الكتاب: المجموع
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ٨
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر
ردمك:
ملاحظات:

المجموع
شرح المهذب
للامام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي المتوفي سنة 676 ه‍
الجزء الثامن
دار الفكر
1

بسم الله الرحمن الرحيم
* قال المصنف رحمه الله *
(باب صفة الحج)
(إذا أراد دخول مكة وهو محرم بالحج اغتسل بذي طوى لما روى ابن عمر رضي الله عنهما
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما جاء وادي طوى بات حتى صلى الصبح فاغتسل ثم دخل من
ثنية كداء ويدخل من ثنية كداء من أعلى مكة ويخرج من السفلى لما روى ابن عمر رضي الله
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل مكة من الثنية العليا ويخرج من الثنية السفلى) *
(الشرح) حديث ابن عمر الثاني رواه البخاري ومسلم بلفظه وروياه أيضا بلفظه من رواية
عائشة أيضا (وأما) حديثه الأول فرواه البخاري ومسلم أيضا بمعناه ولفظهما عن نافع قال (كان
2

ابن عمر إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية ثم يبيت بذي طوى ثم يصلي به الصبح ويغتسل
ويحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك (وأما) طوى - فبفتح الطاء وضمها وكسرها
ثلاث لغات الفتح أجود وممن حكي اللغات الثلاث صاحب المطالع وجماعات قالوا والفتح أفصح
وأشهر واقتصر الحازمي في المؤتلف على ضمه واقتصر آخرون على الفتح وهو منون مصروف
مقصور لا يجوز مده قال صاحب المطالع ووقع في لباب المستملي ذو الطواء ممدود وهو واد بباب
مكة (وأما) الثنية فهي الطريق بين جبلين (واما) كداء العليا - فبفتح الكاف - وبالمد مصروف
(وأما) السفلى فيقال لها ثنية كدا - بالضم - مقصور (واما) مكة فلها أسماء كثيرة وقد قالوا كثرة
الأسماء تدل على شرف المسمى ولهذا كثرت أسماء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال بعضهم
لله تعالى الف اسم وللنبي صلى الله عليه وسلم (1) وقد أشرت إلى هذا في أول تهذيب الأسماء
واللغات في أول ترجمة النبي صلى الله عليه وسلم فمما حضرني من أسماء مكة ستة عشر اسما (أحدها)
مكة - والثاني بكة - والثالث - أم القرى - والرابع - البلد الأمين - والخامس - رحم - بضم
الراء واسكان الحاء المهملة - لان الناس يتراحمون فيها ويتوادعون - السادس - صلاح - بكسر
الحاء - مبني على الكسر كقطام ونظائرها سميت به لامنها - السابع - الباسة - بالباء الموحدة
والسين المهملة - لأنها تبس من ألحد فيها أي تحطمه ومنه قوله تعالى (وبست الجبال) الثامن -
الناسة - بالنون - التاسع - النساسة (قيل) لأنها تنس الملحد أي تطرده وقيل لقلة مائها والنس اليبس -
العاشر - الحاطمة لحطهما الملحدين فيها - الحادي عشر - الرأس كرأس الانسان - الثاني عشر -
كوثي - بضم الكاف وفتح المثلثة - باسم موضع بها - الثالث عشر - العرش - الرابع عشر -
القادس - الخامس عشر - المقدسة من التقديس - السادس عشر - البلدة (وأما) مكة وبكة فقيل
هما اسمان للبلدة وقيل مكة الحرم كله وبكة المسجد خاصة وهو محكي عن الزهري وزيد بن أسلم
وقيل مكة اسم للبلد وبكة اسم البيت وهو قول إبراهيم النخعي وغيره وقيل مكة البلد وبكة
3

البيت وموضوع الطواف سميت بكة لازدحام الناس فيها يبك بعضهم بعضا أي يدفعه في زحمة
الطواف وقيل لأنها تبك - أعناق الجبابرة اي تدقها والبك الدق * وسميت مكة لقلة مائها من قولهم
أمتك الفصيل ضرع أمه إذا امتصه وقيل لأنها تمك الذنوب أي تذهب بها والله أعلم (وأما)
مدينة النبي صلى الله عليه وسلم فلها أسماء - المدينة - وطيبة وطابة والدار قال الله تعالى (ما كان
لأهل المدينة) ويقولون لئن رجعنا إلى المدينة) وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (إن الله تعالى سمى المدينة طابة) قال العلماء سميت طابة وطيبة من
الطيب وهو الطاهر لخلوصها من الشرك وطهارتها (وقيل) من طيب العيش وقيل من الطيب وهو
الرائحة الحسنة وسميت الدار لامنها وللاستقرار بها والله أعلم (أما) الأحكام ففيها مسائل (إحداها)
يستحب الغسل لدخول المحرم مكة لما ذكره المصنف وقد سبق بيان أغسال الحج في أول باب
الاحرام وذكرنا هناك أنه ان عجز عن الغسل تيمم وذكرنا فيه فروعا كثيرة ويستحب هذا
الغسل بذي طوى إن كانت في طريقه وإلا اغتسل في غير طريقها كنحو مسافتها وينوي به غسل
دخول مكة وهو مستحب لكل محرم حتى الحائض والنفساء والصبي كما سبق بيانه في باب الاحرام *
قال الماوردي ولو خرج إنسان من مكة فاحرم بالعمرة من الحل واغتسل للاحرام ثم أراد دخول
مكة فإن كان أحرم من موضع بعيد من مكة كالجعرانة والحديبية استحب أن يغتسل أيضا لدخول
مكة وإن أحرم من موضع قريب من مكة كالتنعيم أو من أدنى الحل لم يغتسل لدخول مكة لان
المراد من هذا الغسل النظافة وإزالة الوسخ عند دخوله وهو حاصل بغسله السابق * وهذا الغسل
مستحب لكل داخل محرم سواء كان محرما بحج أو عمرة أو قران بلا خلاف وينكر على المصنف
قوله وهو محرم بالحج فاوهم اختصاصه به (والصواب) حذف لفظة الحج كما حذفها في التنبيه والأصحاب
(الثانية) يستحب للمحرم بالحج أن يدخل مكة قبل الوقوف بعرفات هكذا فعله رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه وسائر السلف والخلف (وأما) ما يفعله حجيج العراق من قدومهم إلى
عرفات قبل دخول مكة فخطأ منهم وجهالة وفيه ارتكاب بدعة وتفويت سنن (منها) دخول مكة
4

أولا (ومنها) تفويت طواف القدوم وتفويت تعجيل السعي وزيارة الكعبة وكثرة الصلاة بالمسجد
الحرام وحضور خطبة الامام في اليوم السابع بمكة والمبيت بمنى ليلة عرفة والصلاة بها والنزول
بنمرة وحضور تلك المشاهد وغير ذلك مما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى (الثالثة) يستحب
إذا وصل الحرم أن يستحضر في قلبه ما أمكنه من الخشوع والخضوع بظاهره وباطنه ويتذكر
جلالة الحرم ومزيته على غيره قال جماعة من أصحابنا يستحب أن يقول اللهم إن هذا حرمك وأمنك
فحرمني على النار وآمني من عذابك يوم تبعث عبادك واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك (الرابعة)
قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله تعالى يستحب له دخول مكة من ثنية كداء التي بأعلى مكة وهي
- بفتح الكاف - والمد كما سبق ومنها يتجرد إلى مقابر مكة وإذا خرج راجعا إلى بلده خرج من
ثنية كدا - بضم الكاف - وبالقصر وهي بأسفل مكة بقرب جبل قعيقعان والى صوب ذي طوى
قال بعض أصحابنا ان الخروج إلى عرفات يستحب أيضا أن يكون من هذه السفلى (واعلم) أن
المذهب الصحيح المختار الذي عليه المحققون من أصحابنا أن الدخول من الثنية العليا مستحب لكل
محرم داخل مكة سواء كانت في صوب طريقه أم لم تكن ويعتدل إليها من لم تكن في طريقه وقال
الصيدلاني والقاضي حسين والفوراني وإمام الحرمين والبغوي والمتولي إنما يستحب الدخول منها
لمن كانت في طريقه (وأما) من لم تكن في طريقه فقالوا لا يستحب له العدول إليها قالوا وإنما دخل
النبي صلى إليه عليه وسلم اتفاقا لكونها كانت في طريقه * هذا كلام الصيدلاني وموافقيه واختاره امام
الحرمين ونقله الرافعي عن جمهور الأصحاب وقال الشيخ أبو محمد الجويني ليست العليا على طريق
المدينة بل عدل إليها النبي صلى الله عليه وسلم متعمدا لها قال فيستحب الدخول منها لكل أحد
قال ووافق امام الحرمين الجمهور في الحكم ووافق أبا محمد في أن موضع الثنية كما ذكره *
وهذا الذي قاله أبو محمد من كون الثنية ليست على نهج الطريق بل عدل إليها هو الصواب الذي
يقضي به الحس والعيان فالصحيح استحباب الدخول من الثنية العليا لكل محرم قصد مكة سواء
كانت في صوب طريقه أم لا وهو ظاهر نص الشافعي في المختصر ومقتضى اطلاقه فإنه قال ويدخل
المحرم من ثنية كدا ونقله صاحب البيان عن عامة الأصحاب *
5

(فرع) قال أصحابنا له دخول مكة راكبا وماشيا وأيهما أفضل فيه وجهان وحكاهما الرافعي
(أصحهما) ماشيا أفضل وبه قطع الماوردي لأنه أشبه بالتواضع والأدب وليس فيه مشقة ولا
فوات مهم بخلاف الركوب في الطريق فإنه أفضل على المذهب كما سبق بيانه في الباب الأول من
كتاب الحج لما ذكرناه هناك ولان الراكب في الدخول متعرض لان يؤذي الناس بدابته في الزحمة
والله أعلم * وإذا دخل ماشيا فالأفضل كونه حافيا لو لم يلحقه مشقة ولا خاف نجاسة رجله والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا له دخول مكة ليلا ونهارا ولا كراهة في واحد منهما فقد ثبتت
الأحاديث فيها كما سأذكره قريبا إن شاء الله تعالى وفي الفضيلة وجهان (أصحهما) دخولها نهارا
أفضل حكاه ابن الصباغ وغيره عن أبي إسحاق المروزي ورجحه البغوي وصاحب العدة وغيرهما
وقال القاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ والعبدري هما سواء في الفضيلة لا ترجيح لأحدهما
على الآخر * واحتج هؤلاء بأنه قد صح الأمران من فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرد عنه
صلى الله عليه وسلم ترجيح لأحدهما ولا نهي فكانا سواء * واحتج من رجح
النهار بأنه الذي اختاره النبي صلى الله عليه وسلم في حجته وحجة الوداع وقال في
آخرها (لتأخذوا عني مناسككم) فهذا ترجيح ظاهر للنهار ولأنه أعون للداخل وارفق به وأقرب
إلى مراعاته للوظائف المشروعة له على أكمل وجوهها واسلم له من التأذي والايذاء والله أعلم (واما)
الحديثان الواردان في المسألة (فأحدهما) حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال (بات النبي صلى
الله عليه وسلم بذي طوى حتى أصبح ثم دخل مكة وكان ابن عمر يفعله) رواه البخاري ومسلم
وفي رواية لمسلم عن نافع (ان ابن عمر كان لا يقدم مكة الا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل
ثم يدخل مكة نهارا ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه فعله) وفي رواية لمسلم أيضا عن ابن
عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان ينزل بذي طوى ويبيت فيه حتى يصلي الصبح حين
يقدم مكة) (واما) الحديث الآخر فعن محرش الكعبي الصحابي رضي الله عنه ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم (خرج من الجعرانة ليلا معتمرا فدخل ليلا فقضى عمرته ثم خرج من ليلته فأصبح بالجعرانة
كبائت) رواه أبو داود والترمذي والنسائي واسناده جيد قال الترمذي هو حديث حسن قال
6

ولا يعرف لمحرش عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث وثبت في ضبط محرش ثلاثة
أقوال حكاها أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب (أصحها) وأشهرها وهو الذي جزم به أبو نصر بن
مأكولا محرش - بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الراء المشددة - (والثاني) محرش - بكسر
الميم وإسكان الحاء المهملة وفتح الراء - (والثالث) مخرش - بكسر الميم واسكان الخاء المعجمة -
وهو قول علي بن المدني وادعى انه الصواب والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في هذه المسألة فممن استحب دخولها نهارا ابن عمر وعطاء والنخعي
وإسحاق بن راهويه وابن المنذر * وممن استحبه ليلا عائشة وسعيد بن جبير وعمر بن عبد العزيز *
وممن قال هما سواء طاوس والثوري *
(فرع) ينبغي أن يتحفظ في دخوله من ايذاء الناس في الزحمة ويتلطف بمن يزاحمه ويلحظ
بقلبه جلالة البقعة التي هو فيها والكعبة التي هو متوجه إليها ويمهد عذر من زاحمه *
(فرع) قال الماوردي وغيره يستحب دخول مكة بخشوع قلبه وخضوع جوارحه داعيا متضرعا
قال الماوردي ويكون من دعائه ما رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم
كأن يقول عند دخول (اللهم البلد بلدك والبيت بيتك جئت أطلب رحمتك وأؤم طاعتك متبعا
لأمرك راضيا بقدرك مبلغا لأمرك أسألك مسألة المضطر إليك المشفق من عذابك أن تستقبلني
وأن تتجاوز عني برحمتك وأن تدخلني جنتك)
* قال المصنف رحمه الله *
(وإذا رأى البيت دعا لما روى أبو أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (تفتح أبواب السماء
وتستجاب دعوة المسلم عند رؤية الكعبة) ويستحب أن يرفع اليد في الدعاء لما روى ابن عمر قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ترفع الأيدي في الدعاء لاستقبال البيت) ويستحب أن يقول: اللهم زد
هذا البيت تشريفا وتكريما وتعظيما ومهابة وزد من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفا
وتكريما وتعظيما وبرا لما روى ابن جريج أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت
(رفع يديه وقال ذلك) ويضيف إليه اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا بالسلام لما روي أن
عمر كان إذا نظر إلى البيت قال ذلك) *
7

(الشرح) أما حديث أبي أمامة فغريب ليس بثابت (وأما) حديث ابن عمر فرواه الامام سعيد
ابن منصور والبيهقي وغيرهما وهو ضعيف باتفاقهم لأنه من رواية عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي ليلى
الامام المشهور وهو ضعيف عند المحدثين (وأما) حديث ابن جريج فكذا رواه الشافعي والبيهقي
عن ابن جريج عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو مرسل معضل (وأما) الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه
فرواه البيهقي وليس اسناده بقوي * (اما) الأحكام فاعلم أن بناء البيت زاده الله فضلا وشرفا رفيع
يرى قبل دخول المسجد في مكان يقال له رأس الردم إذا دخل من أعلى مكة وهناك يقف ويدعو *
قال الشافعي والأصحاب إذا رأى البيت استحب ان يرفع يديه ويقول ما ذكره المصنف من الذكر
والدعاء ويدعو مع ذلك بما أحب من مهمات الدين والدنيا والآخرة وأهمها سؤال المغفرة وهذا
الذي ذكرته من استحباب رفع اليدين هو المذهب وبه صرح المصنف والقاضي أبو حامد في جامعه
والشيخ أبو حامد في تعليقه وأبو علي البندنيجي في جامعه والدارمي في الاستذكار والماوردي في
الحاوي والقاضي أبو الطيب في المجرد والمحاملي في كتابيه والقاضي حسين والمتولي والبغوي وصاحب
العدة وآخرون قال القاضي أبو الطيب في المجرد نص عليه الشافعي في الجامع الكبير وقال صاحب
الشامل يستحب ان يرفع يديه مع هذا الدعاء ثم قال قال الشافعي في الاملاء لا أكرهه ولا استحبه
ولكن إن رفع كان حسنا * هذا نصه وليس في المسألة خلاف على الحقيقة لان هذا النص محمول
على وفق النص والذي نقله أبو الطيب وجزم به الأصحاب * وقد قدمت في آخر باب صفة الصلاة
فصلا في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في رفع اليدين في الدعاء في مواطن كثيرة
والله أعلم *
(فرع) هذا الذكر الذي ذكره المصنف هكذا جاء في الحديث وكذا ذكره الشافعي
في الام وكذا ذكره الأصحاب في جميع طرقهم ونقله المزني في المختصر فغيره فقال
وزد من شرفه وعظمته ممن حجه أو اعتمره تشريفا وتعظيما وتكريما ومهابة * وقد كرر المهابة في
الموضعين قال أصحابنا في الطريقين هذا غلط من المزني وإنما يقال في الثاني وبرا لان المهابة تليق بالبيت والبر
8

يليق بالانسان وهكذا هو في الحديث وفي نص الشافعي في الام وممن نقل اتفاق الأصحاب على
تغليط المزني صاحب البيان وكذا هو مصرح به في كتب الأصحاب * ووقع في الوجيز ذكر المهابة
والبر جميعا في الأول وذكر البر وحده ثانيا وهذا أيضا مردود والانكار في ذكره البر في الأول
والله أعلم * قال القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد التكبير عند رؤية الكعبة لا يعرف للشافعي أصلا
قال ومن أصحابنا من قال إذا رآها كبر قال القاضي هذا ليس بشئ *
(فرع) قال القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد قوله (اللهم أنت السلام) المراد به ان السلام من
أسماء الله تعالى قال وقوله (ومنك السلام) أي السلامة من الآفات * وقوله (حينا ربنا بالسلام) اي
اجعل تحيتنا في وفودنا عليك السلامة من الآفات *
(فرع) في مذاهب العلماء في رفع اليدين عند رؤية الكعبة * قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابه
وبه قال جمهور العلماء حكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس وسفيان الثوري وابن المبارك وأحمد
واسحق قال وبه أقول * وقال مالك لا يرفع وقد يحتج له بحديث المهاجر المكي قال (سئل جابر
ابن عبد الله عن الرجل الذي يرى البيت يرفع يديه فقال ما كنت أرى أحدا يفعل هذا إلا اليهود
قد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يفعله) رواه أبو داود والنسائي باسناد حسن ورواه الترمذي
عن المهاجر المكي أيضا قال (سئل جابر بن عبد الله أيرفع الرجل يديه إذا رأى البيت فقال
حججنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فكنا نفعله) هذا لفظ رواية الترمذي واسناده حسن * قال أصحابنا
رواية المثبت للرفع أولى لان معه زيادة علم قال البيهقي رواية غير جابر في اثبات الرفع أشهر عند
أهل العلم من رواية المهاجر المكي قال والقول في مثل هذا قول من رأى وأثبت والله أعلم *
9

(فرع) اتفق أصحابنا على أنه يستحب للمحرم أن يدخل المسجد الحرام من باب بني شيبة
صرحوا بأنه لا فرق بين أن يكون في صوب طريقه أم لا فيستحب أن يعدل إليه من لم يكن على
طريقه وهذا لا خلاف فيه قال الخراسانيون والفرق بينه وبين الثنية العليا على اختيار الخراسانيين
حيث قالوا لا يستحب العدول إليها كما سبق أنه لا مشقة في العدول إلى باب بني شيبة بخلاف الثنية
قال القاضي حسين وغيره ولان النبي صلى الله عليه وسلم (عدل إلى باب بني شيبة ولم يكن على طريقه) * واحتج
البيهقي للدخول من باب بني شيبة بما رواه باسناده الصحيح عن ابن عباس (أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما قدم في عهد قريش دخل مكة من هذا الباب الأعظم وقد جلست قريش مما يلي الحجر)
ثم قال البيهقي وروي عن ابن عمر مرفوعا في دخوله من باب بني شيبة وخروجه من باب الحناطين
قال واسناده عنه قوي قال وروينا عن ابن جريج عن عطاء قال (يدخل المحرم من حيث شاء
ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من باب بني شيبة وخرج من باب بني مخزوم إلى الصفا) قال
البيهقي هذا مرسل جيد والله أعلم *
(فرع) يستحب أن يقدم في دخوله المسجد رجله اليمنى وفي خروجه اليسرى ويقول الأذكار
المشروعة عند دخول المساجد والخروج منها وقد سبق بيانها في آخر باب ما يوجب الغسل * وينبغي له
أن يستحضر عند رؤية الكعبة ما أمكنه من الخشوع والتذلل والخضوع والمهابة والاجلال فهذه
عادة الصالحين وعباد الله العارفين لان رؤية البيت تشوق إلى رب البيت وقد حكوا أن امرأة
دخلت مكة فجعلت تقول أين بيت ربي فقيل الآن ترينه فلما لاح البيت قيل لها هذا بيت ربك
فاشتدت نحوه فألصقت جبينها بحائط البيت فما رفعت إلا ميتة * وأن الشبلي رضي الله عنه غشي
عليه عند رؤية الكعبة ثم افاق فأنشد
10

هذه دارهم وأنت محب * ما بقاء الدموع في الآماق
* قال المصنف رحمه الله *
(ويبتدئ بطواف القدوم لما روت عائشة رضي الله عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول شئ بدأ
به حين قدم مكة انه توضأ ثم طاف بالبيت) فان خاف فوت مكتوبة أو سنة مؤكدة أتى بها قبل
الطواف لأنها تفوت والطواف لا يفوت وهذا الطواف سنة لأنه تحية فلم يجب كتحية المسجد) *
(الشرح) حديث عائشة رواه البخاري ومسلم قال أصحابنا يستحب للمحرم أول دخوله مكة
أن لا يعرج على استئجار منزل وحط قماش وتغيير ثيابه ولا شئ آخر غير الطواف بل يقف بعض
الرفقة عند متاعهم ورواحلهم حتى يطوفوا ثم يرجعوا إلى رواحلهم ومتاعهم واستئجار المنزل *
قال أصحابنا فإذا فرغ من الدعاء عند رأس الردم قصد المسجد فدخله من باب بنى شيبة كما
ذكر فأول شئ يفعله طواف القدوم * واستثنى الشافعي والأصحاب من هذا المرأة الجميلة والشريفة
التي لا تبرز للرجال قالوا فيستحب لها تأخير الطواف ودخول المسجد إلى الليل لأنه أستر لها وأسلم
لها ولغيرها من الفتنة والله أعلم * قال الشافعي والأصحاب فإذا دخل المسجد لا يشتغل بصلاة تحية
المسجد ولا غيرها بل يبدأ بالطواف للحديث المذكور فيقصد الحجر الأسود ويبدأ بطواف القدوم
وهو تحية المسجد الحرام * قال أصحابنا والابتداء بالطواف مستحب لكل داخل سواء كان
محرما أو غيره إلا إذا خاف فوت الصلاة المكتوبة أو سنة راتبة أو مؤكدة أو فوت الجماعة في
المكتوبة وإن كان وقتها واسعا أو كان عليه فائتة مكتوبة فإنه يقدم كل هذا على الطواف ثم يطوف
ولو دخل وقد منع الناس من الطواف صلى تحية المسجد * واعلم أن العمرة ليس فيها طواف قدوم
وإنما فيها طواف واحد يقال له طواف الفرض وطواف الركن (وأما) الحج ففيه ثلاثة أطوفة -
طواف القدوم - وطواف الإفاضة - وطواف الوداع - ويشرع له وللعمرة طواف رابع وهو المتطوع
11

به غير ما ذكرناه فإنه يستحب له الاكثار من الطواف (فاما) طواف القدوم فله خمسة أسماء طواف
القدوم - والقادم والورود والوارد - وطواف التحية (واما) طواف الإفاضة فله أيضا خمسة أسماء
طواف الإفاضة - وطواف الزيارة - وطواف الفرض - وطواف الركن - وطواف الصدر - بفتح
الصاد والدال - (وأما) طواف الوداع فيقال له أيضا طواف الصدر * ومحل طواف القدم أول
قدومه ومحل طواف الإفاضة بعد الوقوف بعرفات ونصف ليلة النحر ومحل طواف الوداع عند
إرادة السفر من مكة بعد قضاء مناسكه كلها * واعلم أن طواف الإفاضة ركن لا يصح الحج الا به
وطواف الوداع فيه قولان (أصحهما) انه واجب (والثاني) سنة فان تركه أراق دما (ان قلنا) هو
واجب فالدم واجب وان قلنا سنة فالدم سنة (واما) طواف القدوم فسنة ليس بواجب فلو تركه
فحجه صحيح ولا شئ عليه لكنه فاتته الفضيلة هذا هو المذهب ونص عليه الشافعي وقطع به
جماهير العراقيين والخراسانيين وذكر جماعة من الخراسانيين وغيرهم في وجوبه وجها ضعيفا شاذا
وانه إذا تركه لزمه دم * ممن قاله وحكاه صاحب التقريب والدارمي والقاضي أبو الطيب في آخر
صفة الحج من تعليقه وأبو علي السنجي - بالسين المهملة - وامام الحرمين وصاحب البيان وآخرون *
(فرع) قد ذكرنا أنه يؤمر أن يأتي بطواف القدوم أول قدومه فلو أخره ففي فواته وجهان
حكاهما إمام الحرمين لأنه يشبه تحية المسجد *
(فرع) اعلم أن طواف القدوم إنما يتصور في حق مفرد الحج وفي حق القارن إذا كانا قد أحرما
من غير مكة ودخلاها قبل الوقوف بعرفات فاما المكي فلا يتصور في حقه طواف القدوم إذ لا
قدوم له (وأما) المحرم بالعمرة فلا يتصور في حقه طواف قدوم بل إذا طاف للعمرة أجزأه عنهما
ويتضمن القدوم كما تجزئ الصلاة المفروضة عن الفرض وتحية المسجد * قال أصحابنا حتى لو
طاف المعتمر بنية طواف القدوم وقع عن طواف العمرة كما لو كان عليه حجة الاسلام فاحرم بحجة
تطوع فإنها تقع عن حجة الاسلام (وأما) من أحرم بالحج مفردا أو قارنا ولم يدخل مكة إلا بعد
12

الوقوف فليس في حقه طواف قدوم بل الطواف الذي يفعله بعد الوقوف طواف الإفاضة فلو نوى
به طواف القدوم وقع عن طواف الإفاضة إن كان دخل وقته وهو نصف ليلة النحر كما قلنا في المعتمر
إذا نوى طواف القدوم والله أعلم * قال أصحابنا ويسن طواف القدوم لكل قادم إلى مكة سواء
كان حاجا أو تاجرا أو زائرا أو غيرهم ممن دخل محرما بعمرة أو بحج بعد الوقوف كما سبق *
(فرع) في صفة الطواف الكاملة * وإذا دخل المسجد فليقصد الحجر الأسود وهو في الركن
الذي يلي باب البيت من جانب المشرق ويسمى الركن الأسود ويقال له وللركن اليماني الركنان
اليمانيان وارتفاع الحجر الأسود من الأرض ثلاث أذرع إلا سبع أصابع ويستحب أن يستقبل
الحجر الأسود بوجهه ويدنو منه بشرط أن لا يؤذي أحدا بالمزاحمة فيستلمه ثم يقبله من غير صوت
يظهر في القبلة ويسجد عليه ويكرر التقبيل والسجود عليه ثلاثا ثم يبتدئ الطواف ويقطع التلبية
في الطواف كما سبق بيانه في مسائل التلبية ويضطبع مع دخوله في الطواف فان اضطبع قبله بقليل
فلا بأس والاضطباع أن يجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن عند إبطه ويطرح طرفيه على منكبه
الأيسر ويكون منكبه الأيمن مكشوفا * وصفة الطواف أن يحاذي جميعه جميع الحجر الأسود فيمر
بجميع بدنه على جميع الحجر وذلك بأن يستقبل البيت ويقف على جانب الحجر الذي إلى جهة
الركن اليماني بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير منكبه الأيمن عند طرف الحجر ثم ينوي الطواف
لله تعالى ثم يمشي مستقبل الحجر مارا إلى جهة يمينه حتى يجاوز الحجر فإذا جاوزه انفتل وجعل
يساره إلى البيت ويمينه إلى خارج ولو فعل هذا من الأول وترك استقبال الحجر جاز لكنه فاتته
الفضيلة ثم يمشي هكذا تلقاء وجهه طائفا حول البيت كله فيمر على الملتزم وهو ما بين الركن الذي
فيه الحجر الأسود والباب سمي بذلك لان الناس يلزمونه عند الدعاء ثم يمر إلى الركن الثاني بعد
الأسود ثم يمر وراء الحجر - بكسر الحاء وإسكان الجيم - وهو في صوب الشام والمغرب فيمشي
حوله حتى ينتهي إلى الركن الثالث ويقال لهذا الركن مع الذي قبله الركنان الشاميان وربما قيل المغربيان
ثم يدور حول الكعبة حتى ينتهى إلى الركن الرابع المسمى بالركن اليماني ثم يمر منه إلى الحجر
الأسود فيصل إلى الموضع الذي بدأ منه فيكمل له حينئذ طوفة واحدة ثم يطوف كذلك ثانية وثالثة
حتى يكمل سبع طوفات فكل مرة من الحجر الأسود إليه طوفة والسبع طواف كامل * هذه صفة
13

الطواف التي إذا اقتصر عليها صح طوافه وبقيت من صفاته المكملة أفعال وأقوال نذكرها بعد
هذا إن شاء الله تعالى حيث ذكرها المصنف (واعلم) أن الطواف يشتمل على شروط وواجبات
لا يصح بدونها وعلى سنن يصح بدونها (فاما) الشروط الواجبات فثمانية مختلف في بعضها (أحدها)
الطهارة عن الحدث وعن النجس في الثوب والبدن والمكان الذي يطوه في مشيها (الثاني) كون
الطواف داخل المسجد (الثالث) اكمال سبع طوفات (الرابع) الترتيب وهو ان يبدأ من الحجر الأسود
وأن يمر على يساره (الخامس) أن يكون جميع بدنه خارجا عن جميع البيت فهذه الخمسة واجبة بلا خلاف
(السادس والسابع والثامن) نية الطواف وصلاته وموالاته وفى الثلاثة خلاف (الأصح) انها سنة
(والثاني) واجبة (وأما) السنن فثمانية أيضا (أحدها) أن يكون ماشيا (الثاني) الاضطباع (الثالث)
الرمل (الرابع) استلام الحجر الأسود وتقبيله ووضع الجبهة عليه (الخامس) المستحبة في الطواف
وسنذكرها إن شاء الله تعالى (السادس) الموالاة بين الطوفات (السابع) صلاة الطواف (الثامن)
أن يكون في طوافه خاشعا خاضعا متذللا حاضر القلب ملازم الأدب بظاهره وباطنه وفي حركته
ونظره وهيئته فهذه خلاصة القول في الطواف وبيان صفته وواجباته ومندوباته وسنوضحها إن شاء الله
تعالى على ترتيب المصنف والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(ومن شرط الطواف الطهارة لقوله صلى الله عليه وسلم (الطواف بالبيت صلاة الا أن الله تعالى
أباح فيه الكلام) ومن شرطه ستر العورة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم (بعث أبا بكر رضي
الله عنه إلى مكة فنادى ألا لا يطوفن بالبيت مشرك ولا عريان) وهل يفتقر إلى النية فيه وجهان
(أحدهما) يفتقر إلى النية لأنها عبادة تفتقر إلى البيت فافتقرت إلى النية كركعتي المقام (والثاني) لا يفتقر
لان نية الحج تأتي على ذلك كما تأتي على الوقوف *
(الشرح) (أما) الحديث الأول فمروي من رواية ابن عباس مرفوعا باسناد ضعيف (والصحيح)
أنه موقوف على ابن عباس كذا ذكره البيهقي وغيره من الحفاظ ويغني عنه ما سنذكره من الأحاديث
الصحيحة في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى (وأما) حديث بعث أبي بكر رضي الله عنه فهو
في صحيحي البخاري ومسلم لكن غير المصنف لفظه وإنما لفظ روايتهما عن أبي هريرة (أن أبا بكر
14

الصديق رضي الله عنه بعثه في الحجة التي أمره عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حجة الوداع في رهط
يؤذن في الناس يوم النحر أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) هذا لفظ رواية
البخاري ومسلم وينكر على المصنف قوله في هذا الحديث روى فاتي به بصيغة تمريض مع أنه في
الصحيحين وقال في الحديث الأول لقوله صلى الله عليه وسلم فأتي به بصيغة الجزم مع أنه حديث
ضعيف (والصواب) العكس فيهما (وقوله) عبادة تفتقر إلى البيت احتراز من الوقوف والسعي والرمي
والحلق (وأما) قوله فافتقرت إلى النية كركعتي المقام فيوهم أن ركعتي الطواف تختصان بالمقام وتفتقران
إلى فعلهما عند البيت ولا خلاف أنهما تصحان في غير مكة بين أقطار الأرض كما سنوضحه قريبا
في موضعه إن شاء الله تعالى ولكن مراد المصنف بافتقارهما إلى البيت أنه لا تصح صلاتهما الا إلى
البيت حيث كان المصلى (أما) الأحكام ففي الفصل ثلاث مسائل (إحداها) يشترط لصحة الطواف
الطهارة من الحدث والنجس في الثوب والبدن والمكان الذي يطوه في طوافه فإن كان محدثا أو
مباشرا لنجاسة غير معفو عنها لم يصح طوافه قال الرافعي والمراد للأئمة تشبيه مكان الطواف
بالطريق في حق المتنفل وهو تشبيه لا بأس به هذا كلامه (قلت) والذي أطلقه الأصحاب انه لو لاقى
النجاسة ببدنه أو ثوبه أو مشى عليها عمدا أو سهوا لم يصح طوافه * ومما عمت به البلوى غلبة
النجاسة في موضع الطواف من جهة الطير وغيره وقد اختار جماعة من أصحابنا المتأخرين المحققين
المطلعين العفو عنها وينبغي أن يقال يعفى عما يشق الاحتراز عنه من ذلك كما عفي عن دم القمل
والبراغيث والبق وونيم الذباب وهو روثه وكما عفي عن أثر الاستنجاء بالأحجار وكما عفي عن القليل
من طين الشوارع الذي تيقنا نجاسته وكما عفي عن النجاسة التي لا يدركها الطرف في الماء والثوب
على الأصح ونظائر ما ذكرته كثيرة مشهورة وقد سبق بيانها واضحة في مواضعها وقد سئل الشيخ
أبو زيد المروزي عن مسألة من نحو هذا فقال بالعفو ثم قال الامر إذا ضاق اتسع كأنه يستمد من
قول الله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ولان محل الطواف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه رضي الله عنهم ومن بعدهم من سلف الأمة وخلفها لم يزل على هذا الحال ولم يمتنع أحد
من المطاف لذلك ولا ألزم النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد بعده ممن يقتدى به بتطهير الطواف عن ذلك
15

ولا ألزموا إعادة الطواف بسبب ذلك والله أعلم * ومما تعم به البلوى في الطواف ملامسة النساء
للزحمة فينبغي للرجل أن لا يزاحمهن وينبغي لهن أن لا يزاحمن بل يطفن من وراء الرجال فان حصل
لمس فقد سبق تفصيله في بابه والله أعلم * (المسألة الثانية) ستر العورة شرط لصحة الطواف وقد
سبق بيان عورة الرجل والمرأة في بابه فمتى انكشف جزء من عورة أحدهما بتفريطه بطل ما يأتي
بعد ذلك من الطواف (وأما) ما سبق منه فحكمه في البناء حكم من أحدث في أثناء طوافه وسنوضحه
في آخر أحكام الطواف حيث ذكره المصنف ان أشاء الله تعالى والمذهب انه يبني وان
انكشف بلا تفريط وستر في الحال لم يبطل طوافه كما لا تبطل صلاته (المسألة الثالثة) في نية الطواف
قال أصحابنا إن كان الطواف في غير حج ولا عمرة لم يصح بغير نية بلا خلاف كسائر العبادات
من الصلاة والصوم ونحوهما وإن كان في حج أو عمرة فينبغي أن ينوي الطواف فان طاف بلا
نية فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) صحته وبه قطع جماعة منهم امام الحرمين
(والثاني) بطلانه فان قلنا بالصحة فهل يشترط أن لا يصرفه إلى غرض آخر من طلب غريم ونحوه
فيه وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين (أصحهما) يشترط قال إمام الحرمين وربما كان شيخي
يقطع به وبهذا قطع الدارمي فان صرفه لم يصح طوافه ولا يعد طائفا (والثاني) لا يشترط ولو
صرفه صح طوافه كما لو كان عليه حجة الاسلام فنوى غيرها فإنه يقطع عنها فحصل في المسألة ثلاثة
أوجه (أحدها) لا يصح طوافه إلا بنية (والثاني) يصح بلا نية ولا يضر صرفه إلى غيره (وأصحها)
يصح بلا نية بشرط أن لا يصرفه إلى غيره * ولو نام في الطواف أو بعضه على هيأة لا تنقض
الوضوء قال إمام الحرمين هذا يقرب من صرف النية إلى طلب لغريم قال ونحوه أن يقطع
بصحة الطواف لأنه لم يصرف الطواف إلى غير النسك فلا يضر كونه غير ذاكر * هذا كلام
إمام الحرمين ذكره في مسائل الوقوف بعرفات (والأصح) صحة طوافه في هذه الصورة والله أعلم
ولو كان المحرم بالحج معتقدا أنه محرم بعمرة أجزأه عن الحج كما لو طاف عن غيره وعليه طواف
عن نفسه ذكره الروياني وغيره *
(فرع) قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في اعمال يوم النحر في مسائل طواف الإفاضة أفعال
16

الحج كالوقوف بعرفات وبمزدلفة والطواف والسعي والرمي هل يفتقر كل فعل منها إلى نية فيه
ثلاثة أوجه (أحدها) لا يفتقر شئ منها إلى نية لان نية الحج تشملها كلها كما أن نية الصلاة تشمل
جميع أفعالها ولا يحتاج إلى النية في ركوع ولا غيره ولأنه لو وقف بعرفة ناسيا أجزأه بالاجماع
(والوجه الثاني) وهو قول أبي إسحاق المروزي لا يفتقر شئ منها إلى النية الا الطواف لأنه صلاة
والصلاة تفتقر إلى نية (والثالث) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة ما كان منها مختصا بفعل
كالطواف والسعي والرمي افتقر وما لا يختص وإنما هو لبث مجرد كالوقوف بعرفات وبمزدلفة
والمبيت لا يفتقر * هذا كلام القاضي (والصحيح) من هذه الأوجه هو الأول ولم يذكر الجمهور
غيره الا الوجه الضعيف في ايجاب نية الطواف والصحيح أيضا عنده ذكر الخلاف فيها انها لا
تجب كما سبق والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا انه لا يصح الطواف الا بطهارة سواء فيه جميع أنواع الطواف هكذا جزم به
الشافعي والأصحاب في جميع الطرق ولا خلاف فيه الا وجها ضعيفا باطلا حكاه امام الحرمين
وغيره عن أبي يعقوب الأبيوردي من أصحابنا انه يصح طواف الوداع بلا طهارة وتجبر الطهارة
بالدم قال الامام هذا غلط لان الدم إنما وجب جبرا للطواف لا للطهارة *
(فرع) في مذاهب العلماء في الطهارة في الطواف قد ذكرنا أن مذهبنا اشتراط الطهارة عن
الحدث والنجس وبه قال مالك وحكاه الماوردي عن جمهور العلماء وحكاه ابن المنذر في طهارة
الحدث عن عامة العلماء وانفرد أبو حنيفة فقال الطهارة من الحدث والنجس ليست بشرط للطواف
فلو طاف وعليه نجاسة أو محدثا أو جنبا صح طوافه واختلف أصحابه في كون الطهارة واجبة مع
اتفاقهم على أنها ليست بشرط فمن أوجبها منهم قال إن طاف محدثا لزمه شاة وان طاف جنبا لزمه
بدنة قالوا ويعيده ما دام بمكة وعن أحمد روايتان (إحداهما) كمذهبنا (والثانية) ان أقام بمكة اعاده
وان رجع إلى بلده جبره بدم * وقال داود الطهارة للطواف واجبة فان طاف محدثا أجزأه الا
الحائض وقال المنصوري من أصحاب داود الطهارة شرط كمذهبنا * واحتج أبو حنيفة وموافقوه
بعموم قوله تعالى (وليطوفوا بالبيت) وهذا يتناول الطواف بلا طهارة قياسا على الوقوف وسائر
أركان الحج * واحتج أصحابنا بحديث عائشة (ان النبي صلى الله عليه وسلم أول شئ بدأ به حين قدم مكة
17

ان توضأ ثم طاف بالبيت) رواه البخاري ومسلم وثبت في صحيح مسلم من رواية جابر أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال في آخر حجته (لتأخذوا عني مناسككم) قال أصحابنا ففي الحديث دليلان (أحدهما)
ان طوافه صلى الله عليه وسلم بيان للطواف المجمل في القرآن (والثاني) قوله صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عني مناسككم)
يقتضي وجوب كل ما فعله إلا ما قام دليل على عدم وجوبه * وعن عائشة أيضا ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
لها حين حاضت وهي محرمة (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تغتسلي) رواه
البخاري ومسلم بهذا اللفظ وفيه تصريح باشتراط الطهارة لأنه صلى الله عليه وسلم نهاها عن الطواف حتى تغتسل
والنهي يقتضي الفساد في العبادات (فان قيل) أنما نهاها لان الحائط لا تدخل المسجد (قلنا)
هذا فاسد لأنه صلى الله عليه وسلم قال (حتى تغتسلي) ولم يقل حتى ينقطع دمك * وبحديث ابن عباس السابق
(الطواف بالبيت صلاة) وقد سبق أن الصحيح أنه موقوف على ابن عباس وتحصل منه الدلالة
أيضا لأنه قول صحابي اشتهر ولم يخالفه أحد من الصحابة فكان حجة كما سبق بيانه في مقدمة
هذا الشرح وقول الصحابي حجة أيضا عند أبي حنيفة (وأجاب) أصحابنا عن عموم الآية التي
احتج بها أبو حنيفة بجوابين (أحدهما) انها عامة فيجب تخصيصها بما ذكرناه (والثاني) أن الطواف
بغير طهارة مكروه عند أبي حنيفة ولا يجوز حمل الآية على طواف مكروه لان الله تعالى لا يأمر
بالمكروه (والجواب) عن قياسهم على الوقوف وغيره أن الطهارة ليست واجبة في غير الطواف من
أركان الحج فلم تكن شرطا بخلاف الطواف فإنهم سلموا وجوبا فيه على الراجح عندهم والله أعلم *
(فرع) في مذاهبهم في النية في طواف الحج أو العمرة * قد ذكرنا ان الأصح عندنا أنها
لا تشترط وبه قال الثوري وأبو حنيفة * وقال احمد واسحق وأبو ثور وابن القاسم المالكي وابن المنذر
لا يصح إلا بالنية ودليل المذهبين في الكتاب *
18

(فرع) ستر العورة شرط لصحة الطواف عندنا وعند مالك واحمد والجمهور وقال أبو حنيفة
ليس بشرط * دليلنا الحديث الذي ذكره المصنف (لا يطوف بالبيت عريان) وهو في الصحيحين
كما سبق * وعن ابن عباس قال (كانت المرأة تطوف بالبيت وهي عريانة وتقول اليوم يبدوا كله أو
بعضه فما بدا منه فلا أحله) فنزلت (يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد) رواه مسلم *
(فرع) في مذاهبهم في حكم طواف القدوم قد ذكرنا أنه سنة عندنا لو تركه لم يأثم ولم يلزمه
دم وبه قال أبو حنيفة وابن المنذر وقال أبو ثور عليه دم * وعن مالك رواية كمذهبنا ورواية أنه
إن كان مضايقا للوقوف فلا دم في تركه وإلا فعليه دم
* قال المصنف رحمه الله *
(والسنة ان يضطبع فيجعل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن ويطرح طرفيه على منكبه الأيسر
ويكشف الأيمن لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا فأمرهم النبي
صلى الله عليه وسلم فاضطبعوا فجعلوا أرديتهم تحت آباطهم وقذفوها على عواتقهم) *
(الشرح) حديث ابن عباس هذا صحيح رواه أبو داود باسناد صحيح ولفظه عن ابن عباس
(ان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه اعتمروا من الجعرانة فرملوا بالبيت فجعلوا أرديتهم تحت آباطهم
ثم قذفوها على عواتقهم اليسرى) ورواه البيهقي باسناد صحيح قال عن ابن عباس قال (اضطبع
النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه ورملوا ثلاثة أشواط ومشوا أربعا) وعن يعلي بن أمية رضي الله عنه (ان
رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف بالبيت مضطبعا ببرد) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة بأسانيد صحيحة
قال الترمذي هو حديث حسن صحيح وفي رواية البيهقي (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت
مضطبعا) إسناده صحيح * وعن أسلم مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت عمر يقول
(فيم الرملان الدان والكشف عن المناكب وقد وطد الله الاسلام ونفى الكفر وأهله ومع ذلك
لا نترك شيئا كنا نصنعه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البيهقي باسناد صحيح قال أهل اللغة الاضطباع
مشتق من الضبع - بفتح الضاد وإسكان الباء - وهو العضد وقيل النصف الاعلى من العضد وقيل
منتصف العضد وقيل هو الإبط قال الأزهري ويقال للاضطباع أيضا التوشح والتأبط (وقوله)
وسط ردائه هو - بفتح السين - ويجوز إسكانها وسبق بيان هذا في باب موقف الامام * واتفقت
نصوص الشافعي والأصحاب على استحباب الاضطباع في الطواف واتفقوا على أنه لا يسن في غير
19

طواف الحج والعمرة وانه يسن في طواف العمرة وفي طواف واحد في الحج وهو طواف القدوم
أو الإفاضة ولا يسن إلا في أحدهما وحاصله انه يسن في طواف يسن فيه الرمل ولا يسن فيما
لا يسن فيه الرمل وهذا لا خلاف فيه وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى بيان طواف الذي يسن فيه
الرمل ومختصره أن الأصح من القولين أنه إنما يسن الرمل والاضطباع في طواف يعقبه سعي وهو
إما القدوم وإما الإفاضة ولا يتصور ان في طواف الوداع (والثاني) أنهما يسنان في طواف
القدوم مطلقا سواء سعي بعده أم لا قال أصحابنا لكن يفترق الرمل والاضطباع في شئ واحد
وهو أن الاضطباع مسنون في جميع الطوفات السبع وأما الرمل إنما يسن في الثلاث الأول ويمشي
في الأربع الأواخر * قال أصحابنا ويسن الاضطباع أيضا في السعي هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور
وفيه وجه شاذ انه لا يسن فيه ممن حكاه الرافعي * وهل يسن الاضطباع في ركعتي الطواف فيه
وجهان (الأصح) لا يسن لان صورة الاضطباع مكروهة في الصلاة فان قلنا لا يسن في الصلاة طاف
مضطبعا فإذا فرغ من الطواف أزال الاضطباع وصلى ثم اضطبع فسعى وإن قلنا إنه يضطبع في الصلاة
اضطبع في أول الطواف ثم أدامه في الطواف ثم في الصلاة ثم في السعي ولا يزيله حتى يفرغ من
السعي (واعلم) أن هذين الوجهين في استحباب الاضطباع في ركعتي الطواف ومشهور ان في كتب
الخراسانيين وقطع جمهور العراقيين بعدم الاستحباب واتفق الخراسانيون على أنه الأصح قال
القاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهما سبب الخلاف أن الشافعي قال ويديم الاضطباع حتى يكمل
سعيه فقال بعضهم سعيه - بياء مثناة - بعد العين وقال بعضهم سبعة - بباء موحدة - قبل العين إلى
الطوفات السبع * ثم المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور أنه يضطبع في جميع مسافة السعي
بين الصفا والمروة ومن أول السعي إلى آخره وحكى الدارمي وجها عن ابن القطان أنه إنما يضطبع
في موضع سعيه دون موضع مشيه وهذا شاذ مردود والله أعلم *
(فرع) الاضطباع مسنون للرجل ولا يشرع للمرأة بلا خلاف لما ذكره المصنف ولا يشرع]
[أيضا للخنثى وفي الصبي طريقان (أصحهما) وبه قطع الجمهور يسن له فيفعله بنفسه وإلا فيفعله به وليه
كسائر أعمال الحج (والثاني) فيه وجهان (أصحهما) هذا (والثاني) لا يشرع له قاله أبو علي
ابن أبي هريرة وممن حكى هذا الطريق القاضي أبو الطيب في تعليقه والدارمي والرافعي وغيرهم
20

قال القاضي أبو الطيب والدارمي قال أبو علي بن أبي هريرة لا يضطبع الصبي لأنه ليس من
أهل الجلد *
(فرع) قال الماوردي وغيره من الأصحاب ولو ترك الاضطباع في بعض الطواف أتى به فيما
بي ولو تركه في الطواف أتى به في السعي *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب الاضطباع وقال مالك لا يشرع الاضطباع لزوال
سببه قال أصحابنا هذا منتقض بالرمل بما قدمناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ويطوف سبعا لما روى جابر قال (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم مكة فطاف بالبيت
سبعا ثم صلى) فان ترك بعض السبعة لم يجزه لان النبي صلى الله عليه وسلم (طاف سبعا وقال خذوا عني
مناسككم)) *
(الشرح) حديث جابر رواه مسلم بمعناه قال (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حتى
إذا أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشى أربعا ثم نفر إلى مقام إبراهيم فقرأ (واتخذوا
من مقام إبراهيم مصلى) وثبت عن ابن عمر قال (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت
سبعا وصلى خلف المقام ركعتين ثم خرج إلى الصفا) رواه البخاري ومسلم (وأما) حديث (خذوا
عني مناسككم) فرواه جابر قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي على راحلته يوم النحر
ويقول لتأخذوا عني مناسككم فاني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه) رواه مسلم في صحيحه
بهذا اللفظ في أبواب رمي الجمار ورواه البيهقي في سننه في باب الاسراع في وادي محسر باسناد
صحيح على شرط البخاري ومسلم من رواية جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (خذوا عني مناسككم
لعلي لا أراكم بعد عامي هذا) والله أعلم (أما) حكم المسألة فشرط الطواف أن يكون سبع طوفات
كل مرة من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ولو بقيت خطوة من السبع لم يحسب طوافه سواء كان
باقيا في مكة أو انصرف عنها وصار في وطنه ولا ينجبر شئ منه بالدم ولا بغيره بلا خلاف عندنا
ولو شك في عدد الطواف أو السعي لزمه الاخذ بالأقل ولو غلب على ظنه الأكثر لزمه الاخذ بالأقل
21

المتقين كما سبق في الصلاة * ولو أخبره عدل أو عدلان بأنه إنما طاف أو سعي ستا وكان يعتقد
أنه أكمل السبع لم يلزمه العمل بقولهما لكن يستحب * هذا كله إذا كان الشك وهو في الطواف
أما إذا شك بعد فراغه فلا شئ عليه ويحتمل أن يجئ فيه القول الضعيف في نظيره من الصلاة
وهل يشترط موالاة الطوافات السبع فيه خلافا سنذكره مبسوطا إن شاء الله تعالى في أواخر أحكام
الطواف حيث ذكره المصنف والأصح انها لا تشترط *
(فرع) قد ذكرنا أنه لو بقي شئ من الطوفات السبع لم يصح طوافه سواء قلت البقية أم كثرت
وسواء كان بمكة أم في وطنه ولا يجبر بالدم هذا مذهبنا وبه قال جمهور العلماء وهذا مذهب عطاء
ومالك وأحمد وإسحق وابن المنذر * وقال أبو حنيفة إن كان بمكة لزم الاتمام في طواف الإفاضة
وإن كان قد انصرف منها وقد طاف ثلاث طوفات لزمه الرجوع للاتمام وإن كان قد طاف أربعا
لم يلزمه العود بل أجزأه طوافه وعليه دم * دليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين الطواف المأمور به سبعا
فلا يجوز النقص منه كالصلاة *
(فرع) في مذاهبهم في الشاك في الطواف * قال ابن المنذر اجمع العلماء على أن من شك
في عد طوافه بنى على اليقين (قال) ولو اختلف الطائفان في عدد الطواف قال عطاء ابن أبي رباح
والفضيل بن عياض يأخذ بقول صاحبه الذي لا يشك وقال مالك أرجو أن يكون فيه سبعة * قال
الشافعي فمذهبه أنه لا يجزئه الا علم نفسه لا يقبل قول غيره * قال ابن المنذر وبه أقول والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(ولا يجزئه حتى يطوف حول جميع البيت فان طاف على جدار الحجر لم يجزه لان الحجر
من البيت والدليل عليه ما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الحجر من البيت) وان
طاف على شاذروان البيت لم يجزه لان ذلك كله من البيت) *
(الشرح) عن عائشة رضي الله عنها قالت (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجدار
أمن البيت هو قال نعم قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت قال إن قومك قصرت بهم النفقة (قلت)
فما شأن بابه مرتفعا قال فعل ذلك قومك ليدخلوا من شاؤوا ويمنعوا من شاؤوا ولولا أن قومك
22

حديث عهدهم بالجاهلية فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر في البيت وأن الصق بابه بالأرض)
رواه البخاري ومسلم والجدر - بفتح الجيم واسكان الدال المهملة - هو الحجر * وفى رواية لمسلم
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أها يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية لأمرت بالبيت
فهدم فادخل فيه ما أخرج منه وألزقته بالأرض وجعلت له بابين بابا شرقيا وبابا غربيا فبلغت به
أساس إبراهيم) وفي رواية لمسلم عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (لولا أن قومك
حديثو عهد بجاهلية أو قال بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله تعالى ولجعلت بابها بالأرض
ولأدخلت فيها من الحجر) وفى رواية لمسلم أيضا (يا عائشة لولا أن قومك حديثوا عهد بشرك
لنقضت الكعبة فألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيا وبابا غربيا ورددت فيها ستة أذرع
من الحجر فان قريشا اقتصرتها حين بنت الكعبة) وفي رواية له (خمس أذرع) وفي رواية له
قالت عائشة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان قومك استقصروا من بنيان البيت ولولا حداثة عهدهم
بالشرك أعدت ما تركوا منه فان بدا لقومك من بعدي أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها
قريبا من سبع أذرع) هذه روايات الحديث في الحجر وهو - بكسر الحاء واسكان الجيم -
وهو محوط مدور على نصف دائرة وهو خارج عن جدار البيت في صوب الشام تركته قريش
حين بنت البيت فأخرجته عن بناء إبراهيم صلى الله عليه وسلم كما سبق في هذه الأحاديث وحوط
عليه جدار قصير وقد وصفه الإمام أبو الوليد الأزرقي في تاريخ مكة فأحسن وأجاد فقال هو
ما بين الركن الشامي والغربي وأرضه مفروشة برخام وهو مستو بالشاذروان قال وعرض الحجر
من جدار الكعبة الذي تحت الميزاب إلى جدار الحجر سبع عشرة ذراعا وثمان أصابع وللحجر
بابان ملتصقان بركني الكعبة الشاميين * قال الأزرقي بين هذين البابين عشرون ذراعا وعرضه
اثنان وعشرون ذراعا وذراع جداره من داخله في السماء ذراع وأربع عشرة أصبعا
وذرع جدار الغربي في السماء ذراع وعشرون أصبعا وذرع جدار الحجر من
خارج مما يلي الركن الشامي ذراع وستة عشر أصبعا وطوله من وسطه في السماء ذراعا
وثلاثون أصبعا وعرض الجدار ذراعان إلا إصبعين وذرع تدوير الحجر من داخله ثمان وثلاثون
23

ذراعا وذرع تدويره من خارجه أربعون ذراعا وست أصابع وذرع طوفته واحدة حول الكعبة
والحجر مائة ذراع وثلاث وعشرون ذراعا واثنتا عشرة أصبعا هذا آخر كلام الأزرقي * (وأما)
الشاذروان فبشين معجمة وذال معجمة مفتوحة ثم راء ساكنة وهو القدر الذي تركوه من عرض
الأساس خارجا عن عرض الجدار مرتفعا عن وجه الأرض قدر ثلثي ذراع * قال الأزرقي طوله
في السماء ست عشرة أصبعا وعشر ذراع (قال) والذراع أربعة وعشرون أصبعا * قال أصحابنا
وهذا الشاذروان جزء من البيت نقضته قريش من أصل الجدار حين بنوا البيت وهو ظاهر في
جوانب البيت لكن لا يظهر عند الحجر الأسود وقد أحدث في هذه الأزمان عنده شاذروان
هذا بيان حقيقتي الحجر والشاذروان والله أعلم * (أما) الأحكام فقال أصحابنا يشترط كون الطائف
خارجا عن الشاذروان فان طاف ماشيا عليه ولو في خطوة لم تصح طوفته تلك لأنه طاف في البيت
لا بالبيت * ولو طاف خارجه الشاذروان وكان يضع إحدى رجليه أحيانا على الشاذروان ويثب
بالأخرى لم يصح طوافه بالاتفاق * ولو طاف خارج الذروان وكان يمس الجدار بيده في موازاة
الشاذروان أو غيره من أجزاء البيت ففي صحة طوافه وجهان حكاهما امام الحرمين وآخرون
(أصحهما) لا يصح صححه الامام والأصحاب وقطع به الأكثرون ونقله إمام الحرمين عن أكثر
الأصحاب وقال الرافعي (الصحيح) باتفاق فرق الأصحاب أنه لا يصح لأنه طاف وبعضه في
البيت (والثاني) يصح واستبعده الامام وغيره واستدلوا له بان الاعتبار بجملة البدن ولا نظر إلى
عضو منه ولأنه يسمى طائفا بالبيت * وينبغي ان يتفطن لدقيقه وهي ان من قبل الحجر الأسود
فرأسه في حال التقبيل في جزء من البيت فيلزمه ان يقر قدميه في موضعهما حتى يفرغ من التقبيل
ويعتدل قائما لأنه لو زلت قدماه عن موضعهما إلى جهة الباب قليلا ولو قدر شبر أو أقل ثم لما فرغ
من التقبيل اعتدل عليهما في الموضع الذي زلتا إليه ومضى من هناك في طوافه لكان قد قطع
جزءا من مطافه ويده في هواء الشاذروان فتبطل طوفته تلك * قال أصحابنا ومتى فعل في مروره
ما يقتضي بطلان طوفته فإنما يبطل ما يأتي به بعد ذلك من تلك الطوفة لا ما مضى فينبغي له أن يرجع
إلى ذلك الموضع ويطوف خارجا عن البيت وتحسب طوفته حينئذ والله أعلم * قال أصحابنا وينبغي
24

له أن يطوف خارج الحجر وهكذا نص عليه الشافعي في كتبه * قال الشافعي في المختصر وإن
طاف فسلك الحجر أو على جدار أو على شاذروان الكعبة لم يعتد به هذا نصه واتفق
الأصحاب على أنه لو دخل أحد بابي الحجر وخرج من الآخر لم يحسب له ذلك ولاما بعده حتى
ينتهي إلى الباب الذي دخل منه في طوفته الأخرى * واختلف أحصابنا في حكم الحجر على وجهين
(أحدهما) أنه كله من البيت فيشترط الطواف خارجه كله (والثاني) أن بعضه من البيت وما زاد
ليس من البيت وفي هذا البعض ثلاثة أوجه (أحدها) وهو الأشهر عند المفرعين على هذا الوجه
ست أذرع وبهذا قطع إمام الحرمين وآخرون (والثاني) سبع أذرع وبه قطع أبو علي البندنيجي
والبغوي وغيرهما (والثالث) ست أذرع أو سبع وبه جزم المتولي وحكاه غيره * قال الرافعي
مقتضى كلام كثيرين من الأصحاب ان الحجر كله من البيت * قال وهو ظاهر نصه في المختصر
قال لكن الصحيح انه ليس كذلك بل الذي من البيت قدر ست أذرع يتصل بالبيت (وقيل)
ست أو سبع قال ونص المختصر محمول على هذا قال فلو لم يدخل من باب الحجر بل اقتحم جداره
وخلف بينه وبين البيت القدر الذي هو من البيت وقطع مسافة الحجر على السمت صح طوافه * هذا
كلام الرافعي وهذا الذي صححه الرافعي جزم به أبو علي البندنيجي وامام الحرمين والبغوي
والمتولي وجماهير الخراسانيين وصاحب البيان ونقله صاحب البيان عن الشيخ أبي حامد وليس
هو في تعليق أبي حامد هكذا بل الذي في تعليقه انه لو طاف في شئ من الحجر لم يصح طوافه ولم يذكر
في تعليقه غيره فحصل خلاف في أنه يشترط الطواف خارج الحجر أم يجوز داخله فوق الأذرع المذكورة
والصحيح الذي قطع به المصنف وأكثر الأصحاب وهو نص الشافعي في المختصر اشتراط الطواف
خارج جميع الحجر وخارج جداره وهو صريح في النص الذي قدمته عن المختصر ودليله أن النبي
صلى الله عليه وسلم طاف خارج الحجر وهكذا الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة فمن بعدهم
وهذا يقتضي وجوب الطواف خارج الحجر سواء كان كله من البيت أم بعضه لأنه وإن كان بعضه
من البيت فالمعتمد في باب الحج الاقتداء بفعل النبي صلى الله عليه وسلم فوجب الطواف بجميعه وفي
صحيحه في كتاب أيام الجاهلية عن ابن عباس أنه قال (يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم وأسمعوني
ما تقولون ولا تذهبوا فتقوا قال ابن عباس من طاف بالبيت فليطف من وراء الحجر) (أما) حديث
25

عائشة فقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح الروايات قد اضطربت فيه فروي الحجر من البيت وروي
ست أذرع وروي ست أو نحوها وروي خمس أذرع وروي قريبا من سبع أذرع قال وإذا
اضطربت تعين الاخذ بأكثرها ليسقط الفرض بيقين والله أعلم * وممن قطع بما ذكرته من اشتراط
الطواف خارج الحجر الشيخ أبو حامد والماوردي والدارمي والقاضي أبو الطيب والمحاملي وصاحب
الشامل والمصنف وآخرون والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لو طاف على شاذروان الكعبة أو سلك في الحجر أو على
جدار الحجر لم يصح طوافه وبه قال مالك وأحمد وداود كذا حكاه العبدري عنهم قال ابن المنذر
كان ابن عباس يقول (الحجر من البيت) قال واختلفوا فيمن سلك الحجر في طوافه فقال عطاء ومالك
والشافعي وأحمد وأبو ثور لا يصح ما أتي به في الحجر فيعيد ذلك وقال الحسن البصري يعيد
طوافه كله وإن كان قد تحلل لزمه دم وقال أبو حنيفة إن كان بمكة لزمه قضاء المتروك فقط وان رجع
إلى بلده لزمه دم * قال ابن المنذر بقول عطاء أقول
* قال المصنف رحمه الله *
(والأفضل أن يطوف راجلا لأنه إذا طاف راكبا زاحم الناس وأذاهم وإن كان به مرض
يشق معه الطواف راجلا لم يكره الطواف راكبا لما روت أم سلمة أنها قدمت مريضة فقال لها
رسول الله صلى الله عليه وسلم (طوفي وراء الناس وأنت راكبة) وإن كان راكبا من غير عذر جاز
لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس ويسألوه) *
(الشرح) حديث أم سلمة رواه البخاري ومسلم وحديث جابر رواه مسلم وثبت طواف
النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أيضا من رواية ابن عباس وثبت أيضا من رواية غير
هؤلاء ولفظ حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم (طاف في حجة الوداع على بعير يستلم
الركن بمحجن) * رواه البخاري ومسلم * وفي حديث (طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة
الوادع على راحلته يستلم الركن بمحجنه لان يراه الناس وليشرف فيسألوه فان الناس غشوه)
رواه مسلم * وعن عائشة قالت (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع حول الكعبة
على بعير يستلم الركن كراهة أن يضرب عنه الناس) رواه مسلم (أما) الأحكام فقال أصحابنا
26

الأفضل أن يطوف ماشيا ولا يركب الا لعذر مرض أو نحوه أو كان ممن يحتاج الناس إلى ظهوره ليستفتى
ويقتدى بفعله فان طاف راكبا بلا عذر جاز بلا كراهة لكنه خالف الأولى كذا قاله جمهور أصحابنا
وكذا نقله الرافعي عن الأصحاب * وقال إمام الحرمين في القلب من إدخال البهيمة التي لا يؤمن تلويثها
المسجد شئ فان أمكن الاستيثاق فذلك والا فادخالها المسجد مكروه * هذا كلام الرافعي وجزم
جماعة من أصحابنا بكراهة الطواف راكبا من غير عذر منهم البندنيجي والماوردي في الحاوي
والقاضي أبو الطيب والعبدري والمشهور الأول * قال البندنيجي وغيره والمرأة والرجل في
الركوب سواء فيما ذكرناه * قال الماوردي وحكم طواف المحمول على أكتاف الرجال كالراكب
فيما ذكرناه قال وإذا كان معذورا فطوافه محمولا أولى منه راكبا صيانة للمسجد من الدابة (قال)
وركوب الإبل أيسر حالا من ركوب البغال والحمير *
(فرع) قد ذكرنا مذهبنا في طواف الراكب ونقل الماوردي إجماع العلماء على أن
طواف الماشي أولى من طواف الراكب فلو طاف راكبا لعذر أو غيره صح طوافه ولا دم عليه
عندنا في الحالين وهذا هو الصحيح من مذهب أحمد وبه قال داود وابن المنذر * وقال مالك
وأبو حنيفة ان طاف راكبا لعذر أجزأه ولا شئ عليه وان طاف راكبا لغير عذر فعليه دم قال أبو حنيفة وإن كان
بمكة أعاد الطواف واحتجا بأنها عبادة تتعلق بالبيت فلا يجزئ فعلها على الراحلة كالصلاة *
واحتج أصحابنا بالأحاديث السابقة قالوا (إنما طاف النبي صلى الله عليه وسلم راكبا لشكوى عرضت له)
كذا رواه أبو داود في سننه باسناده عن ابن عباس (والجواب) أن الأحاديث الصحيحة الثابتة
من رواية جابر وعائشة مصرحة بأن طوافه صلى الله عليه وسلم راكبا لم يكن لمرض بل كان ليراه
الناس ويسألوه ولا يزاحموا عليه كما سبق ذكره (وأما) حديث ابن عباس هذا فضعيف لأنه من
رواية يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف قال البيهقي وهذه الرواية تفرد به يزيد هذا (وأما) قياسهم
على الصلاة ففاسد لان الصلاة لا تصح راكبا إذا كانت فريضة وقد سلموا صحة الطواف ولكن ادعوا
وجوب الدم ولا دليل لهم في ذلك والله أعلم *
(فرع) لو طاف زحفا مع قدرته على المشي فطوافه صحيح لكن يكره وممن صرح بصحته
القاضي أبو الطيب في تعليقه في أثناء دلائل مسألة طواف الراكب فقال طوافه زحفا كطوافه ماشيا
منتصبا لا فرق بينهما * قال المصنف رحمه الله *
27

(وإن حمل محرم محرما وطاف به ونويا لم يجز عنهما جميعا لأنه طواف واحد فلا يسقط به
طوافان ولمن يكن الطواف فيه قولان (أحدهما) للمحمول لان الحامل كالراحلة (والثاني) انه للحامل
لان المحمول لم يوجد منه فعل وإنما الفعل للحامل فكان الطواف له) *
(الشرح) هذان القولان مشهوران في كتب العراقيين وذكرهما بعض الخراسانيين قال
القاضي أبو الطيب في كتابه التعليق نص الشافعي في الاملاء ان الطواف للحامل ونص في مختصر
الحج انه للمحمول (والأصح) انه للحامل ممن صححه القاضي أبو الطيب في كتابيه وصاحب الشامل
والجرجاني في التجريد وصاحب العدة والعبدري وآخرون وفي المسألة قول ثالث أنه يقع الطواف
عنهما هكذا حكاه صاحب العدة وغيره قولا وحكاه المتولي (1) وغيرهما وجها قال صاحب العدة رأيت
للشافعي قولا انه يقع الطواف عنهما قال رأيت في مختصر لبعض أصحاب المزني سماه كتاب المسافر
وهذا القول مذهب أبي حنيفة واحتجوا له بأنه وجد الطواف منهما مع نيتهما فوقع عن كل منهما كما
لو وقفا بعرفات كذلك * (وأجاب) الأصحاب عن هذا بان الوقوف لا يشترط فيه فعل إنما يشترط
السكون فيها فأجزأهما بخلاف الطواف فحصل في المسألة ثلاثة أقوال (أصحها) وقوع الطواف عن الحامل
فقط (والثاني) عن المحمول فقط (والثالث) عنهما هذا كله إذا نوى الحامل والمحمول
الطواف فاما إذا نوى المحمول دون الحامل ولم يكن الحامل محرما فيقع عن المحمول بلا خلاف
وسلك امام الحرمين والبغوي وغيرهما من الخراسانيين طريقة أخرى اختصرها الرافعي وجمع

(1) بياض بالأصل فحرر)
28

متفرقها فقال لو حمل رجل محرما من صبي أو مريض أو غيرهما وطاف به فإن كان الحامل حلالا أو
محرما قد طاف عن نفسه حسب الطواف للمحمول بشرطه وإن كان محرما ولم يطف عن نفسه نظر
ان قصد الطواف عن المحمول فثلاثة أوجه (أحدها) يقع للمحمول فقط تخريجا على قولنا يشترط ان
لا يصرف إلى غرض آخر وهو الأصح (والثاني) يقع عن الحامل فقط تخريجا على قولنا لا يشترط
ذلك فان الطواف حينئذ يكون محسوبا له فلا ينصرف عنه بخلاف ما إذا حمل محرمين وطاف بهما
وهو حلال أو محرم قد طاف عن نفسه فإنه يجزئهما جميعا لان الطواف غير محسوب للحامل فيكون المحمولان
كراكبي دابة (والثالث) يقع عنهما جميعا * وان قصد الطواف عن نفسه وقع عنه ولا يحسب عن
المحمول قاله امام الحرمين ونقل اتفاق الأصحاب عليه قال وكذا لو قصد الطواف لنفسه وللمحمول *
وحكى البغوي وجهين في حصوله للحمل مع الحامل * ولو لم يقصد شيئا من الأقسام فهو كما لو قصد
نفسه أو كليهما قال أصحابنا وسواء في الصبي المحمول حمله وليه الذي أحرم عنه أو غيره *
* قال المصنف رحمه الله *
(ويبتدئ الطواف من الحجر الأسود والمستحب أن يستقبل الحجر الأسود لما روى ابن عمر
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (استقبله ووضع شفتيه عليه) فإن لم يستقبله جاز لأنه جزء من البيت
فلا يجب استقباله كسائر اجزاء البيت ويحاذيه ببدنه لا يجزئه غيره وهل تجزئه المحاذاة ببعض البدن
فيه قولان (قال) في القديم تجزئه محاذاته ببعضه لأنه لما جاز محاذاة بعض الحجر جازت محاذاته ببعض
البدن (وقال) في الجديد يجب أن يحاذيه بجميع البدن لان ما وجب فيه محاذاة البيت وجبت محاذاته
بجميع البدن كالاستقبال في الصلاة * ويستحب أن يستلم الحجر لما روى ابن عمر رضي الله عنهما
قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة يستلم الركن الأسود أول ما يطوف)
ويستحب أن يستفتح الاستلام بالتكبير لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم (كان يطوف على راحلته كلما أتى على الركن أشار بشئ في يده وكبر وقبله) ويستحب
أن يقبله لما روى ابن عمر (ان عمر رضي الله عنه قبل الحجر ثم قال والله لقد علمت أنك حجر
ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) فإن لم يمكنه أن يستلم أو يقبل
من الزحام أشار إليه بيده لما روى أبو مالك سعد بن طارق عن أبيه قال (رأيت رسول الله صلى
29

الله عليه وسلم يطوف حول البيت فإذا ازدحم الناس على الطواف استلمه رسول الله صلى الله عليه
وسلم بمحجن في يده) ولا يشير إلى القبلة بالفم لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك * ويستحب أن يقول
عند الاستلام وابتداء الطواف بسم الله والله أكبر اللهم ايمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك
واتباعا لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم لما روى جابر (ان النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن الذي فيه الحجر وكبر ثم قال
اللهم وفاء بعهدك وتصديقا بكتابك) وعن علي كرم الله وجهه أنه كأن يقول إذا استلم الركن (اللهم
إيمانا بك وتصديقا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم) وعن ابن عمر
رضي الله عنهما مثله * ثم يطوف فيجعل البيت على يساره ويطوف على يمينه لما روى جابر (أن النبي
صلى الله عليه وسلم لما أخذ في الطواف أخذ عن يمينه) فان طاف عن يساره لم يجزه لأنه صلى
الله عليه وسلم (طاف على يمينه وقال خذوا عني مناسككم) ولأنه عبادة تتعلق بالبيت فاستحق فيها
الترتيب كالصلاة) *
(الشرح) أما حديث ابن عمر قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة يستلم الركن الأسود
أول ما يطوف يخب ثلاثة أطواف من السبع فرواه البخاري ومسلم بهذا اللفظ وروى البخاري ومسلم
استلام النبي صلى الله عليه وسلم الحجر في طوافه عن جماعة من الصحابة مع ابن عمر (وأما) حديث ابن عباس
فرواه البخاري في صحيحه ولفظه عن ابن عباس قال (طاف النبي صلى الله عليه وسلم على بعير كلما
أتى الركن أشار إليه بشئ عنده وكبر (وأما) حديث ابن عمر (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
قبل الحجر وقال لولا أني رأيت رسول الله صلى عليه وسلم قبلك ما قبلتك) فرواه البخاري ومسلم
وهذا لفظ البخاري وفي رواية لمسلم عن ابن عمر قال (قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحجر
ثم قال أما والله لقد علمت أنك حجر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)
وفي رواية لمسلم عن عبد الله بن سرجس الصحابي قال (رأيت الأصلع يعني عمر بن الخطاب رضي
الله عنه يقبل الحجر ويقول والله اني لاقبلك واني لاعلم أنك حجر وانك لا تضر ولا تنفع ولولا
أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك) وفي رواية للبخاري ومسلم عن عابس
- بالباء الموحدة - ابن ربيعة التابعي قال (رأيت عمر يقبل الحجر ويقول إني لاقبلك واني لاعلم
أنك حجر ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لم أقبلك) وفي رواية لمسلم عن سويد بن غفلة
30

- بفتح الغين المعجمة والفاء - قال (رأيت عمر قبل الحجر والتزمه وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
بك حفيا) وإنما قال عمر رضي الله عنه أنك حجر وانك لا تضر ولا تنفع ليسمع الناس هذا الكلام
ويشيع بينهم وقد كان عهد كثير منهم قريبا بعبادة الأحجار وتعظيمها واعتقاد ضرها ونفعها فخاف
أن يغتر بعضهم بذلك فقال ما قال والله أعلم * (وأما) حديث سعد بن طارق عن أبيه فغريب فيغني
في الدلالة لما ذكره المصنف حديث ابن عباس الذي سبق الآن من رواية البخاري (وأما) حديث
جابر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم (لما قدم مكة اتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه فرمل ثلاثا
ومشى أربعا) فرواه مسلم بهذا اللفظ (وأما) حديث (خذوا عني مناسككم) فرواه مسلم من رواية
جابر وسبق بيانه قريبا في مسألة الطواف سبعا والله أعلم * (وأما) الأثر المذكور عن علي رضي الله
عنه فرواه البيهقي باسناد ضعيف من رواية الحارث الأعور وكان كذابا (وأما) استحباب باسم الله
والله أكبر فاستدل له البيهقي بما رواه الإمام أحمد والبيهقي بالاسناد الصحيح عن نافع قال (كان
ابن عمر يدخل مكة ضحى فيأتي البيت فيستلم الحجر ويقول باسم الله والله أكبر) والله أعلم * (وأما)
ألفاظ الفصل ففيه الاستلام - بكسر التاء - قال الهروي قال الأزهري هو افتعال من السلام وهو
التحية كما يقال اقترأت السلام قال ولذلك يسمي أهل اليمن الركن الأسود المحيا معناه ان الناس يحيونه *
قال الهروي وقال ابن قتيبة هو افتعال من السلام - بكسر السين - وهي الحجارة واحدتها سلمة - بكسر
اللام - تقول استلمت الحجر إذا لمسته كما تقول اكتحلت من الكحل هذا كلام الهروي * وقال الجوهري
استلم الحجر بالقبلة أو باليد قال ولا يهمز لأنه مأخوذ من السلام وهي الحجارة قال وهمزه بعضهم *
وقال صاحب الحكم استلم الحجر واستلامه بالهمز أي قبله أو اعتنقه قال وليس أصله الهمز (وأما) قول
الغزالي في الوسيط الاستلام هو ان يقبل الحجر في أول الطواف وفي آخره بل في كل نوبة فان عجز بالزحمة
مسه باليد فقد أنكروه عليه وغلطوه في تفسيره الاستلام بالتقبيل لان الاستلام هو اللمس باليد
والتقبيل سنة أخرى مستحبة وقد يتأول كلام الغزالي ويستمر تصحيحه مما نقله عن الجوهري
وصاحب المحكم (قوله) استلمه بمحجن هو - بميم مكسورة ثم حاء مهملة ساكنة ثم جيم مفتوحة
ثم نون - وهي عصا معقفة الرأس كالصولجان وجمعه محاجن (قوله) ايمانا بك أي افعل هذا للايمان
بك (قوله) على يساره - بفتح الياء وكسرها - لغتان مشهورتان (أفصحهما) عند الجمهور الفتح
31

وعكسه ابن دريد (قوله) عبادة تتعلق بالبيت فاستحق فيها الترتيب احتراز من تفرقة الزكاة
وقضاء الصوم (أما) الأحكام ففي الفصل مسائل (إحداها) يجب ابتداء الطواف من الحجر
الأسود للأحاديث الصحيحة فان ابتدأ من غيره لم يعتد بما فعله حتى يصل الحجر الأسود فإذا
وصله كان ذلك أول طوافه * وهذا لا خلاف فيه عندنا (الثانية) يستحب أن يستقبل الحجر الأسود
في أول طوافه بوجهه ويدنو منه بشرط أن لا يؤذي أحدا وإذا أراد هذا الاستقبال فطريقه أن
يقف على جانب الحجر الأسود من جهة الركن اليماني بحيث يصير جميع الحجر عن يمينه ويصير
منكبه الأيمن عند طرف الحجر ثم ينوي الطواف ثم يمشي مستقبل الحجر الأسود مارا إلى جهة
يمينه حتى يجاوز الحجر فإذا جاوزه ترك الاستقبال وانفتل وجعل يساره إلى البيت ويمينه إلى
خارج ولو فعل هذا من أول أمره وترك الاستقبال جاز لما ذكره المصنف (الثالثة) ينبغي له أن
يحاذي بجميع بدنه جميع الحجر الأسود فطريقه ما سبق بيانه الآن في المسألة الثانية وهو أن يقف
قبل الحجر الأسود من جهة الركن اليماني ثم يمر تلقاء وجهه طائفا حول البيت فيمر جميعه بجميع
الحجر ولا يقدم جزءا من بدنه على جزء من الحجر فلو حاذاه ببعض بدنه وكان بعضه مجاوزا إلى
جهة باب الكعبة ففي صحته قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما وكذا ذكرهما الأصحاب
قولين الا إمام الحرمين والغزالي فحكوهما وجهين * والصواب قولان (الجديد) لا يجزئه وهو
الأصح (والقديم) يجزئه * ولو حاذى بجميع البدن بعض الحجر ان أمكن ذلك صح طوافه بلا
خلاف * صرح به جميع أصحابنا العراقيين ومن تابعهم من الخراسانيين قالوا كما يجزئه أن يستقبل
في الصلاة بجميع بدنه بعض الكعبة وهذا معنى قول المصنف لأنه لما جاز محاذاة بعض الحجر
جازت محاذاته ببعض البدن أي لما جازت محاذاة بعض الحجر بجميع البدن بلا خلاف ينبغي أن
يجوز محاذاة كل الحجر ببعض البدن * وذكر صاحب العدة وغيره في المسألتين قولين (والمذهب)
ما سبق والله أعلم (الرابعة) ينبغي له في طوافه أن يجعل البيت على يساره ويمينه إلى خارج ويدور
حول الكعبة كذلك فلو خالف فجعل البيت عن يمينه ومر من الحجر الأسود إلى الركن اليماني
لم يصح طوافه بلا خلاف عندنا * ولو لم يجعل البيت على يمينه ولا يساره بل استقبله بوجهه
معترضا وطاف كذلك أو جعل البيت على يمينه ومشى قهقري إلى جهة الباب ففي صحة طوافه
وجهان حكاهما الرافعي * قال الرافعي (أصحهما) لا يصح * قال وهو الموافق لعبارة الأكثرين
32

وجزم البغوي والمتولي في صورة من جعل البيت عن يمينه ومشى قهقري بأنه يصح لكن يكره
(والأصح) البطلان كما سبق * قال الرافعي وكان القياس جريان هذا الخلاف فيما لو مر معترضا
مستدبرا * هذا كلامه (والصواب) في هذه الصورة القطع بأنه لا يصح فإنه منابذ لما ورد الشرع
به والله أعلم (الخامسة) يستحب استلام الحجر بيده في أول الطواف وتقبيل الحجر ودليلهما في
الكتاب * قال الشافعي والأصحاب ويستحب السجود عليه أيضا مع الاستلام والتقبيل بان
يضع الجبهة عليه * قال أصحابنا ويستحب ان يكرر السجود عليه ثلاثا فان عجز عن الثلاث فعل
الممكن * وممن صرح بذلك البندنيجي وصاحب العدة والبيان * واحتج له البيهقي بما رواه باسناده
عن ابن عباس (انه قبله وسجد عليه وقال رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبله وسجد عليه
ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هكذا ففعلت) وروى الشافعي والبيهقي باسنادهما
الصحيح عن أبي جعفر قال (رأيت ابن عباس جاء يوم التروية ملبدا رأسه فقبل الركن ثم سجد
عليه ثم قبله ثم سجد عليه ثلاث مرات) وروى البيهقي عن ابن عباس قال (رأيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يسجد على الحجر) قال المصنف والأصحاب ويستحب ان لا يشير إلى القبلة بالفم
إذا تعذرت ويستحب ان يخفف القبلة بحيث لا يظهر لها صوت *
(فرع) إذا منعته الزحمة ونحوها من التقبيل والسجود عليه وأمكنه الاستلام استلم فإن لم
يمكنه أشار باليد إلى الاستلام ولا يشير بالفم إلى التقبيل لما ذكره المصنف ثم يقبل اليد بعد الاستلام
إذا اقتصر عليه لزحمة ونحوها هكذا قطع به الأصحاب وذكر إمام الحرمين انه يتخير بين أن
يستلم ثم يقبل اليد وبين أن يقبل اليد ثم يستلم بها والمذهب القطع باستحباب تقديم الاستلام ثم يقبلها
فإن لم يتمكن من الاستلام باليد استحب أن يستلم بعصا ونحوها للأحاديث السابقة اتفق عليه
أصحابنا فإن لم يتمكن من ذلك أشار بيده أو بشئ في يده إلى الاستلام ثم قبل ما أشار به * ومما
يستدل به لما ذكرته في هذا الفرع مع ما سبق من الأدلة قوله صلى الله عليه وسلم (وإذا أمرتكم بأمر فاتوا منه
ما استطعتم) رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة * وعن نافع قال (رأيت ابن عمر يستلم
الحجر بيده ثم قبل يده وقال ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) رواه
مسلم في صحيحه وهذا محمول على تعذر تقبيل الحجر وقد سبقت الأحاديث في استلام النبي صلى الله عليه وسلم
الحجر بالمحجن *
33

(فرع) قال أصحابنا لا يستحب للنساء تقبيل الحجر ولا استلامه إلا عند خلو المطاف في الليل
أو غيره لما فيه من ضررهن وضرر الرجال بهن *
(فرع) للكعبة الكريمة أربعة أركان - الركن الأسود - ثم الركنان الشاميان ثم الركن اليماني
ويقال للأسود واليماني اليمانيان - بتخفيف الياء - ويجوز تشديدها على لغة قليلة * فالأسود واليماني
مبنيان على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم والشاميان ليسا على قواعده بل مغيران لان الحجر
يليهما وكله أو بعضه من البيت كما سبق * وللركن الأسود فضيلتان كون الحجر الأسود فيه وكونه
على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم وللركن اليماني فضيلة واحدة وهي كونه على قواعد إبراهيم صلى الله عليه وسلم
وليس للشاميين شئ من الفضيلتين * فإذا عرفت هذا فالسنة في الحجر الأسود استلامه وتقبيله
والسنة في الركن اليماني استلامه ولا يقبل والسنة أن لا يقبل الشاميان ولا يستلمان فخص الأسود
بالتقبيل مع الاستلام لان فيه فضيلتين واليماني بالاستلام لان فيه فضيلة واحدة وانتفت الفضيلتان
في الشاميين * واستدل أصحابنا لما ذكرته بحديث ابن عمر قال (ما تركت استلام هذين الركنين
اليماني والحجر الأسود منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهما في شدة ولا رخاء) رواه
البخاري ومسلم وعن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان لا يستلم إلا الحجر والركن
اليماني) رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ مسلم ولفظ البخاري قال (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم
يستلم من البيت إلي الركنين اليمانيين) رواه مسلم وعن ابن عمر انه حين بلغه حديث عائشة السابق
(لولا أن قومك حديثوا عهد بكفر) الحديث قال ابن عمر لئن كانت عائشة سمعت هذا من
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان
الحجر إلا أن البيت لم يتم على قواعد إبراهيم) رواه البخاري ومسلم (وأما) حديث أبي الشعثاء
قال (كان معاوية يستلم الأركان فقال له ابن عباس انه لا يستلم هذان الركنان فقال ليس شئ
من البيت مهجورا وكان ابن الزبير يستلمهن كلهن) رواه البخاري في صحيحه فهذا مذهب معاوية
وابن الزبير لم يروياه عن النبي صلى الله عليه وسلم بل أخذاه باجتهادهما وهو مخالف للأحاديث
الصحيحة وقد خالفهما فيه ابن عمر وابن عباس وجمهور الصحابة فالصواب انه لا يسن استلام
الركنين الشاميين (وأما) قول معاوية (ليس شئ من البيت مهجورا) فقد أجاب عنه الشافعي
34

فقال لم يدع أحد أن عدم استلامهما هجر للبيت لكنه استلم ما استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأمسك ما أمسك عنه *
(فرع) قد ذكرنا انه يستحب استلام اليماني دون تقبيله قال الشافعي والأصحاب فإذا استلمه
استحب أن يقبل يده بعد استلامه * وقال امام الحرمين والمتولي إن شاء قبلها قبل الاستلام وإن
شاء بعده ولا فضيلة في تقديم الاستلام * وذكر الفوراني وجهين وحكاهما أيضا عن صاحب البيان
(أحدهما) يقبل يده ويستلمه كأنه ينقل القبلة إليه (والثاني) يستلمه ثم يقبل يده كأنه ينقل
بركته إلى نفسه (والمذهب) استحباب تقديم الاستلام * وجاء في هذه المسألة حديثان ضعيفان
(أحدهما) يوافق المذهب والآخر يخالفه فالموافق عن جابر (ان النبي صلى الله عليه وسلم استلم
الحجر فقبله واستلم الركن اليماني فقبل يده) رواه البيهقي وضعفه * والمخالف عن عبد الله بن مسلم
ابن هرمز عن مجاهد عن ابن عباس قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استلم الركن اليماني
قبله ووضع خده الأيمن عليه) رواه البيهقي وقال هذا حديث لا يثبت مثله قال تفرد به عبد الله
ابن مسلم بن هرمز وهو ضعيف قال والاخبار عن ابن عباس في تقبيل الحجر الأسود والسجود
عليه (1) قال إلا أن يكون أراد بالركن اليماني الحجر الأسود فإنه أيضا يسمى بذلك فيكون موافقا
لغيره والله أعلم *
(فرع) قال القاضي أبو الطيب يستحب أن يجمع في الاستلام والتقبيل بين الحجر الأسود
والركن الذي هو فيه وظاهر كلام جمهور الأصحاب أنه يقتصر على الحجر *
(فرع) قال الشافعي والمصنف والأصحاب يستحب استلام الحجر الأسود وتقبيله واستلام
الركن اليماني وتقبيل اليد بعده عند محاذاتهما في كل طوفة من السبع وهو في الأوتار آكد
لأنها أفضل *
(فرع) قال الشافعي والمصنف والأصحاب يستحب أن يقول عند استلام الحجر الأسود
أولا وعند ابتدائه بالمشي في الطواف أيضا باسم الله والله أكبر اللهم إيمانا بك وتصديقا بكتابك
ووفاء بعهدك واتباعا لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم ويأتي بهذا الذكر أيضا عند محاذاة الحجر الأسود في كل
طوفة وهو في الأول آكد قال الشافعي ويقول الله أكبر ولا إله إلا الله قال وما ذكر الله تعالى به
وصلى الله عليه وسلم فحسن *
35

(فرع) في فضيلة الحجر الأسود عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضا من اللبن فسودته خطايا بني آدم) رواه الترمذي قال
هذا حديث حسن صحيح وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لاضاءا ما بين المشرق والمغرب)
رواه الترمذي وغيره ورواه البيهقي باسناد صحيح على شرط مسلم وفي رواية (الركن والمقام من ياقوت
الجنة ولولا ما مسهما من خطايا بني آدم لاضاءا ما بين المشرق والمغرب وما مسهما من ذي عاهة ولا
سقيم إلا شفى) واسنادها صحيح وفي رواية (لولا ما مسه من أنجاس الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا شفى
وما على الأرض شئ من الجنة غيره) اسنادها صحيح وعن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليبعثن الله الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به يشهد على من استلمه بحق) رواه
البيهقي باسناد صحيح على شرط مسلم قال هكذا رواه جماعة ورواه بعضهم (لمن استلمه بحق) وعن
عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (استمتعوا من هذا الحجر الأسود قبل أن يرفع فإنه
خرج من الجنة وانه لا ينبغي لشئ يخرج من الجنة إلا رجع إليها قبل يوم القيامة) رواه
القاسم الطبراني *
(فرع) قد ذكرنا في آخر باب محظورات الاحرام أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات
وقيل سبع وفصلناهن وذكرنا ان الشافعي رضي الله عنه قال أحب أن لا تهدم الكعبة وتبنى لئلا تذهب
حرمتها وذكرنا هناك جملا من الأحكام المتعلقة بالحرم وبالله التوفيق *
(فرع) قال الدارمي لو محى الحجر الأسود العياذ بالله من موضعه استلم الركن الذي كان
فيه وقبله وسجد عليه
* قال المصنف رحمه الله *
(والمستحب أن يدنو من البيت لأنه هو المقصود فكان القرب منه أفضل فإذا بلغ الركن اليماني
فالمستحب أن يستلمه لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يستلم الركن اليماني والأسود
ولا يستلم الآخران) ولأنه ركن بني على قواعد إبراهيم عليه السلام فيسن فيه الاستلام كالركن
الأسود * ويستحب أن يستلم الركنين في كل طوفة لما روى ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم
الركنين في كل طوفة) ويستحب كلما حاذى الحجر الأسود أن يكبر ويقبله لأنه مشروع في محل
فتكرر بتكرره كالاستلام * ويستحب إذا استلم أن يقبل يده لما روى نافع قال (رأيت ابن عمر]

(1) بياض بالأصل فحرر
36

استلم الحجر بيده وقبل يده وقال ما تركته منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) ويستحب أن
يدعو بين الركن اليماني والركن الأسود لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (عند الركن اليماني
ملك قائم يقول آمين فإذا مررتم به فقولوا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا
عذاب النار) *
(الشرح) جميع الأحكام التي في هذه القطعة سبق بيانها واضحة في القطعة التي قبلها إلا مسألة
الدنو من البيت وسأذكرها إن شاء الله تعالى مبسوطة مع مسألة الدعاء بين الركنين وسبق بيان
حديثي ابن عمر الأول والثالث (وأما) الثاني فحديث صحيح رواه أبو داود باسناد على شرط
البخاري ورواه النسائي باسناد على شرط البخاري ومسلم جميعا ولفظهما عن ابن عمر قال (كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع أن يستلم الركن اليماني والحجر في كل طوفة قال نافع وكان ابن
عمر يفعله) (وأما) الأثر المذكور عن ابن عباس فغريب لكن يغني عنه أجود منه وهو حديث
عبد الله بن السائب رضي الله عنه قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بين الركنين
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار) رواه أبو داود والنسائي باسناد
37

فيه رجلان لم يتكلم العلماء فيهما بجرح ولا تعديل ولم يضعفه أبو داود فيقتضي انه حديث حسن
عنده كما سبق بيانه مرات * (وقول) المصنف الركن اليماني هو - بتخفيف الياء - وكذا الركنان اليمانيان
بتخفيف الياء قال الجمهور لا يجوز تشديدها لأنها نسبة إلى اليمن فجعلت الألف عوضا من
إحدي ياءي النسب فلا يجوز الجمع بين العوض والمعوض وحكى سيبويه والجوهري وغيرهما
تشديدها في لغة قليلة وتكون الألف زائدة كما زيدت الألف والنون في رقباني منسوب إلى
الرقبة ونظائره * (قوله) ولأنه ركن بني على قواعد إبراهيم احتراز من الركنين الشاميين (وأما)
قول المصنف يستحب إذا استلم أن يقبل يده فكلام ناقص لان المستحب أن يستلم ويقبل فإذا
قبله لا يستحب ان يقبل اليد بعد ذلك فان تعذر التقبيل استلم ثم قبل يده كما سبق بيانه * هكذا
قاله الأصحاب وهو مراد المصنف لكن عبارته ناقصة * (اما) الأحكام فقد ذكرنا انها سبقت
واضحة الا مسألتي الدنو من البيت والدعاء بين الركنين (فاما) الدعاء بين الركنين وهما الأسود
واليماني فاتفق الشافعي والأصحاب على استحبابه وباي شئ حصل الاستحباب وأفضله ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار للحديث السابق ولحديث أنس (ان
هذا كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري ومسلم (واما) الدنو من البيت
فمتفق على استحبابه أيضا لما ذكره المصنف * قال القاضي أبو الطيب في تعليقه الدنو مستحب
لثلاثة معان (أحدها) ان البيت أشرف البقاع فالدنو منه أفضل (والثاني) انه أيسر في استلام
الركنين وتقبيل الحجر (والثالث) أن القرب من البيت في الصلاة أفضل من البعد فكذا في
الطواف * قال أصحابنا وهذا بشرط أن لا يؤذي ولا يتأذى بالزحمة فان تأذى أو آذى بالقرب
للزحمة فالبعد إلى حيث يزول التأذي والأذى أولى هكذا أطلقوه * وقال البندنيجي قال الشافعي
في الام أحب الاستلام ما لم يؤذ غيره بالزحام أو يؤذه غيره الا في ابتداء الطواف فاستحب له
الاستلام وإن كان في الزحام أو في آخر الطواف * قال أصحابنا والقرب مستحب ولا ينظر إلى
كثرة الخطأ في البعد لان المقصود اكرام البيت * قال أصحابنا وهذا الذي ذكرناه من استحباب
القرب هو في حق الرجل اما المرأة فيستحب لها ان لا تدنو في حال طواف الرجال بل تكون
في حاشية المطاف بحيث لا تخالط الرجال ويستحب لها ان تطوف في الليل فإنه أصون لها ولغيرها
38

من الملامسة والفتنة فإن كان المطاف خاليا من الرجال استحب لها القرب كالرجل * قال أصحابنا
فان تعذر على الرجل القرب من الكعبة مع الرمل للزحمة فان رجا فرجة استحب ان ينتظرها ليرمل
ان لم يؤذ بوقوفه أحد وان لم يرجها فالمحافظة على الرمل مع البعد عن البيت أفضل من القرب بلا
رمل * هكذا قاله أصحابنا واتفقوا عليه قالوا لان الرمل شعار مستقل ولان الرمل فضيلة تتعلق
بنفس العبادة والقرب فضيلة تتعلق بموضع العبادة * قالوا والمتعلق بنفس العبادة أفضل وأولى
بالمحافظة قالوا ولهذا كانت الصلاة بالجماعة في البيت أفضل من الانفراد في المسجد والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا انه يستحب القرب من الكعبة بلا خلاف * واتفقت نصوص الشافعي
والأصحاب على أنه يجوز التباعد ما دام في المسجد واجمع المسلمون على هذا وأجمعوا على أنه لو طاف
خارج المسجد لم يصح * قال أصحابنا شرط الطواف وقوعه في المسجد الحرام ولا بأس بالحائل
فيه بين الطائف والبيت كالسقاية والسوارى وغيرها * قالوا ويجوز الطواف في أخريات
المسجد وأروقته وعند باب المسجد من داخله * قالوا ويجوز على سطوح المسجد إذا كان البيت
أرفع بناء من المسجد كما هو اليوم * قال الرافعي فان جعل سقف المسجد أعلى من سطح الكعبة
فقد ذكر صاحب العداة انه لا يجوز الطواف على سطح المسجد وأنكره عليه الرافعي وقال لو صح
قوله لزم منه أن يقال لو انهدمت الكعبة والعياذ بالله لم يصح الطواف حول عرصتها وهو بعيد
وهذا الذي قاله الرافعي هو الصواب وقد جزم القاضي حسين في تعليقه بأنه لو طاف على سطح
المسجد صح وإن ارتفع عن محاذاة الكعبة قال كما يجوز أن يصلي على أبي قبيس مع ارتفاعه على
الكعبة والله أعلم * واتفق أصحابنا على أنه لو وسع المسجد اتسع المطاف وصح الطواف في
جميعه وهو اليوم أوسع مما كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم بزيادات كثيرة زيدت فيه فأول
من راده عمر بن الخطاب رضي ا لله عنه اشترى دورا فزادها فيه واتخذ للمسجد جدارا قصيرا دون
القامة وكان عمر أول من اتخذ له الجدار ثم وسعه عثمان واتخذ له الأروقة وهو أول من اتخذها ثم
وسعه عبد الله بن الزبير في خلافته ثم وسعه الوليد بن عبد الملك ثم المنصور ثم المهدي وعليه استقر
بناؤه إلى وقتنا هذا وقد أوضحت هذا مع نفائس تتعلق بالمسجد الحرام والكعبة في كتاب المناسك
والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
39

(والسنة ان يرمل في الثلاثة الأولى ويمشي في الأربعة لما روى ابن عمر قال (كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا ومشي أربعا) فإن كان راكبا حرك
دابته في موضع الرمل وإن كان محمولا رمل به الحامل * ويستحب أن يقول في رمله اللهم اجعله
حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا ويدعو بما أحب من أمر الدين والدنيا قال في الام
ويستحب ان يقرأ القرآن لأنه موضع ذكر والقرآن من أعظم الذكر * فان ترك الرمل في الثلاث لم يقض
في الأربعة لأنه هيئة في محل فلا يقضي في غيره كالجهر بالقراءة في الأوليين ولان السنة في الأربع
المشي فإذا قضي الرمل في الأربعة أخل بالسنة في جميع الطواف * وإذا اضطبع ورمل في طواف
القدوم نظرت فان سعي بعده لم يعد الرمل والاضطباع في طواف الزيارة لحديث ابن عمر رضي
الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا طاف الطواف الأول خب ثلاثا ومشي أربعا) فدل
على أنه لم يعد في غيره وان لم يسع بعده وأخر السعي إلى ما بعد طواف الزيارة اضطبع ورمل في
طواف الزيارة لأنه يحتاج إلى الاضطباع للسعي فكره أن يفعل ذلك في السعي ولا يفعله في الطواف
وان طاف للقدوم وسعي بعده ونسي الرمل والاضطباع في الطواف فهل يقضيه في طواف الزيارة
فيه وجهان (أحدهما) انه يقضي لأنه ان لم يقض فاتته سنة الرمل والاضطباع ومن أصحابنا من قال
لا يقضي وهو المذهب لأنه لو جاز أن يقضي الرمل لقضاه في الأشواط الأربعة * فان ترك الرمل
والاضطباع والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف جاز ولا يلزمه شئ لان الرمل والاضطباع هيئة
فلم يتعلق بتركها جبران كالجهر والاسرار في القراءة والتورك والافتراش في التشهد والاستلام والتقبيل
والدعاء كمال فلا يتعلق به جبران كالتسبيح في الركوع والسجود * ولا ترمل المرأة ولا تضطبع
لان في الرمل تبين أعظاؤها وفي الاضطباع ينكشف ما هو عورة منها) *
(الشرح) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم بلفظه هنا ومعنى خب رمل والرمل - بفتح
الراء والميم - وهو سرعة المشي مع تقارب الخطأ وهو الخبب يقال رمل يرمل - بضم الميم - رملا
ورملانا (قوله) حجا مبرورا هو الذي لا يخالطه إثم وقيل هو المقبول وسبق ذكره أول كتاب الحج
(والقول) الأول قول شمر وآخرين مشتق من البر وهو الطاعة (والقول) الثاني قول الأزهري وغيره
وأصله من البر وهو اسم جامع للخير ومنه بررت فلانا أي وصلته وكل عمل صالح بر ويقال بر الله
40

حجه وأبره (قوله) وذنبا مغفورا قال العلماء تقديره اجعل ذنبي ذنبا مغفورا وسعيا مشكورا قال
الأزهري معناه اجعله عملا متقبلا يذكر لصاحبه ثوابه فهذا معنى المشكور عند الأزهري وقال غيره
أي عملا يشكر صاحبه قال الأزهري ومساعي الرجل أعماله واحدتها مسعاة (قوله) والقرآن من أعظم
الذكر هكذا هو في النسخ والأجود حذف من فيقال أعظم الذكر (قوله) لأنه هيئة احتراز ممن ترك
ركعة أو سجدة من صلاته (قوله) الأشواط الأربعة خلاف طريقة الشافعي والأصحاب فإنهم كرهوا
تسميته أشواطا كما سأوضحه إن شاء الله تعالى (أما) الأحكام فاتفق الشافعي والأصحاب على استحباب
الرمل في الطوفات الثلاث للحديث السابق مع أحاديث كثيرة في الصحيح مثله قالوا والرمل هو
اسراع المشي مع تقارب الخطى قالوا ولا يثب ولا يعدو عدوا قالوا والرمل هو الخبب للحديث
الصحيح السابق عن ابن عمر (خب ثلاثا) قال الرافعي وغلط الأئمة من قال دون الخبب
وقال امام الحرمين قال بعض أصحابنا الرمل فوق سجية المشي ودون العدو قال وقال الشيخ أبو بكر
يعني الصيدلاني هو سرعة في المشي دون الخبب قال الامام وهذا عندي زلل فان الرمل في فعل
الناس كافة كأنه ضرب من الخبب يشير إلى قفزان والله أعلم * قال أصحابنا ويسن الرمل في
الطوفات الثلاث الأول ويسن المشي على الهينة في الآخرة فلو فاته في الثلاث لم يقضه في الأربع
لما ذكره المصنف وهذا لا خلاف فيه وهو نظير من قطعت مسبحته اليمنى لا يشير في التشهد باليسرى
وسبق ايضاحه مع نظائره * وهل يستوعب البيت بالرمل فيه طريقان (الصحيح) المشهور وبه قطع
الجمهور يستوعبه فيرمل من الحجر الأسود إلى الحجر الأسود ولا يقف إلا في حال الاستلام والتقبيل
والسجود على الحجر (والثاني) حكاه إمام الحرمين وغيره فيه قولان وذكرهما الغزالي وجهين
(أصحهما) هذا (والثاني) لا يرمل بين الركنين اليمانيين بل يمشى * وجاء الأمران في صحيح مسلم فثبت
الثاني من رواية ابن عباس قال (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة وقد وهنتهم
حمي يثرب قال المشركون انه يقدم عليكم غدا قوم قد وهنتهم الحمي فلقوا منها شدة فجلسوا مما يلي
الحجر وأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا ثلاثة أشواط ويمشوا ما بين الركنين ليرى المشركون جلدهم فقال
المشركون هؤلاء الذين زعمتم أن الحمي قد وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا) وكذا * قال ابن عباس
ولم يمنعه من أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها الا الابقاء عليهم وفي رواية له (هؤلاء أجلد منا)
وعن ابن عمر قال (رمل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجر إلى الحجر ثلاثا ومشى أربعا) رواه مسلم *
41

وعن جابر قال (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه
ثلاثة أطواف) رواه مسلم وعن جابر أيضا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل الثلاثة أطواف من الحجر
إلى الحجر رواه مسلم وهكذا الرواية الثلاثة أطواف وهو جائز وإن كان أكثر أهل العربية يبطلونه
وقد جاءت له نظائر في الصحيح فهاتان الروايتان صحيحتان في استيعاب الرمل بالبيت وعدم
استيعابه فيتعين الجمع بينهما وطريق الجمع أن حديث ابن عباس كان في عمرة القضاء سبع من الهجرة
قبل فتح مكة وكان أهلها مشركين حينئذ وحديث ابن عمر وجابر كان في حجة الوداع سنة عشر
فيكون متأخرا فيتعين الاخذ به والله أعلم *
(فرع) في بيان الطواف الذي يشرع به الرمل وقد اضطربت طرق الأصحاب فيه ولخصها
الرافعي متقنة فقال لا خلاف أن الرمل لا يسن في كل طواف بل إنما يسن في طواف واحد وفي ذلك
الطواف قولان مشهوران (أصحهما) عند الأكثرين أنه يسن في طواف يستعقب السعي (والثاني)
يسن في طواف القدوم مطلقا فعلى القولين لا رمل في طواف الوداع بلا خلاف * ويرمل من قدم مكة
معتمرا على القولين لوقوع طوافه مجزئا عن القدوم مع استعقابه السعي ويرمل أيضا الحاج الأفقي إذا لم
يدخل مكة الا بعد الوقوف (أما) من دخل مكة محرما بالحج قبل الوقوف وأراد طواف الوقوف
فهل يرمل ينظر إن كان لا يسعى عقبه ففيه القولان (الأول) الأصح لا يرمل (والثاني) يرمل
42

وعلى الأول إنما يرمل في طواف الإفاضة لاستعقابه السعي فأما إن كان يسعى عقب طواف القدوم
فيرمل فيه بلا خلاف وإذا رمل فيه وسعي بعده لا يرمل في طواف الإفاضة بلا خلاف ان لم يرد السعي
بعده وان أراد إعادة السعي بعده لم يرمل بعده أيضا على المذهب وبه قطع الجمهور وحكى البغوي فيه
قولين والأول أشهر (أصحهما) عند المصنف والبغوي والرافعي وآخرين لا يرمل (والثاني)
يرمل وبه قطع الشيخ أبو حامد ودليلهما في الكتاب * ولو طاف للقدوم ونوى أن لا يسعى بعده
ثم بدا له وسعي ولم يكن رمل في طواف القدوم فهل يرمل في طواف الإفاضة فيه الوجهان ذكرهما
القاضي أبو الطيب في تعليقه * ولو طاف للقدوم فرمل فيه ولم يسع قال جمهور الأصحاب يرمل في طواف
الإفاضة لبقاء السعي قال الرافعي الظاهر أنهم فرعوه على القول الأول وهو الذي يعتبر استعقاب
السعي والا فالقول الثاني لا يعتبر استعقاب السعي فيقتضى أن يرمل في الإفاضة (وأما) المكي المنشئ
حجه من مكة فهل يرمل في طواف الإفاضة (فان قلنا) بالقول الثاني لم يرمل إذ لا قدوم في حقه (وان
قلنا) بالأول رمل لاستعقابه السعي وهذا هو المذهب (وأما) الطواف الذي هو غير طوافي القدوم
والإفاضة فلا يسن فيه الرمل بلا خلاف سواء كان الطائف حاجا أو معتمرا متبرع بطواف آخر أو غير محرم
لأنه ليس بطواف قدوم ولا يستعقب سعيا وإنما يرمل في قدوم أو ما يستعقب سعيا كما سبق والله أعلم *
قال أصحابنا والاضطباع ملازم للرمل فحيث استحببنا الرمل بلا خلاف فكذا الاضطباع وحيث
لم نستحبه بلا خلاف فكذا الاضطباع وحيث جرى خلاف جرى في الرمل والاضطباع جميعا وهذا
لا خلاف فيه وسبق بيانه في فصل الاضطباع والله أعلم *
(فرع) قد سبق أن القرب من البيت مستحب للطائف وأنه لو تعذر الرمل مع القرب للزحمة
فان رجا فرجة ولا يتأذى أحد بوقوفه ولا يضيق على الناس وقف ليرمل وإلا فالمحافظة على الرمل مع
البعد أولى فلو كان في حاشية المطاف نساء ولم يأمن ملامستهن لو تباعد فالقرب بلا رمل أولى من البعد
مع الرمل حذرا من انتقاض الوضوء * وكذا لو كان بالقرب أيضا نساء وتعذر الرمل في جميع المطاف
لخوف الملامسة فترك الرمل في هذه الحال أفضل * قال أصحابنا ومتى تعذر الرمل استحب أن يتحرك
في مشيه ويرى من نفسه أنه لو أمكنه الرمل لرمل نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب قال إمام الحرمين
هو كما قلنا يستحب لمن لاشعر على رأسه إمرار الموسى عليه *
43

(فرع) لو طاف راكبا أو محمولا فهل يستحب أن يحرك الدابة ليسرع كاسراع الرامل ويسرع
به الحامل أم لا فيه أربع طرق (أصحها) وبه قطع البغوي وآخرون فيهما قولان ومنهم من حكاهما وجهين
(أصحهما) وهو الجديد يستحب لأنه كحركة الراكب والمحمول (والثاني) وهو القديم لا يستحب
لان الرمل مستحب للطائف لاظهار الجلد والقوة وهذا المعنى مقصود هنا ولان الدابة والحامل قد يؤذيان
الطائفين بالحركة (والطريق الثاني) وبه قطع الشيخ أبو حامد في تعليقه وأبو علي البندنيجي في الجامع
والقاضي أبو الطيب وآخرون ان طاف راكبا حرك دابته قولا واحدا وإن حمل فقولان (الجديد)
يرمل به الحامل وهو الأصح (والقديم) لا يرمل (والطريق الثالث) إن كان المحمول صبيا رمل
حامله قطعا وإلا فالقولان (والطريق الرابع) يرمل به الحامل ويحرك الدابة قولا واحدا وبه قطع
المصنف والدارمي وغيرهما والله أعلم *
(فرع) يستحب أن يدعو في رمله بما أحب من أمر الدين والدنيا والآخرة وآكده (اللهم
اجلعه حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسعيا مشكورا) نص على هذه الكلمات الشافعي واتفق الأصحاب
عليها ويستحب أن يدعوا أيضا في الأربعة الأخيرة التي يمشيها وأفضل دعائه (اللهم اغفر وارحم
واعف عما تعلم وأنت الأعز الأكرم اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار نص
عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب وذكره المصنف في التنبيه وعجب كيف أهمله هنا والله أعلم *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب يستحب قراءة القرآن في الطواف لما ذكره المصنف ونقل
الرافعي أن قراءة القرآن أفضل من الدعاء غير المأثور في الطواف قال (وأما) المأثور فيه فهو أفضل
منها على الصحيح وفي وجه أنها أفضل منه (وأما) في غير الطواف فقراءة القرآن أفضل من الذكر
الا الذكر المأثور في مواضعه وأوقاته فان فعل المنصوص عليه حينئذ أفضل ولهذا أمر بالذكر في
الركوع والسجود ونهي عن القراءة فيهما وقد نقل الشيخ أبو حامد في تعليقه في هذا الموضع أن
الشافعي نص أن قراءة القرآن أفضل الذكر * ومما يستدل به لتفضيل قراءة القرآن حديث أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يقول الرب سبحانه وتعالى من
شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين وفضل كلام الله سبحانه وتعالى على
سائر الكلام كفضل الله على خلقه) رواه الترمذي وقال حديث حسن والأحاديث في ترجيح
44

القراءة على الذكر كثيرة (فان قيل) فقد ثبت عن أبي ذر رضي الله عنه قال (قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم ألا أخبرك بأحب الكلام إلى الله تعالى ان أحب الكلام إلى الله سبحان الله
وبحمده) رواه مسلم وفي رواية لمسلم أيضا عن أبي ذر قال (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم
أي الكلام أفضل قال ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده) وعن سمرة بن
جندب قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الكلام إلى الله تعالى أربع سبحان الله
والحمد لله ولا إله الا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت) رواه مسلم (والجواب) أن المراد أن
هذا أحب كلام الآدميين وأفضله لا أنه أفضل من كلام الله والله أعلم *
(فرع) قال المتولي تكره المبالغة في الاسراع في الرمل بل يرمل على العادة لحديث جابر
السابق عن صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لتأخذوا عني مناسككم)
(فرع) لو ترك الاضطباع والرمل والاستلام والتقبيل والدعاء في الطواف فطوافه صحيح
ولا إثم عليه ولا دم عليه لكن فاتته الفضيلة * قال الشافعي والأصحاب وهو مسئ يعتون إساءة
لا اثم فيها ودليل المسألة ما ذكره المصنف *
(فرع) اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن المرأة لا ترمل ولا تضطبع
لما ذكره المصنف * قال الدارمي وأبو علي البندنيجي وغيرهما ولو ركبت دابة أو حملت
في الطواف لمرض ونحوه لم تضطبع ولا يرمل حاملها * قال البندنيجي سواء في هذا
الصغيرة والكبيرة والصحيحة والمريضة * قال القاضي أبو الفتوح وصاحب البيان والخنثى
في هذا كالمرأة والله أعلم * واستدل الشافعي ثم البيهقي بما روياه في الصحيح عن ابن عمر أنه قال
(ليس على النساء سعي بالبيت ولا بين الصفا والمروة)
* قال المصنف رحمه الله *
(ويجوز الكلام في الطواف لقوله صلى الله عليه وسلم (الطواف بالبيت صلاة إلا أن الله
تعالى أباح فيه الكلام) والأفضل أن لا يتكلم لما روى أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول (من طاف بالبيت سبعا لم يتكلم فيه إلا بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله
والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله كتب الله له عشر حسنات ومحا عنه عشر سيئات ورفع له
عشر درجات) *
45

(الشرح) حديث الطواف بالبيت صلاة) سبق بيانه في أوائل أحكام الطواف وذكرنا
أن الصحيح أنه موقوف على ابن عباس لا مرفوع (وأما) حديث أبي هريرة فغريب لا أعلم من
رواه وذكر الشافعي والبيهقي باسنادهما الصحيح عن ابن عمر قال (أقلوا الكلام في الطواف
إنما أنتم في صلاة) وباسنادهما الصحيح عن عطاء قال (طفت خلف ابن عمر وابن عباس فما سمعت
واحدا منهما متكلما) حتى فرغ من طوافه) (أما) الأحكام فقال الشافعي والأصحاب يجوز
الكلام في الطواف ولا يبطل به ولا يكره لكن الأولى تركه الا أن يكون كلاما في خير كامر
بمعروف أو نهي عن منكر أو تعليم جاهل أو جواب فتوى ونحو ذلك وقد ثبت عن ابن عباس
أن النبي صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف بالكعبة بانسان ربط يده إلى إنسان بسير أو بخيط
أو شئ غير ذلك فقطه النبي صلى الله عليه وسلم بيده ثم قال قد بيده) رواه البخاري ومسلم * وهذا القطع
محمول على أنه لم يكره إزالة هذا المنكر الا بقطعه أو انه أدل على صاحبه فتصرف فيه * قال
أصحابنا وغيرهم ينبغي له أن يكون في طوافه خاشعا متخشعا حاضر القلب ملازم الأدب بظاهره
وباطنه وفي هيئته وحركته ونظره فان الطواف صلاة فيتأدب بآدابها ويستشعر بقلبه عظمة من
يطوف ببيته * ويكره له الأكل والشرب في الطواف وكراهة الشرب أخف ولا يبطل الطواف
بواحد منهما ولا بهما جميعا * قال الشافعي لا بأس بشرب الماء في الطواف ولا أكرهه بمعنى المأثم
لكني أحب تركه لان تركه أحسن في الأدب * وممن نص على كراهة الأكل والشرب وأن
الشرب أخف صاحب الحاوي قال الشافعي في الاملاء روي عن ابن عباس انه شرب وهو يطوف
قال وروي من وجه لا يثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب وهو يطوف) قال البيهقي
لعله أراد حديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب ماء في الطواف) وهو حديث
غريب بهذا اللفظ والله أعلم *
(فرع) يكره للطائف وضع يده على فيه كما يكره ذلك في الصلاة الا أن يحتاج إليه أو
يتثاءب فان السنة وضع اليد على الفم عند الشارب لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فيه فان الشيطان يدخله) رواه مسلم *
(فرع) يكره أن يشبك أصابعه أو يفرقع بها كما يكره ذلك في الصلاة ويكره ان يطوف
46

وهو يدافع البول أو الغائط أو الريح أو وهو شديد التوقان إلى الاكل وما في معنى ذلك كما تكره
الصلاة في هذه الأحوال *
(فرع) يلزمه أن يصون نظره عن من لا يحل النظر إليه من امرأة أو أمرد حسن الصورة
فإنه يحرم النظر إلى الأمرد والحسن بكل حال الا لحاجة شرعية كما جزم به المصنف في كتاب
النكاح وسنوضحه هناك إن شاء الله تعالى لا سيما في هذا الموطن الشريف ويصون نظره وقلبه
عن احتقار من يراه من الضعفاء وغيرهم كمن في بدنه نقص وكمن جهل شيئا من المناسك أو
غلط فيه وينبغي أن يعلم الصواب برفق * وقد جاءت أشياء كثيرة في تعجيل عقوبة كثير ممن
أساء الأدب في الطواف كمن نظر امرأة ونحوها * وذكر الأزرقي من ذلك جملا في تاريخ مكة
وهذا الامر مما يتأكد الاعتناء به لأنه في أشرف الأرض والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وان أقيمت الصلاة وهو في الطواف أو عرضت له حاجة لا بد منها قطع الطواف فإذا فرغ
بني لما روى أن ابن عمر رضي الله عنهما (كان يطوف بالبيت فلما أفيت الصلاة صلى مع الامام
ثم بنى على طوافه) وان أحدث وهو في الطواف توضأ وبنى لأنه لا يجوز افراد بعضه عن بعض
فإذا بطل ما صادفه الحدث منه لم يبطل الباقي فجاز له البناء عليه) *
(الشرح) قال أصحابنا ينبغي للطائف أن يوالي طوافه فلا يفرق بين الطوفات السبع وفى هذه
الموالاة قولان (الصحيح) الجديد أنها سنة فلو فرق تفريقا كثيرا بغير عذر لا يبطل طوافه بل يبنى
على ما مضي منه وإن طال الزمان بينهما وبهذا قطع كثيرون من العراقيين (والثاني) أنها واجبة فيبطل
الطواف بالتفريق الكثير بلا عذر فعلى هذا إن فرق يسيرا لم يضر وإن فرق كثيرا لعذر ففيه
طريقان كما سبق في الوضوء (والمذهب) جواز التفريق مطلقا * قال إمام الحرمين التفريق الكثير
هو ما يغلب على الظن تركه الطواف * ولو أقيمت الصلاة المكتوبة وهو في أثناء الطواف إن كان
طواف نفل استحب قطعه ليصليها ثم يبني عليه وإن كان طوافا مفروضا كره قطعه لها قال المصنف
والأصحاب إذا أقيمت الصلاة المكتوبة أو عرضت له حاجة لا بد منها وهو في أثناء الطواف قطعه
فإذا فرغ بني إن لم يطل الفصل وكذا إن طال على المذهب وفيه الخلاف السابق * قال البغوي
47

وآخرون إذا كان الطواف فرضا كره قطعه لصلاة الجنازة ولسنة الضحي والوتر وغيرها من الرواتب
لان الطواف فرض عين ولا يقطع لنفل ولا لفرض كفاية قالوا وكذا حكم السعي وقد نص الشافعي
رحمه الله في الام على هذا كله ونقله القاضي أبو الطيب في تعليقه عن الام فقال قال في الام إن كان
في طواف الإفاضة فأقيمت الصلاة أحببت أن يصلي مع الناس ثم يعود إلى طوافه ويبني عليه وإن
خشي فوات الوتر أو سنة الضحي أو حضرت جنازة فلا أحب ترك الطواف لشئ من ذلك لئلا
يقطع فرضا لنفل أو فرض كفاية والله أعلم * (أما) إذا أحدث في طوافه فإن كان عمدا فطريقان
(أحدهما) وهو المشهور في كتب الخراسانيين وذكره جماعة من العراقيين فيه قولان (أصحهما) وهو
الجديد لا يبطل ما مضى من طوافه فيتوضأ ويبني عليه (والثاني) وهو القديم يبطل فيجب الاستئناف
(والطريق الثاني) وبه قطع الشيخ أبي حامد وأبو علي البندنيجي والماوردي والقاضي أبو الطيب
في تعليقه وابن الصباغ وآخرون من العراقيين ان قرب الفصل بنى قولا واحدا وان طال فقولان
(الأصح) الجديد يبنى (والقديم) يجب الاستئناف * واحتج الماوردي في البناء على قرب باجماع
المسلمين على أن القعود اليسير في أثناء الطواف للاستراحة لا يضر وهذا الاستدلال ضعيف لان
المحدث عمدا مقصر ومع منافاة الحدث فحشه * هذا كله في الحدث عمدا قال الماوردي وغيره وحكم
الحدث سهوا كالعمد (وأما) سبق الحدث فان قلنا يبني العامد فهذا أولى والا فقولان كسبق الحدث
في الصلاة (أحدهما) يبنى (والثاني) يستأنف وقال الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وغيرهما
ان قلنا سبق الحدث لا يبطل الصلاة فالطواف أولى أن لا يبطل وان قلنا يبطلها فهو كالحدث في
الطواف عمدا * وذكر إمام الحرمين نحو هذا فقال إذا سبقه الحدث في الطواف قال الأصحاب ان
48

قلنا سبق الحدث لا يبطل الصلاة فالطواف أولى وان قلنا يبطلها ففي ابطاله الطواف قولان قال
والفرق أن الصلاة في حكم خصلة واحدة بخلاف الطواف ولهذا لا يبطل بالكلام عمدا وكثرة
الافعال * وقطع البغوي بان من سبقه الحدث يبني على طوافه وقال الدارمي ان أحدث الطائف فتوضأ
وعاد قريبا بنى نص عليه وقال ابن القطان والقيصري فيه قولان كالصلاة قال فعلى هذا يفرق بين
العمد والسبق كالصلاة قال (ومنهم) من قال قولا واحدا كما نص عليه * فهذه طرق الأصحاب وهي
متقاربة ومتفقة على أن المذهب جواز البناء مطلقا في العمد والسهو وقرب الزمان وطوله * قال الشافعي
والأصحاب وحيث لا نوجب الاستئناف في جميع هذه الصور فنستحبه والله أعلم *
(فرع) حيث قطع الطواف في أثنائه بحدث أو غيره وقلنا يبني على الماضي فظاهر عبارة جمهور
الأصحاب أنه يبنى من الموضع الذي كان وصل إليه وقال الماوردي في الحاوي إن كان خروجه من
الطواف عند اكمال طوفة بوصوله إلى الحجر الأسود عاد فابتدأ الطوافة التي تليها من الحجر الأسود وإن
كان خروجه في أثناء طوفة قبل وصوله إلى الحجر الأسود فوجهان (أحدهما) يستأنف هذه الطوفة
من أولها لان لكل طوفة حكم نفسها (وأصحهما) يبنى على ما مضى منها ويبتدئ من الموضع الذي
كان وصله * وحكى هذين الوجهين أيضا الدارمي وصحح البناء كما صححه الماوردي وهو مقتضى
كلام الجمهور كما ذكرناه أولا والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وإذا فرغ من الطواف صلى ركعتي الطواف وهل يجب ذلك فيه قولان (أحدهما) أنها
واجبة لقوله عز وجل (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) والامر يقتضي الوجوب (والثاني) لا يجب
لأنها صلاة زائدة على الصلوات الخمس فلم تجب بالشرع على الأعيان كسائر النوافل * والمستحب
أن يصليهما عند المقام لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام
ركعتين) فان صلاهما في مكان آخر جاز لما روي (أن عمر رضي الله عنه طاف بعد الصبح ولم ير أن
الشمس قد طلعت فركب فلما أتى ذا طوى أناخ راحلته وصلى ركعتين) وكان ابن عمر رضي الله
عنهما يطوف بالبيت ويصلي ركعتين في البيت * والمستحب أن يقرأ في الأولى بعد الفاتحة قل يا أيها الكافرون وفي الثانية قل هو الله أحد لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم (قرأ في ركعتي
الطواف قل هو الله أحد وقل يا أيها الكافرون) * ثم يعود إلى الركن فيستلمه ويخرج من باب الصفا
لما روى جابر بن عبد الله (أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف سبعا وصلى ركعتين ثم رجع إلى الحجر
فاستلمه ثم خرج من باب الصفا) *
49

(الشرح) أحاديث جابر الثلاثة رواها مسلم في صحيحه بمعناه وهي كلها بعض من حديثه الطويل
في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وهذا لفظه عن جعفر بن محمد عن أبيه قال (دخلنا على جابر
فقال جابر خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى أتينا البيت معه استلم الركن فرمل ثلاثا ومشي
أربعا ثم نفر إلى مقام إبراهيم فقرأ (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) فجعل المقام بينه وبين البيت
فكان أبي يقول ولا أعلمه ذكره إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين قل هو الله أحد
وقل يا أيها الكافرون ثم رجع إلى الركن فاستلمه ثم خرج من الباب إلى الصفا) هذا لفظ رواية
مسلم وفي رواية للبيهقي عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (فلما طاف النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى المقام وقال (واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى)
فصلى ركعتين) وإسناد هذه الرواية على شرط مسلم وقد ثبت أيضا في صحيحي البخاري ومسلم
عن ابن عمر قال (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فطاف بالبيت سبعا ثم صلى خلف المقام ركعتين
وطاف بين الصفا والمروة) وفي رواية (ثم خرج إلى الصفا) وفي رواية للبيهقي عن جعفر بن محمد عن
أبيه عن جابر (أن النبي صلى الله عليه طاف بالبيت فرمل من الحجر الأسود ثلاثا ثم صلى ركعتين قرأ فيهما
قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد) قال البيهقي كذا وجدته وإسناد هذه الرواية صحيح على
شرط مسلم (وأما) حديث عمر رضي الله عنه وصلاته بذي طوى فصحيح رواه مالك في الموطأ باسناد
على شرط البخاري ومسلم بلفظه الذي في المهذب وذكر البخاري في صحيحه عن عمر رضي الله عنه
تعليقا انه صلى ركعتي الطواف خارج الحرم فقال فصلى عمر خارجا من الحرم * واستدل البخاري
أيضا في المسألة بما رواه في صحيحه باسناده عن أم سلمة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها حين أراد
الخروج من مكة إلى المدينة (إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون ففعلت ذلك
فلم تصلي حتى خرجت) والله أعلم (وأما) ألفاظ الفصل فقوله تعالى (واتخذوا من مقام إبراهيم
مصلى) قرئ في السبع بوجهين فتح الخاء وكسرها على الخبر وعلى الامر (فان قيل) كيف يصح
استدلال المصنف بهذه الآية مع أن الذي فيها إنما هو الامر بالصلاة ولا يلزم أن تكون صلاة الطواف
(فالجواب) أن غير صلاة الطواف لا يجب عند المقام بالاجماع فتعينت هي (فان قيل) فأنتم لا تشترطون
وقوعها خلف المقام بل تجوز في جميع الأرض (قلنا) معنى الآية الامر بصلاة هناك وقامت الدلائل
السابقة على أنها يجوز فعلها في غير المقام والله أعلم (قوله) فلم تجب بالشرع احتراز من النذر (وقوله)
على الأعيان احتراز من صلاة الجنازة فإنها فرض كفاية وينكر على المصنف قوله قال روي عن
50

عمر بصيغة تمريض مع أنه حديث صحيح كما سبق وقد سبق التنبيه على أمثال هذا مرات وفي فعل عمر
هذا دليل على أنه يرى كراهة ركعتي الطواف في أوقات النهي ومذهبنا انه لا كراهة فيها وقد
سبقت المسألة في بابها وسأعيد بعضها هنا إن شاء الله تعالى في مسائل مذاهب العلماء (قوله) ثم يعود
إلى الركن فيستلمه المراد به الركن الأسود وهو الذي فيه الحجر الأسود (اما) الأحكام فأجمع
المسلمون على أنه ينبغي لمن طاف ان يصلي بعده ركعتين عند المقام لما سبق من الأدلة وهل هما
واجبتان أم سنتان فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أحدهما) باتفاق الأصحاب سنة
(والثاني) واجبتان ثم الجمهور أطلقوا القولين ولم يذكروا أين نص الشافعي عليهما مع اتفاقهم على
أن الأصح كونهما سنة * وقال أبو علي البندنيجي في جامعه نص في الجديد أنهما سنة قال وظاهر
كلامه في القديم انهما واجبتان * وشذ الماوردي عن الأصحاب فقال علق الشافعي القول في هاتين
الركعتين فخرجهما أصحابنا على وجهين (أحدهما) واجبتان (والثاني) سنتان وكذا حكاهما الدارمي
وجهين والصواب انهما قولان منصوصان * هذا إذا كان الطواف فرضا فإن كان نفلا كطواف
القدوم وغيره فطريقان مشهوران في كتب الخراسانيين حكاهما القاضي حسين وامام الحرمين
والبغوي والمتولي وآخرون منهم وصاحب البيان وغيره من العراقيين (أصحهما) عند القاضي والامام
وغيرهما من الخراسانيين القطع بأنهما سنة (والثاني) أن فيهما القولين وهذا ظاهر كلام جمهور العراقيين
وصححه صاحب البيان ونقله القاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهما عن ابن الحداد وغلطوه فيه
قال إمام الحرمين إذا كان الطواف نفلا فالأصح انه لا يجب بعده الركعتان قال ونقل الأصحاب عن
ابن الحداد انه أوجبهما قال وهذا بعيد رده أئمة المذهب قال الامام ثم ما أراه يصير إلى إيجابهما
على التحقيق ولكنه رآهما جزءا من الطواف وأنه لا تعبد به دونهما قال وقد قال في توجيه قوله
لا يمتنع أن يشترط في النفل ما يشترط في الفرض كالطهارة وغيرها قال الامام وقد يتحقق من معاني
كلام الأصحاب خلاف في أن ركعتي الطواف معدودتان من الطواف أم لهما حكم الانفصال عنه
هذا كلام الامام * وقال البغوي في توجيه قول ابن الحداد يجوز أن يكون الشئ غير واجب
ويقتضي واجبا كالنكاح غير واجب ويقتضي وجوب النفقة والمهر *
51

(فرع) قال الرافعي ركعتا الطواف وان أوجبناهما فليستا بشرط في صحته ولا ركنا منه بل
يصح الطواف بدونهما قال وفي تعليل جماعة من الأصحاب ما يقتضي اشتراطهما هذا كلام الرافعي
وممن صرح بأنهما شرط فيه صاحب البيان والصحيح أن القولين في وجوبهما يجريان سواء كان
الطواف سنة أم واجبا بمعنى انه لا يصح الطواف حتى يأتي بالركعتين هذا كلامه وهو غلط منه
والصواب انهما ليستا بشرط ولا ركن للطواف بل يصح بدونهما قال إمام الحرمين ومما يتعين
التنبيه له أنا وان فرعنا على وجوب الركعتين وحكمنا بأنهما معدودتان من الطواف فلا ينتهي الامر
إلى تنزيلهما منزلة شوط من أشواط الطواف لان تقدير هذا يتضمن الحكم بكونهما ركنا من
أركان الطواف الواقع ركنا ولم يصر إلى هذا أحد قال وبهذا يبعد عدهما من الطواف هذا كلام
الامام والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا إذا قلنا ركعتا الطواف واجبتان لم تسقط بفعل فريضة ولا غيرهما كما لا تسقط
صلاة الظهر بفعل العصر * وإذا قلنا هما سنة فصلى فريضة بعد الطواف أجزأه عنهما كتحية المسجد
هكذا نص عليه الشافعي في القديم وحكاه عن ابن عمر ولم يذكر خلافه وصرح به جماهير الأصحاب
منهم الصيدلاني والقاضي حسين والبغوي وصاحب العدة والبيان والرافعي وآخرون وحكاه امام
الحرمين عن الصيدلاني ثم قال وهذا مما انفرد به قال والأصحاب على مخالفته لان الطواف يقتضي
صلاة مخصوصة بخلاف تحية المسجد فان حق المسجد أن لا يجلس فيه حتى يصلى ركعتين هذا كلام
الامام وهو شاذ والمذهب ما نص عليه * ونقله الأصحاب وعجب دعوى امام الحرمين ما ادعاه
والله أعلم *
(فرع) إذا قلنا صلاة الطواف سنة جاز فعلها قاعدا مع القدرة على القيام كسائر النوافل وإن
قلنا واجبة فهل يجوز فعلها قاعدا مع القدرة على القيام فيه وجهان حكاهما الصيمري وصاحبه الماوردي
في الحاوي وصاحب البيان (أصحهما) لا يجوز كسائر الواجبات (والثاني) يجوز كما يجوز الطواف
راكبا ومحمولا مع القدرة على المشي والصلاة تابعة للطواف *
52

(فرع) يستحب أن يقرأ في هاتين الركعتين بعد الفاتحة في الأولى قل يا أيها الكافرون وفي
الثانية قل هو الله أحد ويجهر فيهما بالقراءة ليلا ويسر نهارا كصلاة الكسوف وغيرها *
(فرع) يستحب أن يصليهما خلف المقام فإن لم يفعل ففي الحجر تحت الميزاب وإلا ففي المسجد
والا ففي الحرم فان صلاهما خارج الحرم في وطنه أو غيره من أقطار الأرض صحت وأجزأته لما ذكره المصنف
مع ما أضفته إليه وذكر القاضي حسين في تعليقه أنه إذا لم يصلهما حتى رجع إلى وطنه فان قلنا هما واجبتان
صلاهما وان قلنا سنة فهل يصليهما فيه الخلاف في قضاء النوافل إذا فاتت وهذا الذي قاله شاذ وغلط
بل الذي نص عليه الشافعي وأطبق عليه الأصحاب الجزم بأنه يصليهما حيث كان ومتى كان والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا أنه يجوز فعل هذه الصلاة في وطنه وغيره من الأرض * قال أصحابنا ولا
تفوت هذه الصلاة ما دام حيا * قال أصحابنا ولا يجبر تأخيرها بدم * وكذا لو مات لا يجبر تركها
بدم هكذا قاله الجمهور تصريحا وإشارة * وقال القاضي حسين في تعليقه قال الشافعي فإن لم يصلهما
حتى رجع إلى وطنه صلاهما وأراق دما قال وإراقة الدم مستحبة لا واجبة قال ومن أصحابنا من
قال إن استحباب الإراقة على قولنا نجب الصلاة لا على قولنا سنة قال القاضي وهذا ليس بصحيح
بل الأصح أن إراقة الدم مستحبة على القولين هذا كلامه * وقال المتولي لو ترك هذه الصلاة حتى
رجع إلى وطنه حكى عن الشافعي أنه يستحب أن يريق دما قال وهذا على قولنا انهما واجبتان
قال وإنما استحب ذلك للتأخير * وقال صاحبا العدة والبيان قال الشافعي إذا لم يصلهما حتى رجع
إلى وطنه صلاهما وأراق دما قالا قال أصحابنا الدم مستحب لا واجب والله أعلم * وقال امام الحرمين
صرح الأصحاب بان هذه الصلاة لو فعلت بعد الرجوع إلى الوطن وتخلل مدة وقعت الموقع ولا تنتهي
إلى القضاء والفوات قال ولم تتعرض الأئمة لجبران ركعتي الطواف مع الاختلاف في وجوبهما والسبب
فيه أنهما لا تفوتان والجبران إنما يجب عند الفوات فان قدر فواتهما بالموت لم يمتنع وجوب جبرهما
بالدم قياسا على سائر المجبورات هذا كلام الامام والمذهب ما سبق والله أعلم
(فرع) إذا لم يصل الركعتين حتى رجع إلى وطنه وقلنا هما واجبتان فهل يحصل التحلل
من الاحرام قبل فعلهما فيه وجهان (أحدهما) لا يحصل ويبقى محرما حتى يأتي بهما لأنهما كالجزء من
53

الطواف ولو بقي شئ من الطواف لم يحصل التحلل حتى يأتي به وبهذا الوجه قطع الدارمي في كتابه
الاستذكار وحكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه عن حكاية ابن المرزبان ذلك عن بعض أصحابنا
(والوجه الثاني) أنه يحصل التحلل من غير صلاة ولا تعلق للصلاة بالتحلل بل هي عبادة منفردة
وهذا الثاني هو الصحيح بل الصواب صححه القاضي أبو الطيب وقطع به سائر الأصحاب والأول غلط
صريح وإنما أذكره لابين بطلانه لئلا يغتر به والله أعلم *
(فرع) اتفق الأصحاب على صحة السعي قبل صلاة ركعتي الطواف ووافق عليه الدارمي ووافقه
على الوجه الضعيف المذكور في الفرع قبله وممن صرح بالمسألة القاضي أبو حامد المروزي والقاضي
أبو الطيب في تعليقه والدارمي وآخرون *
(فرع) إذا أراد أن يطوف في الحال طوافين أو أكثر استحب ان يصلي عقب كل طواف ركعتين
فان طاف طوافين أكثر بلا صلاة ثم صلى لكل طواف ركعتين جاز لكن ترك الأفضل صرح
به جماعات من أصحابنا منهم الصيمري والشيخ أبو نصر البندنيجي وصاحبا العدة والبيان وغيرهم
قال أصحابنا ولا يكره ذلك ورووه عن عائشة والمسود بن مخرمة * قال صاحب البيان قال الصيمري لو
طاف أسابيع متصلة ثم ركع ركعتين جاز قال صاحب البيان فيحتمل انه أراد إذا قلنا هما سنة وهذا
الاحتمال الذي قاله متعين فانا إذا قلنا هما واجبتان لم يتداخلا ولابد من ركعتين لكل طواف والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا تمتاز هذه الصلاة عن غيرها من الصلوات بشئ وهي انها تدخلها النيابة
فان الأجير في الحج يصليها وتقع عن المستأجر على أصح الوجهين وأشهرهما (والثاني) انها تقع عن
الأجير والمذهب الأول لأنها من جملة أعمال الحج * قال امام الحرمين وليس في الشرع صلاة تدخلها النيابة
غير هذه هذا كلام الامام * ويلتحق بالأجير ولي الصبي كما سنذكره في الفرع المتصل بهذا إن شاء الله
تعالى *
(فرع) قال أصحابنا إذا كان الصبي محرما فإن كان مميزا طاف بنفسه وصلى ركعتيه وإن كان غير مميز
طاف به وليه وصلى الولي ركعتي الطواف بلا خلاف نص عليه الشافعي والأصحاب وسبق ايضاحه
في أول كتاب الحج في مسائل حج الصبي وهل تقع صلاة الولي هذه عن نفسه أم عن الصبي فيه
54

وجهان حكاهما صاحب البين وغيره (أحدهما) عن الولي لأنه لا مدخل للنيابة في الصلاة (وأصحهما)
عن الصبي وهو قول ابن القاص تبعا للطواف والله أعلم *
(فرع) يستحب ان يدعو عقب صلاته هذه خلف المقام بما أحب من أمر الآخرة والدنيا
قال صاحب الحاوي يستحب أن يدعو بما روي عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خلف
المقام ركعتين ثم قال اللهم هذا بلدك والمسجد الحرام وبيتك الحرام وأنا عبدك ابن عبدك ابن أمتك أتيتك
بذنوب كثيرة وخطايا جمة وأعمال سيئة وهذا مقام العائذ بك من النار فاغفر لي انك أنت الغفور
الرحيم اللهم انك دعوت عبادك إلى بيتك الحرام وقد جئت طالبا رحمتك مبتغيا مرضاتك وأنت
مننت على بذلك فاغفر لي وارحمني انك على كل شئ قدير *
(فرع) وإذا فرغ من الصلاة استحب أن يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه ثم يخرج من
باب الصفا للسعي وسنعيد المسألة واضحة إن شاء الله تعالى في أول فصل السعي والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بالطواف (إحداها) قال الشافعي في الام والشيخ أبو حامد
والقاضي أبو الطيب وسائر الأصحاب متى كان عليه طواف الإفاضة فنوى غيره عن نفسه أو عن
غيره تطوعا أو وداعا أو قدوما وقع عن طواف الإفاضة كما لو أحرم بتطوع الحج أو العمرة وعليه
فرضهما فإنه ينعقد الفرض ولو نذر ان يطوف فطاف عن غيره قال الروياني في البحر إن كان زمان
النذر معينا لم يجز ان يطوف فيه عن غيره وإن كان غير معين أو معين وطاف في غيره قبل ان
يطوف للنذر فهل يصح ان يطوف عن غيره والنذر في ذمته فيه وجهان (أصحهما) لا يجوز كطواف
الإفاضة والله أعلم (الثانية) قال الشافعي رحمه الله في الام وفي الاملاء وجميع الأصحاب لو طاف
المحرم وهو لابس المخيط ونحوه صح طوافه وعليه الفدية لان تحريم اللبس لا يختص بالطواف فلا يمنع
صحته * قال القاضي أبو الطيب هو كالصلاة في ثوب حرير يأثم وتصح (الثالثة) قال الشافعي في
الام والأصحاب يكره ان يسمي الطواف شوطا وكرهه مجاهد أيضا قال الشيخ أبو حامد والماوردي
وغيرهما * قال الشافعي كره مجاهد أن يقال شوط أو دور ولكن يقول طواف وطوافان قال
55

الشافعي وأكره ما كره مجاهد لان الله تعالى سماه طوافا فقال تعالى (وليطوفوا بالبيت العتيق)
وقد ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي عنهما قال (أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن
يرملوا ثلاثة أشواط ولم يمنعه أن يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها الا الابقاء عليهم) وهذا الذي
استعمله ابن عباس مقدم على قول مجاهد * ثم إن الكراهة إنما ثبتت بنهي الشرع ولم يثبت في
تسميته شوطا نهي فالمختار أنه لا يكره والله علم (الرابعة) اختلف العلماء في التطوع في المسجد
بالصلاة والطواف أيهما أفضل فقال صاحب الحاوي الطواف أفضل وظاهر اطلاق المصنف في
قوله في باب صلاة التطوع (أفضل عبادات البدن الصلاة) ان الصلاة أفضل * وقال ابن عباس
وعطاء وسعيد بن جبير ومجاهد الصلاة لأهل مكة أفضل والطواف للغرباء أفضل والله أعلم (الخامسة)
قال أبو داود في سننه حدثنا مسدد قال حدثنا عيسى بن يونس قال حدثنا عبيد الله بن أبي زياد
عن القاسم عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة
ورمي الجمار لإقامة ذكر الله) هذا الاسناد كله صحيح الا عبيد الله فضعفه أكثرهم ضعفا يسيرا
ولم يضعف أبو داود هذا الحديث فهو حسن عنده كما سبق * وروى الترمذي في هذا الحديث
من رواية عبيد الله هذا وقال هو حديث حسن وفي بعض النسخ حسن صحيح فلعله اعتضد برواية أخرى
56

بحديث اتصف بذلك والله أعلم (السادسة) عن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من طاف
بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه) رآه الترمذي وقال هو غريب (قال) وسألت
البخاري عنه فقال إنما يروى عن ابن عباس موقوفا عليه *
(فرع) في مذاهب العلماء في مسائل تتعلق بالطواف * قال العبدري أجمعوا على أن الطواف
في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها جائز (وأما) صلاة الطواف فمذهبنا جوازها في جميع الأوقات
بلا كراهة وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس والحسن والحسين بني علي وابن الزبير وطاوس
وعطاء والقاسم بن محمد وعروة ومجاهد وأحمد واسحق وأبي ثور * وكرههما مالك ذكره في الموطأ
وذكر باسناده الصحيح أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه طاف بعد الصبح فنظر الشمس فلم يراها
طلعت فركب حتى أناخ بذي طوى فصلى) *
(فرع) أجمع المسلمون على استحباب استلام الحجر الأسود ويستحب عندنا مع ذلك تقبيله
والسجود عليه بوضع الجبهة كما سبق بيانه فان عجز عن تقبيله قبل اليد بعده وممن قال بتقبيل اليد ابن
عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأبو هريرة وأبو سعيد الخدري وسعيد بن جبير وعطاء وعروة
وأيوب السختياني والثوري وأحمد واسحق حكاه عنهم ابن المنذر قال وقال القاسم بن محمد ومالك
يضع يده على فيه من غير تقبيل قال ابن المنذر وبالأول أقول لان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
فعلوه وتبعهم جملة الناس عليه. ورويناه أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم (وأما) السجود على
الحجر الأسود فحكاه ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وابن عباس وطاوس والشافعي وأحمد قال ابن
المنذر وبه أقول قال وقد روينا فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم * وقال مالك هو بدعة * واعترف
57

القاضي عياض المالكي بشذوذ مالك عن الجمهور في المسألتين فقال جمهور العلماء على أنه يستحب تقبيل
اليد إلا مالك في أحد قوليه والقاسم بن محمد فقالا لا يقبلها قال وقال جميعهم يسجد عليه إلا مالك
وحده فقال بدعة *
(فرع) أما الركن اليماني فمذهبنا أنه يستحب استلامه ولا يقبله بل يقبل اليد بعد استلامه
وروي هذا عن جابر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وقال أبو حنيفة لا يستلمه وقال مالك وأحمد يستلمه
ولا يقبل اليد بعده بل يضعها على فيه وعن مالك رواية انه يقبل يده بعده قال العبدري وروي عن
أحمد انه يقبله *
(فرع) أما الركنان الشاميان وهما اللذان يليان الحجر فلا يقبلان ولا يستلمان عندنا وبه قال
جمهور العلماء وهو مذهب مالك وأبي حنيفة واحمد * قال القاضي عياض هو إجماع أئمة الأمصار
والفقهاء قال وإنما كان فيه خلاف لبعض الصحابة والتابعين وانقرض الخلاف وأجمعوا على أنهما
لا يستلمان وممن كأن يقول باستلامهما الحسن والحسين ابنا علي وابن الزبير وجابر بن عبد الله وانس
ابن مالك وعروة بن الزبير وأبو الشعثاء * ودليلنا ما سبق والله أعلم *
(فرع) الاضطباع مستحب عندنا وانكره مالك وقد سبق دليلنا *
(فرع) قد ذكرنا ان مذهبنا اشتراط الطهارة عن الحدث والنجس وستر العورة لصحة الطواف
وذكرنا خلاف أبي حنيفة وداود فيه *
(فرع) ذكرنا أن الصحيح عندنا أن الرمل في الطوفات الثلاث يستحب في جميع المطاف من
الحجر الأسود إليه وبه قال جمهور العلماء وحكاه ابن المنذر عن عبد الله وعروة بن الزبير والنخعي
ومالك والثوري وأبي حنيفة وأحمد وإسحق وأبي يوسف ومحمد وأبي ثور قال وبه أقول * وقال
طاوس وعطاء ومجاهد وسالم بن عبد الله والقاسم بن محمد والحسن البصري وسعيد بن جبير
لا يرمل بين الركنين اليمانيين وسبق دليل المذهبين *
58

*
(فرع) مذهبنا أن الرمل مستحب في الطوفات الثلاث الأولى من السبع وبه قال ابن عمر
والجمهور وحكى القاضي أبو الطيب عن ابن الزبير انه كان يرمل في السبع كلها * وقال ابن عباس
لا يرمل في شئ من الطواف وثبت عنه في الصحيحين أنه قال (إنما فعله النبي صلى الله عليه وسلم
ليرى المشركين قوته * دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم) لتأخذوا عنى مناسككم) رواه مسلم وسبق
بيانه وثبت عن الصحابة رضي الله عنهم الرمل بعده صلى الله عليه وسلم وفي صحيح البخاري عن
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال (مالنا والرمل إنما كنا رأينا به المشركين وقد أهلكم ثم قال
شئ صنعه النبي صلى الله عليه وسلم فلا نحب أن نتركه *
(فرع) مذهبنا انه لو ترك الرمل فاته الفضيلة ولا شئ عليه وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس
وعطاء وأيوب السختياني وابن جريج والأوزاعي وأحمد وإسحق وأبي ثور وأبي حنيفة وأصحابه
قال ابن المنذر وبه أقول * وقال الحسن البصري والثوري وعبد الملك الماجشون المالكي عليه دم
وكان مالك يقول عليه دم ثم رجع عنه وحكى القاضي أبو الطيب عن ابن المرزبان انه حكى عن
بعض الناس أنه قال من ترك الرمل أو الاضطباع أو الاستلام لزمه دم لحديث (من ترك نسكا
فعليه دم) *
(فرع) قال ابن المنذر أجمع العلماء على أن المرأة لا ترمل ولا تسعى بل تمشي *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا استحباب قراءة القرآن في الطواف وبه قال جمهور العلماء * قال العبدري
هو قول أكثر الفقهاء وحكاه ابن المنذر عن عطاء ومجاهد والثوري وابن المبارك وأبو حنيفة وأبو ثور
قال وبه أقول * وكره عروة بن الزبير والحسن البصري ومالك القراءة في الطواف * وعن أحمد
روايتان كالمذهبين *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا ان الطواف ماشيا أفضل فان طاف راكبا بلا عذر فلا دم عليه وذكرنا
المذاهب فيه فيما سبق *
59

(فرع) الترتيب عندنا شرط لصحة الطواف بان يجعل البيت عن يساره ويطوف على يمينه تلقاء
وجهه فان عكسه لم يصح وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور وداود وجمهور العلماء وقال أبو حنيفة يعيده إن كان
بمكة فان رجع إلى وطنه ولم يعده لزمه دم وأجزأه طوافه * دليلنا الأحاديث السابقة *
(فرع) لو طاف في الحجر لم يصح عندنا وبه قال جمهور العلماء (منهم) عطاء والحسن البصري
ومالك واحمد وأبو ثور وابن المنذر ونقله القاضي عن العلماء كافة سوى أبي حنيفة وقال أبو حنيفة
إن كان بمكة أعاده وإن رجع إلى وطنه بلا إعادة أراق دما وأجزأه طوافه *
(فرع) إذا أقيمت الصلاة المكتوبة وهو في أثناء الطواف فقطعه ليصليها فصلاها جاز له البناء
على ما مضي منه كما سبق بيانه قال ابن المنذر وبه قال أكثر العلماء (منهم) ابن عمر وطاوس وعطاء
ومجاهد والنخعي ومالك واحمد واسحق وأبو ثور وأصحاب الرأي قال ولا أعلم أحدا خالف ذلك
إلا الحسن البصري فقال يستأنف *
(فرع) إذا حضرت جنازة وهو في أثناء الطواف فمذهبنا ان اتمام الطواف أولى وبه قال عطاء
وعمرو بن دينار ومالك وابن المنذر وقال الحسن بن صالح وأبو حنيفة يخرج لها وقال أبو ثور
لا يخرج فان خرج استأنف *
(فرع) قال ابن المنذر اجمعوا على أنه يطاف بالصبي ويجزئه قال وأجمعوا على أنه يطاف
بالمريض ويجزئه إلا عطاء فعنه قولان (أحدهما) هذا (والثاني) يستأجر من يطوف عنه *
(فرع) ذكرنا ان مذهبنا ان الشرب في الطواف مكروه أو خلاف الأولى فان خالف وشرب
لم يبطل طوافه وقال ابن المنذر رخص فيه طاوس وعطاء واحمد واسحق وبه أقول قال ولا أعلم أن أحدا منعه *
(فرع) لو طافت المرأة منتقبة وهي غير محرمة فمقتضى مذهبنا كراهته كما يكره صلاتها منتقبة *
وحكى ابن المنذر عن عائشة انها كانت تطوف منتقبة وبه قال الثوري واحمد واسحق وابن المنذر
وكرهه طاوس وجابر بن زيد *
60

(فرع) لو حمل محرم محرما وطاف به ونوى كل واحد منهما الطواف بنفسه فقد ذكرنا ان في المسألة
ثلاثة أقوال عندنا (أحصها) يقع الطواف للحامل (والثاني) للمحمول (والثالث) لهما وممن قال لهما
أبو حنيفة وابن المنذر وقال مالك للحامل وعن أحمد روايتان رواية للحامل ورواية لهما *
(فرع) لو بقي شئ من الطواف المفروض ولو طوفة أو بعضها لم يصح حتى يتمه ولا يتحلل
حتى يأتي به هذا مذهبنا وبه قال جمهور العلماء وسبق خلاف أبي حنيفة وغيره فيه *
(فرع) مذهبنا أنه يكفي للقارن لحجه وعمرته طواف واحد عن الإفاضة وسعي واحد وبه قال
أكثر العلماء (منهم) ابن عمر وجابر بن عبد الله وعائشة وطاوس وعطاء والحسن البصري ومجاهد
ومالك والماجشون واحمد واسحق وابن المنذر وداود * وقال الشعبي والنخعي وجابر بن زيد وعبد الرحمن
ابن الأسود وسفيان الثوري والحسن بن صالح وأبو حنيفة يلزمه طوافان وسعيان وحكي هذا عن علي
وابن مسعود قال ابن المنذر لا يصح هذا عن علي رضي الله عنه * وأقرب ما احتج به لأبي حنيفة
ما جاء عن علي رضي الله عنه في ذلك وهو ضعيف لا يحتج به كما سنذكره إن شاء الله تعالى * وأحتج
الشافعي والأصحاب بحديث عائشة رضي الله عنها قالت (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة
الوداع فأهللنا بعمرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدي فيهل بالحج مع العمرة ثم
لا يحل حتى يحل منهما جميعا قالت فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة بالبيت وبين الصفا والمروة
ثم حلوا ثم طافوا أطوافا أخر بعد ما رجعوا من منى بحجهم وأما الذين كانوا جمعوا بين الحج والعمرة
فإنما طافوا طوافا واحدا) رواه البخاري ومسلم وعن جابر رضي الله عنه قال (لم يطف النبي
صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا طوافه الأول) رواه مسلم وهذا
محمول على من كان منهم قارنا * وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال (قال رسول الله صلى عليه وسلم من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد منهما حتى يحل منهما جميعا) رواه
الترمذي وقال حديث حسن قال وقد رواه جماعة موقوفا على ابن عمر قال والموقوف أصح * هذا
61

كلام الترمذي ورواه البيهقي باسناد صحيح مرفوعا (وأما) المروي عن علي رضي الله عنه في طوافين
وسعيين فضعيف باتفاق الحفاظ كما سبق عن حكاية ابن المنذر * قال الشافعي احتج بعض الناس
في طوافين وسعيين برواية ضعيفة عن علي وروى البيهقي هذا الذي أشار إليه الشافعي باسناده عن
مالك بن الحارث عن أبي نصر قال (لقيت عليا رضي الله عنه وقد أهللت بالحج وأهل هو بالحج والعمرة
فقلت هل أستطيع أن أفعل كما فعلت قال ذلك لو كنت بدأت بالعمرة قلت كيف أفعل لو أردت
ذلك قال تهل بهما جميعا ثم تطوف لهما طوافين وتسعى لهما سعيين) قال البيهقي أبو نصر هذا مجهول
قال وقد روي باسناد ضعيف عن علي مرفوعا وموقوفا قال وقد ذكرته في الخلافيات قال ومداره
على الحارث عمارة وحفص بن أبي داود وعيسى بن عبد الله وحماد بن عبد الرحمن وكلهم ضعفاء
لا يحتج بروايتهم
(فرع) قد ذكرنا انه إذا كان عليه طواف فرض فنوى بطوافه غيره انصرف إلى الفرض نص
عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب * هذا مذهبنا وقال احمد لا يقع عن فرضه الا بتعيين النية قياسا
على الصلاة وقياس أصحابنا على الاحرام بالحج وعلى الوقوف وغيره *
(فرع) ركعتا الطواف سنة على الأصح عندنا وبه قال مالك وأحمد وداود وقال أبو حنيفة واجبتان *
(فرع) * قال ابن المنذر أجمع العلماء على أن ركعتي الطواف تصحان حيث صلاهما إلا مالكا
فإنه كره فعلهما في الحجر وقال الجمهور يجوز فعلها في الحجر كغيره وقال مالك إذا صلاهما في الحجر أعاد
الطواف والسعي إن كان بمكة فإن لم يصلهما حتى رجع إلى بلاده أراق دما ولا إعادة عليه قال ابن المنذر لا حجة
لمالك على هذا لأنه إن كانت صلاته في الحجر صحيحة فلا إعادة سواء كان بمكة أو غيرها وإن كانت
باطلة فينبغي أن يجب إعادتها وان رجع إلى (1) فأما وجوب الدم فلا أعلمه يجب في شئ من
أبواب الصلاة * هذا كلام ابن المنذر و * نقل أصحابنا عن سفيان الثوري أن هذه الصلاة لا تصح الا خلف
المقام ونقل ابن المنذر عن سفيان الثوري أنه يصليها حيث شاء من الحرم *

(1) بياض لأصل فحرر)
62

(فرع) قد ذكرنا ان الأصح عندنا أن ركعتي الطواف سنة وفي قول واجبة فان صلى فريضة
عقب الطواف أجزأته عن صلاة الطواف ان قلنا هي سنة والا فلا وممن قال يجزئه عطاء وجابر بن زيد
والحسن البصري وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن الأسود وإسحق قال ابن المنذر ورويناه عن ابن
عباس قال ولا أظنه يثبت عنه وقال أحمد أرجو ان يجزئه وقال الزهري ومالك وأبو حنيفة وأبو ثور
وابن المنذر لا يجزئه *
(فرع) قد ذكرنا أن الولي يصلى صلاة الطواف عن الصبي الذي لا يميز وقال ابن عمر ومالك
لا يصلي عنه *
(فرع) فيمن طاف طوفة ولم يصلي لها ثم صلى لكل طواف ركعتين قد ذكرنا أن مذهبنا أنه
جائز بلا كراهة ولكن الأفضل أن يصلي عقب كل طواف وحكاه ابن المنذر عن المسور وعائشة
وطاوس وعطاء وسعيد بن جبير وأحمد وإسحق وأبي يوسف قال وكره ذلك ابن عمر والحسن
والزهري ومالك وأبو حنيفة وأبو ثور ومحمد بن الحسن ووافقهم ابن المنذر ونقله القاضي عياض عن
جماهير العلماء * دليلنا أن الكراهة لا تثبت الا بنهي الشارع ولم يثبت في هذا نهي فهذا هو المعتمد
في الدليل (وأما) الحديث الذي رواه البيهقي باسناده عن أبي هريرة قال (طاف النبي صلى الله عليه
وسلم ثلاثة أسباع جميعا ثم أتى المقام فصلى خلفه ست ركعات يسلم من كل ركعتين يمينا وشمالا قال
أبو هريرة أراد أن يعلمنا) فهذا الحديث اسناده ضعيف لا يصح الاحتجاج به * وعن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه فهو ضعيف أيضا والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(ثم يسعى وهو ركن من أركان الحج لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أيها الناس اسعوا
فان السعي قد كتب عليكم) فلا يصح السعي إلا بعد طواف فان سعى ثم طاف لم يعتد بالسعي لما
روى ابن عمر قال (لما قدم رسول الله صلى عليه وسلم طاف بالبيت سبعا وصلى خلف المقام ركعتين ثم طاف
بين الصفا والمروة سبعا قال الله تعالى (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فنحن نصنع ما صنع
رسول الله صلى الله عليه وسلم) والسعي أن يمر سبع مرات بين الصفا والمروة لما روى جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
(نبدأ بالذي بدأ الله به وبدأ بالصفا حتى فرغ من آخر سعيه على المروة) فان مر من الصفا إلى المروة حسب
ذلك مرة وإذا رجع من المروة إلى الصفا حسب ذلك مرة أخرى وقال أبو بكر الصيرفي لا يحسب رجوعه
63

من المروة إلى الصفا مرة وهذا خطأ لأنه استوفى ما بينهما بالسعي فحسب مرة كما لو بدأ من الصفا وجاء إلى المروة *
فأن بدأ بالمروة وسعى إلى الصفا لم يجزه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ابدأوا بما بدأ الله به) ويرقى على الصفا حتى
يرى البيت فيستقبله ويقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله الا الله وحده لا شريك له له الملك
وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم
الأحزاب وحده لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون لما روى جابر قال (خرج
رسول الله إلى الصفا فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى إذا رأى البيت توجه إليه وكبر ثم قال لا اله إلا الله
وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شئ قدير لا إله إلا الله وحده أنجز
وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا ثم قال مثل هذا ثلاثا ثم نزل) ثم يدعوا لنفسه
بما أحب من امر الدين والدنيا لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما انه كان يدعو بعد التهليل
والتكبير لنفسه فإذا فرغ من الدعاء نزل من الصفا ويمشي حتى يكون بينه وبين الميل الأخضر
المعلق بفناء المسجد نحو من ستة أذرع فيسعى سعيا شديدا حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين
بفناء المسجد وحذاء دار العباس ثم يمشي حتى يصعد المروة لما روى جابر رضي الله عنه ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل من الصفا مشى حتى إذا انصبت قدماه في بطن الوادي سعي حتى يخرج
منه إذا صعد مشى حتى يأتي المروة والمستحب أن يقول بين الصفا والمروة رب اغفر وارحم
وتجاوز عما تعلم أنك أنت الأعز الأكرم لما روت صفية بنت شيبة عن امرأة من بني نوفل ان النبي
صلى الله عليه وسلم قال ذلك * فان ترك السعي ومشى في الجميع جاز لما روي أن ابن عمر رضي الله عنه كان يمشي
بين الصفا والمروة وقال إن أمشي فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشى وأنا شيخ كبير * وان سعي
راكبا جاز لما روى جابر قال (طاف النبي صلى الله عليه وسلم في طواف حجة الوداع على راحلته بالبيت وبين الصفا
والمروة ليراه الناس ويسألوه) والمستحب إذا صعد المروة أن يفعل مثل ما فعل على الصفا لما روى
جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم (فعل على المروة مثل ما فعل على الصفا) قال في الام فان سعي بين الصفا والمروة
ولم يرق عليهما أجزأه وقال أبو حفص بن الوكيل لا يجزئه حتى يرقى عليهما ليتيقن انه
64

استوفى السعي بينهما وهذا لا يصح لان المستحق هو السعي بينهما وقد فعل ذلك وإن كانت
امرأة ذات جمال فالمستحب ان تطوف وتسعى ليلا فان فعلت ذلك نهارا مشت في موضع
السعي * وان أقيمت الصلاة أو عرض عارض قطع السعي فإذا فرغ بنى لما روي أن ابن عمر
رضي الله عنهما كان يطوف بين الصفا والمروة فأعجله البول فتنحى ودعا بماء فتوضأ ثم قام فأتم
على ما مضى) *
(الشرح) اما حديث (يا أيها الناس اسعوا فان الله كتب عليكم السعي) فرواه الشافعي
واحمد في مسنده والدارقطني والبيهقي من رواية حبيبة بنت تجراه بتاء مثناة فوق مفتوحة ثم جيم
ساكنة ثم راء - وحبيبة بفتح الحاء وتخفيف الباء - هذا هو المشهور ويقال حبيبة - بضم الحاء
وتشديد الياء - وحديثها هذا ليس بقوي في إسناده ضعف قال ابن عبد البر في الاستيعاب فيه اضطراب
(وأما) حديث ابن عمر الأول فرواه البخاري ومسلم إلى قوله أسوة حسنة (وأما) حديث جابر
الأول فرواه مسلم في جملة حديث جابر الطويل (واما) حديث (ابدؤا بما بدأ الله به) فرواه مسلم
من رواية جابر لكن لفظه (ابدا) على الخبر والذي في نسخ المهذب (ابدؤا) بواو الجمع على الامر وفى
رواية النسائي فابدؤا بلفظ الامر وإسنادها صحيح على شرط مسلم (واما) حديث جابر الثاني فرواه
مسلم لكن في لفظه مخالفة وهذا لفظ مسلم قال (فبدا بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت فاستقبل
القبلة فوحد الله تعالى وكبره وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو
على كل شئ قدير لا إله إلا الله وحده أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ثم دعا بين
ذلك قال مثل هذا ثلاث مرات ثم نزل إلى المروة) هذا لفظ رواية مسلم وفي روايتين للنسائي باسنادين
على شرط مسلم قال (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شئ
قدير) زاد يحيي ويميت كما وقع في المهذب (واما) دعاء ابن عمر المذكور بعد التكبير والتهليل
لنفسه فصحيح رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر (واما) حديث جابر في المشي والسعي
65

فصحيح رواه بمعناه وهذا لفظه قال (ثم نزل إلى المروة حتى انصبت قدماه في بطن
الوادي حتى إذا صعد مشى حتى اتى المروة ففعل على المروة كما فعل على الصفا) هذا لفظ مسلم
وفي رواية أبي داود (ثم نزل إلى المروة حتى إذا انصبت قدماه رمل في بطن الوادي
حتى إذا صعد مشى حتى اتى المروة) وفي رواية النسائي (ثم نزل حتى إذا تصوبت قدماه
في بطن المسيل فسعي حتى صعدت قدماه ثم مشى حتى أتى المروة فصعد عليها ثم بدا له البيت)
(وأما) حديث (رب اغفر وارحم وأنت الأعز الأكرم) فرواه البيهقي موقوفا على ابن مسعود
وابن عمر من قولهما (وأما) حديث ابن عمر (انه كان يمشي بين الصفا والمروة) إلى آخره فرواه
أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم بلفظه هذا المذكور في المهذب قال الترمذي
هو حديث حسن صحيح وفيما قاله نظر لان جميع طرقه تدور على عطاء بن السائب عن كثير بن
جمهان بضم الجيم عن ابن عمر وفي هذا نظر لان عطاء اختلط في آخر عمره وتركوا الاحتجاج
بروايات من سمع آخرا والراوي عنه في الترمذي ممن سمع منه آخرا ولكن رواه النسائي
من رواية سفيان الثوري عن عطاء وسفيان ممن سمع منه قديما وكثير ابن جمهان مستور وقد رواه
أبو داود ولم يضعفه فهو أيضا حسن عنده (وأما) حديث جابر (ان النبي صلى الله عليه وسلم طاف
في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسألوه) فرواه مسلم
بهذا اللفظ (وأما) حديث جابر (ان النبي صلى الله عليه وسلم أتى المروة ففعل على المروة كما فعل على
الصفا) فرواه مسلم بهذا اللفظ (وأما) ألفاظ الفصل فقوله وهزم الأحزاب وحده أي الطوائف التي
تحزبت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحصروا المدينة (وقوله) وحده معناه هزمهم بغير قتال
منكم بل أرسل عليهم ريحا وجنودا لم تروها (قوله) فبدأ بالصفا فرقى عليه هو - بكسر القاف يقال
رقى يرقى كعلم يعلم قال الله تعالى (أو ترقى في السماء) وقوله الميل الأخضر هو العمود (وقوله) معلق
بفناء المسجد - بكسر الفاء والمد - والمراد ركن المسجد وعبارة الشافعي المعلق في ركن المسجد ومعناه
المبني فيه والمراد بالمسجد المسجد الحرام (قوله) وحذاء دار العباس هكذا ذكره المصنف هنا وفي]
66

التنبيه وكذا ذكره كثير من الأصحاب وهو غلط في اللفظ وصوابه حذف لفظة حذاء بل يقال
المعلقين بفناء المسجد ودار العباس وكذا ذكره الشافعي في مختصر المزني والدارمي والماوردي
والقاضي حسين أبو علي والمسعودي وصاحب العدة وآخرون بحذف لفظة حذاء وهو الصواب
لأنه في نفس حائط دار العباس وقال صاحب التتمة وجدار دار العباس بجيم وبراء بعد الألف
وهذا حسن والمراد بالجدال الحائط والعباس صاحب هذا الدار وهو أبو الفضل العباس بن عبد المطلب
عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنه (وأما) صفية بنت شيبة فصحابية على المشهور وقيل تابعية وسبق
ذكرها في آخر باب محظورات الاحرام (وأما) الأحكام فقال الشافعي والأصحاب إذا فرغ من
ركعتي الطواف فالسنة أن يرجع إلى الحجر الأسود فيستلمه ثم يخرج من باب الصفا إلى المسعى
ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكره المصنف وبيناه في آخر فصل الطواف * وقال الماوردي
في الحاوي إذا استلم الحجر استحب أن يأتي الملتزم ويدعو فيه ويدخل الحجر ويدعو تحت الميزاب
وذكر الغزالي في الاحياء أنه يأتي الملتزم إذا فرغ من الطواف قبل ركعتيه ثم يصليهما * وقال ابن
جريج الطبري يطوف ثم يصلي ركعتيه ثم يأتي الملتزم ثم يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه ثم يخرج
إلى الصفا وكل هذا شاذ مردود على قائله لمخالفته الأحاديث - الصحيحة بل الصواب الذي تظاهرت
به الأحاديث الصحيحة ثم نصوص الشافعي وجماهير الأصحاب وجماهير العلماء من غير أصحابنا انه
لا يشتغل عقب صلاة الطواف بشئ إلا استلام الحجر الأسود ثم الخروج إلى الصفا والله أعلم *
ثم إذا أراد الخروج للسعي فالسنة أن يخرج من باب الصفا فيأتي سفح جبل الصفا فيرقى عليه قدر
قامة حتى يرى البيت وهو يتراءى له من باب المسجد باب الصفا لا من فوق جدار المسجد بخلاف
المروة فإذا صعده استقبل الكعبة وهلل وكبر فيقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد الله أكبر
على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا لا إله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت
بيده الخير وهو على كل شئ قدير لا إله إلا الله وحده لا شريك له أنجز وعده ونصر عبده وهزم
67

الأحزاب وحده لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون * ثم يدعو
بما أحب من أمر الدين والدنيا والآخرة لنفسه ولمن شاء واستحبوا أن يقول اللهم انك قلت
(ادعوني أستجب لكم) وانك لا تخلف الميعاد وأني أسألك كما هديتني إلى الاسلام أن لا تنزعه
مني حتى تتوفاني وأنا مسلم لما روى مالك في الموطأ عن نافع أنه سمع ابن عمر يقول هذا على الصفا
وهذا إسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم وروى البيهقي عن نافع عن ابن عمر أنه كأن يقول
على الصفا (اللهم اعصمنا بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك وجنبنا حدودك اللهم اجعلنا نحبك
ونحب ملائكتك وأنبيائك ورسلك ونحب عبادك الصالحين اللهم حببنا إليك وإلى ملائكتك
والى أنبيائك ورسلك وإلى عبادك الصالحين اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسري واغفر لنا
في الآخرة والأولى واجعلنا من أئمة المتقين) وبإسناده عن نافع أن ابن عمر كأن يقول عند الصفا
(اللهم أحيني على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم وتوفني على ملته وأعذني من مضلات الفتن) قال
أصحابنا ولا يلبي على الصفا هذا هو المذهب وفيه وجه أنه يلبي إن كان حاجا وهو في طواف
القدوم وبه جزم الماوردي والقاضي حسين وأبو علي البندنيجي والمتولي وصاحب العدة * قال
أصحابنا ثم يعيد هذا الذكر والدعاء ثانيا ويعيد الذكر ثالثا وهل يعيد الدعاء ثالثا فيه وجهان
68

(أحدهما) لا يعيده وبه قطع أبو علي البندنيجي والقاضي حسين وصاحب العدة والرافعي وآخرون
(وأصحهما) يعيده وبه قطع الماوردي والمصنف في التنبيه والروياني في البحر وآخرون وهذا هو الصواب
لحديث جابر الذي ذكرناه قريبا عن صحيح مسلم وغيره وهو صريح في الدعاء ثلاثا * فإذا فرغ
من الذكر والدعاء نزل من الصفا متوجها إلى المروة فيمشي على سجية مشيه المعتاد حتى يبقى بينه
وبين الميل الأخضر المعلق بركن المسجد على يساره قدر ست أذرع ثم يسعى سعيا شديدا حتى
يتوسط بين الميلين الأخضرين اللذين أحدهما في ركن المسجد والآخر متصل بدار العباس رضي
الله عنه ثم يترك شدة السعي ويمشي على عادته حتى يأتي المروة فيصعد عليها حتى يظهر له البيت ان
ظهر فيأتي بالذكر والدعاء الذي قاله على الصفا فهذه مرة من سعيه ثم يعود من المروة إلى الصفا فيمشي
في موضع مشيه ويسعي في موضع سعيه فإذا وصل إلى الصفا صعده وفعل من الذكر والدعاء ما فعله
أولا وهذه مرة ثانية من سعيه ثم يعود إلى المروة كما فعل أولا ثم يعود إلى الصفا وهكذا حتى يكمل
سبع مرات يبدأ بالصفا ويختم بالمروة * ويستحب أن يدعو بين الصفا والمروة في مشيه وسعيه ويستحب
قراءة القرآن فيه فهذه صفة السعي *
(فرع) في بيانه واجبات السعي وشروطه وسننه وآدابه (أما) الواجبات فأربعة (أحدها)
أن يقطع جميع المسافة بين الصفا والمروة فلو بقي منها بعض خطوة لم يصح سعيه حتى لو كان راكبا
اشترط أن يسير دابته حتى تضع حافرها على الجبل أو إليه حتى لا يبقى من المسافة شئ ويجب على
الماشي ان يلصق في الابتداء والانتهاء رجله بالجبل بحيث لا يبقى بينهما فرجة فيلزمه أن يلصق العقب
بأصل ما يذهب منه ويلصق رؤوس أصابع رجليه بما يذهب إليه هذا كله إذا لم يصعد على الصفا
وعلى المروة فان صعد فهو الأكمل وقد زاد خيرا وهكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما
ذكرناه في الأحاديث الصحيحة السابقة وهكذا عملت الصحابة فمن بعدهم وليس هذا الصعود شرطا
واجبا بل هو سنة متأكدة ولكن بعض الدرج مستحدث فليحذر من أن يخلفها وراءه فلا يصح
سعيه حينئذ وينبغي أن يصعد في الدرج حتى يستيقن * هذا هو المذهب ولنا وجه أنه يجب الصعود
69

على الصفا والمروة قدرا يسيرا ولا يصح سعيه إلا بذلك ليستيقن قطع جميع المسافة كما يلزمه غسل
جزء من الرأس في غسل الوجه ليستيقن اكمال الوجه حكاه المصنف والأصحاب عن أبي حفص بن
الوكيل من أصحابنا واتفقوا على تضعيفه والصواب انه لا يجب الصعود وهو نص
الشافعي وبه قطع الأصحاب للحديث الصحيح السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم (سعى
راكبا) ومعلوم أن الراكب لا يصعد * قال أصحابنا وأما استيقان قطع جميع المسافة فيحصل بما
ذكرناه من الصاق العقب والأصابع وهذا الذي ذكرناه عن ابن الوكيل أن مذهبه أنه يشترط صعود
الصفا والمروة بشئ قليل هو المشهور عنه الذي نقله عنه الجمهور ونقل البغوي وغيره عنه انه يشترط
صعودهما قدر قامة رجل والصحيح عنه الأول (والواجب الثاني) الترتيب وهو أن يبدأ من الصفا
فان بدأ بالمروة لم يحسب مروره منها إلى الصفا فإذا عاد من الصفا كان هذا أول سعيه ويشترط أيضا
في المرة الثانية أن يكون ابتداؤها من المروة وفى الثالثة من الصفا والرابعة من المروة والخامسة من
الصفا والسادسة من المروة والسابعة من الصفا ويختم بالمروة فلو أنه لما أراد العود من المروة إلى الصفا
للمرة الثانية عدل عن موضع السعي وجعل طريقه في المسجد أو غيره وابتدأ المرة الثانية من الصفا
أيضا لم يحسب له تلك المرة على المذهب وبه قطع ابن القطان وابن المرزبان والدارمي والماوردي
والقاضي أبو الطيب والجمهور * وحكى الروياني وغيره وجها شاذا أنها تحسب الصواب الأول لان
النبي صلى الله عليه وسلم (سعي هكذا وقال لتأخذوا عني مناسككم) قال الماوردي ولو نكس
السعي فبدأ أولا بالمروة وختم السابعة بالصفا لم تجزه المرة الأولى التي بدأها من المروة وتصير الثانية
التي بدأها من الصفا أولى ويحسب ما بعدها فيحصل له ست مرات ويبقى عليه سابعة فيبدأها من الصفا
فإذا وصل المروة تم سعيه قال الماوردي وكذا الحكم فيما لو نسي بعض السبع فان نسي السابعة أتى
بها يبدؤها من الصفا ولو نسي السادسة وسعي السابعة حسبت له الخمس الأول ولا تحسب
السادسة والسابعة لان الترتيب شرط فلا تصح السابعة حتى يأتي بالسادسة فيلزمه سادسة يبدؤها
من المروة ثم سابعة يبدؤها من الصفا فيتم سعيه بوصوله المروة وقال لو نسي الخامس لم يعتد بالسادس وجعل
السابع خامسا ثم أتى بالسادس ثم السابع قال وكذا الحكم لو ترك شيئا من المسعي لم يستوفه في سعيه
فلو ترك ذراعا من المرة السابعة فله ثلاثة أحوال (أحدها) أن يتركه من آخر السابقة فيعود ويأتي
70

بالذراع ويجزئه فان رجع إلى بلده قبل الاتيان به كان على إحرامه (1) (الثاني) أن يتركه من أول
السابعة فيلزمه أن يأتي بالسابعة بكمالها من أولها إلى آخرها كمن ترك الآية الأولى من الفاتحة يلزمه
استئناف الفاتحة بكمالها (الثالث) أن يتركه من وسط السابعة فيحسب ما مضى منها ويلزمه أن يأتي
بما تركه وما بعده إلى آخر السابعة * ولو ترك ذراعا من السادسة لم تحسب السابعة لأنها لا تحسب حتى
تصح السادسة (وأما) السادسة فحكمها كما ذكرناه في السابعة إذا ترك منها ذراعا ويجئ فيها الأحوال
الثلاثة والله أعلم (الواجب الثالث) اكمال سبع مرات يحسب الذهاب من الصفا إلى المروة مرة
والرجوع من المروة إلى الصفا مرة ثانية والعود إلى المروة ثالثة والعود إلى الصفا رابعة وإلى المروة
خامسة وإلى الصفا سادسة ومنه إلى الصفا سابعة فيبدأ بالصفا ويختم بالمروة هذا هو المذهب الصحيح
المشهور الذي نص عليه الشافعي وقطع به جماهير الأصحاب المتقدمين والمتأخرين وجماهير العلماء
وعليه عمر الناس وبه تظاهرت الأحاديث الصحيحة * وقال جماعة من أصحابنا يحسب الذهاب من
الصفا إلي المروة والعود منها إلى الصفا مرة واحدة فتكون المرة من الصفا إلى الصفا كما أن الطواف
تكون المرة من الحجر الأسود إلي الحجر الأسود وكما أن في مسح الرأس يحسب الذهاب من مقدمه
إلى مؤخره والرجوع مرة واحدة وممن قال هذا من أصحابنا أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي
وأبو علي بن خيران وأبو سعيد الإصطخري وأبو حفص بن الوكيل وأبو بكر الصيرفي وقال به
أيضا محمد بن جرير الطبري وهذا غلط ظاهر * دليلنا الأحاديث الصحيحة منها حديث جابر في صحيح
مسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم (سعي سبعا بدأ بالصفا وفرغ على المروة) والفرق بينه وبين الطواف
الذي قاسوا عليه ان الطواف لا يحصل فيه قطع المسافة كلها الا بالمرور من الحجر الأسود إلي الحجر
الأسود وأما هنا فيحصل قطع المسافة كلها بالمرور إلي المروة وإذا رجع إلى الصفا حصل قطعها مرة
أخرى فحسب ذلك مرتين * واعلم أنهم اختلفوا في حكاية قول الصيرفي فحكي الشيخ أبو حامد
والماوردي والجمهور عنه أنه يقول يحسب الذهاب من الصفا إلى المروة والعود إلى الصفا كلاهما مرة
واحدة ولا يحسب أحدهما مرة وحكى القاضي أبو الطيب في تعليقه أنه قال إذا وصل المروة في المرة
الأولى حصل له مرة من السبع قال وعوده إلى الصفا ليس بشئ فلا يحسب له وإنما هو توصل إلى
71

السعي قال حتى لو عاد مارا في المسجد لا بين الصفا والمروة جاز وحسب كل مرة من الصفا إلي المروة
والمشهور عنه ما قدمناه عن الشيخ أبى حامد والجمهور والروايتان عنه باطلتان والصواب في حكم
المسألة ما قدمناه عن الجمهور أن الذهاب مرة والعود أخرى والله أعلم * قال أصحابنا لو سعي أو طاف
وشك في العدد قبل الفراغ لزمه الاخذ بالأقل فلو اعتقد اتمام سعيه فأخبره عدل أو عدلان ببقاء
شئ قال الشافعي والأصحاب لا يلزمه الاتيان به لكن يستحب والله أعلم * (الواجب الرابع) قال
أصحابنا يشترط كون السعي بعد طواف صحيح سواء كان بعد طواف القدوم أو طواف الزيارة
ولا يتصور وقوعه بعد طواف الوداع لان طواف الوداع هو الواقع بعد فراغ المناسك. فإذا بقي
السعي لم يكن المفعول طواف الوداع * واستدل الماوردي لاشتراط كون السعي بعد طواف صحيح
بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم (سعي بعد الطواف وقال صلى الله عليه وسلم
لتأخذوا عني مناسككم) وباجماع المسلمين ونقل الماوردي وغيره الاجماع في اشتراط ذلك وشذ
إمام الحرمين فقال في كتابه الأساليب قال بعض أئمتنا لو قدم السعي على الطواف اعتد بالسعي
وهذا النقل غلط ظاهر مردود بالأحاديث الصحيحة وبالاجماع الذي قدمناه عن نقل الماوردي
والله أعلم *
(فرع) قال صاحب البيان قال الشيخ أبو نصر يجوز لمن أحرم بالحج من مكة إذا طاف
للوداع لخروجه إلى منى أن يقدم السعي بعد هذا الطواف قال وبمذهبنا هذا قال ابن عمر وابن الزبير
والقاسم بن محمد وقال مالك وأحمد وإسحق لا يجوز ذلك له وإنما يجوز للقادم * دليلنا أنه إذا
جاز ذلك لمن أحرم من خارج مكة جاز للمحرم منها * هذا نقل صاحب البيان ولم أر لغيره
72

ما يوافقه وظاهر كلام الأصحاب أنه لا يجوز السعي إلا بعد طواف القدوم أو الإضافة كما سبق
والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا ولو سعي ثم تيقن أنه ترك شيئا من الطواف لم يصح سعيه فيلزمه أن يأتي
ببقية الطواف إن قلنا يجوز تفريقه وهو المذهب وإلا فيستأنف فإذا أتي ببقيته أو استأنفه أعاد
السعي والله أعلم *
(فرع) الموالاة بين مراتب السعي سنة على المذهب فلو تخلل فصل يسير أو طويل بينهن لم يضر
وإن كان شهرا أو سنة أو أكثر هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور * وقال الماوردي ان فرق يسيرا جاز
وان فرق كثيرا فان جوزنا التفريق الكثير بين مرات الطواف وهو الأصح فههنا أولي والا ففي
السعي وجهان (أحدهما) وهو قول أصحابنا البصريين لا يجوز (والثاني) وهو قول أصحابنا
البغداديين يجوز لان السعي أخف من الطواف ولهذا يجوز مع الحدث وكشف العورة هذا
نقل الماوردي * وقال أبو علي البندنيجي ان فرق يسيرا لم يضر وجاز البناء وكذا ان فرق
كثيرا لعذر كالخروج للصلاة المكتوبة والطهارة وغيرهما وان فرق كثيرا بلا عذر فقولان
قال في الام يبني وفى القديم يستأنف والله أعلم * (وأما) الموالاة بين الطواف والسعي فسنة
فلو فرق بينهما تفريقا قليلا أو كثيرا جاز وصح سعيه ما لم يتخلل بينهما الوقوف فان تخلل الوقوف
لم يجز أن يسعى بعده قبل طواف الإفاضة بل يتعين حينئذ السعي بعد طواف الإفاضة بالاتفاق
صرح به القفال وأبو علي البندنيجي والبغوي والمتولي وصاحب العدة وآخرون ولا نعلم فيه خلافا
الا أن الغزالي قال في الوسيط فيه تردد ولم يذكر شيخه التردد بل حكى قول البندنيجي وسكت
73

عليه واحتج له المتولي بأنه دخل وقت الطواف المفروض فلم يجز أن يسعى سعيا تابعا لطواف نفل
مع امكان طواف فرض وهذا الذي ذكرناه من الموالاة بين الطواف والسعي سنة وانه لو تخل
زمان طويل كسنة وسنتين وأكثر جاز أن يسعى ويصح سعيه ويكون مضموما إلى السعي الأول
وهو المذهب وبه قطع جماهير الأصحاب في طريقتي العراق وخراسان وكلهم يمثلون بما لو أخره
سنتين جاز وممن صرح بذلك وقطع به الشيخ أبو حامد والقفال والقاضيان أبو الطيب وحسين في
تعليقهما وأبو علي السنجي والمحاملي والفوراني والبغوي وصاحب العدة والبيان وخلائق لا يحصون *
وقال الماوردي هل تشترط الموالاة بين الطواف والسعي فيه وجهان (أحدهما) وهو قول أصحابنا
البغداديين لا تشترط الموالاة بل يجوز تأخيره يوما وشهرا وأكثر لأنهما ركنان فلا تشترط الموالاة
بينهما كالوقوف وطواف الإفاضة (والثاني) تشترط الموالاة بينهما فان فرق كثيرا لم يصح السعي
وهو قول أصحابنا البصريين لان السعي لما افتقر إلي تقدم الطواف ليمتاز عما لغير الله تعالى افتقر
إلى الموالاة بينه وبينه ليقع الميز به ولا يحصل الميز إذا أخره هذا نقل الماوردي * وقال المتولي في
اشتراط الموالاة بين الطواف والسعي قولان مبنيان على القولين في الموالاة في الوضوء قال ووجه
الشبه أنهما ركنان في عبادة وأمكن الموالاة بينهما فصار كاليد مع الوجه في الوضوء والصواب ما قدمناه
عن الجمهور قياسا على تأخير طواف الإفاضة عن الوقوف فإنه يجوز تأخيره سنين كثيرة ولا آخر
له ما دام حيا بلا خلاف والله أعلم *
(فرع) في سنن السعي وهي جميع ما سبق في كيفية السعي سوى الواجبات المذكورة وهي سنن
كثيرة (إحداها) يستحب أن يكون عقب الطواف وأن يواليه فان أخره عن الطواف أو فرق
بين مراته جاز على المذهب ما لم يتخلل بينهما الوقوف كما سبق وفيه خلاف ضعيف سبق الآن
(الثانية) يستحب أن يسعى على طهارة من الحدث والنجس ساترا عورته فلو سعى محدثا أو جنبا
أو حائضا أو نفساء أو عليه نجاسة أو مكشوف العورة جاز وصح سعيه بلا خلاف لحديث عائشة
رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وقد حاضت (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي
بالبيت) رواه البخاري ومسلم وسبق بيانه مرات (الثالثة) الأفضل أن يتحرى زمان الحلوة لسعيه
74

وطوافه وإذا كثرت الزحمة فينبغي أن يتحفظ من أيدي الناس وترك هيئة من هيئات السعي أهون
من إيذاء مسلم ومن تعريض نفسه للأذى وإذا عجز عن السعي في موضعه للزحمة تشبه في
حركته بالساعي كما قلنا في الرمل قال الشافعي في الام والأصحاب يستحب للمرأة أن تسعى في الليل
لأنه أستر وأسلم لها ولغيرها من الفتنة فان طافت نهارا جاز وتسدل على وجهها ما يستره من غير
مماسته البشرة (الرابعة) الأفضل أن لا يركب في سعيه الا لعذر كما سبق في الطواف لأنه أشبه بالتواضع
لكنه سبق هناك خلاف في تسمية ان الطواف راكبا مكروه واتفقوا على أن السعي راكبا ليس بمكروه
لكنه خلاف الأفضل لان سبب الكراهة هناك عند من أثبتها خوف تنجس المسجد بالدابة وصيانته
امتهانه بها هذا المعني منتصف في السعي وهذا معنى قول صاحب الحاوي الركوب في السعي
أخف من الركوب في الطواف * ولو سعى به غيره محمولا جاز لكن الأولي سعيه بنفسه إن لم يكن
صبيا صغيرا أو له عذر كمرض ونحوه (الخامسة) أن يكون الخروج إلى السعي من باب الصفا
(السادسة) أن يرقى على الصفا وعلى المروة قدر قامة في كل واحد منهما (السابعة) الذكر والدعاء على
الصفا والمروة كما سبق بيانه ويستحب أن يقول في مروره بينهما رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم
وأنت الأعز الأكرم اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وأن يقرأ القرآن
وسبق بيان أدلة كل هذا (الثامنة) يستحب أن يكون سعيه في موضع السعي الذي سبق بيانه سعيا
شديدا فوق الرمل * والسعي مستحب في كل مرة من السبع بخلاف الرمل فإنه مختص بالثلاث الأول
كما أن السعي الشديد في موضعه سنة فكذلك المشي على عادته في باقي المسافة سنة * ولو سعي في جميع
المسافة أو مشي فيها صح وفاته الفضيلة والله أعلم *
(فرع) أما المرأة ففيها وجهان (الصحيح) المشهور به قطع الجمهور انها لا تسعي في موضع السعي بل
تمشى جميع المسافة سواء كانت نهارا أو ليلا في الخلوة لأنها عورة وأمرها مبني على الستر ولهذا لا ترمل
في الطواف (والثاني) انها لا سعت في الليل حال خلو المسعى استحب لها السعي في موضع السعي
كالرجل والله أعلم *
75

(فرع) قال الشيخ أبو محمد الجويني رأيت الناس إذا فرغوا من السعي صلوا ركعتين على
المروة قال وذلك حسن وزيادة طاعة ولكن لم يثبت ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم *
هذا كلام أبي محمد وقال أبو عمرو بن الصلاح ينبغي ان يكره ذلك لأنه ابتداء شعار وقد قال الشافعي
رحمهم الله ليس في السعي صلاة وهذا الذي قاله أبو عمرو أظهر والله أعلم *]
[(فرع) قال الشافعي والأصحاب لا يجوز السعي في غير موضع السعي فلو مر رواء موضع السعي
في زقاق العطارين أو غيره لم يصح سعيه لان السعي مختص بمكان فلا يجوز فعله في غيره كالطواف قال أبو علي البندنيجي في كتابه الجامع موضع السعي بطن الوادي قال الشافعي في القديم فان التوى
شيئا يسيرا أجزأه وان عدل حتى يفارق الوادي المؤدى إلى زقاق العطارين لم يجز وكذا قال الدارمي
ان التوى في السعي يسيرا جاز وان دخل المسجد أو زقاق العطارين فلا والله أعلم *
(فرع) قال الدارمي يكره ان يقف في سعيه لحديث (1) ونحوه فان فعله أجزأه *
(فرع) قد سبق في فصل الطواف انه يسن الاضطباع في جميع المسعي وذكرنا وجها شاذا
عن حكاية الدارمي عن ابن القطان أنه إنما يضطبع في موضع السعي الشديد دون موضع المشي وهذا
غلط والله أعلم *
(فرع) السعي ركن من أركان الحج لا يتم الحج الا به ولا يجبر بدم ولا يفوت ما دام صاحبه حيا
فلو بقي منه مرة من السعي أو خطوة لم يصح حجه ولم يتحلل من إحرامه حتى يأتي بما بقي ولا يحل
له النساء وإن طال ذلك سنين ولا خلاف في هذا عندنا إلا ما شذ به الدارمي فقال قال أبو حنيفة
إن ترك السعي عمدا أو سهوا لزمه في كل شوط اطعام مسكين نصف صاع إلى أربعة أشواط ففيها
الدم قال وحكى ابن القطان عن أبي على قولا آخر كمذهب أبي حنيفة وهذا القول شاذ وغلط
والله أعلم *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب إذا أتي بالسعي بعد طواف القدوم وقع ركنا ولا يعاد بعد
طواف الإفاضة فان أعاده كان خلاف الأولى * وقال الشيخ أبو محمد الجويني وولده امام الحرمين

(1) كذا بالأصل فحرر
76

وغيرهما يكره اعادته لأنه بدعة ودليل المسألة حديث جابر (ان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم
يطوفوا بين الصفا والمروة الا طوافا واحدا طوافه الأول) رواه مسلم يعني بالطواف السعي لقوله
تعالى (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا أنه لو سعى راكبا جاز ولا يقال مكروه لكنه خلاف الأولى ولآدم عليه
وبه قال أنس بن مالك وعطاء ومجاهد * قال ابن المنذر وكره الركوب عائشة وعروة وأحمد واسحق
وقال أبو ثور لا يجزئه ويلزمه الإعادة وقال مجاهد لا يركب الا لضرورة وقال أبو حنيفة إن كان
بمكة أعاده ولا دم وان رجع إلى وطنه بلا إعادة لزمه دم * دليلنا الحديث الصحيح السابق ان النبي
صلى الله عليه وسلم (سعى راكبا) *
(فرع) في مذاهب العلماء في حكم السعي * مذهبنا انه ركن من أركان الحج والعمرة لا يتم
واحد منهما الا به ولا يجبر بدم ولو بقي منه خطوة لم يتم حجه ولم يتحلل من احرامه وبه قالت
عائشة ومالك واسحق وأبو ثور وداود وأحمد في رواية * وقال أبو حنيفة هو واجب ليس بركن
بل ينوب عنه * وقال أحمد في رواية ليس هو بركن
ولا دم في تركه والأصح عنه انه واجب ليس
بركن فيجبر بالدم وقال ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس وابن الزبير وأنس وابن سيرين
هو تطوع ليس بركن ولا واجب ولادم في تركه * وحكى ابن المنذر عن الحسن وقتادة والثوري
انه يجب فيه الدم وعن طاوس أنه قال من ترك من السعي أربعة أشواط لزمه دم وان ترك دونها
لزمه لكل شوط نصف صاع وليس هو بركن وهو مذهب أبو حنيفة * وعن عطاء رواية انه تطوع
لا شئ في تركه ورواية فيه الدم * قال ابن المنذر ان ثبت حديث بنت أبي تجراه الذي قدمناه انها
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول (اسعوا فان الله كتب عليكم السعي) فهو ركن قال الشافعي
والا فهو تطوع قال وحديثها رواه عبد الله بن المؤمل وقد تكلموا فيه * واحتج القائلون بأنه تطوع
بقوله تعالي (ان الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما)
وفى الشواذ قراءة ابن مسعود (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) ورفع الجناح في الطواف بهما يدل
على أنه مباح لا واجب * واحتج أصحابنا بحديث صفية بنت شيبة من بني عبد الدار انهن سمعن من
77

رسول الله صلى عليه وسلم وقد استقبل الناس في المسعى وقال (يا أيها الناس اسعوا فان السعي
قد كتب عليكم) رواه الدارقطني والبيهقي باسناد حسن (والجواب) عن الآية ما أجابت عائشة
رضي الله عنها لما سألها عروة بن الزبير عن هذا فقالت (إنما نزلت الآية هكذا لان الأنصار كانوا
يتحرجون من الطواف بين الصفا والمروة أي يخافون الحرج فيه فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل
الله تعالى الآية) رواه البخاري ومسلم *
(فرع) لو سعى قبل الطواف لم يصح سعيه عندنا وبه قال جمهور العلماء وقدمنا عن الماوردي
انه نقل الاجماع فيه وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد * وحكي ابن المنذر عن عطاء وبعض
أهل الحديث انه يصح وحكاه أصحابنا عن عطاء وداود * دليلنا ان النبي صلى الله عليه وسلم
(سعى بعد الطواف وقال صلى الله عليه وسلم لتأخذوا مناسككم) (وأما) حديث ابن شريك
الصحابي رضي الله عنه قال (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا فكان الناس يأتونه
فمن قائل يا رسول الله سعيت قبل أن أطوف أو أخرت شيئا أو قدمت شيئا فكأن يقول لا حرج
إلا على رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم فذلك الذي هلك وخرج) فرواه أبو داود باسناد
صحيح كل رجاله رجال الصحيحين إلا أسامة بن شريك الصحابي وهذا الحديث محمول على ما حمله
الخطابي وغيره وهو ان قوله سعيت قبل ان أطوف أي سعيت بعد طواف القدوم وقبل طوف
الإفاضة والله أعلم *
(فرع) مذهبنا ان الترتيب في السعي شرط فيبدأ بالصفا فلو بدا بالمروة لم يعتد به وبهذا قال
الحسن البصري والأوزاعي * قال مالك وأحمد وداود وجمهور العلماء وحكاه ابن المنذر عن أبي حنيفة
أيضا والمشهور عن أبي حنيفة انه ليس بشرط فيصح الابتداء بالمروة * وعن عطاء روايتان (إحداهما)
كمذهبنا (والثانية) يجزى الجاهل * دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (ابدؤا بما بدأ الله به) وهو حديث
صحيح كما سبق والله أعلم *
78

(فرع) لو أقيمت الصلاة المكتوبة وهو في أثناء السعي قطعة وصلاها ثم بني عليه * هذا مذهبنا وبه
قال جمهور العلماء منهم ابن عمر وابنة سالم وعطاء وأبو حنيفة وأبو ثور * قال ابن المنذر هو قول
أكثر العلماء وقال مالك لا يقطعه للصلاة إلا أن يضيق وقتها *
(فرع) مذهبنا ومذهب الجمهور أن السي يصح من المحدث والجنب والحائض وعن الحسن أنه
إن كان قبل التحلل أعاد السعي وإن كان بعده فلا شئ عليه * دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة
رضي الله عنها وقد حاضت (اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) رواه البخاري ومسلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(ويخطب الامام اليوم السابع من ذي الحجة بعد الظهر بمكة ويأمر الناس بالغدو من الغد إلى
منى وهي إحدى الخطب الأربع المسنونة في الحج والدليل عليه ما روى ابن عمر قال (كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قبل التروية بيوم خطب الناس وأخبرهم بمناسكهم) ويخرج إلى مني
في اليوم الثامن ويصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت بها إلى أن يصلى الصبح لما روى
ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم (صلى يوم التروية بمني الظهر والعصر والمغرب
والعشاء والغداة) فإذا طلعت الشمس صار إلي الموقف لما روى جابر رضي الله عنه قال (ثم مكث
قليلا حتى طلعت الشمس ثم ركب فأمر بقبة من شعر أن تضرب له بنمرة فنزل بها) فإذا زالت
79

الشمس خطب الامام وهي الخطبة الثانية من الخطب الأربع فيخطب خطبة خفيفة ويجلس ثم يقوم
إلى الثانية ويبتدئ المؤذن بالاذان حتى يكون فراغ الامام مع فراغ المؤذن لما روي أن سالم بن
عبد الله قال للحجاج (إن كنت تريد أن تصيب السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف فقال ابن عمر
رضي الله عنهما صدق) ثم يصلي الظهر والعصر اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم) *
(الشرح) أما حديث ابن عمر الأول في الخطبة قبل يوم التروية بيوم فرواه البيهقي بلفظه المذكور
في المهذب واسناده جيد (وأما) حديث ابن عباس فصحيح رواه أبو داود باسناد صحيح على شرط
مسلم بمعناه وهذا لفظه * عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الظهر يوم التروية والفجر يوم
عرفة بمنى) ورواه مسلم في صحيحه من رواية جابر قال (فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى
وأهلوا بالحج وركب النبي صلى الله عليه وسلم فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ثم مكث قليلا حتى
طلعت الشمس وأمر بقبة من شعر تضرب له بنمرة) وروى البخاري ومسلم من رواية أنس أن
النبي صلى الله عليه وسلم (صلى الظهر يوم التروية بمنى) وفي رواية للبخاري (الظهر والعصر) (وأما) حديث
جابر وقوله ثم مكث قليلا فرواه مسلم كما ذكرناه الآن عنه (وأما) حديث سالم فرواه البخاري في
صحيحة بلفظه هنا (وأما) حديث الجمع بين الظهر والعصر يوم عرفة وهو الذي أشار إليه المصنف
بقوله اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فرواه البخاري من رواية ابن عمر ورواه مسلم من رواية جابر في
80

حديثه الطويل والله أعلم * (وقوله) يوم التروية هو بفتح التاء المثناة وهو اليوم الثامن من ذي الحجة
سمي بذلك لأنهم كانوا يتروون بحمل الماء معهم من مكة إلى عرفات وسبق بيانه مرات ويسمى
يوم التروية يوم النقلة أيضا لان الناس ينقلون فيه من مكة إلى منى (واما) نمرة فبفتح النون وكسر
الميم ويجوز اسكان الميم مع فتح النون وكسرها فتصير ثلاثة أوجه كما سبق مرات في نظائرها
ونمرة موضع معروف بقرب عرفات خارج الحرم بين طرف الحرم وطرف عرفات والله أعلم * (أما)
الأحكام ففيها مسائل (إحداها) قال أصحابنا إذ فرغ المحرم من السعي بين الصفا والمروة فإن كان معتمرا
متمتعا أو غير متمتع فيحلق رأسه أو يقصره فإذا فعل صار حلالا تحل له النساء وكل شئ كان
حرم عليه بالاحرام سواء كان متمتعا أو معتمرا غير متمتع سواء ساق هديا أم لا ولا خلاف في هذا
كله عندنا وقد قدمت مذاهب العلماء في ذلك في الباب الأول من كتاب الحج فإن كان المعتمر
متمتعا أقام بمكة حلالا يفعل ما أراد من الجماع وغيره فان أراد أن يعتمر تطوعا كان له ذلك بل
يستحب له ذلك * ويستحب له الاكثار من الاعتمار وقد سبقت المسألة بدلائلها ومذاهب العلماء
فيها في الباب الأول من كتاب الحج * فإذا كان يوم التروية أحرم من مكة بالحج وكذا من أراد
الحج من أهل مكة يحرم به يوم التروية سواء كان من المستوطنين بها أم الغرباء وقد سبق بيان
هذا واضحا في باب مواقيت الحج * وإن كان الذي فرغ من السعي حاجا مفردا أو قارنا فان وقع
سعيه بعد طواف الإفاضة فقد فرغ من أركان الحج كلها وأنما بقي عليه المبيت بمنى ورمى أيام التشريق *
وان وقع سعيه بعد طواف القدوم فليمكث بمكة إلى وقت خروجهم إلى منى فإذا كان اليوم السابع
من ذي الحجة خطب الامام بعد صلاة الظهر عند الكعبة خطبة فردة وهي أول الخطب الأربع
المشروعة في الحج ويأمر الناس في هذه الخطبة بان يتأهبوا إلى الذهاب إلى منى في الغد وهو اليوم
الثامن من ذي الحجة المسمى يوم التروية ويعلمهم المناسك التي بين أيديهم إلى الخطبة الثانية المشروعة
يوم عرفة بنمرة فيذكر أن السنة أن يخرجوا غدا قبل الزوال أو بعده كما سنوضحه قريبا ان شاء
81

الله تعالى إلى منى وأن يصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيتوا بها ويصلوا بها الصبح ويمكثوا
حتى تطلع الشمس على ثببر ثم يسيروا إلى نمرة ويغتسلوا للوقوف ولا يصوموا ولا يدخلوا عرفات
قبل صلاتي الظهر والعصر جمعا وأن يحضروا الصلاتين والخطبتين مع الامام ويذكر لهم غير ذلك
مما يحتاجون إليه ويأمر المتمتعين ان يطوفوا قبل الخروج وهذا الطواف مستحب لهم ليس بواجب *
قال الماوردي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والأصحاب فلو كان اليوم السابع يوم جمعة خطب
للجمعة وصلاها ثم خطب هذه الخطبة لان السنة في هذه الخطبة التأخير عن الصلاة وشرط
خطبة الجمعة تقدمها على الصلاة فلا تدخل إحداها في الأخرى والله أعلم * قال الماوردي إن كان
الامام الذي خطب هذه الخطبة يوم السابع محرما افتتح الخطبة بالتلبية وإن كان حلالا افتتحها
بالتكبير قال وإن كان الامام مقيما بمكة استحب أن يحرم ويصعد المنبر محرما ثم يخطب وهذا الذي
ذكره من احرام الامام غريب محتمل *
(فرع) الخطب المشروعة في الحج أربعة (إحداهن) يوم السابع من ذي الحجة بمكة عند الكعبة
وقد ذكرناها قريبا واضحة (الثانية) يوم عرفة بقرب عرفات (الثالثة) بمنى (الرابعة) يوم النفر الأول
بمنى أيضا وهو الثاني من أيام التشريق * قال أصحابنا ويذكر لهم في كل واحدة من هذه الخطب
ما بين أيديهم من المناسك وأحكامها وما يتعلق بها إلى الخطبة الأخرى قال الشافعي وإن كان الذي
يخطب فقيها قال هل من سائل * قال أصحابنا وكل هذه الخطب الأربع أفراد وبعد صلاة الظهر
الا التي بعرفات فإنهما خطبتان وقبل صلاة الظهر وبعد الزوال وسيأتي ايضاحهن في موضعهن إن شاء الله
تعالى *
(فرع) أيام المناسك سبعة (أولها) بعد الزوال السابع من ذي الحجة وآخرها بعد الزوال الثالث عشر
منه وهو آخر أيام التشريق فالسابع لا يعرف له اسم مخصوص والثامن يسمى يوم التروية كما سبق
والتاسع يوم عرفة والعاشر يوم النحر والحادي عشر يوم القر - بفتح القاف وتشديد الراء - سمى
82

بذلك لأنهم يقرون فيه بمنى أو يقيمون مطمئنين والثاني عشر يوم النفر الأول والثالث عشر يوم النفر
الثاني (وأما) قول الصيمري والماوردي وصاحب البيان ان الناس اختلفوا في تسمية الثامن يوم
التروية فقيل لأنهم يتروون الماء كما قدمناه وقيل لان آدم رأى فيه حواء وقيل لان جبريل رأى فيه
إبراهيم المناسك فكلام فاسد ونقل عجيب والصواب ما قدمناه *
(فرع) السنة للخليفة إذا لم يحضر الحج بنفسه أن ينصب أميرا على الحجيج يقيم لهم المناسك ويطيعونه
فيما ينوبهم وسيأتي في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى فصل حسن في صفات هذا لأمير وشروطه
وأحكامه وما يتعلق بولايته ودليل ما ذكرناه الأحاديث الصحيحة فقد فتحت مكة سنة ثمان من
الهجرة في رمضان (فولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عتاب بن أسيد مكة وأقام المناسك للناس تلك السنة ثم
أمر النبي صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة أبا بكر الصديق رضي الله عنه على الحج فحج بالناس وحج رسول
الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة حجة الوداع ثم استمر الخلفاء الراشدون على الحج بالناس) وإذا لم يحضروا
استنابوا أميرا وولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة عشر سنين حجهن كلهن وقيل حج
تسع سنين منها والله أعلم * (المسألة الثانية) السنة أن يخرج الامام أو نائبه والحجيج إلى منى
في اليوم الثامن من ذي الحجة * قال الشافعي والأصحاب ويكون خروجهم بعد صلاة الصبح
بمكة بحيث يصلون الظهر في أول وقتها بمنى هذا هو الصحيح المشهور من نصوص الشافعي
والأصحاب وفيه قول ضعيف انهم يصلون الظهر بمكة ثم يخرجون * وقال الشيخ أبو حامد في
تعليقه قال الشافعي يأمرهم بالغدو إلى منى وقال الشافعي في موضع آخر يأمرهم بالرواح * قال
أبو حنيفة وكل هذا قريب الا انهم يصلون الظهر بمنى * وذكر صاحب البيان هذين النصين
للشافعي ثم قال وليست على قولين بل هم مخيرون بين أن يغدوا بكرة وبين أن يروحوا بعد
الزوال قال وهذا الثاني أولى * هذا كلامه وليس كما قال * وقال صاحب الحاوي إذا زالت
الشمس في اليوم الثامن خرج إلى منى ولم يصل الظهر بمكة وان خرج قبل الزوال جاز فحصل
83

خلاف في وقت استحباب الخروج (المذهب) أنه بعد الصبح * قال أصحابنا فإن كان يوم جمعة
خرجوا قبل طلوع الفجر لان السفر يوم الجمعة بعد الفجر وقبل الزوال إلى حيث لا تصلى الجمعة
حرام في أصح القولين ومكروه في الآخر فينبغي الاحتراز منه بالخروج قبل الفجر لأنهم لا يصلون
الجمعة بمنى ولا بعرفات لان من شروط الجمعة دار الإقامة قال الشافعي والأصحاب فان بنى بها قرية
واستوطنها أربعون من أهل الكمال أقاموا الجمعة وصلاها معهم الحجيج * قال القاضي أبو الطيب
في تعليقه وإذا كان يوم جمعة استخلف الامام من يصلي الجمعة بالناس بمكة وسار هو إلى منى فصلى
بها الظهر هذا كلام القاضي * وقال المتولي ولو تركوا الخروج أول النهار وصلوا الجمعة في وقتها
بمكة كان أولى لأنها فرض والخروج إلى منى مستحب وهذا خلاف ما قال القاضي أبو الطيب وخلاف
مقتضى كلام الجمهور والله أعلم *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب يستحب لمن أحرم من مكة وأراد الخروج إلى عرفات أن
يطوف بالبيت ويصلي ركعتين ثم يخرج نص عليه الشافعي في البويطي واتفق الأصحاب عليه ونقله
الشيخ أبو حامد عن نصه في البويطي ثم قال وهذا يتصور في صورتين وهما المتمتع والمكي إذا احرما
بالحج من مكة (الثالثة) إذا خرجوا يوم التروية إلى منى فالسنة أن يصلوا بها الظهر والعصر والمغرب
والعشاء والصبح كما ذكرناه من الأحاديث الصحيحة وهذا لا خلاف فيه * والسنة أن يبيتوا بمنى
ليلة التاسع وهذا المبيت سنة ليس بركن ولا واجب فلو تركه فلا شئ عليه لكن فاتته الفضيلة وهذا
الذي ذكرناه من كونه سنة لا خلاف فيه وأما قول القاضي أبي الطيب في تعليقه وصاحب الشامل
وإمام الحرمين والغزالي والمتولي انه ليس بنسك فمرادهم ليس بواجب ولم يريدوا انه لا فضيلة فيه
والله أعلم * (الرابعة) قال الشافعي والأصحاب إذا بات بمنى ليلة التاسع وصلى بها الصبح فالسنة
أن يمكث بها حتى تطلع الشمس على ثبير - بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة - وهو جبل
معروف هناك فإذا طلعت عليه سار متوجها إلى عرفات قال بعض العلماء يستحب أن يقول في
84

مسيره هذا (اللهم إليك توجهت ولوجهك الكريم أردت فاجعل ذنبي مغفورا وحجي مبرورا
وارحمني ولا تخيبني انك على ذلك وعلى كل شئ قدير) * ويستحب ان يكثر من التلبية * قال
الماوردي في كتابه الحاوي قال الشافعي واختار ان يسلك الطريق التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم
في غدوه إلى عرفات وهي من مزدلفة في أصل المازمين على يمين الذاهب إلى عرفات يقال له طريق
ضب * هذا كلام الماوردي في الحاوي وقال في كتابه الأحكام السلطانية يستحب ان يسير على
طريق ضب ويعود على طريق المازمين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وليكون عائدا في طريق
غير التي ذهب فيها كالعيد * وذكر الأزرقي نحو هذا قال الأزرقي وطريق ضب طريق مختصر من
المزدلفة إلى عرفة وهو في أصل المازمين عن يمينك وأنت ذاهب إلى عرفة (وأما) قول القاضي حسين في تعليقه يستحب ان يسلك في ذهابه من منى إلى عرفات طريق المازمين لأنه طريق الأئمة
فهو متأول على ما ذكره الماوردي والأزرقي والله أعلم * قال أصحابنا ويسيرون ملبين ذاكرين الله
لحديث محمد بن أبي بكر الثقفي أنه (سال أنس بن مالك وهما غاديان من منى إلى عرفة كيف كنتم
تصنعون في هذا اليوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال كان يهل المهل منا فلا ينكر عليه ويكبر
المكبر منا فلا ينكر عليه) رواه البخاري ومسلم وفي رواية للبخاري (وذكرها في صلاة العيد
كان يلبي الملبي لا ينكر ويكبر المكبر لا ينكر عليه) وهو بمعنى الرواية الأولى * وعن ابن عمر قال
(غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات منا الملبي ومنا المكبر) رواه مسلم
(الخامسة) قال أصحابنا يستحب إذا وصلوا نمرة ان تضرب بها قبة الامام ومن كان له قبة ضربها اقتداء
برسول الله صلى الله عليه وسلم * قال الماوردي ويستحب ان ينزل بنمرة حيث نزل رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو منزل
الخلفاء اليوم وهو إلى الصخرة الساقطة بأصل الجبل على يمين الذاهب إلى عرفات وكذا روى الأزرقي
في هذا التقييد عن عطاء قال الأزرقي وغيره نمرة عند الجبل الذي عليه انصاب الحرم عن يمينك
إذا خرجت من مازمى عرفات تريد الموقف * قال أصحابنا ولا يدخل عرفات إلا في وقت الوقوف
85

بعد الزوال وبعد صلاة الظهر والعصر مجموعتين كما سنوضحه إن شاء الله تعالى (وأما) ما يفعله معظم
الناس في هذه الأزمان من دخولهم أرض عرفات قبل وقت الوقوف فخطأ وبدعة ومنابذة للسنة *
والصواب أن يمكثوا بنمرة حتى تزول الشمس ويغتسلوا بها للوقوف فإذا زالت الشمس ذهب
الامام والناس إلى المسجد المسمى إبراهيم صلى الله عليه وسلم ويخطب الامام فيه قبل صلاة الظهر
خطبتين كما قدمنا بيانه يبين لهم في الأولى منهما كيفية الوقوف وشرطه وآدابه ومتى الدفع من عرفات
إلى مزدلفة وغير ذلك من المناسك التي بين أيديهم إلى الخطبة التي تكون بمنى يوم النحر بعد
الزوال وهذه المناسك التي يذكرها في خطبة عرفة هي معظم المناسك ويحرضهم فيها على اكثار
الدعاء والتهليل وغيرهما من الأذكار والتلبية في الموقف ويخفف هذه الخطبة لكن لا يبلغ تخفيفها
تخفيف الثانية قال الماوردي قال الشافعي وأقل ما عليه في ذلك أن يعلمهم ما يلزمهم من هذه الخطبة إلى الخطبة
الآتية قال فإن كان فقيها قال هل من سائل وإن لم يكن فقيها لم يتعرض للسؤال * قال أصحابنا فإذا
فرغ من هذه الخطبة جلس للاستراحة قدر قراءة سورة الاخلاص ثم يقوم إلى الخطبة الثانية ويخففها
جدا ويأخذ المؤذن في الاذان من شروع الامام في هذه الخطبة الثانية بحيث يفرغ منها مع فراغ
المؤذن من الاذان * هذا هو المشهور وحكاه ابن المنذر عن الشافعي وبه قطع الماوردي والقاضي
أبو الطيب وأبو علي البندنيجي والمحاملي والمصنف في التنبيه والبغوي * وقال الفوراني والمتولي
وطائفة قليلة يفرغ مع فراغه من الإقامة * قال الماوردي وغيره ويستحب أن يخطب على منبر
ان وجد والا فعلى مرتفع من الأرض أو على بعير واستدلوا له بحديث جابر ان النبي صلى الله
عليه وسلم (ضربت له القبة بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس امر بالقصوى فرحلت
له فأتى بطن الوادي فخطب الناس) ورواه مسلم (قوله) فرحلت - بتخفيف الحاء - أي جعل الرحل
86

عليها (السادسة) قال الشافعي والأصحاب السنة إذا فرغ من الخطبتين أن ينزل فيصلى بالناس
الظهر ثم العصر جامعا بينهما وقد سبق بيان صفة الجمع وشروطه في باب صلاة المسافرين ودليل
استحباب الجمع ما قدمته قريبا في أول هذا الفصل من الأحاديث الصحيحة ويكون هذا الجمع باذان
للأولى وإقامتين لكل صلاة إقامة كما قررناه في باب الاذان إذا جمع في وقت الأولى * قال الشافعي
والأصحاب ويسر القراءة وهذا لا خلاف فيه عندنا وقال أبو حنيفة يجهر كالجمعة * دليلنا أنه لم ينقل عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم الجهر فظاهر الحال الاسرار وهل هذا الجمع بسبب النسك أم
بسبب السفر فيه وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين (أحدهما) بسبب النسك فيجوز الجمع
لكل أحد هناك سواء كان من أهل مكة أو عرفات أو المزدلفة أو غيرهم أو مسافرا وبهذا قطع
الصيمري والماوردي في الحاوي (والوجه الثاني) أنه بسبب السفر فعلى هذا من كان سفره طويلا جمع ومن
كان قصيرا كالمكي وغيره ممن هو دون مرحلتين ففي جواز الجمع له القولان المشهوران في الجمع
في السفر القصير (الأصح) الجديد لا يجوز (والقديم) جوازه وبهذا الوجه قطع الشيخ أبو حامد
والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وآخرون * واحتج من قال بالجواز بان النبي صلى الله عليه وسلم
(جمع بين الظهر والعصر بنمرة وبين المغرب والعشاء بالمزدلفة ومعه حينئذ أهل مكة وغيرهم) *
وأجاب القاضي أبو الطيب وغيره بان الأصح أنه لم يثبت أن أهل مكة ومن في معناهم جمعوا والله
أعلم * (وأما) القصر فلا يجوز إلا لمن كان سفره طويلا وهو مرحلتان وهذا لا خلاف فيه عندنا
قال أصحابنا فإذا كان الامام مسافرا استحب له القصر بالناس فإذا سلم قال يا أهل مكة ومن
سفره قصير أتموا فانا قوم سفر وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قصر الظهر والعصر في هذا الموضع والله أعلم * قال أصحابنا فيجوز للامام المسافر
ان يقصر الصلاتين ويجمعهما في وقت الظهر كما ذكرنا ويجوز ان يقصرهما ويجمعهما في وقت
العصر ويجوز ان يقصرهما ولا يجمعهما بل يصلي كل واحدة في وقتها ويجوز ان يجمعهما ولا
87

يقصرهما بل يتمهما ويجوز ان يتم إحداهما ويقصر الأخرى * هذا كله جائز بلا خلاف عندنا
كسائر صلوات السفر لكن الأفضل والسنة جمعهما في أول وقت الظهر مقصورتين والله أعلم *
قال الشافعي والأصحاب فلو فات إنسان من الحجيج الصلاة مع الامام جاز له الجمع والقصر في صلاته
وحده إن كان مسافرا كسائر صلوات السفر وسنذكر فيه مذهب أبي حنيفة إن شاء الله تعالى * قال
أصحابنا فإن كان مكيا ونحوه ممن سفره دون مسافة القصر فلا يجوز له القصر ولا الجمع الا إذا قلنا
بالضعيف انه يجوز الجمع في السفر القصير * قال أصحابنا لو جمع بعض الناس قبل الامام منفردا
أو في جماعة أخرى أو صلى إحدى الصلاتين مع الامام والأخرى منفردا جمعا وقصرا جاز بشرطه
وكذلك القول في الجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة ولكن السنة صلاتهما مع الامام والله أعلم *
وإذا كان الامام مسافرا وصلى بهم قصرا وجمعا لزمه نية القصر والجمع كما سبق في باب صلاه المسافر
(وأما) المأمومون فيلزمهم نية القصر بلا خلاف عندنا وهل يلزمهم نية الجمع فيه وجهان حكاهما
صاحب الحاوي (أصحهما) يلزمهم نية الجمع كما يلزمهم نية الجمع في غير عرفات * فعلى هذا يوصى
بعضهم بعضا بذلك ويعلم عالمهم بذلك جاهلهم (والثاني) لا يلزمهم لان الموضع موضع (1)
وللمشقة في اعلام جميعهم ولان رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع هناك من غير أن ينادى بالجمع
ولا أخبرهم بان نيته واجبة وقد كان فيهم من هو قريب العهد بالاسلام ومن لا يعلم وجوب هذه
النية ومن قال بالأول قال هذا كله ينتقض بنية القصر فقد اتفقنا على وجوبها مع وجود هذه
الأمور فيها والله أعلم *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب إذا دخل الحجاج مكة ونووا أن يقيموا بها أربعا لزمهم
اتمام الصلاة فإذا خرجوا يوم التروية إلى منى ونووا الذهاب إلى أوطانهم عند فراغ مناسكهم كان
لهم القصر من حين خرجوا لأنهم أنشأوا سفرا تقصر فيه الصلاة *
(فرع) ويسن له فعل السنن الراتبة للظهر والعصر كما يسن لغيره من الجامعين القاصرين

(1) كذا بالأصل فحرر
88

وقد سبق بيان هذا في صلاة المسافر وفى صلاة التطوع فيصلى أولا سنة الظهر التي قبلها ثم يصلي
الظهر ثم العصر ثم سنة الظهر التي بعدها ثم سنة العصر * قال الشافعي والأصحاب ولا يتنفلون
بعد الصلاتين بغير السنن الراتبة بل يبادرون بتعجيل الوقوف * وحكى ابن كج والرافعي وجها
أنه لا بأس بتنفل المأموم بعد الصلاتين بغير السنن الرواتب بخلاف الامام فإنه لا يتنفل بغير
الرواتب قطعا لأنه متبرع والمذهب الأول *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب لو وافق يوم عرفة يوم جمعة لم يصلوا الجمعة هناك لان
من شرطها دار الإقامة وان يصليها مستوطنون وقد سبق أن الشافعي والأصحاب قالوا لو بنى بها
قرية واستوطنها أربعون كاملون صليت بها الجمعة ولم يصلي النبي صلى الله عليه وسلم الجمعة بعرفات
مع أنه ثبت في الصحيحين من رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يوم عرفة الذي وقف فيه
النبي صلى الله عليه وسلم كان يوم جمعة والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في مسائل تتعلق بالفصل (إحداها) ذكرنا أن مذهبنا أنه
يستحب في الحج أربع خطب وهي يوم السابع بمكة من ذي الحجة ويوم عرفة بمسجد إبراهيم
ويوم النحر بمنى ويوم النفر الأول بمنى أيضا وبه قال داود * وقال مالك وأبو حنيفة خطب الحج
ثلاث يوم السابع والتاسع ويوم النفر الثاني قالا ولا خطبة في يوم النحر * وقال أحمد ليس في
السابع خطبة * وقال زفر خطب الحج ثلاث يوم الثامن ويوم عرفة ويوم النحر ولقد ذكرنا دليلنا
في خطبة السابع وخطبة يوم عرفة (وأما) خطبة يوم النحر ففيها أحاديث صحيحة (منها) حديث
عبد الله بن عمرو بن العاص (أن النبي صلى الله عليه وسلم بينا هو يخطب يوم النحر فقام إليه رجل
فقال كنت أحسب يا رسول الله كذا وكذا قبل كذا وكذا ثم جاء آخر فقال يا رسول الله كنت
أحسب أن كذا وكذا قبل كذا لهؤلاء الثلاث قال افعل ولا حرج) رواه البخاري ومسلم في
صحيحهما يعنى بالثلاث الرمي يوم النحر والحلق ونحر الهدى وعن أبي بكرة قال (خطبنا رسول الله
89

صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال أي يوم هذا وذكر الحديث في خطبته صلى الله عليه وسلم يوم النحر بمنى
وبيانه تحريم الدماء والاعراض والأموال) رواه البخاري ومسلم * وعن ابن عباس أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم النحر فقال (يا أيها الناس أي يوم هذا قالوا يوم حرام قال فأي بلد هذا
قالوا بلد حرام قال فأي شهر هذا قالوا شهر حرام قال فان دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم
حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا فأعادها مرارا ثم رفع رأسه فقال اللهم قد بلغت اللهم
قد بلغت وذكر تمام الحديث) رواه البخاري * وعن ابن عمر قال (قال النبي صلى الله عليه وسلم بمنى أتدرون أي يوم
هذا قالوا الله ورسوله أعلم قال فان هذا يوم حرام وذكر الحديث) رواه البخاري * وعن أم الحصين
قالت حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيته حين رمى جمرة العقبة وانصرف وهو على
راحلته ومعه بلال وأسامة أحدهما يقود به راحلته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا كثيرا ثم سمعته يقول إن
أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله فاسمعوا له وأطيعوا) رواه مسلم وعن الهرماس بن زياد
الصحابي بن الصحابي قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على ناقته العضبى يوم الأضحى بمنى) رواه أبو داود
باسناد صحيح على شرط مسلم ورواه النسائي والبيهقي أيضا باسناد آخر صحيح ولفظه (رأيت
النبي صلى الله عليه وسلم وانا صبي أردفني أبى يخطب الناس بمنى يوم الأضحى على راحلته) * وعن أبي أمامة قال
(سمعت خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى يوم النحر) رواه أبو داود باسناد حسن ورواه الترمذي لكن
لفظه (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع) وقال حديث حسن صحيح وعن رافع بن عمرو
المزني رضي الله عنه قال (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء
وعلي رضي الله عنه يعبر عنه والناس بين قائم وقاعد) رواه أبو داود باسناد حسن والنسائي باسناد
صحيح وفى المسألة أحاديث كثيرة غير ما ذكرته والله أعلم * (وأما) خطبة اليوم الثاني من أيام
التشريق ففيها حديث عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه عن رجلين من بنى بكر قالا (رأينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم يخطب أيام التشريق ونحن عند راحلته وهي خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي خطب بمنى) رواه
90

أبو داود باسناد صحيح وعن سراء بنت نبهان الصحابية رضي الله عنها وهي - بضم السين المهملة
وتشديد الراء - وبالإمالة قالت (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الروس فقال أي يوم هذا قلنا الله
ورسوله أعلم قال أليس أوسط أيام التشريق) رواه أبو داود باسناد حسن ولم يضعفه وعن ابن عمر
قال (أنزلت هذه السورة (إذا جاء نصر الله والفتح) على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وسط أيام
التشريق وعرف انه الوداع فأمر براحلته القصوى فرحلت له فركب فوقف بالعقبة واجتمع الناس
فقال يا أيها الناس فذكر الحديث في خطبته) رواه البيهقي باسناد ضعيف والله أعلم * ولم ينقل في الخطبة
في اليوم الثالث من أيام التشريق شئ والله أعلم *
(فرع) مذهبنا أن في خطبة عرفات يخطب الخطبة الأولى قبل الاذان ثم يشرع الامام في
الخطبة الثانية مع شروع المؤذن في الاذان كما سبق * وقال أبو حنيفة يؤذن قبل الخطبة كالجمعة * واحتج
أصحابنا بحديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة وقال إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم إلى
آخر خطبتيه قال ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئا ثم ركب
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف) رواه مسلم بهذه الحروف وفى رواية للشافعي والبيهقي عن
إبراهيم بن محمد بن يحيى عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم (انه راح إلى الموقف
فخطب الناس الخطبة الأولى ثم اذن بلال ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة الثانية ففرغ من الخطبة
الثانية وبلال من الاذان ثم أقام بلال فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر) قال البيهقي تفرد بهذا إبراهيم
ابن محمد بن أبي يحيى قلت وهو ضعيف لا يحتج به إنما ذكرته لابين حال حديثه هذا والمعتمد رواية
مسلم والله أعلم *
(فرع) مذهبنا ومذهب الجمهور انه إذا كان الامام مسافرا فصلى بهم الظهر والعصر يوم
عرفة قاصرا قصر خلفه المسافرون سفرا طويلا ولزم المقيمين الاتمام * وقال مالك يجوز للجميع
القصر واحتج بما نقلوه عن ابن عمر انه دخل مكة فأتم الصلاة ثم قصر لما خرج إلى منى * دليلنا
ما سبق في اشتراط مسافة القصر مطلقا (وأما) ابن عمر فكان مسافرا له القصر فقصر في موضع
91

وأتم في موضع وذلك جائز واحتج مالك في الموطأ بما رواه باسناده الصحيح (ان عمر بن الخطاب
رضي الله عنه لما قدم مكة صلى بهم ركعتين ثم انصرف فقال يا أهل مكة أتموا صلاتكم فانا قوم سفر
ثم صلى عمر ركعتين بمنى ولم يبلغني أنه قال لهم شيئا) هذا ما ذكره في الموطأ وهو دليل لنا لا له
لأنه يحتمل أنه قاله أيضا في منى ولم يبلغ مالكا ويحتمل انه تركه اكتفاء بقوله في مكة إذ لا فرق
بينهما في حق أهل مكة *
(فرع) مذهبنا انه يؤذن للظهر ولا يؤذن للعصر إذا جمعهما في وقت الظهر عند عرفات وبه
قال أبو حنيفة وأبو ثور وابن المنذر ونقل الطحاوي الاجماع على هذا لكن قال مالك يؤذن لكل
منهما ويقيم * وقال احمد واسحق يقيم لكل منهما ولا يؤذن لواحدة منهما * دليلنا حديث جابر
السابق قريبا والله أعلم *
(فرع) أجمعت الأمة على أن للحاج أن يجمع بين الظهر والعصر إذا صلى مع الامام فلو فات
بعضهم الصلاة مع الامام جاز له أن يصليهما منفردا جامعا بينهما عندنا وبه قال أحمد وجمهور العلماء
وقال أبو حنيفة لا يجوز ووافقنا على أن الامام لو حضر ولم يحضر معه للصلاة أحد جاز له الجمع
وعلى أن المأموم لو فاته الصلاتان بالمزدلفة مع الامام جاز له أن يصليهما منفردا جامعا فاحتج أصحابنا
عليه بما وافق عليه والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا ان مذهبنا انه يسن الاسرار بالقراءة في صلاتي الظهر والعصر بعرفات
ونقل ابن المنذر اجماع العلماء عليه قال وممن حفظ ذلك عنه طاوس ومجاهد والزهري ومالك والشافعي
وأحمد واسحق وأبو ثور وأبو حنيفة هذا كلام ابن المنذر * ونقل أصحابنا عن أبي حنيفة الجهر
كالجمعة وقد سبق دليلنا *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا ان السنة ان يصلى الظهر يوم التروية بمنى وبه قال جمهور العلماء
منهم الثوري ومالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحق وأبو ثور قال ابن المنذر وقال ابن عباس إذا زاغت
الشمس فليخرج إلى منى * قال وصلى ابن الزبير الظهر بمكة يوم التروية وتأخرت عائشة يوم
التروية حتى ذهب ثلث الليل * قال وأجمعوا على أن من ترك المبيت بمنى ليلة عرفة لا شئ
عليه قال وأجمعوا على أنه ينزل من منى حيث شاء والله أعلم *
92

* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ثم يروح إلى عرفة ويقف الوقوف ركن من أركان الحج لما روى عبد الرحمن الديلي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال (الحج عرفات فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك الحج) والمستحب أن
يغتسل لما روى نافع أن ابن عمر رضي الله عنهما (كان يغتسل إذا راح إلى عرفة) ولأنه قربة يجتمع
لها الخلق في موضع واحد فشرع لها الغسل كصلاة الجمعة والعيد ويصح الوقوف في جميع عرفة لما
روى ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (عرفة كلها موقف) والأفضل أن يقف
عند الصخرات لان رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقف عند الصخرات وجعل بطن ناقته إلى
93

الصخرات) * ويستحب أن يستقبل القبلة لان النبي صلى الله عليه وسلم استقبل القبلة ولأنه إذا لم يكن
بد من جهة فجهة القبلة أولى لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (خير المجالس ما استقبل به القبلة) * ويستحب
الاكثار من الدعاء وأفضله لا إله إلا الله وحده لا شريك له لما روى طلحة بن عبد الله أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (أفضل الدعاء يوم عرفة وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده
لا شريك له) * ويستحب أن يرفع يديه لما روى ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (ترفع الأيدي عند الموقفين يعنى عرفة والمشعر الحرام) وهل الأفضل أن يكون راكبا أم لا فيه
قولان (قال) في الام النازل والراكب سواء (وقال) في القديم والاملاء الوقوف راكبا أفضل وهو
الصحيح لان رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقف راكبا) ولان الراكب أقوى على الدعاء فكان الركوب أولى
ولهذا كان الافطار بعرفة أفضل لان المفطر أقوى على الوقوف والدعاء * وأول وقته إذا زالت الشمس
لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقف بعد الزوال وقد قال صلى الله عليه وسلم خذوا عنى مناسككم) وآخر وقته إلى أن
يطلع الفجر الثاني لحديث عبد الرحمن الديلي * فان حصل بعرفة في وقت الوقوف قائما أو قاعدا
أو مجتازا فقد أدرك الحج لقوله صلى الله عليه وسلم (من صلى هذه الصلاة معنا وقد قام قبل ذلك ليلا
أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه) وان وقف وهو مغمى عليه لم يدرك الحج وان وقف وهو نائم
فقد أدرك الحج لان المغمى عليه ليس من أهل العبادات والنائم من أهل العبادات ولهذا لو أغمي
عليه في جميع نهار الصوم لم يصح صومه وان نام في جميع النهار صح صومه وان وقف وهو لا يعلم أنه
عرفة فقد أدرك لأنه وقف بها وهو مكلف فأشبه إذا علم أنها عرفة * والسنة أن يقف بعد الزوال إلى
أن تغرب الشمس لما روى علي كرم الله وجهه قال (وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة ثم أفاض
حين غابت الشمس) * فان دفع منها قبل الغروب نظرت فان رجع إليها قبل طلوع الفجر لم يلزمه شئ
لأنه جمع في الوقوف بين الليل والنهار فأشبه إذا قام بها إلى أن غربت الشمس وإن لم يرجع قبل
طلوع الفجر أراق دما * وهل يجب ذلك أو يستحب فيه قولان (أحدهما) يجب لما روى ابن عباس
رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من ترك نسكا فعليه دم) ولأنه نسك يختص بمكان فجاز ان
94

يجب بتركه الدم كالاحرام من الميقات (والثاني) انه يستحب لأنه وقف في أحد زماني الوقوف
فلا يلزمه دم للزمان الآخر كما لو وقف في الليل دون النهار) *
(الشرح) حديث عبد الرحمن الديلي صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة
وآخرون بأسانيد صحيحة وهذا لفظ الترمذي (عن عبد الرحمن بن يعمر ان ناسا من أهل نجد أتوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة فسألوه فأمر مناديا ينادى الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر
فقد أدرك الحج) وفى رواية أبي داود (فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا فنادى الحج الحج يوم عرفة من
جاء ليلة حج فيتم حجه) وفى رواية البيهقي (عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول الحج عرفات الحج عرفات فمن أدرك ليلة جمع قبل ان يطلع الفجر فقد أدرك) واسناد هذه
الرواية صحيح وهو من رواية سفيان بن عيينة قلت عن سفيان الثوري قال ابن عيينة ليس عندكم بالكوفة
حديث أشرف ولا أحسن من هذا (وأما) حديث ابن عباس فرواه البيهقي بغير هذا اللفظ مرفوعا وموقوفا
عليه لكن يغني عنه حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (وقفت ههنا وعرفة كلها موقف) رواه مسلم (وأما)
قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بطن ناقته إلى الصخرات فرواه بهذا اللفظ من رواية جابر (أما) قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم
استقبل القبلة) فرواه مسلم من رواية جابر أيضا (وأما) حديث (خير المجالس ما استقبل به القبلة) (1)
(وأما) حديث (أفضل الدعاء يوم عرفة) فرواه مالك في الموطأ باسناده عن طلحة بن عبيد الله
ابن كريز - بفتح الكاف وآخره زاي - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أفضل الدعاء
دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له) هكذا رواه

(1) بياض بالأصل فحرر
95

مالك في الموطأ وهو آخر حديث في كتاب الحج من الموطأ وهو مرسل لان طلحة هذا تابعي خزاعي
كوفي وكان ينبغي للمصنف أن يقول لما روى طلحة بن عبيد الله بن كريز لئلا يتوهم أنه طلحة
ابن عبيد الله التميمي أحد العشرة المشهود لهم بالجنة رضي الله عنهم * قال البيهقي وقد روى عن
مالك باسناد آخر موصولا قال ووصله ضعيف * ورواه الترمذي أطول من هذا عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت
أنا والنبيون من قبلي لا إله الا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير)
فضعفه الترمذي في إسناده ورواه البيهقي من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال (قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر دعائي ودعاء الأنبياء قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله
الحمد وهو على كل شئ قدير اللهم اجعل في قلبي نورا) إلى آخر الحديث وضعفه البيهقي من
وجهين لأنه من رواية موسى بن عبيدة الربذي عن أخيه عبد الله بن عبيدة عن علي قال تفرد
به موسى وهو ضعيف وأخوه لم يدرك عليا (1) (وأما) حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقف راكبا) فصحيح

(1) كذا بالأصل وانظر أين الوجه الثاني
96

رواه البخاري ومسلم من رواية أم الفضل بنت الحارث امرأة العباس ورواه مسلم من رواية
جابر أيضا (وأما) حديث وقوف النبي صلى الله عليه وسلم بعد الزوال فرواه مسلم من رواية
جابر ورواه البخاري من رواية ابن عمر (وأما) حديث (لتأخذوا عنى مناسككم) فرواه مسلم
من رواية جابر وسبق بيانه مرات في هذا الباب وأن البيهقي رواه باسناد صحيح على شرط
البخاري ومسلم ولفظه (خذوا عني مناسككم) كرواية المصنف (وأما) الحديث الآخر (من
صلى هذه الصلاة معنا) فصحيح وهو من رواية عروة بن مضرس بن أوس الطائي الصحابي قال
(أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج للصلاة فقلت يا رسول الله اني جئت
من جبل طئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي والله ما تركت من جبل الا وقفت عليه فهل لي من
حج فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع وقد وقف
97

بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضي تفثه) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن
ماجة وغيرهم بأسانيد صحيحة * قال الترمذي هو حديث حسن صحيح (وأما) حديث علي رضي الله عنه
فصحيح رواه الترمذي بلفظه هنا وهو بعض حديث طويل * قال وهو حديث حسن
صحيح سنذكره بطوله إن شاء الله تعالى في فصل الدفع من عرفات إلى المزدلفة وفى معناه حديث
98

جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل بنمرة حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى فرحلت له فاتي بطن الوادي
فخطب الناس ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ثم ركب حتى
أتي الموقف فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص) رواه
مسلم (وأما) حديث (من ترك نسكا فعليه دم) فرواه مالك والبيهقي وغيرهما بأسانيد صحيحة عن
ابن عباس موقوفا عليه لا مرفوعا ولفظه عن مالك عن أيوب عن سعيد بن جبير أن ابن عباس
قال (من نسي من نسكه شيئا أو تركه فليهرق دما) قال مالك لا أدرى قال ترك أم نسي قال
البيهقي وكذا رواه الثوري عن أيوب (من ترك شيئا فليهرق له دما) قال البيهقي فكأنه قالهما
99

يعنى البيهقي أن أو ليست للشك كما أشار إليه مالك بل للتقسيم والمراد به يريق دما سواء ترك عمدا
أو سهوا والله أعلم (أما) ألفاظ الفصل ففيه عبد الرحمن الديلي الصحابي - بكسر الدال وإسكان
الياء المثناة تحت - وهو من ساكني الكوفة وأبو يعمر - بفتح الميم وضمها - (وقوله) ولأنه
قربة يجتمع لها الخلق في موضع واحد احتراز من التلبية والأذكار ولكنه ينتقض بالمبيت بمنى
ليلة التاسع (وقوله) لقوله صلى الله عليه وسلم (من صلى هذه الصلاة معنا وقد قام قبل ذلك)
هكذا هو في نسخ المهذب وقد قام وقد وقف كما سبق في الحديث (قوله) (قضى تفثه) هو ما يفعله
المحرم عند تحلله من إزالة الشعث والوسخ والحلق وقلم الأظفار ونحوها (قوله) ولهذا لو أغمي عليه
جميع النهار لم يصح صومه ولو نام جميعه صح * هذا هو المذهب فيهما وفيهما ما سبق (قوله) ولأنه
100

نسك يختص بمكان احتراز من التلبية والأذكار ونحوها والله أعلم (أما) الأحكام ففيها مسائل
(إحداها) إذا فرغوا من صلاتي الظهر والعصر فالسنة أن يسيروا في الحال إلى الموقف ويعجلوا
المسير وهذا التعجيل مستحب بالاجماع لحديث سالم بن عبد الله بن عمر قال (كتب عبد الملك
ابن مروان إلى الحجاج أن يأتم بعبد الله بن عمر في الحج فلما كان يوم عرفة جاء ابن عمر وأنا معه
حين زاغت الشمس فصاح عند فسطاطه أين هذا فخرج إليه فقال ابن عمر الرواح فقال الآن قال
نعم فسار بيني وبين أبي فقلت له ان كنت تريد أن تصيب السنة اليوم فاقصر الخطبة وعجل
الوقوف فقال ابن عمر صدق) رواه البخاري * وفى صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم
(صلى الظهر والعصر ثم أتى الموقف) (الثانية) وقت الوقوف ما بين زوال الشمس يوم عرفة
وطلوع الفجر الثاني يوم النحر * هذا هو المذهب ونص عليه الشافعي وقطع به جمهور الأصحاب *
وحكي جماعة من الخراسانيين وجها انه لا يصح الوقوف في ليلة النحر * وحكي الفوراني قولا
مثل هذا وفيه ما بين زوال الشمس وغروبها * وحكي الدارمي والرافعي وجها آخر انه يشترط
كون الوقوف بعد الزوال وبعد مضى إمكان صلاة الظهر * وهذان الوجهان شاذان ضعيفان والصواب
ما سبق عن الجمهور ودليله الأحاديث الصحيحة السابقة * قال الشافعي والأصحاب فمن حصل
101

بعرفات في لحظة لطيفة من هذا الوقت وهو من أهل الوقوف صح وقوفه وأدرك بذلك الحج ومن
فاته هذا الزمان فقد فاته الحج والأفضل ان يقف من حين يفرغ من صلاتي الظهر والعصر
المجموعتين إلى أن تغرب الشمس ثم يدفع عقب الغروب إلى مزدلفة فلو وقف بعد الزوال ثم أفاض
قبل الغروب فحجه صحيح بلا خلاف كما ذكرنا * ثم إن عاد إلى عرفات وبقى بها حتى غربت الشمس
فلا دم وإن لم يعد حتى طلع الفجر أراق دما وهل هذا الدم واجب أم مستحب فيه ثلاثة طرق
(أصحها) وبه قطع المصنف والجمهور فيه قولان ذكر المصنف دليلهما (أصحهما) باتفاقهم سنة وهو
نصه في الاملاء (والثاني) واجب وهو نصه في الام والقديم (والطريق الثاني) القطع بأنه مستحب
(والثالث) ان أفاض مع الامام فمعذور فيكون الدم مستحبا قطعا والا فعلى القولين (فان قلنا)
يجب فعاد في الليل إلى عرفات ففي سقوط الدم عنه طريقان (أصحهما) وبه قطع
المصنف والعراقيون وطائفة من غيرهم يسقط لما ذكره المصنف * (والثاني) حكاه
الخراسانيون فيه وجهان (أصحهما) هذا (والثاني) لا يسقط (اما) من لم يحضر عرفات إلا
في ليلة النحر فحصل فيها قبل الفجر وقيل بالمذهب إنه يصح وقوفه فلا دم عليه بلا خلاف
وإنما الخلاف فيمن وقف نهارا ثم انصرف قبل الغروب لأنه مقصر بالاعراض وقطع الوقوف والله
أعلم (الثالثة) الوقوف بعرفات ركن من أركان الحج وهو أشهر أركان الحج للأحاديث الصحيحة السابقة
102

(الحج عرفة) وأجمع المسلمون على كونه ركنا * قال الشافعي والأصحاب والمعتبر فيه الحضور في جزء من
عرفات ولو في لحظة لطيفة بشرط كونه أهلا للعبادة سواء حضرها عمدا أو وقف مع الغفلة والبيع
والشراء والتحدث واللهو أو في حالة النوم أو اجتاز فيها في وقت الوقوف وهو لا يعلم أنها عرفات
ولم يمكث أصلا بل مر مسرعا في طرق من أطراقها أو كان نائما على بعير فانتهى البعير إلى عرفات
فمر بها البعير ولم يستيقظ راكبه حتى فارقها أو اجتازها في طلب غريم هارب بين يديه أو بهيمة
شاردة أو غير ذلك مما هو في معناه فيصح وقوفه في جميع هذه الصور ونحوها هذا هو المذهب
ونص عليه الشافعي وقطع به الجمهور * وفى بعض هذه الصور وجه شاذ ضعيف سنذكره إن شاء الله
تعالى (فمنها) وجه انه لا يكفي المرور المجرد بل يشترط لبث يسير حكاه ابن القطان والدارمي والرافعي
قال الدارمي والمنصوص انه يصح ولا يشترط اللبث * (ومنها) وجه انه إذا مر بها ولا يعلم أنها عرفات
لا يجزئه حكاه ابن القطان والقاضي أبو الطيب والدارمي والمتولي وصاحب البيان وغيرهم عن أبي
حفص بن الوكيل من أصحابنا وهذا شاذ ضعيف * (ومنها) وجه انه لا يصح وقوف النائم حكاه
ابن القطان والدارمي والرافعي وهو شاذ ضعيف والمشهور الصحة * قال المتولي هذا الخلاف في مسألة
النائم ومسألة الجاهل بكونها عرفات مبني على أنه يشترط في كل ركن من أركان الحج النية أم لا
وفيه وجهان (أصحهما) لا يشترط كأركان الصلاة والطهارة * (والثاني) يشترط لكل ركن نية لان
أركانه ينفصل بعضها عن بعض فيكون كل ركن كعبادة منفردة فان شرطناها لم يصح مع النوم
103

ولا مع الجهل بالمكان وإلا فيصح والمذهب ما سبق (أما) إذا حضر في طلب غريم أو دابة بين يديه
فقد ذكرنا انه يجزئه هكذا قطع الأصحاب * قال إمام الحرمين قال الأصحاب يجزئه قال وظاهر
النص يشير إليه قال ولم يذكروا فيه الخلاف السابق فيمن صرف الطواف إلى طلب غريم ونحوه
قال ولعل الفرق ان الطواف قد يقع قربة مستقلة بخلاف الوقوف قال ولا يمتنع طرد الخلاف (أما)
إذا وقف وهو مغمى عليه ففي صحة وقوفه وجهان حكاهما ابن المرزبان والقاضي أبو الطيب في تعليقه
والدارمي والبغوي والمتولي وصاحب البيان وآخرون (أصحهما) وبه قطع المصنف والأكثرون لا يصح
ممن قطع به الشيخ أبو حامد والمصنف هنا وفى التنبيه والرافعي في المجرد وآخرون وصححه ابن الصباغ
والمتولي قال صاحب البيان هو المشهور (والثاني) يصح ورجحه البغوي والرافعي في الشرح * ولو وقف وهو
مجنون فطريقان (المذهب) القطع بأنه لا يصح (والثاني) فيه الوجهان كالمغمى عليه * وممن ذكر الخلاف فيه
ابن القطان وصاحب الشامل وصاحب البيان والرافعي * ولو وقف وهو سكران قال ابن
المرزبان والقاضي أبو الطيب والدارمي فيه الوجهان كالمغمى عليه وقال صاحب البيان
إن كان سكره بغير معصية ففيه الوجهان كالمغمى عليه وإن كان بمعصية فوجهان حكاهما الصيمري *
(أصحهما) لا يجزئه تغليظا عليه (والثاني) يجزئه لأنه كالصاحي في الأحكام والله أعلم * وإذا قلنا في
المغمى عليه لا يصح وقوفه قال المتولي لا يجزئه عن حج الفرض لكن يقع نفلا كحج الصبي الذي
لا يميز وحكاه أيضا الرافعي عنه وسكت عليه فكأنه ارتضاه والله أعلم * واتفق أصحابنا على أن
104

الجنون لو تخلل بين الاحرام والوقوف أو بينه وبين الطواف أو بين الطواف والوقوف وكان
عاقلا في حال فعل الأركان لا يضر بل يصح حجه ويقع عن حجة الاسلام وممن صرح بالمسألة
المتولي والله أعلم * (الرابعة) يصح الوقوف في أي جزء كان من أرض عرفات باجماع العلماء لحديث
جابر السابق ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (وعرفه كلها موقف) قال الشافعي والأصحاب وغيرهم من العلماء
وأفضلها موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الصخرات الكبار المفترشة في أسفل جبل الرحمة وهو
الجبل الذي بوسط ارض عرفات ويقال له إلال - بكسر الهمزة - على وزن هلال وذكر الجوهري
في صحاحه انه - بفتح الهمزة - والمشهور كسرها (وأما) حد عرفات فقال الشافعي رحمه الله هي
105

ما جاوز وادي عرنة - بعين مضمومة ثم راء مفتوحة ثم نون - إلى الجبال القابلة مما يلي بساتين
ابن عامر هذا نص الشافعي وتابعه عليه الأصحاب * ونقل الأزرقي عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال حد عرفات من الجبل المشرف على بطن عرنه إلى جبال عرفات إلى وصيق - بفتح الواو
وكسر الصاد المهملة وآخره قاف - إلى ملتقى وصيق ووادي عرنة * قال بعض أصحابنا لعرفات
أربع حدود (أحدها) ينتهي إلى حادة طريق المشرق (والثاني) إلى حافات الجبل الذي وراء ارض
عرفات (والثالث) إلى البساتين التي تلي قرية عرفات وهذه القرية على يسار مستقبل الكعبة إذا
وقف بأرض عرفات (والرابع) ينتهي إلى وادي عرنه قال إمام الحرمين ويطيف بمنعرجات عرفات
جبال وجوهها المقبلة من عرفات (واعلم) انه ليس من عرفات وادي عرنة ولا نمرة ولا المسجد
106

المسمى مسجد إبراهيم ويقال له أيضا مسجد عرنة بل هذه المواضع خارجة عن عرفات على طرفها
الغربي مما يلي مزدلفة ومنى ومكة * هذا الذي ذكرته من كون وادي عرنة ليس من عرفات لا خلاف
فيه نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب (وأما) نمرة فليست أيضا من عرفات بل بقربها هذا
هو الصواب الذي نص عليه الشافعي في مختصر الحج الأوسط وفى غيره وصرح به أبو علي البندنيجي
والأصحاب ونقله الرافعي عن الأكثرين قال وقال صاحب الشامل وطائفة هي من عرفات وهذا
الذي نقله غريب ليس بمعروف ولا هو في الشامل ولا هو صحيح بل إنكار للحس ولما تطابقت
عليه كتب العلماء (وأما) مسجد إبراهيم فقد نص الشافعي على أنه ليس من عرفات وان من وقف
107

به لم يصح وقوفه هذا نصه وبه قطع الماوردي والمتولي وصاحب البيان وجمهور العراقيين * وقال جماعة
من الخراسانيين منهم الشيخ أبو محمد الجويني والقاضي حسين في تعليقه وإمام الحرمين والرافعي
مقدم هذا المسجد من طرف وادي عرنة لا في عرفات وآخره في عرفات قالوا فمن وقف في مقدمه
لم يصح وقوفه ومن وقف في آخره صح وقوفه قالوا ويتميز ذلك بصخرات كبار فرشت هناك
قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وجه الجمع بين كلامهم ونص الشافعي أن يكون زيد في المسجد
بعد الشافعي هذا القدر الذي ذكروه والله أعلم * (قلت) قال الأزرقي في هذا المسجد ذرع سعته
108

من مقدمه إلى مؤخره مائة ذراع وثلاث وستون ذراعا قال ومن جانبه الأيمن إلى جانبه الأيسر
من عرفة والطريق مائتا ذراع وثلاث عشرة ذراعا قال وله مائة شرفة وثلاثة شرفات وله عشرة
أبواب قال ومن حد الحرم إلى مسجد عرنة الف ذراع وستمائة وخمس أذرع قال ومن مسجد
عرفات هذا إلى موقف النبي صلى الله عليه وسلم ميل والله أعلم (واعلم) ان عرنة ونمرة بين عرفات
والحرم ليستا من واحد منهما (واما) جبل الرحمة ففي وسط عرفات * فإذا علمت عرفات بحدودها
فقال الماوردي قال الشافعي حيث وقف الناس من عرفات في جوانبها ونواحيها وجبالها وسهلها
وبطاحها وأوديتها وسوقتها المعروفة بذي المجاز أجزأه قال فاما ان وقف بغير عرفات من ورائها
أو دونها عامدا أو ناسيا أو جاهلا بها فلا يجزئه وقال مالك يجزئه وعليه دم والله أعلم *
109

(فرع) واجب الوقوف وشرطه شيئان (أحدهما) كونه في ارض عرفات وفى وقت الوقوف
الذي سبق بيانه (والثاني) كون الواقف أهلا للعبادة (وأما) سننه وآدابه فكثيرة (أحدها) أن
يغتسل بنمرة بنية الغسل للوقوف فان عجز عن الغسل تيمم (الثاني) أن لا يدخل أرض عرفات
الا بعد صلاتي الظهر والعصر (الثالث) الخطبتان والجمع بين الصلاتين (الرابع) تعجيل الوقوف
عقب الصلاتين وقد سبق هذا كله مبسوطا بادلته (الخامس) أن يكون مفطرا سواء أطاق الصوم
أم لا وسواء ضعف به أم لا لان الفطر أعون له على الدعاء وقد سبقت المسألة مبسوطة في باب
صوم التطوع وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف مفطرا (السادس) أن يكون
متطهرا لأنه أكمل فلو وقف وهو محدث أو جنب أو حائض أو نفساء أو عليه نجاسة أو مكشوف
العورة صح وقوفه لقوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها حين حاضت (اصنعي ما يصنع الحاج
غير أن لا تطوفي بالبيت) قال أصحابنا ولا تشترط الطهارة في شئ من أعمال الحج والعمرة الا
الطواف وركعتيه (السابع) السنة ان يقف مستقبل الكعبة (الثامن) ان يطوف حاضر القلب فارغا
110

من الأمور الشاغلة عن الدعاء وينبغي ان يقدم قضاء اشغاله قبل الزوال ويتفرغ بظاهره وباطنه
عن جميع العلائق وينبغي أن يتجنب في موقفه طرق القوافل وغيرهم لئلا ينزعج بهم ويتهوش
عليه حاله ويذهب خشوعه (التاسع) قال أصحابنا إن كان يشق عليه الوقوف ماشيا أو كان يضعف
به عن الدعاء أو كان ممن يقتدى به ويحتاج الناس إلى ظهوره ليستفتى ويقتدى به فالأفضل له
وقوفه راكبا فقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقف راكبا) كما سبق بيانه
والركوب أفضل من تركه والحالة هذه (وأما) إذا كان لا يضعف بالوقوف ماشيا ولا يشق عليه ولا
هو ممن يحتاج إلى ظهوره ففي الأفضل في حقه أقوال للشافعي * (أصحها) عند الأصحاب راكبا أفضل
للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأنه أعون له على الدعاء وهو المهم في هذا الموضع وهذا القول
هو المنصوص في القديم والاملاء كما ذكره المصنف والأصحاب وبه قطع المحاملي والماوردي وآخرون
وصححه الباقون (والثاني) ترك الركوب أفضل لأنه أشبه بالتواضع والخضوع (والثالث) هما سواء
وهو نصه في الام لتعادل الفضيلتين فيها والله أعلم * (العاشر) أن يحرص على الوقوف بموقف
111

رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عند الصخرات كما سبق بيانه * قال أصحابنا وإن كان راكبا جعل نظر راحلته
إلى الصخرات لحديث جابر السابق في صحيح مسلم وإن كان راجلا وقف على الصخرات أو عندها
بحسب الامكان بحيث لا يؤذى ولا يتأذى قال أصحابنا فان تعذر عليه الوصول إليه للزحمة تقرب
منه بحسب الامكان فهذا هو الصواب * (وأما) ما اشتهر عند العوام من الاعتناء بالوقوف على جبل
الرحمة الذي هو بوسط عرفات كما سبق بيانه وترجيحهم له على غيره من أرض عرفات حتى ربما
توهم من جهلتهم أنه لا يصح الوقوف الا فيه فخطأ ظاهر ومخالف للسنة ولم يذكر أحد ممن يعتمد في
صعود هذا الجبل فضيلة يختص بها بل له حكم سائر أرض عرفات غير موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم
الا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري فإنه قال يستحب الوقوف عليه وكذا قال الماوردي في
الحاوي يستحب قصد هذا الجبل الذي يقال له جبل الدعاء قال وهو موقف الأنبياء صلوات الله
وسلامه عليهم وذكر البندنيجي نحوه * وهذا الذي قالوه لا أصل له ولم يرد فيه حديث صحيح ولا
112

ضعيف فالصواب الاعتناء بموقف رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي خصه العلماء بالذكر
وحثوا عليه وفضلوه وحديثه في صحيح مسلم وغيره كما سبق هكذا نص عليه الشافعي وجميع
أصحابنا وغيرهم من العلماء * وقد قال إمام الحرمين في وسط عرفات جبل يسمى جبل الرحمة لا نسك
في صعوده وإن كان يعتاده الناس والله أعلم * (الحادي عشر) السنة ان يكثر من الدعاء والتهليل
والتلبية والاستغفار والتضرع وقراءة القرآن فهذه وظيفة هذا اليوم ولا يقصر في ذلك وهو معظم
الحج ومطلوبه وقد سبق في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الحج عرفة)
فينبغي أن لا يقصر في الاهتمام بذلك واستفراغ الوسع فيه * ويكثر من هذا الذكر والدعاء قائما
وقاعدا ويرفع يديه في الدعاء ولا يجاوز بهما رأسه ولا يتكلف السجع في الدعاء ولا بأس بالدعاء
المسجوع إذا كان محفوظا أو قاله بلا تكلف ولا فكر فيه بل جرى على لسانه ولم يقصد تكلف
ترتيبه وإعرابه وغير ذلك مما يشغل قلبه * ويستحب ان يخفض صوته بالدعاء ويكره الافراط
في رفع الصوت لحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم
فكنا إذا أشرفنا على واد هللنا وكبرنا رفعت أصواتنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس
اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا انه معكم إنه سميع قريب) * رواه البخاري
ومسلم * اربعوا - بفتح الباء الموحدة - أي ارفقوا بأنفسكم * ويستحب أن يكثر التضرع والخشوع
والتذلل والخضوع واظهار الضعف والافتقار ويلح في الدعاء ولا يستبطئ الإجابة بل يكون قوى
الرجاء للإجابة لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل
113

فيقول قد دعوت ولم يستجب لي) * رواه البخاري ومسلم * وعن عبادة بن الصامت أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال (ما على الأرض مسلم يدعو الله تعالى بدعوة إلا أتاه الله إياها أو صرف
من السوء مثلها ما لم يدع باثم أو قطعية رحم فقال رجل من القوم إذا نكثر قال الله أكثر) رواه
الترمذي وقال حديث حسن صحيح ورواه الحاكم في المستدرك من رواية أبي سعيد وزاد فيه (أو
يدخر له من الاجر مثلها) * ويستحب أن يكرر كل دعاء ثلاثا ويفتتح دعاءه بالتحميد والتمجيد لله
تعالى والتسبيح والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويختمه بمثل ذلك * وليكن
متطهرا متباعدا عن الحرام والشبهة في طعامه وشرابه ولباسه ومركوبه وغير ذلك مما معه فان هذه
آداب لجميع الدعوات وليختم دعاءه بآمين وليكثر من التسبيح والتهليل والتكبير ونحوها من
الأذكار وأفضله ما قدمناه من رواية الترمذي وغيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أفضل الدعاء يوم عرفة وأفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله
إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير) * وفى كتاب الترمذي عن علي
رضي الله عنه قال (أكثر ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة في الموقف اللهم لك الحمد كالذي
نقول وخير مما نقول اللهم لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي واليك مآبي لك رب قرآني اللهم
إني أعوذ بك من عذاب القبر ووسوسة الصدر وشتات الامر اللهم إني أعوذ بك من شر ما تجئ
به الريح) * واسناد هذين الحديثين ضعيف لكن معناهما صحيح وأحاديث الفضائل يعمل فيها
114

بالأضعف كما سبق مرات * ويكثر من التلبية رافعا بها صوته من الصلاة على رسول الله صلى الله
عليه وسلم * وينبغي أن يأتي بهذه الأذكار كلها فتارة يهلل وتارة يكبر وتارة يسبح وتارة يقرأ
القرآن وتارة يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وتارة يدعوا وتارة يستغفر ويدعوا مفردا وفى
جماعة وليدع لنفسه ولوالديه ومشايخه وأقاربه وأصحابه وأصدقائه وأحبائه وسائر من أحسن إليه
وسائر المسلمين وليحذر كل الحذر من التقصير في شئ من هذا فان هذا اليوم لا يمكن تداركه
بخلاف غيره * وينبغي أن يكرر الاستغفار والتلفظ بالتوبة من جميع المخالفات مع الندم بالقلب وان
يكثر البكاء مع الذكر والدعاء فهناك تسكب العبرات وتستقل العثرات وترتجى الطلبات وانه
لمجمع عظيم وموقف جسيم يجتمع فيه خيار عباد الله الصالحين وأوليائه المخلصين والخواص من المقربين
وهو أعظم مجامع الدنيا وقد قيل إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة غفر لكل أهل الموقف * وثبت في
صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما من يوم أكثر ان
يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة وانه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول ما أراد هؤلاء) وروينا
عن طلحة بن عبيد الله أحد العشرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما رؤي
الشيطان اصفر ولا اخضر ولا أدبر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك الا ان الرحمة تنزل فيه
115

فيتجاوز عن الذنوب العظام) وعن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم (أنه رأى سائلا يسأل
الناس يوم عرفة فقال يا عاجز في هذا اليوم يسأل غير الله تعالى) * وعن الفضل بن عياض رحمه
الله أنه نظر إلى بكاء الناس بعرفة فقال أرأيتم لو أن هؤلاء صاروا إلى رجل فسألوه دانقا أكان
يردهم قيل لا قال والله للمغفرة عند الله أهون من إجابة رجل لهم بدانق وبالله التوفيق *
(فرع) ومن الأدعية المختارة اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار
اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا كبيرا وانه لا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك
وارحمني رحمة أسعد بها في الدارين وتب على توبة نصوحا لا أنكثها أبدا والزمني سبيل الاستقامة
لا أزيغ عنها أبدا اللهم انقلني عن ذل المعصية إلى عز الطاعة واكفني بحلالك عن حرامك وأغنني
بفضلك عمن سواك ونور قلبي وقبري واغفر لي من الشر كله واجمع لي الخير * اللهم إني أسئلك
الهدى والتقى والعفاف والفني * اللهم يسرني لليسرى وجنبني العسري وارزقني طاعتك ما أبقيتني
أستودعك منى ومن أحبابي والمسلمين أدياننا وأماناتنا وخواتيم أعمالنا وأقوالنا وأبداننا وجميع
ما أنعمت به علينا وبالله التوفيق *
(فرع) ليحذر كل الحذر من المخاصمة والمشاتمة والمنافرة والكلام القبيح بل ينبغي أن يحترز
من الكلام المباح ما أمكنه فإنه تضييع للوقت المهم فيما لا يعني مع أنه يخاف انجراره إلى حرام من
غيبة ونحوها * وينبغي أن يحترز غاية الاحتراز عن احتقار من يراه رث الهيئة أو مقصرا في شئ
ويحترز من انتهار السائل ونحوه فان خاطب ضعيفا تلطف في مخاطبته فان رأى منكرا محققا لزمه إنكاره
ويتلطف في ذلك *
116

(فرع) ليستكثر من أعمال الخير في يوم عرفة وسائر أيام عشر ذي الحجة وقد ثبت في صحيح
البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما العمل في أيام أفضل
منه في هذه يعني أيام العشر قالوا ولا الجهاد قال ولا الجهاد إلا رجل خرج يخاطر بنفسه وماله فلم
يرج بشئ) والله أعلم *
(فرع) الأفضل للواقف أن لا يستظل بل يبرز للشمس إلا للعذر بان يتضرر أو ينقص دعاؤه
أو اجتهاده في الأذكار ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم استظل بعرفات مع ثبوت الحديث
في صحيح مسلم وغيره عن أم الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم (ظلل عليه بثوب وهو يرمى
الجمرة) وقد قدمنا بيان مذهبنا غير ما في استظلال المحرم بغير عرفات في باب الاحرام والله أعلم *
(فرع) في التعريف بغير عرفات وهو الاجتماع المعروف في البلدان بعد العصر يوم عرفة وفيه
خلاف للسلف رويناه في سنن البيهقي عن أبي عوانة قال (رأيت الحسن البصري يوم عرفة بعد
العصر جلس فدعا وذكر الله عز وجل فاجتمع الناس) وفى رواية (رأيت الحسن خرج يوم عرفة
من المعصورة بعد العصر فعرف * وعن شعبة قال (سألت الحكم وحمادا عن اجتماع الناس يوم عرفة
في المساجد فقالا هو محدث) * وعن منصور عن إبراهيم النخعي هو محدث * وعن قتادة عن الحسن
قال قال أول من صنع ذلك ابن عباس هذا ما ذكره البيهقي * وقال الأثرم سألت أحمد بن حنبل عنه
فقال أرجوا أنه لا بأس به قد فعله غير واحد الحسن وبكر وثابت ومحمد بن واسع كانوا يشهدون
المسجد يوم عرفة * وكرهه جماعات منهم نافع مولى ابن عمر وإبراهيم النخعي والحكم وحماد ومالك
ابن أنس وغيرهم * وصنف الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي الزاهد كتابا في البدع المنكرة جعل
منها هذا التعريف وبالغ في إنكاره ونقل أقوال العلماء فيه ولا شك أن من جعله بدعة لا يلحقه
بفاحشات البدع بل يخفف أمرها والله أعلم *
117

(فرع) من البدع القبيحة ما اعتاده بعض العوام في هذه الأزمان من ايقاد الشمع بجبل عرفة
ليلة التاسع أو غيرها ويستصحبون الشمع من بلدانهم لذلك ويعتنون به وهذه ضلالة فاحشة جمعوا
فيها أنواعا من القبائح (منها) إضاعة المال في غير وجهه (ومنها) إظهار شعار المجوس في الاعتناء بالنار
(ومنها) اختلاط النساء بالرجال والشموع بينهم ووجوههم بارزة (ومنها) تقديم دخول عرفات على
وقتها المشروع ويجب على ولى الامر وفقه الله وكل مكلف تمكن من إزالة هذه البدع انكارها
والله المستعان *
(فرع) في مذاهب العلماء في مسائل تتعلق بالوقوف * (إحداهما) قال ابن المنذر اجمع العلماء
على أنه يصح وقوف غير الطاهر من الرجال والنساء كالجنب والحائض وغيرهما * واختلفوا في
صوم يوم عرفة بعرفة وقد ذكرنا المذاهب فيه في باب صوم التطوع * (الثانية) ذكرنا أن الأصح
عندنا أنه لا يصح وقوف المغمى عليه وحكاه ابن المنذر عن الشافعي واحمد واسحق وأبى ثور قال
وبه أقول * وقال مالك وأبو حنيفة يصح (الثالثة) لو وقف بعرفات وهو لا يعلم أنها عرفات فقد ذكرنا
118

أن مذهبنا صحة وقوفه وبه قال مالك وأبو حنيفة وحكي ابن المنذر عن بعض العلماء أنه لا يجزئه *
(الرابعة) إذا وقف في النهار ودفع قبل غروب الشمس ولم يعد في نهاره إلى عرفات هل يلزمه الدم
فيه قولان سبقا * (الأصح) أنه لا يلزمه (وقال) أو حنيفة وأحمد يلزمه فان قلنا يلزمه فعاد في الليل
سقط عندنا وعند مالك وقال أبو حنيفة وأبو ثور لا يسقط * وإذا دفع بالنهار ولم يعد أجزأه وقوفه
وحجه صحيح سواء أوجبنا الدم أم لا وبه قال عطاء والثوري وأبو حنيفة وأبو ثور وهو الصحيح
من مذهب احمد قال ابن المنذر وبه قال جميع العلماء إلا مالكا * وقال مالك المعتمد في الوقوف
بعرفة هو الليل فإن لم يدرك شيئا من الليل فقد فاته الحج وهو رواية عن أحمد * واحتج مالك
بان النبي صلى الله عليه وسلم (وقف حتى غربت الشمس وقال لتأخذوا مناسككم) * واحتج أصحابنا
بحديث عروة بن مضرس السابق ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من شهد صلاتنا هذه يعنى
الصبح وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه) وهو حديث صحيح (والجواب) عن
حديثهم أنه محمول على الاستحباب أو أن الجمع بين الليل والنهار يجب لكن يجبر بدم ولا بد من
119

الجمع بين الحديثين وهذا الذي ذكرناه طريق الجمع والله أعلم * (الخامسة) وقت الوقوف بين زوال
الشمس يوم عرفة وطلوع الفجر ليلة النحر وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور * وقال القاضي
أبو الطيب والعبد رى هو قول العلماء كافة إلا أحمد فإنه قال وقته ما بين طلوع الفجر يوم عرفة
وطلوعه يوم النحر واحتج بحديث عروة السابق قريبا في المسألة الرابعة * واحتج أصحابنا بأن النبي
صلى الله عليه وسلم وقف بعد الزوال وكذلك الخلفاء الراشدون فمن بعدهم إلى اليوم وما نقل أن
أحدا وقف قبل الزوال قالوا وحديث عروة محمول على ما بعد الزوال (السادسة) لو وقف ببطن
عرنة لم يصح وقوفه عندنا وبه قال جماهير العلماء * وحكى ابن المنذر وأصحابنا عن مالك أنه يصح
ويلزمه دم * وقال العبدري هذا الذي حكاه أصحابنا عن مالك لم أره له بل مذهبه في هذه المسألة
كمذهب الفقهاء انه لا يجزئه قال وقد نص أصحابه أنه لا يجوز أن يقف بعرنة * واحتج أصحابنا
بالحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عرفة كلها موقف وارتفعوا عن عرنة) وهو
حديث ضعيف رواه ابن ماجة من رواية جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم باسناد
ضعيف جدا لان فيه القاسم بن عبد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب وأجمعوا
120

على تضعيف القاسم هذا قال أحمد بن حنبل هو كذاب كان يضع الحديث فترك الناس حديثه * وقال
يحيي بن معين هو ضعيف ليس بشئ * وقال أبو حاتم هو متروك وقال أبو زرعة هو ضعيف لا يساوى
شيئا متروك الحديث منكر الحديث * ورواه البيهقي من رواية محمد بن المنكدر عن النبي صلى الله
عليه وسلم باسناد صحيح لكنه مرسل * ورواه باسناد صحيح موقوفا على ابن عباس وباسناد ضعيف
مرفوعا ورواه الحاكم في المستدرك مرفوعا بالاسناد الذي ذكره البيهقي وقال هو صحيح على شرط
121

مسلم وليس كما قال فليس هو على شرط مسلم ولا اسناده صحيح لأنه من رواية محمد بن كثير ولم
يرو له مسلم وقد ضعفه جمهور الأئمة والله أعلم * (قلت) فتحصل الدلالة على مالك بثلاثة أشياء (أحدها)
الرواية المرسلة فان المرسل عنده حجة (والثاني) الموقوف على ابن عباس وهو حجة عنده (والثالث)
ان الذي قلنا به من تحديد عرفات مجمع عليه والذي يدعيه من دخول عرنة في الحد لا يقبل إلا
بدليل وليس لهم دليل صحيح ولا ضعيف في ذلك والله أعلم * * قال المصنف رحمه الله *
122

(وإذا غربت الشمس دفع إلى المزدلفة لحديث علي كرم الله وجهه ويمشي وعليه السكينة لما روى
الفضل بن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس عشية عرفة وغداة جمع حين
دفعوا (عليكم بالسكينة) فإذا وجد فرجة أسرع لما روى أسامة رضي الله عنه (ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يسير العنق) فإذا وجد فجوة نص ويجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة على ما بيناه في
كتاب الصلاة فان صلى كل واحدة منهما في وقتها جاز لان الجمع رخصة لأجل السفر فجاز له تركه *
ويثبت بها إلى أن يطلع الفجر الثاني لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم (أتى المزدلفة فصلى بها
المغرب والعشاء واضطجع حتى إذا طلع الفجر صلى الفجر) وفى أي موضع من المزدلفة بات أجزأه
لما روى ابن عباس رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المزدلفة كلها موقف وارتفعوا
123

عن بطن محسر) وهل يجب المبيت بمزدلفة أم لا فيه قولان (أحدهما) يجب لأنه نسك مقصود في موضع
فكان واجبا كالرمي (والثاني) انه سنة لأنه مبيت فكان سنة كالمبيت بمنى ليلة عرفة (فان قلنا) انه
يجب وجب بتركه الدم (وان قلنا) انه سنة لم يجب بتركه الدم * ويستحب ان يؤخذ منها حصى جمرة
العقبة لما روى الفضل بن العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال غداة يوم النحر (القط لي حصى
فلقطت له حصيات مثل حصي الخذف) ولان السنة إذا أتي منى لا يعرج على غير الرمي فاستحب
أن يأخذ الحصي حتى لا يشتغل عن الرمي وان أخذ الحصى من غيرها جاز لان الاسم يقع عليه *
124

ويصلي الصبح بالمزدلفة في أول الوقت وتقديمها أفضل لما روى عبد الله قال (ما رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلي صلاة الا لميقاتها الا المغرب والعشاء بجمع وصلاة الفجر يومئذ
قبل ميقاتها) ولأنه يستحب الدعاء بعدها فاستحب تقديمها ليكثر الدعاء * فإذا صلى وقف على قزح
وهو المشعر الحرام ويستقبل القبلة ويدعو الله تعالى لما روى جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم (ركب
القصواء حتى رقى على المشعر الحرام واستقبل القبلة فدعا الله عز وجل وكبر وهلل ووحد ولم يزل
واقفا حتى أسفر جدا ثم دفع قبل أن تطلع الشمس) * والمستحب أن يدفع قبل طلوع الشمس لحديث
جابر فان أخر الدفع حتى طلعت الشمس كره لما روى المسور بن مخرمة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال (كانوا يدفعون من المشعر الحرام بعد أن تطلع الشمس على رؤس الجبال كأنها عمائم
الرجال في وجوههم وإنا ندفع قبل أن تطلع الشمس ليخالف هدينا هدى أهل الأوثان والشرك) *
فان قدم الدفع بعد نصف الليل وقبل طلوع الفجر جاز لما روت عائشة رضي الله عنها (ان سودة
رضي الله عنها كانت امرأة ثبطة فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعجيل الإفاضة ليلا في
ليلة المزدلفة فأذن لها) * والمستحب إذا دفع من المزدلفة أن يمشى وعليه السكينة لما ذكرناه من حديث الفضل بن عباس وإذا وجد فرجة أسرع كما يفعل في الدفع من عرفة * والمستحب إذا بلغ وادي محسر ان
يسرع إذا كان ماشيا أو يحرك دابته إذا كان راكبا بقدر رمية حجر لما روى جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم
حرك قليلا في وادي محسر) *
125

(الشرح) أما حديث علي رضي الله عنه فسبق في فصل الوقوف بعرفات أنه حديث
صحيح * ومما في معناه حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (لم يزل واقفا حتى غربت
الشمس وذهبت الصفرة قليلا حتى غاب القرص) رواه مسلم * وحديث الفضل بن العباس رواه
مسلم * وحديث أسامة رواه البخاري ومسلم * وحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم (أتى المزدلفة)
إلى آخره رواه مسلم بلفظه وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بالمزدلفة تلك الليلة بين المغرب
والعشاء من رواية جماعات من الصحابة منهم ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وأبو أيوب
الأنصاري وأسامة بن زيد وجابر وكل رواياتهم في صحيح البخاري ومسلم إلا جابرا ففي مسلم خاصة
(وأما) حديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (المزدلفة كلها موقف وارتفعوا عن بطن
محسر) فرواه البيهقي باسناد فيه ضعف وقد ذكرناه قريبا في المسألة السادسة في مذاهب العلماء قبل هذا
الفصل ويغني عنه حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (نحرت ههنا ومنى كلها منحرفا
نحروا في رحالكم ووقفت ههنا وعرفة كلها موقف ووقفت ههنا وجمع كلها موقف) * رواه مسلم *
126

وجمع هي المزدلفة وسنوضحه إن شاء الله تعالى * (وأما) حديث الفضل بن عباس في لقط الحصيات
فصحيح رواه البيهقي باسناد حسن أو صحيح وهو على شرط مسلم من رواية عبد الله بن عباس
عن أخيه الفضل بن عباس ورواه النسائي وابن ماجة باسنادين صحيحين اسناد النسائي على شرط
مسلم لكنهما روياه من رواية ابن عباس مطلقا وظاهر روايتهما أنه عبد الله بن عباس لا الفضل
وكذا ذكره الحافظ أبو القاسم بن عساكر في الأطراف في مسند عبد الله بن عباس ولم يذكره
في مسند الفضل والجميع صحيح كما ذكرناه فيكون ابن عباس وصله في رواية البيهقي وأرسله في
روايتي النسائي وابن ماجة وهو مرسل صحابي وهو حجة لو لم يعرف المرسل عنه فإذا عرف فأولى
بالاحتجاج والاعتماد وقد عرف هنا أنه عن الفضل بن عباس * فالحاصل أن الحديث صحيح من
رواية الفضل بن عباس والله أعلم * (وأما) حديث عبد الله هو ابن مسعود (ما رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلي صلاة الا لميقاتها) إلى آخره فرواه البخاري ومسلم (وقوله) في الصبح قبل
ميقاتها أي قبل ميقاتها المعتاد في باقي الأيام وكانت هذه الصلاة عقب طلوع الفجر * (وأما) حديث
جابر في الوقوف بالمشعر الحرام فرواه مسلم بلفظه الواقع هنا وهو بعض من حديث جابر
127

الطويل * (وأما) حديث المسور بن مخرمة فرواه البيهقي بمعناه باسناد جيد (واما) حديث عائشة في
قصة سودة فرواه البخاري ومسلم (واما) حديث جابر الذي بعده في واد محسر فرواه مسلم والله
أعلم (واما) لغات الفصل وألفاظه فالمزدلفة - بكسر اللام - قال الأزهري سميت بذلك من التزلف
والازدلاف وهو التقرب لان الحجاج إذا أفاضوا من عرفات ازدلفوا إليها أي مضوا إليها وتقربوا
منها * وقيل سميت بذلك لمجئ الناس إليها في زلف من الليل أي ساعات وسميت المزدلفة جمعا - بفتح
الجيم واسكان الميم سميت بذلك لاجتماع الناس بها (واعلم) أن المزدلفة كلها من الحرم قال الأزرقي
في تاريخ مكة والبندنيجي والماوردي صاحب الحاوي في كتابه الأحكام السلطانية وغيرهما من
أصحابنا وغيرهم حد المزدلفة ما بين وادي محسر وما زمى عرفة وليس الحدان منها ويدخل في المزدلفة
جميع تلك الشعاب القوابل والظواهر والجبال الداخلة في الحد المذكور * (واما) وادي محسر - فبضم
الميم وفتح الحاء المهملة وكسر السين المهملة المشددة وبالراء - سمى بذلك لان فيل أصحاب الفيل حسر
128

فيه أي اعى وكل عن السير ومنه قوله تعالي (ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير) ووادي محسر
موضع فاصل بين منى ومزدلفة ليس من واحدة منهما * قال الأزرقي وادي محسر خمسمائة ذراع
وخمس وأربعون ذراعا (واما) منى - فبكسر الميم ويجوز فيها الصرف وعدمه والتذكير والتأنيث
والأجود الصرف * وجزم ابن قتيبة في آداب الكتاب بأنها لا تصرف * وجزم الجوهري في الصحاح
بان منى مذكر مصروف وقال العلماء سميت منى لما يمن فيها من الدماء أي يراق ويصب هذا هو
الصواب الذي جزم به لجمهور من أهل اللغة والتواريخ وغيرهم * ونقل الأزرقي وغيره أنها سميت
بذلك لان آدم لما أراد مفارقة جبريل صلى الله عليه وسلم قال له تمني قال أتمنى الجنة * وقيل سميت
بذلك من قولهم منى الله الشئ أي قدره فسميت منى لما جعل الله تعالى من الشعائر فيها * قال
الجوهري قال يونس يقال امتنى القوم إذا أتوا منى وقال ابن الاعراب يقال أمنى القوم أتوا منى *
واعلم أن منى من الحرم وهي شعب ممدود بين جبلين (أحدهما) ثبير (والاخر) الصانع قال
129

الأزرقي وأصحابنا في كتب المذهب حد منى ما بين جمرة العقبة ووادي محسر وليست الجمرة ولا
وادي محسر من منى قال البندنيجي والأصحاب ما اقبل على منى من الجبال فهو منها وما أدبر فليس
منها * قال الأزرقي وغيره ذرع ما بين جمرة العقبة ومحسر سبعة آلاف ذراع ومائتا ذراع قال الأزرقي
وعرض منى من مؤخر المسجد الذي يلي الجبال إلى الجبل بحذائه الف ذراع وثلاثمائة ذراع ومن
جمرة العقبة إلى الجمرة الوسطى أربعمائة ذراع وسبع وثمانون ذراعا ونصف ذراع ومن الجمرة الوسطى إلى
الجمرة التي تلي مسجد الخيف ثلاثمائة ذراع وخمس أذرع ومن الجمرة التي تلي مسجد الخيف
إلى أوسط أبواب المسجد الف ذراع وثلاثمائة ذراع وإحدى وعشرون ذراعا والله أعلم * واعلم أن
بين مكة ومنى مسافة فرسخ وهو ثلاثة أميال ومن منى إلى مزدلفة فرسخ ومن مزدلفة إلى عرفات
فرسخ وقال إمام الحرمين والرافعي بين مكة ومنى فرسخان (والصواب) فرسخ فقط كذا قاله الأزرقي
والمحققون في هذا الفن والله أعلم * (وأما) المشعر الحرام - فبفتح الميم - هذا هو الصحيح المشهور
وبه جاء القرآن وهو المعروف في رواية الحديث قال صاحب المطالع ويجوز كسر الميم لكن لم يرد
إلا بالفتح وحكي الجوهري الكسر ومعنى الحرام المحرم أي الذي يحرم فيه الصيد وغيره فإنه من
الحرم ويجوز أن يكون معناه ذو الحرمة * واختلف العلماء في المشعر الحرام هل هو المزدلفة كلها أم
بعضها وهو قزح خاصة وسنوضح الخلاف فيه قريبا إن شاء الله تعالى قال العلماء سمى مشعرا لما فيه
من الشعائر وهي معالم الدين وطاعة الله تعالى (قوله) فإذا وجد فرجة وهي - بضم الفاء وفتحها -
ويقال فرج بلا هاء ثلاث لغات سبق بيانها في موقف الإمام والمأموم (وقوله) يسير - العنق بفتح
130

النون - وهو ضرب معروف من السير فيه اسراع يسير والنص - بفتح النون وتشديد الصاد - المهملة
أكثر من العنق (قوله) لأنه نسك مقصود في موضعه فكان واجبا كالرمي احترز عن الرمل والاضطباع
فإنهما تابعان للطواف وكذا صلاة الطواف وتقبيل الحجر ونحوه ولكنه ينتقض بالمبيت بمنى ليلة
التاسع وبطواف القدوم وبالخطب والتلبية (قوله) صلى الله عليه وسلم (القط لي حصى) هو بضم القاف (قوله)
ويصلي الصبح في أول الوقت ويقدمها أفضل تقديم أي أكثر ما يمكنه من التقديم وهو ان يصليها
أول طلوع الفجر (قوله) وقف على قزح هو - بضم القاف وفتح الزاي - وهو جبل معروف بالمزدلفة
(قوله) ان النبي صلى الله عليه وسلم ركب القصوى - هي بفتح القاف واسكان الصاد وبالمد - قال أهل اللغة يقال
شاة قصوى وناقة قصوى إذا قطع من أذنها شئ لا يجاوز الربع فان جاوز فهي عضباء قال العلماء
ولم تكن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم مقطوعا من أذنها شئ قال صاحب المطالع قال الدارودي إنما قيل لها القصوى
لأنها كانت لا تكاد تسبق قال الجوهري يقال شاة قصوى وناقة قصوى ولا يقال جمل أقصى وإنما
يقال مقصو ومقصى كما يقال امرأة حسنى ولا يقال رجل أحسن وكان يقال لهذه الناقة القصوى
والقصى والجدعا قال العلماء هي اسم لناقة واحدة وقيل هن ثلاث والله أعلم * (قوله) رقي على المشعر
هو - بكسر القاف - وسبق بيانه قريبا (قوله) حتى أسفر جدا هو - بكسر الجيم - وهو منصوب بفعل
محذوف أي جد ومعناه أسفارا ظاهرا (قوله) امرأة ثبطة هي - بثاء مثلثة مفتوحة ثم باء موحدة
ساكنة - أي ثقيلة البدن جسيمة والله أعلم * (أما) الأحكام ففيها مسائل (إحداها) وهي مقدمة لما
بعدها في بيان حديث علي رضي الله عنه الذي سبق الوعد به وهو ما رواه عبد الله بن أبي رافع عن
علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال (وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال هذه عرفة وهو الموقف
131

وعرفة كلها موقف ثم أفاض حين غربت الشمس وأردف أسامة بن زيد وجعل يشير بيده على
هينته والناس يضربون يمينا وشمالا لا يلتفت إليهم ويقول أيها الناس عليكم السكينة ثم اتى جمعا فصلى
بهم الصلاتين جميعا فلما أصبح اتى قزح ووقف عليه وقال هذا قزح وهو الموقف وجمع كلها موقف
ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر فقرع ناقته فخبت حتى جاز الوادي فوقف وأردف الفضل
ثم أتى الجمرة فرماها ثم اتى المنحر فقال هذا المنحر ومنى كلها منحر واستفتته جارية شابة من خثعم
فقالت إن أبي شيخ كبير وقد أدركته فريضة الله في الحج أفيجزي ان أحج عنه قال حجى عن
أبيك ولوى عنق الفضل فقال العباس يا رسول الله لم لويت عنق ابن عمك قال رأيت شابا وشابة فلم آمن
الشيطان عليهما وأتاه رجل فقال يا رسول الله انى أفضت قبل ان احلق أو اقصر قال احلق ولا حرج قال
وجاء آخر فقال يا رسول الله ذبحت قبل ان ارمي قال ارم ولا حرج قال ثم اتى البيت فطاف به ثم اتى زمزم فقال
يا بنى عبد المطلب لولا أن يغلبكم عليه الناس لنزعت) رواه الترمذي بهذا اللفظ وقال هو حديث حسن
صحيح * ورواه أبو داود مختصرا وفى روايته (والناس يضربون يمينا وشمالا لا يلتفت إليهم) (الثانية) السنة
للامام إذا غربت الشمس وتحقق غروبها ان يفيض من عرفات ويفيض الناس معه وان يؤخر صلاة المغرب
بنية الجمع إلى العشاء ويكثر كل واحد منهم من ذكر الله تعالى والتلبية لقوله تعالى (فإذا أفضتم
من عرفات فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا) (الثالثة) السنة ان يسلك في ذهابه إلى المزدلفة
على طريق المأزمين وهو بين العلمين اللذين هما حد الحرم من تلك الناحية والمأزم - بهمزة بعد الميم
وكسر الزاي - هو الطريق بين الجبلين وقد نص الشافعي في المختصر والمصنف في التنبيه وجميع
132

الأصحاب على أنه يسن الذهاب إلى المزدلفة على طريق المأزمين لا على طريق صب * وعجب اهمال
المصنف هذه المسألة هنا مع شهرتها وذكره لها في التنبيه مع الحاجة إليها وقد ثبت معناه في الصحيحين
من رواية أسامة بن زيد رضي الله عنهما (الرابعة) السنة ان يسير إلى المزدلفة وعليه السكينة والوقار
على عادة سيره سواء كان راكبا أو ماشيا ويحترز عن ايذاء الناس في المزاحمة فان وجد فرجة فالسنة
الاسراع فيها لما ذكره المصنف * ولا بأس بان يتقدم الناس على الامام أو يتأخروا عنه لكن من
أراد الصلاة مع الامام فينبغي أن يكون قريبا منه (الخامسة) السنة ان يؤخروا صلاة المغرب ويجمعوا
بينها وبين العشاء في المزدلفة في وقت العشاء هكذا أطلق استحباب تأخير المغرب والعشاء إلى المزدلفة
جمهور الأصحاب لما ذكره المصنف * وقالت طائفة من أصحابنا يؤخرهما إلى المزدلفة ما لم يخش فوت
وقت الاختيار للعشاء وهو ثلث الليل في أصح القولين ونصفه في الآخر فان خافه لم يؤخر بل
يجمع بالناس في الطريق * وممن قال بهذا التفضيل الدارمي وأبو علي البندنيجي في كتابه الجامع والقاضي
أبو الطيب في كتابيه التعليق والمجرد وصاحبا الشامل والعدة وصاحب البيان وآخرون ونقله أبو الطيب
في تعليقه عن نص الشافعي ونقله صاحبا الشامل والبيان عن نصه في الاملاء * ولعل اطلاق الأكثرين
محمول على ما لم يخش فوت وقت الاختيار ليتفق قولهم مع نص الشافعي وهذه الطائفة الكثيرة
الكبيرة والله أعلم * قال الشافعي والأصحاب السنة إذا وصلوا مزدلفة أن يصلوا قبل حط رحالهم
وينيخ كل إنسان جمله ويعقله ثم يصلون لحديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما
جاء المزدلفة توضأ ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل انسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء
فصلاها ولم يصل بينهما شيئا) رواه البخاري ومسلم وفى رواية لمسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم
133

ركب حتى جئنا المزدلفة فأقام المغرب ثم أناخ الناس في منازلهم ولم يحلوا حتى أقام العشاء الآخرة
فصلى ثم حلوا) * قال الشافعي ولو ترك الجمع بينهما وصلى كل واحدة في وقتها أو جمع بينهما في وقت
المغرب أو جمع وحده لا مع الامام أو صلى إحداهما مع الامام والأخرى وحده جامعا بينهما أو صلاهما
في عرفات أو في الطريق قبل المزدلفة جاز وفاتته الفضيلة * وان جمع في المزدلفة في وقت العشاء
أقام لكل واحدة منهما ولا يؤذن للثانية وفى الآذان للأولى الأقوال الثلاثة فيمن جمع في سائر
الاسفار في وقت الثانية والأصح أن يؤذن وقد سبقت المسألة واضحة في باب الاذان * (واعلم) ان
هذا الجمع ثابت بالأحاديث الصحيحة واجماع المسلمين وأحاديثه مشهورة في الصحيحين فممن روى
في صحيحي البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (جمع بالمزدلفة تلك الليلة بين المغرب والعشاء)
عبد الله بن مسعود وأبو أيوب الأنصاري وابن عمر وأسامة بن زيد * ورواه مسلم أيضا من رواية
جابر في حديثه الطويل والترمذي من رواية علي وهو صحيح كما سبق والله أعلم * (السادسة) إذا
وصلوا مزدلفة وحلوا باتوا بها وهذا المبيت نسك بالاجماع لكن هو واجب أو سنة فيه قولان مشهوران
ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) واجب (والثاني) سنة * وحكى الرافعي فيه ثلاثة طرق (أصحها) قولان
كما ذكرنا (والثاني) القطع بالايجاب (والثالث) بالاستحباب فان تركه أراق دما * فان قلنا المبيت واجب
فالدم لتركه واجب والا فسنة وعلى القولين ليس بركن فلو تركه صح حجه * هذا هو الصحيح المشهور
الذي نص عليه الشافعي وقطع به جمهور الأصحاب وجماهير العلماء * وقال امامان من أصحابنا هو ركن
لا يصح الحج الا به كالوقوف بعرفات قاله أبو عبد الرحمن بن بنت الشافعي وأبو بكر محمد بن إسحاق
134

ابن خزيمة (فاما) ابن بنت الشافعي فهو مشهور عنه حكاه عنه القاضي أبو الطيب في تعليقه والماوردي
وغيرهما وحكاه الرافعي عنه وعن ابن خزيمة وأشار ابن المنذر إلى ترجيحه والمذهب أنه ليس بركن
وأنه واجب فيجب الدم بتركه * ثم الصحيح المنصوص في الام أن هذا المبيت يحصل بالحضور في
مزدلفة في ساعة من النصف الثاني من الليل وبهذا قطع جمهور العراقيين وأكثر الخراسانيين وفى
قول ضعيف يحصل أيضا بساعة في النصف الثاني أو ساعة قبل طلوع الشمس حكاه أبو علي البندنيجي
عن نصه في القديم والاملاء * وحكي إمام الحرمين عن نقل شيخه أبى محمد وصاحب التقريب في قدر
الواجب من المبيت قولين (أظهرهما) معظم الليل (والثاني) الحضور حال طلوع الفجر وهذا النقل
غريب وضعيف * وقطع صاحب الحاوي بأنه لو دفع من عرفات ولم يحصل بمزدلفة الا بعد نصف الليل
لزمه دم قال لأنه لم يحضر فيها إلا أقل الليل وهذا الحكم والدليل ضعيفان والمذهب ما سبق * واتفق
أصحابنا ونصوص الشافعي على أنه لو دفع من مزدلفة بعد نصف الليل أجزأه وحصل المبيت ولا
دم عليه بلا خلاف وهذا مما يرد نقل امام الحرمين فإنهم لا يصلون بمزدلفة غالبا الا قريب ربع
الليل أو نحوه فإذا دفع عقب نصف الليل لم يكن قد حضر معظم الليل بمزدلفة وقد اتفقوا على أنه
يجزئه * قال أصحابنا وسواء كان الدفع بعد نصف الليل لعذر أم لغيره فإنه يجزئه المبيت واتفقوا على
أنه لو دفع قبل نصف الليل بيسير ولم يعد إلى المزدلفة فقد ترك المبيت فلو دفع قبل نصف الليل وعاد
إليها قبل طلوع الفجر أجزأه المبيت ولا شئ عليه بلا خلاف والله أعلم * وهذا الذي ذكرناه من
135

وجوب الدم بترك المبيت من أصله إذا قلنا المبيت واجب هو فيمن تركه بلا عذر (أما) من انتهى
إلى عرفات ليلة النحر واشتغل بالوقوف عن المبيت بالمزدلفة فلا شئ عليه باتفاق الأصحاب وممن
نقل الاتفاق عليه امام الحرمين * ولو أفاض من عرفات إلى مكة وطاف الإفاضة بعد نصف ليلة
النحر ففاته المبيت بالمزدلفة بسبب الطواف قال صاحب التقريب والقفال لا شئ عليه لأنه اشتغل
بركن فأشبه المشتغل بالوقوف * وحكى إمام الحرمين هذا ثم قال وهذا محتمل عندي لان المنتهي إلى عرفات
في الليل مضطرا إلى التخلف عن المبيت (وأما) الطواف فيمكن تأخيره فإنه لا يفوت والله أعلم *
(فرع) يحصل هذا المبيت بالحضور في أية بقعة كانت من مزدلفة والعمدة في دليله أنه يصدق
عليه اسم مزدلفة (وأما) الحديث الذي احتج به المصنف فلا دلالة فيه لما ذكره لأنه إنما ورد في الوقوف
بالمشعر الحرام بعد الصبح لا في المبيت وقد سبق بيانه وعجب كيف استدل به المصنف وقد سبق
تحديد المزدلفة في أول الفصل *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب ويستحب أن يبقي بالمزدلفة حتى يطلع الفجر للأحاديث الصحيحة
المشهورة في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (بات بها حتى طلع الفجر * (السابعة) يستحب
(أن يغتسل بالمزدلفة بعد نصف الليل للوقوف بالمشعر الحرام وللعيد ولما فيها من الاجتماع فان عجز
عن الماء تيمم كما سبق * وهذه الليلة ليلة عظيمة جامعة لأنواع من الفضل منها شرف الزمان والمكان
فان المزدلفة من الحرم كما سبق وانضم إلى هذا جلالة أهل المجمع الحاضرين بها وهم وفد الله تعالى ومن
136

لا يشقى بهم جليسهم فينبغي أن يعني الحاضر هناك باحيائها بالعبادة من صلاة أو تلاوة وذكر ودعاء
وتضرع ويتأهب بعد نصف الليل للاغتسال أو الوضوء ويحصل حصاة الجمار وتهيئة متاعه (الثامنة)
قال الشافعي والأصحاب يستحب أن يأخذ من المزدلفة سبع حصيات لرمي جمرة العقبة يوم النحر
والاحتياط أن يزيد فربما سقط منها شئ وهل يستحب أن يأخذ مع ذلك لرمي أيام التشريق فيه
وجهان (أحدهما) يستحب وهو ظاهر نص الشافعي في المختصر وبه قطع ابن القاص في المفتاح والقاضي
حسين في تعليقه والبغوي فعلى هذا يأخذ سبعين حصاة سبعا لجمرة العقبة يوم النحر وثلاثا وستين
لأيام التشريق (والثاني) وهو المشهور لا يأخذ الا سبع حصيات لجمرة العقبة وبهذا قطع المصنف
والشيخ (1) والصيمري والماوردي والقاضي أبو الطيب في كتابيه التعليق والمجرد والمحاملي في كتبه
الثلاثة المجموع والتجريد والمقنع وصاحبا الشامل والبيان والجمهور وهو المنصوص في الام ونقله الشيخ
أبو حامد وغيره عن نصه في الام وكذا نقله الرافعي عن الجمهور قال ونقلوه عن نصه قال وجعلوه
بيانا لما أطلقه في المختصر قال وجمع ما بين الكلامين بعضهم فقال يستحب الاخذ للجميع لكن
ليوم النحر أشد استحبابا هذا كلامه وهذا الوجه القائل بالجمع بين الكلامين غريب ضعيف
137

مخالف لنصه في الام ولصريح كلام الأصحاب * وقد صرح الصيمري والماوردي بأنه لا يأخذ زيادة
على سبع حصيات والله أعلم *
(فرع) قال جمهور الأصحاب يأخذون الحصي من المزدلفة في الليل لئلا يشتغلوا بالنهار بتحصيله
وخالفهم البغوي فقال يأخذونه بعد صلاة الصبح والمذهب الأول *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب يستحب أن يكون أخذ الحصى من المزدلفة قال الماوردي
قال قوم يأخذها من المأزمين والصواب الأول * قال الشافعي والأصحاب ومن أي موضع أخذها
أجزأه لكن يكره من أربعة مواضع المسجد والحل والموضع النجس ومن الجمار التي رماها هو وغيره
لأنه روي عن ابن عباس موقوفا وعن أبي سعيد الخدري موقوفا ومرفوعا وعن ابن عمر مرفوعا
(أن ما تقبل منها رفع وما لم يقبل ترك ولولا ذلك لسد ما بين الجبلين) * قال البيهقي المرفوعان ضعيفان *
وكره بعض أصحابنا أخذها من جميع منى لانتشار ما رمى فيها ولم يتقبل * قال الشافعي والأصحاب
ولو رمى بكل ما كرهناه أجزأه ولنا وجه ضعيف شاذ أنه إذا رمى حصاة ثم أخذها ورماها هو في تلك
الجمرة في ذلك اليوم لا يجزئه ووافق هذا القائل على أنه لو اختلف الشخص أو الزمان أو المكان أجزأه
138

الرمي بالمرمى بلا خلاف وهذا الوجه ضعيف جدا لأنه يسمى رميا والله أعلم *
(فرع) اتفق أصحابنا على أنه يستحب أن لا يكسر الحصى بل يلتقطه ونص عليه الشافعي لان
النبي صلى الله عليه وسلم (أمر بالتقاط الحصيات له) وقد سبق بيان هذا الحديث وقد ورد نهي في الكسر
ههنا ولأنه قد يفضى إلى الأذى *
(فرع) قال الشافعي ولا أكره غسل حصي الجمار بل لم أزل اعمله وأحبه هذا نصه قال أصحابنا
غسله مستحب حتى قال البغوي يستحب غسله وإن كان طاهرا *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب السنة أن يكون الحصى صغارا بقدر حصى الخزف لا أكبر ولا أصغر
ويكره بأكبر منه وسنوضحه إن شاء الله تعالى حيث ذكره المصنف في الفصل الذي بعد هذا *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب السنة تقديم الضعفاء من النساء وغيرهن من مزدلفة قبل طلوع
الفجر بعد نصف الليل إلى منى ليرموا جمرة العقبة قبل زحمة الناس لحديث عائشة قالت (استأذنت
سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة المزدلفة تدفع قبله وقبل خطمة الناس وكانت امرأة ثبطة
فاذن لها) رواه البخاري ومسلم وسبق بيانه * وعن ابن عباس قال أنا ممن قدم النبي صلى الله عليه وسلم
139

ليلة المزدلفة في ضعفة أهله) رواه البخاري ومسلم * وعن ابن عمر أنه كان يقدم ضعفة أهله فيقفون
عند المشعر الحرام بالمزدلفة بليل فيذكرون الله ما بدا لهم ثم يرجعون قبل أن يقف الامام وقبل أن يدفع
فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر ومنهم من يقدم بعد ذلك فإذا قدموا رموا الجمرة وكان ابن عمر
يقول (أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري ومسلم * وعن عبد الله
مولى أسماء (أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلى فصلت ساعة ثم قالت يا بنى هل غاب
القمر قلت لا فصلت ساعة ثم قالت يا بنى هل غاب القمر قلت نعم قالت فارتحلوا فارتحلنا
فمضينا حتى رمت الجمرة ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها فقلت لها ما أرانا إلا قد غلسنا قالت
يا بنى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن للظعن) رواه البخاري ومسلم * وعن أم حبيبة (أن النبي
صلى الله عليه وسلم بعث بها من جمع بليل) رواه مسلم وفى المسألة أحاديث صحيحة سوى ما ذكرته
والله أعلم * هذا حكم الضعفة فاما غيرهم فيمكثون بمزدلفة حتى يصلون الصبح بها كما سبق بيانه والله
أعلم (التاسعة) قال الشافعي والأصحاب السنة إذا طلع الفجر أن يبادر الامام والناس بصلاة الصبح
في أول وقتها قالوا والمبالغة في التكبير بها في هذا اليوم آكد من باقي الأيام اقتداء برسول الله صلى
140

الله عليه وسلم للحديث الذي ذكره المصنف وليتسع الوقت لوظائف هذا اليوم من المناسك فإنها كثيرة
في هذا اليوم فليس في أيام الحج أكثر عملا منه والله أعلم (العاشرة) السنة أن يرتحلوا بعد صلاة الصبح
من موضع مبيتهم متوجهين إلى المشعر الحرام وهو قزح - بضم القاف وفتح الزاي وبالحاء المهملة -
وبالمزدلفة وهو آخر المزدلفة وهو جبل صغير فإذا وصله صعده إن أمكنه وإلا وقف عنده وتحته ويقف
مستقبل الكعبة فيدعو ويحمد الله تعالى ويكبره ويهلله ويوحده ويكثر من التلبية واستحب أصحابنا
أن يقول اللهم كما وقفتنا فيه وأريتنا إياه فوفقنا لذكرك كما هديتنا واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك
وقولك الحق (فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وان كنتم من
قبله لمن الضالين ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله ان الله غفور رحيم) ويكثر من
قوله اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ويدعوا بما أحب ويختار الدعوات
الجامعة والأمور المبهمة ويكرر دعواته ودليل المسألة مذكور في الكتاب * وقد استبدل الناس بالوقوف
على قزح الوقوف علي بناء مستحدث في وسط المزدلفة وفى حصول أصل هذه السنة بالوقوف في ذلك
المستحدث وغيره من مزدلفة مما سوى قزح وجهان (أحدهما) لا يحصل لان النبي صلى الله عليه وسلم وقف
141

على قزح وقد قال صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عنى مناسككم) (والثاني) وهو الصحيح بل الصواب
أنها تحصل وبه جزم القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد والرافعي وغيره لحديث جابر رضي الله عنه (أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (نحرت ههنا ومنى كلها منحر فانحروا في رحالكم ووقفت ههنا وعرفة
كلها موقف ووقفت ههنا وجمع كلها موقف) رواه مسلم وجمع هي المزدلفة والمراد وقفت على قزح وجميع
المزدلفة موقف لكن أفضلها قزح كما أن عرفات كلها موقف وأفضلها موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عند
الصخرات والله أعلم * قال الشافعي والأصحاب والسنة أن يبقوا واقفين على قزح للذكر والدعاء إلى
أن يسفر الصبح إسفارا جدا لحديث جابر السابق الذي ذكره المصنف ثم بعد الاسفار يدفعون إلى
منى قال الشافعي والأصحاب ولو تركوا هذا لوقوف من أصله فاتهم الفضيلة ولا اثم عليهم ولا دم
كسائر الهيئات والسنن والله أعلم * قال القاضي حسين في تعليقه ويكفى من أصل هذا الوقوف بقزح
المذكور كما قلنا في الموقف بعرفات والله أعلم * (الحادية عشرة) إذا أسفر الفجر فالسنة أن يدفع من
المشعر الحرام متوجها إلى منى ويكون ذلك قبل طلوع الشمس فان دفع بعد طلوع الشمس فهو مكروه
كراهة تنزيه كذا جزم به المصنف وشيخه أبو الطيب في كتابه المجرد وآخرون وقال الماوردي هو
142

خلاف السنة ولم يقل إنه مكروه وكذا مقتضى عبارة آخرين والله أعلم * قال أصحابنا ويدفع إلى
منى وعليه السكينة والوقار قال المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب وغيرهما فإذا وجد فرجة أسرع
كما سبق في الدفع من عرفات ويكون شعاره في دفعه التلبية والذكر وليتجنب الايذاء في المزاحمة
فإذا بلغ وادي محسر استحب للراكب تحريك دابته قدر رمية حجر ويستحب للماشي الاسراع قدر رمية
حجر أيضا حتى يقطعا عرض الوادي وقد سبق ضبط وادي محسر وتحديده قال أصحابنا وغيرهم
وليس وادي محسر من مزدلفة ولا من منى بل هو مسيل ما بينهما وهذا الذي ذكرنا من استحباب
الاسراع في وادي محسر متفق عليه ولا خلاف فيه إلا وجها شاذا ضعيفا حكاه الرافعي أنه لا يستحب
الاسراع للماشي وليس بشئ ودليل المسألة مذكور في الكتاب قال أصحابنا واستحب الاسراع
فيه للاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ولان وادي محسر كان موقف النصارى فاستحبت مخالفتهم واستدلوا بما
143

رواه البيهقي باسناده عن المسور بن مخرمة أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يوضع ويقول إليك
تعدوا قلقا وضنيها مخالفا دين النصارى دينها * قال البيهقي يعنى الايضاع في وادي محسر ومعنى
هذا البيت ان ناقتي تعدوا إليك يا رب مسرعة في طاعتك قلقا وضينها وهو الجبل الذي كالحزام وإنما
صار قلقا من كثرة السير والاقبال التام والاجهاد البالغ في طاعتك والمراد صاحب الناقة (وقوله) مخالف
دين النصارى دونها - بنصب دين النصارى ورفع دينها - أي اني لا أفعل فعل النصارى ولا أعتقد
اعتقادهم قال القاضي حسين في تعليقه يستحب للمار بوادي محسر أن يقول هذا الذي قاله عمر رضي
الله عنه والله أعلم (وأما) تقييد المصنف والأصحاب مسافة استحباب الاسراع في وادي محسر
بقدر رمية حجر فيستدل له بما ثبت في موطئ مالك عن نافع أن ابن عمر (كان يحرك راحلته في بطن
محسر قدر رمية بحجر) * وقد سبق في حديث علي رضي الله عنه في المسألة الأولى من هذه المسائل
144

[أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى وادي محسر قرع راحلته فخبت حتى جاوز الوادي
والله أعلم *
(فرع) ثم يخرج من وادي محسر سائرا إلى منى قال أصحابنا ويستحب أن يسلك الطريق
الوسطى التي تخرج إلى العقبة لحديث جابر (ان النبي صلى الله عليه وسلم أتي بطن محسر فحرك قليلا ثم سلك الطريق
التي تخرج إلى الجمرة الكبرى) رواه مسلم *
(فرع) قد ذكرنا أن الاسراع في وادي محسر سنة وقد تظاهرت الأحاديث على ذلك وقد
جاء في بعض الأحاديث ما يقتضي خلافها فمن الأحاديث المثبتة للاسراع حديث جابر أن النبي صلى
145

الله عليه وسلم (دفع من المشعر حتى أتى بطن محسر فحرك قليلا) رواه مسلم * وفى رواية للبيهقي باسناد
على شرط البخاري ومسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم أوضع في وادي محسر) * وعن علي رضي الله عنه ان النبي
صلى الله عليه وسلم (أفاض من قزح حتى انتهى إلى وادي محسر فقرع ناقته فخبت حتى جاوز الوادي) رواه
الترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن الفضل بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم (دفع من المشعر الحرام
حتى إذا بلغ محسرا أوضع شيئا) رواه البيهقي وعن المسور بن مخرمة أن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه (كان يوضع قال وكان ابن الزبير يوضع أشد الايضاع أخذه عن عمر) رواه البيهقي وقال يعنى
الايضاع في وادي محسر * وروى مالك في الموطأ عن نافع أن ابن عمر كان يحرك راحلته في بطن
محسر قد رمية بحجر) وهذا صحيح عن ابن عمر رواه البيهقي أيضا عن عائشة ثم قال ورويناه عن
ابن مسعود وحسين بن علي رضي الله عنهم (وأما) الأحاديث المعارضة فمنها عن ابن عباس قال
146

(إنما كان بدو الايضاع من أهل البادية كانوا يقفون حافتي الناس قد علقوا القعاب والعصي فإذا أفاضوا
يقعقعون فأنفرت بالناس فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن دقرى ناقته ليمس حاركها وهو يقول
يا أيها الناس عليكم بالسكينة) رواه البيهقي ورواه الحاكم في المستدرك وقال هو حديث صحيح
على شرط (1) وعن أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم (أردفه حين أفاض من عرفة فأفاض بالسكينة وقال يا أيها
الناس عليكم بالسكينة وقال ليس البر بايجاب الخيل والإبل فما رأيت ناقته رافعه يدها حتى أتى منى)
رواه الحاكم وقال حديث صحيح على شرط البخاري ومسلم فهذان الحديثان ظاهرهما مخالفة ما سبق
والجواب عنهما من وجهين (أحدهما) أنه ليس فيهما تصريح بترك الاسراع في وادي محسر فلا
يعارضان الصريح باثبات الاسراع (والثاني) أنه لو صرح فيهما بترك الاسراع كانت رواية
الاسراع أولى لوجهين * (أحدهما) انها اثبات وهو مقدم على النفي (والثاني) أنها أكثر رواة
وأصح أسانيد وأشهر فهي أولى والله أعلم *

(1) كذا بالأصل فحرر
147

(فرع) في مذاهب العلماء في الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة * اجمع العلماء على جواز
الجمع بينهما بمزدلفة في وقت العشاء للمسافر فلو جمع بينهما في وقت المغرب أو في غير المزدلفة جاز
هذا مذهبنا وبه قال عطاء وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وسعيد بن جبير ومالك واحمد
واسحق وأبو يوسف وأبو ثور وابن المنذر وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة ومحمد وداود وبعض
أصحاب مالك لا يجوز ان يصليهما قبل المزدلفة ولا قبل وقت العشاء والخلاف مبني على أن جمعهم
بالنسك أم بالسفر فعندنا بالسفر وعند أبي حنيفة بالنسك *
148

(فرع) في مذاهبهم في الاذان إذا جمع بين المغرب والعشاء في المزدلفة * قد ذكرنا أن
الأصح في مذهبنا أنه يؤذن للأولى ويقيم لكل واحدة وبه قال أحمد في رواية وأبو ثور وعبد الملك
ابن الماجشون المالكي والطحاوي الحنفي * وقال مالك يصليهما بأذانين وإقامتين وهو مذهب ابن
مسعود قال ابن المنذر وروي هذا عن عمر وقال عبد الله بن عمر وابنه سالم والقاسم بن محمد
واسحق وأحمد في رواية يصليهما بإقامتين وقال ابن عمر في رواية صحيحة عنه وسفيان الثوري
يصليهما بإقامة واحدة والله أعلم * دليلنا حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم (جمع بينهما بأذان وإقامتين) رواه
مسلم وسبقت المسألة بأدلتها مستوفاة في باب الاذان *
149

(فرع) في مذاهبهم في المبيت بمزدلفة ليلة النحر * قد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا انه ليس
بركن فلو تركه صح حجه قال القاضي أبو الطيب وأصحابنا وبهذا قال جماهير العلماء من السلف
والخلف وقال خمسة من أئمة التابعين هو ركن لا يصح الحج إلا به كالوقوف بعرفات هذا قول
علقمة والأسود والشعبي والنخعي والحسن البصري وبه قال من أصحابنا ابن بنت الشافعي وأبو بكر
ابن خزيمة واحتج لهم بقوله تعالى (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) وبالحديث المروى عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال (من فاته المبيت بالمزدلفة فقد فاته الحج) واحتج أصحابنا بحديث عروة بن مضرس
السابق في فضل الوقوف بعرفات وهو حديث صحيح كما سبق وأجابوا عن الآية بان المأمور به
فبها إنما هو الذكر وليس هو بركن بالاجماع (وأما) الحديث فالجواب عنه من وجهين (أحدهما)
أنه ليس بثابت ولا معروف (والثاني) أنه لو صح لحمل على فوات كمال الحج لا فوات أصله *
150

(فرع) قد ذكرنا أن السنة عندنا أن يبقى بمزدلفة حتى يطلع الفجر إلا الضعفة فيستحب لهم
الدفع قبل الفجر فان دفع غير الضعفة قبل الفجر بعد نصف الليل جاز ولا دم هذا مذهبنا وبه
قال مالك وأحمد * وقال أبو حنيفة لا يجوز الدفع قبل طلوع الفجر فان دفع قبل الفجر لزمه دم *
واحتج أصحابنا عليه بالأحاديث الصحيحة السابقة في دفع النساء والضعفة (فان قيل) إنما أرخص
في الدفع قبل الفجر للضعفة (قلنا) لو كان حراما لما اختلف بالضعفة وغيرهم *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يستحب أن يقف بعد صلاة الصبح على قزح ولا يزال واقفا
به يدعو ويذكر حتى يسفر الصبح جدا وبه قال ابن مسعود وابن عمر وأبو حنيفة وجماهير العلماء
قال ابن المنذر هو قول عامة العلماء غير مالك فإنه كان يرى أن يدفع منه قبل الاسفار * دليلنا حديث
جابر السابق الذي ذكره المصنف وهو صحيح *
151

(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب الاسراع في وادي محسر وذكرنا الأحاديث الصحيحة
فيه وقد نقله ابن المنذر عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير قال وتبعهم عليه أهل
العلم وقد قدمنا عن ابن عباس خلاف هذا والله أعلم *
(فرع) المشعر الحرام المذكور في القرآن الذي يؤمر بالوقوف عليه هو قزح جبل معروف
بالمزدلفة هذا مذهبنا * وقال جمهور المفسرين وأصحاب الحديث والسير المشعر الحرام جميع المزدلفة
ومما يستدل به لأصحابنا ما ثبت في صحيح البخاري في باب من قدم ضعفة أهله بليل عن سالم
ابن عبد الله قال (كان عبد الله بن عمر يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام بالمزدلفة *
فيذكرون الله *
152

(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يستحب غسل حصي الجمار ويستحب التقاطها ويستحب
أن لا يكسرها قال الماوردي واختار قوم كسرها واختار قوم أن لا تغسل بل كرهوا غسلها * قال
ابن المنذر لا يعلم في شئ من الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم غسلها وأمر بغسلها قال ولا معنى لغسلها
قال وكان عطاء والثوري ومالك وكثير من أهل العلم لا يرون غسلها قال وروينا عن طاوس انه
كان يغسلها
* قال المنصف رحمه الله *
(وإذا اتى منى بدأ برمي جمرة العقبة وهو من واجبات الحج لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى
وقال (خذوا عنى مناسككم) والمستحب ان لا يرمى إلا بعد طلوع الشمس لما روى ابن عباس
رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث بضعفة أهله فأمرهم ان لا يرموا الجمرة حتى تطلع
الشمس) وان رمى بعد نصف الليل وقبل طلوع الفجر أجزأه لما روت عائشة رضى عنها أن النبي
صلى الله عليه وسلم (أرسل أم سلمة رضي الله عنها يوم النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت وكان ذلك
153

اليوم الذي يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم عندها) والمستحب ان يرمي من بطن الوادي وأن يكون راكبا
وأن يكبر مع كل حصاة لما روت أم سلمة رضي الله عنها قالت (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمى الجمرة
من بطن الوادي وهو راكب وهو يكبر مع كل حصاة) والمستحب ان يرفع يده حتى يرى بياض
إبطه لان ذلك اعون على الرمي ويقطع التلبية مع أول حصاة لما روى الفضل بن العباس (ان النبي
صلى الله عليه وسلم جعل يلبى حتى رمى جمرة العقبة) ولان التلبية للاحرام فإذا رمى فقد شرع في التحلل فلا معنى
للتلبية ولا يجوز الرمي إلا بالحجر فان رمى بغيره من مدر أو خزف لم يجزه لأنه لا يقع عليه اسم
الحجر والمستحب ان يرمى بمثل حصى الخزف وهو بقدر الباقلا لما روى الفضل بن العباس ان
النبي صلى الله عليه وسلم قال عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دفعوا (عليكم بمثل حصى الخزف
فان رمي بحجر كبير أجزأه لأنه يقع عليه اسم الحجر ولا يرمى بحجر قد رمي به لان ما قبل منها
يرفع وما لا يقبل منها يترك والدليل عليه ما روى أبو سعيد قال (قلنا يا رسول الله أن هذه الجمار ترمى
154

كل عام فنحسب انها تنقص قال أما انه ما يقبل منها يرفع ولولا ذلك لرأيتها مثل الجبال) فان رمى
بما رمى به أجزأه لأنه يقع عليه الاسم ويجب ان يرمي فان أخذ الحصاة وتركها في المرمى لم يجزه
لأنه لم يرم ويجب أن يرميها واحدة واحدة لان النبي صلى الله عليه وسلم (رمي واحدة واحدة قال
خذوا عني مناسككم) ويجب ان يقصد بالرمي إلى المرمى فان رمى حصاة في الهواء فوقعت في المرمى
لم يجزه لأنه لم يقصد الرمي إلى المرمى وان رمي حصاة فوقعت على أخرى ووقعت الثانية في المرمى
155

لم يجزه لأنه لم يقصد رمى الثانية وان رمي حصاة فوقعت على محمل أو ارض فازدلفت ووقعت على
المرمى أجزأه لأنه حصل في المرمى بفعله وان رمي فوق المرمى فتدحرج لتصويب المكان الذي
أصابه فوقع في المرمى ففيه وجهان (أحدهما) انه يجزئه لأنه لم يوجد في حصوله في المرمى فعل غيره
(والثاني) لا يجزئه لأنه لم يقع في المرمى بفعله وإنما أعان عليه تصويب المكان فصار كما لو وقع في
ثوب رجل فنفضه حتى وقع في المرمى) *
156

(الشرح) أما حديث ابن عباس فصحيح رواه بلفظه أبو داود والترمذي والنسائي
وغيرهم بأسانيد صحيحة قال الترمذي حديث حسن صحيح (وأما)
حديث عائشة في ارسال أم
سلمة فصحيح رواه أبو داود بلفظه باسناد صحيح على شرط مسلم (وأما) قوله لما روت أم سلمة
قالت (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي جمرة العقبة من بطن الوادي) إلى آخره فرواه أبو داود
وابن ماجة والبيهقي وغيرهم بأسانيدهم عن سليمان بن عمر وبن الأحوص عن أمه قالت (رأيت
النبي صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي وهو راكب يكبر مع كل حصاة) هكذا رواه أبو داود
وابن ماجة والبيهقي وجميع أصحاب كتب الحديث عن سليمان بن عمرو عن أمه ويقال لها أم جندب
الأزدية ووقع في نسخ المهذب أم سلمة وفى بعضها أم سليم وكلاهما غير صحيح وتصحيف ظاهر
(والصواب) أم سليمان - بالنون - أو أم جندب وهذا لا خلاف فيه وقد أوضحته بأكثر من هذا
في تهذيب الأسماء واللغات واسناد حديثها هذا ضعيف لان مداره على يزيد بن أبي زياد وهو
ضعيف لكن يغنى عنه حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم (أتي الجمرة يعنى يوم النحر فرماها بسبع
حصيات يكبر مع كل حصاة منها مثل حصى الخزف وهي من بطن الوادي ثم انصرف) رواه مسلم
157

بهذا اللفظ والله أعلم (وأما) الحديث الأول عن الفضل بن عباس فرواه البخاري ومسلم (وأما)
الحديث الثاني عن الفضل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للناس عشية عرفة وغداة جمع حين دفعوا (عليكم
بمثل حصى الخزف) فرواه مسلم وفى رواية مسلم (عليكم بحصى الخزف) وفى المهذب لا بمثل حصى
الخزف) (وأما) حديث أبي سعيد في رفع الجمار فرواه الدارقطني والبيهقي باسناد ضعيف من
رواية يزيد وسنان الرهاوي وهو ضعيف عند أهل الحديث ظاهر الضعف قال البيهقي وروى
من وجه آخر ضعيف أيضا عن ابن عمر موقوفا وإنما هو مشهور عن ابن عباس موقوفا عليه (وأما)
حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم (رمى واحدة واحدة) فصحيح ثبت في صحيح مسلم في حديث جابر
الذي ذكرته قبل حديث الفضل وقوله فيه (يكبر مع كل حصاة) صريح بأنه رمي من واحدة
158

واحدة (وأما) حديث (خذوا عنى مناسككم) فصحيح رواه مسلم وأبو داود والبيهقي وغيرهم
من رواية جابر وقد سبق إيضاحه في مواضع كثيرة من هذا الباب أولها فضل الطواف والله أعلم *
(واما) لغات الفصل وألفاظه فمنها منى وسبق بيان ضبطها واشتقاقها في فصل المزدلفة وسبق
هناك ذكر حدها (قوله) بضعفة أهله هو - بفتح الضاد والعين - جمع ضعيف والمراد النساء
والصبيان ونحوهم (قوله) يرى بياض إبطه هو - بضم أول يرى والإبط - ساكنة الباء - ويؤنث
ويذكر لغتان والتذكير أفصح وفى الباقلا لغتان سبقتا المد والقصر والمحمل - بفتح الميم الأولى
وكسر الثانية - (وقوله) التصويب المكان أي لكونه في حدور ونزول (أما) الأحكام ففي الفصل
مسائل (إحداها) قد ذكرنا أنه إذا خرج من وادي محسر يسلك إلى منى الطريق الوسطى
159

وشعاره الذكر والتلبية وعليه السكينة والوقار فإذا وجد فرجة أسرع فإذا وصل منى بدأ بجمرة
العقبة وتسمى الجمرة الكبرى ولا يعرج على شئ قبلها وهي تحية منى فلا يبدأ قبلها بشئ بل
يرميها قبل نزوله وحط رحله وهي على يمين مستقبل الكعبة إذا وقف في الجادة والمرمى مرتفع
قليل في سفح الجبل (واعلم) أن الأعمال المشروعة للحاج يوم النحر بعد وصوله منى أربعة وهي
رمي جمرة العقبة ثم ذبح الهدى ثم الحلق ثم طواف الإفاضة وترتيب هذه الأربعة هكذا سنة
وليس بواجب فلو طاف قبل ان يرمي أو ذبح في وقت الذبح قبل ان يرمي جاز ولا فدية عليه
160

لكن فاته الأفضل * ولو حلق قبل الرمي والطواف فان قلنا الرمي استباحة محظور لزمه الفدية
على المذهب وان قلنا إنه نسك لم يلزمه الدم على الصحيح وفيه وجه شاذ انه يلزمه حكاه الدارمي
والرافعي وسأعيد المسألة واضحة إن شاء الله تعالى في فصل الحلق والله أعلم * والسنة ان يرمى
بعد ارتفاع الشمس قدر رمح كما سنذكره ثم يذبح ثم يحلق ثم يذهب إلى مكة لطواف الإفاضة
فيقع الطواف ضحوة ويدخل وقت الرمي والطواف بنصف ليلة النحر بشرط تقدم الوقوف بعرفات
وقال ابن المنذر لا يجزئ الرمي قبل طلوع الفجر بحال والمذهب الأول * قال أصحابنا ويدخل
أيضا وقت الحلق بنصف الليلة إن قلنا نسك ولا آخر لوقت الطواف والحلق بل يمتد وقتهما ما دام
161

حيا وان مضي سنون متطاولة * وكذلك السعي ففي آخر وقته وجهان سنذكرهما قريبا إن شاء الله
تعالى (المسألة الثانية) رمي جمرة العقبة واجب بلا خلاف لما ذكره المصنف وليس هو بركن فلو تركه
حتى فات وقته صح حجه ولزمه الدم وأما وقت الرمي فقال الشافعي والأصحاب السنة أن يصلوا منى
بعد طلوع الشمس ويرموا بعد ارتفاعها قدر رمح فان قدموا الرمي على هذا جاز بشرط أن يكون
بعد نصف ليلة النحر وبعد الوقوف ولو أخروه عنه جاز ويكون أداء إلى آخر نهار يوم النحر بلا
خلاف وهل يمتد إلى طلوع فجر تلك الليلة فيه وجهان مشهوران وممن حكاهما صاحب التقريب
والشيخ أبو محمد الجويني وولده امام الحرمين وآخرون (أصحهما) لا يمتد (والثاني) يمتد (الثالثة)
162

الصحيح المختار في كيفية وقوفه لرمي جمرة العقبة ان يقف تحتها في بطن الوادي فيجعل مكة عن
يساره ومنى عن يمينه ويستقبل العقبة ثم يرمي وبهذا جزم الدارمي وفيه وجه آخر أنه يقف مستقبل
163

الجمرة مستدبر الكعبة ومكة وبهذا جزم الشيخ أبو حامد في تعليقه والبندنيجي وصاحب البيان
والرافعي وآخرون * وفيه وجه ثالث أنه يقف مستقبل الكعبة وتكون الجمرة عن يمينه والمذهب
164

الأول لحديث عبد الرحمن بن يزيد أن عبد الله بن مسعود (انتهى إلى الجمرة الكبرى فجعل البيت
عن يساره ومنى عن يمينه ورمي بسبع حصيات ثم قال هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة)
165

رواه البخاري ومسلم وفى رواية للبخاري قال عبد الرحمن بن يزيد (رمي عبد الله من بطن الوادي
166

فقلت يا أبا عبد الرحمن ان ناسا يرمونها من فوقها فقال والذي لا إله غيره هذا مقام الذي أنزلت
عليه سورة البقرة) وفى رواية للبخاري عن عبد الرحمن أنه كان مع ابن مسعود حين رمى جمرة
167

العقبة فاستبطن الوادي حتى إذا حاذى الشجرة اعترضها فرماها بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة
ثم قال من ههنا والذي لا إله غيره قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) قلت إنما خص سورة البقرة
بالذكر لان معظم المناسك فيها والله أعلم * (الرابعة) السنة أن يرمي جمرة العقبة يوم النحر راكبا
إن كان قدم منى راكبا للحديث الصحيح السابق (الخامسة) السنة ان يكبر مع كل حصاة للحديث
168

السابق ويقطع التلبية عند أول حصاة لما ذكره المصنف * وقال القفال إذا رحلوا من مزدلفة خلطوا
التلبية بالتكبير في مسيرهم فإذا افتتحوا الرمي محضوا التكبير * قال إمام الحرمين ولم أر هذا لغير
القفال * قال بعض أصحابنا يستحب في هذا التكبير مع الرمي أن يقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر
كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين
169

ولو كره الكافرون لا إله إلا وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله
والله أكبر) وهذا الذي ذكره هذا القائل غريب في كتب الحديث والفقه وإنما في الأحاديث
الصحيحة وكتب الفقه يكبر مع كل حصاة وهذا مقتضاه مطلق التكبير والذي ذكره هذا القائل
طويل لا يحسن التفريق بين الحصيات به * وقال الماوردي قال الشافعي يكبر مع كل حصاة فيقول
الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد والله أعلم * قال أصحابنا ولو
قدم الحلق والطواف على الرمي قطع التلبية بشروعه في أول الطواف وكذا في أول الحلق إذا بدأ
به وقلنا هو نسك لأنهما من أسباب التحلل * قال أصحابنا وكذا المعتمر يقطع التلبية بشروعه في
الطواف لأنه من أسباب تحللها والله أعلم * (السادسة) يستحب أن يرفع يده في الرمي حتى يرى بياض
إبطه ويسن أن يكون الرمي بيده اليمني فلو رمى باليسرى أجزأه لحصول الرمي ودليل استحباب
اليمنى ما قدمناه من الأحاديث وغيرها في باب صفة الوضوء في استحباب التيمن في الطهور والتنعل
واللباس ونحوها والله أعلم * (السابعة) شرط المرمي به أن يكون حجرا قال الشافعي والأصحاب فيجوز
الرمي بالمرمر والبرام والكذان والرخام والصوان نص عليه في الام وسائر أنواع الحجر ويجزئ
170

حجر النورة قبل أن يطبخ ويصير نورة (وأما) حجر الحديد فالمذهب القطع باجزائه لأنه حجر
في الحال الا أن فيه حديدا كامنا يستخرج بالعلاج وتردد فيه الشيخ أبو محمد الجويني * وفيما يتخذ
منه الفصوص كالفيروزج والياقوت والعقيق والزمرد والزبرجد والبلور ونحوها وجهان (أصحهما)
الاجزاء لأنها أحجار وبهذا قطع البندنيجي والقاضي حسين والمتولي والبغوي (وأما) ما ليس بحجر
كالماء والنورة والزرنيخ والإثمد والمدر والجص والآجر والخزف والجواهر المنطبعة كالذهب
والفضة والرصاص والنحاس والحديد ونحوها فلا يجزئ الرمي بشئ من هذا بلا خلاف والله
أعلم * (الثامنة) السنة ان يرمي بحصى مثل حصي الخزف وهذا لا خلاف فيه * ودليله ما ذكره المصنف
مع أحاديث كثيرة صحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم (رمي بمثل حصي الخزف وأمر ان يرمى بمثل حصي الخزف)
قال أصحابنا وحصاة الخرف دون الإصبع طولا وعرضا وفى قدر حبة الباقلا وقيل كقدر النواة
قال صاحب الشامل قال الشافعي حصاة الخزف أصغر من الأنملة طولا وعرضا قال منهم من قال
كقدر النواة ومنهم من قال كالباقلا قال صاحب الشامل وهذه المقادير متقاربة * قال أصحابنا فان
رمي بأصغر من ذلك أو أكبر كره كراهة تنزيه وأجزأه باتفاق الأصحاب لوجود الرمي بحجر * واستدل
الأصحاب لكراهة أكبر من حصى الخزف بحديث ابن عباس قال قال لي النبي صلى الله عليه وسلم غداة العقبة
وهو على راحلته (هات القط لي فلقطت له حصيات من حصى الخزف فلما وضعتهن في يده قال
بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين فإنما كان أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين) وراه النسائي
باسناد صحيح على شرط مسلم *
(فرع) في كيفية الرمي وجهان (أحدهما) يستحب أن يكون كصفة رمي الحاذف فيضع الحصاة
على بطن ابهامه ويرميها برأس السبابة وبهذا الوجه قطع البغوي والمتولي والرافعي (والثاني) وهو
الصحيح وبه قطع الجمهور أنه يرميه على غير صفة الحذف وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن
معقل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (نهى عن الحذف وقال إنه لا يقتل الصيد ولا ينكأ العدو وانه يفقأ
العين ويكسر السن) رواه البخاري ومسلم وهذا الحديث عام يتناول الحذف في رمى الجمار وغيره
فلا يجوز تخصيصه إلا بدليل ولم يصح فيما قاله صاحب الوجه الأول شئ ولان النبي صلى الله عليه وسلم نبه على
171

العلة في كراهة الحذف وهو أنه لا يأمن أن يفقأ العين أو يكسر السن وهذه العلة موجودة في رمى
الجمار والله أعلم * (التاسعة) يجوز الرمي بكل أنواع الحجر لكن يكره بأربعة أنواع (أحدها) الحجر
المأخوذ من الحلى (والثاني) المأخوذ من مسجد في الحرم (والثالث) الحجر النجس (الرابع) الحجر
الذي رمى به هو أو غيره مرة أخرى فهذه الأنواع الأربعة مكروهة كراهة تنزيه فان رمى بها أجزأه
نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب الا وجها شاذا ضعيفا حكاه الخراسانيون فيما إذا اتحد
الزمان والمكان والشخص فان رمي بحصاة في جمرة ثم أخذها في الحال ورمي بها في تلك الجمرة
لا يجزئه ووافق صاحب هذا الوجه على أنه لو اختلف الزمان بان رمى بالحصاة الواحدة في جمرة
واحدة لكن في يومين أو اختلف المكان بان رمي الشخص الواحد في يوم واحد بالحصاة الواحدة
لكن في جمرتين أو اختلف الشخص بان رمى بالحصاة فاخذها آخر فرماها في الحال في تلك الجمرة
أجزأه والمذهب الاجزاء مطلقا * وعلى أنه يتصور أن يرمي جميع الحجاج بحصاة واحدة جميع الرمي
المشروع لهم ان اتسع لهم الوقت وقاسه أصحابنا على ما لو دفع مد طعام في كفارة إلى فقير ثم اشتراه
ثم دفعه إلى آخر ثم فعل ذلك ثالثا ورابعا وأكثر بلغ حتى قدر الكفارة فإنه يجزئه بلا خلاف لكن يكره
له شراء ما أخرجه في كفارة أو زكاة أو صدقة كما يكره الرمي بما رمى به * وحكى القاضي أبو الطيب
وصاحب الشامل وغيرهما عن المزني أنه قال لا يجوز أن يرمى ما رمي به هو ويجوز بما رمى به غيره
172

وغلطوه فيه والله أعلم * (فان قيل) لم جوزتم الرمي بحجر قد رمى به ولم تجوزوا الوضوء بما توضئ
به (قلنا) قال القاضي أبو الطيب وغيره الفرق أن الوضوء بالماء اتلاف له فأشبه العتق فلا يعتق العبد
عن الكفارة بخلاف الرمي ونظير الحصاة الثوب في ستر العورة فإنه يجوز ان يصلى في الثوب
الواحد صلوات والله أعلم * (العاشرة) يشترط في الرمي ان يفعله على وجه يسمى رميا لأنه مأمور
بالرمي فاشترط فيه ما يقع عليه اسم الرمي فلو وضع الحجر في المرمى لم يعتد به هذا هو المذهب
وبه قطع المصنف والجمهور وفيه وجه شاذ ضعيف أنه يعتد به حكاه الدارمي وصاحب التقريب وامام
الحرمين والرافعي وغيرهم وهو قريب الشبه من الخلاف السابق في مسح الرأس هل يكفي فيه
وضع اليد عليه بلا مر وكذا في المضمضة لو وضع الماء في فيه ولم يدره والأصح الاجزاء في الرأس
والمضمضة والصحيح هنا عدم الاجزاء والفرق من وجهين (أحدهما) أن مبنى الحج على التعبد
بخلافهما (والثاني) أن في مسألة وضع الحجر لم يأت بشئ من أجزاء الرمي بخلاف مسألة الوضوء *
قال أصحابنا ويشترط قصد المرمى فلو رمي في الهواء فوقع الحجر في المرمى لم يجزه بلا خلاف لما
ذكره المصنف قال أصحابنا ولا يشترط بقاء الحجر في المرمى فلو رماه فوقع في المرمى ثم تدحرج
منه وخرج عنه أجزأه لأنه وجد الرمي إلى المرمى وحصوله فيه * ولو انصدمت الحصاة المرمية
بالأرض خارج الجمرة أو بمحل في الطريق أو عنق بعير أو ثوب انسان ثم ارتدت فوقعت في المرمى
173

أجزأته بلا خلاف لما ذكره المصنف من حصولها في المرمى بفعله من غير معاونة فلو حرك صاحب
المحمل محمله أو صاحب الثوب ثوبه فنفضها أو تحرك البعير فدفعها فوقعت في المرمى لم يعتد بها بلا
خلاف لأنها لم تحصل في المرمى بمجرد فعله * ولو تحرك البعير فوقعت في المرمى ولم يدفعها فوجهان
حكاهما البندنيجي (أصحهما) لا يجزئه وهو مقتضى كلام لأصحاب * ولو وقعت على المحمل أو على
عنق البعير ثم تدحرجت إلى المرمى فوجهان (أصحهما) لا يجزئه لاحتمال تأثرها به ولو وقعت في غير
المرمى من الأرض المرتفعة ثم تدحرجت إلى المرمى أو ردتها الريح فوجهان (أصحهما) يجزئه لحصوله
في المرمى لا بفعل غيره وممن صححه المحاملي في المجموع والبغوي والرافعي وغيرهم * قال أصحابنا
ولا يشترط وقوف الرامي خارج المرمى بل لو وقف في طرفه ورمى إلى طرفه الآخر أو وسطه
أجزأه لوجود الرمي والله أعلم * ولو رمي حصاة فوقعت على حصاة خارج المرمى فوقعت
هذه الحصاة في المرمى ولم تقع المرمي بها لم تجزه بلا خلاف لما ذكره المصنف والله أعلم *
174

(فرع) لو رمي حصاة إلى المرمى وشك هل وقعت فيه أم لا فقولان مشهوران في الطريقتين
حكاهما الشيخ أبو حامد والدارمي وأبو علي البندنيجي والقاضي أبو الطيب والماوردي والمحاملي
وابن الصباغ وصاحب البيان وآخرون من العراقيين والقاضي حسين والمتولي وآخرون من الخراسانيين
قالوا كلهم هما جديد وقديم (الجديد) لصحيح لا يجزئه لان الأصل عدم الوقوع فيه والأصل أيضا
بقاء الرمي عليه (والقديم) يجزئه لأن الظاهر وقوعه في المرمى قاله القاضي أبو الطيب في تعليقه
والمحاملي في المجموع والقاضي حسين في تعليقه * قال أصحابنا هذا القول المنقول عن القديم ليس
مذهبنا للشافعي بل حكاه عن غيره والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا لا يجزئه الرمي عن القوس ولا الدفع بالرجل لأنه لا ينطلق عليه اسم
الرمي * قال البندنيجي ولو رمى حصاة إلى فوق فوقعت في المرمى لم يجزه والله أعلم *
175

(فرع) قال الشافعي رحمه الله الجمرة مجتمع الحصي لا ما سال من الحصى فمن أصاب مجتمع
الحصى بالرمي أجزأه ومن أصاب سائل الحصى الذي ليس بمجتمعه لم يجزه والمراد مجتمع الحصي
في موضعه المعروف وهو الذي كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو حول والعياذ بالله
ورمى الناس في غيره واجتمع الحصي فيه لم يجزه ولو نحى الحصي من موضعه الشرعي ورمى إلى نفس
الأرض أجزأه لأنه رمى في موضع الرمي هذا الذي ذكرته هو المشهور وهو الصواب * وقال القاضي
أبو الطيب في تعليقه إذا رمى حصاة فوقعت في مسيل الماء ففيه قولان * (قال) في الام لا يجزئه لان
النبي صلى الله عليه وسلم رمى إلى المرمى مع قوله صلى الله عليه وسلم (خذوا عنى مناسككم) (والقول الثاني) يجزئه لان مسيل
الماء متصل بالمرمى ليس بينهما حائل فهو كجزء منه هذا نقل القاضي وهو غريب ضعيف والله أعلم *
(الحادية عشرة) قال الشافعي والأصحاب يشترط ان يرمى الحصيات في دفعات لما ذكره المصنف
فلو رمى حصاتين أو سبعا دفعة فان وقعن في المرمى في حالة واحدة حسبت حصاة واحدة بلا خلاف
وان ترتبن في الوقوع فالمذهب ان المحسوب حصاة واحدة أيضا وهذا نص الشافعي وبه قطع
العراقيون وجماهير الخراسانيين لأنها رمية واحدة * وحكي امام الحرمين ومن تابعه وجها شاذا
ضعيفا أنه يحسب بعدد الحصيات المترتبات في الوقوع قال الامام هذا ليس بشئ * ولو رمى
حصاتين أحدهما بيده اليمنى والأخرى باليسرى دفعة واحدة لم يحسب الا واحدة بالاتفاق
ذكره الدارمي * ولو رمي حصاة ثم اتبعها أخرى فان وقعت الأولى في المرمى قبل الثانية فهما
176

حصاتان بلا خلاف وان وقعتا معا أو الثانية قبل الأولى فوجهان مشهوران حكاهما الدارمي والقاضي
حسين والفوراني وإمام الحرمين والبغوي والمتولي وغيرهم واتفقوا على أن أصحهما أنه يحسب
حصاتان اعتبار بالرمي (والثاني) حصاة اعتبارا بالوقوع قال إمام الحرمين الصواب أنهما حصاتان
وما سواه خبط * قال الدارمي القائل حصاتان أبو حامد يعنى المروزي والقائل حصاة (1) والله أعلم *
(فرع) الموالاة بين الحصيات والموالاة بين جمارات أيام التشريق هل يشترط فيها الخلاف
السابق في الطواف الصحيح لا يشترط لكن يستحب (والثاني) يشترط هذا إذا فرق طويلا (فاما)
التفريق اليسير فلا يضر بلا خلاف وممن ذكر المسألة المتولي والرافعي *

(1) بياض بالأصل
177

(فرع) قد ذكرنا أنه إذا رمى سبع حصيات دفعة واحدة حسبت حصاة واحدة ولو وجب
الحد على إنسان فجلد بمائة مشدودة دفعة واحدة حسبت مائة قال أصحابنا الفرق من وجهين (أحدهما)
أن الحدود مبنية على التخفيف (والثاني) أن المقصود منها الايقاع وقد حصل (واما) الرمي فتعبد
فأتيح فيه التوقيف والله أعلم *
178

(فرع) في مذاهب العلماء في رمي جمرة العقبة * قد ذكرنا انه واجب ليس بركن وبه قال مالك
وأبو حنيفة وأحمد وداود قال العبدري وقال عبد الملك بن الماجشون من أصحاب مالك هو ركن *
دليلنا القياس على رمي أيام التشريق *
179

(فرع) مذهبنا جواز رمى جمرة العقبة بعد نصف ليلة النحر والأفضل فعله بعد ارتفاع الشمس
وبه قال عطاء وأحمد وهو مذهب أسماء بنت أبي بكر وابن أبي مليكة وعكرمة بن خالد * وقال
مالك وأبو حنيفة واسحق لا يجوز إلا بعد طلوع الشمس * واحتج لهم بحديث ابن عباس السابق
أن النبي صلى الله عليه سلم (أمرهم أن لا يرموا إلا بعد طلوع الشمس) وهو حديث صحيح كما سبق * واحتج
180

أصحابنا بحديث أم سلمة وغيره من الأحاديث الصحيحة السابقة في مسألة تعجيل دفع الضعفة من
مزدلفة إلى منى (وأما) حديث ابن عباس فمحمول على الأفضل جمعا بين الأحاديث * قال ابن المنذر
أجمعوا على أن من رمى جمرة العقبة يوم النحر بعد طلوع الشمس أجزأه *
(فرع) في مذاهبهم في وقت قطع التلبية يوم النحر * قد ذكرنا أنه يقطعها عند أول شروعه
في رمي جمرة العقبة وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأبو ثور وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن
181

بعدهم * وقال أحمد واسحق وطائفة يلبى حتى يفرغ من رمى جمرة العقبة وأشار ابن المنذر إلى
اختياره * وقال مالك يقطعها قبل الوقوف بعرفات وحكاه عن علي وابن عمر وعائشة * وقال الحسن
البصري يقطعها عقب صلاة الصبح يوم عرفة * دليلنا ما ذكره المصنف *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يستحب أخذ حصاة الجمار بين مزدلفة وحكاه ابن المنذر
عن ابن عمر وسعيد بن جبير ومجاهد واسحق قال قال عطاء ومالك وأحمد يأخذ من حيث شاء
قال ابن المنذر ولا أعلم خلافا بينهم أنه من حيث أخذ أجزأه لكن أحب لقطه وأكره كسره لأنه
قد يؤدى (1)

(1) بياض بالأصل
182

(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب كون الحصي قدر حصى الخذف وبه قال جمهور العلماء
من السلف والخلف منهم ابن عمر وجابر وابن عباس وابن الزبير وطاوس وعطاء وسعيد بن جبير
وأبو حنيفة وأبو ثور قال ابن المنذر ولا معنى لقول مالك (أعجب من ذلك أكبر إلى) لان النبي
صلى الله عليه وسلم سن الرمي بمثل حصي الخذف فاتباع السنة أولى *
(فرع) قال ابن المنذر أجمعوا على أنه لا يرمي يوم النحر الا جمرة العقبة *
(فرع) مذهبنا أنه يستحب رمى جمرة العقبة يوم النحر راكبا إن كان دخل منى راكبا ويرمى
في أيام التشريق ماشيا إلا يوم النفر فراكبا وبه قال مالك * قال ابن المنذر وكان ابن عمر وابن
183

الزبير وسالم يرمون مشاة واستحبه أحمد واسحق وكره جابر الركوب إلى شئ من الجمار إلا
لضرورة قال وأجمعوا على أن الرمي يجزئه على أي حال رماه إذا وقع في المرمى * دليلنا الأحاديث
الصحيحة السابقة أن النبي صلى الله عليه وسلم (رمى جمرة العقبة يوم النحر راكبا) والله أعلم *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا الصحيح أن الأفضل في موقف الرامي جمرة العقبة أن يقف في بطن
الوادي وتكون منى عن يمينه ومكة عن يساره وبهذا قال جمهور العلماء منهم ابن مسعود وجابر
والقاسم بن محمد وسالم وعطاء ونافع والثوري ومالك وأحمد * قال ابن المنذر وروينا أن عمر رضي
الله عنه خاف الزحام فرماها من فوقها *
184

(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لو رمي بما رمي به هو أو غيره جاز مع الكراهة وبه قال مالك
وأبو حنيفة وداود قال المزني يجوز بما رمى به غيره ولا يجوز بما رمى هو به * قال ابن المنذر
وكره ذلك عطاء والأسود بن يزيد وسعيد بن أبي عروبة والشافعي وأحمد قال ورخص فيه الشعبي
وقال اسحق يجزئه * قال ابن المنذر يكره ويجزئه قال إذ لا أعلم أحدا أوجب على من فعل ذلك إعادة *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا انه لو رمى سبع حصيات رمية واحدة حسب له حصاة واحدة فقط وبه قال
مالك وأحمد * وقال أبو حنيفة ان وقعن في المرمى متعاقبات أجزأه والا فلا * وحكي ابن المنذر
عن عطاء انه يجزئه ويكبر لكل حصاة تكبيرة قال الحسن إن كان جاهلا أجزأه *
185

(فرع) ذكرنا أن مذهبنا انه يجوز الرمي بكل ما يسمى حجرا ولا يجوز بما لا يسمى حجرا
كالرصاص والحديد والذهب والفضة والزرنيخ والكحل ونحوها وبه قال مالك وأحمد وداود *
وقال أبو حنيفة ويجوز بكل ما كان من جنس الأرض كالكحل والزرنيخ والمدر ولا يجوز بما ليس
من جنسها. واحتج بالأحاديث المطلقة في الرمي * دليلنا حديث الفضل بن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (في غداة جمع يعنى يوم النحر عليكم بحصى الخذف الذي يرمي به الجمرة) (1) رواه مسلم
فامر صلى الله عليه وسلم بالحصى فلا يجوز العدول عنه والأحاديث المطلقة محمولة على هذا المعنى

(1) الجملة التي بين القوسين غير موجودة في النسخة التي بأيدينا وهي زيادة لا بأس بها
186

* قال المصنف رحمه الله *
(وإذا فرغ من الرمي يذبح هديه إن كان معه لما روى جابر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم (رمى
سبع حصيات من بطن الوادي ثم انصرف إلى النحر فنحر) ويجوز النحر في جميع منى لما روى]
187

جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (منى كلها منحر)) *
(الشرح) حديثا جابر رواهما مسلم * قال أصحابنا فإذا فرغ من الرمي انصرف فنزل في موضع
من منى وحيث نزل منها جاز لكن أفضلها منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما قاربه * وذكر الأزرقي أن
منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى عن يسار مصلى الامام * فإذا نزل ذبح ونحر الهدى إن كان معه هدى
(واعلم) أن سوق الهدي لمن قصد مكة حاجا أو معتمرا سنة مؤكدة وقد أعرض الناس أو أكثرهم
عنها في هذه الأزمان والأفضل أن يكون هديه معه من الميقات مشعرا مقلدا ولا يجب الهدى إلا
بالنذر والأفضل سوق الهدى من بلده فإن لم يكن فمن طريقه والا فمن الميقات أو ما بعده والا فمن
188

منى * ويستحب للرجل أن يتولى ذبح هديه وأضحيته بنفسه وينوى عند ذبحها فإن كان منذورا
نوى الذبح عن هديه أو أضحيته المنذور وإن كان تطوعا نوى التقرب به ولو استناب في ذبحه
جاز ويستحب أن يخص عند الذبح * ويستحب أن يكون النائب ذكرا مسلما فان استناب امرأة
أو كتابيا جاز لأنهما من أهل العبادة * والمرأة الحائض والنفساء أولى من الكتابي * وينوى
صاحب الهدى والأضحية عند الدفع إلى الوكيل أو عند ذبحه فان فوض النية إلى الوكيل جاز إن كان
مسلما فإن كان كافرا لم يصح لأنه ليس من أهل النية في العبادات بل ينوي صاحبها عند دفعها
189

إليه أو عند ذبحه (وأما) صفة الذبح وآدابه وتقليد الهدى واشعاره وغير ذلك من أحكامه فسنوضحها
في باب الهدي إن شاء الله تعالى (وأما) وقت ذبح الهدى ففيه وجهان مشهوران (أصحهما) وبه
قطع العراقيون وجماعات من غيرهم أنه كوقت الأضحية يختص بيوم العيد وأيام التشريق ويدخل
بعد طلوع شمس يوم النحر ومضى قدر صلاة العيد والخطبتين ويخرج بخروج أيام التشريق فان
خرجت ولم يذبحه فإن كان نذرا لزمه ذبحه ويكون قضاء وإن كان تطوعا فقد فات الهدى في هذه
السنة فان ذبحه قال الشافعي والأصحاب كان شاة لحم لا هديا (والوجه الثاني) حكاه الخراسانيون
أنه لا يختص بزمان بل يجوز قبل يوم النحر وفيه وبعد أيام التشريق كدماء الجبرانات والمذهب
الأول * واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن ذبح الهدى يختص بالحرم ولا يجوز في غيره
واتفقوا على أنه يجوز في أي موضع شاء من الحرم ولا يختص بمنى * قال الشافعي رحمه الله الحرم
190

كله منحر حيث نحر منه أجزأه في الحج والعمرة لكن السنة في الحج أن ينحر بمنى لأنها موضع
تحلله وفى العمرة بمكة وأفضلها عند المروة لأنها موضع تحلله والله أعلم * (وأما) قول المصنف يجوز
النحر في جميع منى فعبارة ناقصة لأنه يوهم الاختصاص بمنى دون سائر الحرم وهذا الايهام غلط
وكان ينبغي أن يقول يجوز في كل الحرم وأفضله منى وأفضلها موضع نحر النبي صلى الله عليه وسلم وما قاربه والله
أعلم * قال المصنف رحمه الله *
191

(ثم يحلق لما روى أنس قال (لما رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة وفرغ من نسكه ناول الحالق
شقه الأيمن فحلقه ثم أعطاه شقه الأيسر فحلقه) فإن لم يحلق وقصر جاز لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم
(أمر أصحابه أن يحلقوا أو يقصروا) والحلق أفضل لما روى ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(رحم الله المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال رحم الله المحلقين قالوا يا رسول الله
192

والمقصرين قال رحم الله المحلقين قالوا يا رسول الله والمقصرين قال في الرابعة والمقصرين)
وأقل ما يحلق ثلاث شعرات لأنه يقع عليه اسم الجميع المطلق فأشبه الجمع والفضل ان يحلق الجميع
لحديث أنس * وإن كان أصلع فالمستحب ان يمر الموسى على رأسه لما روى ابن عمر رضي الله عنه
193

أنه قال في الأصلع يمر الموسي على رأسه ولا يجب ذلك لأنه قربة تتعلق بمحل فسقطت بفواته
كغسل اليد إذا قطعت وإن كانت امرأة قصرت ولم تحلق لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس على النساء حلق إنما على النساء تقصير) ولان الحلق في النساء مثلة فلم يفعل
وهل الحلاق نسك أو استباحة محظور فيه قولان (أحدهما) انه ليس بنسك لأنه محرم في الاحرام
فلم يكن نسكا كالطيب (والثاني) انه نسك وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم (رحم الله المحلقين) فان
حلق قبل الذبح جاز لما روى عبد الله بن عمر قال (وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى
فجاءه رجل فقال يا رسول الله لم أشعر فحلقت رأسي قبل ان أذبح فقال اذبح ولا حرج فجاءه
آخر فقال يا رسول الله لم أشعر فنحرت قبل ان ارمى فقال ارم ولا حرج) فما سئل عن شئ
194

قدم أو أخر إلا قال افعل ولا حرج * فان حلق قبل الرمي (فان قلنا) ان الحلق نسك جاز لما روى
ابن عباس قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل حلق قبل ان يذبح أو قبل ان يرمي
فكأن يقول (لا حرج لا حرج) (وان قلنا) انه استباحة محظور لم يجز لأنه فعل محظور فلم يجز
قبل الرمي من غير عذر كالطيب) *
(الشرح) أما حديث أنس رضي الله عنه فرواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طرق (منها)
عن أنس قال (لما رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة ونحر نسكه وحلق ناول الحالق شقه
الأيمن فحلقه ثم دعا أبا طلحة الأنصاري فأعطاه إياه ثم ناوله الشق الأيسر فقال احلق فحلقه فاعطي
195

أبا طلحة فقال اقسمه بين الناس) هذا لفظ إحدى روايات مسلم والباقي بمعناها (وقوله) في الرواية
التي ذكرها المصنف وفرغ من نسكه يعني من ذبح هديه كما قال في رواية مسلم ونحر نسكه (وأما)
حديث جابر فرواه البخاري ومسلم بغير هذا اللفظ ولفظهما عن جابر انه حج مع النبي صلى الله
عليه وسلم وقد أهلوا بالحج مفردا فقال لهم (أحلوا من احرامكم بطواف البيت وبين الصفا والمروة
وقصروا) هذا لفظهما وقد روى التقصير جماعات من الصحابة في الصحيحين (منها) عن ابن عمر
قال (حلق النبي صلى الله عليه وسلم وحلق طائفة من أصحابه وقصر بعضهم) رواه البخاري ومسلم
وعن معاوية قال (قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص على المروة) رواه البخاري
ومسلم وفى رواية قال (قصرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرته على المروة بمشقص)
(وأما) حديث ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (اللهم ارحم المحلقين) إلى آخره فرواه
البخاري ومسلم (وأما) الأثر عن ابن عمر في إمرار الموسى فرواه الدارقطني والبيهقي باسناد ضعيف
196

فيه يحيى بن عمر الجادي - بالجيم وتشديد الياء - وهو ضعيف (وأما) حديث ابن عباس ان النبي
صلى الله عليه وسلم قال (ليس على النساء حلق إنما على النساء التقصير) فرواه أبو داود باسناد حسن
(وأما) حديث عبد الله بن عمرو بن العاص فرواه البخاري (وأما) حديث ابن عباس الذي بعده
فرواه البخاري ومسلم بنحو معناه وهذا لفظهما عن ابن عباس (ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير فقال لا حرج) ورواه البخاري ومسلم أيضا من رواية
عبد الله بن عمرو بن العاص انه (شهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر في حجة الوداع وهم يسألونه
فقال رجل لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال اذبح ولا حرج فجاء آخر فقال لم أشعر
فنحرت قبل أن أرمى فقال ارم ولا حرج فما سئل يومئذ عن شئ قدم ولا أخر إلا قال
197

افعل ولا حرج) وفى رواية لمسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال (سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة فقال يا رسول الله انى حلقت قبل أن أرمي
فقال ارم ولا حرج وأتاه رجل آخر فقال إني ذبحت قبل ان ارمي قال أرم ولا حرج قال فما رأيته
سئل يومئذ عن شئ إلا قال افعلوا ولا حرج) هذا لفظ هذه الرواية لمسلم وهي صريحة فيما استدل
له المصنف وفيها التصريح بجواز تقديم طواف الإفاضة على الرمي والله أعلم * (واما) ألفاظ الفصل
(فقوله) وفرغ من نسكه أي من ذبح هديه وقد سبق بيانه في رواية مسلم (وقوله) ناول الحالق
هذا الذي حلق رسول الله صلى الله عليه وسلم معمر بن عبد الله العدوي هذا هو الصحيح المشهور
وفى صحيح البخاري قال (زعموا انه معمر بن عبد الله) وذكر ابن الأثير في مختصر الأنساب
في ترجمة الكليبي - بضم الكاف - خراش بن أمية الكليبي والله أعلم * (قوله) يمر الموسى قال
أهل اللغة الموسى يذكر ويؤنث * قال ابن قتيبة قال الكسائي هو فعلى وقال غيره مفعل من
198

أوسيت رأسه أي حلقته قال الجوهري الكسائي والفرا يقولان هي فعلى مؤنثة وعبد الله بن سعيد
الأموي يقول مفعل مذكر قال أبو عبد الله لم نسمع تذكيره إلا من الأموي (قوله) لأنه قربة تتعلق
بمحل فسقطت بفواته احتراز من الصلاة والصوم فان كلا منهما قربة تتعلق بزمان لا بمحل ولا تسقط
بالفوات (وقوله) الحلاق هو بكسر الحاء - بمعنى الحلق والله أعلم * (وأما) الأحكام ففيها مسائل
(إحداها) إذا فرغ الحاج من الرمي والذبح فليحلق رأسه وليقصر والحلق والتقصير ثابتان
بالكتاب والسنة والاجماع وكل واحد منهما يجزئ بالاجماع والحلق في حق الرجل أفضل لظاهر
القران في قوله تعالى (محلقين رؤوسكم ومقصرين) والعرب تبدأ بالأهم والأفضل ولحديث ابن عمر
المذكور (اللهم ارحم المحلقين قال في الرابعة والمقصرين) ولان النبي صلى الله عليه وسلم (حلق
في حجته) والاجماع على أن الحلق أفضل * والأفضل أن يحلق جميع الرأس ان أراد الحلق أو
يقصر من جميعه ان أراد التقصير لما ذكره المصنف * وأقل ما يجزئ ثلاث شعرات حلقا أو تقصيرا
199

من شعر الرأس فتجزئ الثلاث بلا خلاف عندنا ولا يجزئ أقل منها هكذا نص عليه الشافعي
والأصحاب في جميع الطرق * وحكي امام الحرمين ومن تابعه وجها انه تجزئ شعرة واحدة وهو
غلط * قال امام الحرمين قد ذكرنا وجها بعيدا في الشعرة الواحدة انه إذا أزالها المحرم في غير
وقتها لزمه فدية كاملة كحلق الرأس قال وذلك الوجه عائد هنا فتجزى الشعرة ولكنه مزيف غير
معدود من المذهب والله أعلم * قال أصحابنا وليس لأقل المجزئ من التقصير حد بل يجزى منه أقل جزء منه
لأنه يسمى تقصيرا ويستحب ان لا ينقص على قدر أنملة والله أعلم * (الثانية) إذا لم يكن على رأسه
شعر بأن كان أصلع أو محلوقا فلا شئ عليه فلا يلزمه فدية ولا امرار الموسى ولا غير ذلك لما ذكره
200

المصنف ولو نبت شعره بعد ذلك لم يلزمه حلق ولا تقصير بلا خلاف لأنه حالة التكليف لم يلزمه
قال الشافعي والأصحاب ويستحب لمن لا شعر على رأسه امرار الموسي عليه ولا يلزمه ذلك بلا خلاف
عندنا * قال الشافعي ولو اخذ من شاربه أو من شعر لحيته شيئا كان أحب إلى ليكون قد وضع من
شعره شيئا لله تعالى * هكذا ذكر الشافعي هذا النص ونقله الأصحاب واتفقوا عليه وحكاه امام
الحرمين عن نص الشافعي ثم قال ولست أرى ذلك وجها إلا أن يكون أسنده إلى اثر * وقال
المتولي يستحب ان يأخذ من الشعور التي يؤمر بإزالتها للفطرة كالشارب والإبط والعانة لئلا يخلو
نسكه عن حلق * وقد روى مالك والشافعي والبيهقي بالاسناد الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما
انه كان إذا حلق في حج أو عمرة اخذ من لحيته وشاربه والله أعلم * ولو كان على رأسه شعر وبرأسه
علة لا يمكنه بسببها التعرض للشعر لزمه الصبر إلى الامكان ولا يفتدى ولا يسقط عنه الحلق بلا خلاف
بخلاف من لا شعر على رأسه فإنه لا يؤمر بحلقه بعد نباته بلا خلاف كما سبق * قال إمام الحرمين
201

وغيره والفرق ان النسك هو حلق شعر يشتمل الاحرام عليه والله أعلم * هذا كله فيمن لم يكن على
رأسه شعرا أصلا فاما من كان على رأسه ثلاثة شعرات أو شعرتان أو شعرة واحدة فيلزمه ازالتها بلا خلاف
صرح به صاحب البيان وغيره لقوله صلى الله عليه وسلم (إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم)
ولو كان عليه زغب يسير لزمه ان يزيل منه ثلاث شعرات صرح به صاحب البيان وآخرون والله أعلم
* (الثالثة) اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أن الحلق هنا لا يحصل إلا بشعر الرأس
فلا يحصل بشعر اللحية وغيرها من شعور البدن ولا بشعر العذار وفى الشعر النابت في موضع
التحذيف وشعر الصدغ خلاف سبق في باب صفة الوضوء هل من الوجه أو من الرأس (ان قلنا)
من الرأس أجزأه حلقه والا فلا قال الشافعي والأصحاب وإذا قصر ثلاث شعرات فأكثر جاز
تقصيره مما يحاذي الرأس ومما نزل عنه ومما استرسل عنه وهذا هو المذهب * وحكى الدارمي
والماوردي وصاحب الشامل والمتولي وآخرون وجها شاذا انه لا يجزئ المسترسل كما لا يجزئ
المسح على المسترسل عن حده قالوا وهذا الوجه غلط لان الواجب في المسح مسح الرأس وهذا خارج
عنه فلا يجزئ والواجب في الحلق شعر الرأس أو تقصيره وهذا من شعر الرأس (الرابعة)
202

قال أصحابنا المراد بالحلق والتقصير إزالة الشعر فيقوم مقامه النتف ولا حرق ولا اخذ بالنورة أو
بالمقص والقطع بالأسنان وغيرها ويحصل الحلق بكل واحدة مما ذكرناه بلا خلاف وقد نص عليه
الشافعي رحمه الله (الخامسة) الأفضل أن يحلق أو يقصر الجميع دفعة واحدة فلو حلق أو قصر ثلاث
شعرات في ثلاثة أوقات أجزأه وفاتته الفضيلة هذا هو المذهب * وقال إمام الحرمين لو حلق ثلاث
شعرات في دفعات فهو مقيس بحلقها المحظور فان كملنا الفدية مع التفريق حكمنا بكمال النسك والا
فلا * قال ولو أخذ شيئا من شعرة واحدة ثم عاد وأخذ منها ثم عاد ثالثة وأخذ منها فإن كان الزمان
متواصلا لم يكمل الفدية ولم يحصل النسك وان طال الزمان ففي المسئلتين خلاف هذا كلام إمام
الحرمين واختصر الرافعي فقال لو أخذ ثلاث شعرات في دفعات أو أخذ من شعرة واحدة في
ثلاثة أوقات فان كملنا الفدية به لو كان محضورا حصل النسك والا فلا (السادسة) قال أصحابنا
يستحب ان يبدأ بحلق شق رأسه الأيمن من أوله إلى آخره ثم الأيسر وأن يستقبل المحلوق القبلة
وأن يدفن شعره ويبلغ بالحلق إلى العظمين اللذين عند منتهي الصدغين وهذه الآداب ليست
مختصة بالمحرم بل كل حالق يستحب له هذا * ودليل الشق الأيمن حديث أنس المذكور في
203

يأذن في الكتاب قال صاحب الحاوي في الحلق أربع سنن ان يستقبل القبلة وان يبدأ بشقه الأيمن وأن
يكبر عند فراغه وأن يدفن شعره قال قال الشافعي ويبلغ بالحلق إلى العظمين لأنهما منتهي نبات
شعر الرأس ليكون مستوعبا لجميع رأسه هذا كلامه وهو حسن الا التكبير عند فراغه فإنه غريب
وقد استحب التكبير أيضا للمحلوق البندنيجي ونقله صاحب البحر عن أصحابنا (السابعة) أجمع
العلماء على أنه لا تؤمر المرأة بالحلق بل وظيفتها التقصير من شعر رأسها قال الشيخ أبو حامد والدارمي
والماوردي وغيرهم يكره لها الحلق * وقال القاضي أبو الطيب والقاضي حسين في تعليقهما لا يجوز لها
الحلق ولعلهما أرادا انه مكروه وقد يستدل للكراهة بحديث علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم (نهي ان تحلق المرأة رأسها) رواه الترمذي وقال فيه اضطراب * ولا دلالة في
هذا الحديث لضعفه لكن يستدل بعموم قوله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)
رواه مسلم وبالحديث الصحيح السابق مرات في نهي النساء من التشبه بالرجال * قال الشافعي
والأصحاب ويستحب للمرأة ان تقصر بقدر أنملة من جميع جوانب رأسها * وقال الماوردي ولا
تقطع من ذوائبها لان ذلك يشينها لكن ترفع الذوائب وتأخذ من الموضع الذي تحته
قال أصحابنا (1) فلو حلقت أجزأها قال الماوردي وتكون مسيئة * قال القاضي أبو الفتوح في

(1) بياض بالأصل
204

كتاب الخناثى وظيفة الخنثى التقصير دون الحلق قال والتقصير أفضل كالمرأة والله أعلم *
(الثامنة) هل الحلق نسك فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) باتفاق الأصحاب
أنه نسك يثاب عليه ويتعلق به التحلل لما ذكره المصنف (والثاني) انه استباحة محظور وليس بنسك
وإنما هو شئ أبيح له بعد إن كان حراما كالطيب واللباس وعلى هذا لاثواب فيه ولا تعلق له
بالتحلل قالوا وعلى هذا القول الجواب عن حديث اللهم (ارحم المحلقين) إنما دعا لهم لتنظفهم وازالتهم
التفث والمذهب انه نسك يثاب عليه ويتحلل به التحلل الأول فعلى هذا هو ركن من أركان الحج
والعمرة لا يصح الحج ولا العمرة إلا به ولا يجبر بدم ولا غيره ولا يفوت وقته ما دام حيا لكن
أفضل أوقاته ضحوة النهار يوم الأضحى ولا يختص بمكان لكن الأفضل ان يفعله الحاج بمنى والمعتمر
بالمروة فلو فعله في بلد آخر إما وطنه وإما غيره جاز بلا خلاف ولا يزال حكم الاحرام جاريا عليه
حتى يحلق وكل هذا لا خلاف فيه على قولنا الحلق نسك الا أن المصنف جعل الحلق واجبا على
قولنا انه نسك ولم يجعله ركنا هكذا ذكره في آخر هذا الباب وكذا ذكره في التنبيه وليس كما قال
بل الصواب انه ركن على قولنا انه نسك * قال امام الحرمين إذا حكمنا بان الحلق نسك فهو ركن
وليس كالرمي والمبيت ثم قال فاعلم ذلك فإنه متفق عليه قال والدليل على أنه لا تقوم الفدية مقامه أنه
لو فرض في الرأس علة تمنع من الحلق وجب الصبر إلى إمكان الحلق ولا تقوم الفدية مقامه * هذا
كلام إمام الحرمين *
205

(فرع) قال أصحابنا هذا الذي سبق من أحكام الحلق هو كله فيمن لم يلتزم حلقه (أما) من
نذر الحلق في وقته فيلزمه حلقه كله ولا يجزئه التقصير ولاحلق بعض الرأس ولا النتف والاحراق
ولا استئصال الشعر بالمقصين ولا أخذه بالنورة لان هذا كله لا يسمى حلقا * وذكر إمام الحرمين
في استئصال الشعر بالمقصين وامرار الموسي من غير استئصال احتمالا والمذهب الأول لأنه لا يسمي
حلقا قال الامام ولا يشترط الامعان في الاستئصال بل يكفي ما يسمي حلقا قال ويقرب الرجوع
إلى اعتبار رؤية الشعر هذا كله فيما إذا صرح بنذر الحلق فلو لبد المحرم رأسه فهذا في العادة لا يفعله
إلا من أراد حلقه يوم النحر للنسك فهل ينزل هذا منزلة نذر الحلق فيه قولان مشهوران في الطريقتين
ذكرهما الماوردي والفوراني وامام الحرمين والمتولي وغيرهم من الأصحاب هنا وذكرهما الأصحاب
في كتاب النذر (أصحهما) باتفاقهم وهو الجديد لا يلزمه حلقه لكن يستحب وله الاقتصار على
التقصير (والقديم) انه يلزمه الحلق كما لو نذره * ونظير المسألة من قلد الهدى هل يصير منذورا فيه
206

قولان ذكرهما المصنف والأصحاب في كتاب النذر (أصحهما) باتفاقهم وهو الجديد لا يصير (والثاني) يصير والله أعلم * (واعلم) أن ما ذكرناه من وجوب الحلق على من نذره متفق عليه سواء قلنا الحلق
نسك أو استباحة محظور هكذا قطع به الجمهور * وحكي الرافعي وجها انا إذا قلنا ليس هو بنسك
لا يلزم بالنذر لأنه ليس بقربة والله أعلم (التاسعة) قد سبق ان الافعال المشروعة يوم النحر بعد
وصوله منى أربعة وهي جمرة العقبة ثم الذبح ثم الحلق ثم طواف الإفاضة والسنة ترتيبها هكذا فان
خالف ترتيبها نظر ان قدم الطواف على الجميع أو قدم الذبح على الجميع بعد دخول وقته أو قدم الحلق
على الذبح جاز بلا خلاف للأحاديث الصحيحة السابقة (ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ذلك كله فقال لا
حرج)
وان طاف ثم حلق ثم رمى جاز بلا خلاف لما ذكرناه وان قدم الحلق على الرمي والطواف (فان قلنا)
ان الحلق نسك جاز ولا دم عليه كما لو قدم الطواف (وان قلنا) ليس بنسك لم يجز ويلزمه به الدم
كما لو حلق قبل نصف ليلة النحر هذا هو المذهب في الطريقتين وبه قطع المصنف وجماهير الأصحاب *
وحكى الدارمي والرافعي وغيرهما وجها أنه يلزمه الدم وان قلنا هو نسك وهذا شاذ باطل * وحكي
صاحب الحاوي والدارمي على قولنا ان الحلق استباحة محظور وجهين (أحدهما) قال وهو قول البغدادين
من أصحابنا عليه الدم لما ذكرنا (والثاني) وهو قول أصحابنا البصريين لا دم عليه لحديث عبد الله
ابن عمرو بن العاص السابق عن صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم (سئل عمن حلق قبل أن
يرمى فقال لا حرج) فحصل ثلاثة أوجه فيمن حلق قبل الرمي والطواف (أحدها) لادم (والثاني)
207

يجب (وأصحها) وهو المذهب المشهور ان قلنا الحلق ليس بنسك وجب الدم والا فلا والله أعلم *
ويدخل وقت رمي جمرة العقبة وطواف الإفاضة بنصف ليلة النحر بشرط تقدم الوقوف بعرفات
والحلق ان قلنا نسك فكالرمي والطواف والا فلا يدخل وقته إلا بفعل الرمي أو الطواف
والله أعلم *
(فرع) وقت الحلق في حق المعتمر إذا فرغ من السعي فلو جامع بعد السعي وقبل الحلق فان
قلنا الحلق نسك فسدت عمرته لوقوع جماعه قبل التحلل (وان قلنا) ليس بنسك لم تفسد
والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في الحلق هل هو نسك؟ ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا انه نسك
وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء وظاهر كلام ابن المنذر والأصحاب أنه لم يقل بأنه
ليس بنسك أحد غير الشافعي في أحد قوليه ولكن حكاه القاضي عياض عن عطاء وأبي ثور
وأبى يوسف أيضا *
208

(فرع) أجمعوا على أن الحلق أفضل من التقصير وان التقصير يجزئ إلا ما حكاه ابن المنذر
عن الحسن البصري انه كأن يقول يلزمه الحلق في أول حجة ولا يجزئه التقصير وهذا ان صح عنه
باطل مردود بالنصوص واجماع من قبله *
(فرع) لو أخر الحلق إلى بعد أيام التشريق حلق ولا دم عليه سواء طال زمنه أم لا وسواء
رجع إلى بلده أم لا هذا مذهبنا وبه قال عطاء وأبو ثور وأبو يوسف واحمد وابن المنذر وغيرهم *
209

وقال أبو حنيفة إذا خرجت أيام التشريق لزمه الحلق ودم وقال سفيان الثوري واسحق ومحمد عليه
الحلق ودم * دليلنا الأصل لادم *
(فرع) قال ابن المنذر أجمعوا أن لا حلق على النساء إنما عليهن التقصير قالوا ويكره لهن الحلق
لأنه بدعة في حقهن وفيه مثلة * واختلفوا في قدر ما تقصره فقال ابن عمر والشافعي وأحمد واسحق
210

وأبو ثور تقصر من كل قرن مثل الأنملة * وقال قتادة تقصر الثلث أو الربع وقالت حفصة بنت
سيرين إن كانت عجوزا من القواعد أخذت نحو الربع وإن كانت شابة فلتقلل * وقال مالك
تأخذ من جميع قرونها أقل جزء ولا يجوز من بعض القرون * دليلنا في اجزاء ثلاث شعرات انهن
مأمورات بالتقصير وهذا يسمى تقصيرا *
211

(فرع) من لا شعر على رأسه لا حلق عليه ولا فدية ويستحب امرار الموسى على رأسه ولا يجب
ونقل ابن المنذر اجماع العلماء على أن الأصلع يمر الموسى على رأسه * وحكي أصحابنا عن أبي بكر
ابن داود أنه قال لا يستحب امراره وهو محجوج باجماع من قبله * وقال أبو حنيفة هذا الامرار
واجب ووافقنا مالك وأحمد انه مستحب * واحتج لأبي حنيفة بحديث عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (المحرم إذا لم يكن على رأسه شعر يمر الموسى على رأسه) قالوا ولأنه حكم تعلق بالرأس فإذا فقد
212

الشعر انتقل الوجوب إلى نفس الرأس كالمسح في الوضوء ولأنها عبادة تجب الكفارة بافسادها
فوجب التشبيه في أفعالها كالصوم فيما إذا قامت بينة في أثناء يوم الشك برؤية الهلال * واحتج
أصحابنا بأنه فرض تعلق بجزء من الآدمي فيسقط بفوات الجزء كغسل اليد في الوضوء فإنه يسقط
بقطعها (فان) قيل الفرض هناك متعلق باليد وقد سقطت وهنا متعلق بالرأس وهو باق (قلنا)
بل الفرض متعلق بالشعر فقط ولهذا لو كان على بعض رأسه شعر دون بعض لزمه الحلق في الشعر
ولا يكفيه الاقتصار على امرار الموسى على ما لا شعر عليه ولو تعلق الفرض عليه لأجزأ *
213

والجواب عن حديث ابن عمر انه ضعيف ظاهر الضعف قال الدارقطني وغيره لا يصح رفعه
إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو مروى موقوفا على ابن عمر (قلت) وهو موقوف ضعيف أيضا
كما سبق بيانه ولو صح لحمل على الندب * والجواب عن قياسهم على المسح في الوضوء من وجهين
(أحدهما) أن الفرض هناك تعلق بالرأس قال الله تعالى (وامسحوا برؤوسكم) وهنا تعلق بالشعر
بدليل ما قدمناه قريبا (والثاني) أنه إذا مسح بشعر الرأس سمي ماسحا فلزمه وإذا أمر الموسى
لا يسمى حالقا * (وأما) الجواب عن قياسهم على الصوم فهو أنه مأمور بامساك جميع النهار فبقيته
بعض ما تناوله الامر وهنا إنما هو مأمور بإزالة الشعر ولم يبق شئ منه والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا أن الواجب من الحلق أو التقصير عندنا ثلاث شعرات وبه قال أبو ثور
214

وقال مالك وأحمد يجب أكثر الرأس وقال أبو حنيفة يجب ربعه وقال أبو يوسف نصفه * احتجوا
بأن النبي صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه وقال صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عنى مناسككم) وهو حديث صحيح كما
سبق مرات * قالوا ولأنه لا يسمى حالقا بدون أكثره * واحتج أصحابنا بقوله تعالي (محلقين
رؤوسكم) والمراد شعور رؤوسكم والشعر أقله ثلاث شعرات ولأنه يسمى حالقا يقال حلق رأسه
وربعه وثلاث شعرات منه فجاز الاقتصار على ما يسمى حلق شعر (وأما) حلق النبي صلى الله عليه وسلم جميع
رأسه فقد اجمعنا على أنه للاستحباب وانه لا يجب الاستيعاب (وأما) قولهم لا يسمى حلقا بدون
أكثره فباطل لأنه انكار للحس واللغة والعرف والله أعلم *
(فرع) مذهبنا انه يستحب في الحلق ان يبدأ بالشق الأيمن من رأس المحلوق وإن كان على
يسار الحالق * وقال أبو حنيفة يبدأ بالشق الأيسر ليكون على يمين الحالق وهذا منابذ لحديث
أنس الذي ذكره المصنف وبيناه *
215

(فرع) ذكرنا ان مذهبنا انه لو قدم الحلق على الذبح جاز ولا دم عليه ولو قدم الحلق على
الرمي فالأصح أيضا انه يجوز ولا دم عليه * وقال أبو حنيفة إذا قدم الحلق على الذبح لزمه دم إن
كان قارنا أو متمتعا ولا شئ على المفرد * وقال مالك إذا قدمه على الذبح فلا دم عليه وان
قدمه على الرمي لزمه الدم * وقال احمد إن قدمه على الذبح أو الرمي جاهلا أو ناسيا فلا دم وان
تعمد ففي وجوب الدم روايتان عنه وعن مالك روايتان فيمن قدم طواف الإفاضة على الرمي
(إحداهما) يجزئه الطواف وعليه دم (والثانية) لا يجزئه * وقال سعيد بن جبير والحسن البصري
والنخعي وقتادة ورواية ضعيفة عن ابن عباس عليه الدم متى قدم شيئا على شئ من هذه * دليلنا
216

الأحاديث الصحيحة السابقة (لا حرج) ولم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين عالم وجاهل (فان قالوا) المراد
لا إثم لكونه ناسيا (قلنا) ظاهره لا شئ عليه مطلقا وأجمعوا على أنه لو نحر قبل الرمي لا شئ
عليه والله أعلم *
217

(فرع) ذكرنا ان الصحيح في مذهبنا ان من لبد رأسه ولم ينذر حلقه لا يلزمه حلقه بل يجزئه
التقصير كما لو لم يلبد وبه قال ابن عباس وأبو حنيفة * وأوجب الحلق عمر بن الخطاب وابنه
والثوري ومالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر ونقله القاضي عياض عن جمهور العلماء *
(فرع) قال ابن المنذر ثبت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه قلم أظفاره قال وكان ابن
عمر يأخذ من لحيته وشاربه وأظفاره إذا رمي الجمرة والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(والسنة أن يخطب الامام يوم النحر بمنى وهي إحدى الخطب الأربع ويعلم الناس الرمي والإفاضة
وغيرهما من المناسك لما روى ابن عمر قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر بعد رميه الجمرة
وكان في خطبته ان هذا يوم الحج الأكبر) ولان في هذا اليوم وما بعده مناسك يحتاج إلى العلم
بها فسن فيها الخطبة لذلك) *
218

(الشرح) حديث ابن عمر رواه البخاري بمعناه وقد سبق بيانه مع أحاديث كثيرة صحيحة
في إثبات خطبة يوم النحر ذكرناها عند ذكر خطبة اليوم السابع وذكرنا هناك أدلة الخطب الأربع
مبسوطة وفروعها ومذاهب العلماء فيها وهذا الذي قاله المصنف في هذا الفصل متفق عليه ولم يبين
متى تكون هذه الخطبة من يوم النحر وقد سبق أنها تكون بعد صلاة الظهر هكذا قاله الشافعي
والأصحاب واتفقوا عليه وهو مشكل لان المعتمد في هذه الخطبة الأحاديث الواردة فيها
والأحاديث مصرحة بأن هذه الخطبة كانت ضحوة يوم النحر لا بعد الظهر (وجوابه) (1) قال أصحابنا
ويستحب لكل أحد من الحجاج حضور هذه الخطبة ويستحب لهم وللامام الاغتسال لها والتطيب
إن كان قد تحلل التحللين أو الأول منهما والله أعلم * وهذه الخطبة تكون بمنى هكذا نص عليه
الشافعي والمصنف والأصحاب في جميع الطرق * وحكى الرافعي وجها شاذا ان هذه الخطبة تكون
بمكة وهذا فاسد مخالف للنقل والدليل * قال المصنف رحمه الله *

(1) كذا بالأصل فحرر
219

(ثم يفيض إلى مكة ويطوف طواف الإفاضة ويسمى طواف الزيارة لما روى جابر رضي
الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم (رمى الجمرة ثم ركب وأفاض إلى البيت) وهذا الطوف ركن من أركان
الحج لا يتم الحج إلا به والأصل فيه قوله عز وجل (وليطوفوا بالبيت العتيق) وروت عائشة ان
صفية رضي الله عنهما حاضت فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أحابستنا هي قلت يا رسول الله انها قد أفاضت
قال فلا) إذا فدل على أنه لا بد من فعله وأول وقته إذا انتصفت ليلة النحر لما روت عائشة أن
النبي صلى الله عليه وسلم (ارسل أم سلمة يوم النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت) والمستحب ان يطوف
يوم النحر لان النبي صلى الله عليه وسلم (طاف يوم النحر) فان أخر إلى ما بعده وطاف جاز لأنه أتي به بعد
دخول الوقت) *
(الشرح) حديث جابر رواه مسلم وحديث عائشة الأول في قضية صفية رواه البخاري
ومسلم (وأما) حديثها الآخر في قصة أم سلمة (1) (وأما) قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم (طاف يوم النحر)
فصحيح رواه مسلم من رواية ابن عمر ومن رواية جابر والله أعلم (أما) أحكام الفصل فالسنة إذا
رمى وذبح وحلق ان يفيض إلى مكة ويطوف بالبيت طواف الإفاضة وقد سبق في أوائل الباب
ان له خمسة أسماء وقد سبقت كيفية الطواف وسيق بيان التفصيل والخلاف في أنه يرمل ويضطبع
في هذا الطواف أم لا وهذا الطواف ركن من أركان الحج لا يصح الحج إلا به باجماع الأمة * قال
الأصحاب ويدخل وقت هذا الطواف من نصف ليلة النحر ويبقى إلى آخر العمر ولا يزال محرما
حتى يأتي به * والأفضل طوافه يوم النحر وأن يكون قبل الزوال في الضحاء بعد فراغه من الأعمال
الثلاثة وهي الرمي والذبح والحلق * قال أصحابنا ويستحب أن يعود إلى منى قبل صلاة الظهر
فيصلى الظهر بمنى قال أصحابنا ويكره تأخير الطواف عن يوم النحر وتأخيره عن أيام التشريق
أشد كراهة وخروجه من مكة بلا طواف أشد كراهة * ومن لم يطف لا يحل له النساء وإن مضت
عليه سنون * قال أصحابنا ولو طاف للوداع ولم يكن طاف الإفاضة وقع عن طواف الإفاضة وأجزأه
وقد سبقت المسألة واضحة في فصل طواف القدوم * قال أصحابنا فإذا طاف فإن لم يكن سعي بعد
طواف القدوم لزمه السعي بعد طواف الإفاضة ولا يزال محرما حتى يسعى ولا يحصل التحلل الثاني
بدونه وإن كان سعي بعد طواف القدوم لم يعده بل تكره اعادته كما سبق في فصل السعي والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا أنه لا آخر لوقت طواف الإفاضة بل يصح ما دام حيا لكن يكره

(1) بياض بالأصل فحرر
220

تأخيره عن يوم النحر فإذا أخره عن أيام التشريق قال المتولي يكره قضاء قال الرافعي ومقتضى
كلام الأصحاب أنه لا يكون قضاء بل يقع أداء لأنهم قالوا ليس هو بمؤقت وهذا كما قاله الرافعي *
(فرع) قد ذكرنا أنه يدخل وقت طواف الإفاضة بنصف ليلة النحر وهذا لا خلاف فيه
عندنا * قال القاضيان أبو الطيب وحسين في تعليقهما وصاحب البيان وغيرهم ليس للشافعي في
ذلك نص الا ان أصحابنا ألحقوه بالرمي في ابتداء وقته (وأما) وقت الفضيلة لطواف الإفاضة
فقد ذكرنا انه ضحوة يوم النحر وهذا هو الصحيح المشهور الذي تظاهرت به الأحاديث الصحيحة
وقطع به جمهور الأصحاب * وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه في الوقت المستحب وجهان لأصحابنا
(أحدهما) ما بين طلوع الشمس يوم النحر وزوالها لحديث ابن عمر وجابر الذين سنذكرهما إن شاء الله
تعالى في الفرع بعده (والثاني) ما بين طلوعها وغروبها *
(فرع) قال الشافعي والماوردي والأصحاب إذا فرغ من طوافه استحب أن يشرب من
سقاية العباس لحديث جابر (ان النبي صلى الله عليه وسلم جاء بعد الإفاضة إليهم وهم يسقون على زمزم فناولوه
دلوا فشرب منه) رواه مسلم *
(فرع) قد ذكرنا أن الأفضل أن يطوف الإفاضة قبل الزوال ويرجع إلى منى فيصلى بها
الظهر هذا هو المذهب الصحيح وبه قطع الجمهور ونقله الروياني في البحر عن نص الشافعي في الاملاء *
وذكر القاضي أبو الطيب في تعليقه فيه وجهين (أحدهما) هذا (والثاني) الأفضل أن يمكث بمنى
حتى يصلى بها الظهر مع الامام ويشهد الخطبة ثم يفيض إلى مكة فيطوف واستدل هذا القائل
بحديث عائشة الذي سنذكره إن شاء الله تعالى * واختار القاضي أبو الطيب بعد حكايته هذين
الوجهين وجها ثالثا أنه إن كان في الصيف عجل الإفاضة لاتساع النهار وإن كان شتاء أخرها إلى
ما بعد الزوال لضيقه هذا كلامه (والصواب) الأول * وقد صح في هذه المسألة أحاديث متعارضة
يشكل على كثير من الناس الجمع بينها حتى أن ابن حزم الطاهري صنف كتابا في حجة النبي
221

صلى الله عليه وسلم وأتى فيه بنفائس واستقصى وجمع بين طرق الأحاديث في جميع الحج ثم قال ولم يبق شئ
لم يبن لي وجهه الا الجمع بين هذه الأحاديث ولم يذكر شيئا في الجمع بينها وأنا أذكر طرقها ثم اجمع بينها
إن شاء الله تعالى (فمنها) حديث جابر الطويل (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاض يوم النحر إلى البيت
فصلى بمكة الظهر) رواه مسلم وعن نافع عن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم (أفاض يوم النحر ثم
رجع فصلى الظهر بمنى قال نافع وكان ابن عمر يفيض يوم النحر ثم يرجع فيصلى الظهر بمنى) رواه
مسلم * وعن عبد الرحمن بن مهدي قال (حدثنا سفيان يعني الثوري عن ابن الزبير عن عائشة عن
ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر الطواف يوم النحر إلى الليل) رواه أبو داود والترمذي وقال حديث
حسن * وذكر البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة جزم فقال وقال أبو الزبير عن عائشة وابن عباس
(أخر النبي صلى الله عليه وسلم الطواف إلى الليل * قال البيهقي وقد سمع أبو الزبير من ابن عباس وفى سماعه من
عائشة نظر قال البخاري قال البيهقي وقد روينا عن أبي سلمة عن عائشة أنها قالت (حججنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فافضنا يوم النحر) قال وروى محمد بن إسحاق بن يسار عن
عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت (أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من آخر
يوم حين صلى الظهر ثم رجع إلى منى) ورواه عمر بن قيس عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه
عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه فزاروا البيت ظهيرة وزار رسول الله صلى
الله عليه وسلم مع نسائه ليلا) والى هذا ذهب عروة بن الزبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
(طاف على ناقته ليلا) قال البيهقي وأصح هذه الروايات حديث ابن عمر وحديث جابر وحديث
أم سلمة عن عائشة هذا كلام البيهقي (قلت) فالظاهر أنه صلى الله عليه وسلم أفاض قبل الزوال وطاف وصلى
الظهر بمكة في أول وقتها ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر مرة أخرى إماما لأصحابه كما صلى بهم
في بطن نخل مرتين مرة بطائفة ومرة بطائفة أخرى فروى جابر صلاته بمكة وابن عمر بمنى وهما
صادقان وحديث أم سلمة عن عائشة محمول على هذا (وأما) حديث أبي الزبير وغيره فجوابها
222

من وجهين (أحدهما) أن روايات جابر وابن عمر وأبى سلمة عن عائشة أصح وأشهر وأكثر رواة
فوجب تقديمها ولهذا رواها مسلم في صحيحه دون حديث أبي الزبير وغيره (والثاني) أنه يتأول قوله
أخر طواف يوم النحر إلى الليل أي طواف نسائه ولابد من التأويل للجمع بين الأحاديث (فان
قيل) هذا التأويل يرده رواية القاسم عن عائشة في قوله (وزار رسول الله صلى الله عليه وسلم مع
نسائه ليلا) فجوابه لعله عاد للزيارة لا لطواف الإفاضة فزار مع نسائه ثم عاد إلى منى فبات
بها والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا ان لطواف الإفاضة خمسة أسماء (منها) طواف الزيارة ولا كراهة في تسميته
طواف الزيارة * هذا مذهبنا وبه قال أهل العراق وقال مالك يكره * دليلنا حديث عائشة في
صحيح مسلم وغيره (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد من امرأته صفية مثل ما يريد الرجل
فقالوا إنها حائض فقال إنها لحابستنا قالوا يا رسول الله انها قد زارت يوم النحر قال فلتنفر معكن
ومعناه قد طافت طواف الزيارة * وعن ابن عباس وعائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم (اخر طواف
الزيارة إلى الليل) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ودلالته ظاهرة ودلالة الأول انه
لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ولان الأصل عدم الكراهة حتى يثبت دليلها الشرعي *
(فرع) اختلف العلماء في يوم الحج الأكبر متى هو فقيل يوم عرفة والصحيح الذي قاله
الشافعي وأصحابنا وجماهير العلماء وتظاهرت عليه الأحاديث الصحيحة انه يوم النحر وإنما قيل
الحج الأكبر للاحتراز من الحج الأصغر وهو العمرة * هكذا أثبت في الحديث الصحيح * ومما
يستدل به حديث حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أبي هريرة قال (بعثني أبو بكر في تلك الحجة
يعني حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه سنة تسع من الهجرة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون
223

بمنى أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بعلي بن أبي طالب
رضي الله عنه فأمره أن يؤذن ليراه قال أبو هريرة فاذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ليراه وأن
لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان وكان حميد يقول النحر يوم الحج الأكبر من
أجل قول أبي هريرة) رواه البخاري ومسلم في صحيحهما ومعنى قول حميد أن الله أمر بهذا الاذان
يوم الحج الأكبر فاذنوا به يوم النحر فدل على أنهم علموا أنه يوم الحج الأكبر المأمور بالاذان
فيه في قوله تعالى (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر) الآية ولان معظم المناسك
تفعل فيه * ومن قال يوم عرفة احتج بالحديث السابق (الحج عرفة) ولكن حديث أبي هريرة
يرده * ونقل القاضي عياض أن مذهب مالك أنه يوم النحر وأن مذهب الشافعي أنه يوم عرفة
وليس كما قال بل مذهب الشافعي وأصحابه أنه يوم النحر كما سبق والله أعلم *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا أن طواف الإفاضة لا آخر لوقته بل يبقى ما دام حيا ولا يلزمه
بتأخيره دم قال ابن المنذر ولا أعلم خلافا بينهم في أن من أخره وفعله في أيام التشريق أجزأه ولا
دم فان أخره عن أيام التشريق فقد قال جمهور العلماء كمذهبنا لادم * ممن قاله عطاء وعمرو بن
دينار وابن عيينة وأبو ثور وأبو يوسف ومحمد وابن المنذر وهو رواية عن مالك * وقال أبو حنيفة
إن رجع إلى وطنه قبل الطواف لزمه العود للطواف فيطوف وعليه دم للتأخير وهو الرواية المشهورة
عن مالك * دليلنا أن الأصل عدم الدم حتى يرد الشرع به والله أعلم * وقد قدمنا في فصل طواف
القدوم أنه لو طاف الإفاضة وترك من الطوافات السبع واحدة أو بعضها لا يصح طوافه حتى يكمل
السبع بلا خلاف عندنا وبه قال جمهور العلماء وسبق فيه بيان مذهب أبي حنيفة *
* قال المصنف رحمه الله *
(وإذا رمى وحلق وطاف حصل له التحلل الأول والثاني وبأي شئ حصل له التحلل ان
قلنا إن الحلق نسك حصل له الأول باثنين من ثلاثة وهي الرمي والحلق والطواف وحصل له
الثاني بالثالث * وان قلنا إن الحلق ليس بنسك حصل له التحلل الأول بواحد من اثنين - الرمي -
224

والطواف - وحصل له التحلل الثاني بالثاني * وقال أبو سعيد الإصطخري إذا دخل وقت الرمي
حصل له التحلل الأول وإن لم يرم كما إذا فات وقت الرمي حصل له التحلل الأول وإن لم يرم
والمذهب الأول لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم الطيب
واللباس وكل شئ إلا النساء) فعلق التحلل بفعل الرمي ولان ما تعلق به التحلل لم يتعلق بدخول
وقته كالطواف * ويخالف إذا فات الوقت فان بفوات الوقت يسقط فرض الرمي كما يسقط بفعله
وبدخول الوقت لا يسقط الفرض فلم يحصل به التحلل * وفيما يحل بالتحلل الأول والثاني قولان
(أحدهما) وهو الصحيح يحل بالأول جميع المحظورات الا الوطئ وبالثاني يحل الوطئ لحديث
عائشة رضي الله عنها (والثاني) يحل بالأول كل شئ الا الطيب والنكاح والاستمتاع بالنساء
225

وقتل الصيد لما روى مكحول عن عمر أنه قال (إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شئ الا النساء
والطيب والصيد) والصحيح هو الأول لان حديث عمر مرسل ولان السنة مقدمة عليه * هذا
إذا كان قد سعى عقب طواف القدوم (فاما) إذا لم يسع وقف التحلل على الطواف والسعي لان
السعي ركن كالطواف) *
(الشرح) أما حديث عائشة رضي الله عنها فرواه أبو داود باسناد ضعيف جدا من رواية
226

الحجاج بن أرطأة وقال هو حديث ضعيف * وقد روى النسائي باسناده عن الحسن بن عبد الله
القرني عن ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شئ
الا النساء) هكذا رواه النسائي وابن ماجة مرفوعا واسناده جيد الا ان يحيى بن معين وغيره
قالوا يقال إن الحسن العرني لم يسمع ابن عباس ورواه البيهقي موقوفا على ابن عباس والله أعلم *
227

(وأما) الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فهو مرسل كما قال المصنف لان مكحولا
لم يدرك عمر فحديثه عنه منقطع ومرسل والله أعلم (أما) حكم الفصل فقال الشافعي
والأصحاب رحمهم الله للحج تحللان أول وثان يتعلقان برمي جمرة العقبة والحلق وطواف
الإفاضة هذا إن قلنا الحلق نسك والا فيتعلقان بالرمي والطواف (وأما) النحر فلا مدخل له في
228

التحلل * (فان قلنا) الحلق نسك حصل التحلل الأول باثنين من الثلاثة فأي اثنين منها أتى بهما حصل
التحلل الأول سواء كانا رميا وحلقا أو رميا وطوافا ا طوافا وحلقا ويحصل التحلل الثاني بالعمل الباقي
من الثلاثة (وان قلنا) الحلق ليس بنسك لم يتعلق به التحلل بل يحصل التحللان بالرمي والطواف
أيهما فعله حصل به التحلل الأول ويحصل الثاني بالثاني * ولو لم يرم جمرة العقبة حتى خرجت
أيام التشريق فقد فات الرمي ولزمه بفواته الدم ويصير كأنه رمى بالنسبة إلى حصول التحلل به وهل
229

يتوقف تحلله على الاتيان ببدل الرمي فيه ثلاثة أوجه حكاها امام الحرمين وغيره (أصحها) نعم لأنه
قائم مقامه (والثاني) لا إذ لا رمي (والثالث) إن افتدى بالدم توقف وان افتدى بالصوم فلا
لطول زمنه (واما) إذا لم يرم ولم تخرج أيام التشريق فلا يجعل دخول وقت الرمي كالرمي في حصول
التحلل * هذا هو المذهب وبه قطع جماهير الأصحاب * وفيه وجه للإصطخري حكاه المصنف
والأصحاب أن دخول وقت الرمي كالرمي في حصول التحلل وقد ذكر المصنف دليله مع دليل المذهب *
وحكى الرافعي وجها شاذا ضعيفا للداركي أنه إن قلنا الحلق نسك حصل التحللان جميعا بالحلق
مع الطواف من غير رمي أو بالطواف والرمي ولا يحصل بالرمي والحلق إلا أحد التحللين * وحكى
الرافعي وجها شاذا ضعيفا أنه يحصل التحلل الأول بالرمي فقط أو الطواف فقط وإن قلنا الحلق
نسك * وحكى إمام الحرمين عن حكاية صاحب التقريب وجها أنا إذا لم نجعل الحلق نسكا حصل
التحلل الأول بمجرد طلوع الفجر يوم النحر لوجود اسم اليوم * وهذه الأوجه كلها شاذة ضعيفة
230

(والمذهب) ما قدمناه أولا * والحاصل أن المذهب الذي يفتي به أن التحلل يحصل باثنين من
الثلاثة والثاني بالثالث والله أعلم * قال أصحابنا ولا بد من السعي مع الطواف إن لم يكن سعى بعد
طواف القدوم * قال إمام الحرمين والأصحاب فيعد الطواف والسعي سببا واحدا من أسباب
231

التحلل فلو لم يرم ولكن طاف وحلق ولم يسع لم يحصل التحلل الأول لان السعي كالجزء فكأنه
ترك بعض المرات من الطواف وهذا لا خلاف فيه والله أعلم (وأما) العمرة فليس لها الا تحلل واحد
بلا خلاف وهو بالطواف والسعي ويضم إليهما الحلق ان قلنا هو نسك والا فلا * قال أصحابنا
وإنما كان في العمرة تحلل وفي الحج تحللان لان الحج يطول زمنه وتكثر أعماله بخلاف العمرة
232

فأبيح بعض محرماته في وقت وبعضها في وقت والله أعلم * قال أصحابنا ويحل بالتحلل الأول في
الحج اللبس والقلم وستر الرأس والحلق ان لم نجعله نسكا بلا خلاف ولا يحل الجماع الا بالتحللين
بلا خلاف والمستحب أن لا يطأ حتى يرمي أيام التشريق وفي عقد النكاح والمباشرة فيما دون
الفرج بشهوة كالقبلة والملامسة قولان مشهوران * قال القاضي أبو الطيب نص عليهما الشافعي في
الجديد (أصحهما) عند أكثر الأصحاب لا يحل الا بالتحللين (وأصحهما) عند المصنف والروياني يحل
بالأول وقال الماوردي لا يحل بالأول المباشرة ويحل الصيد والنكاح والطيب في أصح القولين
قال وهو الجديد ويحل الصيد بالأول على الأصح من القولين باتفاقهم (وأما) الطيب فالمذهب القطع
بحله بالتحلل الأول بل قال أصحابنا هو مستحب بين التحللين للحديث الذي سنذكره إن شاء الله
233

تعالى وبهذا الطريق قطع المصنف والجمهور * وذكر القاضي أبو الطيب في تعليقه والبندنيجي والماوردي
والروياني وإمام الحرمين وآخرون فيه طريقين (أصحهما) حله (والثاني) على قولين كالصيد وعقد
النكاح * وهذا باطل منابذ للسنة فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم
لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) رواه البخاري ومسلم *
(فرع) في بيان حديث مشكل مخالف لما ذكرناه وهو ما رواه أبو داود في سننه قال حدثنا
أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا حدثنا ابن أبي عدي عن محمد بن إسحاق قال حدثنا أبو عبيدة
ابن عبد الله بن زمعة عن أبيه وعن أمه زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة قالت (كانت ليلتي التي يصير إلى
فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فصار إلى فدخل علي وهب بن زمعة ومعه رجل
مقتمصين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضت أبا عبد الله قال لا والله يا رسول الله
قال إنزع عنك القميص فنزعه من رأسه ونزع صاحبه قميصه من رأسه ثم قال ولم يا رسول الله قال
إن هذا يوم رخص فيه لكم إذا أنتم رميتم الجمرة أن تحلوا يعني من كل ما حرمتم منه الا النساء
فإذا أمسيتم قبل أن تطوفوا هذا البيت صرتم حرما كمبيتكم قبل أن ترموا الجمرة حتى تطوفوا به)
هذا لفظه وهذا الاسناد صحيح والجمهور على الاحتجاج بمحمد بن إسحاق إذا قال حدثنا وإنما
عابوا عليك التدليس والمدلس إذا قال حدثنا احتج به وإذا ثبت أن الحديث صحيح فقد قال البيهقي
لا أعلم أحدا من الفقهاء قال به * هذا كلام البيهقي (قلت) فيكون الحديث منسوخا دل الاجماع
على نسخه فان الاجماع لا ينسخ ولا ينسخ لكن يدل على ناسخ والله أعلم *
(فرع) ذكرنا ان في الحج تحللين هكذا قاله الأصحاب في جميع الطرق * قال القاضي أبو الطيب
في تعليقه قال الشيخ أبو حامد ليس فيه الا تحلل واحد قال وقولنا تحللان مجاز بل إذا رمى جمرة
234

العقبة زال احرامه وبقي حكمه فلا يجوز حتى يحلق ويطوف كما أن الحائض إذا انقطع دمها زال
الحيض وبقى حكمه وهو تحريم وطئها حتى تغتسل * قال أبو الطيب هذا غلط لان الطواف أحد
أركان الحج فكيف يزول الاحرام وبعض الأركان باق والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا إذا تحلل التحللين صار حلالا في كل شئ ويجب عليه الاتيان بما بقي
من الحج وهو الرمي في أيام التشريق والمبيت لياليها بمنى مع أنه غير محرم كما يسلم التسليمة الثانية
وإن كان قد خرج من الصلاة بالأولى * قال المصنف رحمه الله *
(وإذا فرغ من الطواف رجع إلى منى وأقام بها أيام التشريق يرمى في كل يوم الجمرات
الثلاث كل جمرة سبع حصيات فيرمي الجمرة الأولى وهي التي تلي مسجد الخيف ويقف قدر سورة
البقرة يدعوا الله عز وجل ثم يرمي الجمرة الوسطى ويقف ويدعو الله تعالى كما ذكرنا ثم يرمي الجمرة الثالثة
وهي جمرة العقبة ولا يقف عندها لما روت عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة حتى صلى
الظهر ثم رجع إلى منى فأقام بها أيام التشريق الثلاث يرمي الجمار فرمى الجمرة الأولى إذا زالت
الشمس بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ثم يقف فيدعو الله تعالى ثم يأتي الجمرة الثانية فيقول مثل ذلك
ثم يأتي جمرة العقبة فيرميها ولا يقف عندها) ولا يجوز أن يرمي الجمار في هذه الأيام الثلاثة الا مرتبا
يبدأ بالأولى ثم بالوسطى ثم بجمرة العقبة لان النبي صلى الله عليه وسلم رمى هكذا وقال (خذوا عني مناسككم)
فان نسي حصاة ولم يعلم من أي الجمار تركها جعلها من الجمرة الأولى ليسقط الفرض بيقين ولا يجوز
الرمي في هذه الأيام الثلاثة الا بعد الزوال لان عائشة رضي الله عنها قالت (أقام رسول الله صلى الله
عليه وسلم أيام التشريق الثلاثة يرمي الجمار الثلاث حين تزول الشمس) فان ترك الرمي في اليوم الثالث
سقط الرمي لأنه فات أيام الرمي ويجب عليه دم لقوله صلى الله عليه وسلم (من ترك نسكا فعليه
دم) فان ترك الرمي في اليوم الأول إلى اليوم الثاني أو ترك الرمي في اليوم الثاني إلى الثالث فالمشهور
من المذهب أن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد فما ترك في الأول يرميه في اليوم الثاني وما تركه في
235

اليوم الثاني يرميه في اليوم الثالث والدليل عليه أنه يجوز لرعاة الإبل أن يؤخروا رمي يوم إلى يوم
بعده فلو لم يكن اليوم الثاني وقتا لرمي اليوم الأول لما جاز الرمي فيه وقال في الاملاء رمي كل يوم
يوم مؤقت بيومه والدليل عليه أنه رمى مشروع في يوم ففات بفواته كرمي اليوم الثالث فان تدارك عليه
رمي يومين أو ثلاثة أيام (فان قلنا) بالمشهور بدأ ورمى عن اليوم الأول ثم عن اليوم الثاني ثم عن
اليوم الثالث فان نوى بالرمي الأول عن اليوم الثاني ففيه وجهان (أحدهما) أنه لا يجزئه لأنه ترك
الترتيب (والثاني) أنه يجزئه عن الأول لان الرمي مستحق عن اليوم الأول فانصرف إليه كما لو طاف
بنية الوداع وعليه طواف الفرض (فان قلنا) بقوله في الاملاء إن رمى كل يوم موقت بيومه وفات
اليوم ولم يرم ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) أن الرمي يسقط وينتقل إلى الدم كاليوم الأخير (والثاني)
أنه يرمي ويريق دما للتأخير كما لو أخر قضاء رمضان حتى أدركه رمضان آخر فإنه يصوم ويفدي
(والثالث) أنه يرمي ولا شئ عليه كما لو ترك الوقوف بالنهار فإنه يقف بالليل ولا دم عليه فعلى هذا
إذا رمى عن اليوم الثاني قبل اليوم الأول جاز لأنه قضاء فلا يجب فيه الترتيب كالصلاة الفائتة
(فأما) إذا نسي رمي يوم النحر ففيه طريقان (من) أصحابنا من قال هو كرمي أيام التشريق فيرمي
رمى يوم النحر في أيام التشريق وتكون أيام التشريق وقتا له وعلى قوله في الاملاء يكون على
الأقوال الثلاثة (ومن) أصحابنا من قال يسقط رمى يوم النحر قولا واحدا لأنه لما خالف رمى أيام
التشريق في المقدار والمحل خالفه في الوقت * ومن ترك رمى الجمار الثلاث في يوم لزمه دم لقوله صلى
الله عليه وسلم (من ترك نسكا فعليه دم) فان ترك ثلاث حصيات فعليه دم لأنه يقع اسم الجمع المطلق
عليه فصار كما لو ترك الجميع وان ترك حصاة ففيه ثلاثة أقوال (أحدها) يجب عليه ثلث دم (والثاني)
مد (والثالث) درهم * وان ترك حصاتين لزمه في أحد الأقوال ثلثا دم وفي الثاني مدان وفي الثالث
درهمان * وان ترك الرمي في أيام التشريق وقلنا بالقول المشهور أن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد
لزمه دم كاليوم الواحد (فان قلنا) بقوله في الاملاء ان رمى كل يوم مؤقت بيومه لزمه ثلاثة دماء وان
ترك رمى يوم النحر وأيام التشريق (فان قلنا) ان رمى يوم النحر كرمي أيام التشريق لزمه على
236

القول المشهور دم واحد (وإن قلنا) إنه ينفرد عن رمي أيام التشريق (فان قلنا) ان رمى أيام التشريق
كرمي اليوم الواحد لزمه دمان (وإن قلنا) إن رمي كل يوم مؤقت بيومه لزمه أربعة دماء) *
(الشرح) حديث عائشة رضي الله عنها رواه أبو داود والبيهقي ولكنه من رواية محمد بن إسحاق
صاحب المغازي عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة بلفظه ولكن محمد بن إسحاق
مدلس والمدلس إذا قال عن لا يحتج بروايته ويغني عنه حديث سالم عن ابن عمر (أنه كان يرمي
الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر على أثر كل حصاة ثم يتقدم ثم يسهل فيقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا
ويدعو ويرفع يديه ثم يرمي الوسطى ثم يأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم مستقبل القبلة فيقوم طويلا
ويدعو ويرفع يديه ويقوم طويلا ثم يرمي جمرة ذات العقبة من بطن الوادي ولا يقف عندها ثم
ينصرف فيقول هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) رواه البخاري في صحيحه في
ثلاثة أبواب متوالية * ورواه مالك والبيهقي وغيرهما وفي روايتهم (فيقف عند الجمرتين الأوليين
طويلا يكبر الله تعالى ويسبحه ويحمده ويدعوا الله تعالى) (وأما) حديث أن النبي صلى الله عليه
وسلم (رمى الجمار مرتبا) فهو صحيح مشهور من رواية ابن عمر التي ذكرتها الآن ومن غيرها
(وأما) حديث (خذوا عني مناسككم) فصحيح رواه مسلم من رواية جابر وسبق بيانه في هذا
الباب مرات (وأما) حديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام أيام التشريق يرمي الجمار
إذا زالت الشمس) فرواه أبو داود باسناده الذي فيه محمد بن إسحاق وقد بينته الآن ويغني عنه
حديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة أول يوم ضحى ثم لم يرم بعد ذلك حتى
زالت الشمس) رواه مسلم وعن ابن عمر قال (كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا) رواه البخاري
237

(وأما) حديث (من ترك نسكا فعليه دم) فسبق بيانه (وأما) ألفاظ الفصل فقوله مسجد الخيف
هو - بفتح الخاء المعجمة واسكان المثناة تحت - قال أهل اللغة الخيف ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع
عن مسيل الماء وبه يسمى مسجد الخيف وهو مسجد عظيم واسع جدا فيه عشرون بابا وذكر
الأزرقي جملا تتعلق به * (قوله) رمى مشروع في يوم احتراز من رجم الزاني (أما) الأحكام
ففيها مسائل (إحداها) قال الشافعي والأصحاب إذا فرغ الحاج من طواف الإفاضة والسعي إن
كان لم يسع بعد طواف القدوم فالسنة أن يرجع إلى منى عقب فراغه فإذا رجع صلى بها الظهر وحضر
الخطبة ثم يقيم في منى لرمي أيام التشريق ومبيت لياليها وقد سبق أن اليوم الأول من أيام التشريق
يسمى يوم القر - بفتح القاف وتشديد الراء - لأنهم قارون بمنى واليوم الثاني يسمى النفر الأول
واليوم الثالث يوم النفر الثاني * ومجموع حصي الرمي سبعون حصاة سبع منها لجمرة العقبة يوم
النحر والباقي لرمي أيام التشريق فيرمي كل يوم الجمرات الثلاث كل جمرة سبع حصيات كما سبق
وصفه في رمي جمرة العقبة فيأخذ كل يوم إحدى وعشرون حصاة فيأتي الجمرة الأولى وهي التي تلي
مسجد الخيف وهي أولهن من جهة عرفات وهي في نفس الطريق الجادة فيأتيها من أسفل منها
238

فيصعد إليها ويعلوها حتى يكون ما عن يساره أقل ما عن يمينه ويستقبل الكعبة ثم يرمي الجمرة بسبع
حصيات واحدة واحدة يكبر عقب كل حصاة كما سبق في رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يتقدم
عنها وينحرف قليلا ويجعلها في قفاه ويقف في موضع لا يصيبه المتطاير من الحصى الذي يرمى
فيستقبل القبلة ويحمد الله تعالى ويكبر ويهلل ويسبح ويدعو مع حضور القلب وخضوع الجوارح
ويمكث كذلك قدر سورة البقرة ثم يأتي الجمرة الثانية وهي الوسطى ويصنع فيها كما صنع في الأولى ويقف
للدعاء كما وقف في الأولى الا انه لا يتقدم عن يسارها بخلاف ما فعل في الأولى لأنه لا يمكنه ذلك
فيها بل يتركها عن يمينه ويقف في بطن المسيل منقطعا عن أن يصيبه الحصى ثم يأتي الجمرة الثالثة
وهي جمرة العقبة التي رماها يوم النحر فيرميها من بطن الوادي ولا يقف عندها للذكر والدعاء *
هذه الكيفية هي المسنونة والواجب منها أصل الرمي بصفته السابقة في رمي جمرة العقبة وهو أن
يرمي بما يسمى حجرا ويسمى رميا (وأما) الدعاء والذكر وغيرهما مما زاد على أصل الرمي فمستحب
لا شئ عليه في تركه لكن فاتته الفضيلة * ويرمي في اليوم الثاني من أيام التشريق كما رمى في
الأول ويرمي في الثالث كذلك إن لم ينفر في اليوم الثاني والله أعلم * ودليل استحباب الوقوف
للدعاء والذكر عند الجمرتين الأوليين مذكور في الكتاب (وأما) كونه قدر سورة البقرة فرواه
البيهقي من فعل ابن عمر والله أعلم (الثانية) يستحب أن يغتسل كل يوم للرمي (الثالثة) لا يجوز
الرمي في هذه الأيام الا بعد زوال الشمس ويبقى وقتها إلى غروبها وفيه وجه مشهور أنه يبقى إلى
الفجر الثاني من تلك الليلة (والصحيح) هذا فيما سوى اليوم الآخر (وأما) اليوم الآخر فيفوت
رميه بغروب شمسه بلا خلاف وكذا جميع الرمي يفوت بغروب شمس الثالث من التشريق لفوات
زمن الرمي والله أعلم * قال أصحابنا ويستحب إذا زالت الشمس أن يقدم الرمي على صلاة الظهر
ثم يرجع فيصلى الظهر نص عليه الشافعي رحمه الله واتفق عليه الأصحاب ويدل عليه حديث ابن عمر
السابق قريبا (الرابعة) العدد شرط في الرمي فيرمي في كل يوم إحدى وعشرين حصاة إلى كل
جمرة سبع حصيات كما ذكرنا وتكون كل حصاة برمية مستقلة كما سبق في جمرة العقبة (الخامسة)
يشترط الترتيب بين الجمرات فيبدأ بالجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة ولا خلاف في اشتراطه
فلو ترك حصاة من الأولى أو جهل فلم يدر من أين تركها جعلها من الأولى فيلزمه أن يرمي إليها
239

حصاة ثم يرمي الجمرتين الأخريين ليسقط الفرض بيقين (السادسة) ينبغي أن يوالي بين الحصيات
في الجمرة الواحدة وان يوالي بين الجمرات وهذه الموالاة سنة ليست بشرط على المذهب وبه قطع
الأكثرون وقيل شرط وقد سبق بيانه في رمي جمرة العقبة (السابعة) إذا ترك شيئا من رمي يوم
القر عمدا أو سهوا هل يتداركه في اليوم الثاني أو الثالث أو ترك رمي اليوم الثاني أو رمي اليومين
الأوليين هل يتدارك في الثالث منه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (الصحيح) عند
الأصحاب يتدارك (والثاني) نصه في الاملاء لا يتدارك (فان قلنا) لا يتدارك في بقية الأيام فهل
يتدارك في الليلة الواقعة بعده من ليالي التشريق (إذا قلنا) بالأصح ان وقته لا يمتد في تلك الليلة فيه
وجهان حكاهما المتولي وآخرون (وان قلنا) بالتدارك فتدارك فهل هو أداء أم قضاء فيه قولان
(أصحهما) أداء كما في حل أهل السقاية والرعاة * (فان قلنا) أداء فجملة أيام منى
في حكم الوقت الواحد فكل يوم للقدر المأمور به وقت اختيار كأوقات اختيار الصلوات
ويجوز تقديم رمي يوم التدارك على الزوال * ونقل إمام الحرمين أن على هذا القول لا يمتنع
تقديم رمي يوم إلى يوم * قال الرافعي لكن يجوز أن يقال إن وقته يتسع من جهة الاخر دون
الأول ولا يجوز التقديم على كلام الرافعي وهو كما قال فالصواب الجزم بمنع التقديم وبه قطع الجمهور
تصريحا ومفهوما * (وإذا قلنا) انه قضاء فتوزيع الأقدار المعينة على الأيام مستحق ولا سبيل إلى
تقديم رمي يوم إلى يوم ولا إلى تقديمه على الزوال وهل يجوز بالليل فيه وجهان (أصحهما) الجواز
لان القضاء لا يتأقت (والثاني) لا يجوز لان الرمي عبادة النهار كالصوم وهل يجب الترتيب بين
الرمي المتروك ورمى يوم التدارك فيه قولان ومنهم من حكاهما وجهين (أصحهما) نعم كالترتيب
في المكان وهما مبنيان على أن التدارك قضاء أم أداء (ان قلنا) أداء وجب الترتيب والا فلا
فإن لم نوجب الترتيب فهل يجب على أهل العذر كالرعاة وأهل السقاية فيه وجهان قال المتولي نظيره
ان فاتته الظهر لا يلزمه الترتيب بينها وبين العصر ولو اخرها للجمع فوجهان ولو رمى إلى الجمرات
كلها عن يوم قبل أن يرمي إليها عن أمسه أجزأه إن لم نوجب الترتيب فان أوجبناه فوجهان (أصحهما) يجزئه
ويقع عن القضاء (والثاني) لا يجزئه أصلا * قال الامام ولو صرف الرمي إلى غير النسك بان رمى
إلى شخص أو دابة في الجمرة ففي انصرافه عن النسك الخلاف المذكور في صرف الطواف (والأصح)
الانصراف فإن لم ينصرف وقع عن أمسه ولغا قصده وان انصرف فان شرطنا الترتيب لم يجزه
أصلا وان لم نشترط أجزأه عن يومه * ولو رمى إلى كل جمرة أربع عشرة حصاة سبعا عن يومه
240

وسبعا عن أمسه جاز إن لم نشترط الترتيب وان شرطناه لم يجز وهو نصه في المختصر * هذا كله في
رمي اليوم الأول والثاني من أيام التشريق (أما) إذا ترك رمي يوم النحر ففي تداركه في أيام التشريق
طريقان (أصحهما) أنه على القولين (والثاني) القطع بعدم التدارك للمغايرة بين الرميين قدرا؟؟؟
ووقتا وحكما * فان رمي يوم النحر يؤثر في التحلل بخلاف أيام التشريق *
(فرع) لو ترك رمي بعض الأيام وقلنا يتدارك فتدارك فلا دم على المذهب وبه قطع الجمهور
وفيه قول ضعيف حكاه المصنف والأصحاب أنه يجب دم مع التدارك كمن أخر قضاء رمضان حتى
دخل رمضان آخر فإنه يقضيه ويفدي * ولو نفر يوم النحر أو يوم القر قبل أن يرمي ثم عاد ورمى
قبل الغروب أجزأه ولا دم ولو فرض ذلك يوم النفر الأول فكذا على الأصح وفيه وجه ضعيف أنه
يلزمه الدم لان النفر في هذا اليوم جائز في الجملة فإذا نفر فيه خرج عن الحج فلا يسقط الدم
بعوده وحيث قلنا لا يتدارك أو قلنا به فلم يتدارك وجب الدم وكم قدره فيه صور * فان ترك رمى
يوم النحر وأيام التشريق والصورة فيمن توجه عليه رمى اليوم الثالث من التشريق ففيما يلزمه ثلاثة
أقوال (أحدها) دم (والثاني) دمان (والثالث) أربعة دماء ودليلها في الكتاب * وهذا الثالث
أظهرها عند البغوي * قال الرافعي لكن مقتضى كلام الجمهور ترجيح الأول * وحكى الدارمي
عن حكاية ابن القطان وجها انه يجب عشرة دماء يجعل كل جمرة مفردة وهذا شاذ باطل * ولو
ترك يوم النحر أو رمى يوم من التشريق وجب دم * وإن ترك رمي بعض التشريق فطريقان
(أحدهما) الجمرات الثلاث كالشعرات الثلاث فلا يكمل الدم في بعضها بل إن ترك جمرة ففيه
الأقوال الثلاثة المشهورة فيمن حلق شعرة (أظهرها) مد (والثاني) درهم (والثالث) ثلث دم * وان
ترك جمرتين فعلى هذا القياس وعلى هذا لو ترك حصاة من جمرة قال صاحب التقريب (إن قلنا) في
الجمرة ثلث دم ففي الحصاة جزء من أحد وعشرين جزءا من دم (وإن قلنا) في الجمرة مد أو درهم
قال الرافعي فيحتمل أن نوجب سبع مد أو سبع درهم ويحتمل ان لا نبعضهما (والطريق الثاني)
تكميل الدم في وظيفة الجمرة الواحدة كما يكمل في جمرة النحر في الحصاة والحصاتين الأقوال الثلاثة
هذا في الحصاة والحصاتين من آخر أيام التشريق (فأما) إذا تركها من الجمرة الآخرة يوم القر أو
النفر الأول ولم ينفر (فان قلنا) لا يجب الترتيب بين التدارك ورمى الوقت صح رميه لكن
ترك حصاة ففيه الخلاف (1) وإن أوجبنا الترتيب ففيه الخلاف السابق في أن الرمي بنية اليوم هل

(1) كذا بالأصل فحرر
241

يقع عن الماضي (إن قلنا) نعم تم المتروك بما أتى به في اليوم الذي بعده لكن يكون تاركا للجمرة
الأولى والثانية في ذلك اليوم فعليه دم (وان قلنا) لا كان تاركا رمى حصاة ووظيفة يوم فعليه دم
إن لم نفرد كل يوم بدم وان أفردنا فعليه لوظيفة اليوم دم وفيما يجب لترك الحصاة الخلا ف * وان
تركها من إحدى الجمرتين الأوليين من أي يوم * كان فعليه دم لان ما بعدها غير صحيح لوجوب
الترتيب في المكان * هذا كله إذا ترك بعض يوم من التشريق فان ترك بعض رمى النحر فقد
الحقه البغوي بما إذا ترك من الجمرة الآخرة من اليوم الآخر * وقال المتولي يلزمه دم ولو ترك
حصاة فقط لأنها من أسباب التحلل فإذا ترك شيئا منها لم يتحلل الا ببدل كامل * وحكى إمام
الحرمين وجها غريبا ضعيفا أن الدم يكمل في حصاة واحدة مطلقا وحكاه الدارمي وهو شاذ متروك
والله أعلم * قال المتولي لو ترك ثلاث حصيات من جملة الأيام لم يعلم موضعها أخذ بالأسوأ وهو انه
ترك حصاة من يوم النحر وحصاة من الجمرة الأولى يوم القر وحصاة من الجمرة الثانية يوم النفر
الأول فإن لم يحسب ما يرميه بنية وظيفة اليوم عن الفائت فالحاصل ست حصيات من رمي يوم النحر
سواء شرطنا الترتيب بين التدارك ورمي الوقت أم لا وان حسبناه فالحاصل رمي يوم النحر وأحد
أيام التشريق لا غير سواء شرطنا الترتيب أم لا ودليله يعرف مما سبق من الأصول والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا يستحب أن يكون رميه في اليومين الأولين من التشريق ماشيا وأن
يكون راكبا في اليوم الآخر فيرمي بعد الزوال وقبل صلاة الظهر راكبا وينفر عقب الرمي كما أنه
يرمي يوم النحر راكبا ثم ينزل هكذا قاله جماهير الأصحاب في كل الطرق ونص عليه الشافعي في
الاملاء * وشذ المتولي عن الأصحاب فحكى عن نص الشافعي في الاملاء ما ذكرناه ثم قال والصحيح
أنه يرمي ماشيا في أيام التشريق الثلاثة لحديث عبد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر (أنه
كان يأتي الجمار في الأيام الثلاثة بعد يوم النحر ماشيا ذاهبا وراجعا ويخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يفعل ذلك) رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما وهو حديث ضعيف لان عبد الله العمري ضعيف
عند أهل الحديث وإنما الصحيح من هذا رواية ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا رمى الجمار
مشي إليه ذاهبا وراجعا) رواه الترمذي باسناد على شرط البخاري ومسلم وقال هذا حديث حسن
صحيح والله أعلم *
242

(فرع) لا يفتقر الرمي إلى نية على المذهب وفيه وجه حكاه الدارمي والقاضي أبو الطيب
وغيرهما وقد سبق في فصل طواف القدوم عند ذكر نية الطواف ثلاثة أوجه في النية في جميع
أعمال الحج والله أعلم *
(فرع) في الحكمة في الرمي * قال العلماء أصل العبادة الطاعة وكل عبادة فلها معنى قطعا
لان الشرع لا يأمر بالعبث ثم معنى العبادة قد يفهمه المكلف وقد لا يفهمه فالحكمة في الصلاة
التواضع والخضوع واظهار الافتقار إلى الله تعالى والحكمة في الصوم كسر النفس وقمع الشهوات
والحكمة في الزكاة مواساة المحتاج وفي الحج اقبال العبد أشعث اغبر من مسافة بعيدة إلى بيت
فضله الله كاقبال العبد إلى مولاه ذليلا * ومن العبادات التي لا يفهم معناها السعي والرمي فكلف
العبد بهما ليتم انقياده فان هذا النوع لاحظ للنفس فيه ولا (1) للعقل به ولا يحمل عليه الا مجرد
امتثال الامر وكمال الانقياد * فهذه إشارة مختصرة تعرف بها الحكمة في جميع العبادات والله أعلم *
وقد سبق في أواخر فصل طواف القدوم في المسألة الخامسة حديث عائشة قالت (قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم إنما جعل الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة ورمى الجمار لإقامة ذكر الله) وروينا
في سنن البيهقي وغيره مرفوعا وموقوفا على ابن عباس رضي الله عنهما (ان إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم
لما أتى المناسك عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم
عرض له عند الجمرة الثانية فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض ثم عرض له في الثالثة
فرماه بسبع حصيات حتى ساخ في الأرض قال ابن عباس الشيطان ترجمون ومكة بينكم تبتغون)
* قال المصنف رحمه الله *
(ومن عجز عن الرمي بنفسه لمرض مأيوس أو غير مأيوس جاز أن يستنيب من يرمي عنه
لان وقته مضيق وربما مات قبل أن يرمي بخلاف الحج فإنه على التراخي * ولا يجوز لغير المأيوس
أن يستنيب لأنه قد يبرأ فيؤديه بنفسه * والأفضل ان يضع كل حصاة في يد النائب ويكبر ويرمي
النائب فان رمى عنه النائب ثم برئ من المرض فالمستحب ان يعيد بنفسه * وإن أغمي عليه
فرمى عنه غيره فإن كان بغير إذنه لم يجزه وإن كان أذن له فيه قبل أن يغمى عليه جاز) *
(الشرح) فيه مسألتان (إحداهما) قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله العاجز عن الرمي
بنفسه لمرض أو حبس ونحوهما يستنيب من يرمي عنه لما ذكره المصنف وسواء كان المرض مرجو
243

الزوال أو غيره لما ذكره المصنف وسواء استناب بأجرة أو بغيرها وسواء استناب رجلا أو امرأة *
قال الشافعي والأصحاب ويستحب أن يناول النائب الحصى إن قدر ويكبر العاجز ويرمي النائب
ولو ترك المناولة مع قدرته صحت الاستنابة وأجزأه رمي النائب لوجود العجز عن الرمي * قال
أصحابنا في الطريقتين ويجوز للمحبوس الممنوع من الرمي الاستنابة فيه سواء كان محبوسا بحق أو
بغيره وهذا متفق عليه وعللوه بأنه عاجز * ثم إن جمهور الأصحاب في طريقتي العراق وخراسان
أطلقوا جواز الاستنابة للمريض سواء كان مأيوسا من برئه أم لا وقال إمام الحرمين والرافعي وغيره
من متابعي الامام إنما تجوز النيابة لعاجز بعلة لا يرجي زوالها قبل خروج وقت الرمي قالوا ولا
يضر رجاء الزوال بعد فوات الوقت وهذا الذي قاله الامام ومتابعوه متعين واطلاق الأصحاب
محمول عليه ولا يمنع من هذا قولهم فلو زال العجز في أيام الرمي لزمه رمي ما بقي لأنه قد لا يرجى
زواله في أيام الرمي ثم يزول نادرا والله أعلم (المسألة الثانية) لو أغمي على المحرم قبل الرمي ولم يكن اذن في
الرمي عنه لم يصح الرمي عنه في إغمائه بلا خلاف وإن كان أذن فيه جاز الرمي عنه هذا هو المذهب وبه
قطع الجماهير في الطريقتين * ونقل الرافعي فيه وجها شاذا ضعيفا أنه لا يجوز * وحكي إمام الحرمين
الجواز عن العراقيين فقال قال العراقيون لو استناب العاجز عن الرمي وصححنا الاستنابة فأغمي على
المستنيب دامت النيابة وإن كان مقتضى الاغماء الطارئ على إذن انقطاع اذنه إذا كان أصل
الاذن جائزا كالوكالة ولكن الغرض هنا إقامة النائب مقام العاجز قال وما ذكروه محتمل جدا
ولا يمتنع خلافه * قال وقد قالوا لو استناب المعضوب في حياته من يحج عنه ثم مات المعضوب لم
تنقطع الاستنابة هكذا ذكروه في الاذن المجرد وهو بعيد لكن لو فرض في الإجارة فالإجارة
تبقى ولا تنقطع لان الاستئجار عن الميت بعد موته ممكن فلا منافاة وقد استحق منفعة الأجير
قال والذي ذكروه في الاذن جائز وهو محتمل في الاغماء بعيد في الموت * هذا كلام الامام * ثم
أن الأصحاب في الطريقتين أطلقوا أنه إذا استناب قبل الاغماء جاز رمى النائب عنه في الاغماء كما
ذكرنا وقال الماوردي إن كان حين أذن مطيقا للرمي لم يصح الرمي عنه في الاغماء لان المطيق
لا تصح النيابة عنه فلم يصح إذنه وإن كان حين الاذن عاجزا بأن كان مريضا فاذن لم أغمي عليه
صحت النيابة وصح رمى النائب * هذا كلام الماوردي ونقله الروياني في البحر عن الأصحاب
وأشار إليه أبو علي البندنيجي وآخرون * وفي كلام امام الحرمين الذي حكيته عنه الآن موافقته
244

فليحمل اطلاق الأصحاب على من استناب في حال العجز ثم أغمي عليه والله أعلم * واتفق الأصحاب
على أنه لو أذن في حال اغمائه لم يصح اذنه وان رمى عنه بذلك الاذن لم يصح لان إذنه ساقط في
كل شئ الله أعلم * والمجنون كالمغمى عليه في كل هذا صرح به المتولي وغيره *
(فرع) استدل أصحابنا على جواز الاستنابة في الرمي بالقياس على الاستنابة في أصل الحج
قالوا والرمي أولى بالجواز *
(فرع) قال أصحابنا وينبغي أن يستنيب العاجز حلالا أو من قد رمى عن نفسه فان
استناب من لم يرم عن نفسه فينبغي أن يرمي الغائب عن نفسه ثم عن المستنيب فيجزئهما الرميان
بلا خلاف فلو اقتصر على رمي واحد وقع عن الرامي لا عن المستنيب هذا هو المذهب وبه قطع
الجمهور * وقال الماوردي والروياني إذا رمي النائب عن المستنيب ثم عن نفسه رميا آخر أجزأه
الرمي عن نفسه وفي الرمي المحسوب عن نفسه وجهان (أحدهما) أنه الرمي الثاني لأنه الذي
قصده عن نفسه (والثاني) الأول لان من عليه نسك إذا فعله عن غيره وقع عن نفسه كأصل
الحج وكالطواف قالا وفي رميه عن المستنيب وجهان (أحدهما) لا يجزئه عنه لأنا إن جعلنا الرمي
الأول عن النائب فلم يقصده بالثاني وان جعلنا الثاني عن النائب فقد رمي عن غيره قبل الرمي عن نفسه
فلا يصح (والوجه الثاني) أنه يجزئ الرمي عن المريض لان المريض أخف من أصل الحج وأركانه
فجاز فعله عن غيره مع بقائه على نفسه *
(فرع) إذا رمى النائب ثم زال عذر المستنيب وأيام الرمي باقية فطريقان (أصحهما) وهو
المنصوص وبه قطع المصنف والجمهور لا يلزمه إعادة الرمي بنفسه لكن يستحب له وإنما لم يلزمه
لان رمي النائب وقع عنه فسقط به الفرض (والطريق الثاني) فيه قولان (أحدهما) يلزمه إعادة
الرمية بنفسه ولا يجزئه فعل النائب (والثاني) لا يلزمه قالوا وهما كالقولين في المعضوب إذا أحج
عنه ثم برأ * وممن حكي هذا الطريق وجزم به الفوراني والبغوي ووالده صاحب البحر وحكاه
أيضا طائفة وضعفته * ثم إن الخلاف في الرمي الذي فعله النائب قبل زوال العذر (أما) الرمي الذي
يدركه المستنيب بعد زوال عذره فيلزمه فعله بلا خلاف صرح به الماوردي والأصحاب والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(ويبيت بمنى ليالي الرمي (لان النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك) وهل يجب ذلك أو يستحب فيه
قولان (أحدهما) أنه مستحب لأنه مبيت فلم يجب كالمبيت ليلة عرفة (والثاني) أنه يجب (لان
245

النبي صلى الله عليه وسلم رخص للعباس في ترك المبيت لأجل السقاية) فدل على أنه لا يجوز لغيره تركه (فان قلنا)
أنه يستحب لم يجب بتركه دم (وإن قلنا) يجب وجب بتركه الدم فعلى هذا إذا ترك المبيت في
الليالي الثلاث وجب دم وإن ترك ليلة ففيه ثلاثة أقوال على ما ذكرناه في الحصاة
ويجوز لرعاة الإبل وأهل سقاية العباس رضي الله عنه أن يدعوا المبيت ليالي منى ويرموا
يوما ويدعوا يوما ثم يرموا ما فاتهم لما روى ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للعباس ان
يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته) وروى عاصم بن عدي (أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص لرعاة الإبل
في ترك البيتوتة يرمون يوم النحر ثم يرمون يوم النفر) فان أقام الرعاة إلى أن تغرب الشمس لم يجز
لهم ترك المبيت وان أقام أهل السقاية إلى أن تغرب الشمس جاز لهم ترك المبيت لان حاجة أهل
السقاية بالليل موجودة وحاجة الرعاة لا توجد بالليل لان الراعي لا يكون بالليل ومن أبق له عبد
ومضى في طلبه أو خاف أمرا يفوته ففيه وجهان (أحدهما) أنه لا يجوز له ما يجوز للرعاة وأهل سقاية
العباس (لان النبي صلى الله عليه وسلم رخص للرعي وأهل السقاية) (والثاني) أنه يجوز لأنه صاحب عذر فأشبه
الرعاة وأهل السقاية) *
(الشرح) أما حديث مبيت النبي صلى الله عليه وسلم بمنى ليالي التشريق فصحيح مشهور (وأما) حديث
ابن عمر فصحيح رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر أن العباس بن عبد المطلب (أستأذن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته فاذن له) وفي رواية في الصحيحين أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم (رخص للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته) (وأما)
حديث عاصم بن عدي فرواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم بأسانيد صحيحة قال
الترمذي هو حديث حسن صحيح (وأما) ألفاظ الفصل فالسقاية - بكسر السين - وهي موضع في
المسجد الحرام يستقي فيه الماء ويجعل في حياض ويسبل للشاربين وكانت السقاية في يد قصي بن
كلاب ثم ورثها منه ابنه عبد مناف ثم منه ابنه هاشم ثم منه ابنه عبد المطلب ثم منه العباس رضي
الله عنه ثم منه عبد الله ثم منه ابنه على ثم واحد بعد واحد وقد بسطت بيانها شافيا في تهذيب اللغات (قوله)
رعاء الإبل هو - بكسر الراء وبالمد - جمع راع كصاحب وصحاب ويجوز رعاة - بضم الراء وهاء
بعد آلاف - بغير مد كقاض وقضاه (قوله) ومن أبق له عبد يجوز فيه - فتح الباء وكسرها -
لغتان كضرب وشرب والأول أفصح وبها جاء القرآن قال الله تعالى (إذ أبق) ويجوز لعبد آبق
246

بمد الألف وكسر الباء - (أما) الأحكام ففيها مسائل مختصرها انه ينبغي ان يبيت بمنى ليالي أيام
التشريق وهل المبيت بها واجب أم سنة؟ فيه طريقان (أصحهما وأشهرهما) وبه قطع المصنف والجمهور
فيه قولان (أصحهما) واجب (والثاني) سنة ودليلهما في الكتاب (والطريق الثاني) سنة قولا واحدا
حكاه الرافعي فان ترك المبيت جبره بدم بلا خلاف (فان قلنا) المبيت واجب كان الدم واجبا وان
قلنا سنة فسنة * ويؤمر بالمبيت في الليالي الثلاث إلا أنه إذا نفر النفر الأول سقط مبيت الليلة الثالثة *
والأكمل ان يبيت بها كل الليل وفي قدر الواجب قولان حكاهما صاحب التقريب والشيخ أبو
محمد الجويني وامام الحرمين ومتابعوه (أصحهما) معظم الليل (والثاني) المعتبر أن يكون حاضرا بها عند
طلوع الفجر الثاني (واما) قدر المبيت بالمزدلفة وحكمه فسبق بيانه * فان ترك مبيت ليلة المزدلفة
وحدها جبرها بدم كامل وان ترك ليالي التشريق الثلاث لزمه دم فقط هذا هو المذهب وبه قطع
المصنف والجماهير * وحكى إمام الحرمين وغيره عن صاحب التقريب انه حكى قولا غريبا أنه يجب
في كل ليلة دم وليس بشئ * وان ترك إحدى الليالي الثلاث فثلاثة أقوال مشهورة ذكرها المصنف
والأصحاب كالأقوال في ترك حصاة وفي حلق شعرة (أصحها) في الليلة مد (والثاني) درهم (والثالث)
ثلث دم * وان ترك ليلتين فعلى الأصح يجب مدان وعلى الثاني درهمان وعلى الثالث ثلثا دم *
ولو ترك ليلة المزدلفة وليالي التشريق كلها فقولان (أصحهما) يجب دمان دم لليلة المزدلفة ودم لليالي
منى (والثاني) يجب دم واحد لليالي الأربع * هذا من كان بمنى وقت غروب الشمس فإن لم يكن
حينئذ ولم يبت وقلنا تفرد ليلة المزدلفة بالدم فوجهان لأنه لم يترك إلا ليلتين (أحدهما) يلزمه
مدان أو درهمان أو ثلثا دم على حسب الأقوال الثلاثة (والوجه الثاني) يلزمه دم كامل لتركه
جنس المبيت بمنى وهذا هو الأصح وبه قطع جماعات وهذان الوجهان جاريان فيما لو ترك ليلة
المزدلفة وليلتين من الثلاث والله أعلم * هذا كله فيمن لا عذر له في ترك المبيت (اما) من ترك
مبيت مزدلفة أو منى لعذر فلا دم وهم أصناف (أحدها) رعاء الإبل وأهل سقاية العباس فلهم إذا
رموا جمرة العقبة يوم النحر أن ينفروا ويدعوا المبيت بمنى ليالي التشريق وللصنفين جميعا ان يدعوا
رمي يوم القر وهو الأول من التشريق ويقضوه في اليوم الذي يليه قبل رمي ذلك اليوم وليس
لهم ترك يومين متواليين فان تركوا رمي اليوم الثاني من أيام التشريق بان نفروا اليوم الأول بعد
الرمي عادوا في اليوم الثالث وان تركوا رمي الأول بان نفروا يوم النحر بعد رمي جمرة العقبة
247

عادوا في الثاني ثم لهم أن ينفروا مع الناس * هذا هو الصحيح المشهور وفيه وجه أنه ليس لهم ذلك
حكاه الرافعي * وإذا غربت الشمس والرعاء بمنى لزمهم المبيت تلك الليلة ورمى الغد ويجوز لأهل
السقاية أن ينفروا بعد الغروب على الصحيح لان عملهم بالليل بخلاف الرعي وفيه وجه أنه لا يجوز
لهم ذلك حكاه الرافعي وهذا الوجه غلط مخالف لنص الشافعي والجمهور بل للحديث الصحيح
السابق * قال أصحابنا ورخصة السقاية لا تختص بالعباسية هذا هو المذهب والمنصوص وبه قطع
الجمهور * وفيه وجه أنه يختص بهم حكاه البندنيجي وآخرون * وفي وجه ثالث يختص ببني هاشم
حكاه الشيخ أبو حامد والروياني * قال أصحابنا ولو أحدثت سقاية للحجاج جاز للمقيم بشأنها
ترك المبيت ذكره البغوي * قال ابن كج وغيره ليس له * وذكر الدارمي والبندنيجي وجهين
حكاهما الروياني ثم قال والمنصوص في كتاب الأوسط انه ليس له (والصحيح) ما ذكره البغوي
والله أعلم * ومن المعذورين من انتهى إلى عرفة ليلة النحر واشتغل بالوقوف عن مبيت المزدلفة فلا
شئ عليه وإنما يؤمر بالمبيت المتفرغون ذكره إمام الحرمين وغيره * ولو أفاض من عرفة إلى
مكة فطاف للإفاضة بعد نصف الليل ففاته المبيت قال القفال لا شئ عليه لاشتغاله بالطواف قال
الامام وفيه احتمال * ومن المعذورين من له مال يخاف ضياعه لو اشتغل بالمبيت أو يخاف على نفسه
أو كان به مرض يشق معه المبيت أوله مريض يحتاج إلى تعهده أو يطلب آبقا أو يشتغل بأمر آخر
يخاف فوته ففي هؤلاء وجهان (الصحيح) المنصوص يجوز لهم ترك المبيت ولا شئ عليهم بسببه
ولهم النفر بعد الغروب والله أعلم *
(فرع) لو ترك المبيت ناسيا كان كتركه عامدا صرح به الدارمي وغيره *
(فرع) ذكر الروياني وغيره انه لا يرخص للرعاء في ترك رمي جمرة العقبة يوم النحر ولا
في تأخير طواف الإفاضة عن يوم النحر فان اخروه عنه كان مكروها كما لو أخره غيرهم لان الرخصة
إنما وردت لهم في غير هذا *
(فرع) قال الروياني من لا عذر له إذا لم يبت ليلتي اليومين الأولين من التشريق ورمى
في اليوم الثاني وأراد النفر مع الناس في النفر الأول قال أصحابنا ليس له ذلك لأنه لا عذر له وإنما جوز
ذلك للرعاء وأهل السقاية للعذر وجوز لعامة الناس ان ينفروا لأنهم اتوا بمعظم الرمي والمبيت
ومن لا عذر لم يأت بالمعظم فلم يجز له النفر * قال المصنف رحمه الله *
248

(والسنة ان يخطب الامام يوم النفر الأول وهو اليوم الأوسط من أيام التشريق وهي إحدى
الخطب الأربع ويودع الحاج ويعلمهم جواز النفر (لان النبي صلى الله عليه وسلم خطب أوسط أيام التشريق)
ولأنه يحتاج فيه إلى بيان من يجوز له النفر ومن لا يجوز ومن أراد أن ينفر مع النفر الأول فنفر
في اليوم الثاني من أيام التشريق قبل غروب الشمس سقط عنه الرمي في اليوم الثالث ومن لم ينفر
حتى غربت الشمس لزمه أن يقيم حتى يرمي في اليوم الثالث لقوله عز وجل (فمن تعجل في يومين
فلا إثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه) فان نفر قبل الغروب ثم عاد زائرا أو ليأخذ شيئا نسيه لم يلزمه
المبيت لأنه حصلت له الرخصة بالنفر فان بات لم يلزمه أن يرمي لأنه لم يلزمه المبيت فلا يلزمه الرمي) *
(الشرح) حديث الخطبة أوسط أيام التشريق سبق بيانه في فصل خطبة اليوم السابع من
ذي الحجة وذكرنا هناك الأحاديث الواردة في خطب الحج الأربع ووقتها وصفتها ومذاهب
العلماء فيها وهذه الخطبة مستحبة عندنا ووقتها بعد صلاة الظهر في اليوم الثاني من أيام التشريق كما
سبق * قال الماوردي فان أراد الامام أن ينفر النفر الأول وعجل الخطبة قبل الزوال لينفر بعد
الزوال جاز قال وتسمى هذه خطبة الوداع * ويستحب لكل الحجاج حضورها والاغتسال
لها ويودع الامام الحجاج ويعلمهم جواز النفر وما بعده من طواف الوداع وغيره ويحثهم
على طاعة الله تعالى وعلى أن يختموا حجهم بالاستقامة والثبات على طاعة الله تعالى
وأن يكونوا بعد الحج خيرا منه قبله وأن لا ينسوا ما عاهدوا الله عليه من خير والله أعلم *
قال الشافعي والأصحاب يجوز النفر في اليوم الثاني من التشريق ويجوز في الثالث وهذا مجمع عليه
لقوله تعالى (فمن تعجل في يومين فلا اثم عليه ومن تأخر فلا اثم عليه) قالوا والتأخر إلى اليوم الثالث
أفضل للأحاديث الصحيحة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفر في اليوم الثالث) قال الماوردي وغيره
والتأخر للامام آكد منه لغيره لأنه يقتدى به ولأنه يقيم الناس أو أكثرهم بإقامته فان تعجل جاز
ولا فدية عليه كغيره من الناس والله أعلم * ثم من أراد النفر الأول نفر قبل غروب الشمس فإذا
نفر قبل غروبها سقط عنه مبيت ليلة اليوم الثالث من أيام التشريق ورمي اليوم الثالث بلا
خلاف ولا دم عليه في ذلك بلا خلاف * قال أصحابنا ولا يرمي في اليوم الثاني عن الثالث بل إن
بقي معه شئ من الحصى طرحه في الأرض وان شاء أعطاه لمن لم يرم وأما ما يفعله الناس من
دفنها فقال أصحابنا لا أصل له ولا يعرف فيه أثر والله أعلم * قال الشافعي والأصحاب ولو لم ينفر
حتى غربت الشمس وهو بعد في منى لزمه المبيت بها تلك الليلة ورمى يومها * ولو رحل فغربت
249

الشمس وهو سائر في منى قبل انفصاله منها فله الاستمرار في السير ولا يلزمه المبيت ولا الرمي هذا
هو المذهب وبه قطع الجماهير وفيه وجه أنه يلزمه المبيت والرمي في الغد وبه قطع صاحب الحاوي *
ولو غربت وهو في شغل الارتحال ففي جواز النفر وجهان مشهوران حكاهما القاضي أبو الطيب في
كتابه المجرد وصاحب الشامل والروياني وآخرون (أحدهما) يلزمه الرمي والمبيت (وأصحهما) عند
الرافعي وغيره وبه قطع القاضي أبو الطيب في تعليقه لا يلزمه الرمي ولا المبيت لان في تكليفه حل
الرحل والمتاع مشقة عليه * ولو نفر قبل الغروب فعاد لشغل أو زيارة ونحوها قبل الغروب أم بعده
فوجهان (الصحيح) وبه قطع المصنف والجمهور وهو المنصوص لا يلزمه المبيت فان بات لم يلزمه
الرمي في الغد نص عليه الشافعي والأصحاب لما ذكره المصنف (والثاني) يلزمه المبيت والرمي حكاه
الروياني وآخرون من الخراسانيين *
(فرع) لو نفر من منى متعجلا في اليوم الثاني وفارقها قبل غروب الشمس ثم تيقن أنه رمى
يوما وبعضه قال الماوردي له ثلاثة أحوال (أحدها) أن يذكر ذلك قبل غروب الشمس ويدرك الرمي
قبل الغروب فيلزمه العود إلى منى ورمي ما تركه ثم ينفر منها إن لم تغرب الشمس وهو بها فان غربت وهو بها
لزمه المبيت بها والرمي من الغد (والحال الثاني) أن يذكره بعد غروب شمس اليوم الثالث فليس
عليه العود إلى منى لفوات وقت الرمي وقد استقر الدم في ذمته (الحال الثالث) أن يذكره في اليوم
الثالث قبل غروب الشمس منه (فان قلنا) لكل يوم حكم نفسه لم يعد للرمي لفوات وقته وقد
استقر عليه الدم (وان قلنا) أيام التشريق كالشئ الواحد لزمه العود للرمي فان تركه لزمه الدم
هذا نقل الماوردي * وجمع إمام الحرمين هذه المسألة وفصلها أحسن تفصيل فقال: لو نفر يوم النفر
الأول ولم يرم فإن لم يعد استقرت الفدية عليه في الرمي الذي تركه في النفر الأول
وان عاد نظر إن عاد بعد غروب الشمس فقد فات الرمي ولا استدراك وانقضى أثره من
منى ولا حكم لمبيته وان رمي في النفر الثاني لم يعتد برميه لأنه بنفره أقلع عن منى والمناسك فاستقرت
الفدية عليه كما لو انقضت أيام التشريق وإن عاد قبل غروب الشمس فاجمع الطرق في ذلك
ما ذكره صاحب التقريب إذ قال حاصل الخلاف فيه أربعة أقوال (أحدها) أنه إذا نفر فقد انقطع
الرمي ولا ينفعه العود (والثاني) يجب عليه العود ويرمي ما عليه ما لم تغرب الشمس فان غربت تعين
الدم (والثالث) له الخيار إن شاء رجع ورمى وسقط عنه الفرض وإن شاء أن لا يرجع ويريق دما
250

جاز قال وهذه الأقوال الثلاثة تجري في النفر الأول والثاني (والرابع) حكاه عن تخريج ابن سريج
أنه ان خرج في النفر الأول ثم عاد قبل الغروب ورمى لم يقع رميه موقعه وان خرج في النفر
الثاني ولم يرم ثم عاد ورمى قبل الغروب وقع الرمي موقعه والفرق أن الخروج في النفر الثاني لا حكم
له لأنه منتهى الوقت نفر أم لم ينفر فكان خروجه سواء وللخروج في النفر الأول حكم لأنه لو لم
يخرج فيه بقي إلى النفر الثاني فاثر خروجه في قطع العلائق منه فإذا انقطعت العلائق لم يعد قال ولا
خلاف أن من خرج في اليوم الأول من التشريق ثم عاد قبل الغروب رمي إذ لا حكم للنفر في
اليوم الأول وان عاد بعد الغروب فهذا رجل فاته الرمي وفيه الكلام السابق في التدارك قال
وبالجملة لا أثر للخروج في اليوم الأول من التشريق (وأما) يوم النحر فالامر فيه أظهر ولا أثر للخروج
فيه كما لا أثر له في الخروج في أول التشريق وإنما يؤثر الخروج في النفرين كما سبق تفصيله قال ثم إذا قلنا
من خرج في النفر الأول بلا رمي وعاد قبل الغروب يرمي فإذا رمى وغربت الشمس تقيد ولزمه
الرمي والمبيت من الغد (وان قلنا) لا يرمي إذا عاد قبل الغروب لم يلزمه المبيت ولو بات لم يكن
لمبيته حكم لأنا على هذا الوجه حكمنا بانقطاع علائق منى لخروجه ثم لم نحكم بعودها لما عاد * قال لو
خرج في النفر الأول قبل زوال الشمس ثم عاد وزالت عليه الشمس وهو بمنى فالوجه القطع بان
خروجه لا حكم له لأنه لم يخرج في وقت الرمي وامكانه * ولو خرج في الوقت الذي ذكرناه ولم
يعد حتى غربت الشمس فقد انقطعت العلائق وإن كان خروجه قبل دخول وقت الرمي لان
استدامة الخروج إلى غروب الشمس حلت محل انشاء الخروج بعد زوال الشمس * ولو خرج
قبل الزوال وعاد قبل الغروب فظاهر المذهب أنه يرمي ويعتد برميه بخلاف ما لو خرج بعد الزوال
ومن أصحابنا من ينزل هذه الصورة منزلة صورة الأقوال فإنه لو خرج قبل الزوال ولم يعد حتى غابت
الشمس كان كخروجه بعد الزوال ولم يعد حتى غربت الشمس فإذا تشابها في ذلك فليتشابها في العود
قبيل الغروب والله أعلم * هذا آخر كلام امام الحرمين *
251

(فرع) قال أصحابنا إذا نفر من منى النفر الأول والثاني انصرف من جمرة العقبة راكبا
كما هو وهو يكبر ويهلل ولا يصلى الظهر بمنى بل يصليها بالمنزل وهو المحصب أو غيره ولو صلاها بمنى
جاز لكن السنة ما ذكرناه لحديث أنس الذي سنذكره قريبا في الفصل الآتي إن شاء الله تعالى *
قال أصحابنا وليس على الحاج بعد نفره من منى على الوجه المذكور الا طواف الوداع
* قال المصنف رحمه الله *
ويستحب إذا خرج من منى أن ينزل بالمحصب لما روي أنس رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم (صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب ثم ركب إلى البيت فطاف
للوداع به) فان ترك النزول بالمحصب لم يؤثر ذلك في نسكه لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما
قال (المحصب ليس بشئ إنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم) وقالت عائشة رضي الله عنها
(نزول المحصب ليس من النسك إنما نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم) *
(الشرح) حديث أنس رواه البخاري وحديث ابن عباس وحديث عائشة رواهما البخاري
ومسلم وفي حديث عائشة زيادة في الصحيحين قالت (نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون
أسمح لخروجه) وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (قال لنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم ونحن بمنى نحن نازلون غدا بخيف بني كنانة حيث تقاسموا على الكفر وذلك
أن قريشا وبني كنانة تحالفت علي بني هاشم وبني المطلب ان لا يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى يسلموا
إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني بذلك المحصب) رواه البخاري ومسلم * وعن أبي رافع
مولى رسول الله صلى الله وسلم قال (لم يأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أنزل الأبطح
حين خرج من منى ولكني جئت فضربت القبة فجاء فنزل) رواه مسلم * وعن نافع (أن ابن عمر
كان يرى التحصيب سنة وكان يصلى الظهر يوم النفر بالمحصبة قال نافع قد حصب رسول الله
252

صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده) رواه مسلم * والمحصب - بميم مضمومة ثم حاء مفتوحة ثم صاد مفتوحة مهملتين ثم
باء موحدة - وهو اسم لمكان متسع بين مكة قال صاحب المطالع وغيره وهو إلى منى أقرب
وهو اسم لما بين الجبلين إلى المقبرة ويقال له الأبطح والبطحاء وخيف بني كنانة والله أعلم * (أما)
الأحكام فقال أصحابنا إذا فرغ الحاج من الرمي ونفر من منى استحب له أن يأتي المحصب وينزل
به ويصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء ويبيت به ليلة الرابع عشر لو ترك النزول به فلا شئ
عليه ولا يؤثر في نسكه لأنه سنة مستقلة ليست من مناسك الحج وهذا معنى ما ذكرناه من حديث
ابن عباس وعائشة والله أعلم * قال القاضي عياض النزول بالمحصب مستحب عند جميع العلماء قال
وهو عند الحجازيين أوكد منه عند الكوفيين قال وأجمعوا على أنه ليس بواجب والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(إذا فرغ من الحج وأراد المقام بمكة لم يكلف طواف الوداع فان أراد الخروج طاف للوادع وصلى
ركعتي الطواف وهل يجب طواف الوداع أم لا فيه قولان (أحدهما) أنه يجب لما روى ابن
عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت)
(والثاني) لا يجب لأنه لو وجب لم يجز للحائض تركه فان قلنا إنه واجب وجب بتركه الدم لقوله صلى الله عليه وسلم
(من ترك نسكا فعليه دم) (وان قلنا) لا يجب لم يجب بتركه دم لأنه سنة فلا يجب بتركه دم كسائر سنن
الحج وان طاف للوداع ثم أقام لم يعتد بطوافه عن الوداع لأنه لا توديع مع المقام فإذا أراد ان يخرج
أعاد طواف الوداع وان طاف ثم صلى في طريقه أو اشترى زادا لم يعد الطواف لأنه لا يصير بذلك
مقيما وان نسي الطواف وخرج ثم ذكره (فان قلنا) انه واجب نظرت فإن كان من مكة على مسافة تقصر
253

فيها الصلاة استقر عليه الدم فان عاد وطاف لم يسقط الدم لان الطواف الثاني للخروج الثاني فلا
يجزئه عن الخروج الأول فان ذكر وهو على مسافة لا تقصر فيها لصلاة فعاد وطاف سقط عنه الدم
لأنه في حكم المقيم ويجوز للحائض أن تنفر بلا وداع لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال
(أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه قد خفف عن المرأة الحائض) فان نفرت الحائض
ثم طهرت فإن كانت في بنيان مكة عادت وطافت وان خرجت من البنيان لم يلزمها الطواف) *
(الشرح) حديث ابن عباس الأول (لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده) رواه مسلم
وحديثه الاخر (أمر الناس) إلى آخره رواه البخاري ومسلم وحديث (من ترك نسكا فعليه دم)
سبق بيانه في هذا الباب مرات * وعن عائشة رضي الله عنها قالت (لما أراد النبي صلى الله عليه
وسلم أن ينفر إذا صفية على باب خبائها كئيبة حزينة فقال عقرني حلقي انك لحابستنا ثم قال لها
أكنت أفضت يوم النحر قالت نعم قال فانفرى) رواه البخاري ومسلم * والوداع - بفتح الواو -
وتنفر - بكسر الفاء - (أما) الأحكام ففيها مسائل (إحداها) قال أصحابنا من فرغ من مناسكه
وأراد المقام بمكة ليس عليه طواف الوداع وهذا لا خلاف فيه سواء كان من أهلها أو غريبا وان
أراد الخروج من مكة إلى وطنه أو غيره طاف للوداع ولا رمل في هذا الطواف ولا اضطباع كما
سبق وإذا طاف صلى ركعتي الطواف وفي هذا الطواف قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما
(أصحهما) انه واجب (والثاني) سنة وحكى طريق آخر انه سنة قولا واحدا حكاه الرافعي
وهو ضعيف غريب والمذهب أنه واجب * قال القاضي أبو الطيب والبندنيجي وغيرهما هذا
نصه في الام والقديم والاستحباب هو نصه في الاملاء فان تركه اراق دما (فان قلنا) هو واجب فالدم
واجب (وان قلنا) سنة فالدم سنة * ولو أراد الحاج الرجوع إلى بلده من منى لزمه دخول مكة لطواف
الوداع ان قلنا هو واجب والله أعلم * (الثانية) إذا خرج بلا وداع وقلنا يجب طواف الوداع عصى ألزمه العود للطواف ما لم يبلغ مسافة القصر من مكة فان بلغها لم يجب العود بعد ذلك ومتى لم يعد لزمه الدم فان
254

عاد قبل بلوغه مسافة القصر سقط عنه الدم وان عاد بعد بلوغها فطريقان (أصحهما) وبه قطع الجمهور لا يسقط
(والثاني) حكاه الخراسانيون وجهان (أصحهما) لا يسقط (والثاني) يسقط (الثالثة) ليس على الحائض ولا
على النفساء طواف وداع ولا دم عليها لتركه لأنها ليست مخاطبة به للحديث السابق لكن يستحب لها ان
تقف على باب المسجد الحرام وتدعو بما سنذكره إن شاء الله تعالى * ولو طهرت الحائض والنفساء فإن كان قبل
مفارقة بناء مكة لزمها طواف الوداع لزوال عذرها وإن كان بعد مسافة القصر لم يلزمها العود بلا خلاف * وإن كان
بعد مفارقة مكة وقبل مسافة القصر فقد نص الشافعي أنه لا يلزمها ونص أن المقصر بترك الطواف يلزمه
العود وللأصحاب طريقان (المذهب) الفرق كما نص عليه وبه قطع المصنف والجمهور لأنه مقصر بخلاف
الحائض (والطريق الثاني) حكاه الخراسانيون فيهما قولان (أحدهما) يلزمها (والثاني) لا يلزمهما
(فان قلنا) لا يجب العود فهل الاعتبار في المسافة بنفس مكة أم بالحرم فيه طريقان (المذهب) وبه
قطع المصنف والجمهور بنفس مكة (والثاني) حكاه جماعة من الخراسانيين فيه وجهان (أصحهما)
هذا (والثاني) الحرم (وأما) المستحاضة إذا نفرت في يوم حيضها فلا وداع عليها وان نفرت في
يوم طهرها لزمها طواف الوداع * قال القاضي أبو الطيب في تعليقه والدارمي إذا رأت المرأة الدم
فتركت طواف الوداع وانصرفت ثم اتصل الدم وجاوز خمسة عشر فهي مستحاضة فينظر هل
هي مميزة أم معتادة أم مبتدأة وأي مرد ردت إليه إن كان تركها الطواف في حال حيضها فلا شئ
عليها وإن كان في حال طهرها لزمها الدم والله أعلم * (الرابعة) ينبغي ان يقع طواف الوداع بعد
جميع الاشغال ويعقبه الخروج بلا مكث فان مكث نظر إن كان لغير عذر أو لشغل غير أسباب
الخروج كشراء متاع أو قضاء دين أو زيارة صديق أو عيادة مريض لزمه إعادة الطواف وان
اشتغل بأسباب الخروج كشراء الزاد وشد الرحل ونحوهما فهل يحتاج إلى اعادته فيه طريقان
(قطع) الجمهور بأنه لا يحتاج وذكر امام الحرمين فيه وجهين * ولو أقيمت الصلاة فصلاها معهم لم
255

يعد الطواف نص عليه الشافعي في الاملاء واتفق عليه الأصحاب والله أعلم (الخامسة) حكم طواف
الوداع حكم سائر أنواع الطواف في الأركان والشروط وفيه وجه لأبي يعقوب الأبيوردي أنه يصح
بلا طهارة وتجبر الطهارة بالدم وقد سبق بيان الوجه في فصل طواف القدوم وهو غلط ظاهر والله أعلم
(السادسة) هل طواف الوداع من جملة المناسك أم عبادة مستقلة فيه خلاف (قال) إمام الحرمين
والغزالي هو من المناسك وليس على الحاج والمعتمر طواف وداع إذا خرج من مكة لخروجه (وقال)
البغوي والمتولي وغيرهما ليس طواف الوداع من المناسك بل هو عبادة مستقلة يؤمر بها كل من أراد
مفارقة مكة إلى مسافة القصر سواء كان مكيا أو أفقيا وهذا الثاني أصح عند الرافعي وغيره من
المحققين تعظيما للحرم وتشبيها لاقتضاء خروجه الوداع باقتضاء دخوله الاحرام قال الرافعي ولان
الأصحاب اتفقوا على أن المكي إذا حج ونوى على أن يقيم بوطنه لا يؤمر بطواف الوداع وكذا
الأفقي إذا حج وأراد الإقامة بمكة لا وداع عليه ولو كان من جملة المناسك لعم الحجيج * هذا كلام
الرافعي * ومما يستدل به من السنة لكونه ليس من المناسك ما ثبت في صحيح مسلم وغيره ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال (يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا) وجه الدلالة أن طواف الوداع
يكون عند الرجوع وسماه قبله قاضيا للمناسك وحقيقته أن يكون قضاها كلها والله أعلم *
(فرع) ذكرنا في هذه المسألة السادسة عن البغوي أن طواف الوداع يتوجه على كل من
أراد مفارقة مكة إلى مسافة القصر قال ولو أراد دون مسافة القصر لا وداع عليه والصحيح
المشهور أنه يتوجه على من أراد مسافة القصر ودونها سواء كانت مسافة بعيدة أم قريبة لعموم
الأحاديث وممن صرح بهذا صاحب البيان وغيره *
(فرع) قد ذكرنا انه لا يجوز ان ينفر من منى ويترك طواف الوداع إذا قلنا بوجوبه فلو
طاف يوم النحر للإفاضة وطاف بعده للوداع ثم أتى منى ثم أراد النفر منها في وقت النفر إلى وطنه
واقتصر على طواف الوداع السابق فهل يجزئه قال صاحب البيان اختلف أصحابنا المتأخرون فيه فقال
الشريف العثماني يجزئه لان طواف الوداع يراد لمفارقته البيت وهذا قد أرادها (ومنهم) من قال
لا يجزئه وهو ظاهر كلام الشافعي وظاهر الحديث لان الشافعي قال وليس على الحاج بعد فراغه من
الرمي أيام منى الا وداع البيت فيودع وينصرف إلى أهله هذا كلام صاحب البيان وهذا الثاني هو الصحيح
وهو مقتضى كلام الأصحاب والله أعلم *
256

(فرع) قال صاحب البيان قال الشيخ أبو نصر في المعتمد ليس على المقيم بمكة الخارج إلى
التنعيم وداع ولا دم عليه في تركه عندنا * وقال سفيان الثوري يلزم الدم * دليلنا أن النبي صلى الله
عليه وسلم (أمر عبد الرحمن بن أبي بكر ان يعمر عائشة من التنعيم ولم يأمرها عند ذهابها إلى التنعيم
بوداع) والله أعلم *
(فرع) إذا طاف للوداع وخرج من الحرم ثم أراد ان يعود إليه وقلنا دخول الحرم
يوجب الاحرام قال الدارمي يلزم الاحرام لأنه دخول جديد قال ولو رجع لطواف الوداع من دون
مسافة القصر لم يلزمه الاحرام والله أعلم *
(فرع) ان قلنا طواف الوداع واجب فترك طوفة من السبع ورجع إلى بلده لم يحصل الوداع
فيلزمه الدم بكماله وقال الدارمي يكون كتارك كل الطواف الا في الدم فإنه على الأقوال إلى ثلاث
فدم يعني انه إذا ترك طوفة ففيها الأقوال (أحدها) يلزمه ثلث دم (والثاني) درهم (وأصحها) مد
وفي طوفتين الأقوال أيضا وفي ثلاث طوفات دم كامل هذا كلام الدارمي وهو ضعيف أو غلط
(والصواب) انه لم يحصل طواف الوداع والله أعلم *
(فرع) إذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة وأراد الحجاج النفر بعد قضاء مناسكهم فالأولى
للمرأة ان تقيم حتى تطهر فتطوف الا أن يكون عليها ضرر ظاهر في هذا فان أرادت النفر مع الناس
قبل طواف الإفاضة جاز وتبقى محرمة حتى تعود إلى مكة فتطوف متى ما كان ولو طال سنين وقد سبق في
مواضع من هذا الباب بيان هذا (وأما) قول الماوردي في الحاوي ليس لها ان تنفر حتى تطوف
بعد أن تطهر فشاذ ضعيف جدا والظاهر أنه أراد انه مكروه نفرها قبل طواف الإفاضة وقد سبق انه يكره
تأخيره ولا يكون مراده التحريم * ويصح ان يقال إن المكروه ليس بجائز ويفسر الجائز بمستوى
الطرفين والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا إذا حاضت الحاجة قبل طواف الإفاضة ونفر الحجاج بعد قضاء
مناسكهم وقبل طهرها وأرادت ان تقيم إلى أن تطهر وكانت مستأجرة جملا لم يلزم الجمال انتظارها
بل له النفر بجمله مع الناس ولها ان تركب في موضعها مثلها هذا مذهبنا لا خلاف فيه بين أصحابنا
وممن صرح به الماوردي والشيخ أبو نصر وصاحب البيان وآخرون * وحكى أصحابنا عن مالك
257

أنه يلزم ان ينتظرها أكثر مدة الحيض وزيادة ثلاثة أيام * واستدل أصحابنا بقوله صلى الله عليه
وسلم (لا ضرر ولا ضرار) وهو حديث حسن من رواية أبي سعيد الخدري وبالقياس على ما لو
مرضت فإنه لا يلزمه انتظارها بالاجماع والله أعلم * قال القاضي عياض المالكي موضع الخلاف
بين الشافعي ومالك في هذه المسألة إذا كان الطريق آمنا ومعها محرم لها فإن لم يكن آمنا أو لم
يكن محرم لم ينتظرها بالاتفاق لأنه لا يمكنه السير بها وحده قال ولا يحبس لها الرفقة الا أن يكون
كاليوم واليومين والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(فإذا فرغ من طواف الوداع فالمستحب ان يقف في الملتزم وهو ما بين الركن والباب فيدعو
ويقول (اللهم أن البيت بيتك والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك
حتى سيرتني في بلادك وبلغتني بنعمتك حتى أعنتني على قضاء مناسكك فان كنت رضيت عني
فازدد عني رضى والا فمن الآن قبل أن تناءى عن بيتك داري هذا أوان انصرافي أن أذنت لي
غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك اللهم اصحبني العافية في بدني والعصمة
في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني) فإنه قد روي ذلك عن بعض السلف ولأنه دعاء
يليق بالحال ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم) *
(الشرح) هذا الدعاء ذكره الشافعي رحمه الله في الاملاء وفي مختصر الحج واتفق الأصحاب
على استحبابه (وقوله) الملتزم هو - بضم الميم وفتح الزاي - سمي بذلك لأنهم يلزمونه للدعاء ويقال
له المدعي والمتعوذ - بفتح الواو - وهو ما بين الركن الذي فيه الحجر الأسود وباب الكعبة وهو
من المواضع التي يستجاب فيها الدعاء هناك وسأفردها بفرع مستقل إن شاء الله تعالى قريبا (وقوله)
والا فمن الآن يجوز فيه ثلاثة أوجه (أجودها) ضم الميم وتشديد النون (والثاني) كسر الميم وتخفيف
النون وفتحها (والثالث) كذلك لكن النون مكسورة قال أهل العربية إذا جاء بعد من الجارة اسم
258

موصول فإن كان فيه ألف ولام كان الأجود فيه فتح النون ويجوز كسرها وإن لم يكن كان الأجود كسرها
ويجوز الفتح (مثال) الأول من الله من الرجل من الناس (مثال) الثاني من ابنك من اسمك من
اثنين (وأما) الآن فهو الوقت الحاضر هذا حقيقته وأصله وقد يقع على القريب الماضي والمستقبل
تنزيلا له منزلة الحاضر ومنه قوله تعالى (فالآن باشروهن) تقديره فالآن أبحنا لكم مباشرتهن
فعلى هذا هو على حقيقة (قبل أن تنآى) أن تبعد (وقوله) هذا أوان انصرافي قال أهل اللغة الأوان الحين والوقت وجمعه آونة كزمان وأزمنة * قال أصحابنا إذا فرغ من طواف صلى ركعتي
الطواف خلف المقام * قال الشافعي والأصحاب ثم يستحب أن يأتي الملتزم فيلتزمه ويقول هذا
الدعاء المذكور في الكتاب قال الشافعي والأصحاب وما زاد على هذا الدعاء فحسن قال الأصحاب
وقد زيد فيه (واجمع لي خير الدنيا والآخرة انك قادر على ذلك) * وقد ذكر المصنف هذه الزيادة
في التنبيه وذكر الماوردي هذا الدعاء وزاد فيه ونقص منه * وذكره القاضي أبو الطيب في تعليقه
وزاد فيه كثيرا ونقص منه والمشهور ما ذكرناه وبأي شئ دعا حصل المستحب ويأتي بآداب
الدعاء السابقة في فصل الوقوف بعرفات من الحمد لله تعالى والثناء عليه والصلاة على النبي صلى
الله عليه وسلم ورفع اليدين وغير ذلك * قال القاضي أبو الطيب في تعليقه قال الشافعي في مختصر كتاب
الحج إذا طاف للوداع استحب أن يأتي الملتزم فيلصق بطنه وصدره بحائط البيت ويبسط يديه على
الجدار فيجعل اليمنى مما يلي الباب واليسرى مما يلي الحجر الأسود ويدعو بما أحب من أمر الدنيا
والآخرة والله أعلم * قال أصحابنا فإن كانت حائضا استحب أن تأتي بهذا الدعاء على باب المسجد
وتمضي والله أعلم * وما جاء في الملتزم والتزام البيت حديث المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب
عن أبيه قال (كنت مع عبد الله بن عمرو - يعني ابن العاص - فلما جئنا دبر الكعبة قلت ألا تتعوذ
259

قال نعوذ بالله من النار ثم مضي حتى استلم الحجر وأقام بين الركن والباب فرفع صدره ووجهه وذراعيه
وكفيه هكذا وبسطهما بسطا ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله) رواه أبو داود وابن
ماجة والبيهقي وهذا الاسناد ضعيف لان المثنى بن الصباح ضعيف * وعن يزيد ابن أبي زياد عن
مجاهد عن عبد الرحمن بن صفوان قال (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قلت لألبسن ثيابي فلا نظرن
كيف يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقت فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج من الكعبة هو
وأصحابه قد
استلموا البيت من الباب إلى الحطيم وقد وضعوا خدودهم على البيت ورسول الله صلى الله عليه وسلم وسطهم)
رواه أبو داود وهذا الاسناد ضعيف لان يزيد ضعيف * وعن ابن عباس (أنه كان يلتزم ما بين
260

الركن والباب وكأن يقول ما بين الركن والباب يدعي الملتزم لا يلزم ما بينهما أحد يسأل الله عز وجل
شيئا الا أعطاه إياه) رواه البيهقي موقوفا على ابن عباس باسناد ضعيف والله أعلم * وقد سبق مرات
أن العلماء متفقون على التسامح في الأحاديث الضعيفة في فضائل الأعمال ونحوها مما ليس من الأحكام
والله أعلم *
(فرع) ذكر الحسن البصري رحمه الله في رسالته المشهورة إلى أهل مكة ان الدعاء يستجاب
في خمسة عشر موضعا - في الطواف - وعند الملتزم - وتحت الميزاب - وفي البيت - وعند زمزم - وعلى الصفا والمروة - وفى المسعى - وخلف المقام - وفي عرفات - وفي المزدلفة - وفي منى وعند الجمرات الثلاث * قال المصنف رحمه الله *
261

(وإن كان محرما بالعمرة وحدها وأراد دخول مكة فعل ما ذكرناه في الدخول للحج فإذا دخل
مكة طاف وسعى وحلق وذلك جميع أفعال العمرة والدليل عليه ما روت عائشة رضي الله عنها قالت
(خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ومنا من أهل بالحج
والعمرة وأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فأما من أهل بالعمرة فأحلوا حين طافوا بالبيت وبين
الصفا والمروة واما من أهل بالحج والعمرة فلم يحلوا إلى يوم النحر) وإن كان قارنا بين الحج والعمرة فعل
ما يفعله المفرد بالحج فيقتصر على طواف واحد وسعي واحد والدليل عليه ما روي أن النبي صلى الله عليه
262

وسلم قال (من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعى واحد) ولأنه يدخل فيهما بتلبية
واحدة ويخرج منهما بحلاق واحد فوجب ان يطوف لهما طوافا واحدا ويسعى لهما سعيا واحدا
كالمفرد بالحج) *
(الشرح) حديث عائشة رواه البخاري ومسلم (وأما) حديث (من جمع بين الحج والعمرة
كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد) فصحيح رواه الترمذي والبيهقي وسبق بيانه وبيان حديث
عائشة الأول وغيرهما مما في معناهما في فرع من فروع مذاهب العلماء عقب مسائل طواف القدوم
وذكرنا هناك مذاهب العلماء في هذه المسألة وأدلتها والجواب عنها (وقول) المصنف لأنه يدخل فيهما
بتلبية واحدة إلى آخره فهو الزام لأبي حنيفة بما يوافق عليه فإنه أوجب على القارن طوافين وسعيين
ووافق على أنه يكفيه احرام واحد وحلق واحد (أما) الأحكام ففي الفصل مسألتان (إحداهما)
القارن يفعل ما يفعله المفرد للحج فيقتصر على ما يقتصر عليه المفرد ولا يزيد عليه شيئا أصلا فيكفيه
263

للإفاضة طواف واحد ويكفيه إما بعد طواف القدوم وإما بعد الإفاضة وهذا لا خلاف عندنا فيه وبه قال
أكثر العلماء كما قدمته في الموضع الذي ذكرته * قال أصحابنا ويستحب ان يطوف القارن للإفاضة
طوافين ويسعى سعيين ليخرج من خلاف العلماء (الثانية) إذا كان محرما بالعمرة وحدها وأراد دخول
مكة فعل ما ذكره في الدخول للحج من الآداب فإذا دخل طاف وسعى وحلق وقد تمت عمرته هذا
إذا قلنا بالمذهب ان الحلق نسك (فان قلنا) ليس هو نسك كفاه الطواف والسعي وقد حل قال الشافعي
والأصحاب صفة الاحرام بالعمرة صفة الاحرام بالحج في استحباب الغسل للاحرام ولدخول مكة
والتطيب والتنظف عند ارارة الاحرام وما يلبسه وما يحرم عليه من اللباس والطيب والصيد وإزالة
الشعر والظفر والوطئ والمباشرة بشهوة ودهن الرأس واللحية وغير ذلك مما سبق فإن كان في غير مكة
أحرم من ميقات بلده حين يبتدئ السير كما سبق في الحج وإن كان في مكة وأراد العمرة استحب
له أن يطوف بالبيت ويصلي الركعتين ويستلم الحجر الأسود ثم يخرج من الحرم إلى الحل فيغتسل
هناك للاحرام ويلبس ثوبين للاحرام ويصلى ركعتيه ويحرم بالعمرة إذا سار على أصح القولين وفي
القول الآخر يحرم عقب الصلاة ويلبي ويستمر في السير ملبيا وكل هذه الأمور كما سبق في الحج
ولا يزال يلبي حتى يبدأ في الطواف فيقطع التلبية بأول شروعه فيه ويرمل في المطوفات الثلاث الأول
من السبع ويمشي في الأربع كما سبق في طواف القدوم فإذا فرغ من الطواف صلى ركعتيه خلف
المقام ثم عاد إلى الحجر الأسود فاستلمه ثم يخرج من باب الصفا فيسعى بين الصفا والمروة كما وصفناه
في الحج وشروط سعيه وآدابه هناك كما سبق في الحج فإذا تم سعيه حلق أو قصر عند المروة فإذا
فعل هذا تمت عمرته وحل منها حلا واحدا وقد سبق أنه ليس لها الا تحال واحد وهذا لا خلاف
264

فيه * قال الشافعي والأصحاب فإن كان معه هدى استحب ذبحه بعد السعي وقبل الحلق وحيث نحر
من مكة أو سائر الحرم أجزأه لكن الأفضل عند المروة لأنها موضع تحلله كما يستحب للحاج الذبح
بمنى لأنها موضع تحلله والله أعلم * ولو جامع المحرم بالعمرة قبل التحلل فسدت عمرته حتى لو طاف
وسعي وحلق شعرتين فجامع قبل إزالة الشعرة الثالثة فسدت عمرته ان قلنا الحلق نسك وحكم فسادها
كفساد الحج فيجب المضي في فاسدها ويجب القضاء والبدنة والله أعلم * ولو أحرم بالعمرة من نفس مكة
صح احرامه وكان مسيئا ويلزمه الخروج إلى أدنى الحل فإن لم يخرج بل طاف وسعي وحلق فقولان
(أصحهما) يجزئه وعليه دم وقد سبقت المسألة مستقصاة بفروعها حيث ذكرها المصنف في آخر باب
المواقيت والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(أركان الحج أربعة الاحرام والوقوف بعرفه وطواف الإفاضة والسعي بين الصفا والمروة *
وواجباته الاحرام من الميقات والرمي وفي الوقوف بعرفة إلى أن تغرب الشمس والمبيت بالمزدلفة
والمبيت بمنى في ليالي الرمي وفي طواف الوداع قولان (أحدهما) أنه واجب (والثاني) ليس بواجب *
وسننه الغسل وطواف القدوم والرمل والاضطباع في الطواف والسعي واستلام الركن وتقبيله والسعي
في موضع السعي والمشي في موضع المشي والخطب والأذكار والأدعية * وأفعال العمرة كلها أركان
الا الحلق * فمن ترك ركنا لم يتم نسكه ولا تحلل حتى يأتي به * ومن ترك واجبا لزمه الدم * ومن
ترك سنة لم يلزمه شئ) *
(الشرح) قال أصحابنا أعمال الحج ثلاثة أقسام - أركان - وواجبات - وسنن - (أما)
الأركان فخمسة - الاحرام - والوقوف - وطواف الإفاضة - والسعي - والحلق إذا قلنا بالأصح إن
الحلق نسك وان قلنا ليس بنسك فأركانه الأربعة الأولى (وأما) الواجبات فاثنان متفق عليهما وأربعة مختلف
265

فيها (أما) الاثنان فانشاء الاحرام من الميقات والرمي فهذان واجبان بلا خلاف (وأما) الأربعة (فأحدها)
الجمع بين الليل والنهار في الوقوف بعرفة لمن أمكنه ذلك كما سبق (الثاني) المبيت بالمزدلفة (الثالث)
المبيت ليالي منى (الرابع) طواف الوداع وفي هذه الأربعة قولان (أحدهما) الوجوب (والثاني)
الاستحباب * والأصح وجوب الثلاثة الآخرة دون الجمع (وأما) السنن فجميع ما سبق مما يؤمر به
الحاج سوى الأركان والواجبات وذلك كطواف القدوم والأذكار والأدعية واستلام الحجر وتقبيله
والسجود عليه والرمل والاضطباع وسائر ما ندب إليه من الهيئات السابقة في الطواف وفي السعي والخطب
وغير ذلك وقد سبقت كلها واضحة (وأما) أحكام هذه الأقسام فالأركان لا يتم الحج ويجزئ حتى
يأتي بجميعها ولا يحل من احرامه مهما بقي منها شئ حتى لو اتي بالأركان كلها الا انه ترك طوفة من
السبع أو مرة من السعي لم يصح حجه ولم يحصل التحلل الثاني وكذا لو حلق شعرتين لم يتم ولا
يحل حتى يحلق شعرة ثالثة ولا يجبر شئ من الأركان بدم ولا غيره بل لا بد من فعله * وثلاثة
منها وهي الطواف والسعي والحلق لا آخر لوقتها بل لا تفوت ما دام حيا ولا يختص الحلق بمنى
والحرم بل يجوز في الوطن وغيره كما سبق (واعلم) أن الترتيب شرط في هذه الأركان فيشترط
تقدم الاحرام على جميعها ويشترط تقدم الوقوف على طواف الإفاضة ويشترط كون السعي بعد
طواف صحيح ولا يشترط تقدم الوقوف على السعي بل يصح سعيه بعد طواف القدوم وهو أفضل
كما سبق ولا ترتيب بين الطواف والحلق وهذا كله سبق بيانه وإنما نبهت عليه ملخصا والله أعلم
(وأما) الواجبات فمن ترك منها شيئا لزمه الدم ويصح الحج بدونه سواء تركها كلها أو بعضها عمدا
أو سهوا لكن العامد يأثم (وأما) السنن فمن تركها كلها لا شئ عليه لا إثم ولا دم ولا غيره لكن
فاته الكمال والفضيلة وعظيم ثوابها والله أعلم (وأما) العمرة فأركانها الاحرام والطواف والسعي
والحلق ان جعلناه نسكا والله أعلم (واعلم) أن المصنف جعل الحلق من الواجبات في التنبيه ولم
يذكره هنا في الواجبات ولا في أركان الحج (والصواب) أنه ركن إذا جعلناه نسكا هكذا صرح
به * قال المصنف رحمه الله *
266

(ويستحب دخول البيت لما روي ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من دخل
البيت دخل في حسنة وخرج من سيئة مغفورا له) ويستحب أن يصلى فيه لما روى ابن عمر رضي
الله عنهما قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول صلاة في مسجدي هذا تعدل الف صلاة في غيره من
المساجد الا المسجد الحرام فإنه أفضل بمائة صلاة) ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما روي أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (ماء زمزم لما شرب له) ويستحب إذا خرج من مكة أن يخرج من أسفلها لما
روت عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء إلى مكة دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها) - قال
أبو عبد الله الزبيري ويخرج وبصره إلى البيت حتى يكون آخر عهده بالبيت)) *
(الشرح) حديث ابن عباس رواه البيهقي وقال تفرد به عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف
(وأما) حديث ابن عمر بلفظه المذكور فغريب ويغني عنه أحاديث كثيرة (منها) حديث أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (صلاة في مسجدي هذا أفضل من الف صلاة في غيره من المساجد الا
المسجد الحرام) رواه البخاري ومسلم ورواه مسلم أيضا مرفوعا من رواية ابن عمر ومن رواية
ميمونة كلهم بهذا اللفظ وعن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة
في مسجدي هذا أفضل من الف صلاة فيما سواه الا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام
أفضل من مائة صلاة في مسجدي) رواه أحمد في مسنده والبيهقي باسناد حسن * وعن ابن عمر قال
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا تعدل الف صلاة فيما سواه من المساجد
الا المسجد الحرام فهو أفضل) رواه البيهقي والله أعلم (واما) حديث (ماء زمزم لما شرب له) فرواه
البيهقي باسناد ضعيف من رواية جابر قال تفرد به عبد الله بن المؤمل وهو ضعيف ويغني عنه ما سنذكره
قريبا إن شاء الله تعالى (وأما) حديث عائشة فرواه البخاري ومسلم وسبق بيانه في أول هذا الباب
والله أعلم (وأما) زمزم فبئر معروفة في المسجد الحرام بينها وبين الكعبة ثمان وثلاثون ذراعا (قيل)
سميت زمزم لكثرة مائها يقال ماء زمزم وزمزوم وزمازم إذا كان كثيرا * (وقيل) لضم هاجر
رضي الله عنها لمائها حين انفجرت وزمها إياه * وقيل لزمزمة جبريل صلى الله عليه وسلم وكلامه
وقيل أنها غير مشتقة ولها أسماء اخر (منها) برة وهزمة جبريل والهزمة الغمزة بالعقب في الأرض
(ومنها) المضنونة وتكتم وشباعة وغير ذلك وقد ذكرت في تهذيب اللغات نفائس أخرى
267

تتعلق بزمزم والله أعلم (أما) الأحكام ففيها مسائل (إحداها) يستحب دخول الكعبة والصلاة
فيها وأقل ما ينبغي أن يصلي ركعتين واستدل المصنف وغيره بحديث ابن عباس المذكور وهو
ضعيف كما سبق ويغني عنه أحاديث كثيرة في الصحيح (منها) حديث ابن عمر قال (دخل رسول
الله صلى الله عليه وسلم البيت هو وأسامة بن زيد وبلال وعثمان بن طلحة فاغلقوا عليهم فلما فتحوا
كنت أول من ولج فلقيت بلالا فسألته هل صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم بين
العمودين اليمانيين خف) رواه البخاري ومسلم وفي رواية (إن ذلك كان يوم فتح مكة) * وعن نافع
عن ابن عمر (أنه سأل بلالا أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني في الكعبة - فأراه بلال
حيث صلى ولم يسأله قال وكان ابن عمر إذا دخل البيت مشى قبل وجهه وجعل الباب قبل ظهره ثم مشي
حتى يكون بينه وبين الجدار قريب من ثلاثة أذرع ثم صلى يتوخى المكان الذي أخبره بلال
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه) رواه البخاري وعن ابن عباس قال (أخبرني أسامة
ابن زيد رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل
فيه) قال العلماء الاخذ برواية بلال في إثبات الصلاة أولى لأنه مثبت فقدم على النافي ولأنه شاهد
بعينه ما لم يشاهده أسامة وسببه أن بلالا كان قريبا من النبي صلى الله عليه وسلم حين صلى راقبه
في ذلك فرآه يصلى وكان أسامة متباعدا مشتغلا بالدعاء والباب مغلق فلم ير الصلاة فوجب الاخذ
برواية بلال لان معه زيادة علم * وعن سالم بن عبد الله (أن عائشة رضي الله عنها كانت تقول عجبا
للمرء المسلم إذا دخل الكعبة كيف يرفع بصره قبل السقف يدع ذلك إجلالا لله تعالى واعظاما
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الكعبة ما خلف بصرة موضع سجوده حتى خرج منها) رواه
البيهقي (وأما) حديث إسماعيل بن أبي خالد قال (قلت لعبد الله بن أبي أوفى أدخل النبي صلى الله
عليه وسلم البيت في عمرته قال لا) روى البخاري ومسلم * وعن عائشة قالت (خرج رسول الله
صلى الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس ثم رجع إلي وهو حزين فقلت يا رسول
268

الله خرجت من عندي وأنت كذا وكذا قال إني دخلت الكعبة ووددت اني لم أكن فعلته
إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي بعدي) رواه البيهقي قال البيهقي هذا كان في حجته صلى الله عليه
وسلم وحديث أبي أوفى في عمرته فلا معارضة بينهما والله أعلم *
(فرع) ينبغي لداخل الكعبة أن يكون متواضعا خاشعا خاضعا لما ذكرناه من حديث عائشة
ولأنه أشرف الأرض ومحل الرحمة والأمان ويدخل حافيا ويصلى في الموضع الذي ذكره ابن عمر
في حديثه السابق وهو مقابل باب الكعبة على ثلاث أذرع من الجدار المقابل للباب *
(فرع) قد سبق في باب استقبال القبلة أن مذهبنا جواز صلاة الفرض والنفل في الكعبة
وأن النفل فيها أفضل من خارجها وكذا الفرض الذي لا يرجى له جماعة *
(فرع) يستحب الاكثار من دخول الحجر والصلاة فيه والدعاء لأنه من البيت أو بعضه
وقد سبق ان الدعاء يستجاب فيه *
(فرع) إذا دخل الكعبة فليحذر كل الحذر من الاغترار بما أحدثه بعض أهل الضلالة
في الكعبة المكرمة * قال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله ابتداع من قريب بعض
الفجرة المختالين في الكعبة المكرمة أمرين باطلين عظم ضررهما على العامة (أحدهما) ما يذكرونه
من العروة الوثقى عمدوا إلى موضع عال من جدار البيت المقابل لباب البيت فسموه بالعروة الوثقى
وأوقعوا في نفوس العامة ان من ناله فقد استمسك بالعروة الوثقى فاحوجوهم إلى مقاساة عناء
وشدة في الوصول إليها ويركب بعضهم بعضا وربما صعدت المرأة على ظهر الرجل ولامست الرجال
ولامسوها فلحقهم بذلك أنواع من الضرر دينا ودنيا (الثاني) مسمار في وسط الكعبة سموه سرة
الدنيا وحملوا العامة على أن يكشف أحدهم سرته وينبطح بها على ذلك المسمار ليكون واضعا سرته
على سرة الدنيا قاتل الله واضع ذلك ومخترعه * هذا كلام أبي عمرو وهذا الذي قاله كما قال فهما أمران
باطلان احدثوهما لأغراض فاسدة وللتوصل إلى سحت يأخذونه من العامة والله أعلم *
269

(فرع) هذا الذي ذكرناه من استحباب دخول البيت هو فيما إذا لم يتضرر هو ولا يتضرر
به أحد فان تأذى أو آذى لم يدخل وهذا مما يغلط فيه كثير من الناس فيتزاحمون زحمة شديدة
بحيث يؤذي بعضهم بعضا وربما انكشفت عورة بعضهم أو كثير منهم وربما زاحم المرأة وهي
مكشوفة الوجه ولامسها وهذا كله خطأ تفعله الجهلة ويغتر بعضهم ببعض وكيف يحاول العاقل
سنة بارتكاب محرم من الأذى وغيره والله أعلم *
(فرع) للجالس في المسجد الحرام استقبال الكعبة والنظر إليها والقرب منها وينظر إليها
إيمانا واحتسابا وقد جاءت آثار كثيرة في النظر إليها *
(فرع) ينبغي للحاج والمعتمر أن يغتنم مدة إقامته بمكة ويكثر الاعتمار والطواف والصلاة
في المسجد الحرام وسبق بيان الخلاف في الطواف والصلاة أيهما أفضل في مسائل طواف القدوم *
ويستحب أن يزور المواضع المشهورة بالفضل في مكة وهي ثمانية عشر (منها) بيت المولد وبيت
خديجة ومسجد دار الأرقم والغار الذي في ثور والغار الذي في حراء وقد أوضحتها في كتاب
المناسك والله أعلم (المسألة الثانية) قال الشافعي والأصحاب وغيرهم يستحب أن يشرب من ماء زمزم
وأن يكثر منه وأن يتضلع منه أي يتملى ويستحب أن يشربه لمطلوباته من أمور الآخرة والدنيا
فإذا أراد أن يشربه للمغفرة أو الشفاء من مرض ونحوه استقبل القبلة ثم ذكر اسم الله تعالى ثم قال
(اللهم انه بلغني أن رسولك صلى الله عليه وسلم قال ماء زمزم لما شرب له اللهم أني أشربه لتغفر لي اللهم
فاغفر لي أو اللهم إني أشربه مستشفيا به مرضي اللهم فاشفني) ونحو هذا ويستحب أن يتنفس
ثلاثا كما في كل شرب فإذا فرغ حمد الله تعالى وقد جاء في هذه المسائل أحاديث كثيرة (منها)
حديث جابر قال (ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفاض إلى البيت فصلى بمكة الظهر فأتى بني عبد المطلب
يستقون على زمزم فقال انزعوا بني عبد المطلب فلولا أن يغلبكم الناس على سقايتكم لنزعت معكم
فناولوه دلوا فشرب منه) رواه مسلم وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ماء زمزم
270

(إنها مباركة انها طعام طعم وشفاء سقم) رواه مسلم * وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم (أتى
زمزم فشرب وهم يسقون من زمزم فقال أحسنتم وأجملتم كذا فاصنعوا) وفي رواية (إنكم على عمل
صالح) رواه البخاري ومسلم * وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ماء زمزم لما شرب له) وقد سبق
بيانه * وعن عثمان بن الأسود قال (حدثني جليس لابن عباس قال قال لي ابن عباس من أين
جئت قلت شربت من زمزم قال شربت كما ينبغي قلت كيف أشرب قال إذا شربت فاستقبل
القبلة ثم أذكر الله تعالى ثم تنفس ثلاثا وتضلع منها فإذا فرغت فاحمد الله فان النبي صلى الله عليه وسلم قال آية
ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم) وفي رواية عن عثمان بن أبي الأسود عن أبي
مليكة قال (جاء رجل إلى ابن عباس فقال له من أين جئت قال شربت من زمزم فذكره بنحوه)
رواهما البيهقي والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا يستحب أن يشرب من نبيذ سقاية العباس إن كان هناك نبيذ قالوا
والنبيذ الذي يجوز شربه ما لم يسكر (واحتجوا) للمسألة بحديث ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم
يعني بعد فراغه من طواف الإفاضة إلى زمزم فاستسقى قال فأتيناه باناء من نبيذ فشرب وسقي فضله
أسامة) * (الثالثة) السنة إذا أراد الخروج من مكة إلى وطنه أن يخرج من أسفلها من ثنية
كدى - بضم الكاف والقصر - وقد سبقت المسألة واضحة في أول الباب * وعجب كيف
ذكرها المصنف في موضعين من الباب (الرابعة) قال المصنف عن الزبير (يستحب أن يخرج وبصره
إلى البيت حتى يكون آخر عهده بالبيت) وبهذا قطع جماعة آخرون * وقال القاضي أبو الطيب في
تعليقه وآخرون يلتفت إليه في حال انصرافه كالمتحزن عليه * وقال جماعة من أصحابنا يخرج ماشيا
تلقاء وجهه ويولي الكعبة ظهره ولا يمشي قهقرة أي كما يفعله كثير من الناس قالوا بل المشي قهقري
مكروه لأنه بدعة ليس فيه سنة مروية ولا اثر لبعض الصحابة فهو محدث لا أصل له فلا يفعل *
وقد جاء عن ابن عباس ومجاهد كراهة قيام الرجل على باب المسجد ناظرا إلى الكعبة إذا أراد
الانصراف إلى وطنه بل يكون آخر عهده الدعاء في الملتزم وهذا الوجه الثالث هو الصواب وممن
271

قطع به من أئمة أصحابنا أبو عبد الله الحليمي والماوردي * قال المصنف رحمه الله *
(ويستحب زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما روي ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (من زار قبري وجبت له شفاعتي) ويستحب ان يصلى في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله
صلى الله عليه وسلم (صلاة في مسجدي هذا تعدل الف صلاه فيما سواه من المساجد)) *
(الشرح) اما حديث (صلاة في مسجدي) فسبق بيانه قريبا وانه في الصحيحين من
رواية جماعة وينكر على المصنف لكونه حذف منه الاستثناء وهو قوله صلى الله عليه وسلم (الا المسجد الحرام)
كما سبق بيانه (واما) حديث ابن عمر فرواه البراء والدارقطني والبيهقي باسنادين ضعيفين * ومما
جاء في زيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسجده والسلام عليه وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله
عنهما حديث أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تشد الرحال الا
إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) رواه البخاري ومسلم وعنه
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما من أحد يسلم على الا رد الله على روحي حتى أرد عليه
السلام) رواه أبو داود باسناد صحيح * وعنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بين
قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي) رواه البخاري ومسلم وروياه أيضا
من رواية عبد الله بن زيد الأنصاري * وعن يزيد بن أبي عبيد قال (كان سلمة بن الأكوع
يتحرى الصلاة عند الأسطوانة التي عند المصحف قلت يا أبا مسلم أراك تتحرى الصلاة عند هذه
الأسطوانة قال (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتحرى الصلاة عندها) رواه البخاري ومسلم * وعن نافع
(ان ابن عمر كان إذا قدم من سفر دخل المسجد ثم أتى القبر فقال السلام عليك يا رسول الله
السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه) رواه البيهقي والله أعلم (وأعلم) أن زيارة قبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم من أهم القربات وأنجح المساعي فإذا انصرف الحجاج والمعتمرون من مكة استحب لهم
استحبابا متأكدا أن يتوجهوا إلى المدينة لزيارته صلى الله عليه وسلم وينوي الزائر مع الزيارة
التقرب وشد الرحل إليه والصلاة فيه وإذا توجه فليكثر من الصلاة والتسليم عليه صلى الله عليه
272

وسلم في طريقه فإذا وقع بصره على أشجار المدينة وحرمها وما يعرف بها زاد من الصلاة والتسليم
عليه صلى الله عليه وسلم وسأل الله تعالى أن ينفعه بهذه الزيارة وأن يقبلها منه * ويستحب أن يغتسل
قبل دخوله ويلبس أنظف ثيابه ويستحضر في قلبه شرف المدينة وأنها أفضل الأرض بعد مكة
عند بعض العلماء وعند بعضهم أفضلها مطلقا وأن الذي شرفت به صلى الله عليه وسلم خير الخلائق *
وليكن من أول قدومه إلى أن يرجع مستشعرا لتعظيمه ممتلئ القلب من هيبته كأنه يراه فإذا وصل
باب مسجده صلى الله عليه وسلم فليقل الذكر المستحب في دخول كل مسجد وسبق بيانه في آخر
باب ما يوجب الغسل ويقدم رجله اليمنى في الدخول واليسرى في الخروج كما في سائر المساجد فإذا
دخل قصد الروضة الكريمة وهي ما بين القبر والمنبر فيصلي تحية المسجد بجنب المنبر * وفي أحياء
علوم الدين أنه يستحب أن يجعل عمود المنبر حذاء منكبه الأيمن ويستقبل السارية التي إلى جانبها
الصندوق وتكون الدائرة التي في قبلة المسجد بين عينيه فذلك موقف رسول الله صلى الله عليه
وسلم * وقد وسع المسجد بعده صلى الله عليه وسلم * وفي كتاب المدينة أن ذرع ما بين المنبر ومقام
النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان يصلى فيه حتى توفي أربعة عشر ذراعا وشبرا وأن ذرع ما بين
القبر والمنبر ثلاث وخمسون ذراعا وشبرا فإذا صلى التحية في الروضة أو غيرها من المسجد شكر
الله تعالى على هذه النعمة وسأله اتمام ما قصده وقبول زيارته ثم يأتي القبر الكريم فيستدبر القبلة
ويستقبل جدار القبر ويبعد من رأس القبر نحو أربع أذرع ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر
على رأسه ويقف ناظرا إلى أسفل ما يستقبله من جدار القبر غاض الطرف في مقام الهيبة والاجلال
فارغ القلب من علائق الدنيا مستحضرا في قلبه جلالة موقفه ومنزلة من هو بحضرته ثم يسلم ولا
يرفع صوته بل يقصد فيقول السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا نبي الله السلام عليك يا خيرة
الله السلام عليك يا حبيب الله السلام عيك يا سيد المرسلين وخاتم النبيين السلام عليك يا خير
الخلائق أجمعين السلام عليك وعلى آلك وأهل بيتك وأزواجك وأصحابك أجمعين السلام عليك
وعلى سائر النبيين و جميع عباد الله الصالحين جزاك الله يا رسول الله عنا أفضل ما جزى نبيا ورسولا
عن أمته وصلى عليك كلما ذكرك ذاكر وغفل عن ذكرك غافل أفضل وأكمل ما صلى على أحد من
273

الخلق أجمعين أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له واشهد أنك عبده ورسوله وخيرته من
خلقه واشهد انك بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت في الله حق جهاده اللهم
آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته وآته نهاية ما ينبغي أن يسأله السائلون اللهم صل
على محمد عبدك ورسولك النبي الأمي وعلى آل محمد وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك
حميد مجيد * ومن طال عليه هذا كله اقتصر على بعضه وأقله السلام عليك يا رسول الله صلى الله
عليك وسلم * وجاء عن ابن عمر وغيره من السلف الاقتصار جدا فعن ابن عمر ما ذكرناه عنه قريبا
وعن مالك يقول السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته * وإن كان قد أوصى بالسلام عليه صلى الله عليه وسلم
قال السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان وفلان ابن فلان يسلم عليك يا رسول الله أو نحو هذه العبارة
ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع للسلام على أبي بكر رضي الله عنه لان رأسه عند منكب رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيقول السلام عليك يا أبا بكر صفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وثانيه في الغار جزاك
الله عن أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا * ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع للسلام على
عمر رضي الله عنه ويقول السلام عليك يا عمر الذي أعز الله به الاسلام جزاك الله عن أمة نبيه صلى
الله عليه وسلم خيرا * ثم يرجع إلى موقفه الأول قبالة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتوسل
به في حق نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى ومن أحسن ما يقول ما حكاه الماوردي والقاضي
أبو الطيب وسائر أصحابنا عن العتبي مستحسنين له قال (كنت جالسا عند قبر رسول الله صلى الله
عليه وسلم فجاء أعرابي فقال السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم
جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وقد جئتك مستغفرا من ذنبي
مستشفعا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول *
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه * فطاب من طيبهن القاع والاكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه * فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف فحملتني عيناي فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال يا عتبى الحق الاعرابي
فبشره بان الله تعالى قد غفر له) * ثم يتقدم إلى رأس القبر فيقف بين الأسطوانة ويستقبل القبلة
274

ويحمد الله تعالى ويمجده ويدعو لنفسه بما شاء ولوالديه ومن شاء من أقاربه ومشايخه وإخوانه
وسائر المسلمين ثم يرجع إلى الروضة فيكثر فيها من الدعاء والصلاة ويقف عند المنبر ويدعو *
(فرع) لا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم ويكره الصاق الظهر والبطن بجدار القبر
قاله أبو عبيد الله الحليمي وغيره قالوا ويكره مسحه باليد وتقبيله بل الأدب أن يبعد منه كما يبعد
منه لو حضره في حياته صلى الله عليه وسلم هذا هو الصواب الذي قاله العلماء وأطبقوا عليه ولا
يغتر بمخالفة كثيرين من العوام وفعلهم ذلك. فان الاقتداء والعمل إنما يكون بالأحاديث الصحيحة
وأقوال العلماء ولا يلتفت إلى محدثات العوام وغيرهم وجهالاتهم * وقد ثبت في الصحيحين عن
عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أحدث في ديننا ما ليس منه فهو رد) وفي رواية لمسلم)
من عمل عملا ليس عليه عملنا فهو رد) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تجعلوا قبري
عبدا وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم) رواه أبو داود باسناد صحيح * وقال الفضل
ابن عياض رحمه الله ما معناه اتبع طرق الهدى ولا يضرك قلة السالكين وإياك وطرق الضلالة
ولا تغتر بكثرة الهالكين ومن خطر بباله أن المسح باليد ونحوه أبلغ في البركة فهو من جهالته
وغفلته لان البركة إنما هي فيما وافق الشرع وكيف ينبغي الفضل في مخالفة الصواب *
(فرع) ينبغي له مدة إقامته بالمدينة أن يصلى الصلوات كلها في مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم وينبغي له أن ينوي الاعتكاف فيه كما في سائر المساجد *
(فرع) يستحب أن يخرج كل يوم إلى البقيع خصوصا يوم الجمعة ويكون ذلك بعد السلام
على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا وصله دعا بما سبق في كتاب الجنائز في زيارة القبور ومنه السلام
عليكم دار قوم مؤمنين وانا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل الفرقد اللهم اغفر لنا ولهم *
ويزور القبور الطاهرة في البقيع كقبر إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعثمان والعباس
والحسن بن علي وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد وغيرهم رضي الله عنهم ويختم بقبر
صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها *
275

(فرع) ويستحب أن يزور قبور الشهداء بأحد وأفضله يوم الخميس ويبدأ بالحمزة رضي الله
عنه وقد ثبت عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (خرج في آخر حياته
فصلى على أهل أحد صلاته على الميت ثم انصرف إلى المنبر فقال إني فرط لكم وأنا شهيد عليكم)
وفي رواية (صلى عليهم بعد ثمان سنين كالوداع للاحياء والأموات فكانت آخر نظرة نظرتها إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر) رواه البخاري ومسلم والمراد بالصلاة عليهم الدعاء لهم
(وقوله) صلاته على الميت أي دعا بدعاء صلاة الميت وقد سبق بيان هذا الحديث وتأويله في كتاب الجنائز *
(فرع) يستحب استحبابا متأكدا أن يأتي مسجد قباء وهو في يوم السبت آكد ناويا
التقرب بزيارته والصلاة فيه لحديث ابن عمر قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي مسجد
قباء راكبا وماشيا فيصلى فيه ركعتين) وفي رواية (أنه صلى الله عليه وسلم صلى فيه ركعتين)
رواه البخاري ومسلم * وعن أسيد بن ظهير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (صلاة في
مسجد قباء كعمرة) رواه الترمذي وغيره قال الترمذي هو حديث حسن صحيح * ويستحب أن
يأتي بئر أويس التي روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تفل فيها وهو عند مسجد قباء فيشرب منها ويتوضأ *
(فرع) يستحب أن يزور المشاهد التي بالمدينة وهي نحو ثلاثين موضعا يعرفها أهل المدينة
فيقصد ما قدر عليه منها وكذلك يأتي الابار التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ منها أو
يغتسل وهي سبع آبار فيتوضأ منها ويشرب *
(فرع) من جهالات العامة وبدعهم تقربهم بأكل التمر الصيحاني في الروضة الكريمة وقطعهم
شعورهم ورميها في القنديل الكبير وهذا من المنكرات المستشنعة والبدع المستقبحة *
(فرع) ينبغي له في مدة مقامه بالمدينة أن يلاحظ بقلبه جلالتها وانها البلدة التي اختارها الله
تعالى لهجرة نبيه صلى الله عليه وسلم واستيطانه ومدفنه وتنزيل الوحي ويستحضر تردده فيها ومشيه
في بقاعها وتردد جبريل صلى الله عليه وسلم فيها بالوحي الكريم وغير ذلك من فضائلها *
(فرع) يستحب أن يصوم بالمدينة ما أمكنه وأن يتصدق على جيران رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهم المقيمون بالمدينة من أهلها والغرباء بما أمكنه ويخص أقاربه صلى الله عليه وسلم
بمزيد (1) لحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أذكركم الله

(1) كذا بالأصل فحرر
276

في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي) رواه مسلم * وعن أبي عمر عن أبي بكر الصديق رضي
الله عنه موقوفا عليه قال (ارقبوا محمدا صلى الله عليه وسلم في أهل بيته) رواه البخاري *
(فرع) عن خارجة بن زيد بن ثابت أحد فقهاء المدينة السبعة (قال بنى رسول الله صلى
الله عليه وسلم مسجده سبعين ذراعا في ستين ذراعا أو يزيد) قال أهل السير جعل عثمان ابن
عفان رضي الله عنه طول المسجد مائة وستين ذراعا وعرضه مائة وخمسين ذراعا وجعل أبوابه
ستة كما كانت في زمان عمر رضي الله عنه ثم زاد فيه الوليد بن عبد الملك فجعل طوله مائة ذراع وعرضه
في مقدمه مائتين وفي مؤخره مائة وثمانين ثم زاد فيه المهدي مائة ذراع من جهة الشام فقط دون
الجهات الثلاث * فإذا عرفت حال المسجد فينبغي ان تعتني بالمحافظة على الصلاة في الموضع الذي
كان في زمان النبي صلى الله عليه وسلم فان الحديث السابق (صلاة في مسجدي هذا أفضل من الف صلاة)
إنما يتناول ما كان في زمانه صلى الله عليه وسلم لكن ان صلى في جماعة فالتقدم إلى الصف الأول ثم ما يليه أفضل
فليتفطن لهذا والله أعلم *
(فرع) ليس له ان يستصحب شيئا من الاكر المعمولة من تراب حرم المدينة ويخرجه إلى وطنه
الذي هو خارج حرم المدينة وكذا حكم الكيران والأباريق المعمولة من حرم المدينة كما سبق في
حرم مكة وكذا حكم الأحجار والتراب *
(فرع) إذا أراد السفر من المدينة والرجوع إلى وطنه أو غيره استحب له ان يودع المسجد
بركعتين ويدعوا بما أحب ويأتي القبر ويعيد السلام والدعاء المذكورين في ابتداء الزيارة ويقول
اللهم لا تجعل هذا آخر العهد بحرم رسولك وسهل لي العود إلى الحرمين سبيلا سهلة والعفو والعافية
في الآخرة والدنيا وردنا إليه سالمين غانمين وينصرف تلقاء وجهه لا قهقري إلى خلف *
(فرع) مما شاع عند العامة في الشام في هذه الأزمان المتأخرة ما يزعمه بعضهم ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال (من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ضمنت له الجنة) وهذا باطل ليس هو مرويا
عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعرف في كتاب صحيح ولا ضعيف بل وضعه بعض الفجرة وزيارة الخليل صلى الله عليه وسلم
فضيلة لا تنكر إنما المنكر ما رووه واعتقدوه ولا تعلق لزيارة الخليل صلى الله عليه وسلم بالحج بل هي قربة
مستقلة والله أعلم * ومثل هذا قول بعضهم إذا حج وقدس حجتين فيذهب فيزور بيت المقدس
ويروي ذلك من تمام الحج وهذا باطل أيضا * وزيارة بيت المقدس فضيلة وسنة لا شك فيها لكنها
غير متعلقة بالحج والله أعلم
277

(فرع) أجمع العلماء على استحباب زيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه وعلى فضله قال الله
تعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله)
وثبت في الصحيحين من رواية أبي سعيد الخدري ومن رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال (لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) وعن
ابن عمرو بن العاص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ان سليمان بن داود صلى الله عليهما وسلم لما بنى بيت
المقدس سأل الله عز وجل خلالا ثلاثا سأل الله تعالى حكما يصادف حكمه فأوتيه وسأل الله تعالى
ملكا لا ينبغي لاحد من بعده فأوتيه وسأل الله عز وجل حين فرغ من بناء المسجد أن لا يأتيه
أحد لا ينهزه الا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه) رواه النسائي باسناد صحيح
ورواه ابن ماجة وزاد (فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما اثنتين فقد أعطيهما وأرجوا أن يكون قد أعطى
الثالثة) وعن ميمونة بنت سعد ويقال بنت سعيد مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت (يا نبي الله
أفتنا في بيت المقدس قال المنشر والمحشر ايتوه فصلوا فيه فان صلاة فيه كألف صلاة قالت أرأيت
من لم يطق أن يتحمل إليه لو يأتيه قال فليهد إليه زيتا يسرج فيه فإنه من أهدى له كان كمن صلى
فيه) رواه أحمد بن حنبل في مسنده بهذا اللفظ ورواه به أيضا ابن ماجة باسناد لا بأس به ورواه
أبو داود مختصرا قالت (قلت يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس فقال ايتوه فصلوا فيه وكانت البلاد
إذا ذاك حربا فإن لم تأتوه وتصلوا فيه فابعثوا بزيت يسرج في قناديله) هذا لفظ رواية أبي داود
ذكره في كتاب الصلاة باسناد حسن *
(فرع) اختلف العلماء في المجاورة بمكة والمدينة فقال أبو حنيفة وطائفة تكره المجاورة بمكة
وقال أحمد وآخرون تستحب * وسبب الكراهة عند من كره خوف الملك وقلة الحرمة للانس
وخوف ملابسة الذنوب فان الذنب فيها أقبح منه في غيرها كما أن الحسنة فيها أعظم منها في غيرها *
ودليل من استحبها انه يتيسر فيها من الطاعات ما لا يحصل في غيرها من الطواف وتضعيف الصلوات
والحسنات وغير ذلك * والمختار ان المجاورة مستحبة بمكة والمدينة الا ان يغلب على ظنه الوقوع
في الأمور المذمومة أو بعضها (وقد جاور بهما خلائق لا يحصون من سلف الأمة وخلفها ممن يقتدى
به وينبغي للمجاور ان يذكر نفسه بما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال (لخطيئة أصيبها بمكة أعز
278

على من سبعين خطيئة بغيرها) وقد ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (من صبر على لا وا المدينة وشدتها كنت له شهيدا أو شفيعا يوم القيامة) *
(فصل) مما تدعوا إليه الحاجة صفة الامام الذي يقيم للناس المناسك ويخطب بهم وقد ذكر
الامام أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي صاحب الحاوي في كتابه الأحكام السلطانية بابا في الولاية
على الحجيج أذكر إن شاء الله تعالى مقاصده قال ولاية الحاج ضربان (أحدهما) يكون على تسيير
الحجيج (والثاني) على إقامة الحج (فاما) الأول فهو ولاية سياسة وتدبير وشرط المتولي أن يكون
مطاعا ذا رأى وشجاعة وهداية ويلزمه في هذه الولاية عشرة أشياء (أحدها) جمع الناس في مسيرهم
ونزولهم حتى لا يتفرقوا فيخاف عليهم (الثاني) ترتيبهم في السير والنزول واعطاء كل واحد منهم
مقادا حتى يعرف كل فريق مقاده إذا سار وإذا نزل ولا يتنازعوا ولا يضلوا عنه (الثالث) يرفق
بهم في السير ويسير بسير أضعفهم (الرابع) يسلك بهم أوضح الطرق وأخصبها (الخامس) يرتاد لهم
المياه والمياه (1) إذا قلت (السادس) يحرسهم إذا نزلوا ويحوطهم إذا رحلوا حتى لا يتخطفهم متلصص
(السابع) يكف عنهم من يصدهم عن المسير بقتال ان قدر عليه أو ببذل مال ان أجاب الحجيج
إليه ولا يحمل له اجبار أحد على بذل الخفارة ان امتنع لان بذل المال للخفارة لا يجب (الثامن)
يصلح ما بين المتنازعين ولا يتعرض للحكم الا أن يكون قد فوض إليه الحكم وهو قائم بشروط
فيحكم بينهم فان دخلوا بلدا جاز له ولحاكم البلد الحكم بينهم * ولو تنازع واحد من الحجيج
وواحد من البلد لم يحكم بينهم الا حاكم البلد (التاسع) يؤدب خائنهم ولا يجاوز التعزير الا أن
يؤذن له الحد فيستوفيه إذا كان من أهل الاجتهاد فيه فان دخل بلدا فيه متولي لإقامة الحدود على
أهله فإن كان الذي من الحجيج أتى بالخيانة قبل دخول البلد فوالي الحج أولى بإقامة الحد عليه
وإن كان بعد دخوله البلد فوالي البلد أولى به (العاشر) يراعي اتساع الوقت حتى يؤمن الفوات ولا
يلحقهم ضيق من الحث على السير فإذا وصلوا الميقات أمهلهم للاحرام وإقامة سننه فإن كان الوقت
وسعا دخل بهم مكة وخرج مع أهلها إلى منى ثم عرفات وإن كان ضيقا عدل إلى عرفات مخافة
الفوات فإذا وصلوا مكة فمن لم يعزم على العود زالت ولاية والى الحجيج عنه ومن كان على عزم
العود فهو تحت ولايته ملتزم أحكام طاعته فإذا قضى الناس حجهم أمهلهم الأيام التي جرت العادة

(1) كذا بالأصل فحرر
279

بها لانجاز حوائجهم ولا يعجل عليهم في الخروج فإذا رجعوا سار بهم إلى مدينة رسول الله صلى
الله عليه وسلم لزيارة قبره صلى الله عليه وسلم وذلك وان لم يكن من فروض الحج فهو من مندوبات
الشرع المستحبة وعادات الحجيج المستحسنة ثم يكون في عوده بهم ملتزما من الحقوق لهم ما كان
ملتزما في ذهابه حتى يصل البلد الذي سار بهم منه وتقطع ولايته بالعود إليه (الضرب الثاني) أن
تكون الولاية على إقامة الحج فهو بمنزلة الامام وإقامة الصلوات فمن شروط هذه الولاية مع الشروط
المعتبرة في أئمة الصلوات أن يكون عالما بمناسك الحج وأحكامه ومواقيته وأيامه وتكون مدة
ولايته سبعة أيام أولها من صلاة الظهر اليوم السابع من ذي الحجة وآخرها الثالث من أيام التشريق
وهو فيما قبلها وبعدها من الرعية ثم إن كان مطلق الولاية على الحج فله اقامته كل سنة ما لم يعزل
عنه وان عقدت ولايته سنة لم يتجاوزها الا بولاية والذي يختص بولايته ويكون نظره عليه مقصورا
خمسة أحكام متفق عليها وسادس مختلف فيه (أحدها) اعلام الناس بوقت احرامهم والخروج
إلى مشاعرهم ليكونوا معه مقتدين بافعاله (الثاني) ترتيبه المناسك على ما استقر الشرع عليه فلا يقدم
مؤخرا ولا يؤخر مقدما سواء كان التقديم مستحبا أو واجبا لأنه متبوع (الثالث) تقدير المواقيت
بمقامه فيها ومسيره عنها كما تتقدر صلاة المأموم بصلاة الامام (الرابع) اتباعه في الأذكار المشروعة
والتأمين على دعائه (الخامس) اقامتهم الصلوات التي شرعت خطب الحج فيها وجمعهم لها وهي
أربع خطب سبق بيانهن أولاهن بعد صلاة الظهر يوم السابع من ذي الحجة وهي أول شروعه في
مناسكه بعد الاحرام فيفتتحها بالتلبية إن كان محرما وبالتكبير إن كان حلالا وليس له أن ينفر النفر
الأول بل يقيم بمنى ليلة الثالث من أيام التشريق وينفر النفر الثاني من غده بعد رميه لأنه متبوع
فلم ينفر الا بعد اكمال المناسك فإذا نفر النفر الثاني انقضت ولايته (وأما) الحكم السادس المختلف
فيه فثلاثة أشياء (أحدها) إذا فعل بعض الحجيج ما يقتضى تعزيرا أو حدا فإن كان لا يتعلق بالحج
لم يكن له تعزيره ولا حده وإن كان له تعلق بالحج فله تعزيره وهل له حده فيه وجهان (الثاني)
لا يجوز ان يحكم بين الحجيج فيما يتنازعون فيه مما لا يتعلق بالحج وفى المتعلق بالحج كالزوجين
إذا تنازعا في ايجاب الكفارة بالوطئ ومؤنة المرأة في القضاء وجهان (الثالث) أن يفعل بعضهم
ما يقتضى فدية فله ان يعرفه وجوبها ويأمره باخراجها وهل له الزامه فيه الوجهان (وأعلم) انه ليس
280

لأمير الحج ان ينكر عليهم ما يسوغ فعله الا أن يخاف اقتداء الناس بفاعله وليس له حمل الناس
على مذهبه * ولو أقام للناس المناسك وهو حلال كره ذلك وصح الحج * ولو قصد الناس التقدم على
الأمير أو التأخر كره ذلك ولم يحرم هذا آخر كلام الماوردي رحمه الله والله أعلم *
(فرع) ذكر الماوردي والبيهقي والقاضي أبو الطيب وغيرهم من أصحابنا في هذا الموضع
نبذة صالحة من آداب السفر والمسافر وما يتعلق بمسيره وغير ذلك وقد قدمت في هذا الشرح في آخر
باب صلاة المسافر بابا حسنا في ذلك والله أعلم *
(فرع) يجوز ان يقال لمن حج حاج بعد تحلله ولو بعد سنين وبعد وفاته أيضا ولا كراهة
في ذلك (وأما) ما رواه البيهقي عن القاسم بن عبد الرحمن عن ابن مسعود قال (لا يقولن أحدكم اني
صرورة فان المسلم ليس بصرورة ولا يقولن أحدكم انى حاج فان الحاج هو المحرم) فهو موقوف منقطع
والله أعلم * والمسألة تتخرج على أن بقاء وجه الاشتقاق شرط لصدق المشتق منه أم لا وفيه خلاف مشهور
للأصوليين (الأصح) أنه شرط وهو مذهب أصحابنا فلا يقال لمن ضرب بعد انقضاء الضرب
ضارب ولا لمن حج بعد انقضائه حاج الا مجازا (ومنهم) من يقال له ضارب وحاج حقيقة وهذا
الخلاف في أنه حقيقة أم مجاز كما ذكرنا (وأما) جواز الاطلاق فلا خلاف فيه والله أعلم *
(فرع) قال الشيخ أبو حامد في آخر ربع العبادات من تعليقه والبندنيجي وصاحب العدة
يكره أن تسمى حجة النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وهذا الذي قالوه غلط ظاهر وخطأ
فاحش ولولا خوف اغترار بعض الأغنياء به لم استجز حكايته فإنه واضح البطلان ومنابذ للأحاديث
الصحيحة في تسميتها حجة الوداع ومنابذ لاجماع المسلمين ولا يمكن إحصاء الأحاديث المشتملة على
تسميتها حجة الوداع وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال (كنا نتحدث عن
حجة الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا ولا ندري ما حجة الوداع حتى حمد الله رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأثنى عليه ثم ذكر تمام الحديث في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر في حجة
الوداع بمنى والله أعلم *
281

(فرع) في مذاهب العلماء في مسائل سبقت (منها) أن مذهبنا جواز رمي الجمار بجميع
أنواع الحجارة من الرخام والبرام وغير ذلك مما يسمى حجرا ولا يجوز بما لا يقع عليه اسم الحجر
كالكحل والذهب والفضة وغير ذلك مما أوضحناه في موضعه وبهذا قال مالك وأحمد وداود وقال
أبو حنيفة يجوز بكل ما هو من جنس الأرض كالكحل والزرنيخ والمدر ولا يجوز بما ليس من
جنسها واحتج بان النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا رميتم وحلقتم فقد حل لكم كل شئ الا
النساء) وقد سبق بيان هذا الحديث قال فأطلق الرمي * قال أصحابنا ثبت أن النبي صلى الله عليه
وسلم رمى الحجر وقال صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا مناسككم) والرمي المطلق في قوله ارموا
محمول على الرمي المعروف *
(فرع) إذا رمى حصاة فوقعت على محل فتدحرجت بنفسها فوقعت في المرمى أجزأه
بالاجماع نقله العبدري وإن وقعت على ثوب فنفضها صاحبه فوقعت في المرمى لم يجزه عندنا وبه قال
داود وعن أحمد يجزئه *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا أن أول وقت طواف الإفاضة من نصف ليلة النحر وآخره آخر
عمر الانسان وإن بقي خمسين سنة وأكثر ولآدم عليه في تأخيره وبه قال أحمد * وقال أبو حنيفة
أوله طلوع فجر يوم النحر وآخره اليوم الثاني من أيام التشريق فان أخره عنه لزمه دم * دليلنا قوله تعالى
(وليطوفوا بالبيت) وهذا قد طاف *
(فرع) لا يجوز رمي جمرة التشريق إلا بعد زوال الشمس وبه قال ابن عمر والحسن وعطاء
ومالك والثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد وداود وابن المنذر * وعن أبي حنيفة روايتان (أشهرهما)
وبه قال إسحاق يجوز في اليوم الثالث قبل الزوال ولا يجوز في اليومين الأولين (والثانية) يجوز
في الجميع * وسبق دليلنا حيث ذكر المصنف المسألة *
(فرع) ترتيب الجمرات في أيام التشريق شرط فيشترط رمي الأولى ثم الوسطى ثم جمرة
العقبة وبه قال مالك وأحمد وداود * وقال أبو حنيفة هو مستحب قال فان نكسه استحب اعادته
فإن لم يفعل أجزأه ولا دم * وحكى ابن المنذر عن عطاء والحسن وأبي حنيفة وغيرهم أنه لا يجب
الترتيب مطلقا *
282

(فرع) يشترط عندنا تفريق الحصيات فيفرد كل حصاة برمية فان جمع السبع برمية واحدة
حسبت واحدة وبه قال مالك واحمد * وقال أبو داود يحسب سبعا وقال أبو حنيفة إن وقعن
متفرقات حسبن سبعا وإلا فواحدة *
(فرع) إذا ترك ثلاث حصيات من جمرة لزمه دم وبه قال مالك واحمد * وقال أبو حنيفة
لا يجب الدم إلا بترك أكثر جمرة العقبة يوم النحر أو بترك أكثر الجمار الثلاث في أيام التشريق *
(فرع) أجمعوا على الرمي عن الصبي الذي لا يقدر على الرمي لصغره (1) (وأما) العاجز
عن الرمي لمرض وهو بالغ فمذهبنا أنه يرمى عنه كالصبي وبه قال الحسن ومالك واحمد وإسحاق *
وقال النخعي يوضع الحصى في كفه ثم يؤخذ ويرمي في المرمي *
(فرع) أجمعوا أنه يقف عند الجمرتين الأوليين للدعاء كما سبق بيانه قريبا واختلفوا فيمن
ترك هذا الوقوف للدعاء فمذهبنا لا شئ عليه وبه قال أبو حنيفة واحمد واسحق وأبو ثور والجمهور *
وقال الثوري يطعم شيئا فان أراق دما كان أفضل * ومذهبنا انه يستحب رفع يديه في هذا الدعاء
كما يستحب في غيره وبه قال ابن عمر وابن عباس ومجاهد وأبو ثور وابن المنذر والجمهور قال ابن
المنذر لا أعلم أحدا أنكر ذلك غير مالك قال ابن المنذر واتباع السنة أولى وذكر الحديث الصحيح
فيه وقد سبق في موضعه وعن مالك في استحبابه روايتان *
(فرع) في مذاهبهم فيمن ترك حصاة أو حصاتين * قد ذكرنا ان الأصح في مذهبنا ان في
حصاة مدا وفى حصاتين مدين وفي ثلاث دما وبه قال أبو ثور * قال ابن المنذر وقال احمد وإسحاق
لا شئ عليه في حصاة * وقال مجاهد لا شئ عليه في حصاة ولا حصاتين وقال عطاء من رمى ستا
يطعم تمرة أو لقمة * وقال الحكم وحماد والأوزاعي ومالك والماجشون عليه دم في الحصاة الواحدة *
وقال عطاء فيمن ترك حصاة إن كان موسرا أراق دما وإلا فليصم ثلاثة أيام *
(فرع) يجوز له التعجيل في النفر من منى في اليوم الثاني ما لم تغرب الشمس ولا يجوز بعد
الغروب وبه قال مالك وأحمد * وقال أبو حنيفة له التعجيل ما لم يطلع فجر اليوم الثالث * دليلنا
قوله تعالى (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) واليوم اسم للنهار دون الليل * وقال ابن المنذر

(1) كذا بالأصل والمقصود ظاهر
283

ثبت أن عمر رضي الله عنه قال (من أدركه المساء في اليوم الثاني بمنى فليقم إلى الغد حتى ينفر مع الناس) قال وبه قال ابن عمر وأبو الشعثاء وعطاء وطاوس وأبان بن عثمان والنخعي ومالك وأهل
المدينة والثوري وأهل العراق والشافعي وأصحابه وأحمد وإسحاق وبه أقول * قال وروينا عن الحسن
والنخعي قالا (من أدركه العصر وهو بمنى في اليوم الثاني لم ينفر حتى الغد) قال ولعلهما قالا ذلك
استحبابا والله أعلم * هذا كلام ابن المنذر وقد ثبت في الموطأ وغيره عن ابن عمر أنه كأن يقول
(من غربت عليه الشمس وهو بمنى من أوسط أيام التشريق فلا ينفرن حتى يرمي الجمار من الغد)
وهو ثابت عن عمر كما حكاه ابن المنذر * وروي مرفوعا من رواية ابن عمر قال البيهقي ورفعه
ضعيف (وأما) الأثر المذكور عن طلحة عن أبي مليكة عن ابن عباس قال (إذا انسلخ النهار من
يوم النفر الاخر فقد حل الرمي والصدر) فقال البيهقي وغيره هو ضعيف لان طلحة بن عمر المكي
هذا الراوي ضعيف *
(فرع) يجوز لأهل مكة النفر الأول كما يجوز لغيرهم هذا مذهبنا وبه قال أكثر العلماء
منهم عطاء وابن المنذر * وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه منعهم ذلك * وقال مالك إن كان
لهم عذر جاز وإلا فلا * دليلنا عموم قوله تعالى (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) *
(فرع) ذكرنا أن الأصح في مذهبنا أن طواف الوداع واجب يجب بتركه دم وبه قال الحسن
البصري والحكم وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور * وقال مالك وداود
وابن المنذر هو سنة لا شئ في تركه وعن مجاهد روايتان كالمذهبين * دليلنا الأحاديث التي ذكرها
المصنف وذكرناها *
(فرع) مذهبنا أنه ليس على الحائض طواف الوداع قال ابن المنذر وبهذا قال عوام أهل
العلم منهم مالك والأوزاعي والثوري واحمد واسحق وأبو ثور وأبو حنيفة وغيرهم قال وروينا
عن عمر وابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم أمروا ببقائها لطواف الوداع قال وروينا
عن ابن عمر وزيد الرجوع عن ذلك قال وتركنا قول عمر للأحاديث الصحيحة السابقة في قصة صفية *
284

(فرع) مذهبنا انه إذا ترك طواف الوداع وقلنا بوجوبه لزمه ان يرجع إليه إن كان قريبا وهو
دون مرحلتين وإلا فلا يجب الرجوع ويلزمه الدم * وقال الثوري ان خرج من الحرم لزمه دم والا فلا *
(فرع) إذا طاف للوداع فشرط الاعتداد به أن لا يقيم بعده فان أقام لشغل ونحوه لم يحسب
عن الطواف وان أقيمت الصلاة بعد طوافه فصلاها معهم لم يضره (1) يسير لعذر ظاهر مأمور به *
ووافقنا مالك واحمد وداود وقال أبو حنيفة إذا طاف للوداع بعد أن دخل وقت النفر لم يضره
الإقامة بعده ولو بلغت شهر أو أكثر وطوافه ماض على صحته دليلنا الحديث السابق (فليكن آخر
عهده بالبيت) *
(فرع) إذا حاضت ولم تكن طافت للإفاضة فقد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يلزم من اكراها
الإقامة لها بل لها أن تجعل مكانها من شاءت وبه قال ابن المنذر * وقال مالك يلزم من أكراها الإقامة
أكثر مدة الحيض وزيادة ثلاثة أيام والله أعلم *
(باب الفوات والاحصار)
* قال المصنف رحمه الله *
ومن أحرم بالحج ولم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج وعليه أن يتحلل
بعمل عمرة وهي الطواف والسعي والحلق ويسقط عنه المبيت والرمي وقال المزني لا يسقط المبيت
والرمي كما لا يسقط الطواف والسعي وهذا خطأ لما روى الأسود عن عمر رضي الله عنه أنه قال لمن
فاته الحج (تحلل بعمل عمرة وعليك الحج من قابل وهدى) ولان المبيت والرمي من توابع الوقوف
ولهذا لا يجب على المعتمر حين لم يجب عليه الوقوف وقد سقط الوقوف ههنا فسقطت توابعه بخلاف
الطواف والسعي فإنهما غير تابعين للوقوف فبقي فرضهما ويجب عليه القضاء لحديث عمر رضي الله
عنه ولان الوقوف معظم الحج والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم (الحج عرفة) وقد فاته ذلك فوجب قضاؤه وهل
يجب القضاء على الفور أم لا فيه وجهان كما ذكرناه فيمن أفسد الحج ويجب عليه هدي لقول عمر رضي
الله عنه ولأنه تحلل من الاحرام قبل الاتمام فلزمه الهدي كالمحصر ومتى يجب الهدي فيه وجهان

(1) كذا بالأصل وفيه سقط ولعله (لأنه تأخير)
285

(أحدهما) يجب مع القضاء لقول عمر رضي الله عنه ولأنه كالمتمتع ودم المتمتع لا يجب الا إذا أحرم بالحج (والثاني) يجب في عامه كدم الاحصار)
(الشرح) أما الأثر المذكور أولا عن عمر رضي الله عنه فصحيح رواه الشافعي والبيهقي
وغيرهما بأسانيد صحيحة (وأما) حديث (الحج عرفة) فسبق بيانه في فصل الوقوف بعرفات
(أما) الأحكام فإذا أحرم بالحج فلم يقف بعرفة حتى طلع الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج
بالاجماع ويلزمه أن يتحلل بأعمال عمرة وهي الطواف والسعي والحلق (فأما) الطواف فلا بد منه
بلا خلاف (وأما) السعي فإن كان سعى عقب طواف القدوم كفاه ذلك ولا يسعى بعد الفوات
وقد أهمل المصنف بيان هذا ولابد من التنبيه عليه كما قاله الأصحاب * وان لم يكن سعى وجب
السعي بعد الطواف هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والعراقيون وقال الخراسانيون للشافعي
نصان (أحدهما) نصه في المختصر أنه يطوف ويسعى ويحلق (والثاني) نصه في الاملاء أنه يطوف
ويحلق قال القاضي حسين نص عليه في الاملاء وحرملة ونقله القفال وصاحب البحر عن نصه في
القديم قال الخراسانيون للأصحاب في هذين النصين طريقين (أصحهما) باتفاقهم أنه يجب السعي
لحديث عمر رضي الله عنه ولان السعي ملازم للطواف في النسك (والثاني) لا يجب لأنه ليس من
أسباب التحلل (والطريق) الثاني يجب قولا واحدا * واختلفوا على هذا في تأويل نص الشافعي في
الاملاء وحرملة والقديم فذكر القاضي حسين والبغوي والروياني والأكثرون أنه محمول على من كان
سعي بعد طواف القدوم * وذكر إمام الحرمين تأويلا آخر أنه اقتصر على الطواف في اللفظ ومراده
الطواف مع السعي وإنما حذفه اختصارا للعلم به قال وهذا معتاد في الكلام والله أعلم * (وأما)
الحلق فان قلنا هو نسك وجب والا فلا والحاصل مما ذكرناه انه يجب الطواف قطعا وفي السعي
طريقان (المذهب) وجوبه (والثاني) على قولين وفي الحلق قولان (أصحهما) وجوبه (والثاني) لا وان
اقتصرت على الراجح قلت يجب الطواف والسعي والحلق و (أما) المبيت والرمي فان فات وقتهما
لم يجبا وان بقي فوجهان (الصحيح) المنصوص وبه قطع جمهور أصحابنا لا يجبان (والثاني)
286

يجبان قاله المزني والاصطخري ودليل الجميع في الكتاب والله أعلم * قال أصحابنا وإذا تحلل بأعمال
العمرة لا ينقلب حجه عمرة ولا تجزئه عن عمرة الاسلام ولا تحسب عمرة أخرى هذا هو المذهب والمنصوص
وبه قطع الأصحاب * وحكى امام الحرمين عن الشيخ أبي على السنجي انه حكى في شرح التلخيص وجها
انه ينقلب عمرة مجزئة وهذا شاذ ضعيف جدا وعلى هذا الشاذ لابد من الطواف والسعي وكذا الحلق إذا
جعلناه نسكا والله أعلم * قال الشافعي والأصحاب ومن فاته الحج وتحلل يلزمه القضاء هكذا أطلقوه
ودليله ما ذكره المصنف * وعبر بعض الخراسانيين عبارة أخرى توافق هذه في الحكم فقالوا إن كان
تحلله من حجة واجبة بقيت في ذمته كما كانت وإن كان من حجة تطوع لزمه قضاؤها كما لو
أفسدها * وفي وجوب القضاء على الفور وهو في السنة الآتية وجهان كما سبق في الافساد (أصحهما)
يجب على الفور لحديث عمر رضي الله عنه وممن صرح بتصحيحه الماوردي والروياني والرافعي
ولا يلزمه قضاء عمرة مع قضاء الحج عندنا بلا خلاف ويجب عليه دم للفوات وهو شاذ * وهل يجب في
سنة الفوات أم في سنة القضاء فيه خلاف منهم من يحكيه قولين ومنهم من يحكيه وجهين كما حكاه المصنف
(أصحهما) يجب تأخيره إلى سنة القضاء وهو نصه في الاملاء والقديم (والثاني) يجب في سنة الفوات وله تأخيره
إلى سنة القضاء فعلى الأول في وقت وجوبه وجهان حكاهما البندنيجي وغيره (أحدهما) يجب في سنة الفوات
وان وجب تأخيره كما يجب فيها القضاء (وأصحهما) أن الوجوب في سنة القضاء لأنه لو وجب في سنة الفوات
لجاز اخراجه فيها فإنه ممكن بخلاف القضاء فإنه لا يمكن فيها وقد سبق في آخر باب ما يجب بمحظورات الاحرام
بيان هذا الخلاف وما يتفرع عليه وبيان بدل هذا الدم إذا عجز عنه والله أعلم * ثم أنه إنما يلزم
دم واحد كما ذكرنا هذا هو المذهب المنصوص وبه قطع الأصحاب في الطريقين * وحكى صاحب
التقريب وإمام الحرمين ومتابعوه قولا آخر غريبا ضعيفا أنه يلزمه دمان (أحدهما) في مقابلة الفوات
(والثاني) لأنه في قضاء يشبه التمتع؟ لكونه تحلل بين النسكين والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا لا فرق في الفوات بين المعذور وغيره فيما ذكرناه لكن يفترقان في الاثم
فلا يأثم المعذور ويأثم غيره كذا صرح بإثمه القاضي أبو الطيب وغيره والله أعلم
287

(فرع) قال أصحابنا المكي وغير المكي سواء في الفوات وترتب الأحكام ووجوب الدم
بخلاف التمتع فان المكي لآدم عليه فيه لان الفوات يحصل من المكي كحصوله من غيره (وأما) دم
التمتع فإنما يجب لترك الميقات والمكي لا يترك الميقات لان ميقاته موضعه والله أعلم *
(فرع) إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج وفرغ منها ثم أحرم بالحج ففاته لزمه قضاء الحج
دون العمرة لان الذي فاته الحج دون العمرة ويلزمه دمان دم الفوات ودم التمتع *
(فرع) هذا الذي سبق كله في من أحرم بالحج وحده وفاته (فاما) من أحرم بالعمرة فلا
يتصور فواتها لان جميع الزمان وقت لها (وأما) من أحرم بالحج والعمرة قارنا ففاته الوقوف فان
العمرة تفوت بفوات الحج لأنها مندرجة فيه وتابعة له ولأنه احرام واحد فلا يتبعض حكمه هذا
هو المذهب وبه قطع جمهور العراقيين وجماعات من الخراسانيين * وحكى الماوردي في الحاوي
والدارمي والقفال والقاضي حسين والفوراني والبغوي والمتولي والروياني وآخرون من الخراسانيين
في العمرة قولين (أصحهما) وجوب قضائها لما ذكرناه (والثاني) لا يستحب بل إذا تحلل بالطواف
والسعي والحلق حصلت العمرة لأنها لا تفوت بخلاف الحج * قال القاضي حسين هذان القولان
مبنيان على أن النسك الواحد هل يتبعض حكمه إذا جمع بينهما بان استأجر من يحج ويعتمر وكان
288

المستأجر قد أدى عن نفسه أحد النسكين فاحرم الأجير بهما وفرغ منهما وفيه قولان (أحدهما)
لا يتبعض فيكونان عن المستأجر فعلى هذا تفوته العمرة بفوات الحج (والثاني) يتبعض فيقع أحدهما
عنه فعلى هذا لا تفوت العمرة * وقال المتولي أصل القولين ان العمرة هل يسقط اعتبارها في القران
أم يقع العمل عنهما جميعا وفيه خلاف سبق بيانه (فان قلنا) يسقط اعتبارها فاتت بفوات الحج (وان
قلنا) لا يسقط اعتبارها بل تقع الأعمال عنهما حسبت عمرته والله أعلم * قال أصحابنا وعليه القضاء
قارنا ويلزمه ثلاثة دماء دم للفوات ودم للقران الفائت ودم ثالث للقران الذي اتى به في القضاء
فان قضاهما مفردا أجزأه عن النسكين ولا يسقط عنه الدم الثالث الواجب بسبب الفوات في القضاء
لأنه توجه عليه القران ودمه فإذا تبرع بالافراد لا يسقط الدم الواجب وقد قال الشافعي رحمه الله
فان قضاه مفردا لم يكن له * قال الشيخ أبو حامد والأصحاب مراده انه لا يسقط الدم الثالث لأنه
بالفوات لزمه القضاء قارنا مع دم فإذا قضى الحج والعمرة مفردا أجزأه لأنه أكمل من القران ولا
يسقط الدم لما ذكرناه * قال الروياني قال ابن المرزبان وقد نص الشافعي على هذا في الاملاء *
وشذ الدارمي فحكى وجها غريبا انه إذا قضاه مفردا سقط الدم الثالث وهذا ضعيف جدا
والصواب ما سبق * قال الروياني ولو قضاه مفردا فأتى بالعمرة بعد الحج قال الشافعي في الاملاء
يحرم بالعمرة من الميقات لأنه كان أحرم بها من الميقات في سنة الفوات قال فان أحرم بها من
أدنى الحل لم يلزمه أكثر من الدماء الثلاثة لأنه وإن ترك الاحرام من الميقات فالدم الواجب بسبب
الميقات ودم القران بسبب الميقات فتداخلا * قال وإن قضاه متمتعا أجزأه إلا أنه يحرم بالحج من
الميقات فان أحرم به من جوف مكة وجب دم التمتع ودخل فيه دم القران لأنه بمعناه * فالحاصل
انه يلزمه ثلاثة دماء سواء قضى مفردا أو متمتعا أو قارنا والله أعلم *
(فرع) قال القفال والروياني وغيرهما كما أن العمرة تابعة للحج للفوات في حق القارن فهي
أيضا تابعة له في الادراك في حق القارن حتى لو رمى القارن وحلق ثم جامع لم تفسد عمرته كما لا يفسد
289

حجه وإن لم يكن اتى باعمال العمرة وهذا الذي ذكروه هو المذهب * وفي المسألة وجه ضعيف جدا
غريب سبق بيانه في باب محظورات الاحرام في مسائل الجماع انه يفسد عمرته والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا أن من فاته الحج تحلل بطواف وسعي وحلق قال الماوردي وغيره فإن كان
معه هدي ذبحه قبل الحلق كما يفعل من لم يفته *
(فرع) قال الشيخ أبو حامد والدارمي والماوردي وغيرهم لو أراد صاحب الفوات استدامة
احرامه إلى السنة الآتية لم يجز لأنه يصير محرما بالحج في غير أشهره والبقاء على الاحرام كابتدائه ونقل
أبو حامد هذا عن نص الشافعي قال وهو اجماع الصحابة *
(فرع) قال القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد والروياني قال ابن المرزبان (1) صاحب الفوات له
حكم من تحلل التحلل الأول لأنه لما فاته الوقوف سقط عنه الرمي فصار كمن رمى فان وطئ لم يفسد
إحرامه وإن تطيب أو لبس لم يلزمه الفدية قال القاضي والروياني وهذا على قولنا الحلق ليس
بنسك (فان قلنا) (2) احتاج إلى الحلق أو الطواف حتى يحصل التحلل الأول وقد صرح الدارمي
بما قاله القاضي والروياني *
(فرع) لو أفسد حجه باجماع ثم فاته قال الأصحاب عليه دمان دم للافساد وهو بدنة ودم
للفوات وهو شاة *
(فرع) في مذاهب العلماء * قد ذكرنا أن مذهبنا أن من فاته الحج لزمه التحلل بعمل
عمرة وعليه القضاء ودم وهو شاة ولا ينقلب احرامه عمرة وهو مذهب عمر وابن عمر وزيد بن
ثابت وابن عباس ومالك وأبي حنيفة إلا أن أبا حنيفة ومحمدا قالا لا دم عليه ووافقا في الباقي *
وقال أبو يوسف وأحمد في أصح الروايتين ينقلب عمرة مجزئة عن عمرة سبق وجوبها ولا دم *
وقال المزني كقولنا وزاد وجوب المبيت والرمي كما سبق عنه * دليلنا ما روى البيهقي باسناده
الصحيح عن ابن عمر أنه قال (من لم يدرك عرفة حتى طلع الفجر فقد فاته الحج فليأت البيت
فليطف به سبعا وليطوف بين الصفا والمروة سبعا ثم ليحلق أو يقصر ان شاء وإن كان معه هدي

(1) بياض بالأصل فحرر
(2) بياض ولعله (ان الحلق نسك) كما يفهم من سياق الكلام
290

فلينحره قبل أن يحلق فإذا فرغ من طوافه وسعيه فليحلق أو يقصر ثم ليرجع إلى أهله فان أدركه
الحج من قابل فليحجج إن استطاع وليهد في حجه فإن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة
إذا رجع إلى أهله) وروى مالك في الموطأ والشافعي والبيهقي وغيرهم بأسانيدهم الصحيحة عن
سليمان بن يسار (أن أبا أيوب الأنصاري خرج حاجا حتى إذا كان بالنازية من طريق مكة ضلت
راحلته فقدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم النحر فذكر ذلك له فقال له عمر اصنع كما يصنع المعتمر
ثم قد حللت فإذا أدركت الحج قابلا فاحجج واهد ما استيسر من الهدي) وروى مالك أيضا في
الموطأ باسناده عن سليمان بن يسار أن هبار بن الأسود جاء يوم النحر وعمر بن الخطاب ينحر هديه
فقال يا أمير المؤمنين أخطأنا العدة كنا نظن أن هذا اليوم يوم عرفة فقال له عمر اذهب إلى مكة
فطف بالبيت أنت ومن معك واسعوا بين الصفا والمروة وانحروا هديا إن كان معكم ثم احلقوا أو
قصروا ثم ارجعوا فإذا كان عام قابل فحجوا واهدوا فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة
إذا رجع) وعن الأسود قال (سألت عمر عن رجل فاته الحج قال يهل بعمرة وعليه الحج من
قابل ثم سألت في العام المقبل زيد بن ثابت عنه فقال يهل بعمرة وعليه الحج من قابل) رواه
البيهقي باسناد صحيح ورواه هكذا من طرق قال البيهقي وروي عن إدريس الأودي عنه قال ويهريق
دما قال البيهقي روايات الأسود عن عمر متصلات ورواية سليمان ابن يسار عنه منقطعة قال الشافعي الرواية
المتصلة عن عمر فيها زيادة والذي يزيد في الحديث أولى بالحفظ ممن لم يزد وقد رويناه عن ابن عمر
كما سبق متصلا ورواية إدريس الأودي ان صحت تشهد لرواية سليمان بن يسار بالصحة * وروى
إبراهيم بن طهمان عن موسى بن عقبة عن نافع عن سليمان بن يسار عن هبار بن الأسود أنه حدثه
انه فاته الحج فذكره موصولا هذا آخر كلام البيهقي والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وان أخطأ الناس الوقوف فوقفوا في اليوم الثامن أو العاشر لم يجب عليهم القضاء لان الخطأ في
ذلك إنما يكون بان يشهد اثنان برؤية الهلال قبل الشهر بيوم فوقفوا في الثامن بشهادتهما ثم بان
291

كذبهما أو يغم الهلال فوقفوا في اليوم العاشر ومثل هذا لا يؤمن في القضاء فسقط) *
(الشرح) قال أصحابنا إذا غلطوا في الوقوف نظر ان غلطوا في المكان فوقفوا في غير أرض
عرفات يظنونها عرفات لم يجزهم بلا خلاف لتفريطهم وان غلطوا في الزمان بيومين بان وقفوا
في السابع أو الحادي عشر لم يجزهم بلا خلاف لتفريطهم وان غلطوا بيوم واحد فوقفوا في اليوم
العاشر من ذي الحجة أجزأهم وتم حجهم ولا قضاء * هذا إذا كان الحجيج على العادة فان قلوا أو
جاءت طائفة يسيرة فظنت أنه يوم عرفة وأن الناس قد أفاضوا فوجهان مشهوران حكاهما المتولي
والبغوي وآخرون (أصحهما) لا يجزئهم وبه قطع المصنف في التنبيه وآخرون لأنهم مفرطون ولأنه
نادر يؤمن مثله في القضاء (والثاني) يجزئهم كالجمع الكثير * قال أصحابنا وحيث قلنا يجزئهم فلا
فرق بين أن يتبين الحال بعد اليوم العاشر أو في أثناء الوقوف * ولو بان الحال في اليوم العاشر قبل
زوال الشمس فوقفوا عالمين بالحال قال البغوي المذهب انه لا يحسب وقوفهم لأنهم وقفوا متيقنين الخطأ
بخلاف ما لو علموا في حال الوقوف فإنه يجزئهم لان وقوفهم قبل العلم وقع مجزئا * هذا كلام البغوي
وأنكر عليه الرافعي وقال هذا غير مسلم له لان عامة الأصحاب قالوا لو قامت بينة برؤية الهلال
ليلة العاشر وهم بمكة بحيث لا يمكنهم الوقوف في الليل وقفوا من الغد وحسب لهم الوقوف كما لو
قامت البينة بعد الغروب يوم الثلاثين من رمضان برؤية الهلال ليلة الثلاثين فان الشافعي نص انهم
يصلون من الغد العيد فإذا لم يحكم بالفوات لقيام البينة ليلة العاشر لزم مثله يوم العاشر هذا كلام
الرافعي وهذا الذي قاله هو الصحيح خلاف ما قاله البغوي والله أعلم. قال أصحابنا لو شهد واحد
أو جماعة برؤية هلال ذي الحجة فردت شهادتهم لزم الشهود الوقوف في اليوم التاسع عندهم والناس
يقفون بعده فلو اقتصروا على الوقوف مع الناس في اليوم الذي بعده لم يصح وقوف الشهود بلا
خلاف عندنا * وحكى أصحابنا عن محمد بن الحسن أنه قال يلزمهم الوقوف مع الناس أي وإن كان
وا يعتقدونه العاشر قال ولا يجزئهم التاسع عندهم * دليلنا أنهم يعتقدون هذا اليوم الذي يقف
292

الناس فيه العاشر فلم يجز وقوفهم فيه كما لو قبل شهادتهم * هذا كله إذا غلطوا فوقفوا في العاشر
(أما) إذا غلط الحجيج فوقفوا في الثامن بان شهد بالرؤية فساق أو كفار أو عبيد ولم يعلم حالهم ثم
علم فان بان الحال قبل فوات وقت الوقوف لزمهم الوقوف فيه لتمكنهم منه وان بان بعده فوجهان
مشهوران في طريقتي العراقيين والخراسانيين (أحدهما) يجزئهم كالعاشر وبهذا قطع المصنف والعبدري
ونقله صاحب البيان عن أكثر الأصحاب (وأصحهما) لا يجزئهم لأنه نادر وبهذا قطع ابن الصباغ
والروياني وكثيرون وصححه البغوي والمتولي والرافعي وآخرون فهو الصحيح المختار والخلاف
هنا كالخلاف فيمن اجتهد فصلى أو صام فبان قبل الوقت والصحيح هناك أيضا أنه لا يجزئه والله أعلم *
(فرع) قال الروياني قال والدي رحمه الله إذا أحرم الناس بالحج في أشهر الحج بالاجتهاد
فبان الخطأ في الاجتهاد خطأ عاما ففي انعقاد الاحرام بالحج وجهان (أحدهما) ينعقد كما لو وقفوا في
اليوم العاشر غلطا ووجه الشبه أن كل واحد منهما ركن يفوت الحج بفواته (والثاني) لا ينعقد حجا
وينعقد عمرة والفرق انا لو أبطلنا الوقوف في العاشر أبطلناه من أصله وفيه اضرار واما هنا فينعقد
عمرة والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في الغلط في الوقوف * اتفقوا على أنهم إذا غلطوا فوقفوا في
العاشر وهم جمع كثير على العادة أجزأهم وان وقفوا في الثامن فالأصح عندنا لا يجزئهم وبه قال أبو
حنيفة وأصحابه والأصح من مذهب مالك وأحمد أنه لا يجزئهم
* قال المصنف رحمه الله *
(ومن أحرم فأحصره العدو نظرت فإن كان العدو من المسلمين فالأولى ان يتحلل ولا
يقاتله لان التحلل أولى من قتال المسلمين وإن كان من المشركين لم يجب عليه القتال لان قتال
293

الكفار لا يجب الا إذا بدؤا بالحرب فإن كان في المسلمين ضعف وفي العدو قوة فالأولى أن لا يقاتلهم
لأنه ربما انهزم المسلمون فيلحقهم وهن وإن كان في المسلمين قوة وفي المشركين ضعف فالأفضل
أن يقاتلهم ليجمع بين نصرة الاسلام واتمام الحج فان طلبوا مالا لم يجب اعطاء المال لان ذلك
ظلم ولا يجب الحج مع احتمال الظلم فإن كانوا مشركين كره أن يدفع إليهم لان في ذلك صغار على
الاسلام فلا يجب احتماله من غير ضرورة وإن كانوا مسلمين لم يكره) *
(الشرح) قال أهل اللغة يقال أحصره المرض وحصره العدو وقيل حصر وأحصر فيهما
والأول أشهر * وأصل الحصر المنع * قال الشافعي والأصحاب إذا احصر العدو المحرمين عن المضي
في الحج من جميع الطرق فلهم التحلل سواء كان الوقت واسعا أم لا وسواء كان العدو مسلمين
أو كفارا لكن إن كان الوقت واسعا فالأفضل تأخير التحلل فلعله يزول المنع ويتم الحج وإن كان
الوقت ضيقا فالأفضل تعجيل التحلل خوفا من فوات الحج * ويجوز للمحرم بالعمرة التحلل عند
الاحصار بلا خلاف ودليل التحلل واحصار العدو نص القرآن والأحاديث الصحيحة المشهورة
في تحلل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية وكانوا محرمين بعمرة وإجماع المسلمين على ذلك (وأما)
إذا منعوا وطلب منهم مال ولم يمكنهم المضي إلا ببذل مال فلهم التحلل ولا يلزمهم بذله بلا خلاف
سواء قل المطلوب أم كثر فإن كان الطالب كفارا قال الشافعي والأصحاب كره ذلك ولا يحرم قال
294

الشافعي كما لا تحرم الهبة للكفار وإن كانوا مسلمين لم يكره لما ذكره المصنف (وأما) إذا احتاج
الحجيج إلى قتال العدو ليسيروا فينظر إن كان المانعون مسلمين جاز لهم التحلل وهو أولى
من قتالهم لتعظيم دماء المسلمين فان قاتلوه جاز لأنهم صائلون وقد تظاهرت الأحاديث
الصحيحة ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من قتل دون ماله فهو شهيد) وفي
حديث صحيح (ومن قتل دون دينه فهو شهيد) وإن كان العدو كفارا فوجهان (أحدهما)
وهو مشهور في كتب الخراسانيين أنه إن كان العدو أكثر من مثلي عدد المسلمين لم يجب قتالهم
والا وجب قال امام الحرمين هذا الاطلاق ليس بمرض بل شرطه وجدانهم السلاح وأهبة القتال
قال فان وجدوا ذلك فلا سبيل إلى التحلل (والوجه الثاني) وهو الصحيح وبه قطع المصنف
وسائر العراقيين وآخرون من غيرهم ونقله الرافعي عن أكثر الأصحاب انه لا يجب القتال سواء
كان عدد الكفار مثلي المسلمين أو أقل لكن إن كان بالمسلمين قوة فالأفضل أن لا يتحللوا بل يقاتلوهم
ليجمعوا بين الجهاد ونصرة الاسلام والحج والا فالأفضل التحلل لما ذكره المصنف * قال أصحابنا
وحيث قاتلوا المسلمين أو الكفار فلهم لبس الدروع والمغافر وعليهم الفدية كمن لبس لحر أو برد
وهذا الذي ذكرناه من جواز التحلل بلا خلاف هو فيما إذا منعوا المضي دون الرجوع (فاما) إذا
295

أحاط بهم العدو من الجوانب كلها فوجهان مشهوران حكاهما البندنيجي والماوردي وامام الحرمين
والبغوي والمتولي وغيرهم وقيل هما قولان (أصحهما) جواز التحلل لعموم قوله تعالى (فان أحصرتم)
(والثاني) لا إذ لا يحصل به امن والله أعلم *
(فرع) هذا الذي ذكرناه هو فيما إذا صدوهم ولم يجدوا طريقا آخر (فاما) ان وجدوا
طريقا غيره لا ضرر في سلوكها فإن كانت مثل طريقهم التي صدوا عنها لم يكن لهم التحلل لأنهم
قادرون على الوصول فإن كان أطول من طريقهم قال صاحب الفروع والروياني وصاحب البيان
وغيرهم إن لم يكن معهم نفقة تكفيهم لذلك الطريق فلهم التحلل * وإن كان معهم نفقة تكفيهم
لطريقهم الاخر لم يجز لهم التحلل ولزمهم سلوك الطريق الاخر سواء علموا أنهم بسلوك هذا
الطريق يفوتهم الحج أم لا لان سبب التحلل هو الحصر لا خوف الفوات ولهذا لو أحرم بالحج يوم
عرفة وهو بالشام لم يجز له التحلل بسبب الفوات قال أصحابنا حتى لو أحصر بالشام في ذي الحجة
ووجد طريقا آخر كما ذكرنا لزمه السير فيه ووصول الكعبة والتحلل بعمل عمرة قال أصحابنا فإذا
سلك هذا الطريق كما أمرناه ففاته الحج بطول الطريق الثاني أو خشونته أو غيرهما مما يحصل الفوات
بسببه فقولان مشهوران ذكرهما المصنف في الفصل الآتي والأصحاب (أصحهما) لا يلزمه القضاء
بل يتحلل تحلل المحصر لأنه محصر ولعدم تقصيره (والثاني) يلزمه القضاء كما لو سلكه ابتداء ففاته
بضلال في الطريق ونحوه * ولو استوى الطريقان من كل وجه وجب القضاء بلا خلاف لأنه فوات
محض * ولو أحصر ولم يجد طريقا آخر الا في البحر قال أصحابنا ينبني على وجوب ركوب البحر
للحج وقد سبق بيان الخلاف فيه وتفصيله في أوائل كتاب الحج فحيث قلنا يجب ركوبه يكون
296

كقدرته على طريق امن في البر وإلا فلا والله أعلم * ولو أحصر فصابر الاحرام متوقعا زواله ففاته
الحج والاحصار دائم تحلل باعمال العمرة وفي القضاء طريقان (أصحهما) طرد القولين فيمن فاته
بطول الطريق الثاني (والطريق الثاني) القطع بوجوب القضاء لأنه تسبب بالمصابرة في الفوات والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا إذا لم يتحلل بالاحصار حتى فاته الحج فحيث قلنا لا قضاء عليه يتحلل
وعليه دم الاحصار دون دم الفوات وحيث أوجبنا القضاء فإن كان قد زال العدو وأمكنه وصول
الكعبة لزمه قصدها والتحلل بعمل عمرة وعليه دم الفوات دون دم الاحصار وإن كان العدو باقيا
فله التحلل وعليه دمان دم الفوات ودم الاحصار والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا إذا تحلل الحاج فإن لم يزل الاحصار فله الرجوع إلى وطنه وان انصرف
العدو فإن كان الوقت واسعا بحيث يمكنه تجديد الاحرام وادراك الحج فإن كان حجه تطوعا فلا
شئ عليه وإن كان حجة تقدم وجوبها بقي وجوبها كما كان والأولى أن يجدد الاحرام بها في هذه
السنة وله التأخير وإن كان حجة وجبت في هذه السنة بان استطاع في هذه السنة دون ما قبلها فقد
استقر الوجوب في ذمته لتمكنه والأولى أن يحرم بها في هذه السنة وله التأخير لان الحج عندنا
على التراخي وإن كان الوقت ضيقا بحيث لا يمكنه ادراك الحج سقط عنه الوجوب في هذه السنة فان
استطاع بعده لزمه والا فلا الا أن يكون سبق وجوبها قبل هذه السنة واستقرت والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا إذا قال العدو الصادون بعد صدهم قد آمناكم وخلينا لكم الطريق
فان وثقوا بقولهم فأمنوا غدرهم لم يجز التحلل لمن لم يكن تحلل لأنه لا صد وان خافوا غدرهم فلهم التحلل *
(فرع) اعترض أبو سعيد بن أبي عصرون على المصنف في قوله لان قتال الكفار لا يجب
297

الا إذا بدؤا بالحرب وقال هذا سهو منه بل قتال الكفار لا يتوقف على الابتداء وهذا الاعتراض
غلط من قائله بل الذي قاله المصنف هو عبارة الأصحاب في الطريقتين لكن زاد القاضي أبو الطيب
والجمهور فيها لفظة فقالوا لان قتال الكفار لا يجب الا إذا بدؤا به أو استنفر الامام أو الثغور
الناس لقتالهم فهذه عبارة الأصحاب ومرادهم لا يجب على آحاد الرعية والطائفة منهم (وأما) الامام
فيلزمه الغزو بالناس بنفسه أو بسراياه كل سنة مرة الا أن تدعو حاجة إلى تأخيره كما هو مقرر في
كتاب السير والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وان أحصره العدو عن الوقوف أو الطواف أو السعي فإن كان له طريق آخر يمكنه الوصول
منه إلى مكة لم يجز له التحلل قرب أو بعد لأنه قادر على أداء النسك فلا يجوز له التحلل بل يمضي
ويتمم النسك وان سلك الطريق الاخر ففاته الحج تحلل بعمل عمرة وفي القضاء قولان (أحدهما)
يجب عليه لأنه فاته الحج فأشبه إذا أخطأ الطريق أو أخطأ العدد (والثاني) لا يجب عليه لأنه تحلل
من غير تفريط فلم يلزمه القضاء كما لو تحلل بالاحصار * فان احصر ولم يكن له طريق آخر جاز له ان
يتحلل لقوله عز وجل (فان أحصرتم فما استيسر من الهدى) ولان النبي صلى الله عليه وسلم أحصره المشركون في
الحديبية فتحلل ولأنا لو ألزمناه البقاء على الاحرام ربما طال الحصر سنين فتلحقه المشقة العظيمة في
البقاء على الاحرام وقد قال الله عز وجل (وما جعل عليكم في الدين من حرج) فإن كان الوقت
واسعا فالأفضل أن لا يتحلل لأنه ربما زال الحصر وأتم النسك وإن كان الوقت ضيقا فالأفضل أن
يتحلل حتى لا يفوته الحج فان اختار التحلل نظرت فإن كان واجدا للهدي لم يجز له أن يتحلل حتى
يهدي لقوله تعالى (فان أحصرتم فما استيسر من الهدي) فإن كان في الحرم ذبح الهدي فيه وان
298

كان في غير الحرم ولم يقدر على الوصول إلى الحرم ذبح الهدي حيث أحصر لان النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه
بالحديبية وهي خارج الحرم وأن قدر على الوصول إلى الحرم ففيه وجهان (أحدهما) يجوز له أن
يذبح في موضعه لأنه موضع تحلله فجاز فيه الذبح كما لو أحصر في الحرم (والثاني) لا يجوز أن يذبح
إلا في الحرم لأنه قادر على الذبح في الحرم فلا يجوز أن يذبح في غيره كما لو أحصر فيه ويجب أن
ينوي بالهدي التحلل لان الهدي قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره فوجب أن ينوي ليميز بينهما
ثم يحلق لما روي ابن عمر رضي الله عنهما (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه
وبين البيت فنحر هديه وحلق رأسه بالحديبية (فان قلنا) ان الحلق نسك حصل له التحلل بالهدي
والنية والحلق (وإن قلنا) انه ليس بنسك حصل له التحلل بالنية والهدي * وإن كان عادما للهدي
ففيه قولان (أحدهما) لا بدل للهدي لقوله عز وجل (فان أحصرتم فما استيسر من الهدي) فذكر
الهدى ولم يذكر له بدلا ولو كان له بدل لذكره كما ذكره في جزاء الصيد (والقول الثاني) له بدل
لأنه دم يتعلق وجوبه بالاحرام فكان له بدل كدم التمتع (فان قلنا) لا بدل للهدي فهل يتحلل فيه
قولان (أحدهما) لا يتحلل حتى يجد الهدي لان الهدي شرط في التحلل فلا يجوز التحلل قبله (والثاني)
أنه يتحلل لأنا لو ألزمناه البقاء على الاحرام إلى أن يجد الهدي أدى ذلك إلى المشقة (فان قلنا) له بدل
ففي بدله ثلاثة أقوال (أحدها) الاطعام (والثاني) الصيام (والثالث) أنه مخير بين الصيام والاطعام
(وإن قلنا) إن بدله الاطعام ففي الاطعام وجهان (أحدهما) اطعام التعديل كالاطعام في جزاء
الصيد لأنه أقرب إلى الهدي ولأنه يستوفي فيه قيمة الهدي (والثاني) اطعام فدية الأذى لأنه وجب
للترفه فهو كفدية الأذى (وإن قلنا) إن بدله الصوم ففي الصوم ثلاثة أوجه (أحدها) صوم التمتع
299

لأنه وجب للتحلل كما وجب صوم التمتع للتحلل بين الحج والعمرة في أشهر الحج (والثاني) صوم
التعديل لان ذلك أقرب إلى الهدي لأنه يستوفي قيمة الهدي ثم يصوم عن كل مد يوما (والثالث)
صوم فدية الأذى لأنه وجب للترفه فهو كصوم فدية الأذى (فان قلنا) انه مخير فهو بالخيار بين صوم
فدية الأذى وبين اطعامها لأنا بينا أنه في معنى فدية الأذى فان أوجبنا عليه الاطعام وهو واجد
أطعم وتحلل وإن كان عادما له فهل يتحلل أم لا يتحلل حتى يجد الطعام على القولين كما قلنا في الهدي
وان أوجبنا الصيام فهل يتحلل قبل أن يصوم فيه وجهان (أحدهما) لا يتحلل كما لا يتحلل بالهدي حتى
يهدي (والثاني) يتحلل لأنا لو ألزمناه البقاء على الاحرام إلى أن يفرغ من الصيام أدى إلى المشقة
لأن الصوم يطول فإذا تحلل نظرت فإن كان في حج تقدم وجوبه بقي الوجوب في ذمته وإن كان في تطوع
لم يجب القضاء لأنه تطوع أبيح له الخروج منه فإذا خرج لم يلزمه القضاء كصوم التطوع * وإن كان
الحصر خاصا بان منعه غريمه ففيه قولان (أحدهما) لا يلزمه القضاء كما لا يلزمه في الحصر العام (والثاني)
يلزمه لأنه تحلل قبل الاتمام بسبب يختص به فلزمه القضاء كما لو ضل الطريق ففاته الحج * وإن أحصر
فلم يتحلل حتى فاته الوقوف نظرت فان زال العذر وقدر على الوصول تحلل بعمل عمرة ولزمه
القضاء وهدي للفوات وان فاته والعذر لم يزل تحلل ولزمه القضاء وهدي للفوات وهدي للاحصار
فان أفسد الحج ثم أحصر تحلل لأنه إذا تحلل من الحج الصحيح فلان يتحلل من الفاسد أولى فإن لم
يتحلل حتى فاته الوقوف لزمه ثلاثة دماء دم الفساد ودم الفوات ودم الاحصار ويلزمه قضاء
واحد لان الحج واحد *) *
300

(الشرح) حديث تحلل النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية حين صده المشركون ثابت في الصحيحين وكذا
حديث هدية نحره بالحديبية وحديث ابن عمر كلها ثابتة في الصحيحين من روايات جماعة من الصحابة
رضي الله عنهم وكانت قضية الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة وسبق بيان الحديبية في
باب المواقيت وأنها تقال بتخفيف الباء وتشديدها والتخفيف أفصح * وقول المصنف لأنه دم تعلق
وجوبه بالاحرام فيه احتراز من الأضحية والعقيقة (وقوله) تطوع أبيح الخروج منه احتراز من
حج التطوع إذا تحلل منه بالفوات فإنه يجب قضاؤه (وقوله) بسبب يختص به احتراز من الحصر
العام (وقوله) في أول الفصل فأشبه إذا أخطأ الطريق أو أخطأ العدد وهو وحده أو في طائفة يسيرة
فاما الجمع الكثير فلا يلزمهم القضاء بالخطأ كما سبق بيانه قريبا (أما) الأحكام فقال الشافعي
والأصحاب رحمهم الله لا فرق في جواز التحلل بالاحصار بين أن يكون قبل الوقوف أو بعده ولا
بين الاحصار عن البيت فقط أو الموقف فقط أو عنهما أو عن المسعى فيجوز التحلل في جميع ذلك
بلا خلاف * فإن لم يكن له طريق آخر يمكنه سلوكه فإن كان ففيه تفصيل سبق بيانه قبل هذا
الفصل واضحا وذكرنا هناك أيضا أن تعجيل التحلل أفضل أم تأخيره على نحو ما ذكره المصنف *
قال أصحابنا وإذا كان حصره قبل الوقوف وأقام على احرامه حتى فاته الحج فان أمكنه التحلل
بطواف وسعى مع الحلق إذا جعلناه نسكا لزمه وعليه القضاء ودم الفوات وان لم يزل الحصر تحلل
بالهدي وعليه مع القضاء هديان هدي للفوات وهدي للتحلل بالاحصار وقد سبقت هذه المسألة
قريبا * وإن كان الاحصار بعد الوقوف فان تحلل فذاك وهل له البناء على ما مضي إذا زال الاحصار بعد
ذلك فيه القولان السابقان (الجديد) الأصح لا يجوز (والقديم) الجواز وعلى هذا يحرم إحراما ناقصا
301

ويأتي ببقية الأعمال وعلى هذا لو بني مع الامكان وجب القضاء على المذهب (وقيل) فيه وجهان
وان لم يتحلل حتى فاته الرمي والمبيت فهو فيما يرجع إلى وجوب الدم لفواتهما كغير المحصر وبماذا
يتحلل يبني على أن الحلق نسك أم لا وعلى أن فوات زمان الرمي كالرمي أم لا فيهما خلاف سبق (فان قلنا)
فوات زمان الرمي كالرمي وقلنا الحلق نسك حلق وحصل التحلل الأول (وان قلنا) ليس بنسك
حصل التحلل الأول بمضي زمان الرمي * وعلى التقديرين فالطواف باق عليه فمتى أمكنه طاف
فيتم حجه ولا بد من السعي ان لم يكن سعي * ثم إذا تحلل بالاحصار الواقع بعد الوقوف (فالمذهب)
أنه لا قضاء عليه وبه قطع العراقيون وآخرون من غيرهم لكن لا تجزئه حجته لأنه لم يكملها * وحكى
صاحب التقريب وامام الحرمين ومتابعوهما من الخراسانيين في وجوب القضاء قولين وطردوهما
في كل صورة أتى فيها بعد الاحرام بنسك لتأكدها الاحرام بذلك النسك * ولو صد عن عرفات
ولم يصد عن مكة قال البندنيجي والروياني نص عليها في الام لزمه دخول مكة ويتحلل بعمل
عمرة وفي وجوب القضاء قولان مشهوران حكاهما الشيخ أبو حامد والأصحاب (أصحهما) لا قضاء
لأنه محصر (والثاني) يجب القضاء لأنه أخل بالوقوف وحده فأشبه الفوات وهذا القائل بفوات
المحصر هو المصدود عن الكعبة والله أعلم *
(فرع) من تحلل بالاحصار لزمه دم وهو شاة وسبق بيانها في آخر باب ما يجب بمحظورات
302

الاحرام ولا يجوز العدول عن الشاة إلى صوم ولا اطعام مع وجودها ولا يحصل التحلل قبل ذبحها
إذا وجدها فإن كان المحصر في الحرم وجب ذبحها فيه وتفرقتها هناك وإن كان في غير الحرم ولم
يمكنه ايصال الهدي وهو الشاة إلى الحرم جاز ذبحه وتفرقته حيث أحصر ويتحلل وهكذا الحكم
فيما لزمه من دماء المحظورات قبل الاحصار وكذا ما معه من هدى فكله يذبحه في موضع احصاره
ويفرقه على المساكين هناك وإن أمكنه ايصاله إلى الحرم وذبحه فيه فالأولى ان يوصله أو يبعثه إليه
فان ذبحه في موضع احصاره ففي اجزائه وجهان ذكرهما المصنف بدليلهما وهما مشهوران (أصحهما)
جوازه * قال الدارمي وغيره ولو أحصر في موضع غير الحرم فذبح الهدي في موضع آخر غير
الحرم لم يجزه لان موضع الاحصار صار في حقه كنفس الحرم * هذا كله إذا وجد الهدي بثمن
مثله ومعه ثمنه فاضلا عما يحتاج إليه فإن لم يجده أو وجده مع من لا يبيعه أو يبيعه بأكثر من ثمن
مثله في ذلك الموضع وذلك الحال أو بثمن مثله وهو غير واجد للثمن أو واجد وهو محتاج إليه لمؤنة سفره
فهل له بدل أم لا فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) له بدل وفي بدله ثلاثة أقوال
(أصحها) الاطعام نص عليه الشافعي في كتاب الأوسط (والثاني) الصيام نص عليه في مختصر الحج
(والثالث) مخير بينهما قال الشيخ أبو حامد والروياني وغيرهما هذا الثالث مخرج من فدية الأذى
(فان قلنا) الاطعام ففيه وجهان (أصحهما) اطعام بالتعديل وتقوم الشاة دراهم ويخرج بقيمتها طعاما
فان عجز صام عن كل مد يوما (والثاني) اطعام فدية الأذى وهو ثلاثة آصع لستة مساكين كما سبق
ويجئ في كيفية تفرقتها الخلاف السابق في موضعه (الأصح) لكل مسكين نصف صاع وقيل
303

يجوز المفاضلة (وان قلنا) هو مخير فهو مخير بين صوم فدية الأذى واطعامها وصومها ثلاثة أيام واطعام
ثلاثة آصع ودليل الجميع في الكتاب (وان قلنا) بدله الصوم ففيه ثلاثة أقوال مشهورة ذكرها
المصنف بدلائلها (أحدها) عشرة أيام كالمتمتع (والثاني) ثلاثة (والثالث) بالتعديل عن كل مد يوما
ولا مدخل للطعام على هذا القول لكن يعتبر به قدر الصيام وحيث انكسر بعض مد وجب بسببه
صوم يوم كامل وقد سبق نظيره في باب محظورات الاحرام * قال الروياني والرافعي الأصح على الجملة
ان بدله الاطعام بالتعديل فان عجز صام عن كل مد يوما والله أعلم * قال المصنف والأصحاب أما وقت
التحلل فينظر إن كان واجدا للهدي ذبحه ونوى التحلل عند ذبحه وهذه النية شرط باتفاق الأصحاب لما
ذكره المصنف ثم يحلق وهو شرط للتحلل ان قلنا إن الحلق نسك والا فلا حاجة إليه (فان قلنا) بالأصح
أن الحلق نسك حصل له التحلل بثلاثة أشياء الذبح والنية والحلق والا فبالذبح والنية وهذا كله
لا خلاف فيه الا ما انفرد به الروياني فقال ما ذكرناه ثم قال وقال بعض أصحابنا بخراسان في وقت
تحلل واجد الهدي قولان (أحدهما) هذا (والثاني) يجوز أن يتحلل ثم يذبح وهذا غلط (وأما) إذا
فقد الهدي (فان قلنا) لا بدل له فهل يتحلل في الحال بالنية والحلق إذا جعلناه نسكا فيه قولان
مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) يتحلل في الحال فعلى هذا يشترط النية قطعا وكذا
الحلق إن جعلناه نسكا (والثاني) لا يتحلل إلا بذبحه مع النية والحلق (وإن قلنا) للهدي بدل فان
304

قلنا هو الاطعام توقف التحلل عليه وعلى النية والحلق إن وجد الاطعام فان فقده فهل يتحلل في الحال
قال المصنف والأصحاب فيه قولان كما إذا قلنا لا بدل (الأصح) يتحلل في الحال (والثاني) لا حتى
يطعم (وإن قلنا) بدله الصوم أو مخير واختار الصوم فهل يتحلل في الحال أم لا يتحلل حتى يفرغ
من الصوم فيه خلاف مشهور حكاه المصنف هنا والأكثرون وجهين وحكاه في التنبيه قولين (أصحهما)
يتحلل في الحال فعلى هذا يحتاج إلى النية بلا خلاف وكذا الحلق ان قلنا هو نسك والا فالنية
وحدها والله أعلم *
(فرع) قال المصنف والأصحاب الحصر ضربان عام وخاص فالعام سبق حكمه والخاص هو
الذي يقع لواحد أو شرذمة من الرفقة فينظر إن لم يكن المحصور معذورا فيه كمن حبس في دين
يمكنه أداؤه فليس له التحلل بل عليه أداء الدين والمضي في الحج فان تحلل لم يصح تحلله ولا يخرج
من الحج بذلك بلا خلاف فان فاته الحج وهو في الحبس كان كغيره ممن فاته الحج بلا احصار
فيلزمه قصد مكة والتحلل بأفعال عمرة وهو الطواف والسعي والحلق كما سبق * وإن كان معذورا
كمن حبسه السلطان ظلما أو بدين لا يمكنه أداؤه فطريقان (المذهب) وبه قطع العراقيون يجوز له
التحلل لأنه معذور (والثاني) حكاه الخراسانيون فيه قولان (أصحهما) جواز التحلل (والثاني) لا
لأنه قادر والصواب الجواز والله أعلم *
305

(فرع) إذا تحلل المحصر قال الشافعي والمصنف والأصحاب إن كان نسكه تطوعا فلا قضاء
وان لم يكن تطوعا نظر إن كان واجبا مستقرا كالقضاء والنذر وحجة الاسلام التي استقر وجوبها
قبل هذه السنة بقي الوجوب في ذمته كما كان وإنما أفاده الاحصار جواز الخروج منها * وإن كان
واجبا غير مستقر وهي حجة الاسلام في السنة الأولى من سنى الامكان سقطت الاستطاعة فلا
حج عليه الا ان تجتمع فيه شروط الاستطاعة بعد ذلك * فلو تحلل بالاحصار ثم زال الاحصار
والوقت واسع وأمكنه الحج من سنته استقر الوجوب عليه لوجود الاستطاعة لكن له أن يؤخر
الحج عن هذه السنة لا ن الحج على التراخي وقد سبقت المسألة قريبا والله أعلم * وهذا الذي ذكرناه
في حج التطوع أنه لا يجب قضاؤه وهو في الحصر العام والخاص جميعا وفي الخاص قول مشهور
حكاه المصنف والأصحاب وبعضهم يحكيه وجها أنه يجب فيه القضاء لندوره وهذا ضعيف ودليله
ممنوع والله أعلم * قال الروياني هذا الخلاف مبني على أنه لو حبس واحد منهم فهل يستقر عليه
فيه قولان (أصحهما) لا يستقر *
(فرع) ذكرنا ان من تحلل بالاحصار لزمه الدم وهذا متفق عليه عندنا ان لم يكن سبق منه
شرط فإن كان شرط عند احرامه أنه يتحلل إذا أحصر ففي تأثير هذا الشرط في اسقاط الدم طريقان
(أصحهما) وبه قطع الأكثرون لا أثر له فيجب الدم لان التحلل بالاحصار جائز بلا شرط فشرطه
306

لغو (والطريق الاخر) فيه وجهان كما سنذكره إن شاء الله تعالى فيمن شرط التحلل بالمرض
(أصحهما) يلزمه الدم (والثاني) لا والله أعلم *
(فرع) قال المصنف والأصحاب يجوز التحلل من الاحرام الفاسد كما يجوز من الصحيح
وأولى فإذا جامع المحرم بالحج جماعا مفسدا ثم احصر تحلل ويلزمه دم للافساد ودم للاحصار ويلزمه
القضاء بسبب الافساد فلو لم يتحلل حتى فاته الوقوف ولم يمكنه لقاء الكعبة تحلل في موضعه تحلل
المحصر ويلزمه ثلاثة دماء دم للافساد ودم للفوات ودم للاحصار فدم الافساد بدنة والاخران
شاتان ويلزمه قضاء واحد لما ذكره المصنف والله أعلم *
(فرع) قال الروياني وغيره لو احصر بعد الوقوف بعرفات ومنع ما سوى الطواف والسعي
ومكن منهما لم يجز له التحلل بالاحصار لأنه متمكن من التحلل بالطواف والحلق وفوات الرمي بمنزلة
الرمي ويجبر الرمي بدم وتقع حجته مجزئة عن حجة الاسلام *
(فرع) لو أفسد حجه بالجماع ثم احصر فتحلل ثم زال الحصر والوقت واسع فأمكنه الحج من
سنته لزمه ان يقضي الفاسد من سنته بناء على المذهب ان القضاء على الفور قال القاضي أبو الطيب
والروياني ولا يمكن قضاء الحج في سنة الافساد الا في هذه المسألة *
307

(فرع) لو أحصر في الحج أو العمرة فلم يتحلل وجامع لزمته البدنة والقضاء بخلاف ما لو
جامع الصائم المسافر في نهار رمضان فإنه لا كفارة عليه ان قصد الترخص بالجماع وكذا ان لم
يقصده على الأصح كما سبق في بابه * قال الروياني والفرق بينهما أن الجماع في الصوم يحصل به
الخروج من الصوم بخلاف الحج
* قال المصنف رحمه الله *
(ومن أحرم فأحصره غريمه وحبسه ولم يجد ما يقضي دينه فله أن يتحلل لأنه يشق البقاء على
الاحرام كما يشق بحبس العدو * وان أحرم وأحصره المرض لم يجز له أن يتحلل لأنه لا يتخلص
بالتحلل من الأذى الذي هو فيه فهو كمن ضل الطريق) *
(الشرح) في الفصل مسألتان (إحداهما) قد سبق قريبا أن الحصر نوعان عام وخاص
وسبق بيان النوعين (الثانية) في الاحصار بالمرض وقد ثبت فيه أحاديث كثيرة فينبغي تقديمها
وقد ذكر المصنف المسألة بعد هذا مبسوطة في فصل مستقل (فاما) الأحاديث فمنها حديث عائشة
رضي الله عنها قالت (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت يا رسول الله
إني أريد الحج وإني شاكية فقال النبي صلى الله عليه وسلم حجي واشترطي أن تحلى حيث حبستي وكانت تحت
المقداد) رواه البخاري ومسلم * وعن ابن عباس رضي الله عنهما (أن ضباعة بنت الزبير بن
عبد المطلب أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت إني امرأة ثقيلة وإني أريد الحج فما تأمرني قال أهلي بالحج
واشترطي أن تحلي حيث حبستي قال فأدركت (1)) رواه (2) * وعن ابن عباس أيضا أن ضباعة
بنت الزبير بن عبد المطلب أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله اني أريد أن أحج فأشترط قال
نعم قالت فكيف أقول قال قولي لبيك اللهم لبيك محلى من الأرض حيث تحبسني) رواه الامام

(1) كذا بالأصل فحرر
(2) كذا بالأصل فحرر
308

أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة قال الترمذي حسن صحيح * ورواه البيهقي
أيضا من رواية جابر وأنس وعن سويد بن غفلة - بفتح الغين المعجمة والفاء - قال (قال لي عمر
ابن الخطاب يا أبا أمية حج واشترط فان لك ما اشترطت ولله عليك ما اشترطت) رواه الشافعي
والبيهقي باسناد صحيح * وعن ابن مسعود قال (حج واشترط وقل اللهم الحج أردت ولك عمدت
فان تيسر والا فعمرة) رواه البيهقي باسناد حسن * وعن عائشة انها قالت لعروة (هل تستثني
إذا حججت فقال ماذا أقول قالت قل اللهم الحج أردت وله عمدت فان يسرته فهو الحج وان
حبسني حابس فهو عمرة) رواه الشافعي والبيهقي باسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم (واما)
حديث سالم عن ابن عمر (انه كان ينكر الاشتراط في الحج ويقول أليس حسبكم سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري ومسلم * فقال البيهقي عندي ان ابن عمر لو بلغه حديث ضباعة في الاشتراط
لم ينكره كما لم ينكره أبوه وحاصله ان السنة مقدمة عليه (واما) قول ابن عباس (لا حصر الا حصر
العدو) فرواه الشافعي والبيهقي باسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم وهو محمول على من لم
يشترط (واما) ما رواه مالك في الموطأ والشافعي والبيهقي بالأسانيد الصحيحة على شرط البخاري ومسلم
عن ابن عمر أنه قال (من حبس دون البيت بمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا
والمروة) يحتمل انه أراد إذا لم يشترط (والأظهر) انه أراد مطلقا ويؤيده ما قدمناه عن ابن عمر قريبا
والسنة مقدمة على قوله (واما) حديث عكرمة قال (سمعت الحجاج ابن عمرو الأنصاري الصحابي
رضي الله عنه انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل قال
عكرمة فسألت ابن عباس وأبا هريرة عن ذلك فقال صدق) رواه أبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجة والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة فقال البيهقي حمله بعض أهل العلم على أنه يحل بعد
فواته بما يحل به من يفوته الحج بغير مرض وهذا التأويل الذي حكاه البيهقي محتمل ولكن المشهور
309

في كتب أصحابنا حمله على ما إذا شرط التحلل به والله أعلم * (اما) أحكام المسألة فقال أصحابنا
إذا مرض المحرم ولم يكن شرط التحلل فليس له التحلل بلا خلاف لما ذكره المصنف مع ما ذكرناه
من الآثار قالوا بل يصبر حتى يبرأ فإن كان محرما بعمرة أتمها وإن كان بحج وفاته تحلل بعمل
عمرة وعليه القضاء (أما) إذا شرط في احرامه أنه إذا مرض تحلل فقد نص الشافعي في القديم على
صحة الشرط لحديث ضباعة ونص في كتاب المناسك من الجديد على أنه لا يتحلل وروى الشافعي حديث
ضباعة مرسلا فقال (عن عروة بن عروة بن الزبير ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لضباعة) الحديث قال
الشافعي لو ثبت حديث عروة لم أعده إلى غيره لأنه لا يحل عندي خلاف ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم *
قال البيهقي وثبت هذا الحديث من أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم روى الأحاديث الصحيحة السابقة فيه
هذه نصوص الشافعي * (وأما) الأصحاب فلهم في المسألة طريقان حكاهما المصنف والأصحاب (أشهرهما)
وبه قال الأكثرون يصح الاشتراط في قوله القديم وفي الجديد قولان (أصحهما) الصحة (والثاني)
المنع (والطريق الثاني) قاله الشيخ أبو حامد وآخرون يصح الاشتراط قولا واحدا لصحة الحديث
فيه قالوا وإنما توقف الشافعي لعدم وقوفه على صحة الحديث وقد صرح الشافعي بهذا الطريق في
نصه الذي حكيته الآن عنه وهو قوله لو صح حديث عروة لم أعده فالصواب الجزم بصحة الاشتراط
للأحاديث * وأجاب إمام الحرمين عن الحديث بأنه محمول على أن المراد محلي حيث حبستني بالموت
معناه حيث أدركتني الوفاة أقطع إحرامي وهذا تأويل باطل ظاهر الفساد وعجب من جلالة إمام
الحرمين كيف قال هذا وكيف يصح حكمه على أمرها باشتراط كون الموت قاطع الاحرام والله أعلم *
310

قال أصحابنا ولو شرط التحلل لغرض آخر كضلال الطريق وفراغ النفقة والخطأ في العدد ونحو
ذلك فله حكم اشتراط التحلل بالمرض فيصح على المذهب هكذا قطع به أصحابنا العراقيون والبغوي
وجمهور الخراسانيين * وذكر امام الحرمين هذا عن العراقيين قال قالوا بان كل مهم يحل محل المرض
الثقيل يجرى فيه الخلاف المذكور في المرض قال وكان شيخي يقطع بان الشرط لاغ وانه لا يجوز
التحلل على القول إلا بالمرض للحديث والله أعلم * قال أصحابنا وحيث صححنا الشرط فتحلل
فإن كان شرط التحلل بالهدي لزمه الهدي وإن كان شرط التحلل بلا هدي لم يلزمه الهدي وان
أطلق فهل يلزمه الهدي فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب والأصحاب
(أحدهما) يلزمه كالمحصر وبهذا قطع المصنف والبغوي (وأصحهما) لا يلزمه لظاهر حديث ضباعة
قال الماوردي والأصحاب وهذا هو المنصوص وصححوه وقطع به الدارمي وغيره وينكر على
المصنف والبغوي جزمهما بالوجوب * وفرق الأصحاب بينه وبين المحصر بان مقتضي الشرط
انتهاء الاحرام بوجود الشرط وأنه لا يلزمه بعد ذلك شئ من أفعال النسك (وأما) المحصر فقد
311

ترك الافعال التي كان يقتضيها احرامه والله أعلم * ولو شرط أن يقلب حجه عمرة عند المرض نص
الشافعي على صحته وقطع به الدارمي والبندنيجي والروياني وآخرون * ونقل الرافعي عن الأصحاب
أنه أولى بالصحة من شرط المرض فيقتضي إثبات خلاف ضعيف فيه والمذهب القطع بالصحة كما
312

نص عليه ويؤيده ما قدمته عن ابن مسعود وعائشة رضي الله عنهما * قال الروياني ولو قال إن مرضت
وفاتني الحج كان عمرة كان على ما شرط * قال أصحابنا فإذا وجد المرض هل يصير حلالا بمجرد
وجوده أم يشترط إنشاؤه كالمحصر ينظر ان قال إن مرضت تحللت من إحرامي فلا يخرج من
313

الاحرام إذا وجد المرض الا بالتحلل وهو أن ينوي الخروج ويحلق ان جعلناه نسكا ويذبح
إن أوجبناه على ما سبق من التفصيل والخلاف وممن صرح بالمسألة الشيخ أبو حامد في تعليقه
والبندنيجي والروياني وآخرون قالوا وكذا لو قال محلي من الأرض حيث حبستني لا يتحلل عند
314

الحبس الا بالنية مع ما ذكرناه فلو قال إن مرضت فانا حلال أو قال إن حبسني مرض فانا حلال
فوجهان مشهوران حكاهما الشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي أبو الطيب والمصنف وامام الحرمين
والبغوي والمتولي والروياني وآخرون (أصحهما) يصير حلالا بنفس المرض وهو المنصوص ونقلوه
315

عن المصنف وصححوه لقوله صلى الله عليه وسلم (من كسر أو عرج فقد حل) وهو حديث صحيح كما سبق
قال الشيخ أبو حامد والأصحاب لا يمكن حمل الحديث الا على هذا وفيه تأويل البيهقي الذي قدمناه
(والوجه الثاني) لا بد من التحلل قال الروياني والأصحاب فان قلنا بالوجه الأول لم يلزمه الدم بلا
خلاف وان قلنا بالثاني فهل يلزمه الدم فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد والأصحاب (الأصح)
316

لا يلزمه فيلزمه النية فقط ونقل الماوردي وغيره هذا عن نص الشافعي وغلط الروياني وغيره القائل
بوجوب الدم قال البغوي وكذا الحلق ان جعلناه نسكا * وقطع البغوي بوجوب الدم على هذا
الوجه والمذهب الأول والله أعلم * (أما) إذا شرط التحلل بلا عذر بان قال في احرامه متى شئت خرجت
منه أو ان ندمت أو كسلت ونحو ذلك فلا يجوز له التحلل بلا خلاف صرح به المصنف والشيخ
أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والدارمي والروياني والبغوي وخلائق ونقل الروياني
الاتفاق عليه والله أعلم *
317

(فرع) إذا صححنا اشتراط التحلل بالمرض ونحوه فإنما ينفع الشرط ويجوز التحلل به إذا
كان مقترنا باحرامه فان تقدمه أو تأخر عنه لم ينعقد الشرط بلا خلاف وصرح به الماوردي وغيره *
(فرع) إذا شرط التحلل بالمرض ونحوه فقد ذكرنا خلافا في صحة الشرط قال أصحابنا
وينعقد الحج بلا خلاف سواء صححنا الشرط أم لا *
(فرع) مما استدل به أصحابنا لجواز اشتراط التحلل بالمرض وصحة الشرط انه لو نذر صوم
يوم أو أيام بشرط ان يخرج منه بعذر صح الشرط وجاز الخروج منه بذلك العذر بلا خلاف قال الروياني
يجوز الخروج منه بالاجماع *
318

(فرع) ذكرنا أن امام الحرمين تأول حديث ضباعة انه يحمل على أن محلي حيث حبستني
بالموت وذكرنا أن هذا التأويل خطأ فاحش وتأوله الروياني على أنه مخصوص بضباعة وهذا تأويل
باطل أيضا ومخالف لنص الشافعي فان الشافعي إنما قال لو صح الحديث لم أعده ولم يتأوله ولم يخصه *
(فرع) قال أصحابنا التحلل بالمرض ونحوه إذا صححناه له حكم التحلل بالاحصار فإن كان الحج تطوعا لم يجب قضاؤه وإن كان واجبا فحكمه ما سبق *
(فرع) قال إمام الحرمين والغزالي في الوسيط قال النبي صلى الله عليه وسلم لضباعة الأسلمية (اشترطي
أن محلي حيث حبستني) وهذا غلط فاحش فليس ضباعة أسلمية بل هي هاشمية وهي بنت عم رسول
319

الله صلى الله عليه وسلم وهي ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف وهذا لا خلاف فيه
وقد سبق بيانها عن روايات البخاري ومسلم وغيرهما وإنما نبهت عليه لئلا يغتر به والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(وإن أحرم العبد بغير إذن المولى جاز للمولى أن يحلله لان منفعته مستحقة له فلا يملك أبطالها
عليه بغير رضاه فان ملكه السيد مالا وقلنا أنه يملك تحلل بالهدي وإن لم يملكه أو ملكه وقلنا إنه
لا يملك فهو كالحر المعسر وهل يتحلل قبل الهدي أو الصوم على ما ذكرناه من القولين في الحر ومن
أصحابنا من قال يجوز للعبد أن يتحلل قبل الهدي والصوم قولا واحدا لان على المولى ضررا في
بقائه على الاحرام لأنه ربما يحتاج أن يستخدمه في قتل صيد أو إصلاح طيب وإن أحرم بإذن المولى
لم يجز له أن يحلله لأنه عقد لازم عقده بإذن المولى فلم يملك اخراجه منه كالنكاح وإن أحرم
320

المكاتب بغير اذن المولى ففيه طريقان أحدهما أنه على قولين بناء على القولين في سفره للتجارة
ومن أصحابنا من قال له أن يمنعه قولا واحدا لان في سفر الحج ضررا على المولى عن غير منفعة
وسفر التجارة فيه منفعة للمولى) *
321

(الشرح) قوله لأنه عقد احتراز مما لو رآه يحتطب أو يحتش فمنعه اتمامه (وقوله) لازم احتراز
من الجعالة إذا شرع العبد فيها (وقوله) عقد باذن احتراز من غير المأذون (أما) الأحكام فقد
سبق بيان شرح جميع ما ذكره المصنف مع جمل من الفوائد والفروع المستكثرات في أول كتاب
الج عند ذكر المصنف أن العبد لا يلزمه الحج ويصح منه والله أعلم *
322

* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان أحرمت المرأة بغير إذن الزوج فإن كان في تطوع جاز له أن يحللها لان حق الزوج
واجب فلا يجوز ابطاله عليه بتطوع وإن كان في حجة الاسلام ففيه قولان (أحدهما) أن له أن يحللها
323

لان حقه على الفور والحج على التراخي فقدم حقه (والثاني) أنه لا يملك لأنه فرض فلا يملك تحليلها
منه كالصوم والصلاة) *
(الشرح) قوله لأنه فرض فلا يملك تحليلها منه ينتقض بصوم الكفارة والنذر في الذمة
والقضاء الذي لم ينتقض فان له منعها من كل ذلك في الأصح وكان ينبغي أن يقول فرض بأصل
324

الشرع والله أعلم * (أما) الأحكام فقال أصحابنا ينبغي للمرأة أن لا تحرم بغير اذن زوجها ويستحب
له أن يحج بها واحتجوا فيه بحديث ابن عباس رضي الله عنهما ان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال
(لا يخلون رجل بامرأة ولا تسافر امرأة الا مع محرم فقام رجل فقال يا رسول الله ان امرأتي خرجت
حاجة واني كتبت في غزوة كذا قال فانطلق فاحجج مع امرأتك) رواه البخاري ومسلم * فان
325

أرادت حج اسلام أو تطوع فأذن الزوج وأحرمت به لزمه تمكينها من اتمامه بلا خلاف سواء
كان فرضا أو نفلا كما سبق فيما لو أذن لعبده في الاحرام فأحرم وكما لا يجوز له تحليلها لا يجوز
لها التحلل فان تحللت لم يصح تحللها ولم تخرج من الحج كما لو نوى غيرها الخروج من الحج بلا احصار
فإنه لا يخرج منه بلا خلاف * وان أرادت حج الاسلام فمنعها الزوج فهل له المنع فيه قولان مشهوران
326

وعجب كيف أهملهما المصنف قال القاضي أبو الطيب في تعليقه المنصوص في باب حج المرأة والعبد
من المناسك الكبير أن للزوج منعها ونص الشافعي في باب خروج النساء إلى المساجد من اختلاف
الحديث على أنه ليس له منعها * وقال البندنيجي نص الشافعي في عامة كتبه أن له منعها واتفقوا
327

على أن الصحيح من هذين القولين أن له منعها وبه قطع الشيخ أبو حامد والمحاملي وآخرون قال
القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد والروياني وغيرهما هذا القول هو الصحيح المشهور واحتجوا له
بحديث ابن عمر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليس لها أن تنطلق إلى الحج الا باذن زوجها)
328

رواه الدارقطني والبيهقي * ولان حق الزوج على الفور والحج على التراخي فقدم ما كان على الفور
كما تقدم العدة على الحج بلا خلاف (والقول) الثاني ليس له منعها لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عمرو قياسا على الصوم والصلاة
329

(وأجاب) الأولون عن الحديث بأنه محمول على أنه نهي تنزيه أو على غير المتزوجات لان غير
المزوجات لم يتعلق بهن حق على الفور وذلك كالبنت والأخت ونحوهما وأن المراد لا تمنعوهن
مساجد الله للصلوات وهذا هو ظاهر سياق الحديث والله أعلم * قال أصحابنا والفرق بين الحج والصوم
والصلاة أن مدته طويلة بخلافهما والله أعلم * فان أحرمت بحج الاسلام بغير اذنه قال أصحابنا ان
قلنا ليس له منعها من الابتداء فليس له تحليلها (وان قلنا) له منعها فهل له تحليلها فيه قولان مشهوران
330

وهما اللذان ذكرهما المصنف هنا وفي التنبيه * قال القاضي أبو الطيب والروياني وغيرهما نص عليهما
الشافعي في باب حج المرأة والعبد قال أصحابنا (أصحهما) أن له تحليلها وهو نصه في مختصر المزني
وممن صرح بتصحيحه الجرجاني في التحرير والغزالي في الخلاصة والروياني في الحلية وأبو علي الفارقي
في فوائد المهذب والرافعي في كتابيه وغيرهم * وشذ عنهم المحاملي في المقنع فجزم بأنه ليس له تحليلها
لأنه يضيق بالشروع (والمذهب) أن له تحليلها كما صححه الجمهور لان حق الزوج سابق والله أعلم *
331

قال الدارمي والجرجاني في التحرير وحجة النذر كالاسلام فإذا أحرمت بها بغير اذنه فله تحليلها في أصح
القولين وينبغي أن يكون القضاء كذلك والله أعلم * (أما) إذا أحرمت بحجة تطوع فله منعها منه
بلا خلاف فان أحرمت به فهل له تحليلها منه فيه طريقان مشهوران حكاهما القاضي أبو حامد المروزي
والشيخ أبو حامد الأسفرايني والدارمي والقاضي أبو الطيب في كتابيه المجموع والتجريد والماوردي
والقاضي أبو علي البندنيجي والقاضي حسين والفوراني وامام الحرمين والغزالي وابن الصباغ والمتولي
332

والبغوي وصاحب العدة والروياني والشاشي وخلائق آخرون (أصحهما) باتفاقهم له تحليلها قولا
واحدا وبه قطع المصنف وطائفة (والثاني) فيه قولان كحجة الاسلام (أصحهما) له تحليلها (والثاني)
لا لأنها لما أحرمت بها صارت كحجة الاسلام لان حجة التطوع تلزم بالشروع والله أعلم *
333

(فرع) قال أصحابنا حيث أبحنا له تحليلها لا يجوز لها أن تتحلل حتى يأمرها فإذا أمرها
تحللت كما يتحلل المحصر سواء فتذبح الهدي وتنوي عنده الخروج من الحج وتقصر رأسها أو
ثلاث شعرات إذا قلنا الحلق نسك فإن كانت واجدة للهدى فلابد مما ذكرناه وإن كانت عادمة
له فهي كالحر المحصر إذا عدم الهدي وقد سبق ايضاحه * واتفق أصحابنا على أن تحللها لا يحصل
الا بما يحصل به تحلل المحصر وأنها لو تطيبت أو جومعت أو قتلت صيدا أو فعلت غير ذلك من
334

محظورات الاحرام أو فعل الزوج ذلك بها لا تصير متحللة بل يلزمه والفدية فيما ارتكبته والله أعلم *
قال أصحابنا ومتى أمرها بالتحلل حيث جوزناه له لزمها المبادرة به وان امتنعت منه مع تمكنها جاز
للزوج وطؤها وسائر الاستمتاعات بها ولا اثم عليه وعليها هي الاثم لتقصيرها وكذلك الأمة إذا
امتنعت من التحلل فللسيد وطؤها ولا إثم عليه وعليها هي الاثم * وحكي امام الحرمين هذا عن
الصيدلاني ثم قال الامام وهذا فيه نظر لان المحرمة حرام لحق الله تعالى كما أن المرتدة حرام لحق
الله تعالى فيحتمل تحريمها على الزوج والسيد * هذا كلام الامام والمذهب القطع بالجواز كما
335

قاله الصيدلاني وغيره وبه جزم الغزالي وغيره والله أعلم *
(فرع) الأمة المزوجة (1) ليس للأمة المزوجة الاحرام الا باذن السيد والزوج جميعا
بلا خلاف لان لكل واحد منهما حقا فان أذن أحدهما فللآخر المنع بلا خلا ف فان أحرمت بغير
اذنهما قال الدارمي ان اتفقا على تحليلها فلهما ذلك وان اتفقا على بقائها وذهابها في الحج جاز
وإن أراد السيد تحليلها فله ذلك وان أراده الزوج قال ابن القطان نص الشافعي ان له ذلك قال
336

ابن القطان فيحتمل هذا ويحتمل ان يقال لا يحللها لان للسيد المسافرة بها نقله الدارمي * ونقل
الروياني عن القفال ان المذهب ان للزوج تحليلها كما هو للسيد وان من الأصحاب من قال بالنسبة
إلى الزوج كالزوجة الحرة إذا أحرمت بتطوع هل له تحليلها فيه طريقان والمذهب الأول *
(فرع) قال الدارمي إذا أحرمت في العدة فإن كانت رجعية فلم يراجعها فليس له تحليلها وله
منعها من الخروج فان قضت العدة ولم يراجعها مضت في الحج فان أدركته فذلك وان فاتها
فلها حكم الفوات * وإن راجعها فهل له تحليلها فيه القولان السابقان * وإن كانت مطلقة بائنا فليس
له تحليلها بلا خلاف وله منعها فان أدركت الحج بعد انقضاء العدة والا فهي كذات الفوات * ولو
337

أحرمت ثم طلقها فوجبت العدة أقامت على احرامها ولم يجز لها التحلل فان انقضت عدتها فأدركت
الحج فذاك وإن فاتها قال ابن المرزبان إن كانت هي سبب وجوب العدة بخيار ونحوه فهي المفوتة
وان طرأت بغير اختيارها ففي القضاء وجهان بناء على القولين في المحصر إذا سلك طريقا ففاته هذا
كلام الدارمي * وكذا قال الروياني والرافعي وغيرهما أن المعتدة الرجعية إذا أحرمت فللزوج
منعها من الذهاب في الحج وليس له تحليلها ولكن له رجعتها فإذا رجع هل له تحليلها فيه القولان
وجزم الرافعي بأنه يحللها بعد المراجعة وهو تفريع على الأصح وإلا فالقولان لا بد منهما كما ذكره
338

الدارمي والروياني وغيرهما * ونقل الروياني فيما إذا أحرمت بحج تطوع ثم طلقت ثم اعتدت ففاتها قولين (أحدهما) يجب القضاء كالخطأ في العدد (والثاني) لا لعدم تقصيرها وهذا موافق لما ذكره
ابن المرزبان والله أعلم * وقال الماوردي إذا أحرمت ثم وجبت العدة بوفاة زوج أو طلاقه لزمها
المضي في الاحرام وأعمال النسك ولا تكون العدة مانعة لان الاحرام سابق قال فان منعها حاكم
من إتمام الحج بسبب العدة صارت كالمحصر فتتحلل وعليها دم الاحصار *
339

(فرع) لو أذن لزوجته في الاحرام ثم رجع عن الاذن أو اختلفا فادعت الاذن وأنكره
ففيه التفصيل الذي قدمته في أول كتاب الحج في مثل ذلك بين العبد والسيد كذا قاله الدارمي
والله أعلم *
(فرع) إذا أرادت الحج قال الماوردي والمحاملي وغيرهما من الأصحاب إن كان الحج فرضا
جاز لها الخروج مع زوج أو محرم أو نسوة ثقات ويجوز مع امرأة واحدة إن كان الطريق أمنا
قالوا ولا يجوز أن تخرج بغير محرم وبغير امرأة ثقة * قال الماوردي ومن الأصحاب من قال إذا
340

كان الطريق أمنا لا يخاف خلوة الرجال بها جاز خروجها بغير محرم وبغير امرأة ثقة قال وهذا
خلاف نص الشافعي * قالوا فإن كان الحج تطوعا لم يجز أن تخرج فيه الا مع محرم وكذا السفر
المباح كسفر الزيارة والتجارة لا يجوز خروجها في شئ من ذلك الا مع محرم أو زوج * قال الماوردي
ومن أصحابنا من جوز خروجها مع نساء ثقات كسفرها للحج الواجب قال وهذا خلاف نص
الشافعي وكذا قال الشيخ أبو حامد في تعليقه لا يجوز لها الخروج في حج التطوع الا مع محرم نص
341

عليه الشافعي في كتاب العدد من الام فقال لا يجوز الخروج في حج التطوع الا مع محرم * قال
أبو حامد ومن أصحابنا من قال لها الخروج بغير محرم في أي سفر كان واجبا كان أو غيره
وهكذا ذكر المسألة البندنيجي وآخرون * وحاصله أنه يجوز الخروج للحج الواجب مع زوج أو محرم أو امرأة ثقة ولا يجوز من غير هؤلاء وإن كان الطريق أمنا وفيه وجه ضعيف انه يجوز إن
كان أمنا (وأما) حج التطوع وسفر الزيارة والتجارة وكل سفر ليس بواجب فلا يجوز على المذهب
الصحيح المنصوص الا مع زوج أو محرم وقيل يجوز مع نسوة أو امرأة ثقة كالحج الواجب وقد
سبقت هذه المسألة مختصرة في أول كتاب الحج في ذكر استطاعة المرأة والله أعلم *
342

(فرع) قد ذكرنا تفصيل مذهبنا في حج المرأة وذكرنا ان الصحيح أنه يجوز لها في سفر حج
الفرض أن تخرج مع نسوة ثقات أو امرأة ثقة ولا يشترط المحرم ولا يجوز في التطوع وسفر التجارة
والزيارة ونحوهما الا بمحرم * وقال بعض أصحابنا يجوز بغير نساء ولا امرأة إذا كان الطريق أمنا
وبهذا قال الحسن البصري وداود * وقال مالك لا يجوز بامرأة ثقة وإنما يجوز بمحرم أو نسوة
ثقات * وقال أبو حنيفة واحمد لا يجوز الا مع زوج أو محرم قال الشيخ أبو حامد والمسافة التي
يشترط أبو حنيفة فيها المحرم ثلاثة أيام فإن كان أقل لم يشترط واحتج لهم بحديث ابن عمر قال قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تسافر امرأة ثلاثا الا معها ذو محرم) رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم
343

(لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر مسيرة ثلاث ليال الا ومعها ذو محرم) وعن ابن عباس
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تسافر امرأة الا مع محرم فقال يا رسول الله إني أريد ان اخرج في
جيش كذا وكذا وامرأتي تريد الحج قال اخرج معها) رواه البخاري ومسلم * وعن ابن سعيد
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تسافر المرأة يومين الا ومعها زوجها أو ذو محرم) رواه البخاري ومسلم
* وعن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر ان تسافر مسيرة يوم وليلة
344

ليس معها حرمة) رواه البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم مسيرة يوم وفي رواية له ليلة وفي رواية
صحيحة في سنن أبي داود (مسيرة بريد) وقياسا على حج التطوع وسفر التجارة والزيارة ونحوهما *
واحتج أصحابنا بحديث عدي بن حاتم قال (بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتى رجل فشكا إليه الفاقة
ثم أتاه آخر فشكا قطع السبيل فقال يا عدي هل رأيت الحيرة قلت لم أرها وقد أنبئت عنها قال
فان طال بك حياة لترين الظعينة ترتل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله قال عدي
فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله) رواه البخاري وسبق
ذكره في استطاعة المرأة (فان قيل) لا يلزم من حديث عدي جواز سفرها بغير محرم لان النبي صلى الله عليه وسلم
أخبر بان هذا سيقع ووقع ولا يلزم من ذلك جوازه كما أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون دجالون كذابون ولا
يلزم من ذلك جوازه * قال أصحابنا فجوابه أن هذا الحديث خرج في سياق ذم الحوادث (وأما)
345

حديث عدى فخرج في سياق المدح والفضيلة واستعلاء الاسلام ورفع مناره فلا يمكن حمله على ما لا
يجوز * قال الشيخ أبو حامد (فان قيل) هذا الخبر متروك الظهر بالاجماع لان فيه أنها تخرج بغير
جوار ولا خلاف أنها لا تخرج بغير جوار ولو امرأة واحدة (فالجواب) أن بعض أصحابنا جوز
خروجها وحدها بغير امرأة كما سبق وعلى مذهب الشافعي ومنصوصه يشترط المرأة ولا يلزم من ذلك
ترك الظاهر لان حقيقته أن لا يكون معها جوار أصلا - والجوار الملاصق والقريب - ونحن لا نشترط
في المرأة التي تخرج معها كونها ملازمة لها فان مشت قدام القافلة أو بعدها بعيدة عن المرأة جاز فحصل
من هذا أنا نقول بظاهر الحديث هذا كلام أبى حامد * قال أصحابنا ولأنه سفر واجب
فلم يشترط فيه المحرم كالهجرة قال أصحابنا وقياسا على ما إذا كانت المسافة مرحلتين
346

فان الحنفية وافقونا على أنه لا يشترط المحرم * (فان قالوا) إنما جاز في المرحلتين لأنه ليس بسفر (قلنا)
هذا مخالف للأحاديث الصحيحة السابقة (وأما) الجواب عن الأحاديث التي احتجوا بها فمن أوجه
(أحدها) جواب الشيخ أبي حامد وآخرين انها عامة فنخصها بما ذكرناه (والثاني) أنه محمول على
سفر التجارة والزيارة وحج التطوع وسائر الاسفار غير سفر الحج الواجب (الثالث) ذكره القاضي
أبو الطيب انه محمول على ما إذا لم يكن الطريق امنا (والجواب) عن قياسهم على حج التطوع وسفر
التجارة انه ليس بواجب بخلاف حج الفرض والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وان أحرم الولد بغير اذن الأبوين فإن كان في حج فرض لم يكن لهما تحليله لأنه فرض فلم يجز
اخراجه منه كالصوم والصلاة وإن كان في حج تطوع ففيه قولان (أحدهما) يجوز لهما تحليله لان
النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن أراد ان يجاهد وله أبوان (ففيهما فجاهد) فمنع الجهاد لحقهما وهو
347

فرض فدل على أن المنع من التطوع لحقهما أولى (والثاني) لا يجوز لأنه قربة لا مخالفة عليه فيها
فلا يجوز لهما تحليله منها كالصوم *
(الشرح) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص بلفظه
(وقوله) لأنه قربة لا مخالفة عليه فيها احتراز من الجهاد (أما الأحكام) فقال أصحابنا من كان له
أبوان أو أحدهما استحب أن لا يحرم الا باذنهما أو اذن الحي منهما فان أذنا له في حج فرض أو تطوع
فأحرم لم يكن لهما تحليله ولا منعه بلا خلاف كما سبق في العبد والزوجة وان منعاه الاحرام أو منعه
أحدهما فإن كان في حج تطوع فلهما المنع على المذهب وبه قطع الجماهير في الطريقتين وحكى الرافعي
348

وجها شاذا انه ليس لهما منعه منه وهذا ليس بشئ فان أحرم بالتطوع فهل لهما تحليله فيه قولان
مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) لهما ولكل واحد منهما تحليله وأشار إليه الشافعي في الاملاء
وممن نص على تصحيحه القاضي حسين في تعليقه والجرجاني في التحرير وغيرهما (والثاني) ليس لهما
تحليله نص عليه في الام وصححه الفارقي والصحيح الأول * (أما) إذا أراد حج فرض الاسلام
أو قضاء أو نذر فليس لهما منعه هذا هو المذهب وبه قطع الجماهير في الطريقتين * وحكى صاحب
العدة والروياني والرافعي فيه وجها شاذا أن لهما منعه من الفرض كالتطوع وليس بشئ فان أحرم
به فليس لهما تحليله منه على المذهب وبه قطع الجمهور * وحكى القاضي حسين والروياني والرافعي
349

وغيرهم فيه طريقا آخر انه على قولين كالزوجة وليس بشئ والله أعلم *
(فرع) وإذا أحرم بالتطوع وأراد الأبوان تحليله كان لهما ذلك على الأصح كما ذكرنا فلو أراده
أحدهما فهو كما لو أراداه هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وقال الماوردي إن أراد الأب تحليله فله ذلك
على قولنا لهما تحليله وإن أرادته الام فلا وحكاه الروياني عن الماوردي ثم قال وهذا مشكل وهو كما
قال الروياني فالصحيح ان الام كالأب في هذا والله أعلم *
350

(فرع) قال أصحابنا حيث جوزنا لهما تحليله فهو كتحليل الزوجة فيؤمر الولد بأن يتحلل بما يتحلل
به المحصر من النية والذبح والحلق وقد سبق بيانه واضحا *
(فرع) تحليل الولد من العمرة ومنعه منها كالحج في كل ما ذكرناه باتفاق الأصحاب *
(فرع) إذا أراد الولد السفر لطلب العلم فقد جزم المصنف في أول كتاب السير بأنه يجوز بغير
إذن الأبوين قال وكذلك سفر التجارة لان الغالب فيها السلامة * وبسط البغوي المسألة هنا فقال
351

إن أراد الولد الخروج لطلب العلم بغير اذن الأبوين نظر إن كان هناك من يتعلم منه لم يجز ولهما
منعه وإن لم يكن نظر فان أراد تعلم ما هو فرض عين لم يكن لهما منعه وفي فرض الكفاية وجهان
(أصحهما) لا يجوز لهما منعه لأنه فرض عليه ما لم يبلغ واحد هناك درجة الفتوى حتى لو كبر المفتي
وشاخ جاز لشاب ان يخرج لطلب العلم إن لم يمكنه التعلم من الشيخ * قال ولو خرج واحد
للتعلم هل لاخر أن يخرج بغير إذن الأبوين فيه وجهان (أحدهما) لا لأنه قام به غيره
كالجهاد (والثاني) نعم لان قصد إقامة الدين لا خوف فيه هذا كلام البغوي *
352

(فرع) قال أصحابنا من عليه دين حال وهو موسر يجوز لمستحق الدين منعه من الخروج
إلى الحج وحبسه ما لم يؤد الدين فإن كان أحرم فليس له التحلل كما سبق بل عليه قضاء الدين
والمضي في الحج وإن كان معسرا فلا مطالبة ولا منع وإن كان مؤجلا فلا منع ولا مطالبة لكن
يستحب ان لا يخرج حتى يوكل من يقضي الدين عند حلوله *
(فرع) حيث جوزنا تحليل الزوجة والولد فتحللا فلهما حكم المتحلل بحصر خاص فإن كان
حج تطوع لم يجب قضاؤه على أصح القولين وإن كان فرضا ففيه التفصيل السابق في حكم الحاج المحصر *
(فرع) قال إمام الحرمين وغيره قول الأصحاب للسيد تحليل العبد وللزوج تحليل الزوجة
وللوالد تحليل الولد * هذا كله مجاز ولا يصح التحليل من هؤلاء المذكورين بل معناه أنهم يأمرون
العبد والزوجة والولد بالتحلل فيتحلل المأمور بالنية مع الذبح والحلق على تفصيله السابق وهذا
واضح لا شك فيه والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(إذا أحرم وشرط التحلل لغرض صحيح مثل أن يشترط أنه إذا مرض تحلل أو إذا
ضاعت نفقته تحلل ففيه طريقان (أحدهما) أنه على قولين (أحدهما) لا يثبت الشرط لأنه عبادة
لا يجوز الخروج منها بغير عذر فلم يجز الخروج منها بالشرط كالصلاة المفروضة (والثاني) أنه يثبت
الشرط لما روى ابن عباس (أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب قالت يا رسول الله اني امرأة
ثقيلة واني أريد الحج فكيف تأمرني أن أهل قال أهلي واشترطي أن محلي حيث حبستني) فدل
على جواز الشرط (ومنهم) من قال يصح الشرط قولا واحدا لأنه علق أحد القولين على صحة حديث
ضباعة فعلى هذا إذا شرط أنه إذا مرض تحلل لم يتحلل الا بالهدي وان شرط أنه إذا مرض صار
حلالا فمرض صار حلالا * ومن أصحابنا من قال لا يتحلل الا بالهدي لان مطلق كلام الادمي
يحمل على ما تقرر في الشرع والذي تقرر في الشرع أنه لا يتحلل الا بالهدى فاما إذا شرط أنه
يخرج منه إذا شاء أو يجامع فيه إذا شاء فلا يجوز له لأنه خروج من غير عذر فلم يصح شرطه) *
353

(الشرح) حديث ضباعة رواه البخاري ومسلم وتقدمت طرقه وبيان ما يتعلق به مع بيان
الأحاديث والآثار الواردة في المسألة مع بيان الفصل جميعا وبسطناها واضحة في فصل احصار
الغريم والمريض ويحصل مما قررناه هناك ان قول المصنف لم يتحلل الا بالهدى اختيار منه للضعيف
من القولين (والأصح) أنه لا دم * هذا إذا أطلق أنه يتحلل (أما) إذا قال أتحلل بالهدي لزمه بلا
خلاف وان قال أتحلل بلا هدى فلا يلزمه بلا خلاف كما سبق ايضاحه هناك (وقوله) لأنه عبادة
لا يجوز الخروج منها بغير عذر احتراز من صلاة التطوع وصومه (وقوله) كالصلاة المفروضة تصريح
منه بما هو مذهب الشافعي وجميع أصحابه أنه لا يجوز لمن دخل في صلاة مفروضة مؤداة في أول
وقتها أو مقضية أو صوم واجب بقضاء أو نذر أو كفارة الخروج بلا عذر وإن كان الوقت واسعا
وقد سبقت المسألة واضحة في باب التيمم وفي آخر باب مواقيت الصلاة وآخر كتاب الصيام *
والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(إذا أحرم ثم ارتد ففيه وجهان (أحدهما) يبطل احرامه لأنه إذا بطل الاسلام الذي هو
أصل فلان يبطل الاحرام الذي هو فرع أولى (والثاني) لا يبطل كما لا يبطل بالجنون والموت فعلى هذا
إذا رجع إلى الاسلام بني عليه) *
(الشرح) قوله فلان يبطل الاحرام وهو فرع ينتقض بالوضوء فإنه فرع ولا يبطل بالردة
على المذهب كما سبق بيانه في باب ما ينقض الوضوء وهذان الوجهان اللذان ذكرهما المصنف (أصحهما)
عند الأكثرين يبطل * وفي المسألة وجهان آخران وقد سبق ذكر الأوجه الأربعة مع فروعها في
باب ما يجب بمحظورات الاحرام في مسائل افساد الحج بالجماع والله أعلم *
(فصل) في مسائل من مذاهب العلماء في الاحصار (منها) المحرم بالحج له التحلل إذا أحصره
عدو بالاجماع ويلزمه دم وهو شاذ هذا مذهبنا ومذهب أبي حنيفة واحمد والجمهور * وعن مالك
لآدم عليه * دليلنا قوله تعالى (فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي) وتقرير الآية الكريمة فان
354

أحصرتم فلكم التحلل وعليكم ما استيسر من الهدي *
(فرع) إذا أحرم بالعمرة فأحصر فله التحلل عندنا وعند الجمهور ومنعه مالك لأنها تفوت
دليلنا قوله تعالى (فان أحصرتم) ونزلت عام الحديبية حين كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرموا بالعمرة فتحللوا
وذبحوا الهدايا وحديث هذه القصة في الصحيح مشهورة *
(فرع) يجوز عندنا التحلل بالاحصار قبل الوقوف أو بعده سواء احصر عن الكعبة فقط
أو عن عرفات فقط أو عنهما * وقال أبو حنيفة لا يتحلل بالاحصار بعد الوقوف فان احصر بعد
الوقوف عن الكعبة وعرفات تحلل وان احصر عن أحدهما لم يجز له التحلل * دليلنا قوله تعالى
(فان أحصرتم) الآية ولم يفرق *
(فرع) ذبح هدي الاحصار حيث احصر سواء كان في الحرم أو غيره * وقال أبو حنيفة
لا يجوز ذبحه الا في الحرم قال ويجوز قبل النحر * وقال أبو يوسف ومحمد لا يجوز قبل يوم
النحر * دليلنا الأحاديث الصحيحة ان النبي صلى الله عليه وسلم (نحر هديه هو وأصحابه بالحديبية وهي
خارج الحرم) *
(فرع) إذا تحلل بالاحصار فإن كان حجه فرضا بقي كما كان قبل هذه السنة وهذا مجمع
عليه وإن كان تطوعا لم يجب قضاؤه عندنا وبه قال مالك واحمد وداود * وقال أبو حنيفة ومجاهد
والشعبي وعكرمة والنخعي يلزمه قضاء التطوع أيضا *
(فرع) قد ذكرنا ان مذهبنا انه لا يجوز التحلل بالمرض وغيره سواء العذر من غير شرط
وبه قال ابن عمر وابن عباس ومالك واحمد وإسحاق * وقال عطاء والنخعي والثوري وأبو حنيفة
وأبو ثور وداود يجوز التحلل بالمرض وكل عذر حدث وسبق دليل المسألة *
(فرع) يجوز للمكي التحلل إذا أحصر عن عرفات هذا مذهبنا وبه قال أبو ثور وابن المنذر
وقال محمد بن الحسن وغيره (1) *

(1) بياض بالأصل
355

(فرع) ذكرنا أن الأصح عندنا أنه له منع زوجته من حجة الاسلام وقال مالك وأبو حنيفة وداود ليس له ذلك (وأما) اشتراط المحرم مع المرأة في السفر فقد سبق قريبا بيانه ومذاهب
العلماء فيه والله أعلم *
(باب الهدي)
* قال المصنف رحمه الله *
(يستحب لمن قصد مكة حاجا أو معتمرا أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام وينحره ويفرقه
لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أهدى مائة بدنة) ويستحب أن يكون ما يهديه
سمينا حسنا لقوله تعالى (ومن يعظم شعائر الله) قال ابن عباس في تفسيرها الاستسمان والاستحسان
والاستعظام فان نذر وجب عليه لأنه قربة فلزمت بالنذر) *
(الشرح) حديث (أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة) صحيح رواه البخاري ومسلم
والتصريح بالمائة في رواية البخاري * وشعائر الله معالم دينه واحدتها شعيرة وأصل الشعائر
والاشعار والشعار الاعلام (وقوله) قربة - باسكان الراء وضمها - لغتان مشهورتان قرى بهما
في السبع الأكثرون بالاسكان وورش بالضم * والهدي - باسكان الدال مع تخفيف الياء وبكسر
الدال مع تشديد الياء - لغتان مشهورتان حكاهما الأزهري وغيره قال الأزهري الأصل التشديد
والواحدة هدية وهدية ويقال فيه أهديت الهدي قال العلماء والهدي ما يهدى إلى الحرم من حيوان
وغيره والمراد هنا ما يجزئ في الأضحية من الإبل والبقر والغنم خاصة ولهذا قيده المصنف بقوله أن
يهدي إليها من بهيمة الأنعام فخصه ببهيمة الأنعام لكونه يطلق على كل ما يهدى * والانعام هي
الإبل والبقر والغنم والله أعلم * (أما) الأحكام فاتفقوا على أنه يستحب لمن قصد مكة بحج أو
عمرة أن يهدي هديا من الانعام وينحره هناك ويفرقه على المساكين الموجودين في الحرم *
356

ويستحب أن يكون ما يهديه سمينا حسنا كاملا نفيسا لما ذكره المصنف ولا يجب الهدي الا
بالنذر والله أعلم *
(فرع) يستحب أن يكون الهدي معه من بلده فإن لم يفعل فشراؤه من الطريق أفضل من
شرائه من مكة ثم من مكة ثم عرفات فإن لم يسقه أصلا بل اشتراه من منى جاز وحصل أصل الهدي
هذا مذهبنا وبه قال ابن عباس وأبو حنيفة وأبو ثور والجمهور * وقال ابن عمر وسعيد بن جبير لا هدي إلا ما أحضر عرفات
* قال المصنف رحمه الله *
(فإن كان من الإبل والبقر فالمستحب أن يشعرها في صفحة سنامها الأيمن ويقلدها نعلين لما
روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم (صلى الظهر في ذي الحليفة ثم أتى ببدنة فاشعرها
في صفحة سنامها الأيمن ثم سلت الدم عنها ثم قلدها نعلين) ولأنه ربما اختلط بغيره فإذا أشعر
وقلد تميز وربما ند فيعرف بالاشعار والتقليد فيرد * وإن كان غنما قلده لما روت عائشة رضي الله
عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (أهدى مرة غنما مقلدة) وتقلد الغنم خرب القرب لان الغنم يثقل
عليها حمل النعال ولا يشعرها لان الاشعار لا يظهر في الغنم لكثرة شعرها وصوفها) *
(الشرح) حديث ابن عباس رضي الله عنهما رواه مسلم
بلفظه وحديث عائشة رواه مسلم
بلفظه والبخاري بمعناه (وقوله) يشعرها - بضم الياء - واصل الاشعار الاعلام (وقوله) صفحة
سنامها الأيمن كان ينبغي أن يقول اليمنى لان الصفحة مؤنثة وهذا وصف لها ولكن قد ثبت في
صحيح مسلم في حديث ابن عباس (هذا صفحة سنامها الأيمن) فيتعين تأويله وهو أن يكون المراد
بالصفحة الجانب * وخرب القرب - بضم الخاء المعجمة وفتح الراء) وهي عراها واحدتها
خربة كركبة وركب (وقوله) ند هو - بفتح النون وتشديد الدال - أي هرب (أما) الأحكام
فاتفق الشافعي والأصحاب على أنه يسن لمن أهدى شيئا من الإبل والبقر أن يشعره ويقلده فيجمع
بين الاشعار والتقليد وأنه إذا أهدى غنما قلدها ولا يشعرها * قال أصحابنا ويستحب كون
357

الاشعار والتقليد في الجميع والهدي مستقبل القبلة وصح ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما وهذا
كله لا خلاف فيه (وأما) قول المصنف في التنبيه ويقلد البقر والغنم ولا يشعرها فجعل البقر كالغنم فغلط
للذهول لا أنه تعمده وأنه وجه في المذهب وقد نبهت عليه في التحرير في صحيح التنبيه والله أعلم *
ولا فرق فيما ذكرناه بين هدى التطوع والمنذور * قال المصنف والأصحاب المراد بالاشعار هنا
أن يضرب صفحة سنامها اليمنى بحديدة وهي باردة مستقبلة القبلة فيدميها ثم يلطخها بالدم لما ذكره
المصنف قالوا وتقليد الإبل والبقر يكون بنعلين من هذه النعال التي تلبس في الرجلين في الاحرام
ويستحب أن يكون له قيمة ويتصدق بها بعد ذبح الهدى * وتقليد الغنم بخرب القرب وهي عراها
وآذانها والخيوط المفتولة ونحوها قالوا ولا يقلدها النعل ولا يشعرها لما ذكره المصنف * ولو ترك
التقليد والاشعار فلا شئ عليه لكن فاته الفضيلة * ويجوز في الإبل والبقر تقديم الاشعار على
التقليد وعكسه وفي الأفضل وجهان (أحدهما) وهو نص الشافعي تقديم التقليد أفضل (والثاني)
تقديم الاشعار أفضل حكاه صاحب الحاوي عن أصحابنا كلهم ولم يذكر فيه خلافا وصح هذا
عن النبي صلى الله عليه وسلم وصح الأول عن ابن عمر من فعله * رواه مالك في الموطأ والبيهقي *
(فرع) قد ذكرنا أنه يستحب كون الشعار في صفحة السنام اليمنى نص عليه الشافعي واتفق
عليه الأصحاب فلو أهدى بعيرين مقرونين في حبل قال أبو علي البندنيجي في كتابه الجامع
والروياني في البحر يشعر أحدهما في الصفحة اليمنى والاخر في اليسرى ليشاهد والله أعلم *
(فرع) قال الماوردي قال الشافعي فإن لم يكن للبقرة والبدنة سنام أشعر موضع سنامها *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب الاشعار والتقليد في الإبل والبقر وبه قال جماهير
العلماء من السلف والخلف وهو مذهب مالك وأحمد وابن يوسف ومحمد وداود * قال الخطابي قال
جميع العلماء الاشعار سنة ولم ينكره أحد غير أبي حنيفة وقال أبو حنيفة الاشعار بدعة ونقل
العبدري عنه أنه قال هو حرام لأنه تعذيب للحيوان ومثلة وقد نهى الشرع عنهما * واحتج أصحابنا
358

بحديث عائشة رضي الله عنها قالت (فتلت قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم أشعرها
وقلدها ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شئ كان له حلالا) رواه البخاري ومسلم
وعن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا (خرج النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية
من المدينة مع عشرة مائة من أصحابه حتى إذا كان بذي الحليفة قلد النبي صلى الله عليه وسلم الهدي
وأشعره وأحرم بعمرة) رواه البخاري * وعن ابن عباس قال (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي الحليفة
ثم دعا بناقته فاشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته فلما
استوت به على البيداء أهل بالحج) رواه مسلم ورواه أبو داود باسناد صحيح وقال ثم سلت
الدم بيديه وفى رواية بإصبعيه * وعن نافع (أن ابن عمر كان إذا أهدى هديا من المدينة قلده
وأشعره بذي الحليفة يقلده قبل أن يشعره وذلك في مكان واحد وهو موجه للقبلة يقلده نعلين
ويشعره من الشق الأيسر ثم يساق معه حتى يوقف به مع الناس بعرفة ثم يدفع به معهم إذا دفعوا
فإذا قدم في غداة نحره) رواه مالك في الموطأ عن نافع فهو صحيح بالاجماع وعن مالك عن
نافع أن ابن عمر (كان يشعر بدنه من الشق الأيسر إلا أن يكون صعابا مقرنة فإذا لم يستطع أن
يدخل منها أشعر من الشق الأيمن وإذا أراد أن يشعرها وجهها إلى القبلة وإذا أشعرها قال باسم
الله والله أكبر وأنه كان يشعرها بيده وينحرها بيده قياما) وروى مالك والبيهقي وغيرهما بالاسناد
الصحيح عن ابن عمر أنه قال (الهدي ما قلد وأشعر ووقف به بعرفة) وروى البيهقي باسناده
الصحيح عن عائشة (لا هدي إلا ما قلد وأشعر ووقف به بعرفة) وباسناده الصحيح عنها
قالت (إنما تشعر البدنة ليعلم أنها بدنة) (وأما) الجواب عن احتجاجهم بالنهي عن المثلة وعن
تعذيب الحيوان فهو أن ذلك عام وأحاديث الاشعار خاصة فقدمت (وأجاب) الشيخ أبو حامد
بجواب اخر وهو أن النهي عن المثلة كان عام غزوة أحد سنة ثلاث من الهجرة والاشعار كان عام الحديبية
سنة ست وعام حجة الوداع سنة عشر فكان ناسخا والمختار هو الجواب الأول لان النسخ لا يصار
359

إليه مع إمكان الجمع والتأويل ولان النهي عن المثلة باق والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب الاشعار في صفحة السنام اليمنى وبه قال أحمد
وداود وقال ابن عمر ومالك وأبو يوسف يشعرها في الصفحة اليسرى * دليلنا حديث ابن عباس
السابق في الفرع قبله *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا إشعار البقر مطلقا فإن كان لها سنام أشعرت فيه والا ففي
موضعه وقال مالك إن كان لها سنام أشعرت فيه وإلا فلا اشعار
(فرع) مذهبنا تقليد الغنم للأحاديث السابقة وقال أبو حنيفة ومالك لا يستحب *
(فرع) يستحب بتر قلائد الهدى لحديث عائشة قالت (فتلت قلائد بدن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بيدي ثم أشعرها وقلدها ثم بعث بها إلى البيت وأقام بالمدينة فما حرم عليه شئ كان
له حلالا) رواه البخاري ومسلم وفي رواية (كنت أفتل القلائد للنبي صلى الله عليه وسلم فليقلد الغنم ويقيم في
أهله حلالا) رواه البخاري ومسلم *
(فرع) إذا قلد الهدي وأشعره لم يصر هديا واجبا على المذهب الصحيح المشهور الجديد
بل يبقى سنة كما قبل التقليد والاشعار وفيه قول شاذ أنه يصير واجبا كما لو نذره باللفظ وسيأتي
إيضاح المسألة حيث ذكرها المصنف في أول كتاب النذر *
(فرع) إذا قلده هديه وأشعره لا يصير محرما بذلك وإنما يصير محرما بنية الاحرام هذا
مذهبنا ومذهب العلماء كافة * ونقل الشيخ أبو حامد عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم أنهما
قالا يصير محرما بمجرد تقليد الهدي وهذا النقل الذي ذكره أبو حامد وتابعه عليه الأصحاب فيه
تساهل وإنما مذهب ابن عباس أنه إذ قلد هديه حرم عليه ما يحرم عل المحرم حتى ينحر هديه
وكذا مذهب ابن عمر ان صح عنه في هذه المسألة شئ ودليل ما ذكرته حديث عمرة بنت
عبد الرحمن (إن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة أن عبد الله بن عباس قال من أهدى
360

هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه قالت عمرة قالت عائشة ليس كما قال ابن عباس
أنا فتلت قلائد هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم
بيده ثم بعث بها مع أبي فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شئ أحله الله له حتى نحر الهدي)
رواه البخاري ومسلم وفي رواية مسلم (أن ابن زياد كتب إلى عائشة) وفي رواية لمسلم (أنا فتلت
تلك القلائد من عهن كان عندنا فأصبح فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حلالا يأتي ما يأتي
الحلال من أهله أو يأتي ما يأتي الرجل من أهله) وفي رواية لمسلم عن عروة وعمرة أن عائشة قالت
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهدي من المدينة فأفتل قلائد هديه ثم لا شيئا مما يتجنب المحرم)
وعن الأسود عن عائشة مثله والله أعلم *
(فرع) السنة أن يقلد هديه ويشعره عند إحرامه سواء أحرم من الميقات أو قبله للأحاديث
السابقة والله أعلم *
(فرع) يستحب لمن لم يرد الذهاب إلى الحج أن يبعث هديا للأحاديث الصحيحة السابقة *
ويستحب أن يقلده ويشعره من بلده بخلاف من يخرج بهديه فإنه إنما يشعره ويقلده حين يحرم
من الميقات أو غيره كما ذكرنا في الفرع قبله ودليل الجميع الأحاديث السابقة والله أعلم *
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه ويجزئ في الهدي الذكر والأنثى لان المقصود اللحم
والذكر أجود لحما وأكثر ويخالف الزكاة حيث لا يجزئ الذكر لان المقصود تسليم الحيوان
في الزكاة حيا لينتفع المساكين بدره ونسله وصوفه وغير ذلك قال الشافعي والأنثى أحب إلى من
الذكر لأنها أزكى لحما * والضأن أفضل من المعز والفحل أفضل من الخصي قال أصحابنا لم يرد
الفحل الذي يضرب لان الضراب يهزله ويضعفه وإنما أراد الفحل الذي لا يضرب *
(فرع) ثبت عن علي رضي الله عنه قال (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقوم على
بدنة وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطى الجزار منها وقال نحن نعطيه من عندنا)
361

رواه البخاري ومسلم وفي رواية للبخاري قال (أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مائة بدنة فأمرني
بلحومها فقسمتها ثم أمرني بجلالها فقسمتها ثم أمرني بجلودها فقسمتها) واتفق الشافعي والأصحاب
وغيرهم من العلماء على استحباب تجليل الهدي والصدقة بذلك الجل * ونقل القاضي عياض عن
العلماء أن التجليل يكون بعد الاشعار لئلا يتلطخ بالدم وتكون نفاسة الجلال بحسب حال المهدي
وكان بعض السلف يجلل بالوشي وبعضهم بالحبره وبعضهم بالملادن والازر * وكان ابن عمر يجلل
بالانماط ويستحب أن يشق على الاسنمة إن كانت قيمتها قليلة لئلا يسقط وليظهر الاشعار وإن كانت نفيسة لم يشق والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
فإن كان تطوعا فهو باق على ملكه وتصرفه إلى أن ينحر وإن كان نذرا زال ملكه عنه
وصار للمساكين فلا يجوز له بيعه ولا إبداله بغيره لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن عمر رضي الله عنه
أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أهديت نجيبة وأعطيت بها ثلاثمائة دينار
أفأبيعها وأبتاع بثمنها بدنا وأنحرها قال لا ولكن أنحرها إياها فإن كان مما يركب جاز له أن
يركبه بالمعروف إذا احتاج لقوله تعالى (ولكم فيها منافع إلى أجل مسمى) وسئل جابر رضي الله عنه
عن ركوب الهدي فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اركبها بالمعروف إذا
الجئت إليها فان نقصت بالركوب ضمن النقصان وان نتجت تبعها الولد وينحره معها سواء حدث
بعد النذر أو قبله لما روي أن عليا رضي الله عنه رأى رجلا يسوق بدنة ومعها ولدها فقال
لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها ولأنه معنى يزيل
الملك فاستتبع الولد كالبيع أو العتق فإن لم يمكنه ان يمشي حمله على ظهر الام لما روي أن ابن
عمر كان يحمل ولد البدنة إلى أن يضحي عليها ولا يشرب لبنها إلا ما لا يحتاج إليه الولد لقول علي
كرم الله وجهه ولان اللبن غذاء الولد والولد كالأم فإذا لم يجز أن يمنع الام علفها لم يجز أن
362

يمنع الولد غذاءه وإن فضل عن الولد شئ فله أن يشربه لقوله عز وجل (ولكم فيها منافع إلى
أجل مسمى) ولقول علي رضي الله عنه والأولى أن يتصدق به وإن كان لها صوف نظرت فإن كان
في تركه صلاح بأن يكون في الشتاء وتحتاج إليه للدف ء لم يجزه لأنه ينتفع به الحيوان في دفع البرد عنه
وينتفع به المساكين عند الذبح وإن كان الصلاح في جزه بأن يكون في وقت الصيف وقد بقي إلى وقت
النحر مدة طويلة جزه لأنه يترفه به الهدي ويستمر فتنتفع به المساكين فان أحصر نحره حيث أحصر
كما قلنا في هدي المحصر وان تلف من غير تفريط لم يضمنه لأنه أمانة عنده فإذا هلكت من غير تفريط
لم تضمن كالوديعة وإن اصابه عيب ذبحه وأجزأه لان ابن الزبير أتى في هداياه بناقة عوراء فقال إن كان أصابها
بعد ما اشتريتموها فامضوها وإن كان أصابها قبل أن تشتروها فأبدلوها ولأنه لو هلك جميعه لم
يضمنه فإذا نقص بعضه لم يضمنه كالوديعة) *
(الشرح) حديث ابن عمر في قصة نجيبة بنت عمر رواه أبو داود وغيره باسناد صحيح
الا أنه من رواية جهم بن الجارود عن سالم بن عبد الله بن عمر قال البخاري لا يعرف له سماع
مرسل * ووقع في المهذب نجيبة والذي قاله المحدثون ووقع في رواياتهم نجيبا بغير هاء (وأما)
حديث جابر فرواه مسلم ولفظه (سمعت جابر بن عبد الله يسأل عن ركوب الهدى فقال سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا) وعن أنس
رضي الله عنه قال (مر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجل يسوق بدنة فقال اركبها فقال إنها
بدنة قال اركبها مرتين أو ثلاثا) رواه البخاري ومسلم * وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم مثله (وأما) حديث علي رضي الله عنه فرواه البيهقي (وأما) الأثر عن ابن عمر في حمل ولد
البدنة فصحيح رواه مالك في الموطأ باسناده الصحيح وهو مالك عن نافع (1) أن ابن عمر كأن يقول
(إذا أنتجت البدنة فليحمل ولدها حتى ينحر معها فإن لم يجد له محلا فليحمل على أمه حتى ينحر معها)
(وأما) الأثر عن ابن الزبير فصحيح رواه البيهقي باسناد صحيح (أما) لفظ الفصل (فقوله) لأنه معنى يزيل

(1) بياض بالأصل
363

الملك فاستتبع الولد احتراز من التدبير فان ولد المدبرة من نكاح أو زنا لا يتبعها في التدبير على أصح القولين
وقوله) يحتاج للدفأ هكذا هو في نسخ المهذب للدفأ وهو - بفتح الدال والفاء وبعدها همزة -
على وزن الظمأ قال الجوهري الدف ء السخونة يقول فيه دفئ دفأ مثل ظمئ ظمأ والاسم الدفئ
بالكسر وهو الشئ الذي يدفئك والجمع الدفاء والله أعلم (أما) الأحكام ففيها مسائل (إحداها)
إذا كان الهدى تطوعا فهو باق على ملكه وتصرفه فله ذبحه وأكله وبيعه وسائر التصرفات لان
ملكه ثابت ولم ينذره وإنما وجد منه مجرد نية ذبحه وهذا لا يزيل الملك كما لو نوى أن يتصدق بماله
أو يعتق عبده أو يطلق امرأته أو يقف داره وقد سبق قريبا حكاية قول شاذ أنه إذا قلد الهدي
صار كالمنذور والصواب الأول (أما) إذا نذر هدى هذا الحيوان فإنه يزول ملكه بنفس النذر
وصار الحيوان للمساكين فلا يجوز للناذر التصرف فيه ببيع ولا هبة ولا وصية ولا رهن ولا غيرها
من التصرفات التي تزيل الملك أو تؤل إلى زواله كالوصية والهبة والرهن ولا يجوز أيضا ابداله
بمثله ولا بخير منه * هذا هو المشهور وهو الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي وقطع به الأصحاب
في جميع الطرق * وحكى الرافعي وجها أنه لا يزول ملكه حتى يذبحه ويتصدق باللحم كما لو قال
لله على إعتاق هذا العبد فإنه لا يزول ملكه عنه الا باعتاقه وهذا الوجه غلط والصواب ما سبق *
وفرق الأصحاب بين الهدي والاعتاق بأن الملك ينتقل في الهدي إلى المساكين فانتقل بنفس النذر
كالوقف (وأما) الملك في العبد فلا ينتقل إلى العبد ولا إلى غيره بل ينفك عن الملك * قال أصحابنا
ولو نذر أضحية معينة فحكمها حكم الهدى فيما ذكرناه وفيها الوجه الذي حكاه الرافعي * قال أصحابنا
ولو نذر اعتاق عبد معين لم يجز له بيعه وابداله وإن كان لم يزل الملك فيه بنفس النذر لأنه ثبت
بالنذر لهذا العبد حق فلا يجوز إبطاله عليه * قال أصحابنا فان خالف فباع الهدي أو الأضحية
المعينين لزمه استرداده إن كانت عينه باقية ويلزمه رد الثمن فان تلف الهدى عند المشترى أو أتلفه
لزمه قيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف ويشترى الناذر بتلك القيمة مثل التالف
364

جنسا ونوعا وسنا فإن لم يجد بالقيمة المثل لغلاء حدث لزمه أن يضم من ماله إليها تمام الثمن وهذا
معنى قول الأصحاب يضمن ما باعه بأكثر الامرين من قيمته ومثله * وإن كانت القيمة أكثر
من ثمن المثل لرخص حدث لزمه أن يشتري وفيما يفعل بالزيادة خلاف سنذكره مع تمام فروع
المسألة في باب الأضحية حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى * ثم إن اشترى المثل بعين القيمة
صار المشتري ضحية بنفس الشراء وان اشتراه في الذمة ونوى عند الشراء أنها ضحية فكذلك
والا فليجعله بعد الشراء ضحية والله أعلم *
(فرع) لا يجوز إجارة الهدي والأضحية المنذورين لأنها بيع للمنافع وقد نقل القاضي عياض
اجماع المسلمين على هذا * ويجوز اعارتها لأنها إرفاق كما يجوز له الارتفاق بها فلو خالف وأجرها
فركبها المستأجر فتلفت ضمن المؤجر قيمتها والمستأجر الأجرة وفي قدرها وجهان (أصحهما) أجرة
المثل (والثاني) الأكثر من أجرة المثل والمسمى * ثم في مصرفها وجهان (أحدهما) الفقراء فقط
(وأصحهما) مصرف الضحايا والله أعلم (المسألة الثانية) يجوز ركوب الهدي والأضحية المنذورين
ويجوز إركابها بالعارية كما سبق ويجوز الحمل عليهما ولا يجوز اجارتهما لذلك ويشترط في الركوب
والارتكاب والحمل أن يكون مطيقا لذلك لا يتضرر به ولا يجوز الركوب والحمل عليه الا لحاجة
للحديث السابق * وممن صرح به الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمتولي وصاحب البيان وآخرون
وهو ظاهر نص الشافعي فإنه قال يركب الهدي إذا اضطر إليه * قال الماوردي ويجوز بلا ضرورة
ما لم يهزلها * (وأما) الشيخ أبو حامد فقال لا يجوز أن يركب الهدي * قال الشافعي فان اضطر
إلى ركوبه ركبه ركوبا غير فادح * وقال البندنيجي لا يجوز ركوبه الا لضرورة * وقال
الروياني قال الشافعي في الأوسط ليس له ركوبه الا من ضرورة وله حمل المضطر والمعى قال وقال
القفال هل يجوز الركوب فيه وجهان (أصحهما) له الركوب بحيث لا يضر الهدى سواء كان ضرورة
أم لا قال الروياني هذا خلاف النص والله أعلم * واتفق أصحابنا مع نصوص الشافعي على أنه إذا
365

ركبها حيث أذنا له فنقصت بركوبه ضمن النقصان والله أعلم (الثالثة) إذا ولد الهدي أو الأضحية
المتطوعة بهما فالولد ملك له كالأم فيتصرف فيه بما شاء من بيع وغيره كالأم * ولو ولدت التي
عينها ابتداء بالنذر هديا أو أضحية تبعها ولدها بلا خلاف وسواء كانت حاملا عند النذر أو حدث
الحمل بعده لما ذكره المصنف فان ماتت الام بقي حكم الولد كما كان ويجب ذبحه في وقت ذبح
الام ولا يرتفع حكم الهدى فيه بموت أمه كما لا يرفع حكم ولد أم الولد بموتها * ولو عينها بالنذر
عما كان التزمه في ذمته فثلاثة أوجه (الصحيح) أن حكم ولدها حكمها كولد المعينة
بالنذر ابتداء (والثاني) لا يتبعها بل هو ملك المضحي والمهدي لان ملك الفقراء
ليس بمستقر في هذه فإنها لو غابت عادت إلى ملكه (والثالث) يتبعها ما دامت حية
فان ماتت لم يبق حكم الهدي ولا الأضحية فيه والمذهب الأول * قالوا ويجري هذا الخلاف في ولد
الأمة المبيعة إذا ماتت في يد البائع والله أعلم * قال المصنف والأصحاب وإذا لم يطق ولد الهدي
المشي حمل على أمه أو غيرها حتى يبلغ الحرم لما ذكره المصنف والله أعلم * وإذا ذبح الام والولد
في أضحية التطوع ففي تفرقة لحمهما ثلاثة أوجه (أحدها) لكل واحد حكم أضحية مستقلة فيتصدق من
كل واحدة بشئ لأنهما ضحيتان (والثاني) يكفي التصدق من أحداهما لأنه بعضها (والثالث) لا بد
من التصدق من الام لأنها الأصل وهذا هو الأصح عند الغزالي وصحح الروياني الأول وهو
المختار * ويشترك الوجهان الأخيران في جواز أكل جميع الولد (أما) إذا ذبحها فوجد في بطنها
جنينا فقال الرافعي يحتمل أن يكون فيه الخلاف ويحتمل القطع بأنه بعضها هذا كلام الرافعي
والمختار أنه يبني على القولين المعروفين أن الحمل له حكم وقسط من الثمن أم لا (إن قلنا) لا فهو بعض
كيدها والا فالظاهر طرد الخلاف ويحتمل القطع بأنه بعض (والأصح) على الجملة أنه لا يجوز أكل
جميعه هنا والله أعلم * (الرابعة) إذا كان لبن الهدي أو الأضحية المنذورين قدر كفاية الولد لا يجوز
حلب شئ منه فان حلب فنقص الولد بسببه لزمه (1) وان فضل عن رى الولد حلب الفاضل ثم قال

(1) بياض بالأصل
366

المصنف والجمهور له شربه لأنه يشق نقله ولأنه يستخلفه بخلاف الولد وفيه وجه ضعيف أنه
لا يجوز شربه بل يجب التصدق به وممن حكى هذا الوجه القفال وصاحبه الفوراني والروياني وصاحب
البيان وغيرهم وقال المتولي ان لم نجوز أكل لحم الهدى لم يجز شرب لبنه بل يجب نقله إلى مكة
ان أمكن أو تجفيفه ونقله جافا فان تعذر تصدق به على الفقراء في موضع الحلب وان جوزنا أكل لحمه
جاز شربه فهذه ثلاث طرق (المذهب) منها القطع بجواز شرب الفاضل عن حاجة الولد نص عليه
الشافعي في كتابه الأوسط وفي غيره قال الشافعي والأصحاب ولو تصدق لكان أفضل * قال
الشافعي والأصحاب وحيث جاز شربه جاز أن يسقيه لغيره بلا عوض ولا يجوز بيعه بلا خلاف *
قال الشافعي والأصحاب ولو مات الولد كان حكم لبنه حكم الزائد على حاجة الولد كما ذكرنا والله
أعلم * (الخامسة) قال أصحابنا إن كان في بقاء صوف الهدى المنذور مصلحة لدفع ضرر حر أو برد
أو نحوهما أو كان وقت ذبحه قريبا ولم يضره بقاؤه لم يجز جزه وإن كان في جزه مصلحة بأن
يكون في وقت الذبح بعد جزه وله الانتفاع به والأفضل أن يتصدق به هكذا قاله المصنف والجمهور
وقال المتولي يستصحب الصوف إلى الحرم ويتصدق به هناك على المساكين كالولد وقطع الدارمي
بأن لا يجز الصوف مطلقا والمذهب الأول والله أعلم (السادسة) إذا أحصر ومعه الهدي المنذور أو
المتطوع به فيحل نحر الهدي هناك كما ينحر هدي الاحصار هناك (السابعة) ان تلف الهدى المنذور
أو الأضحية المنذورة قبل المحل بتفريط لزمه ضمانه وان تلف بلا تفريط لم يلزمه ضمانه وان تعب ذبحه
وأجزأه ودليل الجميع في الكتاب ولا خلاف في شئ من هذا الا وجها شاذا حكاه البندنيجي
وصاحب البيان وغيره عن أبي جعفر الاستراباذي من أصحابنا أنه يجب ابدال المعيب وهذا
فاسد لأنه لم يلتزم في ذمته شيئا وإنما التزم هذا فإذا تعيب من غير تفريط لم يلزمه شئ كما لو
تلف والله أعلم *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا أنه إذا نذر هديا معينا زال ملكه عنه ولم يجز له بيعه * وقال
367

أبو حنيفة لا يزول ملكه عنه بل يجوز له التصرف فيه بالبيع والهبة وغيرهما لكن إذا باعه لزمه أن
يشتري بثمنه مثله هديا * دليلنا ما سبق *
(فرع) في مذاهب العلماء في ركوب الهدى المنذور * ذكرنا أن مذهبنا جوازه للمحتاج
دون غيره على ظاهر النص وبه قال ابن المنذر وهو رواية عن مالك * وقال عروة بن الزبير ومالك
وأحمد وإسحاق له ركوبه من غير حاجة بحيث لا يضره وبه قال أهل الظاهر * وقال أبو حنيفة
لا يركبه إلا أن لم يجد منه بدا * وحكى القاضي عن بعض العلماء أنه أوجب ركوبها لمطلق
الامر ولمخالفة ما كانت الجاهلية عليه من اهمال السائبة والبحيرة والوصيلة والحام * دليلنا على الأولين
الأحاديث السابقة وعلى الموجبين أنه صلى الله عليه وسلم (أهدى الهدايا ولم يركبها) *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا أنه إذا نذر هديا معينا سليما ثم تعيب لا يلزمه إبداله وبه قال عبد الله
ابن الزبير وعطاء والحسن والنخعي والزهري والثوري ومالك وإسحاق * وقال أبو حنيفة يلزمه
ابداله وبه قال الاستراباذي من أصحابنا كما سبق *
(فرع) ذكرنا أن المشهور من مذهبنا جواز شرب ما فضل من لبن الهدى عن الولد وقال
أبو حنيفة لا يجوز بل ينضح ضرعها بالماء ليخف اللبن دليلنا ما سبق *
* قال المصنف رحمه الله *
(وإن عطب وخاف أن يهلك نحره وغمس نعله في دمه وضرب به صفحته لما روى أبو قبيصة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث بالهدي ثم يقول إن عطب منها شئ فخشيت عليه موتا
فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب صفحتها ولا تطعمها أنت ولا أحد من رفقتك ولأنه هدى
معكوف عن الحرم فوجب نحره مكانه كهدي المحصر وهل يجوز ان يفرقه على فقراء الرفقة فيه
وجهان (أحدهما) لا يجوز لحديث أبي قبيصة ولان فقراء الرفقة يتهمون في سبب عطيها فلم يطعموا منها
(والثاني) يجوز لأنهم من أهل الصدقة فجاز ان يطعموا كسائر الفقراء فان أخر ذبحه حتى مات ضمنه
368

لأنه مفرط في تركه فضمنه كالمودع إذا رأى من يسرق الوديعة فسكت عنه حتى سرقها وإن أتلفها
لزمه الضمان لأنه أتلف مال المساكين فلزمه ضمانه ويضمنه بأكثر الامرين من قيمته أو هدي مثله
لأنه لزمه الإراقة والتفرقة وقد فوت الجميع فلزمه ضمانهما كما لو أتلف شيئين فإن كانت القيمة مثل
ثمن مثله اشترى مثله وأهداه وإن كانت أقل لزمه ان يشتري مثله ويهديه وإن كانت أكثر من
ذلك نظرت فإن كان يمكنه أن يشتري به هديين اشتراهما وان لم يمكنه اشترى هديا وفيما يفضل
ثلاثة أوجه (أحدها) يشترى به جزأ من حيوان ويذبح لان إراقة الدم مستحقة فإذا أمكن لم يترك
(والثاني) انه يشترى به اللحم لان اللحم والإراقة مقصودان والإراقة تشق فسقطت والتفرقة لا تشق
فلم تسقط (والثالث) أن يتصدق بالفاضل لأنه إذا سقطت الإراقة كان اللحم والقيمة واحدا * وان
أتلفها أجنبي وجبت عليه القيمة فإن كانت القيمة مثل ثمن مثلها اشترى بها مثلها وإن كانت أكثر
ولم تبلغ ثمن مثلين اشترى المثل وفي الفاضل الأوجه الثلاثة وإن كانت أقل من ثمن المثل ففيه الأوجه
الثلاثة وإن كان الهدي الذي نذره اشتراه ووجد به عيبا بعد النذر لم يجز له الرد بالعيب
لأنه قد أيس من الرد لحق الله عز وجل ويرجع بالأرش ويكون الأرش للمساكين لأنه بدل عن
الجزء الفائت الذي التزمه بالنذر فإن لم يمكنه أن يشترى به هديا ففيه الأوجه الثلاثة) *
(الشرح) حديث أبي قبيصة رواه مسلم في صحيحه واسم أبى قبيصة ذؤيب بن حلحلة الخزاعي
والد قبيصة بن ذؤيب الفقيه المشهور التابعي ولفظ الحديث في صحيح مسلم (عن ابن عباس
ان ذؤيبا أبا قبيصة حدثه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث معه بالبدن ثم يقول إن
عطب منها شئ فخشيت عليه موتا فانحرها ثم اغمس نعلها في دمها ثم اضرب به صفحتها
ولا تطعمها أنت ولا أحد من أهل رفقتك) وعن ناجية الأسلمي ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم (بعث معه بهدي فقال إن عطب فانحره ثم اصبغ نعله في دمه ثم خل بينه وبين
الناس) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة قال الترمذي حديث حسن
369

صحيح (أما) ألفاظ الفصل فقوله خاف أن يهلك هو - بكسر اللام - (وقوله) غمس نعله
يعني النعل المعلقة في عنقه كما سبق انه يسن ان يقلدها نعلين (قوله) صلى الله عليه وسلم
(ولا تطعمها) هو - بفتح التاء والعين - أي لا تأكلها والرفقة - بضم الراء وكسرها - (قوله)
هدى معكوف عن الحرم أي محبوس (وقوله) بأكثر الامرين من قيمته وهدي) هكذا وقع في
بعض النسخ هنا وهدى بالواو ووقع في بعضها أو وهذا هو الذي ينكر في كتب الفقه مثله ولكن
الصواب هو الأول والله أعلم (أما) الأحكام ففيها مسائل (إحداها) إذا عطب الهدي في الطريق
وخاف هلاكه قال أصحابنا إن كان تطوعا فله أن يفعل به ما شاء من بيع وذبح وأكل وإطعام
وتركه وغير ذلك لأنه ملكه ولا شئ عليه في كل ذلك وإن كان منذورا لزمه ذبحه فان تركه
حتى هلك لزمه ضمانه كما لو فرط في حفظ الوديعة حتى تلفت * وإذا ذبحه غمس النعل التي قلده إياها
في دمه وضرب بها صفحة سنامه وتركه موضعه ليعلم من مر به انه هدي فيأكله * قال أصحابنا ولا
يجوز للمهدي ولا لسائق هذا الهدي وقائده الاكل منه بلا خلاف للحديث ولا يجوز للأغنياء الاكل
منه بلا خلاف لان الهدي مستحق للفقراء فلا حق للأغنياء فيه ويجوز للفقراء من غير رفقة صاحب
الهدي الاكل منه بالاجماع لحديث ناجية السابق * وهل يجوز للفقراء من رفقة صاحب الهدي الاكل
منه فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) لا يجوز وهو المنصوص للشافعي وصححه
الأصحاب للحديث ومن جوزه حمل الحديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أن رفقة ذلك المخاطب
لا فقير فيهم وهذا تأويل ضعيف * وفي المراد بالرفقة وجهان حكاهما الروياني في البحر (أحدهما)
وهو الذي استحسنه الروياني ان المراد الرفقة الذين يخالطونه في الاكل وغيره دون القافلة (وأصحهما)
وهو الذي يقتضيه ظاهر الأحاديث وظاهر نص الشافعي وكلام الأصحاب ان المراد جميع القافلة
لان السبب الذي منعت به الرفقة هو خوف تعطيبهم إياه وهذا موجود في جميع القافلة (فان
قيل) إذا لم يجز لأهل القافلة اكلها وترك في البرية كان طعمة للسباع وهذا إضاعة مال (قلنا) ليس
370

فيه إضاعة بل العادة الغالبة ان سكان البوادي يتبعون منازل الحجيج لالتقاط ساقطة ونحوه وقد تأتي
قافلة في اثر قافلة والله أعلم * وإذا ذبح الهدي الواجب وغمس نعله في دمه وضرب به صفحته
وتركه فهل يتوقف إباحة أكله على قوله أبحته لمن يأكل منه فيه قولان (أصحهما) لا يتوقف بل يكفي
ذبحه وتخليته لأنه بالنذر زال ملكه وصار للفقراء (أما) إذا عطب هدي التطوع فذبحه فقال صاحب
الشامل والأصحاب لا يصير مباحا للفقراء بمجرد ذلك ولا يصير مباحا لهم الا بلفظ بأن يقول
أبحته للفقراء أو المساكين أو جعلته لهم أو سبلته لهم ونحو ذلك قالوا ولا خلاف في هذا قالوا فإذا
قال هذا اللفظ جاز لمن سمعه الاكل منه بلا خلاف وهل يجوز لغيره قولان (قال) في الاملاء
حتى يعلم الإذن (وقال) في الام والقديم يحل وهو الأصح لأن الظاهر أنه اباحه وقياسا على ما إذا
رأى ماء في الطريق موضوعا وعليه امارة الإباحة فان له شربه باتفاقهم والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا أنه إذا عطب الهدي المنذور فلم يذبحه حتى هلك ضمنه وان أكله ضمنه
قال الروياني قال أبو علي الطبري في الافصاح قال الشافعي يوصل بدله إلى مساكين الحرم قال
أبو علي وعندي القياس أنه يجعله لمساكين موضعه قال الروياني هذا غلط لأنه يمكن ايصال ثمنه إلى مساكين
الحرم بخلاف الذبيحة وكما يجب ايصال الولد إليهم دون اللبن (المسألة الثانية) إذا أتلف المهدي
الهدي لزمه ضمانه بأكثر الامرين من قيمته ومثله كما لو باع الأضحية المعينة وتلفت عند المشتري
هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور * وفيه وجه ضعيف مشهور أنه يلزمه قيمته يوم الاتلاف كما سنذكره
إن شاء الله تعالى فيما إذا أتلفه أجنبي وبهذا الوجه قال مالك وأبو حنيفة * ودليل المذهب ما ذكره
المصنف * فعلى المذهب إن كانت القيمة مثل ثمن مثله بأن لم يتغير السعر لزمه شراء مثله وإن كانت
القيمة أقل لزمه شراء مثله وإن كانت أكثر بأن رخص السعر فان أمكن أن يشتري بها هديين
لزمه ذلك أو هديا واحدا نفيسا لم يمكنه فاشترى واحدا وفضلت فضلة نظر ان أمكنه أن
يشترى بهذه الفضلة شقصا من هدي مثلها ففيه خمسة أوجه (أصحها) يلزمه شراؤه وذبحه مع الشريك
371

ولا يجوز اخراج القيمة دارهم يتصدق بها هكذا قاله الجمهور * وقال إمام الحرمين على هذا الوجه
يصرفها مصرف الضحايا حتى لو أراد أن يتخذ منها خاتما يقتنيه ولا يبيعه جاز له ذلك قال الرافعي
وهذا وجه من قول الجمهور وقال ويشبه أن لا يكون فيه خلاف محقق بل المراد أنه لا يجب شقص
ويجوز اخراج الدراهم وقد يتساهل في ذكر المصرف في مثل هذا وهذا الذي قاله الامام تفريع
على جواز الأكل من الهدي الواجب (1) (والوجه الثالث) يجب أن يشتري بها لحما ويتصدق به
(والرابع) أن له صرفها في جزء من غير المثل لان الزيادة على المثل كابتداء هدى (والخامس) أنه يهلك
هذه الفضلة حكاه الرافعي. هذا كله إذا أمكن شراء شقص بهذه الفضلة فإن لم يمكن ففيه الأربعة
ويسقط الأول (أصحها) الثاني وهو جواز اخراج القيمة دراهم ويتصدق بها ويحكي كلام امام الحرمين
والله أعلم (أما) إذا أتلفه أجنبي فلا يلزمه الا القيمة بلا خلاف والفرق بينه وبين المهدي حيث قلنا إن
المذهب أنه يلزمه أكثر الامرين ان المهدي التزم الإراقة قال أصحابنا فيأخذ المهدي القيمة من
الأجنبي فيشتري بها مثل الهدي المتلف فان حصل مثله من غير زيادة ولا نقص ذبحه وان زادت
القيمة فان بلغت الزيادة مثلين لزمه شراؤهما وان لم تبلغ مثلين اشترى مثلا وفى الزيادة
الأوجه السابقة فيما إذا أتلفها المهدي (اما) إذا لم تف القيمة بمثله لغلاء حدث فيشتري
دونه قال أصحابنا والفرق بين هذا وبين ما إذا نذر اعتاق عبد بعينه فقتل ذلك
العبد فان القيمة تكون ملكا للناذر يتصرف فيها بما شاء ولا يلزمه أن يشتري بها عبدا يعتقه لان
ملكه لم يزل عن العبد والذي يستحق العتق هو العبد وقد مات ومستحقوا الهدى باقون * وان
لم يجد بالقيمة ما يصلح هديا فوجهان (أحدهما) وهو الذي ذكره الماوردي أنه يلزم المهدى أن
يضم إلى القيمة من ماله ما يحصل به هدى لأنه التزمه قال الرافعي ومن قال بهذا يمكن أن يطرده
في التلف (والوجه الثاني) وهو الصحيح وبه قطع الجمهور أنه لا يلزمه ضم شئ من ماله لعدم
تقصيره فعلى هذا ان أمكن أن يشترى شقص هدي فثلاثة أوجه (أصحها) يلزمه شراه وذبحه مع شريكه

(1) هكذا بالأصل وانظر أين الوجه الثاني
372

ولا يجوز إخراج القيمة (والوجه الثاني والثالث) كما سبقا في اتلاف المهدي * وان لم يمكن أن
يشتري به شقص هدي ففيه الوجه الثاني والثالث * وقد رتب الماوردي هذه الصور ترتيبا حسنا فقال
إن كان المتلف ثنية ضأن مثلا ولم يمكن أن يشترى بالقيمة مثلها وأمكن أن يشترى بها جذعة ضأن
وثنية معز تعين الضأن رعاية للنوع وان أمكن ثنية معز دون جذعة ضأن تعين الأول لان الثاني
لا يصلح هديا وان أمكن دون جذعة ضأن ودون ثنية معز وأمكن شراء سهم في شاة تعين الأول
لان كلا منهما لا يصلح للهدى فترجح الأول لان فيه إراقة دم كامل وان أمكن شراء سهم وشراء
لحم تعين الأول لان فيه شركة في إراقة دم وان لم يمكن الا شراء اللحم وتفرقة الدراهم تعين
الأول لأنه مقصود الهدي والله أعلم (الثالثة) إذا اشترى هديا ثم نذر أهداه ثم وجد به عيبا لم
يجز له رده بالعيب لأنه تعلق به حق لله تعالى فلا يجوز ابطاله كما لو عتق المبيع أو وقفه ثم وجد به
عيبا فإنه لا يجوز رده ويجب الأرش هنا كما يجب فيما إذا أعتق أو وقف وفي هذا الأرش وجهان
(أحدهما) وبه قطع المصنف والأكثرون يجب صرفه إلى المساكين لما ذكره المصنف فعلى هذا
إن أمكنه شراء هدي لزمه والا ففيما يفعل به الأوجه السابقة في المسألة قبلها فيما إذا أتلفه وفضل
عن مثله شئ (والوجه الثاني) يكون الأرش للمشتري الناذر لان الأرش إنما وجب له لان عقد
البيع اقتضى سلامته وذلك حق للمشترى وإنما تعلق به حق الفقراء وهو ناقص ولان العيب قد
يكون مؤثرا في اللحم الذي هو المقصود قال الرافعي وبالوجه الأول قال الأكثرون لكن الثاني
أقوى قال ونسبه إلى المراوزة وقال لا يصح غيره قال واليه ذهب ابن الصباغ والغزالي والروياني
هذا كلام الرافعي وقد نقل ابن الصباغ هذا الثاني عن أصحابنا مطلقا ولم يحك فيه خلافا فهو
الصحيح والله أعلم *
(فرع) إذا قال جعلت هذه الشاة أو البدنة ضحية أو نذر أن يضحي بشاة أو بدنة عينها
فماتت قبل يوم النحر أو سرقت قبل تمكنه من ذبحها يوم النحر فلا شئ عليه وكذا الهدي المعين إذا تلف قبل
373

بلوغ المنسك أو بعده وقبل التمكن من ذبحه فلا شئ عليه لأنه أمانة لم يفرط فيها *
* قال المصنف رحمه الله *
(وان ذبحه أجنبي بغير اذنه أجزأه عن النذر لان ذبحه لا يحتاج إلى قصده فإذا فعله بغير
إذنه وقع الموقع كرد الوديعة وإزالة النجاسة ويجب على الذابح ضمان ما بين قيمته حيا ومذبوحا لأنه
لو أتلفه ضمنه فإذا ذبحه ضمن نقصانه كشاة اللحم وفيما يؤخذ منه الأوجه الثلاثة) *
(الشرح) قال أصحابنا إذا نذر هديا معينا فذبحه غيره باذنه وقع موقعه ولا شئ
على الذابح وان ذبحه انسان بغير اذنه وقع الموقع أيضا وأجزأ الناذر لما ذكره المصنف ويلزم
الذابح أرش نقصه وهو ما بين قيمته حيا ومذبوحا لما ذكره المصنف * هذا هو المذهب وبه
قطع المصنف والجمهور * وحكى الخراسانيون قولا أنه لا يلزم الأجنبي أرش لأنه لم يفوت مقصودا
بل خفف مؤنة الذبح وحكوا قولا قديما أن لصاحب الهدي أن يجعله عن الذابح ويفرق القيمة
بكمالها بناء على وقف العقود وهذان القولان شاذان ضعيفان * فهذا مختصر ما يتعلق بشرح كلام
المصنف * وقد فرع أصحابنا في المسألة تفريعا كثيرا وقد لخصه الرافعي وأنا أختصر مقصوده هذا
إن شاء الله تعالى. قال إذا ذبح أجنبي أضحية معينة ابتداء في وقت التضحية أو هديا معينا بعد
بلوغ النسك فقولان (الصحيح) المشهور أنه يقع الموقع فيأخذ صاحب الأضحية لحمها فيفرقه لأنه
مستحق الصرف إلى هذه الجهة فلا يشترط فعل صاحبه كرد الوديعة (والثاني) وهو قول قديم أن
لصاحب الهدي والأضحية أن يجعله عن الذابح ويغرمه القيمة بكمالها بناء على وقف العقود وهذا
القول ضعيف والمذهب الأول * فعلى المذهب هل يلزم الذابح أرش ما نقص بالذبح فيه طريقان
(أحدهما) فيه قولان وقيل وجهان (أحدهما) لا لأنه لم يفوت مقصودا بل خفف مؤنة الذبح
(وأصحهما) وهو المنصوص وهو الطريق الثاني وبه قطع الجمهور نعم لان إراقة الدم مقصودة وقد
فوتها فصار كما لو شد قوائم شاة ليذبحها فجاء آخر فذبحها بغير اذنه فإنه يلزمه أرش النقص * وقال
374

الماوردي عندي أنه ان ذبحه وفي الوقت سعة لزمه الأرش وان ضاق الوقت فلم يبق الا ما يسع
ذبحها فذبحها فلا أرش لتعين الوقت * وإذا أوجبنا الأرش ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) أنه للمهدي
لأنه ليس من نفس الهدي ولا حق للمساكين في غيره (والثاني) أنه للمساكين لأنه بدل نقصه
وليس للمهدي الا الاكل (والثالث) وهو الصحيح وبه قطع الجمهور أنه يسلك به مسلك الهدي
والأضحية فعلى هذا يشتري به شاة فان تعذرت عاد الخلاف السابق قبل هذا الفصل في أنه
يشتري به جزءا من هدى وأضحية أو لحم أو يفرق بنفسه دراهم * هذا كله إذا ذبح الأجنبي
واللحم باق فان أكله أو فرقه في مصارف الهدي وتعذر استرداده فهو كالاتلاف بغير ذبح
وقد سبق بيانه قريبا لان تعيين المصروف إليه إلى المهدي والمضحي فعلى هذا يلزم الذابح الضمان
ويأخذ المهدي منه القيمة ويشتري بها هديا ويذبحه هذا هو المذهب وفي وجه ضعيف تقع التفرقة
عن المهدي كالذبح والصحيح الأول * وفي قدر الضمان الواجب قولان (الصحيح المشهور) واختيار
الجمهور يضمن قيمته عند الذبح كما لو أتلفه بلا ذبح (والثاني) يضمن أكثر الامرين من قيمتها وقيمة
اللحم لأنه فرق اللحم متعديا وفيه وجه ضعيف جدا أنه يلزمه أرش الذبح وقيمة اللحم وقد يزيد
الأرش مع قيمة اللحم على قيمة الشاة وقد ينقص وقد يتساويان قال أصحابنا ولا اختصاص لهذا
الخلاف بصورة الهدي والأضحية بل يطرد في كل من ذبح شاة غيره ثم أتلف لحمها * هذا كله
تفريع على أن الشاة التي ذبحها الأجنبي تقع هديا وأضحية فان قلنا لا تقع فليس على الذابح الا أرش
النقص وفي حكم اللحم وجهان (أحدهما) أنه مستحق لجهة الأضحية والهدي والثاني يكون ملكا
له * ولو التزم هديا أو أضحية بالنذر ثم عين شاة عما في ذمته فذبحها أجنبي يوم النحر أو في الحرم
فالقول في وقوعها عن الناذر وفي أخذه اللحم وتصدقه به وفي غرامة الذابح أرش ما نقص بالذبح
على ما ذكرناه إذا كانت معينة في الابتداء فإن كان اللحم تالفا قال البغوي يأخذ القيمة ويملكها
ويبقى الأصل في ذمته قال الرافعي وفي هذا اللفظ ما يبين أن قولنا في صورة الاتلاف يأخذ القيمة
375

ويشتري بها مثل الأول نريد به أن يشتري بقدرها وأن نفس المأخوذ ملكه فله امساكه *
(فرع) إذا جعل شاته أضحية أو نذر الضحية بشاة معينة ثم ذبحها قبل يوم النحر لزمه التصدق
بلحمها ولا يجوز له أكل شئ منه ويلزمه ذبح مثلها يوم النحر بدلا عنها وكذا لو ذبح الهدي المعين
قبل بلوغ المنسك لزمه التصدق بلحمه ولزمه البدل في وقته * ولو باع الهدي أو الأضحية المعينين
فذبحه المشتري واللحم باق أخذه البائع وتصدق به وعلى المشتري أرش ما نقص بالذبح ويضم البائع
إليه ما يشترى به البدل وفي وجه ضعيف انه لا يغرم المشتري شيئا لان البائع سلطه والمذهب (1)
ولو ذبح أجنبي الأضحية المعينة قبل يوم النحر لزمه ما نقص من القيمة بسبب الذبح قال الرافعي
ويشبه ان يجئ فيه الخلاف في أن اللحم يصرف إلى مصارف الضحايا أم ينفك عن حكم
الأضحية ويعود ملكا كما سبق فيما إذا ذبح الأجنبي يوم النحر وقلنا لا يقع أضحية *
ثم ما حصل من الأرش ومن اللحم إن عاد ملكا له فيشتري به أضحية يذبحها يوم النحر * ولو
نذر أضحية ثم عين شاة عما في ذمته فذبحها أجنبي قبل يوم النحر اخذ اللحم ونقصان اللحم بالذبح
وملك الجميع وبقى الأصل في ذمة الناذر والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(وإن كان في ذمته هدي فعينه بالنذر في هدي تعين لان ما وجب به معينا جاز أن يتعين
به ما في الذمة كالبيع ويزول ملكه عنه فلا يملك بيعه ولا إبداله كما قلنا فيما أوجبه بالنذر فان
هلك بتفريط أو بغير تفريط رجع الواجب إلى ما في الذمة كما لو كان عليه دين فباع به عينا ثم هلكت
العين قبل التسليم فان الدين يرجع إلى الذمة وإن حدث به عيب يمنع الاجزاء لم يجزه عما في الذمة
لان الذي في الذمة سليم فلم يجزه عنه معيب وان عطب فنحره عاد الواجب إلى ما في الذمة وهل
يعود ما نحره إلى ملكه فيه وجهان (أحدهما) يعود إلى ملكه لأنه إنما نحره ليكون عما في ذمته فإذا
لم يقع عما في ذمته عاد إلى ملكه (والثاني) أنه لا يعود لأنه صار للمساكين فلا يعود إليه فان قلنا إنه

(1) بياض بالأصل
376

يعود
إلى ملكه جاز له أن يأكله ويطعم من شاء ثم ينظر فيه فإن كان الذي في ذمته مثل الذي عاد إلى
ملكه نحر مثله في الحرم وإن كان أعلى مما في ذمته ففيه وجهان (أحدهما) يهدي مثل ما نحر لأنه قد تعين
عليه فصار ما في ذمته زائدا فلزمه نحر مثله (والثاني) أنه يهدى مثل الذي كان في ذمته لان الزيادة فيما
عينه وقد هلك من غير تفريط فسقط * وان نتجت فهل يتبعها ولدها أم لا فيه وجهان (أحدهما) أنه
يتبعها وهو الصحيح لأنه تعين بالنذر فصار كما لو وجب في النذر (والثاني) لا يتبعها لأنه غير مستقر
لأنه يجوز أن يرجع إلى ملكه بعيب يحدث به بخلاف ما وجب بنذره لان ذلك لا يجوز أن يعود
إلى ملكه بنذره والله أعلم) *
(الشرح) قال أصحابنا إذا لزم ذمته أضحية بالنذر أو هدي بالنذر أو دم تمتع أو قران أو
لبس أو غير ذلك مما يوجب شاة في ذمته فقال لله علي أن أذبح هذه الشاة عما في ذمتي لزمه ذبحها
بعينها لما ذكره المصنف ويزول ملكه عنها فلا يجوز له بيعها ولا إبدالها هذا هو المذهب وبه قطع المصنف
والجمهور * وحكى الخراسانيون وجها أنها لا تتعين ووجها أنه لا يزول ملكه والصحيح المشهور الأول *
فعلى هذا ان هلكت قبل وصولها الحرم بتفريط أو غير تفريط أو حدث بها عيب يمنع الاجزاء رجع
الواجب إلى ذمته ولزمه ذبح شاة صحيحة هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور * وفيه وجه حكاه
إمام الحرمين وغيره أنها إذا تلفت لا يلزمه إبدالها لأنها متعينة فهي كما لو قال جعلت هذه أضحية *
وحكى الخراسانيون وجها شاذا أنها إذا عابت يجزئه ذبحها كما لو نذر ابتداء شاة فحدث بها عيب والصحيح
الأول * فعلى هذا هل تنفك تلك المعيبة عن الاستحقاق فيه وجهان (أحدهما) لا بل يلزمه ذبحها
والتصدق بها وذبح صحيحة لأنه التزمها بالتعيين (وأصحهما) وهو المنصوص تنفك فيجوز له تملكها
وبيعها وسائر التصرف لأنه لم يلتزم التصدق بها ابتداء بل عينها عما عليه وإنما يتأدى عنه بشرط السلامة *
ولو عين عن نذره شاة فهلكت بعد وصولها الحرم أو تعيبت ففي إجزائها وجهان (أحدهما) وهو قول
ابن الحداد تجزئه فيذبحها ويفرقها ولا يلزمه إبدالها لأنها بلغت محلها (وأصحهما) لاتجزئه هذه ويلزمه
377

صحيحة واختاره القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما لأنها تلفت أو تعيبت قبل وصولها إلى
المساكين فأشبه ما قبل وصولها الحرم * (فان قلنا) لا تجزئه المعيبة لزمه سليمة وهل تعود المعيبة
إلى ملكه فيه الوجهان السابقان (الأصح) تعود فيملكها ويتصرف فيها بالبيع والاكل وغيرهما *
ولو عطب هذا الهدي المتعين قبل وصوله الحرم فنحره رجع الواجب إلى ذمته وهل يملك المنحور فيه
الوجهان (الأصح) يملكه (والثاني) لا فعلى هذا يتصدق به مع ذبح صحيح عما في ذمته * ولو ضل
هذا الهدي المعين لزمه إخراج ما كان في ذمته وكأنه لم يعينه لأنه لم يصل المساكين هذا هو المذهب
وبه قطع الجمهور * وذكر إمام الحرمين وصاحب الشامل وغيرهما في وجوب إخراج بدله وجهين
(أصحهما) هذا (والثاني) لا يلزمه لعدم تقصيره * فان ذبح واحدة عما عليه ثم وجد الضالة فهل يلزمه
ذبحها فيه وجهان وقيل قولان (أصحهما) عند البغوي لا يلزمه بل يتملكها كما سبق فيما لو تعيبت (والثاني)
يلزمه وبه قطع صاحب الشامل لإزالة ملكه بالتعيين ولم تخرج عن صفة الاجزاء بخلاف التعيب * فلو
عين عن الضال واحدة ثم وجد الضال هل يذبح البدل فيه أربعة أوجه (أحدها) يلزمه ذبحهما معا (والثاني)
يلزمه ذبح البدل فقط (والثالث) يلزمه ذبح الأول فقط (والرابع) يتخير فيهما والأصح من هذه الأوجه
الثالث والله أعلم * هذا كله إذا كان الذي عينه مثل الذي في ذمته فإن كان الذي عينه دون الذي في
ذمته بان عين شاة معيبة قال ابن الحداد والأصحاب يلزمه ذبح ما عينه ولا يجزئه
عما في ذمته كما إذا كان عليه كفارة فاعتق عنها عبدا معيبا فإنه يعتق ولا يجزئه عن الكفارة * وان
عين أعلى مما في ذمته بأن كان عليه شاة فعين عنها بدنة أو بقرة لزمه نحرها فان هلكت قبل وصولها فوجهان
مشهوران حكاهما المصنف والأصحاب (أحدهما) يلزمه مثل التي كان عينها (وأصحهما) لا يلزمه الا مثل التي
كانت في ذمته كما لو نذر معيبة ابتداء فهلكت بغير تفريط هذه طريقة الجمهور * وقال الشيخ أبو حامد
في التعليق والبندنيجي ان فرط لزمه مثل الذي عين والا ففيه الوجهان والله أعلم * أما إذا ولدت
التي عينها عن نذره فهل يتبعها ولدها فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (الصحيح)
378

أنه يتبعها (والثاني) لا يتبعها فعلى هذا يكون الولد ملكا للمهدي * وإذا قلنا بالأول فهلكت الام أو
أصابها عيب وقلنا تعود هي إلى ملك المهدي ففي الولد وجهان حكاهما صاحب الشامل وآخرون
(أصحهما) أنه يكون ملكا للفقراء كما لو ولدت الأمة المبيعة في يد البائع ثم هلكت فان الولد يكون
للمشتري (والثاني) إلى ملك المهدى تبعا لامه والله أعلم *
(فرع) في ضلال الهدى و الأضحية وفيه مسائل (إحداها) إذا ضل هديه أو أضحيته
المتطوع بهما لم يلزمه شئ لكن يستحب ذبحه إذا وجده والتصدق به فان ذبحها بعد أيام التشريق
كانت شاة لحم يتصدق بها (الثانية) الهدي المعين بالنذر أولا إذا ضل بغير تقصيره لم يلزمه ضمانه فان
وجده لزمه ذبحه والأضحية ان وجدها في وقت الأضحية لزمه ذبحها وان وجدها بعد الوقت فله
ذبحها في الحال قضاء ولا يلزمه الصبر إلى قابل وإذا ذبحها صرف لحمها مصارف الضحايا * هذا هو
المذهب * وفيه وجه لأبي علي بن أبي هريرة أنه يصرفها إلى المساكين فقط ولا يأكل ولا يدخر وهو
شاذ ضعيف (الثالثة) متى كان الضلال بغير تفريط لم يلزمه الطلب إن كان فيه مؤنة فإن لم يكن لزمه وإن كان
بتقصيره لزمه الطلب فإن لم يعد لزمه الضمان فان علم أنه لا يجدها في أيام التشريق لزمه ذبح بدلها في
أيام التشريق قال أصحابنا وتأخير الذبح إلى مضي أيام التشريق بلا عذر تقصير يوجب الضمان
وان مضي بعض أيام التشريق ثم ضلت فهل هو تقصير فيه وجهان (أصحهما) ليس بتقصير كمن
مات في أثناء وقت الصلاة الموسع لا يأثم على الأصح (الرابعة) إذا عين هديا أو أضحية عما في ذمته فضلت
المعينة ففيه خلاف وتفريع سبق قريبا قبل هذا الفرع والله أعلم *
379

(فرع) لو عين شاة عن هدي أو أضحية في ذمته وقلنا يتعين فضحى بأخرى عما في ذمته
قال امام الحرمين يخرج على الخلاف في المعينة لو تلف هل تبرأ ذمته (ان قلنا) نعم لم تقع الثانية عما
عليه كما لو قال جعلت هذه أضحية ثم ذبح بدلها (وان قلنا) لا وهو الأصح ففي وقوع الثانية عما
عليه تردد (فان قلنا) تقع عنه فهل تسقط الأولى عن الاستحقاق فيه الخلاف السابق *
(فرع) لو عين من عليه كفارة عبدا عنها ففي تعينه وجهان (أصحهما) وبه قطع الشيخ أبو حامد
انه يتعين فعلى هذا لو عاب هذا المعين لزمه اعتاق سليم ولو مات بقيت ذمته مشغولة بالكفارة وان أعتق
عبدا آخر عن كفارته مع تمكنه من اعتاق المعين فوجهان (الصحيح) اجزاؤه وبراءة ذمته به والله أعلم *
(فرع) في وقت ذبح الهدى طريقان (أصحهما) وبه قطع العراقيون وغيرهم انه يختص بيوم النحر
وأيام التشريق (والثاني) فيه وجهان (أصحهما) هذا (والثاني) لا يختص بزمان كدماء الجبران فعلى
الصحيح لو اخر الذبح حتى مضت هذه الأيام فإن كان الهدي واجبا لزمه ذبحه ويكون قضاء وإن كان
تطوعا فقد فات الهدي * قال الشافعي والأصحاب فان ذبحه كان شاة لحم لا نسكا والله أعلم (واعلم) ان
الرافعي ذكر مسألة وقت ذبح الهدى في موضعين من كتابه فذكرها في باب الهدي على الصواب
فقال الصحيح الذي قطع به العراقيون وغيرهم اختصاصه بيوم النحر وأيام التشريق وفيه وجه انه
لا يختص وذكرها في باب صفة الحج وجزم بأنه لا يختص (والصواب) ما ذكرناه من الاختصاص وإنما
نبهت عليه لئلا يغتر بكلامه وقد نبهت عليه في الروضة والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا إذا كان مع المعتمر هدي فإن كان تطوعا بان لم يكن متمتعا أو متمتعا
لا دم عليه لفقد شرط من شروط وجوب الدم فالمستحب أن يذبح هديه عند المروة لأنه موضع
تحلله وحيث ذبحه من مكة وسائر الحرم جاز قال أصحابنا والمستحب أن يذبحه بعد السعي وقبل
الحلق كما أنه يستحب في الحج أن يذبح قبل الحلق وسواء قلنا الحلق نسك أم لا (أما) إذا كان
الهدي للتمتع أو القران فوقت استحباب ذبحه يوم النحر ووقت جوازه بعد الفراغ من العمرة وبعد
380

الاحرام بالحج وهل يجوز بعد فراغ العمرة وقبل الاحرام بالحج فيه خلاف سبق بيانه واضحا
في الباب الأول من كتاب الحج *
(فرع) قال البندنيجي وغيره يستحب لمن معه هديان أو ضحيتان واجب وتطوع أن يبدأ
بنحر الواجب والله أعلم *
(فرع) إذا ذبح الهدي والأضحية فلم يفرق لحمه حتى تغير وأنتن قال البندنيجي قال الشافعي
في مختصر الحج أعاد وقال في القديم عليه قيمته قال وهذا مراده بالفصل الأول لأنه اتلاف لحم *
(فرع) في بيان الأيام المعلومات والمعدودات ذكرها الشافعي والمزني في المختصر وسائر
الأصحاب في هذا الموضع وهو آخر كتاب الحج قال صاحب البيان اتفق العلماء على أن الأيام
المعدودات هي أيام التشريق وهي ثلاثة بعد يوم النحر (واما) الأيام المعلومات فمذهبنا أنها العشر
الأوائل من ذي الحجة إلى آخر يوم النحر * وقال مالك هي ثلاثة أيام يوم النحر ويومان بعده فالحادي
عشر والثاني عشر عنده من المعلومات والمعدودات * وقال أبو حنيفة المعلومات ثلاثة أيام يوم عرفة
والنحر والحادي عشر * وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه المعلومات الأربعة يوم عرفة والنحر
ويومان بعده * وفائدة الخلاف ان عندنا يجوز ذبح الهدايا والضحايا في أيام التشريق كلها وعند
مالك لا يجوز في اليوم الثالث هذا كلام صاحب البيان * وقال العبدري فائدة وصفه بأنه معلوم
جواز النحر فيه وفائدة وصفه بأنه معدود انقطاع الرمي فيه قال وبمذهبنا قال أحمد وداود * وقال
الإمام أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره قال أكثر المفسرين الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة قال
وإنما قيل لها معلومات للحرص على علمها من اجل لان وقت الحج في آخرها قال وقال مقاتل المعلومات
أيام التشريق * وقال محمد بن كعب المعلومات والمعدودات واحد (قلت) وكذا نقل القاضي أبو الطيب
والعبدري وخلائق اجماع العلماء على أن المعدودات هي أيام التشريق (وأما) ما نقله صاحب البيان
عن ابن عباس فخلاف المشهور عنه فالصحيح المعروف عن ابن عباس أن المعلومات أيام العشر كمذهبنا
381

وهو مما احتج به أصحابنا كما سأذكره قريبا إن شاء الله تعالى * واحتج لأبي حنيفة ومالك بان الله
تعالى قال (ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام)
وأراد بذكر اسم الله في الأيام المعلومات تسمية الله تعالى على الذبح فينبغي أن يكون ذكر
اسم الله تعالى في جميع المعلومات وعلى قول الشافعي لا يكون ذلك الا في يوم واحد منها وهو
يوم النحر * واحتج أصحابنا بما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس قال (الأيام المعلومات أيام العشر
والمعدودات أيام التشريق) رواه البيهقي باسناد صحيح واستدلوا أيضا بما استدل به المزني في مختصره
وهو أن اختلاف الأسماء تدل على اختلاف المسميات فلما خولف بين المعلومات والمعدودات في الاسم
دل على اختلافهما وعلى ما يقول المخالفون يتداخلان في بعض الأيام (والجواب) عن الآية من وجهين
(أحدهما) جواب المزني أنه لا يلزم من سياق الآية وجود الذبح في الأيام المعلومات بل يكفي وجودها
في آخرها وهو يوم النحر قال المزني والأصحاب ونظيره قوله تعالى (وجعل القمر فيهن نورا) وليس
هو نورا في جميعها بل هو في بعضها (الثاني) أن المراد بالذكر في الآية الذكر على الهدايا ونحن نستحب لمن
رأى هديا أو شيئا من بهيمة الأنعام في العشر ان يكبر والله أعلم *
(باب الأضحية)
قال الجوهري قال الأصمعي في الأضحية أربع لغات أضحية - بضم الهمزة - وأضحية
بكسرها - وجمعها أضاحي - بتشديد الياء وتخفيفها (والثالث) ضحية وجمعها ضحايا (والرابع)
أضحاة وجمعها أضحي كأرطاة وأرطى وبها سمي يوم الأضحى ويقال ضحى يضحي تضحية فهو
مضح وقيل سميت بذلك لفعلها في الضحى وفى الاضحي لغتان التذكير لغة قيس والتأنيث لغة تميم *
* قال المصنف رحمه الله *
(الأضحية سنة لما روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يضحي
382

بكبشين قال أنس وأنا أضحى بهما) وليست واجبة لما روي أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانا
لا يضحيان مخافة أن يرى ذلك واجبا) *
(الشرح) حديث أنس رواه البخاري بلفظه ورواه مسلم أيضا ولفظه عن أنس قال (ضحى
النبي صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر ووضع رجله على صفحاتهما)
ولم يذكر قول أنس (وأنا أضحى بكبشين) وذكره البخاري (وأما) الأثر المذكور عن أبي بكر
وعمر رضي الله عنهما فرواه البيهقي وغيره باسناد حسن (أما) الأحكام فقال الشافعي والأصحاب
التضحية سنة مؤكدة وشعار ظاهر ينبغي للقادر عليها المحافظة عليها ولا تجب بأصل الشرع لما ذكره
المصنف ولان الأصل عدم الوجوب فان نذرها لزمته كسائر الطاعات * ولو اشترى بدنة أو شاة تصلح
للتضحية بنية التضحية أو الهدي لم تصر بمجرد الشراء ضحية ولا هديا هذا هو الصواب الذي قطع
به الأصحاب في كل الطرق * وفي تتمة التتمة وجه أنها تصير قال الرافعي هذا الوجه حصل عن غفلة وإنما هذا
الوجه فيما إذا نوى في دوام الملك كما سنذكره إن شاء الله تعالى * قال الروياني لو قال إن اشتريت شاة فلله علي
أن أجعلها ضحية فهو نذر مضمون في الذمة فإذا اشترى شاة فعليه أن يجعلها ضحية ولا تصير بمجرد الشراء
ضحية فلو عين فقال إن اشتريت هذه الشاة فلله علي أن أجعلها ضحية فوجهان (أحدهما) لا يلزمه جعلها
ضحية تغليبا لحكم التعيين فإنه التزمها قبل الملك والالتزام قبل الملك لغو كما لو علق طلاقا أو عتقا
(والثاني) يلزمه تغليبا للنذر والأول أقيس *
(فرع) قال الشافعي رحمه الله في كتاب الضحايا من البويطي الأضحية سنة على كل من وجد السبيل
من المسلمين من أهل المدائن والقرى وأهل السفر والحضر والحاج بمنى وغيرهم من كان معه هدى ومن لم
يكن معه هدى * هذا نصه بحروفه نقلته من نفس البويطي وهذا هو الصواب أن التضحية سنة للحاج بمنى
كما هي سنة في حق غيره (وأما) قول العبدري الأضحية سنة مؤكدة على كل من قدر عليها من المسلمين من أهل
الأمصار والقرى والمسافرين الا الحاج بمنى فإنه لا أضحية في حقه لان ما ينحر بمنى يكون هديا لا أضحية
383

كما لا يخاطب بصلاة العيد بمنى من اجل حجه فهذا الذي استثناه العبدري شاذ باطل مردود مخالف لنص
الشافعي الذي ذكرناه بل مخالف لظاهر الأحاديث وقد صرح القاضي أبو حامد في جامعه وغيره من
أصحابنا بان أهل منى كغيرهم في الأضحية كما نص عليه الشافعي وثبت في صحيح البخاري ومسلم ان
النبي صلى الله عليه وسلم (ضحى في منى عن نسائه بالبقر) والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا التضحية سنة على الكفاية في حق أهل البيت الواحد فإذا ضحى أحدهم حصل
سنة التضحية في حقهم قال الرافعي الشاة الواحدة لا يضحى بها الا عن واحد لكن إذا ضحى بها واحد
من أهل بيت تأتى الشعار والسنة لجميعهم قال وعلى هذا حمل ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
(ضحى بكبشين قال اللهم تقبل من محمد وآل محمد) قال وكما أن الفرض ينقسم إلى فرض عين وفرض
كفاية فقد ذكر الأصحاب ان التضحية كذلك وان التضحية مسنونة لكل أهل بيت هذا كلام الرافعي *
وقد حمل جماعة الحديث المذكور على الاشتراك في الثواب وممن ذكر هذا صاحب العدة والشيخ إبراهيم
المروروذي ومما يشبه قول الأصحاب ان الأضحية سنة على الكفاية قولهم الابتداء بالسلام سنة على الكفاية
وكذا تشميت العاطس وقد سبق بيان الجميع في أحكام السلام عقب باب هيئة الجمعة والله أعلم * ومما يستدل به
لكون التضحية سنة على الكفاية الحديث الصحيح في الموطأ قال مالك عن عمارة بن عبد الله بن طياد أن عطاء
ابن يسار اخبره ان أبا أيوب الأنصاري اخبره قال (كنا نضحي بالشاة الواحدة يذبحها الرجل عنه وعن
أهل بيته ثم تباهى الناس بعد فصارت مباهاة) هذا حديث صحيح والصحيح ان هذه الصيغة تقتضي
384

انه حديث مرفوع وقد سبق ايضاحها في مقدمة هذا الشرح وقد اتفقوا على توثيق هؤلاء الرواة و عبد الله
والد عمارة هذا قالوا هو ابن الصياد الذي قيل إنه الدجال *
(فرع) في مذاهب العلماء في الأضحية * ذكرنا ان مذهبنا انها سنة مؤكدة في حق الموسر ولا
تجب عليه وبهذا قال أكثر العلماء وممن قال به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وبلال وأبو مسعود
البدري وسعيد بن المسيب وعطاء وعلقمة والأسود ومالك واحمد وأبو يوسف واسحق وأبو ثور
والمزني وداود وابن المنذر * وقال ربيعة والليث بن سعد وأبو حنيفة والأوزاعي واجبة على الموسر
إلا الحاج بمنى * وقال محمد بن الحسن هي واجبة على المقيم بالأمصار والمشهور عن أبي حنيفة انه إنما يوجبها
على مقيم يملك نصابا * واحتج لمن أوجبها (بأن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى) وقال الله تعالى (لقد كان
لكم في رسول الله أسوة حسنة) وبحديث أبي رملة بن مخنف - بكسر الميم وإسكان الخاء وفتح النون - قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن وقوف معه بعرفات (يا أيها الناس ان على كل أهل بيت في كل
عام أضحية وعثيرة أتدرون ما العثيرة هذه التي يقول الناس الرجبية) رواه أبو داود والترمذي والنسائي
وغيرهم قال الترمذي حديث حسن قال الخطابي هذا الحديث ضعيف المخرج لان أبا رملة مجهول *
وعن جندب بن عبد الله بن سفيان رضي الله عنه قال (صلى الله عليه وسلم يوم النحر ثم خطب ثم
ذبح وقال من ذبح قبل ان يصلى فليذبح أخرى مكانها ومن لم يذبح فليذبح باسم الله) رواه
البخاري ومسلم وموضع الدلالة انه امر والامر للوجوب * وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم (من وجد سعة لان يضحي فلم يضحي فلا يحضر مصلانا) رواه البيهقي وغيره
وهو ضعيف قال البيهقي عن الترمذي الصحيح انه موقوف على أبي هريرة * وعن ابن عباس
قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما أنفقت الورق في شئ أفضل من نحيرة في يوم عيد)
رواه البيهقي وقال تفرد به محمد بن ربيعة عن إبراهيم بن يزيد الحوزي وليسا بقويين * وعن عابد الله
المجاشعي عن أبي داود نقيع عن زيد بن أرقم أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم (ما هذه
385

الأضاحي قال سنة أبيكم إبراهيم صلى الله وسلم قالوا ما لنا فيها من الاجر قال بكل قطرة
حسنة) رواه ابن ماجة والبيهقي قال البيهقي قال البخاري عابد الله المجاشعي عن أبي داود لا يصح
حديثه وأبو داود هذا أيضا ضعيف. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (نسخ الأضحى كل ذبح وصوم رمضان كل صوم والغسل من الجنابة كل
غسل والزكاة كل صدقة) رواه الدارقطني والبيهقي قالا وهو ضعيف واتفق الحفاظ على ضعفه *
وعن عائشة قالت (قلت يا رسول الله أستدين وأضحى قال نعم فإنه دين مقضى) رواه الدارقطني
والبيهقي وضعفاه قالا وهو مرسل * واحتج الشافعي والأصحاب بحديث أم سلمة رضي الله عنها
قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من
شعره شيئا) وفي رواية (إذا دخل العشر وعند أحدكم أضحية يريد أن يضحي فلا يأخذن
شعرا ولا يقلمن ظفرا) وفي رواية (إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد أحدكم أن يضحى فليمسك
من شعره وأظفاره) رواه مسلم بكل هذه الألفاظ قال الشافعي هذا دليل ان التضحية ليست
بواجبة لقوله صلى الله عليه وسلم (وأراد) فجعله مفوضا إلى ارادته ولو كانت واجبة لقال فلا يمس من
شعره حتى يضحي * واستدل أصحابنا أيضا بحديث ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
(ثلاث هن على فرائض وهن لكم تطوع النحر والوتر وركعتي الضحى) رواه البيهقي باسناد
ضعيف ورواه البيهقي أيضا في كتابه الخرافيات وصرح بضعفه وصح عن أبي بكر وعمر رضي الله عنه
ما انهما كانا لا يضحيان مخافة أن يعتقد الناس وجوبها وقد سبق بيانه ورواه البيهقي بأسانيد
أيضا عن ابن عباس وأبي مسعود البدري * قال أصحابنا ولان التضحية لو كانت واجبة لم تسقط
بفوات إلى غير بدل كالجمعة وساير الواجبات ووافقنا الحنفية على أنها إذا فاتت لا يجب قضاؤها
(واما) الجواب عن دلائلهم فما كان منها ضعيفا لا حجة فيه وما كان صحيحا فمحمول على الاستحباب
جمعا بين الأدلة والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
386

(ويدخل وقتها إذا مضى بعد دخول وقت صلاة الأضحى قدر ركعتين وخطبتين فان ذبح
قبل ذلك لم يجزه لما روى البراء رضي الله عنه قال (خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر
بعد الصلاة فقال من صلى صلاتنا هذه ونسك نسكنا فقد أصاب سنتنا ومن نسك قبل صلاتنا
فتلك شاة لحم فليذبح مكانها) واختلف أصحابنا في مقدار الصلاة فمنهم من اعتبر قدر صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ركعتان يقرأ فيهما ق واقتربت وقدر خطبتيه ومنهم من
اعتبر قدر ركعتين خفيفتين وخطبتين خفيفتين * ويبقى وقتها إلى آخر أيام التشريق لما روى جبير
ابن مطعم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (كل أيام التشريق ذبح) فإن لم يضح حتى مضت
أيام التشريق نظرت فإن كان ما يضحى به تطوعا لم يضح لأنه ليس وقت لسنة الأضحية وإن كان
نذرا لزمه ان يضحي لأنه قد وجب عليه فلم يسقط بفوات الوقت) *
(الشرح) حديث البراء رواه البخاري ومسلم الا قوله (فليذبح مكانها) (واما) حديث جبير
ابن مطعم فرواه البيهقي من طرق قال وهو مرسل لأنه من رواية سليمان بن موسى الأسدي فقيه
أهل الشام عن جبير ولم يدركه ورواه من طرق ضعيفة متصلا (واما) الأحكام فقال أصحابنا يدخل
وقت التضحية إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى بعد طلوعها قدر ركعتين وخطبتين خفيفتين هذا
هو المذهب وفيه وجه آخر ذكره المصنف والأصحاب انه يعتبر بعد طلوع الشمس قدر صلاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وخطبتيه وقرأ صلى الله عليه وسلم بعد الفاتحة ق وفي الثانية اقتربت وخطب
خطبة متوسطة * وفيه وجه ثالث ذكره الخراسانيون وبه قال المراوزة منهم ان الوجهين السابقين
إنما هما في طول الصلاة وأما الخطبة فمخففة وجها واحدا لان السنة تخفيفها * قال امام الحرمين
وما أرى من يعتبر ركعتين خفيفتين يكتفي بأقل ما يجزئ وظاهر كلام صاحب الشامل وغيره
خلافه وأنه يكتفي بأقل ما يجزئ وفيه وجه رابع حكاه الرافعي أنه يكفي مضي ما يسع ركعتين بعد
خروج وقت الكراهة ولا يعتبر الخطبتان والله أعلم (وأما) آخر وقتها فاتفقت نصوص الشافعي
387

والأصحاب على أنه يخرج وقتها بغروب شمس اليوم الثالث من أيام التشريق واتفقوا على أنه يجوز
ذبحها في هذا الزمان ليلا ونهارا لكن يكره عندنا الذبح ليلا في غير الأضحية وفي الأضحية أشد
كراهة * واحتج البيهقي والأصحاب للكراهة بما رواه البيهقي باسناده عن علي بن الحسين رضي الله عنه
ما أنه قال لقيم له جذ نخله بالليل (ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جذاذ
الليل وصرام الليل أو قال حصاد الليل) هذا مرسل وعن الحسن البصري قال (نهى عن جذاذ
الليل وحصاد الليل والأضحى بالليل قال وإنما كان ذلك من شدة حال الناس فنهى عنه ثم رخص
فيه) هذا أيضا مرسل أو موقوف والله أعلم * قال أصحابنا فان ضحى قبل الوقت لم تصح التضحية
بلا خلاف بل تكون شاة لحم فأما إذا لم يضح حتى فات الوقت فإن كان تطوعا لم يضح بل قد فاتت
التضحية هذه السنة فان ضحى في السنة الثانية في الوقت وقع عن السنة الثانية لا عن الأولى وإن كان
منذورا لزمه أن يضحى لما ذكره المصنف والله أعلم * ولو قال جعلت هذه الشاة ضحية فوقتها وقت
المتطوع بها ولا يحل تأخيرها فان أخرها أثم ولزمه ذبحها كما سبق * ولو قال لله على أن أضحى
بشاة فهل تتوقت كذلك فيه وجهان (أحدهما) لا لأنها في الذمة كدماء الجبران (وأصحهما) نعم
لأنه التزم ضحية في الذمة والضحية مؤقتة قال الرافعي وهذا الوجه يوافق نقل الروياني عن الأصحاب
أنه لا يجوز التضحية بعد أيام التشريق الا في صورة واحدة وهي إذا أوجبها في أيام التشريق أو قبلها
ولم يذبحها حتى فات الوقت فإنه يذبحها قضاء (فان قلنا) لا نتوقت فالتزم بالنذر ضحية ثم عين
واحدة عن نذره وقلنا إنها تتعين فهل تتوقت التضحية بها فيه وجهان (أصحهما) لا والله أعلم *
(فرع) قال الدارمي لو وقفوا بعرفات في اليوم العاشر غلطا حسبت أيام التشريق على الحقيقة
لا على حساب وقوفهم وان وقفوا في الثامن وذبح يوم التاسع ثم بان ذلك لم يجب إعادة التضحية
لان الواجب يجوز تقديمه على يوم النحر والتطوع تبع للحج فان علم ذلك قبل انقضاء التشريق
فأعاده كان حسنا *
388

(فرع) في مذاهب العلماء في وقت الأضحية مذهبنا أنه يدخل وقتها إذا طلعت الشمس يوم
النحر ثم مضى قدر صلاة العيد وخطبتين كما سبق فإذا ذبح بعد هذا الوقت أجزأه سواء صلى
الامام أم لا وسواء صلى المضحي أم لا وسواء كان من أهل الأمصار أو من أهل القرى أو البوادي
أو المسافرين وسواء ذبح الامام ضحيته أم لا * هذا مذهبنا وبه قال داود وابن المنذر وغيرهما *
وقال عطاء وأبو حنيفة يدخل وقتها في حق أهل الأمصار إذا صلى الامام وخطب فمن ذبح قبل
ذلك لم يجزه قال وأما أهل القرى والبوادي فوقتها في حقهم إذا طلع الفجر الثاني * وقال مالك
لا يجوز ذبحها الا بعد صلاة الامام وخطبتيه وذبحه * وقال أحمد لا يجوز قبل صلاة الامام ويجوز
بعدها قبل ذبح الامام وسواء عنده أهل القرى والأمصار ونحوه عن الحسن البصري والأوزاعي
وإسحاق بن راهويه * وقال سفيان الثوري يجوز ذبحها بعد صلاة الامام قبل خطبته وفى حال
خطبته * قال ابن المنذر وأجمعوا على أنها لا يصح ذبحها قبل طلوع الفجر يوم النحر * احتج القائلون
باشتراط صلاة الامام بحديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم في يوم نحر فقال إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلى ثم نرجع فننحر فمن فعل ذلك فقد
أصاب سنتنا ومن ذبح قبل أن نصلي فإنما هو لحم عجله لأهل بيته ليس من النسك في شئ) رواه البخاري
ومسلم وفي روايات قبل الصلاة * وفي رواية لمسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يذبحن أحد
قبل أن يصلى) وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (خطب فامر من كان ذبح قبل الصلاة
أن يعد ذبحا) رواه البخاري ومسلم * وعن جندب بن عبد الله بن شقيق قال (شهدت الأضحى
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال إن ناسا ذبحوا قبل الصلاة فقال من ذبح منكم
قبل الصلاة فليعد ذبيحته) رواه مسلم * واحتج أصحابنا بهذه الأحاديث المذكورة قالوا والمراد
بها التقدير بالزمان لا بفعل الصلاة لان التقدير بالزمان أشبه بمواقيت الصلاة وغيرها ولأنه أضبط
للناس في الأمصار والقرى والبوادي قال أصحابنا وهذا هو المراد بالأحاديث وكان النبي صلى الله
389

عليه وسلم يصلى صلاة عيد الاضحي عقب طلوع الشمس والله أعلم *
(فرع) أيام نحر الأضحية يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة هذا مذهبنا وبه قال علي ابن أبي
طالب وجبير بن مطعم وابن عباس وعطاء والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن
موسى الأسدي فقيه أهل الشام ومكحول وداود الظاهري * وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد يختص
بيوم النحر ويومين بعده وروى هذا عن عمر بن الخطاب وعلي وابن عمر وأنس رضي الله عنهم
وقال سعد بن جبير يجوز لأهل الأمصار يوم النحر خاصة ولأهل السواد في أيام التشريق *
وقال محمد بن سيرين لا تجوز التضحية الا في يوم النحر خاصة * واحتج لمالك وموافقيه بأن التقدير
لا يثبت الا بنص أو اتفاق ولم يقع الاتفاق الا على يومين بعد النحر * واحتج أصحابنا بحديث
جبير بن مطعم وقد سبق أن الأصح أنه موقوف * (وأما) الحديث الذي رواه البيهقي عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (أيام التشريق كلها ذبح) فضعيف مداره على معاوية
ابن يحيى الصدفي (وأما) الجواب عن قولهم إن الاتفاق وقع على يومين فليس كما قالوا بل قد
حكينا عن جماعة اختصاصه بيوم وقد روى أبو داود في المراسيل والبيهقي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن
وسليمان بن يسار التابعين أنه بلغهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الضحايا إلى آخر الشهر
لمن أراد أن يستأنى ذلك) وفي رواية (إلى هلال المحرم) وروى البيهقي باسناده عن أبي أمامة
ابن سهل بن حنيف أنه قال (كان المسلمون يشتري أحدهم الأضحية فيسميها فيذبحها بعد الأضحى
آخر ذي الحجة) قال البيهقي الأول مرسل لا يحتج به والثاني حكاية عن من لم يسم (قال وقد
قال أبو إسحاق المروزي في الشرح روي في بعض الأخبار (الأضحية إلى رأس المحرم) فان صح
ذلك فالامر يتسع فيه إلى غرة المحرم وان لم يصح فالخبر الصحيح أيام منى أيام نحر) وعلى هذا بنى الشافعي
هذا كلام المروزي قال البيهقي في كليهما نظر هذا لارساله وحديث جبير بن مطعم لاختلاف
الرواة فيه كما سبق قال وحديث جبير أولى ان يقال به والله أعلم *
390

(فرع) مذهبنا جواز الذبح ليلا ونهارا في هذه الأيام جائز لكن يكره ليلا وبه قال أبو حنيفة
وإسحاق وأبو ثور والجمهور وهو الأصح عن أحمد وقال مالك لا يجزئه الذبح ليلا بل يكون شاة
لحم وهي رواية عن أحمد والله أعلم *
(فرع) إذا فاتت أيام التضحية ولم يصح التضحية المنذورة لزمه ذبحها قضاء هذا مذهبنا
وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة لا تقضى بل تفوت وتسقط
* قال المصنف رحمه الله *
(ومن دخلت عليه عشر ذي الحجة وأراد أن يضحى فالمستحب ان لا يحلق شعره ولا يقلم أظفاره
حتى يضحي لما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من كان عنده ذبح يريد أن يذبحه فرأى هلال
ذي الحجة فلا يمس من شعره ولا من أظفاره حتى يضحي) ولا يجب عليه ذلك لأنه ليس بمحرم فلا
يحرم عليه حلق الشعر وتقليم الأظفار) *
(الشرح) حديث أم سلمة رضي الله عنها رواه مسلم وسبق بيان طرقه (وقوله) ذبح - بكسر
الذال أي ذبيحة (وقوله) يقلم ظفره يجوز أن يقرأ - بفتح الياء واسكان القاف وضم اللام - ويجوز
بضم الياء وفتح القاف وتشديد اللام المكسورة - والأول أجود لكن ظاهر كلام المصنف ارادته
الثاني ولهذا قال وتقليم الأظفار (أما) الأحكام فقال أصحابنا من أراد التضحية فدخل عليه عشر ذي الحجة
كره أن يقلم شيئا من أظفاره وان يحلق شيئا من شعر رأسه ووجهه أو بدنه حتى يضحى لحديث أم سلمة
هذا هو المذهب انه مكروه كراهة تنزيه وفيه وجه انه حرام حكاه أبو الحسن العبادي في كتابه
الرقم وحكاه الرافعي عنه لظاهر الحديث (واما) قول المصنف والشيخ أبو حامد والدارمي والعبدري ومن
وافقهم ان المستحب تركه ولم يقولوا انه مكروه فشاذ ضعيف مخالف لنص هذا الحديث * وحكى
الرافعي وجها ضعيفا شاذا ان الحلق والقلم لا يكرهان الا إذا دخل العشر واشترى أضحية أو عين
شاة أو غيرها من مواشيه للتضحية * وحكى قولا انه لا يكره القلم وهذه الأوجه كلها شاذة ضعيفة
(والصحيح) كراهة الحلق والقلم من حين تدخل العشر فالحاصل في المسألة أوجه (الصحيح)
391

كراهة الحلق والقلم من أول العشر كراهة تنزيه (والثاني) كراهة تحريم (والثالث) المكروه الحلق
دون القلم (والرابع) لا كراهة إنما هو خلاف الأولى (الخامس) لا يكره الا لمن دخل عليه العشر وعين
أضحية والمذهب الأول * والمراد بالنهي عن الحلق والقلم المنع من إزالة الظفر بقلم أو كسر أو
غيره والمنع من إزالة الشعر بحلق أو تقصير أو نتف أو احراق أو بنورة وغير ذلك وسواء شعر العانة
والإبط والشارب وغير ذلك * قال إبراهيم المروروذي في كتابه التعليق وحكم سائر اجزاء البدن
حكم الشعر والظفر ودليله حديث أم سلمة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم ان
يضحي فلا يمس من شعره وبشرته شيئا) رواه مسلم والله أعلم * قال أصحابنا الحكمة في النهي ان
يبقى كامل الاجزاء ليعتق من النار وقيل للتشبه بالمحرم قال أصحابنا وهذا غلط لأنه لا يعتزل النساء
ولا يترك الطيب واللباس وغير ذلك مما يتركه المحرم والله أعلم *
(فرع) مذهبنا ان إزالة الشعر والظفر في العشر لمن أراد التضحية مكروه كراهة تنزيه حتى
يضحى وقال مالك وأبو حنيفة لا يكره وقال سعيد بن المسيب وربيعة واحمد وإسحاق وداود يحرم
وعن مالك انه يكره وحكي عنه الدارمي يحرم في التطوع ولا يحرم في الواجب * واحتج القائلون
بالتحريم بحديث أم سلمة واحتج الشافعي والأصحاب عليهم بحديث عائشة انها قالت (كنت افتل
قلائد هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يقلده ويبعث به ولا يحرم عليه شئ أحله الله له حتى ينحر هديه)
رواه البخاري ومسلم قال الشافعي البعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية فدل على أنه لا يحرم ذلك
والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(ولا يجزئ في الأضحية الا الانعام وهي الإبل والبقر والغنم لقول الله تعالى (ليذكروا اسم
الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام) ولا يجزئ فيها إلا الجذعة من الضأن والثنية من المعز والإبل والبقر
لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تذبحوا إلا مسنة الا أن تعسر عليكم فاذبحوا جذعة من الضأن)
وعن علي رضي الله عنه قال (لا يجوز في الضحايا الا الثني من المعز والجذعة من الضأن) وعن ابن
392

عباس أنه قال لا تضحو بالجذع من المعز والإبل والبقر) ويجوز فيها الذكر والأنثى لما روت أم كرز عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (على الغلام شاتان وعلى الجارية شاة لا يضركم ذكرانا كن أو إناثا) وإذا جاز ذلك
في العقيقة بهذا الخبر دل على جوازه في الأضحية ولان لحم الذكر أطيب ولحم الأنثى أرطب) *
(الشرح) حديث جابر رواه مسلم في صحيحه بحروفه قال أهل اللغة المسن الثني من كل
الانعام فما فوقه (وأما) حديث أم كرز فرواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم وهو
حديث حسن وهذا المذكور في المهذب لفظ رواية النسائي (أما) الأحكام فشرط المجزئ في الأضحية
أن يكون من الانعام وهي الإبل والبقر والغنم سواء في ذلك جميع أنواع الإبل من البخاتي والعراب وجميع
أنواع البقر من الجواميس والعراب والدربانية وجميع أنواع الغنم من الضأن والمعز وأنواعهما ولا يجزئ غير
الانعام من بقر الوحش وحميره والضبا وغيرها بلا خلاف وسواء الذكر والأنثى من جميع ذلك ولا خلاف
في شئ من هذا عندنا * ولا يجزئ من الضان الا الجذع والجذعة فصاعدا ولا من الإبل والبقر والمعز الا
الثنى أو الثنية فصاعدا هكذا نص عليه الشافعي وقطع به الأصحاب * وحكى الرافعي وجها انه
يجزئ الجذع من المعز وهو شاذ ضعيف بل غلط ففي الصحيحين عن البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لأبي بردة بن دينار خال البراء بن عازب (تجزئك يعني الجذعة من المعز ولا تجزئ أحدا
بعدك) والله أعلم * ثم الجذع ما استكمل سنة على أصح الأوجه والوجه الثاني ما استكمل ستة أشهر
والثالث ثمانية أشهر والرابع إن كان متولدا بين شابين فستة أشهر والا فثمانية وقد سبق بيان هذه
الأوجه في كتاب الزكاة وهناك ذكر المصنف سن الجذع والثنى فلهذا أهمله هنا وذكره في التنبيه
في البابين لكنه خالف ما صححه الجمهور * قال أبو الحسن العبادي وغيره فإذا قلنا بالمذهب ان
الجذع ماله سنة كاملة فلو أجذع قبل تمام السنة أي سقطت سنه أجزأ في الأضحية كما لو تمت السنة قبل
أن يذبح ويكون ذلك كالبلوغ بالسن أو الاحتلام فإنه يكتفي فيه أسبقهما وهكذا صرح البغوي
به فقال الجذع ما استكملت سنة أو أجذعت قبلها (وأما) الثنى من الإبل فما استكملت خمس سنين
393

ودخل في السادسة * وروى حرملة عن الشافعي أنه الذي استكمل ست سنين ودخل في السابعة قال
الروياني وليس هذا قولا آخر للشافعي وان توهمه بعض أصحابنا ولكنه اخبار عن نهاية سن الثنى
وما ذكره الجمهور هو بيان لابتداء سنه والله أعلم * (وأما) الثنى من البقر فهو ما استكمل سنتين
ودخل في الثالثة وروى حرملة عن الشافعي أنه ما استكمل ثلاث سنين ودخل في الرابعة والمشهور
من نصوص الشافعي الأول وبه قطع الأصحاب وغيرهم من أهل اللغة وغيرهم (وأما) الثني من المعز
ففيه وجهان سبقا في كتاب الزكاة (أصحهما) ما استكمل سنتين (والثاني) ما استكمل سنة *
(فرع) لا تجزئ بالمتولد من الظباء والغنم لأنه ليس من الانعام *
(فرع) في مذاهب العلماء في سن الأضحية * نقل جماعة اجماع العلماء عن التضحية لا تصح الا
بالإبل أو البقر أو الغنم فلا يجزئ شئ من الحيوان غير ذلك * وحكى ابن المنذر عن الحسن بن صالح
أنه يجوز أن يضحى ببقر الوحش عن سبعة وبالضبا عن واحد وبه قال داود في بقرة الوحش
وأجمعت الأمة على أنه لا يجزئ من الإبل والبقر والمعز الا الثني ولا من الضأن الا الجذع وأنه يجزئ
هذه المذكورات الا ما حكاه العبدري وجماعة من أصحابنا عن الزهري أنه قال لا يجزئ الجذع من
الضأن وعن الأوزاعي أنه يجزئ الجذع من الإبل والبقر والمعز والضأن وحكى صاحب البيان عن
ابن عمر كالزهري وعن عطاء كالأوزاعي هكذا نقل هؤلاء * ونقل القاضي عياض الاجماع على أنه
يجزئ الجذع من الضأن وأنه لا يجزئ جذع المعز * دليلنا على الأوزاعي حديث البراء بن عازب
السابق قريبا عن الصحيحين * واحتج له بحديث عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم (أعطاه
غنما يقسمها على صحابته ضحايا فبقي عتود فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال ضح أنت بها) رواه
البخاري ومسلم قال أبو عبيد وغيره من أهل اللغة العتود من أولاد المعز وهو ما رعى وقوى قال
الجوهري وغيره وهو ما بلغ سنة وجمعه أعته وعدان - بادغام التاء في الدال - قال البيهقي كانت هذه
رخصة لعقبة بن عامر قال وقد روينا ذلك من رواية الليث بن سعد ثم ذكره باسناده الصحيح عن
394

عقبة قال (أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم غنما أقسمها ضحايا بين أصحابي فبقي عتود منها
فقال ضح بها أنت ولا رخصة لاحد فيها بعدك) قال البيهقي وإذا كانت هذه الزيادة محفوظة كان
هذا رخصة له كما رخص لأبي بردة بن دينار قال وعلى هذا يحمل ما رويناه عن زيد بن خالد فذكره
باسناده عن زيد قال (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه غنما فأعطاني عتودا جذعا فقال
ضح به فقلت انه جذع من المعز أضحي به قال نعم فضحيت به) هذا كلام البيهقي وهذا الحديث
الاخر رواه أبو داود باسناد حسن وليس في رواية أبى داود المعز ولكنه معلوم من قوله عتود
وهذا التأويل الذي ذكره البيهقي متعين * واحتج أصحابنا في أجزاء جذع الضأن بحديث جابر المذكور في الكتاب وهو صحيح كما سبق وقد جاءت أحاديث كثيرة بمعناه ذكرها البيهقي وغيره
والله أعلم *
(فرع) ان قيل ظاهر حديث جابر المذكور في الكتاب أن الجذعة من الضأن لا تجزئ الا
إذا عجز عن المسنة (قلنا) هذا مما يجب تأويله لان الأمة مجمعة على خلاف ظاهره كما سبق فإنهم
كلهم جوزوا جذع الضأن الا ما سبق عن ابن عمر والزهري أنه لا يجزئ سواء قدر على مسنة أم
لا فيحمل هذا الحديث على الأفضل والأكمل ويكون تقديره مستحب لكم أن لا تذبحوا الا مسنة
فان عجزتم فجذعة ضان والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(والبدنة أفضل من البقر لأنها أعظم والبقرة أفضل من الشاة لأنها بسبع من الغنم والشاة أفضل
من مشاركة سبعة في بدنة أو بقرة لأنه ينفرد بإراقة دم * والضأن أفضل من المعز لما روى عبادة بن
الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (خير الأضحية الكبش الأقرن) وقالت أم سلمة
(لان أضحي بالجذع من الضأن أحب إلي من أن أضحي بالمسنة من المعز) ولان لحم الضأن أطيب
* والسمينة أفضل من غير السمينة لما روي عن ابن عباس في قوله تعالى (ومن يعظم شعائر الله) قال
تعظيمها استسمانها واستحسانها * وخطب علي كرم الله وجهه قال ثنيا فصاعدا واستسمن فان أكلت أكلت
395

طيبا وان أطعمت أطعمت طيبا * والبيضاء أفضل من الغبراء والسوداء لان النبي صلى الله عليه وسلم
(ضحى بكبشين أملحين) والأملح الأبيض * وقال أبو هريرة دم البيضاء في الأضحية أفضل
من دم سوداوين * وقال ابن عباس تعظيمها استحسانها والبيض أحسن) *
(الشرح) حديث عبادة رواه البيهقي هنا وفي كتاب الجنائز وهو بعض حديث ورواه أيضا
من رواية أبي أمامة باسناد ضعيف (واما) حديث ان النبي صلى الله عليه وسلم (ضحى بكبشين
أملحين) فرواه البخاري ومسلم من رواية انس (واما) قول أبي هريرة فرواه البيهقي موقوفا
على أبي هريرة كما ذكره المصنف قال وروي مرفوعا قال البخاري لا يصح رفعه (اما الأحكام)
ففيها مسائل (إحداها) البدنة أفضل من البقرة والبقرة أفضل من الشاة والضأن أفضل من المعز
فجذعة الضأن أفضل من ثنية المعز لما ذكره المصنف وهذا كله متفق عليه عندنا (الثانية) التضحية
بشاة أفضل من المشاركة بسبع بدنة أو بسبع بقرة بالاتفاق لما ذكره المصنف * وسبع من الغنم
أفضل من بدنة أو بقرة على أصح الوجهين لكثرة إراقة الدم (والثاني) أن البدنة أو البقرة أفضل
لكثرة اللحم * (الثالثة) يستحب التضحية بالأسمن الأكمل قال البغوي وغيره حتى أن التضحية
بشاة سمينة أفضل من شاتين دونها قالوا وقد قال الشافعي رحمه الله استكثار القيمة في الأضحية
أفضل من استكثار العدد وفي العتق عكسه فإذا كان معه ألف وأراد العتق بها فعبدان خسيسان
أفضل من عبد نفيس لان المقصود هنا اللحم والسمين أكثر وأطيب والمقصود في العتق التخليص
من الرق وتخليص عدد أولى من واحد * قال أصحابنا كثرة اللحم أفضل من كثرة الشحم الا
أن يكون لحما رديئا * واجمع العلماء على استحباب السمين في الأضحية واختلفوا في استحباب
تسمينها فمذهبنا ومذهب الجمهور استحبابه * وقال بعض المالكية يكره لئلا يتشبه باليهود وهذا
قول باطل * وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي أمامة الصحابي رضي الله عنه قال (كنا نسمن
الأضحية وكان المسلمون يسمنون) (الرابعة) أفضلها البيضاء ثم الصفراء ثم الغبراء وهي التي
396

لا يصفو بياضها ثم البلقاء وهي التي بعضها ابيض وبعضها اسود ثم السوداء *
(فرع) يصح التضحية بالذكر وبالأنثى بالاجماع وفي الأفضل منهما خلاف (الصحيح)
الذي نص عليه الشافعي في البويطي وبه قطع كثيرون ان الذكر أفضل من الأنثى وللشافعي نص
آخر أن الأنثى أفضل فمن الأصحاب من قال ليس مراده تفضيل الأنثى في التضحية وإنما أراد
تفضيلها في جزاء الصيد إذا أراد تقويمها لاخراج الطعام قال الأنثى أكثر ومنهم من قال المراد
الأنثى التي لم تلد أفضل من الذكر الذي كثر نزوانه فإن كان هناك ذكر لم ينز وأنثى لم تلد فهو
أفضل منها والله أعلم *
(فرع) تجزئ الشاة عن واحد ولا تجزئ عن أكثر من واحد لكن إذا ضحى بها
واحد من أهل البيت تأدى الشعار في حق جميعهم وتكون التضحية في حقهم سنة كفاية وقد
سبقت المسألة في أول الباب * وتجزئ البدنة عن سبعة وكذا البقرة سواء كانوا أهل بيت أو
بيوت وسواء كانوا متقربين بقربة متفقة أو مختلفة واجبة أو مستحبة أم كان بعضهم يريد اللحم
ويجوز أن يقصد بعضهم التضحية وبعضهم الهدي * ويجوز أن ينحر الواحد بدنة أو بقرة عن
سبع شياه لزمته بأسباب مختلفة كتمتع وقران وفوات ومباشرة ومحظورات في الاحرام ونذر
التصدق بشاة مذبوحة والتضحية بشاة (وأما) جزاء الصيد فتراعى فيه المماثلة ومشابهة الصورة فلا
تجزئ البدنة عن سبع من الظباء * ولو وجب شاتان على رجلين في قتل صيدين لم يجز أن يذبحا
عنهما بدنة * ويجوز أن يذبح الواحد بدنة أو بقرة ليكون سبعها عن شاة لزمته ويأكل الباقي
كما يجوز مشاركة ستة * ولو جعل جميع البدنة أو البقرة مكان الشاة فهل يكون الجميع واجبا حتى
لا يجوز أكل شئ منه أم الواجب السبع فقط حتى يجوز الاكل من الباقي فيه وجهان مشهوران
ونظيره الخلاف في مسح كل الرأس وتطويل القيام والركوع والسجود وإخراج بعير عن خمسة أبعرة
في الزكاة وقد سبق بيان هذه المسائل في باب صفة الوضوء وفي الصلاة والزكاة * قال البندنيجي
397

إذا قلنا الواجب السبع جاز أكل جميع الباقي هذا كلامه وكان يحتمل أن يجب التصدق بجزئ
من الباقي إذا قلنا بالمذهب إنه يجب التصدق بجزء من أضحية التطوع والله أعلم * ولو اشترك
رجلان في شاتين للتضحية لم يجزئهما في أصح الوجهين ولا يجزئ بعض شاة بلا خلاف بكل
حال والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء مذهبنا أن أفضل التضحية بالبدنة ثم البقرة ثم الضأن ثم المعز وبه
قال أبو حنيفة واحمد وداود * وقال مالك أفضلها الغنم ثم البقر ثم الإبل قال والضأن أفضل من
المعز وإناثها أفضل من فحول المعز وفحول الضأن خير من إناث المعز وإناث المعز خير من الإبل
والبقر * واحتج بحديث أنس السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم (ضحى بكبشين) وهو صحيح
سبق بيانه قالوا وهو لا يدع الأفضل * وقال بعض أصحاب مالك الإبل أفضل من البقر * واحتج
أصحابنا بحديث أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من اغتسل يوم
الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن
راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا أقرن) رواه البخاري ومسلم وفيه دلالة لنا على مالك
فيما خالف فيه ولان مالكا وافقنا في الهدي أن البدنة فيه أفضل من البقرة فقس عليه (والجواب)
عن حديث أنس أنه لبيان الجواز أو لأنه لم يتيسر حينئذ بدنة ولا بقرة والله أعلم *
(فرع) يجوز أن يشترك سبعة في بدنة أو بقرة للتضحية سواء كانوا كلهم أهل بيت واحد
أو متفرقين أو بعضهم يريد اللحم فيجزئ عن المتقرب وسواء كان أضحية منذورة أو تطوعا هذا
مذهبنا وبه قال أحمد وداود وجماهير العلماء الا أن داود جوزه في التطوع دون الواجب وبه قال
بعض أصحاب مالك * وقال أبو حنيفة إن كانوا كلهم متفرقين جاز وقال مالك لا يجوز الاشتراك
مطلقا كما لا يجوز في الشاة الواحدة * واحتج أصحابنا بحديث جابر قال (نحرنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) رواه مسلم وعنه قال (خرجنا مع رسول الله
398

صلى الله عليه وسلم مهلين بالحج فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل
سبعة منا في بدنة) رواه مسلم قال البيهقي وروينا عن علي وحذيفة وأبي مسعود الأنصاري وعائشة
رضي الله عنهم أنهم قالوا (البقرة عن سبعة) (وأما) قياسه على الشاة فعجب لان الشاة إنما تجزئ
عن واحد والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(ولا يجزئ ما فيه عيب ينقص اللحم كالعوراء والعمياء والعرجاء التي تعجز عن المشي
في المرعى لما روى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يجزئ في الأضاحي العوراء
البين عورها والمريضة البين مرضها والعرجاء البين ضلعها والكسيرة التي لا تبقى) فنص على هذه
الأربعة لأنها تنقص اللحم فدل على أن كل ما ينقص اللحم لا يجوز * ويكره أن يضحى بالجلحاء
وهي التي لا يخلق لها قرن وبالعصماء وهي التي انكسر غلاف قرنها وبالعضباء وهي التي انكسر قرنها
وبالشرقاء وهي التي انثقبت من الكي أذنها وبالخرقاء وهي التي تشق أذنها بالطول لان ذلك كله
يشينها وقد روينا عن ابن عباس ان تعظيمها استحسانها فان ضحى بما ذكرناه أجزأه لان ما بها لا ينقص من
لحمها * فان نذر ان يضحي بحيوان فيه عيب يمنع الاجزاء كالجرب وجب عليه ذبحه
ولا يجزئه عن الأضحية فان زال العيب قبل أن يذبح لم يجزه عن الأضحية لأنه أزال الملك فيها بالنذر وهي
لا تجزئ فلم يتغير الحكم بما يحدث فيها كما لو أعتق بالكفارة عبدا أعمى ثم صار بعد العتق بصيرا) *
(الشرح) حديث البراء رضي الله عنه صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن
ماجة وغيرهم بأسانيد حسنة قال أحمد بن حنبل ما أحسنه من حديث وقال الترمذي حديث حسن
صحيح (وقوله) عيب ينقص اللحم - بفتح الياء واسكان النون وضم القاف - (وقوله)
صلى الله عليه وسلم (البين ضلعها) هو بفتح الضاد المعجمة واللام - وهو العرج (وقوله)
التي لا تنقي - بضم التاء وإسكان النون وكسر القاف - اي التي لا نقي لها - بكسر النون وإسكان
القاف - وهو المخ (وقوله) هذه الأربعة يعني الأمراض (وقوله) نقص اللحم - بتخفيف القاف
399

والجلحاء بالمد وكذا العصماء وهي - بفتح العين والصاد المهملتين - وكذلك العضباء - بفتح العين
وإسكان الضاد المعجمة - والشرقاء والخرقاء بالمد أيضا (وقوله) يشينها بفتح أوله * وهذا
التفسير الذي ذكره المصنف في الشرقاء والخرقاء مما أنكر عليه وغلطوه فيه بل الصواب المعروف
في الشرقاء أنها المشقوقة الاذن والخرقاء التي في أذنها ثقب مستدير والله أعلم (أما) الأحكام
ففيه مسائل (إحداها) لا تجزئ التضحية بما فيه عيب ينقص اللحم المريضة فإن كان مرضها يسيرا لم يمنع
الاجزاء وإن كان بينا يظهر بسببه الهزال وفساد اللحم لم يجزه هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور
وحكى ابن كج قولا شاذا أن المرض لا يمنع بحال وأن المرض المذكور في الحديث المراد به الجرب
وحكى وجه أن المرض يمنع الاجزاء وإن كان يسيرا وحكاه في الحاوي قولا قديما * وحكى وجه
في الهيام - بضم الهاء وتخفيف الياء - خاصة أنه يمنع الاجزاء وهو من أمراض الماشية وهو أن
يشتد عطشها فلا تروي من الماء قال أهل اللغة هو داء يأخذها فتهيم في الأرض لا ترعى وناقة هيماء
بفتح الهاء والمد - والله أعلم (الثانية) الجرب يمنع الاجزاء كثيره وقليله كذا قاله الجمهور ونص
عليه في الجديد لأنه يفسد اللحم والودك * وفيه وجه شاذ أنه لا يمنع إلا إذا كثر كالمرض واختاره
إمام الحرمين والغزالي والمذهب الأول * وسواء في المرض والجرب ما يرجى زواله وما لا يرجى
(الثالثة) العرجاء ان اشتد عرجها بحيث تسبقها الماشية إلى الكلأ الطيب وتتخلف عن القطيع
لم تجزئ وإن كان يسيرا لا يخلفها عن الماشية لم يضر فلو انكسر بعض قوائمها فكانت تزحف
بثلاث لم تجزئ * ولو أضجعها ليضحي بها وهي سليمة فاضطربت وانكسرت رجلها أو عرجت
تحت السكين لم تجزه على أصح الوجهين لأنها عرجاء عند الذبح فأشبه ما لو انكسرت رجل شاة
فبادر إلى التضحية بها فإنها لا تجزئ (الرابعة) لا تجزئ العمياء ولا العوراء التي ذهبت حدقتها
وكذا ان بقيت حدقتها في أصح الوجهين لفوات المقصود وهو كمال النظر * وتجزئ العشواء على
أصح الوجهين وهي التي تبصر بالنهار دون الليل لأنها تبصر وقت الرعي (فاما) العمش وضعف
400

بصر العينين جميعا قطع الجمهور بأنه لا يمنع وقال الروياني ان غطى الناظر بياض أذهب أكثره منع
وان أذهب أقله لم يمنع على أصح الوجهين (الخامسة) العجفاء التي ذهب مخها من شدة هزالها
لا تجزئ بلا خلاف وإن كان بها بعض الهزال ولم يذهب مخها أجزأت كذا أطلقه الأكثرون *
وقال الماوردي إن كان خلقيا فالحكم كذلك وإن كان لمرض منع الاجزاء لأنه ذا (1) وقال
امام الحرمين كما لا يعتبر السمن البالغ للاجزاء لا يعتبر العجف البالغ للمنع قال وأقرب معتبر
أن يقال إن كان لا يرغب في لحمها الطبقة العالية من طلبة اللحم في حالة الرخاء منعت *
(السادسة) ورد النهي عن الثولاء وهي المجنونة التي تستدير في الرعي ولا ترعى الا قليلا فتهزل
فلا تجزئ بالاتفاق (السابعة) يجزئ الفحل وان كثر نزوانه والأنثى وان كثرت ولادتها ولم يطب
لحمها الا إذا انتهيا إلى العجف البين (الثامنة) لا تجزئ مقطوعة الأذن فان قطع بعضها نظر فإن لم يبن
منها شئ بل شق طرفها وبقى متدليا لم يمنع على الأصح من الوجهين وقال القفال يمنع وحكاه الدارمي
عن ابن القطان * وان أبين فإن كان كثيرا بالإضافة إلى الاذن منع بلا خلاف وإن كان يسيرا
منع أيضا على أصح الوجهين لفوات جزء مأكول * قال إمام الحرمين وأقرب ضبط بين الكثير
واليسير أنه إن لاح النقص من البعد فكثير والا فقليل (التاسعة) لا يمنع الكي في الاذن وغيرها على
المذهب وبه قطع الجمهور وقيل في منعه وجهان لتصلب الموضع * وتجزئ صغيرة الاذن ولا تجزئ
التي لم يخلق لها أذن على المذهب وبه قطع الجمهور وفيه وجه ضعيف انها تجزئ حكاه الدارمي
وغيره (العاشرة) لا تجزئ التي أخذ الذئب مقدارا بينا من فخذها بالإضافة إليه ولا يمنع قطع الفلقة
اليسيرة من عضو كبير * ولو قطع الذئب أو غيره أليتها أو ضرعها لم تجزئ على المذهب وبه قطع
الجمهور وقيل فيه وجهان * وتجزئ المخلوقة بلا ضرع أو بلا الية على أصح الوجهين كما يجزئ الذكر
من المعز بخلاف التي لم يخلق لها اذن لان الاذن عضو لازم غالبا والذنب كالألية وقطع بعض الألية
أو الضرع كقطع كله ولا تجزئ مقطوعة بعض اللسان (الحادية عشرة) يجزئ الموجوء والخصي كذا

(1) بياض بالأصل)
401

قطع به الأصحاب وهو الصواب * وشذ ابن كج فحكى في الخصي قولين وجعل المنع هو قول الجديد
وهذا ضعيف منابذ للحديث الصحيح (فان قيل) فقد فات منه الخصيتان وهما مأكولتان (قلنا)
ليستا مأكولتين في العادة بخلاف الاذن ولان ذلك ينجبر بالسمن الذي يتجدد فيه بالاخصاء فإنه
إنما جاء في الحديث أنه ضحى بموجوبين وهما المرضوضان ولا يلزم منه جواز الخصي الذي ذهبت خصياه
فإنهما بالرضى صارتا كالمعدومتين وتعذر أكلهما (الثانية عشرة) تجزئ التي لا قرن لها ومكسورة القرن
سواء دمى قرنها أم لا قال القفال الا أن يؤثر ألم الانكسار في اللحم فيكون كالجرب وغيره وذات
القرن أفضل للحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ضحى بكبشين أقرنين)
ولقول ابن عباس تعظيمها استحسانها (الثالثة عشرة) تجزئ ذاهبة بعض الأسنان فان انكسرت
جميع أسنانها أو تناثرت فقد أطلق البغوي وآخرون أنها لا تجزئ وقال امام الحرمين قال المحققون
تجزئ وقيل لا تجزئ وقال بعضهم إن كان ذلك لمرض أو كان يؤثر في الاعتلاف وينقص اللحم
منع والا فلا * قال الرافعي وهذا حسن ولكنه يؤثر بلا شك فرجع الكلام الا المنع المطلق هذا
كلام الرافعي والصحيح المنع مطلقا * وفي الحديث نهي عن المشيعة قال صاحب البيان هي المتأخرة
عن الغنم فإن كان ذلك لهزال أو علة منع لأنها عجفاء وإن كان عادة وكسلا لم يمنع والله أعلم *
(الرابعة عشرة) قال أصحابنا العيوب ضربان ضرب يمنع الاجزاء وضرب لا يمنعه لكن يكره
(فأما) الذي يمنعه فسبق بيانه وتفصيله والمتفق عليه منه والمختلف فيه (وأما) الذي لا يمنعه بل
يكره فمنه مكسورة القرن وذاهبته ويقال للتي لم يخلق لها قرن جلحاء وللتي انكسر ظاهر قرنها
عصماء والعضباء هي مكسورة ظاهر القرن وباطنه هذا مذهبنا * وقال النخعي لا تجوز الجلحاء * وقال
مالك ان دمى قرن العضباء لم تجزئ والا فتجزئ * دليلنا انه لا يؤثر في اللحم (ومنه) المقابلة
والمدابرة يكرهان ويجزئان وهما - بفتح الباء فيهما - قال جمهور العلماء من أهل اللغة وغريب
الحديث والفقهاء المقابلة التي قطع من مقدم اذنها فلقة وتدلت في مقابلة الاذن ولم ينفصل والمدابرة
402

التي قطع من مؤخر اذنها فلقة وتدلت منه ولم تنفصل والفلقة الأولى تسمى الاقبالة والأخرى
تسمى الادبارة وقال أبو عبيد معمر بن المثنى في كتابه غريب الحديث المقابلة الموسومة بالنار في
باطن أذنها والمدابرة في ظاهر أذنها والمشهور الأول * ودليل المسألة حديث علي رضي الله عنه قال
(أمرنا رسول الله صلى عليه وسلم أن نستشرف العين والاذن وأن لا نضحي بعوراء ولا مقابلة
ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم قال
الترمذي حديث حسن صحيح وسبق تفسير الخرقاء والشرقاء في أول كلام المصنف ومعنى نستشرف
العين أي نشرف عليها ونتأملها وقد قدمنا أن هذه العيوب كلها لا تمنع الاجزاء ونقله صاحب البيان
عن أصحابنا العراقيين ثم قال وقال المسعودي يعني صاحب الديانة في إجزائها وجهان والله أعلم *
(الخامسة عشرة) إذا نذر التضحية بحيوان معين فيه عيب يمنع الاجزاء لزمه أو قال جعلت هذه
أضحية لزمه ذبحها لالتزامه ويثاب على ذلك وإن كان لا يقع أضحية كمن أعتق عن كفارة
معيبا يعتق ويثاب عليه وإن كان لا يجزئ عن الكفارة * قال أصحابنا ويكون ذبحها
قربة وتفرقة لحمها صدقة ولا تجزئ عن الهدايا والضحايا المشروعة لان السلامة شرط لها وهل
يختص ذبحها بيوم النحر وتجرى مجرى الأضحية في المصرف فيه وجهان (أحدهما) لا لأنها ليست أضحية
بل شاة لحم يجب التصدق به فتصير كمن نذر التصدق بلحم (وأصحهما) نعم لأنه التزمها باسم الأضحية
ولا محمل لكلامه الا هذا فعلى هذا لو ذبحها قبل يوم النحر تصدق بلحمها ولا يأكل منه شيئا وعليه
قيمتها يتصدق بها ولا يشتري أخرى لان المعيب لا يثبت في الذمة ذكره البغوي وغيره والله أعلم *
قال أصحابنا ولو أشار إلى ظبية وقال جعلت هذه أضحية فهو لغو لا يلزم به شئ بلا خلاف لأنها
ليست من جنس الضحايا * ولو أشار إلى فصيل أو سخلة وقال جعلت هذه أضحية فهل هو كالظبية
أم كالمعيب فيه وجهان (أصحهما) كالمعيب لأنها من جنس الحيوان الصالح للأضحية (أما) إذا
أوجبه معيبا ثم زال العيب فهل يجزئ ذبحه عن الأضحية فيه وجهان (أصحهما) وبه قطع المنصف
403

وآخرون لا لما ذكره المصنف (والثاني) يجزئ لكماله وقت الذبح * وحكى بعض
الأصحاب هذا قولا قديما والله أعلم *
(فرع) العيوب ستة أقسام عيب الأضحية والهدي والعقيقة وعيب المبيع والمستأجرة واحد
الزوجين ورقبة الكفارة والغرة الواجبة في الجنين وحدودها مختلفة فعيب الأضحية المانع من
اجزائها ما نقص اللحم * وعيب المبيع ما نقص القيمة أو العين كالخصاء وعيب الإجارة ما يؤثر
في المنفعة تأثيرا يظهر به تفاوت الأجرة لا ما يظهر به تفاوت الرقبة لأن العقد على المنفعة دون الرقبة
وعيب النكاح ما نفر سورة التواق وهو سبعة أشياء الجنون والجذام والبرص والجب والتعنين
والقرن والرتق * وعيب الكفارة ما أضر بالعمل اضرارا بينا * وعيب الغرة كعيب المبيع * فهذا
تقريب ضبطها وهي مذكورة مبسوطة في مواضعها من هذه الكتب والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في عيوب الأضحية * أجمعوا على أن العمياء لا تجزئ وكذا
العوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها والمريض البين مرضها والعجفاء واختلفوا في ذاهبة
القرن ومكسورته فمذهبنا انها تجزئ قال مالك إن كانت مكسورة القرن وهو يدمي لم تجزه
والا فتجزئه * وقال أحمد ان ذهب أكثر من نصف قرنها لم تجزه سواء دميت أم لا وإن كان
دون النصف أجزأته (وأما) مقطوعة الأذن فمذهبنا أنها لا تجزئ سواء قطع كلها أو بعضها وبه قال
مالك وداود وقال احمد ان قطع أكثر من النصف لم تجزه والا فتجزئه * وقال أبو حنيفة ان قطع
أكثر من الثلث لم تجزه * وقال أبو يوسف ومحمد ان بقي أكثر من نصف اذنها أجزأت (واما)
مقطوعة بعض الألية فلا تجزئ عندنا وبه قال مالك واحمد * وقال أبو حنيفة في رواية ان بقي
الثلث أجزأت وفي رواية ان بقي أكثرها أجزأت وقال داود تجزئ بكل حال (واما) إذا
أضجعها ليذبحها فعالجها فاعورت حال الذبح فلا تجزئ وقال أبو حنيفة وأحمد تجزئ والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
404

(والمستحب أن يضحي بنفسه لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم
(ضحى بكبشين ووضع رجله على صفاحهما وسمى وكبر) ويجوز أن يستنيب غيره لما روى
جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم (نحر ثلاثا وستين بدنة ثم أعطى عليا فنحر ما غبر منها) والمستحب
أن لا يستنيب الا مسلما لأنه قربة فكان الأفضل أن لا يتولاها كافر ولأنه يخرج بذلك من الخلاف
لان عند مالك لا يجزئه ذبحه فان استناب يهوديا أو نصرانيا جاز لأنه من أهل الذكاة * ويستحب
أن يكون عالما لأنه أعرف بسنة الذبح * والمستحب إذا استناب غيره أن يشهد الذبح لما روى
أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة رضي الله عنها (قومي
إلى أضحيتك فاشهديها فإنه بأول قطرة من دمها يغفر لك ما سلف من ذنبك)) *
(الشرح) حديث أنس رواه البخاري بلفظه وحديث جابر رواه مسلم بلفظه وهو من جملة
حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم (وأما) حديث أبي سعيد فرواه البيهقي
من رواية أبي سعيد ومن رواية على (وقوله) ما غبر أي ما بقي وهو - بفتح الغين المعجمة والباء الموحدة -
(أما) الأحكام فقال الشافعي والأصحاب يستحب ان يذبح هديه وأضحيته بنفسه قال الماوردي الا
المرأة فيستحب لها أن توكل في ذبح هديها وأضحيتها رجلا قال الشافعي والأصحاب ويجوز للرجل
والمرأة أن يوكلا في ذبحهما من تحل ذكاته والأفضل ان يوكل مسلما فقيها بباب الصيد
والذبائح والضحايا وما يتعلق بذلك لأنه اعرف بشروطه وسننه ولا يجوز ان يوكل وثنيا ولا مجوسيا
ولا مرتدا ويجوز أن يوكل كتابيا وامرأة وصبيا لكن قال أصحابنا يكره توكيل الصبي وفي كراهة
توكيل المرأة الحائض وجهان (أصحهما) لا يكره لأنه لم يصح فيه نهي والحائض أولى من الصبي
والصبي أولى من الكافر الكتابي * ويستحب إذا وكل ان يحضر ذبحها ودليل الجميع في الكتاب
قال البندنيجي وغيره ويستحب أن يتولى تفرقة اللحم بنفسه ويجوز التوكيل فيها والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا والنية شرط لصحة التضحية وهل يجوز تقديمها على حالة الذبح أم يشترط
405

قرنها به فيه وجهان (أصحهما) جواز التقديم كما في الصوم والزكاة على الأصح (والثاني) يشترط قرنها
كنية الصلاة والوضوء * ولو قال جعلت هذه الشاة ضحية فهل يكفيه التعيين والقصد عن نية التضحية
والذبح فيه وجهان (أصحهما) عند الأكثرين لا يكفيه لان التضحية قربة في نفسها فوجبت فيها النية
(ورجح) امام الحرمين والغزالي الاكتفاء لتضمنه النية وبهذا قطع الشيخ أبو حامد قال حتى لو
ذبحها يعتقدها شاة لحم أو ذبحها لص وقعت الموقع والمذهب الأول * ولو التزم ضحية في ذمته
ثم عين شاة عما في ذمته بنى على الخلاف السابق في باب الهدي ان المعينة هل تتعين عن المطلقة في
الذمة وفيه وجهان (الصحيح) وبه قطع الأكثرون تتعين (فان قلنا) لا تتعين اشترطت النية عند الذبح
وإلا فعلى الوجهين * ولو وكله ونوى عند ذبح الوكيل كفى ذلك ولا حاجة إلى نية الوكيل
بل لو لم يعلم الوكيل أنه مضح لم يضر * وان نوى عند دفعها إلى الوكيل فقط فعلى الوجهين في تقديم النية *
ويجوز تفويض النية إلى الوكيل إن كان مسلما فإن كان كتابيا فلا *
(فرع) لا يصح تضحية عبد ولا مستولدة ولا مدبر عن أنفسهم إن قلنا بالمذهب الصحيح
الجديد إنهم لا يملكون بالتمليك فان أذن لهم السيد وقعت التضحية عن السيد (وان قلنا) يملكون
لم يصح تضحيتهم بغير إذن لان له حق الانتزاع فان أذن وقعت عنهم كما لو أذن لهم في التصديق
وليس له الرجوع بعد الذبح ولا بعد جعلها ضحية (وأما) المكاتب فلا تصح تضحيته بغير إذن سيده فان
أذن فعلى القولين في تبرعه باذنه (أصحهما) الصحة (وأما) من بعضه) رقيق فله التضحية بما ملكه بحريته فلا يحتاج
إلى إذن والله أعلم *
(فرع) لو ضحى عن غيره بغير اذنه لم يقع عنه (وأما) التضحية عن الميت فقد أطلق أبو
الحسن العبادي جوازها لأنها ضرب من الصدقة والصدقة تصح عن الميت وتنفعه وتصل إليه بالاجماع
وقال صاحب العدة والبغوي لا تصح التضحية عن الميت إلا أن يوصي بها وبه قطع الرافعي في المجرد
والله أعلم * قال أصحابنا وإذا ضحى عن غيره بغير اذنه فإن كانت الشاة معينة بالنذر وقعت عن
406

المضحي والا فلا كذا قاله صاحب العدة وآخرون * وأطلق الشيخ إبراهيم المروروذي انها تقع عن
المضحي قال هو وصاحب العدة وآخرون ولو ذبح عن نفسه واشترط غيره في ثوابها جاز قالوا
وعليه يحمل الحديث المشهور عن عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح كبشا وقال بسم الله اللهم
تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد ثم ضحى به) رواه مسلم والله أعلم * واحتج العبادي وغيره
في التضحية عن الميت بحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان (يضحى بكبشين عن النبي
صلى الله عليه وسلم وبكبشين عن نفسه وقال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أضحى عنه أبدا
فأنا أضحى عنه أبدا) رواه أبو داود والترمذي والبيهقي قال البيهقي ان ثبت هذا كان فيه دلالة على
صحة التضحية عن الميت والله أعلم *
(فرع) أجمعوا على أنه يجوز أن يستنيب في ذبح أضحيته مسلما (وأما) الكتابي فمذهبنا
ومذهب جماهير العلماء صحة استنابته وتقع ذبيحته ضحية عن الموكل مع أنه مكروه كراهة
تنزيه * وقال مالك لا تصح وتكون شاه لحم * دليلنا أنه من أهل الزكاة كالمسلم
* قال المصنف رحمه الله * (والمستحب أن يوجه الذبيحة إلى القبلة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (ضحوا وطيبوا أنفسكم فإنه ما من مسلم يستقبل بذبيحته القبلة الا كان دمها وفرثها وصوفها
حسنات في ميزانه يوم القيامة) ولأنه قربة لابد فيها من جهة فكانت جهة القبلة أولى * ويستحب أن
يسمى الله تعالى لحديث انس ان النبي صلى الله عليه وسلم (سمى وكبر) ويستحب أن يقول (اللهم تقبل
منى) لما روي عن ابن عباس أنه قال (ليجعل أحدكم ذبيحته بينه وبين القبلة ثم يقول من الله والى الله
والله أكبر اللهم منك ولك اللهم تقبل) وعن ابن عمر انه كان إذا ضحى قال (من الله والله أكبر
اللهم منك ولك اللهم تقبل منى) *
(الشرح) حديث انس رواه البخاري ومسلم ولفظ مسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
407

(باسم الله والله أكبر) ولفظ البخاري (سمى وكبر) (واما) حديث عائشة فذكره البيهقي وقال
اسناده ضعيف (واما) الأثر عن ابن عباس فرواه البخاري بمعناه ويغني عنه حديث عائشة المذكور
في الفرع قبل هذا وهو في صحيح مسلم ودلالته ظاهرة ويا ليت المصنف احتج به (اما) الأحكام فمقصود
الفصل بيان آداب الذبح وسننه سواء في ذلك الهدى والأضحية وغيرهما وفيه مسائل (إحداها)
يستحب تحديد السكين وإراحة الذبيحة وقد ذكره المصنف في باب الصيد والذبائح بدليله وهناك
نشرحه إن شاء الله تعالى (الثانية) يستحب امرار السكين بقوة وتحامل ذهابا وعودا ليكون أوجى
وأسهل (الثالثة) استقبال الذابح القبلة وتوجيه الذبيحة إليها وهذا مستحب في كل ذبيحة لكنه في الهدى
والأضحية أشد استحبابا لان الاستقبال في العبادات مستحب وفي بعضها واجب وفي كيفية توجيهها
ثلاثة أوجه حكاها الرافعي (أصحها) يوجه مذبحها إلى القبلة ولا يوجه وجهها ليمكنه هو أيضا الاستقبال
(والثاني) يوجهها بجميع بدنها (والثالث) يوجه قوائمها * ويستحب أن ينحر البعير قائما على
ثلاث قوائم معقول الركبة والا فباركا * ويستحب أن يضجع البقر والشاة على جنبها الأيسر
هكذا صرح به البغوي والأصحاب قالوا ويترك رجلها اليمنى ويشد قوائمها الثلاث (الرابعة)
التسمية مستحبة عند الذبح والرمي إلى الصيد وارسال الكلب ونحوه فلو تركها عمدا أو سهوا
حلت الذبيحة لكن تركها عمدا مكروه على المذهب الصحيح كراهة تنزيه لا تحريم وفي تعليق
الشيخ أبي حامد أنه يأثم به والمشهور الأول * وهل يتأدى الاستحباب بالتسمية عند عض
الكلب وإصابة السهم فيه وجهان (أصحهما) نعم وهذا الخلاف في كمال الاستحباب (فاما) إذا ترك التسمية عند
الارسال فيستحب تداركها عند الإصابة بلا خلاف كما لو ترك التسمية في أول الوضوء والاكل يستحب
التسمية في أثنائهما * قال أصحابنا ولا يجوز أن يقول الذابح باسم محمد ولا باسم الله واسم محمد بل من
حق الله تعالى أن يجعل الذبح باسمه واليمين باسمه والسجود له لا يشاركه في ذلك مخلوق وذكر الغزالي
في الوسيط أنه لا يجوز أن يقول باسم الله ومحمدا رسول الله لأنه تشريك قال ولو قال باسم الله ومحمد
408

رسول الله فلا بأس * قال الرافعي ويناسب هذه المسائل ما حكى في الشامل وغيره عن نص الشافعي رحمه
الله أنه لو كان لأهل الكتاب ذبيحة يذبحونها باسم غير الله تعالى كالمسيح لم تحل * وفي كتاب القاضي
ابن كج أن اليهودي لو ذبح لموسى أو النصراني لعيسى صلى الله عليهما وسلم أو للصليب حرمت ذبيحته وأن
المسلم لو ذبح للكعبة أو ذبح لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيقوى أن يقال يحرم لأنه ذبح لغير الله
تعالى قال وخرج أبو الحسين بن القطان وجها آخر أنها تحل لان المسلم يذبح لله تعالى ولا يعتقد في رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما يعتقده النصراني في عيسى * قالوا وإذا ذبح للصنم لم تؤكل ذبيحته سواء كان
الذابح مسلما أو نصرانيا * وفي تعليق الشيخ إبراهيم المروروذي أن ما يذبح عند استقبال السلطان
تقربا إليه أفتى أهل نجران بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله تعالى * قال الرافعي واعلم أن الذبح للمعبود
وباسمه نازل منزلة السجود وكل واحد منهما من أنواع التعظيم والعبادة المخصوصة بالله تعالى الذي هو
المستحق للعبادة فمن ذبح لغيره من حيوان أو جماد كالصنم على وجه التعظيم والعبادة لم تحل ذبيحته
وكان فعله كفرا كمن يسجد لغير الله تعالى سجدة عبادة فكذا لو ذبح له أو لغيره على هذا
الوجه (فأما) إذا ذبح لغيره لا على هذا الوجه بأن ضحى أو ذبح للكعبة
تعظيما لها لكونها بيت الله تعالى أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم لكونه رسول الله فهو لا يجوز
ان يمنع حل الذبيحة والى هذا المعنى يرجع قول القائل أهديت للحرم أو الكعبة ومن هذا القبيل الذبح
عند استقبال السلطان لأنه استبشار بقدومه نازل منزلة ذبح العقيقة لولادة المولود ومثل هذا لا يوجب
الكفر وكذا السجود للغير تذللا وخضوعا لا يوجب الكفر وإن كان ممنوعا * وعلى هذا فإذا
قال الذابح باسم الله واسم محمد وأراد أذبح باسم الله وأتبرك باسم محمد فينبغي أن لا يحرم وقول من
قال لا يجوز ذلك يمكن حمله على أن اللفظة مكروهة لان المكروه يصح نفي الجواز والإباحة المطلقة عنه *
قال ووقعت منازعة بين جماعة ممن لقيناهم من فقهاء قزوين في أن من ذبح باسم الله واسم رسوله هل
تحرم ذبيحته وهل يكفر بذلك وأفضت تلك المنازعة إلى فتنة قال والصواب ما بيناه هذا كلام الرافعي
409

وقد أتقن رحمه الله هذا الفصل ومما يؤيد ما قاله واختاره ما ذكره إبراهيم المروروذي في تعليقه قال حكى
صاحب التقريب عن الشافعي رحمه الله ان النصراني إذا سمى غير الله تعالى كالمسيح لم تحل ذبيحته
قال صاحب التقريب معناه أن يذبحها له فأما إن ذكر المسيح على معنى الصلاة على رسول الله صلى الله
عليه وسلم فجائز قال وقال الحليمي تحل مطلقا وان سمى المسيح والله أعلم *
(فرع) قال ابن كج من ذبح شاة وقال أذبح لرضاء فلان حلت الذبيحة لأنه يتقرب إليه
بذلك بخلاف من ذبح للصنم * وذكر الروياني أن من ذبح للجن وقصد به التقريب إلى الله تعالى
ليصرف شرهم عنه فهو حلال وان قصد الذبح لهم فحرام *
(فرع) يستحب مع التسمية على الذبيحة أن يصلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم عند
الذبح نص عليه الشافعي في الام وبه قطع المصنف في التنبيه وجماهير الأصحاب وفيه وجه لابن
أبي هريرة أنه لا يستحب ولا يكره وعجب أن المصنف هنا كيف أهمل ذكر هذه المسألة مع شهرتها
وذكره إياها في التنبيه والله أعلم * هذا مذهبنا * ونقل القاضي عياض عن مالك وسائر العلماء
كراهتها قالوا ولا يذكر عند الذبح إلا الله وحده *
(فرع) يستحب أن يقول عند التضحية مع التسمية اللهم منك واليك تقبل مني * وحكى
الماوردي وجها أنه لا يستحب وهذا شاذ ضعيف والمذهب ما سبق * ولو قال تقبل مني كما تقبلت
من إبراهيم خليلك ومحمد عبدك ورسولك صلى الله عليهما وسلم لم يكره ولم يستحب كذا نقله
الروياني في البحر عن الأصحاب * واتفق أصحابنا على استحباب التكبير مع التسمية فيقول بسم
الله والله أكبر لحديث أنس المذكور وهو صحيح كما سبق * قال الماوردي يختار في الأضحية
أن يكبر الله تعالى قبل التسمية وبعدها ثلاثا فيقول الله أكبر الله أكبر الله أكبر والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في التسمية على ذبح الأضحية وغيرها من الذبائح وعلى إرسال الكلب
والسهم وغيرهما إلى الصيد * مذهبنا أنها سنة في جميع ذلك فان تركها سهوا أو عمدا حلت الذبيحة ولا
410

إثم عليه قال العبدري وروى هذا عن ابن عباس وأبي هريرة وعطاء * وقال أبو حنيفة التسمية شرط
للإباحة مع الذكر دون النسيان وهذا مذهب جماهير العلماء * وعن أصحاب مالك قولان (أصحهما)
كمذهب أبي حنيفة (والثاني) كمذهبنا * وعن أحمد ثلاث روايات (الصحيحة) عندهم والمشهورة
عنه أن التسمية شرط للإباحة فان تركها عمدا أو سهوا في صيد فهو ميتة (والثانية) كمذهب أبي حنيفة
(والثالثة) إن تركها على إرسال السهم ناسيا أكل وان تركها على الكلب والفهد لم يؤكل قال وان تركها
في ذبيحة سهوا حلت وان تركها عمدا فعنه روايتان * وقال ابن سيرين وأبو ثور وداود لا تحل سواء
تركها عمدا أو سهوا هذا نقل العبدري * وقال ابن المنذر عن الشعبي ونافع كمذهب ابن سيرين قال
وممن أباح أكل ما تركت التسمية عليه ابن عباس وأبو هريرة وسعيد بن المسيب وطاوس وعطاء
والحسن البصري والنخعي وعبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد والحكم وربيعة ومالك والثوري
واحمد وإسحاق وأبو حنيفة * واحتج لمن شرط التسمية بقوله تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم
الله عليه وانه لفسق) وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر
اسم الله وكل ما أمسك عليك) وفي رواية (فان خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل فإنما سميت
على كلبك ولم تسم على غيره) وفي رواية (إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله) وفي رواية (إذا
رميت سهمك فاذكر الله) رواه البخاري ومسلم بهذه الروايات * وعن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال له (وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل
وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله تعالى عليه فكل) وفى رواية (فما صدت بقوسك فاذكر
اسم الله ثم كل وما صدت بكلبك المعلم فاذكر اسم الله ثم كل) واحتج أصحابنا بقول الله تعالى
(حرمت عليكم الميتة والدم) إلى قوله تعالى (الا ما ذكيتم) فأباح المذكى ولم يذكر التسمية (فان قيل)
لا يكون مذكى الا بالتسمية (قلنا) الذكاة في اللغة الشق والفتح وقد وجدا وأيضا قوله تعالى (وطعام
الذين أوتوا الكتاب حل لكم) فأباح ذبائحهم ولم يشترط التسمية * وبحديث عائشة رضى الله
411

عنها أنهم قالوا (يا رسول الله إن قومنا حديث عهد بالجاهلية يأتون بلحمان لا ندري أذكروا
اسم الله عليه أم لم يذكروا فنأكل منها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سموا وكلوا) حديث صحيح رواه
البخاري في صحيحه ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بأسانيد صحيحة كلها فاسناد النسائي
وابن ماجة على شرط البخاري ومسلم واسناد أبي داود على شرط البخاري * قال أصحابنا
وقوله صلى الله عليه وسلم (سموا وكلوا) هذه التسمية المستحبة عند أكل كل طعام
وشرب كل شراب فهذا الحديث هو المعتمد في المسألة وأحاديث أبي هريرة قال (جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله أرأيت الرجل يذبح وينسى أن يسمي فقال النبي
صلى الله عليه وسلم اسم الله على كل مسلم) فهذا حديث منكر مجمع على ضعفه ذكره البيهقي
وبين أنه منكر ولا يحتج به وهذا حديث الصلت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ذبيحة
المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر) فهذا حديث مرسل ذكره أبو داود في المراسيل والبيهقي (وأجاب)
أصحابنا عن الآية التي احتج بها الأولون أن المراد ما ذبح للأصنام كما قال تعالى في الآية الأخرى
(وما ذبح على النصب وما أهل به لغير الله) ولهذا قال تعالى (ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وانه
لفسق) وقد أجمعت الأمة على أن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق فوجب حملها على ما ذكرناه
ويجمع بينها وبين الآيات السابقات مع حديث عائشة (وأجاب) بعض أصحابنا بجواب آخر وهو
حمل النهي على كراهة التنزيه جمعا بين الأدلة (والجواب) عن حديثي علي وأبي ثعلبة ان ذكر
التسمية للندب (وجواب) آخر عن قوله صلى الله عليه وسلم (فإنما سميت على كلبك) ان المراد بالتسمية
الارسال والله أعلم *
(فرع) في مذاهبهم في مسائل مما سبق * يستحب عندنا أن يقول في ذبح الأضحية (اللهم
منك ولك فتقبل مني) وبه قال ابن عباس وكرهه ابن سيرين ومالك وأبو حنيفة * دليلنا حديث
عائشة السابق (وأما) الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح فمستحبة عندنا وكرهها الليث
412

ابن سعد وابن المنذر
* قال المصنف رحمه الله *
(وإذا نحر الهدي أو الأضحية نظرت فإن كان تطوعا فالمستحب أن يأكل منه لما روى جابر ان
النبي صلى الله عليه وسلم (نحر ثلاثا وستين بدنة ثم أعطى عليا رضي الله عنه فنحر ما غبر) وأشركه في هديه
وامر من كل بدنة ببضعة فجعلها في قدر فطبخت فاكل من لحمها وشرب من مرقها ولا يجب ذلك
لقوله عز وجل (والبدن جعلناها لكم من شعائر الله) فجعلها لنا وما هو للانسان فهو مخير بين
اكله وبين تركه وفي القدر الذي يستحب أكله قولان قال في القديم يأكل النصف ويتصدق بالنصف لقوله
عز وجل (فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير) فجعلها بين اثنين فدل على أنها بينهما نصفين وقال
في الجديد يأكل الثلث ويهدي الثلث ويتصدق بالثلث لقوله عز وجل (فكلوا منها وأطعموا القانع
والمعتر) قال الحسن القانع الذي يسألك والمعتر الذي يتعرض لك ولا يسألك وقال مجاهد القانع الجالس
في بيته والمعتر الذي يسألك فجعلها بين ثلاثة فدل على أنها بينهم أثلاثا (واما) القدر الذي يجوز أن يؤكل
ففيه وجهان قال أبو العباس بن سريج وأبو العباس بن القاص يجوز ان يأكل الجميع لأنها ذبيحة يجوز أن يأكل
منها فجاز ان يأكل جميعها كسائر الذبائح وقال عامة أصحابنا يجب أن يبقى منها قدر ما يقع عليه اسم الصدقة
لان القصد منها القربة فإذا اكل الجميع لم تحصل القربة له فان اكل الجميع لم يضمن على قول أبي العباس
وابن القاص ويضمن على قول سائر أصحابنا وفي القدر الذي يضمن وجهان (أحدهما) يضمن أقل
ما يجزئ في الصدقة (والثاني) يضمن القدر المستحب وهو الثلث في أحد القولين والنصف في الاخر
بناء على القولين فيمن فرق سهم الفقراء على اثنين * وإن كان نذرا نظرت فإن كان قد عينه عما في ذمته لم
يجز أن يأكل منه لأنه بدل عن واجب فلم يجز أن يأكل منه كالدم الذي يجب بترك الاحرام من الميقات وإن كان
نذر مجازاة كالنذر لشفاء المريض وقدوم الغائب لم يجز أن يأكل منه لأنه جزاء فلم يجز أن يأكل منه
كجزاء الصيد فان أكل شيئا منه ضمنه وفي ضمانه ثلاثة أوجه (أحدها) يلزمه قيمة ما أكل كما لو أكل
منه أجنبي (والثاني) يلزمه مثله من اللحم لأنه لو أكل جميعه ضمنه بمثله فإذا أكل بعضه ضمنه بمثله (والثالث)
413

يلزمه أن يشترى جزءا من حيوان مثله ويشارك في ذبحه * وإن كان نذرا مطلقا ففيه ثلاثة أوجه (أحدها)
أنه لا يجوز أن يأكل منه لأنه إراقة دم واجب فلا يجوز أن يأكل منه كدم الطيب واللباس (والثاني)
يجوز لان مطلق النذر يحمل على ما تقرر في الشرع والهدي والأضحية المعهودة في الشرع يجوز الاكل
منها فحمل النذر عليه (والثالث) انه إن كان أضحية جاز أن يأكل منها لان الأضحية المعهودة في الشرع
يجوز الاكل منها وإن كان هديا لم يجز أن يأكل منه لان أكثر الهدايا في الشرع لا يجوز الاكل
منها فحمل النذر عليها) *
(الشرح) حديث جابر رواه مسلم في صحيحه بحروفه والبضعة - بفتح الباء لا غير - وهي القطعة
من اللحم (وقوله) ما غبر أي ما بقي (وقوله) وأشركه في هديه أي في ثوابه وإنما أخذ بضعة من كل
بدنة وشرب من مرقها ليكون قد تناول من كل واحدة شيئا (وقوله) لأنه ذبيحة يجوز أن يأكل منها
احتراز من جزاء الصيد والمنذورة (أما) الأحكام فللأضحية والهدي حالان (أحدهما) أن يكون
تطوعا فيستحب الاكل منهما ولا يجب بل يجوز التصدق بالجميع هذا هو المذهب وبه قطع جماهير
الأصحاب وهو مذهب عامة العلماء * وحكى الماوردي عن أبي الطيب بن سلمة وجها أنه لا يجوز
التصدق بالجميع بل يجب أكل شئ لظاهر قوله تعالى (فكلوا منها وأطعموا) والصحيح الأول * قال
أصحابنا والأفضل ان يتصدق بأدنى جزء كفاه بلا خلاف لان اسم الاطعام والتصدق يقع عليه *
414

وفي القدر الذي يستحب أن لا ينقص التصدق عنه قولان (القديم) يأكل النصف ويتصدق
بالنصف (والأصح) الجديد قال الرافعي واختلفوا في التعبير عن الجديد فنقل جماعة عنه أنه
يأكل الثلث ويتصدق بالثلثين ونقل المصنف وآخرون عنه أنه يأكل الثلث ويتصدق
بالثلث على المساكين ويهدى الثلث إلى الأغنياء أو غيرهم وممن حكى هذا الشيخ أبو حامد ثم قال
أبو حامد ولو تصدق بالثلثين كان أفضل * قال الرافعي ويشبه أن لا يكون اختلاف في الحقيقة بل
من اقتصر على التصدق بالثلثين ذكر الأفضل أو توسع فعد الهدية صدقة قال والمفهوم من كتاب
الأصحاب أن الهدية لا تغني عن التصدق بشئ إذا أوجبناه وإنما لا تستحب من القدر الذي يستحب
التصدق به * واتفق أصحابنا على أنه يجوز أن يصرف القدر الذي لا بد من التصدق به إلى مسكين
واحد بخلاف سهم الصنف الواحد من الزكاة فإنه لا يجوز صرفه إلى أقل من ثلاثة * والفرق أنه يجوز
هنا الاقتصار على جزء يسير بحيث لا يمكن صرفه إلى أكثر من واحد * قال أصحابنا وليس له ان
يتلف من لحم المتطوع بها شيئا بل يأكل ويطعم ولا يجوز تمليك الأغنياء منها شيئا وإنما يجوز اطعامهم
والهدية إليهم ويجوز تمليك الفقراء منها ليتصرفوا فيه بالبيع وغيره فلو أصلح الطعام ودعا إليه الفقراء
قال امام الحرمين الذي ينقدح عندي أنا إذا أوجبنا التصدق بشئ أنه لابد من التمليك كما في
الكفارة وكذا صرح به الروياني فقال لا يجوز أن يدعو الفقراء ليأكلوه مطبوخا لان حقهم في
تملكه قال وان دفع مطبوخا لم يجز بل يفرقه نيئا لان المطبوخ كالخبز في الفطرة والله أعلم * وهل
415

يشترط التصدق منها بشئ أم يجوز اكلها جميعها فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما
(أحدهما) يجوز أكل الجميع قاله ابن سريج وابن القاص والاصطخري وابن الوكيل وحكاه
ابن القاص عن نص الشافعي قالوا وإذا أكل الجميع ففائدة الأضحية حصول الثواب بإراقة لدم بنية
القربة (والقول الثاني) وهو قول جمهور أصحابنا المتقدمين وهو الأصح عند جماهير المصنفين منهم
المصنف في التنبيه يجب التصدق بشئ يطلق عليه الاسم لان المقصود ارفاق المساكين فعلى هذا ان
أكل الجميع لزمه الضمان وفي قدر الضمان خلاف (المذهب) منه ان يضمن ما ينطلق
عليه الاسم (وفي قول) وبعضهم يحكيه وجها أنه يضمن القدر الذي يستحب أن لا ينقص في التصدق
عنه وهو النصف أو الثلث فيه القولان السابقان ودليل الجميع في الكتاب * قال المصنف وغيره وهذا
الخلاف مبني على القولين فيمن دفع سهم صنف من أصناف الزكاة إلى اثنين مع وجود الثالث * وحكى
ابن كج والماوردي والدارمي وجها شاذا أنه يضمن الجميع بأكثر الامرين من قيمتها ومثلها لأنه عدل
عن حكم الأضحية بأكله الجميع فكأنه أتلفها وهذا الوجه حكي عن أبي إسحاق المروزي وأبي على
ابن أبي هريرة وحكاه الدارمي عن ابن القطان وعلى هذا يذبح البدل في وقت التضحية فان اخره عن
أيام التشريق ففي اجزائه وجهان (أصحهما) يجزئه وفي جواز الأكل من البدل وجهان * وهذا الوجه
المحكي عن ابن كج والماوردي وما تفرع عليه شاذ ضعيف والمعروف ما سبق من الخلاف * ثم ما ضمنه على
416

الخلاف السابق لا يتصدق به دراهم بل فيما يلزمه وجهان (أحدهما) صرفه إلى شقص أضحية (والثاني)
وهو الأصح يكفي ان يشتري به لحما ويتصدق به هذا هو المشهور * وحكى صاحب البيان وجها ثالثا
انه يتصدق به دراهم وادعى انه الأصح المنصوص * وعلى الوجهين الأولين يجوز تأخير الذبح والتفرقة
عن أيام التشريق لان الشقص واللحم ليس بأضحية ولا يشترط فيه وقتها ولا يجوز أن يأكل منه والله أعلم
* (الحال الثاني) أن يكون الهدي أو الأضحية منذورا قال الأصحاب كل هدى وجب ابتداء من
غير التزام كدم التمتع والقران وجبرانات الحج لا يجوز الاكل منه بلا خلاف فلو اكل منه غرم
ولا يجب إراقة الدم ثانيا وفيما يغرمه أوجه (أصحها) وهو نصه في القديم يغرم قيمة اللحم كما لو أتلفه غيره
(والثاني) يلزمه مثل ذلك اللحم فيتصدق به (والثالث) يلزمه شقص من حيوان مثله ويشارك في
ذبيحة لان ما اكله بطل حكم إراقة الدم فيه فصار كما لو ذبحه واكل الجميع فإنه يلزمه دم آخر (واما)
الملتزم بالنذر من الهدايا فان عينه بالنذر عما في ذمته من دم حلق أو تطيب ولباس وغير ذلك لم يجز
له الاكل منه كما لو ذبح شاة بهذه النية بغير نذر وكالزكاة * وإن نذر نذر مجازاة كتعليقه التزام الهدي
أو الأضحية بشفاء المريض ونحوه لم يجز الاكل منه أيضا كجزاء الصيد * ومقتضى كلام الأصحاب
انه لا فرق بين كون الملتزم معينا أو مرسلا في الذمة ثم يذبح عنه فان أطلق الالتزام فلم يعلقه بشئ
وقلنا بالمذهب انه يصح نذره ويلزمه الوفاء نظر فإن كان الملتزم معينا بان قال لله علي ان أضحي
بهذه أو اهدى هذه ففي جواز الأكل منها قولان ووجه أو ثلاثة أوجه (أصحها) لا يجوز الاكل
من الهدي ولا الأضحية (والثاني) يجوز (والثالث) يجوز من الأضحية دون الهدي وأدلة الثلاثة
في الكتاب * ومن هذا القبيل ما إذا قال جعلت هذه الشاة ضحية من غير تقدم التزام (اما) إذا
التزم في الذمة ثم عين شاة عما عليه فإن لم نجوز الاكل من المعينة ابتداء فههنا أولى والا فقولان
أو وجهان (الأصح) لا يجوز * قال الرافعي هكذا فصل حكم الاكل من الملتزم كثيرون من المعتبرين
وهو المذهب وأطلق جماعة في جواز الأكل وجهين ولم يفرقوا بين نذر المجازاة وغيره ولا بين
417

الملتزم المعين والمرسل بالمنع قال أبو إسحاق قال المحاملي وغيره وهو المذهب واختار القفال والامام
الجواز قال الرافعي ويشبه أن يتوسط فيرجح في المعين الجواز وفي المرسل المنع سواء عين عينه ثم
ذبح أو ذبح بلا تعيين لأنه عن دين في الذمة فأشبه الجبرانات وبهذا قال الماوردي وهو مقتضى
سياق الشيخ أبي على * وحيث منعنا الاكل في المنذورة فأكل فعليه الغرم وفيما يغرمه الأوجه الثلاثة
السابقة في الجبرانات * وحيث جوزنا الاكل ففي قدر ما يأكله القولان في أضحية التطوع كذا
قاله البغوي * قال الرافعي ولك ان تقول ذلك الخلاف في قدر المستحب أكله ولا يبعد أن يقال
لا يستحب الاكل وأقل ما في تركه الخروج من الخلاف والله أعلم *
(فرع) يجوز ان يدخر من لحم الأضحية وكان ادخارها فوق ثلاثة أيام منهيا عنه ثم اذن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وذلك ثابت في الأحاديث الصحيحة المشهورة * قال جمهور أصحابنا
كان النهى نهى تحريم وقال أبو علي الطبري يحتمل التنزيه وذكر الأصحاب على التحريم وجهين في أن
النهي كان عاما ثم نسخ أم كان مخصوصا بحالة الضيق الواقع تلك السنة فلما زالت انتهى التحريم وجهين
على الثاني في أنه لو حدث مثل ذلك في زماننا هل يحكم به والصواب المعروف انه لا يحرم الادخار
اليوم بحال وإذا أراد الادخار فالمستحب أن يكون من نصيب الاكل لا من نصيب الصدقة والهدية (واما)
قول الغزالي في الوجيز يتصدق بالثلث ويأكل الثلث ويدخر الثلث فغلط ظاهر من حيث النقل والمعنى
قال الرافعي هذا غلط لا يكاد يوجد في كتاب متقدم ولا متأخر والصواب المعروف ما قدمناه وقد قال
الشافعي في المبسوط أحب ان لا يتجاوز بالاكل والادخار الثلث وان يهدي الثلث ويتصدق بالثلث
هذا نصه بحروفه وقد نقله أيضا القاضي أبو حامد في جامعه ولم يذكر غيره وهذا تصريح بالصواب
ورد لقول الغزالي والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في الاكل من الضحية والهدية الواجبين * قد ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يجوز
الاكل منهما سواء كان جبرانا أو منذورا وكذا قال الأوزاعي وداود الظاهري لا يجوز الاكل من
418

الواجب * وقال أبو حنيفة يجوز الاكل من دم القران والتمتع وبناه على مذهبه في أن دم القران
والتمتع دم نسك لا جبران * وكذا قال احمد لا يأكل من شئ من الهدايا الا من دم التمتع والقران
ودم التطوع * وقال مالك يأكل من الهدايا كلها الا جزاء الصيد ونسك الأذى والمنذور وهدى
التطوع إذا عطب قبل محله * وحكى ابن المنذر عن الحسن البصري أنه لا بأس أن يأكل من جزاء
الصيد وغيره والله أعلم *
(فرع) الاكل من أضحية التطوع وهديه سنة ليس بواجب * هذا مذهبنا ومذهب مالك
وأبي حنيفة والجمهور وأوجبه بعض السلف وهو وجه لنا سبق * وممن استحب ان يأكل ثلثا ويتصدق
بثلث ويهدى ثلثا ابن مسعود وعطاء واحمد وإسحاق *
(فرع) قال ابن المرزبان من اكل بعض الأضحية وتصدق ببعضها هل يثاب على جميعها أم على
ما تصدق به فقط فيه وجهان كالوجهين فيمن نوى صوم التطوع ضحوة هل يثاب من أول النهار أم من
وقت النية فقط قال الرافعي ينبغي ان يقال له ثواب التضحية بالجميع وثواب التصدق بالبعض وهذا
الذي قاله الرافعي هو الصواب الذي تشهد به الأحاديث والقواعد وممن جزم به تصريحا الشيخ الصالح
إبراهيم المروروذي والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(ولا يجوز بيع شئ من الهدى والأضحية نذرا كان أو تطوعا لما روي عن علي رضي الله عنه
قال (امرني رسول الله صلى الله عليه وسلم ان أقوم على بدنه فاقسم جلالها وجلودها وأمرني ان
لا أعطي الجازر منها شيئا وقال نحن نعطيه من عندنا) ولو جاز اخذ العوض عنه لجاز ان يعطي
الجازر في اجرته ولأنه إنما اخرج ذلك قربة فلا يجوز ان يرجع إليه الا ما رخص فيه
وهو الاكل) *
(الشرح) حديث علي رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم بلفظه وجلالها - بكسر الجيم - جمع
جل * واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه لا يجوز بيع شئ من الهدي والأضحية نذرا
419

كان أو تطوعا سواء في ذلك اللحم والشحم والجلد والقرن والصوف وغيره ولا يجوز جعل الجلد
وغيره اجرة للجزار بل يتصدق به المضحي والمهدي أو يتخذ منه ما ينتفع بعينه كسقاء أو دلو أو
خف وغير ذلك * وحكى امام الحرمين ان صاحب التقريب حكى قولا غريبا انه يجوز بيع الجلد
والتصدق بثمنه ويصرف مصرف الأضحية فيجب التشريك فيه كالانتفاع باللحم * والصحيح
المشهور الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي وقطع به الجمهور انه لا يجوز هذا البيع كما لا يجوز بيعه
لاخذ ثمنه لنفسه وكما لا يجوز بيع اللحم والشحم * قال أصحابنا ولا فرق في بطلان البيع بين بيعه بشئ
ينتفع به في البيت وغيره والله أعلم * ويستحب أن يتصدق بجلالها ونعالها التي قلدتها ولا يلزمه ذلك
صرح به البندنيجي وغيره والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا لا يكفي التصدق بالجلد إذا قلنا بالمذهب أنه يجب التصدق بشئ من اللحم
لان المقصود هو اللحم قالوا والقرن كالجلد *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا أنه لا يجوز بيع جلد الأضحية ولا غيره من أجزائها لا بما ينتفع به في البيت
ولا بغيره وبه قال عطاء والنخعي ومالك وأحمد وإسحاق هكذا حكاه عنهم ابن المنذر ثم حكى عن ابن
عمر واحمد واسحق أنه لا بأس أن يبيع جلد هديه ويتصدق بثمنه * قال ورخص في بيعه أبو ثور وقال
النخعي والأوزاعي لا بأس أن يشتري به الغربال والمنخل والفأس والميزان ونحوها قال وكان الحسن
وعبد الله بن عمير لا يريان بأسا أن يعطى الجزار جلدها وهذا غلط منابذ للسنة * وحكى أصحابنا عن
أبي حنيفة أنه يجوز بيع الأضحية قبل ذبحها وبيع ما شاء منها بعد ذبحها ويتصدق بثمنه قالوا وان باع
جلدها بآلة البيت جاز الانتفاع بها * دليلنا حديث علي رضي الله عنه والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(ويجوز أن ينتفع بجلدها فيصنع منه النعال والخفاف والفراء لما روت عائشة
رضي الله عنها قالت (دف ناس من أهل البادية حضرة الأضحى في زمان رسول الله صلى الله
420

عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ادخروا الثلث وتصدقوا بما بقي فلما كان بعد ذلك قيل
لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله لقد كان الناس ينتفعون من ضحاياهم ويجملون منها الودك
ويتخذون منها الأسقية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ذاك قالوا يا رسول الله نهيت عن
امساك لحوم الأضاحي بعد ثلاث فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما نهيتكم من أجل الدافة فكلوا
وتصدقوا وادخروا) فدل على أنه يجوز اتخاذ الأسقية منها) *
(الشرح) حديث عائشة رواه مسلم بحروفه والفراء معروفة وهي بالمد جمع فرو ويقال فروة
بالهاء لغتان الفصيح بلا هاء (قوله) دف بالفاء أي جاء قال أهل اللغة الدافة قوم يسيرون جماعة سيرا
ليس بالشديد يقال هم يدفون دفيفا (والبادية) والبدو بمعنى وهو مأخوذ من البدو وهو الظهور (قولها)
حضرة هو - بنصب التاء - أي في وقت حضور الأضحى ويجوز فتح الحاء وكسرها وضمها
ثلاث لغات ويجوز حضر - بفتح الحاء وحذف الهاء - (قوله) ويجملون الودك هو بالجيم
ويجوز فتح الياء وضمها والفتح أفصح - قال أهل اللغة يقال جملت اللحم أجمله بضم الميم جملا
وأجملته واجتملته إذا أذبته والأول أفصح وأشهر (اما) حكم المسألة قال الشافعي والأصحاب يجوز
ان ينتفع بجلد الأضحية بجميع وجوه الانتفاع بعينه فيتخذ منه خفا أو نعلا أو دلوا أو فروا أو سقاء
أو غربالا أو نحو ذلك وله ان يعيره وليس له أن يؤجره (واعلم) ان هذا الذي ذكرناه من جواز
الانتفاع بالجلد هو في جلد أضحية يجوز الاكل من لحمها وهي الأضحية والهدي المتطوع بهما وكذا
الواجب إذا جوزنا الاكل منه وإذا لم نجوزه وجب التصدق به كاللحم ومن نبه عليه الشيخ أبو حامد
في تعليقه وصاحب البيان وغيرهما *
(فرع) قال الشيخ أبو حامد والبندنيجي والأصحاب إذا أعطى المضحي الجازر شيئا من لحم
الأضحية أو جلدها فان أعطاه لجزارته لم يجز وان أعطاه أجرته ثم أعطاه اللحم لكونه فقيرا جاز
كما يدفع إلى غيره من الفقراء والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
421

(ويجوز أن يشترك السبعة في بدنة وفي بقرة لما روى جابر رضي الله عنه قال (نحرنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة) فان اشترك جماعة في بدنة أو بقرة
وبعضهم يريد اللحم وبعضهم يريد القربة جاز لان كل سبع منها قائم مقام شاة * فان أرادوا القسمة
وقلنا إن القسمة افراز النصيبين قسم بينهم وان قلنا إن القسمة بيع لم تجز القسمة فيملك من أراد
القسمة نصيبه لثلاثة من الفقراء فيصيرون شركاء لمن يريد اللحم ثم إن شاؤوا باعوا نصيبهم ممن يريد
اللحم وان شاءوا باعوا من أجنبي وقسموا الثمن * وقال أبو العباس بن القاص تجوز القسمة قولا
واحدا لأنه موضع ضرورة لان بيعه لا يمكن وهذا خطأ لأنا بينا أنه يمكن البيع فلا ضرورة
لهم إلى القسمة) *
(الشرح) حديث جابر رضي الله عنه رواه مسلم في صحيحه وقد سبق بيانه في أول هذا الباب
وذكرنا هناك أن البدنة تجزئ عن سبعة وكذلك البقرة سواء كانوا مضحين أو بعضهم مضحيا
وبعضهم يريد اللحم وسواء كانوا أهل بيت أو أبيات وسواء كانت أضحية تطوع أو منذورة وذكرنا
هناك مذاهب العلماء والدليل عليهم * قال أصحابنا وإذا اشترك جماعة في بدنة أو بقرة وأرادوا القسمة
فطريقان (أحدهما) القطع بجواز القسمة للضرورة وهذا قول ابن القاص صاحب التلخيص (والثاني)
وهو المذهب وبه قال جماهير الأصحاب أنه يبني على أن القسمة بيع أو فرز النصيبين وفيها قولان
مشهوران (الأصح) في قسمة الاجزاء كاللحم وغيره أنها فرز النصيبين (والثاني) انها بيع (فان قلنا)
افراز جازت (وان قلنا) بيع فبيع اللحم الرطب بمثله لا يجوز فالطريق أن يدفع المتقربون نصيبهم إلى
الفقراء مشاعا ثم يشتريها منهم من أراد اللحم ولهم بيع نصيبهم بعد قبضه سواء باعوه للشريك
المريد اللحم أو لغيره أو يبيع مريد اللحم نصيبه للفقراء بدراهم أو غيرها وان شاؤوا جعلوا اللحم
اجزاء باسم كل واحد جزء فإذا كانوا سبعة قسم سبعة اجزاء فيأخذ كل واحد جزءا إلى يده ثم
يشتري كل واحد من كل واحد من أصحابه سبع ذلك الجزء الذي في يده بدرهم مثلا ويبيع
422

لكل واحد من أصحابه سبع الذي في يده بدرهم ثم يتقاصون في الدرهم والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(إذا نذر أضحية بعينها فالحكم فيها كالحكم في الهدي المنذور في ركوبها وولدها ولبنها وجز
صوفها وتلفها واتلافها وذبحها ونقصانها بالعيب وقد بينا ذلك في باب الهدي فأغنى عن الإعادة
وبالله التوفيق) *
(الشرح) هذا كما قاله والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بالباب (إحداها) في تعيين الأضحية وغيرها وقد جمعها الرافعي
ملخصة فأحسن جمعها فقال قد قدمنا أن النية شرط في التضحية وان الشاة إذا جعلها ضحية هل
يكفيه ذلك عن تجديد النية عند الذبح فيه وجهان (الأصح) لا يكفيه فان قلنا يكفيه استحب
التجديد * ومتى كان في ملكه بدنة أو شاة فقال جعلت هذه ضحية أو هذه ضحية أو علي أن
أضحي بها صارت ضحية معينة وكذا لو قال جعلت هذه هديا أو هذا هدى أو علي أن أهدى هذا
صار هديا وشرط بعض الأصحاب أن يقول مع ذلك لله تعالى والمذهب أنه ليس بشرط * وقد
صرح الأصحاب بزوال الملك عن الهدي والأضحية المعينين كما سيأتي تفريعه إن شاء الله تعالى *
وكذا لو نذر أن يتصدق بمال بعينه زال ملكه عنه بخلاف ما لو نذر اعتاق عبد بعينه لا يزول ملكه
عنه ما لم يعتقه لان الملك في الهدي والأضحية والمال المعين ينتقل إلى المساكين وفي العبد لا ينتقل
الملك إليه بل ينفك عن الملك بالكلية (أما) إذا نوى جعل هذه الشاة هديا أو أضحية ولم يتلفظ
بشئ فقولان (الصحيح) الجديد أنها لا تصير ضحية (وقال) في القديم تصير واختاره ابن سريج
والاصطخري * وعلى هذا فيما يصير به هديا وضحية أوجه (أحدها) بمجرد النية كما يدخل في الصوم
بالنية وبهذا قال ابن سريج (والثاني) بالنية والتقليد أو الاشعار لتنضم الدلالة الظاهرة إلى النية
قاله الإصطخري (والثالث) بالنية والذبح لأنه المقصود كالقبض بالنية (والرابع) بالنية والسوق إلى
423

المذبح * ولو لزمه هدى أو ضحية بالنذر فقال عينت هذه الشاة عن نذري أو جعلتها عن نذري أو
قال لله علي أن أضحى بها عما في ذمتي ففي تعينها وجهان (أصحهما) التعين وبه قطع الأكثرون *
وحكى إمام الحرمين هذا الخلاف في صور رتب بعضها على بعض فلنوردها بزوائد * فلو قال ابتداء
على التضحية بهذه الشاة لزمه التضحية قطعا وتتعين تلك الشاة على الصحيح * ولو قال على أن أعتق
هذا العبد لزمه العتق وفي تعين هذا العبد وجهان مرتبان على الخلاف في مثل هذه الصورة من
الأضحية والعبد أولى بالتعين لأنه ذو حق في العتق بخلاف الأضحية * ولو كان نذر اعتاق عبد ثم
عين عبدا عما التزمه فالخلاف مرتب على الخلاف في مثله في الأضحية * ولو قال جعلت هذا العبد
عتيقا لم يخف حكمه * ولو قال جعلت هذا المال أو هذه الدراهم صدقة تعينت على الأصح كشاة
الأضحية (وعلى الثاني) لا إذ لا فائدة في تعيين الدراهم لتساويها بخلاف الشاة * ولو قال عينت
هده الدراهم عما في ذمتي من زكاة أو نذر لغي التعيين باتفاق الأصحاب كذا نقله امام الحرمين
لان التعيين في الدراهم ضعيف وتعين ما في الذمة ضعيف فيجتمع سببا ضعف قال وقد يفاد من
تعيين الدراهم لديون الآدميين قال ولا تخلوا الصورة من احتمال والله أعلم * (المسألة الثانية) في جواز
الصرف من الأضحية إلى المكاتب وجهان حكاهما الدارمي والرافعي (أحدهما) يجوز كالزكاة
وهذا هو الصحيح ولا يجوز صرف شئ منها إلى عبد الا أن يجعله رسولا به إلى سيده هدية ذكره
الدارمي (الثالثة) قال الروياني قال أبو إسحاق من نذر الأضحية في عام فاخر عصى ويلزمه القضاء
كمن أخر الصلاة (الرابعة) من ضحى بعدد من الماشية استحب أن يفرقه على أيام الذبح فإن كان
شاتين ذبح شاة في اليوم الأول وأخرى في آخر الأيام وهذا الذي قاله وإن كان أرفق بالمساكين
فهو ضعيف مخالف للسنة الصحيحة فقد ثبتت الأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم
(نحر مائة بدنة أهداها في يوم واحد وهو يوم النحر فنحر بيده بضعا وستين وأمر عليا رضي الله عنه
ينحر تمام المائة) فالسنة التعجيل والمسارعة إلى الخيرات والمبادرة بالصالحات الا ما ثبت خلافه
424

والله أعلم * (الخامسة) محل التضحية موضع المضحي سواء كان بلده أو موضعه من السفر بخلاف
الهدي فإنه يختص بالحرم وفي نقل الأضحية وجهان حكاهما الرافعي وغيره تخريجا من نقل الزكاة
(السادسة) الأفضل أن يضحى في داره بمشهد أهله هكذا قاله أصحابنا * وذكر الماوردي انه
يختار للامام أن يضحى للمسلمين كافة من بيت المال ببدنة في المصلى فإن لم تتيسر فشاة وانه ينحرها
بنفسه وان ضحى من ماله ضحى حيث شاء هذا كلامه * وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عمر
قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذبح وينحر بالمصلى) (السابعة) مذهبنا ان
الأضحية أفضل من صدقة التطوع للأحاديث الصحيحة المشهورة في فضل الأضحية ولأنها مختلف في
وجوبها بخلاف صدقة التطوع ولان التضحية شعار ظاهر وممن قال بهذا من السلف ربيعة شيخ مالك
وأبو الوقاد وأبو حنيفة * وقال بلال والشعبي ومالك وأبو ثور الصدقة أفضل من الأضحية حكاه عنهم
ابن المنذر (الثامنة) مذهبنا انه لا يجوز لولي اليتيم والسفيه ان يضحى عن الصبي والسفيه من مالهما لأنه
مأمور بالاحتياط لمالهما ممنوع من التبرع به والأضحية تبرع * وقال أبو حنيفة يضحى من مال
اليتيم والسفيه * وقال مالك يضحى عنه إن كان له ثلاثون دينارا بشاة بنصف دينار ونحوه *
دليلنا ما سبق * وأنكر ابن المنذر على أبي حنيفة فقال يمنع اخراج الزكاة التي فرضها الله تعالى
من مال اليتيم ويأمر باخراج الأضحية التي ليست بفرض والله أعلم (التاسعة) قال ابن المنذر
أجمعت الأمة على جواز اطعام فقراء المسلمين من الأضحية واختلفوا في اطعام فقراء أهل الذمة
فرخص فيه الحسن البصري وأبو حنيفة وأبو ثور * وقال مالك غيرهم أحب إلينا وكره مالك
أيضا إعطاء النصراني جلد الأضحية أو شيئا من لحمها وكرهه الليث قال فان طبخ لحمها فلا بأس
بأكل الذمي مع المسلمين منه هذا كلام ابن المنذر ولم أر لأصحابنا كلاما فيه ومقتضى المذهب أنه
يجوز إطعامهم من ضحية التطوع دون الواجبة والله أعلم (العاشرة) إذا اشترى شاة ونواها
أضحية ملكها ولا تصير أضحية بمجرد النية بل لا يلزمه ذبحها حتى ينذره بالقول * هذا مذهبنا
425

وبه قال أحمد وداود * وقال أبو حنيفة ومالك تصير أضحية ويلزمه التضحية بمجرد النية * دليلنا
القياس على من اشترى عبدا بنية أن يعتقه فإنه لا يعتق بمجرد النية (الحادية عشرة) يستحب
التضحية للمسافر كالحاضر هذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء وقال أبو حنيفة لا أضحية على المسافر
وروى هذا عن علي رضي الله عنه وعن النخعي * وقال مالك وجماعة لا تشرع للمسافر بمنى ومكة * دليلنا
حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم (ضحى عن نسائه بمنى في حجة الوداع) رواه البخاري
ومسلم وعن ثوبان قال (ذبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحيته ثم قال ثوبان أصلح لحم هذه
فلم أزل أطعمه منها حتى قدم المدينة) رواه مسلم *
(باب العقيقة)
* قال المصنف رحمه الله *
(العقيقة سنة وهو ما يذبح عن المولود لما روي بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم عق عن
الحسن والحسين عليهما السلام ولا يجب ذلك لما روي عبد الرحمن بن أبي سعيد عن أبيه أن النبي صلى
الله عليه وسلم سئل عن العقيقة فقال لا أحب العقوق ومن ولد له ولد فأحب أن ينسك له فليفعل
فعلق على المحبة فدل على أنها لا تجب ولأنه إراقة دم من غير جناية ولا نذر فلم يجب كالأضحية
والسنة أن يذبح عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة لما روت أم كرز قالت سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن العقيقة فقال للغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة ولأنه إنما شرع
للسرور بالمولود والسرور بالغلام أكثر فكان الذبح عنه أكثر وان ذبح عن كل واحد منهما
شاة جاز لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن
شاة جاز لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال (عق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
الحسن والحسين عليهما السلام كبشا كبشا) ولا يجزئ فيه ما دون الجذعة من الضأن ودون التثنية
426

من المعز ولا يجزئ فيه إلا السليم من العيوب لأنه إراقة دم بالشرع فاعتبر فيه ما ذكرناه كالأضحية
والمستحب أن يسمى الله تعالى ويقول اللهم لك واليك عقيقة فلان لما روت عائشة رضي الله عنها
أن النبي صلى الله عليه وسلم (عق عن الحسن والحسين وقال قولوا بسم اللهم لك واليك عقيقة فلان)
والمستحب أن يفصل أعضاءها ولا يكسر عظمها لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت (السنة
شاتان مكافئتان عن الغلام وعن الجارية شاة تطبخ جدولا ولا يكسر عظم) ويأكل ويطعم ويتصدق
وذلك يوم السابع ولأنه أول ذبيحة فاستحب أن لا يكسر عظم تفاؤلا بسلامة أعضائه ويستحب
أن يطبخ من لحمها طبيخا حلوا تفاؤلا بحلاوة أخلاقه *
ويستحب أن يأكل منها ويهدي ويتصدق لحديث عائشة ولأنه إراقة دم مستحب فكان
حكمها ما ذكرناه كالأضحية *
والسنة أن يكون ذلك في اليوم السابع لما روت عائشة رضي الله عنها قالت (عق رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين عليهما السلام يوم السابع وسماهما وأمر أن يماط عن
رؤسهما الأذى) فان قدمه على اليوم السابع أو أخره أجزأه لأنه فعل ذلك بعد وجود السبب
والمستحب أن يحلق شعره بعد الذبح لحديث عائشة ويكره أن يترك على بعض رأسه الشعر لما
روى ابن عمر رضي الله عنهما قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع في الرأس)
والمستحب أن يلطخ رأسه بالزعفران ويكره أن يلطخ بدم العقيقة لما روت عائشة رضي الله عنها
قالت (كانوا في الجاهلية يجعلون قطنة في دم العقيقة ويجعلونها على رأس المولود فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم
أن يجعلوا مكان الدم خلوفا)) *
(الشرح) حديث بريدة رواه النسائي باسناد صحيح (وأما) حديث (لا أحب العقوق)
فرواه أبو داود والبيهقي من طريقين عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال الراوي أراه عن جده عن
النبي صلى الله عليه وسلم ورواه البيهقي أيضا من رواية رجل من بني ضمرة عن أبيه عن النبي صلى
427

الله عليه وسلم وهذان الاسنادان ضعيفان كما ترى وقال البيهقي إذا ضم هذا إلى الأول قويا (وأما)
حديث أم كرز فصحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي هو حديث
صحيح هكذا قاله وفي اسناده عبيد الله بن يزبد وقد ضعفه الأكثرون فلعله اعتضد عنده فصححه *
وقد صح هذا المتن من رواية عائشة رواه الترمذي وغيره قال الترمذي حديث حسن صحيح
(وأما) حديث ابن عباس (ان النبي صلى الله عليه وسلم عق عن الحسن والحسين كبشا كبشا)
فرواه أبو داود باسناد صحيح (وأما) حديث عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم (عق عن الحسن والحسين
وقال قولوا باسم الله والله أكبر اللهم لك واليك هذه عقيقة فلان) فرواه البيهقي باسناد حسن
(وأما) حديثها الاخر في طبخها جدولا فغريب ورواه البيهقي من كلام عطاء بن رباح (وأما) حديثها
الاخر (عق عن الحسن والحسين يوم السابع وأمر أن يماط عن رأسهما الأذى) فرواه البيهقي
باسناد حسن وهو بعض من الحديث السابق قريبا عن رواية البيهقي باسناد حسن وهو
حديث باسم الله والله أكبر إلى آخره (وأما) حديث ابن عمر في النهي عن القزع فرواه
البخاري ومسلم في صحيحيهما (وأما) حديث عائشة قالت (كانوا في الجاهلية يجعلون قطنة)
إلى آخره فرواه البيهقي باسناد صحيح (وأما) لغات الفصل وألفاظه فالعقيقة مشتقة من العق وهو القطع
قال الأزهري في التهذيب قال أبو عبيد قال الأصمعي وغيره العقيقة أصلها الشعر الذي يكون على
رأس الولد حين يولد وإنما سميت الشاة التي تذبح عنه في ذلك الوقت عقيقة لأنه يحلق عنه ذلك
الشعر عند الذبح ولهذا قال في الحديث (أميطوا عنه الأذى) ويعني بالأذى ذلك الشعر الذي
يحلق عنه قال وهذا من تسمية الشئ باسم ما كان معه أو من سببه قال أبو عبيد وكذلك كل مولود
من البهائم فان الشعر الذي يكون عليه حين يولد يسمى عقيقة وعقة وعقيق قال الأزهري
وأصل العق الشق وسمي الشعر المذكور عقيقة لأنه يحلق ويقطع وقيل للذبيحة عقيقة لأنها تذبح
أي يشق حلقومها ومريئها وودجاها كما قيل لها ذبيحة من الذبح وهو الشق * قال صاحب المحكم
428

يقال منه عق عن ولده يعق ويعق بكسر العين وضمها إذا حلق عقيقته وهي شعره أو ذبح عنه
شاة (وأما) حديث (لا أحب العقوق) فقال إن معناه كراهة الاسم وسماها نسيكة وهو معنى قوله في تمام
الحديث (فأحب أن ينسك) يقال ينسك - بضم السين وكسرها - (قوله) ولأنه إراقة دم من غير
جناية احتراز من جزاء الصيد وقتل الزاني المحصن (قوله) لما روت أم كرز هي - بكاف مضمومة
ثم راء ساكنة ثم زاي - وهي صحابية كعبية خزاعية مكية (قوله) صلى الله عليه وسلم (شاتان مكافئتان) أي
متساويتان وهو - بكسر الفاء وبهمزة بعدها - هكذا صوابه عند أهل اللغة وممن صرح به الجوهري
في صحاحه قال ويقوله المحدثون مكافأتان يعني بفتح الفاء والصحيح كسرها (وقوله) لأنه إراقة
دم بالشرع احتراز ممن نذر وذبح دون سن الأضحية أو معيبة فإنه يصح ويلزمه (وقوله) تطبخ
جدولا هو - بضم الجيم والدال المهملة - وهي الأعضاء واحدها جدل - بفتح الجيم واسكان
الدال (قوله) إراقة دم مستحبة احتراز من دم جزاء الصيد وجبرانات الحج والأضحية الواجبة
(وإماطة الأذى) ازالته والمراد بالأذى الشعر الذي عليه ذلك الوقت لأنه شعر ضعيف (والخلوف)
- بفتح الخاء - وهو طيب معروف مركب يتخذ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب وتغلب عليه
الحمرة والصفرة والله أعلم (أما) الأحكام ففيه مسائل (إحداها) العقيقة مستحبة وسنة متأكدة
للأحاديث المذكورة (الثانية) السنة أن يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة فان عق عن
الغلام شاة حصل أصل السنة لما ذكره المصنف ولو ولد له ولدان فذبح عنهما شاة لم تحصل العقيقة
ولو ذبح بقرة أو بدنة عن سبعة أولاد أو اشترك فيها جماعة جاز سواء أرادوا كلهم العقيقة أو أراد
بعضهم العقيقة وبعضهم اللحم كما سبق في الأضحية (الثالثة) المجزئ في العقيقة هو المجزئ في الأضحية
فلا تجزئ دون الجذعة من الضأن أو الثنية من المعز والإبل والبقر هذا هو الصحيح المشهور وبه
قطع الجمهور * وفيه وجه حكاه الماوردي وغيره أنه يجزئ دون جذعة الضأن وثنية المعز والمذهب
الأول * قال المصنف والأصحاب ويشترط سلامتها من العيوب التي يشترط سلامة الأضحية منها
429

اتفاقا واختلافا ولا اختلاف في اشتراط هذا الا أن الرافعي قال أشار صاحب العدة إلى وجه مسامح
بالعيب هنا (وأما) الأفضل ففيه وجهان (أصحهما) البدنة ثم البقرة ثم جذعة الضأن ثم ثنية المعز كما
سبق في الأضحية (والثاني) الغنم أفضل من الإبل والبقر للحديث السابق (عن الغلام شاتان
وعن الجارية شاة) ولم ينقل في الإبل والبقر شئ والمذهب الأول (الرابعة) يستحب ان يسمي
الله عند ذبح العقيقة ثم يقول (اللهم لك واليك عقيقة فلان) ويشترط أن ينوي عند ذبحها أنها عقيقة كما قلنا في
الأضحية فإن كان جعلها عقيقة قبل ذلك فهل يحتاج إلى تجديد النية عند الذبح فيه الخلاف السابق في الأضحية
والهدي والأصح أنه يحتاج (الخامسة) يستحب أن تفصل أعضاؤها ولا يكسر شئ من عظامها
لما ذكره المصنف فان كسر فهو خلاف الأولى * وهل هو مكروه كراهة تنزيه فيه وجهان (أصحهما)
لا لأنه لم يثبت فيه نهي مقصود (1) (السابعة) قال جمهور أصحابنا يستحب أن لا يتصدق بلحمها
نيا بل يطبخه وذكر الماوردي أنا إذا قلنا بالمذهب أنه لا تجزئ دون الجذعة والثنية وجب التصدق
بلحمها نيا وكذا قال إمام الحرمين ان أوجبنا التصدق بمقدار من الأضحية والعقيقة وجب تمليكه
نيا والمذهب الأول وهو أنه يستحب طبخه وفيما يطبخ به وجهان (أحدهما) بحموضة ونقله البغوي
عن نص الشافعي لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (نعم الادام الخل) رواه مسلم
(وأصحهما) وأشهرهما وبه قطع المصنف والجمهور يطبخ بحلو تفاؤلا بحلاوة أخلاقه وقد ثبت
في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يحب الحلوى والعسل) وعلى هذا لو طبخ بحامض
ففي كراهته وجهان حكاهما الرافعي والصحيح أنه لا يكره لأنه ليس فيه نهي * قال أصحابنا
والتصدق بلحمها ومرقها على المساكين بالبعث إليهم أفضل من الدعاء إليها ولو دعا إليها قوما جاز
ولو فرق بعضها ودعا ناسا إلى بعضها جاز * قال المصنف والأصحاب ويستحب أن يأكل منها
ويتصدق ويهدي كما قلنا في الأضحية والله أعلم *
(فرع) نقل الرافعي أنه يستحب أنه يعطي القابلة رجل العقيقة وفي سنن البيهقي عن علي

(1) هكذا بالأصل وانظر أين المسألة السادسة
430

رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة فقال زني شعر الحسين وتصدقي بوزنه
فضة وأعطي القابلة رجل العقيقة وروي موقوفا على علي رضي الله عنه (الثامنة) السنة ذبح
العقيقة يوم السابع من الولادة وهل يحسب يوم الولادة من السبعة فيه وجهان حكاهما الشاشي
وآخرون (أصحهما) يحسب فيذبح في السادس مما بعده (والثاني) لا يحسب فيذبح في السابع
مما بعده وهو المنصوص في البويطي ولكن المذهب الأول وهو ظاهر الأحاديث * فان ولد
في الليل حسب اليوم الذي يلي تلك الليلة بلا خلاف نص عليه في البويطي مع أنه نص فيه أن
لا يحسب اليوم الذي ولد فيه * قال المصنف والأصحاب فلو ذبحها بعد السابع أو قبله وبعد الولادة
أجزأه وان ذبحها قبل الولادة لم تجزه بلا خلاف بل تكون شاة لحم * قال أصحابنا ولا تفوت بتأخيرها
عن السبعة لكن يستحب أن لا يؤخر عن سن البلوغ * قال أبو عبد الله البوشيحي من
أئمة أصحابنا ان لم تذبح في السابع ذبحت في الرابع عشر والا ففي الحادي والعشرين ثم هكذا في
الأسابيع * وفيه وجه آخر انه إذا تكررت السبعة ثلاث مرات فات وقت الاختيار * قال الرافعي
فان أخر حتى بلغ سقط حكمها في حق غير المولود وهو مخير في العقيقة عن نفسه قال واستحسن
القفال والشاشي أن يفعلها للحديث المروي أن النبي صلى الله عليه وسلم (عق عن نفسه بعد النبوة)
ونقلوا عن نصه في البويطي أنه لا يفعله واستغربوه هذا كلام الرافعي * وقد رأيت أنا نصه في
البويطي قال (ولا يعق عن كبير) هذا لفظه بحروفه نقله من نسخة معتمدة عن البويطي وليس
هذا مخالفا لما سبق لان معناه (لا يعق عن البالغ غيره) وليس فيه نفي عقه عن نفسه (وأما)
الحديث الذي ذكره في عق النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه فرواه البيهقي باسناده عن عبد الله
ابن محرر بالحاء المهملة والراء المكررة عن قتادة عن أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم (عق عن
نفسه بعد النبوة) وهذا حديث باطل قال البيهقي هو حديث منكر * وروى البيهقي باسناده عن
عبد الرزاق قال إنما تركوا عبد الله بن محرر بسبب هذا الحديث قال البيهقي وقد روي هذا
431

الحديث من وجه آخر عن قتادة ومن وجه آخر عن أنس وليس بشئ فهو حديث باطل وعبد الله
ابن محرر ضعيف متفق على ضعفه قال الحفاظ هو متروك والله أعلم *
(فرع) لو مات المولود بعد اليوم السابع وبعد التمكن من الذبح فوجهان حكاهما الرافعي
(أصحهما) يستحب ان يعق عنه (والثاني) يسقط بالموت *
(فرع) يستحب كون ذبح العقيقة في صدر النهار كذا نص عليه الشافعي في البويطي
وتابعه الأصحاب (التاسعة) قال أصحابنا إنما يعق عن المولود من تلزمه نفقته من مال العاق لا من
مال المولود قال الدارمي والأصحاب فان عق من مال المولود ضمن العاق * قال أصحابنا فإن كان
المنفق عاجزا عن العقيقة فأيسر في الأيام السبعة استحب له العق وان أيسر بعدها وبعد مدة
النفاس سقط عنه وان أيسر في مدة النفاس فوجهان حكاهما الرافعي لبقاء أثر الولادة * قال أصحابنا
وأما الحديث الصحيح في عق النبي صلى الله عليه وسلم عن الحسن والحسين فقد يقال إنه مخالف
لقول أصحابنا إن العقيقة في مال من عليه النفقة لا في مال المولود * قال الأصحاب وهو متأول على أنه
صلى الله عليه وسلم أمر أباهما بذلك أو أعطاه ما عق به أو أن أبويهما كانا عند ذلك معسرين
فيكونان في نفقة جدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم (العاشرة) قال أصحابنا حكم العقيقة
في التصدق منها والاكل والهدية والادخار وقدر المأكول وامتناع البيع وتعين الشاة إذا عينت
للعقيقة كما ذكرنا في الأضحية سواء لا فرق بينهما * وحكى الرافعي وجها أنه إذا جوزنا العقيقة بما
دون الجذعة لم يجب التصدق وجاز تخصيص الأغنياء بها والله أعلم * (الحادية عشرة) قال أصحابنا
يكره أن يلطخ رأس المولود بدم العقيقة ولا بأس بلطخه بخلوف أو زعفران وفي استحباب الخلوف أو
الزعفران وجهان حكاهما الرافعي (أشهرهما) وبه قطع المصنف وغيره يستحب (الثانية عشرة)
يستحب حلق رأس المولود يوم سابعه قال أصحابنا ويستحب أن يتصدق بوزن شعره ذهبا فإن لم
يفعل ففضة سواء فيه الذكر والأنثى هكذا قاله أصحابنا واستدلوا له بحديث رواه مالك والبيهقي
432

وغيرهما مرسلا عن محمد بن علي بن الحسين قال (وزنت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
شعر حسن وحسين وزينب وأم كلثوم فتصدقت بزنة ذلك فضة) ورواه البيهقي مرفوعا من رواية
علي رضي الله عنه (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة أن تتصدق بزنة شعر الحسين
فضة) وفي اسناده ضعف وفي رواية أخرى ضعيفة (تصدقوا بزنته فضة) فكان وزنه درهما
أو بعض درهم (واعلم) ان هذا الحديث روي من طرق كثيرة ذكرها البيهقي كلها متفقة على
التصدق بزنته فضة ليس في شئ منها ذكر الذهب بخلاف ما قاله أصحابنا والله أعلم * وهل يقدم
الحلق على الذبح فيه وجهان (أصحهما) وبه قطع المصنف والبغوي والجرجاني وغيرهم يستحب كون
الحلق بعد الذبح وفي الحديث إشارة إليه (والثاني) يستحب كونه قبل الذبح وبهذا قطع المحاملي
في المقنع ورجحه الروياني ونقله عن نص الشافعي والله أعلم * (الثالثة عشرة) قال المصنف
والأصحاب يكره القزع وهو حلق بعض الرأس للحديث الصحيح الذي ذكره المصنف وقد
سبقت المسألة مستقصاة في باب السواك وسبق هناك بيان حكم حلق كل الرأس وبيان ما يتعلق
باللحية وخضاب الشعر وأشباه ذلك *
(فرع) فعل العقيقة أفضل من التصدق بثمنها عندنا وبه قال أحمد وابن المنذر
* قال المصنف رحمه الله *
(ويستحب لمن ولد له ولد أن يسميه بعبد الله أو عبد الرحمن لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (أحب الأسماء إلى الله عز وجل عبد الله وعبد الرحمن) ويكره أن يسمى نافعا
ويسارا ونجيحا ورباحا وأفلح وبركة لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تسمين
غلامك أفلح ولا نجيحا ولا يسارا ولا رباحا فإنك إذا قلت اثم هو قالوا لا) ويكره أن يسمي
433

باسم قبيح فان سمي باسم قبيح غيره لما روى ابن عمر (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غير اسم
عاصية وقال أنت جميلة) ويستحب لمن ولد له ولد أن يؤذن في أذنه لما روى أبو رافع (أن النبي
صلى الله عليه وسلم أذن في أذن الحسن رضي الله عنه حين ولدته فاطمة بالصلاة) ويستحب أن
يحنك المولود بالتمر لما روى أنس قال (ذهبت بعبد الله بن أبي طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين ولد قال هل معك تمر قلت نعم فناولته تمرات فلاكهن ثم فغرفاه ثم مجه فيه فجعل يتلمظ
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حب الأنصار التمر وسماه عبد الله)) *
(الشرح) حديث ابن عمر الأول (أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن)
رواه مسلم في صحيحه وحديث سمرة رواه مسلم أيضا وحديث ابن عمر الآخر رواه مسلم
أيضا بلفظه وفي رواية له (ان ابنة لعمر كان يقال لها عاصية فسماها رسول الله
صلى الله عليه وسلم جميلة) وحديث أبي رافع صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما قال
الترمذي حديث حسن صحيح * وحديث أنس صحيح رواه مسلم بلفظه ورواه البخاري
أيضا مختصرا عن أنس قال (ولد لأبي طلحة غلام فاتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فحنكه
وسماه عبد الله (وأما) ألفاظ الفصل فيقال سميته عبد الله وبعبد الله لغتان مشهورتان (وقوله)
فلاكهن أي مضغهن وفغر فاه أي فتحه وهو بالفاء والغين المعجمة (قوله) يتلمظ هو ان يتتبع
434

بلسانه بقية الطعام في فمه ويخرج لسانه ويمسح به شفتيه (قوله) صلى الله عليه وسلم (حب الأنصار)
روى - بضم الحاء وكسرها - فالكسر بمعنى المحبوب كالذبح بمعنى المذبوح والباء على هذا
مرفوعة أي محبوب الأنصار التمر (وأما) من ضم الحاء فهو مصدر وتكون الباء على هذا
منصوبة بفعل محذوف أي انظروا حب الأنصار التمر وهذا هو المشهور في الرواية وروي بالرفع
مع ضم الحاء أي حبهم التمر لازم والله أعلم (أما) الأحكام فيه مسائل (إحداها) قال أصحابنا
وغيرهم يستحب ان يسمى المولود في اليوم السابع ويجوز قبله وبعده وقد تظاهرت الأحاديث
الصحيحة على ذلك فمن ذلك حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه وسلم
(امر بتسمية المولود يوم سابعه ووضع الأذى عنه والعق) رواه الترمذي وقال حديث حسن *
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كل غلام رهين بعقيقة
تذبح عنه يوم سابعه ويحلق ويسمى) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم
بالأسانيد الصحيحة قال الترمذي حديث حسن صحيح * وعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه
قال (ولد لي غلام فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فسماه إبراهيم وحنكه بتمرة ودعا له
بالبركة) رواه البخاري ومسلم الا قوله (ودعا له بالبركة) فإنه للبخاري خاصة * وعن انس
رضي الله عنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد لي الليلة غلام فسميته باسم إبراهيم
صلى الله عليه وسلم) رواه مسلم وعن أنس قال (ولد لأبي طلحة غلام فاتيت به النبي صلى
الله عليه وسلم فحنكه وسماه عبد الله) رواه البخاري ومسلم والله أعلم * (الثانية) قال
أصحابنا لو مات المولود قبل تسميته استحب تسميته قال البغوي وغيره يستحب تسمية السقط
435

لحديث ورد فيه (الثالثة) يستحب تحسين الاسم وأفضل الأسماء عبد الله وعبد الرحمن للحديث
الذي ذكره المصنف * وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل (سم ابنك عبد الرحمن)
رواه البخاري ومسلم * وعن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ابن أبي طلحة عبد الله)
رواه البخاري ومسلم وسمى صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم * وعن أبي وهب الجشمي الصحابي
رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تسموا بأسماء الأنبياء وأحب الأسماء إلى الله
عبد الله وعبد الرحمن وأصدقها حارث وهمام وأقبحها حرب ومرة) رواه أبو داود والنسائي
وغيرهما * وعن أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (انكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم
وأسماء آبائكم فأحسنوا أسمائكم) رواه أبو داود باسناد جيد وهو من رواية عبد الله بن زيد بن
اياس بن أبي زكريا عن أبي الدرداء والأشهر أنه سمع أبا الدرداء وقال البيهقي وطائفة لم يسمعه
فيكون مرسلا *
(فرع) مذهبنا ومذهب الجمهور جواز التسمية بأسماء الأنبياء والملائكة صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين ولم ينقل فيه خلاف الا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه نهى عن التسمية
بأسماء الأنبياء وعن الحرد بن مسكن انه كره التسمية بأسماء الملائكة وعن مالك كراهة التسمية
بجبريل وياسين * دليلنا تسمية النبي صلى الله عليه وسلم ابنه إبراهيم وسمى خلائق من أصحابه
بأسماء الأنبياء في حياته وبعده مع الأحاديث التي ذكرناها ولم يثبت نهى في ذلك عن النبي صلى الله
عليه وسلم فلم يكره (الرابعة) تكره الأسماء القبيحة والأسماء التي يتطير بنفيها في العادة لحديث
سمرة الذي ذكره المصنف وجاءت أحاديث كثيرة في الصحيح بمعناه فمن الأسماء القبيحة حرب
ومرة وكلب وكليب وجرى وعاصية ومغرية - بالغين المعجمة - وشيطان وشهاب وظالم وحمار وأشباهها
وكل هذه تسمى بها ناس * ومما يتطير بنفيه هذه الألفاظ المذكورة في حديث سمرة وهي يسار
ورباح ونافع ونجاح وبركة وأفلح ومبارك ونحوها والله أعلم *
436

(فرع) صح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ان أخنع اسم
عند الله رجل تسمى ملك الاملاك) وفي رواية (أخنا) وفي رواية (أغيظ رجل عند الله يوم
القيامة وأخبثه رجل كان تسمي ملك الاملاك لا ملك الا الله) رواه البخاري ومسلم الا الرواية
الآخرة فإنها لمسلم قال سفيان بن عيينة (ملك الاملاك مثل شاهان شاه) ثبت ذلك عنه في
الصحيح قال العلماء معنى أخنع وأخنا أذل وأوضع وأرذل قالوا والتسمية بهذا الاسم حرام (الخامسة)
السنة تغيير الاسم القبيح للحديث الصحيح الذي ذكره المصنف (أن النبي صلى الله عليه وسلم
غير اسم عاصية) وفي الصحيحين عن سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم حمل إليه أبو أسيد
ابنا له فقال (ما اسمه قال فلان قال لا ولكن اسمه المنذر) * وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن
زينب كان اسمها برة فقيل تزكى نفسها فسماها رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب * وفي صحيح مسلم عن زينب
بنت أبي سلمة قالت سميت برة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (سموها زينب قالت ودخلت
عليه زينب بنت جحش واسمها برة فسماها زينب) وفي صحيح مسلم أيضا عن ابن عباس قال
(كانت جورية اسمها برة فحول رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية وكان يكره أن يقال
خرج من عند برة) وفي صحيح البخاري عن سعد بن المسيب بن حزن عن أبيه أن أباه حزنا
(جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما اسمك قال حزن قال أنت سهل قال لا أغير اسما
سمانيه أبي فقال ابن المسيب فما زالت الحزونة فينا بعد - الحزونة غلظ الوجه وشئ من القساوة -
وفي سنن أبي داود باسناد حسن (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل ما اسمك قال أصرم
قال بل أنت زرعة وأنه قال لرجل يكنى أبا الحكم ان الله هو الحاكم فمالك من الولد قال سريج
ومسلم وعبد الله قال فمن أكبرهم قال سريج قال فأنت أبو سريج) قال أبو داود وغير النبي صلى الله
عليه وسلم اسم العاص وعزيز وعتلة - باسكان التاء وفتحها - وشيطان والحاكم وغراب وحباب
وشهاب فسماه هاشما وسمى حربا سليما وسمى المضطجع المنبعث وأرضا يقال لها عقرة سماها خضرة وشعب
437

الضلالة سماه شعب الهدى وبنو الدنية سماهم بني الرشد وسمى بني مغوية ببني رشدة والله أعلم *
(فرع) مما تعم به البلوى ووقع في الفتاوي التسمية بست الناس أو ست العرب أو ست القضاة أو
بست العلماء ما حكمه (والجواب) أنه مكروه كراهة شديدة وتستنبط كراهته مما سبق في حديث
(أخنع اسم عند الله) ومن حديث تغيير اسم برة إلى زينب ولأنه كذب * ثم اعلم أن هذه اللفظة
باطلة عدها أهل اللغة في لحن العوام لأنهم يريدون بست الناس سيدتهم ولا يعرف أهل اللغة لفظة
ست الا في العدد والله أعلم * (السادسة) يجوز التكني ويجوز التكنية ويستحب تكنية أهل الفضل
من الرجال والنساء سواء كان له ولد أم لا وسواء كني بولده أم بغيره وسواء كنى الرجل بأبي فلان
أو أبي فلانة وسواء كنيت المرأة بأم فلان أو أم فلانة * ويجوز التكنية بغير أسماء الآدميين كأبي
هريرة وأبي المكارم وأبي الفضائل وأبي المحاسن وغير ذلك ويجوز تكنية الصغير * وإذا كنى من
له أولاد كنى بأكبرهم * ولا باس بمخاطبة الكافر والفاسق والمبتدع بكنيته إذا لم يعرف بغيرها أو
خيف من ذكره باسمه مفسدة والا فينبغي أن لا يزيد على الاسم * وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة
بما ذكرته فأما أصل الكنية فهو أشهر من أن تذكر فيه أحاديث الآحاد وفي الصحيحين عن أنس
أن النبي صلى الله عليه وسلم (كأن يقول لأخ لانس صغير يا أبا عمير ما فعل البعير) وفي سنن أبي داود
باسناد صحيح عن عائشة أنها قالت (يا رسول الله كل صواحباتي لهن كنى قال فاكتني بابنك
عبد الله) قال الراوي يعني بابنها عبد الله بن الزبير وهو ابن أختها أسماء بنت أبي بكر وكانت عائشة
تكنى أم عبد الله * فهذا هو الصواب المعروف أن عائشة لم يكن لها ولد وإنما كنيت بابن أختها عبد الله
ابن أسماء * وروينا في كتاب ابن السني أنها كنيت بسقط أسقطته من النبي صلى الله عليه وسلم لكنه
حديث ضعيف (وأما) تكنية الكافر فمن دلائلها قوله تعالى (تبت يدا أبي لهب) واسمه عبد العزا قيل
إنما ذكر تكنيته لأنه معروف بها وقيل كراهة لاسمه حيث هو عبد العزا * وفى الصحيحين ان النبي
صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن عبادة (ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب يريد عبد الله بن أبي بن سلول المنافق)
438

وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم (هذا قبر أبي رغال) وكان أبو رغال كافرا * فهذا كله فيما
إذا وجد الشرط الذي قدمناه في تكنية الكافر والا فلا يزاد على الاسم وفي الصحيحين أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم (كتب إلى ملك الروم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم) *
(فرع) ثبت في الصحيحين من رواية جماعة من الصحابة منهم جابر وأبو هريرة أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال (سموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي) وصح عن علي أبي طالب رضي الله عنه قال (قلت
يا رسول الله ان ولد لي من بعدك ولد اسميه باسمك أو أكنيه بكنيتك قال نعم) رواه أبو داود باسناد
صحيح على شرط البخاري * واختلف العلماء في التكنية بأبي القاسم على ثلاثة مذاهب (أحدها) مذهب
الشافعي أنه لا يحل لاحد أن يكني بأبي القاسم سواء كان اسمه محمدا أم غيره لظاهر الحديث المذكور
وممن نقل هذا النص عن الشافعي من أصحابنا الأئمة الحفاظ الثقات الاثبات المحدثون الفقهاء أبو بكر
البيهقي في باب العقيقة من سننه رواه عن الشافعي باسناده الصحيح وأبو محمد البغوي في كتابه
التهذيب في أول كتاب النكاح وأبو القاسم بن عساكر في ترجمة النبي صلى الله عليه وسلم في أول
كتابه تاريخ دمشق وحمل الشافعي وأصحابه حديث علي رضي الله عنه على الترخص له وتخصيصه
من العموم وممن قال بقول الشافعي في هذا أبو بكر بن المنذر (والمذهب الثاني) مذهب مالك أنه
يجوز التكني بأبي القاسم لمن اسمه محمد ولغيره ويجعل النهي خاصا بحياة النبي صلى الله عليه وسلم
439

(والثالث) لا يجوز لمن اسمه محمد ويجوز لغيره * وقال الرافعي في كتاب النكاح يشبه أن يكون هذا
الثالث أصح لان الناس لم يزالوا يكتنون به في جميع الأعصار من غير إنكار وهذا الذي قاله هذا
الثالث فيه مخالفة ظاهرة للحديث (وأما) اطباق الناس على فعله من أن في المتكنين به والكانين
الأئمة الاعلام وأهل الحل والعقد والذين يقتدى بهم في أحكام الدين ففيه تقوية لمذهب مالك
ويكونون فهموا من النهي الاختصاص بحياته صلى الله عليه وسلم لما هو مشهور في الصحيح
من سبب النهي في تكني اليهود بابي القاسم ومناداتهم يا أبا القاسم للايذاء وهذا المعنى قد زال
والله أعلم *
(فرع) الأدب أن لا يذكر الانسان كنيته في كتابه ولا في غيره الا أن لا يعرف بغيرها أو كانت
أشهر وقد ثبت في الصحيحين عن أم هانئ واسمها فاختة وقيل فاطمة وقيل هند قالت (اتيت النبي
صلى الله عليه وسلم فقال من هذه فقلت انا أم هانئ) وفي الصحيحين عن أبي ذر واسمه جندب
قال (جعلت أمشي خلف النبي صلى الله عليه وسلم في ظل القمر فالتفت فرآني فقال من هذا
440

فقلت أبو ذر) وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة قال (قال لي النبي صلى الله عليه وسلم من هذا قلت
أبو قتادة) وفي صحيح مسلم أيضا عن أبي هريرة قال (قلت يا رسول الله ادع الله ان يهدي أم أبي
هريرة) ونظائره كثيرة والله أعلم *
(فرع) لا باس بالتكني بابي عيسى وفي سنن أبي داود باسناد جيد (ان المغيرة بن شعبة تكنى
بابي عيسى فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه اما يكفيك ان تكنى بابي عبد الله فقال كناني رسول
الله صلى الله عليه وسلم) وان عمر ضرب ابنا له تكنى بابي عيسى * دليلنا حديث المغيرة والأصل
عدم النهي حتى يثبت ولا يتخيل من هذا كون عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم لا أب له لان المكنى
ليس أبا حقيقة والله أعلم (السابعة) قال الله تعالى (ولا تنابزوا بالألقاب) واتفق العلماء على تحريم
تلقيب الانسان بما يكره سواء كان صفة كالأعمش والأعمى والأعرج والأحول والأصم والأبرص
والأصفر والأحدب والأزرق والأفطس والأشتر والأثرم والأقطع والزمن والمتعد والأشل أو كان
صفة لأبيه أو لامه أو غير ذلك مما يكرهه * واتفقوا على جواز ذكره بذلك على جهة التعريف لمن
لا يعرفه الا بذلك ودلائل كل ما ذكرته مشهورة حذفتها لشهرتها * واتفقوا على استحباب اللقب
الذي يحبه صاحبه فمن ذلك أبو بكر الصديق اسمه عبد الله بن عثمان ولقبه عتيق * هذا هو الصحيح
الذي عليه جماهير العلماء من المحدثين وأهل السير والتواريخ وغيرهم (وقيل) اسمه عتيق حكاه الحافظ
أبو القاسم بن عساكر في كتابه الأطراف والصواب الأول * واتفقوا على أنه لقب خير واختلفوا في سبب
تسميته عتيقا فروينا عن عائشة من أوجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أبو بكر عتيق الله من
النار) فمن يومئذ سمي عتيقا * وقال مصعب بن الزبير وغيره من أهل النسب سمي عتيقا لأنه لم يكن
في نسبه شئ يعاب به وقيل غير ذلك * ومن ذلك أبو تراب لقب علي بن أبي طالب رضي الله عنه
كنيته أبو الحسن ثبت في الصحيح (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجده نائما في المسجد وعليه
التراب فقال قم أبا تراب فلزمه هذا اللقب الحسن) روينا هذا في الصحيحين عن سهل بن سعد قال
441

سهل وكانت أحب أسماء على إليه وأن كان ليفرح أن يدعا بها * ومن ذلك ذو اليدين واسمه الخرباق
- بكسر الخاء المعجمة وبالباء الموحدة وآخره قاف - كان في يده طول ثبت في الصحيح أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم (كان يدعوه ذا اليدين) والله أعلم * (الثامنة) اتفقوا على جواز ترخيم الاسم
المنتقص إذا لم يتأذى بذلك صاحبه ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (رخم أسماء جماعة من
الصحابة فقال لأبي هريرة يا أبا هر ولعائشة يا عائش ولنجشة يا نجش (التاسعة) يستحب للولد والتلميذ
والغلام أن لا يسمى أباه ومعلمه وسيده باسمه روينا في كتاب ابن السني عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم (رأى رجلا معه غلام فقال للغلام من هذا قال أبي قال لا تمشي أمامه ولا تستسب له ولا
تجلس قبله ولا تدعه باسمه) ومعنى لا تستسب له أي لا تفعل فعلا تتعرض فيه لان يسبك عليه أبوك
زجرا وتأديبا * وعن عبد الله بن زحر - بفتح الزاي واسكان الحاء المهملة - قال (يقال من العقوق
أن تسمي أباك وأن تمشي أمامه) (العاشرة) إذا لم يعرف اسم من يناديه ناداه بعبارة لا يتأذى بها
كيا أخي يا فقير يا فقيه يا صاحب الثوب الفلاني ونحو ذلك وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لرجل يمشي بين القبور (يا صاحب السبتتين ويحك الق سبتيتيك) وقد سبق بيان هذا الحديث
في كتاب الجنائز في زيارة القبور * وفي كتاب ابن السني أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان إذا لم يحفظ
اسم الرجل قال يا ابن عبد الله) (الحادية عشرة) يجوز للانسان أن يخاطب من يتبعه من ولد وغلام
ومتعلم ونحوهم باسم قبيح تأديبا وزجرا ورياضة ففي الصحيحين أن (أبا بكر الصديق رضي الله عنه
قال لابنه عبد الرحمن يا غنثر فجدع وسب) (قوله) غنثر - بغين معجمة مضمومة ثم نون ساكنة ثم
ثاء مثلثة مفتوحة ومضمومة ومعناه البهيم (قوله) جدع - بالجيم والدال المهملة - أي دعا بقطع أنفه
ونحوه (الثانية عشرة) السنة أن يؤذن في اذن المولود عند ولادته ذكرا كان أو أنثى ويكون الاذان
بلفظ اذان الصلاة لحديث أبي رافع الذي ذكره المصنف * قال جماعة من أصحابنا يستحب أن يؤذن
في أذنه اليمنى ويقيم الصلاة في أذنه اليسرى * وقد روينا في كتاب ابن السني عن الحسين بن علي
442

رضي الله عنهما قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ولد له مولود فاذن في أذنه اليمنى وأقام
في أذنه اليسرى لم تضره أم الصبيان) وأم الصبيان التابعة من الجن * ونقل أصحابنا مثل هذا الحديث
عن فعل عمر بن عبد العزيز رحمه الله (الثالثة عشرة) السنة ان يحنك المولود عند ولادته بتمر بان
يمضغه انسان ويدلك به حنك المولود ويفتح فاه حتى ينزل إلى جوفه شئ منه قال أصحابنا فإن لم
يكن تمر فبشئ آخر حلو * ودليل التحنيك وكونه بتمر الحديث الصحيح الذي ذكره المصنف
وفي سنن أبي داود باسناد صحيح عن عائشة قالت (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتى بالصبيان
فيدعو لهم ويحنكهم وفي رواية فيدعو لهم بالبركة) وفي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنه
ما قالت (حملت بعبد الله بن الزبير بمكة فاتيت المدينة فنزلت قبا فولدت بقباء ثم اتيت به
النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه في حجره ثم دعا بتمر فمضغها ثم تفل في فيه فكان أول شئ دخل
جوفه ريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم حنكه بالتمر ثم دعا له وبرك عليه) * وينبغي أن يكون
المحنك من أهل الخير فإن لم يكن رجل فامرأة صالحة (الرابعة عشرة) يستحب ان يهنأ الوالد بالولد
قال أصحابنا ويستحب ان يهنأ بما جاء عن الحسين رضي الله عنه (انه علم أنسانا التهنئة فقال قل
بارك الله لك في الموهوب لك وشكرت الواهب وبلغ أشده ورزقت بره) ويستحب ان يرد المهنأ
على المهنئ فيقول بارك الله لك وبارك عليك أو جزاك الله خيرا أو رزقك الله مثله أو أحسن الله
ثوابك وجزاءك ونحو هذا *
(فرع) ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(لا فرع ولا عتيرة) قال أهل اللغة الفرع - بفتح الفاء والراء وبالعين المهملة - ويقال له أيضا الفرعة
- بالهاء - أول نتاج البهيمة كانوا يذبحونه ولا يملكونه رجاء البركة في الام كثرة نسلها * والعتيرة
- بفتح العين المهملة - ذبيحة كانوا يذبحونها في العشر الأول من شهر رجب ويسمونها الرجبية
أيضا * هذا الذي ذكرته من تفسير العتيرة متفق عليه (وأما) الفرع فهذا الذي ذكرته فيه هو تفسير
443

الشافعي وأصحابنا وغيرهم * وفي صحيح البخاري وسنن أبي داود أنه أول النتاج كانوا يذبحونه
لطواغيتهم وعن بريشة رضي الله عنه قال (نادى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إنا كنا
نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا قال اذبحوا لله في أي شهر كان وبروا الله وأطعموا قال
إنا كنا نفرع فرعا في الجاهلية فما تأمرنا قال في كل سائمة فرع تغدوه ماشيتك حتى إذا استحمل
ذبيحة فتصدقت بلحمه) رواه أبو داود وغيره بأسانيد صحيحة قال ابن المنذر هو حديث صحيح
فقال أبو قلابة أحد رواة هذا الحديث السائمة مائة * ورواه البيهقي باسناده الصحيح عن عائشة
رضي الله عنها قالت (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرعة من كل خمسين واحدة) وفي
رواية (من كل خمسين شاة شاة) قال ابن المنذر حديث عائشة صحيح * وفي سنن أبي داود
عن عمرو بن شعيب عن أبيه قال الراوي أراه عن جده قال (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن
الفرع قال الفرع حق وان تتركوه حتى يكون بكرا ابن ماخض وابن لبون فتعطيه أرملة أو تحمل
عليه في سبيل الله خير من أن تذبحه فيلزق لحمه بوبره وتكفأ اناءك وتوله ناقتك) قال أبو عبيد في
تفسير هذا الحديث معناه الفرق لكنهم كانوا يذبحونه حين يولد ولا شبع فيه ولذا قال وتذبحه
يلصق لحمه بوبره لان فيه ذهاب ولدها وذلك يرفع لبنها ولهذا قال خير من أن تكفأ اناءك يعني
إذا فعلت ذلك فكأنك كفأت اناءك وأرقته وأشار به إلى ذهاب اللبن وفيه انه يفجعها بولدها
ولهذا قال وتوله ناقتك فأشار بتركه حتى يكون ابن مخاض وهو ابن سنة ثم يذبح وقد طاب لحمه
واستمتع بلبن أمه ولا يشق عليها مفارقته لأنه استغنى عنها والله أعلم * وروى البيهقي باسناده عن
الحارث بن عمرو قال (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات أو قال بمنى وسأله رجل عن العتيرة
فقال من شاء عتر ومن شاء لم يعتر ومن شاء فرع ومن شاء لم يفرع) وعن أبي رزين أنه قال (يا رسول
الله انا كنا نذبح في الجاهلية ذبائح في رجب فنأكل منها ونطعم فقال رسول الله صلى الله عليه
444

وسلم لا بأس بذلك) وعن محنف بن سليم العامدي رضي الله عنه قال (كنا وقوفا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم بعرفات فسمعته يقول يا أيها الناس على كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة هل
تدري ما العتيرة هي التي تسمى الرجبية) وقد سبق بيان هذا الحديث في أول باب الأضحية هذا
مختصر ما جاء من الأحاديث في الفرع والعتيرة * قال الشافعي رحمه الله فيما رواه البيهقي باسناده
الصحيح عن المزني قال ما سمعت الشافعي يقول في الفرع هو شئ كان أهل الجاهلية يطلبون به
البركة في أموالهم فكان أحدهم يذبح بكر ناقته أو شاته فلا يغدوه رجاء البركة فيما يأتي بعده فسألوا
النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال (فرعوا إن شئتم) أي اذبحوا ان شئتم وكانوا يسألونه عما كانوا
يصنعون في الجاهلية خوفا أن يكره في الاسلام فأعلمهم أنه لا مكروه عليهم فيه وأمرهم اختيارا أن
يغدوه ثم يحملوا عليه في سبيل الله * قال الشافعي وقوله صلى الله عليه وسلم (الفرع حق) معناه
ليس باطل وهو كلام عربي خرج على جواب السائل قال وقوله صلى الله عليه وسلم (لا فرع ولا عتيرة
واجبة قال الشافعي والحديث الاخر يدل على هذا المعنى فإنه أباح له الذبح واختار له أن يعطيه
أرملة أو يحمل عليها في سبيل الله * قال الشافعي والعتيرة هي الرجبية وهي ذبيحة كانت الجاهلية
يتبررون بها في رجب فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لا عتيرة) أي لا عتيرة واجبة قال (وقوله)
صلى الله عليه وسلم (إذبحوا لله في أي وقت كان) أي اذبحوا إن شئتم واجعلوا الذبح لله في أي
شهر كان لا أنها في رجب دون غيره من الشهر هذا آخر كلام الشافعي (وذكر ابن كج والدارمي
وغيرهما الفرع والعتيرة لا يستحبان وهل يكرهان فيه وجهان (أحدهما) يكرهان للحديث الأول
(لا فرع ولا عتيرة) (والثاني) لا يكرهان للأحاديث السابقة بالترخيص فيهما وأجابوا عن حديث
(لا فرع) بثلاثة أوجه (أحدها) جواب الشافعي السابق ان المراد نفي الوجوب (والثاني)
ان المراد نفي ما كانوا يذبحونه لأصنامهم (والثالث) ان المراد أنهما ليستا كالأضحية في
الاستحباب أو ثواب إراقة الدم فأما تفرقة اللحم على المساكين فبر وصدقة * وقد نص الشافعي في
445

سنن حرمله أنها ان تيسرت كل شهر كان حسنا فالصحيح الذي نص عليه الشافعي واقتضته الأحاديث
انهما لا يكرهان بل يستحبان هذا مذهبنا * وادعى القاضي عياض أن الامر بالفرع والعتيرة منسوخ
عند جماهير العلماء والله أعلم *
(فرع) عن ابن عباس قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الاعراب)
رواه أبو داود باسناد حسن وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا عقر في
الاسلام) رواه البيهقي باسناد صحيح * قال الخطابي وغيره معاقرة الاعراب أن يتبارى رجلان
كل واحد منهما يفاخر صاحبه فيعقر كل واحد عددا من إبله فأيهما كان عقره أكثر كان غالبا فكره
النبي صلى الله عليه وسلم لحمها لأنها مما أهل به لغير الله * قال أهل الغريب العقر هو أن يعقر كل
واحد منهما مفاخرة لصاحبه فهو نحو معاقرة الاعراب وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى
الله عليه وسلم (نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل) رواه أبو داود وقال أكثر الرواة لم يذكروا
ابن عباس بل جعلوه مرسلا *
(فرع) روى أبو عبيد في كتابه غريب الحديث والبيهقي عن الزهري عن النبي صلى الله عليه
وسلم (انه نهى عن ذبائح الجن) قال وذبائح الجن أن يشتري الرجل الدار أو يستخرج العين
وما أشبه ذلك فيذبح لها ذبيحة للطير قال أبو عبيد وهذا التفسير في الحديث قال ومعناه أنهم
يتطيرون فيخافون ان لم يذبحوا أن يصيبهم فيها شئ من الجن فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم
ذلك ونهى عنه *
(فرع) عن أم كرز الكعبية رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
(أقروا الطير على مكاناتها) وفي رواية مكانتها - بفتح الكاف - رواه أبو داود وضعفه وروى
البيهقي باسناده عن يونس بن عبد الأعلى أن رجلا سأله عن معنى هذا الحديث فقال يونس ان الله
يحب الحق كان الشافعي صاحب هذا سمعته يقول في تفسيره كان الرجل في الجاهلية إذا أراد الحاجة
446

أتي الطير في وكره فنفره فان أخذ ذات اليمين مضى لحاجته وان أخذ ذات الشمال رجع فنهى النبي صلى
الله عليه وسلم عن ذلك قال يونس وكان الشافعي يسيح وحده في هذه والله أعلم * وذكر امام
الحرمين وغيره في تفسير هذا الحديث وجهين (أصحهما) هذا الذي قاله الشافعي (والثاني) ان
المراد به النهي عن الاصطياد ليلا قالوا وعلى هذا هو نهي تنزيه *
(فرع) في مذاهب العلماء في العقيقة * ذكرنا أن مذهبنا أن العقيقة مستحبة وبه قال مالك وأبو
ثور وجمهور العلماء وهو الصحيح المشهور من مذهب أحمد * وقالت طائفة هي واجبة وهو قول
بريدة بن الحصيب والحسن البصري وأبى الزناد وداود الظاهري ورواية عن أحمد * وقال أبو
حنيفة ليست بواجبة ولا سنة بل هي بدعة قال الشافعي رحمه الله (أفرط في العقيقة رجلان رجل
قال إنها واجبة ورجل قال إنها بدعة * دليلنا على أبي حنيفة الأخبار الصحيحة السابقة قال ابن المنذر
الدليل عليه الاخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة والتابعين قالوا وهو
أمر معمول به بالحجاز قديما وحديثا قال وذكر مالك في الموطأ انه الامر الذي لا اختلاف فيه عندهم
قال وقال يحيى الأنصاري التابعي أدركت الناس وما يدعون العقيقة عن الغلام والجارية * قال ابن
المنذر وممن كان يرى العقيقة ابن عمر وابن عباس وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعائشة
وبريدة الأسلمي والقاسم بن محمد وعروة بن الزبير وعطاء والزهري وأبو الزناد ومالك والشافعي
وأحمد وإسحاق وأبو ثور وآخرون من أهل يكثر عددهم * قال وانتشر عمل ذلك في عامة بلدان
المسلمين متبعين في ذلك ما سنه لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وإذا كان كذلك لم يضر
السنة من خالفها وعدل عنها هذا آخر كلام ابن المنذر والله أعلم *
(فرع) في مذاهبهم في قدر العقيقة * قد ذكرنا أن مذهبنا أن عن الغلام شاتين وعن الجارية
شاة وبه قال جمهور العلماء منهم ابن عباس وعائشة واحمد وإسحاق وأبو ثور قال ابن المنذر وكان
ابن عمر يعق عن الغلام والجارية شاة شاة وبه قال أبو جعفر ومالك * وقال الحسن وقتادة لا عقيقة
447

عن الجارية * دليلنا الأحاديث السابقة *
(فرع) مذهبنا جواز العقيقة بما تجوز به الأضحية من الإبل والبقر والغنم وبه قال أنس
ابن مالك ومالك بن انس * وحكى ابن المنذر عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق
رضي الله عنه لا يجزئ الا الغنم *
(فرع) ذكرنا ان مذهبنا أنه يستحب أن لا تكسر عظام العقيقة وبه قال عائشة وعطاء وابن
جريج * قال ابن المنذر ورخص في كسرها الزهري ومالك *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا كراهة لطخ رأس المولود بدم العقيقة وبه قال الزهري ومالك
واحمد وإسحاق وابن المنذر وداود * وقال الحسن وقتادة يستحب ذلك ثم يغسل لحديث سمره
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الغلام مرتهن بعقيقة تذبح عنه يوم سابعه ويدمى) دليلنا
حديث سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (مع الغلام عقيقته فأهرقوا عنه دما وأميطوا عنه
الأذى) حديث صحيح سبق بيانه وحديث عائشة السابق في الكتاب (واما) حديث
ويدمي فقال أبو داود في سننه وغيره من العلماء هذه اللفظة لا تصح بل هي تصحيف
والصواب ويسمي *
(فرع) مذهبنا أن العقيقة لا تفوت بتأخيرها عن اليوم السابع وبه قال جمهور العلماء منهم عائشة
وعطاء وإسحاق وقال مالك تفوت *
(فرع) لو مات المولود قبل السابع استحبت العقيقة عندنا * وقال الحسن البصري ومالك
لا تستحب *
(فرع) مذهبنا انه لا يعق عن اليتيم من ماله وقال مالك يعق عنه منه *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهب أصحابنا استحباب تسمية السقط وبه قال ابن سيرين وقتادة
والأوزاعي * وقال مالك لا يسمى ما لم يستهل صارخا والله أعلم * قال الشافعي رحمه الله
448

(باب النذر)
* قال المصنف رحمه الله *
(يصح النذر من كل مسلم بالغ عاقل (فأما) الكافر فلا يصح نذره ومن أصحابنا من قال
يصح نذره لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم (اني
نذرت أن أعتكف ليلة في الجاهلية فقال صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك) والمذهب الأول لأنه سبب
وضع لايجاب القربة فلم يصح من الكافر كالاحرام (وأما) الصبي والمجنون فلا يصح نذرهما
لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى
يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق) ولأنه ايجاب حق بالقول فلم يصح من الصبي كضمان
المال) *
(الشرح) حديث عمر رضي الله عنه رواه البخاري ومسلم (وأما) حديث (رفع القلم)
فصحيح سبق بيانه في أول كتاب الصلاة وأول كتاب الصوم * وينكر على المصنف قوله روي
في حديث عمر مع أنه صحيح (قوله) سبب وضع لايجاب القربة احتراز من شراء الكافر طعاما
للكفارة (قوله) ولأنه ايجاب حق بالقول احترز بقوله ايجاب عن وصية الصبي وتدبيره واذنه
في دخول الدار إذا صححنا كل ذلك (وبقوله) بالقول من غرامة المتلفات * ويقال نذر وينذر - بكسر الذال
وضمها - (أما) الأحكام فقال أصحابنا يصح النذر من كل بالغ عاقل مختار نافذ التصرف فيما نذره
ويرد على المصنف اهماله المختار ونافذ التصرف ولا بد منهما (فاما) الصبي والمجنون والمغمى عليه ونحوه
ممن اختل عقله فلا يصح نذره لما ذكره المصنف (وأما) السكران ففي صحة نذره خلاف مبني على صحة تصرفه
والصحيح صحته وموضع ايضاحه كتاب الطلاق (وأما) الكافر ففي نذره وجهان (الصحيح) أنه لا ينعقد
(والثاني) ينعقد ودليلهما في الكتاب وإذا أسلم ان قلنا نذره منعقد لزمه الوفاء به والا فلا يجب الوفاء به
449

لكن يستحب وتأولوا حديث عمر على الاستحباب (وأما) المكره فلا يصح نذره للحديث الصحيح
(رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وقياسا على العتق وغيره (وأما) المحجور عليه
بسفه فيصح منه نذر القرب البدنية (وأما) المال فان التزم شيئا في ذمته من غير تعيين لما في يده صح
نذره ويؤديه بعد فك الحجر عنه فان نذر مالا معينا مما يملكه قال المتولي وغيره بني على ما لو أعتق
أو وهب هل توقف صحة تصرفه أم يكون باطلا وفيه خلاف مشهور (الصحيح) بطلانه فيكون النذر
باطلا وان توقفنا في النذر أيضا * قال ولو نذر عتق المرهون انعقد نذره ان نفذنا عتقه في الحال أو
عند أداء المال وان ألغينا عتقه فهو كمن نذر عتق عبد لا يملكه وفي صحته تفصيل سنذكره
إن شاء الله تعالى *
(فرع) يكره ابتداء النذر فان نذر وجب الوفاء به ودليل الكراهة حديث ابن عمر رضي الله
عنهما قال (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذر وقال إنه لا يرد شيئا إنما يستخرج به من البخيل)
رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما بهذا اللفظ * وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (لا تنذروا فان النذر لا يغني من القدر شيئا وإنما يستخرج به من البخيل) رواه الترمذي
والنسائي باسناد صحيح * قال الترمذي والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم وغيرهم كرهوا النذر قال ابن المبارك الكراهة في النذر في الطاعة والمعصية قال فان نذر
طاعة ووفي به فله أجر الوفاء ويكره له النذر هذا كلام الترمذي *
450

* قال المصنف رحمه الله *
(ولا يصح النذر الا بالقول وهو أن يقول لله على كذا فان قال علي كذا ولم يقل لله صح لان
التقرب لا يكون الا لله تعالى فحمل الاطلاق عليه وقال في القديم إذا أشعر بدنة أو قلدها ونوى
أنها هدى أو أضحية صار هديا أو أضحية لان النبي صلى الله عليه وسلم (اشعر بدنة وقلدها ولم ينقل
أنه قال إنها هدي فصارت هديا) وخرج أبو العباس وجها آخر انه يصير هديا وأضحية بمجرد النية
ومن أصحابنا من قال إذا ذبح ونوى صار هديا وأضحية والصحيح هو الأول لأنه إزالة ملك يصح
بالقول فلم يصح بغير القول مع القدرة عليه كالوقف والعتق ولأنه لو كتب على دار انها وقف أو على
فرس انه في سبيل الله لم يصر وقفا فكذلك ها هنا) *
(الشرح) قوله إزالة ملك يصح بالقول احتراز من تفرقة لزكاة والاطعام والكسوة في الكفارة
(وقوله) مع القدرة احتراز من الأخرس * وهذا القياس الذي ذكره المصنف ينتقض بوقوع الطلاق
بالكتب أو النية فإنه إزالة ملك يصح بالقول ويصح بغير القول مع القدرة على أصح القولين فينبغي
أن يزاد في القيود إزالة ملك عن مال قال أصحابنا يصح النذر بالقول من غير نية كما يصح الوقف
والعتق باللفظ بلا نية * وهل يصح بالنية من غير قول أو بالاشعار أو التقليد أو الذبح مع النية فيه الخلاف
الذي ذكره المصنف (الصحيح) باتفاق الأصحاب انه لا يصح الا بالقول ولا تنفع النية وحدها وقد
سبقت المسألة واضحة في باب الهدي * والأكمل في صيغة النذر أن يقول مثلا ان شفى الله مريضي
فلله على كذا فلو قال فعلي هذا ولم يقل لله فطريقان (المذهب) وبه قال المصنف والجمهور صحته لما ذكره
المصنف (والثاني) فيه وجهان حكاهما الرافعي وغيره (الصحيح) منهما صحة نذره (والثاني) لا يصح
451

الا بالتصريح بذكر الله تعالى وهو قريب من الوجه الضعيف في وجوب إضافة الوضوء والصلاة وسائر
العبادات إلى الله تعالى *
(فرع) لو قال إن شفى الله مريضي فلله علي كذا إن شاء الله أو ان شاء زيد فشفى لم يلزمه
شئ وان شاء زيد كما لو عقب الايمان والطلاق والعقود بقوله إن شاء الله فإنه لا يلزمه شئ *
* قال المصنف رحمه الله *
(ويجب بالنذر جميع الطاعات المستحبة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (من نذر أن يطع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) (وأما) المعاصي كالقتل والزنا
وصوم يوم العيد وأيام الحيض والتصدق بما لا يملكه فلا يصح نذره لما روى عمران بن الحصين
رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا نذر في معصية الله ولا فيما لا يملكه ابن آدم) *
ولا يلزمه بنذرها كفارة وقال الربيع إذا نذرت المرأة صوم أيام الحيض وجب عليها كفارة يمين ولعله
خرج ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم (كفارة النذر كفارة يمين) والمذهب الأول والحديث متأول *
(واما) المباحات كالأكل والشرب فلا تلزم بالنذر لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم (مر برجل قائم
في الشمس لا يستظل فسأل عنه فقيل هذا أبو إسرائيل نذر أن يقف ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم
فقال مروه فليقعد وليستظل وليتكلم ويتم صومه) *
(الشرح) أما حديث عائشة فرواه البخاري وحديث عمران بن الحصين رواه مسلم وحديث
(كفارة النذر كفارة يمين) رواه مسلم في صحيحه من رواية عقبة بن عامر (وأما) حديث
أبي إسرائيل فصحيح رواه البخاري في صحيحه من رواية ابن عباس ويقع في بعض النسخ أبو إسرائيل
وهو الصواب وفي بعضها ابن إسرائيل وهو غلط صريح وليس في الصحابة أحد يكنى أبا إسرائيل غيره
والله أعلم * (أما) أحكام الفصل فقال أصحابنا الملتزم بالنذر ثلاثة أضرب - معصية - وطاعة - ومباح
(الأول) المعصية كنذر شرب الخمر أو الزنا أو القتل أو الصلاة في حال الحدث أو الصوم في حال الحيض
452

أو القراءة في حال الجنابة أو نذر ذبح نفسه أو ولده وشبه ذلك فلا ينعقد نذره فإذا لم يفعل المعصية المنذورة
فقد أحسن ولا كفارة عليه * هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور وفي القول الذي حكاه المصنف
عن الربيع أنه يلزمه الكفارة واختاره الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي للحديث المذكور (كفارة النذر
كفارة يمين) وحمل الجمهور هذا الحديث على نذر اللجاج والغضب قالوا ورواية الربيع من تخريجه
لا من كلام الشافعي * قال الرافعي وحكى بعضهم هذا الخلاف وجهين والله أعلم * (الضرب الثاني)
الطاعة وهي ثلاثة أنواع (الأول) الواجبات فلا يصح نذرها لأنها واجبة بايجاب الشرع فلا معنى
لالتزامها وذلك كنذر الصلوات الخمس وصوم شهر رمضان والزكاة ونحوها * وكذا لو نذر ترك
المحرمات بأن نذر أن لا يشرب الخمر ولا يزني ولا يغتاب لم يصح نذره سواء علقه على حصول نعمة أو اندفاع
نقمة أو التزمه ابتداء * وإذا خالف ما ذكره ففي لزوم الكفارة الخلاف السابق في المعصية والمذهب
انها لا تجب وادعى البغوي أن الأصح هنا وجوبها والصحيح الأول * (النوع الثاني) نوافل العبادات
المقصودة وهي المشروعة للتقرب بها وعلم من الشارع الاهتمام بتكليف العباد ايقاعها كالصوم والصلاة
والصدقة والحج والاعتكاف والعتق ونحوها فهذه تلزم بالنذر بلا خلاف لما ذكره المصنف * قال
إمام الحرمين وفروض الكفاية التي يحتاج في أدائها إلى بذل مال أو مقاساة مشقة تلزم بالنذر
وذلك كالجهاد وتجهيز الموتى قال الرافعي ويجئ مما سنذكره في السنن الراتبة إن شاء الله تعالى وجه
انها لا تلزم وقال القفال لا يلزم الجهاد بالنذر (وأما) الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وما ليس فيه
بذل مال ولا مقاساة مشقة ففيه وجهان (أصحهما) لزومها بالنذر (والثاني) لا *
(فرع) كما يلزم أصل العبادة بالنذر يلزم الوفاء بالصفة المستحبة فيها إذا اشترطت في النذر كمن
شرط في الصلاة المنذورة إطالة القيام أو الركوع أو السجود أو شرط المشي في الحجة المنذورة إذا
قلنا المشي في الحج أفضل من الركوب * فلو أفردت الصفة بالنذر وكان الأصل واجبا شرعا كتطويل
القراءة والركوع والسجود في الفرائض أو أن يقرأ في الصبح مثل سورة كذا أو أن يصلي الفرض
453

في جماعة وجهان (أصحهما) لزومها لأنها طاعة (والثاني) لا لئلا تغير مما وضعها الشرع عليه * ولو
نذر فعل السنن الراتبة كالوتر وسنة الصبح وسنة الظهر فعلى الوجهين (الأصح) اللزوم * ولو نذر
صوم رمضان في السفر فوجهان (أحدهما) وبه قطع الغزالي في الوجيز ونقله إبراهيم المروروذي عن
عامة الأصحاب لا ينعقد نذره وله الفطر لأنه التزام يبطل رخصة الشرع (والثاني) وهو اختيار
القاضي حسين والبغوي ينعقد ويجب الوفاء به كسائر المستحبات هكذا أطلقوه والظاهر أنهم أرادوا
من لا يتضرر بالصوم في السفر فإنه له أفضل فيصح نذره (أما) من يتضرر به فالفطر له أفضل فلا ينعقد
نذره لأنه ليس بقربة * قال أصحابنا ويجري الوجهان فيمن نذر اتمام الصلاة في السفر إذا قلنا الاتمام
أفضل ويجريان فيمن نذر القيام في النوافل أو استيعاب الرأس بالمسح أو التثليث في الوضوء أو
الغسل أو أن يسجد للتلاوة أو الشكر عند مقتضيهما قال امام الحرمين وعلى مساق الوجه الأول لو
نذر المريض القيام في الصلاة وتكلف المشقة أو نذر صوما وشرط أن لا يفطر بالمرض لم يلزمه الوفاء
لان الواجب بالنذر لا يزيد على الواجب شرعا والمرض مرخص (النوع الثالث) القربات التي تشرع
لكونها عبادات وإنما هي أعمال وأخلاق مستحسنة رغب الشرع فيها لعظم فائدتها وقد يبغي بها
وجه الله تعالى فينال الثواب فيها وذلك كعيادة المرضى وزيارة القادمين وافشاء السلام بين المسلمين
وتشميت العاطس وفي لزومها بالنذر وجهان (الصحيح) اللزوم لعموم حديث (من نذر ان يطع
الله فليطعه) (والثاني) لا لئلا تخرج عما وضعها الشرع عليه * وفي لزوم تجديد الوضوء بالنذر وجهان
(الأصح) اللزوم لما ذكره (1) قال المتولي ولو نذر الاغتسال لكل صلاة لزمه الوفاء قال الرافعي الصواب
ان يبنى على تجديد الغسل هل يستحب * قال المتولي ولو نذر الوضوء انعقد نذره ولا يخرج عنه
بالوضوء عن حدث بل بالتجديد وكذا جزم بانعقاد نذره القاضي حسين وغيره * وذكر البغوي فيه
وجهين (أصحهما) هذا (والثاني) لا ينعقد نذره واتفقوا على أنه لا يخرج عنه الا بالتجديد ومرادهم
تجديد الوضوء حيث يشرع تجديده وهو أن يكون قد صلى بالأول صلاة ما هذا هو الأصح * وفيه
454

أوجه سبقت في آخر باب صفة الوضوء * قال المتولي ولو نذر أن يتوضأ لكل صلاة لزمه الوضوء لكل
صلاة وإذا توضأ لها عن حدث لا يلزمه الوضوء لها ثانيا بل يكفي الوضوء الواحد عن واجبي الشرع والنذر
قال ولو نذر التيمم لم ينعقد على الصحيح * قال ولو نذر أن لا يهرب من ثلاثة فصاعدا من الكفار فان علم
من نفسه القدرة على مقاومتهم انعقد نذره ولزمه الوفاء وإلا فلا * وفي كلام امام الحرمين انه لا يلزم بالنذر
الكفاف قط حتى لو نذر أن لا يفعل مكروها لا ينعقد نذره * ولو نذر ان يحرم بالحج من شوال أو من بلد
كذا لزمه على أصح الوجهين (الضرب الثالث) المباح وهو الذي يجوز فعله وتركه شرعا فلم يرد فيه ترغيب
ولا ترهيب كالأكل والنوم والقيام والقعود فلو نذر فعله أو تركه لم ينعقد نذره قال أصحابنا وقد يقصد
بالاكل التقوى على العبادة وبالنوم النشاط للتهجد وغيره فيحصل الثواب بهذه النية لكن الفعل غير
موضوع لذلك وإنما حصل الثواب بالنية الصالحة * وهل يكون نذر المباح يمينا يوجب الكفارة
عند المخالفة فيه الخلاف السابق في نذر المعاصي والفرائض وقطع القاضي حسين بوجوب الكفارة
في المباح وذكر في المعصية وجهين وعلق الكفارة باللفظ من غير حنث قال الرافعي وهذا لا يتحقق
ثبوته والصواب في كيفية الخلاف ما قدمناه والصواب على الجملة أنه لا كفارة مطلقا لا عند المخالفة
ولا غيرها في نذر المعصية والفرض والمباح والله أعلم *
(فرع) لو نذر الجهاد في جهة بعينها ففي تعينها أوجه مشهورة (أحدها) وهو قول ابن القاص
صاحب التلخيص تتعين لاختلاف الجهات (والثاني) قاله أبو زيد لا تتعين بل يجزئه أن يجاهد في جهة أسهل
وأقرب منها كما لو نذر الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة فان له أن يصلى في غيره (والثالث) وهو
الأصح وبه قال الشيخ أبو علي السنجي لا تتعين لكن يجب أن تكون التي يجاهد فيها كالمعينة في المسافة
والمؤنة فيحصل مسافة الجهات كمسافة مواقيت الحج *
(فرع) قال أصحابنا يشترط في نذره القربة المالية كالصدقة والأضحية والاعتاق ان يلتزمها في
في الذمة يضيف إلى معين يملكه فان المعين لغيره لم ينعقد نذره قطعا ولا كفارة عليه على المذهب وبه قطع الجمهور
455

وذكر المتولي في لزومها وجهين وهو شاذ * قال المتولي ولو قال إن ملكت عبدا فلله على أن أعتقه انعقد
نذره قال ولو قال إن ملكت عبد فلان فلله على أن أعتقه انعقد نذره في أصح
الوجهين (والثاني) لا ينعقد والقولان فيما إذا قصد الشكر على حصول الملك فان قصد الامتناع
من تملكه فهو نذر لجاج وسنوضحه إن شاء الله تعالى * قال ولو قال إن شفى الله مريضي وملكت
عبدا فلله على أن أعتقه أو ان شفى الله مريضي فلله أن أعتق عبدا ان ملكته انعقد نذره * قال ولو قال
إن شفى الله مريضي فكل عبد أملكه حر أو فعبد فلان حر ان ملكته لم ينعقد نذره قطعا لأنه
لم يلتزم التقرب بقربة لكنه علق الحرية بعد حصول النعمة بشرط وليس هو مالكا في حال التعليق
فلغا تعليقه كما لو قال إن ملكت عبدا أو عبد فلان فهو حر فإنه لا يصح قطعا * قال ولو قال إن شفي
الله مريضي فعبدي حر ان دخل الدار انعقد نذره قطعا لأنه مالك وقد علقه بصفتين الشفاء
والدخول * قال ولو قال إن شفى الله مريضي فلله على أن اشترى عبدا وأعتقه انعقد نذره قطعا
والله أعلم *
(فرع) قال البغوي في باب الاستسقاء لو نذر الامام أن يستسقي لزمه أن يخرج بالناس
ويصلي بهم * قال ولو نذره واحد من الناس لزمه أن يصلي منفردا وان نذر أن يستسقي بالناس
لم ينعقد لأنهم لا يطيعونه * ولو نذر أن يخطب وهو من أهله لزمه وهل له أن يخطب قاعدا مع استطاعته
القيام فيه الخلاف الذي سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى في أن النذر يسلك به مسلك واجب الشرع
أو مسلك جائزه والله أعلم *
(فرع) سئل الغزالي رحمه الله في فتاويه عما لو قال البائع للمشتري ان خرج المبيع مستحقا
فلله علي أن أهبك مائة دينار هل يصح هذا النذر وان حكم حاكم بصحته هل يلزمه فأجاب بأن المباحات لا تلزم بالنذر وهذا مباح ولا يؤثر فيه قضاء القاضي الا إذا نقل مذهب معتبر في لزوم ذلك النذر *
456

(فرع) نقل القاضي أبو القاسم ابن كج وجهين فيمن قال إن شفى الله مريضي فلله علي أن أذبح عن ابني هل يلزمه الذبح عن ولده لكون الذبح عن الأولاد قربة * ووجهين فيمن قال إن
شفى الله مريضي فلله علي أن أعجل زكاة مالي هل يصح نذره ووجهين فيمن قال إن شفى الله مريضي
فلله علي أن أذبح ابني فإن لم يجز فشاة مكانه هل يلزمه ذبح شاة ووجهين فيما إذا نذر النصراني
ان يصوم أو يصلي ثم أسلم هل يلزمه أن يصلي ويصوم صلاة شرعنا وصومه؟ هذا نقل ابن كج *
والأصح صحة النذر في الصورة الأولى وبطلانه في الصور الثلاث الباقية والله أعلم *
(فرع) لو نذر أن يكسو يتيما قال الرافعي قال بعضهم لا يخرج عن نذره باليتيم الذمي لان
مطلقه في الشرع يقع للمسلم * هذا نقل الرافعي وينبغي أن يكون فيه خلاف مبنى على أنه يسلك
بالنذر مسلك واجب الشرع أو مسلك جائزه كما لو نذر اعتاق رقبة ان قلنا مسلك جائزه جاز صرفه
إلى الذمي والا فلا *
(فرع) في مذاهب العلماء فيمن نذر شرب الخمر أو الزنا أو نحو ذلك من المعاصي * قد ذكرنا
ان مذهبنا ان نذره باطل ولو خالفه فلا كفارة وبهذا قال مالك وأبو حنيفة وداود * وقال احمد ينعقد
ولا يجوز فعله بل يجب كفارة يمين وقد ذكر المصنف دليل المذهبين * واحتج احمد أيضا بحديث عن
عائشة مرفوع (لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين) ونحوه من رواية عمران بن الحصين رواهما البيهقي وغيره وضعفهما واتفق الحفاظ على تضعيف هذا الحديث بهذا اللفظ فلا حجة فيه *
(فرع) إذا نذر صوم يوم الفطر أو الأضحى أو التشريق وقلنا بالمذهب أنه لا يجوز صوم التشريق
لم ينعقد نذره ولم يلزمه بهذا النذر شئ هذا مذهبنا وبه قال مالك واحمد وجماهير العلماء * وخالفهم
أبو حنيفة فقال ينعقد نذره ولا يصوم ذلك بل يصوم غيره قال فان صامه أجزأه وسقط عنه به فرض
نذره * دليلنا الحديث الصحيح السابق (ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه) *
(فرع) إذا نذر ذبح ابنه أو بنته أو نفسه أو أجنبي لم ينعقد نذره ولا شئ عليه وبهذا قال
داود واحمد في إحدى الروايتين عنه * وقال مالك إذا نذر ذبح ابنه في يمين أو على وجه القربة لزمه الهدي * وقال أبو حنيفة واحمد في أصح الروايتين عنه ينعقد نذره ويلزمه ذبح شاة للمساكين قال
أبو حنيفة ولو نذر ذبح عبده لا يلزمه شئ وقال أبو يوسف لا يلزمه شئ في المسألتين * دليلنا قوله
457

صلى الله عليه وسلم (لا نذر في معصية) وهو حديث صحيح كما سبق بيانه (وأما) ايجاب الشاة فتحكم
لا أصل له *
(فرع) إذا نذر مباحا كلبس وركوب لم ينعقد عندنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وداود والجمهور *
وقال احمد ينعقد ويلزمه كفارة يمين * دليلنا انه ليس بقربة والوفاء به لا يجب بالاجماع فلم ينعقد
والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(فان نذر طاعة نظرت فان علق ذلك على إصابة خير أو دفع سوء فأصاب الخير أو دفع
السوء عنه لزمه الوفاء بالنذر لما روى ابن عباس رضي الله عنهما (ان امرأة ركبت في البحر فنذرت ان
نجاها الله ان تصوم شهرا فماتت قبل ان تصوم فأتت أختها أو أمها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته
فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم ان تصوم عنها) فإن لم يعلقه على شئ بأن قال لله علي ان أصوم أو أصلي
ففيه وجهان (أحدهما) انه يلزمه وهو الأظهر لقوله صلى الله عليه وسلم (من نذر ان يطع الله فليطعه)
(والثاني) لا يلزمه وهو قول أبي إسحاق وأبي بكر الصيرفي لأنه التزام من غير عوض فلم يلزمه بالقول
كالوصية والهبة * وان نذر طاعة في لجاج وغضب بان قال إن كلمت فلانا فعلي كذا فكلمه فهو بالخيار
بين الوفاء بما نذر وبين كفارة يمين لما روى عقبة بن عامر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كفارة
النذر كفارة يمين) ولأنه يشبه اليمين من حيث إنه قصد المنع والتصديق ويشبه النذر من حيث إنه التزم
قربة في ذمته فخير بين موجبهما ومن أصحابنا من قال إن كانت القربة حجا أو عمرة لزمه الوفاء به
لان ذلك يلزمه بالدخول فيه بخلاف غيره والمذهب الأول لان العتق أيضا يلزمه اتمامه بالتقويم
ثم لا يلزمه) *
(الشرح) حديث ابن عباس رواه أبو داود والنسائي باسنادين صحيحين على شرط البخاري
ومسلم لكن وقع في المهذب أمها أو أختها وفي كتب الحديث أختها أو بنتها (اما) حديث (من
نذر ان يطع الله فليطعه) فصحيح سبق بيانه أول الكتاب (وأما) حديث عقبة فغريب بهذا اللفظ
وقد رواه ابن ماجة في سننه بلفظ آخر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته
كفارة يمين) واسناده ضعيف (وقول) المصنف لأنه التزام من غير عوض احتراز من نذر المجازاة
ومن العوض في عقود المعاوضات (وقوله) فلا يلزمه بالقول احتراز من الاتلاف والغضب والله أعلم
458

(أما) الأحكام فقال أصحابنا النذر ضربان (أحدهما) نذر تبرر (والثاني) نذر لجاج وغضب (الأول)
التبرر وهو نوعان (أحدهما) نذر المجازاة وهو ان يلتزم قربة في مقابلة حدوث نعمة أو اندفاع بلية كقوله
ان شفى الله مريضي أو رزقني ولدا أو نجانا من الغرق أو من العدو أو من الظالم أو أغاثنا عند القحط
ونحو ذلك فلله علي اعتاق أو صوم أو صلاة أو نحو ذلك فإذا حصل المعلق عليه لزمه الوفاء بما التزم
وهذا لا خلاف فيه لعموم الحديث الصحيح السابق (من نذر أن يطع الله فليطعه) (النوع الثاني)
ان يلتزمه ابتداء من غير تعليق على شئ فيقول ابتداء لله علي أن أصلي أو أصوم أو أعتق أو أتصدق
ففيه خلاف حكاه المصنف وغيره وجهين وحكاهما غيرهم قولين (أحدهما) لا يصح نذره ولا يلزمه
به شئ (وأصحهما) عند الأصحاب يصح نذره لما ذكره المصنف والله أعلم (الضرب الثاني) نذر
اللجاج والغضب وهو أن يمنع نفسه من فعل أو يحثها عليه بتعليق التزام قربة بالفعل أو بالترك ويقال
فيه يمين اللجاج والغضب ويقال له أيضا يمين الغلق ويقال أيضا نذر الغلق - بفتح الغين المعجمة
واللام - فإذا قال إن كلمت فلانا أو ان دخلت الدار أو ان لم أخرج من البلد فلله علي صوم شهر
أو حج أو عتق أو صلاة ونحو ذلك ثم كلمه أو دخل أو لم يخرج ففيما يلزمه خمسة طرق جمعها الرافعي
قال أشهرها على ثلاثة أقوال (أحدها) يلزمه الوفاء بما التزم (والثاني) يلزمه كفارة يمين (والثالث)
يتخير بينهما قال وهذا الثالث هو الأظهر عند العراقيين قال لكن الأظهر على ما ذكره البغوي والروياني
وإبراهيم المروروذي والموفق بن طاهر وغيرهم وجوب الكفارة (والطريق الثاني) القطع بالتخيير
(والثالث) نفى التخيير والاقتصار على القولين الأولين (والرابع) الاقتصار على قول التخيير
وعلى وجوب الكفارة (والخامس) الاقتصار على التخيير ولزوم الوفاء بما التزم ونفى وجوب الكفارة
(قلت) والأصح التخيير بين ما التزم وكفارة اليمين كما رجحه المصنف وسائر العراقيين * قال الرافعي
فان قلنا بوجوب الكفارة فوفى بما التزم لم تسقط الكفارة على الأصح فإن كان الملتزم من جنس
ما تتأدى به الكفارة فالزيادة على قدر الكفارة تقع تطوعا وان قلنا بالتخيير فلا فرق بين الحج
والعمرة وسائر العبادات على المذهب وبه قال الجمهور * وفيه قول مخرج وحكاه المصنف وغيره
وجها انه إن كان حجا أو عمرة لزمه الوفاء به لما ذكره المصنف والله أعلم *
(فرع) إذا التزم على وجه اللجاج اعتاق عبد بعينه فان قلنا واجبه الوفاء بما التزم لزمه اعتاقه
459

كيف كان وان قلنا عليه كفارة يمين فإن كان بحيث يجزئ في الكفارة فله ان يعتقه أو يعتق غيره
أو يطعم أو يكسو وإن كان بحيث لا يجزئ واختار الاعتاق أعتق غيره * وان قلنا يتخير
فان اختار الوفاء أعتقه كيف كان وان اختار التكفير اعتبر في اعتاقه صفات الاجزاء * وان التزم
اعتاق عبيده فان أوجبنا الوفاء أعتقهم وان أوجبنا الكفارة أعتق واحدا أو أطعم أو كسا * وان
قال إن فعلت كذا فعبدي حر وقع العتق بلا خلاف إذا فعله وإنما التفصيل السابق فيمن التزم العتق
في العبد التزاما *
(فرع) لو قال إن فعلت كذا فعلي نذر أو فلله علي نذر فنص الشافعي رحمه الله انه يلزمه
كفارة يمين وبه قطع البغوي وإبراهيم المروذي * قال القاضي حسين وغيره هذا تفريع على قولنا
تجب الكفارة (فأما) إذا أوجبنا الوفاء بالملتزم فيلزمه قربة من القرب والتعيين إليه ويشترط أن
يكون ما يعينه مما يصح التزامه بالنذر * وعلى قول التخيير يتخير بين ما ذكرنا وبين الكفارة ولو قال إن
فعلت كذا فعلي كفارة يمين فعليه كفارة يمين على الأقوال كلها * ولو قال فعلي يمين أو فلله علي يمين فوجهان
(الصحيح) أنه لغو وبه قطع الأكثرون لأنه لم يأت بنذر ولا صيغة يمين وليست اليمين مما ثبت في
الذمة (والثاني) يلزمه كفارة يمين إذا فعله حكاه امام الحرمين وغيره قال الامام وعلى هذا فالوجه
أن يجعل كناية ويرجع إلى نيته * ولو قال نذرت لله لأفعلن كذا فان نوى اليمين فهو يمين وان أطلق
فوجهان * ولو عدد أجناس قرب فقال إن دخلت فعلي حج وعتق وصدقة فان أوجبنا الوفاء لزمه
ما التزمه وان أوجبنا الكفارة لزمه كفارة واحدة على المذهب وبه قطع الجمهور وحكى الامام عن
والده الشيخ أبي محمد احتمالا في تعددها * فلو قال ابتداء علي أن أدخل النار اليوم قال البغوي المذهب
انه يمين وعليه كفارة ان لم يدخل وكذا لو قال لامرأته ان دخلت الدار فلله علي أن أطلقك فهو
كقوله إن دخلت الدار فوالله لأطلقنك حتى إذا مات أحدهما قبل التطليق لزمه كفارة يمين * ولو
قال إن دخلت الدار فلله علي ان آكل الخبز فدخلها فوجهان (الصحيح) يلزمه كفارة يمين (والثاني)
هو لغو فلا شئ عليه *
(فرع) لو قال ابتداء مالي صدقة أو في سبيل الله ففيه أوجه (أحدها) وهو الأصح عند الغزالي
وبه قطع القاضي حسين أنه لغو لأنه لم يأت بصيغة التزام (والثاني) يلزمه التصدق به كما لو قال لله علي
460

أن أتصدق بمالي (والثالث) يصير ماله بهذا اللفظ صدقة كما لو قال جعلت هذه الشاة أضحية * وقال
المتولي إن كان المفهوم من هذا اللفظ في عرفهم معنى النذر أو نواه فهو كما لو قال لله علي أن أتصدق
بمالي أو أنفقه في سبيل الله والا فلغو (اما) إذا قال إن كلمت فلانا أو فعلت كذا فمالي صدقة فالمذهب
والذي نص عليه الشافعي وقطع به الجمهور انه بمنزلة قوله فلله على أن أتصدق بمالي أو بجميع مالي
وطريق الوفاء ان يتصدق بجميع أمواله وإذا قال في سبيل يتصدق بجميع أمواله على الغزاة * وقال
امام الحرمين والغزالي يخرج هذا على الأوجه الثلاثة في الصورة الأولى * قال الرافعي والمعتمد ما نص
عليه الشافعي وقاله الجمهور والله أعلم *
(فرع) قال الرافعي الصيغة قد تتردد فتحتمل نذر التبرر وتحتمل اللجاج فيرجع فيها إلى قصد
الشخص وارادته قال وفرقوا بينهما بأنه في نذر التبرر يرغب في السبب وهو شفاء المريض مثلا
بالتزام المسبب وهو القربة المسماة وفي نذر اللجاج يرغب عن السبب لكراهته الملتزم قال وذكر
الأصحاب في ضبطه أن الفعل طاعة أو معصية أو مباح والالتزام في كل واحدة منها تارة يعلق بالاثبات
وتارة بالنفي (أما) الطاعة ففي طرف الاثبات يتصور نذر التبرر بأن يقول إن صليت فلله علي صوم
يوم معناه ان وفقني الله للصلاة صمت فإذا وفق لها لزمه الصوم * ويتصور اللجاج بأن يقول له صل
فيقول لا أصلي وان صليت فعلي صوم أو عتق فإذا صلى ففيما يلزمه الأقوال والطرق السابقة (واما)
في طرف النفي فلا يتصور نذر التبرر لأنه لا بر في ترك الطاعة ويتصور في اللجاج بأن يمنع من
الصلاة فيقول إن لم أصل فلله علي كذا فإذا لم يصل ففيما يلزمه الأقوال * (وأما) المعصية ففي طرف
النفي يتصور نذر التبرر بأن يقول إن لم أشرب الخمر فلله علي كذا وقصد ان عصمني الله من الشرب
ويتصور نذر اللجاج بأن يمنع من شربها فيقول إن لم أشربها فلله علي صوم أو صلاة وفي طرف الاثبات
لا يتصور الا اللجاج بان يؤمر بالشرب فيقول إن شربت فلله علي كذا (وأما) المباح فيتصور في
طرفي النفي والاثبات فيه النوعان معا لتبرر في الاثبات ان أكلت كذا فلله علي صوم يريد ان يسره
الله لي واللجاج أن يؤمر بأكله فيقول إن أكلت فلله علي كذا * والتبرر في النفي إن لم آكل كذا
فعلي صوم يريد إن أعانني الله على كسر شهوتي فتركته واللجاج ان يمنع من أكله فيقول إن لم آكل
فلله علي كذا (أما) إذا قال إن رأيت فلانا فعلي صوم أو غيره فان أراد ان رزقني الله رؤيته فهو نذر
461

تبرر وان ذكره لكراهة رؤيته فنذر لجاج * وحكى الغزالي وجها في الوسيط في منع التبرر في المباح
والمذهب ما سبق *
(فرع) نص الشافعي رحمه الله في نذر اللجاج أنه لو قال إن فعلت كذا فلله علي نذر حج ان شاء
فلان فشاء فلان لم يلزم القائل شئ * قال المتولي هذا إذا غلبنا في اللجاج معنى النذر (أما) إذا قلنا
هو يمين فهو كمن قال والله لا أفعل كذا إن شاء زيد وسيأتي في كتاب الايمان إن شاء الله تعالى
أن من قال والله لا أدخلها إن شاء فلان أن لا أدخلها فان شاء فلان انعقدت يمينه عند المشيئة والا فلا *
(فرع) إذا قال أيمان البيعة لازمة لي فقد ذكره الأصحاب في هذا الموضع وذكره المصنف في
التنبيه وجماعات في باب الايمان * قال أصحابنا كانت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمصافحة للرجال فلما ولى الحجاج بن يوسف رتبها ايمانا تشتمل على ذكر اسم الله تعالى وعلى
الطلاق والاعتاق والحج وصدقة المال قال أصحابنا فإذا قال ايمان البيعة لازمة لي فإن لم يرد الايمان
التي رتبها الحجاج لم يلزمه شئ وان أرادها نظر ان قال فطلاقها وعتاقها لازم لي انعقدت يمينه بهما
ولا حاجة إلى النية وان لم يصرح بذكرهما لكن نواهما انعقدت يمينه أيضا بهما لأنهما ينعقدان
بالكناية مع النية وان نوى اليمين بالله تعالى أو لم ينو شيئا لم ينعقد يمينه ولا شئ عليه والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله * (إذا نذر ان يتصدق بماله لزمه ان يتصدق بالجميع لقوله صلى الله عليه
وسلم (من نذر ان يطع الله فليطعه) وان نذر ان يعتق رقبة ففيه وجهان (أحدهما) يجزئه ما يقع عليه
الاسم اعتبارا بلفظه (والثاني) لا يجزئه الا ما يجزئ في الكفارة لان الرقبة التي يجب عتقها بالشرع
ما يجب بالكفارة فحمل النذر عليه * وان نذر ان يعتق رقبة بعينها لزمه ان يعتقها ولا يزول ملكه
عنها حتى يعتقها فان أراد بيعها أو ابدالها بغيرها لم يجز لأنه تعين للقربة فلا يملك بيعه كالوقف وان تلف أو
أتلفه لم يلزمه بدله لان الحق للعبد فسقط بموته وان أتلفه أجنبي وجبت القيمة للمولى ولا يلزمه
صرفها في عبد آخر لما ذكرناه) *
(الشرح) الحديث المذكور صحيح سبق بيانه أول الكتاب ثم في الفصل مسائل (إحداها)
إذا نذر أن يتصدق بماله لزمه الصدقة بجميع ماله لما ذكره المصنف * وقال أحمد في إحدى الروايتين
عنه يكفيه أن يتصدق بثلثه * دليلنا أن اسم المال يقع على الجميع (أما) إذا قال مالي صدقة فقد سبق
462

بيانه مع ما يتعلق به قريبا * ولو قال إن شفي الله مريضي فلله علي ان أتصدق بشئ صح نذره
ويجزئه التصدق بما شاء من قليل وكثير * ونقل الرافعي انه لو قال لله علي الف ولم يعين شيئا باللفظ
ولا بالنية لم يلزمه شئ (الثانية) إذا نذر اعتاق رقبة فوجهان مشهوران ذكرهما المنصف بدليلهما
(أصحهما) يجزئه اعتاق ما يسمى رقبة وإن كانت معيبة وكافرة وهو ظاهر نص الشافعي فإنه قال أعتق
رقبة أية رقبة كانت (والثاني) لا يجزئه الا ما يجزئ في الكفارة وهي المؤمنة السليمة * وبنى أصحابنا
هذا الخلاف على أصل مفهوم من معاني كلام الشافعي رحمه الله وهو ان الناذر إذا التزم عبادة بالنذر
وأطلقها فلم يصفها فعلى اي شئ يحمل نذره وفيه قولان مفهومان من معاني كلام الشافعي (أحدهما)
ينزل على أقل واجب من جنسه يجب بأصل الشرع لان المنذور واجب فجعل كواجب الشرع
ابتداء (والثاني) ينزل على أقل ما يصح من جنسه وقد يقولون على أقل جائز الشرع لان لفظ الناذر
لا يقتضي زيادة عليه والأصل براءته * قال الرافعي وهذا الثاني أصح عند امام الحرمين والغزالي
قال والأول هو الصحيح عند العراقيين والروياني وغيرهم (قلت) الصواب ان يقال إن الصحيح
يختلف باختلاف المسائل ففي بعضها يصححون القول الأول وفي بعضها الثاني وهذا ظاهر يعلم من
استقراء كلام الأصحاب في المسائل المخرجة على هذا الأصل فمن ذلك من نذر صوما الأصح وجوب
تبييت النية ترجيحا للقول الأول وقطع به كثيرون ولو نذر صلاة لزمه ركعتان على الصحيح
باتفاقهم ترجيحا للقول الأول أيضا وكذا لا يجوز الجمع بين صلاتين منذورتين بتيمم واحد
على الصحيح باتفاقهم ترجيحا للقول الأول وغير ذلك من المسائل التي رجح فيها القول الأول *
ومما رجح فيه القول الثاني ما لو نذر اعتاق رقبة فان الأصح انه يجزئ المعيبة والكافرة ترجيحا
للقول الثاني * فحصل ان الصحيح يختلف باختلاف الصور * ويجوز ان يقال مراد الجمهور بتصحيح القول
الأول أنه الأصح مطلقا الا في مسألة الاعتكاف وإنما اختلف الأصح في هذه المسألة وسائر المسائل لان
الاعتاق ليس له عرف مطرد أو غالب يحمل عليه بل وقوع عتق التطوع في العادة أكثر من العتق
الواجب فحمل العتق المطلق بالنذر على مسمى الرقبة (وأما) الصوم فيصح فيه عموم قوله صلى الله عليه
وسلم (لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل) فخرج النفل بدليل وبقي النذر داخلا في العموم *
وهكذا الصلاة صح فيها قوله صلى الله عليه وسلم (صلاة الليل والنهار مثنى مثنى) فخرج جواز
463

التنقل بركعة بدليل وبقي النذر داخلا في العموم وكذا يقال في التيمم وغيره والله أعلم * فالحاصل أن
الصحيح عند الجمهور أنه ينزل النذر في صفاته على صفات واجب الشرع الا في الاعتاق وهذا
الخلاف في صفاته (وأما) أصل فعله والوفاء به فواجب بلا خلاف قال أصحابنا ويبني على القولين
في تنزيل النذر مسائل (منها) لو نذر أن يصلي وأطلق ان قلنا بالقول الأول وهو التنزيل على واجب
الشرع لزمه ركعتان وهو المنصوص والا فركعة (ومنها) جواز صلاته قاعدا مع القدرة على القيام
فيها وجهان بناء عليها * ولو نذر أن يصلي قاعدا جاز القعود قطعا كما لو صرح بنذر ركعة فإنها تجزئه
بلا خلاف فان صلى قائما فهو أفضل * ولو نذر أن يصلي قائما لزمه القيام قطعا * ولو نذر أن يصلي
ركعتين فصلى أربعا بتسليمة واحدة بتشهد أو تشهدين فطريقان (أصحهما) وبه قطع البغوي جوازه
(والثاني) فيه وجهان وهو الذي ذكره المتولي قال الرافعي ويمكن بناؤه على الأصل فان نزلنا النذر
على جائز الشرع أجزأه والا فلا كما لو صلى الصبح أربعا * وان نذر أربع ركعات فان نزلنا على واجب
الشرع أمرناه بتشهدين فان ترك الأول يسجد للسهو ولا يجوز أداؤها بتسليمتين وان نزلنا على الجائز
فهو بالخيار ان شاء أداها بتشهد وان شاء أداها بتشهدين ويجوز بتسليمة وبتسليمتين وهو أفضل
كما هو في النوافل هكذا نقلوه (والأصح) انه يجوز بتسليمتين على القولين والفرق بين هذه المسألة
وباقي المسائل المخرجة على هذا الأصل ظاهر لأنه يسمى مصليا أربع ركعات كيف صلاها * ولو نذر
صلاتين لم تجزئه أربع ركعات بتسليمة واحدة * ولو نذر ان يصلي ركعتين على الأرض مستقبل القبلة
لم يجز فعلهما على الراحلة ولو نذر فعلهما على الراحلة فله فعلهما على الأرض مستقبلا وان أطلق فعلى
أيهما يحمل فيه خلاف مبني على هذا الأصل والله أعلم (أما) إذا نذر ان يتصدق فإنه لا يحمل على
خمسة دراهم أو نصف دينار بلا خلاف بل يجزئه ان يتصدق بدانق ودونه مما يتمول لان الصلاة
الواجبة في الزكاة غير منحصرة في نصاب الذهب والفضة بل تكون في صدقة الفطر وفى الخلطة ويتصور
ايجاب دانق ودونه من الذهب والفضة أيضا في الزكاة إذا تلف معظم النصاب بعد الحول وقبل
التمكن وقلنا التمكن شرط في الضمان وهو الصحيح كما سبق في بابه والله أعلم * (ومنها) إذا نذر
اعتاق رقبة فان نزلنا على واجب الشرع وجبت رقبة مؤمنة سليمة وهو الأصح عند الداركي والا
أجزأه كافرة معيبة وهو الصحيح عند الأكثرين منهم المحاملي والمصنف في التنبيه والشاشي وآخرون
464

وهو الراجح في الدليل كما سبق * فلو قيد فقال لله علي اعتاق رقبة مؤمنة سليمة لم يجزه الكافرة ولا
المعيبة بلا خلاف ولو قال كافرة أو معيبة أجزأنه بلا خلاف فلو أعتق مؤمنة سليمة فقيل لا تجزئه لأنها
غير ما التزمه (والصحيح) الذي عليه الجمهور انها تجزئه لأنها أكمل وذكر الكفر والعيب ليس للتقرب
بل لجواز الاقتصار على الناقص فصار كمن نذر التصدق بحنطة رديئة يجوز له التصدق بالجيدة * ولو
قال علي أن أعتق هذا الكافر أو المعيب لم يجزه غيره لتعلق النذر بعينه (أما) إذا نذر أن يعتكف
فليس من جنس الاعتكاف واجب بالشرع وقد سبق في بابه وجهان في أنه هل يشترط اللبث أم يكفي
المرور في المسجد مع النية والأول أصح فعلى هذا يشترط لبث ويخرج عن النذر بلبث ساعة ويستحب
أن يمكث يوما * وان اكتفينا بالمرور في أصل الاعتكاف فلإمام الحرمين احتمالان (أحدهما) يشترط
لبث لان لفظ الاعتكاف يشعر به (والثاني) لا حملا له على حقيقته شرعا والله أعلم (المسألة الثالثة)
إذا نذر أن يعتق رقبة بعينها لزمه اعتاقها ولا يزول ملكه عنها بمجرد النذر فان أراد بيعها أو هبتها
أو الوصية بها أو ابدالها بغيرها لم يجز * وان تلفت أو أتلفها لم يلزمه بدلها وان أتلفها أجنبي لزمه
القيمة للمولى ويتصرف فيها المولى بما شاء ولا يلزمه أن يشتري بها رقبة يعتقها * ودليل جميع هذه
الصور في الكتاب وفيه الفرق بينه وبين الهدى والأضحية المنذورتين وقد سبقت المسألة بفروعها وايضاح الفرق في باب الهدي والله أعلم
* قال المنصف رحمه الله * (وان نذر هديا نظرت فان سماه كالثوب والعبد والدار لزمه ما سماه وان أطلق الهدي ففيه قولان
قال في الاملاء والقديم يهدي ما شاء لان اسم الهدي يقع عليه ولهذا يقال أهديت له دارا أو أهدي
لي ثوبا ولان الجميع يسمى قربانا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في الجمعة (من راح في الساعة الأولى
فكأنما قرب بدنة ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب
كبشا ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة)
فإذا سمى قربانا وجب أن يسمي هديا وقال في الجديد لا يجزئه الا الجذعة من الضأن والثنية من المعز
والإبل والبقر لان الهدى المعهود في الشرع ما ذكرناه فحمل مطلق النذر عليه * وان نذر بدنة أو بقرة أو
شاة فان قلنا بالقول الأول أجزأه من ذلك ما يقع عليه الاسم وان قلنا بالقول الثاني لم يجزه الا ما يجزئ
في الأضحية * وان نذر شاة فاهدى بدنة أجزأه لان البدنة بسبع من الغنم وهل يجب الجميع فيه وجهان
(أحدهما) ان الجميع واجب لأنه مخير بين الشاة والبدنة فأيهما فعل كان واجبا كما نقول في العتق والاطعام
في كفارة اليمين (والثاني) ان الواجب هو السبع لان كل سبع منها بشاة فكان الواجب هو السبع * وان
465

نذر بدنة وهو واجد البدنة ففيه وجهان (أحدهما) أنه مخير بين البدنة والبقرة والسبع من الغنم لان كل
واحد من الثلاثة قائم مقام الاخر والثاني أنه لا يجزئه غير البدنة لأنه عينها بالنذر وإن كان عادما للبدنة
انتقل إلى البقرة فإن لم يجد بقرة انتقل إلى سبع من الغنم ومن أصحابنا من قال لا يجزئه غير البدنة
فإن لم يجد ثبتت في ذمته إلى أن يجد لأنه التزم ذلك بالنذر والمذهب الأول لأنه فرض
له بدل فانتقل عند العجز إلى بدله كالوضوء * وإن نذر الهدى للحرم لزمه
في الحرم وان نذر لبلد آخر لزمه في البلد الذي سماه لما روى عمرو ابن شعيب
عن أبيه عن جده (ان امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله أنى نذرت
ان أذبح بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال لصنم قالت لا قال لوثن قالت
لا قال أوفي بنذرك) فان نذر لافضل بلد لزمه بمكة لأنها أفضل البلاد والدليل عليه ما روى جابر رضي الله عنه
قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته أي بلد أعظم حرمة قالوا بلدنا هذا فقال النبي
صلى الله عليه وسلم ان دمائكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم
هذا) ولان مسجدها أفضل المساجد فدل على أنها أفضل البلاد وان أطلق النذر ففيه وجهان (أحدهما)
يجوز حيث شاء لان الاسم يقع عليه (والثاني) لا يجوز الا في الحرم لان الهدى المعهود في الشرع
هو الهدى في الحرم والدليل عليه قوله تعالى (هديا بالغ) الكعبة وقال تعالى (ثم محلها إلى البيت العتيق)
فحمل مطلق النذر عليه * فإن كان قد نذر الهدى لرتاج الكعبة أو عمارة مسجد لزمه صرفه فيما نذر
فان أطلق ففيه وجهان (أحدهما) ان له ان يصرفه فيما شاء من وجوه القرب في ذلك البلد الذي نذر
الهدى فيه لان الاسم يقع عليه (والثاني) أنه يفرقه على مساكين البلد الذي نذر ان يهدى إليه لان الهدى
المعهود في الشرع ما يفرق على المساكين فحمل مطلق النذر عليه * وإن كان ما نذره مما لا يمكن نقله
كالدار باعه ونقل ثمنه إلى حيث نذر * وان نذر النحر في الحرم ففيه وجهان (أحدهما)
يلزمه النحر دون التفرقة لأنه نذر أحد مقصودي الهدى فلم يلزمه الاخر كما لو نذر
التفرقة (والثاني) يلزمه النحر والتفرقة وهو الصحيح لان نحر الهدي في الحرم في عرف الشرع
ما يتبعه التفرقة فحمل مطلق النذر عليه * وان نذر النحر في بلد غير الحرم ففيه وجهان
(أحدهما) لا يصح لان النحر في غير الحرم ليس بقربة فلم يلزمه بالنذر (والثاني) يلزم النحر والتفرقة
لان النحر على وجه القربة لا يكون الا للتفرقة فإذا نذر النحر تضمن التفرقة *
(الشرح) حديث (من راح في الساعة الأولى) رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة
466

وسبق بيان طرقه وشرحه في صلاة الجمعة * وحديث عمرو بن شعيب غريب ولكن معناه مشهور من
رواية ثابت الضحاك الأنصاري رضي الله عنه قال (نذر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ببوانة
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالوا لا قال فهل
كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوف بنذرك فإنه لا وفاء لنذر
في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم) رواه أبو داود باسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم (وأما)
حديث جابر بهذا اللفظ فغريب عنه ورواه البخاري بهذا اللفظ في صحيحه في أول كتاب الحدود
في باب طهر المؤمن حما من رواية ابن عمر رضي الله عنهما ويستدل معه أيضا بحديث عدى بن الحمراء
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (وقف في مكة وأشار إليها وقال والله انك لخير
أرض الله وأحب أرض الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت) رواه الترمذي وغيره قال الترمذي
هو حديث حسن صحيح وسبق بيانه وبيان ما يتعلق به وما يعارضه في آخر باب ما يجب بمحظورات
الاحرام والله أعلم (أما) ألفاظ الفصل ففيه لغتان مشهورتان (أشهرهما) وأفصحهما هدى - باسكان
الدال وتخفيف الياء - وبهذه جاء القرآن (والثانية) هدى - بكسر الدال وتشديد الياء - سمي
هديا لأنه يهدى إلى الحرم فعلى الأولى هو فعل بمعنى مفعول كالخلق بمعنى المخلوق وعلى الثانية فعيل
بمعنى مفعول كقتيل وجريح بمعنى مقتول ومجروح (وأما) حديث من راح في الساعة الأولى فسبق
شرحه في باب الجمعة (وقوله) وقال في الجديد أي في معظم كتبه الجديدة والا فالاملاء من الكتب
الجديدة (واما) الضأن والمعز والإبل والبقر فسبق بيان لغاتها في كتاب الزكاة (قوله) لأنه فرض
له بدل احتراز من الصلاة ومن زكاة الفطر * وذكر في الجديد الصنم والوثن فقيل هما بمعنى والأصح
أنهما متغايران فعلى هذا قيل الصنم ما كان مصورا من حجر أو نحاس أو غيرهما والوثن ما كان غير
مصور * وقيل الوثن ما كان له جثة من خشب أو حجر أو جوهر أو ذهب وفضة ونحو ذلك سواء
كان مصورا أو غير مصور والصنم الصورة بلا جثة والله أعلم * (قوله) رتاج الكعبة هو - بكسر
الراء وتخفيف التاء المثناة فوق وبالجيم - وأصله الباب وقد يراد به الكعبة نفسها ويقال فيه الرتج
أيضا - بفتح الراء والتاء - والله أعلم * (أما) الأحكام ففيها مسائل (إحداها) إذا نذر أن يهدي
شيئا معينا من ثوب أو طعام أو دراهم أو عبيد أو دار أو شجر أو غير ذلك لزمه ما سماه ولا يجوز
العدول عنه ولا ابداله فإن كان نذر أن يهديه إلى مكان معين واحتاج إلى مؤنة لنقله لزمه تلك
المؤنة من ماله لا من المنذور وإن كان مما لا يمكن نقله كالدار والشجر والأرض وحجر الرحى ونحوها
467

لزمه بيعه ونقل ثمنه لقوله صلى الله عليه وسلم (من نذر أن يطع الله فليطعه) قال البغوي وغيره
ويتولى الناذر البيع والنقل بنفسه ولا يشترط إذن الحاكم ولا غيره ويتصدق بثمنه * قال أصحابنا
وإن كان ذلك المعين بالنذر من الحيوان كالعبد والبدنة والشاة وجب حمله إلى ذلك الموضع المعين فإن لم
يكن شرط موضعا معينا لزمه صرفه إلى مساكين الحرم وسواء المقيمون فيه والواردون إليه هذا هو
المذهب وبه قطع الجمهور * وفيه وجه حكاه الرافعي وغيره أن مساكين الحرم لا يتعينون بل يجوز
صرفه في غير الحرم والمشهور الأول * فإن كان المنذور بدنة أو شاة أو بقرة وجب التصدق
بها بعد ذبحها ولا يجوز التصدق بها قبله لان في ذبحها قربة * قال أصحابنا ويجب الذبح في
الحرم فان ذبح في غيره لم يجزه هذا هو المذهب * وفيه وجه آخر مشهور أنه يجوز ذبحه خارج
الحرم بشرط أن ينقل اللحم إلى الحرم قبل أن يتغير وقد سبق مثل هذا الخلاف في آخر
باب محظورات الاحرام * وإن كان من غير الإبل والبقر والغنم فما يمكن نقله كالظبية والحمار
والطائر والثوب وجب حمله إلى الحرم وعليه مؤنة نقله كما ذكرنا فإن لم يكن له مال بيع بعضه لنقل الباقي
هكذا جزم به المصنف في التنبيه وجمهور الأصحاب * قال الرافعي واستحسن ما حكى عن القفال أنه
قال إن قال أهدى هذا فالمؤنة عليه وان قال جعلته هديا فالمؤنة فيه يباع بعضه قال لكن مقتضى
جعله هديا أن يوصل كله إلى الحرم فيلتزم مؤنته كما لو قال أهدى * ثم إذا بلغ الحرم فالصحيح أنه يجب
صرفه إلي مساكين الحرم لكن لو نوى صرفه إلى تطييب الكعبة أو جعل الثوب سترا لها أو قربة
أخرى هناك صرفه إلى ما نوى وفيه وجه ضعيف أنه وان أطلق فله صرفه إلى ما نوى ووجه ثالث أضعف
منه أن الثوب الصالح للستر يحمل عليه عند الاطلاق * قال إمام الحرمين قياس المذهب والذي صرح
به الأئمة ان ذلك المال المعين يمتنع بيعه وتفرقة ثمنه بل يتصدق بعينه وينزل تعيينه منزلة تعيين الأضحية
والشاة في الزكاة فيتصدق بالظبية والطائر وما في معناهما حيا ولا يذبحه إذ لا قربه في ذبحه فلو ذبحه فنقصت
القيمة تصدق باللحم وغرم ما نقص هذا هو المذهب * وحكى المتولي وجها ضعيفا انه يذبح وطرد
المتولي الخلاف فيما إذا أطلق ذكر الحيوان وقلنا لا يشترط ان يهدى ما يجزئ في الأضحية والله أعلم *
(اما) إذا نذر إهداء بغير معيب فهل يذبحه فيه وجهان (أحدهما) نعم نظرا إلى جنسه (وأصحهما)
لا لأنه لا يصلح للتضحية كالضبية والله أعلم * (المسألة الثانية) في الصفات المعتبرة في الحيوان المنذور
إذا أطلق النذر * قال أصحابنا إذا قال لله علي ان أهدي بعيرا أو بقرة أو شاة فهل يشترط فيه السن المجزئ
في الأضحية والسلامة من العيوب فيه القولان اللذان ذكرهما المصنف بدليلهما وهما مبنيان
468

على القاعدة السابقة ان النذر هل يحمل على أقل واجب الشرع من ذلك النوع أو أقل جائزه وما يتقرب
به (أصحهما) على واجبه فيشترط سن الأضحية والسلامة * ولو قال أضحي ببعير أو ببقرة ففيه مثل
هذا الخلاف قال إمام الحرمين وبالاتفاق لا يجزئ الفصيل لأنه لا يسمى بعيرا ولا العجل إذا ذكر
البقرة ولا السخلة إذا ذكر الشاة * ولو قال أضحى ببدنة أو أهدى بدنة جرى الخلاف ورأي إمام الحرمين
هذه الصورة أولى باشتراط السن والسلامة وهو كما رأى * وان أهدى ولم يسم شيئا ففيه القولان (ان
نزلناه) على ما يتقرب به من جنسه خرج عن نذره بكل ما يتصدق به حتى الدجاجة أو البيضة أو غيرهما
من كل ما يتمول لوقوع الاسم عليه وعلى هذا فالصحيح من الوجهين أنه لا يجب ايصاله مكة وصرفه
إلى فقرائها بل يجوز التصدق به على غيرهم وهذا نصه في الاملاء والقديم كما ذكره المصنف والأصحاب
(وان نزلناه) على أقل واجب الشرع من جنسه وجب أقل ما يجزئ في الأضحية وهذا هو المنصوص في
الجديد وهو الصحيح فعلى هذا يجب إيصاله مكة لان محل الهدى الحرم وقد حملناه على مقتضى الهدى
وفيه وجه ضعيف أنه لا يجب حمله الا أن يصرح به والمذهب الأول * (أما) إذا قال لله على أن اهدى الهدى
بالألف واللام فيجب حمله على الهدي المعهود شرعا وهو ما يجزئ في الأضحية وهذا لا خلاف فيه
لأنه عرفه بالألف واللام فوجب صرفه إلى المعهود والله أعلم * (الثالثة) إذا نذر ذبح حيوان ولم يتعرض
لهدى ولا أضحية بأن قال لله على أن أذبح هذه البقرة أو أنحر هذه البدنة فان قال مع ذلك وأتصدق بلحمها
أو نواه لزمه الذبح والتصدق وان لم يقله ولا نواه فوجهان (أحدهما) ينعقد نذره ويلزمه الذبح والتصدق
(وأصحهما) لا ينعقد لأنه لم يلتزم التصدق وإنما التزم الذبح وحده وليس فيه قربة إذا لم يكن للصدقة
ولو نذر أن يهدي بدنة أو بقرة أو شاة إلى مكة أو أن يتقرب بسوقها ويذبحها ويفرق لحمها على فقرائها
لزمه الوفاء ولو لم يتعرض للذبح وتفرقة اللحم لزمه الذبح بها أيضا وفي تفرقة اللحم وجهان (أحدهما)
لا يجب تفرقته بها الا أن ينوى بل له التفرقة في موضع آخر (وأصحهما) الوجوب وبه قطع الأكثرون
ولو نذر الذبح في موضع آخر خارج الحرم وتفريق اللحم في الحرم على أهله قال المتولي الذبح خارج
الحرم لا قربة فيه فيذبح حيث شاء ويلزمه تفرقة اللحم في الحرم وكأنه نذر أن يهدى إلى مكة لحما *
ولو نذر أن يذبح بمكة ويفرق اللحم على فقراء بلد آخر لزمه الوفاء بما التزم * ولو قال لله على أن أنحر
أو أذبح بمكة ولم يتعرض للفظ القربة والتضحية ولا التصدق ففي انعقاد نذره وجهان (أصحهما) ينعقد
وبه قطع الجمهور وعلى هذا في وجوب التصدق باللحم على فقرائها الوجهان السابقان * ولو نذر الذبح
بأفضل بلد صح نذره ولزمه الوفاء وحكمه حكم من نذر الذبح بمكة لأنها أفضل البلاد عندنا وقد سبق
469

ايضاح المسألة في آخر باب محظورات الاحرام * ولو نذر الذبح أو النحر ببلد أخرى ولم يقل مع ذلك
وأتصدق على فقرائها ولا نواه فوجهان مشهوران حكاهما المصنف بدليلهما وحكاهما جماعة قولين
(أصحهما) وهو نصه في الام لا ينعقد نذره لأنه لم يلتزم الا الذبح والذبح في غير الحرم لا قربة فيه
(والثاني) ينعقد ويلزمه الذبح وتفرقة اللحم على الفقراء (فان قلنا) ينعقد أو تلفظ مع ذلك بالتصدق
أو نواه فهل يتعين التصدق باللحم أم لا يجوز نقله إلى غيرهم فيه طريقان (المذهب) أنهم يتعينون
(والثاني) فيه وجهان مأخوذان من نقل الصدقة (فان قلنا) لا يتعينون لم يجب الذبح بتلك البلدة
بخلاف مكة فإنها محل ذبح الهدايا (وان قلنا) يتعينون فوجهان (أحدهما) لا يجب الذبح بها بل لو
ذبح خارجها ونقل اللحم إليها طريا جاز وبه قطع البغوي وجماعة (والثاني) يتعين إراقة الدم فيها كمكة
وبهذا قطع العراقيون وحكوه عن نصه في الام (أما) إذا قال لله علي أن أضحى ببلدة كذا وأفرق
اللحم على أهلها فينعقد نذره ويغنى ذكر التضحية عن ذكر التصدق ونيته وجعل إمام الحرمين وجوب
التفرقة على أهلها ووجوب الذبح بها على الخلاف السابق قال ولو اقتصر على قوله أضحى بها فهل
يتضمن ذلك تخصيص التفرقة عليهم فيه وجهان (الصحيح) الذي جرى عليه الأئمة وجوب الذبح
والتفرقة بها * وفي فتاوي القفال أنه لو قال إن شفى الله مريضي فلله علي أن أتصدق بعشرة دراهم
على فلان فشفاه الله تعالى لزمه التصدق عليه فإن لم يقبل لم يلزمه شئ وهل لفلان مطالبته بالتصدق
بعد الشفاء قال يحتمل أن يقال نعم كما لو نذر اعتاق عبد معين ان شفي فشفي فان له المطالبة بالاعتاق
وكما لو وجبت الزكاة والمستحقون في البلد محصورون فان لهم المطالبة والله أعلم * (الرابعة) إذا قال
لله علي أن أضحي ببدنة أو أهدي بدنة قال امام الحرمين البدنة في اللغة مختصة بالواحد من الإبل
ثم الشرع قد يقيم مقامها بقرة أو سبعا من الغنم وقال الشيخ أبو حامد وجماعة اسم البدنة على الإبل
والبقر والغنم جميعا وهذا هو الصحيح وقد نقله الأزهري وخلافه من أهل اللغة وصرحوا بأنه يطلق
على الإبل والبقر والغنم الذكر والأنثى ولكن اشتهر في اصطلاح الفقهاء اختصاص البدنة بالإبل * قال
أصحابنا فإذا نذر بدنة فله حالان (أحدهما) ان يطلق التزام البدنة فله اخراجها من الإبل وهل له
العدول إلى بقرة أو سبع من الغنم فيه ثلاثة أوجه (أحدها) لا (والثاني) نعم (والثالث) وهو الصحيح
المنصوص انه ان وجد الإبل لم يجز العدول والا جاز وقد ذكر المصنف دليل الأوجه الثلاثة * ويشترط
في البدنة والبقرة وكل شاة أن تكون مجزئة في الأضحية (الحال الثاني) أن يقيد فيقول لله علي أن
أضحى ببدنة من الإبل أو ينويها فلا يجزئه غير الإبل إذا وجدت بلا خلاف فان عدمت فوجهان
470

مشهوران (أحدهما) يصبر إلى أن يجدها ولا يجزئه غيرها (والثاني) وهو الصحيح المنصوص ان
البقرة تجزئه بالقيمة فإن كانت قيمة البقرة دون قيمة البدنة من الإبل لزمه اخراج الفاضل هذا هو
المذهب وفيه وجه آخر أنه لا تتعين القيمة كما في حال الاطلاق والصحيح الأول * واختلفوا في كيفية
اخراج الفاضل فذكر الروياني في كتابه الكافي أنه يشتري بقرة أخرى ان أمكن والا فهل يشتري
به شقصا أو يتصدق على المساكين بدراهم فيه وجهان وفي تعليق الشيخ أبي حامد أنه يتصدق به وقال
المتولي يشارك انسانا في بدنة أو بقرة أو يشتري به شاة والله أعلم * وإذا عدل إلى الغنم في هذه
الحالة اعتبرت القيمة أيضا * ثم نقل الروياني في كتابه جامع الجوامع أنه إذا لم يجد الإبل في حالة التقييد
يتخير بين البقرة والسبع من الغنم لأن الاعتبار بالقيمة والذي ذكره ابن كج والمتولي وغيرهما أنه
لا يعدل إلى الغنم مع القدرة على البقر لأنها أقرب * ولو وجد ثلاث شياه بقيمة البدنة فوجهان
(أصحهما) لا تجزئه بل عليه أن يتم السبع من ماله (والثاني) تجزئه لوفائهن بالقيمة قاله أبو الحسين
النسوي من أصحابنا المتقدمين في زمن ابن خيران وأبي إسحاق المروزي *
(فرع) لو نذر شاة فجعل بدلها بدنة جاز بلا خلاف وهل يكون جميعها فرضا فيه وجهان
مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما وسبق ذكرهما في آخر باب صفة الوضوء وفي صفة الصلاة
وفي الزكاة وفي الحج (أصحهما) يقع سبعها واجبا والباقي تطوعا (والثاني) يقع الجميع واجبا
(فان قلنا) كلها واجبة لم يجز الاكل منها إذا قلنا بالمذهب انه لا يجوز الاكل من الهدي والأضحية
الواجبين (وان قلنا) الواجب السبع جاز الاكل من الزائد وقال الشيخ أبو حامد يجوز أكل
الزائد كله والله أعلم *
(فرع) إذا نذر أن يهدي شاة بعينها لزمه ذبحها فان أراد أن يذبح عنها بدنة لم يجزئه لان
الشاة تعينت فلا يجوز غيرها كما لو نذر اعتاق عبد معين والله أعلم *
(فرع) قال الشافعي في الام لو قال إذا أهدى هذه الشاة نذرا لزمه أن يهديها إلا أن تكون
نيته أنى سأحدث نذرا أو سأهديها فلا يلزمه قال فلو نذر أن يهدي هديا ونوى بهيمة أو جديا أو
رضيعا أجزأه هكذا نص عليه قال أصحابنا والقولان السابقان فيما إذا أطلق نذر الهدى ولم ينو
شيئا * قال الشافعي ولو نذر أن يهدي شاة لا تجزئ في الأضحية أجزأته قال ولو أهدى كاملة
كان أفضل والله أعلم *
(فرع) يجزئ الذكر والأنثى والخصي والفحل في جميع ذلك سواء كان الواجب من الإبل
471

أو البقر أو الغنم بلا خلاف لوقوع الاسم عليه * (الخامسة) إذا نذر الاهداء لرتاج الكعبة لزم صرفه
في كسوتها وان قصد صرفه في طيبها أو غير ذلك مما يصح نذره صرف إليه وان نذر الاهداء
إلى بلد آخر فان صرح بصرفه في عمارة مسجد ذلك البلد أو نواه أو صرح بصرفه في قربة أخرى
مثلها أو نواه صرفه في ذلك وان أطلق فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أحدهما)
يصرفه فيما شاء من وجوه القربات في ذلك البلد (وأصحهما) يتعين صرفه إلى مساكين ذلك البلد
المقيمين فيه والواردين وهما مبنيان على الوجهين السابقين أن النذر المطلق هل يحمل على المعهود أم
على ما يقع عليه الاسم (ان قلنا) بالأصح وهو الحمل على المعهود تعين للمساكين والا فلا والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا تطييب الكعبة وسترها من القربات سواء سترها بالحرير وغيره ولو
نذر سترها أو تطييبها صح نذره بلا خلاف (أما) إذا نذر هديا لرتاج الكعبة وطيبها فقال الشيخ
إبراهيم المروروذي وغيره ينقله ويسلمه إلى القيم ليصرفه في الجهة المذكورة إلا أن يكون قد نوى
أو نص في نذره أن يتولى ذلك بنفسه فيلزمه (أما) إذا نذر تطييب مسجد المدينة أو الأقصى أو غيرهما
ففي انعقاد نذره تردد لإمام الحرمين ومال الإمام إلى تخصيص الانعقاد بالمسجد الحرام والمختار الصحة
في كل مسجد لان تطييبها سنة مقصودة فلزمت بالنذر كسائر الطاعات *
(فرع) قد ذكرنا أن من نذر هديا مطلقا لزمه في أصح القولين ما يجزئه في الأضحية وبه قال
مالك وأبو حنيفة واحمد * وقال داود ما يقع عليه اسم هدى وهو قولنا الاخر والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(وان نذر صلاة لزمه ركعتان في أظهر القولين لان أقل صلاة واجبة في الشرع ركعتان فحمل
النذر عليه وتلزمه ركعة في القول الآخر لان الركعة صلاة في الشرع وهي الوتر فلزمه ذلك وان نذر
الصلاة في مسجد غير المساجد الثلاثة وهي المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى جاز
له أن يصلى في غيره لان ما سوى المساجد الثلاثة في الحرمة والفضيلة واحدة فلم يتعين بالنذر * وان
نذر الصلاة في المسجد الحرام لزمه فعلها فيه لأنه يختص بالنذر والصلاة فيه أفضل
من الصلاة في غيره والدليل عليه ما روى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (صلاة في مسجدي هذا أفضل من الف صلاة فيما سواه من المساجد الا المسجد
الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاة في مسجدي هذا) فلا يجوز أن يسقط ما نذره
بالصلاة في غيره وان نذر الصلاة في مسجد المدينة أو المسجد الأقصى ففيه قولان (أحدهما)
472

يلزمه لأنه ورد الشرع فيه بشد الرحال إليه فأشبه المسجد الحرام (والثاني) لا يلزمه لأنه لا يجب
قصده بالنسك فلا تتعين الصلاة فيه بالنذر كسائر المساجد * فان قلنا يلزمه فصلى في المسجد الحرام
أجزأه عن النذر لان الصلاة في المسجد الحرام أفضل فسقط به فرض النذر * وان نذر أن
يصلي في المسجد الأقصى فصلى في مسجد المدينة أجزأه لما روى جابر رضي الله عنه أن رجلا
قال (يا رسول الله إني نذرت ان فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين فقال
صل ههنا فأعاد عليه فقال صل ههنا ثم أعاد عليه فقال شأنك) ولان الصلاة فيه أفضل من الصلاة في
بيت المقدس فسقط به فرض النذر *
(الشرح) أما حديث عبد الله بن الزبير فرواه أحمد بن حنبل في مسنده والبيهقي باسناد
حسن وسبق بيانه في أواخر باب صفة الحج في مسألة استحباب دخول البيت (وأما) حديث جابر
فصحيح رواه أبو داود في سننه بلفظه باسناد صحيح (وقوله) صلى الله عليه وسلم (شأنك)
هو منصوب أي الدم شأنك فان شئت أن تفعله فافعله (وقوله) ورد الشرع بشد الرحال إليه
احتراز من غير المساجد الثلاثة وفي بيت المقدس لغتان مشهورتان (إحداهما) فتح الميم وإسكان
القاف وكسر الدال (والثانية) ضم الميم وفتح القاف والدال المشددة (أما الأحكام) فان نذر
صلاة مطلقة ففيما يلزمه قولان مشهوران (أصحهما) ركعتان (والثاني) ركعة وذكر المصنف
دليلهما وهما مبنيان على القاعدة السابقة أن النذر هل يسلك به في صفاته مسلك واجب الشرع أم
مسلك جائزه (اما) إذا قال لله علي أن أمشى إلى بيت الله الحرام أو آتيه أو أمشي إلى البيت
الحرام لزمه إتيانه هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور لقوله صلى الله عليه وسلم (من نذر أن يطع الله
فليطعه) وهو صحيح سبق بيانه وقيل في لزومه قولان حكاهما الرافعي وليس بشئ * ولو قال
لله علي أن أمشي إلى بيت الله أو آتيه ولم يقل الحرام ففيه خلاف منهم من حكاه وجهين ومنهم
من حكاه قولين (أحدهما) يحمل على البيت الحرام وهو بيت مكة (وأصحهما) لا ينعقد نذره
إلا أن ينوى البيت الحرام لان جميع المساجد بيوت الله تعالى وقد ذكر المصنف المسألة في آخر
الباب وسنزيدها إيضاحا هناك انشاء الله تعالى * ولو قال لله على أن أمشي إلى الحرام أو المسجد
الحرام أو مكة أو ذكر بقعة من بقاع الحرم كالصفا والمروة ومسجد الخيف ومنى ومزدلفة ومقام
إبراهيم وغيرهما فهو كما لو قال إلى بيت الله الحرام حتى لو قال آتي دار أبي جهل أو دار الخيرزان كان
الحكم كذلك باتفاق الأصحاب لشمول حرمة الحرم في تنفير الصيد وغيره * ولو نذر أن
473

يأتي عرفات فان أراد التزام الحج وعبر عنه بحضور عرفات أو نوى أن يأتيها محرما انعقد نذره
بالحج فإن لم ينو ذلك لم ينعقد نذره لان عرفات من الحل فهي كبلد آخر وفيه وجه لأبي علي بن
أبي هريرة أنه لو نذر أن يأتي عرفات يوم عرفات لزمه أن يأتيها حاجا * وقيد المتولي هذا الوجه
بما إذا قال ذلك يوم عرفات بعد الزوال * وقال القاضي حسين يكفي في لزوم ذلك أن يحضر له
حضورها يوم عرفة وربما قال بهذا الجواب على الاطلاق والمذهب ما قدمناه وبه قطع جماهير
الأصحاب * ولو قال لله علي أن آتي مر الطهران أو بقعة أخرى قريبة من الحرم لم يلزمه شئ بلا
خلاف * قال أصحابنا وإذا التزم الاتيان إلى الكعبة فسواء التزمه بلفظ المشي والآتيان والانتقال
والذهاب والمضي والمصير والمسير ونحوها * ولو نذر أن يمس بثوبه حطم الكعبة فهو كما لو نوى
اتيانها والله أعلم * (أما) إذا نذر أن يأتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المسجد الأقصى
ففي لزوم إتيانها قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (قال) في البويطي يلزم (وقال) في
الاملاء لا يلزم ويلغوا النذر وهذا هو الأصح عند أصحابنا العراقيين والروياني وغيرهم * قال
أصحابنا فان قلنا بالمذهب أنه يلزمه إتيان المسجد الحرام بالتزامه قال الصيدلاني وغيره ان حملنا
النذر على أقل واجب الشرع لزمه حج أو عمرة وهذا هو نص الشافعي رحمه الله في المسألة وهو
المذهب (وان قلنا) لا يحمل على أقل واجب الشرع بني علي أصل آخر وهو أن دخول مكة هل
يوجب الاحرام بحج أو عمرة وفيه قولان سبقا (أصحهما) لا يوجب (فان قلنا) يوجبه فإذا أتاه
لزمه حج أو عمرة (وان قلنا) لا فهو كمسجد المدينة والأقصى ففيه القولان في أنه هل يلزمه إتيانه
وإذا لزم فتفريعه كتفريع المسجدين كما سنوضحه إن شاء الله تعالى (أما) إذا أوجبنا إتيان مسجد
المدينة والأقصى فهل يلزمه مع الاتيان شئ آخر فيه وجهان (أحدهما) لا إذ لم يلتزمه (وأصحهما) نعم
لان الاتيان المجرد ليس بقربة وإنما يقصد لغيره فعلى هذا فيما يلزمه أوجه (أحدها) يتعين أن يصلي في المسجد
الذي أتاه قال إمام الحرمين الذي أراه أنه لا يلزمه ركعتان بل تكفيه ركعة قولا واحدا وذكر ابن الصباغ
والأكثرون أنه يصلى ركعتين قال ابن القطان وهل يكفي أن يصلى فريضة أم لابد من صلاة زائدة فيه وجهان
(أصحهما) لا تكفي الفريضة بناء على وجهين فيمن نذر أن يعتكف شهر الصوم هل يكفي أن يعتكف في
رمضان (أصحهما) لا يكفيه (والوجه الثاني) من الأوجه أنه يتعين أن يعتكف فيه ولو ساعة لان الاعتكاف
أخص القربات بالمسجد (والثالث) وهو الأصح يتخير بينهما وبه قطع البغوي وغيره قال الشيخ
أبو علي السنجي يكفي في مسجد المدينة أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم وحكاه عنه إمام الحرمين
474

وتوقف فيه من جهة أن الزيارة لا تتعلق بالمسجد وتعظيمه قال وقياسه انه لو تصدق في المسجد أو صام يوما كفاه
قال والظاهر الاكتفاء بالزيارة والله أعلم * وإذا نزلنا المسجد الحرام منزلة المسجدين وأوجبنا ضم قربة إلى
الاتيان ففي تلك القربة أوجه (أحدها) الصلاة (والثاني) الحج أو العمرة (والثالث) يتخير قال امام الحرمين
ولو قيل يكفي الطواف لم يبعد والله أعلم * قال أصحابنا ومتى قال أمشي إلى بيت الله الحرام لم يكن له الركوب على
أصح الوجهين بل يلزمه المشي كما سنذكره إن شاء الله تعالى فيما إذا قال أحج ماشيا (والوجه الاخر)
يمشي من الميقات ويجوز الركوب قبله * وذكر القاضي أبو الطيب وكثير من العراقيين أنه لا خلاف
بين الأصحاب أنه يمشي من ديويرة أهله لكن هل يحرم من ديويرة أهله أم من الميقات فيه وجهان
(قال) أبو إسحاق من دويرة أهله (وقال) أبو علي الطبري من الميقات وهو الأصح * ولو قال أمشي
إلى مسجد المدينة أو الأقصى وأوجبنا الاتيان ففي وجوب المشي وجهان (أصحهما) الوجوب * ولو
كان لفظ الناذر الاتيان أو الذهاب أو غيرهما مما يساوي المشي فله الركوب بلا خلاف والله أعلم *
(أما) إذا نذر اتيان مسجد آخر سوى الثلاثة فلا ينعقد نذره بلا خلاف لأنه ليس في قصدها قربة
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والأقصى
ومسجدي) قال امام الحرمين كان شيخي يفتي بالمنع من شد الرحال إلى غير هذه الثلاثة
لهذا الحديث قال وربما كأن يقول محرم قال الامام والظاهر أنه ليس فيه تحريم ولا كراهة وبه قال
الشيخ أبو علي ومقصود الحديث بيان القربة بقصد المساجد الثلاثة (واعلم) انه سبق في الاعتكاف
أن من عين بنذره مسجد المدينة أو الأقصى للاعتكاف تعين على أصح القولين والفرق ان الاعتكاف
عبادة في نفسه وهو مخصوص بالمسجد فإذا كان للمسجد فضل فكأنه التزم فضيلة في العبادة الملتزمة
والآتيان بخلافه ويوضحه انه لا خلاف انه لو نذر اتيان سائر المساجد لم يلزمه وفي مثله في الاعتكاف
خلاف والله أعلم *
(فرع) إذا نذر الصلاة في موضع معين لزمه الصلاة ثم إن عين المسجد الحرام تعين للصلاة
الملتزمة وان عين مسجد المدينة أو الأقصى فطريقان (قال) الأكثرون في تعيينه القولان في لزوم
الاتيان (وقطع) المراوزة بالتعين والتعين هنا أرجح كالاعتكاف * وان عين سائر المساجد والمواضع
لم تتعين وان عين مسجد المدينة أو الأقصى للصلاة وقلنا بالتعين فصلى في المسجد الحرام خرج عن
نذره على الأصح بخلاف العكس وهل تقوم الصلاة في أحدهما مقام الصلاة في الاخر فيه ثلاثة
أوجه (أحدها) تقوم (والثاني) لا (والثالث) وهو الأصح وهو المنصوص في البويطي يقوم مسجد
475

المدينة مقام المسجد الأقصى ولا يقوم الأقصى مقام مسجد المدينة ويؤيده الحديث السابق والله أعلم *
وذكر امام الحرمين انه لو قال أصلي في مسجد المدينة فصلى في غيره ألف صلاة لم يخرج عن نذره
كما لو نذر ألف صلاة لم يخرج عن نذره بصلاة واحدة في مسجد المدينة قال وكان شيخي يقول لو
نذر صلاة في الكعبة فصلى في أطراف المسجد خرج عن نذره لان الجميع من المسجد الحرام
والله أعلم *
(فرع) سبق ان المذهب في نذر المشي إلى بيت الله الحرام أنه يجب قصده بحج أو عمرة
فلو قال في نذره أمشي إلى بيت الله الحرام بلا حج ولا عمرة فوجهان (أصحهما) ينعقد نذره ويلغو
قوله بلا حج ولا عمرة (والثاني) لا ينعقد ثم إذا أتاه فان أوجبنا احراما لدخول مكة لزمه حج
أو عمرة (وان قلنا) لا فعلى ما ذكرنا في مسجد المدينة والأقصى والصحيح هنا لزومه وقد ذكر المصنف
هذه المسألة في آخر الباب وسنزيدها هناك ايضاحا إن شاء الله تعالى *
(فرع) لو قال لله علي أن أصلى الفرائض في المسجد قال الغزالي يلزمه إذا قلنا صفات الفرائض
تفرد بالالتزام *
(فرع) قال القاضي ابن كج إذا نذر أن يزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم فعندي انه يلزم
الوفاء بذلك وجها واحد ولو نذر أن يزور قبر غيره فوجهان *
(فرع) قال المتولي لو قال لله علي ان أمشي إلى مكة ونوى بقلبه حاجا أو معتمرا انعقد النذر على ما نوى وان نوى إلى بيت الله الحرام حصل ما نواه كأنه تلفظ به والله أعلم *
(فرع) ذكر المصنف في أثناء كلامه ودليله هنا ان الصلاة في المسجد الحرام أفضل منها في
غيره وهذا مبني على أن مكة أفضل من المدينة وهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا وبه قال جمهور العلماء
وقال مالك وطائفة المدينة أفضل وسبقت المسألة واضحة في آخر باب ما يجب بمحظورات الاحرام
وفى أواخر باب صفة الحج في مسألة دخول الكعبة (واعلم) انا حكينا هناك أن القاضي عياض
نقل الاجماع على أن موضع قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل الأرض وان الخلاف إنما هو فيما
سواه ولم أر لأصحابنا تعرضا لما نقله والله أعلم * ثم إن مذهبنا ان تفضيل الصلاة في مسجدي مكة
والمدينة لا يختص بصلاة الفرض بل يعم الفرض والنفل وقد صرح المصنف بمعنى هذا في باب استقبال
القبلة وبه قال طرف من أصحاب مالك وقال الطحاوي يختص بالفروض وهو اطلاق الأحاديث الصحيحة *
476

(فرع) في مذاهب العلماء فيمن نذر صلاة مطلقة (الأصح) عندنا يلزمه ركعتان وبه قال
مالك وأبو حنيفة ورواية عن أحمد وعنه رواية أخرى انه يكفيه ركعة *
(فرع) لو نذر المشي إلى المسجد الحرام لزمه ذلك كما لو قال إلى بيت الله الحرام هذا مذهبنا وبه قال
مالك وأبو يوسف ومحمد واحمد * وقال أبو حنيفة لا يلزمه شئ قال وإنما يلزمه إذا قال إلى بيت كداء
أو إلى مكة أو إلى الكعبة استحسانا *
(فرع) فرع إذا نذر أن يصلي في المسجد الحرام فصلى في غيره لم يجزه عندنا وبه قال مالك
واحمد وأبو يوسف وداود وقال أبو حنيفة يجزئه * دليلنا انه فضيلة فلزمه الصوم والصلاة *
(فرع) إذا نذر المشي إلى مسجد المدينة أو الأقصى لم يلزمه ذلك في أصح القولين عندنا وبه
قال أبو حنيفة وقال مالك واحمد يلزمه *
(فرع) إذا نذر المشي إلى مسجد غير المساجد الثلاثة وهي الحرام والمدينة والأقصى لم يلزمه
ولا ينعقد نذره عندنا وبه قال مالك وأبو حنيفة واحمد وجماهير العلماء لكن قال احمد يلزمه كفارة
يمين وقال الليث بن سعد يلزمه المشي إلى ذلك المسجد * وقال محمد بن مسلمة المالكي إذا نذر قصد
مسجد قبا لزمه للحديث المشهور في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يأتي قبا كل سبت
راكبا وماشيا *
(فرع) إذا نذر المشي إلى الصفا أو المروة أو منى فمذهبنا انه يلزمه الحج والعمرة وبه قال احمد
وأشهب المالكي * وقال أبو حنيفة وأصحابه وابن القاسم المالكي لا يلزمه * دليلنا انه موضع من
الحرم فأشبه الكعبة *
(فرع) إذا نذر صلاة في مسجد المدينة أو الأقصى فهل يتعين فيه قولان عندنا سبق بيانهما
وممن قال بالتعين مالك واحمد * وقال أبو حنيفة لا يتعين والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وان نذر الصوم لزمه صوم يوم لان أقل الصوم يوم * وان نذر صوم سنة بعينها لزمه صومها
متتابعا كما يلزمه صوم رمضان متتابعا فإذا جاء رمضان صام عن رمضان لأنه مستحق بالشرع ولا يجوز
أن يصوم فيه عن النذر ولا يلزمه قضاؤه عن النذر لأنه لم يدخل في النذر ويفطر في العيدين وأيام
التشريق لأنه مستحق للفطر ولا يلزمه قضاؤه لأنه لم يتناولها النذر * وإن كانت امرأة فحاضت فهل
يلزمها القضاء فيه قولان (أحدهما) لا يلزمها لأنه مستحق للفطر فلا يلزمها قضاؤه كأيام العيد (والثاني)
477

يلزمها لان الزمان محل للصوم وإنما تفطر هي وحدها * فان أفطر فيه لغير عذر نظرت فإن لم يشترط
فيه التتابع أتم ما بقي لان التتابع فيه يجب لأجل الوقت فهو كالصائم في رمضان إذا أفطر بغير عذر
ويجب عليه قضاؤه كما يجب على الصائم في رمضان * وان شرط التتابع لزمه ان يستأنف لان التتابع
لزمه بالشرط فبطل بالفطر كصوم الظهار وان أفطر لمرض وقد شرط التتابع ففيه قولان (أحدهما)
ينقطع التتابع لأنه أفطر باختياره (والثاني) لا ينقطع لأنه أفطر بعذر فأشبه الفطر بالحيض فان
قلنا لا ينقطع التتابع فهل يجب القضاء فيه وجهان بناء على القولين في الحائض وقد بيناه وان
أفطر بالسفر فان قلنا إنه ينقطع التتابع بالمرض فالسفر أولى وان قلنا لا ينقطع بالمرض ففي السفر وجهان
(أحدهما) لا ينقطع لأنه أفطر بعذر فهو كالفطر بالمرض (والثاني) ينقطع لان سببه باختياره بخلاف
المرض * وان نذر سنة غير معينة فإن لم يشترط التتابع جاز متتابعا ومتفرقا لان الاسم يتناول الجميع
فان صام شهرا بالأهلة وهي ناقصة أجزأه لان الشهور في الشرع بالأهلة وان صام سنة متتابعة
لزمه قضاء رمضان وأيام العيد لان الفرض في الذمة فانتقل فيما لم يسلم منه إلى البدل كالمسلم فيه إذا
رد بالعيب ويخالف السنة المعينة فان الفرض فيها يتعلق بمعين فلم ينتقل فيما لم يسلم إلى البدل كالسلعة
المعينة إذا ردها بالعيب وأما إذا اشترط فيها التتابع فإنه يلزمه صومها متتابعا على ما ذكرناه) *
(الشرح) قال أصحابنا رحمهم الله إذا أطلق التزام الصوم فقال لله علي صوم أو ان أصوم
لزمه صوم يوم قال الرافعي ويجئ فيه وجه ضعيف انه يكفيه امساك بعض يوم بناء على أن النذر
ينزل على أقل ما يصح من جنسه وان امساك بعض اليوم صوم وسنذكرهما إن شاء الله تعالى * فلو
نذر صوم أيام وبينها فذاك وان أطلق الأيام لزمه ثلاثة * ولو قال أصوم دهرا أو حينا كفاه صوم
يوم * وهل يجب تبييت النية في الصوم المنذور أم يكفي بنية قبل الزوال فيه طريقان (قطع) المصنف
في كتاب الصيام وكثيرون أو الأكثرون باشتراط التبييت (وذكر) آخرون فيه قولين أو وجهين بناء
على القاعدة السابقة انه هل يسلك بالنذر مسلك الواجب أم الجائز (ان قلنا) مسلك الواجب اشترط التبييت
والا فلا والله أعلم * (واما) إذا لزمه صوم يوم بالنذر فيستحب المبادرة به ولا تجب المبادرة بل يخرج عن
نذره بأي يوم صامه من الأيام التي تقبل الصوم غير رمضان * ولو نذر صوم يوم خميس ولم يعين
صام أي خميس شاء فإذا مضى خميس ولم يصم مع التمكن استقر في ذمته حتى لو مات قبل الصوم
فدى عنه * ولو عين في نذره يوما كأول خميس من الشهر أو خميس هذا الأسبوع تعين على المذهب
وبه قطع الجمهور فلا يصح الصوم قبله فان أخره عنه صام قضاء سواء أخره بعذر أم لا لكن ان
478

أخره بغير عذر اثم وان أخره بعذر سفر أو مرض لم يأثم * وقال الصيدلاني وغيره في تعيينه وجهان
(الصحيح) تعينه (والثاني) لا كما لو عين مكانا فعلى هذا قالوا يجوز الصوم قبله وبعده * قال أصحابنا
ولو عين يوما من أسبوع والتبس عليه فينبغي أن يصوم يوم الجمعة لأنه آخر الأسبوع فإن لم يكن
هو المعين في نفس الامر أجزأه وكان قضاء ومما يدل على أن يوم الجمعة آخر الأسبوع ويوم السبت
أوله حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال خلق
الله التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم
الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبعث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم بعد العصر من يوم
الجمعة في آخر الخلق من آخر ساعة من النهار فيما بين العصر إلى الليل) رواه مسلم في صحيحه * قال أصحابنا
ولو نذر صوم يوم مطلق من أسبوع معين صام منه أي يوم شاء والله أعلم *
(فرع) اليوم المعين بالنذر لا يثبت له خواص رمضان سواء عيناه بالنذر أم جوزنا غيره من
الكفارة بالفطر بالجماع فيه ووجوب الامساك لو أفطر وعدم قبول صوم آخر من قضاء أو كفارة أو
غيرهما بل لو صامه عن قضاء أو كفارة صح بلا خلاف كذا قاله امام الحرمين وحكى البغوي وجها
ضعيفا انه لا ينعقد كأيام رمضان والله أعلم *
(فرع) الخلاف السابق في أن اليوم المعين بالنذر هل يتعين يجرى مثله في الصلاة إذا عين لها
في نذرها وقتا وفي الحج إذا عين له في نذره سنة وجزم البغوي بالتعين فقال لو نذر صلاة في وقت
عينه غير أوقات النهى تعين فلا يجوز قبله ولا يجوز التأخير عنه بلا عذر وإذا لم يصل فيه وجب القضاء
ولو نذر أن يصلي ضحوة صلى في ضحوة أي يوم شاء ولو صلى في غير الضحوة لم يجزه * ولو عين
ضحوة فلم يصل فيها قضي أي وقت شاء من ضحوة أو غيرها * ولو عين للصدقة وقتا قال الصيدلاني
يجوز تقديمها على وقتها بلا خلاف *
(فرع) إذا نذر صوم أيام بأن قال لله علي صوم عشرة أيام فالقول في المبادرة مستحبة
وليست واجبة وفي أنه إذا عينها هل تتعين على ما ذكرناه في اليوم الواحد ويجرى الخلاف في
تعين الشهر والسنة المعينين في النذر والصحيح التعين في الجميع وحيث لا نذكره أو الأصحاب يكون
اقتصارا على الصحيح ويجوز صوم هذه الأيام متفرقة ومتتابعة لحصول الوفاء بالمسمى * وان عين
النذر بالتتابع لزمه فلو أخل به فحكمه حكم صوم الشهرين المتتابعين * ولو قيد بالتفريق فوجهان (أحدهما)
لا يجب التفريق (وأصحهما) يجب وبه قطع ابن كج والبغوي وغيرهما لان التفريق معتبر في صوم
479

التمتع فعلى هذا قالوا لو صام عشرة أيام متتابعة حسبت له خمسة ويلغى بعد كل يوم يوم *
(فرع) إذا نذر صوم شهر نظر ان عينه كرجب أو شعبان أو قال أصوم شهرا من الآن فالصوم
يقع متتابعا لتعين أيام الشهر وليس التتابع مستحقا في نفسه حتى لو أفطر يوما لا يلزمه الاستئناف
ولوفاته الجميع لم يلزمه التتابع في قضائه كرمضان فلو شرط التتابع فوجهان (أحدهما) لا يلزمه لان
شرط التتابع مع تعين الشهر لغو وبهذا قال القفال (وأصحهما) وبه قطع المصنف وسائر العراقيين
يلزمه حتى لو أفسد يوما لزمه الاستئناف وإذا فات لزمه قضاؤه متتابعا * ولو أطلق فقال أصوم شهرا
فله التفريق والتتابع فان فرق صام ثلاثين يوما وان تابع وابتدأ بعد مضى بعض الشهر الهلالي فكذلك
وان ابتدأ في أول الشهر وخرج ناقصا كفاه لأنه شهر والله أعلم *
(فرع) إذا نذر صوم سنة فله حالان (أحدهما) أن يعين سنة متوالية بأن يقول أصوم سنة كذا
أو سنة من أول شهر كذا أو من الغد فصيامها يقع متتابعا لضرورة الوقت ويصوم رمضان عن فرضه
ويفطر العيدين وكذا التشريق إذا قلنا بالمذهب انه يحرم صوم أيام التشريق ولا يجب قضاء رمضان
والعيدين والتشريق لأنها غير داخلة في النذر * ولو أفطرت المرأة فيها بحيض أو نفاس ففي وجوب
القضاء قولان وقيل وجهان (أصحهما) لا يجب كالعيد وبه قال الجمهور وصححه أبو علي الطبري وابن
القطان والروياني وغيرهم * ولو أفطر بالمرض ففيه هذا الخلاف ورجح ابن كج وجوب القضاء لأنه
لا يصح أن تنذر صوم أيام الحيض ويصح أن ينذر صوم أيام المرض * ولو أفطر بالسفر فطريقان
مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) يجب القضاء قطعا (والثاني) فيه القولان وبه قال ابن كج
ولو أفطر بعض الأيام بغير عذر اثم ولزمه القضاء بلا خلاف وسواء أفطر بعذر أم بغيره لا يلزمه
الاستئناف وإذا فات صوم السنة لم يجب التتابع في قضائه كرمضان هذا كله إذا لم يتعرض للتتابع
فإذا شرط التتابع مع تعيين السنة فعلى الوجهين السابقين في الشهر (أصحهما) وجوب الوفاء به فعلى
هذا ان أفطر بلا عذر وجب الاستئناف وان أفطرت بالحيض لم يجب والافطار بالمرض والسفر له حكم
الشهرين المتتابعين (فان قلنا) لا يبطل التتابع ففي القضاء الخلاف السابق * ولو قال لله علي صوم هذه
السنة تناول السنة الشرعية وهي من المحرم إلى المحرم فإن كان مضي بعضها لم يلزمه الا صوم الباقي فإن كان
رمضان باقيا لم يلزمه قضاؤه عن النذر ولا قضاء العيدين وفي التشريق والحيض والمرض ما ذكرناه
في جميع السنة * (الحال الثاني) إذا نذر صوم سنة وأطلق فإن لم يشترط التتابع صام ثلاثمائة وستين
يوما أو اثنى عشر شهرا بالأهلة أيهما شاء فعله وأجزأه وكل شهر استوعبه بالصوم فناقصه كالكامل
480

فيحسب شهرا وان انكسر شهر أتمه ثلاثين يوما وشوال وذو الحجة منكسران بسبب العيد والتشريق
ولا يلزمه التتابع هنا بلا خلاف فلو صام سنة متوالية قضى العيدين والتشريق ورمضان ولا بأس
بصوم يوم الشك عن النذر ويجب قضاء أيام الحيض هذا الذي ذكرناه هو المذهب وبه قطع الجمهور *
وحكى الرافعي وجها انه يلزمه ثلاثمائة وستون يوما مطلقا ووجها انه إذا صام من المحرم إلى المحرم
أو من شهر آخر إلى مثله أجزأه لأنه يقال له صام سنة وعلى هذا لا يلزمه قضاء العيد والتشريق
ورمضان والمشهور ما سبق * هذا كله إذا لم يشرط التتابع (أما) إذا شرط التتابع فقال لله علي ان
أصوم سنة متتابعة فيلزمه التتابع ويصوم رمضان عن فرضه ويفطر العيدين والتشريق وهل يلزمه
قضاؤهما للنذر فيه طريقان (أصحهما) وهو المذهب وبه قطع الجمهور وهو نص الشافعي يلزمه القضاء
على الاتصال بالمحسوب من السنة (والثاني) فيه وجهان (أصحهما) هذا (والثاني) لا يلزمه كالسنة
المعينة * ثم إنه يحسب الشهر الهلالي وإن كان ناقصا * وإذا أفطر بلا عذر وجب الاستئناف بلا
خلاف وان أفطرت بالحيض لم يجب الاستئناف وفي المرض والسفر ما ذكرناه في الشهرين المتتابعين *
ثم في قضاء أيام المرض والحيض الخلاف المذكور في الحال الأول (وأما) إذا نذر صوم شهر
بعينه فحكم قضاء ما يفطره لمرض أو حيض على ما سبق في السنة * ولو نذرت صوم يوم معين
فحاضت ففي وجوب القضاء القولان وان نذرت صوم يوم غير معين فشرعت في يوم فحاضت
لزمها قضاؤه بلا خلاف *
(فرع) لو نذر صوم ثلاثمائة وستين يوما لزمه صوم هذا العدد ولا يلزمه فيه التتابع * ولو قال
متتابعة لزمه التتابع ويقضي لرمضان والعيدين والتشريق على الاتصال * وحكى الرافعي وجها أن
التتابع يلغو هنا وهو شاذ ضعيف والله أعلم *
(فرع) قال صاحب العدة والبيان قال صاحب التلخيص إذا نذر أن يصوم في الحرم لا يجزئه
في غيره قالا قال أصحابنا هذا غلط فان الصوم لا يختص بالحرم بل يجوز حيث شاء لأن الصوم
لا يختلف باختلاف الأمكنة ولهذا لا يختص الصوم الذي هو بدل الهدي بالحرم وإن كان مبدله
الذي هو الهدي يختص بالحرم * وقال أبو زيد المروزي ما قاله صاحب التلخيص يحتمل لان الحرم
يختص بأشياء والمذهب الأول * واتفق صاحب التلخيص وأبو زيد وسائر الأصحاب على أنه إذا
نذر الصوم في موضع غير حرم مكة لا يتعين بل يصوم حيث شاء والله أعلم *
(فرع) قال صاحبا العدة والبيان إذا قال لله علي صوم هذه السنة لزمه صوم باقي سنة التاريخ
481

ولا يلزمه غير ذلك لان السنة تنصرف إلى المعهودة المشار إليها وهي سنة التاريخ فكأنه قال باقي
هذه السنة *
(فرع) لو نذر صوم يوم الخميس مثلا لم يجز الصوم قبله هذا هو المشهور من مذهبنا كما سبق وبه
قال مالك واحمد وداود وقال أبو يوسف يجزئه * دليلنا أنه صوم متعلق بزمان فلا يجوز قبله كرمضان *
(فرع) إذا نذر صوم العيد أو التشريق لم ينعقد نذره ولم يلزمه صيام ذلك ولا شئ عليه أصلا
هذا مذهبنا وبه قال جماهير العلماء وقال أبو حنيفة ينعقد نذره ولا يصوم ذلك اليوم بل يلزمه
صوم يوم آخر فان صام العيد أجزأه وخرج عن واجب نذره * دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (لا نذر
في معصية) وهو حديث صحيح سبق بيانه والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وان نذر أن يصوم في كل اثنين لم يلزمه قضاء أثانين رمضان لأنه يعلم أن رمضان لا بد فيه من
الاثانين فلا يدخل في النذر فلم يجب قضاؤها وفيما يوافق منها أيام العيد قولان (أحدهما) لا يجب وهو
قول المزني قياسا على ما يوافق رمضان (والثاني) يجب لأنه نذر ما يجوز أن لا يوافق أيام العيد فإذا وافق
لزمه القضاء * وان لزمه صوم الاثانين بالنذر ثم لزمه صوم شهرين متتابعين في كفارة بدأ بصوم الشهرين
ثم يقضي صوم الاثانين لأنه إذا بدأ بصوم الشهرين يمكنه بعد الفراغ من الشهرين أن يقضي
صوم الاثانين وإذا بدأ بصوم الاثانين لم يمكنه أن يقضي صوم الشهرين فكان الجمع بينهما أولى
فإذا فرغ من صوم الشهرين لزمه قضاء صوم الاثانين لأنه أمكنه صيامها وإنما تركه لعارض
فلزمه القضاء كما لو تركه لمرض وان وجب عليه صوم الشهرين ثم نذر صوم الاثانين بدأ بصوم
الشهرين ثم يقضى صوم الاثانين كما قلنا فيما تقدم ومن أصحابنا من قال لا يجب القضاء لأنه استحق
صيامه عن الكفارة فلا يدخل في النذر والمذهب أنه يلزمه لأنه كان يمكنه صومه عن النذر
فإذا صامه عن غيره لزمه القضاء) *
(الشرح) قوله اثانين رمضان كذا في النسخ والصواب أثانى بحذف النون * قال أصحابنا
إذا نذر صوم يوم الاثنين دائما لزمه الوفاء به تفريعا على المذهب ان الوقت المعين في نذر الصوم
يتعين وعلى ذلك الوجه الشاذ يصوم بدل الاثنين أي يوم شاء ولا تفريع عليه وإنما التفريع
على المذهب كما سبق * ولو نذر صوم اليوم الذي يقدم فيه فلان أبدا فقدم يوم الاثنين ففي انعقاد
نذر يوم القدوم بعينه القولان المشهوران وسنشرحهما عقب هذا واضحا إن شاء الله تعالى (وأما)
ما بعده من الاثانين فيلزمه بلا خلاف كما لو نذر صوم الاثانين * واتفق أصحابنا على أنه لا يجب
قضاء الاثانين الواقعة في رمضان لكن لو وقع فيه خمسة ففي وجوب قضاء الخامس وجهان وقيل
482

قولان (أصحهما) لا يجب (والثاني) يجب * وكذا لو وقع يوم العيد يوم الاثنين فالأصح أنه
لا قضاء أيضا وأيام التشريق كالعيد بناء على المذهب وهو انها لا تقبل الصوم * ولو صدر هذا
النذر عن امرأة وأفطرت بعض الاثانين بحيض أو نفاس فالمذهب ان القضاء على القولين كالعيد
وبهذا قطع الجمهور (وقيل) يجب قضاؤه قطعا لان واجبه شرعا يقضي وهو رمضان فكذا بالنذر
والصحيح الأول * ثم إن هذين الطريقين فيما إذا لم يكن لها عادة غالبة فإن كانت فعدم القضاء
فيما تقع عادتها أصح وأقوى وقطع به بعض الأصحاب وقيل خلافه لان العادة قد تختلف * ولو
أفطر هذا الناذر بعض الاثانين بالمرض فطريقان (أصحهما) القطع بوجوب القضاء (والثاني)
أنه على الخلاف السابق فيمن نذر صوم سنة معينة والله أعلم * (وأما) إذا لزمه صوم شهرين
متتابعين عن كفارة فيجب تقديم صوم الكفارة على الاثانين سواء تقدم وجوب الكفارة أو
تأخر لأنه يمكن قضاء الاثانين ولو عكس لم يتمكن من الكفارة لفوات التتابع ثم إن لزمته
الكفارة بعد الاثانين لزمه قضاء الاثانين الواقعة في الشهرين لأنه أدخل على نفسه صوم الشهرين
بعد النذر وان لزمته الكفارة قبل الاثانين فوجهان وقيل قولان (أصحهما) عند المصنف والبغوي
والرافعي في المحرر وطائفة يجب القضاء وهو المنصوص في رواية الربيع (والثاني) لا يجب وهو
الأصح عند ابن كج والقاضي أبي الطيب والمحاملي وإمام الحرمين والغزالي وغيرهم وهو الأصح
المختار والله أعلم * ولو نذر صوم شهرين معينين ثم نذر صوم كل اثنين فإنه يصوم الشهرين المعينين
عن النذر الأول ولا يلزمه قضاء الاثانين لان صومها مستحق بالنذر الأول وهذا لا خلاف فيه
وان نذر صوم كل اثنين ثم نذر صوم شهرين بأعيانهما فإنه يصوم أيام الشهرين الا الاثانين عن
النذر الثاني واما الاثانين فيصومها عن النذر الأول ولا يلزمه قضاؤها عن النذر الثاني لأنها مستحقة
للصوم عن النذر الأول فلم يتناولها الثاني والله أعلم * (وأما) إذا نذر أن يصوم شهرا متتابعا أو
شهرين متتابعين أو أسبوعا متتابعا ثم نذر الاثانين فإن لم يعين الشهر أو الشهرين فهو كما لو لزمته
الكفارة ثم نذر الاثانين وان عين فقد قال المتولي يبني على أنه لو عين وقتا للصوم هل يجوز فيه
الصوم عن قضاء أو نذر آخر وقد سبق بيان الخلاف فيه فان جوزناه فهو كما لو لم يعين والا فحكم
ذلك الشهر حكم رمضان وبهذا قطع البغوي وقال أيضا إذا صادف نذران زمانا معينا فيحتمل أن
يقال لا ينعقد النذر الثاني وطرد هذا الاحتمال فيما إذا قال إذا قدم زيد فلله علي أن أصوم اليوم
التالي لقدومه وان قدم عمرو فلله علي أن أصوم أول خميس بعد قدومه فقدما معا يوم الأربعاء ونقل
عن المذهب أنه يصوم عن أول نذر نذره ويقضي يوم النذر الثاني * وفي تعليق الشيخ أبي حامد
483

وغيره أنه لو نذر أن يصوم أول خميس بعد شفاء مريضه ونذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه
فلان فشفى المريض وأصبح الناذر في أول الخميس صائما فقدم فيه فلان وقع صومه عما نواه (وأما)
النذر الاخر فان قلنا لا ينعقد فلا شئ عليه وان قلنا ينعقد قضى عنه يوما آخر والله أعلم *
(فرع) إذا نذر صوم الدهر انعقد نذره كما سبق في باب صوم التطوع ويستثنى منه العيدان
والتشريق وقضاء رمضان وكذا لو كان عليه كفارة حال النذر ويلزمه صوم ما سوى ذلك من أيام
الدهر * ولو لزمه كفارة بعد النذر فالمذهب أنه يصوم عنها ويفدى عن النذر وقال المتولي يبني على
الأصل السابق أن النذر يسلك به مسلك واجب الشرع أم جائزه (ان قلنا) بالأول لم يصم عن الكفارة
ويصير كالعاجز عن جميع الخصال (وان قلنا) بالثاني صام عن الكفارة ثم إن لزمته بسبب هو فيه
مختار لزمه الفدية والا فلا * ولو أفطر في رمضان بعذر أو غيره لزمه قضاؤه ويقدم على النذر كما
تقدم الا إذا (1) ثم إن أفطر بعذر فلا فدية وان تعدى لزمته * قال امام الحرمين لو نوى في بعض
الأيام قضاء يوم كان أفطره متعديا فالوجه أنه يصح وان الواجب غير ما فعل ثم يلزمه المد لما ترك
من الأداء في ذلك اليوم قال الرافعي وينبغي أن يكون في صحته الخلاف السابق في أن الزمان المعين
لصوم النذر هل يصح فيه غيره لان أيام غيره متعينة للنذر * قال الامام وهل يجوز أن يصوم
عن المفطر المتعدى في حياته وليه تفريعا على أنه يصوم عن الميت وليه الظاهر جوازه لتعذر القضاء
منه قال وفيه احتمال من جهة أنه يطرأ عذر يجوز ترك الصوم له ويتصور تكلف القضاء منه * قال
الرافعي وقد يستفاد من كلام الامام أنه إذا سافر قضى ما أفطر فيه متعديا وسيأتي النظر إلى أنه
هل يلزمه ان يسافر ليقضي والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وان نذر ان يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان ففيه قولان (أحدهما) يصح نذره لأنه يمكنه
ان يتحرى اليوم الذي يقدم فيه فينوي صيامه من الليل فإذا قدم صار ما صامه قبل القدوم تطوعا
وما بعده فرضا وذلك يجوز كما لو دخل في صوم تطوع ثم نذر اتمامه (والثاني) لا يصح نذره لأنه لا يمكنه
الوفاء بنذره لأنه ان قدم بالنهار فقد مضى جزء منه وهو فيه غير صائم وان تحرى اليوم الذي يقدم
فيه فنوى من الليل فقدم في أثناء النهار كان ما قبل القدوم تطوعا وقد أوجب صوم جميعه بالنذر فان
قلنا إنه يصح نذره فقدم ليلا لم يلزمه لان الشرط أن يقدم نهارا وذلك لم يوجد فان قدم نهارا وهو
مفطر لزمه قضاؤه وان قدم نهارا وهو صائم عن تطوع لم يجزه عن النذر لأنه لم ينو من أوله وعليه أن
يقضيه وان عرف أنه يقدم غدا فنوى الصوم من الليل عن النذر صح عن النذر ويكون أوله تطوعا والباقي
فرضا فان اجتمع في يوم نذران بان قال إن قدم زيد فلله علي أن أصوم اليوم الذي يلي يوم مقدمه وان
484

قدم عمر فلله علي أن أصوم أول خميس بعده فقدم زيد وعمرو يوم الأربعاء لزمه صوم يوم الخميس عن
أول نذر نذره ثم يقضي عن الاخر *
(الشرح) قوله وان قدم اليوم الذي يقدم فيه هو - بفتح القاف والدال المشددة - يعني عرفة
* قال أصحابنا لو نذر أن يصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان ففي انعقاد نذره قولان مشهوران ذكرهما
المصنف بدليلهما (أصحهما) عند أكثر الأصحاب انعقاده (والثاني) لا ينعقد ولا شئ عليه مطلقا
(فان قلنا) ينعقد نظر ان قدم ليلا فلا صوم على الناذر لأنه لم يوجد يوم قدوم ولو عنى باليوم الوقت لم
يلزمه أيضا لان الليل ليس بقابل للصوم قال أصحابنا ويستحب الفداء أو يصوم يوما آخر * وان
قدم نهارا فللناذر أربعة أحوال (أحدها) أن يكون مفطرا فيلزمه ان يصوم عن نذره يوما آخر وهل
نقول لزمه بالنذر الصوم من أول اليوم أو من وقت القدوم فيه وجهان وقيل قولان (أصحهما)
من أول اليوم وبه قال ابن الحداد وتظهر فائدة الخلاف في صور (منها) لو نذر اعتكاف اليوم
الذي يقدم فيه فلان فقدم نصف النهار ان قلنا بالأصح اعتكف باقي اليوم ولزمه قضاء ما مضى
منه وقال الصيدلاني وله ان يعتكف يوما مكانه (والصحيح) انه يتعين ولا يجوز العدول إلى
غيره بلا عذر (وان قلنا) بالوجه الاخر كفاه اعتكاف باقي اليوم ولا يلزمه شئ آخر (ومنها) إذا قال
لعبده أنت حر اليوم الذي يقدم فيه فلان فباعه ضحوة ثم قدم فلان في بقية يومه (فان قلنا) بالوجه
الأول بان بطلان البيع وحرية العبد وبه قال ابن الحداد (وان قلنا) بالثاني فالبيع صحيح ولا حرية هذا إذا
كان قدوم زيد بعد تفرقهما من المجلس ولزوم العقد (اما) إذا قدم قبل انقضاء الخيار فيقع العتق بلا خلاف على
الوجهين لأنه إذا وجدت الصفة المعلق عليها والخيار ثابت حصل العتق لأنه لم يخرج بعد عن
سلطة البائع * ولو مات السيد ضحوة ثم قدم فلان لم يورث عنه العبد على الوجه الأول ويورث على
الثاني ولو أعتقه عن كفارته ثم قدم لم يجزئه على الأول ويجزئه على الثاني (ومنها) لو قال لزوجته
أنت طالق يوم يقدم فلان فماتت أو مات الزوج في بعض الأيام ثم قدم فلان في بقية ذلك (فان قلنا)
بالأول بان أن الموت بعد الطلاق فلا توارث بينهما إن كان الطلاق بائنا (وان قلنا) بالثاني لم يقع
الطلاق * ولو خالعها في صدر النهار وقدم فلان في آخره فعلى الأول تبين بطلان الخلع إن كان
الطلاق بائنا وعلى الثاني يصح الخلع ولا يقع الطلاق المعلق والله أعلم * (الحال الثاني) أن يقدم
فلان والناذر صائم عن واجب من قضاء أو نذر فيتم ما هو فيه ويلزمه صوم يوم آخر لهذا النذر *
واستحب للشافعي والأصحاب أن يعيد الصوم الواجب الذي هو فيه لأنه بان أنه صام يوما مستحق
الصوم لكونه يوم قدوم فلان * قال البغوي في هذا دليل على أنه إذا نذر صوم يوم بعينه ثم صامه
485

عن نذر آخر أو قضاء انه ينعقد ويقضى نذر هذا اليوم (الحال الثالث) أن يقدم وهو صائم تطوعا
أو غير صائم وهو ممسك وهو قبل زوال الشمس فيبني على أنه يجب الصوم من أول النهار أم من
وقت القدوم (ان قلنا) بالأول لزمه صوم يوم آخر ويستحب أن يمسك بقية هذا النهار (وان قلنا)
بالثاني قال المتولي يبني على جواز نذر صوم بعض يوم ان جوزناه نوي إذا قدم وكفاه ذلك ويستحب
ان يعيد يوما كاملا للخروج من الخلاف وان لم نجوزه فلا شئ عليه ويستحب أن يقضيه * وقال
البغوي ان قلنا يجب الصوم من وقت القدوم فهنا وجهان (أصحهما) يجب صوم يوم آخر (والثاني)
يلزمه اتمام ما هو فيه ويكون أوله تطوعا وآخره فرضا كمن دخل في صوم تطوع ثم نذر اتمامه فإنه يلزمه
الاتمام * هذا إذا كان صائما عن تطوع فإن لم يكن صائما نوى وصام بقية النهار إن كان قبل الزوال
هذا كله إذا لم يعلم الناذر متى يقدم فلان فاما إذا تبين الناذر أن فلانا يقدم غدا فنوى الصوم من
الليل ففي إجزائه عن نذره وجهان (أصحهما) يجزئه وبه قطع المنصف والجمهور لأنه بنى النية على
أصل مظنون فأشبه من نوى صوم رمضان بشهادة عدل (والثاني) لا يجزئه وهو قول القفال وغيره لأنه
لم يجزم بالنية فإنه قد يعرض عارض يمنعه القدوم * وخصص المتولي هذين الوجهين بما إذا قلنا يلزم
الصوم من أول اليوم قال فان قلنا باللزوم من وقت القدوم فقط لم يجز (الحال الرابع) أن يقدم
فلان يوم العيد أو في رمضان فهو كما لو قدم ليلا والله أعلم *
(فرع) إذا قال إن قدم فلان فلله علي أن أصوم أمس يوم قدومه ففي صحة نذره طريقان قال
الشيخ أبو حامد لا يصح قولا واحدا وهو المذهب وقال صاحب الشامل ينبغي أن يكون على القولين
فيمن نذر صوم يوم قدومه *
(فرع) إذا اجتمع في يوم نذران فحكمه ما ذكره المصنف هذا هو المذهب وقد سبق كلام البغوي
وغيره فيه قريبا والله أعلم *
(فرع) لو نذر صوم العيد أو نذرت صوم أيام الحيض لم ينعقد للحديث الصحيح (لا نذر في معصية)
وقد سبقت المسألة * ولو نذر أيام التشريق لم ينعقد على المذهب تفريعا على أنه لا يصح صومها لغير
المتمتع وهو المذهب وان قلنا بالوجه الشاذ أنه يصح صومها لغير المتمتع ففي انعقاد نذره وجهان كنذر
الصلاة في الأوقات المكروهة (والأصح) انه لا ينعقد هذا النذر ولا نذر صوم يوم الشك ولا الصلاة
في الأوقات المكروهة والله أعلم *
(فرع) لو شرع في صوم تطوع ثم نذر اتمامه فهل يلزمه اتمامه فيه وجهان حكاهما الخراسانيون
(الصحيح) انه يلزمه وبهذا قطع المصنف في قياسه في مواضع من كتاب الصيام وقطع به أيضا الجمهور
486

لان صومه صحيح فصح التزامه بالنذر (والثاني) لا يصح لأنه نذر بعض يوم وبعض اليوم ليس بصوم
قالوا ويجرى الوجهان فيمن نذر أن يتم صوم كل يوم نوى فيه صوم التطوع (أما) إذا أصبح
ممسكا ولم ينو فهو متمكن من صوم التطوع فلو نذر أن يصوم هذا اليوم ففي انعقاد نذره ولزوم
الوفاء به وجهان وقيل قولان مشهوران في كتب الخراسانيين بناء على أن النذر يحمل على واجب
الشرع أم على ما يصح قال امام الحرمين والذي أراه اللزوم وقال صاحب البيان المشهور عدم انعقاده
لأنه ليس بصوم وهذا مقتضى البناء على القاعدة المذكورة قال الامام وقال الأصحاب لو قال علي أن
أصلي ركعة واحدة لم يلزمه الا ركعة ولو قال علي أن أصلي كذا ركعة لزمه القيام عند القدرة إذا حملنا
المنذور على واجب الشرع قال وتكلف الأصحاب فرقا بينهما قال ولا فرق فيجب طرد الخلاف
فيهما وهذا الذي جعله الامام احتمالا له قد نقله الأصحاب وقالوا إذا نذر ركعات ففي لزوم القيام
وجهان بناء على أنه يحمل النذر على واجب الشرع أم جائزه وقد سبقت المسألة في أوائل الباب (وأما)
إذا أكل في أول النهار ثم نذر صوم هذا اليوم فان قلنا لا يلزمه إذا لم يأكل فهنا أولى والا فوجهان
حكاهما المتولي وصاحبا العدة والبيان وغيرهم (أصحهما) لا ينعقد (والثاني) ينعقد ويلزمه امساك
بقية هذا النهار بالنية بناء على الوجه الشاذ السابق في كتاب الصيام انه إذا أكل في أول النهار ثم نوى
صومه صح صومه لكن ذلك الوجه ضعيف أو باطل وما يفرع عليه أضعف منه والله أعلم * (أما)
إذا نذر ابتداء صوم بعض يوم ففي انعقاد نذره وجهان مشهوران (أصحهما) لا ينعقد (والثاني) ينعقد
كما لو شرع في صوم تطوع ثم نذر اتمامه فإذا قلنا ينعقد لزمه صوم يوم كامل وذكر المتولي تفريعا على
الانعقاد أنه لو أمسك بقية نهاره عن النذر أجزأه ان لم يكن أكل شيئا في أوله فان أكل لم يجزه على
الصحيح وفيه الوجه الشاذ الذي ذكرناه الآن * ولو نذر أن يصلي بعض ركعة ففي انعقاد نذره
وجهان كالصوم (أصحهما) لا ينعقد (والثاني) ينعقد لأنه قد يؤمر بفعل ما دون ركعة ويثاب عليه وهو فيما
إذا أدرك الامام بعد الركوع حتى أنه يدرك به فضيلة الجماعة لو كان في الركعة الآخرة قال المتولي فعلى
هذا يلزمه أن يأتي بركعة كاملة ان أراد أن يأتي بالمنذور مفردا فان اقتدى بامام بعد الركوع في
الركعة الآخرة خرج عن نذره لأنه أتى بما التزمه وهو قربة في نفسه * وقطع غيره بأنه يلزمه ركعة مطلقا
تفريعا على هذا الوجه وهذا أرجح والله أعلم * ولو نذر ركوعا لزمه ركعة كاملة باتفاق المفرعين على
انعقاد النذر * ولو نذر تشهدا قال المتولي يأتي بركعة يتشهد في آخرها أو يقتدي بمن قعد للتشهد
في آخر صلاته أو يكبر ويسجد سجدة ويتشهد على طريقة من يقول سجود التلاوة يقتضي التشهد
فيخرج عن نذره * ولو نذر سجدة فردة فطريقان (أصحهما) وبه قطع الشيخ أبو محمد وغيره
487

لا ينعقد بناء على الأصح أنها ليست قربة بلا سبب (والطريق الثاني) وبه قطع المتولي أن السجدة
قربة بدليل سجدتي التلاوة والشكر فيكون في انعقاد نذره الوجهان في انعقاد نذر عيادة المريض
وتشميت العاطس (فان قلنا) لا ينعقد فالحكم كما في الركوع (وقال) صاحب البيان مقتضى
المذهب انعقاد نذره والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وان نذر أن يعتكف اليوم الذي يقدم فيه فلان صح نذره فان قدم ليلا لم يلزمه شئ لان
الشرط لم يوجد وان قدم نهارا لزمه اعتكاف بقية النهار وفي قضاء ما فات وجهان (أحدهما)
يلزمه وهو اختيار المزني (والثاني) لا يلزمه وهو المذهب لان ما مضى قبل القدوم لم يدخل في
النذر فلا يلزمه قضاؤه * وان قدم وهو محبوس أو مريض فالمنصوص أنه يلزمه القضاء لأنه فرض
وجد شرطه في حال المرض فثبت في الذمة كصوم رمضان وقال القاضي أبو حامد وأبو علي الطبري
لا يلزمه لان ما لا يقدر عليه لا يدخل في النذر كما لو نذرت المرأة صوم يوم بعينه فحاضت فيه) *
(الشرح) قوله لأنه فرض احتراز من صوم يوم عرفة وعاشوراء ونحوهما (وقوله) وجد
شرطه احتراز مما إذا لم يوجد شرطه لجنون ونحوه (وقوله) في حال المرض احتراز من المرأة إذا
نذرت صوم يوم بعينه فحاضت فيه (وقوله) لان ما لا يقدر عليه لا يدخل في النذر احترز بقوله
النذر عن صوم رمضان فإنه واجب بالشرع * قال الأصحاب إذا نذر أن يعتكف يوم قدوم
فلان صح نذره بلا خلاف لان الاعتكاف يصح في بعض اليوم بخلاف الصوم فان قدم ليلا لم
يلزمه شئ لما ذكره المصنف وان قدم نهارا لزمه بقية النهار قطعا ويلزمه قضاء الماضي على الصحيح
من الوجهين لما ذكره المصنف وان قدم وهو مريض أو محبوس ففي وجوب القضاء الوجهان اللذان
ذكرهما المصنف بدليلهما (الصحيح) المنصوص وجوبه وقد فرق بينه وبين مسألة الحيض التي
قاس عليها القائل الاخر بان الحائض لا يصح صومها بخلاف اعتكاف المريض والمحبوس (فان قلنا)
بالمذهب لزمه قضاء ما بقي من اليوم بعد القدوم وفي قضاء ما مضى من اليوم الوجهان السابقان
(المذهب) أنه لا يلزمه * وصورة المسألة في المحبوس إذا حبس بغير حق فان حبس بحق هو متمكن
من أدائه لزمه القضاء وجها واحدا لأنه متمكن من الخروج والاعتكاف والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(وان نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه المشي إليه بحج أو عمرة لأنه لا قربة في المشي إليه
الا بنسك فحمل مطلق النذر عليه ومن أي موضع يلزمه المشي والاحرام فيه وجهان (قال) أبو إسحاق
يلزمه ان يحرم ويمشي من دويرة أهله لان الأصل في الاحرام أن يكون من دويرة أهله وإنما أجيز
488

تأخيره إلى الميقات رخصة فإذا أطلق النذر حمل على الأصل (وقال) عامة أصحابنا يلزمه الاحرام
والمشي من الميقات لان مطلق كلام الادمي يحمل على المعهود في الشرع والمعهود هو من الميقات
فحمل النذر عليه فإن كان معتمرا لزمه المشي إلى أن يفرغ وإن كان حاجا لزمه المشي إلى أن يتحلل
التحلل الثاني لان بالتحلل الثاني يخرج من الاحرام فان فاته لزمه القضاء ماشيا لان فرض النذر
يسقط بالقضاء فلزمه المشي فيه كالأداء وهل يلزمه ان يمشي في فائته فيه قولان (أحدهما)
يلزمه لأنه لزمه بحكم النذر فلزمه المشي فيه كما لو لم يفته (والثاني) لا يلزمه لان فرض النذر
لا يسقط به) *
(الشرح) قال الشافعي والأصحاب إذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه المشي إليه بحج
أو عمرة هذا هو الصواب الذي قطع به الأصحاب * وسبق حكاية خلاف شاذ فيه في فصل من
نذر صلاة في المسجد * وهل يلزمه المشي أم له الركوب فيه قولان مشهوران في كتب الخراسانيين
(أصحهما) عندهم يلزمه وبه قطع المصنف وآخرون لأنه مقصود (والثاني) لا بل له الركوب
قالوا هما مبنيان على أن الحج راكبا أفضل أم ماشيا وفيه ثلاثة أقوال سبقت في أول كتاب الحج
بدليلها (أصحها) الركوب (والثاني) المشي (والثالث) هما سواء ولا فضيلة لأحدهما على
الاخر وقال ابن سريج هما سواء ما لم يحرم فإذا أحرم فالمشي أفضل وقال الغزالي في الاحياء من
سهل عليه المشي فهو أفضل في حقه ومن ضعف وساء خلقه لو مشى فالركوب أفضل (والمذهب)
ان الركوب أفضل مطلقا * قالوا فان المشي أفضل لزمه بالنذر وان قلنا الركوب أفضل أو
سوينا لم يلزمه المشي بالنذر والمذهب لزوم المشي ويتفرع عليه مسائل (إحداها) لو صرح بابتداء
المشي من دويرة أهله إلى الفراغ لزمه المشي من حين يحرم وهل يلزمه قبل الاحرام فيه وجهان
(أصحهما) يلزمه فلو أطلق الحج ماشيا فان قلنا لا يلزمه المشي من دويرة أهله مع التصريح فهنا
أولى والا فثلاثة أوجه (أحدها) يلزمه المشي من دويرة أهله وهو قول أبي إسحاق (والثاني)
من الميقات (والثالث) وهو الأصح يلزمه من الميقات الا ان يحرم قبله فيلزمه (واما) الاحرام
فالأصح انه يلزمه من الميقات وهو قول جمهور أصحابنا كما حكاه المصنف (والثاني) من دويرة
أهله حكاه المصنف والأصحاب عن أبي إسحاق * وجعل المصنف والمتولي وغيرهما المشي مبني
على الاحرام ان قلنا يلزمه الاحرام من الميقات فكذا المشي وان قلنا من الميقات فكذا المشي
هذا كله إذا قال لله علي ان أحج ماشيا فلو قال أمشي حاجا فوجهان (الصحيح) انه كقوله أحج
ماشيا ومقتضى كل واحد منهما وجوب اقتران الحج والمشي (والثاني) انه يقتضي ان يمشي من
489

مخرجه إلى الحج (الثانية) في نهاية المشي طريقان (أصحهما) يلزمه المشي حتى يتحلل التحللين
إن كان محرما بالحج وبهذا الطريق قطع المصنف هنا والجمهور وهو المنصوص وله الركوب بعد
التحللين وان بقي عليه رمى أيام التشريق وهذا لا خلاف فيه (والطريق الثاني) فيه وجهان حكاهما
إمام الحرمين والغزالي وغيرهما (أصحهما) هذا (والثاني) له الركوب بعد التحلل الأول (وأما)
المحرم بالعمرة فيلزمه المشي حتى يفرغ منها بلا خلاف * قال الرافعي والقياس انه إذا كان يتردد
في خلال أعمال النسك لغرض تجارة وغيرها فله أن يركب قال ولم يذكره الأصحاب * فهذا
ما ذكره الأصحاب في هذه المسألة (وأما) قول المصنف في التنبيه ولا يجوز ان يترك المشي
حتى يرمي في الحج فمخالف لما ذكره هو هنا والأصحاب في جميع الطرق وأقرب ما يتأول
عليه كلامه انه أراد بالرمي رمي جمرة العقبة يوم النحر وفرع على أن الحلق ليس بنسك
وعلى الوجه الشاذ الذي ذكره امام الحرمين والغزالي انه يكفيه المشي حتى يتحلل التحلل
الأول * فعلى هذا الوجه إذا رمى جمرة العقبة وقلنا الحلق ليس بنسك جاز الركوب لحصول
التحلل الأول ولا يجوز ان يحمل كلامه على رمي أيام التشريق لأنه لا خلاف انه يجوز الركوب
بعد التحللين وقبل أيام التشريق والله أعلم (الثالثة) إذا فاته الحج لزمه قضاؤه ماشيا لما ذكره المصنف
وهل يلزمه المشي في تمام الحجة الفائتة حتى يفرغ منها والتحلل بأعمال عمرة فيه قولان مشهوران
ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) عند الجمهور لا يلزمه * ولو أفسد الحج بعد شروعه فيه لزمه
القضاء ماشيا وهل يلزمه المشي في المضي في فاسده فيه هذان القولان *
* قال المصنف رحمه الله *
(فان نذر المشي فركب وهو قادر على المشي لزمه دم لما روى ابن عباس عن عقبة بن عامر ان
أخته نذرت ان تمشي إلى البيت فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال (ان الله تعالى لغني عن
نذر أختك لتركب ولتهد بدنة) ولأنه صار بالنذر نسكا واجبا فوجب بتركه الدم كالاحرام من
الميقات * فإن لم يقدر على المشي فله ان يركب لأنه إذا جاز ان يترك القيام الواجب في الصلاة
للعجز جاز أن يترك المشي فان ركب فهل يلزمه دم فيه قولان (أحدهما) لا يلزمه لان حال العجز لم
يدخل في النذر (والثاني) يلزمه لان ما وجب به الدم لم يسقط الدم فيه بالمرض كالتطيب
واللباس) *
(الشرح) حديث ابن عباس عن عقبة رواه أبو داود باسناد صحيح عن ابن عباس (ان
أخت عقبة بن عامر نذرت ان تمشي إلى البيت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم ان تركب وتهدي
490

هديا) هذا لفظ أبي داود وفي رواية عن عبد الله بن مالك الجيشاني عن عقبة بن عامر قال (يا رسول
الله ان أختي نذرت ان تمشي إلى البيت حافية غير مختمرة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ان الله
لا يصنع بشقاء أختك شيئا فلتركب ولتختمر ولتصم ثلاثة أيام) رواه أبو داود والترمذي والنسائي
وابن ماجة وغيرهم قال الترمذي حديث حسن وفيما قاله نظر فان في اسناده ما يمنع حسنه وسنذكر
قريبا إن شاء الله تعالى قول البخاري فيه * وعن كريب عن ابن عباس قال (جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ان أختي نذرت يعني ان تحج ماشية فقال النبي صلى الله عليه
وسلم ان الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا فلتحج راكبة ولتكفر يمينها) رواه أبو داود * وعن أبي
الخير عن عقبة بن عامر قال (نذرت أختي ان تمشي إلى بيت الله وأمرتني ان استفتي لها رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال لتمش ولتركب) رواه البخاري ومسلم بهذا اللفظ في صحيحيهما ومعناه
والله أعلم لتمش إذا قدرت وتركب إذا عجزت أو يشق عليها المشي وكذا ترجم له البيهقي فقال
(باب المشي فيما قدر عليه والركوب فيما عجز عنه) ثم ذكر هذا الحديث * ورواه البيهقي من رواية
ابن عباس (ان أخت عقبة نذرت ان تحج ماشية وانها لا تطيق ذلك فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ان الله تعالى لغني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة) هكذا في هذه الرواية بدنة
وهو موافق لرواية المصنف في الكتاب قال البيهقي كذا في هذه الرواية وروى من طريق آخر
(فتهدى هديا) وروى بغير ذكر الهدى ثم ذكر هذه الطرق كلها من رواية ابن عباس ثم رواه
من رواية عقبة بغير ذكر الهدى كما سبق عن رواية البخاري ومسلم * ثم روى البيهقي الروايات
السابقة عن سنن أبي داود والترمذي ثم روى باسناد عن البخاري قال لا يصح ذكر الهدي في
حديث عقبة بن عامر ثم روى البيهقي باسناد عن أبي هريرة قال (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسير في جوف الليل في ركب إذ بصر بخيال قد نفرت منه إبلهم فأنزل رجلا فنظر فإذا هو بامرأة
عريانة ناقضة شعرها فقال مالك قالت نذرت ان أحج البيت ماشية عريانة ناقضة شعري فانا أتكمن
بالنهار وانتكب الطريق بالليل فاتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال ارجع إليها فمرها فتلبس
ثيابها ولتهرق دما (قال البيهقي هذا اسناد ضعيف قال وروى من وجه آخر منقطع دون ذكر الهدي
فيه * ثم روى بأسانيد عن الحسن البصري عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(إذا نذر أحدكم ان يحج ماشيا فليهد هديا وليركب) وفي رواية (فليهد بدنة وليركب) قال
البيهقي ولا يصح سماع الحسن من عمران فهو مرسل قال وروى فيه عن علي موقوفا والله أعلم) (أما)
حكم الفصل ففيه مسائل (إحداها) إذا نذر الحج ماشيا وقلنا بالأصح انه يلزمه المشي لم يجز له
491

الركوب ان قدر على المشي لقوله صلى الله عليه وسلم (من نذر ان يطع الله فليطعه) فان عجز عن
المشي جاز له الركوب ما دام عاجزا فمتى قدر لزمه المشي لحديث عقبة بن عامر السابق في هذا الفصل
عن صحيح البخاري ومسلم ولحديث انس قال (مر النبي صلى الله عليه وسلم بشيخ كبير يهادى
بين ابنيه فقال ما بال هذا فقالوا نذر يا رسول الله ان يمشي قال إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه
فأمره ان يركب) قال الترمذي هذا حديث صحيح (الثانية) إذا عجز عن المشي فحج راكبا وقع
حجه عن النذر بلا خلاف وهل يلزمه جبر المشي الفائت بإراقة دم فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف
بدليلهما (أحدهما) لا دم كما لو نذر الصلاة قائما فعجز فإنه يصلي قاعدا ويجزئه ولا شئ عليه (وأصحهما)
يلزمه الدم لما ذكره فعلى هذا فيما يلزمه طريقان (المذهب) انه شاة تجزئه في الأضحية كسائر
الحيوانات (والثاني) فيه قولان (هذا) (والثاني) يلزمه بدنة للحديث السابق حكاه الخراسانيون
والله أعلم (الثالثة) إذا قدر على المشي فتركه وحج راكبا فقد أساء وارتكب حراما تفريعا على
المذهب وهو وجوب المشي وهل يجزئه حجه عن نذره فيه طريقان (أحدهما) يجزئه قولا واحدا
وبه قطع المصنف والعراقيون (والثاني) حكاه الخراسانيون فيه قولان (القديم) لا يجزئه بل عليه
القضاء لأنه لم يأت به على صفته الملتزمة (والأصح) الجديد انه يجزئه ولا قضاء كما لو ترك الاحرام
من الميقات وأحرم مما دونه أو ارتكب محظورا آخر فإنه يصح حجه ويجزئه بلا خلاف فعلى هذا في
وجوب الدم عليه قولان وقيل وجهان (أصحهما) يجب وبه قطع المصنف وآخرون وهل هو بدنة
أو شاة فيه الخلاف السابق (الأصح) شاة والله أعلم *
(فرع) أما حقيقة العجز عن المشي فالظاهر أن المراد بها أن يناله به مشقة ظاهرة كما قاله
الأصحاب في العجز عن القيام في الصلاة وفي العجز عن صوم رمضان بالمرض والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(وان نذر ان يركب إلى بيت الله الحرام فمشى لزمه دم لأنه ترفه بترك مؤنة المركوب * وان
نذر المشي إلى بيت الله تعالى لا حاجا ولا معتمرا ففيه وجهان (أحدهما) لا ينعقد نذره لان المشي في
غير نسك ليس بقربة فلم ينعقد كالمشي إلى غير البيت (والثاني) ينعقد نذره ويلزمه المشي بحج أو
عمرة لأنه بنذر المشي لزمه المشي بنسك ثم رام اسقاطه فلم يسقط) *
(الشرح) فيه مسألتان (إحداهما) إذا نذر الحج راكبا فان قلنا المشي أفضل أو قلنا هو
والركوب سواء فهو مخير ان شاء ركب وان شاء مشى (وان قلنا) الركوب أفضل لزمه الوفاء به فان مشى
فقد أطلق المصنف ان عليه دما قال صاحب البيان هذا هو المشهور في المذهب قال وفيه وجه حكاه
492

صاحب الفروع انه لا دم عليه لأنه أشق من الركوب وقال أصحابنا الخراسانيون ان قلنا المشي أفضل
أو قلنا هما سواء فلا دم وان قلنا بالمذهب ان الركوب أفضل لزمه الدم هكذا قطعوا به قال البغوي
وعندي أنه لادم لأنه أشق وكيف كان فالمذهب وجوب الدم والله أعلم (الثانية) إذا نذر المشي
إلى الكعبة لا حاجا ولا معتمرا ففي انعقاد نذره وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما)
ينعقد وممن صرح بتصحيحه الفارقي وغيره وعلى هذا يلزمه قصد الكعبة بحج أو عمرة على الصحيح
وفيه خلاف سبق في فصل من نذر صلاة في مسجد قال الشيخ أبو حامد يشبه أن يكون هذان الوجهان
مأخوذين من القولين فيمن نذر المشي إلى مسجد المدينة أو المسجد الأقصى لان المشي هناك لا يتضمن
النسك فكذا هنا إذا صرح بترك النسك قال ابن الصباغ هذا فاسد لأنا إذا قلنا بصحة النذر هنا
لزمه المشي بنسك بخلاف المشي إلى مسجد المدينة والأقصى والله أعلم *
(فرع) إذا نذر ان يحج حافيا لزمه الحج ولا يلزمه الحفاء بل له ان يلبس النعلين في الاحرام
ويلبس قبل الاحرام النعلين والخفين وما يشاء ولا فدية بلا خلاف لأنه ليس بقربة ولا ينعقد نذره *
* قال المصنف رحمه الله *
(وان نذر المشي إلى بيت الله تعالى ولم يقل الحرام ولا نواه فالمذهب انه يلزمه لان
البيت المطلق بيت الله الحرام فحمل مطلق النذر عليه ومن أصحابنا من قال لا يلزمه
لان البيت يقع على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد فلا يجوز حمله على البيت الحرام فان
نذر المشي إلى بقعة من الحرم لزمه المشي بحج أو عمرة لان قصده لا يجوز من غير احرام
فكان ايجابه ايجابا للاحرام وان نذر المشي إلى عرفات لم يلزمه لأنه يجوز قصده من غير احرام
فلم يكن في نذره المشي إليه أكثر من ايجاب المشي وذلك ليس بقربة فلم يلزمه * وان نذر
المشي إلى مسجد غير المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى لم يلزمه لما روى أبو سعيد الخدري
رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تشد الرحال الا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام
والمسجد الأقصى ومسجدي هذا) وان نذر المشي إلى المسجد الأقصى أو مسجد المدينة ففيه قولان
(قال) في البويطي يلزمه لأنه مسجد ورد الشرع بشد الرحال إليه فلزمه المشي إليه بالنذر كالمسجد الحرام
(وقال) في الام لا يلزمه لأنه مسجد لا يجب قصده بالنسك فلم يجب المشي إليه بالنذر كسائر
المساجد) *
(الشرح) حديث أبي سعيد رواه البخاري ومسلم وسبق بيانه مع أحاديث نحوه في أوائل
هذا الباب (وقوله) ولم يقل الحرام الحرام - بكسر الميم - (أما) أحكام الفصل فسبق بيان حكم نذر
493

المشي إلى المسجد الحرام وسائر المساجد ومسجد المدينة والأقصى وأوضحنا أحكامها بفروعها وسبق
أيضا بيان الخلاف فيمن نذر المشي إلى بيت الله ولم يقل الحرام ولا نواه ولكن اختار المصنف
انعقاد النذر ولزوم الذهاب إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة (والصحيح) الذي صححه جماهير الأصحاب
في الطريقين انه لا ينعقد نذره ولا يلزمه شئ وكذا صححه المصنف في التنبيه كما صححه الجمهور فالمذهب
انه لا ينعقد نذره ولا شي عليه * واختلفوا في هذا الخلاف هل هو وجهان أو قولان قالوا نقل المزني
في المختصر انه يلزمه ونص الشافعي في الام انه لا ينعقد نذره ونص المختصر ظاهر لا صريح ونص
الام لا لأنه قال في المختصر ان نذر ان يمشي إلى بيت الله لزمه وقال في الام إذا نذر ان يمشي إلى بيت الله
ولا نية له فالاختيار ان يمشي إلى بيت الله الحرام ولا يجب عليه ذلك الا ان ينوى لان المساجد بيوت
الله هذا نصه * قال ابن الصباغ ففي المسألة قولان لكنها مشهورة بالوجهين * وممن صرح بان الأصح
انه لا ينعقد نذره المحاملي في كتبه والقاضي أبو الطيب في المجرد والجرجاني والرافعي وآخرون والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(وان نذر ان يحج في هذه السنة نظرت فان تمكن من أدائه فلم يحج صار ذلك دينا في
ذمته كما قلنا في حجة الاسلام وان لم يتمكن من أدائه في هذه السنة سقط عنه فان قدر
بعد ذلك لم يجب لان النذر اختص بتلك السنة فلا يجب في سنة أخرى الا بنذر
آخر والله أعلم)
(الشرح) قال أصحابنا من نذر حجا مطلقا استحب مبادرته به في أول سني الامكان فان
مات قبل الامكان فلا شئ عليه كحجة الاسلام وهذا لا خلاف فيه وان مات بعد الامكان وجب
الاحجاج عنه من تركته (اما) إذا عين في نذره سنة فتتعين على الصحيح من الوجهين وبه قطع الجمهور
فلو حج قبلها لم يجزه (والثاني) لا تتعين تلك السنة بل يجوز قبلها * ولو قال أحج في عامي هذا وهو
على مسافة يمكن الحج منها في ذلك العام لزمه الوفاء به تفريعا على الصحيح فإن لم يفعل ذلك مع
الامكان صار دينا في ذمته يقضيه بنفسه فان مات قبل قضائه وجب الاحجاج من تركته * وان لم
يمكنه قال المتولي بأن كان مريضا وقت خروج الناس ولم يتمكن من الخروج معهم أو لم يجد رفقة
وكان الطريق مخوفا لا يتأتى للآحاد سلوكه فلا قضاء عليه لان المنذور إنما هو حج في تلك السنة ولم يمكنه
وكما لا تستقر حجة الاسلام والحالة هذه * ولو صده عدو أو سلطان بعد احرامه حتى مضي العام
قال امام الحرمين أو امتنع عليه الاحرام لعدو فالمنصوص انه لا قضاء عليه وخرج ابن سريج قولا
ضعيفا انه يجب وبه قال المزني كما لو قال لله علي صوم غد فأغمي عليه حتى مضى الغد فإنه يجب القضاء
494

والمذهب الأول لان غير المتمكن لا يلزمه حجة الاسلام والمغمى عليه يلزمه قضاء رمضان * ولو منعه
عدو أو سلطان وحده أو منعه صاحب الدين وهو معسر ففي وجوب القضاء قولان (أحدهما) يجب
(وأصحهما) لا يجب * ولو منعه المرض بعد الاحرام فالمذهب وجوب القضاء وبه قطع الجمهور ولا ينزل
منزلة الصد لأنه يتحلل بالصد ولا يتحلل بالمرض وحكى امام الحرمين تخريجه على الخلاف في الصد
وكذا حكى الخلاف فيما إذا امتنع الحج في ذلك العام بعد الاستطاعة * قال الرافعي وإذا نظرت في
كتب الأصحاب رأيتها متفقة على أن الحجة المنذورة في ذلك كحجة الاسلام إذا اجتمعت شرائط
فرض حجة الاسلام في ذلك العام وجب الوفاء واستقرت في الذمة والا فلا * قالوا والنسيان
وخطأ الطريق والضلال فيه كالمرض * ولو كان الناذر معضوبا وقت النذر أو طرأ العضب ولم
يجد المال حتى مضت السنة المعينة فلا قضاء عليه * ولو نذر صلاة أو صوما أو اعتكافا في
وقت معين فمنعه مما نذر عدو أو سلطان لزمه القضاء بخلاف الحج لان الواجب بالنذر
كالواجب بالشرع وقد يجب الصوم والصلاة مع العجز فلزما بالنذر واما الحج فلا يجب
الا بالاستطاعة *
(فرع) إذا نذر حجات كثيرة انعقد نذره ويأتي بهن على توالى السنين بشرط الامكان
فان أخر استقر في ذمته ما أخره فإذا نذر عشر حجات ومات بعد خمس سنين وتمكن في هذه
الخمس وجب ان يقضي من ماله خمس حجات * ولو نذرها المعضوب ومات بعد سنة وكان يمكنه
ان يستأجر عشرة يحجون عنه في تلك السنة وجب قضاء عشر حجج من تركته فإن لم يف ماله
ببعض العشر كحجتين لحجتين أو ثلاث لم يستقر الا بالمقدور عليه والله أعلم *
(فرع) من نذر الحج لزمه ان يحج بنفسه الا أن يكون معضوبا فيحج غيره عنه باذنه *
(فرع) قال أصحابنا إذا نذر الحج مطلقا أجزأه ان يحج مفردا أو متمتعا أو قارنا
لان الجميع حج صحيح * ولو نذر القران كان ملتزما للنسكين فان اتى بهما مفردين أجزأه
وهو أفضل وكذا ان تمتع * وان نذر الحج والعمرة مفردين فقرن أو تمتع وقلنا بالمذهب ان
الافراد أفضل فهو كما إذا نذر الحج ماشيا وقلنا المشي أفضل فحج راكبا وإذا نذر القران فأفردهما لزمه
دم القران لأنه التزمه بالنذر فلا يسقط وقد سبق نظير المسألة في كتاب الحج والله أعلم *
(فرع) من نذر ان يحج وعليه حجة الاسلام لزمه للنذر حجة أخرى بلا خلاف كما لو نذر
ان يصلي وعليه صلاة الظهر مثلا لزمه صلاة أخرى والله أعلم *
(فرع) لو نذر ان يحج في هذه السنة وهو على مسافة شهر من مكة ولم يبق بينه وبين يوم
495

عرفة الا يوم واحد فالمذهب انه لا ينعقد نذره وبه قطع الأكثرون وذكر الرافعي فيه ثلاثة أوجه
(الصحيح) المشهور لا ينعقد ولا شي عليه (والثاني) ان عليه كفارة يمين (والثالث) ينعقد
نذره ويجب قضاؤه في سنة أخرى * ودليل المذهب انه نذر ما لا يقدر عليه فصار كمن نذر عتق
عبد زيد والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بكتاب النذر (إحداها) في فتاوى القفال انه لو نذر ان يضحي
بشاة ثم عين شاة عن نذره فلما قدمها للذبح صارت معيبة فلا تجزئ ولو نذر ان يهدي شاة ثم
عين شاة وذهب بها إلى مكة فلما قدمها للذبح تعيبت أجزأته لان للمهدي ما يهدى إلى الحرم
وبالوصول إليه حصل الاهداء بخلاف التضحية فإنها لا تحصل الا بالذبح والله أعلم (الثانية) قال
صاحب التقريب لو قال إن شفى الله مريضي فلله علي ان اشتري بدرهم خبزا وأتصدق به لا يلزمه
شراء الخبز بل له ان يتصدق بخبز قيمته درهم (الثالثة) لو قال إن شفى الله مريضي فلله على
رجلي الحج ماشيا صح نذره قال الرافعي الا ان يريد الزام الرجل خاصة (الرابعة) إذا نذر اعتاق
رقبة وكان عليه رقبة عن كفارة فاعتق رقبتين ونواهما عن الواجب أجزأه وان لم يعين كما لو كان
عليه كفارتان مختلفتان (الخامسة) قال القفال من نذر ان لا يكلم الآدميين يحتمل ان يقال يلزمه
لأنه مما يتقرب به ويحتمل ان لا يلزمه لما فيه من التضييق والتشديد وليس ذلك من شرعنا وكما لو
نذر الوقوف في الشمس فإنه لغو قلت الاحتمال الثاني هو الصواب والله أعلم (السادسة) في فتاوى
القاضي حسين انها لو كانت تلد أولادا ويموتون فقالت إن عاش لي ولد فلله علي عتق رقبة قال يشترط
للزوم العتق ان يعيش لها ولد أكثر مما عاش أكبر أولادها الموتى وان قلت تلك الزيادة * وقال
الشيخ أبو عاصم العبادي متى ولدت حيا لزمها العتق وان لم يعش أكثر من ساعة لأنه عاش والأول
أصح (السابعة) في فتاوى القاضي انه لو نذر التضحية بهذه الشاة على أن لا يتصدق بلحمها لم ينعقد نذره (الثامنة) في فتاوى القاضي لو قال إن شفى الله مريضي فلله علي ان أتصدق بدينار فشفى وأراد
التصدق به على ذلك المريض وهو فقير فإن كان لا يلزمه نفقته جاز والا فلا * وانه لو قال إن شفى
الله مريضي فلله علي ان أتصدق على ولد زيد أو على زيد وزيد موسر لزمه الوفاء لان الصدقة على الغني
جائزة وقربة (التاسعة) لو نذر زيتا أو شمعا ونحوه ليسرج في مسجد أو غيره إن كان بحيث قد
ينتفع ولو على النذور مصل هناك أو نائم أو غيرهما صح ولزم الوفاء به وإن كان يعلق ولا يتمكن
أحد من الدخول والانتفاع به لم يصح ولو وقف شيئا ليشتري من غلته زيت أو غيره ليسرج في
مسجد أو غيره فحكمه ما ذكرناه في النذر والله أعلم (العاشرة) إذا نذر صوم شهر ومات قبل امكان
496

الصوم قال القفال يطعم عنه عن كل يوم مد بخلاف ما لو لزمه قضاء رمضان لمرض أو سفر ومات
قبل امكان القضاء لا يطعم عنه قال لان المنذور يستقر بنفس النذر وبنى عليه انه لو حلف وحنث في
يمينه وهو معسر فرضه الصيام فمات قبل الامكان يطعم عنه قال ولو نذر حجة ومات قبل الامكان
يحج عنه هذا كلام القفال وحكاه عنه الرافعي ثم قال هذا يخالف ما قدمناه في نذر الحج يعني المسألة
المذكورة قبل هذه المسائل (قلت) والصحيح انه إذا مات قبل امكان الصوم والحج المنذورين
وكفارة اليمين المذكورة فلا شئ عليه ولا يطعم عنه ولا يصام عنه والله أعلم *
* * * (قال مصحح مطبعة
الحمد لله الذي جمع المؤمنين والف بين قلوبهم والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي تكلم
بجوامع الكلم وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين (اما بعد) فان الله قد ارسل محمدا صلى الله عليه وسلم
بشريعة سمحاء اختارها للذين اصطفاهم لعبادته وهداهم إليه صراطا مستقيما باتباع شريعته وسنته
وبعد ان أكرمه الله بجواره تسابقت أقلام الأئمة الأخيار في تدوين شريعة سيد المرسلين الأطهار
وخلفهم من بعدهم خلف تمسكوا بسننهم محافظة على هذا الدين القوى فوفقهم الله لذلك الطريق
السوى حتى خاض الامام النووي رحمه الله تعالى في بحور الشريعة الغراء التي دونها الإمام الشافعي
فاقتنص شواردها وجمع بين قاصيها ودانيها حتى الف كتابه الجوهر الفرد المسمى (بالمجموع شرح
المهذب) ولما كان هذا الكتاب من اجل ما كتب في المذهب وكان أقوى ركن يركن إليه في حل
المشكلات من عبارات المؤلفين في كتب الشريعة هامت قلوب المسلمين وذوي العلم بالاطلاع
عليه واقتنائه لذلك قامت جمعية من كبار علماء الدين ورؤسائه بالأزهر الشريف بجمع هذا الكتاب
من أقصى الممالك الاسلامية وأدناها وشرعت في طبعه ونشره بين المسلمين تسهيلا لهم في الاطلاع
على أمور دينهم والآن قد تم طبع الجزء الثامن منه الذي اشتمل على النصف الأخير من كتاب
الحج وسيليه إن شاء الله تعالى الجزء التاسع وأوله باب الأطعمة وكان الفراغ من طبعه في يوم الخميس
العاشر من شهر محرم الحرام من سنة 1347 هجرية على صاحبها أفضل الصلاة وأكمل التحية وكان
طبعه بالمطبعة المذكورة أعلاه وانا لنرجو من الله تعالى ان يبقي حياة أولئك العلماء الأعلام ويوفقهم
إلى اتمام هذا المشروع الجليل كما نرجو وننصح لكل عالم وطالب علم ومؤمن ومسلم ان يؤيد هذا المشروع
ويعضده ويقتني هذا الكتاب فإنه درة نفيسة والله ولى التوفيق *
497