الكتاب: المجموع
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ١٦
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: التكملة الثانية

التكملة الثانية
المجموع
شرح المهذب
للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة 676 ه‍
الجزء السادس عشر
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

كتاب العتق
(الشارح) الرق ظاهرة اجتماعية سادت في الأرض قبل الاسلام،
وتوغلت في حياة المجتمعات البشرية حتى صارت لا يقوم المجتمع قائمة إلا بوجوده
لان القوى العاملة في المجتمع التي تمثل عصب الانتاج وتحقيق المنجزات الاقتصادية
من زراعية وعمرانية وصناعية كانت تقوم على أيدي الأرقاء، وقد أدركت الدولة
الرومانية أهمية هذه الفئة في حفظ كيان الدولة فحرمت على الافراد في القانون
الروماني أن يعتقوا عبيدهم، وكانت تحكم بالسجن أو التعذيب أو فرض الرق على
من يضبط متلبسا بجريمة عتق عبد له، وكانت مصادر الرق متنوعة فشعوب
الأمم المغلوبة عسكريا تسترق للغالب من القواد والملوك الجبابرة، والجنود توزع
عليهم الأسلاب ومنها رجال ونساء هذه الأمم المقهورة، وكل إنسان يخطف من
بلده ويفر به خاطفوه إلى أحيائهم ومضاربهم ونجوعهم يصير عبدا مسترقا لخاطفيه
لهم بيعه وهبته وتوارثه ويملكون حياته وموته وليس له حرمة في تلك المجتمعات
الجاهلية فارسية ورومانية وعربية وشرقية وغربية.
فلما جاء الاسلام وهو في منهجه الرصين سماوي الهداية، وفي تغييره الجذري
ثوري الوسيلة، في تدرجه الرزين تربوي التعليم، وفي نظرته لهذه الفئة رحيم
السلوك، راقى الاحساس، رفيع الغاية، جفف منابع الرق، ويسر مصافيه،
وضيق مصادره ووسع موارده، وقصره على الحروب وحدها وجعله بين المحاربين
فقط لا يتجاوزه إلى الآمنين ممن لم يرفعوا سلاحا، ثم نظم العلاقة بين السيد
ومولاه حتى ليتمنى الحر منا أن يكون مولى لاحد هؤلاء النبلاء من حواريي النبوة
وجنود الرسالة، بل إن الاسلام حين جعل المرء لا يحط عنه وزر القسم الحانث
إلا بعتق رقبة، ولاقنداح عنه معرة الظهار حين يجعل امرأته كظهر أمه إلا بعتق
رقبة من قبل أن يتماسا، وجعل في تعمد الطعام في الصوم إعتاق رقبة، وجعل
المؤمن الحق الذي اقتحم العقبة، هو الذي يفك الرقاب العانية، ويطعم في
المسغبة المساكين الكادحة.
3

بل لقد جعل اللطمة على وجه العبد فكاكا له من الرق وجعل جزاء اللطمة
عتقه فمن لم يفعل مسته النار.
ثم إن الاسلام جعل من عوامل تصفيه الرق المكاتبة لقوله تعالى (فكاتبوهم
إن علمتم فيهم خيرا وآتوهم من مال الله الذي آتاكم) فجعل للعبد الحق في أن
يطلب من سيده شراء نفسه مكاتبه بنجوم وأقساط يؤديها من صنعته أو عمله،
وعلى سيده أن يمنحه كل أسباب اليسر وإعطاؤه بعض المال ليكون بمثابة رأس
مال له في الحياة يواجه به أعباء الاستقلال عن سيده، ومن عوامل تصفيته
التدبير، وهو ان يجعل رقه في حياته ثم يكون حرا بعد موته، ومن أسباب
تصفيته أيضا تحريم ميراث أم الولد، وهو تحرير لها ولا ريب، لذلك نزجى إليك
فصول العتق والمكاتب والمدبر شاهدة على صدق هذه القضية التي بسطناها لك في
هذه لكليمه مجزأين بها عن الشرح والتعليق لنوفر مكانا على الورق نبذله فيها لم
تتعطل أحكامه، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين
والحمد لله رب العالمين،
قال المصنف رحمه الله تعالى:
العتق قربة مندوب إليه، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: من أعتق رقبة أعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار حتى
فرجه بفرجه، ولا يصح إلا من مطلق التصرف في المال لأنه تصرف في المال
كالبيع والهبة، فإن أعتق الموقوف عليه العبد الموقوف لم يصح عتقه لأنه لا يملكه
في أحد القولين ويملكه في الثاني الا أنه يبطل به حق البطن الثاني فلم يصح، وان
أعتق المريض عبدا وعليه دين يستغرقه لم يصح لان العتق في المرض وصيه فلم
يصح مع الدين، وان أعتق العبد الجاني، فعلى ما ذكرناه في العبد المرهون.
(فصل) ويصح بالصريح والكناية وصريح العتق والحرية لأنه ثبت لهما
عرف الشرع وعرف اللغة والكناية كقوله: سيبتك وخليتك وحبلك على
غاربك ولا سبيل لي عليك ولا سلطان لي عليك وأنت لله وأنت طالق وما أشبهها
لأنها تحتمل العتق فوقع بها العتق مع النية.
4

وفي قوله فككت رقبتك وجهان (أحدهما) أنه صريح لأنه ورد به القرآن
قال الله سبحانه فك رقبة (والثاني) أنه كناية لأنه يستعمل في العتق وغيره،
وان قال لامته: أنت على كظهر أمي ونوى العتق ففيه وجهان. أحدهما: تعتق
لأنه لفظ يوجب تحريم الزوجة فكان كناية في العتق كسائر اطلاق. والثاني:
لا تعتق لأنه لا يزيل الملك فلم يكن كناية في العتق بخلاف الطلاق.
(فصل) وإن كان بين نفسين عبد فأعتق أحدهما نصيبه، فإن كان موسرا
قوم عليه نصيب شريكه وعتق، لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال من أعتق شركا له في عبد، فإن كان معه ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه
قيمة عدل وأعطى شركاءه حصصهم وإلا فقد عتق منه ما عتق ورق منه ما رق،
وإن كان بين مسلم وكافر عبد مسلم فأعتق الكافر حصته وهو موسر فالمنصوص
أنه يقوم عليه، فمن أصحابنا من قال: إذا قلنا إن الكافر لا يملك العبد المسلم لم
يقوم عليه لان التقويم يوجب التمليك.
ومنهم من قال: يقوم عليه قولا واحدا لأنه تقوم متلف فاستوى فيه المسلم
والكافر كتقويم المتلفات، ويخالف البيع لان القصد منه التمليك وفى ذلك صغار
على الاسلام والقصد من التقويم العتق ولا صغار فيه، فإن كان نصف العبد
وقفا ونصفه طلقا فأعتق صاحب الطلق نصيبه لم يقوم عليه الوقف لان التقويم
يقتضى التمليك والوقف لا يملك، ولان الوقف لا يعتق بالمباشرة فلان لا يعتق
بالتقويم أولى.
(فصل) وتجب قيمة النصيب عند العتق لأنه وقت الاتلاف ومتى يعتق
فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: يعتق في الحال، فإن كانت جارية فولدت كان الولد حرا، لما روى
أبو المليح عن أبيه أن رجلا أعتق شقصا له من غلام فذكر للنبي صلى الله
عليه وسلم فقال ليس لله شريك، وفي بعضها فأجاز عتقه.
والثاني: أنه يقع بدفع القيمة، فإن كان جارية فولدت كان نصف الولد حرا
ونصفه مملوكا، لما روى سالم عن أبيه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان
5

العبد بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه، فإن كان موسرا يقوم عليه ولا وكس ولا
شطط ثم يعتق، ولأنه عتق بعوض فلا يتقدم على العوض، كعتق المكاتب،
والثالث إنه مراعى فإن دفع العوض حكمنا بأنه عتق في الحال وإن لم يدفع حكمنا
بأنه لم يعتق لأنا إذا أعتقناه في الحال أضررنا بالشريك في إتلاف ماله قبل أن
يسلم له العوض، وإن لم نعتقه أضررنا بالعبد في إبقاء أحكام الرق عليه، فإذا قلنا
إنه مراعى لم يكن على كل واحد منهما ضرر، فان دفع القيمة كان حكمه حكم
القول الأول، وإن لم يدفع كان حكمه حكم القول الثاني، فان بذل المعتق القيمة
أجبرنا الشريك على قبضها، وإن طلب الشريك أجبرنا المعتق على دفعها، فان
أمسك الشريك عن الطلب والمعتق عن الدفع وقلنا إن العتق يقف على الدفع
فللعبد أن يطالب المعتق بالدفع والشريك بالقبض ليصل إلى حقه، فان أمسك
أعتق فللحاكم أن يطالب بالدفع والقبض لما في العتق من حق الله تعالى، فان
أعتق الشريك نصيبه قبل أخذ القيمة ففيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة انه يعتق لأنه صادف ملكه
(والثاني) وهو المذهب انه لا يعتق لان العتق مستحق من جهة المعتق والولاء
مستحق له فلا يجوز إبطاله عليه.
(فصل) وإن كان بين اثنين جارية فأحبلها أحدهما ثبت حرمة الاستيلاد
في نصيبه وفي نصيب الشريك الأقوال التي ذكرناها في العتق، لان الاستيلاد
كالعتق في إيجاب الحرية فكان كالاعتاق في التقويم والسراية
(فصل)
وان اختلف المعتق والشريك في قيمة العبد والبينة متعذرة، فان قلنا إنه
يسرى في الحال فالقول قول المعتق لأنه غارم لما استهلكه فكان القول قوله،
كما لو اختلفا في قيمة ما أتلفه بالجناية.
وإن قلنا لا يعتق إلا بدفع القيمة فالقول قول الشريك لان نصيبه باق على
ملكه فلا ينزع منه إلا بما يقر به كالمشتري في الشفعة. وان ادعى الشريك انه
كان يحسن صنعة تزيد بها القيمة فأنكر المعتق ففيه طريقان من أصحابنا من قال
6

هو كالاختلاف في القيمة، وفيه قولان ومنهم من قال القول قول المعتق
قولا واحدا لأن الظاهر معه والشريك يدعى صنعة الأصل عدمها، وان ادعى
المعتق عيبا في العبد ينقص به القيمة وأنكر الشريك ففيه طريقان أيضا، من
أصحابنا من قال هو كالاختلاف في القيمة فيكون على قولين. ومنهم من قال
القول قول الشريك قولا واحدا، لأن الظاهر معه، والمعتق يدعى عيبا
الأصل عدمه.
(فصل) وإن كان المعتق معسرا عتق نصيبه وبقى نصيب الشريك على الرق
والدليل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنه: وإلا فقد عتق منه ما عتق ورق
منه ما رق: ولان تنفيذ العتق لدفع الضرر عن العبد، فلو أعتقنا نصيب الشريك
لأضررنا به لأنا نتلف ماله ولا يحصل له عوض، والضرر لا يزال بالضرر،
ولهذا لو حضر الشفيع وهو معسر لم يأخذ بالشفعة لأنه يزيل الضرر بالضرر.
وإن كان موسرا بقيمة البعض عتق منه بقدره، لان ما وجب بالاستهلاك إذا
عجز عن بعضه وجب ما قدر عليه كبدل المتلف، وإن كان معه قيمة الحصة
وعليه دين يستغرق ما معه، ففيه قولان، بناء على القولين في الدين هل يمنع
وجوب الزكاة، فان قلنا لا يمنع وجب عليه العتق، وان قلنا يمنع
لم يجب العتق.
(فصل) وان ملك عبدا فأعتق بعضه سرى إلى الباقي لأنه موسر بالقدر
الذي يسرى إليه فسرى إليه، كما لو أعتق شركا له في عبد وهو موسر
(فصل)
وإن أوصى بعتق شرك له في عبد فأعتق عنه لم يقوم عليه نصيب شريكه،
وان احتمله الثلث، لأنه بالموت زال ملكه فلا ينفذ إلا فيما استثناه بالوصية،
وان وصى بعتق نصيبه وبأن يعتق عنه نصيب شريكه والثلث يحتمله قوم عليه
وأعتق عنه الجميع، لأنه في الوصية بالثلث كالحي، فإذا قوم على الحي قوم
على الميت بالوصية.
7

(فصل) وإن كان عبد بين ثلاثة لأحدهم النصف وللآخر الثلث وللثالث
السدس فأعتق صاحب الثلث والسدس نصيبهما في وقت واحد وكانا موسرين
قوم نصيب الشريك عليهما بالسوية، لان التقويم استحق بالسراية فقسط على
عدد الرؤوس كما لو اشترك اثنان في جراحة رجل فجرحه أحدهما جراحة
والآخر جراحات.
(فصل) وإن كان له عبدان فأعتق أحدهما بعينه ثم أشكل أمر بأن يتذكر
فإن قال: أعتقت هذا قبل قوله لأنه أعرف بما قال فان اتهمه الاخر حلف لجواز
أن يكون كاذبا، فإن نكل حلف الاخر وعتق العبدان أحدهما باقراره والاخر
بالنكول واليمين، وان قال هذا بل هذا عتقا جميعا لأنه صار راجعا عن الأول
مقرا بالثاني، فإن مات قبل أن يبين رجع إلى قول الوارث، لان له طريقا إلى
معرفته، فإن قال الوارث لا أعلم فالمنصوص أنه يقرع بينهما لأنه ليس أحدهما
بأولى من الاخر فرجع إلى القرعة، ومن أصحابنا من خرج فيه قولا آخر أنه
يوقف إلى أن ينكشف لان القرعة تفضى إلى أن يرق من أعتقه ويعتق من أرق
فوجب أن يوقف إلى أن يتبين والأول هو الصحيح، لان البيان قد فات
والوقوف يضر بالوارث في رقيقه وبالحر في حق نفسه.
(فصل) وان أعتق عبدا من أعبد أخذ بتعيينه وله أن يعين من شاء، فان
قال: هو سالم بل غانم عتق سالم ولم يعتق غانم لأنه تخير لتعيين عتق فإذا عينه في
واحد سقط خياره في الثاني، ويخالف القسم قبله لان ذلك أخبار لا خيار له فيه
فلم يسقط حكم خبره. فان مات قبل أن يعين ففيه وجهان.
أحدهما: لا يقوم الوارث مقامه في التعيين كما لا يقوم مقامه في تعيين الطلاق
في إحدى المرأتين فعلى هذا يقرع بينهما فمن خرجت له القرعة عتق، والثاني:
يقوم مقامه وهو الصحيح لأنه خيار ثابت يتعلق بالمال فقام الوارث فيه مقامه
كخيار الشفعة والرد بالعيب.
(فصل) ومن ملك أحد الوالدين وان علوا أو أحد المولودين وان سفلوا
8

عتقوا عليه لقوله تعالى (تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر
الجبال هذا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ان كل من في
السماوات والأرض الا آتي الرحمن عبدا) فنفى الولادة مع العبودية فدل على أنهما
لا يجتمعان، ولان الولد بعض منه فيصير كما لو ملك بعضه، وإن ملك
بعضه، فإن كان بسبب من جهته كالبيع والهبة وهو موسر قوم عليه الباقي لأنه
عتق بسبب من جهته فصار كما لو أعتق بعض عبد، وإن كان بغير سبب من جهته
كالإرث لم يقوم عليه لأنه عتق من غير سبب من جهته، ومن ملك من سوى
الوالدين والمولودين من الأقارب ولم يعتق عليه لأنه لا بعضية بينهما فكانوا
كالأجانب، وان وجد من يعتق عليه مملوكا فالمستحب أن يشتريه ليعتق عليه،
لقوله صلى الله عليه وسلم (لا يجزى ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه)
ولا يجب عليه ذلك لأنه استجلاب مال لقربة لم يتقدم وجوبها فلم يجب كشراء
المال للزكاة، وإن وصى للمولى عليه بأبيه، فإن كان لا تلزمه نفقته وجب على
الولي قبوله لأنه يعتق عليه فيحصل له جمال عاجل وثواب آجل من غير اضرار
وإن كان تلزمه نفقته لم يجب قبوله لأنه يعتق عليه ويطالب بنفقته، وفي ذلك
اضرار فلم يجز، وإن وصى له ببعضه، فإن كان معسرا لزمه قبوله لأنه لا ضرر
عليه من جهة التقويم ولا من جهة النفقة، وإن كان موسرا والأب ممن تلزمه
نفقته لم يجب قبوله لأنه تلزمه نفقته وفي ذلك إضرار، وإن كان لا تلزمه نفقته
ففيه قولان.
(أحدهما) لا يجوز قبوله لان ملكه يقتضى التقويم، في ذلك اضرار.
(والثاني) يلزم قبوله ولا يقوم عليه لأنه يعتق عليه بغير اختياره فلم يقوم
عليه كما لو ملكه بالإرث.
باب القرعة
والقرعة أن تقطع رقاع متساوية ويكتب في كل رقعة ما يراد اخراجه وتجعل
في بنادق من طين متساوية الوزن والصفة وتجفف وتغطى بشئ ثم يقال لرجل
لم يحضر الكنابة والبندقة أخرج بندقة ويعمل بما فيها فإن كان القصد عتق الثلث
9

جزئوا ثلاثة أجزاء، وإن كان القصد عتق الربع جزئوا أربعة أجزاء، وإن كان
القصد عتق النصف جزئوا جزأين وتعدل السهام، فإن كان القصد عتق الثلث
فإن كان عددهم وقيمتهم متساوية، فإن كانوا ستة أعبد قيمة كل واحد منهم مائة
جعل كل اثنين جزءا، ثم الحاكم بالخيار بين أن يكتب في الرقاع الأسماء ويخرج
الأسماء على الحرية والرق، وبين أن يكتب الرق والحرية ويخرج على الأسماء،
فإن اختار كتب الأسماء كتب كل اسمين في رقعة، فان شاء أخرج القرعة على
الحرية، فإذا خرجت القرعة باسم اثنين عتقا ورق الباقون، وإن شاء أخرج
على الرق، فإذا خرجت رق من فيها ثم يخرج قرعة أخرى على الرق، فإذا
خرجت رق من فيها ويعتق الباقيان، والاخراج على الحرية أولى لأنه أقرب
إلى فصل الحكم، فان اتفق العدد واختلفت القيم وأمكن تعديل العدد بالقيمة بأن
يكونوا ستة قيمة اثنين أربعمائة وقيمة اثنين ستمائة وقيمة اثنين مائتان جعل
اللذان قيمتهما أربعمائة جزءا وضم أحد العبدين المقومين بستمائة إلى أحد العبدين
المقومين بمائتين ويجعل العبدان الآخران جزءا ويخرج القرعة على ما ذكرناه
من الوجهين.
وإن اختلفت قيمتهم ولم يتفق عددهم بأن كانوا ثمانية قيمة واحد مائه وقيمة
ثلاثة مائه وقيمة أربعة مائه عدلوا بالقيمة، فيجعل العبد جزءا والثلاثة جزءا
والأربعة جزءا، فان خرجت قرعة العتق على العبد عتق ورق السبعة. وان
خرجت على الثلاثة عتقوا ورق الخمسة. وان خرجت على الأربعة عتقوا ورق
الأربعة لأنه لا يمكن تعديلهم بغير القيمة فعدلوا بالقيمة، وعلى هذا لو كانوا اثنين
قيمة أحدهما مائه وقيمة الاخر مائتان جعلا جزأين وأقرع بينهما، فان خرجت
قرعة العتق على المقوم بمائة عتق جميعه ورق الاخر، وان خرجت على المقوم
بمائتين عتق نصفه ورق نصفه وجميع الاخر، فان اتفق العدد واختلفت القيم
فان عدل بالعدد اختلفت القيم، وان عدل بالقيمة اختلف العدد بأن كانوا ستة
قيمة واحد مائه وقيمة اثنين مائه وقيمة ثلاثة مائه فالمنصوص أنهم يعدلون
بالقيمة فيجعل العبد جزءا والعبدان جزءا والثلاثة جزءا وتخرج القرعة على
ما ذكرناه من الوجهين.
10

ومن أصحابنا من قال يعدلون بالعدد فيجعل اللذان قيمتهما مائة جزءا ويضم
أحد الثلاثة إلى المقوم بمائه فيجعلان جزءا وقيمتها مائة وثلث ويجعل الآخران
جزءا وقيمتها ثلاثمائة وأقرع بينهم فان خرجت القرعة على المقومين بالمائة وقد
استكملا الثلث ورق الباقون، وان خرجت على العبدين المقوم أحدهما بمائه
والاخر بثلث المائة عتقا ورق الأربعة الباقون ويقرع بين العبدين اللذين خرجت
القرعة عليهما لأنهما أكثر من الثلث فلم ينفذ العتق فيهما، فان أقرع فخرجت
القرعة على المقوم بمائة عتق ورق الاخر، وإن خرجت على المقوم بثلث المائة
عتق وعتق من الاخر الثلثان لاستكمال الثلث ورق الباقي والصحيح هو المنصوص
عليه لان فيما قال هذا القائل يحتاج إلى إعادة القرعة وتبعيض الرق والحرية في
شخص واحد، فان اختلف العدد والقيم ولم يمكن التعديل بالعدد ولا بالقيمة بأن
كانوا خمسه وقيمة أحدهم مائة وقيمة الثاني مائتان وقيمة الثالث ثلاثمائة وقيمة
الرابع أربعمائة وقيمة الخامس خمسمائة ففيه قولان.
(أحدهما) أنه يكتب أسماؤهم في رقاع بعددهم ثم يخرج على العتق، فإن خرج
المقوم بخمسمائة وهو الثلث عتق ورق الأربعة. وإن خرج المقوم بأربعمائة عتق
وقد بقي من الثلث مائه فيخرج اسم آخر، فان خرج اسم المقوم بثلاثمائة عتق منه
ثلثه ورق باقيه والثلاثة الباقون، وعلى هذا القياس يعمل في كل ما يخرج.
والقول الثاني انهم يجزأون ثلاثة أجزاء على القيمة دون العدد فيجعل المقوم
بخمسمائة جزءا، ويجعل المقوم بثلاثمائة والمقوم بالمائتين جزءا، ويجعل المقوم
بأربعمائة والمقوم بمائه جزءا ثم يخرج القرعة ويعتق من فيها وهو الثلث ويرق
الباقون لان النبي صلى الله عليه وسلم جزأهم ثلاثة أجزاء.
(فصل) قال الشافعي: وان أعتق ثلاثة أعبد لا مال له غيرهم فمات واحد
ثم مات السيد أقرع بين الحيين والميت، فان خرج سهم الحرية على الميت رق
الاثنان وحكم من خرج عليه سهم الحرية حكم الأحرار منذ خوطب بالعتق إلى
أن مات وكان له ما اكتسب واستفاد بإرث وغيره. وان خرج سهم الحرية على
أحد الحيين لم يعتق منه الا ثلثاه لان الميت قبل موت سيده مات عبدا فلم يكن له
حكم ما خلف السيد، وان مات المعتق ولم يقرع بينهم حتى مات اثنان أقرع بين
11

الحي والميتين فان خرج بينهم العتق على الحي عتق كله وأعطى كل ما استفاد من
يوم خوطب بالعتق ورق الميتان
(فصل) إذا أعتق في مرضه ستة أعبد لا مال له غيرهم فأعتق اثنان بالقرعة ثم
ظهر مال يحتمل أن يعتق آخران جعل الأربعة جزأين وأقرع بينهم وأعتق منهم اثنان
(فصل) وان أعتق في مرضه أعبدا له ومات وعليه دين يستغرق التركة
لم ينفذ العتق، لان العتق في المرض وصيه فلا ينفذ الا في ثلث ما يفضل بعد
قضاء الدين. وان استغرق نصفها جعل التركة جزأين ويكتب في رقعة دين،
وفي رقعة تركة، وان استغرق الثلث جعلوا ثلاثة أجزاء في رقعة دين وفي
رقعتين تركة ويقرع بينهم فمن خرجت عليه قرعة الدين بيع في الدين وما سواه
يجعل ثلاثة أجزاء ويعتق منه الثلث لأنه اجتمع حق الدين وحق التركة
وحق العتق، وليس بعضها بالبيع والإرث والعتق بأولى من البعض وللقرعة
مدخل في تمييز العتق من غيره فأقرع بينهم
(فصل وان أعتقهم ومات وأقرع بينهم وأعتق الثلث ثم ظهر دين
مستغرق لم ينفذ العتق لما ذكرناه، فان قال الورثة نحن نقضي الدين وننفذ
العتق ففيه وجهان.
(أحدهما) أن لهم ذلك لان المنع من نفوذ العتق لأجل الدين فإذ قضى
الدين زال المنع (والثاني) انه ليس لهم ذلك لأنهم تقاسموا العبيد بالقرعة وقد
تعلق بهم حق الغرماء فلم يصح، كما لو تقاسم شريكان ثم ظهر شريك ثالث،
فعلى هذا يقضى الدين ثم يستأنف العتق، وإن كان الدين يستغرق نصف التركة
فهل يبطل العتق بالجميع، فيه وجهان (أحدهما) يبطل كما قلنا في قسمة الشريكين
(والثاني) يبطل بقدر الدين لان بطلانه بسببه فيقدر بقدره، فإن كان الذي
أعتق عبدين عتق من كل واحد منهما نصفه ورق النصف ثم يقرع بينهما لجمع
الحرية فان خرجت القرعة لأحدهما وكانت قيمتها سواء عتق وبيع الاخر في
الدين، وإن كانت قيمة أحدهما أكثر فخرجت القرعة على أكثرهما قيمة عتق
منه نصف قيمة العبدين ورق باقيه والعبد الاخر. وان خرجت على أقلهما قيمة
عتق وعتق من الثاني تمام النصف وبيع الباقي في الدين
12

(باب المدبر)
التدبير قربة لأنه يقصد به العتق ويعتبر من الثلث في الصحة والمرض، لما
روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المدبر من
الثلث، ولأنه تبرع يتنجز بالموت فاعتبر من الثلث كالوصية، فإن دبر عبدا
وأوصى بعتق آخر وعجز لثلث عنهما أقرع بينهما. ومن أصحابنا من قال فيه قول
آخر أنه يقدم المدبر لأنه يعتق بالموت والموصى بعتقه لا يعتق بالموت والصحيح
هو الأول لان لزومهما بالموت فاستويا
(فصل) ويصح من السفيه لأنه إنما منع من التصرف حتى لا يضيع ماله
فيفتقر وبالتدبير لا يضيع ماله لأنه باق على ملكه، وإن مات استغنى عن المال
وحصل له الثواب، وهل يصح من الصبي المميز، فيه قولان (أحدهما أنه يصح
لما ذكرناه في السفيه (والثاني) لا يصح وهو الصحيح لأنه ليس من أهل العقود
فلم يصح تدبيره كالمجنون
(فصل) والتدبير هو أن يقول إن مت فأنت حر، فإن قال دبرتك أو أنت
مدبر ونوى العتق صح، وإن لم ينو فالمنصوص في المدبر أنه يصح. وقال في
المكاتب إذا قال كاتبتك على كذا وكذا لم يصح حتى يقول فإذا أديت فأنت حر
فمن أصحابنا من نقل جوابه في المدبر إلى المكاتب وجوابه في المكاتب إلى المدبر
وجعلهما على قولين (أحدهما) أنهما صريحان لأنهما موضوعان للعتق في عرف
الشرع (والثاني) أنهما كنايتان فلا يقع العتق بهما إلا بقرينة أو نية لأنهما
يستعملان في العتق وغيره، ومنهم من قال في المدبر صريح وفي المكاتب كناية،
ولم يذكر فرقا يعتمد عليه.
(فصل) ويجوز مطلقا وهو أن يقول: إن مت فأنت حر، ويجوز مقيدا
وهو أن يقول: إن مت من هذا المرض أو في هذا البلد فأنت حر، لأنه عتق
معلق على صفة فجاز مطلقا ومقيدا كالعتق المعلق على دخول الدار، ويجوز
تعليقه على شرط، بأن يقول إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتى، كما يجوز أن
يعلق العتق المعلق على دخول الدار بشرط قبله، فإن وجد الشرط صار مدبرا،
13

وان لم يوجد الشرط حتى مات السيد لم يصر مدبرا لأنه علق التدبير على صفة،
وقد بطلت الصفة بالموت فسقط ما علق عليه.
(فصل) ويجوز تدبير المعتق بصفة كما يجوز أن يعلق عتقه على صفة أخرى
فإن وجدت الصفة قبل الموت عتق بالصفة وبطل التدبير به، وإن مات قبل
وجود الصفة عتق بالتدبير وبطل العتق بالصفة، ويجوز تدبير المكاتب كما يجوز
أن يعلق عتقه على صفة، فإذا دبره صار مكاتبا مدبرا ويستحق العتق بالكتابة
والتدبير، فإن أدى المال قبل الموت عتق بالكتابة وبطل التدبير، وإن مات قبل
الأداء فإن كان يخرج من الثلث عتق بالتدبير وبطلت الكتابة، وإن لم يخرج جميعه
عتق منه بقدر الثلث ويسقط من مال الكتابة بقدره وبقى الباقي على الكتابة،
ولا يجوز تدبير أم الولد، لان الذي يقتضيه التدبير هو العتق بالموت، وقد
استحقت ذلك بالاستيلاد فلم يفد التدبير شيئا، فإذا برها ومات عتقت بالاستيلاد
من رأس المال.
(فصل) ويجوز تدبير الحمل كما يجوز في بعض عبد كما يجوز عتقه، ويجوز
في العتق، فإن كان بين رجلين عبد فدبر أحدهما نصيبه وهو موسر فهل يقوم
عليه نصيب شريكه ليصير الجميع مدبرا، فيه قولان
(أحدهما) يقوم عليه لأنه أثبت له شيئا يفضى إلى العتق لا محالة فأوجب
التقويم كما لو استولد جاريه بينه وبين غيره
(والثاني) وهو المنصوص أنه لا يقوم عليه لان التقويم إنما يجب
بالاتلاف كالعتق أو بسبب يوجب الاتلاف كالاستيلاد والتدبير ليس باتلاف
ولا سبب يوجب الاتلاف لأنه يمكن نقضه بالتصرف فلم يوجب التقويم، فإن كان
له عبد فدبر بعضه فالمنصوص أنه لا يسرى إلى الباقي
ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر أنه يسرى فيصير الجميع مدبرا، ووجههما
ما ذكرناه في المسألة قبلها، فإن كان عبد بين اثنين فدبراه فأن قال كل واحد
منهما إذا مت فأنت حر جاز، كما لو أعتقاه، فان أعتق أحدهما نصيبه بعد التدبير
وهو موسر فهو يقوم عليه نصيب شريكه ليعتق، فيه قولان منصوصان:
14

(أحدهما) لا يقوم عليه لان لنصيب شريكه جهة يعتق بها فاستغنى عن التقويم ولأنا إذا قومناه على المعتق أبطلنا على شريكه ما ثبت له من العتق والولاء
بحكم التدبير.
(والثاني) يقوم عليه ليصير الكل حرا لان المدبر كالقن في الملك والتصرف
فكان كالقن في التقويم والسراية، فإن كان بين نفسين عبد فقالا إذا متنا فأنت حر
لم يعتق حصة واحد منهما إلا بموته وموت شريكه، فان ماتا معا عتق عليهما
بوجود الصفة فان مات أحدهما قبل الآخر انتقل نصيب الميت إلى وارثه ووقف
عنقه على موت الاخر فإذا مات الاخر عتق، فان قالا: أنت حبيس على آخرنا
موتا فالحكم فيها كالحكم في المسألة قبلها إلا في فصل واحد وهو أن في المسألة
الأولى إذا مات أحدهما انتقل نصيب الميت إلى وارثه إلى أن يموت الاخر وفي
هذه إذا مات أحدهما كان منفعة نصيبه موصى بها للآخر إلى أن يموت لقوله
أنت حبيس على آخرنا موتا فإذا مات الاخر عتق.
(فصل) ويملك المولى بيع المدبر، لما روى جابر رضي الله عنه أن رجلا
أعتق غلاما له عن دبر منه ولم يكن له مال غيره فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم
فبيع بسبعمائة أو بتسعمائة ويملك هبته ووقفه وكتابته قياسا على البيع ويملك
أكسابه ومنافعه وأرش ما يجنى عليه لأنه لما كان كالعبد القن في التصرف في الرقية
كان كالقن فيما ذكرناه، وان جنى خطا تعلق الأرش برقبته وهو بالخيار بين أن
يسلمه للبيع وبين أن يفديه كما يفدى العبد القن لأنه كالقن في جواز بيعه فكان
كالقن في جواز التسليم للبيع والفداء، وان مات السيد قبل أن يفديه.
فإن قلنا: لا يجوز عتق الجاني لم يعتق وللوارث الخيار بين التسليم للبيع وبين
الفداء كالسيد في حياته. وان قلنا: يجوز عتق الجاني عتق من الثلث ووجب
أرش الجناية من التركة لأنه عتق بسبب من جهته فتعلق الأرش بتركته ولا يجب
إلا أقل الأمرين من قيمته أو أرش الجناية لأنه لا يمكن تسليمه للبيع بعد العتق
(فصل) وإن كان المدبر جارية فأتت بولد من النكاح أو الزنا فهل يتبعها
في التدبير فيه قولان.
15

(أحدهما) يتبعها لأنها تستحق الحرية فتبعها الولد كأم الولد، فعلى هذا ان
ماتت الام في حياة المولى لم يبطل التدبير في الوالد.
(والثاني) لا يتبعها لأنه عقد يلحقه الفسخ فلم يسر إلى الولد كالرهن والوصية
وان دبرها وهي حامل تبعها الولد قولا واحدا كما يتبعها في العتق، وان دبر عبدا
ثم ملكه جارية فأتت منه بولد لحقه نسبه لأنه يملكها في أحد القولين وله فيها
شبهة في القول الثاني لاختلاف الناس في ملكه.
(فإن قلنا) لا يملك الجارية فالولد مملوك للمولى لأنه ولد أمته (وان قلنا)
يملكها فالولد ابن المدبر ومملوكه لأنه من أمته وهل يكون مدبرا فيه وجهان.
أحدهما: أنه ليس بمدبر لان الولد إنما يتبع الام دون الأب والام غير مدبرة،
والثاني: أنه مدبر لأنها علقت به في ملكه فكان كالأب كولد الحر من أمته.
(فصل) ويجوز الرجوع في التدبير بما يزيل الملك كالبيع والهبة المقبوضة
لما رويناه من حديث جابر رضي الله عنه وهل يجوز بلفظ الفسخ كقوله: فسخت
ونقضت ورجعت. فيه قولان
أحدهما: أنه يجرى مجرى الوصية فيجوز له فسخه بلفظ الفسخ وهو اختيار
المزني لأنه تصرف يتنجز بالموت يعتبره من الثلث فهو كالوصية.
والثاني: أنه يجرى مجرى العتق بالصفة فلا يجوز فسخه بلفظ الفسخ هو
الصحيح لأنه عتق علقه على صفة فهو كالعتق بالصفات، وان وهبه ولم يقبضه
فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: إن قلنا: إنه كالوصية فهو رجوع،
وان قلنا: إنه كالعتق بالصفة فليس برجوع لأنه لم يزل الملك. ومنهم من قال:
هو رجوع على القولين لأنه تصرف يفضى إلى زوال الملك وان كاتبه، فان قلنا إن
التدبير كالوصية كان رجوعا كما لو أوصى بعبد ثم كاتبه، وان قلنا أنه كالعتق
بالصفة لم يكن رجوعا بل يصير مدبرا مكاتبا وحكمه ما ذكرناه فيمن دبر مكاتبا،
وان دبره ثم قال إن أديت إلى وارثي ألفا فأنت حر.
(فان قلنا) انه كالوصية كان ذلك رجوعا في التدبير لأنه عدل عن العتق
بالموت إلى العتق بأداء المال فبطل التدبير ويتعلق العتق بالأداء. وان قلنا: إنه
16

كالعتق بالصفة وخرج من الثلث عتق بالتدبير وسقط حكم الأداء بعده لأنه علق
عنقه بصفة متقدمة ثم علقه بصفة متأخرة فعتق بأسبقهما وأسبقهما الموت فعتق
به وإن دبر جارية ثم أولدها بطل التدبير لان العتق بالتدبير والاستيلاد في وقت
واحد والاستيلاد أقوى فاسقط التدبير.
(فصل) ويجوز الرجوع في تدبير البعض كما يجوز التدبير في الابتداء في
البعض، وان دبر جارية فأتت بولد من نكاح أو زنا وقلنا إنه يتبعها في التدبير
ورجع في تدبير الام لم يتبعها الولد في الرجوع وان يتبعها في التدبير كما أن ولد أم
الولد يتبعها حق الحرية ثم لا يتبعها في بطلان حقها من الحرية بموتها، وان دبرها
الصبي وقلنا إنه يصح تدبيره، فان قلنا: يجوز الرجوع بلفظ الفسخ جاز رجوعه
لأنه لا حجر عليه في التدبير فجاز رجوعه فيه كالبالغ، وإن قلنا: لا يجوز
الرجوع الا بتصرف يزيل الملك لم يصح الرجوع في تدبيره الا بتصرف يزيل
الملك من جهة أولى.
(فصل) وان دبر عبده ثم ارتد فقد قال أبو إسحاق لا يبطل التدبير، فان
مات عنق العبد لأنه تصرف نفذ قبل الرد فلم تؤثر الردة فيه كما لو باع ماله ثم
ارتد، ومن أصحابنا من قال: يبطل التدبير لان المدبر إنما يعتق إذا حصل للورثة
شئ مثلاه وها هنا لم يحصل للورثة شئ فلم يعتق.
ومنهم من قال: يبنى على الأقوال في ملكه، فان قلنا: يزول ملكه بالردة
بطل لأنه زال ملكه فيه فأشبه إذا باعه، وان قلنا لا يزول لم يبطل كما لو لم يدبر
وإن فلنا: موقوف فالتدبير موقوف وما قال أبو إسحاق غير صحيح لأنه ارتد
والمدبر على ملكه فزال بالردة بخلاف ما لو باعه قبل الردة وما قال الآخر لا يصح
لان ماله بالموت صار للمسلمين وقد حصل لهم مثلاه.
(فصل) وان دبر الكافر عبدا كافرا ثم أسلم العبد ولم يرجع السيد في
التدبير ففيه قولان.
أحدهما: يباع عليه وهو اختيار المزني لأنه يجوز بيعه فبيع عليه كالعبد القن
والثاني: لا يباع عليه وهو الصحيح لأنه لاحظ للعبد في بيعه لأنه يبطل به
17

حقه من الحرية فعلى هذا هو بالخيار بين أن يسلمه إلى مسلم وينفق عليه إلى أن
يرجع في التدبير فيباع عليه أو يموت فيعتق عليه وبين أن يخارجه على شئ
لأنه لا سبيل إلى افراره في يده فلم يجز إلا ما ذكرناه، فإن مات السيد
وخرج من الثلث عتق، وإن لم يخرج عتق منه بقدر الثلث وبيع الباقي على
الورثة لأنه صار قنا.
(فصل) وان اختلف السيد والعبد فادعى العبد أنه دبره وأنكر السيد،
فان قلنا إن التدبير كالعتق بالصفة صح الاختلاف لأنه لا يمكن الرجوع فيه،
والقول قول السيد لان الأصل أنه لم يدبر.
وان قلنا: إنه كالوصية ففيه وجهان، أحدهما: أن القول قول السيد لان
جحوده رجوع وهو يملك الرجوع، والثاني أنه ليس برجوع وهو المذهب لأنه
قال في الدعوى والبينات إذا أنكر السيد قلنا له قل رجعت ولا يحتاج إلى اليمين
فدل على أن جحوده ليس برجوع، والدليل عليه أن جحود الشئ ليس برجوع
كما أن جحود النكاح ليس بطلاق فعلى هذا يصح الاختلاف والحكم فيه كالحكم
فيه إذا قلنا إنه عتق بالصفة، وان مات السيد واختلف العبد والوارث صح
الاختلاف على القولين والقول قول الوارث، وإن كان في يده مال فقال كسبته
بعد العتق، وقال الوارث بل كسبته قبل العتق قالقول قول المدبر لان الأصل
عدم الكسب الا في الوقت الذي وجد فيه وقد وجد وهو في يد المدبر فكان له،
وإن كان أمة ومعها ولد فادعت أنها ولدته بعد التدبير. وقال الوارث بل ولدته
قبل التدبير فالقول قول الوارث لان الأصل في الولد الرق.
(فصل) ويجوز تعليق العتق على صفة مثل أن يقول إن دخلت الدار
فأنت حر، وان أعطيتني ألفا فأنت حر لأنه عتق على صفة فجاز كالتدبير، فان
قال ذلك في المرض اعتبر من الثلث، لأنه لو أعتقه اعتبر من الثلث، فإذا عقده
اعتبر من الثلث، وان قال ذلك وهو صحيح اعتبر من رأس المال سواء وجدت
الصفة وهو صحيح أو وجدت وهو مريض لان العتق إنما يعتبر من الثلث في حال
المرض لأنه قصد إلى الاضرار بالورثة في حال يتعلق حقهم بالمال وههنا لم يقصد
إلى ذلك، فان علق العتق على صفة مطلقة ثم مات بطل لان تصرف الانسان
18

مقصور على حال الحياة فحمل إطلاق الصفة عليه، وأن علق عتقه على صفة بعد
الموت لم يبطل بالموت لأنه يملك العتق بعد الموت في الثلث فملك عقده على
صفة بعد الموت.
(فصل) وإن علق عتق أمة على صفة ثم أتت بولد من النكاح أو الزنا فهل
يتبعها الولد فيه قولان كما قلنا في المدبرة، فان بطلت الصفة في الام بموتها أو بموته
بطلت في الولد لان الولد يتبعها في العتق لا في الصفة بخلاف ولد المدبرة فإنه
يتبعها في التدبير فإذا بطل فيها بقي فيه، وإن قال لامته أنت حرة بعد موتى بسنة
فمات السيد وهي تخرج من الثلث، فللوارث أن يتصرف في كسبها ومنفعتها
ولا يتصرف في رقبتها لأنها موقوفة على العتق، فان أتت بولد بعد موت السيد
فقد قال الشافعي رحمه الله يتبعها الولد قولا واحدا، فمن أصحابنا من قال فيه قولان
كالولد الذي تأنى به قبل الموت والذي قاله الشافعي رحمه الله أحد القولين، ومنهم
من قال يتبعها الولد قولا واحدا لأنها أتت به، وقد استقر عتقها بالموت فيتبعها
الولد كأم الولد بخلاف ما قبل الموت فان عتقها غير مستقر لأنه يلحقه الفسخ.
(فصل) وان علق عتق عبده على صفة لم يملك الرجوع فيها بالقول لأنه
كاليمين أو كالنذر والرجوع في الجميع لا يجوز، ويجوز الرجوع فيه بما يزيل الملك
كالبيع وغيره، فان علق عتقه على صفة ثم باعه ثم رجع إليه فهل يعود حكم الصفة
فيه قولان بناء على القولين فيمن علق طلاق امرأته على صفة وبانت منه ثم
تزوجها، وإن دبر عبده ثم باعه ثم رجع إليه، فان قلنا: إن التدبير كالوصية لم
يرجع لان الوصية إذا بطلت لم تعد، وان قلنا إنه كالعتق بصفة فهل يعود أم لا
على ما ذكرناه من القولين.
19

كتاب المكاتب
الكتابة جائرة لقوله تعالى (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم
فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) ولا تجوز الكتابة إلا من جائز التصرف في المال
لأنه عقد على المال فلم يجز إلا من جائز التصرف في المال كالبيع، ولا يجوز أن
يكاتب عبد أجيرا لان الكتابة تقتضي التمكين من التصرف والإجارة تمنع من
ذلك، ولا يجوز أن يكاتب عبدا مرهونا لان الرهن يقتضى البيع والكتابة تمنع
البيع، وتجوز كتابة المدبر وأم الولد لأنه عتق بصفة يجوز ان تتقدم على الموت
فجاز في المدبر وأم الولد كالعتق المعلق على دخول الدار، فإن كتب مدبرا صار
مكاتبا ومدبرا، وقد بينا حكمه في المدبر، وان كاتب أم ولد صارت مكاتبة وأم
ولد فان أرت المال قبل موت السيد عتقت بالكتابة، وان مات السيد قبل الأداء
عتقت بالاستيلاد وبطلت الكتابة.
(فصل) وتجوز كتابة بعض العبد إذا كان باقيه حرا لأنه كتابة على جميع
ما فيه من الرق فأشبه كتابة العبد في جميعه، وإن كان عبد بين اثنين فكاتبه
أحدهما في نصيبه بغير إذن شريكه لم يصح لأنه لا يعطى من الصدقات ولا يمكنه
الشريك من الاكتساب بالاسفار، وان كاتبه باذن شريكه ففيه قولان.
(أحدهما) لا يصح لما ذكرناه من نقصان كسبه.
(والثاني) يصح لان المنع لحق الشريك فزال بالاذن، وإن كان لرجل عبد
فكاتبه في بعضه فالمنصوص انه لا يصح، واختلف أصحابنا فيه فذهب أكثرهم
إلى أنه لا يصح قولا واحدا كما لا يصح أن يبعض العتق فيه، ومنهم من قال:
إذا قلنا إنه يصح أن يكاتب نصيبه في العبد المشترك باذن الشريك صح ههنا لان
اتفاقهما على كتابة البعض كاتفاق الشريكين، فإن وصى رجل بكتابة عبد وعجز
الثلث عن جميعه فالمنصوص أنه يكاتب القدر الذي يحتمله الثلث، فمن أصحابنا من
جعل في الجميع قولين
ومنهم من قال: يصح في الوصية، وقد فرق بينه وبين العبد المشترك بأن
20

الكتابة في العبد المشترك غير مستحقة في جميعه والكتابة في الوصية استحقت في جميعه فإذا تعذرت في البعض لم تسقط في الباقي.
(فصل) وان طلب العبد الكتابة نظرت فإن كان له كسب وأمانة استحب
أن يكاتب لقوله عز وجل (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم
إن علمتم فيهم خيرا) وقد فسر الخبر بالكسب والأمانة، ولان المقصود بالكتابة
العتق على مال، وبالكسب والأمانة يتوصل إليه، ولا يجب ذلك لأنه عتق فلا
يجب بطلب العبد كالعتق في غير الكتابة.
وإن لم يكن له كسب ولا أمانه أو له كسب بلا أمانه لم تستحب لأنه لا يحصل
المقصود بكتابته ولا تكره لأنه سبب للعتق من غير اضرار فلم تكره. وإن كان
له أمانة بلا كسب ففيه وجهان
. (أحدهما) انه لا تستحب لان مع عدم الكسب يتعذر الأداء فلا يحصل
المقصود (والثاني) تستحب لان الأمين يعان ويعطى من الصدقات، وان طلب
السيد الكتابة فكره العبد لم يجبر عليه، لأنه عتق على مال فلا يجبر العبد عليه
كالعتق على مال في غير الكتابة.
(فصل) ولا يجوز الا بعوض مؤجل لأنه إذا كاتبه على عوض حال لم
يقدر على أدائه فينفسخ العقد ويبطل المقصود، ولا يجوز على أقل من نجمين،
لما روى عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أنه غضب على عبد له وقال:
لأعاقبنك ولأكتبنك على نجمين، فدل على أنه لا يجوز على أقل من ذلك.
وعن علي كرم الله وجهه أنه قال: الكتابة على نجمين والايتاء من الثاني، ولا
يجوز الا على نجمين معلومين، وأن يكون ما يؤدى في كل نجم معلوما لأنه
عوض منجم في عقد، فوجب العلم بمقدار النجم ومقدار ما يؤديه فيه كالسلم
إلى أجلين.
(فصل) ولا يجوز الا على عوض معلوم الصفة، لأنه عوض في الذمة
فوجب العلم بصفته كالمسلم فيه.
(فصل) وتجوز الكتابة على المنافع، لأنه يجوز أن تثبت في الذمة بالعقد
21

فجاز الكتابة عليها كالمال فان كاتبه على عملين في الذمة في نجمين جاز كما يجوز على
مالين في نجمين، وان كاتبه على خدمة شهرين لم يجز لان ذلك نجم واحد، وان
كاتبه على خدمة شهر ثم على خدمة شهر بعده لم يجز لأن العقد في الشهر الثاني على
منفعة معينة في زمان مستقبل فلم يجز كما لو استأجره للخدمة في شهر مستقبل.
وان كاتبه على دينار وخدمة شهر بعده لم يجز لأنه لا يقدر على تسليم الدينار في
الحال، وان كاتبه على خدمة شهر ودينار في نجم بعده جاز لأنه يقدر على تسليم
الخدمة فهو مع الدينار كالمالين في نجمين، وإن كاتبه على خدمة شهر ودينار بعد
انقضاء الشهر فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق لا يجوز لأنه إذا لم يفصل
بينهما صارا نجما واحدا. ومنهم من قال يجوز لأنه يستحق الدينار في غير الوقت
الذي يستحق فيه الخدمة وإنما يتصل استيفاؤهما. فعلى هذا لو كاتبه على خدمة
شهر ودينار في نصف الشهر جاز لأنه يستحق الدينار في غير الوقت الذي
يستحق فيه الخدمة.
(فصل) وان كاتب رجلان عبدا بينهما على مال بينهما على قدر الملكين
وعلى نجوم واحدة جاز، وان تفاضلا في المال مع تساوى الملكين أو تساويا في
المال مع تفاضل الملكين، أو على أن نجوم أحدهما أكثر من نجوم الآخر أو على
أن نجم أحدهما أطول من نجم الآخر ففيه طريقان، من أصحابنا من قال يبنى
على القولين فيمن كاتب نصيبه من العبد بإذن شريكه، فإن قلنا يجوز جاز، وان
قلنا لا يجوز لم يجز لان اتفاقهما على الكتابة، ككتابة أحدهما في نصيبه بإذن
الآخر. وعلى هذا يدل قول الشافعي رحمه الله تعالى فإنه قال في الام: ولو أجزت
لأجزت أن ينفرد أحدهما بكتابة نصيبه، فدل على أنه إذا جاز ذلك هذا،
وان لم يجز ذلك لم يجز هذا.
ومنهم من قال لا يصح قولا واحدا لأنه يؤدى إلى أن ينتفع أحدهما بحق
شريكه من الكسب لأنه يأخذ أكثر مما يستحق وربما عجز المكاتب فيرجع على
شريكه بالفاضل بعدما انتفع به.
(فصل) ولا يصح على شرط فاسد لأنه معاوضة يلحقها الفسخ فبطلت
22

بالشرط الفاسد كالبيع، ولا يجوز تعليقها على شرط مستقبل، لأنه عقد يبطل
بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع.
(فصل) وإذا انعقد العقد لم يملك المولى فسخه قبل العجز لأنه أسقط
حقه منه بالعوض فلم يملك فسخه قبل العجز عن العوض كالبيع، ويجوز للعبد
أن يمتنع من أداء المال لان ما لا يلزمه إذا لم يجعل شرطا في عتقه لم يلزمه إذا جعل
شرطا في عتقه كالنوافل، وهل يملك أن يفسخ، فيه وجهان من أصحابنا من قال
لا يملك لأنه لا ضرر عليه في البقاء على العقد ولا فائدة له في الفسخ فلم يملكه،
ومنهم من قال له أن يفسخ لأنه عقد لحظه فملك أن ينفرد بالفسخ كالمرتهن، فان
مات المولى لم يبطل العقد لأنه لازم من جهته فلم يبطل بالموت كالبيع، وينتقل
المكاتب إلى الوارث لأنه مملوك لا يبطل رقه بموت الموالي فانتقل إلى وارثه
كالعبد القن وان مات العبد بطل العقد لأنه فات المعقود عليه قبل التسليم فبطل
العقد كالمبيع إذا تلف قبل القبض ولا يجوز شرط الخيار فيه، لان الخيار لدفع
الغبن عن المال والسيد يعلم أنه مغبون من جهة المملوك لأنه يبيع ماله بماله
والعبد مخير بين أن يدفع المال وبين أن لا يدفع فلا معنى لشرط الخيار، فان اتفقا
على الفسخ جاز، لأنه عقد يلحقه الفسخ بالعجز عن المال، فجاز فسخه
بالتراضي كالبيع.
(باب ما يملكه المكاتب وما لا يملكه)
ويملك المكاتب بالعقد اكتساب المال بالبيع والإجارة والصدقة والهبة
والاخذ بالشفعة والاحتشاش والاصطياد وأخذ المباحات، وهو مع المولى
كالأجنبي مع الأجنبي في ضمان المال وبذل المنافع وأرش الأطراف لأنه صار بما
بذله له من العوض عن رقبته كالخارج عن ملكه ويملك التصرف في المال بما يعود
إلى مصلحته ومصلحة ماله، فيجوز أن ينفق على نفسه لان ذلك من أهم المصالح
وله أن يفدى في حياته نفسه أو رقيقه لان له فيه مصلحة، وله أن يختن غلامه
يؤدبه لأنه اصلاح للمال. وأما الحد فالمنصوص أنه لا يملك اقامته لان طريقه
الولاية والمكاتب ليس من أهل الولاية
23

ومن أصحابنا من قال: له أن يقيم الحد كما يملك الحر في عبده وله أن يقتص
في الجناية عليه وعلى رقيقه. وذكر الربيع قولا آخر أنه لا يقتص من غير اذن
المولى ووجهه أنه ربما عجز فيصير ذلك السيد فيكون قد أتلف الأرش الذي كان
للسيد أن يأخذه لو لم يقتص منه. قال أصحابنا: هذا القول من تخريج الربيع،
والمذهب أنه يجوز أن يقتص لان فيه مصلحة له.
(فصل) وإن كان المكاتب جارية فوطئها المولى وجب عليه المهر ولها أن
تطالب به لتستعين به على الكتابة لأنه يجرى مجرى الكسب وان أذهب بكارتها
لزمه الأرش لأنه اتلاف جزء لا يستحقه فضمن بدله كقطع الطرف وإن أتت
منه بولد صارت مكاتبة وأم ولد، وقد بينا حكمهما في أول الباب، وإن كانت
مكاتبة بين اثنين فأولدها أحدهما نظرت، فإن كان معسرا صار نصيبه أم ولد،
وفي الولد وجهان
(أحدهما) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة: أن الولد ينعقد جميعه حرا
ويثبت للشريك في ذمة الوطئ نصف قيمته لأنه يستحيل أن ينعقد نصف
الولد حرا ونصفه عبدا.
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق: ان نصفه حر ونصفه مملوك، وهو الصحيح
اعتبارا بقدر ما يملك منها ولا يمتنع أن ينعقد نصفه حرا ونصفه عبدا كالمرأة إذا
كان نصفها حرا ونصفها مملوكا فأتت بولد فان نصفه حرا ونصفه عبد، وإن كان
موسرا فالولد حر وصار نصيبه من الجارية أم ولد، ويقوم على الواطئ نصيب
شريكه وهل يقوم في الحال فيه طريقان من أصحابنا من قال: فيه قولان.
(أحدهما) يقوم في الحال، فإذا قوم انفسخت الكتابة وصار جميعها أم ولد
للواطئ ونصفها مكاتبا له فإن أدت المال عتق نصفها وسرى إلى باقيها.
(والقول الثاني) أنه يؤخر التقويم إلى العجز، فإن أدت ما عليها عتقت
عليها بالكتابة، وإن عجزت قوم على الواطئ نصيب شريكه وصار الجميع أم ولد
وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا يقوم في الاستيلاد نصيب الشريك في الحال
قولا واحدا، بل يؤخر إلى أن تعجز لان العتق فيه حظ للعبد لأنه يتعجل له
الحرية في الباقي ولاحظ لها في التقويم في الاستيلاد بل الحظ في التأخير لأنه
24

إذا أخر ربما أدت المال فعتقت وإذا قوم في الحال صارت أم الولد ولا تعتق إلا
بالموت، والصحيح هو الأول وأنه على قولين كالعتق لان الاستيلاد كالعتق بل
هو أقوى لأنه يصح من المجنون والعتق لا يصح منه فإذا كان في التقويم في العتق
قولان وجب أن يكون في الاستيلاد مثلاه.
(فصل) وان أتت المكاتبة بولد من نكاح أو زنا ففيه قولان (أحدهما)
أنه موقوف، فان رقت الام رق، وإن عتقت عتق لان الكتابة سبب يستحق به
العتق فيتبع الولد الام فيه كالاستيلاد (والثاني) أنه مملوك يتصرف فيه لأنه عقد
يلحقه الفسخ فلم يسر إلى الولد كالرهن.
(فإن قلنا) انه للمولى كان حكمه حكم العبد القن في الجناية والكسب والنفقة
والوطئ (وان قلنا) انه موقوف فقتل ففي قيمته قولان. أحدهما: أنها لامه
تستعين بها في الكتابة لان القصد بالكتابة طلب حظها والثاني: أنها للمولى
لأنه تابع للام وقيمة الام للمولى فكذلك قيمة ولدها، فان كسب الولد مالا
ففيه قولان.
(أحدهما) أنه للام لأنه تابع لها في حكمها فكسبها لها فكذلك كسب ولدها
(والثاني) أنه موقوف لان الكسب نماء الذات وذاته موقوفة فكذلك كسبه
فعلى هذا يجمع الكسب، فإن عتق ملك الكسب كما تملك الام كسبها إذا عتقت
وان رق بعجز الام صار الكسب للمولى، فمن أصحابنا من خرج فيه قولا ثالثا أنه
للمولى كما قلنا في قيمته في أحد القولين، وان أشرفت الام على العجز وكان في
كسب الولد وفاء بمال الكتابة ففيه قولان.
(أحدهما) أنه ليس للام أن تستعين به على الأداء لأنه موقوف على السيد
أو الولد فلم يكن للام فيه حق.
(والثاني) أن لها أن تأخذه وتؤديه لأنها إذا أدت عتقت وعتق الولد فكان
ذلك أحظ للولد من أن ترق ويأخذه المولى، فإن احتاج الولد إلى النفقة ولم يكن
في كسبه ما يفي.
فإن قلنا: إن الكسب للمولى فالنفقة عليه، وان قلنا: إنه للام فالنفقة عليها
وإن قلنا: إنه موقوف ففي النفقة وجهان (أحدهما) انها على المولى لأنه مرصد
25

لملكه (والثاني) أنها في بيت المال لان المولى لا يملكه فلم يبق إلا بيت المال،
وإن كان الولد جارية فوطئها المولى، فإن قلنا: إن كسبه له لم يجب عليه المهر
لأنه لو وجب لكان له، وإن قلنا: إنه للام فالمهر لها، وإن قلنا: إنه موقوف
وقف المهر، وإن أحبلها صارت أم ولد له بشبهة الملك ولا تلزمه قيمتها، لان
القيمة تجب لمن يملكها والام لا تملك رقبتها وإنما هي موقوفة عليها.
(فصل) وإن حبس السيد المكاتب مدة ففيه قولان (أحدهما) يلزمه
تخليته في مثل تلك المدة لأنه دخل في العقد على التمكين من التصرف في المدة
فلزمه الوفاء به (والثاني) تلزمه أجرة المثل للمدة التي حبسه فيها وهو الصحيح
لان المنافع لا تضمن بالمثل، وإنما تضمن بالأجرة، وإن قهر أهل الحرب
المكاتب على نفسه مدة ثم أفلت من أيديهم ففيه قولان.
(أحدهما) لا تجب تخليته في مثل المدة لأنه لم يكن الحبس من جهته.
(والثاني) تجب لأنه فات ما استحقه بالعقد، ولا فرق بين أن يكون بتفريط
أو غير تفريط كالبيع إذا هلك في يد البائع، ولا يجئ ههنا ايجاب الأجرة على
المولى لأنه لم يكن الحبس من جهته فلا تلزمه أجرته.
(فصل) ولا يملك المكاتب التصرف الا على وجه النظر والاحتياط لان
حق المولى يتعلق باكتسابه، فإن أراد أن يسافر فقد قال في الام: يجوز. وقال
في الأمالي: لا يجوز بغير اذن المولى، فمن أصحابنا من قال: فيه قولان (أحدهما)
لا يجوز لان فيه تغريرا (والثاني) يجوز لأنه من أسباب الكسب، ومنهم من
قال: إن كان السفر طويلا لم يجز، وإن كان قصيرا جاز، وحمل القولين على
هذين الحالين، والصحيح هو الطريق الأول.
(فصل) ولا يجوز أن يبيع نسيئة، وإن كان بأضعاف الثمن ولا على أن
يأخذ بالثمن رهنا أو ضمينا لأنه يخرج المال من يده من غير عوض والرهن قد
يتلف والضمين قد يفلس وان باع ما يساوى مائه بمائة نقدا وعشرين نسيئة جاز
لأنه لا ضرر فيه، ولا يجوز أن يقرض ولا يضارب ولا يرهن لأنه اخراج
مال بغير عوض.
26

(فصل) ولا يجوز أن يشترى من يعتق عليه لأنه يخرج ما لا يملك
التصرف فيه بمال لا يملك التصرف فيه، وفي ذلك ا ضرار، وان وصى له بمن
يعتق عليه، فإن لم يكن له كسب لم يجز قبوله لأنه يحتاج أن ينفق عليه وفي ذلك
إضرار، وإن كان له كسب جاز قبوله لأنه لا ضرر فيه، فان قبله ثم صار زمنا
لا كسب له فله أن ينفق عليه لان فيه إصلاحا لماله.
(فصل) ولا يعتق ولا يكاتب ولا يهب ولا يحابى ولا يبرئ من الدين
ولا يكفر بالمال ولا ينفق على أقاربه الأحرار ولا يسرف في نفقة نفسه، وإن
كان له أمة مزوجة لم تبذل العوض في الخلع لان ذلك كله استهلاك للمال، وإن
كان عليه دين مؤجل لم يملك تعجيله لأنه يقطع التصرف فيما يعجله من المال من
غير حاجة، وإن كان مكاتبا بين نفسين لم يجز ان يقدم حق أحدهما لان ما يقدمه
من ذلك يتعلق به حقهما فلا يجوز أن يخص به أحدهما، وإن أقر بجناية خطا،
ففيه قولان.
أحدهما: يقبل لأنه اقرار بالمال فقبل كما لو أقر بدين معاملة.
والثاني: لا يقبل لأنه يخرج به الكسب من غير عوض فبطل كالهبة، وان
جنى هو أو عبد له يملك بيعه على أجنبي لم يجز أن يفديه بأكثر من قيمته لان
الفداء كالابتياع فلا يجوز بأكثر من القيمة، وإن كان عبدا لا يملك بيعه كالأب
والابن لم يجز ان يفديه بشئ قل أو كثر لأنه يخرج ما يملك التصرف فيه لاستبقاء
ما لا يملك التصرف فيه.
(فصل) وان فعل ذلك كله بإذن المولى ففيه قولان، أحدهما: لا يصح
لان المولى لا يملك ما في يده والمكاتب لا يملك ذلك بنفسه فلا يصح باجتماعهما
كالأخ إذا زوج أخته الصغيرة باذنها، والثاني: أنه يصح وهو الصحيح لان المال
موقوف عليهما، ولا يخرج منهما فصح باجتماعهما كالشريكين في المال المشترك
والراهن والمرتهن في الرهن، وان وهب للمولى أو حاباه أو أقرضه أو ضاربه أو
عجل له ما تأجل من ديونه أو فدى جنايته عليه بأكثر من قيمته، فإن قلنا يصح
للأجنبي بإذن المولى صح، وان قلنا: لا يصح في حق الأجنبي بإذنه لم يصح لان
قبوله كالاذن فان وهب أو أقرض وقلنا أنه لا يصح فله أن يسترجع فإن لم يسترجع
27

حتى عتق لم يسترجع على ظاهر النص، لأنه إنما لم يصح لنقصانه وقد زال ذلك.
ومن أصحابنا من قال له أن يسترجع لأنه قد وقع فاسدا فثبت له الاسترجاع.
(فصل) ولا يتزوج المكاتب إلا بإذن المولى لما روى أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: أيما عبد تزوج بغير اذن مولاه فهو عاهر، ولأنه يلزمه المهر والنفقة
في كسبه، وفي ذلك اضرار بالمولى فلم يجز بغير اذنه، فان أذن له المولى جاز قولا
واحدا للخير، ولان الحاجة تدعو إليه بخلاف الهبة
(فصل) ولا يتسرى بجارية من غير إذن المولى، لأنه ربما أحبلها فتلفت
بالولادة، فان أذن له المولى وقلنا إن العبد يملك ففيه طريقان، من أصحابنا من
قال على قولين كالهبة، ومنهم من قال يجوز قولا واحدا، لأنه ربما دعت الحاجة
إليه فجاز كالنكاح، فان أولدها فالولد ابنه ومملوكه لأنه ولد جاريته وتلزمه نفقته
لأنه مملوكه بخلاف ولد الحرة ولا يعتق عليه لنقصان ملكه، فان أدى المال عتق
معه لأنه كمل ملكه وان رق رق معه
(فصل) ويجب على المولى الايتاء، وهو أن يضع عنه جزأ من المال أو
يدفع إليه جزء من المال، لقوله عز وجل " آتوهم من مال الله الذي آتاكم "
وعن علي كرم الله وجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية: يحط عنه
ربع الكتابة، والوضع أولى من الدفع، لأنه يتحقق الانتفاع به في الكتابة.
واختلف أصحابنا في القدر الواجب، فمنهم من قال ما يقع عليه الاسم من قليل
وكثير، وهو المذهب، لان اسم الايتاء يقع عليه
وقال أبو إسحاق: يختلف باختلاف قلة المال وكثرته، فان اختلفا قدره الحاكم
باجتهاده كما قلنا في المتعة، فان اختار الدفع جاز بعد العقد للآية، وفي وقت
الوجوب وجهان، أحدهما يجب بعد العتق كما تجب المتعة بعد الطلاق، والثاني أنه
يجب قبل العتق لأنه إيتاء وجب للمكاتب فوجب قبل العتق كالايتاء في الزكاة،
ولا يجوز الدفع من غير جنس مال الكتابة لقوله تعالى " وآتوهم من مال الله الذي
آتاكم " فان دفع إليه من جنسه من غير ما أداه إليه ففيه وجهان
(أحدهما) يجوز كما يجوز في الزكاة أن يدفع من غير المال الذي وجب فيه
28

الزكاة (والثاني) لا يجوز وهو الصحيح للآية، وان سبق المكاتب وأدى المال
لزم المولى أن يدفع إليه لأنه مال وجب للآدمي فلم يسقط من غير أداء ولا ابراء
كسائر الديون. وان مات المولى وعليه دين خاص المكاتب أصحاب الديون.
ومن أصحابنا من قال يحاص أصحاب الوصايا لأنه دين ضعيف غير مقدر فسوى
بينه وبين الوصايا، والصحيح هو الأول لأنه دين واجب فحاص به الغرماء
كسائر الديون وبالله التوفيق.
(باب الأداء والعجز)
ولا يعتق المكاتب ولا شئ منه وقد بقي عليه شئ من المال، لما روى عمرو
ابن شعيب رضي الله عنه عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
المكاتب عبد ما بقي عليه من كتابته درهم. ولأنه علق عتقه على دفع مال فلا يعتق
شئ منه مع بقاء جزء منه، كما لو قال لعبده: ان دفعت إلى ألفا فأنت حر، فان
كاتب رجلان عبدا بينهما ثم أعتق أحدهما نصيبه أو أبرأه مما عليه من مال الكتابة
عتق نصيبه لأنه برئ من جميع ماله عليه فعتق، كما لو كاتب عبدا فأبرأه، فإن كان
المعتق موسرا فقد قال أصحابنا يقوم عليه نصيب شريكه كما لو أعتق شركا
له في عبد، وعندي أنه يجب أن يكون على قولين
(أحدهما) يقوم عليه
(والثاني) لا يقوم، كما قلنا في شريكين دبرا عبدا ثم أعتق أحدهما نصيبه
أنه على قولين (أحدهما) يقوم (والثاني) لا يقوم، فإذا قلنا إنه يقوم عليه ففي
وقت التقويم قولان (أحدهما) يقوم في الحال، كما نقول فيمن أعتق شركا له
في عبده (والثاني) يؤخر التقويم إلى أن يعجز، لأنه قد ثبت للشريك حق العتق
والولاء في نصيبه فلا يجوز ابطاله عليه
وان كاتب عنده ومات وخلف اثنين فأبرأه أحدهما عن حصته عتق نصيبه
لأنه أبرأه من جميع ماله عليه، فإن كان الذي أبرأه موسرا فهل يقوم عليه نصيب
شريكه، فيه قولان
(أحدهما) لا يقوم لان سبب العتق وجد من الأب ولهذا يثبت الولاء له
29

(والثاني) يقوم عليه وهو الصحيح لان العتق تعجل بفعله، فعلى هذا هل
يتعجل التقويم والسراية، فيه قولان (أحدهما) يتعجل لأنه عتق يوجب السراية
فتعجلت به، كما لو أعتق شركا له في عبد (والثاني) يؤخر إلى أن يعجز، لان
حق الأب في عتقه وولائه أسبق فلم يجز إبطاله.
وإن كاتب رجلان عبدا بما يجوز وأذن أحدهما للآخر في تعجيل حق شريكه
من المال وقلنا إنه يصح الاذن عتق نصيبه، وهل يقوم عليه نصيب شريكه، فيه
قولان (أحدهما) لا يقوم لتقدم سببه الذي أشركا فيه (والثاني) يقوم لأنه
عتق نصيبه بسبب منه ومتى يقوم؟ فيه قولان
(أحدهما) يقوم في الحال لأنه تعجل عتقه (والثاني) يؤخر إلى أن يعجز
لأنه قد ثبت لشريكه عقد يستحق به العتق والولاء فلم يجز أن يقوم عليه ذلك،
فعلى هذا إن أدى عتق باقيه، وإن عجز قوم على المعتق. وإن مات قبل الأداء
والعجز مات ونصفه حر ونصفه مكاتب
(فصل) وإن حل عليه نجم وعجز عن أداء المال جاز للمولى أن يفسخ العقد
لأنه أسقط حقه بعوض، فإذا تعذر العوض ووجد عين ماله جاز له أن يفسخ
ويرجع إلى عين ماله، كما لو باع سلعة فأفلس المشترى بالثمن ووجد البائع عين
ماله، وإن كان معه ما يؤديه فامتنع من أدائه جاز له الفسخ لان تعذر العوض
بالامتناع كتعذره بالعجز لأنه لا يمكن إجباره على أدائه، وإن عجز عن بعضه
أو امتنع من أداء بعضه جاز له أن يفسخ لأنا بينا أن العتق في الكتابة لا يتبعض
فكان تعذر البعض كتعذر الجميع، ويجوز الفسخ من غير حاكم لأنه مجمع عليه فلم
يفتقر إلى الحاكم كفسخ البيع بالعيب.
(فصل) وإن حل عليه نجم ومعه متاع فاستنطر لبيع المتاع وجب إنظاره
لأنه قادر على أخذ المال من غير إضرار ولا يلزمه أن ينظر أكثر من ثلاثة أيام
لان الثلاثة قليل فلا ضرر عليه في الانتظار وما زاد كثير وفي الانتظار اضرار،
وان طلب الانظار لمال غائب، فإن كان على مال غائب، فإن كان على مسافة
لا تقصر فيها الصلاة وجب انظاره لأنه قريب لا ضرر في أنظاره، وإن كان على
مسافة تقصر فيها الصلاة لم يجب لأنه طويل وفي الانتظار اضرار.
30

وان طلب الانظار لاقتضاء دين فإن كان حالا على ملئ وجب انظاره لأنه
كالعين في يد المودع ولهذا تجب فيه الزكاة، وإن كان مؤجلا أو على معسر لم يجب
الانظار لان عليه أضرارا في الانظار، فان حل عليه المال وهو غائب ففيه
وجهان: أحدهما له أن يفسخ لأنه تعذر المال فجاز له الفسخ. والثاني ليس له
أن يفسخ، بل يرجع إلى الحاكم ليكتب إلى حاكم البلد الذي فيه المكاتب ليطالبه،
فان عجز أو امتنع فسخ لأنه لا يتعذر الأداء الا بذلك فلا يفسخ قبله. وان
حل عليه النجم وهو مجنون، فإن كان معه مال يسلم إلى المولى عتق لأنه قبض
ما يستحقه فبرئت به ذمته، وان لم يكن معه شئ فعجزه المولى وفسخ ثم ظهر له
مال نقض الحكم بالفسخ لأنا حكمنا بالعجز في الظاهر وقد بان خلافه فنقض،
كما لو حكم الحاكم ثم وجد النص بخلافه
وإن كان قد أنفق عليه بعد الفسخ رجع بما أنفق لأنه لم يتبرع بل أنفق على
أنه عبده، فان أفاق بعد الفسخ وأقام البينة أنه كان قد أدى المال نقض الحكم
بالفسخ ولا يرجع المولى بما أنفق عليه بعد الفسخ، لأنه تبرع، لأنه أنفق وهو
يعلم أنه حر.
وان حل النجم فأحضر المال وادعى السيد أنه حرام ولم تكن له بينة فالقول
قول المكاتب مع يمينه لأنه في يده والظاهر أنه له، فان حلف خير المولى بين أن يأخذه وبين أن يبرئه منه، فإن لم يفعل قبض عنه السلطان لأنه حق يدخله
النيابة فإذا امتنع منه قام السلطان مقامه
(فصل)
وان قبض المال وعتق ثم وجد به عيبا فله أن يرد ويطالب
بالبدل، فان رضى به استقر العتق لأنه برئت ذمة العبد. وان رده ارتفع العتق
لأنه يستقر باستقرار الأداء وقد ارتفع الأداء بالرد فارتفع العتق. وان وجد به
العيب وقد حدث به عنده عيب ثبت له الأرش، فان دفع الأرش استقر
العتق وان لم يدفع ارتفع العتق لأنه لم يتم براءة الذمة من المال
31

وان كاتبه على خدمة شهر ودينار ثم مرض بطلت الكتابة في قدر الخدمة،
وفي الباقي طريقان (أحدهما) أنه على قولين (والثاني) أنه يبطل قولا واحدا
بناء على الطريقين فيمن ابتاع عينين ثم تلفت إحداهما قبل القبض.
(فصل) فإن أدى المال وعتق ثم خرج المال مستحقا بطل الحكم بعتقه
لان العتق يقع بالأداء، وقد بان أنه لم يؤد، وإن كان الاستحقاق بعد موت
المكاتب كان ما ترك للمولى دون الورثة لأنا قد حكمنا بأنه مات رقيقا.
(فصل) فان باع المولى ما في ذمة المكاتب، وقلنا إنه لا يصح فقبضه
المشترى فقد قال في موضع يعتق، وقال في موضع لا يعتق، واختلف أصحابنا
فيه، فقال أبو العباس فيه قولان.
(أحدهما) يعتق لأنه قبضه بإذنه فأشبه إذا دفعه إلى وكيله.
(والثاني) وهو الصحيح أنه لا يعتق لأنه لم يقبضه للمولى وإنما قبضه لنفسه
ولم يصح قبضه لنفسه لأنه لم يستحقه فصار كما لو لم يؤخذ، وقال أبو إسحاق: هي
على اختلاف حالين فالذي قال يعتق إذا أمره المكاتب بالدفع إليه لأنه قبضه بإذنه
والذي قال لا يعتق إذا لم يأمره بالدفع إليه لأنه لم يأخذه بإذنه وإنما أخذه بما تضمنه
البيع من الاذن والبيع باطل فبطل ما تضمنه.
(فصل) إذا اجتماع على المكاتب دين الكتابة ودين المعاملة وأرش الجناية
وضاق ما في يده عن الجميع قدم دين المعاملة لأنه يختص بما في يده والسيد والمجني
عليه يرجعان إلى الرقبة، فان فضل عن الدين شئ قدم حق المجني عليه لان حقه
يقدم على حق المالك في العبد القن فكذلك في المكاتب، وان لم يكن له شئ
فأراد صاحب الدين تعجيزه لم يكن له ذلك لان حقه في الذمة فلا فائدة في تعجيزه
بل تركه على الكتابة أنفع له لأنه ربما كسب ما يعطيه وإذا عجزه بقي حقه في الذمة
إلى أن يعتق فان أراد المولى أو المجني عليه تعجيزه كان له ذلك لان المولى يرجع
بالتعجيز إلى رقبته، والمجني عليه يبيعه في الجناية، فان عجزه المولى انفسخت
الكتابة وسقط دينه وهو بالخيار بين أن يسلمه للبيع في الجناية وبين أن يفديه
32

فان عجزه المجني عليه نظرت، فإن كان الأرش يحيط بالثمن بيع وقضى حقه،
وإن كان دون الثمن بيع منه ما يقضى منه الأرش وبقى الباقي على الكتابة، وان
أدى كتابة باقية عتق وهل يقوم الباقي عليه إن كان موسرا فيه وجهان. أحدهما
لا يقوم لأنه وجد سبب العتق قبل التبعيض. والثاني: يقوم عليه لان اختياره
للانظار كابتداء العتق.
(باب الكتابة الفاسدة)
إذا كاتب على عوض محرم أو شرط باطل فللسيد أن يرجع فيها لأنه دخل
على أن يسلم له ما شرط ولم يسلم فثبت له الرجوع وله أن يفسخ بنفسه لأنه مجمع
عليه، وان مات المولى أو جن أو حجر عليه بطل العقد لأنه غير لازم من جهته
فبطل بهذه الأشياء كالعقود الجائزة، فإن مات العبد بطل لأنه لا يلحقه العتق
بعد الموت، وان جن لم تبطل لأنه لازم من جهة العبد فلم تبطل بجنونه كالعتق
المعلق على دخول الدار.
(فصل) وان أدى ما كاتبه عليه قبل الفسخ عتق لان الكتابة تشتمل على
معاوضة وهو قوله كاتبتك على كذا وعلى صفه، وهو قوله فإذا أديت فأنت حر
فإذا بطلت المعاوضة بقيت الصفة فعتق بها، وان أداه إلى غير من كاتبه
لم يعتق لأنه لم توجد الصفة، فإذا عتق تبعه ما فضل في يده من الكسب، وإن كانت
جارية تبعها الولد لأنه جعل كالكناية الصحيحة في العتق فكانت كالصحيحة
في الكسب والولد.
(فصل) ويرجع السيد عليه بقيمته لأنه أزال ملكه عنه بشرط ولم يسلم له
الشرط وتعذر الرجوع إليه فرجع ببدله كما لو باع سلعة بشرط فاسد فتلفت في يد
المشترى ويرجع العبد على المولى بما أداه إليه لأنه دفعه عما عليه فإذا لم يقع عما
عليه ثبت له الرجوع، فإن كان ما دفع من جنس القيمة وعلى صفتها كالأثمان
وغيرها من ذوات الأمثال ففيه أربعة أقوال.
(أحدها) انها يتقاصان فسقط أحدهما بالآخر لأنه لا فائدة في أخذه ورده
33

(والثاني) انه ان رضى أحدهما تقاصا، وإن لم يرض واحد منهما لم يتقاصا
لأنه إذا رضى أحدهما فقد اختار الراضي منهما قضاء ما عليه بالذي له على الآخر
ومن عليه حق يجوز أن يقضيه من أي جهة شاء.
(والثالث) انهما ان تراضيا تقاصا، وان لم يتراضيا لم يتقاصا لأنه إسقاط
حق بحق فلم يجز إلا بالتراضي كالحوالة.
(والرابع) انهما لا يتقاصان بحال لأنه بيع دين بدين، وان أخذ من سهم
الرقاب في الزكاة، فإن لم يكن فيه وفاء استرجع منه، وإن كان فيه وفاء فقد قال
في الام: يسترجع ولا يعتق لأنه بالفساد خرج عن أن يكون من الرقاب، ومن
أصحابنا من قال: لا يسترجع لأنه كالكتابة الصحيحة في العتق والكسب.
(فصل) فإن كاتب عبدا صغيرا أو مجنونا فأدى ما كاتبه عليه عتق بوجود
الصفة وهل يكون حكمها حكم الكتابة الفاسدة مع البالغ في ملك ما فضل في يده
من الكسب وفي التراجع، فيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق: انه لا يملك ما فضل ف ي يده من الكسب
ولا يثبت التراجع وهو رواية المزني في المجنون لأنه العقد مع الصبي ليس بعقد
ولهذا لو ابتاع شيئا وقبضه وتلف في يده لم يلزمه الضمان بخلاف البالغ، فان
عقده عقد يقتضى الضمان، ولهذا لو اشترى شيئا ببيع فاسد وتلف عنده لزمه
الضمان (والثاني) وهو قول أبى العباس أنه يملك ما فضل من الكسب ويثبت
بينهما التراجع، وهو رواية الربيع في المجنون لأنه كتابة فاسدة فأشبهت كتابة
البالغ بشرط فاسد.
(فصل) وإن كاتب بعض عبده، وقلنا إنه لا يصح فلم يفسخ حتى أدى
المال عتق لوجود الصفة وتراجعا وسرى العتق إلى باقيه لأنه عتق بسبب منه،
فان كاتب شركا له في عبد من غير إذن شريكه نظرت، فإن جمع كسبه ودفع نصفه
إلى الشريك ونصفه إلى الذي كاتبه عتق لوجود الصفة فان جمع الكسب كله وأداه
ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يعتق لان الأداء يقتضى أداء ما يملك التصرف فيه وما أداه
من مال الشريك لا يملك التصرف فيه.
34

(والثاني) يعتق لان الصفة قد وجدت، فإن كاتبه بإذن شريكه، فان قلنا: إنه
باطل فالحكم فيه كالحكم فيه إذا كاتبه بغير اذنه، وان قلنا: إنه صحيح ودفع
نصف الكسب إلى الشريك ونصفه إلى الذي كاتبه عتق، فان جمع الكسب كله
ودفعه إلى الذي كاتبه فقد قال بعض أصحابنا فيه وجهان كالقسم قبله، والمذهب
انه لا يعتق لان الكتابة صحيحة والمغلب فيها حكم المعاوضة، فإذا دفع فيها ما
لا يملكه صار كما لو لم يؤد بخلاف القسم قبله فإنها كتابة فاسدة والمغلب فيها الصفة
وإذا حكمنا بالعتق في هذه المسائل في نصيبه، فإن كان المعتق موسرا سرى إلى
نصيب الشريك وقوم عليه لأنه عتق بسبب منه، ولا يلزم العبد ضمان السراية
لأنه لم يلتزم ضمان ما سرى إليه.
(فصل) وان كاتب عبيدا على مال واحد، وقلنا إن الكتابة صحيحة فأدى
بعضهم عتق لأنه برئ مما عليه، وان قلنا: إن الكتابة فاسدة فأدى بعضهم،
فالمنصوص انه يعتق لان الكتابة الفاسدة محمولة على الكتابة الصحيحة في الأحكام
فكذلك في العتق بالأداء. ومن أصحابنا من قال: لا يعتق، وهو الأظهر لان
العتق في الكتابة الفاسدة بالصفة وذلك لم يوجد بأداء بعضهم.
(باب اختلاف المولى والمكاتب)
إذا اختلفا فقال السيد: كاتبتك وأنا مغلوب على عقلي أو محجور على فأنكر
العبد، فإن كان قد عرف له جنون أو حجر فالقول قوله مع يمينه لان الأصل
بقاؤه على الجنون أو الحجر، وان لم يعرف له ذلك فالقول قول العبد، لأن الظاهر
عدم الجنون والحجر. وان اختلفا في قدر المال أو في نجومه تحالفا قياسا
على المتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن أو في الأجل، فإن كان ذلك قبل العتق
فهل تنفسخ بنفس التحالف أو يفتقر إلى الفسخ فيه وجهان كما ذكرناه في المتبايعين
وإن كان التحالف بعد العتق لم يرتفع العتق ويرجع المولى بقيمته ويرجع المكاتب
بالفصل كما نقول في البيع الفاسد.
(فصل) وان وضع شيئا عنه من مال الكتابة، ثم اختلفا فقال السيد:
35

وضعت النجم الأخير، وقال المكاتب بل الأول فالقول قول السيد، وان كاتبه
على ألف درهم فوضع عنه خمسين دينارا لم يصح لأنه أبرأه مما لا يملكه، فان قال
أردت ألف درهم بقيمة خمسين دينارا صح، وان اختلفا فيما عنى فادعى
المكاتب أنه عنى ألف درهم بقيمة خمسين دينارا وأنكر السيد ذلك فالقول قول
السيد لأن الظاهر معه ولأنه أعرف بما عنى، وان أدى المكاتب ما عليه فقال له
المولى أنت حر، وخرج المال مستحقا فادعى العبدان عتقه بقوله: أنت حر،
وقال المولى: أردت أنك حر بما أديت، وقد بان أنه مستحق فالقول قول السيد
لأنه يحتمل الوجهين وهو أعرف بقصده، وان قال السيد استوفيت أو قال العبد
أليس أوفيتك فقال بلى، فادعى المكاتب انه وفاه الجميع، وقال المولى: بل وفاني
البعض فالقول قول السيد لان الاستيفاء لا يقتضى الجميع.
(فصل) وإن كان المكاتب جارية وأتت بولد فاختلفا في ولدها، وقلنا إن
الولد يتبعها، فقالت الجارية ولدته بعد الكتابة فهو موقوف معي، وقال المولى
بل ولدته قبل الكتابة فهو لي فالقول قول السيد لان هذا اختلاف في وقت العقد
والسيد يقول العقد بعد الولادة والمكاتبة تقول قبل الولادة، والأصل عدم
العقد، وان كاتب عبدا ثم زوجه أمة له ثم اشترى المكاتب زوجته وأتت بولد
فقال السيد: أتت به قبل الشراء فهو لي، وقال العبد: بل أتت به بعد
ما اشتريتها فهو لي فالقول قول العبد لان هذا الاختلاف في الملك، والظاهر
مع العبد لأنه في يده بخلاف المسألة قبلها، فان هناك لم يختلفا في الملك، وإنما
اختلفا في وقت العقد.
(فصل) وإن كاتب عبدين فأقر انه استوفى ما على أحدهما أو أبرأ أحدهما،
واختلف العبدان فادعى كل واحد منهما انه هو الذي استوفى منه أو أبرأه رجع
إلى المولى، فان أخبر أنه أحدهما قبل منه لأنه أعرف بمن استوفى منه أو أبرأه،
فان طلب الآخر يمينه حلف له، وان ادعى المولى أنه أشكل عليه لم يقرع
بينهما لأنه قد يتذكر، فان ادعيا أنه يعلم حلف لكل واحد منهما وبقيا على
الكتابة، ومن أصحابنا من قال: ترد الدعوى عليهما، فان حلفا أو نكلا بقيا
36

على الكتابة، وإن حلف أحدهما ونكل الآخر عتق الحالف وبقى الاخر على
الكتابة. وإن مات المولى قبل أن يعين ففيه قولان. أحدهما يقرع بينهما لان
الحرية تعينت لأحدهما ولا يمكن التعيين بغير القرعة فوجب تمييزها بالقرعة،
كما لو قال لعبدين أحدكما حر، والثاني أنه لا يقرع لان الحرية تعينت في أحدهما
فإذا أقرع لم يؤمن أن تخرج القرعة على غيره، فعلى هذا يرجع إلى الوارث، فان
قال لا أعلم حلف لكل واحد منهما وبقيا على الكتابة على ما ذكرناه في المولى.
(فصل) وإن كاتب ثلاثة أعبد في عقود أو في عقد على مائه وقلنا إنه يصح
وقيمة أحدهم مائة وقيمة كل واحد من الآخرين خمسون فأدوا مالا من أيديهم
ثم اختلفوا، فقال من كثرت قيمته النصف لي ولكل واحد منكما الربع. وقال
الآخران بل المال بيننا أثلاثا ويبقى عليك تمام النصف ويفضل لكل واحد منا
ما زاد على الربع فقد قال في موضع القول قول من كثرت قيمته. وقال في موضع
القول قول من قلت قيمته، فمن أصحابنا من قال هي على قولين. أحدهما أن القول
قول من قلت قيمته وان المؤدى بينهم أثلاثا، لان يد كل واحد منهم على ثلث
المال. والثاني أن القول قول من كثرت قيمته لأن الظاهر معه، فان العادة أن
الانسان لا يؤدى أكثر مما عليه.
ومنهم من قال هي على اختلاف حالين، فالذي قال القول قول من كثرت
قيمته إذا وقع العتق بالأداء لأن الظاهر أنه لا يؤدي أكثر مما عليه. والذي قال إن
القول قول من قلت قيمته إذا لم يقع العتق بالأداء فيؤدى من قلت قيمته أكثر
مما عليه ليكون الفاضل له من النجم الثاني. والدليل عليه أنه قال في الام: إذا
كاتبهم على مائة فأدوا ستين، فإذا قلنا إنه بينهم على العدد أثلاثا فأراد العبدان
أن يرجعا بما فضل لهما لم يجز لأن الظاهر أنهما تطوعا بالتعجيل فلا يرجعان به
ويحتسب لهما من النجم الثاني.
(فصل) وان كاتب رجلان عبدا بينهما فادعى المكاتب أنه أدعى إليهما مال
الكتابة فأقر أحدهما وأنكر الاخر عتق حصة المقر والقول قول المنكر مع يمينه
فإذا حلف بقيت حصته على الكتابة فله أن يطالب المقر بنصف ما أقر بقبضه
37

وهو الربع لحصول حقه في يده ويطالب المكاتب بالباقي، وله أن يطالب المكاتب
بالجميع وهو النصف، فإن قبض حقه منهما أو من أحدهما عتق المكاتب، وليس
لاحد من المقر والمكاتب أن يرجع على صاحبه بما أخذه منه لان كل واحد منهما
يدعى أن الذي ظلمه هو المنكر فلا يرجع على غيره وإن وجد المكاتب عاجزا
فعجزه أحدهما رق نصفه.
قال الشافعي رحمه الله: ولا يقوم على المقر، لان التقويم لحق العبد وهو
يقول أنا حر مسترق ظلما فلا يقوم ولا تقبل شهادة المصدق على المكذب لأنه
يدفع بها ضررا من استرجاع نصف ما في يده، فإن ادعى المكاتب انه دفع جميع
المال إلى أحدهما ليأخذ منه النصف ويدفع إلى شريكه النصف نظرت فإن قال
المدعى عليه دفعت إلى كل واحد منا النصف وأنكره الاخر عتق حصة المدعى
عليه بإقراره وبقيت حصة المنكر على الكتابة من غير يمين، لأنه لا يدعى عليه
واحد منهما تسليم المال إليه، وله أن يطالب المكاتب بجميع حقه، وله أن يطالب
المقر بنصفه والمكاتب بنصفه ولا يرجع واحد منهما بما يؤخذ منه على الاخر لان
كل واحد منهما يدعى أن الذي ظلمه هو المنكر فلا يرجع على غيره، فإن
استوفى المنكر حقه منهما أو من المكاتب عتقت حصته وصار المكاتب حرا.
وان عجز المكاتب فاسترقه فقد قال الشافعي رحمه الله إنه يقوم على المقر، ووجهه
انه عتق نصيبه بسبب من جهته. وقال في المسألة قبلها لا يقوم، فمن أصحابنا من
نقل جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى فجعلهما على قولين، ومنهم من قال
يقوم ههنا ولا يقوم في المسألة قبلها على ما نص عليه، لان في المسألة قبلها يقول
المكاتب أنا حر فلا أستحق التقويم على أحد، وههنا يقول صفى مملوك فأستحق
التقويم وإن قال المدعى عليه قبضت المال وسلمت نصفه إلى شريكي وأمسكت
النصف لنفسي وأنكر الشريك القبض عتق حصة المدعى عليه والقول قول
المنكر مع يمينه لان المقر يدعى التسليم إليه، فإذا حلف بقيت حصته على الكتابة
وله أن يطالب المكاتب بجميع حقه بالعقد، وله أن يطالب المقر بإقراره بالقبض
فان رجع على المقر لم يرجع المقر على المكاتب لأنه يقول إن شريكي ظلمني. وان
رجع على المكاتب رجع المكاتب على المقر صدقه على الدفع أو كذبه لأنه فرط
38

في ترك الاشهاد فإن حصل للمنكر ماله من أحدهما عتق المكاتب، وإن عجز
المكاتب عن أداء حصة المنكر كان للمنكر أن يسترق نصيبه، فإذا رق قوم على
المقر لأنه عتق بسبب كأنه منه وهو الكتابة ويرجع المنكر على المقر بنصف
ما أقر بقبضه، لأنه بالتعجيز استحق نصف كسبه، وإن حصل المال من جهة
المكاتب عتق باقيه ورجع المكاتب على المقر ما أقر بقبضه لأنه كسبه.
(كتاب عتق أمهات الأولاد)
إذا علقت الأمة بولد حر في ملك الواطئ صارت أم ولد له فلا يملك بيعها
ولا هبتها ولا الوصية بها لما ذكرناه في البيوع، فان مات السيد عتقت لما روى
ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ولدت منه أمته
فهي حرة من بعد موته وتعتق من رأس المال، لأنه إتلاف حصل بالاستمتاع
فاعتبر من رأس المال كالاتلاف بأكل الطيب ولبس الناعم، وإن علقت بولد
مملوك في غير ملك من زوج أو زنا لم تصر أم ولد له لان حرمة الاستيلاد إنما
تثبت للام بحرية الولد. والدليل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت
له مارية القبطية فقال أعتقها ولدها، والولد ههنا مملوك فلا يجوز أن تعتق الام
بسببه، وإن علقت بولد حر بشبهة من غير ملك لم تصر أم ولد في الحال، فإذا
ملكها ففيه قولان.
(أحدهما) لا تصير أم ولد لأنها علقت منه في غير ملكه فأشبه إذا علقت
منه في نكاح فاسد أو زنا.
(والثاني) إنها تصير أم ولد لأنها علقت منه بحر، فأشبه إذا علقت منه في
ملكه، وان علقت بولد مملوك في ملك ناقص وهي جارية المكاتب إذا علت من
مولاها ففيه قولان (أحدهما) أنها لا تصير أم ولد لأنها علقت منه بمملوك
(والثاني) انها تصير أم ولد لأنه قد ثبت لهذا الولد حق الحرية، ولهذا لا يجوز
بيعه فثبت هذا الحق لامه
(فصل) وإن وطئ أمته فأسقطت جنينا ميتا كان حكمه حكم الولد الحي
في الاستيلاد لأنه ولد. وإن أسقطت جزءا من الآدمي كالعين والظفر أو مضغة
39

فشهد أربع نسوة من أهل المعرفة والعدالة انه تخطط وتصور ثبت له حكم الولد
لأنه قد علم أنه ولد، وان ألقت مضغه لم تتصور ولم تتخطط وشهد أربع من
أهل العدالة والمعرفة انه مبتدأ خلق الادمي، ولو بقي لكان آدميا، فقد قال ههنا
ما يدل على أنها لا تصير أم ولد، وقال في العدد تنقضي به العدة، فمن أصحابنا من
نقل جواب كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلها على قولين، أحدهما لا يثبت له
حكم الولد في الاستيلاد ولا في انقضاء العدة لأنه ليس بولد، والثاني يثبت له
حكم الولد في الجميع لأنه خلق بشر فأشبه إذا تخطط، ومنهم من قال: لا يثبت
له حكم الولد في الاستيلاد وتنقضي به العدة، لان حرمة الاستيلاد تتعلق
بوجود الولد، ولم يوجد الولد، والعدة تراد لبراءة الرحم، وبراءة الرحم
تحصل بذلك.
(فصل) ويملك استخدام أم الولد وإجارتها ويملك وطأها لأنها باقية على
ملكه، وإنما ثبت لها حق الحرية بعد الموت، وهذه التصرفات لا تمنع العتق
فبقيت على ملكه، وهل يملك تزويجها؟ فيه ثلاثة أقوال (أحدها) يملك لأنه
يملك رقبتها ومنفعتها فملك تزويجها كالأمة القنة (والثاني) يملك تزويجها برضاها
ولا يملك من غير رضاها لأنها تستحق الحرية بسبب لا يملك المولى ابطاله فملك تزويجها برضاها ولا ملك بغير رضاها كالمكاتبة (والثالث) لا يملك تزويجها بحال
لأنها ناقصة في نفسها وولاية المولى عليها ناقصة فلم يملك تزويجها كالأخ في تزويج
أخته الصغيرة، فعلى هذا هل يجوز للحاكم تزويجها باذنهما، فيه وجهان
(أحدهما) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة أنه لا يملك لأنه قائم مقامهما
ويعقد باذنهما، فإذا لم يملك العقد باجتماعهما لم يملك مع من قوم مقامهما
(والثاني) وهو قول أبي سعيد الإصطخري انه يملك تزويجها لأنه يملك
بالحكم مالا يملك بالولاية وهو تزويج الكافرة.
(فصل) وإن أتت أم الولد بولد من نكاح أو زنا تبعها في حقها من العتق
بموت السيد لان الاستيلاد كالعتق المنجز ثم الولد يتبع الام في العتق فكذلك في
40

الاستيلاد، فإن ماتت الام قبل موت السيد لم يبطل الحكم في ولدها لأنه حق
استقر له في حياة الام فلم يسقط بموتها.
(فصل) وإن جنت أم الولد لزم المولى أن يفيدها لأنه منع من بيعها
بالاحبال ولم يبلغ بها إلى حال يتعلق الأرش بذمتها فلزمه ضمنا جنايتها كالعبد
القن إذا جنى وامتنع المولى من بيعه ويفديها بأقل الأمرين من قيمتها أو أرش
الجناية قولا واحدا، لان في العبد القن إنما فداه بأرش الجناية بالغا ما بلغ في
أحد القولين، لأنه يمكن بيعه فربما رغب فيه من يشتريه بأكثر من قيمته
وأم الولد لا يمكن بيعها فلا يلزمه أن يفديها بأكثر من قيمتها. وإن جنت ففداها
بجميع القيمة ثم جنت ففيه قولان
(أحدهما) يلزمه أن يفديها لأنه إنما لزمه أن يفديها في الجناية الأولى لأنه
منع من بيعها ولم يبلغ بها حالة يتعلق الأرش بذمتها. وهذا موجود في الجناية
الثانية فوجب أن تفدى كالعبد القن إذا جنى وامتنع من بيعه ثم جنى وامتنع من بيعه
والقول الثاني وهو الصحيح إنه لا يلزمه أن يفديها بل يقسم القيمة التي فدى بها
الجناية الأولى بين الجنايتين على قدر أرشهما، لأنه بالاحبال صار كالمتلف لرقبتها
فلم يضمن أكثر من قيمتها، وتخالف العبد القن فإنه فداه لأنه امتنع من بيعه
والامتناع يتكرر فتكرر الفداء، وههنا لزمه الفداء للاتلاف بالاحبال. وذلك
لا يتكرر فلم يتكرر الفداء
وإن جنت ففداها ببعض قيمتها ثم جنت، فإن بقي من قدر قيمتها ما يفدى
به الجناية الثانية لزمه أن يفديها، وإن بقي ما يفدى به بعض الجناية الثانية فعلى
القولين، وإن قلنا يلزمه أن يفدى الجناية الثانية لزمه أن يفديها. وان قلنا يشارك
الثاني الأول في القيمة ضمن ما بقي من قيمتها إلى ما فدى به الجناية الأولى ثم يقسم
الجميع بين الجنايتين على قدر أرشهما.
(فصل)
وإن أسلمت أم ولد نصراني تركت على يد امرأة ثقة وأخذ المولى بنفقتها إلى
أن تموت فتعتق، لأنه لا يمكن بيعها لما فيه من إبطال حقها من العتق المستحق
41

بالاستيلاد ولا يمكن إعتاقها لما فيه من إبطال حق المولى، ولا يمكن إقرارها في
يده لما فيه من الصغار على الاسلام فلم يبق إلا ما ذكرناه. وإن كاتب كافر عبدا
كافرا ثم أسلم العبد بقي على الكتابة لأنه أسلم في حال لا يمكن مطالبة المالك ببيعه
أو اعتاقه وهو خارج عن يده وتصرفه فبقي على حالته، فإن عجز ورق
أمر ببيعه.
باب الولاء
إذا عتق الحر مملوكا ثبت له عليه الولاء لما روت عائشة رضي الله عنها قالت
اشتريت بريرة واشترط أهلها ولاءها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعتق
فإنما الولاء لمن أعتق
وإن عتق عليه بتدبير أو كتابة أو استيلاد أو قرابة، أو أعتق عنه غيره ثبت
له عليه الولاء لأنه عتق عليه فثبت له الولاء، كما لو باشر عتقه. وإن باع الرجل
عبده من نفسه ففيه وجهان:
(أحدهما) إنه يثبت له عليه الولاء، لأنه لم يثبت عليه رق غيره
(والثاني) لا ولاء عليه لاحد، لأنه لم يعتق عليه في ملكه ولا يملك العبد
الولاء على نفسه فلم يكن عليه ولاء
(فصل) وإن أعتق المكاتب عبدا بإذن المولى وصححنا عتقه ففي ولائه
قولان: أحدهما أنه للسيد لان العتق لا ينفك من الولاء والمكاتب ليس من أهله
فوجب أن يكون للسيد.
(والثاني) انه موقوف فإن عتق فهو له فان عجز فهو للسيد لان المعتق هو
المكاتب فوقف الولاء عليه، فان مات العبد المعتق قبل عجز المكاتب أو عتقه
ففي ماله قولان:
(أحدهما) أنه موقوف على ما يكون من أمر المكاتب كالولاء
(والثاني) إنه للسيد لان الولاء يجوز أن ينتقل فجاز أن يقف والإرث
لا يجوز أن ينتقل فلم يجز أن يقف.
42

(فصل) وإن أعتق مسلم نصرانيا أو أعتق نصراني مسلما ثبت له الولاء،
لان الولاء كالنسب، والنسب يثبت مع اختلاف الدين فكذلك الولاء، وان
أعتق المسلم نصرانيا فلحق بدار الحرب فسبى لم يجز استرقاقه لان عليه ولاء المسلم
فلا يجوز إبطاله وان أعتق ذمي عبده فلحق بدار الحرب وسبى ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز أن يسترق لأنه لا يلزمنا حفظ ماله فلم يجز إبطال ولائه
بالاسترقاق كالمسلم.
(والثاني) يجوز لان معتقه لو لحق بدار الحرب جاز استرقاقه فكذلك عتيقه
وإن أعتق حربي عبدا حربيا ثبت له عليه الولاء، فإن سبى العبد المعتق أو سبى
مولاه واسترق بطل ولاؤه لأنه لا حرمة له في نفسه ولا ماله، وان أعتق ذمي
عبدا ثم لحق بدار الحرب فملكه عبده وأعتقه صار كل واحد منهما مولى للآخر
لان كل واحد منهما أعتق الآخر.
(فصل) وان اشترك اثنان في عتق عبد اشتركا في الولاء لاشتراكهما في
العتق، وإن كاتب رجل عبدا ومات وخلف اثنين فأعتق أحدهما نصيبه أو أبراه
مما له عليه، فإن قلنا: لا يقوم عليه فأدى ما عليه للآخر كان ولاؤه للاثنين لأنه
عتق بالكتابة على الأب، وقد ثبت له الولاء فانتقل إليهما، وان عجز عما عليه
للآخر فرق نصيبه ففي ولاء النصف المعتق وجهان.
(أحدهما) انه بينهما لأنه عتق بحكم الكتابة فثبت الولاء للأب وانتقل إليهما
(والثاني) أنه للمعتق خاصة لأنه هو الذي أعتقه ووقف الاخر عن العتق،
وان قلنا إنه يقوم في الحال فقوم عليه ثبت الولاء للمقوم عليه في المقوم لان بالتقويم
انفسخت الكتابة فيه وعتق عليه، وأما النصف الآخر فإنه عتق بالكتابة وفى
ولائه وجهان (أحدهما) أنه بينهما (والثاني) أنه للمعتق خاصة، وان قلنا يؤخر
التقويم، فإن أدى عتق بالكتابة وكان الولاء لهما، وان عجز ورق قوم على
المعتق وثبت له الولاء على النصف المقوم لأنه عتق عليه، والنصف الآخر عتق
بالكتابة وفى ولائه وجهان.
(فصل) ولا يثبت الولاء لغير المعتق، فإن أسلم رجل على يد رجل
43

أو التقط لقيطا لم يثبت له عليه الولاء لحديث عائشة رضي الله عنها، فإنما الولاء
لمن أعتق، وإنما في اللغة موضوع لاثبات المذكور ونفى ما عداه فدل على اثبات
الولاء للمعتق ونفيه عمن عداه ولان الولاء ثبت بالشرع ولم يرد الشرع في الولاء
الا لمن أعتق وهذا المعنى لا يوجد في غيره فلا يلحق به.
(فصل) ولا يجوز بيع الولاء ولا هبته لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الولاء وعن هبته ولان الولاء كالنسب
والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم الولاء لحمة كلحمة النسب والنسب لا يصح
بيعه وهبته فكذلك الولاء، وان أعتق عبدا سائبة على أن لا ولاء عليه عتق
وثبت له الولاء لقوله عز وجل (ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة
ولا حام) ولان هذا في معنى الهبة وقد بينا أنه لا يصح هبته.
(فصل) وإن مات العبد المعتق وله مال ولا وارث له ورثه المولى لما روى
يونس عن الحسن أن رجل أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل وقال: اشتريته
وأعتقته فقال هو مولاك ان شكرك فهو خير له، وان كفرك فهو شر له وخير
لك فقال فما أمر ميراثه فقال: إن ترك عصبة فالعصبة أحق وإلا فالولاء، وإن كان
له عصبة لم يرث للخبر ولان الولاء فرع للنسب فلا يورث به مع وجوده،
وإن كان له من يرث الفرض، فإن كان ممن يستغرق المال بالفرض لم يرثه لأنه
إذا لم ترث العصبات مع من يستغرق المال بالفرض فلان لا يرث المولى أولى،
وإن كان ممن لا يستغرق المال ورث ما فضل عن أهل الفرض، لما روى عبد الله
ابن شداد قال: أعتقت ابنة حمزة مولى لها فمات وترك ابنته وابنة حمزة فأعطى
النبي صلى الله عليه وسلم ابنة حمزة النصف وابنته النصف.
(فصل) وإن مات العبد والمولى ميت كان الولاء لعصبات المولى دون
سائر الورثة، لان الولاء كالنسب لما ذكرناه من الخبر، والنسب إلى العصبات
دون غيرهم ويقدم الأقرب فالأقرب، لما روى سعيد بن المسيب رحمة الله عليه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المولى أخ في الدين ونعمة يرثه أولى الناس
بالمعتق ولان في عصبات الميت يقدم الأقرب فالأقرب وكذلك في عصبات المولى
44

فإن كان للمولى ابن وابنة كان الميراث للابن دون البنت لأنا بينا أنه لا يرث الولاء
غير العصبات والبنت ليست من العصبات ولان الولاء كالنسب ثم المرأة لا ترث
بالقرابة من الميت إذا تباعد نسبها منه وهي بنت الأخ العمة فلان لا ترث بنت
المولى وهو مؤخر عن النسب أولى، وإن كان له أب وابن أو أب وابن ابن
فالميراث للابن لان تعصيب الابن أقوى لأنه يسقط تعصيب الأب، فإن لم يكن
بنون فالولاء للأب دون الجد والأخ لأنه أقرب منهما، وان ترك جدا وأخا،
ففيه قولان.
(أحدهما) انهما يشتركان كما يشتركان في ارث النسب.
(والثاني) بقدم الأخ لان تعصيبه كتعصيب الابن وتعصيب الجد كتعصيب
الأب، وإنما لم قدم في ارث النسب للاجمع وليس في الولاء إجماع فوجب ان
يقدم فان ترك جدا وابن أخ فهو على القولين، ان قلنا إن الجد والأخ يشتركان
قدم الجد، وإن قلنا: إن الأخ يقدم قدم ابنه، وان ترك أبا الجد والعم، فعلى
القولين، ان قلنا إن الجد والأخ يشتركان قدم أبو الجد، وان قلنا إن الأخ يقدم
قدم العم، وان اجتمع الأخ من الأب والام والأخ من الأب قدم الأخ من
الأب والام كما يقدم في الإرث بالنسب.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان:
(أحدهما) يقدم لما قلناه.
(والثاني) انهما سواء لان الام لا ترث بالولاء فلا يرجح بها من يدلى بها
فإن لم يكن للمولى عصبة وله مولى فالولاء لمولاه لان المولى كالعصبة، فإن لم يكن
له مولى فلعصبة مولاه، فإن لم يكن له مولى ولا عصبة مولى، وهناك مولى
لعصبة المولى نظرت، فإن كان مولى أخيه أو مولى ولده لم يرث، لان انعامه
على أخيه لا يتعدى إليه، وإن كان مولى أبيه أو جده ورث، لان انعامه عليه
انعامه على نسله.
(فصل) فان أعتق عبدا ثم مات وخلف اثنين ثم مات أحدهما وترك ابنا
ثم مات العبد وله مال ورثه الكبر من عصبة المولى وهو الابن دون ابن الابن
45

لما روى الشعبي قال: قضى عمر وعلي وزيد رضي الله عنهم ان الولاء للكبر ولان
الولاء يورث به ولا يورث.
والدليل عليه ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث، فإذا ثبت أنه لا يورث
ثبت أنه إنما يورث بما ثبت للمولى من الولاء فوجب أن يكون للكبر لأنه أقرب
إلى المولى، وان مات المولى وخلف ثلاثة بنين ثم مات أحدهم وخلف ابنا
ومات الثاني وخلف أربعة ومات الثالث وخلف خمسة ثم مات العبد المعتق كان
ماله بين العشرة بالسوية لتساويهم في القرب، ولو ظهر للمولى مال كان بينهم
أثلاثا لابن الابن الثلث وللأربعة الثلث وللخمسة الثلث، لان المال انتقل إلى
أولاده أثلاثا ثم انتقل ما ورث كل واحد منهم إلى أولاده والولاء لم ينتقل إلى
أولاده، وإنما ورثوا مال العبد لقربهم من المولى الذي ثبت له الولاء وهم في
القرب منه سواء فتساووا في الميراث.
(فصل) إذا تزوج عبد لرجل بمعتقة لرجل فأتت منه بولد ثبت المولى
الام الولاء على الولد لأنه عتق باعتقا الام فكان ولاؤه لمولاها، فان أعتق بعد
ذلك مولى العبد عبده انجر ولاء الولد من موالي الام إلى موالي العبد.
والدليل عليه ما روى هشام بن عروة عن أبيه قال: مر الزبير بموال لرافع
ابن خديج فأعجبوه فقال لمن هؤلاء، فقالوا هؤلاء موال لرافع بن خديج أمهم
لرافع بن خديج وأبوهم عبد لفلان فاشترى الزبير أباهم فأعتقه ثم قال أنتم موالي
فاختصم الزبير ورافع إلى عثمان رضي الله عنه فقضى عثمان للزبير. قال هشام:
فلما كان معاوية خاصمونا فيهم أيضا فقضى لنا معاوية، ولان الولاء فرع للنسب
والنسب معتبر بالإرث، وإنما ثبت لمولى الام لعدم الولاء من جهة الأب كولد
الملاعنة نسب إلى الام لعدم النسب من جهة الأب، فإذا ثبت الولاء على الأب
عاد الولاء إلى موضعه كولد الملاعنة إذا اعترف به الزوج وان أعتق جد الولد
دون الأب ففي ولائه ثلاثة أوجه.
46

(أحدها) ينجر الولاء إلى معتقه لأنه كالأب في الانتساب إليه والولاية،
فكان كالأب في جز الولاء إلى معتقه.
(والثاني) لا ينجر، لان بينه وبين الولد الأب فلا ينجر الولاء إلى معتقه
كالأخ (والثالث) إن كان الأب حيا لم ينجر الولاء إلى معتقه، وإن كان ميتا
انجر لان مع موته ليس غيره أحق ومع حياته من هو أحق، فإن قلنا: إنه ينجر
الولاء إلى معتقه فانجر ثم أعتق الأب انجر من مولى الجد إلى مولى الأب لأنه
أقوى من الجد في النسب وأحكامه.
(فصل) وان تزوج عبد رجل بأمة آخر فأتت منه بولد ثم أعتق السيد
الأمة وولدها ثبت له عليها الولاء، فان أعتق العبد بعد ذلك لم ينجر ولاء الولد
إلى مولى العبد والفرضيون يعبرون عن علة ذلك أنه ولد مسه الرق ثم ناله العتق
والعلة في ذلك أن المعتق أنعم على الولد بالعتق فكان أحق بولائه ممن أنعم على
أبيه وتخالف ما قبلها، فان أحدهما أنعم على الام،، والاخر أنعم على الأب فقدم
المنعم على الأب لان النسب إليه والولاء فرع للنسب، وههنا أحدهما أنعم على
الولد نفسه والآخر أنعم على أبيه فقدم المنعم عليه على المنعم على أبيه، وان
تزوج عبد لرجل بجارية آخر فحبلت منه ثم أعتقت الجارية وهي حامل ثبت
الولاء على الجارية وحملها، فان أعتق العبد بعد ذلك لم ينجر الولاء إلى مولاه
لما ذكرناه من العلة، وان تزوج حر لا ولاء عليه بمعتقة رجل فأتت منه بولد لم
يثبت عليه الولاء لمولى الام لان الاستدامة في الأصول أقوى من الابتداء ثم
ابتداء الحرية في الأب تسقط استدامه الولاء لمولى الام فلان تمنع استدامة الحرية
في الأب ابتداء الولاء لمولى الام أولى، وان تزوج عبد لرجل بمعتقة لآخر
وأولدها ولدا ثبت الولاء على الولد لموالي الام، فان اشترى الولد أباه عتق عليه
وثبت له الولاء عليه وهل ينجر ولاء نفسه بعتق الأب فيه وجهان. أحدهما:
لا ينجر، لأنه لا يملك ولاء نفسه، فعلى هذا يكون ولاؤه باقيا لموالي الام.
والثاني: أنه ينجر ولاء نفسه بعتق أبيه ولا يملكه على نفسه ولكن يزبل به الولاء
عن نفسه ويصير حرا لا ولاء عليه لان عتق الأب يزيل الولاء عن معتق الام.
47

(فصل) إذا مات رجل وخلف اثنين وعبدا فادعى العبد أن المولى كاتبه
فصدقه أحدهما وكذبه الآخر، فأدى إلى المصدق كتابته عتق نصفه،
وفى ولائه وجهان:
(أحدهما) أن الولاء بينهما لأنه عتق بسبب كان من أبيهما فكان الولاء بينهما
(والثاني) أن الولاء للمصدق لان المكذب أسقط حقه بالتكذيب فصار كما لو
حلف أحد الأخوين على دين لأبيهما فأخذ نصفه فإن الآخر لا يشارك في نصفه
وإن تزوج المكاتب بحرة فأولدها، فإن كان على الحرة ولاء لمعتق كان له ولاء
الولد، فإن عتق الأب بالأداء جر ولاء ولده من معتق الام إلى معتقه، فإن
اختلف مولاه ومولى الام، فقال مولى المكاتب قد عتق المكاتب بالأداء وجر
إلى ولاء الولد. وقال مولى الام لم يعتق وولاء الولد لي نظرت فإن كان المكاتب
حيا عتق بإقرار سيده وانجر الولاء إلى معتقه ولا يمين عليه ولا على السيد،
وإن كان قد مات واختلف السيد ومولى الام، فإن كان للسيد المكاتب بينة
شاهدان، أو شاهد وامرأتان، أو شاهد ويمين قضى له لأنها بينة على المال وإن
لم تكن له بينة فالقول قول مولى الام مع يمينه لأنا تيقنا رق المكاتب وثبوت
الولاء لمعتق الام فلا ينتقل عنه من غير بينة وبالله التوفيق
48

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الفرائض
الفرائض باب من أبواب العلم وتعلمها فرض من فروض الدين، والدليل
عليه ما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تعلموا الفرائض وعلموها الناس، فإني امرؤ مقبوض، وان العلم سيقبض،
وتظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة فلا يجدا من يفصل بينهما)
(فصل) وإذا مات الميت بدئ من ماله بكفنه ومؤنة تجهيزه، لما روى
حباب بن الأرت قال: قتل مصعب ابن عمير رضي الله عنه يوم أحد وليس له
الا نمرة كنا إذا غطينا بها رأسه خرجت رجله، وإذا غطينا رجله خرج رأسه
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله من الإذخر
ولان الميراث إنما انتقل إلى الورثة لأنه استغنى عنه الميت وفضل عن حاجته،
والكفن ومؤنة التجهيز لا يستغنى عنه فقدم على الإرث، ويعتبر ذلك من رأس
المال لأنه حق واجب فاعتبر من رأس المال كالدين
(فصل) ثم يقضى دينه لقوله عز وجل من بعد وصية يوصى بها أو دين
ولان الدين تستغرقه حاجته فقدم على الإرث، وهل ينتقل ماله إلى الورثة
قبل قضاء الدين، اختلف أصحابنا فيه: فذهب أبو سعيد الإصطخري رحمه الله
إلى أنه لا ينتقل بل هو باق على ملكه إلى أن يقضى دينه، فإن حدثت منه فوائد
ككسب العبد وولد الأمة ونتاج البهيمة تعلق بها حق الغرماء، لأنه لو بيع كانت
العهدة على الميت دون الورثة، فدل على أنه باق على ملكه.
وذهب سائر أصحابنا إلى أنه ينتقل إلى الورثة، فان حدثت منها فوائد لم
يتعلق بها حق الغرماء، وهو المذهب، لأنه لو كان باقيا على ملك الميت لوجب
أن يرثه من أسلم أو أعتق من أقاربه قبل قضاء الدين ولوجب أن لا يرثه من
مات من الورثة قبل قضاء الدين.
وإن كان الدين أكثر من قيمة التركة فقال الوارث أنا أفكها بقيمتها وطالب
49

الغرماء ببيعها ففيه وجهان بناء القولين فيما يفدى به للولي جناية العبد، أحدهما
لا يجب بيعها، لأن الظاهر أنها لا تشترى بأكثر من قيمتها، وقد بذل الوارث
قيمتها فوجب أن تقبل. والثاني: يجب بيعها، لأنه قد يرغب فيها من يزيد على
القيمة فوجب بيعها.
(فصل) ثم تنفذ وصاياه لقوله عز وجل من بعد وصية يوصي بها أو دين
ولان الثلث بقي على حكم ملكه ليصرفه في حاجاته فقدم على المراث كالدين.
(الشرح) حديث عبد الله بن مسعود ذكره أحمد في رواية ابنه عبد الله
بسنده إلى الأحوص عن عبد الله ولفظه (تعلموا القرآن وعلموه الناس، وتعلموا
الفرائض وعلموها، فإني امرؤ مقبوض، والعلم مرفوع، ويوشك أن يختلف
اثنان في الفريضة والمسألة فلا يجدان أحدا يخبرهما)
وقد أخرجه أيضا النسائي والحاكم والدارمي والدارقطني من رواية عوف
عن سليمان بن جابر عنه، وفيه انقطاع بين عوف وسليمان. ورواه النضر بن
شميل وشريك وغيرهما متصلا.
وأخرجه الطبراني في الأوسط وفى إسناده محمد بن عقبة السدوسي وثقه ابن
حبان وضعفه أبو حاتم، وفيه أيضا سعيد بن أبي بن كعب، وقد ذكره ابن
حبان في الثقات.
وقد أخرجه أيضا أبو يعلى والبزار وفى إسنادهما من لا يعرف، وقد أخرج
نحوه الطبراني في الأوسط عن أبي بكر والترمذي عن أبي هريرة
وحديث خباب رواه الشيخان وأحمد وأصحاب السنن إلا ابن ماجة وله طرق
عن جابر وأنس وعبد الرحمن بن عوف
والفرائض جمع فريضة كحدائق جمع حديقه، وهي فعيله بمعنى مفعولة
مأخوذة من الفرض وهو القطع، يقال فرضت لفلان كذا، أي قطعت له شيئا
من المال. وقيل هي من فرض القوس، وهو الحز الذي في طرفه حيث يوضع
الوتر ليثبت فيه ويلزمه ولا يزول كذا قاله الخطابي وقبل الثاني خاص بفرائض
الله تعالى وهي ما ألزم به عباده لمناسبة اللزوم لما كان الوتر يلزم محله من القوس.
50

وقد روى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
(تعلموا الفرائض وعلموها، فإنها نصف العلم، وهو ينسى، وهو أول شئ
ينزع من أمتي) رواه ابن ماجة والدارقطني والحاكم.
وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا لهوتم فالهو بالرمي، وإذا تحدثتم
فتحدثوا بالفرائض، ورواه سعيد بن منصور عن جرير عن عاصم الأحول عن
مورق العجلي عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
تعلموا الفرائض واللحن والسنة كما تعلمون القرآن.
وروى أحمد في مسنده وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن امرأة
سعد بن الربيع جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم بابنتيها من سعد فقالت:
يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن
عمهما أخذ مالهما ولا ينكحان إلا ولهما مال، قال: فنزلت آية الميراث فأرسل
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال: أعط امرأة سعد الثمن وابنتي سعد
الثلثين وما بقي فهو لك).
وقال علقمة: إذا أردت أن تعلم الفرائض فأمت جيرانك. إذ ثبت هذا:
فإن التوارث في الجاهلية كان بالحلف والنصرة، فكان الرجل يقول للرجل:
تنصرني وأنصرك وترثني وأرثك وتعقل عنى وأعقل عنك، وربما تحالفوا على
ذلك، فإذا كان لأحدهما ولد كان الحليف كأحد أولاد حليفه، إن لم يكن له ولد
فإن جميع المال للحليف، فجاء الاسلام الناس على هذا، فأقرهم الله تعالى على
صدر الاسلام بقوله: والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم.
وروى أن أبا بكر رضي الله عنه حالف رجلا فمات فورثه أبو بكر ثم نسخ
ذلك وجعل التوراث بالاسلام والهجرة، فكان الرجل إذا أسلم وهاجر معه من
مناسبيه دون لم يهاجر معه من مناسبيه، مثل أن يكون له أخ وابن مسلمان
فهاجر معه الأخ دون الابن فيرثه أخوه دون ابنه، والدليل عليه قوله تعالى
(والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، والذين
51

آووا ونصروا، أولئك بعضهم أولياء بعض، والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم
من ولايتهم من شئ حتى يهاجروا) ثم نسخ ذلك ربنا عز وجل بالميراث بالرحم
بقوله تبارك اسمه (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين
والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا) وفسر المعروف بالوصية، وقال
تعالى: للرجال نصيب مما ترك الولدان والأقربون، فذكر أن لهم نصيبا في هذه
الآية، ولم يبين قدره، ثم بين قدر ما يستحقه كل وارث في ثلاثة مواضع من
كتابه على ما نذكره في مواضعه إن شاء الله.
وإذا تقرر هذا فان الميت إذا مات أخرج من ماله كفنه وحنوطه ومؤنة تجهيزة
من رأسماله مقدما على دينه ووصيته، موسرا كان أو معسرا، وبه قال مالك
وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم.
وقال الزهري: إن كان موسرا حسب ذلك من رأس المال، وإن كان معسرا
احتسب من ثلثه. وقال خلاس بن عمرو: يحتسب من ثلثه بكل حال. دليلنا
ما روى خباب في الحديث الذي ساقه المصنف ولم يسل رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن ثلث ماله، وروى أن الرجل الذي قضى وهو محرم، قال النبي صلى الله
عليه وسلم: كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما، ولم يعتبر الثلث، ولان الميراث
إنما نقل إلى الورثة لاستغناء الميت عنه، وهذا غير ما استقر من كفنه ومؤنة
تجهيزه، فقدم على الإرث ثم يقضى دينه إن كان عليه دين ثم تخرج وصاياه
لقوله تعالى (من بعد وصية يوصى بها أو دين) وأجمعت الأمة على أن الدين مقدم
على الوصية، وهل ينتقل ماله إلى ورثته قبل قضاء الدين؟ اختلف أصحابنا فيه
فذهب أكثرهم إلى أنه ينتقل إليهم قبل قضاء الدين.
وقال أبو سعيد الإصطخري: لا ينتقل إليهم حتى يقضى الدين، هكذا ذكر
الشيخان أبو حامد الأسفراييني وأبو إسحاق المروزي عن أبي سعيد من غير
تفصيل، وأما بن الصباغ فحكى عنه: إن كان الدين لا يحيط بالتركة لم يمنع الدين
من انتقال المال إلى الورثة الا بقدره، واحتج بأنه لو بيع شئ من ماله بعد موته
لكانت العهدة على الميت دون الورثة، فدل على بقاء ملكه.
52

فعلى هذا إذا حدث من المال فوائد أو نماء قبل الدين كان ذلك ملكا للميت
فيقضى منه دينه، وينفذ منه وصاياه.
وقال أبو حنيفة: إن كان الدين يحيط بالتركة منع انتقال الملك إلى الورثة
وإن كان الدين لا يحيط بالتركة لم يمنع الملك إلى الورثة بحال، لقوله تعالى
(ولكم نصف ما ترك أزواجكم الآية) ولم يفرق، ولأنه لا خلاف أن رجلا
مات وخلف ابنين وعليه دين فمات أحدهما قبل قضاء الدين، وخلف ابنا ثم
أبرأ من له الدين الميت عن الدين، فإن تركة من عليه الدين تقسم بين الابن
وابن الابن، فلو كان الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة لكانت التركة للابن
وحده، فعلى هذا لو حل من التركة فوائد قبل قضاء الدين فإنها للورثة،
لا يتعلق بها حق الغرماء ولا الوصية، وإن كان الدين: أكثر من التركة: فقال
الوارث أنا أدفع قيمة التركة من مالي ولا تباع التركة، وطلب الغرماء بيعها،
فهل يجب بيعها؟ فيه وجهان بناء على العبد الجاني إذا بذل سيده قيمته وطلب
المجني عليه بيعه: وكان الأرش أكثر من قيمته، فهل يجب بيعه؟ فيه وجهان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ثم تقسم التركة بين الورثة والأسباب التي يتوارث بها الورثة
المعينون ثلاثة: رحم، ولاء، ونكاح، لان الشرع ورد بالإرث بها، وأما
المؤاخاة في الدين والموالاة في النصرة والإرث فلا يورث بها، لان هذا كان في
ابتداء الاسلام ثم نسخ بقوله عز وجل (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
في كتاب الله).
(فصل) والوارثون من الرجال عشرة الابن وابن الابن وان سفل،
والأب والجد أبو الأب وان علا، والأخ وابن الأخ والعم وابن العم والزوج
ومولى النعمة، والوارثات من النساء سبع: البنت وبنت الابن والام والجدة
والأخت والزوجة ومولاة النعمة: لان الشرع ورد بتوريثهم على ما نذكره
إن شاء الله تعالى.
53

فأما ذوو الأرحام وهم الذين لا فرض لهم ولا تعصيب فإنهم لا يرثون،
وهم عشرة: ولد البنات وولد الأخوات وبنات الاخوة وبنات الأعمام وولد
الاخوة من الام والعم من الام والعمة والخال والخالة والجد أبو الأم ومن يدلى
بهم. والدليل عليه ما روى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه، ولا وصية لوارث)
فأخبر أنه أعطى كل ذي حق حقه، فدل على أن كل من لم يعطه شيئا فلا
حق له: ولان بنت الأخ لا ترث مع أخيها فلم ترث كبنت المولى، ولا يرث
العبد المعتق من مولاه لما ذكرناه من حديث أبي أمامة، ولقوله صلى الله عليه
وسلم: إنما الولاء لمن أعتق)
(الشرح) حديث أبي أمامة الأول مضى تخريجه والكلام عليه في كتاب
الوصايا، وأما الحديث الثاني (الولاء لمن أعتق) فهو من حديث عائشة عند أحمد
والبخاري ومسلم ولفظه (أن بريرة جاءت تستعينها في كتابها، ولم تكن قضت
من كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك، فان أحبوا أن أقضى
عنك كتابتك ويكون ولاؤك لي فعلت، فذكرت بريرة ذلك لأهلها فأبوا وقالوا
إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون لنا ولاؤك، فذكرت ذلك لرسول الله
صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: ابتاعي فأعتقي،
فإنما الولاء لمن أعتق، ثم قام فقال: ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في
كتاب الله تعالى، من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرطه مائة
مرة، شرط الله أحق وأوثق)
أما الأحكام فإنه يصرف مال اليتيم بعد قضاء الدين وإخراج وصيته إلى
ورثته. والإرث ضربان: عام وخاص، فأما العام فهو أن يموت رجل من
المسلمين ولا وارث له خاص، فان ماله ينتقل إلى المسلمين إرثا بالتعصيب،
يستوي فيه الذكر والأنثى، وهل يدخل فيه العامل؟ فيه وجهان
وأما الإرث الخاص فيكون بأحد أمرين بسبب أو نسب، فأما السبب فينقسم
قسمين ولاء ونكاح، فأما الولاء فقد مضى بيانه، وأما النكاح فهو ارث أحد
54

الزوجين من الآخر على ما يأتي بيانه. وأما النسب فهم الوارثون من القرابة من
الرجال والنساء، فالرجال المجمع على توريثهم خمسة عشر، منهم أحد عشر
لا يرثون الا بالتعصيب. وهم الابن وابن الابن وان سفل والأخ للأب والام،
والأخ للأب، وابن الأخ للأب والام، وابن الأخ للأب، والعم للأب والام
والعم للأب، وابن العم للأب، والمولى المنعم. فكل هؤلاء لا يرث واحد منهم
فرضا وإنما يرث تعصيبا، الا الأخ للأب والام فإنه يرث بالفرض في التركة
على ما نذكره. واثنان من الرجال الوارثين تارة بالفرض وتارة بالتعصيب،
وهما الأب والجد أبو الأب وان علا. واثنان لا يرثان الا بالفرض لا غير،
وهما الأخ للام والزوج.
وأما النساء المجمع على توريثهن فعشر: وهي الابنة وابنة الابن وان سفلت
والام والجدة أم الأب والأخت للأب والأخت للام والزوجة والموالاة المنعمة
فأربع منهن يرثن تارة بالفرض وتارة بالتعصيب، وهن الابنة، وابنة الابن،
والأخت للأب والام والأخت للأب، والأخت للام، والزوجة. واحدة منهن
لا ترث الا بالتعصيب وهي المولاة المنعمة
والورثة من الرجال والنساء ينقسمون ثلاثة أقسام: قسم يدلى بنفسه، وقسم
يدلى بغيره، وقسم يدلى بنفسه وقد يدلى بغيره. فأما القسم الذي يدلى بنفسه فهم
ستة. الأب والام والابن والابنة والزوج والزوجة وهؤلاء لا يحجبون بحال.
وأما القسم الذي يدلى بغيره فهو من عدا من ذكر من القرابات وقد يحجبون.
وأما القسم الذي يدلى بنفسه مرة وبغيره أخرى فهو من يرث بالولاء، وقد
يحجب أيضا، وقد ورد الشرع بتوريث جميع ما ذكرنا على ما يأتي بيانه.
وأما ذوو الأرحام، وهم ولد البنات وولد الأخوات، وبنات الاخوة وولد
الاخوة للام، والخال والخالة، والعمة والعم للام وبنات الأعمام وكل أحد بينه
وبين الميت أم، ومن يدلى بها ولاء.
فاختلف أهل العلم في توريثهم على ثلاثة مذاهب، فذهب الشافعي رضي الله عنه
إلى أنهم لا يرثون بحال. وبه قال في الصحابة زيد بن ثابت وابن عمر وهي إحدى
الروايتين عن عمر، ومن الفقهاء الزهري ومالك الأوزاعي وأهل الشام وأبو ثور
55

وذهبت طائفة إلى أنهم يرثون ويقدمون على الموالي والرد، ذهب إليه من
الصحابة علي بن أبي طالب وابن مسعود ومعاذ وأبو الدرداء وهو الصحيح عن
عمر، وذهب النووي وأبو حنيفة إلى أن ذوي الأرحام يرثون، ولكن يقدم
عليهم المولى والرد، فإن كان له مولى منعم ورث، وإن لم يكن له منعم وهناك
من له فرض كالابنة والأخت كان الباقي لصاحب الفرض بالرد، وإن لم يكن
هناك أحد من أهل الفروض ورث ذوو الأرحام، وبه قال بعض أصحابنا إن لم
يكن هناك إمام عادل، وهي إحدى الروايتين عن علي كرم الله وجهه إلا أنها
رواية شاذة، ولا سند لأبي حنيفة في مذهبه غير هذه الرواية الشاذة.
دليلنا ما روى أبو أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله
تعالى قد أعطى لكل ذي حق حقه الحديث، فظاهر النص يقتضى انه لا حق في
الميراث لمن لم يعطه الله شيئا، وجميع ذوي الأرحام لم يعطهم الله في كتابه شيئا
فثبت أنه لا ميراث.
وروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ميراث
العمة والخالة فقال: لا أدري حتى يأتي جبريل، ثم قال: أين السائل عن ميراث
العمة والخالة؟ أتاني جبريل فسارني أن لا ميراث لهما.
وروى عطاء بن يسار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء
على حمار أو حمارة يستخير الله في ميراث العمة والخالة، فأنزل الله عز وجل (أن
لا ميراث لهما، ولان كل من لم ترث مع من هو أبعد لم يرث إذا انفرد كابنة
المولى، لان ابنة المولى لما لم ترث مع ابن المولى، وهو أبعد منها لم ترث أيضا إذا
انفردت كذلك، ولهذا لم ترث مع ابن العم وهو أبعد منها، ولم ترث أيضا إذا
انفردت، ولان ابنة الأخ لما لم ترث مع أختها لم ترث إذا انفردت كابنة المولى
وعكسه الابنة والأخت فإنهما لما ورثتا مع أخيهما ورثتا إذا انفردتا.
(فرع) مولى الموالاة لا يرث عندنا وهو أن يقول رجل لآخر: واليتك
على أن ترثي وأرثك وتنصرني وأنصرك وتعقل عني وأعقل عنك ولا يتعلق بهذه
الموالاة عندنا حكم ارث ولا عقل وغيره، وبه قال زيد بن ثابت ومن التابعين
56

الحسن البصري والشعبي ومن الفقهاء الأوزاعي ومالك، وذهب النخعي إلى أن
هذا العقد يلزم بكل حال ويتعلق به التوارث والعقل ولا يكون لأحدهما فسخه
بحال، وقال أبو حنيفة مولى الموالاة يرث ولكنه يؤخر عن المناسبين والموالاة
وهي عقد جائز لكل واحد منهما فسخه ما لم يعقل أحدهما عن الاخر، فإذا عقل
لزمه ذلك ولم يكن له سبيل إلى فسخه.
دليلنا حديث بريرة (الولاء لمن أعتق) فجعل حسن الولاء للعتق فلم يبق
ولاء يثبت لغيره لان كل سبب لم يورث به مع وجود النسب لم يورث به مع فقده
كما لو أسلم رجل على يد رجل، ولان عقد الموالاة لو كان سببا يورث به لم يجز
فسخه وابطاله كالنسب والولاء.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يرث المسلم من الكافر ولا الكافر من المسلم أصليا كان أو
مرتدا لما روى أسامة بن زيد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
(لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ويرث الذمي من الذمي) وان اختلفت
أديانهم كاليهودي من النصراني والنصراني من المجوسي، لأنه حقن دمهم
بسبب واحد فورث بعضهم من بعض كالمسلمين، ولا يرث الحربي من الذمي
ولا الذمي من الحرب، لان الموالاة انقطعت بينهما فلم يرث أحدهما من الاخر
كالمسلم والكافر.
(فصل) ولا يرث الحر من العبد، لان ما معه من المال لا يملكه في أحد
القولين، وفى الثاني: يملكه ملكا ضعيفا، ولهذا لو باعه رجع إلى مالكه
فكذلك إذا مات ولا يرث العبد من الحر لأنه لا يورث بحال فلم يرث كالمرتد،
ومن نصفه حر ونصفه عبد لا يرث، وقال المزني: يرث بقدر ما فيه من الحرية
ويحجب بقدر ما فيه من الرق، والدليل على أنه لا يرث أنه ناقص بالرق في النكاح
والطلاق والولاية، فلم يرث كالعبد، وهل يورث منه ما جمعه بالحرية؟ فيه
قولان: قال في الجديد: يرثه ورثته، لأنه مال ملكه بالحرية فورث عنه كمال
الحر. وقال في القديم: لا يورث لأنه إذا لم يرث بحريته لم يورث بها، وما الذي
57

يصنع بماله. قال الشافعي رضي الله عنه: يكون لسيده وقال أبو سعيد
الإصطخري: يكون لبيت المال، لأنه لا يجوز أن يكون لسيده لأنه جمعه بالحرية
فلا يجوز أن يورث لرقه، فجعل لبيت المال ليصرف في المصالح كمال لا مالك له.
(فصل) ومن أسلم أو أعتق على ميراث لم يقسم لم يرث لأنه لم يكن وارثا
عند الموت فلم يرث، كما لو أسلم أو أعتق بعد القسمة. وإن دبر رجل أخاه فعتق
بموته لم يرثه، لأنه صار حرا بعد الموت، وإن قال له أنت حر في آخر جزء من
أجزاء حياتي المتصل بالموت، ثم مات عتق من ثلثه، وهل يرثه؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يرثه لان العتق في المرض وصية، والإرث والوصية لا يجتمعان
(والثاني) يرثه ولا يكون عتقه وصية، لان الوصية ملك بموت الموصي، وهذا
لم يملك نفسه بموته.
وإن قال في مرضه: إن مت بعد شهر فأنت اليوم حر، فمات بعد شهر عتق
يوم تلفظ، وهل يرثه؟ على الوجهين
(الشرح) حديث أسامة رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن
ماجة. وفي رواية عند الشيخين قال (يا رسول الله أتنزل غدا في دارك بمكة؟
قال: وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور وكان عقيل ورث أبا طالب هو
وطالب، ولم يرث جعفر ولا على شيئا، لأنهما كانا مسلمين، وكان عقيل
وطالب كافرين)
الأحكام: لا يرث الكافر من المسلم بلا خلاف، وأما المسلم فلا يرث الكافر
عندنا، وبه قال علي وزيد بن ثابت وهو قول الفقهاء كافة.
وقال معاذ ومعاوية: يرث المسلم من الكافر، دليلنا حديث أسامة بن زيد
وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
لا يتوارث أهل ملتين شيئا، والاسلام والكفر ملتان شتى فوجب أن لا يتوارثا
ويرث الكافر من الكافر إذا اجتمعا في الذمة أو فالحرب، فيرث اليهودي من
النصراني والعكس وكذا المجوسي إذا جمعتهم الذمة أو كانوا حربا لنا.
فأما أهل الحرب وأهل الذمة فإنهم لا يتوارثون، وإن كانوا من اليهود أو
58

النصارى. وبه قال من الصحابة عمر وعلي وزيد بن ثابت. ومن الفقهاء مالك
والثوري وأبو حنيفة. هذا نقل أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي: الذمي هل
يرث الحربي؟ فيه قولان، أحدهما يرثه، لان ملتهما واحدة، والثاني: لا يرثه
لان حكمنا لا يجري على الحربي. هذا مذهبنا. وذهب الزهري والأوزاعي
وأبن أبي ليلى وأحمد وإسحاق إلى أن اليهودي لا يرث من النصراني وكذلك العكس
وإن جمعتهم الملة، وإنما يرث النصراني من النصراني واليهودي من اليهودي، كما
يرث أهل الحرب بعضهم بعضا إذا تحاكموا إلينا، وإن اختلفت دارهما وكان
بعضهم يرى قتل بعض، وحكم من دخل إلينا بأمان أو تجارة أو رسالة حكم أهل
الذمة ويرث بعضهم من بعض ومتى كانت امرأة الكافر ذات رحم منه من نسب
أو رضاع لم يتوارثا بالنكاح، وإن كانت غير ذات رحم محرم منه لو أسلما أقرا على
نكاحهما وتوارثا بالنكاح، وإن عقدا بغير ولي ولا شهود
(فرع) قال الشافعي: وميراث المرتد لبيت المال. قال العمراني: وجملة ذلك
أن العلماء اختلفوا في الإرث بعد موته على أربعة مذاهب، فذهب الشافعي
رحمه الله إلى أن ماله لا يورث بل يكون فيئا لبيت المال. سواء في ذلك ما اكتسبه
في حال إسلامه أو في حال ردته، وسواء قلنا إن ملكه يزول أو لا يزول أو
موقوف. وبهذا قال ابن عباس وهي إحدى الروايتين عن علي وبه قال الأوزاعي
وأبو يوسف ومحمد، وذهب قتادة وعمر بن عبد العزيز إلى أن ماله يكون لأهل
الذمة التي انتقل إليها، فإن انتقل إلى اليهود كان ماله لهم. وإن انتقل إلى النصارى
كان ماله لهم.
وقال أبو حنيفة والثوري: ما اكتسبه قبل الردة ورث عنه، وما اكتسبه
بعد الردة يكون فيئا. ودليلنا حديث أسامة في الفصل، والمرتد كافر، ولأنه
لا يرث بحال فلم يورث كالكافر، والجواب على أبي حنيفة هو أن من لم يرث
المسلم ما اكتسبه في حالة إباحة دمه لم يرث ما اكتسبه في حال حقن دمه كالذمي
إذا لحق بدار الحرب. إذا ثبت هذا فهل يخمس مال المرتد؟ فيه قولان يأتيان.
(فرع) إذا مات العبد وفي يده مال لم يرثه قرابته الأحرار، لان من الناس
59

من يقول: إنه لا يملك المال، ومنهم من قال إنه يملكه إذا ملكه السيد، وهذا
ملك ضعيف يزول بزوال ملك سيده وأما من نصفه حر ومن نصفه عبد فهو
على وجهه ما أورده المصنف
أما إذا مات مسلم حر وخلف أولادا أحرارا مسلمين وأولادا مملوكين ورثه
الأولاد المسلمون الأحرار، فإن أسلم الكفار أو أعتق العبيد بعد قسمة الميراث
لم يشاركوا في الإرث بلا خلاف، وإن أسلموا أو عتقوا بعد موت أبيهم وقبل
قسمة تركته لم يشاركوا في الميراث عندنا، وبه قال أكثر أهل العلم. وقال أكثر
أهل العلم: إذا أسلموا أو عتقوا بعد موت أبيهم وقبل قسمة تركته لم يشاركوا
في الميراث عندنا وبه قال أكثر أهل العلم. وقال عمر وعثمان رضي الله عنهما: إذا
أسلموا أو عتقوا قبل القمسة شاركوا في الإرث. دليلنا أن كل من لم يرث حال
الموت لم يرث بعد ذلك، كما لو أسلم أو أعتق بعد القسمة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) واختلف أصحابنا فيمن قتل مورثه فمنهم من قال: إن كان القتل
مضمونا لم يرثه لأنه قتل بغير حق وان لم يكن مضمونا ورثه لأنه قتل بحق فلا
يحرم به الإرث. ومنهم من قال: إن كان متهما كالمخطئ أو كان حاكما فقتله في
الزنا بالبينة لم يرثه لأنه متهم في قتله لاستعجال الميراث، وإن كان غير متهم بأن
قتله بإقراره بالزنا ورثه لأنه غير متهم لاستعجال الميراث. ومنهم من قال لا يرث
القاتل بحال، وهو الصحيح لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لا يرث القاتل شيئا) ولان القاتل حرم الإرث حتى لا يجعل ذريعة إلى استعجال
الميراث فوجب أن يحرم بكل حال لحسم الباب
(الشرح) حديث ابن عباس رواه الدارقطني وفى اسناده كثير من مسلم وهو
ضعيف، وعند البيهقي حديث آخر بلفظ: من قتل قتيلا فإنه لا يرثه. وان لم
يكن له وارث غيره. وفى اسناده عمرو بن برق وهو ضعيف، وعن أبي هريرة
عند الترمذي وابن ماجة (القاتل لا يرث) وفى اسناده إسحاق بن عبد الله بن أبي
فروة تركه أحمد وغيره وأخرجه النسائي في السنن الكبرى وقال: إسحاق متروك
60

ورواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (لا يرث القاتل شيئا)
وأخرجه النسائي وأعله، الدارقطني وقواه ابن عبد البر. ورواه مالك في الموطأ
وأحمد وابن ماجة والشافعي وعبد الرزاق والبيهقي عن عمر: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم
يقول (ليس لقاتل ميراث) وفى سنده انقطاع. وقال البيهقي: ورواه محمد بن
راشد عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا، قال
الحافظ بن حجر: وكذا أخرجه النسائي من وجه آخر عن عمر وقال: إنه خطأ
وأخرجه ابن ماجة والدارقطني من وجه آخر عن عمر أيضا
أما الأحكام: فقد قال الشافعي رضي الله عنه: والقاتلون عمدا أو خطأ
لا يرثون، وجملة ذلك أن العلماء اختلفوا في ميراث القاتل من المقتول، فذهب
الشافعي إلى أن القاتل لا يرث المقتول لا من ماله ولا من ديته، سواء قتله عمدا
أو خطأ أو مباشرة أو بسبب مصلحة. كسقي الدواء أو ربط الجرح أو لغير
مصلحة متهما كان أو غير متهم، وسواء كان القاتل صغيرا أو كبيرا، عاقلا أو
مجنونا، وبه قال عمر بن الخطاب وابن عباس وعمر بن عبد العزيز وأحمد بن
حنبل. وقال أبو إسحاق المروزي من أصحابنا: إذا كان القاتل غير متهم بأن كان
حاكما فجاء مورثه فأقر عنده بقتل رجل عمدا وطلب وليه القود، فمكنه الحاكم
من قتله، أو اعترف عندنا بالزنا وهو محصن فرجمه أو أعترف بقتل الحرابة فقتل
فإنه يرثه لأنه غير متهم في قتله.
ومن أصحابنا من قال: إن كان القتل مضمونا لم يرث القاتل لأنه قتل بغير
حق، وإن كان غير مضمون بأن قتله قصاصا أو في الزنا أو كان باغيا فقتله العادل
وما أشبه ذلك ورث، لأنه قتل بحق فلا يمنع الإرث. وقال عطاء وابن المسيب
ومالك والأوزاعي إن كان القتل عمدا لم يرث القاتل لا من ماله ولا من ديته.
وإن كان القتل خطأ ورث ماله ولم يرث من ديته. وقال أبو حنيفة وأصحابه
إن قتله مباشرة فلا يرثه سواء قتله عمدا أو خطأ إلا إن كان القاتل صبيا أو
مجنونا أو عادلا فقتل الباغي فإنهم يرثون، وإن قتله بسبب، مثل أن حفر بئرا
أو نصب سكينا فوقع عليها مورثه أو كان يقود دابة أو يسرقها فرفسته فإنه يرثه
وإن كان راكبا الدابة فرفست مورثه أو وطئته فمات فقال أبو حنيفة لا يرثه،
61

وقال أبو يوسف ومحمد يرثه. أما نحن فدليلنا ما رويناه من حديث ابن عباس
(لا يرث القاتل شيئا) وحديث عمر وحديث أبي هريرة وحديث عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده وكلها نصوص في أن القاتل لا يرث. والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) واختلف قول الشافعي رحمه الله فيمن بت طلاق امرأته في المرض
المخوف واتصل به الموت، فقال في أحد القولين انها ترثه لأنه متهم في قطع ارثها
فورثت، كالقاتل لما كانت متهما في استعجال الميراث لم يرث. والثاني أنها لا ترث
وهو الصحيح، لأنها بينونة قبل الموت فقطعت الإرث كالطلاق في الصحة، فإذا
قلنا إنها ترث فإلى أي وقت ترث؟ فيه ثلاثة أقوال، أحدها ان مات وهي في
العدة ورثت لان حكم الزوجية باق، وان مات وقد انقضت العدة لم ترث لأنه لم
يبق حكم الزوجية، والثاني انها ترث ما لم تتزوج، لأنها إذا تزوجت علمنا أنها
اختارت ذلك، والثالث أنها ترث أبدا، لان توريثها للفرار، وذلك لا يزول
بالتزويج فلم يبطل حقها.
وأما إذا طلقها في المرض ومات بسبب آخر لم ترث لأنه بطل حكم المرض،
وان سألته الطلاق لم ترث لأنه غير متهم. وقال أبو علي بن أبي هريرة ترث لان
عثمان بن عفان رضي الله عنه ورث تماضر بنت الإصبع من عبد الرحمن بن عوف
رضي الله عنه وكانت سألته الطلاق، وهذا غير صحيح. فإن ابن الزبير خالف
عثمان في ذلك، وان علق طلاقها في الصحة على صفة تجوز ان توجد قبل المرض
فوجدت الصفة في حال المرض لم ترث، لأنه غير متهم في عقد الصفة، وان علق
طلاقها في المرض على فعل من جهتها، فإن كان فعلا يمكنها تركه ففعلت لم ترث
لأنه غير متهم في ميراثها، وإن كان فعلا لا يمكنها تركه كالصلاة وغيرها فهو على
القولين، وان قذفها في الصحة ثم لاعنها في المرض لم ترث، لأنه مضطر إلى
اللعان لدرء الحد فلا تلحقه التهمة، وان فسخ نكاحها في مرضه بأحد العيوب ففيه
وجهان، أحدهما انه كالطلاق في المرض، والثاني انها لا ترث لأنه يستند إلى معنى من
جهتها ولأنه محتاج إلى الفسخ لما عليه من الضرر في المقام معها على العيب
62

(فصل) وإن طلقها في المرض ثم صح ثم مرض ومات، أو طلقها في مرض ثم
ارتدت ثم عادت إلى الاسلام ثم مات لم ترثه قولا أحدا لأنه أتت عليها حالة أو
مات سقط إرثها فلم يعد.
(الشرح) إذا طلق الرجل امرأته في مرض موته وقع الطلاق رجعيا فمات
وهي في العدة أو ماتت قبله في العدة ورث أحدهما صاحبه بلا خلاف أيضا،
لان الرجعية حكمها حكم الزوجة إلا في إباحة وطئها، وهي كالحائض، وإن كان
الطلاق بائنا، فإن ماتت قبل الزوج لم يرثها الزوج وهو إجماع أيضا لا خلاف
فيه، فإن مات الزوج قبلها فهل ترثه؟ فيه قولان،
قال في القديم: ترثه، وبه قال عمر وعثمان وعلي، ومن الفقهاء شعبة ومالك
والأوزاعي والليث وسفيان بن عيينة وسفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة
وأصحابه وأحمد، ووجه هذا ما روى أن عمر قال: المبتوتة في حال المرض ترث
من زوجها، وروى أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت أصبع
الكلبية في مرض موته فورثها منه عثمان بن عفان، وروى أن عثمان لما حصر
طلق امرأته فورثها منه علي بن أبي طالب وقال: قد كان أشرف على موت،
ولأنه متهم في قطع ميراثها فغلظ عليه وورثت منه كالقاتل لما كان متهما في القتل
لاستعجال الميراث غلظ عليه فلم يرث.
وقال في الجديد: لا ترثه، وبه قال عبد الرحمن بن عوف وابن الزبير وأبو ثور
وهو الصحيح، لأنها فرقة يقطع ميراثه منها فقطعت ميراثها عنه كما أبائها في حال
الصحة عكسه الرجعية، ولأنها فرقة لو وقعت في الصحة لقطعت ميراثها عنه
فإذا وقعت في المرض قطعت ميراثها عنه كاللعان، ولأنها ليست بزوجه له بدليل
أنه لا يلحقها طلاقه ولا إيلاؤه ولا ظهاره ولا عدة وفاته فلم ترثه كالأجنبية.
وأما ما روى عن عمر وعثمان وعلي، فإن ابن الزبير وعبد الرحمن بن عوف
خالفاهم في ذلك فقال ابن الزبير: أما أنا فلا أرى أن ترث مبتوتة، وعبد الرحمن
ابن عوف إنما طلق امرأته في مرض موته ليقطع ميراثها عنه، فإذا قلنا في الجديد
فلا نفرع عليه، وان قلنا بقوله القديم قال: متى ترثه؟ فيه ثلاثة أقوال.
63

أحدها: ترثه ما دامت في عدتها منه، فإذا انقضت عدتها لم ترثه، وبه قال
أبو حنيفة وسفيان والليث والأوزاعي وإحدى الروايتين عن أحمد، لان الميراث
للزوجة إنما يكون لزوجة أو لمن هي في حكم الزوجات، فما دامت في عدتها منه
فهي في حكم الزوجات.
والثاني: أنها ترثه ما لم تتزوج بغيره، فإذا تزوجت بغيره لم ترثه، وبه قال
ابن أبي ليلى، وهي الرواية الصحيحة عن أحمد، لان حقها قد ثبت في ماله، فإذا
لم يسقط ببينونتها لم يسقط بانقضاء عدتها، وإنما يسقط برضاها، فإذا تزوجت
فقد رضيت بفراقه وقطع حقها عنه.
والثالث: أنها ترثه ابدا سواء تزوجت أو لم تتزوج، وبه قال مالك لأنها
قد ثبت لها حق في ماله فلم ينقص بانقضاء عدتها ولا بتزويجها كمهرها.
(فرع) إذا أقر في مرض موته أنه قد كان طلق امرأته في صحته ثلاثا بانت
منه، قال الشيخ أبو حامد: ولا ترثه قولا واحدا، لان ما أقر به في مرض موته
وإضافته إلى الصحة كالذي فعله في الصحة كما لو أقر في مرض موته أنه كان وهب
ماله في صحته وأقبضه، فان ذلك يعتبر من الثلث.
وحكى القاضي أبو الطيب عن بعض أصحابنا في ذلك قولين كما لو طلقها ثلاثا
في مرض موته لأنه متهم في اسقاط حقها فلم يسقط بدليل أنه لا يسقط بهذا
الاقرار نفقتها ولا سكناها في حال النكاح وان أضاف ذلك إلى وقت ماض.
(فرع) إذا كان الرجل مريضا فسألته امرأته أن يطلقها ثلاثا ومات في
مرضه ذلك، أو قال لها في مرض موته: أنت طالق ثلاثا ان شئت، فقالت:
شئت، طلقت، وهل ترثه؟ اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو علي بن أبي هريرة:
هي على القولين، لان الأصل في هذا قصة عثمان في توريثه تماضر زوجها
عبد الرحمن بن عوف في مرض موته، وقد كانت سألته الطلاق.
وقال الشيخ أبو حامد: لا ترثه قولا واحدا، وهو المذهب لأنها إذا سألته
الطلاق فلا تهمة عليه في طلاقها، وأما قصة تماضر لا حجه فيها لان عبد الرحمن
قال لنسائه: من اختارت منكن أن أطلقها طلقتها، فقالت تماضر: طلقني،
64

فقال لها: إذا حضت فأعلميني فأعلمته فطلقها. وليس طلاقه لها في هذا الوقت
جوابا لكلامها لان قولها طلقني يقتضي الجواب في الحال، فإذا تأخر ثم طلقها
كان ذلك ابتداء طلاق.
وان سألته في مرض موته أن يطلقها واحدة فطلقها ثلاثا ثم مات فهل ترثه
فيه قولان، لأنها سألته تطليقها فإذا طلقها ثلاثا صار متهما بذلك لأنه قصد قطع
ميراثها، فصار كما لو طلقها ثلاثا ابتداء من غير سؤالها.
(فرع) إذا علق المريض طلاق امرأته ثلاثا بصفة ثم وجدت تلك الصفة
في مرضه ومات، فهل ترثه؟ نظرت فإن كان صفة لها منه بد مثل أن قال لها:
ان دخلت الدار أو خرجت منها أو كلمت فلانا أو صليت النافلة أو صمت النافلة
فأنت طالق ثلاثا، ففعلت ذلك في مرض موته لم ترثه قولا واحدا، لأنها إذا
فعلت ذلك مع علمها بالطلاق فقد اختارت وقوع الطلاق عليها بما لها منه بد
فصارت كما لو سألته الطلاق، وإن كانت صفة لا بد منها بأن قال: إن تنفست
أو صليت الفرض أو كلمت أباك أو أمك فأنت طالق ثلاثا ففعلت ذلك في مرض
موته ومات فهل ترثه؟ على القولين لأنها لابد لها من فعل هذه الأشياء فصار
كما لو طلقها ثلاثا طلاقا منجزا.
وقال الشيخ أبو حامد: ان قال لها ان مرضت فأنت طالق ثلاثا فمات في مرضه
فيه قولان، لأنه لما جعل مرض موته شرطا في وقوع الطلاق عليها كان متهما
في ذلك، فان قال لها وهو صحيح: ان جاء رأس الشهر أو جاء الحاج أو طلعت
الشمس وما أشبه ذلك فأنت طالق ثلاثا، فوجدت هذه الصفات في مرضه موته
فهل ترثه، قال البغداديون من أصحابنا: لا ترثه قولا واحدا لأنه غير متهم في
ذلك، لان انفاق ذلك في مرضه مع هذه الصفات لم يكن من قصده. أما إذ قال
أنت طالق ثلاثا قبل موتي بشهر، فان عاش هذا الزوج بعد هذا القول أقل من
شهر ثم مات لم يحكم بوقوع الطلاق لأنا لا نحكم بوقوعه قبل محله، وان عاش بعد
ذلك شهرا ومات مع الشهر لم يقع الطلاق لان الطلاق إنما يقع عقيب الايقاع
مما معه، وان عاش شهرا واحدا طلقت قبل موته بشهر.
65

قال الشيخ أبو حامد: وهل ترثه، فيه قولان لأنه متهم في ذلك، ثم إنه
بذلك منعها من الميراث.
(فرع) إذا طلقها ثلاثا في مرضه، ثم صح ثم مرض ثم مات فإنها لا ترثه
قولا واحدا، لأنه قد تخلل بين المرض والموت حالة لو طلقها ثلاثا فيها لم ترث
شيئا، فكذلك إذا طلقها قبل تلك الحالة فوجب أن لا ترث، وهكذا إذا طلقها
في مرض موته ثلاثا ثم ارتد الزوج أو الزوجة، ثم رجعا ثم مات الزوج لم ترثه
قولا واحدا.
(فرع) إذا طلق امرأته في الصحة ثم لاعنها في مرض موته لم ترثه قولا
واحدا لأنه مضطر إلى اللعان لدرء الحد فلا تلحقه التهمة، وإن قذفها في مرض
موته ولاعنها قال ابن الصباغ: فإنها لا ترثه قولا واحدا لأنه في حاجة إلى
اللعان لاسقاط الحد عن نفسه.
قال ابن اللبان. ويحتمل أن يقال: إن كان قد نفى الحمل فإنها لا ترث لأنه
مضطر إلى قذفها، وان لم ينف الولد ورثته في أحد القولين، لأنه لم يضطر إلى
قذفها، وان فسخ نكاحها في مرض موته بأحد العيوب ففيه وجهان حكاهما الشيخ
أبو إسحاق، أحدهما: أنه كالطلاق في المرض فيكون في ميراثها منه قولان.
والثاني لا ترثه قولا واحدا، لأنه يستند إلى معنى من جهتها، ولان به حاجة إلى
الفسخ لما عليه من الضرر في المقام معها على العيب.
(فرع) إذا كانت تحته أربع نسوة وطلقهن في مرض موته طلاقا بائنا ثم
تزوج بعدهن أربعا سواهن ثم مات من مرضه ذلك فإن قلنا بالجديد: وأن
المبتوتة في مرض الموت لا ترث كان ميراثه للأربع زوجات دون المطلقات،
وان قلنا بالقديم: وأن المبتوتة في مرض الموت ترث فمتى ترث فيه ثلاثة أوجه
حكاها الشيخ أبو حامد.
(أحدها) أنه للزوجات الجديدات دون المطلقات لأنه لا يجوز أن يرث
الرجل أكثر من أربع زوجات ولا بد من تقديم بعضهن على بعض، فكان
تقديم الزوجات أولى، لان ميراثهن ثابت بنص القرآن، وميراث المطلقات
ثبت بالاجتهاد.
66

(والثاني) أنه للزوجات المطلقات دون الزوجات الجديدات، لأنه لا يجوز
أن يرثه أكثر من أربع، فكان تقديم المطلقات أولى لان حقهن أسبق.
(والثالث) أنه يكون بين المزوجات والمطلقات بالسوية لان ارث الزوجات
ثابت بنص القرآن، وارث المطلقات ثابت بالاجتهاد فشرك بينهن، وقول من
قال: لا يجوز أن يرثه أكثر من أربع زوجات ليس بصحيح لان الشرع إنما منع
من نكاح ما زاد على أربع، وأما توريث ما زاد على أربع فلم يمنع الشرع منه،
والله تعالى أعلم. قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان مات متوارثان بالغرق أو الهدم، فإن عرف موت أحدهما
قبل الاخر ونسي، وقف الميراث إلى أن يتذكر، لأنه يرجى أن يتذكر، وان
علم أنهما ماتا معا أو لم يعلم موت أحدهما قبل الآخر، أو علم موت أحدهما قبل
موت الآخر، ولم يعرف بعينه، جعل ميراث كل واحد منهما لمن بقي من ورثته
ولم يورث أحدهما من الآخر، لأنه لا تعلم حياته عند موت صاحبه، فلم يرثه،
كالجنين إذا خرج ميتا.
(فصل) وان أسر رجل أو فقد ولم يعلم موته لم يقسم ماله حتى يمضى زمان
لا يجوز أن يعيش فيه مثله، وان مات له من يرثه دفع إلى كل وارث أقل ما يصيبه
ووقف الباقي إلى أن يتبين أمره.
(الشرح) إذا مات متوارثان كالرجل وابنه أو كالزوجين بالغرق أو الهدم
فإن علم أن أحدهما مات أو لا وعرف عينه وورث الثاني من الأول، وان علم أن
أحدهما مات أولا وعرف عينه ثم نسي، وقف الامر إلى أن يتذكر من الأول
منهما فيرث منه الثاني، لأن الظاهر ممن علم ثم نسي انه يتذكر، وهذا لا خلاف
فيه، وان علم أنهما ماتا معا أو علم أن أحدهما أولا ولم يعرف عينه.
قال الشيخ أبو حامد: مثل ان غرقا في ماء فرأى أحدهما يصعد من الماء وينزل
67

ولم يعرف عينه، والآخر قد نزل ولا يصعد، فإنه يعلم لا محالة أن الذي يصعد
وينزل لم يمت، وأن الذي نزل ولا يصعد قد مات، أو لم يعلم هل ماتا في حالة
واحدة أو مات أحدهما قبل الآخر، فمذهبنا في هذه الثلاث المسائل أنه لا يرث
أحدهما من الآخر، ولكن يرث كل واحد منهما ورثته غير الميت معه. وبه قال
أبو بكر وعمر وابن عباس وزيد بن ثابت ومالك وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم.
وذهب علي بن أبي طالب إلى أن يرث كل واحد منهما الآخر ثم يرثهما ورثتهما
وبه قال داود.
دليلنا ما روى عن زيد بن ثابت أنه قال: ولاني أبو بكر موارث قتلى اليمامة
فكنت أورث الاحياء من الموتى ولا أورث الموتى من الموتى، ولا كل من لم تعلم
حياته عند موت مورثه لم يرثه، أصله الحمل، وهو أن رجل إذا مات وخلف
امرأة حاملا فإنه إن خرج حيا ورث، لأنا تيقنا حياته عند موت مورثه، وإن
خرج ميتا لم يرث، لأنا لا نعلم حياته عند موت مورثه، ولان توريث كل
واحد منهما من الاخر خطا بيقين، لأنهما إن ماتا معا في حالة واحدة لم يرث أحدهما
الآخر وان مات أحدهما قبل الآخر فتوريث الساق منهما وتأمن الاخر خطا فإذا كان
كذلك لم يرث أحدهما من الآخر لأنه ليس أحدهما أن يكون مات أولا بأولى من الاخر
(فرع) إذا مات رجل وخلف ولدا أسيرا في أيدي الكفار فإنه يرث ما دام
يعلم حياته، وبه قال أهل العلم كافة، وقال النخعي لا يرث الأسير دليلنا قوله
تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) ولم يفرق بين الأسير
وغيره، فأما إذا لم تعلم حياته فحكمه حكم المفقود، وإذا فقد رجل وانقطع خبره
لم يقسم ماله حتى يعلم موته أو يمضى عليه من الزمان من حين ولد زمان لا يعيش
فيه مثله فحينئذ يحكم الحاكم بموته ويقسم ماله بين ورثته الاحياء يومئذ دون من
مات من ورثته قبل ذلك.
وقال مالك (إذا مضى له من العمر ثمانون سنة قسم ماله) وقال عبد الملك بن
الماجشون (إذا مضى له تسعون سنة حكم الحاكم بموته) وقال أبو حنيفة (إذا
مضى له مائة وعشرون سنة) وحكى بعضهم أن ذلك مذهب الشافعي.
وإن مات المفقود من يرثه قبل أن يحكم بموته أعطى كل وارث من ورثته
68

ما يتيقن أنه له ووقف المشكوك فيه إلى أن يتيقن أمر المفقود، مثل أن تموت
امرأة وتخلف زوجا وأختين وأخا لأب وأم مفقودا، فإن الزوج لا يستحق
النصف كاملا إلا إذا تيقنا حياة الأخ عند موت المرأة، ولا يستحق الأختان
أربعة أسباع المال إلا إذا تيقنا موت الأخ عند موت المرأة، والعمل في هذه وما
أشبهها أن يقال لو كان الأخ ميتا وقت موت أخته لكانت الفريضة من سبعة،
للزوج ثلاثة وللأختين للأب والام أربعة، ولو كان الأخ حيا وقت موت أخته
لكانت الفريضة من ثمانية، للزوج أربعة ولكل أخت سهم وللأخ سهمان، والثمانية
لا توافق السبعة، فيضرب ثمانية في سبعة فذلك ستة وخمسون، فيعطى الزوج
نصيبه وهو عند موت الأخ، فله حينئذ ثلاثة من سبعه مضروب في ثمانية
فذلك أربعة وعشرون وتعطى كل أخت نصيبها وهو عند وجود الأخ حيا عند
موت أخته، وذلك سهم من ثمانية مضروب في سبعة، فذلك سبعة ويبقى من
المال ثمانية عشر سهما، فيوقف ذلك إلى أن يتبين أمر الأخ، فان بان أنه كان حيا
وقت موت أخته كان له سهمان من ثمانية في سبعه فذلك أربعة عشر سهما يأخذها
من الموقوف وللزوج أربعة من ثمانية في سبعه فذلك ثمانية وعشرون فمعه أربعة
وعشرون ويبقى له أربعة فيأخذها من الموقوف وقد استوفى الأختيان نصيبهما،
وان بان أن الأخ كان ميتا وقت موت أخته كان للأختين أربعة من سبعه في ثمانية
فذلك اثنان وثلاثون فمعهما أربعة عشر ويبقى لهما ثمانية عشر وهو الموقوف
فيأخذانه وقد استوفى الزوج نصيبه هذا هو المشهور من المذهب
وخرج ابن اللبان في ذلك وما أشبهه وجهين آخرين (أحدهما) أن يجعل
حكم الأخ المفقود حكم الحي، لان الأصل بقاء حياته، فلا ينتقص الزوج من
النصف كاملا وان لكل أخت الثمن ويوقف ربع المال، فإن بان ان الأخ كان حيا
وقت موت أخته دفع إليه الربع أو إلى ورثته إن كان قد مات. وان بان انه ميت
وقت موت أخته أخذ من الزوج نصف السبع ودفع ذلك مع الربع الموقوف إلى الأختين
وهل يؤخذ من الزوج ضامن في نصف السبع. فيه قولان (أحدهما) يؤخذ منه
ضمان بجواز أن يكون الأخ ميتا (والثاني) لا يؤخذ منه ضمين كما يقسم مال الغرماء
على الأحباء من ورثتهم ولا يؤخذ منهم ضمان والله تعالى أعلم
69

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب ميراث أهل الفرائض
وأهل الفرائض هم الذين يرثون الفروض المذكورة في كتاب الله عز وجل،
وهي النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس، وهم عشرة، الزوج
والزوجة والام والجدة، والبنت وبنت الابن، والأخت وولد الام والأب مع
الابن وابن الابن والجد مع الابن وابن الابن.
فأما الزوج فله فرضان النصف، وهو إذا لم يكن معه ولد ولا ولد ابن،
والربع وهو إذا كان معه ولد أو ولد ابن. والدليل عليه قوله عز وجل (ولكم
نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن
من بعد وصية يوصين بها أو دين)
فأما الزوجة فلها أيضا فرضان: الربع إذا لم يكن معها ولد ولا ولد ابن.
والثمن إذا كان معها ولد أو ولد ابن. والدليل عليه قوله تعالى (ولهن الربع مما
تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية
توصون بها أو دين) فنص على فرضها مع وجود الولد وعدم الولد، وقسنا ولد
الابن في ذلك على ولد الصلب، لاجماعهم على أنه كولد الصلب في الإرث
والتعصيب، فكذلك في حجب الزوجين، وللزوجتين والثلاث والأربع
ما للواحدة من الربع والثمن لعموم الآية.
(الشرح) الفروض المذكورة في كتاب الله تعالى سنة، النصف ونصفه
ونصف نصفه الثلثان ونصفه ونصف نصفه وأهل الفروض عشرة
1 - الزوج 2 - الزوجة 3 - الام 4 - الجدة 5 - البنت
6 - بنت الابن 7 - الأخت 8 - ولد الام 9 - الأب مع الابن أو ابن
الابن 10 - الجد مع الابن أو ابن الابن
فأما الزوج فله فرضان، النصف مع عدم الولد، وولد الابن، والربع مع
70

وجود الولد أو ولد الابن وإن سفل، ذكرا كان أو أنثى، لقوله تعالى (ولكم
نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما
تركن) فأما الزوجة فلها الربع من زوجها إذا لم يكن له ولد ابن وإن سفل،
ولها منه الثمن إذا كان له ولد أو ولد ابن وان سفل. ذكرا كان أو أنثى لقوله
تعالى (ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما
تركتم) وللزوجتين والثلاث والأربع ما للزوجة الواحدة لقوله تعالى (ولهن)
وجعل سبحانه لهن نصف ميراث الذكر
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وأما الام فلها ثلاثة فروض
(أحدها) الثلث. وهو إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان فصاعدا
من الاخوة والأخوات لقوله عز وجل (وورثه أبواه فلأمه الثلث)
(والفرض الثاني) السدس، وذلك في حالين
(أحدهما) أن يكون للميت ولد أو ولد ابن. والدليل عليه قوله تعالى
(ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) ففرض لها السدس
مع الولد، وقسنا عليه ولد الابن
(والثاني) أن يكون له اثنان فصاعدا من الاخوة والأخوات. والدليل
عليه قوله عز وجل (فإن كان له اخوة فلأمه السدس) ففرض لها السدس مع
الاخوة، وأقلهم ثلاثة. وقسنا عليهم الأخوين لان كل فرض تغير بعدد كان
الاثنان فيه كالثلاثة كفرض البنات
(والفرض الثالث) ثلث ما يبقى بعد فرض الزوجين، وذلك في مسألتين،
في زوج وأبوين، أو زوجة وأبوين، للام ثلث ما يبقى بعد فرض الزوجين،
والباقي للأب. والدليل عليه أن الأب والام إذا اجتمعا كان للأب الثلثان
وللأم الثلث، فإذا زاحمهما ذو فرض قسم الباقي بعد الفرض بينهما على الثلث
والثلثين، كما لو اجتمعا مع بنت
71

(الشرح) الام لها ثلاثة فروض الثلث أو السدس أو ثلث ما يبقى، ولها
سبعة أحوال. أحدها: أن يكون معها ولد ذكر أو أنثى أو ولد ابن ذكر أو أنثى
وإن سفل، فلها السدس لقوله تعالى (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك
إن كان له ولد).
ثانيها: أن لا يكون مع الام ولد ولا ولد ابن ولا أحد من الاخوة والأخوات
فللأم الثلث لقوله تعالى (فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث).
ثالثها: أن يكون مع الام ثلاثة إخوة أو ثلاث أخوات أو منهما فلها السدس
لقوله تعالى (فإن كان له إخوة فلأمه السدس) وقوله تعالى: إخوة لفظ جمع
وأقله ثلاثة.
رابعها: أن يكون مع الام أخ أو أخت فلها الثلث أيضا لقوله تعالى (فإن
كان له إخوة فلأمه السدس فحجبها عن الثلث إلى السدس بالإخوة، وذلك جمع
ولا خلاف أن الواحد ليس بجمع.
خامسها: أن يكون مع الام اثنان من الاخوة والأخوات أو منهما فللأم السدس
، وبه قال الصحابة والفقهاء عامة الا ابن عباس فإنه قال: لها الثلث، وله
خمس مسائل في الفرائض انفرد بها، هذه إحداهن.
دليلنا: أنه حجب لا يقع بواحد، وينحصر بعدد، فوجب أن يوقف على
اثنين، أصله حجب بنات الابن بالبنات، فقولنا: حجب لا يقع بواحد احتراز
من حجب الزوج والزوجة فإنه يقع الواحد من الأول، وقولنا ينحصر بعد
احتراز من حجب البنتين للبنات والاخوة والأخوات لان الابنة فرضها النصف
والأخت فرضها النصف، وإذا حصل مع إحداهما أخوها حجبها من النصف،
ولا ينحصر هذا الحجب بعدد، بل كلما كثر الاخوة حجبوها أكثر، ولأنا وجدنا
الاثنين من الأخوات كالثلاث في استحقاق الثلثين، فوجب أن يكون حجب
الاثنين من الاخوة للام حجب الثلاثة.
وروى أن ابن عباس دخل على عثمان فقال له. قال الله تعالى (فإن كان له
اخوة فلأمه السدس) وليس الأخوات اخوة بلسان قومك، فقال عثمان:
72

لا أستطيع أن أرد ما كان قبلي، وانتشر في الأمصار، وتوارث به الناس، فدل
بهذا أنهم أجمعوا على ذلك.
سادسها: إذا كان هناك زوج وأبوان، قال أصحابنا: فللزوج النصف وللأب
ثلث ما بقي، وأصلها من ستة للزوج ثلاثة، وللأم ثلث ما بقي وهو سهم وللأب
سهمان، وقال بعض أصحابنا كما أفاده صاحب البيان: للام ها هنا الثلث، ولا يقال
لها ثلت ما بقي، قلت: ومعنى العبارتين واحد لان العبارة الواحدة هي المشهورة
وبه قال عامة الصحابة والفقهاء.
وقال ابن عباس: للزوج النصف، وللأم ثلت جميع المال، وللأب ما بقي،
وأصلها من ستة للزوج ثلاثة، وللأم سهمان وللأب سهم وتابعه على هذا شريح
سابعها إذا كان زوجة وأبوان فللزوجة الربع، وللأم ثلت ما بقي وهو سهم
وللأب ما بقي وهو سهمان، وبه قال عامة الصحابة وأكثر الفقهاء.
وقال ابن عباس للزوجة الربع وللأم قلت جميع المال، وللأب ما بقي وأصلها
من اثنى عشر للزوج ثلاثة، وللأم أربعة، وللأب خمسة، وهاتان المسألتان في
المسائل التي انفرد بها ابن عباس عن الصحابة، وتابعه عليها شريح وابن سيرين
ودليلنا أن في الأولة يؤدى إلى تفضيل الام على الأب، وهذا لا يجوز، ولأنهما
معهما أو سهم فوجب أن يكون للام تلت ما بقي بعد ذلك السهم، كما لو كان مع
الأبوين بنت، ولان كل ذكر وأنثى لو انفرد كان للذكر الثلثان والأنثى الثلث،
وجب إذا كان معهما زوج أو زوجة أن يكون ما بقي بعد فرض الزوج والزوجة
بينهما كما كان بينهما إذا انفرد كالابن والابنة والأخ والأخت.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) واما الجدة فإن كانت أم الام أو أم الأب فلها السدس، لما روى
قبيصة بن ذؤيب قال (جاءت الجدة إلى أبى بكر رضي الله عنه فسألته عن ميراثها
فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ليس لك في كتاب الله شئ وما علمت لك
في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فارجعي حتى اسأل الناس فسأل عنها
فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاها السدس،
73

فقال أبو بكر رضي الله عنه هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري
رضي الله عنه فقال مثل ما قال، فأنفذه لها أبو بكر رضي الله عنه ثم جاءت الجدة
الأخرى إلى عمر رضي الله عنه فسألته ميراثها، فقال لها: مالك في كتاب الله
عز وجل شئ، وما كان القضاء الذي قضى به إلا لغيرك وما أنا بزائد في الفرائض
شيئا، ولكن هو ذلك السدس، فان اجتمعتما فيه فهو بينكما فأيكما خلت به فهو
لها) وإن كانت أم أبى الام لم ترث لأنها تدلى بغير وارث، وإن كانت أم أبى
الأب ففيه قولان.
(أحدهما) أنها ترث هو الصحيح، لأنها جدة تدلى بوارث فورثت كأم
الام وأم الأب.
(والثاني) أنها لا ترث لأنها جدة تدلى بجد فلم ترث كأم أبى الام، فإن
اجتمعت جدتان متحاذيتان كأم الام وأم الأب فالسدس بينهما لما ذكرناه، فإن كانت
إحداهما أقرب نظرت، فإن كانتا من جهة واحدة ورثت القربى دون البعدى
لان البعدى تدلى بالقربى فلم ترث معها كالجد مع الأب وأم الام مع الام، وإن
كانت القربى من جهة الأب والبعدى من جهة الام ففيه قولان.
(أحدهما) أن القربى تحجب البعدى، لأنهما جدتان ترث كل واحدة منهما
إذا انفردت فحجبت القربى منهما البعدى، كما لو كانت القربى من جهة الام.
(والثاني) لا تحجبها وهو الصحيح، لان الأب لا يحجب الجدة من جهة
الام، فلان لا تحجبها الجدة التي تدلى به أولى، وتخالف القربى من جهة الام،
فان الام تحجب الجدة من قبل الأب فحجبتها أمها والأب لا يحجب الجدة من قبل
الام فلم تحجبها أمه، فان اجتمعت جدتان إحداهما تدلى بولادتين بأن كانت أم أم
أب، أو أم أم أم، والأخرى تدلى بولادة واحدة كأم أبى أب ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبى العباس: أن السدس يقسم بين الجدتين على ثلاثة
فتأخذ التي تدلى بولادة سهما وتأخذ التي تدلى بولادتين سهمين.
(والثاني) وهو الصحيح أنهما سواء لأنه شخص واحد فلا يأخذ فرضين.
(الشرح) حديث قبيصة بن ذؤيب رواه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود
74

والترمذي وصححه وابن حبان والحاكم. قال الحافظ ابن حجر: وإسناده صحيح
لثقة رجاله، إلا أن صورته مرسل، فان قبيصة لا يصح سماعه من الصديق
ولا يمكن شهوده القصة، أفاده ابن عبد البر، وقد اختلف في مولده، والصحيح
أنه ولد عام الفتح فيبعد شهوده القصة، وقد أعله ابن عبد الحق تبعا لابن حزم
بالانقطاع، وقال الدارقطني في العلل بعد أن ذكر الاختلاف فيه على الزهري:
يشبه أن يكون الصواب قول مالك ومن تابعه. وقد وردت أحاديث متصلة
صحيحة تؤيد قصة قبيصة عند الطبراني والبيهقي والدارقطني وابن ماجة وأبى القاسم
ابن منده، وقد نقل محمد بن نصر من أصحاب الشافعي اتفاق الصحابة عليه.
أما الأحكام: فان الجدة أم الام أو أم الأب وارثة بما روى خارجة بن زيد
عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة أم الام السدس. وأجمعت الأمة
على توريث الجدة.
إذا ثبت هذا: فان فرضها السدس، سواء كانت أم أم أو أم أب، وبه قال
الصحابة كافه كما قررنا والفقهاء اجمع، وروى عن ابن عباس رواية شاذة أنه قال
أم الام ترث الثلث لأنها تدلى بالأم فورثت ميراثها كالجد يرث ميراث الأب.
ودليلنا ما ذكرناه من الخبرين، وبما رواه قبيصة بن ذؤيب في قصة الجدة
المذكورة في الفصل.
قال الشيخ أبو حامد والجدة التي أتت أبا بكر هي أم الام، والجدة التي أتت
عمر هي أم الأب، ومعنى قول أبى بكر رضي الله عنه. مالك في كتاب الله شئ
لان الكتاب محصور، وليس فيه ذكر الجدة، ولهذا قلنا إن اسم الام لا ينطلق
على الجدة لأنه قال. ما لك في الكتاب شئ، وفى الكتاب ذكر الام، ثم قال
وما علمت لك في السنة شيئا فلم يقطع به، لان السنة لا تنحصر، ولكن أراد
على مبلغ علمه ومعنى قول عمر لست بزائد في الفرائض أي لا أزيد في الفريضة
لأجلك، وإنما هو ذلك السدس الذي قضى به،
واما الاحتجاج بقول ابن عباس لما كانت تدلى بالأم اخذت ميراثها يبطل
بالأخ من الام، فإنه يدلى بها، ولا يأخذ ميراثها. إذا ثبت هذا فان أول منازل
75

الجدات يجتمع فيه جدتان أم الام وأم الأب، فان عدمت إحداهما ووجدت
الأخرى كان السدس للموجودة منهما، وإن اجتمعا كان السدس بينهما.
قال الشيخ أبو حامد لما روى الحكم عن علي بن أبي طالب رض الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدتين السدس، وروى القاسم بن محمد قال
(أتت الجدتان أم الام وأم الأب أبا بكر الصديق فأراد أن يجعل السدس للتي من
قبل الام، فقال له رجل من الأنصار أما أنك تترك التي لو ماتت وهو حي كان
إياها يرث فجعل السدس بينهما) رواه مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد عن
القاسم ورواه الدارقطني من طريق ابن عيينة.
قال الشيخ أبو حامد: وأصحابنا يحكون أن هذه القضية كانت لعمر، وإنما
هي قضية أبى بكر، ومعنى قول الأنصاري تترك التي لو ماتت وهو حي كان إياها
يرث لأنه ابن ابنها، فإذا ارتفع الجدات إلى المنزلة الثانية، اجتمع أربع جدات
اثنتان من جهة الام، وهما أم أم الام، وأم أب الام، واثنتان من جهة الأب
فأما أم أم الام، وأم أم الأب فهما وارثتان بلا خلاف، وأما أم أب الام فإنها
غير وارثة، وهو قول الفقهاء كافة، إلا ما روى عن ابن سيرين أنه ورثها وهذا
خطأ لأنها تدلى (1) بمن ليس بوارث فلم تكن وارثة كابنة الخال، وأما الجدة أم
أب الأب فهل ترثه، ففيه قولان.
(أحدهما) لا ترث، وبه قال أهل الحجاز الزهري وربيعة ومالك لأنها جدة
تدلى بجد فلم ترث كأم أب الام، فعلى هذا لا يرث قط إلا جدتان.
(والثاني) انها ترث، وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس، وهي إحدى
الروايتين عن زيد بن ثابت، وبه قال الحسن البصري وابن سيرين وأهل الكوفة
والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وهو الصحيح، لأنها جده تدلى بوارث فورثت
كأم الام، ولان تعليل الصحابة رضي الله عنهم موجود فيها حيث قال لأبي بكر
في أم الأب ورثتها عمن لو ماتت لم يرثها ولم تورثها عمن لو ماتت ورثها فورثها
أبو بكر رضي الله عنه لهذه العلة، وهي أم الأب فعلى هذا ترث في الدرجة الثانية

(1) تدلى أي تتوصل وتمت وهو من إدلاء الدلو، وأدلى بحجته أثبتها.
76

ثلاث جدات، فإذا ارتفع الجدات إلى المنزلة الثالثة اجتمعن ثماني جدات فيرث
منهن أربع ولا ترث أربع، وإنما كان كذلك لان الميت واحد فله في المنزلة
الأولى جدتان، فإذا ارتفعن إلى الدرجة الثانية كان للميت أبوان، ولكل واحد
منهما جدتان فيجتمع له في الدرجة الثالثة ثماني جدات ثم في الرابعة ستة عشر
جدة، وكلما ارتفع الميت درجة ازداد عدد الجدات ضعفا. وأما الوارثات منهن
فيورث في الدرجة الأولى جدتان، وفى الثانية ثلاث، وفى الثالثة أربع، وفى
الرابعة خمس إلى أن ترثه مائة جدة. في الدرجة الأولى جدتان وفى الثانية ثلاث
وفى الثالثة أربع، وفى الرابعة خمس إلى أن ترثه مائة جدة في الدرجة التاسعة
والتسعين يزيد على عدد الدرجات بواحدة.
وإذا اجتمع الجدات الوارثات وهن متحاذيات كان السدس بينهن لما ذكرناه
في الحد بين أم الام وأم الأب.
وإن اجتمع جدتان إحداهما أبعد من الأخرى نظرت. فإن كانتا من جهة
واحدة بأن كان هناك أم أم وأم أم أم كان السدس لام الام، لان البعدى
تدلى هذه القربى. وكل من أدلى بغيره فإنه لا يشاركه في فرضه كالجد مع الأب
وابن الابن مع الابن. وعلى هذا جميع الأصول
فان قيل: أليس الأخ للام يدلى بالأم ومع ذلك فإنه يرث معها. فالجواب
أنه لا يرث أخاه بالادلاء إليه بالأم، ولكن لأجل أنه ركض معه في رحم واحد
وأنه وإن أدلى بها فقد احترزنا عنه بقولنا لا يشاركه في إرثه، وهو أن السدس
إرث للقربى لو انفردت الجدة البعدى لشاركتها في ذلك السدس، وليس
كذلك الأخ للام.
وإن اجتمع أم أب وأم أب الأب فان السدس يكون لام أب الأب ويسقط
أم أب الأب، وبه قال علي وزيد والفقهاء أجمع. وقال ابن مسعود في إحدى
الروايتين عنه يشتركان في السدس، وهذا ليس بصحيح لأنهما من جهة واحدة
إذ أنهما يدليان بالأب، وإحداهما أقرب من الأخرى فسقطت البعدى كأم الام
إذا اجتمعت مع أم أم الام، وإن كانتا من جهتين إحداهما من جهة الام
والأخرى من جهة الأب نظرت، فإن كانت القربى من جهة الام والبعدى من
77

جهة الأب، فإن القربى تسقط البعدى وقال ابن مسعود لا تسقطها، وإنما
يشتركان في السدس، دليلنا أن إحداهما أقرب من الأخرى فسقطت البعدى
بالقربى، كما لو كانا من جهة واحدة
وإن كانت القربى من جهة الأب والبعدى من جهة الام ففيه قولان:
أحدهما أن البعدى منهما تسقط القربى. وبه قال علي بن أبي طالب، وهو قول
أهل الكوفة، ورووا ذلك عن زيد بن ثابت لأنهما جدتان لو انفردت كل
واحدة منهما لكان لها السدس، فإذا اجتمعا وجب أن تسقط البعدى بالقربى،
كما لو كانت القربى من جهة الام، والثاني لا تسقط البعدى بالقربى بل يشتركان
في السدس، وهي الرواية الثانية عن زيد، رواه المدنيون عنه، وهو الصحيح،
لان الأب لو اجتمع مع الام لم يحجبها وإن كان أقرب منها، فلان لا يسقط
الجدة التي يدلى به من هو أبعد منها لان جهة الام أولى
(فرع) وإن اجتمع جدتان متحاذيتان وإحداهما تدلى بقرابة والأخرى تدلى
بقرابتين بأن تزوج رجل بابنة عمته فولد منها ولدا فإن جدة هذا الولد أم أبى أبيه
وهي جدته أم أم أمه، وان اجتمع معها أم أم إلى هذا الولد ففيه وجهان، أحدهما
وهو قول أبى العباس بن سريح وبه قال الحسن بن صالح ومحمد بن الحسن وزفر
أن السدس يقسم بين هاتين الجدتين على ثلاثة. فتأخذ التي تدلى بولادتين
بسهمين وتأخذ التي تدلى بولادة سهما لأنها تدلى بنسب واحد. والثاني يقسم
السدس بينهما نصفين. وبه قال أبو يوسف هو الصحيح لأنها شخص واحد
فلا تأخذ فرضين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وأما البنت فلها النصف إذا انفردت لقوله تعالى: وإن كانت
واحدة فلها النصف. وللاثنتين فصاعدا الثلثان. لما روى جابر بن عبد الله قال
(جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله هاتان
ابنتا سعد، قتل أبوهما معك يوم أحد ولم يدع عمهما لهما مالا الا أخذه. فما ترى
يا رسول الله. والله لا تنكحان الا ولهما مال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الله
78

في ذلك. فنزلت إليه سورة النساء (يوصيكم الله في أولادكم) فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: ادعوا لي المرأة وصاحبها. فقال لعمهما: أعطهما الثلثين.
وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك) فدلت الآية. وهو قوله تعالى (فان كن نساء
فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك) على فرض ما زاد على الاثنتين. ودلت السنة
على فرض الثنتين.
(فصل) وأما بنت الابن فلها النصف إذا انفردت وللاثنتين فصاعدا الثلثان
لاجماع الأمة على ذلك. ولبنت الابن مع بنت الصلب السدس تكملة الثلثين.
لها روى الهزيل بن شرحبيل قال: جاء رجل إلى أبى موسى وسلمان بن ربيعة
رضي الله عنهما فسألهما عن بنت وبنت ابن وأخت فقالا: للبنت النصف وللأخت
النصف. وأت عبد الله فإنه سيتابعنا. فأتى عبد الله فقال: إني قد ضللت إذا وما
أنا من المهتدين. لأقضين بينهما بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم (للبنت
النصف. ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت) ولان بنت الابن
ترث فرض البنات ولم يبق من فرض البنات الا السدس وهكذا لو ترك بنتا
وعشر بنات ابن كان للبنت النصف ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين لما ذكرناه
من المعنى. وان ترك بنتا وبنت ابن ابن أو بنات ابن ابن أسفل من البنت بدرج
كان لهن السدس لأنه بقية فرض البنات ولبنت ابن الابن أو بنات ابن الابن مع
بنت الابن من السدس تكملة الثلثين ما لبنت الابن وبنات الابن مع بنت الصلب
وعلى هذا أبدا
(الشرح) حديث جابر مضى تخريجه، وأما حديث هذيل بن شرحبيل فقد
رواه أحمد والبخاري وأبو داود والترمذي وابن ماجة. وفى رواية البخاري فأتينا
أبا موسى وفى رواية غيره (جاء رجل إلى أبى موسى وسلمان بن ربيعة) وهذه
الواقعة كانت في عهد عثمان لان أبا موسى كان وقت السؤال أميرا على الكوفة
وسلمان قاضيا بها. وقد اختلف في صحبته
أما الأحكام فان البنت لها النصف لقوله تعالى (وإن كانت واحدة فلها النصف)
وإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان وبه قال الصحابة والفقهاء كافة، وروى عن ابن عباس
79

رواية شاذة أنه قال للابنتين النصف لقوله تعالى (فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن
ثلثا ما ترك)
دليلنا حديث جابر الذي ساقه المصنف الذي دل على أن للبنتين الثلثين،
ولان الآية وردت على سبب وهو ابنتا سعد بن الربيع، فلا يجوز إخراج السبب
عن حكم الآية. وأيضا فان الله تعالى فرض للابنة الواحدة النصف وفرض
للأخت الواحدة النصف في آية أخرى وجعل حكمهما واحدا، ثم جعل للأختين
الثلثين، ووجدنا أن البنات أقوى من الأخوات بدليل أن البنات لا يسقطن مع
الأب ولا مع البنين والأخوات يسقطن مع الأب والبنتين، فإذا كان للأختين
الثلثان فالابنتان بذلك أولى.
والجواب عن قوله: فإن كن نساء فوق اثنتين فان قوله (فوق) صلة في الكلام
لقوله تعالى (فاضربوا فوق الأعناق) وإن كان البنات أكثر من اثنتين فلهما
الثلثان للآية.
أما مسألة ابنة الابن فان لها النصف إذا انفردت ولابنتي الابن فصاعدا
الثلثان، لان الأمة أجمعت على أن ولد البنين يقومون مقام الأولاد، ذكورهم
كذكور الأولاد وإناثهم كإناثهم، فإذا اجتمع ابنة وابنه ابن كان للابنة النصف
ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين لما رواه هزيل بن شرحبيل في قصه سؤال
أبى موسى وسلمان بن ربيعه ثم فتوى ابن مسعود.
وقولهما: وأت عبد الله فإنه سيتابعنا، جعل ابن مسعود يقول قد ضللت
إذن وما أنا من المهتدين، يعنى إذا تابعنهما أو أفتيت بقولهما. ثم قال لأقضين
فيهما بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم للابنة النصف ولابنة الابن السدس
والباقي للأخت. فأخبر أن هذا قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولان
بنات الابن يرثن فرض البنات، ولم يبق من فروض البنات إلا السدس فكان
لابنة الابن. وان ترك ابنة وبنات ابن كان للابنة النصف ولبنات الابن السدس
لأنه هو الباقي عن فرض البنات، وهكذا لو ترك بنتا وبنت ابن ابن ابن بدرج
أو بنات ابن ابن بدرج كان للابنة النصف ولمن بعدها من بنات الابن وان بعدت
السدس إذا تحاذين وإن كان بعضهن أعلى من بعض كان السدس لمن أعلا منهن.
80

وقال ابن مسعود: لبنات الابن الأقل من المقاسمة وهو السدس، فإن كان
السدس قل كان لهن السدس والباقي لابن الابن، وإن كانت المقاسمة أقل من
السدس فلهن المقاسمة، ودليلنا عليه ما ذكرناه في الأولة.
(فرع) فإن خلف بنتا وابن ابن وبنت ابن ابن فللابنة النصف والباقي لابن
الابن وسقط بنت ابن الابن لأنه أقرب منها، وإن خلف بنتين وبنت ابن وابن
ابن ابن كان للبنتين الثلثان، والباقي بين بنت الابن وابن ابن الابن للذكر مثل
حظ الأنثيين، وقال بعض الناس: لابن ابن الابن وسقط بنت الابن.
ودليلنا: أنا وجدنا أن بنت الابن لو كانت في درجة ابن الابن لم تسقط معه
بل يعصبها، فلما لم يسقطها إذا كانت في درجته فلان لا يسقطها إذا كانت أعلا
منه أولى، وإن خلف بنتا وبنات ابن وابن ابن ابن كان للبنت النصف، ولبنات
الابن السدس، تكملة الثلثين والباقي لابن ابن الابن، لان من فوقه من بنات
الابن قد أخذت شيئا من فرض البنات فلا يجوز أن يرث بالتعصيب فكان الباقي
له دونهن، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وأما الأخت للأب والام فلها النصف إذا انفردت، وللاثنتين
فصاعدا الثلثان لقوله عز وجل (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ
هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم يكن لها ولد،
فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك) وللثلاث فصاعدا ما للاثنتين لان كل فرض
يغير بالعدد كان الثلاث فيه كالاثنتين كالبنات، وللأخت من الأب عند عدم
الأخت من الأب والام النصف إذا انفردت، وللاثنتين فصاعدا الثلثان، لان
ولد الأب مع ولد الأب والام كولد الابن مع ولد الصلب فكان ميراثهم كميراثهم
(فصل) والأخوات من الأب والام مع البنات عصبة ومع بنات الابن
والدليل عليه ما ذكرناه من حديث الهزيل بن شرحبيل.
وروى إبراهيم عن الأسود قال: قضى فينا معاذ بن جبل رضي الله عنه على
81

عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة تركت بنتها وأختها للبنت النصف،
وللأخت النصف.
وعن الأسود قال: كان ابن الزبير لا يعطى الأخت مع البنت شيئا فقلت:
إن معاذا قضى فينا باليمن فأعطى البنت النصف والأخت النصف، قال: فأنت
رسولي بذلك، فإن لم تكن أخوات من الأب والام فالأخوات من الأب لأنهن
يرثن ما يرث الأخوات من الأب والام عند عدمهن
(فصل) وأما ولد الام فللواحد السدس وللاثنين فصاعدا الثلث،
والدليل عليه قوله عز وجل (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو
أخت فكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث)
والمراد به ولد الام، والدليل عليه ما روى أن عبد الله وسعدا كانا يقرءان (وله
أخ أو أخت من أم) وسوى بين الذكور والإناث للآية، ولأنه ارث بالرحم
المحض فاستوى فيه الذكر والأنثى كميراث الأبوين مع الابن.
(فصل) وأما الأب فله السدس مع الابن وابن الابن، لقوله عز وجل
(ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد) ففرض له السدس
مع الابن، وقيس عليه إذا كان مع ابن الابن، لان ابن الابن كالابن في الحجب
والتعصيب، وأما الجد فله السدس مع الابن وابن الابن لاجماع الأمة.
(فصل) ولا ترث بنت الابن مع الابن، ولا الجدة أم الأب مع الأب.
لأنها تدلى به، ومن أدلى بعصبة لم يرث معه كابن الابن مع الابن، والجد مع
الأب، ولا ترث لجدة من الام مع الام، لأنها تدلى بها، ولا الجدة من الأب
لان الام في درجة الأب والجدة في درجة الجد، فلم ترث معها، كما لا يرث
الجد مع الأب.
(الشرح) حديث إبراهيم عن الأسود رواه أبو داود وكذا البخاري بمعناه
أما مسألة الأخوات للأب والام فترتيبهن كترتيب البنات. فان خلف أختا
واحدة فلها النصف فأن خلف أختين فصاعدا فلهن الثلثان لقوله تعالى
(يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة، إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها
82

نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد، فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك،
وإن كانوا اخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) ليس في الآية ذكر
ثلاث أخوات فما زاد، ولكن قد ذكر في البنات إذا كن فوق اثنتين أن لهن
الثلثين، ولم يذكر الثلاث في الأخوات اكتفاء بما ذكره في البنات، كما أنه لم
يذكر ما للابنتين اكتفاء بما ذكره للأختين، لان حكم البنات والأخوات واحد
وأيضا قد روى جابر قال: اشتكيت وعندي ثلاث أخوات فدخل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم يعودني، فقلت يا رسول الله كيف أصنع بمالي وليس يرثني
الا الكلالة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رجع فقال: قد أنزل في
أخواتك وبين، فجعل لهن الثلثين، قال جابر فنزلت قوله (يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة) فذكر أن الآية نزلت في أخواته وهن تسع على ما في الصحيح
وإنما وردت بابنتين، فدل على أن المراد بالآية الابنتان وما زاد عليهما
(فرع) وأما الأخوات للأب والام كبنات الابن مع البنات لأنهن قد
تساوين في الاخوة، لان الأخوات للأب والام فضلن في الادلاء بالأم فكن
كالبنات فضلن على بنات الابن
إذا ثبت هذا فإن لم يكن هناك أحد من الإخوة للأب والام وهناك أخت
واحدة لأب فلها النصف، وإن كانتا أختين فصاعدا فلهما الثلثان. وإن كان هناك
أخت لأب وأم وأخت لأب كان للأخت للأب والام النصف والأخت للأب
السدس قياسا على ابنة الابن مع ابنة الصلب.
وإن كان هناك أخت لأب وأم وأخ وأخت كان للأخت للأب والام النصف
وللأخ والأخت للأب الباقي للذكر مثل حظ الأنثيين، وان خلف أختين لأب
وأم وأختا لأب كان للأختين للأب والام الثلثان ولا شئ للأخت للأب لأنه
لا يجوز أن يأخذ للأخوات الفرض أكثر من الثلثين.
وأن خلف أختين لأب وأم وأخا وأخوات لأب فللأختين للأب والام
الثلثان وما بقي للأخ والأخوات للأب، للذكر مثل حظ الأنثيين، وبه قال عامة
الصحابة والفقهاء الا ابن مسعود فإنه قال: لهن الأقل من المقاسمة أو سدس المال
وقد مضى الدليل على ذلك في بنات الابن
83

وان خلف أختين لأب وأم وأختا لأب وابن أخ لأب، وأم أم لأب
فللأختين للأب والام الثلثان والباقي لابن الأخ، ولا يعصب الأخت للأب.
والفرق بينه وبين ابن الابن حيث عصب عمته أن ابن الابن يعصب أخته فعصب
عمته وابن الأخ لا يعصب أخته فلم يعصب عمته
(فرع) وان خلف ابنة وأختا لأب وأم أو لأب أو ابنة ابن وأختا لأب
وأم أو لأب كان للابنة أو لابنة الابن النصف وما بقي للأخت. وهكذا ان خلف
ابنتين وأختا لأب وأم أو لأب كان للابنة النصف ولابنة الابن السدس وللأخت
ما بقي. وكذلك إن كان في هذه المسائل مع الأخت ابن أخ أو عم، فإن ما بقي
عن فرض البنات للأخت دون ابن الأخ والعم، وبه قال عامة الصحابة والفقهاء
الا ابن عباس فإنه لم يجعل للأخت مع البنت مع ابنة الابن شيئا، بل جعل ذلك
لابن الأخ أو للعم لقوله تعالى (قل الله يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس له
ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) فورث الأخ شرط أن لا يكون للميت ولد،
ولقوله صلى الله عليه وسلم: ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر
دليلنا ما ذكرناه من حديث هذيل بن شرحبيل، قال ابن مسعود لأقضين
فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: للابنة النصف ولابنة الابن السدس
وللأخت ما بقي.
وأما الجواب عن قوله تعالى (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة، ان امرؤ
هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) فان الآية تدل على أنه لا فرض
لها إذا كان للميت ولد، ونحن نقول كذلك لان هذا النصف الذي يأخذه مع عدم
الولد يأخذه بالفرض وهذا الذي يأخذه مع وجود الولد يأخذه بالتعصيب بدليل
ما ذكرناه من الخبر.
فأما قوله صلى الله عليه وسلم: ما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر، فيحتمل
إذا لم يكن هناك أخوات، بدليل ما ذكرناه من خبر ابن مسعود، ولان للأخت
تعصيبا ولابن الأخ تعصيبا، وتعصيب الأخت أولى لأنها أقرب من ابن الأخ
والعم وابن العم.
84

وأما مسألة ولد الام فللواحد منهم السدس ذكرا كان أو أنثى وللاثنين فما زاد منهم
الثلث، ويستوى فيه بين الذكر والأنثى لقوله تعالى (وإن كان رجل يورث كلالة
أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك
فهم شركاء في الثلث، وهذه الآية نزلت في الاخوة والأخوات للأم، بدليل
ما روى أن سعد بن أبي وقاص وابن مسعود كانا يقرءانها (وله أخ أو أخت من
أم فلكل واحد منهما السدس) والقراءة الشاذة تحل محل الاخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم
أو التفسير، فيجب العمل به، ولان إرث الاخوة للام إرث بالرحم المحض ولا
تعصيب لهم فاستوى ذكرهم وأنثاهم كالأبوين مع الابن
وأما مسألة الأب فله ثلاث حالات: حالة يرث بالفرض لا غير، وحاله يرث
فيها بالتعصيب لا غير. وحاله يرث فيها بالفرض والتعصيب
فأما الحالة التي يرث فيها بالفرض لا غير فهو إذا كان مع الابن أو ابن الابن
فإن فرض الأب السدس لقوله تعالى (ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك
إن كان له ولد) والمراد بالولد هنا الذكر.
وأما الحالة التي يرث فيها بالتعصيب لا غير فتنقسم قسمين: أحدهما ينفرد
بجميع المال وهو إذا لم يكن معه من له فرض غير الابنة، مثل إن كان معه أم أو
أم أم أو زوج أو زوجة فإنه يأخذ ما بقي عن فرض هؤلاء بالتعصيب لقوله تعالى
(فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث) فأضاف المال إلى الأبوين ثم قطع
للام منه الثلث ولم يذكر حكم الباقي، فدل على أن جميعه للأب
وأما الحالة الثالثة التي يرث فيها بالفرض والتعصيب فهو إذا كان أب وابنة
أو ابنة ابن فإن للأب السدس بالفرض وللابنة أو لابنه الابن النصف والباقي
للأب بالتعصيب.
وقيل إن رجل سأل الشعبي عن رجل مات وخلف بنتا وأبا فقال له: للابنة
النصف والباقي للأب، فقال أصبت المعنى وأخطأت العبارة. قل للأب السدس
وللابنة النصف والباقي للأب. وهكذا لو خلف ابنتين وأبا، أو ابنة ابن وأبا،
فللأب السدس وللابنتين الثلثان والباقي للأب.
85

(فرع) وأما الجد ففرضه السدس مع الابن أو ابن الابن لاجماع الأمة على
ذلك. وإن مات رجل وخلف جدا أو ابنة ابن قال المسعودي فمن أصحابنا من قال
للجد السدس بالفرض وللابنة أو ابنة الابن النصف والباقي للجد بالتعصيب
كما قلنا في ابنة وأب. ومنهم من قال يجوز أن يقال للابنة النصف والباقي للجد.
وأما مسألة الجدة فقد قال الشافعي رضي الله عنه (ولا يرث مع الأب أبواه ولا
مع الام جده.
وجملة ذلك أن الام تحجب الجدات من جهتها ومن جهة الأب، لما روى
عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه أعطى الجدة السدس إذا لم يكن دونها أم،
فشرط في إرث الجدة إذا لم يكن هناك أم. فدل على أنه إذا كان هناك أم انه
لا شئ للجدة. ولان أم لام تدلى بالأم. ومن أدلى بشخص لم يشاركه في الميراث
كابن الابن مع الابن.
وأم أم الأب فإنه لا يرث معه أبواه، لان الجد يدلى بالأب، ومن أدلى
بعصبة لم يشاركه في الميراث كابن الابن لا يشاركه الابن، وكذلك لا يرث مع
الأب أحد من أجداده لما ذكرناه في الجد. ولا يحجب الأب أم الام لأنها تدلى
بالأم، والأب لا يحجب الام فلم يحجب أمها كما لا يحجب الأب ابن الابن، وكذلك
أم الام ترث مع الجد لان الأب إذا لم يحجبها فلان لا يحجبها الجد أولى. وكذلك
الجد لا يحجب أم الأب لأنها تساويه في الدرجة والأدلاء إلى الميت
قال أصحابنا وجميع هذه المسائل في الحجب لا خلاف فيها، وأما الأب فهل
يحجب أم نفسه؟ اختلف أصحابنا فيه، فذهب الشافعي إلى أنه لا يحجبها، وبه
قال من الصحابة عثمان وعلي وزيد بن ثابت. ومن التابعين شريح. ومن الفقهاء
الأوزاعي والليث ومالك وأبو حنيفة وأصحابه.
وذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود وأبو موسى وعمران بن الحصين إلى
أنه لا يحجبها بل ترث معه من ولده، وبه قال احمد وإسحاق وابن جرير الطبري
لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث امرأة من ثقيف مع ابنها، دليلنا انها
تدلى بولدها فلم يشاركه في الميراث كأم الام لا ترث مع الام
86

وأما الخبر في الجدة التي ورثت مع ابنها فيجوز أن يكون لها ابنان فمات
أحدهما وخلف ابنا ثم مات ابن ابنها وخلف عمه وجدته أو يجوز أن يكون الابن
كافرا أو قاتلا أو مملوكا، إذا ثبت هذا ومات رجل وخلف أباه وأم أمه وأم أبيه
فإن البغداديين من أصحابنا قالوا: لام الام السدس والباقي للأب. قال المسعودي
فيه وجهان. أحدهما هذا، والثاني أن الجدة أم الأب تحجب أم الام عن نصف
السدس ويأخذه الأب مع باقي المال، ووجهه أنهما لو اجتمعتا لشاركتها في نصف
السدس واستحقته، فإذا كان هناك الأب استحق ما كانت تستحقه لأنها تدلى
به، والأول هو المشهور، ولا ترث ابنة الابن مع الابن لما ذكرناه في أم الأب
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يرث ولد الام مع أربعة مع الولد وولد الابن والأب والجد
لقوله عز وجل (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل
واحد منهما السدس) فورثهم في الكلالة، والكلالة من سوى الوالد والولد،
والدليل عليه ما روى جابر رضي الله عنه قال (جاءني النبي صلى الله عليه وسلم
يعودني وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ وصب من وضوئه على فعقلت، فقلت
يا رسول الله لمن الميراث وإنما يرثني كلالة، قال فنزلت آية الفرض) وروى أنه
قال كيف أصنع في مالي ولى أخوات، فنزلت آية المواريث: يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة، والكلالة هو من ليس له ولد ولا والد، وله اخوة، ولان
الكلالة مشتق من الإكليل وهو الذي يحتاط بالرأس من الجوانب، والذين
يحيطون بالميت من الجوانب الاخوة، فأما الوالد والولد فليسا من الجوانب،
بل أحدهما من أعلاه والاخر من أسفله، ولهذا قال الشاعر يمدح بنى أمية:
ورثتم قناة الملك لا عن كلالة * عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
(فصل) ولا يرث ولد الأب والام مع ثلاثة، مع الابن وابن الابن
والأب، والدليل عليه قوله عز وجل (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة
87

إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها
ولد، فورثهم في الكلالة، وقد بينا ان الكلالة أن لا تكون والدا ولا ولدا.
(فصل) وإذا استكمل البنات الثلثين ولم يكن مع من دونهن من بنات
الابن ذكر لم يرثن. لما روى الأعمش عن إبراهيم قال: قال زيد رضي الله عنه
إذا استكمل البنات الثلثين فليس لبنات الابن شئ إلا أن يلحق بهن ذكر،
فيرد عليهن بقية المال، إذا كان أسفل منهن رد على من فوقه للذكر مثل حظ
الأنثيين، وان كن أسفل منه فليس لهن شئ، وبقية المال له دونهن، ولأنا لو
ورثنا من دونهن من بنات الابن فرضا مستأنفا لم يجز لأنه ليس للبنات بالبنوة
أكثر من الثلثين، وان شركنا بينهن وبين بنات الابن لم يجز، لأنهن أنزل منهن
بدرجة فلا يجوز أن يشاركنهن، وان استكمل الأخوات للأب والام الثلثين
ولم يكن مع الأخوات للأب ذكر يعصبهن لم يرثن لما ذكرناه من المعنى في البنات
وبنات الابن.
(فصل) ومن لا يرث ممن ذكرناه من ذوي الأرحام أو كان عبدا أو قاتلا
أو كافرا لم يحجب غيره من الميراث، لأنه ليس بوارث فلم يحجب كالأجنبي.
(الشرح) حديث جابر أخرجه أحمد قال ثنا سفيان أنبأنا ابن المنكدر أنه
سمع جابرا يقول: مرضت فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني هو وأبو بكر
ماشيين، وقد أغمي على فلم أكلمه، فتوضأ فصبه على فأفقت وقلت: يا رسول الله
كيف أصنع في مالي ولى أخوات؟ قال: فنزلت آية الميراث (يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة، كان ليس له ولد وله أخوات).
وفى رواية الصحيحين عن جابر رضي الله عنه قال (عادني رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأبو بكر في بنى سلمة يمشيان، فوجدني لا أعقل زاد في رواية
الكشميهني: شيئا) وقد ترجم البخاري له في صحيحه: باب عيادة المغمى عليه
وفى باب الاعتصام من صحيح البخاري بأنه صب عليه نفس الماء الذي توضأ به،
وفى باب عبادة المريض: فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه على
وفى لفظ عند أبي داود: فنفخ في وجهي فأفقت، وفى الصحيحين من رواية رافع
88

ابن خديج: فنزلت: يوصيكم الله في أولادكم. فقد قيل: إنه وهم وأن الصواب
أن الآية التي نزلت في قصة جابر هي الآية الأخيرة من سورة النساء وهي:
يستفتونك. قال شعبة: قلت لمحمد بن المنكدر: يستفتونك قل الله يفتيكم في
الكلالة؟ قال: هكذا أنزلت.
أما الأحكام: فإن الاخوة والأخوات للأم فيسقطون عن الإرث مع أحد
أربعة، مع الأب أو الجد الوارث أو مع الولد ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو
أكثر أو مع ولد البنين، سواء كان ولد الابن ذكرا أو أنثى، واحدا كان أو
أكثر، والدليل عليه قوله تعالى (وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ
أو أخت فلكل واحد منهما السدس، فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في
الثلث) فورثهم بالكلالة، والكلالة هو من لا ولد له ولا والد.
والدليل عليه الكتاب والسنة والاجماع واللغة. فالكتاب يستفتونك قل الله
يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس له ولد، فنص على أن الكلالة من لا ولد
له، والاستدلال من الآية أن الكلالة أيضا من لا والد له لقوله تعالى (وله
أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها ان لم يكن لها ولد) فورث الأخت نصف مال
الأخ وورث الأخ جميع مال الأخت إذا لم يكن لها ولد ولا والد.
وأما السنة: فرواية جابر كيف أصنع بمالي؟ إنما ترثني كلاله، ولم يكن له
ولد ولا والد، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وأما الاجماع فروى عن أبي بكر وعلى وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم
أنهم قالوا الكلالة من لا ولد له ولا والد، ولا مخالف لهم.
وأما اللغة، فإن الكلالة مأخوذة من الإكليل، والإكليل إنما يحيط بالرأس
من الجوانب، ولا يتعلق عليه ولا ينزل عنه، والأب يعلو الميت، وولده ينزل
عنه، كذلك الكلالة له يحيط بالميت من الجوانب ولا تعلو عليه ولا تنزل عنه،
ولهذا قال الشاعر الأموي يمدحهم: ورثتم قناة الملك لا عن كلاله * عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
أي لم ترثوا الملك عمن هو مثلكم، وإنما ورثتموه عمن هو أعلى منكم،
89

عن عثمان بن عفان جدكم وعثمان ورثه عن جده عبد شمس وعبد شمس ورثه
عن هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم وقال ابن بطال: لان بنى أمية ورثوا
الخلافة عن عثمان رضي الله عنه وأبوه من بنى عبد شمس وأم أمه من بني هاشم،
وهي البيضاء بنت عبد المطلب بن هاشم فجدته لامه عمة النبي صلى الله عليه وسلم
أما مسألة الاخوة والأخوات للأب والام فإنهم لا يرثون مع أحد ثلاثة،
مع الأب أو مع الابن أو ابن الابن لقوله تعالى (يستفتونك قل الله يفتيكم في
الكلالة إن امرؤ هلك) الآية. فورث للأخت من أخيها بالكلالة، وقد دللنا
على أن الكلالة من لا ولد له ولا والد
ثم دل الدليل على أنهم يرثون مع البنات وبنات الابن ومع الجد، وبقى الأب
والابن وابن الابن على ظاهر الآية، ولا ترث الاخوة والأخوات للأب مع
مع أحد أربعة: الأب والابن وابن الابن لما ذكرناه، ولا مع الأخت للأب
والام لأنها أقرب منهم
أما مسألة الحجب فإنه حجبان: حجب إسقاط وحجب نقصان. فأما حجب
الاسقاط فمثل حجب الابن للاخوة والأخوات وبنيهم. والأعمام وبنيهم. ومثل
حجب الاخوة لبنى الاخوة والأعمام وبنيهم، ومثل حجب الأب للاخوة.
وأما حجب النقصان فمثل حجب الولد للزوج من النصف إلى الربع، وحجب
الزوجة من الربع إلى الثمن، ومثل حجب الام من الثلث إلى السدس. إذا ثبت
هذا فإن جميع من ذكرنا ممن لا يرث من ذوي الأرحام والكفار والمملوكين
والقاتلين ومن عمى موته فإنه لا يحجب غيره. وبه قال الصحابة والفقهاء كافة
إلا ابن مسعود فإنه قال. يحجبون حجب النقصان. ووافق أنهم لا يحجبون
حجب الاسقاط.
ودليلنا أن كل من لا يحجب حجب الاسقاط لم يحجب حجب النقصان كابن
البنت، ولأنه ليس بوارث فلم يحجب غيره كالأجنبي، فإن قيل الاخوان
لا يرثان مع الأب ويحجبان الام فالجواب أنهما وارثان، وإنما أسقطهما من هو
أقرب منهما، وهؤلاء ليسوا بورثة في الجملة
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: وبنو الاخوة لا يحجبون الام عن الثلث
90

ولا يرثون مع الجد، وهذا صحيح. بنو الاخوة لا يحجبون الام من الثلث إلى
السدس، سواء كان بنى إخوة لأب وأم أو لأب لقوله تعالى (وورثه أبواه)
أليس لما حجبها الأولاد حجبها أولاد الأولاد، هلا قلتم لما حجبها الاخوة حجبها
أولادهم؟ قلنا: الفرق بينهما أن حجب الأولاد أقوى من حجب الاخوة، بدليل
أن الواحد من الأولاد حجب الام، فمن حيث هو أقوى تعدى حجبه ذلك إلى
ولده، وحجب الاخوة أضعف لأنه لا يحجبها إلا اثنان منهم عندنا. وعند
ابن عباس لا يحجبها إلا ثلاثة. فمن حيث ضعف حجبهم لم يتعد حجبهم إلى
أولادهم، ولان كل من حجبه الولد حجبه ولد الابن، لان الولد يحجب الإخوة
فحجبهم ولده، والولد يحجب الأب فحجبه ولده، وليس كذلك ولد الاخوة فإنهم
لا يحجبون من يحجب أبوهم، ألا ترى أن الأخ للأب والام يحجب الأخ للأب
ومعلوم أن ابن الأخ للأب والام لا يحجب الأخ للأب، بل الأخ للأب يسقط
ابن الأخ للأب والام ولا يرث بنو الاخوة من الجد لان الجد أقرب منهم
فأسقطهم. والله تعالى أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن اجتمع أصحاب فروض ولم يحجب بعضهم بعضا فرض لكل
واحد منهم فرضه فإن زادت سهامهم على سهام المال أعيلت بالسهم الزائد ودخل
النقص على كل واحد منهم بقدر فرضه، فإن ماتت امرأة وخلفت زوجا وأما
وأختين من الام وأختين من الأب والام فللزوج النصف وللأم السدس وللأختين
من الام الثلث وللأختين من الأب والام الثلثان، وأصل الفريضة من ستة
وتعول إلى عشرة، وهو أكثر ما تعول إليه الفرائض لأنها عالت بثلثيها وتسمى
أم الفروخ لكثرة السهام العائلة، وتسمى الشريحية لأنها حدثت في أيام شريح
وقضى فيها.
وإن مات رجل وخلف ثلاث زوجات وجدتين وأربع أخوات من الام
وثماني أخوات من الأب والام، فللزوجات الربع وللجدتين السدس وللأخوات
من الام الثلث وللأخوات من الأب والام الثلثان، وأصلها من اثنى عشر وتعول
91

إلى سبعة عشر وهو أكثر ما يعول إليه هذا الأصل وتسمى أم الأرامل، وإن
مات رجل وخلف زوجة وأبوين وابنتين فللزوجة الثمن وللأبوين السدسان
وللابنتين الثلثان وأصلها من أربعة وعشرين وتعول إلى سبعة وعشرين وتسمى
المنبرية، لأنه روى أن عليا كرم الله وجهه سئل عن ذلك وهو على المنبر فقال
صار ثمنها تسعا.
وإن ماتت امرأة وخلفت زوجا وأما وأختا من أب وأم فللزوج النصف
وللأخت النصف وللأم الثلث، وأصلها من ستة وتعول إلى ثمانية وهي أول
مسألة أعيلت في خلافة عمر رضي الله عنه وتعرف بالمباهلة، فإن ابن عباس
رضي الله عنه أنكر العول وقال هذان النصفان ذهبا بالمال فأبن موضع الثلث
فقيل له والله لئن مت أو متنا فيقسم ميراثنا إلا على ما عليه القوم، قال فلندع
أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم وأنفسنا وأنفسهم، ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على
الكاذبين) والدليل على إثبات العول أنها حقوق مقدرة متفقة في الوجوب،
ضاقت التركة عن جميعها فقسمت التركة على قدرها كالديون
(الشرح) إذا اجتمع أصحاب الفروض وضاقت سهام المال عن أنصبتهم،
أعليت الفريضة التي زيد في حسابها ليدخل النقص على كل واحد منهم بقدر
حقه. والعول هو الرفع.
قال الفيومي في المصباح: عالت الفريضة عولا ارتفع حسابها وزادت سهامها
فنقصت الأنصباء، فالعول نقيص الرد، ويتعدى بالألف في الأكثر، وبنفسه
في لغة، فيقال أعال زيد الفريضة وعالها، وعال الرجل عولا جار وظلم. وقوله
تعالى: ذلك أدنى ألا تعولوا. قيل معناه ألا يكثر من تعولون. وقال مجاهد:
لا تميلوا ولا؟ وروا.
وقال العمراني في البيان: وإنما سمى عولا للرفع في الحساب إلى الزيادة فيه.
إذا ثبت هذا فأصول حساب الفرائض سبعه: الاثنان، والثلاثة، والأربعة،
والستة، والثمانية، والاثنا عشر، والأربعة وعشرون. فأربعة من هذه
الأصول لا يعول قط، وهي الاثنان والثلاثة والأربعة والثمانية، وثلاثة من
92

هذه الأصول يعول، وهي الستة والاثنا عشر والأربعة وعشرون فأما أصل
الستة فإنه يعول إلى سبعه وثمانية وسبعه وعشرة. فأما التي تعول إلى سبعه فهي
إذا ماتت امرأة وخلفت زوجا وأختين لأب وأم، فللزوج النصف ثلاثة
وللأختين الثلثان أربعة فذلك سبعه. أو مات رجل وخلف أختين لأب وأم
وأختين لام وأما أو جدة فللأختين للأب والام الثلثان أربعة وللأختين للأم الثلث
سهمان وللأم أو الجدة سهم وهو السدس فذلك سبعه، فنتصور أن يكون
الميت فيها رجلا أو امرأة.
وأما التي تعول إلى ثمانية، فمثل أن يكون هناك أختان لأب وأم وأخ لام
وزوج فللأختين للأب والام الثلثان أربعة والأخ للأم السدس سهم وللزوج
النصف ثلاثة. وكذلك إذا خلفت زوجا وأختا لأب وأم أو لأب وأما فللزوج
النصف ثلاثة وللأخت النصف ثلاثة وللأم الثلث سهمان وتعرف هذه المسألة
بالمباهلة، فإنها حدثت في أيام عمر رضي الله عنه، فقضى فيها عمر كذلك فأنكره
ابن عباس وقال: من شاء باهلته فيها، والبهلة اللعنة.
وأما التي تعول إلى تسعه فمثل ان تموت امرأة وتخلف أختين لأب وأم
وزوجا فللأختين الثلثان أربعة وللأخوين للأم الثلث وللزوج النصف. وأما
التي تعول إلى عشرة، فمثل ان تموت امرأة وتخلف زوجا وأختين لأب وأم
وأخوين لام واما أو جدة فللزوج النصف ثلاثة وللأخوين للأب والام الثلثان
أربعة. وللأخوين للأم الثلث سهمان وللأم أو للجدة سهم فذلك عشرة. وهي
أكثر ما تعول إليه الفرائض لأنها عالت بثلثيها. وتسمى أم الفروخ لكثرة
ما فرخت وعالت به من السهام، وتسمى الشريحية لأنها حدثت في زمان شريح
فقضى بها كذلك وكان الزوج يقول: جعل لي شريح النصف لما كان وقت
القسمة لم يعط النصف ولا الثلث. وقال شريح: أراك رجلا جائرا تذكر
الفتوى ولا تذكر القصة.
93

وإذا عالت الفريضة إلى ثمانية أو تسعة أو عشرة فلا يحتمل أن يكون ذكرا
وأما أصل الاثني عشر فإنها تعول إلى ثلاثة عشر وخمسة عشر وسبعة عشر،
فأما التي تعول إلى ثلاثة عشر فمثل أن يموت رجل ويخلف زوجة وأختين لأب
وأم وأما أو جدة فللأختين الثلثان ثمانية وللزوجة الربع ثلاثة وللأم أو الجدة
السدس سهمان فيتصور في التي تعول إلى ثلاثة عشر أن يكون الميت رجلا أو
امرأة، وأما التي تعول إلى خمسة عشر فمثل أن يكون هناك زوجة وأختان لأب
وأم وأخوان لام فللزوجة الربع ثلاثة وللأختين للأب والام الثلثان ثمانية
وللأخوين للأم الثلث أربعة. أو تموت امرأة فتخلف زوجا وابنتين وأبوين
فللزوج الربع ثلاثة وللابنتين الثلثان ثمانية وللأبوين السدسان أربعة، فنتصور
أن يكون الميت فيها رجلا أو امرأة.
وأما التي تعول إلى سبعة عشر كأن يكون هناك زوجة وأختان لأب وأم
وأخوان لام وأم أو جدة، فللزوجة الربع ثلاثة وللأختين للأب والام الثلثان
ثمانية وللأخوين للأم الثلث أربعة، وللأم أو الجدة السدس سهمان فذلك سبعة
عشر، وهذا أكثر ما يعول إليه هذا الأصل، وتسمى أم الأرامل لأنه لا يتصور
أن يكون الميت فيها الا رجلا.
وأما أصل أربعة وعشرين فإنه يعول إلى سبعة وعشرين لا غير، وهو أن
يكون هناك زوجة وابنتان وأبوان، فللزوجة الثمن ثلاثة وللابنتين الثلثان ستة
عشر وللأبوين السدسان ثمانية، ولا يتصور أن يكون الميت معها الا رجلا
وتسمى المنبرية، لان عليا رضي الله عنه سئل عنها وهو على المنبر فقال: عاد
ثمنها تسعا.
إذا ثبت هذا: فقد قال بالعول الصحابة كافه وذلك أنه حدث في أيام عمر
رضي الله عنه أن امرأة ماتت وخلفت زوجا وأختا لأب وأم وأما فاستشار
الصحابة فيها فأشار العباس عليه بالعول فقالوا: صدقت، وكان ابن عباس يومئذ
صبيا فلما بلغ أنكر العول وقال: من شاء باهلته، وروى عن عبد الله بن مسعود
أنه قال: التقيت أنا وزفر بن أوس الطائي فذهبنا إلى ابن عباس وتحدثنا معه فقال
94

ان الذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في مال نصفا ونصفا وثلثا فالنصفان
ذهبا بالمال، فأين الثلث، فقال له زفر من أول من أعال المسائل، فقال عمر
فقال ابن عباس: وأيم الله لو قدموا من قدم الله وأخروا من أخره الله،
ما عالت فريضة قط، فقال له زفر: من المقدم ومن المؤخر، فقال: من أهبط
من فرض إلى فرض فهو المقدم، ومن أهبط من فرض إلى ما بقي فهو المؤخر،
فقال زفر: هلا أشرت عليه، فقال: هبته، وكان امرءا مهيبا، فكان ابن عباس
يدخل النقص على البنات والأخوات ويقدم الزوج والزوجة والام، لأنهم
يستحقون الفرض بكل حال، والبنات والأخوات تارة يفرض لهن وتارة
لا يفرض لهن، فيقول في زوجة، وابنتين وأبوين: للزوجة الثمن وللأبوين
السدسان ثمانية وللابنتين ما بقي هو ثلاثة عشر.
ودليلنا ما روى ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: اقسموا الفرائض
على كتاب الله عز وجل، ووجدنا ان الله فرض لكل واحد ممن ذكرنا من البنات
والأخوات فرضا فوجب ان يقسم ذلك لهن، ولان الأخوات أقوى حالا من
الام، والبنات أقوى حالا من الزوج والزوجة بدليل ان البنات يحجبن الزوج
والزوجة، من النصف والربع إلى الربع والثمن، والزوجان لا يحجبانهن،
والأخوات يحجبن الام والام لا تحجبهن، فكيف يجوز تقديم الضعيف على
من هو أقوى منه، ولأنه لا خلاف ان رجلا لو أوصى لرجل بثلث ماله ولم يجز
الورثة يقسم الثلث بينهما، وإذا ضاق مال المفلس عن ديونه قسم بينهم على قدر
ديونهم، فوجب إذا ضاقت التركة عن سهام التركة ان يجعل لكل واحد منهم على
قدر سهمه حسب قانون النسبة ويضرب به، ولأنه إذا كان هناك زوج وأختان
لام وأم فلا بد ان ينتقض فيها بعض أصول ابن عباس، لأنه قال للزوج النصف
وللأم السدس وللأختين الثلث نقض أصله في أن الأختين تحجبان الام من الثلث
إلى السدس، وان قال: للزوج النصف وللأم الثلث وللأختين للأم الثلث نقض
أصله لأنه ادخل النقص على من له فرض مقدر لا ينقص عنه، وان قال: للزوج
النصف وللأم الثلث وللأختين للأم الثلث أعال الفريضة فنقض أصله في العول،
والله تعالى اعلم بالصواب.
95

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن اجتمع في شخص جهتا فرض، كالمجوسي إذا تزوج ابنته
فأتت منه ببنت، فإن الزوجة صارت أم البنت وأختها من الأب، والبنت بنت
الزوجة وأختها، فإن ماتت البنت ورثتها الزوجة بأقوى القرابتين وهي بكونها
أما، ولا ترث بكونا أختا، لأنها شخص واحد اجتمع فيه شيئان يورث بكل
واحد منهما الفرض فورث بأقواهما ولم ترث بهما، كالأخت من الأب والام
وإن ماتت الزوجة ورثتها البنت النصف بكونها بنتا، وهل ترث الباقي بكونها
أختا، فيه وجهان.
(أحدهما) لا ترث، لما ذكرناه من العلة.
(والثاني) ترث، لان إرثها بكونها بنتا بالفرض إرثها بكونها أختا بالتعصيب
لان الأخت مع البنت عصبة، فجاز أن ترث بهما كأخ من أم وهو ابن عم.
(الشرح) كان في بعض الشعوب القديمة إباحة التزوج بالابنة والأخت
كالمصريين فقد كان فراعينهم يتزوجون بأخواتهم كزواج توت عنخ آمون من
شقيقته نفرتيتي، وكذلك فعل رعمسيس وغيره من هؤلاء، وكذلك المجوس
في فارس وخراسان والهند، وقد شبب المتنبي في شعره وتغزل في أخته فقال
لا سامحه الله:
يا أخت معتنق الفوارس في الوغى * لأخوك ثم ارق منك وارحم
يرنو إليك مع العفاف وعنده * ان المجوس تصيب فيما تحكم
اما الأحكام: فإنه إذا أدلى شخص بنسبين أو سببين إلى مورثه فإنه يورث
بكل واحد منهما فرضا مقدرا مثل ان يتزوج المجوسي ابنته فأولدها بنتا فلا خلاف
انهما لا يورثان بالزوجية، واما القرابة فإنهما قد صارتا أختين لأب وإحداهما
أم الأخرى، فإن مات الأب كان لابنته الثلثان وما بقي لعصبته، فإن ماتت السفلى
ورثتها الأخرى بأقوى القرابتين، وهي كونها اما، وهكذا لو وطئ مسلم ابنته
بشبهة فأتت ببنت فإنها بنتها وأختها لأب، فان ماتت البنت السفلى ورثتها أمها
96

بكونها أما لا بكونها أختا، وبه قال زيد بن ثابت ومن الفقهاء مالك. وذهب علي
وابن مسعود وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه إلى أنها ترث بالقرابتين. دليلنا
أنهما قرابتان يورث بكل واحدة منهما فرض مقدر فوجب ان لا يرث بهما معا،
كالأخت للأب والام لا ترث بكونها أختا لأب وأختا لام، وإن ماتت الام
ورثتها بكونها بنتا النصف. وهل ترث الباقي بكونها أختا؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا ترث للعلة الأولى (والثاني) وهو قول أبي حنيفة أنها ترث
بكونها بنتا النصف بالفرض، وترث بكونها أختا الباقي بالتعصيب، فجاز أن ترث
بهما كأخ من أم هو ابن عم. وإن أتت منه بابن وابنة ثم مات الأب كان ماله
لابنه وابنته للذكر مثل حظ الأنثيين. وإن ماتت بعد ذلك البنت التي هو زوجة
كان مالها لابنتها وابنها ولا يرثان بالإخوة.
وإن مات الابن وخلف أما وهي أخت لأب وأختا لأب وأم فعندنا للأم الثلث
ولا شئ لها بكونها أختا لأب وللأخت للأب والام النصف والباقي للعصبة
وعند أبي حنيفة للأخت للأب والام النصف، وللأم بكونها أما السدس، ولها
بكونها أختا لأب السدس فوافقنا في الجواب وخالفنا في المعنى، والله أعلم
قال المصنف رحمه الله:
باب ميراث العصبة
العصبة كل ذكر ليس بينه وبين الميت أنثى وهم الأب والابن ومن يدلى بهما
وأولى العصبات الابن والأب لأنهما يدليان بأنفسهما، وغيرهما يدلى بهما، فإن
اجتمعا قدم الابن لان الله عز وجل بدأ به فقال (يوصيكم الله في أولادكم للذكر
مثل حظ الأنثيين) والعرب تبدأ بالأهم فالأهم، ولان الأب إذا اجتمع مع الابن
فرض له السدس وجعل الباقي للابن ولان الابن يعصب أخته والأب لا يعصب
أخته، ثم ابن الابن وان سفل لأنه يقوم مقام الابن في الإرث والتعصيب، ثم
الأب لان سائر العصبات يدلون به، ثم الجد ان لم يكن أخ لأنه أب الأب ثم
أبو الجد وان علا، وان لم يكن جد فالأخ لأنه ابن الأب ثم ابن الأخ وان سفل
97

ثم العم لأنه ابن الجد ثم ابن العم وإن سفل ثم عم الأب لأنه ابن أبي الجد ثم
ابنه وإن سفل، وعلى هذا أبدا.
(فصل) وإن انفرد الواحد منهم أخذ جميع المال، والدليل عليه قوله عز
وجل: ان امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك، وهو يرثها إن لم
يكن لها ولد) فورث الأخ جميع مال الأخت إذا لم يكن لها ولد، وإن اجتمع مع
ذي فرض أخد ما بقي، لما رويناه من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
ورث أخا سعد بن الربيع ما بقي من فرض البنات والزوجة، فدل على أن
هذا حكم العصبة.
(فصل) وان اجتمع اثنان قدم أقربهما في الدرجة لما روى ابن عباس
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو
لأولى عصبة ذكر. وإن اجتمع اثنان في الدرجة وأحدهما يدلى بالأب والام
والآخر يدلى بالأب قدم من يدلى بالأب والام، لأنه أقرب، وإن استويا في
الدرجة والأدلاء استويا في الميراث لتساويهما
(فصل) ولا يعصب أحد منهم أنثى إلا الابن وابن الابن والأخ فإنهم
يعصبون أخواتهم. فأما الابن فإنه يعصب أخواته للذكر مثل حظ الأنثيين،
لقوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) وأما ابن الابن
فإنه يعصب من يحاذيه من أخواته وبنات عمه، سواء كان لهن شئ من فرائض
البنات أو لم يكن.
وقال أبو ثور: إذا استكمل البنات الثلثين فالباقي لابن الابن ولا شئ لبنات
الابن، لان البنات لا يرثن بالبنوة أكثر من الثلثين، فلو عصبنا بنت الابن
بابن الابن بعد استكمال البنات الثلثين صار ما تأخذه بالتعصيب زيادة على الثلثين
وهذا خطأ لقوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) والولد
يطلق على الأولاد وأولاد الأولاد والدليل عليه قوله تعالى (يا بني آدم) وقوله
صلى الله عليه وسلم لقوم من أصحابه يا بنى إسماعيل ارموا فإن أباكم كان راميا
ولأنه يقال لمن ينتسب إلى تميم وطئ بنو تميم وبنو طئ.
98

وقوله: انهن لا يرثن بالبنوة أكثر من الثلثين، فإنما يمتنع ذلك من جهة
الفرض، فأما في التعصيب فلا يمتنع، كما لو ترك ابنا وعشر بنات فإن للابن
السدس وللبنات خمسة أسداس وهو أكثر من الثلثين وأما. ابن ابن الابن وإن سفل
فإنه يعصب من يحاذيه من أخواته وبنات عمه، سواء بقي لهن من فرض البنات
شئ أو لم يبق كما يعصب ابن الابن من يحاذيه. وأما من فوقه من العمات فينظر
فيه فإن كان لهن من فرض البنات من الثلثين أو السدس شئ أخذ الباقي ولم
يعصبهن لأنهن يرثن بالفرض، ومن ورث بالفرض بقرابة لم يرث بالتعصيب
بتلك القرابة، وان لم يكن لهن من فرض البنات شئ عصبهن، لما روى عن زيد
ابن ثابت رضي الله عنه أنه قال: إذا استكمل البنات الثلثين فليس لبنات الابن
شئ إلا أن يلحق بهن ذكر فيرد عليهن بقية المال إذا كان أسفل منهن رد على
من فوقه للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كن أسفل منه فليس لهن شئ وبقية
المال له دونهن ولأنه لا يجوز أن يرث بالبنوة مع البعد، ولا يرث عماته مع
القرب، ولا يعصب من هو أنزل منه من بنات أخيه، بل يكون الباقي له لما
ذكرناه من قول زيد بن ثابت، فان كن أسفل منه فليس لهن شئ وبقية المال
له دونهن، ولأنه عصبة فلا يرث معه من هو دونه كالابن مع بنت الابن. وأما
الأخ فإنه يعصب أخواته، لقوله تعالى (وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر
مثل حظ الأنثيين.
(فصل) ولا يشارك أحد من العصبات أهل الفروض في فروضهم الا ولد
الأب والام فإنهم يشاركون ولد الام في ثلثهم في المشتركة، وهي زوج وأم أو
جدة واثنان من ولد الام وولد الأب والام، واحدا كان أو أكثر، فيفرض
للزوج النصف وللأم أو الجدة السدس ولولد الام الثلث يشاركهم ولد الأب
والام في الثلث، لأنهم يشاركونهم في الرحم الذي ورثوا بها الفرض، فلا يجوز
أن يرث ولد الام ويسقط ولد الأب والام كالأب لما شارك الام في الرحم بالولادة
لم يجز أن ترث الام ويسقط الأب، وتعرف هذه المسألة بالمشركة لما فيها من التشريك
بين ولد الأب والام وولد الام في الفرض وتعرف بالحمارية، فإنه يحكى فيها عن ولد الأب
والام أنهم قالوا: احسب أن أبانا كان حمارا أليس أمنا وأمهم واحدة.
99

(الشرح) حديث سعد بن الربيع ومجئ امرأته للنبي صلى الله عليه وسلم
تشكوا أخاه مضى تخريجه، وحديث ابن عباس رواه الشيخان وأحمد في مسنده
وحديث يا بنى إسماعيل ارموا مضى تخريجه في كتاب السبق والرمي، أما العصبة
فهي القرابة الذكور الذين يدلون بالذكور، هذا معنى ما قاله علماء اللغة، وهو
جمع عاصب مثل كفرة جمع كافر، وقد استعمل الفقهاء العصبة في الواحد إذا لم
يكن غيره لأنه قام مقام الجماعة في إحراز جميع المال، والشرع جعل الأنثى عصبة
في مسألة الاعتاق وفى مسألة من المواريث فقلنا بمقتضاه في مورد النص، وقلنا
في غيره: لا تكون المرأة عصبة لا لغة ولا شرعا وعصب القوم بالرجل عصبا
من باب ضرب أحاطوا به لقتال أو حماية، فلهذا اختص الذكور بهذا الاسم
لقوله عليه السلام (فلأولى عصبة ذكر) فذكر صفة الأولى وفيه معنى التوكيد
كما في قوله تعالى (إلهين اثنين).
قال في البيان: العصبة كل ذكر لا يدلى إلى الميت بأنثى، وإنما سميت عصبة
لأنه يجمع المال ويحوزه مشتق من العصابة لأنها تحيط الرأس وتجمعه، والأصل
في توريث العصبة قوله تعالى (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون
والذين عقدت أيمانكم) قال مجاهد: الأقربون ههنا هم العصبة.
إذا ثبت هذا: فأقرب العصبة الابن وان سفل ثم الأب قال المسعودي:
ومنهم من لا يسمى الابن عصبة وليس بشئ، والدليل على أن الابن أقرب
تعصيبا من الأب قوله تعالى (يوصيكم الله في أولادكم) فبدأ بذكر الولد قبل الوالد
والعرب لا تبدأ الا بالأهم فالأهم، ولان الله تعالى فرض للأب مع الولد السدس
فدل على أن الابن أسقط تعصيب الأب، لأنه إنما يأخذ السدس بالفرض،
ولان الابن بعصب أخته بخلاف الأب فان عدم البنون وبنوهم وبنوهم وان سفلوا كان
التعصيب للأب وكان أحق من سائر العصبات لان سائر العصبات يدلون به، فان
عدم الأب كان التعصيب للجد ان لم يكن أخ لأنه يدلى بالأب ثم أب الجد وان علا
يقدمون على الأعمام وان لم يكن جد وهناك أخ لأب وأم أو لأب كان التعصيب
له لأنه بدلي بالأب، فان اجتمع الأب والأخ كان المال بينهما عندنا على ما يأتي
100

بيانه، وإن اجتمع أخ لأب وأم وأخ لأب فالأخ للأب والام أولى لما روى علي
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية، وقال: إن
أعيان بنى الأخ يتوارثون دون بنى العلات يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أبيه
ولأنه يدلى بقرابتين فكان أولى ممن يدلى بقرابة، فإن عدم الأخ للأب والام كان
التعصيب للأخ للأب، ويقدم على ابن الأخ للأب والام لأنه أقرب، فإن عدم
الأعمام وبنوهم كان التعصيب لأعمام الجد الأقرب فالأقرب منهم، ثم بعدهم يكون
لبنيهم وعلى هذا فإذا انفرد الواحد من العصبة أخذ جميع المال لقوله تعالى: إن
امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد
فورث الأخ جميع مال الأخت، وإن كان هناك اثنان من العصبة في درجة
واحدة اقتسما المال بينهما لاستوائهما في النسب، وإن كان مع العصبة من له
فرض أعطى صاحب الفرض فرضه وكان الباقي للعصبة لما ذكرناه في حديث ابنتي
سعد بن الربيع وزوجته وأخته، ويعصب الابن أخته وأخواته، لقوله تعالى
(يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) وكذلك ابن الابن يعصب
أخواته لقوله تعالى (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة) إلى قوله (وإن كانوا
إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين) ومن عدا هؤلاء من العصبة
لا يعصب أخواته لأنه لا فرض لهن عند انفرادهن فلم يعصبهن.
(فرع) وان ماتت امرأة وخلفت زوجا وأما واثنتين من ولد الام وأخا
وأختا لأب وأم كان للأم السدس وهو سهم من ستة، وللزوج النصف ثلاثة
وللأخوين للأم الثلث سهمان ويشاركهما في هذين السهمين الأخ والأخت للأب
والام يقتسمونه بينهم الذكر والأنثى فيه سواء، وتصح من اثنى عشر للام
سهمان وللزوج ستة ولكل واحد من الاخوة والأخوات سهم، وبه قال عمر
وعثمان وابن مسعود وزيد بن ثابت وشريح ومالك وإسحاق.
وقال علي بن أبي طالب وابن عباس وأبو موسى الأشعري وأبي بن كعب
والشعبي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد: يسقط الأخ والأخت للأب والام
101

دليلنا: أنها فريضة جمعت ولد أم وولد أب وأم يرث كل واحد منهما إذا انفرد،
فإذا ورث ولد الام لم يسقط ولد الأب والام كما لو انفرد ولد الام وولد الأب
والام، ولم يكن معهم ذو سهم غيرهم، وهذه المسألة تعرف بالحمارية لأنه يحكى
فيها أن ولد الأب قالوا: هب أن أبانا كان حمارا أليس أمنا وأمهم واحدة؟
وتعرف بالمشتركة أيضا لما فيها من التشريك بين الاخوة للام والإخوة للأب
والام في الثلث، وقد مضى لنا في العول تفصيل يشرح مسائل هذه الفصول
فلا داعي للتكرار، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان اجتمع في شخص واحد جهة فرض وجهه تعصيب كابن عم
هو زوج أو ابن عم هو أخ من أم ورث بالفرض والتعصيب لأنهما إرثان مختلفان
بسببين مختلفين، فان اجتمع ابنا عم أحدهما أخ من الام ورث الأخ من الام
السدس والباقي بينه وبين الاخر.
وقال أبو ثور: المال كله للذي هو أخ من الام لأنهما عصبتان يدلى أحدهما
بالأبوين والآخر بأحدهما فقدم من يدلى بهما كالأخوين أحدهما من الأب
والآخر من الأب والام، وهذا خطأ لأنه استحق الفرض بقرابة الام فلا يقدم
بها في التعصيب كابني عم أحدهما زوج.
(فصل) وان لاعن الزوج ونفى نسب الولد انقطع التوارث بينهما لانتفاء
النسب بينهما، ويبقى التوارث بين الام والولد لبقاء النسب بينهما، وإن مات
الولد ولا وارث له غير الام كان لها الثلث، وإن أتت بولدين توأمين فنفاهما
الزوج باللعان ثم مات أحدهما وخلف أخاه ففيه وجهان (أحدهما) انه يرثه ميراث
الأخ من الام لأنه لا نسب بينهما من جهة الأب فلم يرث بقرابته كالتوأمين من
الزنا إذا مات أحدهما وخلف أخاه (والثاني) إنه يرثه ميراث الأخ من الأب
والام لان اللعان ثبت في حق الزوجين دون غيرهما، ولهذا لو قذفها الزوج لم يحد
ولو قذفها غيره حد، والصحيح هو الأول، لان النسب قد انتفى بينهما في حق كل
واحد كما انقطع الفراش بينهما في حق كل أحد كما يجوز لكل أحد ان يتزوجها.
102

(فصل) وإن كان الوارث خنثى، وهو الذي له فرج الرجال وفرج النساء
فإن عرف أنه ذكر ورث ميراث ذكر. وإن عرف أنه أنثى ورث ميراث أنثى.
وإن لم يعرف فهو الخنثى المشكل وورث ميراث أنثى. فإن كان أنثى وحده ورث
النصف، فإن كان معه ابن ورث الثلث وورث الابن النصف لأنه يقين ووقف
السدس لأنه مشكوك فيه، وإن كانا خنثيين ورثا الثلثين لأنه يقين ووقف الباقي
لأنه مشكوك فيه، ويعرف أنه ذكر أو أنثى بالبول، فإن كان يبول من الذكر
فهو ذكر، وإن كان يبول من الفرج فهو أنثى، لما روى عن علي كرم الله وجهه
أنه قال: يورث الخنثى من حيث يبول، وروى عنه أنه قال: إن خرج بوله من
مبال الذكر فهو ذكر. وإن خرج من مبال الأنثى فهو أنثى، ولان الله تعالى
جعل بول الذكر من الذكر، وبول الأنثى من الفرج، فرجع في التمييز إليه.
وإن كان يبول منهما نظرت فإن كان يبول من أحدهما أكثر فقد روى المزني في
الجامع أن الحكم للأكثر. وهو قول بعض أصحابنا، لان الأكثر هو الأقوى
في الدلالة. والثاني أنه لا تعتبر الكثرة لان اعتبار الكثرة يشق فسقط، وإن لم
يعرف بالبول سئل عما يميل إليه طبعه، فإن قال أميل إلى النساء فهو ذكر، وإن
قال أميل إلى الرجال فهو أنثى. وإن قال أميل إليهما فهو المشكل، وقد بيناه.
ومن أصحابنا من قال: إن لم يكن في البول دلالة اعتبر عدد الأضلاع، فإن نقص
من الجانب الأيسر ضلع فهو ذكر، فإن أضلاع الرجل من الجانب الأيسر
أنقص، فإن الله عز وجل خلق حواء من ضلع آدم الأيسر، فمن ذلك نقص من
الجانب الأيسر ضلع. ولهذا قال الشاعر:
هي الضلع العوجاء لست تقيمها * ألا ان تقويم الضلوع انكسارها
أتجمع ضعفا واقتدارا على الفتى؟ * أليس عجيبا ضعفها واقتدارها
(الشرح) قوله (توأمين) وأحدهما توأم، ولا يقال للاثنين توأم، على
ما اشتهر على ألسنة العامة خطأ، وإنما يقال للواحد توأم وللاثنين توأمين كالذكر
والأنثى يقال لهما زوجان وكل واحد منهما زوج، والأنثى توأمة والجمع توائم
103

وتؤام كدخان قال الشاعر: قالت لنا ودمعها تؤام * على الذين ارتحلوا اسلام
أما الأحكام فإذا ماتت امرأة وخلفت ابني عم أحدهما زوج ورث الزوج
النصف بالفرض والباقي بينه وبين الاخر بالتعصيب. وان مات رجل وخلف
ابني عم أحدهما أخ لام فإن للذي هو أخ لام السدس بالفرض والباقي بينه وبين
الاخر نصفان بالتعصيب، وبه قال علي وزيد بن ثابت ومالك والأوزاعي
والثوري وأبو حنيفة
وذهب عمر وابن مسعود وشريح وأبو ثور أن المال كله لابن العم الذي هو
أخ لام من الرجال الأقربين، فينبغي أن يكون له نصيب، ولأنه يدلى بنسب
يفرض له به فوجب أن لا يقوى به تعصيبه أحدهما زوج
(فرع) إذا قذف رجل امرأته بالزنا وانتفى عنه نسب ولدها، ونفاه باللعان
فإن النسب ينقطع بين الأب والولد فلا يثبت بينهما توارث، لان الإرث بينهما
بالنسب ولا نسب بينهما بعد اللعان، ولا ينقطع التوارث بين الولد والام لأنه
لا ينتفى عنها، فإن ماتت الام ورث ولدها جميع مالها إن كان ذكرا، وإن مات
الولد ولم يخلف غير الام كان لها الثلث والباقي لمولاه إن كان له مولى، وإن لم يكن
له مولى كان الباقي لبيت المال، وإن كان له أخ كان له السدس ولأمه الثلث
والباقي لمولاه أو لبيت المال، وإن كان له أخوان لأب وأم كان لامه السدس
ولأخويه لأبيه وأمه الثلث والباقي لبيت المال، وبه قال ابن عباس وزيد بن
ثابت، وهي إحدى الروايتين عن علي
وقال أبو حنيفة: يكون للام فرضها ويأخذ الباقي بالإرث بناء على أصله
في ذلك وذهب ابن مسعود إلى أن الام عصبة له فتأخذ ثلثها بالفرض
والباقي بالتعصيب.
وذهب بعض الناس إلى أن عصبته عصبة الام. دليلنا ما روى البخاري
ومسلم عن الزهري عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال فرق رسول الله صلى الله
عليه وسلم بين الرجل والمرأة يعنى باللعان وكانت حاملا فانتفى حملها فكان
الولد يدعى لامه، وجرت السنة أن يرثها وترث منه ما فرض الله لها. والذي
104

فرض الله للام من الولد الثلث أو السدس، فالظاهر يقتضى أنها لا تزاد على ذلك
ولان من ورث سهما من فريضة لم يستحق زيادة منها إلا بتعصيبه قياسا على
الزوجة، ولان الام لو كانت عصبة لم يسقطها المولى لان العصبة لا تسقط بالمولى
فدل على أنها ليست بعصبة.
وأما الدليل على أن عصبتها ليس عصبة لولدها أن الام ليست عصبة للولد
فلم يكن من يدلى بها عصبة له كابن الأخ للام
إذا ثبت هذا فإن حكم ولد الزنا حكم ولد الملاعنة لأنه ثابت النسب من أمه
وغير ثابت النسب من أبيه فكان حكمه حم ولد الملاعنة
(فرع) وإن أتت المرأة بولدين توأمين من الزنا، أو أتت امرأة رجل
بولدين توأمين فنفاهما الأب باللعان فكان التوارث بينهما وبين الأب ينقطع
لما ذكرناه في الولد ولا ينقطع توارثهما بينهما وبين الام
واما إرث أحدهما من الآخر فهل يتوارثان بكونهما أخوين لام لا غير؟ أو
بكونهما أخوين لأب وأم؟ فيه وجهان:
(أحدهما) يتوارثان بكونهما أخوين لأب وأم، ولان حكم اللعان إنما
يتعلق بالزوجين دون غيرهما. ألا ترى أن الزوج إذا قذفها بعد اللعان لم يحد،
وإذا قذفها غيره حد
(والثاني) انهما يتوارثان بكونهما أخوين لام لا غير وهو الأصح، لان نسبهما
قد انقطع عن الأب فكيف يتوارثان به؟
وقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه جعل ميراث ابن الملاعنة لامه ولورثتها من بعدها)
(مسألة) إذا مات ميت وخلف وارثا خنثى وهو الذي له ذكر رجل
وفرج امرأة فإن كان يبول من الذكر لا غير فهو رجل، وإن كان يبول من
الفرج لا غير فهو امرأة، لما روى عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إن خرج بوله
من مبال الذكر فهو ذكر. وان خرج من مبال الأنثى فهو أنثى. ولان الله تعالى
أجرى العادة في الرجل أنه يبول من ذكره وأن الأنثى تبول من فرجها فنرجع
في التمييز إليه.
105

وإن كان يبول منهما سواء أو خلق الله له موضعا آخر يبول منه فهو مشكل
وإن كان يبول منهما الا أنه يبول من أحدهما أكثر ففيه وجهان:
(أحدهما) يعتبر بالأكثر لأنه أقوى في الدلالة.
(والثاني) لا يعتبر به، ولان اعتبار ذلك يشق. وحكى أن أبا حنيفة سئل
عن الخنثى المشكل فقال: يحكم بالمبال، وقال أبو يوسف: إن كان يبول بهما.
قال: لا أدرى قال أبو يوسف: لكي أرى أن يحكم بأسبقهما بولا. قال أبو حنيفة
أرأيت لو استويا في الخروج؟ فقال أبو يوسف بأكثرهما، فقال أبو حنيفة يكل
أو يوزن؟ فسكت أبو يوسف.
وقال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن الخنثى يورث
من حيث يبول.
وممن روى عنه ذلك علي ومعاوية وسعيد بن المسيب وجابر بن زيد وأهل
الكوفة وسائر أهل العلم.
وقال ابن قدامة في المغنى: قال ابن اللبان: روى الكلبي عن أبي صالح عن
ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مولود له قبل وذكر من أبن
يورث؟ قال من حيث يبول) وروى أنه عليه السلام أتى بخنثى من الأنصار فقال
(ورثوه من أول ما يبول منه)
قلت: وان لم يكن فيه دلالة من المبال فهل يعتبر فيه نبات اللحية ونهود
الثديين وعدد الأضلاع؟ فيه وجهان
(أحدهما) يعتبر بنبات اللحية للرجال ونهود الثديين للنساء، وان استوت
أضلاعه من الجانبين فهو امرأة، وان نقص أحد جانبيه ضلعا فهو رجل، لأن المرأة
لها في كل جانب سبع عشرة ضلعا، والرجل من الجانب الأيمن سبعة عشر
ضلعا ومن الجانب الأيسر ستة عشر ضلعا، لأنه يقال إن حواء خلقت من ضلع
من جانب آدم الأيسر، فلذلك نقصت من الجانب الأيسر من الرجال،
وراثة عن أبيهم.
106

ومنهم من قال: لا يعتبر بذلك، وهو قول أكثر أصحابنا لان اللحية قد نبتت
لبعض النساء ولا تنبت لبعض الرجال، وروى أن بعض الرجال كان له ثدي
يرضع به في مجلس هارون الرشيد، وأما اعتبار الأضلاع فإنه يشق ولا يتوصل
إلى ذلك إلا بالتشريح الطبي وقد يخفى الضلع فلا يمكن اعتبار ذلك.
إذا ثبت هذا: أو تعذر اعتباره من هذه الأشياء فإنه يرجع إلى قوله وإلى
ماذا يميل طبعه، فإن قال: أميل إلى جماع النساء فهو رجل، وإن قال أميل إلى
جماع الرجال فهو امرأة وليس ذلك مميزا له وإنما هو سؤال له عن ميلان طبعه،
فإن أخبر بأحدهما ثم رجع عنه لم يقبل رجوعه لأنه إذا أخبر بأحدهما تعلقت به
أحكام، وفى قبول قوله في الرجوع اسقاط لتلك الأحكام فلم يجز. والانسان
وقد خلق الله فيه مركبات من الغدد التي منحها سبحانه خصائص الذكورة وأخرى
منحها خصائص الأنوثة، فبعض هذه الغدد له افرازات في الجسم ونشاط في
تشكيل شكل الجسم، فغدد الأنوثة يتضح عملها في كبر الأرداف ونتوء
الثديين وتجرد الوجه من الشعر كاللحية والشارب، ورخامة الصوت في لين
ونعومة وارتخاء.
أما غدد الذكورة فيتضح عملها في نبات اللحية والشارب وضمور الأرداف
وامتشاق الجسم وثخانة شعر الرجل وخشونته عن شعر المرأة، وخشونة صوت
الرجل واستقامة نبراته وصحة نطقه، وهذه الغدد يكون مركزها في بيضتي
المذاكير عند الرجال ومبائض المرأة القريبة من رحمها، وقد قرأنا كثيرا من
أخبار اللائي يتحولن من الإناث إلى الذكران، والذين يتحولون من الذكران
إناثا ويحدث اشكال في تغيير هوياتهم وشهادات ميلادهم وشهادات دراساتهم.
وسبيل الطب إلى تحويل هؤلاء هو دراسة أعضائهم السفلى وتحديد النشاط
الغالب على هذه الغدد فقد تكون مذاكير الرجل مطوية في عمق يظن أنه فرج
ثم يقوم الطبيب بإجراء جراحة يخلص بها مذاكير الرجل الذي كان في نظر الناس
امرأة لاختفاء مذاكيره وانعكاسها إلى أسفل، وقد تكون غدد الأنوثة أقوى
بمعنى أن تكون له مبايض امرأة مرتخية في شكل الأنثيين للرجل ولكن تصرفات
107

هذا الشخص، وميوله تنبئ عن أنوثة حبيسة حتى إذا أجريت له جراحة لوضع
غدده في مكانها الطبيعي صار امرأة.
أما بعد: فقد وصل الطب إلى تحديد حقيقة الخنثى المشكل بالأشعة والتشريح
ودراسة الظواهر الخارجية التي تدل على اتجاه الغدد نحو الأنوثة أو الذكورة،
فإذا رؤي اختفاء الشارب واللحية وبروز الثديين واختفاء المذاكير وتغير الصوت
وكبر الأرداف عرفنا أنه امرأة وإذا عملت للشخص جراحة تخلص من الاشكال
وكذلك إذا كان نشاط الغدد عكس ما قررنا كان للجراحة أيضا دورها في تحديد
نوع الشخص كرجل.
بقي بعد ذلك حكم الفقهاء في كثير من الصور الشاذة التي يحتمل وقوعها
ولا يحيل العقل أو العلم حدوثها.
قال المسعودي: ان قال: أنا رجل فزوج بامرأة فحبلت امرأته وحبل هو تبينا
أنه امرأة وإن كان نكاحه باطلا وأن ولد المرأة غير لاحق به لان حمله يدل على
الأنوثة قطعا.
وان قال الخنثى: أنا أشتهي جماع الرجال والنساء أو لا أشتهي واحدا منهما
فهو مشكل، والحكم في توريث المشكل أنه يعطى ما يتبين أنه له، وإن كان معه
ورثه أعطى كل واحد منهم ما يتيقن أنه له وهو أقل حقيه ووقف الباقي حتى
يتبين امر الخنثى بأي طريق من الطرق والتي أضبطها وأدقها طرق الطب الحديث
التي يمتزج فيها علم النفس مع علم وظائف الأعضاء والتشريح، وان مات ميت
وخلف ابنا خنثى مشكلا لا غير أعطى نصيب ماله، وإن كانا خنثيين أعطيا الثلثين
ووقف الباقي إلى أن يتبين أمرهما أو يصطلحوا عليه.
وقال أبو حنيفة: يعطى الخنثى المشكل ما يتبين انه له، ويصرف الباقي إلى
العصبة، وخرج ابن اللبان وجها آخر وليس بمشهور، وذهبت طائفة من البصريين
إلى أنه إذا خلف ابنا خنثى مشكلا لا غير أعطى ثلاثة أرباع المال.
واختلفوا في تنزيل حاله، فمنهم من قال: يترك حاله لأنه يحتمل أن يكون
ذكرا فيكون له جميع المال، ويحتمل أن يكون أنثى فيكون له نصف
108

المال، والباقي للعصبة، فالنصف متيقن له والنصف الآخر يتنازعه هو والعصبة
فيكون بينهما.
ومنهم من قال: ينزل لأنه يحتمل أن يكون ذكرا فيكون له جميع المال،
ويحتمل أنه أنثى فيكون له نصف المال فأعطى نصف ميراث ذكر ونصف ميراث
أنثى دليلنا أنه يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى فأعطيناه اليقين وهو
ميراث الأنثى لأنه متيقن له ولم نورثه ما زاد لأنه توريث بالشك، وعلى أبي حنيفة
أنا لا نتيقن استحقاق العصبة للموقوف له فلم يجز ذلك إليهم والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان مات رجل وترك حملا وله وارث غير الحمل نظرت، فإن
كان له سهم مقدر لا ينقص كالزوجة دفع إليها الفرض، ووقف الباقي إلى أن
ينكشف، وإن لم يكن له سهم مقدر كالابن وقف الجميع لأنه لا يعلم أكثر ما تحمله
المرأة، والدليل عليه أن الشافعي رحمه الله قال: دخلت إلى شيخ باليمن لاسمع منه
الحديث فجاءه خمسة كهول فسلموا عليه وقبلوا رأسه، ثم جاءه خمسة شباب
فسلموا عليه وقبلوا رأسه، ثم جاءه خمسة فتيان فسلموا عليه وقبلوا رأسه، ثم
جاءه خمسة صبيان فسلموا عليه وقبلوا رأسه، فقلت: من هؤلاء؟ فقال:
أولادي كل خمسة منهم في بطن، وفى المهد خمسة أطفال.
وقال ابن المرزبان: أسقطت امرأة بالأنبار كبسا فيه اثنا عشر ولدا كل اثنين
متقابلان، فإذا انفصل الحمل واستهل ورث لما روى سعيد بن المسيب رحمة الله
عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: إن من السنة أن لا يرث المنفوس
ولا يورث حتى يستهل صارخا، فإن تحرك حركة حي أو عطس ورث، لأنه
عرف حياته فورث كما لو استهل، وإن خرج ميتا لم يرث لأنا لا نعلم أنه كان وارثا
عند موت مورثه، وان تحرك حركة مذبوح لم يرث لأنه لم يعرف حياته، وان
خرج بعضه وفيه حياة ومات قبل خروج الباقي لم يرث لأنه لا يثبت له حكم الدنيا
قبل انفصال جميعه، ولهذا لا تنقضي به العدة ولا يسقط حق الزوج عن الرجعة
قبل انفصال جميعه.
109

(الشرح) حديث أبي هريرة بلفظه هكذا مرفوع المعنى لقوله: من السنة،
وقد ورد الحديث مرفوع اللفظ في سنن أبي داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (إذا استهل المولود ورث.
وعن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله والمسور بن مخرمة قالا (قضى
رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يرث الصبي حتى يستهل) ذكره أحمد بن حنبل
من رواية ابنه عبد الله وأخرجه أيضا الترمذي والنسائي وابن ماجة والبيهقي بلفظ
(إذا استهل السقط صلى عليه وورث) وفى إسناده إسماعيل بن مسلم وهو ضعيف.
قال الترمذي: وروى مرفوعا والموقوف أصح، وبه جزم النسائي. وقال
الدارقطني في العلل: لا يصح رفعه. وحديث أبي هريرة عند أبي داود في إسناده
محمد بن إسحاق وفيه مقال معروف، وقد روى عن ابن حبان تصحيح الحديث.
وقد تقدم في كتاب الجنائز الكلام على السقط، وقد اختلف في الامر الذي تعلم
به حياة المولود فأهل الفرائض قالوا بالصوت أو الحركة، وهو قول الكرخي.
وروى عن علي وزفر والشافعي. وروى عن ابن عباس وجابر وشريح والنخعي
ومالك وأهل المدينة أنه لا يرث ما لم يستهل صارخا.
قال العمراني في البيان: ان مات وخلف حملا وارثا نظرت فإن استهل
صارخا فإنه يرث سواء كان فيه روح حال الموت مورثه أو كان يومئذ نطفة
لما روى أبو الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا استهل الصبي
ورث وصلى عليه.
وقال الشيخ أبو حامد: ولا خلاف في هذا، وان خرج ولم يستهل ولكن
علمت حياته بحركة أو غير ذلك، ثم مات فإنه يرث عندنا، وبه قال أبو حنيفة.
وقال مالك: لا يرث.
دليلنا: أن كل من تحققت حياته بعد انفصاله وجب أن يرث كما لو خرج
واستهل صارخا، ولان النبي صلى الله عليه وسلم إنما نص على الاستهلال لان
ذلك يعلم به الحياة، فكل ما علمت به الحياة كالحركة والبكاء قام مقامه، وان
خرج ميتا لم يرث، لأنا لا نعلم أنه نفخ فيه الروح وصار من أهل الميراث أو لم ينفخ
110

وإن انفصل ميتا وتحرك بعد الانفصال حركة لا تدل على الحياة لم يرث. لان
بهذه الحركة لم يعلم حياته لان المذبوح قد يتحرك، واللحم قد يختلج ولا روح فيه
وإن خرج بعضه فصرخ ثم مات قبل أن ينفصل لم يرث لأنه ما لم ينفصل جميعه
لا تثبت له أحكام الدنيا.
إذا ثبت هذا فما حكم مال الميت قبل انفصال الحمل؟ ينظر فيه، فإن كان مع
الحمل وارث له فرض لا ينقص الحمل عنه كالزوج والزوجة والام والجدة أعطى
صاحب الفرض فرضه ووقف الباقي من ماله، وإن كان الوارث معه ممن لا سهم
له مقدر كالابن والابنة، فاختلف أصحابنا فيه، فذهب المسعودي وابن اللبان
وغيرهما إلى أنه يدفع إلى الابن الموجود خمس المال ويوقف الباقي
وحكى الشيخ أبو حامد أن هذا مذهب أبي حنيفة لان أكثر ما تلد المرأة في
بطن أربعة. وقال الشيخان أبو حامد الأسفراييني وأبو إسحاق المروزي: لا يعطى
الابن الموجود شيئا من المال بل يوقف جميعه.
وحكى المسعودي أن هذا مذهب أبي حنيفة وقال محمد بن الحسن: يدفع إليه
ثلث المال لان أكثر ما تلده المرأة اثنان. وقال أبو يوسف: يدفع إليه نصف
لأن الظاهر أنها لا تلد أكثر من واحد.
فإذا قلنا إنه يوقف جميع المال فوجهه أنه لا يعلم أكثر ما تحمله المرأة،
وحكى عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: قدمت اليمن عند شيخ بها أسمع عليه
الحديث. قال ابن بطال: هذا الشيخ من بادية صنعاء من قرية تسمى خيرة.
قال الشافعي: فبينما هو جالس على بابه إذ جاء خمسة كهول إلى آخر ما قال ووجه
سوق القصة أن بعض النساء يمكن أن تلد خمسة توائم، وقد طالعتنا الأنباء منذ
حين قريب بامرأة ولدت ستة توائم.
وحكى ابن المرزبان أنه قال: أسقطت امرأة عندنا بالأنبار كيسا به اثنا عشر
ولدا كل اثنين متحاذيان، فعلم أنه ليس لما تلده المرأة حد، واستطرادا على
مناسبة الكيس فإن ولدينا الأنور وعبد الناصر قد رزقني الله بهما توأمين، وكان
الأنور في كيس رائق شفاف فتبارك الله أحسن الخالقين
111

(فرع) ميت مات فقالت امرأة حامل: إن ولدت أنثى لم ترث منه، وإن
ولدت ذكرا ورث منه، وان ولدت ذكرا وأنثى ورث الذكر دون الأنثى فهذه
امرأة أخ الميت أو امرأة ابن أخيه أو امرأة عمه أو امرأة ابن عمه.
وان قالت: إن ولدت أنثى ورثت وان ولدت ذكرا لم يرث وإن ولدت ذكرا
وأنثى لم يرثا، فهذه امرأة ماتت وخلفت زوجا وبنتا وأبوين وزوجة ابنها حاملا من
ابنها، وان ولدت ذكرا وأنثى لم يرثا
وان قالت امرأة حامل: ان ولدت ذكرا ورث وان ولدت أنثى لم ترث،
وان ولدت ذكرا وأنثى ورثا، فهذا ميت مات وخلف ابنين وزوجة ابن حاملا
منه، أو ميت مات وخلف أختين لأب وأم وزوجة أب حاملا منه
ولو قالت الحامل: ان ولدت ذكرا ورث وورثت منه، وان ولدت ذكرا
وأنثى ورثا وورثت معهما، وان ولدت ابنا لم يرث ولم أرث، فهذا رجل مات
وخلف ابنتين وابنة ابن حاملا من ابن ابن آخر قد مات
ولو قالت الحامل: ان ولدت أنثى ورثت وورثت معها، وان ولدت ذكرا
أو ذكرا وأنثى لم يرث واحد منا، فهذه امرأة ماتت وخلفت ابنة وأبوين وزوجا
وهذه الحامل ابنة ابن ابن هذه الميتة من ابن ابن لها آخر، أفاده العمراني
(فرع) ان مات رجل وخلف أخا وامرأة حاملا فولدت ابنا وبنتا فاستهلا
ثم مات أحدهما ثم ماتت المرأة بعده ثم مات الولد الاخر ولم يعلم أيهما مات
قبل الام، قال ابن اللبان: وقد قيل القياس لا يرث الولدان أمهما، ولا يرثهما
لأنه لا يعلم على الانفراد أيهما مات قبلها كالغرقى، فيكون ثمن المرأة لعصبتها
والسبعة الأثمان التي للولدين للأخ بميراثه منهما
وقيل بل ينزل فيقال: إن الذي مات قبل المرأة وهي البنت، والمال كله للأخ،
وإن كان الذي مات قبل المرأة هو الابن ورثت المرأة منه ثلث سهامه وهو أربعة
أسهم وثلثا سهم من أربعة وعشرين. وورثت الأخت نصفها والعم سدسها،
فلما ماتت المرأة كان ما بيدها وهو سبعة أسهم وثلثا سهم بين ابنتها وعصبتها
نصفين، فيصح لعصبتها ثلاثة أسهم وخمسة أسداس سهم، فلما ماتت البنت صار
ما في يدها للعم، فاجتمع للعم بميراثه من الابن والبنت عشرون سهما وسدس
112

سهم، وهذا نصيب الأخ بيقين والباقي من المال وهو ثلاثة أسهم وخمسة أسداس
سهم لعصبة المرأة، فيوقف ذلك حتى يصطلحا عليه، فتضرب الفريضة وهي
أربعة وعشرون في مخرج السدس وهو سنة، فذلك مائة وأربعة وأربعون.
والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن مات رجل ولم تكن له عصبة ورثه المولى المعتق كما ترثه
العصبة على ما ذكرناه في باب الولاء، فإن لم يكن له وارث نظرت، فإن كان
كافرا صار ماله لمصالح المسلمين، وإن كان مسلما صار ماله ميراثا للمسلمين،
لأنهم يعقلونه إذا قتل، فانتقل ماله إليهم بالموت ميراثا كالعصبة، فإن كان
للمسلمين إمام عادل سلم إليه ليضعه في بيت المال لمصالح المسلمين، وان لم يكن
إمام عادل ففيه وجهان:
(أحدهما) أنه يرد على أهل الفرض على قدر فروضهم إلا على الزوجين
فإن لم يكن أهل الفرض قسم على ذوي الأرحام على مذهب أهل التنزيل، فيقام
كل واحد منهم مقام من يدلى به، فيجعل ولد البنات والأخوات بمنزلة أمهاتهم،
وبنات الاخوة والأعمام بمنزلة آبائهم، وأبو الام والخال بمنزلة الام، والعمة
والعم من الام بمنزلة الأب، لان الأمة أجمعت على الإرث بإحدى الجهتين،
فإذا عدمت إحداهما تعينت الأخرى.
(والثاني) وهو المذهب: أنه لا يرد على أهل السهام، ولا يقسم المال على
ذوي الأرحام، لأنا دللنا أنه للمسلمين، والمسلمون لم يعدموا، وإنما عدم من
يقبض لهم فلم يسقط حقهم، كما لو كان الميراث لصبي وليس له ولى، فعلى هذا
يصرفه من في يده المال إلى المصالح
(الشرح) الأحكام: إن مات ميت وخلف من الورثة من له فرض
لا يستغرق جميع ماله كالأم والابنة والأخت، فان صاحب الفرض يأخذ فرضه
وما بقي عن فرضه يكون لعصبته إن كان له عصبة، وان لم يكن له عصبة كان
113

للمولى إن كان له مولى، وإن لم يكن له مولى كان الباقي لبيت المال، فيصرف إلى
الامام ليصرفه في مصالح المسلمين. وبه قال زيد بن ثابت والزهري
والأوزاعي ومالك
وذهب علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى أنه يرد ذلك إلى ذوي الفروض
إلا على الزوجين فإنه لا يرد عليهما، فإن لم يكن له أحد من أهل الفروض صرف
ذلك إلى ذوي الأرحام، فيقام كل واحد من ذوي الأرحام مقام من يدلى به،
وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه، واختاره بعض أصحابنا إذا لم يكن هناك
امام عادل، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أن تحوز المرأة ثلاثة مواريث
عتيقها ولقيطها وابنها الذي لاعنت به، فأخبر أنها تحوز ميراث ابنها الذي
لاعنت عليه، وهذا نص.
ودليلنا قوله تعالى (يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ان امرؤ هلك ليس
له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك) ولم يفرق بين أن يكون هناك وارث
غيرها أو لم يكن. فمن قال إن لها جميع المال فقد خالف ظاهر القرآن. وكذلك
جعل للابنتين الثلثين ولم يفرق، ولان كل من استحق من فريضة سهما مقدرا لم يرث
شيئا آخر الا بتعصيب كالزوج والزوجة
فعلى هذا إن كان هناك امام عادل يسلم المال إليه، وان لم يكن هناك امام عادل
صرفه من هو بيده إلى مصالح المسلمين، والله أعلم
114

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الجد والاخوة
إذا اجتمع الجد أو أبو الجد وإن علا مع ولد الأب والام أو ولد الأب، ولم
تنقصه المقاسمة من الثلث، قاسمهم وعصب إناثهم، وقال المزني: يسقطهم،
ووجهه أن له ولادة وتعصيبا بالرحم، فأسقط ولد الأب والام كالأب، وهذا
خطأ لان ولد الأب يدلى بالأب فلم يسقطه الجد كأم الأب، ويخالف الأب،
فإن الأخ يدلى به، ومن أدلى بعصبة لم يرث معه كابن الأخ مع الأخ، وأم الأب
مع الأب، والجد والأخ بدليان بالأب فلم يسقط أحدهما الاخر، كالأخوين من
الأب وأم الأب مع الجد، ولان الأب يحجب الام من الثلث إلى ثلث الباقي مع
الزوجين، والجد لا يحجبها.
(فصل) وإن اجتمع مع الجد ولد الأب والام وولد الأب عاد ولد الأب
والام الجد بولد الأب، لان من حجب بولد الأب والام وولد الأب إذا انفرد
حجب بهما إذا اجتمعا كالأم، فإن كان له جد وأخ من أب وأم، وأخ من أب،
قسم المال على ثلاثة أسهم، للجد سهم، ولكل واحد من الأخوين سهم، ثم يرد
الأخ من الأب سهمه على الأخ من الأب والام، لأنه لا يرث معه فلم يشاركه
فيما حجبا عنه، كما لا يشارك الأخ من الأب، الأخ من الأب والام فيما حجبا
عنه الام، وتعرف هذه المسألة بالمعاذة لان الأخ من الأب والام عاد الجد
بالأخ من الأب، ثم أخذ منه ما حصل له، وان اجتمع مع الجد أخ من الأب
وأخت من الأب والام قسم المال على خمسة أسهم، للجد سهمان وللأخ سهمان
وللأخت سهم، ثم يرد الأخ على الأخت تمام النصف وهو سهم ونصف، ويأخذ
ما بقي وهو نصف سهم، لان الأخ من الأب إنما يرث مع الأخت من الأب والام
ما يبقى بعد استكمال الأخت النصف، وتصح من عشرة وتسمى عشرية زيد
رضي الله عنه، وإن اجتمع مع أختين من الأب وأختين من الأب والام قسم
المال بينهم على ستة أسهم للجد سهمان، ولكل أخت سهم، ثم ترد الأختان
115

من الأب جميع ما حصل لهما على الأختين من الأب والام، لأنهما لا يرثان قبل
أن تستكمل الأختان من الأب والام الثلثين.
(الشرح) الجد أبو الأب وان علا وارث بلا خلاف بين أهل العلم، وروى
عن عمر رضي الله عنه أنه سأل الصحابة هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم فعل في الجد شيئا؟ فقال معقل بن يسار المزني: نعم شهدت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ورثه السدس فقال له عمر: مع من؟ قال: لا أدرى فقال:
لا دريت إذن، رواه أبو القاسم بن منده.
فإن اجتمع الجد مع الاخوة أو الأخوات للام أسقطهم بالاجماع، وقد مضى
بيان ذلك، وان اجتمع مع الاخوة والأخوات للأب والام أو للأب فقد كانت
الصحابة رضوان الله عليهم يتحرجون من الكلام فيه لما روى سعيد بن المسيب
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أجرؤكم على الجد أجرؤكم على النار، وروى عن
علي رضي الله عنه أنه قال: من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الجد
والاخوة، وروى عن ابن مسعود أنه قال: سلونا عن كل شئ ودعونا من الجد
لا حياه الله ولا بياه.
إذا ثبت هذا: فقد اختلف الناس في الجد إذا اجتمع مع الاخوة والأخوات
للأب والام أو للأب: فذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أن الجد لا يسقطهم،
وروى ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت، وبه قال مالك
والأوزاعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل، وذهبت طائفة إلى أن الجد
يسقطهم، وروى ذلك عن أبي بكر وابن عباس وعائشة وأبى الدرداء، وبه قال
أبو حنيفة وعثمان البتي وابن جرير الطبري وداود وإسحاق، واخباره المزني.
قال المسعودي: واليه ذهب ابن سريج.
دليلنا قوله تعالى: للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء
نصيب مما ترك الوالدان والأقربون، فجعل للرجال والنساء الأقارب نصيبا،
والاخوة والأخوات للأب إذا اجتمعوا مع الجد وهم من الأقارب، فمن قال:
لا نصيب لهم فقد ترك ظاهر القرآن، وأن الأخ تعصيب أخيه فلم يسقطه الجد
116

كالابن، لان الأخت تأخذ النصف بالفرض فلم يسقطها الجد كالبنت، ولان
الجد والأخ على منزلة واحدة من الميت لان الجد أبو أبيه والأخ ابن أبيه، والجد
له تعصيب ورحم، والأخ له تعصيب من غير رحم فلم يسقطه الجد كالابن
والبنت إذا اجتمعا.
إذا ثبت هذا: فإن الجد كالأب في عامة أحكامه، فيرث بالتعصيب إذا انفرد
كالأب ويرث بالفرض مع الابن وابن الابن ويرث بالفرض والتعصيب مع البنت
وبنت الابن إلا أن الجد يخالف الأب في أربع مسائل:
منها أن الأب يحجب الإخوة للأب والام، أو للأب، والجد لا يحجبهم،
والثانية والثالثة: أن الأب يحجب الام عن كمال الثلث إلى ثلث ما يبقى في
زوج وأبوين أو زوجه وأبوين فإن الجد لا يحجبها، بل يكون لها ثلث جميع المال
مع الجد فيها. الرابعة: أن الأب يحجب أم نفسه، والجد لا يحجب أم الأب،
لأنها تساويه في الدرجة إلى الميت، وتدلى بالأب فلم ترث معه.
(فرع) إذا اجتمع الجد والاخوة أو الأخوات للأب والام أو للأب وليس
معهم من له فرض فللجد الاحظ من المقاسمة، أو ثلث جميع المال، فإن كان معه
أخ واحد فالاحظ له ههنا المقاسمة، لأنه يأخذ نصف المال، وإن كان معه أخوان
استوت له المقاسمة والثلث، وإن كان معه ثلاثة اخوة فما زاد فالاحظ له ههنا
أن يفرد بثلث جميع المال، هذا مذهبنا، وبه قال زيد بن ثابت وابن مسعود.
وروى عن علي رضي الله عنه روايتان.
إحداهما: وهي المشهورة أن له الاحظ من المقاسمة أو سدس جميع المال، فإذا
كان معه أربعة اخوة فالمقاسمة احظ له، وإن كانوا خمسة استوت المقاسمة
والسدس، وإن كانوا ستة فالسدس احظ له.
والثانية: ان له الاحظ من المقاسمة أو سبع جميع المال، وروى عن عمران
ابن الحصين وأبي موسى الأشعري انهما قالا: له الاحظ من المقاسمة أو نصف
سدس جميع المال، فإذا كان معه عشرة اخوة فالمقاسمة خير له، وإن كانوا أحد
عشر استوت المقاسمة ونصف السدس.
117

ودليلنا عليهم: أن البنين أقوى حالا من الاخوة، بدليل أن الاخوة
يسقطون بالبنين ثم ثبت أن البنين لا يسقطون. وأما الدليل على ما قلناه فلان حجب
الاخوة للجد لا يقع بواحد، وينحصر بعدد، فوجب أن يكون غاية ذلك اثنين
قياسا على حجب الاخوة للام عن الثلث، وحجب البنات لبنات الابن، وحجب
الأخوات للأب والام للأخوات للأب.
وأما إذا اجتمع مع الجد الأخوات للأب والام أو للأب منفردا فمذهبنا أن
حكمهن حكم الاخوة مع الجد فيقاسمهن ويكون المال بينه وبينهن للذكر مثل حظ
الأنثيين ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث، فإذا نقصته عن الثلث أفرد بثلث جميع
المال، وبه قال زيد بن ثابت.
وقال علي بن أبي طالب وابن مسعود: يفرض للأخوات فرضهن، ويكون
الباقي للجد، ودليلنا أنها فريضة جمعت أبا أب وولد أب فوجب أن لا يأخذ ولد
الأب بالفرض كما لو كان مع الجد إخوة وأخوات لأب وأم أو للأب، فإن الجد
يقاسمهم للذكر مثل حظ الأنثيين ما لم تنقصه المقاسمة عن الثلث، فإذا أنقصته
عن ذلك فرض له الثلث كما ذكرنا والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن كانت المقاسمة تنقص الجد من الثلث بأن زاد الاخوة على
اثنين والأخوات على أربع فرض للجد الثلث وقسم الباقي بين الاخوة والأخوات
لأنا قد دللنا على أنه يقاسم الواحد، ولا خلاف انهم لا يقاسمونه ابدا فكان
التقدير بالاثنين أشبه بالأصول، فإن الحجب إذا اختلف فيه الواحد والجماعة
وجب التقدير فيه بالاثنين كحجب الام من الثلث، وحجب البنات لبنات
الابن وحجب الأخوات للأب والام للأخوات للأب، ولا يعاد ولد الأب
والام الجد بولد الأب في هذا الفصل، لان المعاذة تحجب الجد ولا سبيل إلى
حجبه عن الثلث.
(فصل) وان اجتمع مع الجد والاخوة من له فرض اخذ صاحب الفرض
فرضه وجعل للجد أوفر الامرين من المقاسمة أو ثلث الباقي ما لم ينقص عن سدس
118

جميع المال لان الفرض كالمستحق من المال فيصير الباقي كأنه جميع المال، وقد
بينا أن حكمه في جميع المال أن يجعل له أوفر الامرين من المقاسمة أو ثلث المال
فكذلك فيما بقي بعد الفرض، فإن نقصته المقاسمة أو ثلث الباقي عن السدس
فرض له السدس لان ولد الأب والام ليس بأكثر من ولد الصلب، ولو اجتمع
الجد مع ولد الصلب لم ينقص حقه من السدس، فلان لا ينقص مع ولد الأب
والام أولى.
وإن مات رجل وخلف بنتا وجدا وأختا فللبنت النصف والباقي بين الجد
والأخت، للذكر مثل حظ الأنثيين، وهي من مربعات عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه، فإنه قال: للبنت النصف والباقي بين الجد والأخت نصفان،
وتصح من أربعة، وإن ماتت امرأة وخلفت زوجا وأما وجدا فللزوج النصف
وللأم الثلث والباقي للجد وهو السدس، وهي من مربعات عبد الله رضي الله عنه
لأنه يروى عنه أنه قال: للزوج النصف والباقي بين الجد والام نصفان. وتصح
من أربعة. هذا خطأ. لان الجد أبعد من الام فلم يجز أن يحجبها كجد الأب
مع أم الأب.
وإن مات رجل وخلف زوجة وأما وأخا وجدا فللزوجة الربع وللأم الثلث
والباقي بين الجد والأخ نصفان، وتصح من أربعة وعشرين، للزوجة ستة أسهم
وللأم ثمانية والباقي بين الجد والأخ لكل واحد منهما خمسه، وهي من مربعات
عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فإنه روى عنه أنه جعل للزوجة الربع وللأم
ثلث ما بقي والباقي بين الجد والأخ نصفان وتصح من أربعة، للزوجة سهم وللأم
سهم وللأخ سهم وللجد سهم
وإن مات رجل وخلف امرأة وجدا وأختا، فللمرأة الربع والباقي بين الجد
والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين وتعرف بالمربعة، لان مذهب زيد ما ذكرناه
ومذهب أبي بكر وابن عباس رضي الله عنهما: للمرأة الربع، والباقي للجد.
ومذهب علي وعبد الله رضي الله عنهما: للمرأة الربع وللأخت النصف والباقي للجد
واختلفوا فيها على ثلاثة مذاهب واتفقوا على القسمة من أربعة. وإن مات رجل
وخلف أما وأختا وجدا، فللأم الثلث، والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل
119

حظ الأنثيين، وتسمى الخرقاء لكثرة اختلاف الصحابة فيها، فان زيدا ذهب
إلى ما قلناه وذهب أبو بكر وابن عباس رضي الله عنهما إلى أن للأم الثلث والباقي
للجد. وذهب عمر إلى أن للأخت النصف وللأم ثلث الباقي وهو السدس والباقي
للجد وذهب عثمان رضي الله عنه إلى أن للأم الثلث والباقي بين الجد والأخت
نصفان وتصح من ثلاثة. وذهب علي عليه السلام إلى أن للأخت النصف وللأم الثلث
والباقي للجد، وعن ابن مسعود روايتان: إحداهما مثل قول عمر رضي الله عنه
، والثانية للأخت النصف والباقي بين الام والجد نصفان، وتصح من
أربعة وتعرف بمثلثة عثمان ومربعة عبد الله رضى الله عن الجميع
(فصل) ولا يفرض للأخت مع الجد الا في مسألة واحدة وهي: إذا
ماتت امرأة وخلفت زوجا وأما وأختا وجدا، فللزوج النصب وللأم الثلث
وللأخت النصف وللجد السدس. وأصلها من ستة وتعول إلى تسعه، ويجمع
نصف الأخت وسدس الجد فيقسم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، وتصح من
سبعة وعشرين، للزوج تسعة وللأم ستة وللجد ثمانية وللأخت أربعة، لأنه
لا بد من أن يعطى الزوج النصف لأنه ليس ههنا من يحجبه، ولا بد من أن تعطى
الام الثلث لأنه ليس ههنا من يحجبها، ولا بد من أن يعطى الجد السدس لان
أقل حقه السدس، ولا يمكن اسقاط الأخت لأنه ليس ههنا من يسقطها ولا
يمكن أن تعطى النصف كاملا، لأنه لا يمكن تفضيلها عن الجد، فوجب أن يقسم
مالهما بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، وتعرف هذه المسألة بالأكدرية لان
عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلا اسمه الأكدر فنسبت إليه
وقيل سميت أكدرية لأنها كدرت على زيد أصله لأنه لا يعيل مسائل الجد
وقد أعال ولا يفرض للأخت مع الجد وقد فرض، فإن كان مكان الأخت في
الأكدرية أخ لم يرث لان للزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس، ولا
يجوز أن يشارك الجد في السدس لان الجد يأخذ السدس بالفرض، والأخ
لا يرث بالفرض وإنما يرث بالتعصيب ولم يبق ما يرثه بالتعصيب فسقط.
وبالله التوفيق.
120

(الشرح) الأحكام: إذا اجتمع مع الجد والاخوة من له فرض وهم ستة:
البنت وبنت الابن والزوج والزوجة والام والجدة فان صاحب الفرض يعطى
فرضه ويكون للجد أوفى ثلاثة أشياء: المقاسمة. أو ثلث ما يبقى أو سدس جميع
المال، وإن كان الفرض أقل من نصف جميع المال فثلث ما يبقى خير له من السدس
فيكون له الاحظ من المقاسمة أو ثلث ما يبقى، وإن كان الفرض النصف فثلث
ما يبقى والسدس واحد، وإن كان الفرض أكثر من النصف فالسدس أكثر من
ثلث ما يبقى فيكون للجد الاحظ من المقاسمة أو السدس
إذا ثب هذا فمات الرجل وخلف بنتا وأختا لأب وأم وجدا فللبنت النصف
والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين. والمقاسمة ههنا خير للجد
هذا مذهبنا، وبه قال زيد بن ثابت
وقال علي بن أبي طالب: للبنت النصف وللجد السدس والباقي للأخت
دليلنا: أنه فريضة جمعت أبا أب وولد أب فاشتركا في الفاضل من فرض ذوي
السهام كما لو كان بدل الأخت أخا مع البنت والجد
(فرع) زوج وجد وأم فالتركة من ستة: للزوج ثلاثة وللأم الثلث سهمان
وللجد سهم وبه قال زيد بن ثابت. فإن كان بدل الزوج زوجة كان لها الربع
وللأم الثلث الباقي للجد وروى عن عمر روايتان (إحداهما) أن للزوج
النصف وللأم ثلث ما بقي والباقي للجد (والثانية) للزوج النصف وللأم السدس
والباقي للجد. ويفيد اختلاف الروايتين إذا كان مكان الزوج زوجة، فعلى
إحدى الروايتين يكون للزوجة الربع وللأم الثلث مما بقي للجد
وروى عن ابن مسعود ثلاث روايات، روايتان كروايتي عمر، والثالثة
للزوج النصف والباقي بين الجد والام، فيكون على هذه الرواية من مربعات
ابن مسعود. وإن مات رجل وخلف زوجة وأما وأخا وجدا كان أصلها من
اثنى عشر: للزوجة ثلاثة وللأم أربعة وللأخ وللجد ما بقي وهي خمسة. وتصح
من أربعة وعشرين وهي من مربعات ابن مسعود فإنه قال: للزوجة الربع وللأم
ثلث ما بقي وللأخ سهمان.
وإن خلف رجل زوجه وأختا وجدا كان للزوجة الربع سهم من أربعة
121

والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين، ويصح من أربعة، وبه قال
زيد بن ثابت.
وقال أبو بكر وابن عباس: للزوجة الربع والباقي للجد. وقال عمر وابن
مسعود: للزوجة الربع سهم من أربعة، وللأخت النصف سهمان وللجد ما بقي
وهو سهم وتعرف هذه المسألة بالمربعة، فإنهم اختلفوا في قدر ما يرث كل واحد
من الجد والأخت واتفقوا على أن أصلها من أربعة.
(فرع) وإن مات رجل وخلف أما وأختا وجدا فهذه تسمى الخرقاء
لتخرق أقاويل الصحابة فيها. قال ابن بطال (لعلها مأخوذة من الخرق، وهي
الأرض الواسعة) وأن فيها سبعة أقاويل فأبو بكر وابن عباس وعائشة وهم من
قالوا إن الجد مسقط للاخوة، فللأم الثلث والباقي للجد ويسقط الأخت.
وعن عمر فيها روايتان (إحداهما) للأخت النصف وللأم السدس والباقي للجد
(والثانية) أن للأخت النصف وللأم ثلث ما يبقى والباقي بين الجد والأخت
نصفا. وعن ابن مسعود فيها ثلاث روايات، روايتان مثل روايتي عمر والثالثة
للأخت النصف والباقي بين الجد والام نصفان، فيكون على هذه الرواية من
مربعته. وعن عثمان يقسم المال كله على ثلاثة للأم سهم وللأخت سهم وللجد
سهم. وقال على للأم الثلث وللأخت النصف وللجد السدس، وقال زيد بن
ثابت للأم الثلث والباقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين. وتصح
من تسعه، وبه قال الشافعي وأصحابه.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه، وليس يقال لاحد من الاخوة والأخوات
مع الجد الا في الأكدرية، وهو زوج وأم وأخت لأب وأم أو لأب وجد،
وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم فيها، فذهب أبو بكر وابن عباس أن للزوج
النصف وللأم الثلث والباقي للجد، وتسقط الأخت.
وقال عمر وابن مسعود للزوج النصف وللأخت النصف وللجد السدس
فيعول إلى تسعه، فتأخذ الأخت ثلاثة. وقال زيد بن ثابت تعول إلى تسعه كما قال
على، ولكن يجمع الثلاثة التي للأخت والسهم الذي للجد فتصير أربعة، فيقسمان
للذكر مثل حظ الأنثيين. وتصح من سبعه وعشرين للزوج وللأم سته وللجد
122

ثمانية وللأخت أربعة، وبهذا قال الشافعي وأصحابه، وإنما كان كذلك لأنه ليس
ههنا من يحجب الزوج عن النصف ولا من يحجب الام عن الثلث، ولا يمكن أن
ينتقص الجد عن السدس لان الابن لا يسقط عنه فهؤلاء أولى، وقد استكملت
الفريضة ولا سبيل إلى إسقاط الأخت لأنه ليس ههنا من يسقطها ففرض لها
النصف، ولا يمكن أن يأخذ جميعه لأنه لا يجوز تفضيلها على الجد فوجب أن
يجتمع نصيبها ويقسماه للذكر مثل حظ الأنثيين، كما قلنا في غير هذا الموضع.
واختلف الناس لأي معنى سميت أكدرية، فروى عن الأعمش أنه قال إنما
سميت أكدرية لان عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلا يقال له أكدر فذكر
له اختلاف الصحابة فيها فنسبت إليه. وقيل سميت أكدرية لأنها كدرت على
زيد أصله، لأنه لا يفرض للأخوات مع الجد وقد فرض لها ههنا، ولا يعيل
مسائل الجد وقد أعال ههنا.
وقال ابن بطال يقال إنه اسم المرأة في المسألة فنسبت إليها، وإن كان بدل
الأخت أخا فإن للزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس، ويسقط الأخ لان
الأخ له تعصيب محض ولا يمكن أن يفرض له. ولم يبق في الفريضة شئ فسقط
وإن كان هناك زوج وأم وأختان وجد فليست بأكدرية، بل للزوج النصف
وللأم السدس والباقي بين الجد والأختين للذكر مثل حظ الأنثيين، فيصح من
اثنى عشر، فإن كان هناك زوج وأم وبنت وأخت وجد كان أصلها من اثنى عشر
للزوج ثلاثة وللبنت سته، وللأم سهمان وللجد سهمان ولا شئ للأخت لان
المسألة قد عالت ولا يفرض لها لأنها إنما تأخذ مع البنت بالتعصيب ولا تعصيب ههنا
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه والإخوة للأب والام معادون الجد
بالاخوة والأخوات للأب. وجملة ذلك أنه إذا اجتمع جد وأخ لأب وأم وأخ
لأب فان الأخ للأب والام يعاد الجد بالأخ للأب فيقسم المال بينهم على ثلاثة
لكل واحد سهم ثم يرجع الأخ للأب والام فيأخذ سهم الذي بيد الأخ للأب،
وبه قال زيد بن ثابت ومالك بن أنس.
وذهب على وابن مسعود إلى أن الأخ للأب يسقط ويكون المال بين الجد
والأخ للأب والام نصفين
123

دليلنا أن الجد إذا حجب بأخوين وارثين جاز أن يحجب بأخوين أحدهما
وارث والآخر غير وارث، كالأم تحجب بالأخوين أحدهما لأب والآخر لأب
وأم، فإن كان هناك أخ لأب وأم وأخت لأب وجد عاد الأخ للأب والام الجد
بالأخت للأب فيقسم المال على خمسة، للجد سهمان وللأخ للأب والام سهمان
وللأخت سهم، ثم يرجع الأخ فيأخذ سهم الأخت، وإن كان هناك أخوات
لأب وأم وأخ لأب وجد ولا حاجة ههنا إلى المعادة لان الجد لا يجوز أن ينقص
عن الثلث.
(فرع) وان اجتمع أخت لأب وأم وأخت لأب وجد كان المال بينهم على
أربعة أسهم، للجد سهمان ولكل أخت سهم ثم تأخذ الأخت للأب والام السهم
الذي بيد الأخت للأب وقد حصل معها نصف المال، وإن كان هناك أخت لأم
وأب وأخ لأب وجد كان المال بينهم على خمسة، للجد سهمان وللأخت سهم وللأخ
سهمان ثم تأخذ الأخت من الأخ تمام النصف وهو سهم ونصف: لأنه لا يجوز
أن ترث أكثر من نصف المال. فبضرب الخمسة في اثنين فتصبح من عشرة للجد
اثنان في اثنين فذلك أربعة وللأخت سهمان ونصف في اثنين فذلك خمسة وللأخ
النصف في اثنين فذلك سهم، وتعرف هذه المسألة بعشرية زيد، لأنه يبقى
للأختين سهم من عشرة فتضرب في العشرة اثنين فذلك عشرون، وتعرف
بالعشرينية. وان اجتمع مع الجد والإخوة للأب والام والإخوة للأب من له
فرض كان الحكم فيه حكم ما لو كان للجد والإخوة للأب والام من له فرض في
أن يجعل للجد الأوفر من المقاسمة بعد الفرض أو ثلث ما يبقى أو سدس جميع المال
ويعاد الإخوة للأب والام الجد بالإخوة للأب على ما ذكرنا. والله تعالى أعلم
بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل
124

قال المصنف رحمه الله:
كتاب النكاح
النكاح جائز لقوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث
ورباع) ولما روى علقمة عن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض
للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).
(الشرح) قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم مرتبط بأول الآية (وإن خفتم
ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع،
فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا).
قال الشافعي رضي الله عنه: أن لا يكثر عيالكم، فدل على أن قلة العيال أدنى
وقيل: قد قال الشافعي ذلك وخالف جمهور المفسرين وقالوا: معنى الآية: ذلك
أدنى أن لا تجوروا ولا تميلوا، فإنه يقال: عال الرجل يعول عولا إذا مال وجار
ومنه عول الفرائض، لان سهامها زادت: ويقال عال يعيل عيلة إذا احتاج. قال
تعالى ((وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله).
وقال الشاعر:
وما يدرى الفقير متى غناه * وما يدرى الغنى متى يعيل
قال ابن القيم: وأما كثرة العيال فليس من هذا ولا من هذا أي لا من
الفقر ولا من الجور قلت: إن ما ذكره الشافعي لغة حكاها الفراء عن
الكسائي قال: ومن الصحابة من يقول: عال يعول إذا كثر عياله، قال الكسائي
وهي لغة فصيحة سمعتها من العرب، على أن قصد المصنف من سوق الآية هو
الاستشهاد بها على جواز النكاح، وسنعود إليه.
أما حديث علقمة عن عبد الله بن مسعود فقد رواه أصحاب الكتب الستة
وأحمد في مسنده، وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن سعد بن أبي وقاص قال
125

((رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له
لاختصينا) وأخرج أحمد والبخاري ومسلم عن أنس (أن نفرا من أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم. قال بعضهم: لا أتزوج، وقال بعضهم: أصلى ولا أنام،
وقال بعضهم: أصوم ولا أفطر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال
أقوام قالوا كذا وكذا، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأتزوج النساء،
فمن رغب عن سنتي فليس منى) وفى مسند أحمد وصحيح البخاري عن سعيد بن
جبير قال: قال لي ابن عباس: هل تزوجت، قلت: لا، قال: تزوج فان خير
هذه الأمة أكثرها نساء.
وفى سنن الترمذي وابن ماجة عن قتادة عن الحسن عن سمرة ان النبي صلى الله
عليه وسلم (نهى عن التبتل) وقرأ قتادة (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم
أزواجا وذرية) قال الترمذي: إنه حسن غريب قال: وروى الأشعث بن
عبد الملك هذا الحديث عن الحسن عن سعد بن هشام عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم
ويقال: كلا الحديثين صحيح.
(قلت) وفى سماع الحسن من سمرة خلاف مشهور مضى في غير موضع،
وحديث عائشة الذي ذكره الترمذي رواه النسائي أيضا، وفى مسند الفردوس
عن ابن عمر مرفوعا (حجوا تستغنوا، وسافروا تصحوا، وتناكحوا تكثروا
فاني أباهي بكم الأمم) وفى إسناده محمد بن الحارث عن محمد بن عبد الرحمن البيلماني
وهما ضعيفان، ورواه البيهقي عن الشافعي انه ذكره بلاغا وزاد في آخره حتى
بالسقط، ورواه البيهقي عن أبي أمامة بلفظ (تزوجوا فاني مكاثر بكم الأمم،
ولا تكونوا كرهبانية النصارى) وفى اسناده محمد بن ثابت وهو ضعيف، وعند
الدارقطني في المؤتلف وابن قانع في الصحابة عن حرملة بن النعمان بلفظ (امرأة
ولود أحب إلى الله من امرأة حسناء لا تلد، انى مكاثر بكم الأمم يوم القيامة)
وقد ضعف اسناده ابن حجر، وعند ابن ماجة عن عائشة ان النبي صلى الله عليه
وسلم قال (النكاح من سنتي، فمن لم يعمل بسنتي فليس منى، وتزوجوا فاني مكاثر
بكم الأمم، ومن كان ذا طول فلينكح، ومن لم يجد فعليه بالصوم فان الصوم له
وجاء) وفى اسناده عيسى بن ميمون وهو ضعيف.
126

وفى مسلم عن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم (الدنيا متاع وخير
متاعها لمرأة الصالحة) وعند النسائي والطبراني بإسناد حسن عن أنس عن النبي
صلى الله عليه وسلم (حبب إلى من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في
الصلاة) وعند الترمذي والدارقطني والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا (ثلاثة حق
على الله إعانتهم، المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد أن يستعف، والمكاتب
يريد الأداء) وعند الحاكم عن أنس بلفظ (من رزقة الله امرأة صالحة فقد أعانه
على شطر دينه فليتق الله في الشطر الثاني).
قال ابن حجر: وإسناده ضعيف وروى بلفظ (من تزوج امرأة صالحة فقد
أعطى نصف العبادة) وفى إسناده زيد العمى وهو ضعيف. وعند أبي داود
والحاكم عن ابن عباس مرفوعا بلفظ (ألا أخبركم بخير ما يكن المرء؟ المرأة
الصالحة إذا نظر إليها سرته، وإذا غاب عنها حفظته، وإذا أمرها أطاعته) وعند
الترمذي نحوه بإسناد منقطع، وعند البغوي في معجم الصحابة بلفظ (من كان
موسرا فلم ينكح فليس منا) ورواه البيهقي وقال: هو مرسل، وكذا جزم به
أبو داود والدولابي.
وقد روى ابن ماجة والحاكم عن ابن عباس (لم ير المتحابين مثل التزويج)
وأخرج أحمد وأبو داود والحاكم وصححه والطبراني من رواية عطاء عن عكرمة
عن ابن عباس مرفوعا (لا صرورة في الاسلام) ولا رواية لعطاء عن عكرمة
ولعله من رواية عمرو بن عطاء بن وراز، وهو مجهول أو عمرو بن أبي الجوار،
والصرورة الذي لم يتزوج والذي لم يحج، وعند الحاكم من حديث عياض بن
غنم مرفوعا (لا تزوجوا عاقرا ولا عجوزا فإني مكاثر بكم الأمم) وإسناده ضعيف
وقد قال ابن حجر في الفتح: وفيه أيضا عن الصنابح بن الأعسر وسهل بن حنيف
وحرملة بن النعمان ومعاوية بن حيدة.
أما لغات الفصل وغريبه، فإن الباءة بالمد النكاح والتزوج وقد تطلق الباءة
على الجماع نفسه، ويقال أيضا: الباهة والباه بالألف مع الهاء وابن قتيبة يجعل
هذه الأخيرة تصحيفا وليس كذلك، بل حكاه الأزهري عن ابن الأنباري،
127

وبعضهم يقول الهاء مبدلة من الهمزة يقال: فلان حريص على الباءة والباء والباه
بالهاء والقصر أي على النكاح.
قال ابن الأنباري: الباه الواحدة والباء الجمع ثم حكاها الأزهري عن ابن
الاعرابي أيضا ويقال إن الباءة هو الموضع الذي تبوء إليه الإبل ثم جعل عبادة
عن المنزل ثم كنى به عن الجماع إما لأنه لا يكون إلا في الباءة غالبا أو لان الرجل
يتبوأ من أهله أي يستمكن كما يتبوأ من داره، وقوله عليه الصلاة والسلام (من
استطاع منكم الباءة) على حذف مضاف والتقدير من وجد مؤنة النكاح فليتزوج
ومن لم يستطع أي من لم يجد أهبة فعليه بالصوم، وقيل الباءة بالمد القدرة على
مؤن النكاح وبالقصر الوطئ.
قال أبو العلاء المعرى.
والباء مثل الباء * يخفض للدناءة أو يجر
قال ابن حجر: ولا مانع من الحمل على المعنى الأعم بأن يراد بالباءة القدرة
على الوطئ ومؤن التزويج، وقد وقع في رواية عند الإسماعيلي من طريق أبى عوانه
بلفظ (من استطاع منكم أن يتزوج فليتزوج) وفى رواية للنسائي (من كان ذا
طول فلينكح) وقوله (أغض للبصر وأحصن للفرج) أي أشد غضا للبصر وأشد
إحصانا ومنعا من الفاحشة، وقوله (فعليه) قيل هذا من إغراء الغائب،
ولا تكاد العرب تغرى إلا الشاهد، تقول عليك زيدا، ولا تقول عليه زيدا.
قال الطيبي وجوابه أنه لما كان الضمير للغائب راجعا إلى لفظة من وهي عبارة عن
المخاطبين في قوله (يا معشر الشباب) والشباب جمع شاب.
قال الأزهري لم يجمع فاعل على فعال غيره، وبيان لقوله (منكم) جاز قوله
عليه لأنه بمنزلة الخطاب، وأجاب القاضي عياض بأن الحديث ليس فيه اغراء
الغائب، بل الخطاب للحاضرين الذين خاطبهم أولا بقوله (من استطاع منكم)
وقد استحسنه القرطبي والحافظ ابن حجر، وقوله: وجاء بكسر الواو والمد
وأصله الغمز ومنه وجاء في عنقه إذا غمزه، ووجأه بالسيف إذا طعنه به، ووجأ
أنثييه غمزهما حتى رضهما وتسمية الصيام وجاء استعارة، والعلاقة المشابهة،
128

لأن الصوم لما كان مؤثرا في ضعف شهوة النكاح شبه بالصوم. وقد يقال: إن
الصوم بما فيه من عبادة في ذاته وفيما يلابسه من ترك لشهواته الحسية والمعنوية
فإنه صارف عن مقارفة الشهوات أو التجانف للمآثم، وهو بما يحيط بالمرء من
فيض نور الطاعة وقاية من الفحشاء أي وقاية.
(أما الأحكام) فان النكاح مشروع بالكتاب والسنة كما أوردنا من نصوصهما
وقد اختلف الفقهاء في كونه واجبا أو جائزا فمذهبنا جوازه، وهو المشهور من
مذهب أحمد بن حنبل رضي الله عنه إلا أن يخاف أحد على نفسه الوقوع في محظور
بتركه فيلزمه إعفاف نفسه.
وحكى عن داود أنه واجب في العمر مرة واحدة للآية والخبر. دليلنا أن الله
تعالى حين أمر به علقه على الاستطابة بقوله (فانكحوا ما طاب لكم من النساء)
والواجب لا يقف على الاستطابة، وقال. مثنى وثلاث ورباع. ولا يجب ذلك
بحال بالاتفاق.
قالت عائشة رضي الله عنها كانت مناكح أهل الجاهلية على أربعة أقسام.
(أحدها) مناكح الرايات وهو أن المرأة كانت تنصب على بابها راية لتعرف
أنها عاهرة، فيأتيها الناس.
(والثاني) أن الرهط من القبيلة أو الناحية كانوا يجتمعون على وطئ امرأة
لا يخالطهم غيرهم، فإذا جاءت بولد ألحق بأشبههم
(الثالث) نكاح الاستخبار، وهو ان المرأة إذا أرادت أن يكون ولدها
كريما بذلت نفسها لعدة من فحول القبائل ليكون ولدها كأحدهم
(الرابع) النكاح الصحيح وهو الذي قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه
ولدت من نكاح لا سفاحا، وتزوج النبي صلى الله عليه وسلم خديجة بنت خويلد
قبل النبوة من عمها ورقة بن نوفل، وكان الذي خطبها له عمه أبو طالب وخطب
فقال الحمد لله الذي جعل لنا بلدا حراما وبيتا محجوجا وجعلنا سدنته، وهذا محمد
قد علمتم مكانه من العقل والنبل، وإن كان في المال قل، الا ان المال ظل زائل،
129

وعارية مسترجعة. وما أردتم من المال فعلى، وله في خديجة بنت خويلد رغبة
ولها فيه مثل ذلك، فزوجها منه عمها. والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يصح النكاح إلا من جائز التصرف. فأما الصبي والمجنون فلا
يصح منهما عقد النكاح لأنه عقد معاوضة فلم يصح من الصبي والمجنون كالبيع.
وأما المحجور عليه لسفه فلا يصح نكاحه بغير إذن الولي لأنه عقد يستحق به المال
فلم يصح منه من غير اذن الولي ويصح منه بإذن الولي لأنه لا يأذن له إلا فيما يرى
الحظ فيه. وأما العبد فلا يصح نكاحه بغير إذن المولى لما روى ابن عمر رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا نكح العبد بغير إذن سيده فنكاحه
باطل) ولأنه بالنكاح تنقص قيمته ويستحق بالمهر والنفقة كسبه، وفى ذلك
إضرار بالمولى فلم يجز من غير إذنه، ويصح منه بإذن المولى لأنه لما أبطل النبي
صلى الله عليه وسلم نكاحه بغير إذنه دل على أنه يصح باذنه، ولان المنع لحق
المولى فزال باذنه.
(فصل) ومن جاز له النكاح وتاقت نفسه إليه وقدر على المهر والنفقة
فالمستحب له أن يتزوج لحديث عبد الله، ولأنه أحصن لفرجه وأسلم لدينه، ولا
يجب ذلك لما روى إبراهيم بن ميسرة رضي الله عنه عن عبيد بن سعد يبلغ به
النبي صلى الله عليه وسلم (من أحب فطرتي فليستن بسنتي، ومن سنتي النكاح)
ولأنه ابتغاء لذة تصبر النفس عنها فلم يجب كلبس الناعم وأكل الطيب، ومن لم
تق نفسه إليه، فالمستحب له أن لا يتزوج لأنه تتوجه عليه حقوق هو غنى عن
التزامها ويحتاج أن يشتغل عن العبادة بسببها، وإذا تركه تخلى للعبادة فكان تركه
أسلم لدينه.
(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه ابن ماجة. قال الترمذي (لا يصح إنما
هو عن جابر، ورواية جابر عند أحمد وأبى داود والترمذي وحسنه بلفظ. (أيما
عبد تزوج بغير اذن سيده فهو عاهر)
أما حديث عبيد بن سعد فأصح طرقه روايتا عائشة وأنس في الرهط الذين
130

جاءوا إلى البيت، وقد مضى تخريجه. أما الأحكام فإنه لا يصح النكاح إلا من
حر بالغ عاقل مطلق التصرف. فأما العبد فلا يصح نكاحه بغير إذن السيد.
وأما الصبي والمجنون فلا يصح نكاحهما لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن
ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ. وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق)
ولأنه عقد معاوضة فلم يصح من الصبي والمجنون كالبيع. وأما السفيه فلا يصح
نكاحه بغير إذن الولي، لأنه لا يأذن له إلا فيما فيه مصلحة من ذلك
(فرع) النكاح مستحب غير واجب عندنا، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد
في المشهور من مذهبه وأكثر أهل العلم
وقال داود بن علي الظاهري: هو واجب على الرجل والمرأة مرة في العمر
دليلنا كما قلنا قوله تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء فعلقه بالاستطابة
وما كان واجبا لا يتعلق بالاستطابة.
وروى أبو أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أربع من سنن
المرسلين: الختان والتعطر والسواك والنكاح) وقوله (من أحب فطرتي) فعلقه
على المحبة وسماه سنة، فإذا أطلقت السنة اقتضت المندوب إليه. وروى أن امرأة
أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله ما حق الزوج على المرأة؟
فبين لها ذلك، فقالت لا والله لا تزوجت أبدا، فلو كان النكاح واجبا لأنكر
عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، وروى أن جماعة من الصحابة ماتوا
ولم يتزوجوا ولم ينكر عليهم
إذا ثبت هذا فالناس في النكاح على أربعة أضرب: ضرب تتوق نفسه إليه،
أي اشتاقت ويجد أهبته وهو المهر والنفقة وما يحتاج إليه، فيستحب له أن يتزوج
لما رواه عبد الله بن مسعود حديث (يا معشر الشباب)
والضرب الثاني: من تتوق نفسه إلى الجماع ولا يقدر على المهر والنفقة
فالمستحب له أن لا يتزوج، بل يتعاهد نفسه بالصوم فإنه له وقاية. ولا يشغل
ذمته بالمهر والنفقة.
والضرب الثالث: من لا تتوق نفسه إلى الجماع ويريد التخلي إلى عبادة الله
تعالى فيستحب له أن لا يتزوج، لأنه يلزم ذمته حقوقا هو مستغن عن التزامها
131

والضرب الرابع، من لا تتوق نفسه وهو قادر على المهر والنفقة ولا يريد
العبادة فهل يستحب له أن يتزوج؟ فيه قولان حكاهما العمراني في الفروع،
(أحدهما) لا يستحب له أن يتزوج لأنه يشغل ذمته بما لا حاجة به إليه.
(والثاني) يستحب له لقوله صلى الله عليه وسلم (من أحب فطرتي فليستن
بسنتي، ومن سنتي النكاح.
وقال أبو حنيفة النكاح مستحب بكل حال، وبه قال بعض أصحابنا، بل قال
أبو عوانة الأسفراييني من محدثي أصحاب الشافعي (انه يجب للثائق إليه القادر
على مؤنته) وصرح به في صحيحه، ونقله المصعبي في شرح مختصر الجويني وجها
وقال ابن حزم في المحلى وفرض على كل قادر على الوطئ إن وجد ما يتزوج به أو
يتسرى أن يفعل أحدهما، فإن لم يجد فليكثر من الصوم، وهو قول جماعة
من السلف. انتهى.
وقال الماوردي من أصحابنا الذي نطق به مذهب مالك أنه مندوب، وقد
يجب عندنا في حق من لا ينكف عن الزنا إلا به. وقال القاضي عياض هو
مندوب في حق كل من يرجى منه النسل، ولو لم يكن في الوطئ شهوة، وكذا في
حق من له رغبة في نوع من الاستمتاع بالنساء غير الوطئ. فأما من لا نسل له
ولا إرب له في النساء ولا في الاستمتاع فهذا مباح في حقه إذا علمت المرأة بذلك
ورضيت. وقد يقال إنه مندوب أيضا لعموم (لا رهبانية في الاسلام) قال
الحافظ بن حجر ولم أره بهذا اللفظ. لكن في حديث سعد بن أبي وقاص عند
الطبراني (إن الله أبدلنا بالرهبانية الحنيفية السمحة)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والمستحب أن لا يتزوج إلا ذات دين لما روى أبو هريرة رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (تنكح المرأة لأربع، لمالها وحسبها
وجمالها ودينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك) ولا يتزوج إلا ذات عقل،
لان القصد بالنكاح العشرة وطيب العيش، ولا يكون ذلك الا مع ذات عقل،
ولا يتزوج إلا من يستحسنها لما روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن
132

رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال (إنما النساء لعب، فإذا اتخذ أحدكم
لعبة فليستحسنها)
(فصل) وإذا أراد نكاح امرأة فله أن ينظر وجهها وكفيها، لما روى
أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من نساء الأنصار فقال
النبي صلى الله عليه وسلم (انظر إليها فإن أعين الأنصار شيئا) ولا ينظر إلى
ما سوى الوجه والكفين لأنه عورة، ويجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل
أن تنظر إليه، لأنه يعجبها من الرجل ما يعجب الرجل منها. ولهذا قال عمر
رضي الله عنه (لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم، فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم
منهن) ويجوز لكل واحد منهما أن ينظر إلى وجه الآخر عند المعاملة، لأنه
يحتاج إليه للمطالبة بحقوق العقد والرجوع بالعهدة. ويجوز ذلك عند الشهادة
للحاجة إلى معرفتها في التحمل والأداء.
ويجوز لمن اشترى جارية أن ينظر إلى ما ليس بعورة منها للحاجة إلى معرفتها
ويجوز للطبيب أن ينظر إلى الفرج للمداواة لأنه موضع ضرورة فجاز له النظر
إلى الفرج كالنظر في حال الختان. وأما من غير حاجة فلا يجوز للأجنبي أن ينظر
إلى الأجنبية، ولا للأجنبية أن تنظر إلى الأجنبي، لقوله تعالى (قل للمؤمنين
يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن
ويحفظن فروجهن)
وروت أم سملة رضي الله عنها قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه
وسلم وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
احتجبن عنه، فقلت (يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال
أفعمياوان أنتما أليس تبصرانه؟)
وروى علي كرم الله وجهه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل
فاستقبلته جارية من خثعم فلوى عنق الفضل، فقال أبوه العباس: لويت عنق
ابن عمك؟ قال رأيت شابا وشابة فلم آمن الشيطان عليهما) ولا يجوز النظر إلى
الأمرد من غير حاجة لأنه يخاف الافتتان به كما يخاف الافتتان بالمرأة
133

(فصل) ويجوز لذوي المحارم النظر إلى ما فوق السرة ودون الركبة من ذوات
المحارم لقوله تعالى (ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن
أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بنى إخوانهن أو بنى أخواتهن أو
نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولى الإربة من الرجال) ويجوز للرجل
أن ينظر إلى ذلك من الرجل وللمرأة أن تنظر إلى ذلك من المرأة لأنهم كذوي
المحارم في تحريم النكاح على التأييد فكذلك في جواز النظر. واختلف أصحابنا في
مملوك المرأة، فمنهم من قال هو محرم لها في جواز النظر والخلوة، وهو المنصوص
لقوله عز وجل (أو ما ملكت أيمانهن) فذكره مع ذوي المحارم في إباحة النظر.
وروى أنس رضي الله عنه قال (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة غلاما فأقبل
النبي صلى الله عليه وسلم ومعه الغلام فتقنعت بثوب إذا قنعت رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا
غطت رجليها لم يبلغ رأسها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك
وغلامك) ومنهم من قال ليس بمحرم، لان المحرم من يحرم على التأييد، وهذا
لا يحرم على التأييد فلم يكن محرما، واختلفوا في المراهق مع الأجنبية، فمنهم من
قال هو كالبالغ في تحريم النظر لقوله تعالى (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات
النساء) فدل على أنه لا يجوز لمن ظهر على عورات النساء، ولأنه كالبالغ في
الشهوة فكان كالبالغ في تحريم النظر. ومن أصحابنا من قال يجوز له النظر إلى
ما ينظر ذو محرم، وهو قول أبى عبد الله الزبيري لقوله عز وجل (وإذا بلغ
الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا) فدل على أنهم إذا لم يبلغوا الحلم لم يستأذنوا،
(فصل) ومن تزوج امرأة أو ملك جارية يملك وطأها فله أن ينظر منها إلى
غير الفرج، وهل يجوز أن ينظر إلى الفرج؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يجوز،
لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (النظر إلى الفرج يورث الطمس)
(والثاني) يجوز، وهو الصحيح، لأنه يملك الاستمتاع به فجاز له النظر إليه كالفخذ
وإن زوج أمته حرم عليه النظر إلى ما بين السرة والركبة لما روى عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا زوج أحدكم جاريته عبده
أو أجيره فلا ينظر إلى ما دون السرة والركبة)
134

(الشرح) حديث أبي هريرة رواه الشيخان وأحمد في مسنده وأصحاب السنن
ما عدا الترمذي، وحديث أنس رواه أبو داود والبيهقي وابن مردويه وفى إسناده
أبو جميع سالم بن دينار الهجيمي البصري، قال ابن معين ثقة، وقال أبو زرعة
الرازي: بصرى لين الحديث. وقوله (إذا قنعت) بفتح النون المشددة سترت
وغطت. وأما حديث النظر إلى الفرج يورث الطمس، فقد مضى في العبادات
في ستر العورة وضعفه النووي وغيره، وكذلك حد العورة من الجارية مضى في
ستر العورة فليراجع.
أما غريبه فقوله (لأربع) أي لأجل أربع، وقوله (لحسبها) بفتح الحاء
والسين أي شرفها، والحسب في الأصل الشرف بالآباء وبالأقارب مأخوذ من
الحساب، لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وقومهم وحسبوها
فيحكم فان زاد عدده على غيره، وقيل المراد بالحسب هنا الأفعال الحسنة، وقيل
المال، وهو مردود بذكره قبله، ويؤخذ من الحديث أن الشريف النسيب
يستحب له أن يتزوج نسيبة، إلا أن تعارض نسيبة غير ذات دين، وغير نسيبة
ذات دين، فتقدم ذات الدين، وهكذا كل الصفات
وأما ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان والحاكم من حديث بريدة
رفعه (إن أحساب أهل الدنيا الذي يذهبون إليه المال) فقال ابن حجر: يحتمل
أن يكون المراد أنه حسب من لا حسب له فيقوم النسب الشريف لصاحبه مقام
المال لمن لا نسب له، ومنه حديث سمرة يرفعه (الحسب المال والكرم التقوى)
أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم.
قوله (وجمالها) يؤخذ منه استحباب نكاح الجميلة، ويلحق بالجمال في الذات
الجمال في الصفات، قوله (فاظفر بذات الدين) فيه دليل على أن اللائق بذى الدين
والمروءة أن يكون الدين مطمح نظره في كل شئ لا سيما فيما تطول صحبته كالزوجة
وقد وقع في حديث عبد الله بن عمرو عند ابن ماجة والبزار والبيهقي يرفعه
(لا تزوجوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تزوجوهن لأموالهن
فعسى أموالهن أن تطغبهن، ولكن تزوجوهن على الدين، ولامة سوداء
ذات دين أفضل)
135

والحديث يكشف البشر وما استقر في طباعهم من قصد هذه الخصال
الأربع وآخرها عندهم ذات الدين فاظفر أيها الحصيف بذات الدين تربت يداك
أي لصقت بالتراب وهي كناية عن الفقر، وهو خبر بمعنى الدعاء، لكن لا يراد
به حقيقته وبهذا جزم صاحب العمدة.
وحكى ابن العربي أن المعنى: استغنت يداك، ورد بأن المعروف أترب إذا
استغنى، وترب إذا افتقر، وقيل: معناه ضعف عقلك، وقيل: افتقرت من العلم
وقيل: فيه شرط مقدر أي وقع ذلك لك إن لم تفعل ورجحه ابن العربي.
وحديث إنما النساء لعب مضى تخريجه.
أما حديث أبي هريرة فقد رواه أحمد والنسائي، وأخرجه مسلم من حديث أبي
حازم عنه ولفظه (كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل فأخبره أنه
تزوج امرأة من الأنصار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظرت إليها؟
قال: لا، قال: فاذهب فانظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا)
أما حديث أم سلمة فقد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي
وابن حبان وفى إسناده نبهان مولى أم سلمة شيخ الزهري وقد وثق، وقد روى
مالك في موطئه عن عائشة أنها احتجبت من أعمى فقيل لها: إنه لا ينظر إليك
قالت: لكني أنظر إليه.
أما حديث علي كرم الله وجهه فقد أخرجه الترمذي وصححه، ورواه البخاري
من حديث عبد الله بن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن
العباس يوم النحر خلفه، وفيه قصة المرأة الخثعمية التي سألته صلى الله عليه وسلم
عن أمها التي لم تحج، وقد مضى في كتاب الحج تفصيله وطرقه وفحواه.
أما الأحكام: فإنه يستحب له أن يتزوج ذات العقل، لان القصد بالنكاح
طيب العيش معها ولا يحصل ذلك مع من لا عقل لها، ويستحب له أن يتزوج بكرا
لما روى جابر قال: تزوجت امرأة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
أتزوجت يا جابر؟ فقلت: نعم، فقال: بكرا أم ثيبا؟ فقلت له ثيبا، فقال هلا
جارية بكرا تلاعبها وتلاعبك إلخ الحديث، ويستحب له أن لا يتزوج إلا من
136

يستحسنها لحديث (فإذا اتخذ أحدكم لعبة فليستحسنها) ويستحب له أن يتزوج
ذات نسب لحديث تنكح المرأة الأربع ولقوله صلى الله عليه وسلم (تخيروا لطفكم)
ولقوله صلى الله عليه وسلم (إياكم وخضراء الدمن، قيل وما خضراء الدمن
يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء).
والأولى أن يتزوج من غير عشيرته لان الشافعي رضي الله عنه قال إذا تزوج
الرجل من عشيرته فالغالب على ولده الحمق، ومن المقرر في علم الأجناس أن من
أسباب انقراض الجنس حصره في أسرة واحدة فان ذلك يفضى بتدهور السلالات
وضعف النسل، ويستحب له أن يتزوج الولود، لقوله صلى الله عليه وسلم
(تناكحوا تكثروا) وقوله صلى الله عليه وسلم (تزوجوا الولود الودود) وقوله
صلى الله عليه وسلم (سوداء ولود خير من حسناء عقيم) ويستحب له أن يتزوج
في شوال، لما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم
في شوال، وبنى بي في شوال، فكانت عائشة رضي الله عنها تستحب أن يبتنى
بنسائها في شوال.
(فرع) ويجوز للحر أن يجمع بين أربع زوجات حرائر، ولا يجوز له أن
يجمع بين أكثر من أربع لقوله: مثنى وثلاث ورباع، قال الصيمري من أصحابنا
إلا أن المستحب أن لا يزيد على واحدة لا سيما في زماننا هذا أي في زمان
الصيمري وقال القاسم وشيعته (القاسمية) يجوز أن يجمع بين تسع ولا يجوز
له أكثر من ذلك لان النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع زوجات، ولان
قوله تعالى (مثنى وثلاث ورباع فيكون المجموع تسعا. وذهبت طائفة من الرافضة
إلى أنه يتزوج أي عدد شاء.
دليلنا أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
أمسك منهن أربعا وفارق سائرهن. وروى عن نوفل بن معاوية قال: أسلمت
وتحتي خمس نسوة فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم (أمسك أربعا منهن وفارق
واحدة منهن. واما الآية فالمراد بها التخيير بين الاثنتين والثلاث والأربع،
ولم يرد به الجمع، كقوله تعالى (أولى أجنحة مثنى وثلاث ورباع في صفة الملائكة
137

وتقول. جاء في القوم مثنى وثلاث ورباع، وأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان مخصوصا
بذلك، وما روى أن أحدا من الصحابة جمع بين أكثر من أربع زوجات.
(فرع) وإذا أراد الرجل خطبة امرأة جاز له النظر منها إلى ما ليس بعورة
منها وهو وجهها وكفاها بإذنها وبغير اذنها ولا يجوز له أن ينظر إلى ما هو عورة منها
وبه قال مالك وأبو حنيفة.
وحكى عن مالك أنه لا يجوز له ذلك الا بإذنها. وقال المزني: لا يجوز أن
ينظر إلى شئ منها. وقال داود بن علي: يجوز له أن ينظر إلى جميع بدنها إلا إلى
فرجها. دليلنا على المزني حديث أبي هريرة مرفوعا (أنظر إليها فإن في أعين
الأنصار شيئا).
وروى عن المغيرة بن شعبة قال: أردت أن أنكح امرأة من الأنصار فذكرت
ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال (اذهب فانظر إليها فإنه أحرى يؤدم بينكما
قال فذهبت فأخبرت أباها بذلك، فذكر أبوها ذلك لها فرفعت الخدر فقالت:
إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لك أن تنظر فانظر، وإلا فإني أخرج
عليك ان كنت تؤمن بالله ورسوله.
وأما الدليل على داود فقوله تعالى (ولا يبدين زينتهن الا ما ظهر منها) قبل
في التفسير: الوجه والكفان، وظاهر الآية يقتضى أنه لا يجوز للمرأة أن تبدي
الا وجهها وكفيها.
وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أراد أحدكم
تزويج امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها، فدل على أنه لا يجوز له النظر إلى غير
ذلك، ولان ذلك يدل على سائر بدنها.
إذا ثبت هذا: فله أن يكرر النظر إلى وجهها وكفيها، لما روى أبو الدرداء
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا قذف الله في قلب امرئ
خطبة امرأة فلا بأس أن يتأمل محاسن وجهها. ولا يمكنه تأمل ذلك الا بأن يكرر
إليها النظر.
قال الصيمري: فإذا نظر إليها ولم توافقه فالمستحب له أن يسكت ولا يقول
138

لا أريدها. قال: وقد جرت عادة الرجال في وقتنا هذا أن يبعث بامرأة ثقة لتنظر
إلى المرأة التي يريدون خطبتها، وهو خلاف السنة، وذلك في كتاب الإفصاح.
(فرع) قال الشيخ أبو إسحاق: ويجوز للمرأة إذا أرادت أن تتزوج برجل
أن تنظر إليه لأنه يعجبها منه ما يعجبه منها، ولهذا قال عمر رضي الله عنه:
لا تزوجوا بناتكم من الرجل الدميم فإنه يعجبهن منهم ما يعجبهم منهن
وإذا أراد الرجل أن ينظر إلى امرأة أجنبية منه من غير سبب فلا يجوز له ذلك
لا إلى العورة ولا إلى غير العورة لقوله تعالى (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم)
ولحديث على في ارداف الرسول الله صلى الله عليه وسلم الفضل بن العباس خلفه في
حجة الوداع في قصة الخثعمية.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي (يا علي لا تتبع النظرة النظرة
فإنما لك الأولى وليست لك الآخرة) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي من
حدث بريدة. ولا يجوز للمرأة ان تنظر إلى الرجل الأجنبي لا إلى العورة ولا إلى
غيرها من غير سبب، لقوله تعالى (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن)
ولحديث دخول ابن أم مكتوم على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أم سلمة
وميمونة، وقيل عائشة وحفصة فأمرهما صلى الله عليه وسلم بالاحتجاب، قائلا
أفعمياوان أنتما، أليس تبصرانه، ولان المعنى الذي منع الرجل لأجله هو
صرف الافتتان، وهذا موجود في المرأة لأنها أسرع إلى الافتتان لغلبة شهوتها
فحرم عليها ذلك.
(فرع) ويجوز للرجل ان ينظر إلى وجه المرأة الأجنبية عند الشهادة وعند
البيع منها والشراء، ويجوز لها ان تنظر إلى وجهه لذلك، لان هذا يحتاج إليه فجاز
النظر لأجله، ويجوز لكل واحد منهما ان ينظر إلى بدن الآخر إذا كان طبيبا
وأراد مداواته لأنه موضع ضرورة فزال تحريم النظر لذلك.
(فرع) واختلف أصحابنا في الصبي المراهق مع المرأة الأجنبية، فمنهم من
قال: هو كالرجل البالغ الأجنبي معها فلا يحل لها ان تبرز له لقوله تعالى: أو
الطفل الذين لم يتطهروا على عورات النساء. ومعناه لم يقووا على مواقعة النساء
139

والمراهق يقوى على المواقعة والجماع فهو كالبالغ، ومنهم من قال: هو معها
كالبالغ من ذوي محارمها لقوله تعالى (وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا)
فأمر بالاستئذان إذا بلغوا الحلم: فدل على أنه قبل أن يبلغ الحلم يجوز دخولهم
من غير استئذان.
ولا يجوز للرجل الخصي أن ينظر إلى بدن المرأة الأجنبية. قال ابن الصباغ:
إلى أن يكبر ويهرم وتذهب منه شهوته، قال: وكذلك المخنث لقوله تعالى (أو
التابعين غير أولى الإربة من الرجال)
وروى أن مخنثا كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا يعدونه
من غير أولى الإربة. فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوما وهو عند بعض نسائه
هو ينعت امرأة لعبد الله بن أمية أخي أم سلمة يقول: يا عبد الله ان فتح الله
عليكم الطائف فإني أدلك على ابنة غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخلن هؤلاء عليكم. رواه البخاري ومسلم وأخرجه
أحمد في مسنده عن أم سلمة، ورواه أحمد ومسلم وأبو داود من حديث عائشة.
وقوله (تقبل بأربع) يعنى أربع عكن في مقدم بطنها، وقوله (تدبر بثمان) لان
الأربع محيطة ببطنها وجنبيها فتبدو العكن من خلفها ثمان أربع من اليمين وأربع
من اليسار. وهذا هو تفسير مالك رضي الله عنه للحديث، وتابعه عليه جمهور
العلماء في اللغة والحديث.
(فرع) ويجوز للرجل أن ينظر إلى المرأة من ذوات محارمه، وكذلك يجوز
لها النظر إليه من غير سبب ولا ضرورة، لقوله تعالى (ولا يبدين زينتهن الا
لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن) الآية وفى الموضع الذي يجوز له النظر إليها
منها وجهان حكاهما المسعودي (أحدهما) وهو قول البغداديين من أصحابنا أنه
يجوز له النظر إلى جميع بدنها الا ما بين السرة والركبة، لأنه لا يحل له نكاحها
بحال، فجاز له النظر إلى ذلك كالرجل مع الرجل.
(والثاني) وهو اختيار القفال أنه يجوز له النظر إلى ما يبدو منها عند المهنة (1)

(1) المهنة بفتح الميم بعدها هاء ساكنة ثم نون مفتوحة فهاء وهي الخدمة.
140

لأنه لا ضرورة به إلى النظر إلى ما زاد على ذلك. قال المسعودي: وهكذا الوجهان
في النظر إلى أمة غيره.
ويجوز للرجل أن ينظر إلى جميع بدن الرجل الا إلى ما بين السرة والركبة
من غير سبب ولا ضرورة، لأنه لا يخاف الافتتان بذلك
(فرع) إذا امتلكت المرأة خادما فهل يكون كالمحرم لها في جواز النظر
والخلوة به؟ فيه وجهان (أحدهما) أنه يصير محرما لها، وقد مال في المهذب إلى
ذلك، وهو المنصوص لقوله تعالى (أو ما ملكت أيمانهن) فعده من ذوي المحارم
وروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا كان مع إحداكن مكاتب
وفى فلتحتجب عنه) فلولا أن الاحتجاب لم يكن واجبا عليهن قبل ذلك
لما أمرهن به.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى فاطمة رضي الله عنها غلاما فأراد
النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليها ومعه على والغلام وليس عليها الا ثوب
واحد، فأرادت أن تغطي رأسها به ورجليها فلم يبلغ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا بأس
عليك إنما هو أبوك وزوجك وخادمك، ولان الملك سبب يحرم الزوجية بينهما
فوجب أن يكون محرما له كالنسب والرضاع.
والثاني لا يكون محرما لها. قال الشيخ أبو حامد وهو الصحيح عند أصحابنا
لان الحرمة إنما تثبت بين شخصين لم تخلق بينهما شهوة كالأخ والأخت. والخادم
وسيدته شخصان خلقت بينهما الشهوة فهو كالأجنبي. وأما الآية فقال أهل
التفسير، والمراد بها الا ما دون العبيد. وأما الخبر فيحتمل أن يكون الغلام الذي
أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة صغيرا. اه‍
(فرع) وإذا تزوج الرجل امرأة يحل له الاستمتاع بها كان لكل واحد منهما
النظر إلى جميع بدن الآخر، لأنه يملك الاستمتاع به، وهل يجوز له النظر إلى
الفرج؟، فيه وجهان (أحدهما) يجوز لأنه موضع يجوز الاستمتاع به فجاز له النظر
إليه كالفخذ (والثاني) لا يجوز لما روى من أن النظر إلى الفرج يورث الطمس
وهو العمى، قال تعالى (فطمسنا أعينهم) ولان فيه دناءة وسخفا. وقال الشيخ
أبو حامد وابن الصباغ، يعنى بالطمس العمى أي في النظر، وقال الطبري في العدة
141

أي أن الولد بينهما يولد أعمى. وإذا زوج الرجل أمته كانت كذوات محارمه فلا
يجوز له أن ينظر منها إلى ما بين السرة والركبة للحديث: إذا زوج أحدكم أمته
فلا ينظر منها إلى ما بين السرة والركبة، ولأنه إذا زوجها فحكم الملك ثابت بينهما
وإنما حرم عليه الاستمتاع بها فصارت كذوات محارمه.
(مسألة (1) قال الشافعي رضي الله عنه: ان الله عز وجل لما خص به رسوله
صلى الله عليه وسلم من وحيه وأنابه بينه وبين خلقه بما فرضه عليهم من طاعته
افترض عليه أشياء خففها على خلقه ليزيده بها إن شاء الله قربة، وأباح له أشياء
حظرها على خلقه زيادة في كرامته وتبيينا لفضيلته. وجملة ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم
خص بأحكام في النكاح وغيره ولم يشاركه غيره فيها
فأما ما خص به في غير النكاح فأوجب الله تعالى عليه أشياء لم يوجبها على
غيره ليكون ذلك أكثر لثوابه، فأوجب عليه السواك والوتر والأضحية.
والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: ثلاث كتبهن الله على ولم تكتب عليكم:
السواك والوتر والأضحية. وكان يجب عليه إذا لبس لامة حربه أن لا ينزعها
حتى يلقى العدو. الدليل قوله صلى الله عليه وسلم: ما كان لنبي إذا لبس لامته أن
ينزعها حتى حكم الله بينه وبين عدوه
وأما قيام الليل فمن أصحابنا من قال كان واجبا عليه إلى أن مات لقوله تعالى
(يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا) الآية. والمنصوص أنه كان واجبا عليه ثم
نسخ بقوله تعالى (ومن الليل فتهجد به نافلة لك) وبعض أهل العلم يرى أن
الآية ليست ناسخه. وأن قوله نافلة لك تجرى مجرى معناها اللغوي، أي زيادة
خاصة بك وليست نافلة بمعناها الاصطلاحي أمن كونها دون الواجب. وكان
صلى الله عليه وسلم إذا رأى منكرا أنكره وأظهره، لان إقراره لغيره على ذلك
يدل على جوازه، وقد ضمن الله تعالى له النصر. وحرم عليه أشياء لم يحرمها على

(1) هو فصل محذوف من النسخة المطبوعة أورده العمراني في كشف ما في
المهذب من الاشكال، وكم في النسخة المطبوعة من نقص استدركناه في فروعنا.
142

غيره تنزيها له وتطهيرا، فحرم على الكتابة وقول الشعر وتعليمه تأكيدا لحجته
وبيانا لمعجزته: قال تبارك وتعالى (وما كنت نتلو من قبله من كتاب ولا تخطه
بيمينك إذن لارتاب المبطلون.
وذكر النقاش من أصحابنا أن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى كتب، والأول هو
المشهور: وحرمت عليه الصدقة المفروضة قولا واحدا. وفى صدقة التطوع
قولان وقد مضى بيانه مفصلا في الزكاة وحرم عليه خائنة الأعين وهو الرمز
بالعين، لما روى أن رجلا دخل على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما خرج
قال: هلا قتلتموه، فقالوا هلا رمزت إلينا، فقال صلى الله عليه وسلم: ما كان
لنبي أن يكون له خائنة الأعين. وحرم عليه أن يمد عينيه إلى ما متع به الناس.
والدليل عليه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مرت به إبل عست بأبوالها
وأبعارها فغطى عينيه، فقيل له في ذلك، فقال قال الله تعالى (ولا تمدن عينيك
إلى ما متعنا به أزواجا منهم)
وأباح الله تعالى له أشياء لم يبحها لغيره تفضيلا له واختصاصا، منها انه أباح
له الوصال في الصوم. والدليل عليه أنه نهى عن الوصال، فقيل له يا رسول الله
انك تواصل، فقال (انى لست مثلكم، انى أطعم وأسقى) وفى رواية (انى أبيت
عند ربى فيطعمني ويسقيني) وأبيح له أربعة أخماس الغنيمة، وخمس الخمس من
الفئ والغنيمة، وأبيح له أن يختار منها ما شاء، وأكرمه الله تعالى بأشياء منها
أحل له الغنائم ولأمته وكانت لا تحل لمن قبله من الأنبياء.
ويزعم اليهود في توراتهم أن السبي والفئ والغنيمة حلال لهم بالحرب. وفى
التلمود كل أموال ودماء ونساء وأطفال غير اليهود مستباحة لليهود، وقالوا ليس
علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون) وجعلت له الأرض
مسجدا وطهورا ولأمته وكان من قبله من الأنبياء لا تصح صلاتهم إلا في
المساجد لقوله صلى الله عليه وسلم (فضلنا على الناس بثلاث، جعلت الأرض لنا
مسجدا وترابها طهورا وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعل له معجزات
كمعجزات الأنبياء قبله وزيادة، فكانت معجزة موسى العصا وانبجاس
الماء من الصخرة.
143

وقد انشق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم وخرج الماء من بين أصابعه وكانت
معجزة عيسى إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وقد سبحت الحصى بيد
النبي صلى الله عليه وسلم وحن الجذع إليه، وفضله الله تعالى عليهم بأن جعل
القرآن معجزته وجعل معجزته فيه باقية إلى يوم القيامة، ولهذا كانت نبوته
مؤبدة لا تنسخ إلى يوم القيامة، ونصر بالرعب مسيرة شهر، وبعث إلى الخلق
كافة، وقد كان كل نبي يبعث في نسب قومه خاصة، وقال صلى الله عليه وسلم:
تنام عيناي ولا ينام قلبي، وكان يرى من خلفه كما يرى من بين يديه، وأما ما خص
به النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام في النكاح فاختلف أصحابنا في المنع من
الكلام فيه فحكى الصيمري أبا علي بن خيران منع من الكلام فيه وفى الإمامة
لان ذلك قد انقضى فلا معنى للكلام فيه.
وقال سائر أصحابنا: لا بأس في الكلام بذلك وهو المشهور من المذهب لما فيه
من زيادة العلم، وقد تكلم العلماء فيما لا يكون كما بسط الفرضيون مسائل الوصايا
وقالوا: إذا ترك أربعمائة جدة وأكثر. وإذا ثبت هذا فإنه أبيح للنبي صلى الله عليه
وسلم أن ينكح من النساء أي عدد شاء.
وحكى الطبري في العدة وجها آخر أنه لم يبح له أن يجمع بين أكثر من تسع
والأول هو المشهور، قال تعالى (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث
ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا)
قيل في التفسير: أن لا تجوروا في حقوقهن فحرم الزيادة على الأربع وندب إلى
الاقتصار على واحدة خوفا من الجور وترك العدل، وهذا مأمون من النبي صلى الله عليه وسلم
ولان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ثماني عشرة امرأة، وقيل: بل خمسة عشر وجمع بين
أربعة عشر، وقيل بل بين أحد عشر، ومات عن تسع هن عائشة بنت أبي بكر
الصديق، وحفصة بنت عمر، وأم سلمة بنت أبي أمية، وأم حبيبة بنت أبي سفيان
وميمونة بنت الحارث، وجويرية بنت الحارث، وصفية بنت حي، وزينب بنت
جحش، فهؤلاء ثمان نسوة كان يقسم لهن إلى أن مات صلى الله عليه وسلم
والتاسعة سودة بنت زمعة كانت وهبت ليلتها لعائشة حتى قال له ربه تعالى
144

(لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن) ثم نسخ هذا التحريم بقوله تعالى
(يا أيها النبي انا أحللنا لك أزواجك اللائي هاجرن معك) الآية.
قال الشافعي رضي الله عنه فمن ذلك أن من ملك زوجة فليس عليه تخييرها
وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخير نساءه فاخترته، ومن ذلك أن الله
تعالى خيره صلى الله عليه وسلم بين أن يكون نبيا ملكا وعرض عليه مفاتيح خزائن
الدنيا وبين أن يكون نبيا مسكينا فاختار المسكنة وهي أعلى المنزلتين ومن ثم أمره
الله تعالى أن يخير زوجاته فربما كان فيهن من تكره المقام على الشدة تنزيها له،
ومما خص به النبي صلى الله عليه وسلم أن جعل أزواجه أمهات المؤمنين. قال الشافعي. معنى
قوله تعالى (وأزواجه أمهاتهم) في معنى دون معنى وأراد به أن أزواجه اللاتي
مات عنهن لا يحل لاحد نكاحهن ومن استحل ذلك كان كافرا.
أما إذا تزوجها ولم يدخل بها ثم فارقها كالكلبية التي قالت أعوذ بالله منك.
فقال لها لقد استعذت بمعاذ الحقي بأهلك، فقيل إنه تزوجها عكرمة بن أبي جهل
في خلافة الصديق أو خلافة عمر فهم برجمها، فقيل له انه لم يدخل بها فخلى عنها
وقيل إن الذي تزوج منها الأشعث بن قيس الكندي. وقال القاضي أبو الطيب
الذي تزوجها المهاجر ابن أبي أمية ولم ينكر أحد ذلك فدل على أنه اجماع، ومما
خص به النبي صلى الله عليه وسلم ان الله فضل زوجاته على نساء العالمين. يا نساء النبي لستن
كأحد من النساء ان اتقيتن، وقوله (يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة
يضاعف لها العذاب ضعفين) إلى قوله تعالى (وتعمل صالحا نؤتها اجرها مرتين)
فجعل حدهن مثل حد غيرهن لكمالهن وفضيلتهن كما جعل حد الحر مثلي حد العبد
وكذلك حسناتهن مضاعفة لهن تفضيلا لهن وتشريفا، وقد قال الشافعي في كتاب
أحكام القرآن الذي رواه عنه البيهقي، وابان من فضله من المباينة بينه وبين
خلقه فرض عليهم طاعته في غير آية من كتابه، وافترض عليه أشياء خففها
عن خلقه، قال العمراني وهذا أوضح معنى مما نقله المزني والله تعالى اعلم.
145

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب ما يصح به النكاح
لا يصح النكاح إلا بولي فان عقدت المرأة لم يصح، وقال أبو ثور: إن عقدت
بإذن الولي صح، ووجهه أنها من أهل التصرف، وإنما منعت من النكاح لحق
الولي، فإذا أذن زال المنع كالعبد إذا أذن له المولى في النكاح، وهذا خطأ لما روى
أبو هريرة رضي الله عنه رفعه (لا تنكح المرأة المرأة، ولا تنكح المرأة نفسها)
ولأنها غير مأمونة على البضع لنقصان عقلها، وسرعة انخداعها، فلم يجز تفويضه
إليها كالمبذر في المال، ويخالف العبد فإنه منع لحق المولى، فإنه ينقض قيمته
بالنكاح، ويستحق كسبه في المهر والنفقة فزال المنع باذنه، فان عقد النكاح بغير
ولى وحكم به الحاكم ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبي سعيد الإصطخري: أنه ينقض حكمه، لان مخالف
لنص الخبر: وهو ما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل: فنكاحها
باطل، فان اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولى له فان أصابها فلها مهرها بما استحل
من فرجها).
(والثاني) لا ينقض، وهو الصحيح، لأنه مختلف فيه فلم ينقض فيه حكم
الحاكم كالشفعة للجار. وأما الخبر فليس بنص لأنه محتمل للتأويل، فهو كالخبر
في شفعة الجار، فان وطئها الزوج قبل الحكم بصحته لم يجب الحد.
وقال أبو بكر الصيرفي: إن كان الزوج شافعيا يعتقد تحريمه وجب عليه الحد
كما لو وطئ امرأة في فراشه وهو يعلم أنها أجنبية، والمذهب الأول لأنه وطئ
مختلف في إباحته فلم يجب به الحد، كالوطئ في النكاح بغير شهود، ويخالف من
وطئ امرأة في فراشه وهو يعلم أنها أجنبية لأنه لا شبهة له في وطئها، وان
طلقها لم يقع الطلاق. وقال أبو إسحاق: يقع لأنه نكاح مختلف في صحته، فوقع
146

فيه الطلاق كنكاح المرأة في عدة أختها، والمذهب الأول، لأنه طلاق في غير
ملكه فلم يصح كما لو طلق أجنبية.
(فصل) وإن كانت المنكوحة أمة فوليها مولاها لأنه عقد على منفعتها
فكان إلى المولى كالإجارة، وإن كانت الأمة لامرأة زوجها من يزوج مولاتها،
لأنه نكاح في حقها فكان إلى وليها كنكاحها، ولا يزوجها الولي الا باذنها لأنه
تصرف في منفعتها فلم يجز من غير اذنها، فإن كانت المولاة غير رشيدة نظرت،
فان إن وليها غير الأب والجد، لم يملك تزويجها، لأنه لا يملك التصرف في مالها
وإن كان الأب أو الجد ففيه وجهان:
(أحدهما) لا يملك، لان فيه تغريرا بمالها لأنها ربما حبلت وتلفت،
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق: انه يملك تزويجها لأنها تستفيد به المهر
والنفقة واسترقاق ولدها، وإن كانت المنكوحة حرة فوليها عصباتها وأولاهم الأب
ثم الجد ثم الأخ ثم ابن الأخ ثم العم ثم ابن العم، لان الولاية في النكاح تثبت
لدفع العار عن النسب، والنسب إلى العصبات، فإن لم يكن لها عصبه زوجها المولى
المعتق، ثم عصبة المولى، ثم مولى المولى، ثم عصبته، لان الولاء كالنسب في
التعصيب فكان كالنسب في التزويج، فإن لم يكن فوليها السلطان، لقوله صلى الله
عليه وسلم (فان اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولى له) ولا يزوج أحد من
الأولياء وهناك من هو أقرب منه، لأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم فيه الأقرب
فالأقرب كالميراث، وان استوى اثنان في الدرجة وأحدهما يدلى بالأبوين والآخر
بأحدهما كأخوين أحدهما من الأب والام والآخر من الأب ففيه قولان.
قال في القديم: هما سواء، لان الولاية بقرابة الأب وهما في قرابة الأب
سواء، وقال في الجديد: يقدم من يدلى بالأبوين لأنه حق يستحق بالتعصيب
فقدم من يدلى بالأبوين على من يدلى بأحدهما كالميراث، فان استويا في الدرجة،
والأدلاء فالمستحب ان يقدم أسنهما وأعلمهما وأورعهما، لان الأسن أخبر،
والأعلم اعرف بشروط العقد، والأورع أحرص على طلب الحظ، فان زوج
الآخر صح لان ولايته ثابته، وان تشاحا أقرع بينهما لأنهما تساويا في الحق
147

فقدم بالقرعة كما لو أراد أن يسافر بإحدى المرأتين، فإن خرجت القرعة لأحدهما
فزوج الآخر ففيه وجهان.
(أحدهما) يصح لان خروج القرعة لأحدهما لا يبطل ولاية الاخر (والثاني)
لا يصح لأنه يبطل فائدة القرعة.
(الشرح) حديث أبي هريرة رواه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي لفظة
(لا تزوج المرأة المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها)
قال ابن كثير: الصحيح وقفه على أبي هريرة، وقال ابن حجر: رجاله ثقات
وفى لفظ للدارقطني: كنا نقول: التي تزوج نفسها هي الزانية. قال ابن حجر:
فتبين أن هذه الزيادة من قول أبي هريرة: وكذلك رواها البيهقي موقوفة في
طريق ورواها مرفوعة في أخرى.
أما حديث عائشة رضي الله عنها رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي
وحسنه وأبو عوانة وابن حبان والحاكم عن سليمان بن موسى عن الزهري عن
عروة عن عائشة، وقد أعل بالارسال وتكلم فيه بعضهم من جهة أن ابن جريج
قال: ثم لقيت الزهري فسألته عنه فأنكره. وقد عد أبو القاسم بن مندة عدة
من رواه عن ابن جريج فبلغوا عشرين رجلا، وذكر أن معمرا وعبيد الله بن
زحر تابعا ابن جريج على روايته إياه عن سليمان بن موسى، وأن قرة وموسى
ابن عقبه ومحمد بن إسحاق وأيوب بن موسى وهشام بن سعد وجماعه تابعوا سليمان
ابن موسى عن الزهري، قال: ورواه أبو مالك الجنبي ونوح بن دراج ومندل
وجعفر بن برقان وجماعه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة وقد أعل ابن
حبان وابن عدي وابن عبد البر والحاكم وغيره الحكاية عن ابن جريج بانكار
الزهري، وعلى تقدير الصحة لا يلزم نسيان الزهري له أن يكون سليمان بن موسى
وهم فيه، ويؤيد هذا الحديث ما رواه عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله
عليه وسلم (لا نكاح إلا بولي) وما رواه أبو داود الطيالسي بلفظ (لا نكاح إلا
بولي، وأيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، باطل، باطل، فإن لم
يكن لها ولى فالسلطان ولى من لا ولى له).
148

على أن حديث (لا نكاح إلا بولي، هل يعد النفي متوجها إلى الذات الشرعية
لان الذات الموجودة، أعني صورة العقد بدون ولى ليست شرعية؟ أم يتوجه
إلى الصحة التي هي أقرب المجازين إلى الذات فيكون النكاح بغير ولى باطلا كما هو
مصرح به في حديث عائشة، وكما يدل عليه حديث أبي هريرة المذكور في أول
الفصل، لان النهى يدل على الفساد والمرادف للبطلان.
وقد ذهب إلى هذا على وعمر وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبو هريرة
وعائشة والحسن البصري وابن المسيب وابن شبرمة وابن أبي ليلى والعترة وأحمد
وإسحاق والشافعي وجمهور أهل العلم: فقالوا لا يصح العقد بدون ولى. وقال
ابن المنذر: إنه لا يعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك.
وحكى في البحر عن أبي حنيفة أنه لا يعتبر الولي مطلقا لحديث (الثيب أحق
بنفسها من وليها) وسيأتي. وأجيب بأن المراد اعتبار الرضى منها جمعا بين الاخبار
وعن أبي يوسف ومحمد للولي الخيار في غير الكفء وتلزمه الإجازة في الكفء.
وعن مالك يعتبر الولي في الرفيعة دون الوضيعة. وأجيب عن ذلك بأن الأدلة
لم تفصل وعن الظاهرية أنه يعتبر في البكر فقط، وأجيب عنه بأن الأدلة لم
تفرق. وقال أبو ثور يجوز لها أن تزوج نفسها بإذن وليها أخذا بمفهوم قوله
(وأيما امرأة نكحت بغير إذن وليها)
ويجاب عن ذلك بحديث أبي هريرة الذي ساقه المصنف في أول الفصل،
والمراد بالولي هو الأقرب من العصبة من النسب ثم من السبب ثم من عصبته.
وليس لذوي السهام ولا لذوي الأرحام ولاية. وهذه مذهب الجمهور. وروى
عن أبي حنيفة أن ذوي الأرحام من الأولياء، فإذا لم يكن ثم ولى أو كان موجودا
وعضل انتقل الامر إلى السلطان لأنه ولى من لا ولى له كما أخرجه الطبراني من
حديث ابن عباس، وفى إسناده الحجاج بن أرطاة
قال الشافعي رضي الله عنه في باب (لا نكاح إلا بولي) من الام، زعم
بعض أهل العلم بالقرآن أن معقل بن يسار كان زوج أختا له ابن عم له، فطلقها
ثم أراد الزوج وأرادت نكاحه بعد مضى عدتها فأبى معقل. وقال زوجتك
149

وآثرتك على غيرك فطلقتها، لا أزوجكها أبدا فنزل (وإذا طلقتم النساء فبلغن
أجلهن) يعنى فانقضى أجلهن يعنى عدتهن (فلا تعضلوهن) يعنى أولياءهن (أن
ينكحن أزواجهن) إن طلقوهن ولم يبتوا طلاقهن، وما أشبه معنى ما قالوا من
هذا بما قالوا، ولا أعلم الآية تحتمل غيره لأنه إنما يؤمر بأن لا يعضل المرأة من
له سبب إلى العضل بأن يكون يتم به نكاحها من الأولياء، والزوج إذا طلقها
فانقضت عدتها فليس بسبيل منها فيعضلها، وإن لم تنقض عدتها فقد يحرم عليها
أن تنكح غيره وهو لا يعضلها عن نفسه، وهذا أبين ما في القرآن من أن للولي
مع المرأة في نفسها حقا، وأن على الولي أن لا يعضلها إذا رضيت أن تنكح
بالمعروف. قال الشافعي وجاءت السنة بمثل معنى كتاب الله عز وجل أخبرنا مسلم
وسعيد وعبد المجيد عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن ابن شهاب عن عروة
ابن الزبير عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أيما امرأة نكحت بغير اذن وليها فنكاحها
باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فإن أصابها فلها الصداق بما استحل من
فرجها) وقال بعضهم في الحديث فإن اشتجروا وقال غيره منهم، فإن اختلفوا
فالسلطان ولى من لا ولى له أخبرنا مسلم وسعيد عن ابن جريج. قال أخبرني
عكرمة بن خالد قال جمعت الطريق ركبا فيهم امرأة ثيب فولت رجلا منهم أمرها
فزوجها رجلا فجلد عمر بن الخطاب الناكح ورد نكاحها.
قال الشافعي فأي امرأة نكحت بغير اذن وليها فلا نكاح لها، لان النبي صلى الله عليه وسلم
قال فنكاحها باطل، وان أصابها فلها صداق مثلها بما أصاب منها بما قضى لها به
النبي صلى الله عليه وسلم وقال العمراني في البيان وهذا الخبر يعنى حديث عائشة دليل
على من خالفنا الا أبا ثور فإنه يقول، لما أبطل النبي صلى الله عليه وسلم نكاحها بغير اذن وليها
دل على أنه يصح بإذن وليها.
ودليلنا عليه ان المراد ههنا بالاذن لغيرها من الرجال بدليل قوله صلى الله عليه
لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها ولم يفرق بين أن يكون ذلك بإذن
الولي أو بغير اذنه.
إذا ثبت هذا فإن أصحابنا قد ذكروا في حديث عائشة فوائد (1) ان للولي
150

شركا في بعضها لأنه أبطل نكاحها بغير إذنه (2) ان الولاية ثابته على جميع النساء
لان لفظ أي مراد به العموم (3) ان الصلة جائزة في الكلام لقوله (أيما) ومعناه
أي امرأة (4) ان للولي أن يوكل في عقد النكاح (5) ان مطلق النكاح في الشريعة
ينصرف إلى العقد، لان المعين أيما امرأة عقدت (6) جواز إضافة النكاح إليها
(7) ان اسم النكاح يقع على الصحيح والفاسد (8) ان النكاح الموقوف لا يصح
لأنه لو كان صحيحا لما أبطله (9) ان الشئ إذا كان بينا في نفسه جاز أن يؤكد
بغيره لأنه لو اقتصر على قوله فنكاحها باطل لكان بينا، فأكد بالتكرار، وهو
كقوله تعالى (فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة)
وكقوله تعالى (وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه
أربعين ليلة (10) وطئ الشبهة يوجب المهر (11) ان اللمس كناية عن الوطئ
(12) انه إذا مس سائر بدنها غير الفرج فلا مهر عليه (13) قال الصيمري:
إن القبل والدبر سواء لان كله فرج (14) انه لا فرق بين الخصي والفحل
(15) لا فرق بين قوى الجماع وضعيفه (16) انه لا فرق بين أن ينزل أو لا ينزل
(17) لا فرق بين أن يجامعها مرة أو مرارا (18) انه يجوز ان يثبت له وعليه
حتى يجهل قدره (19) ان النكاح الفاسد إذا لم يكن فيه جماع فلا مهر فيه (20) أن
مهر المثل يتوصل إلى العلم به (21) أن المهر يجب مع العلم بتحريم الوطئ ومع
الجهل به لأنه لم يفرق (22) المكره يجب عليه المهر، لان المكره مستحل
لفرج المكرهة (23) أن المهر لا يجب إلا بخلوة، لأنه شرط اللمس في الفرج
(24) أنه لا حد في وطئ الشبهة (25) قال الشيخ أبو حامد: إن النسب يثبت
بالوطئ في الشبهة (26) إن العدة تجب على الموطوءة بالشبهة لان النسب إذا
لحق به أوجب العدة.
(27) أن تحريم المصاهرة يثبت بوطئ الشبهة (28) أن المرأة يجوز أن
يكون لها جماعة أولياء لقوله صلى الله عليه وسلم (فإن اشتجروا) فهذا إخبار عن
جمع (29) أن السلطان ولى من لا ولى لها
(30) ان الأولياء إذا عضلوا المرأة عن النكاح انتقلت إلى السلطان، لان
الاختلاف المراد في الخبر أن يقول كل واحد منهم: لا أزوجها بل زوجها أنت
151

فأما إذا قال كل واحد منهم: أنا أزوجها دونك: فلا تنتقل إلى السلطان
(فرع) إذا تزوج الرجل امرأة من نفسها ثم ترافعا إلى حاكم شافعي أو حنبلي
لأن الظاهر من مذهب أحمد بطلان النكاح بغير ولى وشاهدين كما في المغنى لابن
قدامة فإن كانا لم يترافعا إلى حاكم حنفي قبله حكم الشافعي بفساده وفرق
بينهما لأنه يعتقد بطلانه، وإن كانا قد ترافعا قبله إلى حاكم حنفي فحكم بصحته
فهل ينقض الشافعي حكمه. فيه وجهان
قال أبو سعيد الإصطخري: ينقض حكمه ويحكم بفساده، لان حكمه مخالف
لنص النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم فنكاحها باطل،
والثاني وهو الأصح أنه لا يصح حكمه بفساده، لان حكم الأول وقع
بما يسوغ فيه الاجتهاد فهو كالحكم بالشفعة للجار
(فرع) وإن تزوج رجل امرأة من نفسها ووطئها، فإن لم يعلم بتحريم الوطئ
بأن كان جاهلا لا يعلم تحريمه أو عاميا فقلد مجتهدا يرى تحليله، أو كان الوطئ
حنفيا يرى تحليله فلا حد عليه لأنه موضع شبهة. وإن كان الواطئ شافعيا يعتقد
تحريمه ففيه وجهان.
قال أبو بكر الصيرفي: عليه الحد لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (البغي من أنكحت نفسها بغير ولى ولا بينة) قال في
المغنى شرح مختصر الخرقي: ولا حد في وطئ النكاح الفاسد سواء اعتقد حله
أو حرمته وعن أحمد ما يدل على أنه يجب الحد بالوطئ في النكاح بلا ولى إذا
اعتقد حرمته، وهو اختيار السمرقندي من أصحاب الشافعي لما روى الدارقطني
بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تزوج المرأة
المرأة، ولا تزوج المرأة نفسها، ان الزانية هي التي تزوج نفسها)
وبإسناده عن الشعبي قال: ما كان أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
أشد في النكاح بغير ولى من علي رضي الله عنه كان يضرب فيه. اه‍
ولخبر عمر الذي فيه انه جلد الناكح، ولا مخالف له، ولان أكثر ما فيه
حصول الاختلاف في إباحته، وذلك لا يوجب اسقاط الحد فيه كشرب النبيذ
152

والثاني وهو قول أكثر أصحابنا، وهو المذهب أنه لا حد عليه لقوله صلى الله عليه
وسلم ادرءوا الحدود بالشبهات. وحصول الاختلاف في إباحته من أعظم الشبهات
ولان النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب الحد في حديث عائشة.
وأما قوله في رواية الدارقطني (فإن الزانية هي التي تزوج نفسها) فقد
أخرجه أيضا البيهقي. قال ابن كثير: الصحيح وقفه على أبي هريرة. وفى لفظ:
للدارقطني كنا نقول التي تزوج نفسها هي الزانية.
قال الحافظ ابن حجر: فنبين أن هذه الزيادة من قول أبي هريرة، وكذلك
رواها البيهقي موقوفة في طريق ورواها مرفوعة في أخرى. فتسميتها بالبغي أو
الزانية إذا صحت روايات الرفع حمل على سبيل المجاز لتعلق بعض حكم البغي عليها
وهو تحريم الوطئ.
فأما جلد عمر لها فكان على جهة التعزير لا على جهة الحد، بدليل أنه جلد
المنكح وهو بالاجماع لا حد عليه.
وأما النبيذ فالفرق بينهما أن هذا الوطئ بين الزنا والوطئ في النكاح الصحيح
وشبهه بالوطئ في النكاح الصحيح أكثر بدليل أنه يجب فيه المهر والعدة ويلحق
به النسب، وإنما يشبه الزنا بتحريم الوطئ لا غير، فكان إلحاقه بالوطئ في
النكاح الصحيح في اسقاط الحد أولى والنبيذ ليس له الا أصل واحد يشبهه وهو الخمر
لأنه شراب فيه شدة مطربة وليس في الأشربة ما يشبه الخمر غيره فألحقناه به.
(فرع) ولو تزوج رجل امرأة من نفسها ثم طلقها فهل يقع الطلاق عليها
فيه وجهان:
قال أبو إسحاق المروزي: يقع عليها طلاقه لأنه نكاح مختلف في صحته فوقع
فيه الطلاق، كما لو تزوج امرأة ودخل بها وطلقها طلاقا بائنا ثم يتزوج أختها أو
عمتها قبل انقضاء عدة الأولى، فإن نكاح الثانية مختلف في صحته، لان مذهبنا
أنه يصح، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه انه لا يصح، ولو طلق الثانية لوقع عليها
الطلاق وإن كان مختلفا في نكاحها فكذلك هذه مثلها.
153

والوجه الثاني وهو المنصوص: أنه لا يقع عليها طلاقه، لان الطلاق قطع
الملك، فإذا لم يقع هناك ملك لم يقع الطلاق، كما لو اشترى عبدا شراء فاسدا ثم
أعتقه، ويخالف إذا تزوج امرأة ودخل بها في عدة أختها فإن النكاح عندنا صحيح
فلذلك وقع عليها الطلاق وههنا النكاح عندنا غير صحيح فلم يقع عليها الطلاق.
(فرع) النكاح الموقوف على الإجازة لا يصح عندنا سواء كان موقوفا على
إجازة الولي أو الزوج أو الزوجة، فالموقوف على إجازة الولي أن يتزوج الرجل
امرأة من رجل ليس بولي لها ويكون موقوفا على إجازة وليها، أو تزوج الأمة
نفسها أو العبد نفسه بغير إذن السيد، ويكون موقوفا على إذن السيد. وأما
الموقوف على إجازة الزوج بأن يزوج الرجل امرأة بغير إذنه، ويكون ذلك
موقوفا على إجازته. وأما الموقوف على اذن الزوجة بأن يزوج الولي امرأة يشترط
اذنها في النكاح بغير اذنها ويكون موقوفا على اجازتها: فجميع هذه الأنكحة
لا تصح عندنا، وبه قال أحمد رضي الله عنه.
وقال أبو حنيفة: تصح هذه الأنكحة، فإن أجاز ذلك الموقوف على رضاه
لزم، وان رده بطل. وقال مالك: يجوز أن يقف النكاح مدة قريبة، فان
تطاول الزمان بطل.
دليلنا ما قدمنا من أحاديث (فنكاحها باطل) وحديث (أيما عبد تزوج بغير
اذن سيده فهو عاهر):
(فرع) المرأة لا تتوكل في قبول النكاح ولا في ايجابه، وقال أبو حنيفة:
إذا وكل الولي امرأة في ايجاب النكاح أو وكلها الزوج في القبول صح. دليلنا
قوله صلى الله عليه وسلم (لا تنكح المرأة ولا تنكح المرأة نفسها) وهذا عام
وروى عن ابن عمر وابن عباس وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة رضي الله عنهم
أنهم قالوا: المرأة لا تقبل عقد النكاح، ولا مخالف لهم، وروى عن عائشة
رضي الله عنها انها حضرت نكاحا فخطبت ثم قالت: اعقدوا فإن النساء لا يعقدن
فدل على أنه اجماع.
(فرع) إذا كانت المنكوحة حرة فأولى الولاة بتزويجها الأب لان سائر
154

الأولياء يدلون به، ولان القصد بالولي طلب الحظ لها والأب أشفق عليها،
وأطلب للحظ لها من غيره، فإن لم يكن أب وهناك جد أو أب أوجد من أجداد
الأب الوارثين وإن علا فهو أولى من الأخ.
وحكى عن مالك أنه قال: الأخ أولى من الجد. دليلنا أن الجد له ولادة
وتعصيب فكان مقدما على الأخ كالأب، فإن قيل هلا قلتم إن الجد يساوى الأخ
في الولاية كما قلتم في الميراث؟ قلنا الفرق بينهما أن الميراث مستحق بالتعصيب
المحض، ولهذا قدم الابن على الأب في الميراث والأخ يساوى الجد في التعصيب
أو هو أقوى من الجد في التعصيب بدليل أنه يعصب أخواته وإنما لم يقدم عليه
في الميراث للاجماع فلذلك سوينا بينهما في الإرث، والولاية في النكاح تستحق
بالشفقة وطلب الحظ، بدليل أن الابن لا ولاية له على أمه لذلك. والجد أكثر
شفقة عليها من الأخ فكان أولى، فإن عدم الأجداد من قبل الأب انتقلت
الولاية إلى الإخوة للأب والام أو الأب ثم إلى بنيهم ويقدمون على الأعمام
وبنيهم لأنهم يدلون بالأب، والأعمام يدلون بالجد، والأب أقرب من الجد،
فإن عدم الأخ وبنوهم انتقلت الولاية للأعمام ثم إلى بنيهم، ويقدمون على أعمام
الأب وبنيهم، لان الأعمام يدلون بالجد، وأعمام الأب يدلون بابن الجد وعلى
هذا يقدم الأقرب فالأقرب كما قلنا في الميراث.
(فرع) وإن اجتمع وليان أحدهما يدلى بالأب والام، والاخر يدلى بالأب
كأخوين أو عمين، أو ابنا عم أحدهما لأب وأم والاخر لأب ففيه قولان، قال
في القديم هما سواء، وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور، لأن ولاية النكاح تستفاد
بالانتساب إلى الأب بدليل أن الأخ للام لا ولاية له في النكاح، وهما في الانتساب
إلى الأب سواء فاستويا في الولاية.
وقال في الجديد ان المدلى بالأب والام أولى، وبه قال أبو حنيفة وهو الصحيح
لقوله تعالى (فقد جعلنا لوليه سلطانا) ولو قتل رجل وله أخ لأب وأم أو أخ
لأب كان القصاص للأخ للأب والام دون الأخ للأب فثبت انه لا ولاية له معه
155

ولأنه حق يستحق بالتعصيب فقدم المدلى بالأبوين على المدلى بأحدهما كالإرث
وهكذا القولان في التقدم في الصلاة على الميت وفى العقل، وأما الإرث والولاء
والوصية للأقرب، فان المدلى بالأب والام أولى قولا واحدا، وإن اجتمع
ابنا عم أحدهما معتق أو أخ فهل يقدم في ولاية النكاح والصلاة على الميت والعقل
فيه قولان كأخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب، وإن اجتمع ابنا عم أحدهما
خال لم يقدم قولا واحدا: إلا أنه لا مدخل الخؤولة في الميراث.
(فرع) وإن اجتمع للمرأة أولياء في درجة واحدة كالاخوة أو بنيهم والأعمام
أو بنيهم فالمستحب ان يقدم أكبرهم سنا وأعلمهم وأورعهم لما روى أن حويصة
ومحيصه دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم فبدأ محيصه بالكلام، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم كبر كبر: يعنى قدم أخاك في الكلام لأنه أكبر سنا منك، ولان
الأكبر أخبر بالناس فكان أولى، والأعلم اعرف بشروط العقد، والأورع
احرص على طلب الحظ لها، فإن زوجها أحدهم باذنها من غير إذن الباقين صح،
وإن كان أصغرهم سنا لقوله صلى الله عليه وسلم إذا أنكح الوليان فالأول أحق،
ولان كل واحد منهم ولى، وان تشاجرا وقال كل واحد منهم انا أزوج ولم
يقدموا الأكبر الأعلم الأورع أقرع بينهم لاستواء استحقاقهم في الولاية كما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد ان يسافر بإحدى نسائه أقرع بينهن،
فان خرجت القرعة لأحدهم فزوج أو اذن لغيره من الأولياء الباقين أو غيرهم صح
وان زوج واحد ممن لم تخرج عليه القرعة باذن المرأة ففيه وجهان.
(أحدهما) يصح لان خروج القرعة لأحدهم لا تبطل ولاية الباقين كما لو
زوجها أحدهم قبل القرعة.
(والثاني) لا يصح لان الفائدة في خروج القرعة ان تتعين الولاية لمن خرجت
له، فلو صححنا عقد غيره بغير اذنه لبطلت فائدة القرعة، والله تعالى اعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز للابن ان يزوج أمه بالبنوة لان الولاية ثبتت للأولياء
لدفع العار عن النسب ولا نسب بين الابن والام، وإن كان للابن تعصيب بأن
156

كان ابن ابن عمها جاز له أن بزوج لأنهما يشتركان في النسب. فإن كان لها ابنا ابن
عم أحدهما ابنها فعلى القولين في أخوين أحدهما من الأب والام والآخر من الأب
(فصل) ولا يجوز أن يكون الولي صغيرا ولا مجنونا ولا عبدا لأنه لا يملك
العقد لنفسه فلا يملكه لغيره، واختلف أصحابنا في المحجور عليه لسفه، فمنهم
من قال: يجوز أن يكون وليا لأنه إنما حجر عليه في المال خوفا من اضاعته وقد
أمن ذلك في تزويج ابنته فجاز له ان يعقد كالمحجور عليه للفلس، ومنهم من قال:
لا يجوز لأنه ممنوع من عقد النكاح لنفسه فلم يجز أن يكون وليا لغيره، ولا يجوز
أن يكون فاسقا على المنصوص، لأنها ولاية فلم تثبت مع الفسق كولاية المال.
ومن أصحابنا من قال: إن كان أبا أو جدا لم يجز، وإن كان غيرهما من العصبات
جاز، لأنه يعقد بالاذن فجاز أن يكون فاسقا كالوكيل.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان (أحدهما) لا يجوز لما ذكرناه (والثاني)
يجوز لأنه حق يستحق بالتعصيب فلم يمنع منه الفسق كالميراث والتقدم في الصلاة
على الميت، وهل يجوز أن يكون أعمى؟ فيه وجهان.
(أحدهما) يجوز، لان شعيبا عليه السلام كان أعمى وزوج ابنته من موسى
صلى الله على نبينا وعليهم وسلم.
(والثاني) لا يجوز، لأنه يحتاج إلى البصر في اختيار الزوج، ولا يجوز
للمسلم أن يزوج ابنته الكافرة، ولا للكافر أن يزوج ابنته المسلمة لان الموالاة
بينهما منقطعة، والدليل عليه قوله تعالى (والمؤمنون المؤمنات بعضهم أولياء
بعض) وقوله سبحانه (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ولهذا لا يتوارثان
ويجوز للسلطان أن يزوج نساء أهل الذمة، لان ولايته تعم المسلمين وأهل الذمة
ولا يجوز للكافر أن يزوج أمته المسلمة، وهل يجوز للمسلم أن يزوج أمه الكافرة
فيه وجهان (أحدهما) يجوز، وهو قول أبي إسحاق وأبي سعيد الإصطخري وهو
المنصوص، لأنها ولاية مستفادة بالملك فلم يمنع منها اخلاف الدين كالولاية في
البيع والإجارة (والثاني) لا يجوز، وهو قول أبى القاسم الداركي لأنه إذا لم يملك
تزويج الكافرة بالنسب فلان لا يملك بالملك أولى.
157

(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يزوج المرأة ابنها إلا أن يكون
عصبه، وبيان ذلك أن الابن لا ولاية له على أمه في النكاح من جهة البنوة.
وقال مالك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل وإسحاق رحمهم الله
تعالى: يثبت له عليها ولاية النكاح بالبنوة، واختلفوا في ترتيب ولايته فذهب
مالك وأبو يوسف وإسحاق إلى أنه مقدم على الأب، وذهب محمد واحمد إلى أن
الأب مقدم عليه، وذهب أبو حنيفة إلى أنهما سواء.
دليلنا على أنه لا ولاية له ان بين الابن وأمه قرابة لا ينسب أحدهما إلى الآخر
ولا ينتسبان إلى من هو أعلى منهما: فلم يكن له عليها ولاية كابن الأخت.
قال الشافعي رضي الله عنه: ولأن ولاية النكاح إنما وضعت طلبا لحظ المرأة
والاشفاق عليها والابن يعتقد ان تزويج أمه عار عليه فلا يطلب لها الحظ،
ولا يشفق عليها فلم يستحق الولاية عليها، وإن كان ابنها من عصبتها بأن كان
ابن ابن عمها كان وليا لها في النكاح لأنهما لا ينسبان إلى من هو أعلى منهما
فجاز له تزويجها كتزويج الأخ لأخته للأب، وإن كان لها ابنا ابن عم أحدهما
ابنها ففيه قولان.
(أحدهما) انهما سواء (والثاني) ان ابنها أولى كالقولين في الأخوين
أحدهما لأب وأم والآخر لأب، وهكذا إذا كان ابنها مولاها أو كان حاكما
فله عليها ولاية من جهة الولاء والحكم لا من جهة البنوة.
(فرع) وإن كانت له أخت لأم لا قرابه بينهما غير ذلك لم يملك تزويجها،
وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين: له تزويجها
دليلنا أنه لا تعصيب بينهما فلم يملك تزويجها كالأجنبي.
(فرع) قال الشافعي في البويطي: لا يكون الولي الا مرشدا. وقال في
موضع آخر وولى الكافرة كافر، وهو يقتضى ثبوت الولاية للفاسق، واختلف
أصحابنا في الفاسق هل هو ولى في النكاح أم لا؟ على خمسة طرق فقال الشيخ
أبو حامد: الفاسق ليس بولي في النكاح قولا واحدا.
وقال القفال: الفاسق بولي في النكاح قولا واحدا. وقال أبو إسحاق المروزي
158

إن كان الولي ممن يجبر على النكاح كالأب والجد في تزويج البكر لم يصح أن يكون
فاسقا لأنه يزوج بالولاية، والولاية لا تثبت مع الفسق، كفسق الحاكم والوصي
وإن كان ممن لا يجبر على النكاح كمن عدا الأب والجد من الأولياء، وكتزويج
الأب والجد للثيب صح تزويجه، وإن كان فاسقا، لأنه يزوج بإذنها فهو كالوكيل
ومن أصحابنا من قال: إن كان الفاسق مبذرا في ماله لم يجز أن يكون وليا في
النكاح، وإن كان رشيدا في أمر دنياه كان وليا في النكاح، ومن أصحابنا من قال
فيه قولان (أحدهما) أن الفاسق ولى في النكاح بكل حال. وهو قول مالك
وأبي حنيفة لقوله تعالى (وأنكحوا الأيامى منكم) وهذا خطاب للأولياء، ولم
يفرق بين العدل والفاسق، ولان الكافر لما ملك تزويج ابنته الكافرة والمسلم
الفاسق أعلا منه فلان يملك تزويج وليته أولى
(والثاني) لا يصح أن يكون وليا بحال، وهو المشهور من المذهب لما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا نكاح الا بولي.
وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال (لا نكاح الا بولي مرشد
وشاهدي عدل، ولا مخالف له، والمرشد من أسماء المدح، والفاسق ليس
بممدوح، ولأنه تزويج في حق غيره فنافاه الفسق في دينه كفسق الحاكم، فقولنا
تزويج، احتراز من ولاية القصاص، وقولنا في حق غيره، احتراز من تزويج
الفاسق لامته فإنه تزويج في حقه، بدليل أنه يجب له المهر. وقولنا في دينه،
احتراز من تزويج الكافر لابنته الكافرة، لأنه ليس بفسق في دينه، ولان الولي
إنما اشترط في العقد لئلا تحمل المرأة شهوتها على أن تلقى نفسها في أحضان غير
كف ء، وتزوج نفسها في العدة، فيلحق العار بأهلها. وهذا المعنى موجود في
الفاسق لأنه لا يؤمن أن يحمله فسقه على أن يضع المرأة في أحضان غير كف ء،
ويزوجها في العدة، فيلحق العار بأهلها، فلم يجز أن يكون وليا
وأما الآية فلا نسلم له أنها تنصرف إلى الفاسق لأنه ليس بولي عندنا، فإن
سلمنا فإن عمومها مخصص بالخبر وأما الكافر فإنما يصح أن يزوج ابنته الكافرة
إذا كان رشيدا في دينه لأنه مقر عليه بخلاف الفاسق.
إذا ثبت هذا وقلنا الفاسق ليس بولي فقد قال المسعودي: واختلف أصحابنا
159

في الفسق الذي يخرجه عن ولاية النكاح، فمنهم من قال: شرب الخمر فحسب،
لأنه إذا كان يشربها فإنه يميل إلى من هو في مثل حاله، ومنهم من قال: جميع
الفسق بمثابته.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: وإن كان الولي سفيها أو ضعيفا غير
عالم بموضع الحظ، أو سفيها مؤلما أو به علة تخرجه عن الولاية فهو كمن مات،
فإذا صلح صار وليا. قال أصحابنا: أما السفيه فله تأويلان (أحدهما) أنه أراد
الصغير (والثاني) أنه أراد به الشيخ الذي قد ضعف نظره عن معرفة موضع
الحظ. وأما السقيم فمن كان به سقم شديد قد نقص نظره وأخرجه عن طلب
الحظ. وأما المؤلم وهو صفة السقيم، وهو السقيم الذي اشتد به الألم إلى أن
أخرجه عن النظر. وروى أو سقيما موليا، فيكون معناه السقيم الذي صار مولى
من قلة تمييزه. وأما الذي به علة فالمراد به إذا قطعت يده أو رجله أو أصابه
جرح عظيم أخرجه عن حد التمييز فإن ولايته تزول، فإن زالت هذه الأسباب
عادت ولايته، لان المانع وجود هذه الأسباب فزال المنع بزوالها
(فرع) قال أبو علي الطبري: إذا كان الولي يجن يوما ويفيق يوما، أو
يغمى عليه يوما ويفيق يوما، فهل يخرجه ذلك من الولاية؟ فيه وجهان.
وأما السكران فان قلنا إن الفاسق ليس بولي وهذا فاسق. وإن قلنا الفاسق ولى
فهل يخرج السكران من الولاية؟ فيه وجهان كالجنون غير المطبق والاحرام في
الحج هل يخرجه من الولاية؟ فيه وجهان، فان قلنا يخرجه زوجها من دونه
من الأولياء، وإن قلنا لا يخرجه زوجها السلطان. وأما الأخرس إذا كان له
إشارة مفهومة كان وليا في النكاح، وإن لم يكن له إشارة مفهومة فليس
بولي في النكاح.
(فرع) وهل يصح أن يكون الأعمى وليا في النكاح؟ فيه وجهان.
(أحدهما) لا يصح لأنه قد يحتاج إلى النظر في اختيار الزوج لها، لئلا
يزوجها بمعيب أو دميم
(والثاني) يصح، وهو الصحيح، لان شعيبا عليه السلام كان أعمى وزوج
ابنته من موسى عليه السلام.
160

(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: وولى الكافرة كافر، ولا يكون المسلم
ولى الكافرة إلا على أمته. وبيان ذلك أنه إذا كان للكافر ابنة مسلمة فإنه لا ولاية
له عليها، فإن كان لها ولى مسلم زوجها وإلا زوجها الحاكم لقوله تعالى:
والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يتزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان
وكانت مسلمة وأبو سفيان لم يسلم، وكل صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية
الضمري فتزوجها من ابن عمها خالد بن سعيد بن العاص، وكان مسلما، وإن كان
للمسلم ابنة كافرة فلا ولاية له عليها لقوله تعالى (والذين كفروا بعضهم أولياء
بعض) فدل على أنه لا ولاية للمسلم عليها، فإن كان لها ولى كافر زوجها للآية،
وإن لم يكن لها ولى كافر زوجها الحاكم لقوله صلى الله عليه وسلم: فالسلطان
ولى من لا ولى له. ولم يفرق بين المسلم وغيره، ولان ولايته عامة فدخل فيها
المسلم والكافر.
وإن كان للمسلم أمة كافرة فهل له عليها ولاية في النكاح، فيه وجهان: من
أصحابنا من قال له عليها ولاية، وهو المنصوص في الام، لأنها ولاية مستفادة
بالملك فلم يمنع اختلاف الدين كالفسق لما لم يؤثر في منع تزويج أمته، فكذلك
كفرها. ومنهم من قال ليس بولي لها، لأنه إذا لم يملك تزويج ابنته الكافرة
فلان لا يملك تزويج أمته الكافرة أولى. وحمل النص على الولاية في عقد البيع
والإجارة، والأول أصح، وإن كان للكافر أمة مسلمة فهل له أن يزوجها.
قال ابن الصباغ فيه وجهان كما قلنا في تزويج المسلم لامته الكافرة، والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان خرج الولي عن أن يكون من أهل الولاية بفسق أو جنون
انتقلت الولاية من بعده من الأولياء لأنه بطلت ولايته فانتقلت الولاية إلى
من بعده، كما لو مات، فان زال السبب الذي بطلت به الولاية عادت الولاية
لزوال السبب الذي أبطل ولايته، فإن زوجها من انتقلت إليه قبل أن يعلم بعود
ولاية الأول ففيه وجهان بناء على القولين في الوكيل إذا باع ما وكل في بيعه قبل
161

أن يعلم بالعزل، وان دعت المنكوحة إلى كفؤ فعضلها الولي زوجها السلطان لقوله
صلى الله عليه وسلم: فان اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولى له، ولأنه حق توجه
عليه تدخله النيابة، فإذا امتنع قام السلطان مقامه كما لو كان عليه دين فامتنع من
أدائه، وان غاب الولي إلى مسافة تقصر فيها الصلاة زوجها السلطان ولم يكن لمن
بعده من الأولياء أن يزوج لأن ولاية الغائب باقية، ولهذا لو زوجها في مكانه
صح العقد وإنما تعذر من جهته فقام السلطان مقامه، كما لو حضر وامتنع من
تزويجها، فإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز تزويجها الا باذنه لأنه كالحاضر.
(والثاني) يجوز للسلطان أن يزوجها لأنه تعذر استئذانه فأشبه إذا كان في
سفر بعيد، ويستحب للحاكم إذا غاب الولي وصار التزويج إليه أن يأذن لمن
تنتقل الولاية إليه ليزوجها ليخرج من الخلاف، فان عند أبي حنيفة أن الذي
يملك التزويج هو الذي تنتقل الولاية إليه.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: ولا ولاية لاحد وثم أولى منه،
وجملة ذلك أنه إذا كان للمرأة وليان أحدهما أقرب من الآخر، فان الولاية للأقرب
فان زوجها من بعده لم يصح. وقال مالك يصح. دليلنا أنه حق مستحق بالتعصيب
فلم يثبت للأبعد مع الأقرب كالميراث، فان خرج الأقرب عن أن يكون وليا
باختلاف الدين أو الفسق أو الجنون أو الصغر انتقلت الولاية إلى الولي الا بعد،
لان النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم حبيبة من ابن عمها مع وجود أبيها لكون
أبيها كافرا. وإذا ثبت ذلك في الكفر كان الفسق والجنون والصغر مثله، لان
الجميع يمنع ثبوت ولاية النكاح.
وان أعتق رجل أمة ومات وخلفت ابنا صغيرا وأخا لأب كبيرا وأرادت
الجارية النكاح ولا مناسب لها فلا أعلم فيها نصا، والذي يقتضى المذهب أن
ولاية نكاحها لأخ المعتق، لان الولاية في الولاء فرع عن ولاية النسب وولاية
أبيه الميت لأخيه ما دام الابن صغيرا. وكذلك ولاية المعتقة
(فرع) وان زال السبب الذي أوجب قطع الولاية في الأقرب عادت ولايته
162

لان المانع قد زال فإن كان الولي الابعد قد زوجها قبل زوال المانع صح النكاح
وإن زوجها بعد زوال المانع وبعد علمه بزوال المانع لم يصح كما لو باع الوكيل ما وكل في بيعه بعد
العزل وبعد علمه بالعزل، وإن زوج بعد زوال المانع وقبل علمه بزواله ففيه وجهان
بناء على القولين في الوكيل إذا باع بعد العزل وقبل علمه بالعزل
(فرع) وان دعت المرأة أن تزوج لكفؤ فامتنع الولي زوجها الحاكم، ولا
تنتقل إلى من عدا العاضل من الأولياء لقوله صلى الله عليه وسلم (فان اشتجروا
فالسلطان ولى من لا ولى له) ولان النكاح حق لها فإذا تعذر ذلك من جهة وليها
كان على الحاكم استيفاؤه، كما لو كان على رجل دين فامتنع من بذله فان الحاكم
ينوب عنه في الدفع من مال الممتنع.
(فرع)
قال الشافعي رضي الله عنه: فإن كان أولاهم به مفقودا أو غائبا غيبة
بعيدة كانت أو قريبة زوجها السلطان، وجملة ذلك أنه إذا كان للمرأة أب أو جد
فغاب الأب وحضر الجد ودعت المرأة إلى تزويجها نظرت، فإن كان الأب
مفقودا بأن انقطع خبره ولا يعلم أنه حي أو ميت فان الولاية لا تنتقل إلى الجد،
وإنما يزوجها السلطان، لأن ولاية الأب باقية عليها، بدليل أنه لو زوجها في
مكانه لصح، وإنما تعذر بغيبته فناب الحاكم عنه، كما لو غاب وعليه دين، فان
الحاكم ينوب عنه في الدفع من ماله دون الأب
وان غاب غيبه غير منقطعة بأن يعلم أنه حي نظرت فإن كان على مسافة
تقصر فيها الصلاة جاز للسلطان تزويجها، لان في استئذانه مشقة
فصار كالمفقود.
وإن كان على مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم
من قال يجوز للحاكم تزويجها، وهو المذهب، لان في استئذانه الحاق مشقة،
فهو كما لو كان على مسافة القصر
163

ومنهم من قال لا يجوز تزويجها لأنه في حكم الحاضر، بدليل أنه لا يجوز له
القصر والفطر، فهو كما لو كان في البلد. هذا مذهبنا وبه قال زفر.
وحكى ابن القاص قولا آخر أن الولاية تنتقل إلى من بعده من
الأولياء، وليس بمشهور
وقال أبو حنيفة ومحمد وأحمد بن حنبل (أن غاب الأب غيبة منقطعة
جاز للجد تزويجها. وإن كانت غيبة غير منقطعة لم يجز للجد تزويجها
واختلف أصحاب أبي حنيفة في حد المنقطعة، فمنهم من قال من الرقة إلى
البصرة، ومنهم من قال من بغداد إلى البصرة
وقال محمد (إذا سافر من إقليم إلى إقليم، كمن سافر من الكوفة إلى بغداد
فهي منقطعة، وإن كان في إقليم واحد فهي غير منقطعة
ومنهم من قال المنقطعة الذي لا تجئ منه القافلة في السنة الا مرة واحدة.
ودليلنا أن كل ولاية لم تنقطع بالغيبة القريبة لم تنقطع بالغيبة البعيدة
كولاية المال.
إذا ثبت هذا فان الشافعي رضي الله عنه قال (وان غاب الولي وأراد الحاكم
تزويجها استحب له أن يستدعى عصباتها، وان لم يكونوا أولياء، فإن لم يكن لها
عصبات فذوي الأرحام والقرابات لها، فيسألهم عن حال الزوج ويستشيرهم في
أمره ليستطيب بذلك نفوسهم، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر نعيما
أن يشاور أم ابنته في تزويجها، وان لم يكن لها ولاية، فان قالوا إنه كف ء زوجها
قال الشيخ أبو إسحاق ويستحب له أن يأذن لمن تنتقل الولاية إليه ليزوجها
ليخرج من الخلاف، فإن زوجها الحاكم بنفسه أو أذن لاحد أو لم يشاورهم صح
ذلك، لان الولاية له. قال الشافعي: ولا يزوجها ما لم يشهد شاهدان أنه ليس
لها ولى وليست في نكاح أحد ولا عدة. قال المسعودي: من أصحابنا من قال:
هذا واجب، ومنهم من قال: هذا مستحب والله أعلم بالصواب.
164

قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ويجوز للأب والجد تزويج البكر من غير رضاها صغيرة كانت
أو كبيرة: لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر يستأمرها أبوها في نفسها) فدل على أن الولي
أحق بالبكر وإن كانت بالغة فالمستحب أن يستأذنها للخبر وإذنها صماتها لما روى
ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الأيم أحق بنفسها من
وليها والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها) ولأنها تستحي أن تأذن لأبيها
بالنطق فجعل صماتها إذنا، ولا يجوز لغير الأب والجد تزويجها إلا أن تبلغ
وتأذن، لما روى نافع (أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه تزوج بنت خاله عثمان
ابن مظعون فذهبت أمها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالت: إن ابنتي
تكره ذلك فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفارقها. وقال: لا تنكحوا
اليتامى حتى تستأمروهن، فإن سكتن فهو إذنهن فتزوجت بعد عبد الله، المغيرة
ابن شعبة) ولأنه ناقص الشفقة ولهذا لا يملك التصرف في مالها بنفسه،
ولا يبيع مالها من نفسه، فلا يملك التصرف في بضعها بنفسه، فان زوجها
بعد البلوغ ففي اذنها وجهان.
(أحدهما) أن اذنها بالنطق لأنه لما افتقر تزويجها إلى اذنها افتقر إلى نطقها
بخلاف الأب والجد.
(والثاني) وهو المنصوص في الاملاء وهو الصحيح: أن اذنها بالسكوت
لحديث نافع، وأما الثيب فإنها ان ذهبت بكارتها بالوطئ فإن كانت بالغة عاقلة
لم يجز لاحد تزويجها إلا بإذنها، لما روت خنساء بنت خدام الأنصارية (أن أباها
زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها)
وإذنها بالنطق لحديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها) فدل على أن اذن الثيب بالنطق، وإن كانت
صغيرة لم يجز تزويجها حتى تبلغ وتأذن لان اذنها معتبر في حال الكبر
165

فلا يجوز الافتيات عليها في حال الصغر، وإن كانت مجنونة جاز للأب والجد
تزويجها صغيرة كانت أو كبيرة لأنه لا يرجى لها حال تستأذن فيها ولا يجوز لسائر
العصبات تزويجها لان تزويجها إجبار وليس لسائر العصبات غير الأب والجد
ولاية الاجبار، فأما الحاكم فإنها إن كانت صغيرة لم يملك تزويجها لأنه لا حاجة
بها إلى النكاح، وإن كانت كبيرة جاز له تزويجها ان رأى ذلك لأنه قد يكون في
تزويجها شفاء لها، وان ذهبت بكارتها بغير الوطئ ففيه وجهان.
(أحدهما) انها كالموطوءة لعموم الخبر.
(والثاني) وهو المذهب انها تزوج تزويج الابكار لان الثيب إنما اعتبر
اذنها لذهاب الحياء بالوطئ والحياء لا يذهب بغير الوطئ.
(فصل) وإن كانت المنكوحة أمة فللمولى أن يزوجها بكرا كانت أو
ثيبا، صغيرة كانت أو كبيرة، عاقلة كانت أو مجنونة، لأنه عقد يملكه عليها
بحكم الملك، فكان إلى المولى كالإجارة. وان دعت الأمة المولى إلى النكاح،
فإن كان يملك وطأها لم يلزمه تزويجها لأنه يبطل عليه حقه من الاستمتاع،
وان لم يملك وطأها ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يلزمه تزويجها لأنه تنقص قيمتها بالنكاح.
(والثاني) يلزمه لأنه لا حق له في وطئها، وإن كانت مكاتبة لم يملك السيد
تزويجها بغير إذنها لأنه لا حق له في منفعتها، فإن دعت السيد إلى تزويجها
ففيه وجهان.
(أحدهما) يجبر لأنها تستعين بالمهر والنفقة على الكتابة (والثاني) لا يجبر
لأنها ربما عادت إليه وهي ناقصه بالنكاح.
(الشرح) حديث ابن عباس رواه أحمد ومسلم وأبى داود والترمذي والنسائي
وابن ماجة وابن أبي شيبة بلفظ (الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في
نفسها وإذنها صماتها) وفى رواية لأحمد ومسلم وأبى داود والنسائي (والبكر
يستأمرها أبوها) وفى رواية لأحمد والنسائي (واليتيمة تستأذن في نفسها) وفى
166

رواية لأبي داود والنسائي (ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر وصمتها
إقرارها) قال الحافظ: ورجاله ثقات وأعل بالارسال، وبتفرد جرير بن حازم
عن أيوب وبتفرد حسين عن جرير، وأجيب بأن أيوب بن سويد رواه عن
الثوري عن أيوب موصولا، وكذلك رواه معمر بن سليمان الرقي عن زيد بن
حباب عن أيوب موصولا، وإذا اختلف في وصل الحديث وارساله حكم لمن
وصله على طريقة الفقهاء، وعن الثاني بأن جريرا توبع عن أيوب كما ترى. وعن
الثالث بأن سليمان بن حرب تابع حسين بن محمد عن جرير، وانفصل البيهقي
عن ذلك بأنه محمول على أنه زوجها من غير كف ء.
وقد أخرج أحمد والبخاري وأصحاب السنن عن خنساء بنت خدام الأنصارية
أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فرد نكاحها، وروى أحمد والشيخان وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تنكح الأيم حتى تستأمر
ولا البكر حتى تستأذن، قالوا: يا رسول الله وكيف اذنها، قال: أن تسكت)
وأخرج أحمد والشيخان عن عائشة قالت (قلت: يا رسول الله تستأمر النساء في
أبضاعهن قال: نعم، قلت: ان البكر تستأمر فتستحي فتسكت فقال سكاتها
اذنها) وهو من أحاديث الفصل.
أما حديث نافع من قصة زواج عبد الله بن عمر من ابنة خاله فقد أخرجه
أحمد والدارقطني عن ابن عمر بلفظ (توفى عثمان بن مظعون وترك ابنة له من
خولة بنت حكيم بن أمية بن حارثة بن الأوقصي، وأوصى إلى أخيه قدامة بن
مظعون، قال عبد الله: وهما خالاي فخطبت إلى قدامة بن مظعون ابنة عثمان بن
مظعون فزوجنيها، ودخل المغيرة بن شعبة يعنى إلى أمها فأرغبها في المال
فحطت إليه، وحطت هوى الجارية إلى هوى أمها فأبتا حتى ارتفع أمرهما إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قدامة بن مظعون: يا رسول الله ابنة أخي
أوصى بها إلى فزوجتها ابن عمتها فلم أقصر بها في الصلاح ولا في الكفاءة،
ولكنها امرأة، وإنما حطت إلى هوى أمها قال: فقال رسول الله صلى الله عليه
167

وسلم: هي يتيمة ولا تنكح الا بإذنها، قال: فانتزعت والله منى بعد أن ملكتها
فزوجوها لمغيرة بن شعبة، وقد أورده الحافظ ابن حجر في التلخيص وسكت
عنه، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات.
أما الأحكام: فإنه لا يخلو حال المراد زواجها من أن تكون حرة أو أمة،
فإن كانت حرة نظرت، فإن كانت عافلة فلا تخلو إما أن تكون بكرا أو ثيبا، فإن كان
ت بكرا فلا يخلو إما أن تكون صغيرة أو كبيرة، فإن كانت صغيرة جاز للأب
تزويجها بغير إذنها بغير خلاف، والدليل عليه قوله تعالى (واللائي يئسن من
المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر، واللائي لم يحضن) وتقديره
وكذلك عدة اللائي لم يحضن، وإنما يجب على الزوجة الاعداد من الطلاق بعد
الوطئ فدل على أن الصغيرة التي لم تحض يصح نكاحها، ولا جهة يصح نكاحها
معها إلا أن يزوجها أبوها.
وروت عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأنا ابنة سبع سنين ودخل بي وأنا ابنة تسع سنين، ومعلوم أنه لم يكن بإذنها حكم
في تلك الحال، فعلم أن أباها زوجها بغير إذنها فيجوز للأب والجد إجبارها على النكاح
ولا يجوز لغيرهما من الأولياء تزويجها قبل أن تبلغ.
وقال مالك: لا يجوز للجد. وقال أبو حنيفة، يجوز للأب والجد وسائر
العصبات، وللحاكم إجبارها على النكاح إلا أنه إذا زوجها غير الأب والجد
ثبت لها الخيار في فسخ النكاح إذا بلغت.
دليلنا على مالك ان للجد ولادة وتعصيبا فجاز له اجبار البكر كالأب، وعلى
أبي حنيفة بما روى أن عمر من حديث زواجه بابنة خاله عثمان بن مظعون،
وقول النبي صلى الله عليه وسلم. انها يتيمة وانها لا تنكح الا بإذنها. ولان غير الأب والجد
لا بلى مالها بنفسه فلم يملك اجبارها على النكاح كالأجنبي.
إذا ثبت هذا: قال الشافعي رضي الله عنه في القديم. استحب للأب أن
لا يزوجها حتى تبلغ لتكون من أهل الاذن. لأنه يلزمها بالنكاح حقوق.
قال الصيمري. إذا قاربت البلوغ وأراد تزويجها فالمستحب أن يرسل إليها نساء
168

ثقات ينظرن ما عندها، فإن كانت البكر بالغا فللأب والجد اجبارها على النكاح
وان أظهرت الكراهية، وبه قال ابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق.
وقال مالك. للأب اجبارها دون الجد، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري
والأوزاعي لا يجوز لاحد اجبارها. دليلنا على مالك أن الجد له تعصيب وولادة
فملك اجبار البكر على النكاح كالأب، وعلى أبي حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم
(الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن في نفسها واذنها صماتها) فلما
جعل النبي صلى الله عليه وسلم الثيب أحق بنفسها من وليها دل على أن الولي
أحق بالبكر، والمراد بالولي هنا الأب والجد بدليل قوله صلى الله عليه وسلم
(اليتيمة تستأمر في نفسها، فان صمتت فهو اذنها، وان أبت فلا جواز عليها)
رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وصححه، وأراد باليتيمة التي لا أب
لها وسماها يتيمة بعد البلوغ استصحابا لاسمها قبل البلوغ، فلما أوجب استئذان
اليتيمة دل على أن غير اليتيمة لا تستأذن، ومن لها أب أو جد فليست بيتيمة
إذا ثبت هذا فان زوج الأب أو الجد البكر البالغ فالمستحب لهما استئذانها
واذنها صماتها للخبر، ولأنها تستحي أن تأذن بالنطق، فإن لم يستأذنها جاز
لان النبي صلى الله عليه وسلم قال الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن
فقصد بذلك التفرقة بينهما، فلو قلنا: أن استئذان البكر واجب لما كان بينهما
فرق، وان زوج البكر البالغ غير الأب والجد من الأولياء لم يصح حتى يستأذن
وهو اجماع لا خلاف فيه، وفى اذنها وجهان.
(أحدهما) لا يحصل الا بنطقها، لان كل من يفتقر نكاحها إلى اذنها
افتقر إلى نطقها مع قدرتها على النطق كالثيب وهو المذهب انها إذا استؤذنت
فصمتت كان ذلك اذنا منها في النكاح لقوله صلى الله عليه وسلم اليتيمة تستأمر
في نفسها فان صمتت فهو اذنها لأنها تستحي ان تأذن بالنطق بخلاف الثيب.
قال العمراني في البيان، قال أصحابنا المتأخرون فان استأذنها وليها أن يزوجها
بأقل من مهر مثلها أو بغير نقد البلد وصمتت لم يكن ذلك اذنا منها في ذلك، لان
ذلك مال فلا يكون صمتها اذنا فيه، كما لو استأذنها في بيع مالها فصمتت،
بخلاف النكاح.
169

وإن كانت المراد تزويجها ثيبا نظرت فان ذهبت بكارتها بالوطئ في نكاح
أو ملك أو شبهة. فإن كانت بالغا لم يجز لاحد من الأولياء إجبارها على النكاح
سواء كان الولي أبا أو جدا أو غيرهما، لما روى أن خنساء بنت خدام الأنصارية
زوجها أبوها وهي ثيب، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فرد نكاحها.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ليس للولي مع الثيب أمر. قال الشيخ
أبو حامد: وهو إجماع لا خلاف فيه. ولا يصح نكاحها إلا باذنها، ولا يصح
إذنها إلا بنطقها مع قدرتها على النطق لقوله صلى الله عليه وسلم: والبكر تستأذن
في نفسها وإذنها صماتها. فلما جعل اذن البكر الصمت دل على أن اذن الثيب
بالنطق، فإن كانت خرساء وأشارت إلى الاذن بما يفهم منها صح تزويجها، وإن كانت
الثيب صغيرة لم يجز لاحد من الأولياء تزويجها قبل البلوغ، سواء كان
الولي أبا أو جدا أو غيرهما.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوز للأب والجد وغيرهما من الأولياء اجبارها
على النكاح، والاجبار عندهم يختلف بصغر المنكوحة وكبرها، وعندنا يختلف
ببكارتها وثيوبتها.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: ليس للولي مع الثيب أمر، ولم يفرق،
ولأنها حرة سليمة ذهبت بكارتها بجماع فلم تجبر على النكاح كالثيب الكبيرة.
وقولنا (حرة) احتراز من الأمة، وقولنا سليمة احتراز من المجنونة: وقولنا
بجماع احتراز ممن ذهبت بكارتها بوثبة أو غيرها
(فرع) وان ذهبت بكارتها بالزنا فهو كما لو ذهبت بالجماع في النكاح، فيكون
حكمها حكم الثيب في الاذن. وقال أبو حنيفة: حكمها حكم البكر. دليلنا أنها حرة
سليمة ذهبت بكارتها بجماع، فهو كما لو ذهبت بنكاح وان ذهبت بكارتها بوثبة
أو تعنيس ففيه وجهان:
(أحدهما) حكمها حكم الموطوءة بنكاح لأنها ثيب
(والثاني) حكمها حكم البكر في الاذن، وهو المذهب، لان الثيب إنما اعتبر
اذنها بالنطق لذهاب الحياء بالوطئ وهذا الحياء لا يذهب بغير الوطئ بخلاف الزانية
فإنها إذا لم تستح من مباضعة الرجال على الزنا والاقدام عليه لم تستح من النطق بالاذن
170

وقال الصيمري: وان خلقت المرأة لا بكارة لها فهي كالبكر، وان ادعت
المرأة البكارة أو الثيوبة قال الصيمري: القول قولها. ولا يكشف عن الحال
لأنها أعلم بحالها.
(فرع) قال ابن الحداد: إذا زوج الرجل ابنته البكر البالغ بغير اذنها فلما
بلغها ذلك قالت (أنا أخته من الرضاع) يعنى الزوج، أو تزوجني أبوه قبله أو
غير ذلك من الأسباب المحرمة فالقول قولها مع يمينها، ويبطل النكاح.
وإن كانت ثيبا فزوجها وليها باذنها أو زوجها أبوها وهي بكر بغير اذنها فمكن
الزوج من وطئها ثم ذكرت سببا يوجب التحريم لم يقبل قولها كما قال الشافعي
رضي الله عنه فيمن ضل له عبد فأخذه الحاكم ورأي المصلحة في بيعه فباعه أو
باعه عليه الحاكم لدين عليه وهو غائب ثم قدم وادعى أنه أعتقه قبل ذلك قبل
قوله فيه مع يمينه.
ولو بلغه المالك بنفسه أو باعه الحاكم عليه وهو حاضر لدين عليه امتنع منه
ثم ادعى بعد البيع أنه كان أعتقه أو أوقفه لم يقبل قوله في ذلك، فمن أصحابنا
من صوب ابن الحداد ومنهم من خطأه وقال لا يقبل قولها بحال، لان لها غرضا
في اجبار الأزواج، وربما كرهت زوجها وطلبت غيره، ولا تصدق على ما يوجب
بطلان نكاحها، كما إذا أقر العبد بجناية خطأ أو اتلاف مال فإنه لا يقبل
(فرع) قال ابن الحداد (وان قالت امرأة وهي بالغ عاقلة زوجني أبى زيدا
بشهادة شاهدين وصادقها زيد على ذلك فأنكر الأب أو الشاهدان ذلك لم
يلتفت إلى إنكار الأب أو الشاهدين لان الحق للزوجين، ولا حق للأب ولا
للشاهدين في ذلك، فهو كما لو قال رجل باع وكيلي داري من فلان وادعاه
المشترى وأنكر الوكيل لم يلتفت إلى إنكاره فكذلك هذا مثله
قال القاضي أبو الطيب هذا على قول الشافعي رحمه الله الجديد أن النكاح
ثبت بتصادق الزوجين، وهو المشهور وأما على القول القديم فإنه لا يثبت
بتصادقهما الا إن كانا عربيين
(فرع) وإن كانت المراد نكاحها مجنونة فإن كان وليها أباها أو جدها فزوجها
171

على أي صفة كانت، صغيرة أو كبيرة، بكرا أو ثيبا لأنهما يملكان إجبارها على
النكاح، وإنما لم يجز لهما تزويج الثيب الصغيرة العاقلة لأنه يرجى لها أن تبلغ
وتأذن، ولم يجز لهما تزويج الثيب البالغة إلا بإذنها لأنها من أهل الاذن والمجنونة
ليست من أهل الاذن ولا يرجى لها حال تصير فيه من أهل الاذن، وإن كان
وليها غير الأب والجد من العصبات لم يملك تزويجها، لان تزويجها إجبار وهم
لا يملكون إجبارها على النكاح.
وإن كان وليها الحاكم قال الشيخ أبو حامد، بأن لا يكون لها ولى مناسب،
أو كان لها ولى مناسب غير الأب والجد فإنه لا ولاية لهم عليها في هذه الحالة،
وتنتقل الولاية إلى الحاكم، فإن كانت صغيرة لم يجز للحاكم تزويجها لأنها
لا حاجة بها إلى التزوج في هذه الحال. وإن كانت كبيرة جاز له تزويجها لان لها في
ذلك حظا لأنها تحتاج إليه للعفة ويكسبها غنى، وربما كان لها فيه شفاء، والفرق
بين الحاكم وبين غير الأب والجد من العصبات أنه يزوجها حكما، وبهذا يجوز
له التصرف في مالها، والعصبات غير الأب والجد يزوجونها بالولاية ولا ولاية
لهم عليها، هذا نقل أصحابنا البغداديين
وقال الخراسانيون: المجنونة المطبقة إن كانت بكرا فللأب والجد تزويجها،
صغيرة كانت أو كبيرة، وإن كانت ثيبا، فإن بلغت مجنونة فلهما ذلك، وإن
بلغت عاقلة فهل لهما تزويجها؟ فيه وجهان بناء على أنه هل تعود ولاية المال لهما؟
وفيه وجهان. وإن كانت صغيرة ثيبا فوجهان، وإن كان جنونها غير مطبق وهي
ثيب فهل لهما تزويجها في يوم الجنون؟ على وجهين، وأما غير الأب والجد من
العصبات فليس له تزويجها بحال، وللحاكم أن يزوجها إذا كانت بالغة، وهل
يستأذن الحاكم غيره من العصبات؟ فيه وجهان
وأما إذا كان المراد تزويجها أمة فعلى ما ذكر المصنف. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان ولى المرأة ممن يجوز له أن يتزوجها كابن عم، والمولى
المعتق، لم يجز أن يزوجها من نفسه، فيكون موجبا قابلا لأنه يملك الايجاب
172

بالاذن فلم يجز أن يملك شطرى العقد كالوكيل في البيع، فإن أراد أن يتزوجها،
فإن كان هناك من يشاركه في الولاية زوجها منه، وإن لم يكن من يشاركه في
الولاية زوجها الحاكم منه، وإن أراد الامام أن يتزوج امرأة لا ولى لها غيره
ففيه وجهان.
(أحدهما) أن له أن يزوجها من نفسه، لأنه إذا فوض إلى غيره كان غيره
وكيلا، والوكيل قائم مقامه فكان إيجابه كايجابه
(والثاني) يرفعه إلى حاكم ليزوجها منه، لان الحاكم يزوج بولاية الحكم
فيصير كما لو زوجها منه، ولى، ويخالف الوكيل لأنه يزوجها بوكالته، ولهذا
يملك عزله إذا شاء، ولا يملك عزل الحاكم من غير سبب وإذا مات انعزل
الوكيل ولا ينعزل الحاكم. وإن كان لرجل ابن ابن وبنت ابن وهما صغيران
فزوج بنت الابن بابن الابن. ففيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز، وهو قول أبى العباس ابن القاص، لما روت عائشة
رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كل نكاح لم يحضره أربعة فهو
سفاح خاطب وولى وشاهدان)
(والثاني) وهو قول أبى بكر بن الحداد المصري أنه يجوز كما يجوز أن بلى
شطرى العقد في بيع ماله من ابنه، فعلى هذا يحتاج أن يقول زوجت بنت ابني
بابن ابني، وهل يحتاج إلى القبول. فيه وجهان
(أحدهما) يحتاج إلى القبول، وهو أن يقول بعد الايجاب وقبلت نكاحها له
وهو قول أبى بكر بن الحداد، لأنه يتولى ذلك بولايتين فقام فيه مقام الاثنين.
(والثاني) لا يحتاج إلى لفظ القبول، وهو قول أبى بكر القفال، لأنه قائم مقام
اثنين فقام لفظه مقام لفظين.
(فصل) وان وكل الولي رجلا في التزويج فهل يلزمه أن يعين الزوج فيه قولان
أحدهما لا يلزمه لان من ملك التوكيل في عقد لم يلزمه تعيين من يعقد معه كالموكل
في البيع. والثاني يلزمه لان الولي إنما جعل إليه اختيار الزوج لكمال شفقته ولا
يوجد كمال الشفقة في الوكيل فلم يجعل اختيار الزوج إليه
173

(الشرح) حديث عائشة أخرجه الدارقطني بلفظ (لا بد في النكاح من
أربعة، الولي والزوج والشاهدين) وفى إسناده أبو الخصيب نافع بن ميسرة مجهول
وروى نحوه البيهقي في الخلافيات عن ابن عباس موقوفا وصححه، وابن أبي شيبة
بنحوه أيضا، وعن أنس أشار إليه الترمذي، وأخرج الدارقطني رواية أخرى
عن عائشة بلفظ (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نكاح إلا بولي وشاهدي
عدل فان تشاجروا فالسلطان ولى من لا ولى له) وقد أخرجه أيضا البيهقي من
طريق محمد بن أحمد بن الحجاج الرقي عن عيسى بن يونس عن الزهري عن عروة
عن عائشة كذلك وقد توبع الرقي عن عيسى، ورواه سعيد بن خالد بن عبد الله
ابن عمر وبن عثمان، ويزيد بن سنان ونوح بن دراج، وعبد الله بن حكيم عن
هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة كذلك، وقد ضعف ابن معين ذلك كله،
وأقره البيهقي، وقد تقدم في فصل لا نكاح إلا بولي طرف منه، ويؤيد هذا
الحديث ما رواه الترمذي عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: البغايا اللاتي
ينكحن أنفسهن بغير بينة).
وذكر الترمذي أنه لم يرفعه غير عبد الاعلى وأنه قد وقفه مرة وأن الوقف
أصح، وهذا لا يقدح لان عبد الاعلى ثقة فيقبل رفعه وزيادته، وقد يرفع
الراوي الحديث وقد يقفه، وقال الترمذي: هذا الحديث غير محفوظ لا نعلم
أحدا رفعه إلا ما روى عن عبد الاعلى عن سعيد عن قتادة مرفوعا.
وروى عن عبد الاعلى عن سعيد هذا الحديث موقوفا، والصحيح ما روى
ابن عباس (لا نكاح إلا ببينة) ويؤيده حديث عمران بن الحصين عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال (لا نكاح الا بولي وشاهدي عدل) ذكره أحمد بن حنبل في
رواية ابنه عبد الله وقد أشار إليه الترمذي، وأخرجه الدارقطني والبيهقي في
العلل من حديث الحسن عنه، وفى إسناده عبد الله بن محرز وهو متروك. ورواه
الشافعي من وجه آخر عن الحسن مرسلا وقال: هذا، وإن كان منقطعا فإن
أكثر أهل العلم يقولون به.
وقد روى الشافعي والبيهقي من طريق ابن خيثم عن سعيد بن جبير عن
174

ابن عباس موقوفا بلفظ (لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل) وقال البيهقي
بعد أن رواه من طريق أخرى عن أبي خيثم بسنده مرفوعا بلفظ (لا نكاح إلا
بإذن ولى مرشد أو سلطان) قال: والمحفوظ الموقوف، ثم رواه من طريق
الثوري عن أبي خيثم، ومن طريق عدى بن الفضل عن أبي خيثم بسنده مرفوعا
بلفظ. (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل، فإن نكحها ولى مسخوط عليه
فنكاحها باطل) وعدي بن الفضل ضعيف. وعن أبي هريرة مرفوعا وموقوفا
عند البيهقي بلفظ (لا نكاح إلا بأربعة خاطب وولى وشاهدين، وفى إسناده
المغيرة بن موسى البصري قال البخاري: منكر الحديث.
وهذه الأحاديث تفيد شرطية الاشهاد في النكاح، وهو قول على وعمر
وابن عباس والعترة والشعبي وابن المسيب والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة
وأحمد بن حنبل.
قال الترمذي: والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم وغيرهم قالوا (لا نكاح الا بشهود) لم يختلفوا في ذلك من مضى منهم إلا
قوم من المتأخرين من أهل العلم، وإنما اختلف أهل العلم في هذا إذا شهد واحد
بعد واحد، فقال أكثر أهل العلم من الكوفة وغيرهم، لا يجوز النكاح حتى يشهد
الشاهدان معا عند عقدة النكاح
وقد روى بعض أهل المدينة إذا شهد واحد بعد واحد فإنه جائز إذا أعلنوا
ذلك وهو قول مالك بن أنس وغيره. وقال بعض أهل العلم: يجوز شهادة رجل
وامرأتين في النكاح، وهو قول أحمد وإسحاق. انتهى كلام الترمذي
وحكى عن ابن عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن مهدي وداود بن علي
أنه لا يعتبر الاشهاد. وحكى أيضا عن مالك انه يكفي الاعلان بالنكاح، والحق
ما ذهب إليه الأولون لان الأحاديث التي سقناها يؤيد بعضها بعضا.
(اما أحكام الفصل) فإنه إذا أراد الرجل ان يتزوج امرأة بلى عليها امر
النكاح من نفسه كابن العم والمعتقة أو وكل الولي رجلا يزوج وليته فيزوجها
الوكيل من نفسه لم يصح.
175

وقال ربيعه ومالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: يصح، دليلنا ما روت
عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل فان تشاجروا
فالسلطان ولى من لا ولى له).
وحديث أبي هريرة (لا نكاح إلا بأربعة خاطب وولى وشاهدان) وهذا لم
يحضره الا ثلاثة، وشرط أن يكون ولى وخاطب ولم يوجد ذلك، ولأنه لو وكل
وكيلا ليبيع له سلعة لم يجز للوكيل أن يبتاعها من نفسه، فكذلك هذا مثله،
وقد وفقنا أبو حنيفة على البيع، وخلفنا مالك فيه وقد مضى في البيع. إذا ثبت
هذا: فأراد ابن العم أن يتزوجها فإن كان هناك ولى لها في درجته تزوجها منه،
وان لم يكن هناك ولى في درجته بل كان أبعد منه أو لا ولى لها تزوجها من السلطان
لأنها تصير في حقه بمنزلة من لا ولى لها فيتزوجها من السلطان.
(فرع) إذا أراد الحاكم أن يتزوج امرأة لا ولى لها فإنه يتزوجها من الإمام قال
ابن الصباغ: أو يرد ذلك إلى من يزوجه إياها ويتولى طرفي العقد لأنه إذا
تزوجها من الحاكم فهو قائم من جهته فصح أن يتولى ذلك. والثاني: لا يصح أن
يتولى العقد بنفسه بل يتزوجها الحاكم لان الحاكم ليس بوكيل له، وإنما هو
نائب عن المسلمين، ولهذا لا يملك الامام عزله من غير سبب.
(فرع) وان أراد الجد أن يزوج ابنه الصغير بابنة ابن له آخر ففيه وجهان
أحدهما: لا يصح، وهو اختيار ابن القاص لقوله صلى الله عليه وسلم (لا نكاح
الا بولي وخاطب وشاهدي عدل) والثاني: يصح، وهو اختيار ابن الحداد
والقاضي أبى الطيب لأنه يملك طرفي العقد بغير تولية فجاز أن يتولاه ههنا كبيع
مال الصغير من نفسه، وأما الخبر فمحمول إذا كان الولي غير الخاطب فعلى هذا
لا تصح الولاية الا بشروط.
(أحدها) إذا كان أبواهما ميتين أو فاسقين أو أحدهما ميتا والآخر فاسقا
لأنه لا ولاية للجد الرشيد عليهما مع ثبوت ولاية الأبوين عليهما.
(الشرط الثاني) أن يكون ابن الابن صغيرا أو مجنونا
(الثالث) أن تكون الابنة بكرا فأما إذا كانت ثيبا فلا يملك تزويجها بحال
176

الا باذنها، وقد اشترط ابن الحداد أن تكون صغيره، وليس بصحيح لان الجد
يملك اجبارها على النكاح إذا كانت بكرا بكل حال الا أن تكون الابنة مجنونة
فيملك الجد اجبارها على النكاح بكل حال.
إذا ثبت هذا: فان الجد يقول زوجت فلانة بفلان أو فلانا بفلانة، وهل
يفتقر إلى لفظ القبول؟ وهو أن يقول: وقبلت نكاح فلانة لفلان؟ فيه وجهان
من أصحابنا من قال: لا يفتقر إلى ذلك لان الا يجاب يتضمن القبول، وهو قول
ابن الحداد، وهو المشهور، لان كل عقد افتقر إلى الايجاب افتقر إلى القبول
كما لو كان بين شخصين.
(فرع) وان تزوج الولي وليته من ابنه الكبير صح لأنه هو الذي يوجب
النكاح على المرأة وبقبله لابنه، والشخص الواحد لا يجوز أن يكون قابلا موجبا
في النكاح.
(فرع قال الشافعي رضي الله عنه: وكيل الولي يقوم مقامه، وجملة ذلك
أن الولي إذا كان ممن يملك اجبار المرأة على النكاح فله ان يوكل من يزوجها بغير
اذنها كما يجوز ان يعقد عليها بنفسه بغير اذنها، فان وكل في تزويجها من رجل
بعينه صح، وان قال الوكيل وكلتك في تزويجها وأطلق فهل يصح؟ حكى الشيخان
أبو حامد وأبو إسحاق فيها قولين، وحكاهما ابن الصباغ والمسعودي وجهان.
أحدهما: يصح، لان من جاز ان يوكل وكالة معينه جاز ان يوكل وكالة مطلقه
كالوكالة في البيع.
والثاني: لا يصح هذا التوكيل لان الولي إنما فوض إليه اختيار الزوج لكمال
شفقته وهذا لا يوجد في الوكيل، وإن كان الولي لا يملك التزويج الا باذنها،
فان أذنت له في التزويج والتوكيل صح توكيله، وان أذنت في التزويج لا غير
فهل يملك التوكيل؟ فيه وجهان مضى ذكرهما في الوكالة.
(فرع) إذا كان الولي لا يملك ان يعقد على المرأة الا باذنها، فان أذنت له
أن يزوجها من رجل معين صح، وان أذنت أن يزوجها مطلقا قال الشيخ
أبو حامد: يصح ذلك قولا واحدا لكمال شفقته.
وقال الطبري في العدة. هو كالوكيل إذا وكله الولي في التزويج وأطلق على
177

ما مضى، ويجوز للمرأة أن يأذن لوليها بلفظ الاذن، ويجوز بلفظ الوكالة نص
عليه الشافعي رضي الله عنه لان المعنى فيهما واحد، وإن أذنت لوليها أن يزوجها
ثم رجعت لم يصح تزويجها كالموكل إذا عزل وكيله، فان زوجها الولي بعد العزل
وقبل أن يعلم به فهل يصح، فيه وجهان مأخوذان من القولين إذا باع بعد العزل
وقبل العلم به، والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز للولي أن يزوج المنكوحة من غير كف ء إلا برضاها
ورضى سائر الأولياء، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت (قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: تخيروا لنطفكم، فانكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم) ولان في
ذلك إلحاق عار بها وبسائر الأولياء فلم يجز من غير رضاهم.
(فصل) وإن دعت المنكوحة إلى غير كف ء لم يلزم الولي تزويجها لأنه
يلحقه العار، فان رضيا جميعا جاز تزويجها لما روت فاطمة بنت قيس قالت
(أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أن أبا الجهم يخطبني ومعاوية، فقال:
أما أبو الجهم فأخاف عليك عصاه وأما معاوية فشاب من شباب قريش لا شئ له
ولكني أدلك على من هو خير لك منهما، قلت: من يا رسول الله، قال: أسامة
قلت، أسامة، قال نعم أسامة فتزوجت أبا زيد فبورك لأبي زيد في وبورك لي
في أبى زيد) وقال عبد الرحمن بن مهدي، وأسامة من الموالي وفاطمة قرشية،
ولان المنع من نكاح غير الكف، لحقهما، فإذا رضيا زال المنع، فان زوجت
المرأة من غير كف ء من غير رضاها أو من غير رضا سائر الأولياء، فقد قال في
الام النكاح باطل.
وقال في الاملاء كان للباقين الرد، وهذا يدل على أنه صحيح فمن أصحابنا من
قال فيه قولان (أحدهما) أنه باطل لأنه عقد في حق غيره من غير إذن فبطل كما لو
باع مال غيره بغير اذنه (والثاني) أنه صحيح ويثبت فيه الخيار، لان النقص
يوجب الخيار دون البطلان، كما لو اشترى شيئا معيبا.
ومنهم من قال: العقد باطل قولا واحدا لما ذكرناه، وتأول قوله في الاملاء
178

على أنه أراد بالرد المنع من العقد، ومنهم من قال إن عقد وهو يعلم أنه ليس بكفء
بطل العقد، كما لو اشترى الوكيل سلعة وهو يعلم بعيبها، وإن لم يعلم صح العقد
وثبت الخيار، كما لو اشترى الوكيل سلعة ولم يعلم بعيبها، وحمل القولين على
هذين الحالين.
(الشرح) حديث عائشة أورده السيوطي في الجامع الصغير مرموزا له بابن
ماجة والبيهقي والحاكم، كما أورد ما أخرجه ابن عدي في الكامل وعبد الرزاق
وابن عساكر عن عائشة بلفظ (تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن أشباه إخوانهن
وأخواتهن) وقد ضعفه السيوطي. وأخرج أبو نعيم في حلية الأولياء عن أنس
(تخيروا لنطفكم واجتنبوا هذا السواد فإنه لون مشوه)
وقد رد الذهبي حديث عائشة بأن الحارث بن عمران الجعفري عن هشام عن
أبيه عن عائشة مرفوعا (تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء) تابعه عكرمة بن
إبراهيم بأن الحارث كان يضع الحديث، قال ابن حبان: كان يضع الحديث على
الثقات. وكذلك عكرمة عن هشام ضعيف أيضا. وقال ابن حجر: مداره على
أناس ضعفاء أمثلهم صالح بن موسى الطلحي والحارث الجعفري. وقال في الفتح
رواه أبو نعيم وابن ماجة والحاكم وصححه من حديث عمر أيضا وفى إسناده مقال
ويقوى أحد الاسنادين الآخر. وقال ابن الديبع الشيباني في تمييز الطيب من
الخبيث: مداره على أناس ضعفاء وكل طرقه ضعيفه
وحديث عائشة (تخيروا لنطفكم فإن النساء يلدن الخ) الذي سقناه. قال
ابن الجوزي: حديث لا يصح فيه عيسى بن ميمون. قال ابن حبان منكر الحديث
لا يحتج بروايته. وقال الخطيب: حديث غريب وكل طرقه واهية. وقال
السخاوي هو ضعيف، وبالجملة كل ما ورد من طرق هذا الحديث على مختلف
صوره وطرقه وألفاظه ليس فيها صحيح.
أما حديث فاطمة بنت قيس فقد أخرجه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة
بلفظ (أن زوجها طلقها ثلاثا فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى
ولا نفقة، قالت: وقال لي رسول الله إذا حللت فأذني، فأذنته فخطبها معاوية
179

وأبو جهم وأسامة بن زيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما معاوية فرجل
ترب لا مال له. وأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، ولكن أسامة، فقالت
بيدها هكذا أسامة أسامة؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: طاعة الله
وطاعة رسوله قالت فتزوجته فاغتبطت)
وقد اختلف في معاوية هذا فقيل هو ابن أبي سفيان بن حرب وقيل غيره.
وفى صحيح مسلم التصريح بأنه هو، وقوله: فرجل ضراب. وفى رواية: لا يضع
عصاه عن عاتقه، وهو كناية عن كثرة ضربه للنساء. وقال أبو عبيد في قوله
صلى الله عليه وسلم (أنفق على أهلك ولا ترفع عصاك عنهم) لم يرد العصا التي
يضرب بها ولا أمر أحدا بذلك، وإنما أراد يمنعها من الفساد، يقال للرجل إذا
كان رفيقا حسن السياسة لين العصا. وقيل السفر. كنى بالعصا عنه قال الشاعر:
فألقت عصاها واستقر بها النوى
وقيل كما أفاده ابن بطال كنى به عن كثرة الجماع وليس بشئ. قال الأزهري
معناه أنه شديد على أهله خشن الجانب في معاشرتهن مستقص عليهن في باب الغيرة
أما الأحكام فقد ذكرنا أن للزوج أن يوكل من يتزوج له، لان النبي صلى الله عليه وسلم
وكل عمرو بن أمية الضمري أن يتزوج له أم حبيبه رضي الله عنها بنت أبي سفيان
من ابن عمها من أرض الحبشة، ووكل أبا رافع في تزويج ميمونة، فان وكله أن
يزوج له امرأة بعينها صح، فان وكله أن يتزوج له ممن شاء، ففيه وجهان. مضى
ذكرهما في الوكالة، قال أبو العباس بن سريج وأبو عبد الله الزبيري لا يجوز،
لان الاغراض تخلف في ذلك. قال القاضي أبو حامد المروروذي يجوز، واليه
ذهب الصيمري فإنه قال، لو وكله أن يزوجه امرأة من العرب فزوجه امرأة من
قريش جاز، ولو وكله أن يزوجه امرأة من قريش فزوجه امرأة من العرب لم
يصح، ولو وكله أن يزوجه امرأة من الأنصار فزوجه امرأة من الأوس أو
الخزرج من بنات الأنصار جاز، ولو وكله أن يزوجه امرأة من الأوس فزوجه
امرأة من الخزرج لم يجز، ولو وكله أن يزوجه امرأة بعينها فتزوجها الموكل لنفسه
ثم طلقها قبل الدخول أو بعد الدخول وانقضت عدتها ثم تزوجها الوكيل للموكل
180

قال الصيمري لم يصح، لان وكالته قد بطلت لما تزوجها الموكل لنفسه فإن وكله
أن يتزوج امرأة بمائة فتزوجها له بخمسين صح، فإن تزوجها له بأكثر من مائة
قال الصيمري: فقد قال شيخ من أصحابنا: يبطل النكاح، والصحيح أنه يصح
ولها مهر مثلها.
(فرع) فإن جاء رجل وادعى أن فلانا وكله أن يتزوج له امرأة فتزوجها له
وضمن عنه المهر ثم أنكر الموكل الوكالة ولا بينة فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف
لم يلزمه النكاح، ولا يقع النكاح للوكيل بخلاف وكيل الشراء لان الغرض من
النكاح أعيان الزوجين فلا يقع بغير من عقد له، وترجع الزوجة على الوكيل
بنصف المهر. وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف، لأنها تدعى وجوبه على الزوج
والوكيل ضامن به وهو مقر به.
وقال محمد بن الحسن يرجع على الوكيل بجميع الصداق، لان الفرقة لم تقع في
الباطن بانكاره، وهذا ليس بشئ، لأنه يملك الطلاق، فإذا أنكر النكاح فقد
أقر بتحريمها عليه، فصار بمنزلة إيقاعه للطلاق، ولو مات الزوج قبل المصادقة
على النكاح لم ترث هذه الزوجة إلا أن يصدقها سائر ورثته على التوكيل أو يقدم
لها بينة على ذلك. ولو غاب رجل عن امرأته فجاءها رجل فذكر أن زوجها
طلقها طلاقا بانت به منه بدون الثلاث وأنه وكله في استئناف عقد النكاح عليها
؟؟؟ فعقد عليها النكاح بألف وضمن لها الوكيل الألف ثم قدم الزوج فأنكر
ذلك فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف فهل للزوجة أن ترجع على الوكيل بالألف
فيه وجهان:
قال الساجي والقاضي أبو الطيب: لا ترجع عليه بشئ، وبه قال أبو حنيفة
لان الضامن فرع على المضمون عنه، فإذا لم يلزم المضمون عنه شئ لم يلزم الضامن
(والثاني) يرجع عليه بالألف. قال الشيخ أبو حامد: وقد نصر عليه الشافعي
رحمه الله في الاملاء وهو الأصح لان الوكيل مقر بوجوبها عليه كما قلنا
في التي قبلها، والله تعالى أعلم
181

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والكفاءة في الدين والنسب والحرية والصنعة، فأما الدين فهو
معتبر، فالفاسق ليس بكفء للعفيفة، لما روى أبو حاتم المزني أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوا
تكن فتنة في الأرض وفساد عريض، وأما النسب فهو معتبر فالأعجمي ليس
بكفء للعربية، لما روى عن سلمان رضي الله عنه أنه قال (لا نؤمكم في صلاتكم،
ولا ننكح نساءكم) وغير القرشي ليس بكفء للقرشية لقوله صلى الله عليه وسلم
(قدموا قريشا ولا تتقدموها) وهل تكون قريش كلها أكفاء؟ فيه وجهان.
(أحدهما) أن الجميع أكفاء، كما أن الجميع في الخلافة أكفاء (والثاني) أنهم
يتفاضلون، فعلى هذا غير الهاشمي والمطلبي ليس بكفء للهاشمية والمطلبية، لما
روى واثلة بن الأسقع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إن الله اصطفى
كنانة من بنى إسماعيل واصطفى من كنانه قريشا، واصطفى من قريش بني هاشم
واصطفاني من بني هاشم)
وأما بنو هاشم وبنو المطلب فهم أكفاء، لان النبي صلى الله عليه وسلم سوى
بينهم في الخمس، وقال (إن بني هاشم وبنى عبد المطلب شئ واحد) وأما الحرية
فهي معتبرة، فالعبد ليس بكفء للحرة، لقوله تعالى (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا
لا يقدر على شئ، ومن رزقناه منا رزقا حسنا فهو ينفق منه سرا وجهرا، هل
يستوون؟ ولان الحرة يلحقها العار بكونها تحت عبد. وأما الصنعة فهي معتبرة
فالحائك ليس بكفء للبزاز، والحجام ليس بكفء للخراز، لان الحياكة
والحجامة يستر ذل أصحابها.
واختلف أصحابنا في اليسار فمنهم من قال يعتبر، فالفقير ليس بكفء للموسرة
لما روى سمرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسب المال والكرم التقوى) ولان
نفقة الفقير دون نفقة الموسر، ومنهم من قال لا يعتبر لان المال يروح ويغدو
ولا يفتخر به ذوو المروءات. ولهذا قال الشاعر
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى * وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر
فما زادنا بغيا على ذي قرابة * غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر
182

(الشرح) حديث أبي حاتم المزني رواه الترمذي بلفظ (إن أتاكم من ترضون
دينه وخلقه فأنكحوه، إلا تفعلوه تكن فتنه في الأرض وفساد كبير، قالوا:
يا رسول الله وإن كان فيه، قال: إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه،
ثلاث مرات) قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. ونقل المناوي عن
البخاري أنه لم يعده محفوظا، وعده أبو داود في المراسيل، وأعله ابن القطان
بالارسال، وضعف راويه، وأبو حاتم المزني له صحبة، ولا يعرف له عن النبي
صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث،
وقد أخرج الترمذي أيضا هذا الحديث من حديث أبي هريرة ولفظه قال (قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه
إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) ومن ثم ندرك أن المصنف
أخطأ في عزو لفظ رواية أبي هريرة إلى عائشة.
وقال المناوي: قد خولف عبد الحميد بن سليمان في هذا الحديث، ورواه
الليث بن سعد عن أبي عجلان عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البخاري: وحديث الليث أشبه، ولم يعد حديث عبد الحميد محفوظا.
وعن ابن عمر عند الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال: العرب أكفاء بعضهم
لبعض، قبيلة لقبيلة، وحى لحي، ورجل لرجل، إلا حائك أو حجام) وفى
اسناده رجل مجهول وهو راويه عن ابن جريج، وقد سأل ابن أبي حاتم أباه عن هذا
الحديث فقال: هذا كذب لا أصل له، وقال في موضع آخر باطل. ورواه ابن
عبد البر في التمهيد من طريق أخرى عنه. قال الدارقطني في العلل لا يصح اه‍.
وله طريق آخر عن غير ابن عمر رواها البزار في مسنده من حديث معاذ
رفعه (العرب بعضها لبعض أكفاء) وفيه سليمان بن أبي الجون. قال ابن القطان
لا يعرف ثم هو من رواية خالد بن معدان عن معاذ ولم يسمع منه، وفى المنفق
عليه من حديث أبي هريرة (خياركم في الجاهلية خياركم في الاسلام إذا فقهوا)
وأما قول سلمان فقد مضى الإشارة إليه في الإمامة، ولعل أبا حنيفة حين قال
قريش أكفاء بعضهم بعضا العرب كذلك وليس أحد من العرب كفؤا لقريش كما ليس
183

أحد من غير العرب كفؤا للعرب، كان متأثرا بقول سلمان هذا. وقال الثوري:
إذا نكح المولى العربية يفسخ النكاح، وبه قال أحمد في رواية.
وقال الشافعي: ليس نكاح غير الأكفاء حراما فأرد به النكاح، وإنما هو
تقصير بالمرأة والأولياء، فإذا رضوا صح ويكون حقا لهم تركوه، فلو رضوا
الا واحد فله فسخ. قال: ولم يثبت في اعتبار الكفاءة بالنسب من حديث،
وأما ما أخرجه البزار من حديث معاذ رفعه (العرب بعضهم أكفاء بعض والموالي
بعضهم أكفاء بعض) فإسناده ضعيف، واحتج البيهقي بحديث (ان الله اصطفى
بنى كناية من بنى إسماعيل الخ الحديث) الذي ساقه المصنف في هذا الفصل وهو
صحيح أخرجه مسلم لكن في الاحتجاج به لذلك نظر، وقد ضم إليه بعضهم حديث
(قدموا قريشا ولا تقدموها).
ونقل ابن المنذر عن البويطي أن الشافعي قال: الكفاءة في الدين، وهو
كذلك في مختصر البويطي، قال الرافعي: وهو خلاف مشهور. قال في الفتح:
واعتبار الكفاءة في الدين متفق عليه، فلا تحل المسلمة لكافر.
قال الخطابي: ان الكفاءة معتبرة فقول أكثر العلماء بأربعة أشياء. الدين
والحرية، والنسب، والصناعة، ومنهم من اعتبر السلامة من العيوب، واعتبر
بعضهم اليسار. ويدل على ذلك ما أخرجه أحمد والنسائي وصححه ابن حبان
والحاكم من حديث بريدة رفعه (أن أحساب أهل الدنيا الذين يذهبون إليه المال)
وما أخرجه أحمد والترمذي وصححه هو والحاكم من حديث سمرة رفعه (الحسب
المال والكرم التقوى) وقد ساقه المصنف في الفصل. قال ابن حجر. يحتمل أن
يكون المراد أنه حسب من لا حسب له فيقوم النسب الشريف لصاحبه مقام
الأول لمن لا نسب له.
(الأحكام) ليس المولى أن يزوج المرأة من غير كفؤ الا برضاها ورضا سائر
الأولياء لحديث عائشة، ولان في ذلك الحاق عار بها وسائر الأولياء فلم يجز من
غير رضاهم قال الشيخ أبو حامد. والأولياء الذين يعتبر رضاهم في نكاح المرأة
من غير كفؤ هو كل من كان وليا للعقد حال التزوج، فأما من يجوز أن تنتقل إليه
184

الولاية فلا يعتبر رضاه، فإن دعت المرأة أولياءها أن يزوجوها من غير كفؤ
فامتنعوا لم يجبروا على ذلك، ولا ينوب الحاكم منابهم في تزويجها لحديث عائشة
(فانكحوا الأكفاء وانكحوا إليهم).
قال العزيزي في شرح الجامع الصغير: يحتمل أن المراد تزوجوا الخيرات
وانضموا إليهن فالهمزة همزة وصل في الفعلين وأطلق ضمير المذكر على المؤنث،
وفيه رد على من لم يشترط الكفاءة.
وقال الشيخ الحفني في شرحه على الجامع الصغير: أي تزوجوا النساء المكافئات
لكم من النساء، وانكحوا إليهم أي ميلوا إليهم من قولنا تناكحت الأشجار إذا
مال بعضها على بعض، وقد استعير ضمير الذكور للإناث في قوله إليهم، ولو كان
المراد من الثاني، وزوجوا بناتكم الأكفاء لقال: وأنكحوهن ولم يقل إليهم فهو
بوصل الهمزة في الموضعين لا يقطعها في الثاني.
(قلت) لم يجبروا على تزويجها ولا ينوب الحاكم منابهم في تزويجها ولما روى
عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ثلاثة لا يؤخرن: الصلاة إذا أتت،
والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤا) رواه الترمذي، فدل على أنها
إذا وجدت غير كفؤ جاز أن تؤخر، وإن دعت المرأة الولي أن يزوجها من كفؤ
بأقل من مهر مثلها وجب عليه إجابتها، فإن زوجها وإلا زوجها الحاكم، فإن
كان لها أولياء فزوجها أحدهم بأقل من مهر مثلها، أو زوجها واحد منهم بذلك
ألزموا الزوج مهر مثلها ولم يكن لهم فسخ النكاح.
دليلنا ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استحل بدرهمين فقد
استحل، ولان كل من لا يملك الاعتراض عليها في جنس المهر لم يكن له
الاعتراض عليها في قدره كأباعد الأولياء والأجانب، ولان المهر حق لها ولا عار
عليهم بذلك فلم يكن لهم الاعتراض عليها.
(فرع) فإن زوجت المرأة من غير كفؤ برضاها ورضى سائر الأولياء صح
النكاح، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأكثر أهل العلم. وقال سفيان وأحمد
وعبد الملك بن الماجشون: لا يصح.
185

دليلنا: ما روى أن فاطمة بنت قيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول
الله إن معاوية وأبا الجهم خطباني على حد الرواية التي ساقها المصنف أو على حد الرواية
التي أخرجها أكثر الجماعة باشراك أسامة في خطبتها ثم اختار النبي صلى الله عليه وسلم أسامة لها
لخلوه من صعلكة معاوية وقسوة أبى الجهم مع أنه كان من الموالي، قالت فتزوجت
أبا زيد، وفاطمة قرشية وأسامة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: حجم أبو هند رسول الله صلى الله
عليه وسلم في اليافوخ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يا بنى بياضة أنكحوا أبا هند
وانكحوا إليه) رواه أبو داود والحاكم وحسنه ابن حجر في التلخيص فندبهم
إلى التزوج من حجام وليس بكفؤ لهم.
وروى أن بلالا رضي الله عنه تزوج بهالة بنت عوف أخت عبد الرحمن بن
عوف رضي الله عنهم، وقيل: بل هو حذيفة، روى الدارقطني عن حنظلة بن أبي
سفيان الجمحي عن أمه قالت رأيت أخت عبد الرحمن بن عوف تحت بلال.
وروى أن سلمان الفارسي خطب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ابنته
فأنعم له عمر رضي الله عنه فكره ذلك عبد الله بن عمر، فلقي عمرو بن العاص
فأخبره بذلك فقال أنا أكفيك هذا فلقي سلمان فقال له عمرو: هنيئا لك فقال
بماذا؟ فقال: تواضع لك أمير المؤمنين، فقال سلمان: المثلى يتواضع؟ والله
لا تزوجتها أبدا. وعن عائشة أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس،
وكان ممن شهد بدرا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبنى سالما وأنكحه ابنة أخيه الوليد
ابن عتبة بن ربيعة وهو مولى امرأة من الأنصار.
(فرع) فإن زوج الأب أو الجد البكر من غير كفؤ بغير رضاها أو زوجها
أحد الأولياء بغير كفؤ برضاها من غير رضا سائر الأولياء، فقد قال الشافعي
النكاح باطل. وقال في موضع كان للباقين الرد، وهذا يدل على أنه وقع صحيحا
واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق، فمنهم من قال فيها قولان، وهو اختيار
الشيخ أبو حامد.
(أحدههما) أن النكاح صحيح ويثبت لها ولسائر الأولياء الخيار في فسخه، لان
186

النقص دخل عليها، وحصول النقص لا يمنع صحة العقد، وإنما يثبت الخيار
كما لو اشترى لموكله شيئا معيبا.
(والثاني) أن العقد لا يصح، لان العاقد تصرف في حق غيره، فإذا فرط
بطل العقد، كما لو باع الوكيل بأقل من ثمن المثل. ومنهم من قال: العقد باطل
قولا واحدا، وحيث قال: كان للباقين الرد، أي المنع من العقد، ومنهم من قال
هي على حالين، فحيث قال: يبطل العقد أراد إذا عقد وهو يعلم أنه ليس بكفؤ،
وحيث قال: لا يبطل العقد أراد إذا عقد ولم يعلم أنه غير كفؤ، كما قلنا في الوكيل
إذا اشترى شيئا معيبا يعلم بعيبه لم يصح في حق الموكل، وإن اشتراه وهو لا يعلم
بعيبه صح في حق موكله، هذا مذهبنا. وقال أبو حنيفة: إذا زوجها أحد الأولياء
بغير كفؤ برضاها لم يكن للباقين في ذلك اعتراض. دليلنا: أن رضا جميعهم معتبر
فلم يسقط برضا بعضهم.
(فرع) وإن دعت المرأة وليها إلى تزويجها برجل وزعمت أنه كفؤ لها فقال
الولي: ليس بكفؤ لها رفع ذلك إلى الحاكم ونظر فيه. فإن كان كفؤا لها لزمه
تزويجها به فإن امتنع زوجها منه، وإن كان ليس بكفؤ لها لم يلزم الولي إجابتها إليه
(مسألة) الكفؤ معتبر في خمسة أشياء كما قررنا النسب، والدين، والحرية
والصنعة، والسلامة من العيوب، فأما النسب فان الأعجمي ليس بكفؤ للعربية،
وأما العجم فهم أكفاء لا فضل لبعضهم على بعض لما روى نافع عن ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال العرب أكفاء حي لحي الخ، فدل على أن العجم ليسوا
بأكفاء للعرب. وأما العرب فان غير قريش ليس بكفؤ للقرشية.
وقال أبو حنيفة: بل هم أكفاء لهم، دليلنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم
إن الله عز وجل اختار العرب من سائر الأمم، واختار من العرب قريش،
واختار من قريش بني هاشم وبني المطلب) وأما قريش فان بني هاشم وبني المطلب
أكفاء لقوله صلى الله عليه وسلم (أن بني هاشم وبني المطلب شئ واحد، وشبك
بين أصابعه) وهل يكون سائر قبائل قريش أكفاء لبني هاشم وبني المطلب؟ فيه
وجهان حكاهما المصنف.
187

(أحدهما) أنهم أكفاء كما أنهم في الخلافة أكفاء (والثاني) إنهم ليسوا
بأكفاء لهم، ولم يذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ غيره لما روت عائشة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال، قال لي جبريل: لم أجد في مشارق الأرض ومغاربها
أفضل من بني هاشم اه‍.
فأما سائر قبائل العرب فلا فضل لبعضهم على بعض لحديث (العرب بعضهم
أكفاء بعض حي لحي وقبيلة لقبيله ورجل لرجل إلا الحائك والحجام) قال
الصيمري: وموالي قريش أكفاء لقريش لقوله صلى الله عليه وسلم (موالي القوم
من أنفسهم) قال العمراني وهذا الذي ذكره الصيمري مخالف لظاهر قول سائر
أصحابنا لأنهم يحتجون على جواز نكاح المرأة بمن ليس بكفء لها بتزويج أسامة
ابن زيد لفاطمة بنت قيس وأسامة مولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفاطمة
قرشية، ولو قيل فيها وجهان كالوجهين هل تحل الصدقة المفروضة لموالي بني هاشم
وبني المطلب لكان محتملا.
فأما إذا وطئ الرجل أمته فأولدها ولدا كان كفؤا لمن أمه عربية لان الولد
يتبع الأب في النسب دون الام بدليل أن الهاشمي لو تزوج أعجمية كان ولده منها
هاشميا، ولو تزوج الأعجمي هاشمية فإن ولده منها أعجمي، وأما الدين فهو معتبر
فالفاسق الذي يشرب الخمر ويزني أو لا يصلى ليس بكفء للحرة العفيفة، وقال
محمد بن الحسن هو كفؤ لها إلا أن يكون مظاهرا بسكره مولعا بالصبيان.
دليلنا قوله تعالى (أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون) فنفى المساواة
بينهما في جميع الوجوه. ولقوله صلى الله عليه وسلم (إذا خطب إليكم من ترضون
دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ولان
الفاسق لا يؤمن أن يحمله فسقه على أن يجنى على المرأة، فثبت لها الخيار
في فسخ نكاحه.
وأما الحرية فهي معتبرة، فالحرة ليست بكفء للعبد، والحر لا يكافئ الأمة
لقوله تعالى (ضرب الله مثلا عبدا مملوكا) إلى قوله تعالى (هل يستوون) فنفى
المساواة بينهما، ولان بريرة أعتقت تحت عبد فخيرها النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا ثبت الخيار إذا طرأت عليها الحرية، فلان يثبت لها الخيار إذا كانت حرة
188

عند ابتداء النكاح أولى، ولان عليه النفقة لها ولعيالها منه فلا يستطيع أن ينفق
نفقة الموسرين.
وأما أهل الصنعة الدنيئة، كالحمامي والزبال وما أشبههم، وقد كانوا يعتبرون
الحائك منهم لنص الحديث (إلا الحائك والحجام) فإن للصنعة تأثيرا في الكفاءة
ولان الصنعة الدنيئة نقص في العادة فاعتبرت.
فأما اليسار فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال إنه معتبر بالمعسر ليس بكفء
للموسرة لقوله صلى الله عليه وسلم (الحسب المال) ولأنه لما ثبت أن العبد لا يكافئ
الحرة لعجزه عن الانفاق عليها نفقة الموسر فكذلك المعسر، فعلى هذا لا يعتبر
أن يكون الرجل مثل المرأة في اليسار في جميع الوجوه، بل إذا كان كل واحد
موسرا يسارا ما تكافأ، وان اختلفا في المال.
ومنهم من قال اليسار غير معتبر في الكفاءة، لان النبي صلى الله عليه وسلم لم
يكن من أهل اليسار ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في طعام أهله، ولان
الفقر ليس بنقص في الكفاءة في العادة لان المال يغدو ويروح، ولهذا قال النبي
صلى الله عليه وسلم لابني خالد لا تيأسا من رزق الله تعالى.
وأما السلامة من العيوب فهي معتبرة في الكفاءة، والعيوب في الرجال الجنون
والجذام والبرص والجب والعنة، والعيوب في النساء الجنون والجذاء والبرص
والرتق (1) والقرن ولها أحكام تأتى في بابها.
قال الصيمري واعتبر قوم البلدان، فقالوا ساكنوا مكة والمدينة والبصرة
والكوفة ليسوا بأكفاء لمن يسكن الجبال. وهذا ليس بشئ، وليس للحسن والقبح والطول والقصر والسخاء والبخل ونحو ذلك مدخل في الكفاءة، لان
ذلك ليس بنقص في العادة ولا عار فيه ولا ضرر، وأليتان لرجل يدعى عروة
الصعاليك كان يجمع الفقراء في حظيرة ويرزقهم مما يغنم، والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب.

(1) الرتقاء التي لا يستطاع جماعها أو لا خرق لها إلا المبال خاصة.
189

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان للمرأة وليان وأذنت لكل واحد منهما في تزويجها،
فزوجها كل واحد منهما من رجل نظرت، فإن كان العقدان في وقت واحد،
أو لم يعلم متى عقدا؟ أو علم أن أحدهما قبل الآخر، ولكن لم يعلم عين الساق
منهما بطل العقدان، لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر. وإن علم السابق ثم نسي
وقف الامر لأنه قد يتذكر. وإن علم السابق وتعين فالنكاح هو الأول والثاني
باطل، لما روى سمرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما) فان ادعى كل واحد من الزوجين أنه
هو الأول وادعيا علم المرأة به، فإن أنكرت العلم فالقول قولها مع يمينها، لان
الأصل عدم العلم. وإن أقرت لأحدهما سلت إليه، وهل تحلف للآخر.
فيه قولان.
(أحدهما) لا تحلف، لان اليمين تعرض على المنكر حتى يقر. ولو أقرت
للثاني بعدما أقرت للأول لم يقبل فلم يكن في تحليفها له فائدة.
(والثاني) تحلف لأنها ربما نكلت وأقرت للثاني فيلزمها المهر، فعلى هذا إن
حلفت سقطت دعوى الثاني، وإن أقرت للثاني لم يقبل رجوعها ويجب عليها المهر
للثاني. وإن نكلت رددنا اليمين على الثاني، فإن لم يحلف استقر النكاح للأول
وإن حلف حصل مع الأول إقرار، ومع الثاني يمين، ونكول المدعى عليه،
فان قلنا إنه كالبينة حكم بالنكاح للثاني، لان البينة تقدم على الاقرار، وإن قلنا إن
ه بمنزلة الاقرار وهو الصحيح ففيه وجهان.
(أحدهما) يحكم ببطلان النكاحين، لان مع الأول إقرارا ومع الثاني ما يقوم
مقام الاقرار، فصار كما لو أقرت لهما في وقت واحد
(والثاني) أن النكاح للأول لأنه سبق الاقرار له فلم يبطل باقرار بعده ويجب
عليها المهر للثاني كما لو أقرت للأول ثم أقرت للثاني.
(الشرح) الأحكام: إذا كان للمرأة وليان في درجة واحدة فأذنت لكل
190

واحد منهما أن يزوجها برجل غير الذي أذنت به للآخر، أو أذنت لكل واحد
منهما أن يزوجها برجل ولم يعين. وقلنا يجوز، فزوجها كل واحد منهما برجل.
ففيه خمس مسائل:
(1) أن يعلم أن العقدين وقعا معا في حالة واحدة فهما باطلان، لأنه لا يمكن
الجمع بينهما، إذ المرأة لا يجوز أن يكون لها زوجان لاختلاط النسب وفساده،
وليس أحدهما أولى من الاخر في التقديم فبطلا كما لو تزوج أختين في عقد واحد
(2) أن لا يعلم هل وقع العقدان في حالة واحدة أو سبق أحدهما الاخر،
فقال أصحابنا البغداديون بطل العقدان، لأنه لا يمكن الجمع بينهما، ولا مزية
لأحدهما على الاخر في التقديم. وقال الخراسانيون: بطل العقدان في الظاهر،
وهل يبطلان في الباطن. فيه وجهان.
(3) أن يعلم أن أحدهما سبق الاخر إلا أنه أشكل عين السابق منهما، فقال
أصحابنا البغداديون بطل العقدان لما ذكرنا في الذي قبلها. ومن أصحابنا من
قال فيها قولان (أحدهما) أنهما باطلان (والثاني) يتوقف فيهما بناء على القولين
في الجمعتين إذا وقعتا معا في بلدة وعلم بسبق إحداهما، ولم يتيقن السابقة،
وهذا اختيار الجويني.
(4) أن يعلم أحد العقدين سبق الاخر، ونسي السابق منهما، فيتوقفان
إلى أن يتذكر السابق، لأن الظاهر مما علم ثم نسي أن يتذكر
(5) أن يعلم السابق منهما ويتعين ويذكر، فإن النكاح الصحيح هو الأول،
والثاني باطل، سواء دخلا بها أو لم يدخلا بها. أو دخل بها أحدهما، وبه قال في
الصحابة علي رضي الله عنه، ومن التابعين شريح والحسن البصري. ومن الفقهاء
الأوزاعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق، وذهبت طائفة إلى أنه ان لم يطأها أحدهما
أو وطئاها معا أو وطئها الأول دون الثاني فهي للأول كقولنا. وان وطئها الأول
دون الثاني فالنكاح للثاني دون الأول وبه قال عمر (رض) وعطاء والزهري ومالك
دليلنا قوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم) إلى قوله (والمحصنات من النساء) والمراد به
المزوجات ولم يفرق وروى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا نكح الوليان فهي للأول منهما ولأنه
نكاح لو عرى عن الوطئ لم يصح، فإذا كان فيه الوطئ لم يصح كنكاح المعتدة والمحرمة بالحج
191

(فرع) إذا زوج المرأة وليان من رجلين ولم يعلم السابق منهما، وادعى كل
واحد من الزوجين أنه هو السابق منهما نظرت، فإن ادعى أحد الزوجين، قال
المسعودي: لم تسمع دعواه، لأنه لا شئ في يده، وإن ادعيا على الولي فإن
كان غير مستبد بنفسه بأن لا يصح إنكاحه إلا بإذنها، لم تسمع دعواهما عليه
وإن كان مستبدا بنفسه كالأب والجد في تزويج البكر، هل تسمع الدعوى عليه؟
فيه قولان، فان ادعيا على المرأة، وادعيا علمها بذلك، هل تسمع الدعوى عليها
فيه قولان بناء على القولين في اقرارها لأحدهما بالسبق، هل يقبل؟ قال في القديم
يقبل إقرارها، فعلى هذا تسمع الدعوى عليها. وقال في الجديد: لا يقبل إقرارها
فعلى هذا لا تسمع الدعوى عليها.
وأما الشيخ أبو حامد والبغداديون من أصحابنا فقالوا: تسمع الدعوى عليها
من غير تفسير، فإذا قلنا: تسمع الدعوى عليها نظرت فان أنكرت أنها
لا تعرف السابق منهما فالقول قولها مع يمينها أنها لا تعرف السابق، فإذا حلفت
سقطت دعواهما وبطل النكاحان فإن نكلت عن اليمين ردت اليمين عليها فيحلف كل
واحد منهما أنه هو السابق بالعقد، فإذا حلفا بطل النكاحان، لان كل واحد قد
أثبت بيمينه أنه هو السابق، ولا مزية لأحدهما على الآخر فبطلا، وان حلف
أحدهما ونكل الآخر ثبت نكاح الحالف وبطل نكاح الناكل، فان نكلا جميعا
بطل النكاحان أيضا، لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، وإن أقرت أنها تعلم
السابق منهما نظرت، فان أقرت لكل واحد منهما سابقا فيكون دعواهما عليها باقية
فيطالب بالجواب، وإن أقرت لأحدهما أنه هو السابق حكم بالنكاح له لأنه لم
يثبت عليها نكاح غير المقر له حال الاقرار، فقبل اقرارها على نفسها، فان أراد
الثاني أن يحلفها بعد اقرارها للأول أنها لا تعلم، لأنه هو السابق، فهل يلزمها أن
تحلف له، فيه قولان بناء على أنها أقرت للثاني هل يلزمها غرم، فيه قولان
كالقولين فيمن أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو، فهل يلزمه الغرم لعمرو،
فيه قولان.
(أحدهما) لا يلزمها أن تحلف للثاني لأنها لو أقرت له لم يقبل اقرارها له،
فلا معنى لعرض اليمين عليها.
192

(والثاني) يلزمها أن تحلف للثاني بجواز أن تخاف من اليمين فتقر له فيلزمها
الغرم، فان قلنا: لا يلزمها أن تحلف للثاني ثبت النكاح للأول وانصرف الثاني
وان قلنا: يلزمها أن تحلف للثاني نظرت، فان حلفت له انصرف، وان أقرت
للثاني بأنه هو السابق لم يقبل قولها في النكاح لان في ذلك اسقاط حق للأول
الذي قد ثبت، ولكنها قد أقرت أنها حالت بين الثاني وبين بضعها باقرارها الأول
وهل يلزمها أن تغرم له.
قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان كما لو أقرت بدار لزيد ثم أقرت به لعمرو.
قال المحاملي وابن الصباغ: يلزمها له الغرم قولا واحدا، لأنا إنما عرضنا عليها
اليمين على القول الذي يقول يلزمها الغرم فإذا أقرت له لزمها أن تغرم له عوض
ما حالت بينه وبينه، وكم يلزمها من الغرم.
قال الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا: يلزمها أن تغرم جميع مهر المثل.
والثاني نصف مهر مثلها كالقولين في المرأة إذا أرضعت زوجة لرجل وانفسخ
نكاحها بذلك، وان لم تقر للثاني ولا حلفت له، بل نكلت عن اليمين ردت اليمين
عليه، فان قلنا إن يمين المدعى مع نكول المدعى عليه يحل محل البينة ثبت النكاح
للثاني وانفسخ نكاح الأول.
قال الشيخ أبو حامد وهذا القول ضعيف جدا، وان قلنا إن يمين المدعى مع
نكول المدعى عليه يحل محل اقرار المدعى عليه وهو الصحيح، ففيه وجهان.
قال الشيخ أبو إسحاق ببطل النكاحان، لان مع الأول اقرارا ومع الثاني ما يقوم
مقام الاقرار، وليس أحدهما أولى من الاخر فبطلا. ومن أصحابنا من قال يثبت
نكاح الأول لان اقرارها له أسبق.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي صاحب المهذب وابن الصباغ والمحاملي يلزمها
عل هذا أن تقوم مهر مثلها للثاني وذكر الشيخ أبو حامد في التعليق هل يلزمها
الغرم للثاني محل هذا، فيه قولان.
قال ابن الصباغ فعلى قول أبي إسحاق لا تعرض عليها اليمين، لأنه لا فائدة فيها
هذا ترتيب البغداديين. وقال المسعودي: إذا نكحت وحلف الثاني فهل ينفسخ
193

نكاح الأول فيه وجهان: فإذا قلنا ينفسخ، قال القفال: فإنه لا يثبت نكاح
الثاني، والأول المشهور.
(فرع) قال الشافعي رحمه الله في الاملاء: إذا زوج الرجل أخته من رجل
ثم مات الزوج فادعى ورثته أن الأخ زوجها بغير إذنها، فالنكاح باطل ولا ترث
وإذا ادعت المرأة أنه زوجها بإذنها فالقول قولها وترث: لان هذا اختلاف في
إذنها وهي أعلم به، ولان الأصل في النكاح أنه يقع صحيحا، فإذا ادعى الورثة
بفساده كان القول قولها لأن الظاهر صحته.
قال في الاملاء: إذا قال رجل: هذه المرأة زوجتي وصدقته على ذلك تمت
الزوجية بينهما، وأيهما مات ورثه الآخر لان الزوجية قد ثبتت، وإن قال رجل
هذه زوجتي فسكتت، فان ماتت لم يرثها، لان إقراره عليها لا يقبل، فإن مات
ورثته لان إقراره على نفسه مقبول، وكذلك إذا أقرت المرأة بالزوجية من رجل
ولم يسمع منه إقرار فإن مات لم ترثه، وإن ماتت ورثها كما ذكرناه في التي قبلها
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله: (فصل) ويجوز لولي الصبي أن يزوجه إذا رأى ذلك، لما روى أن عمر
رضي الله عنه زوج ابنا له صغيرا، ولأنه يحتاج إليه إذا بلغ، فإذا زوجه ألف
حفظ الفرج، وهل له أن يزوجه بأكثر من امرأة، فيه وجهان
(أحدهما) لا يجوز لان حفظ الفرج يحصل بامرأة.
(والثاني) يجوز أن يزوجه بأربع، لأنه قد يكون له فيه حفظ، وأما المجنون
فإنه إن كان له حال إفاقة لم يجز تزويجه بغير اذنه، لأنه يمكن استئذانه فلا يجوز
الافتيات عليه، وان لم يكن له حال إفاقة ورأي الولي تزويجه للعفة أو الخدمة
زوجه، لان له فيه مصلحة. وأما المحجور عليه لسفه فإنه ان رأى الولي
تزويجه زوجه، لان ذلك من مصلحته فإن كان كثير الطلاق سراه بجارية،
لأنه لا يقدر على اعتاقها، وان طلب التزويج وهو محتاج إليه فامتنع الولي فتزوج
بغير اذنه ففيه وجهان.
194

(أحدهما) أنه لا يصح لأنه تزوج بغير اذنه فلم يصح منه، كما لو تزوج قبل
الطلب (والثاني) يصح لأنه حق وجب له يجوز له أن يستوفيه باذن من هو عليه
فإذا امتنع جاز له أن يستوفيه بنفسه، كما لو كان له على رجل دين وامتنع من أدائه
وأما العبد فإنه إن كان بالغا فهل يجوز لمولاه أن يزوجه بغير رضاه، فيه قولان.
(أحدهما) له ذلك لأنه مملوك يملك بيعه واجارته، فملك تزويجه من غير
رضاه كالأمة (والثاني) ليس له ذلك لان النكاح معنى يقصد به الاستمتاع فلم
يملك اجباره عليه كالقسم، وإن كان صغيرا ففيه طريقان.
(أحدهما) أنه على القولين لأنه تصرف بحق الملك فاستوى فيه الصغير
والكبير كالبيع والإجارة.
(والثاني) أنه يملك تزويجه قولا واحدا، لأنه ليس من أهل التصرف فجاز
تزويجه كالابن الصغير، وان دعا العبد البالغ مولاه إلى النكاح ففيه قولان.
أحدهما: يلزمه تزويجه لأنه مكلف مولى عليه، فإذا طلب التزويج وجب
تزويجه كالسفيه. والثاني: لا يلزمه لأنه يملك بيعه واجارته فلم يلزمه تزويجه
كالأمة، وأما المكاتب فلا يملك المولى اجباره على النكاح لأنه سقط حقه من
رقبته ومنفعته، فان دعا المكاتب المولى إلى التزويج، فان قلنا يجب عليه تزويج
العبد فالمكاتب أولى.
وان قلنا: لا يجب عليه تزويج العبد ففي المكاتب وجهان (أحدهما) لا يجب
لأنه مملوك، فلم يلزمه تزويجه كالعبد (والثاني) يجب لأنه لا حق له في كسبه
بخلاف العبد، فان كسبه للمولى فإذا زوجه بطل عليه كسبه للمهر والنفقة.
(الشرح) الأحكام: يجوز للأب والجد أن يزوج ابنه الصغير إذا كان عاقلا
لما روى أن ابن عمر زوج ابنا له صغير، ولأنه يملك التصرف في مصلحته
والنكاح مصلحة له، لأنه ان بلغ وهو محتاج إلى النكاح وجد شريكة تحته يستمتع
بها وينتفع بخدمتها وتقوم على حوائجه فيكون ذلك سكنا له، وان بلضع وهو
غير محتاج إلى النكاح فان المرأة تكون سكنا له، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: هل يزوج الصغير، فيه وجهان، الأصح لا يزوجه لأنه
195

لا حاجة به إليه، وكم يجوز للأب والجد أن يزوجا الصغير؟ حكى الشيخ أبو حامد
أن الشافعي رضي الله عنه قال: له أن يزوجه بزوجة واحدة واثنتين وثلاثا وأربعا
كالبالغ، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز له أن يزوجه بأكثر من واحدة، لأنه
لا حاجة به إلى ما زاد عليها، ويجوز للولي والحاكم أن يزوجا الصغير كما قلنا
في الأب والجد.
(فرع) ولا يجوز للأب والجد ولا للوصي ولا للحاكم تزويج الصغير
المجنون لأنه لا يحتاج إلى النكاح في الحال، ولا يدرى إذا بلضع هل يحتاج إلى
النكاح أم لا، بخلاف الصغير العاقل، لأن الظاهر أن يحتاج إلى النكاح عقد
بلوغه، فإن كان المجنون بالغا نظرت، فإن كان يجن ويفيق، لم يجز للولي تزويجه
لان له حالة يمكن استئذانه فيها وهي حال إفاقته، وإن لم يكن له حال الإفاقة، فإن كان
خصيا أو مجبوبا أو علم أنه لا يشتهى النكاح لم يجز للولي تزويجه لأنه لا حاجة
به إلى النكاح، وان علم أنه يشتهى بأن يراه يتبع نظره النساء أو علم ذلك بانتشار
ذكره أو غير ذلك جاز للأب والجد تزويجه لان فيه مصلحة له، وهو ما يحصل
له به من العفاف، فإن لم يكن له أب ولا جد زوجه الحاكم.
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: وليس له أن يزوج ابنته الصغيرة عبدا
ولا غير كفؤ ولا مجنونا ولا مخبولا ولا مجذوما ولا أبرص.
وهذا كما قال: لا يجوز للرجل أن يزوجها لغير كفؤ، وقد مضى شروط
الكفاءة. والمريض بمرض عقلي أن جسماني مزمن لا يجوز له أن يرضى به
زوجا لابنته الصغيرة. لان القصد من النكاح الاستمتاع وهذا متعذر منه ولأنه
لا يؤمن أن يجنى عليها. والمخبول هو الذي تقادم جنونه وسكن. فلا يتأذى
الناس به، أو يكون أبله لا يحصل منه أذية، وهذا يحدث من خلل في تلافيف
المخ يترتب عليها أعراض ظاهرة كارتخاء الشفتين أو انفراج الفم وسيلان اللعاب
والعى والفهاهة في النطق، لان مراكز المخ إذا اختلت بعض خلاياها وما أكثرها
ظهرت أعراضها فان بعضها مختص بحواس البشرة واللمس وبعضها بحواس الشم
وبعضها بحواس الذوق إلى آخر ما عند الانسان من آفاق حيويه مادية ومعنوية
196

كل خلجة منها لها خلية في المخ تعطى إشاراتها إلى بقية أجزاء الجسم فأي خلل
في خلية منها يعطل وظيفتها فيظهر ذلك في وجهه أو تصرفاته أو صوته، فينبغي
مراعاة جانب الصحة النفسية لمن أراد أن يزوج صغيرته حتى لا تشقى بسوء
اختيار أبيها أو جدها أو وليها.
وقال الشيخ أبو حامد في الأبرص والمجذوم: ولأنه يقال إن هذه العيوب
تعدى. وربما أعدت إليها أو إلى ولدها منه، وكذلك لا يزوجها بخصي ولا
مجبوب. لان المقصود من النكاح الاستمتاع. وذلك لا يوجد منه. فان خالف
الأب وزوج ابنته الصغيرة ممن به أحد هذه العيوب فهل يصح النكاح على الطرق
الثلاث إذا زوج المرأة من غير كف ء بغير رضاها أو من غير رضى سائر الأولياء
فإذا قلنا إن النكاح باطل فلا كلام. وان قلنا إن النكاح صحيح فهل يجب على
الأب أن يختار فسخ النكاح أو يدعه حتى تبلغ فتختار. حكى القاضي أبو الطيب
فيه قولان وحكاهما الشيخ أبو حامد وجهين.
(أحدهما) يجب عليه ذلك لأنه قد فرط فكان عليه أن يتلافى تفريطه
كالوكيل إذا اشترى شيئا معيبا.
(والثاني) لا يجب عليه وليس له ذلك. لان الشهوات والميول تختلف.
وقد تختار المرأة التزوج ممن به هذه العيوب، فعلى هذا إذا بلغت كانت بالخيار
إن شاءت فسخته وان شاءت أقرته
قال ابن الصباغ (هذا إذا كان المزوج هو الولي وحده. فأما إذا كان معه
غيره فلهم الاعتراض على العقد وفسخه قولا واحدا. لان العاقد أسقط حقه
برضاه والباقون لم يرضوا. وان أراد أن يزوج أمته من عبد جاز لأنه مكافئ لها
أما إذا أرادت ان تتزوج بمجنون أو مجذوم أو أبرص أو مجبوب أو خصى لم
يكن له ذلك، لان الضرر الذي يلحق الحرة في ذلك يلحق الأمة
(فرع) ولا يزوج ابنه الصغير بامرأة ليست بكفء له. ولا بمجنونة ولا
مخبولة ولا مجذومة ولا برصاء ولا رتقاء لأنه لا مصلحة له في تزويج إحداهن.
فان زوجه بأمة لم يصح قولا واحد. لان تزويج الأمة إنما يصح للحر إذا لم يجد
طول حرة ويخاف العنت.
197

وإن زوج ابنه المجنون برتقاء، فإن قلنا يصح تزويج الصغير العاقل بها صح
بالمجنون، وإن قلنا لا يصح تزويج الصغير العاقل بها ففي المجنون وجهان.
(أحدهما) لا يصح كما لو زوجها من الصغير العاقل (والثاني) يصح لأنه لا ضرر
عليه في ذلك لأنه لا يحتاج إلى الوطئ.
(فرع) قال الصيمري: ولا يزوج ابنه الصغير بعجوز هرمة ولا بمقطوعة
اليدين والرجلين ولا عمياء ولا زمنة ولا يهودية ولا نصرانية، ولا يزوج ابنته
الصغيرة بشيخ هرم، ولا بمقطوع اليدين والرجلين، ولا بأعمى ولا زمن ولا
بفقير وهي غنية، فإن فعل ذلك فسخ. وعندي أنها تحتمل وجها آخر أنه
لا يكون له الفسخ لأنه ليس بأعظم ممن زوج ابنته الصغيرة بمجذوم أو أبرص
قال المصنف رحمه الله تعالى: (فصل) ولا يصح النكاح إلا بشاهدين. وقال أبو ثور يصح من غير
شهادة لأنه عقد فصح من غير شهادة كالبيع. وهذا خطأ لما روت عائشة رضي الله عنه
ا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح.
خاطب وولى وشاهدان، ويخالف البيع فإن القصد منه المال والقصد من النكاح
الاستمتاع وطلب الولد، ومبناهما على الاحتياط ولا يصح إلا بشاهدين ذكرين
فإن عقد برجل وامرأتين لم يصح لحديث عائشة رضي الله عنها، ولا يصح إلا
بعدلين لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل)
فان عقد بمجهولي الحال ففيه وجهان (أحدهما) وهو قول أبي سعيد
الإصطخري أنه لا يصح، لان ما افتقر ثبوته إلى الشهادة لم يثبت بمجهولين
كالاثبات عند الحاكم (والثاني) يصح وهو المذهب لأنا لو اعتبرنا العدالة الباطنة
لم تصح أنكحة العامة إلا بحضرة الحاكم لأنهم لا يعرفون شروط العدالة، وفى
ذلك مشقة فاكتفى بالعدالة الظاهرة كما اكتفى في الحوادث في حقهم بالتقليد حين
شق عليهم ادراكها بالدليل، فإن عقد بمجهولين ثم بان انهما كانا فاسقين لم يصح
لأنا حكمنا بصحته في الظاهر، فإذا بان خلافه حكم بإبطاله، كما لو حكم الحاكم
198

باجتهاده ثم وجد النص بخلافه. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان بناء على القولين
في الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين ثم بان أنهما كانا فاسقين، وإن عقد بشهادة
أعميين ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يصح، لان الأعمى يجوز يكون شاهدا،
(والثاني) لا يصح، لأنه لا يعرف العاقد فهو كالأصم الذي لا يسمع لفظ
العاقد ويصح بشهادة ابني أحد الزوجين، لأنه يجوز أن يثبت النكاح بشهادتهما
وهو إذا جحد الزوج الآخر وهل يصح بشهادة ابنيهما؟ أو بشهادة ابن الزوج
وابن الزوجة، فيه وجهان (أحدهما) يصح لأنهما من أهل الشهادة (والثاني)
لا يصح لأنه لا يثبت هذا النكاح بشهادتهما بحال.
(فصل) وإذا اختلف الزوجان فقالت الزوجة: عقدنا بشاهدين فاسقين
وقال الزوج: عقدنا بعدلين، ففيه وجهان (أحدهما) ان القول قول الزوج لان
الأصل بقاء العدالة (والثاني) أن القول قول الزوجة، لان الأصل عدم النكاح
وإن تصادقا على أنهما تزوجا بولي وشاهدين، وأنكر الولي والشاهدان لم يلفت
إلى إنكارهم لان الحق لهما دون الولي والشاهدين.
(الشرح) حديثا عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما مضى تخريجهما في بحث
النكاح بولي. أما الأحكام: فإنه لا يصح النكاح إلا بحضرة شاهدين ذكرين
عدلين، وروى ذلك عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وابن عباس والحسن
البصري وابن المسيب والنخعي والشعبي والأوزاعي وأحمد بن حنبل. وقال ابن
عمر وابن الزبير وعبد الرحمن بن مهدي وداود وأهل الظاهر. لا يفتقر النكاح
إلى الشهادة، وبه قال مالك، إلا أنه قال من شرطه أن لا يتواصوا بكتمانه، وان
تواصوا على كتمانه لم يصح النكاح وان حضره شهود، وبه قال الزهري. وقال
أبو حنيفة: من شرطه الشهادة الا أنه ينعقد بشهادة رجلين فاسقين وعدوين
ومحدودين، وشاهد وامرأتين.
دليلنا ما روى عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (لا نكاح الا بولي وشاهدي عدل) رواه أحمد في رواية ابنه عبد الله ورواه
الدارقطني، وأشار إليه الترمذي، وروت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
199

(كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح: خاطب وولى وشاهدان) وعنها رضي الله عنه
ا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) وعن
ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا نكاح إلا بولي
مرشد وشاهدي عدل) وعنه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (البغايا
اللاتي ينكحن أنفسهن بغير بينة) رواه الترمذي، وهذه الأحاديث وغيرها مضى
تخريجها في الولي، ولأنه عقد فلم يكن من شرطه ترك التواصي بالكتمان كالبيع
ولان كل ما لم يثبت بشهادة عدلين بم يثبت بشهادة فاسقين كالاثبات عند الحاكم.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: والشهود على العدل حتى يعلم الجرح يوم
وقع النكاح. وجملة ذلك أنه إذا عقد بحضرة شاهدين فإن علمت عدالتهما ظاهرا
وباطنا انعقد النكاح بشهادتهما، وإن علمت عدالتهما في الظاهر وجهلت في الباطن
ففيه وجهان حكاهما المصنف.
قال أبو سعيد الإصطخري: لا يصح لان ما افتقر ثبوته إلى الشهادة لم يثبت
بمجهول الحال كالاثبات عند الحاكم، والثاني وهو المذهب ولم يحك الشيخ
أبو حامد وابن الصباغ غيره أن النكاح صحيح لأن الظاهر العدالة، ولأنا لو
اعتبرنا العدالة الباطنة لم ينعقد النكاح إلا بحضرة الحاكم، لان العامة لا يعرفون
شروط العدالة، وقد أجمع المسلمون على جواز انعقاده بغير حضور الحاكم.
فإذا قلنا بهذا فبان أنهما فاسقاق، فان حدث هذا الفسق بعد العقد لم يؤثر، لأن الاعتبار
وجود العدالة حال العقد، وإن بان أنهما فاسقان حال العقد لم يصح
النكاح، لان فسقهما ينافي قبول شهادتهما على النكاح.
ومن أصحابنا من قال: فيه قولان كالقولين في الحاكم إذا حكم بشهادة شاهدين
ظاهرهما العدالة، ثم بان فسقهما حال الشهادة وليس بشئ، فإن ترافع الزوجان
إلى الحاكم وأقرا بالنكاح وأنه عقد بشهادة رجلين ظاهرهما العدالة واختصما في
حق من حقوق الزوجية كالنفقة والكسوة وما أشبههما، فإن الحاكم يحكم بينهما
فيما احتكما فيه، ولا ينظر في حال عدالة شاهدين في الباطن إلا أن يعلم أنهما
فاسقان فلا يحكم بينهما، وإن جحد أحد الزوجين الآخر فأما المدعى منهما
بشاهدين فإن علم الحاكم عدالتهما ظاهرا وباطنا حين عقد النكاح حكم
200

بصحة النكاح، وإن علم فسقهما حال الشهادة لم يحكم بصحة العقد بل يحكم بفساده
على المذهب، فإن عرف أنهما كانا عدلين في الظاهر وجهل عدالتهما في الباطن
فلا يجوز أن يحكم بصحة العقد ولا بفساده بل يتوقف إلى أن يعلم عدالتهما في
الباطن، لأنه لا يجوز أن يحكم بشهادة شاهد الا بعد معرفة حاله ظاهرا وباطنا،
بخلاف ما لو أقر بالنكاح، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد في التعليق. وذكر ابن
الصباغ أن الرجل إذا ادعى نكاح امرأة بولي وشاهدي عدل فأقام شاهدين عدلين
عند الحاكم فإنه يبحث عن حالهما عند الحاكم ولا يبحث عن حالهما حين العقد،
والأول أصح. وهل ينعقد النكاح بشهادة أعميين أو أعمى وبصير؟ فيه وجهان
أحدهما ينعقد، لان الأعمى من أهل الشهادة، والثاني: لا يصح لأنه لا يعرف
العاقد فهو كالأصم الذي لا يسمع لفظ العاقد، وهل ينعقد بشهادة أخرسين أو
أخرس وناطق؟ فيه وجهان (أحدهما) لا ينعقد، قال الشيخ أبو حامد: وهو
المذهب، لان الشهادة تفتقر إلى صريح اللفظ، والأخرس لا يتأتى منه ذلك.
(والثاني) ينعقد. قال القاضي أبو الطيب: وهو المذهب لان إشارته إذا كانت
مفهومة تقوم مقام عبارة غيره، وهل تنعقد شهادة أصحاب الصنع الدنيئة مثل
الحجام والقصاب والكناس وغيرهم؟ فيه وجهان بناء على جواز قبول شهادتهم
في سائر الحقوق؟ ويأتي بيانهما في موضعهما، وان عقد النكاح بشهادة ابني أحد
الزوجين أو بشهادة ابنه وحده أو بشهادة عدوى أحد الزوجين صح النكاح لأنه
يثبت بشهادتهما، وهو إذا شهد الابنان على والدهما أو شهد العدوان لعدوهما،
وان عقد النكاح بشهادة ابني الزوجين أو ابن لهذا وابن لهذه أو جد هذا وجد هذه
أو عدوين لهما ففيه وجهان، أحدهما ينعقد لأنهما من أهل الشهادة في النكاح في
الجملة، والثاني: لا ينعقد لأنه لا يثبت بشهادتهما بحال من الأحوال، من أصحابنا
الخراسانيين من قال: ينعقد بشهادة العدوين وجها واحدا، لان العداوة قد تزول
(فرع) وليس من شرط الشهادة احضار الشاهدين بل لو حضر الشاهدان
لأنفسهما وسمعا الايجاب والقبول صح ذلك ولو سمعا الايجاب والقبول ولم يسمعا
الصداق صح النكاح لان الصداق ليس بشرط في النكاح، وان سمع أحد الشاهدين
الايجاب وسمع الآخر القبول لم يصح النكاح، لأنهما شرط في الايجاب والقبول
201

(فرع) وإذا تزوج المسلم كتابية فإنه يتزوجها من وليها الكافر إذا كان عدلا
في دينه، ولا يصح إلا بحضرة شاهدين مسلمين عدلين. وقال أحمد: لا يصح أن
يتزوجها إلا من المسلم. وقال أبو حنيفة: يتزوجها من وليها الكافر، ويصح أن
يكون بشهادة كافرين.
دليلنا على أحمد قوله تعالى (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) فدل
ذلك على أنه لا ولاية لهم على الكافرين. وعلى أبي حنيفة لأنهما شاهدان لا يثبت
بهما نكاح المسلمة، فلم يثبت بهما نكاح الكافرة كالعبدين، وكالفرق بين الولي
والشاهدين لان الولي أريد لدفع العار عن النسب، والكافر كالمسلم في دفع العار
والشاهدان يرادان لاثبات الفراش عند جحد أحد الزوجين، وليس الكافر
كالمسلم في إثبات الفراش، لأنه لا يثبت بشهادته الفراش، ولان الولي بتعين في
العقد فتأكد حاله فجاز أن يكون كافرا، والشاهد لا يتعين فلم يجز أن يكون كافرا
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ولا يصح إلا على زوجين معينين لان المقصود بالنكاح أعيانهما
فوجب تعيينهما: فإن كانت المنكوحة حاضرة فقال: زوجتك هذه صح. وان
قال: زوجتك هذه فاطمة واسمها عائشة صح، لان مع التعيين بالإشارة لا حكم
للاسم، فلم يؤثر الغلط فيه، وإن كانت المنكوحة غائبة فقال: زوجتك ابنتي
وليس له غيرها صح، وإن قال: زوجتك ابنتي فاطمة وهي عائشة صح، لأنه
لا حكم للاسم مع التعيين بالنسب، فلم يؤثر الخطأ فيه، وإن كان له اثنتان فقال:
زوجتك ابنتي لم يصح حتى يعينها بالاسم أو بالصفة، وإن قال: زوجتك عائشة
وقبل الزوج ونويا ابنته، أو قال زوجتك ابنتي وقبل الزوج ونويا الكبيرة صح
لأنها تعينت بالنية، وان قال زوجتك ابنتي ونوى الكبيرة وقبل الزوج ونوى
الصغيرة لم يصح، لان الايجاب في امرأة والقبول في أخرى. وان قال زوجتك
ابنتي عائشة، ونوى الصغيرة وقبل الزوج، ونوى الكبيرة، صح النكاح في عائشة
في الظاهر، ولم يصح في الباطن، لان الزوج قبل في غير ما أوجب الولي.
202

(فصل) ويستحب أن يخطب قبل العقد، لما روى عن عبد الله قال:
علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة (الحمد لله نحمده ونستعينه
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن
يظل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، قال
عبد الله ثم تصل خطبتك بثلاث آيات: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الا وأنتم
مسلمون، اتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ان الله كان عليكم رقيبا، اتقوا
الله وقولوا قولا سديدا) فإن عقد من غير خطبة جاز لما روى سهل بن سعد
الساعدي (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للذي خطب الواهبة، زوجتكها بما
معك من القرآن) ولم يذكر الخطبة، ويستحب أن يدعى لهما بعد العقد، لما روى
أبو هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفأ الانسان إذا
تزوج قال: بارك الله لك، وبارك عليك، وجمع بينكما في خير).
(الشرح) حديث عبد الله بن مسعود أخرجه الترمذي وحسنه وأبو داود
والنسائي والحاكم والبيهقي من رواية أبى عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه
ولم يسمع منه، وقد رواه الحاكم من طريق أخرى عن قتادة عن عبد ربه عن أبي
عياض عن ابن مسعود وليس فيه الآيات، ورواه أيضا من طريق إسرائيل
عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص وأبى عبيدة أن عبد الله قال فذكر نحوه، ورواه
البيهقي من حديث واصل الأحدب عن شقيق عن ابن مسعود بتمامه، وفى رواية
للبيهقي (إذا أراد أحدكم أن يخطب لحاجة من النكاح أو غيره فليقل: الحمد لله
نحمده ونستعينه الخ)،
ورواية الترمذي أردفها بعد التحسين بقوله. رواه الأعمش عن أبي إسحاق
عن أبي الأحوص عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم وكلا الحديثين صحيح لان إسرائيل
جمعهما فقال. عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص وأبى عبيدة عن عبد الله عن النبي
صلى الله عليه وسلم.
وقال النووي في كتاب الأذكار: يستحب أن يخطب بين يدي العقد خطبة
203

تشتمل على ما ذكرنا في الباب الذي قبل هذا وتكون أطول من تلك، وسواء
خطب العاقد أو غيره، وأفضلها ما روينا في سنن أبي داود والترمذي والنسائي
وابن ماجة وغيرها بالأسانيد الصحيحة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال
(علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة الحاجة الحمد لله نستعينه ونستغفره
ونعوذ به من شرور أنفسنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، يا أيها الناس اتقوا ربكم
الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء،
واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام، إن الله كان عليكم رقيبا يا أيها الذين
آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، يا أيها الذين آمنوا
اتقوا الله وقولوا قولا سديدا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع
الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما)
ثم قال هذا لفظ إحدى روايات أبى داود. وفى رواية له أخرى بعد قوله
(ورسوله، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله
فقد رشد، ومن يعصهما فإنه لا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئا) قال الترمذي
حديث حسن. اه‍
أما حديث سهل بن سعد الساعدي فقد رواه أحمد والبخاري ومسلم، ولفظه
(أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءته امرأة فقالت يا رسول الله إني قد وهبت
نفسي لك، فقامت قياما طويلا، فقام رجل فقال يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن
لك بها حاجة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل عندك من شئ تصدقها
إياه؟ فقال ما عندي إلا إزاري هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أن أعطيتها
إزارك جلست لا إزار لك، فالتمس شيئا، فقال ما أجد شيئا، فقال التمس ولو
خاتما من حديد، فالتمس فلم يجد شيئا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم هل معك
من القرآن شئ؟ قال نعم، سورة كذا وسورة كذا لسور يسميها، فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم قد زوجتكها بما معك من القرآن)
وقد روى سعيد بن منصور في سننه عن أبي النعمان الأزدي قال (زوج النبي
صلى الله عليه وسلم امرأة على سورة من القرآن ثم قال لا يكون لاحد بعدك مهرا)
204

وهو مع إرساله فيه من لا يعرف. ومن ثم فلا يحتج به في تخصيص الحكم
بهذه المرأة
أما حديث أبي هريرة أخرجه أبو داود والترمذي وصححه وحسنه وابن ماجة
وقال النووي في الأذكار (ويستحب أن يقال لكل واحد من الزوجين بارك الله
لكل واحد منكما في صاحبه وجمع بينكما في خير) روينا في صحيحي البخاري ومسلم
عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن عوف
رضي الله عنه حين أخبره أنه تزوج (بارك الله لك) وروينا في الصحيح أيضا أنه
صلى الله عليه لجابر رضي الله عنه حين أخبره أنه تزوج (بارك الله عليك)
أما اللغات فقوله (رفأ) قال في الفتح بفتح الراء وتشديد الفاء مهموز،
معناه دعا له. وفى القاموس رفأه ترفئة وترفيا، قال له بالرفاء والبنين. أي
بالالتئام وجمع الشمل اه‍. والترفئة في الأصل الالتئام. يقال رفأ الفتق لام خرقه
وضم بعضه إلى بعض، وكانت ترفئة الجاهلية أن يقال (بالرفاء والبنين) ثم نهى
النبي صلى الله عليه وسلم عنها وأرشد إلى ما في الأحاديث الواردة على ما سيأتي
في الأحكام.
أما الأحكام فإنه إذا أراد عقد النكاح على امرأة فلا بد أن تتميز عن غيرها
بالمشاهدة أو بالصفة أو بالتسمية، فإذا كان له ابنة واحدة وهي حاضرة، فإن
قال زوجتك هذه صح ولم يحتج إلى ذكر اسمها ولا إلى صفتها وان قال زوجتك
ابنتي وزوجتك هذه عائشة صح لأنها تميزت بالإشارة، وكان ما زاد تأكيدا،
وإن كان اسمها عائشة فقال زوجتك هذه فاطمة، فقال البغداديون من أصحابنا
يصح، لأنه لا حكم لتغيير الاسم مع الإشارة وقال المسعودي هل يصح؟ فيه
وجهان بناء على الوجهين فيما لو قال بعتك هذا البغل وكان حمارا أو فرسا. وإن
كان له ابنة واحدة اسمها عائشة وهي غائبة عنهما، فان قال زوجتك ابنتي صح،
لان قوله ابنتي صفة لازمة لها وليس له غيرها. وان قال زوجتك ابنتي عائشة
صح، لان النكاح ينعقد بقوله ابنتي، فإذا سماها باسمها كان تأكيدا، وان قال
زوجتك ابنتي فاطمة فغير اسمها، فقال البغداديون من أصحابنا يصح، لان قوله
ابنتي صفة لازمة لها لا تختلف ولا تتغير، والاسم يتغير ويختلف، فاعتبر حكم
205

الصفة اللازمة وألغى الاسم، قال المسعودي لا يصح، ولم يذكر له وجها. وان
قال زوجتك عائشة وقصد ابنته فذكر الشيخ أبو إسحاق والطبري في العدة وحكاه
ابن الصباغ عن الشيخ أبى حامد أنه يصح لأنها تتميز بالنية، وإن لم يقصد ابنته لم
يصح، قال ابن الصباغ، وهذا فيه نظر، لان هذا العقد تعتبر فيه الشهادة فلا بد
أن يكون العقد مما يصح أداء الشهادة على وجه يثبت به العقد وهذا متعذر في النية
ولم أجد فيما قرأت من تعليق الشيخ أبى حامد وغيره أنه لا يصح من غير تفصيل
لان هذا الاسم يقع على ابنتيه وعلى من اسمها عائشة فلا تتميز بذلك عن غيرها،
فإن كانت له ابنتان كبيرة اسمها عائشة وصغيرة اسمها فاطمة، فان قال زوجتك ابنتي
أو إحدى ابنتي لم يصح لان المزوجة غير متميزة. وإن قال زوجتك ابنتي عائشة
أو ابنتي الكبيرة صح لأنه قد بينها بالصفة أو بالاسم
وإن قال زوجتك ابنتي الكبيرة فاطمة فغير اسمها صح النكاح على الصغيرة
ولا يضر تغييره للاسم، وعلى قول المسعودي في التي قبلها لا يصح هاهنا. وإن
قال زوجتك ابنتي عائشة وهو ينوى الصغيرة واسم الصغيرة فاطمة فقبل الزوج
وهو ينوى الصغيرة، قال الشيخ أبو حامد ينعقد النكاح على الصغيرة لاتفاق
نيتهما ولا يضر تغيير الاسم.
وإن قال زوجتك ابنتي عائشة وهو ينوى الصغيرة وقبل الزوج وهو ينوى
الكبيرة انعقد النكاح في الظاهر على الكبيرة لأنه أوجب نكاحها له فقبلها في
الباطن، وهو مفسوخ لأنه أوجب له النكاح في الصغيرة فقبل في الكبيرة: فإن
قال زوجتك ابنتي فقبل الزوج ونويا الكبيرة فقال الشيخ أبو إسحاق يصح لأنها
تميزت بالنية. وقال ابن الصباغ لا يصح لأنه لا يمكن اذن الشهادة في هذا.
(فرع) وإن كان لرجل ابنتان فزوج رجل إحداهما بعينها ثم مات الأب
وادعت كل واحدة من الابنتين على الزوج أنها هي التي زوجها أبوها منه. فان
أنكرهما حلف لكل واحدة يمينا، وان أقر لأحداهما تثبت زوجيتهما. فان
ادعت عليه الأخرى النكاح بعد ذلك قال ابن الحداد لم تسمع دعواها لأنه قد
أقر بتحريمها على نفسه، وان ادعت عليه نصف المهر فالقول قوله مع يمينه، فان
حلف لها فلا كلام، وان نكل حلفت ووجب المسمى لها الذي ادعت.
206

وإن لم يدعيا عليه ولكنه أدعى على إحداهما أنها زوجته فإن أقرت له ثبت
النكاح بينهما، وإن أنكرت حلفت له وسقطت دعواه قال ابن الحداد:
ووجب عليه لها نصف مهرها.
قلت: وينبغي أنه لا يثبت لها ذلك إلا إذا ادعته، فأما إذا لم تدعيه لم يثبت
لها. قال ابن الحداد: ويكون ذلك إبطالا لنكاح التي أقر بنكاحها أولا، ويجب
لها نصف مهرها إن لم يدخل بها، وجميع مهرها أن دخل بها.
(فرع) إذا قال: زوجتك حمل هذه المرأة إن كان ابنة لم يصح النكاح لأنه
قد يكون ريحا أو حملا موهوما فلا يتحقق وجوده، وقد يكون ذكرا، وقد
يكون ابنتين، فلا يعلم أيتهما المعقود عليها وهذا غرر من غير حاجة، فلا يصح
كما إذا كتب رجل إلى الولي: زوجني ابنتك فقرأه الولي أو غيره بحضرة شاهدين
فقال الولي: زوجته لم ينعقد النكاح.
وحكى ابن الصباغ أن أبا حنيفة وأصحابه قالوا: يصح، دليلنا أنه لم يوكل القاري
فلم يصح كما لو استدعاه من غائب فبلغه فأوجب.
(مسألة) وإذا أراد العقد خطب الولي أو الزوج أو أجنبي من الحاضرين
فيحمد الله تعالى ويصلى على رسوله صلى الله عليه وسلم ووصى بتقوى الله ويرغب
في النكاح لقوله صلى الله عليه وسلم (كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر)
فالنكاح من الأمور التي لها بال، والخطبة مستحبة غير واجبة، وبه قال عامة
أهل العلم الا داود فإنه قال: إنها شرط في النكاح.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم (لا نكاح الا بولي مرشد وشاهدي عدل)
ولم يشترط الخطبة، ولان النبي صلى الله عليه وسلم زوج الواهبة ولم يخطب،
وتزوج عائشة رضي الله عنها ولم يخطب.
قال الشيخ أبو حامد: وقد روى في بعض الروايات أنه قال في الثلاث الآيات
يا أيها الناس، قال: وحكى عن بعض المتأخرين أنه كأن يقول: المحمود الله
والمصطفى رسول الله صلى الله عليه وسلم وخير ما عمل به كتاب الله قال: وزاد
بعضهم فكأن يقول: المحمود الله ذو الجلال والاكرام، والمصطفى رسول الله
207

صلى الله عليه وسلم وخير ما عمل به كتاب الله المفرق بين الحلال والحرام، ثم يقول
والنكاح مما أمر الله بن وندب إليه.
وأما الخطبة التي تحلل العقد بأن يقول الولي: بسم الله والحمد لله وصلى الله
على رسول الله، أوصيكم بتقوى الله ويقول كما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(أنكحتك على ما أمر الله به من امساك بمعروف أو تسريح بإحسان،
ثم يقول الزوج، بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أوصيكم
بتقوى، قبلت نكاحها فاختلف أصحابنا في صحة العقد مع ذلك، فذكر الشيخ
أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ أن ذلك يصح، لان الخطبة متعلقة بالنكاح فلم
يؤثر فصلها بين الايجاب والقبول، كالتيمم بين صلاتي الجمع.
وحكى الشيخ مصنف المهذب عن بعض أصحابنا ان الفصل بين الايجاب
والقبول بالخطبة يبطل العقد كما لو فصل بينهما بغير الخطبة، ويخالف التيمم،
فإنه مأمور به بين الصلاتين، والخطبة مأمور بها قبل العقد.
قال النووي في الأذكار، فلو قال، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
قبلت نكاحها صح، ولم يضر هذا الكلام بين الايجاب والقبول لأنه فصل يسير له
تعلق بالعقد، ويكره أن يقال للزوج بعد العقد بالرفاء والبنين، لما روى أحمد
والنسائي وابن ماجة عن عقيل بن أبي طالب أنه تزوج امرأة من بنى جشم فقالوا
بالرفاء والبنين، فقال لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا كما قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم، اللهم بارك لهم وبارك عليهم) وفى رواية له، لا تقولوا ذلك فإن
النبي صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن ذلك، قولوا بارك الله لها فيك وبارك لك فيها،
وأخرجه أيضا أبو يعلى والطبراني وهو من رواية الحسن عن عقيل، قال في الفتح
ورجاله ثقات الا أن الحسن لم يسمع من عقيل فيما يقال، وقد اختلف في علة
النهى عن الترفئة التي كانت تفعلها الجاهلية فقيل لأنه لا حمد فيها ولا ثناء ولا ذكر
لله، وقيل لما فيه من الإشارة إلى بغض البنات لتخصيص البنين بالذكر، والا
فهو دعاء للزوجين بالالتئام والائتلاف فلا كراهة فيه.
وقال ابن المنير: الذي يظهر أنه صلى الله عليه وسلم كره اللفظ لما فيه من
208

موافقة الجاهلية لأنهم كانوا يقولونه تفاؤلا لا دعاء فيظهر أنه لو قيل بصورة
الدعاء لم يكره كأن يقول: اللهم ألف بينهما وارزقهما بنين صالحين وقال العمراني
من أصحابنا: ويكره أن يقال للزوج بعد العقد بالرفاء والبنين والمستحب أن يقول
ما ورد في حديث أبي هريرة وساقه، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يصح العقد إلا بلفظ التزويج أو الانكاح، لان ما سواهما
من الألفاظ كالتمليك والهبة لا يأتي على معنى النكاح، ولان الشهادة شرط في
النكاح فإذا عقد بلفظ الهبة لم تقع الشهادة على النكاح، واختلف أصحابنا في نكاح
النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة، فمنهم من قال: لا يصح لان كل لفظ
لا ينعقد به نكاح غيره لم ينعقد به نكاحه كلفظ الاحلال. ومنهم من قال: يصح
لأنه لما خص بهبة البضع من غير بدل خص بلفظها، وإن قال: زوجني فقال:
زوجتك صح، لان الذي خطب الواهبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
زوجنيها فقال النبي صلى الله عليه وسلم (زوجتكها بما معك من القرآن، وإن
قال زوجتك، فقال قبلت، ففيه قولان.
(أحدهما) يصح لان القبول يرجع إلى ما أوجبه الولي كما يرجع في البيع إلى
ما أوجبه البائع.
(والثاني) لا يصح لان قوله، قبلت ليس بصريح في النكاح فلم يصح به،
كما لو قال، زوجك فقال نعم. وان عقد بالعجمية ففيه ثلاثة أوجه (أحدها)
لا يصح لقوله صلى الله عليه وسلم (استحللتم فروجهن بكلمة الله) وكلمة الله بالعربية
فلا تقوم العجمية مقامها كالقرآن (والثاني) وهو قول أبي سعيد الإصطخري
أنه إن كان يحسن بالعربية لم يصح، وإن لم يحسن صح، لان ما اختص بلفظ غير
معجز جاز بالعجمية عند العجز عن العربية، ولم يجز عند القدرة كتكبيرة الصلاة
(والثالث) وهو الصحيح أنه يصح، سواء أحسن بالعربية أو لم يحسن، لان
لفظ النكاح بالعجمية يأتي على ما يأتي عليه لفظه بالعربية، فقام مقامه، ويخالف
القرآن فان القصد منه النظم المعجز، وذلك لا يوجد في غيره، والقصد بالتكبيرة
209

العبادة ففرق فيه بين العجز والقدرة كأفعال الصلاة، والقصد بالنكاح تمليك
ما يقصد بالنكاح، والعجمية كالعربية في ذلك، فإن فصل بين القبول والايجاب
بخطبة بأن قال الولي، زوجتك. وقال الزوج: بسم الله والحمد لله والصلاة على
رسول الله قبلت نكاحها، ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول الشيخ أبى حامد الأسفرايني رحمه الله: إنه يصح لان
الخطبة مأمور بها للعقد فلم تمنع صحته كالتيمم بين صلاتي الجمع.
(والثاني) لا يصح، لأنه فصل بين الايجاب والقبول فلم يصح كما لو فصل
بينهما بغير الخطبة، ويخالف التيمم فإنه مأمور به بين الصلاتين والخطبة مأمور
بها قبل العقد.
(فصل) وإذا انعقد العقد لزم ولم يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الشرط
لان العادة في النكاح أنه يسئل عما يحتاج إليه قبل العقد فلا حاجة فيه إلى الخيار
بعده، والله تعالى أعلم.
(الشرح) الأحكام: لا ينعقد النكاح عندنا إلا بلفظ النكاح أو التزويج،
وهما اللفظان اللذان ورد بهما القرآن، وهو قوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح
آباؤكم من النساء) وقوله تعالى (فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها) فأما لفظ
البيع والتمليك والهبة والإجارة وغيرها من الألفاظ فلا ينعقد به النكاح، وبه
قال عطاء وابن المسيب والزهري وربيعة وأحمد بن حنبل.
وقال أبو حنيفة: ينعقد النكاح بكل لفظ يقتضى التمليك كالبيع والتمليك
والهبة والصدقة، وفى لفظ الإجارة عنه روايتان، ولا ينعقد بالإباحة والتحليل
وقال مالك إن ذكر المهر مع الألفاظ التي تقتضي التمليك انعقد بها النكاح، وإن
لم يذكر المهر لم ينعقد بها النكاح.
دليلنا قوله تعالى (وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن
يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين) فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم
مخصوص بالنكاح بلفظ الهبة، وأن غيره لا يساويه، ولأنه لفظ ينعقد به غير
النكاح فلم ينعقد به النكاح كالإجارة والإباحة
210

(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه: والفرج محرم قبل العقد فلا يحل أبدا
إلا بأن يقول الولي: قد زوجتكها أو أنكحتكها، ويقول الزوج: قد قبلت
التزويج أو النكاح. أو قال أنكحتك ابنتي، فقال الزوج: قبلت النكاح والتزويج
صح ذلك، لأنه قد وجد الايجاب والقبول في النكاح والتزويج، فإن قال الولي
زوجتك ابنتي أن أنكحتك، فقال الزوج: قبلت، ولم يقل النكاح ولا التزويج
فقد قال الشافعي رضي الله عنه في موضع: يصح. وقال في موضع لا يصح،
واختلف أصحابنا فيها على ثلاث طرق، فمنهم من قال. لا يصح قولا واحدا
وحيث قال يصح أراد إذا قبل الزوج قبولا تاما.
ومنهم من قال يصح قولا واحدا، وحيث شرط الشافعي رضي الله عنه لفظ
النكاح أو التزويج في القبول فأراد على سبيل التأكيد، وهذا لا يصح لأنه قال
لا ينعقد النكاح، فقال أكثر أصحابنا: هي على قولين، وهذا اختيار الشيخ
أبي إسحاق وابن الصباغ.
(أحدهما) يصح، وهو قول أبى حنفية وأحمد لان قوله قبلت إذا ورد على
وجه الجواب عن إيجاب متقدم كان المراد به قبول ما تقدم، فصح كما لو قال
بعتك داري أو وهبتكها، فقال قبلت، فإنه يصح.
(والثاني) لا يصح، قال الشيخ أبو حامد وهو الصحيح، لأن الاعتبار في
النكاح أن يحصل الايجاب والقبول فيه بلفظ النكاح أو التزويج، فإذا عرى
القبول منه لم يصح كما لو قال رجل لآخر زوجت ابنتك من فلان؟ فقال الولي
نعم، وقال الزوج. قبلت النكاح، فإن هذا لا يصح بلا خلاف. وان قال الولي
زوجتك ابنتي، فقال الزوج نعم. قال الصيمري. هو كما لو قال الزوج. قبلت
على الطرق الثلاث.
وقال الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا لا يصح قولا واحدا. وإن قال الزوج
زوجني ابنتك. فقال الولي. زوجتك صح ذلك، ولا يفتقر الزوج إلى أن يقول
قبلت نكاحها، وقد وافقنا أبو حنيفة ههنا وخالفنا في البيع، لما روى أن الذي
تزوج الواهبة قال للنبي صلى الله عليه وسلم زوجنيها يا رسول الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم
211

زوجتكها ولم يأمره بالقبول بعد هذا. وإن قال الزوج أتزوجني ابنتك، فقال
الولي زوجتك لم يصح حتى يقول الزوج قبلت التزويج أو النكاح، لان قوله:
أتزوجني استفهام ليس باستدعاء، ولو قال الولي أتستنكحها؟ فقال الزوج قد
استنكحت أو قد تزوجت لم يكن بد من قول الولي بعد هذا زوجتك أو أنكحتك
لان ما تقدم إنما كان استفهاما ولم يكن تقريرا.
(فرع) وإن عقد النكاح بالعجمية فاختلف أصحابنا فيه، فقال الشيخ
أبو حامد: إن كانا يحسنان العربية لم يصح العقد بالعجمية وجها واحدا. وإن كانا
لا يحسنان العربية فهل يصح العقد بالعجمية؟ فيه وجهان، المذهب أنه يصح.
وقال القاضي أبو الطيب: إن كانا لا يحسنان العربية صح العقد بالعجمية وجها
واحدا، وإن كانا يحسنان بالعربية فهل يصح العقد بالعجمية؟ فيه وجهان وقال
المصنف فيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) لا يصح العقد بالعجمية لقوله صلى الله عليه وسلم: استحللتم
فروجهن بكلمة الله، وكلمة الله إنما هي بالعربية (والثاني) إن كانا يحسنان العربية لم
يصح العقد بالعجمية. وإن كانا لا يحسنان العربية صح بالعجمية كما قلنا في تكبيرة
الاحرام (والثالث) يصح العقد بالعجمية بكل حال. لان لفظ العجمية يأتي
على ما يأتي عليه العربية في ذلك.
وإن كان أحدهما يحسن العربية ولا يحسن العجمية، والآخر يحسن العجمية
ولا يحسن العربية، وقلنا يصح العقد بالعجمية صح العقد بينهما شرط أن يفهم
القائل أن الولي أوجب له النكاح، لأنه إذا لم يفهم لا يصح أن يقبل، وهكذا
إذا حضر شاهدان أعجميان وعقد بالعربية، أو عربيان وعقد بالعجمية فلا يصح
الا إذا فهما أن العاقدين عقد النكاح، لان الغرض بالشاهدين معرفتهما بالعقد
وتحملهما الشهادة.
(فرع) وإذا وكل الزوج من يقبل له النكاح، أو قبل الأب لابنه الصغير،
فإن النكاح لا يصح حتى يسمى الزوج في الايجاب والقبول، فيقول الولي زوجت
فلانة فلانا ويسمى الزوج، ويقول القائل من قبل الزوج قبلت النكاح لفلان
ويسمى الزوج بخلاف الوكيل في الشراء فإنه لا يجب ذكر الموكل، لان النكاح
212

لا يقبل نقل الملك فيه. أي أن الرجل لا يجوز أن يتزوج امرأة ثم ينتقل نكاحها
منه إلى غيره. والملك في المال من قبل النقل. أي أنه يجوز أن يتملك الرجل عينا
ثم ينتقل ملكها منه إلى غيره قال الطبري: ولهذا قال أصحابنا: لو قال رجل
لآخر وكلتك أن تزوج ابنتي من زيد فزوجها من وكيل زيد صح لأنه في الحقيقة
زوجها من زيد. ولو قال وكلتك أن تبيع سيارتي هذه من زيد فباعها من وكيل
زيد لم يصح لهذا المعنى.
فإذا انعقد النكاح لزم ولم يثبت فيه خيار المجلس ولا خيار الثلاث. وقد
مضى تفصيل ذلك في البيع والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب ما يحرم من النكاح وما لا يحرم
من ارتد عن الدين لم يصح نكاحه. لان النكاح يراد للاستمتاع ولا يوجد
ذلك في نكاح المرتد. ولا يصح نكاح الخنثى المشكل لأنه ان تزوج امرأة لم
يؤمن أن يكون امرأة. وان تزوج رجلا لم يؤمن أن يكون رجلا ولا يصح نكاح
المحرم لما بيناه في الحج.
(فصل) ويحرم على الرجل من جهة النسب الام والبنت والأخت والعمة
والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت لقوله (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم
وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت) ومن حرم عليه مما ذكرناه
بنسب حرم عليه بذلك النسب كل من يدلى به. وان بعد فتحرم عليه الام وكل من
يدلى بالأمومة من الجدات من الأب والام وان علون. تحرم عليه البنت وكل
من ينتسب إليه بالبنوة من بنات الأولاد وأولاد الأولاد وان سفلن وتحرم عليه
الأخت من الأب والأخت من الام والأخت من الأب والام. وتحرم عليه
العمة وكل من يدلى إليه بالعمومة من أخوات الآباء والأجداد من الأب والام
أو من الأب أو من الام وان علون. وتحرم عليه الخالة وكل من يدلى إليه
بالخؤولة من أخوات الجدات من الأب والام أو من الأب أو من الام وان علون
213

ويحرم عليه بنت الأخ وكل من ينتسب إليه ببنوة الأخ من بنات أولاده وأولاد
أولاده وإن سفلن، وتحرم عليه بنت الأخت وكل من ينتسب إليه ببنوة الأخت
من أولادها وأولاد أولادها وان سفلن، لان الاسم يطلق على ما قرب وبعد،
والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى (يا بني آدم) وقوله تعالى (ملة أبيكم إبراهيم)
وقوله سبحانه وتعالى (ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب) فأطلق عليهم اسم
الاباء مع البعد، وقال صلى الله عليه وسلم لقوم من أصحابه يرمون (ارموا فإن
أباكم إسماعيل عليه السلام كان راميا) فسمى إسماعيل أباهم مع البعد، ولان من
بعد منهم كمن قرب في الحكم، والدليل عليه أن ابن الابن كالابن، والجد كالأب
في الميراث والولاية والعتق بالملك ورد الشهادة، فلأن يكون كالابن والأب في
التحريم ومبناه على التغليب أولى
(الشرح) لا يصح نكاح المرتد والمرتدة لان القصد بالنكاح الاستمتاع
ولما كان دمهما مهدرا ووجب قتلهما فلا يتحقق الاستمتاع، ولان الرحمة تقتضي
إبطال النكاح قبل الدخول فلا ينعقد النكاح معها كالرضاع، ولا يصح نكاح
الخنثى المشكل لأنه لا يدرى هل هو رجل أم امرأة، فان حمل هذا الخنثى تبينا
أنه امرأة، وأن نكاحه كان باطلا لان الحمل دليل على الأنوثة من طريق القطع
(مسألة) النساء اللائي نص القرآن على تحريمهن أربع عشرة امرأة، ثلاث
عشرة بقوله تعالى (حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم) الآية، وواحدة في قوله
تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) فسبع منهن حرمت بالنسب وثنتان
بالرضاع وأربع بالمصاهرة وواحدة بالجمع، فالسبع المحرمات بالنسب: الام والبنت
والأخت والعمة والخالة وبنت الأخ وبنت الأخت للآية: حرمت عليكم أمهاتكم الخ
فأما الام فيحرم عقد النكاح عليها ووطئها.
قال الصيمري: ومن أصحابنا من قال تحريم وطئها علم بالعقل، وليس بشئ
وسواء في التحريم الا حقيقة وهي التي ولدته، والام مجازا وهي جدته أم أمه
وأم أبيه، وكذلك كل جد من قبل أبيه أو أمه وان علت، وأما البنت فتحرم عليه
التي يقع عليها اسم البنت حقيقة وهي بنته لصلبه، والبنت التي يقع عليها اسم
214

البنت مجازا وهي بنت بنته وبنت ابنه وإن سفلت. وأما الأخت فتحرم عليه
سواء أكانت لأب وأم أو لأب أو لام لعموم قوله تعالى (وأخواتكم) وأما
العمة فيحرم عليه من يقع عليه اسم العمة حقيقة وهي أخت أبيه، سواء كانت
أخته لأبيه وأمه أو لأبيه أو لامه، ويحرم عليه من يقع عليها اسم العمة مجازا
وهي أخت لجد من أجداده من قبل أبيه أو من قبل أمه
وأما الخالة فيحرم عليه نكاح من يقع عليه اسم الخالة حقيقة. وهي أخت
أمه لأبيها وأمها أو لأبيها أو لامها، ويحرم عليه من يقع عليها اسم الخالة مجازا
وهي أخت كل جدة له من قبل أمه وأبيه.
وأما بنت الأخ فتحرم عليه نكاح بنت أخيه حقيقة وهي بنت أخيه لصلبه
ويحرم عليه بنت أخيه مجازا وهي كل من تنسب إلى أخيه بالبنوة من قبل أبنائه
وبناته وإن سفلت. وأما بنت الأخت فتحرم عليه بنت أخته حقيقة، وهي بنت
أخته لصلبها، ويحرم عليه بنت أخته مجازا، وهي كل من ينسب إلى أخته بالبنوة
من بنات أبنائها وبناتها وإن سفلن.
وهل يحرم عليه كل من وقع عليها الاسم مجازا بالاسم أو بالقياس على من
وقع عليها الاسم حقيقة؟ فيه وجهان. الصحيح أنه يحرم بوقوع الاسم عليها
لقوله تعالى (يا بني آدم) وقوله تعالى (ملة أبيكم إبراهيم) وقوله (ملة آبائي
إبراهيم وإسحاق ويعقوب) فأطلق عليهم اسم البنوة والأبوة مع البعد
إذا ثبت هذا فقد عبر بعض أصحابنا عن المحرمات بالنسب فقال (يحرم على
الرجل أصوله وفصوله، وفصول أول أصوله وأول فصل من كل أصل بعده
وهي عبارة عن حسبه، لان أصوله من ينسب الرجل إليه بالبنوة، ومن
الأمهات وفصوله من ينسب إلى الرجل بالبنوة، وفصول أول أصوله الأخوات
وأولادهم وبنات الاخوة، وأول فصل من كل أصل بعده العمات والخالات
فاحترز عن بنات العمات وبنات الخالات وأول فصل من كل أصل بعده.
215

(مسألة) وأما الاثنتان المنصوص على تحريمهما بالرضاع فالأم والأخت
لقوله تعالى (وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) فمتى كان للرجل
زوجة وانبثق منها لبن من وطئه فأرضعت به طفلا، له دون الحولين خمس رضعات
متفرقات صار كالولد لهما من النسب، وصارا كالوالدين له من النسب في تحريم
النكاح وجواز الخلوة، ويحرم عليها نكاحه ونكاح أولاده وأولاد أولاده وإن
سفلوا لأنه ولدهما، ويحرم على الرضيع نكاح الام من الرضاع الحقيقة والمجاز
والأخت من الرضاع والعمة من الرضاع الحقيقة والمجاز، وبنت الأخت من
الرضاع الحقيقة والمجاز على ما ذكرناه في المحرمات من النسب، لان الله تعالى
نص على السبع المحرمات بالنسب، ونص على الام والأخت من الرضاع لينبه
بهما على من تقدم ذكرهن من المحرمات والنسب. وروت عائشة أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب. وفى رواية ما يحرم من
الولادة، ويقال: الرضاع بكسر الراء وفتحها، فأما الرضاعة بالهاء فبفتح الراء
لا غير. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتحرم عليه من جهة المصاهرة أم المرأة دخل بها أو لم يدخل،
لقوله تعالى ((وأمهات نسائكم) ويحرم عليه كل من يدلى إلى امرأته بالأمومة من
الجدات من الأب والام لما بيناه في الفصل قبله، ويحرم عليه ابنة المرأة بنفس
العقد تحريم جمع، لأنه إذا حرم عليه الجمع بين المرأة وأختها، فلان يحرم الجمع
بين المرأة وابنتها أولى. فإن بانت الام قبل الدخول حلت له البنت، وإن دخل
بالأم حرمت عليه البنت على التأبيد، لقوله تعالى (وربائبكم اللاتي في حجوركم
من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم،
وتحرم عليه كل من ينتسب إلى امرأته بالبنوة من بنات أولادها وأولاد أولادها
وإن سفلن من وجد منهن ومن لم يوجد، كما تحرم البنت وتحرم عليه حليلة الابن
لقوله تعالى (وحلائل أبنائكم) وتحرم عليه حليلة كل من ينتسب إليه بالبنوة من
216

بنى الأولاد وأولاد الأولاد لما بيناه، وتحرم عليه حليلة الأب لقوله تعالى (ولا
تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) وتحرم عليه حليلة كل من يدلى إليه بالأبوة
من الأجداد لما ذكرناه.
ومن حرم عليه بنكاحه أو بنكاح أبيه أو ابنه حرم عليه بوطئه أو وطئ أبيه أو ابنه في ملك
أو شبهة لان الوطئ معنى تصير به المرأة فراشا فتعلق به تحريم المصاهرة كالنكاح ولان
الوطئ في إيجاب التحريم آكد من العقد، بدليل أن الربيبة تحرم بالعقد تحريم
جمع وتحرم بالوطئ على التأبيد، فإذا ثبت تحريم المصاهرة بالعقد فلان يثبت
بالوطئ أولى، واختلف قوله في المباشرة فيما دون الفرج بشهوة في ملك أو شبهة
فقال في أحد القولين هو كالوطئ في التحريم لأنها مباشرة لا تستباح إلا بملك
فتعلق بها تحريم المصاهرة كالوطئ، والثاني لا يحرم بها ما يحرم بالوطئ، لقوله
تعالى (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) ولأنها مباشرة لا توجب العدة
فلا يتعلق بها التحريم كالمباشرة بغير شهوة، وإن تزوج امرأة ثم وطئ أمها أو
بنتها أو وطئها أبوه أو ابنه بشبهة انفسخ النكاح لأنه معنى يوجب تحريما مؤبدا
فإذا طرأ على النكاح أبطله كالرضاع.
(الشرح) الأربع المنصوص على تحريمهن بالمصاهرة، فأما الزوجة والربيبة
وحليلة الابن وحليلة الأب لقوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء)
وقوله تعالى (وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم
بهن) فأما أم الزوجة فإن الرجل إذا عقد النكاح على امرأة حرمت عليه كل أم
لها حقيقة أو مجازا من جهة النسب أو من جهة الرضاع سواء دخل بها أو لم يدخل
وبه قال العلماء كافه الا ما روى عن علي رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: لا تحرم
عليه الا بالدخول بالبنت كالربيبة، وبه قال مجاهد.
وقال زيد: الموت يقوم مقام الدخول. دليلنا قوله تعالى (وأمهات نسائكم)
وبالعقد عليها تدخل في اسم نساء العاقد عليها وروى عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم من نكح امرأة طلقها قبل الدخول
بها حرمت عليه أمها ولم تحرم عليه بنتها.
217

وأما الربيبة فهي بنت زوجته فإذا عقد النكاح على امرأة حرمت عليه ابنتها
حقيقة ومجازا من النسب والرضاع ثم الجمع، فإن دخل بالأم حرمت عليه ابنتها
على التأبيد، وإن ماتت الزوجة أو طلقها قبل الدخول بها جاز له أن يتزوج
بابنتها، وسواء كانت الربيبة في حجره وكفالته أو لم تكن، وبه قال عامه أهل العلم
وقال داود: إنما تحرم عليه الربيبة إذا كانت في حجره وكفالته، فإن لم تكن في
حجره وكفالته لم تحرم عليه، وإن دخل بأمها. وروى ذلك عن علي بن أبي طالب
وقال زيد بن ثابت: تحرم عليه إذا دخل بأمها أو ماتت.
دليلنا ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال (من نكح امرأة ثم طلقها قبل الدخول بها حرمت عليه أمها
ولم تحرم عليه ابنتها).
فأما التربية فلا تأثير لها في التحريم كتربية الأجنبية، وأما الآية فلم يخرج
ذلك مخرج الشرط، وإنما وصفها بذلك تعريفا لها، كأن العادة أن الربية تكون
في حجره، وأما حليلة الابن، فإن الرجل إذا عقد النكاح على امرأة حرمت على
أب الزوج سواء دخل بها الزوج أو لم يدخل بها لقوله تعالى (وحلائل أبنائكم
الذين من أصلابكم) وبالعقد عليها يقع عليها اسم الحليلة، وسواء كان ابنه
حقيقة أو مجازا، وسواء كان ابنه من الرضاع حقيقة أو مجازا لما ذكرناه في
المحرمات من النسب.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى (وحلائل أبنائكم الآية) فدليل خطابه يدل
على أنه لا تحرم حلائل الأبناء من الرضاع. فالجواب أن دليل الخطاب إنما يكون
حجه إذا لم يعارضه نص وههنا نص أقوى منه فقدم عليه، وهو قوله صلى الله
عليه وسلم (يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة) رواه أبو داود وغيره من
حديث عائشة رضي الله عنهما.
وأما حليلة الأب فإن الرجل إذا تزوج امرأة حرمت على ابن الزوج سواء
دخل بها أو لم يدخل بها لقوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء
الا ما قد سلف) ولا فرق بين الأب حقيقة أو مجازا، وسواء كان الأب من
الرضاع حقيقة أو مجازا لما ذكرناه في المحرمات من النسب والله أعلم.
218

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن زنى بامرأة لم يحرم عليه نكاحها لقوله تعالى (وأحل لكم
ما وراء ذلكم) وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن
رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها، فقال لا يحرم الحرام الحلال إنما
يحرم ما كان بنكاح ولا تحرم بالزنا أمها ولا ابنتها ولا تحرم هي على ابنه ولا على
أبيه للآية والخبر، ولأنه معنى لا تصير به المرأة فراشا فلم يتعلق به تحريم المصاهرة
كالمباشرة بغير شهوة، وإن لاط بغلام لم تحرم عليه أمه وابنته للآية والخبر، وإن زنى
بامرأة فأتت منه بابنة فقد قال الشافعي رحمه الله أكره أن يتزوجها، فان تزوجها
لم أفسخ، فمن أصحابنا من قال: إنما كره خوفا من أن تكون منه، فعلى هذا إن
علم قطعا أنها منه بأن أخبره النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه لم تحل له.
ومنهم من قال: إنما كره ليخرج من الخلاف، لان أبا حنيفة يحرمها، فعلى
هذا لو تحقق أنها منه لم تحرم، وهو الصحيح، لأنها ولادة لا يتعلق بها ثبوت
النسب فلم يتعلق بها التحريم، كالولادة لما دون ستة أشهر من وقت الزنا،
واختلف أصحابنا في المنفية باللعان، فمنهم من قال: يجوز للملاعن نكاحها
لأنها منفية عنه فهي كالبنت من الزنا، ومنهم من قال: لا يجوز للملاعن نكاحها
لأنها غير منفية عنه قطعا، ولهذا لو أقر بها ثبت النسب.
(الشرح) حديث عائشة أخرجه البيهقي في السنن وضعفه وأخرجه ابن ماجة
عن ابن عمر، قال العلقمي: قال الدميري: هذا يدل لمذهب الشافعي أن الزنا
لا يثبت حرمة المصاهرة حتى يجوز للزاني أن ينكح أم المزني بها، وقد ورد في
هذا المعنى أحاديث لكل واحد منها مدلوله عند المخالفين فعن أبي هريرة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم (الزاني المجلود لا ينكح إلا مثله) رواه أحمد
وأبو داود، وقال في الفتح رجاله ثقات.
وعن عبد الله بن عمرو (أن رجلا من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم
في امرأة يقال لها: أم مهزول كانت تسافح وتشترط له أن تنفق عليه فاستأذن
219

رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ذكر له أمرها فقرأ عليه نبي الله صلى الله عليه
وسلم (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) رواه أحمد والطبراني في الكبير
والأوسط، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجال أحمد ثقات.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن مرثد بن أبي مرثد الغنوي كان
يحمل الأسارى بمكة، وكان بمكة بغى يقال لها عناق وكانت صديقته قال: فجئت
النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقا؟ قال: فسكت عنى
فنزلت (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) فدعاني فقرأها على وقال:
لا تنكحها) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه. ويمكن الجمع بين الأحاديث
بأن المنع لمن كانت مستمرة في مزاولة البغاء يدل على هذا ما روى عن ابن عباس
عند أبي داود والنسائي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال (إن
امرأتي لا تمنع يد لامس قال: غربها، قال: أخاف أن تتبعها نفسي قال فاستمتع
بها) قال المنذري: ورجال إسناده يحتج بهم في الصحيحين.
وذكر الدارقطني أن الحسن بن واقد تفرد به عن عمارة بن أبي حفصة وأن
الفضل بن موسى السيناني تفرد به عن الحسن بن واقد، وأخرجه النسائي من
حديث عبد الله بن عبيد الله بن عمير عن ابن عباس وبوب عليه في سننه تزويج
الزانية وقال: هذا الحديث ليس بنابت، وذكر أن المرسل فيه أولى بالصواب.
وقال الإمام أحمد: لا تمنع يد لامس تعطى من ماله. قلت: فإن أبا عبيدة
يقول: من الفجور، قال ليس عندنا إلا أنها تعطى من ماله، ولم يكن النبي صلى
الله عليه وسلم ليأمره بإمساكها وهي تفجر، وسئل عنه ابن الاعرابي فقال: من
الفجور. وقال الخطابي معناه الزانية وأنها مطاوعه لمن أرادها لا ترد يده. وعن
جابر عند البيهقي بنحو حديث ابن عباس هذا، وفى الأدلة التي ساقوها ما يمنع
أن تتزوج المرأة من ظهر منه الزنا، والرجل أن يتزوج من ظهر منها الزنا ويدل
على ذلك قوله تعالى (وحرم ذلك على المؤمنين فإنه صريح في التحريم. قال ابن
رشد: اختلفوا في قوله تعالى (وحرم ذلك على المؤمنين) هل خرج مخرج الذم
220

أو مخرج التحريم، وهل الإشارة في قوله ذلك إلى الزنا أو إلى النكاح، قال وإنما
صار الجمهور إلى حمل الآية على الذم لا على التحريم لحديث ابن عباس الذي
سقناه. وقد حكى الروياني عن علي وابن عباس وابن عمر وجابر وسعيد بن
المسيب وعروة والزهري والعترة ومالك والشافعي وربيعة وأبى ثور أنها لا تحرم
على من زنى بها لقوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم) وقوله صلى الله عليه وسلم
(لا يحرم الحلال الحرام) أخرجه ابن ماجة من حديث ابن عمر
وحكى عن الحسن البصري انه يحرم على الرجل نكاح من زنى بها على التأبيد
واستدل بالآية.
وحكى أيضا عن قتادة وأحمد إلا إذا تابا لارتفاع سبب التحريم، وأجاب عنه
في البحر بأنه أراد بالآية الزاني المشرك، واستدل بقوله تعالى (أو مشركة) قال
وهي تحرم على الفاسق المسلم بالاجماع، ولا يخفى ما في هذا من تأويل يعطل فائدة
الآية إذ منع النكاح مع الشرك والزنا حاصل بغير الآية، ويستلزم أيضا امتناع
عطف المشرك والمشركة على الزاني والزانية.
وقال في البيان: إذا زنى بامرأة لم ينتشئ بهذا الزنا تحريم المصاهرة. فلا
يحرم على الزاني نكاح المرأة التي زنى بها ولا أمها ولا ابنتها ولا تحرم الزانية على
أبى الزاني ولا على أبنائه، وكذلك إذا قبلها بشهوة حراما، أو لمسها أو نظر إلى
فرجها بشهوة حراما.
ثم قال وانفرد الأوزاعي وأحمد رحمه الله عليهما انه إذا لاط بغلام حرم عليه
بنته وأمه. وقال أبو حنيفة: إذا قبل امرأة بشهوة حراما أو لمسها بشهوة حراما
أو كشف عن فرجها ونظر إليه تعلق به تحريم المصاهرة، وان قبل أم امرأته
انفسخ به نكاح امرأته. وإن قبل رجل امرأة ابنه انفسخ نكاح الأب. دليلنا
قوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم) وقوله تعالى (وهو الذي خلق من الماء
بشرا فجعله نسبا وصهرا) فأثبت تعالى الصهر في الموضع الذي أثبت فيه النسب.
فلما لم يثبت بالزنا النسب فلم يثبت به الصهر ولحديث عائشة وابن عمر مرفوعا
عند البيهقي وابن ماجة (لا يحرم الحرام الحلال) والعقد قبل الزنا حلال. وروى
أن عمر رضي الله عنه جلد رجلا وامرأة وحرص أن يجمع بينهما في النكاح.
221

وسئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل زنى بامرأة وأراد ان يتزوجها فقال
يجوز، أرأيت لو سرق رجل من كرم رجل ثم ابتاعه أكان يجوز؟
(فرع) فإن زنى بامرأة فأتته بابنة يمكن أن تكون منه بأن تأتى بها لستة
أشهر من وقت الزنا فلا خلاف بين أهل العلم أنه لا يثبت نسبها من الزاني ولا
يتوارثان، وأما نكاحه لها فقد قال الشافعي رضي الله عنه أكره له ان يتزوجها
فإن تزوجها لم أفسخ،
واختلف أصحابنا في العلة التي لأجلها كره الزاني ان يتزوج بها، فمنهم من
قال إنما كره ذلك ليخرج من الخلاف، فإن من الناس من قال لا يجوز له نكاحها
فهل هذا لو تحقق انها من مائه بأن اخبره النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه انها من
مائه لم يحرم عليه نكاحها، لأن علة الكراهة حصول الاختلاف لا غير. ومنهم
من قال إنما كره له ذلك بإمكان أن يكون من مائه لأنه لم يتحقق ذلك، فلو تحقق
انها من مائه بأن اخبره النبي صلى الله عليه وسلم في زمانه انها من مائه لم يجز له
تزويجها، هذا مذهبنا وبه قال مالك.
وقال أبو حنيفة واحمد لا يجوز له تزويجها، واختلف أصحاب أبي حنيفة في
علة تحريمها، فقال المتقدمون من أصحابه إنما حرم نكاحها لكونها ابنة من زنى
بها لا انها ابنته من الزنا، وإنما الزنا عنده ثبت به تحريم المصاهرة على ما مضى.
فعلى هذا لا تحرم على آبائه ولا أبنائه.
وقال المتأخرون من أصحابه إنما حرم نكاحها لكونها مخلوقة من مائه، فعلى هذا
تحرم على آبائه وأبنائه، وهذا أصح عندهم، دليلنا أنها منفية عنه قطعا بدليل انه
لا يثبت بينهما التوارث ولا حكم في أحكام الولادة، فلم يحرم عليه نكاحها كالأجنبية
وان أكره رجل امرأة على الزنا فأتت منه بابنة فحكمه حكم ما لو طاوعته على
الزنا لأنه زنا في حقه.
(فرع) وان أتت امرأة بابنة فنفاها باللعان فإن كان قد دخل بالزوجة لم
يجز له التزوج بابنتها لأنها بنت امرأة دخل بها، وان لم يدخل بالأم فهل يجوز له
نكاح الابنة؟ فيه وجهان (أحدهما) يجوز له تزويجها لأنها منفية عنه فهي
كالابنة من الزنا.
222

(والثاني) لا يجوز له تزويجها لأنها غير منفية عنه قطعا، بدليل أنه لو أقر
بها لحقته نسبتها، والابنة من الزنا لو عاد الزاني فأقر بنسبها لم يلحقه نسبها.
(فرع) وإن زنى رجل بزوجة رجل لم ينفسخ نكاحها، وبه قال عامة العلماء
وقال علي بن أبي طالب: ينفسخ نكاحها وبه قال الحسن البصري. دليلنا حديث
ابن عباس في الرجل الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي لا ترد يد
لامس، وقد مضى تخريجه في أول الفصل، فكنى الرجل عن الزنا بقوله (لا ترد
يد لامس) ولم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بانفساخ نكاحها.
(فرع) ولو قال رجل: أنا أحيط علما أن لي في هذه البلدة امرأة يحرم على
نكاحها بنسب أو رضاع أو صهر ولا أعلم عينها، جاز له أن يتزوج من تلك البلدة
لان في المنع من ذلك مشقة، كما لو كان في يد رجل صيد فانفلت واختلط بصيد
ناحية ولم يتميز، فإنه لا يحرم على الناس أن يصطادوا من تلك الناحية، وان
اختلطت هذه المرأة بعدد محصور من النساء قل ذلك العدد أو كثر حرم عليه أن
يتزوج بواحدة منهن، لأنه لا مشقة عليه في اجتناب التزويج من العدد المحصور
هكذا أفاده ابن الحداد المصري من أصحابنا. والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويحرم عليه أن يجمع بين أختين في النكاح لقوله عز وجل (وأن
تجمعوا بين الأختين) ولان الجمع بينهما يؤدى إلى العداوة وقطع الرحم، ويحرم
عليه أن يجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها لما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال (لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها) ولأنهما امرأتان لو كانت أحدهما
ذكرا لم يحل له نكاح الأخرى، فلم يجز الجمع بينهما في النكاح كالأختين، فإن جمع
بين الأختين أو بين المرأة وعمتها أو بين المرأة وخالتها في عقد واحد بطل نكاحهما
لأنه ليست إحداهما بأولى من الأخرى فبطل نكاحهما، وان تزوج إحداهما بعد
الأخرى بطل نكاح الثانية لأنها اختصت بالتحريم، وان تزوج إحداهما ثم طلقها
فإن كان طلاقا بائنا حلت له الأخرى لأنه لم يجمع بينهما في الفراش، وإن كان
رجعيا لم تحل لأنها باقية على الفراش.
223

وان قال أخبرتني بانقضاء العدة وأنكرت المرأة لم يقبل قوله في اسقاط النفقة
والسكنى لأنه حق لها، ويقبل قوله في جواز نكاح أختها لأنه الحق لله تعالى،
وهو مقلد فيما بينه وبينه، فان نكح وثني وثنية ودخل بها أسلم وتزوج بأختها
في عدتها لم يصح.
وقال المزني: النكاح موقوف على اسلامها، فإن لم تسلم حتى انقضت العدة
صح، كما يقف نكاحها على اسلامها. وهذا خطأ لأنها جارية إلى بينونة فلم يصح
نكاح أختها كالرجعية، ويخالف هذا نكاحها، فإن الموقوف هناك الحل، والنكاح
يجوز ان يقف حله ولا يقف عقده، ولهذا يقف حل نكاح المرتدة على انقضاء
العدة ولا يقف نكاحها على الاسلام، ويقف حل نكاح الرجعية على العدة ولا
يقف نكاح أختها على العدة.
(الشرح) حديث ابن هريرة رواه أحمد والشيخان وأصحاب السنن الأربعة
والدارقطني. قال ابن عبد البر: أكثر طرقه متواترة عنه. وزعم قوم انه تفرد
به وليس كذلك. قلت: رواه أحمد والبخاري والترمذي من حديث جابر، وقال
البيهقي عن الشافعي: ان هذا الحديث لم يرو من وجه يثبته أهل الحديث الا عن
أبي هريرة، وما ذكرناه من رواية جابر يدفعه. قال البيهقي: هو كما قال الشافعي
قد جاء من حديث على وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو
وأنس وأبي سعيد وعائشة، وليس فيها شئ على شرط الصحيح، وإنما اتفقنا
على اثبات حديث أبي هريرة. وأخرج البخاري رواية عاصم عن الشعبي عن جابر
وبين الاختلاف على الشعبي فيه، قال والحفاظ يرون رواية عاصم خطأ والصواب
رواية ابن عون وداود بن أبي هند اه‍.
قال الحافظ بن حجر: وهذا الاختلاف لم يقدح عند البخاري لان الشعبي
أشهر بجابر منه بأبي هريرة، وللحديث طريق أخرى عن جابر بشرط الصحيح
أخرجها النسائي من طريق ابن أبي جريج عن أبي الزبير عن جابر وقول من
نقل عنهم البيهقي تضعيف حديث جابر معارض بتصحيح الترمذي وابن حبان
وغيرهما له وكفى بتخريج البخاري له موصولا قوة
224

قال ابن عبد البر: كان بعض أهل الحديث يزعم أنه لم يرو هذا الحديث غير
أبي هريرة، يعنى من وجه يصح، وكأنه لم يصح حديث الشعبي عن جابر وصححه
عن أبي هريرة والحديثان جميعا صحيحان.
قال ابن حجر. وأما من نقل البيهقي أنهم رووه من الصحابة غير هذين فقد
ذكر مثل ذلك الترمذي بقوله، وفى الباب لكن لم يذكر ابن مسعود ولا ابن
عباس ولا أنسا وزاد بدلهم أبا موسى وأبا أمامة وسمرة، قال وقع لي أيضا من
حديث أبي الدرداء ومن حديث عتاب بن أسيد ومن حديث سعد بن أبي وقاص
ومن حديث زينب امرأة ابن مسعود. قال وأحاديثهم موجودة عند ابن أبي شيبة
وأحمد وأبى داود والنسائي وابن ماجة وأبى يعلى والبزار والطبراني وابن حبان
وغيرهم، ولولا خشية التطويل لأوردتها مفصله. قال ولكن في لفظ حديث
ابن عباس عند أبي داود أنه كره أن يجمع بين المرأة على العمة والخالة وقال إنكن
إذا فعلتن قطعتن أرحامكن. اه‍
وأخرج أبو داود في المراسيل عن عيسى بن طلحة قال (نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن أن تنكح المرأة على قرابتها مخافة القطيعة) وأخرجه
أيضا ابن أبي شيبة. وأخرج الخلال من طريق إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة
عن أبيه عن أبي بكر وعثمان أنهم كانوا يكرهون الجمع بين القرابة مخافة الضغائن
ولكن الأحاديث التي مضى لنا ذكرها تدل على تحريم الجمع بين من ذكر في حديث
أبي هريرة، لان ذلك هو معنى النهى حقيقة. وقد حكاه الترمذي عن عامة أهل
العلم. وقال لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك وكذلك حكاه الشافعي عن جميع المفتين
وقال لا اختلاف بينهم في ذلك،
وقال ابن المنذر لست أعلم في منع ذلك اختلافا اليوم، وإنما قال بالجواز فرقة
من الخوارج. وهكذا حكى الاجماع القرطبي واستثنى الخوارج. قال ولا يعتد
بخلافهم. وهكذا نقل الاجماع ابن عبد البر ولم يستثن، ونقل الاجماع ان حزم
واستثنى عثمان البتي. ونقله النووي في الروضة والمنهاج واستثنى في الروضة طائفة
من الخوارج والشيعة. ونقله ابن دقيق العيد عن جمهور العلماء ولم يعين المخالف
أما أحكام الفصل فإن المنصوص على تحريمها بالجمع فهي أخت الزوجة،
225

فلا يجوز للرجل أن يجمع بين الأختين في النكاح، سواء إن كانتا أختين لأب وأم
أو لأب أو لام، وسواء كانتا أختين من النسب أو من الرضاع لقوله تعالى
(وأن تجمعوا بين الأختين) الآية، ولان العادة جارية ان الرجل إذا جمع ضرتين
تباغضا وتحاسدا وتتبعت كل واحدة عيوب الأخرى وعوراتها، فلو جوزنا الجمع
بين الأختين لأدى ذلك إلى تباغضهما وتحاسدهما فيكون في ذلك قطع الرحم
بينهما ولا سبيل إليه، وهو إجماع لا خلاف فيه، فإن تزوجهما معا في عقد واحد
لم يصح نكاح واحدة منهما، لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى، فبطل الجمع
كما لو ابتاع درهمين بدرهمين، وان تزوج إحداهما ثم تزوج الثانية بطل نكاح الثانية
دون الأولة، لان الجمع اختص بالثانية.
(فرع) ويحرم عليه الجمع بين المرأة وعمتها الحقيقة والمجاز من الرضاع أو
من النسب، ويحرم عليه الجمع بين المرأة وخالتها الحقيقة والمجاز من الرضاع أو
من النسب. دليلنا ما سقناه من أحاديث بلغت حد التواتر من طرفها الأول
إلى مخرجيها ومدونيها.
قال العمراني من أصحابنا. ولان كل امرأتين منهما لو قلبت إحداهما ذكرا
لم يجز له ان يتزوج بالأخرى بالنسب، فوجب ان لا يجوز الجمع بينهما في النكاح
كالأختين، ولا يجوز أن يجمع بين المرأة وخالة أمها أو عمة أمها اه‍.
ويجوز الجمع بين امرأة كانت لرجل وبين ابنة زوجها الأول من غيرهما.
وقال ابن أبي ليلى (لا يجوز لأنه لو قلبت ابنة الرجل ذكرا لم يحل له نكاح
امرأة ابنه فهما كالأختين.
دليلنا قوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم) لأنه لو قلبت امرأة الرجل
ذكرا لحل له نكاح الأخرى، ويخالف الأختين لأنك لو قلبت كل واحدة
منهما ذكرا لم يحل له الأخرى، ويجوز ان يجمع بين المرأة وبين زوجة أبيها
لأنه لا قرابه بينهما ولا رضاع، وكذلك إذا تزوج رجل له ابنة امرأة لها ابنه
فيجوز لآخران يجمع بين ابنة الزوج وابنة الزوجة، لأنه إذا جاز ان يجمع
بين المرأة وبين ابنة ضرتها لأنه لا قرابة بينهما ولا رضاع
226

وإن تزوج رجل له ابن بامرأة لها ابنة جاز لابن الزوج أن يتزوج بابنة الزوجة
لما روى أن رجلا له ابن تزوج امرأة لها ابنة ففجر الغلام بالصبية فسألهما عمر
رضي الله عنه فاعترفا فجلدهما وعرض أن يجمع بينهما، فأبى الغلام، ولأنه
لا نسب بينهما ولا رضاع.
فان قيل: أليس الرجل لو أولد من المرأة ولدا كان أخا أو أختا له فكيف
يجوز له أن يتزوج بأخت أخيه؟ قلنا: إنه لا يجوز له التزوج بأخت نفسه، فأما
بأخت أخيه فلا يمنع منه، فان رزق كل واحد منهما ولدا من امرأته كان ولد الأب
ثم ولد الابن وخاله، فان تزوج بامرأة وتزوج ابنه بأمها جاز، لان أمها محرمة
على أبيه دونه، فان رزق كل واحد منهما ولدا كان ولد الأب عم ولد الابن وولد
الابن خال ولد الأب.
(فرع) وإن تزوج بامرأة ثم طلقها وأراد أن يتزوج بأختها أو عمتها أو خالتها
أو تزوج أربع نسوة وطلقهن وأراد أن ينكح أربعا غيرهن أو طلق واحدة منهن
وأراد أن يتزوج غيرها فإن كان الطلاق قبل الدخول يصح تزويجه
بلا خلاف، لأنه لا عدة له على المطلقة، وإن كان بعد الدخول فإن كان الطلاق
رجعيا لم يصح تزويجه قبل انقضاء العدة، لان المطلقة في حكم الزوجات، وإن
كان الطلاق بائنا صح تزويجه عندنا قبل انقضاء العدة، وبه قال زيد بن ثابت
رضي الله عنه والزهري ومالك.
وقال الثوري وأبو حنيفة: لا يصح، وروى ذلك عن علي وابن عباس. دليلنا
أن المطلقة بائن منه فجاز له عقد النكاح على أختها كالبائن قبل الدخول.
(فرع) قال الشافعي في الام: فان تزوج رجل امرأة فطلقها طلاقا رجعيا
ثم قال الزوج: قد أخبرتني بانقضاء عدتها فأنكرت لم يقبل قوله في إسقاط
نفقتها وكسوتها وسائر حقوقها، لأنه حق لها فلم يقبل قوله في إسقاطه، وإن
أراد أن يتزوج بأختها أو عمتها وصادقته التي تزوجها على ذلك صح تزويجه،
لان الحق لله تعالى وهو مقدر فيما بينه وبينه.
227

قال المصنف رحمه الله: (فصل) ومن حرم عليه نكاح امرأة بالنسب له أو بالمصاهرة أو بالجمع
حرم عليه وطؤها بملك اليمين لأنه إذا حرم النكاح فلان يحرم الوطئ وهو المقصود
أولى وان ملك أختين فوطئ إحداهما حرمت عليه الأخرى حتى تحرم الموطوءة
ببيع أو عتق أو كتابة أو نكاح. فان خالف ووطئها لم يعد إلى وطئها حتى تحرم
الأولى، والمستحب أن لا يطأ الأولى حتى يستبرئ الثانية حتى لا يكون جامعا
للماء في رحم أختين، وإن تزوج امرأة ثم ملك أختها لم تحل له المملوكة، لان
أختها على فراشه، وإن وطئ مملوكة ثم تزوج أختها حرمت المملوكة وحلت
المنكوحة، لان فراش المنكوحة أقوى، لان يملك به حقوق لا تملك بفراش
المملوكة من الطلاق والظهار والايلاء واللعان. فثبت الأقوى وسقط الأضعف
كملك اليمين لما ملك به ما لا يملك بالنكاح من الرقبة والمنفعة إذا طرأ على النكاح
ثبت وسقط النكاح.
(فصل) وما حرم النكاح والوطئ بالقرابة حرم بالرضاع، لقوله تعالى
(وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة) فنص على الام والأخت
وقسنا عليهما من سواهما، وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة).
(فصل) ومن حرم عليه نكاح امرأة على التأبيد برضاع أو نكاح أو وطئ
مباح صار لها محرما في جواز النظر والخلوة، لأنها محرمه عليه على التأبيد بسبب
غير محرم فصار محرما لها كالأم والبنت، ومن حرمت عليه بوطئ شبهة لم يصر
محرما لها لأنها حرمت عليه بسبب غير مباح، ولم تلحق بذوات المحارم والأنساب
(الشرح) حديث عائشة رضي الله عنها مضى تخريجه.
اما الأحكام: فان الشرع ساوى بين الأمة والحرة في تحريم الجمع بين الأختين
كما لا يحل له نكاحها بنسب أو رضاع أو مصاهرة، لم يحل له وطؤها واسم النكاح
يقع على الوطئ، ولان المقصود بعقد النكاح هو الوطئ، فإذا حرم عقد النكاح
228

فلان يحرم الوطئ أولى، ويسرى على الإماء تحريم الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة
وخالتها في الوطئ، وإن كان يحل في الملك، لان الاستمتاع ليس غاية للملك،
وإنما المقصود بالملك المنفعة وما ذكره المصنف فعلى وجهه.
(مسألة) إذا حرم عليه نكاح المرأة على التأبيد بنكاح أو رضاع أو وطئ
مباح صار محرما لها في جواز النظر والخلوة، لأنها محرمة عليه على التأبيد بسبب
غير محرم فصار محرما لها كالأم والابنة، وان حرم عليه نكاحها بوطئ شبهة
فهل تصير محرما له؟ فيه قولان حكاهما الصيمري، المشهور أنها لا تصير محرما له
لأنها حرمت عليه بسبب غير مباح فلم يلحق بذوات الأنساب. والثاني: أنها
تصير محرما له لأنها لما ساوت من وطئت وطئا مباحا في تحريم النكاح ولحوق النسب
من هذا الوطئ ساوتها في الخلوة والنظر.
(مسألة) إذا وطئ الرجل امرأة بملك صحيح أو بشبه ملك أو بشبهة عقد
نكاح أو وطئها زوجة أو أمة حرمت عليه أمهاتها وبناتها على التأبيد لأنه وطئ
يتعلق به لحوق النسب فتعلق به تحريم المصاهرة كالوطئ في النكاح، ولأنه معنى
تصير به المرأة فراشا فتعلق به تحريم المصاهرة كعقد النكاح، وهذا هو المشهور
من المذهب.
وحكى المسعودي قولا آخر أنه لا يتعلق به تحريم المصاهرة بوطئ شبهة،
وليس بشئ عن أصحابنا منهم صاحب البيان وغيره.
وإن باشر امرأة دون الفرج بشهوة في ملك أو شبهة بأن قبلها أو لمس شيئا
من بدنها فهل يتعلق بذلك تحريم المصاهرة وتحرم عليه الربيبة على التأبيد؟ فيه
قولان (أحدهما) يتعلق به التحريم، وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقالا: انه
روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وليس له مخالف في الصحابة، ولأنه
تلذذ بمباشرة فتعلق به تحريم المصاهرة والربيبة كالوطئ فقولنا: تلذذ احتراز
من المباشرة بغير شهوة، وقولنا: بمباشرة احتراز من النظر.
(والثاني) لا يتعلق به تحريم المصاهرة ولا الربيبة، وبه قال أحمد بن حنبل
لقوله تعالى (وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن) وهذا
229

ليس بدخول، ولأنه لمس لا يوجب الغسل فلم يتعلق بن تحريم كالمباشرة بغير شهوة
وإن نظر إلى فرجها بشهوة لم يتعلق به تحريم المصاهرة ولا تحريم الربيبة. وقال
الثوري وأبو حنيفة: يتعلق بها التحريم، وحكاه المسعودي قولا آخر للشافعي
وليس بمشهور. دليلنا أنه نظر إلى بعض بدنها فلم يتعلق به التحريم كما لو نظر إلى وجهها.
(فرع) وإن تزوج امرأة ثم وطئ بنتها أو أمها بشبهة أو وطئ الأب
زوجة الابن بشبهة أو وطئ الابن زوجة الأب بشبهة انفسخ النكاح، لأنه
معنى يوجب تحريما مؤبدا، فإذا طرأ على النكاح أبطله كالرضاع.
إذا ثبت هذا: فإن تزوج رجل امرأة، وتزوج ابنه ابنتها، وزفت إلى كل
منهما زوجة صاحبه ووطئها ولم يعلما، فان الأول لما وطئ غير زوجته منهما
لزمه لها مهر مثلها وانفسخ نكاح الموطوءة من زوجها لأنها صارت فراشا لأبيه
أو ابنه، ويجب عليه الغرم لزوجها، لأنه حال بينه وبين بضع امرأة، وفيما يلزمه
قولان (أحدهما) جميع مهر المثل (والثاني) نصفه، كالقولين فيما يلزم المرضعة
لزوج الرضيعة إذا انفسخ النكاح بإرضاع، وينفسخ نكاح الواطئ الأول من
زوجته لان أمها أو ابنتها صارت فراشا له، فيجب عليه لامرأته نصف المسمى
لان الفرقة جاءت من جهته.
وأما الواطئ الثاني فيلزمه مهر المثل للتي وطئها، ولا يجب عليه لزوجها شئ
لأنه لم يحل بينه وبين بضعها لان الحيلولة بينهما حصلت بوطئ الأول، ولا يجب
على الثاني لزوجته أيضا شئ، لان الفرقة بينهما جاءت من قبلها بتمكينها الأول
من نفسها، فإن عرف الأول منها أو الثاني، تعلق بوطئ كل واحدة منهما مهر
المثل على الذي وطئها وينفسخ النكاحان، ويجب لكل واحدة منهما على زوجها
نصف المسمى لها، لأنا نتيقن وجوبه فلا يسقط بالشك ولا يرجع أحدهما على
الآخر بشئ، لان ذلك إنما وجب للثاني على الأول ولم يعلم الأول من الثاني،
ويجب على كل واحدة منهما العدة، وان جاءت كل واحدة بولد لحق الولد بواطئها
ولا حد على أحدهما، وهذا إن كان الواطئ والموطوءة جاهلين بالتحريم، وان
230

كانت جاهلة وهو عالم بالتحريم ثبت لها المهر ولا حد عليها ولا يجب عليها عدة،
ولا يلحقه النسب، ولا يثبت بهذا الوطئ تحريم المصاهرة، ويجب على الواطئ
الحد، وإن كان الواطئ جاهلا بالتحريم والمرأة عالمة بالتحريم وجب عليها
العدة ولحق النسب به وثبت به تحريم المصاهرة ولا حد عليه ولا مهر لها
وعليها الحد وجوبا.
(فرع) وان تزوج رجل امرأة ثم تزوج أخرى فوطئ إحداهما ثم بان أن
إحداهما أم الأخرى. فان نكاح الأولة صحيح لأنه لم يتقدمه ما يمنع صحته، ونكاح
الثانية باطل، لان نكاح الأولى يمنع نكاح الثانية.
وأما الواطئ فإن كان وطئ الأولى فقد صادف وطؤه زوجته واستقر به
المسمى لها، ويفرق بينه وبين الثانية، وتحرم عليه على التأبيد، لأنها إن كانت
هي البنت فقد وطئ أمها، وإن كانت هي الام فقد عقد على بنتها ووطئها، وإن كانت
الموطوءة هي الثانية وجب لها عليه مهر مثلها وانفسخ نكاح الأولى
وحرمت عليه على التأبيد، لأنها ثبت من وطئها بشبهة أو أمها، ووجب عليه
للأولى نصف المسمى لها لان الفسخ من جهته، وهل يجوز أن يتزوج الثانية
الانفراد؟ ينظر فيه، فإن كانت البنت جاز له أن يتزوجها لأنها ربيبة لم يدخل
بأمها، وإن كانت الام لم يجز له تزويجها، لأنه قد عقد النكاح على ابنتها، وان
وطئهما جميعا ثم بان أن إحداهما أم الأخرى فان وطئ أولا المنكوحة أولا فقد
صادف وطؤه زوجته فاستقر به عليه مهر مثلها المسمى، فلما وطئ الثانية لزم
لها مهر مثلها وانفسخ نكاح الأولة بوطئ الثانية، ولا يسقط من مهر الأولة
شئ، لان الفسخ وقع بعد الدخول.
وان وطئ أولا المنكوحة ثانيا ثم وطئ بعدها المنكوحة أولا، فإن لما
وطئ المنكوحة ثانيا أولا لزمه لها مهر مثلها وانفسخ بهذا الوطئ نكاحه من
زوجته وهي المنكوحة أولا ولزمه لها نصف المهر المسمى، فإذا وطئ المنكوحة
أولا بعد ذلك لزمه بهذا الوطئ مهر مثلها، وان أشكل الامر فلم يعلم المنكوحة
أولا من المنكوحة ثانيا، ووطئ إحداهما، وقف عنهما لجواز أن تكونا محرمتين
عليه على التأبيد، فإن كانت الموطوءة تعلم عينها وجب لها أقل الأمرين من مهر
231

المثل أو المسمى لها لأنها تستحق ذلك بيقين، لأنها إن كانت هي المنكوحة أولا
فلها المسمى، وإن كانت هي المنكوحة ثانيا فلها مهر المثل وتوقف الزيادة حتى
تتبين، وإن كانت الموطوءة أيضا مشكلة وقف أقل المهرين بينهما حتى يتبين أو
يصطلحا. والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويحرم على المسلم أن يتزوج ممن لا كتاب له من الكفار، كعبدة
الأوثان ومن ارتد عن الاسلام، لقوله تعالى (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن)
ويحرم عليه أن يطأ إماءهم بملك اليمين، لان كل صنف حرم وطئ حرائرهم بعقد
النكاح حرم وطئ إمائهم بملك اليمين كالأخوات والعمات، ويحل له نكاح حرائر
أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى ومن دخل في دينهم قبل التبديل لقوله تعالى
(وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) ولان الصحابة رضي الله عنهم
تزوجوا من أهل الذمة، فتزوج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة الكلبية
وهي نصرانية وأسلمت عنده، وتزوج حذيفة رضي الله عنه بيهودية من أهل
المدائن، وسئل جابر رضي الله عنه عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية فقال
(تزوجنا بهن زمان الفتح بالكوفة مع سعد بن أبي وقاص) ويحل له وطئ امائهم
بملك اليمين، لان كل جنس حل نكاح حرائرهم حل وطئ امائهم كالمسلمين، ويكره
أن يتزوج حرائرهم وأن يطأ إماءهم بملك اليمين، لأنا لا نأمن أن يميل إليها فتفتنه
عن الدين أو يتولى أهل دينها، فإن كانت حربية فالكراهية أشد، لأنه لا يؤمن
ما ذكرناه، ولأنه يكثر سواد أهل الحرب، ولأنه لا يؤمن أن يسبى ولده
منها فيسترق.
(فصل) وأما غير اليهود والنصارى من أهل الكتاب، كمن يؤمن بزبور
داود عليه السلام وصحف شيث، فلا يحل للمسلم أن ينكح حرائرهم ولا أن يطأ
إماءهم بملك اليمين لأنه قيل أن ما معهم ليس من كلام الله عز وجل وإنما هو شئ
نزل به جبريل عليه السلام كالأحكام التي نزل بها على النبي صلى الله عليه وسلم
232

من غير القرآن، وقيل إن الذي معهم ليس بأحكام وإنما هي مواعظ، والدليل عليه
قوله تعالى (إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا) ومن دخل في دين اليهود
والنصارى بعد التبديل لا يجوز للمسلم أن ينكح حرائرهم ولا أن يطأ إماءهم بملك
اليمين لأنهم دخلوا في دين باطل فهم، كمن ارتد من المسلمين، ومن دخل فيهم
ولا يعلم أنهم دخلوا قبل التبديل أو بعده كنصارى العرب وهم تنوخ وبنو تغلب
وبهراء لم يحل نكاح حرائرهم ولا وطئ امائهم بملك اليمين، لان الأصل في
الفروج الحظر فلا تستباح مع الشك.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: وأهل الكتاب الذين يحل نكاحهم
اليهود والنصارى دون المجوس، وجملة ذلك أن المشركين على ثلاثة أضرب:
ضرب لهم كتاب وضرب لا كتاب لهم ولا شبهة، وضرب لهم شبهة كتاب،
فأما الضرب الذين لهم كتاب فاليهود والنصارى، وليس بين أهل العلم اختلاف
في حرائر أهل الكتاب.
وممن روى عنه ذلك عمر وعثمان وطلحة وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم.
قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك. وروى الخلال
بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبد تزوجوا نساء من أهل
الكتاب، وبه قال سائر أهل العلم، وحرمته الامامية تمسكا بقوله تعالى (ولا
تنكحوا المشركات حتى يؤمن) وقوله تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر)
دليلنا قوله تعالى (يسئلونك ماذا أحل لهم، قل أحل لكم الطيبات إلى
قوله تعالى والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) قال ابن عباس:
هذه الآية نسخت قوله تعالى (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) لان المائدة
نزلت بعد البقرة، وقد نكح عثمان نصرانية، ونكح حذيفة يهودية، وسئل جابر
ابن عبد الله، عن نكاح المسلم اليهودية والنصرانية، فقال: تزوجناهن بالكوفة عام
الفتح، يعنى فتح العراق، إذ لم نجد مسلمة، فلما انصرفنا طلقناهن، نساؤهم حل
لنا ونساؤنا يحرمن عليهم.
وأما من لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب فهم عبدة الأوثان، وهم قوم يعبدون
233

ما يستحسنون من حجر وحيوان وشمس وقمر ونار وأنهار وأشجار ولا يجوز اقرارهم
على دينهم ولا يجوز نكاح حرائرهم، وإن ملكت منهم أمة لم يحل وطؤها بملك اليمين لقوله
تعالى (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) وقوله تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر)
فيحرم نكاح المشركات ثم نسخ منه نكاح أهل الذمة على قول من يجعل الاستثناء
من العام نسخا في قدره، وبقى الباقي منهم على عموم التحريم.
وأما من لهم شبهة كتاب وهم المجوس ولا خلاف أنه ليس لهم كتاب
موجود وهل كان لهم كتاب ثم رفع؟ فيه قولان يأتيان في موضعهما إن شاء الله
إذا ثبت هذا فيجوز إقرارهم على دينهم ببذل الجزية، ولا يحل نكاح حرائرهم.
وحكى عن أبي إسحاق المروزي أنه قال: إذا قلنا إن لهم كتابا حل نكاح حرائرهم
والأول هو المذهب. وقد ذهب ابن حزم إلى جواز نكاح حرائرهم في كتابه
الفصل في الملل والأهواء والنحل بناء على وجوب الجزية عليهم، وهو أخذ
بالقياس الذي يرفضه ويحمل عليه في جميع كتبه التي تدور كلها على ذم القياس
وتزييفه ودحضه.
ودليلنا قوله تعالى (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) وقوله تعالى (ولا
تمسكوا بعصم الكوافر) وهذا عام في كل مشركة إلا ما قام عليه دليل وهو أهل
الكتاب، وهؤلاء غير متمسكين بكتاب فلم تحل مناكحتهم، وقال إبراهيم الحربي
روى عن بضعة عشر نفسا من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا: لا يحل لنا
نكاح نسائهم. وقال أبو ثور: يحل لنا نكاح حرائرهم قياسا على الجزية. وقد قلنا
إن هؤلاء ليسوا أهل كتاب فلم تحل مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم كعبدة الأوثان.
وأما قول أبي إسحاق من أصحابنا وأبى ثور من الفقهاء فغير صحيح، لأنه لو جاز
نكاحهم على القول بأن لهم كتابا لحل قتالهم على القول الذي يقول: لا كتاب
لهم. هكذا أفاده العمراني في البيان.
(فرع) فأما المتمسكون بالكتب التي نزلت على الأنبياء صلوات الله عليهم
كمن تمسك بصحف إبراهيم وزبور داود وشيث عليهم السلام، فلا يحل نكاحهم
ولا وطئ الإماء منهم بملك اليمين، ولا يحل أكل ذبائحهم، وعلل الشافعي
رضي الله عنه ذلك بعلتين إحداهما أن تلك الكتب ليس فيها أحكام، وإنما هي
234

مواعظ فلم تثبت لها حرمة. والثانية: أنها ليست من كلام الله سبحانه وتعالى،
وإنما كانت وحيا منه وقد يوحى ما ليس بقرآن كما روى عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: أتاني جبريل يأمرني أن أجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، ولم يكن
ذلك قرآنا وكلاما من الله تعالى، هكذا ذكر الشيخ أبو حامد وأفاده العمراني.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) واختلف أصحابنا في السامرة والصابئين، فقال أبو إسحاق: السامرة
من اليهود والصابئون من النصارى، واستفتى القاهر أبا سعيد الإصطخري في
الصابئين فأفتى بقتلهم لأنهم يعتقدون أن الكواكب السبعة مديرة، والمذهب أنهم
ان وافقوا اليهود والنصارى في أصول الدين من تصديق الرسل والايمان بالكتب
كانوا منهم، وان خالفوهم في أصول الدين لم يكونوا منهم وكان حكمهم حكم عبدة
الأوثان. واختلفوا في المجوس، فقال أبو ثور يحل نكاحهم لأنهم يقرون على
دينهم بالجزية كاليهود والنصارى.
وقال أبو إسحاق: ان قلنا إنهم كان لهم كتاب حل نكاح حرائرهم ووطئ
امائهم والمذهب انه لا يحل لأنهم غير متمسكين بكتاب فهم كعبدة الأوثان.
وأما حقن الدم فلان لهم شبهة كتاب والشبهة في الدم تقتضي الحقن وفى البضع
تقتضي الحظر. وأما ما قال أبو إسحاق فلا يصح لأنه لو جاز نكاحهم على هذا القول
لجاز قتلهم على القول الآخر.
(فصل) ويحرم عليه نكاح من ولد بين وثني وكتابيه لان الولد من قبيلة
الأب ولهذا ينسب إليه ويشرف بشرفه، فكان حكمه في النكاح حكمه، ومن
ولد بين كتابي ووثنية ففيه قولان (أحدهما) أنها لا تحرم عليه، لأنها من قبيلة
الأب، والأب من أهل الكتاب (والثاني) أنها تحرم لأنها لم تتمحض كتابية
فأشبهت المجوسية.
(الشرح) الأحكام: السامرة والصابئون. قال الشافعي رضي الله عنه في
موضع: السامرة صنف من اليهود، والصابئون صنف من النصارى، وتوقف
الشافعي رضي الله عنه في موضع آخر في حكمهم، فقال أبو إسحاق: إنما توقف
235

في حكمهم قبل أن يتيقن أمرهم، فلما تيقن أمرهم ألحقهم بهم. وحكى أن القاهر
العباسي استفتى في الصابئة فأفتاه أبو سعيد الإصطخري أنهم ليسوا من أهل
الكتاب. لأنهم يقولون: إن الفلك حي ناطق، وإن الأنجم السبعة آلهة، وهما
الشمس والقمر والمشترى (جوبتير) وزحل والمريخ وزهرة وعطارد، فأفتى
بضرب رقابهم فجمعهم القاهر ليقتلهم فبذلوا له مالا كثيرا فتركهم. وهؤلاء
يتفقون مع قدماء اليونان في عبادة الزهرة والمريخ، وفينوس إله الجمال واكوس
إله النبيذ وجوبتير، أما السامريون فيقال إنهم أصحاب موسى السامري وقبيله.
وهم يقطنون نابلس من أرض فلسطين كشف الله البلاء عنها وأزاح غمتها،
وفرج الكروب الملمة، والنكبات المدلهمة التي حاقت بالقدس الشريف.
وعلينا أن تنظر في أمر الفريقين فإن كانوا يخالفون اليهود والنصارى في
أصول دينهم فليسوا منهم، وإن كانوا يوافقونهم ولا أظن الصابئين يوافقونهم
في أصول دينهم ويخالفونهم في الفروع فهم منهم، كما أن المسلمين ملة واحدة
لاتفاقهم في أصول الدين، وإن اختلفوا في الفروع.
وقال المقريزي: اعلم أن طائفة السمرة ليسوا من بني إسرائيل البنة، وإنما
هم قوم قدموا من المشرق وسكنوا بلاد الشام وتهودوا، إلى أن قال: وعرفوا
بين الأمم بالسامرة لسكناهم بمدينة شمرون، وشمرون هذه هي مدينة نابلس.
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: ولا أكره نساء أهل الحرب الا لئلا
يفتن مسلما عن دينه، وجملة ذلك أن الحربية من أهل الكتاب يجوز نكاحها
اعتبارا بالكتاب دون الدار.
إذا ثبت هذا فإنه يكره للمسلمين نكاح الكتابية بكل حال، لأنه لا يؤمن أن
تفتنه عن دينه، أو تزعزع عقيدة أبنائه منها ولطالما رأينا ملحدين وخونة وعملاء
يرجع سبب ذلك إلى تأثرهم بأمهاتهم غير المسلمات أو خلطائهم ممن يطوون على
الاسلام كشحا، ولا يودون لامته عزا، فيزلزلون المثل الرفيعة في ضمائر هؤلاء
المتفرنجين، فينقلبون حربا على أمتهم وعلى عقائدها وشرائعها، وقد كثرت
جرائم هذا الصنف من الزواج الغر الجهول حتى تفشت مضاره فسنت حكومة
236

مصر قانونا بحظر الزواج من هؤلاء الأجنبيات على ضباط القوات المسلحة،
وعلى رجال السلك الدبلوماسي من السفراء والقناصل والمفوضين ومن إليهم حتى
لا تتسرب أسرارنا إلى العدو، وهذا يدل على بعد نظر الإمام الشافعي رضي الله عنه
ودقة فهمه وقوة اجتهاده حين كره ذلك لجميع أفراد الأمة ولم يفرق بين فئة
وأخرى، لان كل مسلم على ثغرة من ثغور الاسلام.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يحل له نكاح الأمة الكتابية لقوله تعالى (ومن لم يستطع
منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات)
ولأنها إن كانت لكافر استرق ولده منها، وإن كانت لمسلم لم يؤمن أن يبيعها من
كافر فيسترق ولده منها.
وأما الأمة المسلمة فإنه إن كان الزوج حرا نظرت فإن لم يخش العنت وهو
الزنا لم يحل له نكاحها لقوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات
المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) إلى قوله عز وجل (ذلك لمن خشي
العنت منكم) فدل على أنها لا تحل لمن لم يخش العنت، وان خشي العنت ولم
تكن عنده حرة ولا يجد طولا، وهو ما يتزوج به حرة، ولا ما يشترى به أمة
جاز له نكاحها للآية، وان وجد ما يتزوج به حرة مسلمة لم يحل له نكاح الأمة
لقوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت
أيمانكم) فدل على أنه إذا استطاع ما ينكح به محصنة مؤمنة أنه لا بنكح الأمة،
وان وجد ما يتزوج به حرة كتابيه أو يشترى به أمة ففيه وجهان.
(أحدهما) يجوز، لقوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح
المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم) وهذا غير مستطيع أن ينكح
المحصنات المؤمنات (والثاني) لا يجوز، وهو الصحيح، لقوله تعالى (ذلك لمن
خشي العنت منكم) وهذا لا يخشى العنت. وإن كانت عنده حرة لا يقدر على وطئها
لصغر أو لرتق أو لضني من مرض ففيه وجهان
237

(أحدهما) يحل له نكاح الأمة، لأنه يخشى العنت.
(والثاني) لا يحل، لان تحته حرة فلا يحل له نكاح الأمة، والصحيح هو
الأول، فإن لم تكن عنده حرة ولم يقدر على طول حرة وخشي العنت فتزوج أمة
ثم تزوج حرة أو وجد طول حرة أو أمن العنت لم يبطل نكاح الأمة. وقال
المزني إذا وجد صداق حرة بطل نكاح الأمة، لان شرط الإباحة قد زال، وهذا
خطأ، لان زوال الشرط بعد العقد لا حكم له كما لو أمن العنت بعد العقد، وإن
كان الزوج عبدا حل له نكاح الأمة، وإن وجد صداق حرة ولم يخف العنت لأنها
مساوية له فلم يقف نكاحها على خوف العنت وعدم صداق الحرة كالحرة في حق الحر
(فصل) ويحرم على العبد نكاح مولاته، لان أحكام الملك والنكاح تتناقض
فإن المرأة بحكم الملك تطالبه بالسفر إلى المشرق، والعبد بحكم النكاح يطالبها
بالسفر إلى المغرب، والمرأة بحكم النكاح تطالبه بالنفقة، والعبد بحكم الملك يطالبها
بالنفقة، وإن تزوج العبد حرة ثم اشترته انفسخ النكاح، لان ملك اليمين أقوى
لأنه يملك به الرقبة والمنفعة، فأسقط النكاح، ويحرم على المولى أن يتزوج أمته
لان النكاح يوجب للمرأة حقوقا يمنع منها ملك اليمين فبطل، وإن تزوج جارية
ثم ملكها انفسخ النكاح لما ذكرناه في العبد إذا تزوج حرة ثم اشترته.
(فصل) ويحرم على الأب نكاح جارية ابنه لان له فيها شبهة تسقط الحد
بوطئها فلم يحل له نكاحها كالجارية المشتركة بينه وبين غيره، فإن تزوج جارية
أجنبي ثم ملكها ابنه ففيه وجهان (أحدهما) انه يبطل النكاح لان ملك الابن
كملكه في إسقاط الحد وحرمة الاستيلاد فكان كملكه في إبطال النكاح (والثاني)
لا يبطل لأنه لا يملكها بملك الابن فلم يبطل النكاح.
(الشرح) لا يجوز للحر المسلم نكاح الأمة المشركة سواء كانت وثنية أو كتابية
وقال أبو حنيفة يجوز له نكاح الأمة الكتابية، دليلنا قوله تعالى: ومن لم يستطع
منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم
المؤمنات، الآية، فدل على أنه لا يجوز نكاح الفتيات غير المؤمنات، ويجوز
للحر المسلم أن ينكح الأمة المسلمة بشرطين.
238

(أحدهما) أن يكون عادما للطول وهو مهر حرة المحصنة. والمحصنات هنا
هن الحرائر ولو كن أبكارا، والمحصنات أيضا المزوجات والمحصنات العفائف،
أحصنت المرأة عفت عن الزنا، وكل امرأة عفيفة محصنة ومحصنة، وكل امرأة
مزوجة محصنة بالفتح فقط، والحصان بفتح الحاء المرأة العفيفة، ولعل اللفظ
مأخوذ في الأصل من الحصن وهو المكان الذي لا يقدر عليه لارتفاعه، وحصن
بالضم حصانة فهو حصين، والحصان بالكسر الفرس العتيق، ولعله سمى بذلك
لان ظهره كالحصن لصاحبه. وقيل إنه ضن بمائه فلم ينز إلا على كريمة. ومن
هذه المادة كان إذا أصاب الحر البالغ امرأته أو أصيبت الحرة البالغة بنكاح فهو
إحصان في الاسلام والشرك، والمراد في نكاح صحيح، واسم الفاعل من أحصن
إذا تزوج محصن بالفتح على غير قياس والمرأة محصنة أيضا على غير قياس، ولذا
قال تعالى (المحصنات).
(والثاني) أن يكون خائفا من العنت، والعنت الخطأ وأيضا المشقة، يقال
أكمة عنوت أي شاقة. قال تعالى (عزيز عليه ما عنتم) وقال (ودوا ما عنتم)
ومعناه هنا الفجور أو الوقوع في المشقة المفضية إلى الزنا، فإن خاف العنت أو لم
يستطع الطول جاز له أن ينكح الأمة المسلمة، وبه قال ابن عباس وجابر رضي الله عنه
م. ومن التابعين الحسن وعطاء وطاوس وعمرو بن دينار والزهري، ومن
الفقهاء مالك والأوزاعي.
وقال أبو حنيفة: إذا لم يكن تحته حرة حل له نكاح الأمة وإن لم يخف العنت
سواء كان قادرا على صداق حرة أو غير قادر، وقال الثوري وأبو يوسف: إذا
خاف العنت حل له نكاح الأمة، وان لم يعدم الطول. وقال عثمان البتي: يجوز
له أن يتزوج الأمة بكل حال كالحرة.
دليلنا قوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات
فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات) إلى قوله (ذلك لمن خشي العنت منكم)
فلم يجز نكاحها إلا مع وجود الشرطين، فإن وجد مهر حرة مسلمة لم يجز له نكاح
الأمة للآية. وإن كان مجنونا لم يحل له نكاح الأمة لأنه لا يخاف الزنا، وإن كان
239

عادما لطول حرة مسلمة وخائفا للعنت فأقرضه رجل مهر حرة أو رضيت الحرة
بتأخير الصداق عليه حل له نكاح الأمة، لان عليه ضررا بتعلق الدين بذمته،
وإن بذل له رجل هبة الصداق حل له نكاح الأمة لان عليه منه في ذلك،
وإن وجد طول حرة مسلمة إلا أنه لا يتزوج لقصور نسبه أو لم يزوجه أهل
البلد إلا بأكثر من مهر المثل فله أن يتزوج أمة لأنه غير قادر على حرة مسلمة،
ووجود الشئ بأكثر من ثمن مثله بمنزلة عدمه، وان رضيت الحرة بدون مهر
المثل وهو واجد له فهل له أن يتزوج أمة؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي، وإن كان
تحته حرة صغيرة لا يقدر على وطئها، أو تحته كبيرة مريضه أو غائبه لا يصل
فهل له أن يتزوج أمة؟ فيه وجهان (أحدهما) يجوز له نكاح الأمة، لان الله
تعالى شرط في نكاحها أن لا يستطيع نكاح المحصنات المؤمنات والشرط موجود
(والثاني) لا يجوز له وهو الأصح لأنه لا يخاف العنت.
(مسألة) لا يصح نكاح العبد لمولاته لتناقض أحكام الملك والنكاح في النفقة
والسفر، لان العبد مستحق النفقة عليها وهي مستحقة النفقة عليه، وللمرأة
أن تسافر بعبدها إلى أي بلد تشاء، وللزوج أن يسافر بزوجته إلى أي بلد يشاء،
فلو صححنا نكاحه لمولاته لتناقضت الأحكام في ذلك، فإن تزوج حرة ثم ملكته
انفسخ نكاحها منه لان حكم ملك اليمين أقوى من النكاح. ولا يصح للرجل أن
ينكح جارية ولده لصلبه، ولا ولد ولده وان سفل لان له شبهه في ماله بدليل
أنه يجب عليه إعفافه فصارت كجارية نفسه، وفى أحكام هذه الفصول فروع
كثيرة اجتزأنا بأحراها بنظرة الاسلام إلى ظاهرة الرق لندعم بها ما قررنا في أول
أبواب العتق. والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ولا يجوز نكاح المعتدة من غيره لقوله تعالى (ولا تعزموا عقدة
النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) ولأن العدة وجبت لحفظ النسب، فلو جوزنا
فيها النكاح اختلط النسب وبطل المقصود، ويكره نكاح المرتابة بالحمل بعد انقضاء
العدة، لأنه لا يؤمن أن تكون حاملا من غيره، فإن تزوجها ففيه وجهان.
240

(أحدهما) وهو قول أبى العباس أن النكاح باطل لأنها مرتابة بالحمل فلم يصح
نكاحها، كما لو حدثت الريبة قبل انقضاء العدة.
(والثاني) وهو قول أبي سعيد وأبي إسحاق أنه يصح، وهو الصحيح، لأنها
ريبه حدثت بعد انقضاء العدة فلم تمنع صحة العقد كما لو حدثت بعد النكاح،
ويجوز نكاح الحامل من الزنا لان حملها لا يلحق بأحد فكان وجوده كعدمه.
(الشرح) الأحكام: لا يصح نكاح المعتدة من غيره لقوله تعالى (ولا
تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله) فالعزم على الشئ وعزمه عزما
من باب ضرب عقد ضميره على فعله، والمعنى هنا لا تعزموا على عقدة النكاح
في العدة، لان العزم عليه بعدها لا بأس به، ثم حذف على. قال سيبويه:
والحذف في هذه الآية لا يقاس عليه.
قال النحاس: يجوز أن يكون المعنى ولا يعقدوا عقدة النكاح، لان معنى
تعزموا وتعقدوا واحد قيل إن العزم على الفعل يتقدمه فيكون في هذا النهى
مبالغة، لأنه إذا نهى عن المتقدم على الشئ كان النهى عن ذلك الشئ بالأولى
وحتى هنا غاية للنهي، وبلوغ الكتاب أجله كناية عن انقضاء العدة، والكتاب
هنا هو الحد والقدر الذي رسم من المدة سماه كتابا لكونه محدودا ومفروضا.
كقوله تعالى (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا) والمراد بالأجل
آخر مدة العدة،
وإن ارتابت بالحمل بأن أمارات الحمل وشكت هل هو حمل أو لا؟ فإن
حدثت لها هذه الريبة قبل انقضاء العدة: ثم انقضت عدتها بالأقراء أو بالشهور
والريبة باقية لم يصح نكاحها لأنها تشك في خروجها من العدة والأصل بقاؤها.
وإن انقضت عدتها من غير ريبة فتزوجت ثم حدثت لها ريبة بالحمل لم تؤثر هذه
الريبة، لان النكاح قد صح في الظاهر. وإن انقضت عدتها بالشهور أو بالأقراء
ثم حدثت لها ريبة بالحمل فيكره نكاحها، فإن تزوجها رجل فهل يصح، فيه
وجهان (أحدهما) لا يصح لأنها مرتابة بالحمل فلم يصح نكاحها، كما لو حدثت بها
ريبه قبل انقضاء العدة ثم انقضت عدتها وهي مرتابة بالحمل فلم يصح نكاحها
241

كذلك هذا مثله (والثاني) يصح نكاحها وهو المذهب لأنها ريبة حدثت بعد
انقضاء عدتها فلم تؤثر كما لو نكحت بعد انقضاء العدة ثم حدثت الريبة.
(فرع) إذا زنت المرأة لم يجب عليها العدة، سواء كانت حائلا أو حاملا،
فإن كانت حائلا جاز للزاني ولغيره عقد النكاح عليها وإن حملت من الزنا فيكره.
نكاحها قبل وضع الحمل، وهو أحد الروايتين عن أبي حنيفة رضي الله عنه وذهب
ربيعه ومالك والثوري وأحمد وإسحاق رضي الله عنهم إلى أن الزانية يلزمها العدة
كالموطوءة بشبهه، فإن كانت حائلا اعتدت ثلاثة أقراء، وإن كانت حاملا
اعتدت بوضع الحمل، ولا يصح نكاحها قبل وضع الحمل.
قال مالك رضي الله عنه: إذا تزوج امرأة ولم يعلم أنها زانية ثم علم أنها حامل
من زنا فإنه يفارقها، فإن كان قد وطئها لزمه مهر المثل. وقال ربيعه: يفارقها
ولا مهر عليه. وذهب ابن سيرين وأبو يوسف رضي الله عنهما إلى أنها إن كانت
حائلا فلا عدة عليها، وإن كانت حاملا لم يصح عقد النكاح عليها حتى تضع
وهي الرواية الأخرى عن أبي حنيفة.
دليلنا قوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم) وقوله صلى الله عليه وسلم
(لا يحرم الحرام الحلال) والعقد على الزانية كان حلالا قبل الزنا وقبل الحمل
فلا يحرمه الزنا.
وروى أن رجلا كان له ابن تزوج امرأة لها ابنة ففجر الغلام بالصبية،
فسألهما عمر رضي الله عنه فأقرا فجلدهما وحرص أن يجمع بينهما بالنكاح فأبى الغلام
ولم ير عمر رضي الله عنه انقضاء العدة، ولم ينكر عليه أحد، فدل على أنه اجماع
ولأنه وطئ لا يلحق به النسب، أو حمل لا يلحق بأحد فلم يمنع صحة النكاح
كما لو لم يوجد.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ويحرم على الحر أن يتزوج بأكثر من أربع نسوة، لقوله تعالى
(فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) وروى عبد الله بن عمر
242

رضي الله عنهما (أن غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة، فقال له النبي صلى
الله عليه وسلم: خذ منهن أربعا) ويحرم على العبد أن يجمع بين أكثر من
امرأتين. وقال أبو ثور: يحل له أن يجمع بين أربع، وهذا خطأ لما روى أن
عمر رضي الله عنه خطب وقال (من يعلم ماذا يحل للمملوك من النساء، فقال
رجل أنا، فقال كم؟ قال اثنتان، فسكت عمر) وروى ذلك عن علي وعبد الرحمن
بن عوف رضي الله عنهما.
(الشرح) حديث ابن عمر رواه أحمد وابن ماجة والترمذي من طريق
الزهري عن سالم عن أبيه، وأخرجه الشافعي عن الثقة عن معمر عن الزهري
بإسناده المذكور. وأخرجه أيضا ابن حبان والحاكم وصححاه. وزاد أحمد في
رواية: فلما كان في عهد عمر طلق نساءه وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر
فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك،
ولعلك لا تمكث إلا قليلا، وأيم الله لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثهن
منك ولآمرن بقبرك أن يرجم كما رجم قبر أبى رغال.
قال البزار: جوده معمر بالبصرة وأفسده باليمن.
وحكى الترمذي عن البخاري أنه قال: هذا الحديث غير محفوظ. قال
البخاري: وأما حديث الزهري عن سالم عن أبيه فإنما هو أن رجلا من ثقيف
طلق نساءه فقال له عمر: لتراجعن نساءك أو لأرجمنك. وحكم أبو حاتم
وأبو زرعة بأن المرسل أصح. وحكى الحاكم عن مسلم أن هذا الحديث مما وهم فيه
معمر بالبصرة. قال فإن رواه عنه ثقة خارج البصرة حكمنا له بالصحة وقد اخذ
ابن حبان والحاكم والبيهقي بظاهر الحكم فأخرجوه من طرق عن معمر من حديث
أهل الكوفة وأهل خراسان وأهل اليمامة عنه
قال الحافظ بن حجر: ولا يفيد ذلك شيئا فإن هؤلاء كلهم إنما سمعوا منه
بالبصرة، وعلى تقدير أنهم سمعوا منه بغيرها فحديثه الذي حدث به في غير بلده
مضطرب، لأنه كان يحدث في بلده من كتبه على الصحة. وأما إذا رحل فحدث
من حفظه بأشياء وهم فيها، اتفق على ذلك أهل العلم كابن المديني والبخاري
243

وابن أبي حاتم ويعقوب بن شيبة وغيرهم، وحكى الأثرم عن أحمد أن هذا الحديث
ليس بصحيح والعمل عليه، وأعله بتفرد معمر في وصله وتحديثه به في غير بلده
وقال ابن عبد البر طرقه كلها معلولة، وقد أطال الدارقطني في العلل تخريج طرقه
ورواه ابن عيينة ومالك عن الزهري مرسلا، ورواه عبد الرزاق عن معمر
كذلك، وقد وافق معمر على وصله بحر كنيز السقاء عن الزهري ولكنه ضعيف
وكذا وصله يحيى بن سلام عن مالك ويحيى ضعيف جدا، وأما الزيادة التي رواها
أحمد عن عمر فأخرجها أيضا النسائي والدارقطني، قال الحافظ ابن حجر وإسناده
ثقات وهذا الموقوف على عمر هو الذي حكم البخاري بصحته وقد توبع الحديث
بما رواه أبو داود وابن ماجة عن قيس بن الحرث قال (أسلمت وعندي ثمان
نسوة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال: اختر منهن أربعا)
وفى رواية الحرث بن قيس، وفى إسناده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وقد
ضعفه غير واحد من الأئمة، وقد توبع أيضا بما روى عن عروة بن مسعود
وصفوان بن أمية عند البيهقي، وقد استدل جمهور أهل العلم بهذه الاخبار على
تحريم الزيادة على أربع.
وذهبت الظاهرية إلى أنه يحل للرجل أن يتزوج تسعا، ووجههم قوله تعالى
(مثنى وثلاث ورباع) ومجموع ذلك لا باعتبار ما فيه من العدل تسع. وقد أخطأ
الشوكاني في عزو ذلك إلى ابن الصباغ والعمراني وبعض الشيعة، والصحيح أن
ابن الصباغ والعمراني ردا على القائلين بهذا كالقاسم بن إبراهيم وبعض الشيعة
وبعض الظاهرية، وحاشا لبعض أصحابنا من الفحول ان يذهبا إلى حل أكثر من
أربع، ونحن نعتمد في شرح هذا السفر على أقوال ابن الصباغ والعمراني وغيرهما
من أصحابنا، ولم نجد لاحد منهم الذهاب إلى هذا المذهب.
وأما خبر عمر فقد أخرج الدارقطني بسنده إلى عمر رضي الله عنه قال (ينكح
العبد امرأتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين) وقد روى البيهقي وابن أبي
شيبة من طريق الحكم بن عتيبة أنه أجمع الصحابة على أن العبد لا ينكح
أكثر من اثنتين.
وقال الشافعي بعد أن روى ذلك عن علي وعمر وعبد الرحمن بن عوف أنه
244

لا يعرف لهم من الصحابة مخالف. وأخرجه ابن أبي شيبة عن جماهير التابعين
عطاء والشعبي والحسن وغيرهم.
ويؤخذ من هذا الفصل الرد على القائلين بإباحة التزويج بأكثر من أربع لان
الأحاديث التي سقناها تنتهض إلى درجة الحسن الذي ينتهض حجة للعمل به،
ويجاب على استدلالهم بزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأن هذا مخصوص به،
ويجاب عن الآية بأنه من المستساغ لغة أن تقول عن الف جاءوك: جاءني هؤلاء
مثنى مثنى أو ثلاث، أو رباع إذا كان مجيئهم اثنين اثنين أو ثلاثة ثلاثة أو أربعة
أربعة، ويؤيد ذلك كون الأصل في الفروج الحرمة، كما صرح به الخطابي، فلا
يجوز الاقدام على شئ منه إلا بدليل. وأيضا هذا الخلاف مسبوق بالاجماع
على عدم جواز الزيادة على الأربع كما صرح بذلك في البحر.
وقال في الفتح: اتفق العلماء على أن من خصائصه صلى الله عليه وسلم الزيادة
على أربع نسوة يجمع بينهن.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز نكاح الشغار، وهو أن يزوج الرجل ابنته أو أخته
من رجل على أن يزوجه ذلك ابنته أو أخته، ويكون بضع كل واحدة منهما صداقا
للأخرى، لما روى ابن عمر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عن الشغار، والشغار أن يزوج الرجل ابنته من الرجل على أن يزوجه الآخر
ابنته وليس بينهما صداق) ولأنه أشرك في البضع بينه وبين غيره فبطل العقد،
كما لو زوج ابنته من رجلين.
فأما إذا قال زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك صح النكاحان، لأنه لم يحصل
التشريك في البضع، وإنما حصل الفساد في الصداق، وهو أنه جعل الصداق أن
يزوجه ابنته فبطل الصداق وصح النكاح. وإن قال زوجتك ابنتي بمائة على أن
تزوجني ابنتك بمائة صح النكاحان ووجب مهر المثل، لان الفساد في الصداق
وهو شرطه مع المائة تزويج ابنته، فأشبه المسألة قبلها. وإن قال زوجتك ابنتي
245

بمائة على أن تزوجني ابنتك بمائة ويكون بضع كل واحدة منهما صداقا للأخرى
ففيه وجهان (أحدهما) يصح لان الشغار هو الخالي من الصداق، وههنا لم يخل
من الصداق (والثاني) لا يصح وهو المذهب، لان المبطل هو التشريك في
البضع، وقد اشترك في البضع.
(الشرح) حديث ابن عمر رواه عنه نافع وأخرجه الشيخان وأصحاب السنن
الأربعة وأحمد في مسنده والدارقطني، ولم يذكر الترمذي ما ورد من تفسير
الشغار. وأبو داود جعله من كلام نافع، وهو كذلك في رواية عند أحمد والشيخين
وروى عن ابن عمر أيضا عند مسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا شغار في
الاسلام) وعند أحمد ومسلم أيضا عن أبي هريرة (نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الشغار، والشغار أن يقول الرجل للرجل زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي
أو زوجني أختك وأزوجك أختي)
وأخرج أحمد وأبو داود عن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج (أن العباس بن
عبد الله بن عباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته وأنكحه عبد الرحمن ابنته.
وقد كانا جعلاه صداقا، فكتب معاوية بن أبي سفيان إلى مروان بن الحكم يأمره
بالتفريق بينهما، وقال في كتابه: هذا الشغار الذي نهى رسول الله صلى الله عليه
وسلم عنه) وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وصححه من حديث عمران بن الحصين
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا جلب ولا جنب ولا شغار في الاسلام، ومن
انتهب فليس منا) وروى مثل ذلك عن جابر عند مسلم.
وأخرج البيهقي عن جابر أيضا (نهى عن الشعار، والشغار أن تنكح هذه
بهذه بغير صداق بضع هذه صداق هذه وبضع هذه صداق هذه) وأخرج
عبد الرزاق عن أنس مرفوعا (لا شغار في الاسلام، والشغار أن يزوج الرجل
الرجل أخته بأخته)
وأخرج أبو الشيخ من حديث ريحانه (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
المشاغرة أن يقول: زوج هذا من هذه، وهذه من هذا بلا مهر) وأخرج الطبراني
عن أبي بن كعب مرفوعا (لا شغار، قالوا يا رسول الله وما الشغار. قال إنكاح
المرأة بالمرأة لا صداق بينهما)
246

وقال الشافعي في حديث ابن عمر (لا أدرى التفسير عن النبي صلى الله عليه
وسلم أو عن ابن عمر أو عن نافع أو عن مالك. هكذا حكى عن الشافعي البيهقي
في المعرفة. قال الخطيب: تفسير الشغار ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم
وإنما هو من قول مالك. وهكذا قال غير الخطيب، قال القرطبي: تفسير الشغار
صحيح موافق لما ذكره أهل اللغة، فإن كان مرفوعا فهو المقصود، وإن كان من
قول الصحابي فمقبول أيضا لأنه أعلم بالمقال وأقعد بالحال.
أما لغات الفصل فالشغار مادته من شغر البلد من باب قعد إذا خلا عن حافظ
يمنعه، وشغر الكلب شغرا من باب نفع رفع إحدى رجليه ليبول، وشغرت
رفعت رجلها للنكاح، وشغرتها فعلت بها ذلك يتعدى ويلزم وقد يتعدى بالهمز
فيقال أشغرتها. وقال في المصباح: وشاغر الرجل الرجل شغارا من باب قتل
زوج كل واحد صاحبه حريمته على أن بضع كل واحدة صداق الأخرى ولا
مهر سوى ذلك وكان سائغا في الجاهلية. قيل مأخوذ من شغر البلد، وقيل
مأخوذ من شغر برجله إذا رفعها، والشغار وزان سلام: الفارغ اه‍.
قال ابن بطال: قال في الفائق: هو من قولهم شغرت بنى فلان من الباب
إذا أخرجتهم قال:
ونحن شغرنا ابني نزار كليهما * وكلبا بطعن مرهب متقاتل
ومنه قولهم: تفرقوا شغر بغر، لأنهما إذا تبدلا بأختيهما فقد أخرج كل
واحد منهما أخته إلى صاحبه وفارق بها إليه. وقيل سمى شغارا لخلوه عن المهر
من قولهم: شغر البلد إذا خلا عن أهله. وقال في الشامل: وقيل سمى شغارا
لقبحه تشبيها برفع الكلب رجله ليبول.
الأحكام: قال العمراني في البيان: ولا يصح الشغار، وهو أن يقول رجل
لآخر: زوجتك ابنتي أو أختي أو امرأة يلي عليها، على أن تزوجني ابنتك أو
أمك فيكون بضع كل واحدة منهما صداقا للأخرى، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق
وقال الزهري والثوري وأبو حنيفة وأصحابه: يصح: ويجب مهر المثل اه‍
دليلنا ما سقناه من الأحاديث والأخبار المستفيضة، ولأنه حصل في البضع
تشريك فلم يصح العقد مع ذلك، كما لو زوج ابنته من رجلين. وبيان التشريك
247

أنه جعل البضع ملكا للزوج وابنته، لأنه إذا قال زوجتك ابنتي فقد ملك الزوج
بضعها، فإذا قال: على أن تزوجني ابنتك، فيكون بضع كل واحدة منهما مهرا
للأخرى فقد شرك ابنة الزوج في ملك بضع هذه الزوجة، لان الشئ إذا جعل
صداقا اقتضى تمليكه لمن جعل صداقا لها، فصار التشريك حاصلا في البضعين فلم
يصح. إذا ثبت هذا فإنه إن قال زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك واقتصر
على هذا فالنكاح صحيح لأنه لم يحصل في البضع تشريك، وإنما حصل الفساد في
الصداق، وهو أنه جعل مهر ابنته أن يزوجه الآخر ابنته ففسد المهر المسمى
ووجب مهر المثل. هذا نقل البغداديين من أصحابنا.
وقال المسعودي: هل يصح النكاح؟ فيه وجهان (أحدهما) يصح لما ذكرناه
(والثاني) لا يصح لأنهما لم يسميا صداقا صحيحا، ولكن جعل عقد نكاح كل
واحدة منهما صداقا للأخرى، لأنه أخرج ذلك مخرج الصداق، والأول
هو المشهور.
وان قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك ويكون مهر كل واحدة منهما
كذا وكذا، فيصح النكاحان ويبطل المهران المسميان، ويجب لهما مهر المثل سواء
اتفق المهران أو اختلفا، لأنه لم يحصل في البضعين تشريك، وإنما حصل الفساد
في المهر لأنه شرط مع المهر تزويج ابنته فهو كما لو قال: زوجتك ابنتي بمائة على
أن تبيعني دارك، فإن النكاح صحيح والمهر باطل.
وان قال زوجتك ابنتي على أن تطلق زوجتك ويكون ذلك صداقا لابنتي صح
النكاح ولا يلزمه أن يطلق زوجته ويجب للزوجة مهر المثل، لأنه لم يسم لها
صداقا صحيحا وان قال زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك ويكون بضع ابنتك
صداقا لابنتي صح النكاح الأول ولم يصح النكاح الثاني، لأنه ملكه بضع ابنته في
الابتداء من غير تشريك وشرط عليه شرطا فاسدا وهو التزويج فلم يؤثر في عقد
الأولى. والثانية هي التي حصل التشريك في بضعها.
وان قال زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك ويكون بضع ابنتي مهرا لابنتك
فالعقد على ابنة المخاطب باطل، لان التشريك حصل في بضعها، والعقد على ابنة
القائل صحيح لأنه لم يحصل في بضعها تشريك
248

وإن قال: زوجتك ابنتي على أن تزوجني ابنتك ويكون بضع كل واحدة مائة
درهم صداقا للأخرى ففيه وجهان (أحدهما) أن النكاحين صحيحان، ويجب لها
مهر المثل، لان الشغار هو الخالي عن المهر، وههنا يخل عن المهر (والثاني) وهو
الصحيح، أن النكاحين باطلان، لان التشريك في البضع موجود مع تسمية المهر
والمفسد هو التشريك. وإن قال زوجتك ابنتي وهذا الحائط فهل يصح النكاح؟
فيه وجهان حكاهما صاحب العدة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز نكاح المتعة وهو أن يقول: زوجتك ابنتي يوما أو
شهرا لما روى محمد بن علي رضي الله عنهما (أنه سمع أباه علي بن أبي طالب كرم
الله وجهه وقد لقى ابن عباس وبلغه أنه يرخص في متعة النساء، فقال له علي كرم الله وجهه
: إنك امرؤ تائه، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها يوم
خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية) ولأنه عقد يجوز مطلقا فلم يصح مؤقتا كالبيع
ولأنه نكاح لا يتعلق به الطلاق والظهار والإرث وعدة الوفاة فكان باطلا
كسائر الأنكحة الباطلة.
(فصل) ولا يجوز نكاح المحلل وهو أن ينكحها على أنه إذا وطئها فلا
نكاح بينهما وأن يتزوجها على أن يحللها للزوج الأول لما روى هزيل عن عبد الله
قال (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواصلة والموصولة. والواشمة والموشومة
والمحلل والمحلل له، وآكل الربا ومطعمه) ولأنه نكاح شرط انقطاعه دون
غايته، فشابه نكاح المتعة.
وإن تزوجها على أنه إذا وطئها طلقها ففيه قولان (أحدهما) أنه باطل لما
ذكرناه من العلة (والثاني) أنه يصح لان النكاح مطلق، وإنما شرط قطعه بالطلاق
فبطل الشرط وصح العقد، فإن تزوجها واعتقد أنه يطلقها إذا وطئها كره ذلك،
لما روى أبو مرزوق التجيني (أن رجلا أتى عثمان رضي الله عنه فقال: إن جارى
طلق امرأته في غضبه ولقى شدة فأردت أن أحتسب نفسي ومالي فأتزوجها ثم أبنى
249

بها ثم أطلقها فترجع إلى زوجها الأول، فقال له عثمان رضي الله عنه: لا تنكحها
إلا بنكاح رغبة) فإن تزوج على هذه النية صح النكاح لأن العقد إنما يبطل بما
شرط لا بما قصد، ولهذا لو اشترى عبدا بشرط أن لا يبيعه بطل، ولو اشتراه
بنية أن لا يبيعه لم يبطل.
(فصل) وإن تزوج بشرط الخيار بطل العقد لأنه عقد يبطله التوقيت
فبطل بالخيار الباطل كالبيع، وان شرط أن لا يتسرى عليها أو لا ينقلها من
بلدها بطل الشرط لأنه يخالف مقتضى العقد ولا يبطل العقد لأنه لا يمنع مقصود
العقد وهو الاستمتاع، فإن شرط أن لا يطأها ليلا بطل الشرط لقوله صلى الله
عليه وسلم (المؤمنون على شروطهم الا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا) فإن
كان الشرط من جهة المرأة بطل العقد، وإن كان من جهة الزوج لم يبطل، لان
الزوج يملك الوطئ ليلا ونهارا وله أن يترك، فإذا شرط أن لا يطأها فقد شرط
ترك ماله تركه والمرأة يستحق عليها الوطئ ليلا ونهارا، فإذا شرطت أن لا يطأها
فقد شرطت منع الزوج من حقه، وذلك ينافي مقصود العقد فبطل.
(الشرح) حديث علي كرم الله وجهه رواه عنه ولده محمد بن الحنفية وأخرجه
أحمد والبخاري ومسلم بلفظ (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح
المتعة وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر) وفى رواية (ونهى عن متعة النساء
يوم خيبر وعن لحوم الحمر الإنسية)
وقد أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه قال (كنا
نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معنا نساء، فقلنا ألا نختصي؟ فنهانا
عن ذلك ثم رخص لنا بعد أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد الله
(يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) الآية.
وعن أبي جمرة سألت ابن عباس عن متعة النساء فرخص فقال له مولى له:
إنما ذلك في الحال الشديد وفى النساء قلة، فقال نعم)
وعن محمد بن كعب عن ابن عباس قال: إنما كانت المتعة في أول الاسلام كان
الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة، فيتزوج المرأة بقدر ما يرى أنه يقيم
250

فتحفظ له متاعه وتصلح له شأنه حتى نزلت هذه الآية (إلا على أزواجهم أو
ما ملكت أيمانهم) قال ابن عباس: فكل فرج سواهما حرام) رواه الترمذي.
وفى إسناده موسى بن عبيد الربذي، وهو ضعيف، وقد روى الرجوع عن ابن
عباس جماعة منهم ابن خلف القاضي المعروف بوكيع في كتابه الغرر بسنده المتصل
بسعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: ما تقول في المتعة، فقد أكثر فيها حتى
قال فيها الشاعر. قال: وما قال: قال: قال:
قلت للشيخ لما طال محبسه * يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس
وهل ترى رخصة الأطراف آنسة * تكون مثواك حتى مصدر الناس
قال: وقد قال فيه الشاعر، قلت نعم، قال فكرهما أو نهى عنها. ورواه
الخطابي عن سعيد قال: قد سارت بفتياك الركبان، وقالت فيها الشعراء، وذكر
البيتين فقال سبحان الله، والله ما بهذا أفتيت وما هي إلا كالميتة لا تحل إلا لمضطر
وروى الرجوع أيضا البيهقي وأبو عوانة في صحيحه. وقال ابن حجر بعد أن ذكر
رجوع ابن عباس. وذكر حديث سهل بن سعد عند الترمذي بلفظ (إنما رخص
النبي صلى الله عليه وسلم في المتعة لغربة كانت بالناس شديدة ثم نهى عنها بعد ذلك)
أما حديث هذيل عن عبد الله فقد أخرجه النسائي، أخبرنا عمرو بن منصور
حدثنا أبو نعيم عن سفيان عن أبي قبس عن هزيل عن عبد الله بلفظ المصنف،
وعبد الله هو ابن مسعود وفى إسناده أبو قيس وهو عبد الرحمن ثروان الأودي
روى عن هذيل بن شرحبيل وغيره. قال عبد الله بن أحمد سألت أبى عنه فقال
هو كذا وكذا وحرك يده وهو يخالف في أحاديث قال الحافظ الذهبي:
خرج له البخاري حديثه عن هذيل قال: أخبر بن مسعود بقول أبى موسى في
ميراث ابنة وابنة ابن وأخت. وصحح الترمذي حديثه عن هذيل عن عبد الله في
لعن المحلل. وخرج له البخاري بالاسناد: إن أهل الجاهلية كانوا
يسيبون. الحديث.
وأخرجه الترمذي بلفظ (لعن الله المحلل والمحلل له) ولم يذكر بقية الحديث
من الواصلة إلى غير ما ذكرنا.
وقال الترمذي بعد ذكر الحديث: هذا حديث حسن صحيح وأبو قيس الأودي
251

اسمه عبد الرحمن بن ثروان، وقد روى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
من غير وجه، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم
منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وغيرهم، وهو قول
الفقهاء من التابعين وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد
وإسحاق. قال وسمعت الجارود بن معاذ يذكر عن وكيع أنه قال بهذا. وقال
ينبغي أن يرمى بهذا الباب من قول أصحاب الرأي. قال جارود: قال وكيع:
وقال سفيان: إذا تزوج الرجل المرأة ليحللها ثم بدا له أن يمسكها فلا يحل له أن
يمسكها حتى يتزوجها بنكاح جديد. اه‍
وقد أخرج الحديث أحمد في مسنده وأخرجه ابن ماجة والدارقطني كلها من
طريق ابن مسعود، وقد صححه ابن القطان وابن دقيق العيد على شرط البخاري
وله طريق أخرى أخرجها عبد الرزاق. وروى عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (ألا أخبركم بالتيس المستعار. قالوا بلى يا رسول الله، قال هو المحلل، لعن
الله المحلل والمحلل له) أخرجه ابن ماجة والحاكم وأعله أبو زرعة وأبو حاتم
بالارسال. وحكى الترمذي عن البخاري أنه استنكره. وقال أبو حاتم: ذكرته
ليحيى بن بكير فأنكره انكارا شديدا، وسياق اسناده في سنن ابن ماجة هكذا،
حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح المصري حدثنا أبي سمعت الليث بن سعد يقول.
قال لي مشرح بن عاهان قال عقبه بن عامر فذكره، ويحيى بن عثمان ضعيف
وشرح قد وثقه ابن معين. وأخرج ابن ماجة عن ابن عباس مثله، وفى اسناده
زمعة بن صالح وهو ضعيف.
وعن أبي هريرة عند أحمد وإسحاق والبيهقي والبزار وابن أبي حاتم في العلل
والترمذي في العلل، وحسنه البخاري، والأحاديث المذكورة تدل على تحريم
التحليل، لان اللعن أنما يكون على ذنب عظيم.
قال الحافظ بن حجر استدلوا بهذا الحديث على بطلان النكاح إذا شرط الزوج
أنه إذا نكحها وبانت منه أو شرط أنه يطلقها أو نحو ذلك وحملوا الحديث على
ذلك، ولا شك أن اطلاقه يشمل هذه الصورة وغيرها، لكن روى الحاكم
252

والطبراني في الأوسط عن عمر أنه جاء إليه رجل فسأله عن رجل طلق امرأته
ثلاثا فتزوجها أخ له عن غير مؤامرة ليحلها لأخيه، هل تحل للأول. قال لا إلا
بنكاح رغبة. كنا نعد هذا سفاحا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال:
وقال ابن حزم: ليس الحديث على عمومه في كل محلل إذ لو كان كذلك لدخل
فيه كل واهب وبائع ومزوج، فصح أنه أراد به بعض المحللين، وهو من أحل
حراما لغيره بلا حجة، فتعين أن يكون ذلك فيمن شرط ذلك، لأنهم لم يختلفوا
في أن للزوج إذا لم ينو تحليلها للأول ونوت هي أنه لا يدخل في اللعن فدل على
أن المعتبر الشرط اه‍
أما اللغات فقوله: المتعة ومادته من المتاع وهو كل ما ينتفع به، وأصل المتاع
ما يتبلغ به من الزاد، وهو اسم من متعته إذا أعطيته ذلك، ومتعة المطلقة
ستأتي ومتعة الحج مضت ونكاح المتعة هو النكاح المؤقت في العقد. قال في العياب
كان الرجل يشارط المرأة شرطا على شئ إلى أجل معلوم ويعطيها ذلك فيستحل
بذلك فرجها ثم يخلى سبيلها من غير تزويج ولا طلاق، وقيل في قوله تعالى (فما
استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن) المراد نكاح المتعة، والآية محكمة والجمهور
على تحريم نكاح المتعة.
وقالوا معنى قوله (فما استمتعتم) فما نكحتم على الشريطة التي في قوله تعالى
(أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين) أي عاقدين النكاح، واستمتعت بكذا
وتمتعت به انتفعت. وقوله (الحمر الإنسية) كل حيوان إنسي ما كان أيسر،
والوحشي من كل دابة الجانب الأيمن. قال الشاعر.
فمالت على شق وحشيها * وقد ريع جانبها الأيسر
قال الأزهري، قال أئمة اللغة، الوحشي من جميع الحيوان غير الانسان
الجانب الأيمن، وهو الذي لا يركب منه الراكب ولا يحلب منه الحالب،
والإنسي الجانب الأيسر وقد مضى له مزيد. وقوله (انك امرؤ تائه) من التيه
بكسر التاء المفازة، والتيهاء بالفتح والمد مثله. وهي التي لا علامة فيها يهتدى بها
وتاه الانسان في المفازة يتيه تيها ضل عن الطريق، وتاه يتوه توها لغة، وقد
تيهته وتوهته. ومنه يستعار لمن رام أمرا فلم يصادف الصواب، فيقال إنه تائه.
253

وقوله (الواصلة) وصلت المرأة شعرها بشعر غيره وصلا فهي واصلة،
(واستوصلت) سألت أن يفعل بها ذلك، واسم الفاعل هنا مقرونا باسم المفعول
(الواصلة والموصولة) معناه التي تصل الشعر لغيرها، والموصولة اتى يفعل بها
ذلك (والواشمة والموشومة) وشمت المرأة يدها من باب وعد غرزتها بإبرة
ثم ذرت عليها النؤر، وهو النيلج وتسميه العامة بمصر النيلة، وهو دخان
الشحم، حتى يخضر.
أما الأحكام فلا يصح عندنا نكاح المتعة، وهو أن يتزوج لمدة معلومة أو
مجهولة بأن يقول زوجني ابنتك شهرا أو أيام الموسم، وبه قال جميع الصحابة
رضوان الله عليهم والتابعين والفقهاء إلا ابن جريج فإنه قال يصح، وقد ورد
ابن جريج خطأ في نيل الأوطار بابن جرير والصواب ما ذكرنا. وقال ابن المنذر
جاء عن الأوائل الرخصة فيها، ولا أعلم اليوم أحدا يجيزها إلا بعض الرافضة،
ولا معنى يخالف كتاب الله وسنة رسوله.
(قلت) ودليل المجيزين ما ثبت من اباحته صلى الله عليه وسلم لها في مواطن
متعددة، منها في عمرة القضاء، كما أخرجه عبد الرزاق عن الحسن البصري وابن
حبان عن سبرة، ومنها في خيبر كما في حديث ابن مسعود، ومنها عام الفتح كما في
حديث سبرة أيضا. ومنها يوم حنين رواه النسائي من حديث على. قال في الفتح
ولعله تصحيف عن خيبر، وذكره الدارقطني بلفظ حنين، ووقع في حديث سلمة
في عام أوطاس. قال السبيلي: وهو موافق لرواية من روى عام الفتح، فإنهما
كانا في عام واحد، ومنها في تبوك رواه الحازمي والبيهقي عن جابر ولكنه لم يبحها
لهم النبي صلى الله عليه وسلم قال (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غزوة تبوك
حتى إذا كنا عند الثنية مما يلي الشام جاءتنا نسوة تمتعنا بهن يطفنا برجالنا، فسألنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن فأخبرناه، فغضب وقام فينا خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه
ونهى عن المتعة، فتوادعنا يومئذ ولم نعد، ولا نعود فيها أبدا، فلهذا
سميت ثنية الوداع، قال الذهبي وهذا اسناد ضعيف، لكن عند ابن حبان من
حديث أبي هريرة ما يشهد له.
قال ابن حجر. انه لا يصح من روايات الاذن بالمتعة شئ بغير علة الا في
254

غزوة الفتح لان الاذن في عمرة القضاء من مراسيل الحسن وكل مراسيله ضعيفة
وعلى تقدير ثبوته فلعله أراد أيام خيبر، لان القضاء وخيبر كانا في سنة واحدة،
كالفتح وأوطاس، ويبعد كل البعد أن يقع في غزوة أوطاس بعد أن يقع التصريح
في أيام الفتح قبلها فإنها حرمت إلى يوم القيامة
(مسألة) وأما نكاح المحلل فإن الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا فإنها لا تحل له
إلا بعد زوج وإصابة، فإذا طلق امرأته وانقضت عدتها منه ثم تزوجت بآخر
بعده ففيها ثلاث مسائل إحداهن أن يقول: زوجتك ابنتي إلى أن تطأها أو إلى
أن تحللها للأول، فإذا أحللتها فلا نكاح بينكما، وهذا باطل بلا خلاف للأحاديث
في لعن المحلل والمحلل له ووصفه بالتيس المستعار، ولان هذا أفسد من نكاح
المتعة لأنه يعقده إلى مدة مجهولة. الثانية أن يقول: زوجتك ابنتي على أنك ان
وطئتها طلقتها. أو قال تزوجتك على أنى إذا أحللتك للأول طلقتك، وكان هذا
الشرط بنفس العقد ففيه قولان.
(أحدهما) أن النكاح باطل لقوله صلى الله عليه وسلم (لعن الله المحلل
والمحلل له) ولم يفرق
(والثاني) أن النكاح صحيح، والشرط باطل لأن العقد وقع مطلقا من غير
توقيت، وأنه شرط على نفسه الطلاق ولم يؤثر في النكاح، وإنما بطل المهر، كما
لو شرط أن لا يتزوج عليها أو لا يتسرى عليها.
(الثالثة) ان شرط عليه قبل النكاح أنه إذا أحللها للأول طلقها أو تزوجها
أو نوى بنفسه ذلك فعقد النكاح عقدا مطلقا فيكره له ذلك، فإن عقد كان العقد
صحيحا، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه. وقال مالك والثوري والليث وأحمد
والحسن والنخعي وقتادة رضي الله عنهم لا يصح.
دليلنا ما روى الشافعي رضي الله عنه أن امرأة طلقها زوجها ثلاثا وكان
مسكين أعرابي يقعد بباب المسجد، فجاءته امرأة فقالت: هل لك في امرأة تنكحها
وتبيت معها ليلة فإذا أصبحت فارقتها؟ فقال نعم، قال فكان ذلك، فلما تزوجها
قالت له المرأة انك إذا أصبحت فسيقولون لك طلقها فلا تفعل، فإني لك كما ترى
255

واذهب إلى عمر رضي الله عنه، فلما أصبح أتوه وأتوها فقالت لهم: أنتم جئتم به
فسألوه أن يطلقها فأبى، وذهب إلى عمر رضي الله عنه فأخبره، فقال له: الزم
زوجتك، وإن رابوك بريب فأتني، وبعث إلى المرأة الواسطة فنكل بها. وكان
يغدو بعد ذلك ويروح على عمر رضي الله عنه في حلة، فقال له عمر رضي الله عنه
الحمد لله يا ذا الرقعتين الذي رزقك حلة تغدو بها وتروح ولم ينكر أحد على عمر،
فدل على أنه إجماع.
وقال أحمد: حديث ذي الرقعتين ليس له إسناد، يعنى أن ابن سيرين لم يذكر
إسناده إلى عمر (قلت) ولعل ذا الرقعتين لم يقصد التحليل ولا نواه، وقد وافق
ذلك ما انتوته زوجته.
(فرع) عقد المصنف هذا الفصل وسيأتي في باب الخيار في النكاح والرد
بالعيب مزيد، وجملة ما ههنا أنه ان تزوج امرأة بشرط الخيار بطل العقد لأنه
لا مدخل للخيار فيه فأبطله، فإن شرط في العقد أنه لا يطؤها ليلا بطل الشرط
لقوله صلى الله عليه وسلم (والمؤمنون عند شروطهم إلا شرطا أحل حراما أو
حرم حلالا) رواه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة والحاكم عن أنس والطبراني
عن عائشة ورافع بن خديج وقد مضى في البيوع، فإن كان هذا الشرط من قبل
الزوج لم يبطل العقد، لان ذلك حق له، وإن كان الشرط من جهة المرأة بطل
العقد لان ذلك حق عليها والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجوز التعريض بخطبة المعتدة عن الوفاة والطلاق الثلاث لقوله
تعالى (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء) ولما روت فاطمة بنت
قيس (أن أبا حفص بن عمرو طلقها ثلاثا، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبقيني
بنفسك فزوجها بأسامة رضي الله عنه)
ويحرم التصريح بالخطبة، لأنه لما أباح التعريض دل على أن التصريح محرم
ولان التصريح لا يحتمل غير النكاح، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح
256

فتخبر بانقضاء العدة والتعريض يحتمل غير النكاح فلا يدعوها إلى الاخبار
بانقضاء العدة، وان خالعها زوجها فاعتدت لم يحرم على الزوج التصريح بخطبتها،
لأنه يجوز له نكاحها فهو معها كالأجنبي مع الأجنبية في غير العدة، ويحرم على
غيره التصريح بخطبتها لأنها محرمة عليه، وهل يحرم التعريض، فيه قولان
(أحدهما) يحرم لان الزوج يملك أن يستبيحها في العدة، فلم يجز لغيره
التعريض بخطبتها كالرجعية.
(والثاني) لا يحرم لأنها معتدة بائن، فلم يحرم التعريض بخطبتها كالمطلقة
ثلاثا، والمتوفى عنها زوجها، والمرأة في الجواب كالرجل في الخطبة فيما يحل
وفيما يحرم، لان الخطبة للعقد فلا يجوز أن يختلفا في تحليله وتحريمه، والتصريح
أن يقول إذا انقضت عدتك تزوجتك أو ما أشبهه، والتعريض أن يقول رب
راغب فيك. وقال الأزهري أنت جميله وأنت مرغوب فيك، وقال مجاهد مات
رجل وكانت امرأته تتبع الجنازة، فقال لها رجل لا تسبقينا بنفسك، فقالت قد
سبقك غيرك، ويكره التعريض بالجماع لقوله تعالى (ولكن لا تواعدوهن سرا)
وفسر الشافعي رحمه الله السر بالجماع، فسماه سرا لأنه يفعل سرا، وأنشد فيه
قول امرئ القيس.
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني * كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
ولان ذكر الجماع دناءة وسخف
(الشرح) حديث زواج فاطمة بنت قيس بأسامة مضى في الفصول الأولى
من النكاح، وقد رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الخمسة وبيت امرؤ القيس
من قصيدة مطلعها
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي * وهل يعمن من كان في العصر الخالي
حتى قال: ألا زعمت بسباسة اليوم انني * كبرت وأن لا يحسن السر أمثالي
كذبت لقد أصبى على المرء عرسه * وأمنع عرسي أن يزن به الخالي
وفى بعض الروايات وأن لا يحسن اللهو أمثالي، وهي في الدواوين المطبوعة
هكذا، إلا أن رواية الشافعي أضبط وهو الأديب الشاعر الذواقة القريب عهده
257

بامرئ القيس. وبسباسة اسم امرأة، وقد فضح امرؤ القيس نفسه بتسجيل اتهام
بسباسة له بضعف الباه، وقد حدث أن طلق أم جندب لأنها انحازت لعلقمة في
مقارضة بينهما في وصف الصيد فاتهمها بأنها له وامض، وقد قالت له إني أكرهك
فقال ولم؟ قالت لأنك ثقيل صدرك خفيف عجزك، سريع الإراقة بطئ الإفاقة
فلما طلقها تزوجت بعلقمة فدعى علقمة الفحل، لأنه كان أقوى على جماعها منه،
وكان امرؤ القيس ملكا على كندة ثم سلب ملكه وفر إلى الروم ومات قبل البعثة
وإطلاق السر على الجماع كإطلاق الغيب على الفرج في قوله تعالى (فالصالحات
قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله)
أما أحكام الفصل فقد روى البخاري عن ابن عباس (فيما عرضتم به من
خطبة النساء. يقول إني أريد التزويج ولوددت أنه يسر لي امرأة صالحه) وعن
سكينة بنت حنظلة قالت (استأذن على محمد بن علي (وهو محمد الباقر بن علي
زين العابدين بن الحسين) ولم تنقض عدتي من مهلكة زوجي، فقال قد عرفت
قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرابتي من على وموضعي من العرب،
(قلت) غفر الله لك يا أبا جعفر، إنك رجل يؤخذ عنك، وتخطبني في عدتي؟
فقال إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن على. وقد
دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وهي متأيمة من أبى سلمة، فقال لقد علمت
أنى رسول الله وخيرته من خلقه وموضعي من قومي، كانت تلك خطبته) رواه
الدارقطني من طريق عبد الرحمن بن سليمان بن الغسيل وسكينة عمته، وهو
منقطع في خبر أم سلمة، لان محمدا لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم، فمن التعريض
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس لا تفوتينا بنفسك
قال الزمخشري في الكشاف: التعريض أن يذكر المتكلم شيئا يدل به على
شئ لم يذكره. واعترض على الزمخشري بأن هذا التعريف لا يخرج المجاز،
وأجيب بأنه لم يقصد التعريف، ثم حقق التعريض بأنه ذكر شئ مقصود بلفظ
حقيقي أو مجازي أو كنائي ليدل به على شئ آخر لم يذكر في الكلام، مثل أن
يذكر المجئ للتسليم، ومراده التقاضي. فالسلام مقصود والتقاضي عرض، أي
أميل إليه الكلام عن عرض، أي جانب. وامتاز عن الكناية فلم يشتمل على جميع
258

أقسامها، والحاصل أنهما يجتمعان ويفترقان، فمثل: جئت لأسلم عليك كناية
وتعريض. ومثل طويل النجاد، كناية لا تعريض، ومثل آذيتني فستعرف.
خطابا لغير المؤذى تعريض بتهديد المؤذى لا كناية والتعريض كالتلويح والتلميح والتورية
قال الشافعي رضي الله عنه في الآية (ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة
النساء) الآية، قال وبلوغ الكتاب أجله والله أعلم انقضاء العدة قال: فبين
في كتاب الله تعالى أن الله فرق في الحكم بين خلقه وبين أسباب الأمور وعقد
الأمور وبين إذ فرق الله تعالى ذكره بينهما ان ليس لأحد الجمع بينهما وأن لا يفسد
أمر بفساد السبب إذا كان عقد الامر صحيحا ولا بالنية في الامر، ولا تفسد
الأمور إلا بفساد إن كان في عقدها لا بغيره. ألا ترى أن الله حرم أن يعقد
النكاح حتى تنقضي العدة ولم يحرم التعريض بالخطبة في العدة، ولا أن بذكرها
وينوى نكاحها بالخطبة لها والذكر لها والنية في نكاحها إلى أن قال قول
الله تبارك وتعالى (ولكن لا تواعدوهن سرا) يعنى والله تعالى أعلم جماعا (إلا
أن تقولوا قولا معروفا) قولا حسنا لا فحش فيه. إلى أن قال: والتعريض الذي
أباح الله ما عدا التصريح من قول. وذلك أن يقول: رب متطلع إليك وراغب
فيك وحريص عليك، وإنك لبحيث تحبين، وما عليك أيمة، وإني عليك لحريص
وفيك راغب، وما كان في هذا المعنى مما خالف التصريح، والتصريح أن يقول
تزوجيني إذا حللت، أو أنا أتزوجك إذا حللت، وما أشبه ذلك مما جاوز به
التعريض، وكان بيانا أنه خطبة لا أنه يحتمل غير الخطبة، اه‍
وقال المسعودي هل يجوز التعريض بخطبة البائن بالثلاث، فيه قولان.
والمشهور هو الأول لحديث فاطمة بنت قيس، ويحرم التصريح بخطبتها لان الله
تعالى لما أباح التعريض بالخطبة دل على أنه لا يجوز التصريح بها، ولان التعريض
يحتمل النكاح وغيره، والتصريح لا يحتمل غير النكاح فلا يؤمن أن يحملها الحرص
على النكاح أن تخبر بانقضاء عدتها قبل انقضائها. وأما البائن التي تحل لزوجها فهي التي طلقها
زوجها طلقة أو طلقتين بعوض أو فسخ أحدهما النكاح بعيب فيجوز لزوجها التعريض
بخطبتها والتصريح لأنها تحل له بعقد النكاح. وأما غير زوجها فلا يحل له التصريح
بخطبتها كالبائن بالثلاث. وهل يجوز التعريض بخطبتها، فيه قولان
259

(أحدهما) يجوز له التعريض بخطبتها لأنها معتدة بائن عن زوجها، فهي
كالبائن بالوفاة أو بالثلاث.
(والثاني) لا يجوز له لأنها تحل لزوجها في حال العدة فهي كالرجعية. قال
الشافعي رضي الله عنه: وكل معتدة حل للزوج التعريض بخطبتها حل لها التعريض
بإجابته، وكل من لا يحل له التعريض بخطبتها والتصريح لم يحل لها إجابته بتعريض
ولا بتصريح، لأنه لا يحل له ما يحرم عليها ولا يحل لها ما يحرم على فتساويا.
إذا ثبت هذا فالتصريح ما لا يحتمل غير النكاح، مثل أن يقول: أنا أريد أن
أتزوجك، أو إذا انقضت عدتك تزوجتك، والتعريض بكل كلام احتمل النكاح
وغيره كأن يقول: إن الله ليسوق إليك خيرا أو رزقا كان ذلك تعريضا. هذا
مذهبنا. وقال داود: لا تحل الخطبة سرا وإنما تحل علانية لقوله تعالى (ولكن
لا تواعدوهن سرا) فهذا ليس بصحيح لان الله تعالى لم يرد بالسر ضد الجهر،
وإنما أراد أن لا يعرض للمعتدة بالجماع ولا يصرح به مثل أن يقول: عندي جماع
يصلح لمن جومعه، ولا يكره للرجل التعريض لزوجته بالجماع ولا التصريح به لأنه
لا يكره له جماعها فلان لا يكره له ذكره أولى، والآية وردت في المعتدات، فإن
عرض بخطبة امرأة لا يحل له التعريض بخطبتها أو صرح بخطبتها ثم
انقضت عدتها وتزوجها صح نكاحها.
وقال مالك: يبينها بطلقة واحدة. دليلنا أن النكاح حادث بعد المعصية فلا
تؤثر المعصية فيه، كما لو قال لا أتزوجها إلا بعد أن أراها متجردة، فتجردت له
ثم نكحها. أو قالت لا أرضى نكاحه حتى يتجرد لي أو حتى يجامعني، فتجرد لها
أو جامعها ثم تزوجها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ومن خطب امرأة فصرح له بالإجابة حرم على غيره خطبتها إلا
أن يأذن فيه الأول، لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه، حتى يترك الخاطب الأول أو يأذن
له فيخطب) وان لم يصرح له بالإجابة ولم يعرض له لم يحرم على غيره، لما روى
260

أن فاطمة بنت قيس قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إن معاوية وأبا الجهم
خطباني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما أبو الجهم فلا يضع العصا عن عاتقه
وأما معاوية فصعلوك لا مال له فانكحي أسامة)
وان عرض له بالإجابة ففيه قولان، قال في القديم تحرم خطبتها لحديث
ابن عمر رضي الله عنه، ولان فيه إفسادا لما تقارب بينهما. وقال في الجديد
لا تحرم لأنه لم يصرح له بالإجابة فأشبه إذا سكت عنه، فإن خطب على خطبة
أخيه في الموضع الذي لا يجوز فتزوجها صح النكاح، لان المحرم سبق العقد فلم
يفسد به العقد. وبالله التوفيق.
(الشرح) حديث ابن عمر رواه أحمد والبخاري والنسائي. وقد روى أحمد ومسلم
عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (المؤمن أخو المؤمن فلا يحل
للمؤمن أن يبتاع على بيع أخيه ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر) وأخرج
البخاري والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم (لا يخطب أحدكم
على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك)
وفى لفظ للبخاري من حديث ابن عمر (نهى أن يبيع بعضكم على بيع بعض
أو يخطب) وفى لفظ لأحمد من حديث الحسن عن سمرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه) وقد استدل الجمهور على تحريم الخطبة
على الخطبة بهذه الأحاديث الناهية وجزموا بالتحريم.
وحكى النووي أن النهى فيه للتحريم بالاجماع. وقال الخطابي ان النهى ههنا
للتأديب وليس بنهي تحريم يبطل العقد عند أكثر الفقهاء، قال الحافظ
ولا ملازمه بين كونه للتحريم وبين البطلان عند الجمهور، بل هو عندهم للتحريم
ولا يبطل العقد. ولكنهم اختلفوا في شروطه، فقالت الشافعية والحنابلة محل
التحريم إذا صرحت المخطوبة بالإجابة أو وليها الذي أذنت له. وأما ما احتج به
من حديث فاطمة بنت قيس الذي مضى تخريجه في الكفاءة أن معاوية وأبا الجهم
خطباها فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليهما، بل خطبها لأسامة فليس
261

فيه حجة كما قال النووي لاحتمال أن يكونا خطباها معا أو لم يعلم الثاني بخطبة الأول
والنبي صلى الله عليه وسلم أشار بأسامة ولم يخطب، وعلى تقدير أن ذلك كان
خطبة فلعله كان بعد ظهور رغبتهما عنها، وظاهر حديث فاطمة أن أسامة خطبها
مع معاوية وأبى الجهم فهي عند أحمد ومسلم وأصحاب السنن الخمسة: أبى داود
والترمذي وابن ماجة والنسائي والدارقطني (قالت: وقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا حللت فآذنيني فأذنته فخطبها معاوية وأبو الجهم وأسامة بن زيد. الحديث)
وعن بعض المالكية لا تمتنع الخطبة إلا بعد التراضي على الصداق. ولا دليل
على ذلك. وقال داود: إذا تزوجها الثاني فسخ النكاح قبل الدخول وبعده.
وللمالكية في ذلك قولان، فقال بعضهم يفسخ قبله لا بعده. قال في الفتح:
وحجة الجمهور أن المنهى عنه الخطبة وهي ليست شرطا في صحة النكاح فلا يفسخ
النكاح بوقوعها غير صحيحة.
قال في الام: وإن قالت امرأة لوليها زوجني من شئت أو ممن ترى، حل لكل
أحد خطبتها لحديث فاطمة بنت قيس قالت: طلقني زوجي أبو حفص بالشام
ثلاثا فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك فأمرني أن أعتد في بيت
أم مكتوم وقال: إذا حللت فآذنيني، فلما انقضت عدتي أتيته فأخبرته وقلت له
إن معاوية وأبا جهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أما معاوية فصعلوك
لا مال له: وأما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه، ولكن أدلك على من هو
خير لك منهما، قلت ومن يا رسول الله؟ قال أسامة بن زيد، قلت أسامة.
قال نعم أسامة. الخ الحديث.
قال الشافعي رضي الله عنه، ولم تكن فاطمة رضي الله عنها أذنت في نكاحها
من معاوية ولا من أبى الجهم، وإنما كانت تستشير النبي صلى الله عليه وسلم،
ومعلوم أن الرجلين إذا خطبا امرأة خطبها أحدهما بعد الاخر فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم
على الأخير منهما ثم خطبها النبي صلى الله عليه وسلم لثالث بعدهما فدل على جوازه
وإن خطب رجل امرأة إلى وليها وكان ممن يخيرها فعرض له بالإجابة، ولم يصرح
مثل أن يقول أنا أستشير في ذلك، أو أنت مرغوب فيك، أو يشترط بشرائط
العقد مثل تقديم المهر وغيره، فهل يحرم على غيره خطبتها، فيه قولان،
262

قال في القديم يحرم على غيره خطبتها، وبه قال مالك وأبو حنيفة لقوله صلى الله
عليه وسلم (لا يخطب الرجل على خطبة أخيه) ولم يفصل. ولان فيه إفسادا لما
يقارب بينهما.
وقال في الجديد لا يحرم على غيره خطبتها، وهو الصحيح، لان النبي صلى الله عليه وسلم
خطب فاطمة بنت قيس لأسامة بعد أن أخبرته أن معاوية وأبا الجهم خطباها
ولم يسألها هل ركنت إلى أحدهما أو رضيت به أم لا، فدل على أن الحكم
لا يختلف بذلك، لأن الظاهر من حالها أنها ما جاءت تستشيره إلا وقد رضيت
بذلك وركنت إليه.
قال الصيمري فإن خطب رجل خمس نسوة جملة واحدة فأذن في نكاحه لم
يحل لاحد خطبة واحدة منهن حتى يترك أو يعقد على أربع، فيحل خطبة
الخامسة، وان خطب كل واحده وحدها فأذنت كل واحدة في نكاحه لم يجز لغيره
خطبة الأربع الأولات، ويحل خطبة الخامسة لغيره.
إذا ثبت هذا، فإن خطب رجل امرأة في الحالة التي قلنا لا يحل له خطبتها
فيه وتزوجها صح ذلك. وقال داود لا يصح، وحكاه ابن الصباغ عن مالك
رضي الله عنه. دليلنا أن المحرم إنما يفسد العقد إذا قارنه، فأما إذا تقدم عليه لم
يفسده، كما لو قالت امرأة لا أتزوج فلانا حتى أراه مجردا فتجرد ثم تزوج بها.
إذا تقرر هذا فذكر أصحابنا في حديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها فوائد
(وقد مر نصه) وقد اختلفت الروايات فيه، فروى أن زوجها طلقها بالشام
فجاءها وكيله بشعير فسخطت به، فقال لها (مالك علينا شئ) فأتت النبي صلى الله عليه وسلم
تستفتيه فقال لها (لا نفقة لك الا أن تكوني حاملا) فإحدى فوائد الخبر انه
دل على جواز الطلاق.
(الثانية) انه يدل على جواز الطلاق الثلاث (الثالثة) ان طلاق الغائب يقع
(الرابعة) انه يجوز للمرأة ان تستفتي لان النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها
(الخامسة) أن كلامها ليس بعورة (السادسة) انه يجوز للمعتدة أن تخرج من
منزلها لحاجة (السابعة) انه لا نفقة للمبتوتة الحائل خلافا لأبي حنيفة
(الثامن) ان للحامل المبتوتة النفقة (التاسعة) يدل على جواز نقل المعتدة
263

عن بيت زوجها، واختلف لأي معنى نقلها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال
ابن المسيب كانت بذيئة أو كانت تستطيل على أحمائها. وقالت عائشة أم المؤمنين
عليها السلام: كان بيت زوجها وحشا فخيف عليها فيه، وأي الروايتين صح مع
الخبر دليل على جواز النقل لأجله (العاشرة) يدل على جواز التعريض بالخطبة
للمعتدة (الإحدى عشرة) أنه يجوز للرجل أن يعرض المعتدة بالخطبة لغيره لان
النبي صلى الله عليه وسلم عرض لها في الخطبة لأسامة بن زيد رضي الله عنهما
لا لنفسه (الاثنتا عشرة) انه يجوز للمرأة أن تستشير الرجال لأنها جاءت تستشير
النبي صلى الله عليه وسلم
(الثالثة عشرة) يدل على جواز وصف الانسان بما فيه، وإن كان يكره ذلك
للحاجة، لان النبي صلى الله عليه وسلم وصف معاوية رضي الله عنه وأبا جهم
رضي الله عنه بما فيهما وإن كانا يكرها ذلك
(الرابعة عشر) انه يجوز أن يعبر بالأغلب عن الشئ ويذكر العموم
والمراد به الخصوص لان النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما معاوية فصعلوك
لا مال له، ومعلوم انه لا يخلو أن يملك شيئا من المال وإن قل كثيابه وما أشبهها
وإنما أراد أنه لا يملك ما يتعارفه الناس مالا، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم
في أبى جهم لأنه لا يضع عصاه عن عاتقه، وإن كان لا يخلو أن يضعها في بعض
أوقاته، والصعلوك الفقير. قال الشاعر.
غنينا زمانا بالتصعلك والغنى * وكلا سقاناه بكأسيهما الدهر.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لا يضع العصا عن عاتقه ففيه تأويلان. أحدهما
إنه كثير الاسفار. قال الشاعر
فألقت عصاها واستقرت بها النوى * كما قر عينا بالإياب المسافر
فعلى هذا يكون فيه دليل على جواز السفر بغير إذن زوجته (الثاني) أنه أراد
أنه كان كثير الضرب لزوجته، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: لا ترفع عصاك
على أهلك، أي في التأديب في الكلام أو الضرب، فعلى هذا التأويل يدل على
جواز ضرب الزوج لزوجته لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يخرجه مخرج النكير
264

وقال بعضهم: يدل على أنه كثير الجماع. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لا ترفع
عصاك عن أهلك. أراد به الكناية عن الجماع، فيكون في هذه الدلالة دلالة على
جواز الكناية بالجماع، وهذا غلط في التأويل، لأنه ليس من الكلام ما يدل على
أنه أراد هذا.
قال الصيمري: ولو قيل إنه أراد بقوله صلى الله عليه وسلم هذا كثرة الجماع
أي أنه كثير التزويج لكان أشبه (الثامنة عشرة) يدل على جواز خطبة الرجل،
لان النبي صلى الله عليه وسلم خطبها لأسامة (التاسعة عشرة) أنه يجوز للرجل
أن يخطب امرأة قد خطبها غيره إذا لم يتقدم إجابة للأول
(العشرون) أنه يجوز للمستشار أن يشير على المستشير بما لم يسأله عنه لأنها
لم تستشر في أسامة رضي الله عنه (الإحدى والعشرون) انه لا يجب على المستشير
المصير إلى ما أشار به المشير لان النبي صلى الله عليه لم يقل لها يجب عليك المصير
إلى ما أشرت به، وإنما أعاد ذلك عليها على سبيل المشورة.
(الثالثة والعشرون) أن الخير لا يختص بالنسب، لان النبي صلى الله عليه وسلم قال
أدلك على من هو خير منهما، ونسبهما خير من نسبه (الرابعة والعشرون) أن
الكفاءة ليست بشرط في النكاح، لأنها قرشية وأسامة مولى
(الخامسة والعشرون) أنه يجوز أن يخطب المرأة إلى نفسها، وإن كان لها
ولى. والله تعالى أعلم بالصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الخيار في النكاح والرد بالعيب
إذا وجد الرجل امرأته مجنونة أو مجذومة أو برصاء أو رتقاء وهي التي
انسد فرجها أو قرناء وهي التي في فرجها لحم يمنع الجماع، ثبت له الخيار.
وان وجدت المرأة زوجها مجنونا أو مجذوما أو أبرص أو مجبوبا أو عنينا، ثبت
لها الخيار، لما روى زيد بن كعب بن عجرة قال (تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة
من بنى غفار فرأى بكشحها بياضا فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم البسي ثيابك والحقي بأهلك)
265

فثبت الرد بالبرص بالخبر. وثبت في سائر ما ذكرناه بالقياس على البرص، لأنها
في معناه في منع الاستمتاع.
وإن وجد أحدهما الآخر وله فرج الرجال وفرج النساء ففيه قولان:
(أحدهما) يثبت له الخيار، لان النفس تعاف عن مباشرته فهو كالأبرص
(والثاني) لا خيار له، لأنه يمكنه الاستمتاع به.
وإن وجدت المرأة زوجها خصيا ففيه قولان.
(أحدهما) لها الخيار، لان النفس تعافه (والثاني) لا خيار لها لأنها تقدر
على الاستمتاع به، وإن وجد أحدهما بالآخر عيبا وبه مثله، بأن وجده أبرص
وهو أبرص ففيه وجهان.
(أحدهما) له الخيار، لان النفس تعاف من عيب غيرها وإن كان بها مثله
(والثاني) لا خيار له لأنهما متساويان في النقص فلم يثبت لهما الخيار، كما لو تزوج
عبد بأمة. وإن حدث بعد العقد عيب يثبت به الخيار، فإن كان بالزوج، ثبت
لها الخيار، لان ما ثبت به الخيار إذا كان موجودا حال العقد ثبت به الخيار إذا
حدث بعد العقد كالاعسار بالمهر والنفقة. وإن كان بالزوجة ففيه قولان.
(أحدهما) يثبت به الخيار، وهو قوله في الجديد، وهو الصحيح، لان
ما ثبت به الخيار في ابتداء العقد ثبت به الخيار إذا حدث بعده كالعيب في الزوج
(والثاني) وهو قوله في القديم أنه لا خيار له، لأنه يملك أن يطلقها.
(الشرح) خبر زيد بن كعب بن عجرة رواه أحمد هكذا: حدثنا القاسم المزني
قال أخبرني جميل بن زيد قال: صحبت شيخا من الأنصار ذكر أنه كانت له صحبة
يقال له كعب بن زيد أو زيد بن كعب، فحدثني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
تزوج امرأة من غفار فلما دخل عليها وضع ثوبه وقعد على الفراش أبصر بكشحها
بياضا، فانحاز عن الفراش ثم قال: خذي عليك ثيابك ولم يأخذ مما آتاها شيئا (
وهذا يدور سنده على رجلين هما موضع نظر، أولهما جميل بن زيد وثانيهما
زيد بن كعب أو كعب بن زيد، ونتكلم عن الثاني لشرف الصحبة فنقول:
266

رواية أحمد كما عرفت زيد بن كعب ولم تعرف من الصحابة سوى زيد بن كعب
البهزي ثم السلمي صاحب الظبي الحاقف وكان صائده، وقد سقناه في اللقطة،
ومن قبل ساقه النووي في الصيد، وليس هو الذي حدث جميلا، وإن كان كعب
ابن زيد فليس عندنا مصدر يعرفنا به سوى جميل بن زيد. ولذلك جاء التعريف
به في الاستيعاب هكذا: كعب بن زيد ويقال زيد بن كعب. روى قصة الغفارية
التي وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم البياض بكشحها. روى عنه جميل بن زيد
وفى الخبر اضطراب. اه‍
ويأتي الحاكم فيروي عن جميل هذا فيقول عن جميل بن زيد الطائي عن زيد
ابن كعب بن عجرة عن أبيه، فيكون الصحابي هنا كعب بن عجرة الأنصاري وهو
من مشاهير الصحابة فلا يناسبه ما في رواية أحمد صحبت شيخا ذكر أنه كانت له
صحبة يقال له الخ.
ويأتي إسماعيل بن زكريا فيقول: حدثنا جميل بن زيد، حدثنا ابن عمر قال
تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وخلى سبيلها. الحديث
فهو تارة يرويه عن زيد بن كعب أو كعب بن زيد شيخ ذكر أن له صحبة،
وتاوة يرويه عن زيد بن كعب بن عجرة الأنصاري عن أبيه، وتارة يرويه عن
ابن عمر مع أن ابن حبان يقول روى عن ابن عمر ولم ير ابن عمر. وقال ابن معين
جميل بن زيد ليس بثقة. وقال البخاري لم يصح حديثه. وروى أبو بكر بن عياش
عن جميل قال (هذه أحاديث ابن عمر، ما سمعت من ابن عمر شيئا، إنما قالوا لي
اكتب أحاديث بن عمر فقدمت المدينة فكتبتها.
وقال أبو القاسم البغوي في معجمه الاضطراب في حديث الغفارية منه، يعنى
تارة عن ابن عمر وتارة عن هذا وتارة عن ذاك. قال وقدر روى أحاديث عن ابن
عمر يقول فيها (سألت ابن عمر، مع أنه لم يسمع من ابن عمر شيئا) وقال أبو حاتم
والبغوي (ضعيف الحديث) وقال النسائي (ليس بثقة) وقد قال العلامة السفاريني
في كتابه نفثات صدر المكمد وقوة عين الأرمد لشرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد
قال ابن حبان (جميل بن زيد دخل المدينة بعد موت ابن عمر رضي الله عنهما.
267

فجمع أحاديثه ثم رجع إلى البصرة فرواها، ورواه سعيد بن منصور في سننه عن
زيد بن كعب بن عجرة ولم يشك، وكذا قال الإمام ابن القيم في الهدى: زيد بن
كعب بن عجرة. اه‍
والحاصل أن الحديث لم يثبت من طريق آخر فآفته في جميع الكتب جميل
ابن زيد. ولذلك لا نستطيع أن نجزم بواقعة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من
الغفارية. أما أحكام الرد بالعيب في النكاح فإنها ثبتت بالقواعد الكلية في العقود
والمعاوضات وغير ذلك على ما سيأتي، ولكن ابن حجر يصحح رواية الشافعي
من طريق مالك وابن أبي شيبة عن أبي إدريس عن يحيى قال: ورجاله ثقات
أما اللغات فقوله (أبصر بكشحها) أي خصرها أو بطنها، والكشح ما بين
الخاصرة إلى الضلع الخلف. وفى حديث سعد: إن أميركم هذا لاهضم الكشحين
أي دقيق الخصرين.
وقوله (بياضا) يحتمل أن يكون بهقا ويحتمل أن يكون برصا، وهو الأصح
وإن كان كل منهما تكرهه النفس. قوله (امرأة من غفار) قيل اسمها الغالية،
وقيل أسماء بنت النعمان، قاله الحاكم، يعنى الجونية. وقال الحافظ بن حجر.
الحق أنها غيرها.
أما الأحكام فإنه إذا وجد أحد الزوجين عيبا بالآخر ثبت له الخيار في فسخ
النكاح، والعيوب التي يثبت لأجلها الخيار في النكاح خمسة، ثلاثة يشترك فيها
الزوجان، وينفرد كل واحد منهما باثنين، فأما الثلاثة التي يشتركان فيها،
فالجنون والجذام والبرص، وينفرد الرجل بالجب والعنة وتنفرد المرأة بالرتق
والقرن، فالرتق أن يكون فرج المرأة مسدودا يمنع من دخول الذكر، والقرن
قيل هو عظم يكون في فرج المرأة يمنع من الوطئ. والمحققون يقولون هو لحم
ينبت في الفرج يمنع من دخول الذكر، مثل أن يتورم الرحم وتنشأ عليه أورام
سرطانية تسد مدخل فرجها، وإنما يصيب المرأة ذلك في بعض حالات الولادة،
هذه العيوب يثبت بها الخيار. هذا مذهبنا وبه قال عمر رضي الله عنه وابن عباس
رضي الله عنهما ومالك وأحمد وإسحاق.
وقال علي كرم الله وجهه وابن مسعود رضي الله عنه لا ينفسخ النكاح بالعيب
268

واليه صار النخعي والثوري وأبو حنيفة، إلا أنه قال إذا وجدت المرأة زوجها
مجبوبا أو عنينا كان لها الخيار، فإن اختارت فرق بينهما الحاكم بتطليقها. دليلنا
الخبر المذكور وما قاله عمر رضي الله عنه فيما روى يحيى بن سعيد الأنصاري
عن سعيد بن المسيب عنه رضي الله عنه: أيما امرأة زوجت وبها جنون أو جذام
أو برص فدخل بها، ثم اطلع على ذلك فلها مهرها بمسيسه إياها، وعلى الولي
الصداق بما دلس كما غره. وكذا روى الشعبي عن علي رضي الله عنه (أيما امرأة
نكحت وبها برص أو جنون أو جذام أو قرن، فزوجها بالخيار ما لم يمسها،
إن شاء أمسك والا طلق. وان مسها فلها المهر بما استحل من فرجها. ولان
المجنون منهما يخاف منه على الآخر وعلى الولد، والجب والعنة والرتق والقرن
يتعذر معها مقصود الوطئ والجذام والبرص تعاف النفوس من مباشرته.
قال الشافعي رضي الله عنه (ويخاف منهما العدوي للآخر والى النسل (
فإن قيل فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لا عدوي ولا هامة ولا صفر. وقال
صلى الله عليه وسلم (لا يعدى شئ شيئا) فقال أعرابي يا رسول الله ان الثفر قد
تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
فما أجرب الأول.
قال أصحابنا وقد وردت أيضا أخبار بالعدوى، فمنها قوله صلى الله عليه وسلم
لا يوردن ذو عاهة على مصح. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تديموا النظر
إلى المجذومين، فمن كلمه منكم فليكن بينهم وبينه قدر رمح.
وروى أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه فأخرج يده فإذا هي
جذماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ضم يدك قد بايعتك، وكان من عادته
صلى الله عليه وسلم المصافحة فامتنع من مصافحته لأجل الجذام، وقال صلى الله عليه
وسلم (فر من المجذوم فرارك من الأسد)
قال العمراني في البيان وإنما نفى النبي صلى الله عليه وسلم العدوي الذي يعتقده
الملاحدة، وهو أنهما يعتقدون أن الأدواء تعدى بأنفسها وطباعها. وليس هذا
بشئ وإنما العدوي الذي نريده أن يقول إن الداء جرت العادة أن يخلق الداء
عند ملاقاة الجسم الذي فيه الداء، كما أنه أجرى العادة أن يخلق الأبيض بين
269

الأبيضين والأسود بين الأسودين، وإن كان في قدرته أن يخلق الأبيض من
الأسودين لا أن هذه الأدواء تعدى بنفسها.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم (لا هامة ولا صفر) فإن أهل الجاهلية كانوا
يقولون: إذا قتل الانسان ولم يؤخذ بثأره خرج من رأسه طائر يصرخ ويقول
أسقوني دم قاتلي. هكذا حكاه ابن الصباغ. وأما الصفر فان أهل الجاهلية كانوا
يقولون في الجوف دابة تسمى الصفر إذا تحركت جاع الانسان وهي أعداء من
الجرب عند العرب، وقيل هو تأخير حرمة المحرم إلى صفر، فأبطل النبي صلى الله
عليه وسلم كل ذلك.
وقد بسط الشافعي رضي الله عنه في أحكام العيب فقال: ولو تزوج الرجل
امرأة على أنها جميلة شابة موسرة تامة بكر فوجدها عجوزا قبيحة معدمة قطعاء
ثيبا أو عمياء أو بها ضر ما كان الضر غير الأربع التي سمينا فيها الخيار يعنى
الجذماء والبرصاء والرتقاء والمجنونة فلا خيار له، وقد ظلم من شرط هذا
نفسه. إلى أن قال: وليس النكاح كالبيع فلا خيار في النكاح من عيب يخص المرأة
في بدنها ولا خيار في النكاح عندنا إلا من أربع. أن يكون حلق فرجها عظما
لا يوصل إلى جماعها بحال، وهذا مانع للجماع الذي له عامة ما نكحها، فإن كانت
رتقاء فكان يقدر على جماعها بحال فلا خيار له، أو عالجت نفسها حتى تصير إلى
أن يوصل إليها فلا خيار للزوج، وإن لم تعالج نفسها فله الخيار إذا لم يصل إلى
الجماع بحال. وإن سألها أن يشقه هو بحديدة أو ما شابهها ويجبرها على ذلك، لم
أجعل له أن يفعل وجعلت له الخيار. وإن فعلته هي فوصل إلى جماعها قبل أن
أخيره لم أجعل له خيارا، ولكن لو كان القرن مانعا للجماع كان كالرتق أو تكون
جذماء أو برصاء أو مجنونة، ولا خيار في الجذام حتى يكون بينا، فأما الزعر في
الحاجب أو علامات ترى أنها تكون جذماء ولا تكون فلا خيار فيه بينهما.
وقال الجنون ضربان، فضرب خنق وله الخيار بقليله وكثيره، وضرب غلبة على
عقله من غير حادث مرض فله الخيار في الحالين معا. وهذا أكثر من الذي
يخنق ويفيق. اه‍
وذهب بعض الحنابلة إلى ما ذهب إليه أصحابنا، إلا أنهم جعلوا خيار العيوب
270

على التراخي، لا يسقط الا أن يوجد منه دلالة على الرضى من قول أو وطئ
أو تمكين مع العلم بالعيب أو يأتي بصريح الرضا، فان ادعى الجهل بالخيار ومثله
يجهله فالأظهر ثبوت الفسخ، هكذا أفاده ابن تيمية. وقال في شرح الثلاثيات
العلامة السفاريني الحنبلي: لابد لصحة فسخ النكاح بأحد العيوب لذكورة من
حكم حاكم خلافا لشيخ الاسلام ابن تيمية.
وقال داود الظاهري وابن حزم ومن وافقهما: لا يفسخ النكاح بعيب البنة،
قال السفاريني، وقال الإمام ابن القيم من علمائنا بسوغ الفسخ بكل عيب ترد
به الجارية في البيع من العمى والخرس والطرش وكونها مقطوعة اليدين أو
الرجلين أو أحدهما أو كون الرجل كذلك، لأن هذه الأمور من أعظم المنفرات
والسكوت عنه من أقبح التدليس والغش وهو مناف للدين، والا طلاق ينصرف
إلى السلامة فهو كالمشروط عرفا. قال والقياس أن كل عيب ينفر أحد الزوجين
منه ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة يوجب الخيار، وهو أولى
من البيع، كما أن الشروط المشروطة في النكاح أولى بالوفاء من شروط البيع اه‍
(فرع) إن وجد كل واحد من الزوجين بصاحبه عيبا فإن كان العيبان من
جنسين بأن كان أحدهما أجذم والاخر أبرص ثبت لكل واحد منهما الخيار لان
نفس الانسان تعاف من داء غيره. وإن كانا من جنس واحد بأن كان كل واحد
منهما أجذم أو أبرص ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يثبت لواحد منهما الخيار لأنهما متساويان في النقص فهو كما
لو تزوج عبد امرأة فكانت أمة
(والثاني) يثبت لكل واحد منهما الخيار لان نفس الانسان تعاف من عيب
غيره وإن كان به مثله. وان أصاب الرجل امرأته قرناء أو رتقاء وأصابنه عنينا
أو مجبوبا ففيه وجهان. أحدهما يثبت لكل واحد منهما الخيار لوجود النقص
الذي يثبت لأجله الخيار. والثاني لا خيار لواحد منهما، لان الرتق والقرن
يمنع الاستمتاع والمجبوب والعنين لا يمكنه الاستمتاع فلم يثبت الخيار.
هذا الكلام في العيوب الموجودة حال العقد التي لم يعلم بها الاخر. فأما إذا
حدث شئ من هذه العيوب بأحد الزوجين بعد العقد نظرت، فإن كان ذلك
271

بالزوج ويتصور فيه حدوث العيوب كلها إلا العنة فإنه لا يتصور أن يكون غير
عنين قبله ثم يكون عنينا بعده، فإذا حدث فيه أحد العيوب الأربعة ثبت للزوجة
الخيار، لان كل عيب ثبت لأجله الخيار إذا كان موجودا حال العقد ثبت لأجله
الخيار إذا حدث بعد العقد كالاعسار بالنفقة والمهر. وإن كان ذلك حادثا في
الزوجة فإنه يتصور بها جميع العيوب الخمسة، فإذا حدث منها شئ فهل يثبت
للزوج فسخ النكاح؟ فيه قولان.
قال في القديم: لا يثبت له الفسخ. وبه قال مالك رضي الله عنه لأنها لم تدلس
عليه، ولأنه يمكن التخلص من ذلك بالطلاق.
وقال في الجديد: يثبت له الخيار في الفسخ، وهو الصحيح، وقد استدل
أصحابنا لصحة هذا بخبر زواج النبي صلى الله عليه وسلم بالغفارية وردها لما وجد
في كشحها بياضا. ولان كل عيب يثبت لأجله الفسخ إذا كان موجوا حال العقد
يثبت لأجله الفسخ إذا حدث كالعيب بالزوج، والقول الأول يمكنه أن يطلق
يبطل بالعيب الموجود حال العقد فإنه يمكنه أن يطلق ومع هذا فثبت له الفسخ.
(فرع) قال في الاملاء: إذا علم بالعيب حال العقد فلا خيار له لأنه عيب
رضى به فلم يكن له الفسخ لأجله، كما لو اشترى شيئا معيبا مع العلم بعيبه. فإن
أصاب أحد الزوجين بالآخر عيبا فرضى به سقط حقه من الفسخ لأجله، فإن
وجد عيبا غيره بعد ذلك ثبت له الفسخ لأجله لأنه لم يرض به، وإن زاد العيب
الذي رآه ورضى به نظرت، فإن حدث في موضع آخر بأن رأى البرص والجذام
في موضع من البدن فرضى به، ثم حدث البرص في موضع آخر من البدن كان له
الخيار في الفسخ، لان هذا غير الذي رضى به، وإن اتسع ذلك الموضع الذي
رضى به لم يثبت له الخيار لأجله، لان رضاه به رضاه بما تولد منه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والخيار في هذه العيوب على الفور، لأنه خيار ثبت بالعيب
فكان على الفور، كخيار العيب في البيع، ولا يجوز الفسخ إلا عند الحاكم
لأنه مختلف فيه.
272

(فصل)
وإن فسخ قبل الدخول سقط المهر، لأنه إن كانت المرأة فسخت
كانت الفرقة من جهتها فسقط مهرها، وإن كان الرجل هو الذي فسخ إلا أنه فسخ
لمعنى من جهة المرأة وهو التدنيس بالعيب فصار كأنها اختارت الفسخ، وإن كان
الفسخ بعد الدخول سقط المسمى ووجب مهر المثل، لأنه يستند الفسخ إلى
سبب قبل العقد فيصير الوطئ كالحاصل في نكاح فاسد فوجب مهر المثل، وهل
يرجع به على من غره؟ فيه قولان.
قال في القديم: يرجع لأنه غره حتى دخل في العقد.
وقال في الجديد: لا يرجع لأنه حصل له في مقابلته الوطئ، فإن قلنا يرجع
فإن كان الرجوع على الولي رجع بجميعه، وإن كان على المرأة ففيه وجهان.
(أحدهما) يرجع بجميعه كالولي (والثاني) يبقى منه شيئا حتى لا يعرى الوطئ
عن بدل. وإن طلقها قبل الدخول ثم علم أن كان بها عيب لم يرجع بالنصف،
لأنه رضى بإزالة الملك والتزام نصف المهر فلم يرجع به
(فصل) ولا يجوز لولي المرأة الحرة ولا لسيد الأمة ولا لولي الطفل
تزويج المولى عليه ممن به هذه العيوب، لان في ذلك إضرارا بالمولى عليه، فإن
خالف وزوج فعلى ما ذكرناه فيمن زوج المرأة من غير كف ء، وإن دعت المرأة
الولي أن يزوجها بمجنون لم يلزمه تزويجها لان عليه في ذلك عارا، وان دعت إلى
نكاح مجبوب أو عنين، لم يكن له أن يمتنع، لأنه لا ضرر عليه في ذلك، وان
دعت إلى نكاح مجذوم أو أبرص ففيه وجهان.
(أحدهما) له أن يمتنع لان عليه في ذلك عارا (والثاني) ليس له أن يمتنع
لان الضرر عليها دونه.
(فصل) وإن حدث العيب بالزوج ورضيت به المرأة لم يجبرها الولي على
الفسخ، لان حق الولي في ابتداء العقد دون الاستدامة، ولهذا لو دعت المرأة
إلى نكاح عبد كان للولي أن يمتنع، ولو أعتقت تحت عبد فاختارت المقام معه لم
يكن للولي اجبارها على الفسخ.
273

(الشرح) كل موضع قلنا لاحد الزوجين أن يفسخ النكاح بالعيب فإن ذلك
الخيار يثبت له على الفور لا على التراخي لأنه خيار عيب لا يحتاج إلى نظر
وتأمل فكان على الفور، كما لو اشترى عينا فوجد بها عيبا، فقولنا خيار عيب
احتراز من خيار الأب في رجوعه بهبته لابنه ومن خيار الولي في القصاص
والعفو. وقولنا (لا يحتاج إلى نظر وتأمل) احتراز من المعتقة تحت عبد إذا
قلنا يثبت لها الخيار على التراخي ولسنا نريد الفسخ يكون على الفور بل نريد المطالبة وهو أن
أحد الزوجين إذا علم بالآخر عيبا فإنه يرفع ذلك إلى الحاكم، فيستدعى الحاكم الآخر
ويسأله، فإن أقر به أو كان ظاهرا انفسخ النكاح بينهما، وان أنكر وكان
خفيا فعلى المدعى البينة، فإذا أقام البينة فسخ النكاح بينهما
وقال أصحاب أحمد: إن خيار العيب ثابت على التراخي لا يسقط ما لم يوجد
منه ما يدل على الرضى به من القول والاستمتاع من الزوج أو التمكين من المرأة
أفاده الخرقي في ظاهر كلامه، وذكر القاضي من الحنابلة أنه على الفور، كما أن
ظاهر مذهب الحنابلة أن الفسخ يحتاج إلى الحاكم لأنه مجتهد فيه، وذهب
السفاريني من الحنابلة إلى أن الفسخ لا يحتاج إلى الحاكم كالرد بالعيب في البيع.
ويرى ابن تيمية فسخه بالحاكم كما في الفتاوى له.
وقد رأيت في البيان للعمراني من الشافعية (مخطوطة دار الكتب العربية)
بهامش الجزء السابع ما يأتي: وفيه وجه أنه ينفرد كل واحد من الزوجين بالفسخ
من غير مرافعة الحاكم، كفسخ البيع بالعيب ينفرد به كل واحد من المتبايعين اه‍
وقال قاضيخان من أصحاب أبي حنيفة: إذا كان الزوج عنينا والمرأة رتقاء
لم يكن لها حق الفرقة لوجود المانع من جهتها. كذا في حاشية جلبي
وفى ملتقى الأبحر أنه لو أقر أنه عنين يؤجله الحاكم سنه قمرية ولا يحتسب
منها مدة مرضه ومرضها، ويحتسب منها رمضان وأيام حيضها. اه‍
قال الشيخ أبو حامد: ولا يجوز لاحد الزوجين أن يتولى الفسخ بنفسه بحال،
وقال ابن الصباغ: إذا رفعت الامر إلى الحاكم فالحاكم أولى به، وهو بالخيار
ان شاء فسخ بنفسه وان شاء أمرها بالفسخ. وقال القفال: إذا رفعت الامر إلى
لحاكم وأثبتت العيب عنده خيرت بين أن تفسخ بنفسها وبين أن يفسخ الحاكم بمسألتها
274

(مسألة) وإذا وجد أحد الزوجين بالآخر عيبا ففسخ النكاح نظرت،
فإن كان الفسخ قبل الدخول سقط جميع المهر لأن المرأة إن كانت هي التي فسخت
بالفرقة جاءت من جهتها، وإن كان الزوج الذي فسخ فهو بمعنى من جهتها وهو
تدنيسها بالعيب، فصار كما لو فسخت بنفسها، وإن كان الفسخ بعد الدخول فإن
كان الفسخ لعيب كان موجودا حال العقد فالمشهور من المذهب أنه يلزم الزوج
مهر المثل سواء كان العيب بالزوج أو بالزوجة، لان الفسخ مستند إلى العيب
الموجود حال العقد فصار كما لو كان النكاح فاسدا.
وحكى المسعودي قولا آخر مخرجا أنه يجب المسمى، لان الفسخ رفع العقد
في حالة لا من أصله وليس بشئ، وإن كان الفسخ بعيب حدث بعد العقد بالزوج
أو بالزوجة على القول الجديد فيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) يجب لها المسمى؟ لأنه قد وجب المسمى بالعقد فلا يتغير بما يحدث
بعده بالعيب (والثاني) لها مهر المثل، وان حدث بعد الوطئ وجب لها المسمى
لأنه إذا حدث قبل الوطئ فقد حدث قبل استقرار المسمى، فإذا فسخ العقد
ارتفع من أصله فصار كما لو وطئها بشبهة، وإذا حدث العيب بعد الوطئ فقد
حدث بعد استقرار المسمى بالدخول فلا يتغير بما طرأ بعده.
(فرع) فإن تزوج رجل امرأة وبها عيب فلم تعلم به حتى وطئها ثم علم به
فسخ النكاح، وقد قلنا: إنه يجب لها مهر المثل، وهل للزوج أن يرجع به على
الولي، فيه قولان، قال في القديم: يرجع عليه، وبه قال مالك رضي الله عنه
لما روى أن عمر رضي الله عنه قال (أيما رجل تزوج بامرأة وبها جنون أو جذام
أو برص فمسها فلها الصداق ولزوجها غرم على وليها (ولان الولي هو الذي أتلف
على الزوج المهر لأنه أدخله في العقد حتى لزمه مهر المثل فوجب أن يلزمه الضمان
كالشهود إذا شهدوا عليه بقتل أو غيره ثم رجعوا. وقال في الجديد " لا يرجع
عليه، وبه قال علي كرم الله وجهه، وهو قول أبي حنيفة وهو الأصح لأنه
ضمن ما استوفى بدله وهو الوطئ فلا يرجع به على غيره كما لو كان المبيع معيبا
فأتلفه، فإذا قلنا بهذا فلا تفريع عليه، وإذا قلنا بالأول فإن كان الولي ممن يجوز له
275

النظر إلى وليته كالأب والجد والعم رجع الزوج عليه سواء علم الولي بالعيب أو
لم يعلم، لأنه فرط بترك الاستعلام بالعيب، ولأن الظاهر أنه يعلم ذلك، وإن
كان الولي ممن لا يجوز له النظر إليها كان العم والحاكم فإن علم الولي بعيبها
رجع عليه الزوج، وإن لم يعلم الولي بالعيب لم يرجع عليه الزوج، ويرجع الزوج
على المرأة لأنها هي التي عرفت، فإن ادعى الزوج على الولي أنه علم بالعيب فأنكر
فإن أقام الزوج بينة على إقرار الولي بالعيب رجع عليه، وإن لم يقم عليه
بينة حلف الولي أنه لم يعلم بالعيب، ورجع الزوج على الزوجة، وإن كان لها
جماعة أولياء في درجة واحدة ممن لهم النظر إليها، رجع الزوج عليهم إذا علموا
فإن كان بعضهم عالما بالعيب، وبعضهم جاهلا ففيه وجهان، حكاهما الطبري في
العدة. أحدهما: يرجع على العالم لأنه هو الذي غره. والثاني: يرجع على الجميع
لان ضمان الأحوال لا يختلف بالخطأ والعمد، هكذا نقل البغداديون.
وقال المسعودي: إذا كان الولي غير محرم لها فهل يرجع عليه الزوج؟ فيه
قولان، وكل موضع قلنا: يرجع الزوج على الولي، فإنه يرجع عليه بجميع
مهر المثل، وكل موضع قلنا: يرجع الزوج على الزوجة، فبكم يرجع عليها؟ فيه
قولان، ومنهم من قال: هما وجهان.
(أحدهما) لا يرجع عليها بجميع مهر المثل، وإنما يبقى قدرا إذ يمكن أن
يكون صادقا لئلا يعرى الوطئ عن بدل.
(والثاني) يرجع عليها بالجميع، لأنه قد حصل لها بدل الوطئ وهو المهر،
وإنما رجع إليه بسبب آخر فهو كما لو وهبته منه، والأول أصح. وحكى المسعودي
أن القولين في الولي. والمشهور أنه يرجع عليه بالجميع قولا واحدا.
(فرع) قال في الام: إذا تزوج امرأة ثم طلقها قبل الدخول، وعلم بعد ذلك
أنه كان بها عيب يثبت به خيار الفسخ لزمه نصف المهر لأنه رضى بإزالة الملك
والتزام نصف الصداق بالطلاق فلم يرجع إليه.
(فرع) وإن دعت المرأة وليها لتزويجها إلى مجنون كان له الامتناع من ذلك
لان عليه عار أن تكون وليته تحت مجنون، لأنه لا يشهد ولا يحضر الجمعة
276

والجماعة، وان دعا الولي وليته إلى تزويجها بمجنون أو خصى فلها أن تمتنع لان
عليها ضررا به وعارا يلحقها.
وإن دعت المرأة وليها إلى أن يزوجها بمجذوم أو أبرص فهل له أن يمتنع؟
فيه وجهان، أحدهما: ليس له أن يمتنع لان الخيار إنما يثبت لها في النكاح لان
النفس تعاف من مباشرتهم، وذلك نقص عليها دون الولي فهو كالمجبوب والخصي
والثاني: له أن يمتنع لان على الولي عارا في ذلك، وربما أعداها أو أعدى ولدها
فيلتحق العار بأهل نسبها وإن دعاها الولي إلى تزويجها بمجذوم أو أبرص كان لها
أن تمتنع لان عليها في ذلك عارا ونقصا، وإن تزوجت امرأة برجل سليم لا عيب
فيه ثم حدث فيه عيب يثبت لأجله الخيار، فإن فسخت النكاح لم يعترض عليها
وليها بذلك، فإن اختارت المقام معه على ذلك جاز ولا اعتراض للولي عليها بذلك
لان حق الولي إنما هو في ابتداء العقد دون استدامته، ولهذا لو دعت الحرة وليها
إلى تزويجها بعبد لم يلزمه إجابتها، ولو أعتقت تحت عبد واختارت المقام معه لم
يجبر على الفسخ والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) إذا ادعت المرأة على الزوج أنه عنين وأنكر الزوج، فالقول قوله
مع يمينه، فان نكل ردت اليمين على المرأة، وقال أبو سعيد الإصطخري: يقضى
عليه بنكوله. ولا تحلف المرأة، لأنه أمر لا تعلمه، والمذهب الأول، لأنه حق
نكل فيه المدعى عليه عن اليمين فردت على المدعى كسائر الحقوق، وقوله: انها
لا تعلمه يبطل باليمين في كناية الطلاق وكناية القذف، فإذا حلفت المرأة أو اعترف
الزوج أجله الحاكم سنة، لما روى سعيد بن المسيب (أن عمر رضي الله عنه قضى
في العنين أن يؤجل سنه (
وعن علي عليه السلام وعبد الله والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم نحوه،
ولان العجز عن الوطئ قد يكون بالتعنين، وقد يكون لعارض من حرارة أو
برودة أو رطوبة أو يبوسة، فإذا مضت عليه الفصول الأربعة، واختلفت عليه
277

الأهوبة ولم يزل، دل على أنه خلقة، ولا تثبت المدة إلا بالحاكم، لأنه يختلف
فيها بخلاف مدة الايلاء، فان جامعها في الفرج سقطت المدة، وأدناه أن يغيب
الحشفة في الفرج، لان أحكام الوطئ تتعلق به ولا تتعلق بما دونه، فإن كان بعض
الذكر مقطوعا لم يخرج من التعنين إلا بتغييب جميع ما بقي.
ومن أصحابنا من قال: إذا غيب من الباقي بقدر الحشفة خرج من حكم التعنين
لان الباقي قائم مقام الذكر، والمذهب الأول، لأنه إذا كان الذكر سليما فهناك
حد يمكن اعتباره وهو الحشفة، وإذا كان مقطوعا فليس هناك حد يمكن اعتباره
فاعتبر الجميع، وان وطئها في الدبر لم يخرج من حكم التعنين لأنه ليس بمحل للوطئ
ولهذا لا يحصل به الاحلال للزوج الأول، وان وطئ في الفرج وهي حائض
سقطت المدة لأنه محل للوطئ، وان ادعى أنه وطئها فإن كانت ثيبا فالقول قوله
مع يمينه، لأنه لا يمكن اثباته بالبينة، وإن كانت بكرا فالقول قولها لأن الظاهر
أنه لم يطأها، فان قال الزوج: وطئت ولكن عادت البكارة حلفت لجواز أن
يكون قد ذهبت البكارة ثم عادت.
(فصل) وان اختارت المقام معه قبل انقضاء الأجل ففيه وجهان. أحدهما
يسقط خيارها لأنها رضيت بالعيب مع العلم. والثاني: لا يسقط خيارها، لأنه
اسقاط حق قبل ثبوته فلم يصح، كالعفو عن الشفعة قبل البيع، وان اختارت
المقام بعد انقضاء الأجل سقط حقها لأنه اسقاط حق بعد ثبوته، وان أرادت
بعد ذلك أن ترجع وتطالب بالفسخ لم يكن لها، لأنه خيار ثبت بعيب وقد
أسقطنه فلم يجز أن ترجع فيه، فإن لم يجامعها حتى انقضى الأجل وطالبت بالفرقة
فرق الحاكم بينهما، لأنه مختلف فيه، وتكون الفرقة فسخا لأنه فرقة لا تقف
على ايقاع الزوج ولا من ينوب عنه: فكانت فسخا كفرقة الرضاع، وان تزوج
امرأة ووطئها ثم عن منها لم تضرب المدة، لان القدرة يقين فلا تترك بالاجتهاد
(الشرح) خبر عمر رضي الله عنه رواه الدارقطني باسناده عن عمر ورواه
عن ابن مسعود والمغيرة بن شعبة ولا مخالف لهم، ورواه أبو حفص عن علي
كرم الله وجهه، أما العنين فهو الرجل العاجز عن الجماع، وربما يشتهى الجماع
278

ولا يناله، واشتقاقه من عن الشئ إذا اعترض من أحد الجانبين والعنه بفتح
العين وضمها الاعتراض بالفضول، وعن عن الشئ من باب ضرب إذا أعرض
عنه وانصرف، وعنان الفرس جمعه أعنة وقد مضى بعض هذه المادة في الشركة
حيث شركة العنان، وهو هنا من عن ذكره إذا اعترض عن يمين الفرج وشماله
فلا يقصده، وقيل مشتق من عنان الدابة أي أنه يشبهه في اللين. إذا ثبت هذا
فالعنة في الرجل عيب يثبت الخيار لزوجته في فسخ النكاح لأجلها على ما نبينه
وبه قال عامة أهل العلم.
وقال الحكم بن عيينة وداود وأهل الظاهر ليست بعيب.
دليلنا قوله تعالى (الطلاق مرتان، فامساك بمعروف أو تسريح باحسان)
فخير الله الأزواج بين أن يمسكوا النساء بمعروف أو يسرحوهن باحسان،
والامساك بمعروف لا يكون بغير وطئ، لأنه هو المقصود بالنكاح، فإذا تعذر
عليه الامساك بمعروف من هذا الوجه تعين عليه التسريح باحسان، لان من خير
بين شيئين إذا تعذر عليه أحدهما تعين عليه الاخر، وقد أجمع الصحابة رضي الله عنه
م على تأجيل العنين سنة، فان جامعها والا فرق بينهما روينا ذلك عمن ذكرنا
من الصحابة ولا مخالف لهم، ولان الله تعالى أوجب على المولى أن يقر أو يطلق
لما يلحقها بامتناعه من الوطئ، والضرر الذي يلحق امرأة العنين أعظم من امرأة
المولى لان المولى ربما وطئها، فإذا ثبت الفسخ لامرأة المولى، فلان يثبت لامرأة
العنين أولى.
إذا ثبت هذا: فان المرأة إذا جاءت إلى الحاكم وادعت على زوجها أنه عنين
أو أنه عاجز عن وطئها استدعاه الحاكم وسأله، فان أقر أنه عنين أو أنه عاجز
عن وطئها ثبت أنه عنين، وان أنكر وقال: لست بعنين فإن كان مع المرأة
بينة على اقراره تقول: انه عنين وأقامتها ثبت أنه عنين، وان لم يكن معها بينة
فالقول قوله مع يمينه أنه ليس بعنين، فإذا حلف سقطت دعواها، وإذا ثبت أنه
قادر على وطئها فهل يجبره الحاكم على وطئها ليتقرر مهرها؟ فيه وجهان
حكاهما المسعودي. وان نكل عن اليمين حلفت أنه عنين، ولا يقضى عليه بنكوله
من غير يمين.
279

وحكى الشيخ أبو إسحاق عن أبي سعيد الإصطخري أنه يقضى عليه بنكوله
من غير أن تحلف، لأنه أمر لا تعلمه وليس بشئ، لأنه حق نكل فيه المدعى
عليه عن اليمين فحلف المدعى كسائر الحقوق. وقوله: أمر لا تعلمه يبطل بكنايات
الطلاق والقذف، فإذا ثبت أنه عنين باقراره أو بيمينها بعد نكوله فإن الحاكم
يؤجله سنة سواء كان الزوج حرا أو عبدا.
وحكى عن مالك أنه قال: يؤجل العبد نصف سنة. دليلنا ما رويناه عن
الصحابة عمر وعثمان وابن مسعود والمغيرة وعلي، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء
وعمرو بن دينار والنخعي وقتادة وحماد بن أبي سليمان، وعليه فتوى فقهاء
الأمصار منهم أبو حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأبو عبيد
ولم يفرق هؤلاء بين العبد والحر. ولان العجز عن الوطئ قد يكون من أصل
الخلقة، وقد يكون لعارض، فإذا مضت عليه سنة اختلفت الأهوية (جمع هواء)
فإن كان ذلك قد أصابه من الحرارة انحل في الشتاء، وان أصابه من الرطوبة انحل
في الصيف وشدة الحر، وإن كان طبعه يميل إلى هواء معتدل أمكنه ذلك في
الفصلين الآخرين، فان مضت عليه سنة ولم يقدر على الوطئ علم أن عجزه من
أصل الخلقة، ولان بعضهم قال: الداء لا يستكن في البدن أكثر من سنة ثم يظهر
ولا يضرب المدة له الا الحاكم، لان عمر رضي الله عنه أجل العنين سنه ولان
من الناس من قال يؤجل.
ومنهم من قال: لا يؤجل، وكل حكم مختلف فيه فلا يثبت الا بالحاكم كالفسخ
بالعيوب والاعسار بالنفقة، ولا يضرب الحاكم له المدة الا من حين ترافعا إليه
بعد ثبوت العنه، فأما إذا أفر الزوج بالعنة وأقاما على ذلك زمانا فلا يحكم عليه
بالتأجيل لان عمر رضي الله عنه أجل العنين سنه والظاهر أنه إنما ضرب له المدة
من حين ترافعا إليه.
(فرع) فإذا ضرب للعنين المدة ثم جامع امرأته قبل انقضاء السنة أو بعدها
وقبل الفسخ سقط حقها من الفسخ، لأنه قد ثبتت قدرته على الوطئ، وإن كان
ذكره سليما خرج من العنه بتغييب الحشفة (والحشفة ما فوق الختان) في فرجها
ولا يخرج بما دون ذلك، ولا يلزمه أكثر من ذلك لان أحكام الوطئ من وجوب
280

الغسل والحد والعدة واستقرار المهر يتعلق بذلك: وإن كان بعض ذكره مقطوعا
وبقى منه ما يمكنه به الجماع، فإن غيب جميعه في فرجها خرج من العنة، وإن
غيب منه أقل من الحشفة لم يخرج من العنة بذلك لأنه لو كان ذكره سليما فغيب
منه هذا القدر خرج من العنة، وكذلك لم يخرج من العنة بذلك، وكذلك إذا
كان بعضه مقطوعا، والثاني - وهو ظاهر النص - أنه لا يخرج من العنة إلا
بتغييب جميع ما بقي من الذكر في الفرج، ولأنه إذا كان سليما فهنالك حد يمكن
اعتباره وهو الحشفة، فإذا كان بعضه مقطوعا فليس هناك حد يمكن اعتباره،
فاعتبر كله، وعندي أن الغسل وسائر أحكام الوطئ على هذين الوجهين. وإن
وطئها في الموضع المكروه لم يخرج من العنة، لأنه ليس محل الوطئ في الشرع
ولهذا لا يجعل به الاحلال للزوج الأول، وإن أصابها بالفرج وهي حائض أو
نفساء أو صائمة عن فرض أو محرمه خرج من العنة، لأنه محل للوطئ في الشرع
وإنما حرم الوطئ لعارض.
(فرع) وان ادعى الزوج أنه وطئها أنكرت فإن كانت ثيبا فالقول
قول الزوج مع يمينه، لأنه لا يمكن اثباته بالبينة، وإن كانت بكرا عرضت على
أربع من القوابل، فان قلن: ان بكارتها قد زالت فالقول قول الزوج مع يمينه،
لأن الظاهر أن البكارة لا تزول الا بالوطئ، وان قلن: ان البكارة باقيه، فان
قال الزوج: انني قد أصبتها وهي ثيب لم يلتفت إلى قوله، لان ذلك طعن على
البينة، فثبت عجزه، وان قال: صدقت كنت قد أصبتها وزالت بكارتها ثم عادت
فالقول قول الزوجة، لأن الظاهر أن البكارة لا تعود.
قال الشافعي رضي الله عنه: وتحلف المرأة على ذلك، لان ما يدعيه الزوج
ممكن لأنه قد قال أهل الخبرة: ان الرجل إذا وطئ البكر ولم يبالغ، فان البكارة
ربما زالت ثم عادت، فحلفت عليه، هذا مذهبنا.
وقال الأوزاعي: يترك الزوج معها، ويكون هناك امرأتان جالستين خلف
ستر قريب منهما، فإذا قام الرجل عن جماعها بادرتا فنظرتا إلى فرجها، فان رأتا
فيه الماء علمتا أنه أصابها، وان لم تريا فيه الماء علمتا أنه لم يصبها.
281

وقال مالك: يفعل ذلك ولكن يقتصر على امرأة واحدة، وحكى أن امرأة
ادعت على زوجها العنة، فكتب سمرة بن جندب رضي الله عنه بذلك إلى معاوية
رضي الله عنه فكتب إليه أن يزوج الرجل امرأة ذات حسن وجمال يذكر عنها الصلاح
ويساق إليها صداقها من بيت المال لتختبر حاله، فإن أصابها فقد كذبت يعنى
زوجته المدعية وإن لم يصبها فقد صدقت ففعل ذلك ثم سألها عنه فقالت:
ما عندي شئ، فقال سمرة رضي الله عنه ما دنا ولا انتشر عليه؟ فقالت بلى دنا
وانتشر عليه، ولكن جاءه سره أي أنزل قبل أن يولج هذه رواية الشيخ
أبى حامد وسائر أصحابنا.
وأما أبو عبيد فذكر أن معاوية رضي الله عنه كتب إليه أن اشتر له جارية
من بيت المال وأدخلها معه ليلة، ثم اسألها عنه، ففعل سمرة رضي الله عنه فلما
أصبح قال. ما صنعت؟ فقال فعلت حتى حصحص فيه، فسأل الجارية فقالت لم
يصنع شيئا فقال. خل سبيلها ما محصحص، والحصحصة الحركة في الشئ حتى
يستقر، وما ذكره الأوزاعي ومالك غير صحيح، لان العنين قد ينزل من غير
ايلاج وقد يولج من غير انزال، وما ذكره معاوية غير صحيح، لان الرجل قد
يعن عن امرأة ولا يعن عن غيرها.
(مسألة) وإذا انقضت السنة ولم يقدر على وطئها كانت بالخيار بين الإقامة
والفسخ، فإن اختارت الإقامة سقط حقها من الفسخ لأنها أسقطت ما ثبت لها
من الفسخ، فإن أرادت بعد ذلك أن ترجع فتطالب بالفسخ لم يكن لها ذلك لأنه
عيب رضيت به، فهو كما لو وجدته مجذوما أو أبرص فرضيت به ثم أرادت أن
تفسخ بعد ذلك فإن اختارت الفسخ - لم يصح الا بالحاكم لأنه مجتهد فيه. قال
ابن الصباغ ويفسخ الحاكم النكاح، ويجعله إليها فتفسخ.
قال الشيخ أبو حامد لا تفسخه المرأة بنفسها لان الصحابة رضي الله عنهم،
قالوا فان جامعها والا فرق بينهما، فأخبر أنها لا تنولاه، ويكون ذلك فسخا
لا طلاقا. وقال مالك والثوري وأبو حنيفة رضي الله عنهم تكون طلقة بائنة.
دليلنا أنه فسخ بعيب كفسخ المشترى لأجل العيب في المبيع، وكالأمة إذا أعتقت
282

تحت عبد فاختارت الفسخ، فان رضيت بالمقام معه قبل أن يضرب له المدة وفى
اثباتها فيه وجهان وحكاهما ابن الصباغ قولين.
(أحدهما) يسقط حقها من الفسخ لأنها رضيت بعيبه فهو كما لو رضيت به
بعد انقضاء المدة (والثاني) لا يسقط حقها من الفسخ وهو الأصح، لأنها
أسقطت حقها من الفسخ. قبل جوازه فلم يسقط كالشفيع إذا أسقط حقه من
الشفعة قبل الشراء.
(فرع) إذا تزوج رجل امرأة فوطئها ثم عجز عن وطئها لم يثبت لها الخيار
ولا يحكم لها عليه بالعنة. وقال أبو ثور: يضرب لها المدة، ويثبت لها الخيار
كما لو وطئها ثم جب ذكره. دليلنا أن العنة يتوصل إليها بالاستدلال والاجتهاد
فإذا تحققنا قدرته على الوطئ في هذا النكاح لم يرجع فيه إلى الاستدلال، ومضى
الزمان لأنه رجوع من اليقين إلى الظن، ويخالف إذا وطئها ثم جب، لان
الجب أمر مشاهد متحقق فجاز أن تدفع قدرته على الوطئ بالامر المتحقق، فان
تزوج امرأة ثم وطئها ثم طلقها فبانت منه ثم تزوجها فادعت عليه بالعنة سمعت
دعواها عليه، فان أقر بذلك ضربت له المدة لان كل نكاح له حكم نفسه، ويجوز
أن يثبت في نكاح دون نكاح، كما يثبت من امرأة دون امرأة.
(فرع) وان تزوج رجل امرأة مع علمها أنه عنين بأن أخبرها أنه عنين أو
تزوجها فأصابته عنينا فسخت النكاح ثم تزوجها ثانيا. فيه قولان. قال في الام:
لا يثبت لها الخيار لأنها تزوجته مع العلم بحاله فلم يثبت لها الفسخ كما لو اشترى
سلعه مع العلم بعيبها. وقال في الجديد: يثبت لها الفسخ لان كل نكاح له حكم
نفسه، ولأنها إنما تحققت عنته في النكاح الأول، ويجوز أن يكون عنينا في
نكاح دون نكاح.
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: فان فارقها بعد ذلك ثم راجعها ثم
سألت أن يؤجل لها لم يكن لها ذلك، وجملة ذلك أن امرأة إذا أصابت زوجها
عنينا فضربت له المدة ورضيت بالمقام معه ثم طلقها وعادت إليه نظرت، فان
طلقها طلاقا رجعيا ثم راجعها وأرادت أن تضرب له المدة ثانيا لم يكن لها ذلك
لان الرجعية استصلاح النكاح الأول وليس بتجديد عقد النكاح، وقد رضيت
283

بمقامها معه في هذا النكاح فلم يكن لها أن تطالب بضرب المدة، فاعترض المزني
على الشافعي وقال: لا تجتمع الرجعية مع العنة، لأنه إن كان قد وطئها في هذا
النكاح، فإنه لا تضرب له مدة العنة لأنه وإن لم يصبها فيه فلا عدة عليها له
ولا رجعة، قال أصحابنا: يحتمل أن يكون الشافعي رضي الله عنه بنى هذا على
القول القديم أن الخلوة تثبت العدة، فكأنه فرضها فيمن خلا بامرأته ولم يطأها
فأصابته عنينا فضربت له المدة ثم اختارت المقام معه ثم طلقها ولم يبنها، فإن له
الرجعة عليها لان الخلوة كالدخول في استقرار المهر بوجوب العدة والرجعة على هذا
ويحتمل أنه بناها على القول الجديد وهو إذا وطئها ولم يغيب الحشفة في الفرج
وأنزل واستدخلت ماءه من غير جماع، فإنه يجب عليها العدة وله عليها الرجعة.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا أصح، لان الشافعي رحمه الله ذكرها في الام،
وقوله في الام: إن الخلوة لا تقر المهر، ولا توجب العدة.
وقال المسعودي: يحتمل أن يكون الشافعي رحمه الله أراد إذا وطئها في دبرها
وإن كان الطلاق بائنا ثم تزوجها بعده فقد تزوجته مع العلم بعيبه، وهل لها
الخيار؟ فيه قولان مضى بيانهما.
(فرع) فرع إذا تزوج امرأتين فعن عد إحداهما دون الأخرى ضربت له المدة
التي عن عنها لان لكل واحدة حكم بعنتها فاعتبر حكمها بانفرادها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وجدت المرأة زوجها مجبوبا ثبت لها الخيار في الحال، لان
عجزه متحقق، فإن كان بعضه مجبوبا وبقى ما يمكن الجماع به فقالت المرأة:
لا يتمكن من الجماع به. وقال الزوج: أتمكن، ففيه وجهان.
(أحدهما) أن القول قوله، لان له ما يمكن الجماع بمثله، فقبل قوله. كما لو
اختلفا وله ذكر قصير.
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق: أن القول قول المرأة، لأن الظاهر معها،
فإن الذكر إذا قطع بعضه ضعف، وإن اختلفا في القدر الباقي هل يمكن الجماع به
فالقول قول المرأة، لان الأصل عدم الامكان،
284

(فصل) إذا تزوجت امرأة رجلا على أنه على صفة فخرج بخلافها، أو على
نسب فخرج بخلافه، ففيه وجهان.
(أحدهما) أن العقد باطل، لان الصفة مقصودة كالعين، ثم اختلاف العين
يبطل العقد، فكذلك اختلاف الصفة، ولأنها لم ترض بنكاح هذا الزوج فلم
يصح، كما لو أذنت في نكاح رجل على صفة فزوجت ممن هو على غير تلك الصفة
(والقول الثاني) أنه يصح العقد وهو الصحيح، لان ما لا يفتقر العقد إلى
ذكره إذا ذكره وخرج بخلافه لم يبطل العقد كالمهر، فعلى هذا إن خرج أعلى من
المشروط لم يثبت الخيار، لان الخيار يثبت للنقصان لا للزيادة، فإن خرج دونها
فإن كان عليها في ذلك نقص بأن شرط أنه حر فخرج عبدا أو أنه جميل فخرج قبيحا
أو أنه عربي فخرج عجميا، ثبت لها الخيار لأنه نقص لم ترض به، وإن لم يكن
عليها نقص بأن شرطت أنه عربي فخرج عجميا وهي عجمية، ففيه وجهان، أحدهما
لها الخيار لأنها ما رضيت أن يكون مثلها، والثاني: لا خيار لها لأنها لا نقص
عليها في حق ولا كفاءة:
(الشرح) وإن أصابت المرأة زوجها مجبوبا، فإن جب ذكره من أصله
ثبت لها الخيار في الحال، لان عجزه متحقق، وإن بقي بعضه فإن كان الباقي
مما لا يمكن الجماع به فهو كما لو لم يبق منه شئ، لان وجود الباقي كعدمه،
وإن كان الباقي مما يمكن الجماع به، فإن اتفق الزوجان على أن الزوج يقدر على
الجماع به فلا خيار لها، وإن اختلفا فقالت الزوجة، لا يقدر على الجماع به، وقال
الزوج بل أقدر على الجماع به، ففيه وجهان.
أحدهما: أن القول قول الزوج مع يمينه كما لو كان الذكر سليما.
والثاني: هو قول أبي إسحاق، أن القول قول الزوجة مع يمينها، لأن الظاهر
ممن قطع بعض ذكره أنه لا يقدر على الجماع به، فان ثبت عجزه عن الجماع
باقراره أو يمينها ففيه وجهان حكاهما ابن الصباغ (أحدهما) حكاه عن الشيخ
أبى حامد أن الخيار يثبت لها في الحال، لان عجزه متحقق (والثاني) وهو قول
القاضي أبى الطيب ولم أجد له الا ذلك أنه يضرب له مدة العنين، لان
285

عجزه غير متحقق، لأنه يقدر على الجماع به فهو كالعنين، فأما إذا اختلفا في القدر
الباقي هل هو مما يمكن الجماع به أو مما لا يمكن الجماع به، فذكر الشيخ أبو حامد
والشيخ أبو إسحاق المروزي والمحاملي أن القول قول الزوجة وجها واحدا، لان
الأصل عدم الامكان.
وقال ابن الصباغ: ينبغي أن لا يرجع في ذلك إليها، وإنما يرجع إلى من
يعرف ذلك بصغره أو كبره كما لو ادعت أنه مجبوب وأنكر ذلك. وإن أصابت
زوجها خصيا أو خنثى قد زال إشكاله فإن قلنا: لها الخيار كان لها الخيار
في الحال، سواء كان قادرا على الوطئ أو عاجزا عنه، لان العلة فيه أن النفس
تعاف من مباشرته، وإن قلنا: لا خيار لها وادعت عجزه عن الجماع فأقر بذلك
ضربت له مدة العنين وهي سنه.
(فرع) روى المزني عن الشافعي: فإن لم يجامعها الصبي أجل. قال المزني
معناه عندي صبي قد بلغ أن يجامع مثله قال أصحابنا: المزني أخطأ في النقل
والتأويل، أما النقل فان الشافعي قال في القديم، وإن لم يجامعها الخصي أجل
وثنى الشافعي هذا، إذا قلنا لا خيار في الخصي وادعت عجزه في الجماع فإنه يؤجل
فغلط المزني من الخصي إلى الصبي، وأما تأويله فغلط أيضا لان الصبي لا تثبت
العنة في حقه، لان العنة لا تثبت إلا باعترافه أو بنكوله عن اليمين، ونكول
ويمين الزوجة، وهذا متعذر في حقه قبل أن يبلغ، لان دعوى المرأة لا تسمع
عليه بذلك قبل بلوغه، وإن ادعت امرأة المجنون على زوجها العنة لم تسمع
دعواها عليه، لأنه لا يمكنه الجواب على دعواها، وان ثبتت عنته قبل الجنون
فضربت له المدة وانقضت وهو مجنون فلا يجوز للحاكم أن يفسخ النكاح بينهما،
لأنه لو كان عاقلا لجاز أن يدعى الإصابة ويحلف عليها إن كانت ثيبا، وهذا
متعذر منه في حال جنونه، وإن كانت بكرا فيجوز أن يكون وطئها وزالت بكارتها
ثم عادت البكارة أو منعته عن نفسها فلم يحكم عليه قبل إفاقته.
(مسألة) إذا تزوجت امرأة رجلا على أنه على صفة فخرج بخلافها. أو على
نسب فخرج بخلافه، سواء خرج أعلى مما شرط أو دون ما شرط فالحكم واحد
286

بأن تتزوج رجلا بشرط أنه طويل، فيخرج قصيرا: وبشرط أنه قصير فيخرج
طويلا، أو أنه أسود فيأتي أبيض، أو أنه أبيض فيأتي أسود، أو أنه موسر
فيخرج فقيرا، أو أنه فقير فيخرج موسرا أو على أنه قرشي فيخرج غير قرشي،
أو على أنه ليس بقرشي فيخرج قرشيا، أو على أنه حر فكان عبدا وكان نكاحه
بإذن مولاه، أو على أنه عبد فخرج حرا وكان هذا الشرط في حال العقد، فهل
يصح العقد؟ فيه قولان.
(أحدهما) أن النكاح باطل، لان الاعتماد في النكاح على الصفات والأسماء
كما أن الاعتماد في البيوع على المشاهدة، بدليل أنه لو قال: زوجتك أختي أو ابنتي
صح وان لم يشاهدها الزوج، كما أنه إذا باعه سلعة شاهداها صح، ثم اختلاف
الأعيان يوجب بطلان النكاح البيع بدليل أنه لو قال: زوجتك ابنتي يا زيد
فقبل نكاحها وهو عمر، أو قال: بعتك عبدي هذا فقال المشترى: قبلت البيع
في الجارية لم يصح النكاح والبيع، فوجب أن يكون اختلاف الصفة يوجب
بطلان العقد، فعلى هذا يفرق بينهما، فإن لم يدخل بها فلا شئ عليه، وإن
دخل بها وجب لها مهر مثلها.
(والقول الثاني) أن النكاح صحيح، وبه قال أبو حنيفة وهو الأصح، لأنه
معنى لا يفتقر العقد إلى ذكره، ولو ذكره وكان كما شرط صح العقد، فان ذكره
وخرج بخلاف ما شرطه لم يبطل العقد كالمهر.
فإذا قلنا بهذا نظرت، فإن كان الشرط في الصفة، فان خرج الزوج أعلى منها
شرط في الصفة بأن شرط كونه فقيرا فكان موسرا، أو أنه شيخ فكان شابا،
لم يكن لها الخيار في فسخ النكاح لان الخيار يثبت للنقص، وهذا زيادة لا نقصان
فيه، وإن خرج أدنى مما شرط ثبت لها الخيار في فسخ النكاح، لأنه دون ما شرط
وإن كان في النسب نظرت، فان شرط أنه حر فخرج عبدا وهي حرة ثيب لها
الخيار في فسخ النكاح قولا واحدا، لان العبد لا يكافئ الحرة، وكذلك إذا
شرط أنه عربي فخرج عجميا، وهو من كان من أبوين عجميين وهي عربية ثبت
لها الخيار، لأنه لا يكافئها، وإن خرج نسبه أعلى من نسبها بأن شرط أنه ليس
287

من قريش فكان قرشيا فلا خيار لها لأنه أعلى مما شرط، وإن خرج نسبه دون
نسبه الذي انتسب إليه ودون نسبها ثبت لها الخيار، وإن كان مثل نسبها أو أعلى
منه ففيه وجهان (أحداهما) لها الخيار، لأنها لم ترض بكفؤ لها (والثاني) وهو
المنصوص في الام: أنه لا خيار لها لأنه كفؤ لها ولا نقص عليها في ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان الغرر من جهة المرأة نظرت، فان تزوجها على أنها حرة
فكانت أمة وهو ممن يحل له نكاح الأمة ففي صحة النكاح قولان. فان قلنا:
أنه باطل فوطئها لزمه مهر المثل، وهل يرجع به على الغار فيه قولان، أحدهما
لا يرجع، لأنه حصل له في مقابلته الوطئ، والثاني: يرجع، لان الغار ألجأه إليه
فإن كان الذي غره غير الزوجة رجع عليه، وإن كانت هي الزوجة رجع عليها
إذا عتقت، وإن كان وكيل السيد رجع عليه في الحال، وان أحبلها فضمن قيمة
الولد رجع بها على من غره.
وان قلنا إنه صحيح فهل يثبت له الخيار فيه قولان. أحدهما لا خيار له لأنه
يمكنه أن يطلق. والثاني له الخيار وهو الصحيح، لان ما ثبت به الخيار للمرأة
ثبت به الخيار للرجل كالجنون.
وقال أبو إسحاق: إن كان الزوج عبدا فلا خيار له قولا واحدا، لأنه مثلها
والصحيح أنه لا فرق بين أن يكون حرا أو عبدا، لان عليه ضررا لم يرض به،
وهو استرقاق ولده منها وعدم الاستمتاع بها في النهار. فان فسخ فالحكم فيها
كالحكم فيه إذا قلنا: إنه باطل.
(وان قلنا) لا خيار له أو له الخيار ولم يفسخ فهو كالنكاح الصحيح، فان
وطئها قبل العلم بالرق فالولد حر، لأنه لم يرض برقه، وان وطئها بعد العلم بالرق
فالولد مملوك، لأنه رضى برقه، وان غرته بصفة غير الرق أو بنسب ففي صحة
النكاح قولان. فان قلنا إنه باطل ودخل بها وجب مهر المثل. وهل يرجع به
على من غره؟ على القولين، فان قلنا يرجع فإن كان الغرور من غيرها رجع بالجميع
وإن كان منها ففيه وجهان.
288

(أحداهما) يرجع بالجميع كما يرجع على غيرها (والثاني) يبقى منه شيئا حتى
لا يعرى الوطئ عن بدل. وان قلنا: إنه صحيح، فإن كان الغرور بنسب فخرجت
أعلى منه، لم يثبت الخيار، وان خرجت دونه ولكنه مثل نسبه أو أعلى منه لم
يثبت الخيار، وإن كان دون نسبه ففيه وجهان.
أحدهما: له الخيار، لأنه لم يرض أن تكون دونه. والثاني: لا خيار له،
لأنه لا نقص على الزوج بأن تكون المرأة دونه في الكفاءة، فإن قلنا أن له
الخيار فاختار الفسخ، فالحكم فيه كالحكم فيه إذا قلنا: إنه باطل، وان اختار
المقام فهو كما قلنا إنه صحيح وقد بيناه.
(الشرح) وان تزوج رجل امرأة على أنها حرة فكانت أمة فهل يصح النكاح
فيه وجهان وجههما ما ذكرناه في التي قبلها، وإنما يتصور القولان مع وجود أربع
شرائط (إحداها) أن يكون الزوج ممن يحل له نكاح الأمة (والثاني) أن يكون
القولان مع وجود أربع شرائط.
(أحدها) أن يكون الزوج ممن يحل له نكاح الأمة
(الثاني) أن يكون الشرط في حال العقد فاما قبله أو بعده فلا يؤثر.
(الثالث) أن يكون الغرور من جهة الأمة أو من وكيل السيد: فأما إن كان
من السيد فإنها تعتق.
(الرابع) أن يكون النكاح بإذن السيد: إذا ثبت هذا فإن قلنا إن النكاح
باطل فإن لم يدخل بها فرق بينهما، ولا شئ عليه، وان دخل بها لزمه مهر المثل
لسيدها، فإذا غرمه فهل يرجع به على من غرة؟ فيه قولان مضى توجيههما،
وان حبلت منه وخرج الولد حيا كان حرا للشبهة سواء كان الزوج حرا أو عبدا
ويلزمه قيمته لسيدها، وما قاله المصنف في استرقاق الولد والغرور بالرق فعلى وجهه
(فرع) وان تزوجها على أنها على صفة فخرجت بخلافها، أو أنها من نسب
فخرجت بخلافه، وكان هذا الشرط حال العقد، فهل يصح النكاح؟ فيه قولان
سواء خرجت أعلى من الشرط أو دونه، فإن قلنا إن النكاح باطل، فإن لم يدخل
بها فرق بينهما ولا شئ عليه. وان دخل بها لزمه مهر مثلها. وهل يرجع به
289

على من غره؟ فيه قولان مضى بوجيههما، فإن قلنا: لا يرجع فلا كلام، وإن
قلنا: يرجع على من غره فغرم، فإن كان الذي غره وليها وهو واحد رجع عليه
بالجميع، وإن كانوا جماعة فان غروه بالنسب رجع على جميعهم بالسوية بجميع
المهر، لان نسبها لا يخفى عليهم، وإن غروه بصفة غير النسب فإن كانوا كلهم
عالمين بحالها أو كلهم جاهلين بحالها رجع على جميعهم بالسوية، لأنه لا مزية
لبعضهم على بعض، وإن كانوا بعضهم عالمين بحالها وبعضهم جاهلين بحالها، ففيه
وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد.
(أحدهما) يرجع على الجميع لان الجميع منهم زوجوه، وحقوق الأموال
لا يسقط بالخطأ،
(والثاني) يرجع على العالم منهم بحالها دون الجاهل، لان العالم بحالها هو
الذي غره، وإن كان الذي غره هي الزوجة ففيه وجهان. أحدهما: يرجع عليها
بجميع المهر كما قلنا في الأولياء. والثاني: لا يرجع عليها بالجميع بل يبقى منه شيئا
حتى لا يعرى الوطئ عن بذل، فان قلنا: يرجع عليها بالجميع فإن كانت قد قبضته
منه ردته إليه، وان لم تقبضه منه لم يقبضه، بل يسقط أحدهما بالآخر، وان قلنا
لا يرجع عليها بالجميع فإن كانت قد قبضت الجميع رجع عليها بما قبضت منه،
وبقى منه بعضه، وان لم يقبضه منه أقبضها منه شيئا وسقط الباقي عنه، وان قلنا إن
النكاح صحيح، لأنه لا نقص عليه، فان غرته بصفة فخرجت أعلا مما شرطت
فلا خيار للزوج لأنه لا نقص عليه، وان خرج نسبها دون النسب الذي شرطت
ودون نسب الزوج، أو كان الغرور بصفة فخرجت صفتها دون الصفة التي
شرطت فهل له الخيار في فسخ النكاح، فيه قولان.
(أحدهما) له الخيار لأنه معنى لو شرط بنفسه وخرج بخلافه لثبت لها الخيار
فيثبت للزوج الخيار كالعيوب.
(والثاني) لا يثبت له الخيار، لأنه يمكنه أن يطلقها، ولأنه لا عار على
الزوج بكون نسب الزوجة دون نسبه ودون صفته بخلاف الزوجة فان قلنا:
له الخيار، فاختار الفسخ فهو كما لو قلنا: إنه باطل، وان قلنا لا خيار له أو له
الخيار، فاختار امساكها لزمه أحكام العقد الصحيح.
290

قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان تزوج امرأة من غير شرط يظنها حرة فوجدها أمة فالنكاح
صحيح، والمنصوص أنه لا خيار له. وقال فيمن تزوج حرة يظنها مسلمة فخرجت
كتابية أن له الخيار. فمن أصحابنا من نقل جوابه في كل واحدة من المسألتين إلى
الأخرى وجعلهما على قولين.
(أحدهما) له الخيار، لان الحرة الكتابية أحسن حالا من الأمة، لان الولد
منها حر، والاستمتاع بها تام، فإذا جعل له الخيار فيها كان في الأمة والولد
منها رقيق، والاستمتاع بها ناقص أولى.
(والقول الثاني) لا خيار له لأن العقد وقع مطلقا فهو كما لو ابتاع شيئا يظنه
على صفة فخرج بخلافها. فإنه لا يثبت له الخيار. فكذلك ههنا، وإذا لم يجعل
له الخيار في الأمة ففي الكتابية أولى. ومنهم من حملهما على ظاهر النص فقال له
الخيار في الكتابية. ولا خيار له في الأمة. لان في الكتابية ليس من جهة الزوج
تفريط. لأن الظاهر ممن لا خيار عليه أنه ولى مسلمة، وإنما التفريط من جهة
الولي في ترك الخيار. وفى الأمة التفريط من جهة الزوج في ترك السؤال.
(فصل) إذا أعتقت الأمة وزوجها حر لم يثبت لها الخيار، لما روت عائشة
رضي الله عنها قالت (أعتقت بريرة فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في
زوجها. وكان عبدا فاختارت نفسها. ولو كان حرا ما خيرها رسول الله صلى الله
عليه وسلم) ولأنه لا ضرر عليها في كونها حرة تحت حر. ولهذا لا يثبت به
الخيار في ابتداء النكاح فلا يثبت به الخيار في استدامته. وان أعتقت تحت عبد
ثبت لها الخيار. لحديث عائشة رضي الله عنها ولان عليها عارا وضررا في كونها
تحت عبد. ولهذا لو كان ذلك في ابتداء النكاح ثبت لها الخيار. فثبت به الخيار
في استدامته. ولها أن تفسخ بنفسها لأنه خيار ثابت بالنص. فلم يفتقر إلى
الحاكم. وفى وقت الخيار قولان.
(أحدهما) أنه على الفور، لأنه خيار لنقص فكان على الفور كخيار العيب
291

في البيع (والثاني) أنة على التراخي، لأنا لو جعلناه على الفور لم نأمن أن تختار
المقام أو الفسخ ثم تندم، فعلى هذا في وقته قولان.
(أحدهما) يتقدر بثلاثة أيام، لأنه جعل حدا لمعرفة الحظ في الخيار في البيع
(والثاني) أن لها الخيار إلى أن تمكنه من وطئها لأنه روى ذلك عن ابن عمر
وحفصة بنت عمر رضي الله عنهما، وهو قول الفقهاء السبعة سعيد بن المسيب
وعروة بن الزبير والقاسم بن محمد وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام
وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبه بن مسعود وسليمان بن
يسار رضي الله عنهم، فإن أعتقت ولم تختر الفسخ حتى وطئها ثم ادعت الجهل
بالعتق فإن كان في موضع يجوز أن يخفى عليها العتق فالقول قولها مع يمينها،
لأن الظاهر أنها لم تعلم، وإن كان في موضع لا يجوز أن يخفى عليها لم يقبل قولها
لان ما تدعيه خلاف الظاهر، وإن علمت بالعتق ولكن ادعت أنها لم تعلم بأن لها
الخيار، ففيه قولان.
(أحدهما) لا خيار لها كما لو اشترى سلعة فيها عيب، وادعى أنه لم يعلم
أن له الخيار.
(والثاني) أن لها الخيار، لان الخيار بالعتق لا يعرفه غير أهل العلم، وإن
أعتقت وهي صغيرة ثبت لها الخيار إذا بلغت، وإن كانت مجنونة ثبت لها الخيار
إذا عقلت وليس للولي أن يختار، لأن هذه طريقة الشهوة فلا ينوب عنها الولي
كالطلاق، وإن أعتقت فلم تختر حتى عتق الزوج ففيه قولان.
(أحدهما) لا يسقط خيارها لأنه حق ثبت في حال الرق فلم يتغير بالعتق كما لو
وجب عليه حد ثم أعتق.
(والثاني) يسقط لان الخيار ثبت للنقص وقد زال، فإن أعتقت وهي في
العدة من طلاق رجعي فلها أن تترك الفسخ، لانتظار البينونة بانقضاء العدة ولها
أن تفسخ لأنها إذا لم تفسخ ربما راجعها إذا قارب انقضاء العدة فإذا فسخت
احتاجت أن تستأنف العدة وإن اختارت المقام في العدة لم يسقط خيارها لأنها
جارية إلى بينونة، فلا يصح منها اختيار المقام مع ما ينافيه، وإن أعتقت تحت
عبد فطلقها قبل إن تختار الفسخ ففيه قولان.
292

أحدهما: أن الطلاق ينفذ، لأنه صادف الملك. والثاني: لا ينفذ لأنه يسقط
حقها من الفسخ، فعلى هذا إن فسخت لم يقع الطلاق، وإن لم تفسخ حكمنا بوقوع
الطلاق من حين طلق.
(فصل) وان أعتقت وفسخت النكاح، فإن كان قبل الدخول سقط المهر
لان الفرقة من جهتها، وإن كان بعد الدخول نظرت، فإن كان العتق بعد الدخول
استقر المسمى، وإن كان قبله ودخل بها ولم تعلم بالعتق سقط المسمى ووجب
مهر المثل لان العتق وجد قبل الدخول فصار كما لو وجد الفسخ قبل الدخول
ويجب المهر للمولى لأنه وجب بالعقد في ملكه، وإن كانت مفوضة فأعتقت
فاختارت الزوج وفرض لها المهر بعد العتق ففي المهر قولان ان قلنا يجب بالعقد
كان للمولى لأنه وجب قبل العتق. وان قلنا: يجب بالفرض كان لها لأنه
وجب بعد العتق.
(فصل) وان تزوج عبد مشرك حرة مشركة ثم أسلما ففيه وجهان. أحدهما
لا خيار لها لأنها دخلت في العقد مع العلم برقه. والثاني: وهو ظاهر النص أن
لها أن تفسخ النكاح لان الرق ليس بنقص في الكفر وإنما هو نقص في الاسلام
فيصير كنقص حدث بالزوج، فيثبت لها الخيار، وان تزوج العبد المشرك أمة
فدخل بها ثم أسلمت وتخلف العبد فأعتقت الأمة ثبت لها الخيار، لأنها عتقت
تحت عبد، وان أسلم العبد وتخلفت المرأة ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبى الطيب بن سلمة أنه لا يثبت لها الخيار، وهو
ظاهر ما نقله المزني، والفرق بينها وبين ما قبلها أن هناك الامر موقوف على
اسلام الزوج فإذا لم تفسخ لم تأمن أن لا يسلم حتى يقارب انقضاء العدة ثم يسلم
فتفسخ النكاح فتطول العدة. وههنا الامر موقوف على اسلامها فأي وقت
شائت أسلمت وثبت النكاح فلم يثبت له الفسخ (والثاني) وهو قول أبي إسحاق
أنه يثبت لها الخيار كالمسألة قبلها، وأنكر ما نقله المزني.
(فصل) إذا ملك مائة دينار وأمة قيمتها مائة دينار وزوجها من عبد بمائة
ووصى بعتقها فأعتقت قبل الدخول لم يثبت لها الخيار لأنها إذا فسخت سقط
293

مهرها، وإذا سقط المهر عجز الثلث عن عتقها فسقط خيارها فيؤدى إثبات
الخيار إلى اسقاطه فسقط.
(فصل) وإن أعتق عبد وتحته أمة ففيه وجهان. أحدهما: يثبت له الخيار
كما يثبت للأمة إذا كان زوجها عبدا، والثاني: لا يثبت لان رقها لا يثبت به
الخيار في ابداء النكاح فلا يثبت به الخيار في استدامته.
(الشرح) خبر بريرة بلفظ المصنف أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي
وصححه من طريق عروة عن عائشة، وقال ابن القيم في الهدى: حديث عائشة
رواه ثلاثة الأسود وعروة والقاسم، وهو يرجح كون زوج بريرة حرا بيد أن
الروايات الثابتة عندنا تخالف ابن القيم فيما ذهب إليه.
وقد اختلف أهل العلم فيما إذا كان الزوج حرا هل يثبت الخيار للزوجة أم لا
فذهب الجمهور إلى أنه لا يثبت، وجعلوا العلة في الفسخ عدم الكفاءة لأن المرأة
إذا صارت حرة وكان زوجها عبدا لم يكن كفؤا لها، ويؤيد هذا قول عائشة في
حديث الباب، ولو كان حرا لم يخيرها، ولكنه تعقب بأن هذه الزيادة مدرجة
من قول عروة كما صرح بذلك النسائي في سننه، وبينه أيضا أبو داود في رواية
مالك، ولو سلم انه من قولها فهو اجتهاد وليس بحجة، وذهبت العترة والشعبي
والنخعي والثوري والحنفية إلى أنه يثبت الخيار ولو كان الزوج حرا وتمسكوا
أولا بتلك الرواية التي فيها أنه كان زوج بريرة حرا، وقد عرفنا عدم صلاحية
ذلك للتمسك به. وما بقي من فروع المسائل في هذه الفصول فعلى وجهه لمن أراد
أن يحيط بها إجمالا إذ لا حاجة بنا إلى بسطها لأنها تقوم على أساس الرق وقد
تلاشى الرق اليوم وصار الناس يتساوون اليوم في حقوقهم وواجباتهم، وقد
ضاقت فوارق التكافؤ بينهم الا قليلا، والله الموفق للصواب،
294

قال المصنف رحمه الله:
باب نكاح المشرك
إذا أسلم الزوجان المشركان على صفة لو لم يكن بينهما نكاح جاز لهما عقد
النكاح أقرا على النكاح، وان عقد بغير ولى ولا شهود، لأنه أسلم خلق كثير
فأقرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنكحتهم، ولم يسألهم عن شروطه
وان أسلما والمرأة ممن لا تحل له كالأم والأخت لم يقرا على النكاح، لأنه لا يجوز
أن يبتدئ نكاحها فلا يجوز الاقرار على نكاحها، وان أسلم أحد الزوجين
الوثنيين أو المجوسيين أو أسلمت المرأة والزوج يهودي أو نصراني فإن كان
قبل الدخول تعجلت الفرقة، وإن كان بعد الدخول وقفت الفرقة على انقضاء
العدة، فإن أسلم الآخر قبل انقضائها فهما على النكاح، وان لم يسلم حتى انقضت
العدة حكم بالفرقة.
وقال أبو ثور: ان أسلم الزوج قبل الزوجة وقعت الفرقة وهذا خطأ،
لما روى عبد الله بن شبرمة (أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه
يسلم الرجل قبل المرأة، والمرأة قبل الرجل، فأيهما أسلم قبل انقضاء عدة المرأة
فهي امرأته، وان أسلم بعد انقضاء العدة فلا نكاح بينما) والفرقة الواقعة
باختلاف الدين فسخ لأنها فرقه عريت عن لفظ الطلاق ونيته فكانت فسخا،
كسائر الفسوخ.
(الشرح) خبر عبد الله بن شبرمة مرسل لأنه من الطبقة الخامسة في التابعين
ومن ثم يؤخذ على المصنف استدلاله به مع استفاضة الروايات المرفوعة وكثرة
طرقها، من ذلك ما رواه البخاري عن ابن عباس قال (كان المشركون على
منزلتين من النبي صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين، كانوا مشركي أهل حرب
يقاتلهم ويقاتلونه، ومشركي أهل عهد لا يقاتلهم ولا يقاتلونه. وكان إذا
هاجرت المرأة من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض وتطهر، فإذا طهرت حل
لها النكاح. وان جاء زوجها قبل أن تنكح ردت إليه).
295

وأخرج أحمد وأبو داود وصححه الحاكم عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه
وسلم رد ابنته زينب على زوجها أبى العاص بن الربيع بالنكاح الأول لم يحدث
شيئا) وفى لفظ (رد ابنته زينب على أبى العاص زوجها بنكاحها الأول بعد سنتين
ولم يحدث صداقا) رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة. وفى لفظ (رد ابنته زينب
على أبى العاص وكان إسلامها قبل إسلامه بست سنين على النكاح الأول، ولم
يحدث شهادة لا صداقا) رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال فيه (لم يحدث
نكاحا) وقال ليس بإسناده بأس.
وقد روى بإسناد ضعيف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (أن النبي
صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبى العاص بمهر جديد ونكاح جديد) قال الترمذي
في إسناده مقال، وقال أحمد: هذا حديث ضعيف والحديث الصحيح أنه أقرهما
على النكاح الأول. وقال الدارقطني: هذا حديث لا يثبت، والصواب حديث
ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها بالنكاح الأول) وقال الخطابي:
حديث ابن عباس أصح من حديث عمرو بن شعيب.
وقال ابن كثير في الارشاد: هو حديث جيد قوى، وهو من رواية ابن إسحاق
عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس. إلا أن حديث داود بن
الحصين عن عكرمة عن ابن عباس ضعف أمرها علي بن المديني، وابن إسحاق فيه
مقال معروف، وحديث عمرو بن شعيب أخرجه ابن ماجة أيضا، وفى إسناده
الحجاج بن أرطاة وهو معروف بالتدليس، ولم يسمعه من عمرو بن شعيب
كما قال أبو عبيد، وإنما حمله عن العزرمي وهو ضعيف، وقد ضعف هذا الحديث
جماعة من أهل العلم.
وأخرج مالك في الموطأ عن ابن شهاب أنه بلغه أن ابنة الوليد بن المغيرة كانت
تحت صفوان بن أمية، فأسلمت يوم الفتح وهرب صفوان من الاسلام، فبعث
إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانا، وشهد حنينا والطائف وهو كافر وامرأته
مسلمة فلم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما حتى أسلم صفوان واستقرت
عنده بذلك النكاح. قال ابن شهاب: وكان بين إسلام صفوان وبين إسلام
زوجته نحوا من شهر)
296

وفى الموطأ عن ابن شهاب (أن أم حكيم ابنة الحرث بن هشام أسلمت يوم
الفتح بمكة وهرب زوجها عكرمة بن أبي جهل من الاسلام حتى قدم اليمن فارتحلت
أم حكيم حتى قدمت على زوجها باليمن ودعته إلى الاسلام فأسلم، وقدم على
رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعه فثبتا على نكاحهما ذلك.
قال ابن شهاب: ولم يبلغنا أن امرأة هاجرت إلى الله وإلى رسوله وزوجها
كافر مقيم بدار الكفر الا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها الا أن يقدم زوجها
مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها، وأنه لم يبلغنا أن امرأة فرق بينها وبين زوجها إذا
قدم وهي في عدتها).
وروى البيهقي عن الشافعي عن جماعة من أهل العلم من قريش وأهل المغازي
وغيرهم عن عدد مثلهم (أن أبا سفيان أسلم بمر الظهران وامرأته هند بنت عتبة
كافرة بمكة، ومكة يومئذ دار حرب، وكذلك حكيم بن حزام، ثم أسلم المرأتان
بعد ذلك وأقر النبي صلى الله عليه وسلم النكاح).
وقد استشكل بعض علماء الحديث والفقه ما جاء في روايات ابن عباس من
قوله (بعد سنتين) وفى الرواية الثانية (بست سنين) ووقع في رواية (بعد ثلاث
سنين) وأشار ابن حجر في الفتح إلى الجمع فقال: المراد بالست ما بين هجر ة زينب
واسلامه، وبالسنتين أو الثلاث ما بين نزول قوله تعالى (لا هن حل لهم)
وقدومه مسلما، فإن بينهما سنتين وأشهرا.
قال الترمذي في حديث ابن عباس انه لا يعرف وجهه. قال الحافظ: وأشار
بذلك إلى أن ردها إليه بعد ست سنين أو بعد سنتين أو ثلاث مشكل لاستبعاد
أن تبقى في العدة هذه المدة، قال: ولم يذهب أحد إلى جواز تقرير المسلمة تحت
المشرك إذا تأخر اسلامه عن اسلامها حتى انقضت عدتها، وممن نقل الاجماع في
ذلك ابن عبد البر، وأشار إلى أن بعض أهل الظاهر قال بجوازه ورده بالاجماع
المذكور، وتعقب بثبوت الخلاف فيه قديما، فقد أخرجه ابن أبي شيبه عن علي
وإبراهيم النخعي بطرق قوية، وأفتى به حماد شيخ أبي حنيفة، وأجاب الخطابي
عن الاشكال بأن بقاء العدة تلك المدة ممكن. وان لم تجربه عادة في الغالب،
297

ولا سيم إن كانت المدة إنما هي سنتان وأشهر، فان الحيض قد يبطئ عن ذات
الأقراء لعارض، وبمثل هذا أجاب البيهقي.
قال الحافظ: وهو أولى ما يعتمد في ذلك. وقال السهيلي في شرح السيرة:
ان حديث عمرو بن شعيب هو الذي عليه العمل، وإن كان حديث ابن عباس
أصح إسنادا لكن لم يقل به أحد من الفقهاء، لان الاسلام قد كان فرق بينهما،
قال الله تعالى (لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن) ومن جمع بين الحديثين قال:
معنى حديث ابن عباس ردها عليه على النكاح الأول في الصداق والحباء، ولم
يحدث زيادة على ذلك من شرط ولا غيره اه‍.
وقد أشار إلى مثل هذا الجمع ابن عبد البر، وقيل: إن زينب لما أسلمت وبقى
زوجها على الكفر لم يفرق النبي صلى الله عليه بينهما إذ لم يكن قد نزل تحريم نكاح
المسلمة على الكافر، فلما نزل قوله تعالى (لا هن حل لهم) الآية أمر النبي صلى
الله عليه وسلم ابنته أن تعتد فوصل أبو العاص مسلما قبل انقضاء العدة، فقررها
النبي صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول فيندفع الاشكال، وحديث عمرو بن
شعيب تعضده الأصول، وقد صرح فيه بوقوع عقد جديد، والاخذ بالصريح
أولى من الاخذ بالمحتمل، ويؤيده مخالفة ابن عباس لما رواه كما حكى ذلك عنه
البخاري. قال الحافظ ابن حجر: وأحسن المسالك في تقرير الحديثين ترجيح
حديث ابن عباس كما رجحه الأئمة، وحمله على تطاول العدة فيما بين نزول آية
التحريم واسلام أبى العاص، ولا مانع من ذلك، وأغرب ابن حزم فقال: إن
قوله: ردها إليه بعد كذا، مراده جمع بينهما، وإلا فاسلام أبى العاص كان قبل
الحديبية، وذلك قبل أن ينزل تحريم المسلمة على المشرك هكذا زعم.
قال الحافظ ابن حجر: وهو مخالف لما أطبق عليه أهل المغازي أن إسلامه
كان بعد نزول آية التحريم.
وقال ابن القيم في الهدى ما حاصله: إن اعتبار العدة لم يعرف في شئ من
الأحاديث، ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل المرأة هل انقضت عدتها أم لا
ولو كان الاسلام بمجرده فرقة، لكانت طلقة بائنة ولا رجعة فيها، فلا يكون
الزوج أحق بها إذا أسلم، وقد دل حكمه صلى الله عليه وسلم أن النكاح موقوف
298

فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي زوجته، وان انقضت عدتها فلها أن تنكح
من شاءت، وان أحبت انتظرته، وإذا أسلم كانت زوجته من غير حاجة إلى
تجديد نكاح، قال: ولا نعلم أحدا جدد بعد الاسلام نكاحه البتة، بل كان الواقع
أحد الامرين اما افتراقهما ونكاحها غيره واما بقاؤهما على النكاح الأول إذا أسلم
الزوج، وأما تنجيز الفرقة أو مراعاة العدة فلم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قضى بواحد منهما مع كثرة من أسلم في عهده، وهذا كلام في غاية الحسن
والمنانة. قال: وهذا اختيار الخلال وأبى بكر صاحبه وابن المنذر وابن حزم،
وهو مذهب الحسن وطاوس وعكرمة وقتادة والحكم.
قال ابن حزم: وهو قول عمر بن الخطاب وجابر بن عبد الله وابن عباس
ثم عد آخرين، وقد ذهب إلى أن المرأة إذا أسلمت قبل زوجها لم تخطب حتى
تحيض وتطهر ابن عباس وعطاء وطاوس والثوري وفقهاء الكوفة ووافقهم
أبو ثور واختاره ابن المنذر واليه جنح البخاري، وشرط أهل الكوفة ومن وافقهم
أن يعرض على زوجها الاسلام في تلك المدة فيمتنع إن كانا معا في دار الاسلام
وقد روى عن أحمد أن الفرقة تقع بمجرد الاسلام من غير توقف على مضى العدة
كسائر أسباب الفرقة من رضاع أو خلع أو طلاق.
قال في البحر: إذا أسلم أحدهما دون الآخر انفسخ النكاح اجماعا ثم قال بعد
ذلك: ومذهب الشافعي ومالك وأبى يوسف على أن الفرقة بإسلام أحدهما فسخ
لا طلاق إذا العلة اختلاف الدين كالردة. وقال أبو العباس وأبو حنيفة ومحمد:
بل طلاق حيث أسلمت وأبى الزوج، إذ امتناعه كالطلاق قلنا بل كالردة اه‍.
وجملة ما أوردنا في هذا البحث ان أهل الشرك أنكحتهم صحيحه وطلاقهم واقع
وينبنى على هذا انه إذا نكح مشرك مشركة وطلقها ثلاثا لم تحل له الا بعد زوج،
ولو نكح مسلم ذمية ثم طلقها ثلاثا ثم نكحها ذمي ودخل بها وطلقها الذمي حلت
للمسلم الذي طلقها بعد انقضاء عدتها، فيتعلق بأنكحتهم سائر الأحكام التي تتعلق
بأنكحة المسلمين، وبه قال الزهري والأوزاعي وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال مالك: أنكحة أهل الشرك باطله فلا يتعلق بها حكم من أحكام النكاح
الصحيح، وحكاه أصحابنا الخراسانيون قولا آخر للشافعي.
299

دليلنا قوله تعالى (وقالت امرأة فرعون) وقوله تعالى (تبت يدا أبى لهب
وتب إلى قوله وامرأته حمالة الحطب) فأضاف امرأتيهما إليهما وحقيقة
الإضافة تقتضي الملك، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ولدت من نكاح
لا من سفاح) وكان مولودا في الشرك.
إذا ثبت هذا فان أسلم الزوجان المشركان معا فإن كانا عند إسلامهما يجوز
ابتداء النكاح بينهما أقرا على نكاحهما الأول، وإن كانا عقدا بغير ولى ولا شهود
لأنه أسلم خلق كبير وأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أنكحتهم، ولم يسأل عن
شروطها، وإن كان لا يجوز لهما ابتداء النكاح بينهما، فإن كانت محرمة عليه
بنسب أو رضاع أو صهارة أو معتدة عنه لأنه لا يجوز لهما ابتداء النكاح فلا يجوز
إقرارهما عليه.
قال أصحابنا: فإن أسلم الزوج والزوجة كتابية أقرا على النكاح لأنه يجوز
للمسلم ابتداء النكاح على الكتابية فأقرا عليه، وإن أسلم أحد الزوجين الوثنيين
أو المجوسيين أو أسلم الزوج ولم تسلم الزوجة، فإن كان قبل الدخول انفسخ
النكاح، وإن كان بعد الدخول وقف النكاح، وإن أسلم الكافر منهما قبل انقضاء
عدة الزوجة أقرا على النكاح، وأن لم يسلم الكافر منهما حتى انقضت عدة الزوجة
بانت منه من وقت إسلام المسلم منهما، ولا فرق بين أن يكون ذلك في دار الاسلام
أو في دار الحرب، وبه قال أحمد.
وقال مالك: إن كانت هي المسلمة فكما قلنا، وإن كان هو المسلم عرض عليها
الاسلام في الحال، فإن أسلمت والا انفسخ نكاحها، وقال أبو بكر رضي الله عنه
ان أسلم الزوج قبل الزوجة وقعت الفرقة بكل حال.
وقال أبو حنيفة: إن كان في دار الحرب وكان ذلك بعد الدخول فالنكاح
موقوف على انقضاء العدة كقولنا، وإن كان في دار الاسلام فسواء كان قبل
الدخول أو بعده فإن النكاح لا ينفسخ بل يعرض على المتأخر منهما الاسلام،
فإن أسلم فهما على الزوجية، وان لم يسلم فرق بينهما بتطليقة، وان لم يعرض
الاسلام على المتأخر منهما وأقاما على الزوجية مدة طويلة فهما على النكاح.
دليلنا ما رويناه من الاخبار التي تفيد بمنطوقها أن الناس كانوا يسلمون على
300

عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجل قبل المرأة والمرأة قبل الرجل، فأيهما
أسلم قبل انقضاء عدة المرأة فهي امرأته، وان أسلم بعد انقضاء العدة فلا نكاح
بينهما، والعدة لا تكون الا بعد الدخول، ولم يفرق بين أن أسلم الرجل أو لا
أو المرأة، وبين أن يكون في دار الاسلام أو في دار الحرب، فإن أسلم الزوجان
في حالة واحدة قبل الدخول لم ينفسخ نكاحهما لأنه لم يسبق أحدهما الآخر.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان أسلم الحر وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن معه، لزمه
أن يختار أربعا منهن، لما روى ابن عمر رضي الله عنه (أن غيلان أسلم وتحته
عشر نسوة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا) ولان ما زاد
على أربع لا يجوز اقرار المسلم عليه، فإن امتنع أجبر عليه بالحبس والتعزير،
لأنه حق توجه عليه لا تدخله النيابة فأجبر عليه، فإن أغمي عليه في الحبس خلى
إلى أن يفيق لأنه خرج عن أن يكون من أهل الاختيار، فخلى كما يخلى من عليه
دين إذا أعسر به، فان أفاق أعيد إلى الحبس والتعزير إلى أن يختار، ويؤخذ
بنفقة جميعهن إلى أن يختار لأنهن محبوسات عليه بحكم النكاح، والاختيار أن
يقول: اخترت نكاح هؤلاء الأربع، فينفسخ نكاح البواقي، أو يقول: اخترت
فراق هؤلاء، فيثبت نكاح البواقي: وان طلق واحدة منهن كان ذلك اختيارا
لنكاحها، لان الطلاق لا يكون الا في زوجة، وان ظاهر منها أو آلى لم يكن
ذلك اختيارا لأنه قد يخاطب به غير الزوج، وان وطئ واحدة ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه اختيار لان الوطئ لا يجوز الا في ملك فدل على الاختيار
كوطئ البائع الجارية المبيعة بشرط الخيار.
(والثاني) وهو الصحيح أنه ليس باختيار لأنه اختيار للنكاح فلم يجز
بالوطئ كالرجعة، وان قال كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت نكاحها لم يصح
لان الاختيار كالنكاح فلم يجز تعليقه على الصفة ولا في غير معين، وان قال: كلما
أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها لم يصح، لان الفسخ لا يجوز
301

تعليقه على الصفة، ولان الفسخ إنما يستحق فيما زاد على أربع، وقد يجوز أن
لا يسلم أكثر من أربع فلا يستحق فيها الفسخ، وان قال: كلما أسلمت واحدة
فهي طالق ففيه وجهان.
(أحدهما) يصح، وهو ظاهر النص، لأنه قال: وان قال: كلما أسلمت
واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها لم يكف شيئا الا أن يريد به الطلاق.
فدل على أنه إذا أراد الطلاق صح، ووجهه أن الطلاق يصح تعليقه على الصفات
(والثاني) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة: أنه لا يصح، لان الطلاق ههنا
يتضمن اختيار الزوجية، والاختيار لا يجوز تعليقه على الصفة، وحمل قول
الشافعي رحمه الله على من أسلم وله أربع نسوة في الشرك، وأراد بهذا القول
الطلاق فإنه يصح، لأنه طلاق لا يتضمن اختيارا فجاز تعليقه على الصفة، وان
أسلم ثم ارتد لم يصح اختياره، لان الاختيار كالنكاح فلم يصح مع الردة، وان
أسلم وأحرم، فالمنصوص أنه يصح اختياره، فمن أصحابنا من جعلها على قولين.
أحدهما، لا يصح كما لا يصح نكاحه. والثاني: يصح كما تصح رجعته، ومنهم من
قال: إن أسلم ثم أحرم ثم أسلمن لم يجز ان يختار قولا واحدا، لأنه لا يجوز ان
يبتدئ النكاح وهو محرم، فلا يجوز ان يختاره، وحمل النص عليه، وإذا أسلم
ثم أسلمن ثم أحرم فان له الخيار، لان الاحرام طرأ بعد ثبوت الخيار.
(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه أحمد وابن ماجة والترمذي عن الزهري
عن سالم عن ابن عمر، وزاد احمد في رواية (فلما كان في عهد عمر طلق نساءه
وقسم ماله بين بنيه، فبلغ ذلك عمر فقال: إني لأظن الشيطان فيما يسترق من
السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك، ولعلك لا تمكث الا قليلا، وأيم الله
لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثنك منك، ولآمرن بقبرك ان يرجم
كما رجم قبر أبى رغال (وأبو رغال ككتاب ففي سنن أبي داود ودلائل النبوة عن
ابن عمر (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجنا معه إلى الطائف
فمررنا بقبر فقال: هذا قبر أبى رغال وهو أبو ثقيف وكان من ثمود، وكان بهذا
302

الحرم يدفع عنه، فلما خرج منه أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان
فدفن فيه) الحديث.
أما قول الجوهري بأنه كان دليلا للحبشة حين توجهوا إلى مكة فمات في الطريق
غير معتد به، وكذا قول ابن سيدة في المخصص أنه كان عبدا لشعيب وكان عشارا
جائرا، وقد سبق لنا الكلام على إسناد الحديث وما في وهم معمر وتفرده
والعلل في الخبر.
أما الأحكام: فإذا أسلم الرجل وتحته أكثر من أربع زوجات فأسلمن معه في
العدة أو كن كتابيات، لزمه أن يختار أربعا منهن، ويفارق ما زاد سواء تزوجهن
بعقد واحد أو بعقود، وسواء اختار من نكاحها أولا أو آخرا، وبه قال مالك
وأحمد ومحمد بن الحسن. وقال الزهري وأبو حنيفة وأبو يوسف: لا يصح التخيير
بحال، بل إن كان تزوجهن بعقد واحد بطل نكاح الجميع، ولا يحل له واحدة
منهن إلا بعقد مستأنف، فإن تزوجهن بعقود لزمه نكاح الأربع الأوائل،
وبطل نكاح من بعدهن. دليلنا ما روى عن غيلان بن سلمة في قصة إسلامه
التي أتينا عليها قبل.
(فرع) إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن فقد ذكرنا أنه يجب
عليه أن يختار الأربع منهن لقوله صلى الله عليه وسلم لغيلان: اختر أربعا، وهذا
أمر، والامر يدل على الوجوب، فإن لم يختر أجبره الحاكم على الاختيار، لأنه
لا يجوز له أن يمسك أكثر من أربع ويحبسه ليختار، فإن لم يفعل أخرجه وضربه
جلدات دون أقل الجلد، فإن لم يختر اعاده إلى الحبس، فإن لم يفعل أخرجه وضربه
ثانيا وعلى هذا يتكرر عليه الحبس والضرب إلى أن يختار، لان هذا حق يتعين
عليه، فهو كما لو كان عليه دين وله مال ناض أخفاه فإنه يحبس ويعزر إلى أن
يظهره ليقضى به الدين، ويجب عليه ان ينفق على جميعهن إلى أن يختار لأنهن
محبوسات عليه، فان جن في حال الحبس أطلق سراحه لأنه خرج عن أن يكون
من أهل الاختيار، فإذا افاق أعيد إلى الحبس والتعزير، ولا ينوب الحاكم عنه
في الاختيار، لأنه اختيار شهوة فلم يثب عنه الحاكم.
فان قال لأربع منهن: اخترتكن أو اخترت نكاحكن أو اخترت حبسكن
303

أو أمسكنكن أو أمسكت نكاحكن أو أثبت نكاحكن أو أثبت عقدكن لزم
نكاحهن وانفسخ نكاح ما زاد عليهن.
وإن قال لواحدة أو لما زاد على أربع: فسخت نكاحكن انفسخ نكاحهن
ولزم نكاح الأربع الباقيات. وإن طلق واحدة أو أربعا وقع عليها وكان ذلك
اختيار لها للزوجية، لان ذلك يتضمن الاختيار لان الطلاق لا يقع إلا في زوجة
وإن قال لواحدة فارقتك أو اخترت فراقك فذكر الشيخان أبو حامد وأبو إسحاق
أن ذلك يكون اختيارا لفسخ نكاحها.
وقال القاضي أبو الطيب: يكون ذلك اختيارا لها الزوجية فيقع عليها الفرقة
ويعتد بها من الأربع الزوجات، لان الفراق صريح في الطلاق، فلما كان الطلاق
في واحدة منهن اختيارا لزوجيتها فكذلك لفظ الطلاق صريح في الطلاق. قال
ابن الصباغ: وهذا وإن كان مبنيا على هذا الأصل إلا أنه مخالف للسنة، لان
النبي صلى الله عليه وسلم قال لغيلان اختر منهن أربعا وفارق سائرهن. وكذلك
حديث نوفل بن معاوية حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم أمسك أربعا وفارق
الأخرى رواه الشافعي وفى إسناده مجهول لان الشافعي يقول حدثنا
بعض أصحابنا عن أبي الزناد عن عبد المجيد بن سهل عن عوف بن الحارث عن
نوفل بن معاوية.
وهل يكون لفظ الفراق صحيحا كما قلنا إنه صريح في الطلاق، فيكون صريحا
في الطلاق وفى الفسخ لأنه حقيقة فيهما ويتخصص بالموضع الذي يقع فيه،
فإن كان ظاهر من واحدة منهن أو آلى منها لم يكن ذلك اختيارا لها، لأنه قد
يخاطب به غير الزوجة. وإن وطئ واحدة ففيه وجهان:
(أحدهما) يكون ذلك اختيارا للنكاح، لأن الظاهر أنه لا يطأ إلا من يختارها
للنكاح كما قلنا في البائع إذا وطئ الجارية المبيعة في حال الخيار فإنه فسخ للبيع،
(والثاني) لا يكون ذلك اختيارا لها، لان ما يتعلق به اصطلاح النكاح
لا يكون بالوطئ كالرجعية، فإذا قلنا إنه اختيار للموطوءة للنكاح فوطئ أربعا
منهن لزم نكاحهن وانفسخ نكاح البواقي. وإذا قلنا لا يكون اختيارا للنكاح
304

قلنا له: اختر أربعا، فإن اختار الموطوءة فلا شئ عليه، وإن اختار أربعا غير
الموطوءة لزمه للموطوءة مهر مثلها
(فرع) وان قال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت نكاحها لم يصح
، لان الاختيار كابتداء العقد، فلا يجوز تعليقه على صفة. قال الشافعي رضي الله عنه
: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها. لم يكن شيئا إلا أنه
يريده طلاقا، وجملة ذلك أن الرجل إذا أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات
فقال: كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها، فإن أراد به الفسخ
لم يصح لان الفسخ لا يصح تعليقه بالصفات، فهو كما لو أسلمن وقال لكل
واحدة (إذا طلعت الشمس فقد فسخت نكاحك)
وإن نوى به الطلاق، أو قال كلما أسلمت واحدة منكن فهي طالق، فاختلف
أصحابنا فيه، فمنهم من قال بظاهر كلام الشافعي، وقال يصح ذلك لان الطلاق
يصح تعليقه على الصفات، فإذا أسلم أربع منهن وقع عليهن الطلاق، وكان ذلك
اختيار الزوجتين، ومنهم من قال لا يصح ولا يتعلق بهذا حكم.
قال الشيخ أبو حامد، وهو المذهب، لان هذا يتضمن اختيارا للزوجة.
والاختيار لا يصح تعليقه بالصفة، ومن قال بهذا تأول كلام الشافعي
ثلاثة تأويلات.
(أحدهما) أنه إذا أسلم الرجل وليس عنده إلا أربع زوجات حرائر وتأخر
إسلامهن فقال كلما أسلمت واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاحها، فإن أراد
به الفسخ لم يصح لان الفسخ لا يصح الا فيمن تفضل عن الأربع، وان أراد به
الطلاق صح لأنه يلزمه نكاح جميعهن والطلاق يصح تعليقه بالصفات
(والتأويل الثاني) أنه أراد إذا أسلم وتحته أكثر من أربع زوجات، فكلما أسلمت
واحده منهن قال لها فسخت نكاحك ونوى به الطلاق فيصح ذلك ويكون طلاقا
واختيارا لها، فيكون الشرط من كلام الشافعي لا من كلام الزوج،
305

والتأويل الثالث: أنه أراد إذا أسلم رجل وعنده ثماني زوجات فأسلم أربع
منهن فاختار نكاحهن لزمه نكاحهن، ثم قال بعد ذلك الباقيات: كلما أسلمت
واحدة منكن فقد اخترت فسخ نكاح واحدة من زوجاتي اللاتي اخترت نكاحهن
فإن أراد به الفسخ لم يصح، وإن أراد به الطلاق صح، فكلما أسلمت واحدة من
الباقيات طلقت واحدة من الزوجات.
قال ابن الصباغ: والطريقة الأولة أظهر والتأويل يبعد، لان الطلاق يصح
تعليقه بالصفات والاختيار تابع.
(فرع) وان أسلم وأسلمن ثم ارتد لم يصح اختياره، وكذلك إذا رجعن إلى
الردة لم يصح اختيارهن ولا واحدة منهن، لان الردة تنافى ابتداء النكاح فكذلك
الاختيار، وان أسلم وأحرم فالمنصوص أنه يصح اختياره كما تصح رجعته، ومنهم
من قال: إن أسلم وأحرم فالمنصوص في الام أنه يصح اختياره، فمن أصحابنا من
قال: فيه قولان. أحدهما: لا يصح اختياره كما لا يصح نكاحه. والثاني: يصح
اختياره كما تصح رجعته، ومنهم من قال: إن أسلم وأحرم ثم أسلمن لم يصح
اختياره كما لا يصح نكاحه، وإن أسلم وأسلمن ثم أحرم صح اختياره، لان
الاحرام طرأ بعد ثبوت الاختيار.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن مات قبل أن يختار لم يقم وارثه مقامه، لان الاختيار يتعلق
بالشهوة فلا يقوم فيه غيره مقامه، وتجب على جميعهن العدة، لان كل واحدة
منهن يجوز أن تكون من الزوجات، فمن كانت حاملا اعتدت بوضع الحمل ومن
كانت من ذوات الشهر اعتدت بأربعة أشهر وعشر، ومن كانت من ذوات الأقراء
اعتدت بالأقصى من الأجلين من ثلاثة أقراء، أو أربعة أشهر وعشر، ليسقط
الفرض بيقين وبوقف ميراث أربع نسوة إلى أن يصطلحن، لأنا نعلم أن فيهن
أربع زوجات، وإن كان عددهن ثمانية فجاء أربع يطلبن الميراث لم يدفع إليهن
شئ لجواز أن تكون الزوجات غيرهن، وإن جاء خمس دفع إليهن ربع الموقوف
لان فيهن زوجة بيقين، ولا يدفع إليهن إلا بشرط أنه لم يبق لهن حق ليمكن
306

صرف الباقي إلى باقي الورثة، وإن جاء ست دفع إليهن نصف الموقوف لان فيهن
زوجتين بيقين، وعلى هذا القياس، وإن كان فيهن أربع كتابيات ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبى القاسم الداركي انه لا يوقف شئ، لأنه لا يوقف
إلا ما يتحقق استحقاقه ويجهل مستحقه، وههنا لا يتحقق الاستحقاق لجواز أن تكون
الزوجات الكتابيات فلا يرثن.
(والثاني) يوقف لأنه لا يجوز ان يدفع إلى باقي الورثة إلا ما يتحقق انهم
يستحقونه، ويجوز أن يكون المسلمات زوجاته فلا يكون الجميع لباقي الورثة.
(الشرح) الأحكام: إذا أسلم رجل حر وعنده أكثر من أربع زوجات
حرائر وأسلمن معه، فمات قبل إن يختار أربعا، فإن الوارث لا يقوم مقامه في
الاختيار لأنه اختيار شهوة، والوارث لا ينوب منابه في الشهوة فلزمهن العدة
فإن كن حوامل لم تنقض عدتهن إلا بوضع الحمل، لان من كانت منهن زوجة فهي
متوفى عنها زوجها، وعدة المتوفى عنها زوجها تنقضي بوضع الحمل، وإن كن
حوائل فإن كن من ذوات الشهور لم تنقض عدتهن الا بأربعة أشهر وعشر
لان من كانت منهن زوجة فهي موطوءة بشبهة فعدتها ثلاثة أشهر، ولا تنقص
الزوجات من غيرهن فلزمهن أربعة أشهر وعشر ليسقط الفرض بيقين، وان كن
من ذوات الأقراء لزم كل واحدة منهن ان تعتد بأقصى الأجلين من أربعة أشهر
وعشر أو ثلاثة اقراء، لان عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرا وعدة
الموطوءة بشبهة ثلاثة اقراء.
فإن كانت قبل مضى أربعة أشهر وعشرا لزمها استكمال العدة أربعة أشهر
وعشرا ليسقط الفرض بيقين كما قلنا فيمن نسي صلاة من خمس صلوات لا يعرفها
بعينها،، وإن كان بعضهن حوامل وبعضهن من ذوات الشهور، وبعضهن من
ذوات الأقراء لزم كل واحدة حكم نفسها فيما ذكرنا من ذلك ويوقف لهن من
ماله ميراث أربع زوجات وهو الربع مع عدم الولد والثمن مع الولد، لان فيهن
أربع زوجات بيقين، وان لم يعرفهن بأعيانهن، فإن اصطلحن فيه، فإن كن ثمان
نسوة فأخذت كل واحدة منهن ثمن الموقوف أو تفاضلن فيه برضاهن صح عن
307

الشافعي رضي الله عنه، فإن كان فيهن مولاة عليها إما لأنها صغيرة أو مجنونة لم
يصح لوليها أن يصالح عنها بأقل من ثمن الموقوف لأنها تستحق هذا القدر في
الظاهر، فلا يجوز أن يصالح عنها على أقل منه.
قال الشافعي رضي الله عنه في الام: فإن جاءت منهن واحدة إلى الحاكم
تطلب حقها من الميراث لم يدفع إليها شئ لأنه يمكن أن لا تكون زوجة وكذلك
إن جاء اثنتان أو ثلاث أو أربع فان جاء خمس دفع إليهن ربع الموقوف لأنا
نتيقن أن فيهن زوجة.
قال أكثر أصحابنا: إلا أنه لا يدفع ذلك إليهن إلا بشرط أنه لم يبق لهن حق
في الباقي من الموقوف ليمكن صرفه إلى الثلاث الباقيات إن طلبنه لأنه إذا لم يشرط
عليهن ذلك كان حقهن متعلقا به فيؤدى إلى أن يأخذن نصيب زوجة بيقين،
وحقهن بالباقي، وكذلك ان جاء ست دفع إليهن نصف الموقوف بهذا الشرط،
ودفع الباقي إلى الأخيرتين ان طلبتاه وان جاء سبع منهن دفع إليهن ثلاثة أرباع
الموقوف بهذا الشرط، ودفع الباقي منه إلى الثامنة ان طلبت ذلك.
قال ابن الصباغ: وهذا فيه نظر، وذلك أن من يعطى من الميراث اليقين
لا يسقط بذلك حقه مما يجوز أن يستحقه كما لو خلف زوجة وحملا فانا نعطي
الزوجة اليقين، ونوقف الباقي، ولا يسقط حقها منه، وان أسلم وتحته أربع
زوجات كتابيات وأربع وثنيات فأسلم الوثنيات معه ثم مات قبل أن يختار،
ففيه وجهان (أحدهما) لا يوقف شئ من تركته بل يدفع الجميع إلى باقي ورثته
لأنه لا يوقف الا ما يتيقن استحقاقه على باقي الورثة، ويجهل من يستحقه،
وههنا يجوز أن يكون الزوجات هن الكتابيات (والثاني) يجوز أن يكون المسلمات
هن الزوجات.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان أسلم وتحته أختان، أو امرأة وعمتها، أو امرأة وخالتها،
وأسلمتا معه لزمه ان يختار إحداهما، لما روى (ان ابن الديلمي أسلم وتحته أختان
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اختر أيتهما شئت وفارق الأخرى) وان أسلم
308

وتحته أم وبنت وأسلمتا معه، لم يخل إما أن لا يكون قد دخل بواحدة منهما أو
دخل بهما أو دخل بالأم دون البنت أو بالبنت دون الام، فإن لم يكن دخل
بواحدة منهما ففيه قولان.
(أحدهما) يمسك البنت وتحرم الام، وهو اختيار المزني، لان النكاح في
الشرك كالنكاح الصحيح، بدليل أنه يقر عليه والام تحرم بالعقد على البنت:
وقد وجد العقد، والبنت لا تحرم إلا بالدخول بالأم، ولم يوجد الدخول.
(والقول الثاني) وهو الصحيح أنه يختار من شاء منهما، لان عقد الشرك
إنما تثبت له الصحة إذا انضم إليه الاختيار، فإذا لم ينضم إليه الاختيار فهو
كالمعدوم، ولهذا لو أسلم وعنده أختان واختار إحداهما جعل كأنه عقد عليها ولم
يعقد على الأخرى، فإذا اختار الام صار كأنه عقد عليها ولم يعقد على البنت،
وإذا اختار البنت صار كأنه عقد عليها ولم يعقد على الام، فعلى هذا إذا اختار
البنت حرمت الام على التأبيد، لأنها أم امرأته، وان اختار الام حرمت البنت
تحريم جمع لأنها بنت امرأة لم يدخل بها، وإن دخل بها حرمت البنت بدخوله بالأم
وأما الام فان قلنا: إنها تحرم بالعقد على البنت حرمت لعلتين بالعقد على البنت
وبالدخول بها.
وإن قلنا: إنها لا تحرم بالعقد حرمت بعلة وهي الدخول، وإن دخل بالأم
دون البنت فان قلنا: إن الام تحرم بالعقد على البنت حرمت الام بالعقد
على البنت وحرمت البنت بالدخول بالأم، وان قلنا: إن الام لا تحرم بالعقد
على البنت حرمت البنت بالدخول بالأم وثبت نكاح الام، وان دخل بالبنت
دون الام ثبت نكاح البنت وانفسخ نكاح الام وحرمت في أحد القولين بالعقد
وبالدخول، وفى القول الآخر بالدخول.
(الشرح) حديث ابن الديلمي لعله فيروز في رواية ابنه الضحاك عند الشافعي
وأحمد والترمذي وحسنه والدارقطني وابن حبان وصححه، عن الضحاك عن أبيه
قال (أسلمت وعندي امرأتان أختان فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق
إحداهما) وفى لفظ الترمذي (اختر أيتهما شئت).
309

فإذا أسلم وعنده أختان اختار إحداهما وفارق الأخرى وكذلك إذا أسلم وعنده
امرأة وعمتها أو امرأة وخالتها وأسلمتا اختار إحداهما لأنه لا يجوز الجمع بينهما
فهما كالأختين، وقد مضى كلامنا على الأحاديث الواردة في ذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان أسلم وتحته أربع إماء فأسلمن معه فإن كان ممن يحل له نكاح
الأمة اختار واحدة منهن لأنه يجوز أن يبتدئ نكاحها فجاز له اختيارها كالحرة
وإن كان ممن لا يحل له نكاح الأمة لم يجز أن يمسك واحدة منهن.
وقال أبو ثور: يجوز لأنه ليس بابتداء النكاح فلا يعتبر فيه عدم الطول
وخوف العنت كالرجعة وهذا خطأ، لأنه لا يجوز له ابتداء نكاحها فلا يجوز له
اختيارها كالأم والأخت ويخالف الرجعة، لان الرجعة سد ثلمة في النكاح
والاختيار اثبات النكاح في المرأة، فصار كابتداء العقد، وان أسلم وتحته إماء
وهو موسر فلم يسلمن حتى أعسر ثم أسلمن فله أن يختار واحدة منهن، لان وقت
الاختيار عند اجتماع اسلامه واسلامهن، وهو في هذا الحال ممن يجوز له نكاح
الأمة، فكان له اختيارها، وان أسلم بعضهن وهو موسر وأسلم بعضهن وهو
معسر، فله أن يختار من اجتمع اسلامه واسلامها وهو معسر، ولا يختار من
اجتمع اسلامه واسلامها وهو موسر اعتبارا بوقت الاختيار.
(فصل) وان أسلم وعنده أربع إماء فأسلمت منهن واحدة، وهو ممن
يجوز له نكاح الإماء فله أن يختار المسلمة وله أن ينتظر اسلام البواقي ليختار من
شاء منهن، فان اختار فسخ نكاح المسلمة لم يكن له ذلك، لان الفسخ إنما يكون
فيمن فضل عمن يلزمه نكاحها، وليس ههنا فضل، فان خالف وفسخ ولم يسلم
البواقي لزم نكاح المسلمة، وبطل الفسخ، وان أسلمن فله أن يختار واحدة،
فان اختار نكاح المسلمة التي اختار فسخ نكاحها، ففيه وجهان.
(أحدهما) ليس له ذلك لأنا منعنا الفسخ فيها لأنها لم تكن فاضلة عمن يلزم
فيها النكاح، وباسلام غيرها صارت فاضلة عمن يلزم نكاحها، فثبت فيها الفسخ
310

(والثاني) وهو المذهب أن له أن يختار نكاحها لان اختيار الفسخ كان
قبل وقته، فكان وجوده كعدمه، كما لو اختار نكاح مشركة قبل إسلامها.
(فصل) وإن أسلم وعنده حرة وأمة وأسلمتا معه ثبت نكاح الحرة وبطل
نكاح الأمة، لأنه لا يجوز أن يبتدئ نكاح الأمة مع وجود حرة، فلا يجوز
أن يختارها، فإن أسلم وأسلمت الأمة معه وتخلفت الحرة فان أسلمت قبل انقضاء
العدة ثبت نكاحها وبطل نكاح الأمة كما لو أسلمتا معا، وان انقضت العدة ولم
تسلم بانت باختلاف الدين، فإن كان ممن يحل له نكاح الأمة فله أن يمسكها.
(فصل) وإن أسلم عبد وتحته أربع فأسلمن معه لزمه أن يختار اثنتين فان
أعتق بعد إسلامه وإسلامهن لم تجز له الزيادة على اثنتين لأنه ثبت له الاختيار
وهو عبد وإن أسلم وأعتق ثم أسلمن أو أسلمن وأعتق ثم أسلم لزم نكاح الأربع
لأنه جاء وقت الاختيار وهو ممن يجوز له أن ينكح أربع نسوة.
(الشرح) قوله: سد الثلمة يعنى جبر الخلل يقال ثلمته أثلمه وبابه ضرب
وفى السيف ثلم وفى الاناء ثلم إذا كسر من شفته.
أما الأحكام: فإنه إذا أسلم الحر وتحته أربع زوجات إماء وأسلمن معه بعد
الدخول، فإن كان عادما لطول حرة خائفا للعنت لزمه أن يختار واحدة منهن،
وإن كان واجدا لطول حرة أو آمنا من العنت لم يجز له ان يختار منهن واحدة.
وقال أبو ثور: له أن يختار واحدة منهن بكل حال، لان الاختيار ليس بابتداء
نكاح وإنما هو كالرجعة، وهذا ليس بصحيح لأنه لا يجوز له النكاح للأمة،
فلا يحل له اختيار نكاحها كالمعتدة.
إذا ثبت هذا: فإن أسلم وهو موسر فلم يسلمن معه حتى أعسر فله ان يختار
واحدة منهن اعتبارا بوقت اجتماع اسلامه واسلامهن، وان أسلم وهو معسر فلم
يسلمن حتى أيسر لم يكن له ان يختار واحدة منهن، وان اجتمع اسلامه واسلام
بعضهن وهو موسر واجتمع اسلامه واسلام بعضهن وهو معسر فله ان يختار ممن
اجتمع اسلامه واسلامهن في حال الاعسار دون يساره، وان أسلم وأسلمت
واحدة منهن وتخلف ثلاث في الشرك فله ان يختار المسلمة، وله ان ينتظر اسلام
311

الثلاث الباقيات، لأنه قد يكون له غرض في ذلك، فإن اختار نكاح المسلمة
لزمه نكاحها، فإن لم يسلم الباقيات حتى انقضت عدتهن انفسخ نكاحهن من وقت
اسلامهن وكان ابتداء عدتهن من ذلك الوقت، وان أسلمن قبل انقضاء عدتهن
انفسخ نكاحهن وقت اختيار الأولة، وكان ابتداء عدتهن من ذلك الوقت، فان
ماتت المسلمة بعد اختيار نكاحها فليس له أن يختار واحدة من الباقيات، وان لم
يختر المسلمة الأولة نظرت، فإن لم يسلم الباقيات حتى انقضت عدتهن لزمه نكاح
المسلمة وانفسخ نكاح الباقيات من وقت اسلامه وابتداء عدتهن من ذلك الوقت
وهكذا لو أسلم وتحته ثمان نسوة دخل بهن وأسلم منهن أربع وتخلف أربع فله أن
يختار نكاح الأربع المسلمات، وله أن ينتظر اسلام الباقيات، فإذا اختار كان
الحكم في وقت الفسخ ووقت العدة ما ذكرناه في التي قبلها، فان طلق الأمة
المسلمة أولا أو الأربع الحرائر المسلمات قبل اسلام الباقيات صح طلاقه، وكان
ذلك اختيارا لمن طلق، وان أراد أن يفسخ نكاح المسلمة أولا أو الأربع
المسلمات قبل اسلام الباقيات لم يكن له ذلك، لان الفسخ إنما يكون فيمن فضل
عمن يلزمه نكاحه، ويجوز أن لا يسلم الباقيات، فيلزمه نكاح من قد أسلم، فان
خالف وفسخ نكاح من أسلم نظرت، فإن لم يسلم الباقيات لم يصح الفسخ ولزمه
نكاح من فسخ نكاحه، وان أسلم الباقيات نظرت، فان اختار نكاح واحدة من
الثلاث الإماء أو الأربع الحرائر المسلمات لزمه نكاح من اختار نكاحه
وانفسخ نكاح الباقيات، وان اختار نكاح الأمة المسلمة أو الأربع الحرائر أولا
ففيه وجهان.
(أحدهما) يصح اختياره، لان فسخه الأول لم يحكم بصحته
(والثاني) لا يصح، لأنا إنما لم نحكم بصحة فسخه لأنها لم تكن فاضله عمن
يلزمه نكاحها، وباسلام الباقيات صار من فسخ نكاحها فاضلا والأول أصح.
(مسألة) إذا نكح الحر ثماني زوجات في الشرك، فأسلم وأسلم منهن أربع
وتخلف أربع، ثم مات الأربع المسلمات أو بعضهن ثم أسلم الأربع الباقيات قبل
انقضاء عدتهن، فله أن يختار الأربع الموتى للنكاح، لان الاختيار ليس هو
312

ابتداء عقد، وإنما يتعين به من كانت زوجة ولأن الاعتبار بالاختيار حال ثبوته
وقد كن أحياء ذلك الوقت.
(فرع) إذا تزوج وثنية ثم أسلمت وتخلف الزوج في الشرك فتزوج أختها
فان أسلم بعد انقضاء عدة الأولة انفسخ نكاح الأولة وثبت نكاح الثانية إن
أسلمت معه قبل انقضاء عدتها، وإن أسلم الزوج قبل انقضاء عدة الأولة وأسلمت
معه الثانية، اختار أيتهما شاء.
(فرع) إذا كان تحته ثمان زوجات فأسلم وأسلمن معه فقد قلنا: إذا
طلق واحدة كان ذلك اختيارا لزوجيتها، وإن ظاهر من واحدة أو آلى منها أو
قذفها لم يكن ذلك اختيارا لها، لأنه قد يخاطب به غير الزوجة، فيكون ذلك
موقوفا فإن لم يختر التي ظاهر منها أو آلى لم يصح ظهاره ولا إيلاؤه، وإن
اختارها للنكاح تبينا أن ظهاره أو إيلاؤه صحيح.
وأما المقذوفة: فإن لم يخترها للنكاح، وجب عليه الحد بقذفها، ولا يسقط
إلا بالبينة، وان اختارها للنكاح تبينا أنها كانت زوجة، وله أن يسقط حد قذفها
بالبينة أو باللعان، وان أسلم وتخلفن في الشرك فطلق واحدة منهن أو ظاهر منها
أو آلى أو قذفها، فإن لم يسلمن حتى انقضت عدتهن لم يكن لطلاقه وظهاره وايلائه
حكم، ويجب عليه التعزير للمقذوفة، وان أسلمن قبل انقضاء عدتهن.
قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني: فان اختار التي طلق أو ظاهر منها أو آلى
وقع عليها الطلاق والظهار والايلاء. ويلزمه التعزير بقذفها، وله أن يسقطه
بالبينة أو باللعان، وان لم يخترها فإنها أجنبية منه فلا يقع عليها طلاق ولا ظهار
ولا ايلاء ويلزمه بقذفها التعزير، ولا يسقط الا بالبينة.
قال ابن الصباغ في الشامل: وفى هذا عندي نظر، بل يجب إذا أسلمت
المطلقة أن يقع عليها الطلاق، ويكون ذلك اختيارا لها لان هذا الطلاق إذا كان
يقع عليها مع اختياره وقع عليها باسلامها.
313

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان تزوج امرأة معتدة من غيره وأسلما فإن كان قبل انقضاء العدة
لم يقرا على النكاح، لأنه لا يجوز له أن يبتدئ نكاحها فلا يجوز اقراره على
نكاحها، وإن كان بعد انقضاء العدة أقرا عليه، لأنه يجوز أن يبتدئ نكاحها،
وان أسلما وبينهما نكاح متعة لم يقرا عليه، لأنه إن كان بعد انقضاء المدة لم يبق
نكاح، وإن كان قبله لم يعتقدا تأبيده، والنكاح عقد مؤبد، وان أسلما على نكاح
شرط فيه الخيار لهما ألا حدهما متى شاء لم يقرا عليه، لأنهما لا يعتقدان لزومه
والنكاح عقد لازم، وان أسلما على نكاح شرط فيه فيه خيار ثلاثة أيام فإن كان
قبل انقضاء المدة لم يقرا عليه، لأنهما لا يعتقدان لزومه، وإن كان بعد انقضاء
المدة اقرار عليه لأنهما يعتقدان لزومه، وان طلق المشرك امرأته ثلاثا ثم تزوجها
قبل زوج ثم أسلما لم يقرا عليه، لأنها لا تحل له قبل زوج، فلم يقرا عليه كما لو
أسلم وعنده ذات رحم محرم، وان قهر حربي حربية ثم أسلما فان اعتقدا ذلك
نكاحا أقرا عليه لأنه نكاح لهم فيمن يجوز ابتداء نكاحها فأقرا عليه، كالنكاح
بلا ولى ولا شهود، وان لم يعتقدا ذلك نكاحا لم يقرا عليه لأنه ليس بنكاح.
(فصل) إذا ارتد الزوجان أو أحدهما فإن كان قبل الدخول وقعت
الفرقة، وإن كان بعد الدخول وقعت الفرقة على انقضاء العدة، فان اجتمعا
على الاسلام قبل انقضاء العدة فهما على النكاح، وان لم يجتمعا وقعت الفرقة،
لأنه انتقال من دين إلى دين يمنع ابتداء النكاح، فكان حكمه ما ذكرناه كما لو
أسلم أحد الوثنيين.
(فصل) وان انتقل الكتابي إلى دين لا يقر أهله عليه لم يقر عليه، لأنه
لو كان على هذا الدين في الأصل لم يقر عليه، فكذلك إذا انتقل إليه، وما الذي
يقبل منه؟ فيه ثلاثة أقوال.
(أحدها) يقبل منه الاسلام أو الدين الذي كان عليه، أو دين يقر عليه
أهله، لان كل واحد من ذلك مما يجوز الاقرار عليه.
(والثاني) لا يقبل منه الا الاسلام لأنه دين حق، أو الدين الذي كان عليه
314

لأنا أقررناه عليه (والثالث) لا يقبل منه إلا الاسلام وهو الصحيح، لأنه
اعترف ببطلان كل دين سوى دينه، ثم بالانتقال عنه اعترف ببطلانه، فلم يبق
إلا الاسلام، وإن انتقل الكتابي إلى دين يقر أهله عليه ففيه قولان.
(أحدهما) يقر عليه، لأنه دين يقر أهله عليه فأقر عليه كالاسلام.
(والثاني) لا يقر عليه لقوله عز وجل (ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن
يقبل منه) فعلى هذا فيما يقبل منه قولان. أحدهما: يقبل منه الاسلام أو الدين
الذي كان عليه، والثاني: لا يقبل منه إلا الاسلام لما ذكرناه. وكل من أنتقل
من الكفار إلى دين لا يقر عليه فحكمه في بطلان نكاحه حكم المسلم إذا ارتد.
(فصل) وان تزوج كتابي وثنية ففيه وجهان. أحدهما وهو قول أبي سعيد
الإصطخري: أنه لا يقر عليه لان كل نكاح لم يقر عليه المسلم لم يقر عليه الذمي
كنكاح المرتدة. والثاني: وهو المذهب أنه يقر عليه لان كل نكاح أقر عليه بعد
الاسلام أقر عليه قبله كنكاح الكتابية.
(الشرح) إذا تزوج مرتدة من غيره، فان أسلما قبل انقضاء عدتها من الأول
لم يقرا على النكاح لأنه لا يجوز له ابتداء نكاحها فلم يجز إقراره عليه كذوات
محارمه، وإن أسلما بعد انقضاء عدتها من الأول أقرا على النكاح لأنه لا يجوز له
ابتداء نكاحها فأقرا عليه.
(فرع) إذا نكح مشرك مشركة نكاح متعة ثم أسلما لم يقرا عليه لأنهما ان
أسلما قبل انقضاء المدة التي شرطها فهما لا يعتقدان لزومه الآن بعد انقضائها
وإن أسلما بعد انقضائها فهما لا يعتقدان لزومه.
قال الشافعي رضي الله عنه: فان أبطلا بعد العقد المتعة وجعلا العقد مطلقا
لم يؤثر ذلك، لأنه حالما عقداه كانا يعتقدان أنه لا يدوم بينهما فلم يتغير ذلك
الحكم بما طرأ من الشرط، وهكذا لو تزوجها على أن لهما أو لأحدهما الخيار في
فسخ النكاح متى شاء ثم أسلم لم يجز إقرارهما عليه، لأنهما لا يعتقدان لزومه،
فان اتفقا على إسقاط الشرط لم يؤثر ذلك، ولم يقرا عليه لما ذكرناه، وان شرطا
بينهما خيار ثلاثة أيام، فإن أسلما قبل الثلاث لم يقرا عليه، لأنهما لا يعتقدان
لزومه، وان أسلما بعد الثلاث أقرا عليه لأنهما يعتقدان لزومه.
315

(فرع) قال في الام: وان قهر حربي حربية على نفسها فوطئها أو طاوعته
فوطئها ثم أسلما لم يقر على ذلك إذا كانا لا يعتقدان ذلك نكاحا. قال أصحابنا:
فإن اعتقدا ذلك نكاحا وأسلما أقرا عليه لأنه لا يجوز لبعض أهل الذمة أن
يقهر بعضا، لان على الامام الذب عنهم.
(مسألة) إذا ارتد أحد الزوجين فإن كان قبل الدخول انفسخ نكاحهما
وقال داود: لا ينفسخ. دليلنا قوله تعالى (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) ولان
هذا اختلاف دين يمنع الإصابة فانفسخ به النكاح كما لو أسلمت الذمية تحت كافر
وان ارتد أحدهما بعد الدخول وقف النكاح على انقضاء عدة الزوجة، فإن رجع
المرتد منهما قبل انقضاء عدتها فهما على النكاح. وان انقضت عدتها قبل أن يسلم
المرتد منهما بانت منه بردة المرتد منهما، وبه قال أحمد وإحدى الروايتين عن مالك
وقال أبو حنيفة: ينفسخ النكاح في الحال، وهي الرواية الأخرى عن مالك
دليلنا أن هذا اختلاف دين بعد الدخول فلا يوجب الفسخ في الحال كما لو أسلمت
الحربية تحت الحربي، وإن ارتدا معا فإن كان قبل الدخول انفسخ النكاح
بينهما، وإن كان بعد الدخول وقف الفسخ على انقضاء عدة الزوجة، فإن رجعا
إلى الاسلام قبل انقضائها فهما على النكاح، وان انقضت قبل إسلامهما بانت
منه بالردة، وبه قال مالك وأحمد رضي الله عنهما. وقال أبو حنيفة: لا ينفسخ
العقد استحسانا، دليلنا أنها ردة طارئة على النكاح فوجب أن يتعلق بها فسخه
كما لو ارتد أحدهما.
(فرع) إذا ارتدت الزوجة بعد الدخول فطلقها الزوج ثلاثا فإن انقضت
العدة قبل أن ترجع إلى الاسلام تبينا أنها بانت بالردة، ولم يقع عليها طلاق،
وإن رجعت إلى الاسلام قبل انقضاء العدة، تبينا أنها كانت زوجة وقت الطلاق
ووقع عليها، وإن تزوج أختها أو عمتها بعد الطلاق أو خالتها بعد الطلاق صح بكل
حال، لأنها إما بائن منه بالردة أو بالطلاق، وان تزوج أختها أو عمتها بعد الردة
وقبل الطلاق في العدة لم يصح، لجواز أن ترجع إلى الاسلام فتكون زوجة.
(فرع) وان ارتدت زوجة رجل بعد الدخول عليه، وله امرأة صغيرة
فأرضعتها أم المرتدة قبل انقضاء عدة المرتدة خمس رضعات متفرقات، فإن رجعت
316

المرتدة إلى الاسلام قبل انقضاء عدتها انفسخ نكاح الصغيرة وفى الكبيرة قولان
وان لم ترجع إلى الاسلام بانت بالردة، ولم ينفسخ نكاح الصغيرة، وان أرضعتها
الكبيرة أو بنتها انفسخ نكاح الصغيرة بكل حال.
(مسألة) إذا انتقل اليهودي أو النصراني إلى دين لا يقر أهله عليه،
لم يقر عليه، كما لا يقر أهله عليه وما الذي يقبل منه؟ فيه ثلاثة أقوال.
(أحدها) الاسلام أو الدين الذي كان عليه أو دين يقرا أهله عليه، لان كل
دين من ذلك يقر أهله عليه.
(والثاني) لا يقبل منه الا الاسلام، لأنه الدين الحق، أو الدين الذي كان
عليه، لأنا قد أقررناه عليه.
(والثالث) وهو الأصح، أنه لا يقبل منه الا الاسلام، لأنه قد اعترف
ببطلان كل دين فلم بقبل الا الاسلام فإن انتقل إلى دين يقر أهله عليه فهل يقر عليه فيه
قولان مضى توجيههما، فإن قلنا: لا يقر عليه فهل يقبل منه الدين الذي كان
عليه أو لا يقبل منه الا دين الاسلام، فيه قولان مضى توجيههما، وكل موضع
قلنا: لا يقبل منه ما انتقل إليه فحكمه في النكاح حكم المرتد وقد مضى بيانه.
(مسألة) إذا تزوج الكتابي بكتابية أقرا عليه قبل اسلامهما وبعد اسلامهما
وان تزوج الكتابي وثنية أو مجوسية فإن أسلما أقرا عليه بلا خلاف، لان
غيلان بن سلمة أسلم وتحته عشر نسوة فأسلمن معه، فأمره النبي صلى الله عليه
وسلم ان يختار منهن أربعا، ولم يسأله هل هن كتابيات أو غير كتابيات، فدل
على أن الحكم لا يختلف، وان ترافعا إلينا قبل الاسلام ففيه وجهان.
قال أبو سعيد الإصطخري لا يقران عليه لان كل نكاح لم يقر عليه المسلم لم يقر عليه الكتابي
كالمرتد. والثاني وهو المذهب انهما يقران عليه، لان كل نكاح أقرا عليه
إذا أسلما أقرا عليه إذا لم يسلما كنكاح الكتابية ويخالف المسلم فإن الكافر أنقص من المسلم
فجاز له استدامة نكاح المجوسية والوثنية وان لم يجز ذلك للمسلم كما قلنا
في العبد: يجوز له تزويج الأمة ولا يعتبر فيه خوف العنت، وعدم الطول،
والله تعالى اعلم.
317

قال المصنف رحمه الله:
(فصل) إذا أسلم الوثنيان قبل الدخول ثم اختلفا فقالت المرأة: أسلم أحدنا
قبل صاحبه فانفسخ النكاح، وقال الزوج: بل أسلمنا معا، فالنكاح على حاله،
ففيه قولان.
(أحدهما) أن القول قول الزوج، وهو اختيار المزني، لان الأصل بقاء
النكاح (والثاني) أن القول قول المرأة، لأن الظاهر معها، فإن اجتماع
اسلامهما حتى لا يسبق أحدهما الآخر متعذر.
قال في الام: إذا أقام الزوج بينة أنهما أسلما حين طلعت الشمس، أو حين
غربت الشمس، لم ينفسخ النكاح لا تفاق إسلامهما في وقت واحد، وهو عند
تكامل الطلوع أو الغروب، فإن أقام البينة أنهما أسلما حال طلوع الشمس أو
حال غروبها انفسخ نكاحهما، لان حال الطلوع والغروب من حين يبتدئ
بالطلوع والغروب إلى أن يتكامل وذلك مجهول. وإن أسلم الوثنيان بعد الدخول
واختلفا، فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء عدتك فالنكاح باق. وقالت المرأة
بل أسلمت بعد انقضاء عدتي، فلا نكاح بيننا، فقد نص الشافعي رحمه الله تعالى
على أن القول قول الزوج، ونص في مسألتين على أن القول قول الزوجة
إحداهما إذا قال الزوج للرجعية: راجعتك قبل انقضاء العدة، فنحن على النكاح
وقالت الزوجة: بل راجعتني بعد انقضاء العدة، فالقول قول الزوجة. والثانية
إذا ارتد الزوج بعد الدخول ثم أسلم. فقال: أسلمت قبل انقضاء العدة فالنكاح
باق. وقالت المرأة بل أسلمت بعد انقضاء العدة فالقول قول المرأة. فمن أصحابنا
من نقل جواب بعضها إلى بعض، وجعل في المسائل كلها قولين.
(أحدهما) أن القول قول الزوج لان الأصل بقاء النكاح.
(والثاني) أن القول قول الزوجة، لان الأصل عدم الاسلام والرجعة.
ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين، فالذي قال: إن القول قول الزوج إذا
سبق بالدعوى، والذي قال: القول قول الزوجة إذا سبقت بالدعوى، لان
قول كل واحد منهما مقبول فيما سبق إليه، فلا يجوز ابطاله بقول غيره.
318

ومنهم من قال: هي على اختلاف حالين على وجه آخر، فالذي قال: القول
قول الزوج، أراد إذا اتفقا على صدقه في زمان ما ادعاه لنفسه، بأن قال أسلمت
وراجعت في رمضان، فقالت المرأة صدقت، لكن انقضت عدتي في شعبان،
فالقول قول الزوج باتفاقهما على الاسلام بالرجعة في رمضان، واختلافهما في
انقضاء العدة، والذي قال: القول قول المرأة إذا اتفقا على صدقها في زمان
ما ادعته لنفسها، بأن قالت: انقضت عدتي في شهر رمضان، فقال الزوج لكن
راجعت أو أسلمت في شعبان، فالقول قول المرأة لاتفاقهما على انقضاء العدة
في رمضان، واختلافهما في الرجعة والاسلام.
(الشرح) إذا أسلم الزوج بعد الدخول وتخلفت الزوجة فلا نفقة لها، وإن
أسلمت الزوجة ولم يسلم فعليه نفقتها، فإن اختلفا فقالت الزوجة: أسلمت أنا
وأقمت أنت على الشرك فأنا استحق عليك النفقة، وقال الزوج: بل أسلمت أنا
ولم تسلمي أنت فلا نفقة لك على، ففيه وجهان.
(أحدهما) القول قول الزوجة، لأنه قد ثبت استحقاقها للنفقة بالزوجية،
والأصل بقاؤها.
(والثاني) أن القول قول الزوج، لان نفقة كل يوم يجب بيومه، والأصل
عدم الوجوب. (مسألة) إذا أسلم الزوج قبل الزوجة وقبل الدخول وجب عليه نصف
المسمى ان سمى لها مهرا صحيحا، وإن سمى لها مهرا باطلا ولم تقبضه في لشرك
وجب لها نصف مهر المثل، وان أسلمت الزوجة قبله قبل الدخول لم يجب لها
شئ. إذا ثبت هذا: فان اتفقا أنهما أسلما قبل الدخول وقالا: لا نعلم السابق
منا بالاسلام انفسخ النكاح بينهما، لان الحال لا يختلف في انفساخ النكاح.
وأما الصداق: فإن كان في يد الزوج لم تقبض منه الزوجة شيئا، لأنها إن كانت
أسلمت أولا فإنها لا تستحق منه شيئا، وإن أسلم الزوج أولا فلها نصفه، فإذا
لم تعلم على أي وجه كان لم يتيقن استحقاقها بشئ من المهر، وإن كان الصداق في
يد الزوجة لم يكن للزوج أن يقبض منه الا النصف، لأنه لا يتيقن أنه يستحق
319

إلا ذلك، وإن اختلفا فقالت الزوجة أسلمت أنت أولا فأنا استحق عليك نصف
الصداق، وقال الزوج: بل أسلمت أنت أولا فلا تستحقين على شيئا، فالقول
قول الزوجة مع يمينها، لأنا تيقنا استحقاقها لنصف المهر، والأصل بقاء ذلك
الاستحقاق، وان اختلفا في انفساخ النكاح، فقالت الزوجة أسلم أحدنا قبل
صاحبه قبل الدخول فانفسخ النكاح. وقال الزوج بل أسلمنا معا في حالة واحدة
ففيه قولان.
(أحدهما) القول قول الزوج مع يمينه وهو اختيار المزني وأبي إسحاق
المروزي لان الأصل بقاء النكاح.
(والثاني) القول قول الزوجة مع يمينها، لأن الظاهر معها لأن الظاهر أنه لا يتفق
اسلامهما في حالة واحدة الا نادرا، وان قال الزوج: أسلم أحدنا قبل صاحبه.
وقالت الزوجة بل أسلمنا معا في حالة واحدة فإنه يحكم على الزوج بانفساخ النكاح
لأنه أقر بذلك. وأما المهر فيحتمل أن يكون على القولين كالأولة، وان أقام
الزوج البينة أنهما أسلما قبل الدخول حين طلعت الشمس أو حين زالت أو حين
غربت، لم ينفسخ النكاح، وان قال الزوجان أسلمنا معا مع طلوع الشمس أو
مع زوالها أو مع غروبها أو حال طلوعها أو حال زوالها أو حال غروبها لم يثبت
اسلامهما معا فينفسخ، والفرق بينهما ان حين طلوعها وحين زوالها وحين
غروبها هو حين تكامل الطلوع والزوال والغروب إلى استكماله، فيجوز أن
يكون اسلام أحدهما قبل الآخر.
(فرع) وان أسلمت الزوجة بعد الدخول ثم أسلم الزوج بعدها ثم اختلفا
فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء العدة، وقالت الزوجة: بل أسلمت بعد
انقضاء العدة. قال الشافعي رحمه الله: فالقول قول الزوج. وقال الشافعي رحمه
الله: إذا طلق زوجته طلقة رجعية ثم راجعها فقال الزوج: راجعت قبل انقضاء
العدة. وقالت الزوجة: بل راجعت بعد انقضاء العدة، فالقول قول الزوجة.
وقال: إذا ارتد الزوج بعد الدخول ثم أسلم فقالت الزوجة: أسلمت بعد انقضاء
العدة. وقال الزوج أسلمت قبل انقضاء العدة، فالقول قول الزوجة، واختلف
أصحابنا في هذه المسائل الثلاث على ثلاث طرق.
320

فمنهم من قال: فيها قولان. أحدهما: القول قول الزوج لان الأصل بقاء
النكاح. والثاني: القول قول الزوجة، لان الأصل عدم الاسلام والرجعة.
ومنهم من قال: هي على حالين، فحيث قال: القول قول الزوجة إذا كانت هي
السابقة بالدعوى، لان قول كل واحد منهما مقبول فيما أظهره وسبق إليه. ومنهم
من قال: هي على حالين آخرين، فحيث قال، القول قول الزوج إذا اتفقا على
وقت إسلامه أو رجعته، واختلفا في وقت انقضاء عدتها بأن قال. أسلمت أو
راجعت في شعبان، فقالت صدقت لكن انقضت عدتي في رجب، وحيث قال
القول قول الزوجة، أراد إذا اتفقا على وقت انقضاء عدتها، واختلفا في وقت
إسلامه ورجعته، فأن قالت انقضت عدتي في شعبان فقال صدقت لكن أسلمت
أو راجعت في رجب، لان الأصل بقاء العدة إلى شعبان وعدم الاسلام أو
الرجعة في رجب.
(فرع) وان تزوج الكتابي بالكتابية صغيرة وأسلم أحد أبويها قبل الدخول
انفسخ نكاحها، لأنها صارت مسلمة تبعا لمن أسلم من أبويها قبل الدخول فهو
كما لو قال أسلمت بعد بلوغها وقبل الدخول، وهل يجب لها من المهر شئ. قال
ابن الحداد، سقط جميع المهر، لان الفرقة وقعت بينهما قبل الدخول، ولم يكن
من الزوج صنع فيها فسقط المهر، كما لو اشترت المرأة زوجها قبل الدخول، فمن
أصحابنا من صوبه، ومنهم من خطأه وقال. يجب لها المهر لأنها لم يكن من جهتها
صنع في الفرقة، فهو كما لو أرضعتها أم الزوج، فإذا قلنا بهذا فإن الزوج لا يرجع
على من أسلم من أبويها بشئ، ويرجع على المرضعة، والفرق بينهما أن الاسلام
واجب فلم يكن فعله جناية، وليس كذلك الارضاع فإنه ليس بواجب، غير أنه
إن وجدت هذه المرضعة الصغيرة عطشانة قد أشرفت على الموت، ولم تجد أحدا
يرضعها أو يسقيها لبنا، ولم تتمكن من إحيائها إلا بالرضاع فإنه يجب عليها إرضاعها
وإذا أرضعتها انفسح النكاح ولم يجب عليها شئ للزوج، هكذا ذكر القاضي
أبو الطيب والله تعالى أعلم وهو الموفق للصواب.
321

قال المصنف رحمه الله:
كتاب الصداق
المستحب أن لا يعقد النكاح إلا بصداق لما روى سعد بن سهل رضي الله عنه
(أن امرأة قالت: قد وهبت نفسي لك يا رسول الله صلى الله عليك، فر في رأيك
فقال رجل: زوجنيها، قال: اطلب ولو خاتما من حديد، فذهب فلم يجئ بشئ
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هل معك من القرآن شئ، فقال: نعم فزوجه
بما معه من القرآن) ولان ذلك أقطع الخصومة، ويجوز من غير صداق، لقوله
تعالى (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة)
فأثبت الطلاق مع عدم الفرض.
وروى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
لرجل: إني أزوجك فلانة، قال: نعم قال للمرأة أترضين أن أزوجك فلانا،
قالت: نعم فزوج أحدهما من صاحبه، فدخل عليها ولم يفرض لها به صداق،
فلما حضرته الوفاة قال إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة ولم أفرض
لها صداقا ولم أعطها شيئا، وإني قد أعطيتها عن صداقها سهمي بخيبر، فأخذت
سهمه فباعته بمائة ألف) ولان القصد بالنكاح الوصلة والاستمتاع دون الصداق
فصح من غير صداق.
(فصل) ويجوز أن يكون الصداق قليلا لقوله صلى الله عليه وسلم (اطلب
ولو خاتما من حديد) ولأنه بدل منفعتها فكان تقدير العوض إليها كأجرة منافعها
ويجوز أن يكون كبيرا لقوله عز وجل (وآتيتم إحداهن قنطارا) قال معاذ رضي الله عنه
القنطار ألف ومائتا أوقية.
وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: ملء مسك ثور ذهبا. والمستحب
أن يخفف لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أعظم
النساء بركة أيسرهن مؤنة) ولأنه إذا كبر أجحف وأضر ودعى إلى المقت
والمستحب أن لا يزيد على خمسمائة درهم، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت
322

(كان صداق رسول الله صلى الله عليه وسلم لأزواجه اثنتي عشرة أوقية ونشأ
أتدرون ما النش، نصف أوقية، وذلك خمسمائة درهم) والمستحب الاقتداء به
والتبرك بما بعته، فإن ذكر صداق في السر وصداق في العلانية فالواجب ما عقد
به العقد، لان الصداق يجب بالعقد فوجب ما عقد به، وإن قال زوجتك ابنتي
بألف، وقال الزوج قبلت نكاحها بخمسمائة، وجب مهر المثل لان الزوج لم يقبل
بألف والولي لم يوجب بخمسمائة فسقط الجميع ووجب مهر المثل.
(الشرح) خبر سهل بن سعد في التي وهبت نفسها أخرجه أحمد والبخاري
ومسلم وقد مضى ذكره في غيره موضع، وحديث عقبة بن عامر أخرجه أبو داود
والحاكم، وقد استشهد به المحدثون لصحة حديث أخرجه أحمد وأبو داود
والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجة والحاكم والبيهقي وابن حبان (أن عبد الله
ابن مسعود أتى في امرأة تزوجها رجل ثم مات عنها ولم يفرض لها صداقا، ولم
يكن دخل بها، فاختلفوا إليه فقال. أرى لها مثل مهر نسائها ولها الميراث وعليها
العدة، فشهد معقل بن سنان الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع
ابنة واشق بمثل ما قضى).
وقال الشافعي لا أحفظه من وجه يثبت مثله ولو ثبت حديث بروع لقلت به
وقال ابن حزم، لا مغمز فيه لصحة إسناده، وروى الحاكم في المستدرك عن
حرملة بن يحيى أنه قال. سمعت الشافعي يقول إن صح حديث بروع بنت وأشق
قلت به. قال الحاكم، قال شيخنا أبو عبيد الله لو حضرت الشافعي لقمت على
رؤس الناس وقلت قد صح الحديث فقل به.
أما حديث عائشة رضي الله عنها باللفظ الذي ساقه المصنف رواه أحمد ورواه
الطبراني في الأوسط بلفظ (أخف النساء صداقا أعظمهن بركة) وفى إسناده
الحرث بن شبل، وأخرجه الطبراني في الكبير والأوسط بنحوه، وأخرج نحوه
الحاكم وأبو داود عن عقبة بن عامر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
(خير الصداق أيسره).
323

وأما حديث عائشة الثاني فقد أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي وابن
ماجة والدارقطني عن أبي سلمة قال (سألت عائشة رضي الله عنها كم كان صداق
رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: كان صداقه لأزواجه اثنتي عشرة أوقية
ونشأ، قالت: أتدري ما النش، قلت. لا. قالت نصف أوقية، فتلك خمسمائة
درهم) قوله (فر) فعل أمر من رأى محذوف الوسط المهموز كحذف همزة
الوسط في سأل فيقال: سل، ولأنه معتل الآخر فهو مبنى على حذف حرف
العلة وبذلك حذفت الألف المهموزة والألف المقصورة فكان فعل الامر (ر)
راء مفتوحة فقط.
والصداق فيه لغات أولها بفتح الصاد، والثانية كسرها، والجمع صدق بضمتين
والثالثة لغة الحجاز، صدقة بفتح الصاد وضم الدال وجمعها صدقات على لفظها
وفى التنزيل (وآتوا النساء صدقاتهن) والرابعة لغة تميم صدقه بضم الصاد
وإسكان الدال والجمع صدقات مثل غرفه وغرفات في وجوهها، والخامسة صدقه
وجمعها صدق مثل قرية وقرى، وأصدقتها أعطيتها صداقها وأصدقتها تزوجتها
على صداق وشئ صدق وزان فلس أي صلب.
(أما الأحكام) الصداق هو ما تستحقه المرأة بدلا في النكاح وله سبعة
أسماء الصداق والنحلة والأجرة والفريضة والمهر والعليقة والعقد، لان الله تعالى
سماه الصداق والنحلة والفريضة، وسماه النبي صلى الله عليه وسلم المهر والعليقة،
وسماه عمر بن الخطاب رضي الله عنه العقد، قال تعالى (فما استمتعتم به منهن
فآتوهن أجورهن فريضة) وقال تعالى (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن
وقد فرضتم لهن فريضة، فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون) الآية، وقال صلى الله
عليه وسلم (فان مسها فلها المهر بما استحل من فرجها) وقال صلى الله عليه وسلم
(أدوا العلائق، قيل وما العلائق قال ما تراضى عليه الأهلون) فان قيل لم سماه
نحلة، والنحلة العطية بغير عوض، والمهر ليس بعطية وإنما هو عوض عن
الاستمتاع، ففيه ثلاثة تأويلات.
أحدها: أنه لم يرد بالنحلة العطية، وإنما أراد بالنحلة من الانحال وهو التدين
324

لأنه يقال: انتحل فلان مذهب كذا أي دان به، فكأنه تبارك وتعالى قال (وآتوا
النساء صدقاتهن نحلة) أي تدينا.
(والثاني) أن المهر يشبه العطية لأنه يحصل للمرأة من اللذة في الاستمتاع
ما يحصل للزوج وأكثر، لأنها أجلب شهوة، والزوج ينفرد ببذل المهر، فكأنها
تأخذه بغير عوض.
(والثالث) أنه عطية من الله تعالى في شرعنا للنساء، لان في شرع من قبلنا
كان المهر للأولياء، ولهذا قال تعالى في قصة شعيب (إني أريد أن أنكحك إحدى
ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج) الآية.
إذا ثبت هذا: فالمستحب أن يسمى الصداق في العقد لما روى أن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يتزوج أحدا من نسائه عليهن السلام ولا زوج أحدا من بناته
عليهن السلام إلا بصداق سماه في العقد، وحديث المرأة التي جاءت النبي صلى الله
عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد وهبت نفسي منك فصعد النبي صلى الله عليه
وسلم بصره ثم صوبه ثم قال ما لي إلى النساء من حاجة، فقام رجل فقال زوجنيها
يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: ما تصدقها، قال: إزاري، قال: إن
أصدقنها إزارك جلست ولا إزار لك، التمس ولو خاتما من حديد، فالتمس ولم
يجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أمعك شئ من القرآن، قال نعم سورة كذا
وسورة كذا، فقال صلى الله عليه وسلم زوجتكها بما معك من القرآن. ولأنه
إذا زوجه بالمهر كان أقطع للخصومة، فإن عقد النكاح بغير صداق انعقد النكاح
لقوله تعالى (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة
ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) والآية. فأثبت الطلاق من غير
فرض، والطلاق لا يقع إلا في نكاح صحيح، وخير الرجل الذي تزوج امرأة
ولم يفرض لها صداقا فلما حضرته الوفاة أعطاها عن صداقها سهمه بخيبر، ولان
المقصود في النكاح أعيان الزوجين دون المهر، ولهذا يجب ذكر الزوجين في
العقد، وإنما العوض فيه تبع بخلاف البيع، فإن المقصود فيه العوض، ولهذا
لا يجب ذكر لبائع والمشترى في العقد إذا وقع من وكيليهما.
325

(مسألة) وليس لأقل الصداق حد عندنا، بل كل ما يتمول وجاز أن يكون
ثمنا لشئ أو أجرة جاز أن يكون صداقا، وبه قال عمر رضي الله عنه وابن عباس
وابن المسيب والحسن وربيعة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق رضي الله عنهم
قال القاضي أبو القاسم الصيمري: ولا يصح أن يكون الصداق نواة أو قشرة
بصلة أو قمع باذنجان أو ليطة أو حصاة. هذا مذهبنا.
وقال مالك وأبو حنيفة: أقل الصداق ما تقطع به يد السارق، إلا أن ما تقطع
به يد السارق عند مالك ربع دينار أو ثلاثة دراهم، وعند أبي حنيفة دينار أو عدة
دراهم، فإن أصدقها دون العشرة دراهم.
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: كملت العشرة. وقال زفر يسقط المسمى
ويجب مهر المثل، وقال ابن شبرمة أقله خمسة دراهم، وقال النخعي أقله أربعون
درهما. وقال سعيد بن جبير أقله خمسون درهما.
دليلنا قوله تعالى (فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون) الآية، وقوله صلى الله
عليه وسلم: أدوا العلائق، ثم قال صلى الله عليه وسلم: والعلائق ما تراضوا عليه
الأهلون. وقوله صلى الله عليه وسلم التمس شيئا، التمس ولو خاتما من حديد،
وهذه عمومات تقع على القليل والكثير، وروى أن عبد الرحمن بن عوف أتى
النبي صلى الله عليه وسلم وعليه علامات التزويج وقال: تزوجت امرأة من الأنصار قال
صلى الله عليه وسلم: ما سقت إليها، قال: نواة من ذهب فقال صلى الله عليه وسلم
أولم ولو بشاة. والنواة خمسة دراهم.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من استحل بدرهمين فقد استحل.
ولان كل ما جاز أن يكون ثمنا جاز أن يكون مهرا كالمجمع عليه، وأما أكثر
الصداق فليس له حد، وهو إجماع لقوله تعالى (وآتيتم إحداهن قنطارا) الآية
فأخبر تعالى أن القنطار يجوز أن يكون صداقا.
قال ابن عباس: القنطار سبعون ألف مثقال، وقال أبو صالح: مائة رطل
وقال معاذ ألف ومائتا أوقية. وقال أبو سعيد الخدري القنطار ملء مسك ثور
ذهبا، ومسك الثور جلده.
وروى عن عمر رضي الله عنه أنه خطب الناس وقال يا معاشر الناس لا تغالوا
326

في صدقات النساء، فوالله لا يبلغني أحد زاد على مهر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلا جعلت الفضل في بيت المال، فعرضت له امرأة من قريش، فقالت كتاب الله
أولى أن يتبع، إن الله يعطينا ويمنعنا ابن الخطاب، فقال: أبن، قالت: قال الله
تعالى (وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا) الآية. فقال: فليضع
الرجل ماله حيث شاء. وفى رواية كل الناس أفقه من عمر، فرجع عن ذلك،
وروى أنه رضي الله عنه تزوج أم كلثوم بنت علي كرم الله وجهه وأصدقها
أربعين ألف درهم.
وروى أن عبد الله بن عمر زوج بنات أخيه عبيد الله على صداق عشرة آلاف
درهم، وتزوج أنس رضي الله عنه امرأة وأصدقها عشرة آلاف درهم، وتزوج
الحسن عليه السلام امرأة وبعث إليها مائة جارية ومع كل جارية ألف درهم، ثم
طلقها وتزوجها رجل من بنى تميم فأصدقها مائة ألف درهم، وتزوج مصعب
ابن الزبير بعائشة بنت طلحة وأصدقها مائة ألف درهم.
قال الشافعي رضي الله عنه: والاقتصاد في المهر أحب إلى من المغالاة فيه
لما روت عائشة أم المؤمنين عليها السلام ان النبي صلى الله عليه وسلم قال أعظم
النكاح بركة اخفه مؤنة. وروى ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
خيرهن أيسرهن مهرا. وروى سهل بن سنان ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
أيما رجل أصدق صداقا ونوى انه لا يؤديه لقى الله وهو زان، وإيما رجل ادان
دينارا ونوى ان لا يؤديه لقى الله وهو سارق. والمستحب ان لا يزيد على خمسمائة
درهم، وهو صداق أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته عليهن سلام الله
ورحمته لما روي عن عائشة قالت: كان صداق أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر
أوقية ونشأ قالت والنش نصف أوقية، والأوقية أربعون درهما.
(فرع) ولو تواعدوا في السر على أن الصداق مائه، وعلى أنهم يظهرون
للناس انه ألف كما يشيع ذلك في زماننا هذا فقد قال الشافعي رضي الله عنه في
موضع: المهر مهر السر. وقال في موضع: المهر مهر العلانية. قال أصحابنا
البغداديون ليست على قولين وإنما هي على حالين، فالموضع الذي قال المهر مهر
السر، أراد إذا عقدوا النكاح أولا في العلانية بألف ثم عقدوا ثانيا في السر بمائه
327

ومن أصحابنا الخراسانيين من قال: في المهر قولان والأول هو المشهور، فان قال
الولي: زوجتك ابنتي بألف فقال الزوج: قبلت نكاحها بخمسمائة وجب لها مهر
مثلها لان الايجاب والقبول لم يتفقا على مهر واحد.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ويجوز أن يكون الصداق دينا وعينا وحالا ومؤجلا لأنه عقد على
المنفعة فجاز بما ذكرناه كالإجارة.
(فصل) ويجوز أن يكون منفعة كالخدمة وتعليم القرآن وغيرهما من المنافع
المباحة لقوله عز وجل (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني
ثماني حجج) فجعل الرعى صداقا وزوج النبي صلى الله عليه وسلم الواهبة من الذي
خطبها بما معه من القرآن، ولا يجوز أن يكون محرما كالخمر وتعليم التوراة وتعليم
القرآن للذمية، لا تتعلمه للرغبة في الاسلام، ولا ما فيه غرر كالمعدوم والمجهول
ولا ما لم يتم ملكه عليه كالمبيع قبل القبض، ولا ما لا يقدر على تسليمه كالعبد
الآبق والطير الطائر، لأنه عوض في عقد فلا يجوز بما ذكرناه كالعوض في البيع
والإجارة، فإن تزوج على شئ من ذلك لم يبطل النكاح، لان فساده ليس
بأكثر من عدمه، فإذا صح النكاح مع عدمه صح مع فساده، ويجب مهر المثل
لأنها لم ترض من غير بدل، ولم يسلم لها البدل، وتعذر رد المعوض فوجب رد
بدله كما لو باع سلعه بمحرم وتلفت في يد المشترى.
(الشرح) يصح أن يكون الصداق دينا وعينا، فإذا كان دينا صح أن يكون
حالا ومؤجلا، فإن أطلق كان حالا كما قلنا في الثمن، ويصح أن يكون الصداق
منفعة يصح عقد الإجارة عليها كمنفعة العبيد والبهائم والأرض والدور لأنه
عقد على المنفعة فجاز بما ذكرناه كالإجارة.
(فرع) ويصح أن تكون منفعة الحر صداقا كالخياطة والبناء وتعليم القرآن
وما أشبه ذلك مما يصح استئجاره عليه، وبه قال مالك رحمه الله إلا أنه قال: يكره
ذلك. وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يصح.
328

دليلنا قوله تعالى (إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني
ثماني حجج) فذكر أن الرعى صداق في شرع من قبلنا ولم يعقبه بنكير، وزوج
رسول الله صلى الله عليه وسلم المرأة التي وهبت نفسها من رسول الله صلى الله عليه وسلم
للذي خطبها بما معه من القرآن، تقديره على تعليم ما معه من القرآن، لان
القرآن لا يجوز أن يكون صداقا، ولان كل منفعة جاز أن يستحق بعقد الإجارة
جاز أن يستحق بعقد النكاح كمنفعة العبيد والأرض.
(فرع) وما لا يصح بيعه كالكلب والخنزير والسرجين والمجهول والمعدوم
وما لم يتم ملكه عليه والمنافع التي لا يصح الاستئجار عليها لا يصح أن يكون شئ
من ذلك صداقا لأنه عوض في عقد فلم يصح فيها ذكره، كالبيع والإجارة
إذا ثبت هذا فان عقد النكاح لمهر باطل أو مجهول لم يبطل النكاح، وبه
قال أبو حنيفة وأكثر أهل العلم.
وقال مالك رحمه الله لا يصح النكاح. وحكى المسعودي أنه قول الشافعي
رحمه الله في القديم، وليس بمشهور. دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: لا نكاح
إلا بولي مرشد وشاهدي عدل. ولم يفصل بين أن يكون المهر صحيحا أو فاسدا ولأنه
عقد نكاح فلم يبطل بفساد المهر كما لو تزوجها على دراهم مغصوبة، فإن مالكا
وافقنا على هذا، ولان النكاح إذا انعقد مع عدم ذكر المهر فلان ينعقد مع فساده
أولى، فإذا عقد النكاح بمهر باطل وجب لها مهر المثل أو المسمى.
دليلنا أنها دخلت في العقد على أن يكون لها المسمى، فإذا لم يسلم وتعذر
رجوعها إلى بعضها رجعت إلى قيمته، كما لو اشترى عبدا شراء فاسدا وقبضه
وتلف في يده. وإن تزوجها على شئ موصوف في ذمته لزمه تسليم ذلك
على ما وصف.
وقال أبو حنيفة وأحمد: إن شاء سلم الموصوف بصفته وان شاء دفع قيمته
وعن أبي حنيفة في الثوب صداقا روايتان، إحداهما كقولنا أنه يسلم الثوب
الموصوف الذي في ذمته، والثانية دفع قيمته، دليلنا أن هذه تسمية صحيحه
فلم يخير بين دفع المسمى وبين دفع قيمته كالمكيل والموزون
329

(فرع) إذا قالت المرأة لوليها: زوجني بلا مهر أو بأقل من مهر مثله فنقل
أصحابنا البغداديون أن النكاح صحيح في جميع هذه المسائل ولها مهر مثلها. وقال
المسعودي: هل ينعقد النكاح في جميع هذه المسائل؟ فيه قولان. قال ومن
أصحابنا من قال لا ينعقد النكاح من الوكيل قولا واحدا، لأنه يزوج بالنيابة عن
الولي والأصح الطريق الأول، لان النكاح لا يفسد عندنا بفساد المهر، هذا
مذهبنا. وقال أبو حنيفة: إذا زوج ابنته الصغيرة بأقل من مهر مثلها وكان
ذلك المهر لا ينقص عن أقل المهر، وهي عشرة دراهم صح المهر.
دليلنا أن البنت إذا أذنت لعمها في العقد فزوجها بأقل من مهر مثلها بغير
إذنها استحقت مهر مثلها، فكذلك الأب والجد، ولان الأب والجد لا يجوز
أن يبيعا مال الصغيرة بأقل من ثمن مثله، فكذلك لا يجوز لهما تزويجها بأقل
من مهر مثلها.
وإن زوج الرجل وليته بأرض أو عرض أو بغير نقد البلد فهل يصح المهر؟
لا أعلم فيه نصا، بمعنى أنها في مصر وأصدقها بالدولار أو بالاسترليني أو بالدينار
العراقي أو بالليرة السورية أو بريال تريزة أو بالجنيه السعودي، فالذي يقتضى
القياس إن كان الولي أبا أو جدا، أو كانت المنكوحة صغيرة أو مجنونة صح المهر
إذا كان قيمة ذلك مثل مهر مثلها، كما يجوز أن يبتاع لها ذلك بمالها. وإن كان
الولي غيرهما من العصبات، أو كان الولي أبا أو جدا والمنكوحة بالغة عاقلة لم يصح
ذلك المهر إلا إن كان بإذنها ونطقها لأنه لا ولاية له على مالها، وإنما ولايته على
عقد نكاحها بنقد البلد.
وإن كانت المنكوحة مجنونة وكان وليها الحاكم، ورأي أن يزوجها بشئ من
العروض وقيمته قدر مهر مثلها صح ذلك لأنه يجوز له التصرف بمالها.
(مسأله) إذا تزوجها وأصدقها تعليم القرآن مدة معلومة صح ذلك إذا كانت
المدة متصلة بالعقد، وتطالبه بالتعليم في تلك المدة على حسب عادة التعليم، ولها
أن تطالبه بتعليم ما شاءت من القرآن وإن كان الصداق تعليم شئ القرآن
فيشترط أن يذكر السورة التي يعلمها.
330

فان أصدقها تعليم عشرين من سورة كذا ولم تبين الأعشار ففيه وجهان
(أحدهما) يصح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال للرجل الذي خطب الواهبة (ما معك من القرآن؟ قال سورة البقرة والتي
تليها، فقال صلى الله عليه وسلم: زوجتك بما معك على أن تعلمها عشرين
آية) ولم يفصل.
(والثاني) لا يصح، لان الأعشار تختلف.
وأما الخبر فإنما نقل الراوي جواز تعليم القرآن في الصداق ولم ينقل غير
الصداق، ولا يجوز في صفة الرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعقد الصداق على
مجهول. وهل من شرطه أن يبين الحرف الذي يعلمها كحرف نافع وابن كثير
وغيرهما. فيه وجهان مضى بيانهما في الإجارة.
فان أصدقها تعليم سورة وهو لا يحفظها فإن كان على أن يحصل لها تعليمها
صح ذلك ويستأجر محرما لها أو امرأة تعلمها أو يتعلمها هو بنفسه ثم يعلمها
وإن كان على أن يعلمها هو بنفسه ففيه وجهان.
(أحدهما) يصح كما لو أصدقها ألف درهم في ذمته ولا يملك شيئا.
(والثاني) لا يصح، كما لو أصدقها خدمة عبد لا يملكه، وإن أصدقها تعليم
سورة فأتت بامرأة غيرها لتعلمها مكانها فهل يلزمه تعليمها. فيه وجهان
(أحدهما) يلزمه كما لو اكترت منه دابة لتركبها إلى بلد فأرادت أن تركبها مثلها
(والثاني) لا يلزمه، لان له غرضا في تعليمها لأنه أطيب له لأنه يلتذ بكلام
غيرها، ولأنه أصدقها ايقاع منفعة في عين فلا يلزمه ايقاعها في غيرها، كما لو
أصدقها خياطة ثوب بعينه فأتت بثوب غيره ليخيطه فلا يلزمه ذلك، وان لقنها
فحفظت ثم نسيت، قال الشيخ أبو حامد فينظر فيها، فان علمها دون آية فنسينها
لم يعتد له بذلك، وكم القدر الذي إذا علمها إياه خرج من عهدة التعليم،
فيه وجهان (أحدهما) أقله آية، لأنه يطلق عليه اسم التعليم، فعلى هذا إذا علمها
آية فنسيتها لم يلزمه تعليمها إياها ثانيا (والثاني) أقله سورة، لان ما دونها ليس
بتعليم في العادة. وذكر ابن الصباغ أنه إذا علمها ثلاث آيات سقط عنه عهدة
التعليم وجهان واحدا، وهل يسقط عنه تعليم آية أو آيتين. فيه وجهان
331

قال المصنف رحمه الله:
(فصل) فان تزوج كافر بكافرة على محرم كالخمر والخنزير ثم أسلما أو تحاكما
إلينا قبل الاسلام نظرت فإن كان قبل القبض سقط المسمى ووجب مهر المثل لأنه
لا يمكن اجباره على تسليم المحرم، وإن كان بعد القبض برئت ذمته منه كما لو
تبايعا بيعا فاسدا وتقابضا، وإن قبض البعض برئت ذمته من المقبوض ووجب
بقدر ما بقي من مهر المثل، فإن كان الصداق عشرة أزقاق خمر فقبضت منها خمسة
ففيه وجهان.
(أحدهما) يعتبر بالعدد فيبرأ من النصف ويجب لها نصف مهر المثل، لأنه
لا قيمة لها فكان الجميع واحدا فيها فسقط نصف الصداق، ويجب نصف مهر المثل
(والثاني) يعتبر بالكيل لأنه أحصر، وان أصدقها عشرة من الخنازير
وقبضت منها خمسة ففيه وجهان.
أحدهما: يعتبر بالعدد فتبرأ من النصف ويجب لها نصف مهر المثل، لأنه
لا قيمة لها فكان الجميع واحدا.
والثاني: يعتبر بما له قيمة وهو الغنم فيقال: لو كانت غنما كم كانت قيمة ما قبض
منها فيبرأ منه بقدره، ويجب بحصة ما بقي من مهر المثل، لأنه لما لم تكن له قيمة
اعتبر بماله قيمة، كما يعتبر الحر بالعبد فيما ليس له أرش مقدر من الجنايات.
(فصل) وإن أعتق رجل أمته على أن تتزوج به ويكون عتقها صداقها
وقبلت لم يلزمها ان تتزوج به لأنه سلف في عقد فلم يلزم كما لو قال لامرأة خذي
هذا الألف على أن تتزوجي بي وتعتق الأمة لأنه أعتقها على شرط باطل فسقط
الشرط وثبت العتق كما لو قال لعبده ان ضمنت لي خمرا فأنت حر فضمن ويرجع
عليها بقيمتها لأنه لم يرض في عتقها إلا بعوض ولم يسلم له وتعذر الرجوع إليها
فوجبت قيمتها كما لو باع عبدا بعوض محرم وتلف العبد في يد المشترى، وان
تزوجها بعد العتق على قيمتها وهما لا يعلمان قدرها فالمهر فاسد.
وقال أبو علي بن خيران: يصح كما لو تزوجها على عبد لا يعلمان قيمته وهذا
خطأ لان المهر هناك هو العبد وهو معلوم والمهر ههنا هو القيمة وهي مجهولة
332

فلم يجز وان أراد حيلة يقع بها العتق وتتزوج به ففيه وجهان (أحدهما) وهو
قول أبى علي بن خيران أنه يمكنه ذلك بأن يقول إن كان في معلوم الله تعالى إني
إذا أعتقتك تزوجت بي فأنت حرة فإذا تزوجت به علمنا أنه قد وجد شرط العتق
وإن لم تتزوج به علمنا أنه لم يوجد شرط العتق (والثاني) وهو قول أكثر أصحابنا
أنه لا يصح ذلك ولا يقع العتق ولا يصح النكاح لأنه حال ما تتزوج به نشك أنها
حرة أو أمة والنكاح مع الشك لا يصح فإذا لم يصح النكاح لم تعتق لأنه لم يوجد
شرط العتق، وان أعتقت امرأة عبدا على أن يتزوج بها وقبل العبد عتق ولا يلزمه
أن يتزوج بها لما ذكرناه في الأمة ولا يلزمه قيمته لان النكاح حق للعبد فيصير
كما لو أعتقته بشرط أن تعطيه مع العتق شيئا آخر ويخالف الأمة فان نكاحها حق
للمولى فإذا لم يسلم له رجع عليها بقيمتها. وإن قال رجل لآخر أعتق عبدك عن
نفسك على أن أزوجك ابنتي فأعتقه لم يلزمه التزويج لما ذكرناه، وهل تلزمه
قيمة العبد فيه وجهان بناء على القولين فيمن قال لغيره أعتق عبدك عن نفسك
وعلى ألف فأعتقه، أحدهما يلزمه كما لو قال أعتق عبدك عنى على ألف، والثاني
لا يلزمه لأنه بذل العوض على ما لا منفعة له فيه.
(الشرح) إذا ترافع ذميان إلى حاكم المسلمين ليحكم بينهما في ابتداء العقد
لم يحكم به بين المسلمين، فإن كانت المنكوحة بكرا أجبرها الأب والجد، وإن
كانت ثيبا لم يصح تزويجها إلا بإذنها، وإن عضلها الولي زوجها حاكم المسلمين
لأنه يلي عليها بالحكم، وإن تحاكما في استدامته فإنه لا اعتبار بانعقاده على أي
وجه كان، ولكن ينظر فيها، فإن كانت ممن لا يجوز له ابتداء نكاحها في هذه
الحال فرق بينهما، فإن كانت ممن يجوز له ابتداء نكاحها أقرهما على نكاحها
وإن كان قد عقد لها بولي غير مرشد أو بغير شهود لأنه عقد مضى في الشرك،
فلا يجوز تتبعه ومراعاته، لان في ذلك إلحاق مشقة، وتنفيرا لهم عن الدخول
في الطاعة، وفى هذا المعنى نزل قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا
ما بقي من الربا) فأمر بترك ما بقي في أيديهم من الربا وعفى عما قبض في الشرك،
333

وإن تحاكما في الصداق أو أسلما وتحاكما، فإن كان قد أصدقها صداقا صحيحا حكم
بصحته، وإن أصدقها صداقا فاسدا كالخمر والخنزير، فإن كانت قد قبضت جميعه
في الشرك فقد سقط عنه جميعه وبرئت ذمته من الصداق، لان ما قبض في
الشرك لا يجوز نقضه لما ذكرناه من الآية، ولقوله تعالى (قل للذين كفروا إن
ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف) الآية.
وإن كانت لم تقبض شيئا حكم الحاكم بفساد المسمى، وأوجب لها مهر
مثلها من نقد البلد. وقال أبو حنيفة: لا يحكم لها إلا بما سمى لها. دليلنا أنه
لا يمكن أن يحكم عليها بتسليم المسمى لفساده فحكم لها بمهر صحيح. وإن قبضت
بعضه في حال الشرك وبقى البعض سقط من المهر بقسط ما قبضته من المسمى،
ووجب لها مهر المثل بقسط ما تقبضه من المسمى، لأنها لو قبضت الجميع لم يحكم
لها بشئ، ولو لم تقبض شيئا لحكم لها بمهر مثلها، فإذا قبضت البعض وبقى البعض
فيقسط مهر المثل على المقبوض وعلى ما لم تقبض.
إذا ثبت هذا فإن كان أصدقها عشرة أزقاق خمر فقبضت منها بعضها فإن كان
ت متساوية لا يفضل بعضها على بعض قسم المهر على أعدادها، فان قبضت
خمسة سقط عنه نصف المهر ووجب لها نصف مهر مثلها، وإن كانت مختلفة ففيه
وجهان (أحدهما) وهو قول أبي إسحاق أن المهر يقسط على أعدادها، لأنه لا قيمة
للخمر، فاستوى الصغير والكبير.
(والثاني) يقسط على كيلها. قال ابن الصباغ: وهو الاقيس، لأنه لا يمكن
اعتبار كيلها، وإن أصدقها عشرة خنازير أو عشرة كلاب وقبضت خمسة ففيه
ثلاثة أوجه. قال أبو إسحاق يعتبر بالعدد، سواء في ذلك الصغير والكبير فيسقط
نصف المهر ويجب لها نصف مهر مثلها، لان الجميع لا قيمة له، فكان الجميع
واحدا (والثاني) يعتبر التفاوت فيها، فيضم صغيران ويجعلان بإزاء كبير أو
صغير ويجعلان بإزاء وسطين، ويقسط المهر على ذلك
(والثالث) وهو قول أبى العباس بن صريح أنه يقال: لو كانت هذه الخنازير
أو الكلاب مما يجوز بيعها كم كانت قيمتها فيقسط المهر على ذلك، لأنه لا يمكن
اعتبارها بأنفسها، فاعتبرت بغيرها كما قلنا في الجناية على الحر التي لا أرش لهما
334

فقدر أنها تعتبر بالجناية على العبد، قال القاضي أبو الطيب والشيخ أبو إسحاق:
فعلى هذا تقدر لو كانت غنما، لأنها أقرب إليها.
قال ابن الصباغ: وهذا ليس بصحيح لان الغنم ليست من جنس الخنازير
والكلاب، فتعتبر بها بخلاف الحر والعبد، وينبغي على هذا أن تقوم بما يتبايعونها
بينهم ليقدر ذلك، لان لها قيمة في الشرح كما يقدر أن لو جاز بيعها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويثبت في الصداق خيار الرد بالعيب، لان إطلاق العقد يقتضى
السلامة من العيب، فثبت فيه خيار الرد كالعوض في البيع، ولا يثبت فيه خيار
الشرط ولا خيار المجلس، لأنه أحد عوضي النكاح فلم يثبت فيه خيار الشرط
وخيار المجلس كالبضع، ولان خيار الشرط وخيار المجلس جعلا لدفع الغين،
والصداق لم يبن على المغابنة، فإن شرط فيه خيار الشرط فقد قال الشافعي رحمه
الله: يبطل النكاح، فمن أصحابنا من جعله قولا لأنه أحد عوضي النكاح فبطل
النكاح بشرط الخيار فيه كالبضع. ومنهم من قال لا يبطل وهو الصحيح. كما لا يبطل
إذا جعل المهر خمرا أو خنزيرا، وما قال الشافعي رحمه الله محمول على ما إذا
شرط في المهر والنكاح، ويجب مهر المثل لان شرط الخيار لا يكون الا بزيادة.
جزء أو نقصان جزء، فإذا سقط الشرط وجب اسقاط ما في مقابلته، فيصير
الباقي مجهولا فوجب مهر المثل.
وان تزوجها بألف على أن لا يتسرى عليها أو لا يتزوج عليها بطل الصداق
لأنه شرط باطل أضيف إلى الصداق فأبطله، ويجب مهر المثل لما ذكرناه
في شرط الخيار.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه (إذا كان النكاح بألف على أن لأبيها
ألفا فالمهر فاسد) وجملة ذلك أنه إذا تزوج امرأة بألف على أن لأبيها أو لعمها
ألفا أخرى فالنكاح صحيح والمهر فاسد ولها مهر مثلها. وإنما صح النكاح لأنه
لا تفتقر صحته إلى صحة المهر، وإنما فسد المهر لان قوله على أن لأبيها ألفا
ان أراد أن ذلك جميع الألفين صداقا فالصداق لا تستحقه غير الزوجة،
335

فإذا فسد الشرط سقط المهر وقد نقصت المرأة من صداقها جبرا لأجل الشرط
وإذا سقط الشرط وجب أن يرد إلى المهر الجزء الذي نقصته لأجل الشرط،
وذلك مجهول، والمجهول إذا أضيف إلى معلوم صار الجميع مجهولا، ولو أصدقها
صداقا مجهولا لم يصح ووجب لها مهر مثلها بالغا ما بلغ.
وقال الشافعي في القديم: إذا تزوجها على ألف على أن لأبيها ألفا ولامها ألفا
صح النكاح واستحقت الثلاثة آلاف، وبه قال مالك. قال أبو علي بن أبي هريرة
فيجئ على هذا أن الألفين في الأولة للزوجة وهذا مخالف لما نقله المزني، وذكره
الشافعي في الام في التي قبلها، والأول أصح لأنه إنما أصدقها ألفا لا غير، وما
شرطه وأمها لا يستحقانه ولا تستحقه الزوجة لما قدمناه في التي قبلها.
إذا ثبت هذا فذكر المزني بعد الأولة، ولو نكح امرأة على ألف وعلى أن
يعطى أباها ألفا كان جائزا ولها منعه وأخذها منه لأنها هبة لم تقبض أو وكالة.
قال أصحابنا: أخطأ المزني في النقل، لا فرق بين هذه والأولة، ويكون المهر
فاسدا، وإنما نقل المزني جواب مسألة ثالثه، ذكرها الشافعي رضي الله عنه في
الام، وهو إذا تزوجها بألفين على أن تعطى أباها منها ألفا فيكون المهر جائزا
لأنها قد ملكت الألفين بالعقد وما شرطه عليها من دفعها لأبيها ألفا لا يلزمها
لأنه إن كان هبة منها فلا يلزم عليها قبل القبض أو على سبيل الوكالة منها لأبيها
بالقبض، وذلك لا يلزم عليها، وإذا لم يلزمها سقط ولا يؤثر ذلك في المهر.
لأن المرأة لم ينقص من مهرها شئ لأجل هذا الشرط ولا الزوج زاد في مهرها
لكي تعطى أباها، لأنه لا منفعة له في ذلك.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك إذا أصدقها ألفين على أن يعطى الزوج منها
ألفا لأبيها لم يؤثر ذلك: لان ذلك هبة منها أو توكيل في قبضها والتصرف لها
لا حق للزوج في ذلك.
قال الشيخ أبو حامد: ومعنى هذا عندي أنه لم يرد به الشرط، وإنما أراد به
أنه تزوجها على ألفين على أن لها أن تعطى أباها ألفا ويعطى هو أباها ألفا فالحكم
ما ذكرنا، فأما إذا أخرج ذلك مخرج الشرط فينبغي ان يفسد المهر، لأنه لم
يملكها المهر ملكا تاما فيبطل. وقد حكى الصيمري هذا عن بعض أصحابنا،
336

ثم قال الصيمري هو قياس التحقيق لو كان من عقود المعاوضات وما الغرض
فيه العتق. فأما ما هو خلاف ذلك فلا.
(فرع) إذا تزوج امرأة بألف على أن يطأها ليلا ونهارا، أو على أن ينفق
عليها ويكسوها ويسافر بها على أن لا تخرج من بيته إلا بإذنه صح ذلك ولم يؤثر
في الصداق، لان ذلك من مقتضى العقد، وإن شرط على أن له أن يتزوج عليها
أو يتسرى صح ولم يؤثر لأنه لا ينافي مقتضاه
وإن تزوجها بمائة على أن لا يتزوج أو لا يتسرى عليها، أو على أن لا يسافر
بها أو على أن لا يكلم أباها وأمها أو على أن لا يكسوها ولا ينفق عليها أو على أن
لها أن تخرج من بيتها متى شاءت فالنكاح صحيح والشرط والمهر فاسدان، وبه قال
مالك وأبو حنيفة.
وقال أحمد: الشرط صحيح ومتى لم يف لها به ثبت لها الخيار في فسخ النكاح
وروى ذلك عن عمر رضي الله عنه ومعاوية وعمر بن عبد العزيز وشريح
وأبى الشعثاء رضي الله عنهم. دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: كل شرط ليس
في كتاب الله فهو باطل، وهذا الشرط ليس في كتاب الله، ويجب لها مهر مثلها،
لأنها تركت لأجل الشرط جزءا من المهر، فإذا سقط الشرط وجب رد الجزء
وهو مجهول، وإذا صار الصداق مجهولا وجب لها مهر مثلها.
وقال أبو علي بن خيران: يجب لها أقل الأمرين من المسمى أو مهر المثل
والمذهب الأول، لان المسمى قد سقط اعتباره، وإنما الاعتبار بمهر المثل،
وإن تزوجها على ألف ان لم يخرجها من بلدها وعلى ألفين إن أخرجها فالمهر
فاسد ويجب لها مهر مثلها.
وقال أبو حنيفة: إن وفى لها بالشرط الأول كان لها الألف وان لم يف لها
كان لها مهر مثلها. وقال أبو يوسف ومحمد: الشرطان جائزان. دليلنا انه دخل
في العقد على التخيير بين عوضين فكان العوض فاسدا كما لو قال: بعتك بألف
نقدا وبألفين نسيئة.
(فرع) إذا اشترطت المرأة على الزوج حال العقد أن لا يطأها أو على أن
يطأها في الليل دون النهار، أو على أن لا يدخل عليها سنة بطل النكاح لان ذلك
337

شرط ينافي مقتضى العقد وان شرط الزوج ذلك عليها في العقد لم يبطل النكاح
لان ذلك حق له يجوز له تركه فلم يؤثر شرطه ولا يلزمه الوفاء بالشرط لقوله
صلى الله عليه وسلم: كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل. وليس هذا في كتاب
الله فكان باطلا.
(فرع) إذا تزوج امرأة بمهر وشرط خيار المجلس أو خيار الثلاث في عقد
النكاح فسد النكاح، لان النكاح لا يقع إلا لازما، فإذا شرط فيه الخيار نافى
ذلك مقتضاه فأبطله. وإن شرط الخيار في الصداق فقد قال الشافعي رضي الله عنه
في المختصر: كان المهر فاسدا. وظاهر هذا أن النكاح صحيح. وقال في الاملاء
ان المهر والنكاح باطلان. واختلف أصحابنا فيها فمنهم من قال هي على حالين،
فحيث قال يبطلان أراد إذا شرط الخيار في النكاح والمهر أو في النكاح وحده،
وحيث قال لا يبطل النكاح أراد إذا شرط الخيار في المهر وحده، فهل يصح
النكاح. فيه قولان.
(أحدهما) لا يصح لأنه أحد عوض النكاح فبطل النكاح بشرط الخيار فيه
كما لو شرطه في البضع (والثاني) يصح النكاح وهو الصحيح لأنه لو جعل الصداق
خمرا أو خنزيرا لم يبطل النكاح، فلان لا يفسد إذا شرط الخيار في المهر أولى،
فإذا قلنا بهذا ففي المهر والخيار ثلاثة أوجه حكاها الشيخ أبو حامد (أحدها) أن
المهر والخيار صحيحان، لان المهر كالثمن في البيع، فلما ثبت جواز الخيار في
الثمن ثبت جوازه في المهر (والثاني) أن المهر صحيح والخيار باطل، لان
المقصود هو الصداق والخيار تابع، فثبت المقصود وبطل التابع (والثالث) أن
المهر والخيار باطلان وهو المنصوص في الام لان الخيار لما لم يثبت في
العوض وهو البضع لم يثبت في المعوض، وإذا سقط الخيار فقد ترك لأجله جزء
من المهر فيجب رده وذلك مجهول. وإذا كان المهر مجهولا وجب مهر المثل.
قال الشيخ أبو حامد: الوجهان الأولان لا يساويان استماعهما.
(فرع) ويثبت في الصداق خيار الرد بالعيب الفاحش واليسير وما يعد عيبا في
مثله. وقال أبو حنيفة ومحمد وأبو يوسف: يرد بالفاحش دون اليسير. دليلنا أن
إطلاق العقد يقتضى سلامة المهر من العيب، فإذا رد بالفاحش رد باليسير كالمبيع
338

قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وتملك المرأة المسمى بالعقد إن كان صحيحا، ومهر المثل إن كان
فاسدا، لأنه عقد يملك المعوض فيه بالعقد فملك العوض فيه بالعقد كالبيع، وإن كانت
المنكوحة صغيرة أو غير رشيدة سلم المهر إلى من ينظر في مالها، وإن كانت
بالغة رشيدة وجب تسليمه إليها، ومن أصحابنا من خرج في البكر البالغة قولا
آخر أنه يجوز أن يدفع إليها أو إلى أبيها وجدها، لأنه يجوز إجبارها على النكاح
فجاز للولي قبض صداقها بغير إذنها كالصغيرة، فان قال الزوج لا أسلم الصداق
حتى تسلم نفسها، فقالت المرأة: لا أسلم نفسي حتى أقبض الصداق ففيه قولان.
(أحدهما) لا يجبر واحد منهما بل يقال: من سلم منكما أجبرنا الاخر.
(والثاني) يؤمر الزوج بتسليم الصداق إلى عدل وتؤمر المرأة بتسليم نفسها
فإذا سلمت نفسها أمر العدل بدفع الصداق إليها كالقولين فيمن باع سلعه بثمن
معين، وقد بينا وجه القولين في البيوع، فان قلنا: بالقول الأول لم تجب لها
النفقة في حال امتناعها، لأنها ممتنعة بغير حق، وان قلنا بالقول الثاني وجبت لها
النفقة لأنها ممتنعة بحق وان تبرعت وسلمت نفسها ووطئها الزوج أجبر على دفع
الصداق وسقط حقها من الامتناع، لان بالوطئ استقر لها جميع البدل فسقط حق
المنع كالبائع إذا سلم المبيع قبل قبض الثمن.
(الشرح) الأحكام: تملك المرأة جميع المهر المسمى لها بنفس العقد إن كان ما سماه
صحيحا، وإن كان باطلا ملكت مهر المثل، وبه قال أبو حنيفة وأحمد رضي الله عنه
وقال مالك رضي الله عنه: تملك نصف المسمى بالعقد والنصف الباقي أمانة في
يدها للزوج فإن دخل بها استقر ملكها على الجميع.
دليلنا قوله تعالى (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة) فلولا أنهن ملكنه لما أمر
بتسليمه إليهن، ولأنه عوض عن مقابلة معوض فملك في الوقت التي تملك به
المعوض كالأثمان في البيع، وإن كانت المنكوحة صغيرة أو كبيرة. مجنونة أو
سفيهة فللأب والجد أن يقبض صداقها لان له ولاية على مالها، وإن كانت بالغة
339

عاقلة رشيدة سلم المهر إليها أو إلى وكيلها، وليس لوليها قبضه بغير إذنها. ومن
أصحابنا من قال: إذا قلنا إن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب والجد جاز له أن
يقبض المهر بغير إذنها لأنه إذا جاز له العفو عنه فلان يجوز له قبضه أولى،
والأول أصح، لأنه إنما يجوز له العفو على هذا القول عن مهر الصغيرة أو المجنونة
فأما الكبيرة العاقلة فليس له العفو عن مهرها بلا خلاف، هذا مذهبنا. وقال
أبو حنيفة إن كانت المنكوحة ثيبا لم يكن له قبض صداقها بغير اذنها، وإن كانت
بكرا فله قبض صداقها بغير اذنها الا أن تنهاه عن قبضه. دليلنا أنها بالغة رشيدة
فلم يكن له قبض صداقها بغير اذنها كالبنت.
(فرع) إذا كان الصداق حالا فطالبته الزوجة بتسليمه فقال الزوج: لا،
وطلب امهاله إلى أن يجمعه، وطالب بتسليم الزوجة إليه لم يجبر الزوجة على تسليم
نفسها إليه إلى أن يجمع صداقها ويسلمه إليها لان المهر في مقابلة البضع وعوض
عنه، فإذا امتنع الزوج من تسليم العوض لم تجبر المرأة على تسليم المعوض
كما لا يجبر البائع على تسليم المبيع إذا امتنع المشترى من تسليم الثمن، وان قال
الزوج لا أسلم الصداق حتى تسلم نفسها. وقالت الزوجة لا أسلم نفسي حتى يسلم
إلى الصداق فقد ذكر المصنف فيمن اشترى سلعة بثمن في ذمته، فقال البائع
لا أسلم السلعة حتى أقبض الثمن، وقال المشترى لا أسلم الثمن حتى أقبض السلعة
ثلاثة أقوال مشهورة أتى عليها الامام تقى الدين السبكي في شرح المهذب في شروعه
في تكملة المجموع.
(أحدها) لا يجبر واحد منهما على التسليم، بل أيهما تطوع بالتسليم.
أجبر الآخر.
(والثاني) أنهما يجبران معا، فيجبر البائع على تسليم السلعة إلى عدل،
بجبر المشترى على تسليم الثمن إلى عدل، ثم يسلم السلعة إلى المشترى والثمن إلى
البائع، وبأيهما بدأ جاز.
(والثالث) أن البائع يجبر على تسليم السلعة إلى المشترى ثم يجبر المشترى
على تسليم الثمن إلى البائع. وأما الصداق فلا يجئ فيه الا القولان الأولان.
(أحدهما) لا يجبر واحد منهما على التسليم بل يقال لهما: أيكما تطوع بالتسليم
340

أجبر الآخر على التسليم (والثاني) يجبر الزوج على تسليم الصداق إلى عدل،
فإذا حصل الصداق في يد عدل أجبرت الزوجة على تسليم نفسها إلى الزوج،
ولا يجئ في هذا القول أن تسلم المرأة نفسها إلى عدل كما قلنا في البائع، لان معنى
قولنا: تسلم نفسها نعنى به يطؤها الزوج، وهذا لا يحصل بتسليمها نفسها إلى
العدل، ويسقط ههنا القول الثالث في البيع وهو قولنا: يجبر البائع على تسليم
السلعة أولا إلى المشترى لأنا إذا أجبرنا البائع على هذا التسليم تسلم السلعة وأخذ
الثمن من المشترى إن كان حاضرا، وإن كان غائبا حجرنا على المشترى في السلعة
في جميع أمواله إلى أن يسلم الثمن، والزوجة ههنا بمعنى البائع، فلو أجبرناها
على تسليم نفسها وهو تمكينها الزوج من وطئها ربما أتلف ماله بعد وطئها أو أفلس، وقد أتلف بضعها لأنه لا يتأتى فيه ما ذكرناه في السلعة، هذا نقل
أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: بل في الصداق ثلاثة أقوال أيضا (أحدها) لا يجبران
(والثاني) يجبران بأن يوضع الصداق على يد عدل، وتجبر المرأة على التمكين.
(والثالث) يجبر الزوج، والأول هو المشهور. فإذا قلنا لا يجبران لم يجب لها
نفقه في حال امتناعها، لان الزوج لا يختص بالامتناع. وان قلنا يجبر الزوج
أولا فلها النفقة في حال امتناعها قبل تسليم الزوج بالمهر، لان المنع من جهته
وان تبرعت المرأة وسلمت نفسها إليه ووطئها الزوج لم يكن لها أن تمتنع بعد
ذلك حتى تقبض صداقها.
دليلنا أن التسليم الأول تسليم استقر به المسمى برضاها فلم يكن لها الامتناع
بعد ذلك، كما لو سلم البائع سلعه قبل قبض الثمن ثم أراد أخذها، وان أكرهها
الزوج فوطئها فهل لها أن تمتنع بعد ذلك إلى أن تقبض المهر؟ فيه وجهان
حكاهما في الإبانة.
(أحدهما) لها ان تمتنع كما لو قبض المشترى العين المبيعة وأكره البائع
على ذلك قبل قبض الثمن.
(والثاني) ليس لها ان تمتنع لان المهر قد تقرر بذلك والبائع إذا استرد
341

المبيع ارتفع التقرير، وإن كان الصداق مؤجلا فطلب الزوج تسليمه إليه قبل
حلول الأجل لم يكن لها أن تمتنع، فإن امتنعت أجبرت لأنها رضيت بتأخير
حقها إلى الأجل فلم يكن لها الامتناع من التسليم كما لو باع سلعة بثمن مؤجل
فليس له الامتناع من تسليمها قبل حلول الأجل، فإن تأخر تسليمها لنفسها حتى
حل الأجل فهل لها الامتناع من تسليمها إلى أن تقبض الصداق؟ فيه وجهان،
قال الشيخ أبو حامد: ليس لها أن تمتنع لان التسليم مستحق عليها قبل المحل
فلم يسقط ما وجب عليها بحلول دينها.
وقال القاضي أبو الطيب: لها أن تمتنع، وقد ذكر المزني في المنثور أنه إذا
باع سلعه بثمن مؤجل فلم يقبض السلعة حتى حل الأجل فإن للبائع الامتناع من
تسليم السلعة حتى يقبض الثمن، ووجهه أن لها المطالبة بالمهر فكان لها الامتناع
كما لو كانت حالا، وإن كان بعض الصداق مؤجلا وبعضه حالا فلها أن تمتنع من
تسليم نفسها حتى تقبض المؤجل كما لو كان جميعه مؤجلا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فإن كان الصداق عينا لم تملك التصرف فيه قبل القبض كالمبيع،
وإن كان دينا فعلى القولين في الثمن، وإن كان عينا فهلكت قبل القبض هلك
من ضمان الزوج كما يهلك المبيع قبل القبض من ضمان البائع، وهل ترجع إلى
مهر المثل، أو إلى بدل العين، فيه قولان.
قال في القديم: ترجع إلى بدل العين لأنه عين يجب تسليمها لا يسقط الحق
بتلفها، فوجب الرجوع إلى بدلها كالمغصوب، فعلى هذا إن كان مما له مثل وجب
مثله وان لم يكن له مثل وجبت قيمته أكثر ما كانت من حين العقد إلى أن تلف
كالمغصوب، ومن أصحابنا من قال: تجب قيمته يوم التلف، لأنه وقت الفوات
والصحيح هو الأول، لان هذا يبطل بالمغصوب.
وقال في الجديد: ترجع إلى مهر المثل لأنه عوض معين تلف قبل القبض
وتعذر الرجوع إلى المعوض، فوجب الرجوع إلى بدل المعوض كما لو اشترى
ثوبا بعبد فقبض الثوب ولم يسلم العبد وتلف عنده، فإنه يجب قيمة الثوب،
342

وان قبضت الصداق ووجدت به عيبا فردته أو خرج مستحقا رجعت في قوله
القديم إلى بدله، وفى قوله الجديد إلى مهر المثل، وإن كان الصداق تعليم سورة
من القرآن فتعلمت من غيره أو لم تتعلم لسوء حفظها فهو كالعين إذا تلفت فترجع
في قوله القديم إلى أجرة المثل: وفى قوله الجديد إلى مهر المثل.
(الشرح) الأحكام: إذا كان الصداق عينا فأرادت الزوجة أن تتصرف
فيها بالبيع والهبة وما أشبههما قبل القبض لم يصح، وقال بعض الناس: يصح
هكذا أفاده العمراني.
دليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما لم يقبض، وهذا لم يقبض
وإن كان الصداق دينا في الذمة فهل يصح لها بيعه قبل قبضه، فيه قولان كالثمن
في الذمة. هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: إذا أرادت بيع الصداق قبل أن تقبضه فهل يصح بيعها له
فيه قولان ان قلنا: إنه مضمون في يد الزوج ضمان العقد لم يصح، وان قلنا
ضمان اليد صح وأراد بذلك إذا كان الصداق عينا.
(مسألة) إذا أصدق الرجل امرأته عينا معينة اما حيوانا أو ثوبا أو سيارة
فإنها تكون مضمونة على الزوج ما لم تقبضها الزوجة، لأنها مضمونة عليه بعقد
معاوضة فكانت مضمونة كالمبيع، فان قبضتها الزوجة سقط الضمان عنه وصار
ضمانها على الزوجة، فان هلكت العين في يد الزوج قبل أن تقبضها الزوجة سقط
حقها من العين لأنها قد تلفت ولا يبطل النكاح، لان النكاح ينعقد بغير مهر
فلا يبطل بتلف الصداق، ويجب على الزوج ضمان الصداق للزوجة لأنا قد تبينا
أنه مضمون عليه إلى أن تقبضه الزوجة، وفيما يضمنه قولان.
قال في الجديد: ترجع عليه بمهر مثلها وهو اختيار المزني وأبي إسحاق المروزي
والقاضي أبى الطيب، لأنه عوض معين تلف قبل القبض وتعذر الرجوع إلى
المعوض فوجب الرجوع إلى بدل المعوض لا إلى بدل العوض كما لو اشترى فرسا
بثوب وقبض الفرس وتلف الفرس والثوب عنده، فإنه يجب عليه قيمة الفرس
لا قيمة الثوب، فقولنا: عوض معين احتراز من العوض في الذمة، وقولنا:
343

تعذر الرجوع إلى المعوض لان الشرع قد منع الزوجة من الرجوع إلى بضعها
بتلف الصداق فرجعت إلى بذله. وفيه احتراز من المبيع إذا تلف قبل
القبض والثمن باق.
وقال في القديم: ترجع عليه ببدل العين التالفة، وهو قول أبي حنيفة وأحمد
رضي الله عنهما واختيار الشيخ أبى حامد وابن الصباغ لان كل عين يجب تسليمها
فلا يسقط ضمانها بتلفها، فإذا تلف ضمنت ببدلها كالعين المغصوبة. فقولنا عين
يجب تسليمها احتراز مما لا يجب تسليمه كالعين المبيعة والثمن قبل البيع. وقولنا
لا يسقط ضمانها بتلفها احتراز من العين المبيعة والثمن إذا تلفا قبل القبض، فإذا
قلنا بقوله الجديد إن تلفت العين بآفة سماوية أو بفعل الزوج وجب لها مهر مثلها
سواء سلمت نفسها إلى الزوج وطالبته بها فمنعها أو لم تطالبه بها ولم يمنعها. وان
أتلفتها الزوجة كان قبضا لها، وان أتلفها أجنبي فظاهر قول الشافعي رضي الله عنه
أنها بالخيار بين أن ترجع على الزوج بمهر المثل ويرجع الزوج على الأجنبي
ببدل الصداق الذي أتلف.
وإن نقص الصداق في يد الزوج بآفة سماوية أو بفعل الزوج وجب لها مهر
مثلها سواء سلمت نفسها إلى الزوج وطالبته بها فمنعها أو لم تطالبه بها ولم يمنعها،
وان أتلفتها الزوجة كان قبضا لها، وان أتلفها أجنبي فظاهر قول الشافعي
رضي الله عنه أنها بالخيار بين أن ترجع على الزوج بمهر المثل ويرجع الزوج على
الأجنبي ببدل الصداق الذي أتلف وبين أن ترجع الزوجة على الأجنبي ببدل
ما أتلف. وإن نقص الصداق في يد الزوج بآفة سماوية أو بفعل الزوج فهي
بالخيار بين أن تأخذ الصداق ناقصا ولا شئ لها وبين أن ترجع على الزوج بمهر
مثلها. وان نقص بفعل أجنبي فهي بالخيار بين أن ترجع على الزوج بمهر مثلها
ويأخذ الزوج من الأجنبي الأرش، وبين أن تأخذ الصداق والأرش من الأجنبي
وان نقص الصداق بفعل الزوجة أخذته ناقصا ولا شئ لها. وان قلنا بقوله
القديم فحكمه في يد الزوج حكم المغصوب إلا أنه لا يأثم إذا لم يمنعها من أخذه
فإذا تلف في يد الزوج بآفة سماوية أو بفعل الزوج رجعت عليه بمثله إن كان له
مثل، وبقيمته ان لم يكن له مثل، ومتى تعتبر قيمته؟ من أصحابنا من قال فيه قولان
344

ومنهم من قال: هما وجهان، المنصوص أنه تعتبر قيمته أكثر ما كانت من حين
العقد إلى حين التلف لأنه مضمون على الزوج في جميع هذه الأحوال فهو
كالمغصوب. والثاني يرجع عليه بقيمته يوم التلف، والأول أصح
وإن نقص في يد الزوج نظرت فإن كان بآفة سماوية كانت بالخيار بين أن
ترد الصداق لأجل النقص وترجع ببدله عليه، وبين أن تأخذه ناقصا وتأخذ منه
أرش النقص لأنه كالغاصب.
وإن نقص بفعل الزوج فان اختارت رده وأخذ بدله كان لها، وان
اختارت أخذه فإن لم يكن للجناية أرش مقدر أخذت الصداق وما نقص من
قيمته، وإن كان لها أرش مقدر بأن كانت إبلا جبت أسنمتها أو عبدا قطعت
يده رجعت عليه بأكثر الامرين من نصف قيمة العين أو ما نقص من قيمتها
بذلك، لأنه اجتمع فيه ضمان اليد والأسنمة والجناية، فان نقص بفعل أجنبي
فاختارت رده على الزوج وأخذ بدله منه كان لها ذلك لأجل النقص ورجع الزوج
على الأجنبي بالأرش، فان اختارت أخذه أخذته، فإن كان الأرش غير مقدر
فإن كان مثل أرش النقص أو أكثر من أرش النقص رجعت به على من
شاءت منهما. وإن كان الأرش المقدر أقل من أرش النقص كانت بالخيار بين
ان ترجع بأرش النقص على الزوج وبين ان ترجع على الأجنبي بالأرش المقدر
وترجع على الزوج بتمام أرش النقص.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ويستقر الصداق بالوطئ في الفرج لقوله عز وجل: وكيف
تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) وفسر الانقضاء بالجماع، وهل يستقر
بالوطئ في الدبر؟ فيه وجهان (أحدهما) يستقر لأنه موضع يجب بالايلاج فيه
الحد، فأشبه الفرج (والثاني) لا يستقر لان المهر في مقابلة ما يملك بالعقد،
والوطئ في الدبر غير مملوك فلم يستقر به المهر ويستقر بالموت قبل الدخول،
وقال أبو سعيد الإصطخري: إن كانت أمة لم يستقر بموتها لأنها كالسلعة تباع
وتبتاع، والسلعة المبيعة إذا تلفت قبل التسليم سقط الثمن. فكذلك إذا ماتت
345

الأمة وجب ان يسقط المهر، والمذهب انه يستقر، لان النكاح إلى الموت،
فإذا ماتت انتهى النكاح فاستقر البدل كالإجارة إذا انقضت مدتها.
واختلف قوله في الخلوة فقال في القديم: تقرر المهر، لأنه عقد على المنفعة
فكان التمكين فيه كالاستيفاء في تقرر البدل كالإجارة. وقال في الجديد: لا تقرر
لأنه خلوة فلا تقرر للمهر كالخلوة في غير النكاح.
(الشرح) الأحكام: يستقر المهر المسمى للزوجة بالوطئ في الفرج لقوله
تعالى (وان طلقتموهن من قبل إن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف
ما فرضتم) الآية. فلما أثبت له الرجوع بنصف الصداق بالطلاق قبل المسيس دل
على أنه لا يرجع عليها بشئ منه بعد المسيس. وقال في آية أخرى (وكيف
تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض) ففسر الافضاء بالجماع.
وان وطئها في دبرها فهل يستقر به المسمى، فيه وجهان. ومن أصحابنا من قال
لا يستقر لها لان المهر في مقابلة ما يملك بالعقد والوطئ في الدبر غير مملوك في
العقد فلم يستقر به المهر. والثاني وهو المذهب انه يستقر به المسمى، وبه
قطع صاحب المهذب، ووجهه ان الوطئ في الدبر لا يختلف عن المجامعة فيما
يتضمن تكميلا كالاحصان والتحليل، أو يوجب تخفيفا مثل الخروج عن
موجب العنة والايلاء.
ووجه انه ذلك يتضمن تغليظا في إلحاقه بالوطئ كما نقول في وجوب الغسل
دون الانزال وافساد العبادات، والحكم بتقرير المهر اثبات تغليظ على الرجل
حتى لو أنه جامع امرأة في دبرها بالشبهة وجب المهر لأنه موضع يجب بالايلاج
فيه الحد فاستقر به المهر كالفرج.
قال أصحابنا: وجميع الأحكام التي تتعلق بالوطئ في الدبر أربعة أحكام:
الاحلال للزوج الأول، والاحصان، وايفاء المولى، والخروج من العنة. وان
وطئ أجنبية في دبرها وجب لها مهر المثل، وان حلف ان لا يطأ امرأة
فوطئها في دبرها حنث في يمينه، قال الصيمري: فان إلى امرأته أكثر من
أربعة أشهر فوطئها في دبرها لم يسقط بذلك حقها، وينبغي ان يحنث في يمينه،
346

وإن أتت امرأته بولد يلحقه بالامكان ولم يقر بوطئها فهل يستقر عليه المهر
المسمى. فيه قولان (أحدهما) يستقر، لان إلحاق النسب به يقتضى وجود الوطئ
(والثاني) لا يستقر عليه لان الولد يلحق بالامكان، والمهر لا يستقر إلا بالوطئ
والأصل عدم الوطئ.
(فرع) وإن مات أحد الزوجين قبل الدخول استقر لها المهر، وهو المذهب
لان النكاح إلى الموت فاستقر به المهر كالإجارة إذا انقضت مدتها.
(فرع) وان خلا الزوج بها ولم يجامعها فهل حكم الخلوة حكم الوطئ في
تقرير المهر ووجوب العدة، اختلف العلماء فيها، فذهب الشافعي في الجديد إلى
أنه لا تأثير للخلوة في تقرير المهر ولا في وجوب العدة. وبه قال ابن عباس
وابن مسعود رضي الله عنهم. ومن التابعين الشعبي وابن سيرين وطاوس، ومن
الفقهاء أبو ثور. وذهبت طائفة إلى أن الخلوة كالوطئ في تقرير المهر ووجوب
العدة، وذهب إليه ابن عمر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وبه قال الزهري
والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأصحابه.
وقال مالك: ان خلا بها خلوة تامة بأن يخلو بها في بيته دون بيت أبيها أو أمها
رجح بها قول من يدعى الإصابة منهما عند اختلافهما بها، ولا تكون الخلوة
كالوطئ في تقرير المهر ووجوب العدة. وقال الشافعي في القديم: للخلوة تأثير.
وقال الخرقي من الحنابلة: إذا خلا بها بعد العقد فقال: لم أطأها وصدقته لم يلتفت
إلى قولهما وكان حكمها حكم الدخول في جميع أمورهما الا في الرجوع إلى زوج
طلقها ثلاثا أو في الزنا فإنهما يجلدان ولا يرجمان. اه‍
وقال ابن قدامه: إذا خلا بامرأته بعد العقد الصحيح استقر عليه مهرها
ووجبت عليها العدة وان لم يطأ، روى ذلك عن الخلفاء الراشدين وزيد وابن
عمر، وبه قال على ابن الحسين وعروة وعطاء والزهري والأوزاعي وإسحاق
وأصحاب الرأي، وهو قديم قولي الشافعي، وقال شريح والشعبي وطاوس
وابن سيرين والشافعي في الجديد: لا يستقر الا بالوطئ، وحكى ذلك عن ابن
مسعود وابن عباس وروى نحو ذلك عن أحمد، وروى عنه يعقوب بن بختان
أنه قال: إذا صدقت المرأة أنه لم يطأها لم يكمل لها الصداق وعليها العدة، وذلك
347

لقوله تعالى (وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة
فنصف ما فرضتم) وهذه قد طلقها قبل أن يمسها، وقال تعالى (وكيف تأخذونه وند
أفضى بعضكم إلى بعض) ثم قال: ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم. روى
الإمام أحمد والأثرم بإسنادهما عن زرارة بن أبي أوفى قال: قضى الخلفاء الراشدون
المهديون أن من أغلق بابا أو أرخى سترا فقد وجب المهر ووجبت العدة. ورواه
أيضا عن الأحنف عن عمر وعلى وعن سعيد بن المسيب وعن زيد بن ثابت:
عليها العدة ولها الصداق كاملا، وهذه قضايا تشتهر ولم يخالفهم أحد في عصرهم
فكان إجماعا. وما رووه عن ابن عباس لا يصح. قال أحمد: يرويه ليث وليس
بالقوى، وقد رواه حنظلة خلاف ما رواه ليث، وحنظلة أقوى من ليث،
وحديث ابن مسعود منقطع. قاله ابن المنذر اه‍
قلت: لما كان الشافعي رضي الله عنه قولاه القديم والجديد، فإن من
أصحابنا من قال: مذهب الشافعي في القديم في الخلوة كقول مالك في أنه يرجح
بها قول من ادعى الإصابة لا غير، إلا أنه لا فرق عندنا على هذا بين أن يخلو بها
في بيته أو في بيت أبيها أو أمها.
ومنهم من قال: مذهب الشافعي في الجديد كقول أبي حنيفة وهو المنصوص
في القديم فإذا قلنا بهذا فوجهه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من
كشف عن قناع امرأة فقد وجب عليه المهر)
وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا أغلق الباب وأرخى الستر فقد
وجب المهر. ما ذنبهن ان جاء العجز من قبلكم، ولأنه عقد على المنفعة فكان
التمكين منها كالاستيفاء في تقرير البدل كالإجارة
وإذا قلنا بقوله الجديد قال العمراني وأكثر الأصحاب، وهو الأصح، فوجهه
قوله تعالى (وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة
فنصف ما فرضتم) ولم يفرق بين أن يخلو بها أو لا يخلو بها، ولان الخلوة لو
كانت كالإصابة في تقرير المهر ووجوب العدة لكانت كالإصابة في وجوب مهر
المثل في الشبهة.
348

وأما الخبر فمحمول على أنه كنى عن الجماع بكشف النقاب، وما روى عن
أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه فقد روينا عن ابن عباس وابن مسعود خلاف
ذلك، فإذا قلنا بقوله الجديد فوطئها فيما دون الفرج فسق الماء إلى فرجها وجبت
عليها العدة وجها واحدا، لان رحمها قد صار مشغولا بمائه، وإن أتت من ذلك
بولد لحقه نسبه، وهل يستقر بذلك صداقها، فيه وجهان.
(أحدهما) يستقر، لان رحمها قد صار مشغولا بمائه فهو كما لو وطئها.
(والثاني) لا يستقر به المهر لأنه لم يوجد الجماع التام فهو كما لو لم يسبق إلى
فرجها ماؤه، ولو استدخلت المرأة ماء غير ماء زوجها وظنته ماء زوجها لم يثبت
له حكم من الأحكام لان الشبهة تعتبر في الرجل.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن وقعت فرقة بعد الدخول لم يسقط من الصداق شئ لأنه
استقر فلم يسقط، فإن أصدقها سورة من القرآن وطلقها بعد الدخول وقبل أن
يعلمها ففيه وجهان.
(أحدهما) يعلمها من وراء حجاب كما يستمع منها حديث رسول الله صلى
الله عليه وسلم.
(والثاني) لا يجوز أن يعلمها لأنه لا يؤمن الافتتان بها ويخالف الحديث،
فإنه ليس له بدل، فلو منعناه من سماعه منها أدى إلى إضاعته، وفى الصداق
لا يؤدى إلى ابطاله، لان في قوله الجديد ترجع إلى مهر المثل، وفى قوله القديم
ترجع إلى أجرة التعليم، وإن وقعت الفرقة قبل الدخول نظرت فإن كانت
بسبب من جهة المرأة، بأن أسلمت أو ارتدت أو أرضعت من ينفسخ النكاح
برضاعه سقط مهرها لأنها أتلفت المعوض قبل التسليم، فسقط البدل
كالبائع إذا أتلف المبيع قبل التسليم، وإن كانت بسبب من جهته نظرت فإن
كان بطلاق سقط نصف المسمى لقوله تعالى (وإن طلقتموهن من قبل أن
تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم) وإن كان باسلامه أو بردته
سقط نصفه، لأنه فرقة انفرد الزوج بسببها قبل الدخول، فتنصف بها المهر
349

كالطلاق، وإن كان بسبب منهما نظرت فإن كان بخلع سقط نصفه، لان
المغلب في الخلع جهة الزوج، بدليل أنه يصح الخلع به دونها وهو إذا خالع مع
أجنبي فصار كما لو انفرد به، وإن كان بردة منهما ففيه وجهان.
(أحدهما) يسقط نصفه، لان حال الزوج في النكاح أقوى فسقط نصفه
كما لو ارتد وحده.
(والثاني) يسقط الجميع لان المغلب في المهر جهة المرأة، لان المهر لها
فسقط جميعه كما لو انفردت بالردة فان اشترت المرأة زوجها قبل الدخول ففيه
وجهان: أحدهما: يسقط النصف، لان البيع تم بالزوجة والسيد وهو قائم مقام
الزوج، فصار كالفرقة الواقعة بالخلع. والثاني: يسقط جميع المهر لان البيع
تم بها دون الزوج فسقط جميع المهر كما لو أرضعت من ينفسخ النكاح برضاعه
(فصل) وان قتلت المرأة نفسها فالمنصوص أنه لا يسقط مهرها، وقال
في الأمة: إذا قتلت نفسها أو قتلها مولاها أنه يسقط مهرها، فنقل أبو العباس
جوابه في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين.
(أحدهما) يسقط المهر لأنها فرقة حصلت من جهتها قبل الدخول فسقط
بها المهر، كما لو ارتدت.
(والثاني) لا يسقط وهو اختيار المزني وهو الصحيح، لأنها فرقة حصلت
بانقضاء الأجل وانتهاء النكاح فلا يسقط بها المهر كما لو ماتت. وقال أبو إسحاق
لا يسقط في الحرة ويسقط في الأمة على ما نص عليه، لان الحرة كالمسلمة نفسها
بالعقد، ولهذا يملك منعها من السفر، والأمة لا تصير كالمسلمة نفسها بالعقد
ولهذا لا يملك منعها من السفر مع المولى: وان قتلها الزوج استقر مهرها
لان اتلاف الزوج كالقبض كما أن اتلاف المشترى للمبيع في يد البائع كالقبض
في تقرير الثمن.
(الشرح) الأحكام: إذا تزوج رجل امرأة ودخل بها ثم افترقا لم ترجع إلى
الزوج بشئ من المهر سواء كانت الفرقة من جهة الزوج أو من جهة الزوجة
أو من جهتهما أو من جهة أجنبي، لان المهر قد استقر بالدخول فلم تؤثر الفرقة
350

وهذا لا خلاف فيه، وان أصدقها تعليم سورة من القرآن ودخل بها ثم طلقها
قبل أن يعلمها فإن كان الصداق تحصيل التعليم لم يتعذر ذلك بسبب الطلاق
بل يستأجر لها امرأة أو محرما لها ليعلمها، وإن كان الصداق على أن يعلمها
بنفسه ففيه وجهان.
(أحدهما) أن التعليم لا يتعذر بذلك، بل يعلمها من وراء حجاب كما يجوز
أن يسمع أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء حجاب، وقد ثبت أن
كثيرا من روايات الحديث وحافظاته يسمعهن الأجانب عنهن من وراء حجاب
وقد كان أبو الشعثاء جابر بن زيد يسأل عائشة من وراء حجاب وكان يسألها عن
أخص أحوال النبي صلى الله عليه وسلم حتى في جماعه وكانت رضي الله عنها تخجل
حتى ليحمر وجهها كما يقول عروة ابن أختها، وهي تقول: سل يا إبناه ومن
هؤلاء الراويات أمة الواحد بنت يامين والدة يحيى بن بشير وأمية بنت عبد الله
وبهسة الفزارية وحميدة راوية أم سلمة وخيرة أم الحسن البصري وزينب بنت
معاوية زوج ابن مسعود وراويته والعالية بنت سويد وثقها العجلي وعمرة بنت
قيس عن عائشة روى عنها جعفر بن كيسان في صحيح ابن خزيمة، وأم القلوص
عن عائشة وعنها المتوكل بن الفضل في الدارقطني وهن لا يحصين.
(والثاني) أن تعليمه لها قد تعذر لأنه يخاف عليهما الافتتان، ويخالف
سماع الاخبار لأنا لو لم نجز ذلك لضاع ما عندها من الاخبار، فإذا قلنا بهذا
كان كما لو تلف الصداق قبل القبض فيرجع في قوله الجديد إلى مهر مثلها، وفى
قوله القديم إلى أجرة التعليم، وان وقعت الفرقة بينهما قبل الدخول نظرت،
فإن كانت بسبب من جهتها بأن أسلمت أو ارتدت أو أرضعته أو أرضعت
زوجة له صغيرة أو وجد أحدهما بالآخر عيبا ففسخ النكاح سقط جميع المهر
لان والبضع تلف قبل الدخول بسبب من جهتها، فسقط ما نقابله كالمبيع إذا
تلف قبل القبض، وإن كان بسبب من جهة الزوج بأن طلقها سقط عنه نصف
المسمى أن كانت لم تقبضه، ووجب عليها رد نصفه إن كانت قبضته لقوله تعالى
(وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم)
351

وهكذا إن أسلم أو ارتد فحكمه حكم الطلاق، لان الفرقة من جهته فهو كالطلاق
وإن كانت الفرقة بسبب منهما نظرت فإن كانت بخلع فحكمه حكم الطلاق لان
المغلب فيه جهة الزوج بدليل أنه يصح خلعه مع الأجنبي، وإن كان بردة منهما
بأن ارتدا معا في حالة واحدة ففيه وجهان.
(أحدهما) حكمه حكم الطلاق لان حال الزوج في النكاح إذا خالع زوجته
بعد الدخول بها ثم تزوجها ثانيا في العدة ثم طلقها قبل أن يدخل بها يتنصف
المسمى. وقال أبو حنيفة: لا يتنصف بل يبقى حقها في الجميع كما كان. دليلنا
ظاهر الآية (فنصف ما فرضتم) ولان الوطئ الموجود في النكاح الأول يقابله
المهر الأول، فلو قلنا: لا يتنصف المهر في النكاح الثاني لصار ذلك الوطئ مؤثرا
أقوى في تقرير المهرين، والتسليم الواحد لا يقابل بدلين وعلى هذا الخلاف لو
وطئ امرأة بالشبهة أو أعتق أم ولده ونكحها ثم طلقها ينصف المهر عندنا،
وعند أبي حنيفة لا ينصف ويجعل دوام شغل الرحم كالوطئ في تقرير المهر كله
وتخالف هذه المسألة المخالعة حيث غلبنا جانب الزوج لان الزوج يتصور منه أن
ينفرد بالمخالعة عنها بأن تخالع مع أجنبي والمرأة لا يتصور منها الانفراد بالمخالعة
عن الزوج فيترجح جانب الزوج، وههنا في المبايعة سواء رجحنا أحد الجانبين
بالاستدعاء كما في الحرة إذا قتلت نفسها أو قتلت وليها قبل الدخول أنه لا يسقط
شئ من المهر.
واختلف أصحابنا فيهما فذهب أبو العباس بن سريج وبعض أصحابنا إلى أن
فيهما قولين (أحدهما) يسقط مهرها، لان النكاح انفسخ بسبب من جهتها،
فهو كما لو ارتدت (والثاني) لا يسقط وهو الأصح لأنها فرقة حصلت بانقضاء أجلها
فهو كما لو ماتت، وذهب أبو إسحاق المروزي وبعض أصحابنا إلى أنها على قولين
على ظاهرهما، ففي الأمة يسقط، وفى الحرة لا يسقط، لان الحرة مسلمة لنفسها
في العقد، ولهذا لا يجوز لها السفر بغير إذن الزوج، والأمة غير مسلمة لنفسها
ولهذا يجوز السفر بها بغير إذن زوجها، لان الزوج للحرة يغنم ميراثها فجاز أن
يغرم مهرها، وزوج الأمة لا يغنم ميراثها فلم يغرم مهرها، فإذا قلنا: يسقط
352

المهر بذلك فان الحرة لا يسقط مهرها إلا إذا قتلت نفسها قبل الدخول، وإن
قتلها وليها أو زوجها أو أجنبي لم يسقط مهرها.
وأما الأمة فان قتلت نفسها قبل الدخول سقط مهرها، وإن قتلها سيدها
سقط مهرها لان المهر له، وإن قتلها زوجها أو أجنبي قبل الدخول لم يسقط
المهر، خلافا لأبي سعيد الإصطخري الذي قال: إذا قتلها أجنبي قبل الدخول
يسقط مهرها لأنها كالسلعة المبيعة إذا أتلفها أجنبي قبل القبض انفسخ البيع
وسقط الثمن، والمذهب الأول، لأنها إنما تكون كالسلعة إذا بيعت أما في
النكاح فهي كالحرة كما قررنا في غير موضع.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ومتى ثبت الرجوع في النصف لم يخل اما أن يكون الصداق تالفا
أو باقيا، فإن كان تالفا فإن كان مما له مثل رجع بنصف مثله، وان لم يكن له
مثل رجع بقيمة نصفه أقل ما كانت من يوم العقد إلى يوم القبض، لأنه إن كانت
قيمته يوم العقد أقل ثم زادت، كانت الزيادة في ملكها فلم يرجع بنصفها
وإن كانت قيمته يوم العقد أكثر ثم نقص، كان النقصان مضمونا عليه، فلم
يرجع بما هو مضمون عليه، وإن كان باقيا لم يخل اما أن يكون باقيا على حالته
أو زائدا أو ناقصا أو زائدا من وجه ناقصا من وجه فإن كان على حالته رجع
في نصفه، ومتى يملك؟ فيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق: أنه لا يملك الا باختيار التملك، لان
الانسان لا يملك شيئا بغير اختياره الا الميراث، فعلى هذا ان حدثت منه زيادة
قبل الاختيار كانت لها.
(والثاني) وهو المنصوص أنه يملك بنفس الفرقة لقوله عز وجل (وان
طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم)
فعلق استحقاق النصف بالطلاق، فعلى هذا أن حدثت منه زيادة كانت بينهما،
وان طلقها والصداق زائد نظرت فإن كانت زيادة متميزة كالثمرة والنتاج واللبن
رجع بنصف الأصل، وكانت الزيادة لها لأنها زيادة متميزة حدثت في ملكها،
353

فلم تتبع الأصل في الرد، كما قلنا في الرد بالعيب في البيع، وإن كانت الزيادة غير
متميزة كالسمن وتعليم الصنعة فالمرأة بالخيار بين أن تدفع النصف بزيادته وبين
أن تدفع قيمة النصف، فإن دفعت النصف أجبر الزوج على أخذه لأنه نصف
المفروض مع زيادة لا تتميز، وان دفعت قيمة النصف أجبر على أخدها لان
حقه في نصف المفروض والزائد غير المفروض فوجب أخذ البدل، وإن كانت
المرأة مفلسة ففيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق: أنه يجوز للزوج أن يرجع بنصف العين مع
الزيادة، لأنه لا يصل إلى حقه من البدل، فرجع بالعين مع الزيادة كما يرجع
البائع في المبيع مع الزيادة عند افلاس المشترى.
(والثاني) وهو قول أكثر أصحابنا أنه لا يرجع لأنه ليس من جهة المرأة
تفريط فلا يؤخذ منها ما زاد في ملكها بغير رضاها، ويخالف إذا أفلس المشترى
فإن المشترى فرط في حبس الثمن إلى أن أفلس فرجع البائع في العين مع الزيادة.
فإن كان الصداق نخلا وعليها طلع غير مؤبر فبذلت المرأة نصفها مع الطلع،
ففيه وجهان:
(أحدهما) لا يجبر الزوج على أخذها لأنها هبة فلا يجبر على قبولها.
(والثاني) يجبر وهو المنصوص لأنه نماء غير متميز فأجبر على أخذها كالسمن
وإن بذلت نصف النخل دون الثمرة لم يجبر الزوج على أخذها. وقال المزني:
يلزمه ان يرجع فيه وعليه ترك الثمرة إلى أوان الجذاذ كما يلزم المشترى ترك
الثمرة إلى أوان الجذاذ، وهذا خطأ، لأنه قد صار حقه في القيمة فلا يجبر على
أخذ العين، ولان عليه ضررا في ترك الثمرة على نخله فلم يجبر، ويخالف
المشترى فإنه دخل في العقد عن تراض فأقرا على ما تراضيا عليه، فان طلب
الزوج الرجوع بنصف النخل وترك الثمرة إلى أوان الجذاذ ففيه وجهان.
(أحدهما) لا تجبر المرأة لأنه صار حقه في القيمة.
(والثاني) تجبر عليه لان الضرر زال عنها ورضى الزوج بما يدخل عليه من
الضرر. وان طلقها والصداق ناقص بأن كان عبدا فعمى أو مرض، فالزوج
بالخيار بين أن يرجع بنصفه ناقصا وبين أن يأخذ قيمة النصف، فان رجع في
354

النصف أجبرت المرأة على دفعه لأنه رضى بأخذ حقه ناقصا، وإن طلب القيمة
أجبرت على الدفع، لان الناقص دون حقه. وإن طلقها والصداق زائد من وجه
ناقص من وجه بأن كان عبدا فتعلم صنعة ومرض، فان تراضيا على أخذ نصفه
جاز لان الحق لهما، وإن امتنع الزوج من أخذه لم يجبر عليه لنقصانه، وإن
امتنعت المرأة من دفعه لم تجبر عليه لزيادته، وإن كان الصداق جارية فحبلت فهي
كالعبد إذا تعلم صنعة ومرض، لان الحمل زيادة من وجه ونقصان من وجه آخر
لأنه يخاف منه عليها فكان حكمه حكم العبد.
وإن كان بهيمة فحملت ففيه وجهان (أحدهما) أن المرأة بالخيار بين أن تسلم
النصف مع الحمل، وبين أن تدفع القيمة لأنه زيادة من غير نقص، لان الحمل
لا يخاف منه على البهيمة (والثاني) وهو ظاهر النص أنه كالجارية لأنه زيادة
من وجه ونقصان من وجه، فإنه ينقص به اللحم فيما يؤكل، ويمنع من الحمل عليه
فيما يحمل فكان كالجارية.
وان باعته ثم رجع إليها ثم طلقها الزوج رجع بنصفه لأنه يمكن الرجوع إلى
عين ماله فلم يرجع إلى القيمة، وان وصت به أو وهبته ولم يقبض ثم طلقها رجع
بنصفه، لأنه باق على ملكها وتصرفها. وان كاتبته أو وهبته وأقبضته ثم طلقها
رجع بقيمة النصف، لأنه تعلق به حق لازم لغيرها، فإن كان عبدا فدبرته ثم
طلقها فقد روى المزني أنه يرجع، فمن أصحابنا من قال يرجع لأنه باق على ملكها
ومنهم من قال لا يرجع لأنه لا يملك نقض تصرفها، ومنهم من قال فيه قولان،
ان قلنا إن التدبير وصية فله الرجوع، وان قلنا إنه عتق بصفة رجع بنصف قيمته
(الشرح) الأحكام: إذا طلق الرجل امرأة قبل الدخول وقد قبضت الصداق
فقد ذكرنا أن الزوج يرجع عليها بنصفه، فإن كان قد تلف بيدها فإن كان له
مثل رجع عليها بنصف مثله لأنه أقرب، وإن كان لا مثل له رجع عليها بنصف
قيمته، لان ما لا مثل له يضمن بالقيمة، فان اختلفت قيمته من حين العقد إلى
حين قبضه رجع بنصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض،
لان قيمته إن كانت حين العقد أقل ثم ازدادت، فان الزيادة حدثت في ملكها
355

فلا يلزمها ضمانها، وإن كانت قيمته وقت العقد أكثر ثم نقصت فالنقص مضمون
على الزوج لها فلا تضمنه الزوجة له، وإن كان الصداق باقيا في يدها فلا يخلو من
أربعة أحوال: إما أن يكون باقيا على حاله من حين القبض إلى حين الطلاق،
أو يكون ناقصا من جميع الوجوه عن حالته التي قبضته عليها أو يكون زائدا على
حالته التي قبضته عليها من جميع الوجوه، أو يكون زائدا من وجه ناقصا من وجه
فإن كان باقيا على حالته رجع بنصفه لقوله تعالى (فنصف ما فرضتم) وإن كان
ناقصا من جميع الوجوه بأن كانت جارية سمينة فهزلت أو مرضت أو ما أشبه
ذلك فالزوج بالخيار بين أن يرجع بنصف الصداق ناقصا ولا شئ له غير ذلك،
وبين أن يرجع عليها بنصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض
لان الله تعالى قال (فنصف ما فرضتم)
وإن كان ناقصا من جميع الوجوه بأن كانت بهيمة سمينة فهزلت أو مرضت
فالزوج بالخيار بين أن يرجع بنصف الصداق ناقصا ولا شئ له غير ذلك، وبين
أن يرجع عليها بنصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض، لان
الله تعالى قال (فنصف ما فرضتم) وإذا كان ناقصا فليس هو المفروض. وإن كان
الصداق زائدا من جميع الوجوه فلا تخلو الزيادة إما أن تكون متميزة أو غير
متميزة، فإن كانت متميزة بأن أصدقها بهيمة حائلا فحملت وولدت ثم طلقها. أو
شجره لا ثمرة عليها فأثمرت وجدت، ثم طلقها رجع عليها بنصف الصداق دون
النماء لأنه نماء حدث في ملكها وتميز فلم يكن له فيه حق كما قلنا في المشترى إذا
حدث في ملكه نماء مميز ثم وجد بالمبيع عيبا فرده.
وإن كانت الزيادة غير متميزة كالسمن وتعليم القرآن والعلم والصنعة، فان
اختارت الزوجة تسليم نصفه أجبر الزوج على أخذه لأنه يرجع أكمل ما دفع إليها
وان لم يختر تسليم نصفه لم يجبر عليه، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله.
وقال محمد بن الحسن: يجبر على تسليم نصفه مع زيادته المتصلة.
دليلنا أن هذه زيادة حدثت في ملكها فلم يلزمها تسليمها كما لو كانت الزيادة
متميزة، ويلزمها نصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض،
فإن كان على الزوجة ديون فأفلست وحجر عليها فهل للزوج أن يرجع في نصف
356

الصداق مع زيادته المتصلة به؟ فيه وجهان. قال أبو إسحاق يرجع بنصف الصداق
مع زيادته المتصلة به لأنا إنما لا نوجب الرجوع إلى نصف الصداق مع زيادته إذا
كانت غير مفلسة لان ذمتها عامرة فيتوصل الزوج إلى استيفاء حقه من القيمة،
وإذا كانت مفلسة فذمتها خربة فلا يمكنه الوصول إلى استيفاء حقه بالقيمة فليس
له الرجوع إلى نصفه.
وقال أكثر أصحابنا: لا يرجع الزوج إلى نصف الصداق مع زيادته المتصلة،
لقوله تعالى (فنصف ما فرضتم) والزائد غير مفروض. ولم يفرق بين المفلسة
وغير المفلسة. وإن كان الصداق زائدا من وجه ناقصا من وجه، بأن كان عبدا
فتعلم صنعة ومرض فإن اتفقا على أن يأخذ الزوج نصفه جاز لان الحق لهما
وإن طلب الزوج نصفه فامتنعت الزوجة من ذلك لم يجبر على ذلك لزيادته، وان
بذلت المرأة نصفه وامتنع الزوج من أخذه لم يجبر على ذلك لنقصانه ويرجع إلى
نصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض، وان طلقها قبل
الدخول والصداق في يدها فإن كان الصداق بحاله لم يزد ولم ينقص كان لها
النصف، وإن كان ناقصا من جميع الوجوه بأن مرض في يده أو عمى، فالزوجة
بالخيار بين أن تأخذ نصفه ناقصا ولا شئ لها كالمبيع إذا نقص في يد البائع.
وبين أن يفسخ الصداق لأجل نقصه، فإذا فسخت الصداق لم ينفسخ النكاح
وإلام يرجع، فيه قولان كما لو تلف قبل القبض. قوله الجديد يرجع إلى نصف
مهر المثل. وقوله القديم يرجع إلى بدل نصف الصداق.
وإن كان الصداق زائدا نظرت فإن كانت زيادة متميزة كالولد واللبن
والثمرة كان لها نصف أصل الصداق وجميع الزيادة. وحكى المسعودي أن
أبا حنيفة رحمه الله قال للزوج نصف الزيادة المنفصلة الحادثة في يده. دليلنا أنها
زيادة حدثت في ملكها فلم يكن للزوج فيها حق كما لو حدثت في يدها، وإن كانت
الزيادة غير متميزة كالسمن والصبغة فالمرأة بالخيار بين أن تأخذ نصف الصداق
وتدفع إلى الزوج نصفه مع زيادته فيجبر على قبوله، وبين أن تأخذ جميع الصداق
وتدفع للزوج نصف قيمته أقل ما كانت من حين العقد إلى حين القبض،
357

وإن كان الصداق زائدا من وجه ناقصا من وجه بأن كانت جارية تعلمت صنعة
ونسيت أخرى فهي بالخيار بين أن تأخذ نصفه وتسلم إلى الزوج نصفه، فيجبر
الزوج على ذلك، لان النقص في يده مضمون عليه، وبين أن تفسخ الصداق
لأجل النقص، فإذا فسخت رجعت عليه في قوله الجديد بنصف مهر المثل وفى
قوله القديم بنصف بدل الصداق.
(فرع) كل موضع قلنا يرجع إلى الزوج نصف الصداق بالطلاق قبل
الدخول، فمتى يملك الزوج ذلك النصف، فيه وجهان: قال أبو إسحاق لا يملكه
إلا بالطلاق واختيار التملك، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله لان الملك من غير
اختيار لا يقع إلا بالإرث، وهذا ليس بإرث.
(والثاني) وبه قال زفر، وهو المنصوص أنه يملك بنفس الطلاق، وإن لم
يختر التملك لقوله (وإن طلقتموهن) ولم يفرق بين أن يختار التملك أو لا يختار
وما ذكره الأول أن الانسان لا يملك شيئا غير الميراث إلا باختيار التملك غير
مسلم، فان الانسان لو أخذ صيدا لينظر إليه لا ليتملكه لملكه بالأخذ من غير
اختيار التملك، وان زاد الصداق بعد الطلاق وقبل اختيار التملك، فان قلنا
بقول أبي إسحاق كانت الزيادة للزوجة وحدها، وان قلنا بالمنصوص كانت الزيادة
بينهما، وان نقص في يدها بعد الطلاق وقبل الاختيار، فان قلنا بقول أبى إسحاق
لم يلزمها ضمان النقص. وان قلنا بالمنصوص لزمها ضمان النقص.
إذا ثبت هذا فان الشافعي رضي الله عنه قال وهذا كله ما لم يقض القاضي
بنصفه فتكون هي حينئذ ضامنة لما أصابه في يدها، فقال الصيمري هل يشترط
قضاء القاضي في تملك الزوج نصف الصداق. فيه وجهان ظاهر كلام الشافعي أن
ذلك شرط. والثاني وهو الأصح أن ذلك ليس بشرط، وسائر أصحابنا قالوا
لا خلاف في أن قضاء القاضي ليس بشرط لان الرجوع بنصف الصداق ثبت
له بنص الكتاب والاجماع، فلم يشترط قضاء القاضي فيه، فعلى هذا اختلف
أصحابنا في تأويل كلام الشافعي، فمنهم من قال أراد إذا اختلفا في وقت ملك الزوج
بأن قال الزوج ملكته من شهرين ثم نقص بعد ما ملكته فعليك ضمان النقص.
وقالت بل ملكته من شهر ونقص قبل أن أملكه فلا يلزمني ضمان النقص فإنهما
358

يرافعان إلى القاضي، فإذا قضى له القاضي بملكه من وقت. كانت ضامنة لما حدث
بعد من النقص،. وقال أبو إسحاق وأكثر أصحابنا عطف الشافعي رحمه الله بهذا
الكلام عليه إذا طلقها قبل الدخول وقبل النقص في يدها في جميع الوجوه فان
الزوج بالخيار بين أن يرجع في نصفه ناقصا ولا أرش له وبين أن يرجع بقيمة
نصفه، ومتى يملك نصفه، على قول أبى اسحق يملكه بالطلاق واختيار التملك،
وعلى المنصوص يملكه بالطلاق ولا يفتقر إلى قضاء القاضي. وإنما عبر الشافعي
رحمه الله عن وقت الملك بقضاء القاضي لأنه أوضح ما يعلم به عود نصف الصداق
فمتى علم وقت عوده إليه ثم نقص بعد ذلك وجب عليها ضمان النقص لأنها قبضت
الصداق بعقد المعاوضة، وقد انفسخت المعاوضة فكان عليها ضمان ما نقص في
يدها، كما لو اشترى سلعة فوجد بها عيبا ففسخ البيع ثم نقصت في يده فإنه يجب
عليه ضمان النقص.
وقد نص الشافعي في الام أنه إذا طلقها قبل الدخول والصداق في
يدها فمنعته إياه كان عليها ضمان ما يحدث فيه من النقص، فمن أصحابنا
من قال بظاهر هذا وأنها إذا لم تمنعه لا يلزمها ضمان ما نقص، بل هو أمانة في
يدها، لأنه حصل في يدها من غير تفريط
ومنهم من قال يجب عليها ضمان ما نقص في يدها، سواء منعته أو لم تمنعه
وهو الأصح كما قلنا فيمن اشترى عينا فوجد بها عيبا ففسخ البيع ثم نقصت في
يده فان عليه ضمان النقص بكل حال
وتأولوا كلام الشافعي رضي الله عنه في الام على أنه أراد ضمان الغصب،
لان ضمان الغصب يطرأ على ما هو مضمون بالقيمة كالعارية إذا منعها صاحبها.
وقال أبو العباس بل عطف الشافعي رحمه الله بهذا إذا زاد الصداق في يد الزوجة
من جميع الوجوه، فقد قلنا إن الزيادة كلها لها، فقال الشافعي رحمه الله ما لم يقض
القاضي بنصفه، يعنى ما لم يقض له قاضي مالكي بنصفه مع زيادته، لان مالكا
رحمه الله يقول نصف الصداق باق على ملك الزوج إلى أن يدخل بها، فإذا قضى
له مالكي بنصفه مع زيادته كان بينها، ولا ينقص حكمه لأنه موضع اجتهاد.
359

قال الشيخ أبو حامد: وهذا تأويل حسن الا أن الشافعي رحمه الله قال بعده
فتكون حينئذ ضامنة لما أصابه في يدها، ولا يمكن حمله على مذهب مالك رحمه
الله لأنه يقول: هو أمانة في يدها لا يلزمها ضمان النصف ولا زيادته.
(مسألة) إذا أصدقها نخلا لا ثمرة فيه فأثمرت في يدها ثم طلقها قبل الدخول
ففيها ست مسائل:
1 إذا أراد الزوج أن يرجع في نصف النخل بنصف ثمرتها فامتنعت
الزوجة من ذلك فإنها لا تجبر على ذلك لان الثمرة إن كانت غير مؤبرة فهي زيادة
متصلة بالنخل، وإن كانت مؤبرة فهي كالزيادة المنفصلة، وقد تبينا أن الجميع لها.
2 إذا بذلت نصف النخل مع نصف الثمرة فهل يجبر على قبوله؟ فيه
وجهان أحدهما، لا يجبر على قبوله، لأن هذه الزيادة ملك لها فلا يجبر على
قبولها كما لو وهبت له شيئا فإنه لا يجبر على قبوله. والثاني وهو المذهب أنه
يجبر لأنها زيادة متصلة بالصداق فأجبر الزوج على قبولها.
قال الشيخ أبو حامد: الوجهان إنما هما في الثمرة المؤبرة، فأما غير المؤبرة
فيجبر الزوج على قبولها وجها واحدا، وذكر المصنف أن الوجهين في غير
المؤبرة، ولم يذكر المؤبرة، فإذا قلنا: يجبر على القبول فإنه يجبر الا أن يطول
النخل وتكون قحاما وهو الذي قل سعفه ودق أصله فلا يجبر الزوج على قبولها
لما فيها من النقص بذلك.
3 إذا قال لها الزوج: اقطعي الثمرة لأرجع في نصف النخل بلا ثمرة
فلا تجبر المرأة على ذلك، لان في قطع الثمرة قبل أوان قطعها اضرارا بها،
وقد قال صلى الله عليه وسلم. ليس لعرق ظالم حق. وهذه ليست بظالمة.
4 أن تقول المرأة للزوج اصبر عن الرجوع حتى تدرك الثمرة فتجد ثم
ترجع في نصف النخل فلا يجبر الزوج على ذلك، لان حقه متعجل، وقد تعجل
بالقيمة فلا يجبر على التأخير، ولأنه لا يأمن أن يتلف النخل فلا يمكنه
الرجوع فيها، فان صبر باختياره إلى أن جدت الثمرة أو قطعت المرأة الثمرة
قبل أوان جدادها لم يكن للزوج الا نصف النخل الا أن يحدث بها نقص
فلا يجبر على نصفها.
360

5 أن يقول الزوج: أنا أصبر إلى أن تدرك الثمرة فتجد ثم أرجع في نصف
النخل، فإن المرأة لا تجبر على ذلك بعد أن رجع إليه نصفها فيكون في ضمانها
فيلزمها الضرر بدخوله في ضمانها، ولان النخل تزيد فإذا رجع في نصفها بعد ذلك
رجع في نصفها ونصف زيادتها المتصلة، ولان النخل تزيد فإذا رجع في نصفها
بعد ذلك رجع في نصفها وفى نصف زيادتها المتصلة الحادثة في يدها، ولان حقه
قد تعلق بالقيمة فلا ينتقل إلى النخل إلا برضا المرأة.
6 إذا قال الزوج: أنا أرجع في نصف النخل في الحال مشاعا وأترك الثمرة
لها إلى أن تجد ففيه وجهان. قال أبو إسحاق: له ذلك وتجبر المرأة على ذلك لأنه
لا ضرر على المرأة بذلك، ومن أصحابنا من قال: لا تجبر المرأة على ذلك لان
حقه قد صار بالقيمة فلا يجبر على تسليم نصف النخل.
(فرع) إذا أصدقها أرضا فحرثتها ثم طلقها قبل الدخول، فإن بذلت له
نصفها أجبر على قبولها، لان الحرث زيادة من نقصان، وان امتنعت من بذلها
نصفها لم تجبر على ذلك وكان له نصف قيمتها لأنها قد زادت في يدها وإن زرعت
أو غرستها وطلقها قبل الدخول والزرع والغرس فيها، فإن بذلت له نصف
الأرض ونصف الزرع ونصف الغرس، وكانت قيمة الأرض قبل الزرع والغرس
كقيمتها بعد الزرع والغرس.
قال الشيخ أبو حامد: أجبر على قبول ذلك على المذهب كما قلنا في النخل
والثمرة وفى الأرض المحروثة.
وقال ابن الصباغ: لا يجبر لان الثمرة لا ينقص بها النخل، والزرع تنقص
به الأرض وتضعف، ولان الثمرة متولدة من النخل فهي تابعة لها والزرع
والغرس ملك لها أودعته في الأرض فلا يجبر على قبوله، وإن نقصت قيمة الأرض
بالزرع والغرس لم يجبر على قبول نصفها، فان طلقها وقد استحصد الزرع ولم
يحصده بعد فقالت: أنا أحصده وأسلم نصف الأرض فارغة أجبر على قبول ذلك
إلا أن يحدث بالأرض نقص، وإن حصدت الزرع ثم طلقها أو طلقها ثم حصدت
361

الزرع كان له الرجوع في نصف الأرض إلا أن تكون قد نقصت بالزرع فلا يجبر
على قبولها لان المانع من الرجوع الزرع وقد زال.
(مسألة) إذا أصدقها خشبة فصنعتها أبوابا فزادت قيمتها بذلك ثم طلقها
قبل الدخول لم تجبر المرأة على تسليم نصفها لزيادة قيمتها بذلك، وإن بذلت له
نصفها بزيادته لم يجبر الزوج على قبوله لأنها كانت تصلح وهي خشب لما لا تصلح
له الآن، وإن أصدقها فضة أو ذهبا فصاغتها آنية فزادت قيمتها بذلك ثم طلقها
قبل الدخول لم تجبر المرأة على تسليم نصفها لزيادته، فان بذلت النصف بزيادته
أجبر على القبول لأنه يصلح وهو مصوغ لجميع ما كان يصلح له قبل ذلك، هكذا
ذكر الطبري في العدة، وعندي إذا قلنا: لا يجوز اتخاذ آنية الذهب والفضة أن
المرأة تجبر على تسليم نصفها، وإن كانت قيمتها زائدة لان صنعتها لا قيمة لها.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن كان الصداق عينا فوهبته من الزوج ثم طلقها قبل الدخول
ففيه قولان (أحدهما) لا يرجع عليها، وهو اختيار المزني، لان النصف تعجل
له بالهبة (والثاني) يرجع وهو الصحيح، لأنه عاد إليه بغير الطلاق فلم يسقط
حقه من النصف بالطلاق، كما لو وهبته لأجنبي ثم وهبه الأجنبي منه، وإن كان
دينا فأبرأته منه ثم طلقها قبل الدخول فان قلنا: إنه لا يرجع في الهبة لم يرجع
في الابراء، وان قلنا يرجع في الهبة ففي الابراء وجهان.
(أحدهما) يرجع كما يرجع في الهبة.
(والثاني) لا يرجع لان الابراء اسقاط لا يفتقر إلى القبول، والهبة تمليك
تفتقر إلى القبول، فان أصدقها عينا فوهبتها منه ثم ارتدت قبل الدخول فهل
يرجع بالجميع؟ فيه قولان، لان الرجوع بالجميع في الردة كالرجوع بالنصف في
الطلاق، وان اشترى سلعة بثمن وسلم الثمن ووهب البائع الثمن منه ثم وجد
بالسلعة عيبا ففي ردها والرجوع بالثمن وجهان، بناء على القولين، فان وجد به
عيبا وحدث به عنده عيب آخر فهل يرجع بالأرش؟ فيه وجهان بناء على القولين
362

وان اشترى سلعة ووهبها من البائع ثم أفلس المشترى، فللبائع أن يضرب مع
الغرماء بالثمن قولا واحدا لان حقه في الثمن، ولم يرجع إليه الثمن.
(الشرح) الأحكام: قال الشافعي رضي الله عنه: ولو وهبت له صداقها
قبل أو بعده ثم طلقها قبل أن يمسها ففيه قولان. وجملة ذلك أنه إذا أصدقها عينا
ثم وهبتها من الزوج وأقبضته إياها ثم طلقها قبل الدخول ففيه قولان.
أحدهما: لا يرجع عليها بشئ لأنه قد تعجل له ما كان يستحقه بالطلاق
قبل محله فلا يستحقه عند محله كما لو تعجل دينه المؤجل قبل محله ثم جاء وقت محله
والثاني: يرجع عليها بنصف مثله إن كان له مثل أو بنصف قيمته إن لم يكن له
مثل وهو الأصح، لأنه عاد إليه بعقد، فلا يمنع ذلك رجوعه ببدل نصفه كما لو
اشتراه منها أو وهبته لأجنبي ثم وهبه الأجنبي منه. قال المحامل وابن الصباغ:
وسواء قبضت الصداق أو لم تقبضه،، وإن كان الصداق دينا فإن عينه الزوج
في شئ وأقبضه إياها ثم وهبته منه فهي كالأولة، وان أبرأته منه ثم طلقها قبل
الدخول فان قلنا: لا يرجع عليها إذا كان عينا فوهبتها منه فههنا أولى أن
لا يرجع عليها، وان قلنا: يرجع عليها في العين فهل يرجع عليها في الدين؟ فيه
قولان، ومنهم من يقول: هما وجهان.
(أحدهما) يرجع عليها بنصفه لأنها قد ملكت الصداق بالعقد فهو كالعين.
(والثاني) لا يرجع عليها بشئ، وهو الصحيح، والفرق بينهما أن الصداق
إذا كان عينا فقد ضمنته بالقبض، وفى الدين لم تضمنه بالقبض فلم يرجع عليها
بشئ، ألا ترى أن الصداق لو نقص في يده ثم طلقها قبل الدخول فان قلنا:
يرجع عليها إذا وهبت جميع الصداق رجع عليها ههنا بالنصف أيضا، وان قلنا
لا يرجع عليها في العين ففي الدين قولان، والفرق بينهما أن هناك عاد إليه بعقد
جديد بخلاف هذا، وان قبضت نصف الصداق ثم وهبته النصف الباقي ثم طلقها
قبل الدخول فان قلنا: يرجع عليها إذا وهبت جميع الصداق رجع عليها
ههنا بالنصف أيضا، وان قلنا هناك: لا يرجع عليها بشئ فههنا قولان.
قال في الام: لا يرجع عليها بشئ لأنه إنما يرجع عليها، وقد تعجل له ذلك
363

النصف فلم يرجع عليها بشئ. وقال في الاملاء: يرجع عليها لأنها لو وهبته جميعه
لم يرجع عليها بشئ فإذا وهبته نصفه كان ذلك في حقها وحقه، لان حقهما شائع
في الجميع، فإذا قلنا بهذا ففي كيفية رجوعه ثلاثة أقوال.
(أحدها) يرجع عليها بالنصف الباقي لأنه يستحق عليها النصف وقد وجده
(والثاني) يرجع عليها بنصف النصف الباقي وقيمته نصف الموهوب، لان
حقهما شائع في الجميع فصار الموهوب كالتالف.
(والثالث) أنه بالخيار بين أن يرجع بالنصف الباقي وبين أن يرجع بنصف
النصف الباقي ونصف قيمة الموهوب لأنه تبعض عليه حقه.
(فرع) وإن وهبته امرأته الصداق أو أبرأته منه ثم ارتدت قبل الدخول
فحكم الرجوع عليها بجميع الصداق كالحكم في رجوعه عليها بالنصف عند الطلاق
لأنه يستحق عليها الرجوع بالجميع عند ردتها كما يستحق عليها الرجوع بالنصف
عند الطلاق.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) إذا طلقت المرأة قبل الدخول ووجب لها نصف المهر جاز للذي
بيده عقدة النكاح أن يعفو عن النصف، لقوله عز وجل (وان طلقتموهن من
قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم الا أن يعفون أو يعفو
الذي بيده عقدة النكاح) وفيمن بيده عقدة النكاح قولان.
قال في القديم: هو الولي فيعفو عن النصف الذي لها، لان الله تعالى خاطب
الأزواج فقال سبحانه وتعالى (وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم الا أن
يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) ولو كان هو الزوج لقال الا أن يعفون
أو تعفوا لأنه تقدم ذكر الأزواج وخاطبهم بخطاب الحاضر، فلما عدل عن
خطابهم دل على أن الذي بيده عقدة النكاح غير الزوج، فوجب أن يكون هو
الولي، وقال في الجديد: هو الزوج فيعفو عن النصف الذي وجب له بالطلاق،
فأما الولي فلا يملك العفو لأنه حق لها فلا يملك الولي العفو عنه كسائر ديونها،
364

وأما الآية فتحتمل أن يكون المراد به الأزواج، فخاطبهم بخطاب الحاضر، ثم
خاطبهم بخطاب الغائب، كما قال الله عز وجل (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين
بهم) فإذا قلنا إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي لم يصح العفو منه إلا بخمسة
شروط (أحدها) أن يكون أبا أو جدا لأنهما لا يتهمان فيما يريان من حظ الولد
ومن سواهما منهم (والثاني) أن تكون المنكوحة بكرا، فأما الثيب فلا يجوز
العفو عن مالها لأنه لا يملك الولي تزويجها (والثالث) أن يكون العفو بعد الطلاق
وأما قبله فلا يجوز لأنه لاحظ لها في العفو قبل الطلاق، لان البضع معرض
للتلف، فإذا عفا ربما دخل بها فتلفت منفعة بضعها من غير بدل (والرابع) أن
يكون قبل الدخول، فأما بعد الدخول فقد أتلف بضعها فلم يجز إسقاط بدله
(والخامس) أن تكون صغيرة أو مجنونة، فأما البالغة الرشيدة فلا يملك العفو
عن مهرها لأنه لا ولاية عليها في المال.
(الشرح) اللغات. قوله (وقد فرضتم لهن فريضة) جملة حالية من فاعل
طلقتموهن أو من مفعوله، ونفس الفرض من المبنى للفاعل أو للمفعول وان لم
يفارق حالة التطليق لكن اتصاف المطلق بالفارضية فيما سبق مما لا ريب في
مقارنته لها، وكذا الحال في اتصاف المطلقة بكونها مفروضا فيما سبق.
قوله (إلا أن يعفون) استثناء مفرغ من أعم الأحوال، أي فلهن نصف
المفروض معينا في كل حال إلا حال عفوهن، أي المطلقات المذكورات فإنه
يسقط ذلك حينئذ بعد وجوبه، والصيغة تحتمل التذكير والتأنيث والفرق
بالاعتبار، فإن الواو في التذكير ضمير والنون علامة الرفع، وفى التأنيث الواو
لام الفعل والنون ضمير النسوة والفعل مبنى، ولذلك لم تؤثر فيه (أن) هنا مع
أنها ناصبة لا مخففة بدليل عطف المنصوب عليه من قوله تعالى (أو يعفو
الذي. إلخ)
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ولو خالعته على شئ مما عليه
من المهر فما بقي فعليه نصفه. وجملة ذلك أنه إذا خالعها على شئ مما عليه من المهر
فما بقي فعليه نصفه. وجملة ذلك أنه إذا خالعها على نصف مهر قبل الدخول نظرت
365

فإن كان الصداق عينا فخالعها على نصفها فان قلنا إن الزوج يملك نصف الصداق
بالطلاق لم يصح الخلع على نصف ما سماه في الخلع، لأن الخلع بمنزلة الطلاق
الذي يوقعه ابتداء فلم يصح خلعها على النصف الذي يملك الزوج، وهل يصح
في نصف ما سماه في الخلع. فيه قولان بقاء على القولين في تفريق الصفقة، وما
فسد من المسمى في الخلع فهل يرجع الزوج عليها ببدله أو بمهر المثل، فيه قولان
كما قلنا فيه إذا تلف الصداق قبل القبض.
وإن قلنا إن الزوج لا يملك النصف الا بالطلاق واختيار التملك صح الخلع
على النصف المسمى في الخلع ورجع عليها بالنصف. وهل يرجع عليها بجميع
النصف الباقي في يدها أو بنصفه أو بنصف قيمته. على الأقوال الثلاثة التي
مضت قبلها، وإن كان الصداق ألفا في الذمة فخالعها على خمسمائة منه قبل
الدخول. قال ابن الصباغ فان قلنا إنه يملك نصف الصداق بالطلاق فسدت
التسمية في الخلع في نصف الخمسمائة، ولا ينصرف ذلك إلى نصيبها من الألف
بعد الطلاق لان وقت التسمية هي مالكة لجميعه، فكان ما سميته من الجملة،
وهل تفسد التسمية في نصف الباقي؟ على القولين. وهل يرجع عليها ببدلها أو
بمهر مثلها. على القولين.
وان قلنا إنه لا يملك النصف الا بالطلاق واختيار التملك صح الخلع على
ما سمى فيه، ويسقط الباقي من ذمته باختيار التملك.
إذا ثبت هذا فقد قال الشافعي رضي الله عنه وما بقي فعليه نصفه، وظاهر
هذا أن الخلع يصح بخمسمائة ويسقط عن ذمته من الخمسمائة الباقية مائتان وخمسون
واختلف أصحابنا في تأويل هذا، فقال أبو علي بن خيران أراد الشافعي رحمه الله
إذا تخالعا على خمسمائة من الألف وهما يعلمان أن الخلع لا يصح الا على مائتين
وخمسين منها لان نصفها يسقط عنه بالطلاق قبل الدخول، فإذا علما بذلك فقد
رضيا أن يكون عوض الخلع مائتين وخمسين لا غير، فإذا بقي على الزوج خمسمائة
سقط عنه نصفها بالطلاق قبل الدخول. ومن أصحابنا من قال من قال أراد الشافعي رحمه
الله إذا قالت اخلعني بما يخصني من خمسمائة فصرحا بذلك.
وقال أبو إسحاق تأويلها أن العقد وقع على جميع الخمسمائة لأنها كانت ملكا
366

للزوجة، وأما ما يعود نصفها إلى الزوج بعد الطلاق فإذا تم الخلع رجع
إلى الزوج نصفها فيكون هذا النصف كالتالف قبل القبض فيرجع الزوج إلى بدل
هذا النصف في القول القديم وبدل الدراهم دراهم فيستحق عليها في ذمتها بدل
المائتين والخمسين التي كانت تستحقها بالطلاق، وبقى عليه خمسمائة فيسقط عنه
نصفها بالطلاق، ويبقى لها عليه مائتان وخمسون فيتقاصان، فيكون معنى قوله فما
بقي عليه نصفه، يعنى الخمسمائة التي لم يقع بها الخلع فذكر ما بقي لها عليه، ولم
يذكر ماله عليها، ولا ذكر المقاصة أيضا.
قال الشيخ أبو حامد: وهذه طريقة صالحة. وقال القاضي أبو الطيب: إن
الذي قاله الشافعي رحمه الله إنما قاله على أن الزوج لا يملك بالطلاق، وإنما يملك
بالطلاق والاختيار فقد صح الخلع بالخمسمائة، ويرجع عليها بنصف الباقي وبقيمة
ما خالعها به. وإنما لم يذكر قيمة ما خالعها به. وقال الشيخ أبو حامد: لا يمكن حمل
كلام الشافعي رحمه الله على هذا، لأنه قال: فما بقي فعليه نصفه، ولو أراد أنه
لا يملك الا بالاختيار لقال: فعليه كل ما بقي إلا أن يختار تملك نصفه
قال أصحابنا: وإن أرادت الخلاص خالعته على خمسمائة في ذمتها ويسقط
عنه خمسمائة من الألف ويبقى عليه لها خمسمائة فيتقاصان وتقول: اخلعني على
ما يسلم لي من الألف أو على أن لا يبقى بيننا علقة ولا تبعة.
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: قال الله تعالى (إلا أن يعفون أو يعفو
الذي بيده عقدة) الآية. وجملة ذلك أنه إذا طلق امرأته قبل الدخول جاز لها
أن تعفو عن نصف المهر الذي وجب لها لقوله تعالى (إلا أن يعفون) ولا خلاف
أن المراد به النساء وجاز للزوج أن يعفو عن النصف الذي له الرجوع فيه لقوله
تعالى (وان تعفو أقرب للتقوى) ولا خلاف أن المراد به الأزواج وفى الذي
بيده عقدة النكاح قولان. قال في القديم: المراد به ولى المرأة وبه قال ابن عباس
والحسن البصري والزهري وطاوس وربيعة ومالك وأحمد، فيكون تقدير الآية
على هذا (إلا أن يعفون) يعنى الزوجات عن النصف الذي وجب لهن فيكون
جميع الصداق للزوج أو يعفو الولي عن نصيب الزوجة، فيكون الجميع للزوج.
وان تعفوا أقرب للتقوى، يعنى الأزواج، فيكون الجميع للزوجة، لان الله تعالى
367

قال (أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح) وهذا ورد فيما بعد الطلاق، والذي بيده
عقدة النكاح عليها هو الولي دون الزوج، ولان الكناية ترجع إلى أقرب مذكور
قبله، وأقرب مذكور قبل هذا هو نصف المرأة، ولان الله تعالى ذكر العفو
في الآية في ثلاثة مواضع، فإذا حمل هذا على الولي حصل لكل عفو فائدة،
وإذا حمل على غير جعل أحدهما مكررا.
وقال في الجديد الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، وبه قال علي بن أبي طالب
وجبير بن مطعم وابن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهد وشريح وأهل الكوفة
والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، فيكون تقدير الآية (الا أن يعفون) يعنى الزوجات
أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح، يعنى الزوج وأن يعفوا أقرب للتقوى، يعنى
أن عفو الأزواج أفضل من عفو الزوجات، لقوله تعالى (أو يعفو الذي بيده
عقدة النكاح) وقال العلامة صديق خان في كتابه نيل المرام (ومعنى: أو يعفو
الذي بيده عقدة النكاح) قيل هو الزوج.
ثم ذكر جماعة من القائلين به إلى أن قال (وفى هذا القول قوة وضعف.
اما قوته فلكون الذي بيده عقدة النكاح حقيقة هو الزوج لأنه الذي إليه رفعه
بالطلاق. وأما ضعفه فلكون العفو منه غير معقول، وما قالوا به من أن المراد
بعفوه أن يعطيها المهر كاملا غير ظاهر، لان العفو لا يطلق على الزيادة. وقيل
المراد بقوله (أو يعفو الخ) هو الولي، إلى أن قال وفيه أيضا قوة وضعف، أما
قوته فلكون معنى العفو فيه معقولا. وأما ضعفه فلكون عقدة النكاح بيد
الزوج لا بيده.
ومما يزيد هذا القول ضعفا أنه ليس للولي أن يعفو عن الزوج مما لا يملكه
وقد حكى القرطبي الاجماع على أن الولي لا يملك شيئا من مالها، والمهر مالها،
فالراجح ما قاله الأولون لوجهين. الأول أن الزوج هو الذي بيده عقدة النكاح
حقيقة، الثاني أن عفوه بإكمال المهر هو صادر عن مالك مطلق التصرف بخلاف
الولي، وتسميته الزيادة عفوا وإن كان خلاف الظاهر، لكن لما كان الغالب
أنهم يسوقون المهر كاملا عند العقد، كان العفو معقولا، لأنه تركه لها ولم
يسترجع النصف منه، ولا يحتاج لهذا أن يقال إنه من باب المشاكلة كما في الكشاف
368

لأنه عفو حقيقي، أي ترك ما تستحق المطالبة به، إلا أن يقال إنه مشاكلة أو
تغليب في توفيته المهر قبل أن يسوقه الزوج، فإذا قلنا إن الذي بيده عقدة
النكاح هو الولي لم يصح إلا بالشروط الخمسة التي ساقها المصنف.
(فرع) فإذا كان الصداق دينا في ذمة الزوج وطلقها قبل الدخول، وأرادت
المرأة العفو عن النصف الذي لها صح عفوها بأحد ستة ألفاظ بأن تقول أبرأتك
عن كذا أو وهبته لك أو ملكتك أو تركت لك أو أسقطت عنك أو عفوت عن
مالي في ذمتك، وهل يفتقر إلى قبول الزوج؟ فيه وجهان مضى ذكرهما.
المنصوص أنه لا يفتقر، فإن أراد الزوج أن يعفو عن النصف الذي رجع إليه
بالطلاق، فإن قلنا إنه لا يملك ذلك إلا بالطلاق واختيار التملك ولم يختر بعد،
فله أن يسقط حقه، وان قلنا إنه يملك النصف بالطلاق لم يصح عفوها عنه لأنه
قد هلك على ملكها، وفى يدها. وإن أراد الزوج أن يعفو عنها، فان قلنا إنه
لا يملك النصف الا بالطلاق والاختيار صح عفوه قبل الاختيار بكل لفظ
يتضمن إسقاط حقه كالعفو والاسقاط والترك كما قلنا فيمن له شفعة فأسقطها.
ولا يفتقر إلى قبولها وجها واحدا.
وان قلنا بالمنصوص وأنه يملك نصفه بالطلاق صح عفوه عنها بأحد الألفاظ
الستة: الهبة والعفو والابراء والتمليك والاسقاط والترك، وهل يفتقر إلى قبولها
على الوجهين.
وإن كان الصداق عينا في يد الزوج وأرادت أن تعفو عن النصف الذي لها
صح بلفظ الهبة أو التمليك ولا بد من قبول الزوج، ولا بد من مضى مدة القبض
وهل يفتقر إلى اذنها بالقبض، فيه طريقان مضيا في الرهن، ولا يصح عفوها
بلفظ الابراء والاسقاط لان ذلك إنما صح عما في الذمم، وهل يصح بلفظ العفو
فيه وجهان حكاهما في التعليق، الصحيح لا يصح، وان أراد الزوج ان يعفو عن
النصف الذي له، فان قلنا بقول أبي إسحاق انه لا يملك الا بالطلاق والاختيار.
ولم يختر بعد صح عفوه بكل لفظ يتضمن اسقاط الخيار، وان قلنا بالمذهب أنه
يملك بنفس الطلاق احتاج إلى ثلاث شرائط: الهبة من الايجاب والقبول،
والاذن بالقبض، والقبض
369

وإن كان الصداق عينا في يد الزوجة فأرادت أن تعفو عن نصفها افتقر إلى
شروط الهبة، وإن أراد الزوج أن يعفو عنها، فإن قلنا: إنه يملك بنفس الطلاق
فهو يهبها شيئا في يدها فلا بد فيه من الايجاب والقبول، ومضى مدة القبض.
(فرع) إذا تزوج امرأة بمهر حرام أو مجهول وجب لها مهر مثلها، فإن
أبرأته عنه وكانت تعلم قدره صحت البراءة. وإن كانت لا تعلم قدره وأبرأته
عنه لم تصح البراءة. وقال أبو حنيفة تصح، دليلنا أنه إزالة ملك بلفظ لا يسرى
فلم يصح مع الجهل به كالبيع، وفيه احتراز من العتق، وإذا ثبت أن الابراء في
الكل لا يصح فهل يصح في قدر ما يتحققه؟
قال الشيخ أبو حامد: المعروف أنه لا يصح، وقال أبو إسحاق: يصح، لأنا
إنما منعنا صحة البراءة في كله لأجل الغرر، وهذا لا يوجد فيما يتحقق أنه لها،
وإن كانت تعلم أن المهر يزيد على مائة ولا يبلغ ألفا فقالت: أبرأتك من مائة
إلى ألف صح، لان الغرر قد زال والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان فوضت بضعها بأن تزوجت وسكت عن المهر أو تزوجت
على أن لا مهر لها ففيه قولان (أحدهما) لا يجب لها المهر بالعقد وهو
الصحيح لأنه لو وجب لها المهر بالعقد لتنصف بالطلاق (والثاني) يجب لأنه
لو لم يجب لما استقر بالدخول ولها أن تطالب بالفرض لان اخلاء العقد عن
المهر خالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم فان قلنا يجب بالعقد فرض لها مهر
المثل لان البضع كالمستهلك فضمن بقيمته كالسلعة المستهلكة في يد المشترى ببيع
فاسد، وان قلنا لا يجب لها المهر بالعقد فرض لها ما يتفقان عليه لأنه ابتداء
ايجاب فكان إليهما كالفرض في العقد ومتى فرض لها مهر المثل أو ما يتفقان عليه
صار ذلك كالمسمى في الاستقرار بالدخول والموت والتنصف بالطلاق لأنه مهر
مفروض فصار كالمفروض في العقد، وان لم يفرض لها حتى طلقها لم يجب لها
شئ من المهر لقوله عز وجل (وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم
لهن فريضة فنصف ما فرضتم) فدل على أنه إذا لم يفرض لم يجب النصف وان لم
370

يفرض لها حتى وطئها استقر لها مهر المثل، لان الوطئ في النكاح من غير مهر
خالص لرسول الله صلى الله عليه وسلم وان ماتا أو أحدهما قبل الفرض ففيه قولان.
أحدهما: لا يجب لها المهر لأنها مفوضة فارقت زوجها قبل الفرض والمسيس
فلم يجب لها المهر كما لو طلقت.
(والثاني) يجب لها المهر لما روى علقمة قال أتى عبد الله في رجل تزوج امرأة
فمات عنها ولم يكن فرض لها شيئا ولم يدخل بها فقال أقول فيها برأيي لها صداق
نسائها وعليها العدة ولها الميراث فقال معقل بن سنان الأشجعي قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في تزويج بنت واشق بمثل ما قضيت ففرح بذلك ولان الموت
معنى يستقر به المسمى فاستقر به مهر المفوضة كالوطئ، وان تزوجت على أن
لا مهر لها في الحال ولا في الثاني ففيه وجهان.
(أحدهما) أن النكاح باطل لان النكاح من غير مهر لم يكن إلا لرسول الله
صلى الله عليه وسلم فتصير كما لو نكح نكاحا ليس له.
(والثاني) يصح لأنه يلغى قولها لا مهر لي في الثاني لأنه شرط باطل في الصداق
فسقط وبقى العقد فعلى هذا يكون حكمه حكم القسم قبله.
(الشرح) اللغات: قال في البيان: التفويض في اللغة أن يكل الرجل أمره
إلى غيره. وقال ابن بطال: المفوضة المرأة تنكح بغير صداق من قولهم فوضت
الامر إلى فلان أي رددته، إلى أن قال: والتفويض أن تفوض المرأة أمرها إلى
الزوج فلا تقدر معه مهرا، وقيل: التفويض الاهمال. كأنها أهملت أمر المهر
فلم قسمه ويقال المرأة مفوضة بالكسر لتفويضها لأنها أذنت وبالفتح لان وليها
فوضها بعقده.
وأما التفويض في الشرع فهو تفويض البضع في النكاح، يقال: امرأة
مفوضة بكسر الواو إذا أضفت التفويض إليها، ومفوضه بفتح الواو إذا أسند
التفويض إلى غيرها، والتفويض على ضربين، تفويض مهر وتفويض بضع،
فأما تفويض المهر فمثل أن يقول تزوجتك على أي مهر شئت أو شئت أو شئنا
فالنكاح صحيح، ويجب لها مهر مثلها في العقد، وأما تفويض البضع فبأن يقول
371

زوجتكها وتسكت عن المهر أو زوجتكها بلا مهر في الحال وكان ذلك بإذن المرأة
لوليها وهي من أهل الاذن، فإن النكاح ينعقد، وأما المهر فقد قال الشيخ أبو حامد
لا يجب لها مهر في العقد قولا واحدا، ولكنها قد ملكت بالعقد أن تملك مهرا
لان لها المطالبة بفرضه، فهي كالشفيع ملك أن يملك الشقص أو أي مهر ملكت
تملكه فيه قولان.
(أحدهما) مهر المثل والمفروض بدل عنه.
(والثاني) ما يتفقان عليه. وقال أبو حنيفة يجب لها مهر المثل بالعقد، وحكى
الشيخ أبو إسحاق أنه أحد قولينا لأنه لو لم يجب بالعقد لما استحقت المطالبة به،
ولما استقر بالدخول، ودليلنا على أنه لا يجب بالعقد أنه لو وجب لها المهر بالعقد
ليتصف بالطلاق كالمسمى في العقد، فإذا قلنا: إنها ملكت أن تملك مهر المثل
ويكون المفروض بدلا منه فلانه إذا عقد عليها النكاح فقد استهلك بضعها فوجب
أن يكون لها بدله، وبدله هو مهر المثل، وإذا قلنا ملكت أن تملك مهرا ما،
وإنما يتقدر ذلك بالفرض.
قال أبو إسحاق وهو أقواهما ولان المهر الذي تملكه المرأة بعقد النكاح مهران
مهر تملكه بالتسمية، ومهر تملكه بالفرض، ثم ثبت أن المهر الذي تملكه
بالتسمية لا يقدر الا بالتسمية، فكذلك المهر الذي تملكه بالفرض لا يتقدر
الا بالفرض، لان الشافعي رضي الله عنه نص على أنهما إذا فرضا لها أكثر من
مهر المثل لزم لها الجميع، ولو كانت الزيادة على مهر المثل هبة لم يلزم بالفرض،
وإنما يلزم بالقبض.
(فرع) وللمفوضة أن تطالب بفرض المهر لان اخلاء العقد عن المهر خاص
للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن ترافعا إلى الحاكم فرض لها مهر مثلها لان زيادته
على ذلك ميل على الزوج، ونقصانه عنه ميلا عليها ولا يصح فرضه الا بعد
معرفته بقدر مهر مثلها لأنه لا يملك الفرض الا بذلك، وان تراضى الزوجان
ففرضاه بينهما فإن كانا عالمين بقدر مهر مثلها صح فرضهما، فإن فرضا مهر
مثلها صح، وان فرضا أكثر منه صح ولزم، وقد سمح الزوج، وان فرضا أقل
منه صح ولم يلزم الزوج أكثر منه لأنها سمحت، وإن كانا جاهلين بقدر مهر مثلها
372

أو أحدهما فإن قلنا: إنها ملكت بالعقد أن تملك مهر المثل لم تصح فرضهما،
لأن المفروض بدل عن مهر المثل، فلا بد أن يكون المبدل معلوما عندهما، وإن
قلنا: ملكت بالعقد أن تملك مهرا ما صح فرضهما، وإذا فرض لها الحاكم لم
يفرض لها إلا من نقد البلد، لأنه بدل بضعها التالف فهو كما لو أتلف عليها عينا
من مالها، وان فرضه الزوجان بينهما جاز أن يفرضا نقدا أو عرضا مما يجوز
تسميته في العقد، ولا يلزم إلا ما اتفقا عليه من ذلك، وإذا فرض لها مهر صحيح
كان ذلك كالمسمى في العقد يستقر بالدخول أو بالموت وينتصف بالطلاق قبل
الدخول. وقال أبو حنيفة: إذا طلقها قبل الدخول سقط المفروض ووجب لها
المتعة، دليلنا قوله تعالى (فنصف ما فرضتم) الآية. ولأنه مهر واجب قبل الطلاق
فينصف بالطلاق كالمسمى لها في العقد.
(فرع) ويستحب أن لا يدخل بها حتى يفرض لها لئلا يشتبه بالموهوبة،
فإن لم يفرض لها حتى وطئها استقر عليه مهر المثل، لان الوطئ في النكاح من
غير مهر خالص للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن طلقها قبل القبض والمسيس لم يجب
لها المهر لقوله تعالى (نصف ما فرضتم إلا أن يعفون) الآية، وهذا لم يفرض
شيئا، وإن مات أحدهما قبل القبض والمسيس توارثا ووجب عليها عدة الوفاة
إن مات الزوج قبلها بلا خلاف، لان الزوجية ثابتة بينهما إلى الموت، وهل لها
مهر المثل؟ فيه قولان.
أحدهما: يجب لها مهر مثلها، وبه قال ابن مسعود رضي الله عنه وابن شبرمة
وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وإسحاق إلا أن أبا حنيفة يقول: يجب
لها مهر مثلها بالعقد، ووجه هذا القول ما روى عبد الله بن عتبة بن مسعود أن
ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يسم لها مهرا فمات عنها قبل الدخول
فقال عبد الله: أقول فيها برأيي، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمنى ومن
الشيطان، والله ورسوله بريئان، لها الميراث وعليها العدة ولها مهر مثلها،
لا وكس ولا شطط، فقام إليه معقل بن سنان الأشجعي وقال: أشهد لقضيت
373

مثل ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع بنت واشق، ففرح عبد الله بذلك، ولان
الموت سبب يستقر به المسمى فاستقر به مهر المفوضة كالدخول.
والثاني: لا يجب لها مهر، وبه قال على وابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت
رضي الله عنهم وأهل المدينة والزهري وربيعة ومالك والأوزاعي من أهل الشام
ولأنها فرقة وردت على المفوضة قبل الفرض والمسيس فلم يجب لها مهر كالطلاق
فأما خبر ابن مسعود رضي الله عنه فهو مضطرب، وروى أنه قام إليه ناس من
أشجع، وروى أنه قام إليه رجل من أشجع، وروى أنه قام إليه معقل بن سنان
وروى أنه قام إليه معقل بن يسار، وروى أنه قام إليه أبو سنان، ويجوز أن
تكون بروع مفوضة المهر لا مفوضة البضع.
(فرع) وإن زوج الولي وليته بإذنها وهي من أهل الاذن على أن لا مهر لها
في الحال ولا فيما بعد، فهل يصح النكاح؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا يصح النكاح لأنها في معنى الموهوبة، وذلك لا يصح إلا للنبي
صلى الله عليه وسلم
والثاني: يصح النكاح ويبطل الشرط، لان النكاح لا يخلو من مهر، فإذا
شرط أن لا مهر لها بحال ألغى الشرط لبطلانه، ولا يبطل النكاح لأنه لا يبطل
لبطلان المهر، فعلى هذا تكون مفوضة البضع، وقد مضى حكمها، فإن زوج
الأب أو الجد الصغيرة أو الكبيرة المجنونة أو البكر البالغة العاقلة وفوض بضعها
أو أذنت المرأة لوليها في تزويجها ففوض بضعها بغير إذنها لم تكن مفوضة، بل
يجب لها مهر مثلها، لان التفويض إنما يتصور باذنها إذا كانت من أهل الاذن،
هذا هو المشهور من المذهب.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: إذا قلنا: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الأب
والحد صح تفويضه لبضع الصغيرة والمجنونة، كما يصح عفوه، والأول أصح،
لأنه إنما يصح على أحد القولين بعد الطلاق فأما مع بقاء النكاح فلا يصح.
(فرع) قال ابن الصباغ: إذا وطئ الزوج المفوضة بعد سنين وقد تغيرت
صفتها فإنه يجب لها مهر المثل معتبرا بحال العقد، لان سبب وجوب ذلك إنما
هو بالعقد واعتبر به.
374

وقال القاضي أبو الطيب: يعتبر مهرها أكثر ما كان من حين العقد إلى حين
الوطئ، لان لها أن تطالبه بفرض المهر في كل وقت من ذلك، وان نكح امرأة
نكاحا فاسدا ووطئها اعتبر مهرها حال وطئها، وان أبرأته من مهرها قبل الفرض
لم تصح البراءة، لان المهر لم يجب والبراءة من الدين قبل وجوبه لا تصح،
وان أسقطت حقها من المطالبة بالمهر قال ابن الصباغ: لم يصح اسقاطه عندي لان
اثبات المهر ابتداء حق لها يتعلق به حق الله تعالى، لان الشرع منعها من هبة
بضعها، وإنما خص به النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا يصح أن يطأها بغير
عوض، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ويعتبر مهر المثل بمهر نساء العصبات لحديث علقمة عن عبد الله
وتعتبر بالأقرب فالأقرب منهن وأقربهن الأخوات وبنات الاخوة والعمات
وبنات الأعمام) فإن لم يكن لها نساء عصبات اعتبر بأقرب النساء إليها من
الأمهات والخالات لأنهن أقرب إليها، فإن لم يكن لها أقارب اعتبر بنساء بلدها
ثم بأقرب النساء شبها بها ويعتبر بمهر من هي على صفتها في الحسن والعقل
والعفة واليسار، لأنه قيمة متلف فاعتبر فيها الصفات التي يختلف بها العوض
والمهر يختلف بهذه الصفات ويجب من نقد البلد كقيم المتلفات.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: ومتى قلت لها مهر نسائها فإنما أعني
نساء عصبتها وليس أمها من نسائها. وجملة ذلك أن أصحابنا قالوا يجب لها مهر
مثلها في سبعة مواضع
(1) مفوضة المهر (2) مفوضة البضع إذا دخل بها الزوج قبل الفرض
أو مات عنها في أحد القولين.
(3) إذا فوض الولي بضعها بغير اذنها (4) إذا نكحت المرأة بمهر
فاسد أو مجهول (5) إذا نكحها نكاحا فاسدا ووطئها (6) إذا وطئ
امرأة بشبهة (7) إذا أكره المرأة على الزنا، وكل موضع وجب للمرأة مهر
375

مثلها تعتبر بنساء عصبتها كالأخوات وبنات الأخوات والعمات وبنات الأعمام،
ولا يعتبر بنساء ذوي أرحامها كأمهاتها وخالاتها، ولا بنساء بلدها. وقال ابن أبي
ليلى وأبو حنيفة: يعتبر بنساء عصباتها وبنساء ذوي أرحامها. دليلنا ما روى
أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق أن لها مهر نساء قومها
وهذا يقتضى قومها الذين تنسب إليهم، ولأنه إذا لم يكن بد من اعتبارها بغيرها
من النساء فاعتبارها بنساء عصباتها أولى لأنها تساويهن في النسب، ويعتبر
بمن هي في مثل حالها في الجمال والعقل والأدب والسن والبكارة والثيوبة والدين
وصراحة النسب. وإنما اعتبر الجمال لان له تأثيرا في الاستمتاع وهو المقصود
بالنكاح، والعقل والأدب يعتبران، لان مهر العاقلة الأديبة أكثر من مهر من
لا عقل لها ولا أدب. وكذلك مهر الشابة والبكر أكثر من مهر العجوز والثيب
ومهر العفيفة أكثر من مهر الفاسقة. قال الشافعي وصراحتها، فمن أصحابنا من
قال: أراد الفصاحة في اللسان. وقال أكثرهم أراد صراحة النسب، لان العرب
أكمل من العجم فإن كانت بين عربيين لم يعتبر بمن هي بين عربي وعجمية،
لان الولد بين عربي وعجمية هجين، والولد بين عربية وعجمي مقرف ومدرع،
قال الشاعر في المقرف:
وما هند إلا مهرة عربية * سليلة أفراس تجللها بغل
فإن نتجت مهرا كريما فبالحري * وإن يك أقرافا فما أنجب الفحل
وقال في المدرع:
إن المدرع لا تغنى خؤولته * كالبغل يعجز عن شوط المحاضير
ويعتبر بالأقرب فالأقرب، فإن لم يكن في أخواتها مثلها صعد إلى بنات أخيها
ثم إلى عماتها ثم إلى بنات عمها، فإن لم يكن نساء عصباتها في بلدها متفرقة،
ومهور ذلك البلد تختلف اعتبرت بنساء عصباتها من أهل بلدها لأنها أقرب إليهن
فإن لم يكن لها عصبات أو كان لها نساء عصبة ولم يوجد فيهن مثلها اعتبرت بأقرب
النساء إليها من ذوي أرحامها كأمهاتها، وخالاتها، فإن لم يكن لها من يشبهها منهن
اعتبرت بنساء بلدها، ثم بنساء أقرب بلد إلى بلدها.
(فرع) فإن كان من عادتهم إذا زوجوا من عشيرتهم خففوا المهر، وإذا
376

زوجوا من الأجانب نقلوا المهر حمل الامر على ذلك فإن كان زوجها من
عشيرتها خفف المهر. وإن كان الأجانب نقل، لان المهر يختلف بذلك.
قال ابن الصباغ: وينبغي على هذا إذا كان الزوج شريفا والعادة أن يخفف
مهر الشريف لشرف الزوج أن يعتبر ذلك.
(فرع) ويجب مهر المثل حالا من نقد البلد. وقال الصيمري: إن جرت
عادتهم في ناحية بالثياب وغير ذلك قضى لها بذلك، والمنصوص هو الأول لأنه
بذل متلف فأشبه سائر المتلفات.
قال أبو علي الطبري: وإن كان عادة نساء عصباتها التأجيل في المهر فإنه
لا يجب لها المهر المؤجل بل يجب حالا: وينقص منه لأجل التأجيل، لان القيم
لا تكون مؤجلة.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإذا أعسر الرجل بالمهر ففيه طريقان، من أصحابنا من قال: إن
كان قبل الدخول ثبت لها الخيار في فسخ النكاح، لأنه معاوضة يلحقه الفسخ،
فجاز فسخه بالافلاس بالعوض كالبيع، وإن كان بعد الدخول لم يجز الفسخ لان
البضع صار كالمستهلك بالوطئ، فلم تفسخ بالافلاس كالبيع بعد هلاك السلعة.
ومن أصحابنا من قال: إن كان قبل الدخول ثبت الفسخ، وإن كان بعد الدخول
ففيه قولان (أحدهما) لا يثبت لها الفسخ لما ذكرناه (والثاني) يثبت لها الفسخ
وهو الصحيح، لان البضع لا يتلف بوطئ واحد فجاز الفسخ والرجوع إليه،
ولا يجوز الفسخ الا بالحاكم، لأنه مختلف فيه فافتقر إلى الحاكم، كفسخ
النكاح بالعيب.
(فصل) إذا زوج الرجل ابنه الصغير وهو معسر ففيه قولان، قال في
القديم يجب المهر على الأب لأنه لما زوجه مع العلم بوجوب المهر والاعسار
كان ذلك رضا بالتزامه. وقال في الجديد يجب على الابن وهو الصحيح، لان
البضع له فكان المهر عليه.
(فصل) وان تزوج العبد بإذن المولى فإن كان مكتسبا وجب المهر والنفقة.
377

في كسبه لأنه لا يمكن إيجاب ذلك على المولى لأنه لم يضمن، ولا في رقبة العبد
لأنه وجب برضا من له الحق، ولا يمكن إيجابه في ذمته لأنه في مقابلة الاستمتاع
فلا يجوز تأخيره عنه، فلم يبق إلا الكسب فتعلق به ولا يتعلق إلا بالكسب
الحادث بعد العقد، فإن كان المهر مؤجلا تعلق بالكسب الحادث بعد
حلوله، لان ما كسبه قبله للمولى، ويلزم المولى تمكينه من الكسب
بالنهار ومن الاستمتاع بالليل، لان إذنه في النكاح يقتضى ذلك، فإن لم يكن
مكتسبا وكان مأذونا له في التجارة فقد قال في الام: يتعلق بما في يده، فمن
أصحابنا من حمله على ظاهره، لأنه دين لزمه بعقد أذن فيه المولى فقضى مما في يده
كدين التجارة. ومن أصحابنا من قال: يتعلق بما يحصل من فضل المال، لان ما في
يده للمولى فلا يتعلق به كما لا يتعلق بما في يده من الكسب، وإنما يتعلق بما يحدث
وحمل كلام الشافعي رحمه الله على ذلك، وإن لم يكن مكتسبا ولا مأذونا له في
التجارة ففيه قولان.
(أحدهما) يتعلق المهر والنفقة بذمته يتبع به إذا أعتق، لأنه دين لزمه
برضا من له الحق فتعلق بذمته كدين القرض، فعلى هذا للمرأة أن تفسخ إذا
أرادت (والثاني) يجب في ذمة السيد لأنه لما أذن له في النكاح مع العلم بالحال
صار ضامنا للمهر والنفقة، وإن تزوج بغير إذن المولى ووطئ فقد قال في الجديد
يجب في ذمته يتبع به إذا أعتق، لأنه حق وجب برضا من له الحق فتعلق بذمته
كدين القرض. وقال في القديم: يتعلق برقبته لان الوطئ كالجناية، وان أذن له
في النكاح فنكح نكاحا فاسدا ووطئ ففيه قولان.
(أحدهما) أن الاذن يتضمن الصحيح والفاسد، لان الفاسد كالصحيح في
المهر والعدة والنسب، فعلى هذا حكمه حكم الصحيح وقد بيناه
(والثاني) وهو الصحيح أنه لا يتضمن الفاسد لان الاذن يقتضى عقدا
يملك به، فعلى هذا حكمه حكم ما لو تزوج بغير إذنه وقد بيناه
(الشرح) إذا أعسر الرجل بالصداق فهل يثبت لها الخيار في فسخ النكاح؟
فيه ثلاثة طرق حكاها ابن الصباغ، من أصحابنا من قال: إن كان بعد الدخول لم
يثبت لها الخيار قولا واحدا، وإن كان قبل الدخول ففيه قولان، أحدهما يثبت
378

لها الخيار لأنه تعذر عليها تسليم العوض والمعوض باق بحاله فكان لها الرجوع
إلى المعوض كما لو أفلس المشترى بالثمن والمبيع باق بحاله. والثاني: لا يثبت لها
الخيار، لان تأخير المهر ليس فيه ضرر متحقق فهو بمنزلة نفقة الخادم إذا أعسر
بها الزوج. ومنهم من قال: إن كان قبل الدخول ثبت لها الخيار قولا واحدا.
وإن كان بعد الدخول ففيه قولان (أحدهما) لا يثبت لها الخيار قولا واحدا.
وإن كان بعد الدخول ففيه قولان (أحدهما) لا يثبت لها الخيار لان المعقود
عليه قد تلف فهو كما لو أتلف المبيع في يد المشترى ثم أفلس (والثاني) لا يثبت
لها الخيار وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق، لأن المرأة يجب عليها التمكين من الوطئ
وجميعه في مقابلة الصداق، وإنما سلمت بعضه فكان لها الفسخ في الباقي فهو كما لو
وجد البائع بعض المبيع في يد المفلس. ومنهم من قال: إن كان قبل الدخول ثبت
لها الخيار قولا واحدا، وإن كان بعده لم يثبت لها الخيار قولا واحدا. لان قبل
الدخول لم يتلف البضع، وبعد الدخول قد تلف البضع، لان المسمى يستقر
بالوطئ الأول كما يستقر الثمن بتسليم جميع المبيع، وباقي الوطئات تبع للأولة،
فإذا تزوجت امرأة رجلا مع العلم بإعساره بالمهر، وقلنا لها الخيار إذا لم تعلم به
فهل يثبت لها الخيار ههنا؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ.
(أحدهما) لا يثبت لها الخيار لأنها رضيت بتأخيره بخلاف النفقة فان النفقة
لا تجب العقد ولأنه قد يتمكن المعسر من النفقة بالكسب والاجتهاد بخلاف الصداق
(والثاني) يثبت لها الخيار لأنه يجوز أن يقدر عليه بعد العقد، فلا يكون
باعساره رضا بتأخير الصداق كالنفقة، وإذا أعسر بالصداق فرضيت بالمقام معه
لم يكن لها الخيار بعد ذلك، لان حق الصداق لم يتجدد بخلاف النفقة. هذا ترتيب
البغداديين. وقال المسعودي إذا رضيت باعساره بالمهر ثم رجعت، فإن كان قبل
الدخول، كان لها الامتناع، وإن كان بعد الدخول لم يكن لها الامتناع، وان
رضيت بالمقام معه بعدما أعسر بالصداق سقط حقها من الفسخ ولا يلزمها أن
تسلم نفسها بل لها أن تمتنع حتى يسلم صداقها، لان رضاها إنما يؤثر في إسقاط
الفسخ دون الامتناع، ولا يصح الفسخ للاعسار بالصداق إلا بإذن الحاكم لأنه
مجتهد فيه كفسخ النكاح بالعيب.
379

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب اختلاف الزوجين في الصداق
إذا اختلف الزوجان في قدر المهر أو في أجله تحالفا، لأنه عقد معاوضة فجاز
أن يثبت التخالف في قدر عوضه وأجله كالبيع، وإذا تحالفا لم ينفسخ النكاح،
لان التحالف يوجب الجهل بالعوض، والنكاح لا يبطل بجهالة العوض، ويجب
مهر المثل، لان المسمى سقط وتعذر الرجوع إلى المعوض فوجب بدله، كما لو
تحالفا في الثمن بعد هلاك المبيع في يد المشترى.
وقال أبو علي بن خيران: إن زاد مهر المثل على ما تدعيه المرأة لم تجب
الزيادة لأنها لا تدعيها، وقد بينا فساد قوله في البيع، وإن ماتا أو أحدهما قام
الوارث مقام الميت لما ذكرناه في البيع، فإن اختلف الزوج وولى الصغيرة في
قدر المهر ففيه وجهان.
(أحدهما) يحلف الزوج ويوقف يمين المنكوحة إلى أن تبلغ ولا يحلف
الولي، لان الانسان لا يحلف لاثبات الحق لغيره.
(والثاني) أنه يحلف وهو الصحيح لأنه باشر بالعقد فحلف كالوكيل
في البيع، فإن بلغت المنكوحة قبل التحالف لم يحلف الولي، لأنه لا يقبل
إقراره عليها فلم يحلف، وهذا فيه نظر، لان الوكيل يحلف وإن لم يقبل إقراره
وإن ادعت المرأة أنها تزوجت به يوم السبت بعشرين ويوم الأحد بثلاثين،
وأنكر الزوج أحد العقدين، وأقامت المرأة البينة على العقدين وادعت المهرين
قضى لها، لأنه يجوز أن يكون تزوجها يوم السبت ثم خالعها، ثم تزوجها يوم الأحد
، فلزمه المهران.
(الشرح) إذا اختلف الزوجان في قدر المهر بأن قال تزوجتك بمائة فقالت
بل بمائتين أو في جنسه بأن قال تزوجتك على دراهم فقالت بل على دنانير، أو في
عينه بأن قال: تزوجتك بهذه السيارة فقالت بل بهذه العمارة، أو في أجله بأن قال
تزوجتك بمهر مؤجل فقالت بل بمهر حال ولا بينة لأحدهما تحالفا، وسواء كان
اختلافهما قبل الدخول أو بعده، وبه قال الثوري
380

وقال مالك: إن كان الاختلاف قبل الدخول تحالفا وفسخ النكاح، وإن كان
بعد الدخول فالقول قول الزوج. وقال النخعي وابن شبرمة وابن أبي ليلى
وأبو يوسف: القول قول الزوج بكل حال، إلا أن أبا يوسف قال الا أن يدعى
الزوح مهرا مستنكرا لا يزوح بمثله في العادة، فلا يقبل. وقال أبو حنيفة ومحمد
ان اختلفا بعد الطلاق فالقول قول الزوج، وإن كان اختلافهما قبل الطلاق
فالقول قول الزوجة الا أن تدعى أكثر من مهر مثلها. فيكون القول قولها في
قدر مهر مثلها، وفى الزيادة القول قول الزوج مع يمينه.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: البينة على من ادعى واليمين على من أنكر وكل
واحد من الزوجين مدعى عليه فكان عليه اليمين كالذي أجمع عليه كل مخالف فيها
إذا ثبت هذا فالكلام في البادئ منهما وفى صورة التحالف بالبيع، وإذا تحالفا
لم ينفسخ النكاح. وقال مالك: ينفسخ.
دليلنا: أن أكثر ما فيه أن المهر يصير مجهولا، والجهل بالمهر لا يفسد
النكاح عندنا، وقد مضى الدليل عليه، ويسقط المسمى لان كل واحد منهما قد
حقق بيمينه ما حلف عليه، وليس أحدهما بأولى من الآخر فسقطا وهل يسقط
ظاهرا وباطنا؟ أو يسقط في الظاهر دون الباطن، على الأوجه الثلاثة في البيع
وهل ينفسخ بنفس التحالف أو بالفسخ، على ما مضى في البيع، وترجع المرأة
إلى مهر مثلها سواء كان ذلك أكثر مما تدعيه أو أقل.
وقال أبو علي بن خيران: إن كان مهر المثل أكثر مما تدعيه لم تستحق الزيادة
وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يقال: إذا قلنا. ينفسخ في الظاهر دون الباطن
لا تستحق الا أقل الأمرين من مهر المثل أو ما تدعيه، والمشهور هو الأول،
ولان بالتحالف سقط اعتبار المسمى فصار الاعتبار بمهر المثل، ويبطل ما قالاه
بما لو كان مهر المثل أقل مما اعترف الزوح أنه تزوجها به، فإنها لا تستحق أكثر
من مهر مثلها، ولا يلزم الزوج ما اعترف به من الزيادة.
(مسألة) قال الشافعي رضي الله عنه: وهكذا الزوجة وأبو الصبية، وجملة
ذلك أن الأب والجد إذا زوج الصغيرة أو المجنونة، واختلف الأب والجد في قدر
381

المهر والزوج، فهل يتحالفان؟ اختلف أصحابنا فمنهم من قال: يحلف الزوج
وتوقف يمين الزوجة إلى أن تبلغ أو تفيق، ولا يحلف الولي لان النيات
لا تدخل في اليمين، وحمل النص على أنه أراد به العطف على قوله، وبدأت بيمين
الزوج مع الكبيرة ثم مع أبي الصغيرة، وذهب أبو العباس وأبو إسحاق وأكثر
أصحابنا إلى أن الأب والجد يحلفان مع الزوج على ظاهر قول الشافعي رحمه الله
وهو الصحيح، لأنه عاقد فحلف كما لو وكل رجل ببيع سلعة فاختلف هو والمشترى
فإنه يحلف، إذا ثبت هذا فإن التحالف بينهما إنما يتصور بشرطين.
(أحدهما) إذا ادعى الأب والجد أنه زوجها بأكثر من مهر المثل، وادعى
الزوج أنه إنما تزوجها بمهر المثل، فأما إذا اختلفا في مهر المثل أو أقل منه
فلا تحالف بينهما لأنها إذا زوجها بأقل من مهر المثل ثبت لها مهر المثل.
(والثاني) إذا كانت المنكوحة عند الاختلاف صغيرة أو مجنونة، فأما إذا
بلغت أو أفاقت قبل التحالف فان عامة أصحابنا قالوا: لا يحلف الولي لأنه لو أقر
عنها بما يدعى الزوج لم يقبل في هذه الحالة بخلاف ما قبل البلوغ والإفاقة، فإنه
لو أقر بما يدعى الزوج من مهر المثل قبل اقراره، وقال القاضي أبو الطيب
والشيخ أبو إسحاق: يقبل حلف الولي، لان الوكيل يحلف وان لم يقبل اقراره
فكذلك الولي ههنا.
(فرع) إذا ادعت المرأة أنه عقد عليها النكاح يوم الخميس بعشرين ثم عقد
عليها يوم الجمعة بثلاثين وأقامت على ذلك بينة وطلبت المهرين. قال الشافعي
رضي الله عنه: فهما لها، لأنه يجوز أن يكون تزوجها يوم الخميس بعشرين ثم
خالعها بعد الدخول ثم تزوجها وطلقها قبل الدخول ثم تزوجها فيلزمه المهران،
فان قال الزوج: إنما عقدت يوم الجمعة تكرارا وتأكيدا فالقول قولها مع يمينها
لأن الظاهر لزومها.
قال المزني: للزوج أن يقول: كان الفراق قبل النكاح الثاني قبل الدخول،
فلا يلزمه الا نصف الأول وجميع الثاني، لان القول قوله أنه لم يدخل في الأول
قال أصحابنا: إنما قصد الشافعي رحمه الله أن المهرين واجبان، فان ادعى سقوط
نصف الأول بالطلاق قبل الدخول كان القول قوله، لان الأصل عدم الدخول
382

قال أصحابنا: وهكذا لو أقام بينة أنه باع من رجل هذا الثوب يوم الخميس
بعشرة وأنه باعه يوم الجمعة بعشرين لزمه الثمنان لجواز أن يرحع إليه بعد البيع
الأول أو هبته.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان اختلفا في قبض المهر فادعاه الزوج وأنكرت المرأة فالقول
قولها، لان الأصل عدم القبض وبقاء المهر، وإن كان الصداق تعليم سورة
فادعى الزوج أنه علمها، وأنكرت المرأة فإن كانت لا تحفظ السورة فالقول
قولها لان الأصل عدم التعليم، وإن كانت تحفظها ففيه وجهان.
(أحدهما) أن القول قولها، لان الأصل أنه لم يعلمها.
(والثاني) أن القول قوله، لأن الظاهر أنه يعلمها لم غيره وان دفع إليها شيئا
وادعى أنه دفعه عن الصداق وادعت المرأة أنه هدية، فان اتفقا على أنه لم يتلفظ
بشئ، فالقول قوله من غير يمين لان الهدية لا تصح بغير قول، وان اختلفا في
اللفظ فادعى الزوج أنه قال هذا عن صداقك، وادعت المرأة أنه قال: هو هدية
فالقول قول الزوج، لان الملك له، فإذا اختلفا في انتقاله كان القول في الانتقال
قوله كما لو دفع إلى رجل ثوبا فادعى أنه باعه، وادعى القابض أنه وهبه له.
(فصل) وان اختلفا في الوطئ فادعته المرأة وأنكر الزوج فالقول قوله،
لان الأصل عدم الوطئ فان أتت بولد يلحقه نسبه ففي المهر قولان (أحدهما)
يجب لان الحاق النسب يقتضى وجود الوطئ (والثاني) لا يجب لان الولد يلحق
بالامكان والمهر لا يجب إلا بالوطئ والأصل عدم الوطئ.
(فصل) وإن أسلم الزوجان قبل الدخول فادعت المرأة أنه سبقها بالاسلام
فعليه نصف المهر وادعى الزوج أنها سبقته فلا مهر لها فالقول قول المرأة لان
الأصل بقاء المهر، وإن اتفقا على أنه أحدهما سبق ولا يعلم عين السابق منهما،
فإن كان المهر في يد الزوج لم يجز للمرأة أن تأخذ منه شيئا لأنها تشك في الاستحقاق
وإن كان في يد الزوجة رجع الزوج بنصفه لأنه يتيقن استحقاقه ولا يأخذ من
النصف الآخر شيئا، لأنه شك في استحقاقه.
383

(الشرح) إذا ادعى الزوج أنه دفع الصداق إلى زوجته وأنكرت ولا بينة
له فالقول قول الزوجة مع يمينها، وبه قال الشعبي وسعيد بن جبير وأهل الكوفة
وابن شبرمة وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه، وقال مالك والأوزاعي: إن كان
الاختلاف قبل الدخول فالقول قول الزوجة، وإن كان بعد الدخول فالقول
قول الزوج، وقال الفقهاء السبعة من أهل المدينة إن كان الاختلاف قبل الزفاف
فالقول قولها، وإن كان بعد الزفاف فالقول قوله، دليلنا قوله صلى الله عليه
وسلم البينة على المدعى واليمين على المدعى عليه، والمرأة مدعى عليها في جميع
الحالات فكان القول قولها.
(فرع) وان أصدقها تعليم سورة وادعى أنه قد علمها إياها وأنكرت، فإن
كانت لا تحفظها فالقول قولها مع يمينها، لان الأصل عدم التعليم، وإن كانت
تحفظها ففيه وجهان، أحدهما: القول قولها لما ذكرناه، والثاني: القول قوله،
لأن الظاهر أنه قد علمها.
(فرع) وان أصدقها ألف درهم فدفع إليها ألف درهم فقال دفعتها عن الصداق
وقالت. بل دفعتها هدية أو هبة، فإن اتفقا أنه لم يتلفظ بشئ فالقول قوله من
غير يمين، لان الهدية والهبة لا تصح بغير قول، وان اختلفا في قوله فقال
قلت هذا عن الصداق، وقالت بل قلت، هذا هدية فالقول قوله لأنه أعلم بقوله
قال الشافعي ولو تصادقا أن الصداق ألف فدفع إليها ألفين فقال، ألف صداق،
وألف وديعة، وقالت ألف صداق وألف هدية فالقول قوله مع يمينه، وله
عندها ألف وديعة، وإذا أقرت أن قبضت منه شيئا فقد أقرت بمال له وادعت
ملكه فالقول قوله في ماله.
(مسألة) وان ادعت المرأة أنه خلا بها وأصابها أو أصابها من غير خلوة
فأنكر الزوج فالقول قوله مع يمينه لان الأصل عدم الخلوة والإصابة وان صادقها
على الخلوة والتمكن فيها من الإصابة وأنكر الإصابة فان قلنا إنها ليست كالإصابة،
فهل القول قوله أو قولها؟ فيه قولان، قال في القديم القول قولها لأن الظاهر
معها، وقال في الجديد القول قوله وهو الأصح، لان الأصل عدم الإصابة
وما بقي من الفصول فهي ماضية على وجهها.
384

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان أصدقها عينا ثم طلقها قبل الدخول، وقد حدث بالصداق
عيب فقال الزوج: حدث بعد ما عاد إلى فعليك أرشه، وقالت المرأة: بل حدث
قبل عوده إليك فلا يلزمني أرشه فالقول قول المرأة، لان الزوج يدعى وقوع
الطلاق قبل النقص والأصل عدم الطلاق والمرأة تدعى حدوث النقص قبل
الطلاق والأصل عدم النقص فتقابل الأمران فسقطا والأصل براءة ذمتها.
(فصل) وإذا وطئ امرأة بشبهة أو في نكاح فاسد لزمه المهر لحديث
عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أيما امرأة نكحت بغير
اذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، فنكاحها باطل) فان مسها فلها المهر
بما استحل من فرجها، فان أكرهما على الزنا وجب عليه المهر لأنه وطئ سقط
فيه الحد عن الموطوءة بشبهة، والواطئ من أهل الضمان في حقها، فوجب
عليه المهر كما لو وطئها في نكاح فاسد فان طاوعته على الزنا نظرت فإن كان
ت حرة لم يجب لها المهر، لما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن) وإن كانت
أمة لم يجب لها المهر على المنصوص للخبر، ومن أصحابنا من قال: يجب لان
المهر حق للسيد فلم يسقط باذنها كأرش الجناية.
(فصل) وان وطئ امرأة وادعت المرأة أنه استكرهها وادعى الواطئ
أنها طاوعته ففيه قولان.
أحدهما: القول قول الواطئ لان الأصل براءة ذمته. والثاني: القول قول
الموطوءة، لان الواطئ متلف ويشبه أن يكون القولان مثبتين على القولين في
اختلاف رب الدابة وراكبها ورب الأرض وزارعها.
(فصل) وان وطئ المرتهن الجارية المرهونة باذن الراهن وهو جاهل
بالتحريم ففيه قولان.
(أحدهما) لا يجب المهر لان البضع للسيد وقد أذن له في اتلافه فسقط بدله
385

كما لو أذن له في قطع عضو منها (والثاني) يجب لأنه وطئ سقط عنه الحد للشبهة
فوجب عليه المهر كما لو وطئ في نكاح فاسد، فإن أتت منه بولد ففيه طريقان
من أصحابنا من قال فيه قولان كالمهر لأنه متولد من مأذون فيه، فإذا كان في
بدل المأذون فيه قولان كذلك وجب أن يكون في بدل ما تولد منه قولان.
وقال أبو إسحاق تجب قيمة الولد يوم سقط قولا واحدا لأنها تجب بالاحبال ولم
يوجد الاذن في الاحبال، والطريق الأول أظهر لأنه وإن لم يأذن في الاحبال
الا أنه اذن في سببه.
(الشرح) حديث عائشة رواه أبو داود والسجستاني وأبو داود الطيالسي
وابن ماجة والدارقطني والترمذي، وكذلك رواه الشافعي ومن طريق سليمان
ابن موسى عن الزهري عن عروة عنها، وقد مضى الكلام على طرقه في ولاية
النكاح. أما حديث أبي مسعود البدري وهو عقبة بن عمرو رضي الله عنه فقد
أخرجه أصحاب الكتب الستة وأحمد والدارقطني، وقد ذكره في البيوع
وغيرها من المجموع.
وأولى بالكلام من هذه الفصول أنه إذا أصدقها عينا وقبضتها ثم طلقها قبل
الدخول ووجد في العين نقص فقد ذكرنا أن هذا النقص لا يلزمها أرشه، وان
حدث بعد الطلاق فعليها أرشه، فاختلف الزوجان في وقت حدوثه، فقال
الزوج حدث في يدك بعد عود النصف إلى إما بالطلاق على المنصوص أو بالطلاق
واختيار التملك على قول أبي إسحاق، وقالت الزوجة بل حدث قبل ذلك فالقول
قول الزوجة مع يمينها، لان الزوج يدعى وقوع الطلاق قبل حدوث القبض
وهي تنكر ذلك، والأصل عدم الطلاق، والزوجة تدعى حدوث النقص قبل
الطلاق والأصل عدم حدوث النقص، فتعارض هذان الأصلان وسقطا، وبقى
أصل براءة ذمتها من الضمان، فكذلك كان القول قولها وبالله التوفيق.
386

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب المتعة
إذا طلقت المرأة لم يخل إما أن يكون قبل الدخول أو بعده فإن كان قبل
الدخول نظرت، فإن لم يفرض لها مهر وجب لها المتعة لقوله تعالى (لا جناح
عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة، ومتعوهن) ولأنه
لحقها بالنكاح ابتذال، وقلت الرغبة فيها بالطلاق، فوجب لها المتعة، وإن فرض
لها المهر لم تجب لها المتعة، لأنه لما أوجب بالآية لمن لم يفرض لها دل على أنه
لا يجب لمن فرض لها، ولأنه حصل لها في مقابلة الابتذال نصف المسمى، فقام
ذلك مقام المتعة.
وإن كان بعد الدخول ففيه قولان، قال في القديم: لا تجب لها المتعة،
لأنها مطلقة من نكاح لم يخل من عوض، فلم تجب لها المتعة كالمسمى لها قبل
الدخول. وقال في الجديد: تجب لقوله تعالى (فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا
جميلا) وكان ذلك في نساء دخل بهن، ولان ما حصل من المهر لها بدل عن
الوطئ، وبقى الابتذال بغير بدل، فوجب لها المتعة كالمفوضة قبل الدخول،
وإن وقعت الفرقة بغير الطلاق نظرت فإن كانت بالموت لم تجب لها المتعة
لان النكاح قد تم بالموت وبلغ منتهاه فلم تجب لها متعة. وإن كانت بسبب من
جهة أجنبي كالرضاع فحكمه حكم الطلاق في الأقسام الثلاثة، لأنها بمنزلة الطلاق
في تنصيف المهر فكانت كالطلاق في المتعة.
وإن كانت بسبب من جهة الزوج كالاسلام والردة واللعان فحكمه حكم الطلاق
في الأقسام الثلاثة، لأنها فرقة حصلت من جهته فأشبهت الطلاق، وإن كانت
بسبب من جهة الزوجة كالاسلام والردة والرضاع والفسخ بالاعسار والعيب
بالزوجين جميعا لم تجب لها المتعة، لان المتعة وجبت لها لما يلحقها من الابتذال
بالعقد وقلة الرغبة فيها بالطلاق، وقد حصل ذلك بسبب من جهتها فلم تجب.
وإن كانت بسبب منهما نظرت فإن كانت بخلع أو جعل الطلاق إليها فطلقت
387

كان حكمها حكم المطلقة في الأقسام الثلاثة، لان المغلب فيها جهة الزوج، لأنه
يمكنه أن يخالعها مع غيرها ويجعل الطلاق إلى غيرها فجعل كالمنفرد به. وإن كانت
الزوجة أمة فاشتراها الزوج فقد قال في موضع لا متعة لها، وقال في
موضع لها المتعة، فمن أصحابنا من قال هي على قولين.
(أحدهما) لا متعة لها لان المغلب جهة السيد، لأنه يمكنه أن يبيعها من غيره
فكان حكمه في سقوط المتعة حكم الزوج في الخلع في وجوب المتعة، ولأنه يملك
بيعها من غير الزوج فصار اختياره للزوج اختيارا للفرقة.
(والثاني) أن لها المتعة لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر في العقد، فسقط
حكمها كما لو وقعت الفرقة من جهة أجنبي.
وقال أبو إسحاق: إن كان مولاها طلب البيع لم تجب لأنه هو الذي اختار
الفرقة. وإن كان الزوج طلب وجبت، لأنه هو الذي اختار الفرقة، وحمل
القولين على هذين الحالين.
(الشرح) المناع في اللغة كل ما ينتفع به كالطعام والثياب وأثاث البيت،
وأصل المتاع ما يتبلغ به من الزاد، وهو اسم من متعته بالتثقبل ادا أعطيته،
والجمع أمتعة، ومتعة الطلاق من ذلك، ومتعت المطلقة بكذا إذا أعطيتها إياه
لأنها تنتفع به وتتمتع به.
قال الشافعي رضي الله عنه: لا متعة للمطلقات الا لواحدة، وهي التي تزوجها
وسمى لها مهرا. أو تزوجها مفوضة وفرض لها المهر ثم طلقها قبل الدخول فلا
متعة لها. وجملة ذلك أن المطلقات ثلاث. مطلقه لها المتعة قولا واحدا.
ومطلقه لا متعة لها قولا واحدا. ومطلقه هل لها متعه. على قولين. فأما التي
لها المتعة قولا واحدا فهي التي تزوجها مفوضة ولم يفرض لها مهرا ثم طلقها قبل
الفرض والمسيس لقوله تعالى (لا جناح عليكم ان طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو
تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن) ولأنه قد لحقها بالعقد والطلاق قبل الدخول
ابتذال فكان لها المتعة بدلا عن الابتذال.
وأما التي لا متعة لها قولا واحدا فهي التي تزوجها وسمى لها مهرا في العقد
388

أو تزوجها مفوضة وفرض لها مهرا ثم طلقها قبل الدخول، لان الله تعالى علق
وجوب المتعة بشرطين. وهو أن يكون الطلاق قبل الفرض والمسيس، وههنا
أحد الشرطين غير موجود، وقد جعلنا لها المتعة لكيلا يعرى العقد من بدل.
وههنا قد جعل لها نصف المهر.
وأما المطلقة التي في المتعة لها قولان، فهي التي تزوجها وسمى لها مهرا في
العقد ودخل بها أو تزوجها مفوضة وفرض لها مهرا ودخل بها أو لم يفرض لها
مهرا أو دخل بها، ففي هذه الثلاث قولان.
قال في القديم: لا متعة لها. وبه قال أبو حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد
لقوله تعالى (لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن
فريضة ومتعوهن) فعلق المتعة بشرطين، وهو أن يكون الطلاق قبل الفرض
وقبل المسيس، ولم يوجد الشرطان ههنا. وقوله تعالى (إذا نكحتم المؤمنات ثم
طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها، فمتعوهن)
فجعل لهن المتعة قبل المسيس وقد وجد المسيس ههنا، ولأنها مطلقة لم يخل نكاحها
عن بدل فلم يكن لها المتعة، كما لو سمى لها مهرا ثم طلقها قبل الدخول.
وقال في الجديد: لها المتعة، وبه قال عمر وعلى والحسن بن علي وابن عمر
ولا مخالف لهم في الصحابة.
قال المحاملي وهو الأصح لقوله تعالى (وللمطلقات متاع بالمعروف) فجعل الله
تعالى المتعة لكل مطلقة، إلا ما خصه الدليل، ولقوله تعالى (يا أيها النبي قل
لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن) وهذا في نساء
النبي صلى الله عليه وسلم اللاتي دخل بهن وقد كان سمى لهن المهر بدليل حديث
عائشة رضي الله عنها: كان صداق النبي صلى الله عليه وسلم اثنى عشر أوقية ونشأ
ولان المتعة إنما جعلت لما لحقها من الابتذال بالعقد والطلاق، والمهر في مقابلة
الوطئ، والابتذال موجود فكان لها المتعة.
إذا ثبت هذا فإن المتعة واجبة عندنا، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه.
389

وقال مالك رضى عنه: هي مستحبة غير واجبه. دليلنا قوله تعالى (ومتعوهن)
وهذا أمر، والامر يقتضى الوجوب. وقوله تعالى (وللمطلقات متاع بالمعروف
حقا على المتقين) و (حقا) يدل على الوجوب.
(مسألة أخرى) كل موضع قلنا تجب المتعة لا فرق بين أن يكون الزوجان
حرين أو مملوكين، أو أحدهما حرا والآخر مملوكا. وخالف الأوزاعي فجعلهما
لحرين دليلنا قوله تعالى (وللمطلقات متاع بالمعروف) الآية. وهذا عام
لا تفرقة فيه.
(فرع) إذا وقعت الفرقة بغير طلاق في الموضع الذي تجب فيه المتعة نظرت
فإن كان بالموت لم تجب المتعة، لان النكاح قد بلغ منتهاه ولم يلحقها بذلك ابتذال
وان وقعت بغير الموت نظرت، فإن كان بسبب من جهة أجنبي فهي كالطلاق
لأنها كالطلاق في تنصيف المهر قبل الدخول فكذلك في المتعة، وإن كان من
جهة الزوج كالاسلام قبل الدخول والردة واللعان فحكمه حكم الطلاق.
قال القاضي أبو الطيب وكذلك إذا أسلم وتحته أكثر من أربع نسوة وأسلمن
معه واختار أربعا منهن وجب للباقي المتعة. وإن كانت الفرقة من جهتها
كالاسلام والردة وإرضاعه أو الفسخ للاعسار بالمهر والنفقة أو فسخ أحدهما
النكاح لعيب فلا متعة لها، لان الفرقة جاءت من جهتها ولهذا إذا وقع ذلك
قبل الدخول سقط جميع المهر. وإن كان بسبب منهما، فإن كان بالخلع، فهو
كالطلاق، هذا نقل البغداديين.
وقال المسعودي (لا متعة لها) وإن كان رده منهما في حالة واحدة ففيه
وجهان مضى بيانهما في الصداق.
(فرع) روى المزني أن الشافعي رحمه الله قال (وأما امرأة العنين فلو شاءت
أقامت معه ولها المتعة عندي) قال المزني هذا غلط عندي، وقياس قوله لا متعه
لان الفرقة من قبلها.
قال أصحابنا (اعتراض المزني صحيح، إلا أنه أخطأ في النقل) وقد ذكرها
الشافعي في الام، وقال ليس لها المتعة، لأنها لو شاءت أقامت معه، وإنما
أسقط المزني (ليس)
390

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والمستحب أن تكون المتعة خادما أو مقنعة أو ثلاثين درهما،
لما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال (يستحب أن يمتعها بخادم)، فإن لم
يفعل فبثياب. وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال (يمتعها بثلاثين درهما)
وروى عنه قال (يمتعها بجارية)
وفى الوجوب وجهان (أحدهما) ما يقع عليه اسم المال (والثاني) وهو
المذهب أنه يقدرها الحاكم لقوله تعالى (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المفتر
قدره) وهل يعتبر بالزوج أو بالزوجة، فيه وجهان (أحدهما) يعتبر بحال الزوج
للآية (والثاني) يعتبر بحالها لأنه بدل عن المهر فاعتبر بها.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه (ولا وقت فيها وأستحسن تقدير ثلاثين
درهما. وجملة ذلك أن الكلام في القدر المستحب في المتعة وفى القدر الواجب.
فأما المستحب فقد قال في القديم (يمتعها بقدر ثلاثين درهما) وقال في المختصر
استحسن قدر ثلاثين درهما، وقال في بعض كتبه أستحسن أن يمتعها خادما، فإن
لم يكن فمقنعة فإن لم يكن فثلاثين درهما. قال بعض أصحابنا أراد المقنعة التي قيمتها
أكثر من ثلاثين درهما وأقل المستحب في المتعة ثلاثون درهما لما روى عن ابن عمر أنه قال
يمتعها بثلاثين درهما، وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال متعة
الطلاق أعلاها الخادم ودون ذلك الورق ودون ذلك الكسوة)
وأما القدر الذي هو واجب ففيه وجهان: من أصحابنا من قال ما يقع عليه الاسم كما
يجرى ذلك في الصداق، والثاني وهو المذهب أنه لا يجرى ما يقع عليه الاسم بل
ذلك إلى الحاكم وتقديره باجتهاده لقوله تعالى (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى
المقتر قدره) فلو كان الواجب ما يقع عليه الاسم لما خالف بينهما ويخالف الصداق
فان ذلك يثبت بتراضيهما، وهل الاعتبار بحال الزوج أو حال الزوجة؟ فيه
وجهان (أحدهما) الاعتبار بحال الزوجة، لان المتعة بدل عن المهر بدليل أنه لو
كان هناك مهر لم تجب لها متعة والمهر معتبر بحالها فكذلك المتعة (والثاني) الاعتبار
بحال الزوج لقوله تعالى (ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره) فاعتبر
فيه حاله دون حالها. هذا مذهبنا والله أعلم بالصواب.
391

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب الوليمة والنثر
الطعام الذي يدعى إليه الناس ستة: الوليمة للعرس، والخرس للولادة،
والاعذار للختان، والوكيرة للبناء، والنقيعة لقدوم المسافر، والمأدبة لغير سبب
ويستحب ما سوى الوليمة لما فيها من إظهار نعم الله والشكر عليها، واكتساب
الاجر والمحبة، ولا تجب، لان الايجاب بالشرع ولم يرد الشرع بإيجابه. وأما
وليمة العرس فقد اختلف أصحابنا فيها فمنهم من قال: هي واجبة وهو المنصوص
لما روى أنس رضي الله عنه قال (تزوج عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه
فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولم ولو بشاة) ومنهم من قال: هي مستحبة لأنه
طعام لحادث سرور، فلم تجب كسائر الولائم، ويكره النثر لان التقاطه دناءة
وسخف، ولأنه يأخذه قوم دون قوم ويأخذه من غيره أحب.
(الشرح) حديث أنس رضي الله عنه رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب
السنن الأربعة والدارقطني ونصه (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف
أثر صفرة فقال ما هذا؟ قال: تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب قال:
بارك الله لك أولم ولو بشاة) ولم يقل أبو داود (بارك الله لك) وقد روى أحمد
والشيخان من حديث أنس قال (ما أولم النبي صلى الله عليه وسلم على شئ من
نسائه ما أولم على زينب. أولم بشاة)
وعن أنس (أن النبي صلى الله عليه وسلم أولم على صفية بتمر وسويق) أخرجه
أصحاب السنن إلا النسائي، وأخرجه ابن حبان، وأخرج البخاري مرسلا عن
صفية بنت شيبة (أولم النبي صلى الله عليه وسلم على بعض نسائه بمدين من شعير)
وعن أنس في قصة صفية أن النبي صلى الله عليه وسلم (جعل وليمتها التمر
والأقط والسمن) أخرجه الشيخان، وفى رواية عندهما ومسند أحمد (أقام بين
خيبر والمدينة ثلاث ليال يبنى بصفيه فيدعون المسلمين إلى وليمته ما كان فيها خبز
392

ولا لحم وما كان فيها إلا أن أمر بالأنطاع فبسطت فألقى عليها التمر والأقط
والسمن، فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين أو ما ملكت يمينه؟ فقالوا:
إن حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين وإن لم يحجبها فهي مما ملكت يمينه، فلما
ارتحل وطأ لها خلفه ومد الحجاب.
أما اللغات: فإن الوليمة مشتقة من الولم وهو الجمع، لان الزوجين يجتمعان
هكذا قال الأزهري، وقال ابن الاعرابي: أصلها تمام الشئ واجتماعه وتقع على
كل طعام يتخذ لسرور وتستعمل في وليمة الأعراس بلا تقييد وفى غيرها مع التقييد
فيقال مثلا وليمة مأدبة هكذا قال بعض الفقهاء وحكاه في الفتح عن الشافعي وأصحابه
وحكى المصنف وابن عبد البر عن أهل اللغة وهو المنقول عن الخليل وثعلب،
وبه جزم الجوهري وابن الأثير أن الوليمة هي الطعام في العرس خاصة، قال ابن
رسلان: وقول أهل اللغة أقوى، لأنهم أهل اللسان، وهم أعرف بموضوعات
اللغة وأعرف بلسان العرب والخرس وزان قفل طعام يصنع للولادة، والعذر
والاعذار لغة فيه يقال عذرت الغلام والجارية من باب ضرب أي ختنته وقد
يكون الاعذار خاص بالطعام في الختان وعذرة الجارية بكارتها، والوكيرة مأخوذة
من وكر الطائر وهو عشه ووكر الطائر يكر من باب وعد اتخذ وكرا، ووكر
صنع الوكيرة والنقيعة طعام يتخذ للقادم من السفر، وقد أطلقت النقيعة على
ما يصنع عند الاملاك وهو التزويج. وقال ابن بطال: النقيعة مأخوذة من النقع
وهو النحر يقال نقع الجزور إذا نحرها، ونقع حبيبه شقه قال المرار:
نقعن جيوبهن على حيا * وأعددن المراثي والعويلا
وفى خبر تزويج خديجة بالنبي صلى الله عليه وسلم قال أبو خديجة وقد ذبحوا بقرة عند
ذلك، ما هذه النقيعة، وقد جمع الشاعر هذه الأطعمة المذكورة حيث قال.
كل الطعام تشتهى ربيعه * الخرس والاعذار والنقيعة
وقال آخر:
إنا لنضرب بالسيوف رؤوسهم * ضرب القدار نقيعة القدام
والقدار الجزار والطعام الذي يتخذ يوم سابع الولادة يسمى العقيقة،
393

ويسمى الطعام الذي يتخذ لسبب ومن غير سبب مأدبة بضم الدال، وبفتحها
التأديب، وفى الأثر الجوع مأدبة الله في أرضة، إذا ثبت هذا فقد أخذ بالوجوب
المالكية نقله القرطبي عن مذهبه ثم قال، ومشهور المذهب أنها مندوبه، وروى
ابن التين الوجوب عن مذهب أحمد لكن الذي في المغنى أنها سنه، وكذلك حكى
الوجوب الروياني في البحر عن أحد قولي الشافعي وحكاه ابن حزم
عن أهل الظاهر، وقال سليم الرازي إنه نص الام.
وحكى المصنف الوجوب عن نص الام، وحكاه في فتح الباري عن بعض
الشافعية، وبهذا يظهر ثبوت الخلاف في الوجوب، وقد قال ابن بطال لا أعلم
أحدا أو جبها وليس هذا صحيحا، وكذا قال ابن قدامه، ومن جملة أدلة من
أوجبها ما أخرجه الطبراني من حديث وحشي بن حرب مرفوعا (الوليمة حق
وسنه فمن دعى إليها فلم يجب فقد عصى) وأخرج أحمد من حديث بريدة قال (لما
خطب على فاطمة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه لا بد للعروس من وليمة)
قال الحافظ وسنده لا بأس به، وفى صحيح مسلم (شر الطعام طعام الوليمة ثم
قال وهو حق) قال في الفتح، وقد اختلف السلف في وقتها هل هو عند العقد
أو عقبه، أو عند الدخول أو عقبه، وسيأتي بيان ذلك.
وحكى الشيخ أبو حامد في التعليق في الوليمة قولين وأكثر أصحابنا حكاهما
وجهين، أحدهما واجبه لحديث (أولم ولو بشاة) وروى أن النبي صلى الله عليه
وسلم أولم على صفيه بسويق وتمر. ولأنه لما كانت الإجابة إليه واجبه كان فعلها
واجبا. والثاني أنها تستحب ولا تجب لقوله صلى الله عليه وسلم (ليس في المال
حق سوى الزكاة) ولأنه طعام عند حادث سرور فلم يكن واجبا كسائر الأطعمة
وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم فمحمول على الاستحباب، وأما ما ذكره من
الإجابة فيبطل بالسلام فإنه لا يجب، وإجابته واجبه، وقد حكى الصيمري وجها
ثالثا أن الوليمة فرض على الكفاية، فإذا فعلها واحد أو اثنان في الناحية والقبيلة
وشاع في الناس وظهر سقط الفرض عن الباقين، وظاهر النص هو الأول، وأقل
المستحب في الوليمة للمتمكن شاة لحديث (أولم ولو بشاة) فان نقص عن ذلك جاز
لوليمة صفيه والسويق والتمر أقل من شاه في العادة.
394

وأما كراهة النثر فقد عقد في منتقى الاخبار له بابا دعاه (باب حجة من كره
النثار والانتهاب منه) وساق حديث زيد بن خالد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم
ينهى عن النهبة والخلسة، رواه أحمد وأحاديث في معناه عن عبد الله بن يزيد
الأنصاري وأنس بن مالك وعمران بن الحصين وحاصل ذلك أن النهى عن النهبي
يقتضى النهى عن انتهاب النثار، وقد أورد الجويني والغزالي والقاضي حسين
حديثا عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم حضر في إملاك فأتى بأطباق فيها
جوز ولوز فنثرت فقبضنا أيدينا فقال: ما لكم لا تأخذون، فقالوا: إنك نهيت
عن النهبي فقال: إنما نهيتكم عن نهبي العساكر خذوا على اسم الله فتجاذبناه) ولو
صح هذا الحديث لكان مخصصا لعموم النهى ولكنه لم يصح عند المحدثين حتى
قال الحافظ ابن حجر: إنه لا يوجد ضعيفا فضلا عن صحيح والجويني وإن كان
من أكابر العلماء فليس هو من علماء الحديث وكذلك الغزالي والقاضي حسين،
وإنما هم من الفقهاء الذين لا يميزون بين الموضوع وغيره كما يعرف ذلك من له
أنسة بعلم السنة واطلاع على مؤلفات هؤلاء.
قلت: قد روى هذا الحديث البيهقي من معاذ بإسناد ضعيف منقطع، ورواه
الطبراني من حديث عائشة عن معاذ وفيه بشر بن إبراهيم المفلوح، قال ابن عدي
هو عندي ممن يضع الحديث وساقه العقيلي من طريقه ثم قال: لا يثبت في الباب
شئ وأورده ابن الجوزي في الموضوعات، ورواه أيضا من حديث أنس وفى
إسناده خالد بن إسماعيل.
قال ابن عدي: يضع الحديث، وقال غيره: كذاب، وقد روى ابن أبي شيبه
في مصنفه عن الحسن والشعبي أنهما لا يريان به بأسا، وأخرج كراهيته عن ابن
مسعود وإبراهيم النخعي وعكرمة، قال في البحر: والنثار بضم النون وكسرها
ما ينثر في النكاح أو غيره وهو مباح، إذ ما نثره إلا إباحة له، وإنما يكره لمنافاته
المروءة والوقار.
وقد قال الشافعي في نثر السكر واللوز والجوز لو ترك كان أحب إلى لأنه
يؤخذ بحبسه ونهبه، ولا يتبين لي أنه حرام. وجملة ذلك أن نثر السكر واللوز
395

والجوز والزبيب والدراهم والدنانير وغير ذلك يكره، وروى أن أبا مسعود
الأنصاري رضي الله عنه كان إذا نثر للصبيان يمنع صبيانه عن التقاطه، وبه قال
عطاء وعكرمة وابن سيرين وابن أبي ليلى.
وقال أبو حنيفة والحسن البصري وأبو عبيد وابن المنذر، لا يكره، وقال
القاضي أبو القاسم الصيمري: يكره التقاطه، وأما النثر نفسه فمستحب، وقد
جرت العادة للسلف به، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما زوج عليا رضي الله عنه
فاطمة عليها السلام نثر عليهما، والأول هو المشهور، والدليل عليه أن
النثار يؤخذ نهبة ويزاحم عليه، وربما أخذه من يكرهه صاحبه، وفى ذلك دناءة
وسقوط مروءة، وما ذكره الصيمري غير صحيح لأنه لا فائدة في نثاره إذا كان
يكره التقاطه، فإن خالف ونثر فالتقط رجل فهل للذي نثره أن يسترجعه، فيه
وجهان حكاهما الداركي.
(أحدهما) أن يسترجعه لأنه لم يوجد منه لفظ يملك به.
(والثاني) ليس له أن يسترجعه وهو اختيار المسعودي لأنه نثر للتملك
بحكم العادة. قال المسعودي لو وقع في حجر رجل كان أحق به، فلو التقطه آخر
من حجره أو قام فسقط من حجره فهل يملكه الملتقط، الصحيح أنه لا يملكه،
قال الشيخ أبو حامد، وحكى أن أعرابيا تزوج فنثر على رأسه زبيبا فأنشأ يقول:
ولما رأيت السكر العام قد غلا * وأيقنت أنى لا محالة ناكح
نثرت على رأسي الزبيب لصحبتي * وقلت: كلوا كل الحلاوة صالح
قال أبو العباس بن سريج: ولا يكره للمسافرين أن يخلطوا زادهم فيأكلوا،
وإن أكل بعضهم أكثر من بعض بخلاف النثار يؤخذ بقتال وازدحام بخلاف
الزاد، قال القاضي أبو الطيب الكتب التي يكتبها الناس بعضهم إلى بعض، قال
أصحابنا لا يملكها المحمولة إليهم ولكن لهم الانتفاع بها بحكم العادة، لان العادة
جرت بإباحة ذلك والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ومن دعى إلى وليمة وجب عليه الإجابة لما روى ابن عمر (رض)
396

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا دعى أحدكم إلى وليمة فليأتها) ومن أصحابنا
من قال هي فرض على الكفاية، لان القصد إظهارها، وذلك يحصل بحضور
البعض، وإن دعى مسلم إلى وليمة ذمي ففيه وجهان (أحدهما) تجب الإجابة
للخبر (والثاني) لا تجب، لان الإجابة للتواصل، واختلاف الدين يمنع التواصل
وإن كانت الوليمة ثلاثة أيام أجاب في اليوم الأول والثاني وتكره الإجابة في اليوم
الثالث، لما روى أن سعيد بن المسيب رحمه الله دعى مرتين فأجاب ثم دعى الثالثة
فحصب الرسول.
وعن الحسن رحمه الله أنه قال (الدعوة أول يوم حسن، والثاني حسن،
والثالث رياء وسمعة) وإن دعاه اثنان ولم يمكنه الجمع بينهما أجاب أسبقهما لحق
السبق، فإن استويا في السبق أجاب أقربهما رحما، فإن استويا في الرحم أجاب
أقربهما دارا لأنه من أبواب البر فكان التقديم فيه على ما ذكرناه كصدقة التطوع
فان استويا في ذلك أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر فقدم بالقرعة.
(الشرح) حديث ابن عمر أخرجه أحمد والبخاري ومسلم ولفظه (أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها، وكان ابن عمر يأتي
الدعوة في العرس وغير العرس ويأتيها وهو صائم) وفى رواية (إذا دعى أحدكم
إلى الوليمة فليأتها) ورواه أبو داود وزاد (فإن كان مفطرا فليطعم، وإن كان
صائما فليدع) وفى رواية (من دعى فلم يجب فقد عصى الله ورسوله، ومن دخل
على غير دعوة دخل سارقا وخرج مغيرا) رواه أبو داود. وفى رواية عند أحمد
ومسلم وأبى داود (إذا دعا أحدكم أخاه فليجب) وفى لفظ (من دعى إلى عرس
أو نحوه فليجب) وفى لفظ (إذا دعى أحدكم إلى وليمة عرس فليجب) رواهما
مسلم وأبو داود.
وعن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا دعى أحدكم
فليجب، فإن كان صائما فليصل وإن كان مفطرا فليطعم) رواه أحمد ومسلم
وأبو داود، وفى لفظ (إذا دعى أحدكم إلى الطعام وهو صائم فليقل إني صائم)
رواه أحمد ومسلم وأصحاب السنن الا النسائي. وقد أخرج مسلم من حديث
397

أبي هريرة رضي الله عنه قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (شر الطعام
طعام الوليمة يمنعها من يأتيها ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد
عصى الله ورسوله)
أما الأحكام فهل تجب الإجابة على من دعى إلى وليمة عرس؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يجب عليه الإجابة وبه قال مالك وأحمد، لان الشافعي قال (ولو
أن رجلا أتى رجلا وقال: إن فلانا اتخذ دعوة وأمرني أن أدعو من شئت،
وقد شئت أن أدعوك لا يلزمه أن يجيب (والثاني) وهو المذهب أنه يلزمه أن
يجيب لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من دعى إلى وليمة ولم يجب فقد عصى أبا القاسم)
قال العمراني وما احتج القائل به من كلام الشافعي رحمه الله فلا حجة فيه، لان
صاحب الطعام لم يدعه. إذا ثبت أن الإجابة واجبة فهل تجب على كل من دعى
أو هي فرض على الكفاية؟ فيه وجهان (أحدهما) أنها فرض على الكفاية، فإذا
أجابه بعض الناس سقط الفرض عن الباقين، لان القصد أن يعلم ذلك ويظهر
وذلك يحصل بإجابة البعض (والثاني) يجب على كل من دعى لعموم قوله صلى الله
عليه وسلم (من دعى فلم يجب فقد عصى أبا القاسم. وكذلك عموم سائر الأخبار
وأما إذا ادعى إلى وليمة غير العرص فذكر ابن الصباغ أن الإجابة لا تجب عليه
قولا واحدا، لان وليمة العرس أكد. ولهذا اختلف في وجوبها فوجبت
الإجابة إليها وغيرها لا تجب بالاجماع فلم تجب الإجابة إليها.
وذكر الشيخ أبو حامد في التعليق والمحاملي أنها كوليمة العرس في الإجابة
إليها وهو الأظهر لحديث (من دعى فلم يجب فقد عصى أبا القاسم) وهذا نقل
أصحابنا البغداديين. وقال المسعودي إذا دعى لقوى لم تجب الإجابة، وان دعى
إلى حفل بأن فتح الباب لكل من يدخل فلا يلزمه، وان خصه بالدعوة مع أهل
حرفته فيلزمه، ولو لم يجب فهل يعصى؟ فيه وجهان.
(فرع) إذا دعى إلى وليمة كتابي وقلنا تجب عليه الإجابة إلى وليمة
المسلم فهل تجب عليه الإجابة إلى وليمة الكتابي فيه وجهان (أحدهما) تجب
عليه الإجابة لعموم الاخبار (والثاني) لا تجب عليه الإجابة لان النفس تعاف
398

من أكل طعامهم، ولأنهم يستحلون الربا، ولان الإجابة إنما جعلت لتتأكد
الاخوة والموالاة، وهذا لا يوجد في أهل الذمة
(فرع) إذا جاءه الداعي فقال: أمرني فلان أن أدعوك فأجب لزمه الإجابة
وإن قال أمرني فلان أن أدعو من شئت أو من لقيت فاحضر لم تلزمه الإجابة.
قال الشافعي رحمه الله: بل أستحب له أن يحضر إلا من عذر، والاعذار التي
يسقط معها فرض الإجابة أن يكون مريضا أو قيما بمريض أو بميت، وبإطفاء
حريق أو يخاف ضياع ماله أو له في طريقه من يؤذيه، لأن هذه الأسباب أعذار
في حضور الجماعة وفى صلاة الجمعة، ففي هذا أولى.
(فرع) وإن كانت الوليمة ثلاثة أيام فدعى في اليوم الأول وجب عليه
الإجابة، وإن كان دعا في اليوم الثاني لم تجب عليه الإجابة ولكن يستحب له أن
يجيب، وان دعى في اليوم الثالث لم يستحب له أن يجيب بل يكره له لما روى أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: الوليمة في اليوم الأول حق، وفى الثاني معروف، وفى اليوم
الثالث رياء وسمعه، رواه أحمد وأبو داود عن قتادة عن الحسن عن عبد الله بن
عثمان الثقفي عن رجل من ثقيف يقال: إن له معروفا وأثنى عليه، ورواه الترمذي
من حديث ابن مسعود وابن ماجة من حديث أبي هريرة. وروى أن سعيد بن
المسيب دعى مرتين فأجاب ودعى في اليوم الثالث فحصب الرسو ل.
(فرع) إذا دعاه اثنان إلى وليمتين فان سبق أحدهما قدم إجابته، وان
لم يسبق أحدهما أجاب أقربهما إليه دارا لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا اجتمع
داعيان فأجب أقربهما إليك بابا، فان أقربهما بابا أقربهما جوارا، فان سبق أحدهما
فأجب الذي سبق) هكذا ذكر المحاملي وابن الصباغ. وذكر الشيخ أبو إسحاق
أنهما إذا تساويا في السبق أجاب أقربهما رحما، فان استويا في الرحم أجاب أقربهما
دارا، وإذا ثبت الخبر فأقربهما دارا أولى، لأنه لم يفرق بين أن يكون أقربهما
رحما أو أبعد، فإن استويا في ذلك أقرع بينهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان دعى إلى موضع فيه دف أجاب، لان الدف يجوز في الوليمة
399

لما روى محمد حاطب قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (فصل ما بين الحلال والحرام
الدف) فان دعى إلى موضع فيه منكر من زمر أو خمر فان قدر على إزالته
لزمه أن يحضر لوجوب الإجابة ولإزالة المنكر، وان لم يقدر على إزالته لم يحضر
لما روى (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يجلس على مائدة تدار فيها الخمر) وروى
نافع قال (كنت أسير مع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فسمع زمارة راع فوضع
أصبعيه في أذنيه، ثم عدل عن الطريق، فلم يزل يقول يا نافع أتسمع؟ حتى قلت
لا فأخرج أصبعيه عن أذنيه ثم رجع إلى الطريق ثم قال: هكذا رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم صنع)
وان حضر في موضع فيه تماثيل فإن كانت كالشجر جلس، وإن كانت
على صورة حيوان فإن كانت على بساط يداس أو مخدة يتكأ عليها جلس.
وإن كانت على حائط أو ستر معلق لم يجلس، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه
قال. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم فقال أتيتك البارحة فلم يمنعني
أن أكون دخلت الا أنه كان على الباب تماثيل، وكان في البيت قرام ستر فيه
تماثيل، وكان في البيت كلب، فمره برأس التماثيل، التي كانت في باب البيت
يقطع فتصير كهيئة الشجرة، ومرة بالستر فليقطع منه وسادتان منبوذتان
توطآن، ومر بالكلب فليخرج، ففعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك) ولان ما كان
كالشجر فهو كالكتابة والنقوش، وما كان على صورة الحيوان على حائط أو ستر
فهو كالصنم، وما يوطأ فليس كالصنم لأنه غير معظم.
(الشرح) حديث محمد بن حاطب رواه أصحاب السنن الا أبا داود وقد حسنه
الترمذي. قال ومحمد قد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير، وأخرجه الحاكم.
وأما حديث النهى عن الجلوس على مائدة الخمر فقد أخرجه أبو داود من
حديث ابن عمر بلفظ (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجلوس على مائدة يشرب عليها
الخمر وأن يأكل وهو منبطح) وأخرجه النسائي والحاكم وهو من رواية جعفر بن
برقان عن الزهري ولم يسمع منه، ومن ثم فقد أعله أبو داود والنسائي وأبو حاتم
بذلك. ولكن أحمد والترمذي والحاكم رووا عن جابر مرفوعا (من كان يؤمن
400

بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر) وأخرجه أيضا الترمذي
من طريق ليث بن أبي سليم عن طاوس عن جابر. وقال الحافظ بن حجر إسناده
جيد. وأخرج نحوه البزار من حديث أبي سعيد والطبراني من حديث ابن عباس
وعمران بن حصين.
وأخرج أحمد في مسنده عن عمر قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من
كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعد على مائدة يدار عليها الخمر، ومن كان يؤمن
بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بإزار. ومن كانت تؤمن بالله واليوم الآخر
فلا تدخل الحمام) ورواه الترمذي بمعناه عن جابر وقال: حسن غريب. أما
حديث أبي هريرة فقد أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي بلفظ
(أتاني جبريل فقال: إني كنت أتيتك الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت
فيه إلا أنه كان فيه تمثال رجل وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل، وكان في
البيت كلب فمر برأس التمثال الذي في باب البيت يقطع يصير كهيئة الشجرة،
وأمر بالستر يقطع فيجعل وسادتين منتبذتين توطآن، وأمر بالكلب يخرج ففعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا الكلب جرو، وكان للحسن والحسين تحت
نضد لهم) ويوافق هذا الحديث ما أخرجه الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي
عن أبي طلحة الأنصاري قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تدخل
الملائكة بيتا فيه كلب ولا تماثيل) وزاد أبو داود والنسائي عن علي مرفوعا
((ولا جنب).
أما اللغات: فالدف لعله من دف الطائر يدف، وبابه ضرب حرك جناحيه
لطيرانه، أي ضرب دفيه وهما جنباه، فالدف بضم الدال وفتحها الذي يلعب به
والجمع دفوف والدف عند العرب على شكل غربال خلا أنه بغير ثقوب وقطره
إلى أربعة أشبار. والزمارة هي آلة الزمر، وزمر زمرا من باب ضرب وزميرا
أيضا، ويزمر بالضم لغة حكاها أبو زيد، ورجل زمار، قالوا ولا يقال زامر.
وامرأة زامرة ولا يقال زمارة، والزمارة بالكسر هو صوت النعام، وقد زمر
النعام يزمر، والقرام ككتاب، الستر الرقيق، وبعضهم يزيد: وفيه رقم ونقوش
والتمثال تفعال من المماثلة وهي المشابهة كالصور المشبهة بالحيوان وغيرها.
401

أما الأحكام فإنه يجوز ضرب الدف في العرس لحديث: فصل ما بين الحلال
والحرام الدف.
وأقل ما يفيده هذا الحديث هو الندب، ويؤيد ذلك ما في حديث
المازني عمرو بن يحيى عن جده أبى الحسن (أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان يكره نكاح السر حتى يضرب بدف ويقال: أتيناكم أتيناكم فحيانا وحياكم)
رواه ابن ماجة. قال في الفتح: في رواية شريك: فقال: فهل بعثتم جارية تضرب
بالدف وتغني. قلت ماذا، قال تقول:
أتيناكم أتيناكم * فحيانا وحياكم
ولولا الذهب الأحمر ما حلت بواديكم
ولولا الحنطة السمراء ما سمنت عذاريكم
فإذا دعي إلى وليمة فيها دف أجاب، وان دعى إلى وليمة فيها منكر من خمر
أو مزامير فضلا عن الراقصات والمغنيات وما أشبه ذلك، فان علم بذلك قبل
الحضور، فإن كان قادرا على إزالته لزمه أن يحضر لوجوب الإجابة وإزالة
المنكر، وإن كان غير قادر على إزالته لم يلزمه الإجابة ولم يستحب له الحضور.
بل ترك الحضور أولى، فان حضر ولم يشارك في المنكر لم يأثم، وان لم يعلم به حتى
حضر فوجده، فان قدر على إزالته وجب عليه الإزالة، لأنه أمر بمعروف
ونهى عن منكر. وإن لم يقدر على إزالته فالأولى له أن ينصرف لحديث النهى
عن أن يجلس على مائدة تدار عليها الخمر.
فإن لم ينصرف فان قصد إلى سماع المنكر أثم بذلك وان لم يقصد إلى
استماعه بل سمعه من غير قصد لم يأثم بذلك لخبر نافع وابن عمر حتى قال: هكذا
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع:
فموضع الدليل أن ابن عمر لم ينكر على نافع سماعه. ولان رجلا
لو كان له جار في داره منكر ولا يقدر على ازالته فإنه لا يلزمه التحول من
داره لأجل المنكر.
402

فإن دعى إلى موضع فيه تصاوير فإن كان صور ما لا روح فيها كالشمس
والقمر والأشجار جلس سواء كانت معلقة أو مبسوطة، لان ذلك يجرى مجرى
النقوش، وإن كان صور حيوان فإن كان على بساط أو مخاد توطأ أو يتكأ
عليها فلا بأس أن يحضر، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى سترا معلقا
في بيت عائشة أم المؤمنين عليه صور حيوان فقال صلى الله عليه وسلم: اقطعيه
مخادا، ولأنه يبتذل ويهان، وإن كان على ستور معلقة فقد قال عامة أصحابنا:
لا يجوز له الدخول إليها لما روى على قال: أحدثت طعاما فدعوت النبي صلى الله عليه وسلم
فلما أتى الباب رجع ولم يدخل، وقال: لا أدخل بيتا فيه صور، فإن الملائكة
لا تدخل بيتا فيه صور، وقيل إن أصل عبادة الأوثان كانت الصور.
قال في البيان: وذلك أن آدم صلوات الله عليه لما مات جعل في تابوت فكان
بنوه يعظمونه: ثم افترقوا فحصل قوم منهم في ذروة جبل وقوم منهم في أسفله
وحصل التابوت مع أهل الذروة فلم يقدر من في أسفله على الصعود إليهم فاشتد
عليهم ذلك فصوروا مثاله من حجارة وعظموه، فلما طال الزمان ونشأ من بعدهم
رأوا آباءهم يعظمون تلك الصور فظنوا أنهم كانوا يعبدونها من دون الله فعبدوها
وإذا كان هذا هو السبب وجب أن يكون محرما.
وقال ابن الصباغ هذا عندي لا يكون أكثر من المنكر مثل الخمر والملاهي
وقد جوزوا له الدخول إلى الموضع التي هي فيه، سواء قدر على إزالتها أو لم يقدر
وما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يدل على التحريم، بل يدل على
الكراهة، وما روى عن الملائكة يحتمل أن يكون في ذلك الزمان، لان الأصنام
كانت تعظم فيه والتماثيل، وأما الزمان الذي لا يعتقد فيه شئ من ذلك
فلا يجرى مجراه. اه‍
وقال الشافعي رضي الله عنه في الام: فإن كانت المنازل مسترة فلا بأس
أن يدخلها، ليس فيه شئ أكرهه سوى السرف، لما روى عن ابن عباس
رضي الله عنهما أنه قال لا نستر الجدر، ولان في ذلك سرفا فكره لمن فعله دون
من يدخل إليه.
403

قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ومن حضر الطعام فإن كان مفطرا ففيه وجهان (أحدهما)
يلزمه أن يأكل، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليأكل، وإن كان صائما
فليصل) (والثاني) لا يجب لما روى جابر رضي الله عنه قال، قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء
ترك) وان دعى وهو صائم لم تسقط عنه الإجابة للخبر، ولان القصد التكثير
والتبرك بحضوره، وذلك يحصل مع الصوم، فإن كان الصوم فرضا لم يفطر لقول
النبي صلى الله عليه وسلم (وإن كان صائما فليصل) وإن كان تطوعا فالمستحب أن
يفطر، لأنه يدخل السرور على من دعاه، وان لم يفطر جاز لأنه قربة فلم يلزمه
تركها، والمستحب لمن فرغ من الطعام أن يدعو لصاحب الطعام. لما روى
عبد الله بن الزبير رضي الله عنه قال (أفطر رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد
ابن معاذ رضي الله عنه، فقال: أفطر عندكم الصائمون، وصلت عليكم الملائكة
وأكل طعامكم الأبرار).
(الشرح) حديث أبي هريرة رواه أحمد ومسلم وأبو داود بلفظ (إذا دعى
أحدكم فليجب، فإن كان صائما فليصل، وإن كان مفطرا فليطعم) وقد مضى
وحديث جابر أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة وقال فيه (وهو صائم)
أما حديث افطار الرسول الله صلى الله عليه وسلم عند سعد بن معاذ فقد رواه ابن
ماجة عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، وروينا في سنن أبي داود وغيره عن
أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى سعد بن عبادة رضي الله عنه بخبز وزيت
فأكل ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: أفطر عندكم الصائمون، وأكل طعامكم
الأبرار، وصلت عليكم الملائكة.
قال النووي في الأذكار: قلت: فهما قضيتان جرتا لسعد بن عباده وسعد
ابن معاذ، وروينا في سنن أبي داود عن رجل عن جابر قال صنع أبو الهيثم بن
404

التيهان للنبي صلى الله عليه وسلم طعاما فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه،
فلما فرغوا قال أثيبوا أخاكم، قالوا: يا رسول الله وما إثابته قال: إن الرجل
إذا دخل بيته فأكل طعامه وشرب شرابه فدعوا له فذلك إثابته.
أما اللغات فقوله: فليصل. قال ابن بطال: أي فليدع، والصلاة هنا الدعاء
لأرباب الطعام بالمغفرة والبركة، وقوله: وصلت عليه الملائكة أي استغفرت
لكم والصلاة من الله الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ومن الناس الدعاء.
أما الأحكام: فإذا حضر المدعو إلى طعام فلا يخلو إما أن يكون صائما
أو مفطرا فإن كان صائما نظرت، فإن كان الصوم فرضنا فإنه يجب عليه
الإجابة ولا يجب عليه الاكل، لقوله صلى الله عليه وسلم (فليجب فإن كان مفطرا
فليأكل، وإن كان صائما فليدع) أو (فليصل) والصلاة الدعاء وليقل: إني صائم
لما روى أن ابن عمر دعى إلى طعام وهو صائم فلما حضر مد يده فلما مد الناس
أيديهم قال: بسم الله كلوا إني صائم، وإن كان صوم تطوع استحب أن يفطر
لأنه مخير فهي بين الاكل والاتمام، وفى الافطار إدخال المسرة على صاحب الوليمة
فإن لم يفطر جاز لقوله صلى الله عليه وسلم (وإن كان صائما فليدع) ولم يفرق،
وإن كان المدعو مفطرا فهل يلزمه الاكل؟ فيه وجهان.
(أحدهما) يلزمه أن يأكل لما روى أبو هريرة مرفوعا (فإذا دعى أحدكم
إلى طعام فليجب، فإن كان مفطرا فليأكل، وإن كان صائما فليصل)) ولان
الإجابة المقصود منها الاكل فكان واجبا.
(والثاني) لا يجب عليه الاكل لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (إذا دعى أحدكم إلى طعام فليجب، فان شاء فليأكل، وان شاء
ترك) ولأنه لو كان واجبا لوجب عليه ترك التطوع لأنه ليس بواجب، ولان
التكثر والتبرك يحصل بحضوره وقد حضر.
(فرع في آداب الطعام) روى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (بركة الطعام الوضوء قبله والوضوء بعده) يريد بذلك غسل اليد وروت
عائشة أم المؤمنين عليها السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا حضر الاكل
405

إلى أحدكم فليذكر اسم الله، فان نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل: بسم الله
في أوله وآخره، وروى أبو جحيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: إذا أكل أحدكم فلا يأكل من أعلا القصعة، وإنما يأكل من أسفلها، فان
البركة تنزل في أعلاها، وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: لا يأكل أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله، فان الشيطان يفعل ذلك
وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم ما عاب طعاما قط إن اشتهاه أكله وان كرهه
تركه. وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله ليرضى على العبد أن
يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها. ويستحب أن يدعو لصاحب
الطعام لما روى ابن الزبير أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر عند سعد بن معاذ
فقال: أفطر عندكم الصائمون وصلت عليكم الملائكة وأكل طعامكم الأبرار.
والله تعالى الموفق للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال المصنف رحمه الله:
باب عشرة النساء والقسم
إذا تزوج امرأة فإن كانت ممن يجامع مثلها وجب تسليمها بالعقد إذا
طلب، ويجب عليه تسلمها إذا عرضت عليه، فان طالب بها الزوج فسألت
الانظار أنظرت ثلاثة أيام، لأنه قريب ولا تنظر أكثر منه لأنه كثير، وإن كانت
لا يجامع مثلها لصغر أو مرض يرجى زواله لم يجب التسليم إذا طلب الزوج
ولا التسلم إذا عرضت عليه، لأنها لا تصلح للاستمتاع، وإن كانت لا يجامع
مثلها لمعنى لا يرجى زواله بأن كانت نضوة الخلق أو بها مرض لا يرجى زواله،
وجب التسليم إذا طلب، والتسلم إذا عرضت عليه، لان المقصود من مثلها
الاستمتاع بها في غير الجماع.
(فصل) وإن كانت الزوجة حرة وجب تسليمها ليلا ونهارا لأنه لا حق
لغيرها عليها، وللزوج أن يسافر بها لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر بنسائه
406

ولا يجوز لها أن تسافر بغير اذن الزوج لان الاستمتاع مستحق له، فلا يجوز
تفويته عليه، وإن كانت أمة وجب تسليمها بالليل دون النهار، لأنها مملوكة عقد
على إحدى منفعتيها فلم يجب التسليم في غير وقتها، كما لو أجرها لخدمة النهار،
وقال أبو إسحاق إن كان بيدها صنعة كالغزل والنسج وجب تسليمها بالليل والنهار
لأنه يمكنها العمل في بيت الزوج، والمذهب الأول لأنه قد يحتاج إليها في خدمة
غير الصنعة، ويجوز للمولى بيعها لان النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة رضي الله عنه
ا في شراء بريرة، وكان لها زوج، ويجوز له أن يسافر بها لأنه يملك بيعها
فملك السفر بها كغير المزوجة.
(فصل) ويجوز للزوج أن يجبر امرأته على الغسل من الحيض والنفاس
لان الوطئ يقف عليه، وفى غسل الجنابة قولان.
(أحدهما) له أن يجبرها عليه، لان كمال الاستمتاع يقف عليه لان النفس
تعاف من وطئ الجنب.
(والثاني) ليس له أن يجبرها لان الوطئ لا يقف عليه، وفى التنظيف
والاستحداد، وجهان (أحدهما) يملك إجبارها عليه لان كمال الاستمتاع يقف
عليه (والثاني) لا يملك إجبارها عليه لان الوطئ لا يقف عليه، وهل له أن
يمنعها من أكل ما يتأذى برائحة؟ فيه وجهان.
أحدهما: له منعها لأنه يمنع كمال الاستمتاع.
والثاني: ليس له منعها لأنه لا يمنع الوطئ، فإن كانت ذمية فله منعها من
السكر، لأنه يمنع الاستمتاع لأنها تصير كالزق المنفوخ، ولأنه لا يأمن أن تجنى
عليه، وهل له أن يمنعها من أكل لحم الخنزير؟ وشرب القليل من الخمر؟ فيه
ثلاثة أوجه (أحدها) يجوز له منعها، لأنه يمنع كمال الاستمتاع (والثاني) ليس
له منعها لأنه لا يمنع الوطئ (والثالث) وهو قول أبى علي بن أبي هريرة: أنه
ليس له منعها من لحم الخنزير، لأنه لا يمنع الوطئ وله منعها من قليل الخمر، لان
السكر يمنع الاستمتاع، ولا يمكن التمييز بين ما يسكر وبين ما لا يسكر مع اختلاف
الطباع، فمنع من الجميع.
(الشرح) اللغات: القسم بفتح القاف مصدر قسمته وبابه ضرب فذرته
407

أجزاء فانقسم والموضع مقسم كمسجد والفاعل قاسم والمبالغة قسام والاسم القسم
بكسر القاف والجمع أقسام مثل حمل وأحمال.
قوله (الانظار) أي التأخير. قال: أنظرني إلى يوم يبعثون) قوله (نضوة
الخلق) بكسر النون وسكون الضاد وسكون اللام. أي هزيلة البدن، والنضو
الثوب الخلق. قوله (الاستحداد) هو حلق العانة استفعال من الحديد.
أما الأحكام، فإذا تزوج الرجل امرأة كبيرة أو صغيرة يمكن جماع مثلها بأن
تكون ابنة ثمان سنين أو تسع، وسلم مهرها وطلب تسليمها، وجب تسليمها إليه
لما روى عن عائشة رضي الله عنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأنا بنت سبع سنين وبنى بي وأنا ابنة تسع سنين.
وإن طلبت المرأة أو ولى الصغيرة من الزوج الامهال لاصلاح حال المرأة فقد
قال الشافعي رحمه الله: يؤخر يوما ونحوه ولا يجاوز بها الثلاث.
وحكى الشيخ أبو حامد أن الشافعي رحمه الله في الاملاء قال: إذا دفع مهرها
أو مثلها يجامع فله أن يدخل بها ساعة دفع إليها المهر أحبوا أو كرهوا، واختلف
أصحابنا فيها، فقال الشيخ أبو حامد: يجب على الزوج الامهال يوما واحدا، وما
قال في الاملاء أراد به بعد الثلاث.
وقال القاضي أبو حامد: هل يجب عليه الامهال؟ فيه قولان (أحدهما) لا يجب
عليه الامهال لأنه قد تسلم العوض فوجب تسليم المعوض كالبيع (والثاني) يجب
عليه الامهال لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تطرقوا النساء ليلا)
رواه أحمد والبخاري ومسلم من حديث جابر. وعنه أيضا عندهم (كنا مع النبي
صلى الله عليه وسلم في غزوة فلما قدمنا ذهبنا لندخل فقال: أمهلوا حتى ندخل ليلا
أي عشاء لكي تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة)
وعن جابر أيضا (نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل أهله ليلا
يتخونهم أو يطلب عثراتهم) رواه مسلم. وعن أنس قال (ان النبي صلى الله عليه
وسلم كان لا يطرق أهله ليلا، وكان يأتيهم غدوة أو عشية)) وقال في المغنى للحنابلة
إذا تزوج امرأة مثلها يوطأ فطلب تسليمها إليه وجب ذلك، وإن عرضت نفسها
عليه لزمه تسلمها ووجبت نفقتها. وإن طلبها فسألت الانظار أنظرت مدة جرت
408

العادة أن تصلح أمرها فيها كاليومين والثلاثة، لان ذلك يسير جرت العادة بمثله
ثم ساق حديث النهى عن الطروق ليلا ثم قال: فمنع من الطروق وأمر بإمهالها
لتصلح أمرها مع تقدم صحبته لها فههنا أولى. اه‍
قلت: ولا يجب عليه الامهال أكثر من ثلاثة أيام، وإن كانت المنكوحة
صغيرة لا يجامع مثلها أو مريضة مرضا يرجى زواله وطالب الزوج بها لم يجب
تسليمها إليه، لان المعقود عليه هو المنفعة، وذلك لا يوجد في حقها، ولأنه
لا يؤمن أن يحمله فرط الشهوة على جماعها، فيوقع ذلك جناية بها، وان عرضت
على الزوج لم يجب عليه تسليمها إذا طالب بها لما ذكرناه، ولأنها تحتاج إلى حضانة
والزوج لا يجب عليه حضانة زوجته.
وإن كانت المرأة نضوة من أصل الخلق بأن خلقت دقيقة العظام قليلة اللحم
وطلب الزوج تسليمها وجب تسليمها إليه، فإن كان يمكن جماعها من غير ضرر
بها كان له ذلك، وإن كان لا يمكن جماعها الا بالاضرار بها لم يجز له جماعها، بل
يستمتع بما دون فرجها، ولا يثبت له الخيار في فسخ النكاح، والفرق بينها وبين
القرناء والرتقاء أن تعذر الجماع في القرناء والرتقاء من جهتها، ولهذا لا يتمكن
أحد من جماعها، وههنا العذر من جهته وهو كبر خلقته. ولهذا لو كان مثلها أمكنه
جماعها، وهكذا إن كانت مريضة مرضا لا يرجى زواله فحكمه حكم نضوة الخلقة
فان أقضها منع من وطئها حتى يلتئم الجرح، فان اختلفا فادعى الزوج انه قد التأم
الجرح التئاما لا يخاف عليها منه، وادعت الزوجة انه لم يلتئم فالقول قولها مع
يمينها لأنها أعلم بذلك.
(مسألة) للزوج أن يجبر زوجته على الغسل من الحيض والنفاس مسلمة
كانت أو ذمية، لأنه يمنع الاستمتاع الذي هو حق له فملك اجبارها على إزالة
ما يمنع حقه، وان احتاجت إلى شراء الماء فثمنه عليه لأنه لحقه، وله اجبار
المسلمة البالغة على الغسل من الجنابة لان الصلاة واجبة عليها، ولا تتمكن منها
الا بالغسل. فأما الذمية ففيها قولان في الجنابة (أحداهما) له اجبارها عليه لان
قال الاستمتاع يتوقف عليه، فان النفس تعاف من لا يغتسل من جنابة، وهو
409

إحدى الروايتين عن أحمد (والثاني) ليس له إجبارها، وهو قول مالك والثوري
وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد، لان الوطئ لا يتوقف عليه فإنه يباح
بدونه، وفى الغسل من الحيض والنفاس قال أبو حنيفة: ليس له إجبار الذمية.
(فرع) وهل له أن يجبرها على قص الأظفار وحلق العانة؟ ينظر فيه. فإن كان
ذلك قد طال وصار قبيحا في النظر فله أن يجبرها قولا واحدا، لان ذلك
يمنع من الاستمتاع بها. وأما إذا صار بحيث يوجد في العادة فهل له إجبارها على
إزالته وعلى إزالة الدرن والوسخ من البدن.
قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي هنا: وفى التنظيف الاستحداد وجهان.
قال الشيخ أبو حامد الأسفراييني وغيره فيه قولان.
(أحدهما) ليس له إجبارها عليه، لأنه لا يمنع الاستمتاع (والثاني) له
اجبارها لأنه يمنع كمال الاستمتاع، وهل له أن يمنعها من أكل ما يتأذى برائحته
كالبصل والثوم. قال الشيخ أبو حامد: فيه قولان، وحكاهما المصنف وجهين
أيضا وتعليلهما ما مضى. وذهب أصحاب أحمد كمذهب الشيخ أبي إسحاق في
اعتبارهما وجهين في التنظيف والاستحداد وأكل البصل والثوم. وقال القاضي
أبو الطيب: له أن يمنعها قولا واحدا، لأنه يتأذى برائحته، الا أن يميته طبخا
لان رائحته تذهب.
(فرع) فإن كانت ذمية وأرادت أن تشرب الخمر فله ان يمنعها من السكر
لأنه يمنعه من الاستمتاع، ولا يؤمن أن تجنى عليه، وهل له ان يمنعها من القدر
الذي لا تسكر منه؟
حكى المصنف فيه وجهين وسائر أصحابنا حكاهما قولين (أحدهما) ليس له
ان يمنعها منه لأنها مقرة عليه، ولا يمنعه من الاستمتاع.
(والثاني) له ان يمنعها منه لأنه لا يتميز القدر الذي تسكر منه من القدر الذي
لا تسكر منه مع اختلاف الطباع فمنعت الجميع، ولأنه يتأذى برائحته ويمنعه
كمال الاستمتاع.
وإن كانت الزوجة مسلمة فله منعها من شرب الخمر لأنه محرم عليها، وان
أرادت ان تشرب ما يسكن من النبيذ فله منعها منه لأنه محرم بالاجماع.
410

وإن أرادت أن تشرب منه ما لا يسكر، فإن كانا شافعيين فله منعها منه لأنهما
يعتقدان تحريمه، وإن كانا حنفيين أو هي حنفية فهل له منعها منه. فيه قولان.
وهل له أن يمنع الذمية من أكل لحم الخنزير؟ قال الشيخ أبو حامد فيه قولان كشرب
القليل من الخمر، وحكاهما المصنف وجهين وتعليلهما ما مضى. قال ابن الصباغ
وظاهر كلام الشافعي رحمه الله إن كان يتقذره وتعافه نفسه فله منعها منه، وإن
لم تعافه نفسه لم يكن له منعها منه
إذا ثبت هذا فإن شربت الخمر أو أكلت لحم الخنزير أو شربت الحنفية
النبيذ فله أن يجبرها على غسل فيها لأنه نجس، وإذا قبلها نجس فوه. ومذهب
أحمد على نحو ما ذهبنا في هذه المسألة وما تفرع منها وما فيها من أوجه كقول
الشيخ أبو إسحاق الشيرازي.
(فرع) وليس له أن يمنع زوجته من لبس الحرير والديباج والحلي، لان
ذلك مباح لها، وله أن يمنعها من لبس جلد الميتة الذي لم يدبغ، فإنه نجس وربما
نجس إذا التصق به، وله أن يمنعها من لبس المنجس لأنه يمنع القرب إليها
والاستمتاع بها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وللزوج منع الزوجة من الخروج إلى المساجد وغيرها. لما روى
ابن عمر رضي الله عنه قال (رأيت امرأة أتت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت
يا رسول الله ما حق الزوج على زوجته. قال حقه عليها أن لا تخرج من بيتها إلا
بإذنه، فإن فعلت لعنها الله، وملائكة الرحمة، وملائكة الغضب، حتى تتوب
أو ترجع، قالت يا رسول وإن كان لها ظالما، قال وإن كان لها ظالما) ولان حق
الزوج واجب، فلا يجوز تركه بما ليس بواجب، ويكره منعها من عيادة أبيها إذا
أثقل، وحضور مواراته إذا مات، لان منعها من ذلك يؤدى إلى النفور
ويغريها بالعقوق.
(فصل) ويجب على الزوج معاشرتها بالمعروف من كف الأذى لقوله
411

تعالى (وعاشروهن بالمعروف) ويجب عليه بذل ما يجب من حقها من غير مطل
لقوله عز وجل (وعاشروهن بالمعروف) ومن العشرة بالمعروف بذل الحق من
غير مطل، ولقوله صلى الله عليه وسلم (مطل الغنى ظلم) ولا يجب عليه
الاستمتاع لأنه حق له فجاز له تركه كسكنى الدار المستأجرة، ولان الداعي إلى
الاستمتاع الشهوة والمحبة فلا يمكن ايجابه.
والمستحب أن لا يعطلها لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه
قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم (أتصوم النهار، قلت نعم، قال وتقوم
الليل، قلت نعم، قال لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن
رغب عن سنتي فليس منى) ولأنه إذا عطلها لم يأمن الفساد ووقوع الشقاق،
ولا يجمع بين امرأتين في مسكن الا برضاهما، لان ذلك ليس من العشرة
بالمعروف، ولأنه يؤدى إلى الخصومة ولا يطأ إحداهما بحضرة الأخرى،
لأنه دناءة وسوء عشرة، ولا يستمتع بها الا بالمعروف، فإن كانت نضو الخلق
ولم تحتمل الوطئ لم يجز وطؤها لما فيه من الاضرار.
(الشرح) حديث عبد الله بن عمر رواه أبو داود الطيالسي باللفظ الذي
ساقه المصنف، ورواه البزار عن ابن عباس، وفيه حسين بن قيس المعروف
بحنش وهو ضعيف.
وقد وثقه حصين بن نمير وبقية رجاله ثقات (ان امرأة من خثعم أتت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله أخبرني ما حق الزوج على
الزوجة، فاني امرأة أيم، فان استطعت والا جلست أيما. قال فان حق الزوج
على زوجته ان سألها نفسها وهي على ظهر قتب ان لا تمنعه، وان لا تصوم
تطوعا الا بإذنه، فان فعلت جاعت وعطشت ولا تقبل منها، ولا تخرج من
بيتها الا باذنه، فان فعلت لعنتها ملائكة السماء وملائكة الرحمة وملائكة العذاب
قالت لا جرم، لا أتزوج أبدا)
412

وقد أورده العلامة صديق خان في كتابه حسن الأسوة معزوا للطبراني
وصوابه ما ذكرنا. والذي في الطبراني فأحاديث أخرى ليست عن ابن عباس
وليس فيها قصة المرأة الخثعمية.
أما حديث (مطل الغنى ظلم) فقد أخرجه أصحاب السنن إلا الترمذي ورواه
البيهقي كلهم عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ (لي
الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته) وقد مضى الكلام عليه في القرض والحجر
والتفليس وغيرها من المجموع وتكملتيه.
أما حديث عبد الله بن عمرو فقد أخرجه أحمد في مسنده بلفظ (زوجني أبى
امرأة من قريش فلما دخلت على جعلت لا أنحاش لها مما بي من القوة على العبادة
من الصوم والصلاة فجاء عمرو بن العاص إلى كمته حتى دخل عليها، فقال لها:
كيف وجدت بعلك، قالت: كخير الرجال، أو كخير البعولة من رجل لم يفتش
لنا كنفا ولم يعرف لنا فراشا، فأقبل علي فعزمني وعضني بلسانه فقال: أن
تخطب امرأة من قريش ذات حسب فعضلتها وفعلت وفعلت ثم انطلق إلى النبي
فشكاني فأرسل إلى النبي فأتيته قال لي: أتصوم النهار، قلت نعم. قال وتقوم الليل
قلت: نعم، قال لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأنام، وأمس النساء، فمن رغب
عن سنتي فليس منى).
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: وله منعها من شهادة جنازة
أبيها وأمها وولدها. وجملة ذلك أن للزوج أن يمنع زوجته من ذلك وقد أخذ
أصحابنا من نصه هذا أن له ان يمنعها من عيادة أبيها وأمها إذا مرضا ومن حضور
مواراتهما إذا ماتا، وقد استدلوا على ذلك بحديث انس (ان امرأة سافر زوجها
ونهى امرأته عن الخروج وكان أبوها مقيم في أسفل البيت وهي في أعلاه فمرض أبوها
فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في عيادته فقال لها اتقى الله ولا تخالفي زوجك
فمات أبوها فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ان الله قد غفر لأبيها بطاعتها
لزوجها) ولما كان هذا الحديث لم يصح عندنا حيث رواه الطبراني في الأوسط
وآفته محمد عقيل الخزاعي هذا من جهة الاسناد ومتنه يعارض أمورا مجمعا عليها
فإن أباها له حقوق عليها لا تحصى، أقربها وأظهرها.
413

1 - حق الأبوة لقوله تعالى (وبالوالدين إحسانا) قارنا ذلك بعبادته.
2 - حق الاسلام لقوله صلى الله عليه وسلم (حق المسلم على المسلم خمس)
ومنها (وإذا مرض فعده).
3 - حق الرحم، يقول الله تعالى (اشتققت لك اسما من اسمي فمن وصلك
وصلته ومن قطعك قطعته).
4 - حق الآدمية أو حق الانسانية (من لا يرحم الناس لا يرحم).
5 - حق المشاركة في أسباب الحياة (دخلت امرأة النار في هرة، ودخلت
امرأة الجنة في هرة).
6 - حق الجوار (ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه)
إذا ثبت هذا فإنه يكره للزوج أن ينهى زوجته عن عيادة أبيها أو بره أو إبداء
حنوها ومودتها لأبويها.
(مسألة) يجب على كل واحد من الزوجين معاشرة الآخر بالمعروف لقوله
تعالى (قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم) ولقوله تعالى (الرجال قوامون
على النساء) يعنى بالانفاق عليهن وكسوتهن، ولقوله تعالى (ولهن مثل الذي
عليهن) والمقابلة ههنا بالتأدية لا في نفس الحق لان حق الزوجة النفقة والكسوة
وما أشبه ذلك، وحق الزوج التمكين من الاستمتاع، وقال تعالى (وعاشروهن
بالمعروف) وقال الشافعي وجماع المعروف بين الزوجين كف المكروه، وإعفاء
صاحب الحق من المؤنة في طلبه لا بإظهار الكراهية في تأديته، فأيهما مطل
بتأخيره فمطل الواجد القادر على الأداء ظلم بتأخيره.
قال أصحابنا: فكف المكروه هو ان لا يؤذى أحدهما الاخر بقول أو فعل،
ولا يأكل أحدهما ولا يشرب ولا يلبس ما يؤذى الاخر. وقوله اعفاء صاحب
الحق من المؤنة في طلبه، إذا وجب لها على الزوج نفقة أو كسوة بذله لها ولا
يحوجها إلى أن ترفعه إلى الحاكم فيلزمها في ذلك مؤنة لقوله صلى الله عليه وسلم (لي الواجد ظلم)
وكذلك إذا دعاها إلى الاستمتاع لم تمتنع ولم تحوجه إلى أن يرفع ذلك إلى الحاكم
فيلزمه في ذلك مؤنة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه
وسلم قال: إذا دعا أحدكم امرأته إلى فراشه فأبت عليه فبات وهو عليها ساخط
414

لعنتها الملائكة حتى تصبح، ورواه أحمد والبخاري ومسلم. وقوله: لا باظهاره
الكراهية في تأديته، إذا طلبت الزوجة حقها منه أو طلب الزوج حقه منها بذل
كل واحد منهما ما وجب لصاحبه وهو باش الوجه ضاحك السن لما روى أبو هريرة
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا
وخياركم خياركم لنسائهم، رواه أحمد والترمذي وصححه.
وقال صلى الله عليه وسلم: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لاحد لأمرت المرأة
أن تسجد لزوجها. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وهو بعض حديث
عند أحمد عن أنس، وبعض حديث طويل من قدوم معاوية من الشام وسجوده
النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد وابن ماجة عن عبد الله بن أبي أوفى.
(فرع) ولا يجب على الزوج الاستمتاع بها. وحكى الصيمري أن مالكا
رضي الله عنه قال: إذا ترك جماع زوجته المدة الطويلة أمر بالوطئ، فإن أبى
فلها فسخ النكاح، وقال آخرون: يجبر على أن يطأ في كل أربع ليال ليلة
قال العمراني في البيان: وهذا غير صحيح لأنه حق له فجاز له تركه، ولان
الداعي إليه الشهوة وذلك ليس إليه، والمستحب له أن لا يخليها من الجماع لقوله
صلى الله عليه وسلم: لكني أصوم وأفطر، أصلى وأنام، وأمس النساء، فمن
رغب عن سنتي فليس منى، ولأنه إذا لم يجامعها لم يأمن منها الفساد، وربما كان
سببا للعداوة والشقاق بينهما، وإن كان له زوجات لم يجمع بينهن في مسكن إلا
برضاها أو برضى كل واحدة منهن على حدة، لان ذلك يؤدى إلى خصومتهن،
ولا يطأ واحدة بحضرة الأخرى لان ذلك قلة أدب وسوء عشرة.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه في القديم: وإذا تزوج رجل امرأة
فأحب له أول ما يراها أن يأخذ بناصيتها ويدعو باليمين والبركة فيقول: بارك الله
لكل واحد منا في صاحبه، لان هذا بدء الوصلة بينهما، فأستحب له أن يدعو
بالبركة، والامر كما قال الشافعي رضي الله عنه إذ روى أبو داود وابن ماجة
وابن السني وغيرهم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (إذا تزوج أحدكم امرأة أو اشترى خادما فليقل: اللهم إني أسألك
415

خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه، وإذا
اشترى بعيرا فليأخذ بذروة سنامه وليقل مثل ذلك) وفى رواية (ثم ليأخذ
بناصيتها وليدع بالبركة في المرأة والخادم) ويستحب إذا أراد أن يجامعها أن يقول
بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا لما روى البخاري ومسلم
عن ابن عباس رضي الله عنهما من طرق كثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لو أن أحدكم
إذا اتى أهله قال. بسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، فقضى
بينهما ولد لم يضره) وفى رواية للبخاري (لم يضره الشيطان ابدا).
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز وطؤها في الدبر. لما روى خزيمة بن ثابت رضي الله عنه
قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ملعون من اتى امرأة في دبرها)
ويجوز الاستمتاع بها فيما بين الأليتين لقوله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون
الا على أزواجهم أو ما ملكت ايمانهم، فإنهم غير ملومين) ويجوز وطؤها في
الفرج مدبرة، لما روى جابر رضي الله عنه قال (قالت اليهود: إذا جامع الرجل
امرأته من ورائها جاء ولدها أحول) فأنزل الله تعالى (نساؤكم حرث لكلم فأتوا
حرثكم انى شئتم) قال: يقول يأتيها من حيث شاء مقبلة أو مدبرة إذا كان
ذلك في الفرج).
(الشرح) حديث خزيمة بن ثابت أخرجه أحمد وابن ماجة وأخرجه الشافعي
بنحوه وفى اسناده عمر بن أحيحة وهو مجهول واختلف في اسناده اختلافا كثيرا
ورواه النسائي من طريق أخرى وفيها هرمى بن عبد الله ولا يعرف حاله،
وأخرجه من طريق هرمى أيضا احمد وابن حبان، وقد روى النهى عن اتيان
المرأة في دبرها عن أبي هريرة عند احمد وأبى داود وبقية أصحاب السنن والبزار
وفى اسناده الحارث بن مخلد، قال البزار ليس بمشهور.
وقال ابن القطان: لا يعرف حاله، وقد اختلف فيه على سهيل بن أبي صالح
فرواه عنه إسماعيل بن عياش عن محمد بن المنكدر عن جابر كما أخرجه الدارقطني
416

ورواه عمر مولى عفرة عن سهيل عن أبيه عن جابر كما أخرجه ابن عدي
بإسناد ضعيف.
قال الحافظ في بلوغ المرام: ان رجال حديث أبي هريرة هذا ثقات لكن
أعل بالارسال. وفى لفظ رواه أحمد وابن ماجة (لا ينظر الله إلى رجل جامع
امرأته في دبرها).
وروى أحمد والترمذي عن أبي هريرة (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال (من أتى حائضا أو امرأة في دبرها أو كاهنا فصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد
صلى الله عليه وسلم) ورواه أبو داود وقال (فقد برئ مما أنزل) وهو من رواية
أبى تميمة عن أبي هريرة، قال الترمذي: لا نعرفه الا من حديث أبي تميمة عن
أبي هريرة. وقال البخاري: لا يعرف لأبي تميمة سماع عن أبي هريرة. وقال
البزار: هذا حديث منكر، وفى الاسناد أيضا حكيم الأثرم، قال البزار لا يحتج
به، وما تفرد به فليس بشئ، ولأبي هريرة حديث ثالث عند النسائي من رواية
الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وفى اسناده عبد الملك بن محمد الصنعاني
وقد تكلم فيه دحيم وأبو حاتم وغيرهما، ولأبي هريرة أيضا حديث رابع أخرجه
النسائي من طريق بكر بن خنيس عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة بلفظ (من
أتى شيئا من الرجال والنساء في الادبار فقد كفر) وفى اسناده بكر وليث بن أبي
سليم، ولأبي هريرة حديث خامس وفى اسناده مسلم بن خالد الزنجي. وأخرج أحمد
عن علي كرم الله وجهه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تأتوا النساء في
اعجازهن أو قال في ادبارهن).
قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد: ورجاله ثقات، وأخرج أحمد عن عمرو
ابن شعيب عن أبيه عن جده (ان النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي امرأته
في دبرها، هي اللوطية الصغرى).
وعن علي بن طلق قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تأتوا
النساء في استاهن فان الله لا يستحى من الحق) رواه أحمد والترمذي وحسنه،
ثم قال: سمعت محمدا يقول: لا اعرف لعلي بن طلق عن النبي صلى الله عليه وسلم
417

غير هذا الحديث الواحد، ولا أعرف هذا الحديث الواحد من حديث طلق بن علي
السحيمي، وكأنه رأى أن هذا الآخر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اه‍
وعن ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا ينظر الله إلى رجل
أتى رجلا أو امرأة في الدبر) رواه الترمذي وقال: حديث غريب، والنسائي
وابن حبان والبزار، وقال لا نعلمه يروى عن ابن عباس بإسناد حسن وكذا قال
ابن عدي ورواه النسائي عن هناد عن وكيع عن الضحاك موقوفا وهو أصح من
المرفوع، ولابن عباس رواية موقوفة عند عبد الرزاق أن رجلا سأل ابن عباس
عن إتيان المرأة في دبرها فقال سألتني عن الكفر. وعن ابن مسعود عند ابن عدي
. وعن عقبة بن عامر عند احمد وفيه ابن لهيعة. وعن ابن عمر عند النسائي
والبزار وفيه زمعة بن صالح.
أما حديث جابر رضي الله عنه فقد رواه أحمد والبخاري ومسلم وأصحاب السنن
إلا النسائي. وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى (نساؤكم
حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) يعنى صماما واحدا، رواه أحمد والترمذي
وحسنه. وعنها أيضا قالت (لما قدم المهاجرون على الأنصار تزوجوا من نسائهم
وكان المهاجرون يجبون وكانت الأنصار لا تجبي، فأراد رجل امرأته من المهاجرين
على ذلك فأبت عليه حتى تسأل النبي صلى الله عليه وسلم قال فأته، فاستحيت أن
تسأله، فسألته أم سلمة فنزلت (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) وقال لا
(إلا في صمام واحد) رواه أحمد.
ومن رواية ابن عباس عند أبي داود وفيه (إنما كان هذا الحي من الأنصار
وهم أهل وثن مع هذا الحي من يهود، وهم أهل كتاب، وكانوا يرون لهم فضلا
عليهم من العلم، وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم، وكان من أمر أهل الكتاب
لا يأتون النساء إلا على حرف، فكان هذا الحي من الأنصار قد أخذوا بذلك من
فعلهم، وكان هذا الحي من قريش يشرخون النساء شرخا منكرا ويتلذذون منهن
مقبلات ومدبرات ومستلقيات، فلما قدم المهاجرون المدينة تزوج رجل امرأة
من الأنصار فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه وقالت: إنما كنا نؤتى على حرف
فاصنع ذلك وإلا فاجتنبني، فسرى أمرهما حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم
418

فأنزل الله عز وجل (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) يعنى مقبلات
ومدبرات ومستلقيات، يعنى بذلك موضع الولد.
وروى أحمد والترمذي وقال حسن غريب عن ابن عباس قال (جاء عمر إلى
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله هلكت، قال وما الذي أهلكك؟ قال حولت
رحلي البارحة، فلم يرد عليه بشئ، قال فأوحى الله إلى رسوله هذه الآية
(نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) أقبل وأدبر، واتقوا الدبر والحيضة
أما الأحكام فقد استدل الجمهور بهذه الأحاديث التي تقرب من درجه التواتر
على تحريم إتيان المرأة في دبرها.
وحكى ابن عبد الحكم عن الشافعي أنه قال لم يصح عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم في تحريمه ولا تحليله شئ والقياس أنه حلال. وقد أخرجه عنه ابن أبي
حاتم في مناقب الشافعي، وأخرجه الحاكم في مناقب الشافعي عن الأصم
عنه، وكذلك الطحاوي عن ابن عبد الحكم عن الشافعي، وروى الحاكم عن
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن الشافعي أنه قال: سألني محمد بن الحسن فقلت له
إن كنت تريد المكابرة وتصحيح الروايات وإن لم تصح فأنت أعلم، وان تكلمت
بالمناصفة كلمتك على المناصفة، قال على المناصفة، قلت فبأي شئ حرمته قال
بقول الله تعالى (فأتوهن من حيث أمركم الله) وقال (فأتوا حرثكم أنى شئتم)
والحرث لا يكون إلا في الفرج. قلت أفيكون ذلك محرما لما سواه، قال نعم.
قلت فما تكون لو وطئها بين ساقيها أو في أعكانها أو تحت إبطيها أو أخذت ذكره
بيدها أو في ذلك حرث، قال لا. قلت فيحرم ذلك قال لا قلت فلم تحتج بما لا حجة فيه، قال
فإن الله قال (والذين هم لفروجهم حافظون) الآية. قال فقلت له هذا مما يحتجون به
للجواز ان الله أثنى على من حفظ فرجه من غير زوجته أو ما ملكت يمينه،
فقلت له أنت تتحفظ من زوجتك وما ملكت يمينك. اه‍
وقال الحاكم بعد أن حكى الشافعي ما سلف، لعل الشافعي كأن يقول
ذلك في القديم، فأما الجديد فالمشهور انه حرمه.
وقد حمل الماوردي في الحاوي وأبو نصر بن الصباغ في الشامل على ابن
عبد الحكم الذي روى هذا عن الشافعي، ورويا هما وغيرهما من أصحابنا عن الربيع.
419

ابن سليمان أنه قال: كذب والله يعنى ابن عبد الحكم فقد نص الشافعي على
تحريمه في ستة كتب. وتعقب الحافظ بن حجر في التلخيص هذا فقال: لا معنى
لهذا التكذيب، فإن ابن عبد الحكم لم يتفرد بذلك، بل قد تابعه عليه عبد الرحمن
ابن عبد الله أخوه عن الشافعي، ثم قال إنه لا خلاف في ثقة ابن عبد الحكم وأمانته
وقد روى الجواز أيضا عن مالك.
قال القاضي أبو الطيب في تعليقه أنه روى عنه ذلك أهل مصر وأهل المغرب
ورواه عنه ابن رشد في كتاب البيان والتحصيل، وأصحاب مالك العرافيون لم
يثبتوا هذه الرواية، وقد رجع متأخر وأصحابه عن ذلك وأفتوا بتحريمه. وقد
نقل ابن قدامة رواية عن مالك. قوله ما أدركت أحدا اقتدى به في
ديني يشك في أنه حلال، ثم أنكر ذلك أصحابه العراقيون.
قلت: إذا كان الله تبارك وتعالى قد حرم الوطئ في الفرج عند المحيض لأجل
الأذى فكيف بالحش الذي هو موضع أذى دائم ونجس لازم، مع زيادة
المفسدة بانقطاع النسل الذي هو المقصد الأسمى من مشروعية الزواج
فضلا عن خساسة هذا العمل ودناءته مما يفضى إلى التلذذ بما كان يتلذذ به قوم
لوط، وما يعد شذوذا في الشهوة يتنزه عنها المؤمنون الأطهار وأبناء الملة الأخيار
وكفى بهذا العمل انحطاط أن أحدا لا يرضى أن ينسب هذا القول إلى إمامه، كما
يقول ابن القيم، وقد ذكر لذلك مفاسد دينية ودنيوية كثيرة في هديه. وقد
روى التحريم عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبى الدرداء وعبد الله بن عمرو
وأبي هريرة وابن المسيب وأبى بكر بن عبد الرحمن ومجاهد وقتادة وعكرمة
والشافعي وأصحاب الرأي وابن المنذر وأحمد بن حنبل وأصحابه كافة، وأبى ثور
والحسن البصري. وقال العمراني عن الربيع (كذب ابن عبد الحكم والذي
لا إله إلا هو)
قال المزني، قال الشافعي ذهب بعض أصحابنا إلى احلاله وآخرون إلى تحريمه
ولا أرخص فيه بل أنهى عنه. وحكى أن مالكا سئل عن ذلك فقال (الآن
اغتسلت منه)
(فرع) يجوز التلذذ بما بين الألتين من غير إيلاج في الدبر لما فيه من الأذى
420

ويجوز الوطئ في الفرج مقبلة ومدبرة لما روى جابر أن اليهود قالت: إذا جامع
الرجل امرأته من ورائها جاء ولدها أحول، فأنزل الله تعالى (نساؤكم حرث لكم
فأتوا حرثكم أنى شئتم) أفاده العمراني في البيان وسائر الأصحاب.
(فرع) يحرم الاستمناء، وهو إخراج الماء الدافق بيده، وبه قال أكثر أهل
العلم، وقال ابن عباس: نكاح الأمة خير منه وهو خير من الزنا، وروى أن عمرو
ابن دينار رخص فيه عند الاضطرار وخوف الهلكة، وبه قال أحمد رضي الله عنه
. دليلنا قوله تعالى (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو
ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون)
وقد قرر علماء وظائف الأعضاء والطب البشرى أن الاستمناء مفض إلى قتل
الرغبة الجنسية، ويجعل المرء لا ينتشر عند الوقاع إلا إذا استمنى بيده مما يعطل
وظيفته كزوج، ويقتل صلاحية عضوه أو يقلل كفاءته الزوجية، وكل هذا من
المفاسد المنهى عنها
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويكره العزل. لما روت جذامة بنت وهب قالت (حضرت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن العزل. فقال: ذلك الوأد الخفي (وإذا
الموؤودة سئلت) فإن كان ذلك في وطئ أمته لم يحرم، لان الاستمتاع بها حق
له لا حق لها فيه، وإن كان في وطئ زوجته فإن كانت مملوكة لم يحرم لأنه يلحقه
العار باسترقاق ولده منها. وإن كانت حرة فإن كان بإذنها جاز لان الحق لهما،
وإن لم تأذن ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يحرم لان حقها في الاستمتاع دون الانزال
(والثاني) يحرم لأنه يقطع النسل من غير ضرر يلحقه.
(فصل) وتجب على المرأة معاشرة الزوج بالمعروف من كف الأذى كما
يجب عليه في معاشرتها، ويجب عليها بذل ما يجب له من غير مطل لما روى
421

أبو هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا دعا أحدكم
امرأته إلى فراشه فأبت فبات وهو عليها ساخط لعنتها الملائكة حتى تصبح)
(الشرح) حديث جذامة بنت وهب الأسدية أخرجه أحمد ومسلم بلفظ.
(حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس وهو يقول لقد هممت أن أنهى
عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم
شيئا، ثم سألوه عن العزل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوأد الخفي
وهي وإذا الموؤودة سئلت)
أما الأحكام فقد اختلف السلف في حكم العزل، فقال ابن عبد البر لا خلاف
بين العلماء أنه لا يعزل عن الزوجة الحرة إلا بإذنها، لان الجماع من حقها، ولها
المطالبة به، وليس الجماع المعروف الا ما لا يلحقه عزل. قال الحافظ بن حجر
ووافقه في نقل هذا الاجماع ابن هبيرة وتعقب بأن المعروف عند الشافعية أنه
لا حق للمرأة في الجماع فيجوز على مقتضى أصلهم العزل بغير إذنها. قلت ولكنه
وقع في كتب أكثر أصحابنا أنه لا يجوز العزل عن الحرة إلا بإذنها، ويدل على
اعتبار الاذن والرضى من الحرة حديث عمر رضي الله عنه قال (نهى رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن يعزل عن الحرة الا بإذنها) رواه أحمد وابن ماجة، وقال
الغزالي يجوز العزل، وهو المصحح عند المتأخرين.
وقد أخرج أحمد عن جابر رضي الله عنه (كنا نعزل عل عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل).
قال سفيان حين روى هذا الحديث (ولو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن)
كأنه يشرح عبارة جابر.
وأوهم كلام الحافظ المقدسي في عمدته ومن تبعه أن الزيادة التي قالها سفيان
من نفس الحديث فأدرجها.
422

وإذا قال الصحابي: كنا نفعل الشئ الفلاني كان له حكم الرفع عند أكثر
المحدثين لأن الظاهر اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم وإقراره، وأما إذا لم يضفه
إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم ففيه خلاف في رفعه، ويشبه ذلك ما أخرجه
البخاري عن ابن عمر: كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا هيبة أن ينزل فينا
شئ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم
تكلمنا وانبسطنا.
وأخرج مسلم من طريق أبى الزبير عن جابر قال (كنا نعزل في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله فلم ينهنا) ومن وجه آخر عن أبي الزبير
عن جابر أن رجلا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال (إن لي جارية وأنا أطوف عليها
وأنا أكره أن تحمل فقال: اعزل عنها إن شئت فإنه سيأتيها ما قدر لها، فلبث
الرجل ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، قال: قد أخبرتك) ووقعت هذه
القصة عنده من طريق سفيان بن عيينة بإسناد آخر إلى جابر وفى آخره فقال
(أبا عبد الله ورسوله) وأخرجه أحمد وابن ماجة وابن أبي شيبة بسند آخر على
شرط الشيخين بمعناه.
وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (غزونا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بنى المصطلق فسبينا كرائم العرب فطالت
علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل فقلنا: نفعل ورسول الله
صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا لا نسأله، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: لا عليكم
أن لا تفعلوا، ما كتب الله عز وجل خلق بسمة هي كائنة إلى يوم القيامة، إلا
ستكون) ومن ثم تكون جملة ما تقدم أن العزل برضى الحرة جائز عند أبي حنيفة
ومالك وأحمد وعند ابن حزم يحرم العزل، وعند الشافعية وجهان، أحدهما
المنع واليه ذهب الروياني في بحر المذهب، وكرهه العمراني في البيان.
قال في الفتح: نعم جزم ابن حزم بوجوب الوطئ وبتحريم العزل، واستند
إلى حديث جذامة بنت وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العزل فقال:
ذلك الوأد الخفي. أخرجه مسلم والترمذي وصححه من طريق معمر عن يحيى بن
423

أبى كثير عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن جابر قال: كانت لنا جواري وكنا
نعزل فقالت اليهود: إن تلك الموؤودة الصغرى فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
ذلك فقال: كذبت اليهود، لو أراد الله خلقه لم يستطع رده) وأخرجه النسائي
من طريق هشام وعلي بن المبارك وغيرهما عن يحيى عن محمد بن عبد الرحمن عن أبي
مطيع بن رفاعة عن أبي سعيد نحوه، ويجمع بين هذه الأحاديث وحديث
جذامه بأن حديث جذامة يحمل على التنزيه وهذه طريقة البيهقي، ومنهم من
ضعف حديث جذامة بأنه معارض بما هو أكثر طرقا منه، وكيف يصرح
بتكذيب اليهود في ذلك ثم يثبته؟
قال الحافظ وهذا دفع للأحاديث الصحيحة بالتوهم، والحديث صحيح لا ريب
فيه والجمع ممكن، ومنهم من ادعى أنه منسوخ، ورد بعدم معرفة التاريخ.
وقال الطحاوي يحتمل أن يكون حديث جذامة على وفق ما كان عليه الامر
أولا من موافقة أهل الكتاب، لأنه كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل
عليه، ثم أعلمه الله بالحكم فكذب اليهود فيما كانوا يقولونه، وتعقبه ابن رشد
ثم ابن العربي بأنه لا يجزم بشئ تبعا لليهود ثم يصرح بتكذيبهم، ومنهم من رجح
حديث جذامة لثبوته في صحيح مسلم وضعف مقابله بأنه حديث واحد اختلف في
إسناده فاضطرب، ورجح ابن حزم العمل بحديث جذامة بأن أحاديث غيرها
موافق أصل الإباحة وحديثها يدل على المنع، فمن ادعى أنه أبيح بعد أن منع فعليه
البيان، وتعقب بأن حديثها ليس صريحا في المنع، إذ لا يلزم من تسميته وأدا
خفيا على طريق التشبيه أن يكون حراما، وخصه بعضهم بالعزل عن الحامل
لزوال المعنى الذي كان يحذره الذي يعزل من حصول الحمل، وجمعوا بين تكذيب
اليهود في قولهم الموؤودة الصغرى، وبين إثبات كونه وأدا خفيا في حديث جذامة
بأن قولهم الموؤودة الصغرى يقتضى أنه وأد ظاهر، لكنه صغير بالنسبة إلى دفن
المولود بعد وضعه حيا، فلا يعارض قوله، ان العزل وأد خفى، فإنه يدل على
أنه ليس في حكم الظاهر أصلا، فلا يترتب عليه حكمه، وإنما جعله وأدا من جهة
اشتراكهما في قطع الولادة، وقال بعضهم: الوأد الخفي ورد على طريق التشبيه
لأنه قطع طريق الولادة قبل مجيئه فأشبه قتل الولد بعد مجيئه.
424

وقال ابن القيم من الحنابلة الذي كذبت فيه اليهود زعمهم أن العزل لا يتصور
معه الحمل أصلا وجعلوه بمنزلة قطع النسل بالوأد فأكذبهم وأخبر أنه لا يمنع الحمل
إذا شاء الله خلقه، إذا لم يرد خلقه لم يكن وأدا حقيقة، وإنما سماه وأدا خفيا
في حديث جذامه، لان الرجل إنما يعزل هربا من الحمل، فأجرى قصده لذلك
مجرى الوأد، لكن الفرق بينهما أن الوأد ظاهر بالمباشرة اجتمع فيه القصد
والفعل، والعزل يتعلق بالقصد صرفا فلذلك وصفه بكونه خفيا، فهذه أجوبه
عدة أشار إليها ابن حجر في الفتح ورجعنا إليها في مظانها وعنها نقلنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجب عليها خدمته في الخبز والطحن والطبخ والغسل وغيرها
من الخدم لان المعقود عليه من جهتها هو الاستمتاع فلا يلزمها ما سواه.
(فصل) وإن كان له امرأتان أو أكثر فله أن يقسم لهن (لان النبي صلى الله
عليه وسلم قسم لنسائه) ولا يجب عليه ذلك لان القسم لحقه فجاز له تركه، وإذا
أراد أن يقسم لم يجز أن يبدأ بواحدة منهن من غير رضا البواقي الا بقرعة،
لما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من: كانت له امرأتان يميل إلى إحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة وأحد
شقيه ساقط) ولان البداءة بإحداهما من غير قرعة تدعو إلى النفور،
وإذا قسم لواحدة بالقرعة أو غير القرعة لزمه القضاء للبواقي، لأنه إذا لم يقض
مال، فدخل في الوعيد.
(فصل) ويقسم المريض والمجبوب (لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم
في مرضه) ولان القسم يراد للانس وذلك يحصل مع المرض والجب، وإن كان
مجنونا لا يخاف منه طاف به الولي على نسائه، لأنه يحصل لها به الانس، ويقسم
للحائض والنفساء والمريضة والمحرمة والمظاهر منها والمولى منها، لان القصد
من القسم الايواء والانس، وذلك يحصل مع هؤلاء، وإن كان مجنونة لا يخاف
منها قسم لها، لأنه يحصل لها الانس، وإن كان يخاف منها لم يقسم لها، لأنها
لا تصلح للانس.
425

(الشرح) قسم النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه رواه مسلم عن أنس ورواه
أحمد وأبو داود والبيهقي والحاكم وصححه عن عائشة، ولفظ أبى داود في رواية
(كان لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان ما من يوم إلا
وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو
يومها فيبيت عندها).
أما حديث أبي هريرة فقد أخرجه أحمد وأصحاب السنن الأربعة والدارمي
وابن حبان والحاكم وقال: إسناده على شرط الشيخين، واستغربه الترمذي مع
تصحيحه، وقال عبد الحق: هو حديث ثابت لكن علته أن هماما تفرد به،
وأن هشاما رواه عن قتادة فقال: كان يقال.
وأخرج أبو نعيم عن أنس نحوه، وقد ورد عن عائشة (كان رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقسم فيعدل ويقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك
ولا أملك) رواه أصحاب السنن الأربعة والدارمي وصححه ابن حبان والحاكم
ورجح الترمذي إرساله فقال: رواية حماد بن زيد عن أيوب عن أبي قلابة
مرسلا أصح، وكذا أعله النسائي والدارقطني.
وقال أبو زرعة: لا أعلم أحدا تابع حماد بن سلمة على وصله، وعنها رضي الله عنه
ا (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسأل في مرضه الذي مات فيه: أين
أنا غدا؟ يريد يوم عائشة، فأذن له أزواجه يكون حيث شاء فكان في بيت عائشة
حتى مات عندها) رواه أحمد والبخاري ومسلم.
أما أحكام هذه الفصول فإنه لا يجب على المرأة خدمة الرجل أو البيت لان
المعقود عليه هو الاستمتاع إلا أن خدمتها أمر مشروع يدل عليه حديث رواه
أحمد والبخاري ومسلم عن جابر (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل
نكحت؟ قلت نعم، قال: أبكرا أم ثيبا؟ قلت ثيب، قال فهلا بكرا تلاعبها
وتلاعبك؟ قلت يا رسول الله قتل أبى يوم أحد، وترك تسع بنات، فكرهت
أن أجمع إليهن خرقاء مثلهن، ولكن امرأة تمشطهن وتقيم عليهن، قال أصبت)
فمن كان بسبيل من ولد وأخ وعائلة فإنه لا حرج على الرجل في قصده خدمة امرأته
426

وإن كان ذلك لا يجب عليها، لكن يؤخذ منه أن العادة جارية بذلك، فلذلك لم
ينكره النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أحمد: قال أصحابنا وغيرهم ليس على المرأة
خدمة زوجها في عجن وخبز وطحن وطبخ ونحوه.
وقال السفاريني في شرح ثلاثيات المسند: لكن الأولى لها فعل ما جرت العادة
بقيامها به، وأوجب ابن تيمية المعروف من مثلها لمثله، وأما خدمة نفسها في
ذلك فعليها إلا أن يكون مثلها لا تخدم نفسها، وقال أبو ثور: على الزوجة أن
تخدم الزوج في كل شئ، وقال ابن حبيب في (الواضحة) إن النبي حكم على فاطمة
عليها السلام بخدمة البيت كلها، قال السفاريني وفى الفروع ليس عليها عجن وخبز
وطبخ ونحوه نص عليه خلافا للجوزجاني من أئمة علمائنا اه‍.
(مسألة) إذا كان له زوجتان أو أكثر لم يجب عليه القسم ابتداء، بل يجوز
له أن ينفرد عنهن في بيت لان المقصود هو الاستمتاع وهو حق له فجاز له تركه
وان أراد أن يقسم بيتهن جاز لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه.
ولا يجوز أن يبدأ بواحدة منهن من غير رضا الباقيات الا بالقرعة لقوله
تعالى (فلا تميلوا كل الميل) وحديث أبي هريرة الذي ساقه المصنف ومضى
تخريجه فيه وعيد شديد لمن يؤثر واحدة دون الأخرى، وفى البداءة بإحداهن
من غير قرعة ميل، فإن كان له زوجتان أقرع بينهما مرة واحدة، وان كن ثلاثا
أقرع مرتين وان كن أربعا أقرع ثلاث مرات لأنهن إذا كن ثلاثا فخرجت القرعة
لواحدة قسم لها ثم أقرع بين الباقيتين، وهكذا في الأربع، وان أقام عند واحدة
منهن من غير قرعة لزمه القضاء للباقيتين، لأنه إذا لم يقض كان مائلا.
(مسألة) ويقسم المريضة والرتقاء والقرناء والحائض والنفساء والمحرمة
والتي آلى منها أو ظاهر، لان المقصود الايواء والسكن، وذلك موجود في حقهن
فأما المجنونة فإن كان خاف منها سقط حقها من القسم لان المقصود
الايواء والسكن، وذلك موجود في حقهن، وان لم يخف منها وجب لها القسم
لان الايواء يحصل معها، وان دعاها إلى منزل له فامتنعت سقط حقها من
القسم كالعاقلة.
427

(فرع) ويقسم المريض والمجنون والعنين والمحرم، لان الانس يحصل به،
وإن كان يخاف منه لم يقسم له الولي لأنه لا يحصل به الانس، وإن كان لا يخاف
منه نظرت فإن كان قد قسم لواحدة في حال عقله ثم جن قبل أن يقضى
لزم الولي أن يقضى للباقيات قسمهن منه، كما لو كان عليه دين، وإن جن قبل
أن يقسم لواحدة منهن فإن لم ير الولي أن له مصلحة في القسم لم يقسم لهن،
وإن رأى المصلحة له في القسم قسم لهن لأنه قائم مقامه، وهل يجب على الولي
ذلك أم لا؟ على قولين، وحكاهما بعض الأصحاب وجهين (أحدهما) لا يجب
عليه كما لا يجب على العاقل (والثاني) يجب عليه ذلك لان العاقل له اختيار في
ترك حقه والمجنون لا اختيار له، فلزم الولي أن يستوفى له حقه بذلك، فإن حمله
إلى واحدة حمله ليلة أخرى أو كان بالخيار بين أن يطوف على نسائه وبين أن يتركه
في منزله ويستدعيهن واحدة واحدة إليه، وإن طاف به على البعض واستدعى
البعض جاز، فان قسم الولي لبعضهن ولم يقسم للباقيات لم يلزم الولي. هذا نقل
أصحابنا البغداديين.
وقال المسعودي: هل يقسم الولي للمجنون. فيه وجهان. قال فإن كان يجن
يوما ويفيق يوما فأقام ليلة جنونه عند واحدة وليلة عقله عند أخرى لم تحتسب
ليلة جنونه عندها حتى يقضى لها، فلو أقر الولي أنه ظلم إحداهن لم يسمع إقراره
حتى تقر المظلومة لها للمظلومة، هكذا أفاده العمراني في البيان.
وحكى في البحر عن قوم مجاهيل أنه يجوز لمن له زوجتان أن يقف مع إحداهما
ليلة ومع الأخرى ثلاثا لان له أن ينكح أربعا، وله إيثار أيهما شاء بالليلتين،
ولا شك أن هذا ومثله يعد من الميل الكلى، والله يقول (فلا تميلوا كل الميل)
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن سافرت المرأة بغير إذن الزوج سقط حقها من القسم والنفقة
لان القسم للانس والنفقة للتمكين من الاستمتاع، وقد منعت ذلك بالسفر.
وان سافرت باذنه ففيه قولان (أحدهما) لا يسقط لأنها سافرت باذنه، فأشبه
428

إذا سافرت معه (الثاني) لا يسقط، لان القسم للانس والنفقة للتمكين من
الاستمتاع، وقد عدم الجميع فسقط ما تعلق به كالثمن لما وجب في مقابلة المبيع
سقط بعدمه.
(فصل) وإن اجتمع عنده حرة وأمة قسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة، لما
روى عن علي كرم الله وجهه أنه قال: من نكح حرة على أمة فللحرة ليلتان
وللأمة ليلة، والحق في قسم الأمة لها دون المولى، لأنه يراد لحظها فلم يكن
للمولى فيه حق، فإن قسم للحرة ليلتين ثم أعتقت الأمة، فإن كان بعدما أوفاها
حقها استأنف القسم لها لأنهما تساويا بعد انقضاء القسم. وإن كان قبل أن يوفيها
حقها أقام عندها ليلتين، لأنه لم يوفها حقها حتى صارت مساوية للحرة فوجب
التسوية بينهما، وإن قسم للأمة ليلة ثم أعتقت، فإن كان بعدما أوفى الحرة حقها
سوى بينهما، وإن كان قبل أن يوفى الحرة حقها لم يزد على ليلة لأنهما تساويا
فوجب التسوية بينهما
(فصل) وعماد القسم الليل، لقوله عز وجل (وجعلنا الليل لباسا) قيل
في التفسير الايواء إلى المساكن، ولان النهار للمعيشة والليل للسكون، ولهذا
قال الله تعالى (ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه) فإن كانت معيشته بالليل فعماد
قسمه النهار، لان نهاره كليل غيره، والأولى أن يقسم ليلة ليلة اقتداء
برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولان ذلك أقرب إلى التسوية في إيفاء الحقوق
فإن قسم ليلتين أو ثلاثا جاز، لأنه في حد القليل، وإن زاد على الثلاث لم يجز
من غير رضاهن، لان فيه تغريرا بحقوقهن، فإن فعل ذلك لزمه الفضاء للبواقي
لأنه إذا قضى ما قسم بحق فلان يقضى ما قسم بغير حق أولى، وإذا قسم لها ليلة
كان لها الليلة وما يليها من النهار، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لكل امرأة يومها وليلتها، غير أن سودة
وهبت ليلتها لعائشة تبتغى بذلك رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى
عن عائشة رضي الله عنها قالت (توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي وفي يومي وبين
سحري ونحري، وجمع الله بين ريقي وريقه)
(فصل) والأولى أن يطوف إلى نسائه في منازلهن اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
429

ولان ذلك أحسن في العشرة وأصون لهن، وله أن يقيم في موضع ويستدعى
واحدة واحدة، لأن المرأة تابعة للزوج في المكان، ولهذا يجوز له أن ينقلها إلى
حيث شاء، وإن كان محبوسا في موضع فان أمكن حضورها فيه لم يسقط
حقها من القسم، لأنه يصلح للقسم فصار كالمنزل، وإن لم يمكن حضورها فيه
سقط القسم لأنه تعذر الاجتماع لعذر، وإن كانت له امرأتان في بلدين فأقام في
بلد إحداهما فإن لم يقم معها في منزل لم يلزمه القضاء بالمقام في بلد الأخرى لان
المقام في البلد معها ليس بقسم، وان أقام معها في منزلها لزمه القضاء للأخرى،
لان القسم لا يسقط باختلاف البلاد كما لا يسقط باختلاف المحال.
(فصل) ويستحب لمن قسم أن يسوى بينهن في الاستمتاع لأنه أكمل في
العدل، فإن لم يفعل جاز، لان الداعي إلى الاستمتاع الشهوة والمحبة، ولا يمكن
التسوية بينهن في ذلك. ولهذا قال الله عز وجل (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين
النساء ولو حرصتم).
قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعنى في الحب والجماع. وقالت عائشة (رض)
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه ويعدل ثم يقول: اللهم هذا
قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملكه ولا أملكه).
(الشرح) حديث عائشة الأول أخرجه أحمد والبخاري ومسلم، وبقية
الاخبار مضى تخريجها.
أما اللغات فقوله (وجعلنا الليل لباسا) الليل من غروب الشمس إلى طلوع
الفجر، وقياس جمعها ليلات مثل بيضة وبيضات، وعاملته ملايلة أي ليلة وليلة
مثل مشاهرة ومياومة، أي شهرا وشهرا ويوما ويوما، واللباس هو الذي يغطى
ويستر كما يغطى اللباس ويستر. وقوله (بين سحري ونحري) السحر الرثة. قال
ابن بطال: أرادت أنه مات وهو متكئ عليها صلى الله عليه وسلم، والنحر موضع
القلادة من الصدر وتطلق النحور على الصدور
أما الأحكام فإنه إذا كان طلب معاش الرجل بالنهار فعماد قسمته الليل لقوله
تعالى (وجعل الليل سكنا) وقوله تعالى (وجعلنا الليل لباسا والنهار معاشا)
430

وإن كان طلب معاشه بالليل فعماد قسمته النهار، والمستحب أن يقسم مناوبة وهو
أن يقيم عند واحدة ليلة ثم عند الأخرى ليلة، لان النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل هكذا،
ولأنه أقرب إلى إيفاء الحق، وإن أراد أن يقسم لكل واحدة ليلتين أو ثلاثا جاز
لان ذلك قريب إلى إيفاء الحق، وإن أراد أن يقيم عند كل واحدة أكثر من
الثلاث فقد قال الشافعي في الاملاء: إن أراد أن يقسم لهن مياومة أو مشاهرة
أو مساناة كرهت له وأجزأه. قال أصحابنا: يجوز له ما زاد على الثلاث برضاهن
وأما بغير رضاهن فلا يجوز لأنه كثير، ويدخل النهار في القسم لما روى عن عائشة
رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم لنسائه كل واحدة يوما
وليلتها، غير أن سودة رضي الله عنها وهبت ليلتها لعائشة.
وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل إلى بيت حفصة فلم يصادفها، فقعد عند مارية
فقالت: يا رسول الله في بيتي وفى يومي، فأضافت اليوم إليها، والأولى أن يجعل
اليوم تابعا لليلة التي مضت قبله، لان الشهر هلالي، وإن جعل النهار تابعا لليلة
التي بعده جاز.
(مسألة) إذا سافرت المرأة مع زوجها فلها النفقة والقسم لأنها في مقابلة
الاستمتاع وذلك موجود. وهكذا إذا أشخصها من بلد إلى بلد لتعلة أو لحاجة فلها
النفقة والقسم وان لم يكن معها. وإن سافرت لحاجة لها وحدها بإذنه ففيه قولان
(أحدهما) لا نفقة لها ولا قسم لأنها في مقابلة الاستمتاع وذلك متعذر منها.
(والثاني) لها النفقة والقسم لأنها غير ناشزة، فهو كما لو أشخصها لحاجة له والأول أصح
(مسألة) وإن كان عنده مسلمة وذمية سوى بينهما في القسم لقوله تعالى
(وعاشروهن بالمعروف) ولم يفرق، ولعموم الوعيد في حديث أبي هريرة عن
النبي صلى الله عليه وسلم (من كانت له امرأتان يميل لأحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة
يجر أحد شقيه ساقطا أو مائلا) رواه أحمد وأصحاب السنن
قال الشافعي في الام: وإذا كان له أربع زوجات فترك إحداهن من القسمة
أربعين ليلة قضى لها عشر ليال. واختلف أصحابنا في تأويله فقال أكثرهم: أراد
أنه أقام عند كل واحدة من الثلاث عشرا. ثم أقام عشرا وحده في بيت فيقضى
للرابعة عشرا. فأما لو أقام عند الثلاث أربعين قضى للرابعة ثلاث عشرة ليلة وثلثا
431

وقال ابن الصباغ: ظاهر كلامه أنه أقام عندهن أربعين ليلة. وما قال له وجه
جيد عندي لان الذي تستحقه بالقضاء عشر، وثلاث ليال وثلث تستحقها إذن
لان زمان القضاء لها فيه قسم.
(فرع) قال في الام: وإن كان له أربع نسوة فسافرت واحده منهن بغير اذنه
وأقام عند اثنتين ثلاثين يوما عند كل واحدة خمسة عشر يوما فلما أراد أن يقيم
عند الثالثة رجعت الناشزة وصارت في طاعته، فلا حق لها فيما مضى من القسم
لأنها كانت عاصية، ولا يمكن أن يقسم للثالثة خمس عشرة ليلة، لان القادمة
تستحق الربع فيجعل الليالي أربعا ويقيم عند القادمة ليلة وهو حقها، ويجعل
للثالثة ثلاث ليال، ليلة هي حقها وليلتين من حق الأولتين، فإذا دار بين القادمة
والثالثة خمسة أدوار كذلك، استوفت الثالثة خمس عشرة ليلة والقادمة خمسا
واستأنف القسم بين الأربع، ولو كان بدل المسافرة زوجة جديدة تزوجها قبل
أن يوفى الثالثة خص الجديدة إن كانت بكرا بسبع، وإن كانت ثيبا ثلاثا ثم يقسم
ثلاثا للثالثة الأولة وليلة للجديدة حتى يدور خمسة أدوار واستأنف القسم للأربع
دليلنا ما أخرجه الشيخان عن أبي قلابة عن أنس رضي الله عنه قال (من السنة
إذا تزوج البكر على الثيب أقام عندها سبعا ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها
ثلاثا ثم قسم:
قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت: ان أنس ارفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قال ابن دقيق العيد: قول أبى قلابة يحتمل وجهين.
(أحدهما) أن يكون ظن أنه سمعه عن أنس مرفوعا لفظا فتحرز عنه تورعا
(والثاني) أن يكون رأى أن قول أنس (من السنة) في حكم المرفوع، فلو عبر
عنه بأنه مرفوع على حسب اعتقاده لصح، لأنه في حكم المرفوع، قال والأول
أقرب، لان قوله (من السنة) يقتضى أن يكون مرفوعا بطريق اجتهادي محتمل
قلت: وقد روى هذا الحديث مرفوعا الدارقطني والبيهقي وأبو عوانة وابن
خزيمة وابن حبان والدارمي بلفظ (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
للبكر سبعة أيام وللثيب ثلاث ثم يعود إلى نسائه) وسيأتي في فصل بعده.
432

(مسألة) والمستحب أن يطوف على نسائه في منازلهن، لان النبي صلى الله
عليه وسلم كان يفعل ذلك، ولان ذلك أصون لهن، وان قعد في منزل واستدعى
كل واحدة إليه في منزلها، واستدعى البعض إلى منزله كان له ذلك، فإن لم تأته
واحدة إلى حيث مكان يصلن إليه ويصلح للمسكن وأراد أن يقسم بينهن،
ويستدعيهن إليه كان له ذلك لأنه كالمنزل، وإن كان له امرأتان في بلدين فأقام في
بلد إحداهما فان أقام معها قضى للأخرى، وإن لم يقم معها لم يقض للأخرى،
لان اقامته في البلد التي هي بها من غير أن يقيم معها ليس بقسم.
(مسألة أخرى) ليس في شرط القسم الوطئ، غير أن المستحب أن يساوى
بينهن في الوطئ لأنه هو المقصود، فان وطئ بعضهن دون بعض لم يأثم بذلك
لان الوطئ طريقه الشهوة، وقد تميل الشهوة إلى بعضهن دون بعض، ولهذا
قال تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم) قيل في التفسير:
في الحب والجماع، وقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه، ويقول: اللهم
هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك. رواه أصحاب السنن عن
عائشة رضي الله عنها وصححه الحاكم وابن حبان، ورجح الترمذي ارساله.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ولا يجوز أن يخرج في ليلتها من عندها، فان مرض غيرها من
النساء وخاف أن تموت أن أكرهه السلطان جاز أن يخرج لأنه موضع ضرورة
وعليه القضاء، كما يترك الصلاة إذا أكره على تركها وعليه القضاء، والأولى أن
يقضيها في الوقت الذي خرج، لأنه أعدل، وان خرج في آخر الليل وقضاه في
أوله جاز، لان الجميع مقصود في القسم، فان دخل على غيرها بالليل فوطئها ثم
عاد ففيه ثلاثة أوجه، أحدها: يلزمه القضاء بليلة لان الجماع معظم المقصود،
والثاني: يدخل عليها في ليلة الموطوءة فيطؤها لأنه أقرب إلى التسوية، والثالث
أنه لا يقضيها بشئ، لان الوطئ غير مستحق في القسم، وقدره من الزمان
لا ينضبط فسقط. ويجوز أن يخرج في نهارها للمعيشة ويدخل إلى غيرها ليأخذ
شيئا أو يترك شيئا ولا يطيل، فان أطال لزمه القضاء لأنه ترك الايواء المقصود
433

وإن دخل إلى غيرها لحاجة فقبلها جاز، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت
(ما كان يوم أو أقل يوم إلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا
جميعا، ويقبل ويلمس، فإذا جاء إلى التي هو يومها أقام عندها) ولا يجوز أن
يطأها لأنه معظم المقصود فلا يجوز في قسم غيرها، فإن وطئها وانصرف ففيه
وجهان (أحدهما) أنه يلزمه أن يخرج في نهار الموطوءة ويطأها، لأنه هو العدل
(والثاني) لا يلزمه شئ لان الوطئ غير مستحق، وقدره من الزمان لا ينضبط
فسقط، وإن كان عنده امرأتان فقسم لإحداهما مدة ثم طلاق الأخرى قبل أن
يقضيها ثم تزوجها لزمه قضاء حقها، لأنه تأخر القضاء لعذر وقد زال فوجب
كما لو كان عليه دين فأعسر ثم أيسر.
(الشرح) حديث عائشة رضي الله عنها أخرجه أحمد في مسنده والبيهقي
والحاكم وصححه بلفظ (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من يوم إلا وهو
يطوف علينا جميعا امرأة امرأة، فيدنو ويلمس من غير مسيس حتى يفضى إلى
التي هو يومها فيبيت عندها) وروى أبو داود بنحوه ولفظه في رواية له (كان
لا يفضل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا، وكان ما من يوم إلا وهو
يطوف علينا جميعا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها
فيبيت عندها) وفى لفظ عند أحمد والبخاري ومسلم (كان إذا انصرف من صلاة
العصر دخل على نسائه، فيدنو من إحداهن).
أما الأحكام: فقد قال الشافعي رضي الله عنه (ولا يدخل في الليل على التي
لم يقسم لها) وجملة ذلك أنه إذا قسم بين نسائه فلا يجوز أن يخرج من المقسوم
لها في ليلتها لغير ضرورة من غير اذنها لان عماد القسم الليل، فان دعت ضرورة
إلى ذلك بأن مرض غيرها وأشرفت على الموت فاحتاج أن يخرج إليها لتوصي إليه
أو تحتاج إلى قيم ولا قيم لها أو ماتت واحتاج إلى الخروج لتجهيزها جاز له الخروج
لان هذا موضع عذر، فان برئت المريضة التي خرج إليها قضى للتي خرج من
ليلتها من ليلة المريضة مثل الذي أقام عندها، وان ماتت لم يقض، بل يستأنف
القسم للباقيات.
434

إذا ثبت هذا فقد نقل المزني: أنه يعودها في ليلة غيرها. قال أصحابنا هذا
سهو في النقل أيضا، هو في يوم غيرها، فان خالف وخرج عنها في ليلتها لغير
عذر إلى غيرها وأقام عندها قليلا فقد أساء، ولا يقضى ذلك، لان ذلك يسير
لا يضبط، وان أقام عندها مدة طويله من الليل قضى للأخرى من ليلته التي أقام
عندها مثل ذلك في وقته من الليل، وان قضى مثله في غير وقته من الليل جاز،
لان المقصود الايواء، وجميع الليل وقت الايواء، وان دخل إلى غيرها في ليلتها
وجامعها وخرج سريعا فما الذي يجب عليه؟ فيه ثلاثة أوجه
(أحدها) لا يجب القضاء عليه لان القصد الايواء، ولم يفوت عليها بجماع
غيرها الايواء، لان قدر مدته يسيرة.
(والثاني) يجب عليه القضاء، بليلة من حق الموطوءة، لان المقصود
بالايواء هو الجماع، فإذا وقع ذلك لغيرها في ليلتها وجب عليه أن يقضيها في ليلة
الموطوءة (والثالث) أنه يدخل عليها في ليلة الموطوءة فيطؤها لأنه أعدل.
(فرع) فان أخرجه عنها في ليلتها وحبسه نصف ليلتها أو خرج عنها إلى
بيت وقعد فيه نصف الليل، وجب عليه أن يقضى مثل الذي فوت عليها، فان
فوت عليها النصف الأول من الليل فإنه يأوى إليها النصف الأول من الليل:
ثم يخرج منها إلى منزله أو لغيره، وينفرد عنها وعن سائر نسائه النصف الأخير
وقال ابن الصباغ: قال بعض أصحابنا: الا أن يخاف العسس أو يخاف اللصوص
فيقيم عندها في باقي الليل، ولا يخرج للعذر، ولا يقضى الباقيات، وان فوت
عليها النصف الأخير من الليل فالمستحب أن يقضيها في النصف الأخير، وان
أوى إليها النصف الأول وانفرد في النصف الأخير جاز.
(فرع) ويجوز أن يخرج في نهار المقسم لها لطلب المعيشة إلى السوق
ولقضاء الحاجات، وان دخل إلى غيرها في يومها، فإن كان لحاجة مثل أن يحمل
إليها نفقتها، أو كانت مريضة فدخل عليها يعودها، أو دخل لزيارتها لبعد
عهده بها، أو يكلمها بشئ أو تكلمه، أو يدخل إلى بيتها شيئا، أو يأخذ منه
شيئا ولم يطل الإقامة عندها، جاز ولا يلزمه القضاء لذلك، لان المقصود بالقسم
435

الايواء، وذلك يحصل بالليل دون النهار ولا يجامعها لما روى عن عائشة (ما من
يوم الا وهو يطوف علينا جميعا امرأة امرأة فيدنو ويلمس من غير مسيس حتى
يفضى إلى التي هو يومها فيبيت عندها) وهل له أن يستمتع بالتي يدخل إليها في
غير يومها بالجماع؟ فيه وجهان حكاهما ابن الصباغ.
(أحدهما) لا يجوز لان ذلك ما يحصل به السكن فأشبه الجماع.
(والثاني) وهو المشهور: يجوز لحديث عائشة أم المؤمنين، فان دخل إليها
في يوم غيرها وأطال المقام عندها لزمه القضاء، كما قلنا في الليل، وان أراد
الدخول إليها في يوم غيرها لغير حاجة لم يجز لان الحق لغيرها، وان دخل إليها
في يوم غيرها ووطئها، وانصرف سريعا ففيه وجهان حكاهما المصنف. أحدهما
لا يلزمه القضاء لأنه غير مستحق ووقته لا ينضبط. والثاني: يلزمه أن يدخل
إليها في يوم الموطوءة فيطؤها لأنه أعدل.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان تزوج امرأة وعنده امرأتان أو ثلاث قطع الدور للجديدة
فإن كانت بكرا أقام عندها سبعا، لما روى أبو قلابة عن أنس رضي الله عنه أنه
قال (من السنة أن يقيم عند البكر مع الثيب سبعا، قال أنس: ولو شئت أن أرفعه
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لرفعت) وإن كانت ثيبا أقام عندها ثلاثا أو سبعا
لما روى (أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج أم سلمة رضي الله عنها وقال: إن
شئت سبعت عندك وسبعت عندهن، وان شئت ثلثت عندك ودرت) فان أقام
عند البكر سبعا لم يقض للباقيات شيئا، وان أقام عند الثيب ثلاثا لم يقض، فان
أقام سبعا ففيه وجهان.
(أحدهما) يقضى السبع لقوله صلى الله عليه وسلم (ان شئت سبعت عندك
وسبعت عندهن) (والثاني) يقضى ما زاد على الثلاث، لان الثلاث مستحقه لها
فلا يلزمه قضاؤها، وان تزوج العبد أمة وعنده امرأة قضى للجديدة حق العقد
وفى قدره وجهان، قال أبو علي بن أبي هريرة: هي على النصف كما قلنا في القسم
الدائم، وقال أبو إسحاق: هي كالحرة، لان قسم العقد حق الزوج فلم يختلف
436

برقها وحريتها بخلاف القسم الدائم فإنه حق لها، فاختلف برقها وحريتها، وإن
تزوج رجل امرأتين وزفتا إليه في وقت واحد أقرع بينهما لتقديم حق العقد كما
يقرع للتقديم في القسم الدائم.
(الشرح) حديث أبي قلابة عن أنس في الصحيحين، إلا أنه ليس فيه، قال
أنس وإنما الذي فيه: قال أبو قلابة: ولو شئت لقلت. إن أنسا رفعه إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن دقيق العيد: قول أبى قلابة يحتمل
وجهين (أحدهما) أن يكون ظن أنه سمعه عن أنس مرفوعا لفظا فتحرز عنه
تورعا (والثاني) أن يكون رأى أن قول أنس: من السنة، في حكم المرفوع،
فلو عبر عنه بأنه مرفوع على حسب اعتقاده لصح، لأنه في حكم المرفوع. قال
والأول أقرب، لان قوله من السنة يقتضى أن يكون مرفوعا بطريق اجتهادي
محتمل، وقوله: انه رفعه نص في رفعه، وليس للراوي أن ينقل ما هو ظاهر
محتمل إلى ما هو نص في رفعه، وبهذا يندفع ما قاله بعضهم من عدم الفرق بين
قوله من السنة كذا، وبين رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد روى
هذا الحديث جماعه عن أنس وقالوا فيه: قال النبي صلى الله عليه وسلم، كما في
البيهقي ومستخرج الإسماعيلي، وصحيح أبى عوانة، وصحيح ابن خزيمة وصحيح
ابن حبان وسنن الدارمي والدارقطني.
أما حديث أم سلمة فقد أخرجه أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجة بلفظ:
عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوجها أقام عندها ثلاثة
أيام وقال: إنه ليس بك هوان على أهلك، فإن شئت سبعت لك، وإن سبعت
لك سبعت لنسائي) ورواه الدارقطني ولفظه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
لها حين دخل بها: ليس بك عن أهلك هو ان إن شئت أقمت عندك ثلاثا خالصة
لك، وان شئت سبعت لك وسبعت لنسائي، قالت تقيم معي ثلاثا خالصة) وفى
إسناد الدارقطني الواقدي: وعن أنس رضي الله عنه قال (لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم
صفيه أقام عندها ثلاثا وكانت ثيبا) رواه أحمد وأبو داود والنسائي.
437

أما الأحكام فإن الأحاديث تدل على أن البكر تؤثر بسبع والثيب بثلاث.
قيل وهذا في حق من كان له زوجة قبل الجديدة. وقال ابن عبد البر قول جمهور
العلماء أن ذلك حق للمرأة بسبب الزفاف، سواء كان عنده زوجة أم لا. وحكى
النووي أنه يستحب إذا لم يكن عنده غيرها وإلا فيجب.
قال الحافظ بن حجر في الفتح: وهذا يوافق كلام أكثر الأصحاب، واختار
النووي أن لا فرق، واطلاق الشافعي يعضده. ويمكن التمسك لقول من اشترط
أن يكون عنده زوجة قبل الجديدة بقوله في حديث أنس أيضا: البكر سبع وللثيب
ثلاث. قال الحافظ لكن القاعدة ان المطلق محمول على المقيد. قال وفيه يعنى
حديث أنس حجة على الكوفيين في قولهم إن البكر والثيب سواء في الثلاث،
وعلى الأوزاعي في قوله للبكر ثلاث وللثيب يومان، وفيه حديث مرفوع عن
عائشة عند الدارقطني بسند ضعيف جدا. اه‍
وقال العمراني في البيان (إذا كان تحته زوجة أو زوجات فتزوج بأخرى قطع
الدور للجديدة، فإن كانت بكرا أقام عندها سبعا ولا يقضى، وإن كانت ثيبا كان
بالخيار بين أن يقيم عندها ثلاثا ولا يقضى، وبين أن يقيم عندها سبعا ويقضى
ما زاد على الثلاث. ومن أصحابنا من قال تقضى السبعة كلها، والأول هو المشهور
قلت هذا هو مذهبنا وبه قال أنس بن مالك (رض) والشعبي والنخعي ومالك
واحمد وإسحاق رحمهم الله.
وقال ابن المسيب والحسن البصري (يقيم عندها إذا كانت بكرا ليلتين وعند
الثيب ليلة) وقال الحكم وحماد وأبو حنيفة وأصحابه (يقيم عند البكر سبعا وعند
الثيب ثلاثا ويقضى مثل ذلك للباقيات. دليلنا ما روى عن أنس مرفوعا (للبكر
سبع وللثيب ثلاث) وما روى عن أم سلمة (دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال
ما بك على أهلك هوان، فإن شئت سبعت عندك وقضيت لهن، وان شئت ثلثت
عندك ودرت، فقلت ثلث) فإذا قلنا يجب عليه قضاء السبع إذا أقامها عند الثيب
فوجهه قوله صلى الله عليه وسلم (ثلثت عندك ودرت) فلو كان يجب قضاء الثلاث
كما كان يجب قضاء ما زاد لما كان للتخيير معنى، ولان الثلاثة مستحقه لها بدليل
438

انها لو اختارت ان يقيم عندها الثلاث لا غير لم يجب عليه قضاؤها، فكذلك
لا يجب قضاؤها إذا أقامها مع الأربع.
(فرع) قال في الام ولا أحب ان يتخلف عن صلاة الجماعة، ولا يمنعه من
عيادة مريض ولا شهود جنازة ولا إجابة وليمة. وجملة ذلك أنه إذا أقام عند
الجديدة بحق العقد فهو كالقسم الدائم فعماده الليل. واما بالنهار فله ان ينصرف
إلى طلب معاشه ويصلى مع الجماعة ويشهد الجنازة ويعود المريض ويجيب الولائم
لان الايواء بالنهار عندها مباح. وهذه الأشياء طاعات فلا يترك الطاعات للمباح
قال ابن الصباغ فأما بالليل فقال أصحابنا لا يخرج فيه لشئ من ذلك لان حق
الزوجة فيه واجب وما يخرج له فليس بواجب، بخلاف السكون عندها بالنهار
فإنه ليس بواجب. اه‍
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان أراد السفر بامرأة أو امرأتين أو ثلاث أقرع بينهن، فمن
خرجت عليها القرعة سافر بها، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت، كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج أقرع بين نسائه، فصارت القرعة على عائشة رضي الله عنه
ا، وحفصة رضي الله عنها فخرجتا معه جميعا) ولا يجوز ان يسافر بواحدة
من غير قرعه، لان ذلك ميل وترك للعدل.
وان سافر بامرأتين بالقرعة سوى بينهما في القسم كما يسوى بينهما في الحضر
فإن كان في سفر طويل لم يلزمه القضاء للمقيمات، لان عائشة رضي الله عنها لم
تذكر القضاء، ولان المسافرة اختصت بمشقة السفر فاختصت بالقسم، وإن كان
في سفر قصير ففيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه القضاء كما لا يلزمه في السفر
الطويل (والثاني) يلزمه لأنه في حكم الحضر، وان سافر ببعضهن بغير قرعة
لزمه القضاء للمقيمات لأنه قسم بغير قرعه فلزمه القضاء كما لو قسم لها في الحضر
وان سافر بامرأة بقرعة إلى بلد ثم عن له سفر أبعد منه لم يلزمه القضاء، لأنه
سفر واحد وقد أقرع له.
وان سافر بامرأة بالقرعة وانقضى سفره ثم أقام معها مدة لزمه ان يقضى
439

المدة التي أقام معها بعد انقضاء السفر، لان القرعة إنما تسقط القضاء في قسم
السفر، وإن كان عنده امرأتان ثم تزوج بامرأتين وزفتا إليه في وقت واحد لزمه
أن يقسم لهما حق العقد، ولا يقدم إحداهما من غير قرعة، فإن أراد السفر قبل
أن يقسم لهما أقرع بين الجميع فإن خرجت القرعة لإحدى القديمتين سافر بها فإذا
قدم قضى حق العقد للجديدتين وان خرجت القرعة لإحدى الجديدتين؟ ويدخل حق
العقد في قسم السفر لان القصد من قسم العقد الألفة والاستمتاع. وقد حصل ذلك
وهل يلزمه أن يقضى للجديدة الأخرى حق العقد؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه
كما لا يلزمه في القسم الدائم (والثاني) يلزمه، وهو قول أبي إسحاق، لأنه سافر
بها بعدما استحقت الأخرى حق العقد فلزمه القضاء، كما لو كان عنده أربع نسوة
فقسم للثلاث ثم سافر بغير الرابعة بالقرعة قبل قضاء حق الرابعة.
(الشرح) حديث عائشة أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وابن ماجة بلفظ
(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج سفرا أقرع بين أزواجه
فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه) وقد استدل بهذا الحديث على مشرعية القرعة
في القسمة بين الشركاء وغير ذلك، والمشهور عن الحنفية والمالكية عدم اعتبار
القرعة. قال القاضي عياض: هو مشهور عن مذهب مالك وأصحابه، لأنها من
باب الحظر والقمار. وحكى عن الحنفية إجازتها
أما جملة الفصل فإنه إذا كان لرجل زوجتان أو أكثر وأراد السفر، كان
بالخيار بين أن يسافر وحده ويتركهن في البلد، لان عليه الفقه والكسوة والسكنى
دون المقام معهن، كما لو كان بالحضر وانفرد عنهن، وإن أراد أن يسافر بهن جميعا
لزمهن ذلك، كما يجوز أن ينتقل من بلد إلى بلد، وإن أراد أن يسافر ببعض نسائه
أقرع بينهن لما روت عائشة عليها السلام من إقراع النبي صلى الله عليه وسلم وقد
مضى، وهو بالخيار بين أن يكتب الأسماء ويخرج على السفر، والإقامة وبين أن
يكتب السفر والإقامة ويخرج على الأسماء.
وإذا خرج السفر على واحدة لم يلزمه المسافرة بها، بل لو أراد أن يدعها
ويسافر وحده كان له، وان أراد أن يسافر بغيرها لم يجز، لان ذلك يبطل فائدة
440

القرعة، وان اختار أن يسافر باثنتين وعنده أكثر أقرع بينهن، فإن خرجت
قرعة السفر على اثنتين سافر بهما ويسوى بينهما في القسم في السفر، كما لو كان
في الحضر. وإذا سافر بها بالقرعة فإن كان السفر طويلا لم يلزمه القضاء
للمقيمات. وإن كان السفر قصيرا ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يلزمه القضاء للمقيمات كالسفر الطويل (والثاني) يلزمه لأنه
في حكم الحضر. هذا مذهبنا وقال داود: يلزمه القضاء المقيمات في الطويل
والقصير. دليلنا حديث عائشة أنها ذكرت السفر ولم تذكر القضاء، ولان
المسافرة اختصت بمشقة السفر فاختصت بالقسم.
(فرع) وان سافر بواحدة منهن من غير قرعة لزمه القضاء للمقيمات، وبه
قال أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة لا يقضى. دليلنا أنه خص بعض نسائه بمدة
على وجه تلحقه فيه التهمة فلزمه القضاء كما لو كان حاضرا. وقال المسعودي:
فلو قصد الرجوع إليهن فهل تحتسب عليه المدة من وقت القصد. فيه وجهان
(فرع) وإن سافر بواحدة منهن بالقرعة ثم نوى الإقامة في بعض البلاد
وأقام بها معه أو لم ينو الإقامة إلا أنه أقام بها أربعة أيام غير يوم الدخول ويوم
الخروج قضى ذلك للباقيات، لأنه إنما لم يجب عليه أن يقضى مدة السفر. وهذا
ليس بسفر، وإن سافر بها إلى بلد فلما بلغه عن له أن يسافر بها إلى بلد آخر فسافر
بها لم يقض المقيمات لأنه سفر واحد وقد أقرع له.
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه (ولو أراد النقلة لم يكن له أن ينتقل
بواحدة إلا أوفى البواقي مثل مقامه معها) واختلف أصحابنا في تأويلها فمنهم من
قال: تأويلها إذا كان له نساء فأراد النقلة إلى بلد فينتقل بواحدة منهن ونقل
الباقيات مع وكيله إلى ذلك البلد، فلما وصل إلى ذلك البلد أقام مع التي نقلها بعد
السفر دون مدة السفر، لان مدة السفر لا تقضى. وقال أبو إسحاق: تقضى مدة
السفر ومدة الإقامة بعده، لأنه أراد نقل جميعهن، فقد تساوت حقوقهن،
فمتى خص واحدة بالكون معه لزمه أن يقضى للباقيات مدة الإقامة معها، كما لو
أقام في الحضر معها بخلاف السفر بإحداهن، فعلى قول الأول يحتاج إلى القرعة
وعلى قول أبي إسحاق لا تحتاج إلى قرعة
441

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجوز للمرأة أن تهب ليلتها لبعض ضرائرها، لما روت عائشة
رضي الله عنها، أن سودة وهبت يومها وليلتها لعائشة رضي الله عنها تبتغى بذلك
مرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم) ولا يجوز ذلك إلا برضا الزوج، لان
حقه ثابت في استمتاعها، فلا تملك نقله إلى غيرها من غير رضاه، ويجوز من
غير رضا الموهوب لها لأنه زيادة في حقها، ومتى تقسم لها الليلة الموهوبة؟ فيه
وجهان (أحدهما) تضم إلى ليلتها، لأنه اجتمع لها ليلتان فلم يفرق بينهما (والثاني)
تقسم لها في الليلة التي كانت للواهبة، لأنها قائمة مقامها فقسم لها في ليلتها،
ويجوز أن تهب ليلتها للزوج لان الحق بينهما، فإذا تركت حقها صار للزوج ثم
يجعلها الزوج لمن شاء من نسائه، ويجوز أن تهب ليلتها لجميع ضرائرها، فإن كن
ثلاثا صار القسم أثلاثا بين الثلاث، وإن وهبت ليلتها ثم رجعت لم يصح
الرجوع فيما مضى، لأنه هبة اتصل بها القبض، ويصح في المستقبل لأنها هبة
لم يتصل بها القبض.
(فصل) وإن كان له إماء لم يكن لهن حق في القسم، فإن بات عند بعضهن
لم يلزمه أن يقضى للباقيات، لأنه لا حق لهن في استمتاع السيد، ولهذا لا يجوز
لهن مطالبته بالفيئة إذا حلف أن لا يطأهن، ولا خيار لهن بجبه وتعنينه،
والمستحب أن لا يعطلهن لأنه إذا عطلهن لم يأمن أن يفجرن، وإن كان عنده
زوجات وإماء فأقام عند الإماء لم يلزمه القضاء للزوجات، لان القضاء يجب
بقسم مستحق، وقسم الإماء غير مستحق فلم يجب قضاؤه كما لو بات عند صديق له
(الشرح) حديث سودة هذا أخرجه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن
سعد وسعيد بن منصور والترمذي وعبد الرزاق وسودة بنت زمعة تزوجها النبي
صلى الله عليه وسلم وهو بمكة بعد موت خديجة عليها السلام ودخل بها
وهاجرت معه، ووقع في رواية لمسلم من طريق شريك عن هشام في آخر حديث
عائشة، قالت عائشة: وكانت امرأة تزوجها بعدي ومعناه عقد عليها بعد أن
442

عقد على عائشة، وأما الدخول بعائشة فكان بعد سودة بالاتفاق، وقد نبه على
ذلك ابن الجوزي قوله: وهبت يومها، في رواية البخاري في الهبة: يومها
وليلتها وزاد في آخرها تبتغى بذلك رضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولفظ أبى داود (ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت وخافت أن يفارقها
رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله يومي لعائشة، فقبل ذلك منها،
ففيها، وأشباهها نزلت: وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا) الآية.
قال الحافظ ابن حجر في الفتح: فتواردت هذه الروايات على أنها خشيت
الطلاق، فوهبت. قال: وأخرج ابن سعد بسند رجاله ثقات من رواية القاسم
ابن أبي برة مرسلا، (أن النبي صلى الله عليه وسلم طلقها فقعدت له على طريقه
فقالت: والذي بعثك بالحق ما لي في الرجال حاجة، ولكن أحب أن أبعث مع
نسائك يوم القيامة، فأنشدك الذي أنزل عليك الكتاب هل طلقتني لموجدة
وجدتها على، قال لا، قالت: فأنشدك لما راجعتني، فراجعها، قالت فإني قد
جعلت يومي وليلتي لعائشة حبة رسول الله صلى الله عليه وسلم) والرواية المتفق
عليها (أن سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقسم لعائشة يومها ويوم سودة)
وقوله (يومها ويوم سودة) لا نزاع أنه يجوز إذا كان يوم الواهبة واليا
ليوم الموهوب لها بلا فصل أن يوالي الزوج بين اليومين للموهوب لها، وأما
إذا كان بينهما نوبة زوجة أخرى أو زوجات، فقال العلماء انه لا يقدمه عن
رتبته في القسم إلا برضا من بقي، وهل يجوز للموهوب لها أن تمتنع عن قبول
النوبة الموهوبة فإن كان قد قبل الزوج لم يجز لها الامتناع وإن لم يكن قد قبل
لم تكره على ذلك. حكى ذلك في الفتح عن العماء.
وقال في البيان ويجوز للمرأة أن تهب ليلتها لبعض ضرائرها لما روى أن النبي صلى
الله عليه وسلم تزوج سودة بعد موت خديجة فلما كبرت وأسنت هم النبي صلى الله
عليه وسلم بطلاقها فقالت: يا رسول الله لا تطلقني ودعني حتى أحشر في جملة
أزواجك وقد وهبت ليلتي لأختي عائشة فتركها، فكان يقسم لكل واحدة ليله
ليله ولعائشة ليلتين.
443

إذا ثبت هذا فان القبول فيه إلى الزوج لان الحق له ولا يصح ذلك إلا برضاه
لان الاستمتاع حق له عليها، ولا يعتبر فيه رضا الموهوبة لان ذلك زيادة في
حقها فإن كانت ليلة الواهبة توالى ليلة الموهوبة والاهما لها، وإن كانتا غير
متواليتين فهل للزوج أن يواليهما من غير رضا الباقيات، فيه وجهان.
(أحدهما) له ذلك لان لها ليلتين، فلا فائدة في تفرقتهما.
(والثاني) ليس له ذلك، وهو المذهب ولم يذكر البغوي غيره لأنها قائمة
مقام الواهبة، وإن وهبتها لزوجها جاز له أن يجعلها لمن شاء من نسائه، لان
الحق له، وإن جعلها لواحدة تلي ليلتها ليلة الواهبة، إما قبلها أو بعدها والاهما
لها، وان جعلها لمن لا تلي ليلتها فهل له أن يواليهما لها؟ على الوجهين،
هكذا نقل البغداديون.
وقال المسعودي: هل للزوج أن يخص بها بعض نسائه، فيه وجهان. وان
وهبتها لجميع ضرائرها صح ذلك وسقط قسمها وصارت كأن لم تكن، فان
رجعت الواهبة في ليلتها لم تصح رجعتها فيما مضى، لأنها هبة اتصل بها القبض
ويصح رجعتها في المستقبل لأنها هبة لم يتصل بها القبض، فإن لم يعلم الزوج
برجعتها حتى قصم ليلتها لغيرها.
قال الشافعي رحمه الله: لم يكن لها بدلها، فان أخذت عن ليلتها عوضا من
الزوج لم يصح لأنه ليس بعين ولا منفعة، فترد العوض ويقبضها الزوج حقها
لأنها تركت حقها بعوض ولم يسلم لها العوض.
(مسألة) المستحب أن يساوى بين الإماء والحرائر، فإن لم يفعل فلا شئ
عليه، وله أن يطوف على نسائه أو إمائه بغسل واحد إذا حللته عن ذلك في
القسم لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد،
والله تعالى أعلم بالصواب.
444

قال المصنف رحمه الله تعالى:
باب النشوز
إذا ظهرت من المرأة أمارات النشوز وعظها لقوله تعالى (واللاتي تخافون
نشوزهن فعظوهن) ولا يضربها لأنه يجوز أن يكون ما ظهر منها لضيق صدر
من غير جهة الزوج، وإن تكرر منها النشوز فله أن يضربها، لقوله عز وجل
(واضربوهن) وان نشزت مرة ففيه قولان.
(أحدهما) أنه يهجرها ولا يضربها، لان العقوبات تختلف باختلاف الجرائم
ولهذا ما يستحق بالنشوز لا يستحق بخوف النشوز، فكذلك ما يستحق بتكرر
النشوز لا يستحق بنشوز مرة.
(والثاني) وهو الصحيح: أنه يهجرها ويضربها لأنه يجوز أن يهجرها للنشوز
فجاز أن يضربها كما لو تكرر منها. فأما الوعظ فهو أن يخوفها بالله عز وجل
وبما يلحقها من الضرر بسقوط نفقتها، وأما الهجران فهو أن يهجرها في الفراش
لما روى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في قوله عز وجل (واهجروهن في
المضاجع قال: لا تضاجعها في فراشك) وأما الهجران بالكلام فلا يجوز أكثر
من ثلاثة أيام، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام) وأما الضرب فهو أن يضربها
ضربا غير مبرح ويتجنب المواضع المخوفة والمواضع المستحسنة، لما روى جابر
رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: اتقوا الله في النساء فإنكم
أخذتموهن بكتاب الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، وان لكم عليهن أن
لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه، فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح)
ولان القصد التأديب دون الاتلاف والتشويه.
النشوز مصدر نشز وبابه فعد وضرب، ونشزت المرأة من زوجها عصته
وامتنعت عليه، ونشز الرجل من امرأته تركها وجفاها، قال تعالى (وان امرأة
خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا) الآية، وأصله الارتفاع، يقال: نشز من
445

مكانه نشوزا بالوجهين إذا ارتفع عنه، وقال تعالى (وإذا قيل انشزوا فانشزوا)
يالضم والكسر، والنشز بفتحتين المرتفع من الأرض، والسكون لغة، وقال
ابن السكيت في بات فعمل وفعل: قعد على نشز من الأرض ونشز وجمع
الساكن نشوز مثل فلس وفلوس، ونشاز مثل سهم وسهام وجمع المفتوح أنشاز
مثل سبب وأسباب، وأنشزت المكان بالألف رفعته، واستعير ذلك للزيادة
والنمو، فقيل: أنشز الرضاع العظم وأنبت اللحم.
أما حديث أبي هريرة رضي الله عنه فقد قال النووي: رواه أبو داود على
شرط البخاري ومسلم بلفظ (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر
فوق ثلاث فمات دخل النار) وفى رواية عند أبي داود له أيضا بلفظ (لا يحل
لمؤمن أن يهجر مؤمنا فوق ثلاث، فإن مرت به ثلاث فليلقه وليسلم عليه، فان
رد عليه السلام فقد اشتركا في الاجر، وان لم يرد عليه فقد باء بالإثم وخرج
المسلم من الهجرة).
قال أبو داود: إذا كانت الهجرة لله تعالى فليس من هذا في شئ، وفى
الصحيحين عن أنس بلفظ (لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا
وكونوا عباد الله اخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) وفيهما عن أبي
أيوب بلفظ (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال يلتقيان فيعرض
هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام).
أما حديث جابر رضي الله عنه فقد أخرجه مسلم وأصحاب السنن، وهو من
حديث طويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم وجزء من خطبة الوداع،
ورواه ابن ماجة والترمذي وصححه من حديث عمرو بن الأحوص (أنه شهد
حجة الوداع مع النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه، وذكر ووعظ
ثم قال: استوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عندكم عوان ليس تملكون منهن شيئا
غير ذلك الا أن يأتين بفاحشة مبينة، فان فعلن فاهجروهن في المضاجع
واضربوهن ضربا غير مبرح، فان أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا، ان لكم على
نسائكم حقا ولنسائكم عليكم حقا، فأما حقكم على نسائكم فلا يوطئن فرشكم من
تكرهون ولا يأذن في بيوتكم لمن تكرهون ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن
446

في كسوتهن وطعامهن) وقد أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة بلفظ (ولا يأذن
في بيته إلا بإذنه) وقد أخرج أحمد وابن جرير والنسائي وأبو داود وابن ماجة
والحاكم وصححه والبيهقي عن معاوية بن حيدة القشيري أنه سأل النبي صلى الله عليه
وسلم (ما حق المرأة على الزوج؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وأن تكسوها
إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه ولا تهجر إلا في البيت).
أما الأحكام فقد قال الشافعي رضي الله عنه: قال الله عز وجل (واللاتي
تخافون نشوزهن) يحتمل إذا رأى الدلالات في إيغال المرأة وإقبالها على النشوز
فكان للخوف موضع أن يعظها، فإن أبدت نشوزا هجرها. فان أقامت عليه
ضربها، وذلك أن العظة مباحة قبل الفعل المكروه إذا رؤيت أسبابه، وأن
لا مؤنة فيها عليها كضربها، وأن العظة غير محرمة من المرء لأخيه فكيف لا مرأته
والهجرة لا تكون إلا بما يحل به الهجرة، لان الهجرة محرمة في غير هذا الموضع
فوق ثلاث، والضرب لا يكون إلا ببيان الفعل، فالآية في العظة والهجرة
والضرب على بيان الفعل تدل على أن حالات المرأة في اختلاف ما تعاقب فيه من
العظة والهجرة والضرب مختلفه، فإذا اختلفت فلا يشبه معناها الا ما وصفت.
وقال رحمه الله أيضا: وقد يحتمل قوله (تخافون نشوزهن) إذا نشزن فخفتم
لجاجتهن في النشوز أن يكون لكم جمع العظة والهجرة والضرب (قال) وإذا
رجعت الناشز عن النشوز لم يكن لزوجها هجرتها ولا ضربها، لأنه إنما أبيحا
بالنشوز، فإذا زايلته فقد زايلت المعنى الذي أبيحا له به.
قال الربيع: أخبرنا الشافعي قال: أخبرنا سفيان عن ابن شهاب عن عبد الله
ابن عبد الله بن عمر عن أياس بن عبد الله بن أبي ذباب قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (لا تضربوا إماء الله، قال فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فقال: يا رسول الله ذئر النساء على أزواجهن، فأذن في ضربهن، فأطاف
بآل محمد عليه الصلاة والسلام نساء كثير كلهن يشتكين أزواجهن، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: لقد أطاف الليلة بآل محمد نساء كثير أو قال سبعون امرأة
كلهن يشتكين فلا تجدون أولئك خياركم).
قال الشافعي: فجعل لهم الضرب وجعل لهم العفو، وأخبر أن الخيار ترك
447

الضرب إذا لم يكن لله عليها حد على الوالي أخذه، وأجاز العفو عنها في غير حد
في الخير الذي تركت حظها وعصت ربها. اه‍
إذا ثبت هذا فإنه إذا ظهر من المرأة النشوز بقول أو فعل وعظها. فأما
النشوز بالقول فهو أن يكون من عادته إذا دعاها أجابته بالتلبية، وإذا خاطبها
أجابت خطابه بكلام جميل حسن، ثم صارت بعد ذلك إذا دعاها لا تجيب بالتلبية
وإذا خاطبها أو كلمها تخاشنه القول، فهذه أمارات النشوز بالقول
وأما أمارات النشوز بالفعل فهو أن يكون من عادته إذا دعاها إلى الفراش
أجابته ببشاشة وطلاقة وجه، ثم صارت بعد ذلك متجهمة متكرهة، أو كان
من عاداتها إذا دخل إليها قامت له وخدمته، ثم صارت لا تقوم له ولا تخدمه،
فإذا ظهر له ذلك منها فإنه يعظها ولا يهجرها ولا يضربها، هذا قول عامة أصحابنا
وقال الصيمري: إذا ظهرت منها أمارات النشوز فله أن يجمع بين العظة
والهجران، والأول هو المشهور، لان يحتمل أن يكون هذا النشوز تفعله فيما
بعد، ويحتمل أن يكون لضيق صدر من أولادها أو من جاراتها أو أقربائها أو
نحو ذلك من شغل قلب أو قلق خاطر نشزت منه، بأن دعاها فامتنعت منه، فان
تكرر ذلك الامتناع منها فله أن يهجرها، وله ان يضربها، والأصل فيه قول
الله تعالى (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع
واضربوهن) الآية.
وان نشزت منه مرة واحدة فله ان يهجرها. وهل له أن يضربها؟ فيه قولان
(أحدهما) ليس له أن يضربها. وبه قال أحمد. لأنها لا تستحق الا العقوبة
المساوية لفعلها. بدليل انها لا تستحق الهجران لخوف النشوز فكذلك لا تستحق
الضرب بالنشوز مرة واحدة. فعلى هذا يكون ترتيب الآية: واللاتي تخافون
نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع إذا نشزن. واضربوهن إذا أصررن
على النشوز.
(والثاني) له ان يضربها. قال العمراني وغيره: وهو الأصح. لقوله تعالى
(واللاتي تخافون) الآية.
فظاهر الآية ان له فعل الثلاثة الأشياء لخوف النشوز. فدل الدليل على أنه
448

يضربها ويهجرها عند خوف النشوز. وهذه الآية على ظاهرها إذا نشزت لأنها
معصية يحل بها هجرانها وضربها كما لو تكرر منها النشوز.
إذا ثبت هذا فالموعظة أن يقول لها: ما الذي منعك عما كنت آلفه من برك
وما الذي غيرك، اتقى الله وارجعي إلى طاعتي، فإن حقي واجب عليك، ونحو
ذلك من عبارات الوعظ، وتذكيرها بما يعده الله للآثمين والآثمات من حساب
يوم تتساوى الاقدام في القيام لله، ويعلم كل امرئ ما قدمت يداه.
والهجران هو أن لا يضاجعها في فراش واحد لقوله تعالى (واهجروهن في
المضاجع) ولا يهجر بالكلام، فإن فعل لم يزد على ثلاثة أيام، فإن زاد عليها
أثم، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يهجر الرجل أخاه فوق ثلاثة أيام.
وأما الضرب فقال الشافعي: لا يضربها ضربا مبرحا لا مدميا ولا مدمنا
ويتقى الوجه. فالمبرح الفادح الذي يخشى تلف النفس منه أو تلف عضو أو
تشويهه، والمدمى الذي يجرح فيخرج الدم، والمدمن أن يوالي الضرب على
موضع واحد. لان القصد منه التأديب. ويتوقى الوجه لأنه موضع المحاسن
ويتوقى المواضع المخوفة.
قال الشافعي: ولا يبلغ به حدا. ومن أصحابنا من قال: لا يبلغ به الأربعين
لأنه حد الخمر، ومنهم من قال لا يبلغ به العشرين لأنه حد العبد، لأنه تعزير،
وليس للرجل أن يضرب زوجته على غير النشوز بقذفها له أو لغيره، لان ذلك
إلى الحاكم، والفرق بينهما أن النشوز لا يمكن إقامة البينة عليه، بخلاف
سائر جناياتها.
إذا ثبت هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تضربوا إماء الله)
وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال (كنا معشر قريش لا يغلب نساؤنا رجالنا،
فقدمنا المدينة فوجدنا نساءهم يغلبن رجالهم، فحاط نساؤنا نساءهم فزئرن على
أزواجهن فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وقلت ذئر النساء على أزواجهن، فأذن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بضربهن. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد
أطاف آل محمد سبعون امرأة كلهن تشتكين أزواجهن وما تجدون أولئك بخياركم)
449

فإذا قلنا يجوز نسخ السنة بالكتاب فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
نهى عن ضربهن ثم نسخ الكتاب السنة بقوله (واضربوهن) ثم أذن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ضربهن موافقة للكتاب، غير أنه يجعل تركه أولى بقوله
وما يجدون أولئك بخياركم.
وإن قلنا إن نسخ السنة لا يجوز بالكتاب احتمل أن يكون النهى عن ضربهن
متقدما ثم نسخه النبي صلى الله عليه وسلم وأذن في ضربهن ثم ورد الكتاب للسنة
في ضربهن. ومعنى قوله (ذئر النساء على أزواجهن) أي اجترأن عليهم.
قال الصيمري: وقيل في قوله تعالى: وللرجال عليهن درجة سبعة تأويلات.
(أحدها) أن حل عقدة النكاح إليه
(الثاني) أن له ضربها عند نشوزها
(الثالث) أن عليها الإجابة إذا دعاها إلى فراشه، وليس عليه ذلك
(الرابع) أن له منعها من الخروج، وليس لها ذلك
(الخامس) أن ميراثه على الضعف من ميراثها
(السادس) أن لو قذفها كان له إسقاط حقها باللعان. وليس لها ذلك
(السابع) موضع الدرجة اشتراكهما في لذة الوطئ، واختص الزوج بتحمل
مؤنة الصداق والنفقة والكسوة وغير ذلك اه‍
وعن عبد الله بن زمعة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (أيضرب
أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يجامعها في آخر اليوم) أخرجه الشيخان
وقال العلامة صديق حسن خان (في هذا دليل على أن الأولى ترك الضرب للنساء
فإن احتاج فلا يوالي بالضرب على موضع واحد من بدنها، وليتق الوجه لأنه مجمع
المحاسن، ولا يبلغ بالضرب عشره أسواط.
وقيل ينبغي أن يكون الضرب بالمنديل واليد، ولا يضرب بالسوط والعصا
وبالجملة فالتخفيف بأبلغ شئ أولى في هذا الباب.
وبعد هذا لا يسأل الرجل الملتزم بالشرع عن ضرب امرأته لما أخرجه
أبو داود عن أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يسأل
الرجل فيما ضرب امرأته).
450

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن ظهرت من الرجل أمارات النشوز لمرض بها أو كبر سن
ورأت أن تصالحه بترك بعض حقوقها من قسم وغيره جاز، لقوله عز وجل
(وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما
صلحا) قالت عائشة رضي الله عنها: أنزل الله عز وجل هذه الآية في المرأة إذا
دخلت في السن فتجعل يومها لامرأة أخرى، فإن ادعى كل واحد منهما النشوز
على الآخر أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ليعرف الظالم منهما فيمنع من الظلم، فان
بلغا إلى الشتم والضرب بعث الحاكم حكمين للاصلاح أو التفريق، لقوله عز وجل
(وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها، ان يريدا اصلاحا
يوفق الله بينهما) واختلف قوله في الحكمين فقال في أحد القولين: هما وكيلان
فلا يملكان التفريق الا باذنهما، لان الطلاق إلى الزوج، وبذل المال إلى الزوجة
فلا يجوز الا باذنهما، وقال في القول الآخر: هما حاكمان فلهما أن يفعلا ما يريان
من الجمع والتفريق، بعوض وغير عوض: لقوله عز وجل (فابعثوا حكما من
أهله وحكما من أهلها) فسماهما حكمين، ولم يعتبر رضا الزوجين.
وروى عبيدة أن عليا رضي الله عنه بعث رجلين فقال لهما أتريان ما عليكما.
عليكما، ان رأيتما أن تجمعا جمعتما، وان رأيتما ان تفرقا فرقتما، فقال الرجل:
اما هذا فلا، فقال كذبت لا والله ولا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عز وجل لك
وعليك، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلى، ولأنه وقع الشقاق واشتبه
الظالم منهما فجاز التفريق بينهما من غير رضاهما، كما لو قذفها وتلاعنا، والمستحب
أن يكون حكما من أهله وحكما من أهلها للآية، ولأنه روى أنه وقع بين عقيل بن أبي طالب
وبين زوجته شقاق، وكانت من بنى أمية، فبعث عثمان رضي الله عنه
حكما من أهله وهو ابن عباس رضي الله عنه، وحكما من أهلها وهو معاوية رضي الله عنه
، ولان الحكمين من أهلهما اعرف بالحال، وإن كان من غير أهلهما جاز
لأنهما في أحد القولين وكيلان وفى الآخر حاكمان، وفى الجميع يجوز أن يكونا
451

من غير أهلهما، ويجب أن يكونا ذكرين عدلين لأنهما في أحد القولين حاكمان
وفى الآخر وكيلان، إلا أن يحتاج فيه إلى الرأي والنظر في الجمع والتفريق،
ولا يكمل لذلك إلا ذكران عدلان، فإن قلنا: إنهما حاكمان لم يجز أن يكونا إلا
فقيهين، وإن قلنا: إنهما وكيلان جاز أن يكونا من العامة، وان غاب الزوجان
فان قلنا: إنهما وكيلان نفذ تصرفهما كما ينفذ تصرف الوكيل مع غيبة
الموكل، وان قلنا: إنهما حاكمان لم ينفذ حكمهما، لان الحكم للغائب لا يجوز،
وان جنا لم ينفذ حكم الحكمين، لأنهما في أحد القولين وكيلان. والوكالة تبطل
بجنون الموكل. وفى القول الآخر: حاكمان الا أنهما يحكمان للشقاق وبالجنون
زال الشقاق.
(الشرح) في قوله تعالى (وان امرأة خافت من بعلها نشوزا أو اعراضا)
الآية. أخرج أحمد والبخاري ومسلم عن عائشة عليها السلام قالت: هي المرأة
تكون عند الرجل لا يستكثر منها فيريد طلاقها ويتزوج غيرها تقول له:
أمسكني ولا تطلقني ثم تزوج غيري وأنت في حل من النفقة على والقسم لي.
فذلك قوله تعالى (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) وفى
رواية قالت (هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبرا أو غيره فيريد فراقها
فتقول: أمسكني وأقسم لم ما شئت. قالت فلا بأس إذا تراضيا).
وأما قوله تعالى (وان خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من
أهلها) الآية. فان أصل الشقاق ان كل واحد منهما يأخذ غير شق صاحبه، أي
ناحية غير ناحيته، وأضيف الشقاق إلى الظرف لاجرائه مجرى المفعول به.
كقوله تعالى (بل مكر الليل والنهار) وقولهم (يا سارق الليلة أهل الدار)
والخطاب للأمراء والحاكم. والضمير في قوله بينهما للزوجين لأنه قد تقدم ذكر
ما يدل عليهما، وهو ذكر الرجال والنساء.
أما أحكام الفصل: فان ظهر من الزوج أمارات النشوز بأن يكلمها بخشونة
بعد أن كان يلين لها في القول أو لا يستدعيها إلى الفراش كما كان يفعل إلى غير
ذلك. فلا بأس أن تترك له بعض حقها من النفقة والكسوة والقسم، لتطيب
452

بذلك نفسه، فإذا ظهر من الزوج النشوز بأن منعها ما يجب لها من نفقة وكسوة
وقسم وغير ذلك أسكنها الحاكم إلى جنب ثقة عدل ليستوفى لها حقها، إن ادعى
كل واحد منهما على صاحبه النشوز بمنع ما يجب عليها أسكنها الحاكم إلى جنب
ثقة ليشرف عليهما، فإذا عرف الظالم منهما منعه من الظلم هكذا أفاده العمراني
وغيره، فإذا تجاوز الامر حده إلى التشاتم أو الضرب أو تمزيق الثياب بعث
الحاكم حكمين ليجمعا بينهما أو يفرقا لقوله تعالى (وإن خفتم شقاق بينهما
فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها)
قال العلامة صديق حسن خان في نيل المرام: فابعثوا الزوجين حكما يحكم
بينهما ممن يصلح لذلك عقلا ودينا وإنصافا، وإنما نص الله سبحانه على أن
الحكمين يكونا من أهل الزوجين لأنهما أقرب لمعرفة أحوالهما، وإذا لم يوجد
من أهل الزوجين من يصلح للحكم بينهما كان الحكمان من غيرهم، وهذا إذا أشكل
أمرهما ولم يتبين من هو المسئ منهما، فأما إذا عرف المسئ فإنه يؤخذ لصاحبه
الحق منه، وعلى الحكمين أن يسعيا في إصلاح ذات البين جهدهما، فان قدرا على
ذلك عملا عليه، وإن أعياهما إصلاح حالهما ورأيا التفريق بينهما جاز لهما ذلك
من دون أمر الحاكم ولا توكيل بالفرقة من الزوجين، وبه قال مالك والأوزاعي
وإسحاق، وهو مروى عن عثمان وعلى وابن عباس والشعبي والنخعي، وحكاه
ابن كثر عن الجمهور، قالوا: لان الله تعالى قال: فابعثوا حكما من أهله وحكما من
أهلها، وهذا نص من الله على أنهما قاضيان لا وكيلان ولا شاهدان.
وقال الكوفيون وعطاء وابن زيد والحسن وهو أحد قولي الشافعي
إن التفريق هو إلى الامام أو الحاكم في البلد، لا إليهما، ما لم يوكلهما الزوجان
أو يأمرهما الامام والحاكم، لأنهما رسولان شاهدان فليس إليهما التفريق،
ويرشد إلى هذا قوله تعالى: إن يريدا أي الحكمان إصلاحا بين الزوجين
يوفق الله بينهما، أي يوقع الموافقة بين الزوجين حتى يعودا إلى الألفة وحسن
العشرة والوئام، ومعنى الإرادة خلوص نيتهما وصدق عزمهما لاصلاح ما بين
453

الزوجين، وقيل: إن الضمير في قوله تعالى: يوفق الله بينهما، للحكمين، كما في
قوله: ان يريدا اصلاحا: أي يوفق الله بين الحكمين في اتحاد مقصودهما، وقيل
كلا الضميرين للزوجين، أي ان يريدا إصلاح ما بينهما من الشقاق أوقع الله تعالى
بينهما الألفة والوفاق، وإذا اختلف الحكمان لم ينفذ حكمهما، ولا يلزم قولهما
بلا خلاف.
قال في البيان: وهل هما وكيلان من قبل الزوجين أو حاكمان من قبل الحاكم
فيه قولان (أحدهما) أنهما وكيلان من قبل الزوجين، وبه قال أبو حنيفة
وأحمد لما روى عبيدة التلماني قال: جاء إلى علي بن أبي طالب رجل وامرأة ومع
كل واحد منهما قيام من الناس بغير جماعة، فقال علي كرم الله وجهه: ابعثوا
حكما من أهله وحكما من أهلها، ثم قال للحكمين: أتدريان ما عليكما؟ ان رأيتما
أن تجمعا، وان رأيتما: أن تفرقا، فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعلى،
وقال الرجل: أما الجمع فنعم، وأما التفريق فلا، فقال على: كذبت لا والله
لا تتزوج حتى ترضى بكتاب الله لك وعليك فاعتبر رضاه، ولان الطلاق بيد
الزوج، وبذل العوض بيد المرأة، فافتقر إلى رضاهما، فعلى هذا لا بد أن يوكل
كل واحد منهما الحاكم من قبله على الجمع أو التفريق (والثاني) أنهما حكمان من
قبل الحاكم، وبه قال مالك والأوزاعي وإسحاق، وهو الأشبه لقوله تعالى
(فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) وهذا خطاب لغير الزوجين وسماهما
الله تعالى حكمين، فعلى هذا لا يفتقر إلى رضى الزوجين اه‍.
إذا ثبت هذا: فان الحكمين يخلو كل واحد منهما بأحد الزوجين وينظر
ما عنده، ثم يجتمعا ويشتوران، فان رأيا الجمع بينهما لم يتم الا بالحكمين، وان
رأيا التفريق بينهما فان رأيا أن يفرقا فرقة بلا عوض أوقعها الحاكم من قبل
الزوج، وان رأيا أن يفرقا بينهما بعوض بذل الحاكم من قبلها العوض عليها،
وأوقع الحاكم من قبل الزوج الفرقة. والمستحب أن يكونا من أهلهما للآية.
ولأنهما أعلم بباطن أمرهما. وإن كان من غير أهلهما جاز، لان الحاكم والوكيل
يصح أن يكون أجنبيا. ولا بد أن يكونا حرين مسلمين ذكرين عدلين، لأنا
ان قلنا إنهما حاكمان فلا بد من هذه الشرائط. وان قلنا إنهما وكيلان الا انه
454

وكيل من قبل الحاكم فلا بد من أن يكون كاملا. قال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي
فإن قلنا: إنهما حاكمان فلا بد أن يكونا فقيهين، وإن قلنا: إنهما وكيلان، جاز
أن يكونا من العامة، وإن غاب الزوجان أو أحدهما فإن قلنا: إنهما وكيلان
صح فعلهما. لان تصرف الوكيل يصح بغيبة الموكل، وإن قلنا إنهما حاكمان لم
يصح فعلهما. لان الحكم لا يصح للغائب، وان صح الحكم عليه، لان كل واحد
منهما محكوم له وعليه، وإن جنا أو أحدهما لم يصح فعلهما، لأنه ان قلنا إنهما
وكيلان بطلت وكالة من جن موكله، وان قلنا إنهما حاكمان، فإنهما يحكمان
للشقاق، وبالجنون زال الشقاق، وان لم يرضيا أو أحدهما فإن قلنا: إنهما
حاكمان لم يعتبر رضاهما. وان قلنا: إنهما وكيلان ولم يجبرا على الوكالة فينظر
الحاكم فيما يدعيه كل منهما، فإذا ثبت عنده استوفاه من الآخر. وإن كان لهما
أو لأحدهما حق على الاخر من مهر أو دين لم يصح للحكمين المطالبة به الا بالوكالة
قولا واحدا كالحاكم، والله تعالى أعلم بالصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.
تم الجزء السادس عشر ويليه الجزء السابع عشر
455