الكتاب: المجموع
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ١٥
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: التكملة الثانية

التكملة الثانية
المجموع
شرح المهذب
للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة 676 ه‍
الجزء الخامس عشر
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الإجارة
يجوز عقد الإجارة على المنافع المباحة، والدليل عليه قوله تعالى (فان
أرضعن لكم فآتوهن أجورهن)
وروى سعيد بن المسيب عن سعد رضي الله عنه قال: كنا نكري الأرض
بما على السواقي من الزرع، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرنا
ان نكريها بذهب أو ورق.
وروى أبو أمامة التيمي قال: سألت ابن عمر فقلت: إنا قوم نكري في هذا
الوجه، وإن قوما يزعمون أن لا حج لنا، فقال ابن عمر: ألستم تلبون
وتطوفون بين الصفا والمروة، ان رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عما
تسألونني عنه فلم يرد عليه حتى نزل (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم)
فتلاها عليه. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم
وأعطى الحجام أجره، ولان الحاجة إلى المنافع كالحاجة إلى الأعيان، فلما جاز
عقد البيع على الأعيان وجب أن يجوز على المنافع
(فصل) ولا تجوز على المنافع المحرمة لأنه يحرم فلا يجوز أخذ العوض
عليه كالميتة والدم.
(فصل) واختلف أصحابنا في استئجار الكلب المعلم، فمنهم من قال يجوز
لان فيه منفعة مباحة فجاز استئجاره كالفهد، ومنهم من قال: لا يجوز، وهو
الصحيح، لان اقتناءه لا يجوز إلا للحاجة. وهو الصيد وحفظ الماشية وما لا
يقوم غير الكلب فيه مقامه إلا بمؤن، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية نقص من اجره كل يوم قيراطان وما أبيح
للحاجة لم يجز أخذ العوض عليه كالميتة، ولأنه لا يضمن منفعته بالغصب فدل
على أنه لا قيمة لها.
(فصل) واختلفوا في استئجار الفحل للضراب، فمنهم من قال يجوز لأنه
3

يجوز أن يستباح بالإعارة فجاز أن يستباح بالإجارة كسائر المنافع، ومنهم من
قال لا يجوز، وهو الصحيح، لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن ثمن عسب الفحل، ولان المقصود منه هو الماء الذي يخلف منه
وهو محرم لا قيمة له فلم يجز أخذ العوض عليه كالميتة والدم
(فصل) واختلفوا في استئجار الدراهم والدنانير ليجمل بها الدكان
واستئجار الأشجار لتجفيف الثياب والاستظلال، فمنهم من قال يجوز، لأنه
منفعة مباحة فجاز الاستئجار لها كسائر المنافع. ومنهم من قال لا يجوز، وهو
الصحيح، لان الدراهم والدنانير لا تراد للجمال ولا الأشجار لتجفيف الثياب
والاستظلال، فكان بذل العوض فيه من السفه وأخذ العوض عنه من أكل
المال بالباطل، ولأنه لا يضمن منفعتها بالغصب فلم يضمن بالعقد
(الشرح) حديث سعد بن أبي وقاص رواه أحمد وأبو داود والنسائي، وقد
سكت عنه أبو داود والمنذري. قال ابن حجر في فتح الباري: رجاله ثقات إلا
أن محمد بن عكرمة المخزومي لم يرو عنه الا إبراهيم بن سعد.
وأما حديث أبي أمامة التيمي فأخرجه احمد وغيره، وقد مضى تخريجه وبيان
ما يشتمل عليه من أحكام في كتاب الحج.
واما حديث (من اقتنى كلبا إلا كلب صيد أو ماشية) فقد أخرجه أحمد في
مسنده والبخاري ومسلم والترمذي عن ابن عمر.
وأما حديث النهى عن ثمن عسب الفحل فقد رواه أحمد والبخاري والنسائي
وأبو داود، ورواه الدارقطني عن أبي سعيد الخدري بلفظ (نهى عن عسب
الفحل وعن قفيز الطحان)
وقال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح، الا أن إبراهيم النخعي لم
يسمع من أبي سعيد فيما أحسب. وأخرجه أيضا البيهقي وعبد الرزاق وإسحاق
في مسنده وأبو داود في المراسيل والنسائي في الزراعة غير مرفوع
والأصل في جواز الإجارة الكتاب والسنة والاجماع، فأما الكتاب فقوله
تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) (قالت إحداهما: يا أبت استأجره
4

إن خير من استأجرت القوى الأمين، قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي
هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشرا فمن عندك)
وروى ابن ماجة عن عتبة بن المنذر قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم
فقرأ (طس) حتى إذا بلغ قصة موسى قال (إن موسى عليه السلام أجر نفسه
ثماني حجج أو عشرا على عفة فرجه وطعام بطنه) وقال تعالى (فوجد فيها جدارا
يريد أن ينقض فأقامه، قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا)
وأما السنة فقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر استأجرا
عبد الله بن الأريقط الديلي وكان خريتا - وهو الخبير بمسالك الصحراء والوهاد
العالم بجغرافية بلاد العرب على الطبيعة - ليكون هاديا ومرشدا لهما في هجرتهما
من مكة إلى المدينة.
وفى البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ثلاثة أنا خصمهم
يوم القيامة: رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل
استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره) والأحاديث في هذا كثيرة
أما الاجماع فقد انعقد بين أهل العلم في كل عصر وكل مصر على جواز الإجارة
إلا ما روى عن عبد الرحمن الأصم الذي قيل فيه: إنه عن الحق أصم من أنه
لا يجوز ذلك لأنه غرر، لأنه يعقد على منافع لم تخلق، ولو تحقق ما يتصوره
الأصم صوابا لتعطلت الصنائع والمساكن والمتاجر والموصلات بكل أنواعها
لأنها كلها - وهي تستغرق مظاهر الحياة قديما وحديثا - قائمة على المؤاجرات
والمعاوضات على المنافع كالمعاوضات على الأعيان سواء بسواء. بل إن المعاوضات
على المنافع أوسع مدى وأكثر عددا وأشمل مرفقا، ولان المنافع المتاحة أوسع
آفاقا من الأعيان والعروض.
فإذا ثبت هذا فإن الإجارة كالبيع تنعقد بأربعة: بمؤجر ومستأجر ومؤاجر
وأجرة. فالأول فهو باذل المنفعة كالبائع، والثاني طالب المنفعة كالمشتري،
وكل من صح شراؤه صح استئجاره. والثالث فهو كل عين صح الانتفاع بها مع
بقائها صحت إجارتها كالدور والعقار إذا لم يكن المقصود من منافعها أعيانا كالنخل
5

والشجر، وما تم الانتفاع به مع عينه لم تصح اجارته كالدراهم والمأكول، لان
منفعة الدراهم بإزالتها عن الملك، ومنفعة المأكول بالاستهلاك كاستئجار الدراهم
والدنانير للجمال والزينة والطعام ليعتبر مكيلا ففيه لأصحابنا وجهان:
(أحدهما) يصح لوجود المعنى وحصول الانتفاع مع بقاء العين
(والوجه الثاني) لا يصح لان هذا نادر من منافع ذلك، والأغلب سواه،
فصار حكم الأغلب هو المغلب، ولان المنافع المضمونة بالإجارة هي المضمونة
بالغصب، ومنافع الدراهم والطعام لا تضمن بالغصب كنشر الثياب فوق الشجر
فلم يصح أن تضمن بالإجارة. وهكذا كل ما كانت منافعها أعيانا من النخل
والشجر، لان منافعها ثمار هي أعيان يمكن العقد عليها بعد حدوثها، فلم يصح
العقد عليها قبله.
فإن استأجر ذلك لمنفعة تستوفى مع بقاء العين كالاستظلال بالشجر أو ربط
ماشية إليها فذلك ضربان:
(أحدهما) أن يكون هذا غالبا فيها ومقصودا من منافعها فتصح الإجارة عليها
(والثاني) أن يكون نادرا غير مقصود في العرف، فيكون على ما مضى
من الوجهين.
ثم العقد وان توجه إلى العين فهو أنه ربما تناول المنفعة لان الأجرة في مقابلتها
وإنما توجه إلى العين لتعتبر المنفعة بها. وقال أبو إسحاق المروزي: العقد إنما
تناول العين دون المنفعة ليستوفى من العين مقصوده من المنفعة، لان المنافع غير
موجودة حين العقد فلم يجز أن يتوجه العقد إليها. وهذا خطأ، ألا ترى أنه قد
يصح العقد على منفعة مضمونة في الذمة غير مضافة إلى عين؟ كرجل استأجر من
رجل عملا مضمونا في ذمته، وإذا كان كذلك فلا بد أن تكون المنفعة معلومة
كما لابد أن يكون المبيع معلوما، فإن كانت مجهولة لم تصح الإجارة، كما لو كان
المبيع مجهولا، والعلم بها قد يكون من وجهين:
(أحدهما) تقدير العمل مع الجهل بالمدة (والثاني) تقدير المدة مع الجهل
بقدر العمل، وسيأتي تفصيلهما وبالله والتوفيق.
6

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) واختلفوا في الكافر إذا استأجر مسلما إجارة معينة، فمنهم من قال
فيه قولان لأنه عقد يتضمن حبس المسلم فصار كبيع العبد المسلم منه. ومنهم من
قال يصح قولا واحدا لان عليا كرم الله وجهه كان يستقى الماء لامرأة يهودية كل
دلو بتمرة (فصل) ولا يصح إلا من جائز التصرف في المال لأنه عقد
يقصد به المال فلم يصح الا من جائز التصرف في المال كالبيع
(فصل) وينعقد بلفظ الإجارة لأنه لفظ موضوع له، وهل ينعقد بلفظ
البيع، فيه وجهان (أحدهما) ينعقد لأنه صنف من البيع لأنه تمليك يتقسط
العوض فيه على المعوض كالبيع فانعقد بلفظه (والثاني) لا ينعقد لأنه يخالف
البيع في الاسم والحكم فلم ينعقد بلفظه كالنكاح.
(فصل) ويجوز على منفعة عين حاضرة، مثل أن يستأجر ظهرا بعينه للركوب
ويجوز على منفعة عين في الذمة مثل أن يستأجر ظهرا في الذمة للركوب، ويجوز
على عمل معين مثل أن يكترى رجلا ليخيط له ثوبا أو يبنى له حائطا، ويجوز على
عمل في الذمة، مثل أن يكترى رجلا ليحصل له خياطة ثوب أو بناء حائط لأنا
بينا أن الإجارة بيع والبيع يصح في عين حاضرة وموصوفة في الذمة، فكذلك
الإجارة. وفى استئجار عين لم يرها قولان (أحدهما) لا يصح (والثاني) يصح
ويثبت الخيار إذا رآها كما قلنا في البيع
(فصل) وتجوز على عين مفردة وعلى جزء مشاع لأنا بينا أنه بيع، والبيع
يصح في المفرد والمشاع فكذلك الإجارة.
(فصل) ولا تجوز إلا على عين يمكن استيفاء المنفعة منها، فان استأجر
أرضا للزراعة لم تصح حتى يكون لها ماء يؤمن انقطاعه، كماء العين والمد بالبصرة
والثلج والمطر في الجبل لان المنفعة في الإجارة كالعين في البيع فإذا لم يجز بيع عين
لا يقدر عليها لم تجز إجارة منفعة لا يقدر عليها فإن اكترى أرضا على نهر إذا زاد
سقى وإذا لم يزد لم يسق، كأرض مصر والفرات وما انحدر من دجلة نظرت فان
اكتراها بعد الزيادة صح العقد لأنه يمكن استيفاء المعقود عليه، فهو كبيع الطير
7

في القفص، وإن كان قبل الزيادة لم يصح لأنه لم يعلم هل يقدر على المعقود عليه
أو لا يقدر فلم يصح كبيع الطير في الهواء، وان اكترى أرضا لا ماء لها ولم يذكر
أنه يكتريها للزراعة ففيه وجهان، أحدهما: لا يصح لان الأرض لا تكترى في
العادة الا للزراعة، فصار كما لو شرط أنه يكتريها للزراعة، والثاني: إن كانت
الأرض عالية لا يطمع في سقيها صح العقد لأنه يعلم أنه لم يكترها للزراعة. وإن كانت
مستفلة يطمع في سقيها بسوق الماء إليها من موضع لم يصح لأنه اكتراها
للزراعة مع تعذر الزراعة، فإن اكترى أرضا غرقت بالماء لزراعة ما لا يثبت في
الماء كالحنطة والشعير نظرت فإن كان للماء مغيض إذا فتح انحسر الماء عن الأرض
وقدر على الزراعة صح العقد، لأنه يمكن زراعتها بفتح المغيض، كما يمكن سكنى
الدار بفتح الباب، وان لم يكن له مغيض ولا يعلم أن الماء ينحسر عنها لم يصح
العقد لأنه لا يعلم هل يقدر على المعقود عليه أم لا يقدر فلم يصح العقد كبيع ما في
يد الغاصب، فإن كان يعلم أن الماء ينحسر وتنشفه الريح ففيه وجهان: أحدهما
لا يصح لأنه لا يمكن استيفاء المنفعة في الحال. والثاني يصح وهو قول أبي إسحاق
وهو الصحيح لأنه يعلم بالعادة امكان الانتفاع به، فان اكترى أرضا على ماء إذا
زاد غرقت فاكتراها قبل الزيادة صح العقد لان الغرق متوهم فلا يمنع صحة العقد
(الشرح) خبر علي رضي الله عنه رواه أحمد وجود الحافظ بن حجر اسناده
ولفظه (جعت مرة جوعا شديدا فخرجت لطلب العمل في عوالي المدينة، فإذا أنا
بامرأة قد جمعت مدرا فظننتها تريد بله، فقاطعتها كل ذنوب على تمرة، فمددت
ستة عشر ذنوبا حتى مجلت يداي، ثم أتيتها فعدت لي ست عشرة تمرة، فأتيت
النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فأكل معي منها) وقد أخرجه ابن ماجة والبيهقي عن ابن
عباس أن عليا أجر نفسه من يهودي يسقى له كل دلو بتمرة) وعندهما أن كل عدد
التمر سبع عشرة تمرة. وفى اسناده حنش راويه عن عكرمة وهو ضعيف،
وقوله (ذنوبا) الدلو مطلقا أو التي فيها ماء أو الممتلئة أو غير الممتلئة وكلها
في القاموس، وقوله (مجلت) بكسر الجيم أي غلظت وتنفطت وقد أمجلها العمل
أو المجل أن يكون بين الجلد واللحم ماء، أو المجلة جلدة رقيقة يجتمع فيها ماء
من أثر العمل.
8

وهذا الخبر يدل دلالة يعجز القلم عن استقصاء ما توحى به، من بيان ما كانت
الصحابة عليه من الحاجة وشدة الفاقة والصبر على الجوع وبذل الوسع وإتعاب
النفس في تحصيل القوام من العيش للتعفف عن السؤال وتحمل المتن، وأن تأجير
النفس لا يعد دناءة، وإن كان المستأجر غير شريف أو كافرا والأجير من أشراف
الناس وعظمائهم، وقد أورده صاحب المنتقى ليستدل به على جواز الإجارة معادة
يعنى أن يفعل الأجير عددا معلوما من العمل بعدد معلوم من الأجرة.
(فرع) الإجارة عوض في مقابلة المنفعة كالثمن في مقابلة المبيع وحكمه كحكمه
في جوازه معينا وفى الذمة، قال الشافعي: فالإجارات صنف من البيوع لأنها
تمليك من كل واحد منهما لصاحبه اه‍.
ومن هذا اخذ الفقهاء انه عقد لازم لا يجوز فسخه إلا بعيب كالبيع، فإن
كان العيب موجودا في الشئ المؤاجر كالدار إذا خربت والدابة إذا مرضت
فللمستأجر أن يفسخ دون المؤجر كما لو وجد بالمبيع عيب كان للمشترى أن يفسخ
دون البائع، وإن كان العيب موجودا في الأجرة فإن كانت في الذمة أبدل المعيب
بغيره ولا خيار، وإن كانت معيبة فللمؤجر ان يفسخ دون المستأجر كما يفسخ
البائع بوجود العيب في الثمن المعين دون المشترى: ولا يجوز فسخ الإجارة بعذر
يطرأ إذا لم يطرأ في المعقود عليه عيب، ومن هنا كان لأصحابنا وجهان في انعقاده
بلفظ البيع، ونظرا لان عقد الإجارة كعقد النكاح يؤخذ جانب البيع فيه بمفهوم
المعاوضة وليس بمنطوق التعاقد لذلك قالوا: إنه يخالف البيع في الاسم والحكم
فلم ينعقد بلفظه كالنكاح، والوجه الثاني: ينعقد بلفظ البيع لأنه تمليك يتقسط
العوض فيه على الباذل كالبيع سواء بسواء.
إذا ثبت هذا: فهل المعقود عليه العين لأنها الموجودة فيقال: أجرتك داري
أم أن العقد يتعلق بالمنفعة دون الأعيان، فيقال: أجرتك داري أو منفعة داري
بكذا، أو بعتك منفعتها، وهذا الأخير هو قول مالك وأبي حنيفة وأحمد وأكثر
أصحاب الشافعي، ويصح العقد على منفعة مضمونه في الذمة غير مضافة إلى عين
كرجل استأجر من رجل عملا مضمونا في ذمته، وإذا كان كذلك فلابد أن تكون
9

المنفعة معلومة كما لا بد أن يكون المبيع معلوما، فإن كانت مجهوله لم تصح الإجارة
كما لو كان المبيع مجهولا، ومن ثم كانت الإجارة على نوعين، نوع يكون عقده
على مدة معلومه: ونوع يكون على عمل معلوم فالأول كالدار والأرض فلا تجوز
إجارتها إلا على مدة ومتى تقدرت المدة لم يجز تقدير العمل، وبهذا قال أبو حنيفة
والشافعي وأحمد، لان الجمع بينهما يزيدها غررا، لأنه قد يفرغ من العمل قبل
انقضاء المدة، فإن استعمل في بقية المدة فقد زاد على ما تعاقدا عليه وإن لم يعمل
كان تاركا للعمل في بعض المدة، وقد لا يفرغ من العمل في المدة، فإن أتمه
عمل في غير المدة، وهذا غرر أمكن التحرز منه، ولم يوجد مثله في محل الوفاق
فلم يجز العقد معه،
(فرع) قال الشافعي: إذا تكارى الرجل الأرض ذات الماء من العين أو
النهر نيل أو غير نيل أو الغيل أو الآبار على أن يزرعها غلة الشتاء والصيف
فزرعها إحدى الغلتين والماء قائم ثم نضب فذهب قبل الغلة الثانية فأراد رد الأرض
بذهاب الماء فذلك له ويكون عليه من الكراء بحصة ما زرع إن كانت حصة الزرع
الذي زرع الثلث أو النصف أو الثلثين أو أقل أو أكثر أدى ذلك وسقطت عنه
حصه الزرع الثاني اه‍.
قال النووي في المنهاج: ولا يصح استئجار آبق ومغصوب وأعمى للحفظ
وأرض للزراعة لا ماء لها دائم، ولا يكفيها المطر المعتاد، ويجوز إن كان لها
ماء دائم، وكذا إن كفاها ماء المطر الدائم أو الثلوج المجتمعة، والغالب حصولها
في الأصح اه‍. قال الشربيني الخطيب في المغنى: ومجرد الامكان لا يكفي كإمكان
عود الآبق والمغصوب، نعم لو قال المكرى أنا أحفر لك بئرا وأسقى أرضك منها
أو أسوق الماء إليها من موضع آخر صحت الإجارة كما قال الروياني. أما لو استأجرها
للسكنى فإنه يصح، وإن كانت بمحل لا يصلح لها كالمفازة، إلى أن قال: ويجوز
استئجار أراضي مصر للزراعة بعد ريها بالزيادة، وكذا قبله على الأصح
إن كانت ترزى من الزيادة الغالبة كخمسة عشر ذراعا فما دونها كما نقله في الكفاية
عن أبي الطيب وابن الصباغ واقتضاه كلام الشيخين.
وقال السبكي: وما يروى من خمسة عشر كالموثوق به عادة. وما يروى من
10

ستة عشر وسبعة عشر غالب الحصول، وإن كان الاحتمال متطرقا إلى الستة عشر
وإلى السبعة عشر كثيرا اه‍
وتصح الأرض للزراعة قبل انحسار الماء عنها، وإن سترها عن الرؤية، لأن الماء
من مصلحتها كاستتار اللوز والجوز بالقشرة، فإن قيل: ينبغي عدم الصحة
لان الانتفاع عقب العقد شرط، والماء يمنعه أجيب بأن الماء من مصالح الزرع،
وبأن صرفه ممكن في الحال بفتح موضع ينصب إليه فيتمكن من الزرع حالا
كاستئجار دار مشحونة بالأمتعة التي يمكن نقلها في زمن لا أجرة له هذا إن وثق
بانحساره وقت الزراعة وإلا فلا يصح، وإن كانت الأرض على شط نهر،
والظاهر أنه يجرفها بفيضانه أو تنهار من أمواجه لم يصح استئجارها لعدم القدرة
على تسليمها، وإن احتمله ولم يظهر جاز لان الأصل والغالب السلامة.
وإن استأجر أرضا للزراعة وأطلق دخل فيها شربها ان اعتيد دخوله
بعرف مطرد والشرب بكسر الشين النصيب من الماء، بخلاف ما لو باعها
لا يدخل، لان المنفعة هنا لا تحصل بدونه أو شرط في العقد، فإن اضطرب
العرف فيه أو استثنى الشرب ولم يوجد شرب غيره لزوال المانع بالاغتناء عن
شربها، والامتناع الشرعي لتسليم المنفعة كالحسى في حكمه.
وقد أورد المصنف وجهين في الأرض التي يغطيها الماء وعلم انحسار أو احتمال تبخرها
وجفافها، أحدهما: عدم صحة العقد لعدم امكان استيفاء المنفعة حالا، والثاني:
وهو قول أبي إسحاق المروزي وهو الصحيح والذي عليه الفتوى من أئمة المذهب
أنه يصح، لأنه يعلم بالعادة المطردة إمكان الانتفاع والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان استأجر رجلا ليعلمه بنفسه سورة وهو لا يحسنها ففيه وجهان
(أحدهما) يصح كما يصح أن يشترى سلعه بدراهم، وهو لا يملكها ثم يحصلها
ويسلم (والثاني) لا يصح لأنه عقد على منفعة معينة لا يقدر عليها فلم يصح
كما لو أجر عبد غيره.
(فصل) ولا تصح الإجارة الا على منفعة معلومة القدر لأنا بينا أن الإجارة
11

بيع والبيع لا يصح إلا في معلوم القدر فكذلك الإجارة ويعلم مقدار المنفعة بتقدير العمل
أو بتقدير المدة، فإن كانت المنفعة معلومة القدر في نفسها كخياطة ثوب وبيع عبد
والركوب إلى مكان قدرت بالعمل لأنها معلومة في نفسها فلا تقدر بغيرها، وإن قدر
بالعمل والمدة بأن استأجره يوما ليخيط له قميصا فالإجارة باطله لأنه يؤدى إلى التعارض
وذلك أنه قد يفرغ من الخياطة في بعض اليوم فان طولب في بقية اليوم بالعمل أخل
بشرط العمل وان لم يطالب أخل بشرط المدة، فإن كانت المنفعة مجهولة المقدار في
نفسها كالسكنى والرضاع وسقى الأرض والتطيين والتجصيص قدر بالمدة لان
السكنى وما يشبع به الصبي من اللبن وما تروى به الأرض من السقي يختلف ولا
ينضبط، ومقدار التطيين والتجصيص لا ينضبط لاختلافهما في الرقة والثخونة
فقدر بالمدة، واختلف أصحابنا في استئجار الظهر للحرث، فمنهم من قال يجوز
ان يقدر بالعمل بان يستأجره ليحرث أرضا بعينها، ويجور ان يقدر بالمدة بأن
يستأجره ليحرث له شهرا، ومنهم من قال لا يجوز تقديره بالمدة والأول أظهر
لأنه يمكن تقديره بكل واحد منهما فجاز التقدير بكل واحد منهما
(فصل)
وما عقد على مدة لا يجوز الا على مدة معلومة الابتداء والانتهاء.
فان قال أجرتك هذه الدار كل شهر بدينار فالإجارة باطلة، وقال في الاملاء
تصح في الشهر الأول وتبطل فيما زاد، لان الشهر الأول معلوم وما زاد مجهول
فصح في المعلوم وبطل في المجهول، كما لو قال اجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد
بحسابه، والصحيح هو الأول لأنه عقد على الشهر وما زاد من الشهور. وذلك
مجهول فبطل، ويخالف هذا إذا قال أجرتك هذا الشهر بدينار وما زاد بحسابه
لان هناك أفرد الشهر الأول بالعقد وههنا لم يفرد الشهر عما بعده بالعقد، فبطل
بالجميع، فإن أجره سنة مطلقة حمل على سنة بالأهلة، لان السنة المعهودة في
الشرع سنة الأهلة. والدليل عليه قوله عز وجل: يسألونك عن الأهلة قل
هي مواقيت للناس والحج. فوجب ان يحمل العقد عليه، فإن كان العقد في أول
الهلال عد اثنا عشر شهرا بالأهلة، تاما كان الشهر أو ناقصا، وإن كان في أثناء
الشهر عد ما بقي من الشهر وعد بعده أحد عشر شهرا بالأهلة ثم كمل عدد الشهر
12

الأول بالعدد ثلاثين يوما لأنه تعذر اتمامه بالشهر الهلالي فتمم بالعدد، فان
أجره سنة شمسية ففيه وجهان:
(أحدهما) لا يصح لأنه على حساب انسئ فيه أيام والنسئ حرام، والدليل
عليه قوله تعالى، (إنما النسئ زيادة في الكفر)
(والثاني) انه يصح لأنه وإن كان النسئ حراما، الا أن المدة معلومة فجاز
العقد عليها كالنيروز والمهرجان، وفى أكثر المدة التي يجوز عقد الإجارة عليه
طريقان ذكرناهما في المساقاة
(فصل) ولا تصح الإجارة الا على منفعة معلومة، لان الإجارة بيع
والمنفعة فيها كالعين في البيع، والبيع لا يصح الا في معلوم فكذلك الإجارة،
فإن كان المكترى دارا لم يصح العقد عليها حتى تعرف الدار لان المنفعة تختلف
باختلافها فوجب العلم بها ولا يعرف ذلك الا بالتعيين لأنها لا تضبط بالصفة
فافتقر إلى التعيين كالعقار والجواهر في البيع، وهل يفتقر إلى الرؤية؟ فيه قولان
بناء على القولين في البيع، ولا يفتقر إلى ذكر السكنى ولا إلى ذكر صفاتها لان
الدار لا تكترى الا للسكنى وذلك معلوم بالعرف فاستغنى عن ذكرها كالبيع
بثمن مطلق في موضع فيه نقد معروف، وان اكترى أرضا لم يصح حتى تعرف
الأرض لما ذكرناه في الدار، ولا يصح حتى يذكر ما يكترى له من الزراعة
والغراس والبناء، لان الأرض تكترى لهذه المنافع وتأثيرها في الأرض يختلف
فوجب بيانها.
وان قال: أجرتك هذه الأرض لتزرعها ما شئت جاز، لأنه جعل له زراعة
أضر الأشياء، فأي صنف زرع لم يستوف به أكثر من حقه، وان قال اجرتك
لتزرع وأطلق ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح لان الزروع مختلفة في التأثير في
الأرض فوجب بيانها (والثاني) يصح لان التفاوت بين الزرعين يقل
وان قال أجرتك لتزرعها أو تغرسها لم يصح لأنه جعل له أحدهما ولم يعين
فلم يصح، كما لو قال بعتك أحد هذين العبدين، وان قال أجرتك لتزرعها وتغرسها
ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح وهو قول المزني وأبي العباس وأبي إسحاق لأنه
13

لم يبين المقدار من كل واحد منهما (والثاني) يصح وله ان يزرع النصف ويغرس
النصف، وهو ظاهر النص، وهو قول أبي الطيب بن سلمة، لان الجمع يقتضى
التسوية فوجب أن يكون نصفين
(الشرح) هذا الحكم في تعليم القران ينبنى على أن تعليم القرآن هل يجوز
بأجر أو لا؟ فقد روى ابن ماجة والبيهقي والروياني في مسنده عن أبي بن كعب
قال: علمت رجلا القرآن فاهدى لي قوسا، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه
وسلم فقال (إن أخذتها أخذت قوسا من نار) فرددتها.
قال البيهقي وابن عبد البر: هو منقطع، يعنى عطية الكلاعي وأبي بن
كعب وكذلك قال المزي، وتعقبهم الحافظ بن حجر بأن عطية ولد في زمن
النبي صلى الله عليه وسلم، وأعله ابن القطان بالجهل بحال عبد الرحمن بن سلم
الراوي عن عطية،
* * *
وورد عن عبادة بن الصامت عند أبي داود وابن ماجة بلفظ (علمت ناسا
من أهل الصفة الكتاب والقرآن، فاهدى إلى رجل منهم قوسا فقلت: ليست
بمال وأرمى عليها في سبيل الله عز وجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلأسألنه فاتيته فقلت: يا رسول الله، إنه رجل اهدى إلى قوسا ممن كنت أعلمه
الكتاب والقرآن وليست بمال وأرمى عليها في سبيل الله، فقال: إن كنت تحب
ان تطوق طوقا من نار فاقبلها)
وفى اسناده المغيرة بن زياد أبو هاشم الموصلي، وقد وثقه وكيع ويحيى بن
معين وتكلم فيه جماعة. وقال احمد: ضعيف الحديث، حدث بأحاديث مناكير
وكل حديث رفعه فهو منكر.
وقال أبو زرعة الرازي: لا يحتج بحديثه، ولكنه قد روى عن عبادة من
طريق أخرى عند أبي داود بلفظ (فقلت: ما ترى فيها يا رسول الله؟ فقال جمرة
14

بين كتفيك تقلدتها أو تعلقتها) وفى هذه الطريق بقية بن الوليد، وقد تكلم فيه
جماعة ووثقه الجمهور إذا روى عن الثقات، وقد أورد ابن حجر حديث عبادة
هكذا في كتاب النفقات من تخليص الحبير وتكلم عليه، وفى هذا المعنى ورد عن
معاذ عند الحاكم والبزار بنحو حديث أبي، وعن أبي الدرداء عند الدارمي بإسناد
على شرط مسلم بنحوه أيضا.
وقد استدل بهذه الأحاديث القائلون بعدم جواز الأجرة على تعليم القرآن
كأحمد بن حنبل وأصحابه وأبي حنيفة، وبهذا قال عطاء والضحاك بن قيس
والزهري وإسحاق بن راهويه وعبد الله بن شقيق، وذهب جمهور الفقهاء من
الشافعية والمالكية إلى أنها تحل الأجرة على تعليم القرآن، وأجابوا عن هذه
الأحاديث بأجوبة منها ان حديثي عبادة وأبي قضيتان في عين فيحتمل أن النبي
صلى الله عليه وسلم علم أنهما فعلا ذلك خالصا لله فكره أخذ العوض عنه، وأما
من علم القرآن على أنه لله وأن يأخذ من المتعلم ما دفعه إليه بغير سؤال ولا استشراف
نفس فلا بأس به.
وقد استدلوا على الجواز بحديث سهل بن سعد عند الشيخين
(ان النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت: يا رسول الله إني قد وهبت
نفسي لك فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال: يا رسول الله زوجنيها ان لم
يكن لك بها حاجة فقال صلى الله عليه وسلم: هل عندك من شئ تصدقها إياه؟
فقال: ما عندي الا إزاري هذه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها
إزارك، جلست لا إزار لك فالتمس شيئا فقال، ما أجد شيئا فقال: التمس ولو
خاتما من حديد فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل معك
من القران شئ؟ فقال: نعم سورة كذا وسورة كذا يسميها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
قد زوجتكها بما معك من القرآن) وفى رواية (قد ملكتكها بما معك من القرآن)
ولمسلم (زوجتكها تعلمها القرآن)
وفى رواية لأبي داود (علمها عشرين آية وهي امرأتك) ولأحمد (قد أنكحتكها
على ما معك من القرآن)
15

ومن أدلة الجواز حديث عمر المتقدم في كتاب الزكاة (ان النبي صلى الله عليه
وسلم قال له: ما اتاك من هذا المال من غير مسألة ولا اشراف نفس فخذه، ومن
أدلة الجواز حديث الرقية المشهور الذي أخرجه البخاري عن ابن عباس وفيه
(ان أحق ما أخذتم عليه اجرا كتاب الله).
فإذا ثبت هذا: فإن كان الاجر على تعليم السورة لا يحفظها ففي صحة ذلك
وجهان (أحدهما) يصح كما يصح شراء مالا يملكه ثمنه على أن يحصلها ثم يدفعها
(والثاني) لا يصح لان المنفعة غير مقدور عليها فلم يصح.
قال العلامة الشربيني في المغنى على المنهاج: أما إذا استأجره مدة لجميعه فإنه
لا يصح على الأصح فان فيه جمعا بين الزمان والعمل وحينئذ كان ينبغي أن يقول
المصنف - يعنى النووي - تعليم قرآن بالتنكير، فان الشافعي رضي الله عنه في
باب التدبير نص على أن القران بالألف واللام لا يطلق الا على جميعه، فإذا قدر
التعليم بمدة كشهر هل يدخل الجميع أولا؟ أفتى الغزالي بان أيام السبوت مستثناة
في استئجار اليهودي شهرا لاطراد العرف به
. وقال البلقيني: ويقاس عليه الأحد للنصارى، والجمع في حق المسلمين، ثم قال
ويشترط على المتعاقدين بما يقع العقد على تعليمه، فإن لم يعلماه وكلا من يعلم ذلك
ولا يكفي ان يفتح المصحف ويقول: تعلمني من هنا إلى هنا، لان ذلك لا يفيد
معرفة المشار إليه بسهولة أو صعوبة، فإذا أطلق العقد في تعلم القرآن ولم يشترط
قراءة بعينها فقد قال الماوردي والروياني تفريعا على ذلك: يعلمه الأغلب من
قراءة البلد كما لو أصدقها دراهم فإنه يتعين دراهم البلد، أي فإن لم يكن فيها أغلب
علمه ما شاء من ذلك وهذا أوجه، فان عين له قراءة تعينت. فان أقرأه غيرها
ولم يستحق اجرة في أحد وجهين يظهر ترجيحه، ولا يشترط رؤية المتعلم،
ويشترط في المتعلم أن يكون مسلما أو يرجى إسلامه، فإن لم يرج لم يعلم كما يباع
المصحف من الكافر.
(فرع) قال الشافعي وكذلك يملك المستأجر المنفعة التي في العبد والدار
والدابة إلى المدة التي اشترط حتى يكون أحق بها من مالكها، ويملك بها صاحبها
16

العوض فهي منفعة معقولة من عين معروفة فهي كالعين المبيعة، ولو كان حكمها
خلاف حكم العين لكان في حكم الدين ولم يجز أن يكترى بدين لأنه حينئذ يكون
دينا بدين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الدين بالدين، فإذا وقع
ما أكرى وجب له جميع الكراء كما إذا دفع ما باع وجب له جميع الثمن إلا أن
يشترط أجلا اه‍.
وجملة القول في عقد الإجارة أن يتضمن تمليك منافع في مقابلة أجرة، فأما
المنافع فلا خلاف أنها تملك بالعقد ويستقر الملك بالقبض، وأما الإجارة فلها
ثلاثة أحوال.
(أحدها) أن يشترطا حلولها وتكون حالة اتفاقا.
(والثاني) أن يشترطا تأجيلها أو تنجيمها فتكون مؤجلة أو منجمه اجماعا
(والثالث) ان يطلقاها فلا يشترطا فيها حلولا ولا تأجيلا، فقد اختلف
الفقهاء فيها على ثلاثة مذاهب: فمذهب الشافعي منها أن الأجرة تكون حالة
تملك بالعقد وتستحق بالتمكين، وقال أبو حنيفة: لا يتعجل الأجرة بل تكون
في مقابلة المنفعة، فكلما مضى من المنفعة جزء ملك ما في مقابلته من الأجرة،
وقال مالك: لا يستحق الأجرة الا بمضي جميع المدة استدلالا بقوله تعالى، فان
أرضعن لكم فآتوهن أجورهن، فاقتضى أن تكون باستكمال الرضاع يستحق الأجرة
، وبما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أعطوا الأجير
أجره قبل أن يجف عرقه) فكان ذلك منه حثا على تعجيلها في أول زمان
استحقاقها، وذلك بعد العمل الذي يعرف به، ولان أصول العقود موضوعة
على تساوى المتعاقدين فيما يملكانه بالعقد ويكون ملك العوض تاليا لملك المعوض
كالبيع إذا ملك على البائع المبيع ملك به الثمن، وإذا سلم المبيع استحق قبض المنافع
مؤجلا وجب أن يكون قبض الأجرة مؤجلا، وتحريره قياسا أنه عقد معاوضة
فوجب أن يكون استحقاق العوض بعد اقباض المعوض كالبيع، ولان ما استحق
من الأعواض على المنافع يلزم أداؤه بعد تسليم المنافع كالجعالة والقراض، ولان
من ملك للأجرة يمنع من استحقاقها عليه بالعقد، وقد ثبت أن الدار المؤجرة من
الأجرة فدل على أنه لم يكن مالكا للأجرة.
17

ودليلنا هو أن ما لزم من عقود المنافع استحق العوض فيه حالا كالنكاح،
ولان كل عوض تعجل بالشرط فإطلاقه يوجب حلوله كالثمن، ولان الأصول
موضوعة على أن تسليم المعوض يوجب تسليم العوض ليستوي حكم المتعاقدين
فيما يملكانه من عوض ومعوض كما هو مقرر في الأصول فلا يكون حظ أحدهما فيه
أقوى من حظ الآخر كالبيع إذا سلم المبيع فيه وجب تسليم الثمن، وكالنكاح إذا
حصل التمكين وجب تسليم الصداق، كذلك الإجارة إذا حصل تسليم المنفعة
وجب تسليم الأجرة، والمنافع ههنا مقبوضة بالتمكين حكما، وإن لم يكن
القبض مستقرا.
(فرع) قال الشافعي: وله أن يؤاجر عبده وداره ثلاثين سنة، أما عقد
الإجارة على سنة واحدة فيجوز لان الغرر يسير فيها والضرورة داعية إليها فأما
ما زاد على السنة الواحدة فقد حكى مالك أنه جوزها إلى خمس سنين أو ست سنين
لا غير، وللشافعي فيما زاد على السنة الواحدة قولان.
(أحدهما) لا تجوز الإجارة أكثر من سنة، لان الإجارة غرر لأنها عقد
قد تسلم وقد لا تسلم، فإذا قل الزمان قل غررها فجاز، وإذا طال الزمان كثر
غررها فبطل كالخيار، ولان السنة هي المدة التي تكمل فيها منافع الزراعة في
الأرضين، ولا تتغير فيها غالبا الحيوانات والدور فلذلك تقدرت مدة الإجارة
بها وبطلت فيما جاوزها.
(والقول الثاني) وهو أصح القولين هنا، أن الإجارة تجوز أكثر من سنة
بثلاثين سنة قدرها الشافعي على سبيل الكثرة، أما أدناها فأقل مدتها ما أمكن
فيه استيفاء المنفعة المعقود عليها وذلك قد يختلف باختلاف المؤاجر، فإن كان
ذلك دارا للسكنى جازت إجارتها يوما واحدا، وإن كان ذلك أرضا للزراعة فأقلها
مدة زراعتها، فأما أكثر المدة فهو ما علم بقاء الشئ المؤاجر فيها، فإن كان ذلك
أرضا تأيد بقاؤها، وإن كان دارا روعي فيها مدة يبقى فيها بناؤها، وإن كان
حيوانا روعي فيه الأغلب من مدة حياته.
18

(فرع) فأما إذا آجر داره كل شهر بدينار ولم يذكر عدد الشهور وغايتها
لم تصح الإجارات فيما عدا الشهر الأول للجهالة بمبلغه، فصار كقوله: أجرتكها
مدة، واختلف أصحابنا في صحتها ولزومها في الشهر الأول على وجهين.
(أحدهما) أن الإجارة فيه صحيحه لكونه معلوما.
(والوجه الثاني) وهو الأصح أنها باطلة لكونه واحدا من عدد مجهول فلم
يتميز في الحكم. وقال أبو حنيفة: الإجارة صحيحه وللمستأجر فسخ الإجارة في
كل شهر قبل دخوله، فإذا دخل قبل فسخه لزمه وجعل إطلاق الشهور مع
تسمية الأجرة لكل شهر جاريا مجرى بيع الصبرة المجهولة القدر إذا سمى ثمن
كل قفيز، وهذا خطأ للخطأ بما تناوله العقد من الشهور بخلاف الصبرة التي قد
أشير إليها وينحصر كيلها، ولأنه لا يخلو أن تصح الإجارة فلا يكون له فسخها
من غير عذر أو تبطل، فلا يجوز أن يقيم عليها مع العذر، ويلزم أجرة المثل
إن سكن دون المسمى.
فإذا قدر المدة بسنه حملت على السنة الهلالية المعهودة شرعا فان شرط هلالية
كان تأكيدا، وإن قال عددية أو سنة بالأيام كان له ثلاثمائة وستون يوما، لان
الشهر العددي يكون ثلاثين يوما، وإن استأجر سنه هلالية أول الهلال عد اثنى
عشر شهرا بالأهلة سواء كان الشهر تاما أو ناقصا، لان الشهر الهلالي ما بين
الهلالين ينقص مرة ويزيد أخرى، وإن كان العقد في أثناء شهر عد ما بقي من
الشهر وعد بعده أحد عشر شهرا بالهلال ثم كمل الشهر الأول بالعدد ثلاثين
يوما لأنه تعذر اتمامه بالهلال فتممناه بالعدد وأمكن استيفاء ما عداه بالهلال
فوجب ذلك لأنه الأصل، وقد مضى في السلم بحث في الشهور العربية الهلالية
والشمسية الرومية ويعد ذلك أساسا لتوقيت التعامل هنا كمثله هناك.
(فرع) قال في المنهاج: يشترط كون المنفعة معلومة ثم تارة تقدر بزمان
كدار سنة، وتارة بعمل كدابة إلى مكة وكخياطة ذا الثوب فلو جمعهما فاستأجره
ليخيطه بياض النهار لم يصح في الأصح، ويقدر تعليم القرآن بمدة أو تعيين سور
وفى البناء يبين الموضع والطول والعرض والسمك وما يبنى به إن قدر بالعمل،
19

وإذا صلحت الأرض لبناء وزراعة وغراس اشترط تعيين المنفعة، ويكفى
تعيين الزراعة عن ذكر ما يزرع في الأصح، ولو قال: لتنتفع بما شئت صح،
وكذا لو قال: إن شئت فازرع وإن شئت فاغرس في الأصح، ويشترط في إجارة
دابة لركوب معرفة الراكب بمشاهدة أو وصف تام، وقيل لا يكفي الوصف،
وكذا الحكم فيما يركب عليه من محمل وغيره إن كان له.
وقال السبكي: لا بد في تصوير هذه المسألة من زيادة ما شئت فيقول: إن شئت
فازرع ما شئت أو اغرس ما شئت، فإن لم يزد ما ذكر عاد الخلاف في وجوب
تعيين ما يزرع، اه‍
وإذا صلحت الأرض لغراس أو بناء أو زراعة أو لاثنين من هذه الثلاثة
اشترط تعيين المنفعة في الصورتين لاختلاف الضرر اللاحق باختلاف منافع
هذه الجهات، فإن أطلق لم يصح، أما إذا لم تصلح إلا لجهة واحدة فإنه يكفي
الاطلاق فيها كأراضي الاحكار فإنه يغلب فيها البناء، وبعض البساتين فإنه
يغلب فيها الغراس، ويكفى في أرض استؤجرت للزراعة تعيين الزراعة عن ذكر
ما يزرع فيها، كقوله أجرتكها للزراعة أو لتزرعها، فيصح لقلة التفاوت بين
أنواع الزرع، ويزرع ما شاء للاطلاق
قال الرافعي: وكان يحتمل أن ينزل على أقل الدرجات. وما قاله حكاه
الخوارزمي وجها، فيكون الوجه الثاني أنه لا يكفي لان ضرر الزرع مختلف.
نعم إن أجر على غيره بولاية أو نيابة لا يكفي الاطلاق لوجوب الاحتياط.
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن استأجر ظهرا للركوب لم يصح العقد حتى يعرف جنس
المركوب، لان الغرض يختلف باختلافه، ويعرف ذلك بالتعيين والوصف
لأنه يضبط بالصفة فجاز أن يعقد عليه بالتعيين والوصف كما قلنا في البيع، فإن
كان في الجنس نوعان مختلفان في السير كالمهماج والقطوف من الخيل ففيه وجهان
(أحدهما) يفتقر إلى ذكره لان سيرهما يختلف (والثاني) لا يفتقر لان التفاوت
20

في جنس واحد يقل ولا يصح حتى يعرف الراكب، ولا يعرف ذلك إلا
بالتعيين لأنه يختلف بثقله وخفته وحركته وسكونه، ولا يضبط ذلك بالوصف
فوجب تعيينه، ولا يصح حتى يعرف ما يركب به من سرج وغيره، لأنه يختلف
ذلك على المركوب والراكب.
فإن كان عماريه أو محملا ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يجوز العقد عليه
بالوصف لأنه يمكن وصفه فجاز العقد عليه بالصفة كالسرج والقتب، والثاني
إن كانت من المحامل البغدادية الخفاف جاز العقد عليه بالصفة لأنها لا تختلف
وإن كانت من الخراسانية الثقال لم يجز إلا بالتعيين لأنها تختلف وتتفاوت
(والثالث) وهو المذهب انه لا يجوز إلا بالتعيين لأنها تختلف بالضيق والسعة
والثقل والخفة وذلك لا يضبط بالصفة فوجب تعيينه.
واختلف أصحابنا في المعاليق كالقدر والسطيحة، فمنهم من قال لا يجوز حتى
يعرف قولا واحدا لأنها تختلف فوجب العلم بها. ومنهم من قال فيه قولان:
(أحدهما) لا يجوز حتى يعرف لما ذكرناه (والثاني) يجوز وتحمل على ما جرت
به العادة لأنه تابع غير مقصود فلم تؤثر الجهالة فيه كالغطاء في الإجارة والحمل في
البيع، وإن كان السير في طريق فيه منازل معروفه جاز العقد عليه مطلقا لأنه
معلوم بالعرف فجاز العقد عليه مطلقا كالثمن في موضع فيه نقد متعارف، فإن لم
يكن فيه منازل معروفه لم يصح حتى يبين لأنه مختلف لا عرف فيه فوجب بيانه
كالثمن في موضع لا نقد فيه.
(فصل) فان استأجر ظهر الحمل متاع صح العقد من غير ذكر جنس الظهر
لأنه لا غرض في معرفته ولا يصح حتى يعرف جنس المتاع انه حديد أو قطن
لان ذلك يختلف على البهيمة ولا يصح حتى يعرف قدره لأنه يختلف، فإن كان
موزونا ذكر وزنه، وإن كان مكيلا ذكر كيله، فإن ذكر الوزن فهو أولى لأنه
أخصر وأبعد من الغرر، فان عرف بالمشاهدة جاز كما يجوز بيع الصبرة بالمشاهدة
وان لم يعرف كيلها، فان شرط أن يحمل عليها ما شاء بطل العقد لأنه دخل في
الشرط ما يقتل البهيمة، وذلك لا يجوز فبطل به العقد.
فأما الظروف التي فيها المتاع فإنه ان دخلت في وزن المتاع صح العقد لان
21

الغرر قد زال بالوزن وإن لم تدخل في وزن المتاع نظرت فإن كانت ظروفا معروفة
كالغرائر الجبلية جاز العقد عليها من غير تعيين لأنها لا تتفاوت، وإن كانت
غير معروفة لم يجز حتى تعين لأنها تختلف ولا تضبط بالصفة فوجب تعيينه.
(الشرح) المهملج. قال في القاموس: والهملجة فارسي معرب، وشاة هملاج
لا مخ فيها لهزالها، وأمر مهملج مذلل منقاد، والهملاج بالكسر من البراذين،
والقطوف الدابة ضاق مشيها، قال زهير:
بارزة الفقارة لم يخنها قطاف في الركاب ولا خلاء
والعمارية نسبة إلى موضع باليمامة والمحمل كمجلس الهودج فكأن منها ما يصلح
للركوب، ومنها ما يصلح للحمل، والمعاليق جميع معلاق، وهو ما يعلق بعروة
بلا شد ولا ربط، والسطيحة إناء مسطح من الجلد.
أما الأحكام فإنه يشترط في إجارة الظهر للركوب عينا أو ذمة معرفة الراكب
بمشاهدة أو وصف تام له لينتفي الغرر. وذلك بنحو ضخامة أو نحافة، كما في
الحاوي الصغير خلافا للبلقيني وغيره من اعتبار الوزن، إذ أن ثقل الوزن يخل
بتوازنه أو بحشمته، وإنما اعتبروا في نحو المحمل الوصف مع الوزن لأنه إذا عين
لا يتغير، والراكب قد يتغير بسمن أو هزال، فلم يعتبر جمعهما فيه، وقيل
لا يكفي الوصف وتتعين المشاهدة لأنه ليس الخبر كالعيان، ولما يأتي من عدم
الاكتفاء بوصف الرضيع، وكذا الحكم فيما معه من متاع، وفيما يركب عليه من
محمل وسرج وأكاف إن فحش تفاوته ولم يكن هناك عرف مطرد أو كان ذلك
تحت يد المكترى ولو بعارية فيشترط معرفته بمشاهدته أو وصفه التام، فإذا
كان الراكب مجردا فلا حاجة إلى ذكر ما يركب عليه، ويركبه المؤجر على ما شاء
من سرج يليق بالدابة ويناسب قوتها، فإن كان هناك عرف مطرد فلا حاجة
إلى ذكره أو النص عليه خلافا للأذرعي، ولا بد في نحو المحمل من وطاء وهو
ما يجلس عليه. وكذا غطاء إن شرط في العقد، فإن كان ثمة عرف مطرد حمل
الاطلاق عليه، ولو شرط في عقد الإجارة حمل المعاليق فسد العقد في الأصح
لاختلاف الناس فيها قلة وكثرة (والثاني) يصح ويحمل على الوسط المعتاد،
22

وإن لم يشرطه لم يستحق حملها في الأصح، هكذا أفاده النووي والرملي وغيرهما
ويقاس على هذا ما ينبغي أن تكون عليه مؤاجرة السيارات للركوب لانتقال
أو ارتحال، فقد تحددت في زماننا هذا حمولة السيارات الركوبية بعدد الراكبين
وما يجوز حمله بالعرف المطرد من حقائب، وكذلك السيارات الحمولية تحددت
حمولتها بالوزن ومقصد الشرع المحافظة على البهيمة من وجهين: حرمة الحياة
وحرمة المال.
(فرع) وأما الآلات والعربات ففيها حرمة يجب في الايجار أن يعرف
المحمول وقدره وجنسه، فإذا كان في أوطبه وأجوله أو صناديق امتحنها وعرف
ما فيها، فإن كانت عارية فلا كلام وإن كانت مظروفة في أكياس أو معبأة وجب
امتحانها ومعرفتها جنسا ووزنا.
قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يجوز من ذلك شئ على شئ مغيب لا يجوز
حتى يرى الراكب والراكبين، وظرف المحمل والوطاء وكيف الظل إن شرطه
لان ذلك يختلف فيتباين أو تكون الحمولة بوزن معلوم أو كيل معلوم أو ظرف
ترى أو تكون إذا شرطت عرفت مثل غرائر الحلبة وما أشبه هذا. وقال أيضا
(وإذا تكارى الرجل الدابة إلى موضع فجاوزه إلى غيره فعليه كراء الموضع الذي
تكاراها إليه الكراء الذي تكاراها به وعليه من حين تعدى إلى أن ردها
كراء مثلها من ذلك الموضع، وإذا عطبت عليه لزمه الكراء إلى الموضع التي
عطبت فيه وقيمتها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فان استأجر ظهرا للسقي لم يصح العقد حتى يعرف الظهر، لأنه
لا يجوز الا على مدة، وذلك يختلف باختلاف الظهر فوجب العلم به على الأظهر
ويجوز أن يعرف ذلك بالتعيين والصفة، لأنه يضبط بالصفة فجاز أن يعقد عليه
بالتعيين والصفة، كما يجوز بيعه بالتعيين والصفة، ولا يصح حتى يعرف الدولاب
لأنه يختلف، ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين، لأنه لا يضبط بالصفة
فوجب تعيينه.
23

(فصل) وإن استأجر ظهرا للحرث لم يصح حتى يعرف الأرض، لأنه
يختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها، فإن كان على جربان لم يفتقر إلى العلم
بالظهر لأنه لا يختلف، وإن كان على مدة وقلنا إنه يصح لم يجز حتى يعرف الظهر
الذي يحرث به، لان العمل يختلف باختلافه، ويعرف ذلك بالتعيين والصفة
لما ذكرناه في السقي.
(فصل) وان استأجر ظهرا للدياس لي يصح حتى يعرف الجنس الذي يداس
لان العمل يختلف باختلافه، فإن كان على زرع معين لم يفتقر إلى ذكر الحيوان
الذي يداس به، لأنه لا غرض في تعيينه، فإن كان على مدة لم يصح حتى يعرف
الحيوان الذي يداس به، لان العمل يختلف باختلافه
(فصل) وإن استأجر جارحة للصيد لم يصح حتى يعرف جنس الجارحة
لان الصيد يختلف باختلافه ويعرف ذلك بالتعيين والصفة لأنه يضبط بالصفة ولا
يصح حتى يعرف ما يرسله عليه من الصيد، لان لكل صنف من الصيد تأثيرا
في اتعاب الجارحة.
(الشرح) يجوز اكتراء الدابة للاستقاء بالغرب وهو الدلو العظيمة
ونحوه كالدولاب، فلا بد من معرفته لأنه يختلف بكبره وصغره، ويقدر بكيله
متريا أو قياسه أو وزنه، ولا يجوز تقدير ذلك بحوض في الأرض أو حفرة
فيها للجهالة ولتسرب الماء في باطن التربة
فإن قدره بعدد المرات احتاج إلى معرفة الموضع الذي يستقى منه والذي
يذهب إليه، لان ذلك يختلف بالقرب والبعد والسهولة والحزونة، وان قدره
بملء ء شئ معين احتاج إلى معرفته ومعرفة ما يستقى منه، هذا ما يقال
في الاستيقاء.
ولما كانت البهيمة تؤجر للحرث والدراس والطحن غير ما مضى من الحمل
والنقل فنقول: ان جواز كراء الدابة للحمل ثابت بالكتاب (وتحمل أثقالكم
إلى بلد لم تكونوا بالغيه الا بشق الأنفس)
24

أما كراء البقر للحرث فقد ثبت بالنص والعرف قال النبي صلى الله عليه وسلم
(بينما رجل يسوق بقرة أراد أن يركبها فقالت: إني لم أخلق لهذا، وإنما خلقت
للحرث، رواه الشيخان، على أن هذا يحتاج إلى شرطين، معرفة الأرض وتقدير
العمل، فأما الأرض فلا تعرف الا بالمشاهدة لاختلافها صلابة ورخاوة وسعة
وضيقا وقد كانت الأرض تقدر مساحتها بالجربان جمع جريب وهو ما يبلغ
ستين ذراعا مربعا مهيأ للزرع ولذلك كانوا يقولون فلان يملك ألف جريب
وألف خريب ويعنون بالخريب غير المهيأ للزراعة ويحتاج إلى اصلاح حتى يكون
جريبا، ومن هنا اختلف كراء الجريب عن الخريب لان الجريب تكون مستوية
السطح خالية من الحجارة والحفر بعكس الخريب لذلك وجب رؤيتها لأنها
لا تعرف الا بالمشاهدة
وأما تقدير العمل فيجوز بأحد شيئين اما بالمدة كيوم ويومين واما بالأرض
كهذه القطعة، أو من هذا المكان أو بالمساحة كقصبة أو قصبتين (والقصبة 355
س م.) والفدان 333 وثلث قصبة.
أما الدراس أو الدياس والدياس جعلوها مصدرا لداس يدوس دوسا
ودياسا مثل الدراس فمن علماء اللغة من ينكر كون الدياس من كلام العرب،
ومنهم من يقول: هو مجاز وكأنه مأخوذ من داس الأرض دوسا إذا شدد وطأه
عليها بقدمه، والمدوس الذي تداس به الحنطة بكسر الميم لأنه آلة.
وأما المداس الذي ينتعله الانسان فإن صح سماعه فقياسه كسر الميم لأنه آلة
والا فالكسر أيضا حملا على النظائر الغالبة من العربية، ولا أدرى وجه صاحب
القاموس المحيط في جعله زنة سحاب قلت: أما تأجير البقر للدراس أو غير
البقر فأشبه الحرث في معرفة نوع الزرع المراد دياسه وهل بالنورج أم بدونه
وعلى مدة ومعرفة الحيوان، لان الغرض يختلف باختلافه، فمن الحيوانات
ما يكون نجس البول والروث فيختلط بالطعام فيحتاج إلى اختياره وتحديد نوعه
وكذلك إدارة الرحى للطحن يفتقر إلى شيئين، معرفة الحجر بالمشاهدة، واما
بصفة تعرف بها حالته من الثقل أو الخفة وتقدير العمل اما بالزمان كيوم ويومين
ونوع المطحون فقد يكون عسير الطحن لصلابته.
25

(فرع) إذا استأجر جارحة للصيد لم يصح حتى يعرف جنسها لأنها إذا
كانت الجارحة كلبا فلا يصح استئجاره كما صحح ذلك النووي، وحكى الرملي
والشربيني منازعة النووي في هذا، وقال الأذرعي: المختار قول الغزالي، يعنى
من حيث جواز إجارة الكلب المعلم للصيد.
أما الجوارح الأخرى كالبازي والعقاب والفهد فيجوز استئجارها قولا واحدا
كما يجوز استئجار السنور لصيد الفأر وعلى هذا يصح استئجارها أعني الجوارح
من ذمي أو مجوسي ويجرى عليها حكم صيد المسلم بكلب النصراني واليهودي، إن
قلنا بصحة استئجاره فإن صيده جائز.
أما الجوارح الأخرى فإنه يصح استئجارها من يهودي أو نصراني ويصح صيدها
قال العبدري: وبه قال الفقهاء كافة. وقال ابن المنذر: وبه قال سعيد بن المسيب
والحكم والزهري ومالك وأبو حنيفة وأبو ثور وهو أصح الروايتين عن عطاء
وممن كرهه جابر بن عبد الله والحسن البصري وعطاء ومجاهد والنخعي والثوري
وإسحاق بن راهويه، وقال أحمد: كلب النصراني واليهودي عندي أهون من
المجوسي والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان استأجر رجلا ليرعى له مدة لم يصح حتى يعرف جنس
الحيوان: لان لكل جنس من الماشية تأثيرا في اتعاب الراعي. ويجوز أن يعقد
على جنس معين وعلى جنس في الذمة، فإن عقد على موصوف لم يصح حتى يذكر
العدد، لان العمل يختلف باختلافه، ومن أصحابنا من قال: يجوز مطلقا ويحمل
على ما جرت به العادة أن يرعاه الواحد من مائه أو أقل أو أكثر، والأول أظهر
لان ذلك يختلف وليس فيه عرف واحد.
(فصل) وان استأجر امرأة للرضاع لم يصح العقد حتى يعرف الصبي
الذي عقد على ارضاعه، لأنه يختلف الرضاع باختلافه، ولا يعرف ذلك الا
بالتعيين، لأنه لا يضبط بالصفة ولا يصح حتى يذكر موضع الرضاع لان الغرض
يختلف باختلافه.
26

(فصل) وان استأجر رجلا ليحفر له بئرا أو نهرا لم يصح العقد حتى
يعرف الأرض لان الحفر يختلف باختلافها ولا يصح حتى يذكر الطول والعرض
والعمق، لان الغرض يختلف باختلافها، وان استأجر لبناء حائط لم يصح العقد
حتى يذكر الطول والعرض وما يبنى به من الآجر واللبن والجص والطين، لان
الاغراض تختلف باختلافها، وان استأجره لضرب اللبن لم يصح حتى يعرف
موضع الماء والتراب، ويذكر الطول والعرض والسمك والعدد، وعلى هذا
جميع الأعمال التي يستأجر عليها.
وإن كان فيما يختلف الغرض باختلافه، رجع فيه إلى أهل الخبرة
ليعقد على شرطه، كما إذا أراد أن يعقد النكاح، ولم يعرف شروط العقد رجع
إلى من يعرفه ليعقد بشروطه، وان عجز عن ذلك فوضه إلى من يعرفه ليعقد بشرطه
كما يوكل الأعمى في البيع والشراء من يشاهد المبيع.
(فصل)
وان استأجر رجلا ليلقنه سورة من القرآن لم يصح حتى يعرف السورة لان
الغرض يختلف باختلافها، وإن كان على تلاوة عشر آيات من القرآن لم يصح حتى
يعينها لان آيات القرآن تختلف، فإن كان على عشر آيات من سورة معينة ففيه
وجهان (أحدهما) لا يصح، لان الأعشار تختلف (والثاني) يصح، لما روى
أبو هريرة رضي الله عنه قال (جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فعرضت نفسها عليه، فقال لها: اجلسي بارك الله فيك، أما نحن فلا حاجة لنا
فيك، ولكن تملكيننا أمرك؟ قالت: نعم، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم
في وجوه القوم، فدعا رجلا منهم فقال لها: انى أريد أن أزوجك هذا ان رضيت
فقالت: ما رضيت لي يا رسول الله فقد رضيت، ثم قال للرجل: هل عندك من
شئ؟ قال لا والله يا رسول الله. قال: ما تحفظ من القرآن؟ قال سورة البقرة
والتي تليها، قال: قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك) وهل يفتقر إلى تعيين
الحرف؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يصح حتى يعين الحرف، لان الاغراض
تختلف باختلاف الحرف (والثاني) لا يحتاج إلى تعيين الحرف، لان ما بين
الأحرف من الاختلاف قليل.
27

(فصل) وإن استأجر للحج والعمرة لم يصح حتى يذكر أنه إفراد أو قران
أو تمتع، لان الاغراض تختلف باختلافها، فأما موضع الاحرام فقال في الام
لا يجوز حتى يعين وقال في الاملاء: إذا استأجر أجيرا أحرم من الميقات ولم
يشرط التعيين، واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق المروزي: فيه قولان:
(أحدهما) لا يجوز حتى يعين، لان الاحرام قد يكون من الميقات، وقد
يكون من دويرة أهله، وقد يكون من غيرهما، فإذا أطلق صار العقد على مجهول
فلم يصح (والثاني) أنه يجوز من غير تعيين ويحمل على ميقات الشرع، لان
الميقات معلوم بالشرع فانصرف الاطلاق إليه كنقد البلد في البيع
ومن أصحابنا من قال: إن كان الحج عن حي لم يجز حتى يعين، لأنه يمكن
الرجوع إلى معرفة غرضه، وإن كان عن ميت جاز من غير تعيين، لأنه لا يمكن
الرجوع إلى معرفة غرضه، وحمل القولين على هذه الحالين. ومنهم من قال:
إن كان للبلد ميقاتان لم يجز حتى يبين لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر،
فوجب بيانه كالثمن في موضع فيه نقدان. وإن لم يكن له إلا ميقات واحد جاز
من غير تعيين، كالثمن في موضع ليس فيه إلا نقد واحد، وحمل القولين على هذين
الحالين، فإن ترك التعيين وقلنا إنه لا يصح فحج الأجير، انعقد الحج للمستأجر
لأنه فعله بإذنه مع فساد العقد فوقع له كما لو وكله وكالة فاسدة في بيع
(الشرح) أوردنا في صدر هذا الباب آية استئجار شعيب لموسى، وقد روى
أحمد والبخاري وابن ماجة أن النبي صلى الله عليه قال: ما بعث الله نبيا إلا رعى
الغنم، فقال أصحابه وأنت؟ قال نعم. كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة،
وقال سويد بن سعيد: يعنى كل شاة بقيراط.
وقال إبراهيم الحربي: قراريط اسم موضع، وقد صوب ابن الجوزي وابن
ناصر التفسير الذي ذكره إبراهيم الحربي: لكن الذي رجح تفسير ابن سويد
أن أهل مكة لا يعرفون مكانا يقال له: قراريط
وقد روى النسائي من حديث نصر بن حزن قال: افتخر أهل الإبل والغنم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (بعث موسى وهو راعى غنم، وبعث داود
28

وهو راعى غنم وبعثت وأنا راعى غنم أهلي بجياد، وفى الحديث دليل على جواز
الإجارة على رعى الغنم، ويلحق بها في الجواز غيرها من الحيوان، وهل يصح
أن يرعى قطيعا بغير عدد من الغنم، أو قطيعا بغير عدد من البقر قل أو كثر؟
قولان (أحدهما) وهو الأصح أن يذكر العدد وأن يكون الاجر مناسبا لقدر
المنفعة والعمل (والثاني) إذا جرى عرف مطرد بأن يرعى القطيع من غير
عدد صح عقده.
(فرع) مذهب الشافعي رضي الله عنه على أنه يجوز استئجار الام لارضاع
ولدها. وقال أبو حنيفة: لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة اه‍.
ولا يجوز استئجار امرأة حرة منكوحة لرضاع أو غيره مما يؤدى إلى
خلوة محرمة إلا بإذن زوجها على الأصح، ويؤخذ من قول الأذرعي أنه يجوز
لها ذلك إذا كان زوجها غائبا فأجرت نفسها لعمل مباح لا خلوة فيه بأجنبي ينقضي
أجله قبل قدومه، وقد اعترض الغزي على هذا بأن المرأة ومنافعها مستحقة
لزوجها بعقد النكاح. قال الرملي: وهذا الاعتراض ممنوع بأنه لا يستحقها،
وإنما يستحق المنفعة منها وهي متعذرة منه، ولو اختلفت الزوجة مع زوجها
حول الاذن صدق الزوج ولا كلام.
على أن الاقيس على ظاهر المذهب أنه يصح لها ذلك على حد قول الأذرعي
لأنه لما جاز للزوج أن يستأجر زوجته لارضاع ولده ولو كان منها فان ذلك يفيد
بمفهومه ملكها المنفعة، إذا تقرر هذا فهل يجوز أن يستأجر المرضعة بطعامها
وكسوتها؟ مذهب الشافعي على أن ذلك لا يجوز في الظئر ولا في غيره من أنواع
الإجارات وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن استأجر أجيرا بطعامه وكسوته أو
جعل أجرا وشرط طعامه وكسوته فروى عنه جواز ذلك وهو مذهب مالك وإسحاق
وروى عن أبي بكر وعمر وأبي موسى أنهم استأجروا الاجراء بطعامهم
وكسوتهم، وروى عن أحمد أن ذلك جائز في الظئر دون غيره لقوله تعالى
(وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) فأوجب لهن النفقة والكسوة
29

على الرضاع، ولم يفرق بين المطلقة وغيرها، بل في الآية قرينة تدل على طلاقها
لان الزوجة تجب نفقتها وكسوتها بالزوجية وإن لم ترضع، لان الله تعالى قال
(وعلى الوارث مثل ذلك) والوارث ليس بزوج، ولان المنفعة في الحضانة
والرضاع غير معلومة، فجاز أن يكون عوضها كذلك.
وروى عنه رواية ثالثة: لا يجوز ذلك بحال، لا في الظئر ولا في غيرها.
وبهذا قال الشافعي وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور وابن المنذر، لان ذلك يختلف
اختلافا كثيرا متباينا فيكون مجهولا، والاجر من شرطه أن يكون معلوما.
إذا ثبت هذا فهل تدخل الحضانة في الرضاع أم لا؟ على وجهين (أحدهما) لا تدخل
وهو قول أبي ثور وابن المنذر لأن العقد لم يتناولها (والثاني) تدخل وهو قول أصحاب الرأي، لان العرف جار بأن المرضعة تحضن الصبي فحمل الاطلاق على
ما جرى به العرف والعادة. ويشترط لعقد الرضاعة أربعة شروط:
1 - أن تكون مدة الرضاع معلومة، لأنه لا يمكن تقديره إلا بها، فإن
السقي والعمل فيها يختلف.
2 - معرفة الصبي بالمشاهدة، لان الرضاع يختلف باختلاف الصبي في كبره
وصغره ونهمته وقناعته.
3 - موضع الرضاع لأنه يختلف فيشق عليها في بيته ويسهل عليها في بيتها
4 - معرفة العوض وكونه معلوما كما سبق
(فرع) إذا استأجر عاملا يحفر له بئرا وحدد له مكان البئر وسعتها وأجره،
أو استأجر عاملا يضرب له لبنا وهيأ له الماء والتبن والتراب والمكان الصالح
اضرب اللبن، ثم انهارت البئر أو تلف اللبن بمطر أو داست عليه بهيمة فأتلفته
فقد استحق العامل أجره، ولا ضمان عليه في البئر ولا في اللبن
(فرع) يجوز أن يأخذ الأجرة على تعليم القرآن أو سورة منه مع تعيينها أو
قدر منه مع تعيينه وتحديده كما يجوز أن يأخذ الأجرة على تعليم الفقه والحديث
ونحوهما إن كان محتاجا وهو وجه في المذهب، ولا يصح الاستئجار على القراءة
على الموتى لنصه في الام حيث قال: إن القراءة لا تحصل له.
وقال الشربيني في المغنى: الإجارة للقرآن على القبر مدة معلومة أو قدرا معلوما
30

جائزة للانتفاع بنزول الرحمة حيث يقرأ القرآن ويكون الميت كالحي الحاضر،
سواء أعقب القرآن بالدعاء أم جعل قراءته له أم لا فتعود منفعة القرآن إلى
الميت في ذلك، ولان الدعاء يلحقه وهو بعدها أقرب إلى الإجابة وأكثر بركة،
ولأنه إذا جعل أجرة الحاصل بقراءة للميت فهو دعاء بحصول الاجر فينتفع
به. فقول الشافعي رضي الله عنه أن القراءة لا تحصل له محمول على غير ذلك. وقد
أفتى الشهاب الرملي بذلك وأفاده ولده شمس الدين في نهاية المحتاج
قلت: وقد أجمع أهل العلم على أن القارئ إذا قرأ ابتغاء المال وطلبا للنقود
لا سيما في زماننا الذي عمت فيه حرفة القراءة، وصاروا يتقاولون على القراءة
ويتزيدون كما يتزيد المتبذلون من أهل الغناء والفتنة فإنه لا ثواب له وقد يكون
مأزورا آثما لأنه لا يبتغى بالقرآن وجه الله، ولم يقف عند عجائبه فيحرك به
قلبه، وكما يقول أبو حامد الغزالي رحمه الله: الموعظة زكاة نصاب الاتعاظ
ومن لا نصاب عنده لا زكاة عليه، ففاقد الاتعاظ بكتاب الله ليس عنده ما يمنحه
غيره من الموعظة
(فرع) قال أصحابنا: أعمال الحج معروفة فإذا علمها المتعاقدان عند الإجارة
صحت الإجارة، وان جهلها أحدهما لم تصح بلا خلاف، وممن صرح به امام
الحرمين والبغوي والمتولي، وهل يشترط تعيين الميقات الذي يحرم منه الأجير؟
نص الشافعي في الام ومختصر المزني أنه يشترط، ونص في الاملاء أنه لا يشترط
وللأصحاب أربع طرق، أصحها وبه قال أبو إسحاق المروزي والأكثرون، ووافق
المصنفون على تصحيحه: فيه قولان أصحهما لا يشترط، ويحمل على ميقات تلك
البلدة في العادة الغالبة، لان الإجارة تقع على حج شرعي، والحج الشرعي له
ميقات معقود شرعا وغيرها فانصرف الاطلاق إليه، ولأنه لا فرق بين ما يقرره
المتعاقدان وما تقرر في الشرع أو العرف، كما لو باع بثمن مطلق فإنه يحمل على
ما تقرر في العرف، وهو النقد الغالب ويكون كما لو قرراه.
وممن نص على تصحيح هذا القول الشيخ أبو حامد في تعليقه والمحاملي
والبندنيجي والرافعي وآخرون. والثاني: يشترط لان الاحرام قد يكون من
الميقات وفوقه ودونه، والغرض يختلف بذلك فوجب بيانه
31

والطريق الثاني: إن كان للبلد طريقان مختلفان إلى الميقات أو طريق يفضى
إلى ميقاتين اشترط بيانه وإلا فلا.
والطريق الثالث: إن كان الاستئجار عن حي اشترط، وإن كان عن ميت فلا
لأنه قد يتعلق للحي غرض فيه وهذا الطريق هو الذي حكاه المصنف هنا وحكاه
الشيخ أبو حامد والمحاملي وسائر العراقيين، وضعفه الشيخ أبو حامد الأسفراييني
وآخرون، وهذا والذي قبله ليس بشئ عندهم ونقله إمام الحرمين.
والطريق الرابع: ما حكاه الدارمي من أنه يشترط قولا واحدا، وعلى هذا
إن شرطاه فأهملاه فسدت الإجارة، لكن يصح الحج عن المستأجر وعليه أجرة
المثل، أما تعيين زمان الاحرام فليس بشرط بلا خلاف.
قالوا: وإن كانت الإجارة للحج والعمرة اشترط بلا خلاف بيان أنهما إفراد
أو تمتع أو قران لاختلاف الغرض بذلك، هذا وقد نقل المزني أن الشافعي نص
في المنثور أنه إذا قال المعضوب: من حج عنى فله مائة درهم فحج عنه انسان استحق
المائة، قال المزني: ينبغي أن يستحق أجرة المثل، لان هذا إجارة فلا يصح من
غير تعيين الاجر، هذا كلام الشافعي والمزني، وقد ذكر المصنف المسألة في باب
الجعالة، وللأصحاب فيها ثلاثة أوجه (أصحها) صحة الحج عن المستأجر واستحقاق
الأجير أجرة المثل، لأنه جعالة وليس بإجارة والجعالة تجوز على عمل مجهول
فوقوعها عن معلوم أولى، هذا وبقية ما يتعلق بالإجارة عن الحج من انفراد أجير
أو تعدد أجراء أو حصول الإجارة بمكة أو غيرها مفصل مبسوط في كتاب الحج
من المجموع فاشدد به يديك والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا تصح الإجارة الا على أجرة معلومة لأنه عقد يقصد به
العوض، فلم يصح من غير ذكر العوض كالبيع، ويجوز إجارة المنافع من جنسها
ومن غير جنسها: لان المنافع في الإجارة كالأعيان في البيع، ثم الأعيان يجوز
بيع بعضها ببعض فكذلك المنافع.
(فصل) ولا تجوز الا بعوض معلوم لم روى أبو سعيد الخدري (رض)
32

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من استأجر أجيرا فليعلمه أجره) ولأنه عقد
معاوضة فلم يجز بعوض مجهول كالبيع، وان عقد بمال جزاف نظرت، فإن كان
العقد على منفعة في الذمة ففيه قولان، لان إجارة المنفعة في الذمة كالسلم، وفى
السلم على مال جزاف قولان، فكذلك في الإجارة، فإن كان العقد على منفعة
معينه ففيه طريقان، من أصحابنا من قال يجوز قولا واحدا، لان إجارة العين
كبيع العين، وفى بيع العين يجوز أن يكون العوض جزافا قولا واحدا، فكذلك
في الإجارة، ومنهم من قال: فيه قولان (أحدهما) يجوز (والثاني) لا يجوز،
لأنه عقد على منتظر، وربما انفسخ فيحتاج إلى الرجوع إلى العوض، فكان في
عوضه جزافا قولان كالسلم.
وإن كانت الإجارة على منفعة معينه جاز بأجرة حالة ومؤجلة، لان إجارة
العين كبيع العين، وبيع العين يصح بثمن حال ومؤجل، فكذلك الإجارة،
فإن أطلق العقد وجبت الأجرة بالعقد، ويجب تسليمها بتسليم العين، لما روى
أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أعطوا الأجير أجره قبل
أن يجف رشحه).
ولان الإجارة كالبيع ثم في البيع يجب الثمن بنفس العقد ويجب تسليمه بتسليم
العين، فكذلك في الإجارة، فإن استوفى المنفعة استقرت الأجرة لما روى
أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال ربكم عز وجل:
ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، ومن كنت خصمه خصمته، رجل أعطى بي ثم
غدر، ورجل باع حرا فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه
أجره ولأنه قبض المعقود عليه فاستقر عليه البدل كما لو قبض المبيع، فان سلم إليه
العين التي وقع العقد على منفعتها ومضت مدة يمكن فيها الاستيفاء استقر البدل
لان المعقود عليه تلف تحت يده فاستقر عليه البدل كالمبيع إذا تلف في يد المشترى
فان عرض العين على المستأجر ومضى زمان يمكن فيه الاستيفاء استقرت الأجرة
لان المنافع تلفت باختياره فاستقر عليه ضمانها كالمشتري إذا أتلف المبيع
في يد البائع.
فإن كان هذا في إجارة فاسدة استقر عليه أجرة المثل، لان الإجارة كالبيع
33

والمنفعة كالعين، ثم البيع الفاسد كالصحيح في استقرار البدل، فكذلك في الإجارة
فإن كان العقد على منفعة في الذمة لم يجز بأجره مؤجلة، لان إجارة ما في الذمة
كالسلم، ولا يجوز السلم بثمن مؤجل، فكذلك الإجارة، ولا يجوز حتى يقبض
العوض في المجلس كما لا يجوز في السلم، ومن أصحابنا من قال: إن كان العقد بلفظ
السلم وجب قبض العوض في المجلس لأنه سلم، وإن كان بلفظ الإجارة لم يجب
لأنه إجارة والأول أظهر، لان الحكم يتبع المعنى لا الاسم. ومعناه معنى السلم
فكان حكمه كحكمه، ولا تستقر الأجرة في هذه الإجارة إلا باستيفاء المنفعة،
لان المعقود عليه في الذمة فلا يستقر بدله من غير استيفاء كالمسلم فيه:
(الشرح) حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه رواه أحمد ولفظه (نهى
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استئجار الأجير حتى يبين له أجره، وعن
النجش واللمس والقاء الحجر) قال في مجمع الزوائد: رجال أحمد رجال الصحيح الا
أن إبراهيم النخعي لم يسمع من أبي سعيد فيما أحسب. وأخرجه أيضا البيهقي
وعبد الرزاق وإسحاق بن راهويه وأبو داود في المراسيل والنسائي في الزراعة
غير مرفوع، ولفظ بعضهم (من استأجر أجيرا فليسلم له أجرته) وفى هذا
الحديث دليل على وجوب بيان قدر الأجرة، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال
مالك وأحمد بن حنبل وابن شبرمة: لا يجب للعرف واستحسان المسلمين، قال
صاحب البحر: لا نسلم بل الاجماع على خلافه اه‍. ويؤيد قول المذهب القياس
على ثمن المبيع.
اما حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يقول الله
تعالى: ثلاثة انا خصمهم يوم القيامة، الحديث) فقد أخرجه أحمد والبخاري،
وأخرجه أيضا البزار وفى اسناد البزار هشام بن زياد (أبو المقدام) وهو ضعيف
قال ابن التين: هو سبحانه خصم لجميع الظالمين الا أنه أراد التشديد على هؤلاء
بالتصريح، والخصم يطلق على الواحد والاثنين وعلى أكثر من ذلك.
وقال الهروي: الواحد بكسر أوله، قال الفراء في الطلاق الخصم على الواحد
فأكثر هو قول الفصحاء، ويجوز في الاثنين خصمان، قلت: استعمل القرآن
34

في الاثنين خصمان في قوله تعالى (خصمان بغى بعضنا على بعض) وهو أبلغ
استعمال وافصحه. قوله (من كنت خصمه خصمته) هذه الزيادة ليست في صحيح
البخاري ولكنه أخرجها أحمد وابن حبان وابن خزيمة والإسماعيلي، قوله (باع
حرا وأكل ثمنه) في رواية لأبي داود (ورجل اعتبد محرره) وهو أعم في الفعل
وأخص في المفعول.
قال الخطابي: اعتباد الحر يقع بأمرين، ان يعتقه ثم يكتم ذلك أو يجحده،
والثاني أن يستخدمه كرها بعد العتق، والأول أشدهما. قال في الفتح: الأول أشد
لان فيه مع كتم الفعل أو جحده العمل بمقتضى ذلك من البيع وأكل الثمن فمن ثم
كان الوعيد عليه أشد.
وفى قضاء الاجر عند توفية العمل خلاف بين العلماء فعند أبي حنيفة وأصحابه
إنما تملك بالعقد فتتبعها أحكام الملك، وعند الشافعي وأصحابه أنها تستحق بالعقد
وهذا في الصحيحة، وأما الفاسدة فقال في البحر: لا تجب بالعقد إجماعا وتجب
بالاستيفاء إجماعا.
والإجارة أصول في أنفسها تتنوع على وجهها، وهي كالبيع سواء بسواء،
قال الشافعي رضي الله عنه: البيوع الصحيحة صنفان بيع عين يراها المشترى
والبائع، وبيع صفة مضمونة على البائع، وبيع ثالث وهو الرجل يبيع السلعة
بعينها غائبة عن البائع والمشترى، غير مضمونة على البائع إن سلمت السلعة حتى
يراها المشترى كان فيها بالخيار باعه إياها على صفة وكانت على تلك الصفة التي
باعه إياها، أو مخالفة لتلك الصفة، لان بيع الصفات التي تلزم المشترى ما كان
مضمونا على صاحبه، ولا يتم البيع في هذا حتى يرى المشترى السلعة فيرضاها
ويتفرقان بعد البيع من مقامهما الذي رآه فيه، فحينئذ يتم البيع ويجب عليه الثمن كما
يجب عليه الثمن في سلعة حاضرة اشتراها حتى يتفرقا بعد البيع عن تراض ولا يجوز أن تباع
هذه السلعة بعينها إلى أجل من الآجال قريب ولا بعيد من قبل أنه إنما يلزم بالأجل
ويجوز فيما حل لصاحبه، وأخذه مشتريه ولزمه بكل وجه اه‍.
ونقل السبكي في فتاويه عن القفال قوله: أما الإجارة على الذمة فيثبت فيها
خيار المجلس لا محالة بناء على أنها ملحقه بالسلم حتى يجب فيها قبض البدل في المجلس
35

وقال: أما الرجل يؤاجر نفسه فالإجارة تجوز معينا، وفى الذمة، فإن أجره
معينا فلا بد أن تكون المنفعة معلومة بأحد أمرين بتقدير العمل أو المدة،
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وما عقد من الإجارة على منفعة موصوفة في الذمة يجوز حالا
ومؤجلا في الذمة كالسلم، والسلم يجوز حالا ومؤجلا، فكذلك الإجارة في الذمة
وإن استأجر منفعة في الذمة وأطلق وجبت المنفعة حالة، كما إذا أسلم في شئ
وأطلق وجب حالا، فان استأجر رجلا للحج في الذمة لزمه الحج من سنته، فإن
أخره عن السنة نظرت، فإن كانت الإجارة عن حي كان له أن يفسخ، لان حقه
تأخر، وله في الفسخ فائدة، وهو أن يتصرف في الأجرة، فإن كانت عن ميت
لم يفسخ، لأنه لا يمكن التصرف في الأجرة إذا فسخ العقد، ولابد من استئجار
غيره في السنة الثانية، فلم يكن للفسخ وجه، وما عقد على منفعة معينة لا يجوز
إلا حالا، فإن كان على مدة لم يجز إلا على مدة يتصل ابتداؤها بالعقد، وإن كان
على عمل معين لم يجز الا في الوقت الذي يمكن الشروع في العمل لان إجارة العين
كبيع العين وبيع العين لا يجوز الا على ما يمكن الشروع في قبضها فكذلك الإجارة
فإن استأجر من يحج لم يجز الا في الوقت الذي يتمكن فيه من التوجه، فإن كان
في موضع قريب لم يجز قبل أشهر الحج، لأنه يتأخر استيفاء المعقود عليه عن
حال العقد، وإن كان في موضع بعيد لا يدرك الحج الا ان يسير قبل أشهره لم
يستأجر الا في الوقت الذي يتوجه بعده لأنه وقت الشروع في الاستيفاء،
فإن قال أجرتك: هذه الدار شهرا لم يصح. لأنه ترك تعيين المعقود عليه في
عقد شرط فيه التعيين، فبطل كما لو قال: بعتك عبدا، فإن أجر دارا من رجل
شهرا من وقت العقد ثم أجرها منه الشهر الذي بعده قبل انقضاء الشهر الأول،
ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يصح، لأنه إجارة منفعة معينة على مدة متأخرة عن العقد،
فأشبه إذا أجرها من غيره.
36

(والثاني) أنه يصح، وهو المنصوص، لأنه ليس لغيره يد تحول بينه وبين
ما استأجره. ولان أحد شهريه لا ينفصل عن الآخر، فأشبه إذا جمع
بينهما في العقد.
(الشرح) قال المحاملي في المجموع: لا يجوز أن يستأجره في إجارة العين
إلا في الوقت الذي يتمكن فيه. وقال النووي: إن كان في موضع قريب لم يجز
استئجاره قبل أشهر الحج. وإن كان في موضع بعيد لم يستأجره إلا في الوقت
الذي يتوجه بعده لأنه وقت الشروع في الاستيفاء. وقال أبو الطيب لا يمكن
إجارة إلا في وقت يمكن العمل فيه أو يحتاج فيه إلى السبب. اه‍
ومن هنا إذا لم يشرع في الحج في السنة الأولى لعذر أو لغير عذر، فإن كانت
الإجارة على العين انفسخت لفوات موضوع العقد قولا واحدا، وإن كانت في
الذمة، فإن لم تتعين السنة فهو كتعيين السنة الأولى، وعند بعض أصحابنا يجوز
التأخر عن السنة الأولى ويثبت الخيار للمستأجر، وإن عينا السنة وتأخر عنها
فطريقان أصحهما:
على قولين كما لو أنقطع المسلم فيه عند حلول الأجل (أ) لا ينفسخ العقد وهو
الأظهر (ب) ينفسخ قولا واحدا، وهو مقتضى كلام المصنف هنا.
وإن كان الاستئجار عن ميت فلا خيار للمستأجر، وهذا هو رأى المصنف
وأصحابنا العراقيين، وقد قال إمام الحرمين: وفيما ذكروه نظر لأنه لا يمنع
أن يثبت للورثة الخيار ويستردون الأجرة بالفسخ، وهذا استدراك على
المصنف يجعل للورثة الحق في أن يبذلوا الأجرة لأجير آخر، وهذا أجدر
بحصول المقصود وقد تابع الغزالي شيخه على هذا.
وقال البغوي وآخرون بوجوب مراعاة الولي المصلحة في ذلك، فإن رأى
الفسخ لخوف إفلاس الأجير أو هربه وإلا تركه وضمن، وصحح الرافعي هذا
وحمل الرافعي قول المصنف وأصحابه من العراقيين على أن الميت قد أوصى بأن
يحج عنه فلان فتكون الوصية مستحقة الصرف إليه.
وقال أبو إسحاق المروزي: للمستأجر أن يرفع الامر إلى القاضي ليفسخ العقد
37

إن كانت المصلحة تقتضيه. قال الرافعي: فإن نزل ما ذكروه على المعنى الأول
ارتفع الخلاف، وإن على الثاني هان امره.
قوله (لأنه إجارة منفعة معينة على مدة متأخرة) قال النووي في المنهاج:
ولا تجوز إجارة عين لمنفعة مستقبلة. اه‍
وذلك كإجارة هذه الدار السنة المستقبلة أو سنة أولها من غد، وكذا ان قال
أولها من أمس، وكإجارة أرض مزروعة لا يمكن تفريغها الا بعد مدة لمثلها
أجرة، وذلك كما لو باعه عينا على أن يسلمها له بعد ساعة بخلاف إجارة الذمة
كما مر، ولو قال وقد عقد آخر النهار: أولها يوم تاريخه لم يضر لان القرينة
ظاهرة في أن المراد باليوم الوقت أو في التعبير باليوم عن بعضه، ويستثنى من
المنع في المستقبلة صور، كما لو أجره ليلا ليعمل نهارا. وهذا عرف شائع في
ديارنا ابان الحصاد وجنى القطن ونقاوة الدودة وشتل الأرز وتعفير الطماطم
بالكبريت قبل جفاف الندى.
ومثله إجارة دار بغير بلد المتعاقدين، كمن يستأجر عشة برأس البر ليصطاف
فيها فأجرها قبل الصيف لان استيفاء العقد لا يكون الا صيفا، وإذا لم يؤجرها
فاته الانتفاع بمقصوده. فلو آجر الشهر الثاني لمستأجر الشهر الأول أو السنة
الثانية لمستأجر السنة الأولى قبل انقضائها جاز في الأصح لاتصال المدتين مع
اتحاد المستأجر، كما لو آخر منه السنتين في عقد، ولا نظر إلى احتمال انفساخ
العقد الأول لان الأصل عدمه، فان وجد ذلك لم يقدح في الثاني.
(فرع) في جواز الوارث ما آجره الميت من المستأجر تردد. أفاد شمس الدين
الرملي أن الأقرب منه الجواز لأنه نائبه.
وقال الزركشي: أنه الظاهر، وهذا إذا لم يحصل فصل بين السنين، والا
فلا يصح، وهذا يشمل الطلق والوقف، نعم لو شرط الواقف أن لا يؤجر الوقف
أكثر من ثلاث سنين فأجره الناظر ثلاثا في عقد آخر قبل مضى المدة
فالمعتمد كما أفتى به ابن الصلاح ووافقه السبكي والأذرعي وغيرهما عدم صحة
العقد الثاني. وان قلنا بصحة إجارة الزمان القابل من المستأجر اتباعا لشرط
الواقف، لان المدتين المتصلتين في العقدين في معنى العقد الواحد. وهذا بعينه
38

يقتضى المنع في هذه الصورة لوقوعه زائدا على ما شرطه الواقف، وان خالفه
ابن الأستاذ وقال: ينبغي ان يصح نظرا إلى ظاهر اللفظ.
(فرع) مذهبنا انه لا تصح إجارة المسلم للجهاد في سبيل الله لحرب أعداء
الدين، لان الجهاد فرض عليه ما دام مستطيعا، ولأنه إذا حضر الصف تعين
عليه القتال فريضة، ويصح للامام ان يستأجر غير المسلمين لقتال غير المسلمين
من الكفار. ولا يصح استئجار المسلم لعبادة تحتاج إلى نية الا الحج وتفرقة
الزكاة أو تعليم قرآن، وتصح الإجارة لتجهيز ميت ودفنه، وتصح الإجارة
للصوم عن الميت، وتصح لذبح الهدى والأضاحي ونحوها. ويصح الاستئجار
لشعار غير فرض كالاذان.
قال الشربيني في المغنى: ولا يصح الاستئجار للإمامة ولو نافلة كالتراويح
لان فائدتها من تحصيل فضيلة الجماعة لا تحصل للمستأجر بل للأجير، ويصح
استئجار بيت ليتخذه مصلى، وصورته كما قال صاحب الانتصار ان يستأجره
للصلاة، أما إذا استأجره ليجعله مسجدا فلا يصح بلا خلاف، ولا يصح
الاستئجار لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم. قال الرملي وغيره: فزيارة قبر
غيره أولى. هكذا أفاده الخطيب الشربيني وشمس الدين الرملي الشبراملسي في
شروحهم لمنهاج النووي، وعزا الرملي إلى الماوردي هذا ووافقه عليه. والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فإن اكرى ظهرا من رجلين يتعاقبان عليه أو اكترى من رجل
عقبة ليركب في بعض الطريق دون بعض جاز. وقال المزني: لا يجوز اكتراء
العقبة الا مضمونا لأنه يتأخر حق أحدهما عن العقد فلم يجز، كما لو اكراه
ظهرا في مدة تتأخر عن العقد، والمذهب الأول، لان استحقاق الاستيفاء
مقارن للعقد، وإنما يتأخر عن القسمة وذلك لا يمنع صحة العقد، كما لو باع من
رجلين صبرة فإنه يصح، وان تأخر حق أحدهما عند القسمة، فإن كان ذلك في
طريق فيه عادة في الركوب والنزول، جاز العقد عليه مطلقا، وحملا في الركوب
والنزول على العقادة لأنه معلوم بالعادة. فحمل الاصلاق عليه كالنقد المعروف
39

في البيع، وإن لم يكن فيه عادة لم يصح حتى يبين مقدار ما يركب كل واحد منهما
لأنه غير معلوم بالعادة، فوجب بيانه كالثمن في موضع لا نقد فيه، فان اختلفا
في البادئ في الركوب أقرع بينهما، فمن خرجت عليه القرعة قدم لأنهما تساويا
في الملك فقدم بالقرعة.
(الشرح) التعاقب التناوب، فينزل هذا نوبة وهذا نوبة. وفى الحديث
(يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار) والعقب بضم العين جمع
عقبة، أي نوبة
قال الشافعي رضي الله عنه: فان تكارى منه لعبده فأراد أن يركب
الليل دون النهار بالأميال، أو أراد ذلك به الجمال فليس
ذلك لواحد منهما، ويركب على ما يعرف الناس العقبة، ثم ينزل فيمشي بقدر
ما يركب، ثم يركب بقدر ما مشى، فيفدحه ولا الركوب فيضر
بالبعير اه‍. ويفهم من كلامه ان القصد من عقد الإجارة تحقيق المنفعة للمستأجر
وعدم المضارة بالبهيم لحرمته.
قال النووي رضي الله عنه (ويجوز كراء العقب في الأصح) وبيان ذلك أن
يؤجر دابة رجلا ليركبها بعض الطريق ويمشي بعضها أو يركبه المالك تناوبا
أو يؤجرها رجلين ليركب ذا أياما وذا أياما كذلك تناوبا، أو يقول: آجرتك
نصفها لمكان كذا أو كلها لتركبها نصف الطريق فيصح كبيع المشاع، ويبين
البعضين في الصورتين كنصف أو ربع ما لم يكن ثم عادة معروفه مضبوطة بالزمن
أو المسافة ثم يقتسمان بالتراضي، فإذا تنازعا أيهما يبدأ أقرع بينهما، لأنهما
يملكان المنفعة معا، ويغتفر التأجير الواقع لضرورة القسمة.
نعم شرط الصحة في الأولى تقدم ركوب المستأجر، وإلا بطلت لتعلقها حينئذ
بزمن مستقبل، ومقابل الأصح في قول النووي أوجه أصحها المنع لأنها إجارة
أزمان متقطعة. وفى الروضة أنه ليس لأحدهما أن يطلب المشي ثلاثا
والركوب ثلاثا للمشقة. اه‍
40

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وما عقد من الإجارة على مدة لا يجوز فيه شرط الخيار، لان
الخيار يمنع من التصرف، فان حسب ذلك على المكرى زدنا عليه المدة، وإن
حسب على المكترى نقصنا من المدة وهل يثبت فيه خيار المجلس؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يثبت لما ذكرناه من النقصان والزيادة في خيار الشرط.
(والثاني) يثبت لأنه قدر يسير، ولكل واحد منهما إسقاطه، وإن كانت
الإجارة على عمل معين ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) لا يثبت فيه الخياران، لأنه
عقد على غرر فلا يضاف إليه غرر الخيار (والثاني) يثبت فيه الخياران، لان
المنفعة المعينة كالعين في البيع، ثم العين المعينة يثبت فيها الخياران فكذلك
المنفعة (والثالث) يثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط، لأنه عقد على
منتظر فيثبت فيه خيار المجلس دون خيار الشرط كالسلم.
وإن كانت الإجارة على منفعة في الذمة ففيه وجهان (أحدهما) لا يثبت فيه
الخياران، لأنه عقد على غرر فلا يضاف إليه غرر الخيار (والثاني) يثبت فيه
خيار المجلس دون خيار الشرط، لان الإجارة في الذمة كالسلم، وفى السلم يثبت
خيار المجلس دون خيار الشرط، فكذلك في الإجارة.
(فصل) وإذا تم العقد لزم ولم يملك واحد منهما ان ينفرد بفسخه من غير
عيب لان الإجارة كالبيع، ثم البيع إذا تم لزم فكذلك الإجارة وبالله التوفيق
(الشرح) مذهبنا أنه لا خيار بعد لزوم العقد. وقال أبو حنيفة: يجوز
للمستأجر فسخ الإجارة بالأعذار الظاهرة مع السلامة من العيوب، ولا يجوز
للمؤجر أن يفسخ بالأعذار، مثل أن يستأجر دارا ليسكنها ثم يريد النقلة عن البلد
أو يستأجر حرز لمتاعه ثم يريد بيعه، أو يستأجر من يطحن له برا ثم يريد
بذره. إلى ما أشبه ذلك من الاعذار، فيجعل له بها فسخ الإجارة للعذر.
ألا ترى أن من استؤجر لقلع فدانين من الحطب جاز للمستأجر فسخ الإجارة
للعذر الطارئ ولم يجبر على قلع فدانيه، وكذا كل عذر.
41

ودليلنا على أبي حنيفة قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) فكان
عموم هذا الامر يوجب الوفاء بكل عقد ما لم يقم دليل بتخصيصه، ولان كل عقد
لزم العاقدين مع سلامة الأحوال لزمهما ما لم يحدث بالعوضين نقص كالبيع، ولان
كل عقد لزم العاقد عند ارتفاع العذر لم يحدث له خيار بحدوث عذر كالزوج،
ولان كل سبب لا يملك المؤجر الفسخ لم يملك المستأجر به الفسخ كالأجرة
لا يكون حدوث الزيادة فيها موجبا لفسخ المؤجر كما لم يكن حدوث النقصان فيها
موجبا لفسخ المستأجر، لان نقصانها في حق المستأجر كزيادتها في حق المؤجر
ولأنه عقد إجارة فلم يجز فسخه بعذر كالمؤجر، ولأن العقود نوعان، لازمة فلا
يجوز فسخها بعذر كالبيع، وغير لازمة فيجوز فسخها بغير عذر كالقراض.
فلما لم يكن عقد الإجارة ملحقا بغير اللازم في جواز فسخه بغير عذر وجب
أن يكون ملحقا باللازم في إبطال فسخه بعذر.
فأما الجواب عن قياسه على الوكالة فهو أن الوكالة غير لازمة يجوز فسخها
بعذر وغير عذر، وليس كذلك الإجارة، وأما استدلاله بأن للاعذار تأثيرا في
عقود الإجارات كالضرس المستأجر على قلعه إذا برئ، فالجواب عنه هو أن
من ملك منفعة بعقد إجارة فقد استحقها، وليس يجب عليه استيفاؤها، ألا ترى
أن من استأجر سكنى دار فله أن يسكنها، ولا يجبر على سكناها، فإن مكن من
سكناها فلم يسكن فعليه الأجرة،
هذا أصل مقرر في الإجارة، وإذا كان كذلك - فإن كان الضرس على حال
مرضه وألمه - فقلعه مباح، وللمستأجر أن يأخذ الأجير بقلعه إن شاء، فإن
أبى المستأجر أن يقلعه من ألمه لم يجبر عليه. وقيل له: قد بذل لك الأجير القلع
وأنت ممتنع، فإذا مضت مدة يمكن فيها قلعه فقد استحق أجرته كما لو مضت مدة
السكنى، وان برئ الضرس في الحال قبل إمكان القلع بطلت الإجارة، لان
قلعه قد حرم، وعقد الإجارة إنما يتناول مباحا لا محظورا، فصار محل العمل
معدوما، فلذلك بطلت الإجارة كما لو استأجر لخياطة ثوب فلف، إذ لا فرق
بين تعذر العمل بالتلف وبين تعذره بالحظر.
42

فإذا تقرر أن عقد الإجارة من العقود اللازمة، وأن فسخه بالعذر غير جائز
فلا يجوز اشتراط الثلاث فيه، وقال أبو حنيفة: يجوز اشتراط الخيار فيه كما
يجوز في البيع لأنهما معا من عقود المعاوضات.
ودليلنا: هو ان ما لزم من عقود المنافع لم يصح اشتراط الخيار فيه كالنكاح
ولان اشتراط الثلاثة يتضمن اتلاف بعض المعقود عليه فيما ليس متابع للمعقود
عليه مع بقاء العقد في جميعه فلم يصح، كما لو شرط في ابتياع جوادين أنه ان تلف
أحدهما في يد البائع لم يبطل البيع. ولان المعقود إذا لم يبق جميعه في مدة الخيار لم
يصح اشتراط الخيار قياسا على بيع الطعام الرطب.
فإذا صح ان خيار الشرط لا يدخله فقد اختلف أصحابنا هل يدخله خيار
المجلس أم لا؟ على وجهين.
(أحدهما) يدخله كالبيع لكونهما عقدي معاوضة. فعلى هذا ان أخرها
المؤجر من غير المستأجر في خيار المجلس صحت الإجارة الثانية وكان ذلك فسخا
للإجارة الأولى. هكذا أفاده الماوردي.
وقال بعض أصحابنا: تفسخ الإجارة الأولى ولا تصح الإجارة الثانية لتقدم
الفسخ. لأنه لا يصير الفعل الواحد فسخا وعقدا لتنافيهما. ولهذا القول وجه
فإن كان المذهب هو ان استقرار العقد الثاني يوجب فسخ العقد الأول بالتأهب
الثاني. وعلى هذا الوجه لو أخره المستأجر كانت اجارته باطلة سواء قبضه أو لم
يقبضه. لان خيار المؤجر يمنع من امضاء المستأجر. وعلى هذا الوجه لو افترقا
عن تراض لم يكن للمستأجر أن يؤجر قبل قبضه كما ليس للمشترى بيع ما لم يقبضه
(والوجه الثاني) ان خيار المجلس لا يدخله. ويصير العقد بالبذل والقبول
لازما. لان خيار المجلس يفوت بعض المدة فأشبه خيار الشرط. فعلى هذا لو
أجره المؤجر قبل الافتراق أو بعده لم يجز. ولو آجره المستأجر. فإن كان بعد
القبض جاز. وإن كان قبله؟ فعلى وجهين.
(أحدهما) يجوز لمفارقته البيع في الخيار ففارقه في القبض.
(الوجه الثاني) لا يجوز لكون المنفعة مضمونه على المستأجر فأشبه ضمان
43

المبيع على البائع وان فارق البيع في حكم الخيار وهذان الوجهان في إجارة ما لم يقبض مبنى
على اختلاف أصحابنا في عقد الإجارة هل تناول الدار المؤاجرة لاستيفاء المنفعة
منها أو تناول المنفعة؟ فقال أبو إسحاق المروزي: عقد الإجارة إنما تناول الدار
الموجودة، لان المنافع غير مخلوقة، فعلى هذا يمنع من إجارتها قبل القبض كما
يمنع من البيع.
(والوجه الثاني) وهو الأكثر من أصحابنا أن العقد إنما تناول المنفعة دون
الرقبة لان العوض في مقابلتها، ولا يصح أن يتوجه العقد إلى ما لم يقابله العوض
وتصير المنافع بتسليم الرقبة مقبوضة حكما، وإن لم يكن القبض مستقرا إلا بمضي
المدة فعلى، هذا تجوز إجارتها قبل قبضها.
وقال النووي: لا تنفسخ الإجارة بعذر كتعذر وقود حمام وسفر ومرض
مستأجر دابة لسفر، ولو استأجر أرضا لزراعة فزرع فهلك الزرع بجائحة فليس
له الفسخ، ولا حط شئ من الأجرة، وتنفسخ بموت الدابة والأجير المعينين
في المستقبل لا الماضي في الأظهر، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب ما يلزم المتكاريين وما يجوز لهما)
يجب على المكرى ما يحتاج إليه المكترى للتمكين من الانتفاع كمفتاح الدار
وزمام الجمل والبرة التي في أنفه والحزام والقتب والسرج واللجام للفرس لان
التمكين عليه ولا يحصل التمكين إلا بذلك، فان تلف شئ منه في يد المكترى لم
يضمنه كما لا يضمن العين المستأجرة وعلى المكرى بدله لان التمكين مستحق عليه
إلى أن يستوفى المستأجر المنفعة وما يحتاج إليه لكمال الانتفاع كالدلو والحبل
والمحمل والغطاء فهو على المكترى، لان ذلك يراد لكمال الانتفاع، واختلف
أصحابنا فيما يشد به أحد المحملين إلى الآخر، فمنهم من قال: هو على المكرى
لأنه من آلة التمكين، فكان على المكرى، ومنهم من قال: هو على المكترى
لأنه بمنزلة تأليف المحمل وضم بعضه إلى بعض.
44

(فصل) وعلى المكرى إشالة المحمل وحطه وسوق الظهر وقوده، لان
العادة أنه يتولاه المكرى فحمل العقد عليه، وعليه أن ينزل الراكب للطهارة
وصلاة الفرض لأنه لا يمكن ذلك على الظهر، ولا يجب ذلك للاكل وصلاة
النفل، لأنه يمكن فعله على الظهر وعليه أن يبرك الجمل للمرأة والمريض والشيخ
الضعيف، لان ذلك من مقتضى التمكين من الانتفاع، فكان عليه
فأما أجرة الدليل فينظر فيه فإن كانت الإجارة على تحصيل الراكب فهو على
المكرى لان ذلك من مؤن التحصيل، وإن كانت الإجارة على ظهر بعينه فهو على
المكترى لان الذي يجب على المكرى تسليم الظهر وقد فعل، وعلى المكرى تسليم
الدار فارغة الحش، لأنه من مقتضى التمكين، فإن امتلأ في يد المكترى ففي
كسحه وجهان:
(أحدهما) أنه على المكرى لأنه من مقتضى التمكين فكان عليه
(والثاني) أنه على المكترى لأنه حصل بفعله فكان تنقيته عليه كتنظيف
الدار من القمامة وعلى المكرى إصلاح ما تهدم من الدار وإبدال ما تكسر من
الخشب، لان ذلك من مقتضى التمكين فكان عليه.
واختلف أصحابنا في المستأجرة على الرضاع هل يلزمها الحضانة وغسل الخرق؟
فمنهم من قال يلزمها لان الحضانة تابعة للرضاع، فاستحقت بالعقد على الرضاع
ومنهم من قال لا يلزمها لأنهما منفعتان مقصودتان تنفرد إحداهما عن الأخرى
فلا تلزم بالعقد على إحداهما الأخرى وعليها أن تأكل وتشرب ما يدر به اللبن
ويصلح به، وللمستأجر أن يطالبها بذلك لأنه من مقتضى التمكين من الرضاع، وفى
تركه إضرار بالصبي
(فصل) وعلى المكرى علف الظهر وسقيه لان ذلك من مقتضى التمكين
فكان عليه، فان هرب الجمال وترك الجمال فللمستأجر أن يرفع الامر إلى الحاكم
ليحكم في مال الجمال بالعلف لان ذلك مستحق عليه فجاز أن يتوصل بالحكم إليه
فإن أنفق المستأجر ولم يستأذن الحاكم لم يرجع لأنه متطوع، وإن رفع الامر
الحاكم ولم يكن للجمال مال اقترض عليه، فإن اقترض من المستأجر وقبضه منه
45

ثم دفعه إليه لينفق جاز، وان لم يقبض منه ولكنه أذن له في الانفاق عليها قرضا
على الجمال ففيه قولان.
(أحدهما) لا يجوز لأنه إذا أنفق احتجنا أن يقبل قوله في استحقاق حق له
على غيره (والثاني) يجوز لأنه موضع ضرورة، لأنه لا بد للجمال من علف
وليس ههنا من ينفق غيره، فإن أذن له وأنفق ثم اختلفا في قدر ما أنفق فإن كان
ما يدعيه زيادة على المعروف لم يلتفت إليه لأنه إن كان كاذبا فلا حق له وإن كان
صادقا فهو متطوع بالزيادة فلم تصح الدعوى، وإن كان ما يدعيه هو المعروف
فالقول قوله لأنه مؤتمن في الانفاق فقبل قوله فيه، فإن لم يكن حاكم فأنفق ولم
يشهد لم يرجع لأنه متطوع، وإن أشهد فهل يرجع؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يرجع لأنه يثبت حقا لنفسه على غيره من غير اذن ولا حاكم.
(والثاني) يرجع لأنه حق على غائب تعذر استيفاؤه منه فجاز أن يتوصل إليه
بنفسه، كما لو كان له على رجل دين لا يقدر على أخذه منه، فإن لم يجد من يشهد
أنفق. وفى الرجوع وجهان (أحدهما) لا يرجع، لما ذكرناه فيه إذا أشهد،
(والثاني) يرجع، لان ترك الجمال مع العلم أنه لا بد لها من العلف
إذن في الانفاق.
(الشرح) قوله (برة) محذوفة اللام، هي حلقة تجعل في أنف البعير تكون
من النحاس ونحوه، وأبريت البعير جعلت له برة، وقوله (القماش) وهو ما على
وجه الأرض من فتات الأشياء، حتى يقال لرذالة الناس قماش. وما أعطاني إلا
قماشا، أي أردأ ما وجد، أفاده في القاموس.
وقوله في ترجمة الباب (ما يلزم المتكاريين) أي ما يتعين لدفع الخيار،
فعلى المكرى تسليم مفتاح ضبة الدار إلى المكترى لتوقف الانتفاع عليه، وهو
أمانة بيده، فلو تلف ولو بتقصير فعلى المكرى تجديده، فان امتنع لم يجبر ولم
يأثم وينبنى على ذلك سؤال:
هل تصح إجارة دار لا باب لها؟ ففي هذه الصورة نظر وقد تتوجه الصحة
إن أمكن الانتفاع بها بلا باب، كأن أمكن التسلق من الجدار، وعلى القول
46

بالصحة هل يثبت الخيار للجاهل، كأن رآها قبل سد بابها ثم استأجرها اعتمادا
على الرؤية السابقة؟ قلنا يثبت له الخيار وجها واحدا.
فأما القفل فلا يجب تسليمه فضلا عن مفتاحه لأنه منقول وليس بتابع، كما
أن عليه من أسباب التمكين مبنيا على أصل المذهب إضاءة المدخل واستكمال
المرافق الصحية، فإن لم يفعل لم يجبر، وكان المكترى بالخيار والمستأجر عليه
كنس السلم والفناء لان ذلك ميسور له.
قال الشافعي رضي الله عنه في كراء الإبل والدواب من الام: وعلى المكرى
أن يركب المرأة البعير باركا وتنزل عنه باركا، لان ذلك ركوب النساء. اما
الرجال فيركبون على الأغلب من ركوب الناس، وعليه أن ينزله للصلوات
وينتظر حتى يصليها غير معجل له ولما لا بد له منه كالوضوء، وليس عليه أن
ينتظره لغير ما لابد له منه. قال وليس للجمال إذا كانت القرى هي المنازل أن
يتعداها إن أراد الكلأ، ولا للمكترى إذا أراد عزلة الناس، وكذلك إن اختلفا
في الساعة التي يسيران فيها، فان أراد الجمال أو المكترى ذلك في حر شديد نظر
إلى مسير الناس بقدر المرحلة التي يريدان
وقال الشافعي رضي الله عنه: وعلف الدواب والإبل على الجمال أو مالك
الدواب، فان تغيب واحد منهما فعلف المكترى فهو متطوع إلا أن يرفع ذلك
إلى السلطان، وينبغي للسلطان أن يوكل رجلا من أهل الرفقة بأن يعلف
ويحسب ذلك على رب الدابة والإبل، وإن ضاق ذلك فلم يوجد أحد غير الراكب.
فان قال قائل: يأمر الراكب أن يعلف لان من حقه الركوب والركوب لا يصلح
إلا بعلف ويحسب ذلك على صاحب الدابة، وهذا موضع ضرورة، ولا يوجد
فيه الا هذا، لأنه لابد من العلف والا تلفت الدابة ولم يستوف المكترى
الركوب كان مذهبا
ثم قال الشافعي رضي الله عنه: وفى هذا أن المكترى يكون أمين نفسه،
وأن رب الدابة إن قال لم يعلفها الا بكذا، وقال الأمين: علفتها بكذا لأكثر،
47

فإن قبل قول رب الدابة في ماله سقط كثير من حق العالف، وإن قبل قول
المكترى العالف كان القول قوله فيما يلزم غيره، وإن نظر إلى علف مثلها فصدق
به فيه فقد خرج مالك الدابة والمكترى من أن يكون القول قولهما، وقد ترد أشباه
من هذا في الفقه فيذهب بعض أصحابنا إلى أن لا قياس، وأن القياس ضعيف،
وقد ذكر في غير هذا الموضع، ويقولون: يقضى بين الناس بأقرب الأمور في
العدل فيما يراه إذا لم يجد فيه متقدما من حكم يتبعه.
قال الشافعي رضي الله عنه: فيعيب هذا المذهب بعض الناس من كره
الرأي فإن جاز أن يحكم فيه بما يكون عدلا عند الناس فيما يرى الحاكم فهو مذهب
أصحابنا في بعض أقاويلهم، وإن لم يجز فقد يترك أهل القياس القياس،
والله تعالى أعلم.
(فرع) إذا استأجر دارا فانطمت آبارها وامتلأت حشوشها فالذي عليه أصحابنا
أن تنقية ذلك وتنظيفه على المؤجر دون المستأجر من غير تفصيل لما عليه من
حقوق التمكين. قال الماوردي: والذي عندي وأراه مذهبا أن تنقية ما انطم
من آبارها على المؤجر وتنقية ما امتلأ من حشوشها على المستأجر، لان امتلاء
الحشوش من فعله فصار كتحويل القماش وليس كذلك انطمام الآبار، فلو امتنع
المستأجر من تنقية الحشوش أجبر عليه، ولو امتنع المؤجر ما يلزمه من الآبار لم
يجبر عليه، وكان المستأجر بالخيار، والله أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) واختلف أصحابنا في رد المستأجر بعد انقضاء الإجارة، فمنهم من
قال: لا يلزمه قبل المطالبة لأنه أمانة فلا يلزمه ردها قبل الطلب كالوديعة، ومنهم
من قال: يلزمه لأنه بعد انقضاء الإجارة غير مأذون له في إمساكها، فلزمه الرد
كالعارية المؤقتة بعد انقضاء وقتها، فإن قلنا: لا يلزمه الرد لم يلزمه مؤنة الرد
كالوديعة، وان قلنا: يلزمه لزمه مؤنة الرد كالعارية.
(فصل) وللمستأجر أن يستوفى مثل المنفعة المعقود عليها بالمعروف، لان
إطلاق العقد يقتضى المتعارف، والمتعارف كالمشروط، فإن استأجر دارا للسكنى
48

جاز أن يطرح فيها المتاع، لان ذلك متعارف في السكنى، ولا يجوز أن يربط فيها
الدواب ولا يقصر فيها الثياب ولا يطرح في أصول حيطانها الرماد والتراب،
لان ذلك غير متعارف في السكنى، وهل يجوز أن يطرح فيها ما يسرع إليه
الفساد، فيه وجهان.
(أحدهما) لا يجوز لان الفأر ينقب الحيطان للوصول إلى ذلك.
(والثاني) يجوز، وهو الأظهر، لان طرح ما يسرع إليه الفساد من الطاهر
المأكول متعارف في سكنى الدار، فلم يجز المنع منه، وإن اكترى قميصا للبس
لم يجز أن ينام فيه بالليل، ويجوز بالنهار، لان العرف أن يخلع لنوم الليل
دون نوم النهار.
وإن استأجر ظهرا للركوب ركب عليه لا مستلقيا ولا منكبا: لان ذلك
هو المتعارف، وإن كان في طريق العادة فيه السير في أحد الزمانين من ليل أو نهار
لم يسر في الزمان الآخر لان ذلك هو المتعارف، وان اكترى ظهرا في طريق
العادة فيه النزول للرواح ففيه وجهان.
(أحدهما) يلزمه النزول، لان ذلك متعارف والمتعارف كالمشروط.
(والثاني) لا يلزمه، لأنه عقد على الركوب في جميع الطريق فلا يلزمه تركه
في بعضه، فإن اكترى ظهرا إلى مكة لم يجز أن يحج عليه، لان ذلك زيادة على
المعقود عليه، وإن اكتراه للحج عليه، فله أن يركبه إلى منى ثم إلى عرفة ثم إلى
المزدلفة ثم إلى منى ثم إلى مكة، وهل يجوز أن يركبه من مكة عائدا إلى منى للمبيت
والرمي؟ فيه وجهان (أحدهما) له ذلك لأنه من تمام الحج (والثاني) ليس له
لأنه قد حل من الحج.
(الشرح) قد عرفنا مما سبق من الشواهد والأدلة والنصوص أن عقد الإجارة
يصح على العين مدة تبقى بصفاتها غالبا لامكان استيفاء المعقود عليه كسنة أو عشر
سنين أو ثلاثين سنة على ما يليق بكل عين مستأجرة.
قال البغوي: الا أن الحكام اصطلحوا على أن لا يؤجروا الوقف أكثر من
ثلاث سنين لئلا يندرس الوقف. قال السبكي: ولعل سببه أن إجارة الوقف
49

تحتاج إلى أن تكون بالقيمة وتقويم المدة المستقبلة البعيدة صعب. وللمستأجر
في إجارة العين أن ينتفع بها من أول العقد ويده عليها يد أمانة فيأتي فيه ما مر في
الوديع مدة الإجارة ان قدرت بزمن، أو مدة امكان استيفاء المنفعة ان قدرت
بمحل عمل لعدم امكان الاستيفاء للمنفعة بدون وضع يده، وبه فارق كون يده
يد ضمان على طرف مبيع قبضه فيه لتمحض قبضه لغرض نفسه، ويجوز السفر
للمكترى بالعين المكتراة عند انتفاء الخطر لملكه المنفعة فجاز له استيفاؤها حيث
شاء، وظاهره عدم الفرق بين إجارة العين وهو ظاهر، والذمة وهو محتمل، نعم
سفره بها كسفر الوديع فيما يظهر أخذا مما مر في الوديعة.
ووجه ما قررنا أنه عقد لا يقتضى الضمان لأن العين أمانة في يد المستأجر ان
تلفت بغير تفريط لم يضمنها، وسئل أحمد بن حنبل عن المظل والخيمة إلى مكة
فتذهب من المكترى بسرق أو ذهاب هل يضمن؟ قال: أرجو أن لا يضمن،
وكيف يضمن؟ إذا ذهب لا يضمن. اه‍
فإذا انقضت المدة فعليه رفع يده، وليس عليه الرد في قول غير أن عليه أن
يتوقف عن الانتفاع، وفارق العارية فإنه عليه أن يردها من حيث أخذها،
ووجهه أنه عقد لا يقتضى الضمان فلا يقتضى رده ومؤنته كالوديعة وفارق العارية
فإن ضمانها يجب فكذلك ردها، وعلى هذا متى انقضت المدة كانت العين في يده
أمانة كالوديعة، ان تلفت من غير تفريط فلا ضمان عليه.
والقول الآخر: يضمن إذا انتهت مدة الإجارة لأنه بعد انقضاء الإجارة غير
مأذون له في امساكها أشبه العارية المؤقتة بعد وقتها، فإن ضمن المؤجر على
المستأجر ضمان العين فالشرط فاسد لأنه ينافي مقتضى العقد، وهل تفسد الإجارة
به؟ فيه وجهان بناء على الشروط الفاسدة في البيع.
وروى عن ابن عمر أنه قال: لا يصلح الكراء بالضمان. وعن فقهاء المدينة
أنهم كانوا يقولون: لا تكترى بضمان، الا أنه من شرط على كراء أنه لا ينزل
متاعه بطن واد أو لا يسير به ليلا مع أشباه هذه الشروط فتعدى ذلك فتلف
شئ مما حمل في ذلك التعدي فهو ضامن، فأما غير ذلك فلا يصح شرط الضمان
50

فيه، وإن شرطه لم يصح الشرط لان ما لا يجب ضمانه لا يصير بالشرط مضمونا
وما يجب ضمانه لا ينتفى ضمانه بشرط نفيه.
فأما إن أكراه عينا وشرط عليه أن لا يسير بها في الليل أو وقت القائلة أو
لا يتأخر بها عن القافلة أو لا يجعل سيره في آخرها؟ أو لا يسلك بها الطريق
الفلانية وأشباه هذا مما له فيه غرض مخالف ضمن لأنه متعد لشرط كرائه فضمن
ما تلف به، كما لو شرط عليه أن لا يحمل عليها إلا قفيزا فحمل قفيزين، فإذا
كانت العين دارا فلا يصح أن يقتنى فيها ما يؤدى إلى المضارة بالبناء إلى الحد الذي
جعل بعض الأصحاب يمنع أن يكون في متاعه بعض المأكولات التي تحدث رائحة
تجلب الفيران لما يترتب عليه من احداث شقوق في جدار البيت، وقد رد هذا
القول جمهور العلماء بأن المتعارف بين الناس وما تحكم به ضرورات المعيشة أن
كل مأكولات الانسان تغرى الفيران وتجذبها إليها ولذا فقد عفى في الأصح
عما لا يمكن التحرز منه أو الاستغناء عنه ومقتضى أصول المذهب أن كل متعارف
هو كالمشروط فلا يلزمه تركه.
(فرع) يشترط في إجارة الذمة أو العين للركوب بيان قدر السير كل يوم
وكونه ليلا أو نهارا والنزول في عامر أو صحراء لتفاوت الاغراض بذلك، ولو
أراد أحدهما مجاوزة المحل المشروط أو نقصا منه لخوف لحوق ضرر منه ولو كان
ظنا جاز دون غيره كما لو استأجر مطية للذهاب والإياب فإنه لا تحسب عليه مدة
اقامتها لخوف الا أن يكون بالطريق منازل مضبوطة بالعادة، فينزل عليها، فإن
لم تنضبط اشترط بيان المنازل أو التقدير بالزمن وحده، والا امتنع التقدير بالسير
به لعدم تعلقه بالاختيار، وحينئذ يتعذر الاستئجار في طريق مخوفة لا منازل فيها
(فرع) من اكترى مطية ليحج عليها فله الركوب عليها إلى مكة ومن مكة
إلى عرفة والخروج عليها إلى منى لأنه من تمام الحج، وقيل ليس له الركوب إلى
منى لأنه بعد التحلل من الحج، والأولى له ذلك لأنه من تمام الحج وتوابعه،
ولذلك وجب على من وجب عليه دون غيره فدخل في قوله تعالى (ولله على الناس
حج البيت من استطاع إليه سبيلا) ومن اكترى إلى مكة فقط فليس له الركوب
51

إلى الحج لأنها زيادة، ويحتمل أن له ذلك لان الكراء إلى مكة عبارة عن الكراء
إلى الحج لكونها لا يكترى إليها الا للحج غالبا فكان بمنزلة المكترى للحج، هذا
مذهبنا وبه قال أحمد وأصحابه.
قال الشافعي رضي الله عنه: وإذا تكارى رجل محملا من المدينة إلى مكة
فشرط سيرا معلوما فهو أصح، وان لم يشترط فالذي أحفظ أن المسير معلوم
وأنه المراحل فيلزمان المراحل لأنها الأغلب من سير الناس، فإن قال قائل كيف
لا يفسد في هذا الكراء والسير يختلف؟ قيل: ليس للافساد ههنا موضع، فان
قال: فبأي شئ قسته، قيل: بنقد البلد، البلد له نقد وصنج وغلة مختلفة فيبيع
الرجل بالدراهم ولا يشترط نقدا بعينه، ولا يفسد البيع، ويكون له الأغلب من
نقد البلد وكذلك يلزمهما الغالب من مسير الناس اه‍.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) فان اكترى ليحمل له أرطالا من الزاد فهل له أن يبدل ما يأكله
فيه قولان.
(أحدهما) له أن يبدل وهو اختيار المزني كما أن له أن يبدل ما يشرب من
الماء (والثاني) ليس له أن يبدله، لان العادة أن الزاد يشترى موضعا واحدا
بخلاف الماء قال أبو إسحاق: هذا إذا لم تختلف قيمة الزاد في المنازل، فأما إذا
كانت قيمته تختلف في المنازل جاز له أن يبدله قولا واحدا لان له غرضا أن
لا يشترى موضعا واحدا.
(فصل) وان اكترى ظهرا فله أن يضربه ويكبحه باللجام ويركضه بالرجل
للاستصلاح لما روى جابر قال: سافرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترى
منى بعيرا وحملني عليه إلى المدينة، وكان يسوقه وأنا راكبه وأنه ليضربه بالعصا
ولا يتوصل إلى استيفاء المنفعة الا بذلك فجاز له فعله.
(فصل) وللمستأجر أن يستوفى مثل المنفعة المعقود عليها وما دونها في
الضرر ولا يملك أن يستوفى ما فوقها في الضرر، فإن اكترى ظهرا ليركبه في
طريق فله أن يركبه في مثله وما دونه في الخشونة ولا يركبه فيما هو أخشن منه،
52

فإن استأجر أرضا ليزرع فيها الحنطة فله أن يزرع مثلها وما دونها في الضرر ولا
يزرع ما فوقها، لان في مثلها يستوفى قدر حقه وفيما دونها يستوفى بعض حقه،
وفيما فوقها يستوفى أكثر من حقه، فان اكترى ظهرا ليحمل عليه القطن لم يحمل
عليه الحديد لأنه أضر على الظهر من القطن لاجتماعه وثقله، فان اكتراه للحديد
لم يحمل عليه القطن لأنه أضر من الحديد، لأنه يتجافى ويقع فيه الريح فيتعب
الظهر، فان اكتراه ليركبه بسرج لم يجز أن يركبه عريا لان ركوبه عريا أضر،
فان اكتراه عريا لم يركبه بسرج لأنه يحمل عليه أكثر مما عقد عليه، فان اكترى
ظهرا ليركبه لم يجز أن يحمل عليه المتاع لان الراكب يعين الظهر بحركته والمتاع
لا يعينه، فان اكتراه لحمل المتاع لم يجز أن يركبه لان الراكب أشد على الظهر
لأنه يقعد في موضع واحد والمتاع يتفرق على جنبيه، فان اكترى قميصا للبس لم
يجز أن يتزر به، لان الاتزار أضر من اللبس، لأنه يعتمد فيه على طاقين وفى
اللبس يعتمد فيه على طاق واحد، وهل له أن يرتدى به فيه وجهان:
(أحدهما) يجوز لأنه أخف من اللبس
(والثاني) لا يجوز لأنه استعمال غير معروف فلا يملكه كالاتزار
(فصل) وله أن يستوفى المنفعة بنفسه وبغيره، فان اكترى دارا ليسكنها
فله أن يسكنها مثله ومن هو دونه في الضرر، ولا يسكنها من هو أضر منه، فان
اكترى ظهرا ليركبه فله أن يركبه مثله ومن هو أخف منه ولا يركبه من هو
أثقل منه لما ذكرناه في الفصل قبله.
(الشرح) حديث جابر رواه البخاري ومسلم بلفظ (أنه كان يسير على جمل
له قد أعيا فأراد أن يسيبه، قال: ولحقني النبي صلى الله عليه وسلم فدعا لي وضربه
فسار سيرا لم يسر مثله فقال: بعنيه، فقلت لا، ثم قال: بعنيه فبعته واستثنيت
حملانه إلى أهلي، وفى لفظ لأحمد والبخاري (وشرطت ظهره إلى المدينة) وتمام
الحديث في الصحيحين (فلما بلغت أتيته فنقدني ثمنه ثم رجعت فأرسل في أثرى
فقال: أتراني ماكستك لا آخذ جملك، خذ جملك ودراهمك فهو لك)
أما أحكام هذه الطائفة من الفصول فإنه إذا اكترى دابة في الذمة فإنه لا خيار
53

في عقدها إذا وجد بالدابة عيبا، لان المعقود عليه في الذمة بصفة السلامة،
والمعقود عليه هنا غير سليم، فإذا لم يرض به رجع إلى ما في الذمة، ولو عجز عن
الابدال ثبت للمستأجر الخيار، كما ذكر ذلك الأذرعي، ويخص المكترى بما
تسلمه فله إيجار، ويمتنع إبدالها بغير رضاه ويتقدم بمنفعتها على جميع الغرماء.
فإذا ثبت هذا بالنسبة للدابة فإنه يلزم ثبوته للطعام المحمول ليؤكل في الطريق إذا
لم يتعرض في العقد لابداله ولا لعدمه فإنه يبدل إذا أكل في الأظهر عملا بمقتضى
اللفظ لتناوله حمل كذا إلى كذا. وكأنهم قدموه على العادة بأنه لا ببدل
لعدم اطرادها.
(والثاني) لا، لان العادة عدم الابدال للزاد ولو لم يجده فيما بعد محل
الفراغ بسعره فيه أبدل جزما.
نعم لو شرط عدم إبداله اتبع الشرط، ولو شرط قدرا فلم يأكل منه فالظاهر
كما قاله السبكي أنه ليس للمؤجر مطالبته بنقص قدر أكله اتباعا للشرط، ويحتمل
أن له ذلك للعرف، لأنه لم يصرح بحمل الجميع في جميع الطريق. قال: وهو
الذي إليه نميل. وخرج بعض الفقهاء ما يحمل عما يؤكل، وما حمل فتلف قبل
الوصول فإنه يبدل قطعا.
قال الشافعي رضي الله عنه: وإن اختلفا في الرحلة رحل لا مكبوبا ولا
مستلقيا، وان انكسر المحمل أو الظل أبدل محملا مثله أو ظلا مثله، وإن اختلفا
في الزاد الذي ينفد بعضه، فقال صاحب الزاد: أبدله بوزنه فالقياس أن يبدل له
حتى يستوفى الوزن وقال: ولو قال قائل: ليس له أن يبدل من قبل أنه
معروف أن الزاد ينقص قليلا ولا يبدل مكانه كان مذهبا والله تعالى أعلم
من مذاهب الناس.
(فرع) يجوز للمستأجر ضرب الدابة بقدر ما جرت به العادة، ويكبحها
باللجام وحثها على السير بحسب طبيعتها، فإن كانت من النوع الذي قال فيه
علقمة: فأدركها ثانيا من عنانه * يمر كمر الرائح المتحلب
فليس له أن يضربها لادراكها المقصود مع راحة الراكب في سرعتها
54

وأما إن كانت غير ذلك فعلى حد قول امرئ القيس:
فللساق ألهوب وللسوط درة * وللزجر منه وقع أهوج منعب
إلا أنه لا يجوز أن يكون أهوج منعب، وقد صح أن النبي صلى الله عليه
وسلم نخس بعير جابر وضربه، وكان أبو بكر رضي الله عنه يخرش بعيره بمحجنه.
قال الشافعي رضي الله عنه: وإذا اكترى الرجل من الرجل الدابة فضربها أو
نخسها بلجام أو ركضها فماتت سئل أهل العلم بالركوب، فإن كان فعل من ذلك
ما تفعل العامة فلا يكون عندهم فيه خوف تلف أو فعل بالكبح والضرب مثل
ما يفعله بمثلها عندما فعله فلا أعد ذلك خرقه ولا شئ عليه، وان فعل ذلك عند
الحاجة إليه بموضع قد يكون بمثله تلف أو فعله في الموضع الذي لا يفعل في مثله
ضمن في كل حال من قبل أن هذا تعد، والمستعير هكذا إن كان صاحبه لا يريد
أن يضمنه، فان أراد صاحبه أن يضمنه العارية فهو ضامن تعد أو لم يتعد.
وأما الرائض فان من شأن الرواض الذي يعرف به إصلاحهم للدواب
الضرب على حملها من السير، والحمل عليها من الضرب أكثر ما يفعل الركاب
غيرهم، فإذا فعل من ذلك ما يكون عند أهل العلم بالرياضة اصلاحا وتأديبا للدابة
بلا إعناف بين لم يضمن إن عيت، وان فعل خلاف هذا كان متعديا وضمن
والمستعير الدابة هكذا كالمكترى في ركوبها إذا تعدى ضمن، وإذا لم يتعد لم يضمن
ثم قال: والذي نأخذ به في المستعير انه يضمن تعدى أو لم يتعد، لحديث النبي
صلى الله عليه وسلم (العارية مضمونه مؤداة) وهو آخر قوله صلى الله عليه وسلم اه‍
هذا وقد سئل احمد رضي الله عنه عن ضرب الصبيان فقال: على قدر ذنوبهم
ويتوقى يجهده الضرب. وإذا كان صغيرا لا يعقل فلا يضربه. ومن ضرب
من هؤلاء الضرب المأذون فيه لم يضمن ما تلف. وبهذا في الدابة قال مالك
والشافعي وإسحاق وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد. وقال الثوري وأبو حنيفة:
يضمن لأنه تلف بجنايته فضمنه كغير المستأجر، وكذلك قال الشافعي في المعلم
يضرب الصبي لأنه يمكنه تأديبه بغير الضرب
(فرع) إذا اكترى دابة إلى مسافة فسلك أشق منها فهي مثل مسألة الزرع
55

ولأنه متعد فلرب الدابة منعه من سلوك تلك الطريق. وان اكترى لحمل القطن
فحمل بوزنه حديدا أو حديدا فحمل بوزنه قطنا فالصحيح أن عليه أجر المثل لان
ضرر أحدهما مخالف لضرر الآخر، فلم يتحقق كون المحمول مشتملا على
المستحق بعقد الإجارة وزيادة عليه، فإذا أكراه لحمل قفيزين فحملها فوجدهما
ثلاثة، فإن كان المكترى تولى الكيل ولم يعلم المكرى بذلك رطل حنطة فحمل مائة
شعيرا أو عكس ذلك لاجتماعهما بسبب ثقلها في محل واحد، وهو لخفته يأخذ
من ظهر الدابة أكثر، فضررهما مختلف، وكذا كل مختلفي الضرر كما قلنا
في الحديد والقطن.
فلو اكترى لعشرة أقفزة شعير فحمل عشرة أقفزة حنطة لأنها أثقل دون
عكسه بأن اكتراه لحمل عشرة أقفزة حنطة فحمل عشرة أقفزة شعيرا من غير
زيادة أصلا فلا ضمان عليه لاتحاد جرمهما باتحاد كيلهما مع كون الشعير أخف،
فلو اكترى لحمل مائة فحمل مائة وعشرة لزمه مع المسمى أجرة المثل للزيادة
لتعديه، وان تلفت بذلك المحمول أو بسبب آخر ضمنها ضمان يد إن لم يكن
صاحبها معها لكونه غاضبا لها بحمل الزيادة.
فإن كان صاحبها معا وتلفت بسبب الحمل دون غيره إذ ضمانها ضمان جناية
لا سيما ومالكها معها ضمن قسط الزيادة فقط لاختصاص يده بها، ولهذا
لو سخره مع دابته فتلفت لم يضمنها المسخر لتلفها في يد مالكها، وفى قول يضمن
نصف القيمة توزيعا على الرؤس.
ولو سلم المائة والعشرة إلى المؤجر فحملها جاهلا بالزيادة، كان قال له: مائه
فصدقه ضمن المكترى القسط وأجرة الزيادة على المذهب إذ المكرى لجهله صار
كالآلة بتأثير تدليس المكترى.
والطريق الثاني أنه على القولين في تعارض الغرر والمباشرة، فإن كان عالما
كان وزن المؤجر وحمل، أو رأى المكترى يكيل ويحمل، أو أعلمه المكترى
بحقيقة الكيل فلا أجرة للزيادة لعدم تدليس المستأجر ولا ضمان إن تلفت،
وبهذا قال أحمد وأصحابه، الا أنهم اختلفوا في أجر القدر الزائد على العقد
56

على وجهين (أحدهما) لا اجر له كمذهبنا (والثاني) له أجر الزائد لأنهما اتفقا
على حمله على سبيل الإجارة فجرى مجرى المعاطاة في البيع ودخول الحمام من غير
تقدير اجره. قالوا وان كاله المكرى وحمله المكترى على الدابة عالما بذلك من
غير أن يأمر بحمله عليها فعليه اجر القفيز الزائد. وان امره ففي وجوب
الاجر وجهان عندهم.
(فرع) قال النووي (رض): وللمكترى استيفاء المنفعة بنفسه وبغيره.
قلت: وينبغي أن يكون غيره أمينا، فلو شرط المكرى استيفاء المنفعة بنفسه
بطل العقد، لان المكترى يملك المنفعة فلا ينازعه فيها المكرى، ومثله كمثل
من يشترط على المشترى الا يبيع ما اشتراه، وله ان يركب ويسكن من هو مثله
في الضرر اللاحق بالعين ودونه بالأولى، لان ذلك استيفاء للمنفعة المستحقة من
غير زيادة، ولا يسكن حدادا ولا قصارا لما يحدثه القصار من الدق والازعاج
وتأثير الدق في المبنى والازعاج للجار.
قال الرملي: الا إذا قال: لتسكن من شئت كازرع ما شئت، ونظر فيه الأذرعي
فقال إن مثل ذلك يقصد به التوسعة دون الاذن في الاضرار، وقد رد الرملي
بان الأصل خلافه، كما لا يجوز ابدال ركوب بحمل ويجوز عكسه، وان قال أهل الخبرة
لا يتفاوت الضرر. وبهذا قال احمد وأصحاب الرأي
قال الشافعي مقررا: وهم يزعمون أن رجلا لو تكارى من رجل بيتا لم يكن
له ان يعمل فيه رحى ولا قصارة ولا عمل حدادين لان هذا مضر بالبناء، فأن
عمل هذا فانهدم البيت فهو ضامن لقيمة البيت، وان سلم البيت فله اجره.
ويزعمون أن من تكارى قميصا فليس له ان يأتزر به، لان القميص لا يلبس
هكذا، فان فعل فتخرق ضمن قيمة القميص، وان سلم كان له اجره، ويزعمون
انه لو تكارى قبة لينصبها فنصبها في شمس أو مطر فقد تعدى لاضرار ذلك بها.
فان عطبت ضمن وان سلمت فعليه اجرها مع أشياء من هذا الضرب يكتفى بأقلها
حتى يستدل على أنهم قد تركوا ما قالوا ودخلوا فيما عابوا مما مضت به الآثار،
ومما فيه صلاح الناس. اه‍
57

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فان استأجر عينا لمنفعة وشرط عليه ان لا يستوفى مثلها أو دونها
أو لا يستوفيها لمن هو مثله أو دونه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أن الإجارة باطله
لأنه شرط فيها ما ينافي موجبها فبطلت (والثاني) أن الإجارة جائزة، والشرط
باطل، لأنه شرط لا يؤثر في حق المؤجر، فألغى وبقى العقد على مقتضاه
(والثالث) أن الإجارة جائزة والشرط لازم، لان المستأجر يملك المنافع من
جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به.
(فصل) وللمستأجر أن يؤجر العين المستأجرة إذا قبضها لان الإجارة
كالبيع وبيع المبيع يجوز بعد القبض فكذلك إجارة المستأجر، ويجوز من المؤجر
وغيره كما يجوز بيع المبيع من البائع وغيره وهل يجوز قبل القبض فيه ثلاثة أوجه
(أحدها) لا يجوز كما لا يجوز بيع المبيع قبل القبض (والثاني) يجوز لان المعقود
عليه هو المنافع، والمنافع لا تصير مقبوضة بقبض العين، فلم يؤثر فيها قبض
العين (والثالث) أنه يجوز إجارتها من المؤجر لأنها في قبضته، ولا يجوز من
غيره لأنها ليست في قبضته، ويجوز أن يؤجرها برأس المال وبأقل منه وبأكثر
لأنا بينا أن الإجارة بيع وبيع المبيع يجوز برأس المال وبأقل منه وبأكثر منه،
فكذلك الإجارة
(فصل) وإن استأجر عينا لمنفعة فاستوفى أكثر منها فإن كانت زيادة
تتميز بأن اكترى ظهرا ليركبه إلى مكان فجاوز أو ليحمل عليه عشرة أقفزة
فحمل عليه أحد عشر قفيزا لزمه المسمى لما عقد عليه وأجرة المثل لما زاد لأنه
استوفى المعقود عليه فاستقر عليه المسمى واستوفى زيادة فلزمه ضمان مثلها، كما لو
اشترى عشرة أقفزة فقبض أحد عشر قفيزا. فإن كانت الزيادة لا تتميز بأن
اكترى أرضا ليزرعها حنطة فزرعها دخنا، فقد اختلف أصحابنا فيه، فذهب
المزني وأبو إسحاق إلى أن المسألة على قولين
(أحدهما) يلزمه أجرة المثل للجميع، لأنه تعدى بالعدول عن المعقود عليه
إلى غيره، فلزمه ضمان المثل كما لو اكترى أرضا للزراعة فزرع أرضا أخرى.
58

(والثاني) يلزمه المسمى وأجرة المثل للزيادة، لأنه استوفى ما استحقه
وزيادة، فأشبه إذا استأجر ظهرا إلى موضع فجاوزه، وذهب القاضي أبو حامد
المروروذي إلى أن المسألة على قول واحد، وأن صاحب الأرض بالخيار بين أن
يأخذ المسمى وأجرة المثل للزيادة، وبين أن يأخذ أجرة للجميع، لأنه أخذ
شبها ممن استأجر ظهرا إلى مكان فجاوزه، وشبها ممن اكترى أرضا للزرع فزرع
غيرها، فخير بين الحكمين.
(فصل) وان أجره عينا ثم أراد أن يبدلها بغيرها لم يملك لان المستحق
معين فلم يملك إبداله بغيره كما لو باع عينا فأراد أن يبدلها بغيرها.
(الشرح) إذا اشترط ألا يستوفى في المنفعة مثلها أو ما دونها أو اشتراط أن
لا يستوفيها بمثله أو من هو دونه، فعلى ثلاثة أوجه.
أحدها: أن الإجارة باطله لاشتراط ما ينافي موجبها وقد عرفنا من الشواهد
الماضية أنه لو اشتراط أمرا كأن قال: أتكارى منك محملا أو زاملة على المنصوص
في الام، فإن هذا الشرط يبطل العقد، كما لو قال أبيعك أقل من عشرة فما دونها
بكذا فان هذا البيع باطل، لأنه ينافي موجب العقد الذي يوجب ملك المنفعة
والتسلط على استيفائها بنفسه وبنائبه، واستيفاء بعضها بنفسه وبعضها بنائبه.
والشرط ينافي ذلك فكان باطلا.
والوجه الثاني: أن الإجارة جائزة والشرط باطل لأنه شرط لا يؤثر في حق
المستأجر من استيفاء المنفعة، وفارق البيع، لان البائع يده هنا على المبيع
والمستأجر يده على المنفعة، وبهذا قال أحمد، لان المستأجر يملك المنافع من جهة
المؤجر فلا يملك ما لم يرض به.
والوجه الثالث: صحة الشرط وصحة العقد لان المستأجر يملك المنفعة من
قبل المؤجر فليس للمستأجر أن يتعدى بامتلاك لم يرض به فلزمه الشرط وصحت
الإجارة وقد فصلنا ذلك على أصل المذهب، ونصه في الام على ما سيأتي.
(فرع) يجوز للمستأجر أن يؤجر العين التي استأجرها إذا قبضها، ونص
أحمد على ذلك، وهو قول سعيد بن المسيب وابن سيرين ومجاهد وعكرمة
59

وأبي سليمان بن عبد الرحمن والنخعي والشعبي والثوري والشافعي وأصحاب الرأي
وذكر القاضي من الحنابلة فيه رواية أخرى أنه لا يجوز، لان النبي صلى الله
عليه وسلم نهى عن ربح ما لم يضمن، والمنافع لم تدخل في ضمانه، ولأنه عقد على
ما لم يدخل في ضمانه فلم يجز كبيع المكيل والموزون قبل قبضه، والأول أصح،
لان قبض العين قام مقام قبض المنافع بدليل أنه يجوز التصرف فيها فجاز العقد
عليها كبيع الثمرة على الشجرة، وقياس الرواية الأخرى باطل على هذا الأصل
إذا ثبت هذا: فإنه لا تجوز إجارته إلا لمن يقوم مقام أو دونه في الضرر لما
مضى فأما اجارتها قبل قبضها فلا تجوز من غير المؤجر في أحد الوجوه الثلاثة
عندنا وأحد الوجهين عند الحنابلة، وهو قول أبي حنيفة، لان المنافع مملوكة بعقد
معاوضة فاعتبر في جواز العقد عليها القبض كالأعيان.
والوجه الثاني يجوز العين لان قبض العين لا ينتقل به الضمان إليه، فلم يقف
جواز التصرف عليه، فأما إجارتها قبل القبض من المؤجر - وهو الوجه الثالث
عندنا وهو قول عند الحنابلة - فإذا قلنا: لا يجوز من غير المؤجر كان فيه وجهان
أحدهما: لا يجوز لأنه عقد عليها قبل قبضها، والثاني: يجوز لان القبض لا يتعذر
عليه بخلاف الأجنبي، وأصلهما: بيع الطعام قبل قبضه لا يصح من غير بائعه
رواية واحدة، وهل يصح من بائعه؟ على روايتين، فأما إجارتها بعد قبضها من
المؤجر فجائزة، وبهذا قال أحمد والشافعي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة لا يجوز
لان ذلك يؤدى إلى تناقض الا حاكم، لان التسليم مستحق على الكراء، فإذا
اكتراها صار مستحقا له فيصير مستحقا لما يستحق عليه، وهذا تناقض.
دليلنا أن كل عقد جاز مع غير العاقد جاز مع العاقد كالبيع وما ذكروه لا يصح لان
التسليم قد حصل، وهذا المستحق له تسليم آخر يبطل بالبيع فإنه يستحق عليه
تسليم العين، فإذا اشتراها استحق تسليمها، فان قال: التسليم ههنا مستحق في
جميع المدة بخلاف البيع. قلنا: المستحق تسليم العين وقد حصل، وليس عليه
تسليم آخر غير أن العين من ضمان المؤجر، فإذا تعذرت المنافع بتلف الدار
وغصبها رجع عليه لأنها بسبب كان في ضمانه.
60

(فرع) ويجوز للمستأجر إجارة العين بمثل الاجر وزيادة، وهذا قول أحمد
والشافعي وأبي ثور وابن المنذر، وروى ذلك عن عطاء والحسن والزهري.
وفى رواية لأحمد: إن أحدث في العين زيادة جاز له أن يكريها بزيادة، والا لم تجز
الزيادة، فإن فعل تصدق بالزيادة، وروى هذا عن الشعبي والثوري وأبو حنيفة
لأنه يربح فيما لم يضمن.
وعن أحمد رواية ثالثة: إذا أذن له فيها المالك جاز، وإذا لم يأذن لم يجز،
وكره ابن المسيب وأبو سلمة وابن سيرين ومجاهد وعكرمة والشعبي والنخعي
الزيادة مطلقا لدخولها فيما لم يضمن، دليلنا أنه عقد يجوز برأس المال فجاز
بزيادة كبيع المبيع بعد قبضه.
وأما الحديث فإن المنافع قد دخلت في ضمانه من وجه، فإنها لو فاتت من
غير استيفائه كانت من ضمانه، ولا يصح القياس على بيع الطعام قبل قبضه. فإن
البيع ممنوع منه بالكلية سواء ربح أو لم يربح، وههنا جائز في الجملة. وتعليلهم بأن
الربح في مقابلة عمله ملغى بما إذا كنس الدار ونظفها، فان ذلك يزيد في
أجرها في العادة.
(فرع) كل عين استأجرها لمنفعة فله أن يستوفى تلك المنفعة وما دونها في
الضرر. هذا ما سبق ان بيناه. وبه قال أحمد. ولا نعرف في ذلك مخالفا، ومتى
فعل ما ليس له كان ضامنا، وقد ضرب المصنف مثلا بالأرض يستأجرها لزرعها
حنطة فزرعها دخنا. قال الماوردي في الحاوي الكبير 1) بعد أن أورد قول الشافعي
رضي الله عنه في الام: ولو اكتراها ليزرعها قمحا فله أن يزعها ما لا يضر
بالأرض إضرار القمح، وهذا كما قال: إذا استأجر أرضا ليزرعها حنطة فله أن
يزرعها الحنطة وغير الحنطة مما يكون ضرره مثل ضرر الحنطة أو أقل، وليس له

(1) الحاوي الكبير مخطوطة في دار الكتب العربية ذات أربعة وعشرين
مجلدا ومن نوعها المجلد الأول في دار الكتب الأزهرية والحاوي الصغير مخطوطة
في دار الكتب العربية ذات أربعة عشر مجلدا. على أن نقولنا التي اعتمدناها هنا
في التكملة هذه من الحاوي الكبير.
61

أن يزرعها ما ضرره أكثر من ضرر الحنطة. وقال داود بن علي: لا يجوز إذا
استأجرها لزرع الحنطة أن يزرعها غير الحنطة، وإن كان ضرره أقل من ضرر
الحنطة استدلالا بقوله تعالى (أوفوا بالعقود) فلم يجز العدول عما تضمنه العقد
قال: ولأنه لما لم يجز إذا اشترى بدراهم بأعيانها أن يدفع غيرها من الدراهم وإن كانت
مثلها لما فيه من العدول عما اقتضاه العقد، كذلك في إجارة الأرض لزرع
الحنطة لا يجوز أن يعدل فيها عن زرع الحنطة.
ودليلنا ان ذكر الحنطة في إجارة الأرض إنما هو لتقدير المنفعة به لا لتعيين
استيفائه، الا تراه لو تسلم الأرض ولم يزرعها لزمته الأجرة، فإذا ثبت أن ذكر
الحنطة لتقدير المنفعة فهو إذا استوفى المنفعة فقدرت به في العقد وبغيره جاز،
كما لو استأجر لحمل قفيز من حنطة فحمل قفيزا غيره، وكما لو استأجر ليزرع
حنطة بعينها فزرع غيرها، ولان عقد الإجارة يتضمن اجرة يملكها المؤجر
ومنفعة يملكها المستأجر، فلما جاز للمؤجر ان يستوفى حقه كيف شاء بنفسه
وبوكيله وبمن يحيله جاز للمستأجر أن يستوفى حقه من المنفعة كيف شاء بزرعها
الحنطة وغير الحنطة، وباعارتها لمن يزرعها وبتركها وتعطيلها.
فأما استدلاله بقوله تعالى (أوفوا بالعقود) فمثل الحنطة ما يتضمنه العقد بما
دللنا. وأما الجواب عما استدل به من تعيين الأثمان بالعقد فكذا في الإجارة،
فهو أن الفرق بينهما في التعيين متفق عليه، لان الدارهم تتعين بالعقد حتى
لا يجوز العدول إلى جنسها والحنطة لا تتعين في عقد الإجارة وإنما الخلاف في تعيين
جنسها لاقراره لو استأجرها لزرع حنطة بعينها جاز له العدول إلى غيرها من
الحنطة، فكذلك يجوز ان يعدل إلى غير الحنطة. اه‍
فإذا تقرر هذا لم يخل حال المستأجر ليزرع الأرض حنطة من ثلاثة أقسام:
1 - أن يستأجرها لزرع الحنطة وما أشبهها، فيجوز له مع موافقة داود أن
يزرعها الحنطة وغير الحنطة مما يكون ضرره مثل ضرر الحنطة أو أقل، الا أن
داود يجيزه بالشرط ونحن نجيزه بالعقد والشرط تأكيدا
2 - أن يستأجرها لزرع الحنطة ويغفل ذكر ما سوى الحنطة مما ضره
أكثر من الحنطة أو أقل،
62

3 - أن يستأجرها لزرع الحنطة على أن لا يزرع سواها ففيه ثلاثة أوجه
حكاها ابن أبي هريرة (أحدها) أن الإجارة باطلة (والثاني) أن الإجارة جائزة
والشرط باطل، وله أن يزرعها الحنطة وغير الحنطة لأنه لا يؤثر في حق المؤجر
ما يفي (والثالث) أن الإجارة جائزة والشرط لازم، وليس له أن يزرعها غير
الحنطة لان منافع الإجارة إنما تملك بالعقد على ما سمى فيه، ألا تراه لو
استأجرها للزرع لم يكن له الغرس فكذلك إذا استأجرها لنوع من الزرع، قال
الشافعي: وإن كان يضرها مثل عروق تبقى فليس ذلك له، فان فعل فهو متعد
ورب الأرض بالخيار ان شاء أخذ الكراء وما نقص الأرض على ما ينقصها زرع القمح
ويأخذ منه كراء مثلها. قال المزني: يشبه أن يكون قوله الأول أولى، لأنه أخذ
ما كرى وزاد على الكرى ضررا، كرجل اكترى منزلا يدخل فيه ما يحتمل
سقفه فجعل فيه أكثر.
إذا عرف هذا فإنه إذا استأجر أرضا لزرع حنطة لم يكن له ان يزرعها ولا
أن يغرسها ما هو أكثر ضررا منها لأنه غير مأذون فيه فصار كالغاصب، وهل
يصير بذلك ضامنا لرقبة الأرض حتى يضمن قيمتها ان غصبت أو تلفت بسيل،
على وجهين (أحدهما) وهو قول أبي حامد الأسفراييني أنه يضمنها لأنه قد صار
بالعدول عما استحقه غاصبا. والغاصب ضامن
(والثاني) وهو الأصح، أنه لا يضمن رقبة الأرض لان تعديه في المنفعة
لا في الرقبة، فإن تمادى الامر بمستأجرها حتى حصد زرعه ثم طولب بالأجرة
فالذي نص عليه الشافعي أن رب الأرض بالخيار بين أن يأخذ المسمى وما
نقصت الأرض وبين أن يأخذ أجرة المثل، فاختلف أصحابنا، فكان المزني
وأبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة يخرجون تخيير الشافعي على قولين
(أحدهما) أن رب الأرض يرجع بأجرة المثل دون المسمى لان تعدى الزارع
بعدوله عن الحنطة إلى ما هو أضر منها كتعديه بعدوله عن الأرض إلى غيرها،
فلما كان بعدوله عن الأرض إلى غيرها ملتزما لأجرة المثل دون المسمى فكذلك
بعدوله إلى غير الحنطة.
والقول الثاني: أنه يرجع بالمسمى من الأجرة، وينقص الضرر الزائد على
63

الحنطة لأنه قد استوفى ما استحقه وزاد، فصار كمن استأجر بعيرا من مكة إلى
المدينة فتجاوز به إلى البصرة فعليه المسمى وأجرة المثل في الزيارة. وقال الربيع وأبو العباس
ابن سريج وأبو حامد المروروذي: إن المسألة على قول واحد، وليس التخيير
فيه اختلافا للقول فيها، فيكون رب الأرض بالخيار بين أن يرجع بالمسمى وما
نقصت الأرض بالزيادة كالمجاوز بركوب الدابة وبين أن يفسخ الإجارة ويرجع
بأجرة المثل لأنه عيب قد دخل عليه فجاز أن يكون مخيرا به بين المقام أو الفسخ
فأما المزني فإنه اختار أن يرجع بالمسمى وما نقصت الأرض. وتابعه أبو إسحاق
المروزي واستدلا بمسألتين:
(إحداهما) أن يستأجر بيتا لحمولة مسماة فيعدل إلى غيرها فهذا أمر ينظر،
فان استأجر أسفل البيت ليحرز، فيه مائة رطل حديد فأحرز فيه مائة وخمسين
رطلا، أو عدل عن الحديد إلى القطن فلا ضمان عليه، لان سفل البيت لا تؤثر
فيه هذه الزيادة ولا العدول عن الجنس، وإن كان علو البيت تكون فيه الحمولة
على سقفه، فإن كانت الإجارة لمائة رطل من حديد فوضع عليه مائة وخمسين
رطلا فهذه زيادة متميزة فيلزمه المسمى من الأجرة وأجرة مثل الزيادة.
وإن كان قد استأجر لمائة رطل قطنا فوضع فيه مائة رطل من حديد فهذا
ضرر لا يتميز، لان القطن يتفرق على السقف والحديد مجتمع في موضع منه،
فكان أضر فيكون رجوع المؤجر على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا في القولين.
والمسألة الثانية من دليل المزني على اختيار أن يستأجر دارا للسكنى فيسكن
فيها حدادين أو قصارين أو ينصب رحى، فهذه زيادة ضرر لا تتميز، فيكون
رجوع المؤجر على ما وصفنا من اختلاف أصحابنا في القولين. قال الماوردي:
ليس للمزني من دليل فيما استشهد به من مذهب ولا حجاج.
(فرع) قوله: وان أجره عينا ثم أراد أن يبدلها الخ. قال الشافعي في الام:
وإذا تكارى إبلا بأعيانها ركبها، قال وان تكارى حمولة ولم يذكر بأعيانها وركب
ما يحمله، فان حمله على بعير غليظ فإن كان ذلك ضررا متفاحشا أمر أن يبدله،
وإن كان شبيها بما يركب الناس لم يجبر على ابداله. والله أعلم بالصواب
64

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فإن استأجر أرضا مدة للزراعة فأراد أن يزرع ما لا يستحصد في
تلك المدة، فقد ذكر بعض أصحابنا أنه لا يجوز، وللمؤجر أن يمنعه من زراعته
فإن بادر المستأجر وزرع لم يجبر على قلعه قبل انقضاء المدة، ويحتمل عندي أنه
لا يجوز منعه من الزراعة، لأنه يستحق الزراعة إلى أن تنقضي المدة فلا يجوز
منعه قبل انقضاء المدة، ولأنه لا خلاف أنه إن سبق وزرع لم يجبر على نقله،
فلا يجوز منعه من زراعته.
(فصل) وإن اكترى أرضا مدة للزرع لم يخل إما أن يكون لزرع مطلق
أو لزرع معين، فإن كان لزرع مطلق فزرع وانقضت المدة ولم يستحصد الزرع
نظرت، فإن كان بتفريط منه بأن زرع صنفا لا يستحصد في تلك المدة أو صنفا
يستحصد في المدة إلا أنه أخر زراعته، فللمكرى أن يأخذه بنقله، لأنه لم يعقد
إلا على المدة فلا يلزمه الزيادة عليها لتفريط المكترى، فإن لم يستحصد لشدة
البرد أو قلة المطر ففيه وجهان.
(أحدهما) يجبر على نقله، لأنه كان يمكنه أن يستظهر بالزيادة في مدة
الإجارة، فإذا لم يفعل لم يلزم المكرى أن يستدرك له ما تركه.
(والثاني) لا يجبر وهو الصحيح، لأنه تأخر من غير تفريط منه، فان قلنا
يجبر على نقله وتراضيا على تكره بإجارة أو إعارة جاز، لان النقل لحق المكرى
وقد رضى بتركه، وإن قلنا: لا يجبر فعليه المسمى إلى انقضاء المدة بحكم العقد
وأجرة المثل لما زاد لأنه كما لا يجوز الاضرار بالمستأجر في نقل زرعه، لا يجوز
الاضرار بالمؤجر في تفويت منفعة أرضه.
فإن كان لزرع معين لا يستحصد في المدة وانقضت المدة والزرع قائم نظرت
فان شرط عليه القلع فالإجارة صحيحة لأنه عقد على مدة معلومة ويجبر على قلعه
لأنه دخل على هذا الشرط، فان تراضيا على تركه بإجارة أو إعارة جاز لما ذكرناه
وإن شرط التبقية بعد المدة فالإجارة باطلة لأنه شرط ينافي مقتضى العقد فأبطله
فإن لم يزرع كان لصاحب الأرض أن يمنعه من الزراعة لأنها زراعة في عقد باطل
65

فان بادر وزرع لم يجبر على القلع، لأنه زرع مأذون فيه، وعليه أجرة المثل لأنه
استوفى منفعة الأرض بإجارة فاسدة، فان أطلق العقد ولم يشرط التبقية ولا القلع
ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق: أنه يجبر على قلعه لأن العقد إلى مدة وقد
انقضت فأجبر على قلعه كالزرع المطلق.
(والثاني) لا يجبر لأنه دخل معه على العلم بحال الزرع وأن العادة فيه الترك
إلى الحصاد، فلزمه الصبر عليه، كما لو باع ثمرة بعد بدو الصلاح وقبل الادراك
ويخالف هذا إذا اكترى لزرع مطلق، لان هناك يمكنه أن يزرع ما يستحصد في
المدة، فإذا ترك كان ذلك بتفريط منه فأجر على قلعه، وههنا هو زرع معنى علم
المكرى أنه لا يستحصد في تلك المدة، فإذا قلنا: يجبر فتراضيا على تركه بإجارة
أو إعارة جاز لما ذكرناه، وإن قلنا: لا يجبر لزمه المسمى للمدة، وأجرة المثل
للزيادة، لأنه كما لا يجوز الاضرار بالمكترى في نقل زرعه لا يجوز الاضرار
بالمكرى في إبطال منفعة أرضه.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: وإذا تكاراها سنة فزرعها فانقضت
السنة والزرع فيها لم يباغ أن يحصد - فإن كانت السنة يمكنه أن يزرع فيها زرعا
يحصد قبلها فالكراء جائز، وليس لرب الأرض أن يثبت زرعه وعليه أن ينقله
عن الأرض إلا أن يشاء رب الأرض تركه، وإذا شرط أن يزرعها صنفا من
الزرع يستحصد أو يستقصل قبل السنة فأخره إلى وقت من السنة فانقضت السنة
قبل بلوغه فكذلك أيضا، وإن تكارى مدة أقل من سنة وشرط أن يزرعها شيئا
بعينه ويتركه حتى يحصد فكان يعلم أنه لا يمكنه أن يستحصد في مثل هذه المدة
تكاراها فالكراء فاسد من قبل أن أثبت بينهما شرطهما ولم أثبت على رب
الأرض أن يبقى زرعه فيها بعد انقضاء المدة أبطلت شرط الزارع أن يتركه حتى
يستحصد، وإن أثبت له زرعه حتى يستحصد أبطلت شرط رب الأرض فكان
هذا كراء فاسدا ولرب الأرض كراء مثل أرضه إذا زرع، وعليه تركه
حتى يستحصد.
66

وصورة هذه المسألة أن يستأجر الرجل أرضا مدة معلومة ليزرعها موصوفا
فزرعها، ثم انقضت المدة قبل استحصاد زرعها، فلا يخلو حال المدة من ثلاثة
أحوال (إحداها) أن يعلم أن ذلك الزرع يستحصد في مثلها (والثانية) أن يعلم
أنه لا يستحق في مثلها (والثالثة) أن يقع الشك فيه، فأما الأولى فلا تخلو من
ثلاثة أقسام.
(أحدها) أن تأخير استحصاده لعدوله عن الجنس الذي شرطه إلى غيره مثل
أن يستأجر خمسة أشهر لزرع الباقلا فيزرعها برا فتنقضي المدة، والبر غير
مستحصد فهذا يؤخذ بقلعه قبل استحصاده، لأنه بعدوله عن الباقلا إلى البر يصير
متعديا فلم يستحق استيفاء زرع تعدى فيه، فان تراضى المؤجر والمستأجر على
تركه إلى أوان الحصاد بأجرة المثل فيما زاد على المدة أقر، وان رضى المستأجر
وأبى المؤجر أو رضى المؤجر وأبى المستأجر من بذل أجرة المثل قلع.
(والقسم الثاني) أن يكون تأجير استحصاده لتأخير بذره من عدول عن جنسه
فهذا مفرط ويؤخذ بقلع زرعه قبل استحصاده لان تفريطه لا يلزم غيره، فان
بذل أجرة مثل المدة الزائدة ورضى المؤجر بقبولها ترك والا قلع.
(والقسم الثالث) أن يكون تأخير استحصاده لأمر سماوي من طول برد
أو تأخر مطر أو انخفاض نيل أو دوام ثلج ففيه وجهان. أحدهما: يترك إلى
وقت استحصاده لأنه لم يكن من المستأجر عدوان ولا تفريط، فإذا ترك إلى وقت
الحصاد ضمن المستأجر أجرة مثل المدة الزائدة على عقده. الوجه الثاني: أن
يؤخذ بقلعه ولا يترك لأنه قد كان بقدر على الاستظهار لنفسه في استزادة المدة
خوفا مما عساه يحتمل من أسباب سماوية فلو لم يأخذ لنفسه فرصة صار مفرطا.
أما الحال الثانية: وهو أن يعلم مجاري العادة أن مثل ذلك الزرع لا يستحصد
في مثل تلك المدة، مثل أن يستأجرها أربعة أشهر لزرعها برا أو شعيرا فهذا اما:
(أ) أن يشترط قلعه عند انقضاء المدة، فهذه إجارة جائزة، لأنه قد يريد
زرعه قصيلا ولا يريده حبا، فإذا انقضت المدة أخذ بقلع زرعه وقطعه.
(ب) أن يشترط تركه إلى وقت حصاده فهذا إجارة فاسدة، لان اشتراط
67

استيفاء الزرع بعد مدة الإجارة ينافي موجبها فبطلت، ثم للزارع استيفاء زرعه
وقت حصاده، وإن بطلت الإجارة، ولا يؤخذ بقلع زرعه لأنه زرع عن إذن
اشترط فيه الترك وعليه أجرة المثل، والفرق بين هذه المسألة في استيفاء الزرع
مع فساد الإجارة وبين أن يؤخذ بقلعه فيما تقدم من الأحوال والأقسام مع صحة
الإجارة أن الإجارة إذا بطلت روعي الاذن دون المدة، وإذا صحت روعيت المدة
(ج) أن يطلق العقد فلا يشترط فيه قلعا ولا تركا فقد اختلف أصحابنا هل
إطلاقه يقتضى القلع أو الترك؟ على وجهين.
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق المروزي: أنه يقتضى القلع اعتبارا بموجب
العقد، فعلى هذا الإجارة صحيحة، ويؤخذ المستأجر بقلع زرعه عند تقضى المدة
(والثاني) وهو ظاهر كلام الشافعي أن الاطلاق يقتضى الترك إلى أوان الحصاد
اعتبارا بالعرف فيه، كما أن ما لم يبد صلاحه من الثمار يقتضى إطلاق بيعه للترك
إلى وقت الجداد اعتبارا بالعرف فيه، فعلى هذا تكون الإجارة فاسدة، ويكون
للمستأجر ترك زرعه إلى وقت حصاده، وعليه أجرة المثل كما لو شرط الترك.
الحال الثالثة: وهو أن يقع الشك في المدة هل يستحصد الزرع فيها؟ كأن
استأجرها خمسة أشهر لزرع البر والشعير، فقد يجوز أن يستحصد الزرع في هذه
المدة في بعض البلاد وبعض السنين، ويجوز أن لا يستحصد فيكون حكم هذه
الحال حكم ما علم أنه يستحصد فيه، على ما مضى إسقاطا للشك واعتبارا باليقين
هكذا أفاده الماوردي، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن اكترى أرضا للغراس مدة لم يجز أن يغرس بعد انقضائها،
لأن العقد يقتضى الغرس في المدة فلم يملك بعدها، فإن غرس في المدة وانقضت
المدة نظرت، فإن شرط عليه القلع بعد المدة أخذ بقلعه لما تقدم من شرطه
ولا يبطل العقد بهذا الشرط، لان الذي يقتضيه العقد هو الغراس في المدة،
وشرط القلع بعد المدة لا يمنع ذلك، وإنما يمنع من التبقية بعد المدة، والتبقية بعد
68

المدة من مقتضى الاذن لا من مقتضى العقد، فلم يبطل العقد بإسقاطها، فإذا قلع
لم يلزمه تسوية الأرض لأنه لما شرط القلع رضى بما يحصل به من الحفر، فإن
أطلق العقد ولم يشترط القلع ولا التبقية لم يلزمه القلع، لان تفريغ المستأجر على
حسب العادة، ولهذا لو اكترى دارا وترك فيها متاعا وانقضت المدة لم يلزمه
تفريغها إلا على حسب العادة في نقل مثله، والعادة في الغراس التبقية إلى أن
يجف ويستقلع.
فإن اختار المكترى القلع نظرت، فإن كان ذلك قبل انقضاء المدة ففيه وجهان
أحدهما: يلزمه تسوية الأرض، لأنه قلع الغراس من أرض غيره بغير إذنه،
فلزمه تسوية الأرض، والثاني: لا يلزمه لأنه قلع الغراس من أرض له عليها يد
فإن كان ذلك بعد انقضاء المدة لزمه تسوية الأرض وجها واحدا لأنه قلع
الغراس من أرض غيره من غير إذن ولا يد، فان اختار التبقية نظرت، فان
أراد صاحب الأرض أن يدفع إليه قيمة الغراس ويتملكه أجبر المكترى على
ذلك لأنه يزول عنه الضرر بدفع القيمة، فان أراد أن يقلع نظرت، فإن كانت
قيمة الغراس لا تنقص بالقلع أجبر المكترى على القلع، لأنه لا ضرر عليه في
القلع، فإن كانت قيمة الغراس تنقص بالقلع، فان ضمن له أرش ما نقص بالقلع
أجبر عليه، لأنه لا ضرر عليه بالقلع مع دفع الأرش، فان أراد أن يقلع
ولا يضمن أرش النقص لم يجبر المكترى.
وقال المزني يجبر لأنه لا يجوز أن ينتفع بأرض غيره من غير رضاه، وهذا
خطأ، لان في قلع ذلك من غير ضمان الأرش إضرارا بالمكترى، والضرر
لا يزال بالضرر.
فان اختار أن يقر الغراس في الأرض ويطالب المكترى بأجرة المثل أجبر
المكترى، لأنه كما لا يجوز الاضرار بالمكترى بالقلع من غير ضمان، لا يجوز
الاضرار بالمكرى بابطال منفعة الأرض عليه من غير أجرة، فان أراد المكترى
أن يبيع الغراس من المكرى جاز، وإن أراد بيعه من غيره ففيه وجهان، وقد
بيناهما في كتاب العارية، فان اكترى بشرط التبقية بعد المدة جاز، لان إطلاق
69

العقد يقتضى التبقية فلا يبطل بشرطها، والحكم في القلع والتبقية على ما ذكرناه
فيه إذا أطلق العقد.
(فصل) فإن اكترى أرضا بإجارة فاسدة وغرس كان حكمها في القلع
والاقرار على ما بيناه في الإجارة الصحيحة لان الفاسد كالصحيح فيما يقتضيه من
القلع والاقرار فكان حكمهما واحدا، وبالله التوفيق
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: وان قال اغرسها وازرعها ما شئت
فالكراء جائز، قال المزني: أولى بقوله ألا يجوز هذا لأنه لا يدرى يغرس أكثر
فيكثر الضرر على صاحبها أو لا يغرس
وهذه العبارة تشتمل على ثلاث مسائل، إحداهن أن يقول: أجرتكها
لتزرعها ان شئت أو تغرسها ان شئت فالإجارة صحيحة، وهو مخير بين زرعها
ان شاء وبين غرسها، فان زرع بعضها وغرس بعضها جاز، لأنه لما جاز له غرس
الجميع كان غرس البعض أولى بالجواز.
الثانية أن يقول: قد أجرتكها لتزرعها أو تغرسها، فالإجارة باطلة، لأنه
لم يجعل له الامرين معا، ولا أحدهما معينا، فصار ما أجره له مجهولا
الثالثة أن يقول: قد أجرتكها لتزرعها وتغرسها ففيه وجهان (أحدهما) وهو
مذهب المزني أن الإجارة باطلة، لأنه لما لم يخيره بين الامرين وجمع بينهما صار
ما يزرع منها ويغرس مجهولا، وهذا قول أبي إسحاق المروزي (والثاني) وهو
ظاهر كلام الشافعي. وقال ابن أبي هريرة: أن الإجارة صحيحة وله أن يزرع
النصف ويغرس النصف لان جمعه بين الامرين يقتضى التسوية بينهما، فلو زرعها
جميعا جاز، لان زرع النصف المأذون في غرسه أقل ضررا، ولو غرسها جميعا لم
يجز لان غرس النصف المأذون في زرعه أكثر ضررا
قال الشافعي رضي الله عنه: وان انقضت سنوه لم يكن لرب الأرض أن يقلع
الغراس حتى يعطيه قيمته وقيمة ثمرته إن كانت فيه يوم نقلعه، ولرب الأرض
الغراس ان شاء أن نقلعه على أن عليه ما نقص من الأرض، والغراس كالبناء
إذا كان باذن مالك الأرض مطلقا.
70

قال المزني: القياس عندي أنه إذا حد له أجلا يغرس فيه فانقضى الأجل
وأذن له أن يبنى في عرصة له، فانقضى الأجل فالأرض والعرصة بعد انقضاء الأجل
مردودان.
وصورتها فيمن استأجر أرضا ليبني فيها ويغرس فانقضى الأجل والبناء
والغراس قائم في الأرض فليس له بعد انقضاء الأجل أن يحدث بناء ولا غرسا،
فإن فعل كان متعديا وأخذ بقلع ما أحدثه بعد الأجل من غرس وبناء، فأما
القائم في الأرض قبل انقضاء الأجل فلا يخلو حالهما فيه عند العقد من ثلاثة
أحوال (أحدها) أن يشترطا قلعه عند انقضاء المدة فيؤخذ المستأجر بقلع غرسه
وبنائه لما تقدم من شرطه، وليس عليه تسوية ما حدث من حفر الأرض
لأنه مستحق بالعقد
(الثانية) أن يشترطا تركه بعد انقضاء المدة فيقر ولا يفسد العقد بهذا الشرط
لأنه من موجباته لو أخل بالشرط ويصير بعد انقضاء المدة مستعيرا على مذهب
الشافعي فلا يلزمه أجرة، وعلى مذهب المزني عليه الأجرة ما لم يصرح له بالعارية
فإن قلع المستأجر غرسة وبنائه لزمه تسوية ما حدث في حفر الأرض لأنه لم
يستحقه بالعقد، وإنما استحقه بالملك، وهذا قول جميع أصحابنا وإنما اختلفوا في
تعليله فقال بعضهم: العلة فيه أنه لم يستحقه بالعقد، وهو التعليل الذي ذكرناه
فعلى هذا لو قلعه قبل انقضاء المدة لالزمه تسوية الأرض.
والحال الثالثة: أن يطلقا العقد فلا يشرطا فيه قلعه ولا تركه فينظر، فإن
كانت قيمة الغرس والبناء مقلوعا كقيمته قائما أخذ المستأجر بقلعه لأنه لا ضرر
يلحقه فيه ولا نقص. وإن كانت قيمته مقلوعا أقل من قيمته قائما وهو الأغلب
نظر، فان بذل رب الأرض قيمة الغرس والبناء قائما، أو ما بين قيمته مقلوعا لم
يكن للمستأجر تركه، لان ما يدخل عليه من الضرر بقلعه يزول ببذل القيمة أو
النقص، وقيل: لا يجبرك على أخذ القيمة ولكن يخيرك بين أن تقلعه أو تأخذ
قيمته وليس لك إقراره وتركه، وإن لم يبذل رب الأرض قيمة الغرس والبناء
ولا قدر النقص نظر في المستأجر، فان امتنع من بذل أجرة المثل بعد تقضى
71

المدة لم يكن له إقرار الغرس والبناء وأخذ بقلعه، وإن بذل له أجرة المثل مع امتناع
رب الأرض من بذل القيمة أو النقص، فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه أن
الغرس والبناء مقران لا يؤخذ المستأجر بقلعهما ولا يجبر رب الأرض بعد انتهاء
المدة على تركهما استدلالا بما ذكره المزني من قول الله تعالى (إلا أن تكون
تجارة عن تراض) وليس من رب الأرض رضى بالترك فلم يجبر عليه، ولأنه
لما أخذ بقلع زرعه عند انقضاء المدة لم يقر إلى أوان حصاده مع أن زمان حصاده
محدود، فلان يؤخذ بقلع الغرس والبناء مع الجهل بزمانهما أولى، ولان تحديد
المدة يوجب اختلاف الحكم في الاستيفاء كما أوجب اختلاف الحكم في إحداث
الغرس والبناء، وهذا المذهب أظهر حجاجا وأصح اجتهادا.
واستدل أصحابنا على تركه وإقراره بقوله صلى الله عليه وسلم (ليس لعرق
ظالم حق) رواه أبو داود والدارقطني عن عروة بن الزبير مرسلا، فاقتضى ذلك
وقوع الفرق بين الظالم والمحق، فلم يجز أن يسوى بينهما في الاخذ بالقلع. قالوا
ولان من أذن لغيره في إحداث حق في ملك كان محمولا فيه على العرف المعهود في
مثله كمن اذن لجاره في وضع اجزاعه في جداره كان عليه تركه على الدوام، ولم
يكن له اخذه بقلعها، لان العادة جارية باستدامة تركها، كذلك الغرس والبناء
العادة فيهما جارية بالترك والاستبقاء دون القلع، والتناول محمول على العادة.
وهذا الاستدلال يفسد بالزرع لان العادة جارية بتركه إلى أوان حصاده. ثم هي
غير معتبرة حين يؤخذ بقلعه.
(فرع) وإذا كانت الإجارة فاسدة فبنى المستأجر فيها وغرس أو زرع فهو
في الاقرار والترك على ما ذكرنا في الإجارة الصحيحة، لان الفاسد في كل عقد
حكمه حكم الصحيح في الأمانة والضمان. والله تعالى أعلم بالصواب
72

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب ما يوجب فسخ الإجارة)
إذا وجد المستأجر بالعين المستأجرة عيبا جاز له ان يرد، لان الإجارة
كالبيع، فإذا جاز رد المبيع بالعيب جاز رد المستأجر، وله أن يرد بما يحدث في
يده من العيب، لان المستأجر في يد المستأجر كالمبيع في يد البائع، فإذا جاز
رد المبيع بما يحدث من العيب في يد البائع، جاز رد المستأجر بما يحدث من
العيب في يد المستأجر.
(فصل) والعيب الذي يرد به ما تنقص به المنفعة، كتعثر الظهر في المشي
والعرج الذي يتأخر به عن القافلة وضعف البصر والجذام والبرص في المستأجر
للخدمة، وانهدام الحائط في الدار، وانقطاع الماء في البئر والعين والتغير الذي
يمتنع به الشرب أو الوضوء وغير ذلك من العيوب التي تنقص بها المنفعة.
فاما إذا اكترى ظهرا فوجده خشين المشي لم يدر، لان ذلك لا تنقص به
المنفعة. وان اكترى ظهرا للحج عليه فعجز عن الخروج بالمرض أو ذهاب المال
لم يجز له الرد، وان اكترى حماما فتعذر عليه ما يوقده لم يجز له الرد، لان
المعقود عليه باق، وإنما تعذر الانتفاع لمعنى في غيره فلم يجز له الرد، كما لو اشترى
ظهرا ليحج عليه فعجز عن الحج لمرض أو ذهاب المال، وان اكترى أرضا
للزراعة فزرعها ثم هلك الزرع بزيادة المطر أو شدة برد أو دوام ثلج أو أكل
جراد لم يجز له الرد لان الجائحة حدثت على مال المستأجر دون منفعة الأرض
فلم يجز له الرد، وان اكترى دارا فتشعثت فبادر المكرى إلى اصلاحها لم يكن
للمستأجر ردها لأنه لا يلحقه الضرر، فإن لم يبادر ثبت له الفسخ لأنه يلحقه
ضرر بنقصان المنفعة، فان رضى سكناها ولم يطالب بالاصلاح فهل يلزمه جميع
الأجرة أم لا؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يلزمه جميع الأجرة لأنه لم يستوف جميع ما استحقه من المنفعة
فلم يلزمه جميع الأجرة، كما لو اكترى دارا سنة فسكنها بعض السنة ثم غصبت
(والثاني) يلزمه جميع الأجرة لأنه استوفى جميع المعقود عليه ناقصا بالعيب
73

فلزمه جميع البدل، كما لو اشترى عبدا فتلفت يده في يد البائع ورضى به.
(فصل) ومتى رد المستأجر العين بالعيب، فإن كان العقد على عينها انفسخ
العقد، لأنه عقد على معين فانفسخ برده، كبيع العين. وإن كان العقد على
موصوف في الذمة لم ينفسخ العقد برد العين، بل يطالب ببدله، لأن العقد على
ما في الذمة، فإذا رد العين رجع إلى ما في الذمة، كما لو وجد بالمسلم
فيه عيبا فرده.
(فصل) وان استأجر عبدا فمات في يده، فإن كان العقد على موصوف في
الذمة طالب ببدله لما ذكرناه في الرد بالعيب، وإن كان العقد على عينه فإن لم يمض
من المدة ما له أجرة انفسخ العقد. وقال أبو ثور من أصحابنا: لا ينفسخ، بل
يلزم المستأجر الأجرة لأنه هلك بعد التسليم فلم ينفسخ العقد، كما لو هلك المبيع
بعد تسليم فلم ينفسخ العقد، والمذهب الأول، لان المعقود عليه هو المنافع،
وقد تلفت قبل قبضها فانفسخ العقد كالمبيع إذا هلك قبل القبض. وان مضى من
المدة ماله أجرة انفسخ العقد فيما بقي بتلف المعقود عليه، وفيما مضى طريقان:
(أحدهما) لا ينفسخ فيه العقد قولا واحدا
(والثاني) انه على قولين بناء على الطريقين في الهلاك الطارئ في بعض
المبيع قبل القبض، هل هو كالهلاك المقارن للعقد أم لا؟ لان المنافع في الإجارة
كالمبيع قبل القبض، وفى المبيع قبل القبض طريقان فكذلك الإجارة.
(فصل) وان اكترى دارا فانهدمت فقد قال في الإجارة ينفسخ العقد،
وقال في المزارعة إذا اكترى أرضا للزراعة فانقطع ماؤها ان المكترى بالخيار
بين أن يفسخ وبين أن لا يفسخ. واختلف أصحابنا فيهما على طريقين، فمنهم من
نقل جواب كل واحدة من المسئلتين إلى الأخرى فخرجهما على قولين، وهو
الصحيح (أحدهما) ان العقد ينفسخ فيهما، لان المنفعة المقصودة هي السكنى
والزراعة وقد فاتت فانفسخ العقد، كما لو اكترى عبدا للخدمة فمات.
(والثاني) لا ينفسخ لأن العين باقية يمكن الانتفاع بها وإنما نقصت منفعتها
فثبت له الخيار كما لو حدث به عيب. ومنهم من قال إذا انهدمت الدار انفسخ
74

العقد، وان انقطع الماء من الأرض لم ينفسخ لان الأرض باقية مع انقطاع
الماء والدار غير باقية مع الانهدام.
(الشرح) لا ينفسخ عقد الإجارة عينية كانت أو في الذمة بنفسها ولا يفسخ
أحد العاقدين بالاعذار التي لا توجب خللا في المعقود عليه، كمن استأجر حماما
وتعذر عليه جلب الوقود له، أو استأجر سيارة وتعذر على شراء وقودها، أو
مرض فحال مرضه دون السفر عليها، أو استأجر بيتا ولم يجد أثاثا يتخذه فراشا
فيها، ويقاس على هذه الأمثلة كل عذر لا يلحق المعقود عليه خلل في عينه
بعيب فيه، وإذا استأجر دارا فوجد ماء بئرها متغيرا، قال أبو حنيفة: إن
أستطيع الوضوء به فلا خيار للمستأجر. وعندنا انه ان خالف معهود الآبار في
تلك الناحية فله الخيار، فإن كان معهودهم الشرب من آبارهم - فإذا كان تغيره
يمنع من شربه - فله الخيار، وان أمكن الوضوء منها، وإن كان معهودهم الا
يشربوا منها فلا خيار، وإن كان غير معهود في ذلك الوقت - فإن كان مع نقصانه
كافيا لما يحتاج المستأجر من شرب أو طهور، فلا خيار له، وإن كان مقصرا عن
الكفاية فله الخيار.
فأما رجاء الحصول على الماء إذا تغير ماؤه فلا خيار لمستأجره، ولو نقص
ماؤه فله الخيار الا أن يكون معهودا في وقته فلا خيار فيه.
قال الشافعي: وإذا اكترى الرجل الأرض من الرجل بالكراء الصحيح ثم
أصابها غرق منعه الزرع أو ذهب بها سيل أو غصبها فحيل بينه وبينها سقط عنه
الكراء من يوم أصابها ذلك، وهي مثل الدار يكتريها سنة ويقبضها فتهدم في
أول السنة أو آخرها، والعبد يستأجره السنة فيموت في أول السنة أو آخرها
فيكون عليه من الإجارة بقدر ما سكن واستخدم ويسقط عنه ما بقي، وان أكراه
أرضا بيضاء يصنع فيها ما شاء، أو لم يذكر انه اكتراها للزرع ثم انحسر الماء عنها
في أيام لا يدرك فيها زرعا، فهو بالخيار بين أن يأخذ ما بقي بحصته من الكراء أو
يرده لأنه قد انتقص مما اكترى. وكذلك ان اكتراها للزرع، وكراؤها للزرع
أبين في أن له أن يردها ان شاء، وإن كان مر بها فأفسد زرعه أو أصابه
75

حريق أو ضريب 1) أو جراد أو غير ذلك فهذا كله جائحة على الزرع لا على الأرض
فالكراء له لازم، فان أحب أن يجدد زرعا جدده إن كان ذلك يمكنه، وان لم
يمكنه فهذا شئ أصيب به في زرعه لم تصب به الأرض فالكراء له لازم، وهذا
مفارق للجائحة في الثمرة يشتريها الرجل فتصيبها الجائحة في يديه قبل أن يمكنه
جدادها. ومن وضع الجائحة ثم ابتغى أن لا يضعها ههنا، فان قال قائل: إذا كانتا
جائحتين فما بال إحداهما توضع والأخرى لا توضع، فان من وضع الجائحة الأولى
فإنما يضعها بالخبر، وبأنه إذا كان البيع جائزا في شراء الثمرة إذا بدا صلاحها
وتركها حتى تجدد فإنما ينزلها بمنزلة الكراء الذي يقبض به الدار ثم تمر به أشهر ثم
تتلف الدار فيسقط عنه الكراء من يوم تلف. اه‍
وقد اختلف أصحابنا في الفساد الطارئ على المستأجر - بفتح الجيم - على
حسب اختلافهم في الفساد الطارئ على بعض الصفقة، هل يكن كالفساد المقارن
للعقد؟ فقال بعض أصحابنا هما سواء، فيكون بطلان الإجارة فيما مضى من
المدة على قولين من تفريق الصفقة.
وقال آخرون: ان الفساد الطارئ على العقد مخالف للفساد المقارن للعقد،
فتكون الإجارة فيما مضى من المدة غير فاسدة قولا واحدا. فان قبل ببطلان
الإجارة فيما مضى من المدة لزم المستأجر أجرة المثل في الماضي دون المسمى.
وان قيل بصحة الإجارة فيما مضى فقد اختلف أصحابنا هل له الخيار في فسخه
أم لا؟ على وجهين (أحدهما) لا خيار له لفواته على يده، فعلى هذا إن كانت
اجرة السنة كلها متساوية لتساوي العمل فيها فعليه نصف الأجرة المسماة لاستيفاء
نصف العمل المستحق بنصف السنة المسماة
وإن كان العمل فيها مختلفا والأجرة فيه مختلفة مثل أن تكون اجرة النصف
الماضي من السنة مائة درهم وأجرة النصف الباقي خمسين درهما تقسطت الأجرة
على العمل المختلف دون المدة، وكان على المستأجر ثلثي ثلثا الأجرة بمضي نصف
المدة لأنها تقابل ثلثي العمل

(1) الضريب يقال للثلج الدائب ولسموم الماء انشفه الأرض. هكذا في القاموس
76

(والوجه الثاني) أن له الخيار لتفريق الصفقة عليه بين المقام على الإجارة
فيما مضى وبين فسخها فيه، فان أقام على الماضي لزمه من الأجرة ما ذكرناه من
الحساب والقسط، وكان بعض أصحابنا يخرج قولا آخر أن يقيم بجميع الأجرة
والا فسخ، وهو قول من يجعل الفساد الطارئ كالفساد المقارن، وان فسخ
الإجارة في الماضي لزمه فيه أجرة المثل، لان الفسخ قد رفع العقد فسقط
حكم المسمى فيه.
(فرع) وجملة بيان هذه الفصول ان من استأجر عينا مدة فحيل بينه وبين
الانتفاع بها لم يخل من أقسام ثلاثة.
(أحدها) ان تتلف العين كنفوق دابة فهذا على ثلاثة أضرب، أحدها:
ان تتلف العين قبل قبضها، فان الإجارة تنفسخ بغير خلاف نعلمه، لان المعقود
عليه تلف قبل قبضه فأشبه ما لو تلف الطعم المبيع قبل قبضه.
(والثاني) أن تتلف عقيب قبضها، فان الإجارة تنفسخ أيضا ويسقط الاجر
عند عامة الفقهاء الا أبا ثور حكى عنه أنه قال: يستقر الاجر، لان المعقود عليه
أتلف بعد قبضه أشبه المبيع، وهذا غلط، لان المعقود عليه المنافع، وقبضها
استيفاؤها أو التمكن من استيفاؤها، ولم يحصل ذلك فأشبه تلفها قبل قبض العين
(والثالث) أن تتلف بعد مضى شئ من المدة، فان الإجارة تنفسخ فيما بقي
من المدة دون ما مضى، ويكون للمؤجر من الاجر بقدر ما استوفى من المنفعة،
هذا معنى ما نقلناه من الام قبل. وقال أحمد فيما رواه عنه إبراهيم بن الحارث:
إذا اكترى بعيرا بعينه فنفق البعير يعطيه بحساب ما ركب، وذلك لما ذكرنا من أن
المعقود عليه المنافع، وقد تلف بعضها قبل قبضه فبطل العقد فيما تلف دون
ما قبض، كما لو اشترى صبرتين فقبض إحداهما وتلفت الأخرى قبل قبضها.
فإن كان المستأجر مختلف الاجر حسب اختلاف الأزمان كدار بسيف البحر
إيجارها صيفا أكثر من أجرها شتاء، أو دار بأسوان أجرها شتاء أكثر من
أجرها صيفا أو دار لها موسم كدور مكة شرفها الله رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة
77

ويقسط الاجر المسمى على حسب قيمة المنفعة كقسمة الثمن على الأعيان المختلفة
في البيع، وكذلك لو كان الاجر على قطع المسافة وكانت معروفة بالأميال
أو الكيلو مترات.
القسم الثاني: ان يحدث على العين ما يمنع نفعها كدار انهدمت وأرض غرقت
أو انقطع عنها الماء فهذه ينظر فيها فإن لم يبق فيها أصلا فهي كالتالفة سواء،
وان بقي فيها نفع غير ما استأجرها له انفسخت الا في انقطاع الماء لأنه لم يحدث
في المعقود عليه خلل يفسد العقد فأشبه ما لو نقص نفعها مع بقائه، فهو مخير بين
الفسخ والامضاء، فان فسخ فعليه ما مضى من العقد، وان اختار امضاءه فعليه
جميع الاجر لان العيب إذا رضى به سقط حكمه.
فإذا انهدمت الدار أو مرض الخادم، فان الإجارة لا تنفسخ لبقاء المعقود
عليه، ولكن المستأجر بالخيار لأجل العيب الحادث المؤثر في منفعته بين المقام
والفسخ، والخيار فيه على التراخي لا على الفور بخلاف الخيار في البيع لأنه
يتجدد بمرور الأوقات لحدوث النقص فيها فإن كان مرض الخادم مرضا لا يؤثر
في العمل نظر فيما استؤجر له من العمل، فإن كان مما لا تعاف النفس مرضه فيه
كالكنس والرعي وحرث الأرض فلا خيار للمستأجر، وإن كان مما تعاف النفس
مرضه فيه كخدمته في مأكله ومشربه وملبسه فله الخيار.
وقال النووي في الدار: تنفسخ بهدمها. وقال شمس الدين الرملي: في الأصح
وإن كانت الإجارة في دار حرث شارعها أو دكان بطلت سوقه فلا خيار له لأنه
عيب حدث في غير المعقود عليه، فإذا استأجر دارا فانهدم فيها حائط أو سقط
فيها سقف نظر، فإن لم يمكن سكنى الدار بانهدام حائطها وسقوط سقفها كان كما لو
انهدم جميعها في بطلان الإجارة فيها، وان أمكن سكناها لم تبطل الإجارة وكان
مخيرا في الفسخ للعيب الحادث. وأما ان انهدم نصفها وبقى نصفها والباقي منها
يمكن سكناه بطلت الإجارة في النصف المنهدم، وهي صحيحة في النصف السليم
والمستأجر بالخيار، ومن جعل من أصحابنا الفساد الطارئ على بعض الصفقة
كالفساد المقارن للصفقة خرج الإجارة فيما سلم من الدار على قولين.
78

(فرع) فإذا انهدمت الدار فبناها المؤجر لم تعد الإجارة فيها بعد فسادها الا
بعقد جديد: لان بطلانه يمنع من عوده الا باستحداث عقد ولكن لو اشتركت
وتشعبت فلم يختر المستأجر الفسخ حين عمرها المؤجر ففي خيار المستأجر وجهان
أحدهما: قد سقط لارتفاع موجبة، والثاني: انه باق بحاله لما تقدم من استحقاقه
ولكن له لو رام المؤجر ان يمنع المستأجر من الفسخ حتى يعمرها له لم يكن ذلك
للمؤجر، وكان المستأجر على خيار.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو اكترى أرضا سنة فغصبها رجل
لم يكن عليه كراه لأنه لم يسلم له ما اكترى، قلت: ومن هنا نعلم أن الأرض إذا
غصبت من يد المستأجر فله الفسخ، وهل تبطل الإجارة بالغصب؟ على قولين.
أصحهما: باطلة، والمستأجر برئ من اجرة مدة الغصب، ولا يكون المستأجر
خصما للغاصب فيها، لان خصم الغاصب إنما هو المالك أو وكيله وليس المستأجر
مالكا ولا وكيلا فلم يكن خصما.
والقول الثاني: ان الإجارة لا تبطل لان غاصبها ضامن لمنافعها لكن يكون
المستأجر بحدوث الغصب مخيرا بين المقام أو الفسخ فان فسخ سقطت عنه الأجرة
ولم يكن خصما للغاصب فيها، وان أقام فعليه المسمى ويرجع بأجرة المثل على
الغاصب ويصير خصما له في الأجرة دون الرقبة، الا ان يبقى من مدة الإجارة
شئ فيجوز أن يصير خصما في الرقبة ليستوفى حقه من المنفعة والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان اكرى نفسه فهرب أو أكرى عينا فهرب بها نظرت، فإن كانت
الإجارة على موصوف في الذمة استؤجر عليه من ماله كما لو أسلم إليه في شئ
فهرب، فإنه يبتاع عليه المسلم فيه، وان لم يمكن الاستئجار عليه ثبت للمستأجر
الخيار بين أن يفسخ وبين ان يصبر، لأنه تأخر حقه فيثبت له الخيار، كما لو أسلم
في شئ فتعذر، وإن كانت الإجارة على عين فهو بالخيار بين أن يفسخ وبين أن
يصبر، لأنه تأخر حقه فثبت له الخيار، كما لو ابتاع عبدا فابق قبل القبض، فإن لم
يفسخ نظرت، فإن كانت الإجارة على مدة انفسخ العقد بمضي المدة يوما بيوم
79

لان المنافع تتلف بمضي الزمان فانفسخ العقد بمضيه، وإن كانت على عمل معين لم
ينفسخ لأنه يمكن استيفاؤه إذا وجده
(فصل) وان غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر - فإن كان العقد
على موصوف في الذمة - طولب المؤجر بإقامة عين مقامها على ما ذكرناه في
هرب المكرى، وإن كان على العين فللمستأجر أن يفسخ العقد، لأنه تأخر حقه
فثبت له الفسخ، كما لو ابتاع عبدا فغصب فإن لم يفسخ - فإن كانت الإجارة على
عمل - لم تنفسخ لأنه يمكن استيفاؤه إذا وجده، وإن كانت على مدة فانقضت
ففيه قولان:
(أحدهما) ينفسخ العقد فيرجع المستأجر على المؤجر بالمسمى، ويرجع
المؤجر على الغاصب بأجرة المثل
(والثاني) لا ينفسخ، بل يخير المستأجر بين ان يفسخ ويرجع على المؤجر
بالمسمى، ثم يرجع المؤجر على الغاصب بأجرة المثل، وبين ان يقر العقد ويرجع
على الغاصب بأجرة المثل، لان المنافع تلفت في يد الغاصب، فصار كالمبيع إذا
أتلفه الأجنبي. وفى المبيع قولان إذا أتلفه الأجنبي فكذلك ههنا.
(فصل) وان مات الصبي الذي عقد الإجارة على إرضاعه فالمنصوص انه
ينفسخ العقد، لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه، لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه
لاختلاف الصبيان في الرضاع فبطل. ومن أصحابنا من خرج فيه قولان آخر انه
لا ينفسخ، لان المنفعة باقية، وإنما هلك المستوفى فلم ينفسخ العقد، كما لو
استأجر دارا فمات، فعلى هذا ان تراضيا على ارضاع صبي آخر جاز. وان تشاحا
فسخ العقد، لأنه تعذر امضاء العقد ففسخ.
(فصل)
وان استأجر رجلا ليقلع له ضرسا فسكن الوجع، أو ليكحل عينه فبرئت،
أو ليقتص له فعفا عن القصاص، انفسخ العقد على المنصوص في المسألة قبلها،
لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فانفسخ، كما لو تعذر بالموت، ولا ينفسخ على
قول من خرج القول الآخر.
80

(الشرح) إذا هرب الأجير أو شردت الدابة المتاجرة أو أخذ المؤجر
العين وهرب بها، أو منعه استيفاء المنفعة من غير هرب على نحو ما، لم تنفسخ
الإجارة، لكن يثبت للمستأجر خيار الفسخ، فان فسخ فلا كلام، وان لم يفسخ
انفسخت الإجارة بمضي المدة يوما فيوما، فان عادت العين في أثناء المدة استوفى
ما بقي منها، فان انقضت المدة انفسخت الإجارة لفوات المعقود عليه، وإن كانت
الإجارة على موصوف في الذمة، كخياطة ثوب أو بناء حائط أو حمل إلى موضع
معين استؤجر من ماله من يعلمه، كما لو أسلم إليه في شئ فهرب ابتيع من ماله،
فإن لم يمكن ثبت للمستأجر الفسخ، فان فسخ فلا كلام، وان لم يفسخ وصبر إلى أن
يقدر عليه فله مطالبته بالعمل، لان ما في الذمة لا يفوت بهربه، وكل موضع
امتنع الأجير من العمل فيه، أو منع المؤجر المستأجر من الانتفاع إذا كان بعد
عمل البعض فلا أجر له فيه على ما سبق، الا أن يرد العين قبل انقضاء المدة أو
يتم العمل - ان لم يكن على مدة - قبل فسخ المستأجر، فيكون له
أجر ما عمل.
فأما ان شردت الدابة أو تعذر استيفاء المنفعة بغير فعل المؤجر فله من الاجر
بقدر ما استوفى بكل حال، والى هذا كله ذهب الحنابلة
(فرع) إذا غصبت العين المستأجرة من يد المستأجر ففيه قولان: أحدهما
للمستأجر الفسخ لان فيه تأخير حقه، فان فسخ فالحكم فيه كما لو انفسخ العقد
بتلف العين سواء، وان لم يفسخ حتى انقضت مدة الإجارة فله الخيار بين الفسخ
والرجوع بالمسمى، وبين البقاء على العقد ومطالبة الغاصب بأجرة المثل، لان
المعقود عليه لم يفت مطلقا بل إلى بدل وهو القيمة، فأشبه ما لو أتلف الثمرة
المبيعة آدمي قبل قطعها، ويتخرج انفساخ العقد بكل حال على القول بأن المنافع
الغصب لا تضمن، وهو محل خلاف بين أصحابنا، وهو قول أصحاب الرأي
وأصحاب أحمد.
(والثاني) لا تخيير، بل ينفسخ ويرجع المستأجر على المؤجر بالمسمى
ويرجع المؤجر على الغاصب بأجرة المثل
81

وقول ثالث لم يذكره المصنف، وهو قول ابن الرفعة: لا خيار ولا فسخ
أخذا من النص، وقد استشهد له الغزي. قال الرملي: فيه نظر. وقال الأذرعي
هو مشكل وما أظن الأصحاب يسمحون به
وإن كانت الإجارة على عمل في الذمة كخياطة ثوب أو حمل شئ إلى موضع
معين فغصبت الماكينة التي يخيط. بها، أو العربة التي يحمل عليها لم ينفسخ العقد
وللمستأجر مطالبة الأجير بعوض المغصوب وإقامة من يعمل العمل، لأن العقد
على ما في الذمة، كما لو وجد بالمسلم فيه عيبا فرده، فان تعذر البدل ثبت
للمستأجر الخيار بين الفسخ أو الصبر إلى أن يقدر على العين المغصوبة فيستوفى منها
(فرع) وتنفسخ الإجارة بموت الطفل، لأنه يتعذر استيفاء المعقود عليه
لأنه لا يمكن إقامة غيره مقامه لاختلاف الصبيان في الرضاع واختلاف اللبن
باختلافهم، فإنه قد يدر على أحد الوالدين دون الآخر، وهذا هو منصوص
الشافعي، فإذا انفسخ العقد بطلت الإجارة من أصلها بالاجر كله. وإن كان في
أثناء المدة رجع بحصة ما بقي.
ومن أصحابنا من خرج قولا آخر انه لا ينفسخ، لان المنفعة باقية ببقاء
المرضعة وإنما المستوفى هو الذي هلك والعقد باق بين المتعاقدين فإذا تراضيا على
إرضاع صبي آخر جاز والا انفسخ العقد.
أما إذا ماتت المرضعة فان الإجارة تنفسخ لفوات المنفعة بهلاك محلها،
وحكى عن بعض أصحاب أحمد أنها لا تنفسخ، وكذلك ذهب بعض الأصحاب
وقالوا: يجب في مالها أجر من ترضعه تمام الوقت لأنه كالدين.
(فرع) يجوز أن يستأجر طبيبا يخلع له ضرسه لأنها منفعة مباحة مقصوده
فجاز الاستئجار على فعلها كالختان، فإذا برأ الضرس قبل قلعه انفسخت الإجارة
لان قلعه سليما لا يجوز، وان لم يبرأ لكن امتنع المستأجر من قلعه لم يجبر عليه
لان اتلاف جزء من الآدمي محرم في الأصل، وإنما أبيح القلع إذا صار بقاؤه
ضررا، والامر مفوض إلى الانسان في نفسه إذا كان أهلا لذلك. وصاحب
الضرس أعلم بمضرته ومنفعته، وكذلك. وإذا استأجر طبيبا في الرمد ليكحل
عينه بالنترات والأكاسيد فلم يبرأ عينه استحق الاجر، وبه قال أكثر الفقهاء.
82

وقال مالك: إنه لا يستحق أجرا حتى تبرأ عينه، ولم يحك ذلك أصحابه، وهو
فاسد، لان المستأجر قد وفى العمل الذي وقع العقد عليه فوجب له الاجر وإن
لم يحصل الغرض، كما لو استأجره لبناء حائط يوما أو لخياطة قميص فلم يتمه فيه
فان برئت عينه في أثناء المدة انفسخت الإجارة فيما بقي من مدة، لأنه قد تعذر
العمل فأشبه ما لو حجر عنه امر غالب، وكذلك لو مات، فان امتنع من العلاج
فلم يستعمله مع بقاء المرض استحق الطبيب الاجر بمضي المدة، كما لو استأجره
يوما للبناء فلم يستعمله فيه، فاما ان شارطه على البرء فان مذهبنا ومذهب أحمد
ابن حنبل ان ذلك يكون جعالة فلا يستحق شيئا حتى يتحقق البرء، سواء وجد
قريبا أو بعيدا، فان برئ بغير دوائه أو تعذر علاجه لموته أو غير ذلك من
الموانع التي هي من جهة المستأجر فله أجر مثله، كما لو عمل العامل في الجعالة ثم
فسخ العقد، وان امتنع لأمر من جهة المعالج أو غير الجاعل فلا شئ له على
تفصيل سيأتي في الجعالة إن شاء الله.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان مات الأجير في الحج قبل الاحرام نظرت، فإن كان العقد
على حج في الذمة استؤجر من تركته من يحج، فإن لم يمكن ثبت المستأجر
الخيار في فسخ العقد كما قلنا في السلم، وإن كان على حجة بنفسه انفسخ العقد،
لأنه تلف المعقود عليه قبل القبض، فان مات بعدما أتى بجميع الأركان وقبل
المبيت والرمي سقط الفرض لأنه أتى بالأركان، ويجب في تركته الدم لما بقي كما
يجب ذلك في حج نفسه.
وان مات بعد الاحرام وقبل أن يأتي بالأركان فهل يجوز أن يبنى غيره على
علمه؟ فيه قولان، قال في القديم: يجوز لأنه عمل تدخله النيابة فجاز البناء عليه
كسائر الأعمال. وقال في الجديد: لا يجوز، وهو الصحيح، لأنه عبادة يفسد
أولها بفساد آخرها فلا تتأدى بنفسين كالصوم والصلاة، فان قلنا لا يجوز البناء
فإن كانت الإجارة على عمل الأجير بنفسه بطلت، لأنه فات المعقود عليه ويستأجر
المستأجر من يستأنف الحج.
83

وإن كانت الإجارة على حج في الذمة تبطل، لان المعقود عليه لم يفت
بموته، فإن كان وقت الوقوف باقيا استؤجر من تركته من يحج، وان فات وقت
الوقوف فللمستأجر ان يفسخ لأنه تأخر حقه فثبت له الفسخ.
وان قلنا: يجوز البناء على فعل الأجير: فإن كانت الإجارة على فعل الأجير
بنفسه، بطلت لان حجه فات بموته، فإن كان وقت الوقوف باقيا أقام المستأجر
من يحرم بالحج ويبنى عمل الأجير، وإن كان بعد فوات وقت الوقوف أقام
من يحرم بالحج ويتم.
وقال أبو إسحاق: لا يجوز للباني أن يحرم بالحج، لان الاحرام بالحج في غير
أشهر الحج لا ينعقد، بل يحرم بالعمرة ويتم، والصحيح هو الأول لأنه لا يجوز
ان يطوف في العمرة ويقع عن الحج، وقوله: ان الاحرام بالحج لا ينعقد
في غير أشهر الحج لا يصح، لان هذا بناء على إحرام حصل في أشهر الحج،
وإن كانت الإجارة على حج في الذمة استؤجر من تركه الأجير من يبنى على إحرامه
على ما ذكرناه.
(فصل) ومتى انفسخ العقد بالهلاك أو بالرد بالعيب أو بتعذر المنفعة بعد
استيفاء بعض المنفعة قسم المسمى على ما استوفى وعلى ما بقي، فما قابل المستوفى
استقر، وما قابل الباقي سقط، كما يقسم الثمن على ما هلك من المبيع وعلى ما بقي،
فإذا كان ذلك مما يختلف رجع في تقويمه إلى أهل الخبرة، وإن كان العقد على الحج
فمات الأجير أو أحصر نظرت، فإن كان بعد قطع المسافة وقبل الاحرام ففيه
وجهان (أحدهما) وهو قول أبي إسحاق: انه لا يستحق شيئا من الأجرة بناء على
قوله في الام: إن الأجرة لا تقابل قطع المسافة وهو الصحيح، لان الأجرة في
مقابلة الحج وابتداء الحج من الاحرام وما قبله من قطع المسافة تسبب إلى الحج
وليس بحج فلم يستحق في مقابلته اجرة كما لو استأجر رجلا ليخبز له فأحضر الآلة
وأوقد النار ومات قبل أن يخبز.
(والثاني) وهو قول أبي سعيد الإصطخري وأبى بكر الصيرفي أنه يستحق من
من الأجرة بقدر ما قطع من المسافة بناء على قوله في الاملاء أن الأجرة تقابل
قطع المسافة والعمل لان الحج لا يتأدى الا بهما فقسطت الأجرة عليهما.
84

وإن كان بعد الفراغ من الأركان وقبل الرمي والمبيت ففيه طريقان، أحدهما
يلزمه أن يرد من الأجرة بقدر ما ترك قولا واحدا لأنه ترك بعض ما استؤجر
عليه فلزمه رد بدله، كما لو استؤجر على بناء عشرة أذرع فبنى تسعة، ومنهم من
قال: فيه قولان
(أحدهما) يلزمه لما ذكرناه (والثاني) لا يلزمه لان ما دخل على الحج من
النقص بترك الرمي والمبيت جبره بالدم، فصار كما لو لم يتركه، وإن كان بعد
الاحرام وقبل أن يأتي بباقي الأركان ففيه قولان (أحدهما) لا يستحق شيئا كما لو
قال من رد عبدي الآبق فله دينار فرده رجل إلى باب البلد ثم هرب (والثاني) انه
يستحق بقدر ما علمه وهو الصحيح، لأنه عمل بعض ما استؤجر عليه فأشبه إذا
استؤجر على بناء عشرة أذرع فبنى بعضها ثم مات.
فإذا قلنا: إنه يستحق بعض الأجرة فهل تقسط الأجرة على العمل والمسافة
أو على العمل دون المسافة؟ على ما ذكرناه من القولين.
(فصل)
وان اجر عبدا ثم أعتقه صح العتق لأنه عقد على منفعة فلم يمنع العتق كما لو
زوج أمته ثم أعتقها، ولا تنفسخ الإجارة كما لا ينفسخ النكاح، وهل يرجع
العبد على مولاه بالأجرة؟ فيه قولان، قال في الجديد: لا يرجع وهو
الصحيح، لأنها منفعة استحقت بالعقد قبل العتق فلم يرجع ببدلها بعد العتق
كما لو زوج أمته ثم أعتقها، وقال في القديم: يرجع لأنه فوت بالإجارة ما ملكه
من منفعته بالعتق، فوجب عليه البدل. فان قلنا يرجع بالأجرة كانت نفقته على
نفسه لأنه ملك بدل منفعته فكانت نفقته عليه، كما لو أجر نفسه بعد العتق،
وان قلنا: لا يرجع بالأجرة ففي منفعته وجهان.
(أحدهما) انها على المولى، لأنه كالباقي على ملكه بدليل أنه يملك بدل منفعته
بحق الملك، فكانت نفقته عليه.
(والثاني) أنها في بيت المال لأنه لا يمكن ايجابها على المولى، لأنه زال ملكه
عنه، ولا على العبد لأنه لا يقدر عليها في مدة الإجارة، فكانت في بيت المال.
85

(الشرح) إذا مات الأجير في أثناء الحج فله أحوال:
1 - يموت بعد الشروع في الأركان وقبل الفراغ منها.
2 - ان يموت بعد الشروع في السفر وقبل الاحرام.
3 - أن يموت بعد الفراغ من الأركان وقبل الفراغ من باقي الأعمال.
فأما الأولى وهي الموت بعد الشروع وقبل الفراغ من الأركان ففي استحقاق الأجرة
قولان مشهوران أوردهما المصنف هنا (أحدهما) لا يستحق شيئا لأنه
لم يحصل المقصود فهو كما لو قال: من رد ضالتي فله دينار فرده إلى باب الدار ثم
هربت أو ماتت فإنه لا يستحق شيئا، وأصحهما عند المصنف، ووافقه النووي
والأصحاب يستحق بقدر عمله، لقيامه بجزء مما استؤجر له فوجب له بقدره كمن
استؤجر لقطع عشرة أميال فقطع بعضها أو بناء عشرة أذرع فبنى بعضها ثم مات
فإنه يستحق بقدره بخلاف الجعالة فإنها ليست عقدا لازما، ولكنها التزام بشرط
فإن لم يوجد الشرط تاما فإنه لا يلزمه شئ كالطلاق المعلق، ونقل النووي عن
الشيخ أبى حامد والأصحاب القول الأول وهو نص الشافعي في القديم، والثاني
نصه في الجديد والام وهو الأصح.
وسواء مات بعد الوقوف بعرفة أو قبله ففيه القولان، هذا هو المذهب.
وحكى الرافعي وجها شاذا أنه يستحق بعده، ثم في استحقاقه إذا قلنا به
هل يكون على الأعمال والمسافة معا أم على الأعمال فقط؟ قولان، أصحهما:
على الأعمال والمسافة جميعا عند الأكثرين، وممن صححه الرافعي، وأصحهما عند
المصنف وطائفة على الأعمال فقط، وفى المسألة طريق آخر ساقه النووي عن
ابن سريج أنه إن قال: استأجرتك لتحج عنى قسط على العمل فقط، وان قال:
لتحج من بلد كذا قسط عليهما جميعها، وحمل القولين على هذين الحالين.
وأما الحال الثانية: وهي أن يموت قبل الاحرام وبعد الشروع في السفر،
ففيه وجهان مشهوران الصحيح ومنصوص الشافعي في القديم والجديد، وبه
قطع الجمهور: لا يستحق شيئا من الأجرة لأنه لم يقم بشئ من أعمال الحج،
وليست المسافة بسبب الحج من الحج كما لو أجر خبازا ليخبز له فاستحضر أدواته
86

وأوقد تنوره ثم مات قبل أن يخبز فلا استحقاق له: وساق النووي تعليلا لغير
المصنف بأنه لم يحصل شيئا من المقصود.
والوجه الثاني وهو قول أبي سعيد الإصطخري وأبى بكر الصيرفي: يستحق
من الأجرة بقدر ما قطع من المسافة. وحكى الرافعي وجها ثالثا عن أبي الفضل
ابن عبدان أنه إن قال: استأجرتك لتحج من بلد كذا استحق بقسطه، ثم في البناء
على فعل الأجير نظر، إن كانت إجارة عين انفسخت ولا بناء لورثة الأجير كما لو
لم يكن له أن يستنيب، وهل للمستأجر أن يستأجر من يبنى؟ فيه القولان السابقان
في الفرع قبله في جواز البناء، وإن كانت الإجارة على الذمة، فإن قلنا: لا يجوز
البناء فلورثة الأجير أن يستأجروا من يستأنف الحج عن المستأجر، فإن أمكنهم
في تلك السنة لبقاء الوقت فذاك، وان تأخر إلى القابل ثبت الخيار في فسخ
الإجارة، فان جوزنا البناء فلورثة الأجير أن يبنوا.
وأما الحال الثالثة: وهي موتة قبل الفراغ من الأعمال بعد أدائه الأركان
فينظر، إن كان قد فات وقتها أو لم يفت ولم نجوز البناء يجبر الباقي بالدم من مال
الأجير، وفى رد شئ من الأجرة الخلاف فيمن أحرم بعد مجاوزة الميقات ولم
يعد إليه وجبره بالدم، المذهب وجوب الرد وان جوزنا البناء وكان الوقت متسعا
فإن كانت الإجارة على العين انفسخت في الباقي من الأعمال، ووجب رد ما يقابلها
من الأجرة، ويستأجر المستأجر من يرمى ويبيت، ولا حاجة إلى الاحرام لان
الرمي والمبيت يؤديان بعد التحلل، ولا يلزم بذلك دم ولا شئ من الأجرة،
هكذا ذكره المتولي وغيره، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان أجر عينا ثم باعها من غير المستأجر ففيه قولان، أحدهما:
أن البيع باطل لان يد المستأجر تحول دونه فلم يصح البيع، كبيع المغصوب من
غير الغاصب، والمرهون من غير المرتهن، والثاني: يصح لأنه عقد على المنفعة
فلم يمنع صحة البيع، كما لو زوج أمته ثم باعها ولا تنفسخ الإجارة كما لا ينفسخ
النكاح في بيع الأمة المزوجة. وان باعها من المستأجر صح البيع قولا واحدا
87

لأنه في يده لا حائل دونه فصح بيعها منه، كما لو باع المغصوب من الغاصب،
والمرهون من المرتهن، ولا تنفسخ الإجارة بل يستوفى المستأجر المنفعة بالإجارة
لان الملك لا ينافي الإجارة، والدليل عليه أنه يجوز أن يستأجر ملكه من
المستأجر، فإذا طرأ عليها لم يمنع صحتها، وإن تلفت المنافع قبل انقضاء المدة
انفسخت الإجارة ورجع المشترى بالأجرة لما بقي على البائع.
(فصل) فإن أجر عينا من رجل ثم مات أحدهما لم يبطل العقد، لأنه
عقد لازم فلا يبطل بالموت مع سلامة المعقود عليه كالبيع، فإن أجر وقفا عليه
ثم مات ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يبطل لأنه أجر ما يملك إجارته فلم يبطل بموته كما لو أجر ملكه
ثم مات فعلى هذا يرجع البطن الثاني في تركه المؤجر المدة الباقية لان المنافع
في المدة الباقية حق له، فاستحق أجرتها.
(والثاني) تبطل لان المنافع بعد الموت حق لغيره فلا ينفذ عقده عليها من
غير إذن ولا ولاية، ويخالف إذا أجر ملكه ثم مات، فان الوارث يملك من جهة
الموروث: فلا يملك ما خرج من ملكه بالإجارة والبطن الثاني يملك غلة الوقف
من جهة الواقف، فلم ينفذ عقد الأول عليه، وإن أجر صبيا في حجره أو أجر
ماله ثم بلغ ففيه وجهان.
أحدهما: لا يبطل العقد لأنه عقد لازم عقده بحق الولاية فلا يبطل بالبلوغ
كما لو باع داره، والثاني يبطل لأنه بان بالبلوغ أن تصرف الولي إلى هذا الوقت
والصحيح عندي في المسائل كلها أن الإجارة لا تبطل وبالله التوفيق.
(الشرح) قال الماوردي في الحاوي الكبير: فإذا بيعت الدار المستأجرة
فذلك ضربان.
أحدهما: أن تباع على المستأجر فالبيع جائز والإجارة بحالها، ويصير جامعا
بين ملك المنفعة بالإجارة والرقبة بالبيع، والفرق بنى أن يرثها المستأجر فتبطل
الإجارة وبين أن يبتاعها فلا تبطل أنه بالإرث صار قائما مقام المؤجر فلم يجز له
عقد على نفسه، وهو بالبيع لا يقوم مقام البائع إلا فيما سمى بالعقد.
88

والضرب الثاني أن تباع على أجنبي غير المستأجر، ففي البيع قولان: أحدهما
أنه باطل والإجارة لحالها، لان يد المستأجر ممنوعة بحق فصارت أسوأ حالا من
المغصوب الذي يمنع يد المشترى منه بظلم.
والقول الثاني وهو الصحيح أن البيع صحيح والإجارة لازمة لان ثبوت
العقد على المنفعة لا يمنع من بيع الرقبة كالأمة المزوجة، فعلى هذا إن كان
المشترى عالما بالأجرة فلا خيار له والأجرة للبائع لأنه قد ملكها بعقده. وإن كان
غير عالم فله الخيار بين المقام والفسخ. اه‍
قلت: وقد نص أحمد رضي الله عنه على صحة البيع سواء باعها من المستأجر
أو من غيره. وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه. وقال في الآخر: ان باعها
لغير المستأجر لم يصح البيع، لان يد المستأجر حائلة تمنع التسليم إلى المشترى
فمنعت الصحة كما في المغصوب.
فإذا ثبت هذا فان المشترى يملك مسلوب المنفعة إلى حين انقضاء
الإجارة، ولا يستحق تسليم العين الا حينئذ، لان تسليم العين إنما يراد لاستيفاء
نفعها، ونفعها إنما يستحقه إذا انقضت الإجارة فيصير هذا بمنزلة من اشترى عينا
في مكان بعيد، فإنه لا يستحق تسليمها الا بعد مضى مدة يمكن احضارها فيها،
كالمسلم إلى وقت لا يستحق تسلم المسلم فيه الا في وقته، فإن لم يعلم المشترى
بالإجارة فله الخيار بين الفسخ وامضاء البيع بكل الثمن. لان ذلك عيب ونقص.
وعلى هذا إذا اشتراها المستأجر صح البيع أيضا: لأنه يصح بيعها لغيره فله أولى
لأن العين في يده، وهل تبطل الإجارة؟ لا تبطل الإجارة عندنا قولا واحدا.
وعند أحمد وأصحابه وجهان:
(أحدهما) وهو المذهب عندنا عدم البطلان لأنه تملك المنفعة بعقد ثم ملك
الرقبة المسلوبة بعقد آخر فلم يتنافيا، كما يملك الثمرة بعقد ثم يملك الأصل بعقد
آخر، ولو أجر الموصى بالمنفعة مالك الرقبة صحت الإجارة، فدل على أن ملك
المنفعة لا ينافي العقد على الرقبة. وكذلك لو استأجر المالك العين المستأجرة من
مستأجرها جاز. فعلى هذا يكون الاجر باقيا على المشترى وعليه الثمن ويجتمعان
للبائع كما لو كان المشترى غيره
89

والوجه الثاني: تبطل الإجارة فيما بقي من المدة لأنه عقد على منفعة العين
فبطل ملك العاقد للعين كالنكاح، فإنه لو تزوج أمة ثم اشتراها بطل نكاحه.
قالوا ولان ملك الرقبة يمنع ابتداء الإجارة فمنع استدامتها كالنكاح، فعلى هذا
يسقط عن المشترى الاجر فيما بقي من الإجارة، كما لو بطلت الإجارة بتلف
العين، وإن كان المؤجر قد قبض الاجر كله حسب عليه باقي الاجر من الثمن
والله تعالى أعلم.
(فرع) قال المزني: قال الشافعي ولا يفسخ بموت أحدهما إذا كانت الدار
قائمة وليس الوارث بأكثر من الموروث الذي عنه ورثوا. اه‍
فإذا ثبت هذا فان عقد الإجارة لازم لا ينفسخ بموت المؤجر ولا المستأجر
وبه قال مالك واحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة وسفيان والليث بن سعد: الإجارة
تبطل بموت المؤجر والمستأجر استدلالا بأن عقود المنافع تبطل بموت العاقد
كالنكاح والمضاربة والوكالة، ولان الإجارة تفتقر إلى مؤجر ومؤاجر فلما بطلت
بتلف المواجر بطلت بتلف المؤجر، وتحريره قياسا أنه عقد إجارة يبطل بتلف
المواجر فوجب ان يبطل بتلف المؤجر قياسا عليه إذا أجر نفسه، ولان زوال
ملك المؤجر عن رقبة المواجر يوجب فسخ الإجارة قياسا عليه إذا باع ما أجره
برضى المستأجر، ولان منافع الإجارة إنما تستوفى بالعقد والملك، وقد زال
ملك المؤجر بالموت وإن كان عاقدا. والوارث لا عقد عليه وان صار مالكا،
فصارت منتقلة من العاقد إلى من ليس بعاقد، فوجب أن يبطل لتنافى اجتماع
العقد والملك.
ودليلنا هو ان ما لزم من عقود المعاوضات المحضة لم تنفسخ بموت أحد
المتعاقدين كالبيع، فان قيل ينتقض بموت من أجر نفسه لم يصح لأن العقد
إنما يبطل بتلف المعقود عليه لا بموت العاقد، ألا تراه لو كان حيا فزمن بطلت
الإجارة، وإن كان العاقد حيا، ولان السيد قد يعاوض على بضع أمته بعقد
النكاح كما يعاوض على خدمتها بعقد الإجارة. فلما لم يكن موته مبطلا للعقد على
بضعها لم يبطل بالعقد على استخدامها. ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان:
(أحدهما) أنه عقد لازم على منافع ملكه فلم يبطل بموته كالنكاح على أمته
90

(والثاني) أنه أحد منفعتي الأمة فلم يبطل بموت السيد كالمنفعة الأخرى،
ولان المنافع قد تنتقل بالمعاوضة كالأعيان فجاز أن تنتقل بالإرث كالأعيان.
ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان:
(أحدهما) أن ما صح أن ينتقل بعوض صح أن تنقل به المنافع في الإجارات
ولان بالموت يعجز عن إقباض ما استحق تسليمه بعقد الإجارة فلم يبطل بعد
العقد كالجنون والزمانة، ولأنه عقد لا يبطل بالجنون فلم يبطل بالموت كالبيع،
ولان منافع الأعيان مع بقاء ملكها قد يستحق بالرهن تارة وبالإجارة أخرى.
فلما كان ما تستحق منفعته بارتهانه إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب بطلان رهنه
وجب أن يكون ما استحقت منفعته بالإجارة إذا انتقل ملكه بالموت لم يوجب
بطلان إجارته، وقد استدل الشافعي بهذا في الام.
ولان الوارث إنما يملك بالإرث ما كان يملكه الموروث، والموروث إنما
كان يملك الرقبة دون المنفعة فلم يجز أن يصير الوارث مالكا للرقبة والمنفعة،
ولان إجارة الوقف لا تبطل بموت مؤجره بوفاق أبي حنيفة. وإن قال بعض
أصحابنا: تبطل، فكذلك إجارة الملك لا تبطل بموت مؤجره كالوقف
وأما الجواب عن قياسه على النكاح والمضاربة مع انتقاضه بالوقف فهو أنه
إن رده إلى النكاح، فالنكاح لم يبطل بالموت، وإنما انقضت مدته بالموت فصار
كانقضاء مدة الإجارة.
وان رده إلى المضاربة والوكالة فالمعنى فيهما عدم لزومهما في حال الحياة،
وجواز فسخهما بغير عذر، وليست الإجارة كذلك للزومهما في حال الحياة.
وأما الجواب عن قياسه على انهدام الدار، فهو أن المعنى فيه فوات المعقود
عليه قبل قبضه.
وأما الجواب عن قياسه على ما إذا باع ما أجر برضى المستأجر فهو غير مسلم
الأصل لان الإجارة لا تبطل بالبيع عن رضاه كما لا تبطل بالبيع عن سخطه،
وإنما البيع مخطب في إبطاله ثم ينتقص على أصله بعتق العبد المواجر قد زال ملك
91

سيده عن رقبته مع بقاء الإجارة عليها، فكذلك إذا زال بالبيع والموت.
وأما الجواب عن استدلاله بأن المنافع تستوفى بعقد وملك وهذا مفترق
بالموت، فهو أن اجماعهما يعتبر عند العقد ولا يعتبر فيما بعد كما لو أعتق أو باع
ولا يمتنع أن يستوفى من يد الوارث ما لم يعاقد عليه كما يستوفى منه ثمن ما اشتراه
الموروث ويقبض منه أعيان ما ترك الموروث، لان الموروث قد ملك عليه ذلك
بعقده فلم يملكه الوارث بموته.
فأما قول الشافعي: فان قيل: فقد انتفع المكترى بالثمن قيل: كما لو أسلم في
متاع لوقت فانقطع ذلك أو ابتاع متاعا غائبا ببلد ودفع الثمن فهلك المتاع رجع
بالثمن وقد انتفع به البائع فهذا سؤال أورده الشافعي، وقد اختلف أصحابنا في
مراده فقال أبو إسحاق المروزي: أراد به الرد على من اجل الأجرة ومنع من
حلولها لئلا ينتفع المكرى بالأجرة قبل انتفاع المكترى بالمنفعة، وقد تنهدم
الدار فتفوت المنفعة فقال الشافعي: مثل هذا ليس يمتنع كما أن بائع السلم قد
يتعجل مقتضى الثمن وينتفع به وقد يهلك المسلم فيه عند محله فيسترجع ثمن ما انتفع
به البائع دون المشترى، وكما يقبض غائب عنه فيتلف قبل قبضه فيرد ثمنه بعد
الانتفاع به. وقال أبو العباس بن سريج: يحتمل أن يريد به الرد على من أبطل
الإجارة بموت المؤجر لئلا ينتفع المؤجر بالأجرة ويلزم وارثه تسليم المنفعة
فأجاب عنه بما ذكرنا من الجوابين.
وقال أبو حامد الأسفراييني: إنما أراد به ان انهدام الدار وموت العبد في
تضاعيف المدة يبطل الإجارة فيما بقي ويوجب أن يرد من الأجرة بقسطها،
وان انتفع المكرى بها ولم ينتفع المكترى بما قابلها فأجاب بما ذكرنا من انتفاع
البائع بثمن المسلم فيه وتلف العين الغائبة.
وقال المزني: هذا تجويز بيع الغائب، وعنه جوابان (أحدهما) أنه محمول على
أحد قوليه (والثاني) أنه محمول على بيع غائب قدراه:
فإذا ثبت أن إجارة الملك لا تبطل بموت المؤجر والمستأجر انتقل الكلام
إلى إجارة الوقف، فإن أجر ولا حق له في غلته صحت اجارته ولم تبطل بموته
92

لأنه لم يؤجل ملكه وإنما ناب عن غيره، وإن أجره من يستحق غلته ويستوجب
أجرته لكونه وقفا عليه فقد اختلف أصحابنا في بطلان الإجارة بموته على وجهين
(أحدهما) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: أن الإجارة قد بطلت بموته
وانتقال المنفعة إلى غيره، وفرق بين المالك والوقف بأن وارث الملك يملك عن
المؤجر فلم يملك ما خرج عن ملك المؤجر، وليس كذلك الوقف، لان مؤجره
يملك منفعته مدة حياته، فإذا فقد انقطع ملكه وانتقل إلى من بعده بشرط
الوقف بالإرث.
(والوجه الثاني) وهو الأظهر: الإجارة لا تبطل لان مؤجره وال قد أجره
في حق نفسه وحق من بعده بولايته، فإذا انقضى حقه بموته صحت إجارته في
حق من بعده بولايته، فإذا كان قد استوفى الأجرة استرجع من تركته أجرة ما بقي
من المدة بعد موته.
وإذا استأجر الرجل من أبيه دارا سنة ودفع إليه الأجرة ثم مات الأب نظرت
فإن لم يكن له غير هذا الابن المستأجر فقد سقط حكم الإجارة لأنه صار مالكا للدار
والمنفعة إرثا فامتنع بقاء عقده على المنفعة، فإن لم يكن على أبيه دين فقد صارت
الدار مع التركة إرثا، وإن كان على أبيه دين ضرب مع الغرماء بقدر الأجرة،
لأنها صارت بانفساخ الإجارة بالإرث دينا على الأب فساوى الغرماء فيها، فلو
كان للأب ابن آخر انفسخت الإجارة في نصف الدار وهو حصة المستأجر ولزمت
في حصة الابن الآخر ورجع المستأجر منهما بنصف الأجرة في تركة أبيه لأنها
صارت دينا عليه. فإذا أجر الأب أو الوصي صبيا ثم بلغ في الصبي في مدة الإجارة
رشيدا فالإجارة لازمة لا تنفسخ ببلوغه والله تعالى أعلم.
93

قال المصنف رحمه الله تعالى:
* (باب تضمين المستأجر والأجير) *
إذا تلفت العين المستأجرة في يد المستأجر من غير فعله لم يلزمه الضمان، لأنه
عين قبضها ليستوفى منها ما ملكه، فلم يضمنها بالقبض كالمرأة في يد الزوج،
والنخلة التي اشترى ثمرتها، وإن تلفت بفعله نظرت فإن كان بغير عدوان كضرب
الدابة وكبحها باللجام للاستصلاح لم يضمن لأنه هلك من فعل مستحق فلم يضمنه
كما لو هلك تحت الحمل، وان تلفت بعدوان كالضرب من غير حاجة لزمه الضمان،
لأنه جناية على مال الغير لزمه ضمانه.
(فصل) وان اكترى ظهرا إلى مكان فجاوز به المكان فهلك نظرت، فإن لم
يكن معه صاحبه لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين جاوز به المكان إلى أن تلف
لأنه ضمنه باليد من حين جاوز فصار كالغاصب، وإن كان صاحبه معه نظرت،
فان هلك بعد نزوله وتسليمه إلى صاحبه لم يضمن، لأنه ضمنه باليد فبرئ بالرد
كالمغصوب إذا رده إلى مالكه، وان تلف في حال السير والركوب ضمن، لأنه
هلك في حال العدوان، وفى قدر الضمان قولان.
(أحدهما) نصف قيمته، لأنه تلف من مضمون وغير مضمون، فكان
الضمان بينهما نصفين، كما لو مات من جراحته وجراحة مالكه.
(والثاني) أنه تقسط القيمة على المسافتين، فما قابل مسافة الإجارة سقط،
وما قابل الزيادة يجب، لأنه يمكن تقسيطه على قدرهما فقط بناء على القولين
في الجلاد إذا ضرب رجلا في القذف إحدى وثمانين فمات، وان تعادل اثنان ظهرا
استأجراه وارتدف معهما ثالث من غير اذن فتلف الظهر ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يجب على المرتدف نصف القيمة، لأنه هلك من مضمون
وغير مضمون.
(والثاني) يجب عليه الثلث، لان الرجال لا يوزنون فقسط الضمان
على عددهم.
94

(والثالث) أنه يقسط على أوزانهم، فيجب على المرتدف ما يخصه بالوزن
لأنه يمكنه تقسيطه بالوزن فقسط عليه.
(فصل) وان استأجر عينا واستوفى المنفعة وحبسها حتى تلفت، فإن كان
حبسها لعذر لم يلزمه الضمان، لأنه أمانة في يده فلم يضمن بالحبس لعذر كالوديعة
وإن كان لغير عذر فإن قلنا لا يجب الرد قبل الطلب لم يضمن كالوديعة
قبل الطلب، وان قلنا يجب ردها ضمن كالوديعة بعد الطلب
(فصل) وان تلفت العين التي استؤجر على العمل فيها نظرت، فإن كان
التلف بتفريط بأن استأجره ليخبز له فأسرف في الوقود أو ألزقه قبل وقته أو
تركه في النار حتى احترق ضمنه لأنه هلك بعدوان فلزمه الضمان. وان استؤجر
على تأديب غلام فضربه فمات ضمنه، لأنه يمكن تأديبه بغير الضرب، فإذا عدل
إلى الضرب كان ذلك تفريطا منه فلزمه الضمان. وإن كان التلف بغير تفريط،
نظرت، فإن كان العمل في ملك المستأجر بأن دعاه إلى داره ليعمل له، أو كان
العمل في دكان الأجير والمستأجر حاضر، أو اكتراه ليحمل له شيئا وهو معه
لم يضمن، لان يد صاحبه عليه فلم يضمن من غير جناية. وإن كان العمل في يد
الأجير من غير حضور المستأجر نظرت، فإن كان الأجير مشتركا، وهو الذي
يعمل له ولغيره، كالقصار الذي يقصر لكل أحد والملاح الذي يحمل لكل أحد
ففيه قولان:
(أحدهما) يجب عليه الضمان، لما روى الشعبي عن أنس رضي الله عنه قال:
استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين متاعي. فضمنيها عمر بن الخطاب
رضى الله تعالى عنه.
وعن خلاس بن عمرو أن عليا رضي الله عنه كان يضمن الأجير. وعن
جعفر بن محمد عن أبيه عن علي كرم الله وجهه أنه كان يضمن الصباغ والصواغ
وقال لا يصلح الناس الا ذلك.
ولأنه قبض العين لمنفعته من غير استحقاق فضمنها كالمستعير، والثاني:
لا ضمان عليه، وهو قول المزني، وهو الصحيح.
95

قال الربيع: كان الشافعي رحمه الله يذهب إلى أنه لا ضمان على الأجير،
ولكنه لا يفتى به لفساد الناس، والدليل عليه أنه قبض العين لمنفعته ومنفعة
المالك فلم يضمنه كالمضارب.
وإن كان الأجير منفردا وهو الذي يعمل له ولا يعمل لغيره، فقد اختلف
أصحابنا فيه، من قال: هو كالأجير المشترك وهو المنصوص، فان الشافعي
رحمه الله قال: والاجراء كلهم سواء، فيكون على قولين لأنه منفرد باليد فأشبه
الأجير المشترك، ومنهم من قال: لا يجب عليه الضمان قولا واحدا لأنه منفرد
بالعمل فأشبه إذا كان عمله في دار المستأجر.
فإن قلنا إنه أمين فتعدى فيه ثم تلف ضمنه بقيمته أكثر ما كانت من حين
تعدى إلى أن تلف، لأنه ضمن بالتعدي فصار كالغاصب، وان قلنا إنه ضامن
لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف كالغاصب. ومن أصحابنا
من قال: يلزمه قيمته وقت التلف كالمستعير. وليس بشئ
(فصل) وان عمل الأجير بعض العمل أو جميعه ثم تلف نظرت فإن كان
العمل في ملك صاحبه أو بحضرته وجبت له الأجرة أنه تحت يده فكل ما عمل
شيئا صار مسلما له، وإن كان في يد الأجير فان قلنا إنه أمين لم يستحق الأجرة
لأنه لم يسلم العمل، وان قلنا إنه ضامن استحق الأجرة لأنه يقوم عليه
معمولا فيصير بالتضمين مسلما للعمل فاستحق الأجرة
(فصل) وان دفع ثوبا إلى خياط وقال: إن كان يكفيني لقميص فاقطعه
فقطعه ولم يكفه لزمه الضمان، لأنه أذن له بشرط فقطع من غير وجود الشرط
فضمنه. وان قال: أيكفيني للقميص؟ فقال نعم، فقال اقطعه فقطعه فلم يكفه لم
يضمن لأنه قطعه بإذن مطلق.
(الشرح) الأخبار الواردة في هذه الفصول كرواية الشعبي عن أنس وخبر
خلاس بن عمرو ففي الام. وقد روى الشافعي خبر جعفر الصادق قال: أخبرنا
بذلك إبراهيم بن أبي يحيى عن جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا ضمن الغسال
96

والصباغ وقال: لا يصلح الناس الا بذلك. وقد أعلها الشافعي كما سيأتي
في شرح الفصل.
أما الأحكام، فان الدابة إذا لم يكن صاحبها معها لزم المكترى قيمتها كلها،
وإن كان معها فتلفت في يد صاحبها لم يضمنها المكترى لأنها تلفت في يد صاحبها
أشبه ما لو تلفت بعد مدة التعدي، وان تلفت بفعل تحت الراكب ففيه قولان.
(أحدهما) يلزمه نصف قيمتها لأنها تلفت بفعل مضمون وغير مضمون أشبه
ما لو تلفت بجراحته وجراحة مالكها.
(والثاني) تقسط القيمة على المسافتين، فما قابل مسافة الإجارة سقط ووجب
الباقي، ونحو هذا قول أبي حنيفة فإنه قال: من اكترى جملا لحمل تسعة فحمل
عشرة فتلف فعلى المكترى عشر قيمته، وموضع الخلاف في لزوم كمال القيمة
إذا كان صاحبها مع راكبها أو تلفت في يد صاحبها.
فأما إذا تلفت حال التعدي ولم يكن صاحبها مع راكبها فلا خلاف في ضمانها
بكمال قيمتها لأنها تلفت في يد عادية فوجب ضمانها كالمخصوبة، وكذلك إذا
تلفت تحت الراكب أو تحت حمله وصاحبها معها، لان اليد للراكب وصاحب
الحمل، بدليل أنهما لو تنازعا دابة أحدهما راكبها أو له عليها حمل والآخر آخذ
بزمامها لكانت للراكب ولصاحب الحمل، ولان الراكب متعد بالزيادة وسكوت
صاحبها لا يسقط الضمان. كمن جلس إلى إنسان فحرق ثيابه وهو ساكت
ولأنها ان تلفت بسبب تعبها فالضمان على المتعدى، كمن ألقى حجرا في سفينة
موقرة فغرقت.
فأما ان تلفت في يد صاحبها بعد نزول الراكب عنها فينظر، فإن كان تلفها
بسبب تعبها بالحمل والسير فهو كما لو تلفت تحت الحمل والراكب. وان تلفت
بسبب آخر من افتراس سبع أو سقوط في هوة ونحو ذلك فلا ضمان فيها لأنها لم
تتلف في يد عادية ولا بسبب عدوان.
واختلف أصحاب أحمد في الضمان فظاهر كلام الخرقي وجوب قيمتها إذا تلفت
سواء تلفت في الزيادة أو بعد ردها إلى المسافة، وسواء كان صاحبها مع المكترى
97

أو لم يكن. وهذا ظاهر مذهب فقهاء المدينة السبعة فيما رواه الأثرم بإسناده عن أبي
الزناد وقال: ربما اختلفوا في الشئ فأخذنا بقول أكثرهم وأفضلهم رأيا،
فكان الذي وعيت عنهم على هذه الصفة: أن من اكترى دابة إلى بلد ثم جاوز
ذلك إلى بلد سواه، فإن الدابة إن سلمت في ذلك كله أدى كراءها وكراء ما بعدها
وإن تلفت في تعديها ضمنها وأدى كراءها الذي تكاراها به. وهذا هو قول
الشافعي والحكم وابن شبرمة وأحمد.
وقال القاضي من الحنابلة: إن كان المكترى نزل عنها وسلمها إلى صاحبها
ليمسكها أو يسقيها فتلفت فلا ضمان على المكترى، وإن هلكت والمكترى راكب
عليها أو حمله عليها فعليه ضمانها. وقال أبو الخطاب من الحنابلة أيضا: إن كانت
يد صاحبها عليها احتمل أن يلزم المكترى جميع قيمتها، واحتمل أن يلزمه
نصف قيمتها.
ولنا أن ما نقلنا عن الشافعي رضي الله عنه في ضرب الدابة ونخسها مما مضى
في شرح هذه الفصول كاف في توضيح المذهب.
وقال الشافعي أيضا في اختلاف العراقيين: وإذا تكارى الرجل الدابة إلى
موضع فجاوزه إلى غيره فعليه كراء الموضع الذي تكاراها إليه الكراء الذي
تكاراها به، وعليه من حين تعدى إلى أن ردها كراء مثلها من ذلك الموضع.
وإذا عطبت لزمه الكراء إلى الموضع الذي عطبت فيه وقيمتها، وهذا مكتوب
في كتاب الإجارات.
قال الشافعي رضي الله عنه: الاجراء كلهم سواء، فإذا تلف في أيديهم شئ
من غير جنايتهم فلا يجوز أن يقال فيه الا واحد من قولين (أحدهما) أن يكون
كل من أخذ الكراء على شئ كان ضامنا له يؤديه على السلامة أو يضمنه أو
ما نقصه. ومن قال هذا القول فينبغي أن يكون من حجته أن يقول: الأمين هو
من دفعت إليه راضيا بأمانته لا يعطى أجرا على شئ مما دفعت إليه، واعطائي
هذا الاجر تفريق بينه وبين الأمين الذي أخذ ما استؤمن عليه بلا جعل، أو
يقول قائل: لا ضمان على أجير بحال من قبل أنه إنما يضمن من تعدى فأخذ
98

ما ليس له أو أخذ الشئ على منفعة له فيه، اما يتسلط على اتلافه كما يأخذ سلفا
فيكون مالا من ماله فيكون ان شاء ينفقه ويرد مثله. واما مستعير سلط على
الانتفاع بما أعير فيضمن، لأنه أخذ ذلك لمنفعة نفسه لا لمنفعة صاحبه فيه.
وهذان معا نقص على المسلف والمعير أو غير زيادة له، والصانع والأجير من كان ليس في هذا المعنى فلا يضمن بحال الا ما جنت يده كما يضمن المودع ما جنت
يده. وليس في هذا سنة أعلمها ولا أثر يصح عند أهل الحديث عن أحد من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روى فيه شئ عن عمر وعلى وليس يثبت
عند أهل الحديث عنهما ولو ثبت عنهما لزم من يثبته أن يضمن الاجراء من
كانوا فيضمن أجير الرجل وحده والأجير المشترك والأجير على الحفظ والرعي
وحمل المتاع والأجير على الشئ يصنعه لان عمر إن كان ضمن الصناع فليس في
تضمينه لهم معنى الا أن يكون ضمنهم بأنهم أخذوا أجرا على ما ضمنوا فكل من
كان أخذ أجرا فهو في معناهم.
وإن كان علي رضي الله عنه ضمن القصار والصائع، فكذلك كل صانع.
وكل من أخذ أجرة. وقد يقال للراعي صناعته الراعية، وللحمال صناعته الحمل
للناس، ولكنه ثابت عن بعض التابعين ما قلت أولا من التضمين أو ترك
التضمين. ومن ضمن الأجير بكل حال فكان مع الأجير ما قلت مثل أن
يستحمله الشئ على ظهره أو يستعمله الشئ في بيته أو غير بيته، وهو حاضر
لماله أو وكيل له بحفظه فتلف ماله بأي وجه ما تلف به إذا لم يجن عليه جان فلا
ضمان على الصانع ولا على الأجير. وكذلك ان جنى عليه غيره فلا ضمان عليه،
والضمان على الجاني. اه‍ كلام الشافعي رضي الله عنه
(فرع) إذا ترك الأجير ما يلزمه عمله بلا عذر فتلف ما استؤجر عليه ضمنه
والأجير على ضربين: خاص ومشترك، فالخاص هو الذي يقع العقد عليه في
مدة معلومة يستحق المستأجر نفعه في جميعها، كرجل استؤجر لخدمة أو عمل
في بناء أو خياطة أو رعاية يوما أو شهرا سمى خاصا لاختصاص المستأجر بنفعه
في تلك المدة دون سائر الناس، والمشترك الذي يقع العقد معه على عمل معين
كخياطة ثوب وبناء حائط وحمل شئ إلى مكان معين، أو على عمل في مدة
99

لا يستحق جميع نفعه فيها كالكحال والطبيب، سمى مشتركا لأنه يتقبل أعمالا
لاثنين أو ثلاثة أو أكثر لاشتراكهم في منفعته، فالأجير المشترك ضامن لما
جنت يده إلا إذا كان المستأجر حاضرا في دكان الأجير وقت العمل كانت يده
عليه فيكون كالأجير الخاص لم يضمن من غير جناية ويجب له أجر عمله، فكلما
عمل شيئا صار مسلما إليه. وذهب مالك إلى ما ذهب إليه الأصحاب. وذهب
أحمد إلى أنه لا فرق بين كونه في ملك نفسه أو ملك مستأجره أو كان صاحب
العمل حاضرا عنده أو غائبا عنه قياسا على الطبيب والختان إذا جنت يداهما
ضمنا مع حضور المطيب والمختون
فأما الأجير الخاص فهو الذي يستأجره مدة فلا ضمان عليه ما لم يتعد. قال
قال أحمد في رواية مهنا في رجل أمر غلامه أن يكيل لرجل بزرا فسقط الرطل
من يده فانكسر لا ضمان عليه، فقيل: أليس هو بمنزلة القصار؟ قال لا، القصار
مشترك. قيل: فرجل اكترى رجلا يحرث له على بقرة فكسر الذي يحرث به؟
قال لا ضمان عليه.
قلت وهذا ظاهر مذهب الشافعي ومذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابه،
وللشافعي قول آخر أن جميع الاجراء يضمنون، والقول الأول أظهر. قال
الربيع: هذا مذهب الشافعي وإن لم يبح به. وروى ذلك عن عطاء وطاوس
وزفر لأنها عين مقبوضة بعقد الإجارة فلم تصر مضمونة كالعين المستأجرة.
وما تلف بتعدي الخباز الذي يسرف في الوقود أو يلزقه قبل أوانه من حيث
التخمر المطلوب عند خبزه، أو يتركه بعد وقته حتى يحترق، فإنه يضمن
في كل ذلك.
(فرع) إذا دفع إلى خياط ثوبا فقال: إن كان يقطع قميصا فاقطعه، فقال هو
يقطع، وقطعه فلم يكف فعليه ضمانه. وإن قال: انظر هذا يكفيني قميصا؟ قال
نعم. قال اقطعه، فقطعه فلم يكفه لم يضمن، وبهذا قال أحمد وأصحاب الرأي.
وقال أبو ثور: لا ضمان عليه في المسألتين لأنه لو كان غره في الأولى لكان قد
غره في الثانية. أفاده ابن قدامة في المغنى.
100

دليلنا أنه إنما أذن له في الأولى بشرط كفايته فقطعه بدون شرطه. وفى الثانية
أذن له من غير شرط فافترقا، ولم يجب عليه الضمان في الأولى لتغريره، بل لعدم
الاذن في قطعه، لان إذنه مقيد بشرط كفايته فلا يكون إذنا في غير ما وجد فيه
الشرط بخلاف الثانية. والله أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) واختلف أصحابنا فيما يأخذ الحمامي، هل هو ثمن الماء أو أجرة
الدخول والسطل وحفظ الثياب، فمنهم من قال هو ثمن الماء وهو متطوع بحفظ
الثياب ومعير للسطل، فعلى هذا لا يضمن الثياب إذا تلفت وله عوض السطل
إذا تلف. ومنهم من قال هو أجرة الدخول والسطل وحفظ الثياب، فعلى هذا
لا يضمن الداخل السطل إذا هلك لأنه مستأجر، وهل يضمن الحمامي الثياب؟
فيه قولان لأنه أجير مشترك.
(فصل) وان استأجر رجلا للحج فتطيب في إحرامه أو لبس، وجبت
الفدية على الأجير، لأنه جناية لم يتناولها الاذن فوجب ضمانها، كما لو استأجره
ليشترى له ثوبا فاشتراه ثم خرقه. وإن أفسد الحج صار الاحرام عن نفسه،
لان الفاسد غير مأذون فيه فانعقد له كما لو وكله في شراء عبد فاشترى أمة، فإن
كان العقد على حجه في هذه السنة انفسخ، لأنه فات المعقود عليه، وإن كان على
حج في الذمة ثبت له الخيار، لأنه تأخر حقه، فإن استأجر للحج من ميقات
فأحرم من ميقات آخر لم يلزمه شئ لان المواقيت المنصوص عليها متساوية في
الحكم، وإن كان بعضها أبعد من بعض، فإذا ترك بعضها إلى بعض لم يحصل
نقص يقتضى الجبران.
وإن أحرم دون الميقات لزمه دم، لأنه ترك الاحرام من موضع يلزمه
الاحرام منه، فلزمه دم كما لو ترك ذلك في حجه لنفسه، فإن استأجره ليحرم
من دويرة أهله فأحرم دونه لزمه دم، لأنه وجب عليه ذلك بعقد الإجارة فصار
كما لو لزمه في حجه لنفسه بالشرع أو بالنذر فتركه.
وهل يلزمه أن يرد من الأجرة بقسطه؟ قال في القديم يهرق دما وحجه تام
101

وقال في الام: يلزمه أن يرد من الأجرة بقدر ما ترك، فمن أصحابنا من قال
يلزمه قولا واحدا، والذي قاله في القديم ليس فيه نص أنه لا يجب. ومنهم من
قال فيه قولان وهو الصحيح (أحدهما) لا يلزمه لان النقص الذي لحق الاحرام
جبره بالدم فصار كما لو لم يترك (والثاني) انه يلزمه لان ترك بعض ما استؤجر
عليه فلزمه رد بدله، كما لو استأجره لبناء عشرة أذرع فبنى تسعة، فعلى هذا يرد
ما بين حجه من الميقات وبين حجه من الموضع الذي أحرمه منه
فإن استأجره ليحرم بالحج من الميقات فأحرم من الميقات بعمرة عن نفسه
ثم أحرم بالحج عن المستأجر من مكة لزمه الدم لترك الميقات، وهل يرد من
الأجرة بقدر ما ترك؟ على ما ذكرناه من الطريقين، فإن قلنا يلزمه ففيه قولان
قال في الام: يرد بقدر ما بين حجه من الميقات وحجه من مكة، لان الحج من
الاحرام وما قبله ليس من الحج.
وقال في الاملاء: يلزمه أن يرد ما بين حجه من بلده وبين حجه من مكة.
لأنه جعل الأجرة في مقابلة السفر والعمل وجعل سفره لنفسه، ويخالف المسألة
قبلها لان هناك سافر للمستأجر، وإنما ترك الميقات.
وان استأجره للحج فحج عنه وترك الرمي أو المبيت لزمه الدم كما يلزمه لحجه
وهل يرد من الأجرة بقسطه؟ على ما ذكرناه فيمن ترك الاحرام من الميقات.
(الشرح) لا تتوقف منفعة الحمام على مجرد وجود الماء، وإنما المطلوب
تبليط الحمام وعمل الأبواب والبزل وهي الثقوب والفتحات التي يأتي منها
الماء أو النور ومجرى الماء. وما كان لاستيفاء المنافع كالحبل والدلو والبكرة
فعلى المكترى. وإن احتاج المكترى للتمكن من الانتفاع إلى تنقية الكف
والبالوعة فعلى المكرى، وان امتلأت بفعل المكترى فعليه تفريغها، وهذا
مذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما.
وقال أبو ثور: هو على رب الدار، لان به يتمكن من الانتفاع، فأشبه
ما لو اكترى وهي ملآى.
102

وقال أبو حنيفة: القياس أنه على المكترى والاستحسان أنه على رب الدار لان
عادة الناس ذلك. وإذا انقضت الإجارة وفى الحمام قمامة من فعله فعليه رفعه.
وهو مذهب الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي.
قال الشمس الرملي: نعم دخول الحمام بأجرة جائز بالاجماع مع الجهل بقدر
المكث وغيره، لكن الأجرة في مقابلة الآلات لا الماء، فعليه ما يغرف به الماء
غير مضمون على الداخل، وثيابه غير مضمونة على الحمامي إن لم يستحفظه عليها
ويجيبه إلى ذلك، ولا يجب بيان ما يستأجره له في الدار لقرب التفاوت من السكنى
ووضع المتاع، ومن ثم حمل العقد على المعهود في مثلها من سكانها، ولم يشترط
عدد من يسكن اكتفاء بما اعتيد في مثلها
(فرع) إذا استأجر رجلا للحج فارتكب ما يوجب الفدية، كمس الطيب
ولبس المخيط في الاحرام، فعلى الأجير الفدية من ماله، فإن أفسد أعمال الحج
انقلب الحج إليه فيلزمه الفدية في ماله والمضي في فاسده والقضاء، وهذا هو
الذي قطع الجمهور بصحته وتظاهرت عليه نصوص الشافعي. وفى قول آخر
أنه لا ينقلب ولا يفسد ولا يجب القضاء، بل يبقى صحيحا واقعا عن المستأجر
لان العبادة للمستأجر فلا تفسد بفعل غيره. وبهذا القول قال المزني. ولكن
المذهب الأول.
قال الشافعي رضي الله عنه: الواجب على الأجير ان يحرم من الميقات
الواجب بالشرع أو الشرط اه‍. فإن أحرم منه فقد فعل واجبا، وان أحرم قبله
فقد زاد خيرا كما قال أبو حامد الأسفراييني وغيره.
أما إذا عدل الأجير عن الميقات المعتبر إلى طريق آخر مثل المعتبر أو أقرب
إلى مكة فطريقان أصحهما وهو المنصوص في الام وبه قطع البندنيجي والجمهور
أنه لا شئ عليه.
وحكى القاضي حسين والبغوي وغيرهما فيه وجهين ساقهما النووي في الحج
أصحهما أنه لا شئ عليه لأنه قائم مقام الميقات المعتبر. والثاني أنه كمن ترك الميقات
وأحرم بعده. وهذا القول الثاني يعتبر الشرط في تعيين المكان.
103

أما إذا اتفقا على تعيين موضع آخر، فإن كان أقرب إلى مكة من الشرعي
فالشرط فاسد يفسد الإجارة إذ لا يجوز لمريد النسك تجاوز الميقات دون إحرام
وإن كان أبعد كدويرة أهله فيلزم الأجير الاحرام منها وفاء بالشرط، فان جاوزها
ثم أحرم فهل يلزمه الدم؟ فيه وجهان (أصحهما) كما هو منصوص: عليه الدم لأنه
جاوز الميقات المشروط فأشبه مجاوزة الميقات الشرعي (والثاني) لا دم، فان قلنا
لا يلزمه الدم وجب حط قسط من الأجرة.
قال الشيخ أبو حامد والأصحاب: إن ترك نسكا لا دم فيه كالمبيت وطواف
الوداع إذا قلنا: لا دم فيهما لزمه رد شئ من الأجرة بقسطه بلا خلاف
فإن لزمه بفعل محظور كاللبس والقلم والطيب لم يحط عنه شئ من الأجرة
بلا خلاف. نقل الغزالي وغيره الاتفاق عليه
فإذا استأجره للقران بين الحج والعمرة فتارة يمتثل وتارة يعدل، فإن امتثل
فعلى من يجب دم القران؟ وجهان (أصحهما) على المستأجر، ولو شرطاه على
الأجير فقد نص الشافعي على فساد الإجارة لجمعه بين مجهول الصفة وهو الدم،
وبين الإجارة.
فإذا قلنا بالأصح إنه على الأجير، فإن كان معسرا فعليه الصوم الأيام الثلاثة
في الحج، لان الذي في الحج منهما هو الأجير وعلى المستأجر الأجرة بكمالها. هذا
وقد أفرد الامام النووي رضي الله عنه في كتاب الحج من المجموع فصلا عن الأجير
أو في والله تعالى أعلم بالصواب.
104

قال المصنف رحمه الله تعالى:
* (باب اختلاف المتكاريين) *
إذا اختلف المتكاريان في مقدار المنفعة أو قدر الأجرة ولم تكن بينة تحالفا
لأنه عقد معاوضة فأشبه البيع وإذا تحالفا كان الحكم في فسخ الإجارة كالحكم في
البيع، لان الإجارة كالبيع، فكان حكمها في الفسخ كالحكم في البيع، فان اختلفا
في التعدي في العين المستأجرة فادعاه المؤجر وأنكره المستأجر، فالقول قول
المستأجر، لان الأصل عدم العدوان، والبراءة من الضمان، فان اختلفا في الرد
فادعاه المستأجر وأنكره المؤجر، فالقول قول المؤجر أنه لم يرد عليه، لان
المستأجر قبض العين لمنفعته، فلم يقبل قوله في الرد كالمستعير، وان اختلف
الأجير المشترك والمستأجر في رد العين فادعى الأجير انه ردها وأنكر المستأجر
فان قلنا: إن الأجير يضمن العين بالقبض لم يقبل قوله في الرد، لأنه ضامن فلم
يقبل قوله في الرد كالمستعير والغاصب.
وان قلنا: إنه لا يضمن العين بالقبض فهل يقبل قوله في الرد؟ فيه وجهان
كالوكيل يجعل: وقد مضى توجيههما في الوكالة، وان هلكت العين فادعى الأجير
انها هلكت بعد العمل، وانه يستحق الأجرة وأنكر المستأجر، فالقول قول
المستأجر، لان الأصل عدم العمل وعدم البدل.
(فصل) وان دفع ثوبا إلى خياط فقطعه قباء ثم اختلفنا فقال رب الثوب:
أمرتك ان تقطعه قميصا فتعديت بقطعه قباء فعليك ضمان النقص. وقال الخياط
بل أمرتني ان اقطعه قباء فعليك الأجرة، فقد حكى الشافعي رحمه الله في اختلاف
العراقيين قول ابن أبي ليلى أن القول قول الخياط. وقول أبي حنيفة رحمة الله عليه
ان القول قول رب الثوب. ثم قال: وهذا أشبه، وكلاهما مدخول.
وقال في كتاب الأجير والمستأجر: إذا دفع إليه ثوبا ليصبغه احمر نصبغه
اخضر فقال: أمرتك ان تصبغه احمر، فقال الصباغ: بل أمرتني ان أصبغه
اخضر، انهما يتحالفان.
105

واختلف أصحابنا فيه على ثلاث طرق، فمنهم من قال: فيه ثلاثة أقوال
(أحدهما) ان القول قول الخياط، لأنه مأذون له في القطع فكان القول
قوله في صفته (والثاني) ان القول قول رب الثوب، كما لو اختلفا في أصل الاذن
(والثالث) انهما يتحالفان وهو الصحيح، لان كل واحد منهما مدع ومدعى عليه
لان صاحب الثوب يدعى الأرش والخياط ينكره، والخياط يدعى الأجرة
وصاحب الثوب ينكره فتحالفا كالمتابعين إذا اختلفا في قدر الثمن.
ومن أصابنا من قال: المسألة على القولين المذكورين في اختلاف العراقيين
وهو قول أبى العباس وأبي إسحاق وأبي علي بن أبي هريرة والقاضي أبى حامد.
ومن أصحابنا من قال: هو على قول واحد انهما يتحالفان، وهو قول أبى حامد
الأسفراييني لان الشافعي رحمه الله ذكر القولين الأولين، ثم قال وكلاهما مدخول
فان قلنا: إن القول قول الخياط فحلف لم يلزمه أرش النقس، لأنه ثبت بيمينه
انه مأذون له فيه، وهل يستحق الأجرة؟ فيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق انه لا يستحق الأجرة، لان قوله قبل في
سقوط الغرم لأنه منكر. فاما في الأجرة فإنه مدع فلم يقبل قوله.
(والثاني) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: ان له الأجرة لأنا قبلنا قوله في
الاذن، فعلى هذا هل يجب المسمى أو أجرة المثل فيه وجهان أحدهما يجب المسمى
لأنا قبلنا قوله إنه اذن له فوجب ما اقتضاه (والثاني) يجب له أجرة المثل لأنا إذا
قبلنا قوله لم نأمن أن يدعى ألفا وأجرة مثله درهم.
(وان قلنا) ان القول قول صاحب الثوب فحلف لم تجب الأجرة لأنه فعل
ما لم يؤمن فيه ويلزمه أرش القطع لأنه قطع ما لم يكن له قطعه. وفى قدر الأرش
قولان (أحدهما) يلزمه ما بين قيمته مقطوعا وصحيحا لأنا حكمنا انه لم يؤذن له
في القطع فلزمه أرش القطع (والثاني) يلزمه ما بين قيمته مقطوعا قميصا وبين
قيمته مقطوعا قباء، لأنه قد اذن له في القطع، وإنما حصلت المخالفة في الزيادة
فلزمه أرش الزيادة، فإن لم يكن بينهما تفاوت لم يلزمه شئ
وإذا قلنا: إنهما يتحالفان فتحالفا لم تجب الأجرة، لان التحالف يوجب رفع
العقد، والخياطة من غير عقد لا توجب الأجرة وهل يجب أرش القطع فيه قولان
106

(أحدهما) يجب، لان كل واحد منهما حلف على ما ادعاه ونفى ما ادعى عليه
فبرئا كالمتبايعين (والثاني) انه يجب أرش النقص لأنا حكمنا بارتفاع العقد
بالتحالف، فإذا ارتفع العقد حصل القطع من غير عقد فلزمه أرشه. ومتى قلنا إنه
يستحق الأجرة لم يرجع بالخيوط، لأنه اخذ بدلها، فان قلنا: لا يستحق الأجرة
فله ان يأخذ خيوطه، لأنه عين ماله فكان له ان يأخذه
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: وإذا اختلف الرجلان في الكراء
وتصادقا في العمل تحالفا، وكان للعامل اجر مثله فيما عمل، قال وإذا اختلفا في
الصفة فقال: أمرتك ان تصبغه اصفر أو تخيط قميصا فخطته قباء. وقال الصانع
عملت ما قلت لي، تحالفا وكان على الصانع ما نقص الثوب ولا اجر له، وان
زاد الصبغ فيه كان شريكا بها زاد الصبغ في الثوب، وان نقصت منه فلا ضمان
عليه ولا اجره له.
وقال الربيع: الذي يأخذ به الشافعي في هذا ان القول قول رب الثوب
وعلى الصانع ما نقص الثوب، وإن كان نقصه شيئا لأنه مقر بأخذ الثوب صحيحا
ومدع على أنه امره بقطعه أو صبغه كما وصفت فعليه البينة بما قال، فإن لم يكن
بينة حلف رب الثوب ولزم الصانع ما نقصته الصنعة، وإن كانت زادت الصنعة
فيه شيئا كان الصانع شريكا بها إن كانت عينا قائمة فيه مثل الصبغ، ولا يأخذ
من الأجرة شيئا، فإن لم تكن عين قائمة فلا شئ له.
وقال في اختلاف العراقيين: وإذا اختلف الأجير والمستأجر في الأجرة،
فان أبا حنيفة كأن يقول: القول قول المستأجر مع يمينه إذا عمل العمل وبهذا
يأخذ. وكان ابن أبي ليلى يقول: القول قول الأجير فيما بينه وبين اجرة مثله،
الا أن يكون الذي ادعى أقل فيعطيه إياه، وان لم يكن عمل العمل تحالفا وترادا
في قول أبي حنيفة. وينبغي كذلك في قول ابن أبي ليلى. وقال أبو يوسف بعد:
إذا كان شيئا متقاربا قبلت قول المستأجر واحلفته، وإذا تفاوت لم أقبل وجعلت
العمل اجر مثله إذا حلف.
107

فلو أعطاه ثوبا ليخيطه بعد قطعه فخاطه قباء وقال أمرتني بقطعه قباء، فقال
بل قميصا فالأظهر تصديق المالك بيمينه، لأنه منكر اذنه له في قطعه قباء، إذ
هو المصدق في أصل الاذن فكذا في صفته
والقول الثاني: يتحالفان، وانتصر الأسنوي له نقلا ومعنى، ونبه على أنهما
لو اختلفا قبل القطع تحالفا اتفاقا، وكل ما وجب التحالف مع بقائه وجب مع
تغير أحواله، فعلى هذا يبدأ بالمالك كما حكاه الرملي، ونقل عن الاستوى المنع
منه بل يبدأ بالخياط لأنه بائع المنفعة.
قال النووي: ولا اجرة عليه - يعنى المؤجر - بعد حلفه، وعلى الخياط أرش
النقص لما ثبت من عدم الإذن، والأصل الضمان، وهو ما بين قيمته مقطوعا
قميصا ومقطوعا قباء كما رجحه السبكي. ولان أصل القطع مأذون فيه، وان
رجح الأسنوي كابن أبي عصرون. وجزم به القونوي والبارزي وغيرهما من
شراح الحاوي وغيره انه ما بين قيمته صحيحا ومقطوعا لانتفاء الاذن من أصله
ولا يقدح في ترجيح الأول عدم الأجرة له، إذ لا تلازم بينها وبين الضمان،
وللخياط نزع خيطه، وعليه أرش نقص النزع ان حصل، كما قاله الماوردي
والروياني في البحر، وله منع المالك من شد خيط فيه بجره مكانه. هكذا افاده
الشمس الرملي في النهاية.
ويمكننا ان نستلخص مما مضى من أقاويل انهما إذا اختلفا في قدر الاجر فقال
اجرتنيها سنة بدينار، قال بل بدينارين تحالفا، ويبدأ بيمين الاجر، وهو قول
الشافعي واحمد، لان الإجارة نوع من البيع، فإذا تحالفا قبل مضى شئ من
المدة فسخا العقد ورجع كل واحد منهما في ماله، وان رضى أحدهما بما حلف
عليه الآخر قر العقد، وان فسخا العقد بعد المدة أو شئ منها سقط المسمى
ووجب اجر المثل، كما لو اختلفا في المبيع بعد تلفه وهذا قول احمد وأصحابه،
وبه قال أبو حنيفة ان لم يكن عمل العمل، وإن كان عمله فالقول قول المستأجر
لأنه منكر للزيادة في الاجر والقول قول المنكر
فإذا عرفنا ان الإجارة نوع من المبيع عرفنا انهما يتحالفان عند اختلافهما
في العوض كالبيع، وكما قبل ان يعمل العمل عند أبي حنيفة.
108

وقال ابن أبي موسى: القول قول المالك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا
اختلف المتبايعان فالقول قول البائع
وقال الشافعي في أول اختلاف العراقيين: إذا أسلم الرجل إلى الخياطة ثوبا
فخاطه قباء فقال رب الثوب: أمرتك بقميص. وقال الخياط أمرتني بقباء، فان
أبا حنيفة رحمه الله كأن يقول: القول قول الخياط في ذلك، ولو أن الثوب ضاع
من عند الخياط ولم يختلف رب الثوب والخياط في عمله فان أبا حنيفة قال:
لا ضمان عليه ولان على القصار والصباغ، وما أشبه ذلك من العمال الا فيما جنت
أيديهم، بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: لا ضمان عليهم،
وكان ابن أبي ليلى يقول: هم ضامنون لما هلك عندهم وان لم تجن أيديهم فيه.
وقال أبو يوسف: هم ضامنون الا ان يجئ شئ غالب.
وقال الشافعي: وثابت عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: لا ضمان على صانع
ولا على أجير، فاما ما جنت أيدي الاجراء، والصناع فلا مسألة فيه فهم
ضامنون كما يضمن المستودع ما جنت يده، ولان الجناية لا تبطل عن أحد،
وكذلك لو تعدوا ضمنوا.
قال الربيع: الذي يذهب إليه الشافعي فيما رأيت أنه لا ضمان على الصانع
الا ما جنت أيديهم، ولم يكن يبوح بذلك خوفا من الضياع. اه‍، يعنى خوفا من أن
يتمادى الصناع في الاهمال فيفضى ذلك إلى ضياع أموال الناس بفشو التلف
بين أصحاب الحرف
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا استأجر صانعا على عمل من خياطة أو صباغة فعمل فهل له
ان يحبس العين على الأجرة؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يجوز لأنه لم يرهن العين
عنده فلم يجز له احتباسها، كما لو استأجره ليحمل له متاعا فحمله ثم أراد ان يحبس
المتاع على الأجرة (والثاني) يجوز لان عمله ملكه فجاز له حبسه على العوض
كالمبيع في يد البائع.
109

(فصل) وإن دفع ثوبا إلى رجل فخاطه ولم يذكر له أجرة فقد اختلف
أصحابنا فيه أربعة أوجه.
أحدها: أنه تلزمه الأجرة، وهو قول المزني رحمه الله، لأنه استهلك عمله
فلزمه أجرته.
والثاني: أنه إن قال له: خطه لزمه، وإن بدأ الرجل فقال: أعطني لأخيطه
لم تلزمه وهو قول أبي إسحاق لأنه إذا أمره فقد ألزمه بالامر، والعمل لا يلزم
من غير أجرة فلزمته، وإذا لم يأمره لم يوجد ما يوجب الأجرة فلم تلزم.
والثالث: أنه إذا كان الصانع معروفا بأخذ الأجرة على الخياطة لزمه، وإذا
لم يكن معروفا بذلك لم يلزمه، وهو قول أبى العباس، لأنه إذا كان معروفا بأخذ الأجرة
صار العرف في حقه كالشرط، وإن لم يكن معروفا لم يوجد ما يقتضى
الأجرة من جهة الشرط ولا من جهة العرف.
والرابع: وهو المذهب: أنه لا يلزمه بحال، لأنه بذل ماله من غير عوض
فلم يجب له العوض، كما لو بذل طعامه لمن أكله، وان نزل رجل في سفينة ملاح
بغير اذنه فحمله فيها إلى بلد لزمه الأجرة، لأنه استهلك منفعة موضعه من السفينة
من غير اذن فلزمه أجرتها، وان نزل فيها عن اذنه ولم يذكر الأجرة، فعلى
ما ذكرناه من الوجوه الأربعة في الخياطة، وبالله التوفيق.
(الشرح) قال الماوردي في الحاوي الكبير: وليس لمؤجر الأرض أن يحتبس
الأرض على المستأجر على دفع الأجرة، ولا للجمال أن يحبس ما استؤجر على
حمله من المبتاع ليأخذ الأجرة لأنه في يده أمانة وليس برهن. فأما الصانع
المستأجر على عمل من خياطة أو صباغة هل له احتباس ما بيده من العمل على
أجرته؟ فيه وجهان.
أحدهما: ليس له ذاك قياسا على ما ذكرنا، والثاني: له ذاك لان عمله ملك
له كالبائع، فإذا حبس الصانع الثوب بعد عمله على استيفاء الاجر فتلف ضمنه،
لأنه لم يرهنه عنده، ولا اذن له في امساكه، فلزمه الضمان كالغاصب، وبهذا قال
أصحاب أحمد كما أفاده ابن قدامة.
(فرع) إذا عمل الصانع عملا لغيره بإذنه كأن دفع ثوبا إلى قصار ليقصره
110

أو إلى خياط ليخيطه ففعل ولم يذكر أحدهما أجرة فلا أجرة له لتبرعه، ولأنه
لو قال: أسكني دارك شهرا فأسكنه لم يستحق عليه أجرة بالاجماع كما في البحر
والأوجه كما بحثه الأذرعي وجوبها في قن ومحجور سفه لأنهما غير أهل للتبرع
ومثلهما غير المكلف بالأولى. قال النووي: وقيل: له أجرة مثله، وقيل: أن
كان معروفا بذلك العمل بالأجرة فله والا فلا وقد يستحسن اه‍.
وصورة المسألة إذا دفع ثوبه إلى خياط أو قصار ليخيطه أو يقصره من غير
عقد ولا شرط ولا تعريض بأجر مثل أن يقول: خذ هذا فاعمله وأنا أعلم أنك
إنما تعمل بأجر، وكان الخياط والقصار متوفرين على ذلك وقد عرف عنهما
الاجر الذي يأخذانه، وكان لصاحب الدكان لافتة سجل فيها أسعار أجرته كما
يفعل الكواءون والحلاقون والخياطون والساعاتيون كان ذلك يجرى مجرى
الافهام الذي هو شرط عندنا في صحة الإجارة.
وعند أصحاب أحمد أن العرف الجاري بذلك يقوم مقاوم القول فصار كنقد
البلد، ولان شاهد الحال يقتضيه فصار كالتعريض، إذا عرف هذا فإن في المسألة
أربعة أوجه.
(أحدهما) وهو قول المزني يستحق الاجر مطلقا لأنه استهلك عمله فلزمه عوضه
والثاني: التفريق بين طلب رب الثوب منه أن يخيطه وبين أن يطلب من رب الثوب أن يخيطه
له، فإذا قال له رب الثوب خط هذا لي فقد كلفه بعمل له ما يقابله من الاجر فيلزمه
لأنه يأمره بالعمل والعمل لا يلزم بغير أجرة، وإذا قال الخائط أعطني هذا الثوب
لأخيطه لك لم تلزمه أجرته وهو قول أبي إسحاق المروزي، حيث لم يأمره فليس
ثم ما يوجب له الأجرة (والثالث) وهو قول أبى العباس بن سريج، وهو الذي
أخذ به أحمد وأصحابه، وذكره النووي في المنهاج بصيغة التمريض بقوله: وقيل
وهو أنه إذا كان الصانع معروفا بأخذ الأجرة على الخياطة لزمه، والا لم يلزمه
لان العرف يجرى مجرى الشرط (والرابع) وهو الظاهر من المذهب أنه لا أجرة
لن كمن قدم طعامه لمن يأكل فليس له أن يطلب ثمنه.
وخص المصنف والأصحاب السفينة إذا نزلها أو شحن فيها متاعة بغير اذن
111

الملاح فإنه يلزمه عوض استهلاك منفعة موضعه من السفينة. وقال الشمس الرملي
وقد يستحسن ترجيحه لوضوح مدركه وهو يقصد أن يكون الصانع معروفا
بأخذ الأجرة إذ هو العرف، وهو يقوم مقام اللفظ كثيرا، ونقل عن
الأكثرين، والمعتمد الأول، فإن ذكر أجرة استحقها قطعها إن صح العقد،
وإلا فأجرة المثل، وأما إذا عرض كأرضيك أو لا أخيبك أو ترى ما تحبه أو
يسرك أو أطعمك فتجب أجرة المثل، نعم في الأخيرة يحسب على الأجير
ما أطمعه إياه كما هو ظاهر، وقد تجب من غير تعريض بها كما في عامل الزكاة
اكتفاه بثبوتها بالنص فكأنها مسماة شرعا، وكعامل مساقاة عمل ما ليس بلازم له
بإذ المالك اكتفاء بذكر المقابل له في الجملة.
قال: ولا يستثنى وجوبها على داخل الحمام أو راكب السفينة
مثلا من غير إذن لاستيفائه المنفعة من غير أن يصرفها صاحبها إليه
بخلافه بإذنه، وسواء في ذلك أسيسر السفينة بعلم مالكها أم لا. وقول ابن الرفعة
في المطلب لعله فيما إذا لم يعلم به مالكها حين سيرها، وإلا فيشبه أن يكون كما لو
وضع متاعه على دابة غيره فسيرها مالكها، فإنه لا أجرة على مالكه، ولا ضمان
مردود، فقد فرق العراقي بينهما بأن راكب السفينة بغير إذن غاصب للبقعة التي
هو فيها ولو لم يسير، بخلاف واضع متاعه على الدابة لا يصير غاصبا لها بمجرد
وضع متاعه، ويفرق أيضا بأن مجرد العلم لا يسقط الأجرة ولا الضمان، فإن
السكوت على إتلاف المال لا يسقط الضمان، وهو علم وزيادة، ومالك الدابة
بسبيل من إلقاء المتاع قبل تسييرها بخلافه في راكب السفينة اه‍. قال الرملي
الصغير في النهاية والله تعالى أعلم.
112

قال المصنف رحمه الله تعالى:
* (باب الجعالة) *
يجوز عقد الجعالة وهو أن يبذل الجعل لمن عمل له عملا من رد ضالة ورد
آبق وبناء حائط وخياطة ثوب وكل ما يستأجر عليه من الأعمال، والدليل عليه
قوله تعالى (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) وروى أبو سعيد الخدري (أن
ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أتوا حيا من أحياء العرب فلم
يقروهم، فبينما هم كذلك إذ لدغ سيد أولئك فقالوا هل فيكم راق فقالوا لم تقرونا
فلا نفعل أو تجعلوا لنا جعلا فجعلوا لهم قطيع شاء فجعل رجل يقرأ بأم القرآن
ويجمع بزاقة ويتفل فبرأ الرجل فأتوهم بالشاء فقالوا: لا نأخذها حتى نسأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك
فضحك وقال: ما أدراك إنها رقية؟ خذوها واضربوا إلى فيها بسهم ولان الحاجة
تدعو إلى ذلك من رد ضالة وآبق وعمل لا يقدر عليه فجاز كالإجارة والمضاربة. (فصل) ويجوز ان يعقد لعامل غير معين للآية، ولأنه قد يكون له عمل
ولا يعرف من يعمله، فجاز من غير تعيين، وروى المزني في المختصر عن الشافعي
رحمه الله في المنثور أنه قال إذا قال أول من يحج عنى فله مائة فحج عنه رجل أنه
يستحق المائة. وقال المزني: ينبغي أن يستحق أجرة المثل لأنه إجازة فلم تصح
من غير تعيين، وهذا خطا، لان ذلك جعالة، وقد بينا ان الجعالة تجوز من
غير تعيين العامل.
(فصل) وتجوز على عمل مجهول للآية، ولان الحاجة تدعو إلى ذلك
فجاز مع الجهالة كالمضاربة، ولا تجوز الا بعوض معلوم، لأنه عقد معاوضة
فلا تجوز بعوض مجهول كالنكاح، فان شرط له جعلا مجهولا فعمل استحق
أجرة المثل، لان كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب المثل في فاسده،
كالبيع والنكاح.
113

(فصل) ولا يستحق العامل الجعل الا بإذن صاحب المال، فأما إذا عمل
له عملا من غير إذنه بأن وجد له آبقا فجاء به، أو ضالة فردها إليه، لم يستحق
الجعل لأنه بذل منفعته من غير عوض، فلم يستحق العوض، فان عمل باذنه ولم
يشرط له الجعل، فعلى الأوجه الأربعة التي ذكرناها في الإجارة، فان اذن له
وشرط له الجعل فعمل استحق الجعل، لأنه استهلك منفعته بعوض فاستحق
العوض كالأجير، فان نادى فقال: من رد عبدي فله دينار فرده من لم يسمع
النداء لم يستحق الجعل لأنه متطوع بالرد من غير بدل، فان أبق عبد لرجل فنادى
غيره ان من رد عبد فلان فله دينار، فرده رجل وجب الدينار على المنادى، لأنه
ضمن العوض فلزمه، فان قال في النداء: قال فلان: من رد عبدي فله دينار
فرده رجل لم يلزمه المنادى، لأنه لم يضمن. وإنما حكى قول غيره.
(فصل) ولا يستحق العامل الجعل الا بالفراغ من العمل، فان شرط له
جعلا على رد الآبق فرده إلى باب الدار ففر منه أو مات قبل ان يسلمه لم يستحق
شيئا من الجعل، لان المقصود هو الرد، والجعل في مقابلته ولم يوجد منه شئ،
وان قال: من رد عبدي الآبق من البصرة فله دينار وهو ببغداد فرده رجل من
واسط استحق نصف الدينار، لأنه رد من نصف الطريق، وان رده من أبعد
من البصرة لم يستحق أكثر من الدينار، لأنه لم يضمن له لما زاد شيئا.
وان أبق له عبدان فقال من ردهما فله دينار، فرد رجل أحدهما استحق
نصف الجعل، لأنه عمل نصف العمل. وان قال: من رد عبدي فله دينار،
فاشترك في رده اثنان اشتركا في الدينار، لأنهما اشتركا في العمل فاشتركا في الجعل
وان قال لرجل: ان رددت عبد فلك دينار، وقال لآخر: ان ردته فلك
ديناران، فاشتركا في الرد استحق كل واحد منهما نصف ما جعل له، وان جعل
لأحدهما دينارا وللآخر ثوبا مجهولا فرداه استحق صاحب الدينار نصف دينار
وصاحب الثوب نصف أجرة المثل، لان الدينار جعل صحيح، فاستحق نصفه،
والثوب جعل باطل فاستحق نصف أجرة المثل، وان قال لرجل ان رددت عبدي
فلك دينار فشاركه غيره في رده، فان قال: شاركته معاونة له كان الدينار للعامل
114

لان العمل كله له فكان الجعل كله له، وان قال شاركته لاشاركه في الجعل كان
للعامل نصف الجعل، لأنه عمل نصف العمل، ولا شئ للشريك لأنه لم
يشرط له شيئا.
(الشرح) هي بتثليث الجيم عند ابن مالك وغيره. واقتصر النووي والجوهري
والفيومي صاحب المصباح على كسرها، وابن الرفعة في الكفاية والمطالب على
فتحها، وهي لغة اسم لما يجعله الانسان لغيره على شئ يفعله، وكذا الجعل
والجعيلة، وأما تعريفها شرعا فهو التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم أو
مجهول بمعين أو مجهول.
وقد أورد المصنف الجعالة عقب الإجارة، وكذلك فعل النووي في الروضة
وصاحب الشرح، لان التلازم بين الإجارة والجعالة واضح، لأنها عقد على
عمل، إلا أن أكثر المصنفين في الفقه جعلوها بعد اللقطة، لأنها طلب النقاط
الدابة الضالة.
وقد استدل المصنف على أنها من العقود الجائزة بقوله تعالى (ولمن جاء به
حمل بعير) واعتبر الرملي سوقه الآية استئناسا وليس استدلالا، وعلل ذلك
الشبراملسي في حاشيته على النهاية هذه العبارة بان شرع من قبلنا ليس شرعا لنا
وان ورد في شرعنا ما يقرره.
اما الحديث الذي ساقه المصنف عن أبي سعيد فقد رواه البخاري ومسلم
وأبو داود والترمذي وابن ماجة، وأتم هذه الطرق جميعا رواية البخاري ولفظها
(انطلق نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافروها حتى نزلوا
على حي من احياء العرب فاستضافوهم فأبوا ان يضيفوهم، فلدغ سيد ذلك الحي
فسعوا له بكل شئ، لا ينفعه شئ، فقال بعضهم: لو أتيتم هؤلاء الرهط
الذين نزلوا لعلهم أن يكون عندهم بعض شئ، فاتوهم فقالوا: يا أيها الرهط إن
سيدنا لدغ وسعينا له بكل شئ لا ينفعه فهل عند أحد منكم من شئ؟ قال بعضهم
إني والله لا رقى لكن والله لقد استضفناكم فلم تضيفونا فما انا براق لكم حتى
تجعلوا لنا جعلا، فصالحوهم على قطيع من غنم فانطلق يتفل عليه، ويقرأ الحمد لله
115

رب العالمين، فكأنما نشط من عقال، فانطلق يمشى وما به قلبة، قال فاوفواهم
جعلهم الذي صالحوهم عليه، فقال بعضهم: اقتسموا، فقال الذي رقى:
لا تفعلوا حتى نأتي النبي صلى الله عليه وسلم فنذكر له الذي كان، فننظر الذي
يأمرنا، فقدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكروا له ذلك فقال: وما يدريك
انه رقية؟ ثم قال: قد أصبتم واضربوا إلى معكم سهما، وضحك النبي صلى الله
عليه وسلم، وقد روى البخاري رواية عن ابن عباس بلفظ (ان نفرا من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم مروا بماء فيهم لديغ أو سليم فعرض لهم رجل من أهل
الماء فقال: هل فيكم من راق فان الماء رجلا لديغا أو سليما، فانطلق رجل منهم
فقرا بفاتحة الكتاب على شاء، فجاء بالشاء إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا:
اخذت على كتاب الله اجرا؟ حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله اخذ على
كتاب الله اجرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان أحق ما أخذتم عليه
اجرا كتاب الله)
قوله (فاستضافوهم) في رواية للترمذي انهم ثلاثون رجلا. وقد روى
الحاكم رواية أبي سعيد الخدري على أنه هو الرقي، وهي على شرط مسلم. قال
الزركشي: ويستنبط منه جواز الجعالة على ما ينتفع به المريض من دواء أو رقبة
وان لم يذكروه. وهو متجه ان حصل به تعب والا فلا اخذا مما يأتي.
على أن الاجماع منعقد على جوازها لما تدعو إليه الحاجة من ضالة، أو عمل
لا يقدر عليه ولا يجد من يتطوع به، ولا تصح الإجارة عليه لجهالة، فجاز ان
يجعل له جعلا كالإجارة والقراض. وأركان الجعالة أربعة: صيغة ومتعاقدان
وعمل وعوض.
ولما كان الجعل لا يستحق الا باذن صاحب المال كالإجارة، فإنه فارق الإجارة
في استحقاقه بالعمل، اما الإجارة فإنها تستحق بالعقد، لأنه لو قال: من رد على
ضالتي فله درهم قبلها بطل، هكذا أفاده الغزالي في كتاب الدور، وعدم اشتراط
قبضه في المجلس مطلقا، ويشترط في الملتزم للجعل مالكا أو غيره أن يكون
مطلق التصرف كما في الإجارة فلا يصح بالتزام الصبي أو المحجور عليه للسفه أو
المجنون. كما يشترط في العامل المعين أهلية العمل بأن يكون قادرا عليه ولا
116

تشترط الحرية وغير المكلف، وان يقوم بالعمل باذن وبغير اذن، كما قال ذلك
السبكي خلافا لابن الرفعة في اشتراط اذن السيد، ويخرج بذلك العاجز عن
العمل كالصغير والضعيف إذا غلبهما العمل، فأشبه استئجار الأعمى للحراسة.
هكذا أفاده الزركشي وابن العماد
ونقل المزني ان الشافعي نص في المنشور انه إذا قال المعضوب: من حج عنى
فله مائة درهم، فحج عنه انسان استحق المائة.
قال المزني: ينبغي ان يستحق أجرة المثل، لان هذا إجارة فلا يصح من
غير تعيين الاجر. هذا كلام الشافعي والمزني، والمسألة التي ساقها المصنف بذكر
النووي رضي الله عنه ان للأصحاب فيها ثلاثة أوجه الصحيح وقوع الحج عن
المستأجر ويستحق الأجرة المسماة. وبهذا نص الشافعي واختاره النووي، لأنه
جعالة وليس بإجارة. والجعالة تجوز على عمل مجهول، فمن باب أولى المعلوم،
(والثاني) وهو اختيار المزني: انه يقع عن المستأجر ويستحق الأجير أجرة المثل
لا المسمى. وقد حكى امام الحرمين ان معظم الأصحاب مالوا إلى هذا. قال
النووي. وليس كما قال. وهذا القائل يقول: لا تجوز الجعالة على عمل معلوم
لأنه يمكن الاستئجار عليه.
(والثالث) انه يفسد الاذن ويقع الحج عن الأجير، لان الاذن غير متوجه
إلى إنسان بعينه، فهو كما لو قال: وكلت من أراد بيع داري في بيعها. فالوكالة
باطلة ولا يصح تصرف البائع اعتمادا على هذا التوكيل. وهذا الوجه حكاه
الرافعي. وذكر امام الحرمين ان شيخ والده أبا محمد أشار إليه فقال: لا يمتنع
ان يحكم بفساد الاذن، وهذا الوجه ضعيف جدا بل باطل مخالف للنص والمذهب
والدليل. فإذا قلنا بالمذهب والمنصوص. فقال من حج عنى فله مائة درهم فسمعه
رجلان واحرما عنه.
قال القاضي حسين والأصحاب: ان سبق احرام أحدهما وقع عن المستأجر
القائل ويستحق السابق المائة. واحرام الثاني يقع عن نفسه لأنه ليس أحدهما
أولى من الاخر فصار كمن عقد نكاح أختين بعقد واحد.
ولو قال من حج عنى فله مائة دينار فحج عنه رجلان. أحدهما بعد الاخر.
117

وقع احرام السابق بالاحرام عن المستأجر القائل وله عليه المائة. ولو احراما معا
وقع حج كل منهما عن نفسه ولا شئ لهما على القائل، لأنه ليس فيها أول. ولو
كان العوض مجهولا بأن قال: من حج عنى فله ثوب أو دراهم أو ناقة وقع الحج
عن القائل بأجرة المثل.
(فرع) استدل المصنف من قوله تعالى (ولمن جاء به) على جواز عقدها
لغير المعين، كما في المثال الذي سبق فيمن يحج عنه، كما استدل بالآية أيضا على
جوازها على عمل مجهول. وكذلك لو قال: من رد ضالتي من سامعي ندائي فله
كذا فرده من علم ندائه ولم يسمع منه لم يستحق، هكذا أفاده الماوردي وصرح
بمثله القاضي حسين.
قال الأذرعي، وقول القاضي فان رده بنفسه أو بعده استحق، يفهم عدم
الاستحقاق إذا استقل العبد بالرد. قال النووي، ولو قال أجنبي من رد عبد زيد
فله كذا استحقه الراد على الأجنبي. قال الرملي استحقه الراد العالم به على الأجنبي
لأنه التزمه فصار كخلع الأجنبي، وكما لو التمس إلقاء متاع غيره في البحر لخوف
الهلاك وعليه ضمانه.
إذا ثبت هذا فان العامل بلا إذن لا يستحق الجعالة، لأنه لو أذن لشخص
فعمل غيره فلا شئ له ولو كان معروفا برد الضال بعوض لأنه لم يلتزم
عوضا له فوقع عمله تبرعا. وقال الشبراملسي عند قوله (فلو عمل أحد بلا إذن
فقال ومن ذلك ما جرت به العادة في قرى مصرنا من أن جماعة اعتادوا حراسة
الجرين نهارا وجماعة اعتادوا حراسته ليلا، فان اتفقت معاقدتهم على شئ من
أهل الجرين أو من بعضهم باذن الباقين لهم في العقد استحق الحارسون ما شرط
لهم إن كانت الجعالة صحيحة وإلا فأجرة المثل
وأما ان باشروا الحراسة بلا إذن من أحد اعتمادا على ما سبق من دفع أرباب
الزرع للحارس سهما معلوما عندهم لم يستحقوا شيئا. وليس كما لو التزم الثمن في
شراء غيره أو الثواب في هبة غيره، لأنه عوض تمليك فلا يتصور وجوبه على
غير من حصل له الملك، والجعل ليس عوض تمليك.
واستشكل ابن الرفعة هذه بأنه لا يجوز لاحد وضع يده على مال غيره بقول
118

الأجنبي بل يضمنه فكيف يستحق الأجرة. وأجيب بأنه لا حاجة إلى الاذن في
ذلك لان المالك راض به قطعا، أو بأن صورة ذلك أن يأذن المالك لمن شاء في
الرد والتزم الأجنبي بالجعل، أو يكون للأجنبي ولاية على المالك، وقد يصور
أيضا بما إذا ظنه العامل المالك أو عرفه وظن رضاه. وظاهر كلام المصنف أنه
يلزمه العوض المذكور وإن لم يقل على.
قال الرملي: وهو كذلك فقد قال الخوارزمي في الكافي: ولو قال الفضولي:
من رد عبد فلان فله على دينار، أو قال فله دينار، فمن رده استحق على الفضولي
ما سمى. وصرح به ابن يونس في شرح التعجيز، فإنه صور المسألة بما إذا قال على
ثم قال وألحق الأئمة به قوله فله كذا. وإن لم يقل عليه، لان ظاهره التزام.
ولو قال أحد الشريكين في رقيق: من رد رقيقي فله كذا فرده شريكه فيه استحق
الجعل. وصورة المسألة إذا لم يكن القائل ولى المالك. فأما إذا كان وليه وقال
ذلك عن محجوره على وجه المصلحة بحيث يكون الجعل قدر أجرة مثل ذلك
العمل أو أقل استحقه الراد في مال المالك بمقتضى قول وليه، ويعلم مما تقرر أنه
لا يتعين على العامل المعين العمل بنفسه. فلو قال لشخص معين: إن رددت على
ضالتي فلك كذا لم يتعين عليه السعي بنفسه، بل له أن يستعين بغيره، فإذا حصل
الفعل استحق الأجرة. قاله الغزالي في البسيط
قال الرملي: وحاصله أن توكيل العامل المعين غيره في الرد كتوكيل الوكيل
فيجوز له أن يوكله فيما يعجز عنه وعلم به القائل أو لا يليق به كما يستعين به،
وتوكيل غير المعين بعد سماعه النداء غيره، كالتوكيل في الاحتطاب والاستقاء
ونحوهما فيجوز، فعلم أن العامل المعين لا يستنيب فيها إلا إن عذر وعلم به
الجاعل حال الجعالة. اه‍
(فرع) تصح الجعالة على عمل مجهول كما ذكر ذلك المصنف لان الجهالة احتملت
في القراض لحصول زيادة، فاحتمالها في رد الحاصل أولى، وهو مقيد كما أفاده
جمع بما إذا عسر ضبطه لا كبناء حائط فيذكر محله وطوله وسمكه وارتفاعه وما
يبنى به، وخياطة ثوب فيصفه كالإجارة. أما صحتها على المعلوم فأولى. ومثال
ذلك قوله: من رد على ضالتي من مكان كذا فله كذا، وهذا هو الأصح.
119

(والثاني) المنع للاستغناء عنه بالإجارة، وقد عرفت أنه لا بد من كون العمل فيه
كلفة أو مؤنة، كرد آبق أو ضال، أو أداء حج أو خياطة ثوب أو تعليم علم أو
حرفة، أو إخبار فيه غرض وصدق فيه، فلو رد من هو بيده ولا كلفة فيه فلا
شئ له، إذ مالا كلفة فيه لا يقابل بعوض
فلو قال من دلني على مالي فله كذا فدله غير من هو بيده استحق، لان الغالب
أنه تلحقه مشقة. قال الأذرعي ويجب أن يكون هذا فيما إذا بحث عنه بعد جعل
المالك. أما البحث السابق والمشقة السابقة قبل الجعل فلا عبرة بهما ويلزم عدم
التوقيت في الجعالة. لأنه لو قال من رد على ضالتي إلى شهر كذا فله كذا لو يصح
كما في القراض، لان تقدير المدة مخل بمقصود العقد، فقد لا يظفر به فيها
فيضيع سعيه ولا يحصل الغرض، سواء أضم إليه من محل كذا أم لا، وغير
واجب على العامل.
فلو قال من دلني على مالي فله كذا فدله من المال في يده لم يستحق شيئا لان
ذلك واجب عليه شرعا، فلا يأخذ عليه عوضا. وكذا لو قال من رد مالي فله
كذا فرده من هو في يده ويجب عليه رده. وقضيته أنه لو كان الدال أو الراد غير
مكلف استحق.
وقد أفتى الامام النووي كما حكى ذلك صاحب نهاية المحتاج فيمن حبس ظلما
فبذل مالا لمن يتكلم في خلاصه بجاهه وغيره بأنها جعالة مباحة، وأخذ عوضها
حلال، ونقله عن جماعه، ثم قال وفى ذلك كلفة تقابل بأجرة عرفا
(قلت) فإذا كان العرف هو الذي يبنى عليه حد الإباحة والمنع في الجعالة
فمقتضى العرف الذي نعلمه اليوم أن ذلك رشوة، فإذا كان صاحب جاه يستطيع
أن يرفع ظلما وقع على إنسان بجاهه وجب عليه العمل على رفعه، وبذلك تبطل
الجعالة، لأنها لا تكون إلا عوضا عما لا يجب على العامل. ومقتضى النصيحة
والعمل لاحقاق الحق الذي يلزمه كل مسلم يمنع هذه الصورة التي أفتى بها النووي
رحمه الله تعالى.
ولأنهم قالوا إن السعي والعمل وبذلك المجهود هي مع حصول المقصود توجب
120

الجعالة، وجعلوا إخبار الطبيب للمريض بدوائه عملا تافها لا جهد فيه ولا سعى
فلا يستحق عليه جعلا، فكيف بمن له جاه يمكن أن يؤثر به في رفع ظلم أو
قضاء مصلحة بدون مشقة أو جهد أو سعى إلا أن يتفوه بكلمة هل يحل له أن
يأخذ جعالة؟ إن قياس المذهب والبناء على أصله يمنع ذلك. ولا أعلم في ذلك
خلاف في الأصل الذي بنينا عليه، لأنه يستمد قوته من قوله صلى الله عليه وسلم
(الحلال بين والحرام بين)
ويشترط لصحة العقد كون الجعل مالا معلوما لأنه عوض كالأجرة والمهر
ولأنه عقد جوز للحاجة، ولا حاجة لجهالة العوض بخلاف العمل، ولان
جهالة العوض تفوت مقصود العقد إذ لا يرغب أحد في العمل مع جهالة
العوض، ويحصل العلم بالمشاهدة إن كان معينا، وبالوصف إن كان في الذمة.
فلو قال: من رد ضالتي فله ما حملت، وكان ما تحمله معروفا كسرجها ولجامها أو
شيئا آخر تنقله ضلت به وكان معروفا للعامل،
واستشكل ابن الرفعة اعتبار الوصف في المعين لأنهم منعوه في البيع
والإجارة وغيرهما.
قال البلقيني: ويمكن الفرق بدخول التخفيف هنا فلم يشدد فيها بخلاف نحو
البيع، وقياسه صحته فله نصفه إن علم، وإن لم يعرف محله وهو أوجه الوجهين.
وما قاسه عليه الرافعي من استئجار المرضعة بنصف الرضيع بعد الفطام أجاب
عنه في الكفاية بأن الأجرة المعينة تملك بالعقد فجعلها جزءا من الرضيع بعد
الفطام يقتضى تأجيل ملكه، وهنا إنما تملك بتمام فلا مخالفة لمقتضى العقد
ولا عمل يقع في مشترك، كذا أفاده الرملي
(فرع) إذا قال: من رد على ضالتي من بلد كذا فرده من جهة ذلك البلد
لكن من أبعد منه فلا زيادة له لتبرعه بها. أما إذا قال: من رده من بلد كذا
فرده من أقرب منه فلا يستحق الا قسطة من الجعل، لأنه جعل كل الجعل
في مقابلة العمل، فبعضه في مقابلة بعضه، فإن رده من نصف الطريق استحق
نصف الجعل.
121

فإذا كانت الطريق غير متساوية في الحزونة والسهولة بأن كان النصف الذي
قطعه يمكن أن تكون أجرته ضعف أجرة النصف الآخر استحق الثلثين من
الجعل، فإن كان من البلد أو من مسافة مثل مسافته ولو من جهة أخرى استحق
المسمى. ولو رد من البلد المعين، ورأي المالك في نصف الطريق فدفعه إليه
استحق نصف الجعل.
ولو قال: من رد على ضالتي فله كذا، فرد أحدهما استحق نصف الجعل،
استوت قيمة الضالتين أو اختلفت.
ولو قال لرجلين ان رددتما ضالتي فلكما كذا فرد أحدهما إحداهما استحق الربع
أو كليهما استحق النصف أو رداهما استحقا المسمى.
ولو قال أول من يرد ضالتي فله كذا فرداها استحقا المسمى مناصفة لوصفهما
بالأولية في الرد.
ولو قال لكل واحد من ثلاثة ردها ولك دينار، فردوها جميعا استحق كل
واحد منهم ثلث دينار توزيعا بالحصص على الرؤوس، هذا إذا عمل كل منهم
لنفسه ليأخذ الدينار.
أما لو قال: أعنت صاحبي فلا شئ له ويقتسمان في الدينار، أو قال اثنان
ذلك أخذ الثالث الدينار وحده ولا شئ لهما وللآخر جميع المشروط، فان
شاركهم رابع فلا شئ له.
أما إذا قصد بمعاونته المالك أو أخذ الجعل منه فلكل واحد من الثلاثة ربع
المشروط، فان أعانا أحدهما فلكل واحد من الاثنين ربع المشروط وللمعاون
بفتح الواو النصف، فان شرط لأحدهم جعلا مجهولا، ولكل من
الآخرين دينارا فردوه فله ثلث أجرة المثل ولهما ثلثا المسمى. وهكذا قال
النووي إذا اشترك اثنان في رده اشتركا في الجعل. ولو التزم جعلا لمعين فشاركه
غيره في العمل ان قصد اعانته فله كل الجعل.
122

وهنا يقول صاحب النهاية: لان قصد الملتزم الرد ممن التزم له بأي وجه أمكن
فلم يقصر لفظه على المخاطب وحده بخلاف ما مر فيما إذا أذن لمعين فرد نائبه مع
قدرته، لان المالك لم يأذن فيه أصلا. ولا شئ للمعين إلا إن التزم له المخاطب
أجرة، ويؤخذ من كلامهم هنا، وفى المساقاة كما أفاده السبكي جواز الاستنابة في
الإمامة والتدريس وسائر الوظائف التي تقبل النيابة، أي ولو بدون عذر فيما
يظهر، ولو لم يأذن الواقف إذا استناب مثله أو خيرا منه، ويستحق المستنيب
جميع المعلوم، وان أفتى ابن عبد السلام والنووي بأنه لا يستحقه واحد منهما،
إذ المستنيب لم يباشر والنائب لم يأذن له الناظر، فلا ولاية له، وما نازع به
الأذرعي من كون ذلك سببا لفتح باب أكل أرباب الجهالات مال الوقف دائما
مما أرصد للمناصب الدينية، واستنابة من لا يصلح أو يصلح بنذر يسير.
قال غيره: وهكذا جرى فلا حول ولا قوه إلا بالله مردود باشتراط كونه
مثله أو خيرا منه.
ولو قال لواحد: إن رددته فلك دينار. وقال لآخر: إن رددته أرضيك،
أو أحلى بالحلوى فمك، فرداه، فللأول نصف الدينار، وللآخر نصف
أجرة مثل عمله.
وينقسم العقد باعتبار لزومه وجوازه إلى ثلاثة أقسام:
(أحدها) لازم من الطرفين قطعا كالبيع والإجارة والسلم والصلح والحوالة
والمساقاة والهبة لغير الفروع بعد القبض والخلع، ولازم من أحدهما قطعا،
ومن الاخر على الأصح وهو النكاح فإنه لازم من جهة المرأة قطعا، ومن جهة
الزوج على الأصح، وقدرته على الطلاق ليست فسخا.
(ثانيها) لازم من أحد الطرفين جائز من الاخر قطعا كالكتابة، والرهن
وهبة الأصول للفروع بعد القبض والضمان والكفالة.
(ثالثها) جائز من الطرفين كالشركة والوكالة والعارية والوديعة، وكذا الجعل
له قبل فراغ العمل.
123

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجوز لكل واحد منهما فسخ العقد لأنه عقد على عمل مجهول
بعوض، فجاز لكل واحد منهما فسخه كالمضاربة، فإن فسخ العامل لم يستحق
شيئا لان الجعل يستحق بالفراغ من العمل، وقد تركه فسقط حقه، وإن فسخ
رب المال، فإن كان قبل العمل لم يلزمه شئ، لأنه فسخ قبل أن يستهلك منفعة
العامل فلم يلزمه شئ، كما لو فسخ المضاربة قبل العمل، وإن كان بعدما شرع
في العمل لزمه أجرة المثل لما عمل، لأنه استهلك منفعته بشرط العوض فلزمه
أجرته، كما لو فسخ المضاربة بعد الشروع في العمل.
(فصل) وتجوز الزيادة والنقصان في الجعل قبل العمل، فان قال: من رد
عبدي فله دينار، ثم قال: من رده فله عشره، فرده رجل استحق عشرة، وان
قال: من رد عبدي فله عشرة، ثم قال: من رده فله دينار، استحق الدينار،
لأنه مال بذل في مقابلة عمل في عقد جائز فجائز والزيادة والنقصان فيه قبل
العمل كالربح في المضاربة.
(فصل) وإن اختلف العامل ورب المال فقال العامل: شرطت لي الجعل
وأنكر رب المال، فالقول قول رب المال، لان الأصل عدم الشرط وعدم
الضمان، وان اختلفا في عين العبد فقال السيد: شرطت الجعل في رد غيره.
وقال العامل: بل شرطت الجعل في رده، فالقول قول المالك، لان العامل
يدعى عليه شرط الجعل في عقد، الأصل عدمه، فكان القول فيه قوله، وان
اختلفا في قدر الجعال تحالفا كما قلنا في البيع، فإذا تحالفا رجع إلى أجرة المثل كما
رجع في البيع بعد هلاك السلعة إلى قيمة العين.
وان اختلف العامل والعبد فقال العامل: أنا رددته. وقال العبد جئت بنفسي
وصدقة المولى، فالقول قول المولى مع يمينه، لان الأصل عدم الرد، وعدم
وجوب الجعل، وبالله التوفيق.
(الشرح) قلنا: إن العقود منها الجائز من الطرفين كالشركة والوكالة والعارية
124

والوديعة (والجعالة قبل الفراغ من العمل) ومن ثم يجوز لأي منهما الفسخ قبل
تمام العمل، لأنه عقد جائز من الطرفين، أما من جهة الجاعل فمن حيث إنها
تعلن استحقاق بشرط فأشبهت الوصية.
وأما من جهة العامل فلان العمل فيها مجهول، وما كان كذلك لا يتصف
باللزوم كالفراض، وإنما يتصور الفسخ من العامل في الابتداء إذا كان معينا
بخلاف غيره فلا يتصور فسخه إلا بعد شروعه في العمل، والمراد بالفسخ رفع
العقد ورده، وخرج بقوله: قبل العمل، ما بعده، فإنه لا أثر للفسخ، لان
الجعل قد لزم واستقر، وعلم من جوازها انفساخها بموت أحد المتعاقدين أو
جنونه أو إغمائه. فلو مات المالك بعد الشروع في العمل فرده إلى وارثه استحق
قسط ما عمله في الحياة من المسمى.
وإن مات العامل فرده وارثه استحق القسط منه أيضا، فإن فسخ قبل الشروع
أو فسخه العامل بعد الشروع فلا شئ له، لأنه لم يعمل شيئا في الأولى، ولان
الجعل إنما يستحق في الثانية بتمام العمل، وقد فوته باختياره.
وان فسخ المالك بعد الشروع في العمل فعليه أجرة المثل لما مضى في الأصح
لان جوازه يقتضى التسلط على رفعه، وإذا ارتفع لم يجب المسمى كسائر الفسوخ
لكن عمل العامل وقع محترما فلا يحبط بفسخ غيره فرجع إلى بدله وهو أجرة
المثل كالإجارة إذا فسخت بعيب.
والثاني: لا شئ للعامل كما لو فسخ بنفسه، ولا فرق على هذا القول بين أن
يكون ما صدر من العامل لا يحصل به مقصود أصلا كرد الضال إلى بعض الطريق
أو يحصل به بعضه كما لو قال: إن علمت ابني القرآن فلك كذا ثم منعه من تعليمه
ولا يشكل ما رجحوه هنا كما يقول الرملي من استحقاق أجرة المثل بقولهم:
إذا مات العامل أو المالك في أثناء العمل حيث ينفسخ ويجب القسط من المسمى
لان الجاعل أسقط حكم المسمى في مسئلتنا بفسخه بخلافه في تلك، وما فرق به
بعض الشراح من أن العامل في الانفساخ تمم العمل بعده ولم يمنعه المالك منه
125

بخلافه في الفسخ، محل نظر، إذ لا أثر له في الفرق بين خصوص الوجوب من
المسمى تارة، ومن أجرة المثل أخرى كما هو ظاهر للمتأمل.
(فرع)
ويجوز للمالك أن يزيد وينقص في العمل وفى الجعل ولو من غير جنسه ونوعه
قبل الفراغ كالمبيع في زمن الخيار، سواء ما قبل الشروع في العمل أو بعده،
لأنه عقد جائز، فلو قال: من رد ضالتي فله عشرة، ثم قال من ردها فله خمسة
أو عكس فالاعتبار بالأخير من قوليه، أما بعد الشروع ففائدته وجوب أجرة
المثل له، لان النداء الأخير فسخ للأول، والفسخ في أثناء العمل يقتضى
الرجوع إلى أجرة المثل، ومحله قبل الشروع أن يعلم العامل بالتغيير، فإن لم
يعلم به فيما إذا كان معينا ولم يعلن به الملتزم فيما إذا كان غير معين، هكذا
أفاده في النهاية.
وقال الغزالي في الوسيط: ينقدح أن يقال: يستحق أجرة المثل وهو الراجح
وقال الماوردي والروياني وأقره السبكي: يستحق الجعل الأول، كما أقر ذلك
البلقيني وغيره، فعلى الأول لو عمل من سمع النداء الأول خاصة، ومن
سمع النداء الثاني استحق الأول نصف أجرة المثل والثاني نصف المسمى الثاني،
وعلى قول الماوردي والروياني والسبكي والبلقيني للأول نصف الجعل الأول
وللثاني نصف الثاني.
أما التغيير بعد الفراغ فلا يؤثر، لان المال قد لزم، ويتوقف لزوم الجعل
على تمام العمل، ولهذا قال النووي: ولو مات الآبق في بعض الطريق أو هرب
فلا شئ للعامل.
قال الشراح: لأنه لم يرده والاستحقاق معلق بالرد، ويخالف موت أجير
الحج في أثناء العمل فإنه يستحق من الأجرة بقدر ما عمله في الأصح لان القصد
بالحج الثواب، وقد حصل للمحجوج عنه الثواب بالبعض، والقصد هنا الرد
ولم يوجد، ولو لم يجد المالك سلم المردود إلى الحاكم واستحق الجعل، فإن لم يكن
حاكم أشهد واستحقه، ويجرى ذلك في سائر ما يتلف من محال الأعمال.
126

(فرع) إذا اختلف المالك والعامل فقد قال النووي رضي الله عنه يصدق
المالك بيمينه إذا أنكر شرط الجعل أو سعى العامل اه‍.
والأول كأن يقول: ما شرطت الجعل، أو شرطته في شئ آخر.
والثاني كأن يقول: لم ترده أنت وإنما رده غيرك، أو عادت الضالة بنفسها
من غير سعى منك، لان الأصل عدم الرد والشرط وبراءة ذمته، فلو اختلفا
بعد الاستحقاق في قدر الجعل أو جنسه أو صفته أو في قدر العمل كأن قال شرطت
مائة على رد ضالتين فقال العامل بل على رد هذا فقط تحالفا، وللعامل أجرة المثل
كما في القراض والإجارة ن كل هذا إذا اختلفا بعد الفراغ من العمل والتسليم،
أو قبل الفراغ فيما إذا وجب للعامل قسطه من العمل الذي عمله وجعالة، فإن كان
العمل مضبوطا مقدرا فإجارة ولو احتاج إلى تردد غير مضبوط فجعالة والمراد
أنه يجوز عقد الإجارة في الشق الأول دون الثاني، ويد العامل على المأخوذ إلى رده يد أمانة.
ولو رفع يده عنه وخلاه بتفريط كأن خلاه بمضيعة ضمنه لتقصيره، وان
خلاه بلا تفريط كأن خلاه عند الحاكم لم يضمنه ونفقته على مالكه، فان أنفق
عليه مدة الرد فمتبرع الا ان أذن له الحاكم فيه أو أشهد عند فقده ليرجع، والله
تعالى أعلم بالصواب.
127

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب السبق والرمي
تجوز المسابقة والمناضلة لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
سابق بين الخيل، المضمرة منها، من الحفيا إلى ثنية الوداع. وما لم يضمر منها
من ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق
وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له ناقة يقال لها العضباء
لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين، فقالوا
يا رسول الله سبقت العضباء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه حق على
الله أن لا يرتفع من هذه القذرة شئ إلا وضعه.
وروى سلمة بن الأكوع قال: أتى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن
نترامى فقال (حسن هذا لعبا، ارموا يا بنى إسماعيل، فإن أباكم كان راميا،
ارموا وأنا مع ابن الأدرع، فكف القوم أيديهم وقسيهم وقالوا غلب يا رسول
الله من كنت معه، قال ارموا وأنا معكم جميعا) فإن كان ذلك للجهاد فهو مندوب
إليه لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول على المنبر (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) إلا إن القوة هي
الرمي. قالها ثلاثا
وروى عقبة بن عامر قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
(ارموا واركبوا، ولان ترموا أحب إلى من أن تركبوا، وليس من اللهو إلا
ثلاثة، ملاعبة الرجل أهله، وتأديبه فرسه، ورميه بقوسه. ومن علمه الله
الرمي فتركه رغبة عنه فنعمة كفرها، وان الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة
صانعه المحتسب فيه الخير، والرامي، ومنبله)
(فصل) ويجوز ذلك بعوض لما روى أنه سئل عثمان رضي الله عنه أكنتم
تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال نعم. راهن رسول الله
صلى الله عليه وسلم على فرس له فجاءت سابقة فهش لذلك وأعجبه، والرهن
128

لا يكون إلا على عوض، ولان في بذل العوض فيه تحريضا على التعلم
والاستعداد للجهاد.
(فصل) ويجوز أن يكون العوض منهما، ويجوز أن يكون من أحدهما
ويجوز أن يبذله السلطان من بيت المال، ويجوز أن يكون من رجل من الرعية
لأنه إخراج مال لمصلحة الدين فجاز من الجميع كارتباط الخيل في سبيل الله، ولا
يجوز إلا على عوض معلوم إما معينا أو موصوفا في الذمة، لأنه عقد معاوضة
فلم يجز إلا على عوض معلوم كالبيع، ويجوز على عوض حال ومؤجل لأنه
عوض يجوز أن يكون عينا ودينا فجاز أن يكون حالا ومؤجلا كالثمن في البيع،
(فصل) فإن كان العوض من أحدهما أو من السلطان أو من رجل من
الرعية فهو كالجعالة، وإن كان منهما ففيه قولان
(أحدهما) أنه يلزم كالإجارة وهو الصحيح لأنه عقد من شرط صحته أن يكون
العوض والمعوض معلومين فكان لازما كالإجارة
(والثاني) أنه لا يلزم كالجعالة، لأنه عقد يبذل العوض فيه على ما لا يوثق به
فلم يلزم كالجعالة. فان قلنا إنه كالإجارة كان حكمهما في الرهن والضمين حكم
الإجارة وحكمهما في خيار المجلس، وخيار الشرط حكم الإجارة، ولا يجوز
لواحد منهما فسخه بعد تمامه، ولا الزيادة ولا النقصان بعد لزومه، كما لا يجوز
ذلك في الإجارة.
وإن قلنا إنه كالجعالة كان حكمه في الرهن والضمان حكم الجعالة، وقد مضى
ذلك في كتاب الرهن والضمان، فأما الفسخ والزيادة والنقصان فإن كان قبل
الشروع فيه أو بعد الشروع فيه وهما متكافئان فلكل واحد منهما أن يفسخ ويزيد
وينقص، لأنه عقد جائز لا ضرر على أحد في فسخه والزيادة والنقصان فيه.
وإن كانا غير متكافئين نظرت، فإن كان الذي له الفضل هو الذي يطلب الفسخ
أو الزيادة جاز، لأنه عقد جائز لا ضرر على صاحبه في الفسخ والزيادة فيه،
فملك الفسخ والزيادة فيه.
وإن كان الذي عليه الفضل هو الذي يطلب الفسخ أو الزيادة ففيه وجهان
129

(أحدهما) له ذلك، لأنه عقد جائز فملك فسخه والزيادة فيه
(والثاني) ليس له لأنا لو جوزنا ذلك لم يسبق أحد أحدا، لأنه متى لاح له
أن صاحبه يغلب فسخ أو طلب الزيادة فيبطل المقصود.
(الشرح) حديث ابن عمر رضي الله عنه متفق عليه عند الشيخين، ورواه
أحمد وأبو داوود والترمذي والنسائي وابن ماجة بلفظ (سابق رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين الخيل فأرسلت التي ضمرت منها وأمدها الحفياء إلى ثنية الوداع، والتي لم تضمر
أمدها ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق)
وزاد البخاري قال، قال سفيان (من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال
أو ستة. ومن ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق ميل.
وروى أحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه عن ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم
سابق بين الخيل وفضل القرح في الغاية)
أما حديث أنس بن مالك فقد رواه أحمد والبخاري بلفظ (كانت لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ناقة تسمى العضباء، وكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على
قعود له فسبقها فاشتد ذلك على المسلمين وقالوا: سبقت العضباء فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم (إن حقا على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه)
أما حديث سلمة بن الأكوع فقد أخرجه أحمد والبخاري بلفظ (مر رسول
الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أسلم ينتضلون بالسوق فقال: ارموا يا بنى
إسماعيل فإن أباكم كان راميا، ارموا وأنا مع بنى فلان، قال فأمسك أحد
الفريقين بأيديهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لكم لا ترمون؟ قالوا
كيف نرمي وأنت معهم؟ فقال ارموا وأنا معكم)
وفى رواية عند ابن حبان والبزار عن أبي هريرة في مثل هذه القصة (وأنا
مع ابن الأدرع وعند الطبراني من حديث حمزة بن عمرو الأسلمي (وأنا مع
محجن بن الأدرع) وفى رواية (وأنا مع جماعتكم) وفى رواية للطبراني: أنهم
قالوا من كنت معه فقد غلب، وكذا في رواية ابن إسحاق)
أما حديث عقبه بن عامر الجهني فقد رواه أحمد ومسلم، ولفظه (سمعت
130

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: واعدوا لهم ما استطعتم من قوة. ألا إن
القوة الرمي، الا ان القوة الرمي، الا ان القوة الرمي. وفيهما عنه رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم (من علم الرمي ثم تركه فليس منا)
وعنه أيضا عند احمد وأصحاب السنن مرفوعا (ان الله يدخل بالسهم الواحد
ثلاثة نفر نفر الجنة، صانعه الذي يحتسب في صنعه الخير، والذي يجهز به في سبيل
الله. والذي يرمى به في سبيل الله. وقال ارموا واركبوا. فان ترموا خير لكم
من أن تركبوا. وقال كل شئ يلهو به ابن آدم باطل الا ثلاثا: رميه عن قوسه
وتأديبه فرسه، وملاعبته أهله، فإنهن من الحق، وفى اسناده خالد بن زيد أو
ابن يزيد فيه مقال.
وقال فيه ابن حجر في التقريب: خالد ابن زيد أو بن يزيد الجهني عن عقبة في
الرمي، مقبول من الثالثة.
قلت: وبقية اسناده ثقات، وقد أخرجه الترمذي وابن ماجة من غير
طريقة. وأخرجه أيضا ابن حبان، وفى رواية أبى داود زيادة (ومن ترك
الرمي بعدما علمه فإنها نعمة تركها)
وفى هذا الأحاديث وغيرها مما سيأتي في موضعه دليل على جواز المسابقة
ومشروعيتها على جعل وعلى غير جعل، فإن كان الجعل من غير المتسابقين كالامام
يجعله للسابق جائزة جاز أو من أحدهما جاز عند الجمهور. وكذا إذا كان معهما
ثالث محلل بشرط ان لا يخرج من عنده شيئا ليخرج العقد عن صورة القمار وعلى
تفصيل سيأتي في موضعه.
وقد وقع الاتفاق على جواز المسابقة بغير عوض لكن قصرها مالك
والشافعي على الخف والحافر والنصل، وخصه بعض العلماء بالخبل. واجازه
عطاء في كل شئ.
وقد حكى عن أبي حنيفة ان عقد المسابقة على مال باطل. وحكى عن مالك
أيضا انه لا يجوز أن يكون العوض من غير الامام، وحكى أيضا عن مالك وابن
الصباغ وابن خيران انه لا يصح بذل المال من جهتهما وان دخل المحلل. وروى
عن أحمد بن حنبل انه لا يجوز السبق على الفيلة، وروى عن أصحابنا انه يجوز
131

على الاقدام مع العوض. وقوله (ضمرت)) لفظ البخاري التي أضمرت والتي لم
تضمر بسكون الضاد المعجمة والمراد به ان تعلف الخيل حتى تسمن وتقوى ثم
يقلل علفها (بقدر القوت) وتدخل بيتا وتغشى بالجلال حتى يحمى فتعرق،
فإذا جف عرقها خف لحمها وقويت على الجري) هكذا في الفتح والنهاية. وزاد
في الصحاح أربعين يوما. وقوله (الحفياء) بفتح فسكون بعد ياء ممدودة وقد
تقصر. وحكى الحازمي تقديم الياء على الفاء، وحكى القاضي عياض ضم أوله
وخطاه. وقوله (ثنية الوداع (1)) من منعطفات الجبال قرب المدينة، وكانوا
يودعون الحاج منها.
وقوله (قعود) بفتح القاف، وهو ما استحق الركوب من الإبل وقال
الجوهري: هو البكر حتى يركب، وأقل ذلك أن يكون ابن سنتين إلى أن يدخل
في السادسة فيسمى جملا. وقال الأزهري: لا يقال الا للذكر، ولا يقال للأنثى
قعودة، وإنما يقال لها قلوص. قال وقد حكى الكسائي في النوادر قعودة للقلوص
وكلام الأكثر على غيره. وقال الخليل بن أحمد: القعود من الإبل ما يقتعده
الراعي لحمل متاعه.
قوله (تسمى العضاء) بفتح العين وسكون الضاد المعجمة ومد. قوله
(وكانت لا تسبق) زاد البخاري: قال حميد: أو لا تكاد تسبق. شك منه وهو
موصول باسناده الحديث المذكور كما قاله ابن حجر. وقوله إن لا يرفع شيئا الخ
فر رواية موسى بن إسماعيل: ان لا يرتفع. وكذلك في رواية للبخاري، وفى

(1) يزعم بعض من لم يرزق نعمة التمحيص والتحقيق أن الرسول صلى الله عليه وسلم
دخل المدينة منها في الهجرة إليها، وقابله أهلها بقولهم (طلع البدر علينا من ثنيات
الوداع) وهذا غير صحيح لأنه صلى الله عليه وسلم إنما دخلها من ثنية بنى النجار
وهذه في الجنوب وتلك في شمال المدينة. وإنما قيلت هذه الأنشودة من جارية
نذرت أن تضرب بين يديه فقال لها: إن كنت نذرت فافعلي، فأخذت تضرب
بالدف بين يديه وهي تغنى بها. هكذا رواها أبو داود وساقها النووي في كتاب
النذور من المجموع، أنها قيلت وهو عائد من غزاة تبوك. ولم يرد أنها
قيلت في الهجرة من طريق معتبر.
132

رواية للنسائي (أن لا يرفع شئ نفسه في الدنيا) ولم اطلع على رواية في طرق
الحديث فيه لفظ (القذر) والله أعلم
فإذا عرف ان السبق والرمي قد ثبتا بالنسبة المستفيضة عرف أيضا انهما ثبتا
بالاجماع، والسبق والرماية عنصران فارهان من عناصر مكونات المرء المسلم
القوى. وقد بلغ من حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يهتم أصحابه رضوان
الله عليهم بهما حرصا جعله يحضر مبارياتهم ويشترك فيها ويحث على حضورها
ويقول صلى الله عليه وسلم (أحضروا الهدف فان الملائكة تحضره، وان بين
الهدفين لروضة من رياض الجنة)
قال الماوردي في الحاوي الكبير: فإذا ثبت جواز السبق والرمي فهو مندوب
إليه ان قصده به أهبة الجهاد، ومباح ان قصد به غيره، لأنه قد يكون عدة للجهاد
ويجوز أخذ العوض في المسابقة والمناضلة منهم ومن السلطان على ما سنصفه.
وحكى عن أبي حنيفة انه منع من اخذ العوض عليه بكل حال، فمن متأخري
أصحابه من أنكره من مذهبه وجعله موافقا.
وقال مالك: ان أخرجه السلطان من بيت المال جاز، وان أخرجه
المتسابقون المتناضلون لم يجز، استدلالا بأمرين (أحدهما) انه اخذ عوض
على لعب فأشبه اخذه على اللهو والصراع (والثاني) انه أخذ مال على غير
بدل فأشبه القمار.
ودليلنا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا سبق الا في خف أو حافر أو
نصل. فلما استثناه في الإباحة دل على اختصاصه بالعوض، ولولا العوض لما
احتاج إلى الاستثناء لجواز جميع الاستباق بغير عوض. اه‍
وقول المصنف: لما روى أنه سئل عثمان رضي الله عنه الخ. يؤخذ على
المصنف فيه أمور:
(أحدها) انه ساق الحديث بقوله روى بصيغة التمريض، والحديث رواه أحمد
في مسنده والدارمي في سننه والدارقطني والبيهقي، ولفظ احمد باسناده إلى أن
س وقيل له (أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أكان رسول الله
133

صلى الله عليه وسلم يراهن؟ قال: نعم والله لقد راهن على فرس يقال له: سبحة
فسبق الناس فبهش (1) لذلك وأعجبه) ورواية الدارمي والدارقطني والبيهقي عن أبي
لبيد قال: اتينا انس بن مالك واخرج نحوه البيهقي من طريق سليمان بن حزم
عن حماد بن زيد أو سعيد بن زيد عن واصل مولى أبى عتبة قال حدثني موسى بن عبيد قال كنا
في الحجر بعدما صلينا الغداة فما اسفرنا إذا فينا عبد الله بن عمر فجعل يستقر بنا
رجلا رجلا ويقول: صليت يا فلان حتى قال: أين صليت يا أبا عبيد؟ فقلت:
ههنا، فقال: بخ لخ، ما يعلم صلاة أفضل عند الله من صلاة الصبح جماعة
يوم الجمعة، فسألوه: أكنتم تراهنون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: نعم، لقد راهن على فرس يقال لها سبحة فجاءت سابقة) ثانيها: أنه قال
سئل عثمان ورواية احمد السؤال كان موجها إلى أنس.
ورواية الدارمي والدارقطني والبيهقي من حديث أبي لبيد قال: اتينا أنس بن
مالك، واخرج نحوه البيهقي من طريق سليمان بن حزم التي أوردناها متصلة
مسندة إلى ابن عمر وليس في شئ منها سئل عثمان رضي الله عنه.
ثالثها. رواية بعض ألفاظ الخبر بالمعنى كقوله. فهش لذلك بحذف الباء،
وقد تكون هذه الأخيرة من أخطاء النساخ أو الطباعين. أما بعد
فإذا صح جواز السبق بعوض وغير عوض فهو بغير عوض من العقود الجائزة
دون اللازمة، وإن كان معقودا على عوض ففي لزومه قولان.
(أحدهما) انه من العقود اللازمة كالإجارة، ليس لواحد منهما فسخه بعد
تمامه الا عن تراض منهما بقسمته، ولا يدخله خيار الثلاث، وفى دخول خيار
المجلس فيه وجهان كالإجارة، فان شرعا في السبق والرمي سقط خيار المجلس فيه
لان الشروع في العمل رضى بالامضاء.
(والقول الثاني) انه من العقود الجائزة دون اللازمة كالجعالة، وبه قال
أبو حنيفة، وبكون كل واحد من المتسابقين قبل الشروع في السبق وبعد الشروع
فيه بالخيار ما لم يستقر السبق وينبرم، فان شرط فيه اللزوم بطل.
.

(1) بهش بالباء الموحدة والشين المعجمة أي هش وفرح
134

فإن قيل بلزومه على القول الأول فدليله شيئان.
(أحدهما) أنه عقد ومن شرط صحته أن يكون معلوم العوض والمعوض،
فوجب أن يكون لازما كالإجارة طردا والجعالة عكسا.
(والثاني) أن ما أفضى إلى إبطال المقصود بالعقد كان ممنوعا منه في العقد،
وبقاء خياره فيه مفض إلى إبطال المقصود به، لأنه إذا توجه السبق على أحدهما
وفسخ لم يتوصل إلى سبق ولم يستحق فيه عوض، والعقد موضوع لاستقراره
واستحقاقه فنافاه الخيار وضاهأه اللزوم.
فإن قيل بجوازه على القول الثاني فدليله شيئان أحدهما أن ما صح من عقود
المعاوضات إذا قابل غير موثوق بالقدرة عليه عند استحقاقه كان من المعقود
الجائزة دون اللازمة كالجعالة طردا، لأنه لا يثق بالغلبة في السبق والرمي كما لا يثق
بوجود الضالة في الجعالة، وعكسه الإجارة، متى لم يثق بصحة العمل منه لم يصح
العقد، والثاني أن ما كان إطلاق العوض فيه موجبا لتعجيل استحقاقه كان جائزا
ولا يكون لازما وحاصل ذلك أن المسابقة إذا كانت بين اثنين أو فريقين لم تخل
إما أن يكون العوض منهما أو من غيرهما نظرت، فإن كان
من الامام جاز سواء كان من ماله أو من بيت المال، لان في ذلك مصلحة وحثا
على تعلم الجهاد ونفعا للمسلمين، وإن كان غير إمام جاز له بذل العوض من ماله،
وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وقال مالك: لا يجوز بذل العوض من غير الامام، لان هذا مما يحتاج إليه
للجهاد، فاختص به الامام كتولية الولايات وتأمير الامراء
ولصحة العقد على السبق بالأعواض خمسة شروط.
(أحدها) التكافؤ فيما يسبقان عليه، وفيما يتكافئان به وجهان، أحدهما:
وهو الظاهر من مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه، أن التكافؤ بالتجانس
فيسابق بين فرسين أو بغلين أو حمارين أو بعيرين ليعلم بعد التجانس أيهما السابق
ولا يجوز أن يسابق بين فرس وبغل، ولا بين حمار وبعير، لان تفاضل الأجناس
135

معلوم، وأنه لا يجرى البغل في شوط الفرس على ما سيأتي قريبا. والوجه الثاني
وهو قول أبي إسحاق المروزي أن التكافؤ في الاستباق غير معتبر بالتجانس.
(والشرط الثاني) الاستباق عليها مركوبة لتنتهي إلى غايتها بتدبير راكبها
فان شرط إرسالها لتجرى مسابقة بأنفسها لم يجز وبط العقد عليها لأنها تتنافر
بالارسال ولا تقف على غاية السبق، وإنما يصح ذلك في الاستباق بالطيور
إذا قيل بجواز الاستباق عليها لما فيه من الهداية إلى قصد الغاية، وأنها لا تتنافر
في طيرانها.
(والشرط الثالث) أن تكون الغاية معلومه لأنها مستحقه في عقد معاوضة
فان وقع العقد على إجراء الفرسين حتى يسبق أحدهما الآخر لم يجز لامرين،
أحدهما: جهالة الغاية. والثاني: لأنه يفضى ذلك لاجرائهما حتى يعطبا ويتلفا.
(والشرط الرابع) أن تكون الغاية التي يمتد إليها شوطهما يحتملها الفرسان
ولا ينقطعان فيها، فان طالت عن انتهاء الفرسين إليها الا عن انقطاع وعطب
بطل العقد لتحريم ما أفضى إلى ذلك.
(والشرط الخامس) أن يكون العوض فيه معلوما كالأجور والأثمان ن فان
أخرجه غير المتسابقيه جاز أن يتساويا فيه ويتفاضلا، لان الباذل للسبق مخير
بين القليل والكثير، فجاز أن يكون مخير بين التساوي في التفضيل، ويجوز أن
يتماثل جنس العوضين وان لم يختلف.
قال الشافعي رضي الله عنه: والاسباق ثلاثة سبق يعطيه الوالي أو الرجل
غير الوالي من ماله متطوعا به، وذلك مثل أن يسبق بين الخيل من غاية إلى غاية
فيجعل للسابق شيئا معلوما وان شاء جعل للمصلى، والثالث والرابع والذي يليه بقدر
ما رأى، فما جعل لهم كان على ما جعل لهم، وكان مأجورا عليه أن يؤدى فيه
وحلالا لمن أخذه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتجوز المسابقة على الخيل والإبل بعوض، لما روى أبو هريرة
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا سبق الا في نصل أو خف أو حافر) ولان
136

الخيل تقاتل عليها العرب والعجم والإبل تقاتل عليها العرب فجازت المسابقة عليها بالعوض
واختلف قوله في البغل والحمار، فقال في أحد القولين تجوز المسابقة عليهما بعوض
لحديث أبي هريرة، ولأنه ذو حافر أهل فجازت المسابقة عليهما بعوض كالخيل
(والثاني) لا تجوز لأنه لا يصلح للكر والفر، فأشبه البقر
واختلف أصحابنا في المسابقة على الفيل بعوض، فمنهم من قال: لا تجوز،
لأنه لا يصلح للكر والفر. ومنهم من قال: تجوز لحديث أبي هريرة، ولأنه
ذو خف يقاتل عليه فأشبه الإبل.
واختلفوا في المسابقة على الحمام، فمنهم من قال لا تجوز المسابقة عليها بعوض
وهو المنصوص لحديث أبي هريرة، ولأنه ليس من آلات الحرب فلم تجز المسابقة
عليه بعوض، ومنهم من قال تجوز لأنه يستعان به على الحرب في حمل الاخبار
فجازت المسابقة عليه بعوض كالخيل.
واختلفوا في سفن الحرب كالزبازب والشذوات، فمنهم من قال تجوز، وهو
قول أبى العباس، لأنها في قتال الماء كالخيل في قتال الأرض، ومنهم من قال
لا تجوز، لان سبقها بالملاح لا بمن يقاتل فيها
واختلفوا في المسابقة على الاقدام بعوض، فمنهم من قال تجوز لان الاقدام
في قتال الرجالة كالخيل في قتال الفرسان، ومنهم من قال لا تجوز، وهو
المنصوص لحديث أبي هريرة، ولان المسابقة بعوض أجيزت ليتعلم بها ما يستعان
به في الجهاد، والمشي بالاقدام لا يحتاج إلى التعلم
واختلفوا في الصراع، فمنهم من قال يجوز بعوض، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
صارع يزيد بن ركانة على شاء فصرعه، ثم عاد فصرعه، ثم عاد فصرعه، فأسلم
ورد عليه الغنم.
ومنهم من قال: لا يجوز. وهو المنصوص لحديث أبي هريرة، ولأنه ليس
من آلات القتال.
وحديث يزيد بن ركانة محمول على أنه فعل ذلك ليسلم، ولأنه لما أسلم رد
عليه ما أخذ منه.
137

(الشرح) حديث أبي هريرة أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجة، ولم يذكر فيه ابن ماجة: أو نصل، وأخرجه أيضا الشافعي والحاكم
من طرق وصححه ابن القطان وابن حبان وابن دقيق العبد، وحسنه الترمذي
وأعله يحيى بن سعيد القطان بالوقف، ورواه الطبراني وأبو الشيخ من حديث
ابن عباس. وأما حديث يزيد بن ركانة فقد رواه أبو داود بلفظ (عن محمد بن
علي بن ركانة أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم) وفى إسناده أبو الحسن
العسقلاني وهو مجهول. وأخرجه أيضا الترمذي من حديث العسقلاني أيضا عن أبي
جعفر محمد بن ركانة وقال: غريب وليس إسناده بالقائم.
وروى أبو داود في المراسيل عن سعيد بن جبير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالبطحاء فأتى عليه يزيد بن ركانة أو ركانة بن يزيد ومعه عير له فقال له: يا محمد
هل لك أن تصارعني؟ فقال ما تسبقني أي ما تجعله لي من السبق قال:
شاة من غنمي، فصارعه فصرعه فأخذ الشاة، فقال ركانة: هل لك في العود؟
ففعل ذلك مرارا، فقال يا محمد ما وضع جنبي أحد إلى الأرض، وما أنت بالذي
تصرعني فأسلم ورد النبي صلى الله عليه وسلم عليه غنمه
قال الحافظ بن حجر: إسناده صحيح إلى سعيد بن جبير إلا أن سعيدا لم
يدرك ركانة، قال البيهقي وروى موصولا
وفى كتاب السبق لأبي الشيخ من رواية عبيد الله بن يزيد المصري عن حماد
عن عمر بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس مطولا. ورواه أبو نعيم
في معرفة الصحابة من حديث أبي أمامة مطولا، وإسنادهما ضعيف
وروى عبد الرزاق عن معمر عن يزيد بن أبي زياد، وأحسبه عن عبد الله
ابن الحارث قال (صارع النبي صلى الله عليه وسلم أبا ركانة في الجاهلية وكان
شديدا ن فقال شاة بشاة، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عاودني في
أخرى، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال عاودني، فصرعه صلى الله عليه
وسلم الثالثة، فقال أبو ركانة: ماذا أقول لأهلي؟ شاة أكلها ذئب! وشاة نشزت
فما أقول في الثالثة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنا لنجمع عليك أن نصرعك فنغرمك
خذ غنمك) هكذا وقع فيه: أبو ركانة والصواب ركانه.
138

أما ألفاظ الفصل فقوله: لا سبق هو بفتح الباء. المال الذي يسابق عليه،
والنصل هو السهم، والخف للإبل، والحافر للفرس والبغل والحمار، الظلف
لسائر البهائم، والمخلب للطير، وقوله كالزبازب جمع زبزب نوع من السفن منها
الصغير والكبير والأول سريع خفيف، وكذلك الشذوات وكلا اللفظين أعجمي
أما الأحكام فقد فسر الشافعي رضي الله عنه حديث أبي هريرة بقوله:
والخف الإبل والحافر الخيل والنصل كل سهم أو ما يشابهه. وقال في موضع ان
الحافر الخيل والبغال والحمير لأنها تركب للجهاد كالإبل ويلقى عليها العدو كالخيل
وقد شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حرب هوازن على بغلته الشهباء فصار في
الحافر قولان.
فأما النصل فالمراد به السهم المرمى به عن قوس، وإن كان النصل اسما لحديدة
السهم فالمراد جميع السهم، فهذه الثلاثة هي التي نص عليها النبي صلى الله عليه وسلم
في جواز السبق بها، فاختلف قول الشافعي فيها فقال: يحتمل معنيين. أحدهما
أنها رخصة مستثناة من جمله محظورة لأنه أخرج باستثنائه ما خالف حكم أصله،
فعلى هذا لا يجوز أن يقاس على هذه الثلاثة غيرها، ويكون السبق مقصورا على
التي تضمنها الخبر وهي الخف، والخف الإبل وحدها والحافر وفيه قولان.
(أحدهما) الخيل وحدها (والثاني) الخيل والبغال والحمير، والنصل وهو السهام
ويكون السبق بما عداها محظورا.
والقول الثاني في المعنيين أن النص على الثلاثة أصل مبتدأ ورد الشرع ببيانه
وليس بمستثنى، وان خرج مخرج الاستثناء لان المراد به التوكيد دون الاستثناء
فعلى هذا يقاس على كل واحد من الثلاثة ما كان في معناها كما قيس على الستة في
الربا ما وافق معناها، وعليه يكون التفريع، فيقاس على الخف السبق بالفيلة
لأنها ذوات أخفاف كالإبل، وهي في ملاقاة العدو أنكى من الإبل.
وهل يقاس عليها السبق بالسفن والطيارات البحرية التي أطلقوا عليها الزبازب
والشذوات أم لا؟ على وجهين.
139

(أحدهما) وهو قول ابن سريج يجوز السبق عليها لأنها معدة لجهاد العدو في
البحر وحمل ثقله كالإبل في البر.
(والوجه الثاني) لا يجوز السبق عليها لان سبقها بقوة ملاحها دون المقاتل
فيها، فأما بالزواريق الكبار والمراكب الثقال التي لم تجر العادة في لقاء
العدو بمثلها فغير جائز على الوجهين معا هكذا أفاده الماوردي في الحاوي، فأما
كون الحافر بالخيل والبغال والحمير نصا في أحد القولين لا نقلا من اسم الحافر
عليها وقياسا في القول الثاني لأنها ذوات حوافر كالخيل وفى معناها، واختلف
أصحابنا هل يقاس عليها السبق بالاقدام أم لا؟ على وجهين.
(أحدهما) وبه قال أبو حنيفة: تجوز المسابقة بالاقدام بعوض وبغير عوض
لان رسول الله صلى الله عليه وسلم استبق هو وعائشة على أقدامهما، ولان السعي
من قتال الرجالة كالخيل في قتال الفرسان.
والوجه الثاني وهو الظاهر من مذهب الشافعي أن المسابقة بالاقدام لا تجوز
مطلقا عند الماوردي في الحاوي ويشمل ما كان بغير عوض أو بعوض لأنه سبق
على فعلها من غير آلة فأشبه الطفرة والوثبة، ولان السبق على ما يستفاد بالتعليم
ليكون باعثا على معاطاته، والسعي لا يستفاد بالتعليم، وقيد المصنف عدم
الجواز على المذهب والمنصوص أنه ما كان بعوض.
قال الماوردي: فعلى هذا ان قيل: إن المسابقة بالاقدام لا تجوز فالمسابقة
بالسباحة أولى أن لا تجوز، وان قيل بجوازها على الاقدام ففي جوازها بالسباحة
وجهان (أحدهما) تجوز كالاقدام لان أحدهما على الأرض والآخر في الماء.
(والوجه الثاني) أنها لا تجوز بالسباحة وان جازت بالاقدام لأن الماء مؤثر
في السباحة والأرض غير مؤثرة في السعي أه‍. وهذا كلام من لا يعرف قواعد
السباحة وكونها علما ومهارة ولها قواعد لا تتأتى الا بالتعلم والتمرس مع لياقة البدن
وقوته حتى تكون المهارة والتفوق والسبق.
وقد تطورت أسباب الاعداد للجهاد فكان منها الضفادع البشرية الذين
يغوصون في أعماق البحار ليدمروا السفن الحربية وقلاع الثغور، وهي أنكى
140

على الأعداء من ركوب الخيل والحمير. ولولا مهارة عساكر الاسلام وجند
القرآن في علوم البحار وأولها إتقان السباحة ما تسنى للصحابة أن ينتصروا على
الروم في معركة ذات الصواري في الإسكندرية ولا طرقوا بأيديهم القوية أبواب
القسطنطينية على عهد معاوية وكانت قيادة الأسطول لولده يزيد.
وأما السبق بالصراع أو المصارعة فقد كانت تقوم عند السلف على قوة البدن
وعلى إحسان القبض على الخصم وإلقائه أرضا وهي في زماننا هذا تقوم على أضرب
منها الحرة والرومانية واليابانية، ولكل نوع منها أسلوبه في صرع الخصم، وهي
تهدف جميعا إلى إحسان القبض على الخصم وإجباره على أن يتخذ وضعا ببدنه
يعجز معه عن المقاومة.
وقد اختلف أصحابنا في السبق بالصراع على وجهين:
(أحدهما) وهو مذهب أبي حنيفة أنه جائز لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه خرج
إلى الأبطح في قصة يزيد بن ركانة، وقد مضى تخريج طرقها وبيان وجه الحق فيها
وهي روايات بمجموعها وإن لم يصح منها واحدة إلا أنها تنهض للاحتجاج.
والوجه الثاني وهو ظاهر مذهب الشافعي، والمنصوص عنه أنه لا يجوز،
فالسبق على المشابكة بالأيدي لا تجوز. وإن قيل بجوازه في الصراع ففي جوازه
بالمشابكة وجهان كالسباحة.
ومنها اختلاف أصحابنا في السبق بالحمام وجهان، وهو نوع من الحمام الذكي
الصبور الذي يعبر البحار ويقطع الفيافي والقفار حتى يصل إلى غايته بسرعة فائقة
يحمل الاخبار والكتب، وكان لأمراء الاسلام وقواد الجيوش أبراج لتلقى هذه
الحمائم فيفضون كتبها بأنفسهم، فمن جيش يطلب النجدة إلى قائد يعلن هزيمة
عدوه، فكان لهذا الحمام أثره وفعله، وهو سلاح من أسلحة الجيوش كالبرق
وسلاح الإشارة، فالوجه الأول يجوز لأنها تؤدى أخبار المجاهدين بسرعة.
والوجه الثاني: لا يجوز لأنها لا تؤثر في جهاد العدو. وأما السبق بنطاح الكباش
ونقار الديكة، فهو أسفه أنواع السبق وهو باطل لا يختلف أحد من أهل العلم
في عدم جوازه. والله أعلم بالصواب
141

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتجوز المسابقة بعوض على الرمي بالنشاب والنبل، وكل ماله نصل
يرمى به كالحراب والرانات لحديث أبي هريرة، ولأنه يحتاج إلى تعلمه في الحرب
فجاز أخذ العوض عليه، ويجوز على رمى الأحجار عن المقلاع، لأنه سلاح
يرمى به فهو كالنشاب وأما الرمح والسيف والعمود ففيه وجهان، أحدهما تجوز
المسابقة عليها بعوض لأنه سلاح يقاتل به فأشبه النشاب، والثاني لا تجوز لان
القصد بالمسابقة التحريض على تعلم ما يعد للحرب، والمسابقة بهذه الآلات محاربة
لا مسابقة، فلم تجز لسبق على أن يرمى بعضهم بعضا بالسهم
(فصل) وأما كرة الصولجان ومداحاة الأحجار ورفعها من الأرض،
والمشابكة والسباحة واللعب بالخاتم والوقوف على رجل واحدة وغير ذلك من
اللعب الذي لا يستعان به على الحرب، فلا تجوز المسابقة عليها بعوض، لأنه
لا يعد للحرب، فكان أخذ العوض فيه من أكل المال بالباطل.
(فصل) وإن كانت المسابقة على مركوبين فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم
من قال لا تجوز الا على مركوبين من جنس واحد كالفرسين والبعيرين، فإن
سابق بين فرس وبعير أو فرس وبغل لم يجز لان تفاضل الجنسين معلوم، وأنه
لا يجرى البغل في شروط الفرس كما قال الشاعر:
إن المذرع لا تغنى خؤولته كالبغل يعجز عن شوط المحاضير
ويجوز أن يسابق بين العتيق والهجين، لان العتيق في أول شوطه أحد وفى
آخره ألين، والهجين في أول شوطه ألين وفى آخره أحد. فربما صارا عند الغاية
متكافئين. ومنهم من قال، وهو قول أبي إسحاق انه يعتبر التكافؤ بالتقارب في
السبق، فإن تقارب جنسان كالبغل والحمار جاز، لأنه يجوز أن يكون كل واحد
منهما سابقا والآخر مسبوقا، وإن تباعد نوعان من جنس كالهجين والعتيق والبختي
والنجيب لم يجز، لأنه يعلم أن أحدهما لا يجرى في شوط الآخر. قال الشاعر:
إن البراذين إذا أجريتها مع العتاق ساعة أعنيتها، فلا معنى للعقد عليه
(فصل) ولا تجوز إلا على مركوبين معينين لان القصد معرفة جوهرهما،
ولا يعرف ذلك إلا بالتعيين.
142

(الشرح) السلاح نوعان نوع يفارق اليد ونوع لا يفارق اليد، فكل سلاح
فارق يد صاحبه كالسهام والحراب ومقاليع الأحجار وقسى البندق ورصاصة فهو
جائز بالاتفاق، أما ما لا يفارق يد صاحبه من السيوف والرماح والأعمدة فقد
اختلف أصحابنا فيها على وجهين.
أحدهما: يجوز كالمفارق ليده، لان جهاد العدو بها.
والوجه الثاني: لا يجوز، لأنه يكون بذلك محاربا لا مسابقا، فأما السبق
بالمداحي وأكرة الصولجان وما ذكره المصنف من أنواع اللعب فعلى الوجه الذي
ذكره المصنف لا وجه غيره، وفرق الماوردي بين السبق بالمداحي وهي إحداث
حفرة يلقون بأحجار مستديرة فيها فمن وقع حجره فيها فقد قمر وبين الدحو بالحجر
الثقيل أو رفعه من الأرض لاختبار القوة والارتياض بها وهو في رياضة
حمل الأثقال فيكون السبق عليه كالسبق على الصراع فيكون على وجهين.
(فرع) عرفت فيما أسلفنا في الفصل قبلة أن لصحة السبق على الأعواض
المبذولة خمسة شروط.
أحدها: التكافؤ فيما يسبقان عليه وفيما يتكافئان به وجهان، أحدهما: وهو
الظاهر من المذهب وما عليه جمهور الأصحاب أن التكافؤ بالتجانس، فيسابق بين
فرسين أو بغلين أو حمارين أو بعيرين ليعلم بعد التجانس أيهما السابق، ولا يجوز
أن يسابق بين فرس وبغل، ولا بين حمار وبعير، لان تفاضل الأجناس معلوم،
وأنه لا يجرى البغل في شوط الفرس كما قال الشاعر في البيت الذي ساقه المصنف
والمذرع وهو الذي أمه أشرف من أبيه كما يقول الفرزدق:
إذا باهلي عنده حنظلية * له ولد منها فذاك المذرع
وإنما سمى البغل مذرعا بالعلامتين المستديرتين السوداوين في ذراعيه الأماميتين
ورثهما من الحمار، والمحاضير السريعة العدو واحدها محضار، والعتيق عربي
الأبوين، والهجين عربي الأب أعجمي الام، والبختي إبل بطيئة العدو، والنجيب
الحسن الخلق السريع وانجبته استخلصته، ولكن يجوز السبق بين عتاق الخيل
143

وهجانها لان جميعها جنس، والعتيق في أول الشوط أحد من الهجين، والهجين
في أول الشوط ألين وفى آخره أحد فربما صار عند الغاية متكافئين، وهذا وجه
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق المروزي: أن التكافؤ في الاستباق غير معتبر
بالتجانس، وإنما هو معتبر بأن يكون كل واحد من المستبقين يجوز أن يكون سابقا
ويجوز أن يكون مسبوقا، فإن جوز ذلك بين فرس وبغل أو بين بعير وحمار جاز
السبق بينهما، وإن علم يقينا أن أحدهما يسبق الآخر عند الاختيار لم يجز السبق
بينهما، ولو علم ذلك بين فرسين عتيق وهجين، أو بين بعيرين عربي وبختي لم يجز
السبق بينهما، وكذلك لو اتفق الفرسان في الجنس، واختلفا في القوة والضعف
فيمنع من الاستباق بينهما وهما من جنس واحد، وتجوز بينهما وهما من جنسين
مختلفين اعتبارا بالجواهر دون التجانس.
والشرط الثاني من الشروط الخمسة: الاستباق عليها مركوبة لتنتهي إلى غايتها
بتدبير راكبها، فإن شرط إرسالها لتجرى مسابقة بأنفسها لم يجز، وبطل العقد
عليها لأنها تتنافر بالارسال، ولا تقف على غاية السبق، وإنما يصح ذلك في
الاستباق بالطيور - إذا قيل بجواز الاستباق عليها لما فيه من الهداية إلى
قصد الغاية وانها لا تتنافر في طيرانها، وبقية الشروط مضى ذكرها إجمالا،
والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا تجوز إلا على مسافة معلومة الابتداء والانتهاء لحديث
ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سابق بين الخيل المضمرة من
الحفياء إلى ثنية الوداع وما لم يضمر منها من ثنية الوداع إلى مسجد بنى زريق،
ولأنهما إذا تسابقا على إجراء الفرسين حتى يسبق أحدهما الآخر إلى غير غاية لم
يؤمن أن لا يسبق أحدهما الاخر إلى أن يعطبا، ولا يجوز أن يكون اجراؤه الا
بتدبير الراكب لأنهما إذا جريا لأنفسهما تنافرا ولم يقفا على الغاية، وان تسابقا
على أن من سبق صاحبه بخمسة أقدام فأكثر كان السبق له، فقد قال أبو علي
الطبري في الافصاح: يجوز ذلك عندي لأنهما يتحاطان ما تساويا فيه، وينفرد
144

أحدهما بالقدر الذي شرطه، فجاز كما يجوز في الرمي أن يتناضلا على أن يتحاطا
ما تساويا فيه، ويفضل لأحدهما عدد. قال أبو علي الطبري: ورأيت من أصحابنا
من منع ذلك وأبطله ولا أعرف له وجها.
(فصل) وإن كان المخرج للسبق هو السلطان أو رجل من الرعية لم يخل
إما أن يجعله للسابق منهم أو لبعضهم أو لجميعهم، فإن جعله للسابق بأن قال: من
سبق منكم فله عشرة جاز، لأنه يجتهد كل واحد منهم أن يكون هو السابق ليأخذ
السبق فيحصل المقصود، فإن سبق واحد منهم استحق العشرة لأنه سبق، وإن
سبق اثنان أو ثلاثة وجاءوا مكانا واحدا اشتركوا في العشرة لأنهم اشتركوا في
السبق، فإن جاءوا كلهم مكانا واحدا لم يستحق واحد منهم لأنه لم يسبق منهم
أحد، وإن جعله لبعضهم بأن جعله للمجلى والمصلى ولم يجعل للباقي جاز، لان
كل واحد منهم يجتهد أن يكون هو المجلى أو المصلى ليأخذ السبق فيحصل المقصود
وإن جعله لجميعهم نظرت، فإن سوى بينهم بأن قال: من جاء منكم إلى الغابة فله
عشرة لم يصح، لان القصد من بذلك العوض هو التحريض على المسابقة وتعلم
الفروسية، فإذا سوى بين الجميع عليم كل واحد منهم أنه يستحق السبق تقدم أو
تأخر فلا يجتهد في المسابقة فيبطل المقصود
وإن شرط للجميع وفاضل بينهم بأن قال للمجلى وهو الأول مائة، وللمصلى
وهو الثاني خمسون، وللتالي وهو الثالث أربعون، وللبارع وهو الرابع ثلاثون
وللمرتاح وهو الخامس عشرون، وللحظى وهو السادس خمسة عشر، وللعاطف
وهو السابع عشرة، وللرمل وهو الثامن ثمانية، وللطيم وهو التاسع خمسة.
وللسكيت وهو العاشر درهم، وللفسكل وهو الذي يجئ بعد الكل نصف درهم
ففيه وجهان (أحدهما يجوز لان كل واحد منهم يجتهد ليأخذ الأكثر (والثاني)
لا يجوز لان كل واحد منهم يعلم أنه لا يخلوا من شئ تقدم أو تأخر، فلا يجتهد
في المسابقة، وان جعل للأول عشرة وللثالث خمسه وللرابع أربعة ولم يجعل
للثاني شيئا ففيه وجهان (أحدهما) يصح ويقوم الثالث مقام الثاني. والرابع مقام
الثالث، لان الثاني بخروجه من السبق يجعل كان لم يكن (والثاني) انه يبطل،
لأنه فضل الثالث والرابع على من سبقهما.
145

(الشرح) حديث ابن عمر مضى تخريجه في أول هذه الفصول وشرحنا غريبه
وطريقة. اما الأحكام فإنه يشترط في المسابقة بالحيوان تحديد المسافة وأن يكون
لابتداء عدوهما واخره غاية لا يختلفان فيها، لان الغرض معرفة أسبقهما،
ولا يعلم ذلك الا بتساويهما في الغاية، ولان أحدهما قد يكون مقصرا في أول
عدوه سريعا في انتهائه. وقد يكون عكس ذلك فيحتاج إلى غاية تجمع حاليه أو
أحواله. ومن الخيل ما هو أصبر والقارح أصبر من غيره
وقد روى أبو داود في سننه عن ابن عمر رضي الله عنه ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم (سبق بين الخيل وفضل القرح في الغاية) وسبق بين الخيل
المضمرة من الحفياء إلى ثنية الوداع، وذلك ستة أميال أو سبعة، وبين التي لم
تضمر من الثنية إلى مسجد بنى زريق، وذلك ميل أو نحوه.
فان استيفاء بغير غاية لينظرا أيهما يقف أولا لم يجز، لأنه يؤدى إلى أن
لا يقف أحدهما حتى ينقطع فرسه ويتعذر الاشهاد على السبق فيه
ويشترط في المسابقة إرسال الفرسين أو البعيرين دفعة واحدة، فان ارسل
أحدهما قبل الاخر أو لا لم يجز هذا في المسابقة بعوض
لأنه قد لا يدركه مع كونه أسرع منه لبعد ما بينهما، ويكون عند أول
المسافة من يشاهد ارسالهما ويرتبهما، وعند الغاية من يضبط السابق منهما لئلا
يختلفا في ذلك.
وقول الشافعي: الاسباق جمع سبق - بفتح الباء - وهو العوض المخرج في
المسابقة - وهو باسكان الباء - مصدر سبق من المسابقة
اما السبق الأول الذي يراه الشافعي، وهو الذي يخرجه غير المتسابقين
فيجوز، سواء أخرجه الامام من بيت المال أو أخرجه غير الامام من ماله.
وكلام مالك من عدم جوازه لغير الامام فاسد من وجهين (أحدهما) ان ما فيه
معونة على الجهاد جاز ان يفعله غير الأئمة كارتباط الخيل واعداد السلاح.
(والثاني) ان ما جاز أن يخرجه الامام من بيت مال المسلمين جاز ان يتطوع
به كل واحد من المسلمين كبناء المساجد والقناطر
فإذا صح جوازه جاز أن يختص به السابق وحده دون غيره، كقول الباذل
146

إذا كان المتسابقون عشرة فقد جعلت للسباق منكم عشرة وهذا جائز، فأيهم جاء
سابقا لجماعتهم استحق العشرة كلها ولا شئ لمن بعده، وإن كانوا متفاضلين،
في السبق، فلو سبق اثنان من الجماعة فجاءا معا وتأخر الباقون اشترك الاثنان
في العشرة لتساويهما في السبق فاستويا في الاخذ، ولو سبق خمسة اشتركوا في
الاخذ كذلك. ولو سبق تسعة وتأخر واحد اشتركوا في العشرة دون المتأخر
منهم، ولو جاءوا جميعا غرضا واحدا لم يتأخر عنهم واحد منهم فلا شئ لهم لأنه
ليس فيهم سابق ولا مسبوق.
والقسم الثاني: ان يبذله لجماعة منهم ولا يبذله لجميعهم، كان بذل الأول
عوضا والثاني عوضا ولكل واحد منهم في اللغة إذا تقدم على غيره خاص.
فيقال للسابق الأول المجلى والثاني المصلى والثالث التالي والرابع البارع والخامس
المرتاح والسادس الحظى والسابع العاطف والثامن المؤمل والتاسع الطيم والعاشر
السكيت، وليس لما بعد العاشر اسم، الا الذي يجئ آخر الخيل كلها،
ويقال له الفسكل.
قال الجاحظ: كانت العرب تعد السوابق ثمانية ولا تجعل لما جاوزها حظا،
فأولها السابق ثم المصلى ثم المقفى ثم التالي ثم العاطف ثم المذمر ثم البارع ثم اللطيم.
قال الثعالبي: وكانت العرب تلطم الاخر إن كان له حظ.
وقال أبو عكرمة: أخبرنا ابن قادم معن الفراء انه ذكر في السوابق عشرة
أسماء لم يحكها أحد غيره وهي: السابق ثم المصلى ثم المسلى ثم التالي ثم المرتاح ثم
العاطف ثم الحظى ثم المؤمل ثم اللطيم ثم السكيت.
وقد جاء في الحاوي الكبير للماوردي هذه الأسماء التي ذكرها المصنف مع
جعل المؤمل بدل المرمل، وهو ما يوافق رواية الفراء هنا، فإذا بذل لبعض
دون بعض فعلى ضربين:
(أحدهما) ان يفاضل بين السابق والمسبوق فيجعل للأول الذي هو المجلى
- وقد اشتق اسمه من الجلاء - قال أبى بطال: قال المطرزي: يحتمل أن يكون
من جلاء الهموم - عشرة، ويجعل للثاني الذي هو المصلى - لان جفلته على
صلى السابق وهي منخره، والصلوان عظمان عن يمين الذنب وشماله - تسعة،
147

والثالث الذي هو التالي - أي التابع - خمسة والرابع الذي هو البارع - أي الفائق
كما يقال لمن فاق أصحابه في العلم: بارع - أربعة، والخامس الذي هو المرتاح - من
راح يراح راحة إذا فحلا أو إذا نشط وجف - ثلاثة، فان هذا جائز لأنه قد منع
المسبوقين وفاضل بين السابقين فحصل التحريض في طلب التفاضل وخشبة المنع
ويتفرع على هذا ان يجعل للسابق عشرة، وللمصلى خمسة ولا يجعل لمن بعدهم
شيئا فيكون السابق أو المجلى خمسة والمصلى واحدا الخمسة السابقين بالعشرة لكل
واحد درهمان وينفرد المصلى بالخمسة وان صار بها أفضل من السابقين لأنه اخذ
الزيادة لتفرده، بدرجته، ولم يأخذ لتفضيل أصل درجته، وقد كان يجوز ان
يشاركه غيره في درجته فيقل سهمه عن سهم من بعده.
ثم على هذا القياس إذا جعل للثاني شيئا ثالثا فحصل في كل درجة انفراد أو
اشتراك وجب ان يختص المنفرد بسبق درجته، ويشترك المشتركون
بسبق درجتهم.
والضرب الثاني: ان يستوي فيهم بين سابق ومسبوق، كأنه يجعل للسابق
عشرة وللمصلى عشرة وفاضل بين بقية الخمسة. وهذا جائز لان مقتضى التحريض
ان يفاضل بين السابق والمسبوق، فإذا تساويا فيه بطل مقصوده فلم يجز، وكان
السبق في حق المصلى الذي سوى بينه وبين سابقه باطلا، ولم يبطل في حق الأول
بطلانه في حق من عداه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في الذي بطل السبق
في حقه هل يستحق على الباذل اجرة مثله أم لا؟ على وجهين
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق المروزي انه لا اجرة له على الباذل، لان
منعه عائد عليه لا على الباذل. فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده باطلا لأنه
يجوز ان يفضلوا به على من سبقهم.
والوجه الثاني هو قول أبى على الطبري انه له على الباذل اجرة مثله لان من
استحق المسمى في العقد الصحيح استحق أجرة المثل في العقد الفاسد اعتبارا بكل
واحد من عقدي الإجارة والجعالة.
148

فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده صحيحا، ولكل واحد منهم ما سمى
له، وإن كان أكثر من اجرة من بطل السبق في حقه، لأنه لا يجوز ان يفضلوا
عليه إذا كان مستحقا بالعقد. وهذا مستحق بغيره
ويتفرع على هذا إذا جعل للأول عشرة ولم يجعل للثاني شيئا، وجعل للثالث
خمسة وللرابع ثلاثة ولم يجعل بعدهم شيئا، فالثاني خارج من السبق لخروجه من
البدل. وفى قيام من بعده مقامه وجهان:
(أحدهما) يقوم الثالث مقام الثاني، ويقوم الرابع مقام الثالث لأنه يصير
وجوده بالخروج من السبق كعدمه، فعلى هذا يصح السبق فيها بالمسمى
لهما بعد الأول.
والوجه الثاني: انهم يترتبون على التسمية ولا يكون خروج الثاني منهم
بالحكم مخرجا له من البدل. فعلى هذا يكون السبق فيهما باطلا لتفضيلهما على
السابق لهما، وهل يكون لهما اجرة مثلهما أم لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين:
والقسم الثالث: ان يبذل العوض لجماعتهم ولا يخلى اخرهم من عوض فينظر
فان سوى فيهم بين سابق ومسبوق كان السبق باطلا. وكان الحكم فيه على ما قدمنا
وان لم يساو بين السابق والمسبوق، وفضل كل سابق على كل مسبوق حتى يجعل
متأخرهم أقلهم سهما ففي السبق وجهان:
(أحدهما) انه جائز اعتبارا بالتفضيل في السبق، فعلى هذا يأخذ كل واحد
منهم ما سمى له.
والوجه الثاني: ان السبق باطل لأنهم قد تكافأوا في الاخذ وان تفاضلوا
فيه، فعلى هذا هل يكون باطلا في حق الاخر وحده؟ فيه وجهان:
(أحدهما) انه باطل في حقه وحده لان بالتسمية له فسد السبق
والوجه الثاني: أن يكون باطلا في حقوق جماعتهم، لان أول العقد مرتبط
بآخره، وهل يستحق كل واحد منهم اجرة مثله أم لا؟ على الوجهين المذكورين
فهذا حكم السبق الأول.
149

قال المصنف رحمه الله:
(فصل) فإن كان المخرج للسبق هما المتسابقان نظرت، فإن كان معهما محلل
وهو ثالث على فرس كفء لفرسيهما صح العقد، وان لم يكن معهما محلل فالعقد
باطل لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من ادخل
فرسا بين فرسين وهو لا يامن أن يسبق فلا باس ومن ادخل فرسا بين فرسين
وقد امن أن يسبق فهو قمار) ولان مع المحلل لا يكون قمارا، لان فيهم من يأخذ
إذا سبق ولا يعطى إذا سبق وهو المحلل، ومع عدم المحلل ليس فيهم الا من
يأخذ إذا سبق، ويعطى إذا سبق، وذلك قمار، وإن كان المحلل اثنين أو أكثر
جاز، لان ذلك أبعد من القمار، وإن كانت المسابقة بين حزبين كان حكمهما في
المحلل حكم الرجلين، لان القصد من دخول المحلل الخروج من القمار، وذلك
يحصل بالمحلل الواحد مع قلة العدد وكثرته.
واختلف أصحابنا في دخول المحلل فذهب أكثرهم إلى أن دخول المحلل لتحليل
السبق لكل من سبق منهم، وذهب أبو علي بن خيران إلى أن دخوله لتحليل
السبق لنفسه وان يأخذ إذا سبق، ولا يأخذان إذا سبقا، لأنا لو قلنا: إنهما إذا
سبقا أخذا حصل فيهم من يأخذ مرة ويعطى مرة، وهذا قمار، والمذهب الأول
لأنا بينا ان بدخول المحلل خرجا من القمار، لان في القمار ليس فيهم الا من
يعطى مرة ويأخذ مرة، وبدخول المحلل قد حصل فيهم من يأخذ ولا يعطى فلم
يكن قمارا، فان تسابقوا نظرت فان انتهوا إلى الغاية معا أحرز كل واحد منهما
سبقه لأنه لم يسبقه أحد، ولم يكن للمحلل شئ لأنه لم يسبق واحدا منهما، وان
سبق المخرجان أحرز كل واحد منها سبقه لأنهما تساويا في السبق ولا شئ للمحلل
لأنه مسبوق، وان سبقهما المحلل اخذ سبقهما لأنه سبقهما، وان سبق أحد
المخرجين وتأخر المحلل والمخرج الاخر أحرز السابق سبق نفسه.
وفى سبق المسبوق وجهان المذهب انه للسابق المخرج لأنه انفرد بالسبق،
وعلى مذهب ابن خير أن يكون سبق المسبوق لنفسه لأنه لا يستحقه السابق المخرج
150

على قوله ولا يستحقه المحلل لأنه لم يسبق، وان سبق المحلل واحد المخرجين أحرز
السابق سبق نفسه، وفى سبق المسبوق وجهان المذهب انه بين المخرج السابق
والمحلل، وعلى مذهب ابن خير أن يكون سبقه للمحلل، وان سبق أحد المخرجين
ثم جاء المحلل ثم جاء المخرج الاخر ففيه وجهان المذهب ان سبق المسبوق للمخرج
السابق بسبقه، وعلى مذهب ابن خير أن يكون للمحلل دون السابق، وان سبق
أحد المخرجين ثم جاء المخرج الثاني، ثم جاء المحلل ففيه وجهان المذهب ان سبق
المسبوق للسابق، وعلى مذهب ابن خير أن يكون للمسبوق لان المخرج السابق
لا يستحقه والمحلل لم يسبق فبقي على ملك صاحبه.
(فصل) وإن كان المخرج للسبق أحدهما جاز من غير محلل لان فيهم من
يأخذ ولا يعطى وهو الذي لم يخرج فصار كما لو كان السبق منهما وبينهما محلل،
فان تسابقا فسبق المخرج أحرز السبق، وان سبق الاخر اخذ سبقه وان جاءا معا
أحرز المخرج السبق لأنه لم يسبقه الاخر.
(الشرح) حديث أبي هريرة رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة، وأخرجه
أيضا الحاكم وصححه والبيهقي ورواه ابن حبان باسناده وصححه.
وقال الطبراني في الصغير: تفرد به سعيد بن بسير عن قتادة عن سعيد بن
المسيب وتفرد به عنه الوليد وتفرد به عنه هشام بن خالد، ورواه أيضا أبو داود
عن محمود بن خالد عن الوليد لكنه أبدل قتادة بالزهري، ورواه أبو داود وغيره
ممن تقدم من طريق سفيان بن حسين عن الزهري وسفيان ضعيف في الزهري،
وقد رواه معمر وشعيب وعقيل عن الزهري عن رجال من أهل العلم، كذا قال
أبو داود وقال: هذا أصح عندنا.
وقال أبو حاتم: أحسن أحواله أن يكون موقوفا على سعيد بن المسيب،
فقد رواه يحيى بن سعيد عنه وهو كذلك في الموطأ عن سعيد من قوله، وقال ابن أبي
خيثمة: سالت ابن معين فقال: هذا باطل، وضرب على أبي هريرة.
وحكى أبو نعيم في الحيلة انه من حديث الوليد عن سعيد بن عبد العزيز.
151

قال الدارقطني: والصواب سعيد بن بشير كما عند الطبراني والحاكم. وحكى
الدارقطني في العلل ان عبيد بن شربك رواه عن هشام بن عمار عن الوليد عن
سعيد عن الزهري.
قال الحافظ: وقد رواه عبدان عن هشام، أخرجه ابن عدي مثل ما قال عبيد
وقال: إنه غلط قال: فتبين بهذا ان الغلط فيه من هشام، وذلك أنه تغير حفظه
اما الأحكام: فقد قال الشافعي رضي الله عنه والسبق الثاني من الأساق ان
يجمع شيئين وذلك مثل الرجلين يريدان ان يستبقا بفرسيهما ولا يريد كل منهما
ان يسبق صاحبه ويخرجان سبقين، ولا يجوز الا بمحلل، وهو ان يجعل بينهما
فرس ولا يجوز حتى يكون كفؤا لفرسيهما لا يا منان ان يسبقهما.
قلت: هذا هو السبق الثاني وهو ان يستبق الرجلان ويخرج كل واحد منهما
سبقا من ماله يأخذه السابق منهما، وهذا لا يصح حتى يوكلا بينهما محللا لا يخرج
شيئا، ويأخذ ان سبق ولا يعطى ان سبق لنص ومعنى.
اما النص فهو حديث أبي هريرة الذي مضى تخريجه. واما المعنى فهو ان إباحة
السبق معتبرة بما خرج عن معنى القمار هو الذي لا يخلو الداخل فيه من أن يكون
غانما ان اخذ أو غارما ان أعطى فإذا لم يدخل بينهما محلل كانت هذه بحالها فكان
قمارا، وإذا دخل بينهما محلل غير مخرج يأخذ ان سبق ولا يعطى ان سبق خرج
عن معنى القمار فحل، وهذا الداخل يسمى محللا، لأن العقد صح به فصار حلالا
ويسميه أهل السبق ميسرا، ويصح العقد به بأربعة شروط.
أحدها: أن يكون فرسه كفؤا لفرسيهما أو أكفأ منهما لا يأمنان ان يسبقهما
فإن كان فرسه أدون من فرسيهما وهما يا منان ان يسبقهما لنصر الحديث، ولان
دخوله مع العلم بأنه لا يسبق غير مؤثر من اخذ السبق.
والشرط الثاني: أن يكون المحلل غير مخرج لشئ وان قل، فان اخرج شيئا
خرج من حكم المحلل وصار في حكم المستبق.
والشرط الثالث: ان يأخذ ان سبق، فان شرط ان لا يأخذ لم يصح.
والشرط الرابع: أن يكون فرسه معينا عند العقد لدخوله فيه كما يلزم تعيين
152

فرس المستبقين، وإن كان غير معين بطل، فإذا صح العقد بالمحلل على استكمال
شروطه فمذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه أن المحلل دخل ليحلل العقد،
ويحلل العقد الاخر فيأخذ إن سبق ويؤخذ به إن سبق.
وقال أبو علي بن خيران: إن المحلل دخل للتحلل للعقد ويأخذ ولا يؤخذ به
وهذا خطأ لان التحريض المقصود باستفراه الخيل ومعاطاة الفروسية غير
موجود إذا لم يؤخذ بالسبق شئ فيصير مانعا من السبق، وإذا أخذ به صار
باعثا عليه وحافزا له، وهذا يتضح في التفريعات الآتية، والله أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويطلق الفرسان من مكان واحد في وقت واحد لما روى الحسن
أو خلاس عن علي كرم الله وجهه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: يا علي
قد جعلت إليك هذه السبقة بين الناس، فخرج علي كرم الله وجهه فدعا بسراقة
ابن مالك فقال: يا سراقة إني قد جعلت إليك ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم
في عنقي من هذه السبقة في عنقك، فإذا اتيت الميطان فصف الخيل ثم ناد ثلاثا
هل مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل، فإذا لم يجبك أحد فكبر ثلاثا
ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من يشاء من خلقه) فإن كان بينهما محلل
وتنازعا في مكانه جعل بينهما، لأنه أعدل وأقطع للتنافر
وإن اختلف المتسابقان في اليمين واليسار أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما
على الاخر ولا يجلب وراءه لما روى ابن عباس رضي الله عنه (أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: من أجلب على الخيل يوم الرهان فليس منا، قال
مالك: الجلب أن يجلب وراء الفرس حين يدنو أو يحرك وراءه الشسن.
ليستحث به السبق.
(فصل) وأما ما يسبق به فينظر فيه فان شرط في السبق أقداما معلومة لم
يستحق السبق بما دونها لأنه شرط صحيح فتعلق الاستحقاق به وإن أطلق نظرت
فان تساوى المركوبان في طول العنق اعتبر السبق بالعنق أو بالكند، فان سبق
أحدهما بالعنق أو ببعضه أو بالكتد أو ببعضه فقد سبق، وان اختلفا في العنق
153

اعتبر السبق بالكتد لأنه لا يختلف، وإن سبق أطولهما عنقا بقدر زيادة الخلقة
لم يحكم له بالسبق لأنه يسبق بزيادة الخلقة لا بجودة الجري
(فصل) وإن عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الأرض أو وقف
لعلة أصابته فسبقه الاخر لم يحكم للسابق بالسبق لأنه لم يسبق بجودة الجري ولا
تأخر المسبوق لسوء جريه.
(فصل) وإن مات المركوب قبل الفراغ بطل العقد، لأن العقد تعلق
بعينه وقد فات بالموت فبطل كالمبيع إذا قبل القبض. وإن مات الراكب،
فان قلنا: إنه كالجعالة بطل العقد بموته، وان قلنا: إنه كالإجارة لم يبطل وقام
الوارث فيه مقامه.
(فصل) وإن كان العقد على الرمي لم يجز بأقل من نفسين، لان المقصود
معرفة الحذق، ولا يبين ذلك بأقل من اثنين، فان قال رجل لآخر: ارم عشرا
وناضل فيها خطأك بصوابك، فإن كان صوابك أكثر فلك دينار لم يجز، لأنه
بذل العوض على أن يناضل نفسه. وقد بينا أن ذلك لا يجوز،
وإن قال ارم عشرة فإن كان صوابك أكثر فلك دينار، ففيه وجهان:
(أحدهما) يجوز لأنه بذل له العوض على عمل معلوم لا يناضل فيه نفسه
فجاز (والثاني) لا يجوز لأنه جعل العوض في مقابلة الخطأ والصواب، والخطأ
لا يستحق به بدل.
(الشرح) حديث على رواه الدارقطني وأخرجه البيهقي بإسناد الدارقطني
وقال: هذا إسناد ضعيف ولفظه كاملا هكذا (يا علي قد جعلت إليك هذه السبقة
بين الناس، فخرج على فدعا سراقة بن مالك فقال: يا سراقة إني قد جعلت إليك
ما جعل النبي صلى الله عليه وسلم في عنقي من هذه السبقة في عنقك، فإذا أتيت
الميطان - قال أبو عبد الرحمن: والميطان مرسلها من الغاية - فصف الخيل
ثم ناد: هل من مصلح للجام أو حامل لغلام أو طارح لجل، فإذا لم يجبك أحد
فكبر ثلاثا ثم خلها عند الثالثة يسعد الله بسبقه من شاء من خلقه.
154

وكان على يقعد عند منتهى الغاية ويخط خطا ويقيم رجلين متقابلين عند طرف
الخط طرفه بين ابهامي أرجلهما وتمر الخيل بين الرجلين ويقول إذا خرج أحد
الفرسين على صاحبه بطرف أذنيه أو أذن أو عذار فاجعلوا السبقة له، فإن
شككتما فاجعلا سبقهما نصفين، فإذا قرنتم ثنتين فاجعلوا الغاية من غاية أصغر
الثنتين ولا جلب ولا جنب ولا شغار في الاسلام).
أما غريبة فقوله (هذه السبقة) فهي بضم السين وإسكان الباء هو الشئ الذي
يجعله المتسابقان بينهما يأخذه من سبق منهما. قال في القاموس: السبقة بالضم
الخطر يوضع بين أهل السباق والجمع أسباق. قوله (فإذا أتيت الميطان) بكسر
الميم. قال في القاموس: والميطان بالكسر الغاية. قوله (فصف الخيل) هي
خيل الحلبة. قال في القاموس. الحلبة بالفتح هي الدفعة من الخيل في الرهان،
وخيل تجتمع للسباق من كل أوب. قوله (ثم ناد الخ) فيه استحباب التأني قبل
ارسال خيل الحلبة، وتنبيههم على إصلاح ما يحتاج إلى إصلاحه، وجعل علامه
على الارسال من تكبير أو غيره، وتأمير أمير يفعل ذلك.
وأما حديث ابن عباس فقد أخرجه أبو يعلى بإسناد صحيح بلفظ (ليس منا
من أجلب على الخيل يوم الرهان، وأخرجه الطبراني بلفظ (لا جلب في الاسلام)
وفى إسناده أبو شيبة ضعيف، والمراد بالجلب في الرهان أن يأتي برجل يجلب
على فرسه أي يصيح عليه يستحثه بالازعاج حتى يسبق، والجنب أن يجنب فرسا
إلى فرسه حتى إذا فتر المركوب تحول إلى المجنوب. وقال ابن الأثير: له تفسيران
ثم ذكر معنى في الرهان ومعنى في الزكاة، وقد مضى معناه في الزكاة من كتاب الزكاة
أما الأحكام: فإن السبق يحصل في الخيل بالرأس إذا تماثلت الأعناق، فإن
اختلفا في طول العنق أو كان ذلك في الإبل اعتبر السبق بالكتف لأن الاعتبار
بالرأس متعذر، فإن طويل العنق قد يسبق رأسه لطول عنقه لا لسرعة عدوه،
وقد مضى لنا تفصيل ذلك، وهو مذهب الشافعي وأحمد. وقال الثوري: إذا سبق أحدهما بالاذن كان سابقا ولا يصح لان أحدهما قد
يرفع رأسه ويمد الاخر عنقه فيكون سابقا بأذنه لذلك لا لسبقه، وان شرطا
155

السبق بأقدام معلومة كثلاثة أو أكثر أو أقل لم يصح على أحد القولين عند أصحابنا
والثاني: يصح ويتخاطان ذلك كما في الرمي.
قال الماوردي في الحاوي الكبير: وإذا استقرت بينهما مع المحلل في الجري
فيختار أن يكون في الموضع الذي ينتهى إليه السبق، وهو غاية المدى قصب قد
غرزت في الأرض يسميها العرب قصب السبق ليحرزها السابق منهم فيتلقفها حتى
يعلم بسبقه الداني والقاصي فيسقط الاختلاف، وربما كر بها راجعا يستقبل بها
المسبوقين إذا كان مفضلا في السبق مباهيا في الفروسية.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: والسبق أن يسبق أحدهما صاحبه وأقل
السبق أن يسبق أحدهما صاحبه بالهادي أو بعضه أو الكتد أو بعضه اه‍. فالسبق
ضربان. أحدهما: أن يكون معتبرا بأقدام مشروطة كاشتراطهما السبق بعشرة
أقدام ولا يتم السبق الا بها ولو سبق أحدهما بتسعة أقدام لم يكن سابقا في استحقاق
البدل، وإن كان سابقا في العمل. والضرب الثاني: أن يكون مطلقا بغير شرط
فيكون سابقا بكل قليل وكثير.
قال الشافعي رضي الله عنه: أقل السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه أو الكتد
أو بعضه، فأما الهادي فهو العنق، وأما الكتد ويقال بفتح التاء وكسرها والفتح
أشهر، وفيه تأويلان. أحدهما: أنه الكتف. والثاني: أنه ما بين أصل العنق
والظهر، وهو مجتمع الكتفين في موضع السنام من الإبل، فجعل الشافعي رضي الله عنه
أقل السبق السبق بالهادي والكتد. وقال الأوزاعي: أقل السبق بالرأس
وقال المزني: أقل السبق بالاذن استدلالا بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: بعثت والساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر باذنه:
قال الماوردي ردا على المزني: المقصود بهذا الخبر ضرب المثل على وجه
المبالغة وليس بحد لسبق الرهان كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من بنى لله
بيتا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة) وإن كان بيت لا يبنى كمفحص
القطاة وإنما لم يعتبر بالاذن كما قال المزني، ولا بالرأس كما قال الأوزاعي، لان
من الخيل ما يزجى أذنه ورأسه فيطول، ما يرفعه فتقصر، فلم يدل واحد
منهما على التقديم اه‍.
156

وإذا سقط اعتبارهما ثبت اعتبار الهادي والكتد، ولو اعتبر السبق بأيديهما
فأيهما تقدمت يداه وهو السابق كان عندي أصح، لان السعي بهما والجري عليهما
لكن الشافعي اعتبر بالهادي والكتد.
فأما السبق بالكتد فمتحقق سواء اتفق الفرسان في الطول والقصر أو تفاضلا
وأما السبق بالهادي وهو العنق فلا يخلو حال الفرسين أن يتساويا فيه أو يتفاضلا
في طوله أو قصره، فإن سبق بالعنق أقصرهما عنقا، وإن سبق بالعنق
أطولهما عنقا لم يكن سابقا إلا أن يتصاف السابق بكتده، لان سبقه بعنقه إنما
كان لطوله لا لزيادة جريه.
فإن قيل: فإن كان السبق بالكتد صحيحا مع اختلاف الخلقة فلم اعتبر بالعنق
التي يختلف حكمها باختلاف الخلقة؟
قيل: لان السبق بالكتد يتحققه القريب دون البعيد، والسبق بالعنق
يتحققه القريب والبعيد، وربما دعت الضرورة إليه ليشاهده شهود السبق فشهدوا
به للسابق شهودا يستوقفون عند الغاية ليشهدوا للسابق على المسبوق، فلو سبق
أحدهما عند الغاية بهاديه أو كتده ثم جريا بعد الغاية فتقدم المسبوق بعدها على
السابق بهاديه أو كتده كان السبق لمن سبق عند الغاية دون من سبق بعدها، لان
ما يجاوز الغاية غير داخل في العقد فلم يعتبر
وهكذا لو سبق أحدهما قبل الغاية ثم سبقه الآخر عند الغاية كان السبق لمن
سبق عند الغاية دون من سبق قبلها لاستقرار العقد على السبق إليها.
(فرع) إذا عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الأرض فسبق الاخر
لم يحتسب له بالسبق، لان العثرة أخرته. ولو كان العاثر هو السابق احتسب
سبقه، لأنه إذا سبق مع العثرة كان بعدها أسبق، ولو وقف أحد الفرسين بعد
الجري حتى وصل الاخر إلى غايته كان مسبوقا إن وقف لغير مرض، ولا يكون
مسبوقا إن وقف لمرض. فأما إن وقف قبل الجري لم يكن مسبوقا، سواء وقف
لمرض أو غير مرض لأنه بعد الجري مشارك.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: والنضال فيما بين الاثنين يسبق أحدهما
157

الاخر. والثالث بينهما المحلل كهو في الخيل لا يختلفان في الأصل فيجوز في كل
واحد منهما ما جاز في الاخر، ويرد فيهما ما يرد في الاخر ثم يتفرعان، فإذا
اختلفت عللهما اختلفا. اه‍
أما السبق فاسم يشتمل على المسابقة بالخيل حقيقة وعلى المسابقة بالرمي مجازا
ولكل واحد منهما اسم خاص فتختص الخيل بالرهان ويختص الرمي بالنضال:
فأما قولهم: سبق فلان بتشديد الباء فمن أسماء الأضداد يسمى به من أخرج مال
السبق، ويسمى به من أحرز مال السبق. وقد مضى حكم السباق بالخيل.
فأما السباق بالنضال فهما في الإباحة سواء، والخلاف فيهما واحد، وقد
تقدم الدليل عليهما، وقد ذكر الشافعي ها هنا كلاما اشتمل على أربعة فصول:
أحدها قوله: والنضال فيما بين الرماة كذلك في السبق والعلل، يريد بهذا أمرين
(أحدهما) جواز النضال بالرمي كجواز السباق بالخيل
(والثاني) اشتراكهما في التعليل لارهاب العدو بهما لقوله تعالى (وأعدوا
لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)
والفصل الثاني: قوله يجوز في كل واحد منهما ما يجوز في الاخر، يريد بهذا
أن الاسباق في النضال ثلاثة كما كانت الاسباق في الخيل ثلاثة (أحدها) أن يخرج
الوالي مال السبق فيجوز كجوازه في الخيل
(والثاني) أن الخيل ثلاثة: أحدهما أن يخرج الوالي مال السبق فيجوز
كجوازه في الخيل. والثاني: أن يخرجه المتناضلان فلا يجوز حتى يدخل بينهما
محلل يكون رميه كرميهما أو أرمى منهما، كما لا يجوز في الخيل إلا محلل يكون
فرسه كفؤا لفرسيهما أو أكفأ، والثالث: أن يخرجه أحد المناضلين فيجوز كما
يجوز في الخيل إذا أخرجه أحد المتسابقين
والفصل الثالث: قوله ثم يتفرعان، يريد به أمرين (أحدهما) أن الأصل
في سباق الخيل الفرس والراكب تبع. والأصل في النضال الرامي والآلة تبع.
لان المقصود في سباق الخيل فراهة الفرس، ولو أراد أن يبدله بغيره لم يجز،
ويجوز أن يبدل الراكب بغيره.
والمقصود في النضال حذق الرامي، ولو أراد أن يستبدل بغيره لم يجز،
158

ويجوز أن يبدل آلة بغيرها. والثاني: أن في النضال من تفريع المرمى بالمبادرة
والمحاطة ما لا يتفرع في سباق الخيل.
والفصل الرابع قوله: فإذا اختلفت عللهما اختلفا، يريد به أنه لما كان
المقصود في سباق الخيل الفرس دون الراكب لزم تعيين الفرس ولم يلزم تعيين
الراكب، ومتى مات الفرس بطل السبق، ولا يبطل بموت الراكب إن لم يكن
هو العاقد. وفى بطلانه بموت العاقد قولان:
(أحدهما) لا يبطل بموته إذا قيل إنه كالإجارة (والثاني) يبطل بموته إذا
قيل إنه كالجعالة. ولما كان المقصود في النضال الرامي دون الآلة لزم تعيين الرامي
ولم يلزم تعيين الآلة، وبطل النضال إذا مات الرامي، ولم يبطل إذا انكسر
القوس، فقد اختلف حكمهما كما اختلفت عللهما. والله أعلم بالصواب
إذا ثبت هذا فإن الرمي لا يجوز إلا بين اثنين فأكثر، فإذا قال رجل لآخر
ارم هذا السهم فإن أصبت به فلك درهم، قال أحمد وأصحابه: صح ذلك جعالة
ولم يصح نضالا لأنه بذل مالا له في فعل له فيه غرض صحيح ولم يكن هذا نضالا
لان النضال يكون بين نفسين فأكثر على أن يرموا جميعا ويكون الجعل لبعضهم
إذا كان سابقا.
وإن قال: إن أصبت فلك درهم وإن أخطأت فعليك درهم لم يصح لأنه
قمار. وإن قال: ارم عشرة أسهم فإن كان صوابك أكثر من خطئك فلك درهم
ففيه وجهان (أحدهما) أنه بذل له العوض على عمل معلوم لم يناضل فيه نفسه
فجاز (والثاني) أنه لا يجوز، لأنه جعل العوض في مقابلة الخطأ والصواب.
وقال الماوردي: إذا قال أحدهما لصاحبه أو لغيره: ارم بسهمك هذا فإن أصبت
به فلك درهم جاز واستحق الدرهم إن أصاب. ولجوازه علتان
(إحداهما) أنه قد أجابه إلى ما سأل فالتزم له ما بذل، وهذا قول ابن
أبي هريرة (والثانية) أنه تحريض في طاعة فلزم البذل عليها كالمناضلة
وقال أبو إسحاق المروزي: وهذا بذل مال على عمل وليس بنضال، لان
النضال لا يكون الا بين اثنين فأكثر.
159

وقال الشافعي رضي الله عنه، ولو قال له: ارم عشرة أرشاق، فإن كان
صوابك أكثر فلك كذا لم يجز أن يناضل نفسه. وقد اختلف أصحابنا في صورة
هذه المسألة على وجهين.
(أحدهما) أن المزني حذف منها ما قد ذكره الشافعي في كتاب الام فقال
فيه، ولو قال له: ناضل نفسك وارم عشرة أرشاق، فإن كان صوابك أكثر من
خطئك فلك كذا لم يجز أن يناضل نفسه، فحذف المزني قوله: ناضل نفسك.
وأورد باقي كلامه وحكمه على هذه الصورة باطل باتفاق أصحابنا
واختلفوا في تعليله فقال أبو إسحاق، وهو الظاهر من تعليل الشافعي: انه
جعله مناضلا لنفسه، والنضال لا يكون الا بين اثنين فأكثر فاستحال
نضال نفسه فبطل.
وقال آخرون: بل علة بطلانه أنه ناضل على خطئه لصوابه بقوله: إن كان
صوابك أكثر من خطئك والخطأ لا يناضل عليه ولا به
والوجه الثاني: ان المسألة مصورة على ما أورده المزني ههنا ولم يذكر فيه
نضال نفسه وقال له: ارم عشرة أرشاق، فعلى هذا يكون في صحته وجهان من
اختلاف العلتين:
(أحدهما) انه صحيح ويستحق ما جعل له التعليل الأول، لأنه بذل مال على
عمل لم يناضل فيه نفسه.
والوجه الثاني: أنه باطل للتعليل الثاني أنه مناضل على خطئه وصوابه ويتفرع
على هاتين المسألتين ثالثة، واختلف فيها أصحابنا بأيها تلحق؟ على وجهين، وهو
أن يقول: ناضل وارم عشرة أرشاق، فإن كان صوابك أكثر فلك كذا فيوافق
المسألة الأولى في قوله ناضل، وتوافق المسألة الثانية في حذف قوله: ناضل
نفسك، وأحد الوجهين وهو قول أبي إسحاق المروزي أنها في حكم المسألة الأولى
في البطلان لأجل قوله: ناضل، والنضال لا يكون الا بين اثنين فصار كقوله:
ناضل نفسك، والوجه الثاني أنها في حكم المسألة الثانية في حمل صحتها على وجهين
من اختلاف العلتين إذا سقط قوله: نفسك، صار قوله ناضل، يعنى ارم على
نضال، والنضال المال، فصار كالابتداء بقوله: ارم عشرة أرشاق. والله أعلم
160

قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ولا يجوز إخراج السبق إلا على ما ذكرناه في المسابقة من إخراج
العوض منهما أو من غيرهما، وفى دخول المحلل بينهما.
(فصل) ولا يصح حتى يتعين المتراميان، لان المقصود معرفة حذقهما،
ولا يعلم ذلك إلا بالتعيين، فإن كان أحدهما كثير الإصابة والاخر كثير الخطأ،
ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز لان نضل أحدهما معلوم فيكون الناضل منهما
كالأخذ للمال من غير نضال وذلك من أكل المال بالباطل (والثاني) لا يجوز لان
أخذ المال منه يبعثه على معاطاة الرمي والحذق فيه.
(فصل) ولا يصح إلا على آلتين متجانستين فان عقد على جنسين بأن
يرمى أحدهما بالنشاب والاخر بالحراب لم يجز، لأنه لا يعلم فضل أحدهما على
الاخر في واحد من الجنسين، وان عقد على نوعين من جنس بأن يرمى إحداهما
بالنبل والاخر بالنشاب أو يرمى أحدهما على قوس عربي والاخر على قوس فارسي
جاز، لان النوعين من جنس واحد يتقاربان، فيعرف به حذقهما، فإن أطلق
العقد في موضع العرف فيه نوع واحد حمل العقد عليه، وإن لم يكن فيه عرف لم
يصح حتى يبين، لان الاغراض تختلف باختلاف النوعين، فوجب بيانه، وإن
عقد على نوع فأراد أن ينتقل إلى نوع آخر لم تلزم الإجابة إليه، لان الاغراض
تختلف باختلاف الأنواع، فإن من الناس من يرمى بأحد النوعين أجود من
رميه بالنوع الاخر، وان عقد على قوس بعينها فأراد أن ينتقل إلى غيرها من
نوعها جاز، لان الاغراض لا تختلف باختلاف الأعيان، فإن شرط على أنه
لا يبدل فهو على الأوجه الثلاثة فيمن استأجر ظهرا ليركبه على أن لا يركبه مثله
وقد بيناها في كتاب الإجارة.
(فصل) ولا يجوز إلا على رشق معلوم وهو العدد الذي يرمى به لأنه إذا
لم يعرف منتهى العدد لم يبين الفضل. ولم يظهر السبق.
(فصل) ولا يجوز إلا على إصابة عدد معلوم، لأنه لا يبين الفضل
161

إلا بذلك فإن شرط إصابة عشرة من عشرة أو تسعة من عشرة ففيه وجهان.
أحدهما. يصح لأنه قد يصيب ذلك فصح العقد كما لو شرط إصابة ثمانية من عشرة
والثاني: لا يصح لان إصابة ذلك تندر وتتعذر فبطل المقصود بالعقد.
(الشرح) ذكرنا فيما مضى من أحكام المسابقة أنه لا يجوز اخراج السبق الا
على ما تراضيا عليه، وكما يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: ويخرج كل واحد
منهما ما تراضيا عليه ويتواضعانه على يدي رجل يثقان به أو يعينانه، ولصحة العقد
بينهما مع دخول المحلل أربعة شروط.
(أحدهما) أن يكون العوض معلوما اما معينا أو موصوفا، فإن كان مجهولا لم
يصح، لان الأعواض في العقود لا تصح الا معلومة.
(والشرط الثاني) أن يتساويا في جنسه ونوعه وقدره فإن تفاضلا أو اختلفا
لم يصح، لأنهما لما تساويا في العقد وجب أن يتساويا في بذله.
(والشرط الثالث) تعيين الفرس في السباق. والرابع أن يكون مدى سبقهما
معلوما اما بالابتداء والانتهاء كالإجارة المعينة، واما مذروعا بذراع مشهور
كالإجارة المضمونة.
فإذا صح العقد بينهما على الشروط المعتبرة وفى المحلل الداخل بينهما لم يخل
حالهما في مال السبق من ثلاثة أحوال.
أحدهما: أن يتفقا على تركه في أيديهما ويثق كل واحد منهما بصاحبه فيحملان
على ذلك ولا يلزم اخراج مال السبق من أحدهما الا بعد أن يصير مسبوقا فيؤخذ
باستحقاقه، والحالة الثانية: أن يتفقا على أمين فيؤخذ مال السبق منهما ويوضع
على يده ويعزل مال كل واحد منهما على حدته، فإن سبق أحدهما سلم إليه ماله
ومال المسبوق، فان سبق المحلل سلم إليه مال السبقين ولم يكن للأمين أجرة على
السابق ولا على المسبوق الا عن شرط، فإن كانت له أجرة في عرف المتسابقين
ففي حمله على عرفهم فيه مع عدم الشرط وجهان من اختلافهم فيمن استعمل خياطا
فعمل بغير شرط هل يستحق أجرة مثله هل يستحق أجرة مثله أم لا؟ على وجهين.
(أحدهما) أن الأمين يستحق أجرة مثله إذا حكم للصانع بالأجرة، ويكون
162

على المستبقين لا يختص بها السابق منهما لأنها أجرة على حفظ المالين، والثاني أنه
لا أجرة له وإن جرى العرف إلا أن يحكم للصانع بالأجرة، والحال الثالثة أن
يختلفا على الأمين فيخرج الحاكم لهما أمينا يقطع تنازعهما.
إذا ثبت هذا فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يجوز السبق إلا معلوما،
كما يجوز في البيع.
قال الماوردي: وهذا صحيح، يريد بالسبق المال المخرج في العقد فلا يصح
معه العقد حتى يكون معلوما من وجهين إما بالتعيين كاستباقهما على عين مشاهد،
وإما بالصفة كاستباقهما على مال في الذمة، لأنه من عقود المعاوضات كالبيع
والإجارة، فإن تسابقا على ما يتفقان عليه أو على ما يحكم به زيد كان باطلا
للجهالة به عند العقد.
ولو تسابقا وتناضلا على مثل ما يسابق أو يناضل به زيد وعمرو، فإن كان
ذلك بعد علمهما بقدره صح، وإن كان قبل علمهما بقدره بطل، ولو كان لأحدهما
في ذمة الاخر قفيز من حنطة فتناضلا عليه، فإن كان القفيز مستحقا من سلم لم
يصح، لان المعاوضة على السلم قبل قبضه لا تصح، وإن كان عن غصبه صح،
لان المعاوضة عليه قبل قبضه تصح.
وإن كان من قرض فعلى وجهين من الوجهين في صحة المعاوضة عليه قبل قبضه
ولو تناضلا على دينار الا دانقا صح، ولو تناضلا على دينار الا درهما لم يصح
لأنه يكون بالاستثناء من جنسه معلوما وبالاستثناء من غير جنسه مجهولا، ولو
تناضلا على دينار معجل وقفيز حنطه مؤجل صح، لأنه على عوضين: حال
ومؤجل، ولو تناضلا على أن يأخذ الناضل دينارا ويعطى درهما لم يجز، لان
الناضل من شرطه أن يأخذ ولا يعطى.
ولو تناضلا على دينار بذله أحدهما، فان نضل دفعه وان شرط لم يرم أبدا
أو شهرا كان العقد فاسدا لأنه قد شرط فيه الامتناع وهو مندوب إليه فبطل،
وإذا تناضلا وقد فسد العقد بما ذكرنا فنضل أحدهما، فإن كان الناضل باذل المال
فلا شئ على المنضول، وإن كان الناضل غير الباذل ففي استحقاقه لأجرة مثله
على الباذل وجهان على ما مضى.
163

قال الشافعي رضي الله عنه: وإذا سبق أحد الرجلين الاخر على أن يجعلا
بينهما قرعا معروفا خواسق أو حوابى فهو جائز. اه‍
قلت: نعلم من أقوال الإمام الشافعي رضي الله عنه ان عقد الرمي معتبر
بشروط. أحدهما أن يكون الراميان متعينين، لأن العقد عليهما، والمقصود به
حذقهما، فإن لم يتعينا بطل العقد، سواء وصفا أو لم يوصفا، كما لو أطلق في
السبق الفرسان، فإن لم يتعينا كان باطلا، ولا يلزم تعيين الآلة، ولكل واحد
منهما ان يرمى عن أي قوس شاء، وبأي سهم أحب، فان عينت الآلة لم يتعين
وبطلت في التعين.
ولو قيل: ويرمى عن هذين القوسين لم يؤثر في العقد وجاز لهما الرمي عنها
ولغيرهما، وان قيل: على أن لا يرمى الا عن هذين القوسين كان فاسدا لأنه
على الوجه الأول صفة وعلى الوجه الثاني شرط.
أما قوله (ولا يصح الا على آلتين متجانستين) فقد قال الشافعي رضي الله عنه
: ولا يصلح ان يمنع الرجل أن يرمى بأي نبل أو قوس شاء إذا كانت من
صنف القوس التي سابق عليها.
قلت: وأنواع القسي تختلف باختلاف أنواع الناس فللعرب قسي وسهام
وللعجم قسي وسهام، وقيل إن أول من صنع القسي العربية إبراهيم الخليل عليه
السلام، وأول من صنع الفارسية النمرود. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب
القوس العربية ويأمر بها ويكره الفارسية وينهى عنها، ورأي رجلا يحمل قوسا
فارسية فقال: ملعون حاملها عليكم بالقسي العربية وسهامها، فإنه سيفتح عليكم
بها. قال الماوردي: وليس هذا منه محمولا على الحظر المانع، وفى تأويله. ثلاثة
أوجه (أحدها) ليحفظ به آثار العرب، ولا يعدل الناس عنها رغبة في غيرها،
فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيل القوس العربية باقيا.
والوجه الثاني: انه أمر بها لتكون شعار المسلمين حتى لا يتشبهوا باهل
الحرب من المشركين فيقتلوا، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيلها مرتفعا لأنها
قد فشت في عامة المسلمين.
(والثالث) ما قاله عطاء انه لعن من قاتل المسلمين بها. فعلى هذا لا يكون
164

وذلك ندبا إلى تفضيل العربية عليها، ويكون نهيا عن قتال المسلمين بها وبغيرها.
وخصها باللعن لأنها كانت أنكى في المسلمين من غيرها، وقد رمى عنها الصحابة
والتابعون في قتال المشركين، وإن كان الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
في قوسه لمن قوى رميه عنها أحب إلينا. فإن كان بالفارسية أرمى كانت به أولى،
ويكون الندب منهما إلى ما هو به أرمى. اه‍
فإذا تقرر ذلك فلا يخلو حال المتناضلين في عقد نضالهما من خمسة أحوال:
أحدها أن يشترطا فيه الرمي عن القوس العربية، فعليهما أن يتناضلا بالعربية،
وليس لأحدهما العدول عنها لأجل الشرط، فان تراضيا معا بالعدول إلى الفارسية
جاز (الثانية) أن يشترطا فيه الرمي عن القوس الفارسية فعليهما ان يتناضلا بها
وليس لأحدهما العدول إلى العربية، فان تراضيا بالعدول جاز
(الثالثة) أن يشترطا أن يرمى أحدهما عن القوس العربية ويرمى الاخر عن
القوس الفارسية فهذا جائز. وان اختلفت قوساهما، لان مقصود الرمي حذق
الرامي والآلة تبع.
(الرابعة) أن يشترطا ان يرمى كل واحد منهما عما شاء من قوس عربية أو
فارسية، فيجوز لكل واحد ان يرمى عن أي القوسين شاء قبل الشروع في
الرمي وبعده. فان أراد أحدهما منع صاحبه من خياره لم يجز، سواء تماثلا فيها
أو اختلفا (الخامسة) أن يطلقا العقد من غير شرط، فإن كان للرماة عرف في
أحد القوسين حمل عليه، وجرى العرف في العقد المطلق مجرى الشرط في العقد
المقيد. وان لم يكن للرماة فيه عرف معهود فهما بالخيار فيما اتفقا عليه من أحد
القوسين إذا كانا فيها متساويين، لان مطلق العقد يوجب التكافؤ، وان اختلفا
لم يقرع بينهما لأنه أصل في العقد، وقيل لهما ان اتفقتما والا فسخ العقد بينكما.
والشرط الثالث: أن يكون عدد الإصابة من الرشق معلوما ليعرف به الفاضل
عن المفضول، وأكثر ما يجوز ان تشترط فيه ما نقص من عدد الرشق المشروط
بشئ وان قل ليكون متلافيا للخطأ الذي يتعذر ان يسلم منه المتناضلان، فقد
كان معروفا عندهم ان أحذق الرماة من يصيب ثمانية من العشرة، فان شرط
أصابة الجميع من الجميع بطل لتعذره غالبا، وان شرطا إصابة ثمانية من العشرة جاز
165

فان شرطا إصابة تسعة من العشرة ففيه وجهان (أحدهما) يجوز لبقاء سهم الخطأ
والوجه الثاني: لا يجوز لان اصابتها نادرة. فأما أقل ما يشترط في الإصابة فهو
ما يحصل فيه القاصر. وهو ما زاد على الواحد. وقد نص الشافعي رضي الله عنه
على بطلان اشتراط إصابة تسعة من عشرة.
واختلف أصحابنا في تأويل هذا على وجهين (أحدهما) تأويلها أن يشترطا
إصابة تسعة من عشرة فيبطل على ما ذكرناه من أحد الوجهين (والثاني) تأويلها
أن يشترطا أن يكون الرشق عشرة والإصابة محتسبة من تسعة دون العاشر فيبطل
وجها واحدا لاستحقاق الإصابة من جميع الرشق به، فان أغفلا عدد الإصابة
وعقداه على أن يكون الناضل منهما أكثرهما إصابة ففيه وجهان (أحدهما) من
التعليلين في اشتراط فعله في سباق الخيل إذا عقداه إلى غير غاية ليكون السابق
من تقدم في أي غاية كانت، وهو باطل في الخيل لعلتين (إحداهما) ان من
الخيل من يقوى جريه في ابتدائه ويضعف في انتهائه، ومنها ما هو بضده، فعلى
هذا يكون النضال على كثرة الإصابة باطلا، لان من الرماة من تكثر إصابته في
الابتداء وتقل في الانتهاء ومنهم من هو بضده.
والتعليل الثاني: ان اجراء الخيل إلى غير غاية مفض إلى انقطاعها، فعلى هذا
يجوز النضال على كثرة الإصابة لأنه مفض إلى انقطاع الرماة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز الا أن يكون مدى الغرض معلوما، لان الإصابة تختلف
بالقرب والبعد، فوجب العلم به، فإن كان في الموضع غرض معلوم المدى فأطلق
العقد جاز وحمل عليه، كما يجوز ان يطلق الثمن في البيع في موضع فيه نقد واحد
وان لم يكن فيه غرض معلوم المدى لم يجز العقد حتى يبين، فان أطلق العقد بطل
كما يبطل البيع بثمن مطلق في موضع لا نقد فيه، ويجوز أن يكون مدى الغرض
قدرا يصيب مثلهما في مثله في العادة، ولا يجوز أن يكون قدرا لا يصيب مثلهما
في مثله، وفيما يصيب مثلهما في مثله نادرا وجهان:
(أحدهما) يجوز لأنه قد يصيب مثلهما في مثله، فإذا عقدا عليه بعثهما العقد
166

على الاجتهاد في الإصابة (والثاني) لا يجوز لان اصابتهما في مثله تندر فلا يحصل
المقصود، وقدر أصحابنا ما يصاب منه بمائتين وخمسين ذراعا، وما لا يصاب بما
زاد على ثلاثمائة وخمسين ذراعا، وفيما بينهما وجهان، فإن تراميا على غير غرض
على أن يكون السبق لأبعدهما رميا ففيه وجهان (أحدهما) يجوز لأنه يمتحن به
قوة الساعد، ويستعان به على قتال من بعد من العدو (والثاني) لا يجوز لان
الذي يقصد بالرمي هو الإصابة، فأما الابعاد فليس بمقصود فلم يجز أخذ
العوض عليه.
(فصل) ويجب أن يكون الغرض معلوما في نفسه فيعرف طوله وعرضه
وقدر انخفاضه وارتفاعه من الأرض، لان الإصابة تختلف باختلافه، فإن كان
العقد في موضع فيه غرض معروف فأطلق العقد حمل عليه كما يحمل البيع بثمن
مطلق في موضع فيه نقد متعارف على نقد البلد، وان لم يكن فيه غرض وجب
بيانه، والمستحب أن يكون الرمي بين غرضين، لما روى عبد الدائم بن دينار
قال: بلغني أن ما بين الهدفين روضة من رياض الجنة. وعن عقبه بن عامر أنه
كان يرمى بين غرضين بينهما أربعمائة. وعن ابن عمر أنه كان يختفي بين الغرضين
وعن أنس أنه كان يرمى بين الهدفين، ولان ذلك أقطع للتنافر وأقل للتعب
(الشرح) خبر: ما بين الهدفين الخ سبق أن سقناه في الحث على الرمي نقلا
عن المصنف وغيره من الفقهاء، كابن قدامه في المغنى، وقد أعضله ولم يوضح،
وأبناء دينار ثلاثة: عبد الله. ومالك. وعمرو، وليس فيهم من اسمه عبد الدائم،
بل ليس في رواة السنة من اسمه عبد الدائم فضلا عن أن يكون ابن دينار
وذكر الماوردي في الحاوي الخبر مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من
طريق ابن دينار مبهما، والخبر ساقه صاحب الترغيب والترهيب في الترغيب
في الرمي. وقد أخرجه صاحب مسند الفردوس من طريق ابن أبي الدنيا باسناده
عن مكحول عن أبي هريرة يرفعه (تعلموا الرمي فان ما بين الهدفين روضة من
رياض الجنة) وفى اسناده ضعف وانقطاع.
167

أما خبر عقبة بن عامر فهو ثابت من سيرته أنه لم يثبت عن أحد غيره الرمي
إلى أربعمائة ذراع وهو أحد ولاة مصر بعد عمرو وتوفى في آخر خلافة معاوية
روى عنه من الصحابة جابر وابن عباس وأبو أمامة ومسلمة بن مخلد ورواته من
التابعين لا يحصون، وقد غلط ابن الخياط عندما قال: إنه قتل شهيدا في معركة
النهروان، ومعركة النهروان كانت سنة ثمان وثلاثين وقد كان بعد ذلك واليا على
مصر بعد سنة خمسين:
أما الأحكام: فإن الشرط الرابع من شروط الرمي أن تكون المسافة بين
موقف الرامي والهدف معلومة، لان الإصابة تكثر مع قرب المسافة وتقل مع
بعدها فلزم العلم بها وأبعد ما في العرف ثلاثمائة ذراع، وأقلها ما يحتمل أن يصاب
وأن لا يصاب، فإن أغفلا مسافة الرمي فلها ثلاثة أحوال.
(إحداها) ان لا يكون للرماة هدف منصوب ولا لهم علف معهود فيكون
العقد باطلا للجهالة.
(والثانية) أن يكون للرماة الحاضرين هدف منصوب وللرماة فيه موقف
معروف فيصح العقد ويكون متوجها إلى الهدف الحاضر من الموقف المشاهد،
والرماة يسمون موقف الوجه.
(والثالثة) أن لا يكون لهم هدف منصوب ولكن لهم عرف معهود، ففيه
وجهان، أصحهما يصح العقد مع الاطلاق، ويحملان فيه على العرف المعهود كما
يحمل إطلاق الأثمان على غالب النقد المعهود، والوجه الثاني: أن العقد باطل،
لان حذق الرماة يختلف فاختلف لأجله حكم الهدف فلم يصح حتى يوصف.
(والشرط الخامس) الذي تضمنه هذان الفصلان من كلام المصنف أن يكون
الغرض أو الهدف معلوما لأنه المقصود بالإصابة، أما الهدف فهو تراب يجمعونه
أو حائط بيت، وقد قيل من صنف فقد استهدف لأنه يرمى بالأقايل من الحاسدين
والناقضين وأما الغرض فهو جلد أو شن بال ينصب في الهدف ويختص بالإصابة
وربما جعل في الغرض دارة كالهلال تختص بالإصابة ممن يحمله الغرض وهي
الغاية في المقصود من حذق الرماة، وإذا كان كذلك فالعلم بالغرض يكون من
ثلاثة أوجه.
168

أحدها: موضعه من الهدف في ارتفاعه وانخفاضه لان الإصابة في المنخفض
أكثر منها في المرتفع.
والثاني: قدر الغرض في ضيقه وسعته، لان الإصابة في الواسع أكثر منها
في الضيق، وأوسع الاغراض في عرف الرماة ذراع وأقله أربع أصابع. والثالث
قدر الدارة من الغرض إن شرطت الإصابة فيها.
قال المصنف رحمه الله
تعالى: (فصل) ويجب أن يكون موضع الإصابة معلوما، وأن الرمي إلى الهدف
وهو التراب الذي يجمع أو الحائط الذي يبنى أو إلى الغرض، وهو الذي ينصب
في الهدف، أو الشن الذي في الغرض، أو الدارة التي في الشن أو الخاتم الذي
في الدارة، لان الغرض يختلف باختلافها، فإن أطلق العقد حمل على الغرض،
لان العرف في الرمي إصابة الغرض فحمل العقد عليه، ويجب أن تكون صفة
الرمي معلومه من القرع وهو إصابة الغرض أو الخزق وهو أن يثقب الشن أو
الخسق وهو الذي يثقبه، ويثبت فيه، أو المرق وهو الذي ينفذ منه، أو الخرم
وهو أن يقطع طرف الشن ويكون بعض السهم في الشن وبعضه خارجا منه، لان
الحذق لا يبين إلا بذلك، فإن أطلق العقد حمل على القرع، لأنه هو المتعارف فحمل
مطلق العقد عليه، فإن شرط قرع عشرة من عشرين وأن يحسب خاسق كل واحد
منهما بقارعين جاز لأنهما يتساويان فيه، وإن أصاب أحدهما تسعه قرعا وأصاب
الاخر قارعين وأربعة خواسق فقد نضله لأنه استكمل العشرة بالخواسق.
(فصل) واختلف أصحابنا في بيان حكم الإصابة أنه مبادرة أو محاطة أو
حوابى، فمنهم من قال: يجب بيانه، فإن أطلق العقد لم يصح، لان حكمهما يختلف
وأغراض الناس فيها لا تتفق فوجب بيانه، ومنهم من قال: يصح ويحمل على
المبادرة لان المتعارف في الرمي هو المبادرة، واختلفوا في بيان من يبتدئ
بالرمي، فمنهم من قال: يجب فإن أطلق العقد بطل، وهو المنصوص، لان ذلك
موضوع على نشاط القلب وقوة النفس، ومتى قدم أحدهما انكسر قلب الاخر
169

وساء رميه، فلا يحصل مقصود العقد، ومنهم من قال: يصح لان ذلك من توابع
العقد ويمكن تلافيه بما تزول به التهمة من العرف أو القرعة، فإذا قلنا: إنه
يصح ففي البادئ وجهان.
(أحدهما) إن كان السبق من أحدهما قدم، لان له مزية بالسبق، وإن كان
السبق منهما أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر.
(والثاني) لا يبدأ أحدهما إلا بالقرعة لان أمر المسابقة موضوع على أن
لا يفضل أحدهما على الآخر بالسبق، فإن كان الرمي بين غرضين فبدأ أحدهما من
أحد الغرضين بدأ الاخر من الغرض الاخر، لأنه أعدل وأسهل فإن كانت
البداية لأحدهما فبدأ الاخر ورمى لم يحسب له إن أصاب ولا عليه ان أخطأ لأنه
رمى بغير عقد فلم يعتد به، وان اختلفا في موضع الوقوف كان الامر إلى من له
البداية لأنه لما ثبت له السبق ثبت له اختيار المكان فإذا صار الثاني إلى الغرض
الثاني صار الخيار في موضع الوقوف إليه ليستويا، وان طلب أحدهما استقبال
الشمس والاخر استدبارها أجيب من طلب الاستدبار لأنه أوفق للرمي.
(الشرح) لغات الفصل فيها قوله: الشن وهو جلد بال ينصب في الهدف.
أما الدارة فهي قطعة على شكل نصف دائرة، والقرع باسكان الراء من باب نفع
يقال: قرع السهم القرطاس إذا أصابه، والقرع بفتحتين السبق والندب الذي
يستبق عليه.
وأما الأحكام: فإن المصنف ذكر هنا الشرط وهو أن يكون محل الإصابة
معلوما، هل هو في الهدف أو في الغرض أو في الدارة، لان الإصابة في الهدف
أوسع، وفى الغرض أوسط وفى الدارة أضيق، وإن أغفل ذلك كان جميع الغرض
محلا للإصابة لان ما دونه تخصيص، وما زاد عليه فهو بالغرض مخصوص، فإن
كانت الإصابة مشروطة في الهدف سقط اعتبار الغرض، ولزم وصف الهدف
طوله وعرضه، وإن شرطت الإصابة في الغرض سقط اعتبار الهدف ولزم
وصف الغرض، وإن شرطت الإصابة في الدارة سقط اعتبار الغرض ولزم
وصف الدارة.
170

(فرع) والشرط السابع: أن تكون الإصابة موصوفه بقرع أو خرق أو
خسق فالقارع ما أصاب الغرض ولم يؤثر فيه، والخارق ما ثقب الغرض ولم يثبت
فيه، والخاسق ما ثبت في الغرض بعد أن ثقب، ولا يحتسب بالقارع في الخرق
والخسق، وتحتسب بالخارق في القرع ولا يحتسب به في الخسق، ويحتسب بالخاسق
في القرع والخرق وينطلق على جميع هذه الإصابات اسم الخواصل وهو جمع خصال
فإن أغفل هذا الشرط كانت الإصابة محمولة على القرع لان ما عداه زيادة.
(فرع) والشرط الثامن أن يكون حكم الإصابة معلوما، هل مبادرة أو محاطة
لان حكم كل واحد منهما مخالف لحكم الاخر، والمبادرة أن يبادر أحدهما إلى
استكمال إصابته من أقل العددين على ما سيأتي، والمحاطة أن يحط أقل الإصابتين
من أكثرهما ويكون الباقي بعدها هو العدد المشروط على ما سنشرحه، فان أغفلا
ذلك ولم يشترطاه فسد العقد إن لم يكن للرماة عرف معهود، وفى فساده إن كان
لهم عرف معهود وجهان على ما تقدم.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: وقد رأيت من الرماة من يقول: صاحب
السبق أولى أن يبدأ وللمسبق لهما أن يبدأ أيهما شاء، ولا يجوز في القياس عندي
إلا أن يتشارطا. أما اشتراط الابتداء فهو معتبر في الرمي دون السبق لأنهما في
السبق يتساويان في الجري معا لا يتقدم أحدهما على الاخر، وأما الرمي فلا بد
أن يبتدئ به أحدهما قبل الاخر ولا يرميان معا لاختلاط رميهما ولما يخاف من
تنافرهما، فان شرطا في العقد البادئ منهما بالرمي كان أحقهما بالابتداء سواء كان
المبتدئ مخرج المال أو غير مخرجه، فإن أراد بعد استحقاقه التقدم أن يتأخر لم
يمنع لان التقدم حق له وليس بحق عليه، وان أغفل في العقد اشتراط البادئ
بالرمي ففي العقد قولان.
(أحدهما) وهو اختبار الشافعي في هذا الموضع أن العقد باطل لان للبداية
تأثيرا في قوة النفس وكثرة الإصابة فصارت مقصودة فبطل العقد باغفالها.
(والقول الثاني) أن العقد صحيح، وإن أغفلت فيه البداية، وقد حكا الشافعي
عن بعض فقهاء الرماة لأنه من توابع الرمي الذي يمكن تلافيه بما تزول التهمه
171

فيه من الرجوع إلى عرف أو قرعة، فعلى هذا إن كان مخرج المال أحدهما كان هو
البادئ بالرمي اعتبارا بالعرف وفيه، وجه آخر أنه يقرع بينهما، فإن كانا
مخرجين للمال أقرع بينهما لتكافئهما وهل يدخل المحلل في قرعتهما أو يتأخر عنهما
على وجهين (أحدهما) يتأخر ولا يدخل في القرعة إذا قيل: إن مخرج المال
يستحق التقدم (والوجه الثاني) يدخل في القرعة ولا يتأخر إذا قبل: إن مخرج
المال لا يتقدم إلا بالقرعة.
قال الشافعي رضي الله عنه: وقد جرت الرماة أن يكون الرامي الثاني
يتقدم على الأول بخطوة أو خطوتين أو ثلاث وهذا معتبر بعرف الرماة وعادتهم
فإن كانت مختلفة فيه، يفعلونه تارة ويسقطونه أخرى سقط اعتباره ووجب
التساوي فيه، وإن كانت عادتهم جارية لا يختلفون فيها ففي لزوم اعتباره بينهما
وجهان. أحدهما: لا يعتبر لوجوب تكافئهما في العقد فلم يجز أن يتقدم أحدهما
على الاخر بشئ لأنه يصير مصيبا بتقدمه لا لحذقه. والوجه الثاني: يعتبر ذلك
فيها، لان العرف في العقود كإطلاق الأعيان، فعلى هذا إن لم يختلف عرفهم في
عدد الاقدام حملا على العرف في عددها ليكون القرب بالاقدام في مقابلة قوة
النفس تقدم أحدهما على الاخر بما لا يستحق لم يحتسب له بصوابه واحتسب
عليه بخطئه.
وقال الشافعي رضي الله عنه: وأيهما بدأ من وجه بدأ صاحبه من الاخر.
قال الماوردي: عادة الرماة في الهدف مختلفة على وجهين وكلاهما جائز، فمنهم من
يرمى بين هدفين متقابلين فيقف أحد الحزبين في هدف يرمى منه إلى الهدف الاخر
ويقف الحزب الاخر في الهدف المقابل فيرمى إلى الهدف الاخر اه‍.
(قلت) والحكمة في أن يتقدم أحدهما الاخر وان لا يرميا سويا هو أن
التساوي في الرمي مفض إلى الاختلاف في الإصابة حيث لا يعرف من المصيب
منهما ومن ثم توجه ما مضى من أقوال وبهذا كله أخذ أحمد وأصحابه.
فإذا تشاحا في موضع الوقوف، فإن كان ما طلبه أحدهما أولى مثل أن يكون
في أحد الموقفين يستقبل الشمس أو ريحا تؤذيه باستقبالها ونحو ذلك، والاخر
يستدبرها قدم قول من طلب استدبارها لأنه العرف في الرمي والله تعالى اعلم.
172

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجوز أن يرميا سهما سهما وخمسا خمسا، وان يرمى كل واحد
منهما جميع الرشق، فان شرطا شيئا من ذلك حملا عليه، وإن أطلق العقد تراسلا
سهما لان العرف فيه ما ذكرناه، وان رمى أحدهما أكثر مما له لم يحسب له
ان أصاب، ولا عليه ان أخطأ لأنه رمى من غير عقد فلم يعتد به.
(فصل) ولا يجوز أن يتفاضلا في عدد الرشق ولا في عدد الإصابة ولا
في صفة الإصابة ولا في محل الإصابة، ولا أن يحسب قرع أحدهما خسقا ولا
أن يكون في يد أحدهما من السهام أكثر مما في يد الآخر في حال الرمي، ولا أن
يرمى أحدهما والشمس في وجهه لان القصد أن يعرف حذقهما، وذلك لا يعرف
مع الاختلاف، لأنه إذا نضل أحدهما كان النضل بما شرط لا بجودة الرمي،
فان شرط شيئا من ذلك بطل العقد، لأنه في أحد القولين كالإجارة، وفى الثاني
كالجعالة، والجميع يبطل بالشرط الفاسد.
وهل يجب للناضل في الفاسد أجرة المثل؟ فيه وجهان أحدهما لا تجب.
وهو قول أبي إسحاق لأنه لا يحصل المسبوق منفعة بسبق السابق فلم تلزمه أجرته
(والثاني) تجب، وهو الصحيح، لان كل عقد وجب المسمى في صحيحه وجب
عوض المثل في فاسده كالبيع والإجارة
(فصل) وان شرط على السابق ان يطعم أصحابه من السبق بطل الشرط
لأنه شرط ينافي مقتضى العقد فبطل، وهو يبطل العقد المنصوص انه يبطل لأنه
تمليك مال شرط فيه يمنع كمال التصرف، فإذا بطل الشرط بطل العقد،
كما لو باعه سلعة بألف على أن يتصدق بها. وقال أبو إسحاق: يحتمل قولا آخر
لا يبطل، كما قال فيمن أصدق امرأته الفين على أن تعطى أباها ألفا أن الشرط
باطل، ويصح الصداق، فإذا قلنا بالمنصوص سقط المستحق، وهل يرجع الساق
بأجرة المثل؟ على الوجهين.
(الشرح) إذا شرطا في العقد شرطا حملا فيه على موجب الشرط وان خالف
العرف لان الشرط أحق من العرف، فان شرطا أن يرميا سهما وسهما أو شرطا
173

أن يرميا خمسا وخمسا، أو شرطا أن يواصل كل واحد منهما رمى جميع رشقه
رمى كل واحد منهما عدد ما أوجب الشرط، فان زاد عليه لم يحسب به مصيبا
ولا مخطئا لخروجه عن موجب العقد، وان أغفل ولم يشترط في العقد لم يبطل
العقد باغفاله لامكان التكافؤ فيه واعتبر فيها عرف الرماة لأنه يجرى بعد الشرط
مجرى الشرط، فإن كان عرف الرماة جاريا بأحد الثلاثة المجوزة من الشرط
صار كالمستحق بالشرط، وان لم يكن للرماة عرف لاختلافه بينهم رميا سهما
وسهما، ولم يزد كل واحد منهما على سهم واحد حتى يستنفدا جميع الرشق. لان
قرب المعاودة إلى الرمي احفظ لحسن الصنيع، فان رمى أحدهما أكثر من سهم
فإن كان قبل استقرار هذا الترتيب كان محتسبا به مصيبا ومخطئا، وإن كان بعد
استقراره لم يحتسب به مصيبا ولا مخطئا، لأنه قبل الاستقرار يجوز وبعد
الاستقرار ممنوع.
وهذا الذي ذكرناه هو الشرط التاسع من شروط الرمي. قال في الحاوي
الكبير: يذكر المبتدئ منهما بالرمي وكيفية الرمي هل يتراميان سهما وسهما
أو خمسا وخمسا ليزول التنازع ويعمل كل واحد منهما على شرطه، فان أغفل
ذكر المبتدئ منهما بالرمي ففي العقد قولان (أحدهما) انه باطل (والثاني) جائز
وفى المبتدئ وجهان (أحدهما) مخرج المال (والثاني) من قرع، وان أغفل
عدد ما يرميه كل واحد منهما في يديه فالعقد صحيح ويحملان على عرف الرماة ان
لم يختلف، فان اختلف عرفهم رميا سهما وسهما.
قلت: وقد مضى ذكر الشرط العاشر، وهو المال المخرج في النضال ويسمى
الحظر ويجب ذكره، فإن كان مجهلا ففي استحقاقه لأجرة مثله إذا نضل وجهان
(فرع) ولا يجوز ان يتناضلا على أن تكون إصابة أحدهما قرعا وإصابة
الاخر خسقا، لان المقصود بالعقد معرفة أحذقهما بالرمي، كما لا يجوز أن
يتفاضلا على أن تكون إصابة أحدهما خمسة من عشرين وإصابة الاخر عشرة
من عشرين لما فيه من التفاضل الذي لا يعلم به الاحذق
قال الشافعي رضي الله عنه: وهو متطوع باطعامه إياه، وما نضله فله أن
يحرزه ويتموله ويمنعه منه ومن غيره، وهو عندي كرجل كان له على رجل دينار
174

فاسلفه الدينار ورده عليه أو أطعمه به فعليه دينار كما هو، وقال أيضا: ومستحق
سبقه يكون ملكا له يكون لقضائه عليه كالدين يلزمه ان شاء أطعم أصحابه،
وان شاء تموله.
قلت: وهذا صحيح إذا نضل الرامي ملك مال النضال وكذلك في السبق
وصار كسائر أمواله، فإن كان عينا استحق أخذها، وإن كان دينا استوجب
قبضه ولم يلزمه أن يطعم أصحابه، من أهل النضال والسباق.
وحكى الشافعي عن بعض فقهاء الرماة ان عليه أن يطعم أصحابه ولا يجوز
ان يتملكه، وهذا فاسد، لأنه لا يخلو اما أن يكون كمال الإجارة أو مال الجعالة
لان عقده متردد بين هذين العقدين، والعوض في كل واحد منهما مستحق يتملكه
مستحقه ولا يلزمه مشاركة غيره فبطل ما قاله المخالف فيه، فعلى هذا إن مطل به
المنضول قضى به الحاكم عليه وحبسه فيه وباع عليه ملكه. وان مات أو أفلس
ضرب به مع غرمائه ويقدم به على ورثته.
وقال الشافعي رضي الله عنه: ولو شرط أن يطعم السبق أصحابه كان فاسدا.
وقد ذكرنا ان مال السبق يملكه الناضل ولا يلزمه ان يطعم أصحابه، فان شرط
عليه في العقد أن يطعم أصحابه ولا يملكه كان الشرط فاسدا، لأنه ينافي موجب
العقد، وفى فساد العقد وجهان
(أحدهما) وهو الظاهر من المذهب ان العقد يفسد بفساد الشرط كالبيع.
والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، وبه قال أبو حنيفة ان العقد
صحيح لا يفسد بفساد هذا الشرط، لان نفعه لا يعود على مشترطه،
وكان وجوده كعدمه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا تناضلا لم يخل أما أن يكون الرمي مبادرة أو محاطة أو حوابى
فإن كان مبادرة، وهو ان يعقد على إصابة عدد من الرشق وان من بدر منهما إلى
ذلك مع تساويهما في الرمي كان ناضلا، فإن كان العقد على إصابة عشرة من
ثلاثين نظرت - فإن أصاب أحدهما عشرة من عشرين، وأصاب الاخر تسعة
175

من عشرين، فالأول ناضل لأنه بادر إلى عدد الإصابة، وان أصاب كل واحد
منهما عشرة من عشرين لم ينضل واحد منهما ويسقط رمى الباقي، لان الزيادة
على عدد الإصابة غير معتد بها، وان أصاب الأول تسعة من عشرين وأصاب
الاخر خمسة من عشرين فالنضال بحاله، لأنه لم يستوف واحد منهما عدد
الإصابة فيرميان، فان رمى الأول سهما وأصاب فقد فلج وسقط رمى الباقي،
وان رمى الأول خمسة فأخطأ في جميعها ورمى الثاني فأصاب في جميعها، فان
الناضل هو الثاني ويسقط رمى ما بقي من الرشق، لان الأول أصاب تسعة من
خمسة وعشرين. وأصاب الثاني عشرة من خمسة وعشرين. وان أصاب الأول
تسعة من تسعة عشر وأصاب الاخر ثمانية من تسعة عشر فرمى البادئ سهما
فأصاب فقد نضل، ولا يرمى الثاني ما بقي من رشقه لأنه لا يستفيد به نضلا
ولا مساواة، لان الباقي من رشقه سهم وعليه إصابة سهمين، فإن أصاب كل
واحد منهما تسعة من عشرة ثم رمى البادئ فأصاب جاز للثاني أن يرمى، لأنه
ربما يصيب فيساويه.
(فصل) وإن كان الرمي محاطة وهو أن يعقدا على أصابة عدد من الرشق
وان يتحاطا ما استويا فيه من عدد الإصابة ويفضل لأحدهما عدد الإصابة
فيكون ناضلا نظرت، فإن كان العقد على إصابة خمسة من عشرين فأصاب كل
واحد منهما خمسة من عشرة لم ينضل أحدهما الاخر، لأنه لم يفضل هل عدد من
الإصابة ويرميان ما تبقى من الرشق، لأنه يرجو كل واحد منهما أن ينضل، فان
فضل لأحدهما بعد تساويهما في الرمي واسقاط ما استويا فيه عدد الإصابة لم يخل
- أما أن يكون قبل إكمال الرشق أو بعده - فإن كان بعد إكمال الرشق بان رمى
أحدهما عشرين وأصابها، ورمى الاخر فأصاب خمسة عشر، فالأول هو
الناضل، لأنه يفضل هل بعد المحاطة فيما استويا فيه عدد الإصابة، وإن كان قبل
كمال الرشق وطالب صاحب الأقل صاحب الأكثر برمي باقي الرشق نظرت، فإن لم
يكن له فائدة مثل أن يرمى الأول خمسة عشر وأصابها، ورمى الثاني خمسة
عشر فأصاب خمسة، لم يكن له مطالبته لان أكثر ما يمكن أن يصيب فيما بقي له
وهو خمسة، ويبقى للأول خمسه فينضله، بها، وإن كان له فيه فائدة بأن يرجو
176

أن ينضل بأن يرمى أحدهما أحد عشر فيصيب ستة ويرمى الاخر عشرة.
فيصيب واحدا، ثم يرمى صاحب الستة فيخطئ فيما بقي له من الرشق. ويرمى
صاحب الواحد فيصيب في جميع ما بقي له فينضله بخمسه أو يساويه بأن يرمى
أحدهما خمسة عشر. فيصيب منها عشرة ويرمى الاخر خمسة عشر فيصيب
منها خمسه. ثم يرمى صاحب العشرة فيخطئ في الجميع ويرمى صاحب الخمسة
فيصيب فيساويه أو يقلل اصابته بأن يصيب أحدهما أحد عشر من خمسة عشر
ويصيب الاخر سهمين من خمسة عشر ثم يرمى صاحب الأحد عشر ما بقي له
من رشقه فيخطئ في الجميع ويرمى صاحب السهمين فيصيب في الجميع فيصير له
سبعة ويبقى لصاحبه أربعة. فهل لأقلهما إصابة مطالبة الاخر بإكمال الرشق؟
فيه وجهان (أحدهما) ليس له مطالبته لأنه بدر إلى الإصابة مع تساويهما في الرمي
بعد المحاطة فحكم له بالسبق (والثاني) له مطالبته لان مقتضى المحاطة إسقاط
ما استويا فيه من الرشق. وقد بقي من الرشق بعضه
(فصل) وإن كان العقد على حوابى وهو أن يشترطا إصابة عدد من الرشق
عليه أن يسقط ما قرب من إصابة أحدهما ما بعد من إصابة الاخر: فمن فضل
له بعد ذلك مما اشترطا عليه من العدد كان له السبق. فان رمى أحدهما فأصاب
من الهدف موضعا بينه وبين الغرض قدر شبر حسب له، فان رمى الآخر
فأصاب موضعا بينه وبين الغرض قدر أصبع حسب له وأسقط ما رماه الأول
فإن عاد الأول ورمى فأصاب الغرض أسقط ما رماه صاحبه. وان أصاب أحدهما
الشن وأصاب الاخر العظم الذي في الشن فقد قال الشافعي رحمه الله: من الرماة
من قال: إنه تسقط الإصابة من العظم ما كان أبعد منه.
قال الشافعي رحمه الله: وعندي أنهما سواء. لان الغرض كله موضع الإصابة
فان استوفيا الرشق ولم يفضل أحدهما صاحبه بالعدد الذي اشترطاه فقد تكافأ
وان فضل أحدهما صاحبه بالعدد أخذ السبق.
وحكى عن بعض الرماة أنهما إذا أصابا أعلى الغرض لم يتقايسا. قال والقياس
أن يتقايسا لان أحدهما أقرب إلى الغرض من الاخر فأسقط الأقرب الابعد.
كما لو أصابا أسفل الغرض أو جنبه.
177

(الشرح) أما غريب هذه الفصول فقد مضى شرح المبادرة والمحاطة والحوابى
أما قوله: فلج من الفلوج وبابه خرج فيقال: فلج فلوجا أي ظفر بما يريد،
وقوله: نضل أن فاز عليه بالمراماة
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: وإن كان رميهما مبادرة فبلغ
تسعة عشر من عشرين رمى صاحبه بالسهم الذي يراسله ثم رمى الثاني فإن أصاب
بسهمه ذلك فلج عليه، وإن لم يرم الاخر بالسهم، لان المبادرة أن يفوت أحدهما
الاخر وليس كالمماثلة.
قال المزني: وهذا عندي غلط لا ينضله حتى يرمى صاحبه بمثله، قد ذكرنا
أن الرمي ضربان محاطة ومبادرة فالمبادرة صورتها أن أن يتناضلا على إصابة عشرة
من ثلاثين مبادرة فيكون الرشق ثلاثين سهما والإصابة المشروطة منها عشرة
أسهم فأيهما بدر إلى إصابتها من أقل العددين فيه نضل وسقط رمى الرشق،
وان تكافئا في الإصابة من عدد متساو سقط رمى الثاني وليس منهما فاضل. وبيانه أن
يصيب أحدهما عشرة من عشرين وقد رماها الثاني فنقص منها، ولا يرميان بقية
الرشق لحصول النضل، فلو أصاب كل واحد منهما عشرة من عشرين لم يكن
منهما ناضل ولا منضول وسقط رمى الباقي من الرشق، لان زيادة الإصابة فيه
غير مفيدة لنضل.
ولو أصاب أحدهما خمسة من عشرين وأصاب الاخر تسعة من عشرين
فالنضال بحاله، لان عدد الإصابة لم يستوف، فيرميان من بقية الرشق ما يكمل به
إصابة أحدهما عشرة، فإن رمى الأول سهما فأصاب فقد فلج على الثاني ونضل
وسقط رمى الثاني، ولو رمى الأول خمسة فأخطأ في جميعها ورمى الثاني خمسة
فأصاب في جميعها صار الثاني ناضلا وسقط رمى الثاني من الرشق، لان الأول
أصاب تسعة من خمسة وعشرين وأصاب الثاني عشرة من خمسة وعشرين
ثم على هذا الاعتبار.
فأما مسألة الكتاب فصورتها أن يتناضلا على إصابة عشرة من ثلاثين مبادرة
فيصيب البادئ منهما تسعة من تسعة عشر ويصيب الاخر ثمانية من تسعة عشر
178

ثم يرمى البادئ منهما سهما آخر يستكمل به العشرين فيصيب فيصير به ناضلا،
ويمنع الاخر من رمى السهم الاخر الذي رماه الثاني لأنه لا يستفيد به نضالا ولا
مساواة، لان الثاني له من العشرين سهم واحد وعليه إصابتان. ولو رمى فأصابه
بقيت عليه إصابة يكون بها منضولا فلم يكن لرميه معنى يستحقه بالعقد. فلذلك
منع منه. ولو كان كل واحد منهما قد أصاب تسعة من تسعة عشر ثم رمى المبادئ
وأصاب كان للمبدأ أن يرمى بجواز أن يصيب فيكافئ
فأما المزني فظن أن الشافعي منع المبدأ أن يرمى بالسهم الباقي في هذه المسألة
فتكلم عليه وليس كما ظن بل أراد منعه في المسألة المتقدمة للتعليل المذكور.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: وإن اشترطا محاطة فكل ما أصاب
أحدهما وأصاب الاخر مثله أسقطا العددين ولا شئ لواحد منهما ويستأنفان.
وإن أصاب أقل من صاحبه حط مثله حتى يخلص له ذلك العدد الذي شرطه
فينضله به.
قد ذكرنا أن النضال على ضربين محاطة ومبادرة. فبدأ الشافعي رضي الله عنه
بذكر المحاطة في الام وإن جعلها المصنف هنا بعد المبادرة، لان الغالب من النضال
في زمانه كان محاطة والغالب في بلد الشيخ أبي إسحاق كان المبادرة، وقد قيل إن
الشافعي كان راميا يصيب من العشرة ثمانية في الغالب، وهي عادة حذاق الرماة
فإذا عقدا سبق النضال على إصابة خمسة من عشرين محاطة ورماية وجب
أن يحط أقل الإصابتين من أكثرهما وينظر في الباقي بعد الحط، فإن كان خمسة
فهو القدر المشروط فيصير صاحبه به ناضلا. وإن كان الباقي أقل من خمسة لم
ينضل، وإن كان أكثر إصابة لنقصانه من العدد المشروط، وإذا كان كذلك لم
يخل حالهما بعد الرمي من أحد أمرين: اما أن يتساويا في الإصابة أو يتفاضلا،
فان تساويا في الإصابة فأصاب كل واحد منهما عشرا عشرا أو خمسا خمسا قال
الشافعي فلا شئ لواحد منهما ويستأنفان.
فاختلف أصحابنا في قوله: ويستأنفان على وجهين حكاهما أبو علي بن أبي هريرة
أحدهما يستأنفان الرمي بالعقد الأول، لان عقد المحاطة ما أوجب حط الأقل
179

من الأكثر وليس مع التساوي عقد حط. فخرج من عقد المحاطة. فلذلك
استأنفا الرمي ليصير ما يستأنفانه من عقود المحاطة.
والوجه الثاني: أن أراد بها يستأنفان عقدا مستجدا ان أحبا، لأن العقد
الواحد لا يلزم فيه إعادة الرمي مع التكافؤ، كما لا يلزم في الخيل إعادة
الجري مع التكافؤ.
قال الماوردي: والذي أراه وهو عندي الأصح أن ينظر فان تساويا في
الإصابة قبل الرشق استأنفا الرمي بالعقد الأول، وان تساويا فيه بعد استكمال
الرشق استأنفا بعقد مستحدان أحبا لأنها قبل استكمال الرشق في بقايا أحكام
العقد، وبعد استكماله قد نقصت جميع أحكامه.
فان تفاضلا في الإصابة لم يخل تفاضلهما فيها من أقسام ثلاثة:
1 - أن يفضل ولا ينضل بما فضل. وهو أن يشترطا إصابة خمسة من
عشرين محاطة فيصيب أحدهما عشرة أسهم ويصيب الاخر ستة أسهم، فتحط
الستة من العشرة يكون الباقي منها أربعة فلا ينضل، لان شرط الإصابة خمسة
وهكذا لو أصاب أحدهما خمسة عشر وأصاب الاخر أحد عشر لم ينضل
الفاضل لان الباقي له بعد الحط أربعة، ثم على هذا الاعتبار إن كان الباقي
أقل من خمسة.
2 - أن ينضل بما فضل بعد استيفاء الرشق. وهو أن يصيب أحدهما
خمسة عشر من عشرين، ويصيب الاخر عشرة من عشرين فينضل الفاضل
لأنك إذا أسقطت من اصابته عشرة كان الباقي بعدها خمسة، وهو عدد
النضل. وهكذا لو أصاب أحدهما عشرة وأصاب الاخر خمسة كان الفاضل
ناضلا، لأنك إذا أسقطت الخمسة من اصابته كان الباقي بعدها خمسة، وهو
عدد الإصابات. وهكذا لو كان الباقي بعد الحط أكثر من خمسة، ثم
على هذا الاعتبار.
180

3 أن ينضل بما فضل قبل استيفاء الرشق وهو أن يصيب أحدهما عشرة من
خمسة عشر، ويصيب الآخر خمسة من خمسة عشر ويكون الباقي من الأكثر
خمسة، وهو عدد النضل، فهل يستقر النضال بهذا قبل استيفاء الرشق أم لا؟
على وجهين.
أحدهما: يستقر النضل ويسقط باقي الرشق، لان مقصوده معرفة الاحذق
وقد عرف.
والوجه الثاني: وهو الأظهر، أنه لا يستقر النضل بهذه المبادرة إلى العدد
حتى يرميا بقية الرشق، لأن العقد قد تضمنها، وقد يجوز أن يصيب المفضول
جميعها أو أكثرها ويخطئ الفاضل جميعها أو أكثرها. وعلى هذا يكون التفريع
فإذا رميا بقية الرشق وهو الخمسة الباقية، فإن أصاب المفضول جميعها وأخطأ
الفاضل جميعها فقد استويا ولم ينضل واحد منهما، لان إصابة كل واحد منهما
عشرة، وإن أصاب الفاضل وأخطأ المفضول جميعها استقر فضل الفاضل لأنه
أصاب خمسه وعشرين، وأصاب المفضول خمسه من عشرين فكان الباقي بعد
الحط عشرة، هي أكثر من شرطه، فلو أصاب الفاضل من الخمسة الباقية سهما
وأصاب المفضول سهمين لم ينضل الفاضل لان عدد إصابته أحد عشر سهما وعدد
إصابة المفضول سبعه إذا حطت من تلك الإصابة كان الباقي أربعة والشرط أن
تكون خمسه، فلذلك لم ينضل وإن فضل.
فلو أصاب الناضل سهمين والمنضول سهمين صار الفاضل ناضلا، لأنه أصاب
اثنى عشرة وأصاب المنضول سبعه يبقى للناضل بعد الحط خمسه، ولو أصاب
أحدهما سبعه من عشرة وأصاب الاخر سهمين من عشرة فإذا رميا بقية السهام
فإن أصاب المفضول جميعها وأخطأ الفاضل جميعها صار الأول ناضلا والثاني
منضولا، لان الأول له سبعه والثاني له اثنا عشر يبقى له بعد الحط خمسه، ولو
أصاب الأول جميعها وأصاب الثاني جميعها كان الأول ناضلا لان إصابته سبعة
عشر وإصابة الثاني اثنا عشر، فإن أخطأ الأول في سهم من بقية الرشق لم يفضل
ولم ينضل، ولو أصاب اثنى عشر من خمسة عشر وأصاب الاخر سهمين من
181

خمسة عشر استقر النضل وسقط بقية الرشق وجها واحدا، لان المنضول لو
أصاب جميع الخمسة الباقية من الرشق حتى استكمل بما تقدم سبعه كان منضولا،
لان الباقي للفاضل بعد حطها خمسه فلم يستفد ببقية الرمي أن يدفع عن نفسه
النضل فسقط، ثم على هذا الاعتبار.
(فرع) قول المصنف: وإن كان العقد على حوابى. فإن الحوابى نوع من
أنواع الرمي وهم فيه أبو حامد الأسفراييني فجعله صفه من صفات السهم وسماه
حوابى بإثبات الياء فيه وحذفها وأنه السهم الواقع دون الهدف ثم يحبو إليه حتى
ينضل به مأخوذا من حبو الصبي. وهذا نوع من الرمي المزدلف يفترقان في الاسم
لان المزدلف أحد والحوابى أضعف ويستويان في الحكم على ما سيأتي، والذي
قاله سائر أصحابنا أن الحوابى نوع من الرمي، وأن أنواع الرمي ثلاثة: المحاطة
والمبادرة والحوابى وقد ذكرنا المحاطة والمبادرة.
فأما الحواب فهو أن يحتسب بالإصابة في الشن، وإن أصاب أحدهما الهدف
على شبر من الشن فأحتسب به ثم أصاب الاخر الهدف فتر من الشن احتسب به
وأسقط إصابة الشبر لأنها أبعد، ولو أصاب أحدهما خارج الشن واحتسب به
وأصاب الاخر في الشن احتسب به وأسقط إصابة خارج الشن، ولو أصاب
أحدهما الشن فأحتسب به وأصاب الاخر الدارة التي في الشن فأحتسب به وأصاب
الاخر العظم الذي في دارة الشن احتسب وأسقط إصابة الدارة فيكون كل
قريب مسقطا لما هو أبعد منه، فهذا نوع من الرمي ذكره الشافعي في كتاب الام
وذكر مذاهب الرماة فيه وفرع عليه، ولم يذكره المزني إما لاختصاره، وإما
لأنه غير موافق لرأيه لضيقه وكثره خطره، لأنه يثبت الإصابة بعد إثباتها،
والمذهب كما ذكر المصنف جوازه لامرين.
(أحدهما) أنه نوع معهود في الرمي فأشبه المحاطة والمبادرة.
(والثاني) أنه أبعث على التمرن على الحذق، والتمرس بمعاطاة الدقة في التصويب
والتسديد فصح، فإذا كان كذلك في جواز النضال على إصابة الحواب وكان عقدهما
على إصابة خمسه من عشرين فلها إذا تناضلا ثلاثة أحوال.
182

1 - أن يقصرا عن عدد الإصابة.
2 - أن يستوفيا عدد الإصابة.
3 - أن يستوفيها أحدهما ويقصر الاخر عنها.
فأما الأول كأن يصيب كل منهما أقل من خمسة فقد ارتفع حكم العقد بنقصان
الإصابة من العد والمشروط من غير أن يكون فيها ناضل أو منضول ولا اعتبار
بالقرب والبعد مع نقصان العدد. وأما الثانية من استيفائهما معا عدد الإصابة
فيصيب كل منهما خمسة فصاعدا، فيعتبر حينئذ حال القرب والبعد، فإنهما
لا يخلو أمرهما من:
(أ) أن تكون الإصابات في الهدف، وقد تساوت في القرب من الشن،
وليست بعضها بأقرب إليه من بعض فقد تكافئا; وليس فيهما ناضل ولا منضول
وهكذا لو تقدم لكل واحد منهما سهم كان أقرب إلى الشن من باقي سهامه
وتساوى السهمان المتقدمان في القرب من الشن كانا سواء لا ناضل فيهما ولا
منضول، فإن تقدم لأحدهما سهم وللآخر سهمان وتساوت السهام الثلاثة في قربها
من الشن ففيه وجهان.
أحدهما: أن المتقرب بسهمين ناضل للمتقرب بسهم لفضله في العدد. والثاني
أنهما سواء لا ناضل فيهما ولا منضول، لان النضال الحواب موضوع على القرب
دون زيادة العدد.
(ب) أن تكون سهام أحدهما أقرب إلى الشن من سهام الاخر، فأقربهما
إلى الشن هو الناضل، وأبعدهما من الشن هو المنضول، وهكذا لو تقدم لأحدهما
سهم واحد فكان أقرب إلى الشن من جميع سهام الاخر أسقط به سهام صاحبه
ولم يسقط به سهام نفسه، وكان هو الناضل بسهم الأقرب.
(ج) أن تكون سهام أحدهما في الهدف وسهام الاخر في الشن فيكون
المصيب في الشن هو الناضل والمصيب في الهدف منضول.
وهكذا لو كان لأحدهما سهم واحد في الشن وجميع سهام الاخر خارج الشن
كان المصيب في الشن هو الناضل بسهمه الواحد، وقد أسقط به سهام صاحبه ولم
يسقط به سهام نفسه، وإن كانت أبعد إلى الشن من سهام صاحبه
183

(د) أن تكون سهامهما جميعا صائبة في الشن، ولكن سهام أحدهما أو بعضهما
في الدارة وسهام الآخر خارج الدارة وإن كان جميعا في الشن ففيه وجهان.
(أحدهما) وقد حكاه الشافعي عن بعض الرماة أن المصيب في الدارة ناضل
والمصيب خارج الدارة منضول قطب الإصابة.
(والوجه الثاني) وإليه أشار الشافعي في اختياره أنهما سواء وليس منهما
ناضل ولا منضول، لان جميع الشن محل الإصابة.
وأما الحال الثالثة: وهو أن يستوفى أحدهما إصابة الخمس ويقصر الاخر عنها
فهذا على ضربين. أحدهما: أن يكون مستوفى الإصابة أقرب سهاما إلى الشن أو
مساويا صاحبه، فيكون ناضلا والمقصر منضولا. والثاني: أن يكون المقصر في
الإصابة أقرب سهاما من المستوفى لها، فليس فيهما ناضل ولا منضول، لان
المستوفى قد سقطت سهامه ببعدها، والمقصر قد سقطت سهامه بنقصانها، والله
تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان النضال بين حزبين جاز. وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة
أنه قال: لا يجوز لأنه يأخذ كل واحد منهم بفعل غيره، والمذهب الأول لما رويناه
في أول الكتاب من حديث سلمة بن الأكوع، وينصب كل واحد من الحزبين
زعيما يتوكل لهم في العقد، ولا يجوز أن يكون زعيم الحزبين واحدا، كما لا يجوز
أن يكون وكيل المشترى والبائع واحد، ولا يجوز إلا على حزبين متساويي العدد
لان القصد معرفة الحذق، فإذا تفاضلا في العدد فضل أحدهما الاخر بكثرة العدد
لا بالحذق وجودة الرمي، ويجب أن يتعين الرماة كما قلنا في نضال الاثنين،
ولا يجوز أن يتعينوا إلا بالاختيار، فإن اقترع الزعيمان على أن من خرجت عليه
قرعة أحدهما كان معه لم يجز، لأنه ربما أخرجت القرعة الحذاق لاحد الحزبين
والضعفاء للحزب الاخر، فإن عدل بين الحزبين في القوة والضعف بالاختيار،
ثم اقترع الزعيمان على أن من خرجت قرعته على أحد الحزبين كان معه لم يجز،
لأنه عقد معاوضة فلم يجز تعيين المعقود عليه فيه بالقرعة كالبيع.
184

ويجب أن يكون على عدد من الرشق معلوم، فأن كان عدد كل حزب ثلاثة
اعتبر أن يكون عدد الرشق له ثلث صحيح كالثلاث والستين، وإن كانوا أربعة
اعتبر أن يكون عدد الرشق له ربع صحيح كالأربعين والثمانين، لأنه إذا لم يفعل
ذلك بقي سهم ولا يمكن اشتراك جماعة في سهم واحد، فإن خرج في أحد الحزبين
من لا يحسن الرمي بطل العقد فيه، لأنه ليس بمحل في العقد وسقط من الحزب
الاخر بإزائه واحد، كما إذا بطل البيع في أحد العبدين سقط ما في مقابلته من الثمن
وهل يبطل العقد في الباقي من الحزبين؟ فيه قولان بناء على تفريق الصفقة.
فإن قلنا: لا يبطل في الباقي ثبت للحزبين الخيار في فسخ العقد، لان الصفقة
تبعضت عليهم بغير اختيارهم، فان اختاروا البقاء على العقد وتنازعوا فيمن
يخرج في مقابلته من الحزب الاخر فسخ العقد، لأنه تعذر إمضاؤه على مقتضاه
ففسخ. ومن أصحابنا من قال: يبطل في الجميع قولا واحدا، لان من في مقابلته
من الحزب الاخر لا يتعين، ولا سبيل إلى تعيينه بالقرعة، فبطل في الجميع. فإن
نضل أحد الحزبين الاخر ففي قسمة المال بين الناضلين وجهان.
أحدهما: تقسم بينهم بالسوية كما يجب على المنضولين بينهم بالسوية، فعلى هذا
إن خرج فيهم من لم يصب استحق.
والثاني: تقسم بينهم على قدر إصاباتهم لأنهم استحقوا بالإصابة فاختلف
باختلاف الإصابة، ويخالف ما لزم المنضولين، فإن ذلك وجب بالالتزام
والاستحقاق بالرمي، فاعتبر بقدر الإصابة، فعلى هذا إن خرج فيهم من لم يصب
لم يستحق شيئا، وبالله التوفيق.
(الشرح) الأحكام: قال الشافعي رضي الله عنه: إذا اقتسموا ثلاثة وثلاثة
فلا يجوز أن يقترعوا وليقسموا قسما معروفا. قلت: إذا صح هذا فالنضال
ضربان: أفراد وأحزاب، فأما نضال الافراد فقد مضى في فصول الكتاب.
وأما نضال الأحزاب فهو أن يناضل حزبان يدخل في كل واحد منهما جماعة يتقدم
عليهم أحدهم فيعقد النضال على جميعهم فهذا يصح على شروطه، وهو منصوص
الشافعي وعليه جماعة أصحابه وجمهورهم.
185

وحكى عن أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يصح لان كل واحد يأخذ بفعل غيره
وهذا فاسد لأنهم إذا اشتركوا صار فعل جميعهم واحدا فاشتركوا في موجبه
لاشتراكهم في فعله مع ورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم برواية أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقوم يرمون فقال: ارموا
وأنا مع بنى الأذرع، فأمسك القوم قسيهم وقالوا: يا رسول الله من كنت معه
غلب، فقال: ارموا وأنا معكم كلكم فدل على أنهم كانوا حزبين مشتركين ولان
مقصود النضال التحريض على الاستعداد للحرب والجهاد، وهو بالأحزاب
والمجموعات أشد تحريضا وأكثر اجتهادا، وادعى إلى التنسيق بين افراد الجماعة
وربطهم بالنظام والقيادة، وتلك لعمر الله أعظم أسباب النصر في الجهاد.
فإذا ثبت جوازه في الحزبين بجوازه بين الاثنين فلصحته خمسه شروط:
(أحدها) أن يتساوى عدد الحزبين، ولا يفضل أحدهما على الاخر فيكونوا
ثلاثة وثلاثة، أو خمسة وخمسة أو أقل أو أكثر، فان فضل أحدهما على
الآخر برجل بطل العقد لان مقصوده معرفة أحذق الحزبين، فإذا تفاضلوا
تغالبوا بكثرة العدد لا بحذق الرمي.
(الثاني) أن يكون العقد عليهم باذنهم، فإن لم يأذنوا فيه لم يصح، لأنه عقد معاوضة
متردد بين الإجارة والجعالة، وكل واحد منهما لا يصح إلا باذن واختيار
فان عقد عليهم من لم يستأذنهم بطل (والثالث) أن يعينوا على متولى العقد منهم
فيكون فيه متقدما عليهم ونائبا عنهم، فإن لم يعينوا واحدا منهم لم يصح العقد
عليهم لأنه توكيل فلم يصح إلا بالتعيين، ويختار أن يكون زعيم كل
حزب أحذقهم وأطوعهم، لان صفة الزعيم في العرف أن يكون متقدما في
الصناعة، مطاعا في الجماعة، فان تقدموه في الرمي وأطاعوه في الاتباع جاز، وان
تقدمهم في الرمي ولم يطيعوا في الاتباع لم يجز، لان أهم خصائص الزعيم أن يكون
مطاعا، فإذا أمر ولم يتبعه أحد فلا يجوز العقد عليه.
(والرابع) أن يكون زعيم كل واحد من الحزبين غير زعيم الحزب الاخر
186

لتصح نيابته عنهم في العقد عليهم مع الحزب الاخر، فإن كان زعيم الحزبين واحدا
لم يصح كما لا يصح أن يكون الوكيل في العقد بائعا ومشتريا.
والشرط الخامس وهو مسألة الكتاب أن يتعين رماة كل حزب منهما قبل
العقد باتفاق ومراضاة، فان عقده الزعيمان عليهم ليقترعوا على من يكون في كل
حزب لم يصح، مثال ذلك: أن يكون الحزبان ثلاثة وثلاثة، فيقول الزعيمان
نقترع عليهم فمن حرجت قرعتي عليه كان معي، ومن خرجت قرعتك عليه كان
معك، فهذا لا يصح لامرين.
أحدهما: أنهم أصل في عقد فلم يصح عقده على القرعة كابتياع أحد العينين بالقرعة
والثاني: أنه ربما أخرجت القرعة حذاقهم لاحد الحزبين، وضعفاءهم للحزب
الآخر، فخرج عن مقصود التحريض في التناضل، فان عدلوا بين الحزبين في
الحذق والضعف قبل العقد على أن يقترع الزعيمان على كل واحد من الحزبين بعد
العقد لم يصح التعليل الأول من كونهم في العقد أصلا دون التعليل الثاني من
اجتماع الحذاق في أحد الحزبين، لأنهم قد رفعوه بالتعديل، فإذا ثبت تعينهم قبل
العقد بغير قرعة تعينوا فيه بأحد أمرين، إما بالإشارة إليهم إذا حضروا، وإن لم
يعرفوا، وإما بأسمائهم إذا عرفوا، فان تنازعوا عند الاختيار قبل العقد فعدلوا
إلى القرعة في التقدم بالاختيار جاز لأنها قرعة في الاختيار وليست بقرعة في
العقد، فإذا قرع أحد الزعيمين اختار من الستة واحدا ثم اختار الزعيم الثاني
واحدا، ثم دعا الزعيم الأول فاختار ثانيا واختار الزعيم الثاني ثانيا، ثم عاد الأول
فاختار ثالثا، وأخذ الاخر الثالث الباقي. ولم يجز أن يختار الأول الثلاثة في حال
واحدة لأنه لا يختار إلا الاحذق، فيجتمع الحذاق في حزب والضعفاء في حزب
فيعدم مقصود التناضل من التحريض.
(فرع) فإذا تكاملت الشروط الخمسة في عقد النضال بين الحزبين لم يخل
حالهم في مال السبق من ثلاثة أقسام.
أحدها: أن يخرجها أحد الحزبين دون الاخر، فهذا يصح سواء انفرد زعيم
الحزب باخراجه أو اشتركوا فيه، ويكون الحزب المخرج للسبق معطيا إن كان
187

منضولا وغير آخذ إن كان ناضلا ن ويكون الحزب الآخر آخذا إن كان ناضلا
وغير معط إن كان منضولا، وهذا يغنى عن المحلل لأنه محلل.
والقسم الثاني: أن يكون الحزبان مخرجين، ويختص باخراج المال زعيم الحزبين
فهذا يصح ويغنى عن محلل، لان مدخل المحلل ليأخذ ولا يعطى، ورجال كل
حزب يأخذون ولا يعطون، فإذا نضل أحد الحزبين أخذ زعيمهم مال نفسه،
وقسم مال الحزب المنضول بين أصحابه، فإن كان الزعيم راميا معهم شاركهم في
مال السبق، وإن لم يرم معهم فلا حق له فيه، لأنه لا يجوز أن يتملك مال النضال
من لم يناضل، وصار معهم كالأمين والشاهد، فان رضخوا له بشئ منه عن
طيب أنفسهم جاز وكان قطوعا، فان شرط عليهم أن يأخذ معهم بطل الشرط ولم
يبطل به العقد لأنه ليس بينه وبين أصحابه عقد يبطل بفساد شرطه، وإنما العقد
بين الحزبين وليس لهذا الشرط تأثير فيه.
والقسم الثالث: أن يخرجا المال ويشترك أهل كل حزب في إخراجه، فهذا
لا يصح حتى يدخل بين الحزبين حزب ثالث يكون محللا يكافئ كل حزب في
العدد والرمي يأخذ ولا يعطى كما يعتبر في إخراج المتناضلين المال أن يدخل بينهما
محلل ثالث يأخذ ولا يعطى.
فإذا انعقد النضال بين الحزبين على ما وصفنا اشتمل الكلام بعد تمامه بالمال
المسمى فيه على ثلاث مسائل.
(إحداها) في حكم المال المخرج في كل حزب، ولهم فيه حالتان. إحداهما:
أن لا يسموا قسط كل واحد من جماعتهم فيشتركوا في التزامه بالسوية على
أعدادهم من غير تفاضل فيه لاستوائهم في التزامه، فإن كان زعيمهم راميا معهم
دخل في التزامه كأحدهم كما يدخل في الاخذ معهم، فإن لم يكن راميا لم يلزم معهم
كما لا يأخذ معهم.
والثانية: أن يسموا قسط كل واحد منهم في التزام مال السبق فهو على ضربين
أن يتساوى في التسمية فيصح، لأنه موافق لحكم الاطلاق. والضرب الثاني:
أن يتفاضلوا فيه، ففي جوازه وجهان (أحدهما) لا يجوز لتساويهم في العقد
فوجب أن يتساووا في الالتزام.
188

(والثاني) يجوز لأنه عن اتفاق لم يتضمنه فيما بينهم عقد فاعتبر فيه التراضي
فان شرطوا أن يكون المال بينهم مقسطا على صواب كل واحد منهم وخطئه لم يجز
لأنه على شرط مستقبل مجهول غير معلوم فبطل ولا يؤثر بطلانه في العقد لأنه
ليس فيما بينهم عقد وكانوا متساوين فيه.
المسألة الثانية في حكم نضالهما وفيما يحتسب به من الصواب والخطأ، والمعتبر
فيه أن يكون عدد الرشق ثلاثين أو ستين أو تسعين أو عددا يكون له ثلث
صحيح، ولا يجوز أن يكون عدد الرشق خمسين ولا سبعين ولا مائة، لأنه
ليس له ثلث صحيح.
وإن كان عدد الحزب أربعة كان عدد الرشق أربعين أو ماله ربع صحيح،
ولا يجوز أن يكون عدد الرشق ما ليس له ربع صحيح، وهكذا إن كان عدد الحزب
خمسة وجب أن يكون عدد الرشق ماله خمس صحيح لأنه إذا لم ينقسم عدد الرشق
على عدد الحزب الا بكسر يدخل عليهم لم يصح التزامهم له لان اشتراكهم في
رمى السهم لا يصح، فأما عدد الإصابة المشروطة فيجوز أن لا ينقسم على عددهم
لأن الاعتبار فيها بإصابتهم لا باشتراكهم، فإذا استقر هذا بينهم لزعيم كل حزب
بإصابات كل واحد من أصحابه واحتسب عليه خطأ كل واحد منهم سواء تساوى
رجال الحزب في الإصابة وهو نادر أو تفاضلوا فيها وهو الغالب، فإذا جمعت
الإصابتان والمشروط فيها إصابة خمسين من مائة لم يخل مجموع الإصابتين من
ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يكون المجموع من إصابة كل حزب خمسين فصاعدا، فليس فيهما
منضول، وان تفاضلا في النقصان من الخمسين.
والحال الثانية: أن مجموع إصابة كل منهما أقل من خمسين، فليس فيهما
منضول لتساويهما في النقصان.
والحال الثالثة: أن يكون مجموع إصابة إحداهما خمسين فصاعدا، ومجموع
إصابة الاخر أقل من خمسين فمستكمل الخمسين هو الناضل، وإن كان أحدهم في
189

الإصابة مقلا فالمقصور عن الخمسين هو المنضول، وإن كان أحدهم في الإصابة
مكثرا فيصير مقلل الإصابة آخذا ومكثرها معطيا، لان حزب المقلل ناضل
وحزب المكثر منضول.
المسألة الثالثة في حكم المال إذا استحقه الحزب الناضل. فيقسم بين جميعهم
وفى قسمته بينهم وجهان:
(أحدهما) أنه مقسوم بينهم بالسوية مع تفاضلهم في الإصابة لاشتراكهم في
العقد الذي أوجب تساويهم فيه.
والوجه الثاني: أنه يقسم بينهم على قدر إصاباتهم لأنهم بالإصابة قد استحقوه
فلا يكافئ مقل الإصابة مكثرها. وخالف التزام المنضولين حيث تساووا فيه مع
اختلافهم في الخطأ، لان الالتزام قبل الرمي فلم يعتبر بالخطأ والاستحقاق بعد
الرمي، فصار معتبرا بالصواب.
فعلى هذا لو أخطأ واحد من أهل الحزب الناضل في جميع سهامه ففي خروجه
من الاستحقاق وجهان:
(أحدهما) يستحق معهم وإن لم يصب إذا قيل بالوجه الأول: انه مقسوم
بينهم بالسوية لا على قدر الإصابة.
والوجه الثاني أنه يخرج بالخطأ من الاستحقاق ويقسم بين من عداه إذا قيل
بالوجه الثاني إنه مقسوم بينهم على قدر الإصابة ويقابل هذا أن يكون في الحزب
المنضول من أصاب بجميع سهامه. ففي خروجه من التزام المال وجهان.
(أحدهما) يخرج من التزامه إذا قيل بخروج المخطئ من استحقاقه
والوجه الثاني: لا يخرج من الالتزام ويكون فيه أسوة من أخطأ إذا قيل
بدخول المخطئ في الاستحقاق، وأنه فيه أسوة من أصاب. والله أعلم بالصواب
190

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب بيان الإصابة والخطأ في الرمي)
إذا عقد على إصابة الغرض فأصاب الشن أو الجريد الذي يشد فيه الشن
أو العرى وهو السير الذي يشد به الشن على الجريد، حسب له. لان ذلك كله
من الغرض، وإن أصاب العلاقة ففيه قولان (أحدهما) يحسب له، لأنه من
جملة الغرض، ألا ترى أنه إذا مد امتد معه فأشبه العرى (والثاني) لا يحسب
لان العلاقة ما يعلق به الغرض. فأما الغرض فهو الشن وما يحيط به، وإن
شرط إصابة الخاصرة وهو الجنب من اليمين واليسار فأصاب غيرهما لم يحسب له.
لأنه لم يصب الخاصرة.
وان شرط إصابة الشن فأصاب العروة - وهو السير أو العلاقة - لم يحسب
لان ذلك كله غير الشن، فإن أصاب سهما في الغرض - فإن كان السهم متعلقا
بنصله وباقيه خارج الغرض - لم يحسب له ولا عليه، لان بينه وبين الغرض طول
السهم، ولا يدرى لو لم يكن هذا السهم هل كان يصيب الغرض أم لا يصيب؟
وإن كان السهم قد غرق في الغرض إلى فوقه حسب له، لأن العقد على إصابة
الغرض، ومعلوم انه لو لم يكن هذا لكان يصيب الغرض. فان خرج السهم من
القوس فهبت ريح فنقلت الغرض إلى موضع آخر فأصاب السهم موضعه حسب له
وان أصاب الغرض في الموضع الذي انتقل إليه حسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ
في الرمي، وإنما أصاب بفعل الريح لا بفعله.
وان رمى وفى الجو ريح ضعيفة فأرسل السهم مفارقا للغرض وأمال يده
ليصيب مع الريح فأصاب الغرض، أو كانت الريح خلفه فنزع نزعا قريبا ليصيب
مع معاونة الريح فأصاب حسب له، لأنه أصاب بفراهته وحذقه، وان أخطأ
حسب عليه، لأنه أخطأ بسوء رميه، ولأنه لو أصاب مع الريح لحسب له،
فإذا أخطأ معها حسب عليه.
وإن كانت الريح قوية لا حيلة له فيها لم يحسب له إذا أصاب، لأنه لم يصب
بحسن رميه، ولا يحسب عليه إذا أخطأ لأنه لم يخطئ بسوء رميه، وإنما أخطأ
191

بالرمي في غير وقته، وان رمى من غير ريح فثارت ريح بعد خروج السهم من
القوس فأخطأ لم يحسب عليه، لأنه لم يخطئ بسوء رميه، وإنما أخطأ بعارض
الريح. وان أصاب فقد قال بعض أصحابنا: فيه وجهان بناء على القولين في إصابة
السهم المزدلف، وعندي انه لا يحسب له قولا واحدا لان المزدلف إنما أصاب
الغرض بحدة رميه ومع الريح لا يعلم أنه أصاب برميه، وان رمى سهما فأصاب
الغرض بفوقه لم يحسب له لان ذلك من أسوأ الرمي وأردئه
(فصل) وان انكسر القوس أو انقطع الوتر، أو أصابت يده ريح فرمى
وأصاب حسب له، لان اصابته مع اختلال الآلة أدل على حذقه، فان أخطأ لم
يحسب عليه في الخطأ لأنه لم يخطئ بسوء رميه وإنما أخطأ بعارض. وان
أغرق السهم فخرج من الجانب الآخر نظرت، فان أصاب حسب له لان اصابته
مع الاغراق أدل على حذقه، وان أخطأ لم يحسب عليه. ومن أصحابنا من قال:
يحسب عليه في الخطأ لأنه أخطأ في مد القوس، والمنصوص هو الأول، لان
الاغراق ليس من سوء الرمي، وإنما هو لمعنى قبل الرمي فهو كانقطاع الوتر
وانكسار القوس، وان انكسر السهم بعد خروجه من القوس وسقط دون
الغرض لم يحسب عليه في الخطأ لأنه إنما لم يصب لفساد الآلة لسوء الرمي،
وان أصاب بما فيه النصل حسب له لان اصابته مع فساد الآلة أدل على حذقه،
وان أصابه بالموضع الاخر لم يحسب له لأنه لم يصب، ولم يحسب عليه لان
خطأه لفساد الآلة لا لسوء الرمي.
(فصل) وان عرض دون الغرض عارض من إنسان أو بهيمة نظرت
فان رد السهم ولم يصل لم يحسب عليه لأنه لم يصل للعارض لا لسوء الرمي
وان نفذ السهم وأصاب حسب له، لان إصابته مع العارض أدل على حذقه.
وحكى أن الكسعي كان راميا فخرج ذات ليلة فرأى ظبيا فرمى فأنفذه وخرج
السهم فأصاب حجرا وقدح فيه نارا فرأى ضوء النار فظن أنه أخطأ فكسر
القوس وقطع إبهامه، فلما أصبح رأى الظبي صريعا قد نفذ فيه سهمه فندم
فضربت به العرب مثلا وقال الشاعر:
ندمت ندامة الكسعي لما * رأت عيناه ما صنعت يداه
192

وان رمى فعارضه عارض فعثر به السهم وجاوز الغرض ولم يصب ففيه
وجهان (أحدهما) وهو قول أبي إسحاق انه يحسب عليه في الخطأ، لأنه أخطأ
بسوء الرمي لا للعارض، لأنه لو كان للعارض تأثير لوقع سهمه دون الغرض
فلما جاوزه ولم يصب دل على أنه أخطأ بسوء رميه فحسب عليه في الخطأ.
(والثاني) انه لا يحسب عليه لان العارض قد يشوش الرمي فيقصر عن الغرض
وقد يجاوزه. وان رمى السهم فأصاب الأرض وازدلف فأصاب الغرض ففيه
قولان (أحدهما) يحسب لأنه أصاب الغرض بالنزعة التي أرسلها وما عرض
دونها من الأرض لا يمنع الاحتساب كما لو عرض دونه شئ فهتكه وأصاب
الغرض (والثاني) لا يحسب له، لان السهم خرج عن الرمي إلى غير الغرض
وإنما اعانته الأرض حتى ازدلف عنها إلى الغرض فلم يحسب له، وان ازدلف ولم
يصب الغرض ففيه وجهان (أحدهما) يحسب عليه في الخطأ لأنه إنما ازدلف
بسوء رميه لان الحاذق لا يزدلف سهمه (والثاني) لا يحسب عليه لان الأرض
تشوش السهم وتزيله عن سننه فإذا أخطأ لم يكن من سوء رميه
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو أغرق أحدهما السهم من
يده ولم يبلغ الغرض كان له أن يعود من قبل العارض
فأما إغراق السهم فهو أن يزيد في مد القوس لفضل قوته حي يستغرق السهم
فيخرج من جانب الوتر المعهود إلى جانب الاخر، فان من أجناس القسي والسهام
ما يكون مخرج السهم منها عن يمين الرامي جاريا على ابهامه فيكون اغراقه أن
يخرج السهم باستيفاء المد إلى يساره جاريا على سبابته، فيكون اغراقه ان يخرج
السهم باستيفاء المد إلى يساره جاريا على سبابته، ومنها ما يكون مخرجه على يسار
الرامي جاريا على سبابته فيكون اغراقه أن يخرج على يمينه جاريا على ابهامه،
فإذا أغرق السهم قال الشافعي: لم يكن اغراقه من سوء الرمي وإنما هو لعارض
فلا يحتسب عليه ان أخطأ به، وفيه عندي نظر، لأنه إذا لم يمد القوس بحسب
الحاجة حتى زاد فيه فأغرق أو نقص فقصر كان بسوء الرمي أشبه، فإذا أخطأ
بالسهم المغرق لم يحتسب عليه على مذهب الشافعي، وان أصاب به احتسب له
لان الإصابة به مع المحلل أدل على حذق الرامي من الإصابة مع الاستقامة
193

وقال الشافعي رضي الله عنه: ولو أرسله مفارقا للشن فهبت ريح فصرفته
إليه ن أو مقصر فأسرعت به فأصاب حسب مصيبا ولا حكم للريح اه‍. إننا نعلم
أن للريح تأثير في تغيير مجرى السهم عن جهته، وحذاق الرماة يعرفون مخرج
السهم عن القوس هل هو مصيب أو مخطئ؟ فإذا خرج السهم فغيرته الريح فهو
على ضربين.
(أحدهما) أن يخرج مفارقا للشن فتعدل به الريح إلى الشن فيصيب أو يكون
مقصرا عن الهدف فهبته الريح حتى أصاب فتعتبر حال الريح، فإن كانت ضعيفة
كان محسوبا في الإصابة لأننا على يقين من تأثير الرمي وفى شك من تأثير الريح،
وإن كانت الريح قوية نظر، فإن كانت موجودة عند الارسال كان محسوبا في
الإصابة لأنه قد اجتهد في التحرز من تأثير الريح وحسب حسابها بتحريف سهمه
فأصاب باجتهاده ورميه، وإن حدثت الريح بعد إرسال السهم ففي الاحتساب به
وجهان تخريجا من اختلاف قوليه في الاحتساب بإصابة المزدلف. أحدهما:
يحتسب به مصيبا إذا احتسبت إصابة المزدلف. والوجه الثاني: لا يحتسب مصيبا
ولا مخطئا، إذا لم يحتسب بإصابة المزدلف.
(والضرب الثاني) أن يخرج السهم موافقا للهدف فتعدل به الريح حتى يخرج
عن الهدف فيعتبر حال الريح، فإن كانت طارئة بعد خروج السهم عن القوس
ألغى السهم ولم يحتسب به في الخطأ، لان التحرز من حدوث الريح غير ممكن،
فلم يذهب إلى سوء الرمي، وإن كانت الريح موجودة عند خروج السهم نظر
فيها فإن كانت قوية لم يحتسب به في الخطأ لأنه أخطأ في اجتهاده الذي يتحرز به
من الريح، ولم يخطئ في سوء الرمي.
وإن كانت الريح ضعيفة ففي الاحتساب به في الخطأ وجهان. أحدهما: يكون
خطأ لأننا على يقين من تأثير الرمي وفى شك من تأثير الريح. والثاني لا يكون
محسوبا في الخط لان الريح تفسد صنيع المحسن، وإن قلت كما تفسده إذا كثرت
فإذا أزالت الريح الشن عن موضعه إلى غيره لم يخل حال السهم بعد زوال الشن
من ثلاثة أحوال.
194

1 - أن يقع في غير الشن وفى غير موضعه الذي كان فيه فيحتسب به مخطئا
لأنه وقع في غير محل الإصابة قبل الريح وبعدها.
2 - أن يقع في الموضع الذي كان فيه الشن في الهدف فيحتسب مصيبا
لوقوعه في محل الإصابة.
3 - أن يقع في الشن بعد زواله عن موضعه، فهذا على ضربين. أحدهما:
أن يزول الشن عن موضعه بعد خروج السهم فتحتسب به في الخطأ لوقوعه في
غير محل الإصابة عند خروج السهم. والضرب الثاني: أن يخرج السهم بعد زوال
الشن عن موضعه وعلم الرامي بزواله فينظر في الموضع الذي صار فيه، فإن كان
خارجا من الهدف لم يحتسب به مصيبا ولا مخطئا لخروجه عن محل الصواب
والخطأ، وإن كان مماثلا لموضعه من الهدف احتسب به مصيبا، لأنه قد صار محلا
للإصابة، والله تعالى أعلم.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: وكذلك لو أنقطع وتره أو انكسر
قوسه فلم يبلغ الغرض، أو عرض دونه دابة أو إنسان فأصابه أو عرض له في
يده ما لا يمر السهم معه كان له أن يعود به.
قلت: إذا انقطع وتره أو انكسر قوسه فقصر وقع السهم وأخطأ لم يحتسب
عليه، لأنه لم يخطئ لسوء رميه، ولكن لنقص آلته، ولو أصاب به كان
محسوبا من اصابته لأنه أدل على حذقة، وهكذا لو عرض دون الهدف عارض
من بهيمة أو انسان وقع السهم فيه ومنع من وصوله إلى الهدف لم يحتسب عليه
وأعيد السهم إليه، فان خرق السهم الحائل ونفذ فيه حتى وصل إلى الهدف
فأصاب كان محسوبا من إصابته لأنه بالإصابة مع هذا العارض أشد وأرمى،
ويسمى هذا السهم مارقا.
وقد كان الكسعي في العرب راميا وقصته كما ساقها المصنف على وجهها،
والكسعي هو محارب بن قيس من كسيعه، وقيل: هو من بنى محارب من قحطان
واسمه عامر بن الحارث، وقد قال عن نفسه أو قيل بلسان حاله فيما جرت عليه
عادة القصاص من تسجيل الاخبار بالشعر على لسان أصحابها:
195

ندمت ندامة لو أن نفسي * تطاوعني إذن لقطعت خمسي
تبين لي سفاه الرأي منى * لعمر أبيك حين كسرت قوسي
وهكذا لو عرض للرامي علة في يده أو أخذته ريح في يديه ضعف بها عن
مد قوسه لم يحتسب عليه إن قصر أو أخطأ، لأنه لعارض يمنع وليس من سوء
رمى أو قلة حذق.
قال الشافعي رضي الله عنه: فأما إن جاز السهم وأجاز من وراء الناس فهذا
سوء رمى وليس بعارض غلب عليه فلا يرد إليه. يقال: جاز السهم إذا مر في
أحد جانبي الهدف ويسمى خاصر وجمعه خواصر، لأنه في أحد الجانبين مأخوذ
من الخاصرة لأنها في جانبي الانسان، ويقال: أجاز السهم إذا وقع وراء
الهدف، فإذا جاز السهم وسقط في جانب الهدف أو أجاز فوقع وراء الهدف كان
محسوبا من خطئة، لأنه منسوب إلى سوء رميه، وليس بمنسوب إلى عارض
في يديه أو إليه.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: الجائز أن يقع في الهدف عن أحد جانبي الشن
فعلى هذا إن كانت الإصابة مشروطة في الشن كان الجائز مخطئا، وإن كانت مشروطة
في الهدف كان الجائز مصيبا، ويجوز أن يشترطا أن تكون إصابة سهامها جائزة
فيحتسب بالجائز ولا يحتسب بغير الجائز.
قال الشافعي رضي الله عنه: ولو كان الشن منصوبا فمرق منه كان عندي
خاسقا، ومن الرماة من لا يحتسبه إذا لم يثبت فيه.
أما السهم المارق فهو أن ينفذ في الشن وهو منصوب فوق الهدف ويخرج منه
فيقع وراء الهدف فيحتسب به في القارع، فأما الخاسق ففي الاحتساب به قولان
أحدهما: وهو منصوص الشافعي أنه يحتسب به خاسقا اعتبارا بالمعنى وأنه زائد
على الخسق فيؤخذ فيه معنى الخسق. والقول الثاني حكاه الشافعي عن بعض الرماة
أنه لا يحتسب به خاسقا اعتبارا بالاسم لأنه يسمى مارقا ولا يسمى خاسقا، فمن
أصحابنا من أثبت هذا القول للشافعي، ومنهم من نفاه عنه، لأنه أضافه إلى غيره
ولا يكون مخطئا، وإن لم يحتسب خاسقا لا يختلف فيه أصحابنا.
196

وأما السهم المزدلف فهو أن يقع على الأرض ثم يزدلف منها بحمولته وحدته
فيصير في الهدف، ففي الاحتساب به مصيبا قولان. أحدهما: يحتسب به مصيبا
لأنه بحدة الرمي أصاب، والقول الثاني: ليس بمصيب لخروجه من الرامي إلى
غير الهدف، وإنما أعادته الأرض حين ازدلف عنها في الهدف.
قال أبو إسحاق المروزي: ومن أصحابنا من لم يخرج المزدلف على قولين،
وحمله على اختلاف حالين باعتبار حاله عند ملاقاة الأرض، فإن ضعفت حموته
بعد ازدلافه ولانت كان محسوبا في الإصابة، وإن قويت وصار بعد ازدلافه أحد
لم يحتسب به مصيبا، ويجوز أن يتناضلا على مروق السهم ولا يجوز أن يتناضلا
على ازدلافه، لان مروق السهم من فعل الرامي، وازدلافه من تأثير الأرض.
فعلى هذا في الاحتساب به مخطئا إذا لم يحتسب به مصيبا وجهان. أحدهما: يكون
مخطئا لأنه من سوء الرمي. والثاني: لا يكون مخطئا ما أصاب ويسقط الاعتداد
به مصيبا ومخطئا، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان العقد على إصابة موصوفة نظرت، فإن كان على القرع
فأصاب الغرض وخزق أو خسق أو مرق حسب له لان الشرط هو الإصابة;
وقد حصل ذلك في هذه الأنواع.
(فصل) وإن كان الشرط هو الخسق نظرت، فان أصاب الغرض وثبت
فيه ثم سقط حسب له، لان الخسق هو أن يثبت وقد ثبت فلم يؤثر زواله بعد ذلك
كما لو ثبت ثم نزعه انسان، فان ثقب الموضع بحيث يصلح لثبوت السهم لكنه لم
يثبت ففيه قولان.
(أحدهما) أنه يحسب له، لان الخسق ان يثقب بحيث يصلح لثبوت السهم
وقد فعل ذلك، ولعله لم يثبت لسعة الثقب أو لغلظ لقيه.
(والثاني) وهو الصيح: انه لا يحسب له لان الأصل عدم الخسق، وانه
لم يكن فيه من القوة ما يثبت فيه فلم يحسب له، وإن كان الغرض ملصقا بالهدف
فأصابه السهم ولم يثبت فيه، فقال الرامي: قد خسق الا أنه لم يثبت فيه لغلظ
197

لقيه من نواة أو حصاة. وقال رسيله: لم يخسق نظرت، فإن لم يعلم موضع
الإصابة من الغرض فالقول قول الرسيل، لان الأصل عدم الخسق، وهل
يحلف؟ ينظر فيه فإن فتش الغرض فلم يكن شئ يمنع من ثبوته لم يحلف،
لان ما يدعيه الرامي غير ممكن، وإن كان هناك ما يمنع من ثبوته حلف، لان
ما يدعيه الرامي غير ممكن.
وإن علم موضع الإصابة ولم يكن فيه ما يمنع من ثبوته فالقول قول الرسيل
من غير يمين، لان ما يدعيه الرامي غير ممكن، وإن كان فيه ما يمنع الثبوت
ففيه وجهان (أحدهما) أن القول قول الرامي، لان المانع شهد له (والثاني) أن
القول قول الرسيل لان الأصل عدم الخسق، والمانع لا يدل على أنه لو لم يكن
لكان خاسقا، ولعله لو لم يكن مانع لكان هذا منتهى رميه فلا يحكم له بالخسق
بالشك، وإن كان في الشن خرق أو موضع بال فوقع فيه السهم وثبت في الهدف
نظرت، فإن كان الموضع الذي ثبت فيه في صلابة الشن اعتد به، لأنا نعلم أنه
لو كان الشن صحيحا لثبت فيه، وإن كان دون الشن في الصلابة كالتراب والطين
الرطب لم يعتد له ولا عليه، لأنا لا نعلم أنه لو كان صحيحا هل كان يثبت فيه
أم لا؟ فيرد إليه السهم حتى يرميه.
وإن خرمه وثبت ففيه قولان (أحدهما) يعتد به لان الخسق هو أن يثبت
النصل وقد ثبت (والثاني) لا يعتد به لان الخسق أن يثبت السهم في جميع الشن
ولم يوجد ذلك، فان مرق السهم فقد قال الشافعي رحمه الله: هو عندي خاسق
ومن الرماة من لا يحتسبه، فمن أصحابنا من قال: يحتسب له قولا واحدا وما
حكاه عن غيره ليس بقول له. لان معنى الخسق قد وجد وزيادة، ولأنه لو
مرق والشرط القرع حسب فكذلك إذا مرق والشرط الخسق
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان (أحدهما) يحسب له لما ذكرناه
(والثاني) لا يحسب له لان الخسق أن يثبت، وما ثبت، ولان في الخسق زيادة
حذق وصنعة من نزع القوس بمقدار الخسق، والتعليل الأول أصح، لان هذا
يبطل به إذا مرق والشرط القرع، وإن أصاب السن ومرق وثبت في الهدف
198

ووجد على نصله قطعة من الشن والهدف دون الشن في الصلابة فقال الرامي هذا
الجلد قطعة سهمي بقوته، وقال الرسيل بل كان في الشن ثقبة وهذه الجلدة كانت
قد انقطعت من قبل فحصلت في السهم فالقول قول الرسيل لان الأصل
عدم الخسق.
(فصل) إذا مات أحد الراميين أو ذهبت يده بطل العقد، لان المقصود
معرفة حذقه، وقد فات ذلك فبطل العقد كما لو هلك المبيع، وان رمدت عينه
أو مرض لم يبطل العقد لأنه يمكن استيفاء المعقود عليه بعد زوال العذر، وان
أراد أن يفسخ فان قلنا إنه كالجعالة كان حكمه حكم الفسخ من غير عذر، وقد
بيناه في أول الكتاب، وإن قلنا إنه كالإجارة جاز أن يفسخ، لأنه تأخر المعقود
عليه فملك الفسخ كما يملك في الإجارة، وإن أراد أحدهما أن يؤخر الرمي للدعة
فان قلنا إنه كالإجارة أجبر عليه كما أجبر في الإجارة، وان قلنا إنه كالجعالة
لم يجبر كما لا يجبر في الجعالة
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو تشارطا المصيب، فمن أصاب
الشن ولم يخرق حسب له لأنه مصيب
قلت: فإذا تشارطا الإصابة احتسب كل مصيب من قارع وخارق وخاسق،
لان جميعها مصيب. وهكذا لو تشارطا الإصابة قرعا احتسب بالقارع وبالمارق
وبالخاسق لأنه زيادة على القرع. ولو تشارطا الخواصر احتسب بكل مصيب
لان إصابة الخواصر مشتمل على كل مصيب من قارع وخارق وخاسق. فأما
الخواصر فهو ما أصاب جانب الشن، فان شرطا في الرمي لم يحتسب الا به،
وان لم يشترطاه احتسب به مع كل مصيب في الشن إذا كانت الإصابة
مشروطة في الشن.
وقال الشافعي رضي الله عنه: ولو تشارطا الخواسق والشن ملصق بالهدف
فأصاب ثم رجع فزعم الرامي أنه خسق ثم رجع لغلظ لقيه من حصاة أو غيرها
وزعم المصاب عليه أنه لم يخسق، وإنما قرع ثم رجع فالقول قوله مع يمينه الا
أن تقوم بينة فيؤخذ بها
199

واشتراط الخسق إنما يكون في إصابة الشن دون الهدف، وقد ذكرنا أن
الشن وهو جلد ينصب في الهدف تمد أطرافه بأوتار أو خيوط تشد في أوتاد
منصوبة في الهدف المبنى، وربما كان ملصقا بحائط الهدف، وربما كان بعيدا
منه بنحو من شبر أو ذراع، وهو أبعد ما ينصب، وخسق الشن إذا كان بعيدا
من الهدف أوضح منه إذا كان ملصقا به.
فإذا رمى والشن ملصق بالهدف فأصاب الشن ثم سقط بالإصابة خسق فزعم
الرامي أنها خسق، ولقى غليظا في الهدف من حصاة أو نواة فرجع وهو خاسق،
وزعم المرمى عليه أنه قرع فسقط ولم يخسق فلهما ثلاثة أحوال:
(أحدها) أن يعلم صدق الرامي في قوله بغير يمين، لان الحال شاهدة بصدقه
والحال الثانية: أن يعلم صدق المرمى عليه في إنكاره إما بأن لا يرى في الشن
خسقا، وإما بأن لا يرى في الهدف غلظا، فالقول قوله ولا يمين عليه، لان
الحال شاهدة بصدقه
والحال الثالثة: أن يحتمل صدق المدعى وصدق المنكر لان هل في الشن
خواسق أم لا، فإن كانت بينة حمل عليها، وإن عدمت البينة فالقول قول
المنكر مع يمينه ولا يحتسب به مصيبا، وفى الاحتساب به مخطئا وجهان:
(أحدهما) يحتسب به في الخطأ إذا لم يحتسب به في الإصابة لوقوف الرامي
بين صواب وخطأ.
والوجه الثاني. لا يحتسب به في الإصابة، لان الإصابة لا يحتسب بها إلا مع
اليقين، وكذلك لا يحتسب بالخطأ إلا مع اليقين، فإن نكل المنكر عن اليمين
أحلف الرامي. فإذا حلف احتسب بإصابته
قال الشافعي رحمه الله: وإن كان الشن باليا فأصاب موضع الخسق فصار
في الهدف فهو مصيب.
وهذا معتبر بالشن والهدف ولهما ثلاثة أحوال (أحدهما) أن يكون الهدف
أشد من الشن لأنه مبنى قد قوى واشتد فإذا وصل السهم إليه من ثقب في الشن
200

ثبت في الهدف الذي هو أقوى من الشن كان ثبوته في الشن الأضعف أجدر.
وهو الذي أراده الشافعي فيحتسب به خاسقا
والحال الثانية أن يكون الشن أقوى من الهدف وأشد لأنه جلد متين والهدف
تراب ثائر أو طين فلا يحتسب به مصيبا ولا مخطئا، أما الإصابة فلجواز
أن لا يخسق الشن. وأما الخطأ فلعدم ما خسقه مع بلى الشن
والحال الثالثة: أن يتساوى الشن والهدف في القوة والضعف فلا يحتسب به
مخطئا، وفى الاحتساب به مصيبا وجهان:
(أحدهما) يحتسب من إصابة الخسق لان ثبوته في الهدف قائم مقام ثبوته
في الشن عند تساويهما.
والوجه الثاني: لا يحتسب في إصابة الخسق ويحتسب في إصابة القرع على
الأحوال كلها. وإن صادف السهم في ثقب في الغرض قد ثبت في الهدف مع
قطعة من الغرض، فقال الرامي: خسقت، وهذه الجلدة قطعها سهمي لشدة الرمية
فأنكر صاحبه وقال: بل هي كانت مقطوعة، فإن علم أن الغرض كان صحيحا
حكم بقول الرسيل لان الأصل عدم الخسق. وقال أحمد وأصحابه القول قول
الرامي إذا كان الغرض صحيحا.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: وإذا أراد المستبق أن يجلس ولا يرمى
وللمستبق فضل له، فسواء قد يكون له الفضل فينضل وعليه الفضل
فينضل. إلى آخر ما قال.
قلت: إذا جلس أحد المتناضلين عن الرمي فله حالتان: أحدهما أن يريد به
تأخير الرمي عن وقته فلا يخلو أن يكون فيه معذورا أو غير معذور، فإن كان له
عذر وطلب التأخير أخر ولم يجبر على التعجيل، سواء قيل بلزومه كالإجارة أو
بجوازه كالجعالة، لأنه ليس بأوكد من فرض الجمعة التي يجوز التأخر عنها بالعذر
وأعذاره في تأخير الرمي ما أثر في نفسه من مرض أو شدة حر أو برد أو أثر في
رميه من شدة ريح أو مطر أو أثر في أهله من موت أو حادث نزل أو أثر في ماله
من جائحة طرقت أو خوف طرأ.
201

وإن لم يكن له تأخير الرمي عذر: والثمن به الدعة إلى وقت آخر ففي
إجباره على التعجيل قولان.
(أحدهما) يجبر عليه إذا قيل بلزومه كالإجارة.
(والثاني) لا يجبر على تعجيله إذا قيل بجوازه كالجعالة. أما الحال الثانية:
كأن يريد بالجلوس عن الرمي فسخ العقد فلا يخلو أن يكون معذورا في الفسخ أو
غير معذور، فإن كان معذورا في الفسخ وأعذار الفسخ أضيق وأغلظ من أعذار
التأخير وهي ما اختصت نفسه من العيوب المانعة من صحة رمية وهي ضربان.
(أحدهما) مالا يرجى زواله كشلل يده أو ذهاب بصره فالفسخ واقع بحدوث
هذا المانع وليس يحتاج إلى فسخه بالقول.
(والضرب الثاني) ما يرجى زواله كمرض يده أو رمد عينيه أو علة جسده
فلا ينفسخ العقد بحدوث هذا المانع بخلاف الضرب الأول لامكان الرمي بعد
زواله ويكون الفسخ بالقول، وذلك معتبر بحال صاحبه، فإن طلب تعجيل الرمي
فله الفسخ لتعذر التعجيل عليه، ويكون استحقاق هذا الفسخ مشتركا بينه وبين
صاحبه، ولكل واحد منهما فسخ العقد به.
وأن أجاب صاحبه إلى الانظار بالرمي إلى زوال المرض فهل يكون عذره في
الفسخ باقيا؟ أم لا؟ على وجهين. أحدهما: يكون باقيا في استحقاق الفسخ لئلا
تكون ذمته مرتهنة بالعقد. والوجه الثاني: أن عذر الفسخ قد زال بالانتظار،
وليس للمنظر أن يرجع في هذا الانظار، وان جاز له أن يرجع في الانتظار بالديون
لان ذلك عن عيب رضى به، وجرى مجرى الانظار بالاعسار، وان لم يكن
لطالب الفسخ عذر في الفسخ، فإن قيل بلزوم العقد كالإجارة لم يكن له الفسخ
وأخذ به جبرا، فإن امتنع منه حبس عليه كما يحبس بسائر الحقوق إذا امتنع منها
فإن طال به الحبس وهو على امتناعه عزر حتى يجيب.
فان قيل بجواز العقد كالجعالة فله الفسخ قبل الرمي وبعد الشروع فيه وقبل
ظهور الغلبة، فان ظهرت الغلبة لأحدهما، فإن كانت لطالب الفسخ، فله الفسخ
وإن كانت لغيره ففي استحقاقه للفسخ قولان مضيا.
202

أحدهما: لا يستحقه بعد ظهورها لتفويت الاغراض بعد ظهورها
والقول الثاني - وهو الذي نص عليه الشافعي هاهنا - له الفسخ لما علل به من
أنه قد يكون له الفضل فينضل، ويكون عليه الفضل فينضل.
(مسألة) إذا عرفت أن الرمي مما يلزم المسلمين حذقه والتمرس عليه لقهر
الأعداء وجهادهم لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وعرفت
أن السهام والنبال من أسلحة النضال قد استحالت في أعصرنا إلى أسلحة نارية منها
ما يصيب بالتوجيه كرشاش بور سعيد واللانكستر والبرتا، ومنها ما يصيب
بالتسديد أو التصويب الدقيق كالبندقية حكيم واللى أنفيلد والتوميجن، ومنها
ما يعطى مخروطا ناريا باللمس الهين ويسمى آليا، ومنها ما يعطى القذيفة بالضغط
بالإصبع ويسمى منفردا، وقليل من حذاق الرماية الذين يستطيعون أن يجعلوا
الآلي منفردا، وهو أمر يفتقر إلى قدرة على ضبط حركة الإصبع وسيطرة على
لمس الزناد، والفرق بين هذه الآلات والآلات السابقة لا يختلف في حكمه إلا
بمقدار ما يراعى من قوة الرمي وبعد ما ترميه الآلات الحديثة ومدى تأثيرها.
وقد سن النبي صلى الله عليه وسلم الاخذ بآلات غير المسلمين حين حاصر الطائف
بالمجانيق، ووجه الصحابة رضوان الله عليهم إلى صناعتها وصناعة الضبور وهي
نوع من المدافع البدائية التي تطورت صناعتها حتى بلغت في عصرنا هذا الصاروخ
عابر القارات، ويحتسب في الرماية بتلك القذائف دورة الأرض حول نفسها
ودورتها السنوية وقانون الجاذبية وهو تحتاج إلى معادلات رياضية وحساب دقيق
لنصل إلى أهدافها في قلاع الأعداء فتدمرها تدميرا.
وقد أخرج الشيخان والحاكم وصححه والشافعي وأحمد والنسائي وابن حبان
عن عبد الله بن مغفل أن رسول لله صلى الله عليه وسلم (نهى عن الخذف وقال
إنها لا تصيد صيدا ولا تنكأ عدوا ولكنها تكسر السن وتفقأ العين).
فقد وجهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه الأثر الأقوى والاغلاظ
البالغ والسلاح الحاسم لارهاب العدو. فإذا ثبت هذا فان الرماية بالبندقية وغيرها
من المستحدثات من فروض الكفايات التي تتأصل بها عزة الأمة وتحمى بها حوزتها
203

وتعلى بها رايتها وعلى ولى الامر أن يحرض من وهب من قوة البنية وخفة الحركة
وحدة البصر ونور الايمان من ينهض به ويتوفر عليه حتى لا تكون فتنة ويكون
الدين كله لله، والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب احياء الموات
يستحب احياء الموات لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (من أحيا أرضا ميتة فله فيها أجر، وما أكله العوافي منها فهو له صدقه)
وتملك به الأرض لما روى سعيد بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال (من أحيا أرضا ميتة فهي له) ويجوز ذلك من غير اذن الامام للخبر، ولأنه
تملك مباح فلم يفتقر إلى اذن الامام كالاصطياد.
(فصل) وأما الموات الذي جرى عليه الملك وباد أهله ولم يعرف مالكه
ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه يملك بالاحياء لما روى طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(عادى الأرض لله ولرسوله، ثم هي لكم بعد) ولأنه إن كان في دار الاسلام
فهو كاللقطة التي لا يعرف مالكها، وإن كان في دار الحرب فهو كالركاز.
(والثاني) لا يملك لأنه إن كان في دار الاسلام فهو لمسلم أو لذمي أو لبيت
المال، فلا يجوز احياؤه وإن كان في دار الحرب جاز أن يكون لكافر لا يحل
ماله أو لكافر لم تبلغه الدعوة، فلا يحل ماله، ولا يجوز تملكه.
(والثالث) أنه إن كان في دار الاسلام لم يملك، وإن كان في دار الحرب
ملك، لان ما كان في دار الاسلام فهو في الظاهر لمن له حرمة، وما كان في
دار الحرب فهو في الظاهر لمن لا حرمة له. ولهذا ما يوجد في دار الحرب يخمس
وما يوجد في دار الاسلام يجب تعريفه، وان قاتل الكفار عن أرض ولم يحيوها
ثم ظهر المسلمون عليها ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز أن تملك بالاحياء، بل هي
204

غنيمة بين الغانمين، لأنهم لما منعوا عنها صاروا فيها كالمتحجرين، فلم تملك
بالاحياء (والثاني) أنه يجوز أن تملك بالاحياء لأنهم لم يحدثوا فيها عمارة فجاز
أن تملك بالاحياء كسائر الموات.
(فصل) وما يحتاج إليه المصلحة العامر من المرافق كحريم البئر وفناء الدار
والطريق ومسيل الماء لا يجوز احياؤه لأنه تابع للعامر فلا يملك بالاحياء ولأنا لو
جوزنا احياءها أبطلنا الملك في العامر على أهله وكذلك ما بين العامر من الرحاب
والشوارع ومقاعد الأسواق لا يجوز تملكه بالاحياء لان الشرع قد ورد بإحياء
الموات وهذا من جملة العامر ولأنا لو جوزنا ذلك ضيقنا على الناس في أملاكهم
وطريقهم وهذا لا يجوز.
(فصل) ويجوز احياء كل من يملك المال لأنه فعل يملك به فجاز من كل من
يملك المال كالاصطياد ولا يجوز للكافر أن يملك بالاحياء في دار الاسلام ولا
للامام أن يأذن له في ذلك. لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (موتان
الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم منى) فجمع الموتان وجعلها للمسلمين، فانتفى أن
يكون لغيرهم، ولان موات الدار من حقوق الدار والدار للمسلمين، فكان
الموات لهم كمرافق المملوك لا يجوز لغير المالك إحياؤه، ولا يجوز للمسلم أن
يحيى الموات في بلد صولح الكفار على المقام فيه، لان الموات تابع للبلد، فإذا لم
يجز تملك البلد عليهم لم يجز تملك مواته.
(الشرح) حديث جابر رواه أحمد والترمذي وصححه بلفظ (من أحيا أرضا
فهي له) وفى لفظ عند احمد وأبى داود (من أحاط حائطا على أرض فهي له)
ولأحمد وأبي داود والطبراني والبيهقي وصححه ابن الجارود من رواية سمرة بن
جندب رواه عنه الحسن وفى سماع الحسن من سمرة خلاف معروف بين المحدثين
تكلمنا عليه في غير ما موضع، وأخرجه النسائي وابن حبان بنحوه.
أما حديث سعيد بن زبد فقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي بلفظ (من أحيا
أرضا ميتة فهي له، وليس لعرق ظالم حق) وأخرجه أيضا النسائي، وحسنه
205

الترمذي وأعله بالارسال ورجح الدارقطني إرساله وقد مضى الاختلاف في الصحابي
الذي رواه غير سعيد بن زيد.
أما سعيد بن زيد فهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، كنيته أبو الأعور، وهو
قرشي عدوي من السابقين الأولين البدريين، ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه،
شهد المشاهد كلها، وشهد حصار دمشق وفتحها، وأول من ولى على دمشق في
الاسلام: له حديثان في الصحيحين، وانفرد البخاري له بحديث، روى عنه
ابن عمر وأبو الطفيل وعمرو بن حريث وعروة وأبو سلمة بن عبد الرحمن،
وعبد الله بن ظالم وطائفة. وأبوه زيد بن عمر بن نفيل، مات قبل الاسلام
على النجاة، لأنه خرج يطلب الدين القيم حتى مات. وأخبر النبي صلى الله عليه
وسلم انه يبعث أمة وحده يوم القيامة. وهو ابن عم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب
وقال ابن عبد البر: هذا الحديث مسنده صحيح متلقى بالقبول عند الفقهاء في
المدينة وغيرها.
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: بلاد المسلمين شيئان: عامر
وموات، فالعامر لأهله كل ما صلح به العامر إن كان مرفقا لأهله من طريق
وفناء ومسيل ماء أو غيره فهو كالعامر في أن لا يملك على أهله الا بإذنهم. اه‍
والموات هو الأرض الخراب الدارسة تسمى ميتة ومواتا وموتانا بفتح الواو
والموتان بضم الميم وسكون الواو والموت الذريع، ورجل موتان القلب بفتح الميم
وسكون الواو لا بصيرة له ولا فهم.
إذا عرف هذا فان الموات شيئان: موات قد كان عامرا لأهله معروفا في
الاسلام ثم ذهبت عمارته فصار مواتا، فذلك كالعامر لأهله لا يملك عليهم الا
بإذنهم (والثاني) ما لم يملكه أحد من أهل الاسلام يعرف ولا عمارة في الجاهلية
أو لم يملك، فذلك الموات الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحيا
مواتا فهو له)
وروى وهب بن كيسان عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من
أحيا أرضا ميتة فهي له وله فيه أجر وما أكلت العوافي منها فهو له صدقة،
والعوافي جمع عاف وهو طالب الفضل.
206

وقد روى أحمد والبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (من عمر أرضا ليست لاحد فهو أحق بها) وعن أسمر بن
مضرس قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته فقال: من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم
فهو له. قال فخرج الناس يتعادون يتخاطئون) أي يتسابقون عدوا يخططون
في الأرض تمهيدا لتعميرها.
وروى ابن أبي مليكة عن عروة قال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قضى أن الأرض أرض الله والعباد عباد الله. ومن أحيا مواتا فهو أحق به.
جاءنا بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين جاؤوا بالصلوات عنه) والحديث بهذه المثابة
لا يكون مرسلا على القول الصحيح بناء على الأصل في أن الصحابة كلهم عدول،
فإذا قال التابعي الثقة أشهد انه جاءني عن النبي صلى الله عليه وسلم به الذين جاءوا بالصلوات
عنه وهو يعنى الصحابة. فقد ارتفع الارسال وبقيت الجهالة، والجهالة بالصحابي
لا تقدح في الحديث، اللهم الا إذا ثبت ولو مرة واحدة ان عروة التبس عليه
أمر تابعي معاصر بإسلامه للنبي صلى الله عليه وسلم فظنه صحابنا، ولكن إذا
عرفنا ان عروة لا يشك في تثبته وعلمه بأحوال الصحابة والذي تربى في بيت
النبوة والخلافة. فأبوه ابن عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وجده لامه أبو بكر
رضي الله عنه. وخالته أم المؤمنين، وأخوه أمير المؤمنين عبد الله بن الزبير.
وروى الشافعي عن سفيان عن طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عمارة الأرض لله
ولرسوله ثم هي لكم منى) ولان ما لم يجر عليه ملك نوعان أرض وحيوان، فلما
ملك الحيوان إذا ظهر عليه بالاصياد ملك موات الأرض إذا ظهر عليه بالاحياء
وقوله في حديث الفصل عن طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عادى
الأرض) نسبة إلى عاد رجل من العرب الأولى، وهم العرب البائدة، وبه سميت
قبيلة قوم هود، ويقال للملك القديم عادى كأنه نسبة إليه لتقدمه، وبئر عادية
كذلك، وعادى الأرض ما تقادم ملكه.
وقد جاء حديث طاوس في الام وعند المصنف هنا هكذا مرسلا. وقد رواه
هكذا سعيد بن منصور في سننه وأبو عبيد في الأموال، فإذا تقرر جواز الاحياء
قال الشافعي: بلاد المسلمين شيئان عامر وموات، وإنما خص بلاد المسلمين بما
207

ذكره من قسمي العامر والموات، وإن كانت بلاد الشرك أيضا عامرا ومواتا،
لما ذكره من أن عامر بلاد المسلمين لأهله لا يملك عليه الا بإذنهم. وعامر بلاد
الشرك قد يملك عليهم قهرا وغلبة بغير إذنهم. وإذا كان كذلك بدأنا بذكر العامر
من بلاد المسلمين ثم بمواتهم. أما العامر فلأهله الذي قد ملكوه بأحد أسباب
التمليك وهي ثمانية: 1 - الميراث 2 - المعاوضات 3 - الهبات 4 - الوصايا 5 - الوقف
6 - الصدقات 7 - الغنيمة 8 - الاحياء.
فإذا ملك عامرا من بلاد المسلمين بأحد هذه الأسباب الثمانية صار مالكه له
ولحريمه ومرافقيه من بناء وطريق ومسيل ماء وغير ذلك من مرفق العامر التي
لا يستغنى العامر عنها فلا يجوز ان يملك ذلك على أهل العامر باحياء ولا غيره
فمن أحياه لم يملكه. وقال داود بن علي: حريم العامر كسائر الموات من أحياه
فقد ملكه استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا مواتا فهي له)
وهذا خطأ لان حريم العامر قد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم على عهد خلفائه
مقرا على أهله لم يتعرض أحد لاحيائه عما انتهوا إليه، ولأنه لو جاز احياء حريم
العامر لبطل العامر على أهله وسقط الانتفاع به، لأنه يفضى إلى أن يبنى الرجل
دارا يسد بها باب جاره فلا يصل الجار إلى منزله. وما أدى إلى هذا من الضرر
وكان ممنوعا منه، وليس الحريم مواتا فيصح استدلال داود عليه.
واما الموات فضربان: أحدهما ما لم يزل على قديم الدهر مواتا لم يعمر قط.
فهذا هو الموات جاء في الحديث ان من أحياها فهي له، فان أحياه ذمي لم يملكه
وقال أبو حنيفة: يملكه الذمي بالاحياء كالمسلم، استدلالا بعموم قوله صلى الله
عليه وسلم (من أحيا أرضا مواتا فهي له) ولأنها أعيان مباحة فجاز أن يستوي
في تملكها المسلم والذمي كالصيد والحطب، ولان من يملك بالاصطياد والاحتطاب
صح أن يملك بالاحياء كالمسلم، ولأنه سبب من أسباب التمليك فوجب أن
يستوي فيه المسلم والذمي كالبيع، ودليلنا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم
(ثم هي لكم منى) فوجه الخطاب للمسلمين وأضاف ملك الموات إليهم فدل على
اختصاصهم بالحكم.
208

ولان النبي صلى الله عليه قال (لا يجتمع في جزيرة العرب دينان) إشارة إلى
إجلائهم حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه من الحجاز، فلما أمر بإزالة أملاكهم الثابتة
فأولى أن يمنعوا من أن يستبيحوا أملاكا محدثة، لان استدامة الملك أقوى من
الاستحداث، فإذا لم يكن لهم الأقوى فالأضعف أولى، ولان من لم يقر في
دار الاسلام الا بجزية منع من الاحياء كالمعاهد، ولان كل ما لم يملكه الكافر
قبل عقد الجزية لم يملكه بعد عقد الجزية وأصله نكاح المسلمة. ولأنه نوع تمليك
ينافيه كفر الحربي فوجب أن ينافيه كفر الذمي كالإرث من مسلم
فأما الجواب عن حديث (من أحيا أرضا مواتا فهي له) فهو أن هذا الخبر
وارد في بيان ما يقع به الملك. وقوله (ثم هي لكم) وارد في بيان من يقع له الملك
فصار المفسر في كل واحد منهما فيما قصد له قاضيا على صاحبه، فصار الخبران
في التقدير كقوله (من أحيا أرضا مواتا من المسلمين فهي له)
وأما الجواب عن قياسهم على الصيد والحطب فهو أنه منتقض بالغنيمة حيث
لم يستو المسلم والذمي فيها مع كونها أعيانا مباحة، ثم لو سلم من النقض لكان
المعنى في الصيد والحطب أن لا ضرر على المسلم فيه إذا أخذه الكافر، وليس
كذلك الاحياء. لذلك لم يمنع المعاهد من الاصطياد والاحتطاب وان منع من
الاحياء، فكان المعنى الذي فرقوا به في المعاهد بين إحيائه واصطياده (وفرقنا
في الذمي بين إحيائه واصطياده، وهو الجواب عن قياسهم الثاني ويكون المعنى
في المسلم فضيلته بدينه واستقراره في دار الاسلام بغير حرمة مباينة لصغار الذمة
فاستعلى على من خالف الملة.
وأما الجواب عن قياسهم على البيع فهو إنه منتقض بالزكاة لأنها سبب من أسباب
التمليك الذي يختص بها المسلم دون الذمي. ولما لم يجز في الاحياء أن يملك به
المعاهد لم يملك به الذمي. وقال أحمد بعدم الفرق بين المسلم والذمي وقد مضى
الرد على ذلك. والضرب الثاني من الموات ما كان عامرا ثم خرب فصار بالخراب
مواتا فذلك ضربان، أحدهما إن كان جاهليا لم يعمر في الاسلام فهذا على ضربين
أحدهما أن يكون قد خرب قبل الاسلام حتى صار مواتا مندرسا كأرض عاد
وتبع ومدن طيبة ومنف وبابل وآشور وبعلبك فهذه إذا أعلن أيلولتها إلى بيت
209

مال المسلمين وملكت الدولة التي من حقها أن تكون لها الولاية عليها لعرضها
للاعتبار عملا بقوله تعالى (أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين
من قبلهم، كانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض، وعمروها أكثر مما عمروها)
إلى آخر ما ورد في القرآن الكريم من آيات الحث على السياحة والسير إلى الآثار
للاعتبار والاتعاظ، كان إحياؤها معلقا بإذن السلطان، بل إن السلطان إذا أحياها
بصيانتها وإقامة الحراس عليها وتمهيد طرقها وتيسير سبل الوصول إليها بسبب
ما تحويه من تواريخ من كانوا يعمرونها من الدارسين والبائدين كان هذا إحياء
لها على هذا النحو، وصارت ملكا عاما لا يختص به أحد، وذلك أصله قوله صلى الله عليه وسلم
(عادى الأرض لله ولرسوله ثم هي لكم منى) والضرب الثاني: ما كان باقي العمارة
إلى وقت الاسلام ثم خرب وصار مواتا قبل أن يصير من بلاد الاسلام فهذا على
ثلاثة أقسام (أحدهما) أن يرفع أربابه أيديهم عنه قبل القدرة عليه فهذا يملك
بالاحياء كالذي لم يزل مواتا (والقسم الثاني) أن يتمسكوا به إلى حين القدرة
عليه فهذا يكون في حكم عامرهم لا يملك بالاحياء.
(والقسم الثالث) أن يجهل حاله فلا يعلم هل رفعوا أيديهم عنه قبل القدرة
عليه أم لا، ففي جواز تملكه بالاحياء وجهان كالذي جهل حاله من الركاز.
والضرب الثاني: ما كان في الأصل عامرا من بلاد الاسلام ثم خرب حتى
ذهبت عمارته، واندرست آثاره، فصار مواتا. فقد اختلف الفقهاء في جواز
تملكه بالاحياء على ثلاثة مذاهب، فمذهب الشافعي منها أنه لا يجوز أن يملك
بالاحياء سواء عرف أربابه أو لم يعرفوا. وقال أبو حنيفة: إن عرف أربابه فهو
على ملكهم لا يملك بالاحياء وإن لم يعرفوا ملك بالاحياء استدلالا بعموم الحديث
(من أحيا أرضا مواتا فهي له) وحقيقة الموات ما صار بعد الاحياء مواتا من العامر
فزال عن حكم العامر كالجاهلي. ولأنه موات فجاز احياؤه كسائر الموات.
وقال مالك: يصير كالموات الجاهلي يملكه من أحياه سواء عرف أربابه أم لم
يعرفوا. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم الا بطيب
نفس منه) وهذا مال مسلم. وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد فهو أحق بها)
210

فجعل زوال الملك عن الموات شرطا في جواز ملكه بالاحياء. ودل على أن
ما جرى عليه ملك لم يجز أن يملك بالاحياء.
وروى أسامة بن مضرس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سبق
إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له مال، فخرج الناس يتعادون يتخاطون) وهذا نص
ولأنها أرض استقر عليها ملك أحد المسلمين فلم يجز أن تملك بالاحياء كالتي بقيت
آثارها عند مالك، وكالتي تعين أربابها عند أبي حنيفة، ولان ما صار مواتا من
عامر المسلمين لم يجز إحياؤه بالتملك كالأوقاف والمساجد.
وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم (من أحيا أرضا مواتا فهي له) فهو
دليل عليهم، لان الأول قد أحياها، فوجب أن يكون أحق بها من الثاني لامرين
أحدهما: أنه سبق. والثاني: أن ملكه قد ثبت باتفاق. وأما الجواب عن قياسهم
على الجاهلي وعلى التي لم تزل خرابا فالمعنى فيها أنها لم يجر عليها ملك مسلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والاحياء الذي يملك به أن يعمر الأرض لما يريده، ويرجع في
ذلك إلى العرف، لان النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الاحياء ولم يبين فحمل على
المتعارف، فإن كان يريده للسكنى فأن يبنى سور الدار من اللبن والآجر والطين
والجص إن كانت عادتهم ذلك، أو القصب أو الخشب إن كانت عادتهم ذلك،
ويسقف وينصب عليه الباب لأنه لا يصلح للسكنى بما دون ذلك، فإن أراد مراحا
للغنم أو حظيرة للشوك والحطب بنى الحائط ونصب عليه الباب، لأنه لا يصير
مراحا وحضيرة بما دون ذلك، وإن أراد للزراعة فأن يعمل لها مسناة ويسوق
الماء إليها من نهر أو بئر، فإن كانت الأرض من البطائح فأن يحبس عنها الماء لان
إحياء البطائح أن يحبس عنها الماء كما أن إحياء اليابس بسوق الماء إليه، وبحرثها،
وهو إن يصلح ترابها، وهل يشترط غير ذلك؟ فيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) أنه لا يشترط غير ذلك وهو المنصوص في الام، وهو قول
أبي إسحاق، لان الاحياء قد تم وما بقي إلا الزراعة، وذلك انتفاع بالمحيا فلم
يشترط كسكنى الدار.
211

(والثاني) وهو ظاهر ما نقله المزني: أنه لا يملك إلا بالزراعة لأنها من تمام
العمارة، ويخالف السكنى فإنه ليس من تمام العمارة، وإنما هو كالحصاد في الزرع،
(والثالث) وهو قول أبى العباس: أنه لا يتم إلا بالزراعة والسقي، لان
العمارة لا تكمل إلا بذلك، وإن أراد حفر بئر فإحياؤها أن يحفر إلى أن يصل
إلى الماء لأنه لا يحصل البئر الا بذلك، فإن كانت الأرض صلبة تم الاحياء، وإن كانت
رخوة لم يتم الاحياء حتى تطوى البئر لأنها لا تكمل الا به،
(الشرح) يختلف الاحياء باختلاف المقصود منه، ولما كان الشارع قد أطلق
الاحياء لم يحده، ولما كان ليس للاحياء في اللغة حد وجب الرجوع إلى العرف
كالحرز والقبض وضابطه تهيئة الشئ لما يقصد منه غالبا، فإن أراد مسكنا نظرت
إلى العرف الشائع في المكان الذي يجرى فيه الاحياء سكنا، كتحويطه بالآجر أو
اللبن أو القصب على عادة المكان، وقد رأى بعض الأصحاب الاكتفاء بالتحويط
من غير بناء لكنه نص في الام على اشتراط البناء.
قال الرملي: وهو المعتمد، والأوجه الرجوع في جميع ذلك إلى العادة، ومن
هنا قال المتولي وأقره ابن الرفعة والأذرعي وغيرهما: لو اعتاد نازلو الصحراء
تنظيف الموضع من نحو شوك وحج وتسويته لضرب خيمته وبناء معلفه ففعلوا
ذلك بقصد التملك ملكوا البقعة، وان ارتحلوا عنها أو بقصد الارتفاق فهم
أولى بها إلى الرحلة.
إذا ثبت هذا: فإن تحويط الأرض احياء لها سواء أرادها للبناء أو للزرع
أو حظيرة للغنم أو للخشب أو لغير ذلك، هذا مذهبنا ونص عليه أحمد في رواية
علي بن سعيد فقال: الاحياء أن يحوط عليها حائطا ويحفر فيها بئرا أو نهرا ولا
تعتبر في ذلك تسقيف، وذلك لما روى عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (من أحاط حائطا على أرض فهي له) رواه أبو داود واحمد،
ويروى عن جابر مثله.
وقد نص الامام النووي على عدم اشتراط تعليق الباب لان الباب لا يشترط
للسكنى وإنما هو للحفظ والسكنى لا تتوقف عليه. وقد اعتبر القصد في مذهب
212

الشافعي رضي الله عنه ولم يعتبر القصد في مذهب أحمد رضي الله عنه، فلو أحاط
مواتا بقصد أن يكون حظيرة فاتخذه سكنا له ولم يتخذه لما قصد له ملكه عند أحمد
لعدم اعتبار القصد وملكه عند الشافعي بالقصد الطارئ أما إذا حوطها لتكون
حظيرة ولا تصلح للسكنى ثم سكنها فإنه لا يملك عند الشافعي ويملك عند أحمد،
فلو خندق حول الأرض خندقا لم يكن إحياء لأنه ليس بحائط ولا عمارة، وإنما
هو حفر وتخريب، وإن أحاطها بشوك وشبهه لم يكن ذلك إحياء ولو نزل منزلا
فنصب به بيت شعر أو خيمة لم يكن ذلك إحياء.
أما إذا فعل ذلك بحيث يريدها مزرعة فجمع التراب أو الشوك حولها وسوى
الأرض فطم المنخفض منها واكتسح العالي وحرثها إذا توقف زرعها على الحرث
ورتب لها الماء بشق المسقاة أو حفر الساقية أو شق للماء طريقا ولم يبق الا اجراؤه
كفى ذلك في تملكه، وان لم يجز الماء، فان هيأه ولم يحفر له طريقا كفى أيضا وهو
المنصوص في الام، وبه قال أبو إسحاق المروزي ورجحه صاحب الشرح الصغير
وتابعه الشمس الرملي.
فإذا كفاها المطر لم تحتج إلى ترتيب للماء وذلك خلاف لظاهر ما نقله المزني من
أنه يشترط الزراعة لتمام الملك بذلك، ويخالف السكنى، وقد زاد أبو العباس بن
سريج على ذلك اشتراط السقي أيضا، وأرض الجبال التي لا يمكن سوق الماء إليها
ولا يكفيها المطر تكفى الحراثة وجمع التراب كما اقتضاه كلام النووي في الروضة
تبعا للرافعي وجزم به غيرهما. ولا يشترط أن تتم الزراعة على الأصح كما لا يشترط
سكنى الدار لان استيفاء المنفعة خارج عن الاحياء.
والثاني: لا تصير محياة الا بالزراعة كما لا تصير الدار محياة الا إذا صار فيها
مال المحيى، وإذا اعتادوا أن يجمعوا ترابا حول ما يزرعونه بستانا فجمع التراب
بدلا من التحويط كفى، والا اشترط التحويط حسب العادة وتهيئة ماء للبستان
أن لم يكفه ماء المطر، ويشترط فيه اتخاذ الباب وغرس الأشجار ولو لبعضه
بحيث يسمى بستانا كما أفاده الأذرعي، فلا يكفي غرس الشجرة والشجرتين في
المكان الواسع على المذهب إذ لا يتم اسم البستان بدون ذلك بخلاف المزرعة
213

بدون الزرع، ولا يشترط في البستان الأثمار، وما عمله مما يعود نفعه على غيره
كطى بئر، فان ملكه له يتوقف على قصده من حفر البئر، وقال الشافعي رضي الله عنه
: وإنما يكون الاحياء ما عرفه الناس إحياء مثل المحيا إن كان مسكنا فأن
يبنى بمثل ما يبنى به مثله من بنيان حجر أو لبن أو مدر يكون مثله بناء، وهكذا
ما أحيا الادمي من منزل له أو لدواب من حظار أو غيره فأحياه ببناء، حجر أو
مدر أو بماء لأن هذه العمارة بمثل هذا، ولو جمع ترابا لحظار أو خندق لم يكن
هذا إحياء. وكذلك لو بنى خياما من شعر أو جريد أو خشب لم يكن هذا إحياء
تملك له الأرض بالاحياء، وما كان هذا قائما لم يكن لاحد أن يزيله، فإذا أزاله
صاحبه لم يملكه، وكان لغيره ان ينزله ويعمره، اه‍ والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا أحيا الأرض ملك الأرض وما فيها من المعادن كالبلور
والفيروزج والحديد والرصاص لأنها من اجزاء الأرض فملك بملكها ويملك
ما ينبع فيها من الماء والقار وغير ذلك. وقال أبو إسحاق لا يملك الماء وما ينبع
فيها، وقد بينا ذلك في البيوع، ويملك ما ينبت فيها من الشجر والكلأ. وقال
أبو القاسم الصيمري: لا يملك الكلأ لما روى أن ابيض بن حمال سأل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن حمى الأراك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسمل (لا حمى
في الأراك) ولأنه لو فرخ في الأرض طائر لم يملك، فكذلك إذا نبت فيه
الكلأ، وقال أكثر أصحابنا: يملك لأنه من نماء الملك فملكه بملكه كشعر الغنم.
(فصل) ويملك بالاحياء ما يحتاج إليه من المرافق، كفناء الدار والطريق
ومسيل الماء وحريم البئر، وهو بقدر ما يقف فيه المستقى إن كانت البئر للشرب
وقدر ما يمر فيه الثور إن كانت للسقي، وحريم النهر وهو ملقى الطين وما يخرج
منه من التقن، ويرجع في ذلك إلى أهل العرف في الموضع. والدليل عليه ما روى
عبد الله بن مغفل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من احتفر بئرا فله أربعون
ذراعا حولها عطن لماشيته.
وروى ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال: من السنة أن حريم القليب
214

العادية خمسون ذراعا، وحريم البدئ خمسة وعشرون ذراعا، وحريم بئر
الزرع ثلاثمائة ذراع، فان أحيا أرضا إلى جنب غيره فجعل أحدهما داره مدبغة أو
مقصرة لم يكن للاخر منعه من ذلك، لأنه تصرف مباح في ملكه فلم يمنع منه.
وان الصق حائطه بحائطه منع من ذلك. وان طرح في أصل حائطه سرجينا منع
منه لأنه تصرف باشر ملك الغير بما يضر به فمنع منه، فان حفر حشا في أصل
حائطه لم يمنع منه لأنه تصرف في ملكه.
ومن أصحابنا من قال: يمنع لأنه يضر بالحاجز الذي بينهما في الأرض. وان
ملك بئرا بالاحياء فجاء رجل وتباعد عن حريمه وحفر بئرا فنقص ماء الأول لم
يمنع منه لأنه تصرف في موات لاحق لغيره فيه.
(الشرح) حديث أبيض بن حمال رواه الترمذي وحسنه وأبو داود بلفظ
(أنه وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم استقطعه الملح فقطع له، فلما ان ولى قال
رجل: أتدري ما أقطعت له؟ إنما أقطعته الماء العد. فقال انتزعه منه، قال:
وسألته عما يحمى من الأراك فقال: ما لم تنله خفاف الإبل) وأخرجه أيضا
ابن ماجة والنسائي وصححه ابن حبان وضعفه ابن القطان ولم يذكر وجه تضعيفه
ولعله بسبب السبئ المازني الذي في الاسناد. وقال فيه ابن عدي: أحاديثه مظلمة
منكرة. وفى رواية (ما لم تنله أخفاف الإبل)
قال محمد بن الحسن المخزومي: يعنى ان الإبل تأكل منتهى رؤسها ويحمى
ما فوق ذلك. ورواه سعيد بن منصور قال: حدثني إسماعيل بن عياش عن
عمرو بن قيس المأربي عن أبيه عن أبيض بن حمال المأربي قال (استقطعت
رسول الله صلى عليه وسلم معدن الملح بمأرب فاقطعنيه، فقيل يا رسول الله
انه بمنزلة الماء العد، يعنى انه لا ينقطع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
فلا إذن).
وأما حديث عبد الله بن مغفل رضي الله عنه فقد رواه ابن ماجة باسناد
ضعيف لان فيه إسماعيل بن سلم، وقد أخرجه الطبراني من حديث أشعث عن
الحسن، واخرج حرب وعبد الله عن أحمد من حديث أبي هريرة بلفظ (من سبق
215

إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له، وله حريمها خمسون ذراعا من كل جانب)
واختيار الخمسين هو مذهب أحمد وأصحابه، وأخرج ابن ماجة بلفظ (حريم البئر
طول رشائها)
أما اللغات في الفصل فالبلور كنتور وسنور وسبطر. وهو جوهر. وكذلك
الفيروزج، والقار نوع من القطران، والعد بكسر العين، قال أبو عبيد: العد
بلغة تميم الكثير، وبلغة بكر بن وائل هو القليل، والمراد هنا في الحديث الكثير
الذي لا ينقطع. وأما كلمة التقن التي جرت هنا في كلام المصنف فهي من الكلمات
التي كانت شائعة عند أهل بغداد، ويريدون بها سيف النهر وما اجمتع فيه
من الطين وغيره.
أما الأحكام فإن المعادن إما ظاهرة، وهي التي سنتكلم عليها في الفصل التالي
أما المعادن الباطنة وهي التي لا يوصل إليها الا بالعمل والمؤنة كمعادن الذهب
والفضة والحديد والنحاس والرصاص والبلور والفيروزج، فإذا كانت ظاهرة
فلا تملك بالاحياء لما سيأتي، وإن لم تكن ظاهرة فحفرها إنسان لم تملك بذلك في
ظاهر مذهب أحمد والشافعي، وهو قول أبي إسحاق المروزي، ويحتمل أن يملكها
بذاك، وهو قول للشافعي والمصنف والنووي في المنهاج. ومنع أبو القاسم
الصيمري أن يملك الكلأ، ولأنه لو فرخ طائر في الأرض لم يملك. وقول أكثر
الأصحاب يملك لأنه من نماء الأرض كمن يملك غنما فإنه يملك أصوافها وأشعارها
لأنه نماء في ملكه، ولأنه إظهار تهيأ بالعمل والمؤنة فملك بالاحياء كالأرض، ولأنه
بإظهاره تهيأ للانتفاع به من غير حاجة إلى تكرار ذلك العمل، فأشبه إحاطة
الأرض أو إجراء الماء إليها.
ووجه الأول أن الاحياء الذي يملك به هو العمارة التي تهيأ بهال المحمى للانتفاع
من غير تكرار عمل. وهذا حفر وتخريبه يحتاج إلى تكرار عند كل انتفاع،
فإن قيل: فلو احتفر بئرا ملكها وملك حريمها، قلنا: البئر تهيأت للانتفاع بها
من غير تجديد حفر ولا عمارة، وهذه المعادن تحتاج عند كل انتفاع إلى عمل
وعمارة فافترقا.
أما إذا ملك الأرض بالاحياء فظهر أن فيها معدنا من المعادن الجامدة ظاهرا
216

أو باطنا فقد ملكه لأنه ملك الأرض بجميع أجزائها وطبقاتها وهذا منها ويفارق
الكنز فإنه مودع فيها وليس من أجزائها، ويفارق ما إذا كان ظاهرا قبل إحيائها
لأنه قطع عن المسلمين نفعا كان واصلا إليهم، ومنعهم انتفاعا كان لهم. وههنا
لم يقطع عنهم شيئا لأنه إنما ظهر بإظهاره له، ولو تحجر الأرض أو أقطعها فظهر
فيها المعدن قبل إحيائها لكان له احياؤها ويملكها بما فيها لأنه صار أحق به
بتحجره واقطاعه فلم يمنع من اتمام حقه.
(فرع) يقال للبئر التي تحفر في الأرض الموات: بئر عادية بتشديد الياء
منسوبة إلى عاد، وليس المراد عادا بعينها، ولكن لما كانت عاد في الزمن الأول
وكانت لها آثار في الأرض نسب إليها كل قديم، فكل من حفر بئرا في موات
للتمليك فله حريمها أربعون ذراعا حولها أو خمس وعشرون ذراعا من كل
جانب أو خمسون ذراعا طول أبعد طرفي حريمها، ومن سبق إلى بئر عادية كان
أحق بها لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له وله
حريمها خمسون ذراعا من كل جانب)
وقد فرق سعيد بن المسيب بين العادي منها والبدئ، فجعل الأولى حريمها
خمسون ذراعا وجعل البدئية حريمها خمسة وعشرون ذراعا. وجعل حريم بئر
الزرع ثلاثمائة ذراع وقال: هذا من السنة. وإذا قال تابعي كبير كابن المسيب
(من السنة)
وكذلك روى أبو عبيد عن يحيى بن سعيد الأنصاري أنه قال (السنة في
حريم القليب العادي خمسون ذراعا والبدئ خمس وعشرون ذراعا) فإنما
يقول كل منهما - وهما تابعيان كبيران - ذلك لما صح عندهما من عمل الصحابة
واتفاقهم عليه مما يجعل هذا القدر هو السنة لأنه لا يخلو من هدى نبوي.
وقال أصحاب أحمد منهم أبو الخطاب والقاضي: ليس هذا على طريق التحديد
بل حريمها على الحقيقة ما تحتاج إليه في ترقية مائها منها، فإن كان بدولاب فقدر
مد الثور أو غيره، وإن كان بساقية فبقدر طول البئر، لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (حريم البئر مد رشائها) رواه ابن ماجة.
217

وذهب النووي إلى تحديد حريم البئر المحفورة في الموات بمقدار موقف النازح
منها، قال الرملي: وهل يعتبر قدر النازح من سائر الجوانب أو من أحدها فقط
الأقرب اعتبار العادة في مثل ذلك المحل اه‍.
وعلى هذا يكون حريم البئر من جوانبه ما يحتاج إليه في مجال عمله، وينبغي
أن يمتد حريمها إلى ما تقتضيه. وقال أبو حنيفة: حريم البئر أربعون ذراعا،
وحريم العين خمسمائة ذراع، لان أبا هريرة روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (حريم
البئر أربعون ذراعا لاعطان الإبل والغنم).
(قلت) حديث أبي هريرة رواه أحمد (حريم البئر العادي خمسون ذراعا،
وحريم البئر البدئ خمسة وعشرون ذراعا) وعن الشعبي مثله. وقد روى
الدارقطني والخلال بإسنادهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: حريم البئر
خمس وعشرون ذراعا، وحريم العادي خمسون ذراعا) وقد أعله الدارقطني
بالارسال وقال: من أسنده فقد وهم، وفى سنده محمد بن يوسف المقري شيخ شيخ
الدارقطني وهو منهم بالوضع، ورواه البيهقي من طريق يونس عن الزهري عن
المسيب مرسلا وزاد فيه (وحريم بئر الزرع ثلاثمائة ذراع من نواحيها كلها)
وأخرجه الحاكم من حديث أبي هريرة موصولا ومرسلا والموصول فيه عمر بن
قيس وهو ضعيف: والأحاديث في مجموعها تثبت أن للبئر حريما، والمراد بالحريم
ما يمنع منه المحيى والمحتفر لاضراره. وفى النهاية: سمى بالحريم لأنه يحرم منع
صاحبه منه، ولأنه يحرم على غيره التصرف فيه.
وحديث عبد الله بن مغفل الذي ساقه المصنف يجعل العلة في ذلك هي ما يحتاج
إليه صاحب البئر عند سقى إبله لاجتماعها على الماء.
وحديث أبي هريرة دال على أن العلة هو ما يحتاج إليه البئر لئلا تحصل المضرة
عليها باقتراب الاحياء منها، ولذا وقع الاختلاف بين حالي كل من البدئ
والعادي، والجمع بين الحديثين يمكن أن ينظر فيهما من وجه الحاجة فإن كانت لأجل
سقى الماشية فحديث الأربعين أو الخمس والعشرين، وإن كانت لأجل البئر فخمسين
وقد ذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن حريم البئر أربعون، وذهب أحمد إلى أن
الحريم خمسة وعشرون.
218

(فرع) ومن كانت له بئر فيها ماء فجاء آخر فحفر قريبا منها بئرا فليس له منعه
من ذلك، وإن نقص ماء البئر الأولى أو انسرب الماء إليها لأنه تصرف مباح في
ملكه، ويحتمل أن يمنع من ذلك من حفر بئرا في موات إلى جوار بئر مثلها
وجعلها أعمق منها بحيث تجتذب ماء الأولى إليها، لأنه ليس له أن يبتدئ ملكه
على وجه يضر بالملك قبله، وهو مذهب أحمد وقول للشافعي رضي الله عنهما،
والقول الأظهر وهو المذهب: له ذلك لأنه تصرف مباح في ملكه فجاز له كتعلية
داره. وهكذا الخلاف في كل ما يحدثه الجار مما يضر بجاره، مثل أن يجعل داره
مدبغة أو حماما يضر بعقار جاره برائحته أو غيرها، أو يجعل داره مخبزا في وسط
العطارين ونحو ذلك مما يؤذى الجيران فمذهب أحمد: المنع من ذلك، ومذهب
الشافعي: له ذلك كله، لأنه تصرف مباح في ملكه أشبه ببناء ونقضه. وأما إذا
ألصق الحائط بالحائط بغير مسافة ولو يسيرة منع من ذلك.
أما إذا طرح في أصل حائطه فضلات عفنة تسرى في مسام الأرض فتحدث
في البناء العطب والتلف منع من ذلك قولا واحدا، لأنه تصرف باشر ملك غيره
بما يضره. أما إذا حفر في أصل حائطه حشا فقولان. أحدهما: لم يمنع من ذلك
والثاني: يمنع لأنه يضر بالحاجز الذي بينهما والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان تحجر رجل مواتا وهو أن يشرع في إحيائه ولم يتمم صار
أحق به من غيره لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق
به، وان نقله إلى غيره صار الثاني أحق به، لأنه آثره صاحب الحق به، وان مات
انتقل ذلك إلى وارثه، لأنه حق تملك ثبت له فانتقل إلى وارثه كالشفعة، وان
باعه ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق: أنه يصح لأنه صار أحق به فملك بيعه.
(والثاني) أنه لا يصح، وهو المذهب، لأنه لم يملكه بعد فلم يملك بيعه
كالشفيع قبل الاخذ، وان بادر غيره إلى إحيائه نظرت، فإن كان ذلك قبل أن
تطول المدة ففيه وجهان.
219

أحدهما: لا يملك لان يد المتحجر أسبق.
والثاني: يملك لان الاحياء يملك به والتحجر لا يملك به، فقدم ما يملك به
على ما لا يملك به، وإن طالت المدة ولم يتمم قال له السلطان: إما أن تعمر وإما
أن ترفع يدك، لأنه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم فلم يمكن منه كما لو
وقف في طريق ضيق أو مشرعة ماء ومنع غيره منها، وإن سأل أن يمهل
أمهل مدة قريبة، فان انقضت المدة ولم يحيى فبادر غيره فأحيا ملك، لأنه لا حق
له بعد انقضاء المدة.
(فصل) ومن سبق في الموات إلى معدن ظاهر وهو الذي يوصل إلى ما فيه
من غير مؤنة كالماء والنفط والمومياء والياقوت والبرام والملح والكحل كان
أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم: من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به،
فإن أطال المقام فيه ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يمنع لأنه سبق إليه (والثاني) يمنع لأنه يصير كالمتحجر، فان
سبق اثنان وضاق المكان وتشاحا، فإن كانا يأخذان للتجارة، هايأ الامام بينهما
فان تشاحا في السبق أقرع بينهما، لأنه لا مزية لأحدهما على الاخر فقدم بالقرعة
وإن كانا يأخذان للحاجة ففيه ثلاثة أوجه.
أحدهما: يقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الاخر.
والثاني: يقسم بينهما لأنه يمكن لهما القسمة فلا يؤخر حقه.
والثالث: يقدم الامام أحدهما لان للامام نظرا في ذلك فقدم من رأى
تقديمه، وإن كان من ذلك ما يلزم عليه مؤنة بأن يكون بقرب الساحل موضع
إذا حصل فيه الماء حصل فيه ملح جاز أن يملك بالاحياء لأنه يوصل إليه بالعمل
والمؤنة فملك بالاحياء كالموات.
(الشرح) حديث (من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أحق به) هذا الحديث
هو الذي سبق تخريجه فقد رواه أبى داود وصححه الضياء المقدسي عن أسمر بن
مضرس. وقال البغوي: لا أعلم بهذا الاسناد غير هذا الحديث، التحجر إحاطة
الأرض بالحجارة، أو بحائط صغير، وهو شروع في احياء الموات وليس احياء
تاما، ولذلك فإنه لا يملكها بذلك لان الملك لا يكون الا بالاحياء، وليس هذا
220

إحياء ولكن يصير أحق الناس به، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من سبق
إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق به) فإن نقله إلى غيره صار الثاني بمنزلته لان صاحبه
أقامه مقامه، وإن مات فوارثه أحق به لقول النبي صلى الله عليه وسلم (من ترك
حقا أو مالا فهو لورثته من بعده) وهذا هو المذهب ومذهب أحمد رضي الله عنه
وقال أبو إسحاق المروزي: إن حق التملك قد ثبت له فيصح له بيعه وقبض ثمنه،
والمذهب أنه لا يصح له بيعه كالشفيع لا يصح له أن يبيع قبل أن يأخذ. وإن
ثبت له الاختصاص وفرق بين الاختصاص والملك. والاختصاص لا يستلزم
صحة البيع أو الهبة.
فإن سبق غيره فأحياه ففيه وجهان (أحدهما) أنه يملكه لان الاحياء يملك به
والحجر لا يملك به فثبت الملك بما لم يملك به دون ما لم يملك به كمن سبق إلى معدن
أو مشرعة ماء فجاء غيره فأزاله وأخذه (والثاني) لا يملكه، لأنه مفهوم قوله
عليه السلام (من أحيا أرضا ميتة ليست لاحد) وقوله (في حق غير مسلم فهي له)
أنها لا تكون له إذا كان لمسلم فهو أحق، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (من
سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به) وروى سعيد بن منصور في سننه أن
عمر رضي الله عنه قال (من كانت له أرض يعنى من تحجر أرضا فعطلها
ثلاث سنين فجاء قوم فعمروها فهم أحق بها).
هذا يدل على أن من عمرها قبل ثلاث سنين لا يملكها، وهو مذهب أحمد
رضي الله عنه، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أن المدة في التحجر إذا طالت
عرفا بلا عذر، فإن السلطان يقول للمتحجر: إما أن تحييه أو تتركه ليحييه
غيرك، لأنه ضيق على الناس في حق مشترك بينهم فلم يمكن من ذلك كما لو وقف
في طريق ضيق أو مشرعة ماء أو معدن لا ينفع ولا يدع غيره ينتفع.
فإن سأل الامهال لعذر له أمهل الشهر والشهرين ونحو ذلك، فان أحياه غيره
في مدة المهلة ففيه الوجهان اللذان ذكرناهما، وان انقضت المدة ولم يعمر فلغيره
أن يعمره ويملكه، لان المدة قد ضربت له لينقطع حقه بمضيها وسواء أذن له
221

السلطان في عمارتها أو لم يأذن له، وإن لم يكن للمتحجر عذر في ترك العمارة قيل له
أما أن تعمر واما أن ترفع يدك، فإن لم يعمرها كان لغيره عمارتها.
ومذهب أحمد في هذا كله نحو مذهبنا إلا في التوقيت بثلاث سنين لقول عمر
رضي الله عنه لان عمر رضي الله عنه أخذ بالعرف في زمنه، وقد تكون السنين
الثلاث معطلة لنفع يعود على المسلمين من إحياء الموات ونشر العمران مما يحقق
مقاصد الاسلام، ويدفع المسلمين إلى التسابق في استخراج خيرات الأرض
واستنباط معادنها وإصلاح تربتها وتأهيل مهجورها وتعمير خرابها، وذلك
صلاح للمسلمين وقوة لهم وعدة على أعدائهم ومصادر أعمال لعاطليهم وتوسيع
لرقعة مساكنهم، وما نشطت شركات الكفار وتسابقت تستعمر بلاد المسلمين
إلا لتعطيلهم هذه الأحكام الشريفة، وتخلفوا عن غيرهم في مجالات التعمير
والبناء وهجرهم لتعاليم النبي صلى الله عليه وسلم وصدق الله العظيم (ومن أعرض
عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال: رب لم
حشرتني أعمى، وقد كنت بصيرا؟ قال: كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك
اليوم تنسى).
(فرع) حكم المعادن الظاهرة، قال الشافعي رضي الله عنه: ومثل هذا كل
عين ظاهرة كنفط أو كبريت أو موميا (1) أو حجارة ظاهرة كموميا في غير
ملك لاحد، فليس لأحد أن يتحجرها دون غيره، ولا لسلطان أن يمنعها لنفسه
ولا لخاص من الناس، لان هذا كله ظاهر كالماء والكلأ اه‍. وهي التي يوصل
إلى ما فيها من غير مؤنة ينتابها الناس وينتفعون بها كالملح والماء والكبريت والنفط
وأحجار التلك الذي يتخذ مسحوقه لتبريد الجلد وأشباه ذاك لا تملك بالاحياء،

(1) الموميا لفظة يونانية الأصل وأصلها مومياى فحذفت الياء اختصارا
وبقيت الألف مقصورة، وهو معدن يؤخذ منه دواء للعلاج كالتوتيا
وكالجنزار من سلفات النحاس. وقال الرملي: الموميا شئ يلقيه البحر في بعض
السواحل فيجمد ويصير كالقار وقيل حجارة سود في اليمن، والبرام حجر يعمل
منه قدور الطبخ.
222

ولا يجوز إقطاعها لاحد من الناس، ولا احتجازها دون المسلمين لما في ذلك من
التضييق عليهم وحرمانهم خيرات ظاهرة، ولان النبي صلى الله عليه وسلم أقطع
أبيض بن حمال معدن الملح في مأرب باليمن، فلما قيل له: إنه بمنزلة الماء العد.
أمر برده، فأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الملح الكثير منزلة مشارع الماء
وطرقات المسلمين.
قال ابن عقيل من الحنابلة: هذا من مواد الله وفيض جوده الذي لا غناء عنه
فلو ملكه أحد بالاحتجاز ملك منعه فضاق على الناس، فان أخذ عنه الثمن أغلاه
فخرج عن الموضع الذي وضعه الله من تعميم ذوي الحوائج من غير كلفة. وهذا
مذهب الشافعي وأحمد ولا نعلم لهما مخالفا من الأئمة.
قال الرملي: وللاجماع على منع إقطاع مشارع الماء وهذا مثلها بجامع الحاجة
العامة وأخذها بغير عمل، ويمتنع أيضا إقطاع وتحجر أرض لاخذ نحو حطبها
وصيدها وبركة لاخذ سمكها، وظاهر كلام الأصحاب المنع من التملك والارتفاق
ولكن الزركشي قيد المنع بالتملك.
ويأتي بعد هذا إذا أطال من سبق إليه المقام فيه ففيه وجهان. أحدهما:
لا يمنع لأنه سبق إليه فهو أحق به، بشرط أن لا يمنع غيره ويأخذ قدر حاجته
والثاني: يمنع لأنه أطال المقام والاخذ، واحتمل أن يمنع غيره لأنه يصير
كالمتملك له أو المتحجر.
وإن استبق إليه اثنان وضاق المكان عنهما أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما
على صاحبه وهذا إذا كانا يأخذانه للتجارة، فإن كانا يأخذانه للحاجة ففيه ثلاثة
أوجه، اما أن يقرع بينهما كالمتجرين، واما أن يقسم بينهما لامكان هذه
القسمة وقد تساويا فيه كما لو تداعيا في أيديهما ولا بينة لأحدهما بها، واما أن
يقدم الامام من يرى منهما لان له نظرا في ذلك، وهذه الأوجه كلها عند
أحمد وأصحابه وأضاف القاضي وجها رابعا وهو أن الامام ينصب من يأخذ لهما
ويقسم بينهما.
223

ولو كان في الموات موضع يمكن أن يحدث فيه معدن ظاهر كموضع على شاطئ
البحر إذا صار فيه ماء البحر وتبخر صار ملحا ملك بالاحياء وجاز للامام اقطاعه
لشركات أو أفراد، لأنه لا يضيق على المسلمين باحداثه، بل يحدث نفعه بفعله،
فلم يمنع منه كبقية الموات، واحياء هذا يتم بتهيئته لما يصلح من حفر ترابه وتمهيده
وفتح القنوات إليه تصب الماء فيه، لأنه يتهيأ بهذا الانتفاع به،
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان سبق إلى معدن باطن وهو الذي لا يوصل إليه الا بالعمل
والمؤنة كمعدن الذهب والفضة والحديد والرصاص والياقوت والفيروزج فوصل
إلى نيله ملك ما أخذه لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو
أحق به) وهل يملك المعدن، فيه قولان (أحدهما) يملكه لأنه موات لا يوصل
إلى ما فيه الا بالعمل والانفاق، فملكه بالاحياء كموات الأرض (والثاني) لا يملك
وهو الصحيح، لان النبي صلى الله عليه وسلم علق الملك في الموات على الاحياء
وهو العمارة، والعمل في المعدن حفر وتخريب فلا يملك به، ولأنه يحتاج في
كل جزء يأخذه إلى عمل فلا يملك منه الا ما أخذ، ويخالف موات الأرض لأنه
إذا عمر انتفع به على الدوام من غير عمل مستأنف فملك به، فان قلنا إنه يملك
بالاحياء ملكه إلى القرار وملك مرافقه، فان تباعد انسان عن حريمه وحفر
معدنا فوصل إلى العرق لم يمنع من أخذ ما فيه، لأنه احياء في موات لا حق فيه
لغيره، فان حفر ولم يصل إلى النيل صار أحق به كما قلنا فيمن تحجر في موات
الأرض. فان قلنا: لا يملك كان كالمعدن الظاهر في إزالة يده إذا قال مقامه،
وفى القسمة والتقديم بالقرعة وتقديم من يرى الامام تقديمه.
(فصل) ويجوز الارتفاق بما بين العامر من الشوارع والرحاب والواسعة
بالقعود للبيع والشراء، لاتفاق أهل الأمصار في جميع الأعصار على اقرار الناس
على ذلك من غير إنكار، ولأنه ارتفاق بمباح من غير اضرار فلم يمنع منه
كالاجتياز، فان سبق إليه كان أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم (منى مناخ من
سبق) وله أن يظلل بما لا ضرر به على المارة من بارية وثوب، لان الحاجة تدعو
224

إلى ذلك، وان أراد أن يبنى دكة منع، لأنه يضيق به الطريق، ويعثر به الضرير
وبالليل البصير فلم يجز، وان قام وترك المناع لم يجز لغيره أن يقعد فيه، لان
يد الأول لم تزل، وان نقل متاعه كان لغيره ان يقعد فيه لأنه زالت يده، وان
قعد وأطال ففيه وجهان:
(أحدهما) يمنع لأنه يصير كالمتملك، وتملكه لا يجوز (والثاني) يجوز
لأنه قد ثبت له اليد بالسبق إليه، وان سبق إليه اثنان ففيه وجهان
(أحدهما) يقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر (والثاني) يقدم
الامام أحدهما، لان للامام النظر والاجتهاد، ولا تجئ القسمة لأنها لا تملك
فلم تقسم.
(الشرح) حديث من سبق إلى ما لم يسبق إليه فهو أحق، سبق لنا تخريجه
أما الأحكام فقد مضى أكثر مسائل هذين الفصلين، أما ما كان من الشوارع
والطرقات والرحاب (الميادين) بين العمران فليس لأحد احياؤه، سواء كان
واسعا أو ضيقا، وسوء ضيق على الناس أو لم يضيق، لان ذلك يشترك فيه
المسلمون وتتعلق به مصلحتهم فأشبه مساجدهم، ويجوز الارتفاق بالقعود في
الواسع من ذلك للبيع والشراء على وجه لا يضيق على أحد ولا يضر بالمارة لاتفاق
أهل الأمصار في جميع الأعصار على اقرار الناس على ذلك من غير إنكار، ولأنه
ارتفاق مباح من غير اضرار فلم يمنع منه كالاجتياز والعبور.
وقال أحمد في السابق إلى دكاكين السوق غدوة فهو له إلى الليل، وكان هذا
في سوق المدينة فيما مضى، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (منى مناخ من سبق)
وله أن يظلل على نفسه بما لا ضرر فيه من بارية ومظلة وكساء ونحوه لان الحاجة
تدعو إليه، فإذا جرى العرف بمنعه الا بإذن السلطان لتنظيم صفوفهم وحصرهم
فيما لا يخل بحرمة الطريق ومخاطر الآلات المستحدثة للركوب كالمترو والتروللي
والترام والباس، والسيارات العام منها والخاص، وللسلطان أن يقيد المطلق
أحيانا إذا اقتضت ذلك مصلحة أرجح من الاطلاق وجميع المدن المتحضرة في العالم
اليوم لا تسمح بإشغال الطريق الا في حدود المترو ونحوه، وبترخيص يصدر
225

من وزارة الاسكان والمرافق. ولو تركت الطرقات هكذا لكل من يريد أن
ينصب فيها تابوتا لبضاعته في عرض الطريق لضاقت الطرقات والشوارع على
المارة والمجتازين، وربما ادعى أحدهم ملكية المكان الذي يشغله
على أن الفقهاء لم يرتبوا حقا للتملك لمن يجلس في الطرقات للبيع والشراء
فقالوا: والسابق أحق به ما دام فيه، فإن قام وترك متاعه فيه لم يجز لغيره إزالته
لان يد الأول عليه، وإن نقل متاعه كان لغيره أن يقعد فيه، لان يده قد زالت
وإن قعد وأطال منع من ذلك لأنه يصير كالمتملك، ويختص بنفع يساويه غيره في
استحقاقه، ويحتمل أن لا يزال. وهذا وجه آخر لأنه سبق إلى ما لم يسبق إليه
مسلم. وان استبق اثنان إليه احتمل أن يقرع بينهما، واحتمل أن يقدم الامام
من يرى منهما.
وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: ما كان ينبغي لنا أن نشتري من هؤلاء
الذين يبيعون على الطريق.
قلت: إن الإمام أحمد رضي الله عنه يرى في وقوف مثله على قارعة الطريق
للشراء ضربا من التبذل المخل بأهل الوقار والنصون: لان هؤلاء قلما يراعون
حقوق الطريق، فقد روى الشيخان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال
قال رسول الله عليه وسلم: إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا
يا رسول الله مالنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: إذا أبيتم إلا الجلوس
فأعطوا الطريق حقها. قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر
وكف الأذى ورد السلام والامر بالمعروف والنهى عن المنكر) هذا والله
سبحانه وتعالى الموفق للصواب.
226

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الاقطاع والحمى
يجوز للامام أن يقطع موات الأرض لمن يملكه بالاحياء لما روى علقمة بن
وائل عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضا فأرسل معه معاوية
أن أعطه إياها، أو قال أعطاها إياه.
وروى ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير حضر فرسه
فأجرى فرسه حتى قام ورمى بسوطه، فقال أعطوه من حيث وقع السوط.
وروى أن أبا بكر أقطع الزبير وأقطع عمر عليا وأقطع عثمان رضي الله عنهم
خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: الزبير وسعدا وابن مسعود
وخبابا وأسامة بن زيد رضي الله عنهم. ومن أقطعه الامام شيئا من ذلك صار
أحق به. ويصير كالمتحجر في جميع ما ذكرناه، لان بإقطاع الامام صار أحق به
كالمتحجر، فكان حكمه حكم المتحجر، ولا يقطع من ذلك إلا ما يقدر على إحيائه
لأنه إذا أعطاه أكثر من ذلك دخل الضرر على المسلمين من غير فائدة.
(فصل) وأما المعادن فإنها إن كانت من المعادن الظاهرة لم يجز اقطاعها
لما روى ثابت بن سعيد عن أبيه عن جده أبيض بن حمال أنه استقطع النبي
صلى الله عليه وسلم ملح المأرب فأقطعه إياه، ثم إن الأقرع بن حابس قال:
يا رسول الله انى قد وردت الملح في الجاهلية، وهو بأرض ليس بها ملح، ومن
ورده أخذه، وهو مثل الماء العد بأرض، فاستقال أبيض بن حمال فقال أبيض
قد أقلتك فيه على أن تجعله منى صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو
منك صدقة وهو مثل الماء العدو من ورده أخذه.
وإن كانت من المعادن الباطنة فإن قلنا إنها تملك بالاحياء جاز إقطاعه لأنه
موات يجوز أن يملك بالاحياء فجاز اقطاعه كموات الأرض، وان قلنا لا تملك
بالاحياء فهل يجوز اقطاعه، فيه قولان.
(أحدهما) يجوز إقطاعه لأنه يفتقر الانتفاع به إلى المؤن فجاز اقطاعه
227

كموت الأرض. والثاني لا يجوز لأنه معدن لا يملك بالاحياء فلم يجز إقطاعه
كالمعادن الظاهرة، فإذا قلنا يجوز إقطاعه لم يجز إلا ما يقوم به لما ذكرناه
في إقطاع الموات.
(فصل) ويجوز إقطاع ما بين العامر من الرحاب ومقاعد الأسواق
للارتفاق، فمن أقطع شيئا من ذلك صار أحق بالموضع نقل متاعه أو لم ينقل،
لان للامام النظر والاجتهاد، فإذا أقطعه ثبتت يده عليه بالاقطاع فلم يكن لغيره
أن يقعد فيه.
(الشرح) حديث ابن عمر رواه أبو داود وفيه ضعف لان في إسناده عبد الله
ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب الملقب بالعمري المكبر. قال
ابن حجر في التقريب: ضعيف عابد. وقال الصنعاني: فيه مقال. وقال الذهبي:
صدوق في حفظه شئ.
وروى عن ابن معين أنه قال: ليس به بأس، يكتب حديثه، وقال الدارمي
قلت لابن معين: كيف حاله في نافع؟ قال: صالح ثقة. وقال الفلاس: كان يحيى
القطان لا يحدث عنه. وقال أحمد بن حنبل: صالح لا بأس به، وقال النسائي
وغيره ليس بالقوى، وقال ابن عدي هو في نفسه صدوق. وقال أحمد: كان
عبد الله رجلا صالحا، كان يسأل عن الحديث في حياة أخيه عبيد الله فيقول: أما
وأبو عثمان حي فلا. وقال ابن المديني: عبد الله ضعيف. وقال ابن حبان: كان
ممن غلب عليه الصلاح والعبادة حتى غفل عن حفظ الاخبار وجودة الحفظ
للآثار، فلما فحش خطؤه استحق الترك
وقد أخرج الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر في حديث ذكرته قالت (كنت
أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي
وهو منى على ثلثي فرسخ)
وقوله: حضر فرسه، أي قدر ارتفاع الفرس في عدوه، وفى قولها (من
أرض الزبير) يحتمل أن تكون هذه الأرض هي التي وردت في حديث ابن عمر
وفى البخاري في آخر كتاب الخمس من حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم
228

أقطع الزبير أرضا من أموال بنى النضير. وفى سنن أبي داود عن أسماء (أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع الزبير نخلا) والأحاديث تدل على أنه يجوز
للنبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الأئمة إقطاع الأراضي وتخصيص بعض دون بعض
لمن يأنس فيهم القدرة على القيام عليها وإحيائها واستنباط منافعها. وقد ثبت أن
النبي صلى الله عليه وسلم أقطع صخر بن أبي العيلة البجلي الأحمسي ماء لبنى سليم لما
هربوا عن الاسلام وتركوا ذلك، ثم رده إليهم في قصة طويلة مذكورة في
سنن أبي داود.
ومنها ما أخرجه أبو داود عن سبرة بن معبد الجهني (أن النبي صلى الله عليه
وسلم نزل في موضع المسجد تحت دومة فأقام ثلاثا ثم خرج إلى تبوك وإن جهينة
لحقوه بالرحبة فقال لهم: من أهل ذي المروة؟ فقالوا: بنو رفاعة من جهينة،
فقال قد أقطعتها لبنى رفاعة فاقتسموها، فمنهم من باع ومنهم من أمسك فعمل
ومنها عند أبي داود عن قيلة بنت مخرمة قالت: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتقدم صاحبي يعنى حريت بن حسان وافد بكر بن وائل، فبايعه على الاسلام
عليه وعلى قومه، ثم قال يا رسول الله: اكتب بيننا وبين بنى تميم بالدهناء أن
لا يجاوزها إلينا منهم أحد إلا مسافر أو مجاور، فقال اكتب له يا غلام بالدهناء
فلما رأيته قد أمر له بها شخص بي وهي وطني وداري، فقلت: يا رسول الله إنه
لم يسألك السوية من الأرض إذ سألك، إنما هذه الدهناء عندك مقيد الجمل
ومرعى الإبل، ونساء بنى تميم وأبناؤها وراء ذلك، فقال أمسك يا غلام صدقت
المسكينة، المسلم أخو المسلم يسعهما الماء والشجر ويتعاونان على الفتان) يعنى
الشيطان، وأخرجه أيضا الترمذي مختصرا
وقال الشافعي رضي الله عنه: والموات الذي للسلطان أن يقطعه من يعمره
خاصة وأن يحمى منه ما رأى أن يحميه عاما لمنافع المسلمين، والذي عرفنا نصا
ودلالة فيما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حمى البقيع، وهو بلد ليس
بالواسع الري إذا حمى ضاقت البلاد على أهل المواشي وأضربهم
229

ويشتمل هذا الباب على ثلاثة أحكام تختص بالموات وهي الاحياء والاقطاع
والحمى. فأما الاحياء فقد ذكرنا جوازه ومن يجوز له. وأما الاقطاع وهو
موضوع الفصل، فإنه لا يصح الا في موات لم يستقر عليه ملك وعلى هذا كان
قطائع النبي صلى الله عليه وسلم حين أقطع الزبير ركض فرسه من موات البقيع
فأجراه ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة فقال: أعطوه منتهى سوطه، وأما ورود
بعض الأخبار فيما أعطاه للزبير من أرض بنى النضير أو من نخل المدينة فقد
أوردها البخاري في آخر كتاب الخمس ومعي هذا أنها غنائم زالت عنها يد الكفار
وهذه قضية أخرى غير ما أقطعه من أرض البقيع مواتا لاحيائه، وهكذا كانت
قطائع رسول الله صلى الله عليه وسلم الا ما كان من شأن تميم الداري وأبى ثعلبة
الخشني، فإن تميما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعه عيون البلد الذي كان
منه بالشام قبل فتحه، وأبو ثعلبة سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعه أرضا
كانت بيد الروم فأعجبه الذي قال: ألا تسمعون ما يقول؟ فقال والذي
بعثك بالحق لتفتحن عليك، فكتب له كتابا.
فاحتمل ذلك من فعله أن يكون أقطعهما ذلك اقطاع تقليد لا اقطاع تمليك،
أو يجوز أن يكونا مخصوصين بذلك لتعلقه بتصديق أخبار وتحقيق احجاز، وأما
الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فان أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم
يقطعا الا مواتا لم يجر عليه ملك، واصطفى عمر رضي الله عنه من أرض السواد
أموال كسرى وأهل بيته وما هرب عنه أربابه أو هلكوا فكان يبلغ تسعة آلاف
ألف فكان يصرفها في مصالح المسلمين ولم يقطع شيئا، ثم إن عثمان رضي الله عنه
أقطعها لأنه رأى اقطاعها أوفى لغلتها من تعطيلها، وشرط على من أقطعها أن
يأخذ منه الغنى، فكان ذلك منه اقطاع إجازة لا اقطاع تمليك، وقد توفرت عليه
حتى بلغت خمسين ألف ألف، ثم تناقلها الخلفاء بعده فلما كان عام الجماجم سنة
اثنين وثمانين وفتنة ابن الأشعث أحرق الديوان وأخذ كل قوم ما يليهم.
فإذا كان اقطاع الامام إنما يختص بالموات دون العامر فالذي يؤثره اقطاع
230

الامام إنما يختص بالموات دون العامر، فالذي يؤثره إقطاع الامام أن يكون
المقطع أولى الناس بإحيائه ممن لم يسبق إلى إحيائه لمكان اذنه وفصل اجتهاده،
فلو بادر فأحياها غير المقطع فهي ملك للمحيي دون المقطع. وقال أبو حنيفة:
ان أحياها قبل مضى ثلاث سنوات من وقت الاقطاع فهي للمقطع، وان أحياها
بعد ثلاث سنين فهي للمحيي.
وقال مالك بن أنس: ان أحياها عالما بالاقطاع فهي للمقطع، وان أحياها غير
عالم بالاقطاع خير المقطع بين أن يعطى المحيى نفقة عمارته وتكون الأرض له،
وبين أن يترك عليه الأرض ويأخذ قيمتها قبل العمارة استدلالا برواية معمر عن أبي
نجيح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أقطع أقواما فجاء آخرون في عهد عمر فأحيوها فقال لهم عمر رضي الله عنه
حين فزعوا إليه: تركتموهم يعملون ويأكلون ثم جئتم تغيرون عليهم لولا أنها
قطيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطيتكم شيئا، ثم قومها عامرة
وقومها غير عامرة، ثم قال لأهل الأصل: ان شئتم فردوا عليهم ما بين ذلك
وخذوا أرضكم، وان شئتم ردوا عليكم ثمن أرضكم ثم هي لهم.
ودليلنا على أنها ملك المحيى بكل حال دون المقطع، قوله صلى الله عليه وسلم
(من أحيا أرضا مواتا فهي له) ولان الاقطاع لا يوجب التمليك، والاحياء
يوجب التمليك، فإذا اجتمعا كان ما أو وجب التمليك أقوى حكما مما لم يوجبه. فأما
حديث عمر رضي الله عنه فقد قال في قضيته: لولا أنها قطيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما أعطيتكم شيئا، فدل على أن من رأيه أنها للمحيي، وإنما عدل عن هذا الرأي
لما توجه إليها من اقطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره أن يبطله، فاستنزل
الخصمين إلى ما قضى به مراضاة لا جبرا.
فإن كان المقطع قد حجرها وجمع ترابها حتى تميزت عن غيرها فجاء غيره
فعمرها وحرثها نظر، فإن كان المقطع مقيما على عمارتها حتى تغلب عليها الثاني
فعمرها فهي للأول ويكون الثاني متطوعا بعمارته، وإن كان المقطع قد ترك عمارتها
فعمرها الثاني فهي للثاني دون الأول، وهكذا لو كان الأول قد بدأ بالعمل من
غير اقطاع فهذا حكم الاقطاع.
231

(فرع) مضى ما سقناه من حديث أبيض بن حمال الذي وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم
استقطعه الملح ثم انتزعه منه لما علم أنه كالماء العد، وفى إقطاع المعادن روى أحمد
وأبو داود عن أبن عباس قال (أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلال بن الحرث
المزني معادن القبيلة جلسيها وغوريها، وحيث يصلح الزرع من قدس ولم
يعطه حق مسلم)
وفى إسناده أبى أويس عبد الله بن عبد الله أخرج له مسلم في الشواهد وضعفه
غير واحد. قال أبو عمر بن عبد البر: هو غريب من حديث ابن عباس ليس
يرويه عن أبي أويس غير ثور. وحديث عمرو بن عوف رواه أحمد وأبو داود
أيضا بمعنى حديث ابن عباس، وفى إسناده ابن ابنه كثير بن عبد الله بن عمرو
ابن عوف عن أبيه عن جده.
والأحاديث واردة في جواز أن يقطع الامام من يأنس منه صلاحا مكانا فيه
معادن غير ظاهرة حتى يعالج أمرها بالعمل والتنقيب والبحث. ومن ثم فقد انتزع
ما أقطعه من أرض مأرب للأبيض بن حمال عندما علم أن الملح فيها كالماء الجاري
ويشترط في إقطاع المعادن أن يكون في موات لا يختص به أحد. وهذا أمر
متفق عليه.
وقال في فتح الباري: حكى عياض أن الاقطاع تسويغ الامام من مال الله
شيئا لمن أهلا لذلك، وأكثر ما يستعمل في الأرض وهو أن يخرج منها
لمن يراه يحوزه، إما بأن يملكه إياه فيعمره، وإما بأن يجعل له غلته مدة.
قال السبكي: والثاني هو الذي يسمى في زماننا هذا إقطاعا ولم أر أحدا من أصحابنا
ذكره. وتخريجه على طريق فقهي مشكل. قال والذي يظهر أنه يحصل للمقطع
اختصاص كاختصاص المتحجر ولكنه لا يملك الرقبة، وبهذا جزم الطبري،
وادعى الأذرعي نفى الخلاف في جواز تخصيص الامام بعض الجند بغلة أرضه
إذا كان مستحقا لذلك. هكذا في الفتح
وحكى صاحب الفتح أيضا عن ابن التين أنه إنما يسمى إقطاعا إذا كان من
أرض أو عقار، وإنما يقطع من الفئ ولا يقطع من حق مسلم ولا معاهد،
232

قال: وقد يكون الاقطاع تمليكا وغير تمليك، وعلى الثاني يحمل إقطاعه صلى الله
عليه وسلم. وذكر الخطابي وجها آخر فقال: إنما يحمى من الأراك ما بعد عن
حضرة العمارة فلا تبلغه الإبل الرائحة إذا أرسلت في الرعى اه‍
إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز للامام أن يقطع ما لا يجوز إحياؤه من المعادن
الظاهرة لان النبي صلى الله عليه وسلم استعاد من أبيض بن حمال ما أقطعه، لأنه
وإن كان فيه توسعة على المقطع له إلا أن فيه تضييقا على المسلمين
فإذا رأى الامام أن مكانا نائيا عن العمران فيه من المعادن والمواد الأولية
ما يدخل في منافع الناس، وهو من المعادن الظاهرة، إلا أن بعد مكانها عن
العمران يجعلها في حكم المعادن الباطنة، لان حملها إلى حيث المنتفعون بها
عمل يفوق أحيانا مؤنة التنقيب والحفر.
وقد تكون المعادن الظاهرة هي في حقيقتها مركبة من مواد مختلفة يحتاج
فصلها بعضها عن بعض إلى مصانع ومعامل كالفوسفات والمنجنيز، وثاني أكسيد
الكالسيوم الذي يستخرج من الجير وهو يمثل نسبة عالية في الجير تبلغ النصف
منه قدرا ووزنا، ومع ذلك فإن الجير مع احتوائه على ثاني أكسيد الكالسيوم
يباع الطن منه بقروش معدودة في حين ان ثاني أكسيد الكالسيوم يباع بالجرام
والسبب في ذلك هو نفقات استخلاصه ومؤنة تميزه
ومن ثم يجوز للامام أن يقطع المناجم والمحاجر المحتوية على الخامات
الظاهرة إذا قصد تصنيعها واستخلاص المواد النافعة الثمينة منها، وذلك يساوى
التنقيب عن المعادن الباطنة.
(فرع) مضى كلامنا في أمر كان يده الفقهاء من الاقطاع ويعده المختصون
في زماننا هذا باسم الترخيص، وهو إذن السلطان، فإذا أراد أحد التجار أن
يشغل الطريق أمامه استأذن الحاكم فمنحه رخصة يتحدد فيها المساحة المأذون في
شغلها نظير مكوس يؤديها توقف على تعبيد الطريق وتنظيفها وإنارة الشوارع
وصيانتها من الروائح الكريهة والمزابل المؤذية وهي من الأمور التي تناط باجتهاد
السلطان وبصره بالأمور ونظره في صلاح رعيته، والله أعلم بالصواب
233

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز لاحد أن يحمى مواتا ليمنع الاحياء ورعى ما فيه من
الكلأ. لما روى الصعب بن جثامة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول (لا حمى إلا لله ولرسوله) فأما الرسول عليه السلام فإنه كان يجوز له أن
يحمى لنفسه وللمسلمين، فأما لنفسه فإنه ما حمى ولكنه حمى للمسلمين. والدليل
عليه ما روى ابن عمر رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع
لخيل المسلمين) وأما غيره من الأئمة فلا يجوز أن يحمى لنفسه للخبر. وهل يجوز
أن حمى لخيل المجاهدين، ونعم الجزية، وإبل الصدقة وماشية من يضعف عن
الابعاد في طلب النجعة؟ فيه قولان:
أحدهما لا يجوز للخبر. والثاني يجوز لما روى عامر بن عبد الله بن الزبير
عن أبيه قال: أتى أعرابي من أهل نجد عمر فقال: يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا
عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الاسلام، فعلام تحميها؟ فأطرق عمر رضي الله عنه
وجعل ينفخ ويفتل شاربه وكان إذا كره أمرا فتل شاربه ونفخ
فلما رأى الاعرابي ما به جعل يردد ذلك: فقال عمر: المال مال الله. والعباد
عباد الله، فلولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبرا في شبر)
قال مالك: نبئت أنه كان يحمل في كل عام أربعين ألفا من الظهر، وقال
مرة من الخيل.
وروى زيد بن أسلم عن أبيه (أن عمر رضي الله عنه استعمل مولى له يدعى
هنيا على الحمى وقال له، يا هني اضمم جناحك عن الناس، واتق دعوة المظلوم،
فان دعوة المظلوم مجابة. وأدخل رب الصريمة والغنيمة. وإياك ونعم ابن
عوف. وإياك ونعم ابن عفان، فإنهما ان تهلك ماشيتهما يرجعا إلى نخل وزرع
وان رب الصريمة ورب الغنيمة ان تهلك ماشيتهما فيأتياني فيقولا: يا أمير
المؤمنين، يا أمير المؤمنين، أفتاركهم أنا لا أبا لك، ان الماء والكلأ أيسر عندي
من الذهب والورق، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله
234

ما حميت عليهم من بلادهم شبرا، فإن حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضا
لحاجة والحاجة باقية لم يجز إحياؤها. وإن زالت الحاجة ففيه وجهان:
(أحدهما) يجوز لأنه زال السبب.
(والثاني) لا يجوز لان ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم نص، فلا
يجوز نقضه بالاجتهاد، وإن حماه إمام غيره وقلناه: إنه يصح حماه فأحياه رجل.
ففيه قولان (أحدهما) لا يملكه كما لا يملك ما حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم
(والثاني) يملك لان حمى الامام اجتهاد، وملك الأرض بالاحياء نص، والنص
لا ينقض بالاجتهاد
(الشرح) حديث الصعب بن جثامة رواه أحمد وأبو داود والبخاري والنسائي
ولفظ النسائي هو الذي ساقه المصنف، والفظ أحمد وأبى داود (أن النبي
صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وقال (لا حمى إلا لله ولرسوله) وتتمة رواية
البخاري هكذا: وقال (بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حمى النقيع وأن عمر
حمى شرف والربذة) وأخرج الحديث أيضا الحاكم وقال البيهقي: ان قوله (حمى
النقيع) من قول الزهري.
وقد روى الحديث النسائي فذكر الموصول فقط وهو قوله (لا حمى إلا لله
ورسوله) ويؤيد ما قاله البيهقي أن أبا داود أخرجه من حديث ابن وهب عن
يونس عن الزهري فذكره وقال في آخره قال ابن شهاب: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم
حمى النقيع. قال بعض المحدثين: وقد وهم الحاكم فزعم أن حديث لا حمى إلا لله
متفق عليه. وهو من أفراد البخاري، وتبع الحاكم في وهمه أبو الفتح القشيري
في الالمام وابن الرفعة في المطلب.
والصعب بن جثامة بتشديد المثلثة مع فتح الجيم اللبثي، صحابي مات في خلافة
أبى بكر على ما قيل، والأصح أنه عاش إلى خلافة عثمان رضي الله عنه.
وحديث ابن عمر رواه أحمد وابن حبان. والنقيع بالنون مكان معروف.
وحكى الخطابي أن بعضهم صحفه فقال بالموحدة، وهو على قدر عشرين فرسخا
من المدينة ومساحته ميل في ثمانية أميال، أفاده ابن وهب في موطئه، وأهل
235

النقيع كل موضع فيه الماء، وهذا النقيع المذكور غير نقيع الخضمات
الذي جمع فيه أسعد بن زرارة بالمدينة على المشهور. وقال ابن الجوزي: إن
بعضهم قال: إنهما واحد والأول أصح
وأثر عمر سقناه في الفصل قبله في الرد على مالك، وأما خبر تولية هنئ
مولى عمر فقد رواه البخاري عن أسلم مولى عمر وأخرجه عن الدراوردي عن
زيد بن أسلم عن أبيه بلفظ المصنف. وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن
الزهري مرسلا
أما الأحكام فإن الحمى هو المنع من إحياء الموات ليتوفر فيه الكلأ فترعاه
المواشي، لان الحمى في كلامهم هو المنع، والحمى على ثلاثة أنواع: حمى حماه
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى أنه وقف على جبل يعمل فصلى عليه ثم قال: هذا
حماى وأشار إلى النقيع وهو قدر ميل في ثمانية. وقال الماوردي ستة أميال فحماه
لخيل المسلمين. ولان اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته أمضى،
وقضاؤه فيهم أنفذ، وكان ما حماه لمصالحهم أولى أن يكون مقرا من
إحيائهم وعمارتهم.
فأما حمى الامام بعده فإن أراد أن يحمى لنفسه أو لأهله أو للأغنياء خصوصا
لم يجز، وكان ما حماه مباحا لمن أحياه.
وان أراد أن يحمى لخيل المجاهدين ونعم الجزية والصدقة ومواشي الفقراء
نظر، فإن كان الحمى يضر بكافة المسلمين فقرائهم وأغنيائهم لضيق الكلأ عليهم
فحمى أكثر مواتهم لم يجز. وإن كان لا يضر بهم لأنه قليل من كثير يكتفى
المسلمون بما بقي من مواتهم ففيه قولان
(أحدهما) لا يجوز أن يحمى لرواية مجاهد عن ابن عباس قال، قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلمون شركاء في ثلاثة. الماء والغار والكلأ
وثمنه حرام، وسيأتي تخريجه في باب حكم المياه، وحديث الصعب بن
جثامة الذي سبق.
236

(والقول الثاني) يجوز له أن يحيى لما فيه من صلاح المسلمين، ولما روى أن
أبا بكر رضي الله عنه حمى الربذة لإبل الصدقة واستعمل عليها مولاه أبا أسامة
وتولى عليه قطبة بن مالك الثعلبي رضي الله عنه وحمى عمر رضي الله عنه الشرف
فحمى منه نحو ما حمى أبو بكر بالربذة، وولى عليه مولى له يقال له: هنئ وقال:
يا هنى اضمم جناحك على المسلمين واتق دعوة المظلوم فإن دعوه المظلوم مستجابة
وأدخل رب الصريمة وهي بالتصغير القطعة من الإبل نحو الثلاثين أو ما بين
العشرة إلى الأربعين ورب الغنيمة ما بين الأربعين إلى المائة من الشاء والغنم
وتفرد به راع واحد وإياي ونعم ابن عوف يعنى عبد الرحمن ونعم ابن
عفان يعنى عثمان فإنهما إن تهلك ماشيتهما يرجعان إلى نخل وزرع، ورب
الصريمة ورب الغنيمة إن تهلك ماشيتهما يأتيني ببنيه يقول: يا أمير المؤمنين،
أفتاركهم أنا لا أبالك، فالماء والكلأ أيسر من الذهب والورق وعمر بهذا
يلزم نفسه ويلزم أمراء المسلمين بعده بأن عليهم عوض ما هلك من أموال الرعية
بسبب تقصيرهم في حفظ أموالهم وعنده أن توفير المرعى والكلأ أيسر من توفير
الذهب والفضة يبذلهما في تعويض ما تلف على رب الصريمة والغنيمة ثم يقول:
وأيم الله إنهم ليرون أنى قد ظلمتهم، إنها لبلادهم قاتلوا عليها في الجاهلية وأسلموا
عليها في الاسلام.
وهكذا يعطى تقويما صحيحا وتقديرا سليما لمقومات الوطنية عند الشعب وهم
الرعية ومقومات الديموقراطية والعدل عند الحاكم حين يسمح لرعيته أن يتهموه
بالظلم إذا قصرت الدولة في بذل الخدمات وتأمين سلامة الرعية وهو حمى من
أرضهم جزءا للمرعى فيجب ألا يسمح للأغنياء والقادرين أن يزاحموهم في مراعيهم
لان لهم من بساتينهم ومزارعهم غنية عن مزاحمة الفقراء.
والحمى فيه نفع للفقراء والأغنياء، أما الفقراء فلانه مرعى صدقاتهم، وأما
الأغنياء فلخيل المجاهدين عنهم، وأما قوله صلى الله عليه وسلم (لا حمى إلا الله)
فمعناه لا حمى إلا أن يقصد به وجه الله، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
237

فيسلم فيما للفقراء المسلمين ومصالحهم فخالف فيه فعل الجاهلية فإن الذي في
الجاهلية كان إذا استولى على بلد أوتى بكلب فجعله على جبل أو على نشز من الأرض
واستعداه فحيث انتهى عواؤه حماه لنفسه، فلا يرعى فيه غيره ويشارك الناس
فيما سواه، وهكذا كان كليب بن وائل إذا أعجبته روضة ألقى فيها كلبا وحمى إلى
منتهى عوائه وفيه يقول معبد بن شعبة الضبي:
كفعل كليب أنبئت أنه يرى * يخطط أكلاء المياه ويمنع
وقال العباس بن مرداس:
كما كان يبغيها كليب * لظلمه من العز حتى صاح وهو قتيلها
على وائل إذ يترك الكلب هائجا * وإذ يمنع الاكلاء منها حلولها
وأما حمى الواحد من عوام المسلمين فمحظور وحماه مباح، ان حمى لنفسه فقد
تحكم وتعدى بمنعه، وان حمى للمسلمين فليس من أهل الولاية عليهم ولا ممن
يؤثر اجتهاده لهم، وقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا
(لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به الكلأ).
فلو أن رجلا من عوام المسلمين حمى مواتا ومنع الناس منه زمانا رعاه
وحده، ثم ظهر الامام عليه ورفع يده عنه لم يغرمه ما رعاه لأنه ليس بمالك،
ولا يعزره لأنه أحد مستحقيه ولكن ينهاه عن مثله من التعدي. فأما أمير البلد
ووالى الإقليم إذا رأى أن يحمى لمصالح المسلمين كالامام فليس له ذلك الا بإذن
الامام، لان اجتهاد الامام أعم.
ولكن لو أن والى الصدقات اجتمعت معه ماشية الصدقة، وقل المرعى لها
وخاف عليها التلف ان لم يحم الموات لها: فإن منع الامام من الحمى كان والى
الصدقات أولى، وان جوز الامام الحمى ففي جوازه لو إلى الصدقات عندما ذكرناه من حدوث الضرورة به وجهان.
(أحدهما) يجوز كما يجوز عند الضرورة أن يبيع ما بيده من مال الصدقة،
238

وإن كان بيعها لا يجوز من غير الضرورة، فعلى هذا يتقدر الحمى بزمان الضرورة،
ولا يستديم بخلاف حمى الامام.
(والوجه الثاني) لا يجوز أن يحمى لأنه ليس له أن يرفع الضرر عن أموال
الفقراء بإدخال الضرر على الأغنياء، ويكون الضرر إن كان بالفريقين معا،
وهذا أصح الوجهين كما أفاده الماوردي في الحاوي الكبير.
(فرع) إذا حمى الامام مواتا وصححناه وقلنا: إنه كحمى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فأحياه رجل من عامة المسلمين فهل يملك بإحيائه أم لا؟ قال الماوردي
تبعا للشيخ أبي إسحاق: فيه قولان.
أحدهما: لا يملك المحي ما أحياه من حمى الامام كما لا يملك حمى النبي صلى الله
عليه وسلم لان كليهما حمى محرم.
والقول الثاني: يملك بالاحياء، وان منع منه لان حمى الامام اجتهاد وملك
الموات بالاحياء نص، والنص أثبت حكما من الاجتهاد والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
باب حكم المياه
الماء اثنان، مباح وغير مباح، فأما غير المباح فهو ما ينبع في أرض مملوكة،
فصاحب الأرض أحق به من غيره، لأنه على المنصوص: يملكه، وعلى قول
أبي إسحاق: لا يملكه، إلا أنه لا يجوز لغيره أن يدخل إلى ملكه بغير إذنه،
فكان أحق به، وإن فضل عن حاجته واحتاج إليه الماشية للكلأ لزمه بدله من غير
عوض. وقال أبو عبيد بن حرب: لا يلزمه بذله كما لا يلزمه بذل الكلأ للماشية
ولا بذل الدلو والحبل ليستقى به الماء للماشية، والمذهب الأول لما روى إياس بن
عمرو (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء).
وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من
منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضل رحمته) ويخالف الكلأ فإنه
لا يستخلف عقيب أخذه، وربما احتاج إليه لماشيته قبل أن يستخلف فتهلك ماشيته
239

والماء يستخلف عقيب أخذه وما ينقص من الدلو والحبل لا يستخلف، فيستضر
والضرر لا يزال بالضرر، ولا يلزمه بذل فضل الماء للزرع، لان الزرع لا حرمة
له في نفسه، والماشية لها حرمة في نفسها، ولهذا لو كان الزرع له لم يلزمه سقيه،
ولو كانت الماشية له لزمه سقيها، وان لم يفضل الماء عن حاجته لم يلزمه بذله،
لان النبي صلى الله عليه وسلم علق الوعيد على منع الفضل. ولان ما لا يفضل عن
حاجته يستضر ببذله، والضرر لا يزال بالضرر.
(الشرح) حديث اياس بن عمرو عند أهل السنن وصححه الترمذي. وقال
أبو الفتح القشيري: هو على شرط الشيخين وقد رواه مسلم في صحيحه من حديث
جابر مرفوعا. أما حديث أبي هريرة فقد وجدته عند الشيخين بلفظ (لا تمنعوا
فضل الماء لتمنعوا به الكلأ) وللبخاري (لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا به فضل
الكلأ) وعند أحمد من حديث أبي هريرة أيضا (ولا يمنع فضل ماء بعد أن
يستغنى عنه) أما اللفظ الذي ساقه المصنف معزوا إلى أبي هريرة فإني وجدته عند
أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ولفظه (من منع فضل مائه، أو فضل
كلئه. منعه الله عز وجل فضله يوم القيامة) وفى اسناده محمد بن راشد الخزاعي
وهو ثقة وقد ضعفه.
قال ابن حجر: صدوق يهم، ورمى بالقدر، ورواه الطبراني في الصغير عن
عمرو بن شعيب ورواه في الكبير من حديث وائلة بلفظ آخر واسناده ضعيف
والأحاديث يشهد بعضها لبعض ويشهد لها جميعا حديث أبي هريرة عند الشيخين
وحديث عائشة عند أحمد وابن ماجة (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يمنع نفع البئر) وحديث جابر عند مسلم (نهى عن بيع فضل الماء) وفى مسند
عبد الله بن أحمد عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى
بين أهل المدينة في النخل أن لا يمنع نقع بئر وقضى بين أهل البادية أن لا يمنع فضل
ماء ليمنع به الكلأ) والنقع الماء الفاضل فيها عن حاجة صاحبها، وقوله (فضل
الماء) المراد به ما زاد على الحاجة ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة
بلفظ (ولا يمنع ماء بعد أن يستغنى عنه).
240

قال ابن حجر في فتح الباري: وهو محمول عند الجمهور على ماء البئر المحفورة
في الأرض المملوكة. وكذلك في الموات إذا كان لقصد التملك، والصحيح عند
الشافعية ونص عليه في القديم وحرملة أن الحافر يملك ماءها.
وأما البئر المحفورة في الموات لقصد الارتفاق لا التملك فإن الحافر لا يملك
ماءها بل يكون أحق به إلى أن يرتحل. وفى الصورتين يجب عليه بذل ما يفضل
عن حاجته. والمراد حاجة نفسه وعياله وزرعه وماشيته، هذا هو الصحيح عند
الشافعية، وخص المالكية هذا الحكم بالموات. وقالوا في البئر التي لا تملك
لا يجب عليه بذل فضلها. وأما الماء المحرز في الاناء فلا يجب بذل فضله لغير
المضطر على الصحيح. اه‍
قال في البحر: والماء على أضرب، حق إجماعا كالأنهار غير المستخرجة
والسيول، وملك إجماعا كماء يحرز في الجرار ونحوها، ومختلف فيه كماء الآبار
والعيون والقنا المحتفرة في الملك اه‍
قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء أن صاحب الحق أحق بمائه حتى يروى
قال الحافظ ابن حجر، وما نفاه من الخلاف هو على القول بأن الماء يملك،
فكأن الذين يذهبون إلى أنه يملك وهم الجمهور هم الذين لا خلاف عندهم في ذلك
وقد استدل بتوجه النهى إلى الفضل على جواز بيع الماء الذي لا نضل فيه. وقد
تقدم في أبواب البيوع بحوث مستفيضة من المجموع فاشدد بها يديك.
وقوله (ليمنع به الكلأ) هو النبات، رطبه ويابسه، والمعنى أن يكون حول
البئر كلا ليس عنده ماء غيره، ولا يمكن أصحاب المواشي رعيه إلا إذا مكنوا
من سقى بهائمهم من تلك لئلا يتضرروا بالعطش بعد الرعى، فيستلزم منعهم من
الماء منعهم من الرعى، والى هذا التفسير ذهب الجمهور. وعلى هذا يختص البذل
بمن له ماشية، ويلحق به الرعاة إذا احتاجوا إلى الشرب، لأنه إذا منعهم من
الشرب امتنعوا من الرعى هناك.
ويحتمل أن يقال يمكنهم حمل الماء لأنفسهم لقلة ما يحتاجون إليه منه بخلاف
البهائم، والصحيح الأول، ويلتحق بذلك الزرع عند مالك، والصحيح عند
الشافعية وبه قالت الحنفية الاختصاص بالماشية وفرق الشافعي فيما حكاه المزني
241

عنه بين المواشي والزرع، بأن الماشية ذات أرواح يخشى من عطشها موتها،
بخلاف الزرع، وبهذا أجاب النووي وغيره.
واستدل لمالك بحديث جابر في صحيح مسلم الذي ذكرناه لاطلاقه وعدم
تقييده، وتعقب بأنه يحمل على المقيد، وعلى هذا لو لم يكن هناك كلا يرعى فلا
منع من لانتفاء العلة. على أنه ليس هناك صارف يصرف النهى عن معناه
الحقيقي من التحريم، لا سيما وأن النهى مصحوب في بعض روايات الحديث
بالوعيد. وقال في الفتح، وظاهر الحديث وجوب بذله مجانا وبه قال الجمهور.
وقيل: لصاحبه طلب القيمة من المحتاج إليه كما في طعام المضطر وتعقب بأنه يلزم
منه جواز البيع حالة امتناع المحتاج من بذل القيمة، ورد بمنع الملازمة فيجوز أن
يقال يجب عليه البذل وتثبت له القيمة في ذمة المبذول له، فيكون له أخذ القيمة
منه متى أمكن، ولكنه لا يخفى أن رواية لا يباع فضل الماء، ورواية النهى عن
بيع فضل الماء يدلان على تحريم البيع، ولو جاز له أخذ العوض لجاز له البيع.
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وأما المباح فهو الماء الذي ينبع في الموات، فهو مشترك بين الناس
لقوله صلى الله عليه وسلم (الناس شركاء في ثلاثة، الماء والنار والكلأ) فمن سبق
منهم إلى شئ منه كان أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق
إليه، فهو أحق به) فإن أراد أن يسقى منه أرضا، فإن كان نهرا عظيما كالنيل
والفرات وما أشبههما من الأودية العظيمة، جاز أن يسقى منه ما شاء ومتى شاء،
لأنه لا ضرر فيه على أحد، وإن كان نهرا صغيرا لا يمكن سقى الأرض منه الا
أن يحبسه، فإن كانت الأرض متساوية، بدأ من أول النهر، فيحبس الماء حتى
يسقى أرضه إلى أن يبلغ الماء إلى الكعب، ثم يرسله إلى من يليه، وعلى هذا إلى
أن تنتهي الأراضي، لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم (قضى في شرب نهر من سيل أن للأعلى أن يشرب قبل الأسفل،
ويجعل الماء فيه إلى الكعب، ثم يرسله إلى الأسفل الذي يليه كذلك، حتى تنتهي
242

الأرضون) وروى عبد الله بن الزبير أن الزبير ورجلا من الأنصار تنازعا في
شراج الحرة التي يسقى بها النخل، فقال الأنصاري للزبير: سرح الماء، فأبى
الزبير، فاختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
للزبير (اسق أرضك ثم أرسل الماء إلى أرض جارك، فقال الأنصاري: أن كان
ابن عمتك يا رسول الله؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
يا زبير اسق أرضك واحبس الماء إلى أن يبلغ الجذر)
وإن كانت الأرض بعضها أعلى من بعض ولا يقف الماء في الأرض العالية
إلى الكعب حتى يقف في الأرض المستقلة إلى الوسط، فيسقي المستقلة حتى يبلغ
الماء إلى الكعب، ثم يسدها ويسقى العالية حتى يبلغ الكعب، فإن أحيا جماعة
أرضا على هذا النهر وسقوا منه، ثم جاء رجل فأحيا أرضا في أعلاه إذا سقى
أرضه استضر أهل النهر، منع من ذلك، لان من ملك أرضا ملكها بمرافقها،
والنهر من مرافق أرضهم فلا يجوز مضايقتهم فيه
(الشرح) حديث (الناس شركاء) رواه أحمد وأبو داود عن أبي خراش
عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(المسلمون شركاء في ثلاثة في الماء والكلأ والنار)
ورواه ابن ماجة من حديث ابن عباس وزاد فيه (وثمنه حرام) وقد رواه
أبو نعيم في الصحابة في ترجمة أبى خراش، ولم يذكر الرجل، وقد سئل أبو حاتم
عنه فقال أبو خراش لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم
وقد وجدت ممن كنيته أبو خراش في الصحابة، وهو حدرد بن أبي حدود
الأسلمي وهو صحابي
قال ابن حجر في التقريب: له حديث واحد. ووجدت هذا الحديث يذكره
ابن الأثير في أسد الغابة يقول: روى جندل بن والق عن يحيى بن يحيى الأسلمي
عن سعيد بن مقلاص عن الوليد بن أبي الوليد عن عمران بن أبي أنس عن حدود
الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (هجرة الرجل أخاه سنة كسفك
دمه) ووجدت أبا داود يسميه في روايته حبان بن زيد وفى هامش فتح العلام
243

أبو خداش حبان بن زيد الشعرى ثقة لم يعرفه ابن حزم فقال: إنه
مجهول. انتهى.
وقال ابن حجر في التقريب: حبان بن زيد الشرعبي أبو خداش ثقة.
أخطأ من زعم أن له صحبة.
وقال في بلوغ المرام: عن رجل من الصحابة قال (غزوت مع النبي صلى الله
عليه وسلم فسمعته يقول (الناس شركاء في ثلاثة. الكلأ والماء والنار) رواه
أحمد وأبو داود ورجاله ثقات.
(قلت) والجهالة بالصحابي لا تؤثر في صحة الحديث كما هو معروف عند
المحدثين، لأنهم رضوان الله عليهم عدول أجمعون.
وأما رواية ابن عباس عند ابن ماجة والتي فيها (وثمنه حرام) ففيها عبد الله
ابن خراش، هو متروك، وقد صححه ابن السكن، ويشهد لرواية ابن عباس
رواية أبى خراش ورواية أبي هريرة عند ابن ماجة وعبد الله بن أحمد أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (لا يمنع الماء والنار والكلأ)
وأما حديث من (سبق الخ) فقد مر تخريجه في غير موضع
وحديث عبادة بن الصامت رواه ابن ماجة وعبد الله بن أحمد والبيهقي
والطبراني وفيها انقطاع بلفظ (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في شرب النخل
من السبيل أن الاعلى يشرب قبل الأسفل ويترك الماء إلى الكعبين ثم يرسل الماء
إلى الأسفل الذي يليه. وكذلك حتى تنقضي الحوائط أو يفنى الماء)
ورواها عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي صلى الله عليه وسلم
قضى في سيل مهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين ثم يرسل الاعلى على الأسفل)
رواه أبو داود وابن ماجة، وفى إسناده عبد الرحمن بن الحرث المخزومي المدني
تكلم فيه الإمام أحمد.
244

وقال الحافظ في الفتح: إن إسناد هذا الحديث حسن ورواه الحاكم في المستدرك
من حديث عائشة أنه قضى في سيل مهزور أن الاعلى يرسل إلى الأسفل ويحبس
قدر الكعبين. وأعله الدارقطني بالوقف وصححه الحاكم، ورواه ابن ماجة
وأبو داود من حديث ثعلبة بن أبي مالك. ورواه عبد الرزاق في مصنفه عن أبي حاتم
القرظي عن أبيه عن جده أنه سمع كبراءهم يذكرون أن رجلا من قريش كان له
سهم في بني قريظة فخاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهزور السيل الذي
يقسمون ماءه فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الماء إلى الكعبين
لا يحبس الاعلى الأسفل) ومهزور وادي بني قريظة بالحجاز. قال ابن الأثير:
أما مهروز بتقديم الراء على الزاي فموضع سوق المدينة.
وهذه الأحاديث تدل على أن الاعلى تستحق أرضه الشرب بالسيل والنيل
وماء البئر قبل الأرض التي تحتها، وأن الاعلى يمسك الماء حتى يبلغ الكعبين أي
كعبي رجل الانسان الواقعيين عند مفصل الساق والقدم ثم يرسله بعد ذلك.
وقال صاحب البحر: إن الماء إذا كان قليلا فحده أن يعم أرض الاعلى إلى
الكعبين في النخيل وإلى الشراك في الزرع لقضائه صلى الله عليه وسلم بذلك في
خبر عبادة بن الصامت. قال: وأما قوله صلى الله عليه وسلم للزبير (اسق أرضك
حتى يبلغ الجدر) فقيل: عقوبة لخصمه، وقيل: بل هو المستحق، وكان أمره
صلى الله عليه وسلم بالتفضيل، فإن كانت الأرض بعضها مطمئن فلا يبلغ في بعضها
الكعبين إلا وهو في المطمئن إلى الركبتين، قدم المطمئن إلى الكعبين ثم حبسه
وسقى باقيها.
وقال أبو طالب: العبرة بالكفاية للأعلى.
أما حديث الزبير فقد رواه أصحاب الكتب الستة وهو عند الخمسة من رواية
عبد الله بن الزبير عن أبيه وعند النسائي من رواية عبد الله بن الزبير لم يذكر فيه
عن أبيه وللبخاري في رواية قال: خاصم الزبير رجلا وذكر نحوه وزاد
فيه: فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه، وكان قبل ذلك
قد أشار على الزبير برأي فيه سعة له وللأنصاري، فلما أحفظ الأنصاري رسول الله
صلى الله عليه وسلم استوعى للزبير حقه في صريح الحكم).
245

قال عروة: قال الزبير (فوالله ما أحسب هذه الآية نزلت الا في ذلك)
فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم
حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) رواه أحمد كذلك لكن قال، عن عروة بن
الزبير أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا وذكره جعله من مسنده وزاد البخاري في
رواية. قال ابن شهاب فقدرت الأنصار والناس قول رسول الله صلى الله عليه وسلم
(اسق يا زبير ثم احتس الماء حتى يرجع إلى الجدر) فكان ذلك إلى الكعبين، وقد
جاء هذا الحديث عند المحدثين في أبواب الأقضية وأن القاضي إذا حكم وهو غضبان
صح ان صادف الحق لأنه صلى الله عليه وسلم قضى للزبير بعد أن أغضبه الرجل ولا يخفى
أنه لا يصح الحاق غيره صلى الله عليه وسلم به لأنه معصوم فلا يدل حكمه صلى الله
عليه وسلم وهو غضبان على جواز ذلك للقضاء، والنبي صلى الله عليه وسلم
معصوم عن الحكم بالباطل في غضبه ورضاه بخلاف غيره، ولهذا ذهب بعض
الحنابلة إلى أنه لا ينفذ الحكم في حال الغضب لثبوت النهى عنه، وسيأتي مزيد ايضاح
إن شاء الله تعالى في كتاب الأقضية، وقد رواه مالك في موطئه من حديث
عروة عن أبيه.
والرجل المبهم الذي خاصم الزبير هو ثعلبة بن حاطب، وقيل حميد، وقيل
حاطب بن أبي بلتعة ولا يصح لأنه ليس أنصاريا، وقيل: إنه ثابت بن قيس بن
شماس، وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم قتله بعد أن جاء في مقاله بما يدل على
أنه صلى الله عليه وسلم جار في الحكم لأجل القرابة لان ذلك كان في أوائل الاسلام
وقد كان صلى الله عليه وسلم يتألف الناس إذ ذاك ترك قتل عبد الله بن أبي بعد
أن جاء بما يسوغ به قتله.
وقال القرطبي: يحتمل انه لم يكن منافقا بل صدر منه ذلك عن غير قصد،
كما اتفق لحاطب بن أبي بلتعة في قصة تخابره مع العدو ومسطح في قصة الإفك
وحمنة وغيرهم ممن بدره لسانه بدرة شيطانية.
على أن الحكم في هذا الفصل يأتي هكذا: إذا كان الماء صغير المجرى بحيث
يزدهم الناس فيه ويتشاحون في مائة أو سيل يتشاح الناس من أصحاب الأرض
الشاربة منه فيه، فان يبدأ بمن في أول النهر فيسقي ويحبس الماء حتى يبلغ إلى
246

الكعب ثم برسل إلى الذي يليه فيصنع كذلك، وعلى هذا إلى أن تنتهي الأراضي
كلها، فإن لم يفضل عن الأول شئ أو عن الثاني أو عمن يليهم فلا شئ للباقين،
لأنه ليس لهم إلا ما فضل، فهم كالعصبة في الميراث، وهذا قول الفقهاء من
أهل المدينة ومالك والشافعي وأحمد ولا نعلم فيه ومخالفا، والأصل فيه حديث
الزبير، قال الزهري: نظرنا في قول النبي صلى الله عليه وسلم (ثم احبس الماء حتى
يبلغ إلى الجدر) فوجدنا ذلك إلى الكعبين.
قال أبو عبيد: الشراج جمع شرج، والشرج نهر صغير، والحرة أرض ملتبسة
بحجارة بركانية سود، والجدر الجدار، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الزبير
ان يسقى ثم يرسل الماء تسهيلا على غيره، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان اشترك جماعة في استنباط عين اشتركوا في مائها، فان دخلوا
على أن يتساووا، تساووا في الانفاق، وان دخلوا على أن يتفاضلوا تفاضلوا في
الانفاق، ويكون الماء بينهم على قدر النفقة، لأنهم استفادوا ذلك بالانفاق
فكان حقهم على قدره، فإن أرادوا سقى أراضيهم بالمهاياة يوما يوما جاز، وان
أرادوا قسمة الماء نصبوا خشبة مستوية قبل الأراضي وتفتح فيها كوى على قدر
حقوقهم، فخرج حصة كل واحد منهم إلى أرضه، فان أراد أحدهم أن يأخذ حقه
من الماء قبل المقسم في ساقية يحفرها إلى أرضه منع من ذلك، لان حريم النهر
مشترك بينهم، فلا يجوز لواحد منهم ان يحفر فيه، فان أراد أن ينصب رحا قبل
المقسم ويديرها بالماء منع من ذلك، لأنه يتصرف في حريم مشترك، فان أراد
أن يأخذ الماء ويسقى به أرضا أخرى ليس لها رسم بشرب من هذا النهر
منع منه يجعل لنفسه شربا لم يكن له، كما لا يجوز لمن له داران متلاصقان
في دربين أن يفتح من أحدهما بابا إلى الأخرى فيجعل لنفسه طريقا لم يكن له،
والله تعالى أعلم.
(الشرح) قوله: بالمهايأة أي بالمناوبة. وقوله: كوى جمع كوة بضم الكاف
وتشديد الواو مثل مدية ومدى وتفتح أيضا وهي الثقب في الحائط.
247

إذا كان النهر لجماعة وقد قلنا فيما مضى ان النهر المحيى في موات يكون لمحييه
حقوق الملك، وان لم يكن مالكا فهو بينهم على حسب العمل والنفقة أو على حسب
اتفاقهم، لأنه إنما كان لهم حق الملك بالعمارة والعمارة بالنفقة، فان كفى جميعهم
فلا كلام، وان لم يكفهم وتراضوا على قسمته بالمهاياة أو غيرها جاز لأنه حقهم
لا يخرج عنهم، وان تشاحوا في قسمته قسمه الحاكم بينهم على قدر نفقتهم، لان
لكل واحد منهم من الحقوق بقدر ذلك، فتؤخذ خشبة صلبة أو حجر مستوى
الطرفين والوسط فيوضع على موضع مستو من الأرض في مقدم الماء فيه حزوز
أو ثقوب متساوية في السعة على قدر حقوقهم يخرج من كل جزء أو ثقب إلى
ساقية مفردة لكل واحد منهم، فإذا حصل الماء في ساقيته انفرد به وليس له أن
يأخذ قبل القسم، كما أن ليس له أن يسقى أرضا ليس لها رسم شرب في هذا الماء
لان ذلك يدل على أن لها قسما في هذا الماء، فربما جعل سقيها منه دليلا على
استحقاقها لذلك فيستضر الشركاء ويصير هذا كما لو كان له دار بابها في درب
لا ينفذ ودار بابها في درب آخر ظهرها ملاصق لظهر داره الأولى، فأراد تنفيذ
أحداهما إلى الأخرى لم يجز، لأنه يجعل لنفسه استطراقا من كل واحدة من الدارين
وان قسموا ماء النهر المشترك بالمهايأة جاز إذا تراضوا به وكان حق كل واحد
منهم معلوما مثل أن يجعلوا لكل حصه يوما وليلة أو أكثر من ذلك أو أقل.
وان قسموا النهار فجعلوا الواحد من طلوع الشمس إلى وقت الزوال وللآخر
من الزوال إلى الغروب ونحو ذلك جاز. وان قسموه ساعات وأمكن ضبط ذلك
بشئ معلوم كطاسة مثقوبة تترك في الماء وفيها علامات إذا انتهى الماء إلى علامه
كانت ساعة وإذا انتهى إلى الأخرى كانت ساعتين.
لا يجوز في النهر المشترك ان يتصرف أحد المشتركين بعمل رحى أو دولاب
أو معبر للماء لأنه يتصرف في نهر مشترك وفى حريمه بغير اذن شركائه. اما الشرب
لنفسه ووضوئه وغسله وغسل ثيابه والانتفاع به في أشباه ذلك فإنه يجوز لكل
المسلمين، ولا يحل لصاحب الماء منعه من ذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم
عذاب اليم رجل كان يفضل ماء الطريق فمنعه ابن السبيل) رواه البخاري.
248

وعن بهيسه عن أبيها أنه قال: يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال:
(الماء) قال يا نبي الله ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال (الملح) قال يا نبي الله
ما الشئ الذي لا يحل منعه؟ قال (ان تفعل الخير خير لك) رواه أبو داود،
ولان ذلك لا يؤثر في العادة وهو فاضل عن حاجة صاحب النهر، فاما إذا لم
يفضل شئ عن حاجة ماشيته لم يلزمه. والله تعال أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب اللقطة
إذا وجد الحر الرشيد لقطة يمكن حفظها وتعريفها كالذهب والفضة والجواهر
والثياب - فإن كان ذلك في غير الحرم - جاز التقاطه للتملك، لما روى عبد الله
ابن عمرو بن العاص ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال (ما كان
منها في طريق ماء فعرفها حولا، فان جاء صاحبها والا فهي لك، وما كان منها
في خراب ففيها وفى الركاز الخمس) وله ان يلتقطها للحفظ على صاحبها، لقوله
تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) ولما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا. كشف الله عنه كربة من
كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه) وإن كانت في
الحرم لم يمر أن يأخذها الا للحفظ على صاحبها.
ومن أصحابنا من قال: يجوز التقاطها للتملك لأنها أرض مباحة فجاز اخذ
لقطتها للتملك كغير الحرم، والمذهب الأول، لما روى ابن عباس رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات
والأرض، فهو حرام إلى يوم القيامة، لم يحل لاحد قبلي، ولا يحل لاحد بعدي
ولم يحل لي الا ساعة من نهار، وهو حرام إلى يوم القيامة لا ينفر صيدها، ولا
يعضد شجرها، ولا تلتقط لقطتها الا لمعرف) ويلزمه المقام للتعريف، وان لم
يمكنه المقام دفعها إلى الحاكم ليعرفها من سهم المصالح
(فصل) وهل يجب أخذها؟ روى المزني أنه قال: لا أحب تركها. وقال
249

في الام: لا يجوز تركها. فمن أصحابنا من قال فيه قولان (أحدهما) لا يجب لأنها
أمانة فلم يجب أخذها كالوديعة
(والثاني) يجب، لما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(حرمة مال المؤمن كحرمة دمه) ولو خاف على نفسه لوجب حفظها، فكذلك
إذا خاف على ماله.
وقال أبو العباس وأبو إسحاق وغيرهما (إن كانت في موضع لا يخاف عليها
لأمانة أهله لم يجب عليه. لان غيره يقوم مقامه في حفظها، وإن كان في موضع
يخاف عليها لقلة أمانة أهله وجب، لان غيره لا يقوم مقامه، فتعين عليه،
وحمل القولين على هذين الحالين، فإن تركها ولم يأخذها لم يضمن، لان المال
إنما يضمن باليد أو بالاتلاف. ولم يوجد شئ من ذلك، ولهذا لا يضمن الوديعة
إذا ترك أخذها فكذلك اللقطة،
(فصل) وان أخذها اثنان كانت بينهما، كما لو أخذا صيدا كان بينهما، فإن
أخذها واحد وضاعت منه ووجدها غيره وجب عليه ردها إلى الأول لأنه سبق
إليها فقدم، كما لو سبق إلى موات فتحجره
(الشرح) حديث عبد الله بن عمر مروى من طريق عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده، وقد مضى للنووي تخريجه في زكاة الركاز. وقد روى الجوزجاني
والأثرم في كتابيهما قال، حدثنا أبو نعيم حدثنا هشام بن سعد قال حدثني عمرو
ابن شعيب عن أبيه عن جده قال (أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
يا رسول الله كيف ترى من متاع يرى في الطريق الميتاء أو في قرية مسكونة؟
فقال عرفه سنه، فإن جاء صاحبه والا فشأنك به)
وحديث (من كشف عن مسلم كربة الخ) سبق في غير موضع، وحديث
ابن عباس مضى في الحج، وحديث ابن مسعود مضى في البيوع في غير موضع
أما لغات الفصل فإن اللقطة بفتح القاف اسم للملتقط. قال الخليل بن أحمد
لان ما جاء عل فعلة فهو اسم للفاعل، كقولهم همزة ولمزة وضحكة وهزأة.
واللقطة بسكون القاف المال الملقوط مثل الضحكة الذي يضحك منه والهزأة
250

الذي يهزأ به وقال الأصمعي وابن الاعرابي والفراء: هي بفتح القاف اسم المال
الملقوط أيضا وتعريفها عند الفقهاء المال الضائع من ربه يلتقطه غيره
وقال الزمخشري، اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها وأصله من لفظ الشئ
والتقطه إذا اخذه من الأرض. وأصل فعله في الكلام اسم الفاعل وفعلة اسم
المفعول، غير أن كلام العرب جاء في اللقطة على غير قياس. أجمع أهل اللغة
ورواة الاخبار على أن اللقطة الشئ الملتقط. ذكره الأزهري. قال ابن عرفة
الالتقاط وجود الشئ من غير طلب.
قوله (مئتاء) أي مسلوك مفعول من الاتيان، وقد تبدل التاء دالا لمجاورة
النطق فتكون ميداء، ولا يزال العامة ينطقونها محرفة فيقولون المبدأ. وفى
الحديث: لولا أنه طريق مئتاء لحزنا عليك يا إبراهيم
أما الأحكام فإن اللقطة إذا وجدت بمضيعة وأمن نفسه عليها أخذها. وهذا
قول الشافعي رضي الله عنه.
وقال أحمد رضي الله عنه: الأفضل ترك الالتقاط. وروى معنى ذلك عن
ابن عباس وابن عمر، وبه قال جابر وابن زيد والربيع بن خيثم وعطاه، ومر
شريح بدرهم فلم يعرض له.
وقال الشافعي رضي الله عنه: انه يجب أخذها لقوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات
بعضهم أولياء بعض) فإن كان وليه وجب عليه حفظ ماله
وقال في الام في اللقطة الصغيرة في ضالة الغنم إذا وجدتها في موضع مهلكة
فهي لك فكلها، فإذا جاء صاحبها فاغرمها له.
وقال في المال يعرفه سنة ثم يأكله ان شاء، فإن جاء صاحبه غرمها له،
وقال يعرفها سنة ثم يأكلها، موسرا كان أو معسرا إن شاء، إلا أنى لا أرى له
أن يخلطها بماله ولا يأكلها حتى يشهد على عددها ووزنها وظرفها وعفاصها ووكائها
فمتى جاء صاحبها غرمها له الخ. اه‍
وممن رأى أخذها سعيد بن المسيب والحسن بن صالح وأبو حنيفة، وأخذها
251

أبي بن كعب وسويد بن غفلة. وقال مالك إن كان شيئا له بال يأخذه أحب إلى
ويعرفه، لان فيه حفظ مال المسلم عليه، فكان أولى من تضييعه
وتخليصه من الغرق
وقال ابن قدامة من الحنابلة في المغنى: ولنا قول ابن عمر وابن عابس ولا
نعرف لهما مخالفا في الصحابة، ولأنه تعريض لنفسه لاكل الحرام، وتضييع
الواجب من تعريفها وأداء الأمانة فيها، فكان تركه أولى وأسلم، كولاية مال
اليتيم وتخليل الخمر.
فإذا ثبت هذا فان اللقطة والضوال مختلفات في الجنس والحكم، فالضوال
الحيوان، لأنه يضل بنفسه، واللقطة غير الحيوان، سميت بذلك لالتقاط
واجدها لها، ولها حالتان.
(إحداهما) أن توجد في أرض مملوكة، فلا يجوز لواجدها التعرض لاخذها
وهي في الظاهر لمالك الأرض إن ادعاها، لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال
ما كان منها في طريق ميتاء فعرفها حولا، فإن جاء صاحبها والا فهي لك، وما
كان في خراب ففيها وفى الركاز الخمس)
والحال الثانية: أن توجد في أرض غير مملوكة من مسجد أو طريق أو موات
فلا يخلو ذلك من أحد أمرين: إما أن يكون بمكة أو بغير مكة، فإن كان بغير
مكة من سائر البلاد فعلى ضربين، ظاهر ومدفون، فإن كان ظاهرا فعلى ضربين
أحدهما ما لا يبقى كالطعام الرطب فله حكم نذكره من بعد
(والثاني) أن يكون مما يبقى كالدراهم والدنانير والثياب والحلي والقماش فهذه
هي اللقطة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث زيد بن خالد قال
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة الذهب والورق فقال: اعرف
وكاءها وعفاصها ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها، ولتكن وديعة عندك
فإن جاء طالبها يوما من الدهر فأدها إليه، وسأله عن ضالة الإبل، فقال: مالك
ولها دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها،
252

وسأله عن الشاة فقال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) متفق عليه.
فعليه أن يقوم بشروط تعريفها ثم له بعد الحول إن لم يأت صاحبها أن يتملكها
وإن كان مدفونا فضربان جاهلي وإسلامي، فإن كان إسلاميا فلقطة أيضا وهي
على ما ذكرنا، وإن كان جاهليا فهو ركاز يملكه واجده وعليه وإخراج خمسه
في مصرف الزكوات للحديث (وفى الركاز الخمس).
وإن كانت اللقطة بمكة فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنه ليس لواجدها أن
يتملكها، وعليه إن أخذها أن يقيم بتعريفها أبدا بخلاف سائر البلاد، وقال بعض
أصحابنا: مكة وغيرها سواء في اللقطة استدلالا بعموم الخبر، وهذا خطأ لقوله
صلى الله عليه وسلم (إن أبى إبراهيم حرم مكة، فلا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها
ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد) وفى المنشد تأويلان: أحدهما وهو
قول أبى عبيد: إنه صاحبها الطالب، والناشد هو المعرف الواجد لها.
قال الشاعر:
يصيخ للبناة أسماعه * إصاخة الناشد للمنشد
فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يحل أن يتملكها إلا صاحبها التي هي
له دون الواجد، والتأويل الثاني وهو للشافعي رضي الله عنه أن المنشد الواجد
المعرف، والناشد هو المالك الطالب، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع
رجلا ينشد ضالة في المسجد فقال (أيها الناشد غيرك الواجد) يعنى لا وجدت
كأنه دعا عليه، فعلى هذا التأويل معنى قوله: لا تحل لقطتها إلا لمنشد أي لمعرف
يقيم على تعريفها ولا يتملكها، فكان في كلا التأويلين دليل على تحريم تملكها،
ولان مكة لما باينت غيرها في تحريم صيدها وشجرها تغليظا لحرمتها باينت غيرها
في ملك اللقطة، ولان مكة لا يعود الخارج منها غالبا الا بعد حول ان عاد، فلم
ينتشر انشادها في البلاد كلها، فلذلك وجب عليه مداومة تعريفها، ولا فرق بين
مكة وبين سائر الحرم لاستواء جميع ذلك في الحرمة.
253

فأما عرفة ومصلى إبراهيم عليه السلام ففيه وجهان. أحدهما: أنه حل تحل
لقطته قياسا على جميع الحل. والثاني: أنه كالحرم لا تحل لقطته الا لمنشد لان
ذلك مجمع الحاج، ثم اختلفوا في جواز انشادها في المسجد الحرام مع اتفاقهم على
تحريم انشادها في غيره من المساجد على وجهين (أصحهما) جوازه اعتبارا بالعرف
وأنه مجمع الناس.
(فرع) إذا ضاعت اللقطة من ملتقطها بغير تفريط فلا ضمان عليه لأنها أمانه
في يده فأشبهت الوديعة، فإن التقطها آخر فعرف أنها ضاعت من الأول فعليه
ردها إليه لأنه قد ثبت له حق التمول، وولاية التعريف والحفظ، فلا يزول
ذلك بالضياع. فإن لم يعلم الثاني بالحال حتى عرفها حولا ملكها، لان سبب الملك
وجد منه من غير عدوان فثبت الملك به كالأول، ولا يملك الأول انتزاعها. لان
الملك مقدم على حق التملك، وإذا جاء صاحبها فله أخذها من الثاني، وليس له
مطالبة الأول لأنه لم يفرط، وان علم الثاني بالأول فردها إليه فأبى أخذها وقال
عرفها أنت فعرفها ملكها أيضا، لان الأول ترك حقه فسقط، وان قال: عرفها
وتكون بيننا ففعل صح أيضا وكانت بينهما لأنه أسقط حقه من نصفها ووكله في
الباقي، وان قصد الثاني بالتعريف تملكها لنفسه دون الأول احتمل وجهين.
(الأول) يملكها، لان سبب الملك وجد منه فملكها كما لو أذن له الأول
في تعريفها لنفسه.
(والثاني) لا يملكها لأن ولاية التعريف للأول أشبه ما لو غصبها من الملتقط
غاصب فعرفها، وكذلك الحكم إذا علم الثاني بالأول فرفعها ولم يعلمه بها، ويشبه
هذا المتحجر في الموات إذا سبقه غيره إلى ما حجره فأحياه بغير اذنه، فأما ان
غصبها غاصب من الملتقط فعرفها لم يملكها وجها واحدا، لأنه معتد بأخذها ولم
يوجد منه سبب تملكها، فإن الالتقاط من جملة السبب ولم يوجد منه، ويفارق
هذا ما إذا التقطها ثان فإنه وجد منه الالتقاط والتعريف.
(فرع) إذا التقطها اثنان فعرفاها حولا ملكاها جميعا، وإن قلنا بوقوف
الملك على الاختيار فاختار أحدهما دون الآخر ملك المختار نصفها دون الآخر
254

وإن رأياها معا فبادر أحدهما فأخذها، أو رآها أحدهما فأعلم بها صاحبه فأخذها
فهي لآخذها، لان استحقاق اللقطة بالأخذ لا بالرؤية كالاصطياد. وإن قال
أحدهما لصاحبه: هاتها فأخذها نظرت، فان أخذها لنفسه فهي له دون الآمر،
وإن أخذها للآمر فهي له كما لو وكله في الاصطياد له.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا أخذها عرف عفاصها، وهو الوعاء الذي تكون فيه،
ووكاءها وهو الذي تشد به وجنسها وقدرها، لما روى زيد بن خالد الجهني أن
النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال (اعرف عفاصها ووكاءها وعرفها
سنة، فان جاء من يعرفها وإلا فاخلطها بمالك) فنص على العفاص والوكاء، وقسنا
عليهما الجنس والقدر، ولأنه إذا عرف هذه الأشياء لم تختلط بماله، وتعرف به
صدق من يدعيها، وهل يلزمه أن يشهد عليها وعلى اللقيط؟ فيه ثلاثة أوجه.
(أحدهما) لا يجب لأنه دخول في أمانة فلم يجب الاشهاد عليه كقبول الوديعة
(والثاني) يجب لما روى عياض بن حمار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (من التقط لقطة فليشهد ذا عدل، أو ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب)
ولأنه إذا لم يشهد لم يؤمن أن يموت فتضيع اللقطة أو يسترق اللقيط.
(والثالث) أنه لا يجب لأنه اكتساب مال فلم يجب الاشهاد عليه
كالبيع، ويجب على اللقيط لأنه يحفظ به النسب فوجب الاشهاد عليه كالنكاح،
وإن أخذها وأراد الحفظ على صاحبها لم يلزمه التعريف، لان التعريف للتملك
فإذا لم يرد التملك لم يجب التعريف.
فان أراد أن يتملكها نظرت، فإن كان مالا له قدر يرجع من ضاع منه في
طلبه لزمه أن يعرفه سنة لحديث عبد الله بن عمرو. وحديث زيد بن خالد، وهل
يجوز تعريفها سنة متفرقة؟ فيه وجهان.
(أحدهما) لا يجوز، ومتى قطع استأنف، لأنه إذا قطع لم يظهر أمرها
ولم يظهر طالبها.
255

(والثاني) يجوز لان اسم السنة يقع عليها، ولهذا لو نذر صوم سنه جاز أن
يصوم سنه متفرقة. ويجب أن يكون التعريف في أوقات اجتماع الناس كأوقات
الصلوات وغيرها، وفى المواضع التي يجتمع الناس فيها كالأسواق وأبواب المساجد
لان المقصود لا يحصل إلا بذلك ويكثر منه في الموضع الذي وجدها فيه، لان
من ضاع منه شئ يطلبه في الموضع الذي ضاع فيه، ولا يعرفها في المساجد،
لما روى جابر قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا ينشد ضالة في المسجد
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (لا وجدت) وذلك لأنه كان يكره أن ترفع فيه
الأصوات، ويقول: من ضاع منه شئ، أو من ضاع منه دنانير، ولا يزيد عليها
حتى لا يضبطها رجل فيدعيها، فان ذكر النوع والقدر والعفاص والوكاء، ففيه
وجهان. أحدهما: لا يضمن، لان بمجرد الصفة لا يجب الدفع، والثاني: يضمن
لأنه لا يؤمن أن يحفظ ذلك رجل ثم يرافعه إلى من يوجب الدفع بالصفة، فإن لم
يوجد من يتطوع بالنداء كانت الأجرة على الملتقط، لأنه يتملك به، وإن كانت
اللقطة مما لا يطلب كالتمرة واللقمة لم تعرف، لما روى أنس قال: مر
رسول الله صلى الله عليه وسلم على تمرة في الطريق مطروحة فقال (لولا أن أخشى
أن تكون من الصدقة لأكلتها) وإن كان مما يطلب الا أنه قليل، ففيه ثلاثة
أوجه، أحدها: يعرف القليل والكثير سنه وهو ظاهر النص لعموم الاخبار.
والثاني: لا يعرف الدينار، لما روى أن عليا كرم الله وجهه وجد دينارا
فعرفه ثلاثا فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (كله أو شأنك به).
والثالث: يعرف ما يقطع فيه السارق، ولا يعرف ما دونه، لأنه تافه،
ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: ما كانت اليد تقطع على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم في الشئ التافه.
(الشرح) حديث زيد بن خالد الجهني رواه البخاري ومسلم وأحمد، واللفظ
الذي ساقه المصنف أقرب إلى رواية أحمد. ولفظ الشيخين (سئل رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن اللقطة الذهب والورق فقال: اعرف وكائها وعفاصها
ثم عرفها سنة، فإن لم تعرف فاستنفقها ولتكن وديعة عندك، فإن جاء طالبها
256

يوما من الدهر فأدها إليه. وسأله عن ضالة الإبل فقال: مالك ولها، دعها فإن
معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها. وسأله عن الشاة
فقال: خذها فإنما هي لك أو لأخيك أو للذئب) ولم يقل فيه أحمد (الذهب أو
الورق) وفى رواية لمسلم (فإن جاء صاحبها فعرف عفاصها وعددها ووكاءها
فأعطها إياه وإلا فهي لك)
وحديث عياض بن حمار رواه أحمد وابن ماجة وأبو داود النسائي وابن
حبان، وفى لفظ للبيهقي (ثم لا يكتم وليعرف) وصححه ابن الجارود وبان حبان
وقد رواه الشافعي أورده الربيع في اختلاف مالك والشافعي في اللقطة ليلزم
مالكا بما رواه فقال: أخبرنا مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن يزيد مولى
المنبعث عن زيد بن خالد الجهني الخ.
أما حديث جابر فقد مضى تخريجه في كتاب الصلاة من المجموع. أما حديث
أنس فقد أخرجه الشيخان.
أما حديث على فقد أخرجه أبو داود عن بلال بن يحيى العبسي عنه وفيه
(أنه التقط دينارا فاشترى به دقيقا فعرفه صاحب الدقيق فرد عليه الدينار
فأخذه على فقطع منه قيراطين فاشترى به لحما. قال المنذري: في سماع بلال بن
يحيى من على نظر. وقال الحافظ بن حجر: إسناده حسن، ورواه أبو داود أيضا
عن أبي سعيد الخدري أن علي بن أبي طالب وجد دينارا، فأتى به فاطمة
فسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (هو رزق الله فأكل منه رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأكل على وفاطمة، فلما كان بعد ذلك أتته امرأة تنشد
الدينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا علي أد الدينار) وفى إسناده
رجل مجهول. وأخرجه أبو داود أيضا من وجه آخر عن أبي سعيد، وذكره
مطولا وفى إسناده موسى بن يعقوب الزمعي وثقه ابن معين. وقال ابن عدي
لا بأس به، وقال النسائي ليس بالقوى.
وروى هذا الحديث الشافعي عن الدراوردي عن شريك بن أبي نمر عن عطاء
ابن يسار عن أبي سعيد الخدري وزاد (أنه أمره أن يعرفه) ورواه عبد الرزاق
257

من هذا الوجه، وزاد فجعل أجل الدينار وشبهه ثلاثة أيام، وفى إسناده هذه
الزيادة أبو بكر بن أبي سبرة وهو ضعيف جدا.
وقد أعل البيهقي هذه الروايات لاضطرابها ولمعارضتها لأحاديث اشتراط
السنة في التعريف، قال ويحتمل أن يكون إنما أباح له الاكل قبل التعريف
للاضطرار، وأما خبر عائشة فقد رواه الشيخان وأحمد، وسيأتي في الحدود
إن شاء الله تعالى.
قولهن (فليشهد) ظاهر الامر يدل على وجوب الاشهاد، وهو أحد قولي
الشافعي رضي الله عنه وبه قال أبو حنيفة، وفى كيفية الاشهاد قولان، أحدهما
يشهد أنه وجد لقطة ولا يعلم بالعفاص ولا غيره لئلا يتوصل بذلك الكاذب إلى
أخذها، والثاني يشهد على صفاتها كلها حتى إذا مات لم يتصرف فيها الوارث، وأشار
بعض أصحابنا إلى التوسط بين الوجهين فقال لا يستوعب الصفات، ولكن يذكر
بعضها، قال النووي وهو الأصح، والثاني من قولي الشافعي أنه لا يجب الاشهاد
وبه قال مالك وأحمد وغيرهما، وقالوا إنما يستحب احتياطا، لان الرسول صلى الله عليه وسلم
لم يأمر به في حديث زيد بن خالد، ولو كان واجبا لبينه
أما العفاص بكسر العين المهملة وتخفيف الفاء، وهو الوعاء الذي تكون فيه
النفقة جلدا أو غيرة أخذا من العفص وهو الثنى لانثنائه على ما فيه، وقد وقع
في زوائد المسند لعبد الله بن أحمد في حديث لأبي بن كعب رضي الله عنه (أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال عرفها فان جاء أحد يخبرك بعدتها ووعائها ووكائها
وفرقتها فأعطها إياه وإلا فاستمتع بها) والعفاص يكون على رأس القارورة لسدها
وأما الذي يدخل فم القارورة من جلد أو غيره فهو الصمام، فحيث يذكر الوعاء
مع العفاص فالمراد الأول، وحيث يذكر العفاص مع الوكاء فالمراد الثاني، أفاده
في فتح الباري
قوله (ولا يكتم) يعنى لا يحل كتم اللقطة إذا جاء لها صاحبها وجاء من
أوصافها ما يغلب الظن بصدقة، والمقصود من معرفة الآلات التي تحفظ فيها
ويلتحق بذلك معرفة جنسها ونوعها وقدرها، فقد قال النووي: يجمع بين
الروايات بأن يكون مأمورا بالمعرفة في حالتين فيعرف العلامات وقت الالتقاط
258

حتى يعلم صدق واصفها إذا وصفها، ثم يعرفها مرة أخرى بعد تعريفها سنة إذا
أراد أن يتملكها ليعلم قدرها وصفتها إذا جاء بعد ذلك فردها إليه
قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن تكون في الروايتين (يشير إلى رواية
البخاري، عرفها سنة ثم عرف عفاصها ووكاءها) ورواية البخاري أيضا (اعرف
عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة)) ثم بمعنى الواو فلا تقتضي ترتيبا، فلا تقتضي
تخالفا يحتاج إلى الجمع، ويقويه كون المخرج واحدا والقصة واحدة، وإنما يحسن
الجمع بما تقدم لو كان المخرج مختلفا أو تعددت القصة، وليس الغرض إلا أن يقع
التعرف والتعريف مع قطع النظر عن أيهما يسبق. قال واختلف العملاء في هذه
المعرفة على قولين أظهرهما الوجوب لظاهر الامر. وقبل يستحب، وقال بعضهم
يجب عند الالتقاط ويستحب بعده.
وقال أيضا في الفتح عند قوله (ثم عرفها) محل ذلك المحافل كأبواب المساجد
والأسواق ونحو ذلك. قلت: كبرامج الإذاعة المخصصة للأشياء المفقودة
كبرنامج طريق السلامة الذي توفر له إذاعة القاهرة عشر دقائق من صباح كل
يوم في زماننا هذا.
قوله (سنه) الظاهر أن تكون متوالية ولكن على وجه لا يكون على جهة
الاستيعاب، فلا يلزمه التعريف بالليل، ولا استيعاب الأيام بل على المعتاد،
فيعرف في الابتداء كل يوم مرتين في طرفي النهار، ثم في كل يوم مرة، ثم في كل
أسبوع مرة، ثم في كل شهر مرة، ولا يشترط أن يعرفها بنفسه، بل يجوز له
توكيل غيره، ويعرفها في مكان وجودها وفى غيره. كذا قال العلماء، وظاهره
أن التعريف واجد لاقتضاء الامر الوجوب، لا سيما وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم
من لم يعرفها بالضلال في حديث لزيد بن خالد عند أحمد ومسلم (قال: لا يأوى
الضالة إلا ضال ما لم يعرفها) هكذا جاءت (لا يأوى) من الثلاثي اللازم، وقد
يتعدى كما في هذا الحديث.
وفى المبادرة إلى التعريف خلاف مبناه هل الامر يقتضى الفور أم على التراخي
وظاهره أنه لا يجب التعريف بعد السنة، وبه قال الجمهور وادعى صاحب البحر
الاجماع، على أنه وردت رواية عند البخاري عن أبي بن كعب بلفظ: وجدت
259

صرة فيها مائة دينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال (عرفها حولا، فعرفتها فلم أجد
من يعرفها، ثم أتيته ثانيا فقال عرفها حولا فلم أجد، ثم أتيته ثالثا فقال احفظ
وعاءها وعددها ووكاءها، فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها فاستمتعت، فلقيته
بعد بمكة فقال: لا أدري ثلاثة أحوال أو حولا واحدا) وذكر البخاري الحديث
في موضع آخر من صحيحه فزاد (ثم أتيته الرابعة فقال: اعرف وعاءها الخ)
قال في فتح الباري: القائل فلقيته بعد بمكة هو شعبة، والذي قال لا أدري
هو شيخه سلمة بن كهيل وهو الراوي لهذا الحديث عن سويد عن أبي، قال شعبة
فسمعته بعد عشر سنين يقول: عرفها عاما واحدا، وقد بين أبو داود الطيالسي
في مسنده القائل: فلقيته والقائل لا أدرى، فقال في آخر الحديث قال شعبة
فلقيت سلمة بعد ذلك فقال لا أدرى ثلاثة أحوال أو حولا واحدا، وبهذا
يتبين بطلان قول ابن بطال أن الذي شك هو أبي بن كعب، والقائل هو سويد
ابن غفلة، وقد رواه عن شعبة عن سلمه بن كهيل بغير شك جماعه، وفيه ثلاثة
أحوال إلا حماد بن سلمه فإن في حديثه عامين أو ثلاثة، وجمع بعضهم بين حديث أبي
هذا وحديث خالد بن زيد المذكور فيه سنه فقط بأن حديث أبي محمول على
مزيد الورع عن التصرف في اللقطة والمبالغة في التعفف عنها، وحديث زيد
على ما لا بد منه.
وجزم ابن حزم وابن الجوزي بأن الزيادة في حديث أبي غلط. قال ابن
الجوزي: والذي يظهر لي أن سلمه أخطأ فيها ثم ثبت واستمر على عام واحد،
ولا يؤخذ إلا بما لم يشك فيه، لا بما يشك فيه راويه. وقال أيضا: يحتمل أن
يكون صلى الهل عليه وسلم عرف أن تعريفها لم يقع على الوجه الذي ينبغي، فأمر
ثانيا بإعادة التعريف، كما قال للمسئ صلاته (ارجع فصل فإنك لم تصل)
قال الحافظ بن حجر: ولا يخفى بعد هذا على مثل أبى مع كونه من فقهاء
الصحابة وفضلائهم. قال المنذري (لم يقل أحد من أئمة الفتوى أن اللقطة تعرف
ثلاثة أعوام إلا شريح عن عمر أربعة أقوال يعرف بها، ثلاثة أحوال،
عاما واحدا، ثلاثة أشهر، ثلاثة أيام، وزاد ابن حزم عن عمر قولا خامسا
وهو أربعة أشهر.
260

قال في الفتح: ويحمل ذلك على عظم اللقطة وحقارتها. وأما قوله في الحديث
(فإن لم تعرف فاستنفقها) فقد قال يحيى بن سعيد الأنصاري: لا أدري هذا في
الحديث أم هو شئ من عند يزيد مولى المنبعث (وهو الراوي عن زيد بن خالد)
كما حكى البخاري ذلك عن يحيى، وتعقب ابن حجر هذا في الفتح فقال: شك يحيى
هل قوله (ولتكن وديعة عنده) مرفوع أم لا، وهو القدر المشار إليه بهذا دون
ما قبله لثبوت ما قبله في أكثر الروايات، وخلوها عن ذكر الوديعة، وقد جزم
يحيى بن سعيد برفعه مرة أخرى كما في صحيح مسلم بلفظ (فاستنفقها ولتكن وديعة
عندك) وكذلك جزم يرفعها خالد بن مخلد عن سليمان عن ربيعه عند مسلم، وقد
أشار البخاري إلى رجحان رفعها فترجم باب إذا جاء صاحب اللقطة ردها عليه
لأنها وديعة عنده، والمراد بكونها وديعة أنه يجب ردها فتجوز بذكر الوديعة عن
وجوب رد بدلها بعد الاستنفاق، لا أنها وديعة حقيقة يجب رد عينها، لان
المأذون في استنفاقه لا تبقى عينه، كذا أفاده ابن دقيق العيد قال: ويحتمل أن
تكون الواو في قوله (ولتكن وديعة) بمعنى أو، أي إما أن تستنفقها وتغرم
بدلها، وإما أن تتركها عندك على سبيل الوديعة حتى يجئ صاحبها فتعطيها إياه
ويستفاد من تسميتها وديعة أنها لو تلفت لم يكن عليه ضمانها، وهو اختيار
البخاري تبعا لجماعة من السلف.
(فرع)
روينا عن أحمد وأبى داود عن جابر بن عبد الله قال (رخص رسول الله صلى
الله عليه وسلم في العصا والحبل وأشباهه يلتقطه الرجل ينتفع به) وفى إسناده
المغيرة بن زياد، قال المنذري. تكل فيه غير واحد، وفى التقريب: صدوق له
أوهام وفى الخلاصة: وثقة وكيع وابن عدي وغيرهم.
وقال أبو حاتم: شيخ لا يحتج به، وفيه جواز الانتفاع بما يوجد في الطرقات
من المحقرات لا سيما إذا كان هذا الشئ الحقير مأكولا لما في حديث أنس الذي
ساقه المصنف، فإنه يجوز أكله ولا يجب التعريف به أصلا كالتمرة ونحوها لان
النبي صلى الله عليه وسلم قد بين أنه لم يمنعه من أكل التمرة إلا خشية أن تكون
من الصدقة، ولولا ذلك لاكلها.
261

وقد روى ابن أبي شيبة عن ميمونة أم المؤمنين أنها وجدت تمرة فأكلتها
وقالت: لا يحب الله الفساد. قال في الفتح: يعنى أنها لو تركها فلم تؤخذ فتؤكل
لفسدت ثم قال: وجواز الاكل هو المجزوم به عند الأكثر.
وعندنا أن القليل إذا كان يطلب في العادة وجب التعريف به كالكثير مدة
التعريف المنصوص عليها وهي سنة لعموم الأحاديث الواردة. وعند أبي حنيفة
أنه يعرف بالقليل ثلاثة أيام. وذلك لحديث يعلي بن مرة مرفوعا (من التقط
لقطه يسيرة حبلا أو درهما أو شبه ذلك فليعرفها ثلاثة أيام، فإن كان فوق ذلك
فليعرفه ستة أيام) رواه أحمد والطبراني والبيهقي، وزاد الطبراني (فإن جاء
صاحبها والا فليتصدق بها) وفى اسناده عمر بن عبد الله بن يعلى، وقد صرح
جماعه ضعفه، وزعم ابن حزم أنه مجهول وقد دافع عنه ابن حجر وابن رسلان
والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فان عرفها فلم يجد صاحبها ففيه وجهان (أحدهما) تدخل في ملكه
بالتعريف لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
فان جاء صاحباه والا فهي لك ولأنه كسب مال بفعل فلم يعتبر فيه اختيار التملك
كالصيد (والثاني) أنه يملكه باختيار التملك، لما روى في حديث زيد بن خالد
الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فان جاء صاحبها والا فشأنك بها فجعله
إلى اختياره ولأنه تملك ببدل فاعتبر فيه اختيار التملك كالملك بالبيع. وحكى فيه
وجهان آخران. أحدهما: أنه يملك بمجرد النية. والثاني يملكه بالتصرف
ولا وجه لواحد منهما، ولا فرق في ملكها بين الغنى والفقير لقوله صلى الله عليه
وسلم (فان جاء صاحبها والا فشأنك بها) ولم يفرق لأنه ملك بعوض فاستوى
فيه الغنى والفقير كالملك في القرض والبيع.
(فصل) فان حضر صاحبها قبل أن يملكها نظرت، فإن كانت العين باقيه
وجب ردها مع الزيادة المتصلة والمنفصلة، لأنها باقيه على ملكه، وإن كانت
تالفه لم يلزم الملتقط ضمانها، لأنه يحفظ لصاحبها، فلم يلزم ضمانها من غير تفريط
262

كالوديعة، وإن حضر بعد ما ملكها فإن كانت باقية وجب ردها، وإن
كانت تالفة وجب عليه بدلها، وقال الكرابيسي: لا يلزمه ردها ولا ضمان بدلها
لأنه مال لا يعرف له مالك: فإذا ملكه لم يلزمه رده ولا ضمان بدله كالركاز،
والمذهب الأول، لما روى أبو سعيد الخدري أن عليا كرم الله وجهه وجد دينارا
فجاء صاحبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أده قال على: قد أكلته، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: إذا جاءنا شئ أديناه) ويخالف الركاز فإنه مال لكافر
لا حرمة له، وهذا مال مسلم، ولهذا لا يلزمه تعريف الركاز، ويلزمه تعريف
اللقطة، فإن كانت العين باقية فقال الملتقط: أنا أعطيك البدل، لم يجبر المالك
على قبوله، لأنه يمكنه الرجوع إلى عين ماله، فلا يجبر على قبول البدل، وإن
حضر وقد باعها الملتقط وبينهما خيار ففيه وجهان.
(أحدهما) يفسخ البيع، ويأخذ لأنه يستحق العين والعين باقية.
(والثاني) لا يجوز له أن يفسخ، لان الفسخ حق للعاقد، فلا يجوز لغيره
من غير إذنه، وإن حضر وقد زادت العين، فإن كانت زيادة متصلة رجع فيها
مع الزيادة، وإن كانت زيادة منفصلة رجع فيها دون الزيادة، لأنه فسخ ملك
فاختلفت فيه الزيادة المتصلة والمنفصلة كالرد بالعيب
(الشرح) الأحاديث المذكورة في هذين الفصلين سبق استيفاء الكلام عليها
في الفصل قبلهما.
أما الأحكام: فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ويأكل اللقطة الغنى والفقير
ومن تحل له الصدقة وتحرم عليه. وهذا كما قال: يجوز لواجد اللقطة بعد تعريفها
حولا أن يتملكها ويأكلها غنيا كان أو فقيرا. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك إن كان
فقيرا، ولا يجوز إن كان غنيا أن يتملكها، ويكون مخيرا بين أمرين: إما
أن تكون في يده أمانة لصاحبها أبدا كالوديعة، وإما أن يتصدق بها، فان جاء
صاحبها وأمضى صدقته فله ثوابها ولا غرم على الواجد، وإن لم يمض الصدقة
فثوابها للواجد وعليه غرمها استدلالا بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: فان جاء صاحبنا وإلا تصدق بها، وهو حديث في إسناده عمر بن عبد الله
263

ابن يعلى، قال أبو حنيفة وهذا نص، ولأنه مال يعتبر فيه الحول فوجب أن
يختلف فيه حال الغنى والفقير كالزكاة، ولأنه مال مسلم فوجب أن لا يحل إلا
لمضطر قياسا على غير اللقطة.
ودليلنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم (فان جاء صاحبها وإلا فشأنك بها)
وهو يقتضى التسوية بين الغنى والفقير، وروى أن أبي بن كعب وجد صرة فيها
ثمانون دينارا أو مائة دينار فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرفها حولا (فان
جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها).
قال الشافعي رضي الله عنه: وأبى من أيسر أهل المدينة أو كأيسرهم، ولو لم
يكن موسرا لصار بعشرين دينارا منها موسرا على قول أبي حنيفة. فدل على أن
الفقر غير معتبر فيها وأن الغنى لا يمنع منها. وروى عن عطاء بن يسار عن أبي
سعيد الخدري أن علي بن أبي طالب وجد دينارا فأتى به النبي صلى الله عليه
وسلم فأمره أن يعرف به ثلاثا فعرفه فلم يجد من يعرفه، فرجع به إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فأخبره فقال: كله حتى إذا أكله جاء صاحب الدينار يتعرفه فقال
علي رضي الله عنه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكله فانطلق صاحب
الدينار وكان يهوديا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
إذا جاءنا شئ أديناه إليك.
قال الشافعي رضي الله عنه: وعلى ممن يحرم عليهم الصدقة، لأنه من طينة
بني هاشم، فلو كانت اللقطة تستباح بالفقر دون الغنى لحظرها عليه، ولان كل
من كان من أهل الالتقاط جاز أن يرتفق بالكل والتملق كالفقير، ولان ما ثبت
للفقير في اللقطة ثبت للغنى كالنسك والصدقة، ولان كل مال استباح الفقير اتلافه
بشرط الضمان استباح الغنى اتلافه بشرط الضمان كالقرض، ولا يدخل عليه
طعام المضطر لاستوائهما فيه، وقد يجعل المضطر أصلا فيقول: كل ارتفاق بمال
الغير إذا كان مضمونا استوى فيه الغنى والفقير كأكل مال الغير المضطر، ولأنه
استباحه اتلاف مال لغيره لمعنى في المال فوجب أن يستوي فيه حكم الغنى والفقير
كالفحل الصائل، ولان كل ما استبيح تناوله عند الإياس من مالكه في الأغلب
استوى فيه حكم الغنى والفقير كالركاز، ولان حال اللقطة في يد واجدها لا يخلو
264

من أن تكون في حكم المغصوب فيجب انتزاعها قبل الحول وبعده من مال الغنى
والفقير، أو في حكم الودائع فلا يجوز أن يتملكها فقير ولا أن يتصدق بها غنى
أو في حكم الكسب فيجوز أن يتملكها الغنى والفقير.
ومذهب أبي حنيفة مخالف لأصول هذه الأحكام الثلاثة فكان فاسدا: ثم
يقال لأبي حنيفة الثواب إنما يستحق على المقاصد بالأعمال لا على أعيان الافعال
لان صورها في الطاعة والمعصية على سواء كالمرائي بصلاته، ثم لا يصح أن يكون
ثواب العمل موقوفا على غير العامل في استحقاقه أو إحباطه
فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم تصدق بها فمحمول على فرض صحة
الرواية على أن الواجد سأله عن ذلك فأذن له فيه، وأما الزكاة فلا معنى للجمع
بينها وبين اللقطة، لان الزكاة تملك غير مضمون ببدل، واللقطة تؤخذ مضمونه
ببدل فكان الغنى أحق بتملكها، لأنه أوفى ذمة، وأما ما ذكروه من المضطر
فقد جعلناه أصلا.
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه ولا أحب لاحد ترك اللقطة إذا وجدها
وكان أمينا عليها، وظاهر قوله يقتضى استحباب أخذها دون إيجابه، وقال أيضا
ولا يجوز لاحد ترك اللقطة إذا وجدها، فكان ظاهر هذا القول يدل على إيجاب
أخذها، فاختلف أصحابنا لاختلاف هذين الظاهرين، فكان أبو الحسن بن القطان
وطائفة يخرجون ذلك على اختلاف قولين
(أحدهما) أن أخذها استحباب وليس بواجب على ظاهر ما نص عليه في هذا
الموضع لأنه غير مؤتمن عليها ولا مستودع لها.
(والقول الثاني) أن أخذها واجب وتركها مأثم، لأنه لما وجب عليه حراسة
نفس أخيه المسلم وجب عليه حراسة مال أخيه المسلم
وقال جمهور أصحابنا، ليس ذلك على قولين، إنما هو على اختلاف حالين،
فالموضع الذي لا يأخذها إذا كانت يؤمن عليها ويأخذها غيره ممن يؤدى الأمانة
فيها، والموضع الذي أوجب عليه أخذها إذا كانت في موضع لا يؤمن عليها
ويأخذها غيره ممن لا يؤدى الأمانة فيها، لما في ذلك من التعاون، وعلى كلتا
265

الحالتين لا يكره له أخذها إذا كان أمينا عليها، بل يدور أخذها بين الاستحباب
والوجوب. وحكى عن ابن عباس وابن عمر أنهما كرها أخذها. وروى أن
شريحا مر بدرهم فلم يعرض له. وفى هذا القول إبطال التعاون وقطع المعروف.
وقد أخذ أبى الصرة وأخذ على الدينار. وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر
ذلك عليهما ولا كرهه لهما، ويجوز أن يكون المحكى عن ابن عباس وابن عمر
فيمن كان غير مأمون عليها، أو ضعيفا عن القيام بها. ونحن نكره لغير الأمين
عليها والضعيف عن القيام بها أن يتعرف لاخذها، وإنما يؤمر به من كان أمينا
قويا، فلو تركها القوى الأمين حتى هلكت فلا ضمان عليه وإن أساء. وإن
أخذها لزمه القيام بها، وإن تركها بعد الاخذ لزمه الضمان. ولو ردها على الحاكم
فلا ضمان عليه بخلاف الضوال في أحد الوجهين لأنه ممنوع من أخذ الضوال
فضمنها. وغير ممنوع من أخذ اللقطة فلم يضمنها
وقد اختلف العلماء فيما إذا تصرف الملتقط في اللقطة بعد تعريفها سنة ثم جاء
صاحبها هل يضمنها له أم لا؟ فذهب الجمهور إلى وجوب الرد إن كانت العين
موجودة أو البدل إن كانت قد استهلكت. وخالف في ذلك الكرابيسي صاحب
الشافعي ووافقه صاحباه البخاري وداود بن علي الظاهري إمام المذهب المعروف
لكن وافق داود الجمهور إذا كانت العين قائمة.
ومن أدلة الجمهور مما تقدم من الأحاديث (ولتكن وديعة عندك فإن جاء
طالبها) وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم (فإن جاء صاحبها فلا تكتم فهو أحق بها)
وفى رواية للبخاري (فاعرف عفاصها ووكاءها ثم كلها، فان جاء صاحبها فأدها
إليه) أي بدلها لأن العين لا تبقى بعد أكلها.
وفى رواية لأبي داود (فان جاء باغيها فأدها إليه، والا فاعرف عفاصها
ووكاءها ثم كلها، فان جاء باغيها فأدها إليه) فأمر بأدائها قبل الاذن في
أكلها وبعده.
قال الماوردي في الحاوي الكبير: أن الواجد لو منع بعد الحول من تملكها
أدى ذلك إلى أحد أمرين، اما أن لا يرغب الواجد في أخذها، واما أن تدخل
266

المشقة عليه في استدامة امساكها، فكان إباحة التمليك لها بعد التعريف أحث
على أخذها وأحفظ لها على مالكها لثبوت غرمها في ذمته، فلا تكون معرضة
للتلف، وليكون ارتفاق الواجد بمنفعتها في مقابلة ما عاناه في حفظها وتعريفها
وهذه كلها معان استوى فيها الغنى والفقير، ثم مذهب الشافعي لا فرق بين المسلم
والذمي في أخذها للتعريف، وتملكها بعد الحول، لأنها كسب يستوي
فيه المسلم والذمي.
فإذا ثبت جواز تملكها بعد الحول لكل واجد من غنى أو فقير فقد اختلف
أصحابنا بماذا يصير مالكا؟ على ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يصير مالكا لها بمضي
الحول وحده إلا أن يختار أن تكون أمانة فلا تدخل في ملكه. وهذا قول
أبى حفص بن الوكيل لأنه كسب على غير بدل فأشبه الركاز والاصطياد
والوجه الثاني: أنه يملكها بعد مضى الحول باختيار التملك، فإن لم يختر التملك
لم يملك. وهذا قول أبي إسحاق المروزي، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (فان
جاء صاحبها وإلا فشأنك بها) فرد أمرها إلى اختياره، ولأنه أبيح له التملك بعد
الحول بعد أن كان مؤتمنا. فاقتضى أن لا ينتقل عما كان عليه الا باختيار ما أبيح له
والوجه الثالث: أنه لا يملكها بعد مضى الحول الا بالاختيار والتصرف،
وهو ما لم يتصرف غير مالك، لان التصرف منه كالقبض فأشبه الهبة.
فإذا صار مالكها بما ذكرنا فقد ضمنها لصاحبها فمن جاء طالبا لها رجع بها إن كان
ت باقية، وليس للمتملك أن يعدل به مع بقائها إلى بدلها، فإن كانت ذا مثل
رجع بمثلها، وإن كانت غير ذي مثل رجع لقيمتها حين تملكها، لأنه إذ ذاك
صار ضامنا لها. فإن اختلفا في القيمة فالقول قول متملكها لأنه غارم، فلو كانت
عند مجئ صاحبها باقية لكن حدث منها نماء منفصل رجع بالأصل دون النماء
لحدوث النماء بعد ملك الواجد
فلو عرف الواجد صاحبها وجب عليه اعلامه بها. ثم ينظر فإن كان ذلك
قبل أن يملكها الواجد فمؤنة ردها على صاحبها دون الواجد كالوديعة، وفى هذه
267

الحال ترد بنمائها متصلا ومنفصلا لان ذلك قبل زمن التملك. وإن كان بعد تملكها
فمؤنة ردها على الواجد دون صاحبها لبقائها على ملكه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن جاء من يدعيها ووصفها، فإن غلب على ظنه أنها له جاز له
أن يدفع إليه ولا يلزمه الدفع لأنه مال للغير فلا يجب تسليمه بالوصف كالوديعة
فإن دفع إليه بالوصف ثم جاء غيره وأقام البينة انها له قضى بالبينة لأنها حجة
توجب الدفع فقدمت على الوصف، فإن كانت باقية ردت على صاحب البينة،
وإن كانت تالفة فله أن يضمن الملتقط لأنه دفع ماله بغير حق وله أن يضمن
الآخذ لأنه أخذ ماله بغير حق، فان ضمن الآخذ لم يرجع على الملتقط، لأنه إن
كان مستحقا عليه فقد دفع ما وجب عليه فلم يرجع، وإن كان مظلوما لم يجز أن
يرجع على غير من ظلمه.
وإن ضمن الملتقط نظرت فإن كان قد أقر للآخذ بالملك بأن قال هي لك لم
يرجع عليه، لأنه اعترف أنه أخذ ماله وأن صاحب البينة ظلمه فلا يرجع
على من لم يظلمه، وان لم يقر له ولكنه قال يغلب على ظني أنها لك فله الرجوع
لأنه بان أنه لم يكن له، وقد تلف في يده فاستقر الضمان عليه.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: إذا التقط الرجل اللقطة مما لا روح له
ما يحمل ويحول، فإذا التقط الرجل لقطة قلت أو كثرت عرفها سنة، ويعرفها
على أبواب المساجد والأسواق ومواضع العامة، ويكون أكثر تعريفه إياها في
الجماعة التي أصابها فيها، ويعرف عفاصها ووكاءها وعددها ووزنها وحليتها
ويكتب ويشهد عليه، فإن جاء صاحبها وإلا فهي له بعد سنة. على أن صاحبها
متى جاء غرمها، وان لم يأت فهي مال من ماله. وان جاء بعد السنة وقد
استهلكها والملتقط حي أو ميت فهو غريم من الغرماء يحاص الغرماء
268

فإن جاء ووقع في نفسه أنه لم يدع باطلا أن يعطيه ولا أجبره في الحكم إلا
ببينة تقوم عليها كما تقوم على الحقوق، فإن ادعاها واحد أو اثنان فسواء لا يجبر
على دفعها إليهم إلا ببينة يقيمونها عليه. وقال أيضا: ونفتى الملتقط إذا عرف
الرجل العفاص والوكاء والعدد والوزن، ووقع في نفسه أنه صادق أن يعطيه،
ولا أجبره عليه إلا ببينة لأنه قد يصيب الصفة بأن يسمع الملتقط يصفها.
قلت: وصورتها في رجل ادعى لقطة في يد واجدها، فان أقام البينة العادلة
على ملكها وجب تسليمها، وإن لم يقم بينة لكن وصفها فان أخطأ في صفتها
لم يجز دفعها إليه، وإن أصاب في جميع صفاتها من العفاص والوكاء والجنس
والنعت والعدد والوزن، فإن لم يقع في نفسه صدقه لم يدفعها إليه، وان وقع في
نفسه أنه صادق وأفتياه بدفعها إليه جوازا لا واجبا فان امتنع من الدفع لم
يجبر عليه، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك وأحمد: يجبر على دفعها إليه بالصفة استدلالا بقوله صلى الله عليه
وسلم اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة. فان جاء طالبها فادفعها إليه) فلما
أخبر بمعرفة العفاص والوكاء دل على أنه كالبينة في الاستحقاق.
وروى سويد بن غفلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (فان جاء باغيها فعرفك
عفاصها ووكاءها فادفعها إليه) وهذا نص. قالوا: ولان كل إمارة غلب بها في
الشرع صدق المدعى جاز أن يوجب قبول قوله كالبينات. قالوا: ولان البينات
في الأصول مختلفه، وما تعذر منها في الغائب يخفف كالنساء المنفردات في الولادة
وإقامة البينة على اللقطة متعذر لا سيما على الدنانير والدراهم التي لا تضبط أعيانها
فجاز أن تكون الصفة التي هي غاية الأحوال الممكنة أن يكون بينة فيها.
ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم، لو أعطى الناس بدعاواهم لادعى قوم دماء
قوم وأموالهم، لكن البينة على المدعى، واليمين على المدعى عليه. فلم يجعل
الدعوى حجه، ولا جعل مجرد القول حجه بينة، ولان الصفة للمطلوب من تمام
الدعوى، فلم يجز أن تكون بينة للطالب قياسا على الطلب.
قال الشافعي رضي الله عنه محتجا عليهم. أرأيت لو وصفها عشرة أيعطونها،
269

ونحن نعلم أن كلهم كذبة إلا واحدة بغير عينه، فرد عليه ابن داود فقال: كما لو
ادعاها عشرة وأقام كل واحد منهم بينة عليها، قسمتها بينهم، وان صدق جميعهم
مستحيلا، كذلك إذا وصفوها كلهم.
والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن كذب المدعى أسقط الدعوى
من كذب الشهود، ألا ترى أن إكذاب المدعى لنفسه مبطل للدعوى وإكذاب
الشهود لأنفسهم غير مبطل للدعوى. والثاني أن البينة هي أقصى ما يقدر
عليه المدعى وأقوى ما يحكم به الحاكم، فدعت ضرورة الحاكم في البينة إلى ما لم
يدعه من الصفة.
وأما الجواب عن قولهم: اعرف عفاصها ووكاءها فهو أن ذلك منه
لا لدفعها بصفة العفاص والوكاء ووجوب رده معه، ولكن لمعان هي أخص
بمقصود اللقط، منها أن بينته بحفظ العفاص والوكاء ووجوب رده مع قلته
ونزارته على حفظ ما فيه ووجوده مع كثرته. ومنها أن يتميز بذلك عن ماله
ومنها جواز دفعها بالصفة، وإن لم يجب، وعلى هذا المعنى نحمل حديث سويد بن غفلة
الذي جعلوه نصا.
وأما استدلالهم فنحن ما جعلنا الامارة على الصدق حجة في قبول الدعوى
وإنما جعلنا الايمان بعدها حجة، وأما استدلالهم بأن البينات في الأصول مختلفة
فصحيح، وليس في جميعها بينة تكون بمجرد الصفة، ولا يكون تعذر البينة
موجبا أن تكون الصفة بينه. الا ترى أن السارق تتعذر إقامة البينة عليه،
ولا يكون صفة ما بيده لمدعى سرقته حجة.
فإذا ثبت أن دفعها بالصفة لا يجب فدفعها بالصفة وسعه ذلك إذا لم يقع في
نفسه كذبه، فان أقام غيره البينة عليها بشاهدين أو شاهد وامرأتين أو شاهد
ويمين كان مقيم البينة أحق بها من الآخذ لها بالصفة، فإن كانت باقية في
يد الواصف انتزعت منه لمقيم البينة، وإن كان قد استهلكها نظر في الدافع لها
فإن كان قد دفعها بحكم حاكم فصاحب البينة الخيار في الرجوع بغرمها على الآخذ
لها بالصفة، وإن كان قد دفعها بغير حكم حاكم فصاحب البينة الخيار في الرجوع
270

بغرمها على من شاء من الدافع الملتقط أو الآخذ الوصف، فان رجع بها على
الاخذ لها بالصفة فله ذلك لضمانه لها باليد، واستحقاق غرمها بالاتلاف، وقد
برئ الدافع لها من الضمان لوصول الغرم إلى مستحقه، وليس للغارم أن
يرجع بما غرمه على الدافع، لأنه إن كان مستحقا عليه فمن وجب عليه حق لم
يرجع به على أحد، وإن كان مظلوما به فالمظلوم بالشئ لا يجوز أن يرجع به
على غير ظالمه.
وان رجع مقيم البينة بغرمها على الدافع الملتقط نظر في الدافع، فإن كان قد
صدق الواصف لها على ملكها وأكذب الشهود لصاحب البينة عليها فليس له
الرجوع بغرمها على الآخذ لها بالصفة، لأنه مقر أنه مظلوم بالمأخوذ منه،
فلا يرجع به على غير من ظلمه، وان لم يكن قد صدق الواصف ولا أكذب
الشهود فله الرجوع بالغرم على الآخذ لها بالصفة لضمانه لها بالاستهلاك وتكون
البينة موجبة عليه وله، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان وجد ضالة لم يخل اما أن تكون في برية أو بلد، فإن كانت
في بريه نظرت، فإن كانت مما يمتنع على صغار السباع بقوته كالإبل والبقر والخيل
والبغال والحمير، أو ببعد أثره لسرعته كالظباء والأرانب، أو بجناحه كالحمام
والدراج، لم يجز التقاطه للتملك، لما روى زيد بن خالد الجهني قال (سئل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضالة الإبل فغضب واحمرت عيناه. وقال مالك
ولها معها الحذاء وللسقاء، تأكل من الشجر وترد الماء حتى يأتي ربها، وسئل
عن ضالة الغنم فقال: خذها هي لك أو لأخيك أو للذئب) وهل يجوز أخذها
للحفظ؟ ينظر فيه، فإن كان الواجد هو السلطان جاز، لان للسلطان ولاية في
حفظ أموال المسلمين، ولهذا روى أنه كان لعمر حظيرة يجمع فيها الضوال، فإن كان
له حمى تركها في الحمى وأشهد عليها ويسمها بسمة الضوال لتتميز عن غيرها
من الأموال، وان لم يكن له حمى، فإن كان يطمع في مجئ صاحبها، بأن يعرف
أنها من نعم قوم يعرفهم، حفظها اليومين والثلاثة، وان لم يعرف أو عرف
271

ولم يجئ صاحبها باعها وحفظ ثمنها، لأنه إذا تركها احتاجت إلى نفقة،
وفى ذلك إضرار.
وإن كان الواجد لها من الرعية ففيه وجهان (أحدهما) يجوز لأنه يأخذها
للحفظ على صاحبها فجاز كالسلطان (والثاني) لا يجوز لأنه لا ولاية له على صاحبها
بخلاف السلطان، فإن أخذها للتملك أو للحفظ وقلنا: إنه لا يجوز ضمنها
لأنه تعدى بأخذها فضمنها كالغاصب، وان دفعها إلى السلطان ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يبرأ من الضمان لأنه لا ولاية للسلطان على رشيد.
(والثاني) يبرأ، وهو المذهب، لان للسلطان ولاية على الغائب في حفظ
ما يخاف عليه من ماله، ولهذا لو وجدها السلطان جاز له أخذها للحفظ على
مالكها، فإذا أخذها غيره وسلمها إليه برئ من الضمان، وإن كان مما لا يمتنع من
صغار السباع كالغنم وصغار الإبل والبقر أخذها، لحديث زيد بن خالد الجهني أن
رسول الله صلى الله عليه قال في ضالة الغنم (خذها هي لك أو لأخيك أو للذئب) ولأنه
إذا تركها أخذها غيره أو أكلها الذئب، فكان أخذها أحوط لصاحبها، وإذا
أخذها فهو بالخيار بين أن يمسكها ويتطوع بالانفاق عليها ويعرفها حولا ثم
يملكها وبين ان يبيعها ويحفظ ثمنها ويعرفها ثم يملك الثمن، وبين أن يأكلها
ويغرم بدلها ويعرفها، لأنه إذا لم يفعل ذلك احتاج إلى نفقة دائمة، وفى ذلك
إضرار بصاحبها، والامساك أولى من البيع والاكل لأنه يحفظ العين على صاحبها
ويجرى فيها على سنة الالتقاط في التعريف والتملك، والبيع أولى من الاكل،
لأنه إذا أكل استباحها قبل الحول، وإذا باع لم يملك الثمن إلا بعد الحول، فكان
البيع أشبه بأحكام اللقطة، فإن أراد البيع ولم يقدر على الحاكم باعها بنفسه، لأنه
موضع ضرورة، وإن قدر على الحاكم ففيه وجهان.
أحدهما: لا يبيع إلا بإذنه، لان الحاكم له ولاية ن ولا ولاية للملتقط.
والثاني: يبيع من غير اذنه لأنه قد قام مقام المالك فقام مقامه في البيع، وان
أكل فهل يلزمه أن يعزل البدل مدة التعريف؟ فيه وجهان.
(أحدهما) لا يلزمه، لان كل حالة جاز أن يستبيح أكل اللقطة لم يلزمه عزل
272

البدل كما بعد الحول، ولأنه إذا لم يعزل كان البدل قرضا في ذمته، وإذا عزله كان
أمانة والقرض أحوط من الأمانة.
(والثاني) يلزمه عزل البدل لأنه أشبه بأحكام اللقطة، فإن من حكم اللقطة
أن تكون أمانة قبل الحول، وقرضا بعد الحول، فيصير البدل كاللقطة ان شاء
حفظها له وان شاء عرفها ثم تملك.
وان أفلس الملتقط كان صاحبها أحق بها من سائر الغرماء، وان وجد ذلك
في بلد. فقد روى المزني أن الصغار والكبار في البلد لقطة، فمن أصحابنا من قال:
المذهب ما رواه المزني، لان النبي صلى الله عليه وسلم إنما فرق بين الصغار والكبار
في البرية، لان الكبار لا يخاف عليها لأنها ترد الماء وترعى الشجر وتتحفظ
بنفسها، والصغار يخاف عليها لأنها لا ترد الماء والشجر فتهلك، وأما في البلد
فالكبار كالصغار في الخوف عليها، فكان الجميع لقطة. ومن أصحابنا من قال:
فيه قول آخر أن البلد كالبرية، فالصغار فيه لقطة، والكبار ليست بلقطة لعموم
الخبر، فإن قلنا: إن البلد كالبرية فالحكم فيه على ما ذكرناه الا في الاكل، فله
أن يأكل الصغار في البرية، وليس له أكلها في البلد، لان في البرية إذا لم يأكل
الصغار هلكت، لأنه لا يمكن بيعها، وفى البلد يمكن بيعها، فلم يجز الاكل، وان
قلنا: إن الجميع في البلد لقطه فالحكم في الكبار كالحكم في الصغار في البرية الا في
الاكل، فإن لا يأكل في البلد ويأكل الصغار في البرية لما ذكرناه.
(فصل) وان وجد عبدا صغيرا لا تمييز له أن يلتقطه، لأنه كالغنم
يعرفه حولا ثم يملكه، وان وجد جاريه صغيرة لا تمييز لها، فإن كان لا يحل له
وطؤها جاز له أن يلتقطها للتملك، كما يجوز أن يقترضها، وإن كانت تحل له لم
يجز أن يلتقطها للتملك كما لا يجوز أن يقترضها.
(الشرح) حديث زيد بن خالد الجعفي متفق عليه، وقد مضى الكلام عليه
في الفصل قبله.
أما الأحكام: فان ضوال الحيوان إذا وجدت لم يخل حالها من أحد أمرين،
اما أن توجد في صحراء أو في مصر، فان وجدت في صحراء فعلى ضربين:
273

(أحدهما) أن يكون مما يصل بنفسه إلى الماء والرعي، ويدفع عن نفسه صغار
السباع، اما لقوة جسمه كالإبل والبقر والخيل والبغال والحمير. واما لبعد أثره
كالغزال والأرنب والطير، فهذا الأنواع كلها لا يجوز لواجدها أن يتعرض
لاخذها إذا لم يعرف مالكها لقوله صلى الله عليه وسلم في ضوال الإبل: مالك
ولها معها حذاؤها، أي خفها الذي يقيها العثرات وتعتمد عليه في السعي إلى
المرعى بدون أن يتجشم أحد تقديم الطعام إليها، ومعها سقاؤها، إشارة إلى
طول عنقها، فتمد عنقها إلى الماء فلا تحتاج إلى من يقدمه لها. ولذا قال: ترد
الماء وتأكل الشجر حتى يأتي ربها ولأنها تحفظ أنفسها فلم يكن لصاحبها حظ في أخذها
فإن أخذها لم يخل من أحد أمرين، أما أن يأخذها لقطة ليتملكها ان لم يأت
صاحبها، فهذا متعد وعلى ضمانها، فإن أرسلها لم يسقط الضمان.
وقال أبو حنيفة ومالك: قد سقط الضمان عنه بالارسال بناء على أن من
تعدى في وديعة ثم كف عن التعدي فعندهما يسقط عنه الضمان. وعند الشافعي
وأصحابه لا يسقط، فإن لم يرسلها ودفعها إلى مالكها فقد سقط عنه ضمانها بأدائها
إلى مستحقها، وان دفعها إلى الحاكم عند تعذر المالك ففي سقوط الضمان وجهان:
(أحدهما) قد سقط لان الحاكم نائب عمن غاب (والثاني) لا يسقط لأنها قد
تكون لحاضر لا يولى عليه.
والامر الثاني: أن لا يأخذها لقطة ولكن يأخذها حفظا لها على مالكها،
فإن كان عارفا بمالكها لم يضمن ويده يد أمانة حتى تصل إلى المالك. وإن كان غير
عارف للمالك ففي وجوب الضمان وجهان
(أحدهما) لا ضمان لأنه من التعاون على البر والتقوى
(والوجه الثاني) عليه الضمان لأنه لا ولاية له على غائب، فإن كان واليا
كالامام أو الحاكم فلا ضمان عليه، فقد روى أن عمر رضي الله عنه كانت له
حظيرة يحظر فيها ضوال المسلمين. فهذا حكم أحد الضربين
والضرب الثاني: ما لا يدفع عن نفسه ويعجز عن الوصول إلى الماء والرعي
كالغنم والدجاج، فلو أخذه وأكله في الحال من غير تعريف، غنيا كان أو فقيرا
274

فعليه غرمه لمالكه إذا وجده، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك وداود: هو غير
مضمون عليه ويأكله إباحة ولا غرم عليه في استهلاكه استدلالا بأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (هي لك أو لأخيك أو للذئب) ومعلوم أن ما استهلكه
الذئب هدر لا يضمن، وإنما أراد بيان حكم الآخذ في سقوط الضمان، ولان
ما استباح أخذه من غير ضرورة إذا لم يلزمه تعريفه لم يلزمه غرمه كالدراهم
ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (لا يحل مال امرئ مسلم الا بطيب نفس
منه) ولأنها لقطة يلزمه ردها مع بقائها، فوجب أن يلزمه غرمها عند
استهلاكها قياسا على اللقطة في الأموال، ولأنها ضالة فوجب أن تضمن
بالاستهلاك كالإبل.
فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم (هي لك أو لأخيك أو للذئب)
فهو أنه نبه بذلك على إباحة الاخذ وجواز الاكل دون الغرم. وأما الركاز فإنه
لا يلزم رده فلذلك سقط غرمه، وليس كذلك الشاة، لان ردها واجب
فصار غرمها واجبا.
فإذا ثبت جواز أخذ الشاة وما لا يدلع عن نفسه وإباحة أكله ووجوب غرمه
فكذلك صغار الإبل والبقر، لأنها لا تمنع عن أنفسها كالغنم ثم لا يخلو حال
واجد الشاة وما في معناها من أربعة أحوال
(أحدها) أن يأكلها فيلزمه غرم قيمتها قبل الذبح عند الاخذ في استهلاكها
ويكون ذلك مباحا لا يأثم به وان غرم
(والحال الثانية) أن يتملكها ليستبقيها حية لدر أو نسل فذلك له، لأنه
لما استباح تملكها مع استهلاكها فأولى أن يستبيح تملكها مع استبقائها ثم في صحة
ضمانها وجهان كالعارية مخرجا. وفى الاختلاف قولين في ضمان الصداق، أحدهما
أنه ضامن لقيمها أكثر ما كانت من حين وقت التملك إلى وقت التلف، فإن جاء
صاحبها وهي باقية وقد أخذ الواجد درهما ونشلها كان الدر والنسل للواجد
لحدوثه على ملكه، وللمالك أن يرجع بها دون قيمتها، فإن بذلك له الواجد قيمتها
لم يجبر على أخذها مع بقاء عينها إلا أن يتراضيا على ذلك فيجوز، فلو كانت
275

الشاة حين رجع بها المالك زائدة في بدنها أو قيمتها لم يكن للواجد حق في الزيادة
وكانت للمالك تبعا للأصل، ولو كانت ناقصة رجع المالك بنقصها على الواجد
لأنها مضمونة بالتلف فكانت مضمونة بالنقص.
والحال الثالثة: أن يستبقيها في يديه أمانة لصاحبها فذلك له، لأنه لما جاز أن
يتملكها على صاحبها فأولى أن يحفظها لصاحبها. ولا يلزمه تعريفها، لان ما جاز
تملكه سقط تعريفه، ولا يلزمه إخبار الحاكم بها ولا الاشهاد عليها، بل إذا
وجد صاحبها سلمها إليه، ولا ضمان عليه مدة إمساكها لصاحبها لو تلفت أو
نقصت لان يده يد أمانة كالمعرف.
وقال بعض أصحابنا وجها آخر أنه يضمنها لان إباحة أخذها مقصور على
الاكل الموجب للضمان دون الائتمان. وهكذا القول فيما حدث من درها ونسلها
على المذهب لا يضمنه. وعلى هذا الوجه يضمنه، فان أنفق عليها أكثر من مؤنة
علوفتها، فإن كان ذلك منه مع وجود حمى للمسلمين ترعى فيه فهو متطوع
بالنفقة وليس له الرجوع بها، وإن كان مع عدم الحمى، فإن كان عن إذن الحاكم
رجع بما أتفق، وإن كان عن غير إذنه، فإن كان قادرا على استئذانه لم يرجع بها
وان لم يقدر عل استئذانه، فإن لم يشهد لم يرجع. وان أشهد ففي رجوعه بها
وجهان (أحدهما) يرجع للضرورة (والثاني) لا يرجع لئلا يكون حاكم نفسه
فلو أراد بعد امساكها أمانة، أن يتملكها ففي جوازه وجهان (أحدهما) له ذلك
كالابتداء (والثاني) ليس له ذلك لاستقرار حكمها
فأما ان أراد أن يتملك درها وتسلمها من غير أن يتملك أصلها لم يكن له
ذلك وجها واحدا، لأنه فرع يتبع أصله، فلو أرسلها بعد امساكها أمانة لزمه
الضمان الا أن يرفعها إلى حاكم فلا يضمن.
ولو نوى تملكها ثم أراد أن يرفع ملكه عنها لتكون أمانة لصاحبها لم يسقط
عنه ضمانها. وفى ارتفاع ملكه عنها وجهان
(أحدهما) لا يرتفع ملكه لان الملك لا يزول الا بقبول المتملك، فعلى هذا
يكون مالكا لما حدث من درها ونسلها لبقائها على ملكه.
276

والوجه الثاني: يرتفع ملكه عنها مع بقاء ضمانها وذلك أحوط لمالكها، ووجه
ذلك أنه لما جاز أن يتملكها من غير بذل مالكها جاز أن يزول ملكه عنها من غير
قبول متملكها، فعلى هذا يكون الحادث من درها ونسلها ملك لربها تبعا لأصلها
وعليه ضمانها كالأصل.
والحال الرابعة: أن يريد بيعها فلا يخلو ذلك من أحد أمرين: إما أن يبيعها
قبل أن يملكها فذلك له ويكون ضامنا بقيمتها دون ثمنها. وفى هذه الحال تفصيل
مضى للمصنف في فصل مضى.
قال المزني فيما وصفه بخطه: إذا وجد الشاة أو البعير أو الدابة ما كانت في
المصر أو في قرية فهي لقطة يعرفها سنة.
قد مضى حكم ضوال الإبل والغنم إذا وجدها في الصحراء، فأما إذا وجدها
في البلد أو المصر فالذي حكاه المزني فيما وجده بخط الشافعي أنها لقطة له أخذها
وعليه تعريفها حولا
وحكى عن الشافعي في الام أنها في المصر والصحراء سواء، يأكل الغنم ولا
ولا يعرض للإبل، فاختلف أصحابنا فمنهم من خرج ذلك على قولين (أحدهما) أن
المصر كالبادية يأكل الغنم ولا يعرض للإبل، وهي المحكى في الام لعموم قوله
صلى الله عليه وسلم (ضالة المؤن حرق النار) أخرجه أحمد وابن ماجة وابن حبان والطبراني
والطحاوي من حديث عبد الله بن الشخير
والقول الثاني: أنها لقطة يأخذها الغنم والإبل جميعا، ويعرفها كسائر اللقطة
حولا كاملا، وهو الذي حكاه المزني عنه فيما لم يسمع منه، لان قوله صلى الله
عليه وسلم في ضوال الإبل: معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر
يختص بالبادية التي يكون فيها الماء والشجر دون المصر، وهي تمنع صغار السباع
عن أنفسها في البادية، ولا يقدر على منع الناس في المصر، والشاة تؤكل في
البادية لان الذئب يأكلها وهو لا يأكلها في المصر، فاختلف معناهما في البادية
والمصر فاختلف حكمهما.
ومن أصحابنا من يحمل جواز أحدهما على تسليمها إلى الامام وحمل المنع من
أخذها على سبيل التملك. هذا وبقية ما جاء في الفصل على وجهه. والله أعلم.
277

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن وجد كلب صيد لم يجز أن ينتفع به قبل الحول فإن عرفه
حولا ولم يجد صاحبه جاز له أن ينتفع به: لان الانتفاع بالكلب كالتصرف في المال
والتصرف في المال يقف على التعريف في الحول، فكذلك الانتفاع بالكلب.
(فصل) وإن وجد ما لا يبقى كالشواء والطبيخ والخيار والبطيخ فهو بالخيار
بين أن يأكله ويغرم البدل، وبين أن يبيعه ويحفظ الثمن على ما ذكرناه في الغنم
في بيعه وحفظ ثمنه وأكله وعزل بدله، وخرج المزني فيه قولا آخر أنه يلزمه
البيع، ولا يجوز الاكل، والمذهب الأول، لأنه معرض للهلاك فخير فيه بين
البيع والاكل كالغنم، وان وجد ما لا يبقى ولكن يمكن التوصل إلى حفظه
كالرطب والعنب - فإن كان الأنفع لصاحبه أن يباع - بيع، وإن كان الأنفع
أن يجفف جفف، وإن احتاج إلى مؤنة في تجفيفه ولم يوجد من يتطوع بيع
بعضه وأنفق عليه.
(فصل) وإن وجد خمرا أراقها صاحبها لم يلزمه تعريفها، لان اراقتها
مستحقة فلم يجز التعريف، فإن صارت عنده خلا ففيه وجهان. أحدهما: أنها
لمن أراقها لأنها عادت إلى الملك السابق، والملك السابق الذي أراق، فعاد إليه
كما لو غصبه من رجل فصار في يده خلا. والثاني: أنه للملتقط لان الأول أسقط
حقه منها فصارت في يد الثاني، ويخالف المغصوبة لأنها أخذت بغير رضاه
فوجب ردها إليه.
(فصل) فاما العبد إذا وجد لقطة ففيه قولان (أحدهما) له أن يلتقط
لأنه كسب بفعل فجاز للعبد كالاصطياد (والثاني) لا يجوز لان الالتقاط يقتضى
ولاية قبل الحول وضمانا بعد الحول والعبد ليس من أهل الولاية ولا له ذمة
يستوفى منها الحق إلى أن يعتق ويوسر، فان قلنا: إنه يجوز أن يلتقط فالتقط
فهلك في يده من غير تفريط لم يضمن، وان هلك بتفريط ضمنها في رقبته فتباع
فيها، وان عرفها صح تعريفه ولا يملك به لأنه في أحد القولين لا يملك المال،
278

وفى الثاني: يملك إذا ملكه السيد، وههنا لم يملكه السيد، فان قلنا: إن الملتقط
يملك بالتعريف من غير اختيار التملك دخل في ملك السيد كما يدخل في ملكه
ما التقطه وعرفه، وان قلنا: لا يملك الا باختيار التملك وقف على اختياره، فان
تملكها العبد وتصرف فيها ففيه وجهان.
(أحدهما) يضمنها في ذمته ويتبع بها إذا عتق كما لو اقترض شيئا.
(والثاني) يضمنها في رقبته لأنه مال لزمه بغير رضا من له الحق، فتعلق
برقبته كأرش الجناية.
وان علم السيد نظرت فإن لم يكن عرفها العبد عرفها السيد حولا ثم تملك وان عرفها العبد
تملكها السيد في الحال لان تعريف العبد كتعريفه فان عرفها العبد بعض الحول
عرفها السيد ما بقي ثم تملك، وان أقرها في يد العبد نظرت، فإن كان العبد أمينا
لم يضمن كما لا يضمن ما التقطه بنفسه وسلمه إلى عبده، وإن كان خائنا ضمنها
كما لو التقطها بنفسه وسلمها إليه وهو خائن.
وان قلنا: أنه لا يجوز أن يلتقط فالتقط ضمنها في رقبته لأنه أخذ مال غيره
بغير حق فأشبه إذا غصبه، وان عرفها لم يصح تعريفه لأنها ليست في يده بحكم
اللقطة، فان علم السيد نظرت، فان أخذها صارت في يده أمانة لأنه أخذ ما يجوز
له أخذه بحكم الالتقاط فصار كما لو وجد لقطة فالتقطها ويبرأ العبد من الضمان
لأنه دفعها إلى من يجوز الدفع إليه فبرئ من الضمان كما لو دفعها إلى الحاكم.
وان أراد أن يتملك ابتدأ التعريف ثم تملك، فان أقرها في يد العبد ليعرفها
فإن كان أمينا لم يضمن كما لو استعان به في تعريف ما التقطه بنفسه وان لم يأخذها
ولا أقرها في يده ولكنه أهملها، فقد روى المزني أنه يضمنها في رقبة العبد.
وروى الربيع أنه يضمنها في ذمته ورقبه العبد، فمن أصحابنا من قال: الصحيح.
ما رواه المزني أنه يختص برقبته لان الذي أخذ هو العبد فاختص الضمان برقبته
فعلى هذا ان تلف العبد سقط الضمان.
وقال أبو إسحاق: الصحيح ما رواه الربيع وأنه يتعلق بذمة السيد ورقبة العبد
لان العبد تعدى بالأخذ والسيد تعدى بالترك فاشتركا في الضمان، فعلى هذا ان
279

تلف العبد لم يسقط الضمان وان التقط العبد لقطة ولم يعلم السيد بها حتى أعتقه،
فعلى القولين، إن قلنا: أنه يجوز للعبد أن يلتقط. كان للسيد أن يأخذها منه لأنه
كسب له حصل له في حال الرق فكان للسيد كسائر أكسابه، وان قلنا: لا يجوز
له أن يلتقط لم يكن للسيد أن يأخذها منه لأنه لم يثبت للعبد عليه يد الالتقاط،
فعلى هذا يكون العبد أحق بها لأنها في يده وهو من أهل الالتقاط (1)، ويحتمل
أن لا يكون أحق بها لان يده يد ضمان فلا تصير يد أمانة. (فصل) وإن وجد المكاتب لقطة فالمنصوص أنه كالحر، واختلف أصحابنا
فيه، فمنهم من قال: إنه كالحر قولا واحدا لأنه يملك التصرف في المال وله ذمة
يستوفى منها الحق فهو كالحر، ومنهم من قال: هو كالعبد لأنه ناقص بالرق
كالعبد فيكون في التقاطه قولان، فان قلنا: أنه كالحر أو قلنا أنه كالعبد وجوزنا
التقاطه صح تعريفه فإذا عرفها ملكها لأنه من أهل الملك، وإذا قلنا أنه كالعبد
ولم نجوز التقاطه صار ضامنا لأنه تعدى بالأخذ ويجب أن يسلمها إلى السلطان
لأنه لا يمكن اقرارها في يده لأنها في يده بغير حق ولا يمكن تسليمها إلى السيد
لأنه لا حق له في أكسابه فوجب تسليمها إلى السلطان فان أخذها السلطان برئ
المكاتب من الضمان فتكون في يد السلطان أبدا إلى أن يجد صاحبها.
(فصل) وان وجد اللقطة من نصفه حر ونصفه عبد فالمنصوص أنه كالحر
فمن أصحابنا من قال: هو كالحر قولا واحدا لأنه تملك ملكا تاما وله ذمة صحيحة
فهو كالحر، ومنهم من قال هو كالعبد القن لما فيه من نقص الرق فيكون على قولين
فإذا قلنا: إنه كالحر نظرت، فإن لم يكن بينه وبين السيد مهايأة كانا شريكين فيها
كسائر أكسابه، وإن كان بينهما مهايأة، فإن قلنا: إن الكسب النادر لا يدخل
في المهايأة كانت اللقطة بينهما لأنه بمنزلة ما لم يكن بينهما مهايأة، وان قلنا: إن
الكسب النادر يدخل في المهايأة كانت اللقطة لمن وجدها في يومه.
(فصل) وإن وجد المحجور عليه لسفه أو جنونه أو صغر لقطة صح التقاطه

(1) هكذا بالأصل ولينظر فيه فإنه جعله من غير أهل الالتقاط اه‍ مصححه
280

لأنه كسب بفعل فصح من المحجوز عليه كالاصطياد وعلى الناظر أمره أن ينتزعها
منه ويعرفها لان اللقطة في مدة التعريف أمانة والمحجور عليه ليس من أهل الأمانة
فإن كان ممن يجوز الاقتراض عليه تملكها له، وإن كان ممن لا يجوز الاقتراض
عليه لم يتملك له لان التملك بالالتقاط كالتملك بالاقتراض في ضمان البدل.
(فصل) وان وجد الفاسق لقطة لم يأخذها لأنه لا يؤمن أن لا يؤدى
الأمانة فيها فان التقطها ففيه قولان.
(أحدهما) لا تقر في يده وهو الصحيح لان الملتقط قبل الحول كالموالي في حق
الصغير. والفاسق ليس من أهل الولاية في المال
(والثاني) تقر في يده لأنه كسب بفعل فأقر في يده كالصيد، فعلى هذا يضم
إليه من يشرف عليه وهل يجوز أن ينفرد بالتعريف فيه قولان (أحدهما) يجوز
لان التعريف لا يفتقر إلى الأمانة (والثاني) لا يجوز حتى يكون معه من يشرف
عليه لأنه لا يؤمن أن يفرط في التعريف فإذا عرفه ملكه لأنه من أهل التملك.
(فصل) وان التقط كافر لقطة في دار الاسلام ففيه وجهان (أحدهما)
يملك بالتعريف لأنه كسب بالفعل فاستوى فيه الكافر والمسلم كالصيد (والثاني)
لا يملك لان تصرفه بالحفظ والتعريف بالولاية. والكافر لا ولاية له على المسلم
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: فإن كانت اللقطة طعاما رطبا
لا يبقى فله أن يأكله إذا خاف فساده ويغرمه لربه. وقال فيما وضع خطه لا أعلمه
سمع منه إذا خاف فساده أحببت أن يبيعه ويقيم على تعريفه. قال المزني: هذا
أولى القولين به اه‍.
قلت: أما الطعام الرطب فضربان: أحدهما أن يكون مما يبس فيبقى كالرطب
الذي يصير تمرا، والعنب الذي يصير زبيبا فهذا حكمه حكم غير الطعام في وجب
تعريفه واستبقائه، فإن احتاج تجفيفه إلى مؤنة كانت على مالكه، ويفعل الحاكم
أحفظ الامرين للمالك من بيعه أو الانفاق عليه.
(والضرب الثاني) أن يكون مما لا يبقى كالطعام الذي يفسد بالامساك كالهريسة
والفواكه والبقول التي لا تبقى على الأيام، فقد حكى المزني عن الشافعي ههنا أنه
281

قال في موضع: يألكه الواجد، وقال في موضع آخر: أحببت أن يبيعه، فاختلف
أصحابنا فكان أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة وطائفة من أصحابنا
يخرجون على قولين.
(أحدهما) لواجده أكله كالشاة التي لما تعذر استبقاؤها أبيح لواجدها أكلها
(والقول الثاني) ليس لواجده أكله بخلاف الشاة لا يجب تعريفها فأبيح له
أكلها، والطعام وإن كان رطبا يجب تعريفه فلم يستبح واجده أكله. وحكى
أبو علي بن أبي هريرة أن ذلك على اختلاف حالين إن كان الحاكم موجودا يقدر
على بيعه لم يكن لواجده أكله، وإن كان معدوما جاز أكله.
وكان أبو القاسم الصيمري يقول: اختلاف حاليه في إباحة أكله معتبر بحال
واجده، فإن كان فقيرا محتاجا استباح أكله، وإن كان غنيا لم يستبحه، فإن قلنا
بجواز أكله فاكله صار ضامنا لقيمته وعليه تعريف الطعام حولا، وهل يلزمه
عزل قيمته من ماله عند أكله أم لا؟ على قولين.
(أحدهما) يلزمه عزل القيمة لئلا يصير متملك اللقطة.
(والقول الثاني) لا يجب عليه عزلها لأنه لو عزلها فهلكت كانت من ماله،
فكانت ذمته أحظ لها، ولم يكن عزلها مفيدا، ومن قال بالأول جعل فائدة عزلها
أنه لو أفلس بعد عزل قيمتها ثم حضر المالك كان أولى بالمعزول من قيمتها من
جميع الغرماء، وزعم أن تلفها من يده بعد وجوب عزلها لا يوجب عليه غرمها
فصار في ضمانه للثمن أن تلف بعد وجوب عزله وجهين. أحدهما - وهو قول
ابن أبي هريرة أنه يكون مضمونا عليه. والثاني وهو الأشبه: أنه لا ضمان عليه
لان الثمن مع وجوب عزله يقوم مقام الأصل مع بقائه.
وإذا قلنا: لا يجوز له أكله فعليه ان يأتي الحاكم حتى يأذن له في بيعه،
ولا يجوز أن يتولى بنفسه مع القدرة على استئذان الحاكم بخلاف الشاة إذا
وجدها وأراد بيعها لان يده على الشاة أقوى لما استحقه عاجلا من أكلها ويده
على الطعام أضعف لما وجب عليه من تعريفه، فان أعوزه اذن الحاكم جاز بيعه
فلو باعه بإذن الحاكم كان الثمن في يده أمانة، وعليه تعريف الطعام حولا،
282

فان جاء صاحبه فليس له الا الثمن دون القيمة، ولو لم يأت صاحبه فللواجد أن
يتملك الثمن. ولو هلك الثمن في يده قبل الحول أو بعده وقبل التملك له كان تالفا
من مال ربه ولا ضمان على الملتقط، وهكذا حكم الثمن لو كان الواجد هو البائع
عند إعواز الحاكم.
فاما ان باعه مع وجود الحاكم فبيعه باطل وللمالك القيمة دون الثمن لفساد
العقد، فان تلف الثمن من يد الواجد قبل الحول عليه غرمه لتعديه بقبضه مع
فساد بيعه، فان حضر المالك والثمن بقدر القيمة من غير زيادة ولا نقص أخذه
وهو مبلغ حقه، وإن كان أقل فله المطالبة بتمام القيمة ويرجع على المشترى لان
المشترى اشترى شراء فاسدا فكان ضامنا للقيمة دون المسمى الا أن يشاء. المالك
ان يسامح بفاضل القيمة ويكون الباقي منه مردودا على المشترى، إذ ليس يلزمه
الا القيمة. وما ساقه المصنف من مسائل فعلى وجهه، هذا وما ذكر في الفصل
من كلب الصيد إذا التقط فقد وفاه في المجموع في الصيد فاشدد به يديك
(فرع) مذهبا لا فرق بين المسلم والذمي في أخذها للتعريف والتملك بعد
الحول لأنها كسب يستوي فيه المسلم والذمي.
وقال بعض أصحابنا: لاحق للذمي فيها وهو ممنوع من أخذها وتملكها لأنه
ليس من أهل التعريف لعدم ولايته على مسلم، ولا ممن يملك مرافق دار الاسلام
كإحياء الموات. ولأحمد وأصحابه انه كالصبي والمجنون فإنه يصح التقاطهما مع عدم
الأمانة، فإذا التقطها الذمي وعرفها حولا ملكها كالمسلم، وإن علم بها الحاكم أو
السلطان أقرها في يده وضم إليه مشرفا عدلا (حارسا) يشرف عليه ويعرفها
قالوا لأننا لا نأمن الكافر على تعريفها ولأنا منه ان يخل في التعريف بشئ من
الواجب عليه فيه. ويحتمل عندهم أن تنزع من يد الذمي وتوضع على يد عدل،
لأنه غير مأمون عليها، والله تعالى أعلم
283

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب اللقيط
التقاط المنبوذ فرض على الكفاية لقوله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى)
ولأنه تخليص آدمي له حرمة من الهلاك فكان فرضا كبذل الطعام للمضطر.
قال (اخذت منبوذا على عقد عمر رضي الله عنه فذكره عريفي لعمر رضي الله عنه
فأرسل إلى فدعاني والعريف عنده، فلما رآني قال: عسى الغوير ابؤسا، فقال
عريفي أنه لا يتهم، فقال عمر: ما حملك على ما صنعت؟ قلت: وجدت نفسا
بمضيعة فأحببت أن يأجرني الله فيه، فقال هو حر وولاؤه لك وعلينا رضاعه.
ولان الأصل في الناس الحرية، فإن كان عليه ثياب أو حلي أو تحته فراش أو في
يده دارهم أو عنان فرس، أو كان في دار ليس فيها غيره فهي له، لأنه حر،
فكان ما في يده له كالبالغ.
وإن كان على بعد منه مال مطروح أو فرس مربوط لم يكن له لأنه لا يد له
عليه. وإن كان بالقرب منه وليس هناك غيره ففيه وجهان
(أحدهما) ليس له لأنه لا يد له عليه (والثاني) له لان الانسان قد يترك
ماله بقربه فإذا لم يكن هناك غيره فالظاهر أنه له، وإن كان تحته مال مدفون لم يكن
له لان البالغ لو جلس على الأرض وتحته دفين لم يكن له ذلك فكذلك اللقيط.
(فصل) وان وجد في بلد من بلاد المسلمين وفيه مسلم فهو مسلم، لأنه
اجمتع له حكم الدار واسلام من فيها، وإن كان في بلد الكفار ولا مسلم فيه،
فهو كافر، لأن الظاهر أنه ولد بين كافرين. وإن كان فيه مسلم ففيه وجهان.
(أحدهما) انه كافر تغليبا لحكم الدار (والثاني) انه مسلم تغليبا لاسلام المسلم
الذي فيه. وان التقطه حر مسلم امين مقيم موسر أقر في يده، لما ذكرناه من
حديث عمر رضي الله عنه، ولأنه لابد من أن يكون في يد من يكفله، فكان
الملتقط أحق به لحق السبق
284

(الشرح) اثر عمر وسنين أبى جميلة رواه سعيد بن منصور عن سفيان عن
الزهري سمع سنينا أبا جميلة بهذا. وقال الأمير ابن مأكولا في كتاب الاكمال:
سنين بنونين بينهما ياء حج من النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وروى عن أبي
بكر وعمر رضي الله عنهما، وروى عنه الزهري.
قال أبو موسى: سنين بن فرقد.
أما غريب الخبر فقوله (قد كره عريفي) العريف رجل يكون رئيسا على نفر
يعرف أمورهم ويجمعهم عند الغزو، وهو فعيل بمعنى فاعل وقوله (عسى الغوير أبؤسا)
الغوير ماء لبنى كلب وهذا مثل، أول من تكلم به الزباء ملكة تدمر حين رأت
الإبل عليها الصناديق فاستنكرت شأن قصير إذ أخذ على غير الطريق أرادت
عسى أن يأتي بذلك الطريق بشر، والأبؤس جمع بأس وانتصابه بعسى على أنه خبره
على ما عليه أصل القياس.
وقال الأصمعي: أصله أنه كان غار فيه ناس فانهار عليهم أو أتاهم فيه عدو
فقتلهم فصار مثلا لكل شئ يخاف أن يأتي منه شر. وقوله بمضيعه على وزن
معيشة أي مهلكة من ضاع الشئ أي هلك، وقد أتى على هذا الوزن في قول
قيس بن ذريح:
بدار مضيعة تركتك لبنى * كذلك الحين يهدى للمضاع
هكذا أفاده ابن بطال في شرح غريب المهذب،
وللقيط فعيل بمعنى مفعول وهو الملقوط، وهو يطلق على الطفل المنبوذ
والتقاطه واجب لقوله تعالى (تعاونوا على البر والتقوى) ولان فيه إحياء نفس
فكان واجبا كاطعام المضطر وإنجائه من الغرق، وكذلك قوله تعالى (ومن أحياها
فكأنما أحيا الناس جميعا، على أن تسميته منبوذا بعد أخذه والتقاطه أو تسميته
لقيطا قبل أخذه فهذا وإن كان مجازا لكنه صار حقيقة شرعية فهو بعد أخذه يبقى
مجازا بناء على زوال الحقيقة بزوال المعنى المشتق منه.
وحكمه شرعا فرض كفاية إذا علم به جماعة وأداه بعضهم سقط عن الباقين،
285

فان تركه الجمعة أثموا جميعا إذا علموا فتركوه مع إمكان أخذه. على أن اللقيط
حر في قول عامة أهل العلم الا النخعي.
قال ابن المذر: أجمع عوام أهل العلم أن اللقيط حر، روى هذا عن عمر
وعلي رضي الله عنهما، وبه قال عمر بن عبد العزيز والشعبي والحكم وحماد ومالك
والثوري والشافعي وإسحاق وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي ومن تبعهم.
وقال النخعي: إن التقطه للحسبة فهو حر، وإن كان أراد أن يسترقه فذلك
له، وذلك قول شذ فيه عن الخلفاء والعلماء، ولا يصح في النظر، فان الأصل
في الآدميين الحرية، فإن الله تعالى خلق آدم وذريته أحرارا، وإنما الرق للعارض
فإذا لم يعلم ذلك العارض فله حكم الأصل.
واللقيط اما أن يوجد في دار الاسلام أو في دار الكفر: فالأولى ضربان،
دار اختطها المسلمون وأحدثوا مبانيها ابتداء أو أعادوا بناءها بعد أن كانت لغيرهم
لغلبة الاسلام عليها واصطباغها بصبغة الاسلام فلا يوجد فيها من غير المسلمين
إلا قليل فلقيط هذه البلاد يحكم باسلامه، وإن كان فيها أهل ذمة تغليبا للاسلام
ولظاهر الدار، ولان الاسلام يعلو ولا يعلى، فمثل التي أنشأها المسلمون الكوفة
والبصرة وبغداد والقاهرة والفسطاط وتونس والرباط، ومثل التي أعادها
المسلمون الإسكندرية ودمشق ودمنهور والقدس صانها الله وطهرها من رجس
أعدائه اليهود، وقد مضى عام بتمامه منذ غزاها اليهود إلى ساعة كتابة هذا الفصل
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
(الضرب الثاني) بلاد فتحها المسلمون وبقى أهلها على دينهم فإذا وجد فيها
مسلم واحد كان لقيطها مسلما تغليبا لحكم الاسلام ووجود مسلم فيها.
وأما بلد الكفار فضربان أيضا، بلد كان للمسلمين فغلب الكفار عليه كبلاد
فلسطين فهذا كالضرب الذي قبله إن كان فيه مسلم حكم باسلام لقيطه: الثاني
بلد لم يفتحه المسلمون من قبل أو فتحوه وغلب الكفار عليه واستأصلوا منه
شأفة المسلمين كبلاد الأندلس (لهفي على قرطبة ومرسية وقشتالة وغرناطة ومجريط
(مدريد) وميورقه كلهفي على ربوع المسجد الأقصى وما حوله من المباركات)
286

ففي لقيطها مع وجود مسلم فيها وجهان (أحدهما) ان يحكم بكفره تغليبا للدار.
والوجه الثاني أنه مسلم تغليبا للاسلام بوجود مسلم فيه، وهذا التفصيل كله
مذهب أحمد بن حنبل أيضا.
والضرب الثاني: دار لم تكن للمسلمين أصلا كأكثر بلاد أوربا وأمريكا.
فهذه البلاد إن لم يكن فيها مسلم فلقيطها كافر
قال ابن المنذر: أجمع عوام أهل العلم على أن الطفل إذا وجد في بلاد المسلمين
ميتا في أي مكان وجد وجب غسله وكفنه ودفنه في مقابر المسلمين، وقد منعوا
أن يدفن أطفال المشركين في مقابر المسلمين. قال: إذا وجد لقيط في قرية ليس
فيها الا مشرك فهو على ظاهر ما حكموا به انه كافر. هذا قول الشافعي وأحمد
وأصحاب الرأي.
قالوا وفى الموضع الذي حكمنا باسلامه إنما يثبت ذلك ظاهرا لا يقينا، لأنه
يحتمل أن يكون ولد كافر، فلو أقام كافر بينة أنه ولد على فراشه حكمنا له به.
وإذا بلغ اللقيط حدا يصح فيه اسلامه وردته فوصف الاسلام فهو مسلم، سواء
ممن حكم باسلامه أو كفره، وان وصف الكفر وهو ممن حكم باسلامه فهل هو
مرتد لا يقر على كفره؟ نص الشافعي في الام انه يقر على كفره ولا يكون
مرتدا. وقال أبو حنيفة هو مرتد لا يقر على كفره، وعند الحنابلة وجهان كقولي
أبي حنيفة والشافعي.
دليلنا أنه وصف الكفر بقوله، وقوله أقوى من ظاهر الدار. اللهم الا أن
يقال: الاحتياط للاسلام يلغى قوله المانع له لاحتمال أن يكون كذبا.
هكذا أفاده الرملي.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فإن كان له مال كانت نفقته في ماله كالبالغ، ولا يجوز للملتقط
أن ينفق عليه من ماله بغير اذان الحاكم، فان أنفق عليه من غير اذنه ضمنه لأنه
لا ولاية له عليه الا في الكفالة فلم يملك الانفاق بنفسه كالأم، وان فوض إليه
الحاكم أن ينفق عليه مما وجده معه فقد قال في كتاب اللقيط يجوز.
287

وقال في كتاب اللقطة: إذا أنفق الواحد على الضالة ليرجع به لم يجز حتى يدفع
إلى الحاكم ثم يدفع الحاكم إليه ما ينفق عليه، فمن أصحابنا من نقل جواب كل
واحدة من المسئلتين إلى الأخرى، وجعلهما على قولين (أحدهما) لا يجوز لأنه
لا يلي بنفسه فلم يجز أن يكون وكيلا لغيره في القبض له من نفسه، كما لو كان عليه
دين ففوض إليه صاحب الدين قبض ماله عليه من نفسه (والثاني) يجوز لأنه
جعل أمينا على الطفل فجاز أن ينفق عليه مما له في يده كالوصي. ومنهم من قال:
يجوز في اللقيط ولا يجوز في الضالة، لان اللقيط لا ولى له في الظاهر، فجاز ان
يجعل الواحد وليا والضالة لها مالك هو ولى عليها فلا يجوز ان يجعل الواحد وليا
عليها. وان لم يكن حاكم فانفق من غير اشهاد ضمن، وان أشهد ففيه قولان
(أحدهما) يضمن لأنه لا ولاية له فضمن، كما لو كان الحاكم موجودا
(والثاني) لا يضمن لأنه موضع ضرورة، وان لم يكن له مال وجب على
السلطان القيام بنفقته لأنه آدمي له حرمة يخشى هلاكه، فوجب على السلطان
القيام بحفظه، كالفقير الذي لا كسب له.
ومن أين تجب النفقة؟ فيه قولان (أحدهما) من بيت المال، لما روى عن
عمر رضي الله عنه انه استشار الصحابة في نفقة اللقيط فقالوا من بيت المال،
ولان من لزم حفظه الانفاق ولم يكن له مال وجبت نفقته من بيت المال، كالفقير
الذي لا كسب. فعلى هذا لا يرجع على أحد بما أنفق عليه، والقول الثاني لا يجب
من بيت المال، لان مال بيت المال لا يصرف الا فيما لا وجه له غيره واللقيط
يجوز أن يكون عبدا فنفقته على مولاه، أو حرا له مال أو فقيرا له من تلزمه
نفقته، فلم يلزم من بيت المال. فعلى هذا يجب على الامام أن يقترض له ما ينفق
عليه من بيت المال أو من رجل من المسلمين، فإن لم يكن في بيت المال ولا وجد
من يقرضه جمع الامام من له مكنة وعد نفسه فيهم وقسط عليهم نفقته، فان بان
أنه عبد رجع على مولاه. وان بان أن له أبا موسرا رجع عليه بما اقترض له،
فإن لم يكن له أحد وله كسب رجع في كسبه. وان لم يكن له كسب قضى من سهم
من يرى من المساكين أو الغارمين.
(فصل) وأما إذا التقطه عبد فإن كان باذن السيد وهو من أهل الالتقاط جاز
288

لان الملتقط هو السيد، والعبد نائب عنه وإن كان بغير اذنه لم يقر في يده لأنه
لا يقدر على حضانته مع خدمة السيد، وان علم به السيد وأقره في يده كان ذلك
التقاطا من السيد، والعبد نائب عنه
(الشرح) إذا وجد مع اللقيط شئ فهو له وينفق عليه منه، والى هذا ذهب
الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي، وذلك الطفل يملك وله يد صحيحة، بدليل أنه يرث
ويورث ويصح ان يشترى له وليه ويبيع، ومن له ملك صحيح فله يد صحيحة كالبالغ
فإذا ثبت هذا: فكل ما كان متصلا به أو متعلقا بمنفعة فهو تحت يده ويثبت
بذلك ملكا له في الظاهر، فمن ذلك ما كان لابسا له أو مشدودا في ملبوسه أو في
يديه أو مجعولا فيه كالسرير والسفط وما فيه من فرش أو دراهم، والثياب التي
تحته والتي عليه، وإن كان مشدودا على دابة، أو كانت مشدودة في ثيابه أو كان
في خيمة أو في دار فهي له. وأما المنفصل عنه فإن كان بعيدا منه فليس في يده،
وإن كان قريبا منه كثوب موضوع إلى جانبه ففيه وجهان.
أحدهما: ليس هو له لأنه منفصل عنه فهو كالبعيد.
والثاني: هو له، وهو أصح لأن الظاهر أنه ترك له فهو بمنزلة ما هو تحته،
ولا القريب من البالغ يكون في يده، الا ترى ان البائع الجائل يقعد في السوق
ومتاعه بقربه ويحكم بأنه في يده؟ والحمال إذا جلس لاستراحة ترك حمله قريبا منه
فاما المدفون تحته فقد قال بعض الفقهاء: إن كان الحفر طريا فهو له، والا فلا،
لأن الظاهر أنه إذا كان طريا فواضع اللقيط حفره، وإذا لم يكن طريا كان مدفونا
قبل وضعه، وقيل: ليس هو له بحال، لأنه بموضع لا يستحقه إذا لم يكن الحفر
طريا، فلم يكن له إذا كان طريا كالبعيد منه، ولأن الظاهر أنه لو كان له لشده
واضعه في ثيابه ليعلم به، ولم يتركه في مكان لا يطلع عليه، وكل ما حكمنا بأنه
ليس له فحكمه حكم اللقطة، وما هو له أنفق عليه منه، فإن كان كفايته لم
يجب نفقته على أحد لأنه ذو مال فأشبه غيره من الناس.
فإذا ثبت هذا: فإن لملتقطه الانفاق عليه بإذن الحاكم، وقال أصحاب أحمد:
ينفق عليه بغير اذن الحاكم ذكره أبو عبد الله بن حامد من الحنابلة.
289

قال ابن قدامة: لأنه ولى له فلم يعتبر في الانفاق عليه في حقه إذن الحاكم
كوصي اليتيم، ولان هذا من الامر بالمعروف فاستوى فيه الامام وغيره كتبديد
الخمر. وروى أبو الحارث عن أحمد رضي الله عنه في رجل أودع رجلا مالا
وغاب وطالت غيبته وله ولد ولا نفقة له، هل ينفق عليهم؟ فلم يجعل له الانفاق
عليهم من غير إذن الحاكم، فقال بعض أصحاب أحمد: هذا مثله. وقال بعضهم
وهو الصحيح عندهم: إن هذا مخالف بناء على أن الملتقط له ولاية على اللقيط
عندهم فيكون له ولاية أخذه وحفظه.
ولنا أن اللقيط ينبغي أن يتولى الحاكم أمره فقد يعين له من هو أوفر خبرة
وأكثر صيانة والحاكم مجتهد له بصره النافذ ورأيه الصائب وهو ولى من لا ولى له
فإذا أنفق عليه الملتقط من ماله الذي وجده ضمنه لأنه لا حق له في الانفاق إلا
بإذن الحاكم فقد قال الشافعي رضي الله عنه في رواية الربيع بن سليمان في المنبوذ
هو حر ولا ولاء له، وإنما يرثه المسلمون بأنهم خولوا كل مال لا مالك له، ألا
ترى أنهم يأخذون مال لنصراني ولا وارث له؟ ولو كانوا أعتقوه لم يأخذوا ماله
بالولاء، ولكنهم خولوا مالا مالك له من الأموال اه‍.
وقال في اللقطة ما يفيد عدم جواز الانفاق على الضالة بقصد الرجوع به على
ربها الا بإذن الحاكم، ثم يدفع الحاكم إليه ما ينفق عليه، ففي النص الأول جعل
للمسلمين جميعا حق الولاية والإرث على اللقيط وماله، وفى النص الثاني جعل
ذلك بإذن الحاكم، فمن أصحابنا من نقل جواب كل مسألة إلى الأخرى فجعل في
اللقطة قولين وفى اللقيط قولين، فالقول بجواز اللقطة يمنعه في اللقيط، والقول
بجوازه في اللقيط يمنعه في اللقطة.
فإذا لم يجد الحاكم فأشهد رجلين أو رجلا وامرأتين أو أربع نسوة ففي
ضمانه قولان.
أما إذا لم يكن له مال لم يلزم الملتقط الانفاق عليه في قول عامة أهل العلم
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن نفقة اللقيط غير
واجبه على الملتقط كوجوب نفقة الولد، وذلك لان أسباب وجوب النفقة من
290

القرابة والزوجية والملك والولاء منتفية، والالتقاط إنما هو تخليص له من
الهلاك، وتبرع بحفظه فلا يوجب ذلك نفقة كما لو فعله بغير اللقيط، فإذا عرف
هذا وكان نسمة يجب تعهدها بالتربية والانفاق انصرف هذا الواجب إلى بيت
مال المسلمين، لقول عمر رضي الله عنه: هو حر لك ولاؤه وعلينا نفقته، وذلك
لأنه كالفقير الذي لا كسب فان نفقته واجبة له في بيت مال المسلمين، وذلك لان
بيت المال وارثه، وماله مصروف إليه فتكون نفقته عليه كقرابته وموالاته.
فان تعذر الانفاق عليه لعدم وجود مال في بيت المال أو كان اللقيط في مكان
لا تقوم فيه حكومة تنفذ شريعة الله وترعى العجزة والفقراء واللقطاء فعلى من
علم حاله أن يتولى الانفاق عليه.
ويحتمل أن يقال: إنه لا يجب الانفاق عليه من بيت المال ولو كان موجودا
وفيه مال، لان بيت المال إنما ينفق منه في الوجوه التي توفر على الانفاق عليها،
وقد تكون أهم من هذا، واللقيط يحتمل أن يكون غنيا، ويحتمل أن يكون له
أب موسر، ويحتمل أن له سيد تجب عليه نفقته.
فإذا قلنا: إنه لا يجب الانفاق عليه من بيت المال وجب على الامام أن ينظم
جماعة يكون هو أحد أفرادها تتولى الانفاق عليه على سبيل الاقراض، حتى إذا
ظهر له مال أو ولى شرعي موسر، أو استطاع الكسب أمكن رد ما أنفق عليه،
فإن لم يكن يستطع الكسب ولم يكن له ولى موسر قضى من سهم المساكين أو
الغارمين، ويجرى هذا كله على اللقيط ولو حكم بكفره. قال في النهاية: خلافا
لما في الكفاية تبعا للماوردي.
فإذا امتنع أهل القرية أو البلدة عن أن ينفقوا على اللقيط وجب على الامام
قتالهم، ويفرق هنا بين كونها قرضا وفى بيت المال مجانا، بأن وضع بيت المال
الانفاق على المحتاجين فلهم فيه حق مؤكد دون مال المياسير، وإذا لزمهم وزعها
الامام على مياسير بلده، فان شق ذلك فعلى من يراه الامام منهم، فان استووا
في نظره تخير، وهذا إن لم يبلغ اللقيط، فان بلغ فمن سهم الفقراء أو المساكين
أو الغارمين كما قررنا، فان ظهر له سيد أو قريب رجع عليه وقد ضعف هذا
النووي في الروضة وخالفه الشمس الرملي في النهاية.
291

وجملة هذا أن من أنفق متبرعا فلا شئ له سواء كان الملتقط أو غيره،
وإن تبرع بالانفاق عليه فأنفق عليه الملتقط أو غيره محتسبا بالرجوع عليه إذا
أيسر وكان ذلك بأمر الحاكم لزم اللقيط ذلك إذا كانت النفقة قصدا بالمعروف،
وبهذا قال الثوري والشافعي وأصحاب الرأي
وان أنفق بغير أمر الحاكم محتسبا بالرجوع عليه فقد قال الشافعي ومالك
والثوري والأوزاعي وأبو حنيفة ومحمد بن الحسن والشعبي وابن المنذر: هو
متبرع. وقال أحمد بن حنبل: تؤدى النفقة من بيت المال، وقال شريح والنخعي
يرجع عليه بالنفقة إذا أشهد عليه. وقال بن عبد العزيز: يحلف ما أنفق
احتسابا، فإن حلف استسعى
والأصل عند القائلين بالرجوع أنه أدى ما وجب على غيره فكان له الرجوع
على من كان الوجوب عليه كالضامن إذا قضى عن المضمون عنه. هذا وما بقي
من كلام المصنف فعلى وجهه والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان التقطه كافر نظرت، فإن كان اللقيط محكوما بإسلامه لم يقر
في يده، لان الكفالة ولاية، ولا ولاية للكافر على المسلم، ولأنه لا يؤمن أن
يفتنه عن دينه، وإن كان محكوما بكفره أقر في يده لأنه على دينه، وان التقطه
فاسق لم يقر في يده، لأنه لا يؤمن أن يسترقه، وأن يسئ في تربيته، ولان
الكفالة ولاية والفاسق ليس من أهل الولاية
(فصل) وان التقطه ظاعن يريد أن يسافر به نظرت، فإن لم تختبر أمانته
في الباطن، يقر في يده، لأنه لا يؤمن أن يسترقه إذا غاب، وان اختبرت أمانته
في الباطن، فإن كان اللقيط في الحضر والملتقط من أهل البدو ويريد أن يخرج
به إلى البدو منع منه، لأنه ينقله من العيش في الرخاء إلى العيش في الشقاء،
ومن طيب المنشأ إلى موضع الجفاء. وفى الخبر (من بدا فقد جفا) وان أراد أن
يخرج به إلى بلد آخر ففيه وجهان (أحدهما) يجوز، وهو ظاهر النص، لان البلد
كالبلد (والثاني) لا يجوز، لان البلد الذي وجد فيه أرجى لظهور نسبه فيه.
292

وإن كان الملتقط في بدو، فإن كان الملتقط من أهل الحضر وأراد أن يخرج به إلى
الحضر جاز، لان الحضر أرفق به وأنفع له، وإن كان من البادية فإن كانت حلته
في مكان لا ينتقل عنه أقر في يده، لان الحلة كالقرية، وإن كان يظعن في طلب
الماء والكلأ ففيه وجهان (أحدهما) يقر في يده لأنه أرجى لظهور نسبه.
(والثاني) لا يقر في يده لأنه يشقى بالتنقل في البدو.
(فصل) وإن التقطه فقير ففيه وجهان (أحدهما) لا يقر في يده لأنه
لا يقدر على القيام بحضانته، وفى ذلك إضرار باللقيط (والثاني) يقر في يده لان
الله تعالى يقوم بكفاية الجميع.
(الشرح) حديث (من بدا فقد جفا) رواه أحمد في المسند عن البراء بن عازب
بلفظ (من بدا جفا) ورواه الطبراني في الكبير عن عبد الله بن مسعود بلفظ
(من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن) وإسناد
أحمد صحيح، وفى إسناد الطبراني نظر
أما اللغات فقوله: ظاعن فاعل ظعن وبابه نفع، أي ارتحل ويتعدى بالهمزة
وبالحرف، فيقال أظعنته وظعنت به، فهو ظاعن للفاعل ومظعون للمفعول،
والأصل مظعون به ولكن حذفت الصلة لكثرة الاستعمال، وباسم المفعول سمى
الرجل، ويقال للمرأة ظعينة فعيلة بمعنى مفعولة، لان زوجها يظعن بها، ويقال
الظعينة الهودج، وسواء كان فيه امرأة أم لا، والجمع ظعائن وظعن بضمتين.
ويقال الضعينة في الأصل وصف المرأة في هودجها، سميت بهذا الاسم وإن كانت
في بيتها. قال تعالى (ويوم ظعنكم ويوم إقامتكم)
قوله: ومن طيب المنشأ إلى موضع الجفاء. المنشأ بالهمز مقصور، وهو
موضع النشوء وزمان الحداثة، يقال نشأت في بنى فلان إذا شببت فيهم، مأخوذ
من إنشاء الله له، أي ابتداء خلقه. وقوله صلى الله عليه وسلم (من بدأ جفا) أي
من نزل البادية صار فيه جفاء الاعراب، والجفاء ممدود وهو ضد البر، يقال
جفوت الرجل أجفوه، ولا يقال جفيت. وهو مأخوذ من جفاء السيل، وهو
ما نفاه السيل، والحلة المنزل ينزله القوم وحيث يحلون.
293

أما الأحكام فإنه ليس لكافر التقاط مسلم لأنه لا ولاية لكافر على مسلم،
ولأنه لا يؤمن أن يفتنه ويلقنه الكفر، بل الظاهر أنه يربيه على ملته وينشأ
على ذلك كولده، فإن التقطه فلا يقر في يده، وإن كان الطفل محكوما بكفره فله
التقاطه لان الذين كفروا بعضهم أولياء بعض.
أما إذا التقطه من هو مستور الحال لم تعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة
أقر اللقيط في يديه، لان حكمه حكم العدل في لقطة المال والولاية في النكاح
والشهادة فيه وفى أكثر الأحكام، ولان الأصل في المسلم العدالة، ولذلك قال
عمر رضي الله عنه: المسلمون عدول بعضهم على بعض، فان أراد أن يسافر
بلقطته فإنه لا يقر في يديه، وهذا هو مذهبنا، لأنه لم تتحقق أمانته فلم تؤمن
خيانته، وهذا أحد الوجهين عند الحنابلة. والوجه الثاني عندهم يقر
فأما من عرفت عدالته واتضحت أمانته، فيقر اللقيط في يده في سفره وحضره
لأنه مأمون عليه إذا كان سفره لغير النقلة، فإذا كان سفر الأمين باللقيط إلى
مكان يقيم به نظرت فإن كان التقطه من الحضر فأراد النقل به إلى البادية لم يقر
في يده لوجهين:
(أحدهما) أن مقامه في الحضر أصلح له في دينه ودنياه وأرفه له
(والثاني) أنه إذا وجد في الحضر فالظاهر أنه ولد فيه فبقاؤه فيه أرجى
لكشف نسبه وظهور أهله واعترافهم به، النقلة به من بلد الحضر ففيه
وجهان (أحدهما) وهو المنصوص، وهو أحد الوجهين عند الحنابلة: يقر في
يده لان ولايته ثابتة، والبلد الثاني كالبلد الأول في الرفاهية فيقر في يده، كما لو
انتقل من أحد أقسام البلد إلى قسم آخر، وفارق المنتقل به إلى البادية لأنه يضر
به بتفويت الرفاهية عليه
وان التقطه من البادية فله نقله إلى الحضر لأنه ينقله من أرض البؤس والشقاء
إلى الرفاهية والدعة والدين
(الثاني) لا يقر في يده، ولان بقاءه في بلده أرجى لكشف نسبه فلم يقر في
يد المنتقل عنه قياسا على المنتقل به إلى البادية، وان أقام به في حلة يستوطنها،
فله ذلك، وإن كان ينتقل به إلى المواضع أحتمل أن يقر في يديه، لأن الظاهر
294

أنه أبن بدويين وإقراره في يدي ملتقطه أرجى لكشف نسبه، ويحتمل أن يؤخذ
منه فيدفع إلى صاحب قرية لأنه أرفه له وأخف عليه
وكل موضع قلنا ينزع من ملتقطه فإنما يكون ذلك إذا وجد من يدفع إليه ممن
هو أولى به، فإن لم يوجد من يقوم به أقر في يدي ملتقطه، لان إقراره في يديه
مع قصوره أولى من إهلاكه، وإن لم يوجد إلا مثل ملتقطه فملتقطه أولى به. إذ
لا فائدة في نزعه من يده، ودفعه إلى مثله.
(فرع) إذا التقطه فقير فإن قلنا إنه لا يقدر على حضانته من حيث ضعف
الامكانيات اللازمة لحياة الطفل من الأمور التي تخرج من الانفاق، إذ أن
الانفاق لا يلزم الملتقط كما قررنا قبل، كأن كان مسكنه غير صحي لا تتوفر فيه
وسائل التهوية ولا أسباب الوقاية والنظافة، فعلى هذا الوجه لا يقر في يده،
وإن قلنا بأن الأمور تجرى بضمان الله وكفالته، وأن الله تعالى تكفل بحفظه إذا
شاء، وأن الأسباب الضرورية للحياة التي ينشأ عليها أبناء الفقراء مألوفة عندهم
ويشبون عليها وتبنى فيها أجسامهم كأقوى ما تبنى الأجسام، وقد رأينا بالحس
والمشاهدة ما يتمتع به أبناء الفقراء من مناعة ضد الأمراض مع الكفاف في
العيش، وذلك من رعاية الله تعالى لخلقه، فعلى هذا الوجه يقر في يده والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن تنازع في كفالته نفسان من أهل الكفالة قبل أن يأخذاه،
أخذه السلطان وجعله في يد من يرى منهما أو من غيرهما، لأنه لا حق لهما
قبل الاخذ ولا مزية لهما على غيرهما، فكان الامر فيه إلى السلطان. وإن التقطاه
وتشاحا أقرع بينهما، فمن خرجت عليه القرعة أقر في يده.
وقال أبو علي بن خيران: لا يقرع بينهما، بل يجتهد الحاكم فيقره في يد من
هو أحظ له، والمنصوص هو الأول لقوله تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون
أقلامهم أيهم يكفل مريم) ولأنه لا يمكن أن يجعل في أيديهما، لأنه لا يمكن
اجتماعهما على الحضانة، ولا يمكن أن يجعل بينهما مهايأة، لأنه تختلف عليه
الأخلاق والأغذية فيستضر، ولا يمكن أن يقدم أحدهما لأنهما متساويان في
295

سبب الاستحقاق، ولا يمكن أن يسلم إلى غيرهما، لأنه قد ثبت لهما حق الالتقاط
فلا يجوز اخراجه عنهما فأقرع بينهما. كما لو أراد أن يسافر بإحدى نسائه، وان
ترك أحدهما حقه من الحضانة ففيه وجهان
(أحدهما) يدفع إلى السلطان فيقره في يد من يرى، لان الملتقط لا يملك
غير الحفظ. فأما إقرار اللقيط في يد غيره فليس ذلك إليه، ولهذا لو أنفرد
بالالتقاط لم يملك أن ينقله إلى غيره.
(والثاني) وهو المذهب أنه يقر في يد الآخر من غير اذن السلطان، لان
الحضانة بحكم الالتقاط لا تفتقر إلى اذن السلطان، ولهذا لو أنفرد كل واحد
منهما بالالتقاط ثبت له الحضانة من غير اذن، فإذا اجتمعا وترك أحدهما حقه
ثبت للآخر كالشفعة بين شفيعين.
(فصل) فاما إذا اختلفا في الالتقاط فادعى كل واحد منهما انه الملتقط
ولم تكن بينة، فإن لم يكن لأحدهما عليه يد أقره السلطان في يد من يرى منهما
أو من غيرهما، لأنه لاحق لهما، وإن كان في يد أحدهما فالقول قوله مع يمينه
لان اليد تشهد له.
وإن كان في يدهما تحالفا، فان حلفا أو نكلا صارا كالملتقطين يقرع بينهما
على المذهب، وعلى قول أبي علي بن خيران يقره الحاكم في يد من هو أحظ له،
فإن كان لأحدهما بينة قضى له، لان البينة أقوى من اليد والدعوى، وإن كان
لكل واحد منهما بينة، فإن كانت بينة أحدهما أقدم تاريخا قضى له، لأنه قد
ثبت له السبق إلى الالتقاط، وان لم تكن بينة أحدهما أقدم تاريخا فقد تعارضت
البينتان، ففي أحد القولين تسقطان فيصيران كما لو لم تكن بينة، وقد بيناه،
وفى القول الثاني تستعملان، وفى الاستعمال ثلاثة أقوال
(أحدها) القسمة (والثاني) القرعة (والثالث) الوقف. ولا يجئ
ههنا الا القرعة لأنه لا يمكن قسمة اللقيط بينهما. ولا يمكن الوقف، لان فيه
اضرارا باللقيط فوجبت القرعة.
296

(الشرح) الأحكام: إذا تنازع كفالته اثنان من غير أهل الكفالة لفسقهما
أو رقهما مع كونهما غير مأذونين من سيديهما فإنه لا يقر في يدي واحد منهما:
وينزع منهما ويسلم إلى غيرهما: فإذا كانا من أهل الكفالة، وان كل واحد منهما
ممن يقر في يده لو أنفرد، الا أن أحدهما أحظ للقيط من الاخر، مثل أن يكون
أحدهما موسرا والاخر معسرا فالموسر أحق لان ذلك أحظ للطفل، وان التقط
مسلم وكافر طفلا محكوما بكفره، فقد قال أصحابنا وأصحاب أحمد: هما سواء،
لان للكافر ولاية على الكافر، ويقر في يده إذا انفرد بالتقاطه، فساوى المسلم في
ذلك، ولابن قدامة الحنبلي رأى في مخالفته مذهبه بقوله: ان دفعه إلى المسلم أحظ
له، لأنه يصير مسلما فيسعد في الدنيا والآخرة، وينجو من النار، ويتخلص من
الجزية والصغار، فالترجيح بهذا أولى من الترجيح باليسار الذي إنما يتعلق به
توسعة عليه في الانفاق، وقد يكون الموسر بخيلا فلا تحصل التوسعة، فان
تعارض الترجيحان فكان المسلم فقيرا والكافر موسرا فالمسلم أولى، لان النفع
الحاصل له باسلامه أعظم من النفع الحاصل بيساره مع كفره. قال: وعلى
قياس قولهم في تقديم الموسر ينبغي أن يقدم الجواد على البخيل، لان حظ الطفل
عنده أكثر من الجهة التي يحصل له الحظ فيها باليسار، وربما تخلق بأخلاقه
وتعلم من جوده.
فإذا تساويا في كونهما مسلمين عدلين حرين مقيمين فهما سواء فيه فان رضى أحدهما
باسقاط حقه وتسليمه إلى صاحبه جاز، لان الحق له فلا يمنع من الايثار به،
وان تشاحا أقرع بينهما لقول الله تعالى (وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم
يكفل مريم) ولأنه لا يمكن كونه عندهما، لأنه لا يمكن أن يكون عندهما في
حاله واحدة، وان تهايأة فجعل عندكل واحد يوما أو أكثر من ذلك اضر بالطفل
لأنه تختلف عليه الأغذية والانس والألف، ولا يمكن دفعه إلى أحدهما دون
الاخر بغير قرعة لان حقهما متساو، فتعيين أحدهما بالتحكم لا يجوز فتعين
الاقراع بينهما، كما يقرع بين الشركاء في تعيين السهام في القسمة وبين النساء في
البداية بالقسمة وبين العبيد في الأعناق، والرجل مقدم على المرأة عندنا على الأصح
297

وهما سواء عند احمد وأصحابه، ولا ترجح المرأة هنا كما ترجح في حضانة ولدها
على أبيه لأنها رجحت هناك لشفقتها على ولدها وتوليها لحضانته بنفسها، والأب
يحضنه بأجنبية، فكانت أمه أحظ له وأرفق به، أما ههنا فإنها أجنبية من اللقيط
والرجل يحضنه بأجنبية فاستويا على القول بالتساوي، أو رجح الرجل على الأصح
فإن كان أحدهما مستور الحال والاخر ظاهر العدالة رجح السلطان العدل
على المستور، لان المانع من الالتقاط منتف في حقه والاخر مشكوك فيه،
فيكون الحظ للطفل في تسليمه إليه أثم، ويحتمل أن يساوى السلطان بينهما بالقرعة
لان احتمال وجود المانع لا يؤثر في المنع فلا يؤثر في الترجيح، والامر متروك
إلى اجتهاد الحاكم الذي ليس له أن يسلم إلى ثالث لم يثبت له حق الالقاط.
وقال أبو علي بن خيران: يجتهد الحاكم في اختيار الاحظ للطفل والأجدى
عليه والأحفظ وليس له أن يقرع بينهما وليس هذا بالمذهب بل المذهب الاقراع
(فرع) وان رأياه جميعا فسبق أحدهما فأخذه أو وضع يده عليه فهو أحق به
لقوله صلى الله عليه وسلم (من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به) وان
رآه أحدهما قبل صاحبه فسبق إلى أخذه الآخر، فالسابق إلى أخذه أحق، لان
الالتقاط هو الاخذ لا الرؤية، ولو قال أحدهما لصاحبه: ناولنيه، فأخذه الآخر
نظرت إلى نيته، فان نوى أخذه لنفسه فهو أحق به، كما لو لم يأمره الاخر بمناولته
إياه، وان نوى مناولته فهو للآمر لأنه فعل ذلك بنية النيابة عنه، فأشبه ما لو
توكل له في تحصيل مباح.
فان اختلفا فقال كل واحد منهما: أنا التقطته ولا بينة لأحدهما، وكان في
يد أحدهما، فالقول قوله مع يمينه أنه التقطه، وهذا هو المذهب عند أصحاب
أحمد كما ذكره أبو الخطاب، وقد خالفه القاضي وجعل قياس مذهب أحمد أنه
لا يحلف كما في الطلاق والنكاح.
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم (لو يعطى الناس بدعواهم لا دعى قوم دماء قوم
وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) رواه مسلم، فإن كان في يديهما تحالفا
فان حلفا أو نكلا صارا كالملتقطين ويقرع السلطان بينهما على المذهب.
298

وقال أبو علي بن خيران مقالته في الفرع قبله لا قرعة بينهما بل يجتهد الحاكم في
اختيار أحدهما ممن هو أحظ للطفل، فإن كان لأحدهما بينة قضى له، وإن كان
لكل منهما بينة نظرت في أقدم البينتين تاريخا وقضيت لصاحبها، فإذا استوى
تاريخهما أو أطلقتا معا، أو أرخت إحداهما وأطلقت الأخرى فقد تعارضتا،
وهل تسقطان؟ أو تستعملان؟ فيه قولان عندنا وجهان عند أصحاب أحمد،
(أحدهما) تسقطان فيصيران كمن لا بينة لهما فيقرع بينهما.
(والثاني) تستعملان، وفى الاستعمال ثلاثة أقوال. أحدها: القسمة
واستعمال القسمة بين المتداعيين إذا جاز في المال فلا سبيل إليه ههنا. والثاني:
الاقراع بينهما. والثالث: الوقف وفى الوقف إضرار باللقيط، وليس اللقيط
مما يجوز وقفه فلا مناص من الاقراع فوجبت القرعة بينهما، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن ادعى حر مسلم نسبه لحق به وتبعه في الاسلام، لأنه يقر له
بحق لا ضرر فيه على أحد فقبل كما لو أقر له بمال، وله أن يأخذه من الملتقط لان
الوالد أحق بكفالة الولد من الملتقط، وإن كان الذي أقر بالنسب هو الملتقط
فالمستحق أن يقال له: من أين صار ابنك؟ لأنه ربما اعتقد أنه بالالتقاط صار
أبا له، وإن ادعى نسبه عبد لحق به ن لان العبد كالحر في السبب الذي يلحق به
النسب، ولا يدفع إليه لأنه لا يقدر على حضانته لاشتغاله بخدمة مولاه، وان
ادعى نسبه كافر لحق به، لان الكافر كالمسلم في سبب النسب، وهل يصير اللقيط
كافرا؟ قال في اللقيط: أحببت أن أجعله مسلما. وقال في الدعوى والبينات:
أجعله مسلما، فمن أصحابنا من قال: إن أقام البينة حكم بكفره قولان واحدا، وإن
لم تقم البينة ففيه قولان.
(أحدهما) يحكم بكفره لأنا لما حكمنا بثبوت نسبه فقد حكما بأنه ولد على فراشه
(والقول الثاني) يحكم بإسلامه لأنه محكوم بإسلامه بالدار فلا يحكم بكفره
يقول كافر. وقال أبو إسحاق: الذي قال في اللقيط أراد به إذا ادعاه وأقام البينة
299

عليه، لأنه قد ثبت بالبينة أنه ولد على فراش كافر، والذي قال في الدعوى والبينات
أراد إذا ادعاه من غير بينه لأنه محكوم باسلامه بظاهر الدار، فلا يصير كافرا
بدعوى الكافر، وهذا الطريق هو الصحيح لأنه نص عليه في الاملاء. وإذا قلنا إنه
يتبع الأب في الكفر فالمستحق أن يسلم إلى مسلم إلى أن يبلغ احتياطا
للاسلام، فان بلغ ووصف الكفر أقررناه على كفره، وان وصف الاسلام
حكمنا باسلامه من وقته.
(فصل) وان ادعت امرأة نسبه ففيه ثلاثة أوجه. أحدها: يقبل لأنها
أحد الأبوين، فقيل اقرارها بالنسب كالأب. والثاني: لا يقبل وهو الظاهر النص
لأنه يمكن إقامة البينة على ولادتها من طريق المشاهدة، فلا يحكم فيها بالدعوى
بخلاف الأب، فإنه لا يمكن إقامة البينة على ولادته من طريق المشاهدة، فقبلت
فيه دعواه، ولهذا قلنا: إنه إذا قال لامرأته: ان دخلت الدار فأنت طالق، لم
يقبل قولها في دخول الدار الا ببينة، ولو قال لها: ان حضت فأنت طالق، قبل
قولها في الحيض من غير بينه، لما ذكرناه من الفرق، فكذلك ههنا. والثالث:
إن كانت فراشا لرجل لم يقبل قولها، لان اقرارها يتضمن الحاق النسب بالرجل
وان لم تكن فراشا قيل لأنه لا يتضمن الحاق النسب بغيرها.
(الشرح) اللغة: الدعوى، ودعواه ودعواها كلها بكسر الدال. قال
الأزهري: الدعوة بالكسر ادعاء الولد الدعي غير أبيه، يقال: الدعي بين
الدعوة بالتكسر إذا كان يدعى إلى غير أبيه أو يدعيه غير أبيه فهو بمعنى فاعل من
الأول وبمعنى مفعول من الثاني.
وعن الكسائي: لي في القوم دعوة أي قرابه وأخاه، والدعوة بالفتح في الطعام
اسم من دعوت الناس إذا طلبتهم ليأكلوا عندك، يقال: نحن في دعوة فلان
ومدعاته ودعائه بمعنى. قال أبو عبيد: وهذا كلام أكثر العرب الا عدى الرباب
فإنهم يعكسون ويجعلون الفتح في النسب والكسر في الطعام، ودعوى فلان كذا
أي قوله: وادعيت الشئ تمنيته، وادعيته طلبته لنفسي والاسم الدعوى.
أما الأحكام: فإنه إذا ادعى نسبه فلا تخلو دعوى النسب من قسمين.
300

أحدهما: أن يدعيه واحد ينفرد بدعواه فينظر، فإن كان المدعى رجلا مسلما
حرا لحق نسبه به بغير خلاف بين أهل العلم إذا أمكن أن يكون منه، لان الاقرار
محض نفع للطفل لاتصال نسبه، ولا مضرة على غيره فيه، فقبل كما لو أقر له بمال
ثم إن كان المقر به ملتقطه أقر في يده، إلا أن المستحق أن يناقش كيف صار ابنك
لأنه قد يعتقد أنه بالالتقاط يصير أبا له، والله يقول (فإن لم تعلموا آباءهم
فإخوانكم في الدين ومواليكم).
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه. وإذا التقط مسلم لقيطا فهو حر مسلم ما لم
يعلم لأبويه دين غير دين الاسلام، فإذا أقر به نصراني ألحقناه به وجعلناه مسلما
لان اقراره به ليس يعلم منا أنه كما قال، فلا نغير الاسلام إذا لم نعلم الكفر. اه‍
من الدعوى والبينات من الام.
وقال في كتاب اللقيط من الام. سئل أبو حنيفة رحمه الله عن الصبي يسبى
وأبوه كافر وقعا في سهم رجل ثم مات أبوه وهو كافر ثم مات الغلام قبل أن يتكلم
بالاسلام فقال لا يصلى عليه، وهو على دين أبيه لأنه لا يقر بالاسلام. وقال
الأوزاعي: مولاه أولى من أبيه يصلى عليه. وقال لو لم يكن معه أبوه ن وخرج
أبوه مستأمنا لكان لمولاه أن يبيعه من أبيه.
وقال أبو يوسف إذا لم يسب معه أبوه صار مسلما، ليس لمولاه أن يبيعه من
أبيه إذا دخل بأمان، وهو ينقض قول الأوزاعي: انه لا بأس أن يبتاع السبي
ويرد إلى دار الحرب في مسألة قبل هذا، فالقول في هذا ما قال أبو حنيفة إذا كان
معه أبواه أو أحدهما فهو مسلم اه‍.
(قلت) إذا ادعى نسبه اثنان فصاعدا نظرت، فإذا ادعاه مسلم وكافر أو حر
وعبد فهما سواء، وهذا هو مذهب الشافعي وأحمد رضي الله عنهما. وقال
أبو حنيفة المسلم أولى من الذمي والحر أولى من العبد، لان على اللقيط ضررا إذا
ألحق بالعبد والذمي، فكان الحاقه بالحر المسلم أولى، كما لو تنازعوا في الحضانة.
ولنا أن كل واحد لو أنفرد صحت دعواه، فإذا تنازعوا تساووا في الدعوى
كالأحرار المسلمين، وما ذكروه من الضرر لا يتحقق، فإننا لا نحكم برقه
301

ولا كفره، ولا يشبه النسب الحضانة، بدليل أننا نقدم في الحضانة الموسر
والحضرى ولا نقدمهما في دعوى النسب.
وجعل الإمام الشافعي رضي الله عنه التسليم للنصراني بدعواه بنوة اللقيط
لا يعد تسليما للقيط بالكفر، بل نجعله مسلما حتى نعلم الكفر. وهذا أحد قوليه
فمن أصحابنا من قال: إن أقام الذمي البينة حكمنا بكفره قولا واحدا، كقوله في
الاخذ بقول أبي حنيفة مما سقناه عنه.
وإن لم تقم بينة ففيه قولان (أحدهما) إن الحكم بثبوت النسب من الكافر
حكم بكفره على طريق التبع والضمن، لأنه ولد على فراشه.
(والثاني) لان غلبة دار الاسلام أقوى من دعوى النسب التي يدعيها الكافر
وكل لقيط في دار الاسلام هو مسلم، فلا يحكم بكفره بقول كافر. وذهب
أبو إسحاق المروزي في قولي الشافعي إلى تخريجهما وجهين للمسألة لا قولين، بأن
الكفر بكفره يتبع البينة للذي ادعاه من الكفار، فإذا ثبت أنه ولد على فراش
الكفر قضينا بكفره وألحقناه بصاحب البينة، وأنه إذا لم يقيم بينة حكمنا بإسلامه
وهذا هو توجيه ما في الدعوى والبينات من الام، وفى هذا التخريج ما يؤيده
من قوله في الاملاء
قال النووي في المنهاج: ومن حكم بإسلامه بالدار فأقام ذمي بينة بنسبه لحقه
وتبعه في الكفر. وقال الزركشي: وكذلك المعاهد والمؤمن. وقال الرملي:
فارتفع ما ظنناه من إسلامه، لان الدار حكم باليد، والبينة أقوى من اليد المجردة
وتصور علوقه من مسلم بوطئ شبهة أمر نادر لا يعول عليه مع البينة. قال وإن
اقتصر الكافر على الدعوى بأنه ابنه ولا حجة له فالمذهب أنه لا يتبعه في الكفر
وان لحقه في النسب، لأنا حكمنا بإسلامه فلا نغيره بدعوى كافر مع إمكان تلك
الشبهة النادرة.
والطريق الثاني: فيه قولان ثانيهما يتبعه في الكفر كالنسب، وجعل الماوردي
محل الخلاف ما إذا استلحقه قبل أن يصدر منه صلاة أو صوم، فإن صدر منه
ذلك لم يغير عن حكم الاسلام قطعا، وسواء أقلنا بتبعيته في الكفر أم لا يحال
بينهما كما يحال بين أبوي مميز وصف الاسلام وبينه
302

قال في الكفاية وقضية اطلاقهم وجوب الحيلولة بينهما إن قلنا بعدم
تبعيته له في الكفر، لكن في المهذب انه يستحق تسلميه لمسلم، فإذا بلغ ووصف
الكفر، فان قلنا بالتبعية قرر لكن هذا التقرير يهدده لعله يسلم ن وإلا ففي
تقريره ما سبق من الخلاف.
(فرع) إذا كان المدعى امرأة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو أحد
الروايات عن أحمد رضي الله عنه أن دعواها تقبل ويلحقها نسبه لأنها أحد
الأبوين، فيثبت النسب بدعواها كالأب، ولأنه يمكن أن يكون منها كما يكون
ولد الرجل بل أكثر، لأنها تأتى به من زوج ووطئ بشبهة ويلحقها ولدها من
الزنا دون الرجل، ولان في قصة داود وسليمان في المرأتين كان لهما بنان فذهب الذئب
بأحدهما فادعت كل واحدة منهما أن الباقي ابنها وأن الذي أخذه الذئب ابن الأخرى
فحكم به داود للكبرى وحكم به سليمان للأخرى بمجرد الدعوى منهما
فعلى هذا الوجه يلحق بها دون زوجها، لأنه لا يجوز أن يلحقه نسب ولد لم
يقر به، وكذلك إذا ادعى الرجل نسبه لم يلحق بزوجته. فان قيل الرجل يمكن
أن يكون له ولد من امرأة أخرى أو من أمته، والمرأة لا يحل لها نكاح غير
زوجها ولا يحل وطؤها لغيره، قلنا يمكن أن تلد من وطئ شبهة أو غيره، وإن
كان الولد يحتمل أن يكون موجودا قبل أن يتزوجها هذا الزوج أمكن أن يكون
من زوج آخر.
فان قيل إنما قبل الاقرار بالنسب من الزوج لما فيه من المصلحة بدفع العار
عن الصبي وصيانته عن النسبة إلى كونه ولد زنا، ولا يحصل هذا بالحاق نسبه
بالمرأة، بل الحاقه بها دون زوجها تطرق للعار إليه واليها. قلنا بل قبلنا
دعواه لأنه يدعى حقا لا منازع له فيه، ولا مضرة على أحد فيه فقبل قوله فيه
كدعوى المال، وهذا متحقق في دعوى المرأة.
والوجه الثاني وهو رواية ثانيه عن أحمد رضي الله عنه نقلها الكوسج
عنه في امرأة ادعت ولدا، إن كان لها اخوة أو نسب معروف لا تصدق الا ببينة
وان لم يكن لها دافع لم يحل بينها وبينه، لأنه إذا كان لها أهل وتسب معروف لم
تخف ولادتها عليهم، يتضررون بالحاق النسب بها لما في من تعييرهم
303

بولادتها من غير زوجها، وليس كذلك إذا لم يكن لها أهل، ويحتمل أن لا يثبت
النسب بدعواها بحال، وهذا قول الثوري والشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي.
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن النسب لا يثبت
بدعوى المرأة، لأنها يمكنها إقامة البينة على الولادة، فلا يقبل قولها بجرده،
كما لو علق زوجها طلاقها بولادتها.
أما كيف تكون البينة؟ فقد قال الشافعي رضي الله عنه: لا يجوز على
الولادة ولا شئ مما تجوز فيه شهادة النساء مما يغيب عن الرجال إلا أربع نسوة
عدول من قبل أن الله عز وجل حيث أجاز الشهادة انتهى بأقلها إلى شاهدين أو
شاهد وامرأتين، فأقام الثنتين من النساء مقام رجل حيث أجازهما، فإذا أجاز
المسلمون شهادة النساء فيما يغيب عن الرجال لم يجز والله أعلم أن يجيزوا إلا
على أصل حكم الله عز وجل في الشهادات، فيجعلون كل امرأتين يقومان مقام
رجل، وإذا فعلوا لم يجز إلا أربع. وهكذا المعنى في كتاب الله عز وجل وما أجمع
عليه المسلمون.
أخبرنا مسلم عن ابن جريح عن عطاء أنه قال في شهادة النساء على الشئ من
أمر النساء لا يجوز فيه أقل من أربع. وقد قال غيرنا تجوز فيه واحدة لأنه من
موضع الاخبار كما تجوز الواحدة في الخبر، لا أنه من موضع الشهادة، ولو كان
من موضع الشهادات ما جاز عدد من النساء وإن كثرن على شئ إلى أن قال
قال: فإنا روينا عن علي رضي الله عنه أنه أجاز شهادة القابلة وحدها. قلت:
لو ثبت هذا عن علي صرنا إليه إن شاء الله تعالى، ولكنه لا يثبت عندكم ولا عندنا
عنه. وهذا لا من جهة ما قلنا من القياس على حكم الله ولا من جهة قبول خبر
المرأة، ولا أعرف له معنى.
قلت إذا ثبت هذا في وجب البينة لما يمكن أن تقوم عليه بينة كالولادة للقيط
المدعى أو للمعلق طلاقها على دخول الدار في المجئ ببينة على دخول الدار، وفارق
الحيض فإنه من الاعراض الخفية التي يقبل فيها الاقرار ولا يطالب فيها بالبينة
لنعذرها أو استحالتها. والوجه الثالث وهو الرواية الثالثة عن أحمد رضي الله عنه
أنها إن كان لها زوج لم يثبت النسب بدعواها لافضائه إلى إلحاق النسب بزوجها
304

بغير إقراره ولا رضاه، أو إلى أن امرأته وطئت بزنا أو شبهة وفى ذلك ضرر عليه
فلا يقبل قولها فيما يلحق الضرر به، وان لم يكن لها زوج قبلت دعواها لعدم
هذا الضرر. والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن تداعى نسبه رجلان لم يجز إلحاقه بهما، لان الولد لا ينعقد
من اثنين، والدليل عليه قوله تعالى (إنا خلقناكم من ذكر وأنثى) فإن لم يكن
لواحد منهما بينة عرض الولد على القافة، وهم قوم من بنى مدلج من كنانة، فإن
ألحقته بإحدهما لحق به لما روت عائشة رضي الله عنها قالت (دخل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم أعرف السرور في وجهه فقال: ألم ترى إلى مجزز المدلجي نظر
إلى أسامة وزيد وقد غطيا رؤسهما، وقد بدت أقدامهما فقال: إن هذه الاقدام
بعضها من بعض) فلو لم يكن ذلك حقا لما سر به رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وهل يجوز أن يكون من غير بنى مدلج؟ فيه وجهان.
(أحدهما) لا يجوز لان ذلك ثبت بالشرع، ولم يرد الشرع إلا في بنى مدلج
(والثاني) أنه يجوز وهو الصحيح، لأنه علم يتعلم ويتعاطى، فلم تختص به
قبيلة كالعلم بالأحكام، وهل يجوز أن يكون واحدا؟ فيه وجهان. أحدهما: أنه
يجوز لان النبي صلى الله عليه وسلم سر بقول مجزز المدلجي وحده ولأنه بمنزلة
الحاكم لأنه يجتهد ويحكم كما يجتهد الحاكم ثم يحكم. والثاني: لا يجوز أقل من اثنين
لأنه حكم بالشبه في الخلقة فلم يقبل من واحد كالحكم في المثل في جزاء الصيد.
ولا يجوز أن يكون امرأة ولا عبدا كما لا يجوز أن يكون الحاكم امرأة ولا
عبدا ولا يقبل الا قول من جرب وعرف بالقيافة حذقه كما لا يقبل في الفتيا الا
قول من عرف في العلم حذقه، وان ألحقته بهما أو نفته عنهما أو أشكل الامر
عليها أو لم تكن قافه ترك حتى يبلغ، ويؤخذان بالنفقة عليه، لان كل واحد
منهما يقول: أنا الأب وعلى نفقته، فإذا بلغ أمرناه أن ينتسب إلى من يميل
طبعه إليه لما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال للغلام الذي ألحقته القافة بهما:
وال أيهما شئت، ولان الولد يجد لوالده مالا يجد لغيره، فإذا تعذر العمل بقول
القافة رجع إلى اختيار الولد، وهل يصح أن ينتسب إذا صار مميزا ولم يبلغ؟ فيه وجهان
305

(أحدهما) يصح كما يصح أن يختار الكون مع أحد الأبوين إذا صار مميزا.
(والثاني) لا يصح لأنه قول يتعين به النسب ويلزم الأحكام به، فلا يقبل
من الصبي، ويخالف اختيار الكون مع أحد الأبوين، لان ذلك غير لازم،
ولهذا لم اختار أحدهما ثم انتقل إلى الاخر جاز، ولا يجوز ذلك في النسب، وإن كان
لأحدهما بينه قدمت على القافة، لان البينة تخبر عن سماع أو مشاهدة والقافة
تخبر عن اجتهاد، فإن كان لكل واحد منهما بينه فهما متعارضتان لأنه لا يجوز
أن يكون الولد من اثنين، ففي أحد القولين يسقطان ويكون كما لو لم تكن بينة،
وقد بيناه، وفى الثاني تستعملان، فعلى هذا هل يقرع بينهما، فيه وجهان.
أحدهما: يقرع بينهما، فمن خرجت له القرعة قضى له، لأنه لا يمكن قسمة
الولد بينهما، ولا يمكن الوقف، لان فيه اضرارا باللقيط فوجبت القرعة.
والثاني: لا يقرع، لان معنا ما هو أقوى من القرعة وهو القافة، فعلى هذا
يصير كما لو لم يكن لهما بينة، وليس في موضع تسقط الأقوال الثلاثة في استعمال
البينتين الا في هذا الموضع على هذا المذهب.
وان تداعت امرأتان نسبه وقلنا: إنه يصح دعوى المرأة ولم تكن بينة، فهل
يعرض على القافة، فيه وجهان (أحدهما) يعرض، لان الولد يأخذ الشبه من
الام كما يأخذ من الأب، فإذا جاز الرجوع إلى القافة في تمييز الأب من غيره
بالشبه جاز في تمييز الام من غيرها (والثاني) لا يعرض لان الولد يمكن معرفة
أمه يقينا فلم يرجع فيه إلى القافة بخلاف الأب فإنه لا يمكن معرفته الا ظنا فجاز
أن يرجع فيه إلى الشبه.
(فصل) وان ادعى رجل رق اللقيط لم يقبل الا ببينة، لان الأصل هو
الحرية فان شهدت له البينة نظرت، فان شهدت له بأنه ولدته أمته فقد قال في
اللقيط: جعلته له. وقال في الدعوى والبينات: أن شهدت له بأنه ولدته أمته في
في ملكه جعلته له، فمن أصحابنا من قال يجعل له قولا واحدا، وان لم تقل ولدته
في ملكه، وما قال في الدعوى والبينات ذكره تأكيدا لا شرطا لان ما تأتى به
أمته من غيره لا يكون الا مملوكا له.
306

ومنهم من قال: فيه قولان (أحدهما) يجعل له لما بيناه (والثاني) لا يجعل له
لأنه يحتمل أن تكون الأمة ولدته قبل أن يملكها ثم ملكها فلم يملك ولدها وان
شهدت له البينة بالملك ولم تذكر سبب الملك، ففيه قولان.
أحدهما: يحكم له كما يحكم له إذا شهدت له بملك مال، وإن لم نذكر سببه.
والثاني: لا يحكم لان البينة قد تراه في يده فتشهد بأنه عبده بثبوت يده عليه
بالالتقاط أو غيره، وإن شهدت البينة له باليد، فإن كان المدعى هو الملتقط لم يحكم
له لأنه قد عرف سبب يده وهو الالتقاط، ويد الالتقاط لا تدل على الملك.
فلم يكن للشهادة تأثير. وإن كان المدعى غيره، ففيه قولان.
(أحدهما) يحكم له مع اليمين لان اليد قد ثبتت، فإذا حلف حكم له كما لو
كان في يده مال فحلف عليه (والثاني) لا يحكم له لان ثبوت اليد على اللقيط
لا تدل على الملك لأن الظاهر الحرية.
(الشرح) حديث عائشة رضي الله عنها متفق عليه بلفظ (دخل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم ذات يوم مسرورا تبرق أسارير وجهه فقال: ألم ترى إلى
مجزز المدلجي نظر آنفا إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد فقال: هذه الاقدام
بعضها من بعض) وفى رواية للبخاري (ألم ترى أن مجززا المدلجي دخل فرأى
أسامة وزيدا وعليهما قطيفة قد غطيا رؤسهما ومدت أقدامهما فقال: إن هذه
الاقدام بعضها من بعض) ومجزر بضم الميم وفتح الجيم ثم زاي مشددة مكسورة
ثم زاي أخرى اسم فاعل لأنه كان في الجاهلية إذا أسر أسيرا جز ناصيته وأطلقه
وقد كان الكفار يقدحون في نسب أسامة لكونه كان أسود شديد السواد، وكان
زيد أبيض كذا قاله أبو داود. وأم أيمن هي أم أيمن بركة الحبشية مولاة رسول الله
صلى الله عليه وسلم ورثها عن أبيه حيث كانت وصيفته، ويقال: كانت من سبى
الحبشة الذين قدموا زمن الفيل فصارت لعبد المطلب فوهبها لعبد الله والد النبي
صلى الله عليه وسلم، وتزوجت قبل زيد عبيدا الحبشي فولدت له أيمن فكنيت به
والقافة جمع قائف كقادة جمع قائد وسادة جمع سائد، والقائف هو الذي يتتبع
الأثر ويعرف شبه الرجل بأبيه وأخيه.
307

أما الأحكام: فقد قال الشافعي رضي الله عنه في الدعوى والبينات من الام
وإذا تداعى الحر والعبد المسلمان والذمي الحر والعبد مولودا وجد لقيطا فلا فرق
بين أحد منهم كما لا يكون بينهم فرق فيما تداعوا فيه مما يملكون: فتراه القافه،
فإن ألحقوه بأحدهم فهو ابنه ليس له أن ينفيه ولا للمولود أن ينتفى منه بحال أبدا
وان ألحقته القافه باثنين فأكثر أو لم تكن قافه، أو كانت فلم تعرف، لم يكن ابن
واحد منهم حتى يبلغ فينتسب إلى أيهم شاء، فإذا فعل ذلك انقطعت دعوى
الآخرين، ولم يكن للذي انتسب إليه أن ينفيه وهو حر في كل حالاته بأيهم لحق
لان اللقيط حر، وإنما جعلناه حرا إذا غاب عنا معناه، لان أصل الناس الحرية
حتى يعلم أنهم غير أحرار
ولو أن أحدهم قال: هو ابني من أمة نكحتها لم يكن بهذا رقيقا لرب الأمة
حتى يعلم أن الأمة ولدته، ولا يجعل اقرار غيره لازما له، ويكفى القائف الواحد
لان هذا موضع حكم بعلم لا موضع شهادة، ولو كان، إنما حكمه حكم الشهادات
ما أجزنا غير اثنين ولا أجزنا شهادة اثنين يشهدان على ما لم يحضرا ولم يريا،
ولكنه كاجتهاد العالم ينفذه هذا، ولا يحتاج معه إلى ثان ولا يقبل القائف
الواحد حتى يكون أمينا ولا أكثر منه حتى يكونوا أمناء أو بعضهم، فإذا أحضرنا
القائف والمتداعيين للولد أو ذوي أرحامهم إن كان المدعون له موتى أو كان بعض
المدعين له ميتا، فأحضرنا ذوي رحمه أحضرنا احتياطا أقرب الناس نسبا وشبها
في الخلق والسن والبلد والمدعين له، ثم فرقنا بين المتداعيين منهم، ثم أمرنا القائف
يلحقه بأبيه أو أقرب الناس بأبيه ان لم يكن له أب.
وإن كانت معه أم أحضرنا لها نسبا في القرب منها كما وصفت ثم بدأنا فأمرنا
القائف أن يلحقه بأمه لان للقائف في الام معنى، ولكي يستدل به على صوابه
في الأب ان أصاب فيها ويستدل على غيره ان أخطأ فيها، فخالفنا بعض الناس في
القافه فقال القافه باطل، فذكرنا له أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع مجززا المدلجي
ونظر إلى أقدام أسامة وأبيه زيد وقد غطيا وجوههما فقال: إن هذه الاقدام
بعضها من بعض فحكى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة مسرورا به، فقال:
308

ليس في هذا حكم. فقنا انه وان لم يكن فيه حكم فإن فيه دلالة على أن النبي
صلى الله عليه وسلم رضيه ورآه علما، لأنه لو كان مما لا يجوز أن يكون حكما
ما سره ما سمع منه إن شاء الله تعالى، ولنهاه أن يعود له. فقال إنك وان أصبت
في هذا فقد تخطئ في غيره. فقال فهل في هذا غيره؟ قلنا نعم، أخبرنا ابن علية
عن حميد عن أنس أنه شك في ابن له فدعا القافة.
أخبرنا أنس بن عياض عن هشام عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب
أن رجلين تداعيا ولدا، فدعا له عمر القافة، فقالوا قد اشتركا فيه، فقال له عمر
وال أيهما شئت.
أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن عمر مثل معناه، أخبرنا
مطرف بن مازن عن معمر عن الزهري عن عروة عن عمر بن الخطاب مثل معناه
قال فإنا لا نقول بهذا ونزعم أن عمر قال هو ابنكما ترثانه ويرثكما، وهو للباقي
منكما. قلت فقد رويت عن عمر أنه دعا القافة، فزعمت أنك لا تدعو القافة،
فلو لم يكن في هذا حجة عليك في شئ مما وصفنا، الا أنك رويت عن عمر شيئا
فخالفته فيه كانت عليك
قال، قد رويت عنه أنه ابنهما، وهذا خلاف ما رويتم، قلنا وأنت تخالف
أيضا هذا، قال فكيف لم تصيروا إلى القول به؟ قلنا هو لا يثبت عن عمر لان
اسناد حديث هشام متصل، والمتصل أثبت عندنا وعندك من المنقطع، وإنما
هذا حديث منقطع وسليمان بن يسار وعروة أحسن مرسلا عن عمر ممن رويت
عنه، قال فأنت تخالف عمر فيما قضى به من أن يكون ابن اثنين؟ قلت فإنك
رعمت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى به إذ كان في أيديهما قضاء الأموال
قال كذلك قلت اه‍
قلت ووجه دلالته ما علم من أن التقرير منه صلى الله عليه وسلم حجة، لأنه
أحد أقسام السنة، وحقيقة التقرير أن يرى النبي صلى الله عليه وسلم فعلا من أحد أو يسمع
قوله أو يعلم به وكان ذلك الفعل من الافعال التي لا يعلم تقدم انكاره لها، دل
ذلك على جوازه، فان استبشر به فأوضح كما في هذه القصة، والحكم بالقافة
إذا لم تكن بينة أو تعارضت به بينتان وسقطتا إذا ألحقوه، فنلحقه بمن ألحقوه
309

وهذا قول أنس وعطاء ويزيد بن عبد الملك والأوزاعي والليث وأبي ثور
والشافعي ومالك وأحمد بن حنبل.
وقال أصحاب الرأي: لا حكم للقافة، ويلحق بالمدعيين جميعا تعويل على
مجرد الشبه والظن والتخمين، فإن الشبه يوجد بين الأجانب، وينتفى بين الأقارب
ولهذا روى الشيخان أن رجلا أتى النبي فقال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما
أسود فقال: هل لك من إبل، قال نعم، قال: فما ألوانها، قال حمر. قال:
فهل فيها من أورق، قال نعم، قال أنى أتاها ذلك، قال لعل عرقا نزع، قال:
وهذا لعل عرقا نزع) قالوا ولو كان الشبه كافيا لاكتفى به في ولد الملاعنة، وفيما
إذا أقر أحد الورثة بأخ فأنكره الباقون.
ودليلنا عليهم غير حديث مجزز قول النبي صلى الله عليه وسلم في ولد الملاعنة
(انظروها فان جاءت به أحمش الساقين كأنه وجرة فلا أراه الا قد كذب عليها
وان جاءت به أكحل جعدا جماليا سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو للذي رميت
به، فأتت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لولا الايمان
لكان لي ولها شأن (فقد حكم به النبي صلى الله عليه وسلم للذي أشبهه منهما، وقوله
لولا الايمان لكان لي ولها شأن، يدل على أنه لم يمنعه من العمل بالشبه الا الايمان
فإذا انتفى المانع يجب العمل به لوجود مقتضيه.
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في ابن زمعة حين رأى به شبها بينا
بعتبة بن أبي وقاص (احتجبي منه يا سودة) فعمل بالشبه في حجب سودة عنه.
فان قيل: فالحديثان حجة عليكم إذ لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالشبه
فيهما بل ألحق الولد بزمعة، وقال لعبد بن زمعة هو لك يا عبد بن زمعة، الولد
للفراش وللعاهر الحجر. ولم يعمل بشبه ولد الملاعنة في إقامة الحد عليها لشبه
بالمقذوف، قلنا إنما لم يعمل في ابن زمعة لان الفراش أقوى، وترك العمل
بالبينة لمعارضة ما هو أقوى منه لا يوجب الاعراض عنه، إذا خلت عن المعارض
وكذلك ترك إقامة الحد عليها من أجل أيمانها على ضعف الشبه عن إقامة الحد
لا يوجب ضعفه عن الحاق النسب، فان الحد في الزنا لا يثبت الا بأقوى البينات
310

وأكثرها عددا وأقوى الاقرار حتى يعتبر فيه تكراره أربع مرات، ويدرأ
الشبه عن نفى النسب لا يلزم منه ضعفه عن إثباته، فإن
النسب يحتاط لاثباته، ويثبت بأدنى دليل، وأنه لا ينتفى إلا بأقوى الأدلة، كما
أن الحد لما انتفى بالشبه لم يثبت إلا بأقوى دليل، فلا يلزم حينئذ من المنع من نفيه
بالشبه في الخبر المذكور أن لا يثبت به النسب في مسألتنا.
والقافة قوم يعرفون الانسان بالشبه. ولا يختص ذلك بقبيلة معينة على
الصحيح من المذهب، وبه قال أحمد رضي الله عنه وأصحابه، بل هو علم يتعلم
بقواعده وأصوله التي كانت عند العرب، وكان أكثر ما يكون في بنى مدلج رهط
مجزز الذي رأى أسامة وأباه زيدا، وان إياس بن معاوية المزني قائفا. وكذلك
قيل في شريح. ولا يقبل قول القائف إلا أن يكون عدلا مجربا في الإصابة،
حرا لان قوله حكم.
وقد كان بعض العرب يستدل من اختلاف أحد الأبناء عن إخوته على أسباب
الشك التي تساوره، فقد عاد أحدهم إلى امرأته من سفر فوجدها قد ولدت له
ولدا، فقال لها:
لا تمشطي رأسي ولا تفليني * وحاذري ذا الريق في يميني
واقتربي مني أخبريني * ما له أسود كالهجين
خالف ألوان بني الجون
على أن أسباب المعرفة في زماننا هذا قد اتسعت آفاقها واستقرت قواعدها
على أسباب أدق ومبادئ أضبط، وإن كانت غير قطعية في أكثر أحوالها، وقد
يأخذ العلم الحديث بالقيافة حيث يعجز التحليل الطبي، والقيافة أحد فروع الطب
الشرعي أو هي الأساس الفعلي للطب الشرعي، ومن قرأ كتب الطب الشرعي
العربية أو الأجنبية يتضح له صحة هذا الحكم.
وقد حاء في كتاب الطب الشرعي الجنائي للدكاترة شريف وسيف النصر
ومشالى أن فصائل الدم تنقسم في جميع الشعوب إلى أربعة أقسام، قسمان كبيران
ويمكن إطلاق معنى السائدة عليهما ويرمز إليهما بألف وباء، ونوع يتكون منهما
311

ويرمز إليه بألف باء، ونوع نادر ويسمى (أو) فإذا كان الرجل من فصيلة (أ)
والمرأة من فصيلة (ب) أمكن أن يكون الولد أ أو ب أو (ا ب)
ويلاحظ أن قيافة الدم هنا وإن كانت قائمة على أساس علمي إلا أنها سلبية
وليست إيجابية، فهي تقول بأن هذا ليس أبا ولا تستطيع أن تقول هذا أب، لأنه
قد يكون الأب شخصا له فصيلة المدعى، ولكن يمكن أن ينفى فيقول إذا كانت
فصيلة دم الابن أو كانت فصيلة الأب المدعى ا ب والام ب حكموا بالقطع بأن
هذا ليس أباه، ولكن لو كانت فصيلته من فصيلة الطفل قالوا يحتمل أن يكون
أباه ويحتمل أن يكون أبوه غيره، على أن أحسن القيافة التعرف عن طريق
الأطراف كالأيدي والأرجل وملامح الوجه. وهل يقبل قول واحد أو لا يقبل
الا قول اثنين وجهان (أحدهما) أنه حكم بالاجتهاد فيصح من واحد.
(والثاني) لا يجوز بأقل من اثنين كالحكم بالمثل في جزاء الصيد في قوله تعالى
(يحكم به ذوا عدل منكم) ولأنه حكم بالشبه في الخلقة فأشبه الحكم في المثل
في جزاء الصيد (فجزاء مثل ما قتل من النعم)
وبهذا الوجه قال أحمد رضي الله عنه في ظاهر رواية الأثرم عنه أنه قيل له:
إذا قال أحد القافة هو لهذا، وقال الآخر هو لهذا. قال لا يقبل واحد منهما حتى
يجتمع اثنان فيكونان شاهدين، فإذا شهد اثنان من القافة أنه لهذا فهو لهذا، لأنه
قول يثبت به النسب فأشبه الشهادة.
وقال القاضي من الحنابلة، يقبل قول الواحد لأنه حكم، ويقبل في الحكم
قول واحد. وحمل كلام أحمد على ما إذا تعارض قول القائفين فقال (إذا خالف
القائف غيره تعارضا وسقطا، فان قال اثنان قولا وخالفهما واحد فقولهما أولى
لأنهما شاهدان فقولهما أولى لأنه أقوى من قول واحد. وان عارض قول اثنين
قول اثنين سقط قول الجميع. وان عارض قول الاثنين قول ثلاثة أو أكثر لم
يرجح وسقط الجميع، فأما إن ألحقته القافة بواحد ثم جاءت قافة أخرى فألحقته
بآخر كان لاحقا بالأول، لان القائف جرى مجرى حكم الحاكم، ومتى حكم
الحاكم حكما لم ينقض بمخالفة وغيره له، وإن ألحقته القافة بكافر أو رقيق لم يحكم
312

بكفره ولا رقه لان الحرية والاسلام ثبتا له بظاهر الدار فلا يزول ذلك بمجرد
الشبه والظن كما لم يزل ذلك بمجرد الدعوى من المنفرد.
ولو ادعى نسب اللقيط إنسان فألحق نسبه به لانفراده بالدعوى ثم جاء آخر
فادعاه لم يزل نسبه عن الأول لأنه حكم له به فلم يزل بمجرد الدعوى، فإن ألحقته
به القافة لحق به وانقطع عن الأول، لأنها بينة في إلحاق النسب، ويزول بها
الحكم الثابت بمجرد الدعوى كالشهادة.
(فرع) إذا ادعاه اثنان فألحقته القافة بهما لحق بهما في النفقة. وكان أحمد
رضي الله عنه يقول: إنه ابنهما يرثهما ميراث ابن ويرثانه جميعا ميراث أب واحد
وهذا يروى عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وهو قول
أبي ثور. وقال أصحاب الرأي يلحق بهما بمجرد الدعوى. وقال الشافعي لا يلحق
بأكثر من واحد، فإذا ألحقته بهما سقط قولهما ولم يحكم لهما، واحتج برواية
عمر رضي الله عنه أن القافه قالت (قد اشتركا فيه، فقال عمر وال أيهما شئت)
ولأنه لا يتصور كونه من رجلين، فإذا ألحقته القافلة بهما تبينا كذبهما فسقط
قولهما كما لو ألحقته بأمين، ولان المدعيين لو اتفقا على ذلك لم يثبت،
ولو ادعاه كل واحد منهما وأقام بينة سقطتا، ولو جاز أن يلحق بهما لثبت باتفاقهما
وألحق بهما عند تعارض بينتهما، هذا وما لم نتناول من مسائل الفصل فعلى وجهه
من تقرير المصنف. والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ومن حكم بإسلامه أو بأحد أبويه أو بالسابي فحكمه قبل البلوغ
حكم سائر المسلمين في الغسل والصلاة والميراث والقصاص والدية. لان السبب
الذي أوجب الحكم بإسلامه لم يزل فأشبه من أسلم بنفسه وبقى على إسلامه، فان
بلغ ووصف الكفر فالمنصوص أنه مرتد، فان تاب وإلا قتل لأنه محكوم
باسلامه قطعا فأشبه من أسلم بنفسه ثم ارتد. ومن أصحابنا من قال فيه قولان
(أحدهما) ما ذكرناه (والثاني) أنه يقر على الكفر لأنه لما بلغ زال حكم التتبع
فاعتبر بنفسه، فان بلغ ولم يصف الاسلام ولا الكفر فقتله قاتل المنصوص أنه
لا قود على قاتله.
313

ومن أصحابنا من قال: يجب القود لأنه محكوم بإسلامه فأشبه ما قبل البلوغ،
وهذا خطأ لأنه يحتمل أن يكون غير راض بالاسلام، والقصاص يسقط بالشبهة
فسقط، ويخالف ما قبل البلوغ فإن إسلامه قائم قطعا وبعد البلوغ لا نعلم بقاء
الاسلام، فأما من حكم بإسلامه بالدار فإنه قبل البلوغ كالمحكوم بإسلامه بأبويه
أو بالسابي، فإن بلغ ووصف الكفر فإنه يفزع ويهدد على الكفر احتياطا،
فإن أقام على الكفر أقر عليه.
ومن أصحابنا من قال: هو كالمحكوم باسلامه بأبويه لأنه محكوم باسلامه بغيره
فصار كالمسلم بأبويه، ولمنصوص أنه يقر على الكفر لأنه محكوم باسلامه من جهة
الظاهر، ولهذا لو ادعاه ذمي وأقام البينة حكم بكفره.
(فصل) وإن بلغ اللقيط وقذفه رجل وادعى أنه عبد. وقال اللقيط:
بل أنا حر ففيه قولان (أحدهما) أن القول قول اللقيط لأن الظاهر من حاله
الحرية (والثاني) أن القول قول القاذف لأنه يحتمل أن يكون عبدا، والأصل
براءة ذمة القاذف من الحد وان قطع حر طرفه وادعى انه عبد. وقال اللقيط:
بل أنا حر فالمنصوص أن القول قول اللقيط، فمن أصحابنا من قال: فيه قولان
كالقذف، ومنهم من قال: إن القول قول اللقيط قولا واحدا وفرق بينه وبين
القذف بأن القصاص قد وجب في الظاهر ووجوب القيمة مشكوك فيه فإذا
أسقطنا القصاص انتقلنا من الظاهر إلى الشك فلم يجز وفى القذف قد وجب الحد
في الظاهر ووجوب التعزير يقين لأنه بعض الحد، فإذا أسقطنا الحد انتقلنا من
الظاهر إلى اليقين فجاز.
(فصل) إذا بلغ اللقيط ووهب وأقبض وباع وابتاع ونكح وأصدق
وجنى، وجنى عليه ثم قامت البينة على رقة كان حكمه في التصرفات كلها حكم العبد
القن يمضى ما يمضى من تصرفه، وينقض ما ينقض من تصرفه فيما يضره ويضر
غيره، لأنه قد ثبت بالبينة أنه مملوك فكان حكمه حكم المملوك، فان أقر على نفسه
بالرق لرجل فصدقه نظرت، فإن كان قد تقدم منه إقرار بحريته لم يقبل إقراره
بالرق، لأنه باقراره بالحرية أحكام الأحرار في العبادات والمعاملات لم يقبل
314

إقراره في إسقاطها، وإن لم يتقدم منه إقرار بالحرية ففيه طريقان من أصحابنا
من قال: فيه قولان.
(أحدهما) لا يقبل إقراره بالرق، لأنه محكوم بحريته فلم يقبل إقراره بالرق
كما لو أقر بالحرية، ثم أقر بالرق.
(والثاني) يقبل لأنا حكمنا بحريته في الظاهر، وما ثبت بالظاهر يجوز إبطاله
بالاقرار، ولهذا لو ثبت إسلامه بظاهر الدار وبلغ وأقر بالكفر قبل منه،
فكذلك ههنا، ومنهم من قال: يقبل إقراره بالرق قولا واحدا لما ذكرناه،
ويكون حكمه في المستقبل حكم الرقيق، فأما تصرفه بعد البلوغ وقبل الحكم برقه
فعلى قولين (أحدهما) يقبل إقراره في جميعه، لان الرق هو الأصل وقد ثبت
فوجب أن تثبت أحكامه كما لو ثبت بالبينة (والثاني) يقبل فيما يضره ولا يقبل
فيما يضر غيره، لان اقراره يتضمن ما يضره ويضر غيره فقبل فيما يضره، ولم
يقبل فيما يضر غيره، كما لو أقر بمال عليه وعلى غيره، وهذا الطريق هو الصحيح
وعليه التفريع فان باع واشترى فان قلنا: يقبل إقراره في الجميع، وقلنا: إن
عقود العبد من غير إذن المولى لا تصح كانت عقوده فاسدة فإن كانت الأعيان
باقية وجب ردها، وإن كانت تالفة وجب بدلها في ذمته يتبع به إذا عتق.
وان قلنا: يقبل فيما يضره، ولا يقبل فيما يضر غيره، لم يقبل قوله في افساد
العقود، ويلزمه اعواضها، فإن كان في يده مال استوفى منه، فان فضل في يده
شئ كان لمولاه.
وإن كان اللقيط جارية فزوجها الحاكم ثم أقرت بالرق فان قلنا: يقبل
اقرارها في الجميع فالنكاح باطل، لأنه عقد بغير اذن المولى، فإن كان قبل
الدخول لم يجب على الزوج شئ، وإن كان بعد الدخول وجب عليه مهر المثل
لأنه وطئ في نكاح فاسد، وان أتت بولد فهو حر لأنه دخل على أنه حر وعليه
قيمته ويجب عليها عدة أمة وهي قرءان.
وان قلنا: لا يقبل فيما يضر غيره لم يبطل النكاح، لان فيه اضرارا بالزوج
ولكنه في حق الزوج في حكم الصحيح، وفى حقها في حكم الفاسد، فإن كان قبل
الدخول لم يجب لها مهر، لأنها لا تدعيه، وإن كان بعد الدخول وجب لها أقل
315

الامرين من مهر المثل أو المسمى، لأنه إن كان المهر أقل لم يجب ما زاد لان فيه
إضرارا بالزوج، وإن أتت منه بولد فهو حر ولا قيمة عليه لأنا لا نقبل قولها
فيما يضره، وتقول للزوج قد ثبت أن زوجتك أمة، فإن اخترت إمساكها كان
ما تلده مملوكا للسيد لأنك تطؤها على علم أنها أمة، وإن طلقها اعتدت عدة حرة
وهو ثلاثة أقراء وله فيها الرجعة لأنا لا نقبل قولها عليه فيما يضره، وإن مات
عنها لزمتها عدة أمة وهي شهران وخمس ليال. لان عدة الوفاة تجب لحق الله تعالى
لا حق له فيها، ولهذا تجب من غير وطئ. وقول اللقيط يقبل فيما يسقط حق الله
تعالى من العبادات، وإن كان اللقيط غلاما فتزوج ثم أقر بالرق.
فإن قلنا: يقبل اقراره في الجميع: بطل النكاح من أصله لأنه بغير اذن المولى
فإن لم يدخل بها لم يلزمه شئ، وان دخل بها لزمه أقل الأمرين من المسمى أو
مهر المثل. لأنه إن كان المسمى أقل لم يجب ما زاد لأنها لا تدعيه، وإن كان
مهر المثل أقل لم يجب ما زاد لان قوله مقبول، وان ضر غيره. وان قلنا: لا يقبل
قوله فيما يضر غيره لم يقبل قوله: ان النكاح باطل، لأنه يضرها، ولكن يحكم
بانفساخه في الحال لأنه أقر بتحريمها، فإن كان قبل الدخول نصف المسمى
وان دخل بها لزمه جميعه لأنه لا يقبل قوله في اسقاط المسمى.
(الشرح) من حكم باسلامه أو باسلام أحد أبويه، وان علا وقت العلوق
ولو أنثى غير وارثه، ولو كان حدوث الولد بعد موت أصله فهو مسلم بالاجماع بشرط
نسبته إليه نسبة تقتضي التوارث فلا يرد آدم أبو البشر عليه السلام، ولو ارتد بعد
البلوغ بأن وصف كفرا أي أعرب به عن نفسه فمرتد لأنه مسلم ظاهرا وباطنا،
ولو علق بين كافرين ثم أسلم أحدهما، وان علا قبل بلوغه ولو بعد تمييزه حكم
باسلامه اجماعا كما في اسلام الأب والخبر (الاسلام يعلو ولا يعلى عليه) ولو
أمكن احتلامه فادعاه قبل اسلامه أصله فظاهر اطلاقهم قبول قوله فيه لزمن امكانه
قال الرملي: وما بحثه الولي العراقي من عدم قبول قوله الا أن ينبت على عانته
شعر خشن، غير ظاهر اللهم الا أن يقال: الاحتياط للاسلام يلغى قوله المانع له
لاحتمال كذبه، ولأصل بقاء الصغر، فان بلغ ووصف كفرا فمرتد لسبق الحكم
316

بإسلامه ظاهرا وباطنا، وفى قول كافر أصلى، لان تبعيته أزالت الحكم بكفره،
وقد زالت باستقلاله فعاد لما كان عليه أولا، وبنى عليه أنه يلزمه التلفظ بالاسلام
بعد البلوغ بخلافه على الأول، ومن ثم لو مات قبل التلفظ جهز كمسلم. بل قال
امام الحرمين وصوبه في الروضة هو كذلك على الثاني أيضا لان هذا الأمور مبنية
على الظاهر، وظاهره الاسلام.
وما ذكره بعضهم من أن المسلم باسلام أحد أبويه لا يغنى عنه اسلامه شيئا ما لم
يسلم بنفسه فغريب أو سبق قلم على ما قرره الأذرعي أو مفرع على وجوب التلفظ
ولو تلفظ ثم ارتد فمرتد قطعا، ولا ينقض ما جرى عليه من أحكام الاسلام
قبل ردته على الأصح.
ولو سبى مسلم طفلا تبع هذا الطفل سابيه في الاسلام ظاهرا وباطنا ان لم
يكن معه أحد أبويه بالاجماع، ولا اعتبار بمن شذ، ولأنه صار تحت ولايته
كالأبوين، وقضية الحكم باسلامه باطنا أنه لو بلغ ووصف الكفر كان مرتدا
أما إذا كان معه أحد أبويه وان علا بأن كان في جيش واحد وغنيمة واحدة،
وان لم يتحد المالك وقد سبيا معا وان أطلق القاضي في تعليقه أنه إذا سبق
سبى أحدهما سبى الآخر تبع السابي، فلا يحكم باسلامه، لان تبعيتهما أقوى من
تبعية السابي وان ماتا بعد، لان التبعية إنما تثبت في ابتداء السبي، ولو سباه ذمي
قاطن ببلادنا على حد قول امام الحرمين أو دخل به دارنا كما قال البغوي، أو
سباه في جيشنا، وكل ذلك إنما هو قبل للخلاف في قولهم: لم يحكم بالأمة في
الأصح. والثاني: يحكم باسلامه تبعا للدار والأوجه أنه لو سبى أبواه ثم أسلما
صار مسلما بإسلامهما خلافا للحليمي ومن تبعه، ولو سباه مسلم وذمي حكم
باسلامه تغليبا لحكم الاسلام، ولو سبى الذمي صبيا أو مجنونا وباعه لمسلم أو باعه
المسلم السابي له مع أحد أبويه في جيش واحد ولو دون أبويه من مسلم لم يتبع
المشترى لفوات وقت التبعية، لأنها إنما تثبت ابتداء وما جاء من قتله فسيأتي في
الأقضية إن شاء الله تعالى.
(فرع) إذا ادعى رق اللقيط مدع بعد بلوغه كلف اجابته، فان أنكر ولا بينة
317

لم تقبل دعواه، وإن كانت له بينة حكم له بها، فإن كان اللقيط قد تصرف قبل
ذلك ببيع أو شراء نقضت تصرفاته لتصرفه بغير إذن، وان لم تكن بينة فأقر
بالرق نظرنا، فإن كان اعترف لنفسه بالحرية قبل ذلك لم يقبل إقراره بالرق لأنه
اعترف بالحرية وهي حق الله تعالى فلا يبطل برجوعه.
فإن قلنا: يقبل إقراره كأحد الوجهين عند الشافعي صارت أحكامه أحكام
العبيد فيما عليه دون ماله، وبهذا قال أبو حنيفة والمزني وأحمد، وهو أحد قولي
الشافعي رضي الله عنه، لأنه أقر بما يوجب حقا له وحقا عليه، فوجب أن يثبت
ما عليه دون ماله كما لو قال: لفلان على ألف درهم ولى عنده رهن. ويحتمل أن
يقبل إقراره في الجميع، وهو القول الثاني للشافعي لأنه ثبت ما عليه فيثبت ماله
كالبينة، فإن قبلنا إقراره بالرق لم يخل من أن يكون ذكرا أو أنثى. فإن كان اللقيط
أنثى فالنكاح صحيح في حقها، فإن كان قبل الدخول فلا جهر لها، وإن كان دخل
بها لم يسقط مهرها وأما أولادها فأحرار ولا يثبت الرق في حق أولادها باقرارها
فأما بقاء النكاح فيقال للزوج: قد ثبت أنها أمة، فإن اخترت المقام على ذلك
فأقم، وإن شئت ففارقها، وسواء كان ممن يجوز له نكاحا الإماء أو لم يكن لأننا
لو اعتبرنا ذلك وأفسدنا نكاحه لكان إفسادا للعقد جميعه بقولها، لان شروط
نكاح الأمة لا تعتبر في استدامة العقد إنما تعتبر في ابتدائه.
فإن قيل: قد قبلتم قولها لي أنها أمة في المستقبل وفيه ضرر على الزوج. قلنا
لم يقبل قولها في إيجاب حق لم يدخل في العقد عليه، فأما الحكم في المستقبل
فيمكن إيفاء حقه وحق من يثبت له الرق عليها بأن يطلقها فلا يلزمه ما لم يدخل
عليها أو يقم على نكاحها فلا يسقط حق سيدها، فان طلقها اعتدت عدة
الحرة، لان عدة الطلاق حق للزوج عند أحمد والشافعي ثلاثة قروء، وان مات
اعتدت عدة الأمة وهي شهران وخمس ليال لأنه وطئ في نكاح فاسد،
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان جنى عمدا على عبد ثم أقر بالرق وجب عليه القصاص على
318

القولين وان جنى خطأ وجب الأرش في رقبته على القولين لان وجوب القصاص
ووجوب الأرش في رقبته يضره ولا يضر غيره فقبل قوله فيه، وإن جنى عليه
حر عمدا لم يجب القود على الجاني لان ذلك مما يضره ولا يضر غيره فقبل قوله
فيه، وان جنى عليه خطأ بأن قطع يده، فإن الجاني يقر بنصف الدية واللقيط
يدعى نصف القيمة، فإن كان نصف القيمة أكثر من نصف الدية وجب نصف
القيمة، لان ما زاد عليه لا يدعيه. وإن كان أكثر من نصف الدية فعلى القولين
إن قلنا يقبل قوله في الجميع وجب على الجاني نصف القيمة، وإن قلنا لا يقبل
فيما يضر غيره وجب نصف الدية لان فيما زاد إضرارا بالجاني
(فصل) وإن أقر اللقيط أنه عبد لرجل وكذبه الرجل سقط إقراره، كما
لو أقر له بدار فكذبه، وإن أقر اللقيط بعد التكذيب بالرق لآخر لم يقبل. وقال
أبو العباس يقبل كما لو أقر لرجل بدار فكذبه ثم أقر بها لآخر، والمذهب الأول
لان بإقراره الأول قد أخبر أنه لم يملكه غيره، فإذا كذبه المقر له رجع إلى
الأصل، وهو انه حر فلم يقبل اقراره بالرق بعده، ويخالف الدار لأنه إذا كذبه
الأول رجع إلى الأصل وهي مملوكة فقبل الاقرار بها لغيره.
(فصل) وإن بلغ اللقيط فادعى عليه رجل أنه عبده فأنكره فالقول قوله
لان الأصل الحرية، وإن طلب المدعى يمينه فهل يحلف؟ يبنى على القولين في
إقراره بالرق، فان قلنا يقبل حلف لأنه ربما خاف من اليمين فأقر له بالرق، وإن
قلنا لا يقبل لم يحلف، لان اليمين إنما تعرض ليخاف فيقر، ولو أقر لم يقبل فلم
يكن في عرض اليمين فائدة وبالله التوفيق.
(الشرح) إذا جنى جناية موجبة للقصاص فعليه القود حرا كان المجني عليه
أو عبدا، لان اقراره بالرق يقتضى وجوب القود عليه فيما إذا كان المجني عليه
عبدا أو حرا فقبل اقراره فيه. وإن كانت الجناية خطأ تعلق أرشها برقبته،
لان ذلك مضر به، فإن كان أرشها أكثر من قيمته وكان في يده مال استوفى منه
وإن كان مما تحمله العاقلة لم يقبل قوله في اسقاط الزيادة، لان ذلك يضر بالمجني
عليه فلا يقبل قوله فيه.
319

وقيل تجب الزيادة في بيت المال لان ذلك كان واجبا للمجني عليه فلا يقبل
قوله في اسقاطه.
وان جنى عليه جناية موجبة للقود وكان الجاني حرا سقط، لان الحر لا يقاد منه
للعبد، وقد أقر المجني عليه بما يسقط القصاص، وإذا ادعى رق اللقيط مدع
سمعت دعواه لأنها ممكنة وإن كانت مخالفة لظاهر الدار، فإن لم يكن له بينة فلا
شئ له، أما إذا ادعاه بعد بلوغه فأنكر اللقيط فالقول قوله لاستصحاب الأصل
وهو الحرية، وهي حق لله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى
كتاب الوقف
الوقف قربة مندوب إليها لما روى عبد الله بن عمر أن عمر رضي الله عنه
(أتى النبي صلى الله عليه وسلم وكان قد ملك مائة سهم من خيبر، فقال: قد
أصبت مالا لم أصب مثله، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله تعالى، فقال: حبس
الأصل وسبل الثمرة)
(فصل) ويجوز وقف كل عين ينتفع بها على الدوام كالعقار والحيوان
والأثاث والسلاح، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه (أنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم
أنه منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس بن عبد المطلب يعنى الصدقة،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نقم ابن جميل الا أنه كان فقيرا فأغناه الله
ورسوله. فأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، ان خالدا قد حبس أدرعه وأعتده معا في
سبيل الله) ولأنه لما أمر عمر رضي الله عنه بتحبيس الأصل وتسبيل الثمرة، دل
ذلك على جواز وقف كل ما يبقى وينتفع به.
وأما مالا ينتفع به على الدوام كالطعام وما يشم من الريحان وما تحطم وتكسر
من الحيوان فلا يجوز وقفه لأنه لا يمكن الانتفاع به على الدوام، ويجوز وقف
الصغير من الرقيق والحيوان، لأنه يرجى الانتفاع به على الدوام، ولا يجوز
وقف الحمل لأنه تمليك منجز فلم يصح في الحمل وحده كالبيع
320

(فصل) واختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير، فمن أجاز إجارتها أجاز
وقفها، ومن لم يجز إجارتها لم يجز وقفها، واختلفوا في الكلب فمنهم من قال
لا يجوز وقفه لان الوقف تمليك والكلب لا يملك. ومنهم من قال يجوز الوقف
لان القصد من الوقف المنفعة وفى الكلب منفعة فجاز وقفه، واختلفوا في أم الولد
فمنهم من قال يجوز وقفها لأنه ينتفع بها على الدوام فهي كالأمة القنة، ومنهم من
قال لا يجوز لأنها لا تملك
(فصل) ولا يصح الوقف إلا في عين معينة، فإن وقف عبدا غير معين
أو فرسا غير معين فالوقف باطل لأنه إزالة ملك على وجه القربة فلم يصح في عين
في الذمة كالعتق والصدقة.
(الشرح) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم وأحمد وأبو داود والترمذي
والنسائي وابن ماجة بلفظ (أن عمر أصاب أرضا من أرض خيبر فقال:
يا رسول الله أصبت أرضا بخيبر لم أصب مالا قط أنفس عندي منه فما تأمرني؟
فقال: إن شئت حبست أصلها، وتصدقت بها، فتصدق بها عمر على أن
لا تباع ولا توهب ولا تورث في الفقراء وذوي القربى والرقاب والضيف
وابن السبيل، لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف ويطعم غير متمول)
وفى لفظ (غير متأثل مالا)
وفى حديث عمرو بن دينار عند البخاري قال في صدقة عمر (ليس على الولي
جناح أن يأكل صديقا له غير متأثل) قال (وكان ابن عمر هو يلي صدقة
عمر ويهدى لناس من أهل مكة كان ينزل عليهم) وللحديث روايات للبيهقي
والطحاوي والدارقطني.
وروى النسائي وابن ماجة والشافعي عن ابن عمر، وهو متفق عليه من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم (إن المائة
سهم التي لي بخيبر لم أصب مالا قط أعجب إلى منها، وقد أردت أن أتصدق بها،
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احبس أصلها وسبل ثمرتها)
321

وأما حديث أبي هريرة فقد رواه أحمد ومسلم بلفظ (بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
عمر على الصدقة فقيل: منع ابن جميل وخالد بن الوليد وعباس عم النبي صلى الله عليه وسلم
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيرا فأغناه
الله، وأما خالد فإنكم تظلمون خالدا، قد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله
تعالى، وأما العباس فهي على ومثلها معها. ثم قال: يا عمر أما شعرت أن عم
الرجل صنو أبيه) وأخرجه البخاري وليس فيه ذكر عمر ولا ما قيل له في
العباس. وأخرجه أبو داود الطيالسي من حديث أبي رافع وفيه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لعمر (إنا كنا تعجلنا صدقة مال العباس عام الأول)
وأخرجه الطبراني والبزار وفى اسناده محمد بن ذكوان، وهو ضعيف. ورواه
البزار من حديث موسى بن طلحة عن أبيه نحوه. وفى إسناده الحسن بن عمارة
وهو متروك.
ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس، وفى إسناده مندل بن علي والعرزمي
وهما ضعيفان.
أما اللغات فالوقف مصدر وقف يقف، ووقفته أنا يتعدى ويلزم، ووقفت
الدار حبستها في سبيل الله، وشئ موقوف ووقف تسمية بالمصدر، والجمع
أوقاف، كثوب وأثواب، ولا يقال أوقفت إلا في الكلام، فتقول فأوقفت
عن الكلام.
وقوله (حبس الأصل وسبل الثمرة) الحبس ضد الاطلاق، أي اجعله
محبوسا لا يباع ولا يوهب. وسبل الثمرة، أي اجعل لها سبيلا، أي طريقا
لمصرفها، والأثاث متاع البيت، قال الله تعالى (أثاثا ومتاعا إلى حين)
وقوله (ما تقم ابن جميل) نقم من باب ضرب نقما ونقوما، وفى لغة من باب
تعب، ومعناه كره الشئ وعابه أشد العيب، وفى التنزيل (وما تنقم منا)
على اللغة الأولى، أي وما تطعن فينا وتقدح، وقيل ليس لك عندنا ذنب
ولا ركبنا مكروها.
322

والأعتدة جمع عتاد وهو أهبة الحرب من السلاح والذخيرة وغيرهما يقال:
أخذ للامر عدته وعتاده أي أهبته وآلته.
أما الأحكام: فقد استدل المصنف بحديث ابن عمر علب صحة وقف المشاع
وهو مذهب الشافعي وأبى يوسف ومالك، لان عمر وقف مائة سهم بخيبر ولم
تكن مقسومة، وقد عارض وقف المشاع بعض الفقهاء وأوضح ما احتجوا به
أن كل جزء من المشترك محكوم عليه بالمملوكية للشريكين فيلزم مع وقف أحد
الشريكين أن عليه بحكمين مختلفين متضادين مثل صحة البيع بالنسبة إلى كونه
مملوكا وعدم الصحة بالنسبة إلى كونه موقوفا، فيتصف كل جزء بالصحة وعدمها
وأجيب عن هذا بأنه نظير العتق المشاع كحديث الستة الأعبد كما صح هنا، وإذا
صح من جهة الشارع بطل هذا الاستدلال.
وقد استدل البخاري على صحة وقف المشارع بحديث أنس في قصة بناء المسجد
وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ثامنوني حائطكم، قالوا: لا نطلب ثمنه إلا
إلى الله عز وجل) وهذا ظاهر في جواز وقف المشارع ولو كان غير جائز لأنكر
عليهم النبي صلى الله عليه وسلم قولهم هذا وبين لهم الحكم.
على أن الوقف عند أكثر أهل العلم من السلف ومن بعدهم على القول بصحته
قال جابر رضي الله عنه لم يكن أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذو مقدرة
إلا وقف ولم ير شريح الوقف وقال: لا حبس عن فرائض الله، وقال أحمد:
وهذا مذهب أهل الكوفة، وذهب أبو حنيفة إلى أن الوقف لا يلزم بمجرده،
وللواقف الرجوع فيه إلا أن يوص به بعد موته فيلزم أو يحكم بلزومه حاكم،
وحكاه بعضهم عن علي وابن مسعود وابن عباس، وخالفه صاحباه فقالا كقول
سائر أهل العلم.
واحتج بعضهم بما روى أن عبد الله بن زيد صاحب الاذان جعل حائطه صدقة
وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء أبواه إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقالا: يا رسول الله لم يكن لنا عيش إلا هذا الحائط، فرده النبي صلى الله عليه
وسلم ثم ماتا فورثهما. رواه المحاملي في أماليه، ولأنه أخرج ماله على وجه القربة
323

من ملكه فلا يلزم بمجرد القول كالصدقة، وهذا القول يخالف السنة الثابتة عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه صلى الله عليه
قال لعمر في وقفه (لا يباع أصلها ولا يبتاع ولا يوهب ولا يورث) قال الترمذي
العمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لا نعلم بين
أحد من المتقدمين منهم في ذلك اختلافا.
قال الحميدي شيخ البخاري: تصدق أبو بكر رضي الله عنه بداره على ولده،
وعمر بربعه عند المروة على ولده، وعثمان برومة، وتصدق على بأرضه بينبع،
وتصدق الزبير بداره بمكة وداره بمصر وأمواله بالمدينة على ولده، وعمرو بن
العاص بالوهط، وداره بمكة على ولده، وحكيم بن حزام بداره بمكة والمدينة على
ولده قال: فذلك كله إلى اليوم اه‍.
فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف واشتهر فلم ينكره أحد فكان
إجماعا، ولأنه إزالة ملك يلزم بالوصية، فإذا انجزه حال الحياة لزم من غير حكم
كالعتق، وأجيب عن حديث عبد الله بن زيد بأنه إن ثبت فليس فيه ذكر للوقف
والظاهر أنه جعله صدقه غير موقوف، استناب فيها النبي صلى الله عليه وسلم
فرأى والديه أحق الناس بصرفها إليهما ولذلك لم يردها عليه، إنما دفعها إليهما،
ويحتمل أن الحائط كان لهما، وكان هو يتصرف فيه بحكم النيابة عنهما فتصرف
بهذا التصرف بغير اذنهما فلم ينفذاه، وأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فرده إليهما
والقياس على الصدقة لا يصح لأنها تلزم في الحياة بغير حكم حاكم، وإنما تفتقر
إلى القبض، والوقف لا يفتقر إليه فافترقا، فإذا صح الوقف فقد زال به ملك
الواقف على المشهور من مذهبنا. والصحيح من مذهب أحمد، وكذلك المشهور
من مذهب أبي حنيفة. وعن مالك: لا يزول ملكه، وهو قول لأحمد. وحكى
قولا للشافعي لقول النبي صلى الله عليه وسلم (حبس الأصل وسبل الثمرة).
وأجيب على القول ببقاء الملك بان الوقف سبب يزيل التصرف في الرقبة
والمنفعة، فأزال الملك كالعتق، ولأنه لو كان ملكه لرجعت إليه قيمته كالملك
المطلق، واما الخبر فالمراد به أن يكون محبوسا، لا يباع ولا يوهب ولا يورث،
324

وفائدة الخلاف أنا إذا حكمنا ببقاء ملكه لزمته مراعاته والخصومة فيه، ويحتمل
أن يلزمه أرش جنايته كما يفدى أم الولد سيدها لما تعذر تسليمه بخلاف غير المالك
إذا صح هذا فما ينتفع به باتلافه كالمطعوم المشروب والمشموم فوقفه غير
جائز، وكذلك الشمع، وكذلك كل ما يسرع إليه الفساد وكل مالا يمكن الانتفاع
به على الدوام وقد ألحق الحنابلة، الدراهم والدنانير بالمأكول والمشروب، ويحكى
شئ عن مالك والأوزاعي في وقف الطعام انه يجوز، ولم يحكه أصحاب مالك،
وهذا غير صحيح، لان الوقف تحبيس الأصل وتسبيل الثمرة وملا ينتفع به الا
بالاتلاف لا يصح فيه ذلك ولا يصح في المشموم مقطوفا ويصح فيه مزروعا
لبقائه مدة كما قاله النووي وغيره، ولهذا قال ابن الصلاح والخوارزمي يصح وقف
المشموم كالريحان وغيره وكالعنبر والمسك بخلاف عود البخور لاستهلاكه بالمنفعة
وقد اختلف أصحابنا في الدراهم والدنانير فمن قال يجوز أن تكون لها ثمرة دائمة
كالإجارة أجاز وقفها، ومن قال بعد جواز الإجارة، قال بعدم جواز الوقف
فيها، لان تلك المنفعة ليست المقصود الذي خلقت له الأثمان، ولهذا لا تضمن
في الغصب فلم يجز الوقف له وأجاز الأصحاب وقف الدراهم والدنانير حليا وللعارية
لما روى نافع قال: ابتاعت حفصة حليا بعشرين ألفا فحبسته على نساء آل الخطاب
فكانت لا تخرج زكاته، رواه الخلال باسناده، ولأنه عين يمكن الانتفاع بها
مع بقائها دائما تصح وقفها كالعقار، ولأنه يصح تحبيس أصلها وتسبيل الثمرة فصح
وقفها كالعقار، والى هذا ذهب أصحاب أحمد.
وروى عن أحمد أنه لا يصح وقفها، وأنكر الحديث عن حفصة في وقفه،
وذكره ابن أبي موسى، ووجه هذه الرواية أن التحلي ليس هو المقصود الأصلي
من الأثمان فلم يصح وقفها عليه كما لو وقف الدنانير والدراهم.
قال ابن قدامة: والأول هو المذهب، والتحلي من المقاصد المهمة، والعادة
جارية به وقد اعتبره الشرع في إسقاط الزكاة عن متخذه وجوز اجارته لذلك،
ويفارق الدارهم والدنانير، فان العادة لم تجر بالتحلي
به ولا اعتبره الشرع في اسقاط
زكاته ولا ضمان نفعه في العصب بخلاف مسألتنا.
325

(فرع) لا يجوز وقف مالا يجوز امتلاكه كالكلب ولو كلب صيد وكذلك
الخنزير كما لا يجوز وقف أدوات اللهو والمعارف، والكلب إنما أبيح الانتفاع به
على خلاف الأصل للقدرة فلا يجوز التوسع فيها. هذا هو الأصح كما قرره
النووي في المنهاج وتابعه جميع الشراح.
كما لا يجوز الوقف الا على عين معينة مملوكة ملكا يقبل النقل يحصل منها مع
بقاء عينها فائدة أو منفعة وضابط المنفعة المقصودة ما يصح استئجاره، على شرط
ثبوت حق الملك في الرقبة وشمل كلام النووي في المنهاج وقف الموصى بعينه مدة
والمأجور، وان طالت مدتهما ونحو الجحش الصغير وان لم تكن لأولئك منفعة
حالا، ولا يصح وقف حيوان أو متاع أو ثياب في الذمة لان حقيقته إزالة ملك
عن عين، نعم يجوز التزامه فيها بالنذر وبهذا كله قال أحمد وأصحابه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وما جاز وقفه جاز وقف جزء منه مشاع لان عمر رضي الله عنه وقف مائة
سهم من خيبر باذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لان القصد بالوقف حبس
الأصل وتسبيل المنفعة، والمشاع كالمقسوم في ذلك، ويجوز وقف علو الدار
دون سفلها دون علوها، لأنهما عينان يجوز وقفهما، فجاز وقف أحدهما
دون الاخر كالعبدين.
(فصل) ولا يصح الوقف الا على بر ومعروف كالقناطر والمساجد
والفقراء والأقارب، فان وقف على ما لا قربة فيه كالبيع والكنائس وكتب التوراة
والإنجيل، وعلى من يقطع الطريق أو يرتد عن الدين لم يصح، لان القصد
بالوقف القربة، وفيما ذكرناه إعانة على المعصية، وان وقف على ذمي جاز لأنه
في موضع القربة، ولهذا يجوز التصدق عليه فجاز الوقف عليه، وفى الوقف على
المرتد والحربي وجهان.
(أحدهما) يجوز لأنه يجوز تمليكه فجاز الوقف عليه كالذمي.
(والثاني) لا يجوز، لان القصد بالوقف نفع الموقوف عليه، والمرتد
والحربي مأمور بقتلهما فلا معنى للوقف عليهما، وان وقف على دابة رجل،
326

ففيه وجهان، أحدهما: لا يجوز، لان مؤنتها على صاحبها، والثاني: يجوز لأنه
كالوقف على مالكه.
(فصل) ولا يجوز ان يقف على نفسه، ولا ان يشرط لنفسه منه شيئا.
وقال أبو عبد الله الزبيري (1): يجوز لان عثمان رضي الله عنه وقف بئر رومة
وقال (دلوي فيها كدلاء المسلمين) وهذا خطا لان الوقف يقتضى حبس العين
وتمليك المنفعة والعين محبوسة عليه ومنفعتها مملوكة له فلم يكن للوقف معنى،
ويخالف وقف عثمان رضي الله عنه لان ذلك وقف عام ويجوز ان يدخل في العام
مالا يدخل في الخاص، والدليل عليه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلى
في المساجد وهي وقف على المسلمين، وإن كان لا يجوز ان يخص بالصدقة ولان
في الوقف العام يدخل فيه من غير شرط ولا يدخل في الوقف الخاص فدل
على الفرق بينهما.
(فصل) ولا يجوز الوقف على من لا يملك كالعبد والحمل لأنه تمليك منجز
فلم يصح على من لا يملك كالهبة والصدقة.
(فصل) ولا يصح الوقف على مجهول كالوقف على رجل غير معين والوقف
على من يختاره فلان لأنه تمليك منجز فلم يصح في مجهول كالبيع والهبة.
(الشرح) خبر عمر رضي الله عنه مضى تخريجه وبعض فقهه ولما تكلم المصنف
عن منع وقف غير المعين ناسب ان يردفه بحكم المشارع، وبجوازه قال مالك
والشافعي وأبو يوسف وأحمد، وقال محمد بن الحسن، لا يصح، وبناه على أصله
في أن القبض شرط، وان القبض لا يصح في المشاع، وخبر عمر هو أول وقف
شرع في الاسلام حيث لم يكن وقف في الجاهلية.
وقال الشافعي رضي الله عنه ان هذا الوقف المعروف حقيقة شرعية لم تعرفه
الجاهلية. وقيل إن أول وقف ما وقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموال
مخيريق التي أوصى بها له في السنة الثالثة.

(1) في نسخ المهذب المتداولة الزبيدي وصوابه الزبيري. المطيعي
327

وصحح أصحابنا وقف المشاع وان جهل قدر حصته أو صفتها، لان وقف عمر
كان مشاعا، ولأنه عقد يجوز على بعض الجملة مفرزا فجاز عليه مشاعا كالبيع،
أو عرصة يجوز بيعها فجاز وقفها كالمفرزة، ولان الوقف تحبيس الأصل وتسبيل
المنفعة، وهذا يحصل في المشاع كحصوله في المفرز، ولا نسلم اعتبار القبض.
إذا ثبت هذا فإنه يجوز ان يوقف جزءا من داره أو علويها أو سفليها.
وكذلك إذا وقف داره على جهتين مختلفتين، مثل أن يقفها على أولاده وعلى
المساكين أو على جهة أخرى سواهم، لأنه إذا جاز وقف الجزء مفردا جاز
وقف الجزين.
(فرع) إذا لم يكن الوقف على بر أو معروف فهو باطل، وبيان ذلك أنه
لا يصح الا على ولده وأقاربه ورجل معين، أو بناء المساجد والجسور والقناطر
وكتب الفقه والعم والقرآن والمقابر والسقايات ولا يصلح على غير معين كرجل
وامرأة، لان الوقف تمليك للعين أو للمنفعة فلا يصح على غير معين كالبيع
والإجارة، ولا على معصية كبيت النار لعبدتها والبيع والكنائس وكتب التوراة
والإنجيل لان ذلك معصية، فان هذه المواضع بنيت للكفر، وهذه الكتب مبدلة
منسوخة. ولذلك غضب النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى مع عمر صحيفة فيها
شئ من التوراة وقال (أفي شك أنت يا بن الخطاب؟) وفى رواية (أمتهوكون
أنتم؟ لو كان موسى أخي حيا ما وسعه الا اتباعي) وفى رواية (ألم آت بها بيضاء
نقية؟ لو كان موسى أخي حيا ما وسعه الا اتباعي) فلولا ان ذلك معصية ما غضب
صلى الله عليه وسلم منه.
والوقف على قناديل البيعة أو معابد البوذيين أو دور الهندوك أو محافل
البهائيين أو القاديانيين أو أي معبد يقوم على غير أصل الاسلام وخلوص
الوحدانية من شوائب الزيغ باطل.
وقال أحمد بن حنبل في نصارى وقفوا على البيعة ضياعا كثيرة وماتوا ولهم
أبناء نصارى فاسلموا والضياع بيد النصارى، فلهم اخذها وللمسلمين عونهم حتى
يستخرجوها من أيديهم.
328

وهذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه ولا نعلم فيه خلافا، ولان مالا يصح
من المسلم الوقف عليه لا يصح من الذمي كالوقف على غير معين.
فان قيل: فقد قلتم إن أهل الكتاب إذا عقدوا عقودا فاسدة وتقابضوا ثم
أسلموا وترافعوا إلينا لم ننقض ما فعلوه، فكيف أجزتم الرجوع فيما وقفوه على
كنائسهم؟ قلنا الوقف ليس بعقد معاوضة، وإنما هو إزالة للملك في الموقوف
على وجه القربة، فإذا لم يقع صحيحا لم يزل الملك فيبقى بحاله كالعتق، وقد أفتى
أحمد رضي الله عنه في نصراني أشهد في وصيته أن غلامه فلانا يخدم البيعة خمس
سنين ثم هو حر، ثم مات مولاه وخدم سنة ثم أسلم ما عليه؟ قال هو حر ويرجع
على الغلام بأجره خدمة مبلغ أربع سنين. وروى عنه قال: هو حر ساعة مات
مولاه لأن هذه معصية.
وظاهر كلام المصنف التفريق بين الذمي ومعابد الكفار، حيث يقول: وان
وقف على ذمي جاز الخ. قلت هذا مبنى على أصل أن الوقف لا يصح على من
لا يملك، كالوقف على القن وأم الولد والجن والملائكة ولأنه يجوز التصدق عليه
أما الوقف على المرتد والحربي في صفوف الأعداء فوجهان. فمن جعله كالذمي
أجاز الوقف عليه.
ومن قال أن القصد من الوقف نفع الموقوف عليه ونحن مأمورون بقتل
المرتد والحربي، وهذا أقصى درجات الحرمان وهو فقد الحياة، فكيف يجوز
ايصال المنفعة إليه؟ ولان أموال المرتدين والمحاربين مباحة في الأصل، ويجوز
أخذها بالقهر والغلبة، فما يتجدد لهم أولى على أن الوقف لا يجوز أن يكون مباح
الاخذ لأنه تحبيس الأصل
وفارق أهل الذمة فإنه يصح الوقف عليهم لأنهم يملكون ملكا محترما، ولان
صفيه أم المؤمنين وقفت على أخ لها يهودي، ولان من جاز أن يقف الذمي عليه
جاز أن يقف عليه المسلم كالمسلم، ولو وقف على من ينزل كنائسهم وبيعهم من
المارة والمجتازين صح أيضا لان الوقف عليهم لا على الموضع
(فرع) لا يجوز أن يخص نفسه بالوقف وكذلك إذا جعله عاما وجعل لنفسه
شيئا منه فإنه لا يجوز وقيل يجوز، واستدل القائلون بجوازه، ومنهم أبو عبد الله
329

الزبيري وابن حجر العسقلاني في الباري بحديث بئر رومة، وهو عن عثمان
رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة ولبس بها ماء يستعذب غير
بئر رومة فقال (من يشترى بئر رومة فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين بخير له
منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالي) رواه النسائي والترمذي وقال: حديث
حسن، وفيه جواز انتفاع الواقف بوقفه.
وفى رواية للبغوي في كتاب الصحابة من طريق بشر بن بشير الأسلمي عن
أبيه انها كانت لرجل من بنى غفار عين يقال لها رومة. وكان يبيع منها القربة بمد
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: تبيعنيها بعين في الجنة؟ فقال يا رسول الله ليس لي
ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم. ثم اتى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي ما جعلت له؟ قال نعم قال قد جعلتها
للمسلمين. وللنسائي من طريق الأحنف عن عثمان قال: إجعلها سقاية للمسلمين
واجرها لك، وزاد أيضا في رواية من هذه الطريق ان عثمان قال ذلك وهو
محصور وصدقة جماعة منهم علي بن أبي طالب وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص
وفى قوله: فيجعل فيها دلوه مع دلاء المسلمين، الدليل عل جواز أن يجعل
الواقف لنفسه نصيبا في الوقف، قالوا ويؤيده جعل عمر لمن ولى وقفه أن يأكل
منه بالمعروف، وظاهره عدم الفرق بين أن يكون هو الناظر أو غيره.
هكذا قالوا. قال ابن حجر في فتح الباري: ويستنبط منه صحة الوقف على النفس
وهو قول ابن أبي ليلى وأبى يوسف وأحمد في الأرجح عنه. وقال به ابن شعبان
من المالكية، وجمهورهم على المنع الا إذا استثنى لنفسه شيئا يسيرا بحيث لا يتهم
انه قصد حرمان ورثته. ومن الشافعية أبو العباس بن سريج وطائفة. وصنف
فيه محمد بن عبد الله الأنصاري شيخ البخاري جزءا ضخما، واستدل له بقصة عمر
هذه، وبقصة راكب البدنة، وبحديث أنس في أنه صلى الله عليه وسلم أعتق
صفية وجعل عتقها صداقها، ووجه الاستدلال به انه أخرجها عن ملكه بالعتق
وردها إليه بالشرط. اه‍
وقد حكى جواز الوقف على النفس ابن شبرمة والزبيري. وعن الشافعي
330

ومحمد بن الحسن انه لا يصح الوقف على النفس، قالا لأنه تمليك فلا يصح أن
بتملكه لنفسه من نفسه كالبيع والهبة، ولقوله صلى الله عليه وسلم (سبل الثمرة)
وتسبيلها تمليكها للغير.
قال ابن حجر: وتعقب بان امتناع ذلك غير مستحيل، ومنعه تمليكه لنفسه
إنما هو لعدم الفائدة. والفائدة في الوقف حاصلة لان استحقاقه إياه وقفا. اه‍
قلت: وقد استدل القائلون بصحة الوقف على النفس بحديث الرجل الذي قال
للنبي صلى الله عليه وسلم (عندي دينار، فقال تصدق به على نفسك) رواه
أبو داود والنسائي.
وقال ابن قدامة: قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله - يعنى أحمد بن حنبل -
يشترط في القوف انى أنفق على نفسي وأهل منه؟ قال نعم. واحتج قال: سمعت
ابن عيينة عن ابن طاوس عن أبيه عن حجر المدري ان في صدقة رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يأكل منها أهله بالمعروف غير المنكر. اه‍. ودليل المانعين
وهم مالك والشافعي ومحمد بن الحسن انه إزالة ملك فلم يجز اشتراط نفعه لنفسه
كالبيع والهبة، وكما لو أعتق عبدا بشرط ان يخدمه، ولان ما ينفقه على نفسه
مجهول، فلم يصح اشتراطه كما لو باع شيئا واشترط ان ينتفع به.
وقال النووي في المنهاج (ويصح على ذمي لا مرتد وحربي ونفسه في الأصح)
وقد فهم بعض الشراح كما يقول الرملي من هذا ان النووي صحح الوقف لنفسه،
والذي يتبادر إلى الفهم من كلام النووي ان عطف نفسه يرجع على المعطوف
عليه وهو ذمي المقول بصحة الوقف عليه، ولكن الرملي رحمه الله قال: لتعذر
تمليك الانسان ملكه أو منافع ملكه لنفسه لأنه حاصل، ويمتنع تحصيل الحاصل
واختلاف الجهة، إذ استحقاقه وقفا غيره ملكا الذي نظر له مقابل الأصح.
واختاره جمع، ومنه ان يشترط نحو قضاء دينه مما وقفه، أو انتفاعه به أو شربه
منه أو مطالعته في الكتاب، أو طبخه في القدر أو استعماله من بئر أو كوز وقف
ذلك على الفقراء؟ فيبطل الوقف بذلك، خلافا لبعض الشراح هنا، وكأنه توهم
جواز ذلك من قول عثمان في وقفه لبئر رومة دلوي فيها كدلاء المسلمين.
331

قال: وليس بصحيح فقد أجابوا عنه بأنه لم يقل ذلك على سبيل الشرط، بل
الاخبار بأن للواقف الانتفاع بوقفه العام، كالصلاة بمسجد وقفه والشرب من
بئر وقفها. نعم، لو شرط ان يضحى عنه صح أخذا من قول الماوردي وغيره
بصحة شرط ان يحج عنه منه، أي لأنه لا يرجع له من ذلك سوى الثواب
وهو لا يضر، بل هو المقصود من الوقف، ولو وقف على الفقراء مثلا ثم صار
فقيرا أجاز له الاخذ منه. وكذا لو كان فقيرا حال الوقف، كما في الكافي واعتمده
السبكي وغيره، ويصح شرطه النظر لنفسه ولو بمقابل إن كان بقدر أجرة المثل
فأقل كما قيده بذلك ابن الصلاح
ومن حيل الفقهاء الذين يمنعون الوقف بهذه الصورة أن ابن الرفعة وهو من
كبار الفقهاء وقف على الأفقه من بنى الرفعة، فعنى بذلك نفسه، أو يأتي آخر
ويقف على أولاد أبيه الذين من صفاتهم كيت وكيت ويضفي صفات نفسه على
المنتفع من الوقف فينصرف ذلك إلى نفسه، وقد صحح هذه الحيلة الرملي وقال:
وهو الأوجه وان خالف في الأسنوي وغيره تبعا للغزالي والخوارزمي فأبطلوه
إن انحصرت الصفة فيه وإلا صح.
(فرع) إذا وقف على من لا يصح تمليكه أو غير مؤهل للملك، لان الوقف
تمليك منفعة، وضرب مثلا بالعبد والحمل، لان الجنين لا يملك شيئا، كما
لا يصح الوقف على مجهول أو معدوم كعلى مسجد سيبني أو على ولده ولا ولد له
أو على فقراء أولاده وليس فيهم فقير. ولا على عمارة المسجد إذا لم يبينه
بموضعه ولا على ميت لان الوقف تسليط في الحال بخلاف الوصية، كما لا يصح
الوقف على بهيمة مجهولة بأن أطلق بغير تعيين، وقيل هو وقف على مالكها،
ومن ثم لا يصح على الوحوش ولا على الطيور المباحة، ولو كانت معينة على
نزاع في الجزم به.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يصح تعليقه على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة
فلم يصح تعليقه على شرط مستقبل كالبيع ولا يصح بشرط الخيار وبشرط أن
332

يرجع فيه إذا شاء أو يبيعه إذا احتاج أو يدخل فيه من شاء أو يخرج منه من شاء
لأنه إخراج مال على وجه القربة فلم يصح مع هذه الشروط كالصدقة.
(فصل) ولا يجوز إلى مدة لأنه إخراج مال على وجه القربة فلم يجز إلى
مدة كالعتق والصدقة
(الشرح) الأحكام: لا يجوز تعليق ابتداء الوقف على شرط في الحياة، مثل
أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فداري وقف أو فرسي حبس، أو إذا ولد لي
ولد أو إذا قدم لي غائبي ونحو ذلك. ولا نعلم في هذا خلافا، لأنه نقل للملك فيما
لم يبن على التغليب والسراية، فلم يجز تعليقه بالموت، وتعليقه بشرط في الحياة
ولا يصح لما ذكرنا من الفرق بينهما فيما قبل هذا.
وان علق انتهاءه على شرط نحو قوله: داري وقف إلى سنة أو إلى أن يقدم
الحاج لم يصح، وهو أحد الوجهين عند الحنابلة، لأنه ينافي مقتضى الوقف،
فان مقتضاه التأبيد.
والوجه الاخر عندهم يصح لأنه منقطع الانتهاء فأشبه ما لو وقفه على منقطع
الانتهاء، فان حكمنا بصحته ههنا فحكمه حكم منقطع الانتهاء.
وان شرط ان يبيعه متى شاء أو يهبه أو يرجع فيه لم يصح الشرط ولا الوقف
لا نعلم فيه خلافا، لأنه ينافي مقتضى الوقف. ويحتمل أن يفسد الشرط ويصح
الوقف بناء على الشروط الفاسدة في البيع، وان شرط الخيار في الوقف فسد.
هكذا قال الشافعي ونص عليه أحمد
وقال أبو يوسف في رواية عند يصح، لان الوقف تمليك المنافع فجاز شرط
الخيار فيه كالإجارة.
ولنا أنه شرط ينافي مقتضى العقد فلم يصح، كما لو شرط أن له بيعه متى شاء،
ولأنه إزالة ملك لله تعالى فلم يصح الخيار فيه كالعتق، ولأنه ليس بعقد معاوضة
فلم يصح اشتراط الخيار فيه كالهبة، ويفارق الإجارة فإنها عقد معاوضة وهي نوع
من البيع، ولان الخيار إذا دخل في العقد منع ثبوت حكمه قبل انقضاء الخيار
333

أو التصرف، وههنا أو ثبت الخيار لثبت مع ثبوت حكم الوقف ولم يمنع
التصرف فافترقا.
وان شرط في الوقف ان يخرج من شاء من أهل الوقف ويدخل من شاء
من غيرهم، لأنه شرط ينافي مقتضى الوقف فافسده كما لو شرط ان لا ينتفع.
إذا ثبت هذا فإنه لا يجوز أن يقول: وقفت هذا على الفقراء أو على مسجد
مثلا سنة مثلا، وبطلانه من فساد صيغته، إذ ان وضع الوقف على التأبيد فإذا
جعله إلى مدة كان باطلا كالعتق والصدقة، وسواء في ذلك طويل المدة وقصيرها
وقد بحث الأذرعي كما فعل الزركشي جوازه إذا وقفه على الفقراء ألف سنة أو
نحوها مما يبعد البقاء إليه، كما تقرر أنه لا أثر لتوقيت الاستحقاق، كقوله وقفته
على زيد سنة ثم على الفقراء، أو إلا أن يولد لي ولد، كما نقله البلقيني عن
الخوارزمي وجزم به ابن الصباغ وجرى عليه في الأنوار والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز إلا على سبيل لا ينقطع، وذلك من وجهين:
(أحدهما) أن يقف على من لا ينقرض كالفقراء والمجاهدين وطلبة العلم وما
أشبهها (والثاني) أن يقف على من ينقرض ثم من بعده على من لا ينقرض،
مثل أن يقف على رجل بعينه، ثم على الفقراء أو على رجل ثم على عقبه ثم على
الفقراء، فأما إذا وقف وقفا منقطع الابتداء والانتهاء كالوقف على عبده أو
على ولده ولا ولد له فالوقف باطل لان العبد لا يملك والولد الذي لم يخلق لا يملك
فلا يفيد الوقف عليهما شيئا.
وإن وقف وقفا متصل الابتداء منقطع الانتهاء بأن وقف على رجل بعينه
ولم يزد عليه، أو على رجل بعينه ثم على عقبه ولم يزد عليه ففيه قولان
(أحدهما) أن الوقف باطل، لان القصد بالوقف أن يتصل الثواب على
الدوام، وهذا لا يوجد في هذا الوقف، لأنه قد يموت الرجل وينقطع عقبه.
(والثاني) أنه يصح ويصرف بعد انقراض الموقف عليه إلى أقرب الناس إلى
الواقف، لان مقتضى الوقف الثواب على التأبيد، فحمل فيما سماه على ما شرطه
334

وفيما سكت عنه على مقتضاه، ويصير كأنه وقف مؤبد. ويقدم المسمى على غيره
فإذا انقرض المسمى صرف إلى أقرب الناس إلى الواقف، لأنه من أعظم
جهات الثواب، والدليل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لا صدقة
وذو رحم محتاج)
وروى سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (صدقتك على
المساكين صدقة، وعلى ذي الرحم اثنتان، صدقة وصلة) وهل يختص به فقراؤهم
أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء؟ فيه قولان
(أحدهما) يختص به الفقراء، لان مصرف الصدقات إلى الفقراء.
(والثاني) يشترك فيه الفقراء والأغنياء: لان في الوقف الغنى والفقير
سواء، وإن وقف وقفا منقطع الابتداء متصل الانتهاء بأن وقف على عبد ثم
على الفقراء، أو على رجل غير معين ثم على الفقراء، ففيه طريقان. من أصحابنا
من قال: يبطل قولا واحدا لان الأول باطل والثاني فرع لأصل باطل
فكان باطلا. ومنهم من قال فيه قولان:
(أحدهما) أنه باطل لما ذكرناه (والثاني) أنه يصح لأنه لما بطل الأول صار
كأن لم يكن. وصار الثاني أصلا. فإذا قلنا إنه يصح فإن كان الأول لا يمكن
اعتبار انقراضه كرجل غير معين صرف إلى من بعده وهم الفقراء، لأنه لا يمكن
اعتبار انقراضه فسقط حكمه، وإن كان يمكن اعتبار انقراضه كالعبد ففيه ثلاثة
أوجه (أحدها) ينقل في الحال إلى من بعده، لان الذي وقف عليه في الابتداء
لم يصح الوقف عليه، فصار كالمعدوم (والثاني) وهو المنصوص: أنه للواقف
ثم لوارثه إلى أن ينقرض الموقوف عليه، ثم يجعل لمن بعده لأنه لم يوجد شرط
الانتقال إلى الفقراء، فبقي على ملكه.
(والثالث) أن يكون لأقرباء الواقف إلى أن ينقرض الموقوف عليه ثم
يجعل للفقراء، لأنه لا يمكن تركه عليه الواقف لأنه أزال الملك فيه، ولا يمكن
أن يجعل للفقراء لأنه لم يوجد شرط الانتقال إليهم فكان أقرباء الواقف أحق
وهل يختص به فقراؤهم؟ أو يشترك فيه الفقراء والأغنياء؟ على ما ذكرنا
من القولين.
335

(فصل) وإن وقف وقفا مطلقا ولم يذكر سبيله ففيه قولان:
(أحدهما) أن الوقف باطل لأنه تمليك فلا يصح مطلقا، كما لو قال: بعت
داري ووهبت مالي.
(والثاني) يصح وهو الصحيح لأنه إزالة ملك على وجه القربة فصح مطلقا
كالأضحية، فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الابتداء المنقطع
الانتهاء، وقد بيناه
(الشرح) الحديث الأول جزء من حديث طويل عن أبي هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال (والذي بعثني بالحق لا يعذب الله يوم القيامة من
رحم اليتيم ولان له في الكلام ورحم يتمه وضعفه ولم يتطاول على جاره بفضل
ما آتاه الله. وقال: يا أمة محمد والذي بعثني بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل
وله قرابة محتاجون إلى صلته ويصرفها إلى غيرهم، والذي نفسي بيده لا ينظر الله
إليه يوم القيامة) رواه الطبراني في الأوسط.
قال الهيثمي في مجمع الزوائد: وفيه عبد الله بن عامر الأسلمي، وهو ضعيف.
وقال أبو حاتم ليس بالمتروك. أما بقية رجاله فثقات.
أما حديث سلمان بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ (الصدقة على
المسلمين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان صدقة وصلة) رواه أحمد وابن ماجة
والترمذي والنسائي وابن حيان والدارقطني والحاكم وحسنه الترمذي
أما الأحكام: فإنه لا يجوز إلا على سبيل مراد للتأبيد لا للانقطاع ولا يتحقق
هذا إلا إذا جعل وقفه لفئة أو طائفة لا تنقرض، فإذا وقف على قوم ونسلهم
ثم على المساكين فانقرض القوم ونسلهم فلم يبق منهم أحد رجع إلى المساكين ولم
ينتقل إليهم ما دام أحد من القوم أو من نسلهم باقيا، لأنه رتبة للمساكين بعدهم
والمساكين من الزكاة والفقراء يدخلون فيهم. وكذلك لفظ الفقراء يدخل فيه
المساكين ن لان كل واحد من اللفظين يطلق عليهما، والمعنى الذي يسميان به
شامل لهما وهو الحاجة والفاقة، ولهذا لما سمى الله عز وجل المساكين في مصرف
كفارة اليمين وكفارة الظهار وفدية الأذى تناولهما جميعا، وجاز الصرف إلى كل
336

واحد منهما. فإذا وقفه وقفا متصل الابتداء منقطع الانتهاء، كعلى رجل، أو
رجل ونسله ففيه وجهان:
(أحدهما) البطلان لأنه منقطع. وهو لا يجوز إلا على الدوام.
(والثاني) أنه يجوز لامكان صرفه إلى أقرب الناس إلى الوقف وإن كانوا
أغنياء. وهذا هو أحد القولين عندنا وبه قال أحمد وأصحابه. والثاني يقدم الفقراء
منهم وأكثرهم حاجة.
ويحتمل أن يجزأ الوقف ثلاثة أجزاء. فجزء يصرف إلى الغزاة في سبيل الله
وجزء يصرف إلى أقرب الناس إليه من الفقراء لأنهم أكثر الجهات ثوابا، فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (صدقتك على ذي القرابة صدقة وصلة) والثالث
يصرف إلى من يأخذ الزكاة لحاجته. وهم خمسة أصناف لأنهم أهل حاجة
منصوص عليهم في القرآن، فكان من نص الله تعالى عليه في كتابه أولى من غيره
وإن ساواه في الحاجة.
(فرع) سبق أن قررنا أن الوقف على من لا يملك باطل، فإذا وقف وقفا
متصلا غير منقطع في دوامه واستمراره إلا أنه منقطع في ابتدائه بأن وقفه على
عبد أو جنين في بطن أمه على أن يؤول بعد ذلك إلى الفقراء فلأصحابنا طريقان،
الأول يبطل لبطلان أوله قولا واحدا. والثاني يصح لصحة استمراره ودوامه
فيصير أوله كأن لم يكن ويصرف الوقف على وجهه الصحيح
وقد بحث الرملي في شرحه على المنهاج المسألة فقال: ولو قال وقفت على
أولادي أو على زيد ثم نسله أو نحوهما مما لا يدوم ولم يزد على ذلك فالأظهر صحة
الوقف، لان مقصوده القربة والدوام، فإذا بين مصرفه ابتداء سهل إدامته على
سبيل الخير، فإذا انقرض الذكور أو لم تعرف أرباب الوقف فالأظهر أنه يبقى
وقفا، لان وضع الوقف الدوام كالعتق، ولأنه صرفه عنه فلا يعود، كما لو نذر
هديا إلى مكة فرده فقراؤها.
(والثاني) يرتفع الوقف ويعود ملكا للواقف أو إلى ورثته إن كان مات،
لان بقاء الوقف بلا مصرف متعذر، وإثبات مصرف لم يذكره الواقف بعيد
337

فتعين ارتفاعه، والأظهر ما أفتى به الزين العراقي أن المراد بما في كتب الأوقاف
ثم الأقرب إلى الواقف أو المتوفى قرب الدرجة والرحم لا قرب الإرث والعصوبة
فلا ترجيح بهما في مستويين في القرب من حيث الرحم والدرجة. ومن ثم قال
لا يرجح عم على خالة بل هما مستويان ويعتبر فيهم الفقر، ولا يفضل الذكر على
غيره فيما يظهر ولكن بالقرب إلى الواقف، لان الصدقة على الأقارب أفضل
القربات ن فإذا تعذر الرد للواقف تعين أقربهم إليه، لان الأقارب مما حث
الشرع عليهم في جنس الوقف لخبر أبى طلحة: أرى أن تجعلها في الأقربين.
وبه فارق عدم تعينهم في نحو الزكاة، على أن لهذه مصرفا عينه الشارع بخلاف
الوقف، ولو فقدت أقاربه أو كانوا كلهم أغنياء صرف الربع لصالح المسلمين،
كما نص عليه البويطي في الأولى، أو إلى الفقراء والمساكين على ما قاله سليم
الرازي وابن الصباغ والمتولي وغيرهم، أو قال: ليصرف من غلته لفلان كذا،
وسكت عن باقيها فكذلك. وصرح في الأنوار بعدم اختصاصه بفقراء بلد
الوقف بخلاف الزكاة.
أما الامام إذا وقف منقطع الآخر فيصرف للمصالح لا لأقاربه، كما أفاده
الزركشي، وهو ظاهر.
ولو كان الوقف منقطع الأول كوقفته على من سيولد لي، أو على مسجد
سيبني ثم على الفقراء مثلا فالمذهب بطلانه لتعذر الصرف إليه حالا ومن بعده (مرعه؟)
والطريق الثاني فيه قولان: أحدهما الصحة، وصححه المصنف في تصحيح التنبيه
ولو لم يذكر بعد الأول مصرفا بطل قطعا ن لأنه منقطع الأول والآخر. ولو
قال وقفت على أولادي ومن سيولد لي على ما افصله، ففصله على الموجودين
وجعل نصيب من مات منهم بلا عقب لمن سيولد له صح، ولا يؤثر فيه قوله:
وقفت على أولادي ومن سيولد لي، لان التفصيل بعده بيان له، أو كان الوقف
مقطوع الوسط كوقفته على أولادي ثم على رجل، وأبهم لأنه لا يضر تردد في
صفة أو شرط أو مصرف دلت قرينة قبله أو بعده على تعينه، إذ لا يتحقق
الانقطاع الا مع الابهام من كل وجه. ثم قال: ثم على الفقراء، فالمذهب صحته
لوجود المصرف حالا ومآلا.
338

ولو اقتصر على قوله: وقفت كذا ولم يذكر مصرفا، أو ذكر مصرفا متعذرا
كوقفت كذا على جماعة فالأظهر بطلانه.
ولو وقف على شخصين ثم الفقراء مثلا فمات أحدهما فالأصح المنصوص أن
نصيبه يصرف إلى الآخر، لان شرط الانتقال إلى الفقراء انقراضهما جميعا ولم
يوجدوا إذا امتنع الصرف إليهم فالصرف لمن ذكره الواقف أولى. والثاني:
يصرف إلى الفقراء كما يصرف إليهم إذا ماتا، ومحل الخلاف ما لم يفصل، وإلا
بأن قال: وقفت على كل منهما نصف هذا فهما وقفان كما ذكره السبكي فلا يكون
نصيب الميت منهما للآخر انتقاله للأقرب إلى الواقف
ولو وقف عليهما وسكت عمن يصرف له بعدهما فهل نصيبه للآخر أو لأقرباء
الواقف؟ وجهان أوجههما كما أفاده الرملي الأول وصححه الأذرعي، ولو رد
أحدهما أو بان ميتا فالقياس على الأصح صرفه للآخر. ولو وقف على زيد ثم
عمرو ثم بكر ثم للفقراء، فمات عمرو قبل زيد ثم مات زيد، قال الماوردي والروياني
لا شئ لبكر وينتقل الوقف من زيد إلى الفقراء، لأنه رتبه بعد عمرو، وعمرو
بموته أولا لم يستحق شيئا فلم يجز أن يتملك بكر عنه شيئا.
وقال القاضي أبو الطيب: الأظهر أنه يصرف إلى بكر لان استحقاق الفقراء
مشروط بانقراضه، كما لو وقف على ولده ثم ولد ولده ثم الفقراء، فمات ولد
الولد ثم الولد يرجع للفقراء.
ويوافقه فتوى البغوي في مسألة حاصلها أنه إذا مات واحد من ذرية الواقف
في وقف الترتيب قبل استحقاقه للوقف لحجبه بمن فوقه يشارك ولده من
بعده عند استحقاقه. قال الزركشي وهذا هو الأقرب.
ولو وقف على أولاده فإذا انقرض أولادهم فعلى الفقراء، فالأوجه كما صححه
الشيخ أبو حامد أنه منقطع الوسط، لان أولاد الأولاد لم يشرط لهم شيئا وإنما
شرط انقراضهم لاستحقاق غيرهم.
واختار ابن أبي عصرون دخولهم، وجعل ذكرهم قرينة على استحقاقهم وفيما
ذكرنا كله مذهب أحمد وأصحابه في الأوجه والأقوال وطرق الترجيح
(فرع) إذا أطلق ولم يعين مصرف الوقف فالصحيح أنه يصح، لأنه إزالة
339

ملك على وجه التقرب إلى الله تعالى، وما أطلق من كلام الآدميين محمول على
المعهود في الشرع، فعلى هذا يكون حكمه حكم الوقف المتصل الابتداء المنقطع
الانتهاء فيصرف إلى أقرب الناس إليه، والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يصح الوقف الا بالقول، فإن بنى مسجدا وصلى فيه أو أذن
للناس بالصلاة فيه لم يصر وقفا، لأنه إزالة ملك على وجه القربة فلم يصح من غير
قول مع القدرة كالعتق، وألفاظه ستة: وقفت. وحبست. وسلبت. وتصدقت
وأبدت وحرمت.
فأما الوقف والحبس والتسبيل فهي صريحة فيه، لان الوقف موضوع له
ومعروف به، والتحبيس والتسبيل ثبت لهما عرف الشرع ن فإن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لعمر رضي الله عنه: حبس الأصل وسبل الثمرة. وأما التصدق فهم كناية فيه
لأنه مشترك بين الوقف وصدقة التطوع فلم يصح الوقف بمجرده، فإن اقترنت
به نية الواقف أو لفظ من الألفاظ الخمسة بأن يقول: تصدقت به صدقة
موقوفة أو محبوسة أو مسبلة أو مؤبدة أو محرمة، أو حكم الوقف بأن يقول:
صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث صار وقفا، لأنه مع هذه القرائن لا يحتمل
غير الوقف،
وأما قوله: حرمت وأبدت ففيه وجهان (أحدهما) أنه كناية فلا يصح به
الوقف الا بإحدى القرائن التي ذكرنا، لأنه لم يثبت له عرف الشرع ولا عرف
اللغة فلم يصح الوقف بمجرده كالتصدق (والثاني) أنه صريح لان التأبيد والتحريم
في غير الابضاع لا يكون الا بالوقف فحمل عليه
(فصل) وإذا صح الوقف لزم وانقطع تصرف الواقف فيه، لما روى
ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه:
ان شئت حبست أصلها وتصدقت بها لا تباع ولا توهب ولا تورث. ويزول
ملكه عن العين.
ومن أصحابنا من خرج فيه قولا آخر أنه لا يزول ملكه عن العين، لان
340

الوقف حبس العين وتسبيل المنفعة، وذلك لا يوجب زوال الملك. والصحيح
هو الأول، لأنه سبب يزيل ملكه عن التصرف في العين والمنفعة فأزال الملك
كالعتق. واختلف أصحابنا فيمن ينتقل الملك إليه، فمنهم من قال: ينتقل إلى الله
تعالى قولا واحدا، لأنه حبس عين وتسبيل منفعة على وجه القربة فأزال الملك
إلى الله تعالى كالعتق
ومنهم من قال فيه قولان (أحدهما) أنه ينتقل إلى الله تعالى وهو الصحيح
لما ذكرنا (والثاني) أنه ينتقل إلى الموقوف عليه لان ما أزال المالك عن العين لم
يزل المالية تنقل إلى الآدمي كالصدقة
(فصل) ويملك الموقوف عليه غلة الوقف، فإن كان الموقوف شجرة
ملك ثمرتها وتجب عليه زكاتها، لأنه يملكها ملكا تاما فوجب زكاتها عليه، فإن
كان حيوانا ملك صوفه ولبنه، لان ذلك من غلة الوقف وفوائده فهو كالثمرة،
وهل يملك ما تلده؟ فيه وجهان (أحدهما) يملكه لأنه نماء الوقف فأشبه الثمرة
وكسب العبد (والثاني) أنه موقوف كالأم لان كل حكم ثبت للام يتبعها فيه الولد
كحرمة الاستيلاد في أم الولد، وإن كان جارية ملك مهرها لأنه بدل منفعتها ولا
يملك وطأها، لان في أحد القولين لا يملكها، وفى الثاني يملكها ملكا ضعيفا
فلم يملك به الوطئ، فإن وطئها لم يلزمه الحد لأنه في أحد القولين يملكها، وفى
الثاني له شبهة ملك. وفى تزويجها وجهان
(أحدهما) لا يجوز، لأنه ينقص قيمتها وربما تلفت من الولادة فيدخل
الضرر على من بعده من أهل الوقف
(والثاني) يجوز لأنه عقد على منفعتها فأشبه الإجارة. فإن قلنا إنها للموقوف
عليه كان تزويجها إليه، وإن قلنا إنها تنتقل إلى الله تعالى كان تزويجها إلى الحاكم
كالحرة التي لا ولى لها ولا يزوجها الحاكم إلا بإذن الموقوف عليه، لان له حقا
في منافعها فلم يملك التصرف فيها وبغير اذنه، فإن أتت ولد مملوك كان الحكم فيه
كالحكم فيما تلد البهيمة
(فصل) وان أتلفه الواقف أو أجنبي فقد اختلف أصحابنا فيه على طريقين
فمنهم من قال يبنى على القولين، فإن قلنا إنه للموقوف عليه وجبت القيمة له لأنه
341

بدل ملكه، وان قلنا: إنه لله تعالى اشترى به مثله ليكون وقفا مكانه. وقال
الشيخ أبو حامد الأسفرايني: يشترى بها مثله ليكون وقفا وكأنه قولا واحدا لأنا
وان قلنا إنه ينتقل إلى الموقوف عليه الا أنه لا يملك الانتفاع برقبته، وإنما يملك
الانتفاع بمنفعته، ولان في ذلك ابطال حق البطن الثاني من الوقف، وان أتلفه
الموقوف عليه - فإن قلنا إنه إذا أتلفه غيره كانت القيمة له - لم تجب عليه،
لأنها تجب له ن وان قلنا يشترى بها ما يكون وقفا مكانه أخذت القيمة منه
واشترى بها ما يكون مكانه.
وإن كان الوقف جارية فوطئها رجل بشبهة فاتت منه بولد ففي قيمة الولد
ما ذكرناه من الطريقين في قيمة الوقف إذا أتلف، وإن كان الوقف عبدا فجنى
جناية توجب المال لم يتعلق برقبته، لأنها ليست بمحل للبيع، فان قلنا إنه
للموقوف عليه وجب الضمان علين. وأن قلنا: إنه لله تعالى ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) يلزم الواقف، وهو قول أبي إسحاق وهو الصحيح، لأنه منع من بيعه
ولم يبلغ به حالة يتعلق الأرش بذمته فلزمه أن يفديه كأم الولد (والثاني) أنه
يجب في بيت المال لأنه لا يمكن ايجابه على الواقف لأنه لا يملكه ولا على الموقوف
عليه لأنه لا يملكه، فلم يبق الا بيت المال، والثالث أنه يجب في كسبه لأنه كان
محله الرقبة ولا يمكن تعليقه عليها فتعلق بكسبه لأنه مستفاد من الرقبة، ويجب أقل الأمرين
من قيمته أو أرش الجناية لأنه لا يمكن بيعه كأم الولد.
(الشرح) خبر عمر معروف ومضى الكلام عليه وافيا إن شاء الله، أما
مقاصد الفصل، فإن الوقف لا ينعقد الا بالقول لأنه طريقنا إلى العلم بمراده
كالعتق، وألفاظ الوقف ستة، ثلاثة صريحة وثلاثة كناية، فالصريحة وقفت
وحبست وسلبت، متى أتى بواحدة من هذه الثلاث صار وقفا من غير انضمام
أمر زائد، لأن هذه الألفاظ ثبت لها حكم الاستعمال عرفا بين الناس وشرعا
بالأخبار الصحيحة بقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر (ان شئت حبست أصلها
وسبلت ثمرتها) أو (حبس الأصل وسبل الثمرة) على أي من الروايتين فصارت
هذه الألفاظ في الوقف كلفظ التطليق في الطلاق
342

وأما الكناية فهي: تصدقت وحرمت وأبدت فليست صريحة، لان لفظة
الصدقة والتحريم مشتركة ن فإن الصدقة تستعمل في الزكاة والهبات، والتحريم
يستعمل في الظهار والايمان، ويكون تحريما على نفسه وعلى غيره، والتأييد
يحتمل تأبيد التحريم وتأبيد الوقف، ولم يثبت لهذه الألفاظ عرف الاستعمال،
فلا يحصل الوقف بمجردها ككنايات الطلاق فيه. فإن انضم إليها أحد ثلاثة
أشياء حصل الوقف بها.
(أحدها) أن ينضم إليها لفظة أخرى تخلصها من الألفاظ الخمسة فيقول:
صدقة محبوسة أو موقوفة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة، أو يقول هذه محرمة
موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو مؤبدة.
(الثاني) أن يصفها بصفات الوقف فيقول: صدقة لا تباع ولا توهب ولا
تورث، لأن هذه القرينة تزيل الاشتراك.
(الثالث) أن ينوى الوقف فيكون على ما نوى، إلا أن النية تجعله وقفا في
الباطن دون الظاهر لعدم الاطلاق على ما في الضمائر، فان اعترف بما نواه لزم
في الحكم لظهوره. وإن قال: ما أردت الوقف فالقول قوله لأنه أعلم بما نوى،
قال في النهاية (ولا يصح الوقف من ناطق لا يحسن الكتابة إلا بلفظ)
أما الأخرس فيصح بإشارته. وأما الكاتب فبكتابته مع النية. فلو أنه بنى مسجدا
وأذن فيه وصلى فيه، أو مقبرة وأذن في الدفن فيها، فمذهب الشافعي لا يكون
ذلك وقفا إلا إذا اقترن باللفظ صريحا أو كناية مقترنة بما يزيل لبسها. وقال
أحمد في رواية أبى داود وأبى طالب فيمن دخل بيتا في المسجد وأذن فيه: لم
يرجع فيه، وكذلك إذا اتخذ المقابر وأذن للناس فيها فليس له الرجوع. وهذا
قول أبي حنيفة رضي الله عنه.
وذكر ابن قدامة رواية أخرى عن أحمد أنه لا يصير وقفا إلا بالقول،
وقد اجتهد ابن قدامة في الجمع بين الروايتين وجعلهما قولا واحدا وهو الاخذ
باللفظ، فإذا ثبت هذا فإنه متى صح وقفه فقد زالت يده عنه زوال ملك وانقطع
بذلك تصرفه. فإذا قلنا بزوال ملكه عن العين وهو الصحيح من المذهب وبه قال
343

أحمد وأصحابه، فهل ينتقل الملك إلى الموقوف عليهم؟ فمن أصحابنا من قال: ينتقل
الملك إلى الموقوف عليهم، وهو ظاهر مذهب أحمد حيث يقول: إذا وقف
داره على ولد أخيه صارت لهم. وهذا يدل على أنهم ملكوه. وروى عن أحمد
أنه لا يملك، فان جماعة نقلوا عنه فيمن وقف على ورثته في مرضه يجوز،
لأنه لا يباع ولا يورث ولا يصير ملكا للورثة، وإنما ينتفعون بغلتها، وهذا
يدل بظاهره على أنهم لا يملكون، ويحتمل أن يريد بقوله: لا يملكون، أي
لا يملكون التصرف في الرقبة، فان فائدة الملك وآثاره ثابتة في الوقف
وقال أبو حنيفة: لا ينتقل الملك في الوقف اللازم، بل يكون حقا لله تعالى
لأنه إزالة ملك عن العين والمنفعة على وجه القربة بتمليك المنفعة، فانتقل
الملك إلى الله تعالى كالعتق. وبهذا قال بعض أصحابنا، وهو الصحيح من المذهب
عندنا. والقول الآخر أن الوقف سبب يزيل ملك الواقف وجه إلى من يصح
تمليكه على وجه لا يخرج المال عن ماليته فوجب أن ينقل الملك إليه كالهبة والبيع
ولأنه لا وكان تمليك المنفعة المجردة لم يلزم كالعارية والسكنى ولم يزل الواقف
عنه كالعارية. ويفارق العتق فإنه أخرجه عن ماليته، وامتناع التصرف في
الرقبة لا يمنع الملك كأم الولد، وعلى أن الأظهر أن الملك في رقبة الموقوف
ينتقل إلى الله تعالى فلا يكون للواقف ولا للموقوف عليه.
على أن الذي لا نزاع فيه أن الموقوف عليه يملك غلة الوقف ومنافعه لان
ذلك مقصوده، والمنتفع يستوفيها بنفسه وبغيره بإعارة وإجارة إن كان ناظرا.
والا امتنع عليه نحو الإجارة لتعلقها بالناظر أو نائبه وذلك كسائر الاملاك،
ومحله ان لم يشرط ما يخالف ذلك. ولو خربت ولم يعمرها الموقوف عليه
أجرت للضرورة بما تعمر به، إذ الفرض أنه ليس للوقف ما يعمر به سوى
الأجرة المعجلة، وذكر ابن الرفعة أنه يلزم الموقوف عليه ما نقصه الانتفاع
من عين الموقوف.
ورجح السبكي أنه ان وقف أرضا غير مغروسة على معين امتنع عليه غرسها
الا إذا نص الواقف عليه أو شرط له جميع الانتفاعات، ومثل الغرس البناء،
344

ولا يبنى ما كان مغروسا وعكسه. وضابطه أنه يمتنع كل ما غير الوقف بالكلية
عن اسمه الذي كان عليه حال الوقف، بخلاف ما يبقى الاسم معه، نعم إن تعذر
المشروط جاز إبداله، وأفتى الولي العراقي في علو وقف أراد الناظر هدم واجهته
وإخراجه رواش له في هواء الشارع بامتناع ذلك إن كانت الواجهة صحيحة أو
غيرها واضر بجدار الوقف. وإلا جاز بشرط أن لا يصرف عليه من ريع
الوقف إلا ما يصرف في إعادته على ما كان عليه وما زاد في ماله، وإنما لم تمتنع
الزيادة مطلقا لأنها لا تغير معالم الوقف، ويملك الأجرة لأنها بدل المنافع المملوكة
له، وقضيته أنه يعطى جميع الأجرة المعجلة، ولو لمدة لا يحتمل بقاؤه إلى أن
قضائها، كما مر في الإجارة، ويملك فوائد الموقوف كثمرة. ومن ثم لزمه
زكاتها، وهو قول مالك والشافعي وأحمد.
وروى عن طاوس ومكحول أنه لا زكاة فيه لان الأرض ليست مملوكة لهم
فلم تجب الزكاة في الخارج منها عليهم كالمساكين. على أن الثمرة الموجودة حال
الوقف للواقف إن كانت مؤبرة، وإلا فقولان أرجحهما أنها موقوفة كالحمل
المقارن. وذكر القاضي في فتاواه أنه لو مات الموقوف عليه وقد برزت ثمرة
النخل فهي ملكه، أو وقد حملت الموقوفة فالحمل له ن أو قد زرعت الأرض
فالزرع الذي بذر، فإن كان البذر له فهو لورثته ولمن بعده أجرة بقائه في الأرض
وأفتى جمع من المتأخرين في نخل وقف مع أرضه ثم حدث منه ودي بأن تلك
الودية الخارجة من أصل النخل جزء منها فلها حكم أغصانها، وسبقهم لنحو ذلك
السبكي فإنه أفتى في أرض وقف وبها شجر موز فزالت بعد أن نبت من أصولها
فراخ. وفى السنة الثانية كذلك وهكذا بأن الوقف ينسحب على كل ما نبت من
تلك الفراخ المتكررة من غير احتياج إلى إنشائه.
ولو ماتت البهيمة اختص بجلدها لكونه أولى به من غيره ومحله ما لم يدبغ
ولو بنفسه وإلا عاد وقفا، وله مهر الجارية الموقوفة عليه بكرا أو ثيبا إذا وطئت
من غير الموقوف عليه بشبهة منها، كأن كانت مكرهة أو مطاوعة لا يعتد بفعلها
لصغر أو اعتقاد حل وعذرت أو نكاح ان صححناه لأنه عقد على منفعة
فلم يمنعه الوقف كالإجارة. وكذا إن لم نصححه لأنه وطئ شبهة هنا أيضا.
345

والمزوج لها الحاكم بإذن الموقوف عليه، ومن ثم لو وقفت عليه زوجته انفسخ
نكاحه، وخرج بالمهر أرش البكارة فهو كأرش طرفها، ولا يحل للواقف ولا
للموقوف عليه وطؤها ويحد الأول به كما حكى عن الأصحاب. قال الرملي: وكذا
الثاني كما رجحناه هنا وهو المعتمد أما المطاوعة إذا زنى بها وهي مميزة
فلا مهر لها.
قال النووي في المنهاج: والمذهب أنه لا يملك قيمة العبد إذا أتلف. ومعنى
هذا أن الموقوف عليه لا يملك قيمة الموقوف إذا أتلف من واقف أو أجنبي أو
موقوف عليه تعدى باستعماله في غير ما وقف له أو تلف تحت يد ضامنة له. أما
إذا لم يتعد باتلاف الموقوف عليه فلا يكون ضامنا، كما لو وقع منه صنبور على
حوض سبيل فانكسر من غير تقصير ن وفى حال التعدي يشترى الحاكم أو الناظر
في الوقف بقيمة التالف بدله. ولا بد من إنشاء وقفه من جهة مشتريه فيتعين
أحد ألفاظ الوقف المارة.
قال الرملي: وقول القاضي أقمته مقامه محل نظر، وفارق هذا صيرورة القيمة
رهنا في ذمة الجاني بأنه يصح رهنها دون وقفها، وعدم اشتراط جعل بدل
الأضحية أضحية إذا اشترى بعين القيمة أو في الذمة، ونوى بأن القمة هناك
ملك الفقراء والمشترى نائب عنهم، فوقع الشراء لهم بالعين أو مع النية. وأما
القيمة هنا فليست ملك أحد فاحتيج لانشاء وقف ما يشترى بها حتى ينتقل إلى الله
تعالى، ولا يجوز شراء أنثى مكان ذكر إذا كان الموقوف ذكرا، كما لا يجوز أن
يشترى صغيرا مكان كبير إذا كان الموقوف كبيرا وعكسه، لان الغرض يختلف
بذلك وما فضل من القمية يشترى به شقص بخلاف نظيره الذي سيأتي في الوصية
إن شاء الله تعالى لتعذر الرقبة المصرح بها فيها.
فإن لم يمكن شراء شقص بالفاضل صرف للموقوف عليه فيما يظهر، كما مر
نظيره، بل لنا وجه بصرف جميع ما أوجبته الجناية إليه. ولو أوجبت قودا استوفاه
الحاكم، فان تعذر شراء بدل الموقوف بها فبعض بدله يشترى بها لكونه أقرب
إلى مقصوده كنظيره من الأضحية على الراجح
ووجه الخلاف أن الشقص من حيث هو يقبل الوقف بخلاف الأضحية،
346

ولو جنى الموقوف جناية أو جبت قصاصا أقتص منه وفات الوقف، أو قصاصا
أو مالا وعفى على المال فداه الواقف بأقل الأمرين. وله إن تكررت الجناية
حكم أم الولد في عدم تكرر الفداء وسائر أحكامها، فان مات الوقف ثم جنى
الموقوف فمن بيت المال كالحر المعسر، كما أفتى بذلك الشهاب الرملي. ولو مات
الجاني بعد الجناية لم يسقط الفداء. هكذا أفاده الشمس الرملي
ولو جفت الشجرة الموقوفة أو قلعها ريح أو زمنت الدابة لم ينقطع الوقف
على المذهب، وان امتنع وقفها ابتداء لقوة الدوام، بل ينتفع بها جذعا بإجارة
ويحتمل أن تباع لتعذر الانتفاع بها على وفق شرط الوقف والثمن
الذي بيعت به على هذا الوجه، كقيمة العبد، فيأتي فيه ما مر، فلو لم يمكن
الانتفاع بها الا باستهلاكها باحراق ونحوه صارت ملكا للموقوف عليه كما صححه
ابن الرفعة والقمولي وجرى عليه ابن المقري في روضه لكنها لا تباع ولا توهب
بل ينتفع بعينها كأم الولد ولحم الأضحية
فإذا ثبت هذا فإنها لا تصير ملكا لان معنى عودة ملكا انه ينتفع به ولو باستهلاك
عينه كالاحراق. ومعنى عدم بطلان الوقف الذي قررناه انه ما دام باقيا لا يفعل
به ما يفعل بسائر الاملاك من بيع ونحوه
قال النووي: والأصح جواز بيع حصر المسجد إذا بليت وجذوعه إذا
انكسرت ولم تصلح الا للاحتراق اه‍. وذلك لئلا تضيع وادراك اليسير من ثمنها
يعود على الوقف أولى من ضياعها. واستثنيت من بيع الوقف لصيرورتها
كالمعدومة ويصرف ثمنها لمصالح المسجد ان لم يمكن شراء حصير أو جذع. والله
تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتصرف الغلة على شرط الواقف من الأثرة والتسوية والتفضيل
والتقديم والتأخير والجمع والترتيب، وادخال من شاء بصفة وأخرجه بصفة،
لان الصحابة رضي الله عنهم وقفوا وكتبوا شروطهم، فكتب عمر بن الخطاب
رضي الله عنه صدقة للسائل والمحروم، والضيف ولذي القربى وابن السبيل،
347

وفى سبيل الله، وكتب علي كرم الله وجهه بصدقته (ابتغاء مرضاة الله ليولجني
الجنة، ويصرف النار عن وجهي ويصرفني عن النار، في سبيل الله وذي الرحم
والقريب والبعيد، لا يباع ولا يورث) وكتبت فاطمة رضي الله عنها بنت
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لنساء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفقراء
بني هاشم وبني المطلب)
(فصل) فان قال وقفت على أولادي دخل فيه الذكر والأنثى والخنثى،
لان الجميع أولاده، ولا يدخل فيه ولد الولد، لان ولده حقيقة ولده من صلبه،
فإن كان له حمل لم يدخل فيه حتى ينفصل، فإذا انفصل استحق ما يحدث من الغلة
بعد الانفصال دون ما كان حدث قبل الانفصال، لأنه قبل الانفصال لا يسمى
ولدا، وان وقف على ولده وله ولد فنفاه باللعان لم يدخل فيه.
وقال أبو إسحاق يدخل فيه لان اللعان يسقط النسب في حق الزوج، ولا
يتعلق به حكم سواه، ولهذا تنقضي به العدة، والمذهب الأول لان الوقف على
ولده وباللعان قد بان انه ليس بولده، فلم يدخل فيه، وان وقف على أولاد
أولاده دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات، لان الجميع أولاد أولاده، فان
قال على نسلي أو عقبى أو ذريتي دخل فيه أولاد البنين وأولاد البنات، قربوا أو
بعدوا، لان الجميع من نسله وعقبه وذريته، ولهذا قال الله تعالى (ومن ذريته
داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزى المحسنين،
وزكريا ويحيى وعيسى) فجعل هؤلاء كلهم من ذريته على البعد، وجعل عيسى من
ذريته وهو ينسب إليه بالأم، فان وقف على عترته فقد قال ابن الاعرابي وثعلب
هم ذريته. وقال القتيبي: هم عشيرته.
وان وقف على من ينسب إليه لم يدخل فيه أولاد البنات، لأنهم لا ينسبون
إليه. ولهذا قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا، وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأجانب
وان وقف على البنين لم يدخل فيه الخنثى المشكل، لأنا لا نعلم أنه من البنين
فان وقف على البنات لم يدخل فيه، لأنا لا نعلم أنه من البنات، فان وقف على
348

البنين والبنات ففيه وجهان (أحدهما) انه لا يدخل فيه، لأنه ليس من البنين
ولا من البنات (والثاني) انه يدخل لأنه لا يخلو من أن يكون ابنا أو بنتا.
وان أشكل علينا - فان وقف على بنى زيد - لم يدخل بناته، فان وقف
على بنى تميم وقلنا إن الوقف صحيح ففيه وجهان (أحدهما) لا يدخل فيه البنات
لان البنين اسم للذكور حقيقة (والثاني) يدخلن فيه، لأنه إذا أطلق أسم
القبيلة دخل فيه كل من ينسب إليها من الرجال والنساء.
(فصل) وان قال وقفت على أولادي فان انقرض أولادي وأولاد أولادي
فعلى الفقراء لم يدخل فيه ولد الولد ويكون هذا وقفا منقطع الوسط فيكون على
قولين كالوقف المنقطع الانتهاء. ومن أصحابنا من قال يدخل فيه أولاد الأولاد
بعد انقراض ولد الصلب لأنه لما شرط انقراضهم دل على أنه يستحقون كولد
الصلب، والصحيح هو الأول، لأنه لم يشرط شيئا، وإنما شرط انقراضهم
لاستحقاق غيرهم.
(الشرح) قوله الأثرة وهي أن يخص قوما دون قوم، مثل ان يقف على
أولاده فيخص الذكور دون الإناث أو العكس. واما التقديم والتأخير فيتحقق
بأمرين بالمفاضلة، مثل أن يقول وقفت على أولادي للذكر مثل حظ الأنثيين
أو على أن للأنثى الثلثين والذكر الثلث مثلا. والثاني أن يقول على أن البطن
الاعلى يقدم على البطن الثاني.
وأما التسوية فان يسوى بين الغنى والفقير أو بين الذكور والإناث والاطلاق،
يقتضى ذلك. وأما اخراج من شاء بصفة فمثل أن يقول وقفت على أولادي على
أن من اشتغلت ممثلة فلا حق لها، أو من استغنى من أولادي فلا حق له فيه،
ويمكن أن يقول: إذا رجعت عن التمثيل أو افتقر فيرد إليه.
وأما كتاب عمر رضي الله عنه فقد أخرجه أبو داود، ولفظه حدثنا سليمان
المهري قال: أخبرنا ابن وهب قال: اخبرني الليث عن يحيى بن سعيد عن صدقة
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: نسخها لي عبد الحميد بن عبد الله
ابن عمر بن الخطاب:
349

بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما كتب عبد الله عمر في ثمغ فقص من خبره
نحو حديث نافع قال: غير متأثل مالا، فما عفا عنه من ثمره فهو للسائل والمحروم
قال وساق القصة قال: وان شاء ولى ثمغ اشترى من ثمره رقيقا لعمله
وكتب معيقيب، وشهد عبد الله بن الأرقم. بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى
به عبد الله عمر أمير المؤمنين إن حدث به حدث، أن ثمغا وصرمة بن الأكوع
والعبد الذي فيه، والمائة سهم التي بخيبر، ورقيقه الذي فيه، والمائة التي أطعمه
محمد صلى الله عليه وسلم بالوادي، تليه حفصة ما عاشت، ثم يليه ذو الرأي من
أهلها أن لا يباع ولا يشترى، ينفقه حيث رأى من السائل والمحروم وذي القربى
ولا حرج على من وليه ان أكل أو آكل أو اشترى رقيقا منه)
وبعد، فان هذا الفصل يشتمل على أحكام نبحثها مستعينين بالله مستمدين منه
التوفيق والسداد فنقول:
إذا وقف على ولده لا يدخل فيه ولد الولد بحال، سواء في ذلك ولد البنين
وولد البنات، لان الولد حقيقة وعرفا إنما هو ولده لصلبه، وإنما يسمى ولد
الولد ولد مجازا، ولهذا يصح نفيه. فيقال ما هذا ولدى إنما هو ولد ولدى.
وان قال على ولدى لصلبي فهو آكد. وان قال على ولدى وولد ولدى ثم على
المساكين، دخل فيه البطن الأول والثاني ولم يدخل فيه البطن الثالث. وان قال
على ولدى وولد ولدى وولد ولد ولدى دخل فيه ثلاث بطون دون من بعدهم،
وموضع الخلاف الاطلاق.
فأما مع وجود دلالة تصرف إلى أحد المحملين فإنه يصرف إليه بغير الخلاف
كأن يقول: على ولد فلان وهم قبيلة ليس فيهم ولد من صلبه فإنه يصرف إلى
أولاد الأولاد باتفاق.
وكذلك ان قال: على أولادي أو ولدى وليس له ولد من صلبه، أو قال
ويفضل ولد الأكبر أو الأعلم على غيرهم. أو قال: فإذا خلت الأرض من عقبى
عاد إلى المساكين. وان اقترنت به قرينة تقتضي تخصيص أولاده لصلبه بالوقف
مثل أن يقول: على ولدى لصلبي أو الذين يلونني ونحو هذا فإنه يختص بالبطن
الأول دون غيرهم.
350

وقال أحمد في رواية المروذي، قلت لأبي عبد الله ما تقول في رجل وقف
ضيعة على ولده فمات الأولاد وتركوا النسوة حوامل؟ فقال كل ما كان من أولاده
الذكور بنات كن أو بنين فالضيعة موقوفة عليهم، وما كان من أولاد البنات
فليس لهم فيه شئ لأنهم من رجل آخر.
وقال أيضا فيمن وقف على ولد علي بن إسماعيل ولم يقل ان مات ولد على
ابن إسماعيل دفع إلى ولد ولده، فمات ولد علي بن إسماعيل: دفع إلى ولد ولده
أيضا لان هذا من ولد علي بن إسماعيل، ووجه ذلك قوله تعالى (يوصيكم الله في
أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) فدخل فيه ولد البنين وان سفلوا، ولما قال
(ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) فتناول ولد البنين،
وخالف القاضي وأصحابه من الحنابلة ووافقوا مذهب الشافعي رضي الله عنه فيها.
(فرع) إذا قال وقفت هذا على ولدى وولد ولدى ما تناسلوا وتعاقبوا الاعلى
فالأعلى أو الأقرب فالأقرب أو الأول فالأول أو البطن الأول ثم البطن الثاني
أو قال على أولادي ثم على أولاد أولادي، أو قال على أولادي فان انقرضوا
على أولاد أولادي، فكل هذا على الترتيب فيكون على ما شرط، ولا يستحق
البطن الثاني شيئا حتى ينقرض البطن كله، ولو بقي واحد من البطن الأول كان
الجميع له، لان الوقف ثبت بقوله فيتبع فيه مقتضى كلامه
فان قال على أولادي وأولادهم ما تناسلوا وتعاقبوا على أنه من مات منهم عن
ولد كان ما كان جاريا عليه جاريا على ولده، كان ذلك دليلا على الترتيب، لأنه
لو اقتضى التشريك لاقتضى التسوية، ولو جعلنا لولد الولد سهما مثل سهم أبيه
ثم دفعنا إليه سهم أبيه صار له سهمان ولغيره سهم، وهذا ينافي التسوية، ولأنه
يفضى إلى تفضيل ولد الابن على الابن، وهذا يخالف إرادة الواقف
فان قال وقفت على ولدى وولد ولدى ثم على أولادهم، أو على أولادي ثم
على أولاد أولادي وأولادهم ما تناسلوا، أو قال على أولادي وأولاد أولادي
ثم على أولاد أولادهم ما تناسلوا فهو على ما قال، يشترك فيه من شرك بينهم بواو
العطف المقتضية للاشتراك بين ما بعدها في الحكم مع ما قبلها
351

ففي الصورة الأولى يشترك الولد وولد الولد ثم إذا انقرضوا صار لمن بعدهم
وفى الثانية يختص به الولد، فإذا انقرضوا صار مشتركا بين من بعدهم، وفى الثالثة
يشترك فيه البطنان الأولان دون غيرهم، فإذا انقرضوا اشترك فيه من بعدهم.
ومن وقف على أولاده أو أولاد غيره وفيهم حمل لم يستحق شيئا قبل انفصاله لأنه
لم تثبت له أحكام الدنيا قبل انفصاله.
ويروى عن جعفر بن محمد فيمن وقف نخلا على قوم وما توالدوا ثم ولد
مولود، فإن كانت النخل قد أبرت فليس له فيه شئ، وإن لم تكن قد أبرت فهو
معهم. وهذا الحكم راجع إلى اتباع الأصل في البيع، وهذا الموجود يستحق
نصيبه من الأصل، وبعد التأبير لا تتبع الأصل، ويستحقها من كان له الأصل
فكانت للوجود قبل التأبير لان الأصل كان له فاستحق ثمرته، كما لو باع هذا
النصيب منها، ولم يستحق المولود لا يستحق منه شيئا كالمشتري. وهذا الحكم في سائر ثمر
الشجر الظاهر، فإن المولود لا يستحق منه شيئا ويستحق مما ظهر بعد ولادته.
(فرع) إذا وقف على قوم وأولادهم وذريتهم دخل في الوقف ولد البنين
بغير خلاف نعمله. فأما ولد البنات فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنهم يدخلون
وقال الخرقي من أصحاب أحمد: لا يدخلون. وقال أحمد فيمن وقف على ولده
ما كان من ولد البنات فليس لهم فيه شئ
قال ابن قدامة: وهذا النص يحتمل أن يعدى إلى هذه المسألة ويحتمل أن
يكون مقصورا على من وقف على ولده ولم يذكر ولد ولده.
وممن قال لا يدخل ولد البنات في الوقف الذي على أولاده وأولاد أولاده
مالك ومحمد بن الحسن. وهكذا إذا قال: على ذريتهم أو نسلهم أو عقبه، وقال
أبو بكر وعبد الله بن حامد من الحنابلة: يدخل فيه ولد البنات، وهو مذهب أبي
يوسف، لان البنات أولاده، فأولادهن أولاد حقيقة، فيجب أن يدخلوا
في الوقت لتناول اللفظ لهم.
وقد دل على صحة هذا قول الله تعالى (ونوحا هدينا من قبل، ومن ذريته
داود وسليمان إلى قوله تعالى وعيسى) وهو من ولد بنته فجعله من ذريته
وكذلك ذكر الله تعالى قصة عيسى وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ثم قال
352

(أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن
ذرية إبراهيم وإسرائيل) وعيسى فيهم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر (إن ابني
هذا سيد يصلح الله على يديه بين فئتين عظيمتين من المسلمين) يعنى الحسن بن علي
رواه أحمد والبخاري والترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه.
وعن أنس قال (بلغ صفية أن حفصة قالت. بنت يهودي فبكت فدخل عليها
النبي صلى الله عليه وسلم وهي تبكى وقالت: قالت لي حفصة: أنت ابنة يهودي.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لابنة نبي، وإن عمك لنبي وإنك لتحت نبي
فبم تفتخر عليك؟ ثم قال: اتقى الله يا حفصة) رواه أحمد والترمذي وصححه
والنسائي. وفى حديث عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: وأما أنت
يا علي فختني وأبو ولدي) رواه أحمد
وعن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وحسن وحسين على
وركيه (هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهم إني أحبهما وأحب من يحبهما)
رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب. وأخرج نحوه الترمذي من حديث
البراء بن عازب بدون قوله: هذان ابناي ولفظه (أبصر حسنا وحسينا فقال:
اللهم إني أحبهما فأحبهما) وللشيخين من حديث البراء أيضا بنحوه
ولما قال الله تعالى (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) دخل التحريم حلائل
أبناء البنات، ولما حرم الله تعالى البنات دخل في التحريم بناتهن، فإن وقف على
عترته فقد قال في المصباح: العترة نسل الانسان، قال الأزهري: وروى ثعلب
عن ابن الاعرابي أن العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه، ولا تعرف
العرب من العترة غير ذلك، ويقال: رهطه الأدنون، ويقال: أقرباؤه. ومنه
قول أبى بكر رضي الله عنه: نحن عترة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خرج منها، وبيضته
التي تفقأت عنه. وعليه قول ابن السكيت: العترة والرهط بمعنى. ورهط الرجل
قومه وقبيلته الأقربون.
وان وقف على من ينسب إليه لم يدخل فيه أولاد البنات لأنهم لا ينسبون
إليه. قال الشاعر:
بنونا بنو أبنائنا وبناتنا * بنوهن أبناء الرجال الأباعد
353

وقد أورد المصنف البيت بإبدال القافية والمحفوظ هو ما أثبتناه
(فرع) لا يدخل الولد المنفى بلعان إلا أن يستلحقه فيستحق حينئذ من
الريع الحاصل قبل استلحاقه وبعده حتى يرجع بما يخصه في مدة النفي وينتفى الولد
بقوله: أشهد بالله لقد زنت وما هذا ولدى، فينتفى بلعان الزوج وحده خلافا
للحنابلة، فإنهم لا يعتبرون نفى الزوج وحده، وإنما يعتبرون النفي باللعان التام،
وهو أن يوجد اللعان بينهما جميعا فلا ينتفى بلعان الزوج وحده. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان وقف على أقاربه دخل فيه كل من تعرف قرابته، فإن كان
للواقف أب يعرف به وينسب إليه دخل في وقفه كل من ينسب إلى ذلك الأب
ولا يدخل فيه من ينسب إلى أخي الأب أو أبيه، فإن وقف الشافعي رحمه الله
لأقاربه دخل فيه كل من ينسب إلى شافع بن السائب لأنهم يعرفون بقرابته،
ولا يدخل فيه من ينسب إلى علي وعباس بن السائب ولا من ينسب إلى السائب
لأنهم لا يعرفون بقرابته، ويستوى فيه من قرب وبعد من أقاربه، ويستوى
فيه الذكر والأنثى تساوى الجميع في القرابة، فان حدث قريب بعد الوقف دخل
فيه. وذكر البويطي أنه لا يدخل فيه، وهذا غلط من البويطي لأنه لا خلاف
أنه إذا وقف على أولاده دخل فيه من يحدث من أولاده.
(فصل) وان وقف على أقرب الناس إليه ولم يكن له أبوان صرف إلى
الولد ذكرا كان أو أنثى لأنه أقرب من غيره، لأنه جزء منه، فإن لم يكن له ولد
قال ولد الولد من البنين والبنات، فإن لم يكن ولد ولا ولد ولد وله أحد الأبوين
صرف إليه لأنهما أقرب من غيرهما، فان اجتمعا استويا، فإن لم يكون صرف
إلى أبيهما الأقرب فالأقرب، فإن كان له أب وابن ففيه وجهان
(أحدهما) أنهما سواء لأنهما في درجة واحدة في القرب
(والثاني) يقدم الابن لأنه أقوى تعصيبا من الأب، فان قلنا إنهما سواء قدم
الأب على ابن الابن لأنه أقرب منه، وان قلنا يقدم الابن قدم ابن الابن على
الأب لأنه أقوى تعصيبا منه، فإن لم يكن أبوان ولا ولد وله اخوة صرف إليهم
354

لأنهم أقرب من غيرهم، فإن اجتمع أخ من أب وأخ من أم استويا، وإن كان
أحدهما من الأب والام والآخر من أحدهما قدم الذي من الأب والام لأنه
أقرب، فإن لم يكن إخوة صرف إلى بنى الاخوة على ترتيب آبائهم. فإن كان له
جد وأخ ففيه قولان
(أحدهما) أنهما سواء لتساويهما في القرب، ولهذا سوينا بينهما في الإرث.
(والثاني) يقدم الأخ لان تعصيبه تعصيب الأولاد، فإذا قلنا إنهما سواء قدم
الجد على ابن الأخ، وان قلنا يقدم الأخ فابن الأخ وإن سفل أولى من الجد،
فإن لم يكن إخوة وله أعمام صرف إليهم ثم إلى أولادهم على ترتيب الاخوة
وأولادهم، فإن كان له عم وأبو جد فعلى القولين في الجد والأخ، وإن كان له عم
وخال أو عمة وخالة أو ولدهما فهما سواء، فإن كان له جدتان إحداهما تدلى بقرابتين
والأخرى بقرابة، فالتي تدلى بقرابتين أولى لأنها أقرب، ومن أصحابنا من قال: إن
قلنا إن السدس بينهما في الميراث استويا في الوقف
(فصل) وان وقف على جماعة من أقرب الناس إليه صرف إلى ثلاثة من
أقرب الأقارب، فان وجد بعض الثلاثة في درجة والباقي في درجة أبعد استوفى
ما أمكن من العدد من الأقرب وتمم الباقي من الدرجة الابعد، لأنه شرط
الأقرب والعدد فوجب اعتبارهما.
(فصل) وان وقف على مواليه وله مولى من أعلى ومولى من أسفل ففيه
ثلاثة أوجه (أحدها) يصرف إليهما لان الاسم يتناولهما (والثاني) يصرف إلى
المولى من أعلى، لان له مزية بالعتق والتعصيب (والثالث) ان الوقف باطل
لأنه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر، ولا يجوز الحمل عليهما
لان المولى في أحدهما بمعنى وفى الآخر بمعنى آخر، فلا تصح ارادتهما بلفظ
واحد فبطل.
(الشرح) الأحكام: الوقف على الأقارب من القرب إلى الله تعالى، يتألف
من صلة الرحم والاحسان والبر، فقد أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن أنس ان
355

أبا طلحة قال (يا رسول الله ان الله يقول: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون،
وان أموالي بيرحاء وانها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول
الله حيث أراك الله. فقال: بخ بخ، ذلك مال رابح مرتين وقد سمعت: أرى أن
تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله: فقسمهما أبو طلحة في
أقاربه وبنى عمه)
وفى رواية عند أحمد ومسلم (لما نزلت هذه الآية: لن تنالوا البر حتى تنفقوا
مما تحبون. قال أبو طلحة: يا رسول الله أرى ربنا يسألنا من أموالنا فأشهدك
أنى جعلت أرضى بيرحاء لله، فقال اجعفها في قرابتك. قال فجعلها في حسان بن
ثابت وأبي بن كعب)
وللبخاري معناه وقال فيه (اجعلها لفقراء قرابتك)
قال محمد بن عبد الله الأنصاري: أبو طلحة زيد بن سهل بن الأسود بن
حرام بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار. وحسان بن
ثابت بن المنذر بن حرام يجتمعان إلى حرام، وهو الأب الثالث. وأبي بن كعب
ابن قيس بن عيك بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار، فعمرو
يجمع حسانا وأبا طلحة وأبيا، وبين أبى وأبا طلحة ستة آباء.
وأخرج الشيخان عن أبي هريرة واللفظ لمسلم (لما نزلت هذه الآية: وأنذر
عشيرتك الأقربين، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم
وخص فقار: يا بنى كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى مرة بن كعب
أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى عبد
مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بنى
عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فاني
لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها)
وفى هذا دليل على أن كل من ناداهم النبي صلى الله عليه وسلم يطلق عليهم
لفظ الأقربين، لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك ممتثلا لقوله تعالى: وأنذر
356

عشيرتك الأقربين، وهو دليل على صحة ما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه من
دخول النساء لذكره فاطمة، ودخول الكفار
وقد اختلف العلماء في الأقارب، فقال أبو حنيفة: القرابة كل ذي رحم
محرم من قبل الأب أو الام، ولكن يبدأ بقرابة الأب قبل الام. وقال أبو يوسف
ومحمد. من جمعهم أب منذ الهجرة من قبل أب وأم من تفصيل زاد زفر ويقدم
من قرب. وهو رواية عن أبي حنيفة، وأقل من يدفع له ثلاثة، وعند محمد اثنان
وعند أبي يوسف واحد، ولا يصرف للأغنياء عندهم إلا إن شرط ذلك.
وقال أصحابنا: القريب من اجتمع سواء قرب أم بعد، مسلما كان أو كافرا،
غنيا أو فقيرا، ذكرا أو أنثى، وارثا أو غير وارث محرما أو غير محرم.
واختلفوا في الأصول والفروع على وجهين. وقالوا: إن وجد جمع محصورون
أكثر من ثلاثة استوعبوا. وقيل يقتصر على ثلاثة وإن كانوا غير محصورين.
فنقل عن الطحاوي الاتفاق على البطلان.
قال الحافظ ابن حجر: وفى نظر، لان الشافعية عندهم وجه بالجواز،
ويصرف منهم لثلاثة ولا يجب التسوية. وقال أحمد في القرابة كالشافعي إلا أنه
أخرج الكافر، وفى رواية عنه: القرابة كل من جمعه، والموصى الأب الرابع
إلى ما هو أسفل منه. وقال مالك: يختص بالعصبة سواء كان برئه أو لا،
ويبدأ بفقرائهم حتى يغنوا، ثم يعطى الأغنياء
وقد تمسك برواية (فجعلها في حسان بن ثابت وأبى كعب) من قال: أقل من
يعطى من الأقارب إذا لم يكونوا منحصرين اثنان، وفيه نظر لأنه وقع في رواية
البخاري فجعلها أبو طلحة في ذوي رحمه، وكان منهم حسان وأبي بن كعب، فدل
ذلك على أنه أعطى غيرهما معهما
وفى مرسل أبى بكر بن حزم: فرده على أقاربه أبي بن كعب وحسان بن ثابت
وأخيه وابن أخيه شداد بن أوس ونبيط بن جابر، فتقاوموه فباع حسان حصته
من معاوية بمائة ألف درهم.
إذا ثبت هذا فإنه إذا وقف على أقاربه دخل فيه كل من تعرف قرابته منتسبا
إلى أبيه، ولا يدخل فيه من ينسب إلى عمه، فإذا وقف الإمام الشافعي رضي الله عنه
357

لأقاربه دخل فيه كل من ينسب إلى شافع بن السائب لأنه أبو عبد الله محمد بن
إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد الله بن يزيد بن هاشم
ابن المطلب بن عبد مناف بن قصي القرشي، وقد أعقب السائب بن عبد الله
شافعا وعليا وعباسا، ومن ثم فإن أبناءهم لا يدخلون في وقف الشافعي لأقاربه
فإن أعقبوا بعد الوقف دخل عقبهم مثلهم أيضا، ولا خلاف أن ما يحدث من
أولادهم بعد استحقاقهم يدخل معهم في الاستحقاق خلافا للبويطي
فان وقف لأقاربه وكان له أولاد قدموا على غيرهم ثم على أولادهم. وان
قال من مات منهم عن ولد فنصيبه لولده، ومن مات عن غير ولد فنصيبه لأهل
الوقف. وكان له ثلاثة بنين فمات أحدهما عن ابنين انتقل نصيبه إليهما ثم مات
الثاني عن غير ولد فنصيبه لأهل الوقف، وكان له ثلاثة بنين فمات أحدهما عن
ابنين انتقل نصيبه إليهما، ثم مات الثاني عن غير ولد فنصيبه لأخيه وابني أخيه
بالسوية لأنهم أهل الوقف، ثم إن مات أحد ابني الابن عن غير ولد انتقل نصيبه
إلى أخيه وعمه لأنهما أهل الوقف.
وإن مات أحد البنين الثلاثة عن غير ولد وخلف أخويه وابني أخ له
فنصيبه لأخويه دون ابني أخيه لأنهما ليسا من أهل الوقف ما دام أبويهما حيا،
فإذا مات أبوهما فنصيبه لهما، فإذا مات الثالث كان نصيبه لابني أخيه بالسوية إن
لم يخلف ولدا، وإن خلف ابنا واحدا فله نصيب أبيه وهو النصف ولابني عمه
النصف لكل واحد الربع
وإن قال: من مات منهم من غير ولد كان جاريا عليه جاريا على من
هو في درجته، فإن كان الوقف مرتبا بطنا بعد بطن كان نصيب الميت غن غير
ولد لأهل البطن الذي هو منه. وإن كان مشتركا بين البطون كلها احتمل أن
يكون نصيبه بين أهل الوقف كلهم لأنهم في استحقاق الوقف سواء فكانوا في
درجته من هذه الدرجة. وإن كان الوقف على البطن الأول على أنه من مات منهم
عن ولد انتقل نصيبه إلى ولده، ومن مات عن غير ولد انتقل نصيبه إلى من هو
في درجته ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) أن يكون نصيبه بين أهل الوقف كلهم يتساوون فيه. سواء كان
358

من بطن واحد أو من بطون، وسواء تساويا أنصباؤهم في الوقف أو
اختلفت لما ذكرنا
(والثاني) أن يكون لأهل بطن، سواء كانوا من أهل الوقف أو لم يكونوا
مثل أن يكون البطن الأول ثلاثة فمات أحدهما عن ابن ثم مات الثاني عن ابنين
فمات أحد الابنين وترك أخاه وعمه وابن عمه وابنا لعمه الحي، فيكون نصيبه
بين أخيه وابني عمه
(والثالث) أن يكون لأهل بطنه من أهل الوقف، فيكون نصيبه على هذا
لأخيه وابن عمه الذي مات أبوه، فإن كان في درجته في النسب من ليس من أهل
الاستحقاق بحال، كرجل له أربعة بنين وقف على ثلاثة منهم على هذا الوجه
وترك الرابع فمات أحد الثلاثة عن غير ولد لم يكن للرابع فيه شئ لأنه ليس من
أهل الاستحقاق فأشبه ابن عمهم.
وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيمن يستحق الوقف من أقرباء الواقف،
ففي إحدى الروايتين يرجع إلى الورثة منهم لأنهم الذي صرف الله تعالى إليهم
ماله بعد موته واستغنائه عنه، فكذلك يصرف إليهم من صدقته ما لم يذكر له
مصرفا، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال (إنك إن تترك ورثتك أغنياء خير
من أن تدعهم عالة يتكففون الناس)
فعلى هذا يكون بينهم على حسب ميراثهم ويكون وقفا عليهم، وعلى هذا
ذكر أصحاب أحمد أن المقصود بالوقف هو التأبيد، وإنما صرفناه إلى هؤلاء لأنهم
أحق الناس بصدقته فصرف إليهم مع بقائه صدقة، ويحتمل كلام الخرقي منهم أن
يصرف إليهم على سبيل الإرث ويبطل الوقف فيه، فعلى هذا يكوم قوله متفقا
مع قول أبى يوسف.
والرواية الثانية عن أحمد يكون وقفا على أقرب عصبة الواقف دون بقية
الورثة من أصحاب الفروض، ودون البعيد من العصبات فيقدم الأقرب فالأقرب
على حسب استحقاقهم لولاء الموالي لأنهم خصوا بالعقل عنه وبميراث مواليه
فخصوا بهذا أيضا.
359

ونازعه في هذا ابن قدامة في مغنية وقال: لا دليل على ذلك من كتاب ولا
سنة والأولى صرفه إلى المساكين وفى نزاعه نظر
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وقف على زيد وعمرو وبكر ثم على الفقراء فمات زيد صرف
إلى من بقي من أهل الوقف، فإذا انقرضوا صرف إلى الفقراء فمات زيد صرف
إلى من بقي من أهل الوقف، فإذا انقرضوا صرف إلى الفقراء. وقال أبو علي
الطبري: يرجع إلى الفقراء، لأنه لما جعل إذا انقرضوا وجب أن تكون
حصة كل واحد منهم لهم إذا انقرض، والمنصوص في حرملة هو الأول لأنه
لا يمكن نقله إلى الفقراء، لأنه قبل انقراضهم لم يوجد شرط النقل إلى الفقراء،
ولا يمكن رده إلى الواقف لأنه أزال ملكه عنه فكان أهل الوقف أحق به.
(فصل) وإن وقف مسجدا فخرب المكان وانقطعت الصلاة فيه، لم يعد
إلى الملك، ولم يجز له التصرف فيه، لان ما زال الملك فيه لحق الله تعالى لا يعود
إلى الملك بالاختلال كما لو أعتق عبدا ثم زمن، وإن وقف نخلة فجفت أو بهيمة
فزمنت أو جذوعا على مسجد فتكسرت ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز بيعه لما
ذكرناه في المسجد (والثاني) يجوز بيعه لأنه لا يرجى منفعته فكان بيعه أولى
من تركه بخلاف المسجد، فإن المسجد يمكن الصلاة فيه مع خرابه، وقد يعمر
الموضع فيصلى فيه، فإن قلنا تباع كان الحكم في ثمنه حكم القيمة التي توجد من
متلف الوقف وقد بيناه. وان وقف شيئا على ثغر فبطل الثغر كطرسوس
أو على مسجد فاختل المكان حفظ الارتفاع، ولا يصرف إلى غيره لجواز أن
يرجع كما كان.
(فصل) وإن احتاج الوقف إلى نفقة أنفق عليه من حيث شرط الواقف
لأنه لما اعتبر شرطه في سبيله اعتبر شرطه في نفقته كالمالك في أمواله، وإن لم
يشترط أنفق عليه من غلته، لأنه لا يمكن الانتفاع به إلا بالنفقة، فحمل الوقف
عليه، وان لم يكن له غلة فهو على القولين إن قلنا إنه لله تعالى كانت نفقته في بيت
المال كالحر المعسر الذي لا كسب له، وإن قلنا للموقوف عليه كانت نفقته عليه
(فصل) والنظر في الوقف إلى من شرطه الواقف، لان الصحابة
360

رضي الله عنهم وقفوا وشرطوا من ينظر، فجعل عمر رضي الله عنه إلى حفصة
رضي الله عنها، وإذا توفيت فإنه إلى ذوي الرأي من أهلها، ولان سبيله إلى
شرطه فكان النظر إلى من شرطه.
وإن وقف ولم يشرط الناظر ففيه ثلاثة أوجه (أحدهما) أنه إلى الواقف
لأنه كان النظر إليه، فإذا لم يشرطه بقي على نظره (والثاني) أنه للوقوف عليه،
لان الغلة له فكان النظر إليه (والثالث) إلى الحاكم لأنه يتعلق به حق الموقوف
عليه وحق من ينتقل إليه فكان الحاكم أولى، فإن جعل الواقف النظر إلى اثنين
من أفاضل ولده ولم يوجد فيهم فاضل إلا واحد ضم الحاكم إليه آخر لان الواقف
لم يرض فيه بنظر واحد.
(فصل) إذا اختلف أرباب الوقف في شروط الوقف وسبيله ولا بينة
جعل بينهم بالسوية، فإن كان الواقف حيا رجع إلى قوله، لأنه ثبت بقوله
فرجع إليه.
(الشرح) بعض هذه الفصول مضى ذكر أحكامها.
أما المسجد فإنه إذا انهدم وتعذرت اعادته فإنه لا يباع بحال لامكان الانتفاع
به حالا بالصلاة في أرضه، وبهذا قال مالك رضي الله عنه. وقال الرملي: وبه
فارق ما لو وقف فرس على الغزو فكبر ولم يصلح حيث جاز بيعه. نعم لو خيف
على نقضه نقض وحفظ ليعمر به مسجد آخر ان رأى الحاكم ذلك، وان توقع
عوده حفظ له، والا فإن أمكن صرفه إلى مسجد آخر صرف إليه، والا فمنقطع
الآخر فيصرف لأقرب الناس إلى الواقف، فإن لم يكونوا صرف إلى الفقراء
والمساكين أو مصالح المسلمين.
أما غير المنهدم فما فضل من غلة الموقوف على مصالحه يشترى به عقار
ويوقف عليه بخلاف الموقوف على عمارته يجب ادخاره لأجلها لأنه يعرض
للضياع أو لظالم يأخذه.
ولو وقف أرضا للزراعة فتعذرت وانحصر النفع في الغرس أو البناء فعل
الناظر أحدهما أو آجرها كذلك، وقد أفتى البلقيني في أرض موقوفة لتزرع حناء
361

فآجرها لتغرس كرما، فإن قوله لتزرع حناء متضمن لاشتراط أن لا يزرع غيره
لان من المعلوم أنه يغتفر في الضمني مالا يغتفر في المنطوق، على أن الفرض في
مسألتنا أن لا يقصد تعطيل وقفه وثوابه، ومسألة البلقيني ليس فيها ضرورة
فاحتاج إلى التقييد.
وقال أصحاب أحمد: إذا تعطلت منافع الوقف كدار انهدمت أو أرض عادت
مواتا أو مسجد انصرف أهل القرية عنه وصار في موضع لا يصلى فيه أو ضاق بأهله ولم
يمكن توسيعه في موضعه، أو تشعب جميعه فلم تمكن عمارته ولا عمارة بعضه الا
ببيع بعضه، جاز بيع بعضه لتعمر به بقيته، وان لم يمكن الانتفاع بشئ
منه بيع جميعه.
وقال أحمد في رواية أبى داود صاحب السنن: إذا كان في المسجد خشبتان
لهما قيمة جاز بيعهما وصرف ثمنهما عليه. وقال في رواية صالح: يحول المسجد
خوفا من اللصوص، وإذا كان موضعه قذرا، يعنى إذا كان ذلك يمنع من الصلاة
فيه، ونص في رواية عبد الله على جواز بيع عرصته وتكون الشهادة في ذلك
على الامام. وقد روى علي بن سعيد أن المساجد لا تباع إنما تنقل آلتها. وقال
محمد بن الحسن: إذا خرب المسجد أو الوقوف عاد إلى ملك واقفه، لان الوقف
إنما هو تسبيل المنفعة، فإذا زالت منفعته زال حق الموقوف عليه منه فزال ملكه
عنه. دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (لا يباع أصلها ولا تبتاع ولا توهب ولا
تورث) ولان ما لا يجوز بيعه مع بقاء منافعه لا يجوز بيعه مع بقاء تعطلها
كالمعتق، والمسجد أ شبه الأشياء بالمعتق
(فائدة، لا يصح عندنا وقف لأجل نقش مسجد أو زخرفته، أما دهانه
وملاطه وتجصيصه فجائز، لقول عمر رضي الله عنه (أكن الناس من المطر وإياك
أن تحمر أو تصفر فتفتن الناس) أفاده الشمس الرملي في النهاية
(فرع) إذا كان الوقف للاستغلال لم يتصرف فيه سواء ناظره الخاص
أو العام أو لينتفع به الموقوف عليه، وأطلق أو قال: كيف شاء، فله استيفاء
المنفعة بنفسه وبغيره بأن يركبه الدابة مثلا ليقضى له عليها حاجة فلا ينافي ذلك
ما قيل في الإعارة والإجارة وما قيدناه به.
362

ثم إن شرط الواقف النظر لنفسه أو غيره اتبع كبقية شروطه، لما روى أن
عمر (رض) ولى أمر صدقته لحفصة ما عاشت، ثم لأولي الرأي من أهلها، وقبول
من شرط له النظر كقبول الوكيل فيما يظهر لا الموقوف عليه ما لم يشرط له شئ
من ريع الوقف ن ودعوى السبكي أنه بالإباحة أشبه فلا يرتد بالرد بعيد، بل لو
قبله ثم أسقط حقه منه سقط إلا أن يشترط نظره حال الوقف، فلا ينعزل بعزل
نفسه على الراجح خلافا لمن زعم خلافه.
قال الرملي: نعم يقيم الحاكم متكلما غيره مدة إعراضه، فلو أراد العود لم
يحتج إلى تولية جديدة، فإذا لم يشرط الواقف النظر لاحد فالنظر للقاضي
الموجود ببلد الموقوف عليه كما مر نظيره في مال اليتيم، إذ نظره عام فهو أولى
من غيره، ولو كان واقفا أو موقوفا عليه. وما جزم به الماوردي من ثبوته
للواقف بلا شرط في مسجد المحلة، والخوارزمي في سائر المساجد، وزاد أن
ذريته مثله مردود. هكذا أفده الرملي
وشرط الناظر العدالة الباطنة مطلقا كما رجحه الأذرعي خلافا لاكفاء
السبكي بالعدالة الظاهرة، ومن ثم ينعزل بالفسق المحقق بخلاف غيره بخلاف
الكذب الذي يمكن أن يكون معذورا فيه.
وسواء في الناظر أكان هو الواقف أم غيره، ومتى انعزل بالفسق فالنظر
للحاكم، كما تشترط الكفاية لما تولاه من نظر عام أو خاص وهي الاهتداء إلى
التصرف الذي فوض له قياسا على الوصي والقيم، لأنها ولاية على غيره، وعند
زوال الأهلية يكون النظر للحاكم، هكذا رجحه السبكي وقد أفتى النووي بعدم
عود النظر بعود الأهلية ما لم يكن نظره بشرط الواقف، لقوته بالشرط، إذ
ليس لأحد عزله ولا الاستبدال به، وعارض فقد الأهلية مانع من تصرفه
لا سالب لولايته.
ولو كان له النظر على مواضع فأثبت أهليته في مكان ثبتت في بقية الأماكن
من حيث الأمانة لا من حيث الكفاية إلا أن يثبت أهليته في سائر الأوقاف كما
قرره ابن الصلاح.
ووظيفة الناظر حفظ الأصول وثمرتها على وجه الاحتياط كولى اليتيم،
363

كما يتولى الإجارة والعمارة والاقتراض على الوقف عند الحاجة إن شرطه له
الواقف أو أذن له فيه الحاكم كما في الروضة وغيرها، خلافا للبلقيني، سواء في
ذلك مال نفسه وغيره، كما أنه منوط به تحصيل الغلة وقسمتها على مستحقيها،
ويلزمه رعاية زمن عينه الواقف، ويجوز تقديم تفرقة المنذور على الزمن المعين
لشبهه بالزكاة المعجلة، ولو كان له وظيفة فاستناب فيها فالأجرة عليه لا على الوقف
وقال الأذرعي: إن الذي نعتقده أن الحاكم لا نظر له معه ولا تصرف، بل
نظره معه نظر إحاطة ورعاية.
فإن فوض الواقف إليه بعض هذه الأمور لم يتعده اتباعا للشرط، ويستحق
الناظر ما شرط من الأجرة، كما يجوز له رفع الامر إلى الحاكم ليقرر له أجره
قال العراقي في تحريره: ومقتضاه أنه يأخذ مع الحاجة إما قدر النفقة كما رجحه
الرافعي أو الأقل من نفقته وأجرة مثله كما رجحه النووي، وقد رجح بعض
المتأخرين من أصحابنا أن الظاهر هنا أنه يستحق أن يقرر له أجرة المثل، وإن
كان أكثر من النفقة، وإنما اعتبرت النفقة هنا لوجوبها على فرعه سواء أكان وليا
على ماله أم لا، بخلاف الناظر ولو جعل النظر لعدلين من أولاده وليس فيهم سوى عدل
نصب الحاكم آخر، وان جعله للأرشد من أولاده فالأرشد، فأثبت كل منهم
أنه أرشد اشتركوا في النظر بلا استقلال ان وجدت الأهلية فيهم، لان
الأرشدية قد سقطت بتعارض البينات فيها ويبقى أصل الرشد، ولو تغير حال
الأرشد حين الاستحقاق فصار مفضولا انتقل النظر إلى من هو أرشد منه،
ويدخل في الأرشد من أولاد أولاده الأرشد من أولاد البنات، وللواقف عزل
من ولاه نائبا عنه ان شرط النظر لنفسه ونصب غيره كالوكيل.
وأفتى النووي بأنه لو شرط النظر لانسان، وجعل له أن يسنده لمن شاء
فأسنده لآخر، لم يكن له عزله ولا مشاركته، ولا يعود النظر إليه بعد موته.
قال الرملي: بنظير ذلك أفتى فقهاء الشام وعللوه بأن التفويض بمثابة التمليك،
وخالفهم السبكي فقال: بل كالتوكيل، وأفتى السبكي بأن للناظر والواقف من
جهته عزل المدرس ونحوه ان لم يكن مشروطا في الوقف ولو لغير مصلحة، وهو
مردود بما في الروضة للنووي أنه لا يجوز للامام اسقاط بعض الأجناد المثبتين
364

في الديوان بغير سبب، فالناظر الخاص أولى، ولا اثر للفرق بأن هؤلاء ربطوا
أنفسهم للجهاد الذي هو فرض، ومن ربط نفسه لا يجوز إخراجه بلا سبب
بخلاف الوقف فإنه خارج عن فروض الكفايات، بل يرد بأن التدريس فرض
أيضا، وكذلك قراءة القرآن، فمن ربط نفسه بهما فحكمه كذلك على تسليم
ما ذكر من أن الربط به كالتلبس به، وإلا فشتان ما بينهما، ومن ثم اعتمد البلقيني
أن عزله من غير مسوغ لا ينفذ، بل هو قادح في نظره، وفى شرح المنهاج في
الكلام على عزل القاضي بلا سبب ونفوذ العزل في الامر العام: أما الوظائف
كأذان وإقامة وتدريس وطلب ونحوه فلا ينعزل أربابها بالعزل من غير سبب
كما أفتى به كثير من المتأخرين، منهم ابن رزين فقال: من تولى تدريسا لم يجز
عزله بمثله ولا بدونه ولا ينعزل بذلك، قال الرملي: وهذا هو المعتمد.
وإذا قلنا: لا ينفط عزره الا بسبب فهل يلزمه بيان مستنده؟ الفتوى أكثر
المتأخرين بعدمه وقيده بعضهم بما إذا وثق بعلمه ودينه، وزيفه التاج السبكي بأنه
لا حاصل له. ثم بحث أنه ينبغي وجوب بيان مستنده مطلقا أخذا من قولهم:
لا يقبل دعواه الصرف لمستحقين معينين، بل القول قولهم ولهم مطالبته بالحساب
وادعى الولي العراقي أن الحق التقييد وله حاصل لان عدالته غير مقطوع بها،
فيجوز أن يختل وأن يظن ما ليس بقادح قادحا بخلاف من تمكن علما ودينا
زيادة على ما يعتبر في الناظر من تمييز ما يقدم وما لا يقدح، ومن ورع وتقوى
يحولان بينه وبين متابعة الهوى.
ولو طلب المستحقون من الواقف كتاب الوقف ليكتبوا منه نسخه حفظا
لاستحقاقهم لزمه تمكينهم وذلك أخذا من افناء جماعة أنه يجب على صاحب
كتب الحديث إذا كتب فيها سماع غيره معه لها أن يعيره إياها ليكتب سماعه منها
ولو تغيرت المعاملة وجب ما شرطه الواقف مما كان يتعامل به حال الوقف، زاد
سعره أم نقص سهل تحصيله أم لا، فإن فقد اعتبرت قيمته يوم المطالبة ان لم
يكن له مثل حينئذ والا وجب مثله.
وإذا أجر الناظر الوقف على معين أو جهة إجارة صحيحة فزادت الأجرة
365

في المدة أو ظهر بالزيادة لم ينفسخ العقد في الأصح لوقوعه بالغبطة في وقته
فأشبه ارتفاع القيمة أو الأجرة بعد بيع أو إجارة مال المحجور. والثاني: تنفسخ
إذا كان للزيادة وقع، والظالب ثقة لتبين وقوعه على خلاف المصلحة، وقد مر
في الإجارة أنه لو كان المؤجر المستحق أو مأذونه جاز ايجاره بأقل من أجرة مثله
وعليه فالأوجه انفساخه بانتقالها لغيره ممن لم يأذن له في ذلك.
وأفتى ابن الصلاح فيما إذا أجر بأجرة معلومة شهد اثنان بأنها أجرة المثل
حالة العقد ثم تغيرت الأحوال فزادت أجرة المثل بأنه يتبين بطلانها وخطؤهما
لان تقويم المنافع المستقبلة إنما يصح حيث استمرت حالة العقد بخلاف ما لو طرأ
عليها أحوال تختلف بها قيمة المنفعة فإنه بان أن المقوم لم يوافق تقويمه الصواب
ولو حكم حاكم بصحة إجارة وقف، وان الأجرة وقف، وأن الأجرة أجرة المثل، فإن ثبت بالتواتر
أنها دونها تبين بطلان الحكم والإجارة.
(فرع) نفقة الوقف من حيث شرط الواقف لأنه لما اتبع شرطه في سبيله
وجب اتباع شرطه في نفقته، فإن لم يمكن فمن غلته، لان الوقف اقتضى تحبيس
أصله وتسبيل منفعته، ولا يحصل ذلك الا بالاتفاق عليه، فكان ذلك من
ضرورته، وان تعطلت منافع الحيوان الموقوف فنفقتهن على الموقوف عليه لأنه
ملكه، ويحتمل وجوبها في بيت المال، والله تعالى أعلم بالصواب.
366

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الهبات
الهبة مندوب إليها لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (تهادوا تحابوا) وللأقارب أفضل لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما
قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الراحمون يرحمهم الله، ارحموا من في
الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله،
ومن قطعها قطعه الله) وفى الهبة صلة الرحم، والمستحب أن لا يفضل بعض
أولاده على بعض في الهبة لما روى النعمان بن بشير قال (أعطاني أبى عطية فأتى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني أعطيت ابني عطية وإن
أمه قالت لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم فهل أعطيت كل ولدك مثل ذلك؟ قال لا. قال رسول الله
اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، أليس يسرك أن يكونوا في البر سواء؟ قال بلى
قال فلا إذا)
قال الشافعي رحمه الله: ولأنه يقع في نفس المفضول ما يمنعه من بره، ولان
الأقارب ينفس بعضها بعضا مالا ينفس العدى، فإن فضل بعضهم بعطية صحت
العطية، لما روى في حديث النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أشهد على
هذا غيري) فلو لم يصح لبين له ولم يأمره أن يشهد عليه غيره، ولا يستنكف
ان يهب القليل ولا أن يتهب القليل، لما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (لو دعيت إلى كراع لأجبت. ولو أهدى إلى كراع
أو ذراع لقبلت)
(الشرح، الحديث الأول أخرجه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي وابن
طاهر في مسند الشهاب من حديث محمد بن بكير عن ضمام بن إسماعيل عن موسى
367

ابن وردان عن أبي هريرة عنه صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) قال الحافظ
ابن حجر وإسناده حسن، وقد اختلف فيه على ضمام. قال الذهبي: لينه بعضهم
بلا حجة. وقال أحمد بن حنبل: صالح الحديث. وسرد له ابن عدي في كامله
أحاديث حسنة، ولما كان ضمام ختن أبى قبيل على ابنته فقد اختلف عليه، فقيل
عنه: عن أبي قبيل عن عبد الله بن عمر أورده ابن طاهر ورواه في مسند الشهاب
من حديث عائشة بلفظ (تهادوا تزدادوا حبا) وفى اسناده محمد بن سليمان. قال
ابن طاهر: لا اعرفه، وأورده أيضا من وجه آخر عن أم حكيم بنت وداع
الخزاعية وقال: اسناده غريب وليس بحجة.
وروى مالك في الموطأ عن عطاء الخراساني رفعه (تصافحوا يذهب الغل،
وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء)
وفى الأوسط للطبراني من حديث عائشة (تهادوا تحابوا وهاجروا تورثوا
أولادكم مجدا وأقيلوا الكرام عثراتهم) قال الحافظ بن حجر: وفى اسناده نظر
وأخرج في الشهاب عن عائشة (تهادوا فان الهدية تذهب الضغائن) ومداره على
محمد بن عبد النور عن أبي يوسف الأعشى عن هشام عن أبيه عنها. والراوي له
عن محمد هو أحمد بن الحسن المقري. قال الدارقطني: ليس بثقة، وقال ابن ظاهر
لا أصل له عن هشام. ورواه ابن حبان في الضعفاء من طريق بكر بن بكار عن
عائذ بن شريح عن أنس بلفظ (تهادوا فان الهدية قلت أو كثرت تذهب السخيمة)
وضعفه بعائذ. قال أبو حاتم: في حديثه ضعف. وقال ابن طاهر: ليس بشئ
وقد رواه عنه جماعة. قال ورواه كوثر بن حكيم عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم
مرسلا. وكوثر متروك.
وروى الترمذي من حديث أبي هريرة (تهادوا فان الهدية تذهب وحر الصدر)
وفى اسناده أبو معشر المدني تفرد به وهو ضعيف. ورواه ابن طاهر في أحاديث
الشهاب من طريق عصمة بن مالك بلفظ (الهدية تذهب بالسمع والبصر) ورواه
ابن حبان في الضعفاء من حديث ابن عمر بلفظ (تهادوا فان الهدية تذهب الغل)
رواه محمد بن غيزغة قال: لا يجوز الاحتجاج به وقال فيه البخاري منكر الحديث
وروى أبو موسى المديني في الذيل في ترجمة زعبل، بالزاي والعين المهملة والباء
368

الموحدة، يرفعه (تزاوروا وتهادوا فان الزيارة تثبت الوداد، والهدية تذهب
السخيمة. قال ابن حجر: وهو مرسل وليس لزعبل صحبة
اما حديث عبد الله بن عمر رواه أحمد في مسنده والطبراني باسناده صحيح عن
عبد الله بن عمرو، ورواه مسلم عن عائشة، ورواه البخاري عن أبي هريرة بلفظ
الرحم شجنة من الرحمن، قال الله: من وصلته ومن قطعته.
اما حديث النعمان بن بشير عند البخاري ومسلم واحمد بلفظ (ان أباه أتى به
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ فقال: لا، فقال:
فارجعه) ولفظ مسلم (نصدق على أبى ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة
لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلق أبى إليه يشهده على
صدقتي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفعلت هذا بولدك كلهم؟ قال: لا
فقال: اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، فرجع أبى في تلك الصدقة) وللبخاري مثله
لكن ذكره بلفظ العطية لا بلفظ الصدقة.
وقد روى احمد وأبو داود والنسائي والمنذري عن النعمان بن بشير قال: قال
النبي صلى الله عليه وسلم (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين
أبنائكم) وهذا الحديث سكت عنه أبو داود والمنذري ورجاله ثقات الا المفضل
ابن المهلب بن أبي صفرة، وقد اختلف فيه وهو صدوق، وفى رواية لمسلم بلفظ
(أيسرك أن يكونوا في البر سواء؟ قال: بلى، قال: فلا اذن
وفى بابه عن ابن عباس عند الطبراني والبيهقي وسعيد بن منصور بلفظ (سووا
بين أولادكم في العطية، ولو كنت مفضلا أحدا لفضلت النساء) وفى اسناده سعيد
ابن يوسف وهو ضعيف، وذكر ابن عدي في الكامل انه لم ير له أنكر من هذا
وقد حسن ابن حجر في الفتح اسناده.
أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه البخاري بلفظ (لو دعيت إلى كراع أو
ذراع لأجبت، ولو اهدى إلى ذراع أو كراع لقبلت) ورواه أحمد والترمذي
وصححه من حديث انس بلفظ (لو اهدى إلى كراع لقبلت، ولو دعيت عليه
لأجبت) وفى بابه عن أم حكم الخزاعية عند الطبراني قالت (قلت: يا رسول الله
369

تكره اللطف؟ قال: ما أقبحه، لو اهدى إلى كراع لقبلت) قوله: اللطف
بالتحريك: اليسير من الطعام.
أما الهبة بكسر الهاء وتخفيف الباء الموحدة. قال في الفتح: تطلق بالمعنى
الأعم على أنواع الابراء، وهو هبة الدين ممن هو عليه، والصدقة وهي هبة
ما يتمخض به طلب ثواب الآخرة، والهدية وهي ما يلزم به الموهوب له عوضه،
ومن خصها بالحياة اخرج الوصية، وهي تكون أيضا بالأنواع الثلاثة، وتطلق
الهبة بالمعنى الأخص على مالا يقصد له بدل، وعليه ينطبق قول من عرف الهبة
بأنها تمليك بلا عوض اه‍
والهبة والعطية والهدية والصدقة معانيها متقاربة وكلها تمليك في الحياة بغير
عوض، واسم العطية شامل لجميعها، وكذلك الهبة والصدقة والهدية متغايران،
فان النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة. وقال في اللحم
الذي تصدق به على بريرة (هو عليها صدقة ولنا هدية) فالظاهر أن من أعطى
شيئا يتقرب به إلى الله تعالى للمحتاج فهو صدقة. ومن دفع إلى إنسان شيئا
بتقرب به إليه محبة له فهو هدية، وجميع ذلك مندوب إليه ومحثوث عليه لقوله
صلى الله عليه وسلم (تهادوا تحابوا) وأما الصدقة فما ورد في فضلها أكثر من أن
يمكننا حصره، وقد قال الله تعالى (ان تبدوا الصدقات فنعما هي، وان تخفوها
وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم سيئاتكم)
إذا ثبت هذا فان المكيل والموزون لا تلزم فيه الصدقة والهبة الا بالقبض،
وهو قول أكبر الفقهاء، منهم النخعي والثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة
والشافعي واحمد.
وقال مالك وأبو ثور: يلزم ذلك بمجرد العقد لعموم قوله عليه الصلاة
والسلام (العائد في هبته كالعائد في قيئه) ولأنه إزالة ملك بغير عوض فلزم
بمجرد العقد كالوقوف والعتق. وربما قالوا: تبرع فلا يعتبر فيه القبض كالوصية
والوقف، ولأنه عقد لازم ينقل الملك فلم يقف لزومه على القبض كالبيع،
وتطلق الهبة على الشئ الموهوب
وأحاديث النعمان بن بشير تمسك بها من أوجب التسوية بين الأولاد في
370

العطية، وبه صرح البخاري، وهو قول طاوس والثوري واحمد وإسحاق وبعض
المالكية، قال في الفتح: والمشهور عن هؤلاء انها باطلة. وعن أحمد تصح،
ويجب ان يرجع. وعنه يجوز التفاضل إن كان له سبب، كان يحتاج الولد لزمانته
أو دينه أو نحو ذلك دون الباقين.
وقال أبو يوسف تجب التسوية ان قصد بالتفضيل الاضرار. وذهب الجمهور
إلى أن التسوية مستحبة، فان فضل بعضا صح وكره، وحملوا الامر على الندب
وكذلك حملوا النهى الثابت في رواية لمسلم بلفظ (أيسرك أن يكونوا لك في البر
سواء؟ قال بلى. قال فلا اذن) على التنزيه.
وأجابوا عن حديث النعمان بأجوبة عشرة جاءت في فتح الباري، اختصرها
الشوكاني ووضع عليها زيادات مفيدة (أحدها) ان الموهوب للنعمان كان جميع
مال والده حكاه ابن عبد البر، وتعقبه بان كثيرا من طرق الحديث مصرحة
بالبعضية، كما في حديث جابر وغيره ان الموهوب كان غلاما، وكما في لفظ مسلم
عن النعمان (تصدق على أبى ببعض ماله)
(الجواب الثاني) ان العطية المذكورة لم ينجز، وإنما جاء بشير يستشير
النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فأشار عليه بان لا يفعل فترك، حكاه الطبري
ويجاب عنه بان امره صلى الله عليه وسلم له بالارتجاع يشعر بالنجيز. وكذلك
قول عمرة (لا أرضى حتى تشهد) الخ
(الجواب الثالث) ان النعمان كان كبيرا ولم يكن قبض الموهوب فجاز لأبيه
الرجوع. ذكره الطحاوي. قال الحافظ وهو خلاف ما في أكثر طرق الحديث
خصوصا قوله (ارجعه) فإنه يدل على تقدم وقوع القبض، والذي تظافرت عليه
الروايات انه كان صغيرا وكان أبوه قابضا له لصغره فأمره برد العطية المذكورة
بعدما كانت في حكم المقبوضة.
(الرابع) ان قوله (ارجعه) دليل على الصحة، ولو لم تصح الهبة لم يصح
الرجوع، وإنما امره بالرجوع لان للوالد ان يرجع فيما وهب لولده، وإن كان
الأفضل خلاف ذلك، لكن استحباب التسوية رجح على ذلك فلذلك امره به.
وفى الاحتجاج بذلك نظر، والذي يظهر ان معنى قوله ارجعه، أي لا تمض الهبة
371

المذكورة، ولا يلزم من ذلك تقدم صحة الهبة (الخامس) أن قوله: أشهد على
هذا غيري، إذن بالاشهاد على ذلك، وإنما امتنع من ذلك لكونه الامام، وكأنه
قال: لا أشهد لان الامام ليس من شأنه أن يشهد وإنما من شأنه أن يحكم، حكاه
الطحاوي وارتضاه ابن القصار، وتعقب بأنه لا يلزم من كون الامام ليس من
شأنه أن يشهد أن يمتنع من تحمل الشهادة ولا من أدائها إذا تعينت عليه،
والاذن المذكور مراد به التوبيخ لما تدل عليه بقية ألفاظ الحديث، وبذلك صرح
الجمهور في هذا الموضع
وقال ابن حبان: قوله (أشهد) صيغة أمر والمراد به نفى الجواز وهي كقوله
لعائشة: اشترطي لهم الولاء اه‍. ويؤيد هذا الوجه تسميته صلى الله عليه وسلم
لذلك جورا كما في بعض الروايات المذكورة.
(السادس) التمسك بقوله: ألا سويت بينهم، على أن المراد بالامر الاستحباب
وبالنهي التنزيه. قال ابن حجر: وهذا جيد لولا ورود تلك الألفاظ الزائدة
على هذه اللفظة ولا سيما رواية (سو بينهم)
(السابع) قالوا المحفوظ في حديث النعمان (قاربوا بين أولادكم) لا سووا،
وتعقب بأنكم لا توجبون المقاربة كما لا توجبون التسوية
(الثامن) في التشبيه الواقع بينهم في التسوية، بالتسوية بينهم، بالتسوية
فيهم في البر قرينة تدل على أن الامر للندب، ورد بأن إطلاق الجور على عدم
التسوية والنهى عن التفضيل يدلان على الوجوب فلا تصلح تلك القرينة
لصرفهما وإن صلحت لنفس الامر
(التاسع) ما سيأتي في الفصل الذي بعد هذا من منحة أبى بكر لعائشة.
وقوله لها فلو كنت احترثته، وكذلك ما رواه الطحاوي عن عمر أنه نحل ابنه
عاصما دون سائر ولده، ولو كان التفضيل غير جائز لما وقع من الخليفتين، وقال
في الفتح وقد أجاب ابن عمر عن قصة عائشة بأن اخوتها كانوا راضين، ويجاب
بمثل ذلك عن قصة عاصم. ولا حجة في فعلهما لا سيما إذا عارض المرفوع
(العاشر) أن الاجماع انعقد على جواز عطية الرجل ماله لغير ولده، فإذا
جاز له أن يخرج جميع ولده من ماله لتمليك الغير جاز له أن يخرج بعض ولده
372

بالتمليك لبعضهم. ذكره ابن عبد البر. قال الحافظ ابن حجر ولا يخفى ضعفه لأنه
قياس مع وجود النص، وقد رأى الشوكاني أن التسوية واجبة وأن التفضيل محرم
واختلف الموجبون للتسوية في كيفيتها فقال محمد بن الحسن وأحمد وإسحاق وبعض
الشافعية والمالكية العدل أن يعطي الذكر حظين كالميراث، واحتجوا بان ذلك
حظه من المال لو مات عنه الواهب. وقال غيرهم لا فرفق بين الذكر والأنثى،
وظاهر الامر بالتسوية معهم.
على أن حديث النعمان بن بشير رواه عنه عدد كثير من التابعين، منهم عروة
ابن الزبير عند مسلم والنسائي وأبى داود، وأبو الضحى عند النسائي وابن حبان
وأحمد والطحاوي، والمفضل بن المهلب عند أحمد وأبى داود والنسائي،
وعبد الله بن عتبه بن مسعود عند أحمد، وعون بن عبد الله عند أبي عوانة
والشعبي عند الشيخين وأبى داود وأحمد والنسائي وابن ماجة وابن حبان وغيرهم
وقد رواه النسائي من مسند بشير والد النعمان فشذ بذلك. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وما جاز بيعه من الأعيان جاز هبته لأنه عقد يقصد به ملك العين
فملك به ما يملك بالبيع وما جاز هبته جاز هبة جزء منه مشاع لما روى عمر بن
سلمة الضمري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من المدينة حتى أتى الروحاء
فإذا حمار عقير، فقيل يا رسول الله هذا حمار عقير، فقال دعوه فإنه سيطلبه
صاحبه، فجاء رجل من فهر فقال يا رسول الله انى أصبت هذا فشأنكم به، فأمر
النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بقسم لحمه بين الرفاق، ولان القصد منه التمليك
والمشاع كالمقسوم في ذلك.
(فصل) وما لا يجوز بيعه من المجهول وما لا يقدر على تسليمه وما لم يتم
ملكه عليه كالمبيع قبل القبض لا تجوز هبته لأنه عقد يقصد به تمليك المال في
حال الحياة فلم يجز فيما ذكرناه كالبيع
(فصل) ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل بالجهالة فلم
يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع
373

(الشرح) حديث عمرو بن سلمة الضمري كذا في نسخ المهذب وفى مواطن
مختلفة من فصول المهذب وصوابه عمير بن سلمة الضمري بالتصغير. قال الحافظ
ابن حجر في التهذيب: له صحبة وحديث، وهذا الحديث أخرجه أحمد والنسائي
ومالك في الموطأ وصححه ابن خزيمة وغيره عن عمير بن سلمة الضمري عن رجل
من بهز (أنه خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد مكة حتى إذا كانوا في
بطن واد الروحاء وجد الناس حمار وحش عقيرا فذكروه للنبي صلى الله عليه وسلم
فقال: أقروه حتى يأتي صاحبه فأتى البهري وكان صاحبه فقال: يا رسول الله
شأنكم هذا الحمار فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه في الرفاق،
وهم محرمون، قال: ثم مررنا حتى إذا كنا بالأتاية إذا نحن بظبى حاقف في
ظل فيه سهم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا أن يقف عنده حتى يخير
الناس عنه).
ولأحمد والبخاري ومسلم من حديث قتادة قال (كنت يوما جالسا مع رجال
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في منزل في طريق مكة ورسول الله صلى الله
عليه وسلم أمامنا والقوم محرمون وأنا غير محرم عام الحديبية فأبصروا حمارا
وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم تؤذنوني، وأحبوا لو أنى أبصرته فالتفت
فأبصرته فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت:
لهم ناولوني السوط والرمح، فقالوا: لا والله لا نعينك عليه، فغضبت فنزلت
فأخذتهما ثم ركبت فشددت على الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات فوقعوا فيه
يأكلونه، ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم، فرحنا وخبأت العضد معي
فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عن ذلك فقال: هل معكم منه شئ
فقلت: نعم، فناولته العضد فأكلها وهو محرم) ولمسلم (هل أشار إليه إنسان
أو أمره بشئ قالوا: لا، قال: فكاوه) وللبخاري (قال منكم أحد أمره أن يحمل
عليها أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها) قلت. وهذا الخبر
صريح في صحة هبة المشاع، وبه قال مالك والشافعي وأحمد، سواء في ذلك
ما أمكن قسمته أو لم يمكن
374

وقال أصحاب الرأي لا تصح هبة المشاع الذي يمكن قسمته لان القبض شرط
في الهبة، ووجوب القسمة يمنع صحة القبض وتمامه، فإن كان مما لا يمكن قسمته
صحت هبته لعدم ذلك فيه، وإن وهب وأحد اثنين شيئا مما ينقسم لم يجز عند
أبي حنيفة، وجاز عند صاحبيه، وان وهب اثنان اثنين شيئا مما ينقسم لم يصح في
قياس قولهم، لان كل واحد من المتهبين قد وهب له جزء مشاع.
ولنا حديث عمرو بن سلمة في الفصل، ولأنه يجوز بيعه فجازت هبته كالذي
لا ينقسم، ولأنه مشاع فأشبه ما لا ينقسم. وقولهم: إن وجوب القسمة يمنع
صحة القبض لا يصح، فإنه لم يمنع صحته في البيع فكذا ههنا، ومتى كانت الهبة
لاثنين فقبضاه بإذنه ثبت ملكهما فيه، وإن قبضه أحدهما ثبت الملك في نصيبه
أما قوله ما جاز بيعه من الأعيان جاز هبته، فظاهر في عموم ثبوت الملك
بالقبض بالهبة فيما يجوز امتلاكه بالعوض، والجواز هنا اعتبار الشئ في حق
حكمه، وأما صحته بانعقاد اللفظ بحيث إذا انضم إليه القبض اعتبر، ويثبت حكمه
وفى معنى البيع، قال الشافعي رضي الله عنه ولو تغيرت عند الموهوب له بزيادة
كان له أخذها وكان كالرجل يبيع الشئ وله فيه الخيار.
ولما كانت الهبة تمليكا لمعين في الحياة لم يجز تعليقها على شرط كالبيع، فان
علقها على شرط كقول النبي صلى الله عليه وسلم لام سلمة (إن رجعت هديتنا إلى
النجاشي فهي لك) كان وعدا، وإن شرط في الهبة شروطا تنافى مقتضاها نحو أن
يقول وهبتك هذا بشرط أم لا، تهبه أو لا تبيعه أو بشرط أن تهبه أو تبيعه أو
بشرط أن تهب فلانا شيئا لم يصح. وفى حصة الهبة وجهان على الشروط الفاسدة
في البيع، وان وقت الهبة، فقال وهبتك هذا سنة ثم يعود إلى لم يصح، لأنه عقد
تمليك لعين فلم يصح مؤقتا.
وجملة ذلك أن التمليك إذا كان لعين بغير عوض عن غير احتياج كان هبة،
فإن كان عن احتياج فصدقة، فإن كان للمنفعة بغير عوض فعارية أو بعوض
فإجارة وإن كان للعين بعوض فبيع.
(فرع) لا يجوز هبة المجهول أو غير المملوك أو جعله في الذمة. قال النووي
375

وما لا يجوز بيعه كمجهول ومغصوب لمن لا يقدر على انتزاعه، وضال وآبق فلا
يجوز هبته. قال الرملي: بجامع أن كلا منهما تمليك في الحياة ولا ينافيه خير: زن
وأرجح، لان الرجحان المجهول وقع تابعا لمعلوم، عل أن الأوجه كون المراد
بأرجح تحقق الحق حذرا من التساهل فيه، ولا قوله صلى الله عليه وسلم للعباس
رضي الله عنه في المال الذي جاء من البحرين: خذ منه - الحديث، لأن الظاهر
أن ما ذكر في المجهول إنما هو بالمعنى الأخص بخلاف هديته وصدقته فيصحان
فيما يظهر، واعطاء العباس الظاهر صدقة لا هبة، لكونه من جملة المستحقين.
وقد اختلف الفقهاء في ترك الدين المستقر الذي في الذمة للمدين، فقال
أبو حنيفة والثوري وإسحاق: إن وهب الدين لغير من هو في ذمته أو باعه إياه
لم يصح. وقال أحمد: إذا كان لك على رجل طعام قرضا فبعه من الذي هو عليه
بنقد، ولا تبعه من غيره عرضا بمالك عليه.
وقال الشافعي: إن كان الدين على معسر أو مماطل أو جاحد له لم يصح البيع
لأنه معجوز عن تسليمه، وإن كان على ملئ باذل له ففيه قولان.
(أحدهما) يصح لأنه ابتاع بمال ثابت في الذمة فصح، كما لو اشترى في ذمته
ويشترط أن يشتريه بعين أو يتقابضان في المجلس لئلا يكون بيع دين بدين.
(والثاني) لا يصح. وفى نهاية المحتاج بحث حول ترك الدين المستقر الذي
في الذمة المدين لغيره هل يعد هبة أم يعد إبراء فحسب بأنه لا يعد هبة في الأصح
لأنه غير مقدور على تسليمه، فإن قلنا: بصحة بيعه لغير من هو عليه قياسا على
بيع الموصوف فإنه لا يوهب والدين مثله بلى أولى، وفرق ما بين صحة بيعه وعدم
صحة هبته بأن بيع ما في الذمة التزام لتحصيل المبيع في مقابلة الثمن الذي استحقه
والالتزام فيها صحيح بخلاف هبته فإنها لا تتضمن الالتزام إذ لا مقابل فيها،
فكانت بالوعد أشبه فلم يصح.
ووارد على ما لا يجوز بيعه من المجهول أنه إذا خلط متاعه بمتاع غيره فوهب
أحدهما نصيبه لصاحبه فيصح مع جهل قدره وصفته للضرورة، وكذلك لو قال:
376

أنت في حل مما تأخذ أو تعطى أو تأكل من مالي فله الاكل فقط لأنه إباحة وهي
صحيحة بالمجهول بخلاف الاخذ والاعطاء قاله العبادي، قال: وفى خذ من عنب
كرمى ما شئت لا يزيد على عنقود لأنه أقل ما يقع عليه الاسم، وما استشكل به
يرد بأن الاحتياط المبنى عليه حق أوجب ذلك التقدير، وأفتى القفال في: أبحت
لك من ثمار بستاني ما شئت بأنه إباحة، وظاهرة أن له أخذ ما شاء، وما قاله
العبادي أحوط.
وفى الأنوار: لو قال أبحت لك جميع ما في داري أو ما في كرمى من العنب:
فله اكله دون بيعه وحمله واطعامه لغيره. وتقتصر الإباحة على الموجود في الدار
أو في الكرم. ولو قال أبحت لك جميع ما في داري أكلا واستعمالا ولم يعلم المبيح
لم تحصل الإباحة اه‍.
ومتى قلنا لا تصح الهبة في غير مقدور عليه أو فيما لا يمكن تسليمه كالعبد
الآبق والجمل الشارد والمغصوب لغير غاصبه ممن لا يقدر على اخذه بهذا قال
أبو حنيفة والشافعي واحمد رضي الله عنهم لأنه عقد يفتقر إلى القبض فلم يصح
في ذلك كالبيع والله تعالى اعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا تصح الا بالايجاب والقبول لأنه تمليك آدمي لآدمي فافتقر إلى
الايجاب والقبول كالبيع والنكاح ولا يصح القبول الا على الفور. وقال أبو العباس
يصح على التراخي، والصحيح هو الأول، لأنه تمليك مال في حال الحياة فكان
القبول فيه على الفور كالبيع،
(فصل) ولا يملك الموهوب منه الهبة من غير قبض، لما روت عائشة
رضي الله عنها (ان أباها نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله فلما حضرته الوفاة
قال يا بنية ان أحب الناس غنى بعدي لانت وان أعز الناس على فقرا بعدي لانت، وأنى
كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا من مالي ووددت انك جذذته وحزته وإنما هو اليوم
مال الوارث وإنما هما أخواك وأختاك. قالت هذان أخواي فمن أختاي، قال ذو
بطن بنت خارجه، فاني أظنها جارية، فان مات قبل القبض قام وارثه مقامه،
377

ان شاء قبض وان شاء لم يقبض، ومن أصحابنا من قال. يبطل العقد بالموت،
لأنه غير لازم فبطل بالموت كالعقود الجائزة، والمنصوص انه لا يبطل لأنه عقد
يؤول إلى اللزوم فلم يبطل بالموت كالبيع بشرط الخيار، فإذا قبض ملك بالقبض
ومن أصحابنا من قال يتبين انه ملك بالعقد، فان حدث منه نماء قبل القبض كان
للموهوب له، لان الشافعي رضي الله عنه قال فيمن وهب له عبد قبل ان يهل
عليه هلال شوال، وقبض بعدما أهل ان فطرة العبد على الموهوب له والمذهب
الأول، وما قال في زكاة الفطر فرعه على قول مالك رحمه الله.
(الشرح) خبر عائشة رضي الله عنها، رواه مالك في الموطأ من طريق ابن
شهاب عن عروة عنها، وروى البيهقي من طريق ابن وهب عن مالك وغيره عن
ابن شهاب. وعن حنظلة بن أبي سفيا عن القاسم بن محمد نحوه
قال الشافعي رضي الله عنه في الام بلغنا عن أبي بكر رضي الله عنه انه نحل
عائشة أم المؤمنين جداد عشرين وسقا من نخل له بالعالية فلما حضره الموت قال
لعائشة (انك لم تكوني قبضتيه، وإنما هو مال الوارث) فصار بين الورثة لأنها
لم تكن قبضته.
اما لغات الفصل: فان قوله نحل عائشة أي أعطاها والنحلة العطية، والوسق
ستون صاعا، وحزته أي قبضته، ولو قال: حزتيه لكان جائزا ولكن الحذف
أفصح، واما قوله ذو بطن بنت خارجه. فان ذو تأتى بمعنى الاسم الموصول في
لغة طئ قال شاعرهم:
قالوا جننت فقلت كلا * وربى ما جننت ولا انتشيت
ولكني ظلمت فكدت أبكى * من الظلم المبين أو بكيت
فان الماء ماء أبى وجدى * وبئري ذو حفرت وذو طويت
وقد تزوج أبو بكر رضي الله عنه ذو بطن بنت خارجة بن أبي زهير بالسنح
في بنى الحارث من الخزرج قريب المدينة واسمها حبيبة وبنتها أم كلثوم بنت أبي
بكر رضي الله عنه.
أما الأحكام: فان الهبة لا تصح الا بإذن الواهب لأنه بالخيار قبل القبض
378

ان شاء أقبضها وأمضاها وان شاء رجع فيها ومنعها، فان قبضها الموهوب له قبل
اذنه لم تتم الهبة ولم يصح القبض.
وحكى عن أبي حنيفة انه إذا قبضها في المجلس صح، وان لم يأذن له، لان
الهبة قامت مقام الاذن في القبض لكونها دالة على رضاه بالتمليك الذي
لا يتم الا بالقبض.
ومذهب الشافعي واحمد رضي الله عنهما انه قبض الهبة بغير اذن الواهب فلم
يصح كما بعد في المجلس، أو كما لو نهاه عن قبضها، ولان التسليم غير مستحق على
الواهب فلا يصح التسليم الا باذنه، كما لو اخذ المشترى المبيع من البائع قبل تسليم
ثمنه، ولا يصح جعل الهبة اذنا في القبض بدليل ما بعد المجلس، ولو اذن
الواهب في القبض ثم رجع عن الاذن أو رجع في الهبة صح رجوعه لان ذلك
ليس بقبض. وان رجع بعد القبض لم ينفع رجوعه، لان الهبة قد تمت
إذا عرف هذا عرف ان شرط الهبة الايجاب، كوهبتك وملكتك ومنحتك
وأكرمتك وعظمتك ونحلتك، وكذا أطعمتك ولو في غير طعام كما نص عليه،
وقبول، كقبلت ورضيت واتهبت متلفظا بإحدى هذه الكلمات أو بإشارة من
اخرس مفهومه في حقه بالقبول، لان القبول ينعقد بالكناية. ومن أركانها
أن يكون القبول مطابقا للايجاب، ومن أركانها اعتبار الفور في الصيغة، ولا
يضر الفصل. نعم في الاكتفاء بالاذن قبل وجود القبول نظر، لأننا إذا تصورنا
ان الواهب لا يفترق عن الراهن عند تقديمه المعين إلى المتهب الا في الصيغة، تبين
لنا أهمية الصيغة وضرورتها عند العقد واعتبار القبول على الفور لفظا، ولا
يكفي لفظ يحتمل القبول والرفض الا إذا اقترن اللفظ بالقبض وتسليط اليد،
كقوله شكرا فإنه لفظ يحتمل الاعتذار عن قبول الهبة ويحتمل القبول
وأفتى بعض الأصحاب فيمن بعث بنته وجهازها إلى دار الزوج بأنه ان قال
هذا جهاز بنتي فهو ملك لها، والا فهو عارية ويصدق بيمينه ولا يشترط الايجاب
والقبول في الصدقة بل يكفي الاعطاء والاخذ، ولا في الهدية بل يكفي البعث من
هذا ويكون كالايجاب والقبض من ذلك، ويكون كالقبول لجريان عادة السلف
بل الصحابة مع النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، ومع ذلك كانوا يتصرفون فيه
379

تصرف الملاك فسقط ما يتوهم منه انه كان إباحة. هذا هو الصحيح. والثاني
يشترطان كالهبة. وفرق هنا بين التمليك وبين نقل الحق أو اليد إلى غيره، كلين
شاة الأضحية أو صوفها أو تنازل إحدى الضرتين عن نوبتها للأخرى
(فرع) لا يملك الموهوب الهبة الا بقبضها، فقد روى عروة عن عائشة
رضي الله عنه ان أبا بكر رضي الله عنه نحلها جذاذ عشرين وسقا من ماله بالعالية
فلما مرض قال: يا بنية ما أحد أحب إلى غنى بعدي منك، ولا أحد أعز على
فقرا منك، وكنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا وددت انك حزتيه أو قبضتيه،
وهو اليوم مال الوارث أخواك وأختاك، فاقتسموا على كتاب الله عز وجل.
وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما أبال أقوام ينحلون أولادهم،
فإذا مات أحدهم قال: مالي وفى يدي. وإذا مات هو قال: كنت نحلته ولدى،
لا نحلة الا نحلة يحرز الولد دون الوالد فان مات ورثه)
فإذا مات الواهب أو الموهوب له قبل القبض، فان قلنا بأنه عقد يؤول إلى
اللزوم لم يبطل بموت أحد المتعاقدين بل يقوم ورثته مقامه، وهذا قول أكثر
أصحابنا، وهو قو أبى الخطاب من الحنابلة حيث يقول: إذا مات الواهب قام
وارثه مقامه في الاذن في القبض والفسخ.
وان قلنا بقول بعض الأصحاب بأنه من العقود الجائزة يبطل بموت أحد
المتعاقدين كالوكالة والشركة، وهو قول الإمام أحمد حيث قال في رواية أبى طالب
وأبى الحارث في رجل اهدى هدية فلم تصل إلى المهدى حتى مات، فإنها تعود
إلى أصحابها ما لم يقبضها.
وروى باسناده عن أم كلثوم بنت سلمة قالت (لما تزوج رسول الله صلى الله
عليه وسلم أم سلمة قال لها (انى قد أهديت إلى النجاشي حلة وأواقي مسك، ولا
أرى النجاشي الا قد مات، ولا أرى هديتي الا مردودة على، فان ردت فهي
لك. قالت فكان ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وردت عليه هديته،
فأعطى كل امرأة من نسائه أوقية من مسك وأعطى أم سلمة بقية المسك والحلة)
ووجه ضعف القول بانفساخ العقد بموت أحدهما أن ليس المدار على القبول
380

بل على الأيلولة للزوم كما قررنا، وهو جار في الهدية والصدقة أيضا، ويجرى
الخلاف في الجنون والاغماء، ولولي المجنون قبضها قبل الإفاقة
وفرق الحنابلة بين المكيل والموزون وغيرهما، فالمكيل والموزون لا يصح
التمليك بغير قبض أما في غيهما يصح بغير القبض لما روى عن علي وابن مسعود
رضي الله عنهما انهما قالا: الهبة جائزة إذا كانت معلومة قبضت أو لم تقبض،
وهو قول مالك وأبي ثور. وعن أحمد رواية أخرى لا تلزم الهبة في الجميع لا
بالقبض، وهو قول أكثر أهل العلم. قال المروزي: اتفق أبو بكر وعمر وعثمان
وعلى، على أن الهبة لا تجوز الا مقبوضة، ويروى ذلك عن النخعي والثوري
والحسن بن صالح والعنبري والشافعي وأصحاب الرأي لما ذكرنا
ومن أصحابنا من قال: إنما يستغنى عن القبض إذا تحقق الايجاب والقبول
واستقر العقد بينهما، ولأنه عقد تمليك فافتقر إلى الايجاب والقبول كالنكاح،
وعلى هذا القول إذا حدث نماء في الهبة قبل القبض كانت للموهوب له، والمنصوص
ان النماء بعد القبض كان للموهوب
قال في الام: وإذا وهب الرجل للرجل جارية أو دار، فزادت الجارية في يديه،
أو بنى الدار فليس للواهب الذي ذكر انه وهب للثواب ولم يشترط ذلك أن
يرجع في الجارية، أي حال ما كانت زادت خيرا أو نقصت، كما لا يكون له إذا
أصدق المرأة جاريه فزادت في يديها ثم طلقها ان يرجع بنصفها زائدة. اه‍
قلت: وليست الفطرة التي لزمت الموهوب له منفعة تعود عليه، وإنما هي
قربة صادفت محلها فلا شبه بينها وبين النماء عائد، والفطرة بذل واخراج
والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فان وهب لغير الولد وولد شيئا وأقبضه لم يملك الرجوع
فيه، لما روى ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما رفعاه إلى النبي صلى الله عليه
وسلم (لا يحل للرجل ان يعطى العطية فيرجع فيها الا الوالد فيما أعطى ولده)
381

وان وهب للولد أو ولد الولد وان سفل جاز له أن يرجع للخبر، ولان الأب
لا يتهم في رجوعه، لأنه لا يرجع الا لضرورة أو لاصلاح الولد، وان تصدق
عليه فالمنصوص ان له أن يرجع كالهبة. ومن أصحابنا من قال لا يرجع، لان
القصد بالصدقة طلب الثواب وإصلاح حاله مع الله عز وجل، فلا يجوز ان
يتغير رأيه في ذلك، والقصد من الهبة إصلاح حال الولد، وربما كان الصلاح في
استرجاعه فجاز له الرجوع.
وإن تداعى نسب مولود ووهبا له مالا لم يجز لواحد منهما أن يرجع
لأنه لم يثبت له بنوته، فإن لحق بأحدهما ففيه وجهان (أحدهما) أنه يجوز لأنه
ثبت أنه ولده (والثاني) لا يجوز لأنه لم يثبت له الرجوع في حال العقد، وإن
وهب لولده ووهب الولد لولده ففيه وجهان (أحدهما) يجوز لأنه في ملك من
يجوز له الرجوع في هبته (والثاني) لا يجوز لأنه رجوع على غير من وهب له
فلم يجز، وإن وهب لولده شيئا فأفلس الولد وحجر عليه ففيه وجهان
(أحدهما) يرجع لأنه حقه سابق لحقوق الغرماء.
(والثاني) لأنه تعلق به حق الغرماء فلم يجز له الرجوع كما لو رهنه
(فصل) وإن زاد الموهوب في ملك الولد أو زال الملك فيه ثم عاد إليه
فالحكم فيه كالحكم في المبيع إذا زاد في يد المشترى أو زال الملك فيه ثم عاد إليه ثم
أفلس في رجوع البائع، وقد بيناه في التفليس
(الشرح) حديث ابن عمر وابن عباس رواه طاوس أن ابن عمر وابن عباس
رفعاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل للرجل أن يعطى العطية فيرجع
فيها إلا الوالد فيما يعطى ولده، ومثل الرجل يعطى العطية ثم أيرجع فيها الا
الوالد فيما يعطى ولده. ومثل الرجل يعطى العطية ثم يرجع فيها كمثل المكلب
أكل حتى إذا شبع قاء ثم رجع في قيئه) أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود
والترمذي وصححه، وكذلك ابن حبان والحاكم وصححاه
وقد استدل بالحديث على تحريم الرجوع في الهبة، لان القئ حرام فالمشبه
به مثله، ووقع في رواية أخرى للبخاري وغيره: كالكلب يرجع في قيئه، وهي
382

تدل على عدم التحريم، لان الكلب غير متعبد فالقئ ليس حراما عليه، وهكذا
قوله: كمثل الكلب الخ، وتعقب بأن ذلك للمبالغة في الزجر كقوله صلى الله عليه
وسلم فيمن لعب بالنردشير (فكأنما غمس يده في لحم خنزير) وأيضا الرواية
الدالة على التحريم غير منافية للرواية الدالة على الكراهة على تسليم دلالتها على
الكراهة فقط، لان الدال على التحريم قد دل على الكراهة وزيادة، وقد قدمنا
في باب نهى المتصدق أن يشترى ما تصدق به من كتاب الزكاة عن القرطبي أن
التحريم هو الظاهر من سياق الحديث. وقدمنا أيضا أن الأكثر حملوه على
التنفير خاصة لكون القئ مما يستقذر.
ويؤيد القول بالتحريم قوله صلى الله عليه وسلم (وليس لنا مثل السوء) في
حديث ابن عباس عند أحمد والبخاري. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: لا يحل
للرجل. قال في الفتح: وإلى القول بتحريم الرجوع في الهبة بعد أن تقبض ذهب
جمهور العلماء إلا هبة الوالد لولده، وذهب الحنفية والزيدية إلى حل الرجوع في
الهبة دون الصدقة، إلا إذا حصل مانع من الرجوع، كالهبة لذي رحم ونحو
ذلك من الموانع.
وقال الطحاوي: ان قوله (لا يحل) لا يستلزم التحريم. قال وهو كقوله
صلى الله عليه وسلم (لا تحل الصدقة لغني) وإنما معناه لا تحل له من حيث تحل
لغيره من ذوي الحاجة، وأراد بذلك التغليظ في الكراهة
وقال الطبري: يخص من عموم هذا الحديث من وهب بشرط الثواب ومن
كان والدا والموهوب له ولده والهبة لم تقبض، والتي ردها الميراث إلى الواهب
لثبوت الاخبار باستثناء كل ذلك. وأما ما عدا ذلك كالغنى يثيب الفقير ونحو من
يصل رحمه فلا رجوع. قال: ومما لا رجوع فيه مطلقا الصدقة يراد بها ثواب
الآخرة. قال ابن حجر: اتفقوا على أنه لا يجوز الرجوع في الصدقة بعد القبض
وقد أخرج مالك عن عمر أنه قال: من وهب هبة يرجو ثوابها فهي رد على
صاحبها ما لم يثب منها. ورواه البيهقي عن ابن عمر مرفوعا وصححه الحاكم. قال
ابن حجر: والمحفوظ من رواية ابن عمر عن عمر ورواه عبد الله بن موسى
مرفوعا، قيل وهو وهم وصححه الحاكم وابن حزم، ورواه ابن حزم أيضا عن
383

أبي هريرة مرفوعا بلفظ (الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها) وأخرجه أيضا ابن
ماجة والدارقطني ورواه الحاكم من حديث الحسن عن سمرة مرفوعا بلفظ (إذا
كانت الهبة لذي رحم لم يرجع. ورواه الدارقطني من حديث ابن عباس.
قال ابن حجر وسنده ضعيف.
وقال ابن الجوزي: أحاديث ابن عمر وأبي هريرة وسمرة ضعيفة وليس منها
ما يصح. وأخرج الطبراني في الكبير عن ابن عباس مرفوعا (من وهب هبة فهو
أحق بها حتى يثاب عليها، فان رجع في هبته فهو كالذي يقئ ويأكل منه) فان
صحت هذه الأحاديث كانت مخصصة لعموم حديث طاوس الا أنها لم تثبت، كما
رأيت من كلام ابن الجوزي وابن حجر وغيرهما من فقهاء المحدثين.
وقد استدل الجمهور بحديث الفصل على أن للأب أن يرجع فيما وهب لابنه،
وقال أحمد (لا يحل للواهب أن يرجع في هبته مطلقا) ويؤيد ما ذهب إليه الجمهور
حديث عائشة عند أحمد والبخاري ومسلم وأبى داود والترمذي مرفوعا (ان أطيب
ما أكلتم من كسبكم، وان أولادكم من كسبكم) وفى لفظ (ولد الرجل من أطيب
كسبه فكلوا من أموالهم هنيئا) رواه أحمد
وحديث جابر أن رجلا قال: يا رسول الله ان لي مالا وولدا وان أبى يريد
أن يجتاح مالي، فقال (أنت ومالك لأبيك) رواه ابن ماجة
وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيا أتى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال (أن أبى يريد أن يجتاح مالي، فقال أنت ومالك لوالدك، ان
أطيب ما أكلتم من كسبكم، وان أولادكم من كسبكم، فكلوه هنيئا) رواه
أحمد وأبو داود.
وقال الشافعي رضي الله عنه وأبو حنيفة ومالك: ومالك: ليس للوالد أن يأخذ من
مال ولده الا بقدر حاجته، لحديث (ان دماءكم وأموالكم عليكم حرام، الخ.
الحديث متفق عليه
وقال النووي في المنهاج وللأب الرجوع في هبة ولده وكذا لسائر الأصول
على المشهور، قال الرملي، بالمعنى الأعم الشامل للهدية والصدقة على الراجح،
384

بل يوجد التصريح بذلك في بعض النسخ، ولا يتعين الفور، بل له ذلك متى شاء
وإن لم يحكم به حاكم، أو كان الولد صغيرا فقيرا مخالفا دينا للخبر وساقه.
واختص بذلك لانتفاء التهمة فيه، إذ ما طبع عليه من إيثاره لولده على نفسه
يقضى بأنه إنما رجع لحاجة أو مصلحة، ويكره الرجوع من غير عذر، فإن وجد
ككون الولد عاقا، أو يصرفه في معصية أنذره به فإن أصر لم يكره.
وبحث الأسنوي ندبه في العاصي وكراهته في العاق إن زاد عقوقه وندبه ان
أزاله وإباحته إن لم يفد شيئا، والأذرعي ذهب إلى عدم كراهته إن احتاج
الأب لنفقة أو دين، بل ندبه حيث كان الولد غير محتاج له، ووجوبه في العاصي
إن غلب على الظن تعينه طريقا إلى كفه عن المعصية، ويمتنع الرجوع كما بحثه
البلقيني في صدقة واجبة كنذر وزكاة وكفارة، وكذا في لحم أضحية تطوع،
لأنه إنما يرجع ليستقل بالتصرف وهو ممتنع هنا.
وكذا له الرجوع لسائر الأصول وان علوا أو سفلوا على المشهور، وأفهم
كلامه اختصاص الرجوع بالواهب فلا يجوز ذلك لأبيه لو مات ولم يرثه فرعه
الموهوب له لمانع قام به وورثه. جده، لان الحقوق لا تورث وحدها إنما تورث
بتبعية المال وهو لا يرثه. ولا يملك الوالد الرجوع الا إذا كانت باقيه في ملك
الابن، فان فان خرجت عن ملكه لم يكن له الرجوع فيها لأنه ابطال لغير ملك الابن
فإن عادت إليه بسبب جديد كبيع أو ارث أو وصية لم يملك الرجوع أيضا
لان ملكها لم يستفده من جهة أبيه، أما ان عادت بفسخ أو إقالة فله الرجوع على
أحد الوجهين.
(فرع) إذا تداعى رجلان نسب مولود ووهب له كل منهما مالا فليس
لواحد منهما أن يرجع في هبته لان نسبه لم يثبت لواحد منهما، أما إذا لحق بأحدهما
ففيه وجهان (أحدهما) يجوز لثبوت البنوة (والثاني) لا يجوز لأنه لم يكن ثبت
له الرجوع في حال العقد والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فان وهب شيئا لمن هو دونه لم يلزمه أن يثيبه بعوض، لان
385

القصد من هبته الصلة فلم تجب المكافأة فيه بعوض كالصدقة. وان وهب لمن هو
مثله لم يلزمه أيضا أن يثيبه، لان القصد من اكتساب المحبة وتأكيد
الصداقة، وان وهب لمن هو أعلى منه ففيه قولان، قال في القديم: لم يلزمه أن
يثيبه عليه بعوض، لان العرف في هبة الأدنى للأعلى أن يلتمس به العوض
فيصير ذلك كالمشروط.
وقال في الجديد: لا يجب لأنه تمليك بغير عوض فلا يوجب المكافأة بعوض
كهبة النظير للنظير فان قلنا: لا يجب فشرط فيه ثوابا معلوما ففيه قولان
(أحدهما) يصح لأنه تمليك مال بمال فجاز كالبيع، فعلى هذا يكون كبيع بلفظ
الهبة في الربا والخيار وجميع أحكامه.
(والثاني) أنه باطل، لأنه عقد لا يقتضى العوض فبطل شرط العوض
كالرهن، فعلى هذا حكمه حكم البيع الفاسد في جميع أحكامه، وان شرط فيه
ثوابا مجهولا بطل قولا واحدا لأنه شرط العوض، ولأنه شرط عوضا مجهولا
وان قلنا إنه يجب العوض ففي قدره ثلاثة أقوال
(أحدها) انه يلزمه أنه يعطيه إلى أن يرضى، لما روى ابن عباس رضي الله عنه
(أن أعرابيا وهب للنبي صلى الله عليه وسلم هبة فأثابه عليها. قال أرضيت
قال لا، فزاده وقال أرضيت؟ فقال نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لقد هممت أن لا أتهب الا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي)
(والثاني) يلزمه قدر قيمته لأنه عقد يوجب العوض، فإذا لم يكن مسمى
وجب عوض المثل كالنكاح.
(والثالث) يلزمه ما جرت العادة في ثواب مثله، لان العوض وجب
بالعرف فوجب مقداره في العرف، فان قلنا إنه يجب العوض فلم يعطه ثبت له
الرجوع، فان تلفت العين رجع بقيمتها، لان كل عين ثبت له الرجوع بها إذا
تلفت وجب الرجوع إلى بدلها كالمبيع. ومن أصحابنا من قال لا يجب لان حق
الواهب في العين، وان نقصت العين رجع فيها، وهل يرجع بأرش ما نقص؟
فيه وجهان كالوجهين في رد القيمة إذا تلفت.
وان شرط عوضا مجهولا لم تبطل، لأنه شرط ما يقتضيه العقد، لأن العقد
386

على هذا القول يقتضى عوضا مجهولا، وإن لم يدفع إليه العوض وتلف الموهوب
ضمن العوض بلا خلاف، وإن شرط عوضا معلوما ففيه قولان (أحدهما) أن
العقد يبطل، لأن العقد يقتضى عوضا غير مقدر فبطل بالتقدير (والثاني) يصح
لأنه إذا صح بعوض مجهول فلان يصح بعوض معلوم أولى
(فصل) وإن اختلف الواهب والموهوب له، فقال الواهب وهبتك ببدل
وقال الموهوب له: وهبتني على غير بدل. ففيه وجهان، أحدهما أن القول قول
الواهب، لان لم يقر لخروج الشئ من ملكه إلا على بدل. والثاني أن القول قول
الموهوب له، لان الواهب أقر له بالهبة وادعى بدلا الأصل عدمه.
(الشرح) حديث ابن عباس رواه أحمد وابن حبان. وقال الهيثمي: رجال
أحمد رجال الصحيح، وأخرجه أبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة بنحوه،
وطوله الترمذي ورواه من وجه آخر، وبين أن الثواب كان ست بكرات، وكذا
رواه الحاكم وصححه على شرط مسلم.
وقد روى أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها
قالت (كان رسول الله صلى لله عليه وسلم يقبل الهدية ويثيب عليها) أي
يعطى المهدى بدلها.
والمراد بالثواب المجازات وأقله ما يساوى قيمة الهداية، ولفظ ابن أبي شيبة
ويثيب ما هو خير منها. وقد أعل حديث عائشة بالارسال. قال البخاري: لم
يذكر وكيع ومحاضر عن هشام عن أبيه عن جده عن عائشة، وقد استدل بعض
المالكية به على وجوب المكافأة على الهدية إذا أطلق المهدى وكانت ممن مثله
يطلب الثواب، كالفقير للغنى بخلاف ما يهبه الاعلى للأدنى
ووجه الدلالة منه مواظبته صلى الله عليه وسلم، ومن حيث المعنى أن الذي
أهدى قصد أن يعطى أكثر مما أهدى، فلا أقل من أن يعوض بنظير هديته،
وبه قال الشافعي في القديم، ويجاب بأن مجرد الفعل لا يدل على الوجوب،
ولو وقعت المواهبة كما تقرر في الأصول
وذهبت الحنفية والشافعي في الجديد أن الهبة للثواب باطلة لا تنعقد لأنها بيع
387

مجهول، ولان موضع الهبة التبرع. وفى رواية الفصل (إلا من قرشي الخ) وفى
رواية أبى داود (وإيم الله لا أقبل هدية بعد يومي هذا من أحد إلا أن يكون
مهاجريا أو قرشيا أو أنصاريا أو دوسيا أو ثقفيا) وسبب همه صلى الله عليه وسلم
بذلك ما رواه الترمذي من حديث أبي هريرة قال (أهدى رجل من فزارة إلى
النبي صلى الله عليه وسلم ناقة من إبله فعوضه منها بعض العوض فتسخطه،
فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر (إن رجالا من العرب
يهدى أحدهم الهدية فأعوضه عنها بقدر ما عندي فيظل يسخط على) الحديث.
وقد كان ابن رسلان يحكى أن بعض أهل العلم والفضل يمتنع هو وأصحابه من
قبول الهدية من أحد أصلا لا من صديق ولا من قريب ولا غيرهما. وذلك
لفساد النيات في هذا الزمان.
أما أحكام الفصل فقد قال النووي في المنهاج: ولا رجوع لغير الأصول في
هبة مقيدة بنفي الثواب. ومتى وهب مطلقا فلا ثواب إن وهب لدونه وكذا
لا على منه في الأظهر. قال في النهاية: كما لو أعاره داره إلحاقا للأعيان بالمنافع.
ولان العادة ليس لها قوة الشرط في المعارضات (والثاني) يجب الثواب لا طراد
العادة بذلك، وكذلك لا ثواب له وإن نواه إن وهب لنظيره على المذهب، لان
القصد من مثله الصلة وتأكد الصداقة
والطريق الثاني: طرد القولين السابقين، والهدية في ذلك كالهبة كما قاله
النووي تفقها ونقله في الكفاية عن تصريح البندنيجي ومثل ذلك الصدقة. وان
اختار الأذرعي دليلا أن العادة متى اقتضت الثواب وجب هو أو رد الهدية
والأوجه كما بحثه أيضا أن التردد ما إذا لم يظهر حالة الاهداء قرينة حاليه أو لفظيه
دالة على طلب الثواب، والا وجب هو أو الرد لا محالة
ولو قال. وهبتك ببدل. فقال بل بلا بدل، صدق المتهب بيمينه، لان
الأصل عدم البدل. ولو أهدى له شيئا على أن يقضى له حاجة فلم يفعل لزمه
رده ان بقي والا فبدله كما قاله الإصطخري، فإن كان فعلها حل، أي وإن تعين
عليه تخليصه بناء على الأصح أنه يجوز أخذ العوض على الواجب إذا كان
فيه كلفة، خلافا لما يوهمه كلام الأذرعي وغيره هنا
388

فإن وجب الثواب على مقابل المذهب أو على البحث المار لتلف الهدية أو
عدم إرادة المتهب ردها فهو قيمة الموهوب، أي قدرها يوم قبضه، ولو مثليا
في الأصح، فلا يتعين للثواب جنس من الأموال بل الخيرة فيه للمتهب، والثاني
يلزمه ما يعد ثوابا لمثله عادة، وقيل إلى أن يرضى ولو بإضعاف قيمته، فإن قلنا
بوجوب إنابته ولم يثبه هو ولا غيره فله الرجوع في هبته ان بقيت وبدلها ان تلفت
ولو وهب بشرط ثواب معلوم عليه، كوهبتك هذا على أن تثيبني كذا فقبل
فالأظهر صحة العقد نظرا للمعنى إذ هو معاوضة بمال معلوم نصح، كما لو قال
بعتك، والثاني بطلانه نظرا إلى اللفظ لتناقضه، فإن لفظ الهبة يقتضى التبرع،
ومن ثم يكون بيعا على الصحيح، فيجرى فيه عقب العقد أحكامه كالخيارين كما مر
بما فيه، والشفعة وعدم توقف الملك على القبض، والثاني يكون هبه نظرا للفظ
فلا تلزم قبل القبض أو بشرط ثواب مجهول فالمذهب بطلانه لتعذر صحته بيعا
لجهالة العوض، وهبه لذكر الثواب بناء على الأصح أنها لا تقتضيه، وقيل
تصح هبة بناء على أنها تقتضيه
ولو بعث هدية لم يعده بالباء لجواز الامرين كما قاله أبو علي خلافا لتصويب
الحريري تعين تعديته بها في ظرف، أو وهب شيئا في ظرف من غير بعث، فإن
لم يجر العادة برده، كقوصرة تمر (وهي الوعاء الذي يكنز فيه من نحو خوص
ولا يسمى بذلك الا وهو فيه، والا فزنبيل) وكعلبة حلوى فهو هدية أو هبه
أيضا تحكيما للعرف المطرد
وكتاب الرسالة يملكه المكتوب إليه ان لم تدل قرينة على عودة، قاله المتولي
وهو أوجه من قول غيره أنه باق على ملك الكاتب ويملك المكتوب له الانتفاع
به على وجه الإباحة، والا ان اعتيد رده أو اضطربت العادة كما اقتضاه ابن
المقري فلا يكون هديه، بل أمانه في يده كالوديعة، ويحرم استعماله لأنه انتفاع
بملك غيره بغير اذنه الا في أكل الهدية منه ان اقتضته العادة عملا بها، ويكون
عارية حينئذ ويسن رد الوعاء حالا، قال الأذرعي: وهذا في مأكول، أما غيره
فيختلف رد ظرفه باختلاف عادة النواحي، فيتجه في كل ناحية بعرفهم وفى كل
قوم عرفهم باختلاف طبقاتهم، ولو ختن ولده وحملت له هدايا ملكها الأب.
389

وقضية ذلك أن ما جرت به عادة بعض أهل البلاد من وضع طاسة (صينية)
بين يدي صاحب الفرح ليضع الناس فيها دراهم: وفى الإسكندرية رأيت الناس
يكتبون قائمة بأسماء الواهبين ومقدار ما دفعوه في الطاسة وهم حريصون على رد
ما يأخذونه في أفراح من أعطوهم وربما زاد بعضهم على ما أخذ، وفى القاهرة
تفشو هذه العادة إلا أن الحرص على الرد أقل من الإسكندرية.
قال الرملي: ثم يقسم على المزين ونحوه يجرى في ذلك التفصيل، فإن قصد
المزين وحده أو مع نظر انه المعاونين له عمل بالقصد، وان أطلق كان ملكا
لصاحب الفرح يعطيه لمن يشاء، وبهذا يعلم عدم اعتبار العرف هنا، أما مع قصد
خلافه فظاهر، وأما مع الاطلاق فلان حمله على من ذكر من الأب والخادم
وصاحب الفرح نظرا للغالب أن كلا من هؤلاء هو المقصود هو عرف الشرع،
فيقدم على العرف المخالف له بخلاف مالا عرف للشرع فيه فيحكم بالعادة فيه.
قال الشافعي رضي الله عنه: إذا وهب الرجل شقا من دار فقبضه
ثم عوضه الموهوب له شيئا فقبضه الواهب سئل الواهب، فإن قال: وهبتها
للثواب كان فيها شفعة، وإن قال: وهبتها لغير الثواب لم يكن فيها شفعة، وكانت
المكافأة كابتداء الهبة، وهذا كله في قول من قال: للواهب الثواب إذا قال أردته
فأما من قال: لا ثواب للواهب إن لم يشترطه في الهبة فليس له الرجوع في شئ
وهبه ولا الثواب منه، قال الربيع وفيه قول آخر، وإذا وهب واشترط الثواب
فالهبة باطلة من قبل أنه اشترط عوضا مجهولا، وإذا وهب لغير الثواب وقبضه
الموهوب فليس له أن يرجع في شئ وهبه، وهو معنى قول الشافعي: وإذا وهب
الرجل للرجل هبه فلم يقبضها الموهبة له حتى مات، فإن أبا حنيفة كان يقول:
الهبة في هذا باطل لا تجوز وبه يأخذ، ولا يكون له وصيه إلا أن يكون ذلك في
ذكر وصيه، وكان ابن ليلى يقول: هي جائزة من الثلث اه‍.
(فرع) إذا اختلف الواهب والموهوب فقال الواهب: ببدل، وقال الموهوب
له على غير بدل فوجهان.
أحدهما: القول قول الواهب لأنه منكر لخروج الشئ من ملكه بغير بدل
390

والثاني: القول قول الموهوب، لان المقر بالهبة والأصل فيها عدم البدل.
وقد ادعاه الواهب وأنكره الموهوب فالقول قول المنكر. ولو وهبه وأقبضه
ومات ادعاه الوارث صدوره في المرض، وادعى المتهب كونه في الصحة صدق
المتهب بيمينه، ولو أقاما بينتين قدمت بينة الوارث لان معها زيادة علم، ثم محل
ما تقرر إن كان الولد حرا، ولو أبرأه من دين له عليه لم يملك الرجوع سواء
أقلنا: إنه تمليك أم إسقاط، إذ لا بقاء للدين فأشبه ما لو وهبه شيئا فتلف،
والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى
باب العمرى والرقبى
العمرى هو أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك، أو جعلتها لك عمرك
وفيها ثلاث مسائل (إحداها) أن يقول: أعمرتك هذه الدار حياتك ولعقبك
بعدك، فهذه عطية صحيحة، تصح بالايجاب والقبول، ويملك فيها بالقبض،
والدليل عليه ما روى جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
(أيما رجل أعمر عمري له ولعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها
لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث، والثانية أن يقول: أعمرتك هذه الدار
حياتك، ولم يشرط شيئا ففيه قولان.
قال في القديم هو باطل لأنه تمليك عين قدر بمدة فأشبه إذا قال أعمرتك سنة أو أعمرتك
حياة زيد. وقال في الجديد: هو عطية صحيحة، ويكون للمعمر في حياته ولورثته
بعده وهو الصحيح، لما روى جابر رضي الله عنه قال (قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: من أعمر عمري حياته فهي له ولعقبه من بعده يرثها من يرثه من بعده)
ولان الاملاك المستقرة كلها مقدرة بحياة المالك، وتنتقل إلى الورثة، فلم يكن
ما جعله له في حياته منافيا لحكم الاملاك (والثالثة) أن يقول: أعمرتك
حياتك، فإن مت عادت إلى إن كنت حيا وإلى ورثتي إن كنت ميتا فهي كالمسألة
الثانية، فتكون على قولين.
391

أحدهما: تبطل. والثاني تصح لأنه شرط أن تعود إليه بعد ما زال ملكه أو إلى
وارثه، وشرطه بعد زوال الملك لا يؤثر في حق المعمر فيصير وجوده كعدمه.
(فصل) وأما الرقبى فهو أن يقول: أرقبتك هذه الدار أو داري لك رقبى
ومعناه وهبت لك وكل واحد منا يرقب صاحب، فإن مت قبلي عادت إلى، وان
مت قبلك فهي لك، فتكون كالمسألة الثالثة من العمرى، وقد بينا أن الثالثة
كالثانية فتكون على قولين، وقال المزني: الرقبى أن يجعلها لآخرهما موتا وهذا
خطأ، لما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من (أعمر
عمري أو أرقب رقبى فهي للمعمر يرثها من يرثه).
(فصل) ومن وجب له على رجل دين جاز له أن يبرئه من غير رضاه،
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز الا بقبول من عليه الدين لأنه تبرع يفتقر إلى
تعيين المتبرع عليه فافتقر إلى قبوله كالوصية والهبة، ولان فيه التزاما منه فلم
يملك من غير قبوله كالهبة، والمذهب الأول، لأنه اسقاط حق ليس فيه تمليك
مال فلم يعتبر فيه القبول كالعتق والطلاق، والعفو عن الشفعة والقصاص، ولا
يصح الابراء من دين مجهول لأنه إزالة ملك لا يجوز تعليقه على الشرط فلم يجز
مع الجهالة كالبيع والهبة.
(الشرح) حديثا جابر أخرجهما أحمد والبخاري ومسلم بلفظ (قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرى لمن وهبت له) وفى لفظ عند أحمد ومسلم
(قال: أمسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فمن أعمر عمري فهي الذي أعمر
حيا وميتا ولعقبه) وفى رواية عند أحمد والبخاري ومسلم وأبى داود والترمذي
(العمرى جائزة لأهلها والرقبى جائز لأهلها).
وفى رواية لأحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة (من أعمر رجلا عمري له
ولعقبه فقد قطع قوله حقه فيها، وهي لمن أعمر وعقبه)
وفى رواية لأبي داود
والنسائي والترمذي وصححه (أيما رجل اعمل عمري له ولعقبه فإنها للذي يعطاها
لا ترجع إلى من أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث) وفى رواية عند
392

أحمد ومسلم (إنما العمرى التي أجازها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول
هي لك ولعقبك، فأما إذا قال: هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها) وفى
رواية عند النسائي (أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالعمرى أن يهب الرجل
للرجل ولعقبه الهبة ويستثنى إن حدث بك حدث ولعقبك فهي إلى وإلى عقبى
إنها لمن أعطيها ولعقبه) ورواه الشافعي عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن
طاوس عن حجر المدري عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل
العمرى للوارث، ورواه عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر مرفوعا
(لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو سبيل الميراث).
أما حديث عبد الله بن الزبير فقد رأيت نظيره عن أبي هريرة وزيد بن ثابت
وفيه النهى عن الرقبى (لا ترقبوا. من أرقب شيئا فهو سبيل الميراث) وفى لفظ
(الرقبى جائزة) وهي عند أحمد وأبى داود والنسائي، وفى لفظ عند احمد (جعل
الرقبى للوارث) ورواه أحمد والنسائي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئا أو أرقبه فهو له حياته ومماته).
قال الربيع: سألت الشافعي عمن أعمر عمري له ولعقبه فقال: هي للذي
يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها فقلت: ما الحجة في ذلك، قال: السنة ثابتة
من حديث الناس، وحديث مالك رضي الله عنه: أخبرنا مالك عن ابن شهاب
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر مرفوعا (أيما رجل أعمر عمري له
ولعقبه فإنها للذي يعطاها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت
فيه المواريث).
قال الشافعي: وبهذا نأخذ ويأخذ عامة أهل العلم في جميع الأمصار بغير المدينة
وأكابر أهل المدينة. وقد روى هذا مع جابر زيد بن ثابت عنه صلى الله عليه وسلم
فقلت للشافعي فإنا نخالف هذا فقال تخالفونه وأنتم تروونه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقلت. إن حجتنا فيه أن مالكا قال. أخبرني يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن
القاسم أنه سمع مكحولا الدمشقي يسأل القاسم بن محمد عن العمرى وما يقول الناس
فيها فقال له القاسم ما أدركت إلا وهم على شروطهم في أموالهم وفيما أعطوا
393

إلى أن قال الشافعي بعد حوار وحجاج. وكذلك علمنا قول النبي صلى الله عليه
وسلم في العمرى بخبر ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم
فإذا قبلنا خبر الصادقين فمن روى هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم أرجح مما روى
هذا عن القاسم لا يشك عالم أن ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى أن يقال
به مما قاله ناس بعده، قد يمكن فيهم ان لا يكونوا سمعوا من رسول الله صلى الله
عليه وسلم ولا بلغهم عنه شئ، وانهم أناس لا نعرفهم، فلان قال قائل لا يقول
القاسم قال الناس إلا لجماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من
أهل العلم لا يجهلون للنبي صلى الله عليه وسلم سنة ولا يجتمعون أبدا من جهة الرأي
ولا يجتمعون الا من جهة السنة.
(قوله) العمرى بضم وسكون الميم مع القصر. قال في الفتح: وحكى ضم
الميم مع ضم أوله. وحكى فتح أوله مع السكون وهي مأخوذة من العمر وهو
الحياة سميت بذلك لأنهم كانوا في الجاهلية يعطى الرجل الرجل الدار ويقول له
أعمرتك إياها، أي أبحتها لك مدة عمرك وحياتك فقيل لها عمري لذلك.
والرقبى بوزنها مأخوذة من الرقبة، لان منهما يرقب الاخر متى بموت
لترجع إليه، وكذا ورثته يقومون مقامه. هذا أصلها لغة
قال ابن حجر: ذهب الجمهور إلى أن العمرى إذا وقعت كانت ملكا للآخر،
ولا ترجع إلى الأول الا إذا صرح باشتراط ذلك، والى أنها صحيحة جائزة.
وحكى الطبري عن بعض الناس والماوردي عن داود وطائفة وصاحب البحر عن
قوم من الفقهاء أنها غير مشروعة، ثم اختلف القائلون بصحتها إلى ما يتوجه
التمليك، فالجمهور أنه يتوجه إلى الرقباء كسائر الهبات حتى لو كان المعمر عبدا
فأعتقه الموهوب له نفذ، بخلاف الواهب أو يتوجه إلى المنفعة دون الرقبة،
وهو قول مالك والشافعي في القديم،
وهل يسلك بها مسلك العارية أو الوقف؟ روايتان عند المالكية،
وعند الحنفية التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة، وفى الرقبى إلى المنفعة،
وعنهم أنها باطلة.
394

وقد حصل من مجموع الروايات ثلاثة أحوال (الأول) أن يقول أعمرتكها
ويطلق. فهذا تصريح بأنها للموهوب له، وحكمها حكم المؤبدة لا ترجع إلى
الواهب. وبذلك قالت الحنفية. لان المطلقة عندهم حكمها حكم المؤبدة.
وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنه والجمهور. وله قول آخر أنها تكون عارية
ترجع بعد الموت إلى الملك. وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المطلقة
للمعمر ولورثته من بعده كما تفيده الأحاديث التي مضى ذكرها
الحال الثاني: أن يقول هي لك ما عشت، فإذا مت رجعت إلى فهذه عارية
مؤقتة ترجح إلى المعير عند موت المعمر. وبه قال أكثر العلماء، ورجحه جماعة
من أصحابنا، والأصح عند أكثرهم لا ترجح إلى الواهب. واحتجوا بأنه
شرط فاسد فيلغى.
واحتجوا بحديث جابر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الأنصاري
الذي أعطى أمه الحديقة حياتها أن لا ترجع إليه، بل تكون لورثتها ونصه:
أن رجلا من الأنصار أعطى أمه حديقة من نخيل حياتها فماتت فجاء إخوته فقالوا
نحن فيه شرع سواء. قال فأبى، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقسمها
بينهم ميراثا) رواه أحمد
ويؤيده حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في العمرى مع الاستثناء
بأنها لمن أعطيها، ويعارض ذلك ما في حديث جابر أيضا بلفظ (فأما إذا قلت:
هي لك ما عشت فإنها ترجع إلى صاحبها) ولكنه قال معمر كان الزهري يفتى به
الحال الثالث: أن يقول هي لك ولعقبك من بعدك، أو يأتي بلفظ يشعر
بالتأبيد، فهذا حكمها حكم الهبة عند الجمهور:
وروى عن مالك أنه يكون حكمها حكم الوقف إذا انقرض المعمر وعقبه
رجعت إلى الواهب، والأحاديث القاضية بأنها ملك للموهوب ولسقبه ترد عليه
وقد ورد عن علي رضي الله عنه أن العمرى والرقبى سواء. وقال طاوس: من
أرقب شيئا فهو على سبيل الميراث.
وقال الزهري: الرقبى وصية يعنى إذا أنا فهذا لك وقال الحسن
395

ومالك وأبو حنيفة: الرقبى باطلة، لما روى أنه صلى الله عليه وسلم أجاز العمرى
وأبطل الرقبى. وقال أحمد: هذا حديث لا نعرفه، ولا نسلم أن معناها
ما ذكروه. والخلاصة:
إذا شرط في العمرى أنها للمعمر وعقبه فهذا تأكيد لحكمها وتكون للمعمر
وورثته، وهذا قول جميع القائلين بها، وإذا أطلقها فهي للمعمر وورثته أيضا
لأنها تمليك للرقبة فأشبهت الهبة، شرط أنك إذا مت فهي لي، فعن أحمد في
إحدى الروايتين عنه والشافعي في القديم والقاسم بن محمد وزيد بن قسط والزهري
ومالك وأبو سلمة بن عبد الرحمن وابن أبي ذئب وأبي ثور وداود: صحة العقد
والشرط، ومتى مات المعمر رجعت إلى المعمر
وعن أحمد في الرواية الأخرى عنه، وهو ظاهر مذهبه، والشافعي في الجديد
وأبي حنيفة أنها تكون للمعمر
إذا ثبت هذا فان العمرى يصح في العقار وغيره من الحيوان والثياب لأنها
نوع هبه فصحت في ذلك كسائر الهبات
ومن ثم إذا قال: سكنى هذا الدار لك عمرك أو اسكنها عمرك أو نحو ذاك
فليس ذلك بعقد لازم لأنه في التحقيق هبة المنافع، ولمنافع إنما تستوفى بمضي
الزمان شيئا فشيئا، فلا تلزم الا في قدر ما قبضه منها واستوفاه بالسكنى، وللمسكن
الرجوع متى شاء، وأيهما مات بطلت الإباحة، وبهذا قال أكثر العلماء وجماعة
أهل الفتوى، ومنهم الشعبي والثوري والنخعي والشافعي وإسحاق وأحمد وأصحاب
الرأي، وروى معنى ذلك عن حفصة رضي الله عنها، والله تعالى أعلم بالصواب
396

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الوصايا
من ثبتت له الخلافة على الأمة جاز له أن يوصى بها إلى من يصلح لها، لان
أبا بكر رضي الله عنه وصى إلى عمر ووصى عمر رضي الله عنه إلى أهل الشورى
رضي الله عنهم ورضيت الصحابة رضي الله عنهم بذلك
(فصل) ومن ثبتت له الولاية في مال ولده ولم يكن له ولى بعده جاز له أن
يوصى إلى من ينظر في ماله لما روى سفيان بن عيينة رضي الله عنه عن هشام بن
عروة قال: أوصى إلى الزبير تسعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم
عثمان أموالهم والمقداد وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود رضي الله عنهم فكان يحفظ
عليهم أموالهم وينفق على أبنائهم من ماله، وإن كان له جد لم يجز أن يوصى إلى
غيره لأن ولاية الجد مستحقة بالشرع فلا يجوز نقلها عنه بالوصية
(الشرح) الوصايا جمع وصية كعطايا وعطية مأخودة من قولهم: وصيت
الشئ أصيبه من باب وعد وصلته، ووصيت إلى فلان توصية وأوصيت إليه
ايصاء، وفى السبعة (فمن خاف من موص) بالتخفيف والتثقيل، والاسم
الوصاية بالكسر والفتح لغة، وهو وصى فعيل بمعنى مفعول والجمع الأوصياء،
وأوصيت إليه بمال جعلته له، وأوصيته عليه وهذا المعنى
لا يقتضى الايجاب، وأوصيته بالصلاة أمرته بها. قال تعالى (ذلكم وصاكم به
لعلكم تتقون) وقوله (يوصيكم الله في أولادكم. وفى حديث خطب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوصى بتقوى الله، أي أمر فيعم الامر بأي لفظ
كان، وهي في الشرع عهد خاص مضاف إلى ما بعد الموت
والوصية في الخلافة أن يعهد لمن يصلح لها من بعده بتوليها. والوصية بالمال
التبرع به بعد الموت، والأصل فيها الكتاب والسنة والاجماع. وأما الزبير فإنه
ابن عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين مات
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم على حراء فتحرك فقال
أسكن حراء فما عليك الا نبي أو صديق أو شهيد، وكان عليه أبو بكر وعمر
وعثمان وطلحة والزبير.
397

وخبر ابن عيينة الذي ساقه المصنف رويناه في مسند أحمد عن سفيان بن
عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه قال: أوصى إلى الزبير سبعة من الصحابة،
منهم عثمان وابن مسعود وعبد الرحمن، فكان ينفق على الورثة من ماله،
ويحفظ أموالهم ومناقب الزبير أجل من أن تحصى، ساق الذهبي بعضها في
سير أعلام النبلاء.
قال تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية) إلخ.
الآية، قال مجاهد: الخير في القران كله المال (وانه لحب الخير لشديد) (إني
أحببت حب الخير عن ذكر ربى) (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) وقال شعيب
(إني أراكم بخير) أي بغنى وأوجه ما قيل في الخير في القرآن ما قاله الشافعي
رضي الله عنه: الخير كلمة يراد ما أريد بها بالمخاطبة بها.
قال تعالى (أولئك هم خير البرية) فقلنا: إنهم خير البرية بالايمان وعمل
الصالحات لا بالمال، وقال تعالى (أولئك لهم خير) فقلنا: إن الخير المنفعة بالاجر
لا ان لهم مالا، وقال (ان ترك خيرا الوصية) فقلنا: إن ترك مالا، لان المال
هو المتروك. وفى الوصية للأقربين ثلاثة تأويلات.
(أحدهما) انهم الأولاد الذين لا يسقطون في الميراث دون غيرهم من
الأقارب الذين يسقطون
(والثاني) انهم الورثة من الأقارب كلهم.
(والثالث) انهم كل الأقارب من وارث وغير وارث، فدل ذلك على وجوب
الوصية للوالدين والأقربين حقا واجبا وفرضا لازما، فلما نزلت آية المواريث
فسخ فيها الوصية للوالدين وكل وارث وبقى فرض الوصية لغير الورثة من الأقربين
على حاله، وهو قول طاوس وقتادة والحسن البصري وجابر بن زيد.
واختلف في القدر الذي يجب عليه ان يوصى منه على أقاويل.
(أحدها) انه ألف درهم، وهو قول علي بن أبي طالب (والثاني) خمسمائة
وهذا قول النخعي (والثالث) تجب في قليل المال وكثيره، وهذا قول الزهري
398

فهدا قول من جعل حكم الآية ثابتا، وذهب الفقهاء وجمهور أهل التفسير إلى
نسخها بالمواريث، واختلفوا بأي آية نسخت، فقال ابن عباس نسخت بآية
الوصايا بقوله تعالى (للرجال نصيب مما ترك) الخ وقال آخرون نسخت بقوله
تعالى (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض) الآية.
والوصية على ثلاثة أقسام قسم لا يجوز وقسم يجوز ولا يجب وقسم مختلف في وجوبه
فما التي لا يجوز فالوصية للوارث لحديث شرحبيل بن مسلم عن أبي امامه سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول (ان الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصيه
لوارث) وأما التي تجوز ولا تجب فالوصية للأجانب وهذا مجمع عليه، وقد أوصى
البراء بن معرور للنبي صلى الله عليه وسلم بثلث ماله فقبله ثم رده على ورثته. واما
التي اختلف فيها فالوصية للأقارب، وذهب أهل الظاهر مع من قدمنا ذكره في
تفسير الآية إلى وجوبها للأقارب تعالقا بظاهر قوله تعالى (الوصية للوالدين
والأقربين بالمعروف حقا على المتقين) وبما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال
من مات من غير وصية مات ميتة جاهليه، والدليل على أنها غير واجبه للأقارب
والأجانب، ما روى ابن عباس وعائشة وابن أبي أوفى رضي الله عنهم ان النبي
صلى الله عليه وسلم لم يوص، وحديث سعد بن أبي وقاص الذي فيه (انك ان
تدع ورثتك أغنياء خيرا من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس) فاقتصر صلى الله
على وسلم في الوصية على ما جعله خارجا مخرج الجواز لا مخرج الايجاب ثم بين
ان غنى الورثة بعده أولى من فقرهم إلى الصدقة، ولان الوصية لو وجبت لا جبر
عليها ولاخذت من ماله عند موته ان امتنع منها كالديون والزكوات. ولان
الوصايا عطايا فأشبهت الهبات، فاما الآية فمنع الوالدين من الوصية مع تقديم
ذكرهما فيه دليل على نسخها.
وأما قوله صلى الله على وسلم من مات من غير وصيه مات ميتة جاهلية،
فمحمول على أحد أمرين: أما وجوبها قبل النسخ، واما على من كانت عليه ديون
وحقوق لا يوصل إلى أربابها الا بالوصية، فتصير بذكرها وأدائها واجبه
ويجوز الوصية بتعيين الناظر في ماله بعد موته، فإن كان له أب أو جد لم يجز أن
يوصى إلى غره بالنظر، لأن ولاية الجد مستحقه بالشرع.
399

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ومن ثبت له الولاية في تزويج ابنته لم يجز ان يوصى إلى من
يزوجها، وقال أبو ثور: يجوز كما يجوز أن يوصى إلى من ينظر في ماله، وهذا
خطأ لما روى ابن عمر قال (زوجني قدامة بن مظعون ابنة أخيه عثمان بن مظعون
فأتى قدامة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا عمها ووصى أبيها، وقد
زوجتها من عبد الله بن عمر، فقال صلى الله عليه وسلم: انها يتيمة لا تنكح الا
بإذنها، ولأن ولاية النكاح لها من يستحقها بالشرع فلا يجوز نقلها بالوصية
كالوصية بالنظر في المال مع وجود الجد.
(فصل) ومن عليه حق يدخله النيابة من دين آدمي أو حج أو زكاة أو رد
وديعة جاز ان يوصى إلى من يؤدى عنه، لان إذا جاز أن يوصى في حق غيره
فلان يجوز في خاصة نفسه أولى.
(الشرح) حديث ابن عمر رواه أحمد والدارقطني وأورده الحافظ ابن حجر
في التلخيص وسكت عنه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات
ويؤخذ من الحديث الذي نسوقه كاملا أن النبي صلى الله عليه وسلم أبطل وصية
عثمان بن مظعون لأخيه قدامه في ابنته. قال ابن عمر: توفى عثمان بن مظعون
وترك ابنه له من خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقصي وأوصى إلى
أخيه قدامه بن مظعون.
قال عبد الله: وهما خالاي، فخطبت إلى قدامه بن مظعون ابنة عثمان بن
مظعون فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبه يعنى إلى أمها فارغبها في المال، فحطت
إليه وحطت الجارية إلى هوى أمها فأبتا حتى ارتفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال قدامة بن مظعون: يا رسول الله ابنة أخي أوصى بها إلى فزوجتها ابن
عمتها فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة ولكنها امرأة وإنما حطت إلى هوى
أمها قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي يتيمه ولا تنكح الا بإذنها،
قال: فانتزعت والله منى بعد أن ملكتها فزوجوها المغيرة بن شعبة) والحديث
400

دليل على أن الولي لا يجوز له ان يوصى إلى أخ له أو غيره لتزويجها خلافا
لأبي ثور الذي جعل الوصية إلى من ينظر في تزويجها كالوصية إلى من ينظر في
مالها، والحديث صريح وقول أبي ثور خطأ، ولان استحقاق الولاية في النكاح
لا يتأسس بوصيه، وسيأتي تفصيل ذلك في أبواب المناكحات إن شاء الله.
(فرع) إذا كان عليه دين دنيوي من حقوق الآدميين أو دين أخروي من
حقوق الله تعالى فإنه يجوز له أن يوصى إلى من يتولى الأداء عنه لأنه إذا
كان يجوز له ان يوصى في أداء حقوق غيره فلان يوصى لمن يؤدى ما يتعلق
بخاصة نفسه أولى.
وقال بعض الأصحاب: بوجوب الوصية في مثل من عليه دين أو عنده وديعة
أو عليه واجب يوصى بالخروج منه، فان الله تعالى فرض أداء الأمانات،
وطريقه في هذا الباب الوصية فتكون فرضا عليه، وأما الوصية بجزء من ماله
فليست بواجبه على أحد في قول الجمهور، وبذلك قال الشعبي والنخعي والثوري
ومالك والشافعي وأصحاب الرأي وغيرهم.
وقال ابن عبد البر: أجمعوا على أن الوصية غير واجبة الا على من عليه
حقوق بغير بينة، وأمانه بغير اشهاد الا طائفة شذت فأوجبتها والله تعالى أعلم،
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ومن ملك التصرف في ماله بالبيع والهبة مالك الوصية بثلثا في
وجوه البر، لما روى عامر بن سعد عن أبيه قال: مرضت مرضا أشرفت منه على
الموت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فقلت: يا رسول الله لي مال كثير وليس
يرثني الا ابنتي أفأتصدق بمالي كله قال: لا، قلت: أتصدق بثلثي مالي قال: لا،
قلت أتصدق بالشطر قال: لا، قلت أتصدق بالثلث قال: الثلث، والثلث كثير
انك أن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس ولا يجب
ذلك لقوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين
والمهاجرين، الا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) وفسر بالوصية، فجعل ذلك
401

إليهم فد على أنها لا تجب، ولأنه عطيه لا تلزم في حياته فلم تلزم الوصية به
قياسا على ما زاد على الثلث.
(فصل) وإن كانت ورثته فقراء فالمستحب ان لا يستوفى الثلث لقوله
صلى الله عليه وسلم (الثلث كثير انك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم
عالة يتكففون الناس) فاستكثر الثلث وكره أن يترك ورثته فقراء فدل على أن
المستحب أن لا يستوفى الثلث. وعن علي رضي الله عنه أنه قال (لان أوصى
بالخمس أحب إلى من أن أوصى بالثلث) وإن كان الورثة أغنياء فالمستحب أن
يستوفى الثلث لأنه لما كره الثلث إذا كانوا فقراء دل على أنه يستحب إذا كانوا
أغنياء أن يستوفيه.
(الشرح) حديث عامر بن سعد بن أبي وقاص رواه الستة وأحمد في مسنده
بلفظ (جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني من وجع اشتد بي فقلت:
يا رسول الله إني قد بلغ بي من الوجع ما ترى وانا ذو مال ولا يرثني الا ابنة لي
أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فالشطر يا رسول الله؟ قال: لا، قلت:
فالثلث؟ قال: الثلث، والثلث كثير أو كبير، انك ان تذر ورثتك أغنياء خير
من أن تدعهم عالة يتكففون الناس).
وفى رواية أكثرهم (جاءني يعودني في حجة الوداع) وفى لفظ (عادني
رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضى فقال: أوصيت؟ قلت: نعم، قال: بكم
قلت: بمالي كله في سبيل الله، قال: فما تركت لولدك؟ قلت: هم أغنياء، قال:
أوصى بالعشر، فما زال يقول وأقول حتى قال: أوصى بالثلث، والثلث كثير أو
كبير) رواه النسائي وأحمد بمعناه الا أنه قال (قلت: نعم جعلت مالي كله في
الفقراء والمساكين وابن السبيل) ورواه الشافعي عن سفيان عن الزهري عن
عامر بن سعد عن أبيه بلفظ: مرضت عام الفتح، وساق الحديث.
أما قوله تعالى (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض) الآية. قيل إنه أراد
بالمؤمنين الأنصار والمهاجرين قريضا، وفيه قولان
(أحدهما) انه ناسخ للتوارث بالهجرة. حكى سعيد عن قتادة قال: كان نزل
402

في سورة الأنفال (والذين آمنوا ولم يهاجروا مالكم من ولايتهم من شئ حتى
يهاجروا) فتوارث المسلمون بالهجرة، فكان لا يرث الاعرابي المسلم من قريبه
المسلم شيئا حتى يهاجر، ثم نسخ ذلك. وفى هذه الآية (وأولوا الأرحام الخ)
(الثاني) ان ذلك ناسخ لتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين، روى هشام
ابن عروة عن أبيه عن جده وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله
وذلك انا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار
نعم الاخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر خارجه بن زيد.
وآخيت انا كعب بن مالك، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله، فوالله لقد مات
عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله هذه الآية فرجعنا موارثنا
وثبت عن عروة ان النبي صلى الله عليه وسلم أخي بين الزبير وبين كعب بن
مالك فارتث كعب يوم أحد، فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته، فلو مات يومئذ
كعب عن الضح والريح لورثه الزبير، فأنزل الله تعالى الآية، فبين تعالى أن
القرابة أولى من الحلف، فتركت الوراثة بالحلف وورثوا بالقرابة
قال ابن العربي: وأولوا الأرحام بالاجماع لان ذلك يوجب تخصيصا ببعض
المؤمنين، ولا خلاف في عمومها، وهذا حل اشكالها
وأما أثر علي كرم الله وجهه فإنه يفيد استحباب النقص عن الثلث وهو من
فقهه الذي لا يخلو من أثر عن النبي صلى اله عليه وسلم، وبهذا الفقه أخذ الشافعي
رضي الله عنه من قوله صلى الله عليه وسلم (الثلث والثلث كثير) ولحديث ابن
عباس قال (لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال: الثلث والثلث كثير) رواه أحمد والبخاري ومسلم، وقد اخذ ذلك من
وصفه صلى الله عليه وسلم للثلث بالكثرة، ويبدو ان (أو) التي جاءت بين كثير
وكبير جاءت من الراوي بعد عهد الترقيم لان ورود (كبير) هكذا بغير اعجام تقرأ
كبير وتقرأ كثير فخروجا من حرج أن اللفظ النبوي أحدهما وضع اللفظان
مفصولين بأو.
اما الأحكام: فان كل ما جاز الانتفاع به من مال ومنفعة جازت الوصية به
403

وسواء كان المال عينا أو دينا حاضرا أو غائبا معلوما أو مجهولا مشاعا أو محوزا
وتقدر الوصية بالثلث، وليس للوصي الزيادة عليه لحديث سعد (الثلث والثلث
كثير) وان نقص من الثلث جاز، وأولى الامرين به أن يعتبر حال الورثة، فإن كان
وا فقراء كان النقصان من الثلث أولى به من استيعاب الثلث لقول علي كرم الله وجهه
(لان أوصى بالخمس أحب إلى من أن أوصى بالثلث) وقد أورده الماوردي
في الحاوي الكبير عن رواية أخرى (لان أوصى بالسدس أحب إلى من أن
أوصى بالربع، وبالربع أحب إلى من الثلث)
وإن كان ورثته أغنياء وكان في ماله سعة فاستبقاء الثلث أولى به. وقد قال
عمر رضي الله عنه: الثلث وسط، لا بخس ولا شطط. ولو استوعب الثلث من
قليل المال وكثيره، ومع فقر الورثة وغناهم، وصغيرهم وكبيرهم، كانت
وصيته ممضاة له.
فأما الزيادة على الثلث فهو ممنوع منها في قليل المال وكثيره، لان النبي صلى الله
عليه وسلم منع سعدا من الزيادة عليه، فان وصى بأكثر من الثلث أو بجميع
ماله نظرت فإن كان له وارث كانت الوصية موقوفة على إجازته ورده. فان ردها
رجعت الوصية إلى الثلث، وان أجازها صحت. ثم فها قولان
(أحدهما) ان إجازة الورثة ابتداء عطية منه لا تتم الا بالقبض، وله فيها
ما لم يقبض، وإن كانت قبل القبض بطلت كالهبات
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وينبغي لمن رأى المريض يجنف في الوصية ان ينهاه لقوله تعالى
(وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله
وليقولوا قولا سديدا) قال أهل التفسير: إذا رأى المريض يجنف على ولده أن
يقول اتق الله ولا توص بمالك كله، ولان النبي صلى الله عليه وسلم نهى سعدا
عن الزيادة على الثلث.
(فصل) والأفضل أن يقدم ما يوصى به من البر في حياته لما روى أبو هريرة
رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ قال
404

أن تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر ولا تمهل حتى إذا بلغت
الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا، ولأنه لا يأمن إذا وصى به أن يفرط به
بعد موته فإن اختار أن يوصى فالمستحب ان لا يؤخر الوصية لما روى ابن عمر رضي الله عنه
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما حق امرئ مسلم عنده شئ يوصى
يبيت ليلتين الا ووصيته مكتوبة عنده) ولأنه إذا اخر لم يأمن أن يموت
فجأة فتفوته.
(فصل) وأما من لا يجوز تصرفه في المال - فإن كان ممن لا يميز كالمعتوه
والمبرسم ومن عاين الموت - لم تصح وصيته لان الوصية تتعلق صحتها بالقول
ولا قول لمن لا يميز، ولهذا لا يصح اسلامه ولا توبته فلم تصح وصيته، فإن كان
صبيا مميزا أو بالغا مبذرا ففيه قولان
(أحدهما) لا تصح وصيته، لأنه تصرف في المال فلم يصح من الصبي والمبذر
كالهبة (والثاني) تصح، لأنه إنما منع من التصرف خوفا من إضاعة المال ليس
في الوصية إضاعة المال، لأنه ان عاش فهو على ملكه، وان مات لم يحتج إلى غير
الثواب، وقد حصل له ذلك بالوصية.
(الشرح) قوله تعالى (وليخش الذين لو تركوا من خلفهم) الآية. في هذه
الآية وجهان كل وجه لا يطرد في كل الناس، لان الناس منهم من يصلح لهم أن يكون
معنى الآية ما روى عن سعيد بن جبير: إذا حضر الرجل الوصية فلا ينبغي
أن يقول أوصى بمالك، فان الله تعالى رزاق ولدك، ولكن يقول قدم لنفسك
واترك لولدك، فذلك قوله تعالى (فليتقوا الله) ومنهم من يصلح له ما قال مقسم
وحضرمي: نزلت في عكس هذا، وهو أن يقول للمحتضر من يحضره: أمسك
على ورثتك، وابق لولدك، فليس أحد أحق بمالك من أولادك، وينهاه عن
الوصية فيتضرر بذلك ذووا القربى وكل من يستحق ان يوصى له، فقيل لهم،
كما تخشون على ذريتكم وتسرون بان يحسن إليهم فكذلك سددوا القول في جهة
المساكين واليتامى، واتقوا الله في ضررهم
وهذان القولان مبنيان على وقت وجوب الوصية قبل نزول آية المواريث
405

وأحسن ما قيل فيها ما حكاه الشيباني قال: كنا على قسطنطنية في عسكر مسلمة
ابن عبد الملك فجلسنا يوما في جماعة من أهل العلم فيهم ابن الديلمي فتذاكروا
ما يكون من أهوال آخر الزمان. فقلت له: يا أبا بشر، ودي الا يكون لي ولد.
فقال لي: ما عليك، ما من نسمة قضى الله بخروجها من رجل الا خرجت أحب
أو كره، ولكن ان أردت أن تأمن عليهم فاتق الله في غيرهم، ثم تلا الآية.
وقوله (يجنف) من جنف يجنف كسمع يسمع إذا جاز والاسم منه جنف
وجانف. قال الأعشى
تجانف عن حجر اليمامة ناقتي * وما قصدت من أهلها لسوائكا
ومنه قوله تعالى (فمن خاف من موص جنفا) قال الشاعر
هم المولى وان جنفوا علينا * وإنا من لقائهم لزور
وقال لبيد:
إني امرؤ منعت أرومة عامر * ضيمي وقد جنفت على خصومي
وقال تعالى (فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لاثم) أي مائل إليه
روى أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
(ان الرجل أو المرأة ليعمل بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضاران
في الوصية فتجب لهما النار) وترجم النسائي الصلاة على من جنف في وصيته
أخبرنا علي بن حجر أنبأنا هشيم عن منصور - وهو زاذان - عن الحسن
ابن سمرة عن عمران بن حصين رضي الله عنه ان رجلا أعتق ستة مملوكين له عند
موته ولم يكن له مال غيرهم، فلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب
من ذلك وقال (لقد هممت ألا أصلى عليه) ثم دعا مملوكيه فجزاهم ثلاثة اجزاء
ثم أقرع بينهم فاعتق اثنين وأرق أربعة، وأخرجه مسلم بمعناه الا أنه قال في آخره
وقال قولا شديدا بدل قوله (لقد هممت الا أصلى عليه)
قال الماوردي في تأويل قوله تعالى، جنفا أو إثما ثلاثة أقاويل (أحدهما) ان
الجنف الميل، والاثم أن يأثم في أثرة بعضهم على بعض. وهذا قول عطاء وابن
زيد (والثاني) ان الجنف الخطأ والاثم العمد، وهذا قول السدى (والثالث) انه
406

الرجل يوصى لولد بنيه وهو يريد بنيه. وهذا قول طاوس. فالاضرار في الوصية
ان يوص بأكثر من الثلث، والاضرار في الدين أن يبيع بأقل من ثمن المثل
ويشترى بأكثر منه.
وقد روى عكرمة عن ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: الاضرار
في الوصية من الكبائر، وقال تعالى (ووصى بها إبراهيم بنيه) الآية
والأفضل أن يقدم ما يوصى به حال حياته، لحديث أبي هريرة الذي ساقه
المصنف قال (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الصدقة أفضل؟ قال: إن
تتصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت
الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا)
وقد أخرج هذا الحديث الشيخان وأصحاب السنن الا الترمذي، ورواه أحمد
في مسنده ولفظه في كثرها (جاء رجل فقال يا رسول الله: أي الصدقة أفضل
أو أعظم أجرا؟ قال: أما وأبيك لنفتأن أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخشى
الفقر وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت لفلان كذا،
ولفلان كذا، وقد كان لفلان)
وقوله (لتفتأن بالبناء لما لم يسم فاعله من الفتيا. وفى نسخة لتنبأن من النبأ
وقوله (أن تصدق بتخفيف الصاد على حذف إحدى التاءين، وأصله أن تتصدق
والتشديد على الادغام.
قوله (شحيح) قال صاحب المنتهى: الشح بخل مع حرص، قال الخطابي
فيه ان المرض يقصر يد المالك عن بعض ملكه، وأن سخاوته بالمال في مرضه
لا تمحو عنه سمة البخل، فلذلك شرط صحه البدن في الشح بالمال لأنه في الحالتين
يجد للمال وقعا في قلبه لما يأمله من البقاء فيحذر معه الفقر
قال ابن بطال وغيره، لما كان الشح غالبا في الصحة فالسماح فيه بالصدقة أصدق
في النية وأعظم للاجر بخلاف من يئس من الحياة ورأي مصير المال لغيره
وقوله (حتى إذا بلغت الروح الحلقوم) أي قاربت بلوغه، إذ لو بلغته حقيقة
لم يصح شئ من تصرفاته، والحلقوم مجرى النفس
407

قوله (قلت لفلان كذا) قال ابن حجر: الظاهر أن هذا المذكور على سبيل
المثال، وقال الخطابين: فلان الأول والثاني الموصى له، وفلان الأخير الوارث
لأنه إن شاء أبطله وإن شاء أجازه، والمقصود أن الحديث يدل على أن تنجيز
وفاء الدين والتصدق في حال الصحة أفضل منه حال المرض لأنه في حال الصحة
يصعب عليه إخراج المال غالبا لما يخوفه به الشيطان ويزينه له من الامل في الحياة
والحاجة إلى المال، قال تعالى (الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء، والله
يعدكم مغفرة منه وفضلا) وفى معنى الحديث قوله تعالى (وأنفقوا مما رزقناكم
من قبل أن يأتي أحدكم الموت) الآية، وفى معنى الحديث أيضا ما أخرجه
الترمذي بإسناد حسن وصححه ابن حبان عن أبي الدرداء مرفوعا (مثل الذي
يعتق ويتصدق عنه موته، مثل الذي يهدى إذا شبع).
وأما حديث ابن عمر فقد أخرجه أصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده بلفظ
(ما حق امرئ مسلم ببيت ليلتين وله شئ يريد أن يوصى فيه إلا ووصيته
مكتوبة عند رأسه) ورواه الشافعي بلفظ (ما حق امرئ يؤمن بالوصية) أي
يؤمن بأنها حق كما حكاه ابن عبد البر عن ابن عيينة، ورواه ابن عبد البر والطحاوي
بلفظ (لا يحل لامرئ مسلم له مال) وقال الشافعي: معنى الحديث ما الحزم
والاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، وكذا قال الخطابي،
قوله: مسلم.
قال ابن حجر في فتح الباري: هذا الوصف خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له
أو ذكر للتهييج لتقع المبادرة إلى الامتثال لما يشعر به من نفى الاسلام عن تارك
ذلك، وصية الكافر جائزة في الجملة.
وحكى ابن المنذر فيه الاجماع. قوله يبيت صفة لمسلم. قوله ليلتين في رواية
البيهقي وأبى عوانه. ليلة أو ليلتين، ولمسلم والنسائي ثلاث ليال، واختلاف
الروايات في هذا يدل على أنه للتقريب لا للتحديد، والمعنى لا يمضى عليه زمان
وإن كان قليلا إلا ووصيته مكتوبة، وفيه إشارة إلى اغتفار الزمن اليسير، وكأن
الثلاث غاية الأخير، ولذلك قال ابن عمر رضي الله عنه لم أبت ليلة منذ سمعت
408

رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا ووصيتي عندي، وفى تخصيص
الليلتين والثلاث بالذكر تسامح في إرادة المبالغة، أي لا ينبغي أن يبيت زمنا ما
وقد سامحناه في الليلتين والثلاث، فلا ينبغي له أن يتجاوز ذلك. أما قوله المبرسم
وهو الذي أصيب بعلة الورم في الدماغ يصاب صاحبه بصداع وكراهية للضوء
وزوال للعقل، وقيل إنه الموت لان بر بالسريانية الابن والسام الموت، ومنه
حديث شفاء من كل داء الا السام. قيل وما السام، قال الموت.
إذا ثبت هذا: فإن الوصايا تشتمل على أربعة شروط وهي موصى وموصى
له وموصى به وموصى إليه، فأما الفصل الأول وهو الموصى فمن شرطه أن
يكون مميزا حرا، فإذا اجتمع فيه هذان الشرطان صحت وصيته في ماله مسلما كان
أو كافرا، فأما المجنون فلا تصح وصيته لأنه غير مميز. وأما الصبي فإن كان طفلا
غير مميز فوصيته باطلة، وإن كان مراهقا ففي جواز وصيته قولان.
(أحدهما) لا تجوز، وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني لارتفاع القلم عنه
كالمجنون، لان الوصية عقد فأشبهت سائر العقود.
(والقول الثاني) وبه قال مالك ان وصيته جائزة لرواية عمرو بن سليم الزرقي
قال سئل عمر بن الخطاب ورضي الله عنه عن غلام يافع من غسان وصى لبنت عمه
وله عشر سنين، وله وارث ببلد آخر، فأجاز عمر رضي الله عنه وصيته، ولان
المعنى الذي لأجله منعت عقوده هو المعنى الذي أمضيت وصيته لان الحظ له في
منع العقود لأنه لا يتعجل بها نفعا، ولا يقدر على استدراكها إذا بلغ والحظ له
في امضاء الوصية، لأنه ان مات فله ثوابها وذلك أحط له من تركه عل ورثته،
وان عاش وبلغ قدر على استدراكها والرجوع فيها، فعلى هذا لو أعتق في مرضه
أو حابى أو وهب ففي صحة ذلك وجهان.
(أحدهما) صحيح ممضى لان ذلك وصيه يعتبر من الثلث.
(والوجه الثاني) أنه باطل مردود لان الوصية بقدر على الرجوع فيها ان
صح، والعتق والهبة لا يقدر على الرجوع فيها ان صح.
فأما وصية المحجور عليه بالسفه. فإن قيل بجواز وصية الصبي فوصية
409

السفيه أجوز، وإن قيل ببطلان وصية الصبي بابطال عقوده بطلت وصية السفيه
لبطلان عقوده
وأما المحجور عليه بالفلس فإن ردها الغرماء بطلت، وإن أمضوها جازت،
فإن قلنا: حجر الفلس كحجر المرض صحت، وإن قلنا: إنه كحجر السفه كان
على وجهين، فأما العبد فوصيته باطلة، وكذلك المدبر وأم الولد والمكاتب لان
السيد أملك منهم لما في أيديهم. فأما الكافر فوصيته جائزة ذميا كان أو حربيا إذا
أوصى بمثل ما يوصى به المسلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وأما إذا أوصى بما زاد على الثلث، فإن لم يكن له وارث بطلت
الوصية فيما زاد على الثلث، لان ماله ميراث للمسلمين، ولا مجيز له منهم فبطلت
فإن كان له وارث ففيه قولان.
(أحدهما) أن الوصية تبطل بما زاد على الثلث لان النبي صلى الله عليه وسلم
نهى سعدا عن الوصية بما زاد على الثلث، والنهى يقتضى الفساد، وليست الزيادة
مالا للوارث فلم تصح وصيته به كما لو أوصى بمال للوارث من غير الميراث.
(والثاني) أنها تصح وتقف على إجازة الوارث، فإن أجاز نفذت، وان ردها
بطلت، لان الوصية صادفت ملكه، وإنما يتعلق بها حق الوارث في الثاني
فصحت ووقفت الإجازة كما لو باع ما فيه شفعه، فإن قلنا: على أنها باطلة كانت
الإجازة هبة مبتدأة يعتبر فيها الايجاب والقبول باللفظ الذي تنعقد به الهبة،
ويعتبر في لزومها القبض، وإن كان الوصية عتقا لم يصح الا بلفظ العتق، ويكون
الولاء فيه للوارث، وان قلنا إنها تصح كانت الإجازة امضاء لما وصى به الموصى
وتصح بلفظ الإجازة كما يصح العفو عن الشفعة بلفظ العفو، فإن كانت الوصية
عتقا كان الولاء للموصى، ولا يصح الرد والإجازة الا بعد الموت لأنه لا حق
له قبل الموت فلم يصح اسقاطه كالعفو عن الشفعة قبل البيع.
(فصل) فإن أجاز الوارث ما زاد على الثلث، ثم قال أجزت لأني ظننت
أن المال قليل وأن ثلثه قليل، وقد بان أنه كثير لزمت الإجازة فيما علم والقول
410

قوله فيما لم يعلم مع يمينه فإذا حلف لم يلزمه الإجازة في أحد القولين هبة،
وفى الثاني إسقاط والجميع لا يصح مع الجهل به وان وصى بعيد فأجازه الوارث
ثم قال أجزت لأني ظننت أن المال كثير، وقد بان أنه قليل ففيه قولان.
(أحدهما) أن القول قوله كالمسألة قبلها (والثاني) أنه يلزمه الوصية لأنه
عرف ما أجازه ويخالف المسألة قبلها فان هناك لم يعلم ما أجازه.
(الشرح) الأحكام: الزيادة على الثلث ممنوع منها في قليل المال وكثيره
لحديث سعد الذي مضى تخريجه وبيان طرقه الذي منع سعدا من الزيادة عليه،
فإن وصى بأكثر من الثلث أو بجميع ماله نظر، فإن كان له وارث كانت الوصية
موقوفة على إجازته ورده، فان ردها رجعت الوصية إلى الثلث، وان أجازها
صحت، ثم فيها قولان.
(أحدهما) أن إجازة الورثة ابتداء عطية منه لا تتم الا بالقبض وله الرجوع
فيها ما لم يقبض، وإن كانت قبل القبض بطلت كالهبات. فإن لم يكن للميت وارث
فأوصى بجميع ماله ردت وصيته إلى الثلث في حق بيت المال.
وقال أبو حنيفة: وصيته إذا لم يكن له وارث نافذة في جميع ماله استدلالا
بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع سعدا من الزيادة على الثلث قال: لان تدع
ورثتك أغنياء خيرا من أن تدعهم عالة يتكففون الناس فجعل المنع من الزيادة
حقا للورثة، فإذا لم يكن له وارث سقط المنع، وبما روى عن ابن مسعود رضي الله عنه
أنه قال لا وارث لمن وضع ماله حيث شاء، ولأنه لما كانت الصدقة بجميع
ماله جازت وصيته بجميع ماله.
ودليلنا ما روى عن أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (ان الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعلها
لكم زيادة في أعمالكم) رواه الدارقطني ورواه أحمد والبيهقي والبزار وابن ماجة
من حديث أبي هريرة بلفظ (ان الله تصدق عليكم عند موتكم بثلث أموالكم
زيادة لكم في أعمالكم) وقد ضعف الحافظ ابن حجر اسناده وأخرجه أيضا
411

الدارقطني والبيهقي من حديث أبي أمامة بلفظ (أن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم
عند وفاتكم زيادة في حسناتكم ليجعل لكم زكاة في أموالكم) وفى اسناده إسماعيل
ابن عياش وشيخه عتبه بن حميد.
ولان الأنصاري أعتق ستة مملوكين له لا مال له غيرهم فجزأهم النبي صلى الله
عليه وسلم ثلاثة أجزاء على ما مضى ذكره، ولان مال من لا وارث له يصير إلى
بيت المال إرثا لامرين.
أحدهما: أنه يخلف الورثة في الاستحقاق لماله.
والثاني: أنه يعقل عنه كورثته، فلما ردت الوصية إلى الثلث مع الوارث
ردت إلى الثلث مع بيت المال لأنه وارث، وقد يتحرر منه قياسان (أحدهما)
أن كل جهة استحقت التركة بالوفاة منعت من الوصية بالجميع كالورثة (والثاني) أن
ما منع من الوصايا مع الورثة منع منها مع بيت المال كالديون.
فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: لان تدع ورثتك أغنياء خير من
أن تدعهم عالة فهو أنه لم يجعل ذلك تعليلا لرد الزيادة على الثلث، ولو كان ذلك
تعليلا لجازت الزيادة على الثلث مع غناهم إذا لم يصيروا عالة يتكففون الناس،
وإنما قاله صلة في الكلام وتنبيها على الخط.
وأما قول ابن مسعود يضع ماله حيث يشاء، فماله الثلث وحده، وله وضعه
حيث شاء، وأما الصدقة فهي كالوصية إن كانت في الصحة أمضيت مع وجود
الوارث وعدمه، وإن كانت في المرض ردت إلى الثلث مع وجود الوارث وعدمه
والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) واختلف أصحابنا في الوقت الذي يعتبر فيه قدر المال لاخراج
الثلث، فمنهم من قال الاعتبار بقدر المال في حال الوصية لأنه عقد يقتضى اعتبار
قدر المال، فكان الاعتبار فيه بحال العقد، كما لو نذر أن يتصدق بثلث ماله،
فعلى هذا لو أوصى وثلث ماله ألف فصار عند الوفاة ألفين لم تلزم الوصية في
الزيادة، فان وصى بألف ولا مال له ثم استفاد مالا لم تتعلق به الوصية وان
412

وصى وله مال فهلك ماله بطلت الوصية، ومنهم من قال: الاعتبار بقدر المال
عند الموت وهو المذهب، لأنه وقت لزوم الوصية واستحقاقها، ولأنه لو وصى
بثلث ماله ثم باع جميعه تعلقت الوصية بالثمن، فلو كان الاعتبار بحال الوصية لم
تتعلق بالثمن، لأنه لم يكن حال الوصية فعلى هذا لو وصى بثلث ماله وماله ألف
فصار ألفين لزمت الوصية في ثلث الألفين، فإن وصى بمال ولا مال له ثم استفاد
مالا تعلقت به الوصية، فان وصى بثلثه وله مال ثم تلف ماله تبطل الوصية.
(الشرح) الأحكام: تجوز الوصية بثلث ماله وإن لم يعلم قدره، واختلف
أصحابنا هل يراعى بثلث ماله وقت الوصية أو عند الوفاة على وجهين (أحدهما)
وهو قول مالك وأكثر البغداديين أنه يراعى ثلثه وقت الوصية، ولا يدخل فيها
ما حدث بعده من زيادة لأنها عقد، والعقود لا يعتبر فيها ما بعدها.
(والوجه الثاني) وهو قول أبي حنيفة وأكثر البصريين أنه يراعى ثلث ماله
وقت الموت ويدخل فيه ما حدث قبله من زيادة، لان الوصايا تملك بالموت،
فاعتبر بها وقت ملكها، فعلى هذين الوجهين إن وصى بثلث ماله ولا مال له ثم
أفاد مالا فعلى الوجه الأول تكون الوصية باطلة اعتبارا بحال الوصية،
وعلى الوجه الثاني تكون الوصية جائزة اعتبارا بحال الموت. وعلى هذا لو وصى
بفرس من خيله وهو لا يملك فرسا ولا خيلا ثم ملك قبل الموت خيولا صحت
الوصية ان اعتبر بها حال الموت، وبطلت ان اعتبر بها حال القول، وعلى هذا
القول لو وصى بثلث ماله وله مال فهلك ماله وأفاد غيره صحت الوصية في المال
المستفاد إن اعتبر بها حال الموت، وبطلت ان اعتبر بها حال الوصية.
قال المصنف رحمه الله.
(فصل) وأما الوصية بما لا قربة فيه كالوصية للكنيسة والوصية بالسلاح
لأهل الحرب فهي باطله لان الوصية إنما جعلت له ليدرك بها ما فات ويزيد بها
الحسنات ولهذا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ان الله تعالى أعطاكم ثلث
413

أموالكم في آخر آجالكم زيادة في حسناتكم) وما ذكرناه ليس من الحسنات فلم
تصح فيه الوصية، فإن وصى ببيع ماله من رجل من غير محاباة ففيه وجهان
(أحدهما) يصح لأنه قصد تخصيصه بالتمليك (والثاني) لا يصح لان البيع
من غير محاباة ليس بقربة، فلم تصح الوصية به، وإن وصى لذمي جاز، لما روى
أن صفية وصت لأخيها بثلثها ثلاثين ألفا وكان يهوديا، ولان الذمي موضع
للقربة، ولهذا يجوز التصدق عليه بصدقة التطوع فجازت له الوصية، فإن وصى
لحربي ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه لا تصح الوصية، وهو قول أبى العباس بن القاصر، لان
القصد بالوصية نفع الموصى له، وقد أمرنا بقتل الحربي وأخذ ماله فلا معنى
للوصية له (والثاني) يصح وهو المذهب لأنه تمليك يصح للذمي فصح
للحربي كالبيع.
(فصل) واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى فيمن وصى لقاتله فقال
في أحد القولين: لا يجوز لأنه مال يستحق بالموت فمنع القتل منه كالميراث، وقال
في الثاني يجوز لأنه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يمنع القتل منه كالبيع، فإن قتلت
أم الولد مولاها عتقت لان عتقها ليس بوصية، بدليل أنه لا يعتبر من الثلث فلم
يمنع القتل منه. فإن قتل المدبر مولاه فإن قلنا إن التدبير عتق بالصفة عتق
لأنه ليس بوصية، وإنما هو عتق بصفة وقد وجدت الصفة فعتق، وان قلنا إنه
وصية وقلنا إن الوصية للقاتل لا تجوز لم يعتق، وان قلنا إنها تجوز عتق من الثلث
فإن كان على رجل دين مؤجل فقتله صاحب الدين حل الدين، لان الأجل حق
للمقتول لاحظ له في بقائه، بل الحظ في إسقاطه ليحل الدين ويقضى فيتخلص منه
(الشرح) حديث إن الله تعالى أعطاكم الخ. فقد رواه الدارقطني عن أبي
الدرداء وسكت ولم يتكلم عليه الحافظ بن حجر، ورواه وأخرجه أيضا أحمد
وكذلك البيهقي وابن ماجة والبزار من حديث أبي هريرة. قال الحافظ بن حجر
وإسناده ضعيف، ورواه الدارقطني والبيهقي عن أبي أمامة، وفى اسناده إسماعيل
ابن عياش، وهو ثقة في الشاميين ضعيف في غيرهم، وهو رواه عن شيخه عتبه
414

ابن حميد الضبي صدوق له أوهام. ورواه العقيلي في الضعفاء عن أبي بكر الصديق
وفى إسناده حفص بن عمرو بن ميمون وهو متروك. وعن خالد بن عبد الله
السلمي عند ابن عاصم وابن السكن وابن قانع وأبى نعيم والطبراني وهو مختلف
في صحبته، ورواه عنه ابنه الحارث وهو مجهول
وأما وصية أم المؤمنين صفية رضي الله عنها فقد مضى تخريج الخبر في كتاب
الوصي فلا ضرورة لإعادته.
أما الأحكام فإن الوصية للبيع والكنائس باطلة لأنها مجمع معاصيهم ومنتدى
تأليههم للبشر، ومبادءة التثليث والتجسيد. وكذلك الوصية لكتب التوراة
والأناجيل لتبديلها وتغييرها، وسواء كان الموصى مسلما أو كافرا. وأجازها
أبو حنيفة من الكافر دون المسلم، وهكذا أجاز وصيته بالخمر والخنزير يتصدق
بها على أهل الذمة. وهذا فاسد لقوله تعالى (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا
تتبع أهواءهم)
وخالف أبا حنيفة صاحباه في الكنيسة ووافقنا فيما عداها. فأما الوصية
للكافر فجائزة ذميا كان أو حربيا، وقال أبو حنيفة: الوصية للحربي باطلة لان
الله تعالى أباح للمسلمين أموال المشركين فلم يجز أن يبيح للمشركين أموال المسلمين
وهذا فاسد من وجهين (أحدهما) أنه لما لم يمنع شرك الذمي لم يمنع شرك الحربي
من الوصية كالنكاح (والثاني) أنه لما جازت الهبة للحربي وهي أمضى عطية من
الوصية كان أولى أن تجوز له الوصية، وسواء كان الموصى مسلما أو كافرا.
فأما الوصية للمرتد فعلى ثلاثة أقسام ذكرناها في كتاب الوقف
(أحدهما) أن يوصى لمن يرغب عن الاسلام فالوصية باطله لعقدها على معصية
(الثاني) أن يوصى بها لمسلم فيرتد عن الاسلام بعد الوصية له فالوصية جائزة
لأنها وصيه صادفت حال الاسلام
(والثالث) أن يوصى بها لمرتد معين ففي الوصية وجهان، أحدهما باطلة.
والثاني: جائزة.
أما المحاباة في المرض، وهي أن يعاوض بماله ويسمع لمن عاوضه ببعض
عوضه وهي أقسام (أحدها) المحاباة في البيع والشراء، ولا يمنع ذلك صحة في
415

قول جمهور الفقهاء. وقال أصحاب داود بن علي: العقد باطل. وعموم قوله
تعالى: وأحل الله البيع دليل على صحة قول الجمهور، ولأنه تصرف صدر من
أهله في محله فصح كغير المريض، فلو باع في مرضه فرسا قيمته خمسون بعشرين
فقد جابى المشترى بثلاثة أخماسه، وليس له المحاباة بأكثر من الثلث، فإن أجاز
الورثة ذلك لزم البيع ن وإن لم يجيزوا واختار المشترى فسخ البيع فله ذلك لان
الصفقة تبعضت عليه ن وإن اختار إمضاء البيع فالصحيح عند أصحاب أحمد وهو
اختيار ابن قدامه في المغنى أنه يأخذ النصف للبيع بنصف الثمن ويفسخ البيع في
الباقي. وهذا أحد الوجهين عند أصحاب الشافعي. والوجه الثاني أنه يأخذ ثلثي
المبيع بالثمن كله، لأنه يستحق الثلث بالمحاباة والثلث الآخر بالثمن. وعند مالك
له أن يفسخ ويأخذ ثلث المبيع بالمحاباة ويسميه أصحابه خلع الثلث
ولأصحابنا كما ساق المصنف ذلك إذا وصى ببيع ماله من رجل من غير محاباة.
فإذا قلنا إن مجرد التخصيص بالتمليك يقوم مقام المحاباة صحت الوصية
على هذا الوجه.
وإن قلنا إن البيع من غير محاباة ليس قربة والمراعى في الوصية التقرب إلى
الله تعالى لحديث أبي الدرداء لم تصح الوصية
(فرع)
تصح الوصية للذمي باتفاق أهل العلم لا نعلم في ذلك خلافا، ولان الصدقة
عليه جائزة فجازت الوصية. أما الحربي ففيه لأصحابنا وجهان
(أحدهما) وهو المذهب وبه قال أحمد في المنصوص عنه وهو قول مالك أن
الوصية للحربي تصح وهو دار الحرب
(والثاني) لا تصح وهو قول أبي حنيفة لقوله تعالى (لا ينهاكم الله عن الذين
لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إلى قوله
تعالى إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين) الآية: فيدل ذلك على أن
من قاتلنا لا يحل بره، وهو قول أبى العباس بن القاص من أصحابنا، لان القصد
من الوصية القربة إلى الله بنفع يعود إلى الموصى له، وقد أمرنا بقتل الحربي
وأخذ سلبه، فلا معنى للوصية مع قيام هذا كله.
416

دليلنا: أنه تمليك يصح للذمي فصح للحربي، ولما كانت تصح هبته فقد صحت
الوصية له كالذمي، وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عمر حلة من
حرير فقال (يا رسول الله كسوتنيها وقد قلت في حلة عطارد ما قلت، فقال:
إني لم أعطيكها لتلبسها، فكساها عمر أخا مشركا له بمكة).
وعن أسماء بنت أبي بكر قالت (أتتني أمي وهي راغبة تعنى عن الاسلام
فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتتني أمي وهي راغبة أفأصلها، قال: نعم
وهذان الخبران فيهما صلة أهل الحرب وبرهم، والآية حجة لنا فيمن لم يقاتل،
فأما المقاتل فقد نهى عن قوليه لا عن بره والوصية له، وقد رأينا كيف أن
صلاح الدين الأيوبي كان يبر المقاتلة من الصليبيين حتى كان مضرب المثل في
المروءة وعلو الهمة فكان يداوى مرضاهم ويأسو جراحهم، بيد أنه لم يعف عمن
طغى وتجبر وقطع طريق الحاج فأقسم لئن أظفره الله به ليضربن عنقه بيده،
وعندما وقع في الأسر مع غيره من ملوك أوروبا عفا عنهم جمعيا إلا ذلك فقتله
بيده، برا بقسمه رغم ما عرضه الفرنجة عليه من فداء سخي بالمال بالغا ما بلغ
قدره، فهذا هو طريق الشرع، وإن احتج بالمفهوم فإنه لا يراه حجة ثم قد حصل
الاجماع على جواز الهبة. والوصية في معناها، فأما المرتد فعند أبي الخطاب من
أصحاب الإمام أحمد تصح الوصية له كما تصح قبته. وقال ابن أبي موسى: لا تصح
لان ملكه غير مستقر ولا يرث ولا يورث فهو كالميت، ولان ملكه يزول عن
ماله بردته في قول جماعه منهم فلا يثبت له الملك بالوصية، وقد مضى مذهبنا
فيه في الوقف.
(فرع) الوصية للقاتل فيها قولان.
أحدهما - وهو مذهب مالك رضي الله عنه تجوز الوصية، وإن لم يرث كما
تجوز الوصية للكافر، وإن لم يرث، ولأنه تمليك يراعى فيه القبول فلم يمنع منه
القتل كالبيع، وهذا أحد الأوجه الثلاثة عند الحنابلة حيث قال ابن حامد: تجوز
الوصية له. وهو قول أبي ثور وابن المنذر أيضا.
والقول الثاني وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه وأحد الأوجه الثلاثة
417

عند الحنابلة: لا تصح الوصية له. لان أحمد رضي الله عنه نص على أن المدبر إذا
قتل سيده بطل تدبيره، وعندنا أنه يبطل إذا اعتبر التدبير وصية، أما إذا اعتبر
صفة فإن التدبير ماض ويعتق بموت سيده ولو قتلا وهذا أيضا قول الثوري وأصحاب الرأي
لان القتل يمنع الميراث الذي هو آكد من الوصية فالوصية أولى، ولان الوصية
أجريت مجرى الميراث فيمنعها ما يمنعه، لان الميراث أقوى التمليكات فلما منع
منه القتل كان أولى أن يمنع من الوصية.
فإذا تقرر هذان القولان فلا فرق بين أن يوصى له بعد جرحه إياه وجنايته
عليه، وبين أن يوصى له قبل الجناية ثم يجنى عليه فيقتله في أن الوصية على قولين
ولكن لو قال الموصى وليس بمجروح: قد وصيت بثلثي لمن يقتلني فقتله رجل لم
تصح الوصية له قولا واحدا لامرين.
(أحدهما) أنها وصية عقدت على معصية.
(والثاني) أن فيها إغراء بقتله، فلو وصى بثلثه لقاتل زيد، فإن كان قبل
القتل لم يجز لما ذكرنا، وإن كان بعد قتله جاز، وكان القتل تعريفا، وهكذا لو
وهب في مرضه لقاتله هبة أو حاباه في بيع أو أبرأه من حق فكل ذلك على قولين
لأنها وصية له تعتبر في الثلث، وهكذا لو أعتق في مرضه عبدا فقتل العبد
سيده كان في عتقه قولان لأنها وصية له، ولكن لو وهب هبة في صحته أو أبرأ
من حق أو حابى في بيع أو أعتق عبدا، ثم إن الموهوب له قتل الواهب أو المبرأ
قتل المبرئ أو المحابي قتل المحابي والعبد قتل السيد كان ذلك كله نافذا ماضيا،
لان فعله في الصحة جرى مجرى الوصايا، ولو جرح رجل رجلا ثم إن المجروح
وصى للجارح بوصية ثم جنى على الموصى آخر فذبحه جازت الوصية للجارح
الأول، لان الذابح صار قاتلا، ولو لم يكن الثاني قد ذبحه ولكن لو جرحه صار
الثاني والأول قاتلين، فردت الوصية للأول في أحد القولين، وهذا هو قول
مالك وأبي ثور وابن المنذر وأحد القولين عند أحمد، وأظهر القولين للشافعي
لان الهبة تصح فصحت الوصية له كالذمي، وقال القاضي أبو بكر من الحنابلة:
لا تصح الوصية له وهذا هو قول الثوري وأصحاب الرأي وأحد قولي الشافعي.
418

قال الماوردي في حاويه: وإذا قتل المدبر سيده فإن قيل: إن الدبير عتق
بصفة لم يبطل عتقه، وإن قيل: إن التدبير وصيه ففي بطلان عتقه قولان
لأنه يعتق في الثلث، ولو قتلت أم الولد سيدها بعد عتقها صح عتقها قولا
واحدا لامرين.
أحدهما: أن عتقها مستحق من رأس المال.
والثاني: أن في استبقائها على حالها إضرارا بالورثة لأنهم لا يقدرون على
بيعها، وخالف استبقاء رق المدبر للقدرة على بيعه ثم ينظر في أم الولد إذا كان
قتلها عمدا - فإن لم يكن ولدها باقيا قتلت قودا، وإن كان باقيا سقط القود عنها
لان ولدها شريك للورثة في القود فيها ن وهو لا يستحق القود من أمه فسقط
حقه، وإذا سقط القود عنها في حق بعض الورثة سقط في حق الجميع اه‍.
ولو أن رجلا وصى لابن قاتله أو لأبيه أو لزوجته صحت الوصية لان القاتل
غير الموصى له، ولو أوصى لعبد القاتل لم تجز في أحد القولين لأنها وصيه
للقاتل، ولو أقر رجل لقاتله بدين كان إقراره نافذا قولا واحدا لان الدين لازم
وهو من رأس المال فخالف الوصايا، ولو كان للقاتل على المقتول دين مؤجل
حل بموت المقتول ولا يبقى إلى أجله، لان الأجل حق لمن عليه الدين لا يورث
عنه، وليس كالمال الموروث إذا منع القاتل منه صار إلى الورثة، وسواء كان
القتل في الوصية عمدا أو خطأ كما أن الميراث يمنع منه قيل العمد والخطأ، فلو
أجاز الورثة الوصية للقاتل، وقد منع منها في أحد القولين كان في إمضائها
بإجازته وجهان من اختلاف قولين في إمضائها للوصية للوارث.
فان قلنا: إن الوصية للوارث مردودة ولا تمضي بإجازتهم ردت الوصية
للقاتل ولم تمض بإجازتهم، وإن قلنا إنه يمضى الوصية للوارث بإجازتهم
أمضيت الوصية للقاتل بإجازتهم، والأصح إمضاء الوصية للوارث بالإجازة،
ورد الوصية للقاتل مع الإجازة، لان حق الرد في الوصية للقاتل إنما هو للمقتول
لما فيه من حسم الذرائع المفضية إلى قتل نفسه فلم تصح الوصية له. بإجازتهم،
419

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) واختلف قوله في الوصية فقال في أحد القولين لا تصح
لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا وصية لوارث)
ولأنها وصية لا تلزم لحق الوارث فلم تصح، كما لو أوصى بمال لهم من غير الميراث
فعلى هذا الإجازة هبة مبتدأة يعتبر فيها ما يعتبر في الهبة. والثاني تصح لما روى
ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تجوز لوارث وصية
إلا أن شاء الورثة، فدل على أنهم إذا شاءوا كانت وصية، وليست الوصية في
ملكه وإنما يتعلق بها حق الورثة في الثاني فلم يمنع صحتها كبيع ما فيه شفعة،
فعلى هذا إذا أجاز الورثة نفذت الوصية
(فصل) ولا تصح الوصية لمن لا يملك فإن وصى لميت لم تصح الوصية
لأنه تمليك فلم يصح للميت كالهبة، وإن وصى لحمل تيقن وجوده حال الوصية بأن
وضعته لدون ستة أشهر من حين الوصية أو لستة أشهر وليست بفراش صحت
الوصية لأنه يملك بالإرث فملك بالوصية، وان وضعته لستة أشهر وهي فراش
لم تصح الوصية لأنه يجوز أن يكون حدث بعد الوصية فلم تصح الوصية بالشك
فإن ألقتله ميتا لم تصح الوصية لأنه لا يتيقن حياته حال الوصية، ولهذا لا يحكم
له بالإرث فلم يحكم له بالملك بالوصية، فإن وصى لما تحمل هذه المرأة لم تصح
الوصية. وقال أبو إسحاق تصح والمذهب الأول لأنه تمليك لمن لا يملك فلم يصح
(فصل) فإن قال وصيت بهذا العبد لاحد هذين الرجلين لم يصح لأنه
تمليك لغير معين، فإن قال أعطوا هذا العبد أحد هذين الرجلين جاز لأنه ليس
بتمليك وإنما هو وصية بالتمليك، ولهذا لو قال بعت هذا العبد من أحد هذين
الرجلين لم يصح ولو قال لوكيله بع هذا العبد أحد هذين الرجلين جاز
(فصل) فإن أوصى لعبده كانت الوصية لوارثه، لان العبد لا يملك
فكانت الوصية للوارث، وقد بيناه، فإن وصى لمكاتبه صحت الوصية، لان
المكاتب يملك المال بالعقد فصحت له الوصية، فإن وصى لام ولده صحت
لأنها حرة عند الاستحقاق، فإن وصى لمدبره وعتق من الثلث صحت له الوصية
420

لأنه حر عند الموت فهو كأم الولد، فإن لم يعتق كانت الوصية للوارث وقد بيناه
فان وصى لعبد غيره كانت الوصية لمولاه، وهل يصح قبوله من غير اذن المولى
فيه؟ وجهان (أحدهما) وهو الصحيح انه يصح ويملك به المولى يملك
ما يصطاده بغير اذنه
(والثاني) وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنه لا يصح لأنه تمليك للسيد
يعقد فلم يصح القبول فيه من غير اذنه، وهل يصح قبول السيد؟ فيه وجهان.
(أحدهما) لا يصح لان الايجاب للعبد فلم يصح قبول السيد كالايجاب في البيع
(والثاني) يصح لان القبول في الوصية يصح لغير من أوجب له وهو الوارث
بخلاف البيع.
(الشرح) حديث جابر أخرجه الدارقطني وصوب إرساله، ويبدو أن
المصنف ساقه لاحتجاج الشافعي به في أحد قوليه، وإلا فحديث عمرو بن خارجه
رواه البخاري ومسلم وأحمد والنسائي والترمذي وصححه والدارقطني والبيهقي
(أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب على ناقته وأنا تحت جرانها وهي تقصع
بجرتها، وإن لغامها يسيل بين كنفي فسمعته يقول: إن الله قد أعطى كل ذي حق
حقه فلا وصيه لوارث)
وعن أبي أمامه عند أحمد والبخاري ومسلم وأبى داود والترمذي قال (سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه
فلا وصيه لوارث) وأخرجه الدارقطني عن ابن عباس قال (قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: لا تجوز وصيه لوارث الا أن يشاء الورثة)
وعن عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(لا وصية لوارث إلا أن يجيز الورثة) رواه الدارقطني. وهذا الحديث قال
فيه الشافعي رضي الله عنه: إن هذا المتن متواتر. قال وجدنا أهل الفتيا ومن
حفظنا عنهم من أهل العلم بالمغازي من قريش وغيرهم لا يختلفون في أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح: لا وصيه لوارث، ويأثرونه عمن يحفظونه
عنه ممن لقوه من أهل العلم، فكان نقل كافة عن كافه فهو أقوى من نقل واحد
421

قلت: وقد ضعف الحافظ بن حجر جميع طرقه وقال: لا يخلو واحد منها
من مقال ولكنه يسلم بأنها في مجموعها تصل إلى درجة الاحتجاج بها
وقد عده السيوطي في الأحاديث المتواترة في كتابه الموسوم بالأزهار
المتناثرة في الأحاديث المتواترة. وهو مروى عن أبي أمامة وعمرو بن خارجه
وعلى وابن عباس وعمرو بن دينار وأبى جعفر وجابر بن الله وعمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده وزيد بن أرقم والبراء بن عازب. وقد نازع الفخر
الرازي في كون هذا الحديث متواترا. قال وعلى تقدير تسليم ذلك فالمشهور من
مذهب الشافعي أن القرآن لا ينسخ بالسنة
قال الحافظ بن حجر: لكن الحجة في هذا إجماع العلماء على مقتضاه، كما
صرح به الشافعي وغيره.
ثم قال والمراد بعدم صحة وصية الوارث عدم اللزوم، لان الأكثر على أنها
موقوفة على إجازة الورثة.
وقال الصنعاني في سبل السلام: الأقرب وجوب العمل به لتعدد طرقه،
وإن نازع الفخر في تواتره، ولا يضر ذلك بثبوته. وقبل إنها لا تصح الوصية
لوارث أصلا، وهو الظاهر لأن النفي إما أن يتوجه إلى الذات، والمراد لا وصية
شرعية. وإما إلى ما هو أقرب إلى الذات وهو الصحة، ولا يصح أن يتوجه
هاهنا إلى الكمال الذي هو أبعد المجازين. وقد اختلف في تعيين ناسخ آية الوصية
للوالدين، فقبل آية الفرائض، وقيل الأحاديث المذكورة في الباب. وقيل دل
الاجماع على ذلك وإن لم يتعين دليله
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: أخبرنا ابن عيينة عن سليمان
الأحول عن مجاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا وصية لوارث)
وما وصفت من أن الوصية للوارث منسوخة بآي المواريث وأن لا وصية
لوارث مما لا أعرف عن أحد ممن لقيت خلافا.
422

وإذا كانت الوصايا لمن أمر الله تعالى ذكره بالوصية منسوخة بآي المواريث
وكانت السنة تدل على أنها لا تجوز لوارث، وتدل على أنها تجوز لغير قرابة دل
ذلك على نسخ الوصية للورثة، وأشبه أن يدل على نسخ الوصايا لغيرهم قال
ودل على أن الوصايا للوالدين وغيرهما ممن يرث بكل حال إذا كان في معنى غير
وارث فالوصية له جائزة ومن قبل أنها إنما بطلت وصيته إذا كان وارثا، فإذا لم
يكن وارثا فليس بمبطل للوصية. وإذا كان الموصى يتناول من شاء بوصيته كان
والده دون قرابته إذا كانوا غير ورثه في معنى من لا يرث، ولهم حق القرابة
وصلة الرحم.
وقال الشافعي رضي الله عنه في باب الوصية للوارث من الام: ورأيت
متظاهرا عند عامة من لقيت من أهل العلم بالمغازي (1) أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال في خطبته عام الفتح (لا وصية لوارث) فحكم الوصية لوارث
حكم ما لم يكن، فمتى أوصى رجل لوارث وقفنا الوصية، فان مات الموصى
والموصى له وارث، فلا وصية له، وإن حدث للموصى وارث يحجبه أو خرج
الموصى له من أن يكون يوم يموت وارثا له، بأن يكون أوصى صحيحا لامرأته
ثم طلقها ثلاثا ثم مات مكانه، فالوصية لها جائزة لأنها غير وارثه، وإنما ترد
الوصية وتجوز إذا كان لها حكم، ولا يكون لها حكم الا بعد موت الموصى حتى
تجب أو تبطل.
ولو أوصى لرجل وله دونه وارث يحجبه فمات الوارث قبل الموصى فصار
الموصى له وارثا، أو لامرأة ثم نكحها ومات وهي زوجته بطلت الوصية لهما
معا، لأنها صارت وصية لوارث

(1) لما كان أظهر ما في التاريخ من المحولات الاجتماعية والسياسية هو
المغازي فقد كان المؤرخون يسمون (أهل العلم بالمغازي)
423

ولو أوصى لوارث وأجنبي بعيد أو دار أو ثوب أو مال مسمى بطل نصيب
الوارث وجاز للأجنبي ما يصيبه وهو النصف من جميع ما أوصى به للوارث
والأجنبي، ولكن لو قال: أوصيت بكذا لفلان وفلان فإن كان سمى للوارث ثلثا
ولأجنبي ثلثي ما أوصى به جاز للأجنبي ما سمى له، ورد عن الوارث ما سمى له،
ولو كان له ابن يرثه ولابنه أم ولدته أو حضنته، أو أرضعته أو أب أرضعه أو
زوجه أو ولد لا يرثه أو خادم أو غير فأوصى لهؤلاء كلهم أو لبعضهم جازت
الوصية لهم لان كل هؤلاء غير وارث وكل هؤلاء مالك لما أوصى له به لملكه
لماله إن شاء منعه ابنه وإن شاء أعطاه إياه.
وقال الصنعاني في سبل السلام: وذهب الهادي وجماعة إلى جوازها مستدلين
بقوله تعالى (كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت) الآية، قالوا: ونسخ
الوجوب لا ينافي بقاء الجواز، قلنا: نعم لو لم يرد هذا الحديث، فإنه ناف
لجوازها إذ وجوبها قد علم نسخه من آية المواريث كما قال ابن عباس: كان المال
للولد والوصية للوالدين، فنسخ الله سبحانه من ذلك ما أحب، فجعل للذكر مثل
حظ الأنثيين، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس وجعل للمرأة الثمن
والربع وللزوج الشطر والربع.
وقوله في الحديث: إلا أن يشاء الورثة، دليل على صحة الوصية ونفاذها
للوارث إن أجازها الورثة، لأنهم قد أسقطوا حقهم. وهو قول جمهور الفقهاء
ما عدا المزني من أصحاب الشافعي وداود بن علي الظاهري وأصحابه وبعض الحنابلة
حيث قالوا: لا أثر لإجازتهم، والظاهر أن لهم أثرا في جوازها، لأنه صلى الله
عليه وسلم لما نهى عن الوصية للوارث قيدها بقوله إلا أن يشاء الورثة وأطلق
لما منع الوصية عن الزائد عن الثلث، وليس لنا تقييد ما أطلقه ومن قيد هنالك
قال: إنه يؤخذ القيد من التعليل بقوله (انك ان تذر.. الخ) فإنه دل على
أن المنع من الزيادة على الثلث كان مراعاة لحق الورثة، فان أجازوا سقط حقهم
ولا يخلو عن قوة. هذا في الوصية للوارث، واختلفوا إذا أقر المريض للوارث
بشئ من ماله فأجازه الأوزاعي وجماعة مطلقا.
424

وقال أحمد: لا يجوز اقرار المريض لوارثه مطلقا، واحتج بأنه لا يؤمن بعد
المنع من الوصية لوارثه أن يجعلها اقرارا، واحتج الأول بما يتضمن الجواب عن
هذه الحجة فقال إن التهمه في حق المحتضر بعيدة وبأنه وقع الاتفاق أنه لو أقر
بوارث آخر صح اقراره مع أنه يتضمن الاقرار بالمال وبأن مدار الأحكام على
الظاهر فلا يترك اقراره للظن المحتمل فإن أمره إلى الله.
(قلت) وهذا القول أقوى دليلا، واستثنى مالك ما إذا أقر لبنته ومعها من
يشاركها من غير الولد، كابن العم قال: لأنه يتهم في أنه يزيد لابنته، وينقص
ابن العم، وكذلك استثنى ما إذا أقر لزوجته المعروف بمحبته لها وميله إليها،
وكان بينه وبين ولده من غيرها تباعد لا سيما إذا كان له منها ولد في تلك الحال.
قلت: والأحسن ما قيل عن بعض المالكين واختاره الروياني في بحر المذهب
من أصحابنا: ان مدار الامر على التهمه وعدمها، فإن فقدت جاز والا فلا، وهي
تعرف بقرائن الأحوال وغيرها.
وعن بعض الفقهاء: أنه لا يصح اقراره الا للزوجة بمهرها، وسيأتي مزيد
ايضاح إن شاء الله. وفائدة الخلاف أن الوصية إذا كانت صحيحة فإجازة الورثة
تنفيذ، فإذا أجازها الورثة لزمت الوصية، وإن كانت باطله كانت هبة مبتدأه
تفتقر إلى شروط الهبة من اللفظ والقبول والقبض، ولو رجع المجيز قبل القبض
فيما يعتبر فيه القبض صح رجوعه.
وأما بقية الفصول من الوصية للعبد والمكاتب وأم الولد وعبد غيره فعلى
وجهها. ولا تفتقر إلى مزيد والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وتجوز الوصية بالمشاع والمقسوم لأنه تمليك جزء من ماله فجاز
في المشاع والمقسوم كالبيع، ويجوز بالمجهول كالحمل في البطن واللبن في الضرع
وعبد من عبيد وبما لا يقدر على تسليمه كالطير الطائر والعبد الآبق لان الموصى
له يخلف الميت في ثلثه كما يخلفه الوارث في ثلثه فلما جاز أن يخلف الوارث الميت
425

في هذه الأشياء جاز أن يخلفه الموصى له، فان وصى بمال الكتابة جاز ذكرناه
فان وصى برقبته فهو على القولين في بيعه.
(فصل) فان وصى بما تحمله الجارية أو الشجرة صحت الوصية لان المعدوم
يجوز أن يملك بالسلم والمساقاة، فجاز أن يملك بالوصية، ومن أصحابنا من قال:
إذا قلنا: إن الاعتبار بحال الوصية لم تصح لأنه لا يملك في الحال ما وصى به.
(فصل) وتجوز الوصية بالمنافع لأنها كالأعيان في الملك بالعقد والإرث
فكانت كالأعيان في الوصية ويجوز بالعين دون المنفعة وبالعين لواحد وبالمنفعة
لآخر لان المنفعة والعين كالعين فجاز فيهما ما جاز في العينين ويجوز بمنفعة مقدرة
بالمدة وبمنفعة مؤبدة لان المقدرة كالعين المعلومة والمؤبدة كالعين المجهولة فصحت
الوصية بالجمع.
(فصل) وتجوز الوصية بما يجوز الانتفاع به من النجاسات كالسماد والزيت
النجس والكلب وجلد الميتة لأنه يحل اقتناؤها للانتفاع بها فجاز نقل اليد فيها
بالوصية، ولا يجوز بما لا يحل الانتفاع به كالخمر والخنزير والكلب العقور لأنه
لا يحل الانتفاع بها ولا تقر اليد عليها فلم تجز الوصية بها.
(الشرح) إذا أوصى لرجل بمعين من ماله، ولآخر بجزء مشاع منه كثلث
المال وربعه فأجيز لهما، انفرد صاحب المشاع بوصيته من غير المعين ثم يشارك
صاحب المعين فيه فيقتسمانه بينهما على قدر حقيهما فيه، ويدخل النقص على كل
واحد منهما بقدر ماله في الوصية كمسائل العول وكما لو أوصى لرجل بماله ولآخر
بجزء منه، فأما في حال الرد فإن كانت وصيتهما لا تجاوز الثلث مثل أن يوصى
لرجل بثلث ماله ولآخر بمعين قيمته سدس المال، فهي بحال الإجازة سواء إذ
لا أثر للرد، وان جاوزت ثلثه رددنا وصيتهما إلى الثلث وقسمناه بينهما على قدر
وصيتهما الا أن صاحب المعين يأخذ نصيبه من المعين والاخر يأخذ حقه من جميع
المال، وقد رجح ابن قدامه من الحنابلة أنهما يقتسمان الثلث على حسب مالهما
في الإجازة وهذا قول ابن أبي ليلى
وقال أبو حنيفة ومالك في الرد: يأخذ صاحب المعين نصيبه منه ويضم الاخر
426

سهامه إلى سهام الورثة ويقتسمون الباقي على خمسة في مثل مسألة الخرقي لان له
السدس، وللورثة أربعة أسداس وهو مثل كلام الخرقي من الحنابلة إلا أن الخرقي
يعطيه السدس من جميع المال وعندهما أنه يأخذ خمس المائتين وعشر المعين.
واتفقوا على أن كل واحد من الوصيين يرجع إلى نصف وصيته، لان كل واحد
منهما قد أوصى له بثلث المال وقد رجع إلى الوصيان إلى الثلث وهو نصف الوصيتين
فيرجع كل واحد إلى نصف وصيته، ويدخل النقص على كل واحد منهما بقدر
ماله في الوصية.
قال الشافعي: ولو أوصى له بالثلث من دار أو أرض فأذهب السيل ثلثيها
وبقى ثلثها، فالثلث الباقي للموصى له إذا خرج من الثلث، فسوى الشافعي رضي الله عنه
بين استحقاق الثلثين مشاعا وبين ذهاب ثلثيها بالسيل محوزا في أن الوصية
تكون بالثلث الباقي بعد الاستحقاق والتلف بالسيل، والذي أراه الفرق بين
المسألتين من أن استحقاقه لا يمنع من إمضاء الوصية بالثلث الباقي كله وذهاب
الثلثين منها للسيل يمنع أن تكون الوصية بجميع الثلث الباقي، ويوجب أن
تكون الوصية بثلث الثلث الباقي، فإذا استحق ثلثيها لم يمنع أن يكون الثلث الباقي
شائعا في جميعها فصحت الوصية في جميعه، فوجبت الوصية في ثلث ما بقي وثلث
ما هلك يكون حكم الإشاعة في الجميع باقيا.
ألا ترى لو أن رجلا اشترى من رجل نصف دار جميعها بيده، ثم استحق
بعد الشراء نصفها كان النصف الباقي هو المبيع منها.
(فإن قيل) أفليس لو أوصى له برأس من غنمه فهلك جميعها إلا رأسا منها
بقي، فإن الوصية تتعين فيه ولا يكون الهالك وإن كان متميزا من الوصية وغيرها
فهلا كان ما هلك بالسيل كذلك. قيل الوصية برأس من غنمه يوجب الإشاعة في
كل رأس منها؟ وإنما جعل إلى الوارث أن يعينه فيما شاء من ميراثه، وليس
كذلك الوصية بثلث الدار لان الثلث شائع في جميعها فافترقا فإذا تقرر ما وصفته
من مذهب الشافعي في التسوية بين الاستحقاق والتلف وما رأيته من فافترق بين
الاستحقاق والتلف ففرع على ذلك ما صح به الجواب.
427

(فرع) إذا أوصى بشجرة مدة أو بما تثمر أبدا صحت لجواز ملك المعدوم
ومن ثم لم يملك واحد من الموصى له أو الوارث إجبار الآخر على سقيها لأنه
لا يجبر على سقى ملكه ولا سقى ملك غيره، وإذا أراد أحدهما سقى الشجرة على
وجه لا يضر بصاحبه لم يملك الآخر منعه، وإذا يبست الشجرة كان حطبها
للوارث، لان الموصى له ليس له منها إلا الثمرة، وان وصى له بثمرتها سنة
بعينها لم يتحمل تلك السنة فلا شئ للموصى له.
وان قال: لك ثمرتها أول العام الذي تثمر فيه صح وله ثمرتها أول عام تثمر
وكذلك إذا أوصى له بما تحمل شاته، وان أوصى لرجل بشجرة ولآخر بثمرتها
صح وكان صاحب الرقبة قائما مقام الوارث وله ماله، وان وصى بلبن شاة
وصوفها صح كما تصح الوصية بثمرة الشجرة، وكذلك ان وصى بلبنها خاصة أو
صوفها خاصة صح، ويقوم الموصى به دون العين.
(فرع) تجوز الوصية بالمنافع فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ولو أوصى
بخدمة عبده أو بغلة داره وثمرة بستانه والثلث يحتمله جاز ذلك اه‍.
قلت: ان الوصايا بمنافع الأعيان جائزة كالوصايا بالأعيان لأنه لما صح عقد
الإجارة عليها صح بالأولى الوصية بها، وسواء قدرت بمدة أو جعلت مؤبدة،
وقال ابن أبي ليلى: ان قدرت بمدة تصح فيها الإجارة صحت، وان لم تقدر بمدة
تصح فيها الإجارة بطلت، حملا للوصية على الإجارة.
وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء إلى جواز الوصية بها على التأبيد
بخلاف الإجارة لان الوصايا تجوز مع الجهالة فإذا صح جوازها مقدرة ومؤبدة
فقد ذكر الشافعي رضي الله عنه الوصية بخدمة العبد وغلة الدار وثمرة البستان،
فأما الوصية بخدمة العبد فله أن يؤاجره وله أن يستخدمه كما يجوز له أن يوصى
لفلان بفرسه ولآخر بركوبها فيكون لأحدهما عينها وللآخر منفعتها على
ما سيأتي إن شاء الله تعالى.
(فرع) الوصية بالميتة جائزة لأنه قد يدبغ جلدها ويطعم بزاته لحمها، وكذلك
الوصية بالروث والزبل، لأنه قد ينتفع به في تسميد الأرض واخصابها للغرس
والزرع، ولا شك أن الشرع الحكيم بسماحته واحاطته بمصالح البشر لم يقف من
428

النجاسات موقف العداء المطلق، فإنه متى ثبت أن لها فائدة ما في حياة الناس
فلا بد أن تقتنص هذه الفائدة، وإننا في عصر تقدمت فيه العلوم الكيمياوية حتى
صنعت المواد السمادية من الهواء، فإنه يكثف بأجهزة التكثيف وستخرج منه
أثقل الأجسام صلابة وثقلا كسلفات النشادر، ومع التطور العظيم في علوم
الكيمياء والأسمدة، فان الاجماع بين المتخصصين منعقد على أن أعلى أنواع
السماد وأسلمها للأرض وأعظمها إخصابا للتربة هو الأسمدة العضوية كالروث
والبراز الحيواني والآدمي لهذا أجاز الوصية بكل نافع ولو كان نجسا.
أما الوصية بالخمر والخنزير والكلب العقور فباطلة، لان الانتفاع بها محرم
فلو أنه أوصى بجرة فيها خمر قال الشافعي رضي الله عنه: أريق الخمر ودفعت إليه
الجرة، لان الجرة مباحة والخمر حرام.
فاما الوصية بالحيات والعقارب وحشرات الأرض والسباع والذئاب فباطلة
لأنه لا منفعة فيه جميعا. فأما الوصية بالفيل فإن كان منتفعا به فجائر لجواز ان
يبيعه ويقوم في التركة ويعتبر من الثلث، وإن كان غير منتفع به فالوصية باطلة.
فأما الفهد والنمر والشاهين والصقر فالوصية بذلك جائزة لأنها جوارح ينتفع
بها للصيد وتقوم في التركة لجواز بيعها وتعتبر في الثلث، وأما الوصية بما تصيده
الكلاب فباطلة لان الصيد لمن صاده
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ويجوز تعليق الوصية على شرط في الحياة لأنها تجوز في المجهول
فجاز تعليقها بالشرط كالطلاق والعتاق، ويجوز تعليقها على شرط بعد الموت
لان ما بعد الموت في الوصية كحال الحياة، فإذا جاز تعليقها على شرط في الحياة
جاز بعد الموت.
(فصل) وإن كانت الوصية لغير معين كالفقراء لزمت بالموت لأنه لا يمكن
اعتبار القبول فلم يعتبر، وإن كانت لمعين لم تلزم إلا بالقبول لأنه تمليك لمعين
429

فلم يلزم من غير قبول كالبيع، ولا يصح القبول إلا بعد الموت، لان الايجاب
بعد الموت فكان القبول بعده. فان قبل حكم له بالملك. وفى وقت الملك
قولان منصوصان.
(أحدهما) تمليك بالموت والقبول، لأنه تمليك يفتقر إلى القبول فلم يقع
الملك قبله كالهبة.
(والثاني) أنه موقوف، فان قبل حكمنا بأنه ملك من حين الموت، لأنه
لا يجوز أن يكون للموصى لان الميت لا يملك، ولا يجوز أن يكون للوارث
لان الوارث لا يملك إلا بعد الدين والوصية، ولا يجوز أن يكون للموصى له
لأنه لو أنتقل إليه لم يملك رده كالميراث، فثبت أنه موقوف.
وروى ابن عبد الحكم قولا ثالثا أنه يملك بالموت ووجهه أنه مال مستحق
بالموت فانتقل به كالميراث.
(فصل) وإن رد نظرت، فإن كان في حياة الموصى لم يصح الرد لأنه
لا حق له في حياته فلم يملك اسقاطه كالشفيع إذا عفا عن الشفعة قبل البيع، وان
رد بعد الموت وقبل القبول صح الرد لأنه يثبت له الحق فملك اسقاطه كالشفيع
إذا عفا عن الشفعة بعد البيع وان رد بعد القبول وقبل القبض ففيه وجهان
(أحدهما) لا يصح الرد لأنه ملكه ملكا تاما فلم يصح رده، كما لو قبضه
(والثاني) أنه يصح الرد، وهو المنصوص لأنه تمليك من جهة الآدمي من غير
بدل فصح رده قبل القبض كالوقف، وان لم يقبل ولم يرد كان للورثة المطالبة
بالقبول أو الرد، فان امتنع من القبول والرد حكم عليه بالرد، لان الملك متردد
بينه وبين الورثة، كما لو تحجر أرضا فامتنع من احيائها أو وقف في مشرعة ماء
فلم يأخذ ولم ينصرف.
(فصل) وان مات الموصى له قبل الموصي بطلت الوصية ولا يقوم
وارثه مقامه لأنه مات قبل استحقاق الوصية، وان مات بعد موته وقبل
القبول قام وارثه مقامه في القبول والرد لأنه خيار ثابت في تملك المال، فقام
الوراث مقامه كخيار الشفعة.
430

(الشرح) تصح الوصية مطلقة ومقيدة فالمطلقة أن يقول: إن مت فثلثي
للمساكين أو لفلان، والمقيدة أن يقول: إن مت من مرضى هذا أو في هذه البلدة
أو في سفري هذا فثلثي للمساكين، فإن برأ من مرضه أو قدم من سفره أو خرج
من البدة ثم مات بعد ذلك فليس له وصية، وبهذا قال الحسن والثوري والشافعي
وأحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي.
وقال مالك: إن قال قولا ولم يكتب كتابا فهو كذلك، وإن كتب كتابا ثم
صح من مرضه وأقر الكتاب فوصيته بحالها ما لم ينقضها.
ولنا أنها وصية بشرط لم يوجد شرطها فبطلت: كما لو لم يكتب كتابا أو كما لو
وصى لقوم فماتوا قبله، ولأنه قيد وصيته بقيد فلا يتعداه كما ذكرنا، وإن قال
لاحد عبديه: أنت حر بعد موتى، وقال للآخر: أنت حر إن مت في مرضى
هذا فمات في مرضه فالعبدان سواء في التدبير. وإن برأ من مرضه ذلك بطل
تدبير المقيد وبقى تدبير المطلق بحاله، ولو وصى لرجل بثلثه وقال: إن مت قبلي
فهو لعمرو وصحت وصيته على حسب ما شرطه له، وكذلك في سائر الشروط فان
النبي صلى الله عليه وسلم قال (المسلمون على شروطهم).
(فرع) ولا يملك الموصى له الوصية الا بالقبول في قول جمهور الفقهاء
إذا كانت لمعين يمكن القبول منه لأنه تمليك مال لمن هو من أهل الملك متعين،
فاعتبر قبوله كالهبة والبيع، فأما إن كانت لغيره معين كالفقراء والمساكين ومن
لا يمكن حصرهم كبني هاشم وتميم أو على مصلحة كمسجد ومستشفى ومدرسة أو
حج لم يفتقر إلى قبول ولزمت بمجرد الموت لان اعتبار القبول من جميعهم
متعذر، فيسقط اعتباره كالوقف عليهم، ولا يتعين واحد منهم فيكتفى بقبوله،
وذلك لو كان فيهم ذو رحم من الموصى به مثل ان يوصى بعبد للفقراء وأبوه
فقير لم يعتق عليه، ولان الملك لا يثبت الموصى لهم بدليل ما ذكرنا من المسألة
وإنما ثبت لكل واحد منهم بالفيض فيقوم قبضه مقام قبوله.
اما الآدمي المعين فيثبت له الملك فيعتبر قبوله لكن لا يعين القبول باللفظ
بل يجزئ ما قام مقامه من الاخذ والفعل الدال على الرضى كقولنا في الهبة والبيع
431

فإذا ثبت هذا: فان الوصية تشتمل على أمرين. أحدهما: العطية، والثاني
الولاية، فاما العطية فهو ما يوصى به الرجل من أمواله لمن أحب، فالوقت الذي
يصح فيه قبول ذلك ودره بعد موت الموصى، فان قبل أو رد بعد موته صح،
وكان على ما مضى من حكم القبول والرد، فأما في حياة الموصى فلم يصح قبوله
ولا رده. وقال أبو حنيفة: يصح الرد ولا يصح القبول، لان الرد أوسع حكما
من القبول، وهذا فاسد لأمور، منها ان الرد في مقابلة القبول لأنهما معا
يرجعان إلى الوصية، فلما امتنع أن يكون ما قبل الموت زمانا للقبول، امتنع أن
يكون زمانا للرد وصار كزمان ما قبل الوصية الذي لا يصح فيه قبول ولا رد،
وعكسه ما بعد الموت لما صح فيه القبول صح فيه الرد، ومنها ان الرد في حال
الحياة عرف، وقيل: وقت الاستحقاق، فجرى مجرى العفو عن القصاص قبل
وجوبه، وعن الشفعة قبل استحقاقها، ومنها انه قبل الموت مردود عن الوصية
فلم يكن رده لها مخالفا لحكمها.
وأما الوصية بالولاية على مال طفل أو تفريق ثلثه أو تنفيذ وصية فيصح
قبولها وردها في حياة الموصى وبعد موته بخلاف وصايا العطايا، وكان قبوله في
حياة العاقد أصح، وذلك عطية تقبل في زمان التمليك، ولو رد الوصية في حياة
الموصى لم يكن له قبلوها بعد موته ولا في حياته، ولو قبلها في حياة الموصى صحت
وكان له المقام عليها إن شاء والخروج منها إذا شاء في حياة الموصى وبعد موته.
وقال أبو حنيفة. ليس له الخروج من الوصية بعد موت الموصى، ويجوز له
الخروج منها في حياته إذا كان حاضرا، وان غاب لم يجز وهذا فاسد من وجهين
(أحدهما) ان ما كان لازما من العقود استوى حكمه في الحياة وبعد الموت
وما كان غير لازم بطل، فالموت والوصية ان خرجت عن أحدهما صارت أصلا
يفتقر إلى دليل (والثاني) لو كان حضور إلى شرطا في الخروج من الوصية
لكان رضاه معتبرا، وفى اجماعهم على أن رضاه، وإن كان حاضرا غير معتبر
دليل على أن الحضور غير معتبر، ولا يخلو إذا رد الوصية من خمسة أحوال،
432

أ - أن يردها قبل موت الموصى، فلا يصح الرد لعدم وقوع الوصية فأشبه
رد المبيع قبل ايجاب البيع، ولأنه ليس بمحل للقبول فلا يكون محلا للرد كما قبل
الوصية ب - أن يردها بعد الموت وقبل القبول، فيصح الرد وتبطل الوصية
لا نعلم فيه خلافا لأنه أسقط حقه في حال يملك قبوله واخذه فأشبه عفو الشفيع
عن الشفعة بعد البيع. ج - ان يرد بعد القبول والقبض فلا يصح الرد لان
ملكه قد استقر فأشبه رده لسائر ملكه الا أن يرضى الورثة بذلك فتكون هبة
منه لهم تفتقر إلى شروط الهبة. د - ان يرد بعد القبول وقبل القبض
وفيه وجهان (أحدهما) يصح الرد لأنهم لما ملكوا الرد من غير قبول ملكوا
الرد من غير قبض، ولان ملك الوصي لم يستقر عليه قبل القبض فصح رده كما
قبل القبول (والثاني) لا يصح الرد لان الملك يحصل بالقبول من غير قبض.
ه‍ - ان يمتنع عن القبول والرد وهذا يكون حكمه حكم الرد، لان الملك متردد
بينه وبين الورثة، ومثاله من تحجر أرضا ثم امتنع من إحيائها. أو وقف على
جدول ماء فلم يأخذ ولم ينصرف وعطل مرور الماء على من ينتفعون به لارواء
إنسان أو حيوان أو نبات، وفرق الحنابلة في (ج) بين المكيل والموزون وغيرهما
وقد اختلف أصحابنا فيما قبل القبول وبعد الموت متى يحصل ملك الوصية
للموصى له، وهل تكون باقية على ملك الموصى أو داخلة في ملك الورثة على
وجهين. أحدهما وهو قول ابن سريج وأكثر البصريين ان ملك الوصية منتقل
عن الميت إلى ورثته ثم بالقبول تدخل في ملك الموصى له لزوال ملك الموصى
بالموت. والوجه الثاني وهو قول أبي إسحاق المروزي وأكثر البغداديين أن الوصية
باقية على ملك الموصى بعد موته حتى يقبلها الموصى له فتدخل في ملكه بقبوله
وتنتقل إليه عن الموصى لان الوصية تملك عنه كالميراث، ووجه هذا القول أن
الوصية تملك بالقبول فلم يجز أن يتقدم الملك على قبولها كالهبات.
قال الشافعي: وهذا قول ينكسر، والقول الثاني وهو أصحها أن القبول
يدل على حصول الملك بالموت فيكون الملك موقوفا مراعى، فان قبل دل على
تقدم ملكه، وان لم يقبل دل على عدم ملكه، ووجه هذا القول انه لما امتنع ان
يبقى للميت ملك وان الوارث لا يملك الإرث اقتضى أن يكون الملك موقوفا على
433

قبول الموصى له ورده، وحقه في القبول باق ما لم يعلم، فإذا علم فإن كان عند انفاذ
الوصايا وقسمة التركة فقبوله على الفور، فان قبل والا بطل حقه في الوصية،
فاما بعد علمه وقبل انفاذا الوصايا وقسمة التركة، فمذهب الشافعي وقول جمهور
أصحابه أن القول فيه على التراخي لا على الفور فيكون ممتدا ما لم يصرح بالرد
حتى تنفذ الوصايا وتقسم التركة،
وحكى أبو القاسم بن كج عن بعض أصحابنا ان القبول بعد علمه على الفور
لأنها عطيه كالهبات، وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي قولا ثالثا ان الوصية
تدخل في ملك الموصى له بغير قبول ولا اختيار كالميراث، فاختلف أصحابنا في
تخرجه قولا ثالثا للشافعي فخرجه أبو علي بن أبي هريرة وأكثر متأخري المتقدمين
من أصحابنا قولا ثالثا تعليلا بالميراث، وامتنع أبو إسحاق المروزي وأكثر قدامي
المتقدمين من أصحابنا من تخريجه قولا ثالثا، وتأولوا رواية ابن عبد الحكم بأحد
تأويلين، إما حكاية عن مذهب غيره، وإما على معنى أن بالقبول يعلم دخولها
بالموت في ملكه، وفى طبيعة الوصية والفرق بينها وبين الميراث بأن الميراث عطية
من الله تعالى فلم يراع فيه القبول، والوصية عطية من آدمي فروعي فيها القبول
(فرع) قال الشافعي: ولو مات قبل أن يقبل أو بعد موته، فإن مات
الموصى له في حياة الموصى فالذي عليه جمهور الفقهاء أن الوصية له قد بطلت
وليس لوارثه قبولها بعد موت الموصى.
وحكى عن الحسن البصري أن الوصية لا تبطل بموته، ولورثته قبولها.
قال الماوردي: وهذا فاسد من وجهين، أن الوصية في غير حياة الموصى غير
لازمة، وما ليس بلازم من العقود يبطل بالموت، ولان الوصية له لا لورثته،
وهو لا يملك الوصية في حياة الموصى.
وإن مات الموصى له بعد موت الموصى لم يخل حال الموصى له قبل موته من
ثلاثة أحوال، أحدها: أن يكون قد قبلها قبل موته وبعد موت الموصى فقد
بطلت برده وليس لوارثه قبولها بعد موته إجماعا. والحال الثانية: أن يكون قد
قبلها قبل موته وبعد موت الموصى فقد ملكها أو انتقلت بموته إلى وارثه، وسواء
434

قبضها الموصى له في حياته أم لا، لان القبض ليس بشرط في تملك الوصية،
والحال الثالثة: أن يموت قبل قبوله ورده فعلى مذهب الشافعي يقوم وارثه مقامه
في القبول والرد ولا تبطل الوصية بموته قبل القبول. وقال أبو حنيفة: إذا مات
قبل القبول بطلت الوصية له كالهبة، وهذا فاسد، لان ما استحقه في التركة لم
يسقط بالموت كالدين، ولان كل سبب استحق به تملك عين بغير اختيار مالكها
لم تبطل بموته قبل تملكها كالرد بالعيب، وفارقت الوصية الهبة من حيث إن
الهبة قبل القبض غير لازمة فجاز أن تبطل بموت الموصى له قبل القبول لازمة
فلم تبطل بالموت، فإذا ثبت أن الوصية لا تبطل بموت الموصى له قبل الرد والقبول
فورثته يقومون مقامه في القبو والرد، ولهم ثلاثة أحوال، حال يقبل جميعهم
الوصية، وحال يرد جميعهم الوصية، وحال يقبلها بعضهم ويردها بعضهم، فإن
قبلوها جميعا فعلى القول الذي يجعل القبول دالا على عدم الملك بالموت، فالمالك
للوصية بقبول الورثة هو الموصى له لا الورثة. فأما على القول الذي يجعل
القبول ملكا، فقد اختلف أصحابنا هل تدخل الوصية في ملك الموصى له بقبول
ورثته أم لا، على وجهين.
(أحدهما) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وأبى المروروذي: أن الوصية
يملكها الورثة دون الموصى له لحدوث الملك بقبولهم.
(والوجه الثاني) وهو الظاهر من المذهب، وبه قال أكثر البصريين وحكاه
أبو القاسم بن كج عن شيوخه أن الوصية يملكها الموصى له بقبول ورثته، وإن كان
القبول مملكا، لأنها لو لم تدخل في ملكه لبطلت، لان الورثة غير موصى
لهم، فلم يجز أن يملك الوصية من لم يوصى له، ولو رد الورثة بأجمعهم الوصية
بطلت بردهم لها، والله أعلم وهو الموفق للصواب.
435

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب ما يعتبر من الثلث
ما وصى به من التبرعات كالعتق والهبة والصدقة والمحاباة في البيع يعتبر من
الثلث، سواء كانت في حال الصحة أو في حال المرض، أو بعضها في لصحة
وبعضها في المرض، لان اللزوم الجميع عند الموت، فأما الواجبات من ديون
الآدميين وحقوق الله تعالى كالحج والزكاة فإنه إن لم يوص بها وتجب قضاؤها من
رأس المال دون الثلث، لأنه إنما منع من الزيادة على الثلث لحق الورثة، ولا
حق للورثة مع الديون، فلم تعتبر من الثلث
وإن وصى أن يؤدى ذلك من الثلث اعتبر من الثلث، لأنها في الأصل من
رأس المال فلما جعلها من الثلث علم أنه قصد التوفير على الورثة فاعترت من
الثلث، وإن وصى بها ولم يقل إنها من الثلث، ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) أنه تعتبر من الثلث وهو ظاهر النص، لأنها من رأس المال، فلما
وصى بها علم أنه قصد أن يجعلها من جملة الوصايا فجعل سبيلها سبيل الوصايا.
(والثاني) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه إن لم يقرن بها ما يعتبر من الثلث
اعتبر من رأس المال، وان قرن بها ما يعتبر من الثلث اعتبر من الثلث، لأنها
في الأصل من رأس المال، فإذا عريت عن القرينة بقيت على أصلها، وان قرن
بها ما يعتبر من الثلث علم أنه قصد أن يكون مصرفهما واحدا.
(والثالث) أنه تعتبر من رأس المال وهو الصحيح. لأنها في الأصل من
رأس المال والوصية بها تقتضي التأكيد والتذكار بها، والقرينة تقتضي التسوية
بينهما في الفعل، لا في السبيل، فبقيت على أصلها.
(فصل) وأما ما تبرع به في حياته ينظر فيه فإن كان في حال الصحة لم
يعتبر من الثلث لأنه مطلق التصرف في ماله لا حق لاحد في ماله فاعتبر من رأس
المال، وإن كان ذلك في مرض غير مخوف لم يعتبر من الثلث، لان الانسان
لا يخلو من عوارض فكان حكمه حكم الصحيح، وإن كان ذلك في مرض مخوف
436

واتصل به الموت اعتبر من الثلث، لما روى عمران ابن الحصين (أن رجلا
أعتق ستة أعبد له عند موته لم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال للرجل قولا شديدا ثم دعاهم فجزأهم فأفرع بينهم، فأعتق اثنين
وأرق أربعة، ولأنه في هذا الحالة لا يأمن الموت فجعل كحال الموت، وإن برئ
من المرض لم يعتبر من الثلث لأنه قد بان أنه لم يكن في ماله حق أحد، وان وهب
في الصحة وأقبض في المرض اعتبر من الثلث لأنه لم يلزم الا بالقبض وقد وجد
ذلك منه في المرض.
(فصل) وان باع في المرض بثمن المثل أو تزوج امرأة بمهر المثل صح
العقد ولم يعتبر العوض من الثلث لأنه ليس بوصية، لان الوصية أن يخرج
ولم يخرج ههنا شيئا من غير عوض وان كاتب عبدا اعتبر
من الثلث، لان ما يأخذ من العوض من كسب عبده وهو مال له فيصير كالعتق
بغير عوض. وان وهب له من يعتق عليه في المرض المخوف فقبله اعتبر عتقه
من الثلث فإذا مات لم يرثه.
وقال أبو العباس: يعتبر عتقه من رأس المال ويرثه، لأنه ليس بوصية،
لأنه لم يخرج من ملكه شيئا بغير عوض، والمذهب الأول، لأنه ملكه بالقبول
وعتق عليه، والعتق في المرض وصية، والميراث والوصية لا يجتمعان، فلو
ورثناه بطل عتقه، وإذا بطل العتق بطل الإرث فأثبتنا العتق وأبطلنا الإرث
(فصل) والمرض المخوف كالطاعون والقولنج وذات الجنب والرعاف
الدائم والاسهال المتواتر، وقيام الدم والسل في انتهائه، والفالج الحادث في
ابتدائه، والحمى المطبقة، لأن هذه الأمراض لا يؤمن معها معاجلة الموت
فجعل كحال الموت.
فأما غير المخوف فهو كالجرب ووجع الضرس والصداع اليسير وحمى يوم
أو يومين، واسهال يوم أو يومين من غير دم، والسل قبل انتهائه، والفالج إذا
طال، لأن هذه الأمراض يؤمن معها معالجة الموت فإذا اتصل بها الموت علم أنه
لم يكن موته من هذه الأمراض، وان أشكل شئ من هذه الأمراض رجع فيه إلى
نفسين من أطباء المسلمين، ولا يقبل فيه قول الكافر، وان ضرب الحامل الطلق
437

فهو مخوف لأنه منه الموت، وفيه قول آخر انه مخوف لان السلامة منه أكثر
(الشرح) حديث عمران بن حصين رواه أحمد ومسلم وأصحاب الأربعة بلفظ
المصنف، وفى رواية لأحمد (أن رجلا أعتق عند موته ستة رجلة له فجاء
ورثته من الاعراب، فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما صنع. قال أو
فعل ذلك لو علمنا إن شاء الله ما صلينا، فأقرع بينهم فأعتق منهم اثنين وأرق
أربعة) ورواه أحمد وأبو داود عن أبي زيد الأنصاري (أن رجلا أعتق ستة
أعبد عند موته ليس له مال غيرهم فأعتق اثنين وأرق أربعة) وفى رواية أبى داود
(لو شهدته قبل أن يدفن لم يدفن في مقابر المسلمين) وهذا النص تفسير للقول
الشديد الذي أبهم في رواية عمران، وفيه تغليض وذم بالغان، لان الله تعالى لم
يأذن للمريض بالتصرف الا بالثلث، فإذا تصرف في أكثر منه كان مخالفا لحكمه
تعالى ومشابها لمن وهب غير ماله:
والحديثان يدلان على أن تصرفات المريض إنما تنفذ من الثلث ولو كانت
منجزة في الحال، ولم تضف إلى بعد الموت، وقد أسلفنا القول بالاجماع على عدم
جواز الوصية بأكثر من الثلث لمن كان له وارث، على أن التنجيز حال المرض
المخوف حكمه حكم الوصية. واختلف الفقهاء هل تعتبر الثلث من التركة حال
الوصية أو حال الموت، وهما وجهان لأصحابنا أصحهما الموت، وبه قال أبو حنيفة
وأحمد وهو قول علي كرم الله وجهه وجماعة من التابعين، وقال بحال الوصية
مالك وأكثر العراقيين والنخعي وعمر بن عبد العزيز، وتمسكوا بأن الوصية
عقد والعقود تعتبر بأولها، وبأنه لو نذر أن يتصدق بثلث ماله اعتبر ذلك حال
النذر اتفاقا، وأجيب بأن الوصية ليست عقدا من كل وجه، ولذلك لا يعتبر فيها
الفورية ولا القبول، وبالفرق بين النذر والوصية بأنها يصح الرجوع فيها والنذر
يلزم، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيما لو حدث له مال بعد الوصية، واختلفوا
أيضا هل يحسب الثلث من جميع المال، أو يتقيد بما علمه الموصى دون ما خفى عليه أو
تجدد له ولم يعلم به وبالأول قال الجمهور وبالثاني قال مالك، وحجه الجمهور أنه لا يشترط
أن يستحضر مقدار المال حال الوصية اتفاقا، ولو كان عالما بجنسه فلو كان العلم به
شرطا لما جاز ذلك.
438

والكلام على الأحكام أن ما وصى به من التبرعات والهبات والصدقات والمحاباة
في البيع بأن يكون المبيع مقوما بعشرة فيوصى ببيعه بخمسة مثلا بعد موته، فإن
الخمسة الباقية وهي قدر المحاباة تحسب من الثلث الذي أجاز الله له التصرف فيه
بالوصية سواء وقعت الوصية في حال الصحة أم في حال المرض وكذلك إن أسقط
عن وارثه دينا أو أوصى بقضاء دينه أو أسقطت المرأة صداقها عن زوجها أو
عفا عن جناية موجبها المال فهو كالوصية.
وإن عفا عن القصاص وقلنا: الواجب القصاص عينا سقط إلى غير بدل
وإن قلنا: الواجب أحد شيئين سقط القصاص ووجب المال، وإن عفا عن حد
القذف سقط مطلقا، وان وصى الغريم وارثه صحت الوصية، وكذلك إن وهب
له، وبهذا قال أحمد والشافعي وأبو حنيفة.
وقال أبو يوسف: هو وصية للوارث، لان الوارث ينتفع بهذه الوصية
وتستوفى ديونه منها. ولنا أنه وصى لأجنبي فصح كما لو وصى لمن عادته الاحسان
إلى وارثه، وإن وصى لوالد وارثه صح، فإن كان يقصد بذلك نفع الوارث لم
يجز فيما بينه وبين الله تعالى. قال طاوس في قوله تعالى: فمن خاف من موص
جنفا، قال أن يوصى لولد ابنته وهو يريد نفع ابنته
(فرع) قال الشافعي: ويجوز نكاح المريض. قلت: إذا تزوج امرأة صح
نكاحها ولها الميراث والصداق إن لم يزد على صداق مثلها، فإن زاد ردت الزيادة
إن كانت وارثة، وأمضيت إن كانت غير وارثة
وهكذا المريضة إذا نكحت رجلا صح نكاحها وورثها الزوج، وعليه
صداقتها إن كان مهر المثل فما زاد، فإن نكحته بأقل من صداق مثلها، فالمحاباة
بالنقصان وصية له فترد إن كان الزوج وارثا وتمضي في الثلث إن كان غير وارث.
وقال مالك: نكاح المريض فاسد لا يستحق به ميراثا. ولا يجب فيه صداق
الا أن يكون راضيا به، فيلزمه مهر المثل من الثلث مقدم على الوصايا، وكذلك
نكاح المريض فاسد ولا ميراث للزوجة. وقال ابن أبي ليلى: النكاح في المرض
جائز والميراث من الثلث.
439

وقال ابن أبي هريرة: النكاح في المرض جائز ولا ميراث. وقال الحسن
البصري: ان ظهر منه الاضرار في تزويجه لم يجز، وان لم يظهر منه الاضرار،
وظهر منه الحاجة إليه في خدمة أو غيرها جاز.
ودليلنا عموم قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء، ولم يفرق بين
صحيح ومريض، وقال معاذ بن جبل في مرضه: زوجوني حتى لا ألقى الله عزبا.
وقال عبد الله بن مسعود: لو لم يبق من أجلى الا عشرة أيام ما أوجبت الا أن
يكون لي زوجة، وروى هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير رضي الله عنه دخل
على قدامة يعوده فبشر عنده بجارية فقال قدامة زوجوني بها فقال: ما تصنع بها
وأنت على هذه الحال، فقال إن أنا عشت نسبت الزبير، وان مت فهم أحق من
يرثني، ولأنه فراش لا يمنع منه الصحيح فوجب أن لا يمنع منه المريض، ولأنه
عقد فلم يمنع منه المرض كالبيع والشراء، ولأنه لا يخلو عمله أن يكون لحاجة أو
شهوة، فإن كان لحاجة لم يجز منعه، وإن كان لشهوة فهي مباحة له كما أبيح له أن
يلتذ بما شاء من أكل أو لبس.
فإذا ثبت إباحة النكاح في المرض فله أن يتزوج ما أباحه الله تعالى من واحدة
إلى أربع كهو في الصحة ولهن الميراث ان مات من ذلك المرض أو غيره. وأما
الصداق فإن كان أمهرهن صداق أمثالهن فلهن الصداق مع الميراث، وإن كانت
عليه ديون شاركن الغرماء في التركة وضربن معهم بالحصص، وان تزوجهن أو
واحدة منهن بأكثر من صداق مثلها كانت الزيادة على صداق المثل وصيه في الثلث
فإن كانت الزوجة وارثة ردت الوصية لأنه لا وصية لوارث، وإن كانت غير
وارثه لرق أو كفر دفعت الزيادة إليها ان احتملها الثلث، أو ما احتمله منها
يتقدم على الوصايا كلها لأنها عطية في الحياة، وهكذا لو كانت الزوجة حرة
مسلمة فماتت قبله صحت لها الزيادة ان احتملها الثلث لأنها بالموت قبله غير وارثه
فلو كانت حين نكاحها في المرض أمة أو ذمية فأعتقت الأمة أو أسلمت الذمية
صارت وارثه ومنعت من الزيادة على صداق مثلها، ولو صح المريض من مرضه
ثم مات من غيره أو لم يمت صحت الزيادة على صداق المثل من رأس المال لوارثه
440

وغير وارثه، فعلى هذا لو تزوج في مرضه على صداق ألف درهم وصداق مثلها
خمسمائة ومات ولا مال له غير الألف التي هي صداقها أعيت من الألف ستمائة
وستة وستين درهما وثلثا، لان لها خمسمائة من المال، وتبقى خمسمائة هي جميع
التركة وهي وصية لها فأعطيت ثلثها وذلك مائة درهم وستة وستون درهما وثلث
درهم تأخذها مع صداق مثلها، ولو خلف مع الصداق خمسمائة صارت التركة
بعد صداق المثل ألف درهم فلها ثلثها ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون درهما وثلث،
ولو خلف مع الصداق ألف درهم خرجت الزيادة على صداق المثل من الثلث
وأخذت الألف كلها.
إذا ثبت هذا: فإن التبرعات المنجزة كالعتق والمحاباة والهبة المقبوضة والصدقة
والوقف والابراء من الدين والعفو عن الجناية الموجبة للمال إذا كانت هذه كلها في
الصحة فهي من رأس المال لا نعلم في هذا خلافا، وإن كانت في مرض مخوف
اتصل به الموت فهي من ثلث المال في قول جمهور العلماء.
وحكى عن أهل الظاهر في الهبة المقبوضة أنها من رأس المال، وليس بصحيح
لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن
الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم) رواه ابن
ماجة وغيره، وهذا يدل بمفهومه على أنه ليس له أكثر من الثلث، وقد أسلفنا
القول في بسط ما يكون من رأس المال وما يكون من الثلث فاسدد به يديك.
وحكم العطايا في مرض الموت المخوف حكم في خمسه أشياء.
(أحدها) أن يقف نفوذها على خروجها من الثلث أو إجازة الورثة.
(الثاني) أنها لا تصح لوارث إلا بإجارة بقيه الورثة.
(الثالث) أن فضيلتها ناقصه عن فضيلة الصدقة في الصحة.
(الرابع) أن يزاحم بها الوصايا في الثلث.
(الخامس) أن خروجها من الثلث معتبر حال الموت لا قبله ولا بعده،
ويفارق الوصية في ستة أشياء.
أحدها: أنها لازمه في حق المعطى ليس له الرجوع فيها وان كثرت، ولان
441

المنع على الزيادة من الثلث إنما كان لحق الورثة لا لحقه فلم يملك إجازتها ولا ردها،
وإنما كان له الرجوع في الوصية لان التبرع بها مشروط بالموت فلم يملك إجازتها
ولا ردها، وإنما كان له الرجوع في الوصية، لان التبرع مشروط بالموت ففيما
قبل الموت لم يوجد التبرع ولا العطية بخلاف العطية في المرض، فإنه قد وجدت
العطية منه والقبول من المعطى والقبض فلزمت الوصية إذا قبلت بعد الموت
وقبضت. (الثاني) أن قبولها على الفور في حال حياة المعطى وكذلك ردها.
والوصايا لا حكم لقبولها ولا ردها إلا بالموت. فتعتبر شروطه وقت وجوده
والوصية تبرع بعد الموت فتعتبر شروطه بعد الموت (الثالث) أن العطية تفتقر
إلى شروطها المشروطة لها في الصحة من العلم وكونها لا يصح تعليقها على شرط
وغرر في غير العتق، والوصية بخلافه (الرابع) أنها تقدم على الوصية. وهذا
قول أحمد والشافعي وجمهور العلماء، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر إلا
في العتق فإنه حكى عنهم تقديمه، لان العتق يتعلق به حق الله تعالى ويسرى وقفه
وينفذ في ملك الغير فيجب تقديمه (الخامس) العطايا إذا عجز العتق عن جميعها
بدئ بالأول فالأول سواء كان الأول عتيقا أو غيره وبهذا قال أحمد والشافعي.
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: الجميع سواء إذا كانت من جنس واحد.
وإن كانت من أجناس وكانت المحاباة متقدمة قدمت وان تأخرت سوى بينها وبين
العتق. وإنما كان كذلك لان المحاباة حق آدمي على وجه المعاوضة فقدمت إذا
تقدمت كقضاء الدين، وإذا تساوى جنسها سواي بينها لأنها عطايا من جنس
واحد تعتبر من الثلث فسوى بينها كالوصية وقال أبو يوسف ومحمد: يقدم
العتق تقدم أو تأخر.
(السادس) أن الواهب إذا مات قبل القبض للهبة المنجزة كانت الخيرة
للورثة ان شاء واقبضوا وان شاء وامنعوا، والوصية تلزم بالقبول بعد الموت
بغير رضاهم، وما لزم المريض في مرضه من حق لا يمكنه دفعه واسقاطه كأرش
الجناية وما عاوض عليه بثمن المثل. وما يتغابن الناس بمثله فهو من رأس المال
لا نعلم فيه خلافا، وهذا عند الشافعي وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل،
وكذلك النكاح بمهر المثل جائز من رأس المال لأنه صرف لماله حاجة في نفسه
442

فيقدم بذلك على وارثه. ويعتبر في المريض الذي هذه أحكامه شرطان أحدهما:
أن يتصل بمرضه الموت ولو صح في مرضه الذي أعطى فيه ثم مات بعد ذلك
فحكم عطيته حكم عطية الصحيح، لأنه ليس بمرض الموت. (الثاني) أن يكون
مخوفا، والأمراض على ثلاثة أقسام غير مخوف كوجع الضرس والعين
والأطراف والصداع وارتفاع الحرارة الطارئ فهذا حكمه حكم الصحيح لأنه
لا يخاف منه في العادة.
(والثاني) الأمراض المزمنة كالجذام والربو والفالج والذبحة الصدرية
والسل فهذا الضرب ان أضنى صاحبه على فراشه فهو مخوف، وقال الأوزاعي
والثوري ومالك وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأحمد: ان وصية المجذوم
والمفلوج من الثلث لأنه محمول على أنهما صاحبي فراش، ومذهب الشافعي. أنه
لا يخاف تعجيل الموت فيه، وإن كان لا يبرأ فهو كالهرم لا سيما الفالج إذا أزمن
(الثالث) من تحقق تعجيل موته فينظر فيه فإن كان عقله قد اختل مثل نزيف
المخ أو الحمى الشوكية أما من اشتد مرضه وصح عقله صح تبرعه عند أصحاب
أحمد، وجمله ما مضى أن العطايا في المرض مقدمة على الوصايا إذا ضاق الثلث
عنها لان تلك ناجزة وهذه موقوفة، فلو ضاق الثلث عن العطايا للمريض قدم
الأسبق فالأسبق، ولو ضاق الثلث عن الوصايا لم يقدم الأسبق لان عطايا
المرض تملك بالقبض المترتب فثبت حكم المتقدم. والوصايا كلها تملك بالموت
فاستوى حكم المتقدم والمتأخر إلا أن يرتبها المريض فتمضي على ترتيبه ما لم يتخلل
الوصايا عتق، فان تخللها عتق فإن كان واجبا في كفارة أو نذر قدم على وصايا
التطوع، وإن كان تطوفا ففيه قولان أحدهما أن العتق مقدم على جميع الوصايا
لقوته بالبراءة في غير الملك وبه قال من الصحابة ابن عمر ومن التابعين شريح
والحسن ومن الفقهاء مالك والشورى، والقول الثاني أن العتق والوصايا كلها
سواء في مزاحمة الثلث لان جميعها تطوع، وبه قال من التابعين ابن سيرين
والشعبي ومن الفقهاء أبو ثور، على أن المريض مرض الموت إذا أشكل أمره رجع
في ذلك إلى طبيبين مسلمين، لان الأمراض في زماننا هذا قد تشعبت أصنافها
وتعددت اختصاصات العالمين من الأطباء بها، فقد يكون المرض في رأى أحدهم
443

مخالف لرأى الآخر، فإذا اجتمعا وتشاورا أمكن اتفاقهما على حكم يؤخذ
في الوصية به.
ويا حبذا لو تفقه أطباء المسلمين في أحكام الدين المتصلة بعلمهم ومهنتهم إذن
لكانت منهم أمه هاديه ناصحه راشدة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان في الحرب وقد التحمت طائفتان متكافئتان، أو كان في
البحر وتموج، أو في كفار يرون قتل الأسارى، أو قدم للقتل في المحاربة،
أو الرجم في الزنا، ففيه قولان.
(أحدهما) أنه كالمرض المخوف يعتبر تبرعاته فيه من الثلث، لأنه لا يأمن
الموت كما لا يأمن في المرض المخوف
(والثاني) أنه كالصحيح لأنه لم يحدث في جسمه ما يخاف منه الموت فإن قدم
لقتل القصاص فالمنصوص إنه لا تعتبر عطيته من الثلث ما لم يجرح. واختلف
أصحابنا فيه على طريقين، فقال أبو إسحاق: هي على قولين قياسا على الأسير في
يد كفار يرون قتل الأسارى، ومن أصحابنا من قال: لا تعتبر عطيته من الثلث
لأنه غير مخوف لان الغالب من حال المسلم أنه إذا قدر رحم وعفا، فصار كالأسير
في يد من لا يرى قتل الأسارى.
(الشرح) الأحكام: يحصل التخويف يغير ما ذكرناه في مواضع خمسة
تقوم مقام المرض.
1 - إذا التحم الجيشان واختلط الفريقان في القتال وكانت كل فرقة متكافئة
للأخرى أو مقهورة أمامها، فأما الفئة الغالبة منهما فليست حائفة بعد ظهورها،
وكذلك إذا لم يلتحما بل كانت كل منهما متميزة، سواء كان بينهما تبادل بالرماية
أو لم يكن فليست هذه بحالة خوف، ولا فرق بين كون الطائفتين متفقتين في الدين
أو مفترقتين فعن الشافعي رضي الله عنه قولان. أحدهما: هذا، وبه قال مالك
والأوزاعي والثوري، وأحمد، ونحوه عن مكحول، والثاني: ليس بخوف.
ليس بمريض.
444

2 - إذا قدم ليقتل قصاصا أو غيره أو كمن قدم ليرجم في حد الزنا فقولان
أيضا. أحدهما: أنه مخوف. والثاني: إن حرج فهو مخوف، وإلا فلا، لأنه
صحيح البدن، والظاهر العفو عنه، وبالأول قال أحمد، لان التهديد بالقتل
جعل إكراها يمنع وقوع الطلاق وصحة البيع، ويبيح كثيرا من المحرمات ولولا
الخوف لم تثبت هذه الأحكام.
3 - إذا ركب البحر، فإن كان ساكنا فليس بمخوف، وإن تموج واضطرب
وهبت الريح العاصف فهو مخوف، فإن الله تعالى وصفهم بشدة الخوف بقوله تعالى
(هو الذي يسيركم في البحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة
وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف، وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط
بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين).
4 - الأسير والمحبوس إذا كان من عادته القتل فهو خائف عطيته من الثلث
وإلا فلا. وهذا أحد قولي الشافعي، وبه قال أبو حنيفة ومالك وابن أبي ليلى
وأحمد بن حنبل. وقال الحسن: لما حبس الحجاج إياس ليس له من ماله إلا
الثلث، وقال القاضي أبو بكر: عطية الأسير من الثلث، ولم يفرق، وبه قال
الزهري والثوري وإسحاق وحكاه ابن المنذر عن أحمد.
وقال الشعبي ومال: الغازي عطيته من الثلث. وقال مسروق: إذا وضع
رجله في الغرز. وقال الأوزاعي: المحصور في سبيل الله والمحبس ينتظر القتل
أو تفقأ عيناه هو في ثلثه، والصحيح إن شاء الله ما ذكرنا من التفضيل، لان
مجرد الحبس والأسر من غير خوف القتل ليس بمرض ولا هو في معنى المرض
في الخوف فلم يجز إلحاقه به، وإذا كان المريض الذي لا يخاف التلف عطيته من
رأس ماله فغيره أولى.
هذا إذا كان مأسورا لطائفة من المسلمين فإن المذهب أنه ليس مخوفا، لان
المسلمين لا يقتلون أسراهم من الكفار إلا بشروط فما بالك إذا كان الأسير مسلما
5 - وقوع الطاعون في بلد فعن أحمد أنه مخوف، والمذهب عندنا أنه ليس
بمرض، وإنما يخالف المرض والله تعالى أعلم بالصواب.
445

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن عجز الثلث عن التبرعات لم يخل إما أن يكون في التبرعات
المنجزة في المرض أو في الوصايا، فإن كان في التبرعات المنجزة في المرض، فإن
كانت في وقت واحد نظرت، فإن كانت هبات أو محاباة قسم الثلث بين الجميع
لتساويهما في اللزوم، فإن كانت متفاضلة المقدار قسم الثلث عليها على التفاضل،
وإن كانت متساوية قسم بينها على التساوي كما يفعل في الديون ن وإن كان عتقا
في عبيد أقرع بينهم لما ذكرناه من حديث عمران بن الحصين، ولان القصد من
العتق تكميل الأحكام، ولا يحصل ذلك إلا بما ذكرناه، فان وقعت متفرقة قدم
الأول فالأول عتقا كان أو غيره، لان الأول سبق فاستحق به الثلث فلم يجز
إسقاطه بما بعده، فإن كان له عبدان سالم وغانم فقال لسالم إن أعتقت غانما فأنت
حر، ثم أعتق غانما قدم عتق غانم لان عتقه سابق. فان قال إن أعتقت غانما فأنت
حر حال عتق غانم ثم أعتق غانما فقد قال بعض أصحابنا: يعتق غانم، لان عتقه
غير متعلق بعتق غيره، وعتق سالم متعلق بعتق غيره، فإذا أعتقناهما في وقت
واحد احتجنا أن نقرع بينهما فربما خرجت القرعة على سالم فيبطل عتق غانم،
وإذا بطل عتقه بطل عتق سالم فيؤدى إثباته إلى نفيه فسقط ويبقى عتق غانم لأنه
أصل، ويحتمل عندي أن لا يعتق واحد منهما، لأنه جعل عتقهما في وقت
واحد، ولا يمكن أن يقرع بينهما لما ذكرناه، ولا يمكن تقديم عتق أحدهما لأنه
لا مزية لأحدهما على الآخر بالسبق فوجب أن يسقطا
وإن كانت التبرعات وصايا وعجز الثلث عنها لم يقدم بعضها على بعض بالسبق
لان ما تقدم وما تأخر يلزم في وقت واحد وهو بعد الموت، فإن كانت كلها
هبات أو كلها محاباة أو بعضها هبات وبعضها محاباة قسم الثلث بين الجميع على
التفاضل إن تفاضلت وعلى التساوي إن تساوت.
وإن كان الجميع عتقا أقرع بين العبيد لما ذكرناه في القسم قبله. وإن كان بعضها
عتقا وبعضها محاباة أو هبات ففيه قولان
(أحدهما) أن الثلث يقسم بين الجميع، لان الجميع يعتبر من الثلث، ويلزم
446

في وقت واحد (والثاني) يقدم العتق بماله من القوة، وإن كان بعضها كتابة
وبعضها هبات ففيه طريقان (أحدهما) أنه لا تقدم الكتابة أنه ليس له قوة
وسراية فلم تقدم كالهبات (والثاني) أنها على قولين لأنها تتضمن العتق
فكانت كالعتق.
(فصل) وإن وصى أن يحج عنه حجة الاسلام من الثلث أو يقضى دينه
من الثلث ووصى معها بتبرعات، ففيه وجهان (أحدهما) يقسط الثلث على الجميع
لان الجميع يعتبر من الثلث، فإن كان ما يخص الحج أو الدين من الثلث لا يكفي
تمم من رأس المال، لأنه في الأصل من رأس المال، وإنما اعتبر من الثلث
بالوصية، فإذا عجز الثلث عنه وجب أن يتمم من أصل المال (والثاني) يقدم
الحج والدين، لأنه واجب ثم يصرف ما فضل في الوصايا
(فصل) وان وصى لرجل بمال وله مال حاضر ومال غائب أو له عين
ودين دفع إلى الموصى له ثلث الحاضر وثلث العين. وإلى الورثة الثلثان، وكل
ما حضر من الغائب أو نض من الدين شئ قسم بين الورثة والموصى له، لان
الموصى له شريك الورثة بالثلث فصار كالشريك في المال.
وان وصى لرجل بمائة دينار وله مائة حاضرة وله ألف غائبة فللموصى له
ثلث الحاضرة ويوقف الثلثان، لان الموصى له شريك الوارث في المال، فصار
كالشريك في المال.
وان أراد الموصى له التصرف في ثلث المائة الحاضرة ففيه وجهان
(أحدهما) تجوز لان الوصية في ثلث الحاضرة ماضية، فمكن من التصرف
فيه (والثاني) لا يجوز لأنا منعنا الورثة من التصرف في الثلثين الموقوفين.
فوجب أن نمنع الموصى له من التصرف في الثلث، وان دبر عبدا قيمته مائة وله
مائتان غائبة، ففيه وجهان
(أحدهما) يعتق ثلث العبد، لان عتق ثلثه مستحق بكل حال
(والثاني) وهو ظاهر المذهب أنه لا يعتق، لأنا لو أعتقنا الثلث حصل
للموصى له الثلث، ولم يحصل للورثة مثلاه. وهذا لا يجوز
447

(الشرح) قال الشافعي: ولو أوصى بغلامه وهو يساوى خمسمائة وبداره
لآخر وهي تساوى ألفا وبخمسمائة لآخر والثلث ألف درهم، دخل على كل واحد
منهم عول نصف فصار للذي له الغلام نصفه، وللذي له الدار نصفها، وللذي
له الخمسمائة نصفها.
قلت: إذا ضاق الثلث عن الوصايا فللورثة حالتان: حالة يجيزون، وحالة
يردون، فإن ردوا قسم الثلث بين أهل الوصايا بالحصص، وتسوى منه الوصية
بالمعين والمقدر.
وحكى عن أبي حنيفة أن الوصية بالمعين مقدمة على الوصية
بالمقدر. استدلالا بأن المقدر يتعلق بالذمة. فإذا ضاق الثلث فيها زال تعلقها
بالذمة. وهذا غير صحيح، لان محل الوصايا في التركة سواء ضاق الثلث أو
اتسع لها فاقتضى ان يستوي المعين والمقدر مع ضيق الثلث كما يستويان مع
اتساعه، ولان الوصية بالمقدر أثبت من الوصية بالمعين، لان المعين إن تلف
بطلت الوصية به، والمقدر إن تلف بعض المال لم تبطل الوصية
فإذا تقرر استواء المعين والمقدر مع ضيق الثلث عنها وجب أن يكون عجز
الثلث داخلا على أهل الوصايا بالحصص، فإذا أوصى بسيارته لرجل وقيمتها
خمسمائة، وبداره لآخر وقيمتها الف وبخمسمائة لآخر، فوصايا الثلاثة
كلها تكون ألفين، فإن كان الثلث ألفين فصاعدا فلا عجز. وهي ممضاة، وإن
كان الثلث ألفا فقد عجز الثلث عن نصفها فوجب أن يدخل العجز على جميعها.
ويأخذ كل موصى له بشئ نصفه فيعطى الموصى له بالسيارة نصفها، وذلك مائتان
وخمسون ويعطى الموصى له بالدار نصفها وذلك خمسمائة. ويعطى الموصى له
بالخمسمائة نصفها وذلك مائتان وخمسون
وعلى قول أبي حنيفة تسقط الوصية بالخمسمائة المقدرة، ويجعل الثلث بين
الموصى له بالسيارة والدار، فيأخذ كل واحد منهما ثلثي وصيته لدخول العجز
بالثلث منها، فلو كان الثلث في هذه الوصايا خمسمائة فهو ربع الوصايا الثلاثة
فيعطى كل واحد ربع ما جعل له، ولو كان الثلث ألفا وخمسمائة فيجعل لكل
واحد منهم ثلاثة أرباع وصيته ثم على هذا القياس
448

وإن أجازوا الوصايا كلها مع ضيق الثلث عنها ودخول العجز بالنصف عليها
ففي إجازتهم قولان.
(أحدهما) أن إجازتهم ابتداء عطية منهم لامرين. أحدهما: أن ما زاد على
الثلث منهى عنه، والنهى يقتضى فساد المنهى عنه.
(والثاني) أنهم لما كانوا بالمنع مالكين لما منعوه وجب أن يكون بالإجارة
معطين لما أجازوه فعلى هذا قد ملك أهل الوصايا نصفا بالوصية لاحتمال الثلث لها
ولا يفتقر بملكهم لها إلى قبض ونصفها بالعطية لعجز الثلث عنها، ولا يتم ملكهم
إلا بقبضه. والثاني: وهو أصح، وبه قال أبو حنيفة: إن إجازة الورثة تنفيذ
أو إمضاء لفعل الميت، وإن ذلك مملوك بالوصية دون العطية لامرين (أحدهما)
أن ما استحقوه من الخيار في عقود الميت لا يكونون بالامضاء عاقدين لها
كالمشتري سلعة إذا وجد وارثه به عيبا فأمضى الشراء ولم ينسخه كان تنفيذا ولم
يكن عقدا فكذلك خياره في إجازة الوصية (والثاني) أن لهم رد ما زاد على الثلث
في حقوق القسمة، فإذا أجازوه سقطت حقوقهم منه، فصار الثلث وما زاد عليه
سواء في لزومه لهم، فإذا استوى الحكم في الجميع مع اللزوم اقتضى أن يكون جميعه
وصية لا عطية فعلى هذا يلزمهم نصف الوصايا بالوصية من غير إجازة لاحتمال
الثلث لها، ونصف بالإجازة بعد الوصية من غير قبض تعيين، ولا رجوع يسوغ
(فرع) قد أسلفنا القول في عطايا المرض وتقديمها على الوصايا إذا ضاق
الثلث عنها، وقلنا عن ترتيب المريض لها ما لم يتخلل الوصايا عتق، وأقوال
الفقهاء الوارد عليه، أما إذا أوصى أن يحج عنه حجة الاسلام المكتوبة من الثلث
أو يقضى دينه من الثلث فقال الشافعي رضي الله عنه: ولو أوصى أن يحج عنه ولم
يحج حجة الاسلام فإن بلغ ثلثه حجته من بلده أحج عنه من بلده، وان لم
يبلغ أحج عنه من حيث بلغ. قال المزني: والذي يشبه قوله أن يحج عنه من
رأس ماله لأنه في قوله دين عليه
وجملة ذلك أن للمستدل في الحج عنه حالتان، حالة يوصى به وحاله لا يوصى
به، فإن لم يوص به فلا يخلو حاله من أحد أمرين اما أن يكون عليه حج واجب
449

أولا حج عليه، فإن لم يكن عليه حج لم يجز أن يتطوع عنه بالحج، وإن كان
عليه حجة الاسلام فمات من غير أن يوصى بها فواجب أن يحج عنه من رأس
ماله بأقل ما يوجد من ميقات بلده، وكذلك يخرج عنه من رأس ماله ما وجب
عليه من زكوات وكفارات، وان لم يوص بها.
وقال أبو حنيفة: لا يصح الحج عنه ولا الزكاة ولا الكفارة الا بوصية منه
وهذا فاسد بما ذكره النووي في الحج بأقوى حجاج، ولان ما تعلق وجوبه بالمال
ازم أداؤه وان لم يوص به كالديون. وإذا لزم أداؤه عنه فمن رأس المال كالديون
وتخرج منه أجرة المثل من الميقات لا من بلده، وإن كانت استطاعته من بلده
شرطا وجوب حجه، لأنه إذا كان حيا لزمه أداؤه بنفسه فصار نفقة معتبرة في
استطاعته، وإذا مات لم يتعين الثلث عنه أن يكون في بلده، وإنما لزم أن يؤتى
بالحج من ميقات بلده فلذلك اعتبر أجرة المثل من ميقات بلده.
(فرع) إذا أوصى أن يحج عنه، فإن كان عليه حج فلا يخلو حاله من ثلاثة
أقسام. أحدها: أن يجعل الحج من رأس ماله، فهذا على ضربين. أحدهما: أن
يذكر قدر ما يحج به عنه، والثاني: أن لا يذكر، فإن لم يذكر أخرج عنه من
رأس ماله قدر أجرة المثل من ميقات بلده، ولا يستفاد بوصية الا التذكير
والتأكيد، وسواء ذكر القدر أم لم يذكر، فإن أجرة المثل أتم إذا كانت من
الميقات وخروجها من رأس المال.
والقسم الثاني: أن يوصى بالحج من ثلثه فهذا على ضربين.
(أحدهما) أن يجعل كل الثلث مصروفا إلى الحجة الواجبة عليه فهذا الحج عنه
بالثلث من بلده أن أمكن، ولا يجوز أن يدفع إلى وارثه ان زاد على أجرة المثل،
ويجوز أن يدفع إليه ان لم يزد، فإن عجز الثلث عن الحج من بلده أحج به عنه من
حيث أمكن من طريقه فان عجز الا من ميقات البلد أحج به عنه من ميقات البلد،
فان عجز عنه وجب اتمام أجرة المثل من ميقات بلده من رأس المال وصار فيها
دور، لان ما يتمم به أجرة المثل من رأس ماله يقتضى نقصان رأس المال.
(والضرب الثاني) أن لا يجعل كل الثلث مصروفا إلى الحج بل يقول: أحجوا
450

عنى من ثلثي، فهذا إما أن يذكر قدرا فلا يزاد عليه إن وجد ويستأجر من يؤديه
من بلده أو من الميقات فإن لم يوجد من يحج بها من ميقاته وجب إتمامها من رأس
المال لا من ثلثه لان القدر الذي حدده من الثلث لا يزاد عليه منه وإنما تؤخذ
الزيادة من رأس المال، وإما أن لا يذكر القدر فيخرج من ثلثه قدر أجرة المثل
ثم فيها وجهان أحدهما وهو قول أبى اسحق المروزي: الظاهر من كلام الشافعي
أجرة المثل من بلد الموصى لان الوصية في الثلث تقتضي الكمال. والوجه الثاني:
أجرة مثل الميقات كما لو جعله من رأس المال وما زاد عليه تطوع لا يخرج إلا
بالنص، فإن عجز الثلث عن جميع الأجرة تمم الجميع مثل أجرة الميقات من رأس
المال. فلو كان في الثلث مع الحج وصايا وعطايا ففي تقديم الحج على الوصايا
وجهان حكاهما أبو إسحاق المروزي.
أحدهما، يقدم الحج على جميع الوصايا في الثلث لأنه مصروف في فرض
ثم يصرف ما فضل بعد الحج في أهل الوصايا، والوجه الثاني أنه يسقط الثلث
على الحج والوصايا بالحصص لان الحج وإن وجب فله محل غير الثلث تساوى في
الثلث أهل الوصايا ثم تمم أجرة المثل من رأس المال، وعلى هذين الوجهين
لو كانت عليه ديون واجبة أوصى بقضائها من ثلثه أحدهما يتقدمون بها على
أهل الوصايا.
والثاني: يحاصونهم ثم يستكملون ديونهم من رأس المال فهذا حكم القسم الثاني
إذا جعله من ثلثه.
القسم الثالث: أن يطلق الوصية فلا يجعله من الثلث ولا من رأس المال
فالذي نص عليه الشافعي في الجديد في مناسك الحج أنه يحج عنه من رأس المال،
وقال في الوصايا: يحج عنه من ثلثه، فاختلف أصحابنا فكان أبو الطيب بن سلمة
وأبو حفص بن الوكيل يخرجان ذلك على قولين أحدهما: يكون من رأس المال
كما لو لم يوص به لوجوبه كالديون، والقول الثاني: أن يكون من الثلث ليستفاد
بالوصية ما لم يكن مستفادا بغيرها. وقال أبو علي بن خيران: ليس هذا على
اختلاف قولين وإنما هو تبعيض الحكم على حالين فالذين جعله في الثلث هو أجرة
451

مثل المسير من بلده إلى الميقات، والذي جعله من رأس المال هو أجرة المثل من
الميقات. وقال أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة: يكون ذلك من
رأس المال قولا واحدا، والذي قاله ههنا أنه يكون في الثلث إذا خرج بأنه في
الثلث توفيرا على ورثته، ألا تراه قال: فإن لم يبلغ تمم من رأس المال.
وإذا وصى بالحج تطوعا عنه بمال ففيه قولان أحدهما: أن الوصية باطلة
والثاني: جائزة وقد بسط النووي توجيهها في كتاب الحج.
(فرع)
قال مالك بن أنس رضي الله عنه: إذا أوصى لرجل بمائة دينار له
حاضرة وترك غيرها ألف دينار دينا غائبة فالورثة بالخيار بين امضاء الوصية
بالمائة كلها عاجلا، سواء حل الدين وسلم الغائب أم لا، وبين أن يسلموا ثلث
المائة الحاضرة وثلث الدين من المال الغائب ويصير الموصى له بالمائة شريكا بالثلث
في كل التركة، وإن كثرت وسمى ذلك خلع الثلث، استدلالا بأن للموصى ثلث
مائة، فإذا غير الوصية بالثلث في بعضه فقد أدخل الضرر عليهم بتعيينه، فصار
لهم الخيار بين التزام الضرر بالتعيين وبين العدول إلى ما كان يستحقه الموصى،
فهذا دليل مالك، وما عليه في هذا القول.
واستدل إسماعيل بن إسحاق بأن تعيين الموصى للمائة الحاضرة من جملة التركة
الغائبة بمنزلة العبد الجاني إذا تعلقت الجناية في رقبته فسيده بالخيار بين افتدائه
بأرش جنايته أو تسليمه، فهذا مذهب مالك ودليلاه.
ومذهب الشافعي رضي الله عنه أن الموصى له ثلث المائة الحاضرة، وثلثاها
الباقي موقوف على قبض الدين أو من الغائب ما يخرج المائة كلها من ثلثه أمضيت
الوصية بجميع المائة، وإن وكل ما يخرج بعضها أمضى قدر ما احتمله الثلث
منها، فإن برئ الدين وتلف الغائب استقرت الوصية في ثلث المائة الحاضرة
وتصرف الورثة في ثلثيها، لأنها صارت جميع التركة.
452

واختلف أصحابنا إذا انتظر بالوصية قبض الدين ووصول الغئب هل يمكن
الموصى له من ثلث المائة؟ على وجهين.
(أحدهما) يمكن من التصرف فيها لأنه ثلث ممضى.
(والوجه الثاني) يمنع من التصرف فيها لأنه لا يجوز أن يتصرف الموصى له
فيما لا يتصرف الورثة في مثليه، وقد منع الورثة من التصرف في ثلثي المائة
الموقوف، فوجب أن يمنع الموصى له من التصرف في الثلث الممضى، والدليل
على فساد ما ذهب إليه مالك أنه يؤول إلى أحد أمرين يمنع الوصية منهما، لأنه
إذا أجبر الورثة بين التزام الوصية في ثلث كل التركة أو إمضاء الوصية في كل المائة
فكل واحد من الامرين خارج عن حكم الوصية لأنهم اختاروا منعه من كل المائة
فقد ألزمهم ثلث كل التركة، وذلك غير موصى به.
وإن اختاروا أن لا يعطوا ثلث التركة فقط ألزمهم إمضاء الوصية بكل المائة
فعلم فساد مذهبه بما يؤول إليه حال كل واحد من الخيارين، فإذا جعلتم تعيين
الوصية بالمائة الحاضرية إدخال ضرر أو جناية فالضرر قد رفعناه يوقف الثلثين
على قبض الدين ووصول الغائب، فصار الضرر بذلك مرتفعا، وإذا زال الضرر
ارتفعت الجناية منه فبطل الخيار فيه.
فإذا تقرر ما وصفنا تفرع على ذلك أن يوصى بمائة دينار حاضرة وباقي تركته
التي تخرج كل المائة من ثلثها دين أو غائب، فيخرج ثلث المائة ويوقف ثلثاها على
قبض الدين ووصول الغائب، فإذا قبض ووصل منهما أو أحدهما ما يخرج كل
المائة من ثلثه خرج جميعها. وهل يمكن الورثة في حال وقف الثلثين على قبض
الدين ووصول الغائب من استخدام فرس إن كان الموصى به فرسا أو سيارة إن
كانت وصيه أو غير ذلك، فتركب ويتصرف في منفعتها أم لا، على وجهين.
(أحدهما) يمكن ذلك لئلا يلزمهم إمضاء الوصية بما لم ينتفعوا بثلثيه، وهذا
على الوجه الذي يقول: إن الموصى له بالمائة إذا وقف ثلثها منع من التصرف في
ثلثيها اعتبارا بالتسوية، فعلى هذا ان برئ الدين وتلف الغائب استقر ملكهم
على ما وقف من ثلثيها وكان لهم التصرف في الثلثين أو بيع ثلثي الفرس أو السيارة
453

وان اقتضى من الدين أو قدم من الغائب ما يخرج جميعه من ثلثه رجع الموصى له
بالفرس أو السيارة عليهم بما أخذوه من كسبهما أو أجرة، وليس للورثة أن
يرجعوا على الموصى له بما اتفقوا على الفرس أو السيارة من نفقات السياسة أو
الصيانة، وقد كان لهم إجازة الوصية فصاروا متطوعين بالنفقة.
(والوجه الثاني) أنهم يمنعون من ذلك كما يمنعون من التصرف بالبيع، لأن الظاهر
نفوذ الوصية بعتقه، وعلى هذا الوجه الذي يجوز للموصى له التصرف في
ثلث المائة، وان منع الورثة من التصرف في ثلثيها، فعلى هذا ان برئ الدين
وتلف الغائب ولم يتصرف الورثة في استغلال الموصى به أدى الموصى له ثلثي
غلة كسب الموصى به أو أجره مثله للورثة لأنه لا يستحق في الوصية الا ثلثها
والباقي للورثة، وقد فوت عليهم منافع ثلثي المال والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان وصى له بثلث عبد فاستحق ثلثاه وثلث ماله يحتمل الثلث
الباقي من العبد نفذت الوصية فيه على المنصوص، وقال أبو ثور وأبو العباس:
لا تنفذ الوصية الا في ثلث الباقي كما لو وصى بثلث ماله ثم استحق من ماله الثلثان
والمذهب الأول، لان ثلث العبد ملكه، وثلث ماله يحتمله، فنفذت الوصية فيه
كما لو أوصى له بعبد يحتمله الثلث، ويخالف هذا إذا أوصى بثلث ماله ثم استحق
ثلثاه، لان الوصية هناك بثلث ماله، وماله هو الباقي بعد الاستحقاق، وليس
كذلك ههنا لأنه يملك الباقي وله مال غيره يخرج الباقي من ثلثه.
(فصل) وان وصى له بمنفعة عبد سنه، ففي اعتبارها من الثلث وجهان.
أحدهما: يقوم العبد كامل المنفعة، ويقوم مسلوب المنفعة في مدة سنه، ويعتبر
ما بينهما من الثلث. والثاني: تقوم المنفعة سنه، فيعتبر قدرها من الثلث.
ولا تقوم الرقبة لان الموصى به هو المنفعة، فلا يقوم غيرها، وان وصى له
بمنفعة عبد على التأبيد ففي اعتبار منفعته من الثلث ثلاثة أوجه.
أحدهما: تقوم المنفعة في حق الموصى له والرقبة مسلوبة المنفعة في حق
454

الوارث، لان الموصى له ملك المنفعة، والوارث ملك الرقبة، وينظر كم قدر
التركة مع قيمة الرقبة مسلوبة المنفعة، وينظر قيمة المنفعة فتعتبر من الثلث.
والثاني: تقوم المنفعة في حق الموصى له لأنه ملكها بالوصية، ولا تقوم
الرقبة في حق الموصى له، لأنه لم يملكها ولا في حق الوارث لأنها مسلوبة المنفعة
في حقه لا فائدة له فيها، فعلى هذا ينظركم قدر التركة وقيمة المنفعة، فتعتبر من
الثلث، والثالث وهو المنصوص: تقوم الرقبة بمنافعها في حق الموصى له، لان
المقصود من الرقبة منفعتها، فصار كما لو كانت الرقبة له فقومت في حقه، وينظر
قدر التركة فتعتبر قيمه الرقبة من ثلثها، وإن وصى بالرقبة لواحد وبالمنفعة لواحد
قومت الرقبة في حق من وصى له بها، والمنفعة في حق من أوصى له بها، لان كل
واحد منهما يملك ما وصى له به فاعتبر قيمتها من الثلث.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو أوصى له بشئ بعينه فاستحق
ثلثه كان له الثلث الباقي إذا احتمله الثلث، وإذا أوصى له بثلث دار هو في الظاهر
مالك لجميعها فاستحق ثلثا الدار وبقى على ملك الموصى تلتها، فالثلث كله للموصى
له إذا احتمله الثلث، وهو قول الجمهور.
وقال أبو ثور: يكون له ثلث الثلث استدلالا بأنه لما أوصى له بثلثها، وهو
في الظاهر مالك لجميعها تناولت الوصية ثلث ملكه منها، فإذا بان ان ملكه منها
الثلث وجب أن تكون الوصية بثلث الثلث، لأنه كان ملكه منها كمن أوصى
بثلث ماله وهو ثلاثة آلاف درهم فاستحق منها الفان كانت الوصية بثلث الألف
الباقية هكذا قال أبو ثور من الفقهاء وأبو العباس بن سريج من أصحابنا، وهو
فاسد من وجهين،
أحدهما: ان ما طرأ من استحقاق الثلثين ليس بأكثر من أن يكون عند
الوصية غير مالك للثلثين، وقد ثبت انه لو أوصى له بثلث دار هو قدر ملكه
منها كان له جميع الثلث إذا احتمله الثلث، كذلك إذا أوصى له بثلثها فاستحق
ما زاد على الثلث منها.
والثاني: هو ان رفع يده بالاستحقاق كزوال ملكه بالبيع، وقد ثبت انه لو
455

باع بعد الوصية بالثلث منها ما بقي من ثلثها صحت الوصية بكل الثلث الباقي بعد
البيع، فكذلك تصح بالثلث الباقي بعد المستحق، وليس بما ذكراه من استدلال
بثلث المال وجه، لان الوصية لم تعتبر الا في ثلث ملكه، وملكه هو الباقي بعد
الاستحقاق، ولو فعل مثل ذلك في الوصية بالدار فقال قد أوصيت لك بثلث
ملكي من هذه الدار فاستحق ثلثا ها كان له ثلث ثلثها الباقي
(مسالة) إذا ابتدأ الوصية بثلث ماله لرجل، أوصى ان يحج عنه رجل
بمائة درهم، ثم أوصى بالباقي من ثلث المال لاخر، فقد اختلف أصحابنا في الموصى
له بالباقي في هذه المسألة إذا قدم الوصية بالثلث على وجهين (أحدهما) وهو قول
أبي إسحاق المروزي: انها باطلة لان تقديم الوصية بالثلث يمنع من أن يبقى شئ
من الثلث، فجعل نصف أجار الورثة الوصية بالثلث وبالمائة امضيا وان لم يجيزوها
ردا إلى الثلث، فجعل نصف الثلث لصاحب الثلث، وكان النصف الآخر بين
الموصى له بالمائة وبين الموصى له بالباقي على ما مضى من الوجهين
(فرع) الوصية بالمنفعة كما أسلفنا القول كالوصية بالعين، فلما كان لموصى
له بالرقبة يجوز له المعاوضة عليها لأنه قد ملكها بالوصية كان الموصى له بالخدمة
أيضا يجوز له المعاوضة عليها لأنه قد ملكها بالوصية، فإذا ثبت هذا فالوصية
بالمنفعة ضربان مقدرة بمقدرة بمدة ومؤبدة. فان قدرت بمدة كان قال: قد أوصيت لزيد
بخدمة عبدي سنه فالوصية جائزة له بخدمة سنه، والمعتبر في الثلث منفعة السنة
دون الرقبة. وفى كيفية اعتبارها وجهان (أحدهما) وهو قول أبى العباس بن
سريج انه يقوم العبد كامل المنفعة في زمانه كله. فإذا قيل مائة دينار قوم وهو
مسلوب المنفعة سنه. فإذا قيل ثمانون دينارا فالوصية بعشرين دينارا. وهي
خارجه من الثلث ان لم يكن على الموصى دين
والوجه الثاني: وهو الذي أراه مذهبنا انه يقوم خدمة مثله سنه فتعتبر من
الثلث، ولا تقوم الرقبة لان المنافع المستهلكة في العقود والعصوب هي المقومة
دون الأعيان، فلو أراد ان يستأجر دكانا فان ذلك يعد معاوضة على المنفعة فلا
تقوم العين على حدة والمنفعة على حدة، وإنما العقد لا يكون الا على المنفعة
فكذلك في الوصايا، فإذا علم القدر الذي تقومت به خدمة السنة اما من العين
456

على الوجه الأول أو من المنافع على الوجه الثاني نظر، فان خرج جميعه من الثلث
صحت الوصية له بخدمة جميع السنة. وان خرج ثلثه من الثلث رجعت الوصية إلى
ثلثها واستخدمه ثلث السنة فإذا تقرر انه على هذه العبرة استحق استخدامه جميع
السنة، فلا يخلو أن يكون في التركة مال غير العبد أم لا. فإن كان في التركة مال
غيره إذا أمكن الموصى من استخدامه سنة أمكن الورثة أن يتصرفوا من التركة في
تلك السنة بما يقابل مثل العبد، فللموصى له ان يستخدم جميع العبد سنة متوالية
حتى يستوفى جميع وصيته، والورثة لا يمنعون من التصرف في رقبة العبد حتى
تمضي السنة فإن باعوا الموصى بمنافعه عبدا كان أو فرسا أو سيارة أو بينا قبل
مضى السنة كان في بيعه قولان كالعبد المؤاجر.
وان لم يكن في التركة مال غير الموصى بمنافعه ولا خلف الموصى سواه ففي
كيفية انتفاع الموصى له سنة ثلاثة أوجه حكاها ابن سريج. أحدها انه ينتفع به
سنة متوالية ويمنع الورثة من استخدامه والتصرف فيه حتى يستكمل الموصى له
سنة وصيته، ثم حينئذ يخلص للورثة بعد انقضائها. والوجه الثاني: انه يستخدم
ثلث الموصى به ثلاث سنين، ويستخدم الورثة ثلثيه حتى يستوفى الموصى له سنة
وصيته في ثلاث سنين لئلا يختص الموصى له بما لم يحصل للورثة مثلاه.
والوجه الثالث: ان يتهايأ عليه الموصى له والورثة، فيستخدمه الموصى له
يوما والورثة يومين حتى يستوفى سنة وصيته في ثلاث سنين. والوجه الأول
أصح لأنهم قد صاروا إلى ملك الرقبة فلم يلزم ان يقابلوا الموصى له بمثلي المنفعة
لان حق الموصى له في استخدام الموصى به جميعه، فلم يجز ان يجعل في ثلثه،
ولان حقه مفضل ومعجل فلم يجز ان يجعل مرجأ أو مفرقا
وإذا كانت الوصية بالمنفعة على التأبيد، كان قال أوصيت لزيد باستخدام
سيارتي أبدا فالوصية جائزة إذا حملها الثلث
واختلف أصحابنا في الذي يعتبر قيمته في الثلث على وجهين (أحدهما) قاله
الشافعي رضي الله عنه في اختلاف العراقيين، وهو اختيار أبى العباس بن سريج
انه تقوم جميع الرقبة في الثلث، وان اختصت الوصية بالمنفعة كما تقوم رقبة
الوقف في الثلث.
457

وان ملك الموقوف عليه المنفعة فعلى هذا هل يصير الموصى له مالكا، وان
منع من بيعها أم لا. على وجهين (أحدهما) لا يملكها لاختصاص الوصية
بمنافعها (والثاني) يملكها كما يملك أم الولد. وإن كان ممنوعا من بيعها لتقويمها
عليه في الثلث، وهذا قول أبى حامد المروروذي. هذا إذا قيل إن الرقبة هي
المقرمة والوجه الثاني: انه يقوم منافع الموصى به في الثلث دون الرقبة، لان
التقويم إنما يختص بما تضمنته الوصية، ولا يجوز ان يتجاوز بالتقويم إلى غيره
ولأنه لو أوصى بالمنفعة لرجل وبالرقبة لرجل لم يقوم في حق صاحب المنفعة
الا المنفعة دون الرقبة. كذلك إذا استبقى الرقبة على ملك الورثة واعتبار ذلك أن
يقوم: كم قيمة الموصى به بمنافعه. فإذا قيل مائة دينار، قيل: وكم قيمته
مسلوب المنافع، فذا قيل عشرون دينارا علم أن قيمة منافعه ثمانون دينارا
فتكون هي القدر المعتبر من الثلث.
فعلى هذا هل يحتسب الباقي من قيمة الرقبة وهو عشرون دينارا على الورثة
في ثلثيهم أم لا. على وجهين (أحدهما) يحتسب به عليهم، لأنه قد دخل ملكهم
وهذا قول أبي إسحاق المروزي (والوجه الثاني) لا يحتسب به عليهم لان ما زالت
عنه المنفعة زال عنه التقويم.
فإذا ثبت ما ذكرناه وخرج القدر الذي اعتبرناه من الثلث صحت الوصية
بجميع المنفعة، وكان للموصى له استخدامه أبدا ما كان حيا وأخذ جميع أكسابه
المألوفة، وهل يملك ما كان غير مألوف منها، على وجهين: أصحهما يملكه. وفى
نفقته ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول أبي سعيد الإصطخري انها على الموصى
له بالمنفعة، لان النفقة تختص بالكسب (والثاني) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة
انها على الورثة لوجوبها بحق الملك (والثالث) وهو ما حكاه أبو حامد الأسفراييني
تجب في بيت المال لان كل واحد من مالكي المنفعة والرقبة لم يكمل فيه استحقاق
وجوبها عليه فعدل بها إلى بيت المال، فان مات الموصى له فهل تنتقل المنفعة إلى
وارثه املا، على وجهين حكاهما أبو علي الطبري في الافصاح
(أحدهما) ان المنفعة تنتقل إلى ورثته لتقويمها على الأبد في حقه، فعلى هذا
تكون المنفعة مقدرة بحياة العين.
458

والوجه الثاني: قد انقطعت الوصية بموت الموصى له لأنه وصى له في عينه
بالخدمة لا لغيره. فعلى هذا تكون المنفعة مقدرة بحياة الموصى له ثم تعود بعد
موته إلى ورثة الموصى
فاما بيع الموصى بمنفعته، فان أراد الموصى له بالمنفعة ببيعه لم يجز سواء
ملك جميع المنفعة أو بعضها، وسواء قيل إنه مالك أو غير مالك. وان أراد
ورثة الموصى بيعه ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) يجوز لثبوت الملك (والثاني) لا يجوز
لعدم المنفعة (والثالث) يجوز بيعه من الموصى له بالمنفعة ولا يجوز من غيره،
لان الموصى له ينتفع به دون غيره. والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان وصى له بثمرة بستانه، فإن كانت موجودة اعتبرت قيمتها
من الثلث، وان لم تخلق - فإن كانت على التأبيد - ففي التقويم وجهان:
(أحدهما) يقوم جميع البستان (والثاني) يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم
مسلوب المنفعة، ويعتبر ما بينهما من الثلث، فان احتمله الثلث نفذت الوصية
فيما بقي من البستاني. وان احتمل بعضها كان للموصى له قدر ما احتمله الثلث
يشاركه فيه الورثة، فإن كان الذي يحتمله النصف كان للموصى له من ثمرة كل
عام النصف وللورثة النصف والله أعلم.
(الشرح) الأحكام: إذا أوصى له بثمرة فذلك ضربان: أن تكون الثمرة
موجودة فالوصية جائزة وتعتبر قيمتها من الثلث عند موت الموصى لا حين الوصية
فان خرجت من الثلث فهي للموصى له، وان خرج بعضها كان له منها قدر
ما احتمله الثلث، وكان الورثة شركاءه فيها بما لم يحتمله الثلث منها والضرب
الثاني ان يوصى بثمرة لم تخلق فهذا على ضربين (أحدهما) أن يوصى بثمرته على
الأبد فالوصية جائزة، وفيما يقوم في الثلث وجهان. أحدهما: جميع البستان.
والثاني يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم مسلوب المنفعة ثم يعتبر ما بين القيمتين من
الثلث، فان احتمله نفذت الوصية بجميع الثمرة أبدا ما بقي البستان، وان احتمل
بعضه كان للموصى له قدر ما احتمله الثلث يشارك فيه الورثة، مثل ان يحتمل
459

النصف فيكون للموصى له النصف من ثمره كل عام وللورثة النصف الباقي، وإذا
احتمل الثلث جميع القيمة وصارت الثمرة كلها للموصى له فاحتاجت إلى سقى فلا
يجب على الورثة السقي بخلاف بائع الثمرة حيث وجب عليه سقيها للمشترى إذا
احتاجت إلى السقي، لان البائع عليه تسليم ما تضمنه العقد كاملا والسقي من كماله
وليس كذلك الوصية لان الثمرة تحدث على ملك الموصى له ولا يجب على الموصى
له سقيها، لأنها بخلاف البهيمة الموصى بخدمتها في الحرث والسقي، لان نفقة
البهيمة مستحقة لحرمة نفسها ووجوب حفظها بخلاف الثمرة، وكذلك لو احتاجت
النخل إلى سقي لم يلزم واحدا منهما، وأيهما تطوع به لم يرجع به على صاحبه،
فان مات النخل استقطع جذاعه للورثة دون الموصى له، وليس للموصى له أن
يغرس مكانه ولا ان غرس الورثة مكانه نخيلا كان له فيه حق، لان حقه كان في
النخل الموصى له به دن غيره
والضرب الثاني: ان يوصى بثمره مدة مقدرة، كان أوصى له بثمره عشر
سنين، فمن أصحابنا من ذهب إلى بطلان الوصية مع التقدير بالمدة بخلاف المنفعة
لان تقويم المنفعة المقدرة ممكن، وتقويم الثمار المقدرة المدة غير ممكن. وذهب
سائر أصحابنا إلى جوازها كالمنفعة، وفيما تقدم في الثلث وجهان
أحدهما: انه يقوم البستان كامل المنفعة، ويقوم مسلوب المنفعة، ثم يعتبر
ما بين القيمتين في الثلث.
والوجه الثاني: ان ينظر أوسط ما تثمره النخل غالبا في كل عام ثم تعتبر
قيمة الغالب من قيمة الثمرة في أول عام، ولا اعتبار بما حدث بعده من زيادة
ونقص. فان خرج جميعه من الثلث فقد استحق جميع الثمرة في تلك المدة، وان
خرج نصفه فله النصف من ثمرة كل عام إلى انقضاء تلك المدة، وليس له ان
يستكمل هذه كل عام في نصف تلك المدة، لأنه قد تختلف ثمرة كل عام في المقادير
والأثمان. فخالف منافع العبد والبهيمة والدار.
ومثل الوصية بثمرة البستان أن تكون الماشية فيوصى له بدرها ونسلها،
وتجب نفقة الماشية كما أسلفنا والله تعالى أعلم
460

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب جامع الوصايا
إذا وصى لجيرانه صرف إلى أربعين دارا من كل جانب، لما روى أبو هريرة
رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (حق الجوار أربعون دارا هكذا
وهكذا وهكذا وهكذا، يمينا وشمالا وقداما وخلفا).
(فصل) وان وصى لقراء القرآن صرف إلى من يقرأ جميع القرآن، وهل
يدخل فيه من لا يحفظ جميعه، في وجهان.
(أحدهما) يدخل فيه لعموم اللفظ.
(والثاني) لا يدخل فيه، لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف الا على من
يحفظه، وان وصى للعلماء صرف إلى علماء الشرع، لأنه لا يطلق هذا الاسم في
العرف الا عليهم، ولا يدخل فيه من يسمع الحديث ولا يعرف طرقه، لان سماع
الحديث من غير علم بطرقه ليس بعلم.
(الشرح) حديث أبي هريرة مرفوعا (حق الجار أربعون دارا هكذا وهكذا
وهكذا وهكذا يمينا وشمالا وقدام وخلف) هكذا ورد بغير تنوين قدام وخلف
وقد سافها المصنف منونا لهما والحديث أخرجه أبو يعلى عن شيخه محمد بن جامع
العطار، وهو ضعيف هكذا أفاده الهيثمي في مجمع الزوائد على أن القول بهذا
الحديد لم ينهض الحديث حجة له يجوز على قول من يقول بتقديم الحديث
الضعيف على الاجتهاد، وبه قال احمد وغيره من الفقهاء، على أن المعروف من
مذهب الشافعي وبناء على أصله (إذا صح الحديث فهو مذهبي) انه لا عبرة
بحديث لم يصح سنده في الأصول ولا في الفروع، والعبرة في هذا بالعرف فهو
يقوم مقام النص عند عدمه، الا ان الماوردي قال في حاويه في الغارمين. قال
الشافعي: ويعطى من له الدين عليهم أحب للبر، ولو أعطوه في دينهم رجوت
ان يتبع، فان ضمنه في اثنين ضمن حصة الثالث، وفيه وجهان.
461

(أحدهما) يضمن ثلث الثلث.
(والثاني) انه يضمن أقل ما يجزئ ان يعطيه ثالثا ويخص به غارما في بلد المال،
ومن كان منهم ذا رحم أولى لما في صلتها من زيادة الثواب، فإن لم يكونوا فجيران
المال لقوله تعالى (والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب) ولقوله
صلى الله عليه وسلم (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه) قال
الشافعي: وأقصى الجوار منهم أربعون دارا من كل ناحية، وهكذا لو أوصى
لجيران كان جيرانه منتهى أربعين دارا من كل ناحية، وقال قتادة. الجار الدار
والداران، وقال سعيد بن جبير: هم الذين يسمعون الإقامة، وقال أبو يوسف
هم أهل المسجد. ودليلنا ما روى أن رجال كان نازلا بين قوم فاتى للنبي صلى الله
عليه وسلم يشكوهم، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا رضي الله عنه
م وقال: اخرجوا إلى باب المسجد وقولوا: الا أن الجوار أربعون دارا.
قلت: فإذا صح ما استدل به الماوردي من بعث الصحابة الثلاثة ليبلغوا عنه
صلى الله عليه وسلم هذا كان دليلا مسندا للمذهب والا كان تحديد الأربعون
اجتهادا وعرفا يصار إليهما على أنه قد استغل بعض السفهاء من واضعي الحديث
حث القرآن والسنة على حسن الجوار فجعلوه مرتعا لأحاديث غير شريفة، من
ذلك ما روى عن جابر رضي الله عنه مرفوعا (الجيران ثلاثة: جار له حق واحد
وهو أدنى الجيران وجار له حقان وجار له ثلاثة حقوق، فاما الذي له حق واحد
فجار مشرك لا رحم له، له حق الجوار، واما الذي له الحقان فجار مسلم له حق
الاسلام وحق الجوار، واما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق
الاسلام وحق الجوار وحق الرحم، وهذا الحديث رواه البزار عن شيخه محمد
الحارثي وهو وضاع، وفيما روى من الأحاديث الصحيحة غنى، الا ان الحديث
الذي ساقه الماوردي قد رواه الطبراني عن كعب بن مالك ولفظه، اتى النبي صلى
الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله انى نزلت في محلة بنى فلان، وان أشدهم
لي اذى أقربهم لي جوارا فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليا
462

يأتون باب المسجد فيقولون على بابه فيصيحون: الا ان أربعين دارا جار، ولا
يدخل الجنة من خاف جاره بوائقه. وفى إسناده يوسف بن السفر، أبو الفيض
الدمشقي كاتب الأوزاعي وراويه كما روى عن مالك. قال النسائي: ليس بثقة.
وقال الدارقطني متروك يكذب. وقال ابن عدي: روى بواطيل، وقال البيهقي:
هو في عداد من يضع الحديث، وقال أبو زرعة وغيره متروك
فإذا وصى لقراءة القرآن وكان المضاف إليه معروفا بال وهو يقتضى إما العهد
أو الاستغراق، فان قلنا بالأول، فعلى الوجه الذي يجعل الوصية لمن يحفظ
القرآن كله ويخرج بذلك من لا يحفظه جميعا، وان قلنا بالثاني فكل ما قرئ من
القرآن فهو قرآن دخل من لا يحفظه كله لاشتماله لفظه عليه، فإذا وصى وقال
لقراء القرآن، شمل من يحفظه كله ومن يحفظ آية واحدة قولا واحدا.
فان وصى للعلماء صرف إلى علماء وفقهاء الأحكام، ودارسي الفروع،
لأنه لا يطلق عرفا عند من يوصون للقربة الا عليهم ولا يدخل فيهم صغار
المتعلمين الحديث لأنهم يسمعون الحديث، ولا يشتغلون باختلاف أسانيده،
وأسماء رواته، ومعرفة الثقة العدل الضابط منهم والمجروح بدلس أو سوء حفظ
أو تصديق لكل ما يسمع، أو شذوذ أو نكارة أو وضع أو صاحب مقالة في
الاسلام أو غلو في مذهب يخرج به عن حد العدالة إلى غير ذلك مما ينبغي العلم به
وارتشاف مورده، وبذل الوسع في خدمته، لان الحديث أشرف علوم الدين
وأعظمها مرتقى، وأرجاها عاقبة، والله تعالى اعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) فإن وصى للأيتام لم يدخل فيه من له أب، لان اليتم في بني آدم
فقد الأب، ولا يدخل فيه بالغ، لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يتم بعد الحلم)
وهل يدخل فيه الغنى، فيه وجهان.
(أحدهما) يدخل فيه، لأنه تيتم بفقد الأب.
(الثاني) لا يدخل فيه، لأنه لا يطلق هذا الاسم في العرف على غنى،
فإن وصى للأرامل دخل فيه من لا زوج لها من النساء، وهل يدخل فيه من
463

لا زوجة له من الرجال، فيه وجهان (أحدهما) لا يدخل فيه، لأنه لا يطلق
هذا الاسم في العرف على الرجال (والثاني) يدخل فيه لأنه قد يسمى الرجل أرملا
كما قال الشاعر:
كل الأرامل قد قضيت حاجتهم * فمن لحاجة هذا الارمل الذكر
وهل يدخل فيه من لها مال، على وجهين كما قلنا في الأيتام.
(فصل) وان وصى للشيوخ أعطى من جاوز الأربعين، وان وصى للفتيان
والشباب أعطى من جاوز البلوغ إلى الثلاثين، وان وصى للغلمان والصبيان
أعطى من لم يبلغ. لأن هذه الأسماء لا تطلق في العرف الا على ما ذكرناه.
(الشرح) حديث (لا يتم بعد الحلم) رواه أبو داود عن علي كرم الله وجهه
قال (حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يتم بعد احتلام ولا صمات
يوم إلى الليل) وفى إسناده يحيى بن محمد المدني الجاري، نسبة إلى الجار بلدة على الساحل
بالقرب من المدينة المنورة، قال البخاري: يتكلمون فيه، وقال ابن حبان:
يجب التنكب عما انفرد به من الروايات. وقال العقيلي: لا يتابع يحيى المذكور
على هذا الحديث، وفى الخلاصة ان العجلي وابن عدي وثقاه.
قال المنذري: وقد روى هذا الحديث من رواية جابر بن عبد الله وأنس بن
مالك وليس فيها شئ يثبت، وقد أعل هذا الحديث أيضا عبد الحق وابن القطان
وغيرهما، وحسنه النووي فيما سلف من أجزاء المجموع متمسكا بسكوت أبى داود
عليه، ورواه الطبراني بسند آخر عن علي، ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده
واخرج نحوه أيضا ابن عدي عن جابر، وهذه الروايات يقوى بعضها بعضا
فترقى بالحديث إلى درجة الحسن.
وقد استدل بالحديث على أن الاحتلام من علامات البلوغ، وتعقب بأنه
بيان لغاية مدة اليتم، وارتفاع اليتم لا يستلزم البلوغ الذي هو مناط التكليف،
إنما يكون عند إدراكه لمصالح آخرته، ويؤيد مفهومه عند القائلين بان الاحتلام
من علامات البلوغ رواية احمد وأبى داود والحاكم من حديث علي رضي الله عنه
وفيه (وعن الصبي حتى يحتلم) وقد أسلفنا القول في أبواب الحجر في تعريف اليتيم
464

ما ينفع في هذا فليراجع. على أنه إذا أوصى للأيتام ووجد من الأيتام الفقراء
من يفيدون من وصيته بما لا يبقى منه فضل كانوا أولى من اليتيم الغنى
وإن شمله التعريف.
فإن وصى للأرامل فهو للنساء اللاتي فارقهن أزواجهن يموت أو غيره،
وهو من أرمل المكان إذا صار ذا رمل، وأرمل الرجل إذا صار بغير زاد لنفاذه
وافتقاره. وأرملت المرأة فهي أرملة، وهي التي لا زوج لها لافتقارها إلى من
ينفق عليها. قال الأزهري: لا يقال لها أرملة الا إذا كانت فقيرة، فإذا كانت
موسرة فليست بأرملة، والجمع أرامل حتى قبل: رجل ارمل إذا لم يكن له زوج
وهو قليل، لا يذهب زاده بفقد امرأته لأنها أم تكن قيمة عليه. قال ابن السكيت
والأرامل المساكين رجالا كانوا أو نساء
وقال أحمد بن حنبل في رواية حرب، وقد سئل عن رجل أوصى لأرامل
بنى فلان فقال: قد اختلف الناس فيها، فقال قوم هو للرجال والنساء، والذي
يعرف في كلام الناس ان الأرامل النساء. وقال الشعبي وإسحاق: هو للرجال
والنساء. وأنشد أحدهما:
هذى الأرامل قد قضيت حاجتها * فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
وقال الآخر:
أحب أن أصطاد ظبيا سخيلا * رعى الربيع والشتاء أرملا
فعلى الوجه بأنه لا يدخل في الوصية أرامل الرجال ان المعروف في كلام
الناس انه النساء فلا يحمل لفظ الموصى الا عليه، ولان الأرامل جمع أرملة
فلا يكون جمعا للذكر، لان ما يختلف لفظ الذكر والأنثى في واحده يختلف
في جمعه، وقد أنكر ابن الأنباري على قائل القول الآخر وخطأه، والشعر الذي
احتج به حجة عليه بالرواية التي سقناها، اما على الرواية التي ساقها المصنف:
كل الأرامل قد قضيت حاجتهم فإنه يدل على شمول الأرامل للذكر والأنثى إذ
لا خلاف بين أهل اللسان في أن اللفظ متى كان للذكر والأنثى ثم رد عليه ضمير
غلب فيه لفظ التذكير وضميره، وهذا يؤيد الوجه القائل بشمول الوصية
465

لأرامل الرجال. فيكون أرامل جمع أرمل كأكابر وأعاظم وأصاغر وأسافل جمع
أكبر وأعظم وأصغر وأسفل
على أن هناك ألفاظا مشتركة بين الرجال والنساء غلب استعمالها للنساء لكثرة
شيوعها فيهن وقلتها بين الرجال، فالأيامى من قوله تعالى (وانكحوا الأيامى
منكم) وفى الحديث: أعوذ بالله من بوار الأيم. قالوا يطلق ذلك على الرجال
والنساء الذين لا أزواج لهم لما روى عن سعيد بن المسيب قال: آمت حفصة
بنت عمر من زوجها. وآم عثمان من رقية. والعزاب للرجال والنساء، والثيب
للرجال والنساء والبكر للرجال والنساء.
فإذا أوصى للأرامل فهل يدخل فيه من لها مال. على الخلاف الذي مضى في اليتيم
أما إذا وصى الشيوخ أعطى من جاوز الأربعين لان ما دون الأربعين كهولة وما دون
الكهولة فتوة أو شباب وما دون ذلك يفاعة، وما دونه صبي وما دونه طفل، فهو
إلى السابعة طفل. ثم إلى العاشرة صبي. ثم إلى الخامسة عشرة يافع ثم إلى الثلاثين
شاب أو فتى، ثم إلى الأربعين كهل، ثم بعد الأربعين شيخ، ثم بعد الستين هرم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان وصى لفقراء جاز ان يدفع إلى الفقراء والمساكين، وان
وصى للمساكين جاز ان يدفع إلى المساكين والفقراء، لان كل واحد من
الاسمين يطلق على الفريقين، وان وصى للفقراء والمساكين جمع بين الفريقين في
العطية، لان الجمع بينهما يقتضى الجمع في العطية كما قلنا في آية الصدقات، وان
وصى لسبيل الله تعالى دفع إلى الغزاة من أهل الصدقات، لأنه قد ثبت لهم هذا
الاسم في عرف الشرع.
فان وصى للرقاب دفع إلى المكاتبين، لان الرقاب في عرف الشرع اسم
للمكاتبين. وان وصى لاحد هذه الأصناف دفع إلى ثلاثة منهم، لأنه قد ثبت
لهذه الألفاظ عرف الشرع في ثلاثة، وهو في الزكاة، فحملت الوصية عليها،
فان وصى لزيد والفقراء فقد قال الشافعي رحمه الله: هو كأحدهم. فمن أصحابنا من
قال: هو بظاهره أنه يكون كأحدهم يدفع إليه ما يدفع إلى أحدهم، لأنه أضاف
466

إليه واليهم فوجب أن يكون كأحدهم. ومنهم من قال: يصرف إلى زيد نصف
الثلث ويصرف النصف إلى الفقراء، لأنه أضاف إليه واليهم، فوجب ان
يساويهم. ومنهم من قال: يصرف إليه الربع ويصرف ثلاثة أرباعه إلى الفقراء
لان أقل الفقراء ثلاثة، فكأنه وصى لأربعة، فكان حق كل واحد منهم الربع
وان وصى لزيد بدينار وبثلثه للفقراء - وزيد فقير - لم يعط غير الدينار، لأنه
قطع الاجتهاد في الدفع بتقدير حقه في الدينار
(فصل) وان وصى لقبيلة عظيمة كالعلويين والهاشميين وطي وتميم ففيه
قولان (أحدهما) ان الوصية تصرح وتصرف إلى ثلاثة منهم، كما قلنا في الوصية
للفقراء (والثاني) ان الوصية باطله، لأنه لا يمكن ان يعطى الجميع ولا عرف
لهذا اللفظ في بعضهم فبطل بخلاف الفقراء، فإنه قد ثبت لهذا اللفظ عرف
وهو في ثلاثة في الزكاة.
(الشرح) قال الإمام الشافعي: وإذا أوصى الرجل فقال: ثلث مالي في
المساكين فكل من لا مال له ولا كسب يغنيه داخل في هذا المعنى وهو للأحرار
دون المماليك ممن لم يتم عتقه. قال وينظر أين كان ماله فيخرج ثلثه في مساكين
أهل ذلك البلد الذي به ماله دون غيرهم، كثر حتى يغنيهم نقل إلى أقرب
البلدان له، ثم كان هكذا حيث كان له مال صنع به هذا. وهكذا لو قال: تلت
مالي في الفقراء كان مثل المساكين يدخل فيه الفقير والمسكين، لان المسكين
فقير، وللفقير مسكين إذا افر الموصى القول هكذا.
ولو قال ثلث مالي في الفقراء والمساكين، علمنا أنه أراد التمييز بين الفقراء
والمسكنة، فالفقير الذي لا مال له ولا كسب يقع منه موقعا والمسكين من له
مال أو كسب يقع منه موقعا ولا يغنيه، فيجعل الثلث بينهم نصفين، ونعني به
مساكين أهل البلد الذي بين أظهرهم ماله، وفقراءهم وان قل. ومن أعطى في
فقراء أو مساكين فإنما أعطى لمعنى فقر، فينظر في المساكين فإن كان فيهم من
يخرجه من المسكنة مائة واخر يخرجه من المسكنة خمسون، أعطى الذي يخرجه
من المسكنة مائه سهمين، والذي يخرجه خمسون سهما وهكذا يصنع في الفقراء
467

على هذا الحساب، ولا يدخل فيهم، ولا يفضل ذو قرابة على غيره إلا بما
وصفت في غيره من قدر مسكنته أو فقره، لان العطية له صدقة وصلة، وما جمع
ثوابين كان أفضل من التفرد بأحدهما، فان صرف الثلث في أقل من ثلاثة من
الفقراء والمساكين ضمن، فان صرفه في اثنين كان في قدر ما يضمنه وجهان
(أحدهما) وهو الذي نص عليه الشافعي في الام انه يضمن ثلث الثلث،
لان أهل الاجزاء ثلاثة. والظاهر تساويهم فيه
والوجه الثاني: انه يضمن من الثلث قدر ما لو دفعه إلى ثلاثة أجزأ، ولا
ينحصر بالثلث لان له التسوية بينهم والتفضيل، ولو كان اقتصر على واحد فأحد الوجهين
ان يضمن ثلثي الثلث. والوجه الثاني انه يضمن ما يجزئه من دفعه إليهما
فلو أوصى بثلث ماله للفقراء أو المساكين صرف الثلث في الصنفين بالسوية ودفع
السدس إلى الفقراء وأقلهم ثلاثة، ودفع السدس الاخر إلى المساكين
وأقلهم ثلاثة.
فان صرفه في أحد الصنفين ضمن السدس للصنف الاخر وجها واحدا،
ثم عليه صرف الثلث في فقراء البلد الذي فيه المال دون المالك كالزكاة، فان
تفرق ماله اخرج في كل بلد ثلث ما فيه، فإن لم يوجدوا فيه نقل إلى أقرب البلاد به
كما سلف القول في زكاة المال من المجموع
فأما زكاة الفطر ففيها وجهان:
(أحدهما) تخرج في بلد المال دون المالك كزكاة المال
(والثاني) تخرج في بلد المالك دون المال لأنها عن فطرد بدنه وطهرة لصومه
فان نقل الزكاة من بلد المال إلى غيره كان في الاجزاء قولان
فاما نقل الوصية فقد اختلف أصحابنا في اخراجه على قولين كالزكاة، ومنهم
من قال يجزئ قولا واحدا وان أساء، لان الوصية عطية من آدمي قد كان له
ان يضعها حيث شاء.
468

فان وصى في سبيل الله صرف في الغزاة لما قلناه في الزكاة ويصرف ذلك في
ثلاثة فصاعدا من غزاة البلد ومحاربيه أغنى بلد المال على حسب منازلهم في القرب
والبعد ومن كان فيهم فدائيا أو نظاميا، طيارا أو آليا أو من المشاة أو الفرسان
فإن لم يوجدوا في البلد نقل إلى أقرب البلاد به.
(فرع) إذا أوصى بثلثه في الرقاب صرف في المكاتبين، وبه قال أبو حنيفة
وقال مالك: يشترى به رقاب يعتقون، وأصل هذا اختلافهم في سهم الرقاب في
الزكاة، هل ينصرف في العتق أو في المكاتبين، والدليل على ذلك قوله تعالى
(إنما الصدقات للفقراء) فأثبت ذلك لهم بلام الملك والعبد لا يملك فيصرف إليه
والمكاتب يملك فوجب صرفه إليه، ولأنه مصروف في ذوي الحاجات، ولان
مال الزكاة مصروف لغير نفع يعود إلى ربه، فلو صرف في العتق لعاد إليه الولاء
فإذا تقرر ان سهم الرقاب في الزكاة مصروف في المكاتبين، وجب أن يكون سهم
الرقاب في الوصايا مصوفا في المكاتبين، لان مطلق الأسماء المشتركة محمولة على
عرف الشرع.
(فرع) إذا أوصى بشئ لزيد وللمساكين فقال الشافعي رضي الله عنه:
يكون كأحدهم ان عمهم أعطاه كواحد منهم، ومن أصحابنا من قال: يصرف إليه
ربع الوصية وثلاثة أرباعها للفقراء، ومنهم من قال: يصرف لزيد نصف
الوصية والباقي للفقراء، لأنه جعل الوصية لجهتين فوجبت القسمة بينهما وبهذا
قال أحمد وأصحابه وأبو حنيفة ومحمد.
وعن محمد قول اخر: لزيد ثلثه وللمساكين ثلثاه، لان أقل الجمع اثنان، فإن كان
أوصى لزيد بدينار وبثلثيه للفقراء، وزيد فقير لم يدفع إليه من سهم الفقراء
شئ، وليس له غير الدينار، وبه قال الحسن البصري وإسحاق بن راهويه، لان
عطفهم عليه يدل على المغايرة بينهما، إذ الظاهر المغايرة بين المعطوف
والمعطوف عليه، ولان تجويز ذلك يفضى إلى تجويز دفع الجميع إليه، ولفظه
يقتضى خلاف ذلك.
(فرع) وقوله: فإن وصى لقبيلة عظيمة كالعلويين هم أبناء علي كرم الله وجهه
469

وهم يطلقون هذا على من كان من ولد محمد بن الحنفية، ولذلك أطلق بعض من
يريد كمال الشرف منهم لقب الفاطميين على أنفسهم حتى ينفوا انهم من أبناء ابن الحنفية
فكل فاطمي علوي وليس العكس.
أما الهاشميون فهم بنو هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو وسمى هاشما لهشمه
الثريد أيام المجاعة.
عمرو الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف
وولده عبد المطلب بن هاشم وكان لعبد المطلب اثنا عشر ولدا، عبد الله أبو
النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو طالب، والزبير، وعبد الكعبة، والعباس
وشرار، وحمزة، وحجل، وأبو لهب، وقثم، والغيداق المقب بالمقوم،
والحارث أعمام النبي صلى الله عليه وسلم.
والعقب منهم لستة حمزه والعباس وأبو لهب والحارث وأبو طالب وعبد الله
وقد ذكر ابن حزم وغيره أن حمزة انقرض عقبه.
أما طئ بفتح الطاء وتشديد الياء بهمزة في الآخر أخذا من الطاءة على وزن
الطاعة، وهي الايغال في المرعى وهم بنو طئ بن زيد بن يشجب بن عريب بن
زيد بن كهلان، وإليهم ينسب حاتم الطائي المشهور بالكرم، وأبو تمام الطائي
الشاعر المشهور وهم من العرب العاربة من حمير، كانت منازلهم باليمن ثم افترقوا
بعد سيل العرم فنزلوا بنجد والحجاز، ثم غلبوا بنى أسد على جبلي أجأ وسلمى
من بلاد نجد فنزلوهما فعرفا بجبلي طئ ثم افترقوا في أول الاسلام زمن الفتوحات
في الأقطار، ومنهم بنو ثعل وزيد الخبل، وبنو تميم من العرب المستعربة وكانت
منازلهم بأرض نجد ومن بطونهم طانجه ومن بطونها مزينه وهم بنو عثمان وأوس
ابني عمر بن أد بن طانجه ومزينه أمهما عرفوا بها وهي بنت وبرة، ومنهم كعب
ابن زهير المزني صاحب قصيدة بانت سعاد التي ألقاها أمام النبي صلى الله عليه وسلم
ومنهم الامام إسماعيل بن إبراهيم المزني صاحب الإمام الشافعي رضي الله عنه.
أما الأحكام: فإنه إن وصى لبنى فلان وهم قبيلة ويدخل فيهم الذكر والأنثى
والخنثى ففي جواز الوصية قولان.
470

(أحدهما) تصح وتصرف إلى ثلاثة منهم فما فوق كما قلنا في الفقراء وبصحتها
قال أحمد بن حنبل وقال: لا يدخل ولد البنات فيهم لأنهم لا ينتسبون إلى القبيلة
(والقول الثاني) لا تصح الوصية لعدم إمكان إعطاء الجميع ولا يطلق اللفظ في
العرف على فخذ منهم بحيث لو أوصى لبنى طئ فلا يخص بنى مزينة، ولو أوصى
لبني هاشم فلا يخص بنى أبى طالب، فكان باطلا ويخالف الفقراء فإنه ينطبق عرفا
على ثلاثة منهم، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن أوصى أن يضع ثلثه حيث يرى لم يجز أن يضعه في نفسه لأنه
تمليك ملكه بالاذن فلم يملك من نفسه كما لو وكله في البيع، والمستحب أن يصرفه
إلى من لا يرث الموصى من أقاربه، فإن لم يكن له أقارب صرف إلى أقاربه من
الرضاع، فإن لم يكونوا صرف إلى جيرانه لأنه قائم مقام الموصى، والمستحب
للموصى أن يضع فيما ذكرناه فكذلك الوصي.
(فصل) وإن وصى بالثلث لزيد ولجبريل، كان لزيد نصف الثلث وتبطل
في الباقي، فان وصى لزيد وللرياح ففيه وجهان.
أحدهما: أن الجميع لزيد، لان ذكر الرباح لغو.
والثاني: أن لزيد النصف وتبطل الوصية في الباقي كالمسألة قبلها، فان قال:
ثلثي لله ولزيد ففيه وجهان (أحدهما) أن الجميع لزيد، وذكر الله تعالى للتبرك
كقوله تعالى: فأن لله خمسه وللرسول (والثاني) أنه يدفع إلى زيد نصفه والباقي
للفقراء لان عامة ما يجب لله تعالى يصرف إلى الفقراء.
(فصل) وإن وصى لحمل امرأة فولدت ذكرا وأنثى صرف إليهما وسوى
بينهما، لان ذلك عطية فاستوى فيه الذكر والأنثى، وإن وصى إن ولدت ذكرا
فله ألف، إن ولدت أنثى فلها مائة فولدت ذكرا وأنثى استحق الذكر الألف
والأنثى المائة، فان ولدت خنثى دفع إليه المائة لأنه يقين ويترك الباقي إلى أن يتبين
فان ولدت ذكرين أو أنثيين ففيه ثلاثة أوجه.
أحدها: أن الوارث يدفع الألف إلى من يشاء من الذكرين والمائة إلى من
471

يشاء من الأنثيين لان الوصية لأحدهما فلا تدفع إليهما، والاجتهاد في ذلك إلى
الوارث كما لو أوصى لرجل بأحد عبديه.
والثاني: أنه يشترط الذكران في الألف والأنثيان في المائة، لأنه ليس
أحدهما بأولى من الآخر فسوى بينهما، ويخالف العبد فإنه جعله إلى الوارث،
وههنا لم يجعله إلى الوارث.
الثالث: أنه يوقف الألف بين الذكرين والمائة بين الأنثيين إلى أن يبلغا
ويصطلحا، لان الوصية لأحدهما فلا يجوز أن تجعل لهما ولا خيار للوارث،
فوجب التوقف، فان قال: ما في بطنك ذكرا فله ألف، وإن كان أنثى فله
مائة، فولدت ذكرا وأنثى لم يستحق واحد منهما شيئا لأنه شرط أن يكون جميع
ما في البطن ذكرا أو جميعه أنثى، ولم يوجد واحد منهما.
(الشرح) الأحكام: إذا أوصى بثلث ماله إلى رجل يضعه حيث يشاء هو
أن يضعه أو حيث أراه الله لم يكن له أن يأخذ منه لنفسه شيئا، وإن كان محتاجا
لأنه أمره بصرفه لا بأخذه ولم يكن له أن يصرفه إلى وارث الموصى، وإن كان
محتاجا لان الوارث ممنوع من الوصية وليس له أن يودعه عند نفسه ولا أن يودعه
غيره، قال الشافعي رضي الله عنه: واختار له أن يعطيه أهل الحاجة من قرابة
الميت حتى يغنيهم دون غيرهم، وليس الرضاع قرابة، فإن لم يكن له قرابة من قبل
الأب والام وكان له رضعاء أحببت أن يعطيهم، فإن لم يكن له رضيع أحببت أن
يعطى جيرانه الأقرب منهم فالأقرب، وأقصى الجوار منتهى أربعين دارا من
كل ناحية وأحب أن يعطيه أفقر من يجده وأشدهم تعففا واستئثارا، ولا يبقى في
يده شيئا يمكن به أن يخرجه من ساعته.
(فرع) ان وصى بالثلث لله ولزيد فقد كان لأصحابنا فيه وجهان. أحدهما:
أن الثلث لزيد واسم الله تعالى في الوصية ورد التبرك. والثاني أن يصرف
لزيد نصفه ويصرف النصف الباقي للفقراء، فعلى هذا الوجه إذا صرف إلى زيد
الثلث كله صمن نصفه.
472

ولو قال: اصرفوا ثلثي الخير أو في سبيل البر أو في سبيل الثواب
قال الشافعي رضي الله عنه: جزئ أجزاء فأعطى ذو قرابته فقراء كانوا أو
أغنياء، الفقراء والمساكين، وفى الرقاب والغارمين وابن السبيل والحاج،
ويدخل الضيف والسائل والمعتر منهم، فإن لم يفعل الموصى ضمن سهم من منعه
إذا كان موجودا.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: تجوز الوصية لما في البطن وبما في البطن
إذا كان يخرج لأقل من ستة أشهر فان خرجوا عددا ذكورا وإناثا فالوصية
بينهم سواء وهم لمن أوصى بهم له، وهذه المسألة مشتملة على فصلين.
أحدهما: الوصية للمحمل.
والثاني: الوصية بالحمل، فأما الوصية بالحمل فجائزة، لأنه لما ملك بالإرث
وهو أضيق ملك بالوصية التي هي أوسع، فلو أقر للحمل إقرارا مطلقا
بطل في أحد القولين، والفرق بينهما أن الوصية أحمل للجهالة له من الاقرار،
ألا ترى لو أوصى لمن في هذه الدار صح، ولو أقر له يصح، فإذا قال: قد
أوصيت لحمل هذه المرأة بألف نظر حالها إذا ولدت، فان وضعته لأقل من ستة
أشهر من حين تكلم بالوصية لا من حين الموت صحت له الوصية لعلمنا أن الحمل
كان موجودا وقت الوصية، وان وضعته لأكثر من أربع سنين من حين الوصية
فالوصية باطلة لحدوثه بعدها وأنه لم يكن موجودا وقت التكلم بها، وان وضعته
لأكثر من ستة أشهر وقت الوصية ولأقل من أربع سنين، فإن كانت ذات زوج
يمكن أن يطأ فيحدث ذلك منه فالوصية باطله لامكان حدوثه فلم يستحق بالشك
وان غير ذات زوج يطأ فالوصية جائزة لأن الظاهر تقدمه، والحمل يجرى
عليه حكم الظاهر في اللحوق فكذلك في الوصية فإذا صحت الوصية له فان وضعت ذكرا أو
أنثى فالوصية له وان وضعت ذكر أو أنثى كانت الوصية بينهما نصفين لأنها هبه لا ميراث الا
إذا فضل الموصى الذكر على الأنثى أو العكس فيحمل على تفضيله، فلو قال إذا ولدت
غلاما فله ألف، وان ولدت جاريه فلها مائة فولدت غلاما استحق ألفا أو جاريه
استحقت مائه، وان ولدت غلاما وجاريه استحق الغلام ألفا والجارية مائه،
473

وإن ولدت خنثى دفع إليه مائة لأنها يقين ووقف تمام الألف حتى يتبين، وهكذا
لو قال: إن كان في بطنك غلام فله ألف، وإن كان في بطنك جارية فلها مائة،
فإن ولدت غلامين أو جاريتين صحت الوصية. وفيها ثلاثة أوجه حكاها ابن سريج
(أحدها) أن للورثة أن يدفع الألف إلى أي الغلامين شاءوا والمائة إلى أي
الجاريتين شاءوا لأنها فلم تدفع إليهما، ورجع فيها إلى بيان الوارث
كالوصية بأحد عبديه
(والوجه الثاني) أنه يشترك الغلامان في الألف والجاريتان في المائة، لأنها
وصية لغلام وجاريه، وليس أحد الغلامين أولى من الاخر، فشرك بينهما ولم
يرجع فيه إلى خيار الوارث بخلاف الوصية بأحد العبدين اللذين يملكهما الوارث
فجاز أن يرجع إلى خياره فيهما.
(والوجه الثالث) أن الألف موقوفة بين الغلامين، والمائة موقوفة بين
الجاريتين حتى يصطلحا عليهما بعد البلوغ، لان الوصية لواحد فلم يشرك فيها
بين اثنين، وليس للوارث فيها خيار فلزم فيها الوقف
فلو قال: إن كان الذي في بطنك
جاريه فلها مائه، فولدت غلاما وجاريه فلا شئ لواحد منهما، بخلاف قوله إن كان
في بطنك غلام فله الألف، لأنه إذا قال إن كان الذي في بطنك غلام فقد
جعل كون الحمل غلاما شرطا في الحمل والوصية معا، فإذا كان الحمل غلاما
وجاريه لم يوجد الشرط كاملا فلم تصح الوصية.
وإذا قال إن كان في بطنك غلام فلم يجعل ذلك شرطا في الحمل، وإنما جعله
شرطا في الوصية فصحت الوصية. وهكذا لو قال: إن كان ما في بطنك غلاما،
فهو كقوله: إن كان الذي في بطنك جاريه، فإذا وضعت غلاما وجاريه فلا
وصيه. وكذلك لو قال: إن كان الذي في بطنك غلاما فله ألف فولدت غلامين
ففي الوصية وجهان
(أحدهما) باطل كما لو ولدت غلاما وجاريه لأنه لم يكن كل حملها غلاما.
والوجه الثاني أنها جائزة لان كل واحد منهما غلام فاشتركا في الصفة ولم تضر
الزيادة، فعلى هذا يكون على الوجوه الثلاثة التي حكاها ابن سريج من قبل أنها
474

ترجع إلى بيان الورثة في دفع الألف إلى أحدهما، والثاني يشتركان جميعا فيها.
والثالث توقف الألف بينهما حتى يصطلحا عليها.
(مسألة) لو قال قد أوصيت لحمل هذه المرأة من زوجها فجاءت بولد نفاه
زوجها باللعان، ففي الوصية وجهان (أحدهما) وهو قول ابن سريج ان الوصية
باطلة لان لعانه قد نفى أن يكون منه (والوجه الثاني) وهو قول أبي إسحاق
المروزي ان الوصية له جائزة، لان لعان الزوج إنما اختص بنفس النسب دون غيره
من أحكام الأولاد. ألا ترى أنها تعتد به. ولو قذفها به قاذف حدث له. ولو عاد
واعترف به لحق به. ولكن لو وضعت بعد أن طلقها ذلك الزوج ثلاثا ولأكثر
من أربع سنين من وقت الطلاق ولأقل من ستة أشهر من حين الوصية فلا وصيه
لعلمنا أنه ليس منه. وبخلاف الملاعن الذي يجوز أن يكون الولد منه.
(مسألة أخرى) إذا وضعت الموصى بحملها ولدا ميتا فلا وصية كما لا ميراث
له، ولو وضعته حيا فمات صحت الوصية وكان لوارث الحمل كالميراث. ولو ضرب
ضارب بطنها فألقت جنينا ميتا كان فيه على الضارب قود، ولا وصية له كما
لا ميراث له. والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فإن أوصى لرجل بسهم أو بسقط أو بنصيب أو بجزء من ماله
فالخيار إلى الوارث في القليل والكثير، لأن هذه الألفاظ تستعمل في
القليل والكثير.
(فصل) فإن أوصى له بمثل نصيب أحد ورثته أعطى مثل نصيب أقلهم
نصيبا لأنه نصيب أحدهم، فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كان ذلك وصية
بنصف المال، لأنه يحتمل أن يكون قد جعل له الكل، ويحتمل أنه جعله مع ابنه
فلا يلزمه الا اليقين، ولأنه قصد التسوية بينه وبين ابنه ولا توجد التسوية إلا
فيما ذكرناه، فإن كان له ابنان فوصى له بمثل نصيب أحد ابنيه جعل له الثلث،
وإن وصى له بنصيب ابنه بطلت الوصية، لان نصيب الابن للابن فلا تصح
الوصية به كما لو أوصى له بمال ابنه من غير الميراث.
475

ومن أصحابنا من قال: يصح ويجعل المال بينهما، كما أوصى له بمثل نصيب
ابنه، فإن وصى له بمثل نصيب ابنه وله ابن كافر أو قاتل فالوصية باطله، لأنه
وصى بمثل نصيب من لا نصيب له، فأشبه إذا وصى بمثل نصيب أخيه وله ابن.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو قال لفلان نصيب أو حظ أو
قليل أو كثير من مالي، فما أعرف لكثير حدا
الأحكام: إذا أوصى لرجل بنصيب من ماله أو حظ أو قليل أو كثير ولم
يحد ذلك بشئ فالوصية جائزة ويرجع في بيانها إلى الورثة، فما بينوه من شئ
كان قولهم فيه مقبولا، فإن ادعى الموصى له أكثر لأن هذه الأسماء كلها لا تختص
في اللغة ولا في الشرع ولا في العرف بمقدار معلوم لاستعمالها في القليل والكثير
ولان القليل والكثير حد، لان الشئ قد يكون قليلا إذا أضيف إلى ما هو
أكثر منه، ويكون كثيرا إذا أضيف إلى ما هو أقل منه
وحكى عنه عطاء وعكرمة أن الوصية بما ليس بمعلوم من الحظ والنصيب
باطلة للجهل بها. وهذا فاسد لان الجهل بالوصايا لا يمنع من جوازها، ألا ترى
أنه لو أوصى بثلث ماله وهو لا يعلم قدره جازت الوصية مع الجهل بها، وقد
أوصى أنس بن مالك لثابت البناني بمثل نصيب أحد ولده
أما إذا أوصى له بسهم من ماله فقد اختلف الناس فيه، فحكى عن عبد الله
ابن مسعود رضي الله عنه والحسن البصري وإياس بن معاوية وسفيان الثوري
وأحمد بن حنبل أن له سدس المال. وقال شريح بدفع له بينهم واحد من سهام
الفريضتين. وقال أبو حنيفة يدفع إليه مثل نصيب أقل الورثة نصيبا ما لم يجاوز
الثلث، فان جاوزه أعطى الثلث. وقال أبو ثور أعطيه سهما من أربعة وعشرين
سهما وقال أبو يوسف ومحمد يعطى مثل نصيب أقلهم نصيبا ما لم يجاوز الثلث
فإن جاوزه أعطى الثلث
وقال الشافعي السهم اسم عام لا يختص بقدر محدود لانطلاقه على القليل
والكثير كالحظ والنصيب فيرجع فيه إلى بيان الوارث، فان قيل روى ابن مسعود
أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض لرجل أوصى له سهما سدسا. قيل هي قضية
476

في عين يحتمل أن تكون البينة قائمة، فأمر بالسدس أو اعترف به الورثة، فإذا
ثبت أنه يرجع فيه إلى بيان الورثة قبل منهم ما بينوه من قليل وكثير، فان نوزعوا
أحلفوا، فلو لم يبينوا لم تخل حالهم من أن يكون عندهم بيان أو لا يكون، فإن لم
يكن عندهم بيان رجع إلى بيان الموصى له، فان نوزع أحلف، وان لم يكن عند
الموصى له بيان فأبوا أن يبينوا ففيه وجهان من اختلاف قولين فيمن أقر بمجمل
وامتنع أن يبين أحدهما يحبس الوارث حتى يبين، والثاني يرجع إلى بيان الموصى له
(فرع) إذا أوصى بمثل نصيب أحد ورثته ولم يسمه قال الشافعي رضي الله عنه
(أعطيته مثل أقلهم نصيبا)
(قلت) لان الوصايا لا يستحق فيها الا اليقين والأقل، فلا تعين الزيادة
على شك، فإن كان سهم الزوجة أقل أعطيته مثل سهمها، وإن كان سهم غيرها من
البنات أو بنات الابن أقل أعطيته مثله، واعتبار ذلك باعتبار سهام كل واحد من
الورثة من أصل فريضتهم، فتجعل للموصى له مثل سهام أقلهم، وتضمه إلى
أهل الفريضة، ثم يقسم المال بين الموصى له والورثة على ما اجتمع معك من
العددين وقد بيناه.
ولو وصى إليه بمثل أكثرهم نصيبا اعتبرته زودته على سهام الفريضة ثم
قسمت ما اجتمع من العددين على ما وصفناه، فعلى هذا لو اختلف الورثة فقال
بعضهم أراد مثل أقلنا نصيبا، وقال بعضهم بل أراد مثل أكثرنا نصيبا أعطيته
من نصيب كل واحد من الفريقين حصة مما اعترف بها
ومثاله أن يكون الورثة ابنين وبنتين فيكون لكل ابن سهمان ولكل بنت سهم
وللموصى له بمثل نصيب الذكر، ولو أراد أنثى لكان المال مقسوما على سبعة
اسم فريضة ابنين وثلاثة بنات
ولو ترك ابنا وبنتا وأوصى لرجل بمثل نصيب البنت
فذلك ضربان (أحدهما) أن يريد بمثل نصيب البنت قبل دخول الوصية
عليها. فعلى هذا يكون الموصى له بمثل نصيب الابن خمس المال وللموصى له
بمثل نصيب البنت ربع المال، فيصير بالوصيتين بخمس المال وربعه فيوقف على
اجازتهما.
477

والضرب الثاني: أن يريد بمثل نصيب البنت بعد دخول الوصية عليها فعلى
هذا يكون الموصى له بمثل نصيب الابن خمس المال، وللموصى له بمثل نصيب
البنت سدس المال فتصير الوصيتان بخمس المال وسدسه فتوقف على اجازتهما
فلو ابتدأ فوصى لرجل بمثل نصيب البنت ولآخر بمثل نصيب الابن كان
للموصى له بمثل نصيب البنت ربع المال، فأما الموصى له بمثل نصيب الابن،
فان أراد قبل دخول الوصية عليه كان له ثلث المال ثم على هذا القياس.
ولو ترك بنتا وأخا وأوصى لرجل بمثل نصيب البنت فقد اختلف أصحابنا في
قدر ما يستحقه الموصى له على وجهين.
(أحدهما) له الربع نصف حصة البنت، لأنه لما استحق مع البنت الواحدة
الربع لأنه نصف نصيبها.
(والوجه الثاني) وهو أصح، له الثلث لأنه يصير مع البنت الواحدة كبنت
ثانية كما يصير مع الابن الواحد كابن ثان، وللواحدة من البنتين الثلث فكذلك
للموصى له مثل نصيب البنت الواحدة الثلث، وهكذا لو وصى بمثل نصيب
أخت مع عم كان فيما يستحقه بالوصية وجهان. أحدهما: الربع، والثاني الثلث
وهكذا لو لم يرث مع البنت والأخت غيرهما، لان لكل واحدة منهما إذا انفردت
النصف، والباقي لبيت المال، فعلى هذا لو وصى بمثل نصيب أخ لام فله في أحد
الوجهين نصف السدس، وفى الاخر السدس.
وجملة ذلك أن الموصى جعل وارثه أصلا وقاعدة حمل عليها نصيب الموصى
له وجعله مثلا له، وهذا يقتضى أن لا يزاد عليه، فإن كان الورثة يتساوون في
الميراث كالبنين مثلا فله نصيب أحدهم إذا كانت الوصية بمثل نصيب أحد ورثته
فان تفاضلوا فله مثل نصيب أقلهم ميراثا يزاد على الفريضة، فان أوصى بنصيب
وارث معين فله مثل نصيبه مزادا على الفريضة، وبهذا قال الجمهور، وبه قال
أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وقال مالك وابن أبي ليلى وزفر وداود: يعطى مثل نصيب المعين أو مثل
نصيب أحدهم إذا كانوا يتساوون من أصل المال غير مزيد، ويقسم الباقي بين الورثة
478

لان نصيب الوارث قبل الوصية من أصل المال، فلو أوصى بمثل نصيب ابنه،
وله ابن واحد فالوصية بجميع المال، وإن كان له ابنان فالوصية بالنصف، وإن كان
وا ثلاثة فالوصية بالثلث.
وقال مالك: إن كانوا يتفاضلون نظر إلى عددهم فأعطى سهما من عددهم
لأنه لا يمكن اعتبار أنصبائهم لتفاضلهم فاعتبر عدد رؤوسهم، وقد أوضحنا أن
الموصى جعل وارثه أصلا وقاعدة، وهذا يدل على فساد ما خالفه، لان قاعدة
الجمهور تقتضي أن لا يزاد أحدهما على صاحبه، ومتى أعطى من أصل المال فما
أعطى نصيبه ولا حصلت له التسوية، والعبادة تقتضي التسوية، وإنما جعل
مثل أقلهم نصيبا لأنه اليقين، وما زاد فمشكوك فيه فلا يثبت مع الشك.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: إذا أوصى بمثل نصب ابنه ولا ابن له
غيره فله النصف، فإن لم يجز الابن فله الثلث.
قلت وهذا قول أبي حنيفة وصاحبه: فإن أجازها الابن وإلا ردت على الثلث
وقال الك وزفر بن الهذيل وداود بن علي: هي وصية بجميع المال، استدلالا
بأن نصيب ابنه إذا لم يكن له غيره الجميع فاقتضى أن تكون الوصية بمثل نصيبه
وصية بجميع المال، ولأنه لو كان وصى له بمثل ما كان نصيب ابنه كانت وصية
بجميع المال إجماعا وجب إذا وصى له بمثل نصيب ابنه أن تكون وصيته بجميع
المال حجاجا، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه.
أحدها: ان نصيب الابن أصل والوصية بمثله فرع فلم يجز أن يكون الفرع
رافعا لحكم الأصل.
والثاني: أنه لو جعلت الوصية بكل المال لخرج أن يكون للابن نصيب، وإذا
لم يكن للابن نصيب بطلت الوصية التي هي مثله.
والثالث: أن الوصية بمثل نصيب ابنه توجب التسوية بين الموصى له وبين
ابنه، فإذا وجب ذلك كانا نصفين ن وفى إعطائه الجميع إبطال للتسوية بينهما كما
قررنا، وأما قولهم. إن نصيب الابن كل المال، فالجواب: أن له الجميع مع عدم
الوصية، فأما مع الوصية فلا يستحق الجميع.
479

وأما قوله: وصيت لك بمثل ما كان نصيب ابني فالفرق بينهما أنه لم يجعل له
مع الوصية نصيبا فلذلك كانت بكل المال.
فعلى هذا لو قال: وصيت لك بنصيب ابني فالذي عليه الجمهور من أصحابنا أن
الوصية باطلة، وهو قول أبي حنيفة وأحمد لأنها وصية بما لا يملك، لان نصيب
الابن ملكه لا ملك أبيه. وقال بعض أصحابنا الوصية جائزة، وهو قول مالك
ويجريها مجرى قوله: بمثل نصيب ابنه فيجعلها وصيه بالنصف وعند مالك بالكل
ولو أوصى بمثل نصيب ابنه ولا ابن له كانت الوصية باطلة، وكذلك لو كان له
ابن كافر أو قاتل لأنه لا نصيب له.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو قال: بمثل نصيب أحد ولدى فله
مع الابنين الثلث ومع الثلاثة الربع حتى يكون كأحدهم.
قلت: وإلى هذا ذهب أحمد وأصحابه. وقال مالك: يكون له مع الاثنين
النصف ومع الثلاثة الثلث ومع الأربعة الربع، وقد ذكرنا وجه فساده لما فيه
من تفضيل الموصى له على ابنه.
(قلت) ولو قال: بمثل نصيب ابني وله ولدان فالوصية باطلة، لأنه يوصى
بنصيب ابنه الذي هو ملك للابن فلا يملك الأب الوصية به كما لو أوصى بما يملكه
ولده من كسبه لا من ميراثه، ومن أصحابنا من صحح الوصية وجعلها كقوله:
بمثل نصبي أحد ابني، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) فإن وصى بضعف نصيب أحد أولاده دفع إليه مثلا نصيب أحدهم
لان الضعف عبارة عن الشئ ومثله، ولهذا يروى أن عمر رضي الله عنه أضعف
الصدقة على نصارى بنى تغلب، أي أخذ مثلي ما يؤخذ من المسلمين فان وصى له
بضعفي نصيب أحدهم أعطى ثلاثة أمثال نصيب أحدهم. وقال أبو ثور يعطى
أربعة أمثاله وهذا غلط، لان الضعف عبارة عن الشئ ومثله فوجب أن يكون
الضعفان عبارة عن الشئ ومثليه.
(فصل) فإن وصى لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه وأجار الورثة قسم
480

المال بينهما على خمسة. للموصى له بالثلث سهمان، وللموصى له النصف ثلاثة
أسهم فإن لم يجيز وأقسم الثلث بينهما على خمسه على ما ذكرناه لان ما قسم على التفاضل
عند اتساع المال قسم على التفاضل عند ضيق المال كالمواريث، والمال بين الغرماء
فان أوصى لرجل بجميع ماله ولآخر بثلثه وأجاز الورثة. قسم المال بينهما على
أربعة، للموصى له بالجميع ثلاثة أسهم، وللموصى له بالثلث سهم، لان السهام
في الوصايا كالسهام في المواريث، ثم السهام في المواريث إذا زادت على قدر المال
أعيلت الفريضة بالسهم الزائد، فكذلك في الوصية، فإن لم يجيز وأقسم الثلث
بينهما على ما قسم الجميع.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو قال: ضعف ما يصيب أكثر
ولدى نصيبا أعطيته مثله مرتين، ولو قال: ضعفين، فإن كان نصيبه مائة أعطيته
ثلاثمائة، فأكون قد أضعفت المائة التي تصيبه بميراثه مرة فلذاك ضعفان،
وهكذا إن قال ثلاثة أضعاف وأربعة، ولم أزد على أن أنظر أصل الميراث فأضعفه
له مرة بعد مرة حتى يستكمل ما أوصى له به اه‍
اللغات: إذا أوصى لرجل بمثل ضعف نصيب أحد أولاده كان الضعف مثلي
النصيب، فإن كان نصيب الابن مائة كان للموصى له بالضعف مائتين، وبه قال
جمهور الفقهاء. وقال أبو عبيدة القاسم بن سلام الضعف المثل، واستدل بقوله
تعالى (يضاعف لها العذاب ضعفين) أي مثلين، وقوله تعالى (فآتت أكلها
ضعفين) وإذا كان الضعفان مثلين فالواحد مثل.
ولنا ان الضعف مثلان بديل قوله تعالى (إذن لأذقناك ضعف الحياة وضعف
الممات) وقال (فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا) ويروى عن عمر انه
أضعف الزكاة على نصارى بنى تغلب فكان يأخذ من المائتين عشرة، وقال لحذيفة
وعثمان بن حنيفة لعلكما حملتما الأرض مالا تطيق؟ فقال عثمان لو أضعفت عليها
لاحتملت، قال الأزهري الضعف المثل فما فوقه.
قال الماوردي في حاوية، والدليل عل ان الضعف مثلان هو ان اختلاف
الأسماء يوجب اختلاف المسمى إلا ما خص بدليل. ولان الضعف أعم في اللغة
481

من المثل فلم يجز أن يسوى بينه وبين المثل، ولان انشقاق الضعف من المضاعفة
والثنية من قولهم: أضعف الثوب إذا طويته بطاقين
فأما الآية ففيها جوابان (أحدهما) ما حكاه أبو العباس عن الأثرم عن بعض
المفسرين أنه جعل عذابهن إذا أتين بفاحشة ثلاثة أمثال عذاب غيرهن فلم يكن فيه
دليل (والثاني) أن الضعف قد يستعمل في موضع المثل مجازا إذا صرفه الدليل
عن حقيقته، وليست الأحكام تتعلق بالمجاز، وإنما تتعلق بالحقائق
فأما بيان الأحكام فإنه إذا أوصى له بضعفي نصيب ابنه فقد اختلفوا فيه على
ثلاثة مذاهب (أحدها) وهو مذهب مالك أن له مثلي نصيبه لأنه جعل الضعف
مثلا فجعل الضعفين مثلين
والمذهب الثاني وهو مذهب أبي ثور أن له أربعة أمثال نصيبه، لأنه لما
استحق بالضعف مثلين استحق بالضعفين أربعة أمثال
والمذهب الثالث وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه وجمهور الفقهاء
أن له بالضعفين ثلاثة أمثال نصيبه، فإن كان الابن نصيبه مائة استحق بالضعفين
ثلاثمائة، لأنه لما أخذ بالضعف سهم الابن ومثله حتى استحق مثلين. وجب أن
يأخذ بالضعفين لسهم الابن ومثليه يستحق به ثلاثة أمثاله. فعلى هذا لو أوصى
له بثلاثة أضعاف نصيب ابنه استحق أربعة أمثاله، وبأربعة أضعاف خمسة
أمثاله وكذلك فيما زاد
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو أوصى لرجل بثلث ماله ولآخر
بنصفه ولآخر بربعه فقد عالت وصاياه كل ماله، فلا يخلو حال ورثته من
ثلاثة أحوال: إما أن يجيزوا جميعا أو يردوا جميعا، أو يجيزوا بعضها ويردوا
بعضها، فان أجازوا جميعها قسم المال بينهم على قدر وصاياهم وأصلها من اثني عشر
لاجتماع الثلث والربع ويعول بسهم، وتصح من ثلثه عشر، لصاحب النصف
ستة أسهم، ولصاحب الثلث أربعة أسهم، ولصاحب الربع ثلاثة أسهم،
وكان النقص بسهم العول داخلا على جميعهم كالمواريث. وهذا متفق عليه ولم
يخالف فيه أبو حنيفة ولا غيره
482

(فصل) فإن قال أعطوه رأسا من رقيقي ولا رقيق له، أو قال أعطوه
عبدي الحبشي وله عبد سندي أو عبدي الحبشي وسماه باسمه ووصفه صفة من
بياض أو سواد وعنده حبشي يسمى بذلك الاسم ومخالف له في الصفة فالوصية
باطلة لأنه وصى له بما لا يملكه، فإن كان له رقيق أعطى منه واحدا، سليما كان
أو معيبا لأنه لا عرف في هبة الرقيق فحمل على ما يقع عليه الأسلم، فإن مات
ماله من الرقيق بطلت الوصية لأنه فات ما تعلقت به الوصية من غير تفريط،
فإن قتلوا فإن كان قبل موت الموصى بطلت الوصية لأنه جاء وقت الوجوب ولا
رقيق له ن فإن قتلوا بعد موته وجبت له قيمة واحد منهم لأنه يدل ما وجب له.
(فصل) فإن وصى بعتق عبد أعتق عنه ما يقع عليه الاسم لعموم اللفظ.
ومن أصحابنا من قال: لا يجزى إلا ما يجزى في الكفارة لان العتق في الشرع له
عرف وهو ما يجزى في الكفارة فحملت الوصية عليه، فإن وصى أن يعتق عنه
رقبة فعجز الثلث عنها ولم تجز الورثة أعتق قدر الثلث من الرقبة لان الوصية
تعلقت بجميعها، فإذا تعذر الجميع بقي في قدر الثلث، فان وصى أن يعتق عنه
رقاب أعتق ثلاثة لان الرقاب جمع وأقله ثلاثة، فان عجز الثلث عن الثلاثة أعتق
عنه ما أمكن، فان اتسع الثلث لرقبتين وتفضل شئ، فإن لم يمكن أن يشترى
بالفضل بعض الثالثة زيد في ثمن الرقبتين، وإن أمكن أن يشترى به بعض الثالثة
ففيه وجهان. (أحدهما) يزاد في ثمن الرقبتين لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل
عن أفضل الرقاب فقال (أكثرها ثمنا وأنفسها عند أهلها)
(والثاني) أنه يشترى به بعض الثالثة لقوله صلى الله عليه وسلم (من أعتق
رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار) ولان ذلك أقرب إلى
العدد الموصى به.
(فصل) فان قال أعتقوا عبدا من عبيدي وله خنثى حكم له بأنه رجل، ففيه
وجهان. أحدهما أنه يجوز لأنه محكوم بأنه عبد. الثاني لا يجوز لان اسم العبد
لا ينصرف إليه، فإن قال أعتقوا أحد رقيقي وفيهم خنثى مشكل فقد روى الربيع
فيمن وصى بكتابة أحد رقيقه أنه لا يجوز الخنثى المشكل. وروى المزني أنه يجوز
483

فمن أصحابنا من قال: يجوز كما نقله المزني، لأنه من الرقيق، ومنهم من قال
لا يجوز كما نقله الربيع لان إطلاق اسم الرقيق لا ينصرف إلى الخنثى المشكل
(فصل) فان قال أعطوه شاة جاز أن يدفع إليه الصغير والكبير والضأن
والمعز، لان اسم الشاة يقع عليه ولا يدفع إليه تيس ولا كبش على المنصوص
ومن أصحابنا من قال يجوز الذكر والأنثى، لان الشاة اسم للجنس يقع على الذكر
والأنثى كالانسان، يقع على الرجل والمرأة
فان قال أعطوه شاة من غنمي والغنم إناث لم يدفع إليه ذكر، فإن كانت
ذكورا لم يدفع إليه أنثى لأنه أضاف إلى المال وليس في المال غيره، فإن كانت
غنمه ذكورا وإناثا فعلى ما ذكرنا من الخلاف فيه إذا أوصى بشاة ولم يضف
إلى المال. فان قال أعطوه ثورا لم يعط بقرة، فان قال أعطوه جملا لم يعط ناقة،
فان قال أعطوه بعيرا فالمنصوص أنه لا يعطى ناقة. ومن أصحابنا من قال يعطى
لان البعير كالانسان يقع على الذكر والأنثى، فان قال أعطوه رأسا من الإبل
أو رأسا من البقر أو رأسا من الغنم جاز الذكر والأنثى، لان ذلك اسم للجنس
(فصل) فان قال أعطوه دابة فالمنصوص أنه يعطى فرسا أو بغلا أو حمارا
واختلف أصحابنا فيه فقال أبو العباس: هذا قاله على عادة أهل مصر، فان الدواب
في عرفهم الأجناس الثالثة، فإن كان الموصى بمصر أعطى واحدا من الثلاثة.
وإن كان في غيرها لم يعط إلا الفرس، لأنه لا تطلق الدابة في سائر البلاد
إلا على الفرس.
وقال أبو إسحاق وأبو علي بن أبي هريرة: يعطى وحدا من الثلاثة في جميع
البلاد، لان اسم الدواب يطلق على الجميع، فان قال: أعطوه دابة من دوابي،
وليس عنده إلا واحد من الثلاثة أعطى منه، لأنه أضاف إلى ماله وليس له غيره
فان قال أعطوه دابة ليقاتل عليه العدو لم يعط إلا فرسا. فان قال ليحمل عليه
لم يعط إلا بغلا أو حمارا، فان قال لينتفع بنسله لم يعط إلا فرسا أو حمارا لان
القرينة دلت على ما ذكرناه.
(الشرح) حديث (سئل عن أفضل الرقاب) رواه أحمد والبخاري ومسلم
484

من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وحديث (من أعتق رقبة) رواه ثلاثتهم أيضا
عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أما قوله: فإن قال (أعطوه شاة من غنمي الخ) فهو كما قال الشافعي رضي الله عنه
: ولو أوصى بشاة من ماله، كأن قيل للورثة أعطوه أو اشتروها له،
صغيرة كانت أو كبيرة، ضأنا أو معزا. اه‍
قلت: ومعنى هذا أن الوصية جائزة ترك غنما أو لم يترك، لأنه جعلها في ماله
ويعطيه الورثة ما شاءوا، ضأنا أو معزا كبيرا أو صغيرا سمينا أو هزيلا. وفى
استحقاق الأنثى وجهان (أحدهما) وهو الظاهر من نصر الشافعي أنه لا يعطى
إلا أنثى لان الهاء موضوعة للتأنيث (والوجه الثاني) وهو قول أبي علي بن
أبي هريرة أن للورثة الخيار في إعطائه ذكرا أو أنثى، لان الهاء من أصل الكلمة
في اسم الجنس فاستوى فيه الذكر والأنثى، ولكن لو قال شاة من غنمي وكانت
غنمه كلها إناثا لم يعطى إلا أنثى. وكذلك لو كانت كلها ذكورا لم يعط لا ذكرا
منها. وهكذا لو دل كلامه على المراد منها حمل عليه. مثل قوله شاة ينتفع بدرها
ونسلها لم يعط إلا كبيرة أنثى لتكون ذات در ونسل، وسواء كانت ضأنية أو
معزية. فان قال شاة ينتفع بصوفها لم يعط إلا من الضأن. ولو قال ينتفع بشعرها
لم يعط إلا من المعز، ولا يجوز إذا أوصى بشاة من ماله أن يعطى غزالا ولا ظبيا
وان انطلق عليه اسم الشاة مجازا.
ولكن لو قال شاة من شياهي ولم يكن في ماله إلا ظبي ففيه وجهان
(أحدهما) أن الوصية باطلة، لان اسم الشاة يتناول الغنم، وليس بتركته
فبطلت (والوجه الثاني) أنها تصح لأنه لما أضاف ذلك إلى شائه وليس في ماله
إلا ما ينطلق عليه مجاز الاسم دون الحقيقة حمل عليه، وانصرفت وصيته إلى
الظبي الموجود في تركته حتى لا تبطل وصيته
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو قال: بعيرا أو ثورا لم يكن لهم أن
يعطوه ناقة ولا بقرة ولو قال: عشر أنيق وعشر بقرات لم يكن لهم أن يعطوه
ذكرا. ولو قال عشرة أجمال أو أثوار لم يكن لهم أن يعطوه أنثى، ولو قال:
عشرة من إبلي أعطوه ما شاءوا
485

قلت: وبهذا نعلم أنه إذا أوصى بثور لم يعط إلا ذكرا. ولو قال بقرة لم يعط
الا أنثى وكان بعض أصحابنا يخرج في البقرة وجها آخر أنه يجوز أن يعطى
ذكرا أو أنثى كالشاة لان الهاء من أصل اسم الجنس
ولا يجوز أن يعدل في الوصية بالثور والبقرة إلى الجواميس بخلاف الشياء
التي ينطلق عليها اسم الضأن والمعز إلا أن يكون في كلامه ما يدل عليه. أو يقول
بقرة من بقرى وليس له إلا الجواميس فتنصرف إلى الجواميس، وإن كان اسم
البقر يتناولها مجازا. لان إضافة الوصية إلى التركة قد صرف الاسم عن حقيقته
إلى مجازه. ولا يجوز ان يعدل به إلى بقر الوحش، فان أضاف الوصية إلى بقره
ولم يكن له الا بقر الوحش فعلى ما ذكرنا من الوجهين
فأما إذا أوصى ببعير فمذهب الشافعي انه لا يعطى إلا ذكرا، لان الاسم
بالذكور أخص. وقال بعض أصحابنا هو اسم للجنس فيعطى ما شاء الوارث من
ذكر أو أنثى.
فأما إذا أوصى له بحمل لم يعط الا ذكرا لاختصاص هذا الاسم بالذكور.
ولو أوصى بعشر من إبله أعطاه ما شاء الوارث من ذكور وإناث، وسواء أثبت
الهاء في العدد أو أسقطها.
ومن أصحابنا من قال: إذا أثبت الهاء في العدد فقال عشرة من إبلي لم يعط
الا من الذكور لان عددها باثبات الهاء كما هو معروف في قواعد النحو في العدد
وان أسقط الهاء في العدد فقال: عشر من إبلي لم يعط الا من الإناث، لان
عددها باسقاط الهاء لقوله تعالى (سبع ليال وثمانية أيام حسوما) وقوله (سبع
سماوات طباقا) وقوله (سبع بقرات سمان يأكلن سبع عجاف) وكما نقول عشر
نسوة وعشرة رجال. وهذا لا وجه له لان اسم الإبل إذا كان يتناول الذكور
والإناث تناولا واحدا صار العدد فيها محمولا على القدر دون النوع
وأما إذا قال أعطوه مطية أو راحلة فذلك يتناول الذكور والإناث فيعطيه
ما شاء الوارث منها.
486

فأما إذا قال أعطوه دابة فقال الشافعي رضي الله عنه: أعطى من الخيل
والبغال والحمير ذكرا أو أنثى صحيحا صغيرا أو كبيرا، أعجف أو سمينا.
(قلت) لان اسم الدواب يطلق على كل ما دب على الأرض اشتقاقا من دبيبه
غير أنه في العرف مختص ببعضها، فان قال: اعطوه دابة من دوابي فقد اختلف
أصحابنا في قول الشافع: أعطى من الخيل والبغال والحمير الخ، فقال أبو العباس
ابن سريج يحمل ذلك على عرف الناس بمصر حيث قال ذلك فيهم، وذكره لهم
اعتبارا بعرفهم. أما بالعراق والحجاز فلا ينطلق إلا على الخيل وحدها ولا يتناول
غيرها إلا مجازا يعرف بقرينة، فإن كان الموصى بمصر خير ورثته بين الأصناف
الثلاثة، وإن كان بالعراق لم يعطوه إلا من الخيل.
وقال أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة: بل الجواب محمول على
ظاهره في كل البلاد، بأن اسم الدواب ينطلق على هذه الأجناس الثلاثة، فإن
شذ بعض البلاد بتخصيص بعضها بالاسم لم يعتبر به حكم العرف العام، فلو قرن
ذلك بما يدل على التخصيص حمل على قرينته، كقوله: اعطوه دابة يقاتل عليها
فلا يعطى إلا من الخيل عتيقا أو هجينا ذكرا أو أنثى ولا يعطى صغيرا
ولا مما لا يطيق الركوب، ولو قال: دابة يحمل عليها أعطى من البغال والحمير
دون الخيل، ولو قال ينتفع بنتاجها يعطى من الخيل والحمير ولا يعطى من البغال
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) فإن وصى بكلب ولا كلب له فالوصية باطلة، لأنه ليس عنده كلب
ولا يمكن أن يشترى، فبطلت الوصية، فإن قال: أعطوه كلبا من كلابي وعنده
كلاب لا ينتفع بها بطلت الوصية، لان مالا منفعة فيه من الكلاب لا يحل اقتناؤه
فإن كان ينتفع بها أعطى واحدا منها إلا أن يقرن به قرينة من صيد أو حفظ
زرع فيدفع إليه مادلت عليه القرينة، فإن كان له ثلاثة كلاب ولا مال له فأوصى
بجميعها ولم تجز الورثة ردت إلى الثلث وفى كيفية الرد وجهان.
(أحدهما) يدفع إليه من كل كلب ثلثه كسائر الأعيان (والثاني) يدفع إليه
487

أحدها وتخالف سائر الأعيان لان الأعيان تقوم وتختلف أثمانها والكلاب لا تقوم
فاستوى جميعها وفيما يأخذ وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق أنه يأخذ واحدا منها بالقرعة.
(والثاني) يعطيه الوارث ما شاء منها فإن كان له كلب واحد فوصى به ولم تجز
الورثة ولم يكن له مال أعطى ثلثه، فإن كان له مال ففيه وجهان (أحدهما) وهو
قول أبي علي بن أبي هريرة إنه يدفع الجميع إلى الموصى له لان أقل المال خير من
من الكلب فأمضيت الوصية فيه كما لو أوصى له بشاة وله مال تخرج الشاة من ثلثه
(والثاني) وهو قول أبي سعيد الإصطخري انه يدفع إليه ثلث الكلب لأنه
لا يجوز ان يحصل للموصى له شئ إلا ويحصل للورثة مثلاه ولا يمكن اعتبار
الكلب من ثلث المال لأنه لا قيمة له فاعتبر بنفسه.
(فصل) وان وصى له بطبل من طبوله وليس له الا طبول الحرب أعطى
واحدا منها وان لم يكن له إلا طبول اللهو نظرت، فإن لم يصلح وهو طبل لغير
اللهو، وإن فصل لمباح لم يقع عليه اسم الطبل فالوصية باطله لأنه وصية بمحرم
وإن كان يصلح لمنفعة مباحه مع بقاء الاسم جازت الوصية لأنه يمكن الانتفاع به
في مباح، وإن كان له طبل حرب وطبل لهو ولم يصلح طبل اللهو لغير اللهو
أعطى طبل الحرب لان طبل اللهو لا تصح الوصية به فيصير كالمعدوم، وإن
كان يصلح لمنفعة مباحة أعطاه الوارث ما شاء منهما.
(فصل) فان وصى بعود من عيدانه وعنده عود اللهو وعود القوس وعود
البناء كانت الوصية بعود اللهو، لأن اطلاق الاسم ينصرف إليه، فإن كان عود
اللهو يصلح لمنفعة مباحة دفع إليه ولا يدفع معه الوتر والمضراب لان اسم العود
يقع من غير وتر ولا مضراب، وإن كان لا يصلح لغير اللهو فالوصية باطله لأنه
وصيه بمحرم.
ومن أصحابنا من قال: يعطى من عود القوس والبناء لان المحرم كالمعدوم
كما قلنا فيمن وصى بطبل من طبوله، وعنده طبل حرب وطبل لهو انه تجعل
الوصية في طبل الحرب ويجعل طبل اللهو كالمعدوم. والمذهب انه لا يعطى شيئا
488

لان العود لا يطلع إلا على عود اللهو. والطبل يطلق على طبل اللهو وطبل الحرب
فإذا بطل في طبل اللهو حمل على طبل الحرب، فان قال أعطوه عودا من عيداني
وليس عنده إلا عود القوس أو عود البناء أعطى منها لأنه أضاف إلى ما عنده
وليس عندها سواه.
(فصل) فان وصى له بقوس كانت الوصية بالقوس الذي يرمى عنه النبل
والنشاب دون قوس الندف والجلاهق وهو قوس البندق، لأن اطلاق الاسم
ينصر إلى ما يرمى عنه ولا يعطى معه الوتر.
ومن أصحابنا من قال: يعطى معه الوتر لأنه لا ينتفع به إلا مع الوتر،
والصحيح أنه لا يعطى لان الاسم يقع عليه من غير وتر، فان قال: أعطوه قوسا
من قسي وليس عنده الا قوس الندف أو قوس البندق أعطى مما عنده لأنه
أضاف إلى ما عنده وليس عنده سواه، وإن كان عنده قوس البندق وقوس الندف
أعطى قوس البندق لان الاسم إليه أسبق.
(فصل) فان وصى بعتق مكاتبه أو بالابراء مما عليه من الثلث أقل الأمرين
من قيمته أو مال الكناية لان الابراء عتق، والعتق إبراء فاعتبر أقلهما
وألغى الاخر فان احتملهما الثلث عتق وبرئ من المال، وان لم يحتمل شيئا منه
لديون عليه بطلت الوصية وأخذ المكاتب بأداء جميع ما عليه فان أدى عتق وإن
عجز رق وتعلق به حق الغرماء والورثة، فان احتمل الثلث بعض ذلك مثل أن
يحتمل النصف من أقل الأمرين عتق نصفه وبقى نصفه على الكناية فان أدى عتق
وان عجز رق، وان احتمل الثلث أحدهما دون الآخر اعتبر الأقل فعتق به فإن لم
يكن له مال غير العبد نظر، فإن كان قد حل عليه مال الكناية عتق ثلثه في الحال
وبقى الباقي على الكناية ان أدى عتق وان عجز رق، وان لم يحل عليه مال الكناية
ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يتعجل عتق شئ منه لأنه يحصل للموصى له الثلث ولم يحصل
للورثة مثلاه وهذا لا يجوز كما لو أوصى بالثلث وله مال حاضر ومال غائب فإنه
لا تمضي الوصية في شئ حتى يحصل للورثة مثلاه.
489

(والثاني) وهو ظاهر المذهب أنه يتعجل عتق ثلثه ويقف الثلثان على العتق
بالأداء أو الرق بالعجز لان الورثة على يقين من الثلثين اما بالأداء واما بالعجز
بخلاف ما لو كان له مال حاضر ومال غائب لأنه ليس على يقين من سلامة الغائب
(فصل) فان قال: ضعوا عن مكاني أكثر ما عليه وضع عنه النصف
وشئ لأنه هو الأكثر، فان قال: ضعوا عنه ما شاء من كتابته فشاء الجميع فقد
روى الربيع رحمه الله أنه يوضع عنه الجميع الا شيئا، وروى المزني أنه إذا قال
ضعوا عنه ما شاء فشاءها كلها وضع الجميع لا شيئا، فمن أصحابنا من قال الصحيح
ما رواه الربيع، لان قوله من كتابته يقتضى التبعيض وما رواه المزني خطأ في
النقف والذي يقتضيه أن يوضع عنه الكل إذا شاء لان قوله ما شاء علم في الكل
والبعض، وقال أبو إسحاق ما نقله الربيع صحيح على ما ذكرناه وما نقله المزني أيضا
صحيح فإنه يقتضى أن يبقى من الكل شئ، لأنه لو أراد وضع الجميع لقال ضعوا
عنه مال الكتابة فلما علقه على ما شاء دل على أنه لم يرد الكل.
فإن قال: ضعوا عنه ما قل وما كثر وضع الوارث عنه ما شاء من قليل وكثير
لأنه ما من قدر الا وهو قليل بالإضافة إلى ما هو أكثر وكثير بالإضافة إلى ما هو
أقل منه. فإن قال: ضعوا عنه أكثر نجومه وضع عنه أكثرها مالا لأن اطلاق
الأكثر ينصرف إلى كثرة المال دون طول المدة.
فإن قال ضعوا عنه أوسط النجوم واجتمع في نجومه أوسط في القدر وأوسط في المدة
وأوسط في العدد كان للوارث أن يضع أي الثلاثة شاء لان الوسط يقع على الثلاثة
فإن استوى الجميع في المدة والقدر وضع عنه الأوسط في العدد، فإن كانت النجوم
ثلاثة وضع عنه الثاني، فإن كانت أربعة وضع عنه الثاني والثالث، فإن كانت خمسه
وضع عنه الثالث وعلى هذا القياس.
(فصل) وان كاتب عبده كتابة فاسدة ثم أوصى لرجل بما في ذمته لم تصح
الوصية لأنه لا شئ له في ذمته فصار كما لو وصى بماله في ذمة حر ولا شئ له
في ذمته، وان وصى له بما يقبضه منه صحت الوصية لأنه أضاف إلى حال يملكه
فصار كما لو وصى له برقبة مكاتب إذا عجزه وفى هذا عندي نظر لأنه لا يملكه
490

بالقبض وإنما يعتق بحكم الصفة كما يعتق بقبض الخمر إذا كاتبه عليه ثم لا يملكه،
وان وصى برقبته والكتابة فاسدة نظرت فإن لم يعلم بفساد الكتابة ففيه قولان،
(أحدهما) أن الوصية جائزة لأنها صادفت ملكه.
(والثاني) أنها باطلة لأنه وصى وهو يعتقد أنه يملك الوصية وان وصى بها
وهو يعلم أن الكتابة فاسدة صحت الوصية قولا واحدا كما لو باع من رجل شيئا
بيعا فاسدا ثم باعه من غيره وهو يعلم فساد البيع الأول، ومن أصحابنا من قال:
القولان في الجميع ويخالف البيع فان فاسده لا يجرى مجرى الصحيح في الملك وفى
الكتابة الفاسدة كالصحيح في العتق والصحيح هو الطريقة الأولى.
(فصل) وان وصى بحج فرض من رأس المال حج عنه من الميقات لان
الحج من الميقات. وما قبله تسبب إليه فان وصى به من الثلث، ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق أنه يحج عنه من بلده، فان عجز الثلث عنه
تمم من رأس المال لأنه يجب عليه الحج من بلده.
(والثاني) وهو قول أكثر أصحابنا أنه من الميقات لان الحج يجب بالشرع
من الميقات فحملت الوصية عليه، وان أوصى أن يجعل جميع الثلث في حج
الفرض حج عنه من بلده، وان عجز الثلث عن ذلك حج عنه من حيث أمكن
من طريقه، وان عجز عن الحج من الميقات تمم من رأس المال ما يحج به من
الميقات لان الحج من الميقات مستحق من رأس المال وإنما جعله من الثلث توفيرا
على الورثة فإذا لم يف الثلث بالجميع بقي فيما لم يف من رأس المال.
(فصل) وان أوصى بحج التطوع، وقلنا إنه تدخله النيابة نظرت، فان
قال أحجوا بمائه من ثلثي حج عنه من حيث أمكن، وان لم يوجد من يحج بهذا
القدر بطلت الوصية وعاد المال إلى الورثة لأنها تعذرت فبطلت كما لو أوصى لرجل
بمال فرده، وان قال: أحجوا عنى بثلثي صرف الثلث فيما أمكن من عدد الحجج
فان اتسع المال لحجة أو حجتين وفضل ما لا يكفي لحجة أخرى من بلده حج من
حيث أمكن من دون بلده إلى الميقات، فان عجز الفضل عن حجة من الميقات
رد الفضل إلى الورثة، وان أمكن أن يعتمر به لم يفعل لان الموصى له هو الحج
491

دون العمرة، فإن قال أحجوا عنى حج عنه بأجرة المثل من حيث أمكن من بلده
إلى الميقات، فإن عجز الثلث عن حجة من الميقات بطلت الوصية لما ذكرناه.
(فصل)
وإن وصى أن يحج عنه رجل بمائة ويدفع ما يبقى من الثلث إلى
آخر وأوصى بالثلث لثالث فقد وصى بثلثي ماله، فإن كان الثلث مائة سقطت
وصيته للموصى له بالباقي لان وصيته فيما يبقى بعد المائة ولم يبق شئ، فان أجاز
الورثة دفع إلى الموصى له بالثلث ثلثه وهو مائه وإلى الموصى له بالمائة مائه
وان لم يجيزوا قسم الثلث بين الموصى له بالثلث وبين الموصى له بالمائة نصفين
لأنهما اتفقا في قدر ما يستحقان وهو المائة، فإن كان الثلث أكثر من مائه وأجاز
الورثة دفع الثلث إلى الموصى له بالثلث ودفع مائه إلى الموصى له بالمائة ودفع
ما بقي إلى الموصى له بالباقي، وإن لم يجيزوا ما زاد على الثلث ردت الوصية إلى
نصفها وهو الثلث، فيدفع إلى الموصى له بالثلث نصف الثلث، وفى النصف
الآخر وجهان:
(أحدهما) يقدم فيه الموصى له بالمائة ولا يدفع إلى الموصى له بالباقي شئ
حتى يأخذ الموصى له بالمائة حقه لأنه وإن كان قد اعتد به مع الموصى له بالمائة
في إحراز الثلث إلا أن حقه فيما يبقى بعد المائة فلا يأخذ شيئا قبل أن يستوفى
الموصى له بالمائة حقه كما اعتد بالأخ من الأب مع الأخ من الأب والام على الجد
في إحراز ثلثي المال ثم لا يأخذ شيئا مع الأخ من الأب والام، فإن كان النصف
مائه أو أقل أخذه الموصى له بالمائة، وإن كان أكثر أخذ الموصى له بالمائة مائه
وأخذ الموصى له بالباقي ما يبقى.
(والوجه الثاني) أن الموصى له بالمائة والموصى له بالباقي يقسمان النصف
على قدر وصيتهما من الثلث، فإن كان الثلث مائتين اقتسما المائة نصفين لكل
واحد منهما خمسون وإن كان مائه وخمسين اقتسما الخمسة والسبعين أثلاثا،
الموصى له بالمائة خمسون، وللموصى له بالباقي خمسة وعشرون، وعلى هذا
القياس، لأنه إنما أوصى له بالمائة من كل الثلث لا من بعضه فلم يجز أن يأخذ
492

من نصف الثلث ما كان يأخذ من جميعه، كأصحاب المواريث إذا زاحمهم من له
فرض أو وصية.
(فصل) وإن بدأ فوصى بثلث ماله لرجل ثم وصى لمن يحج عنه بمائة ووصى لآخر
بما يبقى من الثلث ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبي إسحاق أن الوصية بالباقي
بعد المائة باطلة لان الوصية بالثلث تمنع من أن يبقى شئ من الثلث فعلى هذا إن
أجاز الورثة نفذت الوصيتان، وإن لم يجيز واردت الوصية إلى الثلث، فإن كان
الثلث مائه استوت وصيتهما فيقتسمان الثلث بينهما نصفين، وإن كان الثلث
خمسمائة قسم الثلث بينهما على ستة أسهم للموصى له بالثلث خمسة أسهم وللموصى
له بالمائة سهم، فإن كان الثلث ألفا قسم على أحد عشر سهما للموصى له بالثلث
عشرة أسهم وللموصى له بالمائة سهم.
والوجه الثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إن الحكم في هذه المسألة
كالحكم في المسألة قبلها لأنه إذا أوصى بالمائة بعد الثلث علم أنه لم يرد ذلك الثلث
لان الوصية الأولى قد استوعبته وإنما أراد ثلثا ثانيا، فإذا أوصى بعد المائة بما
يبقى من الثلث دل على أنه أراد ما يبقى من الثلث الثاني، فصار موصيا بثلثي ماله
كالمسألة قبلها.
(فصل) وان وصى لرجل بعبد ولآخر بما بقي من الثلث قوم العبد مع التركة
بعد موت الموصى، فان خرج من الثلث دفع إلى الموصى له فان بقي من الثلث
شئ دفع إلى الآخر وان لم يبق شئ بطلت الوصية بالباقي لان وصيته فيما في،
وإن أصاب العبد عيب بعد موت الموصى قوم سليما ودفع إلى الموصى له الباقي
لأنه وصى له بالباقي من قيمته وهو سليم. وإن مات العبد بعد موت الموصى
بطلت الوصية فيه وقوم وقت الموت مع التركة ودفع إلى الموصى له الباقي من
الثلث لأنهما وصيتان فلا تبطل إحداهما ببطلان الأخرى، كما لو وصى لرجلين
فرد أحدهما.
(فصل) فان وصى له بمنفعة عبد ملك الموصى له منافعه واكتسابه، فإن كان
493

جارية ملك مهرها لأنه بدل منفعتها، ولا يجوز للمالك وطؤها لأنه تملك الرقبة
من غير منفعة ولا الموصى له وطؤها لأنه تملك المنفعة من غير الرقبة والوطئ
لا يجوز إلا في ملك تام ويجوز تزويجها لاكتساب المهر
وفيمن يملك العقد ثلاثة أوجه (أحدها) يملكه الموصى له بالمنفعة لان
المهر له (والثاني) يملكه المالك لأنه يملك رقبتها (والثالث) لا يصح العقد إلا
باتفاقهما لان لكل واحد منهما حقا فلا ينفرد به أحدهما دون الاخر، فان أتت
بولد مملوك ففيه وجهان (أحدهما) أنه للموصى له لأنه من جملة فوائدها فصار
كالكسب (والثاني) أنه كالأم رقبته للمالك ومنفعته للموصى له لأنه جزء من
الام فكان حكمه حكم الام، فان قتل ففي قيمته وجهان (أحدهما) أنها للمالك
لأنها بدله فكانت له (والثاني) وهو الصحيح أنه يشترى به مثله للمالك رقبته
وللموصى له منفعته لأنه قائم مقام الأصل فكان حكمه حكم الأصل، فان جنى
على طرفه ففي أرشه وجهان (أحدهما) أنه للمالك لأنه يدل ملكه (والثاني) وهو
الصحيح أن ما قابل منه ما نقص من قيمة الرقبة للمالك وما قابل منه ما نقص من
المنفعة للموصى له لأنه دخل النقص عليهما فقسط الأرش عليهما، فان احتاج
العبد إلى نفقة ففيه ثلاثة أوجه
(أحدها) وهو قول أبي سعيد الإصطخري أن النفقة على الموصى له بالمنفعة
لان الكسب له.
(والثاني) أنها على المالك، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لان النفقة على
الرقبة فكانت على مالكها
(والثالث) أنها في كسبه فإن لم يف الكسب ففي بيت المال لأنه لا يمكن
ايجابها على المالك لأنه لا يملك الانتفاع ولا على الموصى له لأنه لا يملك الرقبة
فلم يبق الا ما قلناه، فان احتاج البستان الموصى بثمرته إلى سقى أو الدار الموصى
بمنفعتها إلى عمارة لم يجب على واحد منهما، لأنه لو أنفرد كل واحد منهما بملك
الجميع لم يجبر على الانفاق فإذا اشتركا لم يجب
(فصل) فان أراد المالك بيع الرقبة ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه يجوز
لأنه يملكها ملكا تاما (والثاني) أنه لا يجوز لأنها عين مسلوبة المنفعة فلم يجر
494

بيعها كالأعيان التي لا منفعة فيها (والثالث) يجوز بيعها من الموصى له لأنه يمكنه
الانتفاع بها ولا يجوز من غيره لأنه لا يمكنه الانتفاع بها فان أراد أن يعتقه جاز
لأنه يملكه ملكا تاما وللموصى له أن يستوفى المنفعة بعد العتق لأنه تصرف في
الرقبة فلم يبطل به حق الموصى له من المنفعة ولا يرجع العبد على المالك بأجرته
كما يرجع العبد المستأجر على مولاه بعد العتق في أحد القولين لان هناك ملك
المولى بدل منفعته ولم يملك المولى ههنا بدل المنفعة
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو قال أعطوه كلبا من كلابي أعطاه
الوارث أيها شاء وهذا كما قال، فإن الوصية بالكلب المنتفع به جائزة، لأنه لما جاز
إقراره في يد صاحبه، وحرم انتزاعه من يد صاحبه جاز أن يكون وصيه وميراثا
فإذا أوصى له بكلب ولا كلاب له فالوصية باطلة، لأنه لا يصح أن يشترى ولا
يلزم أن يستوهب، وإن كان له كلاب فضربان: منتفع به وغير منتفع، فإن كانت
كلابه كلها غير منتفع بها فالوصية باطله لحظر اقتنائه وتحريم إمساكه، وإن
كانت كلها منتفعا بها فكان له كلب حرث وكلب ماشية وكلب صيد نظرت، فإن كان
الموصى له صاحب حرث وماشية وصيد فالوارث بالخيار في إعطائه أي كلب
شاء من حرث أو ماشية أو صيد.
وإن كان الموصى له ليس بصاحب حرث ولا ماشية ولا صيد ففي الوصية
وجهان. أحدهما الوصية باطلة اعتبارا بالموصى له وأنه غير منتفع به، وإن كان
الموصى له ممن ينتفع بأخذها بأن كان صاحب حرث لا غير أو صاحب صيد لا غير
فالوصية جائزة، وفيها وجهان. أحدهما: يلزم الوارث أن يعطيه الكلب الذي
يختص بالانتفاع به دون غيره اعتبارا بالموصى له. والثاني أن للوارث الخيار في
إعطائه أي الكلاب شاء اعتبارا بالموصى به.
فأما الوصية بالجرو الصغير المعد للتعليم ففي جوازها وجهان من اختلاف
الوجهين في اقتنائه. أحدهما: أن اقتناءه غير جائز والوصية به باطله لأنه غير
منتفع به في الحال. والثاني أن اقتناءه جائز والوصية به جائزة لأنه سينتفع به في
ثاني حال، ولان تعليمه منفعة في الحال.
495

ولو كان لرجل ثلاثة كلاب ولم يترك شيئا سواها فأوصى بجميعها لرجل،
فإن أجازها الورثة له وإلا ردت الوصية إلى الثلث، ثم في كيفية رجوعها إلى
الثلث وجهان. أحدهما أن تستحق من كل كلب ثلثه فيحصل له ثلث الثلاثة،
ولا يستحق واحدا بكماله إلا عن مراضاته، والوجه الثاني: أنه قد استحق
بالوصية أحدها بخلاف الأموال، لان الأموال مقومه تختلف أثمانها، وليس
كالكلاب التي لا تقوم، فاستوى فيه حكم جميعها، فعلى هذا فيه وجهان،
أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه يأخذ أحدها بالقرعة. الثاني أن
للورثة أن يعطوه أيها شاءوا
فأما إن كان له كلب واحد ولا مال له غيره فأوصى به لرجل فهو كمن أوصى بجميع
ماله، فإن أجازه الورثة وإلا كان للموصى له ثلثه وللورثة ثلثاه، ويكون بينهما
على المهايأة. وإن ملك مالا فأوصى بهذا الكلب الذي ليس له كلب سواه ففي
الوصية وجهان. أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن الوصية جائزة
في الكلب كله للموصى به له، لان قليل المال خير من الكلب الذي ليس بمال.
والوجه الثاني - وهو قول أبي سعيد الإصطخري - ان للموصى له ثلث الكلب
إذا منع الورثة من جميعه. وإن كثر مال التركة لأنه مما لا يمكن أن يشترى
فيساويه الورثة فيما صار إليهم من المال، فاختص الكلب بحكمه وصار كأنه جميع
التركة، فلو ترك ثلاثة كلاب ومالا، وأوصى بجميع كلابه الثلاثة، فعلى قول
أبي علي بن أبي هريرة: الوصية بجميع الكلاب الثلاثة ممضاة وإن قل مال التركة
وعلى قول أبي سعيد الإصطخري تصح الوصية في أحدها إذا امنع الورثة من جميعها
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو قال أعطوه طبلا من طبولي وله
طبلان للحرب واللهو أعطاه أيهما شاء، فإن لم يصلح الذي للهو الا للطرب لم
يكن لهم أن يعطوا إلا الذي للحرب
وأصل هذه المسائل أن الوصية بما لا منفعة فيه باطله والوصية بما فيه منفعة
مباحه ومنفعة محظورة ومنفعة مشتركة بين الحظر والإباحة ن فإن كانت المنفعة
مباحه جاز بيع ذلك والوصية به، وإن كانت المنفعة محظورة لم يجز بيعه ولا الوصية به
وإن كانت مشتركة جاز بيعه والوصية به لأجل الإباحة ونهى عن استعماله في الحظر
496

فإذا ثبت هذا: وأوصى له بطبل من طبوله، فإن لم يكن له إلا طبول الحرب
فالوصية به جائزة، لان طبل الحرب مباح، ثم ينظر، فإن كان اسم الطبل يطلق
عليه بغير جلد دفع إليه الطبل بغير جلد، وإن كان لا يطلق عليه الاسم الا بالجلد
دفع إليه مع جلده، وإن كانت طبوله كلها طبول اللهو فإن كانت لا تصلح إلا
للهو فالوصية باطله لان طبول اللهو محظورة، وإن كانت تصلح لغير اللهو
في غير المنافع المباحة جازت الوصية بها.
وإن كانت طبوله نوعين طبول حرب وطبول لهو فإن كانت طبول اللهو
لا تصلح لغير اللهو لم يعط إلا طبل الحرب، وإن كانت طبول اللهو تصلح
لغيره من المباحات كان الوارث بالخيار في اعطائه ما شاء من طبل لهو أو حرب
لانطلاق الاسم عليه، إلا أن يدل كلامه على أحدهما فيحمل عليه، كقوله:
أعطوه طبلا للجهاد أو الارهاب فلا يعطى إلا طبل الحرب، وإن قال: طبلا
للفرح والسرور لم يعط إلا طبل اللهو.
فأما الوصية بالدف العربي فجائزة لورود الشرع بإباحة الضرب به في المناكح
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو قال: عودا من عيداني، وله
عبدان يعزف بها وعيدان قسي وعصي وغيرها، فالعود إذا وجه به المتكلم للعود
الذي يضرب به دون ما سواه مما يقع عليه اسم عود، فإن كان العود يصلح لغير
الضرب جازت الوصية ولم يكن عليه إلا أقل ما يقع عليه اسم عود وأصغره بلا
وتر، وإن كان لا يصلح لغير الضرب بطلت عندي الوصية.
ومعنى كلام الشافعي أنه إذا قال: أعطوه عودا من عيداني فمطلق هذا الاسم
يتناول عيدان الضرب والعزف واللهو دون عيدان القسي والعصي، فإن كان
عود الضرب لا يصلح لغير الضرب واللهو فالوصية باطله، وإن كان يصلح لغير
اللهو فالوصية جائزة، ويعطاه بغير وتر لانطلاق الاسم عليه، وان لم يكن عليه
وتر ينظر فإن كان لا يصلح لغير اللهو الا بعد تفصيله وتخليعه فصل وخلع ثم دفع
إليه، وإن كان يصلح لغير اللهو لم يفصل ودفع إليه غير مفصل.
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه (وكذلك المزمار) يعنى أنه إن كان
497

لا يصلح الا للهو فالوصية باطله، وإن كان يصلح لغير اللهو فالوصية به جائزة،
ثم الكلام في التفصيل على ما مضى. فأما الشبابه التي ينفخ فيها مع طبل الحرب
وفى الاسفار، فالوصية بها جائزة.
وقال الشافعي رضي الله عنه: ولو قال: أعطوه قوسا من قسي وله قسي
معمولة، وقسى غير معمولة أو ليس منها شئ فقال: أعطوه عودا من القسي
كان عليهم أن يعطوه قوسا معمولة أي قوس شاءوا - صغيرة أو كبيرة. عربية
أو أي عمل شاءوا - إذا وقع عليه اسم قوس ترمى بالنبل أو النشاب أو الحسبان
ومعنى هذا الكلام أنه إذا أوصى بقوس من القسي فمطلق القوس يتناول قوس
السهام والحربة دون قوس النداف والجلاهق الذي هي منها البندق، فلا يعطى
الا قوس السهام الحربية سواء أعطاه قوس نشاب وهي الفارسية، أو قوس نبل
وهي العربية أو قوس حسبان، والخيار فيها إلى الوارث لاشتراك الاسم في
جميعها، ولا يلزم أن يدفع الوتر معه، لأنه يسمى قوسا بغير وتر، وهكذا لو
أوصى له بدابة لم يعط سرجها.
فأما أن قال: أعطوه قوسا من قسي وله قوس نداف وقوس جلاهق أعطى
قوس الجلاهق التي يرمى عنها لأنها أخص بالاسم، فإن لم يكن له الا قوس
نداف دفع إليه، ولو اقترن بكلامه ما يدل على مراده عمل على ما دل عليه كلامه
من القسي الثلاث. أما بقية الفصول فقد مضى الكلام على بعضها، ومنها ما هو
على وجهه من كلام المصنف، والله تعالى أعلم.
498

قال المصنف رحمه الله تعالى
باب الرجوع في الوصية
يجوز الرجوع في الوصية لأنها عطية لم تزل الملك فجاز الرجوع فيها كالهبة
قبل القبض، ويجوز الرجوع بالقول والتصرف لأنه فسخ عقدا قبل تمامه فجاز
بالقول والتصرف كفسخ البيع في مدة الخيار، وفسخ الهبة قبل القبض، وإن قال
هو حرام عليه فهو رجوع لأنه لا يجوز أن يكون وصية له وهو محرم عليه، فان
قال: لوارثي فهو رجوع لأنه لا يجوز أن يكون للوارث وللموصى له، وإن قال
هو تركتي ففيه وجهان. أحدهما: أنه رجوع لان التركة للورثة، والثاني: أنه
ليس برجوع لان الوصية من جملة التركة.
(فصل) وإن وصى لرجل بعبد ثم وصى به لآخر لم يكن ذلك رجوعا
لامكان أن يكون نسي الأول أو قصد الجمع بينهما، فان قال ما وصيت به لفلان
فقد وصيت به لآخر فهو رجوع، ومن أصحابنا من قال: ليس برجوع كالمسألة
قبلها والمذهب الأول لأنه صرح بالرجوع.
(فصل) وإن باعه أو وهبه وأقبض أو أعتقه أو كاتبه أو أوصى أن يباع
أو يوهب ويقبض أو يعتق أو يكاتب قهو رجوع، لأنه صرفه عن الموصى له،
وإن عرضه للبيع أو رهنه في دين أو وهبه ولم يقبضه فهو رجوع، لان تعريضه
لزوال الملك صرف عن الموصى له.
ومن أصحابنا من قال: إنه ليس برجوع لأنه لم يزل الملك، وليس بشئ،
وإن وصى بثلث ماله ثم باع ماله لم يكن ذلك رجوعا لان الوصية بثلث المال عند
الموت لا بثلث ما باعه، فإن وصى بعبد ثم دبره - فإن قلنا: إن التدبير عتق
بصفة - كان ذلك رجوعا، لأنه عرضه لزوال الملك، وإن قلنا: إنه وصية
وقلنا في أحد القولين: إن العتق يقدم على سائر الوصايا - كان ذلك رجوعا
لأنه أقوى من الوصية فأبطلها، وان قلنا: إن العتق كسائر الوصايا ففيه وجهان
499

(أحدهما) أنه ليس برجوع، فيكون نصفه مدبرا ونصفه موصى به، كما لو
أوصى به لرجل ثم وصى به لآخر (والثاني) أنه رجوع، لان التدبير أقوى،
لأنه يتنجز من غير قبول، والوصية لا تتم إلا بالقبول، فقدم التدبير كما يقدم
ما تنجز في حياته من التبرعات على الوصية.
(فصل) وان وصى له بعبد ثم زوجه أو أجره أو علمه صنعة أو ختنه لم
يكن ذلك رجوعا، لأن هذه التصرفات لا تنافى الوصية، فإن كانت جاريه فوطئها
لم يكن ذلك رجوعا لأنه استيفاء منفعة فلم يكن رجوعا كالاستخدام. وقال
أبو بكر بن الحداد المصري: ان عزل عنها لم يكن رجوعا، وان لم يعزل عنها كان
رجوعا لأنه قصد التسري بها.
(فصل) وان وصى بطعام معين فخلطه بغيره كان ذلك رجوعا لأنه جعله
على صفة لا يمكن تسليمه، فإن وصى بقفيز من صبرة ثم خلط الصبرة بمثلها لم
يكن ذلك رجوعا، لان الوصية مختلطة بمثلها، والذي خلطه به مثله، فلم يكن
رجوعا، فإن خلطه بأجود منه كان رجوعا، لأنه أحدث فيه بالخلط زيادة لم
يرض بتمليكها، فان خلطه بما دونه ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: انه ليس برجوع، لأنه نقص
أحدثه فيه فلم يكن رجوعا كما لو أتلف بعضه.
(والثاني) أنه رجوع لأنه يتغير بما دونه كما يتغير بما هو أجود منه، فان
نقله إلى بلد أبعد من بلد الموصى له ففيه وجهان (أحدهما) أنه رجوع لأنه لو لم
يرد الرجوع لما أبعده عنه (والثاني) أنه ليس برجوع لأنه باق على صفته.
(فصل) فان وصى بحنطة فقلاها أو بذرها كان ذلك رجوعا، لأنه جعله
كالمستهلك، وان وصى بحنطة فطحنها أو بدقيق فعجنه، أو بعجين فخبزه، كان
ذلك رجوعا، لأنه أزال عنه الاسم، ولأنه جعله للاستهلاك، وان وصى له
بخبز فجعله فتيتا ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه رجوع لأنه أزال عنه اطلاق اسم الخبز، فأشبه إذا ثرده.
(والثاني) ليس برجوع، لان الاسم باق عليه، لأنه يقال خبز مدقوق،
500

وان وصى برطب فجعله تمرا ففيه وجهان. أحدهما: أنه رجوع لأنه أزال عنه
اسم الرطب. والثاني: ليس برجوع لأنه أبقى له وأحفظ على الموصى له.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: وللرجل إذا أوصى بوصية تطوع بها
أن ينقضها كلها أو يبدل منها ما شاء التدبير أو غيره ما لم يمت، وإن كان في وصيته
إقرار بدين أو غيره أو أعتق بثاث فذلك شئ واجب عليه أوجبه على نفسه في
حياته لا بعد موته، فليس له أن يرجع من ذلك في شئ.
ثم قال في باب ما يكون رجوعا في الوصية وتغييرا لها وما لا يكون رجوعا
ولا تغييرا: وإذا أوصى رجل بعبد بعينه لرجل ثم أوصى بذلك العبد بعينه لرجل فالعبد
بينهما نصفان، ولو قال: العبد الذي أوصيت به لفلان لفلان، أو قد أوصيت
بالذي أوصيت به لفلان لفلان كان هذا ردا للوصية الأولى، وكانت وصيته
للآخر منهما، ولو أوصى لرجل بعبد ثم أوصى أن يباع ذلك العبد كان هذا دليلا
على إبطال وصيته به للأول، ولو أوصى لرجل بعبد ثم باعه أو كاتبه أو دبره أو
وهبه كان هذا كله ابطالا للوصية فيه.
ثم قال: ولو أوصى به لرجل ثم أذن له في التجارة أو بعثه تاجرا إلى بلد أو
أجره أو علمه كتابا أو قرآنا أو علما أو صناعة أو كساه أو وهب له مالا أو زوجه
لم يكن شئ من هذا رجوعا في الوصية، ولو كان الموصى به طعاما فباعه أو وهبه
أو أكله أو كان حنطة فطحنها أو دقيقا فعجنه أو خبزه، أو حنطة فجعلها سويقا
كان هذا كله كنقض الوصية، ولو أوصى له بما في هذا البيت من الحنطة
ثم خلطها بحنطة غيرها كان هذا ابطالا للوصية، ولو أوصى له بما في البيت
بمكيلة حنطة ثم خلطها بحنطة مثلها لم يكن هذا ابطالا للوصية وكانت له المكيلة
التي أوصى بها له. اه‍
قلت: ما أورد الشافعي في هذا الكلام صور لما يمكن أن يكون رجوعا
بالصرف وابطالا، أو تصرفا لا يعد رجوعا ولا يؤثر في صحتها، وبيان هذا أنه
إذا أوصى لرجل بمعين من ماله ثم وصى به لآخر أو وصى بثلثه له ثم وصى لآخر بثلثه أو
وصى بجميع ماله لرجل ثم وصى به لآخر فهو بينهما، ولا يكون ذلك رجوعا
501

في الوصية الأولى، وبهذا قال ربيعة ومالك والشورى والشافعي وإسحاق وأحمد
ابن حنبل وابن المنذر وأصحاب الرأي. وقال جابر بن زيد والحسن وعطاء
وطاوس وداود بن علي وصيته للآخر منهما، لأنه وصى للثاني بما وصى به للأول
فكان رجوعا، كما لو قال: ما وصيت به لبشر فهو لبكر، ولان الثانية تنافى
الأولى، فإذا أتى بها كان رجوعا، كما لو قال: هذا لورثتي
ولنا أنه وصى لهما فاستويا فيها، كما لو قال لهما: وصيت لكما بسيارتي، وما
قاسوا عليه صرح فيه بالرجوع عن وصيته. وفى مسألتنا يحتمل أنه قصد التشريك
فلم تبطل وصية أحدهما بالشك.
وإن قال: ما أوصيت به لبشر فهو لبكر كان ذلك رجوعا في الوصية لبشر.
وهذا قول الشافعي وأبي ثور وأصحاب الرأي، وهو أيضا مذهب الحسن وعطاء
وطاوس ولا نعلم فيه مخالفا، لأنه صرح بالرجوع عن الأول بذكره أن ما أوصى
به مردود إلى الثاني، فأشبه ما لو قال رجعت عن وصيتي لبشر وأوصيت بها لبكر
بخلاف ما إذا أوصى بشئ واحد لرجلين أحدهما بعد الاخر، فإنه يحتمل أنه قصد
التشريك بينهما، وقد ثبتت وصية الأول يقينا فلا تزول بالشك
وإن قال ما أوصيت به لفلان فنصفه أو ثلثه كان رجوعا في القدر الذي
وصى به للثاني خاصة وباقيه للأول.
وأجمع أهل العلم على أن للوصي أن يرجع في جميع ما أوصى به وفى بعضه
الا الوصية بالاعتاق،، وبعضهم على جواز الرجوع في الوصية به أيضا. وروى
عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يغير الرجل ما شاء من وصيته، وبه قال عطاء
وجابر بن زيد والزهري وقتادة ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور.
وقال الشعبي وابن سيرين وشبرمة والنخعي: يغير منها ما شاء الا العتق، لأنه
اعتاق بعد الموت فلم يملك تغيير تغييره كالتدبير.
ولنا أنها وصيه فملك الرجوع عنها كغير العتق، ولأنها عطيه تنجز بالموت
فجاز له الرجوع عنها قبل تنجيزها، كهبة ما يفتقر إلى القبض قبل قبضه، وفارق
التدبير فإنه تعليق على شرط فلم يملك تغييره كتعليقه على صفه الحياة
502

ويحصل الرجوع بقوله: رجعت في وصيتي أو أبطلتها أو غيرتها أو ما أوصيت
به لفلان فهو لفلان أو فهو لورثتي أو في ميراثي، وإن أكله أو أطعمه أو أتلفه
أو وهبه أو تصدق به أو باعه، أو كان ثوبا غير مفصل ففصله ولبسه، أو جارية
فأحبلها أو ما أشبه ذلك فهو رجوع ولا يعد من الرجوع جماع الجارية بخلاف
ما لو أحبلها.
قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أنه إذا أوصى لرجل
بطعام فأكله أو بشئ فأتلفه أو تصدق به أو وهبه أو بجارية فأحبلها أو أولدها
أنه يكون رجوعا. وحكى عن أصحاب الرأي أن بيعه ليس برجوع لأنه أخذ بدله
بخلاف الهبة، ولأنه أزال ملكه عنه فكان رجوعا كما لو وهبه، وإن عرضه على
البيع أو وصى ببيعه أو أوجب الهبة فلم يقبلها الموهوب له أو كاتبه أو وصى
بإعتاقه أو دبره كان رجوعا، لأنه يدل على اختياره للرجوع بعرضه على البيع
وإيجابه للهبة ووصيته ببيعه أو إعتاقه لكونه وصى بما ينافي الوصية الأولى،
والكتابة، بيع والتدبير أقوى من الوصية لأنه ينجز بالموت فيسبق أخذ الموصى له
وإن رهنه كان رجوعا لأنه علق به حقا يجوز بيعه فكان أعظم من عرضه على
البيع، وفيه وجه آخر أنه ليس برجوع، وهو وجه لأصحاب أحمد لأنه لا يزيل
الملك فأشبه إجارته، وكذلك الحكم في الكتابة.
(فرع) وإن وصى بحب ثم طحنه أو بدقيق فعجنه أو بعجين فخبزه أو بخبز
ففته كان رجوعا، لأنه أزال اسمه وعرضه للاستعمال، فدل على رجوعه، وبهذا
قال أحمد وأصحابه. أما تفتيته ودقه فقد قال أصحاب أحمد: يعد رجوعا ولا صحابنا
فيه وجهان حكاهما المصنف.
وإن وصى بشئ معين ثم خلطه بغيره على وجه لا يتميز منه كان رجوعا لأنه
يتعذر بذلك تسليمه. وإن وصى بقفيز قمح من صبرة ثم خلطها بغيرها نظرت
فإن كان بخير منها كان ذلك رجوعا لأنه أحدث فيه زيادة ليست من الوصية.
أما إذا خلطه بما دونه ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة
ان ذلك ليس رجوعا قياسا على ما إذا تلف بعضه فصار الباقي على وصته.
503

(والثاني) انه رجوع، وقد ذهب احمد وأصحابه إلى أن الخلط بما هو خير
منه أو بما دونه أو بمثله لا يعد رجوعا لأنه كان مشاعا وبقى مشاعا وعندهم
وجه ضعيف فيما خلط بخير منه أنه يكون رجوعا، لأنه لا يمكنه تسليم الموصى
به إلا بتسليم خير منه، ولا يجب على الوارث تسليم خير منه فصار متعذر التسليم
بخلاف ما إذا خلطه بمثله أو دونه، والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وصى بقطن فغزله أو بغزل فنسجه كان ذلك رجوعا، لأنه
أزال عنه الاسم، وان أوصى له بقطن فحشى به فراشا ففيه وجهان
(أحدهما) انه رجوع لأنه جعله للاستهلاك (والثاني) ليس برجوع لان
الاسم باق عليه.
(فصل) وان أوصى له بثوب فقطعه أو بشاة فذبحها، كان رجوعا، لأنه
أزال عنه الاسم، ولأنه جعله للاستهلاك، وان وصى له بحلم فطبخه أو شواه
كان ذلك رجوعا، لأنه جعله للاكل، وان قدده ففيه وجهان كما قلنا في الرطب
إذا جعله تمرا.
(فصل) وان وصى له بثوب فقطعه قميصا أو بساج فجعله بابا ففيه
وجهان (أحدهما) انه رجوع، لأنه أزال عنه اطلاق اسم الثوب والساج.
ولأنه جعله للاستعمال.
(والثاني) انه ليس برجوع، لان اسم الثوب والساج باق عليه
(فصل) وان وصى بدار فهدمها كان رجوعا لأنه تصرف أزال به الاسم
فكان رجوعا، كما لو وصى بحنطة فطحنها، وان تهدمت نظرت لان لم يزل عنها
اسم الدار فالوصية باقية فيما بقي. وأما ما انفصل عنها فالمنصوص انه خارج من
الوصية لأنه انفصل عن الموصى به في حياة الموصى. وحكى القاضي أبو القاسم
ابن كج رحمه الله وجهان آخر: انه للموصى له لأنه تناولته الوصية فلم يخرج منها
بالانفصال، وإن زال عنها اسم الدار ففي الباقي من العرصة وجهان (أحدهما) انه
تبطل فيه الوصية لأنه أزال عنها اسم الدار (والثاني) لا تبطل لأنه لم يوجد من
جهته ما يدل على الرجوع.
504

(فصل) وان وصى له بأرض فزرعها لم يكن ذلك رجوعا، لأنه لا يراد
للبقاء، وقد يحصل قبل الموت فلم يكن رجوعا، وإن غرسها أو بنى فيها ففيه
وجهان (أحدهما) أنه رجوع لأنه جعلها لمنفعة مؤبدة، فدل على الرجوع،
(والثاني) ليس برجوع لأنه استيفاء منفعة فهو كالزراعة، فعلى هذا في موضع
الأساس وقرار الغراس وجهان.
(أحدهما) أنه لا تبطل فيه الوصية كالبياض الذي بينهما فإذا مات الغراس
أو زال البناء عاد إلى الموصى له.
(والثاني) أنه تبطل الوصية فيه لأنه جعله تابعا لما عليه.
(فصل) وإن أوصى له بسكنى دار سنة فأجرها دون السنة لم يكن ذلك
رجوعا، لأنه قد تنقضي الإجارة قبل الموت، فان مات قبل انقضاء الإجارة ففيه
وجهان (أحدهما) يسكن مدة الوصية بعد انقضاء الإجارة (والثاني) انه تبطل
الوصية بقدر ما بقي من مدة الإجارة وتبقى في مدة الباقي.
(الشرح) إذا وصى بكتان أو قطن فغزله أو وصى بغزل فنسجه أو بثوب
فقطعه أو بسبيكة فصاغها أو شاة فذبحها كان ذلك رجوعا، وبهذا قال أصحاب
الرأي والشافعي في ظاهر المذهب وهو الراجع من أحمد، واختار أبو الخطاب
من الحنابلة انه ليس برجوع، وهو قول أبي ثور لأنه لا يزيل الاسم.
دليلنا: انه عرضة للاستعمال فصار رجوعا كالمسائل قبله، ولا يصح قوله إنه
لا يزيل الاسم، فان الثوب لا يسمى غزلا، والغزل لا يسمى كتابا.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: ولو أوصى له بدار وقبل كانت له
وما ثبت فيها من أبوابها وغيرها دون ما فيها. قلت لان الوصية إذا كانت بالدار
دخل فيها كل ما كان من الدار ولها ولم يدخل في الوصية كل ما كان في الدار
إذا لم يكن منها، فالداخل في الوصية حيطانها وسقوفها وأبوابها المنصوبة عليها،
وما كان متصلا بها من زخرفها ودرجها، ولم يخل فيها ما انفصل عنها من
أبوابها ورفوفها وسلاليمها المنفصلة عنها.
وجملة ذلك أن كل ما جعلناه داخلا في البيع معها دخل في الوصية بها، وكل
505

ما لم نجعله داخلا في البيع لم يدخل في الوصية، فلو كان الموصى به أرضا دخل في
الوصية نخلها وشجرها، ولم يدخل فيه زرعها، ولو كان نخلها عند الوصية مثمرا
لم يدخل ثمرها في الوصية إن كان مؤبرا، وفى دخوله فيها إن كان غير مؤبر
وجهان (أحدهما) يدخل كالبيع (والثاني) لا يدخل لخروجه عن الاسم، وإن كان
متصلا، وهذان الوجهان مخرجان من اختلاف قوليه في دخوله في الرهن.
إذا ثبت هذا فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ولو انهدمت في حياة الموصى
كانت له إلا ما انهدم منها فصار غير ثابت فيها، وصورتها في رجل أوصى لرجل
بدار فانهدمت فلا يخلو انهدامها من ثلاثة أحوال.
(أحدهما) أن تنهدم في حياة الموصى.
(والثاني) بعد موته وبعد قبول الموصى له.
(والثالث) بعد موته وقبل قبول الموصى، فان انهدمت في حياة الموصى،
فهذا على ضربين. أحدهما: أن يزول اسم الدار عنها بالانهدام. والثاني: أن
لا يزول، فإن لم يزل اسم الدار عنها لبقاء بنيان فيها تسمى دارا، فالوصية جائزة
وله ما كان ثابتا فيها من بنيانها، فأما المنفصل عنها بالهدم فالذي نص عليه
الشافعي أن يكون خارجا من الوصية، فذهب الجمهور من أصحابنا إلى حمل ذلك
على ظاهره، وأنه خارج من الوصية، لان ما انفصل عنه لا يسمى دارا، فلم يكن
للموصى له بالدار فيها حق.
وحكى أبو القاسم بن كج وجها آخر عن بعض أصحابنا أن نص الشافعي على
خروج ما نهدم من الوصية محمول على أنه هدمه بنفسه فصار بذلك رجوعا فيه،
ولو انهدمت بسبب من السماء لا ينسب لفعل الموصى كان للموصى له باقي الدار
لأنه منهما وإنما بان عنها بعد أن تناولته الوصية، وإن كانت الدار بعد انهدامها
لا تسمى دارا لأنها صارت عرصة لا بناء فيها ففي بطلان الوصية وجهان.
(أحدهما) لا تبطل وهذا قول من جعل الآلة بعد انفصالها ملكا للموصى له
(والوجه الثاني) أن الوصية بها باطلة وهو الأصح، لأنها إذا كانت عرصة
لم تسم دارا، ألا ترى لو حلف لا يدخلها لم يحنث بدخول عرصتها بعد ذهاب
506

بنائها، وهذا قول من جعل ما انفصل عنها غير داخل في الوصية، فأما إن
كان انهدامها بعد موت الموصى وبعد قبول الموصى له فالوصية بهما ممضاة، وجميع
ما انفصل عنها من البناء كالمتصل يكون ملكا للموصى له لاستقرار ملكه
عليها بالقبول.
فاما إن كان انهدامها بعد موت الموصى وقبل قبول الموصى له، فإن لم يزل
اسم الدار عنها فالوصية بحالها، فإذا قبلها الموصى له، فان قيل: إن القبول يبنى
عن تقدم الملك بموت الموصى وكل ذلك ملك للموصى له المنفصل منه والمتصل
فان قيل: إن القبول هو المملك فله الدار وما اتصل بها من البناء.
وفى المنفصل وجهان (أحدهما) للموصى له (والثاني) للورثة، وإن لم تسم
الدار بعد انهدامها دارا.
(فان قلنا) إن القبول يبنى عن تقدم الملك، فالوصية جائزة وجهان واحدا
وله العرصة وجميع ما فيها من منفصل أو متصل، إذا كان عند الموت متصلا،
وان قيل: إن القبول هو المملك مع بطلان الوصية بانهدامها على مضى من
الوجهين (أحدهما) باطلة (والثاني) جائزة وله ما اتصل بها. وفى المنفصل
وجهان: وما بقي من كلام المصنف فعلى وجهه وليس فيه أقاويل تذكر،
والله تعالى أعلم بالصواب.
507

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الأوصياء
لا تجوز الوصية الا إلى بالغ عاقل حر عدل، فأما الصبي والمجنون والعبد
والفاسق فلا تجوز الوصية إليهم، لأنه لاحظ للميت ولا للطفل في نظر هؤلاء
ولهذا لم تثبت لهم الولاية، واما الكافر فلا تجوز الوصية إليه في حق المسلم،
لقوله عز وجل (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا، ودوا ما عنتم)
ولأنه غير مأمون على المسلم، ولهذا قال الله تعالى (لا يرقبون في مؤمن إلا
ولا ذمه) وفى جواز الوصية إليه في حق الكافر وجهان (أحدهما) انه يجوز
لأنه يجوز أن يكون وليا له فجاز أن يكون وصيا له كالمسلم (والثاني) لا يجوز
كما لا تقبل شهادته للكافر والمسلم.
(فصل) وتجوز الوصية إلى المرأة لما روى أن عمر رضي الله عنه وصى
إلى ابنته حفصة في صدقته ما عاشت، فإذا ماتت فهو إلى ذوي الرأي من أهلها،
ولأنها من أهل الشهادة فجازت الوصية إليها كالرجل. واختلف أصحابنا في الأعمى
فمنهم من قال: تجوز الوصية إليه لأنه الشهادة فجازت الوصية إليه
كالبصير، ومنهم من قال: لا تجوز الوصية لأنه تفتقر الوصية إلى عقود لا تصح
من الأعمى، وفضل نظر لا يدرك الا بالعين.
(الشرح) تصح الوصية إلى الرجل العاقل المسلم الحر العدل اجماعا، ولا تصح
إلى مجنون ولا طفل ولا وصية مسلم إلى كافر بغير خلاف نعلمه، لان المجنون
والطفل ليسا من أهل التصرف في أموالهما، فلا يليان على غيرهما، والكافر ليس
من أهل الولاية عن مسلم، لقوله تعالى (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم
خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفى صدورهم أكبر).
قال ابن أبي حاتم حدثنا أبي حدثنا أبو أيوب محمد بن الوزان حدثنا عيسى
ابن يونس عن أبي حيان التيمي عن أبي النباع عن ابن أبي الدهقانة قال: قيل
508

لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن ههنا غلاما من أهل الحيرة حافظ كاتب فلو
اتخذته كاتبا؟ فقال: قد اتخدت إذن بطانة من دون المؤمنين. فعلى هذا الأثر مع
هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة
على المسلمين واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الاعداد من
أهل الحرب، ولهذا قال تعالى (لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم) وما هنا مصدرية
فيكون المصدر الصريح المفعول لودوا (عنتكم).
وقال الحافظ أبو يعلى: حدثنا إسحاق بن إسرائيل حدثنا هشيم حدثنا العوام
عن الأزهر بن راشد قال: كانوا أنسا فإذا حدثهم بحديث لا يدرون
ما هو أتوا الحسن البصري فيفسره لهم قال: فحدث ذات يوم عن النبي صلى الله
عليه وسلم (لا تستضيئوا بنار المشركين ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا) فأتوا
الحسن ففسر لهم الاستضاءة: لا تستشيروا المشركين في شؤونكم تصديق ذلك
في كتاب الله وتلا الآية، ويقول الشافعي رضي الله عنه في الام في باب الأوصياء
ولا تجوز الوصية الا إلى بالغ مسلم عدل.
وروى ابن إسحاق وغيره عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين
يواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحلف في الجاهلية،
فانزال الله تعالى فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم هذه الآية، وأخرج
عبد بن حميد انها نزلت في المنافقين من أهل المدينة، هي المؤمنون ان يتولوهم ومن ثم فلا تصح
وصيه مسلم إليه لأنه لا يلي على مسلم، ولأنه ليس من أهل الشهادة ولا العدالة
فلم تصح الوصية إليه كالمجنون والفاسق، وأما وصيه الكافر إليه، فإن لم يكن
عدلا في دينه لم تصح الوصية إليه، لأن عدم العدالة في المسلم يمنع صحة الوصية
إليه فمع الكفر أولى، وإن كان عدلا في دينه ففيه وجهان.
أحدهما: تصح الوصية إليه، وهو قول أصحاب الرأي لأنه يلي بالنسب فيلي
الوصية كالمسلم. والثاني: لا تصح، وهو قول أبي ثور لأنه فاسق فلم تصح
الوصية إليه كفاسق المسلمين. ولأصحاب أحمد وجهان كهذين، وأما وصية
الكافر إلى المسلم الا أن تكون تركته خمرا أو خنزيرا.
509

أما الوصية إلى المرأة فإنها تصح في قول أكثر أهل العلم، وروى ذلك عن
شريح. وبه قال مالك الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح وإسحاق وأبو ثور
وأصحاب الرأي وأحمد بن حنبل، ولم يجزه عطاء، لأنها لا تكون قاضية
فلا تكون وصية.
دليلنا أن عمر رضي الله عنه أوصى إلى حفصة، ولأنها من أهل الشهادة
فأشبهت الرجل، وتخالف القضاء، فان المعتبر له الكمال في الخلقة والاجتهاد
بخلاف الوصية، وتصح الوصية للأعمى في أحد الوجهين لأنه من أهل الشهادة
وهو قول أحمد وأصحابه، ولم يسلم القائلون بالجواز لمخالفيهم حكمهم، لأنه
يمكنه التوكيل فيما يحتاج إلى نظر، ثم إنه من أهل الشهادة والولاية في النكاح،
والولاية على أولاده الصغار، فصحت الوصية إليه كالبصير. وعلى الوجه الاخر
عند أصحابنا انه لا تصح الوصية إليه بناء على أنه لا يصح بيعه ولا شراؤه فلا
يوجد فيه معنى الولاية، وقد مضى في البيوع وفى السلم وفى غيرهما مزيد بيان.
أما الصبي العاقل فلا تصح الوصية إليه لأنه ليس من أهل الشهادة والاقرار،
ولا يصح تصرفه الا بإذن، فلم يكن من أهل الولاية بطريق الأولى، ولأنه
مولى عليه، فلا يكون واليا كالطفل والمجنون وهو الصحيح من مذهب الحنابلة
وليس عندهم نص عن أحمد فيه، وإنما رجح أكثرهم مذهبنا في الصبي الا القاضي
فقد قال: قياس المذهب صحة الوصية إليه، لان احمد قد نص على صحة وكالته
وأما الفاسق فان الوصية إليه لا تصح في قول مالك والشافعي واحمد. وفى رواية
عن أحمد صحة الوصية إليه في رواية ابن منصور عنه وعند الخرقي من الحنابلة
إذا كان خائنا ضم إليه أمين
وقال ابن قدامه: وهذا يدل على صحة الوصية إليه ويضم الحاكم إليه أمينا.
وقال أبو حنيفة تصح الوصية إليه وينفذ تصرفه وعلى الحاكم عزله لأنه بالغ عاقل
فصحت الوصية إليه كالعدل، وبهذا يكون على قول أصحاب الحمد عدم جواز
إفراده بالوصية.
وعند أبي حنيفة لا يجوز إقراره على الوصية. والله تعالى اعلم
510

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) واختلف أصحابنا في الوقت الذي تعتبر فيه الشروط التي تصح بها
الوصية إليه، فمنهم من قال يعتبر ذلك عند الوفاة، فإن وصى إلى صبي فبلغ
أو كافر فاسلم أو فاسق فصار عدلا قبل الوفاة صحت الوصية، لان التصرف بعد
الموت فاعتبرت الشروط عنده كما تعتبر عدالة الشهود عند الأداء أو الحكم دون
التحمل، ومنهم من قال: تعتبر عند العقد وعند الموت، ولا تعتبر فيما بينهما،
لان حال العقد حال الايجاب، وحال الموت حال التصرف فاعتبر فيهما. ومنهم
من قال: تعتبر في حال الوصية وفيما بعدها، لان كل وقت من ذلك يجوز ان
يستحق فيه التصرف بان يموت، فاعتبرت الشروط في الجميع.
(فصل) وإن وصى إلى رجل فتغير حاله بعد موت الموصى - فإن كان
لضعف - ضم إليه معين امين، وإن تغير بفسق أو جنون بطلت الوصية إليه ويقيم
الحاكم من يقوم مقامه.
(فصل) ويجوز ان يوصى إلى نفسين. لما روى أن فاطمة بنت رسول الله
صلى الله عليه وسلم جعلت النظر في وقفها إلى علي كرم الله وجهه، فإن حدث به
حدث رفعه إلى ابنيها فيليانها، ويجوز ان يجعل إليهما والى كل واحد منهما لأنه
تصرف مستفاد بالاذن، فكان على حسب الاذن، فإن جعل إلى كل واحد منهما
جاز لكل واحد منهما ان ينفرد بالتصرف، فان ضعف أحدهما أو فسق أو مات
جاز للآخر ان ينصرف ولا يقام مقام الاخر غيره لان الموصى رضى بنظر كل
واحد منهما وحده، فان وصى إليهما لم يجز لأحدهما ان ينفرد بالتصرف لأنه لم
يرض بأحدهما، فان ضعف أحدهما ضم إليه من يعينه، فان فسق أحدهما أو مات
أقام الحاكم من يقوم مقامه لان الموصى لم يرض بنظره وحده، فان أراد الحاكم
ان يفوض الجميع إلى الثاني لم يجز لأنه لم يرضى الموصى باجتهاده وحده فان ماتا
أو فسقا فهل للحاكم ان يفوض إلى واحد. فيه وجهان
(أحدهما) يجوز، لأنه سقط حكم الوصية بموتهما وفسقهما فكان الامر
فيه إلى الحاكم (والثاني) لا يجوز لأنه لم يرضى بنظر واحد، وان اختلف
511

الوصيان في حفظ المال جعل بينهما نصفين، فإذا بلغا إلى التصرف - فإن كان
التصرف إلى كل واحد منهما - تصرف كل واحد منهما في الجميع، وإن كان إليهما
لم يجز لأحدهما ان ينفرد بالتصرف دون الاخر.
(فصل) ومن وصى إليه في شئ لم يصر وصيا في غيره ومن وصى إليه إلى
مدة لم يصر وصيا بعد المدة لأنه تصرف بالاذن فكان على حسب الاذن.
(الشرح) الشروط التي أسلفنا تقريرها هل تعتبر في الوصي حال العقد أو
حال الموت أو حال العقد والموت؟ على اختلاف بين أصحابنا، والى اعتبارها
حال العقد ذهب أحمد وأصحابه في أحد الوجهين عندهم، لأنها شروط لعقد
فتعتبر حال وجوده كسائر العقود فلا ينفع وجودها بعده، وعلى الوجه الثاني لو
كانت الشروط كلها منتفية أو بعضها حال العقد ثم وجدت حالة الموت لصحت
الوصية إليه، وهو الوجه الثاني عند أصحاب أحمد. والوجه الثالث: ان تعتبر
حال صدور العقد عند الوفاة، ولا تعتبر حالة فيما بينهما من الزمن كما سيأتي.
(فرع) الوصية ولاية وأمانة والفاسق ليس من أهلهما، فعلى هذا إذا كان
الوصي فاسقا فحكمه حكم من لا وصى له عند أصحاب أحمد، وينظر الحاكم في
ماله، وعند أحمد أن الوصية باطلة ابتداء كالذي طرا عليه فسقه بعد الوصية تزول
ولايته ويقيم الحاكم مقامه أمينا، وهذا هو قول الثوري والشافعي وإسحاق وأحمد ابن
حنبل. وعلى قول بعض الحنابلة كالخرقي تصح الوصية ويضم إليه امين ينظر
معه، وروى ذلك عن الحسن وابن سيرين لأنه أمكن حفظ المال بالأمين،
تعين إزالة يد الفاسق الخائن وقطع تصرفه، لان حفظ المال على اليتيم أولى من
رعاية قول الموصى الفاسد.
واما العدل الذي يعجز عن النظر لعلة أو ضعف طرا، فان الحاكم يضم إليه
أمينا، ولا تزول يده عن المال ولا نظره ويكون الأول هو الوصي دون الثاني،
وهذا معاون له، لأن ولاية الحاكم إنما تكون عند عدم الوصي، وهذا قول
الشافعي وأبى يوسف وأحمد بن حنبل ولا اعلم لهم مخالفا.
512

أما إذا تغير حال الوصي بجنون أو كفر أو سفه أو فسق زالت ولايته وصار
كأنه لم يوص إليه، ويرجع الامر إلى الحاكم فيقيم أمينا ناظرا الميت في امره
وامر أولاده من بعده كما لو لم يخلف وصيا
أما إذا تغيرت حالته بعد الوصية وقبل الموت ثم عاد فكان عند الموت جامعا
لشروط الوصية صحت الوصية إليه. لان الشروط موجودة حال العقد والموت
فصحت الوصية كما لو لم تتغير حاله. هذا وجه ووجه آخر تبطل لان كل حالة منها
حالة للقبول والرد فاعتبرت الشروط فيها. فاما ان زالت بعد الموت وانعزل ثم
عاد فكمل الشروط لم تعد وصيته لأنها زالت فلا تعود الا بعقد جديد.
إذا ثبت هذا فإنه يجوز للرجل الوصية إلى اثنين. فمتى أوصى إليهما مطلقا لم
يجز لواحد منهما الانفراد بالتصرف، فان مات أحدهما أو جن أو وجد منه
ما يوجب عزله أقام الحاكم مقامه أمينا، لان الموصى لم يرض بنظر هذا الباقي
منهما وحده، فان أراد الحاكم رد الباقي منهما فوجهان:
أحدهما: لا يجوز. والثاني: يجوز. لان النظر لو كان له لموت الموصى عن
غير وصية كان له رده إلى واحد كذلك ههنا، فيكون ناظرا بالوصية من الموصى
والأمانة من جهة الحاكم. ولنا ان الموصى لم يرض بتصرف هذا وحده فوجب
ضم غيره إليه، لان الوصية مقدمة على نظر الحاكم واجتهاده.
فإن كانت الوصية بالاذن لكل واحد منهما ان يتصرف منفردا، فإذا مات
أحدهما أو جن أو ارتد أو فسق جاز للاخر ان يتصرف ولا يقام مقام الاخر
غيره لان تصرف الباقي منهما على حسب الاذن مستفاد منه، ولأنه رضى بنظر
كل واحد منهما وحده، فلا سبيل إلى أقامه بديل لمن بطل عقده.
وان تغيرت حالهما جميعا بموت أو غيره فهل للحاكم ان ينصب مكانهما
واحدا؟ فيه وجهان
أحدهما له ذلك، لأنه لما عدم الوصيان صار الامر إلى الحاكم بمنزلة ما لم
يوص، ولو لم يوص لاكتفى بواحد، كذا ههنا، ويفارق ما إذا كان أحدهما حيا
لان الموصى بين انه لا يرضى بهذا وحده بخلاف ما إذا ماتا معا
513

والثاني: لا يجوز ان ينصب الا اثنين لان الموصى لم يرض بواحد فلم يقتنع
به كما لو كان أحدهما حيا
فاما ان جعل لكل واحد منهما التصرف منفردا فمات أحدهما أو خرج من
الوصية لم يكن للحاكم ان يقيم مقامه أمينا لان الباقي منهما له النظر بالوصية فلا
حاجة إلى غيره، وان ماتا معا أو خرجا عن الوصية فللحاكم ان يقيم واحدا
يتصرف، وان تغيرت حال أحد الوصيين تغييرا لا يزيله عن الوصية كالعجز
عنها لضعف أو علة ونحو ذلك، وكان لكل واحد منهما التصرف منفردا، فليس
للحاكم ان يضم إليهما أمينا، لان الباقي منهما يكفي، الا أن يكون الباقي منهما
يعجز عن التصرف وحده لكثرة العمل ونحوه، فله ان يقيم أمينا، وإن كانا ممن
ليس لأحدهما التصرف على الانفراد فعلى الحاكم ان يقيم مقام من ضعف منهما
عنها أمينا يتصرف معه على كل حال فيصيرون ثلاثة: الوصيان والأمين معهما.
وليس لواحد منهم التصرف وحده
(فرع) قوله: ومن وصى إليه في شئ لم يصر وصيا في غيره الخ. وهذا
صحيح لأنه يجوز ان يوصى إلى رجل بشئ دون شئ، مثل ان يوصى إلى أن
سان بتفريق وصيته دون غيرها أو بقبض معاشه أو بقضاء ديونه، أو بالنظر
في امر أطفاله فحسب، فلا يكون له غير ما جعل إليه
ويجوز ان يوصى إلى إنسان بقبض معاشه لصغره، وبآخر للانفاق عليهم
من هذا المعاش، والى آخر بقضاء ديونه، والى آخر بالانفاق على أطفاله، فلا
يكون لكل واحد منهم الا ما جعل له دون غيره، ومتى أوصى إليه بشئ لم يصر
وصيا في غيره. وبهذا قال الشافعي وأحمد بن حنبل
وقال أبو حنيفة: يصير وصيا في كل ما يملكه الوصي، لأن هذه ولاية تنقل
من الأب بموته، فلا تتبعض كولاية الجد
ولنا انه استفاد التصرف بالاذن من جهة انسان، فكان مقصورا على ما اذن
فيه كالوكيل. وولاية الجد ممنوعة ثم ولاية الجد استفادها بقرابته وهي لا تتبعض
والاذن يتبعض فافترقا.
وكذلك إذا أوصى له إلى زمن معين موصوف، كان إذا بلغ الصبي أو قدم
514

المسافر، أو معين كقوله إلى سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة بعد آلاف، وهو العام
الذي نخط فيه هذا الشرح، فإنه لا يجوز ان يتجاوزه لان الاذن موقت بالعام
المذكور. والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وللوصي ان يوكل فيما لم تجر به العادة ان يتولاه بنفسه كما قلنا في
الوكيل، ولا يجوز ان يوصى إلى غيره، لأنه يتصرف بالاذن فلم يملك الوصية
كالوكيل، فان قال أوصيت إليك: فان مت فقد أوصيت إلى فلان صح، لان
عمر رضي الله عنه وصى إلى حفصة، فإذا ماتت فإلى ذوي الرأي من أهلها،
ووصت فاطمة رضي الله عنها إلى علي كرم الله وجهه، فإذا مات فإلى ابنيها،
ولأنه علق وصية التالي على شرط، فصار كما لو قال وصيت إليك شهرا ثم قال
إلى فلان، فان أوصى إليه واذن له ان يوصى إلى من يرى فقد قال في الوصايا
لا يجوز. وقال في اختلاف العراقيين يجوز. فمن أصحابنا من قال يجوز قولا
واحدا لأنه ملك الوصية والتصرف في المال، فإذا جاز ان ينقل التصرف في المال
إلى الوصي جاز ان ينقل الوصية إليه، وما قال في الوصايا أراد إذا أطلق الوصية
ومنهم من قال فيه قولان
(أحدهما) يجوز لما ذكرناه (والثاني) لا يجوز لأنه يعقد الوصية عن الموصى
في حال لا ولاية له فيه. وان وصى إليه واذن له ان يوصى بعد موته إلى رجل
بعينه ففيه وجهان (أحدها) يجوز لأنه قطع اجتهاده فيه بالتعيين (والثاني) انه
كالمسألة الأولى لأن علة المسألتين واحدة
(فصل) ولا تتم الوصية إليه الا بالقبول لأنه وصية فلا تتم الا بالقبول
كالوصية له. وفى وقت القبول وجهان (أحدهما) يصح القبول في الحال لأنه
اذن له في التصرف فصح القول في الحال كالوكالة (والثاني) لا يصح الا بعد
الموت كالقبول في الوصية له.
(فصل) وللموصى ان يعزل الوصي إذا شاء، وللوصي ان يعزل
515

نفسه متى شاء، لأنه تصرف بالاذن فجاز لكل واحد منهم فسخه كالوكالة.
(فصل) إذا بلغ الصبي واختلف هو والوصي في الفقه، فقال الوصي
أنفقت عليك، وقال الصبي لم تنفق على، فالقول قول الوصي لأنه امين وتتعذر
عليه إقامة البينة على النفقة، فإن اختلفا في قدر النفقة فقال: إنفقت عليك في
كل سنة مائة دينار. وقال الصبي بل أنفقت على خمسين دينارا، فإن كان ما يدعيه
الوصي النفقة بالمعروف فالقول قوله لأنه امين، وإن كان أكثر من النفقة
بالمعروف فعليه الضمان لأنه فرط في الزيادة
وان اختلفا في المدة فقال الوصي: أنفقت عشر سنين، وقال الصبي خمس
سنين، ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي سعيد الإصطخري ان القول قول الوصي، كما لو
اختلفا في قد النفقة
(والثاني) وهو قول أكثر أصحابنا ان القول قول الصبي، لأنه اختلاف في
مدة، الأصل عدمها
(فصل) وان اختلفا في دفع المال إليه فادعى الوصي انه دفعه إليه وأنكر
الصبي، ففيه وجهان (أحدهما) وهو المنصوص ان القول قول الصبي لأنه لم
يأتمنه على حفظ المال فلم يقبل قوله عليه، كالمودع إذا ادعى دفع الوديعة إلى
وارث المودوع، والملتقط إذا ادعى دفع اللقطة إلى مالكها (والثاني) ان القول
قول الوصي كما قلنا في النفقة.
(الشرح) الأحكام: إذا أوصى له في شئ لا يحسن القيام به بنفسه جاز له
ان يوكل عنه من يتولاه، كإن كان ما عهد إليه بالوصية فيه كثير الجوانب متعدد
الجهات بحيث يحتاج الوصي إلى من يعينه على أدائه وكذلك لو كان العمل شاقا
لا يقدر مثله على القيام به ويحتاج إلى شخص قوى يؤديه، أو كان العمل يفتقر
إلى مهارة أو فن خاص له دارسوه والمتخصصون فيه كالهندسة ونحوها جاز له
516

توكيل غيره ممن بمثل هذه الأمور، وكذلك لو كان العمل سهلا ولكن من
الأعمال التي يترفع الوصي في العادة عن مثلها لدناءتها جاز له أن يوكل من يقوم بها
أما الوصية إلى غيره بغيره إذن من الموصى فإنه لا يصح ذلك منه قولا واحدا.
أما إذا قال: أوصيت إليك ومن بعدك إلى فلان، فان ذلك جائز ولا كلام
لما روينا عن عمر أنه وصى إلى حفصة، فإذا ماتت فإلى ذوي الرأي من قومها،
ولذا جاز أن وصى إلى من يخلفه بالتعيين كأوصيت إلى فلان فإذا مات فإلى فلان
كما أوصيت فاطمة إلى علي ومن بعده إلى ولديها السبطين رضي الله عنهما، كما يجوز
ان يوصى إلى من يخلفه بالوصف كقول عمر: فإلى ذوي الرأي من قومها،
وتجرى هذه الوصية مجرى المعلق على شرط كالوصية إلى أجل معين أو موصوف
على ما مضى في الفصل قبله.
أما إذا أوصى إليه ثم أذن له أن يوصى إلى من يرى أو إلى من يشاء، أو كل
من أوصيت إليه فقد أوصيت إليه أو فهو وصى فقد قال الشافعي رضي الله عنه
في الوصايا من الام: ولو أوصى رجل إلى رجل فمات الموصى إليه وأوصى بما
أوصى به إلى رجل لم يكن وصى الوصي وصيا للميت الأول، لان الميت الأول
لم يرض الموصى الآخر.
ولو قال: أوصيت إلى فلان فان حدث به حدث فقد أوصيت إلى من وصى
إليه لم يجز ذلك لأنه إنما أوصى بمال غيره. وقال في اختلاف العراقيين في نسخة
السراج البلقيني باب الوصي من اختلاف العراقيين، وهي بعد وصية الإمام الشافعي
رضي الله عنه التي كتبها قبل موته
قال الشافعي رحمه الله تعالى: ولو أن رجلا أوصى إلى رجل فمات الموصى
إليه فأوصى إلى آخر، فان أبا حنيفة كأن يقول: هذا الآخر وصى الرجلين جميعا
وبهذا يأخذ، وكذلك بلغنا عن إبراهيم، وكان ابن أبي ليلى يقول: هذا الآخر
وصى الذي أوصى إليه، ولا يكون وصيا للأول الا أن يقول الثاني: قد أوصيت
إليك في كل شئ، أو يذكر وصية الاخر.
فمن أصحابنا من قال بالجواز قولا واحدا لأنه ملك الوصية والتصرف في المال
517

ورضى الموصى باجتهاده واجتهاد من يراه فصح كما لو وصى إليهما معا، وهذا
قول أكثر أهل العلم، واليه ذهب أحمد وأصحابه. وقالوا لأنه مأذون له في الاذن
في التصرف فجاز له أن يأذن لغيره كالوكيل إذا أمر بالتوكيل، وما قال الشافعي
في الوصايا أراد إذا أطلق الوصية.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان. أحدهما: يجوز لما أثبتناه، والثاني:
لا يجوز لأنه ليس له أن يوصى لأنه بتوليه فلا يصح أن يولى فيما لا ولاية
له فيه. أما إذا وصى له وأذن له في أن يوصى إلى فلان بعده بعينه ففيه وجهان
(أحدهما) يجوز، لأنه لم يترك له اعمال الوصع ولا بذل الجهد في تعيينه فقد
أذن له أن يوصى إليه معينا باسمه فصح كما لو أوصى له ثم من بعده إلى فلان،
والثاني: أنه كالمسألة قبلها لأنه كان بوسعه أن يوصى إليه من بعده، ولكنه أذن
له في الوصية فكأنه جعل الوصية من شأنه.
وجملة ذلك أنه لا يجوز للوصي أن يوصى إلى غيره، وهو قول الشافعي
وإسحاق وأحد قولي أحمد. والظاهر من مذهب الخرقي من الحنابلة لقوله في ذلك
في الوكيل لأنه يتصرف بتوليه فلم يكن له التفويض كالوكيل. وقال مالك
وأبو حنيفة والثوري وأبو يوسف وأحمد في أحد قوليه له أن يوصى إلى غيره.
(فرع) يصح قبول الوصية وردها في حياة الموصى، لأنها اذن في التصرف
فصح قبوله بعد العقد كالوكيل، وهي لا تتم الا بالقبول كالوصية له، والفرق
بينهما أن الأولى اذن له في التصرف والثانية تمليك في وقت فلم يصح القبول قبل
الوقت، هذا وجه والوجه الاخر أنه يجوز تأخير القبول إلى ما بعد الموت لأنها
نوع وصية فصح قبولها بعد الموت كالوصية له، ومتى قبل صار وصيا وله عزل
نفسه متى شاء مع القدرة والعجز في حياة الموصى، وبعد موته بمشهد منه وفى
غيبته، وبهذا قال الشافعي وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يجوز له ذلك بعد الموت
بحال ولا يجوز في حياته الا بحضرته: لأنه غره بالتزام وصيته
ومنعه بذلك الايصاء إلى غيره، وذكر ابن أبي موسى رواية عن أحمد: ليس له
عزل نفسه بعد الموت لذلك، وهذا فاسد لأنه متصرف باذن فكان له عزل
518

نفسه كالوكيل، فأما اختلاف الوصي والوصي فقد مضى كلامنا فيه في الحجر
وفى الوكالة، وبعض صوره في الوديعة، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ولا يلحق الميت مما يفعل عنه بعد موته بغير إذنه إلا دين يقضى
عنه أو صدقة يتصدق بها عنه أو دعاء يدعى له، فأما الدين فالدليل عليه ما روى
أن امرأة من خثعم (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحج عن أبيها
فأذن لها، فقالت: أينفعه ذلك؟ قال نعم كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه)
وأما الصدقة فالدليل عليها ما روى ابن عباس (أن رجلا قال لرسول الله صلى الله
عليه وسلم: إن أمة توفيت أفينفعها أن أتصدق عنها؟ فقال: فإن لي
مخرفا فأشهدك أبى قد تصدقت به عنها):
وأما الدعاء فالدليل عليه قوله عز وجل (والذين جاؤوا من بعدهم يقولون:
ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) فأثنى الله عز وجل عليهم بالدعاء
لإخوانهم من الموتى، واما ما سوى ذلك من القرب كقراءة القرآن وغيرها
فلا يلحق الميت ثوابها. لما روى أبو هريرة رضي الله عنه (ان النبي صلى الله عليه
وسلم قال: إذا مات الانسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، أو
علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له) واختلف أصحابنا فيمن مات وعليه كفارة
يمين فأعتق عنه، فمنهم من قال: لا يقع العتق عن الميت بل يكون للعتق لان
العتق غير متحتم على الميت لأنه كان يجوز له تركه إلى غيره فلم يقع عنه، كما لو
تطوع بالعتق عنه في غير الكفارة، ومنهم من قال: يقع عنه لأنه لو أعتق في
حياته سقط به الفرض، وبالله التوفيق.
(الشرح) حديث المرأة الخثعمية رواه أصحاب الكتب الستة وأحمد في مسنده
عن ابن عباس، وأخرجه أحمد والترمذي وصححه والبيهقي من حديث علي بن أبي
طالب رضي الله عنه. وعن عبد الله بن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى
رسول الله صلى لله عليه وسلم فقال: إن أبى أدركه الاسلام وهو شيخ كبير
519

لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه؟ قال أنت أكبر ولده؟
قال نعم. قال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان يجزى ذلك عنه؟
قال نعم قال فاحجج عنه) رواه أحمد والنسائي بمعناه ؤ وقال الحافظ ابن حجر اسناده
صالح. وعن ابن عباس أيضا أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت:
إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها؟ قال نعم حجى عنها.
أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته، اقضوا الله فالله أحق بالوفاء. رواه
البخاري والنسائي بمعناه. وعند أحمد ورواية أخرى للبخاري بنحو ذلك وفيها
قال: جاء رجل فقال إن أختي نذرت أن تحج، وهو يدل على صحة الحج عن
الميت من الوارث وغيره حيث لم يستفصله أوارث هو أم لا، وشبهه بالدين
وروى الدارقطني عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبى مات
وعليه حجة الاسلام أفأحج عنه؟ الحديث)
أما حديث ابن عباس أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إن أمي
توفيت أينفعها إن تصدقت عنها؟ قال نعم قال: فإن لي مخرقا فأنا أشهدك أنى
قد تصدقت به عنها) فقد رواه البخاري والترمذي وأبو داود والنسائي وقد
ورد اسم الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري أنه سعد
ابن عبادة، ويؤيد ذلك أن احمد والنسائي أخرجا حديثا عن الحسن عن سعد بن
عبادة أن أمه ماتت فقال (يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال نعم
قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال سقى الماء، قال الحسن: فتلك سقاية آل سعد
بالمدينة) أما حديث (إذا مات ابن آدم) فقد رواه مسلم وأصحاب السنن من
حديث أبي هريرة رضي الله عنه. لفظ مسلم (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا
من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)
أما قوله تعالى من سورة الحشر (والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر
لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان) فقد روى عن سعد بن أبي وقاص قال:
الناس على ثلاث منازل قد مضت منزلتان يعنى قوله تعالى (للفقراء المهاجرين
الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون
520

الله ورسوله أولئك الصادقون، والذين تبوءوا الدار والايمان من قبلهم يحبون
من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا إلى قوله تعالى المفلحون)
ثم قال: وبقيت منزلة، فأحسن ما أنتم كائنون عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي
بقيت، ثم قرأ: والذين جاءوا من بعدهم. الآية
أما اللغات فقوله: فإن لي مخرفا. في رواية مخراف، والمخرف والمخراف
الحديقة من النخل أو العنب
أما أحاديث الفصل فإنها تدل على أن الصدقة من الولد تلحق الوالدين بعد
موتهما بدون وصية منهما، ويصل إليهما ثوابها فيخصص العام من قوله تعالى
(وأن ليس للانسان إلا ما سعى) أخبرنا الربيع بن سليمان قال حدثنا الشافعي
إملاء قال: يلحق الميت من فعل غيره وعمله ثلاث: حج يؤدى عنه، ومال
يتصدق به عنه أو يقضى، ودعاء. فأما ما سوى ذلك من صلاة أو صيام فهو
لفاعله دون الميت، وإنما قلنا بهذا دون ما سواه استدلالا بالسنة في الحج خاصة
قياسا. وذلك الواجب دون التطوع ولا يحج أحد عن أحد تطوعا
لأنه عمل على البدن. فأما المال فإن الرجل يجب عليه فيما له الحق من الزكاة
وغيرها فيجزيه ان يؤدى عنه بأمره لأنه إنما أريد بالفرض فيه تأديته إلى أهله
لا عمل البدن، فإذا عمل امرؤ عنى ما فرض من مالي فقد أدى الفرض عنى.
واما الدعاء فإن الله عز وجل ندب العباد إليه. وامر رسوله صلى الله عليه وسلم
به فإذا جاز ان يدعى للأخ حيا جاز ان يدعى له ميتا، ولحقه إن شاء الله تعالى
بركة ذلك، مع أن الله عز ذكره واسع لان يوفى الحي اجره ويدخل على الميت
منفعته. وكذلك كلما تطوع رجل عن رجل صدقة تطوع اه‍
وقال شيخنا النووي في كتاب الأذكار في باب ما ينفع الميت من قول وغيره
اجمع العلماء على أن الدعاء للأموات ينفعهم ويصلهم ثوابه: واحتجوا بقول الله
تعالى (والذين جاءوا من بعدهم) الآية وغير ذلك من الآيات المشهورة بمعناها.
وفى الأحاديث المشهورة كقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لأهل بقيع
الغرقد، وكقوله صلى الله عليه وسلم: اللهم اغفر لحينا وميتنا وغير ذلك.
واختلف العلماء في وصول ثواب قراءة القرآن، فالمشهور من مذهب الشافعي
521

وجماعة أنه لا يصل. وذهب أحمد بن حنبل وجماعة من العلماء وجماعة من
أصحاب الشافعي إلى أنه يصل، والمختار أن يقول بعد القراءة: اللهم أوصل
ثواب ما قرأته، والله أعلم اه‍
وقال ابن النحوي في شرح المنهاج: لا يصل إلى الميت عندنا ثواب القراءة
على المشهور. والمختار الوصول إذا سأل الله إيصال ثواب قراءته، وينبغي
الجزم به لأنه دعاء، فإذا جاز الدعاء للميت بما ليس للداعي، فلان يجوز بما هو
له أولى، ويبقى الامر فيه موقوفا على استجابة الدعاء، وهذا المعنى لا يخص
بالقراء بل يجرى في سائر الأعمال، والظاهر أن الدعاء متفق عليه انه ينفع
الميت والحي القريب والبعيد بوصية وغيرها. وعلى ذلك أحاديث كثيرة، بل
كان أفضل الدعاء ان يدعو لأخيه بظهر الغيب
وقد حكى النووي في شرح مسلم الاجماع على وصول الدعاء إلى الميت، وكذا
حكى أيضا الاجماع على أن الصدقة تقع عن الميت ويصل ثوابها ولم يقيد ذلك
بالولد. وحكى الاجماع على لحوق قضاء الدين، والحق أنه يخصص عموم الآية
بالصدقة من الولد كما في أحاديث الفصل وبالحج من الولد كما في حديث الخثعمية
ومن غير الولد أيضا كما في حديث المحرم عن أخيه شبرمة.
وقد نشرت مطبعة الامام رسالة في هذا الموضوع مستوفاة اسمها (تفسير
سورة يس) للسيد صديق حسن خان وجعلت في آخرها ما يتعلق بهذا الموضوع
وهو يغنى عن التطويل هنا.
تم الجزء الخامس عشر
ويليه الجزء السادس عشر
وأوله كتاب العتق
522