي، فقال المدعى عليه: لا. يلزمني تسليم دار بهذه الصفة، كان صادقا. وإذا
حلف، كان بارا. وإن لم ينكر، وقال: لا أمنعه الدار التي يدعيها، سقطت دعوى
المدعي، فإن ذهب إلى الدار التي في يده ليدخلها، فله أن يمنعه، ويقول: هي
غير ما ادعيت، فأما إذا أصاب في الحدود، فقال: لا أمنعك منها، فليس له المنع
إذا ذهب ليدخلها، فإن قال: ظننت أنه غلط في الحدود، لم يقبل، وإن قال: إنما
367

قلت: لا أمنعك، لأن الدار لم تكن في يدي يومئذ، وقد صارت في يدي وملكي،
قبل منه، وله المنع إذا حلف. وفيه أن دعوى العبد على سيده أنه أذن له في التجارة
لا تسمع إن لم يشتر، ولم يبع شيئا. وإن اشترى ثوبا، وجاء البائع يطلب الثمن من
كسبه، فأنكر، السيد الاذن، فللبائع أن يحلفه على نفي الاذن، فإن حلف، فللعبد
أن يحلفه مرة أخرى، ليسقط الثمن، عن ذمته. وإن باع العبد عينا للسيد، وقبض
الثمن، وتلف في يده فطلب المشتري تلك العين فقال السيد: لم آذن له في البيع،
حلف، فإن حلف، حكم ببطلان البيع، والعبد يحلفه لاسقاطه الثمن عن ذمته.
وأنه لو ادعى ألفا، وأقام به شاهدا، وأراد أن يحلف معه، فأقام المدعى عليه شاهدا
بأن المدعي أقر أنه لا حق عليه، فللمدعى عليه أن يحلف مع شاهده، فإذا
حلف، سقطت دعوى المدعي، وأنه يجوز للمالك أن يدعي على الغائب وعلى
الغاصب من الغاصب، فإن ادعى على الأول أنه يلزمه رد الثوب بصفة كذا، أو
قيمته كذا، فليس على الغاصب أن يحلف أنه لا يلزمه، لأنه إن قدر على الانتزاع،
لزمه الانتزاع والرد، وإلا فعليه القيمة. وأنهم لو شهدوا أن هذه الدار اشتراها
المدعي من فلان، وهو يملكها، ولم يقولوا: هي الآن ملك المدعي، ففي قبول
شهادتهم قولان، كما لو شهدوا أنه كان ملكه أمس، والمفهوم من كلام الجمهور
قبولها. وأنه لو ادعى قصاصا، فاقتص الحاكم برواية راو روى حديثا يوجب
القصاص في الواقعة، ثم رجع الراوي، وقال: كذبت وتعمدت، لم يجب
القصاص عليه، بخلاف الشهادة، لأن الرواية لا تختص بالواقعة. وأنه لو غصب
المرهون من يد المرتهن، قال الراهن في دعواه على الغاصب: لي ثوب كنت رهنته
عند فلان، وغصبته منه، ويلزمه الرد إلي. ولو اقتصر على قوله: لي عنده ثوب
صفته كذا، ويلزمه رده إلي، جاز ولا بعد في قوله: يلزمه رده إلي، لأن يد المرتهن
368

يد الراهن. ولهذا لو نازعه رجل في المرهون، كان القول قول الراهن، وإن كان في
يد المرتهن، لأن يده يده، وأن الغريب إذا دخل بلدا لا يجوز الشهادة بأنه حر
الأصل، إنما تجوز الشهادة أن فلانا حر الأصل إذا عرف حال أبيه وأمه، وعرف
النكاح بينهما، وتجوز الشهادة به، وإن لم يشاهد الولادة، كما تجوز الشهادة أنه ابن
فلان، وأنه لو ادعى دارا في يد رجل، وأقام بينة أنه اشتراها منه، وأقام صاحب اليد
بينة أنه وهبها له، ولم يتعرضا لتاريخ، تعارضتا. وتظهر فائدة اختلافهما إذا ظهرت
مستحقة أو معيبة، وأراد الرد، واسترداد الثمن. وأنه ادعى دارا في يد شخص،
وأقام بينة أنها ملكه، فادعاها آخر، وأقام بينة أنه اشتراها من رجل آخر يوم كذا،
ولم يقولوا: إنه كان يملكها يومئذ، لكن أقام بينة أخرى أنه كان يملكها يومئذ،
سمعتا، وصارتا كبينة، فيحصل التعارض بينهما وبين بينة المدعي الأول. وأنه إذا
ادعى دارا وأقام بينة أنها ملكه، وتسلمها، فادعاها آخر بعد مدة يسيرة، أو طويلة،
وأقام بينة أنه اشتراها من المدعى عليه الذي كانت في يده، وكان يملكها يومئذ،
قضي بالدار لهذا الأخير، وكان كما لو أقام صاحب اليد البينة قبل الانتزاع منه، فإنه
لو كان بيده دار، فادعى رجل أنه اشتراها من ثالث بعدما اشتراها الثالث من صاحب
اليد، وأنكر صاحب اليد، فله أن يقيم بينة على البيعين، وله أن يقيم على هذا
بينة، وعلى هذا بينة، ولا بأس بالتقديم والتأخير. وأن الشهود إذا أرادوا أداء
الشهادة بشراء دار، تبدلت حدودها بعد الشراء قالوا: اشترى دار أمن وقت كذا، من
فلان، وهو يملكها، وكان يومئذ ينتهي أحد حدودها إلى كذا، والباقي إلى كذا ثم
المدعي يقيم بينة بكيفية التبدل. وأنه لو ادعى دارا في يد رجل، وأقام بينة أنها
ملكه، فقال القاضي: عرفت هذه الدار ملكا لفلان، وقد مات، وانتقلت إلى
وارثه، فأقم بينة على ملكك منه، فله ذلك، وتندفع بينته. وليكن هذا جوابا على
أنه يقضي بعلمه. وأنه لو ادعى دارا في يد رجل، فقال المدعى عليه: ليست الدار
في يدي، ولا أحول بينك وبينها، فقد أسقط الدعوى عن نفسه، فيذهب المدعي
إلى الدار، فإن لم يدفعه أحد، فذاك، وإن دفع، ادعى على الدفع، فلو قال
المدعي: إنه يكذب في قوله: ليست في يدي، ولا أحول، لم يلتفت إليه. وأنه
لو باع دارا، فقامت بينة الحسبة أن أبا البائع وقفها، وهو يملكها على ابنه البائع، ثم
369

على أولاده، ثم المساكين، نزعت من المشتري، ويرجع بالثمن على البائع،
والغلة الحاصلة في حياة البائع تصرف إلى البائع إن كذب نفسه، وصدق الشهود،
فإن أصر على إنكار الوقت، لم تصرف إليه، بل توقف، فإذا مات، صرفت إلى
أقرب الناس إلى الواقف. ولو ادعى البائع أنه وقف لم تسمع بينته، والتقييد بالبينة
يشعر بسماع دعواه، وتحليف خصمه. وقال العراقيون: تسمع بينته أيضا إذا لم
يكن صرح بأنه ملكه، بل اقتصر على البيع. وقال الروياني: لو باع شيئا ثم قال
بعد: وأنا لا أملكه، ثم ملكته بالإرث من فلان، فإن قال حين باع: هو ملكي. لم
تسمع دعواه، ولا بينته وإن لم يقل ذلك، بل اقتصر على قول: بعتك، سمعت
دعواه، فإن لم يكن له بينة، حلف المشتري أنه باعه، وهو ملكه، قال: وقد نص
عليه في الام وغلط من قال غيره، وكذا لو ادعى أن المبيع وقف عليه.
فصل في فتاوى القاضي حسين رحمه الله أنه لو ادعى عليه عشرة، فقال:
لا يلزمني تسليم هذا المال اليوم، لا يجعل مقرا، لأن الاقرار لا يثبت بالمفهوم،
وإن بينتي الملك والوقف تتعارضان كبينتي الملك. وأنه لو ماتت وخلفت زوجا
وأخا وأختان، فادعى الزوج أن المتاع كله له، جعل نصفين أحدهما للزوج بحكم
اليد، والثاني للميتة، ويحلف الزوج على النصف الذي يجعل له باليد، كما لو
كانت حية، فادعت الكل، فإن كان الأخ غائبا والأخت حاضرة، حلف لها، فإذا
حضر، حلف له، فإن أقامت الأخت بينة أن الكل لها ولأخيها، سمعت، وثبت حق
الأخ. وأن من حبسه القاضي، لا يجوز إطلاقه إلا برضى خصمه، أو ثبوت
إعدامه، فإن ثبت، أطلقه وإن لم يرض خصمه. وإذا أطلقه برضى الخصم، فأراد
370

إقامة بينة بإعدامه، لم تسمع، لأنه لا حبس عليه والحالة هذه، بخلاف ما إذا
استحق حبسه. وأن حق إجراء الماء على سطحه، أو أرضه، أو طرح الثلج في
ملكه، يجوز الشهادة به إذا رآه مدة طويلة بلا مانع، ولا يكفي قول الشهود: رأينا
ذلك سنين وإن كان ذلك مستند شهادتهم.
فصل سئل الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله عن رجلين تنازعا دارا،
فأقام أحدهما بينة أنها ملكه، وادعى الآخر أنها وقف عليه، ولم يقم بينة، فحكم
القاضي لمدعي الملك، ثم ادعى آخر وقفها، فأقام مدعي الملك بينة على حكم
القاضي له بالملك، وأقام مدعي الوقف بينة بالوقف، فرجح الحاكم بينة الملك
ذهابا إلى أن الملك الذي حكم به تقدم على الوقف الذي لم يحكم به، ثم تنازع
مدعي الملك، وآخر يدعي وقفيتها، فأقام مدعي الملك بينة لحكم الحاكم له
بالملك، وتقديم جانبه، وأقام الآخر بينة بأن الوقف الذي يدعيه قضى بصحته قبل
الحكم بالملك، وبترجيحه على الوقف، هل يرتد حكم الحاكم بذلك؟ فقال:
نعم يقدم الحكم بالوقف على الحكم بالملك وينقض الحكم بالوقف الحكم
بالملك. وسئل عمن اشترى ضيعة، وبقيت في يده مدة، فخرجت وقفا وانتزعت،
فقال: عليه أجرة المثل للمدة التي كانت في يده. وعن رجل وقف ملكا، وأقر أن
حاكما حكم بصحته، ولم يسم الحاكم ولا عينه، ثم رجع عنه ورفع الامر إلى حاكم
يرى جواز الرجوع، فهل له الحكم بنفوذ الرجوع؟ قال: لا.
فصل في فتاوى الغزالي أنه لو ادعى دارا في يد غيره، فقال المدعى عليه:
اشتريتها من زيد فأقام المدعي على إقرار زيد له بها قبل البيع، فأقام المدعى
371

عليه بينة على إقرار المدعي لزيد بها قبيل البيع، وجهل التاريخ، قررت الدار في يد
المدعى عليه. وأنه إذا خرج المبيع مستحقا، فادعى المشتري على البائع وقال:
سلمت إليه في مجلس العقد، فأنكر، وأراد إقامة البينة بأنه لم يقبض منه شيئا في
مجلس العقد، لم تسمع هذه البينة، لأنها تشهد بالنفي، وإنما تسمع البينة بالنفي
في مواضع الحاجة، كالاعسار. وقد يقع التسليم في غفلة ولحظة يسيرة. وأنها إذا
ادعت أنه نكحها وطلقها، وطلبت نصف المهر، أو أنها زوجة فلان الميت، وطلبت
الإرث، فمقصودهم المال، فيثبت برجل وامرأتين، وبشاهد ويمين.
فصل في فتاوى البغوي أنه لو ادعى نكاحها، فأقرت بأنها زوجته منذ
سنة، ثم أقام آخر بينة أنها زوجته نكحها من شهر، حكم للمقر له، لأنه ثبت
بإقرارها النكاح الأول، فما لم يثبت الطلاق، لا حكم للنكاح الثاني. وأنه لو تحاكم
رجل وامرأة بكر إلى فقيه ليزوجها به، وجوزنا التحكيم فيه، فقال المحكم:
حكمتني لأزوجك بهذا، فسكتت كان سكوتها إذنا، كما لو استأذنها الولي
فسكتت. وأنه لو حضر عند القاضي رجل وامرأة، واستدعت تزويجها به، وقالت:
كنت زوجة فلان فطلقني، أو مات عني، لا يزوجها ما لم يقم حجة بالطلاق أو
الموت.
372

فصل عن ابن القاص ان من أنكر الحلف بالطلقات الثلاث يحلف أنه ما
قال لها: إن دخلت الدار، فأنت طالق ثلاثا، وهي بائن منه بثلاث. وقال الشيخ
أبو زيد: يكفيه أنها لم تبن منه بثلاث. ووجه الأول أنه قد يحلف متأولا على مذهب
الحجاج بن أرطاة وتابعيه أن الثلاث لا تقع مجموعة، أو على تصحيح الدور.
ويجوز أن يقال: إن قال: لم تبن مني، حلف عليه، وإن قال: لم أحلف
بطلاقها، حلف عليه.
حكى الهروي عن العبادي أن من ادعى عليه وديعة، فقال: لا يلزمني دفع
شئ إليه، لا يكون هذا جوابا، لأن المودع لا دفع عليه، إنما يلزمه التخلية،
والجواب الصحيح أن ينكر أصل الايداع، أو يقول: هلك في يدي، أو رددته،
وهذا يخالف كلام الأصحاب، الا تراهم يقولون: من جحد الوديعة فقامت بينة
بالايداع، فادعى تلفا أو ردا قبل الجحود، نظر، إن كانت صيغة جحده إنكار أصل
الوديعة أم قال: لا يلزمني تسليم شئ إليك، فإما أن يقدر خلاف، أو يؤول ما
أطلقوه.
قلت: الذي قاله ابن القاص صحيح، وتأويل كلامهم متعين، وهو أنهم
أرادوا إذا جرى منه هذا اللفظ، فحكمه كذا، لأن القاضي يقنع منه بهذا الجواب مع
طلب الخصم الجواب. والله أعلم.
وأنه إذا أقام بينة بأنه أجير فلان لحفظ سفينته هذه بدينار، وأقام صاحب السفينة بينة
أنه أجره إياها بدينار، تعارضتا، وأنه لو شهد عليه اثنان بالقتل في وقت معين،
وآخران أنه لم يقتل في ذلك الوقت لأنه كان معنا، ولم يغب عنا، تعارضتا، وقد
سبق من نظائر هذا ما يخالفه.
قلت: يعني أن البينة الثانية شهدت بالنفي، وقد سبق أن شهادة النفي لا تقبل
إلا في مواضع الضرورة، كالاعسار. هذا مراد الرافعي هنا، وقد تقدم في الفصل
السابق عن فتاوى الغزالي ما يوافقه، ولكنه ضعيف مردود، بل الصواب أن النفي إذا
كان في محصور يحصل العلم به، قبلت الشهادة به، وقد سبق ذكري لهذه المسألة
373

في الشهادات. والله أعلم.
وأن من أراد أن يدعي، ويقيم البينة من غير أن يعترف للمدعى عليه باليد،
فطريقه أن يقول: الموضع الفلاني ملكي، وهذا يمنعني منه تعديا، فمره يمكني
منه. وأنه لو شهد شاهدان أن الكلب ولغ في هذا الاناء ولم يلغ في ذاك وآخران
بضده، تعارضتا، فلو لم يقولوا: لم يلغ في ذلك فالإناءان نجسان، وهذا شهادة
على إثبات ونفي، ويمكن التعارض بلا نفي، بأن يعينا وقتا لا يمكن فيه إلا ولوغ
واحد.
قلت: هذه المسألة ذكرتها في كتاب الطهارة مستوفاة مختصرة، وفي هذا
الذي ذكره العبادي فيها من إثبات التعارض تصريح بقبول شهادة النفي في المحصور
كما سبق قريبا. والله أعلم.
الباب السابع في دعوى النسب وإلحاق القائف
مقصود الباب الكلام في القائف وشرطه. أما الاستلحاق وشروطه فسبق ذكره
في كتاب الاقرار واللقيط.
وفي الباب ثلاثة أركان:
الأول: المستلحق، وقد سبق في كتاب اللقيط أن المذهب صحة استلحاق
العبد والعتيق دون المرأة على الأصح، وسبق هناك جمل من أركانه.
الركن الثاني: الملحق، وهو القائف، وليكن فيه صفات بعضها واجب
قطعا، وبعضها مختلف فيه، فيشترط فيه أهلية الشهادة، فيكون مسلما بالغا عاقلا
عدلا، والأصح اشتراط حريته وذكورته، وأنه يكفي واحد، ونص عليه. وقيل:
يشترط اثنان. وأنه لا يشترط كونه من مدلج، بل يجوز من سائر العرب
ومن العجم. قال ابن كج: ولا يجوز أن يكون أعمى، ولا أخرس، قال: ولو كان
ابن أحد المتداعيين، فألحقه بغير أبيه، قبل، وإن ألحقه بأبيه، لم يقبل. ولو
كان عدو أحدهما، فألحقه به، قبل. وإن ألحقه بالآخر، فلا، لأنه كالشهادة على
374

العدو. ولو كان القاضي قائفا، فهل يقضي بعلمه؟ فيه الخلاف في القضاء بعلمه،
ويشترط كونه مجربا. وكيفية التجربة: أن يعرض عليه ولد في نسوة ليس فيهن أمه،
ثم في نسوة ليس فيهن أمه، ثم في نسوة ليس فيهن أمه، فإذا أصاب في الكل،
صار مجربا، وقبل قوله بعد ذلك. وهل تختص التجربة بالأم، أم يجوز أن يعرض
عليه المولود مع أبيه في رجال؟ وجهان، الأصح المنصوص: الثاني، وبه قطع
العراقيون وغيرهم، لكن العرض مع الام أولى. وأما تكرار العرض ثلاثا، فقد جعله
الشيخ أبو حامد وأصحابه شرطا. وقيل: يكفي مرة، وقال الامام: لا معنى
لاعتبار الثلاث، بل المعتبر غلبة الظن، بأقواله عن خبرة لا عن اتفاق، وهذا قد
يحصل بدون الثلاثة. وإذا حصلت التجربة، اعتمدنا إلحاقه، ولا تجدد التجربة
لكل إلحاق.
الركن الثالث: الولد الملحق، ويعرض على القائف في موضعين:
أحدهما: أن يتنازع اثنان مولودا مجهولا من لقيط أن غيره، فيعرض على القائف
كما سبق في اللقيط. والثاني: أن يشترك اثنان فأكثر في وطئ امرأة، فتأتي بولد
لزمان يمكن كونه منهما، ويدعيه كل منهما فيعرض على القائف. ويتصور
الاشتراك في الوطئ على الوجه المذكور من وجوه. منها: أن يطأها كل منهما بالشبهة
بأن يجدها بفراشه، فيظنها زوجته أو أمته، فلو كانت في نكاح صحيح فوطئت
بشبهة، فوجهان، قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: يلحق الولد بالزوج، لأنها
فراشه، والفراش أقوى من الشبهة، كما لو طلقها وانقضت عدتها، ونكحت،
وولدت تلحق بالثاني وإن أمكن كونه من الأول، لأنها فراش الثاني، والأصح على ما
375

ذكره الروياني وغيره، وبه قطع الامام أنه يعرض على القائف، ويكون لمن ألحقه
به، بخلاف صورة الاستشهاد لأن العدة أمارة ظاهرة في البراءة عن الأول، وهنا
بخلافه.
ومنها: أن يطأ زوجته في نكاح صحيح، ثم طلقها، فيطأها آخر بشبهة، أو
في نكاح فاسد، بأن ينكحها في العدة جاهلا بها.
ومنها: أن يطأها اثنان في نكاحين فاسدين، وأن يطأ الشريكان المشتركة،
وأن يطأ أمته ويبيعها، فيطأها المشتري، ولا يستبرئ واحد منهما. فإذا وطئ اثنان
في بعض هذه الصور في طهر، فولدته لما بين أربع سنين وستة أشهر من الوطأين،
وادعياه جميعا، عرض على القائف، فإن تخلل بين الوطأين حيضة، فهي أمارة
ظاهرة في حصول البراءة عن الأول، فينقطع تعلقه، إلا أن يكون الأول زوجا في
نكاح صحيح، والثاني واطئا بشبهة أو نكاح فاسد، فلا ينقطع تعلق الأول، لان
إمكان الوطئ مع فراش النكاح قائم مقام نفس الوطئ والامكان حاصل بعد الحيضة.
وإن كان الأول زوجا في نكاح فاسد، ففي انقطاع تعلقه بتخلل الحيضة قولان،
أظهرهما: الانقطاع، لأن المرأة لا تصير فراشا في النكاح الفاسد إلا بحقيقة
الوطئ، وسواء كان المتنازعان والواطئان مسلمين وحرين، أو مختلفي الحال.
فصل لو استلحق صبيا في يده، أولا في يده، فبلغ وانتفى منه، هل
يندفع نسبه؟ فيه وجهان سبقا في الاقرار واللقيط. فإن استلحق بالغا فأنكر، فقد
سبق أنه لا يلحقه، وإلحاق القائف والحالة هذه ليس بحجة. فلو سكت البالغ، فقد
ذكر الغزالي أنه يلحقه القائف، وهذا لم أجده لغيره إذا لم يكن هناك إلا واحد عليه،
لكن لو ادعاه اثنان في موضع الاشتباه، فسكت، عرض على القائف. فلو وافق
أحدهما، لحقه، ولا يقبل قول القائف بخلافه. ولو ادعى اثنان صبيا مجهولا ففيه
تفصيل سبق في اللقيط.
فصل ادعى نسب مولود على فراش غيره بسبب وطئ شبهة، فإن قلنا:
وطئ الشبهة لا أثر له إذا كانت المرأة فراشا لزوج، والولد ملحق بالزوج، لم تسمع
دعواه. وإن قلنا: له أثر، لم يكف اتفاق الزوجين عليه، بل لا بد من البينة على
الوطئ لأن للولد حقا في النسب، واتفاقهما ليس حجة عليه، فإذا قامت البينة،
376

عرض على القائف، فإن كان المدعي نسبه بالغا، واعترف بجريان وطئ الشبهة،
وجب أن يكفي. وإذا استلحق مجهولا، وله زوجة، فأنكرت ولادته، فهل يلحقها
باستلحاقه؟ وجهان، الصحيح: لا، لجواز كونه من وطئ شبهة أو زوجة أخرى.
ولو استلحق مجهولا، وله زوجة، فأنكرت ولادته، واستلحقته امرأة لها زوج،
فأنكره، فهل أمه الأولى أم الثانية، أم يعرض على القائف فيلحقه بإحداهما؟ فيه
أوجه. ولو كانت الصورة بحالها، وأقام كل واحد بينة، فهل بينته أولى من بينتها
أم يتعارضان، أم يعرض على القائف، فإن ألحقه بالرجل لحقه ولحق زوجته، وإن
ألحقه بالمرأة لحقها دون زوجها؟ فيه أربعة أوجه حكاها الصيدلاني عن ابن سريج.
فصل إذا لم يجد قائفا، أو تحيرا، وألحقه بهما، أو نفاه عنهما، وقفناه
حتى يبلغ، فإذا بلغ أمر بالانتساب إلى أحدهما بحسب الميل الذي يجده، فإن
امتنع، حبس ليختار، وإذا اختار، كان اختياره كإلحاق القائف. وإن قال: لا أجد
ميلا إلى أحدهما، بقي الامر موقوفا، ولا عبرة باختياره قبل البلوغ. وقيل: يخير المميز،
وقد سبق هذا في اللقيط. ولو ألحقه القائف بأحدهما، ثم رجع وألحقه بالآخر، أو
ألحقه بآخر قائف آخر، لم يقبل قوله على الصحيح. وقيل: إذا ألحقه قائف بهذا
، وآخر بذاك، تعارضا، وصار كأن لا قائف. وأنه إذا رجع القائف، فإن كان بعد
الحكم بقوله، لم يلتفت إليه. وإن رجع قبله قبل رجوعه، لكن لا يقبل قوله في حق
الاخر لسقوط الثقة بقوله ومعرفته.
فرع إذا ألحقه بهما، قال القفال: يستدل بذلك على أنه لا يعرف
الصنعة، فلا يعتد بقوله بعده حتى يمضي زمان يمكن التعلم فيه فيمتحن حينئذ ثم
يعتمد.
فرع إذا كانا توأمين، فألحق القائف أحدهما بأحدهما، والآخر بالآخر،
فهو كما لو ألحق الواحد بهما.
فرع إذا انتسب المولود إلى أحدهما، ثبت نسبه منه، ولا يقبل رجوعه،
وإن انتسب إليهما، لغا، وأمر بالانتساب إلى أحدهما ولو اختلف التوأمان في
377

الانتساب، لم يعتبر قولهما، فإن رجع أحدهما إلى قول الاخر، قبل.
فصل إذا وطئا في طهر، فأتت بولد يمكن كونه منهما، فادعاه أحدهما
، وسكت الاخر، أو أنكر، فقولان: أحدهما: يختص بالمدعي، كمال في يد اثنين
ادعاه أحدهما دون الاخر، يجعل له. وأظهرهما: يعرض على القائف، لأن للولد
حقا في النسب، فلا يسقط بالانكار، وإن أنكراه معا، عرض ولا تضييع لنسبه.
فرع نفقة الولد إلى أن يعرض على القائف، وفي مدة التوقف إلى
الانتساب، تكون عليهما، فإذا ألحق بأحدهما، رجع الاخر عليه بما أنفق، وهل
تجب النفقة في حال الاجتنان؟ يبنى على أن الحمل هل يعلم؟ إن قلنا: يعلم،
فنعم، وإلا، فلا. فإذا أوجبناها، فكان أحدهما زوجا طلق، والآخر وطئ
بشبهة، فإن قلنا: النفقة للحامل، فهي على المطلق، وإن قلنا: للحمل،
فعليهما حتى يظهر الامر. وإن أوصى للطفل في وقت التوقف، فليقبلاها جميعا.
فرع إذا مات الولد قبل العرض، فإن تغير، فقد تعذر العرض، وإلا،
فإن دفن، لم ينبش، وإلا، فوجهان، أصحهما: يعرض، لأن الشبه لا يزول
بالموت. والثاني: لا، لأن القائف قد يبني على الحركة والكلام ونحوهما مما يبطل
بالموت. ولو مات أحد المتداعيين، عرض أبوه أو أخوه أو عمه مع الولد، ذكره
البغوي.
فرع من الرعاة من يلتقط السخال في الظلمة، ويضعها فوعاء، فإذا
أصبح، ألقى كل سخلة إلى أمها، ولا يخطئ لمعرفته. فقال الإصطخري: يعمل
بقول هذا الراعي إذا تنازعا سخلة، والصحيح: المنع، وإنما تثبت القيافة في
الآدمي لشرفه وحفظ نفسه.
فرع لو ألحقه قائف بأحدهما بالأشباه الظاهرة، وآخر بالآخر بالأشباه
الخفية، كالخلق وتشاكل الأعضاء، فأيهما أولى؟ وجهان، أصحهما: الثاني، ولو
378

ادعاه مسلم وذمي، وأقام أحدهما بينة، تبعه نسبا ودينا وإن ألحقه القائف بالذمي،
تبعه نسبا لا دينا، ولا يجعل حضانته للذمي. ولو ادعاه حر وعبد، وألحقه القائف
بالعبد، ثبت النسب، وكان حرا، لاحتمال أنه ولد من حرة. وبالله التوفيق.
379

كتاب العتق
تظاهرت النصوص والاجماع على أنه قربة، ويصح من كل مالك مطلق
لا يصادف إعتاقه متعلق حق لازم لغيره، فلا يصح إعتاق غير مالك إلا بوكالة أو
ولاية، ولا إعتاق صبي ومجنون ومحجور عليه بسفه. وفي المحجور لفلس
والراهن والعبد الجاني خلاف سبق في التفليس، والرهن والبيع والمريض مرض
380

الموت يعتبر إعتاقه من الثلث، ولا يصح إعتاق الموقوف عليه الموقوف، ويصح
إعتاق الذمي والحربي. وإذا أسلم عتيق الكافر، فولاؤه ثابت عليه. ويصح العتق
بالصريح والكناية أما الصريح، فالتحرير والاعتاق صريحان، فإذا قال له: أنت
حر، أو محرر، أو أحررتك، أو أنت عتيق، أو معتق، أو أعتقتك، عتق. وإن لم
ينو، ولا أثر للخطأ في التذكير والتأنيث، بأن يقول للعبد: أنت حرة، أو للأمة:
أنت حر. وفك الرقبة صريح على الأصح. والكناية كقوله: لا ملك لي عليك، أو
لا سبيل، أو لا سلطان، أو لا يد، أو لا أمر، أو لا خدمة، أو أزلت ملكي عنك،
أو حرمتك، أو أنت سائبة، أو أنت لله. وصرائح الطلاق وكناياته كلها كنايات في
العتق. وقوله: أنت علي كظهر أمي كناية على الأصح، لاقتضائه التحريم،
كقوله: حرمتك. ولو قال: وهبتك نفسك، ونوى العتق، عتق. فإن نوى
التمليك، فعلى ما سنذكره إن شاء الله تعالى في قوله: بعتك نفسك. ولو كانت أمته
تسمى قبل جريان الرق عليها حرة، فقال لها: يا حرة، فإن لم يخطر له النداء
باسمها القديم، عتقت، وإن قصد نداءها، لم تعتق على الأصح، وقيل:
تعتق، لأنه صريح. ولو كان اسمها في الحال حرة، أو اسم العبد حر أو عتيق، فإن
قصد النداء، لم يعتق. وكذا إن أطلق على الأصح. وفي فتاوى الغزالي: أنه لو
اجتاز بالمكاس، فخاف أن يطالبه بالمكس عن عبده، فقال: إنه حر لبس بعبد،
وقصد الاخبار، لم يعتق فيما بينه وبين الله تعالى، وهو كاذب في خبره. ومقتضى
هذا أنه لا يقبل ظاهرا وأنه لو قال: افرغ من هذا العمل قبل العشاء، وأنت حر،
381

وقال: أردت: حر من العمل، دين، ولا يقبل ظاهرا. وأنه لو زاحمته امرأة في
طريق، فقال: تأخري يا حرة، فبانت أمته، لم تعتق. ولو قال لعبد: يا مولاي،
فكناية، ولو قال له: يا سيدي، فقال القاضي حسين والغزالي: هو لغو. قال
الامام: الذي أراه أنه كناية.
فرع قال لعبد غيره: أنت حر، فهذا إقرار بحريته، وهو باطل في
الحال. فلو ملكه حكمنا بعتقه مؤاخذة له بإقراره. ولو قال لعبد الغير: قد
أعتقتك، قال الغزالي: إن ذكره في معرض الانشاء، فلغو، أو في معرض الاقرار،
فيؤاخذ به إن ملكه. وقال القاضي حسين: هو إقرار، لأن قد يؤكد معنى المضي
في الفعل الماضي. قال الامام: ومقتضى كلامه أن قوله: أعتقك بلا قد
لا يكون إقرار وإن كانت الصيغة في الوضع للماضي، قال: وعندي لا فرق بينهما.
والوجه أن يراجع ويحكم بموجب قوله، فإن لم يفسر، ترك، وينبغي أن لا فرق بين
قوله: أنت حر، وقوله: أعتقتك.
فرع يصح تعليق العتق بالصفات والاعتاق على عوض، قال: ولو
قال: جعلت عتقك إليك، أو حررتك، ونوى تفويض العتق إليه، فأعتق نفسه في
الحال، عتق. ولو قال: أعتقتك على كذا، فقبل في الحال، أو قال العبد:
اعتقني على كذا، فأجابه، عتق، وعليه ما التزم. ولو قال: أعتقتك على كذا إلى
382

شهر، فقبل، عتق في الحال، والعوض مؤجل. ولو أعتقه على خمر أو خنزير،
عتق، وعليه قيمته، وكذا لو قال: أعتقتك على أن تخدمني ولم يبين مدة، أو
تخدمني أبدا. ولو قال: على أن تخدمني شهرا. أو تعمل لي كذا، وبينه، فقبل،
عتق، وعليه ما التزم. ولو خدمه نصف شهر ومات، فللسيد نصف قيمته في
تركته.
فروع أكثرها عن ابن سريج رحمه الله. إذا قال: أول من دخل الدار من
عبيدي، أو أي عبد من عبيدي دخل أولا، فهو حر، فدخل اثنان معا، ثم ثالث،
لم يعتق واحد منهم. أما الثالث، فظاهر، والاثنان لا يوصف واحد منهما بأنه أول.
ولو كان اللفظ والحالة هذه: أول من يدخل وحده، عتق الثالث. ولو دخل واحد
لا غير، فهل يعتق؟ وجهان في تعليق الشيخ أبي حامد: أصحهما: نعم. ولو
قال: آخر من يدخل الدار من عبيدي حر، فدخل بعضهم بعد بعض، لم يحكم
بعتق واحد منهم إلى أن يموت السيد، فيبين الاخر. ولو قال لعبده: إن لم أحج
383

العام فأنت حر، فمضى العام، واختلفا في أنه حج، فأقام العبد بينة أنه كان بالكوفة
يوم النحر، عتق خلافا لأبي حنيفة رحمه الله. ولو قال لعبديه: إذا جاء الغد،
فأحدكما حر، فجاء الغد، عتق أحدهما، وعليه التعيين. فلو باع أحدهما أو
أعتقه، أو مات قبل مجئ الغد، وجاء الغد والآخر في ملكه، لم يتعين العتق،
لأنه لا يملك حينئذ إعتاقهما، فلا يملك إعتاق أحدهما. ولو باعهما أو أحدهما، ثم
اشترى من باع، وجاء الغد وهما ملكه، فعلى الخلاف في عود الحنث. ولو باع
نصف أحدهما، وجاء الغد وفي ملكه نصفه الآخر، فإليه التعيين، فإن عين من
نصفه له، وقع النظر في السراية. ولو قال: إذا جاء الغد وأحدكما في ملكي فهو
حر فباع أحدهما ثم جاء الغد والآخر في ملكه، عتق. وإن باع أحدهما ونصف
الاخر، وجاء الغد، لم يعتق النصف الباقي، لأنه لم يبق كل واحد منهما في ملكه.
فصل في خصائص العتق التي ينفرد بها عن الطلاق، وهي خمس:
الأولى: السراية، فمن أعتق بعض مملوك، فإما أن يكون باقيه له أو لغيره. الحالة
الأولى: أن يكون له، فيعتق كله كما في الطلاق، سواء الموسر والمعسر. ولو
أضاف إلى عضو معين، كيد، ورجل، عتق كله، كالطلاق. وفي كيفية التكميل
إذا أضاف العتق إلى الجزء الشائع وجهان: أحدهما يحصل في الجزء المسمى، ثم
يسري إلى الباقي. والثاني: يقع على الجميع دفعة ويكون إعتاق البعض عبارة عن
إعتاق الكل. وإن أضافه إلى جزء معين، فوجهان مرتبان، وأولى بحصوله دفعة،
وقد سبق هذا الخلاف بتفاريعه في الطلاق.
ولو أعتق أمته الحامل بمملوك له، عتق الحمل أيضا، لا بالسراية، فإن
384

السراية في الأشقاص، لا في الاشخاص، بل بطريق التبع كما يتبعها في البيع، إلا
أن البيع يبطل باستثنائه، والعتق لا يبطل لقوته. ولهذا لو استثنى عضوا في البيع،
بطل، بخلاف العتق. ولو أعتق الحمل، عتق، ولم يعتق الام على الصحيح،
لأنها لا تتبعه. وقال الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني: تعتق بعتقه. ولو كانت الام
لواحد، والحمل لآخر، لم يعتق واحد منهما بعتق الاخر. ولو قال لامته: إذا ولدت
فولدك حر، أو كل ولد تلدينه حر، فقد ذكرنا في الطلاق أنها إن كانت حاملا عند
التعليق، عتق الولد، وإن كانت حائلا، عتق أيضا على الأصح، لأنه وإن لم يملك
الولد حينئذ، فقد ملك الأصل المفيد لملك الولد. ولو قال لامته الحامل: إن كان
أول من تلدينه ذكرا فهو حر، وإن كانت أنثى فأنت حرة، فولدت ذكرا وأنثى، فإن
ولدت الذكر أولا، عتق، ورقت الام والأنثى، وإن ولدت الأنثى أولا، عتقت الام
والذكر أيضا، لكونه في بطن عتيقه، وترق الأنثى، لأن عتق الام طرأ بعد مفارقتها.
وإن ولدتهما معا، فلا عتق، إذ لا أول فيهما. ولو لم يعلم هل ولدتهما معا أو
مرتبا، فلا عتق، للشك. وإن علم سبق أحدهما، وأشكل، فالذكر حر بكل
حال، والأنثى رقيقة بكل حال، والأم مشكوك فيها، فيؤمر السيد بالبيان، فإن مات
قبل البيان، فالأصح أنها رقيقة، عملا بالأصل. وقال ابن الحداد: يقرع عليها
بسهم رق وسهم عتق، قال الشيخ أبو علي: ما ذكره ابن الحداد غلط عند عامة
الأصحاب، لأنا شككنا في عتقها، والقرعة لا يثبت مشكوكا فيه، وإنما يستعمل في
تعيين ما تيقنا أصله. قال الشيخ أبو علي: هذا كله إذا ولدت في صحة السيد، فلو
ولدت في مرض موته، نظر، إن كان الثلث يفي بالجميع، لم يختلف الجواب،
وإن لم يف بأن لم يكن له إلا هذه الأمة وما ولدت، أقرع بين الام والغلام، فإن
خرجت على الغلام، عتق وحده إن خرج من الثلث، وإن خرجت على الام، قومت
حاملا بالغلام يوم ولدت الجارية إن ولدتها أو لا، ويعتق منها ومن الغلام قدر الثلث
، فإن كانت قيمة الجارية مائة وقيمة الام حاملا بالغلام مائتين، فيعتق نصفها ونصف
385

الغلام وهو مائة، ويبقى للورثة النصفان، وهو مائة، والجارية وهي مائة أخرى.
الحالة الثانية: أن يكون الباقي لغيره، فيعتق نصيبه، فإن كان موسرا بقيمة
باقية، لزمه قيمته للشريك، وعتق الباقي عليه وولاء جميع العبد له، وإن كان
معسرا الباقي على ملك الشريك وإنما يثبت التقويم بأربعة شروط. أحدها:
كون المعتق موسرا وليس معناه أن يعد غنيا، بل إذا كان له من المال ما يفي
بقيمة نصيب شريكه، قوم عليه، وإن لم يملك غيره، ويصرف إلى هذه الجهة كل
ما يباع في الدين، فيباع مسكنه وخادمه، وكل ما فضل عن قوت يوم، وقوت من
تلزمه نفقته، ودست ثوب يلبسه، وسكنى يوم، والاعتبار في اليسار بحالة الاعتاق،
فإن كان معسرا، ثم أيسر، فلا تقويم.
ولو ملك قيمة الباقي، لكن عليه دين بقدره، قوم عليه على الأظهر، واختاره
الأكثرون، لأنه مالك لما في يده نافذ تصرفه. ولهذا لو اشترى به عبدا وأعتقه، نفذ.
والثاني: لا يقوم، لأنه غير موسر، بل لو أبرئ عن الدين، لم يقوم عليه أيضا،
كالمعسر يوسر، فعلى الأول يضارب الشريك بقيمة نصيبه مع الغرماء، فإن أصابه
بالمضاربة ما يفي بقيمة جميع نصيبه، فذاك، وإلا اقتصر على حصته، ويعتق
جميع العبد إن قلنا: تحصل السراية بنفس الاعتاق، وإن قلنا: لا تحصل بنفس
الاعتاق، ضارب الشريك بقيمة باقيه، إلى أن يعتق الجميع. ولو كان بين رجلين
386

عبد قيمته عشرون، فقال رجل لأحدهما: أعتق نصيبك منه عني على هذه العشرة،
وهو لا يملك غيرها، فأجابه، عتق نصيبه عن المستدعي، ولا سراية، لأنه زال
ملكه عن العشرة بما جرى، وإن قال: علي عشرة في ذمتي، فإن قلنا: الدين يمنع
التقويم، لم يقوم، وإن قلنا: لا يمنع، فإن قلنا: السراية تحصل بنفس الاعتاق،
عتق جميع العبد، ويقسم العشرة بين الشريكين بالسوية، وتبقى لكل واحد خمسة
في ذمته، وإن قلنا: لا يحصل بنفس الاعتاق، عتق من نصيب الشريك بالسراية
حصة الخمسة، وهو ربع العبد، ويبقى الباقي على الرق، وللشريك المستدعي
منه خمسة في ذمته.
ولو ملك نصفين من عبدين متساويي القيمة، فأعتق نصيبه منهما وهو موسر
بنصف قيمة أحدهما، نظر إن أعتقهما معا، عتق نصيبه منهما، وسرى إلى نصف
نصيب الشريك من كل منهما، فيعتق من كل منهما ثلاثة أرباعه، وهذا إذا حكمنا
بالسراية في الحال. وقلنا: اليسار بقيمة بعض النصيب يقتضي السراية بالقسط،
وإن أعتق مرتبا، سرى إلى جميع الأول. ثم إن قلنا: الدين يمنع السراية، فلا
سراية في العبد الثاني، وإلا فيسري، وما في يده يصرف إلى الشريك، والباقي في
387

ذمته. وإن كان الشقصان لشخصين، صرف إلى كل منهما نصفه. ولو ملك
الشقصين، فأعتقهما معا ولا مال له غيرهما، فلا سراية، لأنه معسر. وإن أعتقهما
مرتبا، عتق كل الأول، لأن في نصيبه في العبد الآخر وفاء بباقي الذي أعتق
شقصه، ثم إذا أعتق نصيبه من الثاني نفذ العتق في نصيبه، ولا سراية، لأنه معسر،
وإنما نفذ إعتاقه نصيبه من الثاني، لأن حق الشريك لا يتعين فيه، بل هو في الذمة.
فرع أعتق شريك نصيبه في مرض موته، نظر، إن خرج جميع العبد من
ثلث ماله، قوم عليه نصيب شريكه، وعتق، وإن لم يخرج منه إلا نصيبه، عتق
نصيبه، ولا تقويم، وإن خرج نصيبه وبعض نصيب شريكه، قوم عليه ذلك القدر،
ويجئ فيه خلاف نذكره إن شاء الله تعالى في يسار المعتق ببعض نصيب الشريك.
وبالجملة المريض في الثلث كالصحيح في الكل، وفيما زاد على الثلث معسر.
واحتج القاضي أبو الطيب وغيره باعتبار الثلث على أن التقويم يكون بعد موت
المريض، لأن الثلث يعتبر حالة الموت، حتى إذا لم يف الثلث بجميع العبد حال
إعتاقه، ثم استفاد مالا، ووفى عند الموت، قوم جميعه. وفي التهذيب أنه
لو ملك نصفين من عبدين متساويي القيمة، فأعتقهما في مرض الموت، نظر، إن
خرجا من الثلث، عتقا، سواء أعتقهما معا أو مرتبا، وعليه قيمة نصيب شريكه،
وإن لم يخرج من الثلث إلا نصيباه، فإن أعتقهما معا، عتق نصيباه، ولا سراية،
وإن أعتقهما مرتبا، عتق كل الأول، ولم يعتق من الثاني شئ، لأنه لزمه قيمة
نصيب الشريك من الأول، وصار نصيبه من الثاني مستحق الصرف إليه، وإن خرج
من الثلث نصيباه، ونصيب أحد الشريكين، فإن أعتقهما مرتبا، عتق جميع الأول،
ولا يعتق من الثاني إلا نصيبه، وإن أعتقهما معا فوجهان. أحدهما وبه قال ابن
الحداد: يعتق من كل واحد ثلاثة أرباعه: نصيباه، ونصف نصيب الشريك من كل
واحد منهما. والثاني: يقرع، فمن خرجت قرعته، عتق كله، ولم يعتق من الآخر
إلا نصيبه، لأن القرعة مشروعة في العتق، ولا يصار إلى التشقيص مع إمكان
التكميل. وإن لم يخرج من الثلث إلا أحد نصيبه، فإن أعتقهما معا، فوجهان،
388

أحدهما: يعتق من كل واحد نصف نصيبه، وهو ربع كل عبد، وأصحهما: يقرع،
فمن خرجت قرعته، عتق منه جميع نصيبه، ولا يعتق من الآخر شئ. ولو أعتق
النصيبين ولا مال له غيرهما، قال الشيخ أبو علي: إن أعتقهما مرتبا، عتق ثلثا
نصيبه من الأول، وهو ثلث جميع ماله، وهو ثلث ذلك العبد، ويبقى للورثة سدس
ذلك العبد، ونصف العبد الآخر. وإن أعتقهما معا ومات، أقرع بينهما، فمن
خرجت قرعته، عتق منه ثلثا نصيبه، وهو ثلث ماله.
فرع لو أوصى أحد الشريكين بإعتاق نصيبه بعد موته، فلا سراية وإن خرج
كله من الثلث، لأن المال ينتقل بالموت إلى الوارث، ويبقى الميت معسرا، بل لو
كان كل العبد له فأوصى بإعتاق بعضه، فأعتق، لم يسر. وكذا لو دبر أحدهما
نصيبه، فقال: إذا مت، فنصيبي منك حر، وإن قال في الوصية: أعتقوا نصيبي،
وكملوا العتق كملناه، إن خرج من الثلث، وإن لم يخرج كله، نفذت الوصية في
القدر الذي يخرج.
وهنا فائدتان، إحداهما: قال القاضي أبو الطيب: عندي أنه إذا أوصى
بالتكميل، لا يكمل إلا باختيار الشريك، لأن التقويم إذا لم يكن مستحقا لا يصير
مستحقا باختيار المعتق. ألا ترى أن المعتق لو كان معسرا، ثم أيسر، أو قال:
قوموه علي حتى استقرض، لا يجبر الشريك، والجمهور أطلقوا، ووجهه
الروياني بأنه متمكن من التصرف في الثلث. وإذا أوصى بالتكميل، فقد استبقى
لنفسه قدر قيمة العبد من الثلث، فكان موسرا به.
الثانية: ذكر الامام والغزالي أن لصورة الوصية بالتكميل أن يقول: اشتروا
نصيب الشريك، فأعتقوه، فأما إذا قال: أعتقوه إعتاقا ساريا، فلا خير في هذه
الوصية، لأنه لا سراية بعد الموت، وإن أعتقنا نصيبه، فالذي أتى به وصية
389

بمحال. ولو ملك نصفي عبدين، فأوصى بإعتاق نصيبه منهما بعد موته، أعتق عنه
النصيبان، ولا سراية. ولو قال مع ذلك: وكملوا عتقهما، فإن خرجا من الثلث،
كمن عتقهما، وإن خرج الباقي من أحدهما، فطريقان حكاهما البغوي. أحدهما:
فيه الوجهان فيمن أعتق في مرض الموت النصيبين، ولم يخرج من الثلث إلا نصيباه
مع الباقي من أحدهما، ففي وجه: يعتق من كل واحد ثلاثة أرباعه، وفي آخر:
يقرع، فمن خرجت قرعته، أعتق كله، وأعتق من الآخر نصيبه لا غير. الثاني:
القطع بالقرعة، لأنه قصد التكميل هنا حيث أوصى به، فيراعى مقصوده بقدر
الامكان.
فرع لو كان الشريك موسرا ببعض قيمة النصيب، فوجهان، الأصح
المنصوص في الام: أنه يسري إلى القدر الذي هو موسر به. والثاني: لا
يسري، لأنه لا يفيده الاستقلال في ثبوت أحكام الأحرار. ولو كان
بن ثلاثة عبد، فأعتق اثنان نصيبهما، وأحدهما موسر، قوم نصيب الثالث عليه بلا
خلاف.
الشرط الثاني: أن يحصل عتق نصيبه باختيار، فلو ملك بعض من يعتق عليه
بالقرابة، نظر، إن ملكه لا باختياره بأن ورثه، لم يسر، وإن ملكه باختيار، فإن
كان بطريق يقصد به اجتلاب الملك كالشراء، وقبول الهدية والوصية، سرى، وإن
كان بطريق لا يقصد به التملك غالبا، لكنه يتضمنه، فإن كانت عبدا، فاشترى
شقصا ممن يعتق على سيده، ثم عجزه سيده فصار الشقص له، وعتق، لم يسر
على الأصح، وبه قال ابن الحداد. وإن عجز المكاتب نفسه، لم يسر، لعدم
اختيار سيده. ولو باع شقصا ممن يعتق على وارثه، بأن باع ابن أخيه بثوب ومات،
وراثه أخوه، فوجد بالثوب عيبا، فرده، واسترد الشقص، وعتق عليه، ففي
السراية وجهان لأنه تسبب في تملكه، لكن مقصوده رد الثوب.
قلت: الأصح هنا السراية. والله أعلم.
ولو وجد مشتري الشقص به عيبا، فرده، فلا سراية، كالإرث. ولو أوصى
390

لزيد بشقص ممن يعتق على وارثه، بأن أوصى له ببعض جارية، له منها ابن، أو
أوصى له ببعض ابن أخيه، ومات زيد قبل قبول الوصية، فقبلها ابنه أو أخوه، عتق
عليه الشقص، ولا سراية على الأصح، لأن بقبوله يدخل الشقص في ملك الوارث،
ثم ينتقل إليه بالإرث. فلو أوصى له بشقص ممن يعتق عليه، ولا يعتق على وارثه،
بأن أوصى له بشقص من أمة، ووارثه أخوه من أبيه، فمات وقبل الوصية أخوه، عتق
ذلك الشقص على الميت، ويسري إن كان له تركة يفي ثلثها بقيمة الباقي، لأن قبول
وارثه كقبوله في الحياة. قال الامام: هكذا ذكره الأصحاب، وفيه وقفة، لأن القبول
حصل بغير اختياره. ولو باع عبدا لابنه ولأجنبي، صفقة واحدة، عتق نصيب
الابن، وقوم عليه نصيب الشريك.
الشرط الثالث: أن لا يتعلق بمحل السراية حق لازم، فلو أعتق نصيبه،
ونصيب شريكه مرهون، سرى على الأصح، لأن حق المرتهن ليس بأقوى من حق
المالك، وتنتقل الوثيقة إلى القيمة. ولو كاتبا عبدا، ثم أعتقه أحدهما، فالصحيح
أو المشهور أنه يسري، وهل يقوم في الحال أم بعد العجز عن أداء نصيب الشريك؟
فيه خلاف نذكر تفاريعه إن شاء الله تعالى في الكتابة. ولو كان نصيب شريكه مدبرا،
قوم أيضا على الأظهر، لأن المدبر كالقن في البيع. فإن قلنا: لا يسري، فرجع عن
التدبير، قال الأكثرون: لا يسري، كما لو أعتق وهو معسر، ثم أيسر. وقيل:
يسري، لزوال المانع، فعلى هذا هل يحكم بالسراية عند ارتفاع التدبير، أم يتبين
استنادها إلى وقت الاعتاق؟ وجهان. ولو كان نصيب الشريك مستولدا، بأن
استولدها وهو معسر، لم يسر على الأصح، لأن السراية تتضمن النقل، وأم الولد
لا يقبل النقل، وقيل: يسري، لأن السراية كالاتلاف، وإتلاف أم الولد يوجب
القيمة ولو استولدها أحدهما وهو معسر، ثم استولدها الثاني، ثم أعتقها
أحدهما، ففي السراية الوجهان.
الشرط الرابع: أن يوجه الاعتاق إلى ما يملكه ليعتق نصيبه، ثم يسري،
وذلك بأن يقول: أعتقت نصيبي من هذا العبد، أو النصف الذي أملكه، فلو قال:
أعتقت نصيب شريكي، أو نصيب شريكي من هذا العبد حر، فهو لغو، ولو
391

أطلق فقال لعبد يملك نصفه: أعتقت نصفك، فهل يحمل على النصف الذي
يملكه، أم على النصف شائعا؟ وجهان. وعلى التقديرين يعتق جميع العبد إذا كان
موسرا قال الامام: ولا يكاد يظهر لهذا الخلاف فائدة إلا في تعليق طلاق أو إعتاق.
ولو باع نصف عبد يملك نصفه، فإن قال: بعت النصف الذي أملكه من هذا
العبد، أو نصيبي منه وهما يعلمانه، صح. وإن أطلق وقال: بعت نصفه، فهل
يحمل على ما يملكه، أم على النصف شائعا؟ وجهان، فعلى الثاني يبطل في
نصيب الشريك. وفي صحته في نصف نصيبه قولا تفريق الصفقة. ولو أقر بنصفه
المشترك، ففيه هذان الوجهان. وقال أبو حنيفة: يحمل في البيع على ما
يملكه، لأن الظاهر أنه لا يبيع ما لا يملكه. وفي الاقرار على الإشاعة أنه إخبار،
واستحسن الامام والغزالي هذا، وصحح البغوي الإشاعة فيهما.
قلت: الراجح قول أبي حنيفة. والله أعلم.
فرع قال كل واحد منهما: إن دخلت دار زيد فأنت حر، أو فنصيبي منك
حر، فدخلها، عتق على كل واحد نصيبه، ولا يقوم، لأن العتق حصل دفعة، وكذا
لو قال أحدهما: إن كلمت زيدا فنصيبي منك حر، وقال الآخر: إن شتمته،
فنصيبي منك حر فشتمه. وكذا لو وكلا رجلا في عتقه فأعتق كله دفعة، ولا أثر لوقوع
التعليقين أو التوكيلين في وقتين، وإنما العبرة بوقت الوقوع، ولهذا لو قال لغير
المدخول بها: إذا دخلت الدار فأنت طالق طلقة، ثم قال بعده: إن دخلتها فأنت
طالق طلقتين، فدخلت، طلقت ثلاثا، كقوله: أنت طالق ثلاثا. ولو قال
أحدهما: أنت حر قبل موتي بشهر، ونجز الآخر عتقه بعد تعليق الأول بيوم مثلا،
فله أحوال، أحدهما: أن يموت المعلق لدون شهر من التعليق، فيعتق العبد كله
على المنجز إن كان موسرا، لأنه لا يمكن والحالة هذه أن يعتق بالتعليق لئلا يتقدم
العتق على التعليق، وكذا الحكم لو مات بعد مضي شهر من أول شروعه في لفظ
392

التعليق بلا زيادة، وما لم يمض شهر من تمام التعليق، لا يمكن أن يعتق بالتعليق.
الثانية: أن يموت لأكثر من شهر بأيام، فيعتق جميعه على الثاني أيضا، لان
العتق بالتعليق إنما يتقدم على الموت بشهر واعتاق المنجز متقدم على الشهر المتقدم
على الموت، فيؤخذ قيمة نصيب المعلق من المنجز لورثة المعلق. هذا إن قلنا
السراية تحصل بنفس الاعتاق، أو قلنا بالتبيين، وإن قلنا: تحصل بدفع القيمة،
فإذا سبق وقت العتق بالتعليق، كان في نفوذ العتق عن المعلق خلاف، كما سنذكره
في تفريع أقوال السراية إن شاء الله تعالى.
الثالثة: إذا مات على رأس شهر من تمام صيغة التعليق، عتق جميع العبد
على المعلق.
الرابعة: إذا مات على تمام شهرين من تمام كلام المنجز، عتق على كل
واحد نصيبه، ولا تقويم، لوقوع العتقين معا.
فرع متى تثبت السراية إذ حكمنا بها؟ ثلاثة أقوال، أظهرها: بنفس
إعتاق الشريك، والثاني: بأداء قيمة نصيب الشريك. والثالث: موقوف، فإن رأى
القيمة، تبينا حصول العتق باللفظ، وإن فات، تبينا أنه لم يعتق. ويتفرع على
الأقوال مسائل.
إحداها: إذا أولد أمة له نصفها، فإن كان موسرا، سرى الاستيلاد، وهل
يسري بنفس العلوق أم بأداء القيمة، أم يتبين كأدائها السراية بنفس العلوق؟ فيه
الأقوال كالعتق. وعلى الأقوال تلزم المستولد نصف المهر لشريكه مع نصف قيمة
الأمة، ثم إن قلنا: يحصل الملك بأداء القيمة، وجب مع ذلك نصف قيمة الولد.
وإن قلنا: يحصل بالعلوق، أو قلنا بالتبين، فهل يثبت بعد العتق أو قبله؟ وجهان،
إن قلنا: بعده، وجب أيضا نصف قيمة الولد، وإن قلنا: قبله، فلا، وبه أجاب
البغوي. ولو وطئها الثاني قبل أداء القيمة، فإن أثبتنا السراية بنفس العلوق،
393

فعلى الثاني كمال المهر للأول، وللثاني على الأول نصفه، فيقع المهر قصاصا.
وإن قلنا: يحصل بأداء القيمة، لزمه نصف المهر، وله على الأول نصفه،
فيتقاصان. وإن كان الذي أولد معسرا، ثبت الاستيلاد في نصفه، ونصف الآخر
يبقى قنا. وهل يكون الولد كله حرا، أم تبعض حريته؟ وجهان أو قولان سبقا في
الغنائم.
الثانية: عبد بين ثلاثة، لواحد نصفه، وللآخر ثلثه، وللآخر سدسه، فأعتق
أحدهم نصيبه وهو موسر، يسري العتق إلى نصيب الشريكين، وإن كان موسرا
ببعض قيمة الباقي وقلنا بالصحيح، قوم عليه بنسبة المقدور عليه من نصيب كل
واحد منهما، فإذا كان موسرا يثبث الباقي، قوم عليه ثلث نصيب كل واحد منهما.
ولو أعتق اثنان منهم نصيبهما معا، أو علقا بشرط واحد، أو وكلا من أعتق عنهما
دفعة، فإن كان أحدهما فقط موسرا، قوم عليه نصيب الثالث. وإن كانا موسرين،
قوم نصيب الثالث عليهما، وكيف يقوم؟ فيه طريقان: أحدهما على قولين:
أحدهما: القيمة عليها بالسوية، الثاني على قدر الملكين، كنظيره من الشفعة
والطريق الثاني: القطع بأنها على عدد الرؤوس، لأن الاخذ بالشفعة من مرافق
الملك كالثمرة، وهنا سبيله سبيل ضمان المتلف، فيستوي القليل والكثير، كما لو
مات من جراحاتها المختلفة، وهذا الطريق هو المذهب باتفاق فرق الأصحاب،
إلا الامام، فرجح طريق القولين.
الثالثة: إن قلنا: تحصل السراية باللفظ أو قلنا بالتبين، اعتبرت قيمة يوم
الاعتاق، وإن قلنا: بالأداء، فهل يعتبر يوم الاعتاق أم الأداء، أم أكثر القيم من يوم
394

الاعتاق إلى الأداء؟ فيه أوجه. الصحيح عند الجمهور: الأول، ورجح الامام
والغزالي الثاني، فإن اختلفا في قيمة العبد، فإن كان حاضرا والعهد قريب، راجعنا
المقومين، وإن مات العبد، أو غاب، أو تقادم العهد، فأيهما يصدق بيمينه؟
قولان. أظهرهما: المعتق، لأنه غارم كالغاصب، ولو اختلفا في صنعة للعبد تزيد
في قيمته، واتفقنا على قيمته لو لم تكن تلك الصنعة، فإن كان العبد حاضرا وهو
يحسن الصنعة، ولم يمض بعد الاعتاق زمن يمكن تعلمه فيه، صدق الشريك، وإن
مضى زمن يمكن التعلم فيه، أو مات العبد، أو غاب، فالمذهب أن المصدق
المعتق. وقيل: فيه القولان، ولا يقبل قول العبد: إني أحسنها، أو لا أحسنها،
بل يجرب. ولو اختلفا في عيب ينقص القيمة، نظر إن ادعى المعتق عيبا في أصل
الخلقة، بأن قال: كان أكمه أو أخرس، وقال الشريك: بل بصيرا ناطقا، وقد
غاب العبد أو مات، صدق المعتق بيمينه على المذهب. وقيل: في المصدق
قولان، قال البغوي: الطريقان فيما إذا ادعى النقص في الأعضاء الظاهرة، أما إذا
ادعاه في الباطنة، فقولان كالصورة الآتية، لتمكن الشريك من البينة على سلامة
الظاهرة. وإن ادعى حدوث عيب بعد السلامة، بأن زعم ذهاب بصره أو سرقته،
فالأظهر أن المصدق الشريك، لأن الأصل عدمه، وخص بعضهم القولين فيما
يشاهد ويطلع عليه، وقطع فيما لا يشاهد بتصديق الشريك لعسر إثباته ببينة.
الرابعة: لو مات المعتق قبل أداء القيمة، أخذت من تركته. ولو أعسر بعد
الاعتاق ومات معسرا، فإن أثبتنا الاعتاق بنفس اللفظ، فالقيمة في ذمته وإن قلنا
بالقولين الآخرين، لم يعتق حصة الشريك. ولو مات العبد قبل أداء القيمة، فإن
قلنا: السراية تحصل باللفظ، مات حرا موروثا، وأخذت من المعتق قيمة حصة
الشريك، وإن قلنا بالتبيين، لزمته القيمة، فإذا أداها تبينا العتق، وإن قلنا: يحصل
بالأداء، سقطت القيمة على الأصح، لأن الميت لا يعتق. والثاني: تجب، لأنه
مال استحق في الحياة، فلا يسقط بالموت. قال الامام: وعلى هذا يجب على
المعتق قيمة نصيب شريكه، ثم تبيين أن العتق حصل قبل موته. وفي التهذيب
تفريعا على تأخر السراية أنه يموت نصفه رقيقا، ثم ذكر الوجهين في مطالبة الشريك
395

له بقيمة نصيبه، وهذا ضعيف.
الخامسة: لو أعتق الشريك نصيبه قبل أخذ القيمة، لم ينفذ إن قلنا بالسراية
في الحال، وإن قلنا بأداء القيمة، فكذلك على الأصح عند الجمهور، لئلا يفوت
حقا ثبت للأول، ونفذه ابن خيران والاصطخري وابن أبي هريرة، فعلى هذا في نفوذ
البيع والهبة ونحوهما وجهان: الصحيح: المنع، فإن نفذنا البيع، فهل للأول أن
ينقض البيع، ويبذل القيمة كالشفيع؟ فيه احتمال للامام.
السادسة: للشريك مطالبة المعتق بالقيمة على الأقوال كلها، أما على غير
التأخر، فظاهر وأما على التأخير، فلأنه محجور عليه في التصرف فيه،
والحيلولة من أسباب الضمان. قال الامام: ويلزم على تنفيذ البيع ونحوه أن لا يملك
مطالبته، وهو ضعيف. وإذا دفع المعتق القيمة، أجبر الشريك على قبولها إن وقفنا
العتق على أدائها، وإذا لم ندفع، ولم يطالبه الشريك، فللعبد طلب الدفع من
هذا، والقبض من ذاك، فإن امتنع، طالبهما الحاكم، لأن العتق حق لله تعالى.
ولو كان الشريك غائبا، دفع القيمة إلى وكيله، فإن لم يكن، جعله القاضي عند
أمين، وله أن يقرها في يد المعتق إن كان ثقة.
السابعة: إذا تعذرت القيمة بإفلاس أو هرب، فقال الشيخ أبو علي
والصيدلاني والروياني: يبقى نصيب الشريك رقيقا، ويرتفع الحجر عنه، إذ لا وجه
لتعطيل ملكه عليه بلا بدل، وفيه احتمال للامام أنه يثبت العتق، وجعله الغزالي
وجها، فقال: الصحيح أن إعسار المعتق يدفع الحجر ولو عاد اليسار، قال الشيخ أبو
علي: لا يعود التقويم، لأن حق العتق ارتفع بتخلل الاعسار، وفيه احتمال للامام.
الثامنة: إذا قلنا: لا سراية قبل أداء القيمة، فوطئها الشريك قبل الأداء،
396

وجب نصف المهر لنصفها الحر. قال الامام: وليصور في وطئ محرم أو في
مكرهة وفي النصف الآخر وجهان، أصحهما: لا يجب لأنه ملكه، والثاني: يجب
ويصرف إلى المعتق، لأنه مستحق الانقلاب إليه. قال الامام: ويجوز أن يكون
للجارية، وإن قلنا: تحصل السراية بنفس الاعتاق، وجب لها جميع المهر، ولا
حد للاختلاف في ملكه.
التاسعة: قال لشريكه: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر، أو فجميع العبد
حر، أو فنصيبي حر بعد عتق نصيبك، فإذا أعتق المقول له نصيبه، نظر، إن كان
معسرا، عتق على كل واحد نصيبه، وإن كان موسرا، عتق عليه نصيبه. ثم إن
قلنا: السراية تحصل بنفس الاعتاق، سرى عليه، ولزمه قيمة نصيب شريكه، لان
السراية قهرية تابعة لعتق نصيبه، لا مدفع لها، وموجب التعليق قابل للدفع بالبيع
ونحوه. وإن قلنا بالتبين، فكذلك الحكم إذا أديت القيمة، وإن قلنا بالأداء،
فنصيب المعلق عمن يعتق فيه وجهان. ولو قال: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر مع
عتق نصيبك، أو فحال عتق نصيبك، وقلنا: السراية بنفس الاعتاق، فوجهان.
أحدهما: يعتق نصيب كل واحد عنه، ولا شئ على المعتق، وبهذا قال ابن
القاص، وصاحب التقريب، واختاره القاضي أبو الطيب، وحكاه الروياني عن
عامة الأصحاب، والثاني وبه قال القفال، واختاره الشيخ أبو علي: يعتق جميعه عن
المقول له، ولا أثر لقوله: مع نصيبك، لأن المعلق لا يقارن المعلق عليه، بل
يتأخر عنه بلا شك. ولو قال: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر قبل عتق نصيبك،
فأعتق المقول له نصيبه، نظر، إن كانا معسرين أو المعلق معسرا، عتق نصيب
المنجز، وعتق على المعلق نصيبه قبل ذلك لموجب التعليق، ولا سراية، وإن كان
المعلق موسرا، وقلنا: السراية تحصل بنفس الاعتاق، فوجهان، من صحح الدور
اللفظي، كابن الحداد يقول: لا ينفذ إعتاق المقول له في نصيبه، لأنه لو نفذ،
لعتق نصيب القائل قبله، ولو عتق لسرى، ولو سرى لبطل عتقه، فيلزم من نفوذه
عدم نفوذه. وعلى هذا لو قال السيد لعبده: مهما أعتقتك فأنت حر قبله، لم
397

يتمكن من اعتاقه كما سبق نظيره في الطلاق، ولو صد هذا التعليق من الجانبين،
امتنع الاعتاق عليهما. ولو قال أحدهما للآخر: متى بعت نصيبك، فنصيبي حر
قبله، لم ينفذ البيع، والمستبعدون لصحة الدور وانسداد باب الطلاق ونحوه أولى
بالاستبعاد هنا لتضمنه الحجر على العين، ومن لا يصحح الدور - وهو الأصح -
يقول: يعتق نصيب كل واحد منهما عنه، ولا شئ لأحدهما على الآخر كما لو
قال: مع نصيبك. وإن قلنا: يحصل العتق بأداء القيمة، فإن نفذنا عتق الشريك
قبل أداء القيمة، عتق نصيب المنجز عليه، ونصب المعلق على المعلق. وإن لم
ننفذه قال الامام: تدور المسألة أيضا، وعلى هذه الصور جميعا لو أعتق المعلق
نصيبه، عتق وتثبت السراية إذا وجد شرطها.
العاشرة: إذا قال الشريك الموسر: أعتقت نصيبك، فعليك قيمة نصيبي،
فأنكر، فإن كان للمدعي بينة قضي بها، ومتى يعتق حصة المدعي؟ فيه الأقوال.
وإن لم يكن بينة، صدق المنكر بيمينه، فإن حلف، رق نصيبه، وإن نكل، حلف
المدعي اليمين المردودة، واستحق القيمة، والصحيح أنه لا يحكم بعتق نصيب
المدعى عليه، لأن الدعوى إنما توجهت عليه بسبب القيمة، وإلا فلا معنى للدعوى
على إنسان بأنه أعتق عبده، وإنما هذا وظيفة العبد، لكن لو شهد آخر مع هذا
المدعي، ثبت العتق بشهادة الحسبة. قال الامام: وأبعد بعض من لا خبرة له،
فحكم بالعتق تبعا لدعوى القيمة، وهل يحكم بعتق نصيب المدعي إذا حلف
المدعى عليه، أو نكل وحلف المدعي؟ إن قلنا بتعجيل السراية، فنعم، لاعترافه
بسراية إعتاق المدعى إليه إلى نصيبه، وإن قلنا بالتأخر، لم يعتق. وإذا عتق
نصيبه، لم يسر إلى نصيب المنكر، وإن كان المدعي موسرا، لأنه لم ينشئ
العتق، فأشبه ما لو ادعى أحد الشريكين على رجل أنك اشتريت نصيبي وأعتقته،
وأنكر المدعى عليه، يعتق نصيب المدعي ولا يسري. وإن قلنا: لا يعتق إلا بعد
أداء القيمة، لم يعتق نصيب المدعي. ولو صدق المدعى عليه الشريك، فلا
إشكال، وإن كان المدعى عليه معسرا، وأنكر، وحلف، لم يعتق شئ من العبد،
فإن اشترى المدعي نصيبه بعد ذلك، عتق ما اشتراه، لاعترافه بحريته، ولا يسري
398

إلى الباقي. ولو ادعى كل واحد من الشريكين الموسرين على صاحبه أنك أعتقت
نصيبك، وطالب بالقيمة، وأنكر، صدق كل واحد بيمينه فيما أنكره، فإذا حلفا، فلا
يطالب بالقيمة، ويحكم بعتق جميع العبد إن قلنا بتعجيل السراية، والولاء موقوف
، لأنه لا يدعيه أحد. وإن قلنا بتأخر السراية أو بالتبين، فالعبد رقيق، وإن كانا
معسرين، وقال كل واحد للآخر: أعتقت نصيبك، لم يعتق منه شئ، فإن اشترى
أحدهما نصيب الآخر، حكم بعتق ما اشتراه، ولا يسري، لأنه لم ينشئ إعتاقا.
وذكر البغوي أنه لو باع أحدهما لعمرو، والآخر لزيد، صح، ولا عتق. ولو باعاه
لزيد، حكم بعتق نصفه، لأنه متيقن، وهذا ليس بصحيح ولا يقين في واحد من
النصفين، لجواز كونهما كاذبين. وإن كان أحدهما موسرا، والآخر معسرا، عتق
نصيب المعسر على قول تعجيل السراية، وولاؤه موقوف، ولا يعتق نصيب الموسر،
فإن اشتراه المعسر، عتق كله. ولو طار طائر، فقال أحدهما: إن كان غرابا، فنصيبي
من هذا العبد حر، وقال الآخر: إن لم يكن غرابا، فنصيبي حر، ولم يبين الحال،
فإن كانا معسرين، فلا عتق، فإن اشترى أحدهما نصيب الآخر، حكم بعتق أحد
النصفين. ولو باعاه لثالث، حكم بعتق أحد النصفين أيضا، ولا رجوع على
واحد منهما، لأن كل واحد يزعم أن نصيبه مملوك، هذا هو الأصح، وبه قال
القفال، وقطع به الغزالي، وحكى الشيخ أبو علي وجها أنه إن اشتراه عالما
بالتعليقين، فلا رجوع له، وإن لم يعلم، ثم علم، فله الرد، كما لو اشترى
عبدا، فبان أن نصفه حر، فعلى هذا يرد العبد، لأن نصفه حر، والنصف الآخر
معيب بسبب التشقيص. قال الشيخ أبو علي ولو اختلف النصيبان، لم يعتق إلا
399

أقلهما. ولو تبادلا النصيبين، فإن لم يحنث واحد منهما صاحبه، بل اعترفا
بالاشكال، لم يحكم على واحد منهما بعتق شئ، والحكم بعد المبادلة كالحكم
قبلها. وان حنث كل واحد الآخر، حكم بعتق الجميع، لاعتراف كل واحد بعتق ما
صار إليه، ويكون الولاء موقوفا. وإن حنث أحدهما صاحبه. ولم يحنثه الآخر،
حكم بعتق ما صار للمحنث، وولاؤه موقوف، ولا يحكم بعتق نصيب الآخر. وإن
كانا موسرين، فإن قلنا بتعجيل السراية، عتق العبد، لأنا نتحقق حنث أحدهما،
وإن لم نتمكن من التعيين، فيعتق نصيبه، ويسري إلى الثاني، والولاء موقوف،
ولكل واحد منهما أن يدعي قيمة نصيبه على الآخر، ويحلفه على البت أنه لم
يحنث. وإن قلنا: لا تحصل السراية إلا بأداء القيمة، لم يحكم بعتق شئ منه،
والحكم كما في المعسرين، قال الشيخ أبو علي: فإن ادعى كل واحد على صاحبه
أنه عتق نصيبه، وأراد طلب القيمة، حلفه، كما ذكرنا على قول تعجيل السراية.
وإن كان أحدهما موسرا، والآخر معسرا، فإن قلنا بتعجيل السراية، عتق نصيب
المعسر بكل حال، ولا يعتق نصيب الموسر للشك فبه. وإن أخرناها إلى أدا
القيمة، لم يحكم بعتق شئ في الحال، وللمعسر أن يدعي التقويم على الموسر
ويحلفه.
فرع قال أحدهما: أعتقناه معا، وأنكر الآخر، فإن كانا موسرين، أو
كان القائل موسرا، فقد أطلق ابن الحداد أنه يحلف المنكر، وتابعه جماعة. قال
الشيخ: إنما يحلف عندي إذا قال للمقر: أنت أعتقت نصيبك وأنا لم أعتق
وأراد طلب القيمة فيحلفه أنه لم يعتق معه ليأخذ القيمة، لأن المقر أقر بما يوجب
القيمة، وادعى ما يسقطها، وهو الموافق في الاعتاق، فيدفع يمينه المسقط، فأما
إذا قال: لم تعتق نصيبك، ولا أنا أعتقته، فلا مطالبة بالقيمة، ولا يمين. وهل
يحكم بإعتاق جميع العبد بإقرار الموسر؟ إن أثبتنا السراية بنفس الاعتاق، فنعم، وإن
أخرناها، لم يعتق نصيب المنكر، وإذا حلف المنكر في التصوير الأول أخذ القيمة
من المقر، وحكم بعتق جميع العبد، وولاء نصيب المنكر موقوف. فلو مات
العتيق، ولا وارث له سوى المقر أخذ نصف ماله بالولاء. وهل له أن يأخذ من
400

النصف الآخر قدر نصف القيمة الذي غرمه للمنكر؟ وجهان. أحدهما: نعم، لأنه
إن صدق، فالمنكر ظالم له، وهذا ماله بالولاء، وإن كذب، فهو مقر بإعتاق
جميعه، فجميع المال له بالولاء، والثاني لاختلاف الجهة.
قلت: الأول أصح. والله أعلم.
وإن رجع المنكر عن إنكاره، وصدق المقر، رد ما أخذ منه. وإن رجع
المقر، واعترف بأنه أعتقه كله، قبل، وكان جميع الولاء له، كما لو نفى نسبا
يلحقه ثم استلحقه.
فرع عبد بين ثلاثة، شهد اثنان منهم أن الثالث أعتق نصيبه، فإن كان
الثالث معسرا، قبلت شهادتهما، وحكم بعتق نصيب الثالث، ورق الباقي. وإن
كان موسرا، فالأصح وبه قال ابن الحداد ان شهادتهما باطلة، لأنهما متهمان بإثبات
القيمة، فلا يعتق نصيبه، ولا يلزمه لهما قيمة، ويعتق نصيبهما، لاعترافهما
بالسراية إليه، وقيل: تقبل شهادتهما في عتق نصيبه دون القيمة، وهو ضعيف،
والحكم بعتق نصيبهما مفرع على تعجيل السراية، فإن أخرناها، لم يعتق شئ من
العبد، لكن لا ينفذ تصرفهما، لاعترافهما بأنه مستحق العتق على الثالث، هكذا
حكاه الشيخ أبو علي عن بعض الأصحاب، وصححه، ويجوز أن يقال: قد سبق أن
تعذر حصول القيمة بإعسار وغيره يرفع الحجر عن الشريك، والتعذر هنا حاصل.
الحادية عشرة: إذا قلنا: السراية تحصل بنفس الاعتاق، فله حكم الأحرار
في الإرث والشهادة والحد والجناية وإن لم يؤد القيمة، وإن أخرناها إلى أداء
القيمة، فله حكم الأرقاء فيها حتى يؤدي، وإن توقفنا في هذه الأحكام.
الثانية عشرة: لو أعتق شركاء له في حبلى، وهو موسر، ولم يقوم عليه حتى
ولدت، عتق معها ولدها، تفريعا على السراية في الحال، فأما إذا أخرناها إلى
الأداء فنص أنه ينبغي أن لا يعتق الولد معها، لأنه إنما يعتق بعتقها إذا كان حملا،
فأما بعد الولادة فلا. قال القاضي أبو حامد: معناه أن نصيب الذي لم يعتق من الولد
مملوك، فأما نصيب المعتق فيجب أن يعتق. وقال ابن الصباغ: عندي أنه أراد أن
401

نصيب الذي لم يعتق من الولد، لا يعتق بدفع نصف قيمة الام وعتقها، وإلا فقد عتق
من الولد نصيب المعتق وهو موسر، فوجب أن يسري.
قلت: هذا الذي قاله ابن الصباغ ضعيف. والله أعلم.
الثالثة عشرة: وكل شريكه في عتق نصيبه، فقال الوكيل للعبد: نصفك حر،
فإن قال: أردت نصيبي، قوم عليه نصيب شريكه، وإن قال: أردت نصيب
شريكي، قوم على الشريك نصيب الوكيل، وإن أطلق، فعلى أيهما يحمل؟
وجهان حكاهما في الشامل.
قلت: لعل الأصح حمله على نصيب الوكيل. والله أعلم.
الرابعة عشرة: مريض له نصفا عبدين، قيمتهما سواء لا مال له غيرهما،
فقال: أعتقت نصيبي من سالم وغانم، وقلنا: السراية تعجل، عتق ثلثا نصيبه من
سالم، فقال الوكيل للعبد: نصفك حر، فإن قال: أردت نصيبي من سالم ومن
غانم، وقلنا: السراية تعجل، عتق ثلثا نصيبه من سالم وهو ثلث ماله، ولا يعتق من
الآخر شئ. ولو قال: نصيبي من هذين حر، عتق ثلثا نصيبه من أحدهما،
فيقرع، ويعتق، فمن خرجت قرعته، عتق ثلثا نصيبه، وإن نصفاهما ثلث ماله
فقال: أعتقت نصيبي من سالم ومن غانم، عتق سالم بالمباشرة والسراية، ولم يعتق
من غانم شئ. ولو قال: نصيبي منهما حر، عتق النصفان، ولا سراية.
الخامسة عشرة: أمة حامل من زوج اشتراها زوجها وابنها الحر معها وهما
موسران، فالحكم كما ذكرنا لو أوصى مالكها بهما لهما وقبلا الوصية معا، وقد
ذكرناه في الوصايا، ومختصره أن الأمة تعتق على الابن، والحمل يعتق عليهما، ولا
يقوم.
السادسة عشرة: شهد رجلان أن زيدا أعتق نصيبه من المشترك وهو موسر،
وحكم القاضي بشهادتهما، ثم رجعا، فشهادتهما تثبت عتق نصيبه، ويوجب عليه
قيمة نصيب شريكه، فيغرمان قيمة نصيبه قطعا، لأن شهود العتق يغرمون بالرجوع.
وهل يغرمان له قيمة نصيب الشريك التي غرمها؟ قولان، لأن في تغريم شهود المال
قولين سبقا. هذا إذا صدق الشريك الشهود، وأخذ القيمة، وعتق جميع العبد، اما
402

بنفس الاعتاق، وإما بدفع القيمة، فأما إذا كذبهم، وقال: لم يعتق زيد نصيبه،
فإن عجلنا السراية، عتق الجميع، ولا يلزمه للشريك شئ، وإن أخرناها، قال
الشيخ أبو علي: يجبر على أخذ القيمة ليكمل العتق، ثم يلزمه ردها إن أصر
على تكذيب الشهود، كما لو جاء المكاتب بالنجم الأخير، فقال السيد: هذا حرام
غصبت من فلان، يجبر على أخذه، ثم يرده على من أقر له. ولو شهد اثنان على
شريك أنه أعتق نصيبه، وآخران على الشريك الآخر أنه أعتق نصيبه، وهما
موسران، فإن أرخت البينتان، عتق كله على الأول، إن عجلنا السراية، وعليه قيمة
نصيب الآخر، وإن أخرناها إلى أداء القيمة، فعلى الخلاف السابق في أن إعتاق
الثاني قبل أداء القيمة، هل ينفذ؟ إن قلنا: لا وهو الأصح، أخذت قيمة نصيبه من
الأول ليعتق، وإن لم يؤرخا، عتق العبد كله، ولا تقويم. فلو رجع الشاهدان على
أحدهما، لم يغرما شيئا، لأنا لا ندري أن العتق في النصف الذي شهدا به حصل
بشهادتهما، أم بشهادة الآخرين بالسراية، فلا يوجب شيئا بالشك، وإن رجعوا
جميعا، فقيل: الحكم كذلك، والأصح أنهم يغرمون قيمة العبد، لأنه إذا لم يكن
تاريخ، فالحكم بعتق العبد معلق بشهادة الأربعة، ويقدر كأن الاعتاقين وقعا معا،
وبالله التوفيق.
الخصيصة الثانية: العتق بالقرابة، فمن ملك أباه، أو أمه، أو أحد أصوله من
الأجداد والجدات من جهة الأب أو الام، أملك من أولاده، وأولاد أولاده وإن
سفلوا، عتق عليه، سواء ملكه قهرا بالإرث، أم اختيارا بالشراء والهبة وغيرهما،
ولا يعتق غير الأصول والفروع، كالأخوة والأعمام والأخوال وسائر الأقارب. وليس
لولي الصبي والمجنون أن يشتري لهما من يعتق عليهما، فإن فعل، فالشراء باطل.
ولو وهب للصبي قريبه، أو أوصى له به. نظر، إن كان الصبي معسرا، فلوليه
قبوله، ويلزمه القبول على الأصح وظاهر النص، فإذا قبل، عتق على الصبي. وإن
403

كان موسرا، نظر، إن كان القريب بحيث يجب تعففه في الحال، لم يجز للولي
القبول، وإن كان بحيث لا يجب، فعلى ما ذكرنا في المعسر، وإذا لم يقبل الولي
قبل الحاكم، فإن لم يفعل، فللصبي بعد بلوغه القبول، كذا ذكره الروياني،
وليكن هذا في الوصية. ولو وهب له بعض القريب، أو أوصى له به، فإن كان
الصبي معسرا، قبل الولي، وإن كان موسرا، زاد النظر في غرامة السراية، وفيه
قولان. أظهرهما: لا يقبل، لأنه لو قبل، لعتق على الصبي، وسرى، ولزمه قيمة
الشريك، وفيه ضرر. والثاني: يقبل، ويعتق عليه، ولا يسري. وقيل: ليس له
القبول قطعا، وإنما القولان في صحة القبول.
فرع اشترى فمرض موته قريبه، فإما أن يشتريه بثمنه أو بمحاباة، وعلى
التقدير الأول، قد يكون عليه دين، وقد لا، وقد سبق بيان كل ذلك في الوصية،
وذكرنا أنه إذا لم يكن دين ولا وصية، اعتبر عتقه من الثلث، فإن خرج كله من ثلثه،
عتق، وإلا، عتق قدر الثلث، وإن ملكه بإرث، عتق من رأس المال على الأصح
حتى يعتق كله، وإن لم يكن مال آخر. وقيل: من الثلث حتى لا يعتق إلا ثلثه، إذا
لم يملك شيئا آخر. ولو ملكه بهبة أو وصية، فإن قلنا: الإرث من الثلث، فهنا
أولى، وإلا فوجهان، والمسألة مبسوطة في الوصايا.
فرع من قواعد كتاب السير أن الحربي إذا قهر حربيا، ملكه، قال
الامام: ولم يشترط الأصحاب قصد الارقاق، بل اكتفوا بصورة القهر، وعندي لا بد
من القصد، فإن القهر قد يكون للاستخدام، فلا يتميز قهر الارقاق إلا بالقصد، فإذا
قهر عبد سيده الحربي، عتق العبد، وصار السيد رقيقا له. ولو قهر الزوج زوجته،
واسترقها، ملكها، وجاز له بيعها، وكذا لو قهرت زوجها. ولو قهر حربي أباه أو
ابنه، فهل له بيعه؟ وجهان، أحدهما: لا، وبه قال ابن الحداد: لا يعتق عليه
بالملك. والثاني: نعم، لأن القهر دائم، وبهذا أفتى الشيخ أبو زيد، ويشبه أن
يرجح الأول، ويتجه أن يقال: لا يملكه بالقهر، لاقتران سبب العتق بسبب
الملك. ويخالف الشراء فإنا صححناه لكونه ذريعة إلى تخليصه من الرق.
404

فرع قد سبق أنه لو اشترى بعض قريبه، عتق عليه، وسرى إلى الباقي،
وفي معناه قبول الهبة والوصية. ولو ورث نصفه، لا يسري، وشراء الوكيل وقبوله
الهبة والوصية كشرائه وقبوله لصدوره عن اختياره، وكذا قبول نائبه شرعا، حتى لو
أوصى له ببعض ابنه، فمات، وقبل الأخ الوصية، عتق الشقص على الميت
، وسرى إلى الباقي إن وفى به الثلث، وينزل قبول وارثه منزلة قبوله في حياته. ولو
أوصى له ببعض من يعتق على وارثه، بأن أوصى له ببعض ابن أخيه، فمات، وقبل
الأخ الوصية، عتق الشقص على الميت، وسرى إلى الباقي إن وفى به الثلث،
وينزل قبول وارثه منزلة قبوله في حياته. ولو أوصى له ببعض من يعتق على وارثه،
بأن أوصى له ببعض ابن أخيه، فمات، وقبل الأخ الوصية، عتق الشقص ولا سراية
على الأصح، لأن الملك حصل للميت أولا، ثم انتقل إلى الأخ إرثا، ويجري
الخلاف في السراية حيث يملك بطريق اختيار يتضمن الملك، ولا يقصد به
التملك، كما إذا باع ابن أخيه بثوب ومات، ووارثه الأخ، فرد الثوب بعيب،
واسترد الشقص، عتق عليه. وفي السراية الخلاف. ولو وهب لعبد بعض من يعتق
على سيده، فقبل، وقلنا: يصح قبوله بغير إذن سيده، عتق الموهوب على السيد،
وسرى، لأن قبول العبد كقبوله شرعا.
قلت: هذا مشكل، وينبغي أن لا يسري، لأنه دخل في ملكه قهرا
كالإرث. والله أعلم.
405

فرع جرح عبد أباه، فاشتراه الأب، ثم مات بالجراحة. إن قلنا: تصح
الوصية للقاتل، عتق من ثلثه، وإلا لم يعتق. وعلى هذا قال البغوي: ينبغي أن
تجعل صحة الشراء على وجهين، كما لو اشتراه وعليه دين.
الخصيصة الثالثة: امتناع العتق بالمرض، سبق في كتاب الوصايا أن التبرعات
في مرض الموت تحسب من الثلث، وأن العتق من التبرعات وقد يندفع لوقوعه في
المرض، وإنما يعتبر الثلث بعد حط قدر الدين، فلو كان الدين مستغرقا، لم
يعتق شئ منه، فإن أعتق عبد لا مال له سواه، لم يعتق إلا ثلثه، وإن مات هذا
العبد بعد موت السيد، مات، وثلثه حر، وإن مات قبل موت السيد، فهل يموت
كله رقيقا، أم كله حرا، أم ثلثه حرا وباقيه رقيقا؟ فيه أوجه. أصحهما عند
الصيدلاني: الأول، وبه أجاب الشيخ أبو زيد في مجلس الشيخ أبي بكر
المحمودي، فرضيه وحمده عليه، لأن ما يعتق ينبغي أن يحصل للورثة مثلاه، ولم
يحصل لهم هنا شئ، وتظهر فائدة الخلاف في شيئين: أحدهما: لو وهب في
المرض عبدا لا يملك غيره، وأقبضه، ومات العبد قبل السيد، فإن قلنا في مسألة
العتق، يموت رقيقا مات هنا على ملك الواهب، ويلزمه مؤونة تجهيزه. وإن قلنا:
يموت حرا، مات هنا على ملك الموهوب له، فعليه تجهيزه. وإن قلنا بالثالث،
وزعت المؤونة عليهما.
الثاني: إذا كان لهذا العبد ولد من معتقه، كان ولاء الولد لموالي أمه، فإن
قلنا: يموت حرا، انجر الولاء إلى معتق الأب، وإن قلنا: يعتق ثلثه، أنجز ولاء
ثلثه. ولو أعتق في مرضه عبدا، وله مال سواه، ومات العتيق قبل موت السيد، قال
الامام: قال جماهير الأصحاب: لا يجب من الثلث، ويجعل كأنه لم يكن، لان
406

الوصية إنما تتحقق بالموت، فإذا لم تبق إلى الموت، لم يدخل في الحساب،
قال: ويجئ على قولنا حكمه بعد الموت كحكمه لو عاش، أن يحسب من الثلث.
ولو وهب عبدا، وأقبضه، وله مال آخر فتلف في يد المتهب قبل موت الواهب، فهو
كما لو أعتقه، كما أن هبته ولا مال له سواه كإعتاقه ولا مال له سواه. ولو أتلفه
المتهب، فهو كما لو كان باقيا، حتى إذا كان له مال آخر، يحسب الموهوب من
الثلث، وإذا لم يخرج من الثلث، يغرم الموهوب للورثة ما زاد على الثلث،
بخلاف ما إذا تلف، لأن الهبة ليست مضمنة، والاتلاف مضمن على كل حال،
وللامام احتمال في إلحاق التلف بالاتلاف وعكسه.
فرع أعتق ثلاثة أعبد لا يملك غيرهم قيمتهم سواء، فمات أحدهم قبل
موت السيد، فالذي نص عليه الشافعي رحمه الله، وأطبق عليه فرق الأصحاب: أن
الميت يدخل في القرعة، قال الامام: وقياس ما ذكرنا في العبد الواحد أن يجعل
الفائت كالمعدوم، ويجعل كأنه أعتق عبدين لا مال له سواهما، وجعل الغزالي هذا
الاحتمال وجها، والتفريع على الأول، فإن خرجت القرعة على الميت، بان أنه
مات حرا موروثا عنه، ورق الآخران، وإن خرج عليه سهم الرق، لم يحسب على
الورثة، لأنهم يريدون المال، ويحتسب به عن المعتق لأنه يريد الثواب، وتعاد
القرعة بين العبدين، كما لو لم يكن إلا عبدان، فأعتقهما، فمن خرج له سهم
العتق، عتق ثلثاه، ورق ثلثه مع العبد الآخر. ولو خرج سهم العتق أولا على
أحد الحيين، فكذلك يعتق ثلثاه. ولو مات أحدهم بعد موت السيد وقبل امتداد
يد الوارث إلى التركة، فالحكم كما لو مات قبل موت السيد، ولفظ الصيدلاني
يقتضي الاكتفاء بأن لا يكون الميت في يده لثبوت الحكم المذكور. وإن مات بعد
امتداد يد الوارث إلى التركة، وقبل الاقراع، فوجهان. أصحهما: يحسب الميت
على الوارث، حتى لو خرجت القرعة لاحد الحيين، عتق كله، لأن الميت دخل في
407

يده وضمانه. والثاني: أنه كما لو مات قبل ثبوت يده على التركة، لأنه لم يتسلط
على التصرف. ولو مات اثنان منهم قبل موت السيد، قال ابن أبي هريرة: يقرع
بينهم، فإن خرج سهم العتق على أحد الميتين، صح عتق نصفه، وجعل للورثة
مثلاه، وهو العبد الحي. وإن خرج سهم الرق عليه، أقرعنا بين الميت الآخر
والحي، فإن خرج سهم الحرية على الميت الآخر، أعتقنا نصفه، وإن خرج
سهم الرق عليه، لم يحسب على الورثة، وأعتقنا ثلث الحي. ولو قتل أحد العبيد
قبل موت السيد أو بعده، دخل القتيل في القرعة قطعا، لأن قيمته تقوم مقامه، فإن
خرج سهم العتق لاحد الحيين، عتق كله، ولورثة الآخر قيمة القتيل، وإن خرج
للقتيل، بان أنقتل حرا، وعلى قاتله الدية لورثته، وأما القصاص فعن بعض
الأصحاب أنه لا يجب إن كان قاتله حرا، بخلاف ما إذا قال لعبده: إن جرحك
أحد، فأنت حر قبله، فجرحه حر، ومات بالجراحة، وجب القصاص، لأن الحرية
متعينة فيه، وهنا التعيين بالقرعة. قال البغوي: يحتمل أن يكون في المسألتين
وجهان، لأنه قتل من اعتقد رقه كما لو قتل من عرفه رقيقا فبان عتيقا، ففي القصاص
قولان.
الخصيصة الرابعة: القرعة، وفيها طرفان: أحدهما في محلها، وهو أن يعتق
في مرض موته عبيدا دفعة، ويقصر عنهم ثلث ماله، ولا يجيز الورثة عتقهم،
فيقرع بينهم لتجتمع الحرية في بعضهم، فيعتق، أو يقرب من العتق. وفي الضابط
قيود، أحدها: وقوع الاعتاق في مرض الموت، فإذا انتفى عتقوا كلهم.
الثاني: أن يعتقهم دفعة بأن يوكل بإعتاق كل واحد وكيلا، فيعتقوا معا، أو
يقول: هؤلاء أحرار، أو يقول لهم: أعتقتكم، أو أنتم أحرار، فإن أعتقهم أولا قدم
الأول فالأول، إلى تمام الثلث، كقوله: سالم حر، وغانم حر، وفائق حر، فلو
قال: سالم وغانم وفائق أحرار: فهو محل القرعة. ولو قال: سالم وغانم وفائق
حر، فعن القاضي أبي حامد أنه يراجع، فإن قال: أردت حرية كل واحد منهم،
408

فهو كقوله: أنتم أحرار، وإن قال: أردت حرية الأخير، قبل، ولا قرعة، وإن
قال: حرية غيره، لم يقبل.
الثالث: أن يقصر عنهم ثلث ماله، ولم تجز الورثة، فإن وفى الثلث بهم، أو
أجاز الورثة، عتقوا جميعا. ولو أوصى بإعتاق عبيد، ولم يف الثلث بهم، ولم يجز
الورثة، أقرع أيضا، وسواء أوصى بإعتاقهم دفعة، أو قال: أعتقوا فلانا، ثم قال:
أعتقوا فلانا، لأن وقت الاستحقاق واحد، وهو الموت، بخلاف ما إذا رتب الاعتاق
المنجز إلا أن يقيد، فيقول: أعتقوا فلانا ثم فلانا ولو علق العتق بالموت، فقال:
إذا مت فأنتم أحرار، أو أعتقتكم بعد موتي، أو رتب فقال: إذا مت، ففلان حر،
أقرع أيضا. وفي الوصية والتعليق وجه: أنه لا قرعة، بل يعتق من كل واحد ثلثه،
والصحيح الأول. ولو قال: أعتقت ثلث كل واحد منكم، أو أثلاث هؤلاء أحرار،
فوجهان، أحدهما: لا يقرع، بل يعتق من كل واحد ثلثه لتصريحه بالتبعيض.
وأصحهما: يقرع، وقد سبق في الوصايا أنه لو قال: أعتقت ثلثكم، أو ثلثكم حر،
فهو كقوله: أعتقتكم أم كقوله أثلاث هؤلاء أحرار، فيه طريقان، وأنه لو أضاف إلى
الموت فقال: ثلث كل واحد حر بعد موتي، أو أثلاث هؤلاء أحرار بعد موتي، عتق
من كل واحد ثلثه، ولا قرعة على الصحيح.
فرع يعتبر لمعرفة الثلث فيمن أعتقه منجزا في المرض قيمة يوم
الاعتاق، وفيمن أوصى بعتقه قيمة يوم الموت أقل، فالزيادة حصلت في ملكهم وإن
كانت يوم القبض أقل، فما نقص قبل ذلك، لم يدخل في يدهم، فلا يحسب
عليهم، كالذي يغصب، أو يضيع من التركة قبل قبضهم، وإذا أنجز إعتاق عبد،
وأوصى بإعتاق آخر، قومنا المنجز حال إعتاقه، والآخر حال الموت، وبقية التركة
بأقل القيمتين، فإن بقي شئ من الثلث، عتقا، وإن خرج أحدهما، أعتقنا
المنجز، فإن بقي شئ من الثلث، أعتقنا بقدره من الموصى بإعتاقه، وإن نقص
الثلث، أعتقنا من المنجز بقدره. ولو أعتق في المرض عبدا مبهما، بأن قال أحد
هؤلاء حر، أو أوصى بإعتاق واحد منهم، بأن قال: أعتقوا أحدهم، ففي جمع
الجوامع للروياني أنه يكتب رقعة للعتق، وأخرى للوصية بإعتاق، ورقعتان
409

للتركة، فمن خرج له العتق، فكأنه أعتقه بعينه، ومن خرج له الوصية، فكأنه
أوصى بإعتاقه، ثم يكون الحكم كما سبق. وفي الشامل أنه يميز الثلث بالقرعة
أولا، ثم يميز بين المنجز والآخر.
فرع كل عبد من المنجز إعتاقهم عتق بالقرعة يحكم بعتقه من
يوم الاعتاق لا من يوم القرعة، ويسلم له ما كسبه من وقت الاعتاق
ولا يحسب من الثلث، سواء كسبه في حياة المعتق أم بعد موته، وكل من
بقي رقيقا منهم فأكسابه قبل موت المعتق، تحسب على الوارث في الثلثين،
وأكسابه بعد موته وقبل القرعة لا تحسب عليه، لحصولها على ملكه. فلو
أعتق في مرضه ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم، قيمة كل واحد مائة، وكسب أحدهم
مائة، وأقرعنا، فإن خرجت القرعة للكاسب، عتق وفاز بكسبه، ورق الآخران،
وإن خرج لاحد الآخرين، عتق، ثم تعاد بين الكاسب والآخر، فإن خرجت
للآخر، عتق ثلثه وبقي ثلثاه مع الكاسب، وكسبه للورثة، وإن خرجت للكاسب،
وقع الدور، لأنه يعتق بعضه، ويتوزع الكسب على ما عتق وعلى ما رق، ولا
يحسب عليه حصة ما عتق، وتزيد التركة بحصة ما رق، وإذا زادت التركة، زاد
ما عتق، وتزيد حصته، وإذا زادت حصته، نقصت حصة التركة. وطريق
استخراجه بيناه في المسائل الدورية من الوصايا والحكم أنه يعتق منه ربعه، ويتبعه
ربع كسبه، يبقى للورثة ثلاثة أرباعه، وثلاثة أرباع كسبه مع العبد الآخر، وجملتها
ضعف ما عتق، ولو كسب أحدهم مائتين، وخرجت القرعة الثانية لغير الكاسب،
عتق ثلثاه وبقي ثلثه، والكاسب وكسبه للورثة، وإن خرجت للكاسب، فقد عتق
منه شئ، وتبعه من الكسب شيئان، لأن كسبه مثلا قيمته، تبقى للورثة أربعة أعبد
إلا ثلاثة أشياء تعدل ضعف ما عتق، وهو عبدان وشيئان فبعد الجبر أربعة أعبد،
تعدل عبدين وخمسة أشياء، تسقط عبدين بعيدين، يبقى عبدان وشيئان في مقابلة
خمسة أشياء، فالشئ خمس العبدين، وهو خمسا عبد، وذلك أربعون، فقد عتق
410

مائة وأربعون، وبقي للورثة ثلاثة أخماسه ستون، وثلاثة أخماس كسبه مائة وعشرون
والعبد الآخر، وجملتها مائتان وثمانون، وقد سبقت نظائر هذا في الوصايا. هذا كله
في الأكساب الحاصلة في حياة المعتق، ولو كسب أحدهم في المثال المذكور مائة
بعد موته، فإن خرجت القرعة للكاسب عتق وتبعه كسبه غير محسوب كما لو كسب
في الحياة وإن خرجت لغير الكاسب، عتق، ورق الآخران، ولا تعاد القرعة
للكسب، بل يفوز به الوارث لحصوله في ملكه، وكسب من أوصى بإعتاقه في حياة
الموصى للموصي، تزيد به التركة والثلث، وكسبه بعد موته لا تزيد به التركة ولا
الثلث بلا خلاف. وهل هو للورثة أم للعبد؟ طريقان حكاهما ابن الصباغ أحدهما:
قولان كالقولين في أن كسب الموصى به بعد موت الموصي وقبل القبول للورثة أو
للموصى له؟ والمذهب القطع بأنه للورثة. والفرق أنه استحق العتق بموت
الموصي استحقاقا مستقرا، والوصية غير مستقرة، بل الموصى له بالخيار بين الرد
والقبول، وإذا زادت قيمة من نجز إعتاقه، كانت الزيادة كالكسب، فمن خرجت له
قرعة العتق، تبعته الزيادة غير محسوبة عليه، وكذا لو كان فيمن أعتقهم جارية،
فولدت قبل موت المعتق، فالولد كالكسب، فإذا خرجت القرعة لها، تبعها الولد
غير محسوب من الثلث، وإن خرجت لغير من زادت قيمته، أو التي ولدت، وقع
للدور. ولو أعتق ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم، قيمة كل واحد مائة، فبلغت قيمة
أحدهم مائتين، فهو كما لو كسب أحدهم مائة. ولو أعتق أمتين قيمة كل واحدة
مائة، فولدت إحداهما ولدا قيمته مائة، فهو كما لو كسب أحدهم مائة، فإن
خرجت القرعة للتي لم تلد، عتقت، ورقت الوالدة وولدها، وهما ضعف ما عتق،
وإن خرجت للوالدة، عتق منها شئ، وتبعها من الولد مثله، يبقى مع الورثة
ثلاثمائة إلا شيئين يعدل ضعف ما أعتقنا محسوبا، وهما شيئان، فبعد الجبر يعدل
411

ثلاثمائة أربعة أشياء، فالشئ ثلاثة أرباع مائة، فعرفنا أنه عتق ثلاثة أرباعها، وتبعها
ثلاثة أرباع الولد، يبقى للورثة ربعهما والجارية الأخرى، وجملته مائة وخمسون،
ضعف ما عتق منها. ولو قال لامته الحامل في مرض موته: أنت حرة، أو ما في
بطنك، فولدت لدون ستة أشهر من يوم الاعتاق، ولم يتفق تعيين، فيقرع، فإن
خرجت للولد، عتق دون الام، وإن لم يف الثلث به، عتق منه قدر الثلث، وإن
خرجت الام، عتقت، وتبعها الولد إن وفى بهما الثلث، وإلا، فيعتق منها شئ،
ويتبعها من الولد شئ. وطريق استخراجه ما ذكرناه في الوصايا فيمن أعتق عبدا
فكسب، وتقويم الولد بما يكون يوم الولادة، هذا كله إذا ولدت قبل موت
المعتق، فإن ولدت بعده، نظر إن ولدت لأكثر من ستة أشهر من يوم الموت، فالولد
ككسب حصل بعد موته، إن خرجت القرعة للام،، عتقت، وتبعها، وإن خرجت
لغير الوالدة، عتقت، ولا تعاد القرعة للولد، لأنه حدث على ملك الورثة، وإن
ولدت لأقل من ستة أشهر، فهل تحسب على الوارث حتى تعاد القرعة؟ قال
البغوي: يبنى على أن الحمل هل يعرف؟ إن قلنا: لا، فهو كالحادث بعد
الموت، فلا تعاد، وإن قلنا: نعم، فكالحادث قبل الموت، فتعاد، وأطلق
الصيدلاني وجهين في أنها لو ولدت بعد الموت، هل يحسب الولد على الورثة من
الثلثين؟ ولو نقصت قيمة من نجز، عتق بعضهم قبل موت المعتق، فإن كان النقص
فيمن خرجت له قرعة العتق، حسب عليه، لأنه محكوم بعتقه من يوم الاعتاق، وإن
كان فيمن رق، لم يحسب على الورثة إذا لم يحصل لهم إلا الناقص. فلو أعتق عبدا
لا مال له غيره، قيمته مائة، ورجع إلى خمسين، فقد ذكرنا طريق استخراجه في
الوصايا. وحاصله أن يعتق منه الخمس. ولو أعتق ثلاثة أعبد، قيمة كل واحد
مائة، فعادت قيمة أحدهم إلى خمسين، فإن خرجت القرعة للناقص، عتق وحده،
لأنه كانت قيمته يوم الاعتاق مائة، فينبغي أن يبقى للورثة ضعفها، وإن خرجت لاحد
الآخرين، عتق منه خمسة أسداس، وهي ثلاثة وثمانون وثلث، يبقى للورثة سدسه
والعبد الآخر والناقص. وجملة ذلك مائة وستة وستون وثلثان، ضعف ما عتق، لان
المحسوب على الورثة الباقي بعد النقص، وهو مائتان وخمسون. ولو أعتق عبدين
قيمة كل واحد مائة، ولا مال له سواهما، فعادت قيمة أحدهما إلى خمسين، فإن
خرجت القرعة للآخر، عتق نصفه، وبقي للورثة نصفه مع العبد الناقص، وهما
412

ضعف ما عتق، وإن خرجت للناقص، وقع الدور، لأنا نحتاج إلى إعتاق بعضه
معتبرا بيوم الاعتاق، وإلى إبقاء ضعفه للورثة معتبرا بيوم الموت، وحاصله أنه
يعتق ثلاثة أخماسه، يبقى خمساه مع الآخر للورثة. وإن حدث النقص بعد موت
المعتق، وقبل الاقراع، فهل يحسب على الورثة؟ قال البغوي: إن كان الوارث
مقصور اليد عن التركة، لم يحسب عليه كما في حال الحياة، وإلا فوجهان،
أصحهما: يحسب عليه.
الطرف الثاني في كيفية القرعة والتجربة المترتبة عليها، وفيه فصلان:
الأول: في كيفية القرعة، قد سبق في باب القسمة أن للقرعة طريقين،
أحدهما: أن يكتب أسماء العبيد في رقاع، ثم يخرج على الرق والحرية. والثاني:
أن يكتب في الرقاع الرق والحرية، ويخرج على أسماء العبيد، وذكرنا أن من
الأصحاب من أثبت قولين في أنه يقرع بالطريق الأول أم الثاني، وأن في كون ذلك
الخلاف في الجواز والأولوية خلافا، وأن الجمهور قالوا في العتق: يسلك ما شاء من
الطريقين، ولفظه في المختصر يدل عليه، والطريق الأول أخصر. واستحب
الشافعي رحمه الله على الطريقتين أن تكون الرقاع صغارا ليكون أخفى، وأن تكون
متساوية، وأن تدرج في بنادق، وتجعل في حجر من لم يحضر هناك، كما بينا في
القسمة، وأنه يغطى بثوب، ويدخل من يخرجها اليد من تحته. كل هذا ليكون أبعد
من التهمة، ولا تتعين الرقاع، بل تجوز القرعة بأقلام متساوية، وبالنوى والبعر،
وذكر الصيدلاني أنه لا يجوز أن يقرع بأشياء مختلفة، كدواة وقلم وحصاة، وقد
يتوقف في هذا، لأن المخرج إذا لم يعلم ما لكل واحد منهم لا يظهر حيفه، ولا
يجوز الاعراض عن أصل القرعة، والتمييز بطريق آخر بأن يتفقوا على أنه إن طار
غراب، ففلان حر، أو أن من وضع على صبي يده، فهو حر، أو أن يراجع
شخص لا غرض له ونحو ذلك. قال الامام: فإن كنا نعتق عبدا، ونرق آخرين،
ورأينا إثبات الرق والحرية، فقد قال الأصحاب: يثبت الرق في رقعتين، والحرية
في رقعة على نسبة المطلوب في القلة والكثرة، فإن ما يكثر فهو أحرى بسبق اليد
413

إليه. وفي كلامهم ما يدل على استحقاق ذلك، ومنهم من عده احتياطا، وقال:
يكفي رقعة للرق وأخرى للحرية، ثم إذا أخرجنا رقعة باسم أحدهم، فخرجت
للحرية، انفصل الامر، وان خرجت للرق، احتجنا إلى إخراجها. قال الامام: إذا
أثبتنا الرق والحرية، فقال المخرج: أخرج على اسم هذا، ونازعه الآخرون،
وقالوا: أخرج على أسمائنا، أو أثبتنا الأسماء، وقال المخرج: أخرج على
الحرية، وقالوا: أخرج على الرق، أو تنازع الورثة والعبد، فقال الورثة: أخرج
على الرق، وقال العبد: على الحرية، فهذا لم يتعرض له الأصحاب، وفيه
احتمالان، إن أثبت الرق والحرية، أحدهما أنه يقرع بين العبيد أولا حتى يتعين من
يعرض على الرق والحرية، فإذا تعين واحد، أخرجت رقعة على اسمه، والثاني: أن
تثبت الحرية على رقعة، والرق على رقعتين، ويعطي المخرج كل عبد رقعة، وقد
سبق في القسمة أن تعيين من يبدأ به من الشركاء والأجراء منوط بنظر القسام، فيمكن
أن يناط هنا بنظر متولي الاقراع من قاض أو وصي، فيبدأ بمن شاء، ولا يلتفت إلى
مضايقاتهم. واعلم أن إعطاء كل عبد رقعة، ليس من شرط الاقراع، بل يكفي
الاخراج بأسمائهم وأعيانهم.
الفصل الثاني: في كيفية تجزئة العبيد، وهي تقع بحسب الحاجة، فإن أعتق
عبدين لا مال له سواهما، أقرع بإثبات أسميهما في رقعتين، وإخراج أحدهما على
الرق أو الحرية، أو بإثبات الرق والحرية في رقعتين، والاخراج على اسمهما، ثم
إن استوت قيمتهما، فمن خرج له سهم الحرية، عتق ثلثاه، ورق باقيه مع الآخر،
وإن اختلفت قيمتهما كمائة ومائتين، فإن خرجت الحرية لصاحب المائة، عتق،
ورق الآخر، وان خرجت للآخر عتق نصفه، ورق باقيه مع الآخر. وإن أعتق
عبيدا لا مال له سواهم، فإن كانوا ثلاثة، واستوت قيمتهم، فإن شاء كتب أسماءهم
وقال للمخرج: أخرج رقعة على الحرية، فمن خرج اسمه، عتق، أو قال: أخرج
في الرق حتى يتعين في الآخر الحرية، والاخراج على الحرية أولى، لأنه أقرب إلى
فصل الامر. وإن شاء كتب على الرقاع الرق في رقعتين، والحرية في رقعة، وقال:
أخرج على اسم سالم، أو أشار إلى عينه وقال: على اسم هذا، فإن خرج سهم
الحرية، عتق ورق الآخران، وإن خرج سهم الرق، رق، وأمرنا بإخراج رقعة
414

أخرى على اسم غانم، فإن خرج سهم الحرية، عتق، ورق الثالث، وإن خرج
سهم الرق فبالعكس. وإن اختلفت قيمتهم كمائة ومائتين وثلاثمائة، فإما أن نكتب
أسماءهم، فإن خرج اسم الأول، عتق وأخرج رقعة أخرى، فإن خرج اسم
الثاني، عتق نصفه، وإن خرج اسم الثالث، عتق ثلثه، وإن خرج أولا اسم الثاني،
عتق ورق الآخران، وإن خرج اسم الثالث، عتق ثلثاه، ورق باقيه
والآخران، وإما أن نكتب الرق في رقعتين، والحرية في رقعة، ونخرج على
أسمائهم وإن كانوا أكثر من ثلاثة، فإن أمكن تسوية الاجزاء عددا وقيمة، كستة أو تسعة أو
اثني عشر، قيمتهم سواء جزأناهم ثلاثة أجزاء وصنعنا صنيعنا في الثلاثة
المتساوين، وكذا الحكم في ستة، ثلاثة منهم قيمة كل واحد منهم مائة، وثلاثة
قيمة كل واحد خمسون، فيضم إلى كل نفيس خسيسا، ونجعلهم ثلاثة أجزاء، وفي
ستة اثنان منهم، قيمة كل واحد منهما ثلاثمائة، واثنان قيمة كل واحد مائتان، واثنان
قيمة كل واحد مائة، فنجعل اللذين قيمتهما أربعمائة جزءا، ويضم إلى كل نفيس
خسيسا، فيستوي الاجزاء عددا وقيمة. وإن لم يمكن التسوية بالعدد، وتيسرت
بالقيمة، كخمسة قيمة أحدهم مائة، وقيمة اثنين مائة، وقيمة اثنين مائة، جزأناهم
كذلك، وأقرعنا. وإن أمكن التسوية بالعدد دون القيمة، كستة، قيمة أحدهم
مائة، وقيمة اثنين مائة، وقيمة ثلاثة مائة، فوجهان، الصحيح المنصوص:
يجزؤون بالعدد، واثنين وثلاثة، ويقرع بينهم كما ذكرنا. والثاني: يجزؤون
بالعدد، فيجعل اللذان قيمتهما مائة جزءا، والذي قيمته مائة مع واحد من الثلاثة
الباقين جزءا، ويقرع بينهم فيعتق قدر الثلث على ما سبق. وإن لم يمكن التسوية
بالعدد ولا بالقيمة، كثمانية، قيمتهم سواء، فقولان، أظهرهما: يجزؤون ثلاثة
أجزاء، بحيث يقرب من التثليث، فيجعلون ثلاثة وثلاثة واثنين، ويقرع، فإن خرج
سهم العتق على ثلاثة، رق غيرهم، وانحصر العتق فيهم، ثم يقرع بينهم بسهمي
عتق وسهم رق، فلمن خرج له الرق، رق ثلثه، وعتق ثلثه مع الآخرين. وإن خرج
سهم العتق أولا على الاثنين، عتقا، وتعاد القرعة بين الستة، ويجعل كل اثنين
جزءا، فإذا خرج سهم العتق باسم اثنين، أعدنا القرعة بينهما، فمن خرج له سهم
الحرية، عتق ثلثاه. هذا إذا كتبنا في الرقاع الرق والحرية، وإن كتبنا الأسماء، فإذا
415

خرج سهم اثنين وعتقا لم تعد القرعة بين الستة، بل يخرج قرعة أخرى، ثم يقرع
بين الثلاثة المسمين فيها، فمن خرج له سهم العتق، عتق ثلثاه، ولا يجوز على هذا
القول أن نجزئهم أربعة واثنين واثنين، لبعد هذه التجزئة على التثليث. والقول
الثاني: لا يراعى التثليث، بل يراعي ما هو أقرب إلى فصل الامر، فيجوز أن تكتب
أسماؤهم في ثمان رقاع، ويخرج واحدة بعد واحدة إلى أن يتم الثلث، ويجوز أن
يجعلوا أرباعا، ثم إن شئنا أثبتنا اسم كل اثنين في رقعة، فإذا خرجت واحدة على
الحرية، عتقا، ثم يخرج رقعة أخرى، ويقرع بين الاثنين اللذين اسمهما فيها،
فمن خرجت له القرعة، عتق ثلثه، وإن شئنا أثبتنا الرق والحرية، فأثبتنا العتق
في واحدة، والرق في ثلاث، فإذا خرجت رقعة العتق لاثنين، عتقا، ويعيد القرعة
بين الستة، فإذا خرجت لاثنين، أقرعنا بينهما كما سبق، ولا يبعد على هذا أن يجوز
إثبات العتق في رقعتين، والرق في رقعتين، ويعتق الاثنان اللذان خرجت لهما رقعة
العتق أولا، ويقرع بين اللذين خرج لهما رقعتي العتق الثانية، وإن كان العبيد
سبعة، فعلى القول الأول يجزئهم ثلاثة واثنين واثنين، وعلى الثاني نجزئ كيف
شئنا إلى أن يتم الثلث. وإن كانوا أربعة قيمتهم سواء فعلى الأول نجزئهم اثنين
وواحدا، وواحدا فإن خرج سهم العتق لاحد الفردين، عتق، ثم يعيد القرعة بين
الثلاثة، فمن خرج له سهم العتق، عتق ثلثه، وإن خرج للاثنين، أقرعنا بينهما،
فمن خرج له سهم العتق، عتق كله، وثلث الآخر. وهذا على تقدير إثبات الرق
والحرية في الرقاع، وعلى القول الثاني: يثبت اسم كل واحد في رقعة، ويخرج
باسم الحرية، فمن خرج اسمه أولا، عتق، ومن خرج اسمه ثانيا، عتق ثلثه، وإن
كانوا خمسة قيمتهم سواء، فعلى الأول يجزئهم اثنين واثنين وواحدا، وعلى الثاني لنا
إثبات أسمائهم في خمس رقاع، ثم القول في الايجاب أم في الاستحباب
والاحتياط؟ فيه وجهان، وبالأول قال القاضي حسين، واختاره الامام، وبالثاني قال
الصيدلاني، وهو مقتضى كلام الأكثرين. ولو أعتق عبدا من عبيد على الابهام، فقد
يحتاج إلى تجزئتهم أربعة أجزاء وخمسة وأكثر، فيجزؤون بحسب الحاجة، وكذا لو
كان على المعتق دين كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى.
416

مسائل: الأولى: إذا أعتق في مرض موته عبيدا لا مال له غيرهم ومات
وعليه دين، نظر، إن استغرقهم الدين، فهو مقدم، فيباعون فيه، وإن لم
يستغرقهم، أقرع بين الدين والتركة ليصرف العتق عما يتعين للدين، فإن كان الدين
قدر نصفهم، جعلنا حرين، وأقرعنا بينهما بسهم دين وسهم تركة، ثم إن شئنا كتبنا
أسماء كل حر في رقعة، وأخرجنا رقعة الدين أو التركة. وإن شئنا كتبنا الدين في
رقعة والتركة في رقعة، وأخرجنا إحداهما على أحد الحرين، وإن كان قدر الدين
ثلثهم، جزأناهم ثلاثة أجزاء، وأقرعنا بينهم بسهم دين، وسهمي تركة، وإن كان
قدر الرابع، جزأناهم أربعة أجزاء، وأقرعنا بسهم دين، وثلاثة أسهم تركة وهل يجوز
أن يقرع للدين والعتق والتركة، بأن يقرع والحالة هذه بسهم دين وسهم عتق وسهمي
تركة، أو يجزئهم إذا كان الدين قدر نصفهم ستة أجزاء، ويقرع بثلاثة أسهم للدين
وسهم للعتق وسهمين للتركة؟ فيه وجهان، الأصح المنصوص: لا، لأنه لا يمكن
تنفيذ العتق قبل قضاء الدين، ولو تلف المعين للدين قبل قضائه، انعكس الدين
على الباقي من التركة، وكما لا يقسم شئ على الورثة قبل قضاء الدين، لا يعتق
قبله. والثاني: يجوز، لأن العمل فيه أخف فلا ينقص به حق ذي حق، وعلى هذا
نقل الغزالي أنا نتوقف في تنفيذ العتق إلى أن يقضى الدين. وفي التهذيب ما
يقتضي الحكم بالعتق في الحال. وإذا قلنا بالمنصوص، فتعين بعضهم للدين يباع
ويقضى منه الدين، ثم يقرع للعتق وحق الورثة. ولو قال الوارث: أقضي الدين من
موضع آخر، وأنفذ العتق في الجميع، فهل ينفذ العتق؟ وجهان، أحدهما: نعم،
لأن المنع من النفوذ الدين، فإذا سقط بالقضاء، نفذ، كما لو أسقط الورثة حقهم من
ثلثي التركة وأجازوا عتق الجميع. والثاني: لا، لأن تعلق الدين منع النفوذ لا
ينقلب نافذا بسقوطه، كما لو أعتق الراهن وقلنا: لا ينفذ فقال: أنا أقضي الدين من
موضع آخر لينفذ، فإنه لا ينفذ إلا أن يبتدئ إعتاقا، وبني الوجهان على أن تصرف
الورثة في التركة قبل قضاء الدين هل ينفذ؟
قلت: ينبغي أن يكون الأصح نفوذ العتق. والله أعلم.
417

فرع لو أعتق من لا دين عليه عبيدا لا مال له غيرهم، ومات، وأعتقنا
بعضهم بالقرعة، وأرققنا بعضهم، فظهر للميت مال مدفون، فإن كان بحيث يخرج
جميعهم من الثلث، بأن كان المال مثلي قيمتهم، حكم بعتقهم جميعا، فندفع
إليهم أكسابهم من يوم إعتقاقهم، ولا يرجع الوارث بما أنفق عليه، كمن نكح امرأة
نكاحا فاسدا على ظن أنه صحيح، ثم فرق القاضي بينهما، لا يرجع بما أنفق. وإن
خرج من الثلث بعض من أرققناهم، أعتقناهم بالقرعة، مثل أن أعتقنا واحدا من
ثلاثة، ثم ظهر مال يخرج به آخر، يقرع بين اللذين أرققناهما، فمن خرج له سهم
الحرية، عتق. ولو أعتقنا بعض العبيد، ولم يكن عليه دين ظاهر، ثم ظهر دين،
فإن كان مستغرقا للتركة، فالعتق باطل، فإن قال الورثة: نحن نقضي الدين من
موضع آخر، فعلى الوجهين السابقين. واستبعد الشيخ بناءهما على الخلاف في
تصرف الورثة في التركة قبل الدين، وقال هناك الوارث ينشئ إعتاقا من عنده، ولا
يمضي ما فعل الميت، وإنما الخلاف مبني على أن إجازة الوراث لما زاد على الثلث
تنفيذ أم ابتداء عطية من الوراث؟ فإن قلنا: تنفيذ، فله تنفيذ إعتاقه بقضاء الدين من
موضع آخر، وإلا فينبغي أن يقضي الدين، ثم يبتدئ إعتاقا، وإن كان الدين الذي
ظهر غير مستغرق، فهل يبطل القرعة من أصلها؟ وجهان، ويقال: قولان.
أحدهما: نعم، كما لو اقتسم شريكان، ثم ظهر ثالث، فعلى هذا يقرع الآن للدين
والتركة ولا يبالي بوقوع سهم الدين على من وقعت له قرعة العتق أولا. وأظهرهما:
لا، ولكن إن تبرع الوارث بأداء الدين، نفذ العتق، وإلا فيرد العتق بقدر الدين،
فإن كان الدين نصف التركة، رددناه في نصف من أعتقنا، وإن كان ثلثها، رددنا
ثلثهم، فإن كانت العبيد ستة، قيمتهم سواء، وأعتقنا اثنين بالقرعة، فظهر دين بقدر
قيمة اثنين بعنا من الأربعة اثنين للدين كيف اتفق، ويقرع بين المعتقين القرعة أولا
بسهم رق، وسهم عتق، فمن خرج له سهم الرق، رق ثلثاه، وعتق ثلثه مع
الآخر. وإن ظهر الدين بقدر قيمة ثلاثة، أقرع بين اللذين كان خرج لهما الحرية،
فمن خرج له الحرية عتق، ورق الآخر.
المسألة الثانية: إذا قال لعبيده: أحدكم حر، أو اثنان حران، أو أعتقت
أحدكم، فله حالان، أحدهما: أن ينوي معينا فيؤمر ببيانه، ويحبس عليه. فإن
418

قال: أردت هذا، عتق، ولغيره أن يدعي عليه أنك أردتني، ويحلفه، وإن نكل
السيد، حلف هو وعتق. ولو عين واحدا، وقال: أردت هذا، بل هذا، أعتقا
جميعا، مؤاخذة له. ولو قتل واحدا منهم، لم يكن ذلك بيانا، بل يبقى الامر
بالبيان. فلو قال: أردت المقتول، لزمه القصاص. ولو جرى ذلك في إماء، أو
أمتين، ثم وطئ واحدة، لم يكن الوطئ بيانا، بل لو بين العتق فيها، تعلق به الحد
والمهر لجهلها بأنها معتقة. ولو مات قبل البيان، قام وارثه مقامه على المذهب،
لأنه خليفته، وربما علمه. وقيل: قولان، فإن أقمناه، فبين أحدهم، عتق،
ولغيره تحليفه على نفي العلم، فإن لم يكن وارث، أو قال الوارث: لا أعلم،
فالصحيح أو المشهور أنه يقرع بينهم. وفي وجه أو قول: لا يقرع، بل يوقف. ولو
قال المعتق: نسيت من أعتقته، أمر بالتذكر. قال الأصحاب: يحبس عليه، قال
الامام: وفيه احتمال. وإن مات قبل التذكر، ففي بيان الوارث والقرعة الخلاف،
وهكذا الحكم لو سمى واحدا وأعتقه ثم قال نسيته.
الحال الثاني: أن لا ينوي معينا، فيؤمر بالتعيين، ويوقف عنهم، إلى أن
يعين، ويلزمه الانفاق عليهم، فإذا عين أحدهم، عتق، وليس لغيره أن ينازع فيه إن
وافق على أنه لم ينو معينا. وإذا قال: نويت هذا، عتق الأول، ولغا قوله للثاني،
لأن العتق حصل في الأول، بخلاف قوله: نويت هذا، بل هذا، لأنه إخبار. ثم
العتق في المبهم هل يحصل عند التعيين، أم يتبين حصوله من وقت اللفظ المبهم؟
وجهان سبق نظيرهما في الطلاق، وخرج على الخلاف أنه لو مات أحدهم فعينه،
فهل يصح؟ إن قلنا: يحصل العتق عند التعيين، فلا، لأن الميت لا يقبل العتق،
فعلى هذا لو كان الابهام بين عبدين، فإذا بطل التعيين في الميت، تعين الثاني
للعتق، ولا حاجة إلى لفظ. وإن قلنا الابهام، صح تعيينه. ولو جرى ذلك في
أمتين أو إماء، فهل يكون الوطئ تعيينا لغير الموطوءة؟ وجهان كما في الطلاق. قال
ابن الصباغ: وكونه تعيينا هو قول أكثر الأصحاب. وإذا لم نجعله تعيينا، فعين
العتق في الموطوءة، فلا حد. وبنى البغوي حكم المهر على أن العتق يحصل عند
التعيين، أم باللفظ المبهم؟ إن قلنا بالأول، لم يجب، وإلا، وجب. والوطئ فيما
419

دون الفرج، والقبلة واللمسة بشهوة مرتب على الوطئ إن لم يكن تعيينا، فهذا
أولى، وإلا فوجهان. والاستخدام مرتب على اللمس، والمذهب أنه ليس بتعيين،
قال الامام: هذا يوجب طرد الخلاف في أن الاستخدام في زمن الخيار، هل يكون
فسخا أو إجازة؟ والعرض على البيع كالاستخدام. ولو باع بعضهم، أو وهبه وأقبضه
أو أجره، قال البغوي: فيه الوجهان كالوطئ والاعتاق ليس بتعيين. ثم إن عين
فيمن أعتقه، قبل، وإن عين في غيره، عتقا. وقتل السيد أحدهم ليس تعيينا، ثم
إن عين في غير المقتول، لم يلزمه إلا الكفارة، وإن عين في المقتول، لم يجب
القصاص، للشبهة. وأما المال، فإن قلنا: العتق يحصل عند التعيين، لم يجب،
وإن قلنا: عند الابهام، لزمه الدية لورثته. وإن قتل أجنبي أحدهم، فلا قصاص إن
كان القاتل حرا، ثم إن عين في غير المقتول، لزمه القيمة، وإن عين فيه وقلنا:
العتق يحصل عند التعيين، فكذلك، كما لو نذر إعتاق عبد بعينه، فقتل. وإن
قلنا: عند الابهام، لزمه الدية لورثة المقتول. ولو مات قبل التعيين، فهل للورثة
التعيين؟ قولان، ويقال: وجهان، أظهرها: نعم.
المسألة الثالثة: قال لامته: أول ولد تلدينه حر، فولدت ميتا، ثم حيا، لم
يعتق الحي، لأن الصفة انحلت بولادة الميت، كما لو قال: أول عبد رأيته من
عبيدي حر، فرأى أحدهم ميتا، انحلت اليمين، فإذا رأى بعده حيا لا يعتق، ووافق
أبو حنيفة في هذا، وخالف الأول.
قلت: إن كانت حاملا حال التعليق، صح قطعا، وكذا إن كانت حائلا في
الأظهر والأصح، كما لو وصى بما ستحمل والثاني: لا، لأنه تعليق قبل الملك.
والله أعلم.
الرابعة: قال لعبده: أنت ابني، ومثله يجوز أن يكون ابنا له، ثبت نسبه،
وعتق إن كان صغيرا، أو بالغا وصدقه، وإن كذبه، عتق أيضا وإن لم يثبت النسب.
وإن لم يمكن كونه ابنه، بأن كان أصغر منه على حد لا يتصور كونه ابنه، لغا قوله،
ولم يعتق، لأنه ذكر محالا. هذا في مجهول النسب، فإن كان معروف النسب من
غيره، لم يلحقه، لكن يعتق على الأصح، لتضمنه الاقرار بحريته. ولو قال
420

لزوجته: أنت بنتي قال الامام: الحكم في حصول الفراق وثبوت النسب كما في
العتق.
الخامسة: قال لعبديه: أعتقت أحدكما على ألف، أو أحدكما حر على
ألف، لم يعتق واحد منهما ما لم يقبلا، فإن قبل كل واحد الألف، عتق أحدهما،
ولزم السيد البيان، فإن مات قبله، ولم يقم الوارث مقامه، أو لم يكن وارث،
أقرع، فمن خرجت قرعته، قرعته، عتق بعوض. وفي ذلك العوض وجهان، أصحهما وبه
قال ابن الحداد: قيمته. والثاني: المسمى، قاله أبو زيد، لأن المقصود العتق،
لا المعاوضة، فيحتمل إبهام العوض تبعا للعتق. ولو قال لأمتيه: إحداكما حرة على
ألف، فقبلتا، ثم وطئ إحداهما، فهل هو اختيار لملك الموطوءة ويتعين الأخرى
للعتق، وجهان حكاهما الشيخ أبو علي.
السادسة: جارية مشتركة، زوجها الشريكان بابن أحدهما فأتت منه بولد،
يعتق نصفه على الجد، ولا يسري إلى النصف الآخر إذا لم يعتق عليه باختياره.
السابعة: سبق في النكاح إن من نكح أمة غر بحريتها، فأولدها، انعقد الولد
حرا، ويلزم المغرور قيمته لمالك الأمة. هذا هو الصحيح، وحكى الشيخ أبو علي
وجها أنه ينعقد رقيقا، ثم يعتق على المغرور، وله ولاؤه. وأنا إذا قلنا: ينعقد
حرا فلا قيمة على المغرور، وهو غريب ضعيف. قال الشيخ وفي القلب من
وجوب القيمة على المغرور شئ لأنه لم يتلف شيئا على مالك، وإنما منع دخول
شئ في ملكه، لكن ليس فيه خلاف يعتد به، وأجمعت الصحابة رضي الله عنهم
على وجوب الضمان، فلا بد من متابعتهم. وإذا عرفت هذا، فلو نكح جارية ابنه
مغرورا بحريتها، فأولدها، فهل يلزمه قيمة الولد؟ وجهان، أحدهما: لا، لأنه إن
انعقد حرا، فينبغي أن لا يلزمه شئ، وإن انعقد رقيقا، عتق على الجد بالقرابة،
421

ولأنه لم يفوت بظن الحرية على الأب رقا ينتفع به، لأنه كان يعتق عليه،
وأصحهما: نعم، وبه قال ابن الحداد. وإن وطئها عالما بالحال. ملكه الجد،
وعتق عليه، قال الامام: ولا يبعد أن يقال: ينعقد حرا.
فروع في مسائل منثورة. شهد أنه قال: أحد هذين العبدين حر، أو أنه
أوصى بإعتاق أحدهما، أو أنه قال: إحدى هاتين المرأتين طالق، يقبل، ويحكم
بمقتضى شهادتهما، ولو ولدت المزني بها ولدا، وملكه الزاني لم يعتق عليه، وقال
أبو حنيفة: يعتق. ولو قال لعبده: أنت حر كيف شئت، قال أبو حنيفة يعتق في
الحال، وقال صاحباه: لا يعتق حتى يشاء، وقال ابن الصباغ: وهو الأشبه. ولو
أوصى بإعتاق عبد يخرج من الثلث، لزم الوارث إعتاقه، فإن امتنع، أعتقه
السلطان. ولو كان له عبد مقيد، فحلف بعتقه أن في قيده عشرة أرطال، وحلف
بعتقه لا يحله هو ولا غيره، فشهد عند القاضي شاهدا أن قيده خمسة أرطال،
وحكم القاضي بعتقه، ثم حل القيد فوجد فيه عشرة أرطال، قال ابن الصباغ: لا
شئ على الشاهدين، لأن العتق حصل بحل القيد دون الشهادة، لتحقق كذبهما.
قال ابن الحداد: ولو شهد شاهدان أنه أعتق في مرضه هذا العبد، أو أوصى بعتقه،
وحكم القاضي بشهادتهما، وشهد آخران أنه أعتق عبدا آخر، وكل واحد منهما ثلث
ماله، ثم رجع الأولان، لم يرد القضاء بعد نفوذه، بل يقرع بينهما، فإن خرجت
القرعة للأول، عتق، وعلى الشاهدين الغرم للرجوع، ويرق الثاني، وحينئذ
يحصل للورثة التركة كلها، وإن خرجت للثاني، عتق، ورق الأول، ولا شئ
على الراجعين، لأن من شهدا به لم يعتق، واعترض ابن الصباغ، فقال: ينبغي أن
يعتق الثاني بكل حال، ويقرع بينهما لمعرفة حال الأول، فإن خرجت القرعة له،
أعتق أيضا، وغرم الراجعان.
فرع قال ابن الحداد: لو زوج أمته بعبد غيره، وقبض مهرها، وأتلفه،
ومات ولا مال غيرها، ولم يدخل الزوج بها، فأعتقها الوارث، نفذ إعتاقه. قال
422

الشيخ أبو علي: تقدم على هذا فصلين أحدهما: إذا أعتق الوارث عبد التركة،
وعلى الميت دين، نظر، إن كان الوارث معسرا، لم ينفذ العتق، هكذا قطع به
الشيخ. وعن الشيخ أبي محمد أنه على الخلاف في إعتاق الراهن، وضعفه
الامام. وإن كان موسرا، فوجهان، أحدهما وبه قال ابن الحداد: ينفذ، وينتقل
الدين إلى مال الوارث، كما لو أعتق السيد الجاني، هذا لفظ الشيخ، ونقل الامام
عنه أنا إذا أنفذنا العتق، نقلنا الدين إلى ذمة الوارث إذا لم يخلف سوى العبد،
قال: وكنت أرى الامر كذلك، فالدين لا يتحول إلى ذمة الوارث قط، لكنه بالاعتاق
متلف للعبد، فعليه أقل الأمرين من الدين، وقيمة العبد. والثاني: أنه موقوف،
فإذا أدى الوارث الدين من ماله، تبين نفوذ العتق، وإلا بيع العبد في الدين، وبان
أن العتق لم ينفذ. ولو باع الوارث التركة بغير إذن الغرماء لم ينفذ بيعه إن كان
معسرا، وإن كان موسرا، ففيه أوجه، أحدها: لا ينفذ كالمرهون، والثاني:
ينفذ، والثالث: موقوف، كالعتق. قال الامام ويجئ مما حكاه الشيخ أبو محمد
قول أنه يصح بيع الوارث التركة إن كان معسرا كالجاني. قال: وذكر أبو علي
تفريعا على صحة البيع أن الثمن يصرف إلى الغرماء، وأن المشتري لو دفع الثمن
إلى الوارث فتلف في يده، كان للغرماء تغريم المشتري. قال الامام: والوجه عندي
القطع بأنهم لا يطالبون المشتري. وأنا إذا صححنا البيع، كان كالاعتاق. قال
الامام: ولزوم البيع بعيد، فإن بيع الجاني وإن صححناه، لا يلزم، مع أن تعلق
الأرش به أضعف، فبيع الوارث أولى بأن لا يلزم.
واعلم أن جميع هذا تفريع على أن الدين لا يمنع الإرث، فإن قلنا: يمنعه،
فالتركة باقية على ملك الميت، فلا يصح التصرف للوارث بحال. والحاصل أن
المذهب نفوذ العتق من الوارث الموسر، ومنع البيع.
الفصل الثاني: ذكرنا في النكاح أن الأمة إذا عتقت تحت عبد، فلها الخيار،
423

فإن فسخت قبل الدخول، سقط كل المهر، وعلى السيد رده إن كان قبضه
إذا تقرر الفصلان، فينفذ العتق في الحال في فرع ابن الحداد. ثم إن كان
الوارث معسرا، فلا خيار لها، لأنها لو فسخت، لوجب رد مهرها، وصار ذلك دينا
على الميت، وذلك يمنع نفوذ العتق من الوارث المعسر، وإذا لم يعتق، فلا
خيار، ففي إثبات الخيار بقية والمسألة دورية، وقد سبق طرف منها في النكاح. وإن
كان موسرا، فإن قلنا: ينفذ عتقه، فلها الفسخ، وإذا فسخت صار مهرها دينا،
فيطالبه به المعتق إن كانت قيمتها المهر لتفويته التركة، وإن كان مهرها أكثر، لم
يطالب إلا بقيمتها، لأنه لم يفوت إلا ذلك. وإن قلنا: يتوقف نفوذ العتق على أداء
الدين، فلا عتق ولا خيار، حتى يرد الصداق إلى سيد العبد، هكذا ذكره الشيخ أبو
علي، وفيه إشكال، لأنه لا يثبت لسيد العبد دين ما لم يفسخ، فكيف يقضي الدين
قبل ثبوته.
فرع مات عن ابن حائز للتركة وهي ثلاثة أعبد قيمتهم سواء، فقال
الابن: أعتق أبي في مرضه هذا، وأشار إلى أحدهم، ثم قال: بل هذا وهذا،
يعني الأول وآخر معا، ثم قال: بل أعتق الثلاثة معا، قال ابن الحداد: الأول حر
بكل حال، ويقرع بينه وبين الثاني، لاقراره الثاني، ويقرع بين الثلاثة مرة ثانية،
فإذا أقرعنا في المرتين، فإن خرج سهم العتق للأول فيهما لم يعتق غيره، وإن خرج
للثاني فيهما، وللأول في الأولى، وللثاني في الثانية أو بالعكس، عتقا، دون
الثالث، وإن خرج للأول في الأولى، وللثالث في الثانية عتقا دون الثاني، وإن
خرج للثاني في الأولى، وللثالث في الثانية، عتقوا كلهم. قال الشيخ أبو علي: ولو
كانت قيمتهم مختلفة بأن كانت قيمة الأول مائة، والثاني المضوم إليه مائتين،
والثالث ثلاثمائة، فالأول حر بكل حال، لاقراره الأول، وهو دون الثلاثة، فإذا
أقرعنا بينة وبين الثاني، وخرج سهم العتق للأول، عتق من الثاني أيضا نصفه، وإن
424

خرج السهم للثاني، عتق كله. وإذا أقرعنا بين الثلاثة لاقراره الثالث فإن خرج
سهم العتق الثالث، عتق ثلثاه، وذلك ثلث ماله، وإن خرج للثاني، لم يعتق
الثالث، سواء خرجت القرعة الأولى على الثاني، أو لم تخرج، لأنه ثلث ماله،
وإن خرجت للأول، فهو خرجت القرعة الأولى على الثاني، أو لم تخرج، لأنه ثلث ماله، وإن خرجت للأول، فهو نصف الثلث، فتعاد القرعة لاكمال الثلث بين الثاني
والثالث، فإن خرجت على الثاني، رق الثالث، ولا يعتق من الثاني إلا ما عتق
بالقرعة الأولى، وهو كله أو نصفه، وإن خرجت على الثالث، عتق ثلثه. ولو كانت
قيمة الأول ثلاثمائة، والثاني مائتين، والثالث مائة، عتق من الأول ثلثاه، ثم يقرع
بينه وبين الثاني، فإن خرج سهم العتق للأول، ثم يرد شئ، وإن خرج للثاني،
عتق كله، ثم يقرع بين الثلاثة، فإن خرج للأول أو الثاني، لم يرد شئ على ما
عتق، وإن خرج للثالث، عتق كله.
فرع مات عن ثلاثة بنين، وله ثلاثة أعبد، قيمتهم سواء، فأقر أحد البنين
أن أباه أعتق في مرضه هذا العبد، وأقر آخر أنه أعتقه مع هذا الآخر، وأقر الثالث أنه
أعتق الثلاثة معا، عتق الأول، لأن أحد البنين أقر بعتقه، فنفذ في حصته وهي
ثلثه، ثم يقرع بينه وبين المضموم إليه لاقرار الثاني، فإن خرج سهم العتق
للأول، عتق ثلث آخر، وهو حصة المقر، وإن خرج للثاني، عتق ثلثه لهذا
المعنى، ثم يقرع بين الثلاثة فمن خرج له سهم العتق، عتق كله. وإذا حكمنا بعتق
بعض عبد، فلا سراية، لأنهم لم يباشروا الاعتاق، ولا أقروا به على أنفسهم. ومن
أعتقنا بعضه بإقرار أحد البنين إذا وقع القسمة في نصيب ذلك المقر، أو صار له
بوجه آخر، حكم عليه بعتقه، لاقراره بأنه حر كله.
فرع شهد اثنان على ميت أنه أوصى بعتق عبده سالم وهو ثلث ماله، وقال
الوارث: أوصي بعتق غانم وهو ثلثه، فإن لم يكذب الوارث الشاهدين، واقتصر
على أنه أوصى بعتق غانم وهو ثلثه، فإنه لم يكذب الوارث الشاهدين، واقتصر على أنه أوصى بعتق هذا، عتق الأول بموجب البينة، وأقرع بينة وبين الثاني،
لاقرار الوارث، فإن خرجت القرعة للأول، لم يعتق الثاني، وإن خرجت
425

للثاني، عتق، ولم يرق الأول، لأنه مستحق العتق بالبينة، فلا يتمكن الوارث من
إبطاله بالاقرار، وقد تعمل القرعة في أحد الطرفين دون الاخر كما سبق. وإن أقر
الوارث أنه أعتق الثاني، وكذب الشهود في الأول، عتقا جميعا، الأول بالشهادة،
والثاني بالاقرار. ولو شهد أجنبيان بأنه أوصى بإعتاق عبد هو ثلث ماله، وشهد وارثان
بأنه أوصى بإعتاق آخر، فإن كذب الوارثان الأجنبيين، عتقا عتقا، وإلا أقرع كما
سبق.
ثلاثة إخوة في أيديهم أمة وولدها، وهو مجهول النسب، قال
أحدهم: هي أم ولدي، وهو ولد منها، وقال الثاني: هي أم ولد أبينا، والولد
أخونا، وقال الثالث: هي أمتي، وولدها عبدي، فالكلام في أحكام الأول نسب
الولد، فلا يثبت من أبيهم. وأما ثبوته من الذي استلحقه، فإن قلنا: إن من
استلحق عبدا مجهول النسب، لحقه، ثبت نسبه منه، وإلا فلا، على الأصح.
الثاني القائل: هي أم ولد أبينا، لا يدعي لنفسه شيئا على الآخرين، فلا يحلفهما،
لكن إن ادعت الأمة ذلك، وأنها عتقت لموت الأب، حلفهما أنهما لا يعلمان الأب
أولدها، وأما الآخران، فكل واحد منهما يدعي ما في يد صاحبه، هذا يقول: هي
مستولدتي، وذلك يقول: ملكي، فيحلف كل واحد الآخر على نفي ما يدعيه في
الثلث الذي في يده. الثالث القائل: هي أم ولد أبينا، لا غرم له، لأنه لا يدعي
لنفسه شيئا ولا عليه، والذي يدعي استيلاد يلزمه الغرم للذي يدعي الملك
لاعترافه بأنه فوت عليه نصيبه من الأمة، والولد هكذا عللوه ومقتضاه أن يكون
الصورة فيما إذا سلم أنه كان لمدعي الرق منها نصيب بالإرث أو غير وإلا فلا يلزم
من قوله: مستولدتي كونها مشتركة من قبل. وكم يغرم؟ وجهان بناء على أن الجارية
في يد من هي وفيه وجهان: أحدهما: لا يد عليها للقائل: مستولدة أبينا، لأنها
حرة بزعمه، فتكون في يد الآخرين. وأصحهما في يد الثلاثة حكما، فعلى الأول
يلزمه لمدعي الرق نصف قيمتها وقيمة الولد، وعلى الأصح ثلث قيمتها، وبه
أجاب ابن الحداد. الرابع: الولد حر بقول من يقول: مستولدة الأب، ومن يقول:
426

مستولدتي، قال الشيخ أبو علي: ويعتق عليه نصيب مدعي الرق ونصيبه من
الجارية، هكذا ينبغي أن يكون.
فرع قال لعبديه: أحدكما حر، ثم غاب أحدهما، فقال للذي لم يغب
وعبد ثالث: أحدكما حر، ثم مات قبل البيان، قال الأستاذ أبو إسحاق: يقرع بين
الأولين، فإن خرج سهم العتق للذي غاب، عتق، وتعاد القرعة بين الآخرين، فمن
خرجت له، عتق أيضا. وإن خرجت أولا للذي لم يغب، عتق، ولا تعاد، لان
تعيين القرعة كتعيين المالك، ولو عين الذي لم يغب للعتق، ثم قال له وللآخر:
أحدكما حر، كان صادقا، ولم يقتض ذلك عتق الآخر. وقال الماسرجسي: إن
خرجت القرعة للذي لم يغب، تعاد، لأنه يحتمل أنه أراد بقوله: الثاني الذي حضر
أخرا، فإن خرجت القرعة الثانية للذي لم يغب أيضا، لم يعتق، وإن خرجت
للآخر، عتق أيضا، مال الإمام إلى هذا، ورجح الشيخ أبو علي بالأول.
فرع له أربع إماء، فقال: كلما وطئت واحدة منكن، فواحدة منكن
حرة، ثم وطئ إحداهن، عتقت إحداهن. وهل تدخل الموطوءة في العتق
المبهم؟ يبنى على الوجهين السابقين في أن الوطئ هل يكون تعيينا للملك في
الموطوءة والعتق في غيرها؟ إن قلنا: نعم وعليه فرع ابن الحداد، فأول الوطئ لا
يتضمن التعيين، لأن العتق معلق به، وما لم يوجد، لا يثبت استحقاق العتق. فلو
نزع بمجرد تغييب الحشفة، دخلت الموطوءة في العتق المبهم، وإن استدام، فهل
تتضمن الاستدامة التعيين وإخراج الموطوءة عن استحقاق العتق؟ وجهان، أحدهما
هو قول أبي زيد: نعم، فيقرع بين الثلاث البواقي، وأصحهما وبه قال ابن
الحداد: لا، لأنه وطئ واحد، ولهذا لا يستحق بالاستدامة عتق آخر فيقرع بين
الأربعة، وهذا كمن قال لامته: إن وطئتك فأنت حرة، فوطئ ونزع في الحال، لا
يلزمه مهر، وإن استدام، فوجهان كنظيره في الحلف بالطلاق. وإن وطئ ثلاثا
منهن، واستدام، عتق بكل وطئ أمة، فإن جعلنا الوطئ تعيينا، والاستدامة متضمنة
للتعيين، عتقت الأولى والثانية والرابعة بلا قرعة، ورقت الثالثة، لأنه لما وطئ
427

الأولى فبتغييب الحشفة ثبت عتق واحدة، فإذا استدام، خرجت هي عن
الاستحقاق، لتعينها للملك، والثانية والثالثة تعينتا للملك بوطئهما فتعينت الرابعة
للعتق، الثانية ثبت حق العتق لها، لأن الرابعة علقت
بالوطئ الأول، فإذا استدام خرجت هي عن الاستحقاق وخرجت الثالثة أيضا بوطئها،
فتعينت الأولى للعتق فإذا وطئ الثالثة، لم تبق إلا هي والثانية، واستدامة الوطئ فيها
إمساك، فيعين العتق في الثانية، وإن جعلنا الوطئ تعيينا، ولم نجعل الاستدامة تعيينا، أقرع بين الأولى والرابعة، لأنه أمسك الثانية والثالثة بوطئهما للملك، فإن
خرجت القرعة للرابعة، عتقت، بوطئ الثانية يستحق عتق آخر، لكن لاحظ فيه
للرابعة، لأنها عتقت بالوطئ الأول، ولا للثالثة، لأنه أمسكها بالوطئ، فهو إذا متردد
بين الأولى والثانية، فيقرع بينهما، فمن خرجت لها القرعة، عتقت، وبوطء الثالثة
يستحق عتق آخر، ولاحظ فيه للرابعة، ولا لمن عتق من الأولى والثانية، فإن عتقت
الأولى، أقرعنا بين الثانية والثالثة، وإن عتقت الثانية، أقرعنا بين الأولى والثالثة
، وإن خرجت القرعة الأولى للأولى دون الرابعة، عتقت، وبوطء الثانية يتردد العتق
بينها وبين الرابعة، لأن الأولى عتقت، والثالثة تعينت بالوطئ للامساك، فمن خرجت
لها القرعة، عتقت، وبوطء الثالثة يستحق عتق آخر لاحظ فيه للأولى، ولا لمن
عتقت والثانية والرابعة، فإن عتقت الثانية، أقرعنا بين الثالثة والرابعة، وإن عتقت
الرابعة، أقرعنا بين الثانية والثالثة، وإذا قلنا: الوطئ ليس بتعيين، أقرع ثلاث
مرات، لاستحقاق العتق لثلاث منهن، يقرع بوطئ الأولى بين الأربع بسهم عتق
وثلاثة أسهم رق، فإن خرجت الرابعة، عتقت، ولا مهر لها، لأنه لم يطأها، وإن
خرجت الأولى، عتقت، وهل تستحق المهر؟ يبنى على أن استدامة الوطئ هل
يوجب مهرا؟ وإن خرجت للثانية أو الثالثة، عتقت، ولها المهر، لأنا تبينا أنه وطئها
بعد حصول عتقها، ثم يقرع لوطئ الثانية بي الثلاث البواقي بسهم عتق، وسهمي
رق، فإن خرجت للرابعة، فلا شئ لها، وإن خرجت للثانية، ففي استحقاقها
المهر الوجهان. وإن خرجت الثالثة، استحقت، وإن خرجت القرعة الحرية في
428

المرة الأولى للثانية، أقرعنا لوطئ الثانية بين الأولى والثالثة والرابعة، فإن خرج سهم
العتق للأولى، فلا مهر لها بلا خلاف، لأن عتقها متأخر عن وطئها، وإن خرج
للرابعة، فكذلك، لأنه لم يطأها. وإن خرج للثالثة، فلها المهر، لأنا تبينا أنها
عتقت قبل وطئها، ثم يقرع لوطئ الثالثة بين الباقيين بسهم عتق، وسهم رق، فإن
بقيت الثالثة والرابعة، فلا مهر، وإن خرجت للثالثة، فهل
لها المهر؟ فيه الوجهان، وإن بقيت الأولى والثانية، فلا مهر لمن خرجت لها القرعة
منهما، لتقدم وطئها على عتقها، وفيه وجه أنه يقرع بين الأربع دفعة واحدة بثلاثة
أسهم عتق، وسهم رق، فتعتق ثلاث، وترق واحدة، وهذا صحيح لمعرفة الرق
والعتق، ولكن لا يصرف به المهر، وموضع الخلاف فيه والوفاق. ولو وطئ
الأربع، عتقن كلهن، ونحتاج للمهر إلى الاقراع ثلاث مرات بين الأربع مرة بسهم
عتق، وثلاثة أسهم رق، ثم مرة بين ثلاث منهن بسهم عتق، وسهمي رق، ثم مرة
بين الباقيتين بسهم عتق، وسهم رق، واستيعاب الاحتمالات يطول. وضابطه أن
ينظر في كل قرعة، فمن بان أنها عتقت قبل وطئها، فلها المهر، وفيمن عتقت
بوطئها الوجهان. أما إذا قال: كلما وطئت واحدة منكن، فواحدة من صواحبها حرة
ووطئهن، فإن قلنا: الوطئ يعين الملك في الموطوءة، عتقت الرابعة بوطئ الأولى،
والأولى بوطئ الثانية، والثانية بوطئ الثالثة، ورقت الثالثة. وإن قلنا: لا يعين، عتق
ثلاث، ورقت واحدة، فيقرع لوطئ الأولى بين الثلاث البواقي، فإن خرجت القرعة
للثانية، عتقت، ثم يقرع لوطئ الثانية بين الأولى والثالثة والرابعة، فإن خرجت
للأولى أو للرابعة، عتقت. وإذا وطئ الثالثة، عتقت الباقية هي الأولى
والثالثة والرابعة، فإن خرجت للأولى أو للرابعة، عتقت. وإذا وطئ الثالثة، عتقت
الباقية والثالثة والرابعة، فإن خرجت للأولى أو للرابعة، عتقت. فإذا
وطئ الثالثة، عتقت الباقية منهن وهي الأولى أو الرابعة، وإن خرجت القرعة الثانية للثالثة، عتقت، فإذا
وطئ الثالثة، أقرع بين الأولى والرابعة. وأما المهر، فلا يجب لمن عتقت بعد
الوطئ، ويجب لمن بان عتقها قبله. وفي هذه الصورة لا يعتق الموطوءة بوطئها
بحال. واعلم أن الاقراع في جميع هذه الصورة فيما إذا مات قبل البيان، فأما في
حياته، فيؤمر بالبيان.
429

فرع له أربع إماء وعبيد، فقال: كلما وطئت واحدة منكن، فعبد من
عبيدي حر، وكلما وطئت اثنتين، فعبدان حران، وكلما وطئت ثلاثا، فثلاثة،
وكلما وطئت أربعا، فأربعة، فوطئ الأربعة، فهو كقوله: كلما طلقت امرأة فعبد
من عبيدي حر، إلى آخر التصوير، وقد سبق في الطلاق، والصحيح أنه يعتق
خمسة عشر عبدا.
فرع اشترى في مرض موته عبدا بأكثر من قيمته، وكانت المحابات قدر
الثلث، بأن كان له ثلاثمائة، واشترى عبدا يساوي مائة بمائتين، ثم أعتقه، قال ابن
الحداد: وإن لم يوفر الثمن نفذ العتق، وبطلت المحاباة، لأن المحاباة كالهبة، فإذا
لم يقترن بها القبض حتى جاء ما هو أقوى منها، وهو العتق، بطلت، ويمضى البيع
بثمن المثل، وعلى البائع أن يقنع به. وإن وفر الثمن، نفذت المحاباة، وبطل
العتق، لأن المحاباة، استغرقت الثلث. قال الأصحاب: هذا غلط، ولا فرق في
المحاباة بين أن يقبض أو لا يقبض، لأنها تعلقت بالمعارضة، والمعارضة تلزم بنفس
العقد، ولها لو حابى المريض ولم يقبض، ثم أراد إبطالها، لم يتمكن منه،
بخلاف الهبة، فالجواب نفوذ المحاباة، وبطلان العتق، لتقدمها، قالوا:
وقوله: يلزم البائع أن يقنع بقدر قيمة العبد، غلط أيضا، لأنه لم يرض بزوال ملكه إلا
بالزيادة، بل ينبغي أن يقال: له الخيار بين أن ينفذ البيع بقدر القيمة وينفذ العتق
وبين أن يفسخه ويبطل العتق.
فرع جارية بين شريكين حامل من زوج أو زنا، عتق أحدهما نصيبه من
الحمل وهو موسر، ثم وضعته لوقت يعلم وجوده يوم الاعتاق، وهو لدون ستة
أشهر، فهو حر بالمباشرة والسراية، وعلى المعتق قيمة نصيب الشريك يوم الولادة،
فإن ألقته ميتا من غير جناية، فلا شئ على المعتق، وإن كان بجناية، فعلى عاقلة
الجاني غرة لورثة الجنين، لأنه محكوم بحريته، وعلى المعتق نصف عشر قيمة الام
للشريك. هكذا أطلق ابن الحداد، فقال القفال: إنما يلزم المعتق نصف عشر قيمة
الام إذا لم يزد على قيمة الغرة، فإن زاد، لم يلزم إلا نصف قيمة الغرة، ورأي
الشيخ أبو علي الاخذ بالاطلاق، وأنه يجب نصف عشر قيمة الام بالغا ما بلغ، لان
430

انفصاله مضمونا كانفصاله حيا، لأن الغرة تصرف إلى الوارث وقد لا يستحق
المعتق منها شيئا، وإنما كان يجب رعاية المناسبة بين الغرمين، أن لو كان
الواجب بالجناية للمعتق، قال الشيخ: وهذا كله جواب على أن الشراء يحصل
بنفس الاعتاق، فإن قلنا: يحصل بأداء القيمة، فإذا وضعت الحمل، وقوم ووصل
نصف القيمة إلى الشريك، فحينئذ يعتق الباقي. وإن ألقته ميتا بجناية، فنصفه
حر، وهو يقوم الباقي على المعتق؟ فيه الخلاف السابق فيما لو أعتق نصيبه ومات
العبد قبل وصول القيمة إلى الشريك. فإن قلنا: يسقط التقويم، فنصفه حر ونصفه
رقيق، فعلى عاقلة الجاني نصف غرة. وإلى من تصرف؟ فيه الخلاف المذكور
في أن من بعضه حر، هل يورث، ويجب للنصف المملوك نصف عشر قيمة الام،
وهل يكون في مال الجاني أم على عاقلته؟ فيه الخلاف في أن بدل الرقيق تحمله
العاقلة.
فرع خلف ثلاثة أعبد، قيمة كل واحد مائة ولا مال له غيرهم، فشهد
عدلان أنه عتق في مرضه هذين، فأشار الوارث إلى أحدهما، فقال: أما هذا
فأعتقه، وأما الآخر، فلا، فلا يقبل قوله في إبطال حق الآخر من العتق، لكن يقرع
بينهما، فإن خرج العتق لمن عينه الوارث، عتق ورق الآخر، وإن خرج للآخر،
عتق بمقتضى القرعة التي اقتضتها الشهادة، ويعتق الآخر بإقرار الوارث. وإن قال
الوارث: أعتق مورثي هذا، ولا أعلم حال الآخر، أقرع بينهما، فمن خرجت له
القرعة، عتق، دون الآخر. ولو شهدا أنه أعتق الثلاثة دفعة وقال الوارث: أعتق
هذين دون ذاك، قال ابن الحداد: يقرع بين الثلاثة، فإن خرج سهم العتق للذي
أنكره الوارث، عتق، وتعاد القرعة لاقرار الوارث بين الآخرين، فمن خرجت له
عتق بإقرار الوارث وإن خرجت أولا لاحد الاثنين اللذين أقر بإعتاقهما، عتق،
ورق الآخران، وبالله التوفيق.
الخصيصة الخامسة: الولاء، وفيه طرفان.
الأول: في سببه، وهو زوال الملك عن رقيق بالحرية، فمن أعتق عبدا تنجيزا، أو
431

بصفة، أو دبره، أو استولدها، فعتقا بموته، أو عتق عليه بأداء نجوم الكتابة، أو
الابراء منها، أو التمس من مالك عبد عتقه على مال، فأجابه، أو أعتق نصيبه من
مشترك، وسرى، أو ملك قريبه فعتق عليه، ثبت له عليه الولاء. ولو باع عبد
نفسه، فله عليه الولاء على المذهب، وسواء اتفق دينهما أو اختلف. فلو أعتق
مسلم كافرا أو عكسه، ثبت الولاء، وإن لم يتوارثا، كما تثبت علقة النكاح والنسف
بينهما. ثم الولاء مختص بالاعتاق، فمن أسلم على يديه إنسان فلا ولاء له
عليه، ومن أعتق عن غيره بغير إذنه، وقع العتق عن المعتق عنه، وله الولاء دون
المعتق. والولاء كالنسب لا يجوز بيعه، ولا هبته، ولا يورث، لكن يورث به. ولو
أعتق عبدا على أن لا ولاء له عليه، أو على أن يكون سائبة، لغا الشرط، وثبت
الولاء، وكذا لو شرط أن ولاءه لفلان أو للمسلمين، لغا، ولا ينتقل الولاء عنه،
كما لا ينتقل النسب، ولا يثبت الولاء بالموالاة والحلف، كما لا يثبت النسب
بذلك، وكما يثبت الولاء على المعتق، يثبت على أولاده وأحفاده، وعلى عتيقه
وعتيق عتيقه، وكما يثبت للمعتق يثبت لمعتق الأب وسائر الأصول، ولمعتق المعتق،
وكما يثبت على ولده العتيق، يثبت على ولد العتيقة، ويستثنى من
استرسال الولاء على أولاده العتيق وأحفاده موضعان أحدهما: إذا كان منهم من
مسه رق وأعتق، فولاؤه لمعتقه، فإن لم يكن، فلعصبات معتقه، فإن لم يوجدوا،
فالميراث لبيت المال، ولا ولاء عليه لمعتق الأصول بحال، فإنه أعتق مباشرة،
وولاء المباشرة أقوى. وصورته أن تلد رقيقة رقيقا من رقيق أو حر، وأعتق الولد وأبواه
أو أمه.
الثاني: من أبوه حر أصلي لا ولاء عليه، وأمه معتقة، هل يثبت عليه الولاء
لموالي الام؟ فيه أوجه. الصحيح: لا، والثاني: نعم، والثالث: إن كانت حرية
الأب متيقنة، بأن كان عربيا معلوم النسب، فلا، وإن كانت مبنية على ظاهر الدار،
432

وأن الأصل في الناس الحرية، فنعم، لضعف حرية الأب، ولو كان الأب معتقا،
والأم حرة أصلية، فالصحيح ثبوت الولاء عليه لموالي الأب، لأنه ينسب إليه. وقيل:
لا ولاء عليه تغليبا للحرية كعكسه. ومن له أمه حرة أصليه وأبوه رقيق لا ولاء عليه
لاحد، فإن أعتق الأب، فهل يثبت عليه لموالي الأب؟ قال الشيخ أبو علي: فيه
جوابان سمعتهما من شيخي في وقتين، وهما محتملان، أحدهما: نعم، لثبوته
على الأب، وإنما لم تثبت أولا لرقه. والثاني: لا، لأنه لم يثبت ابتداء، فلا يثبت
بعده، كما لو كان أبواه حرين.
فرع من مسه رق وعتق، فلا ولاء عليه لمعتق أبيه وأمه وسائر أصوله كما
سبق، سواء وجدوا في الحال أم لا، فالمباشر إعتاقه ولاؤه لمعتقه، ثم لعصبته، فأما
إذا كان حر الأصل، وأبواه عتيقين، أو أبوه عتيق، فولاؤه لمولى أبيه، وإن كان
الأب رقيقا، والأم معتقة، فالولاء لمعتقها، فإن مات والأب رقيق بعد، ورثه معتق
الام، وإن أعتق الأب في حياة الولد، الخبر الولاء من مولى الام إلى مولى الأب.
ولو مات الأب رقيقا، وعتق الجد، انجر من موالي الام إلى موالي الجد ولو عتق
الجد، والأب رقيق، ففي انجراره إلى مولى الجد. وجها. أصحهما: ينجر، فإن
أعتق الأب بعد ذلك، انجر من مولى الجد إلى مولى الأب، والثاني: لا ينجر،
فعلى هذا لو مات الأب بعد عتق الجد، ففي انجراره إلى موالي الجد وجهان.
أصحهما عند الشيخ أبي علي: لا ينجر، وقطع البغوي بالانجرار.
قلت: الانجرار أقوى. والله أعلم.
وإذا ثبت الولاء لموالي الام لرق الأب، فاشترى الولد أباه، ثبت له الولاء
عليه، وعلى إخوته وأخواته الذين هم أولاد الأب، وهل يجر ولاء نفسه من مولى
الام؟ وجهان، الأصح المنصوص: لا، لأنه لا يمكن أن يكون له على نفسه ولاء،
ولهذا لو اشترى العبد نفسه، عتق وكان الولاء عليه لبائعه، وكذا المكاتب إذا عتق
بالأداء، وإذا تعذر الجر، بقي الولاء موضعه. والثاني: ينجر، ويسقط، ويصير
كحر لا ولاء عليه. ولو خلق انسان حر من حرين، وكان في أحد أجداده رقيق.
ويتصور ذلك في نكاح الغرور، وفي الوطئ بشبهة إذا أعتقت أم أمه، ثبت الولاء عليه
433

لمعتق أم الام، فإذا أعتق أبو أمه بعد ذلك، انجر الولاء إلى مولاه، فإذا أعتقت أم
الأب بعد ذلك، انجر الولاء من مولى أبي الام إلى مولى أم الأب، فإذا أعتق أبو أبيه
بعد ذلك، انجر إلى مولاه. ولو كانت المسألة بحالها لكن أبوه رقيق، فأعتق الأب
بعد عتق هؤلاء، انجر إلى مولاه، واستقر عليه. ودليله أن جهة الأبوة أقوى، وحيث
أثبتنا الولاء لمولى الام، فمات الولد، أخذ ميراثه، فإن عتق بعد ذلك، لم يسترده
مولاه، بل الاعتبار بحال الموت، وليس معنى الانجرار أن يحكم بأن الولاء لم يزل
في جانب الأب، بل معناه أنه ينقطع من وقت عتق الأب عن مولى الام، وإذا انجر
إلى موالي الأب، فلم يبق منهم أحد، لم يعد إلى موالي الام، بل يكون الميراث
لبيت المال، وكذا إذا ثبت الولاء لموالي الأب فهلكوا، لم يصر لموالي الجد،
حتى لو مات من انتقل ولاؤه من موالي أبيه إلى موالي جده حينئذ فميراثه لبيت
المال.
فرع أعتق أمته المزوجة بعتيق، فولدت لأقل من ستة أشهر من يوم
الاعتاق، فولاء الولد لمعتق الام، لا لمعتق الأب، لأنا تيقنا وجوده يوم الاعتاق،
فمعتقه باشر إعتاقه بإعتاقها، وولاء المباشرة مقدم، وإن ولدت لستة أشهر فصاعدا،
فإن كان الزوج يفترشها، فولاؤه لمعتق الأب، لأنا لا نعلم وجوده يوم الاعتاق،
والأصل عدمه، والافتراش سبب ظاهر للحدوث، وإن كالا يفترشها، وولدت
لأربع سنين من الاعتاق، فذلك. وإن ولدت لأقل من أربع سنين فقولان.
أظهرهما: لمعتق الام. ولو أعتق المزوجة برقيق، فولدت لدون ستة أشهر من
الاعتاق، فولاؤه لمعتق الام بالمباشرة، فإن أعتق الأب الأب، لم ينجر الولاء إلى
معتق الأب من معتق الام، لأنه أعتقه مباشرة. وإن ولدته لستة أشهر فصاعدا، قال
البغوي: إن لم يفارقها الزوج، فولاؤه لمولى الام، فإذا أعتق الأب، انجر إلى
مولاه، وإن كان فارقها، فإن ولدت لأكثر من أربع سنين من يوم الفراق، فالولد
منفي عن الزوج، وولاؤه لمعتق الام أبدا، وإن ولدته لأربع سنين، لحق الزوج،
وولاؤه لمعتق الام، فإذا أعتق الأب، ففي الانجرار إلى مولاه قيلان. ولو نفى
434

الزوج المعتق ولد زوجته المعتقة بلعان، فالولاء في الظاهر لمولى الام، فإن كذب
الملا عن نفسه، لحقه الولد وحكمنا بأن الولاء لمولاه. فإن كان الولد قد مات بعد
اللعان، ودفعنا الميراث إلى مولى الام، استرددناه منه بعد الاستلحاق، لأنا تبينا أنه
لم يكن ولاء. ولو غر بحرية أمة فنكحها وأولدها على ظن أنها حرة، ثم علم أنها أمة،
فأولدها ولدا آخر، فالولد الأول حر، والثاني رقيق. فلو أعتق السيد الأمة، والولد
الثاني، ثم عتق الأب، انجر ولاء الولد الأول إلى معتق الأب، ولم ينجر إليه ولاء
الثاني، لأنه عتق بالمباشرة. ولو نكحها عالما بأنها أمة، وأولدها، ثم عتقت،
وأولدها ولدا آخر، فالثاني حر، وولاؤه لمعتق الأب، والأول مملوك، وولاؤه
لمعتقه.
الطرف الثاني في حكم الولاء وهو إحدى جهات العصوبة، ومن يرث به، لا
يرث إلا بالعصوبة، ويتعلق به ثلاثة أحكام: الإرث، وولاية التزويج، وتحمل
الدية، وقد ذكرناها في مواضعها.
قلت: ورابع، وهو التقدم في صلاة الجنازة، فإذا مات العتيق، ولا وارث له
بنسب ولا نكاح، ورث معتقه جميع ماله. وإن كان له من يرث بالفرضية، وفضل
منه شئ، أخذه المعتق، فإن لم يكن المعتق حيا، ورث بولاية أقرب عصباته، ولا
يرث أصحاب فروضه، ولا من يتعصب بغيره، فإن لم نجد للمعتق عصبة بالنسب،
فالميراث لمعتق المعتق، فإن لم نجده، فلعصبات معتق المعتق، فإن لم نجدهم،
فلمعتق معتق المعتق، ثم لعصبته، وميراث لمعتق عصبات المعتق إلا لمعتق أبيه
أو جده. وللأصحاب عبارة ضابطة لمن يرث بولاء المعتق إذا لم يكن المعتق حيا،
قالوا: هو ذكر يكون عصبة المعتق لو مات المعتق يوم موت العتيق بصفة العتيق.
وخرجوا عليها مسائل:
منها: إذا مات العتيق، وللمعتق ابن وبنت، أو أب وأم، أو أخ وأخت،
فالميراث للذكر دون الأنثى، ولا يرث النساء بولاء الغير أصلا، لكن إن باشرت
435

المرأة إعتاقا، أو عتق عليها مملوك، فلها عليه الولاء، كما للرجل، لقوله (ص) إنما
الولاء لمن أعتق كما يثبت لها الولاء على عتيقها يثبت على أولاده وأحفاده وعتيقه
كالرجل.
ومنها: لو أعتق عبدا، ومات عن ابنين، فولاء العتيق لهما، فمات أحدهما
وخلف ابنا، فولاء العتيق لابن المعتق، دون ابن ابنه، وهذه الصورة ونحوها معنى
ما روى عن عمر وعثمان رضي الله عنهما: أن الولاء للكبر، بضم الكاف، أي
الكبير في الدرجة والقرب، دون السن. ولو مات المعتق عن ثلاثة بنين، ثم مات
أحدهم عن ابن، وآخر عن أربعة، والآخر عن خمسة، فالولاء بين العشرة
بالسوية، فإذا مات العتيق، ورثوه أعشارا، لأنه لو مات المعتق يومئذ ورثوه كذلك.
ولو أعتق عبدا، ومات عن أخ من أبوين وأخ من أب، فولاء عتيقه للأخ من الأبوين
على المذهب، كما سبق. فلو مات الأخ من الأبوين، وخلف ابنا، والأخ الآخر،
فولاء العتيق للأخ، لأن المعتق لو مات الآن كان عصبة الأخ من الأب، دون ابن
الأخ من الأبوين.
ومنها: أعتق مسلم عبدا كافرا، ومات عن ابنين: مسلم وكافر، ثم مات العتيق،
فميراثه للابن الكافر، لأنه الذي يرث المعتق بصفة الكفر. ولو أسلم العتيق، ثم
مات، فميراثه للابن المسلم. ولو أسلم الابن الكافر، ثم مات العتيق مسلما،
فالميراث بينهما.
فرع الذين يرثون بولاء المعتق من عصباته، يترتبون ترتب عصبات
النسب، إلا في مسائل سبقت في الفرائض. منها: أخ المعتق وجده، إذا اجتمعا
هل يتساويان كالإرث، أم يقدم الأخ؟ قولان: أظهرهما: الثاني، فيقدم ابن الأخ
أيضا، ويقدم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب على المذهب. وقيل: قولان.
ولو كان له أبناء عم، أحدهما أخ لام، قدم على المذهب.
فرع الانتساب في الولاء، قد يكون بمحض الاعتاق، كمعتق المعتق، ومعتق معتق المعتق،
وقد يتركب من الاعتاق والنسب، كمعتق الأب وأبي المعتق ومعتق
أبي المعتق، فإن تركب الانتساب، فقد يشتبه حكم الولاء ويغالط به، بأن قال:
اجتمع أبو المعتق ومعتق الأب فأيهما أولى؟ وجوابه أنه إذا كان للميت أبو
436

المعتق، كان له معتق، وحينئذ فلا ولاء لمعتق أبيه أصلا كما سبق، فلا معنى
لمقابلة أحدهما بالآخر وطلب الأولوية. ولو اجتمع معتق أبي المعتق، ومعتق
المعتق، فالولاء لمعتق المعتق لأن ولاءه بجهة المباشرة.
فرع اشترت امرأة أباها، فعتق، ثم أعتق الأب عبدا، ومات عتيقه بعد
موته، نظر، إن لم يكن للأب عصبة بالنسب، فميراث العتيق للبنت، لا لكونها
بنت المعتق، بل لأنها معتقة المعتق، وإن كان له عصبة، كأخ وابن عم قريب أو
بعيد، فميراث العتيق له، لأنه عصبة المعتق بالنسب، ولا شئ للبنت، لأنها معتقة
المعتق، فتتأخر عن عصبة النسب. قال الشيخ أبو علي: سمعت بعض الناس
يقول: أخطأ في هذه المسألة أربعمائة قاض، لأنهم رأوها أقرب. ولو اشترى أخ
وأخت أباهما، فعتق عليهما، ثم أعتق عبدا، ومات العتيق بعد موت الأب،
وخلف الأخ والأخت، فميراثه للأخ، دون الأخت لأنه عصبة المعتق
بالنسب، بل لو كان الأخ قد مات قبل موت الأب، وخلف ابنا وابن ابن أو
كان للأب ابن عم بعيد، فهو أولى من البنت. ولو مات هذا الأخ بعد موت
الأب، ولم يخلفه إلا أخته، فلها نصف الإرث بالأخوة، ونصف الباقي، لأن لها
نصف ولاء الأخ، لاعتاقها نصف أبيه، فلها ثلاثة أرباع المال. ولو مات الأب، ثم
الابن، ثم العتيق، ولم يخلف إلا البنت فلها ثلاثة أرباع الميراث أيضا: النصف
لأنها معتقة نصف المعتق، ونصف الباقي لولاء السراية على نصف الأخ بإعتاقها
نصف أبيه، فهي معتقة نصف أبي معتق معتقه. والربع الباقي في الصورتين لبيت
المال. ولو مات الأب، ولم يخلف إلا البنت، فقال الغزالي في الوجيز: لها
النصف بالبنوة، ونصف الباقي لولائها على نصف الأب ولم يذكر الصورة في
الوسيط ولا في النهاية ومفهومه انحصار حقها في النصف والربع، وكلام
الأصحاب منهم الشيخ أبو علي وأبو خلف السلمي، في صورة أخرى، ينازع في
هذا، فإنهم قالوا: لو اشترت أختان أباهما بالسوية، فعتق عليهما، ثم مات الأب،
437

فلهما الثلثان، والباقي بالولاء. ولو ماتت إحداهما بعد موت الأب، فللأخرى
النصف بالأخوة، ونصف الباقي بولائهما على نصف الأخت، بإعتاقها نصف أبيها.
وأما الربع، فأطلق البغوي أنه لبيت المال، وليحمل ذلك على ما إذا كانت أمها حرة
أصلية، فأما إذا كانت معتقة، فلموالي الام ولاء الأختين، فإذا أعتقنا الأب، جرت
كل واحدة نصف ولاء أختها إلى نفسها، وهل تجر ولاء نفسها وتسقط، أم يبقى لموالي
الام؟ فيه خلاف سبق، فإن قلنا: تبقى هي وهو الأصح، فالربع الباقي لموالي
الام، وإن قلنا: يجر ويسقط، فهو لبيت المال. ولو ماتت إحدى الأختين، ثم مات
الأب، وخلفت الأخرى، فلها سبعة أثما ماله، والنصف بالبنوة، والربع لأنها
معتقة نصفه، ونصف الربع الباقي، لأن لها نصف ولاء الأخت بإعتاقها نصف
أبيها، والثمن الباقي لموالي الام إن كانت معتقة على الأصح، لأن نصف ولاء الميتة
يبقى لها. وإن قلنا: لا يبقى، فهو لبيت المال، وهذه الصورة كالصورة التي ذكرها
الغزالي. ولو اشترتا الأب، وعتق عليهما، ثم أعتق عبدا ومات العتيق بعد موته،
وخلف البنتين، فجميع المال لهما، لأنهما معتقتا معتقه.
فرع أختان أو أخوان ليس عليهما ولاء مباشر، اشترت إحداهما
أباهما فعتق عليها، والأخرى أمهما، فعتقت عليها، وتتصور المسألة فيما لو غر
عبد بحرية أمة فنكحها وأولدها ولدين، وفيما لو كانوا كفارا، فأسلم الولدان،
واسترققتا الأبوين، فولاء الأب للتي اشترته، فأما إذا مات عنهما، فلهما الثلثان
بالبنوة، والباقي لها بالولاء، وولاء الام للتي اشتريتها، فإذا ماتت عنهما فلهما
الثلثان، والباقي لها بالولاء، ولمشترية الأب الولاء على مشترية الام، فإذا ماتت
مشترية الام، وخلفت مشترية الأب، فلها النصف بالأخوة، والباقي بالولاء، وهل
لمشترية الام الولاء على مشترية الأب؟ فيه الوجهان فيمن عليه ولاء لمولى أمه إذا
اشترى أباه، هل يبقى الولاء لموالي أمه، أم يسقط؟ فإن قلنا بالأصح: إنه يبقى،
فلمشترية الام الولاء على مشترية الأب، فإذا ماتت، فالحكم كما في الطرف
438

الآخر، وإن قلنا: يسقط، فلا ولاء لها على مشترية الأب، وإذا ماتت، فلها
النصف بالبنوة، والباقي لبيت المال. ولو اشترتا أباهما، ثم اشترت إحداهما والأب
أبا الأب، وعتق عليهما، ثم مات الأب، فللبنتين الثلثان، والباقي لأبيه، فإن مات
الجد بعده، فللبنتين الثلثان بالبنوة والباقي نصفه للتي اشترته مع الأب، ونصفه
الآخر بينهما، لاعتاقهما معتق نصفه. ولو ماتت إحداهما بعد ذلك، وخلفت
الأخرى، فعلى ما سبق. ولو اشترتا أمهما، ثم الام أباهما وأعتقته، فلهما عليها
الولاء، ولها عليهما، لأنها معتقة أبيهما، فإن ماتت، فلهما الثلثان بالبنوة، والباقي
بالولاء، فإن مات الأب بعد ذلك، فلهما الثلثان بالبنوة، والباقي بالولاء، لأنهما
معتقتا معتقه، فإن ماتت إحداهما بعد ذلك، فللأخرى النصف بالأخوة، ونصف
الباقي لاعتاقها نصف معتق أبيها، والباقي لبيت المال. ولو اشترتا أباهما، ثم
اشترت إحداهما، والأب أخاهما للأب، فعتق نصفه على الأب وهو معسر،
فأعتقت المشترية باقيه، فمات الأب، ورثه أولاده الثلاثة، فإن مات الأخ بعده،
فلهما الثلثان بالأخوة، والباقي نصفه للمشتري، وباقيه بين البنتين، لأنهما معتقتا
الأب الذي هو معتق نصف الأخ، فالقسمة من اثني عشر، لمشترية الأخ سبعة،
والأخرى خمسة. ولو ماتت التي لم تشتر الأخ أولا، ثم مات الأب، ثم الأخ، فمال
الميتة أولا لأبيها، ومال الأب لابنه وبنته أثلاثا، ومال الأخ نصفه للأخت الباقية
بالنسب، ونصف باقيه لها بإعتاقها نصفه، والباقي وهو الربع لمعتقتي الأب،
فلهذه نصفه ونصفه للميتة، فيكون لمواليها، وهم هذه الأخت، وموالي الام إن
كانت الام معتقة، فيكون بينهما نصفين، فإن لم يكن للام مولى، فلبيت المال.
فرع أختان لا ولاء عليهما، اشترتا أمهما، فعتقت، ثم اشترت الام
وأجنبي أباهما وأعتقاه، فللأختين الولاء على أمهما، ولها وللأجنبي على الأب
وعليهما، فإن ماتت الام، ثم الأب، ثم إحداهما، فأما الام، فمالها لهما ثلثه
بالبنوة، وباقيه بالولاء، وأما الأب، فلهما ثلثا ماله بالبنوة، وباقية للأجنبي نصفه،
439

ولهما نصفه، لأنهما معتقتا معتقه نصفه، وأما الأخت، فالنصف من مالها للأخرى
بالأخوة، ونصف الباقي للأجنبي، لأنه أعتق نصف أبيها، والربع الباقي كان للام
وهي ميتة، فيكون للأختين، لأنهما معتقتاها، فللأخت الباقية نصفه، وهو الثمن،
ويرجع الثمن الذي هو حصة الميتة إلى من ولاؤها وهو الأجنبي والأم، ونصيب
الام يرجع إلى الحية والميتة، وحصة الميتة إلى الأجنبي، والأم، هكذا يدور فلا
ينقطع ولذلك سمي: سهم الدور. وفيما يفعل به؟ وجهان قال ابن الحداد: يجعل
في بيت المال، لأنه لا يمكن صرفه بنسب ولا ولاء. والثاني: يقطع السهم الدائر
وهو الثمن، ويجعل كأن لم يكن، ويقسم المال على باقي السهام، وهو سبعة،
خمسة للأخت الباقية، وسهمان للأجنبي، وزيف الامام الوجهين وقال: الوجه أن
يفرد النصف، ولا يدخله في حساب الولاء، وينظر في النصف المستحق بالولاء،
فيحد نصفه للام، ونصفه للأجنبي، ومال الام يصير للأختين ثم نصيب
إحداهما نصفه للام، ونصفه للأجنبي، ونصيب الام للأختين، فحصل أن
للأجنبي ضعف ما للأخت، فيجعل المال ستة، للأخت نصفها بالنسب، ويبقى
ثلاثة، للأجنبي سهمان، وللأخت سهم، فجعل له الثلث، ولها الثلثان من
الجملة، وبهذا قطع الغزالي. ونقل أبو خلف الطبري عن أكثر الأصحاب أن سهم
الدور لبيت المال، كما قال ابن الحداد، وإليه يميل كلام ابن اللبان. أما إذا ماتت
إحدى الأختين أولا، ثم الام، فمال الأخت لأبويها، ومال الام للبنت، نصفه
بالبنوة، ولها نصف الباقي لاعتاقها نصف الام، ونصفه الباقي للأب، لأنه عصبة
معتقة النصف، قال الشيخ أبو علي: وفي مثل هذه المسائل لا يورث بالزوجية إلا أن
يشترط السائل في السؤال بقاء الزوجية أما إذا مات الأب أولا، ثم إحدى
الأختين، ثم الام، فمال الأب ثلثاه للبنتين بالأبوة، وباقيه بين الام والأجنبي، ومال
الأخت للأم ثلثه وللأخت نصفه، والباقي بين الام والأجنبي، لأنهما معتقتا أبيهما،
ومال الام نصفه للبنت الباقية بالبنوة، ولها من النصف الباقي نصفه، لأنها أعتقت
نصفها، ونصفه الباقي حصة البنت الميتة، فيكون لمواليها، وهم الأجنبي والأم،
440

فللأجنبي نصفه، وهو الثمن، ويبقى ثمن يرجع إلى الأختين، لاعتاقهما الام، وهو
سهم دور، وفيه الخلاف السابق. أما إذا ماتت البنتان أولا، فمالهما لأبويهما، فإن
مات الأب بعدهما، فماله للام والأجنبي، فإن ماتت الام بعده، فنصف مالها
للأجنبي، لأنه معتق نصف أبي معتقها، والباقي لبيت المال.
واعلم أن الفرضيين قالوا: إنما يحصل الدور في الولاء بثلاثة شروط: أن
يكون للمعتق ابنان فصاعدا، وأن يكون قد مات منهم اثنان فصاعدا، وألا يكون
الباقي منهم حائزا لمال الميت، فإن اختل أحد هذه الشروط، فلا دور.
فصل في مسائل منثورة تتعلق بكتاب العتق، من الولاء، وغيره
شخصان كل منهما مولى صاحبه من فوق ومن أسفل، بأن أعتق عبدا، فأعتق أبا
المعتق أختان لأبوين، أعتقهما رجل، فاشترتا أباهما، فلكل منهما نصف ولاء
أبيها، ولا ولاء لأحدهما على الأخرى، لأن عليهما ولاء مباشرة.
وفي فتاوى القفال: إذا اشترى مكاتب بعض أبيه، عتق نصفه، ولا يقوم
عليه، لأنه لم يعتق باختياره، بل عتق ضمنا، وأنه إذا قال لمن له عبد مستأجر:
أعتقه عني على كذا، فأعتقه، نفذ قطعا، بخلاف البيع، لقوة العتق، وكذا يجوز في
المغصوب والغائب إذا علم حياته.
وفي فتاوى القاضي حسين: إذا ادعى عبد على سيده العتق عند الحاكم،
فحلفه فلما أتم يمينه، قال: قم يا حر، على وجه السخرية، حكم عليه
بالحرية، لقوله (ص) ثلاثة جدهن جد، وهزلهن جد ومنها العتاق. وأنه لو كانت
جارية حاملا، والحمل مضغة، فقال: أعتقت مضغة هذه الجارية، كان لغوا، لان
إعتاق ما لم ينفخ فيه الروح لغو. ولو قال: مضغة هذه الجارية حر، فهو إقرار بأن
الولد انعقد حرا، وتصير الام به أم ولد.
قلت: ينبغي أن لا تصير حتى يقر بوطئها، لأنه يحتل أنه حر من وطئ أجنبي
بشبهة. والله أعلم.
وأنه لو قال لعبده: لو أخذك متغلب، فقل: أنا حر، لا يعتق، بل هو أمر
بكذب، وكان القاضي يلقن عبيده بذلك. وأنه لو قال لعبده: أعتقك الله، أو الله
441

أعتقك، فقيل: يفرق بينهما، لأن الأول دعاء، والثاني خبر. قال القاضي:
وعندي لا يعتق فيهما. وقال العبادي: يعتق فيهما. وفي الزيادات لأبي عاصم
العبادي رحمه الله: أنه إذا قال: من بشرني من عبيدي بقدوم زيد، فهو حر، فبعث
بعض عبيده عبدا آخر ليبشره به، فجاء وقال: عبدك فلان يبشرك بقدومه، وأرسلني
لأخبرك، فالمبشر المرسل دون الرسول. وأنه لو قال: إن اشتريت عبدين في
صفقة، فلله علي إعتاقهما، فاشترى ثلاثة صفقة، لزمه إعتاق اثنين، لوجود
الصفة. ولو ولدت الزانية، فملك الزاني بها ذلك الولد، لم يعتق عليه، لانتفاء
نسبه. وفي فروع حكاها الروياني عن والده وغيره قال لعبده: أنت حر مثل هذا
العبد، وأشار إلى عبد آخر، يحتمل أن لا يعتق لعدم حرية المشبه به، ويحمل على
حرية الخلق.
قلت: ينبغي أن يعتق. والله أعلم.
وأنه لو قال: أنت حر مثل هذا، ولم يقل: هذا العبد، يحتمل أن يعتقا،
والأوضح أنهما لا يعتقان.
قلت: الصواب: هنا عتقهما. والله أعلم.
وأنه لو قال لغيره: أنت تعلم أن هذا العبد الذي في يدي حر، حكم بعتقه.
ولو قال: تظن أنه حر، لم يحكم بعتقه، لأنه لو لم يكن حرا لم يكن المقول له
عالما بحريته، وقد اعترف بعلمه، والظن بخلافه. ولو قال: ترى أنه حر، احتمل
أن لا يقع، وأن يقع، والرؤية بمعنى العلم.
قلت: الصواب أنه لا يعتق. والله أعلم.
وأنه لو وكل رجلا في عتق عبد، فأعتق الوكيل نصفه، فهل يعتق نصفه فقط،
أم يعتق ويسري إلى باقيه، أم لا يعتق منه شئ لمخالفته؟ فيه أوجه، أصحها:
الأول. وفي جمع الجوامع للروياني أنه لو كان عبد بين شريكين، فقال رجل
لأحدهما: أعتق نصيبك عني بكذا، فأعتقه عنه، فولاؤه للآمر، ويقوم نصيب
الشريك على المعتق، دون الآمر، لأنه أعتقه لغرض نفسه، وهو العوض الذي
حصل له. ولو قال أحد الشريكين للآخر: أعتق نصيبك عني بكذا، فأعتقه عنه،
442

فولاؤه للآمر، ويقوم نصيب الآمر على المعتق، حكاه عن القاضي الطبري.
قلت: الصواب في الصورتين أنه لا يقوم عليه، لأنه لم يعتق عنه. والله
أعلم.
443

كتاب التدبير
فيه بابان
الأول: في أركانه، وهي ثلاثة، المحل، والصيغة، والأهل.
أما المحل، فمعلوم،
وأما الصيغة، فينعقد التدبير بالصريح وبالكناية
فالصريح كقوله: أنت حر بعد موتي، أو أعتقتك، أو حررتك بعد موتي، أو إذا
444

مت فأنت حر، أو عتيق، فإذا مات عتق ولو قال: دبرتك، أو أنت مدبر، فالنص
أنه صريح، ويعتق إذا مات السيد. ونص في الكتابة أن قوله: كاتبتك على
كذا، لا يكفي حتى يقول: فإذا أديت فأنت حر وينويه، وفيهما طريقان، فقيل:
فيهما قولان أحدهما: صريحان لاشتهارهما في معنييهما، كالبيع والهبة.
والثاني: كنايتان، لخلوهما عن لفظ الحرية والعتق، والمذهب تقرير النصين.
والكناية كقوله: خليت سبيلك بعد موتي مع نية العتق. ولو قال: دبرت نصفك أو
ربعك، صح. وإذا مات، عتق ذلك الجزء، ولم يسر. ولو قال: دبرت يدك أو
رجلك، فهل يصح ويكون كله مدبرا، أم يلغو؟ وجهان. ونص في الام أنه لو
قال: أنت حر بعد موتي ولست بحر، لا يصح التدبير، كما لا يحصل العتق لو
قال: أنت حر أو لست بحر، ولا الطلاق إذا قال: أنت طالق، أو لست بطالق.
445

فرع يصح التدبير مطلقا، وهو أن يعلق العتق بالموت بلا شرط. مقيدا
بشرط في الموت، كقوله: إن قتلت، أو مت من مرضي هذا، أو حتف أنفي أو
في سفري هذا، أو في هذا الشهر، أو في هذا البلد، فأنت حر، فإن مات على
الصفة المذكور، عتق، وإلا، فلا. ولو قال: إذا مت، ومضى شهر أو يوم فأنت
حر، أو قال: أنت حر بعد موتي بيوم، عتق بعد موته بيوم، ولا يحتاج إلى إنشاء
إعتاق بعد موته. وهل هذا تدبير مطلق، أم مقيد، أم ليس بمطلق ولا مقيد، وإنما
هو تعليق ليس بتدبير؟ فيه أوجه. الصحيح: الثالث، وبه قال الأكثرون، منهم
الشيخ أبو حامد، وابن كج، وابن الصباغ، والروياني، قالوا: متى علق العتق
بصفة بعد الموت، كقوله: إذا مت وشئت الحرية، أو يشاء فلان، أو إذا مت ثم
دخلت فأنت حر، أو أنت حر بعد موتي إذا خدمت ابني شهرا، فكل ذلك ليس
بتدبير، بل تعليق، ويجوز تعليق التدبير، بأن يقول: إذا، أو متى دخلت الدار،
فأنت حر بعد موتي، أو أنت مدبر، فإذا دخل، صار مدبرا، ولا يشترط الدخول في
الحال، لكن يشترط حصوله في حياة السيد، كسائر الصفات المعلق عليه، فإن
مات السيد قبل الدخول، فلا تدبير، ولغا التعليق، إلا أن يصرح فيقول: إذا دخلت
الدار بعد موتي، أو إذا مت، ثم دخلت الدار فأنت حر، فإنما يعتق حينئذ بالدخول
بعد الموت. وللامام احتمال في تعليق العتق بالدخول بعد الموت، وذكر أن
القاضي رمز إليه، ولا تشترط المبادرة إليه بعد الموت، بل متى دخل، عتق. ولو
قال: إذا مت ودخلت الدار فأنت حر، قال البغوي: يشترط الدخول بعد الموت،
إلا أن يريد الدخول قبله. ولو قال: إذا مت فدخلت الدار، أو إذا مت فأنت حر إن
دخلت الدار، فعلى ما سنذكره إن شاء الله تعالى في التعليق بالمشيئة. ولو قال
الشريكان لعبدهما: إذا متنا فأنت حر، لم يعتق حتى يموتا، إما معا، وإما مرتبا،
446

ثم إن ماتا معا، فالحاصل عتق لحصول الصفة، لا تدبير، لأنه معلق بموته وموت
غيره. والتدبير: أن يعلق بموت نفسه. وقيل: إنه عتق تدبير، لاتصاله بالموت،
والصحيح الأول. وإن ماتا مرتبا، فوجهان. أحدهما: ليس بتدبير، والصحيح:
أنه إذا مات أحدهما، صار نصيب الثاني مدبرا، لتعلق العتق بموته، وكأنه قال: إذا
مات شريكي فنصيبي منك مدبر، ونصيب الميت لا يكون مدبرا، وهو بين الموتين
للورثة، فلهم التصرف فيه بما لا يزيل الملك، كالاستخدام والإجارة، وليس لهم
بيعه، لأنه صار مستحق العتق بموت الشريك، وكذا إذا قال: إن دخلت الدار بعد
موتي، فأنت حر، فليس للوارث بيعه بعد الموت وقبل الدخول، إذ ليس له إبطال
تعليق الميت، وإن كان للميت أن يبطله، كما لو أوصى لرجل بشئ ومات، ليس
للوارث بيعه، وإن كان للموصي أن يبيعه. وكذا من أعار، له الرجوع في العارية.
ولو قال: أعيروا داري لفلان بعد موتي شهرا، وجب تنفيذ وصيته، ولم يملك
الوارث الرجوع عن هذه العارية، هذا هو الصحيح. وفي الصورتين وجه أنه يجوز
للورثة بيعه، وفي كسب العبد بين موتيهما وجهان، أحدهما: أنه معدود من تركة
الميت، وأصحهما: أنه للوارث خاصة قال في الام ولو قال لعبدهما: أنت
حبيس على آخرنا موتا، فإذا مات، عتقت، فهو كما لو قالا: إذا متنا فأنت حر،
إلا أن هناك المنفعة بين الموتين تكون لورثة الأول، وهي للآخر، وكذا الكسب،
وكأن أولهما موتا أوصى بهما لآخرهما موتا. ولو قال أحدهما: إذا مت، فأنت
حر، فإذا مات، عتق نصيبه، ولم يسر.
فرع قال لعبده: أنت حر إن شئت، فإنما يعتق إذا شاء على الفور،
وقيل: لا يشترط الفور، والصحيح الأول. ولو علق التدبير بمشيئة العبد، فقال:
أنت مدبر إن شئت، أو دبرتك إن شئت، أو قال: إن شئت فأنت مدبر، أو فأنت حر
إذا مت، أو متى مت، فلا يصير مدبرا إلا بالمشيئة، والصحيح اشتراط الفور فيها.
فلو قال: متى شئت، أو مهما شئت، لم يشترط الفور، ويصير مدبرا متى شاء.
وفي الحالتين تشترط المشيئة في حياة السيد، كسائر الصفات المعلق عليها، إلا إذا
447

علق صريحا بمشيئة بعد الموت، فإنما يحصل العتق بمشيئة بعد الموت، ولا يمنع
الامتناع في الحياة من المشيئة بعد الموت. ثم ينظر في لفظ التعليق، فإن قال:
أنت حر بعد موتي إن شئت بعد الموت، أو اقتصر على قوله: إن شئت، وقال:
أردت بعد الموت، فقال الامام والغزالي: لا يشترط الفور بعد الموت، ونفى الامام
الخلاف في ذلك، لأنها إذا تأخرت عن الخطاب، واعتبرت بعد الموت، لم يكن
لاشتراط اتصالهما بعد الموت معنى ولهذا لا يشترط في قبول الوصية. وفي
التهذيب وغيره وجهان فيما لو قال: إذا مت وشئت بعد موتي فأنت حر، أن
المشيئة على التراضي، أم يشترط الفور؟ والصورة كالصورة. ولو قال: إذا مت
فشئت فأنت حر، ففي اشتراط اتصال المشيئة بالموت وجهان. الأصح:
الاشتراط، وبه أجاب الأكثرون، لأن الفاء للتعقيب، ويجري الخلاف في سائر
التعليقات، كقوله: إن دخلت الدار فكلمت زيدا فأنت طالق، هل يشترط اتصال
الكلام بالدخول؟ ولو قال: إذا مت فمتى شئت فأنت حر، لم يشترط اتصال المشيئة
بالموت بلا خلاف. ولو قال: إذا مت، فأنت حر إن شئت، أو إذا شئت، أو قال:
أنت حر إذا مت إن شئت، فيحتمل أن يراد بهذا اللفظ المشيئة في الحال، وتحتمل
المشيئة بعد الموت، فيراجع ويعمل بمقتضى إرادته، فإن قال: أطلقت ولم أنو
شيئا، فثلاثة أوجه. الأصح: حمله على المشيئة بعد الموت، وبه أجاب
الأكثرون. منهم العراقيون، وشرطوا أن تكون المشيئة بعد الموت على الفور،
ومقتضى ما سبق عن الامام والغزالي: أن لا يشترط الفور. والثاني: حمله على
المشيئة في الحياة وبعد الموت، لأن الموت متردد بينهما فتكفي المشيئة في حياة
السيد، ويشترط الفور على الصحيح. والثالث: تشترط المشيئة في الحياة، فإن لم
يتحققا، لم يحصل يقين العتق، وليجر هذا الخلاف في سائر التعليقات،
كقوله: إذا دخلت الدار فأنت طالق، إن كلمت فلانا. أيعتبر الكلام بعد
الدخول، أم قبله؟ قال الامام: ونشأ من هذا المنتهى إشكال فيما لو قال لعبده: إن
448

رأيت عينا فأنت حر، والعين لفظ مشترك بين الباصرة، والدينار، وعين الماء، ولم
ينو المعلق شيئا، فهل يعتق العبد إذا رأى شيئا منها؟ فيه تردد، والوجه: أنه يعتق،
وبه يضعف اعتبار المشيئتين في مسألة المشيئة. ولك أن تقول: إن لم تكن المسألة
كالمسألة، فلا إلزام، وإن كانت كهي، فليحصل العتق بالمشيئة في الحياة أو بعد
الموت، كمسألة العين، وهذا وجه غير الثلاثة، ثم الأشبه أن اللفظ المشترك
لا يحمل جميع معانيه، ولا يحمل عند الاطلاق على كلها، ويمكن أن يؤمر
بتعيين أحدها، ومتى اعتبر في المشيئة بعد الموت الفور فأخرها، بطل التعليق،
وإذا لم تعتبر كما في قوله: فأنت حر متى شئت، فقال القاضي أبو حامد: تعرض
عليه المشيئة، فإن امتنع، فللورثة بيعه وكذا لو علق بدخول الدار وغيره بعد
الموت، يعرض عليه الدخول، كما يقال للموصى له: أقبل أو رد. وهل للورثة
بيعه قبل المشيئة وعرضها عليه؟ فيه الخلاف السابق في الفرع الماضي.
فرع قال: إن شاء فلان وفلان، فعبدي حر بعد موتي، لم يكن مدبرا
حتى يشاء جميعا. ولو قال: إذا مت، فشئت، فأنت مدبر، فهذا لغو، وكذا لو
قال: إذا مت فدبروا هذا العبد. ولو قال: إذا مت فعبد من عبيدي حر، ومات ولم
يبين، أقرع بينهم. قال في الام: لو قال: إذا قرأت القرآن بعد موتي فأنت حر،
لا يعتق إلا بقراءة جميع القرآن. ولو قال: إذا قرأت قرآنا عتق بقراءة بعض القرآن.
الركن الثالث: الأهل، فلا يصح تدبير مجنون، ولا صبي لا يميز، ولا
مميز على الأظهر، فإن صححناه، صح رجوعه بالقول إن جوزنا الرجوع عن التدبير
بالقول، وفيه وجه. وإن قلنا: يملك الرجوع بالقول، فالتصرف الذي يحصل به
449

الرجوع، لا يصح منه، لكن يقوم الولي مقامه، فإذا رأى المصلحة في بيعه،
باعه، وبطل التدبير، ويصح تدبير المحجور عليه بسفه على المذهب، وقيل:
قولان كالمميز، فإن صححنا، فرجوعه كما ذكرنا في المميز، وتدبير المحجور عليه
بفلس كإعتاقه، وقد سبق في التفليس. وفي تدبير السكران الخلاف السابق
في سائر تصرفاته. وفي تدبير المرتد أقوال مبنية على ملكه، إن قلنا: باق، صح
تدبيره، وإن قلنا: زال، فلا. وإن قلنا: موقوف، فتدبيره موقوف، إن أسلم، بان
صحته، وإن مات مرتدا، بان فساده. وحكي قول في بطلان تدبيره على قول
الوقف، ثم قال ابن سلمة: الأقوال إذا حجر القاضي عليه، فأما قبله، فيصح
قطعا، وقال أبو إسحاق: هي قبل الحجر، فأما بعده، فلا يصح قطعا. وقال
غيرهما بطرد الأقوال في الحالين. وقد سبق في الردة أن البغوي جعل الوقف أصح.
وروى بعضهم أن الشافعي رضي الله عنه قال: أشبه الأقوال بالصحة، زوال الملك
بنفس الردة، وبه أقول. ولو دبر عبدا، ثم ارتد، فثلاث طرق، أصحها وهو الذي
رجحه ابن كج، والعراقيون، وبه قال أبو إسحاق: لا يبطل التدبير قطعا، فإذا مات
مرتدا، عتق العبد، صيانة لحق العبد عن الضياع، كحق الغرماء، وكما لا يبطل
بيعه وسائر عقوده. والثاني: يبطل قطعا، لأنه لو بقي، لنفذ من الثلث، وما نفذ من
الثلث، اشترط فيه بقاء الثلثين للورثة، وهذا ضعيف، وعلى هذا تبطل وصايا
المرتد. والثالث، وبه قال ابن سلمة: يبنى على أقوال الملك، إن بقي، فالتدبير
باق، وإن زال، بطل، وإن وقف، فإن قلنا بالبطلان، فأسلم، عاد ملكه، وعاد
450

التدبير على المذهب. وقيل: قولان، كعود الحنث، كما لو باع مدبرا، ثم ملكه.
وإن أبقينا التدبير، عتق المدبر من الثلث، وجعل الثلثان فيئا، وفي وجه: يعتق
كله، ورعاية الثلث والثلثين يختص بالميراث. ولو ارتد المدبر، قتل كالقن، لكن
لا يبطل التدبير بالردة، كما لا يبطل الاستيلاد والكتابة بالردة. فلو مات السيد قبل
قتله، عتق. ولو التحق المرتد بدار الحرب، فسبي، فهو على تدبيره، ولا يجوز
استرقاقه، لأنه إن كان سيده حيا، فهو له، وإن مات، فولاؤه له، ولا يجوز
إبطاله، فإن كان سيده ذميا، ففي جواز استرقاق عتيقه خلاف سبق. ولو استولى
الكفار على مدبر مسلم، ثم عاد إلى يد المسلمين، فهو مدبر كما كان.
فرع الكافر الأصلي، يصح تدبير وتعليقه العتق بصفة، كما يصح
استيلاده، سواء الكتابي، والمجوسي، والوثني والحربي، والذمي، ولا يمنع
الكافر من حمل مدبره ومستولدته الكافرين إلى دار الحرب، سواء جرى التدبير في
دار الاسلام، أو دار الحرب، وليس له حمل مكاتبه الكافر قهرا، لظهور
استقلاله. ولو دبر كافر عبدا كافرا، ثم أسلم العبد، فإن رجع السيد عن التدبير
بالقول، وجوزناه، بيع عليه، وإلا، ففي بيعه قولان منصوصان في الام
أحدهما: يباع عليه، ويبطل التدبير دفعا لإذلاله، وأظهرهما: لا يباع، بل يبقى
التدبير، لتوقع الحرية، ولكن يخرج من يده، ويجعل في يد عدل، ويصرف كسبه
إليه، كما لو أسلمت مستولدته، فإن خرج سيده إلى دار الحرب، أنفق من كسبه
عليه، وبعث ما فضل إلى السيد، فإذا مات، عتق من الثلث، فإن بقي منه شئ
للورثة، بيع عليهم. ولو أسلم مكاتب الكافر، فقيل: قولان كالمدبر، والمذهب
451

أنه لا يباع، بل تبقى الكتابة، لانقطاع سلطة السيد واستقلاله، فإن عجزه السيد،
بيع عليه.
فرع إذا دبر أحد الشريكين نصيبه، فالمشهور أنه لا يسري ولا يقوم عليه
نصيب شريكه، فإن مات وعتق نصيبه، لم يسر أيضا إلى نصيب الشريك، لان
الميت معسر، بخلاف ما إذا علق عتق نصيبه بصفة فوجدت وهو موسر، يسري.
وفي قول: يسري، وحكي هذا وجها. ولو دبر بعض عبده الخالص، صح، ولا
سراية، ويجئ فيه الخلاف في نصيب الشريك وأولى.
الباب الثاني في حكم التدبير
. وله حكمان: ارتفاعه، وسرايته إلى الولد.
الأول: ارتفاعه، ويرتفع بخمسة أمور. الأول: إزالة الملك، فللسيد إزالة
الملك عن المدبر بالبيع والهبة والوصية وغيرها، سواء كان التدبير مطلقا أو مقيدا،
وإذا زال الملك عنه ببيع ونحوه، ثم عاد إلى ملكه، فهل يعود التدبير؟ يبنى على أن
التدبير وصية للعبد بالعتق، أم هو تعليق عتق بصفة؟ وفيه قولان: القديم وأحد قولي
الجديد: وصية، والثاني وهو نصه في أكثر كتبه: تعليق بصفة، وهذا هو الأظهر
عند الأكثرين، فإن قلنا: وصية، لم يعد التدبير، كما لو أوصى بشئ، ثم باعه،
ثم ملكه. وإن قلنا: تعليق، فعلى الخلاف في عود الحنث، وقد سبق أن الأظهر
أنه لا يعود، فحصل أن المذهب أنه لا يعود التدبير الثاني لو رجع عن التدبير
باللفظ، كقوله: رجعت عنه، أو فسخته، أو أبطلته، أو رفعته، أو نقضته، فإن
قلنا: وصية، صح الرجوع، وإلا، فلا. وسواء التدبير المطلق والمقيد. وقيل:
يختص الخلاف بالمطلق، ويقطع في المقيد بمنع الرجوع، والمذهب الأول. ولو
قال: أعتقوا فلانا عني إذا مت، جاز الرجوع باللفظ كسائر الوصايا. ولو ضم إلى
452

الموت صفة أخرى، بأن قال: إذا مت، فدخلت الدار، فأنت حر، لا يجوز
الرجوع باللفظ قطعا، وإنما الخلاف في التدبير.
فرع إذا وهب المدبر ولم يقبضه، إن قلنا: التدبير وصية، حصل
الرجوع، وإن قلنا: تعليق، لم يحصل على الصحيح، وإن اتصل بها القبض،
وقلنا: يملك بالقبض، انقطع التدبير، وإن قلنا: يتبين الملك من حين الهبة، قال
الامام: ففي انقطاع التدبير من حين الهبة تردد، وكذا لو باع بشرط الخيار، وقلنا:
يزيل الملك، فهل يبطل التدبير قبل لزوم البيع؟ فيه تردد، والذي أطلقه البغوي أن
البيع بشرط الخيار يبطل التدبير على القولين. ولو باع نصف المدبر، أو وهب
وأقبض، بطل التدبير في النصف المبيع، أو الموهوب وبقي في الباقي، وهل يبطل
التدبير في الرهن؟ قيل: يبطل، وقيل لا، والمذهب قولان بناء على أنه وصية أو
تعليق؟ ومجرد الايجاب في الهبة والرهن، إن جعلناه وصية، كان على الخلاف في
أنه رجوع في الوصية، وإن جعلناه تعليقا، فلا أثر له، ولا يبطل التدبير بالاستخدام
والتزويج بلا خلاف، وإذا جعلناه وصية، بطل بالعرض على البيع. وسائر ما ذكرناه
في باب الوصية، لكن الوطئ ليس رجوعا عن التدبير، وإن جعلناه وصية، سواء
عزل أم لا، بخلاف الوصية، فإن استولدها، فالصحيح الذي قطع به الجمهور
بطلان التدبير، لأن الاستيلاد أقوى، فيرتفع به الأضعف، كما يرتفع النكاح بملك
اليمين، ولهذا لو دبر مستولدته، لم يصح، لأنها تستحق العتق بالموت بجهة أقوى
من التدبير، وقيل: لا يبطل التدبير، ويكون لعتقها بالموت سببان. وقيل:
453

لا يبطل، بل يدخل في الاستيلاد، كالحدث في الجنابة، ولو كاتب المدبر،
ففي ارتفاع التدبير وجهان، بناء على أنه وصية، أم تعليق. إن قلنا: وصية،
ارتفع، وإلا، فلا. فيكون مدبرا مكاتبا، كما لو دبر مكاتبا، فإن أدى النجوم، عتق
بالكتابة، وإن مات السيد قبل الأداء، عتق بالتدبير، فإن لم يحتمله الثلث، عتق
قدر الثلث، وبقيت الكتابة في الباقي، فإذا أدى قسطه، عتق، وهذا نص الشافعي
رحمه الله وبه قطع الشيخ أبو حامد وجماعة، وقال القاضي أبو حامد: يسأل عن
كتابته، فإذا أراد بها الرجوع عن التدبير، ففي ارتفاعه القولان، وإلا، فهو مدبر
مكاتب قطعا. وخرج الامام على الخلاف في الكتابة، ما لو علق عتق المدبر بصفة
لأنه لو أوصى به ثم علق عتقه بصفة، كان رجوعا، وقطع البغوي بأنه يصح التعليق
بالصفة، ويبقى التدبير بحاله، كما لو دبر المعلق عتقه بصفة تجوز، ثم إن
وجدت الصفة قبل الموت، عتق، وإن مات قبلها، عتق بالتدبير.
فروع قال: رجعت عن التدبير في نصفه أو ربعه، بقي التدبير في
جميعه، إن قلنا: لا يكفي الرجوع باللفظ، وإلا فيبقى في باقيه فقط، نص في
الام أنه إذا دبر، ثم خرس، فإن لم يكن له إشارة مفهومة، ولا كتابة، فلا مطلع
على رجوعه، وإن كانت له إشارة أو كتابة، فأشار بالبيع ونحوه، ارتفع
التدبير، وإن أشار بنفس الرجوع، فعلى الخلاف.
ولو دبر مكاتبا، صح، فإن أدى النجوم قبل موت السيد، عتق بالكتابة
وبطل التدبير ولو عجز نفسه. أو عجزه سيده، بطلت الكتاب، وبقي التدبير، ولو
454

مات قبل الأداء والتعجيز الأداء والتعجيز، عتق بالتدبير إن احتمله الثلث. قال الشيخ أبو
حامد: وتبطل الكتابة. قال ابن الصباغ: وعندي أنه يتبعه ولده وكسبه، كما لو أعتق
السيد مكاتبه قبل الأداء، فكما لا يملك إبطال الكتابة بالاعتاق، فكذا بالتدبير.
قال: ويحتمل أن يريد بالبطلان زوال العقد دون سقوط أحكامه.
الأمر الثالث: إن لم نجوز الرجوع عن التدبير باللفظ، فإنكار السيد التدبير
ليس برجوع، وإن جوزناه، فهل هو رجوع؟ وكذا إنكار الموصي الوصية، والموكل
الوكالة، هل هو رجوع؟ ثلاثة أوجه، أحدها: نعم، لأن هذه العقود عرضة
للفسخ. ولو قال: لست بمدبر، أو لست بوكيل، أو ليس هذا موصى به، وجب
القطع بارتفاع هذه العقود، فكذا إذا قال: لم أدبر، ولم أوكل، ولم أوص.
والثاني: لا، لأنه كذب فلم يؤثر. والثالث وهو الأصح المنصوص: ترتفع الوكالة،
لأن فائدتها العظمى تتعلق بالموكل، ولا يرتفع التدبير والوصية، لأنهما عقدان
يتعلق بهما غرض شخصين، فلا يرتفعان بإنكار أحدهما، وإنكار البيع الجائز
ليس فسخا، وفيه احتمال. ولو أنكر الزوجية، فليس بطلاق على الأصح. ولو ادعت
على زوجها طلاقا رجعيا، فأنكر، لم يكن إنكاره رجعة بالاتفاق. وإذا ادعى على
سيده التدبير أو العتق بصفة، سمعت الدعوى على المذهب. وقيل: يسمع العتق
بصفة، وفي التدبير الخلاف. وفي شهادة الحسبة على التدبير الخلاف في سماع
455

الدعوى، ورد الشهادة أولى، لأن موضع شهادة الحسبة أن يثبت لله تعالى حق
مجحود فيثبته الشاهد حسبة، ثم إذا توجهت الدعوى، وأنكر السيد، فله إسقاط
اليمين عن نفسه، بأن يقول: إن كنت دبرته فقد رجعت عنه إذا جوزنا الرجوع
باللفظ، وكذا لو قامت به بينة، وحكم به الحاكم، فله الدفع بهذا الطريق على هذا
القول. ولو ادعى على الورثة أن مورثهم دبره، وأنه عتق بموته، حلفوا على نفي
العلم، ولا يثبت التدبير إلا بشهادة رجلين، لأنه ليس بمال، وثبت الرجوع برجل
وامرأتين، وشاهد ويمين، لأنه مال، وفيه وجه ضعيف، لأنه ينفي الحرية.
الرابع: مجاوزة الثلث، فعتق المدبر معتبر من الثلث بعد الديون، فلو كان
على الميت دين مستغرق للتركة، لم يعتق منه شئ، وإن لم يكن دين، ولا مال
سواه، عتق ثلثه، وإن كان دين يستغرق نصفه بيع نصفه في الدين، ويعتق ثلث
الباقي منه. وفي تعليقة إبراهيم المروزي أن الحيلة في عتق الجميع بعد الموت،
وإن لم يكن له مال سواه أن يقول: هذا العبد حر قبل مرض موتي بيوم، وإن مت
فجأة، فقبل موتي بيوم، فإذا مات بعد التعليقين بأكثر من يوم، عتق من رأس
المال، ولا سبيل عليه لاحد. ولو اقتصر على قوله: أنت حر قبل موتي بيوم أو
شهر، فإذا مات، نظر، إن كان في أول اليوم، أو الشهر قبل الموت مريضا، اعتبر
عتقه من الثلث، وإن كان صحيحا، فمن رأس المال ولا فرق في اعتبار التدبير من
الثلث، بين أن يقع التدبير في الصحة أو في المرض كالوصية.
فرع دبر عبدا ومات، وباقي ماله غائب عن بلد الورثة، أو دين على
معسر، فلا يعتق جميع المدبر، وهل يعتق ثلثه؟ وجهان أحدهما: نعم، لأن الغيبة
لا تزيد على العدم. ولو لم يكن إلا العبد، لعتق ثلثه، فعلى هذا ثلث أكسابه بعد
456

موت السيد له، ويوقف الباقي. وأصحهما: يعتق حتى يصل المال إلى الورثة،
لأن في تنجيز العتق تنفيذ التبرع قبل تسليط الورثة على الثلثين، فعلى هذا يوقف
الأكساب، فإن حضر الغائب، بان أنه عتق، وأن الأكساب له. ويقال: الخلاف
قولان. الأول: مخرج. والثاني: منصوص. فإذا كانت قيمة المدبر مائة،
والغائب مائتان، فحضر مائة، فعلى الأول: يعتق ثلثاه، وعلى الثاني: نصفه،
لحصول مثليه للورثة، فإن حضرت مائة وتلفت المائة الأخرى، استقر العتق
في ثلثيه، وتسلطت الورثة على ثلثه وعلى المائة. وفي طريقة الصيدلاني تفريعا
على أنه يعتق من المدبر ثلثه أن للوارث التصرف في الثلثين، فإن حضر الغائب
نقض تصرفه. وأنه لو أعتق أعتق الثلثين ولم يحضر الغائب، فولاء الثلثين له. وإن
حضر، فعن ابن سريج، أن الجواب كذلك، وأن فيه وجها أن جميع الولاء للميت
بناء على أن إجازة الوارث تنفيذ، أم ابتداء عطية؟ واشتد إنكار الامام على هذا،
وقال: إعتاق الورثة رد للتدبير، ولا سبيل إليه بسبب غيبة المال، بل الوجه
التوقف، فإن حضر الغائب، بان نفوذ العتق في الجميع، ولكن مستند إلى وقت
الموت، أم عند حصول القدرة؟ فيه احتمالان أوجههما: الأول، قال: ولو كانت
التركة بحيث يفي ثلثها بالمدبر، لكن عليه دين مستغرق، فأبرأ مستحق الدين عن الدين بعد
أيام من الموت، فيسند العتق إلى وقت الموت، أم يتنجز من وقت سقوط الدين؟
فيه احتمالان: أصحهما: الثاني. ولو كان له دين على إنسان ليس له غيره، فأبرأ
عنه في مرض الموت، أو عن ثلثه، هل تحصل البراءة عن الثلث قبل وصول
الثلثين؟ فيه الخلاف، الأصح: المنع، ويجري الخلاف فيما لو مات عن ابنين
ولم يترك إلا دينا على أحدهما، هل يبرأ من عليه الدين من نصفه؟ ولو أوصى بغير
مال يخرج من الثلث، وباقي ماله غائب، هل يسلم إلى الموصى له ثلث العين، أم
ينتظر حضور الغائب؟ فيه الخلاف، وقد سبق في الوصايا. ولو أوصى بثلث ماله،
457

وبعضه حاضر، وبعضه غائب، أو عين ودين دفع إلى الموصى له ثلث الحاضر
والعين، وما حصل بعده قسم كذلك.
فرع إذا علق عتق عبد بصفة، فوجدت في مرض موته، نظر، إن كان
التعليق بصفة لا توجد إلا في المرض، كقوله: إن دخلت الدار في مرض موتي،
فأنت حر، أو إذا مرضت مرض الموت، فأنت حر، اعتبر عتقه من الثلث. وإن
احتمل وجودها في الصحة والمرض، فهل يعتق من رأس المال، أم الثلث؟ قولان
أظهرهما: الأول، هذا إن وجدت الصفة بغير اختياره، فإن وجدت باختياره، اعتبر
من الثلث، لأنهم قالوا: لو قال: إن دخلت الدار، فأنت حر، فدخلها في مرضه،
اعتبر العتق من الثلث، لأنه اختار حصول العتق في مرضه. ولو باع الصحيح
محاباة، وشرط الخيار، ثم مرض في مدة الخيار، ولم يفسخ حتى مات، اعتبرت
المحاباة من الثلث، لأنه لزم العقد في المرض باختياره، فأشبه من وهب في
الصحة، وأقبض في المرض.
قلت: إنما يظهر هذا إذا قلنا: الملك في مدة الخيار للبائع، وترك الفسخ
عامدا لا ناسيا. والله أعلم.
فرع علق عتق عبد بصفة وهو مطلق التصرف، فوجدت وهو محجور عليه
بفلس، عتق إن اعتبرنا حال التعليق، وإن اعتبرنا حال وجود الصفة، فهو كإعتاق
المفلس. ولو وجدت الصفة، وهو مجنون، أو محجور عليه بسفه، عتق بلا
خلاف، ذكره البغوي، وفرق بأن حجر المريض والمفلس لحق الغير، وهو
الورثة والغرماء، بخلاف السفه والجنون. ولو قال: إن جننت فأنت حر، فجن،
ففي العتق وجهان حكاهما صاحب الافصاح وقد يخرج هذا فيما لو كان التعليق
بصفة غير الجنون، فوجدت في الجنون. ولو قال: إن مرضت مرضا مخوفا فأنت
حر، فمرض مرضا مات فيه، عتق العبد من الثلث على الصحيح. وقيل: من رأس
المال. ولو مرض مرضا مخوفا، وبرأ منه، عتق من رأس المال. وقيل: لا يعتق
458

أخذا من الخلاف فيمن حج عنه، وهو معضوب، فبرأ وهذا ضعيف.
الأمر الخامس: جناية المدبر. اعلم أن الجناية على المدبر، كهي على
القن، فإن قتل، فللسيد القصاص أو القيمة، ولا يلزمه أن يشتري بها عبدا يدبره،
وإن جنى على طرفه، فللسيد القصاص والأرش، ويبقى التدبير بحاله. أما جناية
المدبر، فهو فيها كالقن أيضا، فإن جنى بما يوجب القصاص، فاقتص منه، فات
التدبير، وإن جنى بموجب للمال، أو عفي عن القصاص، فللسيد أن يفديه، وأن
يسلمه ليباع في الجناية، فإن فداه، بقي التدبير. وهل يفديه بأرش الجناية، أم
بالأقل من قيمته والأرش؟ فيه القولان السابقان في القن. وإن سلمه للبيع، فبيع
جميعه، بطل التدبير، فإن عاد إلى ملكه، ففي عود التدبير الخلاف السابق في أول
الباب، وإن حصل الغرض ببيع بعضه، بقي التدبير في الباقي.
وإن مات السيد قبل البيع، واختيار الفداء، فطريقان، أصحهما: أن حصول
العتق على الخلاف في نفوذ عتق الجاني، فإن نفذناه أخذ الفداء من تركة السيد،
ويكون الفداء أقل الأمرين بلا خلاف، لأنه تعذر تسليمه للبيع، وإن لم ننفذه،
فالوارث بالخيار بين أن يفديه، فيعتق من الثلث، أو يسلمه للبيع. وإن كان في ثلث
المال سعة، فإذا بيع، بطل التدبير. وقد سبق في البيع أن المذهب أن إعتاق
الجاني ينفذ من الموسر دون المعسر.
والطريق الثاني أنه إن وفى الثلث بقيمة الرقبة والفداء، لزم الورثة تحصيل
العتق، وإلا فيخرج على هذا الخلاف. ولو كانت جناية المدبر تستغرق ثلث الرقبة
مثلا، ومات السيد، ففداه الوارث من ماله، ففي ولاء ذلك الثلث وجهان، هل هو
للوارث أو المورث بناء على أن إجازة الوارث تنفيذ أم عطية. ولو جنت مدبرة، ولها
ولد صغير، وقلنا بسراية التدبير إليه، فوجهان: أحدهما: يبيع الولد معها حذرا من
التفريق، ولا يبالي بفوات التدبير فيه. والثاني، يبيعها وحدها، ويحتمل التفريق
للضرورة، حفظا للتدبير في الولد، وهو كالخلاف فيمن رهن الجارية دون الولد،
واحتجنا إلى بيعها للدين هل يباع معها؟
الحكم الثاني: السراية إلى الولد يجوز وطئ المدبرة والمعلق عتقها بصفة،
459

لكمال الملك، ونفاذ التصرف، فإن أولدها، صارت مستولدة، وبطل التدبير على
الأصح، كما سبق. وفائدة الخلاف فيما لو قال: كل مدبر لي حر، هل تعتق هي؟
ولو أتت المدبرة بولد من نكاح أو زنى، سرى التدبير إليه على الأظهر عند الأكثرين،
منهم الشيخان أبو حامد والقفال، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد رحمهم الله،
كما يتبع ولد المستولدة والأضحية والهدي أمه.
قلت: بل الأظهر عند الأكثرين أنه لا يتبعها. والله أعلم.
ولو ولدت المعلق عتقها بصفة، لم يتبعها الولد على الأظهر، وولد الموصى
بها لا يتبعها على المذهب. وقال الشيخ أبو محمد: يحتمل طرد القولين، فإذا
جعلنا ولد المدبرة مدبرا، فماتت في حياة السيد، لم يبطل التدبير في الولد، كما لو
دبر عبدين فمات أحدهما قبل السيد، وكما لو ماتت المستولدة لا يبطل حق الولد.
ولو رجع السيد عن تدبير أحدهما باللفظ وجوزناه، أو باع أحدهما، لم يبطل التدبير
في الآخر. ولو كان الثلث لا يفي إلا بأحدهما، فوجهان، أصحهما وبه قال ابن
الحداد: يقرع بينهما، كعبدين ضاق الثلث عنهما والثاني: يقسم العتق عليهما،
لئلا تخرج القرعة على الولد فيعتق، ويرق الأصل. وإذا قلنا: المعلق عتقها بصفة
يتبعها الولد، فمعناه أن الصفة إذا وجدت فيها وعتقت، عتق الولد، ولا تعتبر الصفة
فيه. ولو وجدت الصفة منه، فلا أثر لها. هذا هو الصحيح المعروف في المذهب.
وقال الشيخ أبو محمد: مقتضى سراية التعليق أن عتقه بنفس الصفة، وهي دخول
الدار مثلا، فعلى هذا لا يعتق هو بدخولها، ويعتق بدخوله. ولو بطل التعليق فيها
بموتها، بطل في الولد. ومقتضى قول الشيخ أبي محمد أن لا يبطل فيه. ولو قال
لامته: أنت حرة بعد موتي بعشر سنين مثلا، فإنما يعتق بعد مضي تلك المدة من يوم
الموت، فلو ولدت قبل موت السيد، فهل يتبعها الولد في حكم الصفة؟ فيه
القولان. وإن ولدت بعد موت السيد وقبل مضي المدة، فقد نص الشافعي رحمه الله
أنه يتبعها، فقيل: فيه القولان كما قبل الموت، وإنما فرع على أحدهما. وقيل:
460

يتبعها قطعا لتأكد سبب العتق، إذ ليس للوارث التصرف فيها، فأشبهت المستولدة،
فعلى هذا يعتق الولد من رأس المال كولد المستولدة. وأما ولد المدبر، فلا يؤثر
تدبير أبيه فيه، وإنما يتبع الام في الرق والحرية.
فرع هذا الذي ذكرناه في ولد المدبرة، هو فيما إذا حدث بعد التدبير،
وانفصل قبل موت السيد، فأما إذا كانت حاملا عند موت السيد، فيعتق معها الحمل
بلا خلاف، كما لو أعتق حاملا، فإن لم يحتملها الثلث حاملا، عتق منها قدر
الثلث، وكذا المعلق عتقها على صفة لو كانت حاملا عند وجود الصفة. ولو كانت
المدبرة حاملا عند التدبير، فطريقان: أحدهما: أنه على القولين في أن الحمل هل
يعرف؟ إن قلنا: نعم وهو الأظهر، فالولد مدبر، وإلا ففيه القولان في الولد
الحادث، والمذهب القطع بأنه مدبر. وإن قلنا: لا يعرف الحمل كما يدخل في
البيع. وإن قلنا: لا يعرف وليس هو بسراية التدبير بل اللفظ يتناوله وإنما يعرف كونه
موجودا عند التدبير إذا ولدته لدون ستة أشهر، فإن ولدته لأكثر من أربع سنين من
وقت التدبير، فهو حادث، وإن ولدته لما بينهما، نظر، هل لها زوج يفترشها أم
لا، وقد سبقت نظائره في مواضع. وإن كان لها زوج قد فارقها قبل التدبير، وولدت
لدون أربع سنين من وقت الفراق، فالأظهر أنه يجعل موجودا يوم التدبير، كما يجعل
موجودا في ثبوت النسب من الزوج.
فرع إذا ثبت التدبير في الحمل، ثم انفصل، فرجوع السيد في التدبير
عن أحدهما لا يرفع التدبير في حق الآخر. وإن رجع قبل الانفصال عن تدبير
الحمل، وجوزنا الرجوع باللفظ، ارتفع التدبير فيه، وبقي في الام. وقيل:
لا يصح الرجوع فيه ما دام حملا مع بقاء التدبير في الام، والصحيح: الأول. وإن
رجع في تدبير الام، نظر، إن قال: رجعت في تدبيرها دون الولد، لم يخف
حكمه، وإن أطلق، فوجهان، أحدهما: يتبعها في الرجوع، كما يتبعها في
التدبير، وأصحهما: لا يتبعها كالرجوع بعد الانفصال، بخلاف التدبير، فإن فيه
معنى العتق، وللعتق قوة. وإذا رجع في تدبيرها دون الولد، ثم ولدت لدون ستة
أشهر من وقت الرجوع، فهو مدبر. وإن أتت به لأكثر من ذلك، ولها زوج يفترشها،
لم يكن مدبرا، لأنه لا يعلم وجوده قبل الرجوع.
461

فرع لو دبر الحمل وحده، جاز كما لو أعتقه، ولا يتعدى إلى الام، فإذا
مات السيد، عتق الحمل دون الام، فإن باع الام، فوجهان. أحدهما: أنه إن
قصد به الرجوع، حصل الرجوع، وصح البيع في الام والحمل، وإن لم
يقصد، لم يحصل الرجوع، فلا يصح البيع في الولد، ويبطل في الام على
الأصح، كما لو باع حاملا بحر. وأصحهما: صحة البيع فيهما، وحصول الرجوع
قصد أم لا، كما لو باع المدبر ناسيا للتدبير، صح البيع والرجوع.
فرع لو دبر أمة، وقلنا: ولد المدبرة مدبر، وجوزنا الرجوع عن التدبير
باللفظ، فقال: إذا ولدت، أو كلما ولدت ولدا فقد رجعت في تدبيره، لم يصح
الرجوع، فإذا ولدت، كان مدبرا حتى يرجع بعد الولادة، لأن الرجوع لا يصح إلا
بعد ثبوت التدبير، ولا يثبت للولد قبل الولادة، فصار كما لو قال: إذا دبرتك فقد
رجعت عن تدبيرك، فلا يصح الرجوع.
فرع إذا قلنا: ولد المدبرة مدبر، وتنازع السيد والمدبرة فيه، فقال
السيد: ولدته قبل التدبير، فهو قن، وقالت: بعده، صدق السيد بيمينه. ولو جرى
هذا الخلاف مع الوارث بعد موت السيد، صدق الوارث أيضا. قال البغوي:
وتسمع دعواها حسبة، حتى لو كانت قنة، وادعت على السيد أنك دبرت ولدي،
سمعت. ولو قالت: ولدته بعد موت السيد، فهو حر، وقال الوارث: بل قبل
التدبير، صدق الوارث على الصحيح. وقيل: تصدق هي، لأنها لم تعترف للورثة
بيد ولا ملك، ولو كان في يد المدبر مال، وقال: كسبته بعد موت السيد، فهو
لي، وقال الوارث: بل قبله فهو لي، صدق المدبر بيمينه، لأن اليد له، بخلاف
دعواها الولد، لأنها تزعم أنه حر، والحر لا يدخل تحت اليد. ولو أقام كل واحد
بينة بدعواه، رجحت بينة المدبر، لاعتضادها باليد. ولو أقام الوارث بينة أن هذا
462

المال كان في يد المدبر في حياة السيد، فقال المدبر: كان في يدي، لكن كان
لفلان فملكته بعد موت السيد، صدق المدبر أيضا، نص عليه. ولو تنازع السيد
والمستولدة في ولدها، هل ولدته قبل الاستيلاد أم بعده، أو الوارث والمستولدة،
هل ولدته قبل موت السيد، أم بعده، فهو على ما ذكرنا في تنازع السيد والمدبرة،
فإذا قلنا بسراية الكتابة إلى الولد، فقالت المكاتبة: ولدته بعد الكتابة، وقال
السيد: بل قبلها، صدق السيد أيضا على الأصح، وقيل: بل المكاتبة: لأنها يثبت
لها اليد على نفسها وولدها. ولو اختلف السيد والمكاتب في المال، صدق المكاتب
كالمدبر.
فصل دبر عبدا ثم ملكه أمة، فوطئها وأولدها، فإن قلنا: العبد لا يملك
بالتمليك، فالولد للسيد ويثبت نسبه من العبد، ولا حد عليه للشبهة، نص عليه.
وإن قلنا: يملك بالتمليك فالجارية للمدبر، ولا يحكم للولد بحرية، لأنه حصل من
رقيقين. وهل يتبع الام، ويكون رقيقا للسيد، أم يتبع الأب، فيكون مدبرا؟.
فرع أمة لرجلين دبراها، فأتت بولد، فادعاه أحدهما، فهو ابنه، ويضمن
نصف قيمتها ونصف قيمته، ونصف مهرها لشريكه، وأخذ قيمتها يكون رجوعا في
التدبير. وقال القاضي أبو الطيب: عندي أنه لا يقوم نصيب الشريك إلا برضاه،
لأنه ثبت له حق الولاء فيه.
463

فرع قول المدبر في حياة السيد وبعد موته: رددت التدبير، لغو، لا يقدح
فيه، وبالله التوفيق.
464

كتاب الكتابة
لا يجب على السيد أن يكاتب عبده، وحكى صاحب التقريب قولا أنها
واجبة إذا طلبها العبد، لقول الله تعالى: * (فكاتبوهم) *، والمشهور الأول، وبه
قطع الجماهير، كمالا يجب التدبير وشراء القريب، والآية محمولة على الندب،
فتستحب الإجابة إذ طلبها العبد وكان أمينا قادرا على الكسب، فإن فقد الشرطان،
465

لم يستحب، ولكن لا يكره، لأنها قد تفضي إلى العتق. وقال ابن القطان: يكره،
والصحيح الأول. وإن فقدت الأمانة، وقدر على الكسب، لم يستحب، على
الصحيح. وقيل: يستحب دون الاستحباب مع الشرطين، وإن كان أمينا بلا
كسب، لم يستحب على الأصح. ولو طلب السيد الكتابة، فامتنع العبد، لم
يجبره. وفي الكتابة بابان:
الأول:؟ في أركان الكتابة، وهي أربعة:
الأول: الصيغة، وهي أن يقول لعبده: كاتبتك على ألف مثلا تؤديه إلي في
نجمين مثلا أو أكثر، فإذا أديت فأنت حر، فيقول العبد قبلت. ولو لم يصرح
بتعليق الحرية بالأداء، لكن نواه بقوله: كاتبتك على كذا، صحت الكتابة أيضا،
فإن لم يصرح بالتعليق، ولا نواه، لم يصح، ولم يحصل العتق. ومنهم من خرج
من التدبير قولا ان لفظ الكتابة صريح مغن عن التصريح بالتعلق ونيته، وقد سبق في
التدبير عن أبي إسحاق أنه قال: إن كان الرجل فقيها، صحت كتابته بمجرد اللفظ،
وإلا، فلا بد من التعليق أو نيته، والمذهب الأول والفرق بين التدبير والكتابة، أن
التدبير مشهور بين الخواص والعوام، والكتابة لا يعرفها العوام، وقد نقلوا عن أبي
إسحاق أنه قال على هذا: لو كان قريب الاسلام، أو جاهلا بالأحكام لا يعرف
التدبير، لم ينعقد تدبيره بمجرد لفظة التدبير، حتى تنضم إليه نية أو زيادة لفظ.
وحكي وجه أنه إن ذكر ما تتميز به الكتابة عن المخارجة، كفى، كقوله: تعاملني أو
أضمن لك أرش الجناية، أو يستحق مني الايتاء، أو من الناس سهم الرقاب،
466

فيكفي عن تعليق الحرية بالأداء. ولا خلاف أنه لا يكفي قوله: كاتبتك وحده،
كما إذا قال: بعتك كذا ولم يذكر عوضا.
فرع قال: أنت حر على ألف، فقبل، عتق في الحال، وثبت الألف في
ذمته، وهو كقوله لزوجته: أنت طالق على ألف، فقبلت، ولو قال: إن أعطيتني
ألفا، أو أديت لي ألفا فأنت حر، فلا يمكنه أن يعطيه من مال نفسه، لأنه لا يملك.
فلو أعطاه من مال غيره، هل يعتق؟ وجهان، أصحهما: لا. والثاني: نعم،
فعلى هذا هل سبيله سبيل الكتابة الفاسدة، أم تعليق محض؟ وجهان، فإن
قلنا: كتابة فاسدة، رد السيد ما أخذ، ورجع على العبد بقيمته، وتبعه كسبه وأولاده
الحاصلة بعد التعليق. وإن قلنا: تعليق، فهل يرجع عليه بقيمته؟ وجهان،
أصحهما: لا، ولا يتبعه الكسب والولد، بخلاف ما إذا قال لزوجته: إن أعطيتني
ألفا، فأنت طالق، فأعطته مغصوبا، وقلنا: تطلق، فإنه يرجع لأنها أهل
للالتزام وقت المخاطبة، بخلاف العبد.
فرع قال لعبده: بعتك نفسك بكذا، فقال: اشتريت، أو قال العبد:
بعني نفسي بكذا، فقال: بعتك، صح البيع، وثبت المال في ذمته، وعتق في
الحال، كما لو أعتقه على مال. وذكر الربيع قولا انه لا يصح. فمن الأصحاب من
أثبته قولا ضعيفا، ومنهم من نفاه وقال: هو تخريج له، فعلى المذهب: للسيد
467

الولاء، كما لو أعتقه على مال، وفيه وجه سبق. ولو أقر السيد بأنه باعه نفسه،
فأنكر العبد، عتق بالاقرار، وحلف أنه لم يشتر، ولا شئ عليه. ولو قال: بعتك
نفسك بهذه العين، أو بخمر، أو خنزير، فإن صححنا بيعه له، وأثبتنا الولاء
للسيد، عتق، وعليه قيمته، كما لو قال: أعتقتك على خمر أو خنزير، فإن
قلنا: لا ولاء عليه، لم يصح، ولم يعتق، كما لو باعه لأجنبي بخمر. ولو قال:
وهبت لك نفسك، أو ملكتك، فقبل، عتق. ولو أوصى له برقبته، فقبل بعد
الموت، عتق.
واعلم أن الاعتاق على عوض، وبيع العبد نفسه، يشاركان الكتابة في أن كل
واحد منها يتضمن إعتاقا بعوض، ويفارقانها في الشروط والاحكام، وهما عقدان
مستقلان.
الركن الثاني: العوض، وشروطه ثلاثة: الأول: كونه دينا مؤجلا، إذ لا
قدرة له في الحال فلو ملك بعض شخص باقيه حر، وكاتبه في ملكه بدين حال، لم
يصح على الأصح. وقيل: يصح، لأنه يملك ببعضه الحر، فلا يتحقق عجزه،
ولهذا يصح البيع لمعسر، لأن الحرية مظنة الملك، وإن لم يملك شيئا آخر. فلو
زاد الثمن على قيمة المبيع، فالصحيح الصحة، وبه قطع الجمهور، لأنه قد يجد
من يشتريه بقدر الثمن فيؤدي ذلك. وحكى الشيخ أبو محمد وجها أنه لا يصح البيع
والحالة هذه. ولو أسلم إلى مكاتبه عقب الكتابة، ففي صحته وجهان حكاهما
القاضي حسين.
الثاني: أن ينجم نجمين فصاعدا. ومن بعضه رقيق هل يشترط في كتابة
الرقيق منه التنجيم؟ وجهان كالتأجيل، وهل تجوز الكتابة على مال كثير إلى نجمين
468

قصيرين، أو إلى طويل وقصير، بشرط أداء الأكثر في القصير؟ وجهان. أصحهما:
نعم لامكان القدرة، كما لو أسلم إلى معسر في مال كثير. والثاني: لا، لأن النادر
كالمعجوز عنه، كما في السلم، ويجوز جعل العوض منفعة، كبناء دار، وخياطة،
وخدمة شهر، كما يجوز جعل المنفعة ثمنا وأجرة ومهرا، ولا يجوز أن يكتفى
بخدمة شهر، أو شهرين، أو سنة، ويقدر كل عشرة أيام نجما، أو كل شهر، لان
الجميع نجم واحد، والمطالبة به ثابتة في الحال. فلو شرط صريحا كون خدمة شهر
نجما، وخدمة الشهر بعده نجما آخر، لم يصح على الأصح المنصوص في الام
لأن منفعة الشهر الثاني متعينة، والمنافع المتعلقة بالأعيان لا يجوز شرط تأخيرها.
ولو انقطع ابتداء المدة الثانية عن آخر الأولى كخدمة رجب ورمضان، لم يصح بلا
خلاف. ثم يشترط أن تتصل الخدمة وغيرها من المنافع المتعلقة بالأعيان بعقد
الكتابة ولا تتأخر عنها، كما أن عين المبيع لا يقبل التأجيل وتأخير التسليم. فلو كاتبه
في رمضان على خدمة شوال لم يصح، ولو كاتبه على دينار يؤديه في آخر هذا
الشهر، وعلى خدمة الشهر الذي بعده، لم يصح.
وأما المنافع الملتزمة في الذمة، كخياطة ثوب معين، وبناء جدار موصوف،
ودار موصوفة، فيجوز فيها التأجيل. ولو كاتبه على بناء دارين، وجعل لكل
واحدة منهما وقتا معلوما، صح. ولو قال: كاتبتك على خدمة شهر من الآن، وعلى
دينار بعد انقضائه بيوم أو شهر، جاز. ولو قال: وعلى دينار عند انقضائه،
فوجهان. وقيل: قولان، الأصح المنصوص: الجواز، قالوا: ولا بأس بكون
المنفعة حالة لأن التأجيل يشترط لحصول القدرة، وهو قادر على الاشتغال بالخدمة
في الحال، بخلاف ما لو كاتب على دينارين، أحدهما حال، والآخر مؤجل، وهذا
يبين أن الاجل وإن أطلقوا اشتراطه، فليس ذلك بشرط في المنفعة التي تقدر على
الشروع فيها في الحال. ولو كاتب على خدمة شهر ودينار في أثناء الشهر، كقوله:
469

ودينار بعد العقد بيوم، جاز على الأصح. ولو قال: على خدمة شهر من وقت
العقد، وعلى خياطة ثوب موصوف بعد انقضاء الشهر، فهو كقوله: ودينار بعد
انقضاء الشهر. وذكر البغوي أنه يشترط بيان العمل في الخدمة، قال ابن الصباغ:
يكفي إطلاق الخدمة، لكن لو قال: على منفعة شهر، لم يصح، لاختلاف
المنافع. وإذا كاتب على خدمة ودينار، فمرض في الشهر، وفاتت الخدمة،
انفسخت الكتابة في قدر الخدمة، وأما الباقي فقيل: تبطل فيه قطعا، لأنها لا تصح
في بعض العبد. وقيل: هو كمن باع عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض، ففي
الباقي طريقان. أحدهما: لا تبطل. والثاني: قولان.
فرع إذا قال لعبده: أعتقتك على أن تخدمني، أو على أن تخدمني أبدا،
فقبل العبد، عتق في الحال، ورجع السيد عليه بقيمته. ولو قال: على أن تخدمني
شهرا من الآن، فقبل، عتق، وعليه الوفاء، فإن تعذر بمرض وغيره، ففيما يرجع
عليه السيد به من أجرة مثل الخدمة، أو قيمة العبد قولان، كالصداق وبدل الخلع
إذا تلفا قبل القبض. ولو قال: كاتبتك على أن تخدمني أبدا، لم يعتق. ولو قال:
على أن تخدمني شهرا، فقبل وخدمه شهرا، عتق، ورجع السيد عليه بقيمته، وهو
على السيد بأجرة مثل الخدمة، لأنها كتابة فاسد، وإن خدمه أقل من شهر، لم
يعتق.
الشرط الثالث: بيان قدر العوض، والأجل فيشترط بيان قدر العوض
وصفته، وأقدار الآجال، وما يؤدى عند حلول كل نجم. فإن كاتب على نقد كفى
الاطلاق إن كان في البلد نقد منفرد أو غالب، وإلا، فيشترط التبيين. وإن كاتب
على عرض، وصفه بالصفات المشترطة في المسلم، وإن كاتب على ثوب
موصوف على أن يؤدي نصفه بعد سنة، ونصفه بعد سنة، ونصفه الآخر بعد انقضاء سنتين،
470

لم يصح لأنه إذا سلم النصف في السنة الأولى، تعين النصف الثاني للثانية،
والمعين لا يجوز شرط الاجل فيه، ولا يشترط تساوي الآجال، ولا الاقدار المؤداة
في آخر الآجال. ولو كاتبه على مائة على أن يؤدي نصفها أو ثلثها عند انقضاء
خمس، والباقي عند تمام العشر، أو على أن يؤدي عند تمام كل سنة عشرة، جاز.
ولو قال: تؤدي بعضها عند انقضاء نصف المدة، والباقي عند تمامها، لم يجز. ولو
قال: تؤديها في عشر سنين، لم يجز على الصحيح. وقيل: يجوز ويوزع المال
على عدد السنين. ولو قال: في كل شهر كذا، وفي سنة كذا، فهل هو مجهول،
أم يحمل على أول الشهر والسنة؟ وجهان، كنظيره في السلم، وكذا لو قال: في
يوم كذا. ولو قال: في وسط السنة، فهل هو مجهول، أم يحمل على نصفها،
لأنه الوسط الحقيقي؟ وجهان. ولو قال: تؤديها إلى عشر سنين، لم يجز، لأنه
كتابة إلى أجل واحد. ولو قال: كاتبتك على مائة تؤديها إلى ثلاثة أشهر، قسط كل
شهر عند انقضائه، جوزه ابن سريج، ومنعه ابن أبي هريرة وغيره إذا لم يعلم حصة
كل شهر. ولو كاتب على دينار إلى شهر، ودينارين إلى شهر على أنه إذا أدى
الأول، عتق، ويؤدي الدينارين بعد العتق، ففي صحة الكتابة القولان فيما إذا
جمعت الصفقة عقدين مختلفين.
فرع هل يشترط بيان موضع تسليم النجوم؟ ذكر ابن كج أن فيه الخلاف
المذكور في السلم، وذكر خلافا في أنه لو عين موضع، فخرب، هل يسلم فيه، أم
في أقرب المواضع إليه.
471

فرع لو كاتب على مال الغير، فسدت الكتابة، فإن أذن رب المال في أن
يعطيه لسيده فأعطاه، عتق، وإن أعطاه بغير إذن المالك، لم يعتق، بخلاف ما إذا
قال: إن أديت إلي هذا فأنت حر، فإنه إذا أداه، عتق، وإن كان مستحقا، لان
ذلك محض تعليق، وهذه كتابة تقتضي التمليك، فإذا وجد إذن المالك، وجد ما
يقتضي الملك، لكن يجب الرد والرجوع إلى القيمة لفساد الكتابة.
فرع إذا شرط أن يشتري أحدهما من الآخر، فسدت الكتابة. ولو كاتبه
وباعه شيئا بعوض واحد، كقوله: كاتبتك وبعتك هذا الثوب بمائة إلى شهرين،
تؤدي نصفها في آخر كل شهر، فإذا أديت فأنت حر، فقال: قبلت الكتابة والبيع،
أو البيع والكتابة، أو قبلتهما، فطريقان. أحدهما: على القولين فيمن جمع بين
عقدين مختلفي الحكم، ففي قول: يصحان، وفي قول: يبطلان. والثاني وهو
المذهب: يبطل البيع، وفي الكتابة قولا تفريق الصفقة، فإن صححناها وهو
الأظهر، فيصح بجميع العوض في قول، وبالقسط على الأظهر، فيوزع ما سماه
على قيمة العبد وقيمة الثوب، فما خص العبد، لزمه في النجمين، فإذا أداه،
عتق. وإن قلنا: فاسدة، لم يعتق حتى يؤدي جميع المال ليحقق الصفة ثم
يتراجعان. قال الصيدلاني: ويحتمل أن يخرج قول: انه إذا أدى ما يخص
قيمته، عتق ثم يتراجعان.
فرع كاتب ثلاثة أعبد صفقة، فقال: كاتبتكم على ألف إلى وقتي كذا
وكذا، فإذا أديتم، فأنتم أحرار، فالنص صحة الكتابة. ولو اشترى رجل ثلاثة
أعبد، كل لرجل عبد من ملاكهم صفقة، فالنص بطلان البيع. ولو نكح نسوة، أو
خالعهن على عوض واحد، ففي صحة المسمى قولان منصوصان. وقد سبق ذكر هذه
الصورة وما فيها من الطرق في كتاب الصداق، فإن أفسدنا هذه الكتابة، فأدوا
المال، عتقوا بالتعليق، وإن أد بعضهم حصته، فهل يعتق؟ وجهان أو قولان.
أصحهما: لا، لعدم كمال الصفة، كما لو قال: إن دخلتم الدار، فأنتم أحرار،
فدخل بعضهم، لا يعتق. والثاني: نعم، لا العتق في الكتابة الفاسدة، محمول
472

على المعاوضة، ولهذا يتراجعان. ومقتضى المعاوضة أن يعتق كل واحد بأداء
حصته، ثم من عتق رجع على السيد بقيمته يوم العتق، لأن سلطة السيد باقية إلى
يوم العتق، لتمكنه من فسخ الكتابة الفاسدة، وإن صححنا الكتابة، وهو المذهب،
وزع المسمى عليهم. ثم المذهب توزيعه على قيمتهم لا على عددهم، ثم كل
عبد يؤدي حصته من النجمين، فإذا أداها، عتق، ولا يتوقف عتقه على أداء
غيره. وإن مات بعضهم، أو عجز، فهو رقيق، ويعتق غيره بالأداء، ولا يقال:
علق بأدائهم، لأن الكتابة الصحيحة يغلب فيها حكم المعاوضة، ولهذا إذا أبرأ السيد
المكاتب، عتق، وإذا مات، لم تبطل الكتابة، بخلاف التعليقات.
الركن الثالث: السيد، وشرطه: كونه مختارا، مكلفا، أهلا للتبرع، فلا
تصح كتابة صبي ومجنون، ولا إعتاقهما على مال، ولو أذن فيه الولي. ولا كتابة
وليهما أبا كان أو غيره، ولا إعتاقه عبدهما بمال. فلو أدى العبد إلى الولي ما كاتبه
عليه، لم يعتق لبطلان التعليق، ولا تصح كتابة محجور عليه بسفه، ولا يحصل
العتق بتسليم المال إليه، لا في الحجر ولا بعد ارتفاعه. وحكى الفوراني خلافا فيما
لو سلم المال إليه في حال الحجر ثم ارتفع حجره، أنه هل يعتق بالتسليم
السابق؟ والمذهب الأول.
فرع المريض إذا كاتب في مرض موته، اعتبرت قيمة العبد من الثلث،
وإن كاتبه على أكثر منها، ثم إن كان يملك عند الموت مثلي قيمته، صحت
الكتابة، وإن لم يملك غيره، وأدى في حياة السيد، فإن كان كاتبه على مثلي
قيمته، عتق كله، لأنه يبقى للورثة مثلاه، وإن كان كاتبه على مثل قيمته، عتق
ثلثاه. وإن كاتبه على مثل قيمته، وأدى نصف النجوم، صحت الكتابة في
نصفه. أما إذا لم يؤد شيئا حتى مات السيد، ولم تجز الورثة ما زاد على الثلث فثلثه
473

مكاتب، فإذا أدى حصته من النجوم، عتق. وهل يزاد في الكتابة بقدر نصف ما
أدى، وهو سدس العبد؟ وجهان، الأصح المنصوص: لا، لأن الكتابة بطلت في
الثلثين، فلا تعود، والثاني نعم، كما لو ظهر للميت دفين، أو نصب شبكة في
الحياة، فيعقل بها صيد بعد الموت، فإنه يزاد في الكتابة. فإن قلنا: يزاد، وكان
الأداء بعد حلول النجم، فهل يلزمه حصة السدس من النجوم في الحال، أم يضرب
له مثل المدة التي ضربها الميت أولا؟ وجهان بناء على ما إذا حبس السيد المكاتب
مده، فإذا زيدت الكتابة بقدر السدس، فأدى نجومه، يزداد نصف السدس، وهكذا
يزاد نصف ما يؤدي مرة بعد أخرى إلى أن ينتهي إلى ما لا يقبل التنصيف. وإن قلنا لا
يزاد في الكتابة، فالباقي قن، ولا يخرج على الخلاف فيما لو كاتب نصيبه من
مشترك، فإن ذاك ابتداء كتابة، وهنا وردت الكتابة على الجميع، ثم دعت ضرورة
إلى إبطال البعض. وحكى ابن كج عن بعضهم تخريج صحة الكتابة في الثلث على
كتابة المشترك. أما إذا أجاز الورثة الكتابة في جميعه، فيصح في جميعه، فإذا عتق
بالأداء، فولاء الجميع للمورث إن قلنا: إجازتهم تنفيذ، وإن قلنا: ابتداء عطية،
فولاء الثلث للمورث والثلثين لهم على قدر مواريثهم. وإن أجازوا بعض الثلثين،
فإن قلنا: إجازتهم تنفيذ، صحت فيما أجازوا، وحكم الباقي ما سبق. وإن قلنا:
عطية، فهو على الخلاف في تبعيض الكتابة. ولو كان عبدان قيمتهما سواء، لا مال
له غيرهما، وكاتب في مرض موته أحدهما، وبالآخر نسيئة، نظر، إن حصل
الثمن والنجوم في حياته، فالكتابة والبيع صحيحان وإن لم يحصل حتى مات
السيد، ولم تجز الورثة ما زاد على الثلث، صحت الكتابة في ثلث هذا، والبيع في
ثلث ذاك، فإذا حصلت نجوم الثلث، وثمن الثلث، فهل يزاد في الكتابة والبيع؟
فيه الوجهان. إن قلنا: نعم، يقع فيهما جميعا، وصححت الكتابة في نصف
سدس، وكذا البيع، وإن حصلت نجوم الثلث وثمن الثلث معا، صحح كل واحد
منهما في السدس. ولو كاتبه في الصحة، ثم أبرأه عن النجوم في المرض، أو
474

قال: وضعت عنه النجوم، أو أعتقته، فإن خرج من الثلث، عتق كله، وإن لم
يكن له مال سواه، فإن اختار العجز، عتق ثلثه، ورق ثلثاه، وإن اختار بقاء
الكتابة، فإن كانت النجوم مثل القيمة، فالأصح أنه يعتق ثلثه، وتبقى الكتابة في
الثلثين. والثاني: لا يعتق ثلثه حتى يسلم للورثة ثلثاه، إما بأداء نجوم الثلثين،
وإما بالعجز. وإن كان بين النجوم والقيمة تفاوت، اعتبر خروج الأقل منهما من
الثلث. وقد ذكرنا جميع هذا ووجوهه وطرق حسابه في الوصايا. ولو أوصى بإعتاق
مكاتبه، أو إبرائه، أو وضع النجوم عنه، نظر، أيخرج من الثلث، أم لا؟ ويكون
الحكم كما لو أعتقه السيد أو أبرأه، إلا أنه يحتاج إلى إنشاء عتق وإبراء بعد موت
السيد. ولو كاتب في صحته، وقبض النجوم في مرض موته، أو قبضها وارثه بعد
موته، صح القبض، وكانت الكتابة من رأس المال، كما لو باع بمحاباة في
الصحة، وقبض الثمن في المرض. ولو أقر في المرض أنه قبض النجوم في الصحة،
أو في المرض، قبل إقراره، وكان الاعتبار من رأس المال، لأنه أقر بما يقدر على
إنشائه، ولان الاقرار لغير الوارث يستوي فيه الصحة والمرض.
فصل لا يشترط لصحة الكتابة إسلام السيد، بل تصح كتابة الكافر
كإعتاقه. وفي كتابة المرتد خمسة أقوال منصوصة ومخرجة، أظهرها: البطلان.
والثاني: تصح. والثالث: موقوف على إسلامه. والرابع: يصح قبل الحجر
عليه. وإن قلنا: يصير محجورا عليه بنفس الردة. والخامس: يصح قبل أن يصير
عليه حجرا، إما بنفس الردة، وإما بحجر القاضي، فإذا صححناها، ولم نحجر
عليه، وقلنا: لا يصير محجورا عليه بالردة، فدفع المكاتب النجوم إليه، عتق،
وكان له الولاء، ويملك النجوم، لأنا حكمنا ببقاء ملكه على هذا القوم. إن
أبطلناها، لم يصح الأداء، ويعتق. وإن قلنا: موقوف، فالأداء موقوف، فإن
مات مرتدا بان بطلانها، وكان العبد قنا، وإن صار محجورا عليه بنفس الردة، أو
بحجر القاضي، فإن أبطلناها، فعلى ما ذكرنا إذا لم يكن حجر، وإن صححناها،
أو توقفنا، لم يجز دفع النجوم إليه، لأن المحجور عليه لا يصح قبضه، بل يجب
دفعه إلى الحاكم، فإن دفعها إلى المرتد، لم يعتق، ويستردها ويدفعها إلى
475

الحاكم، فإن تلفت وتعذر الاسترداد، فإن كان معه ما يفي بالنجوم، ودفعه إلى
الحاكم، فذاك، وإلا فله تعجيزه. ثم إن مات السيد على الردة بعد ما عجزه، فهو
رقيق، وإن أسلم، فهل يكفي التعجيز؟ قولان أو وجهان. أظهرهما وهو نصه في
المختصر: نعم، لأن المنع من التسليم إليه كان لحق المسلمين، فإذا أسلم،
صار الحق له، فيعتمد بقبضه، فعلى هذا يعتق إن كان دفع إليه كل النجوم. وقيل:
لا يعتق، ولا ينقلب القبض الممنوع منه صحيحا، لكن يبقى مكاتبا، فيستأنف
الأداء، ويمهل مدة الردة، والصحيح المعروف: الأول. ولو كاتب مسلم عبده،
ثم ارتد السيد لم تبطل الكتابة، كما لا يبطل بيعه، لكن لا يجوز دفع النجوم إليه إن
قلنا: زال ملكه، وصار محجورا عليه، فإن دفعها إليه، فعلى ما ذكرناه.
فرع يجوز أن يكاتب عبده المرتد، كما يجوز بيعه وتدبيره وإعتاقه، ثم إن
أدى النجوم في ردته من أكسابه، أو تبرع بأدائها غيره، عتق، ثم جرى عليه حكم
المرتدين، وإن لم يؤدها، وعاد إلى الاسلام، بقي مكاتبا، وإن لم يسلم، قتل،
وكان ما في يده لسيده. وإن ارتد مكاتب، لم تبطل كتابته، فإن هلك على الردة،
كان ما في يده لسيده، وارتفعت الكتابة. قال في الام: ولا أجيز كتابة السيد
المرتد، والعبد المرتد، إلا على ما أجيز عليه كتابة المسلمين، بخلاف الكافرين
الأصليين يتركان على ما يستحلان، ما لم يتحاكما إلينا. قال: ولو لحق السيد بعد
ردته بدار الحرب، ووقف الحاكم ماله، تتأدى كتابة مكاتبه، فإن عجز رده إلى الرق
فإن عجزه ثم جاء سيده، فالتعجيز ماض، ويكون رقيقا له، فإن أسلم السيد، ففي
الاعتداد بما دفعه إليه ما سبق.
فرع تصح كتابة الذمي كتابيا كان أو مجوسيا، وكتابة المستأمن، هذا إذا
كاتبوا على شرائط شرعنا، فإن كاتب ذمي على خمر أو خنزير، ثم أسلما أو ترافعا
إلينا، فإن كان ذلك قبل العوض المسمى، فالعتق حاصل، ولا رجوع للسيد
على العبد، وإن كان قبل القبض، حكمنا بفسادها وإبطالها، فإن وجد القبض بعد
476

ذلك، لم يحصل العتق، لأنه لا أثر للكتابة الفاسدة بعد الفسخ والابطال. وإن
قبض بعد الاسلام، ثم ترافعا، حصل العتق، لوجود الصفة، ويرجع السيد على
المكاتب بقيمته، ولا يرجع المكاتب على السيد بشئ للخمر والخنزير. ولو كان
المسمى له قيمة، رجع وإن قبض بعض المسمى في الشرك، ثم أسلما، أو
ترافعا إلينا، حكم ببطلان الكتابة، فلو اتفق قبض الباقي بعد الاسلام وقبل إبطالها،
حصل العتق، ورجع السيد عليه بجميع قيمته، ولا يوزع على المقبوض والباقي،
لأن العتق يتعلق بالنجم الأخير، وقد وجد في الاسلام. ولو أسلم عبد لذمي، أو
اشترى مسلما، وصححنا شراءه، وأمرنا بإزالة الملك عنه، فكاتبه،
صحت الكتابة على الأظهر، لأن فيه نظرا للعبد، فإن عجز، أمر بإزالة
الملك. وإن قلنا: لا يصح، أمر بإزالة الملك في الحال، فإن أدى النجوم قبل
الإزالة، عتق بحكم الكتابة الفاسدة. ولو كاتب ذمي عبده، فأسلم المكاتب، لم
ترتفع الكتابة على المذهب، لقوة الدوام.
فرع تصح كتابة الحربي، لأنه مالك، فإن قهره سيده بعد الكتابة،
ارتفعت، وصار قنا. ولو قهر سيده، صار حرا، وعاد السيد عبدا له، لأن الدار دار
قهر، وكذا لو قهر حر حرا هناك، بخلاف ما لو دخل السيد، والمكاتب دار الاسلام
بأمان، ثم قهر أحدهما الآخر، لا يملكه، لأن الدار دار حق وإنصاف. ولو خرج
المكاتب إلينا مسلما هاربا من سيده، ارتفعت الكتابة، وصار حرا، لأنه قهره على
نفسه، فزال ملكه عنه. وإن خرج غير مسلم، نظر، إن خرج بإذنه وأماننا، لتجارة،
وغيرها، استمرت الكتابة، وإن خرج هاربا، بطلت، وصار حرا. ثم لا يمكن من
الإقامة عندنا إلا بالجزية، فإن لم يقبل، أو كان ممن لا يقر بالجزية، ألحق بمأمنه،
وإن جاءنا السيد مسلما، لم يتعرض لمكاتبه هناك، وإن دخل بأمان مع المكاتب،
ولم يقهر أحدهما الآخر، وأراد العود إلى دار الحرب، وكاتبه بعد ما دخلا، وأراد
477

العود، فلم يوافقه المكاتب، لم يكن له أن يحمله قهرا، كما لا يسافر المسلم
بمكاتبه، بل يوكل من يقبض النجوم، فإن أراد أن يقيم، طولب بالجزية، ثم إن
عتق المكاتب طولب بالجزية أو رد إلى المأمن، وإن عجز نفسه، عاد قنا للسيد.
قال ابن الصباغ: ويبقى الأمان فيه، وإن انتقض في نفس سيده بعوده، لأن المال
ينفرد بالأمان. ولهذا لو بعث الحربي ماله إلى دار الاسلام بأمان، ثبت الأمان
للمال دون صاحبه، ويجئ فيه الخلاف السابق في السيد، فيمن رجع وخلف عندنا
مالا. ولو مات السيد في دار الاسلام، أو بعد العود إلى دار الحرب، ففي مال
الكتابة قولان. أظهرهما: يبقى الأمان فيه، فيرسل إلى ورثته، لأنه لا خلاف أنهم
ورثوه، ومن ورث مالا، ورثه بحقوقه، كالرهن والضمين. والثاني: يبطل الأمان
فيه، ويكون قنا، لأنه مال كافر لا أمان له. وإن سبي السيد بعد رجوعه إلى دار
الحرب، نظر، إن من عليه أو فدي، أخذ النجوم، وهما بما جرى في أمان ما دام
في دار الاسلام، فإن رجع انتقض الأمان فيه. وفي المال إن تركه عندنا ما سبق،
وإن استرق، زال ملكه. وفي مال الكتابة طريقان. أحدهما: قولان، كالموت.
والثاني: لا يبطل قطعا، لأنه ينتظر عتقه ومصيره مالكا، بخلاف الميت. وأما ولاء
هذا المكاتب، فإن عتق قبل استرقاق السيد، فطريقان، أحدهما: أن الولاء
كالمال، فإن جعلناه فيئا، فالولاء لأهل الفئ، وإن توقفنا، فكذلك تتوقف في
الولاء. والثاني وهو المذهب: أنه يسقط ولاؤه، لأن الولاء لا يورث، ولا ينتقل من
شخص إلى شخص. وإن استرق السيد قبل عتق المكاتب، فإن جعلنا ما في ذمته
فيئا، فادعى عتق بدفعه إلى المكاتب، ففي الولاء وجهان. وإن قلنا: موقوف،
فإن عتق السيد، دفع المكاتب المال إليه، وكان له الولاء، وإن مات رقيقا، وصار
المال فيئا، ففي الولاء الوجهان. ولو قال المكاتب في مدة التوقف: انصبوا من
يقبض المال لأعتق، أجيب إليه، وإذا عتق، فليكن في الخلاف. وقيل: يبنى
على أن مكاتب المكاتب إذا عتق تفريعا على صحة كتابته، يكون ولاؤه لسيد
478

المكاتب، أو يوقف على عتق المكاتب. وفيه قولا. إن قلنا بالأول، فالولاء هنا
لأهل الفئ، وإن قلنا بالثاني، فيوقف. قال الروياني: الأصح عند الأصحاب أنه
يوقف المال، والولاء، فإن عتق، فهما له، وإن مات رقيقا، فالمال فئ، ويسقط
الولاء.
فرع كاتب مسلم عبدا كافرا في دار الاسلام أو الحرب، صح، فإن
عتق، لم يمكن من الإقامة بدارنا إلا بجزية، فإن كاتب بدار الحرب، فأسر، لم
تبطل كتابته، لأنه في أمان سيده. ولو استولى الكفار على مكاتب مسلم، لم تبطل
كتابته، وكذا لم يبطل التدبير والاستيلاد، فإذا استنقذ المسلمون مكاتبه، فهل
يحسب عليه مدة الأسر من أجل مال الكتابة؟ طريقان. أحدهما: كما لو حبسه
السيد، والمذهب القطع بالاحتساب، لعدم تقصير السيد. وهل للسيد الفسخ
بالتعجيز وهو الأسر؟ إن قلنا: يحسب، فله ذلك. ثم هل يفسخ بنفسه كما لو حضر
المكاتب، أو يرفع الامر إلى القاضي ليبحث هل له مال؟ وجهان. أظهرهما:
الأول. فإذا فسخت، وخلص، وأقام بينة أنه كان له من المال ما يكفي بالكتابة،
بطل الفسخ، وأدى المال وعتق.
الركن الرابع: المكاتب، وشرطه كونه مكلفا مختارا، فلا تصح كتابة
مجنون، ولا صبي وإن كان مميزا، ولا مكره. ولو كاتب البالغ لنفسه ولأولاده
الصغار، لم يصح لهم. وفي صحتها لنفسه قولا تفريق الصفقة. ولو كاتب عبده
الصغير أو المجنون وقال في كتابته: إذا أديت كذا فأنت حر، فوجدت الصفة،
عتق، هكذا قال الأصحاب، وفيه احتمال للامام. ثم قيل: يعتق بحكم كتابة
فاسدة، لأنه لم يرض بعتقه إلا بعوض. فعلى هذا يرجع السيد عليه بقيمته، ويرجع
هو على السيد بما دفع، والصحيح الذي عليه الجمهور أنه يعتق بمجرد الصفة،
وليس لما جرى حكم الكتابة الفاسدة في التراجع ولا غيره، ولا تصح كتابة عبد
مرهون، لأنه مرصد للبيع، ولا مستأجر، لأنه مستحق المنفعة، وتصح كتابة
المعلق عتقه بصفة، والمدبر، والمستولدة. وفي المستولدة وجه. ولو قبل الكتابة
479

من السيد أجنبي على أن يؤدي عن العبد كذا في نجمين، فإذا أداها، عتق العبد،
فهل يصح؟ وجهان. أحدهما: نعم، كخلع الأجنبي. والثاني: لا، لمخالفة
موضوع الباب، فإن صححناها، فهل تجوز حالة؟ وجهان. وإن لم نصححها،
فأدى عتق العبد بالصفة، ويرجع المؤدي على السيد بما أدى، والسيد عليه بقيمة
العبد.
قلت: الأصح أنها لا تصح. والله أعلم
فصل إذا كاتب بعض عبده، إن كان باقيه حرا، صحت الكتابة، لأنها
استغرقت الرقية منه، فإن كاتب جميعه والحالة هذه، بطلت في الحر منه. وفي
الباقي قولا تفريق الصفقة، وكذا لو كان يعتقد الرق في جميعه، فبان بعضه حرا،
فإن قلنا: تفسد، لم يعتق حتى يؤدي جميع المسمى، لتتحقق الصفة، فإذا عتق،
استرد من السيد ما أدى، وللسيد قسط القدر الذي كاتبه من القيمة. وإن قلنا:
يصح، فهل يستحق جميع المسمى، أم قسط الرقيق من القيمة؟ قولان، كالبيع إذا
أجازه في المملوك. أما إذا كاتب بعض عبد، وباقيه رقيق، فللرقيق حالان.
أحدهما: أن يكون له أيضا، فلا تصح كتابته على المذهب والمنصوص، وبه قطع
الجمهور. فإن صححنا، وكان بينه وبين السيد مهايأة، وكسب النجوم في نوبته،
فأداها، عتق القدر الذي كاتبه وسرى إلى الباقي. وإن لم تكن مهايأة، فكسبه
بينهما، فإن كسب ما يفي بقسط السيد والنجوم، عتق، وإن لم يكسب إلا قدر
النجوم، ففي العتق خلاف سنذكر نظيره إن شاء الله تعالى. وإن لم نصححها،
فهي كتابة فاسدة، فإن أدى المال قبل أن يفسخها السيد، عتق، والسراية كما
ذكرنا، ثم يرجع المكاتب على السيد بما أدى، ويرجع السيد عليه بقسط القدر
المكاتب من القيمة، ولا يرجع بقسط ما سرى العتق إليه، لأنه لم يعتق بحكم
الكتابة.
الحال الثاني: أن يكون الباقي لغيره، فإذا كاتب أحد الشريكين نصيبه، إن
480

كان بإذن الآخر، فقولان أظهرهما: لا يصح، لأن الشريك الآخر يمنعه من التردد
والمسافرة، ولا يمكن أن يصرف إليه سهم المكاتبين من الزكاة. والثاني: يصح،
كما يصح إعتاق بعضه. وإن كاتبه بغير إذن الآخر، لم يصح على المذهب. وقيل
بطرد الخلاف. فإن أفسدنا كتابة الشريك، فللسيد إبطالها، فإن لم يفعل، ودفع
العبد إلى الذي لم يكاتبه بعض كسبه، وإلى الذي كاتب بعضه بحسب الملك حتى
أدى مال الكتابة، عتق ويقوم نصيب الشريك على الذي كاتب، بشرط يساره،
ويرجع العبد عليه بما دفع، ويرجع هو على العبد بقسط القدر الذي كاتبه من
القيمة. وإن دفع جميع ما كسبه إلى الذي كاتبه حتى تم قدر النجوم، فوجهان،
ونقلهما الصيدلاني قولين أحدهما: يعتق، لأن العتق في الكتابة الفاسدة يتعلق
بحصول الصفة، وقد حصلت. وأصحهما: لا يعتق، لأن المعاوضة تقتضي إعطاء
ما تملكه لينتفع به المدفوع إليه. وأجري الخلاف فيما لو قال: إن أعطيتني
عبدا، فأنت حر، فأعطاه عبدا مغصوبا، هل يحصل العتق؟ فإن قلنا: لا يعتق
فللذي لم يكاتب أن يأخذ نصيبه مما أخذه الذي كاتب، ثم أن أدى العبد تمام النجوم
من حصته من الكسب، عتق، وإلا فلا. وإن قلنا: يعتق فيأخذ نصيبه أيضا.
والتراجع بين الذي كاتب والعبد، وسراية العتق على ما سبق. وإن صححنا كتابة
الشريك، فدفع العبد من كسبه إلى الذي كاتبه حصته، أو جرت بينه وبين الذي لم
يكاتبه مهايأة، فدفع ما كسبه في نوبة نفسه إلى الذي كاتبه حتى تمت النجوم،
عتق، وقوم عليه نصيب الشريك إن كان موسرا، وكذا لو أبرأه عن النجوم أو أعتقه.
وإن دفع إليه كل كسبه حتى تم قدر النجوم، فقيل: في حصول العتق وجهان أو
قولان، كما ذكرنا تفريعا على الفساد، والمذهب القطع بالمنع، لأن الكتابة إذا
صحت، غلب فيها حكم العارضات. وفي العارضات تسلم غير المملوك كعدمه،
وأما الفاسدة، فالمغلب فيها حكم الصفة.
فرع أذن الشريك في كتابة نصيبه، فله أن يرجع عن الاذن، فإن لم يعلم
الشريك برجوعه حتى كاتب، فعلى الخلاف في تصرف الوكيل بعد العزل وقبل
العلم به. ولو كاتب نصيبه بإذن الشريك، وجوزناه، فأراد الآخر كتابة نصيبه، هل
481

يحتاج إلى إذن الأول؟ وجهان.
فرع كاتب أحدهما نصيبه، وقال للآخر: كاتبته بإذنك، فأنكر، فإن قال
مع ذلك: قد أدى المال، عتق بإقراره، وقوم عليه نصيب الشريك إن كان موسرا.
وإن لم يقر بالأداء، فالقول قول المنكر بيمينه، فإن حلف، بطلت الكتابة، وإن
نكل، حلف الذي كاتب، فإن نكل، حلف العبد. هكذا حكاه ابن كج عن ابن
القطان، قال: وعنده ينبغي أن يكون هذا التداعي بين الشريك والمكاتب، فإذا
ادعى المكاتب الاذن، وأنكر الشريك، صدق، فإن نكل، حلف المكاتب،
وثبتت الكتابة.
فرع إذا كاتب الشريكان العبد معا، أو وكلا من كاتبه، أو وكل أحدهما
الآخر فكاتبه، صحت الكتابة قطعا إن اتفقت النجوم جنسا وأجلا وعددا، وجعلا
حصة كل واحد من النجوم بحسب اشتراكهم في العبد، أو أطلقا، فإنها تقسم
كذلك. وإن اختلفت النجوم في الجنس، أو قدر الاجل، أو العدد، أو شرط
التساوي في النجوم مع التساوي في الملك، أو بالعكس، ففي صحة كتابتهما
القولان فيما إذا انفرد أحدهما بكتابة نصيبه بإذن الآخر. وقيل: تبطل قطعا، فلا
يشترط استواء ملك الشريكين في الذي تكاتبا فيه. وقيل: يشترط، وليس بشئ.
فرع من بعضه رقيق، لا يجوز صرف الزكاة إليه للقدر المكاتب منه على
الصحيح أو المشهور، وحكي وجه وقول، ومال الروياني إلى تفصيل حسن، وهو
أنه إن لم يكن بينهما مهايأة لا يجوز، وإلا فيجوز في اليوم نفسه.
فرع إذا كاتباه، ثم عجز، فعجزه أحدهما، وفسخ الكتابة، وأراد الآخر
إنظاره وإبقاء الكتابة، فالمذهب أنه كابتداء الكتابة، فلا يجوز بغير إذن الشريك على
المذهب، ولا بإذنه على الأظهر. ومنهم من قطع بالجواز بالاذن، لأن الدوام أقوى
من الابتداء. وهل يكون التوافق على ابتداء الكتابة إذنا في ابقائها؟ وجهان.
482

أحدهما: نعم، لأنهما إذا توافقا فقد رضيا بأحكامها. ومن أحكامها جواز الانظار
عن العجز. وأصحهما: المنع، وجعل الارقاق ناقصا لما جرى به الاذن. ولو
كاتب رجل عبده، ومات عن ابنين، وعجز المكاتب، فأرقه أحدهما، وأراد الآخر
إنظاره، ففيه الطريقان، وأولى بالابقاء، لأنها صدرت أولا من واحد، فيصير كأنه
كاتب بعض عبده.
فصل قد ذكرنا الكتابة الصحيحة بأركانها وشروطها. فأما التي لا تصح،
فتنقسم إلى باطلة وفاسدة.
أما الباطلة، فهي التي اختل بعض أركانها، بأن كان السيد صبيا، أو
مجنونا، أو مكرها على الكتابة، أو كان العبد كذلك، أو كاتب ولي الصبي
والمجنون عبدهما، أو لم يجر ذكر عوض، أو ذكر ما لا يقصد، ولا مالية فيه،
كالحشرات، والدم، أو اختلت الصيغة، بأن فقد الايجاب أو القبول، أو لم يوافق
أحدهما الآخر.
وأما الفاسدة، فهي التي اختلت صحتها لشرط فاسد في العوض، بأن ذكر
خمرا، أو خنزيرا، أو مجهولا، أو لم يؤجله، أو لم ينجمه، أو كاتب بعض
العبد. وضبطها الامام فقال: إذا صدرت الكتابة إيجابا وقبولا ممن تصح عبارته،
وظهر اشتمالها المالية، لكنها لم تجمع شرائط الصحة، فهي الكتابة الفاسدة،
وجعل الصيدلاني الكتابة على دم أو ميتة كتابة فاسدة، كالكتابة على خمر.
إذا عرف هذا، فالكتابة الباطلة لاغية، إلا أنه إذا صرح بالتعليق، وهو ممن
يصح تعليقه، ثبت حكم التعليق.
وأما الفاسدة، فإنها تشارك الصحيحة في بعض الأحكام، كما سنذكره على
الأثر إن شاء الله تعالى بخلاف البيع وغيره من العقود، لا يفرق بين فاسدها
483

وصحيحها، لأن مقصود الكتابة العتق، وهو لا يبطل بالتعليق على فاسد. قال
الأصحاب: تعليق العتق بالصفة ثلاثة أقسام. أحدها: التعليق الخالي عن
المعاوضة، كقوله: إن دخلت الدار، أو كلمت فلانا، فأنت حر. ومن هذا: إن
أديت إلي كذا فأنت حر، فإن المال ليس مذكورا على سبيل المعاوضة، فهذا القسم
لازم من الجانبين، فليس للسيد، ولا للعبد، ولا لهما، رفعه بالقول، ويبطل
بموت السيد. وإذا وجدت الصفة في حياة السيد، عتق، وكسبه قبل وجود الصفة
للسيد. ولو أبرأه في صورة التعليق بأداء المال عن المال، لم يعتق، ولا تراجع بين
السيد وبينه.
القسم الثاني: التعليق في عقد يغلب فيه معنى المعاوضة، وهو الكتابة
الصحيحة، وستأتي أحكامها إن شاء الله تعالى.
484

الثالث: التعليق في عقد فيه معنى المعاوضة، ويغلب فيه معنى التعليق، وهو
الكتابة الفاسدة، وهي كالصحيحة في أحكام. أحدها: أنه إذا أدى العبد
المسمى، عتق بموجب التعليق، ولا يعتق بإبراء السيد، ولا بأداء الغير عنه تبرعا،
لأن الصفة لا تحصل بهما. ولو اعتاض عن المسمى، لم يعتق أيضا.
الثاني: أنه يستقل بالاكتساب، فيتردد ويتصرف، فيؤدي المسمى ويعتق.
وإذا أدى، فما فضل من الكسب، فهو له، لأن الفاسدة كالصحيحة في حصول
العتق بالأداء، فكذلك في الكسب، وولد المكاتب من جارية ككسبه، لكن لا
يجوز له بيعه، لأنه مكاتب عليه، فإذا عتق تبعه، وعتق عليه. وهل يتبع المكاتبة
كتابة فاسدة ولدها؟ طريقان. المذهب: نعم، كالكسب. والثاني: قولان، كما
سبق في باب التدبير في ولد المعلق عتقها بصفة.
الثالث: ذكر الامام والغزالي أنه إذا استقل، سقطت نفقته عن السيد، وان
معاملته كالمكاتب كتابة صحيحة. والذي ذكره البغوي أنه لا تجوز معاملته مع
السيد، ولا ينفذ تصرفه فيما في يده، كما في المعلق عتقه بصفة، ولعل هذا
أقوى.
فرع المكاتب كتابة صحيحة، هل له السفر بغير إذن السيد؟ فيه نصان،
فقيل: قولان أظهرهما: الجواز، لأنه يستعين به على الكسب، ولأنه في يد نفسه،
وعليه دين مؤجل، فلم يمنع السفر. وقيل: نص الجواز محمول على سفر قصير،
والمنع على طويل. وقيل: الجواز إذا لم يحل النجم، والمنع إذا حل، فإن
جوزناه، فهل يجوز للمكاتب كتابة فاسدة؟ وجهان، أصحهما: لا.
فرع تفارق الفاسدة الصحيحة في أمور. أحدها: إذا أدى المسمى في
الفاسدة، وعتق، رجع على السيد بما أدى، ورجع السيد عليه بقيمته يوم العتق.
وفي قول ضعيف: يرجع بقيمة يوم العقد، فإن هلك المسمى في يد السيد، رجع
العتيق بثلثه أو قيمته، فإن كان الواجب على السيد من جنس القيمة، بأن كان غالب
نقد البلد، فهو على أقوال التقاص، وسنذكرها إن شاء الله تعالى. وإذا حصل
التقاص وفضل لأحدهما شئ رجع به، وإنما يثبت التراجع إذا كان المسمى
485

مالا، فإن كان خمرا أو نحوه، لم يرجع العتيق على السيد بشئ، ويرجع السيد
عليه بالقيمة.
الثاني: للسيد فسخ الكتابة الفاسدة، بخلاف الصحيحة، ثم إن شاء فسخ
بنفسه، وإن شاء رفع الامر إلى القاضي، ليحكم بإبطالها أو يفسخها. قال
الروياني: وهو كما لو وجد المشتري المبيع معيبا، له أن يفسخ بنفسه، وله أن يرفع
الامر إلى القاضي ليفسخ، ولا يبطلها القاضي بغير طلب السيد. وقال ابن سلمة:
لا سبيل إلى إبطال الفاسدة بالقول، لأن العتق فيها يحصل بالتعليق، والتعليق لا
يصح إبطاله، والصحيح الأول، فإذا فسخها، أو حكم الحاكم بإبطالها، ثم أدى
المسمى، لم يعتق، لأنه إن كان تعليقا، فهو في ضمن معاوضته، فإذا ارتفعت
المعاوضة، ارتفع ما تضمنته من التعليق، وليشهد السيد على الفسخ، فإن أدى
المسمى، وقال: أديته قبل الفسخ، وقال السيد: بل بعده، صدق العبد، لان
الأصل عدم الفسخ، وعلى السيد البينة.
الثالث: إذا أعتق المكاتب كتابة فاسدة، لا عن جهة الكتابة أو باعه، أو
وهبه، كان فسخا للكتابة. ولو أعتقه عن كفارة، أجزأه، نص عليه في الام قال
الشيخ أبو علي: إذا عتق لا عن جهة الكتابة، لا يتبعه الكسب والولد، بخلاف
الكتابة الصحيحة، لأن المكاتب هناك استحق العتق على السيد بعقد لازم،
واستحق استتباع الولد والكسب، فليس للسيد إبطاله، وهناك لا استحقاق على
السيد، فجعل فاسخا. قال: وعرضت هذا على القفال، فاستحسنه، وأقرني
عليه، ولم ير غيره. وحكى الامام وجها أنه لا يجزئ عن الكفارة، ولا يتبعه الولد
والكسب، والصحيح الأول.
الرابع: تبطل الكتابة الفاسدة بموت السيد، ولا يعتق بالأداء إلى الوارث بعد
الموت، بخلاف الصحيحة، فإن قال: إن أديت إلى وارثي كذا بعد موتي، فأنت
حر، عتق بالأداء إليه.
الخامس: لا يجب الايتاء في الفاسدة.
السادس: لو كاتب أمة كتابة فاسدة، وعجزت عن الأداء، فأرقها، أو فسخ
486

الكتابة قبل عجزها، لم يجب الاستبراء، بخلاف الصحيحة.
السابع: لو عجل النجوم في الكتابة الفاسدة، فهل يعتق كالصحيحة، أم
لا، لأن الصفة لم توجد على وجهها 0 وجهان.
قلت: أصحهما الثاني. والله أعلم
الثامن: من يلزم السيد فطرة المكاتب كتابة فاسدة.
التاسع: هل يصرف سهم المكاتبين إلى المكاتب كتابة فاسدة؟ وجهان
الأصح المنصوص: المنع.
العاشر: المسافرة ممنوعة في الفاسدة على المذهب، جائزة في الصحيحة
على المذهب، كما سبق وبالله التوفيق.
487

الباب الثاني في أحكام الكتابة الصحيحة
هي خمسة:
الأول: حصول العتق، ويتعلق بما يحصل به العتق مسائل.
إحداها: أنه يحصل بأداء كل النجوم، وكذا بالابراء، وفي حصوله
بالاستبدال عن النجوم خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى. وإذا جوزنا الحوالة
بالنجوم، أو عليها، حصل العتق بنفس الحوالة. ولو أدى بعض النجوم، أو أبرأه
عن بعضها، لم يعتق شئ منه، بل يتوقف على الجميع، للحديث الحسن
المكاتب عبد ما بقي عليه درهم. ولو كاتب عبيدا صفقة واحدة، فقد سبق أن
المذهب صحتها، وأنه إذا أدى بعضهم حصته، عتق، وإن لم يؤد الآخرون شيئا.
ولو كاتب اثنان عبدهما معا، فليسو بينهما في الأداء، ولا يعتق نصيب أحدهما بأداء
نصيبه من النجوم، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. ولو كاتب إنسان عبدا، ومات،
وخلف ابنين، فأدى نصيب أحدهما بغير إذن الآخر، لم يعتق. وإن أدى بإذنه،
ففي عتقه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى.
الثانية: لا تنفسخ الكتابة بجنون السيد، ولا العبد، ولا بإغمائهما، فإن جن
السيد، فعلى المكاتب تسليم النجوم إلى وليه، فإن سلم إليه، لم يعتق، لأن قبضه
فاسد. ولو تلف في يده، فلا ضمان، لتقصيره بالتسليم إليه، ثم إن لم يكن في يد
المكاتب شئ آخر يؤديه، فللولي تعجيزه. ولو حجر عليه بالسفه، فهو كالجنون.
488

فلو أدى المكاتب إليه في حال الحجر، وعجزه الولي، ثم رفع الحجر عنه، استمر
التعجيز. وقيل: فيه قولان، كما سبق في المرتد إذا أخذ النجوم، وعجز الحاكم
المكاتب، ثم أسلم المرتد، والمذهب الأول، لأن حجر السفة أقوى. ولهذا لا
ينفذ تصرفه قطعا، بخلاف المرتد في قول، ولان حجر السفه لحفظ ماله. فلو حسب
عليه ما أخذه، وأتلفه في حال الحجر لم يحصل حفظ المال، وحجر المرتد لحق
المسلمين، فإذا أسلم، لم يبق لهم في ماله حق. وأما إذا جن المكاتب، فأدى في
جنونه، أو أخذه السيد من غير أداء منه فيعتق، لأن قبض النجوم مستحق. ولو
أخذها المولى من غير إقباض من المكاتب وقع موقعه. هذا المعروف في
المذهب. وقال الامام: إن عسر وصول السيد إلى حقه إلا من جهة قبض ما
يصادف، فله ذلك، وإن أمكن مراجعة الولي، فلا وجه لاستبداده بالقبض. فلو
استبد، لم يصح، وإذا لم يصح، فلو أقبض المجنون، لم يكن لاقباضه حكم.
وحكى قولا أو وجها أن الكتابة تنفسخ بجنون المكاتب، والمذهب الأول. هذا في
الكتابة الصحيحة، أما الفاسدة، فهل تبطل بجنونهما وإغمائهما؟ فيه أوجه،
أحدهما نعم، كالشركة، والثاني: لا، كالبيع بشرط الخيار، وأصحها عند
الجمهور، وهو ظاهر النص: تبطل بجنون السيد وإغمائه، وبالحجر عليه، لا
بجنون العبد وإغمائه، لأن الحظ في الكتابة للعبد لا للسيد. فإن قلنا: لا
تبطل، فأفاق، وأدى المسمى، عتق، وثبت التراجع. قالوا: وكذا لو أخذ السيد
في جنونه، وقالوا: ينصب السيد من يرجع له، وينبغي أن لا يعتق بأخذ السيد
هنا. وإن قلنا: يعتق في الكتابة الصحيحة، لأن المغلب هنا التعليق، والصفة
المعلق عليها، بالأداء من العبد، فلم يوجد. وإن قلنا: يبطل، فأدى المسمى، لم
يعتق على الأصح، لأن العتق بالتعليق في الفاسدة يتبعها، فإذا بطلت، بطل
التعليق، كما لو فسخها السيد. والثاني: يعتق، فعلى هذا، قال الامام: الوجه
القطع بأن لا تراجع، لأن التراجع مقتضى الكتابة الفاسدة وقد زالت، وبقي التعليق
489

المحض. وقيل يثبت، قال: ومساقه أن يتبعه الكسب، وهذا ضعيف.
الثالثة: إذا كاتب الشريكان معا، ثم أعتق أحدهما نصيبه، عتق. وهل
يسري إلى نصيب الشريك إن كان موسرا؟ وجهان أو قولان. الصحيح المشهور:
يسري. وفي وقت السراية قولان. أحدهما: في الحال لئلا تتبعض الحرية.
وأظهرهما: لا يثبت في الحال، لأنه قد انعقد سبب الحرية في النصف الآخر،
وفي التعجيل ضرر على السيد، لفوات الولاء، وبالمكاتب بانقطاع الولد والكسب
عنه. فإن قلنا: تتعجل السراية، فهل تنفسخ الكتابة في نصيب الشريك، أم يسري
العتق مع بقاء الكتابة؟ وجهان. الصحيح وبه قطع الجمهور: تنفسخ، لأن الاعتاق
أقوى من الكتابة، فعلى هذا يعتق كله على الشريك للمعتق، ويكون له الولاء.
والثاني: يسري العتق مع بقاء الكتابة، لئلا يبطل حق الغير، فعلى هذا ولاء النصف
الآخر للشريك، لا للمعتق حينئذ. وإن قلنا: لا تتعجل السراية، فأدى نصيب
الآخر من النجوم، عتق عن الكتابة، وكان الولاء بينهما. وإن عجز، وعاد إلى الرق
ثبتت السراية حينئذ، ويكون الولاء كله للمعتق، ويجئ الخلاف في أنها ثبتت
بنفس العجز، أم بأداء القيمة، أم يثبت بأداء القيمة حصول التعليق من وقت
العجز؟ ويجري هذا الخلاف على قولنا بتعجيل السراية. وإن مات قبل الأداء
والعجز، فقد مات بعضه رقيقا وبعضه حرا. وهل يورث؟ فيه القولان السابقان في
الفرائض. ولو أبرأه أحد الشريكين عن نصيبه من النجوم، فهو كما لو أعتقه،
والقول في السراية، وفي وقتها كما ذكرنا لو أعتق أحدهما نصيبه. ولو قبض
أحدهما نصيبه من النجوم برضى صاحبه، فهل يعتق نصيبه؟ فيه خلاف سنذكره في
الحكم الثاني إن شاء الله تعالى. فإن قلنا: يعتق، فهو كالاعتاق في السراية
ووقتها. قال الامام: ولا نقول: إنه مجبر على القبض فلا يسري، لأنه مختار في
إنشاء الكتابة التي اقتضت إجباره على القبض، فهو كما لو قال أحد الشريكين: إذا
طلعت الشمس فنصيبي حر، فإذا طلعت، عتق نصيبه، وسرى، لأنه مختار في
التعليق. ولو كاتب عبدا ومات عن ابنين، فعتق أحدهما نصيبه، وقلنا: يعتق
490

نصيبه على ما سيأتي إن شاء الله تعالى، لم يسر، لأنه مجبر على القبض وابتداء
الكتابة لم يصدر منه.
فرع قال العبد لمالكيه وقد كاتباه: قد أعطيتكما النجوم، وأنكرا،
صدقا باليمين، وإن صدقه أحدهما، وكذبه الآخر، عتق نصيب المصدق، ويصدق
المكذب بيمينه. وهل يسري العتق؟ فيه خلاف سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى،
والمذهب: المنع، والاختلاف في غير النجم الأخير كالاختلاف فيه، لأن العتق لا
يحصل بغير الأخير. ولو قال المكاتب لأحدهما: دفعت إليك جميع النجوم لتأخذ
نصيبك، وتدفع نصيب الآخر إليه، فقال: دفعت إلي نصيبي، ودفعت نصيب
الآخر إليه بنفسك، وأنكر الآخر القبض، عتق نصيب المقر، وصدق في أنه لم
يقبض نصيب الآخر بيمينه، وصدق الآخر في أنه لم يقبض نصيبه، ولا حاجة إلى
اليمين، لأن المكاتب لا يدعي عليه شيئا. ثم يتخير المنكر بين أن يأخذ حصته من
النجوم من العبد، وبين أن يأخذ من المقر نصف ما أخذ، لأن كسب المكاتب متعلق
حقهما بالشركة، ويأخذ الباقي من العبد، ولا تقبل شهادة المقر عليه، لأنه متهم
بدفع المشاركة عنه. وإذا عجز المكاتب عما طالب المنكر به، فله تعجيزه وإرقاق
نصيبه. ثم عن نصه في الاملاء أنه يقوم ما أرقه على المقر، ونقله ابن سلمة،
وابن خيران إلى الصورة السابقة، وجعلوا التقويم عند العجز في الصورتين على
قولين وامتنع الجمهور من نقله إلى تلك الصورة، وفرقوا بأن العبد هناك يقول: أنا
حر كامل الحال فلا يستحق التقويم، وهنا يعترف بأن نصيب المنكر منه لم
يعتق. ولو قال المكاتب لأحدهما: دفعت النجوم إليك لتأخذ نصيبك وتدفع
نصيب الآخر إليه، كما صورنا، فقال في الجواب: قد فعلت ما أمرت به فأنت
عتيق، وأنكر الآخر عتق نصيب المقر، وصدق المنكر بيمينه، فإذا حلف، بقي
نصيبه مكاتبا، وله الخيار بين أخذ حصته من المكاتب، وبين أخذه من المقر لاقراره
بأخذها، ومن أيهما أخذ، عتق نصيبه. ثم إن أخذها من المكاتب، فله الرجوع
491

على المقر، لأنه وإن صدقه في الدفع إلى الشريك، فإنه كان ينبغي أن يشهد عليه.
وإن أخذها من المقر، فلا رجوع له على المكاتب، لاعترافه بأنه مظلوم. فإذا اختار
الرجوع على المكاتب، فلم يأخذ حصته من المقر، ولم يدفعها إلى المنكر، وعجز
نفسه، فنصفه حر، ونصفه رقيق، فيقوم على المقر، فيأخذ المنكر منه قيمة
النصف، ويأخذ أيضا ما أقر بقبضه له، فإنه كسب النصف الذي كان ملكه.
الرابعة: كاتب عبدا وما ت عن ابنين، فهما قائمان مقامه في أنهما إذا أعتقاه أو
أبرآه عن النجوم، عتق، وكذا لو استوفياها. ولو أعتقه أحدهما، أو أعتق نصيبه
عتق نصيبه وكذا لو أبرأه أحدهما عن نصيبه من النجوم. وقال المزني: لا يعتق
نصيبه بالابراء حتى يبرئه الآخر، أو يستوفي منه، كما لو كان الأب حيا فأبرأه عن
بعض النجوم. وأجاب الأصحاب بأن هناك لم يبرئه عن جميع ماله عليه، وهنا أبرأه
الابن عن جميع ماله عليه، فصار كأحد الشريكين يبرئه عن نصيبه من النجوم، وهذا
الذي ذكرنا من أنه إذا أعتق الابن نصيبه، أو أبرأه عن نصيبه، يعتق، وهو الذي قطع
به الأصحاب. وقال البغوي: مقتضى سياق المختصر حصول قولين في عتق
نصيبه. أحدهما: العتق، وأظهرهما: المنع، بل يوقف، فإن أدى نصيب
الآخر، عتق كله، والولاء للأب، وإن عجز، فإن كان قد أعتق نصيبه، عتق الآن
نصيبه. ثم إن كان معسرا، فله ولاء ما عتق، والباقي قن للآخر، وإن كان
موسرا، قوم عليه الباقي، وبطلت كتابة الأب، وكان ولاء الجميع للابن. وإن كان
قد أبرأه عن نصيبه من النجوم، لم يعتق منه شئ بالعجز، لأن الكتابة تبطل
بالعجز، والعتق في غير الكتابة لا يحصل بالابراء، والمذهب ما قدمناه عن
الأصحاب. فعلى هذا إن كان الذي أعتق نصيبه، أو أبرأه معسرا، بقيت الكتابة في
نصيب الآخر، فإن عجز، عاد قنا، وإن أدى، وعتق، فولاؤه للأب. وأما ولاء
نصيب الأول، فالأصح أنه للأب أيضا. وقيل: للابن، وقيل: إن أعتقه، فله،
وإن أبرأه، فللأب. وإن كان موسرا، فهل يسري العتق إلى نصيب الشريك؟ إذا
قلنا بالأصح، لأن الكتابة لا تمنع السراية، فيه قولان، أحدهما: نعم، كما لو
كاتبه شريكان، ثم أعتقه أحدهما، وأظهرهما: لا، لأن الكتابة السابقة تقتضي
حصول العتق بها، والميت لا يقوم عليه، والابن كالنائب عنه، فإن قلنا: يسري،
492

فهل يسري في الحال، أو عند العجز؟ قولان كما سبق في الشريكين، أظهرهما:
الثاني، فإن قلنا يسري في الحال، فحكى الامام وجهين في انفساخ الكتابة فيما
سرى العتق إليه، كما حكاهما في صورة الشريكين، والذي قطع به الجمهور:
الانفساخ فيه، وإثبات ولائه للمعتق، وفي ولاء النصف الأول وجهان، أحدهما:
للمعتق فقط، لأن نصيب الآخر بقي رقيقا، وأصحهما: أنه لهما، لأنه عتق بحكم
كتابة الأب، فيثبت له الولاء، وينتقل إليهما بالعصوبة. وإذا قلنا: لا تنفسخ الكتابة
فيما سرى إليه، فولاء الجميع للأب، وإن قلنا: إن السراية تثبت عند العجز، فإن
أدى نصيب الآخر، عتق كله، وولاؤه للأب، وإن عجز، فطريقان، أحدهما:
تبطل الكتابة، ويكون ولاء الجميع له، وأصحهما: أن ولاء ما سرى العتق إليه،
وقوم عليه له. وفي ولاء النصف الأول الوجهان. وقد يختص الوجهان بصورة
الاعتاق. وفي صورة الابراء يكون ولاء النصف للأب، ينتقل إليهما قطعا، أما إذا
قلنا: لا سراية، فنصيب الآخر مكاتب، كما كان، فإن عتق بأداء، أو إعتاق، أو
إبراء، فولاء الجميع للأب. وإن عجز، بقي نصيبه رقيقا. وفي ولاء نصيب الأول
الوجهان، هل هو له، أم لهما؟ ولو قبض أحد الابنين نصيبه من النجوم، إن كان
بغير إذن الآخر، فهو فاسد، وإن كان بإذنه، فقولان، كما سنذكره في الشريكين إن
شاء الله تعالى. فإن صححنا، فقال الامام: لا سراية بلا خلاف، لأنه يجبر على
القبض. ولا سراية حيث حصل العتق بغير اختيار. وفي التهذيب أن القول في
عتق نصيبه، وفي السراية كما ذكرنا فيما إذا أعتق نصيبه، أو أبرأ عن نصيبه من
النجوم، بلا فرق. ولمن قال بهذا أن يمنع كونه مجبرا على القبض، ويقول: له
الاعتاق والابراء، فإن لم يفعلهما، فيشبه أن يقال: لا يجبر على الانفراد بالقبض
، وإن جوزناه، لأنه لو عجز عن نصيب الثاني، قاسم الأول فيما أخذ، فله الامتناع
من قبض ما عسى الثاني أن يزاحمه فيه.
فرع خلف ابنين وعبدا، فادعى العبد أن أباهما كاتبه، فإن كذباه، صدقا
بيمينهما على نفي العلم بكتابة الأب، فإن حلف، فذاك، وإن نكلا، وحلف العبد
493

اليمين المردودة، ثبتت الكتابة، وإن حلف أحدهما دون الآخر، ثبت الرق في
نصيب الحالف، وترد اليمين في نصيب الناكل، فإن أقام بينة، اشترط رجلان،
لأن المقصود الحرية لا المال، وإن صدقاه، أو قامت بينة، فالحكم ما سبق قبل
الفرع. وإن صدقه أحدهما، وكذبه الآخر، فالمكذب يصدق بيمينه. وأما نصيب
المصدق، فالصحيح ثبوت الكتابة فيه، ولا يضر التبعيض فيه للضرورة. ثم أطلقوا
القول بقبول شهادة المصدق على المكذب، وقال الامام: شهادته هذه تثبت له
حقوقا، فإن النجوم موروثة، فإن شهد بعد الابراء من النجوم، فله غرض في
السراية، فإن نفينا السراية، اتجه القبول، وإذا حكمنا بأن نصيب المصدق
مكاتب، والآخر قن، فنصف الكسب له، يصرف في جهة النجوم، ونصفه
للمكذب. وإن اتفقا على مهايأة، ليكسب يوما لنفسه، ويوما للمكذب، أو
يخدمه، جاز، ولا إجبار عليها على الأصح، ولا تقدير في النوبتين في المهايأة.
وقال ابن كج: يجوز يومين وثلاثة، فإن كسبه، فوجهان. وإذا أدى النجوم،
وفضل شئ مما كسب لنفسه، فه له. ثم إن أعتق المصدق نصيب نفسه، عتق.
وفي سرايته طريقان، قال الأكثرون: قولان، كما لو صدقاه، إلا أنا إذا قلنا
بالسراية، ثبت هنا في الحال، ولا يجئ القول الآخر، لأن صاحبه منكر الكتابة،
فلا يمكن التوقف إلى العجز، وقيل: تثبت السراية في الحال قطعا، لأن منكر
الكتابة يقول: هو رقيق لهما، فإذا أعتق صاحبه، ثبتت السراية، فإن قلنا: لا
سراية، فولاء ما عتق، هل يكون بينهما، أم ينفرد به المصدق؟ وجهان.
أصحهما: الثاني، لأن المنكر أبطل حقه بالانكار، فإن جعلناه بينهما، فمات هذا
العبد، ونصفه رقيق، وقلنا: إن مثله يورث، وقفت حصة المنكر، وإن قلنا
بالسراية، فولاء النصف الذي سرى العتق إليه، للمعتق، وفي ولاء النصف الآخر
الوجهان. ولو أبرأه المصدق عن نصيبه من النجوم، فالمذهب أنه لا سراية، لان
منكر الكتابة لا يعترف بعتق نصيبه، ويعتقد الابراء لغوا قال الامام: ويجئ
الخلاف في السراية، لأن قول المصدق مقبول في نصيبه، فإذا أتى بما يقتضي
494

العتق، فالسراية بعده قهرية، وإن أدى نصيب المصدق من النجوم، فلا سراية.
وهل يكون ولاء ما عتق لهما، أم يختص به المصدق؟ فيه الوجهان. ولو عجزه
المصدق، عاد قنا، ويكون الكسب الذي في يده للمصدق، لأن المكذب أخذ
حصته. ولو اختلفا في شئ من أكسابه، فقال المصدق: كسبته بعد الكتابة، وقد
أخذت نصيبك، فهو لي، وقال المكذب: بل قبلها، وكان للأب، فورثنا،
صدق المصدق، لأن الأصل عدم الكسب قبل الكتابة.
المسألة الخامسة: إذا قبض النجوم، فوجدها ناقصة، تقدم على هذا أن
عوض الكتابة لا يكون إلا دينا كما سبق، ويجوز كونه نقدا وعرضا موصوفا، وأن من
له دين، فقبضه، فوجده دون المشروط، فله رده، وطلب ما استحقه، ولا يبطل
العقد، فإن كان المقبوض من غير جنس حقه، لم يملكه إلا أن يعتاضه، حيث
يجوز الاعتياض. وإن اطلع على عيب به، نظر، هل يرضى به، فإن رضي، فهل
نقول: ملكه بالرضى، أم نقول: ملكه بالقبض وتأكد الملك بالرضى؟ فيه قولان.
وإن رده، فهل نقول: ملكه بالقبض، ثم انتقض الملك بالرد، أم نقول: إذا رد،
تبين أنه لا يملكه؟ فيه قولان؟ ويبنى على هذا الخلاف مسائل سبقت كلها أو
بعضها.
منها: تصارفا في الذمة، وتقابضا، وتفرقا، فوجد أحدهما بما قبضه عيبا،
فرده، إن قلنا: ملك بالقبض، صح العقد، وإن قلنا: تبين أنه لم يملك، فالعقد
فاسد، لأنهما تفرقا قبل قبض.
ومنها: أسلم في جارية، وقبض جارية، فوجدها معيبة، فردها، هل على
المسلم إليه استبراؤها؟ يبنى على هذا الخلاف.
ومنها: قال الامام: الموصوف في الذمة إذا قبضه، فوجده معيبا إن قلنا:
يملكه بالرضى، فلا شك أن الرد ليس على الفور، والملك موقوف على الرضى،
وإن قلنا: يملك بالقبض، فيحتمل أن يقال: الرد على الفور، كما في شراء
495

الأعيان، والأوجه: المنع، لأنه ليس بمعقود عليه، وإنما يثبت الفور فيما يؤدي رده
إلى رفع العقد ابقاء للعقد. إذا ثبت هذا، فإن وجد السيد بالنجوم المقبوضة أو
بعضها عيبا، له الخيار، بين أن يرضى به، أو يرده، ويطالب ببدله، سواء العيب
اليسير، والفاحش، فإن كان العيب في النجم الأخير، فإن رضي به، فالعتق نافذ
قطعا، ويكون رضاه بالعيب كالابراء عن بعض الحق. وهل يحصل العتق من وقت
القبض، أم عند الرضى؟ وجهان، أصحهما: الأول. وإن أراد الرد والاستبدال،
فرد، وإن قلنا: نتبين بالرد أن الملك لم يحصل بالقبض، فلا عتق، وإن أدى بعد
ذلك على الصفة المستحقة، حصل العتق حينئذ. وإن قلنا: يحصل الملك في
المقبوض وبالرد يرتفع، فوجهان. أحدهما: أن العتق كان حاصلا، إلا أنه كان
بصفة الجواز، فإذا رد العوض، ارتد. وأصحهما: نتبين أن العتق لم يحصل، إذ
لو حصل، لم يرتفع، ولا يثبت العتق هنا بصفة اللزوم باتفاق الأصحاب. ولو تلف
عند السيد ما قبضه، ثم عرف أنه كان معيبا، فقد قدم الامام عليه، أنه لو اتفق ذلك
في عين فإن رضي، فالذي يدل عليه فحوى كلام الأصحاب، أن الرضى كاف،
ولا حاجة إلى إنشاء إبراء، لأن الأرش كالعوض فق الرد، والرد يكفي في سقوط
الرضى، فكذا الأرش. وإن طلبه، تقرر، ولم يسقط إلا بالاسقاط. وأما النجوم،
فإن رضي، فالحق نافذ، ويعود الوجهان في أنه يحصل عند الرضى، أم يستند إلى
القبض؟ وإن طلب الأرش، تبين أن العتق لم يحصل، فإذا أدى الأرش، حصل
حينئذ، وإن عجز، فللسيد إرقاقه، كما لو عجز ببعض النجوم. ويجئ الوجه
الآخر، وهو أنه يرتفع العقد بعد حصوله. وفي قدر الأرش وجهان، أحدهما: ما
نقص من قيمة قدر رقبة العبد بحسب نقصان العيب من قيمة النجوم، وبهذا قطع
السرخسي. والثاني: ما نقص من النجوم المقبوضة بسبب العيب. ونقل الروياني
ترجيح هذا الوجه، وأجري الوجهان في كل عقد ورد على موصوف في الذمة. قال
الامام: وأمثل منهما أن يقال: يغرم السيد ما قبض، ويطالبه بالمسمى بصفاته
المشروطة. أما إذا قبض النجوم، فوجدها ناقصة الكيل أو الوزن، فلا يعتق بلا
خلاف، سواء بقي المقبوض في يد السيد أم تلف، فإن رضي بالناقص، فحينئذ
496

يعتق بالابراء عن الباقي.
السادسة: إذا خرج بعض النجوم مستحقا، تبين أن لا عتق، لأن الأداء لم
يصح، وإن ظهر الاستحقاق بعد موت المكاتب، تبين أنه مات رقيقا، وأن ما تركه
للسيد دون الورثة. ولو قال السيد عند الاخذ: اذهب فأنت حر، أو قد عتقت، ثم
بان الاستحقاق، فهل يحكم بالحرية مؤاخذة له، أم لا، لأنه بناه على ظاهر
الحال، وهو صحة الأداء؟ وجهان، أصحهما: الثاني، وهو المنصوص، وهما
كالوجهين فيما إذا خرج المبيع مستحقا وكان قد قال في مخاصمة المدعي: إنه كان
ملكا للبائع فلان إلى أن اشتريته منه، أنه هل يرجع بالثمن على بائعه؟ وجزم البغوي
بالأصح في المسألتين. ثم قال: ولو اختلفا، فقال المكاتب: أعتقتني بقولك:
أنت حر، وقال السيد: أردت أنك حر بما أديت، وبان أنه لم يصح الأداء، فالقول
قول السيد بيمينه، وهذا السياق يقتضي أن مطلق قول السيد، محمول على أنه حر
بما أدى، وإن لم يذكر إرادته، قال الصيدلاني: وقياس تصديق السيد أنه لو قيل
لرجل: طلقت امرأتك؟ فقال: نعم، طلقتها، ثم قال: إنما قلت ذلك على
ظن أن اللفظ الذي جرى طلاق، وقد سألت المفتين فقالوا: لا يقع به شئ. وقالت
المرأة: بل أردت إنشاء الطلاق أو الاقرار به، أنه يقبل قوله بيمينه، وكذا الحكم في
مثله في العتق، وهكذا قد ذكره غيره، ونقله الروياني، ولم يعترض عليه، لكن
قال الامام هذا عندي غلط، لأن الاقرار جرى بصريح الطلاق، فقبول قوله في دفعه
محال، ولو فتح هذا الباب، لما استقر إقرار، بخلاف إطلاق لفظ الحرية عقيب
قبض النجوم، فإنه محمول على الاخبار عما يقتضيه القبض، ولم توجد الإشارة في
الطلاق إلى واقعة، وإنما وجد سؤال مطلق، وجواب مطلق. وفي كلام الامام
497

إشعار بأن قوله: أنت حر، إنما يقبل تنزيله على الحرية بموجب القبض إذا رتبه على
القبض، وإن في مسألة الطلاق لو وجد قرينة عند الاقرار، بأن كانا يتخاصما في
لفظة أطلقها، فقال ذلك، ثم ذكر التأويل، يقبل، وأن في الصورتين لو انفصل قوله
عن القرائن، لم يقبل التأويل. وهذا تفصيل قويم لا بأس بالأخذ به، لكن قال في
الوسيط: لا فرق بين أن يكون قوله: أنت حر، جوابا عن سؤال حريته، أم
ابتداء، وبين أن يكون متصلا بقبض النجوم، أو غير متصل، لشمول العذر. ومال
لذلك إلى قبول التأويل في الطلاق وغيره.
الحكم الثاني في الأداء. وفيما يتعلق به مسائل:
إحداها: يجب على السيد إيتاء المكاتب، لقول الله تعالى * (وآتوهم من
مال الله الذي آتاكم) * واختار الروياني في الحلية أن الايتاء مستحب، وليس
بشئ. والايتاء: أن يحط عن المكاتب شيئا من النجوم، أو يبذل شيئا ويأخذ
النجوم، والحط أفضل، وهل هو الأصل، والبذل بدل عنه، أم بالعكس؟
وجهان. الأصح المنصوص: الأول، ومحل الايتاء الكتابة الصحيحة، ولا يجب
في الفاسدة على الأصح. فإن أوجبنا، كفى حط شئ من القيمة التي يجب فيها.
ومن أعتق عبده بعوض، أو باعه نفسه، فلا إيتاء على الصحيح، وحكى الشيخ أبو
498

محمد وجها أنه يجب في كل عقد عتاقة على عوض، ولا يجب في الاعتاق بغير
عوض بلا خلاف. وفي وقت وجوب الايتاء وجهان. أحدهما: بعد العتق كالمتعة،
ليتبلغ به، وأصحهما: قبله ليستعين به في الأداء. وعلى هذا، فإنما يتعين في
النجم الأخير. وأما وقت الجواز، فمن أول عقد الكتابة، ويجوز أيضا بعد الأداء
وحصول العتق، لكن يكون قضاء إذا أوجبنا التقديم على العتق. وقيل: لا يجوز
الايتاء إلا في النجم الأخير أو بعده، وفي قدره وجهان، الأصح المنصوص في
الام: لا يتقدر، بل يكفي أقل ما يتمول، والثاني: أنه ما يليق بالحال،
ويستعين به على العتق، فيختلف بقلة المال وكثرته، فإن لم يتفقا على شئ، قدره
الحاكم بالاجتهاد، ونظر فيه إلى قوة العبد وأكسابه. وقيل: يعتبر حال السيد في
اليسار والاعسار، وقال الإصطخري: يحتمل أن يقدر بربع العشر، قال الامام:
إذا قلنا: يقدره الحاكم، فقدر شيئا تبين أن له وقعا بالنسبة إلى مال الكتابة، كفى،
وإن تيقنا أنه لا وقع له، لا يكفي، وإن شككنا، فخلاف، لتعارض أصل براءة
السيد وأصل بقاء وجوب الايتاء. أما المستحب، فقدر الربع، وقيل: الثلث،
وإلا، فالسبع. وأما جنسه، فالايتاء بالحط لا يكون إلا من نفس مال الكتابة، وأما
البدل، فإن كان المبذول من غير جنس مال الكتابة كبذل الدراهم عن الدنانير، لم
يلزم المكاتب قبوله على الصحيح، وبه قطع الأكثرون، وشذ الغزالي بترجيح
اللزوم. فلو رضي به، جاز قطعا، نص عليه، لأن الكتابة من قبيل
المعاوضات، فلا يسلك بها مسلك العبادات، على أن الإمام قال: إذا منعنا نقل
الزكاة، وانحصر المستحقون، فقد نقول: لهم أن يعتاضوا عروضا عن حقوقهم،
فلو كان المبذول من غير مال الكتابة، لكن من جنسه، فهل يلزمه القبول؟ وجهان،
أحدهما: لا، لظاهر الآية، والصحيح: نعم، كالزكاة، ولان المقصود الإعانة.
499

فرع لو مات السيد بعد أخذ النجوم، وقبل الايتاء، لزم الورثة الايتاء،
فإن كانوا صغارا، تولاه وليهم، فإن كان مال الكتابة باقيا، أخذ الواجب منه، ولا
يزاحمه أصحاب الديون، لأن حقه في عينه، أو هو كالمرهون به، هكذا قاله
القفال، ونقله ابن كج عن نصه في المبسوط. وإن لم يكن باقيا فثلاثة أوجه،
أحدها: أن واجب الايتاء لضعفه يؤخر عن الديون، ويحصل في رتبة الوصية.
والثاني: أنا إذا قلنا: بقدر الواجب في الاجتهاد، فأقل ما يتمول في رتبة الديون
والزيادة في رتبة الوصية لضعفها. والثالث وهو الصحيح: أن ما يحكم بوجوبه على
الاختلاف، يقدم على الوصايا، فإن أوصى بزيادة على الواجب، فتلك الزيادة من
الوصايا.
إذا لم يبق من النجوم إلا القدر الواجب في الايتاء، لم يسقط ولم يحصل
التقاص، لأن للسيد أن يؤتيه من غيره، وليس للسيد تعجيزه، لأنه له عليه مثله،
لكن يرفع المكاتب إلى القاضي حتى يرى برأيه، ويفصل الامر بينهما. وإن جعلنا
الايتاء أصلا، فقال القاضي حسين: له تعجيزه بالباقي إذا لم نجده، وإذا
عجزه، سقط الايتاء، وارتفع العقد من أصله. قال الامام: هذا عندي غير
صحيح، وإنما شرع الايتاء لئلا يعجز العبد بقدره، ولا يفوت العتق.
المسألة الثانية: إذا عجل المكاتب النجوم قبل المحل، فإن لم يكن على
السيد ضرر في القبول، أجبر عليه، وإن كان، بأن كان لا يبقى بحاله إلى وقت
الحلول، كالطعام الرطب، ألزمه له مؤنة، كالحيوان، وما يحتاج إلى حفظ، أو
كان في أيام فتنة أو غرة، فيجبر على القبول. فلو أنشأ العقد في وقت الفتنة
والغارة، لم يجبر على الأصح، لأنها قد تزول عند المحل. ولو أتى بالنجوم في غير
500

بلد العقد، فإن كان في النقل مؤنة، أو كان الطريق أو ذلك البلد مخوفا، لم يجبر
على القبول، وإلا، فيجبر. ولو أتى بالنجم في محله، والسيد غائب، قبض
القاضي عنه، وكذا يقبض عنه إذا امتنع وهو حاضر، ويعتق المكاتب. ولو أتى
بالنجم قبل الحول، والسيد غائب، قبض عنه أيضا إذا علم أن السيد لا ضرر عليه
في أخذه، قال الصيدلاني: ومثله لو كان للغائب دين على حر، فأذن له الحاكم،
هل يقبضه للغائب؟ وجهان. أصحهما: المنع، لأنه ليس للمؤدي غرض إلا
سقوط الدين عنه، والنظر للغائب أن يبقى المال في ذمة الملئ، فإنه خير من أن
يصير أمانة عند الحاكم.
فرع إذا أتى المكاتب بالنجوم، فقال السيد: هذا حرام، أو مغصوب،
نظر، إن أقام بينة بذلك، لم يجبر على قبوله، وتسمع منه هذه البينة لأن في إقامتها
غرضا ظاهرا، وهو الامتناع عن الحرام، هكذا أطلقه كثيرون. وقال الصيدلاني:
إنما تقبل البينة إذا عين له مالكا إما إذا لم يعين، فلا تتصور البينة للمجهول، ولا
معنى لقولهم: إنه مغصوب. والصحيح الأول. وإن لم يكن بينة، فالقول قول
المكاتب بيمينه أنه له، لظاهر اليد، فإن نكل، حلف السيد، وكان كإقامة البينة،
في وجه: لا يحتاج السيد إلى بينة، والصحيح الأول. ولا تثبت بينة السيد في حق
المالك الذي عينه، ولا يسقط بحلف المكاتب حقه، ثم إذا حلف المكاتب،
فالمذهب أنه يجبر السيد على قبوله، أو إبرائه عن ذلك القدر فإن امتنع منهما،
أخذ الحاكم تلك النجوم، وعتق المكاتب. وقيل: في إجباره على الاخذ قولان.
ثم إذا أخذه السيد، نظر، إن عين له مالكا، أمر بتسليمه إليه بلا خلاف، مؤاخذة له
باعترافه، وإن لم يقبل قوله على المكاتب. وإن لم يعين مالك، بل اقتصر على
قوله: هو مغصوب، أو مسروق، أو حرام، فوجهان. أحدهما: ينتزعه الحاكم
501

ويحفظه ببيت المال إلى أن يظهر مالكه. وأصحهما: لا ينتزعه، لأنه لم يقر
لمعين. ونقل الروياني وغيره على هذا أن يقال: أمسكه حتى يتبين صاحبه، ويمنع
من التصرف فيه، فإن كذب نفسه، فقال: هو للمكاتب كان كما ادعاه، قال
الامام: فالصحيح أنه يقبل، وينفذ تصرفه فيه بحسبه. قال: وإن قلنا: يزيل
الحاكم يده، فالظاهر أنه لو كذب نفسه، لا يقبل.
فرع إذا جاء المكاتب بالنجم عند المحل، وعلى شرط السيد أن يبرئه،
فالشرط لغو، وللسيد أخذه، فلا يلزمه أن يبرئه عن الباقي، وإن عجل قبل المحل
على أن يبرئه عن الباقي فأخذه وأبرأه، لم يصح القبض، ولا الابراء. ولو قال:
أبرأتك عن كذا، بشرط أن تعجل لي الباقي، وإذا عجلت علي كذا فقد أبرأتك عن
الباقي، فعجل، لم يصح القبض ولا الابراء، وإذا لم يصح، لا يحصل العتق،
وعلى السيد رد المأخوذ. هذا هو المذهب، وأشار المزني إلى ترديد قول في صحة
القبض والابراء، ولم يسلم له جمهور الأصحاب اختلاف القول، وحملوا التجويز
على ما إذا لم يجر شرط، فابتدأ بذلك. ولو أنشأ رضى جديدا بقبضه عما عليه،
حكم بصحته، كما لو أذن للمشتري في قبض ما في يده عن جهة الشراء، أو
للمرتهن في قبضه عن جهة الرهن. ولو أخذ السيد ما عجله المكاتب، وأبرأه عن
الباقي بلا شرط، أو عجز المكاتب نفسه، فأخذ السيد ما معه، وأبرأه عن الباقي،
أو أعتقه، جاز. ولو أراد السيد والمكاتب حيلة يعتق بها بما عجل، ويكون بجهة
الكتابة، فقال الأصحاب: طريقه أن يقول: إذا عجزت نفسك، وأديت كذا، فأنت
حر، فإذا وجدت الصفات، عتق عن جهة الكتابة، لأنها لا ترتفع بمجرد تعجيز
نفسه، وإنما ترتفع إذا فسخها بعد التعجيز، وإذا عتق عن الكتابة، كانت الأكساب
502

له، فيتراجعان، فيرجع المكاتب على السيد بما أخذه، والسيد عليه بقيمته، لأنه
أعتقه على عوضين: التعجيز، والمال المذكور، والتعجيز لا يصلح عوضا، فكأنه
أعتقه بعوض فاسد. قال صاحب الشامل: ولو لم يعلق هكذا، ولكن قال: إن
أعطيتني كذا فأنت حر، فأعطاه، عتق، ولكنه عوض فاسد، لأن المكاتب لا تصح
المعاوضة عليه، فيعتق بالصفة، وعليه تمام قيمته. ولو عجل المكاتب النجم،
على أن يعتقه، ويبرئه عن الباقي، ففعل السيد ذلك، عتق المكاتب، ورجع عليه
بقيمته، ويرجع المكاتب على السيد بما دفع، لأنه أعتقه بعوض فاسد، حكاه
القاضي عن النص.
المسألة الثالثة: في تعذر تحصيل النجوم عند حلولها، وله أسباب، الأول:
الافلاس، فإذا حل نجم على المكاتب، وهو عاجز عن أدائه، أو عن بعضه،
فللسيد فسخ الكتابة، وله أن يفسخ بنفسه، لأنه فسخ مجمع عليه، كفسخ النكاح
بالعتق، وإن شاء رفع إلى الحاكم ليفسخ. وفي تعليق الشيخ أبي حامد: لأنه إذا
ثبت عجزه بإقراره، أو بالبينة فللسيد فسخ الكتابة. وينبغي أن لا يشترط إقراره
بالعجز، ولا قيام البينة عليه، لأنا سنذكر إن شاء الله أنه لو امتنع من الأداء ثبت حق
الفسخ. وإذا لم يؤد، فهو ممتنع، إذا لم يكن عاجزا. وإذا رفع إلى القاضي،
فلا بد من ثبوت الكتابة، وحلول النجم عنده. ومتى فسخت، سلم للسيد ما
أخذه، لأنه كسب عبده، لكن ما أخذه من الزكاة يسترد ويؤديه. وهذا قد سبق في
الزكاة، وليس هذا الفسخ على الفور، بل له تأخيره ما شاء، كفسخ الاعسار. وإذا
استنظره المكاتب، استحب أن ينظره، ثم لا يلزمه الامهال، بل له الرجوع إلى
الفسخ متى بدا له. وإذا طالبه بالمال، فلا بد من الامهال بقدر ما يخرجه من
503

الصندوق والدكان والمخزن، ويزن فإن كان ماله غائبا، فقد أطلق الامام
والغزالي أن السيد الفسخ، وليحمل على تفصيل ذكره ابن الصباغ والبغوي
وغيرهما، وهو أنه إن كان على مسافة القصر، لم يلزمه التأخير إلى استيفائه، كما لو
كانت له وديعة، وإن كان مؤجلا، أو على معسر، فلا. وإن كان الدين على
السيد، وهو من جنس النجوم، ففيه الخلاف في التقاص، وإن كان من غير
جنسه، أداه ليصرفه المكاتب في النجوم. ولو حل النجم وهو نقد، وللمكاتب
عروض، فإن أمكن بيعها أمكن بيعها على الفور، بيعت ولا فسخ، وإن احتاج البيع إلى مدة،
لكساد وغيره، فمقتضى كلام الصيدلاني أن لا فسخ. ورأي الامام الفسخ، كغيبة
المال، وهذا أصح، وضبط البغوي التأخير للبيع بثلاثة أيام. وقال: لا يلزم أكثر
منها.
السبب الثاني: غيبة المكاتب، فإذا حل النجم، والمكاتب غائب، أو غاب
بعد حلوله بغير إذن السيد، فللسيد الفسخ إن شاء بنفسه، وإن شاء بالحاكم،
وقيل: لا يفسخ بنفسه والصحيح الأول فلا يلزمه تأخير الفسخ لكون الطريق
مخوفا، أو المكاتب مريضا. وإذا فسخ بنفسه، فليشهد عليه، لئلا يكذبه
المكاتب، وإن رفع إلى الحاكم، فلا بد أن يثبت عنده حلول النجم وتعذر
التحصيل، ويحلفه الحاكم مع ذلك، لأنه قضاء على الغائب. قال الصيدلاني:
يحلفه أنه ما قبض النجوم منه، ولا من وكيله، ولا أبرأه، ولا أحال به، ولا يعلم له
مال حاضر. وذكر الحوالة مبني على جواز الحوالة بالنجوم. ولو كان مال المكاتب
حاضرا، لم يؤد الحاكم النجوم منه، ويمكن السيد من الفسخ، لأنه ربما عجز نفسه
لو كان حاضرا، ولم يؤد المال. ولو نظر المكاتب بعد حلول النجم، وأذن له في
السفر، ثم بدا له في الانظار، لم يكن له الفسخ في الحال، لأن المكاتب غير
504

مقصر هنا، ولكن يرفع السيد الامر إلى الحاكم، ويقيم البينة على الحلول والغيبة،
ويحلف مع ذلك، ويذكر أنه رجع عن الانظار، فيكتب الحاكم إلى حاكم بلد
المكاتب ليعرفه الحال، فإن أظهر العجز، كتب به إلى حاكم بلد السيد ليفسخ إن
شاء، وإن قال: أؤدي الواجب، فإن كان للسيد هناك وكيل، سلم إليه، فإن أبى،
ثبت حق الفسخ للسيد، وللوكيل أيضا إن كان وكيلا فيه. وحكى ابن كج قولا آخر
أنه لا فسخ بالامتناع عن التسليم إلى الوكيل، لاحتمال العزل. وإن لم يكن هناك
وكيل، أمره الحاكم بإيصاله إليه، إما بنفسه، وإما بغيره، ويلزمه ذلك في أول رفقة
تخرج، أو في الحال إن كان لا يحتاج إلى رفقة في ذلك الطريق، وعلى السيد
الصبر إلى أن تمضي مدة إمكان الوصول، فإن مضت، ولم يوصله مقصرا، فللسيد
الفسخ. قال ابن كج: ولو لم يكن في بلد السيد حاكم، فكتب السيد إلى العبد،
وأعلمه بالحال، وأمره بالتسليم إلى رجل، فامتنع، فعندي أنه كما لو امتنع بعد
كتاب القاضي إذا وقع له العلم به. وحكى ابن القطان فيه وجهين. قال: وحكى
وجهين فيما لو سلم المكاتب إلى وكيل السيد، وبان أن السيد عزله، هل يبرأ
المكاتب؟ قال: قال: وعندي أن الوجهين مخصوصان بما إذا قال الحاكم: فلان وكيله،
ولم يأذن بالتسليم إليه، فإن أمره، بالتسليم إليه، برئ بلا خلاف.
السبب الثالث: الامتناع، فإذا امتنع المكاتب من أداء النجوم مع القدرة، لم
يجب عليه، لأن الحط له، فلا يجبر عليه، ولان الكتابة جائزة من جهة المكاتب،
ولأنها تتضمن التعليق بالصفة، والعبد لا يجبر على الصفة، فإذا عجز نفسه، فالسيد
بالخيار، إن شاء فسخ، وإن شاء صبر، وإن أراد الفسخ، فسخ بنفسه، ولا يحتاج
إلى القاضي. وهل للمكاتب الفسخ؟ وجهان، أحدهما: لا، إذ لا ضرر عليه في
بقائها، وأصحهما: نعم، كالمرتهن يفسخ الرهن، قال الامام: وتجويز الامتناع
من الأداء مع أنه لا يملك الفسخ بعيد.
505

الرابع: قد سبق أن الكتابة لا تنفسخ بجنون العبد، فإن أراد السيد الفسخ،
اشترط أن يأتي الحاكم، فيثبت عنده الكتابة، وحلول النجم، ويطالب به، ويحلفه
الحاكم على بقاء الاستحقاق، ثم يبحث، فإن وجد للمكاتب مالا، أداه عن
الواجب عليه، ليعتق، لأن المجنون ليس من أهل الضرر لنفسه، فناب عنه
الحاكم، بخلاف الغائب الذي له مال حاضر. ثم إن الجمهور أطلقوا أن الحاكم
يؤدي عنه. وقال الغزالي: يؤدي إن رأى له مصلحة في الحرية، وإن رأى أنه يضيع
إذا عتق، لم يؤد، وهذا حسن، ولكنه قليل النفع، مع قولنا: إن للسيد إذا وجد
مالا الاستقلال بأخذه، إلا أن يقال: يمنعه الحاكم من الاخذ والحالة هذه. وإن لم
يجد الحاكم له مالا، مكن السيد من الفسخ، فإذا فسخ، عاد المكاتب قنا له،
وعليه نفقته، فإن أفاق، وظهر له مال كان حصله قبل الفسخ، دفعه إلى السيد،
وحكم بعتقه، وبعض التعجيز. هكذا أطلقوه. وأحسن الامام، فقال: إن ظهر
المال في يد السيد، رد التعجيز، وإلا، فهو ماض، لأنه فسخ حين تعذر الوصول
إلى حقه، فأشبه ما لو كان ماله غائبا، فحضر بعد الفسخ. وإذا حكمنا ببطلان
التعجيز، وكان السيد جاهلا بحال المال، فعلى المكاتب رد ما أنفق السيد عليه.
وإن وجد السيد للمكاتب في جنونه مالا، فقد سبق أن الاستقلال بأخذه، وحكينا عن
الامام فيه تفصيلا.
الخامس: إذا مات المكاتب قبل تمام الأداء، انفسخت الكتابة، ومات
رقيقا، فلا يورث، وتكون أكسابه لسيده، وتجهيزه عليه، سواء خلف وفاء
بالنجوم، أم لا، وسواء كان الباقي قليلا أم كثيرا، وسواء كان حط عنه شيئا، أم
لا، لأن الايتاء غير معلوم، فلا يسقط به معلوما. نص في الام على أنه لو أحضر
المكاتب المال ليدفعه إلى السيد، أو دفع المال إلى رسوله ليوصله إليه، فمات قبل
قبضه، مات رقيقا أيضا، وأنه لو وكل المكاتب رجلا في دفع النجم الأخير إلى
السيد، ومات المكاتب، فقال أولاده الأحرار: دفع الوكيل قبل موته، فمات حرا،
506

وكذبه السيد، فهو المصدق، فإن أقاموا بينة على الدفع يوم الخميس، وكان قد
مات يوم الخميس، لم ينفعهم إلا أن يقول الشهود: دفع قبل موته، أو يقولوا: دفع
قبل طلوع الشمس، ويكون السيد معترفا بأن مات بعد الطلوع. وأنه لو شهد وكيل
المكاتب بقبض السيد قبل موت المكاتب، لم تقبل شهادته، ولو شهد به وكيل
السيد، قبلت، لعدم التهمة.
فروع تتعلق بالفسخ والانفساخ، فيحصل الفسخ بقول السيد: فسخت
الكتابة، ونقضتها، ورفعتها، وأبطلتها، وعجزت المكاتب. ولو لم يطالبه السيد
بعد حلول النجم مدة، ثم أحضر المكاتب المال، لم يكن للسيد الامتناع من
قبضه، ونص في الام أنه لو قال بعد التعجيز: قررتك على الكتابة، لم يصر
مكاتبا حتى يجدد كتابة، وقد سبق في القراض ما يقتضي خلافا فيه.
قلت: ليس هذا كالقراض، فإن معظم الاعتماد هنا في العتق على التعليق،
وهذا اللفظ لا يصلح له. والله أعلم.
ولو تطوع رجل بأداء مال الكتابة، فهل يجبر السيد على القبول، أم له
الفسخ؟ وجهان أصحهما: له الفسخ، وبه قطع الامام. وإذا قبل، ففي وقوعه عن
المكاتب إذا كان بإذنه وجهان القياس: الوقوع. وإذا مات المكاتب رقيقا، أو
فسخ السيد الكتابة لعجزه، رق كل من يكاتب عليه والد وولد، وصاروا جميعا
للسيد، وجميع ما في يده من المال للسيد إن لم يكن عليه دين، فإن كان، فسنذكره
إن شاء الله تعالى.
فرع إذا قهر السيد المكاتب، واستعمله مدة، لزمه أجرة مثله. ثم إذا جاء
المحل، هل يلزم إمهاله مثل تلك المدة، أم له تعجيزه والفسخ؟ قولان.
أظهرهما: الثاني، لأن أخذ بدل منافعه. ولو حبسه عن السيد، فالمذهب، فالمذهب أنه لا
507

إمهال، وأجرا العراقيون على القولين. وقد ذكرنا المسألة فيما لو أسر الكفار مكاتبا
مدة ثم استنقذناه.
المسألة الرابعة: فيما إذا انضم إلى النجوم ديون على المكاتب لسيده أو
لغيره، أو له ولغيره. وفيها صور. الأولى: كان للسيد مع النجوم دين معاوضة، أو
أرش جناية، فإن تراضيا بتقديم الدين، فذاك، وإن تراضينا بتقديم النجوم،
عتق. ثم المذهب أن الدين الآخر لا يسقط، فللسيد مطالبته به. ولو كان ما في
يده وافيا بالنجوم دون الدين، فإذا أداه عن النجوم بإذن السيد، فالحكم ما ذكرناه،
وللسيد منعه من تقديم النجوم، فيأخذ ما معه عن الدين، ثم يعجزه. وهل له
تعجيزه قبل أخذه؟ وجهان، أصحهما: نعم. ولو دفع المكاتب ما في يده إلى
السيد، ولم يتعرضا للجهة، ثم قال المكاتب: قصدت النجوم، وأنكر السيد، أو
قال: أصدقه، ولكن قصدت أنا الدين لا النجوم، فقال القفال: يصدق المكاتب.
وقال الصيدلاني: يصدق السيد، لأن الاختيار هنا إليه، بخلاف سائر الديون.
قلت: قول القفال أصح، والله أعلم.
الثانية والثالثة: إذا اجتمع عليه نجوم وديون للسيد أو لغيره، أو له ولغيره،
فهو كالحر في الحجر عليه بالفلس، وقسم ماله بين أصحاب الديون. وهل تحل
بالحجر الديون المؤجلة؟ طريقان. أصحهما: قولان، كالمفلس. والثاني: تحل
قطعا، لأن للرق أثرا في إبطال الاجل، ولهذا نص الشافعي رحمه الله أن الحربي
إذا استرق وعليه دين مؤجل، حل، قلنا: يحل، قسم المال على الجميع،
وإلا، فعلى الحال، ولا يحجر عليه بالتماس السيد للنجوم، لأنها غير مستقرة،
والمكاتب متمكن من إسقاطها.
إذا ثبت هذا، فإن كان ما في يد المكاتب وافيا بالديون، قضيت، وإلا، فإن
لم يحجر عليه، فله تقديم ما شاء من الديون، وله تعجيل الديون قبل المحل، ولا
يجوز تعجيل الديون المؤجلة بغير إذن سيده. وفي جوازه بإذنه الخلاف في تبرعاته
508

بإذنه. وفي معناه ما إذا عجل الديون للسيد، ومنهم من طرد الخلاف في تعجيل
النجوم، ذكره الروياني. وإذا قدم النجوم، عتق، وبقي دين الأجانب عليه، ولا
يجئ فيه الخلاف في إعتاق الجاني، لأن العتق يحصل بالصفة السابقة على
الجناية، فهو كما لو علق عتق عبده بصفة، ثم جنت، فإن الجناية لا تمنع وقوع
العتق بالتعليق السابق بلا خلاف، والأولى أن يقدم دين المعاملة، فإن فضل شئ،
جعله في الأرش، فإن فضل شئ، صرفه في النجوم. وسيظهر وجه هذا الترتيب إن
شاء الله تعالى. وإن حجر عليه، تولى قسمة ما في يده. وفي كيفية القسمة
وجهان، ويقال: قولان، أحدهما: يقسم على قدر الديون، وأصحهما يقدم دين
المعاملة، لأنه يتعلق بما في يده خاصة، وللأرش متعلق آخر، وهو الرقبة، وكذا
حق السيد بتقدير العجز يعود إلى الرقبة، ويسوى بين النقد والعرض، ثم يقدم أرش
الجناية على النجوم، لأن الأرش مستقر، والنجوم معرضة للسقوط. وقال القاضي
أبو الطيب: لا خلاف أن هذا الثاني مذهب الشافعي رحمه الله، وإنما الأول إذا
رضوا بالتسوية، فإن عجز المكاتب نفسه، سقطت النجوم. وفي دين المعاملة
للسيد وجهان، أصحهما: يسقط أيضا ويصرف ما في يده إلى ديون الأجانب، من
معاملة وأرش، فإن لم يف بالنوعين، فهل تقدم المعاملة، أم الأرش، أم يسوى
بينهما؟ أوجه، أصحها عند الشيخ أبي محمد، والغزالي ونحوهما: الثالث. ثم ما
تبقى من دين المعاملة، يتبع به بعد العتق، وما تبقى من الأرش يتعلق بالرقبة، يباع
فيه. ولو مات المكاتب قبل قسمة ما في يده، انفسخت الكتابة، وسقطت النجوم.
قال ابن سريج، وابن الصباغ: تسقط الأروش أيضا، لأنها تتعلق بالرقبة، وقد
فاتت، وبما في يده بحكم الكتابة، وقد بطلت، فعلى هذا يتعين صرف ما خلفه
إلى المعاملة. وقال الصيدلاني والامام والبغوي: تبقى الأروش وتعلقها بالمال،
فعلى هذا إن سوينا في صورة التعجيز، فهنا أولى، وإن قدمنا الأرش، فكذا هنا،
وإن قدمنا المعاملة، فهل تقدم هنا أيضا، أم يسوى؟ وجهان، أصحهما:
التسوية، لأنهما متعلقان بما خلفه.
فرع إذا لم يكن في يد المكاتب مال، أو قسم الموجود، إما على الديون
509

جميعا بالسوية، وإما على التقديم والترتيب، وبقيت النجوم أو بعضها، فللسيد
تعجيزه، ورده رقيقا. وإن بقيت الأروش أو بعضها فمستحق الأرش الباقي،
لعجزه، لتباع رقبته في حقه، ولا يعجزه بنفسه، لأنه لم يعقده، لكن يرفع الامر إلى
الحاكم ليعجزه، صرح الأصحاب بهذا. وقال الامام: ظاهر كلامهم أنه يعجزه
بنفسه، لأنه لم يعقده، لكن يرفع الامر إلى الحاكم ليعجزه، بنفسه، والوجه: الرفع إلى القاضي. فلو أراد السيد أن يفديه ويبقي الكتابة، فهل
يمتنع على مستحق الأرش التعجيز ويلزمه قبول الفداء؟ وجهان: أرجحهما عند
الامام والغزالي: لا، وأصحهما: نعم، وبهذا قطع الجمهور. وأما صاحب دين
المعاملة، فليس له التعجيز، لأن حقه لا يتعلق بالرقبة. ولو أمهله السيد ومستحق
الأرش، ثم بدا لبعضهم وأراد التعجيز، فله ذلك. وإذا تحقق التعجيز، سقطت
النجوم، ويباع في الأرش، إلا أن يفديه السيد، ودين المعاملة لا يتعلق بالرقبة على
الصحيح.
فرع ذكرنا أن الأصح تقديم دين الأجنبي على النجوم، وهل يضارب
السيد معهم بماله من دين المعاملة؟ وجهان، أصحهما: نعم، وأما ما للسيد عليه
من أرش جناية، فقال ابن كج: يستوي السيد والأجنبي فيه في دوام الكتابة، وأما
بعد التعجيز، فيباع في أرش الجناية للأجنبي، ويسقط ما للسيد، لأنه صار ملكه،
ولا يثبت للسيد على عبده أرش، ويجوز أن يجعل فيه خلاف.
المسألة الخامسة: إذا كان بينهما عبد بالسوية، فكاتباه، لم يكن للمكاتب
أن يفضل أحدهما على الآخر في المدفوع. فلو دفع إلى أحدهما تمام حصته بغير
إذن الآخر، لم يعتق منه شئ، لأن نصف المأخوذ لشريكه، ويجئ فيه وجه
ضعيف سبق. وإن دفع إليه تمام النجوم، فكذلك على الأصح، وللشريك الآخر
أخذ حصته مما قبض بلا خلاف. ولو قبض أحدهما جميع النجوم بإذن الآخر، عتق
العبد قطعا. وإن سلم إلى أحدهما حصته من مال الكتابة بإذن الآخر ورضاه
510

بتقديمه، فهل يصح القبض؟ قولان أظهرهما: لا، لأن حقه في ذمة المكاتب. وما
في يده ملكه، فلا أثر للاذن فيه، ولأنه لو جاء بالمال ليعطيهما، فرضي أحدهما
بأن يزن للآخر أولا، ففعل، وأقبضه، لم يعتق حتى يزن للآخر. ولو هلك
الباقي قبل أن يزن للثاني، كان المدفوع بينهما، فكذا هنا، والثاني: نعم، لان
الحق لا يعدوهم، فإن قلنا: لا يصح القبض، لم يعتق نصيب القابض، وللآذن
طلب حصته من المقبوض. ثم إن أدى المكاتب الباقي، عتق عليهما، وإلا، فلهما
التعجيز. وإن قلنا: يصح القبض، اختص القابض بما قبض، وعتق نصيبه. ثم
إن كان معسرا، لم يعتق عليه نصيب الآخر، ولكن إن كان في يد المكاتب ما يفي
بنصيب الآخر، وأداه، عتق أيضا، وإلا، فله التعجيز. وإن كان موسرا، قوم عليه
نصيب الشريك. وهل يقوم في الحال، أم عند التعجيز عن نصيب الآخر؟ فيه
القولان السابقان فيما إذا عتق أحدهما نصيبه، فإن قلنا: يقوم في الحال، فجميع ما
في يد المكاتب يكون للشريك الآذن، وما كسبه بعد ذلك يكون بين المكاتب
والشريك الآذن، لأنه كسب بنصفيه الحر والمكاتب. وإن مات قبل الأداء
والتعجيز، فعلى ما سبق هناك. هذه طريقة جماهير الأصحاب. وقال الامام: إن
كان في يده وفاء بنصيب الشريك الآذن، فالذي رأيته للأصحاب القطع بأنه لا
سراية. وقال الغزالي: ولا نقول بعتق نصيبه، بل يؤدي نصيب الآذن، فإذا أدى،
عتق عليهما، وإن عجز عن أداء نصيب الآذن، فعن ابن سريج: لا يشارك القابض
فيما قبض، لأنه لما قدمه رضي ببقاء حقه في ذمة المكاتب، فعلى هذا يعتق
نصيب القابض. وفي السراية ما ذكره الجماهير. وعن غيره أن الآذن يشاركه، لان
511

ما قبضه، كسب عبدهما، وإنما تبرع الآذن بالتقديم، لا بالتمليك، ولا يخلص له
المقبوض. فعلى هذا لهما تعجيزه وإرقاقه.
فرع قد سبق أنهما إذا كاتبا المشترك، فادعى أنه أوفاهما، فصدقه
أحدهما، وكذبه الآخر، صدق المكذب بيمينه، فإذا حلف، بقيت الكتابة في
نصيبه، وهو بالخيار بين أن يشارك المصدق فيما أقر بقبضه، فيأخذ نصفه، ويطالب
العبد بالباقي، وبين أن يطالب المكاتب بتمام نصيبه، لأن كسبه متعلق حقهما
بالشركة. وقيل: إذا جوزنا انفراد أحدهما بكتابة نصيبه، لم يشارك المصدق، بل
يطالب المكاتب بجميع حقه. وإنكاره قبض الشريك لا يمنعه الرجوع عليه، لأنه أقر
بالقبض، وربما قبض وهو لا يعلم. ثم إذا أخذ المكاتب حصته منهما، أو من العبد
لاعترافه بأنه مظلوم، ولا يرجع العبد أيضا على المصدق بما العبد وحده، عتق
باقيه، ولا يرجع المصدق إن أخذ منهما بشئ على يأخذ منه، ولا تقبل شهادة
المصدق على المكذب، لأنه متهم.
السادسة: إذا كاتب عبيدا، وشرط أن يتكفل بعضهم بعضا بالنجوم، فسدت
الكتابة، لأنه شرط فاسد، لأن ضمان النجوم باطل. ولو ضمن بعضهم بعضا بلا
شرط، لم يصح، وفي قول قديم: لا تفسد الكتابة بالشرط المذكور، لأنه مصلحة
العقد والمشهور الأول، ولو كاتب عبدا بشرط أن يضمن عنه فلان، لم تصح الكتابة
أيضا، ولو أدى بعض المكاتبين عن بعض بلا شرط ولا ضمان، أو كاتب عبدين في
عقدين، فأدى أحدهما عن الآخر، فإن أدى بإذنه، رجع عليه، وإلا، فلا، وإن
أدى قبل العتق، فهو تبرع، وتبرعه بغير إذن السيد باطل، وبإذنه قولان، فإن لم
يعلم السيد أنه يؤدي عن غيره، بأن ظن أن كسب المؤدى عنه، وأنه وكيله، فهو
تبرع بغير إذن السيد، وإن علم الحال، فهو كالتصريح بالاذن على الأصح، فإن
صححنا الأداء، لم يرجع المؤدى على السيد، ويرجع على المؤدى عنه إن أدى
بإذنه، ولا يرجع إن أدى بغير إذنه، وإذا ثبت له الرجوع عليه، فإن كان قد عتق،
فذاك، وإلا، فيأخذ مما في يده، ويقدم على النجوم، لأنه لا بدل له، وحق السبد
له بدل عند التعذر، وهو رقبته، وإن لم نصحح الأداء، فلا رجوع للمؤدي على
المؤدى عنه، لكنه يسترد من السيد، فلو أدى النجوم، وعتق، فالنص أنه لا يسترد
حينئذ، ونص فيما لو جنى السيد على مكاتبه، فعفا عن الأرش، وأبطلنا العفو بناء
512

على رد تبرعاته، فعتق، أن له أخذ الأرش. قال أكثر الأصحاب: في الصورتين
قولان، كزوال المانع من تبرعه، لكن وقع العفو والأداء فاسدين، فلا ينقلبان
صحيحين. ولو كاتب رجلان كل واحد منهما عبده، ثم أدى أحدهما عن الآخر بغير
إذن سيده، لم يصح أداءه، وبإذنه قولان. وقال القفال: إن انضم إذن المؤدى عنه
إلى آذن سيده، صح بلا خلاف، لأنه يكون إقراضا، والاقراض بإذن السيد صحيح
بلا خلاف، فإن لم نصحح أداءه، فله الاسترداد، فإن عتق قبل الاسترداد، ففيه
الخلاف.
فرع المكاتبون دفعة واحدة إذا اختلفوا فيما دفعه إلى السيد، فقال من
قلت قيمته: أدينا النجوم على عدد الرؤوس، وقال من كثرت قيمته: بل على أقدار
القيم، فقولان. أظهرهما: يصدق من قلت قيمته، لثبوت يده على ما ادعاه.
والثاني: يصدق الآخر، لأن الظاهر معه. وقيل: ليست على قولين، بل إن أدوا
بعض المال بحيث لو وزع على رؤوسهم، لم يخص أحدهم أكثر من قسطه، صدق
قليل القيمة، وإن أدوا الجميع، وادعى قليل القيمة أنه أدى أكثر ممن عليه ليكون
وديعة عند السيد أو قرضا على كثير القيمة، فيصدق كثير القيمة. قال الروياني:
ويجري الخلاف فيما لو اشترى اثنان شيئا على التفاضل، وأديا الثمن واختلفا في
أنهما أديا متفاضلا، أم متساويا.
السابعة: في الاختلاف، وفي صور، إحداهما: ادعى عبد على سيده أنك
كاتبتني، فأنكر، صدق السيد بيمينه، وكذا لو ادعى على وارثه بعده، أن مورثك
كاتبني، صدق الوارث، ويحلف على نفي العلم ولو قال السيد: كاتبتك وأنا
مجنون، أو محجور علي، قال العبد: بل كنت كاملا، فإن عرف للسيد جنون أو
حجر، صدق، وإلا، فيصدق العبد. ولو قال السيد: كاتبتك، فأنكر العبد، ففي
كتاب ابن كج أنه إن لم يعترف بأداء المال عاد رقيقا، ويكون إنكاره تعجيزا منه. وإن
قال السيد وأديت المال وعتقت، فهو حر بإقراره، فإن قال العبد: الذي أديت
513

إليك ليس لي، بل وديعة لزيد، وادعاه زيد، صدق، أما إذا اختلفا في أداء المال،
فالمصدق السيد، فإن أراد المكاتب إقامة بينة بالأداء، أمهل ثلاثة أيام. وهل هذا
الامهال واجب، أم مستحب؟ وجهان. ولا تثبت الكتابة بشاهد وامرأتين، ولا
بشاهد ويمين. ويشترط في الشهادة التعرض للتنجيم، وقدر كل نجم ووقته، ويثبت
الأداء بشاهد وامرأتين، وبشاهد ويمين. وقيل: لا يثبت النجم الأخير إلا بعدلين،
لتضمنه العتق، والصحيح الأول. وحكى الروياني في الكافي أنه لو أمهل ثلاثة
أيام ليأتي ببينة الأداء، فأحضر شاهدا بعد الثلاثة، واستنظر ليأتي بالثاني، أنظر
ثلاثة أخرى.
الثانية: اختلفا في قدر النجوم، أو عددها، أو جنسها، أو صفتها، أو قدر
الاجل، ولا بينة، تحالفا، وكيفيته كما سبق في البيع، فإذا تحالفا، نظر، إن لم
يحصل العتق باتفاقهما، بأن لم يقبض جميع ما يدعيه، أو قبض غير الجنس الذي
يدعيه، فهل تنفسخ الكتابة، أم يفسخها الحاكم إن لم يتراضيا على شئ؟ فيه ما
سبق في البيع. وإن حصل العتق باتفاقهما، بأن قبض ما يدعيه بتمامه، وزعم
المكاتب أن الزيادة على القدر الذي اعترف به أودعها عنده، استمر نفوذه،
ويتراجعان، فيرجع السيد بقيمة المكاتب، ويرجع هو بما أدى، وقد يقع في
التقاص. ولو قال السيد: كاتبتك على نجم، فقال: بل على نجمين، قال
البغوي: صدق السيد بيمينه، لأنه يدعي فساد العقد.
قلت: ينبغي أن يكون على الخلاف فيما لو اختلف المتبايعان في مفسد
للبيع. والله أعلم.
514

فلو أقام العبد بينة، بأنه كاتبه في رمضان سنة كذا على ألف، وأقام السيد بينة
أنه كاتبه في شوال تلك السنة على ألفين، فإن اتفقا أن الكتابة متحدة، فكل بينة
تكذب الأخرى، فيتساقطان ويتحالفان. وإن لم يتفقا على الاتحاد، فالبينة المتأخرة
أولى، لأنه ربما كاتب في رمضان ثم ارتفعت تلك الكتابة، وأحدث أخرى.
الثالثة: ولد المكاتب من زوجته المعتقة حر، وولاؤه لمواليها، فإن عتق
المكاتب، انجر الولاء إلى مواليه، كما سبق في الولاء. فلو مات المكاتب،
فاختلف مولاه ومولى أم أولاده، فقال مولاه: عتق بأداء النجوم، ثم مات وجر
ولاء أولاده إلي، وأنكر مواليها، فهم المصدقون باليمين، وعليه البينة. وهل
يكفيه شاهد ويمين، أو شاهد وامرأتان، أم يحتاج إلى شاهدين؟ فيه الخلاف في
النجم الأخير، ويدفع مال المكاتب إلى ورثته الأحرار، لاقرار السيد أنه مات حرا. ولو
أقر السيد في حياة المكاتب بأنه أدى النجوم، عتق، وجر إليه ولاء ولده.
الرابعة: كاتب عبدين في صفقتين، أو صفقة، وجوزناها، ثم أقر أنه استوفى
نجوم أحدهما، أو أنه أبرأ أحدهما، أمر بالبيان، فإن قال: نسيته، أمر بالتذكر،
ولا يقرع بينهما ما دام حيا، وقيل: يقرع، والصحيح الأول، فإن بين أحدهما،
فصدقه الآخر، فذاك، وإن كذبه وقال: بل استوفيت مني، أو أبرأتني، فله تحليف
السيد، فإن حلف، بقيت كتابته إلى أداء النجوم، وإن نكل، حلف المكذب،
وعتق أيضا. وإن لم يتذكر، حلف لهما إذا ادعاه. وإذا حلف، فوجهان،
أحدهما: يبقيان على الكتابة، ولا يعتق واحد منهما إلا بأداء النجوم، والثاني:
تتحول دعوى المكاتبين، فإن حلفا على الأداء، أو نكلا، بقيا على الكتابة، وإن
515

حلف أحدهما، ونكل الآخر، حكم بعتق الحالف، وبقي الآخر، مكاتبا. ولو بين
أحدهما، فقال الآخر: تؤتيني بالاقرار الذي اتهمته، ولم يقل: استوفيت مني أو
أبرأتني، قال الامام: فالأصح أن دعواه مردودة، لأنه لا يدعي حقا ثابتا، وإنما
يدعي إخبارا قد يصدق فيه وقد يكذب، وقد سبق نظير هذا في الدعاوي. ولو مات
السيد قبل البيان، فهل يقوم الوارث مقامه في البيان؟ قولان. أحدهما: لا، بل
يقرع، فمن خرجت قرعته، فهو حر، وعلى الآخر أداء النجوم، وله تحليف الوارث
على نفي العلم. وأظهرهما: يقوم مقامه، ولا قرعة، فإذا بين، فالحكم كما سبق
في بيان المورث، إلا أن الوارث يحلف على نفي العلم، فإن قال الوارث: لا أعلم
المؤدي، فلكل واحد تحليفه أنه لا يعلمه أدى، فإذا حلف لهما، فوجهان:
أحدهما: يستوفي من كل واحد منهما ما عليه، كما لو أقر بأن أحد غريميه أوفاه
دينه، ومات قبل البيان، وحلف الوارث لكل واحد منهما، فإنه يستوفي الدينين
جميعا. وحكى ابن الصباغ توقف العتق على أداء كل واحد منهما جميع ما عليه، ثم
قال: وعندي أنه إن استوفى المالان، فقالا: نؤدي ما على أحدنا، أو اختلفا،
فقالا: نؤدي الأكثر ليعتق، كان لهما ذلك، لأنهما بأدائه قد أديا جميع ما عليهما.
والوجه الثاني وهو الأصح، وبه قال القاضي أبو الطيب: يقرع بينهما، هكذا رتب
الجمهور المسألة. وقال الامام والغزالي: لكل واحد من الكاتبين أن يدعي على
الوارث توفية النجوم إلى المورث أو إبراءه له، وأن يحلفه على نفي العلم، فإذا
حلف هل يقرع؟ قولان. أظهرهما: نعم، فمن خرجت له القرعة، فهو
حر، وعلى الآخر أداء النجوم. وإن قلنا: لا يقرع، قال الامام: الذي يقتضيه
516

القياس التوقف إلى الاصطلاح، أو البيان، أو بينة، وينقدح أن يقال: للوارث
تعجيزهما، فإنهما ممتنعان من الأداء وأحدهما مكاتب، وحينئذ فأحدهما حر،
والآخر رقيق، فيقرع، والمذهب ما قدمناه عن الجمهور. ولو أقر باستيفاء بعض
نجوم أحدهما، ولم يبين، فلا قرعة، لأن العتق لا يحصل به، بل يوقف الامر.
ولو ادعى أحد المكاتبين على الوارث الأداء أو الابراء، فأنكر، حصل بإنكاره
الاقرار للآخر، قاله الصيدلاني.
قلت: هذا الذي قاله الصيدلاني فيما إذا قال في إنكاره: لست المؤدي. أما
إذا قال: لا أعلم ونحوه، فليس مقرا للآخر بلا شك والله أعلم.
فروع من التهذيب لو قال السيد: استوفيت، أو قال المكاتب: أليس
قد أوفيتك، فقال: بلى، ثم قال المكاتب: وفيتك الجميع. وقال السيد:
البعض، فالمصدق السيد، لأن اللفظ يحتملهما جميعا. ولو وضع عن المكاتب
517

شيئا من النجوم، واختلفا، فقال السيد: وضعت من النجم الأول، وقال
المكاتب: من الأخير، أو قال: وضعت بعض النجوم، فقال المكاتب: بل كلها،
صدق السيد بيمينه. ولو كاتبه على ألف درهم، فوضع عنه عشرة دنانير، لم يصح،
فإن قال: أردت قيمة عشرة دنانير من الدراهم، صح. فلو قال المكاتب: أردت
المعنى الثاني، فأنكر السيد، صدق السيد. ولو وضع عنه من الدراهم ما يقابل
عشرة دنانير، فهو مجهول عندهما، ففي صحته وجهان، بناء على الخلاف فيما لو
أوصى بزيادة على الثلث وأجاز الوارث وهو جاهل بالزيادة، ففي وجه، لا يصح،
ويحمل على أقل ما يتيقن.
الحكم الثالث: تصرفات السيد في المكاتب، وما يتعلق به، وتصرف
المكاتب، أما القسم الأول، ففيه مسائل: إحداها: في صحة بيع السيد رقبة
المكاتب، وهبته قولان، الأظهر الجديد: بطلانه، ومنهم من قطع به، فعلى هذا
لو أدى النجوم إلى المشتري بعد البيع، فهل يعتق؟ فيه الخلاف الذي نذكره إن شاء
الله تعالى فيما لو دفع النجوم إلى مشتري النجوم. ولو استخدمه المشتري مدة، لزمه
أجرة المثل للمكاتب، وهل على السيد أن يمهله قدر المدة التي كانت في يد
المشتري؟ قولان كما لو استخدمه السيد أو حبسه. وإن قلنا بالقديم فثلاثة أوجه،
الصحيح: بفاء الكتابة، وينتقل إلى المشتري مكاتبا، فإذا أدى إليه النجوم، عتق
وكان الولاء للمشتري. والثاني: يعتق بالأداء إلى المشتري، ويكون الولاء للبائع،
ويكون انتقاله بالشراء كانتقاله بالإرث. والثالث: ترتفع الكتابة بالبيع، فينتقل غير
مكاتب، وهو ضعيف. ولو قال أجنبي لسيد المكاتب: أعتق مكاتبك على كذا، أو
أعتقه عني على كذا، أو مجانا، فهو كقوله: أعتق مستولدتك، وقد سبق في
الكفارات، ولا يجوز للسيد بيع ما في يد المكاتب، ولا إعتاق عبيده، ولا تزويج
إمائه.
الثانية: لا يصح بيع السيد نجوم الكتابة التي على المكاتب على المذهب، ولا
الاستبدال عنها على الصحيح، فلو باعها، لم يجر للمكاتب تسليمها إلى
518

المشتري، ولا للمشتري مطالبته بها، ويحصل العتق بدفعها إلى السيد. وهل
يحصل بدفعها إلى المشتري؟ قال في المختصر: نعم. وفي الام: لا،
فقال الجمهور: قولان. أحدهما: نعم، لأن للسيد سلطة على القبض، فأشبه
الوكيل وأظهرهما: لا، لأنه يقبض لنفسه، حتى لو تلف في يده، ضمنه، بخلاف
الوكيل، وقال أبو إسحاق: إن قال عند البيع: خذها منه، أو قال للمكاتب: ادفعها
إليه، صار وكيلا، وعتق بقبضه، وإن اقتصر على البيع، فلا. ويقال: إن أبا
إسحاق، عرض هذا الرق على ابن سريج، فلم يعبأ به. وقال هو وإن صرح
بالاذن، فإنما يأذن بحكم المعاوضة لا بالوكالة. فإن قلنا: يعتق، فما أخذه
المشتري يعطيه للسيد لأنا جعلناه كتوكيله. وإن قلنا: لا يعتق، فالسيد يطالب
المكاتب، والمكاتب يسترد من المشتري.
الثالثة: السيد معه في المعاملة كأجنبي يبايعه، ويأخذ ثمنه بالشفعة. فلو
ثبت له على سيده دين معاملة، ولسيده عليه النجوم، أو دين معاملة، ففي التقاص
الخلاف الآتي في الفرع عقيبه إن شاء الله تعالى.
فرع في التقاص. إذا ثبت لشخصين كل واحد منهما على صاحبه دين
بجهة واحدة أو جهتين، كسلم وقرض، أو قرض وثمن، نظر، هل هما نقدان، أم
لا؟ وهل هما جنس، أم لا؟ فإن كانا جنسا، واتفقا في الحلول وسائر الصفات،
فأربعة أقوال. أظهرها: يحصل التقاص بنفس ثبوت الدينيين، ولا حاجة إلى
الرضى، إذ لا فائدة فيه. والثاني: لا يحصل التقاص، وإن رضيا، لأنه بيع دين
بدين. والثالث: يشترط في التقاص رضاهما. والرابع: يكفي رضى أحدهما.
519

وإن اختلف الدينان في الصفات، كالصحة، والكسر، والحلول، والتأجيل، أو
قدر الاجل، لم يحصل التقاص، لاختلاف الأغراض، ولصاحب الحال أن يستوفيه
وينتفع به إلى أن يحل ما عليه، فإن تراضيا على جعل الحال قصاصا عن المؤجل،
لم يجز، كما في الحوالة. وحكى أبو الفرج الزاز فيهما وجها. ولو كانا مؤجلين
لأجل واحد، فهل هما كالحالين، أم كمؤجلين بأجلين مختلفين؟ وجهان،
أرجحهما عند الامام: الأول، وعند البغوي: الثاني. وإن كانا جنسين: دراهم،
ودنانير، فلا مقاصة. والطريق: أن يأخذ أحدهما ما على الآخر، ثم إن شاء جعل
المأخوذ عوضا عما عليه، فيرده إليه، ولا حاجة إلى قبض العوض الآخر. أما إذا لم
يكن الدينان نقدين، فإن كانا جنسا، فالمذهب أنه لا تقاص، وبه قطع جمهور
العراقيين، وغيرهم. وقيل: هو على الأقوال. وقيل: إن كانا من ذوات الأمثال،
فعلى الأقوال، وإلا، فلا تقاص قطعا وإن كانا جنسين، فلا تقاص قطعا وإن
تراضيا، بل إن كانا عرضين، فليقبض كل واحد ما على الآخر، فإن قبض
أحدهما، لم يجز رده عوضا عن المستحق للمردود عليه، لأنه بيع عرض قبل
القبض، إلا أن يكون ذلك العرض مستحقا بقرض أو إتلاف، لا بعقد. وإن كان
أحدهما عرضا، والآخر نقدا، فإن قبض مستحق العرض العرض، ورده عوضا عن
النقد المستحق عليه جاز وإن قبض مستحق النقد النقد، ورده عوضا عن العرض
المستحق عليه لم يجز، إلا أن يكون العرض مستحقا بقرض أو إتلاف. هكذا ذكر
ابن الصباغ والروياني وإذا حصل التقاص بين السيد والمكاتب، وبرئ
المكاتب عن النجوم، عتق كما لو أداها.
قلت: فإذا قلنا: لا يتقاصان، ولم يبدأ أحدهما بتسليم ما عليه، حبس حتى
يسلما، ذكره صاحب الشامل وغيره. والله أعلم.
الرابعة: إذا أوصى السيد بالمكاتب، صحت الوصية على القديم الذي
نصحح بيعه، ولا يصح على الجديد. فعلى هذا لو قال: إن عجز مكاتبي، وعاد
520

إلى الرق، فقد أوصيت به لفلان، فوجهان، أحدهما: لا يصح اعتبارا بحال
التعليق، وكما لو قال: إن ملكت عبد فلان، فهو حر. والثاني وهو الصحيح وبه
قطع الجمهور: تصح الوصية كما لو أوصى بثمرة نخلته، وحمل جاريته، وكما لو
قال: إن ملكت عبد فلان، فقد أوصيت به، فإن قلنا بالصحيح، فعجز، وأراد
الوارث إنظاره، فللموصى له تعجيزه، وليأخذه، وإنما يعجزه بالرفع إلى الحاكم،
كما سبق في المجني عليه. ولو أوصى بالنجوم التي عليه، صحت وإن لم تكن مستقرة،
كما تصح الوصية بالحمل. وإن لم يكن مملوكا في الحال، فإن أداها، فهي
للموصى له، وولاء المكاتب للسيد. وإن عجز، فللوارث تعجيزه، وفسخ
الكتابة. وإن أنظره الموصى له، فهل للموصى له إبراؤه عن النجوم؟ فيه
احتمالان لابن كج والقاضي حسين. ولو أوصى لواحد برقبته إن عجز ولآخر
بالنجوم، صحت الوصيتان، فإن أدى المال، بطلت الأولى. وإن رق، بطلت
الثانية. ولو أوصى لرجل بما يعجله المكاتب، فلم يعجل، وأدى النجوم في
محلها، بطلت الوصية، ولا يجبر على التعجيل لتنفيذ الوصية. هذا كله في
الكتاب الصحيحة، أما إن كاتبه كتابة فاسدة، ثم أوصى برقبته، فإن كان عالما بفساد
الكتابة، صحت الوصية. قال الصيدلاني وغيره: وتتضمن الوصية فسخ الكتابة.
وإن كان يظن صحتها، فقولان، أحدهما: لا تصح الوصية، لأنه أوصى معتقدا
بطلان الوصية وأظهرهما: تصح اعتبارا بحقيقة الحال. ومنهم من طرد القولين فيما
لو كان عالما بفساد الكتابة، لأن الفاسدة كالصحيحة في حصول العتق وغيره،
بخلاف ما لو باع بيعا فاسدا، ثم أوصى بالمبيع وهو عالم بفساد البيع، فإنه يصح
قولا واحدا، لأن البيع الفاسد ليس كالصحيح. وأما إذا أوصى بالمبيع جاهلا بفساد
المبيع، فهو على القولين. ولو باع المكاتب كتابة فاسدة، أو المبيع بيعا فاسدا، أو
وهب، أرهن وهو جاهل بالفساد، فقيل: فيه القولان. وقيل: يبطل قطعا،
521

بخلاف الوصية، لأنها تحتمل الغرر. والخلاف في هذا كله كالخلاف فيمن باع مال
أبيه ظانا أنه حي فكان ميتا. وفي معناها، ما إذا وكل رجلا بشراء عبد، ثم باعه وهو
لا يعلم أن الوكيل اشتراه له، أو باع مال اليتيم وهو لا يعلم أن أباه جعله وصيا له،
فبان أنه جعله.
الخامسة: الوصية بوضع النجوم عن المكاتب صحيحة معتبرة من الثلث،
فلو قال: ضعوا عنه ما عليه من النجوم أو كتابته، فمقتضاه وضع النجوم. فلو قال:
نجما من نجومه، فالاختيار للوارث يضع ما شاء أقلها أو أكثرها، أولها، أو
آخرها، أو أوسطها، وكذا لو قال: ضعوا عنه ما قل أو كثر، أو ما خف، وثقل. ولو قال: ضعوا
عنه ما شاء من نجوم الكتابة، فشاء وضع الجميع، لم يوضع الجميع، بل يبقى أقل
ما يتمول، لأن من للتبعيض. ولو اقتصر على قوله: ضعوا عنه ما شاء فشاء
الجميع، فقيل بوضع الجميع. والصحيح المنصوص: أنه يبقى شئ كالصورة
السابقة. ولو قال: ضعوا عنه أكثر مما عليه، أو أكثر ما بقي عليه، وضع نص ما
عليه وزيادة، وتقدير الزيادة إلى اختيار الوارث. ولو قال: ضعوا عنه أكثر مما عليه
أو ما عليه وأكثر، وضع عنه الجميع، ولغا ذكر الزيادة. ولو كانت عليه نجوم مختلفة
الاقدار والآجال، فقال: ضعوا عنه أكثر النجوم أو أكبرها، روعي القدر. وإن
قال: أطولها وأقصرها، روعيت المدة. وإن قال: أوسط النجوم، فهذا يحتمل
الأوسط في القدر، وفي الاجل وفي العدد، فإن اختلفت النجوم فيها جميعا، فللورثة
تعيين ما شاؤوا، فإن زعم المكاتب أنه أراد غيرهم، حلفهم على نفي العلم. وإن
تساوت في القدر والأجل، حملت على العدد، فإذا كان العدد وترا، كالثلاثة
والخمسة، فالأوسط واحد. وإن كان شفعا، فالأوسط اثنان، كالثاني والثالث من
أربعة، فيعين الوارث أحدهما، هكذا قال ابن الصباغ وغيره. ويجوز أن يقال:
الأوسط كلاهما، فيوضعان، وهذا مقتضى ما في التهذيب.
فرع أوصى بكتابة عبد بعد موته، فلم يرغب العبد في الكتابة، تعذر تنفيذ
522

الوصية، ولا يكاتب بدله آخر، كما لو أوصى لزيد بمال فلم يقبل، فلا يصرف إلى
غيره. وإن رغب فإن خرج كله من الثلث، كوتب ثم إن عين مال الكتابة، كوتب
على ما عينه، وإلا، فعلى ما جرت به العادة. والعادة أن يكاتب العبد على ما فوق
قيمته. وإن ليخرج كله من الثلث، فلم يجز الوارث، فقيل: كتابة القدر الذي
يخرج من الثلث يكون على الخلاف في كتابة بعض العبد، والمذهب أنه يكاتب
ذلك القدر، ويصح بلا خلاف، ولا يبالي بالتبعيض إذا أفضت الوصية إليه،، وإذا
كوتب بعضه، وأدى النجوم، عتق، وولاؤه للموصي، والباقي رقيق، فإن أجاز
الوارث كتابة كله، وعتق بأداء النجوم، فولاء الجميع للموصي إن جعلنا الإجازة
تنفيذا، وإلا فولاء ما زاد على القدر الخارج من الثلث للوارث. ولو قال: كاتبوا
أحد عبيدي، لم يكاتب أمة، ولا خنثى مشكل. وهل يكاتب خنثى ظهرت
ذكورته؟ فيه طريقان. المذهب: نعم. والثاني: قولان، لبعده عن الفهم عند
الاطلاق. ولو قال: كاتبوا إحدى إمائي، لم يكاتب المشكل، فإن ظهرت
أنوثتها، فعلى الطريقين. ولو قال: أحد رقيقي، جاز العبد والأمة، وجاز المشكل
على المشهور.
فصل وأما تصرفات المكاتب، فهو كالحر في معظمها، فيبيع ويشتري،
ويؤجر ويستأجر، ويأخذ بالشفعة، ويقبل الهبة، والوصية، والصدقة، ويصطاد
ويحتطب، ويؤدب عبيده إصلاحا للمال، كما يقصدهم ويختنهم. وفي إقامته الحدود
عليهم خلاف سبق في الحدود. ولو أجر نفسه أو عبيده أو أمواله، فعجزه السيد في
المدة، انفسخ العقد. وقيل: لا يجوز أن تزيد مدة الإجارة على مدة النجوم، ولا
يصح منه تصرف فيه تبرع أو خطر. هذا هو القول الجملي فيه، وفي تفصيله صور.
إحداها: لا يصح إعتاقه ولا إبراؤه عن دين وهبة مجانا، ولا بشرط
الثواب، لأن في قدر الثواب خلافا، فقد يحكم القاضي بقليل. وإن شرط فيها ثوابا
معلوما، ولم يكن فيه غبن وقلنا: هذه الهبة بيع، ولا يشترط في ثبوت الملك
523

الاقباض، فهي جارية على قياس البيوع، وكذا إن شرطنا الاقباض، صحت
الهبة، لكن لا يسلمها حتى يقبض العوض.
الثانية: قال الشيخ أبو محمد: لا يحل له التبسط في الملابس والمآكل،
ولا يكلف فيها التقتير المفرط.
الثالثة: ليس له دفع المال إلى غيره قراضا، لأنه قد يخون أو يموت فيضيع. وله
أن يأخذه إقراضا، لأنه أكساب، وليس له أن يقرض، وله أن يقترض، وليس له
تعجيل دين مؤجل.
الرابعة: ليس له شراء أحد من أصوله وفروعه، لتضمنه العتق. فلو وهب له
قريبه، أو أوصى له به، فإن لم يقدر على الكسب لهرم أو زمانة، وعجز، وكان
بحيث يلزمه نفقته، لم يجز قبوله. وقيل: يجوز قبول الزمن، وهو ضعيف. وإن
كان كسوبا يقوم بكفاية نفسه، استحب قبوله، إذ لا ضرر فيه، ثم لا يعتق عليه
لضعف ملكه، بل يكاتب عليه، فيعتق بعتقه، ويرق برقه، وليس له بيعه. وعن
ابن أبي هريرة: أنه يجوز بيعه. قال الشيخ أبو علي: هذا غلط، وتكون نفقته في
كسبه، وما فضل، فللمكاتب أن يستعين به في أداء النجوم، فإن مرض أو عجز،
أنفق المكاتب عليه، لأنه من صلاح ملكه، فإن جنى، بيع في الجناية، وليس
للمكاتب أن يفديه، بخلاف ما إذا جنى عبده، له أن يفديه، لأن الرقبة تبقى له
يصرفها في النجوم.
الخامسة: ليس له الشراء بالمحاباة، ولا البيع بالغبن، ولا بالنسيئة. ولو
استوثق برهن وكفيل، فلو باع ما يساوي مائة بمائة نقدا، أو مائة نسيئة، جاز ولو
اشترى نسيئة بثمن النقد، جاز، ولا يرهن به، لأنه قد يتلف الرهن. وإن اشتراه
بثمن نسيئة، لم يجز، ذكره البغوي لما فيه من التبرع، وذكره الروياني في جمع
الجوامع أنه يجوز، إذ لا غبن. وقد سبق في كتاب الرهن حكاية وجه أن المكاتب
524

كولي الطفل في البيع نسيئة، والرهن والارتهان، والصحيح الذي عليه الجمهور
الفرق.
السادسة: إذا باع أو اشترى، لم يسلم ما في يده حتى يتسلم العوض، لان
رفع اليد عن المال بلا عوض نوع غرر، وكذا ليس له السلم، لأنه يقتضي تسليم
رأس المال في المجلس، وانتظار المسلم فيه، لا سيما إن كان سلما مؤجلا.
وقيل: يجوز السلم حالا، ويسلم رأس المال، ثم يتسلم المسلم فيه في
المجلس. وقيل: يجوز مطلقا بشرط الغبطة، والصحيح الأول.
السابعة: ليس له أن يكاتب عبده، فلو كاتبه، فأدى المال، لم يعتق لان
تعليقه غير صحيح، ولا يتزوج، ولا يزوج عبده، لما فيه من المؤن، ولا يتزوج
المكاتبة، لأن ذلك ينقصها. وله شراء الجواري للتجارة، ولا يجوز له التسري
خوفا من هلاك الجارية في الطلق، ولضعف الملك. وقال الشيخ أبو محمد: لا
يبعد إجراء الوجهين في وطئ من يؤمن حبلها، كما في المرهونة. قال الامام: هذا
غير مرضي.
الثامنة: إذا لزم المكاتب كفارة قتل أو ظهار، أو وطئ في نهار رمضان،
أو يمين، كفر بالصوم، دون المال، لأن ملكه ليس بتمام، وهو مستحق لجهة
الكتابة.
فرع جميع ما منعناه في هذه الصور، مفروض فيما إذا لم يأذن له السيد،
فإن أذن فسنذكره عقيبه إن شاء الله تعالى.
525

فرع وصية المكاتب باطلة، سواء أوصى بعين أو ثلث ماله، لأن ملكه غير
تمام.
فصل تبرعات المكاتب وتصرفاته المحظرة كالهبة والابراء والانفاق على
الأقارب، والاقراض والقراض والبيع بمحاباة وبنسيئة، وتعجيل المؤجل
ونحوها، إن جرت بإذن السيد، فمنقول المزني والمنصوص في الام صحتها.
ونقل الربيع قولا آخر بالمنع. ونص أن اختلاع المكاتب بالاذن لا يجوز، فقال
الجمهور: في الجميع قولان. أظهرهما: الصحة. وقيل: يصح ما سوى الخلع
قطعا، ولا يصح هو. وعن ابن سلمة القطع بصحة الخلع أيضا. ولو وهب للسيد أو
لابنه الصغير، فقبل له السيد، أو أقرضه، أو باعه نسيئة أو بمحاباة أو عجل له دينا
مؤجلا غير النجوم، فالمذهب أنه على الخلاف فيما إذا وهب لغيره بإذنه. وقيل:
يصح قطعا، واختاره الشيخ أبو محمد، لأن للمكاتب أن يعجز نفسه، فيجعل
جميع ما في يده لسيده، فجواز الهبة أولى. ولو وهب بإذن السيد، فرجع عن الاذن
قبل إقباض الموهوب، لم يكن له إقباضه. ولو اشترى قريبه بإذن السيد، ففي صحته
القولان في الهبة، فإن صححناه يكاتب عليه. وعن أبي إسحاق: القطع
بالصحة، لأنه قد يستفيد من أكسابه، وفيه صلة الرحم. ولو أعتق المكاتب عبده
عن سيده، أو عن غيره بإذنه، فهو كتبرعه بالاذن. ولو أعتق عن نفسه بإذن السيد،
لا يصح على المذهب، لتضمنه الولاء، والمكاتب ليس أهلا لثبوت الولاء له،
كالقن، فإن صححناه، فلمن يكون ولاء العتيق؟ قولان، أحدهما: للسيد، لان
المكاتب ليس أهلا للولاء، ووقف الولاء بعيد، وأظهرهما: يوقف، لأن الولاء لمن
أعتق، والسيد لم يعتق، فإن عتق المكاتب، هان له، وإن مات رقيقا، كان لسيده،
وإن عجزه، ورق، فحكى الامام أنه يبقى التوقف، لأنه يرجى عتقه من جهة أخرى.
والصحيح الذي قطع به الأصحاب أن يكون للسيد بلا توقف، لانقطاع الكتابة، فإن
جعلنا الولاء للسيد، فعتق المكاتب بعد ذلك، ففي انجرار الولاء إليه وجهان،
حكاهما أبو علي الطبري وصاحب التقريب أصحهما: المنع، وكأن السيد
526

أعتقه. وإن قلنا بالتوقف، فمات العتيق قبل موت المكاتب وعوده إلى الرق، فهل
يوقف الميراث أيضا، أم يكون للسيد، أم لبيت المال؟ أقوال. أظهرها: الأول.
ولو كاتب المكاتب عبده بإذن السيد، فهو كتنجيز العتق، نص عليه في المختصر، وقاله
الأصحاب، فيعود الطريقان في صحة الكتابة. والقولان في الولاء تفريعا على
الصحة إذا عتق المكاتب الثاني قبل الأول. وإن عتق الأول ثم الثاني، فولاء الثاني
للأول. وفي نكاح المكاتب بإذن السيد طريقان. أحدهما: قولان، كتبرعه، لأنه
يبذل المهر والنفقة لا في مقابلة مال. والثاني. وهو المذهب عند الجمهور: القطع
بالصحة، لأنه إذا صح نكاح القن بالاذن، فالمكاتب أولى، لأنه أحسن حالا منه،
ولأنه يحتاج إليه للتحصين وغيره، بخلاف الهبة ونحوها. وتزويج المكاتبة بإذنها
صحيح على الصحيح. وقال القفال: لا تزوج أصلا، لضعف ملك السيد
ونقصها، فلا يؤثر إذنها. ولو أذن السيد للمكاتب في التسري بجارية، لم يصح
على المذهب. ولو أذن له في التكفير بالاطعام أو بالكسوة، فقولان ولو أذن في
التكفير بالاعتاق، لم يجزئه على المذهب.
فرع: اشترى المكاتب من يعتق على سيده، أو أوصى له به، فقبل،
صح، وملكه المكاتب. فإن رق المكاتب، صار القريب للسيد، وعتق عليه. ولو
اشترى بعضه، أو اتهبه، أو قبل الوصية به، صح أيضا. وإذا رق، عتق ذلك
الشقص على السيد. وهل يسري إلى الباقي؟ إن كان السيد موسرا، ينظر إن
عجز المكاتب نفسه بغير اختيار السيد، لم يسر، كما لو ورث بعض قريبه، وإن
عجزه السيد، فوجهان. لأن المقصود فسخ الكتابة، والملك يحصل قهرا. ولو
اتهب العبد القن من يعتق على سيده بغير إذن، بني على أن اتهابه بغير إذن السيد،
هل ينقذ؟ وفيه خلاف سبق. إن قلنا: لا، فلا كلام. وإن قلنا: نعم وهو
527

الصحيح، فإن خيف وجوب النفقة على السيد في الحال، فإن اتهب زمنا والسيد
موسر، لم يصح قبوله لأن فيه إضرارا بالسيد. وإن لم يجب النفقة في الحال،
لكون القريب كسوبا، أو السيد فقيرا، صح القبول، وعتق الموهوب على السيد.
ولو اتهب بعض من يعتق على السيد بغير إذنه، وصححنا اتهابه بغير إذنه، ولم يتعلق
به لزوم النفقة، صح القبول على الأظهر، ولا يسري، لحصول الملك قهرا.
والثاني: لا يصح. قال الشيخ أبو علي: وخرج ابن سريج على هذين القولين، ما
إذا اشترى المريض أباه بألف لا يملك غيره، وعليه دين مستغرق، ففي قول:
لا يصح الشراء، لأنه لو صح، لعتق، وبطل حق الغرماء. وفي الثاني: يصح،
ولا يعتق ويباع في ديونهم. وفي الوسيط وجه أنه يصح، ويعتق ويسري
، ويجعل اختيار العبد كاختياره، كما جعل قبوله كقبوله. ولم أجد هذا الوجه في
النهاية وإذا صححنا اتهاب القن بغير إذن سيده، دخل الموهوب في ملك
السيد، قهرا كما لو احتطب. وهل للسيد رده بعد قبول السيد؟ وجهان.
أحدهما: نعم، لأن تمليك الرشيد قهرا، بعيد. وأصحهما: المنع،
كالملك بالاحتطاب، فعلى الأول هل ينقطع ملكه من وقت الرد، أم يتبين أنه لم
يدخل في ملكه؟ وجهان وفائدتهما، لو كان الموهوب عبدا، ووقع هلال شوال بين
قبول العبد ورد السيد في الفطرة.
فرع وهب المكاتب بعض ابنه، فقبله، وصححنا قبوله، فعتق
المكاتب، عتق عليه ذلك الشقص. وهل يقوم الباقي عليه إن كان موسرا؟ وجهان،
أصحهما: نعم، قاله ابن الحداد، وصححه الشيخ أبو علي، ومنعه القفال
فرع اشترى المكاتب ابن سيده، ثم باعه بأبي السيد، صح، وملك
الأب، فإن رق المكاتب، صار الأب ملكا للسيد، وعتق عليه، فإن وجد به عيبا،
528

لم يكن له الرد، وله الأرش، وهو جزء من الثمن، فإن نقص العين عشر قيمة
الأب، رجع بعشر الابن الذي هو الثمن، ويعتق ذلك العشر، ولا يقوم الباقي على
السيد إن كان المكاتب عجز نفسه، وكذا إن عجزه سيد على الأصح.
فرع ذكرنا أنه لا يجوز للمكاتب وطئ أمته بغير إذن سيده، ولا بإذنه على
المذهب. فلو وطئ، فلا حد، ولا مهر، لأنه لو ثبت مهر لكان له، فإن
أولدها، فالولد نسيب، فإن ولجته وهو مكاتب بعد، فهو ملكه لأنه ولد أمته، لكن لا
يملك بيعه، لأنه ولده، ولا يعتق عليه، لضعف ملكه، بل يتوقف عتقه على عتق
المكاتب، إن عتق، عتق، وإلا، رق، وصار للسيد، ولا تصير الأمة مستولدة له
في الحال على المذهب، لأنها علقت بمملوك، فأشبهت الأمة المنكوحة، وحق
الحرية للولد لم يثبت بالاستيلاد في الملك، بل لمصيره ملكا لأبيه، كما لو ملكه
بهبة، فإن عتق، ففي مصيرها أم ولد قولان. فإن قلنا: يثبت الاستيلاد في الحال،
فإن عتق المكاتب، استقر الاستيلاد، وإن عجز، رقت مع الولد للسيد، فإن عتق
المكاتب بعد ذلك، وملكها، لم تصر مستولدة له، لأن بالعجز تبين أنها علقت
برقيق، وأن لا استيلاد. وإن قلنا: لا يثبت، فإن عجز، ثم عتق وملكها، لم تصر
مستولدة له، وإن أعتق بأداء النجوم، فكذلك على المذهب. وقال أبو إسحاق:
529

قولان، كما لو استولد مرهونته، وبيعت ثم ملكها، والفرق أن العلوق هنا بمملوك
هذا كله إذا ولدت وهو بعد مكاتب، فإن ولدت بعد عتقه، فإن كان لدون ستة أشهر
من حين العتق، فكذلك الحكم، لأن العلوق وقع في الرق، وإن كان لستة أشهر
فأكثر من يومئذ، فقد أطلق الشافعي أنها تصير مستولدة. وللأصحاب طريقان.
أصحهما: أن هذا إذا وطئ بعد الحرية، وولدت لستة أشهر فصاعدا من حين الوطئ
لظهور العلوق بعد الحرية والولد والحالة هذه لا ولاء عليه إلا بالولاء على أبيه، ولا
ينظر إلى احتمال العلوق في الرق تغليبا للحرية. فأما إذا لم يطأها بعد الحرية،
فالاستيلاد على الخلاف. والثاني: يثبت الاستيلاد، وطئ بعد الحرية أم لا،
لأنها كانت فراشا قبل الحرية والفراش مستدام بعدها، وإمكان العلوق بعدها قائم،
فيكتفى به.
الحكم الرابع: في ولد المكاتبة:
فإذا كاتب أمة لها ولد، فالولد باق على ملك السيد، فإن شرط دخوله في عقد
الكتابة، فسدت، فإن أدت، عتق الولد أيضا بموجب التعليق. وإن كان في يدها
مال، وشرط أن يكون المال لها، فهو جمع بين البيع والكتابة بعوض واحد. وإن
كانت حاملا، وتيقنا الحمل بانفصاله لدون ستة أشهر، فإن قلنا: الحمل لا يعرف،
فهو كالولد الحادث بعد الكتابة، وسنذكره إن شاء الله تعالى قريبا. فإن قلنا:
يعرف، فوجهان. أصحهما: أن عقد الكتابة متوجهة إليهما، فإذا عتقت، عتق.
530

والثاني: لا يثبت للولد كتابة، وإن حدث الولد بعد الكتابة، فإن كان من السيد،
فسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى. وإن كان من أجنبي بزنا أو نكاح، فهل ثبتت له
الكتابة؟ قولان. أظهرهما وأحبهما إلى الشافعي وهو نصه في المختصر:
تثبت، فيعتق بعتق الام بالأداء أو الابراء أو الاعتاق. وقطع أبو إسحاق بهذا
القول، وقال: إذا اختاره الشافعي كان الآخر ساقطا، واتفق الأصحاب على أنه
لا يدخل في الكتابة، ولا يطالبه بشئ من النجوم، لأنه لم يوجد منه التزام. ولو
عجزت المكاتبة، أو ماتت، بطلت الكتابة، وكان الولد رقيقا للسيد بلا خلاف. ولو
فسخت الكتابة، ثم عتقت، لم يعتق الولد قطعا، لأنه إنما يعتق بعتقها الجهة
الكتابة، فإن قلنا: لا يثبت الولد حكم الكتابة، فهو قن، للسيد بيعه وإعتاقه عن
الكفارة، والوطئ إن كان الولد أمة ولا يعتق بعتق الام. وإن قلنا: يثبت، فحق
الملك فيه لمن هو فيه قولان. أظهرهما عند الشافعي رضي الله عنه: أنه للسيد،
كما أن حق الملك في الام له، وكولد أم الولد. والثاني: أنه للمكاتبة، لأنه يتكاتب
عليه، ولأنه لو كان للسيد لما عتق بعتقها. ويتفرع على القولين صور.
منها: إذا قتل الولد، فعلى القول الأول: القيمة للسيد وعلى الثاني:
للمكاتب. وقيل: للسيد أيضا.
ومنها: كسب الولد وأرش الجناية على أطرافه، ومهر وطئ الشبهة إن قلنا
بالقول الثاني، فهي للام يستعين بها في كتابتها، ويصرف ما يحصل إليها يوما
يوما بلا توقف. وإن قلنا بالأول، فوجهان. أحدهما: يصرف إلى السيد بلا
توقف، كما تصرف إليه القيمة. والصحيح: التوقف، فإن عتقت، وعتق الولد،
فهي له، وإلا، فللسيد. فلو أرقت نفسها مع القدرة على أداء النجوم، فقال الولد:
أنا أؤدي نجومها من كسبي لتعتق، فأعتق، قال الامام: لا يمكن منه، لأنه تابع
لا اختيار له في العتق. وإن عجزت، فأرادت أن تأخذ من كسب ولدها الموقوف،
531

وتستعين به في أداء النجوم، فهل تجاب؟ قولان أظهرهما: المنع، إذ لا حق لها
في كسبه، فإن مات الولد في مدة التوقف، صرف الموقوف إلى السيد.
ومنها: نفقة الولد، وهي على السيد. ان قلنا: يصرف الكسب إليه في
الحال. وإن قلنا: يوقف، أنفق عليه من كسبه، ويعالج جرحه، ويكفي مؤوناته،
فما فضل فهو الذي يوقف، فإن لم يكن له كسب، أو لم يف بالنفقة، فالنفقة على
السيد على الأصح، لأن الملك له. وقيل: في بيت المال، لأن تكليفه النفقة بلا
كسب إجحاف به. وإن قلنا: الكسب للام، فالنفقة عليها.
ومنها: لو أعتق السيد الولد، فإن قلنا: الملك له، وإن الكسب يصرف إليه
في الحال، أو قلنا: يوقف ومنعناها من أخذه لأداء النجوم، نفذ إعتاقه، وإن
جوزنا لها الاستعانة بالموقوف، لم ينفذ إعتاقه على الأصح، لئلا ينقطع حقها من
كسبه وإن قلنا: الملك لها، لم ينفذ إعتاقه.
فرع لو رق الولد برق الام فكسبه للسيد، سواء قلنا: الملك فيه
للسيد، أم للام.
فرع ولد المكاتب من جاريته، حق الملك فيه للمكاتب قطعا، فيصرف
كسبه إليه، ولا ينفذ إعتاق السيد فيه، ونفقته على المكاتب، لأنه ولد أمته، وهي
ملكه. ولو ولدت أمته من نكاح أو زنى، فهم عبيده كسائر أكسابه، فكذا هذا
الولد، إلا أنه لا يتبعه، بل يتكاتب على بالقرابة، فيعتق بعتقه، ويرق برقه.
وإذا عتق المكاتب، وتبعه هذا الولد ولكسب، فكسبه للمكاتب، لا للولد. ولو
جنى هذا الولد، وتعلق الأرش برقبته، فقد حكى الامام عن العراقيين: أنه إن كان
له كسب، فله أن يفديه من كسبه، وإلا، فله أن يبيعه كله وإن زاد على قدر
الأرش، ثم يصرف قدر الأرش إلى المجني عليه، ويأخذ الباقي، ثم غلط الامام
من صار إليه، وقال: الصحيح أنه لا يفدي ولده لأن كسب الولد كسائر أموال
532

المكاتب، والفداء كالشراء، وليس له صرف المال الذي يملك التصرف فيه إلى
غرض ولده الذي لا يملك التصرف فيه، لأنه تبرع قال: والصحيح أنه إن باع لا
يبيع إلا قدر الأرش كما لا يباع من المرهون إذا جنى إلا قدر الأرش. وإذا فداه،
لا ينفذ تصرفه فيه، بل يتكاتب عليه، كما لا ينفذ إذا اشتراه. وولد المكاتبة من
عبدها يشبه أن يكون كولد المكاتب من جاريته.
فرع اختلف السيد والمكاتب في ولدها، وقال: ولدته قبل الكتابة، فهو
رقيق، وقالت: بعدها، وقد يكاتب تفريعا على الأظهر، وكل واحد من الامرين
محتمل، فإن كان بينة، قضي بها. قال البغوي: ولو أقام السيد أربع نسوة،
قبلن، لأنها شهادة على الولادة، ويثبت الملك ضمنا. وإن أقاما بينتين، تعارضتا.
وإن لم يكن بينة، صدق السيد بيمينه، لأنه اختلاف في وقت الكتابة، فصدق فيه
كأصلها.
فرع زوج عبده بأمته ثم كاتبه ثم باعها له. وولدت، فقال السيد: ولدت
قبل الكتابة، فهو قن لي. وقال المكاتب: بعد الشراء، وقد تكاتب، صدق
المكاتب بيمينه، بخلاف ما سبق في الفرع قبله، لأن المكاتب هنا يدعي ملك
الولد، كما سبق أن ولد أمته ملكه، ويده مقرة على هذا الولد، وهي تدل على
الملك والمكاتبة هناك لا تدعي الملك، بل تدعي ثبوت حكم الكتابة فيه.
فرع حكى الصيدلاني: أن الشافعي رحمه الله قال: لو أتت المكاتبة
بولدين أحدهما: قبل الكتابة، والآخر: بعدها، فهما للسيد، لأنه حمل
واحد، وكذا لو أتت بأحدهما لدون ستة أشهر من حين ملكها، وبالآخر لأكثر، فهما
للسيد. وإن أبا زيد أفتى بذلك، والصحيح أن كلام الشافعي مؤول، وأن الحمل
يتبع الام في البيع كيف كان، حتى لو وضعت ولدا وفي بطنها آخر، فباعها، فالولد
الثاني مبيع معها، والأول للبائع، وهذا ما ذكره البغوي.
533

فصل السيد ممنوع من وطئ المكاتبة لاختلال ملكه، فإن شرط في الكتابة
أن يطأها، فسد العقد، فإن وطئ، فلا حد وإن علم التحريم للشبهة، وفي قول:
يحد العالم، والمشهور الأول، لكن يعزر على الصحيح هو وهي، ويجب المهر
مع العلم والجهل. وقيل: إن طاوعته، فلا مهر، والصحيح الأول، وهو نصه في
الام وإذا وجب المهر، فلها أخذه في الحال، فإن حل عليها نجم، وهما من
جنس، فعلى أقوال التقاص. وإن عجزت قبل أخذه، سقط. وإن عتقت بالأداء،
فلها المطالبة. ولو أولدها، فالولد حر، لأنها علقت به في ملكه، وتصير مستولدة.
وهل يلزمه قيمة الولد؟ إن قلنا: ولد المكاتبة قن للسيد، أو قلنا: يتكاتب وحق
الملك فيه للسيد، فلا شئ عليه، كما لو قتل ولد المكاتبة. وإن قلنا: الحق لها،
لزمه لها القيمة، فإن عجزت قبل الاخذ، سقطت، وإن عتقت، أخذتها، وإن
ولدت بعد ما عجزت، ورقت، فلا شئ لها، وكذا لو ولدت بعد ما عتقت، فإن
عجزت ثم مات السيد، عتقت بالاستيلاد، والأولاد الحادثون بعد الاستيلاد من
نكاح أو زنى، يتبعونها، والحاصلون قبلها، أرقاء للسيد. وإن مات السيد قبل
عجزها، عتقت. قال البغوي: ويتبعها كسبها. وهل يعتق عن الكتابة، أم عن
الاستيلاد؟ وجهان. أصحهما: الأول، كما لو أعتق السيد المكاتب، أو أبرأه عن
النجوم، فعلى هذا الأولاد الحادثون بعد الكتابة وقبل الاستيلاد، هل يتبعونها؟ فيه
الخلاف السابق، وأجري هذا الخلاف فيما لو علق عتق المكاتب بصفة، فوجدت
قبل أداء النجوم، وفيما إذا تقدم الاستيلاد على الكتابة. قال البغوي: وإذا
استولد، ثم كاتب، وأدت النجوم، فالكسب الحاصل بعد الكتابة يتبعها،
534

والحاصل قبلها للسيد، والأولاد الحاصلون بعد الاستيلاد يتبعونها، وهذا مبني على
صحة كتابة المستولدة، وقد سبق فيه خلاف.
فرع ليس للسيد وطئ أمة مكاتبه أو مكاتبته، فإن وطئ، فلا حد،
للشبهة، لأنه يملك سيدها، ويلزمه المهر للمكاتب. وإن أولدها، فالولد حر
نسيب، وتصير الأمة مستولدة له. قال في الشامل: يلزمه قيمتها لسيدها لأنها
ملكه، ولا يلزمه قيمة الولد، لأنها وضعته في ملكه، ويجيئ فيه الخلاف السابق.
وللسيد وطئ بنت المكاتبة إن لم يثبت حكم الكتابة في ولد المكاتبة، فإن أثبتناه
فليس له وطؤها، ولكن لا حد عليه. وأما المهر، فيبنى على الخلاف في الكسب.
إن قلنا: يصرف إلى السيد في الحال، فلا مهر عليه، وإن قلنا: هو للام، فكذا
المهر. وإن قلنا بالتوقف، أنفق منه عليها، ووقف الباقي، فإن عتقت بعتق الام،
فهو لها، وإن عجزت، فهو للسيد. وإن أولدها، صارت مستولدة، والولد حر
نسيب، ولا يلزمه قيمة المستولدة لامها، لأنها لا تملكها، وإنما يثبت لها حق العتق
بعتقها. وقد تأكد ذلك بالاستيلاد، هكذا ذكره ابن الصباغ، وقد سبق في قتلها
قولان، في أنه هل تجب القيمة للام؟ فينبغي أن يكون كذلك. قال البغوي:
ويبقى حق الكتابة فيها، فتعتق بعتق الام، ويكون الكسب لها إذا جعلنا الحق فيها
للام، فإن مات السيد، عتقت البنت بموته، وتؤخذ القيمة من تركته للام إذا جعلنا
الحق لها، كما في القتل. وأما قيمة الولد، فعلى ما ذكرنا في ولد المكاتب.
فرع الأمة المشتركة إذا كاتبها مالكاها معا، ثم وطئها أحدهما، فحكم
الحد والتعزير ولزوم المهر على الواطئ كما ذكرنا في المالك الواحد. ثم إن لم يحل
النجم، فلها المهر في الحال، وإن حل، فإن كان معها مثل المهر، دفعته إلى
الذي لم يطأ. وفي المهر ونصيب الواطئ من النجم الذي حل، الخلاف في
التقاص وإن لم يكن معها شئ آخر، فنصف النجم الذي للواطئ مع المهر على
الخلاف في التقاص، والنصف الآخر يدفع إلى الذي لم يطأ وإن عتقت قبل أخذ
المهر ومصيره قصاصا، أخذت وإن عجزت بعد أخذه، فإن بقي، فهو للسيدين،
535

وإن تلف تلف من ملكهما، وإن عجزت قبل أخذه، فإن كان في يدها بقدر المهر
مال، أخذه الذي لم يطأ وبرئت ذمة الواطئ. وإن لم يكن معها شئ، فللذي لم
يطأ أن يأخذ نصف المهر من الواطئ. وإن أجلها، نظر، إن ادعى الاستبراء
وحلف عليه، فولدت لستة أشهر فصاعدا من وقت الاستبراء، لم يلحقه، وهو كولد
المكاتبة من نكاح أو زنى، وإن لم يدع الاستبراء، وولدت لدون ستة أشهر، فالولد
لاحق به، ويثبت الاستيلاد في نصيبه من الأمة مع بقاء الكتابة فيه. ثم هو معسر أو
موسر، فإن كان معسرا، لم يسر الاستيلاد إلى نصيب الشريك، فإن أدت النجوم
حليهما، عتقت بالكتابة، وبطل الاستيلاد. وإن عجزت، وفسخا الكتابة، فنصفها
قن، ونصفها مستولد. وإن مات الواطئ قبل الأداء والفسخ، عتق نصفها، وبقيت
الكتابة في النصف الآخر. وإن مات بعد الفسخ، عتق النصف، والباقي قن. وفي
الولد وجهان. أصحهما: نصفه حر، ونصفه رقيق. والثاني: ينعقد كله حرا،
لشبهة الملك، وإن قلنا بالأول، وقلنا: ولد المكاتبة قن للسيد، لزم الواطئ نصف
قيمته للشريك. وإن قلنا: ثبت فيه حكم الكتابة، وقلنا: الحق فيه للسيد،
فكذلك الجواب. وإن قلنا: الحق للمكاتبة، لزمه جميع قيمته لها، فإن عتقت قبل
أخذها، أخذتها، وإن عجزت قبل الأداء، أخذ الشريك الآخر نصفها، وسقط
النصف، وإن قلنا: ينعقد نصفه حرا ونصفه رقيقا، فآن قلنا: ولد المكاتب قن
للسيد، فالنصف الرقيق للشريك، ولا يجب شئ من. قيمة الولد على الواطئ.
وإن قلنا: تثبت الكتابة في ولد المكاتبة، فالنصف الرقيق يتكاتب عليها، إن
عتقت، عتق، وإلا، رق للشريك الآخر. وهل تجب قيمة النصف الحر على
الواطئ؟ يبنى على أن الحفي ولد المكاتبة للسيد أم لها؟ إن قلنا: له، لم
تجب، وإلا، وجبت. ثم إن عتقت، عتق، وسلم لها نصف القيمة، فيأخذه إن
لم تكن أخذته، وإن عجزت، سقط عنه. وإن كان دفعه، استرده إن كان باقيا، أما
إذا كان موسرا، فيسري الاستيلاد إلى نصيب الشريك، وكان الولد كله حرا، ومتى
يسري؟ فيه طريقان، قال الجمهور: قولان، كما لو أعتق أحد الشريكين نصيبه من
المكاتب، ففي قول في الحال، وفي قول عند العجز. وعن ابن أبي هريرة وغيره
القطع بأنه يسري عند العجز، فإن قلنا بالسراية في الحال، انفسخت الكتابة في
536

نصيب الشريك، وتبقى في نصيب الواطئ، ويثبت الاستيلاد في جميع الجارية،
وعلى الواطئ للشريك نصف مهرها، ونصف قيمتها. وأما نصف قيمة الولد منه،
ففي وجوبها قولان، كما لو استولد أحد الشريكين الأمة القنة، وانعقد الولد حرا،
وعليه أيضا نصف المهر للمكاتبة لبقاء الكتابة في نصيبه، وهل يجب لها نصف قيمة
الولد؟ يبنى على أن الملك في ولد المكاتبة لمن هو؟ ولو أدت نصيب الواطئ من
مال الكتابة، عتق نصيبه، وسرى إلى الباقي وإن عجزت، وفسخ الكتابة، بقيت
مستولدة محضة. وإن قلنا بالسراية عن العجز، فأدت النجوم، عتقت عن الكتابة،
وولاؤه بينهما، ويبطل الاستيلاد، وله المهر على الواطئ، فتأخذه إن لم تكن
أخذته، وتجب نصف قيمة الولد للشريك إن قلنا: ولد المكاتبة قن للسيد، أو
قلنا: ثبتت فيه صفة الكتابة، وحق الملك فيه للسيد. وإن قلنا: حق الملك فيه
للمكاتبة، وجب جميع القيمة لها. وإن لم تؤد النجوم، وعجزت، لزم الواطئ
للشريك نصف مهرها، ونصف قيمتها، ونصف قيمة الولد. هذا تمام الكلام في
وطئ أحد الشريكين. فأما إذا وطئاها جميعا، فإن لم يحصل علوق، فحكم
الحد والتعزير ما سبق. وعلى كل واحد مهر كامل، فإن عجزت، ورقت بعد
قبض المهرين، لم يطالب أحدهما الآخر بشئ. ويقتسمان المهرين إن كانا
باقيين. وإن عجزت قبل أخذه، سقط عن كل واحد نصف ما لزمه، ويجئ في
النصف الآخر التقاص، وقد يكون أحد المهرين أكثر من الآخر، إما لكونها بكرا عند
وطئ أحدهما، ثيبا عند الآخر، وإما لاختلاف حالها في الصحة والمرض وغيرهما،
فيأخذ مستحق الفضل الفضل. وإن أفضاها أحدهما، لزمه نصف القيمة للشريك.
فإن افتضها، لزمه نصف أرش الافتضاض مع المهر. وإن ادعى كل واحد على
الآخر أنه الذي أفضى أو افتض، حلف كل واحد منهما للآخر، فإن حلفا، فذاك،
وإن حلف أحداهما، ونكل الآخر، قضي للحالف، وإن حصل علوق، نظر هل
أتت بولد، أم بولدين، من كل واحد ولد.
القسم الأول: إن أتت بولد، فينظر، إن ادعيا الاستبراء، وحلفا عليه، لم
يلحق بواحد منهما، وهو كولد المكاتب من نكاح أو زنى، وإن لم يدعيا الاستبراء،
فله أربعة أحوال. أحدهما: أن لا يمكن كون الولد من واحد منهما، بأن ولدته لأكثر
من أربع سنين من وطئ الأول، ولدون ستة أشهر من وطئ الثاني، أو ولدته لأكثر من
537

أربع سنين من وطئ أحدهما، فهو كما لو ادعيا الاستبراء. وحكم المهرين في
الحالين، كما إذا لم يكن علوق.
الحال الثاني: أن يمكن كونه من الأول دون الثاني، فيلحق بالأول، ويثبت
الاستيلاد في نصيبه، فإن كان معسرا، فلا سراية، وتبقى الكتابة في جميعها، فإن
أدت النجوم، وعتقت، فلها على كل واحد المهر. وإن رقت، فنصفها قن للثاني،
ونصيب الأول يبقى مستولدا، ولكل واحد على الآخر نصف المهر، وهو من صور
التقاص. وهل كل الولد حر، أم تتبعض حريته؟ فيه الخلاف السابق. وإن كان
موسرا، فالولد كله حر، ويسري الاستيلاد من نصيبه إلى نصيب شريكه، ويعود
الخلاف في أنه يسري في الحال، أم عند العجز؟ فإن قلنا: في الحال، انفسخت
الكتابة في نصيب الثاني، وبقيت في نصيب الأول. وإن قلنا: عند العجز، فإذا
عجزت، ورقت، ارتفعت الكتابة وهي مستولدة له على القولين. والحكم فيما إذا
أدت النجوم وعتقت على ما سبق فيما إذا وطئ أحدهما وأولدها، وكذا الحكم لو
عتقت بالموت. وما ذكرنا هناك أنه يجب للشريك على الذي أولدها من المهر وقيمة
الجارية. وقيمة الولد تجب هنا للثاني على الأول. وأما وطئ الثاني فإن كان بعدما
حكمنا بمصير جميعها أم ولد الأول، وجب جميع المهر، فإن بقيت الكتابة في
نصيب الأول، فهو بينه وبين المكاتبة. وإن ارتفعت في نصيبه أيضا، فجميعه له.
وإن كان قبل الحكم يصير جميعها أم ولد له، لم يلزمه إلا نصف المهر، لأن السراية
إذا حصلت أخيرا انفسخت الكتابة، وعاد نصفه رقيقا، فتكون الأكساب له، والمهر
من الأكساب. ثم ذلك النصف للمكاتبة، إن بقيت في نصيب الأول، وإلا، فهو
للأول. هكذا ضبط القول فيما يلزم الثاني جماعة، منهم ابن الصباغ.
واعلم أن وطئ الثاني إذا وقع بعد الحكم بمصير جميعها أم ولد، للأول، فقد
وقع بعد ارتفاع شبهة الملك، فيكون زنى، وإطلاق وجوب جميع المهر مصور فيما
إذا فرضت شبهة أخرى. وأطلق في المختصر قولين في أنه يلزم الثاني جميع
المهر، أم نصفه؟ قال أبو إسحاق: الأظهر: وجوب جميع المهر، وهو اختيار
الشافعي والمزني رضي الله عنهما.
538

الحال الثالث: أن يمكن كونه من الثاني دون الأول، فيلحق الثاني، ويثبت
الاستيلاد في نصيبه، ولا سراية إن كان معسرا. وفي تبعيض الحرية في الولد
الخلاف. وإن كان موسرا، سرى الاستيلاد إما في الحال، وإما عند العجز كما
سبق. ويجب على الثاني هنا ما ذكرنا أنه يجب على الأول في الحال الثاني، وأما
الأول، فقال البغوي: إن كان الثاني معسرا لزم الأول كمال المهر للمكاتبة، وكذا
إن كان موسرا وقلنا: السراية تحصل بعد العجز. وإن قلنا: تحصل في الحال،
انفسخت الكتابة في نصيب الأول، ولا يجب إلا نصف المهر لها. وأطلق العراقيون
والروياني وغيرهما، أنه لا يلزم الأول عند يسار الثاني إلا نصف المهر.
الحال الرابع: أن يمكن كونه من كل واحد منهما وادعياه، أو ادعاه
أحدهما، فيعرض على القائف، فمن ألحقه به، كان الحكم كما لو تعين الامكان
منه، فإن تعذرت معرفته بالقائف، اعتمد انتسابه بعد بلوغه، ويكون الحكم ما
ذكرنا. قال الامام: ولو فرض ذلك في الأمة، القنة، وألحقه القائف بأحدهما،
لحقه، وثبت الاستيلاد في نصيبه، ولا سراية إن كان معسرا، لكن يثبت الاستيلاد
أيضا في نصيب الآخر بإقراره أنها مستولدة. وإن كان موسرا، سرى ولا يلزمه
للشريك قيمة نصيبه، لأنه يدعي أن الجارية مستولدته، فيؤخذ بإقراره. وإذا لم نجد
القائف والمتداعيان موسران، حكم بأنها مستولدتهما، نصفهما لهذا، ونصفها
لذاك، وليس أحدهما بالسراية أولى من الآخر. ولو أقر بالوطئ وسكتا عن
دعوى الولد وألحقه القائف بأحدهما ثبت الاستيلاد في. نصيبه، ويسري، وعليه
الغرم للشريك، لأنه لم يوجد هنا إقرار ينافي الغرم. ولو لم نجد قائفا، واعتمدنا
انتسابه بعد بلوغه، ففي ثبوت الغرم وجهان.
القسم الثاني: إذا أتت بولدين وعرفا حالهما، واتفقا على أن هذا من هذا،
وذاك من ذاك، وله صورتان إحداهما: اتفقا على السابق منهما، فينظر إن كانا
539

موسرين، أو كان الأول موسرا، صارت مستولدة للأول، وعليه للثاني نصف
مهرها، ونصف قيمتها، وأما قيمة الولد، فقال البغوي: إن قلنا: تحصل السراية
بنفس العلوق، لم يجب. وإن قلنا تتوقف على العجز وقلنا: لا يحصل إلا بأداء
القيمة، وجبت. وأما الثاني: فإن وطئها بعد ما صار جميعها مستولدا للأول، وهو
عالم بالحال، لزم الحد، وولده رقيق للأول. وإن كان جاهلا، فالولد حر، وعليه
تمام المهر، وتمام قيمة الولد يوم الوضع، ويكون جميعهما للأول إن ارتفعت
الكتابة في نصيبه أيضا. وإن بقيت، فنصف المهر له، ونصفه للمكاتبة، ونصف
قيمة الولد على الخلاف في ولد المكاتبة. وإن وطئها قبل أن يصير جميعها مستولدا
للأول، لم يلزمه إلا نصف المهر، لأن نصفها يعدله، وفي تبعيض حرية الولد ما
سبق، فإن لم تتبعض، فعليه نصف قيمة الولد، ولا يثبت الاستيلاد في نصيب
الثاني له، وإن بقي نصيبه له، لأن الأول استحق السراية، ولا يجوز إبطال حقه.
وعن القفال في ثبوت الاستيلاد الثاني في نصيبه وجهان، كما لو أعتق شريك نصيبه
وهو موسر، وقلنا: السراية تقف على القيمة، فأعتق الآخر نصيبه قبل أدائها. وأما
إذا كانا معسرين، أو كان الأول معسرا، فثبت الاستيلاد في نصيب الأول ولم يسر،
فإذا أحبلها الثاني، ثبت في نصيبه أيضا. وعلى كل واحد تمام المهر للمكاتبة، فإن
عجزت قبل الاجل، فعلى كل واحد نصف المهر لشريكه، ومن مات منهما، عتق
نصيبه. وذكر البغوي أن في تبعيض الحرية في ولد كل واحد منهما الخلاف، وأنا
إذا لم نحكم بالحرية في نصفه، فهل هو قن للآخر، أم يتكاتب؟ فيه الخلاف.
وأنه لا يلزم كل واحد منهما شئ من قيمة الولد. وفي أمالي السرخسي: أنا إذا قلنا
بالتبعيض، فالحكم كذلك، وإن قلنا بحرية الجميع، لزم كل واحد للآخر نصف
قيمة ولده، ولم يجز العراقيون وغيرهم الخلاف في تبعيض الحرية في ولد كل
واحد إذا كان الأول معسرا والثاني موسرا، وحكموا بأن ولد الموسر حر كله،
والخلاف مخصوص بالمعسر.
الصورة الثانية: اختلفا في السابق، فقال كل واحد: أنا أولدتها أولا ولدي
540

هذا، واحتمل، صدق كل واحد منهما، فهما موسران أو معسران، أو أحدهما
موسر والآخر معسر، والاعتبار باليسار والاعسار حالة الاحبال.
الضرب الأول: موسران، فكل واحد يدعي على الآخر جميع المهر وجميع
قيمة ولده، لأنه يقول: وطئتها وهي مستولدتي، أو يدعي نصفها على ما ذكرناه في
الصورة الأولى، وكل واحد يقر للآخر بنصف المهر، ونصف قيمة الجارية، لأنه
يقول: أنا أولدتها وهي مشتركة، فصارت مستولدة لي، ويقرأ أيضا بنصف قيمة الولد
على اختلاف فيه، وما يقر به كل واحد من نصف قيمة الجارية يكذبه فيه الآخر،
فيسقط إقراره به، وتبقى دعوى كل واحد في المهر وقيمة الولد، فإن اقتضى الحال
التسوية بينهما، لم يعظم أثر الاختلاف، وجاء الكلام في التقاص، وإن تفاوتا،
حلف كل واحد على نفي ما يدعيه الآخر. وقيل: يتحالفان على النفي والاثبات،
وهو بعيد، فإذا حلف، فلا شئ لأحدهما على الآخر، وهي مستولدة أحدهما على
الابهام، ونفقتها عليه، فإذا ماتا فهي حرة، والولاء موقوف بينهما. وإن مات
أحدهما، فالأصح أنه لا يعتق شئ منها، لاحتمال أنها مستولدة الآخر، وقال ابن
أبي هريرة وأبو علي الطبري: يعتق نصفها، واختاره القاضيان أبو الطيب
والروياني، وحكى ذلك عن نصه في الام لأنه يملك نصفها، وقد أولدها،
وشككنا هل سرى إحبال شريكه إلى نصيبه، والأصل عدمه.
الضرب الثاني: أن يكونا معسرين، فلا ثمرة للاختلاف، والحكم كما لو
عرف السابق وهما معسران. وإذا مات أحدهما، عتق نصيبه، وولاؤه لعصبته. وإن
ماتا فالولاء لعصبتهما بالسوية. ونقل الربيع في الام أن الولاء موقوف، وإن كانا
معسرين. واتفق الجمهور أن هذا غلط من الربيع أو من غيره. وقيل: أراد حالة
الموت، فلا فرق حينئذ بين كونهما موسرين أو معسرين لما سبق أن الاعتبار في
اليسار والاعسار بحالة الاحبال.
الضرب الثالث: أن يكون أحدهما موسرا، والآخر معسرا، فيحلف كل واحد
على نفي ما يدعي عليه ويثبت الاستيلاد للموسر في نصيبه، فلا منازعة، وهما
متنازعان في نصيب المعسر، فنصف نفقتها على الموسر، ونصفها بينهما، ثم إن
مات الموسر أولا، عتق نصيبه وولاؤه لورثته، وإذا مات المعسر بعده، عتق نصيبه،
541

وولاؤه موقوف بينهما وإن مات المعسر أولا، لم يعتق منها شئ، فإذا مات
الموسر بعده، عتقت كلها وولاء نصفها لورثته، وولاء النصف الآخر موقوف، قال
الصيدلاني: هذا إذا قلنا لا تتوقف سراية الاستيلاد على أداء القيمة، فإن قلنا:
يتوقف هنا الأداء، فتكون الجارية هنا مستولدتهما، والولاء بينهما بلا وقف، أما لو
كان الاختلاف عكسه، فقال كل واحد للآخر: أنت وطئت أولا، فسرى إلى
نصيبي، وهما موسران، فقال البغوي: يتحالفان، ثم نفقتها عليهما، وإذا مات
أحدهما، لمن يعتق نصيبه، لاحتمال أن الآخر سبقه بالاستيلاد، ويعتق نصيب
الحي، لأنه أقر بأن الميت أولد أولا، ثم سرى إلى نصيبه، وعتق بموته، وولاء
ذلك النصف موقوف، فإذا مات الآخر، عتقت كلها وولاء الكل موقوف. وإن كان
أحدهما موسرا، والآخر معسرا، فقال المعسر: سرى إيلادك إلى نصيبي، وقال
الموسر: أنت أولدت أولا، ولم يسر إلى نصيبي، تحالفا، ثم النفقة عليهما، فإن
مات الموسر أولا عتقت كلها. أما نصيب الموسر، فبموته، وولاؤه لعصبته، وأما
نصيب المعسر، فبإقراره، وولاؤه موقوف. وإن مات المعسر أولا، لم يعتق منها
شئ لاحتمال أن الموسر سبقه بالاحبال، فإذا مات المعسر بعده، عتقت كلها.
وولاء نصيب الموسر لعصبته، ونصيب الموسر موقوف، وبالله التوفيق.
الحكم الخامس: في جناية المكاتب والجناية عليه، وفيه مسائل:
إحداها: إذا جنى على أجنبي بما يوجبه قصاص نفس أو طرف، فلمستحقه
القصاص. فإن عفا على مال، أو كانت الجناية موجبة للمال، نظر إن كان في يده
مال، وكان الواجب مثل قيمته، أو أقل، طولب به مما في يده، وإن كان أكثر،
فهل يطالب بالأرش بالغا ما بلغ، أم لا يطالب إلا بأقل الامرين من قيمته والأرش؟
قولان، أظهرهما: الثاني، فعلى هذا له أن يفدي بالأقل، وإن لم يرض السيد،
وإن فدى بالأرش، وزاد على القيمة، لم يستقل به، فإن أذن السيد، فقولان،
كتبرعه، فإن لم يكن في يده مال، وطلب مستحق الأرش تعجيزه، عجزه
542

الحاكم، ثم يباع كله في الجناية إن استغرق الأرش قيمته، وإلا فيباع قدر الأرش
، وتبقى الكتابة في الباقي، فإذا أدى حصته من النجوم، عتق ذلك القدر. ولو أراد
السيد أن يفديه من ماله، ويستديم الكتابة، فله ذلك، وعلى مستحق الأرش قبوله،
هذا هو المذهب، وفيه شئ سبق. وفيما يفديه (به) قولان، الجديد بأقل
الامرين، والقديم بالأرش، وله أن يرجع عن اختيار الفداء ويسلمه للبيع إلا إذا مات
العبد بعد اختيار الفداء، أو باعه بإذن المجني عليه بشرط الفداء، فيلزمه الفداء.
ولو أبرأه السيد من النجوم، أو أعتقه، لزمه الفداء، لأنه فوت متعلق حق المجني
عليه، فهو كما لو قتله، هذا إذا قلنا بالمذهب، والذي قطع به الجمهور أنه ينفذ
إعتاقه، وأشار ابن كج إلى خلاف فيه، كإعتاق القن الجاني، والفرق أن المكاتب
صار مستحق العتق بالكتابة قبل الجناية، فإذا أعتقه، وقع العتق عن الجهة
المستحقة بخلاف القن، وفيما يفديه السيد به؟ طريقان، أحدهما: على القولين
الجديد والقديم، والثاني: القطع بالأقل بخلاف حال بقاء الكتابة، لأن الرق باق
هناك وكما يلزم السيد بإعتاق المكاتب فداؤه، يلزمه بإعتاقه فداء ابن المكاتب وأبيه
إذا تكاتبا عليه وجنيا، لأنهما يعتقان بإعتاقه. ولو عتق المكاتب بأداء النجوم، لزمه
ضمان الجناية، ولا يلزم السيد فداؤه، وفيما يلزمه الطريقان. ولو جنى المكاتب
جنايات، وأعتقه السيد أو أبرأه عن النجوم، لزمه أن يفديه، فإن أدى النجوم وعتق،
فضمان الجنايات على المكاتب، وأما الذي يلزمهما، فإن كاتب الجنايات معا بأن
قتل جماعة بضربة، أو هدم عليهم جدارا، ففيه القولان، كالجناية الواحدة،
والجديد أقل الأمرين من أرش الجنايات كلها، وقيمته، والقديم وجوب الأروش
كلها، وإن كانت الجنايات متفرقة، فالقديم بحاله، وفي الجديد قولان،
أظهرهما: أنه أيضا بحاله، فيجب الأقل من الأروش كلها وقيمته. والثاني: يجب
لكل جناية الأقل من أرشها والقيمة، لأن البيع كان عقب كل جناية، وبالاعتاق
فوت ذلك، فكأنه أحدث لكل جناية منعا ولو أراد المكاتب أن يفدي نفسه مما في
543

يده عن الجنايات، فطريقان، أحدهما: على القولين المنقولين عن الجديد،
والثاني: القطع بالأقل من أرش كل جناية والقيمة. وقطع البغوي بأنه يؤخذ مما في
يده الأقل من أروش الجنايات كلها ومن قيمته، ويشبه أن يكون هذا هو المذهب،
ولو لم يكن في يده مال، وسأل المستحقون تعجيزه، عجزه الحاكم ويباع، ويقسم
الثمن على أقدار الأروش، وإن أبرأه بعضهم، قسم على الباقين، وإن اختار السيد،
فداءه بعد التعجيز لم يبع، وفيما يفديه به القولان.
المسألة الثانية: إذا جنى المكاتب على عبد سيده، أو على طرف سيده، فله
القصاص، وإن قتل السيد، فللوارث القصاص، فإن عفا المستحقون على مال، أو
كانت موجبة للمال تعلق الواجب بما في يده، لأنه معه كأجنبي، وهل الواجب
الأرش أم أقل الأمرين؟ فيه القولان، فإن قلنا: الواجب الأرش وكان أكثر من
القيمة، فقال الشيخ أبو حامد: له أن يفدي نفسه به، وقال القاضي أبو الطيب: فيه
الخلاف في هبته لسيده، ثم قال ابن الصباغ: وهذا يقتضي أن يقال: للسيد
الامتناع من القبول لا يلزمه قبول الهبة، وعندي أنه يلزمه القبول إذا أمكن أداؤه وأداء
مال الكتابة، وإذا لم يكن في يده شئ، أو كان لا يفي بالأرش، هل للسيد تعجيزه
بسبب الأرش؟ وجهان، أحدهما: لا، لأنه إذا عجزه سقط الأرش، لأنه لا يثبت له
على عبده دين، بخلاف ما إذا عجزه أجنبي، فإن الأرش يتعلق برقبته، وأصحهما:
نعم، وبه قطع الشيخ أبو حامد وغيره، ويستفيد رده إلى الرق المحض، وإذا عجز
بسبب الأرش أو النجوم، ورق، فهل يسقط الأرش، أم يبقى في ذمته إلى أن
يعتق؟ وجهان. أصحهما الأول، وهما كالوجهين فيما لو كان له على عبد غيره
دين، فملكه، هل يسقط. وجناية المكاتب على طرف ابن سيده، كجنايته على
أجنبي، وجنايته على نفسه تثبت القصاص للسيد، فإن عفا، أو كان القتل خطأ، فهو
كما لو جنى على السيد، ولو أعتق السيد المكاتب بعد جنايته عليه، أو أبرأه عن
النجوم، فإن لم يكن في يده مال، سقط الأرش على المذهب، وإن كان تعلق به
على الأصح. ولو أدى النجوم، فعتق لم يسقط الواجب بلا خلاف، كما لا يسقط
544

إذا جنى على أجنبي، وأدى النجوم وعتق، ثم الواجب الأرش بالغا ما بلغ، هذا هو
المذهب، والمنصوص، وبه قطع الجمهور، وقيل: فيه القولان.
المسألة الثالثة: إذا جنى عبد المكاتب، فجنايته إما على أجنبي وإما على سيد
المكاتب، وإما سيد سيده، فإن كانت على أجنبي، فله القصاص، فإن عفا على
مال، أو كانت الجناية موجبة للمال تعلق برقبته يباع فيه إلا أن يفديه المكاتب، وهل
يفديه بالأرش أم بالأقل؟ قولان، وقيل بالأقل قطعا، فإن قلنا بالأرش، وكان قدر
قيمته، أو أقل، فله الاستقلال به، وإلا فلا يستقل وفي جوازه بإذن السيد قولان،
كتبرعه. وفي الوقت الذي تعتبر قيمة العبد فيه أوجه، الأصح، وظاهر نصه في
المختصر: يوم الجناية، لأنه وقت تعلق الأرش، والثاني: يوم الاندمال،
والثالث: يوم الفداء، والرابع: أقل القيمتين من يومي الجناية والفداء، قال ابن
كج: هذا هو المذهب، وهو نصه في الام قال: وعندي أن الحكم في جناية
المكاتب بنفسه إذا اعتبرنا قيمته كذلك، هذا كله في عبد المكاتب الذي لم يتكاتب
عليه، أما من يكاتب عليه كولده من أمته ووالده وولده إذا وهبا له حيث يجوز
القبول، فليس له أن يفديه بغير إذن سيده وبإذنه قولان، كتبرعه، لأن فداءه
545

كشرائه، ولو جنى بعض عبيد المكاتب على بعض، أو جنى عبد غيره على عبده،
فله أن يقتص، لأنه من مصالح الملك، ولا يحتاج فيه إلى إذن السيد على
المشهور، فلو كان القاتل والد المقتول، أو كان في عبيد المكاتب أبوه، فقتل عبدا
له، لم يقتص، ولو كان فيهم ابنه، فقتل عبدا له، فله أن يقتص، وهل له أن
يبيع ابنه وأباه إذا كانا في ملكه وجنيا على عبد آخر له جناية توجب المال؟
فوجهان. أصحهما: المنع، وهو نصه في الام أما إذا جنى عبد المكاتب (على
المكاتب) فله الاقتصاص بغير إذن السيد، فإن كانت الجناية خطأ، أو عفا على مال،
لم يجب إذ لا يثبت لسيده على عبده مال وإن جنى على سيد سيده، فهو كما لو جنى
على أجنبي، فيباع في الأرش إلا أن يفديه المكاتب. الرابعة: الجناية على المكاتب
إن كانت على طرفه، فله الاقتصاص، ولا
يشترط إذن السيد على المشهور، ثم إن اقتص فذاك، وإن عفا على مال ثبت
المال، لكن إن كان دون أرش الجناية فقدر المحاباة، حكمه حكم الجميع إذا عفا
مجانا، وسنذكره إن شاء الله تعالى، وإن عفا مطلقا، فإن قلنا: موجب أحد
الامرين، أو قلنا: يوجب القصاص، ولكن مطلق العفو يوجب المال، ثبت
الأرش، وإن قلنا: يوجب القصاص، ومطلق العفو لا يوجب المال، لم يجب شئ، وإن عفا
مجانا سنذكره إن شاء الله تعالى وان عفا مطلقا، فان قلنا: موجب أحد
الامرين أو قلنا: يوجب القصاص، ولكن مطلق العفو يوجب المال، ثبت
الأرش، وان قلنا: يوجب القصاص ومطلق العفو لا يوجب المال، لم يجب
شئ، وان عفا مجانا سقط القصاص، ثم إن قلنا: موجب العمد القصاص، لم
يجب شئ، وإن قلنا: مطلق العفو لا يوجب المال، وإن قلنا: يوجبه، فوجهان،
أحدهما: يجب المال إن عفا بغير إذن السيد، وبإذنه قولان، كتبرعه، والثاني: لا
يجب شئ وإن عفا بغير إذنه، لأن الجناية على هذا القول لا توجب المال، وإنما
تثبته إذا اختاره أو عفا مطلقا على قول، فإذا عفا مجانا، فقد ترك الاكتساب بالعفو،
ولا يجبر على الكسب، وإن كانت الجناية موجبة للمال، لم يصح عفوه بغير إذن
سيده وبإذنه قولان. وحيث ثبت المال بالجناية على طرفه فهو للمكاتب يستعين به
على أداء النجوم. وهل يستحق أخذه في الحال أم يتوقف على الاندمال؟ قولان،
كالجناية على الحر. وقيل: يستحقه في الحال قطعا مبادرة إلى تحصيل العتق، فإن
546

قلنا: تتوقف على الاندمال وقد قطعت يده، نظر إن سرت الجناية إلى النفس،
انفسخت الكتابة، وعلى الجاني القيمة للسيد إن كان أجنبيا، وإن اندملت، فإن
كان الجاني أجنبيا أخذ المكاتب نصف قيمته، وإن كان السيد استحق عليه نصف
القيمة وهو يستحق النجوم، فإن حل نجم، واتحد الحقان جنسا وصفة، ففيه أقوال
التقاص، فيأخذ من له الفضل الفضل، وإن اختلفا أخذ كل واحد حقه، وإن قلنا:
له أخذ الأرش في الحال، فإن كان مثل دية حر أو أقل، فله أخذ جميعه، وإلا فلا
يأخذ أكثر من قدر الدية، لأن الجناية قد تسري إلى نفسه بعد عتقه، فيعود الواجب
إلى دية، وإذا أخذ ماله أخذه ثم اندملت الجراحة، فقد استقر الأرش، ويأخذ
الباقي إن لم يكن أخذ الجميع، وإن سرت إلى النفس، نظر إن سرت قبل أن يعتق
انفسخت الكتابة، فإن كان الجاني أجنبيا، فللسيد مطالبته بتمام القيمة، وإن كان
هو السيد، سقط عنه الضمان، وأخذ أكسابه، وإن كانت السراية بعد عتقه بأداء
النجوم، فإن كان الجاني أجنبيا فعليه تمام الدية، لأن الاعتبار في الضمان بحال
الاستقرار، ويكون ذلك لورثته، فإن لم يكونوا فللسيد بالولاء، وإن كان الجاني
السيد، فعليه تمام الدية أيضا بخلاف ما لو جرح عبده القن ثم أعتقه، فمات
بالسراية، فإنه لا ضمان لأن ابتداء الجناية غير مضمون هناك، وهنا مضمون، ولو
حصل العتق بالتقاص، فهو كما لو حصل بالأداء، ولا يمنع من التقاص كون الدية
إبلا، لأن الواجب في الابتداء نصف القيمة، والتقاص حينئذ يحصل، ثم إن سرت
الجناية بعد العتق وجب الفاضل من الإبل. ولو عفا المكاتب عن المال، ولم
نصحح عفوه، ثم عتق قبل أخذ المال، فهل له أخذه؟ قولان، أظهرهما: نعم،
لأن عفوه وقع لاغيا، ولو جنى على طرف المكاتب عبده، فله القصاص، فإن كانت
الجناية خطأ، أو عفا على مال، لم يثبت له على عبده مال، وإن كانت الجناية على
نفس المكاتب، انفسخت الكتابة، ويموت رقيقا. ثم إن قتله السيد، فليس عليه
إلا الكفارة، وإن قتله أجنبي، فللسيد القصاص، أو القيمة، وله أكسابه بحكم
الملك لا بالإرث.
فرع جنى على طرف مكاتبه، وكان الأرش مثل النجوم، وحكمنا بالتقاص
وحصول العتق، ثم جنى عليه السيد جناية أخرى موجبة للقصاص، فهي جناية على
حر، فيجب القصاص، نص عليه في الام فإن قال: لم أعلم أنه حصل التقاص
547

والعتق، لم يقبل منه، كما لو قتل من كان عبدا فعتق، وقال: لم أعلم أنه عتق،
قال الربيع: فيه قول أنه يؤخذ منه دية حر، ولا قصاص للشبهة، قال في الام:
لو عتق المكاتب، فاختلف هو ومن جنى عليه، فقال المكاتب: كنت حرا عند
الجناية، وقال الجاني: بل مكاتبا صدق الجاني بيمينه، وتقبل شهادة السيد
للمكاتب.
فصل في مسائل منثورة قال لمكاتبه: إن عجزت عن النجوم بعد
وفاتي، فأنت حر، صح التعليق، فإن قال المكاتب: قبل الحلول عجزت، لم
يعتبر قوله، وإن قاله بعد الحلول، ووجدنا له ما يفي بالواجب، فلا عجز أيضا،
وإن لم يوجد، صدق بيمينه، ويقبل إقرار المكاتب بديون المعاملة، وبالبيع وما
يقدر على إنشائه، وفي كتاب ابن كج أنه لو قال: بعت هذه السلعة وهذا ثمنها، قبل
إقراره، وإن قال: بعتها، وتلف الثمن في بدين، ففي القبول قولان، وإن أقر بدين
جناية، فهل يقبل في حق السيد؟ قولان أظهرهما عند البغوي: نعم، ويؤدي مما
في يده كدين المعاملة، ولكن لو كان ما أقر به أكثر من قيمته، لم يلزم إلا قدر
قيمته، فإن لم يكن في يده شئ، بيع في دين الجناية. والثاني وبه قطع جماعة:
لا يقبل في حق السيد، لأنه لم يسلط عليه بعقد الكتابة، فإن قبلنا إقراره، فعجز قبل
أن يؤخذ منه، فهل يباع فيه أم لا يباع ويكون في ذمته إلى أن يعتق؟ قولان. ولا
يقبل إقرار السيد على المكاتب بالجناية، لكن لو عجز ألزم السيد بإقراره، ولو قال:
كان جنى قبل الكتابة، لم يقبل على المكاتبة أيضا لخروجه عن يده بالكتابة. ولو
مات سيد المكاتب، فقد سبق أن الكتابة تبقى، فإن لم يعتق بالأداء إلى الوارث،
فلو كان له وارثان، لم يعتق إلا بأداء حقهما، فإن كان الوارث صغيرا أو مجنونا، لم
يعتق إلا بالدفع إلى وليه، فإن كان له وصيان، لم يعتق إلا بالدفع إليهما إلا إذا أثبت
لكل واحد منهما الاستقلال، فإن كان على الميت دين وأوصى بوصايا، فإن كان
الوارث وصيا في قضاء الديون، وتنفيذ الوصايا، عتق بالدفع إليه، وإلا فيجمع بين
الوصي والورثة ويدفع إليهم، فإن لم يوص إلى أحد، قام القاضي مقام الوصي،
ولو دفع إلى الغريم، لم يعتق، وإن دفع إلى الوارث، فإن قضى الديون والوصايا
، عتق، وإلا وجب الضمان على المكاتب، ولم يعتق، هكذا ذكره البغوي. وقال
القاضي أبو الطيب: إن كان الدين مستغرقا للتركة، برئ المكاتب بالدفع إلى
548

الغريم، وإن كان قد أوصى بالنجوم لانسان، عتق بالدفع إليه، وإن أوصى بها
للفقراء أو المساكين، دفعها إلى من أوصى إليه، فيفرقها، أو إلى الحاكم، وإن
أوصى بقضاء الدين منها، تعين صرفها إليه، وهو كما لو أوصى بها لانسان. ولو
مات السيد والمكاتب ممن يعتق على الوارث، عتق عليه، ولو نكح الابن مكاتبة
أبيه، ثم مات الأب والابن وارث، انفسخ النكاح، لأنه ملك زوجته، وكذا لو مات
السيد وبنته تحت مكاتبه، فورثت زوجها، ولو اشترى المكاتب زوجته، أو اشترت
المكاتبة زوجها، انفسخ النكاح، وبالله التوفيق.
549

كتاب أمهات الأولاد
ولد الرجل من أمته ينعقد حرا، وتصير الأمة بالولادة مستولدة تعتق بموته،
550

ويقدم عتقها على الديون، واستيلاد المريض مرض الموت، كاستيلاد الصحيح في
النفوذ من رأس المال، كإنفاق المال في اللذات والشهوات. ويثبت الاستيلاد أيضا
بإلقاء مضغة فيها خلقة آدمي، إما لكل أحد وإما للقوابل وأهل الخبرة من
النساء، فإن لم يظهر، وقلن: هذا أصل آدمي ولو بقي لتصور، لم يثبت الاستيلاد
على المذهب، وقد سبق بيانه في العدد.
فصل يحرم بيع المستولدة وهبتها ورهنها والوصية بها، وعن الشافعي
رحمه الله أنه ميل القول في بيعها، فقال الجمهور: ليس للشافعي رحمه الله فيه
اختلاف قول، وإنما ميل القول إشارة إلى مذهب من جوزه، ومنهم من قال: جوزه
في القديم، فعلى هذا هل يعتق بموت السيد؟ وجهان، أحدهما: لا وبه قال
551

صاحب التقريب والشيخ أبو علي. والثاني: نعم، قاله الشيخ أبو محمد
والصيدلاني كالمدبر، قال الامام: وعلى هذا يحتمل أن يقال: يعتق من رأس
المال، ويحتمل من الثلث، وإذا قلنا بالمذهب: إنه لا يجوز بيعها، فقضى
قاض بجوازه، فحكى الروياني عن الأصحاب أنه ينقض قضاؤه، وما كان فيه من
خلاف بين القرن الأول، فقد انقطع، وصار مجمعا على منعه، ونقل الامام فيه
وجهين.
فرع أولاد المستولدة إن كانوا من السيد، فأحرار، وإن حدثوا من نكاح أو
زنى، فلهم حكم الام، فليس للسيد بيعهم، ويعتقون بموته، وإن كانت الام قد
ماتت في حياة السيد. ولو أعتق السيد الام، لم يعتق الولد، وكذا حكم العكس كما
في التدبير بخلاف ما لو أعتى المكاتبة يعتق ولدها، ولو ولدت المستولدة من وطئ
شبهة، فإن كان الواطئ يعتقد أنها زوجته الأمة، فالولد رقيق للسيد كالأم، وهو كما
لو أتت به من نكاح أو زنى، وإن كان يعتقدها زوجته الحرة أو أمته، انعقد الولد
حرا، وعليه قيمته للسيد. وأما الأولاد الحاصلون قبل الاستيلاد بنكاح أو زنى،
فليس لهم حكم الام، بل للسيد بيعهم إذا ولدوا في ملكه، ولا يعتقون بموته،
لأنهم حدثوا قبل ثبوت حق الحرية للام.
فرع المستولدة فيما سوى نقل الملك فيها كالقنة، فله إجارتها واستخدامها
ووطؤها وأرش الجناية عليها وعلى أولادها التابعين لها، وقيمتهم إذا قتلوا، ومن
غصبها، فتلفت في يده، ضمنها كالقنة، ولو شهد اثنان على إقرار السيد
552

بالاستيلاد، وحكم بهما، ثم رجعا، قال أبو علي: لا يغرمان، لأن الملك باق
فيها، ولم يفوتا إلا سلطنة البيع، ولا قيمة لها بانفرادها. قال الامام: فإذا مات
السيد، وفات الملك، فالذي نراه وجوب الغرم عليهما للورثة، كما لو شهدا بتعليق
العتق، فوجدت الصفة، فحكمت بعتقه، فرجعا، غرما، وفي تزويجها أقوال،
أظهرها للسيد الاستقلال به، لأنه يملك بيعها ووطأها، كالمدبرة. والثاني قاله في
القديم: لا يزوجها إلا برضاها، والثالث: لا يجوز وإن رضيت، وعلى هذا هل
يزوجها القاضي؟ وجهان، أحدهما: نعم بشرط رضاها، ورضى السيد، والثاني:
لا ويجري الخلاف في تزويج بنت المستولدة، فإذا جوزناه، فلا حاجة إلى
الاستبراء بخلاف المستولدة، لأنها كانت فراشا له، وابن المستولدة لا يجبره السيد
على النكاح، وليس له أن ينكح بغير إذن السيد، فإن أذن، فوجهان، حكاهما
الروياني في الكافي تخريجا من الخلاف في المستولدة.
قلت: الصحيح والصواب الجواز، والفرق ظاهر. والله أعلم.
فصل إذا زنى رجل بأمة، فأتت بولد من زنى، ثم ملكها، لم تصر أم ولد
له، ولو ملك ذلك الولد، لم يعتق عليه، ولو أولد أمة غيره بنكاح، ثم ملكها، لم
تصر أم ولد له على المذهب، لأنها علقت برقيق، والاستيلاد إنما يثبت تعبا
لحرية الولد، ولو ملكها وهي حامل منه، فكذلك الحكم، ولكن يعتق الولد عليه،
لأنه ملك ولده، قال الصيدلاني: وصورة ملكها حاملا أن تضع لدون ستة أشهر من
حين ملكها، وأن لا يطأها بعد الملك، وتلد لدون أربع سنين، فأما إذا وطئها بعد
الملك، وولدت لستة أشهر من وقت الملك، فيحكم بحصول العلوق في ملك
اليمين وثبوت الاستيلاد وحرية الولد، وإن أمكن كونه سابقا عليه، أما إذا استولد أمة
الغير بشبهة، ثم ملكها، فينظر إن وطئها على ظن أنها زوجته المملوكة، فالولد
553

رقيق، ولا يثبت الاستيلاد، وإن وطئها على ظن أنها زوجته الحرة أو أمته، فالولد
حر، وفي ثبوت الاستيلاد قولان، وكذا لو نكح أمة غر بحريتها، فأولدها، فالولد
حر، وفي ثبوت الاستيلاد إذا ملكها القولان، ويجريان فيما لو اشترى أمة شراء
فاسدا، وأولدها على ظن الصحة، أحدهما وهو القديم: يثبت، لأنها علقت منه
بحر، وأظهرهما وهو الجديد: لا يثبت، لأنها علقت في غير ملك اليمين، فعلى
القديم يكون أولادها الحادثون بعد ملكه من نكاح أو زنى لهم حكمها، فيعتقون
بموت السيد، والحاصلون قبل أن يملكها ليس لهم حكمها، وإن حصلوا بعد
الاستيلاد، لأنهم حصلوا قبل ثبوت الحق للام، ولو ملكها وهي حامل من نكاح أو
زنى، ففي فتاوى القاضي حسين أنه لا يثبت لذلك الولد حكم الام بل يكون قنا
للمشتري اعتبارا بحال العلوق.
فرع سبق في الكتابة إذا أولد الشريكان مكاتبتهما، والقنة في معناها،
وذكرنا هناك المسألة مبسوطة.
فرع أولد مرتد أمته، صارت مستولدة إن أبقينا ملكه، وإن أزلناه لم يثبت
الاستيلاد في الحال، فإن أسلم، فعلى القولين فيما إذا أولد أجنبية، ثم ملكها،
وإن توقفنا في الملك، فكذا في الاستيلاد.
فرع إذا أسلمت مستولدة كافر، أو استولد أمته بعد إسلامها، فقد ذكرنا
في البيع أنه لا سبيل إلى بيعها، وأنه لا يجبر على اعتاقها على الصحيح، ولكن
يحال بينهما، وتجعل عند امرأة ثقة، وكسبها له، ونفقتها عليه، فإن أسلم، رفعت
الحيلولة، وإن مات، عتقت. وهل للكافر تزويجها إذا جوزنا تزويج المستولدة؟
وجهان حكاهما الصيدلاني، أصحهما: لا، وبه قطع القفال، لانقطاع الموالاة.
والثاني: نعم، لأنه تصرف بالملك. وعلى الأول. قيل: لا يزوجها القاضي أيضا. وقال
أبو إسحاق: يزوجها القاضي إذا أرادته والمهر للسيد، وكذا يزوجها الحاكم إذا أراد
السيد تزويجها، وإن كرهت هي، فتصير النفقة على الزوج قال أبو إسحاق: وهي
554

أحق بحضانة الولد ما لم تتزوج، فإذا تزوجت صار الأب أحق بالولد، إلا أن يكون
مميزا فيخاف أن يفتنه عن دينه فلا يترك عنده.
قلت: الصحيح الذي عليه الجمهور: أنه لا حضانة لكافر على مسلم، كما
سبق في الحضانة، ولا حضانة هنا للأب. والله أعلم.
فرع في فتاوى القفال: أن العبد إذا أولد جارية ابنه الحر، لا حد عليه،
ويثبت النسب، دون الاستيلاد، لأنه ليس من أهل الملك، وأن المكاتب إذا أولد
جارية ابنه الحر، فيحتمل أنه يبنى ثبوت الاستيلاد على الخلاف في أنه إذا أولد
جارية، نفسه، هل يثبت؟ وأن من وطئ جارية بيت المال، يحد، ولا نسب، ولا
استيلاد، وسواء في هذا الغني والفقير، لأنه لا يجب الاعفاف من بيت المال. وأنه
لو أعتق مستولدته على مال، يجوز. ولو باعها نفسها، صح على الظاهر، لأن بيع
العبد نفسه، إعتاق على الحقيقة.
فرع إذا أولد جاريته المحرمة عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة، لزمه الحد
في قول، والتعزير على الأظهر. وعلى القولين يكون الولد حرا نسبيا، وتصير هي
مستولدة، قال الأصحاب رحمهم الله: ولا يتصور اجتماع هذه الأحكام ووجوب
الحد إلا في هذه الصورة على أحد القولين. واعلم أن أحكام المستولدة سبقت
معرفة في أبوابها فتركنا إعادتها.
555

قال الامام الرافعي رحمه الله: قد تيسر الفراغ من هذا الكتاب في ذي القعدة
سنة ثلاث وعشرة وستمائة، ونختم الكتاب بما بدأناه وهو حمد الله ذي الجلال
والاكرام، وولي الطول والانعام، والحمد لله الذي هدانا لهذا، وما كنا لنهتدي لولا
أن هدانا الله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم.
قلت: قد أحسن الامام الرافعي رضي الله عنه فيما حققه، ولخصه، وأتقنه،
واستوعبه في هذا الكتاب، ويسر الاحتواء على متفرقات المذهب، ونفائس خفاياه
على المفتين والطلاب.
واعلم أيها الراغب في الخيرات، والحريص على معرفة النفائس المحققات،
وحل الغوامض والمشكلات، والتبحر في معرفة المذهب والوقوف على ما تعتمده من
المصنفات، وتعمد إليه عند نزول الفتاوى الغامضات، وتثق به عند تعارض الآراء
المضطربات، وتحث على تحصيله من أردت نصحه من أولى الرغبات، أنه لم
يصنف في مذهب الشافعي رضي الله عنه، ما يحصل لك مجموع ما ذكرته، أكمل
من كتاب الرافعي ذي التحقيقات، بل اعتقادي واعتقاد كل مصنف، أنه لم يوجد
مثله في الكتب السابقات ولا المتأخرات، فيما ذكرته من هذه المقاصد المهمات،
وقد يسر الله الكريم، وله الحمد في هذا المختصر مع ذلك، جملا متكاثرات من
الزوائد المتممات، والنوادر المستجادات، وغير ذلك من المحاسن المطلوبات،
وأسأل الله الكريم أن يكثر النفع به لي ولوالدي ومشايخي وسائر أحبابنا المسلمين
والمسلمات، وحسبنا الله ونعم الوكيل، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وقد
رأيت ختم الكتاب بما ختم به الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري
صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على
اللسان، ثقيلتان فالميزان، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم.
والحمد لله باطنا وظاهرا، وأولا وآخرا، اللهم طل على محمد عبدك ورسولك،
النبي الأمي، وعلى آل محمد، وأزواجه، وذريته، كما صليت على إبراهيم،
556

وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد، وأزواجه وذريته، كما
باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
فرغ من نسخه يوم الجمعة قبل الزوال خامس وعشرين جمادى الأول سنة
إحدى وأربعين وسبعمائة بمدينة السلام بغداد حماها الله وصانها مع سائر بلاد
المسلمين.
اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
557