الكتاب: روضة الطالبين
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ٣
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ، الشيخ علي محمد معوض
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان
ردمك:
ملاحظات:

روضة الطالبين
للامام أبي زكريا يحيى بن شرف النووي الدمشقي
المتوفى
سنة 676
ومعه
المنهاج السوي في ترجمة الامام النووي
منتقى الينبوع
فيما زاد على الروضة من الفروع
للحافظ جلال الدين السيوطي
تحقيق
الشيخ عادل أحمد عبد الموجود - الشيخ علي محمد معوض
الجزء الثالث
دار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
1

جميع الحقوق محفوظة
الدار الكتب العلمية
بيروت - لبنان
2

بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب البيع
باب ما يصح به البيع
البيع: مقابلة مال بمال أو نحوه.
ويعتبر في صحته ثلاثة أمور.
3

الأول: الصيغة، وهي الايجاب من جهة البائع، كقوله: بعتك أو
ملكتك ونحوهما. وفي ملكتك وجه ضعيف. والقبول من المشتري،
كقوله: قبلت، أو ابتعت، أو اشتريت، أو تملكت. ويجئ في تملكت ذلك
الوجه، وسواء تقدم قول البائع: بعت، أو قول المشتري: اشتريت، فيصح البيع
في الحالين، ولا يشترط اتفاق اللفظين، بل لو قال البائع: بعتك، أو اشتريت،
4

فقال المشتري: تملكت، أو قال البائع: ملكتك. فقال: اشتريت، صح، لان
المعنى واحد.
فرع المعاطاة، ليست بيعا على المذهب. وخرج ابن سريج قولا من
الخلاف في مصير الهدي منذورا بالتقليد: أنه يكتفى بها في المحقرات، وبه أفتى
الروياني وغيره. والمحقر، كرطل خبز وغيره، مما يعتاد فيه المعاطاة. وقيل: هو
ما دون نصاب السرقة. فعلى المذهب في حكم المأخوذ بالمعاطاة، وجهان.
أحدهما: أنه إباحة لا يجوز الرجوع فيها، قاله القاضي أبو الطيب. وأصحهما: له
حكم المقبوض بعقد فاسد، فيطالب كل واحد صاحبه بما دفعه إن كان باقيا، أو
بضمانه إن تلف. فلو كان الثمن الذي قبضه البائع مثل القيمة، قال الغزالي في
الاحياء: هذا مستحق ظفر بمثل حقه، والمالك راض، فله تملكه لا محالة.
وقال الشيخ أبو حامد: لا مطالبة لواحد منهما، وتبرأ ذمتهما بالتراضي، وهذا يشكل
بسائر العقود الفاسدة، فإنه لا براءة وإن وجد التراضي. وقال مالك رضي الله عنه:
ينعقد بكل ما يعده الناس بيعا، واستحسنه ابن الصباغ.
قلت: هذا الذي استحسنه ابن الصباغ، هو الراجح دليلا، وهو المختار،
لأنه لم يصح في الشرع اشتراط لفظ، فوجب الرجوع إلى العرف كغيره من الألفاظ.
وممن اختاره: المتولي والبغوي وغيرهما. والله أعلم.
فرع لو قال: بعني، فقال: بعتك. إن قال بعده: اشتريت، أو قبلت،
انعقد قطعا، وإلا، انعقد على الأصح. وقيل: على الأظهر. وقيل: ينعقد
قطعا. ولو قال: اشتر مني، فقال: اشتريت، قال في التهذيب: هو كالصورة
السابقة. وقال بعضهم: لا ينعقد قطعا. ولو قال: أتبيعني عبدك بكذا، أو قال:
بعتني بكذا، فقال: بعت، لم ينعقد، حتى يقول بعده: اشتريت. وكذا لو قال
البائع: أتشتري داري؟ أو اشتريت مني؟ فقال: اشتريت، لا ينعقد حتى يقول
بعده: بعت.
فرع كل تصرف يستقل به الشخص، كالطلاق والعتاق والابراء، ينعقد
5

بالكناية مع النية كانعقاده بالصريح. وما لا يستقل به، بل يفتقر إلى إيجاب وقبول،
ضربان أحدهما: ما يشترط فيه الشهادة كالنكاح وبيع الوكيل إذا شرط الموكل
الاشهاد، فهذا لا ينعقد بالكناية، لان الشاهد لا يعلم النية. والثاني: ما لا يشترط
فيه، وهو نوعان. أحدهما: ما يقبل مقصوده التعليق بالغرر، كالكتابة، والخلع،
فينعقد بالكناية مع النية.
والثاني: ما لا يقبل، كالبيع والإجارة وغيرهما. وفي انعقاد هذه التصرفات
بالكناية مع النية، وجهان. أصحهما: الانعقاد كالخلع.
ومثال الكناية في البيع، أن يقول: خذه مني، أو تسلمه بألف، أو أدخلته في
ملكك، أو جعلته لك بكذا وما أشبهها. ولو قال: سلطتك عليه بألف، ففي كونه
كناية وجهان. أحدهما: لا، كقوله: أبحتكه بألف.
قلت: الأصح: أنه كناية. والله أعلم.
فرع لو كتب إلى غائب بالبيع ونحوه، ترتب ذلك على أن الطلاق، هل
يقع بالكتب مع النية؟ إن قلنا: لا، فهذه العقود أولى أن لا تنعقد، وإلا، ففيها
الوجهان في انعقادها بالكنايات. فإن قلنا: تنعقد، فشرطه أن يقبل المكتوب إليه
بمجرد اطلاعه على الكتاب على الأصح.
قلت: المذهب: أنه ينعقد البيع بالمكاتبة لحصول التراضي، لا سيما وقد
قدمنا أن الراجح انعقاده بالمعاطاة. وقد صرح الرافعي بترجيح صحته بالمكاتبة في
كتاب الطلاق، وستأتي هذه المسائل كلها مبسوطة فيه إن شاء الله تعالى. واختار
الغزالي في الفتاوى: أنه ينعقد، قال: وإذا قبل المكتوب إليه، ثبت له خيار
المجلس، ما دام في مجلس القبول، ويتمادى خيار الكاتب أيضا إلى أن ينقطع خيار
المكتوب إليه، حتى لو علم أنه رجع عن الايجاب قبل مفارقة المكتوب إليه
مجلسه، صح رجوعه، ولم ينعقد البيع. والله أعلم.
ولو تبايع حاضران بالمكاتبة، فإن منعناه في الغيبة، فهنا أولى، وإلا،
فوجهان. وحكم الكتب على القرطاس، والرق، واللوح، والأرض، والنقش على
الحجر والخشب، واحد، ولا أثر لرسم الأحرف على الماء والهواء. قال بعض
أصحابنا تفريعا على صحة البيع بالمكاتبة.
6

لو قال: بعت داري لفلان وهو غائب، فلما بلغه الخبر قال: قبلت،
انعقد البيع، لان النطق أقوى من الكتب. قال إمام الحرمين: والخلاف المذكور، في أن
البيع ونحوه، هل ينعقد بالكناية مع النية هو فيما إذا عدمت قرائن الأحوال، فإن
توفرت وأفادت التفاهم، وجب القطع بالصحة، لكن النكاح لا يصح بالكناية وإن
توفرت القرائن. وأما البيع المقيد بالاشهاد، فقال في الوسيط: الظاهر انعقاده
عند توفر القرائن.
قلت: قال الغزالي في الفتاوى: لو قال أحد المتبايعين: بعني، فقال: قد
باعك الله، أو بارك الله لك فيه، أو قال في النكاح: زوجك الله بنتي، أو قال في
الإقالة: قد أقالك الله، أو قد رده الله عليك، فهذا كناية، فلا يصح النكاح بكل
حال. وأما البيع والإقالة، فإن نواهما، صحا، وإلا، فلا. وإذا نواهما، كان
التقدير: قد أقالك الله لأني قد أقلتك. والله أعلم.
فرع لو باع مال ولده لنفسه، أو مال نفسه لولده، فهل يفتقر إلى صيغتي
الايجاب والقبول، أم تكفي إحداهما؟ وجهان سيأتيان إن شاء الله تعالى
بفروعهما في باب الخيار.
فرع يشترط أن لا يطول الفصل بين الايجاب والقبول، وأن لا يتخللهما
كلام أجنبي عن العقد، فإن طال، أو تخلل، لم ينعقد، سواء تفرقا عن
7

المجلس، أم لا. ولو مات المشتري بين الايجاب والقبول، ووارثه حاضر،
فقبل، فالأصح: المنع. وقال الداركي: يصح.
فرع يشترط موافقة القبول الايجاب. فلو قال: بعت بألف صحيحة،
فقال: قبلت بألف قراضة، أو بالعكس. أو قال: بعت جميع الثوب بألف، فقال:
قبلت نصفه بخمسمائة، لم يصح. ولو قال: بعتك هذا بألف، فقال: قبلت
نصفه بخمسمائة، ونصفه بخمسمائة، قال في التتمة: يصح العقد، لأنه
تصريح بمقتضى الاطلاق، وفيه نظر. وفي فتاوى القفال: أنه لو قال: بعتك بألف
درهم، فقال: اشتريت بألف وخمسمائة، صح البيع، وهو غريب.
فرع لو قال المتوسط للبائع: بعت كذا؟ فقال: نعم، أو بعت. وقال
للمشتري: اشتريت بكذا؟ فقال: نعم، أو اشتريت، انعقد على الأصح، لوجود
الصيغة والتراضي. والثاني: لا، لعدم تخاطبهما.
فرع لو قال: بعتك بألف، فقال: قبلت، صح قطعا، بخلاف النكاح،
يشترط فيه على رأي أن يقول: قبلت نكاحها، احتياطا للابضاع. ولو قال:
بعتك بألف إن شئت، فقال: اشتريت، انعقد على الأصح، لأنه مقتضى
الاطلاق.
8

فرع يصح بيع الأخرس وشراؤه بالإشارة والكتابة.
فرع جميع ما سبق، هو فيما ليس بضمني من البيوع. فأما البيع الضمني
فيما إذا قال: أعتق عبدك عني على ألف، فلا تعتبر فيه الصيغ التي قدمناها، بل
يكفي فيه الالتماس والجواب قطعا.
الأمر الثاني: أهلية البائع والمشتري، ويشترط فيهما لصحة البيع:
التكليف، فلا ينعقد بعبارة الصبي والمجنون، لا لأنفسهما، ولا لغيرهما، سواء
كان الصبي مميزا أو غير مميز، باشر بإذن الولي أو بغير إذنه، وسواء بيع الاختبار
وغيره. وبيع الاختبار: هو الذي يمتحنه الولي به ليستبين رشده عند مناهزة
الاحتلام، ولكن يفوض إليه الاستيام وتدبير العقل، فإذا انتهى الامر إلى اللفظ،
أتى به الولي. وفي وجه ضعيف: يصح منه بيع الاختبار.
قلت: ويشترط في المتعاقدين، الاختيار. فإن أكرها على البيع، لم يصح،
إلا إذا أكره بحق، بأن يتوجه عليه بيع ماله لوفاء دين عليه، أو شراء مال أسلم إليه
فيه، فأكرهه الحاكم عليه، صح بيعه وشراؤه، لأنه إكراه بحق. فأما بيع
المصادر، فالأصح: صحته. وقد سبق بيانه في نصف الباب الثاني من الأطعمة.
ويصح بيع السكران وشراؤه على المذهب، وإن كان غير مكلف كما تقرر في كتب
9

الأصول، وسنوضحه في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
فرع لو اشترى الصبي شيئا فتلف في يده، أو أتلفه، فلا ضمان عليه في
الحال، ولا بعد البلوغ. وكذا لو اقترض مالا، لان المالك هو المضيع بالتسليم
إليه. وما داما باقيين، فللمالك الاسترداد. ولو سلم ثمن ما اشتراه، لزم الولي
استرداده، ولزم البائع رده إلى الولي. فإن رده إلى الصبي، لم يبرأ من الضمان.
وهذا كما لو سلم الصبي درهما إلى صراف لينقده، أو سلم متاعا إلى مقوم ليقومه،
فإذا أخذه، لم يجز رده إلى الصبي، بل يرده إلى وليه إن كان المال للصبي. وإن
كان لكامل، فإلى المالك. فلو أمره الولي بدفعه إلى الصبي، فدفعه إليه، سقط
عنه الضمان إن كان المال للولي وإن كان للصبي، فلا، كما لو أمره بإلقاء مال
الصبي في البحر ففعل، فإنه يلزمه الضمان. ولو تبايع صبيان وتقابضا، وأتلف كل
واحد ما قبضه، نظر، إن جرى ذلك بإذن الوليين، فالضمان عليهما، وإلا،
فلا ضمان عليهما، وعلى الصبيين الضمان، لان تسليمهما لا يعد تسليطا وتضييعا.
فرع لا ينعقد نكاح الصبي وسائر تصرفاته، لكن في تدبير المميز ووصيته
خلاف مذكور في موضعه. ولو فتح بابا وأخبر بإذن أهل الدار في الدخول، أو أوصل
هدية وأخبر عن إهداء مهديها، فهل يجوز الاعتماد عليه؟ نظر، إن انضمت قرائن
تحصل العلم بذلك، جاز الدخول والقبول، وهو في الحقيقة عمل بالعلم، لا
بقوله. وإن لم ينضم، نظر، إن كان غير مأمون القول، لم يعتمد، وإلا،
فطريقان. أصحهما: القطع بالاعتماد. والثاني: على الوجهين في قبول روايته.
فرع كما لا تصح تصرفاته اللفظية، لا يصح قبضه في تلك التصرفات،
فلا يفيد قبضه الملك في الموهوب له وإن اتهبه الولي، ولا لغيره إذا أمره الموهوب له
بالقبض له. ولو قال مستحق الدين لمن عليه: سلم حقي إلى هذا الصبي، فسلم
إليه قدر حقه، لم يبرأ من الدين، وكان ما سلمه باقيا في ملكه، حتى لو ضاع،
لضاع عليه، ولا ضمان على الصبي، لان الدافع ضيعه بتسليمه، ويبقى الدين
بحاله، لان ما في الذمة لا يتعين إلا بقبض صحيح، فلا يزول عن الذمة، كما لو
قال: ألق حقي في البحر، فألقى قدر حقه، لا يبرأ، بخلاف ما لو قال مالك الوديعة
للمودع: سلم مالي إلى هذا الصبي، فسلم، خرج من العهدة، لأنه امتثل أمره في
10

حقه المتعين كما لو قال: ألقها في البحر، فامتثل. ولو كانت الوديعة للصبي،
فسلمها إليه، ضمن، سواء كان بإذن الولي أو بغير إذنه، إذ ليس له تضييعها وإن
أمره الولي به.
فصل إسلام المتعاقدين ليس بشرط في مطلق التبايع، لكن لو اشترى كافر
عبدا مسلما، أو اتهبه، أو أوصي له به، فقبل، لم يملكه على الأظهر. قال في
التتمة: القولان في الوصية، إذا قلنا: يملكها بالقبول. وإن قلنا
بالموت، ثبت بلا خلاف كالإرث. ولو اشترى مصحفا، أو شيئا من حديث
رسول الله (ص)، فالمذهب: القطع بأنه لا يملك. وقيل: على القولين. قال
العراقيون: وكتب الفقه التي فيها آثار السلف، لها حكم المصحف في هذا. وقال
صاحب الحاوي: كتب الفقه والحديث يصح بيعها للكافر. وفي أمره بإزالة
الملك عنها، وجهان.
قلت: الخلاف في بيع العبد، والمصحف، والحديث، والفقه، إنما هو
في صحة العقد، مع أنه حرام بلا خلاف. والله أعلم.
وإذا قلنا: لا يصح شراء الكافر عبدا مسلما، فاشترى من يعتق عليه كأبيه
وابنه، صح على الأصح. ويجري الوجهان في كل شراء يستعقب عتقا، كقول
الكافر لمسلم: أعتق عبدك المسلم عني بعوض أو بغير عوض، وإجابته، وكما إذا
11

أقر بحرية عبد مسلم في يد غيره ثم اشتراه. ورتب الامام الخلاف في هاتين
الصورتين على شراء القريب. وقال: الأولى أولى بالصحة، لان الملك فيها
ضمني، والثانية أولى بالمنع، لان العتق فيها وإن حكم به، فهو ظاهر غير محقق،
بخلاف القريب. ولو اشترى الكافر عبدا مسلما بشرط الاعتاق، وصححنا الشراء
بهذا الشرط، فهو كما لو اشتراه مطلقا، لان العتق لا يحصل بنفس الشراء. وقيل:
هو كشراء القريب.
فرع يجوز أن يستأجر الكافر مسلما على عمل في الذمة، كدين في ذمته.
ويجوز أن يستأجره بعينه على الأصح، حرا كان أو عبدا. فعلى هذا، هل يؤمر
بإزالة ملكه عن المنافع، بأن يؤجره مسلما؟ وجهان. قطع الشيخ أبو حامد: بأنه
يؤمر. قلت: وإذا صححنا إجارة عينه، فهي مكروهة، نص عليه الشافعي رضي الله عنه. والله أعلم.
وفي ارتهانه العبد المسلم، وجهان. ويجوز إعارة العبد المسلم لكافر قطعا.
وكذا إيداعه عنده.
قلت: الأصح: صحة ارتهانه العبد المسلم والمصحف، ويسلم إلى عدل.
وفي الإعارة وجه: أنها لا تجوز، وبه جزم صاحب المهذب والتنبيه
والجرجاني: وهو ضعيف. والله أعلم.
فرع لو باع الكافر عبدا مسلما - ورثه، أو أسلم عنده - ثم وجد
بالثوب عيبا، فالمذهب: أنه له رد الثوب بالعيب. وهل له استرداد العبد؟ وجهان.
أصحهما: له ذلك. والثاني: لا، بل يسترد قيمته، لأنه كالهالك. وطرد الامام
والغزالي، الوجهين في جواز رد الثوب. والصواب: الأول، وبه قطع في
التهذيب وغيره. ولو وجد مشتري العبد به عيبا، ففي رده واسترداده الثوب
طريقان. أحدهما: القطع بالجواز. والثاني: على الوجهين. ولو باع الكافر العبد
12

المسلم، ثم تقايلا، فإن قلنا: الإقالة بيع، لم ينفذ، وإن قلنا: فسخ، فعلى
الوجهين في الرد بالعيب.
فرع: ولو وكل كافر مسلما ليشتري عبدا مسلما، لم يصح، لأن العقد يقع
للموكل أولا، وينتقل إليه آخرا (وان) وكل مسلم كافرا ليشتري له عبدا مسلما،
فإن سمى الموكل في الشراء، صح، وإلا، فإن قلنا: يقع الملك للوكيل أولا، لم
يصح: وإن قلنا: يقع للموكل، صح.
فرع لو اشترى كافر مرتدا، فوجهان، لبقاء علقة الاسلام كالوجهين في
قتل المرتد بذمي.
فرع لو اشترى كافر كافرا، فأسلم قبل قبضه، فهل يبطل البيع كمن
اشترى عصيرا فتخمر قبل قبضه، أم لا كمن اشترى عبدا فأبق قبل قبضه؟ وجهان.
فإن قلنا: لا يبطل، فهل يقبضه المشتري، أم ينصب الحاكم من يقبض عنه ثم يأمره
بإزالة الملك؟ وجهان. وقطع القفال في فتاويه: بأنه لا يبطل، ويقبضه الحاكم،
وهذا أصح.
فرع جميع ما سبق، تفريع على قول المنع. أما إذا صححنا شراءه، فإن
علم الحاكم به قبل القبض، فيمكنه من القبض، أم ينصب من يقبضه؟ فيه الوجهان.
وإذا حصل القبض، أو علم به بعد قبضه، أمر بإزالة الملك فيه، كما
نذكره في الفرع بعده إن شاء الله تعالى.
فرع إذا كان في يد الكافر عبد، فأسلم، لم يزل ملكه عنه، ولكن لا يقر
في يده، بل يؤمر بإزالة ملكه عنه، ببيع، أو هبة، أو عتق، أو غيرها. ولا يكفي
الرهن والتزويج، والإجارة، والحيلولة، وتكفي الكتابة على الأصح، وتكون كتابة
صحيحة. وإن قلنا: لا تكفي، فوجهان. أحدهما: أنها كتابة فاسدة، فيباع
العبد. والثاني: صحيحة. ثم إن جوزنا بيع المكاتب، بيع مكاتبا، وإلا، فسخت
الكتابة وبيع. ولو امتنع من إزالة ملكه، باعه الحاكم عليه بثمن المثل، كما يبيع مال
13

من امتنع من أداء الحق. فإن لم يجد مشتريا بثمن المثل، صبر وحال بينه وبينه،
ويستكسب له، وتؤخذ نفقته منه. ولو أسلمت مستولدة كافر، فلا سبيل إلى نقلها
إلى غيره بالبيع والهبة ونحوهما على المذهب.
وهل يجبر على إعتاقها؟ وجهان. الصحيح: لا يجبر، بل يحال بينهما وينفق
عليها وتستكسب له في يد مسلم. ولو مات كافر أسلم عبد في يده، صار لوارثه،
وأمر بما كان يؤمر به مورثه، فإن امتثل، وإلا، بيع عليه.
قلت: قال المحاملي في كتابه اللباب: لا يدخل عبد مسلم في ملك كافر
ابتداء، إلا في ست مسائل.
إحداها: بالإرث.
الثانية: يسترجعه بإفلاس المشتري.
الثالثة: يرجع في هبته لولده.
الرابعة: إذا رد عليه بعيب.
الخامسة: إذا قال لمسلم: أعتق عبدك عني، فأعتقه وصححناه.
السادسة: إذا كاتب عبده الكافر، فأسلم العبد، ثم عجز عن النجوم، فله
تعجيزه، وهذه السادسة فيها تساهل، فإن المكاتب لا يزول الملك فيه ليتجدد
بالتعجيز. وترك سابعة، وهي: إذا اشترى من يعتق عليه. والله أعلم.
14

الأمر الثالث: صلاحية المعقود عليه، فيعتبر في المبيع لصحة بيعه، خمسة
شروط.
أحدها: الطهارة، فالنجس ضربان، نجس العين، ونجس بعارض.
فالأول: لا يصح بيعه، فمنه الكلب، والخنزير، وما تولد من أحدهما،
وسواء الكلب المعلم وغيره، ومنه الميتة، وسرجين جميع البهائم، والبول، ويجوز
بيع الفيلج وفي باطنه الدود الميت، لأنه بقاءه من مصالحه، كالنجاسة في جوف
الحيوان.
قلت: الفيلج - بالفاء - وهو القز. ويجوز بيعه وفيه الدود، سواء كان ميتا أو
حيا، وسواء باعه وزنا، أو جزافا، صرح به القاضي حسين في فتاويه. والله
أعلم.
وفي بيع بزر القز وفأرة المسك، وجهان بناء على طهارتهما.
الضرب الثاني: قسمان. أحدهما: متنجس يمكن تطهيره، كالثوب،
والخشبة، والآجر، فيجوز بيعها، لان جوهرها طاهر. فإن استتر شئ من ذلك
بالنجاسة الواردة، خرج على بيع الغائب. والثاني: ما لا يمكن تطهيره، كالخل،
16

واللبن، والدبس، إذا تنجست، فلا يجوز بيعها. وأما الدهن، فإن كان
نجس العين، كودك الميتة، لم يصح بيعه بحال. وإن نجس بعارض، فهل يمكن
تطهيره؟ وجهان. أصحهما: لا. فعلى هذا، لا يصح بيعه كالبول. والثاني:
يمكن. فعلى هذا، في صحة بيعه وجهان. أصحهما: لا يصح، هذا ترتيب
الأصحاب. وقيل: إن قلنا: يمكن تطهيره، جاز بيعه، وإلا، فوجهان.
قلت: هذا الترتيب غلط ظاهر، وإن كان قد جزم به في الوسيط. وكيف
يصح بيع ما لا يمكن تطهيره؟ قال المتولي: في بيع الصبغ النجس طريقان.
أحدهما: كالزيت. والثاني: لا يصح قطعا، لأنه لا يمكن تطهيره، وإنما يصبغ به
الثوب ثم يغسل. والله أعلم. وفي بيع الماء النجس، وجهان، كالدهن إذا قلنا: يمكن طهارته، لان تطهير
الماء ممكن بالمكاثرة. وأشار بعضهم إلى الجزم بالمنع، وقال: إنه ليس بتطهير،
بل يستحيل ببلوغه قلتين من صفة النجاسة إلى الطهارة، كالخمر تتخلل. ويجوز
نقل الدهن النجس إلى الغير بالوصية، كالكلب. وأما هبته والصدقة به، فعن
القاضي أبي الطيب: منعهما. ويشبه أن يكون فيهما ما في هبة الكلب من
الخلاف.
قلت: ينبغي أن يقطع بصحة الصدقة به للاستصباح ونحوه.
وقد جزم المتولي، بأنه يجوز نقل اليد فيه بالوصية وغيرها. قال الشافعي
17

رضي الله عنه في المختصر: لا يجوز اقتناء الكلب إلا لصيد، أو ماشية، أو
زرع، وما في معناها، هذا نصه. واتفق الأصحاب على جواز اقتنائه لهذه الثلاثة،
وعلى اقتنائه لتعليم الصيد ونحوه، والأصح: جواز اقتنائه لحفظ الدور والدروب
وتربية الجرو لذلك، وتحريم اقتنائه قبل شراء الماشية الزرع. وكذا كلب الصيد
لمن لا يصيد. ويجوز اقتناء السرجين، وتربية الزرع به، لكن يكره. واقتناء الخمر
مذكور في كتاب الرهن. والله أعلم.
الشرط الثاني: أن يكون منتفعا به. فما لا نفع فيه، ليس بمال، فأخذ
المال في مقابلته باطل. ولعدم المنفعة سببان.
أحدهما: القلة، كالحبة والحبتين من الحنطة والزبيب ونحوهما، فإن ذلك
القدر لا يعد مالا، ولا ينظر إلى ظهور النفع إذا ضم إليه غيره، ولا إلى ما يفرض من
وضع الحبة في فخ. ولا فرق في ذلك بين زمان الرخص والغلاء. ومع هذا، فلا
يجوز أخذ الحبة من صبرة الغير. فإن أخذ، لزمه ردها. فإن تلفت، فلا ضمان،
إذ لا مالية لها. وقال القفال: يضمن مثلها. وحكى صاحب التتمة وجها: أنه
يصح بيع مالا منفعة فيه لقلته، وهو شاذ ضعيف.
السبب الثاني: الخسة، كالحشرات.
والحيوان الطاهر، ضربان،
ضرب ينتفع به، فيجوز بيعه، كالنعم، والخيل، والبغال، والحمير،
والظباء، والغزلان. ومن الجوارح، كالصقور، والبزاة، والفهد. ومن الطير،
كالحمام، والعصفور، والعقاب. وما ينتفع بلونه كالطاووس، أو صوته
18

كالزرزور. ومما ينتفع به، القرد، والفيل، والهرة، ودود القز. وبيع النحل في
الكوارة، صحيح إن شاهد جميعه، وإلا، فهو من بيع الغائب. وإن باعه وهو
طائر، فوجهان. قطع في التتمة: بالصحة، وفي التهذيب: بالبطلان.
قلت: الأصح: الصحة. والله أعلم. الضرب الثاني: ما لا ينتفع به، فلا يصح بيعه، كالخنافس، والعقارب،
والحيات، والفأر، والنمل، ونحوها، ولا نظر إلى منافعها المعدودة من خواصها،
وفي معناها السباع التي لا تصلح للصيد والقتال عليها، كالأسد والذئب والنمر.
ولا ينظر إلى اقتناء الملوك لها للهيبة والسياسة. ونقل القاضي حسين وجها في جواز
بيعها، لأنها طاهرة. والانتفاع بجلودها متوقع بالدباغ. ونقل أبو الحسن العبادي
وجها آخر: أنه يجوز بيع النمل في عسكر مكرم وهي المدينة المشهورة
بخراسان، لأنه يعالج به السكر، ونصيبين، لأنه تعالج به العقارب الطيارة.
والوجهان شاذان ضعيفان. ولا يجوز بيع الحدأة، والرخمة، والغراب. فإن كان في
أجنحة بعضها فائدة، جاء فيها الوجه الذي حكاه القاضي، كذا قاله الامام، ولكن
بينهما فرق، فإن الجلود تدبغ، ولا سبيل إلى تطهير الأجنحة.
19

قلت: وجه الجواز، الانتفاع بريشها في النبل، فإنه وإن قلنا بنجاسته، يجوز
الانتفاع به في النبل وغيره من اليابسات. والله أعلم.
ويصح بيع العلق على الأصح لمنفعته امتصاص الدم، ولا يصح بيع الحمار
الزمن الذي لا نفع فيه على الأصح، بخلاف العبد الزمن، فإنه يتقرب بإعتاقه.
والثاني: يجوز لغرض جلده إذا مات.
فرع السم إن كان يقتل كثيره وينفع قليله، كالسقمونيا، والأفيون، جاز
بيعه. وإن قتل كثيره وقليله، فقطع بالمنع. ومال الإمام وشيخه إلى الجواز ليدس
في طعام الكافر.
فرع آلات الملاهي: كالمزمار والطنبور وغيرهما، إن كانت بحيث لا تعد
بعد الرض والحل مالا، لم يصح بيعها، لان منفعتها معدومة شرعا. وإن كان
رضاضها يعد مالا، ففي صحة بيعها وبيع الأصنام والصور المتخذة من الذهب
والخشب وغيرهما، وجهان. الصحيح: المنع. وتوسط الامام، فذكر الامام
وجها ثالثا اختاره هو والغزالي: أنه إن اتخذت من جوهر نفيس، صح بيعها. وإن
اتخذت من خشب ونحوه، فلا، والمذهب: المنع المطلق، وبه أجاب عامة
الأصحاب.
فرع الجارية المغنية التي تساوي ألفا بلا غناء، إذا اشتراها بألفين، فيه
أوجه. قال المحمودي: بالبطلان، والأودني: بالصحة، وأبو زيد: إن قصد
الغناء، بطل، وإلا، فلا.
قلت: الأصح: قول الأودني. قال إمام الحرمين: هو القياس السديد ولو
بيعت بألف، صح قطعا. ويجري الخلاف في كبش النطاح والديك الهراش. ولو
باع إناء من ذهب أو فضة، صح قطعا، لان المقصود الذهب فقط، ذكره القاضي أبو
الطيب: قال المتولي: يكره بيع الشطرنج. قال: والنرد، إن صلح لبيادق
الشطرنج، فكالشطرنج، وإلا، فكالمزمار. والله أعلم.
20

فرع بيع الماء المملوك صحيح على الصحيح، وستأتي تفاريعه في إحياء
الموات إن شاء الله تعالى. فإذا صححناه، ففي بيعه على شط النهر، وبيع التراب
في الصحراء، وبيع الحجارة بين الشعاب الكثيرة، والأحجار، وجهان.
أصحهما: الجواز.
فرع بيع لبن الآدميات صحيح.
قلت: ولنا وجه: أنه نجس، فلا يصح بيعه، حكاه في الحاوي عن
الأنماطي، وهو شاذ مردود، وسبق ذكره في كتا ب الطهارة. والله أعلم.
الشرط الثالث: أن يكون المبيع مملوكا لمن يقع العقد ل‍. فإن باشر العقد
لنفسه، فليكن له، وإن باشره لغيره بولاية أو وكالة، فليكن لذلك الغير. فلو باع
مال غيره بلا إذن ولا ولاية، فقولان. الجديد: بطلانه. والقديم: أنه ينعقد موقوفا
على إجازة المالك، فإن أجاز، نفذ، وإلا، لغا. ويجري القولان فيما لو زوج أمة
غيره أو ابنته، أو طلق منكوحته، أو أعتق عبده، أو أجر داره، أو وهبها بغير إذنه.
ولو اشترى الفضولي لغيره، نظر، إن اشترى بين مال الغير، ففيه القولان وإن
اشترى في الذمة، نظر، إن أطلق أو نوى كونه للغير، فعلى الجديد: يقع
للمباشر، وعلى القديم: يقف على الإجازة، فإن رد، نفذ في حق الفضولي. ولو
قال: اشتريت لفلان بألف في ذمته، فهو كاشترائه بعين مال الغير. ولو اقتصر على
قوله: اشتريت لفلان بألف، ولم يضف الثمن إلى ذمته، فعلى الجديد: وجهان.
21

أحدهما: يلغو العقد، والثاني: يقع عن المباشر. وعلى القديم: يقف على
إجازة فلان، فإن رد، ففيه الوجهان. ولو اشترى شيئا لغيره بمال نفسه، نظر، إن
لم يسمه، وقع العقد عن المباشر، سواء أذن ذلك الغير، أم لا. وإن سماه،
نظر، إن لم يأذن له، لغت التسمية. وهل يقع عنه، أم يبطل؟ وجهان. وإن أذن
له، فهل تلغو التسمية؟ وجهان. فإن قلنا: نعم، فهل يبطل من أصله، أم يقع
عن المباشر؟ فيه الوجهان. وإن قلنا: لا، وقع عن الآذن. وهل يكون الثمن
المدفوع قرضا، أم هبة؟ وجهان. قال الشيخ أبو محمد: وحيث قلنا بالقديم،
فشرطه أن يكون للعقد مجيز في الحال، مالكا كان أو غيره. حتى لو أعتق عبد
الطفل، أو طلق امرأته، لا يتوقف على إجازته بعد البلوغ، والمعتبر إجازة من يملك
التصرف عند العقد. حتى لو باع مال الطفل، فبلغ وأجاز، لم ينفذ، وكذا لو باع
مال الغير، ثم ملكه وأجاز، قال إمام الحرمين: لم يعرف العراقيون هذا القول
القديم، وقطعوا بالبطلان.
قلت: قد ذكر هذا القديم من العراقيين، المحاملي في اللباب،
والشاشي، وصاحب البيان، ونص عليه في البويطي، وهو قوي، وإن كان
الأظهر عند الأصحاب هو الجديد. والله أعلم.
فرع لو غصب أموالا وباعها وتصرف في أثمانها مرة بعد أخرى، فقولان.
أظهرهما: بطلان الجميع. والثاني: للمالك أن يجيزها ويأخذ الحاصل منها،
لعسر تتبعها بالابطال.
فرع لو باع مال أبيه على ظن أنه حي وهو فضولي، فبان ميتا حينئذ، وأنه
ملك العاقد، فقولان. أظهرهما: أن البيع صحيح، لصدوره من مالك. والثاني:
22

البطلان، لأنه في معنى المعلق بموته، ولأنه كالغائب. ولا يبعد تشبيه هذا الخلاف
ببيع الهازل - هل ينعقد؟ فيه وجهان - وبالخلاف في بيع التلجئة. وصورته: أن
يخاف غصب ماله، أو الاكراه على بيعه، فيبيعه لانسان بيعا مطلقا. وقد توافقا قبله
على أنه لدفع الشر، لا على حقيقة البيع. والصحيح: صحته. ويجري الخلاف
فيما لو باع العبد على ظن أنه آبق أو مكاتب، فبان أنه قد رجع، وفسخ الكتابة.
ويجري فيمن زوج أمة أبيه على ظن أنه حي، فبان ميتا، هل يصح النكاح؟ فإن
صححنا، فقد نقلوا وجهين فيمن قال: إن مات أبي فقد زوجتك هذه الجارية.
فرع القولان في أصل بيع الفضولي، وفي الفرعين بعده يعبر عنهما بقولي
وقف العقود. وحيث قالوا: فيه قولا وقف العقود، أرادوا هذين القولين. وسميا
بذلك، لان الخلاف آيل إلى أن العقد، هل ينعقد على التوقف، أم لا بل يكون
باطلا؟ ثم ذكر الامام: أن الصحة على قول الوقف ناجزة، لكن الملك لا يحصل
إلا عند الإجازة. قال: ويطرد الوقف في كل عقد يقبل الاستنابة، كالبيوع،
والإجارات، والهبات، والعتق، والطلاق، والنكاح، وغيرها.
الشرط الرابع: القدرة على تسليم المبيع، ولا بد منها. وفواتها قد يكون
حسا، وقد يكون شرعا. وفيه مسائل.
إحداها: بيع الآبق والضال باطل، عرف موضعه، أم لا، لأنه غير مقدور
23

على تسليمه في الحال. هذا هو المذهب المعروف. قال الأصحاب: لا يشترط في
الحكم بالبطلان، اليأس من التسليم، بل يكفي ظهور التعذر. وأحسن بعض
الأصحاب فقال: إذا عرف موضعه وعلم أنه يصله إذا رام وصوله، فليس له حكم
الآبق.
الثانية: إذا باع المالك ماله المغصوب، نظر، إن قدر البائع على استرداده
وتسلمه، صح البيع، كما يصح بيع الوديعة. وإن عجز، نظر، إن باعه لمن لا
يقدر على انتزاعه من الغاصب، لم يصح. وإن باعه من قادر على انتزاعه، صح
على الأصح. ثم إن علم المشتري بالحال، فلا خيار له. لكن لو عجز عن انتزاعه
لضعف عرض له أو قوة عرضت للغاصب، فله الخيار على الصحيح. وإن كان
جاهلا حال العقد، فله الخيار. ولو باع الآبق ممن يسهل عليه رده، ففيه الوجهان
في المغصوب. ويجوز تزويج الآبقة والمغصوبة، وإعتاقهما. قال في البيان:
لا يجوز كتابة المغصوب، لأنها تقتضي التمكين من التصرف.
الثالثة: لا يجوز بيع السمك في الماء، والطير في الهواء، وإن كان مملوكا
له، لما فيه من الغرر. ولو باع السمك في بركة لا يمكنه الخروج منها، فإن كانت
صغيرة يمكن أخذه بغير تعب ومشقة، صح. وإن كانت كبيرة لا يمكن أخذه إلا
بتعب شديد، لم يصح على الأصح. وحيث صححنا، فهو إذا لم يمنع الماء
24

رؤيته، فإن منعها، فعلى قولي بيع الغائب إن عرف قدره وصفته، وإلا، فلا يصح
قطعا. وبيع الحمام في البرج على تفصيل بيع السمك في البركة. ولو باعها وهي
طائرة اعتمادا على عادة عودها ليلا، فوجهان كما سبق في النحل. أصحهما عند
الامام: الصحة، كالعبد المبعوث في شغل. وأصحهما عند الجمهور: المنع، إذ
لا وثوق بعودها، لعدم عقلها.
قلت: ولو باع ثلجا أو جمدا وزنا، وكان ينماع إلى أن يوزن، لم يصح على
الأصح، وسيأتي هذا إن شاء الله تعالى في المسائل المنثورة في آخر كتاب الإجارة.
والله أعلم.
الرابعة: لو باع جزءا شائعا من سيف أو إناء ونحوهما، صح وصار
مشتركا. ولو عين بعضه وباعه، لم يصح، لان تسليمه لا يحصل إلا بقطعه، وفيه
نقص وتضييع للمال. ولو باع ذراعا فصاعدا من ثوب، فإن لم يعين الذراع،
فسنذكره
إن شاء الله تعالى. وان عينه، فإن كان الثوب نفيسا تنقض قيمته بالقطع،
لم يصح البيع على الأصح المنصوص. والثاني: يصح كذراع من الأرض، وكما
في مسالة السيف والاناء. وان لم تنقص قيمته بالقطع كغليظ الكرباس، صح على
25

الخامسة: لا يصح بيع المرهون بعد الاقباض قبل الفكاك.
السادسة: جناية، إن أوجبت مالا متعلقا بذمته، لم يمنع بيعه بحال.
وإن أوجبته متعلقا برقبته، فإن باعه بعد اختيار الفداء، صح، كذا أطلقه في
التهذيب. وإن باعه قبله وهو معسر، فلا، ومنهم من طرد الخلاف الآتي في
الموسر، وحكم بالخيار للمجني عليه إن صححنا. وإن كان موسرا، فالأظهر: أنه
لا يصح. وقيل: لا يصح قطعا. وقيل: موقوف. فإن فداه، نفذ، وإلا، فلا.
فإن لم نصحح البيع، فالسيد على خيرته، إن شاء فداه، وإلا، فيسلمه ليباع في
الجناية. وإن صححناه، فالسيد ملتزم للفداء ببيعه مع العلم بجنايته، فيجبر على
تسليم الفداء، كما لو أعتقه أو قتله. وقيل: هو على خيرته، إن فدى، أمضى
البيع، وإلا، فسخ والصحيح: أنه ملتزم للفداء. فإن تعذر تحصيل الفداء أو تأخر
لافلاسه أو غيبته أو صبره على الحبس، فسخ البيع، وبيع في الجناية، لان حق
26

المجني عليه سبق حق المشتري. هذا كله إذا أوجبت الجناية المال، لكونها خطأ،
أو شبه عمد، أو عفا مستحق القصاص على مال، أو أتلف العبد مالا. أما إذا
أوجبت قصاصا ولا عفو، فالمذهب صحة البيع كبيع المريض المشرف على
الموت. وقيل: فيه القولان. وإذا اختصرت، قلت: المذهب: أنه لا يصح بيعه
إن تعلق برقبته مال، ويصح إن تعلق به قصاص. ولو أعتق الجاني، فإن كان السيد
معسرا، لم ينفذ على الأظهر. وقيل: لا ينفذ قطعا. وإن كان موسرا، نفذ على
أظهر الأقوال. والثالث: موقوف. إن فداه، نفذ، وإلا، فلا. واستيلاد الجانية،
كإعتاقها. ومتى فدى السيد الجاني، فالأظهر: أنه يفديه بأقل الامرين من الأرش
وقيمة العبد. والثاني: يتعين الأرش وإن كثر.
قلت: ولو ولدت الجارية، لم يتعلق الأرش بالولد قطعا، ذكره القاضي أبو
الطيب في نماء الرهن. والله أعلم.
الشرط الخامس: كون المبيع معلوما. ولا يشترط العلم به من كل وجه،
بل يشترط العلم بعين المبيع وقدره وصفته. أما العين، فمعناه: أنه لو قال: بعتك
عبدا من العبيد، أو أحد عبدي أو عبيدي هؤلاء، أو شاة من هذا القطيع، فهو
27

باطل. وكذا لو قال: بعتهم، إلا واحدا، مبهما. وسواء تساوت قيمة العبيد
والشياه، أم لا، وسواء قال: ولك الخيار في التعيين، أم لا. وحك في التتمة
قولا قديما: أنه لو قال: بعتك أحد عبيدي، أو عبيدي الثلاثة، على أن تختار من
شئت في ثلاثة أيام أو أقل، صح العقد، وهذا شاذ ضعيف. ولو كان له عبد فاختلط
بعبيد لغيره، فقال: بعتك عبدي من هؤلاء، والمشتري يراهم ولا يعرف عينه. قال
في التتمة: له حكم بيع الغائب. وقال صاحب التهذيب: عندي أنه باطل.
فرع بيع الجزء الشائع من كل جملة معلومة، من دار، وأرض، وعبد
، وصبرة، وثمرة، وغيرها، صحيح. لكن لو باع جزءا شائعا من شئ بمثله من
ذلك الشئ، كالدار والفرس، كما إذا كان بينهما نصفين، باع نصفه بنصف
صاحبه، فوجهان. أحدهما: لا يصح البيع، لعدم الحاجة إليه. وأصحهما:
يصح، لوجود شرائطه، وله فوائد.
منها: لو كانا جميعا أو أحدهما ملك نصيبه بالهبة من أبيه، انقطعت ولاية
الرجوع. ومنها: لو ملكه بالشراء، ثم اطلع بعد هذا التصرف على عيب، لم يملك
الرد على بائعه.
ومنها: لو ملكته بالصداق، فطلقها قبل الدخول، لم يكن له الرجوع فيه.
قلت: ولو باع نصفه بالثلث من نصف صاحبه، ففي صحته الوجهان.
أصحهما: الصحة، ويصير بينهما أثلاثا، وبهذا قطع صاحب التقريب،
واستبعده الامام. وقد ذكر الامام الرافعي هذه المسألة في كتاب الصلح. والله
أعلم.
28

ولو باع الجملة، واستثنى منها جزءا شائعا، جاز. مثاله: بعتك ثمرة هذا
البستان، إلا ربعها وقدر الزكاة منها. ولو قال: بعتك ثمرة هذا البستان بثلاثة آلاف
درهم، إلا ما يخص ألفا، فإن أراد ما يخصه إذا وزعت الثمرة على المبلغ
المذكور، صح، وكان استثناء للثلث. وإن أراد ما يساوي ألفا عند التقويم، فلا،
لأنه مجهول.
فرع إذا باع أذرعا من أرض أو دار أو ثوب، فإن كانا يعلمان جملة
ذرعانها، بأن باع ذراعا من عشرة، ويعلمان أن الجملة عشرة، صح على
الصحيح، وكأنه باعه العشر. قال الامام: إلا أن يعني معينا فيبطل، كشاة من
القطيع. ولو اختلفا، فقال المشتري: أردت الإشاعة، فالعقد صحيح. وقال
البائع: بل أردت معينا، ففيمن يصدق؟ احتمالان.
قلت: أرجحهما: البائع. والله أعلم.
وإن كان أحدهما لا يعلم جملة الذرعان، لم يصح البيع. ولو وقف على
طرف الأرض وقال: بعتك كذا ذراعا من موقفي هذا في جميع العرض إلى حيث
ينتهي في الطول، صح على الأصح.
فرع إذا قال: بعتك صاعا من هذه الصبرة، فله حالان.
أحدهما: أن يعلما مبلغ صيعانها فالعقد صحيح قطعا، وينزل على
الإشاعة. ولو كانت الصبرة مائة صاع، فالمبيع عشر العشر، فلو تلف بعضها، تلف
بقدره من المبيع. هذا هو المذهب، وبه قطع الجمهور. وحكى الامام في تنزيله
وجهين. أحدهما: هذا. والثاني: المبيع صاع من الجملة غير مشاع، أي صاع
كان. فعلى هذا، يبقى المبيع ما بقي صاع.
الحال الثاني: أن لا يعلما أو أحجها مبلغ صيعانها، فوجهان. أحدهما، وهو
اختيار القفال: لا يصح، كما لو فرق صيعان الصبرة، وقال: بعتك صاعا منها،
فإنه لا يصح. وأصحهما: يصح وهو المنصوص. وفي فتاوى القفال: أنه كان إذا
29

سئل عن هذه المسألة، يفتي بهذا الثاني مع ذهابه إلى الأول، ويقول: المستفتي
يستفتيني عن مذهب الشافعي رضي الله عنه، لا عما عندي. وعلى هذا، المبيع
صاع منها، أي صاع كان. فلو تلف جميعها إلا صاعا، تعين العقد فيه، والبائع
بالخيار بين أن يسلم صاعا من أعلى الصبرة أو أسفلها وإن لم يكن الأسفل مرئيا، لان
رؤية ظاهر الصبرة كرؤية كلها.
قلت: وأما استدلال الأول بأنه لو فرقت صيعانها فباع صاعا لم يصح، فهكذا
قطع به الجمهور. وحكى صاحب المهذب في تعليقه في الخلاف عن شيخه
القاضي أبي الطيب صحة بيعه، لعدم الغرر. والصحيح: المنع. والله أعلم.
فرع إبهام ممر الأرض المبيعة، كإبهام نفس المبيع. وصورته: أن يبيع
أرضا محفوفة بملكه من جميع الجوانب، ويشرط للمشتري حق الممر من جانب،
ولم يعينه، فالبيع باطل، لاختلاف الغرض بالممر. فإن عين الممر من جانب،
صح البيع. ولو قال: بعتكها بحقوقها، صح، وثبت للمشتري حق الممر من كل
جانب كما كان ثابتا للبائع قبل البيع. وإن أطلق البيع ولم يتعرض للممر، فوجهان.
أصحهما: يصح، ويكون كما لو قال: بعتكها بحقوقها. والثاني: أنه لا يقتضي
الممر، فعلى هذا هو كما لو صرح بنفي الممر، وفيه وجهان. أصحهما: بطلان
البيع، لعدم الانتفاع في الحال، والثاني: الصحة، لامكان تحصيل الممر، وقال
في التهذيب: إن أمكن تحصيل ممر، صح البيع، وإلا، فلا. ولو كانت
الأرض المبيعة ملاصقة للشارع، فليس للمشتري سلوك ملك البائع، فإن العادة في
مثلها الدخول من الشارع، فينزل الامر عليه. ولو كانت ملاصقة ملك المشتري، لم
يتمكن من المرور فيما بقي للبائع، بل يدخل من ملكه القديم. وأبدى الامام فيه
احتمالا، قال: وهذا إذا أطلق البيع، أما إذا قال: بحقوقها، فله الممر في ملك
البائع. ولو باع دارا واستثنى لنفسه بيتا فله الممر، فإن نفى الممر، نظر، إن
أمكن اتخاذ ممر، صح البيع، وإلا، فوجهان
قلت: أصحهما: البطلان كمن باع ذراعا من ثوب ينقص بالقطع. والله
أعلم.
30

فصل وأما القدر، فالمبيع قد يكون في الذمة، وقد يكون معينا، والأول
هو السلم، والثاني هو المشهور باسم البيع، والثمن فيهما جميعا قد يكون في
الذمة وإن كان يشترط في السلم تسليم رأس المال في مجلس العقد، وقد يكون
معينا، فما كان في الذمة من العوضين، اشترط كونه معلوم القدر، حتى لو قال:
بعتك ملء هذا البيت حنطة، أو بزنة هذه الصنجة ذهبا، لم يصح البيع. ولو
قال: بعت بما باع به فلان فرسه أو ثوبه، وأحدهما لا يعلم، لم يصح على
الصحيح، للغرر. وقيل: يصح، للتمكن من العلم، كما لو قال: بعتك هذه
الصبرة، كل صاع بدرهم، يصح البيع وإن كانت الجملة مجهولة في الحال.
وقيل: إن حصل العلم قبل التفرق، صح. ولو قال: بعتك بمائة دينار إلا عشرة
دراهم، لم يصح إلا أن يعلما قيمة الدينار بالدراهم.
قلت: ينبغي ألا يكفي علمهما بالقيمة، بل يشترط معه قصدهما استثناء
القيمة. وذكر صاحب المستظهري فيما إذا لم يعلما حال العقد قيمة الدينار
بالدراهم، ثم علما في الحال طريقين. أصحهما: لا يصح كما ذكرنا. والثاني:
على وجهين. والله أعلم.
ولو قال: بعتك بألف من الدراهم والدنانير، لم يصح.
فرع إذا باع بدراهم أو دنانير، اشترط العلم بنوعها، فإن كان في البلد نقد
واحد، أو نقود يغلب التعامل بواحد منها، انصرف العقد إلى المعهود وإن كان
فلوسا، إلا أن يعين غيره. فإن كان نقد البلد مغشوشا، ففي صحة المعاملة به
وجهان ذكرناهما في كتاب الزكاة، إلا أنا خصصناهما بما إذا كان قدر النقرة
مجولا، وربما نقل العراقيون الوجهين مطلقا، ووجهوا المنع بأن المقصود غير متميز
31

عما ليس بمقصود، فصار كما لو شيب اللبن بالماء وبيع، فإنه لا يصح. وحكي
وجه ثالث: أنه إذا كان الغش غالبا، لم يجز التعامل بها. وإن كان مغلوبا، جاز.
وعلى الجملة، الأصح الصحة مطلقا، وعلى هذا، ينصرف إليه العقد عند
الاطلاق. ولو باع بمغشوشة، ثم بان أن فضتها قليلة جدا، فله الرد على المذهب.
وقيل: وجهان. أما إذا كان في البلد نقدان أو نقود لا غلبة لبعضها، فلا يصح البيع
حتى يعين. وتقويم المتلف يكون بغالب نقد البلد. فإن كان فيه نقدان فصاعدا،
ولا غالب، عين القاضي واحدا للتقويم. ولو غلب من جنس العروض نوع، فهل
ينصرف الذكر إليه عند الاطلاق؟ وجهان. أصحهما: ينصرف كالنقد. ومن
صوره: أن يبيع صاعا من الحنطة بصاع منها أو بشعير في الذمة، ثم يحضره قبل
التفرق. وكما ينصرف العقد إلى النقد الغالب، ينصرف في الصفات إليه أيضا.
حتى لو باع بدينار أو بعشرة دنانير، والمعهود في البلد الصحاح، انصرف إليه، وإن
كان المعهود المكسر، انصرف إليه. قال في البيان: إلا أن تتفاوت قيمة
المكسر، فلا يصح. وعلى هذا القياس، لو كان المعهود، أن يؤخذ نصف الثمن
من هذا، ونصفه من ذاك، أو أن يؤخذ على نسبة أخرى، فالبيع صحيح محمول
عليه. وإن كان يعهد التعامل بهذا مرة، وبهذا مرة، ولم يكن بينهما تفاوت، صح
البيع، وسلم ما شاء منهما. وإن كان بينهما تفاوت بطل البيع كما لو كان في البلد
نقدان غالبان وأطلق. ولو قال: بعت بألف صحاح ومكسرة، فوجهان. أصحهما:
البيع باطل. والثاني: أنه صحيح ويحمل على التنصيف. ويشبه أن يجري هذا
الوجه فيما إذا قال: بعت بألف ذهبا وفضة.
قلت: لا جريان له هناك، والفرق كثرة التفاوت بين الذهب والفضة، فيعظم
الغرر. والله أعلم.
فرع لو قال: بعتك بدينار صحيح، فجاء بصحيحين وزنهما مثقال، لزمه
القبول، لان الغرض لا يختلف بذلك. وإن جاء بصحيح وزنه مثقال ونصف، قال
32

في التتمة: لزمه قبوله، والزيادة أمانة في يده. والصواب: أنه لا يلزمه القبول،
لما في الشركة من الضرر، وقد ذكر في البيان نحو هذا. فلو تراضيا به، جاز.
وحينئذ لو أراد أحدهما كسره، وامتنع الآخر، لم يجبر عليه، لما في هذه القسمة
من الضرر. ولو باع بنصف دينار صحيح بشرط كونه مدورا، جاز إن كان يعم
وجوده. وإن لم يشترط، فعليه شق وزنه نصف مثقال. فإن سلم إليه صحيحا أكثر
من نصف مثقال وتراضيا بالشركة فيه، جاز. ولو باعه شيئا بنصف دينار صحيح، ثم
باعه شيئا آخر بنصف دينار صحيح، فإن سلم صحيحا عنهما، فقد زاد خيرا، وإن
سلم قطعتين وزن كل واحدة نصف دينار، جاز. فلو شرط في العقد الثاني تسليم
صحيح عنهما، فالعقد الثاني فاسد، والأول ماض على الصحة إن جرى الثاني بعد
لزومه، وإلا، فهو إلحاق شرط فاسد بالعقد في زمن الخيار، وسيأتي حكمه إن شاء
الله تعالى.
فرع لو باع بنقد قد انقطع عن أيدي الناس، فالعقد باطل لعدم القدرة
على التسليم. وإن كان لا يوجد في تلك البلدة، ويوجد في غيرها، فإن كان الثمن
حالا، أو مؤجلا إلى مدة لا يمكن نقله فيها، فهو باطل أيضا. وإن كان مؤجلا إلى
مدة يمكن نقله فيها، صح. ثم إن حل الأجل وقد أحضره، فذاك، وإلا، فيبنى
على أن الاستبدال عن الثمن، هل يجوز؟ إن قلنا: لا، فهو كانقطاع المسلم فيه.
وإن قلنا: نعم، استبدل، ولا ينفسخ العقد على الصحيح. وفي وجه: ينفسخ.
فإن كان يوجد في البلد، إلا أنه عزيز، فإن جوزنا الاستبدال، صح العقد. فإن
وجد، فذاك، وإلا فيستبدل. وإن لم نجوزه، لم يصح. فلو كان النقد الذي جرى
به التعامل موجودا، ثم انقطع. فإن جوزنا الاستبدال، استبدل، وإلا، فهو
كانقطاع المسلم فيه.
فرع لو باع بنقد معين أو مطلق وحملناه على نقد البلد، فأبطل السلطان
ذلك النقد، لم يكن للبائع إلا ذاك النقد، كما لو أسلم في حنطة فرخصت، فليس
له غيرها. وفيه وجه شاذ ضعيف: أنه مخير إن شاء أجاز العقد بذلك النقد، وإن
شاء فسخه، كما لو تعيب قبل القبض.
فرع لو قال: بعتك هذه الصبرة، كل صاع بدرهم، أو هذه الأرض، أو
33

الثوب، كل ذراع بدرهم، أو هذه الأغنام، كل شاة بدرهم، صح العقد في الجميع
على الصحيح، ولا تضر جهالة جملة الثمن، لأنه معلوم التفصيل. وقال ابن
القطان: لا يصح. ولو قال: بعتك عشرة من هذه الأغنام بكذا، لم يصح وأن علم
عدد الجملة، بخلاف مثله في الثوب والصبرة والأرض، لان قيمة الشياة تختلف.
ولو قال: بعتك من هذه الصبرة، كل صاع بدرهم، لم يصح. وقال ابن سريج:
يصح في صاع فقط.
قلت: وسيأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الإجارة، أنه لو قال: بعتك كل
صاع من هذه الصبرة بدرهم، لم يصح على الصحيح الذي قطع به الجمهور،
واختار الامام وشيخه الصحة. والله أعلم.
ولو قال: بعتك هذه الصبرة بعشرة دراهم، كل صاع بدرهم، أو قال مثله في
الأرض والثوب، نظر، إن خرج كما ذكر، صح البيع. وإن خرج زائدا أو ناقصا،
ففيه قولان. أظهرهما: لا يصح، لتعذر الجمع بين الامرين. والثاني: يصح،
لإشارته إلى الصبرة ويلغو الوصف. فعلى هذا، إن خرج ناقصا، فالمشتري
بالخيار. فإن أجاز، فهل يجيز بجميع الثمن لمقابلة الصبرة به، أم بالقسط لمقابلة
كل صاع بدرهم؟ وجهان. وإن خرج زائدا، فلمن تكون الزيادة؟ وجهان.
أصحهما، للمشتري، فلا خيار له قطعا، ولا للبائع على الأصح. والثاني: يكون
للبائع، فلا خيار له، وللمشتري الخيار على الأصح.
فرع هذا الذي سبق، هو فيما إذا كان العوض في الذمة، فأما إذا كان
معينا، فلا تشترط معرفة قدره بالكيل والوزن. فلو قال: بعتك هذه الصبرة، أو
بعتك بهذه الدراهم، صح وتكفي المشاهدة، لكن هل يكره بيع الصبرة جزافا؟
قولان.
قلت: أظهرهما: يكره، وقطع به جماعة، وكذا البيع بصبرة الدراهم
مكروه. والله أعلم.
ولو كانت الصبرة على موضع من الأرض فيه ارتفاع وانخفاض، أو باع السمن
أو نحوه في ظرف مختلف الاجزاء رقة وغلظا، فثلاث طرق. أصحها: أن في
صحة البيع قولي بيع الغائب، والثاني: القطع بالصحة، والثالث: القطع
34

بالبطلان، وهو ضعيف وإن كان منسوبا إلى المحققين. فإن قلنا: بالصحة فوقت
الخيار هنا معرفة مقدار الصبرة، أو التمكن من تخمينه برؤية ما تحتها، وإن قلنا:
بالبطلان، فلو باع الصبرة والمشتري يظنها على استواء الأرض، ثم بان تحتها دكة،
فهل نتبين بطلان العقد؟ وجهان: أصحهما: لا، ولكن للمشتري الخيار، كالعيب
والتدليس، وبه قطع صاحب الشامل وغيره. والله أعلم.
فرع لو قال: بعتك هذه الصبرة إلا صاعا، فإن كانت معلومة الصيعان،
صح، وإلا، فلا.
فصل وأما الصفة: ففيها مسائل.
إحداها: في بيع الأعيان الغائبة والحاضرة التي لم تر، قولان. قال في
القديم والاملاء: والصرف من الجديد يصح، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد
رضي الله عنهم، وقال بتصحيحه طائفة من أئمتنا، وأفتوا به، منهم، البغوي،
والروياني. وقال في الام والبويطي: لا يصح، وهو اختيار المزني. وفي
محل القولين، ثلاث طرق. أصحها: أنهما فيما لم يره المتعاقدان أو أحدهما جلا
فرق. والثاني: أنهما فيما شاهده البائع دون المشتري. فإن لم يشاهده البائع،
فباطل قطعا. والثالث: إن رآه المشتري، صح قطعا، وإلا، فالقولان.
الثانية: القولان في شراء الغائب وبيعه يجريان في إجارته، وفيما إذا أجر بعين
غائبة، أو صالح عليها، أو جعلها رأس مال السلم وسلمها في المجلس. أما إذا
أصدقها عينا غائبة، أو خالعها عليها، أو عفا عن القصاص على عين غائبة، فيصح
النكاح وتقع البينونة، ويسقط القصاص قطعا. وفي صحة المسمى، القولان. فإن
لم يصح، وجب مهر المثل على الرجل في النكاح، وعلى المرأة في الخلع،
ووجبت الدية على المعفو عنه. ويجريان في رهن الغائب وهبته، وهما أولى
بالصحيح، لعدم الغرر. ولهذا، إذا صححناهما، فلا خيار عند الرؤية.
الثالثة: إن لم يجز بيع الغائب وشراؤه، لم يجز بيع الأعمى وشراؤه، وإلا،
فوجهان. أصحهما: لا يجوز أيضا، إذ لا سبيل إلى رؤيته، فيكون كبيع الغائب
على أن لا خيار. والثاني: يجوز، ويقام وصف غيره له مقام رؤيته، وبه قال مالك
وأبو حنيفة وأحمد رضي الله عنهم. فإذا قلنا: لا يصح بيعه وشراؤه، لم يصح منه
35

الإجارة والرهن والهبة أيضا. وهل له أن يكاتب عبده؟ قال في التهذيب: لا.
وقال في التتمة: المذهب جوازه، تغليبا للعتق.
قلت: الأصح: الجواز. والله أعلم.
ويجوز أن يؤجر نفسه، وللعبد الأعمى أن يشتري نفسه، وأن يقبل الكتابة
على نفسه لعلمه بنفسه، ويجوز أن يتزوج. وإذا زوج موليته تفريعا على أن العمى
غير قادح في الولاية، والصداق عين مال، لم يثبت المسمى، وكذا لو خالع الأعمى
على مال. أما إذا أسلم في شئ، أو أسلم إليه، فينظر، إن عمي بعد بلوغه سن
التمييز، صح، لأنه يعرف الأوصاف، ثم يوكل من يقبض عنه على الوصف
المشروط، ولا يصح قبضه بنفسه على الأصح، لأنه لا يميز بين المستحق وغيره.
وإن خلق أعمى، أو عمي قبل التميز، فوجهان. أصحهما عند العراقيين والأكثرين
من غيرهم: الصحة، لأنه يعرف بالسماع. فعلى هذا، إنما يصح إذا كان رأس
المال موصوفا معينا في المجلس، فإن كان معينا، فهو كبيعة العين. ثم كل ما لا
يصح من الأعمى من التصرفات، فطريقه أن يوكل، ويحتمل ذلك للضرورة.
قلت: لو كان الأعمى رأى شيئا مما لا يتغير، صح بيعه وشراؤه إياه إذا
صححنا ذلك من البصير، وهو المذهب. والله أعلم.
الرابعة: إذا لم نجوز بيع الغائب وشراءه، فعليه فروع.
أحدها: لو اشترى غائبا رآه قبل العقد، نظر، إن كان مما لا يتغير غالبا،
كالأرض، والأواني، والحديد، والنحاس، ونحوها، أو كان لا يتغير في المدة
المتخللة بين الرؤية والشراء، صح العقد، لحصول العلم المقصود. وقال
36

الأنماطي: لا يصح، وهو شاذ مردود. فإذا صححناه، فوجده كما رآه أولا، فلا
خيار. وإن وجده متغيرا، فالمذهب: أن العقد صحيح، وله الخيار، وبهذا قطع
الجمهور. وذكر في الوسيط وجها: أنه يتبين بطلان البيع لتبين انتفاء المعروفة.
قال الامام: وليس المراد بتغيره حدوث عيب، فإن خيار الغيب لا يختص بهذه
الصورة، بل الرؤية بمنزلة الشرط في الصفات الكائنة عند الرؤية. فكل ما فات
منها، فهو كتبين الخلف في الشرط. وأما إذا كان المبيع مما يتغير في مثل تلك
المدة غالبا، بأن رأى ما يسرع فساده من الأطعمة، ثم اشتراه بعد مدة صالحة،
فالبيع باطل. وإن مضت مدة يحتمل أن يتغير فيها، ويحتمل أن لا يتغير، أو كان
حيوانا، فالأصح الصحة. فإن وجده متغيرا، فله الخيار. وإذا اختلفا، فقال
المشتري: تغير. وقال البائع: هو بحاله، فالأصح المنصوص، أن القول قول
المشتري مع يمينه، لان البائع يدعي عليه علمه بهذه الصفة، فلم يقبل كادعائه
اطلاعه على العيب. والثاني: القول قول البائع.
الثاني: استقصاء الأوصاف على الحد المعتبر في السلم، هل يقوم مقام
الرؤية - وكذا سماع وصفه - بطرق التواتر؟ وجهان. أصحهما: لا، وبه قطع
العراقيون.
الثالث: لو رأى بعض الشئ دون بعض، فإن كان مما يستدل برؤية بعضه
37

على الباقي، صح البيع قطعا، وذلك مثل رؤية ظاهر صبرة الحنطة ونحوها. ثم لا
خيار إذا رأى باطنها، إلا إذا خالف ظاهرها. وحكي قول شاذ ضعيف: أنه لا يكفي
رؤية ظاهر الصبرة، بل لا بد من أن يقلبها ليعرف باطنها، والمشهور، هو الأول.
وفي معنى الحنطة والشعير، صبرة الجوز واللوز والدقيق. فلو كان شئ منها في
وعاء، فرأى أعلاه، أو رأى أعلى السمن والخل وسائر المائعات في ظروفها،
كفى. ولو كانت الحنطة في بيت مملوء منها، فرأى بعضها من الكوة أو الباب،
كفى إن عرف سعة البيت وعمقه، وإلا، فلا. وكذا حكم الجمد في المجمدة. ولا
تكفي رؤية صبرة البطيخ، والسفرجل، والرمان، بل لا بد من رؤية كل واحدة
منها. ولا يكفي في سلة العنب والخوخ ونحوهما، رؤية أعلاها، لكثرة الاختلاف
فيها، بخلاف الحبوب. وأما التمر، فإن لم تلزق حباته، فصبرته كصبرة الجوز،
واللوز. وإن التزقت كالقوصرة، كفى رؤية أعلاها على الصحيح. وأما القطن في
العدل، فهل تكفي رؤية أعلاه، أم لا بد من رؤية جميعه؟ فيه خلاف حكاه
الصيمري وقال: الأشبه عندي، أنه كقوصرة التمر.
الرابع: لو أراه أنموذجا وبنى أمر البيع عليه، نظر، إن قال: بعتك من هذا
النوع كذا، فهو باطل، لأنه لم يعين مالا ولم يراع شروط السلم، ولا يقوم ذلك
مقام الوصف في السلم على الصحيح، لأن الوصف باللفظ يرجع إليه عند النزاع.
وإن قال: بعتك الحنطة التي في هذا البيت، وهذا الأنموذج منها، فإن لم يدخل
الأنموذج في البيع، لم يصح على الأصح، لأن المبيع غير. مرئي. وإن أدخله،
صح على الأصح. ولا يخفى أن مسألة الأنموذج، مفروضة في المتماثلات.
الخامس: إذا كان الشئ مما لا يستدل برؤية بعضه على الباقي. فإن
كان المرئي صوانا له، كقشر الرمان والبيض، كفى رؤيته، وكذا شراء الجوز
38

واللوز في القشر الأسفل. ولا يصح بيع اللب وحده على القولين جميعا، لان تسليمه
لا يمكن إلا بكسر القشر فينقص عين المبيع. ولو رأى المبيع من وراء قارورة هو
فيها، لم يكف، لان المعرفة التامة لا تحصل به، وليس فيه صلاح له، بخلاف
السمك يراه في الماء الصافي، يجوز بيعه. وكذا الأرض يعلوها ماء صاف، لأن الماء
من صلاحهما. وإن لم يكن كذلك، لم تكف رؤية البعض على هذا القول
الذي تفرع عليه. وأما على القول الآخر، فيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في المسألة
الخامسة.
السادس: الرؤية في كل شئ على حسب ما يليق به. ففي شراء الدار،
لا بد من رؤية البيوت، والسقوف والسطوح، والجدران، داخلا وخارجا،
والمستحم والبالوعة. وفي البستان، يشترط رؤية الأشجار، والجدران، ومسايل
الماء، ولا حاجة إلى رؤية أساس البنيان وعروق الأشجار ونحوهما. وقيل: في
اشتراط رؤية طريق الدار، ومجرى الماء الذي تدور به الرحى، وجهان. ويشترط
في شراء العبد رؤية الوجه، والأطراف، ولا يجوز رؤية العورة. وفي باقي البدن،
وجهان. أصحهما: الاشتراط، وبه قطع صاحبا التهذيب والرقم. وفي
الجارية أوجه. أحدها: كالعبد. والثاني: يشترط رؤية ما يظهر عند الخدمة.
والثالث: تكفي رؤية الوجه والكفين. وفي الأسنان واللسان، وجهان. ويشترط
رؤية الشعر على الأصح.
قلت: الأصح: أنها كالعبد. والله أعلم.
ويشترط في الدواب رؤية مقدمها، ومؤخرها وقوائمها، ويشترط رفع السرج
والأكاف، والجل. وفي وجه: يشترط أن يجري الفرس بين يديه ليعرف سيره،
ويشترط في الثوب المطوي نشره. قال الامام: ويحتمل عندي أن يصحح بيع الثياب
39

التي لا تنشر أصلا إلا عند القطع، لما في نشرها من النقص.
قلت: قال القفال في شرح التلخيص: لو اشترى الثوب المطوي
وصححناه، فنشره، واختار الفسخ، وكان لطيه مؤنة، ولم يحسن طيه، لزم
المشتري مؤنة الطي، كما لو اشترى شيئا ونقله إلى بيته فوجد به عيبا، فإن مؤنة الرد
على المشتري. والله أعلم.
ثم إذا نشرت، فما كان صفيقا كالديباج المنقش، فلا بمن رؤية وجهيه،
وكذا البسط والزلالي. وما كان رقيقا، لا يختلف وجهاه، كالكرباس، كفى رؤية
أحد وجهيه على الأصح. ولا يصح بيع الثياب التوزية في المسوح على هذا
القول، ولا بد في شراء المصحف والكتب من تقليب الأوراق ورؤية جميعها. وفي
الورق البياض، لا بد من رؤية جميع الطاقات. قال أبو الحسن العبادي: الفقاع
يفتح رأسه فينظر فيه بقدر الامكان، ليصح بيعه. وأطلق الغزالي في الاحياء:
المسامحة به.
قلت: الأصح: قول الغزالي. والله أعلم.
المسألة الخامسة: إذا جوزنا بيع الغائب، فعليه فروع.
أحدها: بيع اللبن في الضرع باطل. فلو قال: بعتك من اللبن الذي في
ضرع هذه البقرة كذا، لم يجز على المذهب، لعدم تيقن وجود ذلك القدر. وقيل:
فيه قولا بيع الغائب. ولو حلب شيئا من اللبن فأراه، ثم باعه رطلا مما في الضرع،
فوجهان كالأنموذج. وذكر الغزالي الوجهين، فيما لو قبض قدرا من الضرع وأحكم
شده وباع ما فيه.
قلت: الأصح في الصورتين، البطلان، لأنه يختلط بغيره مما ينصب في
الضرع. والله أعلم.
الثاني: لا يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم. وفي وجه: يجوز بشرط
40

الجز، وهو شاذ ضعيف. ويجوز بيع الصوف على ظهر الحيوان بعد الذكاة،
وتجوز الوصية باللبن فالضرع، والصوف على الظهر.
الثالث: بيع الشاة المذبوحة قبل السلخ، باطل، سواء بيع الجلد واللحم
معا، أو أحدهما. ولا يجوز بيع الأكارع والرؤوس قبل الإبانة. وفي الأكارع وجه
شاذ. ويجوز بيعها بعد الإبانة نيئة ومشوية. وكذا المسموط نيئا ومشويا. وفي النئ
احتمال للامام.
الرابع: بيع المسك في الفأرة، باطل، سواء بيع معها أو دونها، كاللحم في
الجلد، سواء فتح رأس الفأرة، أم لا. وقال في التتمة: إذا كانت مفتوحة،
نظر، إن لم يتفاوت ثخنها، وشاهد المسك فيها، صح البيع، وإلا، فلا. وقال
ابن سريج: يجوز بيعه مع الفأرة مطلقا، كالجوز. ولو رأى المسك خارج الفأرة،
ثم اشتراه بعد الرد إليها، فإن كان رأسها مفتوحا فرآه، جاز، وإلا، فعلى قولي بيع
الغائب.
قلت: قال أصحابنا: لو باع المسك المختلط بغيره، هم يصح، لان
المقصود مجهول. كما لا يصح بيع اللبن المخلوط بماء. ولو باع سمنا في
ظرف، ورأي أعلاه مع ظرفه أو دونه، صح. فإن قال: بعتكه بظرفه، كل رطل
بدرهم، فإن لم يكن للظرف قيمة، بطل. وإن كان، فقد قيل: يصح وإن اختلفت
قيمتهما، كما لو باع فواكه مختلطة، أو حنطة مختلطة بشعير وزنا أو كيلا. وقيل:
باطل، لان المقصود السمن، وهو مجهول، بخلاف الفواكه، فكلها مقصودة.
وقيل: إن علما وزن الظرف والسمن، جاز، وإلا، فلا، وهذا هو الأصح،
صححه الجمهور، وقطع به معظم العراقيين. وإن باع المسك بفأرة، كل مثقال
41

بدينار، فكالسمن بظرفه، ذكره البغوي وغيره. والله أعلم.
الخامس: لو رأى بعض الثوب، وبعضه الآخر في صندوق، فالمذهب: أنه
على القولين في الغائب، وبه قال الجمهور. وقيل: باطل قطعا. ولو كان المبيع
شيئين، رأى أحدهما فقط، فإن أبطلنا بيع الغائب، بطل فيما لم يره، وفي المرئي
قولا تفريق الصفقة، وإلا، ففي صحة العقد فيهما، القولان فيمن جمع في صفقة
بين مختلفي الحكم، لان ما رآه لا خيار فيه، وما لم يره فيه الخيار. فإن صححنا،
فله رد ما لم يره وإمساك ما رآه.
السادس: إذا لم يشرط الرؤية، فلا بد من ذكر جنس المبيع ونوعه، بأن
يقول: بعتك عبدي التركي، أو فرسي العربي. ولا يكفي: بعتك ما في كمي أو
كفي أو خزانتي، أو ميراثي من فلان، إذا لم يعرفه المشتري. وفي وجه: يكفي.
وفي وجه آخر: يكفي ذكر الجنس، ولا حاجة إلى النوع، فيقول: عبدي، وهما
شاذان ضعيفان. وإذا ذكر الجنس والنوع، لم يفتقر إلى ذكر الصفات على الأصح
المنصوص في الاملاء والقديم. وفي وجه: يفتقر إلى ذكر معظم الصفات،
وضبط ذلك بما يصف به المدعى عند القاضي، قاله القاضي أبو حامد. وفي وجه
أضعف منه: يفتقر إلى صفات السلم، قاله أبو علي الطبري. فعلى الأصح: لو
كان له عبدان من أنواع، فلا بد من زيادة يقع بها التمييز كالتعرض للسن أو غيره.
السابع: إذا قلنا: يشترط الوصف فوصف، فإن وجده كما وصف، فله
الخيار على الأصح. وقيل: له الخيار قطعا. وإن وجده دون وصفه، فله الخيار
قطعا. وإن قلنا: لا حاجة إلى الوصف، فللمشتري الخيار عند الرؤية، سواء شرط
الخيار، أم لا. وقيل: لا يثبت الخيار إلا أن يشرطه. والصحيح: الأول. وهل له
الخيار قبل الرؤية؟ فيه أوجه. الصحيح: أنه يند فسخه قبل الرؤية، ولا تنفذ
إجارته. والثاني: ينفذان. والثالث: لا ينفذان. وأما البائع، فالأصح: أنه لا
خيار له، سواء كان رأى المبيع، أم لا. وقيل: له الخيار في الحالين. وقيل: له
الخيار إن لم يكن رآه، وبه قطع الشيخ ومتابعوه كالمشتري. ثم خيار الرؤية حيث
ثبت، هل هو على الفور، أم يمتد امتداد مجلس الرؤية؟ وجهان. أصحهما:
يمتد. قال الشيخ أبو محمد. الوجهان بناء على وجهين في أنه هل يثبت خيار
42

المجلس مع خيار الرؤية كشراء العين الحاضرة، أم لا يثبت للاستغناء بخيار الرؤية؟
فعلى الأول: خيار الرؤية على الفور، لئلا يثبت خيار مجلسين. وعلى الثاني:
يمتد.
الثامن: لو تلف المبيع في يد المشتري قبل الرؤية، ففي انفساخ البيع
وجهان، كنظيره في خيار الشرط. ولو باعه قبل الرؤية، لم يصح، بخلاف ما لو باعه
في زمن خيار الشرط، فإنه يصح على الأصح، لأنه يصير مجيزا للعقد، وهنا لا
إجازة قبل الرؤية.
التاسع: هل يجوز أن يوكل في الرؤية من يفسخ أو يجيز ما يستصوبه؟
وجهان. أصحهما: يجوز كالتوكيل في خيار العيب والخلف. والثاني: لا، لأنه
خيار شهوة لا يتوقف على نقص ولا غرض، فأشبه ما لو أسلم على أكثر من أربع
نسوة، يوكل في الاختيار.
العاشر: نقل صاحب التتمة والروياني وجها: أنه يعتبر على قول اشتراط
الرؤية، الذوق في الخل ونحوه، والشم في المسك ونحوه، واللمس في الثياب
ونحوها، والصحيح المعروف: أنها لا تعتبر.
الحادي عشر: ذكر بعضهم: أنه لا بد من ذكر موضع المبيع الغائب. فلو
كان في غير بلد التبايع، وجب تسليمه في ذلك البلد، ولا يجوز شرط تسليمه في
بلد التبايع. بخلاف السلم، فإنه مضمون في الذمة. والعين الغائبة غير مضمونة في
الذمة، فاشتراط نقلها، يكون بيعا وشرطا.
الثاني عشر: لو رأى ثوبين فسرق أحدهما، فاشترى الباقي ولا يعلم أيهما
المسروق، قال الغزالي في الوسط: إن تساوت صفتهما وقدرهما وقيمتهما،
كنصفي كرباس واحد، صح قطعا، وإن اختلفا في شئ من ذلك، خرج على بيع
الغائب.
الثالث عشر: إذا لم نشرط الرؤية، فاختلفا، فقال البائع للمشتري: رأيت ا
لمبيع فلا خيار لك، فأنكر المشتري، فالقول قول البائع على الأصح. وإن شرطنا
43

الرؤية فاختلفا، قال الغزالي في فتاويه: القول قول البائع، لان إقدام المشتري
على العقد، اعتراف بصحته، ولا ينفك هذا عن خلاف.
قلت: هذه مسألة اختلافهما في مفسد للعقد، وفيها الخلاف المعروف.
والأصح: أن القول قول من يدعي الصحة، وعليه فرعها الغزالي.
وبقيت مسائل تعلق بالباب، منها بيع أستار الكعبة، فيه خلاف قدمته في
أواخر الحج. وبيع أشجار الحرم وصيده، حرام باطل. قال القفال: إلا أن يقطع
شيئا يسيرا لدواء، فيجوز بيعه حينئذ. وفيما قاله نظر، وينبغي أن لا يجوز كالطعام
الذي أبيح له أكله، لا يجوز بيعه. قال صاحب التلخيص: حكم شجر النقيع -
بالنون - الذي هو الحمى، حكم أشجار الحرم، فلا يجوز بيعه. ومما تعم به
البلوى ما اعتاده الناس من بيع نصيبه من الماء الجاري لن النهر. قال المحاملي في
اللباب: هذا باطل لوجهين. أحدهما: أن المبيع غير معلوم القدر. والثاني:
أن الماء الجاري غير مملوك، وسيأتي هذا مع غيره مبسوطا في آخر كتاب إحياء
الموات إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
باب الربا
إنما يحرم الربا في المطعوم، والذهب، والفضة. فأما المطعوم، فسواء كان
44

مما يكال أو يوزن، أم لا، هذا هو الجديد، وهو الأظهر. والقديم: أنه يشترط مع
الطعم الكيل أو الوزن. فعلى هذا، لا ربا في السفرجل، والرمان، والبيض،
والجوز، وغيره مما لا يكال ولا يوزن. وقال الأودني من أصحابنا: لا يجوز بيع مال
بجنسه متفاضلا، ولا يشترط الطعم، وهذا شاذ مردود. والمراد بالمطعوم: ما يعد
للطعم غالبا تقوتا، أو تأدما، أو تفكها، أو غيرها، فيدخل في الفواكه،
والحبوب، والبقول، والتوابل، وغيرها. وسواء ما أكل نادرا كالبلوط،
والطرثوث، وما أكل غالبا، وما أكل وحده أو مع غيره. ويجري الربا في الزعفران
على الأصح، وسواء ما أكل للتداوي كالإهليلج، والبليلج، والسقمونيا وغيرها،
وما أكل لغرض آخر. وفي التتمة وجه: أنه ما يقتل كثيره ويستعمل قليله في
الأدوية كالسقمونيا، لا ربا فيها، وهو ضعيف.
والطين الخراساني، ليس ربويا على المذهب. والأرمني، ربوي على
الصحيح، لأنه دواء. ودهن البنفسج، والورد، والبان، ربوي على الأصح.
ودهن الكتان، والسمك، وحب الكتان، وماء الورد، والعود، ليس ربويا على
الأصح.
45

والزنجبيل، والمصطكي، ربوي على الأصح. والماء إذا صححنا
بيعه، ربوي على الأصح. ولا ربا في الحيوان، ولكن ما يباح أكله على هيئته
كالسمك الصغير، على وجه يجري فيه الربا على الأصح.
وأما الذهب والفضة، فقيل: يثبت الربا فيهما لعينهما، لا لعلة. وقال
الجمهور: العلة فيهما صلاحية الثمنية الغالبة. وإن شئت قلت: جوهرية الأثمان
غالبا. والعبارتان تشملان التبر، والمضروب، والحلي، والأواني منهما. وفي
تعدى الحكم إلى الفلوس إذا راجت وجه، والصحيح: أنه لا ربا فيهما لانتفاء الثمنية
الغالبة. ولا يتعدى إلى غير الفلوس من الحديد والنحاس والرصاص وغيرها
قطعا.
فصل إذا باع مالا بمال، فله حالان. أحدهما: أن لا يكونا ربوبين.
والثاني: أن يكونا.
فالحال الأول يشمل ما إذا لم يكن فيهما ربوي، وما إذا كان أحدهما ربويا.
46

وعلى التقديرين في هذا الحال، لا تجب رعاية التماثل، ولا الحلول، ولا التقابض
في المجلس، سواء اتفق الجنس، أو اختلف. حتى لو باع حيوانا بحيوانين من
جنسه، أو أسلم ثوبا في ثوبين من جنسه، جاز. وأما الحال الثاني: فتارة يكونان
ربويين بعلتين، وتارة بعلة. فإن كانا بعلتين، لم تجب رعاية التماثل ولا التقابض
ولا الحلول.
47

ومن صوره: أن يسلم أحد النقدين في الحنطة، أو يبيع الحنطة بالذهب أو
بالفضة، نقدا، أو نسيئة وإن كانا بعلة. فإن اتحد الجنس، بأن باع الذهب
بالذهب، والحنطة بالحنطة، ثبتت أحكام الربا الثلاثة، فتجب رعاية التماثل
والحلول والتقابض في المجلس. وإن اختلف الجنس، كالحنطة وبالشعير، والذهب
بالفضة، لم تعتبر الماثلة، ويعتبر الحلول والتقابض في المجلس.
فرع حيث اعتبرنا التقابض، فتفرقا قبله، بطل العقد. ولو تقابضا بعض
كل واحد من العوضين، ثم تفرقا، بطل فيما لم يقبض. وفي المقبوض قولا تفريق
الصفقة. والتخاير في المجلس قبل التقابض، كالتفرق، فيبطل العقد. وقال ابن
سريج: لا يبطل. والصحيح: الأول. ولو وكل أحدهما وكيلا بالقبض، فقبض
قبل مفارقة الموكل المجلس، جاز، وبعده لا يجوز.
فرع قد سبق بيع مال الربا بجنسه مع زيادة، لا يجوز. فلو أراد بيع
صحاح بمكسرة، أو غير ذلك مع الزيادة، فله طرق.
منها: أن يبيع الدراهم بالدنانير، أو بعرض. فإذا تقابضا وتخايرا، أو تفرقا،
اشترى منه الدراهم المكسرة بالدنانير أو العرض، فيصح ذلك، سواء اتخذه عادة،
أم لا.
ولو اشترى المكسرة بالدنانير، أو العرض الذي اشتراه منه قبل قبضه، لم
يجز. وإن كان بعد قبضه وقبل التفرق والتخاير، جاز على المذهب، بخلاف ما لو
باعه لغير بائعه قبل التفرق والتخاير، فإنه لا يجوز، لما فيه من إسقاط خيار العاقد
الآخر، وهنا يحصل بتبايعهما الثاني إجازة الأول.
48

ومنها: أن يقرض صاحبه الصحاح، ويستقرض منه المكسرة، ثم يبرئ كل
واحد منهما صاحبه.
ومنها: أن يهب كل واحد ماله للآخر.
ومنها: أن يبيع الصحاح بوزنها مكسورة، ويهبه صاحب المكسورة الزيادة،
فجميع هذه الطرق جائزة، إذا لم يشرط في إقراضه وهبته وبيعه ما يفعله الآخر.
قلت: هذه الطرق وإن كانت جائزة عندنا، فهي مكروهة إذا نويا ذلك.
ودلائل الكراهة أكثر من أن تحصى. والله أعلم.
فرع لو باع نصفا شائعا من دينار قيمته عشرة دراهم بخمسة، جاز، ويسلم
إليه الدينار ليحصل تسليم النصف، ويكون النصف الآخر أمانة في يد القابض،
بخلاف ما لو كان له عشرة عليه، فأعطاه عشرة عددا فوزنت، فكانت أحد عشر، كان
الدينار الفاضل للدافع على الإشاعة، ويكون مضمونا على القابض، لأنه قبضه
لنفسه. ثم إذا سلم الدراهم الخمسة، فله أن يستقرضها ويشتري بها النصب
الآخر. ولو باعه كل الدينار بعشرة، وليس معه إلا خمسة، فدفعها إليه، واستقرض
منه خمسة أخرى، فقبضها وردها إليه عن الثمن، جاز، ولو استقرض الخمسة
المدفوعة، لم يكف على الأصح.
فصل معيار الشرع الذي ترعى المماثلة به، هو الكيل والوزن.
فالمكيل، لا يجوز بيع بعضه ببعض وزنا، ولا يضر مع الاستواء في الكيل التفاوت
وزنا. والموزون لا يجوز بيع بعضه ببعض كيلا، ولا يضر مع الاستواء في الوزن
التفاوت كيلا. والذهب والفضة، موزونان. والحنطة، والشعير، والتمر،
والزبيب، والملح، ونحوها، مكيلة، وكل ما كان مكيلا بالحجاز على عهد
49

رسول الله (ص)، فهو مكيل، وما كان موزونا، فموزون. فلو أحدث الناس خلاف
ذلك، فلا اعتبار بإحداثهم. فلو كان الملح قطعا كبارا، فوجهان. أحدهما:
يسحق ويباع كيلا، فإنه الأصل. وأصحهما: يباع وزنا اعتبارا بهيئته في الحال.
وكذا كل شئ يتجافى في الكيل، يباع بعضه ببعض وزنا، وما لم يكن على عهد
رسول الله (ص)، أو كان ولم يعلم هل كان يكال، أم يوزن؟ أو علم أنه كان يوزن مرة
ويكال أخرى، ولم يكن أحدهما أغلب، قال المتولي: إن كان أكبر جرما من
التمر، اعتبر فيه الوزن، وإن كان مثله أو أصغر، ففيه أوجه. أصحها: تعتبر عادة
الوقت في بلد البيع. والثاني: عادة الوقت في أكثر البلاد. فإن اختلفت ولا غالب،
اعتبرنا شبه الأشياء به. والثالث: يعتبر الوزن. والرابع: الكيل. والخامس: يعتبر
بأشبه الأشياء به. والسادس: يتخير بين الكيل والوزن، وهو ضعيف. ثم منهم من
خص هذا الخلاف بما إذا لم يكن للشئ أصل معلوم العيار. أما إذا استخرج ما هذا
حاله من أصل. فهو معتبر بأصله. ومنهم من أطلق، قال الامام: وسواء المكيال
المعتاد في عصر رسول الله (ص)، وسائر المكاييل المحدثة بعده، كما أنا إذا عرفنا
التساوي بالتعديل في كفتي الميزان، تكتفي به وإن لم نعرف قدر ما في كل كفة.
وفي الكيل بالقصعة ونحوها مما لا يعتاد الكيل به. تردد للقفال. والأصح،
الجواز. والوزن بالطيار والقرسطون، وزن. وأما الماء، فقد يتأتى به الوزن، بأن
يوضع الشئ في ظرف ويلقى في الماء، وينظر قدر غوصه، لكنه ليس وزنا شرعيا
ولا عرفيا، فالظاهر: أنه لا يجوز التعويل عليه في الربويات.
قلت: قد عول أصحابنا عليه في أداء المسلم فيه، وفي الزكاة، في مسألة
الاناء بعضه ذهب وبعضه فضة، وقد ذكرناه في بابه، ولكن الفرق ظاهر. والله
أعلم.
فرع هذا الذي ذكرناه، كله في مقدر يباع بجنسه. أما ما لا يقدر بكل ولا
وزن، كالبطيخ، والقثاء، والرمان، والسفرجل، فإن قلنا بالقديم: إنه لا ربا
50

فيها، جاز بيع بعضها ببعض كيف شاء، حتى قال القفال: لو جفف شئ منها، وكان
يوزن في جفافه، فلا ربا فيه أيضا، لأنه لا ربا فيه في أكمل أحواله وهو حال
الرطوبة. قال الامام: والظاهر جريان الربا فيه، فإنه في حال الجفاف مطعوم
مقدر. وإن قلنا بالجديد: إن فيه الربا، جاز بيعه بغير جنسه كيف شاء. وأما
بجنسه، فينظر، إن كان مما يجفف، كالبطيخ الذي يفلق، وحب الرمان
الحامض، وكل ما يجفف من الثمار، وإن مقدرا كالمشمش، والخوخ، والكمثري
الذي يفلق، لم يجز بيع بعضه ببعض في حال الرطوبة، ويجوز حال الجفاف على
الصحيح. وعلى الشاذ: لا يجوز، إذ ليس له حال كمال. وإن كان مما لا
يجفف، كالقثاء ونحوه، فهل يجوز بيع بعضه ببعض في حال رطوبته؟ فيه وفي
المقدرات التي لا تجفف، كالرطب الذي لا يتتمر، والعنب الذي لا يتزبب،
قولان. أظهرهما: لا يجوز، كالرطب، بالرطب. والثاني: يجوز، كاللبن باللبن.
فعلى هذا، إن لم يمكن كيله، كالبطيخ والقثاء، بيع وزنا. وإن أمكن، كالتفاح
والتين، فيباع كيلا أو وزنا؟ وجهان. أصحهما: وزنا، ولا بأس على الوجهين
بتفاوت العدد.
فرع لو أراد شريكان قسمة ربوي، فإن قلنا بالأظهر: إن القسمة بيع، لم
يجز قسمة المكيل وزنا، ولا الموزون كيلا. وما لا يباع بعضه ببعض، كالرطب
والعنب، لا يقسم أصلا. وإن قلنا: القسمة إفراز، جاز قسمة المكيل وزنا
وعكسه، وجاز قسمة الرطب ونحوه وزنا. ولا يجوز قسمة غير الرطب والعنب
خرصا. ويجوز قسمتهما خرصا إذا قلنا: إفراز. وقيل: لا يجوز. والأول هو
الأصح المنصوص.
فرع لا يجوز بيع الربوي بجنسه جزافا، ولا بالتخمين والتحري. فلو باع
51

صبرة حنطة بصبرة، أو دراهم بدراهم جزافا، وخرجنا متماثلتين، لم يصح
العقد، لان التساوي شرط. وشرط العقد يعتبر العلم به عند العقد. ولهذا، لو نكح
امرأة لا يعلم أهي أخته، أم معتدة، أم لا؟ لم يصح النكاح، وسواء جهلا الصبرتين
أو إحداهما. ولو قال: بعتك هذه الصبرة بهذه مكايلة، أو كيلا بكيل، أو هذه
الدراهم بتلك موازنة، أو وزنا بوزن، فإن كالا، أو وزنا، وخرجتا سواء، صح
العقد، وإلا، لم يصح على الأظهر. وعلى الثاني: يصح في الكبيرة بقدر ما يقابل
الصغيرة، ولمشتري الكبيرة الخيار. وحيث صححنا، فتفرقا بعد تقابض
الجملتين، وقبل الكيل والوزن، لم يبطل العقد على الأصح. ولو قال: بعتك هذه
الصبرة بكيلها من صبرتك، وصبرة المخاطب أكبر، صح. ثم إن كالا في المجلس
وتقابضا، تم العقد. وإن تقابضا الجملتين وتفرقا قبل الكيل، فعلى الوجهين. ولو
باع صبرة حنطة بصبرة شعير جزافا، جاز، ولو باعها بها صاعا بصاع، أو بصاعين،
فهو كما لو كانتا من جنس واحد.
قلت: قال أكثر أصحابنا: إذا باع صبرة حنطة بصبرة شعير، صاعا بصاع،
وخرجتا متساويتين، صح. وإن تفاضلتا، فرضي صاحب الزائدة بتسليم الزيادة،
تم البيع، ولزم الآخر قبولها. وإن رضي صاحب الناقصة بقدرها من الزائدة، أقر ا
لعقد. وإن تشاحا، فسخ البيع. والله أعلم.
فصل في بيان القاعدة المعروفة بمد عجوة ومقصوده: أن يشتمل
العقد على ربوي من الجانبين، ويختلف العوضان أو أحدهما، جنسا، أو نوعا، أو
صفة، وهو ضربان.
أحدهما: يكون الربوي من الجانبين جنسا، والثاني: يكون جنسين.
فالأول: فيه تقع القاعدة المقصودة.
52

فمن صوره: أن يختلف الجنس من الطرفين أو أحدهما، كما إذا باع مد
عجوة، ودرهما بمد عجوة ودرهم، أو بمدي عجوة، أو بدرهمين، أو باع صاع
حنطة وصاع شعير بصاع حنطة وصاع شعير، أو بصاعي حنطة، أو بصاعي شعير.
ومن صوره: أن يختلف النوع أو الصفة من الطرفين أو أحدهما، كما إذا باع
مد عجوة ومد صيحاني، بمد عجوة، ومد صيحاني، أو بمدي عجوة، أو بمدي
صيحاني أو باع مائة دينار جيدة، ومائة دينار رديئة بمائتي دينار جيد، أو ردئ، أو
وسط، أو بمائة جيد، ومائة ردئ، فلا يصح البيع في شئ من هذه الصور
ونظائرها. هذا هو الصحيح المعروف الذي قطع به الجمهور، ولنا وجه: أنه إذا باع
مد عجوة ودرهما بمد ودرهم، والدرهمان من ضرب واحد، والمدان من شجرة
واحدة، أو باع صاع حنطة وصاع شعير بمثلهما، وصاعا الحنطة من صبرة، وكذا
الشعير، صح. ويحكى هذا عن القاضيين أبي الطيب وحسين، واختاره الروياني.
وحكى صاحب البيان وجها: أنه لا يضر اختلاف النوع والصفة، إذا اتحد
الجنس. والمعروف ما سبق.
ومن صور هذا الأصل: أن يبيع دينارا صحيحا ودينارا مكسرا بدينار صحيح
وآخر مكسر، أو بصحيحين، أو بمكسرين إذا كانت قيمة المكسر دون الصحيح،
ولنا وجه ضعيف: أن صفة الصحة في محل المسامحة. ثم إن الأصحاب، أطلقوا
القول بالبطلان في حكايتهم المذهب. وحكى صاحب التتمة: أنه إذا باع مدا
ودرهما بمدين، بطل العقد في المد المضموم إلى الدرهم وفيما يقابله من المدين.
وهل يبطل في الدرهم وما يقابله من المدين؟ فيه قولا تفريق الصفقة. وعلى هذا
قياس ما لو باعهما بدرهمين، أو باع صاع حنطة وصاع شعير، بصاعي حنطة، أو
بصاعي شعير. ويمكن أن يكون كلام من أطلق محمولا على ما فصله. ولو كان
الجيد مخلوطا بالردئ، فباع صاعا منه بمثله، أو بجيد، أو بردئ، جاز، لان
التوزيع إنما يكون عند تميز أحد النوعين عن الآخر. أما إذا لم يتميز، فهو كما لو باع
صاعا وسطا بجيد، أو ردئ، فيجوز. ثم صور البطلان مفروضة فيما إذا قابل
الجملة بالجملة. فلو فصل، فتبايعا مد عجوة ودرهما بمد ودرهم، وجعلا المد في
مقابلة المد، والدرهم في مقابلة الدراهم، أو جعلا المد في مقابلة الدراهم،
والدراهم في مقابلة المد جاز، وكان كصفقتين متباينتين.
53

الضرب الثاني: أن يكون الربوي من الطرفين جنسين، وفي الطرفين أو
أحدهما شئ آخر، فاختلفت علة الربا، بأن باع درهما ودينارا بصاع حنطة
وصاع شعير، جاز. وإن اتفقت، فإن كان التقابض شرطا في جميع العوضين، بأن
باع صاع حنطة أو صاع شعير، بصاعي تمر، أو بصاع تمر وصاع ملح، جاز أيضا.
وإن كان التقابض شرطا في البعض فقط، بأن باع صاع حنطة ودرهما، بصاعي
شعير، ففيه قولا الجمع بين مختلفي الحكم، لان ما يقابل الدرهم من الشعير، لا
يشترط فيه التقابض. وما يقابل الحنطة يشترط فيه.
فرع لو باع صاع حنطة بصاع حنطة، وفيهما أو في أحدهما زوان، أو عقد
التبن، أو مدر، أو حبات شعير، لم يجز. وضبط الامام المنع، بأن يكون الخليط
قدرا لو ميز ظهر على المكيال، فإن كان لا يظهر، لم يضر، ولو كان فيهما أو في
أحدهما دقاق تبن، أو قليل تراب، لم يضر، لان ذلك يدخل في تضاعيف
الحنطة، ولا يظهر في المكيال، بخلاف ما لو باع موزونا بجنسه وفيهما أو في
أحدهما قليل تراب، لا يجوز، لأنه يؤثر في الوزن. ولو باع حنطة بشعير وفيهما أو
في أحدهما حبات من الآخر يسيرة، صح، وإن كثر، لم يصح، قال الامام: ولا
يضبط ذلك بالتأثير في الكيل، ولا بالتمول، بل ضبط الكثير أن يكون الشعير
المخالط للحنطة قدرا يقصد تمييزه ليستعمل شعيرا، وكذا بالعكس.
فرع لو باع دارا بذهب، فظهر فيها معدن ذهب، أو باع دارا فيها بئر ماء
بدار فيها بئر ماء، وقلنا: الماء ربوي، صح البيع في المسألتين على الأصح، لأنه
تابع، والثاني: لا يصح، كبيع دار موهت بذهب تمويها يحصل منه شئ
بذهب.
54

فصل في الحال الذي تعتبر فيه المماثلة، الربوي ضربان. ما يتغير من
حال إلى حال، وما لا يتغير. فالمتغير، تعتبر المماثلة في بيع الجنس منه بالجنس
في أكمل أحواله. فمنه: الفواكه، فتعتبر المماثلة حال الجفاف خاصة، فلا يجوز
بيع الرطب بتمر ولا رطب، ولا بيع العنب بعنب ولا زبيب، وكذا كل ثمرة لها حال
جفاف، كالتين، والمشمش، والخوخ، والبطيخ والكمثري الذين يفلقان،
والإجاص، والرمان الحامض، لا يباع رطبها برطبها ولا بيابسها. وحكى وجه في
المشمش والخوخ،
وما لا يعم تجفيفه عموم تجفيف الرطب: أنه يجوز بيعها بعضها ببعض في حال
الرطوبة، لأنها أكمل أحوالها. وهذا الوجه شاذ. ويجوز بيع الجديد بالعتيق، إلا
أن تبقى في الجديد نداوة بحيث يظهر أثر زوالها في المكيال.
وأما ما ليس له حال جفاف، كالعنب الذي لا يتزبب، والرطب الذي لا
يتتمر، والبطيخ والكمثرى اللذين لا يفلقان، والرمان الحلو، والباذنجان،
والقرع، والبقول، فقد سبق أنه لا يجوز جيع بعضها ببعض على الأظهر.
ويجوز المزني بيع الرطب بالرطب، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد،
رضي الله عنهم.
ويستثنى من بيع الرطب بالتمر، صورة العرايا، وستأتي إن شاء الله تعالى.
55

فرع يجوز بيع الحنطة بالحنطة بعد التنقية من القشر والتبن، ما دامت على
هيأتها بعد تناهي جفافها. فإذا بطلت تلك الهيئة خرجت عن الكمال
فلا يجوز بيع الحنطة بشئ مما يتخذ منها من المطعومات، كالدقيق،
والسويق، والخبز، والنشا، ولا بما فيه شئ مما يتخذ من الحنطة، كالمصل ففيه
الدقيق، والفالوذج ففيه النشا. وكذا لا يجوز بيع الأشياء بعضها ببعض، لخروجها
عن حال الكمال. هذا هو المذهب والمشهور. وحكي قول: أنه يجوز بيع الحنطة
بالدقيق كيلا، وجعل إمام الحرمين هذا القول، في أن الحنطة والدقيق جنسان يجوز
التفاضل فيهما. ويشبه أن يكون منفردا بهذه الرواية. وحكي البويطي والمزني
قولا: أنه يجوز بيع الدقيق بالدقيق، كالدهن بالدهن. وحكي قول في جواز بيع
الخبز الجاف المدقوق بمثله كيلا. وقول: أن الحنطة مع السويق جنسان. وكل هذه
الأقوال شاذة. ولا يجوز بيع الحنطة المقلية ولا المبلولة بمثلها ولا بغيرها. وإن
جففت المبلولة، لم يجز أيضا، لتفاوت جفافها، والحنطة التي فركت وأخرجت من
السنابل ولم يتم جفافها، كالمبلولة. والنخالة ليس ربوية، وكذا الحنطة المسوسة
التي لم يبق فيها شئ من اللب، فيجوز بيعها بالحنطة وبعضها ببعض متفاضلا.
فرع السمسم وغيره من الحبوب التي تتخذ منها الادهان حال كمالها
ما دامت على هيأتها كالأقوات، فلا يجوز بيع طحينها بطحينها، كالدقيق بالدقيق.
وأما دهنها المستخرج، فكامل، فيجوز بيع بعضه ببعض متماثلا على
الصحيح. وقيل: لا يجوز لما يطرح فيه من ملح ونحوه.
فرع قد يكون للشئ حالتا كمال، كالزبيب والخل كاملان، وأصلهما
العنب. وكذا العصير، كامل على الأصح، فيجوز بيع عصير العنب بعصير العنب،
وعصير الرطب بعصير الرطب. والمعيار فيه وفي الدهن، الكيل.
ويجوز بيع الكسب بالكسب وزنا إن لم يكن فيه خلط. فإن كان، لم يجز.
فرع الادهان المطيبة، كدهن الورد، والبنفسج، والنيلوفر، كلها
مستخرجة من السمسم. فإذا قلنا: يجري فيها الربا، جاز بيع بعضها ببعض وإن
ربى السمسم فيها ثم استخرج دهنه. وإن استخر الدهن ثم طرحت أوراقها فيه،
لم يجز.
56

فرع عصير الرمان والتفاح وسائر الثمار، كعصير العنب والرطب، وكذا
عصير قصب السكر. ويجوز بيع خل الرطب، بخل الرطب، وخل العنب، بخل
العنب كيلا.
ولا يجوز بيع خل الزبيب بمثله، ولا خل التمر بمثله، لان فيهما ماء، فيمتنع
العلم بالمماثلة.
ولا يجوز بيع خل العنب بخل الزبيب، ولا خل الرطب بخل التمر، لان في
أحدهما ماء.
ولا يجوز بيع خل الزبيب بخل التمر إذا قلنا: الماء ربوي.
قلت: فإن قلنا: الماء غير ربوي، فمقتضى كلام الرافعي جوازه، وبه صرح
الجمهور. وقيل: فيه القولان، فيمن جمع بين عقدين مختلفي الحكم، لان
الخلين يشترط فيهما القبض في المجلس، بخلاف الماءين. وممن ذكر ذا
الطريق، البغوي في كتابه التعليق في شرح مختصر المزني. وهذا الطريق هو
الصواب، ولعل الأصحاب اقتصروا على أصح القولين، وهو أنه يجوز جمع
مختلفي الحكم. والله أعلم.
ويجوز بيع خل الزبيب بخل الرطب، وخل التمر بخل العنب، لأن الماء في
أحد الطرفين، والمماثلة بين الخلين غير معتبرة، تفريعا على الصحيح أنهما
جنسان.
فرع اللبن كامل، فيباع بعضه ببعض، سواء فيه الحليب، والحامض،
والرائب الخاثر، ما لم يكن مغلي بالنار، فيباع بعضها ببعض كيلا. ولا مبالاة بكون
ما يحويه المكيال من الخاثر أكثر وزنا، لأن الاعتبار بالكيل، كالحنطة الصلبة
بالرخوة. وفي كلام الامام ما يقتضي جواز الكيل والوزن جميعا. ويجوز بيع
السمن بالسمن كيلا إن كان ذائبا، ووزنا إن كان جامدا، قاله في التهذيب، وهو توسط
بين وجهين أطلقهما العراقيون. المنصوص: أنه يوزن. وقال أبو إسحاق: يكال.
ويجوز بيع المخيض بالمخيض، إذا لم يكن فيهما ماء. ومال المتولي إلى المنع.
والمذهب: الجواز. ولا يجوز بيع الأقط بالأقط، ولا المصل بالمصل، ولا الجبن
57

بالجبن، ولا يجوز بيع الزبد بالزبد، ولا بالسمن على الأصح. ولا يجوز بيع اللبن
بما تخذ منه، كالسمن والمخيض وغيرهما.
فرع الربوي المعروض على النار، ضربان.
أحدهما: المعروض للعقد والطبخ، كالدبس واللحم المشوي، فلا يجوز
بيع الدبس بالدبس، والسكر بالسكر، والفانيد بالفانيد، واللبأ باللبأ، على الأصح
في الجميع.
ولا يجوز بيع قصب السكر بقصب السكر، ولا بالسكر، كالرطب بالرطب،
وبالتمر. أما اللحم، إذا بيع بجنسه، فإن كانا طريين، أو أحدهما، لم يجز
على الصحيح. وإن كانا مقددين، جاز، إلا أن يكون فيهما، أو في أحدهما من
الملح ما يظهر في الوزن. ويشترط أن يتناهى جفافه، بخلاف التمر، فإنه يباع
الجديد منه بالعتيق وبالجديد، لأنه مكيل، وأثر الرطوبة الباقية، لا تظهر في
المكيال، واللحم موزون، فيظهر أثر الرطوبة في الوزن. هذا إذا لم يكن اللحم
مطبوخا ولا مشويا. فأما المطبوخ، فلا يجوز بيعهما بمثلهما ولا بالنئ.
الضرب الثاني: المعروض للتمييز والتصفية، فهو كامل، فيجوز بيع بعضه
ببعض، كالسمن. وفي العسل المصفى بالنار، وجهان. أصحهما: أنه كامل
كالمصفى بالشمس، ومعياره معيار السمن.
ولا يجوز بيع الشهد بالشهد، ولا بالعسل. ويجوز بيع الشمع بالعسل
وبالشهد، لان الشمع ليس ربويا.
فرع التمر إذا نزع نواه، بطل كماله، لأنه يسرع إليه الفساد. فلا يجوز
بيع منزوع النوى بمثله، ولا بغير منزوعه على الصحيح.
وقيل: يجوز فيهما. وقيل: يجوز بمثله فقط. ومفلق المشمش، والخوخ، ونحوهما، لا يبطل كماله
بنزع النوى على الأصح. ولا يبطل كمال اللحم بنزع عظمه، لأنه لا يتعلق صلاحه
ببقائه. وهل يشترط نزع العظم في جواز بيع بعضه ببعض؟ وجهان. أصحهما عند
الأكثرين: الاشتراط. والثاني: يسامح به. فعلى هذا يجوز بيع لحم الفخذ
بالجنب، ولا يضر تفاوت العظام، كما لا يضر تفاوت النوى.
58

فصل في معرفة الجنسية قد سبق في أول الباب، أن بيع الربوي
بجنسه، يشترط فيه المماثلة. وبغير جنسه، يجوز فيه التفاضل. والتجانس
وعدمه، قد يظهران، وقد يشتبهان، فما ظهر، فلا حاجة إلى تنصيص عليه، وما
اشتبه، يحتاج.
فمن ذلك، لحوم الحيوانات، هل هي جنس، أم أجناس؟ قولان.
أظهرهما: أنهما أجناس.
فإن قلنا: جنس، فالحيوانات البرية وحشيها وأهليها كلها جنس، وكذا
البحرية كلها جنس.
وفي البحرية مع البرية، وجهان. أصحهما: جنس. والثاني: جنسان.
وإن قلنا: أجناس، فحيوان البر مع البحر جنسان، والأهلي مع الوحشي جنسان.
ثم لكل واحد منهما أجناس، فلحوم الإبل على اختلاف أنواعها جنس واحد،
ولحوم البقر جواميسها وغيرها جنس، والغنم ضأنها ومعزها جنس، والبقر الوحشي
جنس، والظباء جنس.
وفي الظبي مع الإبل تردد للشيخ أبي محمد، واستقر جوابه أنهما كالضأن
والمعز.
وأما الطيور، فالعصافير على اختلاف أنواعها جنس، والبطوط جنس. وعن
الربيع: أن الحمام بالمعنى المتقدم في الحج، وهو كل ما عب وهدر، جنس.
فيدخل فيه القمري، والدبسي، والفواخت. واختار هذا جماعة، منهم الامام،
وصاحب التهذيب، واستبعده العراقيون، وجعلوا كل واحد منها جنسا. وسموك
البحر جنس. وأما غنم الماء وبقره وغيرهما، ففيها - مع السمك - أو مع مثلها،
قولان. أظهرهما: أنها أجناس.
وفي الجراد أوجه. أحدها: أنه ليس من جنس اللحوم. والثاني: أنه من
لحوم البريات. والثالث: أنه من لحوم البحريات.
قلت: أصحهما: الأول. والله أعلم.
وأما أعضاء الحيوان الواحد، كالكرش، والكبد، والطحال، والقلب،
59

والرئة، فالمذهب: أنها أجناس. والمخ، جنس آخر، وكذا الجلد.
قلت: المعروف، أن الجلد ليس ربويا، فيجوز بيع جلد بجلود وبغيرها،
فلا حاجة إلى قوله: إنه جنس آخر. والله أعلم.
وشحم الظهر مع شحم البطن، جنسان. وسنام البعير معهما، جنس آخر.
والرأس، والأكارع، من جنس اللحوم. وفي الأكارع احتمال للامام. وأما الأدقة
والخلول والأدهان، فهي أجناس على المذهب. وكذا عصير العنب مع عصير
الرطب. وحكي في الأدقة قول أنها جنس، ووجه أبعد منه في الخلول والأدهان،
ويجري مثله في عصير العنب مع عصير الرطب. والألبان، أجناس على المذهب،
فيجوز بيع لبن البقر بلبن الغنم متفاضلا، وبيع أحدهما بما يتخد من الآخر. ولبن
الضأن والمعز، جنس، ولبن الوعل مع المعز الأهلي، جنسان. وبيوض الطير،
أجناس على المذهب. وقيل: وجهان. أصحهما: أنها أجناس. وزيت الزيتون
مع زيت الفجل، والتمر المعروف مع التمر الهندي، أجناس على المذهب. وفي
البطيخ المعروف مع الهندي، والقثاء مع الخيار، وجهان.
قلت: الأصح: أنهما جنسان. والله أعلم.
والبقول، كالهندباء والنعنع وغيرهما، أجناس إن قلنا: إنها ربوية. ودهن
السمسم وكسبه، جنسان، كالمخيض مع السمن.
وفي عصير العنب مع خله، والسكر مع الفانيذ، وجهان. أصحهما:
جنسان. والسكر الطبرزد والنبات، جنس واحد. والسكر الأحمر مع الأبيض،
جنس على الأصح، لأنه عكر الأبيض، ألا أن صفتهما مختلفة.
فرع بيع اللحم بالحيوان المأكول من جنسه، باطل، خلافا للمزني. وإن
باعه بحيوان مأكول من غير جنسه كلحم غنم ببقرة، فإن قلنا: اللحوم جنس،
بطل. وإن قلنا: أجناس، بطل أيضا على الأظهر. وإن باعه بحيوان غير مأكول،
بطل على الأظهر. وفي بيع الشحم والألية والطحال والقلب والكلية والرئة بالحيوان،
والسنام بالبعير، ولحم السمك بالشاة، وجهان. أصحهما: البطلان. ويجري
الوجهان في بيع الجلد بالحيوان إن لم يكن مدبوغا. فإن دبغ فلا منع.
60

فرع لا يجوز بيع دهن السمسم ولا كسبه بالسمسم، ولا دهن الجوز
بلبه، ولا بيع السمن باللبن. ويجوز بيع الجوز بالجوز وزنا، واللوز باللوز كيلا مع
قشرهما على المذهب. وحكي قول: أنه لا يجوز، ويجوز بيع لب الجوز بلبه،
ولب اللوز بلبه على الصحيح. ويجوز بيع البيض بالبيض في قشره وزنا، على
المذهب. ويجوز بيع لبن الشاة بشاة بيع في ضرعها لبن، بأن جرى البيع عقيب
الحلب، فإن كان في ضرعها لبن، لم يجز. ولو باع شاة في ضرعها لبن بشاة في
ضرعها لبن، لم يصح على الصحيح. وبيع بيض بدجاجة كبيع لبن بشاة. ولو باع
لبن شاة ببقرة في ضرعها لبن، فإن قلنا: الألبان جنس، لم يجز، وإلا، فقولان،
للجمع ين مختلفي الحكم، فإن ما يقابل اللبن من اللبن، يشترط فيه التقابض،
وما يقابل الحيوان، لا يشترط.
فرع يجري الربا في دار الحرب جريانه في دار الاسلام، سواء فيه
المسلم، والكافر.
باب البيوع المنهي عنها
ما ورد فيه النهي من البيوع، قد يحكم بفساده وهو الأغلب، لأنه مقتضى
النهي. وقد لا يحكم بفساده، لكون النهي ليس لخصوصية البيع، بل لأمر آخر.
فالقسم الأول، أنواع.
منها: بيع اللحم بالحيوان، وقد سبق.
ومنها: بيع ما لم يقبض، وبيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان، وبيع
61

الكالئ بالكالئ. وسنشرحها بعد، إن شاء الله تعالى
ومنها: بيع الغرر.
ومنها: بيع ما لم يقدر على تسليمه، وقد سبق.
ومنها: بيع مال الغير.
ومنها: بيع ما ليس عنده، وفيه تفسيران. أحدهما: أن يبيع غائبا. والثاني:
ما لا يملكه ليشتريه فيسلمه.
ومنها: بيع الكلب والخنزير، وقد سبق ذكرهما في شرائط المبيع.
ومنها: بيع عسب الفحل - بفتح العين وإسكان السين المهملتين -،
والمشهور في كتب الفقه: أنه ضرابه، وقيل: أجرة ضرابة، وقيل: هو ماؤه.
فعلى الأول والثالث، تقديره: بدل عسب الفحل. وفي رواية الشافعي رضي الله
عنه نهى عن ثمن عسب الفحل. والحاصل: إن بذل عوضا عن الضراب، إن كان
بيعا، فباطل قطعا، وكذا إن كان إجارة على الأصح. ويجوز أن يعطي صاحب
الأنثى صاحب الفحل شيئا على سبيل الهدية.
ومنها: بيع حبل الحبلة، هو نتاج النتاج. ومعناه: أن يبيع بثمن إلى أن
62

يلد ولد هذه الدابة. كذا فسره ابن عمر والشافعي وغيرهما رضي الله عنهم. وقيل:
هو بيع ولد نتاج هذه الدابة، قاله أبو عبيد وأهل اللغة.
ومنها: بيع الملاقيح، وهي ما في بطون الأمهات من الأجنة، الواحدة:
ملقوحة. وبيع المضامين، وهي ما في أصلاب الفحول.
ومنها: بيع الملامسة. وفيه تأويلات. أحدها: تأويل الشافعي رضي الله
عنه، وهو أن يأتي بثوب مطوي، أو في ظلمة، فيلمسه المستام فيقول صاحبه:
بعتكه بكذا، بشرط أن يقوم لمسك مقام نظرك، ولا خيار لك إذا رأيته.
والثاني: أن يجعل نفس اللمس بيعا، فيقول: إذا لمسته فهو مبيع لك. والثالث:
أن يبيعه شيئا على أنه متى لمسه انقطع خيار المجلس وغيره، ولزم البيع. وهذا البيع
باطل على التأويلات كلها. وفي الأول، احتمال للامام، وقاله صاحب التتمة
تفريعا على صحة نفي خيار الرؤية. قال في التتمة: وعلى التأويل الثاني، له
حكم المعاطاة. والمذهب: الجزم بالبطلان على التأويلات.
ومنها: بيع المنابذة، وفيه تأويلات. أحدها: أن يجعلا نفس النبذ
بيعا، قاله الشافعي رضي الله عنه، وهو بيع باطل. قال الأصحاب: ويجئ فيه
63

الخلاف في المعاطاة، فإن المنابذة مع قرينة البيع، هي نفس المعاطاة. والثاني:
أن يقول: بعتك على أني إذا نبذته إليك، لزم البيع، وهو باطل. والثالث:
أن المراد نبذ الحصاة، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
ومنها: بيع الحصاة، وفيه تأويلات. أحدها: أن يقول: بعتك من هذه
الأثواب ما وقعت عليه الحصاة التي أرميها، أو بعتك من هذه الأرض من هنا إلى ما
انتهت إليه هذه الحصاة. والثاني: أن يقول: بعتك على أنك بالخيار إلى أن أرمي
الحصاة. والثالث: أن يجعلا نفس الرمي بيعا، فيقول: إذا رميت الحصاة، فهذا
الثوب مبيع لك بكذا، والبيع باطل في جميعها.
ومنها: بيعتان في بيعة،
وفيه تأويلان نص عليهما في المختصر. أحدهما: أن يقول: بعتك هذا
بألف، على أن تبيعني دارك بكذا، أو تشتري مني داري بكذا، وهو باطل.
والثاني: أن يقول: بعتكه بألف نقدا، أو بألفين نسيئة، فخذه بأيهما شئت أو شئت
أنا، وهو باطل. أما لو قال: بعتك بألف نقدا، وبألفين نسيئة، أو قال: بعتك
نصفه بألف، ونصفه بألفين، فيصح العقد. ولو قال: بعتك هذا العبد بألف،
نصفه بستمائة، لم يصح، لان ابتداء كلامه يقتضي توزيع الثمن على المثمن
بالسوية، وآخره يناقضه.
ومنها: بيع المحاقلة والمزابنة، وسيأتي بيانهما أن شاء الله تعالى.
ومنها: بيع المجر - بفتح الميم وإسكان الجيم والراء - وهو ما في الرحم،
وقيل: هو الربا. وقيل: هو المحاقلة والمزابنة.
ومنها: بيع السنين،
وله تفسيران. أحدهما: بيع ثمرة النخلة سنين. والثاني: أن يقول: بعتك
هذا سنة، على أنه إذا انقضت السنة فلا بيع بيننا، فترد إلي المبيع وأرد إليك
الثمن.
64

ومنها: بيع العربان. ويقال: العربون، وهو أن يشتري سلعة من غيره
ويدفع إليه دراهم، على أنه إن أخذ السلعة، فهي من الثمن، وإلا، فهي للمدفوع
إليه مجانا.
ويفسر أيضا بأن يدفع دراهم إلى صانع ليعمل له خفا أو خاتما أو ينسج له
ثوبا، على أنه إن رضيه، فالمدفوع من الثمن، وإلا، فهو للمدفوع إليه.
ومنها: بيع العنب قبل أن يسود، والحب قبل أن يشتد، وبيع الثمار قبل أن
تنجو من العاهة، وسيأتي تفصيلها إن شاء الله تعالى.
ومنها: بيع السلاح لأهل الحرب، لا يصح، ويجوز بيعهم الحديد، لأنه
لا يتعين للسلاح.
قلت: بيع السلاح لأهل الذمة في دار الاسلام، صحيح. وقيل: وجهان،
حكاهما المتولي والبغوي والروياني وغيرهم. والله أعلم.
ومنها: أن النبي (ص)، نهى عن ثمن الهرة. قال القفال: المراد: الهرة
الوحشية، إذ ليس فيها منفعة استئناس ولا غيره.
قلت: مذهبنا: أنه يصح بيع الهرة الأهلية، نص عليه الشافعي رضي الله عنه
وغيره.
والجواب عن الحديث من أوجه، ذكرها الخطابي.
أحدها: أنه تكلم في صحته.
والثاني: جواب القفال.
65

والثالث: أنه نهي تنزيه.
والمقصود: أن الناس يتسامحون به ويتعاورونه. هذه أجوبه الخطابي، لكن
الأول باطل، فإن الحديث في صحيح مسلم من رواية جابر رضي الله عنه. والله
أعلم.
ومنها: النهي عن بيع وسلف، وهو البيع بشرط القرض.
ومنها: النهي عن بيع وشرط. والشرط ينقسم إلى فاسد، وصحيح.
فالفاسد: يفسد العقد على المذهب، وفيه كلام سيأتي قريبا إن شاء الله
تعالى. فمن الفاسد، إذا باع عبده بألف، بشرط أن يبيعه داره، أو يشتري منه
داره، وبشرط أن يقرضه عشرة، فالعقد الأول باطل. فإذا أتيا بالبيع الثاني، نظر،
إن كانا يعلمان بطلان الأول، صح، وإلا، فلا، لأنهما يأتيان به على حكم الشرط
الفاسد، كذا قطع به صاحب التهذيب وغيره. والقياس: صحته، وبه قطع
الامام، وحكاه عن شيخه في كتاب الرهن. ولو اشترى زرعا، وشرط على
بائعه أن يحصده، بطل البيع على المذهب. وقيل: فيه قولان، لأنه جمع بين
بيع وإجارة. وقيل: شرط الحصاد باطل. وفي البيع قولا تفريق الصفقة. وكذا
الحكم لو أفرد الشراء بعوض والاستئجار بعوض، فقال: اشتريته بعشرة، على أن
تحصده بدرهم، لأنه جعل الإجارة شرطا في البيع، فهو في معنى بيعتين في بيعة.
ولو قال: اشتريت هذا الزرع، واستأجرتك على حصاده بعشرة، فقال: بعت
وأجرت، فطريقان.
أحدهما: على القولين في الجمع بين مختلفي الحكم. والثاني: تبطل
الإجارة. وفي البيع قولا تفريق الصفقة. ولو قال: اشتريت هذا الزرع بعشرة،
واستأجرتك لحصده بدرهم، صح الشراء، ولم تصح الإجارة، لأنه استأجره للعمل
فيما لم يملكه.
66

ونظائر مسألة الزرع تقاس بها، كما إذا اشترى ثوبا وشرط عليه صبغه،
وخياطته، أو لبنا وشرط عليه طبخه، أو نعلا وشرط عليه أن ينعل به دابته، أو عبدا
رضيعا على أنه يتم إرضاعه، أو متاعا على أن يحمله إلى بيته، والبائع يعرف بيته،
فإن لم يعرفه، بطل قطعا. ولو اشترى حطبا على ظهر بهيمة مطلقا، فهل يصح
العقد ويسلمه إليه في موضعه، أم لا يصح حتى يشترط تسليمه في موضعه، لان
العادة قد تقتضي حمله إلى داره؟ فيه وجهان.
قلت: أصحهما: الصحة. والله أعلم.
وأما الشرط الصحيح في البيع، فمن أنواعه شرط الأجل المعلوم في الثمن.
فإن كان الثمن مجهولا، بطل. قال الروياني: ولو أجل الثمن ألف سنة، بطل
العقد، للعلم بأنه لا يعيش هذه المدة. فعلى هذا، يشترط في صحة الأجل،
احتمال بقائه إليه.
قلت: لا يشترط احتمال بقائه إليه، بل ينتقل إلى وارثه، لكن التأجيل بألف
سنة وغيرها مما يبعد بقاء الدنيا إليه، فاسد. والله أعلم.
ثم موضع الأجل، إذا كان العوض في الذمة. فأما ذكره في المبيع أو في
الثمن المعين، مثل أن يقول: اشتريت بهذه الدراهم على أن أسلمها في وقت
كذا، فباطل، يبطل البيع. ولو حل الأجل، فأجل البائع المشتري مدة، أو زاد في
الأجل قبل حلول الأجل المضروب، فهو وعد لا يلزم. كما أن بدل الاتلاف لا
يتأجل وإن أجله. ولو أوصى من له دين حال على إنسان بإمهاله مدة، لزم ورثته
إمهاله تلك المدة، لان التبرعات بعد الموت تلزم، قاله في التتمة. ولو أسقط
من عليه الدين المؤجل الأجل، فهل يسقط حتى يتمكن المستحق من مطالبته في
الحال؟ وجهان. أصحهما: لا يسقط، لان الأجل صفة تابعة، والصفة لا تفرد
67

بالاسقاط، ألا ترى أن مستحق الحنطة الجيدة، أو الدنانير الصحاح، لو أسقط صفة
الجودة والصحة، لم تسقط. ومن أنواعه، شرط الخيار ثلاثة أيام، وسيأتي بيانه إن
شاء الله تعالى.
ومنها: شرط الرهن، والكفيل، والشهادة، فيصح البيع بشرط أن يرهن
المشتري بالثمن، أو يتكفل به كفيل، أو يشهد عليه، سواء كان الثمن حالا أو
مؤجلا. ويجوز أيضا أن يشرط المشتري على البائع كفيلا بالعهدة، ولا بد من تعبين
الرهن والكفيل. والمعتبر في الرهن المشاهدة أو الوصف بصفة المسلم فيه. وفي
الكفيل المشاهدة، أو المعرفة بالاسم والنسب، ولا يكفي الوصف، كقوله: رجل
موسر ثقة. هذا هو المنقول للأصحاب. ولو قال قائل: الاكتفاء بالوصف أولى من
الاكتفاء بمشاهدة من لا يعرف حاله، لم يكن مبعدا. وقال القاضي ابن كج: لا
يشترط تعيين الكفيل. فإذا أطلق، أقام من شاء كفيلا، وهذا شاذ مردود. ولا
يشترط تعيين الشهود على الأصح. وادعى الامام، أنه لا يشترط قطعا، ورد
الخلاف إلى أنه لو عين الشهود، هل يتعينون؟ ولا يشترط التعرض لكون المرهون
عند المرتهن أو عند عدل على الأصح، بل إن اتفقا على يد المرتهن، أو عدل،
وإلا جعله الحاكم في يد عدل. وينبغي أن يكون المشروط رهنه، غير المبيع.
فلو شرط كون المبيع نفسه رهنا بالثمن، بطل البيع على المذهب، وبه قطع
الأصحاب، إلا الامام، فإنه قال: هو مبني على أن البداءة بالتسليم بمن؟ فإن
قلنا: بالبائع أو يجبران، أو لا يجبران، بطل البيع، لأنه شرط ينافي مقتضاه. وإن
قلنا: بالمشتري، فوجهان. أحدهما: هذا. والثاني: يصح البيع والشرط، سواء
كان الثمن حالا، أو مؤجلا. ولو شرط أن يرهنه بالثمن بعد القبض ويرده إليه، بطل
البيع أيضا.
68

ولو رهنه بالثمن من غير شرط، صح إن كان بعد القبض. فإن كان قبله، فلا
إن كان الثمن حالا، لان الحبس ثابت له. وإن كان مؤجلا، فهو كرهن المبيع بدين
آخر قبل القبض. ثم إذا لم يرهن المشتري ما شرطه، أو لم يشهد، أو لم يتكفل
الذي عينه، فلا إجبار، لكن للبائع الخيار. ولا يقوم رهن وكفيل آخر مقام المعين.
فإن فسخ، فذاك. وإن أجاز، فلا خيار للمشتري.
ولو عين شاهدين، فامتنعا من التحمل، فإن قلنا: لا بد من تعيين
الشاهدين، فللبائع الخيار، وإلا، فلا. ولو باع بشرط الرهن، فهلك المرهون
قبل القبض، أو تعيب، أو وجد به عيبا قديما، فله الخيار في فسخ البيع، وإن
تعيب بعد القبض، فلا خيار. ولو ادعى الراهن أنه حدث بعد القبض، وقال
المرتهن: قبله، فالقول قول الراهن. ولو هلك الرهن بعد القبض، أو تعيب ثم
اطلع على عيب قديم، فلا أرش له، وليس له فسخ البيع على الأصح.
فرع في بيع الرقيق بشرط العتق، ثلاثة أقوال. المشهور: أنه يصح
العقد والشرط. والثاني: يبطلان. والثالث: يصح البيع ويبطل الشرط. فإذا
صححنا الشرط، فذاك إذا أطلق، أو قال: بشرط أن تعتقه عن نفسك. أما إذا
قال: بشرط أن تعتقه عني، فهو لاغ. ثم في العتق المشروط، وجهان.
69

أصحهما: أنه حق لله تعالى، كالملتزم بالنذر. والثاني: أنه حق للبائع، فعلى هذا
للبائع المطالبة به قطعا. وإن قلنا: إنه لله تعالى، فللبائع المطالبة به أيضا على
الأصح. وإذا أعتقه المشتري، فالولاء له بلا خلاف، سواء قلنا: الحق لله تعالى،
أم للبائع، لأنه أعتق ملكه. فإن امتنع من العتق، فإن قلنا: الحق لله تعالى، أجبر
عليه. وإن قلنا: للبائع، لم يجبر، بل يخير البائع في فسخ البيع. وإذا قلنا
بالاجبار، قال في التتمة: يخرج على الخلاف في المولى إذا امتنع من الطلاق،
فيعتقه القاضي على قول، ويحبسه حتى يعتق على قول.
وذكر الامام احتمالين. أحدهما: هذا. والثاني: يتعين الحبس. فإذا قلنا:
العتق حق للبائع، فأسقطه، سقط، كما لو اشترط رهنا أو كفيلا ثم عفا عنه. وعن
الشيخ أبي محمد: أن شرط الرهن والكفيل لا يفرد بالاسقاط، كالأجل، فلو أعتق
المشتري هذا العبد عن الكفارة، فإن قلنا: الحق لله تعالى، أو للبائع، ولم يأذن،
لم يجز. وإن أذن، أجزأه عنها على الأصح. ويجوز استخدامه، والوطئ
والاكساب للمشتري. ولو قتل، كانت القيمة له، ولا يكلفه صرفها إلى عبد آخر
ليعتقه. ولو باعه لغيره وشرط عليه عتقه، لم يصح على الصحيح. ولو أولد
الجارية، لم يجزئه عن الاعتاق على الصحيح. ولو مات العبد قبل عتقه، فأوجه.
أصحها: ليس عليه إلا الثمن المسمى، لأنه لم يلتزم غيره. والثاني: عليه مع ذلك
قدر التفاوت بمثل نسبته من الثمن. والثالث: للبائع الخيار، إن شاء أجاز العقد ولا
شئ له، وإن شاء فسخ ورد ما أخذ من الثمن ورجع بقيمة العبد. والرابع:
ينفسخ. ثم إن هذه الأوجه، مفرعة على أن العتق للبائع، أم مطردة سواء قلنا:
له، أو لله تعالى؟ فيه رأيان للامام. أظهرهما: الثاني.
قلت: وهذا الثاني، مقتضى كلام الأصحاب وإطلاقهم. والله أعلم.
ولو اشترى عبدا بشرط أن يدبره، أو يكاتبه، أو يعتقه بعد شهر أو سنة، أو
دارا بشرط أن يجعلها وقفا، فالأصح: أن البيع باطل في جميع ذلك. وقيل: إنه
كشرط الاعتاق. وجميع ما سبق في شرط الاعتاق مفروض فيما إذا لم يتعرض
70

للولاء. فأما إذا شرط مع العتق كون الولاء للبائع، فالمذهب: أن البيع باطل،
وبهذا قطع الجمهور. وحكي قول: أنه يصح البيع، ويبطل الشرط. وحكى
الامام وجها: أنه يصح الشرط أيضا، ولا يعرف هذا الوجه عن غير الامام. ولو
اشترى بشرط الولاء دون شرط الاعتاق، بأن قال: بعتكه بشرط أن يكون لي الولاء
إن أعتقته، فالبيع باطل قطعا، ذكره في التتمة. ولو اشترى أباه أو ابنه بشرط أن
يعتقه، فالبيع باطل قطعا، لتعذر الوفاء بالشرط، فإنه يعتق عليه قبل إعتاقه، قاله
القاضي حسين.
قلت: قد حكى الرافعي في كتاب كفارة الظهار عن ابن كج: أنه لو
اشترى عبدا بشرط أن يعلق عتقه بصفة، لم يصح البيع على الأصح. وحكى وجهين
فيما لو اشترى جارية حاملا بشرط العتق، فولدت ثم أعتقها، هل يتبعها الولد؟
وأنه لو باع عبدا بشرط أن يبيعه المشتري بشرط العتق، فالمذهب: بطلان البيع.
وعن ابن القطان: أنه على وجهين. والله أعلم.
فصل في ضبط صحيح الشروط في البيع وفاسدها قال الأصحاب:
الشرط ضربان. ما يقتضيه مطلق العقد، وما لا يقتضيه. فالأول: كالاقباض
والانتفاع، والرد بالعيب ونحوها، فلا يضر التعرض لها ولا ينفع. والثاني:
قسمان. ما يتعلق بمصلحة العقد، وما لا يتعلق. فالأول: قد يتعلق بالثمن،
كشرط الرهن والكفيل، وقد يتعلق بالمثمن، كشرط أن يكون العبد خياطا، أو
كاتبا، وقد يتعلق بهما، كشرط الخيار. فهذه الشروط، لا تفسد العقد، وتصح في
أنفسها.
والقسم الثاني: نوعان. ما لا يتعلق به غرض يورث تنازعا، وما يتعلق.
71

فالأول: كشرط أن لا يأكل إلا الهريسة، ولا يلبس إلا الخز، ونحو ذلك،
فهذا لا يفسد العقد، بل يلغو، هكذا قطع به الامام، والغزالي. وقال صاحب
التتمة: لو شرط التزام ما ليس بلازم، بأن باع بشرط أن يصلي النوافل، أو يصوم
شهرا غير رمضان، أو يصلي الفرائض في أول أوقاتها، فالبيع باطل، لأنه ألزم ما
ليس بلازم. ومقتضى هذا فساد العقد في مسألة الهريسة. والثاني: كشرطه أن لا
يقبض ما اشتراه، أو لا يتصرف فيه بالبيع والوطئ ونحوهما، وكشرط بيع أخر، أو
قرض، وكشرط أن لا خسارة عليه في ثمنه إن باعه فنقص، فهذه الشروط وأشباهها
فاسدة تفسد البيع، إلا الاعتاق على ما سبق.
فرع لا يجوز بيع الحمل، لا من مالك الام، ولا من غيره. ولو باع حاملا
بيعا مطلقا، دخل الحمل في البيع. ولو باعها واستثنى حملها، لم يصح البيع
على المذهب، وبه قطع الجمهور، وحكى الامام فيه وجهين. ولو كانت الام
لانسان، والحمل لآخر، فباع الام لمالك الحمل أو لغيره، أو باع جارية حاملا
بحر، فالمذهب: أن البيع باطل، وبه قطع الأكثرون. وقيل: يصح، واختاره
72

الامام، والغزالي. ولو باع جارية، أو دابة بشرط أنها حامل، فقولان. وقيل:
وجهان. أظهرهما: يصح البيع. والثاني: لا يصح. وقيل: يصح في الجارية
قطعا، وهما مبنيان على أن الحمل يعلم، أم لا. إن قلنا: لا، لم يصح، وإلا،
صح. ولو قال: بعتك هذه الدابة وحملها، أو هذه الشاة وما في ضرعها من اللبن،
لم يصح على الأصح. وبه قال ابن الحداد، والشيخ أبو علي، لأنه جعل المجهول
مبيعا مع المعلوم، بخلاف البيع بشرط أنها حامل، فإنه وصف تابع. وقال أبو زيد:
يصح، لأنه يدخل عند الاطلاق، فلا يضر ذكره كأساس الدار. ولو قال: بعتك
الجبة بحشوها، فقيل: هو على الخلاف. وقيل: يصح قطعا، لان الحشو
داخل في مسمى الجبة، فذكره تأكيد للفظ الجبة، بخلاف الحمل، فإذا قلنا
بالبطلان في هذه الصور، قال الشيخ أبو علي: في صورة الجبة في صحة البيع في
الظهارة والبطانة قولا تفريق الصفقة، وفي صورة الدابة، يبطل البيع في الجميع،
لان الحشو يمكن معرفة قيمته. قال الامام: هذا حسن. ولو باع حاملا وشرط
وضعها لرأس الشهر ونحوه، لم يصح البيع قطعا، وبيض الطير، كحمل الدابة
والجارية في جميع ذلك. ولو باع شاة بشرط أنها لبون، فطريقان. أصحهما: أنه
على الخلاف في البيع بشرط الحمل، لكن الصحة هنا أقوى. والطريق الثاني:
يصح قطعا، لان هذا شرط صفة فيها لا يقتضي وجود اللبن فيها حالة العقد، فهو
كشرط الكتابة في العبد. فلو شرط كون اللبن في الضرع، كان كشرط الحمل
قطعا. ولو شرط كونها تدر كل يوم كذا رطلا من اللبن، بطل البيع قطعا، لان ذلك
لا ينضبط، فصار كما لو شرط في العبد أن يكتب كل يوم عشر ورقات. ولو باع
لبونا، واستثنى لبنها، لم يصح العقد على الصحيح، كاستثناء حمل الجارية، والكسب في بيع السمسم، والحب في بيع القطن.
فرع ومن الشروط الصحيحة باتفاق، أو على خلاف مسائل نشير إلى
73

بعضها مختصرة.
منها البيع بشرط البراءة من العيوب
ومنها: بيع الثمار بشرط القطع وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
ومنها: لو باع مكيلا أو موزونا أو مذروعا، بشرط أن يكال بمكيال معين، أو
بوزن معين، أو بذرع معين، أو شرط ذلك في الثمن، ففيه خلاف نشرحه في
باب السلم إن شاء الله تعالى. وفي معناه، تعيين رجل يتولى الكيل أو الوزن.
ومنها: لو باع دارا واستثنى لنفسه سكناها، أو دابة استثنى ظهرها، إن لم يبين
المدة، لم يصح البيع قطعا، وإن بينها، لم يصح أيضا على الأصح.
ومنها: لو باع بشرط أن لا يسلم المبيع حتى يستوفي الثمن، فإن كان
مؤجلا، بطل العقد. وإن كان حالا، بني على أن البداءة بالتسليم بمن؟ فإن جعلنا
ذلك من مقتضى العقد، لم يضر ذكره، وإلا، فيفسد العقد.
ومنها: لو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم على أن أزيدك صاعا،
فإن أراد هبة صاع أو بيعه من موضع آخر، فالعقد باطل، لأنه شرط عقد في عقد.
وإن أراد أنها إن خرجت عشرة آصع أخذت تسعة دراهم، فإن كانت الصيعان
مجهولة، لم يصح، لأنه لا يعلم حصة كل صاع. وإن كانت معلومة، صح. فإن
كانت عشرة، فقد باع كل صاع وتسعا بدرهم، ولو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع
بدرهم، على أن أنقصك صاعا، فإن أراد رد صاع إليه، فهو فاسد. وإن أراد أنها
إن خرجت تسعة آصع، أخذت عشرة دراهم، فإن كانت الصيعان مجهولة، لم
يصح، وإن كانت معلومة، صح. فإن كانت تسعة آصع، فقد باع كل صاع بدرهم
وتسع. وفيه وجه: أنه لا يصح مع العلم أيضا، لقصور العبارة عن المحمل
المذكور. ولو قال: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم، على أن أزيدك صاعا، أو
أنقصك، ولم يبين إحدى الجهتين، فهو فاسد.
ومنها: لو باع أرضا على أنها مائة ذراع، فخرجت دون المائة، فقولان.
أظهرهما: صحة البيع. وقيل: يصح قطعا للإشارة، وصار كالخلف في الصفة
74

فعلى هذا، للمشتري الخيار في الفسخ، ولا يسقط بحط البائع من الثمن قدر
النقص. وإذا أجاز، يجيز بجميع الثمن على الأظهر، وبقسطه على القول الآخر.
ولو خرجت أكثر من مائة، ففي صحة البيع القولان. فإن صححناه، فالصحيح: أن
للبائع الخيار. فإن أجاز، كانت كلها للمشتري، ولا يطالبه للزيادة بشئ. والوجه
الآخر، اختاره صاحب التهذيب: أنه لا خيار للبائع، ويصح البيع في الجميع،
بجميع الثمن المسمى، وينزل شرطه منزلة من شرط كون المبيع معيبا فخرج سليما،
لا خيار له. فإذا قلنا بالصحيح، فقال المشتري: لا تفسخ، فأنا أقنع بالقدر
المشروط شائعا ولك الزيادة، لم يسقط خيار البائع على الأظهر. ولو قال: لا
تفسخ لأزيدك في الثمن لما زاد، لم يكن له ذلك، ولم يسقط به خيار البائع بلا
خلاف. ويقاس بهذه المسألة ما إذا باع الثوب على أنه عشرة أذرع، أو القطيع على
أنه عشرون شاة، أو الصبرة على أنها ثلاثون صاعا، وحصل نقص أو زيادة. وفرق
صاحب الشامل بين الصبرة وغيرها، فقال: إن زادت الصبرة، رد الزيادة. وإن
نقصت وأجاز المشتري، أجاز بالحصة، وفيما سواها يجيز بجميع الثمن.
ومنها: لو قال: بع عبدك من زيد بألف على أن علي خمسمائة، فباعه على
هذا الشرط، لم يصح البيع على الأصح. والثاني: يصح ويجب على زيد ألف،
وعلى الآمر خمسمائة، كما لو قال: ألق متاعك في البحر على أن علي كذا.
فصل البيع الصحيح إذا ضم إليه شرط، فذلك الشرط ضربان،
صحيح، وفاسد. فإن كان صحيحا، فالعقد صحيح. وإن كان فاسدا، فإن كان
مما لا يفرد بالعقد، نظر، إن لم يتعلق به غرض يورث تنازعا، لم يؤثر ذلك في
العقد كما سبق. قال الامام: ومن هذا القبيل، ما إذا عين الشهود لتوثيق الثمن،
وقلنا: لا يتعينون، فلا يفسد به العقد، وإن تعلق به غرض، فسد البيع بفساده،
للنهي عن بيع وشرط. هذا هو المشهور. ولنا قول رواه أبو ثور: أن البيع لا يفسد
بفساد الشرط بحال، لقصة بريرة رضي الله عنها. وإن كان مما يفرد بالعقد،
75

كالرهن والكفيل، فهل يفسد البيع لفسادهما؟ قولان. أظهرهما: يفسد، كسائر
الشروط الفاسدة. والثاني: لا، كالصداق الفاسد لا يفسد النكاح.
ولو باع بشرط نفي خيار المجلس، أو خيار الرؤية، ففيه خلاف نذكره في باب
الخيار إن شاء الله تعالى.
فصل إذا اشترى شيئا شراء فاسدا، إما لشرط فاسد، وإما لسبب آخر،
ثم قبضه، لم يملكه بالقبض، ولا ينفذ تصرفه فيه، ويلزمه رده، وعليه مؤنة رده
كالمغصوب. ولا يجوز حبسه، لاسترداد الثمن. ولا يقدم به على الغرماء على
المذهب. وحكي قول ووجه للإصطخري: أن له حبسه ويقدم به، وهو شاذ
ضعيف. وتلزمه أجرة المثل للمدة التي كان في يده، سواء استوفى المنفعة، أم
تلفت تحت يده. وإن تعيب في يده، فعليه أرش النقص، وإن تلف، فعليه قيمته
أكثر ما كانت من يوم القبض إلى يوم التلف، كالمغصوب، لأنه مخاطب كل لحظة
من جهة الشرع برده. وفي وجه: تعتبر قيمته يوم التلف. وفي وجه: يوم القبض.
وقد يعبر عن هذا الخلاف بالأقوال. وكيف كان، فالمذهب: اعتبار الأكثر. وما
حدث من الزوائد المنفصلة، كالولد، والثمرة، والمتصلة، كالسمن، وتعلم
صنعة، مضمون عليه كزوائد المغصوب. وفي وجه شاذ: لا يضمن الزيادة عند
التلف. ولو أنفق على العبد مدة، لم يرجع بها على البائع إن كان المشتري عالما
بفساد البيع، وإلا، فوجهان.
قلت: أصحهما: لا يرجع. والله أعلم.
وإن كانت جارية، فوطئها المشتري، فإن كان الواطئ والموطوءة جاهلين،
فلا حد، ويجب المهر. وإن كانا عالمين، وجب الحد إن اشتراها بميتة، أو دم.
وإن اشتراها بخمر، أو بشرط فاسد، فلا حد، لاختلاف العلماء في حصول
76

الملك، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه، يملكه في هذه الحالة، فصار كالوطئ في
النكاح بلا ولي ونحوه. قال الامام: ويجوز أن يقال: يجب الحد، فإن أبا حنيفة رحمة الله عنه، لا يبيح الوطء، وإن كان يثبت الملك، بخلاف الوطئ في النكاح بلا
ولي. وإذا لم يجب الحد، وجب المهر. فإن كانت بكرا، وجب مع مهر البكر
أرش البكارة. أما مهر البكر، فللاستمتاع ببكر. وأما الأرش، فلاتلاف البكارة.
وإن استولدها، فالولد حر للشبهة. فإن خرج حيا، فعليه قيمته يوم الولادة، وتستقر
عليه قيمته. بخلاف ما لو اشترى جارية واستولدها فخرجت مستحقة، فإنه يغرم قيمة
الولد، ويرجع بها على البائع، لأنه غره، ولا تصير الجارية في الحال أم ود. فإن
كان ملكها في وقت، فقولان. وإن نقصت بالحمل أو الوضع، لزمه الأرش. وإن
خرج الولد ميتا، فلا قيمة. لكن إن سقط بجناية، وجبت الغرة على عاقلة الجاني،
وعلى المشتري أقل الأمرين من قيمة الولد يوم الولادة والغرة، ويطالب به المالك من
شاء من الجاني والمشتري. ولو ماتت في الطلق، لزمه قيمتها، وكذا لو وطئ أمة
الغير بشبهة فأحبلها فماتت في الطلق. وهذه الصورة وأخواتها، مذكورة في كتاب
الرهن واضحة
فرع لو اشترى شيئا شراء فاسدا، فباعه لآخر، فهو كالغاصب يبيع
المغصوب. فإن حصل في يد الثاني، لزمه رده إلى المالك. فإن تلف في يده،
نظر، إن كانت قيمته في يدهما سواء، أو كانت في يد الثاني أكثر، رجع المالك
بالجميع على من شاء منهما، والقرار على الثاني، لحصول التلف في يده. وإن
كانت القيمة في يد الأول أكثر، فضمان النقص على الأول، والباقي يرجع به على
من شاء منهما، والقرار على الثاني. وكل نقص حدث في يد الثاني، يطالب به
الأول، ويرجع به على الثاني، وكذا حكم أجرة المثل.
فصل إذا فسد العقد بشرط فاسد، ثم حذفا الشرط، لم ينقلب العقد
صحيحا، سواء كان الحذف في المجلس أو بعده. وفي وجه: ينقلب صحيحا إن
77

حذف في المجلس، وهو شاذ ضعيف. ولو زاد في الثمن أو المثمن، أو زاد إثبات
الخيار، أو الأجل، أو قدرهما، نظر، إن كان ذلك بعد لزوم العقد، لم يلحق
بالعقد. وكذا الحكم في رأس مال السلم والمسلم فيه والصداق وغيرها، وكذا
الحط، لا يلحق شئ من ذلك بالعقد، حتى أن الشفيع يأخذ بما سمي في العقد،
لا بما بقي بعد الحط. وإن كانت هذه الالحاقات قبل لزوم العقد، بأن كانت في
مجلس العقد، أو في زمن خيار الشرط، فأوجه. أحدها: لا يلحق. وصححه في
التتمة. والثاني: يلحق في خيار المجلس، دون خيار الشرط، قاله أبو زيد،
والقفال. والثالث، وهو الأصح عند الأكثرين: يلحق في مدة الخيارين جميعا،
وهو ظاهر النص. فعلى هذا في محل الجواز، وجهان. أحدهما قاله أبو علي
الطبري، واختاره الشيخ أبو علي، وصاحب التهذيب وغيرهما: أنه مفرع على
قولنا: الملك في زمن الخيار للبائع، أو قلنا: موقوف وفسخ العقد، فأما إن قلنا
للمشتري، أو قلنا إنه موقوف وأمضي العقد، فلا يلحق كما بعد اللزوم. والوجه
الثاني: أن الجواز مطرد على الأقوال كلها، وهو الصحيح عند العراقيين. فإذا قلنا:
يلحق، فالزيادة تلزم الشفيع كما تلزم المشتري. وفي الحط قبل اللزوم، مثل هذا
الخلاف. فإن ألحقناه بالعقد، انحط عن الشفيع. وعلى هذا الوجه: ما يلحق
بالعقد من الشروط الفاسدة قبل انقضاء الخيار، له حكم المقترن بالعقد في إفساده،
وينحط جميع الثمن، فهو كما لو باع بلا ثمن.
القسم الثاني من المناهي: ما لا يقتضي الفساد.
فمنه الاحتكار، وهو حرام على الصحيح، وقيل: مكروه،
وهو أن يشتري الطعام في وقت الغلاء، ولا يدعه للضعفاء، ويحبسه ليبيعه
بأكثر عند اشتداد الحاجة. ولا بأس بالشراء في وقت الرخص ليبيع في وقت الغلاء.
ولا بأس بإمساك غلة ضيعته ليبيع في وقت الغلاء، ولكن الأولى أن يبيع مفضل عن
78

كفايته. وفي كراهة إمساكه، وجهان. ثم تحريم الاحتكار يختص بالأقوات.
ومنها: التمر، والزبيب، ولا يعم جميع الأطعمة. ومنها: التسعير، وهو حرام في كل وقت على الصحيح. والثاني: يجوز في
وقت الغلاء دون الرخص. وقيل: إن كان الطعام مجلوبا، حرم التسعير. وإن كان
يزرع في البلد ويكون عند القناة، جاز. وحيث جوزنا التسعير، فذلك في
الأطعمة، ويلحق بها علف الدواب على الأصح. وإذا سعر الامام عليه، فخالف،
استحق التعزير. وفي صحة البيع، وجهان مذكوران في التتمة.
قلت: الأصح: صحة البيع. والله أعلم.
فصل يحرم أن يبيع حاضر لباد، وهو أن يقدم إلى البلد بدوي أو قروي
بسلعة يريد بيعها بسعر الوقت، ليرجع إلى وطنه، فيأتيه بلدي فيقول: ضع متاعك
عندي لأبيعه لك على التدريج بأغلى من هذا السعر. ولتحريمه، شروط. أحدها:
أن يكون عالما بالنهي فيه. وهذا شرط يعم جميع المناهي. والثاني: أن يكون
المتاع المجلوب مما تعم الحاجة إليه، كالأطعمة ونحوها. فأما ما لا يحتاج إليه إلا
نادرا، فلا يدخل في النهي. والثالث: أن يظهر ببيع ذلك المتاع سعة في البلد،
فإن لم يظهر لكبر البلد، أو قلة ما معه، أو لعموم وجوده ورخص السعر، فوجهان
أوفقهما للحديث التحريم. والرابع: أن يعرض الحضري، ذلك على البدوي
ويدعوه إليه. أما إذا التمس البدوي منه بيعه تدريجا، أو قصد الإقامة في البلد ليبيعه
كذلك، فسأل البلدي تفويضه إليه، فلا بأس، لأنه لم يضر بالناس، ولا سبيل إلى
منع المالك منه، ولو أن البلدي استشار البلدي فيما فيه حظه، فهل يرشده
إلى الادخار والبيع على التدريج؟ وجهان. حكى القاضي ابن كج عن أبي
79

الطيب بن سلمة، وأبي إسحاق المروزي: أنه يجب عليه إرشاده إليه، أداء
للنصيحة. وعن أبي حفص بن الوكيل: أنه لا يرشده إليه توسيعا على الناس. ثم لو
باع البلدي للبدوي عند اجتماع شروط التحريم، أثم وصح البيع. قلت:
قال القفال: الاثم على البلدي دون البدوي، ولا خيار للمشتري.
والله أعلم.
فصل يحرم تلقي الركبان، وهو أن يتلقى طائفة يحملون طعاما إلى
البلد، فيشتريه منهم قبل قدومهم البلد ومعرفة سعره.
وشرط تحريمه، أن يعلم النهي ويقصد التلقي. فلو خالف فتلقى
واشترى، أثم، وصح البيع، ولا خيار لهم قبل أن يقدموا ويعلموا السعر، وبعده
يثبت لهم الخيار إن كان الشراء بأرخص من سعر البلد، سواء أخبر كاذبا أو لم يخبر.
وإن كان الشراء بسعر البلد أو أكثر، فوجهان. الأصح: لا خيار لهم.
ولو ابتدأ القادمون فالتمسوا منه الشراء وهم عالمون بسعر البلد أو غير عالمين،
فعلى الوجهين. ولو لم يقصد التلقي، بل خرج لشغل من اصطياد وغيره، فرآهم
فاشترى منهم، فوجهان. أحدهما: لا يعصي، لعدم التلقي،
وأصحهما عند الأكثرين: يعصي، لشمول المعنى. فعلى الأول: لا خيار
لهم، وإن كانوا مغبونين.
وقيل: إن أخبر بالسعر كاذبا، فلهم الخيار. وحيث أثبتنا الخيار في هذه
الصور، فهو على الفور على الأصح. والثاني: يمتد ثلاثة أيام. ولو تلقى الركبان
وباعهم ما يقصدون شراءه من البلد، فهل هو كالمتلقي للشراء؟ وجهان
فصل يحرم السوم على سوم أخيه.
80

وهو أن يأخذ شيئا ليشتريه، فيجئ إليه غيره ويقول: رده حتى أبيعك خيرا
منه بهذا الثمن، أو يقول لمالكه: استرده لأشتريه منك بأكثر. وإنما يحرم بعد
استقرار الثمن.
فأما ما يطاف به فيمن يزيد وطلبه طالب، فلغيره الدخول عليه والزيادة فيه.
وإنما يحرم، إذا حصل التراضي صريحا. فإن لم يصرح، ولكن جرى ما
يدل على الرضى، ففي التحريم وجهان. أصحهما: لا يحرم. فإن لم يجر شئ،
بل سكت، فالمذهب: أنه لا يحرم، كما لو صرح بالرد. وقيل: هو على
الوجهين.
ويحرم أن يبيع على بيع أخيه، وأن يشتري على شراء أخيه. فالبيع على بيع
أخيه، أن يقول لمن اشترى سلعة في زمن خيار المجلس أو الشرط: افسخ لأبيعك
خيرا منه، أو أرخص. والشراء على شرائه أن يقول للبائع: افسخ لأشتريه منك
بأكثر. وشرط القاضي ابن كج في البيع على البيع، أن لا يكون المشتري مغبونا غبنا
مفرطا. فإن كان، فله أن يعرفه ويبيع على بيعه، لأنه ضرب من النصيحة.
قلت: هذا الشرط انفرد به ابن كج، وهو خلاف ظاهر إطلاق الحديث،
والمختار: أنه ليس بشرط. والله أعلم.
ولو أذن البائع في بيعه، ارتفع التحريم على الصحيح.
فصل يحرم النجش، وهو أن يزيد في ثمن السلعة المعروضة للبيع وهو
81

غير راغب فيها ليغر غيره. فإن اغتر به إنسان فاشتراها، صح البيع، ثم لا خيار له
إن لم يكن الذي فعله الناجش بمواطأة من البائع، وإن كان، فلا خيار أيضا على
الأصح.
ولو قال البائع: أعطيت بهذه السلعة كذا، فصدقه واشتراه، فبان خلافه، قال
ابن الصباغ: في ثبوت الخيار، الوجهان.
واعلم أن الشافعي رضي الله عنه، أطلق القول بتعصية الناجش، وشرط في
تعصية البائع على بيع أخيه أن يكون عالما بالنهي. قال الأصحاب: السبب فيه
أن النجش خديعة، وتحريم الخديعة واضح لكل أحد، معلوم من الألفاظ العامة وإن
لم يعلم هذا الحديث، والبيع على بيع أخيه، إنما عرف تحريمه من الخبر الوارد
فيه فلا يعرفه من لا يعرف هذا الخبر، قال الرافعي: ولك أن تقول: البيع على
بيع أخيه، إضرار أيضا، وتحريم الاضرار معلوم من الألفاظ العامة، والوجه
تخصيص التعصية بمن عرف التحريم بعموم أو خصوص.
فصل يحرم التفريق بين الجارية وولدها الصغير بالبيع والقسمة والهبة
ونحوها، ولا يحرم التفريق في العتق، ولا في الوصية. وفي الرد بالعيب،
82

وجهان. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله: لو اشترى جارية وولدها
الصغير، ثم تفاسخا البيع في أحدهما، جاز، وحكم التفريق في الرهن مذكور
في بابه. وإذا فرق بينهما في البيع والهبة، ففي صحة العقد قولان. أظهرهما: لا
يصح، لأنه منهي عن تسليمه. قال أبو الفراج البزاز: القولان في التفريق بعد أن
تسقيه اللبأ، أما قبله، فلا يصح قطعا. وإلى متى يمتد (تحريم) التفريق؟ قولان.
أحدهما: إلى البلوغ. وأظهرهما: إلى بلوغه سن التمييز سبع سنين، أو ثمان
سنين تقريبا. ويكره التفريق بعد البلوغ. فلو فرق بعده ببيع أو هبة، يصح
قطعا. ولو كانت الام رقيقة والولد حرا، أو بالعكس، فلا منع من بيع الرقيق منهما.
وهل الجدة والأب وسائر المحارم كالأم؟ فيه كلام يأتي في كتاب السير إن شاء
الله تعالى.
83

والتفريق بين البهيمة وولدها بعد استغنائه عن اللبن، جائز على الصحيح،
وبه قطع الجمهور.
قلت: هذا الوجه الشاذ في منع التفريق بين البهيمة وولدها، هو في التفريق
بغير الذبح. وأما ذبح أحدهما، فجائز بلا خلاف. والله أعلم.
فصل بيع الرطب والعنب ممن يتوهم اتخاذه إياه نبيذا، أو خمرا،
مكروه. وإن تحقق اتخاذه ذلك، فهل يحرم، أو يكره؟ وجهان. فلو باع، صح
على التقديرين.
قلت: الأصح: التحريم. ثم قال الغزالي في الاحياء: بيع الغلمان
المرد، إن عرف بالفجور بالغلمان، له حكم بيع العنب من الخمار. وكذا كل
تصرف يفضي إلى معصية. والله أعلم.
وبيع السلاح للبغاة وقطاع الطريق، مكروه، ولكنه يصح. وتكره مبايعة من
اشتملت يده على حلال وحرام، وسواء كان الحلال أكثر، أو بالعكس. فلو باعه،
صح.
84

قلت: قال أصحابنا: لو دخل قرية يسكنها مجوس، لم يصح شراء اللحم
منها حتى يعلم أهلية الذبح، لان الأصل التحريم، فلا يزال إلا يقين أو ظاهر.
والله أعلم.
فصل ليس من المناهي بيع العينة - بكسر العين المهملة وبعد الياء
85

نون - وهو أن يبيع غيره شيئا بثمن مؤجل، ويسلمه إليه، ثم يشتريه قبل قبض الثمن
بأقل من ذلك الثمن نقدا. وكذا يجوز أن يبيع بثمن نقدا ويشتري بأكثر منه إلى
أجل، سواء قبض الثمن الأول، أم لا، وسواء صارت العينة عادة له غالبة في
البلد، أم لا. هذا هو الصحيح المعروف في كتب الأصحاب، وأفتى الأستاذ أبو
إسحاق الأسفراييني، والشيخ أبو محمد: بأنه إذا صار عادة له، صار البيع الثاني
كالمشروط في الأول، فيبطلان جميعا.
86

فصل يجوز بيع دور مكة، وبيع المصحف، وكتب الحديث. وقال
الصيمري: يكره بيع المصحف.
قلت: ونص الشافعي رضي الله عنه، على كراهة بيع المصحف. وقال الروياني
وغيره: لا يكره، وسائر الكتب المشتملة على ما يباح الانتفاع به، يجوز بيعها بلا
كراهة.
ومن المناهي: البيع في وقت النداء يوم الجمعة، وسبق بيانه في بابها.
ومنها في الحديث: نهى عن بيع المضطر.
قال الخطابي: فيه تأويلان. أحدهما: المراد به: المكره، فلا يصح بيعه إن
أكره بغير حق، وإن كان بحق، صح.
والثاني: أن يكون عليه ديون مستغرقة، فتحتاج إلى بيع ما معه بالوكس،
فيستحب أن لا يبتاع منه، بل يعان، إما بهبة، وإما بقرض، وإما باستمهال صاحب
الدين. فإن اشترى منه، صح.
ومنها: النهي عن بيع المصراة، والنهي عن بيع ما فيه عيب، إلا أن يبينه،
وكلاهما حرام، إلا أنه ينعقد
ومنها: النهي عن البيع في المسجد، وسبق تفصيله في الاعتكاف.
ومنها: يكره غبن المسترسل، ويكره بيع العينة، وسبق بيانه.
ومنها: ما قاله صاحب التلخيص. قال: نهى عن بيع الماء، وهو محمول
على ما إذا أفرد ماء عين أو بئر أو نهر بالبيع، فإن باعه مع الأرض، بأن باع أرضا مع
شربها من الماء في نهر أو واد، صح، ودخل الماء في البيع تبعا. وكذا إذا كان
الماء في إناء أو حوض أو غيرهما مجتمعا، فبيعه صحيح مفردا وتابعا. والله
أعلم.
87

باب تفريق الصفقة
إذا جمع شيئين في صفقة، فهو ضربان. أحدهما: أن يجمع بينهما في عقد
واحد. والثاني: في عقدين مختلفي الحكم.
أما الأول: فله حالان. أحدهما: أن يقع التفريق في الابتداء.
والثاني: أن يقع في الانتهاء.
فالحال الأول: ينظر، إن جمع بين شيئين يمتنع الجمع بينهما من حيث هو
جمع، بطل العقد في الجميع، كمن جمع بين أختين، أو خمس نسوة في عقد
نكاح. وإن لم يكن كذلك، فإما أن يجمع بين شيئين كل واحد منهما قابل لما
أورده عليه من العقد، وإما أن لا يكون كذلك. فإن كان الأول، بأن جمع بين عينين
في البيع، صح العقد يهما. ثم إن كانا من جنسين كعبد وثوب، أو من جنس،
لكنهما مختلفا القيمة كعبدين، وزع الثمن عليهما باعتبار القيمة. وإن كانا من جنس
ومتفقي القيمة كقفيزي حنطة واحدة، وزع عليهما باعتبار الاجزاء. وإن كان الثاني،
فإما أن لا يكون واحد منهما قابلا لذلك العقد، كمن باع خمرا وميتة، فالعقد
باطل، وإما أن يكون أحدهما قابلا، فالذي هو غير قابل، قسمان.
أحدهما: أن يكون متقوما، كمن باع عبده وعبد غيره صفقة واحدة، ففي
صحة البيع في عبده، قولان. أظهرهما: يصح، واختاره المزني. والثاني: لا
88

يصح. وفي علته، وجهان. وقيل: قولان. أحدهما: الجمع بين حلال وحرام.
والثاني: جهالة العوض الذي يقابل الحلال.
والقسم الثاني: أن لا يكون متقوما، وهو نوعان.
أحدهما: يتأتى تقدير التقويم فيه من غير تقدير تغير الخلقة، كمن باع حرا
وعبدا، فالحر غير متقوم، لكن يمكن تقديره رقيقا. وفي المسألة، طريقان.
أصحهما: طرد القولين. والثاني: القطع بالفساد. قال الشيخ أبو محمد: القولان
على الطريق الأول فيما إذا كان المشتري جاهلا بالحال. فإن كان عالما، فالوجه:
القطع بالبطلان. ولو باع عبده ومكاتبه، أو أم ولده، فهو كما لو باع عبده وعبد
غيره، لأنهما متقومان بدليل الاتلاف.
النوع الثاني: أن لا يتأتى تقدير تقويمه من غير فرض تغير الخلقة، كمن باع
خلا وخمرا، أو مذكاة وميتة، أو شاة وخنزيرا، ففي صحة البيع في الخل والمذكاة
والشاة، خلاف مرتب على العبد مع الحر، وأولى بالفساد، لأنه لا بد في التقويم
من التقدير بغيره، ولا يكون المقوم هو المذكور في العقد. ولو رهن عبده وعبد
غيره، أو حرا وعبدا، أو وهبهما، فإن صححنا البيع، فهنا أولى، وإلا، فقولان
بناء على العلتين. ولو زوج أخته وأجنبية، أو مسلمة ومجوسية، فكالرهن والهبة.
الحال الثاني: أن يقع التفريق في الانتهاء، وهو قسمان.
أحدهما: أن لا يكون اختياريا، كمن اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل
قبضهما، انفسخ البيع في التالف، وفي الباقي، طريقان. أحدهما: على القولين
في جمع عبده وعبد غيره. وأصحهما: القطع بأنه لا ينفسخ، لعدم العلتين. ولو
تفرقا في السلم وبعض رأس المال غير مقبوض، أو في الصرف وبعض العوض غير
89

مقبوض، انفسخ العقد في غير المقبوض. وفي الباقي، الطريقان. فلو قبض أحد
العبدين وتلف الآخر في يد البائع، ترتب الانفساخ في المقبوض على الصور
السابقة، وهذه أولى بعدم الانفساخ، لتأكد العقد فيه بانتقال الضمان إلى
المشتري هذا إن كان المقبوض باقيا في يد المشتري. فإن تلف في يده، ثم تلف
الآخر في يد البائع، فالقول بالانفساخ أضعف، لتلفه على ضمانه.
وإذا قلنا بعدم الانفساخ، فهل له الفسخ؟ وجهان. أحدهما: نعم، ويرد
قيمته. والثاني: لا، وعليه حصته من الثمن. ولو اكترى دارا وسكنها بعض
المدة، ثم انهدمت، انفسخ العقد في المستقبل، ويخرج في الماضي على
الخلاف في المقبوض التالف.
فإن قلنا: لا ينفسخ، فهل له الفسخ؟ فيه الوجهان. فإن قلنا: لا فسخ،
فعليه من المسمى ما يقابل الماضي.. وإن قلنا بالفسخ، وفسخ، فعليه أجرة المثل
للماضي. ولو انقطع بعض المسلم فيه عند المحل والباقي مقبوض، أو غير
مقبوض، وقلنا: لو انقطع الكل، ينفسخ العقد، انفسخ في المنقطع. وفي
الباقي، الخلاف فيما إذا تلف أحد الشيئين قبل قبضهما. فإذا قلنا: لا ينفسخ، فله
الفسخ. فإن أجاز، فعليه حصته من رأس المال فقط. وإن قلنا: إنه لو انقطع
الكل، لم ينفسخ العقد، فالمسلم بالخيار، إن شاء فسخ العقد في الكل، وإن شاء
أجازه في الكل. وهل له الفسخ في القدر المنقطع والإجازة في الباقي؟ قولان، بناء
على ما سنذكره في القسم الذي يليه.
القسم الثاني: أن يكون اختياريا،
كمن اشترى عبدين صفقة واحدة، فوجد بأحدهما عيبا، فهل له إفراده بالرد؟
قولان. أظهرهما: ليس له، وبه قطع الشيخ أبو حامد. والقولان، في العبدين
وكل شيئين لا تتصل منفعة أحدهما بالآخر. فأما في زوجي خف ومصراعي باب
ونحوهما، فلا يجوز الافراد قطعا. وشذ بعضهم، فطرد القولين، ولا فرق على
90

القولين بين أن يتفق ذلك بعد القبض أو قبله. فإن لم نجوز الافراد، فقال: رددت
المعيب، فهل يكون ذلك ردا لهما؟ أصحهما: لا، بل هو لغو. ولو رضي
البائع بإفراده، جاز على الأصح.
وإذا جوزنا الافراد، فرده، استرد قسطه من الثمن. وعلى هذا القول، لو أراد
رد السليم والمعيب جميعا فله ذلك على الصحيح. ولو وجد العيب بالعبدين معا،
وأراد إفراد أحدهما بالرد، جرى القولان.
ولو تلف أحد العبدين أو باعه، ووجد الباقي عيبا، ففي إفراده بالرد قولان
مرتبان، وأولى بالجواز، لتعذر ردهما. فإن جوزنا الافراد، رد الباقي واسترد من
الثمن حصته. وطريق التوزيع: تقدير العبدين سليمين، وتقويمهما، وتقسيط
المسمى على القيمتين. فلو اختلفا في قيمة التالف، فادعى المشتري ما يقتضي
زيادة المرجوع به على ما اعترف به البائع، فالأظهر: أن القول قول البائع مع
يمينه، لان الثمن ملكه، فلا يسترد منه إلا ما اعترف به. وإن لم نجوز الافراد،
فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما: لا فسخ له، ولكن يرجع بأرش العيب، لان
الهلاك أعظم من العيب. ولو حدث عنده عيب لم يتمكن من الرد. فعلى هذا، إن
اختلفا في قيمة التالف، عاد القولان. وهل النظر في قيمة التالف إلى يوم العقد،
أو يوم القبض؟ فيه الخلاف الذي سيأتي في معرفة أرش العيب القديم. والوجه
الثاني: أنه يضم قيمة التالف إلى الباقي، ويردهما ويفسخ العقد. فإن اختلفا في
91

قيمة التالف، فالقول قول المشتري مع يمينه، لأنه غارم. وفيه وجه شاذ: أن القول
قول البائع، لئلا تزال يده عما لم يعترف به.
فرع لو باع شيئا يتوزع الثمن على أجزائه، بعضه له، كعبد، أو صاع
حنطة له نصفها، أو صاعي حنطة له أحدهما، صفقة واحدة، ترتب على ما إذا باع
عبدين أحدهما له. فإن قلنا: يصح هناك في ملكه، فهنا أولى، وإلا، فقولان.
إن عللنا بالجمع بين حلال وحرام، لم يصح، وإن عللنا بالجهالة، صح، لان
حصة المملوك معلومة. ولو باع جميع الثمار وفيها الزكاة، فهل يصح البيع في قدر
الزكاة؟ سبق بيانه في كتاب الزكاة. فإن قلنا: لا يصح، فالترتيب في الباقي كما
ذكرنا فيمن باع عبدا له نصفه. ولو باع أربعين شاة فيها واجب الزكاة، وقلنا: لا
يصح بيع قدر الزكاة، فالترتيب في الباقي كما سبق فيمن باع عبده وعبد غيره.
فرع ومما يتفرع على العلتين، لو ملك زيد عبدا، وعمرو آخر، فباعاهما
صفقة واحدة بثمن واحد، ففي صحة العقد قولان. وكذا لو باع عبدين له لرجلين،
لكل واحد واحدا بعينه بثمن واحد، إن عللنا بالجمع بين حلال وحرام، صح، وإن
عللنا بالجهالة، فلا، لان حصة كل واحد مجهولة.
ولو باع عبده وعبد غيره وسمى لكل واحد ثمنا، فقال: بعتك هذا بمائة،
وهذا بخمسين، فإن عللنا بالجمع، فسد، وإن عللنا بالجهالة، صح في عبده،
كذا قاله في التتمة. ولك أن تقول: سنذكر أن تفصيل الثمن من أسباب تعدد
العقد، وإن تعدد، وجب القضاء بالصحة على العلتين.
فرع اعلم أن طائفة من الأصحاب، توسطوا بين قولي تفريق الصفقة،
92

فقالوا: الأصح: الصحة في المملوك إذا كان المبيع مما يتوزع الثمن على أجزائه.
والأصح: الفساد إن كان مما يتوزع على قيمته. وقال الأكثرون: الأصح: الصحة
في القسمين.
فصل إذا باع ماله ومال غيره، وصححناه في ماله، نظر، إن كان
المشتري جاهلا بالحال، فله الخيار. فإن، أجاز، فكم يلزمه من الثمن؟ قولان.
أظهرهما: حصة المملوك فقط إذا وزع على القيمتين. والثاني: يلزمه جميع
الثمن، ثم قيل: القولان فيما إذا كان المبيع مما يتقسط الثمن عليه بالقيمة. فإن
كان مما يتقسط على أجزائه، فالواجب القسط قطعا. والأصح: طرد القولين في
الحالين. فإن قلنا: الواجب جميع الثمن، فلا خيار للبائع. وإن قلنا: القسط،
فلا خيار له أيضا على الأصح. وإن كان المشتري عالما بالحال، فلا خيار له كما لو
اشترى معيبا يعلم عيبه. وكم يلزمه من الثمن؟ فيه طريقان. المذهب: أنه على
القولين. وقيل: يجب الجميع قطعا، لأنه التزمه عالما. ولو اشترى عبدا وحرا، أو
خلا وخمرا، أو مذكاة وميتة، أو شاة وخنزيرا، وصححنا العقد فيما يقبله، وكان
المشتري جاهلا بالخال، فأجاز، أو كان عالما، ففيما يلزمه؟ الطريقان. فإن
أوجبنا القسط، ففي كيفية توزيع الثمن على هذه الأشياء، وجهان. أصحهما عند
الغزالي: ينظر إلى قيمتها عند من يرى لها قيمة. والثاني: يقدر الخمر خلا،
ويوزع عليهما باعتبار الاجزاء، وتقدر الميتة مذكاة، والخنزير شاة، ويوزع عليهما
باعتبار القيمة. وقيل: يقدر الخمر عصيرا، والخنزير بقرة.
قلت: هذا الذي صححه الغزالي، احتمال للامام. والصحيح: هو الثاني،
وبه قطع الدارمي والبغوي وآخرون، وحكاه الامام عن طوائف من أصحاب القفال.
والله أعلم.
ولو نكح مسلمة ومجوسية في عقد، وصححنا نكاح المسلمة، فالذي قطع به
الجماهير: أنه لا يلزمه جميع المسمى قطعا، لأنه لا خيار له، بخلاف الجيع على
قول. ويقل: في قول: يلزمه جميع المسمى، وله الخيار في رد المسمى والرجوع
إلى مهر المثل. فإذا قلنا بقول الجمهور، ففيما يلزمه قولان. أظهرهما: مهر
المثل. والثاني: قسطها من المسمى إذا وزع على مهر مثلها ومهر مثل المجوسية
93

ولو اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض، فانفسخ العقد فيه، وقلنا: لا
ينفسخ في الباقي، فله الخيار فيه. فإن أجاز، فالواجب قسطه من الثمن قطعا. كذا
قاله الجمهور، لان الثمن يوزع عليهما في الابتداء. وطرد أبو إسحاق المروزي فيه
القولين.
فرع لو باع ربويا بجنسه، فخرج بعض أحد العوضين مستحقا، وصححنا
العقد في الباقي، فأجاز، فالواجب القسط بلا خلاف، لان الفصل بينهما حرام.
فرع لو باع معلوما ومجهولا، لم يصح في المجهول، وينبني في المعلوم على ما لو كانا معلومين وأحدهما لغيره. فإن قلنا: لا يصح فيما له، لم يصح هنا في
المعلوم، وإلا، فقولان، بناء على أنه كم يلزمه من الثمن؟ فإن قلنا: الجميع،
صح، ولزمه هنا أيضا جميع الثمن. وإن قلنا: القسط، لم يصح، لتعذر
التقسيط. وحكي قول شاذ: أنه يصح، وله الخيار. فإن أجاز، لزمه جميع
الثمن.
فرع في الإشارة إلى طرف من مسائل الدور يتعلق بتفريق الصفقة
واعلم أن محاباة المريض مرض الموت في البيع والشراء، حكمها حكم هبته وسائر
تبرعاته، تعتبر من الثلث. فإذا باع المريض عبدا يساوي ثلاثين بعشرة، ولا مال له
غيره، بطل البيع في بعض المبيع، وفي الباقي، طريقان. أصحهما عند
الجمهور: أنه على قولي تفريق الصفقة. والثاني: القطع بالصحة، وهو الأصح
عند صاحب التهذيب، لان المحاباة هنا وصية، وهي تقبل من الغرر ما لا يقبل
غيرها. فإن صححنا بيع الباقي، ففي كيفيته قولان. ويقال: وجهان. أحدهما:
يصح البيع في القدر الذي يحتمله الثلث، والقدر الذي يوازي الثمن بجميع الثمن،
ويبطل في الباقي، فيصح في ثلثي العبد بالعشرة، ويبقى مع الورثة ثلث العبد وقيمته
عشرة، والثمن وهو عشرة، وذلك مثل المحاباة وهي عشرة. ولا تدور المسألة على
هذا القول. والثاني: أنه إذا ارتد البيع في بعض المبيع، وجب أن يرتد إلى
المشتري ما يقابله من الثمن، فتدور المسألة، لان ما ينفذ فيه البيع، يخرج من
التركة، وما يقابله من الثمن، يدخل فيها. ومعلوم أن ما ينفذ فيه البيع، يزيد بزيادة
94

التركة، وينقص بنقصها. ويتوصل إلى معرفة المقصود بطرق. منها، أن ينسب
ثلث المال إلى قدر المحاباة. ويصحح البيع في المبيع بمثل نسبة الثلث من
المحاباة.
فنقول في هذه الصورة: ثلث المال عشرة، والمحاباة عشرون، والعشرة
نصف العشرين، فيصح البيع في نصف العبد، وقيمته خمسة عشر، بنصف الثمن
وهو خمسة، كأنه اشترى سدسه بخمسة، ووصى له بثلثه، ويبقى مع الورثة نصف
العبد، وهو خمسة عشر، والثمن وهو خمسة، فالمبلغ عشرون. وذلك مثل
المحاباة. واختلف الأصحاب في الأصح في هذين القولين، أو الوجهين، في
الكيفية، فذهب الأكثرون إلى ترجيح الأول، وبه قال ابن الحداد. قال القفال
والأستاذ أبو منصور البغدادي وغيرهما: هو المنصوص للشافعي رضي الله عنه.
قالوا: والثاني: خرجه ابن سريج. وذهب آخرون إلى ترجيح الثاني، وهو اختيار
أكثر الحساب، وبه قال ابن القاص، وابن اللبان، وتابعهما إمام الحرمين، وهذا
أقوى في المعنى. ولو باع مريض صاع حنطة يساوي عشرين، بصاع لصحيح
يساوي عشرة، ومات ولا مال له غيره، فإن قلنا بالقول الأول، فالبيع باطل فيهما بلا
خلاف، لان مقتضاه صحة البيع في قدر الثلث وهو ستة وثلثان. وفيما يقابله من
صاع الصحيح المشترى، وهو نصفه، فيكون خمسة أسداس صاع في مقابلة
صاع، وذلك ربا. وإن قلنا بالثاني، صح البيع في ثلثي صاع المريض بثلثي صاع ا
لصحيح، وبطل في الباقي. وقطع قاطعون بهذا الثاني هنا، لئلا يبطل غرض
الميت في الوصية. قال في التهذيب: وهو الأصح. وطريقه: أن ثلث مال
المريض ستة وثلثان، والمحاباة عشرة، والستة والثلثان ثلثا العشرة، فنفذ البيع في
ثلثي صاع، ويثبت الخيار للصحيح، لتبعيض صفقته، ولا خيار لورثة الميت، لئلا
يبطلوا المحاباة التي هي وصية، وهذا متفق عليه. وغلطوا صاحب التلخيص في
إطلاقه قولين في ثبوت الخيار. ولو كانت المسألة بحالها، وصاع المريض يساوي
ثلاثين، وقلنا: يتقسط الثمن، صح البيع في نصف صاع بنصف صاع. ولو كانت
بحالها وصاع المريض يساوي أربعين، صح البيع في أربعة أتساع الصاع بأربعة
أتساع الصاع. ولو أتلف المريض الصاع الذي أخذه ثم مات، وفرعنا على القول
الذي يجئ عليه الدور، صح البيع في ثلاثة بثلث صاع صاحبه، سواء كانت قيمة
95

صاع المريض عشرين أو ثلاثين، أو أكثر، لان ما أتلفه قد نقص من ماله. أما ما
صح البيع فيه، فهو ملكه، وقد أتلفه. وأما ما بطل فيه البيع، فعليه ضمانه،
فينقص قدر الغرم من ماله. ومتى كثرت القيمة، كان المصروف إلى الغرم أقل،
والمحاباة أكثر. ومتى قلت، كان المصروف إلى الغرم أكثر، والمحاباة أقل.
مثاله: كانت قيمة صاع المريض عشرين، وصاع الصحيح عشرة، فمال
المريض عشرون، وقد أتلف عشرة نحطها من ماله، يبقى عشرة كأنها كل ماله،
والمحاباة عشرة، فثلث ماله هو ثلث المحاباة، فيصح البيع في ثلث الصاع، لان
ثلث صاع المريض ستة وثلثان وثلث صاع، الصحيح: ثلاثة وثلث، فالمحاباة
بثلاثة وثلث، وقد بقي في يد الورثة ثلثا صاع، وهو ثلاثة عشر وثلث، يؤدون منه
قيمة ثلثي صاع الصحيح، وهو ستة وثلثان، تبقى في أيديهم ستة وثلثان، وهي مثلا
المحاباة. فلو كانت بحالها وصاع المريض يساوي ثلاثين، فمال المريض ثلاثون،
وقد أتلف عشرة نحطها من ماله، يبقى عشرون كأنها كل ماله، والمحاباة عشرون
مثل ماله، فثلث ماله هو ثلث المحاباة، فصح البيع في ثلث صاع، لان ثلث صاع
المريض عشرة، وثلث صاع الصحيح ثلاثة وثلث، فالمحاباة بستة وثلثين، وقد بقي
في يد الورثة ثلثا صاع، وهو عشرون، يؤدون منه قيمة ثلثي صاع الصحيح، وهو
ستة وثلثان، يبقى في أيديهم ثلاثة عشر وثلث، وهي مثلا المحاباة.
الضرب الثاني من جمع الصفقة: أن يجمع عقدين مختلفي الحكم. فإذا
جمع في صفقة بين إجارة وسلم، أو إجارة وبيع، أو سلم وبيع عين، أو صرف
وغيره، فقولان. أظهرهما: يصح العقد فيهما. والثاني: لا يصح في واحد
منهما.
96

وصورة الإجارة والسلم: أجرتك داري سنة، وبعتك كذا سلما بكذا.
وصورة الإجارة والبيع: بعتك عبدي وأجرتك داري سنة بكذا. ولو جمع بيعا
ونكاحا فقال: زوجتك جاريتي هذه، وبعتك عبدي هذا بكذا، والمخاطب ممن
يحل له نكاح الأمة، أو قال: زوجتك بنتي، وبعتك عبدها، وهي في حجره أو
رشيدة وكلته في بيعه، صح النكاح بلا خلاف. وفي البيع والمسمى في النكاح،
القولان. فإن صححنا، وزع المسمى على قيمة المبيع ومهر المثل، وإلا، وجب
في النكاح مهر المثل. ولو جمع بيعا وكتابة، فقال لعبده: كاتبتك على نجمين،
وبعتك ثوبي هذا جميعا بألف، فإن حكمنا بالبطلان في الصور السابقة، فهنا أولى،
وإلا، فالبيع باطل، وفي الكتابة القولان.
فصل محل القولين في مسائل الباب، إذا اتحدت الصفقة دون ما إذا
تعددت، حتى لو باع ماله في صفقة، ومال غيره في صفقة أخرى، صح في ماله بلا
خلاف. وأما بيان تعددها واتحادها، فطريقه أن يقول: إذا سمى لكل واحد من
الشيئين ثمنا مفصلا فقال: بعتك هذا بكذا، وهذا بكذا، فقبل المشتري كذلك
97

على التفصيل، فهما عقدان متعددان. ولو جمع المشتري في القبول فقال: قبلت
فيهما، فكذلك على المذهب، لان القبول يترتب على الايجاب. فإذا وقع مفسرا،
فكذلك القبول. وقيل: إن الصفقة متحدة، وهو شاذ. وتتعدد الصفقة أيضا بتعدد
البائع وإن اتحد المشتري والمعقود عليه، كما إذا باع رجلان عبدا لرجل صفقة
واحدة. وهل تتعدد بتعدد المشتري، مثل أن يشتري رجلان من رجل عبدا؟
فقولان. أظهرهما: تعدد كالبائع. والثاني: لا، لان المشتري بان على الايجاب
السابق، فالنظر إلى من أوجب العقد.
وللتعدد والاتحاد فوائد غير ما ذكرنا.
منها: إذا حكمنا بالتعدد، فوزن أحد المشتريين نصيبه من الثمن، لزم البائع
تسليم قسطه من المبيع بتسليم المشاع. وإن قلنا بالاتحاد، لم يجب تسليم شئ
إلى أحدهما وإن وزن جميع ما عليه، حتى يزن الآخر، لثبوت حق الحبس، كما لو
اتحد المشتري وسلم بعض الثمن، لا يسلم إليه قسطه من المبيع. وفيه وجه: أنه
يسلم إليه القسط إذا كان مما يقبل القسمة، وهو شاذ.
ومنها: إذا قلنا بالتعدد، فخاطب رجل رجلين، فقال: بعتكما هذا العبد
بألف، فقبل أحدهما نصف بخمسمائة، أو قال مالكا عبد لرجل: بعناك هذا العبد
بألف، فقبل نصيب أحدهما بعينه بخمسمائة، لم يصح على الأصح.
فرع إذا وكل رجلان رجلا في البيع، أو الشراء، وقلنا: الصفقة تتعدد
بتعدد المشتري، أو وكل رجلين في البيع أو الشراء، فهل الاعتبار في تردد العقد
واتحاده بالعاقد، أو المعقود له؟ فيه أوجه. أصحها عند الأكثرين: أن الاعتبار
بالعاقد، وبه قال ابن الحداد، لان أحكام العقد تتعلق به. ألا ترى أن المعتبر رؤيته
دون رؤية الموكل، وخيار المجلس يتعلق به دون الموكل. والثاني: الاعتبار
بالمعقود له، قاله أبو زيد، والخضري، وصححه الغزالي في الوجيز، لان
الملك له. والثالث: الاعتبار في طرف البيع بالمعقود له، وفي الشراء بالعاقد، قاله
أبو إسحاق المروزي. والفرق، أن العقد يتم في الشراء بالمباشر دون المعقود له.
ولهذا، لو أنكر المعقود له الاذن في المباشرة، وقع العقد للمباشر، بخلاف طرف
98

البيع. قال الامام: وهذا الفرق فيما إذا كان التوكيل بالشراء في
الذمة. فإن وكله بشراء عبد بثوب معين، فهو كالتوكيل بالبيع. والرابع: الاعتبار في
جانب الشراء بالموكل وفي البيع بهما جميعا، فأيهما تعدد، تعدد العقد اعتبارا
بالشقص المشفوع، فإن العقد يتعدد بتعدد الموكل في حق الشفيع، ولا يتعدد بتعدد
الوكيل.
ويتفرع على هذا الأوجه، مسائل.
منها: لو اشترى شيئا بوكالة رجلين، فخرج معيبا، فإن اعتبرنا العاقد، فليس لأحد
الموكلين إفراد نصيبه بالرد، كما لو اشترى ومات عن ابنين وخرج معيبا، لم
يكن لأحدهما إفراد نصيبه بالرد. وهل لاحد الموكلين والابنين أخذ الأرش؟ إن وقع
اليأس من رد الآخر، بأن رضي به، فنعم، وإن لم يقع، فكذلك على الأصح.
ومنها: لو وكل رجلان رجلا ببيع عبد لهما، أو وكل أحد الشريكين صاحبه،
فباع الكل، ثم خرج معيبا، فعلى الوجه الأول: لا يجوز للمشتري رد نصيب
أحدهما. وعلى الأوجه الأخر: يجوز. ولو وكل رجل رجلين في بيع عبده، فباعاه
لرجل، فعلى الوجه الأول: يجوز للمشتري رد نصيب أحدهما. وعلى الأوجه
الاخر: لا يجوز. ولو وكل رجلان رجلا في شراء عبد، أو وكل رجل رجلا في شراء
عبد له ولنفسه، ففعل، وخرج العبد معيبا، فعلى الوجه الأول والثالث: ليس لأحد
الموكلين إفراد نصيبه بالرد. وعلى الثاني والرابع: يجوز. وقال القفال: إن علم
البائع أنه يشتري لهما، فلأحدهما رد نصيبه لرضى البائع بالتشقيص. وإن جهله،
فلا.
ومنها: لو وكل رجلان رجلا في بيع عبد، ورجلان رجلا في شرائه، فتبايع
الوكيلان، فخرج معيبا، فعلى الوجه الأول: لا يجوز التفريق. وعلى الوجوه الأخر
: يجوز. ولو وكل رجل رجلين في بيع عبد، ووكل رجل آخرين في شراء،
فتبايع الوكلاء، فعلى الوجه الأول: يجوز التفريق. وعلى الأوجه الاخر: لا
يجوز
99

باب خيار المجلس والشرط
الخيار ضربان. خيار نقص، وهو ما يتعلق بفوات شئ مظنون الحصول.
وخيار شهوة، وهو ما لا يتعلق بفوات شئ. فالأول، له باب نذكره بعد هذا إن شاء
الله تعالى. وأما الثاني، فله سببان: المجلس، والشرط. وإذا صححنا بيع
الغائب، أثبتنا خيار الرؤية، فتصير الأسباب ثلاثة.
السبب الأول كونهما مجتمعين في مجلس العقد، فلكل واحد من المتبايعين
الخيار في فسخ البيع ما لم يتفرقا أو يتخايرا.
فصل في بيان العقود التي يثبت فيها خيار المجلس والتي لا تثبت فيها
العقود، ضربان.
أحدهما: العقود الجائزة،
إما من الجانبين، كالشركة، والوكالة، والقراض، والوديعة، والعارية،
وإما من أحدهما، كالضمان، والكتابة، فلا خيار فيها، وكذا الرهن، لكن لو
كان الرهن مشروطا في بيع وأقبضه قبل التفرق، أمكن فسخ الرهن، بأن يفسخ
البيع، فينفسخ الرهن تبعا. وحكي وجه: أنه يثبت الخيار في الكتابة والضمان،
وهو شاذ ضعيف.
الضرب الثاني: العقود اللازمة، وهي نوعان. واردة على العين، وواردة
على المنفعة. فالأول: كالصرف، وبيع الطعام بالطعام، والسلم، والتولية، والتشريك،
وصلح المعاوضة، فيثبت فيها جميعا خيار المجلس،
وتستثنى صور.
100

إحداها: إذا باع ماله لولده أو بالعكس، ففي ثبوت خيار المجلس، وجهان.
أصحهما: يثبت. فعلى هذا، يثبت خيار للأب، وخيار للولد، والأب نائبه. فإن
ألزم البيع لنفسه وللولد، لزم. وإن ألزم لنفسخ، بقي الخيار للولد. وإذا فارق
المجلس، لزم العقد على الأصح. والثاني: لا يلزم إلا بالالزام، لأنه لا يمكن أن
يفارق نفسه وإن فارق المجلس.
الثانية: لو اشترى من يعتق عليه، كأبيه وابنه، قال جمهور الأصحاب: يبنى
ثبوت خيار المجلس على أقوال الملك في زمن الخيار. فإن قلنا: إنه للبائع، فلهما
الخيار، ولا نحكم بالعتق حتى يمضي زمن الخيار. وإن قلنا: موقوف، فلهما
الخيار. وإذا أمضينا العقد، تبينا أنه عتق بالشراء. وإن قلنا: الملك للمشتري،
فلا خيار له، ويثبت للبائع. ومتى يعتق؟ وجهان. أصحهما: لا يحكم بعتقه حتى
يمضي زمن الخيار، ثم نحكم يومئذ بعتقه من يوم الشراء. والثاني: نحكم بعتقه
حين الشراء. وعلى هذا، هل ينقطع خيار البائع؟ وجهان كالوجهين في ما إذا أعتق
المشتري العبد الأجنبي في زمن الخيار، وقلنا: الملك له. قال في التهذيب:
ويحتمل أن نحكم بثبوت الخيار للمشتري أيضا، تفريعا على أن الملك له، وأن لا
يعتق العبد في الحال، لأنه لم يوجد منه الرضى إلا بأصل العقد. هذه طريقة
الجمهور. وقال إمام الحرمين: المذهب، أنه لا خيار. وقال الأودني: يثبت،
وتابع الغزالي إمامه على ما اختاره، وهو شاذ، والصحيح ما سبق عن الأصحاب.
الثالثة: الصحيح: أن شراء العبد نفسه من سيده، جائز. وفي ثبوت خيار
المجلس، وجهان حكاهما أبو حسن العبادي، ومال إلى ترجيح ثبوته، وقطع
الغزالي وصاحب التتمة بعدم ثبوته.
الرابعة: في ثبوت الخيار في شراء الجمد في شدة الحر، وجهان، لأنه يتلف
بمضي الزمان.
الخامسة: إن صححنا بيع الغائب، ولم نثبت خيار المجلس مع خيار
101

الرؤية، فهذا البيع من صور الاستثناء.
السادسة: إن باع بشرط نفي خيار المجلس، فثلاثة أوجه سنذكرها قريبا إن
شاء الله تعالى. أحدها: يصح البيع والشرط. فعلى هذا، تكون هذه الصورة
مستثناة، هذا حكم المبيع بأنواعه. ولا يثبت خيار المجلس في صلح الحطيطة،
ولا في الابراء، ولا في الإقالة إن قلنا: إنها فسخ، وإن قلنا: إنها بيع، ففيها ا
لخيار. ولا يثبت في الحوالة إن قلنا: إنها ليست معاوضة، وإن قلنا: معاوضة،
فكذا أيضا على الأصح، لأنها ليست على قواعد المعاوضات. ولا يثبت في الشفعة
للمشتري، وفي ثبوته للشفيع، وجهان. فإن أثبتناه، فقيل: معناه: أنه بالخيار
بين الاخذ والترك ما دام في المجلس مع تفريعنا على قول الفور. قال إمام
الحرمين: هذا غلط، بل الصحيح: أنه على الفور. ثم له الخيار في نقض الملك
ورده. ومن اختار عين ماله لافلاس المشتري، فلا خيار له، وفي وجه ضعيف: له
الخيار، ما دام في المجلس.
ولا خيار في الوقف كالعتق، ولا في الهبة إن لم يكن ثواب. فإن كان ثواب
مشروط، أو قلنا: يقتضيه الاطلاق، فلا خيار أيضا على الأصح، لأنه لا يسمى
بيعا، والحديث ورد في المتبايعين.
ويثبت الخيار في القسمة، إن كان فيها رد، وإلا، فإن جرت بالاجبار، فلا
خيار، وإن جرت بالتراضي، فإن قلنا: إنها إقرار، فلا خيار، وإن قلنا: بيع،
فكذا على الأصح.
النوع الثاني: العقد الوارد على المنفعة.
فمنه: النكاح، ولا خيار فيه، ولا خيار في الصداق على الأصح. فإن
102

أثبتناه، ففسخت، وجب مهر المثل. وعلى هذين الوجهين، ثبوت خيار المجلس
في عوض الخلع، ولا تندفع الفرقة بحال.
ومنه: الإجارة، وفي ثبوت خيار المجلس فيها، وجهان. أصحهما عند
صاحب المهذب وشيخه الكرخي: يثبت، وبه قال الإصطخري وصاحب
التلخيص، وأصحهما عند الامام وصاحب التهذيب والأكثرين: لا يثبت،
وبه قال أبو إسحاق وابن خيران. قال القفال في طائفة: الخلاف في إجارة العين.
أما الإجارة على الذمة، فيثبت فيها قطعا كالسلم. فإن أثبتنا الخيار في إجارة العين،
ففي ابتداء مدتها، وجهان. أحدهما: من وقت انقضاء الخيار بالتفرق.
فعلى هذا، لو أراد المؤجر أن يؤجره لغيره في مدة الخيار، قال الامام: لم
يجزه أحد فيما أظن، وإن كان محتملا في القياس. وأصحهما: أنها تحسب من
وقت العقد. فعلى هذا، على من تحسب مدة الخيار؟ إن كان قبل تسليم العين إلى
المستأجر، فهي محسوبة على المؤجر. وإن كانت بعده، فوجهان، بناء على أن
المبيع إذا هلك في يد المشتري في زمن الخيار، من ضمان من يكون؟ الأصح:
أنه من ضمان المشتري. فعلى هذا، يحسب على المستأجر، وعليه تمام الأجرة.
والثاني: من ضمان البائع. فعلى هذا، يحسب على المؤجر، ويحط من الأجرة
قدر ما يقابل تلك المدة.
وأما المساقاة، ففي ثبوت خيار المجلس فيها، طريقان. أصحهما: على
الخلاف في الإجارة. والثاني: القطع بالمنع، لعظم الغرر فيها، فلا يضم إليه غرر
الخيار. والمسابقة، كالإجارة، إن قلنا: إنها لازمة، وكالعقود الجائزة، إن قلنا:
جائزة.
فرع لو تبايعا بشرط نفي خيار المجلس، فثلاثة أوجه: أصحها: البيع
103

باطل، والثاني: أنه صحيح، ولا خيار. والثالث: صحيح، والخيار ثابت
ولو شرط نفي خيار الرؤية على قول صحة بيع الغائب، فالمذهب: أن البيع
باطل، وبه قطع الأكثرون. وطرد الامام، والغزالي فيه الخلاف. وهذا الخلاف،
يشبه الخلاف في شرط البراءة من العيوب. ويتفرع على نفي خيار المجلس ما إذا
قال لعبده: إن بعتك، فأنت حر، ثم باعه بشرط نفي الخيار، فإن قلنا: البيع
باطل، أو صحيح، ولا خيار، لم يعتق. وإن قلنا: صحيح، والخيار ثابت،
عتق، لان عتق البائع في مدة الخيار نافذ.
فصل فيما ينقطع به خيار المجلس وجملته: أن كل عقد ثبت فيه هذا
الخيار، فإنه ينقطع بالتخاير، وينقطع أيضا بأن يتفرقا بأبدانهما عن مجلس العقد.
أما التخاير، فهو أن يقولا: تخايرنا، أو اخترنا إمضاء العقد، أو أمضيناه، أو
أجزناه، أو ألزمناه، وما أشبهها. فلو قال أحدهما: اخترت إمضاءه، انقطع
خياره، وبقي خيار الآخر، كما إذا أسقط أحدهما خيار الشرط. وفي وجه ضعيف:
لا يبقى خيار الآخر، لان هذا الخيار لا يتبعض ثبوته، فلا يتبعض سقوطه. ولو قال
أحدهما لصاحبه: اختر أو خيرتك، فقال الآخر: اخترت، انقطع خيارهما. وإن
سكت، لم ينقطع خياره، وينقطع خيار القائل على الأصح، لأنه دليل الرضى. ولو
أجاز واحد، وفسخ الآخر، قدم الفسخ. ولو تقابضا في المجلس، وتبايعا العوضين
بيعا ثانيا، صح البيع الثاني أيضا على المذهب، وبه قطع الجمهور، لأنه رضى
بلزوم الأول. وقيل: إنه يبنى على أن الخيار، هل يمنع انتقال الملك؟ إن قلنا:
يمنع، لم يصح. ولو تقابضا في الصرف، ثم أجازا في المجلس، لزم العقد. فإن
أجازاه قبل التقابض، فوجهان. أحدهما: تلغو الإجازة، فيبقى الخيار. والثاني:
يلزم العقد، وعليهما التقابض. فإن تفرقا قبل التقابض، انفسخ العقد، ولا
يأثمان إن تفرقا عن تراض. وإن انفرد أحدهما بالمفارقة، أثم.
وأما التفرق، فأن يتفرقا بأبدانهما، فلو أقاما في ذلك لمجلس مدة متطاولة،
أو قاما وتماشيا مراحل، فهما على خيارهما. هذا هو الصحيح، وبه قطع
104

الجمهور. وحكي وجه: أنه لا يزيد على ثلاثة أيام. ووجه: أنهما لو شرعا في أمر
آخر، وأعرضا عما يتعلق بالعقد، وطال الفصل، انقطع الخيار. ثم الرجوع في
التفرق إلى العادة. فما عده الناس تفرقا، لزم به العقد. فلو كانا في دار صغيرة،
فالتفرق أن يخرج أحدهما منها، أو يصعد السطح. وكذا لو كانا في مسجد صغير،
أو سفينة صغيرة. فإن كانت الدار كبيرة، حصل التفرق بأن يخرج أحدهما من البيت
إلى الصحن، أو من الصحن إلى بيت أو صفة. وإن كانا في صحراء أو في سوق،
فإذا ولى أحدهما ظهره ومشى قليلا، حصل التفرق على الصحيح. وقال
الإصطخري: يشترط أن يبعد عن صاحبه بحيث لو كلمه على العادة من غير رفع
الصوت، لم يسمع كلامه. ولا يحصل التفرق، بأن يرخى ستر بينهما، أو يشق
نهر. ولا يحصل ببناء جدار بينهما من طين أو جص على الأصح. وصحن الدار
والبيت الواحد إذا تفاحش اتساعهما، كالصحراء.
فرع لو تناديا متباعدين، وتبايعا، صح البيع. قال الامام: يحتمل أن يقال: لا
خيار لهما، لان التفرق الطارئ يقطع الخيار، فالمقارن يمنع ثبوته. ويحتمل أن
يقال: يثبت ما داما في موضعهما، وبهذا قطع صاحب التتمة. ثم إذا فارق
أحدهما موضعه، بطل خياره. وهل يبطل خيار الآخر، أم يدوم إلى أن يفارق
مكانه؟ فيه احتمالان للامام.
قلت: الأصح: ثبوت الخيار، وأنه متى فارق أحدهما موضعه، بطل خيار
الآخر. ولو تبايعا وهما في بيتين من دار أو صحن وصفة، ينبغي أن يكونا
كالمتباعدين فيما ذكرنا، وأن يثبت الخيار حتى يفارق أحدهما. والله أعلم.
فرع لو مات أحدهما في المجلس، نص أن الخيار لوارثه، وقال في
المكاتب: إذا باع ومات في المجلس، وجب البيع. وللأصحاب ثلاث طرق.
أصحها: في المسألتين قولان. أظهرهما: يثبت الخيار للوارث والسيد، كخيار
الشرط والعيب. والثاني: يلزم، لأنه أبلغ من المفارقة بالبدن. والطريق الثاني:
105

يثبت لهما قطعا. وقوله في المكاتب: وجب البيع، معناه: لا يبطل، بخلاف
الكتابة. والثالث: تقرير النصين. والفرق، بأن الوارث خليفة الميت، بخلاف
السيد. وحكي قول مخرج من خيار المجلس في خيار الشرط: أنه لا يورث، وهو
شاذ. ولو باع العبد المأذون، أو اشترى، ومات في المجلس، فكالمكاتب. وكذا
الوكيل بالشراء إذا مات في المجلس، هل للموكل الخيار؟ فيه الخلاف كالمكاتب.
هذا إذا فرغنا على الصحيح أن الاعتبار بمجلس التوكيل. وفي وجه: يعتبر مجلس
الموكل، وهو شاذ. ثم إن لم يثبت الخيار للوارث، فقد انقطع خيار الميت. وأما
الحي، ففي التهذيب: أن خياره لا ينقطع حتى يفارق ذلك المجلس. وقال
الامام: يلزم العقد من الجانبين، ويجوز تقدير خلاف فيه، لما سبق أن هذا الخيار
لا يتبعض سقوطه كثبوته.
قلت: قول صاحب التهذيب أصح، وفيه وجه ثالث حكاه القاضي
حسين: يمتد حتى يجتمع هو والوارث. ورابع حكاه الروياني: أنه ينقطع خياره
بموت صاحبه. فإذا بلغ الخبر الوارث، حدث لهذا الخيار معه. والله أعلم.
وإن قلنا: يثبت الخيار للوارث، فإن كان حاضرا في المجلس، امتد الخيار
بينه وبين العاقد الآخر حتى يتفرقا أو يتخايرا. وإن كان غائبا، فله الخيار إذا وصل
الخبر إليه. وهل هو على الفور، أم يمتد امتداد مجلس بلوغ الخبر إليه؟ وجهان
كالوجهين في خيار الشرط إذا ورثه الوارث وبلغه الخبر بعد مضي مدة الخيار، ففي
وجه: يمتد كما كان يمتد للميت لو بقي. ومنهم من بناهما على وجهين في كيفية
ثبوته للعاقد الباقي. أحدهما: له الخيار ما دام في مجلس العقد. فعلى هذا، يكون
خيار الوارث في المجلس الذي يشاهد فيه المبيع. والثاني: يتأخر خياره إلى أن
يجتمع هو والوارث في مجلس، فحينئذ يثبت الخيار للوارث.
قلت: حاصل الخلاف في خيار المجلس للوارث الغائب، أربعة أوجه. منها
ثلاثة جمعها القاضي حسين. أصحها: يمتد الخيار حتى يفارق مجلس الخبر.
والثاني: حتى يجتمعا. والثالث: على الفور. والرابع: يثبت له الخيار إذا أبصر
المبيع، ولا يتأخر. والله أعلم.
فرع إذا ورثه اثنان فصاعدا، وكانوا حضورا في مجلس العقد، فلهم
106

الخيار إلى أن يفارقوا العاقد الآخر، ولا ينقطع بمفارقة بعضهم على الأصح. وإن
كانوا غائبين عن المجلس، قال في التتمة: إن قلنا في الوارث الواحد: يثبت
الخيار في مجلس مشاهدة المبيع، فلهم الخيار إذا اجتمعوا في مجلس واحد. وإن
قلنا: له الخيار إذا اجتمع هو والعاقد، فكذا لهم الخيار إذا اجتمعوا به. ومتى فسخ
بعضهم، وأجاز بعضهم، ففي وجه: لا ينفسخ في شئ والأصح: أنه ينفسخ في
الجميع، كالمورث إذا فسخ في حياته في البعض وأجاز في البعض.
قلت: وسواء فسخ بعضهم في نصيبه فقط، أو في الجميع. والله أعلم
فرع إذا حمل أحد المتعاقدين، فأخرج من المجلس مكرها، فإن منع
الفسخ بأن سد فمه، لم ينقطع خياره على المذهب. وقيل: وجهان كالقولين في
الموت، وهنا أولى ببقائه، لان إبطال حقه قهرا، بعيد. وإن لم يمنع الفسخ،
فطريقان. أحدهما: ينقطع. وأصحهما: على وجهين. أصحهما: لا ينقطع.
فإن قلنا: ينقطع خياره، انقطع أيصا خيار الماكث، وإلا، فله التصرف بالفسخ
والإجارة إذا تمكن. وهل هو على الفور؟ فيه الخلاف السابق. فإن قلنا: لا يتقيد
بالفور، وكان مستقرا حين زايله الاكراه في المجلس، امتد الخيار امتداد ذلك
المجلس. وإن كان مارا، فإذا فارق في مروره مكان التمكن، انقطع خياره، وليس
عليه الانقلاب إلى مجلس العقد ليجتمع بالعاقد الآخر إن طال الزمان. وإن قصر،
ففيه احتمال للامام. وإذا لم يبطل خيار المخرج، لم يبطل خيار الماكث أيضا إن
منع الخروج معه، وإلا، بطل على الأصح. ولو ضربا حتى تفرقا بأنفسهما، ففي
انقطاع الخيار قولان كحنث المكر. ولو هرب أحدهما ولم يتبعه الآخر مع
التمكن، بطل خيارهما، وإن لم يتمكن بطل خيار الهارب وحده، قاله في
التهذيب.
قلت: أطلق الفوراني، والمتولي، وصاحبا العدة والبيان وغيرهم:
أنه يبطل خيارهما بلا تفصيل، وهو الأصح، لأنه تمكن من الفسخ بالقول، ولان
107

الهارب فارق مختارا، بخلاف المكره، فإنه لا فعل له. والله أعلم.
فرع لو جن أحدهما، أو أغمي عليه، لم ينقطع الخيار، بل يقوم وليه أو
الحاكم مقامه، فيفعل ما فيه الحظ من الفسخ والإجازة. وفي وجه مخرج من
الموت: أنه ينقطع. ولو خرس أحدهما في المجلس، فإن كانت له إشارة
مفهومة، أو كتابة، فهو على خياره، وإلا، نصب الحاكم نائبا عنه.
فرع لو جاء المتعاقدان معا، فقال أحدهما: تفرقنا بعد البيع، فلزم،
وأنكر الثاني التفرق، وأراد الفسخ، فالقول قول الثاني مع يمينه، للأصل. ولو
اتفقا على التفرق، وقال أحدهما: فسخت قبله، وأنكر الآخر، فالقول قول المنكر
مع يمينه على الصحيح، وعلى الثاني: قول مدعي الفسخ، لأنه أعلم بتصرفه. ولو
اتفقا على عدم التفرق، وادعى أحدهما الفسخ، وأنكر الآخر، فدعواه الفسخ،
فسخ.
السبب الثاني للخيار: الشرط. يصح خيار الشرط بالاجماع، ولا يجوز
أكثر من ثلاثة أيام، فإن زاد، بطل البيع، ويجوز دون الثلاثة. فلو كان المبيع
مما يتسارع إليه الفساد، فهل يبطل البيع، أو يصح ويباع عند الاشراف على
الفساد، ويقام ثمنه مقامه؟ وجهان حكاهما صاحب البيان.
108

قلت: أصحهما: الأول. والله أعلم
ويشترط أن تكون المدة متصلة بالعقد. فلو شرطا خيار ثلاثة فما دونها من آخر
الشهر، أو متى شاءا، أو شرطا خيار الغد دون اليوم، بطل البيع. ولا يجوز شرط
الخيار مطلقا، ولا تقديره بمدة مجهولة. فإن فعل، بطل العقد، ولو شرطا الخيار
إلى وقت طلوع الشمس من الغد، جاز. ولو قالا: إلى طلوعها، قال الزبيري: لا
يجوز، لان السماء قد تغيم فلا تطلع، وهذا بعيد، فإن التغيم إنما يمنع من الاشراق
واتصال الشعاع، لا من الطلوع. واتفقوا على أنه يجوز أن يقول: إلى الغروب،
وإلى وقت الغروب.
قلت: الأصح: خلاف قول الزبيري. والله أعلم.
ولو تبايعا نهارا بشرط الخيار إلى الليل، أو عكسه، لم يدخل فيه الليل
والنهار، كما لو باع بألف إلى رمضان، لا يدخل رمضان في الأجل.
فرع لو باع عبدين بشرط الخيار في أحدهما لا بعينه، بطل البيع، كما لو
باع أحدهما لا بعينه. ولو شرط الخيار في أحدهما بعينه، ففيه قولا الجمع بين
مختلفي الحكم، وكذا لو شرط في أحدهما خيار يوم، وفي الآخر، يومين. فإن
صححنا البيع، ثبت الخيار فيما شرط كما شرط. ولو شرط الخيار فيهما، ثم أراد ا
لفسخ في أحدهما، فعلى قولي تفريق الصفقة في الرد بالعيب. ولو اشترى اثنان
شيئا من واحد صفقة واحدة بشرط الخيار، فلأحدهما الفسخ في نصيبه، كما في
الرد بالعيب. ولو شرط لأحدهما الخيار، دون الآخر، صح البيع على الأظهر.
فرع لو اشترى بشرط أنه إن لم ينقده الثمن في ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما،
أو باع بشرط أنه إن رد الثمن في ثلاثة أيام، فلا بيع بينهما، بطل البيع، كما لو تبايعا
بشرط أنه إن قدم زيد اليوم، فلا بيع بينهما، هذا هو الصحيح. وعن أبي إسحاق:
أنه يصح العقد، والمذكور في الصورة الأولى: شرط الخيار للمشتري. وفي
الثانية: شرط للبائع.
فرع قد اشتهر في الشرع، أن قوله: لا خلابة، عبارة عن اشتراط
109

الخيار ثلاثة أيام. فإذا أطلقاها عالمين بمعناها، كان كالتصريح بالاشتراط. وإن كانا
جاهلين، لم يثبت الخيار. فإن علم البائع دون المشتري، فوجهان.
قلت: الصحيح: أنه لا يثبت. والله إعلم.
فرع إذا شرطا الخيار ثلاثة أيام، ثم أسقطا اليوم الأول، سقط الكل.
فرع إذا تبايعا بشرط الخيار ثلاثة فما دونها، فابتداء المدة من وقت
العقد، أم من وقت التفرق، أو التخاير؟ فيه وجهان. أصحهما: الأول.
وأما ابتداء مدة الأجل، فإن جعلنا الخيار من العقد، فالأجل أولى، وإلا،
فوجهان. فإذا قلنا: ابتداء الخيار من العقد، فانقضت المدة وهما مصطحبان بعد،
انقطع خيار الشرط، وبقي خيار المجلس. وإن تفرقا والمدة باقية، فالحكم
بالعكس. ولو أسقطا أحد الخيارين، لم يسقط الآخر. ولو قالا: ألزمنا العقد، أو
أسقطنا الخيار مطلقا، سقطا. ولو شرطا الابتداء من وقت التفرق، بطل العقد على
الصحيح. وفي وجه يصح البيع والشرط. وأما إذا قلنا: ابتداء الخيار من
التفرق: فإذا تفرقا، انقطع خيار المجلس، واستؤنف خيار الشرط. ولو أسقطا
الخيار قبل التفرق، بطل خيار المجلس، ويبطل الآخر على الأصح، لأنه غير
ثابت. ولو شرطا ابتداءه من حين العقد، فوجهان. أصحهما: يصح العقد
والشرط. ولو شرطا الخيار بعد العقد وقبل التفرق، وقلنا بثبوته، فالحكم على الوجه
الثاني لا يختلف، وعلى الأول: يحسب من وقت الشرط، لا من وقت العقد، ولا
من التفرق.
فرع من له خيار الشرط، له فسخ العقد حضر صاحبه أو غاب، ولا يفتقر
نفوذ هذا الفسخ إلى الحاكم.
فصل فيما يثبت فيه خيار الشرط من العقود وما لا يثبت والقول
الجملي فيه: أنه مع خيار المجلس يتلازمان في الأغلب، لكن خيار المجلس أسرع
وأولى ثبوتا من خيار الشرط، فربما انفكا لذلك، فإذا أردت التفصيل فراجع ما سبق في خيار المجلس.
واعلم بأنهما متفقان في صورة الخلاف والوفاق، إلا أن البيوع التي يشترط فيها
110

التقابض في المجلس، كالصرف، وبيع الطعام بالطعام، أو القبض في أحد
العوضين، كالسلم، لا يجوز شرط الخيار فيها وإن ثبت خيار المجلس، وإلا أن
خيار الشرط لا يثبت في الشفعة بلا خلاف. وكذا في الحوالة على ما حكاه
العراقيون، وإلا أن الوجه الغريب المذكور في خيار المجلس للبائع لمفلس، لم
يطردوه هنا، وإلا أن في الهبة بشرط الثواب طريقة قاطعة تنفي خيار الشرط، وإلا أن
في الإجارة أيضا طريقة مثل ذلك. وحكم شرط الخيار في الصداق، مذكور في
كتاب الصداق.
فصل يجوز شرط الخيار للعاقدين ولأحدهما بالاجماع. ويجوز أن يشرط
لأحدهما يوم، وللآخر يومان أو ثلاثة. فإن شرطه لغيرهما، فإن كان الغير أجنبيا،
فقولان. أحدهما: يفسد البيع. وأظهرهما: يصح البيع والشرط، ويجري القولان
في بيع العبد بشرط الخيار للعبد.
ولا فرق على القولين بين أن يشرطا جميعا أو أحدهما الخيار لشخص واحد،
وبين أن يشرط هذا الخيار لواحد، وهذا لآخر. فإذا قلنا بالأظهر، ففي ثبوت الخيار
للشارط أيضا قولان، أو وجهان. أظهرهما، وهو ظاهر نصه في الصرف: أنه لا
يثبت، اقتصارا على الشرط. فإذا لم نثبت الخيار للعاقد مع الأجنبي، فمات
الأجنبي في زمن الخيار، ثبت له الآن على الأصح. وإن أثبتنا الخيار للعاقد مع
الأجنبي، فلكل واحد منهما الاستقلال بالفسخ. ولو فسخ أحدهما، وأجاز الآخر،
فالفسخ أولى. ولو اشترى شيئا على أن يؤامر فلانا، فيأتي بما يأمره به من الفسخ
والإجازة، فالمنصوص: أنه يجوز، وليس له الرد حتى يقول: استأمرته، فأمرني
بالفسخ. وتكلموا فيه من وجهين،
أحدهما: أنه لماذا شرط أن يقول: استأمرته؟ قال الذين خصوا الخيار
المشروط للأجنبي به: هذا جواب على المذهب الذي قلناه ومؤيد له. وقال
الآخرون: إنه مذكور احتياطا. والوجه الثاني: أنه أطلق في التصوير شرط
111

المؤامرة، فهل يحتمل ذلك؟ الصحيح: أنه لا يحتمل، واللفظ محمول على ما إذا
قيد المؤامرة بالثلاث فما دونها. وقيل: يحتمل الاطلاق والزيادة على الثلاث،
كخيار الرؤية. أما إذا كان ذلك الغير هو الموكل، فيثبت الخيار للموكل فقط،
وللوكيل بالبيع والشراء شرط الخيار للموكل على الأصح، لان ذلك لا يضره. وطرد
الشيخ أبو علي الوجهين في شرط الخيار لنفسه أيضا. وليس للوكيل في البيع شرط
الخيار للمشتري، ولا للوكيل في الشراء شرطه للبائع، فإن خالف، بطل العقد.
وإذا شرط الخيار لنفسه، وجوزناه، أو أذن فيه صريحا، ثبت له الخيار، ولا يفعل
إلا ما فيه الحظ للموكل، لأنه مؤتمن، بخلاف الأجنبي المشروط له الخيار، لا
يلزمه رعاية الحظ، هكذا ذكروه. ولقائل أن يجعل شرط الخيار له ائتمانا، وهذا
أظهر إذا جعلناه نائبا عن العاقد. ثم هل يثبت للموكل الخيار معه في هذه الصورة؟
فيه الخلاف المذكور فيما إذا شرط للأجنبي، هل يثبت للعاقد؟ وحكى الامام فيما
إذا أطلق الوكيل شرط الخيار بالاذن المطلق من الموكل، ثلاثة أوجه، أن الخيار
يثبت للوكيل، أو للموكل، أم لهما؟
قلت: أصحهما: للوكيل. ولو حضر الموكل مجلس العقد، فحجر على
الوكيل في خيار المجلس، فمنعه الفسخ والإجازة، فقد ذكر الغزالي كلاما معناه:
أن فيه احتمالين. أحدهما: يجب الامتثال، وينقطع خيار الوكيل، قال: وهو
مشكل، لأنه يلزم منه رجوع الخيار إلى الموكل، وهو مشكل. والثاني: لا
يمتثل، لأنه من لوازم السبب السابق، وهو البيع، ولكنه مشكل، لأنه يخالف شأن
الوكالة التي مقتضاها امتثال قول الموكل، وهذا الثاني أرجح، وهذا معنى كلام
الغزالي في البسيط والوسيط. وليس في المسألة خلاف وإن كانت عبارته
موهمة إثبات خلاف. والله أعلم.
فصل ملك المبيع في زمن الخيار لمن؟ فيه ثلاثة أقوال:
أحدها، للمشتري، والملك في الثمن للبائع. والثاني: للبائع، والملك في
الثمن للمشتري. والثالث: موقوف.
فإن تم البيع، بان حصول الملك للمشتري بنفس البيع، وإلا، بان أن ملك
البائع لم يزل. وكذا يتوقف في الثمن.
112

وفي موضع الأقوال، طرق. أحدها: أنها إذا كان الخيار لهما، إما بالشرط،
وإما بالمجلس. أما إذا كان لأحدهما، فهو مالك المبيع، لنفوذ تصرفه. والثاني:
أنه لا خلاف في المسألة، ولكن إن كان الخيار للبائع، فالملك له. وإن كان
للمشتري، فله. وإن كان لهما، فموقوف. وتنزل الأقوال على هذه الأحوال.
والثالث: طرد الأقوال في جميع الأحوال، وهو الأصح عند عامة الأصحاب، منهم
العراقيون، والحليمي. وأما الأظهر من الأقوال، فقال الشيخ أبو حامد ومن نحا
نحوه: الأظهر: أن الملك للمشتري، وبه قال الامام. وقال آخرون، الأظهر:
الوقف، وبه قال صاحب التهذيب، والأشبه: توسط ذكره جماعة، وهو أنه إن
كان الخيار للبائع، فالأظهر: بقاء الملك له. وإن كان للمشتري، فالأظهر: انتقاله
إليه. وإن كان لهما، فالأظهر: الوقف.
التفريع. لهذه الأقوال، فروع كثيرة.
منها: ما يذكر في أبوابه.
ومنها: ما يذكر هنا. فمن ذلك، كسب العبد والأمة المبيعين في زمن
الخيار، فإن تم البيع، فهو للمشتري إن قلنا: الملك له، أو موقوف. وإن قلنا:
للبائع، فوجهان. قال الجمهور: الكسب للبائع، لان الملك له عند حصوله. وقال
أبو علي الطبري: للمشتري. وإن فسخ البيع، فهو للبائع إن قلنا: الملك له، أو
موقوف. وإن قلنا: للمشتري، فوجهان. أصحهما: للمشتري. وقال أبو
إسحاق: للبائع.
وفي معنى الكسب: اللبن، والثمرة، والبيض، ومهر الجارية إذا وطئت
بشبهة.
ومنه النتاج، فإن فرض حدوث الولد وانفصاله في مدة الخيار لامتداد
المجلس، فهو كالكسب. وإن كانت الجارية أو البهيمة حاملا عند البيع، وولدت
في زمن الخيار، بني على أن الحمل هل يأخذ قسطا من الثمن؟ وفيه قولان.
أحدهما: لا، كأعضائها. فعلى هذا، هو كالكسب بلا فرق. وأظهرهما: نعم،
كما لو بيع بعد الانفصال مع الام. فعلى هذا، الحمل مع الام كعينين بيعتا معا.
فإن فسخ البيع، فهما للبائع، وإلا، فللمشتري.
113

ومنه العتق، فإذا أعتق البائع في زمن الخيار المشروط لهما، أو للبائع، نفذ
إعتاقه على كل قول. وإن أعتقه المشتري، فإن قلنا: الملك للبائع، لم ينفذ إن
فسخ البيع، وكذا إن تم على الأصح. وإن قلنا: موقوف، فالعتق أيضا موقوف،
فإن تم العقد، بان نفوذه، وإلا، فلا. وإن قلنا: الملك للمشتري، ففي العتق
وجهان. أصحهما وهو ظاهر النص: لا ينفذ، صيانة لحق البائع عن الابطال. وعن
ابن سريج: أنه ينفذ، لمصادفته الملك. ثم قيل بالنفوذ عنه مطلقا. وقيل: إنه
يفرق بين أن يكون موسرا، فينفذ، أو معسرا، فلا ينفذ، كالمرهون. فإن قلنا: لا
ينفذ، فاختار البائع الإجارة، ففي الحكم بنفوذه الآن، وجهان. وإن قلنا: ينفذ،
فمن وقت الإجازة، أم الاعتاق؟ وجهان. أصحهما: الأول. وإن قلنا بوجه ابن
سريج، ففي بطلان خيار البائع، وجهان. أحدهما: يبطل، وليس له إلا الثمن.
وأصحهما: لا يبطل، لكن لا يرد العتق، بل إذا فسخ، أخذ منه قيمة العبد،
كنظيره في الرد بالعيب. هذا كله إذا كان الخيار لهما، أو للبائع. أما إذا كان
للمشتري، فينفذ إعتاقه على جميع الأقوال، لأنه إما مصادف ملكه، وإما إجازة،
وليس فيه إبطال حق الغير. وإن أعتقه البائع، فإن قلنا: الملك للمشتري، لم
ينفذ، تم البيع أم فسخ. ويجئ فيما لو فسخ الوجه الناظر إلى المآل. وإن قلنا
بالوقف، لم ينفذ إن تم البيع، وإلا، نفذ. وإن قلنا: إنه للبائع، فإن اتفق
الفسخ، فهو نافذ، وإلا، فقد أعتق ملكه الذي تعلق به حق لازم، فهو كإعتاق
الراهن.
ومنه: الوطئ، فإن كان الخيار لهما، أو للبائع، ففي حله للبائع، طرق.
أحدها: أنا إن جعلنا الملك له، فهو حلال، وإلا، فوجهان. وجه الحل: أنه
يتضمن الفسخ، وفي ذلك عود الملك إليه معه، أو قبيله. والطريق الثاني: إن لم
نجعل الملك له، فحرام، وإلا، فوجهان. وجه التحريم: ضعف الملك، والطريق
الثالث: القطع بالحل مطلقا.
والمذهب من هذا كله: الحل، إن جعلنا الملك له، والتحريم، إن لم
نجعله له، ولا مهر عليه بحال.
114

وأما وطئ المشتري، فحرام قطعا، لأنه وإن ملك على قول، فملك ضعيف،
ولكن لا حد عليه على الأقوال، لوجود الملك أو شبهته. وهل يلزمه المهر؟ إن تم ا
لبيع، فلا، إن قلنا: الملك للمشتري أو موقوف. وإن قلنا: للبائع، وجب المهر
له على الصحيح. وقال أبو إسحاق: لا يجب، نظرا إلى المآل. وإن فسخ البيع،
وجب المهر للبائع إن قلنا: الملك له أو موقوف. وإن قلنا: للمشتري، فلا مهر
على الأصح. ولو أولدها، فالولد حر نسيب على الأقوال. وهل يثبت الاستيلاد؟ إن
قلنا: الملك للبائع، فلا. ثم إن تم البيع، أو ملكها بعد ذلك، ففي ثبوته حينئذ
قولان، كمن وطئ جارية غيره بشبهة ثم ملكها. وعلى وجه الناظر إلى المآل، إذا
تم البيع، نفذ الاستيلاد بلا خلاف. وعلى قول الوقف، إن تم البيع، بان ثبوت
الاستيلاد، وإلا، فلا. فلو ملكها يوما، عاد القولان. وعلى قولنا: الملك
للمشتري في ثبوت الاستيلاد، الخلاف المذكور في العتق. فإن لم يثبت في
الحال، وتم البيع، بان ثبوته.
ورتب الأئمة الخلاف في الاستيلاد على الخلاف في العتق، فقيل: الاستيلاد
أولى بالثبوت. وقيل: عكسه. وقال الامام: ولا يبعد القول بالتسوية. والقول في
وجوب قيمة الولد على المشتري، كالقول في المهر. أما إذا كان الخيار للمشتري
وحده، فحكم حل الوطئ كما سبق في حل الوطئ في طرف البائع إذا كان الخيار
لهما، أو له. وأما البائع، فيحرم عليه الوطئ هنا. فلو وطئ، فالقول في وجوب
المهر وثبوت الاستيلاد ووجوب القيمة كما ذكرناه في طرف المشتري، إذا كان الخيار
لهما، أو للبائع.
فرع إذا تلف المبيع بآفة سماوية في زمن الخيار، نظر، إن كان قبل
القبض، انفسخ العقد. وإن كان بعده وقلنا: الملك للبائع، انفسخ أيضا، فيسترد
الثمن، ويغرم للبائع القيمة. وفي القيمة، الخلاف المذكور في كيفية غرامة
المستعير والمستام. وإن قلنا: الملك للمشتري أو موقوف، فوجهان أو قولان.
أحدهما: ينفسخ أيضا، لحصول الهلاك قبل استقرار العقد. وأصحهما: لا
ينفسخ، لدخوله في ضمان المشتري بالقبض، ولا أثر لولاية الفسخ كما في خيار
العيب.
فإن قلنا بالانفساخ، فعلى المشتري القيمة. قال الامام: وهنا يقطع باعتبار
115

قيمة يوم التلف، لان الملك قبل ذلك لمشتري. وإن قلنا بعدم الانفساخ، فهل
ينقطع الخيار؟ وجهان. أحدهما: نعم، كما ينقطع خيار الرد بالعيب بتلف
المبيع. وأصحهما: لا، كما لا يمتنع التحالف بتلف المبيع، ويخالف الرد
بالعيب، لان الضرر ثم يندفع بالأرش، فإن قلنا بالأول، استقر العقد، ولزم
الثمن. وإن قلنا بالثاني، فإن تم العقد، لزم الثمن، وإلا، وجبت القيمة على
المشتري، واسترد الثمن. فإن تنازعا في تعيين القيمة، فالقول قول المشتري.
ومن الأصحاب من قطع بعدم الانفساخ وإن قلنا: الملك للبائع. وذكروا تفريعا:
على أنه لو لم ينفسخ حتى انقضى زمن الخيار، فعلى البائع رد الثمن، وعلى
المشتري القيمة. قال الامام: هذا تخليط ظاهر.
فرع لو قبض المشتري المبيع في زمن الخيار، وأتلفه متلف قبل
انقضائه، إن قلنا: الملك للبائع، انفسخ البيع كالتلف. وإن قلنا: للمشتري أو
موقوف، نظر، إن أتلفه أجنبي، بني على ما لو تلف. إن قلنا: ينفسخ العقد
هناك، فهو كإتلاف الأجنبي المبيع قبل القبض، وسيأتي حكمه إن شاء الله تعالى.
وإن قلنا: لا ينفسخ، وهو الأصح، فكذا هنا، وعلى الأجنبي القيمة، والخيار
بحاله. فإن تم البيع، فهي للمشتري، وإلا، فللبائع. وإن أتلفه المشتري، استقر
الثمن عليه. فإن أتلفه في يد البائع، وجعلنا إتلافه قبضا، فهو كما لو تلف في يده.
وإن أتلفه البائع في يد المشتري، ففي التتمة: أنه يبنى على أن إتلافه كإتلاف
الأجنبي، أم كالتلف بآفة سماوية؟ وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فرع لو تلف بعض المبيع في زمن الخيار بعد القبض، بأن اشترى
عبدين، فمات أحدهما، ففي الانفساخ في التالف، الخيار السابق. فإن انفسخ،
جاء في الانفساخ في الباقي قولا تفريق الصفقة. وإن لم ينفسخ، ففي خياره في
الباقي، إن قلنا: يجوز رد أحد العبدين إذا اشتراهما بشرط الخيار، وإلا، ففي بقاء
الخيار في الباقي، الوجهان. وإذا بقي الخيار فيه، ففسخ، رده مع قيمة الهالك.
فرع إذا قبض المبيع في زمن الخيار، ثم أودعه عند البائع، فتلف في
يده، فهو كما لو تلف في يد المشتري. حتى إذا فرعنا على الملك للبائع،
116

ينفسخ البيع، ويسترد الثمن، ويغرم القيمة، حكاه الامام عن الصيدلاني. ثم أبدى
احتمالا في وجوب القيمة لحصول التلف بعد العود إلى يد المالك.
فرع لا يجب على البائع تسليم المبيع، ولا على المشتري تسليم الثمن
في زمن الخيار. فلو تبرع أحدهما بالتسليم، لم يبطل خياره، ولا يجبر الآخر على
تسليم ما عنده، وله استرداد المدفوع. وقيل: ليس له استرداده، وله أخذ ما عند
صاحبه دون رضاه. والأول: أصح.
فرع لو اشترى زوجته بشرط الخيار، ثم خاطبها بالطلاق في زمن الخيار،
فإن تم العقد وقلنا: الملك للمشتري أو موقوف، لم يقع الطلاق. وإن قلنا:
للبائع، وقع. وإن فسخ وقلنا: للبائع أو موقوف، وقع. وإن قلنا: للمشتري،
فوجهان. وليس له الوطئ في زمن الخيار، لأنه لا يدري أيطأ بالملك، أو
بالزوجية؟ هذا هو الصحيح المنصوص. وفي وجه: له الوطئ.
فصل فيما يحصل به الفسخ والإجازة لا يخفى ما يحصلان به من
الألفاظ، كقول البائع: فسخت البيع، أو استرجعت المبيع، أو رددت الثمن.
وقال الصيمري: قول البائع في زمن الخيار: لا أبيع حتى يزيد في الثمن، وقول
المشتري: لا أفعل، فسخ، وكذا قول المشتري: لا أشتري حتى تنقص لي من
الثمن، وقول البائع: لا أفعل، وكذا طلب البائع حلول الثمن المؤجل، وطلب
المشتري تأجيل الثمن الحال.
فرع إذا كان للبائع خيار، فوطؤه المبيعة في زمن الخيار، فسخ على
الصحيح، لاشعاره باختيار الامساك. وفي وجه: لا يكون فسخا. وفي وجه: إنما
يكون فسخا إذا نوى به الفسخ. فعلى الصحيح، لو قبل أو باشر فيما دون الفرج، أو
لمس بشهوة، لا يكون فسخا على الأصح، وكذا الركوب والاستخدام. وقطع في
التهذيب بأن الجميع فسخ.
فرع إعتاق البائع إن كان له الخيار، فسخ بلا خلاف. وفي بيعه،
117

وجهان. أصحهما: أنه فسخ. فعلى هذا، في صحة البيع المأتي به، وجهان.
أصحهما: الصحة، كالعتق. ويجري هذا الخلاف في الإجارة والتزويج، وكذا
في الرهن والهبة إن اتصل بهما القبض، وسواء وهب لمن لا يتمكن من الرجوع في
هبته، أو يتمكن، كولده. فإن تجرد الرهن والهبة عن القبض، فهو كالعرض على
البيع، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
فرع إذا علم البائع أن المشتري يطأ الجارية، وسكت عليه، هل يكون
مجيزا؟ وجهان. أصحهما: لا، كما لو سكت على بيعه وإجارته، وكما لو سكت
على وطئ أمته، لا يسقط به المهر. ولو وطئ بالاذن، حصلت الإجازة، ولم يجب
على المشتري مهر ولا قيمة ولد، وثبت الاستيلاد قطعا. وما سبق في الفصل
الماضي، مفروض فيما إذا لم يأذن له البائع في الوطئ ولا علم به.
فرع وطئ المشتري، هل هو إجازة منه؟ وجهان. أصحهما: نعم،
وإعتاقه إن كان بإذن البائع، نفذ، وحصلت الإجازة في الطرفين، وإلا، ففي نفوذه
ما سبق. فإن نفذ، حصلت الإجازة، وإلا، فوجهان. أصحهما: الحصول،
لدلالته على اختيار التملك. قال الامام: ويتجه أن يقال: إن أعتق وهو يعلم عدم
نفوذه، لم يكن إجازة قطعا. وإن باع، أو وقف، أو وهب وأقبض بغير إذن البائع
لم ينفذ قطعا، ولكن يكون إجازة على الأصح. ولو باشر هذه التصرفات بإذن
البائع، أو باع للبائع نفسه، صح على الأصح. قال ابن الصباغ: وعلى الوجهين
جميعا، يلزم البيع، ويسقط الخيار. وقياس ما سبق: أنا إذا لم ننفذها، كان
سقوط الخيار على وجهين. ولو أذن له البائع في طحن الحنطة المبيعة، فطحنها،
كان مجيزا. ومجرد الاذن في هذه التصرفات، لا يكون إجازة من البائع، حتى لو
رجع قبل التصرف، كان على خياره، ذكره الصيدلاني وغيره.
فرع في العرض على البيع والاذن والتوكيل فيه وجهان - وكذا في
الرهن والهبة، دون القبض -. أحدهما: أنها كلها فسخ من جهة البائع، وإجازة من
118

جهة المشتري. وأصحهما: أنها ليست فسخا، ولا إجازة.
ولو باع المبيع في زمن الخيار بشرط الخيار، قال الامام: إن قلنا: لا يزول
ملك البائع، فهو قريب من الهبة الخالية من القبض، وإن قلنا: يزول، ففيه
احتمال، لأنه أبقى لنفسه مستدركا.
فرع لو اشترى عبدا بجارية، ثم أعتقهما معا، نظر، إن كان الخيار لهما،
عتقت الجارية، بناء على ما سبق أن إعتاق البائع نافذ متضمن للفسخ، ولا يعتق
العبد المشتري وإن جعلنا الملك فيه لمشتريه، لما فيه من إبطال حق صاحبه على
الأصح. وعلى الوجه القائل بنفاذ إعتاق المشتري، تفريعا على أن الملك
للمشتري، يعتق العبد، ولا تعتق الجارية. وإن كان الخيار لمشتري العبد، فثلاثة
أوجه. أصحها: يعتق العبد، لأنه إجازة. والأصل: استمرار العقد. والثاني:
تعتق الجارية، لان عتقها فسخ، فقدم على الإجازة. ولهذا لو فسخ أحد
المتبايعين، وأجاز الآخر، قدم الفسخ. والثالث: لا يعتق واحد منهما. وإن كان
الخيار لبائع العبد وحده، فالمعتق بالإضافة إلى العبد مشتر، والخيار لصاحبه،
وبالإضافة إلى الجارية بائع. وقد سبق الخلاف في إعتاقهما والذي يفتى به: أنه
119

لا ينفذ العتق في واحد منهما في الحال. فإن فسخ صاحبه، نفذ في الجارية،
وإلا، ففي العبد. ولو كانت المسألة بحالها وأعتقهما مشتري الجارية، فقس
الحكم بما ذكرناه، وقل: إن كان الخيار لهما، عتق العبد دون الجارية على
الأصح. وإن كان للمعتق وحده، فعلى الأوجه الثلاثة. في الأول: يعتق العبد،
وفي الثاني: الجارية، ولا يخفى الثالث.
باب خيار النقيصة
هو منوط بفوات شئ من المعقود عليه كان يظن حصوله، وذلك الظن من أحد
ثلاثة أمور. أولها: شرط كونه بتلك الصفة. وثانيها: اطراد العرف بحصولها فيه.
وثالثها: أيفعل العاقد ما يورث ظن حصولها.
فالأول: من أسباب الظن: كقوله: بعت هذا العبد بشرط كونه كاتبا.
والصفات الملتزمة بالشرط، قسمان.
أحدهما: يتعلق به غرض مقصود، فالخلف فيها يثبت الخيار وفاقا، أو على
خلاف فيه، وذلك بحسب قوة الغرض وضعفه.
والثاني: لا يتعلق به غرض مقصود، فاشتراطه لغو، ولا خيار بفقده. فإذا
شرط كون العبد كاتبا أو خبازا أو صائغا، فهو من القسم الأول. ويكفي أن يوجد من
الصفة المشروطة ما ينطلق عليه الاسم، ولا تشترط النهاية فيها. ولو شرط إسلام
العبد، فبان كافرا، أو شرط كون الجارية يهودية أو نصرانية، فبانت مجوسية، ثبت
الخيار.
ولو شرط كفره، فبان مسلما، ثبت الخيار على الصحيح. وقيل: إن كان
قريبا من بلاد الكفر، أو في ناحية أغلب أهلها الذميون، ثبت الخيار، وإلا، فلا.
وقال المزني: لا خيار أصلا.
ولو شرط بكارة الجارية، فبانت ثيبا، فله الرد، سواء كانت مزوجة، أم لا.
120

وقال أبو إسحاق: لا خيار إن كانت مزوجة، لان الافتضاض حق للزوج.
والصحيح: الأول، لأنه قد يطلقها. ولو شرط ثيابتها، فبانت بكرا، أو شرط
سبوطة شعرها، فبان جعدا، فلا خيار على الأصح، لأنها أفضل، كما لو شرط كون
العبد أميا، فبان كاتبا، أو كونه فاسقا، فبان عفيفا. ولو شرط الجعودة، فبان
سبطا، ثبت الخيار.
ولو شرط كون العبد خصيا، فبان فحلا أو عكسه، فله الرد، لشدة اختلاف
الأغراض. وقيل: لا رد في الصورة الأولى. ولو شرط كونه مختونا، فبان أقلف،
فله الرد، وبالعكس لا رد. وقال في التتمة: إلا أن يكون العبد مجوسيا. وهناك
مجوس يشترون الأقلف بزيادة، فله الرد. ولو شرط كونه أحمق أو ناقص الخلقة،
فهو لغو.
وخيار الخلف على الفور، فيبطل بالتأخير كما سنذكر في العيب إن شاء الله
تعالى.
ولو تعذر الرد بهلاك وغيره، فله الأرش كما في العيب.
ومسائل الفصل كلها مبنية على أن الخلاف في الشرط لا يفسد البيع. وحكي
قول ضعيف: أنه يفسده.
الثاني من أسباب الظن: اطراد العرف. فمن اشترى شيئا، فوجده معيبا،
فله الرد. ومن باع شيئا يعلم به عيبا، وجب عليه بيانه للمشتري.
قلت: ويجب أيضا على غير البائع ممن علمه إعلام المشتري. والله أعلم.
فمن العيوب: الخصاء، والجب، والزنا، والسرقة في العبيد والإماء،
والإباق، والبخر والصنان فيهما. والبخر الذي هو عيب، هو الناشئ من تغير
121

المعدة، دون ما يكون لقلح الأسنان، فإن ذلك يزول بتنظيف الفم. والصنان الذي
هو عيب، هو المستحكم الذي يخالف العادة، دون ما يكون لعارض عرق، أو
حركة عنيفة، أو اجتماع وسخ. ونص الأصحاب على أنه لو زنا مرة واحدة في يد
البائع، فللمشتري الرد وإن تاب وحسنت حاله، لان تهمة الزنا لا تزول، ولهذا لا
يعود إحصان الحر الزاني بالتوبة، وكذلك الإباق والسرقة، يكفي في كونهما عيبا
مرة واحدة.
ومن العيوب: كون الدار أو الضيعة منزل الجند. قال القاضي حسين في فتاويه:
هذا إذا اختصت من بين ما حواليها بذلك، فإن كان ما حواليها من الدور
بمثابتها، فلا رد، وكونها ثقيلة الخراج، عيب، وإن كنا لا نرى أصل الخراج في
تلك البلاد، لتفاوت القيمة والرغبة. ونعني بثقل الخراج، كونه فوق المعتاد في
أمثالها. وفي وجه: لا رد بثقل الخراج، ولا بكونها منزل الجند. وألحق في
التتمة بهاتين الصورتين، ما إذا اشترى دارا، فوجد بقربها قصارين يؤذون بصوت
الدق، ويزعزعون الأبنية، أو أرضا فوجد بقربها خنازير تفسد الزرع.
ولو اشترى أرضا يتوهم أن لا خراج عليها، فبان خلافه، فإن لم يكن على
مثلها خراج، فله الرد. وإن كان على مثلها ذلك القدر، فلا رد. وبول الرقيق في
122

الفراش، عيب في العبد والأمة، إذا كان في غير أوانه. أما في الصغر، فلا.
وقدره في التهذيب بما دون سبع سنين. والأصح: اعتبار مصيره عادة.
ومن العيوب: مرض الرقيق وسائر الحيوانات، سوى المرض المخوف
وغيره.
ومنها: كون الرقيق مجنونا، أو مخبلا، أو أبله، أو أبرص، أو مجذوما، أو
أشل، أو أقرع، أو أصم، أو أعمى، أو أعور، أو أخفش، أو أجهر، أو أعشى،
أو أخشم، أو أبكم، أو أرت لا يفهم، أو فاقد الذوق أو أنملة أو الشعر أو الظفر، أو
له أصبع زائدة، أو سن شاغية، أو مقلوع بعض الأسنان، وكون البهيمة درداء، إلا
في السن المعتاد، وكونه ذا قروح، أو ثآليل كثيرة، أو بهق، أو أبيض الشعر في غير
أوانه، ولا بأس بحمرته.
قلت: البهق - بفتح الباء الموحدة والهاء - وهو بياض يعتري الجلد يخالف
لونه، ليس ببرص.
وأما السن الشاغية، فهي الزائدة المخالفة لنبات الأسنان. والأخفش،
نوعان. أحدهما: ضعيف البصر خلقة. والثاني: يكون بعلة حدثت، وهو الذي
يبصر بالليل دون النهار، وفي يوم الغيم دون الصحو، وكلاهما عيب. وأما الأجهر -
بالجيم - فهو الذي لا يبصر في الشمس. والأعشى: هو الذي يبصر بالنهار، ولا
يبصر بالليل. والمرأة عشواء. والأخشم: الذي في أنفه داء لا يشم شيئا. وتقدم
بيان الأرت في صفة الأئمة. والله أعلم.
ومنها: كونه نماما، أو ساحرا، أو قاذفا للمحصنات، أو مقامرا، أو تاركا
للصلوات، أو شاربا للخمر. وفي وجه ضعيف: لا رد بالشرب وترك الصلاة.
ومنها: كونه خنثى مشكلا، أو غير مشكل. وفي وجه ضعيف: إن كان رجلا
ويبول من فرج الرجال، فلا رد
123

ومنها: كون العبد مخنثا، أو ممكنا من نفسه، وكون الجارية رتقاء، أو
قرناء، أو مستحاضة، أو معتدة، أو محرمة، أو مزوجة، وكون العبد مزوجا. وفي
التزويج، وجه ضعيف.
قلت: إذا أحرم بإذن السيد، فللمشتري الخيار، وإلا، فلا، لان له
تحليله، كالبائع، وقد قدمنا هذا في آخر كتاب الحج. والله أعلم.
ومنها: تعلق الدين برقبتهما، ولا رد بما يتعلق بالذمة.
ومنها: كونهما مرتدين، فلو بانا كافرين أصليين، فقيل: لا رد، لا في
العبد، ولا في الإماء، سواء كان ذلك الكفر مانعا من الاستمتاع، كالتمجس
والتوثن، أو لم يكن، كالتهود، وبهذا قطع صاحب التتمة. والأصح ما في
التهذيب: أنه إن وجد الجارية مجوسية، أو وثنية، فله الرد، وإن وجدها
كتابية، أو وجد العبد كافرا أي كفر كان، فلا رد إن كان قريبا من بلاد الكفر، بحيث
لا تقل الرغبة فيه. وإن كان في بلاد الاسلام، حيث تقل الرغبة في الكافر وتنقص
قيمته، فله الرد. ولو وجد الجارية لا تحيض وهي صغير، أو آيسة، فلا رد. وإن
كانت في سن تحيض النساء في مثلها غالبا، فله الرد.
ولو تطاول طهرها، وجاوز العادات الغالبة، فله الرد. والحمل في الجارية
عيب وفي سائر الحيوان، ليس بعيب على الصحيح. وقال في التهذيب:
عيب.
ومن العيوب: كون الدابة جموحا، أو عضوضا، أو رموحا، وكون
124

الماء مشمسا، والرمل تحت الأرض إن كانت مما تطلب للبناء، والأحجار إن كانت
مما تطلب للزرع والغرس. وليست حموضة الرمان بعيب، بخلاف البطيخ.
فرع لا رد بكون الرقيق رطب الكلام، أو غليظ الصوت، أو سيئ
الأدب، أو ولد زنا، أو مغنيا، أو حجاما، أو أكولا، أو قليل الاكل. وترد الدابة
بقلة الاكل. ولا بكون الأمة ثيبا، إلا إذا كانت صغيرة والمعهود في مثلها البكارة،
وإلا بكونها عقيما، وكون العبد عنينا. وعن الصيمري، إثبات الرد بالتعنين، وهو
الأصح عند الامام. ولا بكون الأمة مختونة، أو غير مختونة، ولا بكون العبد
مختونا، أو غير مختون، إلا إذا كان كبيرا يخاف عليه من الختان. وفي وجه: لا
تستثنى هذه الحالة أيضا. ولا بكون الرقيق ممن يعتق على المشتري، ولا بكون
الأمة أخته من الرضاع، أو النسب، أو موطوءة أبيه، أو ابنه، بخلاف المحرمة
والمعتدة، لان التحريم هناك عام، فتقل الرغبة، وهنا خاص به. وفي وجه: يلحق
ما نحن فيه بالمحرمة والمعتدة. ولا أثر لكونها صائمة على الصحيح. وفي وجه:
باطل.
ولو اشترى شيئا، فبان أن بائعه باعه بوكالة، أو وصاية، أو ولاية، أو
أمانة، فهل له الرد لخطر فساد النيابة؟ وجهان.
قلت: الأصح: أنه لا رد. والله أعلم.
ولو بان كون العبد مبيعا في جناية عمد، وقد تاب عنها، فوجهان. فإن لم
يتب، فعيب. وجناية الخطأ، ليست بعيب، إلا أن يكثر.
فرع من العيوب: نجاسة المبيع إذا كان ينقص بالغسل.
ومنها: خشونة مشي الدابة، بحيث يخاف منها السقوط، وشرب البهيمة لبن
نفسها.
125

فرع ذكر القاضي أبو سعد بن أحمد في شرح أدب القاضي لأبي
عاصم العبادي، فصلا في عيوب العبيد والجواري. منها: اصطكاك الكعبين،
وانقلاب القدمين إلى الوحشي، والخيلان الكثيرة، وآثار الشجاج والقروح والكي،
وسواد الأسنان، والكلف المغير للبشرة، وذهاب الأشفار، وكون أحد ثديي الجارية
أكبر من الآخر، والحفر في الأسنان، وهو تراكم الوسخ الفاحش في أصولها.
قلت: في فتاوي الغزالي: إذا اشترى أرضا، فبان أنها تنز إذا زادت دجلة،
وتضر بالزرع، فله الرد إن قلت الرغبة بسببه. والله أعلم.
هذا ما حضر ذكره من العيوب، ولا مطمع في استيعابها. فإن أردت ضبطا،
فأشد العبارات ما أشار إليه الامام رحمه الله، وهو أن يقال: يثبت الرد بكل ما في
المعقود عليه من منقص العين، أو القيمة تنقيصا يفوت به غرض صحيح، بشرط أن
يكون الغالب في أمثاله عدمه، وإنما اعتبرنا نقص العين لمسألة الخصاء. وإنما
لم نكتف بنقص العين، بل شرطنا فوات غرض صحيح، لأنه لو قطع من فخذه أو
ساقه قطعة يسيرة لا تورث شينا ولا تفوت غرضا، لا يثبت الرد. ولهذا قال صاحب
التقريب: إن قطع من أذن الشاة ما يمنع التضحية، ثبت الرد، وإلا، فلا.
وإنما اعتبرنا الشرط المذكور، لان الثيابة مثلا في الإماء، معنى ينقص القيمة، لكن
لا رد بها، لأنه ليس الغالب فيهن عدم الثيابة.
فصل العيب ينقسم إلى ما كان موجودا قبل البيع، فيثبت به الرد، وإلى ما
126

حدث بعده، فينظر، إن حدث قبل القبض، فكمثل. وإن حدث بعده، فله
حالان. أحدهما: أن لا يستند إلى سبب سابق على القبض، فلا رد به. والثاني:
أن يستند، وفيه صور.
إحداها: بيع المرتد صحيح على الصحيح، كالمريض المشرف على
الهلاك. وفي وجه: لا يصح كالجاني.
وأما القاتل في المحاربة، فإن تاب قبل الظفر به، فبيعه كبيع الجاني،
لسقوط العقوبة المتحتمة. وكذا إن تاب بعد الظفر وقلنا بسقوط العقوبة، وإلا،
فثلاث طرق. أصحها: أنه كالمرتد، والثاني: القطع بأنه لا يصح بيعه، إذ لا
منفعة فيه لاستحقاق قتله، بخلاف المرتد فإنه قد يسلم. والثالث: أنه كبيع
الجاني. فإن صححنا البيع في هذه الصور، فقتل المرتد، أو المحارب، أو
الجاني جناية توجب القصاص، نظر، إن كان ذلك قبل القبض، انفسخ البيع، وإن
كان بعده، وكان المشتري جاهلا بحاله، فوجهان. أحدهما: أنه من ضمان
المشتري. وتعلق القتل به، كالعيب. فإذا هلك، رجع على البائع بالأرش، وهو
ما بين قيمته مستحق القتل، وغير مستحقه من الثمن. وأصحهما: أنه من ضمان
البائع، فيرجع المشتري عليه بجميع الثمن، ويخرج على الوجهين مؤنة تجهيزه من
الكفن والدفن وغيرهما. ففي الأول: هي على المشتري. وفي الثاني: على
البائع. وإن كان المشتري عالما بالحال عند الشراء، أو تبين له بعد الشراء، ولم
يرد، فعلى الوجه الأول: لا يرجع بشئ كسائر العيوب. وعلى الثاني: وجهان.
أحدهما: يرجع بجميع الثمن. وأصحهما: لا يرجع بشئ، لدخوله في العقد
على بصيرة، وإمساكه مع العلم بحاله.
127

قلت: قال صاحب التلخيص: كل ما جاز بيعه، فعلى متلفه القيمة، إلا
في مسألة، وهو العبد المرتد يجوز بيعه، ولا قيمة على متلفه. قال القفال: هذا
صحيح، لا قيمة على متلفه، لأنه مستحق الاتلاف. قال: وكذا العبد إذا قتل
في قطع الطريق، فقتله رجل، فلا قيمة عليه، لأنه مستحق القتل. قال: فهذا
يجوز بيعه، ولا قيمة على متلفه، فهذه صورة ثانية. والله أعلم.
الصورة الثانية: بيع من وجب قطعه بقصاص أو سرقة، صحيح بلا خلاف.
فلو قطع في يد المشتري، عاد التفصيل المذكور في الصورة السابقة. فإن كان
جاهلا بحاله حتى قطع، فعلى الوجه الأول: ليس له الرد، لكون القطع من
ضمانه، لكن يرجع على البائع بالأرش، وهو ما بين قيمته مستحق القطع وغير
مستحقه من الثمن. وعلى الأصح: له الرد واسترجاع جميع الثمن، كما لو قطع في
يد البائع. فلو تعذر الرد بسبب، فالنظر في الأرش على هذا الوجه إلى التفاوت بين
العبد سليما وأقطع. وإن كان المشتري عالما، فليس له الرد ولا الأرش.
الثالثة: إذا اشترى مزوجة لم يعلم حالها حتى وطئها الزوج بعد القبض، فإن
كانت ثيبا، فله الرد. وإن كانت بكرا، فنقص الافتضاض من ضمان البائع أو
المشتري؟ فيه الوجهان. إن جعلناه من ضمان البائع، فللمشتري الرد بكونها
مزوجة. فإن تعذر الرد بسبب، رجع بالأرش، وهو ما بين قيمتها بكرا غير مزوجة
ومزوجة مفتضة من الثمن. وإن جعلناه من ضمان المشتري، فلا رد له، وله
الأرش، وهو ما بين قيمتها بكرا غير مزوجة وبكرا مزوجة من الثمن. وإن كان عالما
128

بزواجها، أو علم ورضي، فلا رد له. فإن وجد بها عيبا قديما بعد ما افتضت في
يده، فله الرد إن جعلناه من ضمان البائع، وإلا، رجع بالأرش، وهو ما بين قيمتها
مزوجة ثيبا سليمة ومثلها معيبة
الرابعة: لو اشترى عبدا مريضا، واستمر مرضه إلى أن مات في يد
المشتري، فطريقان. أحدهما: أنه على الخلاف في الصورة السابقة، وبه قال
الحليمي. وأصحهما وأشهرهما: القطع بأنه من ضمان المشتري، لان المرض
يتزايد، والردة خصلة واحدة وجدت في يد البائع. فعلى هذا، إن كان جاهلا،
رجع بالأرش، وهو ما بين قيمته صحيحا ومريضا. وتوسط صاحب التهذيب بين
الطريقين، فقطع فيما إذا لم يكن المرض مخوفا، بأنه من ضمان المشتري، وجعل
المرض المخوف والجرح الساري على الوجهين.
الثالث من أسباب الظن: الفعل المغرر.
والأصل فيه: التصرية، وهي أن يربط أخلاف الناقة، أو غيرها، ويترك حلبها
يوما فأكثر حتى يجتمع اللبن في ضرعها، فيظن المشتري غزارة لبنها، فيزيد في
ثمنها. وهذا الفعل حرام، لما فيه من التدليس، ويثبت به الخيار للمشتري.
وفي خياره، وجهان. أصحهما: أنه على الفور. والثاني: يمتد إلى ثلاثة أيام.
ولو عرف التصرية قبل ثلاثة أيام بإقرار البائع أو ببينة، فخياره على الفور على
الوجه الأول. وعلى الثاني: يمتد إلى آخر الثلاثة.
129

وهل ابتداؤها من العقد أو من التفرق؟ فيه الوجهان في خيار الشرط. ولو
عرف التصرية في آخر الثلاثة أو بعدها، فعلى الوجه الثاني: لا خيار، لامتناع
مجاوزة الثلاثة. وعلى الأول: يثبت على الفور قطعا.
ولو اشترى عالما بالتصرية، فله الخيار
على الثاني، للحديث، ولا خيار على الأول كسائر العيوب
فرع إن علم التصرية قبل الحلب، ردها ولا شئ عليه. وإن كان بعده،
فإن كان اللبن باقيا، لم يكلف المشتري رده مع المصراة، لان ما حدث بعد البيع،
ملكه، وقد اختلط بالمبيع، وتعذر التمييز. وإذا أمسكه، كان كما لو تلف. فإن
أراد رده، فهل يجبر عليه البائع؟ وجهان. أحدهما: نعم، لأنه أقرب من بدله.
وأصحهما: لا، لذهاب طراوته. ولا خلاف، أنه لو حمض، لم يكلف أخذه.
وإن كان تالفا، فيرد مع المصراة صاعا من تمر. وهل يتعين جنس التمر وقدر
الصاع؟ أما الجنس، فالأصح: أنه يتعين التمر. فإن أعوز، قال الماوردي: رد
قيمته بالمدينة. والثاني: لا يتعين. فعلى هذا، وجهان. أصحهما: القائم مقامه
الأقوات، كصدقة الفطر.
قال الامام: ولا يتعدى هنا إلى الأقط. وعلى هذا، وجهان. أحدهما:
يتخير بين الأقوات. وأصحهما: الاعتبار بغالب قوت البلد. والوجه الثاني: يقوم
مقامه أيضا غير الأقوات. حتى لو عدل إلى مثل اللبن، أو قيمته عند إعواز المثل،
أجبر البائع على القبول كسائر المتلفات. وهذا كله إذا لم يرض البائع، فأما لو
تراضيا بغير التمر من قوت أو غيره، أو على رد اللبن المحلوب عند بقائه، فيجوز بلا
خلاف، كذا قاله في التهذيب وغيره. وذكر ابن كج وجهين في جواز إبدال التمر
بالبر إذا تراضيا. وأما القدر، فوجهان. أصحهما: الواجب صاع، قل اللبن أو
كثر، للحديث. والثاني: يتقدر الواجب بقدر اللبن. وعلى هذا، فقد يزيد
الواجب على الصاع، وقد ينقص. ثم منهم من خص هذا الوجه بما إذا زادت قيمة
130

الصاع على نصف قيمة الشاة، وقطع بوجوب الصاع إذا نقصت عن النصف، ومنهم
من أطلقه. ومتى قلنا بالثاني، قال الامام: تعتبر القيمة الوسط للتمر بالحجاز،
وقيمة مثل ذلك الحيوان بالحجاز. فإذا كان اللبن عشر الشاة مثلا، أوجبنا من الصاع
عشر قيمة الشاة.
فرع لو اشترى شاة بصاع تمر، فوجدها مصراة، فعلى الأصح: يردها
وصاعا، ويسترد الصاع الذي هو ثمن. وعلى الثاني: تقوم مصراة وغير مصراة،
ويجب بقدر التفاوت من الصاع.
فرع غير المصراة إذا حلب لبنها، ثم ردها بعيب، قال في التهذيب:
رد بدل اللبن كالمصراة. وفي تعليق أبي حامد حكاية عن نصه: أنه لا يرده، لأنه
قليل غير معتنى بجمعه، بخلاف المصراة. ورأي الامام تخريج ذلك على أن
اللبن، هل يأخذ قسطا من الثمن، أم لا؟ والصحيح: الاخذ.
فرع لو لم يقصد البائع التصرية، لكن ترك الحلب ناسيا، أو لشغل
عرض، أو تصرت بنفسها، ففي ثبوت الخيار وجهان. أحدهما: لا، وبه قطع
الغزالي لعدم التدليس. وأصحهما عند صاحب التهذيب: نعم، لحصول
الضرر.
فرع خيار التصرية، يعم الحيوانات المأكولة. وفي وجه شاذ: يختص
بالنعم. ولو اشترى أتانا فوجدها مصراة، فأوجه. الصحيح: أنه يردها، ولا يرد
للبن شيئا، لأنه نجس. والثاني: يردها ويرد بدله، قاله الإصطخري، لذهابه إلى
أنه طاهر مشروب. والثالث: لا يردها لحقارة لبنها. ولو اشترى جارية،
فوجدها مصراة، فأوجه. أصحها: يرد، ولا يرد بدل اللبن، لأنه لا يعتاض عنه
غالبا. والثاني: يرد، ويرد بدله. والثالث: لا يرد، بل يأخذ الأرش.
فرع هذا الخيار، غير منوط بالتصرية لذاتها، بل لما فيها من التلبيس،
فيلتحق بها ما يشاركها فيه. حتى لو حبس ماء القناة، أو الرحى، ثم أرسله عند
البيع أو الإجارة، فظن المشتري كثرته، ثم تبين له الحال، فله الخيار. وكذا لو
131

حمر وجه الجارية، أو سود شعرها، أو جعده، أو أرسل الزنبور على وجهها، فظنها
المشتري سمينة، ثم بان خلافه، فله الخيار.
ولو لطخ ثوب العبد بالمداد، أو ألبسه ثوب الكتاب، أو الخبازين، وخيل
كونه كاتبا، أو خبازا، فبان خلافه، أو أكثر علف البهيمة حتى انتفخ بطنها، فظنها
المشتري حاملا، أو أرسل الزنبور في ضرعها فانتفخ وظنها لبونا، فلا خيار على ا
لأصح، لتقصير المشتري.
فرع لو بانت التصرية، لكن در اللبن على الحد الذي أشعرت به
التصرية، واستمر كذلك، ففي ثبوت الخيار، وجهان كالوجهين فيما إذا لم يعرف
العيب القديم، إلا بعد زواله، وكالقولين فيما لو عتقت الأمة تحت عبد ولم يعلم
عتقها حتى عتق الزوج.
فرع رضي بإمساك المصراة، ثم وجد بها عيبا قديما، نص أنه يردها ويرد
بدل اللبن، وهو المذهب. وقيل: هو كمن اشترى عبدين فتلف أحدهما، وأراد رد
الآخر، فيخرج على تفريق الصفقة.
فرع الخيار في تلقي الركبان مستنده التعزير، كالتصرية. وكذا خيار
النجش إن أثبتناه. وقد سبق بيانهما في باب المناهي.
فرع مجرد الغبن، لا يثبت الخيار وإن تفاحش. ولو اشترى زجاجة بثمن
كثير يتوهمها جوهرة، فلا خيار له، ولا نظر إلى ما يلحقه من الغبن، لان التقصير منه
حيث لم يراجع أهل الخبرة، ونقل المتولي وجها شاذا: أنه كشراء الغائب، وتجعل ا
لرؤية التي لا تفيد المعرفة ولا تنفي الغرر، كالمعدومة.
فصل إذا باع بشرط أنه برئ من كل عيب بالمبيع، فهل يصح هذا
الشرط؟ فيه أربع طرق. أصحها: أن المسألة على ثلاثة أقوال.
أظهرها: يبرأ في الحيوان عما لا يعلمه البائع دون ما يعلمه، ولا يبرأ في
132

غير الحيوان بحال. والثاني: يبرأ من كل عيب، ولا رد بحال. والثالث: لا يبرأ
من عيب ما.
والطريق الثاني: القطع بالقول الأول.
والطريق الثالث: يبرأ في الحيوان من غير المعلوم، دون المعلوم، ولا يبرأ
في غير الحيوان من المعلوم، وفي غير المعلوم قولان.
والطريق الرابع: فيه ثلاثة أقوال في الحيوان وغيره. ثالثها: الفرق بين
المعلوم وغيره. ولو قال: بعتك بشرط أن لا ترد العيب، جرى فيه هذا الخلاف.
وزعم صاحب التتمة: أنه فاسد قطعا، مفسد للعقد.
ولو عين عيبا وشرط البراءة منه، نظر، إن كان مما لا يعاين، كقوله: بشرط
براءتي من الزنا، أو السرقة، أو الإباق، برئ منه بلا خلاف، لان ذكرها إعلام
بها. وإن كان مما يعاين، كالبرص، فإن أراه قدره وموضعه، برئ قطعا، وإلا،
فهو كشرط البراءة مطلقا، لتفاوت الأغراض باختلاف قدره وموضعه. وهكذا فصلوا،
وكأنهم تكلموا فيما يعرفه في المبيع من العيوب. فأما ما لا يعرفه ويريد البراءة منه لو
كان، فقد حكى الامام تفريعا على فساد الشرط فيه خلافا.
التفريع: إن بطل هذا الشرط، لم يبطل به البيع على الأصح. وإن صح،
فذلك في العيوب الموجودة حال العقد. فأما الحادث بعده، وقبل القبض، فيجوز
أرد به.
ولو شرط البراءة من العيوب الكائنة والتي ستحدث، فوجهان. أصحهما وبه
قطع الأكثرون: أنه فاسد. فإن أفرد ما سيحدث بالشرط، فأولى بالفساد. وأما إذا
فرعنا على أظهر الأقوال، فكما لا يبرأ عما علمه وكتمه، فكذا لا يبرأ عن العيوب
الظاهرة من الحيوان، لسهولة معرفتها، وإنما يبرأ عن عيوب باطن الحيوان التي لا
يعلمها. ومنهم من اعتبر نفس العلم، ولم يفرق بين الظاهر والباطن. وهل يلحق ما
مأكوله في جوفه بالحيوان؟ قيل: نعم، لعسر معرفته. وقال الأكثرون: لا، لتبدل
أحوال الحيوان.
فصل من موانع الرد أن لا يتمكن المشتري من رد المبيع، وذلك، قد يكون لهلاكه، وقد
يكون مع بقائه. وعلى التقدير الثاني، قد يكون لخروجه عن
133

قبول النقل من شخص إلى شخص، وربما كان مع قبوله للنقل. وعلى التقدير
الثاني، فربما كان لزوال ملكه، وربما كان مع بقائه لتعلق حق مانع.
الحال الأول والثاني: إذا هلك المبيع في يد المشتري، بأن مات العبد، أو
قتل، أو تلف الثوب، أو أكل الطعام، أو خرج عن أن يقبل النقل، بأن أعتق
العبد، أو استولد الجارية، أو وقف الضيعة، ثم علم كونه معيبا، فقد تعذر الرد،
لفوات المردود، لكن يرجع على البائع بالأرش، والأرش جزء من الثمن، نسبته
إليه نسبة ما ينقص العيب من قيمة المبيع لو كان سليما إلى تمام القيمة. وإنما كان
الرجوع بجزء من الثمن، لأنه لو بقي كل المبيع عند البائع، كان مضمونا عليه
بالثمن. فإذا احتبس جزء منه، كان مضمونا بجزء من الثمن.
مثاله: كانت القيمة مائة دون العيب، وتسعين مع العيب، فالتفاوت بالعشر،
فيكون الرجوع بعشر الثمن. فإن كان مائتين، فبعشرين. وإن كان خمسين،
فبخمسة. وأما القيمة المعتبرة، فالمذهب: أنه تعتبر أقل القيمتين من يوم البيع ويوم
القبض، وبهذا قطع الأكثرون. وقيل: فيها أقوال. أظهرها: هذا.
والثاني: يوم القبض. والثالث: يوم البيع. وإذا ثبت الأرش، فلو كان الأرش بعد في
ذمة المشتري، برئ من قدر الأرش. وهل يبرأ بمجرد الاطلاع على العيب، أم
يتوقف على الطلب؟ وجهان. أصحهما: الثاني، وإن كان قد وفاه وهو باق في يد
البائع، فهل يتعين لحق المشتري، أم يجوز للبائع إبداله؟ وجهان. أصحهما:
الأول، ولو كان المبيع باقيا، والثمن تالفا، جاز الرد، ويأخذ مثله إن كان مثليا،
وقيمته إن كان متقوما أقل ما كانت من يوم البيع إلى يوم القبض، ويجوز الاستبدال
134

عنه كالقرض، وخروجه عن ملكه بالبيع ونحوه، كالتلف. ولو خرج وعاد، فهل
يتعين لاخذ المشتري، أم للبائع إبداله؟ وجهان. أصحهما: أولهما. وإن كان
الثمن باقيا في يده بحاله، فإن كان معينا في العقد، أخذه. وإن كان في الذمة
ونقده، ففي تعيينه لاخذ المشتري، وجهان. وإن كان ناقصا، نظر، إن تلف
بعضه، أخذ الباقي وبدل التالف. وإن كان نقص صفة، كالشلل ونحوه، لم يغرم
الأرش على الأصح. كما لو زاد زيادة متصلة، يأخذها مجانا. ولو لم تنقص القيمة
بالعيب، كخروج العبد خصيا، فلا أرش. ولو اشترى عبدا بشرط العتق، ثم وجد
به عيبا بعدما أعتقه، نقل ابن كج، عن ابن القطان: أنه لا أرش له هنا. ونقل عنه
وجهين فيمن اشترى من يعتق عليه ثم وجد به عيبا، قال: وعندي له الأرش في
الصورتين.
الحال الثالث: لو زال ملكه عن المبيع، ثم علم به عيبا، فلا رد في الحال.
وأما الرجوع بالأرش، فإن زال بعوض كالهبة بشرط الثواب والبيع، فقولان.
أحدهما: يرجع كما لو مات، وهذا تخريج ابن سريج. فعلى تخريجه لو أخذ
الأرش ثم رد عليه مشتريه بالعيب، فهل له رده مع الأرش، واسترداد الثمن؟
وجهان. والقول الثاني، وهو المشهور: لا يرجع. ولم لا يرجع؟ قال أبو إسحاق
وابن الحداد: لأنه استدرك الظلامة. وقال ابن أبي هريرة: لأنه ما أيس من الرد،
فربما عاد إليه فرده. وهذا المعنى، هو الأصح، وهو منصوص عليه في اختلاف
العراقيين. وإن زال بلا عوض، فعلى تخريج ابن سريج: يرجع بالأرش. وعلى
المشهور، وجهان، بناء على المعنيين. إن قلنا بالأول: رجع، لأنه لم يستدرك
الظلامة. وإن قلنا بالثاني، فلا، لأنه ربما عاد إليه. ومنهم من قطع بعدم الرجوع
هنا. وإن عاد الملك إليه بعد زواله، نظر، هل زال بعوض، أم بغيره؟ فهما ضرب.
الضرب
الأول: أن يزول بعوض، بأن باعه، فينظر، أعاد بطريق الرد بالعيب، أم
بغيره؟ فهما قسمان.
الأول: أن يعود بطريق الرد بالعيب، فله رده على بائعه، لأنه زال التعذر
135

وبان أنه لم يستدرك الظلامة، وليس للمشتري الثاني رده على البائع الأول، لأنه لم
يملك منه. ولو حدث به عيب في يد المشتري الثاني، ثم ظهر عيب قديم فعلى
تخريج ابن سريج: للمشتري الأول أخذ الأرش من بائعه، كما لو لم يحدث عيب،
ولا يخفى الحكم بينه وبين المشتري الثاني. وعلى المشهور: ينظر، إن قبله
المشتري الأول مع عيبه الحادث، خير بائعه، إن قبله، فذاك، وإلا، أخذ الأرش
منه. وعن ابن القطان: لا يأخذه، واسترداده رضى بالعيب. وإن لم يقبله، وغرم
الأرش للثاني، ففي رجوعه بالأرش على بائعه وجهان. أحدهما: لا يرجع، وبه
قال ابن الحداد، لأنه لو قبله، ربما قبله منه بائعه، فكان متبرعا بغرامة الأرش
وأصحهما: يرجع، لأنه ربما لا يقبله بائعه، فيتضرر. وعلى الوجهين: لا يرجع ما
لم يغرم للثاني، لأنه ربما لا يطالبه فيبقى مستدركا للظلامة. ولو كانت المسألة
بحالها، وتلف المبيع في يد المشتري الثاني أو كان عبدا فأعتقه، ثم ظهر العين
القديم، رجع المشتري الثاني بالأرش على المشتري الأول، والأول بالأرش على
بائع بلا خلاف، لحصول اليأس من الرد، لكن هل يرجع على بائعه قبل أن يغرمه
لمشتريه؟ وجهان بناء على المعنيين. إن عللنا باستدراك الظلامة، لم يرجع ما لم
يغرم، وإن عللنا بالثاني، رجع. ويجري الوجهان، فيما لو أبرأه الثاني، هل يرجع
هو على بائعه؟
القسم الثاني: أن يعود لا بطريق الرد، بأن عاد بإرث، أو هبة، أو قبول
وصية، أو إقالة، فهل له رده على بائعه؟ وجهان لهما مأخذان. أحدهما: البناء
على المعنيين السابقين. إن عللنا بالأول، لم يرد، لأنه استدرك الظلامة، ولم
يبطل ذلك الاستدراك، بخلاف ما لو رد عليه بالعيب. وإن عللنا بالثاني، رد،
لزوال التعذر، كما لو رد عليه بعيب.
وأما المأخذ الثاني: أن الملك العائد، هل ينزل منزلة غير الزائل؟ وإن عاد
بطريق الشراء، ثم ظهر عيب قديم كان في يد البائع الأول، فإن عللنا بالمعنى
الأول، لم يرد على البائع الأول، لحصول الاستدراك، ويرد على الثاني. وإن
عللنا بالثاني، فإن شاء، رد على الأول، وإن شاء على الثاني. وإذا رد على ا
لثاني، فله أن يرد عليه، وحينئذ يرد على الأول. ويجئ وجه: أنه لا يرد على
الأول، بناء على أن الزائل العائد، كالذي لم يعد. ووجه: أنه لا يرد على الثاني،
136

لأنه لو رد عليه، لرد هو أيضا عليه.
الضرب الثاني: أن يزول لا بعوض، فينظر، إن عاد أيضا لا بعوض، فجواز
الرد مبني على أنه هل يأخذ الأرش لو لم يعد؟ إن قلنا: لا، فله الرد. وإن قلنا:
يأخذ، فهل ينحصر الحق فيه، أم يعود إلى الرد عند القدرة؟ وجهان. وإن عاد
بعوض، بأن اشتراه، فإن قلنا: لا يرد في الحالة الأولى، فكذا هنا، ويرده على
البائع الأخير. وإن قلنا: يرد، فهنا نل يرد على الأول، أو على الثاني، أم يتخير؟
فيه ثلاثة أوجه.
فرع باع زيد عمرا شيئا، ثم اشتراه منه، فظهر عيب كان في يد زيد، فإن
كانا عالمين بالحال، فلا رد. وإن كان زيد عالما، فلا رد له ولا لعمرو أيضا، لزوال
ملكه، ولا أرش له على الصحيح، لاستدراك الظلامة، أو لتوقع العود. فإن تلف
في يد زيد، أخذ الأرش على التعليل الثاني. وهكذا الحكم لو باعه لغيره. وإن
كان عمرو عالما، فلا رد له، ولزيد الرد. وإن كانا جاهلين، فلزيد الرد إن اشتراه
بغير جنس ما باعه، أو بأكثر منه، ثم لعمرو أن يرد عليه. وإن اشتراه بمثله، فلا رد
لزيد في أحد الوجهين، لان عمرا يرده عليه، فلا فائدة، وله الرد في أصحهما،
لأنه ربما رضي به، فلم يرد. ولو تلف في يد زيد، ثم علم به عيبا قديما، فحيث
يرد لو بقي، يرجع بالأرش، وحيث لا يرد، لا يرجع.
الحال الرابع: إذا تعلق به حق، بأن رهنه، ثم علم العيب، فلا رد في
الحال وهل له الأرش؟ إن عللنا باستدراك الظلامة، فنعم. وإن عللنا بتوقع
العود، فلا. فعلى هذا، لو تمكن من الرد، رده. وإن حصل اليأس، أخذ
الأرش. وإن أجره ولم نجوز بيع المستأجر، فهو كالرهن. وإن جوزناه، فإن رضي
البائع به مسلوب المنفعة مدة الإجارة، رد عليه، وإلا، تعذر الرد، وفي الأرش
وجهان. ويجريان فيما لو تعذر الرد بإباق أو غصب. ولو عرف العيب بعد تزويج
الجارية أو العبد، ولم يرض البائع بالأخذ، قطع بعضهم بأن المشتري يأخذ الأرش
هنا، لأنه لم يستدرك الظلامة، والنكاح يراد للدوام، فاليأس حاصل. واختاره
الروياني، والمتولي. ولو عرفه بعد الكتابة، ففي التتمة: أنه كالتزويج. وذكر
الماوردي: أنه لا يأخذ الأرش على المعنيين، بل يصبر، لأنه قد يستدرك الظلامة
137

بالنجوم، وقد يعود إليه بالعجز، فيرده. والأصح أنه كالرهن، وأنه لا يحصل
الاستدراك بالنجوم.
فصل الرد بالعيب على الفور، فيبطل بالتأخير بلا عذر. ولا يتوقف
على حضور الخصم وقضاء القاضي. والمبادرة إلى الرد، معتبرة بالعادة، فلا يؤمر
بالعدو والركض ليرد. ولو كان مشغولا بصلاة أو أكل أو قضاء حاجة، فله التأخير إلى
فراغه. وكذا لو اطلع حين دخل وقت هذه الأمور فاشتغل بها، فلا بأس. وكذا لو
لبس ثوبا أو أغلق بابا. ولو اطلع ليلا، فله التأخير إلى الصباح. وإن لم يكن
عذر، فقد ذكر الغزالي فيه ترتيبا مشكلا خلاف المذهب.
واعلم أن كيفية المبادرة، وما يكون تقصيرا، وما لا يكون، إنما نبسطه في
كتاب الشفعة، ونذكر هنا ما لا بد منه، فالذي فهمته من كلام الأصحاب: أن البائع
إن كان في البلد، رد عليه بنفسه أو بوكيله، وكذا إن كان وكيله حاضرا، ولا حاجة
إلى المرافعة إلى القاضي. ولو تركه، ورفع الامر إلى القاضي، فهو زيادة توكيد.
وحاصل هذا، تخييره بين الامرين. وإن كان غائبا عن البلد، رفع إلى القاضي.
138

قال القاضي حسين في فتاويه: يدعي شراء ذلك الشئ من فلان الغائب بثمن
معلوم، وأنه أقبضه الثمن وظهر العيب، وأنه فسخ، ويقيم البينة على ذلك في وجه
مسخر ينصبه القاضي، ويحلفه القاضي مع البينة، لأنه قضاء على غائب، ثم يأخذ
المبيع منه ويضعه على يد عدل، ويبقى الثمن دينا على الغائب، فيقضيه القاضي من
ماله. فإن لم يجد له سوى المبيع، باعه فيه. وإلى أن ينتهي إلى الخصم أو القاضي
في الحالين، لو تمكن من الاشهاد على الفسخ، هل يلزمه؟ وجهان. قطع صاحب
التتمة وغيره، باللزوم. ويجري الخلاف فيما لو أخر بعذر مرض، أو غيره.
ولو عجز في الحال عن الاشهاد، فهل عليه التلفظ بالفسخ؟ وجهان.
أصحهما عند الامام، وصاحب التهذيب: لا حاجة إليه. وإذا لقي البائع فسلم
عليه، لم يضر. فلو اشتغل بمحادثته، بطل حقه.
فرع لو أخر الرد مع العلم بالعيب، ثم قال: أخرت لأني لم أعلم أن لي
الرد، فإن كان قريب عهد بالاسلام، أو نشأ في برية لا يعرفون الاحكام، قبل قوله،
وله الرد، وإلا، فلا. ولو قال: لم أعلم أنه يبطل بالتأخير، قبل قوله، لأنه يخفى
على العوام.
قلت: إنما يقبل قوله: لم أعلم أن الرد على الفور، وقول الشفيع: لم أعلم
أن الشفعة على الفور، إذا كان ممن يخفى عليه مثله، وقد صرح الغزالي وغيره بهذا
في كتاب الشفعة. والله أعلم.
139

فرع حيث بطل الرد بالتقصير، بطل الأرش.
فرع ليس لمن له الرد، أن يمسك المبيع ويطالب بالأرش، وليس للبائع
أن يمنعه من الرد، ويدفع الأرش. فلو رضيا بترك الرد على جزء من الثمن، أو مال
آخر، ففي صحة هذه المصالحة وجهان؟ أصحهما: المنع، فيجب على المشتري
رد ما أخذ. وهل يبطل حقه من الرد؟ وجهان. أصحهما: لا، والوجهان إذا ظن
صحة المصالحة. فإن علم بطلانها، بطل حقه قطعا.
فرع كما أن تأخير الرد مع الامكان تقصير، فكذا الاستعمال والانتفاع
والتصرف، لاشعارها بالرضى. فلو كان المبيع رقيقا، فاستخدمه في مدة طلب
الخصم أو القاضي، بطل حقه. وإن كان بشئ خفيف، كقوله: اسقني أو ناولني
الثوب أو أغلق الباب، ففيه وجه: أنه لا يضر، لأنه قد يؤمر به غير المملوك، وبه
قطع الماوردي وغيره. والأصح الأشهر: أنه لا فرق.
قلت: قال القفال في شرح التلخيص: لو جاءه العبد بكوز ماء، فأخذ
الكوز، لم يضر، لان وضع الكوز في يده، كوضعه على الأرض. فإن شرب، ورد
الكوز إليه، فهو استعمال. والله أعلم.
ولو ركب الدابة لا للرد، بطل حقه، وإن ركبها للرد أو السقي، فوجهان.
أصحهما: البطلان أيضا، كما لو لبس الثوب للرد، فإن كانت جموحا يعسر سوقها
وقودها، فهو معذور في الركوب. ولو ركبها للانتفاع، فاطلع على العيب، لم تجز
استدامة الركوب وإن توجه للرد. وإن كان لابسا، فاطلع على عيب الثوب في
الطريق فتوجه للرد ولم ينزع، فهو معذور، لان نزع الثوب في الطريق لا يعتاد،
قال الماوردي. ولو علف الدابة أو سقاها أو حلبها في الطريق، لم يضر. ولو كان
عليها سرج أو إكاف، فتركه عليها، بطل حقه، لأنه انتفاع، ولولا ذلك لاحتاج
إلى حمل، أو تحميل. ويعذر بترك العذار واللجام، لأنهما خفيفان لا يعد
140

تعليقهما على الدابة انتفاعا، ولان القود يعسر دونهما. ولو أنعلها في الطريق، قال
الشيخ أبو حامد: إن كانت تمشى بلا نعل، بطل حقه، وإلا، فلا. ونقل الروياني
وجها في جواز الانتفاع في الطريق مطلقا، حتى روى عن أبيه جواز وطئ الجارية
الثيب.
قلت: لو اشترى عبدا فأبق قبل القبض، فأجاز المشتري البيع، ثم أراد
الفسخ، فلذلك ما لم يعد العبد إليه. وذكره الامام الرافعي في آخر المسائل
المنثورة في آخر كتاب الإجارة وسأذكره إن شاء الله تعالى هناك. والله أعلم.
فصل إذا حدث بالمبيع عيب في يد المشتري بجناية أو آفة، ثم اطلع
على عيب قديم، لم يملك الرد قهرا، لما فيه من الاضرار بالبائع، ولا يكلف
المشتري الرضى به بل يعلم البائع به فإن رضي به معيبا، قيل للمشتري: إما أن
ترده، وإما أن تقنع به ولا شئ لك. وإن لم يرض به، فلا بد من أن يضم المشتري
أرش العيب الحادث إلى المبيع ليرده، أو يغرم البائع للمشتري أرش العيب القديم
ليمسكه. فإن اتفقا على أحد هذين المسلكين، فذاك. وإن اختلفا، فدعا
أحدهما إلى الرد مع أرش العيب الحادث، ودعا الآخر إلى الامساك وغرامة أرش
العيب القديم، ففيه أوجه. أحدها: المتبع قول المشتري. والثاني: رأي البائع
والثالث وهو أصحها: المتبع رأي من يدعو إلى الامساك والرجوع بأرش القديم،
سواء كان البائع أو المشتري. وما ذكرناه من إعلام المشتري البائع، يكون على
الفور. فإن أخره بلا عذر، بطل حقه من الرد والأرش، إلا أن يكون العيب الحادث
قريب الزوال غالبا، كالرمد والحمى، فلا يعتبر الفور على أحد القولين، بل له
انتظار زواله ليرده سليما عن العيب الحادث. ومهما زال العيب الحادث بعدما أخذ
المشتري أرش العيب القديم، أو قضى به القاضي، ولم يأخذه، فهل له الفسخ ورد
141

الأرش؟ وجهان. أصحهما: لا.
ولو تراضيا، ولا قضاء، فالأصح: أن له الفسخ.
فرع لو علم العيب القديم بعد زوال الحادث، رد على الصحيح، وفيه وجه
ضعيف جدا. ولو زال القديم قبل أخذ أرشه، لم يأخذه. وإن زال بعد أخذه، رده
على المذهب. وقيل: وجهان، كما لو نبتت سن المجني عليه بعد أخذ الدية، هل
يردها؟
فرع كل ما يثبت الرد على البائع لو كان عنده، يمنع الرد إذا حدث عند
المشتري. وما لا رد به على البائع، لا يمنع الرد إذا حدث في يد المشتري، إلا في
الأقل. فلو خصي العبد، ثم علم به عيبا قديما، فلا رد، وإن زادت قيمته.
ولو نسي القرآن، أو صنعة، ثم علم به عيبا قديما، فلا رد، لنقصان القيمة.
ولو زوجها، ثم علم بها عيبا، فكذلك. قال الروياني: إلا أن يقول الزوج:
إن ردك المشتري بعيب، فأنت طالق، وكان ذلك قبل الدخول، فله الرد، لزوال
المانع. ولو علم عيب جارية اشتراها من أبيه أو ابنه بعد أن وطئها وهي ثيب، فله
الرد وإن حرمت على البائع، لان القيمة لم تنقص بذلك. وكذا لو كانت الجارية
رضيعة، فأرضعتها أم البائع أو ابنته في يد المشتري، ثم علم بها عيبا. وإقرار
الرقيق على نفسه في يد المشتري بدين المعاملة، أو بدين الاتلاف، مع تكذيب
المولى، لا يمنع الرد بالعيب القديم. وإن صدقه المولى على دين الاتلاف، منع
منه. فإن عفا المقر له بعد ما أخذ المشتري الأرش، فهل له الفسخ ورد الأرش؟
وجهان جاريان فيما إذا أخذ المشتري الأرش لرهنه العبد، أو كتابته، أو إباقه، أو
غصبه ونحوها. إن مكناه من ذلك، ثم زال المانع من الرد، قال في التهذيب:
أصحهما: لا فسخ.
فرع حدث في يد المشتري نكتة بياض في عين العبد، ووجد نكتة
قديمة، فزالت إحداهما فقال البائع: الزائلة القديمة، فلا رد ولا أرش. وقال
المشتري: بل الحادثة، ولي الرد، حلفا على ما قالا. فإن حلف أحدهما دون
الآخر، قضي له. وإن حلفا، استفاد البائع دفع الرد، والمشتري أخذ الأرش. فإن
اختلفا في الأرش، فليس له إلا الأقل، لأنه المستيقن.
142

فرع إذا اشترى حليا من ذهب أو فضة وزنه مائة مثلا، بمائة من جنسه،
ثم اطلع على عيب قديم، وقد حدث عنده عيب، فأوجه. أصحها عند الأكثرين:
يفسخ البيع، ويرد الحلي مع أرش النقص الحادث، ولا يلزم الربا، لان المقابلة،
بين الحلي والثمن، وهما متماثلان.
والعيب الحادث، مضمون عليه، كعيب المأخوذ على جهة السوم، فعليه
غرامته. والثاني، وهو قول ابن سريج: أنه يفسخ العقد، لتعذر إمضائه، ولا يرد
الحلي على البائع، لتعذر رده مع الأرش ودونه، فيجعل كالتالف، فيغرم المشتري
قيمته من غير جنسه معيبا بالعيب القديم، سليما عن الحادث. واختار الغزالي هذا
الوجه، وضعفه الامام وغيره. والثالث، وهو قول صاحب التقريب،
والداركي، واختاره الامام وغيره: أنه يرجع بأرش العيب القديم، كسائر الصور.
والمماثلة في الربوي، إنما تشترط في ابتداء العقد، والأرش حق وجب بد
ذلك لا يقدح في العقد السابق. وقياس هذا الوجه: تجويز الرد مع الأرش عن
الحادث كسائر الأموال. وإذا أخذ الأرش، فقيل: يشترط كونه من غير جنس
العوضين، حذرا من الربا. والأصح: جوازه منهما، لأنه لو امتنع الجنس، لامتنع
غيره، لأنه بيع ربوي بجنسه مع شئ آخر.
ولو عرف العيب القديم بعد تلف الحلي عنده، فالذي ذكره صاحبا الشامل
والتتمة: أنه يفسخ العقد، ويسترد الثمن، ويغرم قيمة التالف، ولا يمكن أخذ
الأرش للربا. وفي وجه: يجوز أخذ الأرش، وصححه في التهذيب. وعلى
هذا، ففي اشتراط كونه من غير الجنس، ما سبق. ولا يخفى أن المسألة لا تختص
بالحلي والنقد، بل تجري في كل ربوي بيع بجنسه.
فرع لو أنعل الدابة، ثم علم بها عيبا قديما، نظر، إن لم يعبها نزع
النعل، فله نزعه والرد. فإن لم ينزع والحالة هذه، لم يجب على البائع قبول
النعل. وإن كان النزع يخرم ثقب المسامير، ويعيب الحافر، فنزع، بطل حقه من
الرد والأرش، وفيه احتمال للامام. ولو ردها مع النعل، أجبر البائع على القبول،
وليس للمشتري طلب قيمة النعل. ثم ترك النعل، هل هو تمليك من المشتري،
143

فيكون للبائع لو سقط، أم إعراض فيكون للمشتري؟ وجهان. أشبههما: الثاني.
فرع لو صبغ الثوب بما زاد في قيمته، ثم علم عيبه، فإن رضي بالرد من
غير أن يطالب بشئ، فعلى البائع القبول، ويصير الصبغ ملكا للبائع، لأنه صفة
للثوب لا تزايله، وليس كالنعل. هذا لفظ الامام، قال: ولا صائر إلى أنه يرد،
ويبقى شريكا في الثوب كما في المغصوب، والاحتمال يتطرق إليه. وإن أراد الرد
وأخذ قيمة الصبغ، ففي وجوب الإجابة على البائع، وجهان. أصحهما: لا
تجب، لكن يأخذ المشتري الأرش.
ولو طلب المشتري أرش العيب، وقال البائع: رد الثوب لأغرم لك قيمة
الصبغ، ففيمن يجاب؟ وجهان. وقطع ابن الصباغ والمتولي، بأن المجاب
البائع، ولا أرش للمشتري.
فرع لو قصر الثوب، ثم علم العيب، بني على أن القصارة عين أو أثر؟
إن قلنا: عين، فكالصبغ. وإن قلنا: أثر، رد الثوب بلا شئ، كالزيادات
المتصلة، وعلى هذا فقس نظائره.
فصل إذا اشترى ما مأكوله في جوفه، كالرانج، والبطيخ، والرمان،
والجوز، واللوز، والفندق، والبيض، فكسره فوجده فاسدا، نظر، إن لم يكن
لفاسده قيمة كالبيضة المذرة التي لا تصلح لشئ، والبطيخة الشديدة التغير، رجع
بجميع الثمن، نص عليه. وكيف طريقه؟ قال معظم الأصحاب: يتبين فساد البيع
لوروده على غير متقوم. وقال القفال وطائفة: لا يتبين فساد البيع، بل طريقه
استدراك الظلامة. وكما يرجع بجزء من الثمن نقص جزء من المبيع، يرجع بكله
لفوات كل المبيع. وتظهر فائدة الخلاف في القشور الباقية بمن يختص حتى
يكون عليه تنظيف الموضع منها؟ أما إذا كان لفاسدة قيمة، كالرانج، وبيض
144

النعام، والبطيخ إذا وجده حامضا، أو مدود بعض الأطراف، فللكسر حالان.
أحدهما: أن لا يوقف على ذلك الفساد إلا بمثله، فقولان. أظهرهما عند
الأكثرين: له رده قهرا كالمصراة. والثاني، لا، كما لو قطع الثوب. فعلى هذا هو
كسائر العيوب الحادثة، فيرجع المشتري بأرش العيب القديم، أو يضم أرش
النقصان إليه، ويرده كما سبق. وعلى الأول، هل يغرم أرش الكسر؟ قولان.
أظهرهما: لا، لأنه معذور. والثاني: يغرم ما بين قيمته صحيحا فاسد اللب
ومكسورا فاسد اللب، ولا ينظر إلى الثمن.
الحال الثاني: أن يمكن الوقوف على ذلك الفساد بأقل من لك الكسر، فلا
رد على المذهب كسائر العيوب. وقيل بطرد القولين. إذا عرفت هذا، فكسر الجوز
ونحوه، وثقب الرانج، من صور الحال الأول. وكسر الرانج وترضيض بيض
النعام، من صور الحال الثاني. وكذا تقوير البطيخ الحامض إذا أمكن معرفة
حموضته بغرز شئ فيه، وكذا التقوير الكبير إذا أمكن معرفته بالتقوير الصغير.
والتدويد لا يعرف إلا بالتقوير، وقد يحتاج إلى الشق ليعرف، وقد يستغنى في معرفة
حال البيض بالقلقلة عن الكسر.
145

ولو شرط في الرمان الحلاوة، فبان حامضا بالغرز، رد. وإن بان بالشق،
فلا.
فرع اشترى ثوبا مطويا وهو مما ينقص بالنشر، فنشره ووقف على عيب به
لا يوقف عليه إلا بالنشر، ففيه القولان. كذا أطلقه الأصحاب على طبقاتهم مع
جعلهم بيع الثوب المطوي من صور بيع الغائب، ولم يتعرض الأئمة لهذا الاشكال إلا
من وجهين. أحدهما: ذكر إمام الحرمين أن هذا الفرع مبني على تصحيح بيع
الغائب. والثاني: قال صاحب الحاوي وغيره: إن كان مطويا على أكثر من
طاقين، لم يصح البيع إن لم نجوز بيع الغائب. وإن كان مطويا على طاقين،
صح، لأنه يرى جميع الثوب من جانبيه، وهذا حسن، لكن المطوي على طاقين،
لا يرى من جانبيه إلا أحد وجهي الثوب، وفي الاكتفاء به تفصيل وخلاف سبق.
ووراء هذا تصويران. أحدهما: أن تفرض رؤية الثوب قبل الطي، والطي قبل
البيع. والثاني: أن ما نقص بالنشر مرة، ينقص به مرتين أو أكثر. فلو نشر مرة، وبيع
وأعيد طيه، ثم نشره المشتري فزاد النقص به، انتظم التصوير.
فصل المبيع في الصفقة الواحدة، إن كان شيئين، بأن اشترى عبدين
فخرجا معيبين، فله ردهما، وكذا لو خرج أحدهما معيبا. وليس له رد بعضه إن
146

كان الباقي باقيا في ملكه، لما فيه من التشقيص على البائع، فإن رضي به البائع، جاز
على الأصح. وإن كان الباقي زائلا عن ملكه، بأن عرف العيب بعد بيع بعض
المبيع، ففي رد الباقي طريقان. أحدهما: على قولي تفريق الصفقة. وأصحهما:
القطع بالمنع، كما لو كان باقيا في ملكه. فعلى هذا، هل يرجع بالأرش؟ أما
للقدر المبيع، فعلى ما ذكرنا فيما إذا باع الكل. وأما للقدر الباقي، فوجهان
أصحهما: يرجع، لتعذر الرد، ولا ينتظر عود الزائل ليرد الجميع، كما لا ينتظر
زوال العيب الحادث. ويجري الوجهان فيما لو اشترى عبدين وباع أحدهما ثم علم
العيب ولم نجوز رد الباقي، هل يرجع بالأرش؟ ولو اشترى عبدا، ومات وخلف
ابنين، فوجدا به عيبا، فالأصح، وهو قول ابن الحداد: لا ينفرد أحدهما بالرد،
لان الصفقة وقعت متحدة. ولهذا لو سلم أحد الابنين نصف الثمن، لم يلزم البائع
تسليم النصف إليه. والثاني: ينفرد، لأنه رد جميع ما ملك. هذا كله إذا اتحد
العاقدان، أما إذا اشترى رجل من رجلين عبدا وخرج معيبا، فله أن يفرد نصيب
أحدهما بالرد، لان تعدد البائع يوجب تعدد العقد. ولو اشترى رجلان عبدا من
رجل فقولان. أظهرهما: أن لأحدهما أن ينفرد بالرد، لأنه رد جميع ما ملك،
فإن جوزنا الانفراد، فانفرد أحدهما، فهل تبطل الشركة بينهما ويخلص للممسك ما
أمسك، وللراد ما استرد، أم تبقى الشركة بينهما فيما أمسك واسترد؟ وجهان.
أصحهما: الأول. وإن منعنا الانفراد، فذاك فيما ينقص بالتبعيض. أما ما لا ينقص،
كالحبوب، فوجهان بناء على أن المانع ضرر التبعيض، أو اتحاد الصفقة؟ ولو
أراد الممنوع من الرد الأرش، قال الامام: إن حصل اليأس من إمكان رد نصيب
الآخر، بأن أعتقه وهو معسر، فله أخذ الأرش، وإلا، نظر، فإن رضي صاحبه
147

بالعيب، بني على أنه لو اشترى نصيب صاحبه وضمه إلى نصيبه، وأراد الكل
والرجوع بنصف الثمن، هل يجبر على قبوله كما في مسألة النعل؟ وفيه وجهان. إن
قلنا: لا، أخذ الأرش. وإن قلنا: نعم، فكذلك على الأصح، لأنه توقع بعيد.
وإن كان صاحبه غائبا لا يعرف الحال، ففي الأرش وجهان بسبب الحيلولة الناجزة.
ولو اشترى رجلان عبدا من رجلين، كان كل واحد منهما مشتريا ربع العبد من
كل واحد من البائعين، فلكل واحد رد الربع إلى أحدهما.
ولو اشترى ثلاثة من ثلاثة، كان كل واحد مشتريا تسع العبد من كل واحد من
البائعين.
ولو اشترى رجلان، عبدين من رجلين، فقد اشترى كل واحد من كل واحد
ربع كل عبد، فلكل واحد رد جميع ما اشترى من كل واحد عليه.
ولو رد ربع أحد العبدين وحده، ففيه قولا التفريق. ولو اشترى بعض عبد في
صفقة، وباقيه في صفقة من البائع الأول أو غيره، فله رد أحد البعضين وحده،
لتعدد الصفقة.
ولو علم العيب بعد العقد الأول، ولم يمكنه الرد، فاشترى الباقي، فليس له
رد الباقي، وله رد الأول عند الامكان.
فصل إذا وجد بالمبيع عيب، فقال البائع: حدث عند المشتري، وقال
المشتري: بل كان عندك، نظر، إن كان العيب مما لا يمكن حدوثه بعد البيع
كالإصبع الزائدة، وشين الشجة المندملة، وقد جرى البيع أمس، فالقول قول
المشتري. وإن لم يحتمل تقدمه، كجراحة طرية، وقد جرى البيع والقبض من
سنة، فالقول قول البائع من غير يمين. وإن احتمل قدمه وحدوثه كالمرض، فالقول
قول البائع، لان الأصل لزوم العقد واستمراره. وكيف يحلف؟ ينظر في جوابه
148

للمشتري. فإن ادعى المشتري أن بالمبيع عيبا كان قبل القبض، فأراد الرد، فقال
في جوابه: ليس له الرد علي بالعيب الذي يذكره، أو لا يلزمني قبوله، حلف على
ذلك، ولا يكلف التعرض لعدم العيب يوم البيع، ولا يوم القبض، لجواز أنه أقبضه
معيبا وهو عالم به، أو أنه رضي به بعد البيع، ولو نطق به لصار مدعيا مطالبا بالبينة.
وإن قال في الجواب: ما بعته إلا سليما، أو ما أقبضته إلا سليما، فهل يلزمه أن
يحلف كذلك، أم يكفيه الاقتصار على أنه لا يستحق الرد، أو لا يلزمني قبوله؟ فيه
وجهان. أصحهما: يلزمه التعرض لما تعرض له في الجواب، لتطابق اليمين
الجواب، وبهذا قطع صاحب التهذيب وغيره. وهذا التفصيل والخلاف،
جاريان في جميع الدعاوي والأجوبة. ثم يمينه تكون على البت، فيحلف: لقد
بعته وما به هذا العيب. ولا يكفيه أن يقول: بعته ولا أعلم به هذا العيب. وتجوز
اليمين على البت إذا اختبر حال العبد، وعلم خفايا أمره، كما يجوز بمثله الشهادة
على الاعسار وعدالة الشهود، وغيرهما. وعند عدم الاختبار، يجوز أيضا الاعتماد
على ظاهر السلامة إذا لم يعلم، ولا ظن خلافه.
فرع لو زعم المشتري أن بالمبيع عيبا، فأنكره البائع، فالقول قوله.
ولو اختلفا في بعض الصفات، هل هو عيب؟ فالقول قول البائع مع يمينه، وهذا إذا
لم يعرف الحال من غيرهما. قال في التهذيب: إن قال واحد من أهل المعرفة
به: إنه عيب، ثبت الرد. واعتبر في التتمة شهادة اثنين. ولو ادعى البائع علم
المشتري بالعيب، أو تقصيره في الرد، فالقول قول المشتري.
فرع مدار الرد على التعيب عند القبض، حتى لو كان معيبا عند البيع،
فقبضه وقد زال العيب، فلا رد بما كان، بل مهما زال العيب قبل العلم أو بعده وقبل
الرد، سقط حقه من الرد.
149

فصل الفسخ يرفع العقد من حينه، لا من أصله على الصحيح. وفي
وجه: يرفعه من أصله. وفي وجه: يرفعه من أصله إن كان قبل القبض.
فرع الاستخدام لا يمنع الرد بلا خلاف. ولو وطئ المشتري الثيب، فله
الرد، ولا مهر عليه. ووطئ الأجنبي والبائع بشبهة كوطئ المشتري، لا يمنع الرد.
وأما وطؤهما مختارة زنى، فهو عيب حادث.
هذا في الوطئ بعد القبض، فإن وطئها المشتري قبل القبض، فله الرد، ولا
يصير قابضا لها ولا مهر عليه إن سلمت وقبضها. فإن تلفت قبل القبض، فهل عليه
المهر للبائع؟ وجهان، بناء على أن الفسخ قبل القبض، رفع للعقد من أصله، أو
حينه؟ الصحيح: لا مهر. وإن وطئها أجنبي وهي زانية، فهو عيب حدث قبل
القبض. وإن كانت مكرهة، فللمشتري المهر، ولا خيار له بهذا الوطئ. وطئ
البائع كوطئ الأجنبي، لكن لا مهر عليه إن قلنا: إن جناية البائع قبل القبض كالآفة
السماوية. أما البكر، فافتضاضها بعد القبض عيب حادث، وقبله جناية على
المبيع قبل القبض. وإن افتضها الأجنبي بغير آلة الافتضاض، فعليه ما نقص من
150

قيمتها. وإن افتض بآلته، فعليه المهر.
وهل يدخل فيه أرش البكارة، أم يفرد؟ وجهان. أصحهما: يدخل، فعليه
مهر مثلها بكرا. والثاني: يفرد، فعليه أرش البكارة، ومهر مثلها ثيبا.
ثم المشتري إن أجاز العقد، فالجميع له، وإلا، فقدر أرش البكارة للبائع،
لعودها إليه ناقصة، والباقي للمشتري. وإن افتضها البائع، فإن أجاز المشتري،
فلا شئ على البائع إن قلنا: جنايته كالآفة السماوية. وإن قلنا: إنها كجناية
الأجنبي، فحكمه حكمه. وإن فسخ المشتري، فليس على البائع أرش البكارة.
وهل عليه مهرها ثيبا؟ إن افتض بآلته، بني على أن جنايته كالآفة السماوية، أم لا؟
وإن افتضها المشتري، استقر عليه من الثمن بقدر ما نقص من قيمتها. فإن سلمت
حتى قبضها، فعليه الثمن بكماله. وإن تلفت قبل القبض، فعليه بقدر
الافتضاض من الثمن. وهل عليه مهر مثل ثيب؟ إن افتضها بآلة الافتضاض، يبنى
على أن العقد ينفسخ من أصله، أو من حينه؟ هذا هو الصحيح. وفي وجه:
افتضاض المشتري قبل القبض، كافتضاض الأجنبي.
فرع زياد المبيع ضربان، متصلة، ومنفصلة.
أما المتصلة: كالسمن، والتعليم، وكبر الشجرة، فهي تابعة للأصل في
الرد، ولا شئ على البائع بسببها.
وأما المنفصلة: كالأجرة، والولد، والثمرة، وكسب الرقيق، ومهر
الجارية الموطوءة بشبهة، فلا تمنع الرد بالعيب، وتسلم للمشتري، سواء الزوائد
الحادثة قبل القبض وبعده. وفيما إذا كان الرد قبل القبض، وجه ضعيف: أنها
151

للبائع، تفريعا على أن الفسخ دفع للعقد من أصله. فلو نقصت الجارية أو البهيمة
بالولادة، امتنع الرد للنقص الحادث وإن لم يكن الولد مانعا.
وتكلموا في إفراد الجارية بالرد وإن لم تنقص بالولادة بسبب التفريق بينها وبين
الولد، فقيل: لا يجوز الرد، ويتعين الأرش، إلا أن يكون العلم بالعيب بعد بلوغ
الولد حدا يجوز فيه التفريق. وقيل: لا يحرم التفريق هنا للحاجة، وستأتي المسألة
مع نظيرها في الرهن إن شاء الله تعالى.
فرع اشترى جارية أو بهيمة حاملا، فوجد بها عيبا، فإن كانت بعد
حاملا، ردها كذلك. وإن وضعت الحمل ونقصت بالولادة، فلا رد. وإن لم
تنقص، ففي رد الولد معها قولان، بناء على أن الحمل هل يعرف ويأخذ قسطا من
الثمن، أم لا؟ والأظهر: نعم. ويخرج على هذا الخلاف: أنه هل للبائع حبس
الولد إلى استيفاء الثمن؟ وأنه لو هلك قبل القبض، هل يسقط من الثمن بحصته؟
وأنه هل للمشتري بيع الولد قبل القبض؟ فإن قلنا: له قسط من الثمن، جاز
الحبس، وسقط الثمن، ولم يجز البيع، وإلا، انعكس الحكم. ولو اشترى نخلة
وعليها طلع مؤبر، ووجد بها عيبا بعد التأبير، ففي الثمرة طريقان. أصحهما: على
قولين كالحمل. والثاني: القطع بأخذها قسطا، لأنها مشاهدة مستيقنة. ولو اشترى
جارية أو بهيمة حائلا، فحبلت، ثم اطلع على عيب، فإن نقصت بالحمل، فلا رد
إن كان الحمل حصل في يد المشتري. وإن لم ينقص الحمل، أو كان الحمل في
يد البائع، فله الرد. وحكم الولد مبنى على الخلاف. إن قلنا: يأخذ قسطا، بقي
للمشتري فيأخذه إذا انفصل على الصحيح. وفي وجه: أنه للبائع، لاتصاله بالأم
عند الرد. وإن قلنا: لا يأخذ، فهي للبائع. وأطلق بعضهم: أن الحمل الحادث
152

نقص، لأنه في الجارية يؤثر في النشاط والجمال، وفي البهيمة ينقص اللحم
ويخل بالحمل عليها والركوب. ولو اشترى نخلة وأطلعت في يده، ثم علم عيبا، فلمن
الطلع؟ فيه وجهان. ولو كان على ظهر الحيوان صوف عند البيع، فجزه، ثم
علم به عيبا، رد الصوف معه. فإن استجز ثانيا وجزه، ثم علم العيب، لم يرد
الثاني، لحدوثه في ملكه. وإن لم يجزه، رده تبعا.
ولو اشترى أرضا فيها أصول الكراث ونحوه، وأدخلناها في البيع، فنبتت في
يد المشتري، ثم علم بالأرض عيبا، ردها وبقي النابت للمشتري، فإنها ليست تبعا
للأرض.
فصل الإقالة بعد البيع جائزة، بل إذ ندم أحدهما، يستحب للآخر
إقالته،
وهي أن يقول المتبايعان: تقايلنا، أو تفاسخنا. أو يقول أحدهما: أقلتك،
فيقول الآخر: قبلت وما أشبهه. وفي كونها فسخا أو بيعا، قولان. أظهرهما:
فسخ. وقيل: القولان في لفظ الإقالة. فأما إن قالا: تفاسخنا، ففسخ قطعا. فإن
قلنا: بيع، تجددت بها الشفعة، وإلا، فلا.
153

ولو تقايلا في الصرف، وجب التقابض في المجلس إن قلنا: بيع، وإلا،
فلا.
وتجوز الإقالة قبل قبض المبيع، إن قلنا: فسخ، وإلا، فهي كبيع المبيع من
البائع قبل القبض.
وتجوز في السلم قبل القبص إن قلنا: فسخ، وإلا، فلا. ولا تجوز الإقالة
بعد تلف المبيع إن قلنا: بيع، وإلا، فالأصح: الجواز، كالفسخ بالتحالف،
فعلى هذا، يرد المشتري على البائع مثل المبيع إن كان مثليا، أو قيمته إن
كان متقوما. ولو اشترى عبدين، فتلف أحدهما، ففي الإقالة في الباقي خلاف
مرتب، لان الإقالة تصادف القائم، فيستتبع التالف.
وإن تقابلا والمبيع في يد المشتري، لم ينفذ تصرف البائع فيه إن قلنا: بيع،
ونفذ إن قلنا: فسخ. فإن تلف في يده، انفسخت الإقالة إن قلنا: بيع، وبقي البيع
الأول بحاله، وإلا، فعلى المشتري ضمانه، لأنه مقبوض على حكم العوض،
كالمأخوذ قرضا أو سوما، والواجب فيه، إن كان متقوما، أقل القيمتين من يوم العقد
والقبض. وإن تعيب في يده، فإن قلنا: بيع، يخير البائع بين أن يجيز الإقالة ولا
شئ له، وبين أن يفسخ ويأخذ الثمن. وإن قلنا: فسخ، غرم أرش العيب. ولو
استعمله بعد الإقالة. فإن قلنا: بيع، فهو كالبيع يستعمله البائع، وإلا، فعليه
الأجرة. ولو علم البائع بالمبيع عيبا كان حدث في يد المشتري قبل الإقالة، فلا رد له
إن قلنا: فسخ، وإلا، فله رده. ويجوز للمشتري حبس المبيع، لاسترداده
الثمن على القولين،
ولا يشترط في الإقالة ذكر الثمن، ولا يصح إلا بذلك الثمن. فلو زاد أو
نقص، بطلت، وبقي البيع بحاله، حتى لو أقاله على أن ينظره بالثمن، أو على أن
يأخذ الصحاح عن المكسر، لم يصح. ويجوز للورثة الإقالة بعد موت المتبايعين،
وتجوز في بعض المبيع.
قال الامام: هذا إذا لم تلزم جهالة. أما إذا اشترى عبدين، فتقايلا في
154

أحدهما مع بقاء الثاني، فلا يجوز على قولنا: بيع، للجهل بحصة كل واحد.
وتجوز الإقالة في بعض المسلم فيه، لكن لو أقاله في البعض ليعجل الباقي،
أو عجل المسلم إليه البعض ليقيله في الباقي، فهي فاسدة.
قلت: قال القفال في شرحه التلخيص: لو تقايلا، ثم اختلفا في الثمن،
ففيه ثلاثة أوجه، سواء قلنا: الإقالة بيع، أو فسخ، أصحها، وهو قول ابن
المرزبان: أن القول قول البائع. والثاني: قول المشتري. والثالث: يتحالفان
وتبطل الإقالة، قال الدارمي: وإذا تقايلا وقد زاد المبيع، فالزيادة المتميزة
للمشتري، وغيرها للبائع. قال: ولو اختلفا في وجود الإقالة، صدق منكرها. قال:
ولو باعه، ثم تقايلا بعد حلول الأجل ودفع المال، استرجعه المشتري في
الحال، ولا يلزمه أن يصبر قدر الأجل. وإن لم يكن دفعه، سقط وبرئا جميعا. والله
أعلم.
فصل في مسائل تتعلق بالباب إحداها: الثمن المعين إذا خرج معيبا،
يرد بالعيب كالمبيع. وإن لم يكن معيبا، استبدل، ولا يفسخ العقد، سواء خرج
معيبا بخشونة، أو سواد، أو وجدت سكته مخالفة سكة النقد الذي تناوله العقد، أو
خرج نحاسا، أو رصاصا.
الثانية: تصارفا وتقابضا، ثم وجد أحدهما بما قبض خللا، فله حالان.
أحدهما: أن يرد العقد على معينين فإن خرج أحدهما نحاسا، بطل
العقد، لأنه بان أنه غير ما عقد عليه. وقيل: إنه صحيح، تغليبا للإشارة. هذا إن
كان له قيمة، فإن لم يكن، لم يجئ هذا الوجه الضعيف. وإن خرج بعضه بهذه
الصفة، لم يصح العقد فيه، وفي الباقي قولا تفريق الصفة. فإن لم يبطل، فله
الخيار. فإن أجاز والجنس مختلف، بأن تبايعا ذهبا بفضة، جاء القولان في أن
الإجازة بجميع الثمن، أم بالقسط؟ وإن كان الجنس متفقا، فالإجازة الحصة
قطعا، لامتناع التفاضل. وإن خرج أحدهم خشبا، فلمن أخذه الخيار،
ولا يجوز الاستبدال وإن خرج بعضه كذلك، فله الخيار أيضا. وهل له الفسخ في
155

المعيب، والإجازة في الباقي؟ فيه قولا التفريق. فإن جوزنا، فالإجازة بالحصة.
الحال الثاني: أن يرد على ما في الذمة، ثم يحضراه ويتقابضا، فإن خرج
أحدهما نحاسا وهما في المجلس، استبدل. وإن تفرقا، فالعقد باطل، لان
المقبوض غير ما عقد عليه. وإن خرج خشنا، أو أسود، فإن لم يتفرقا، فله الخيار
بين الرضى به والاستبدال وأن تفرقا، فهل له الاستبدال؟ قولان. أظهرهما:
نعم. كالمسلم فيه إذا خرج معيبا، لان القبض الأول صحيح، إذ لو رضي به،
لجاز. والبدل قائم مقامه، ويجب أخذ البدل قبل التفرق عن مجلس الرد. وإن
خرج البعض كذلك، وقد تفرقا، فإن جوزنا الاستبدال، استبدل، وإلا، فله
الخيار بين فسخ العقد في الكل والإجازة. وهل له الفسخ في ذلك القدر والإجازة في
الباقي؟ فيه قولا التفريق. ورأس مال السلم، حكمه حكم عوض الصرف. ولو
وجد أحد المتصارفين بما أخذه عيبا بعد تلفه، أو تبايعا طعاما بطعام، ثم وجد
أحدهما بالمأخوذ عيبا بعد تلفه، نظر، وإن ورد العقد في معينين، واختلف
الجنسان، فهو كبيع العرض بالنقد.
وإن كان متفقا، ففيه الخلاف السابق في مسألة الحلي. وإن ورد على ما في
الذمة ولم يتفرقا بعد، غرم ما تلف عنده، ويستبدل. وكذا إن تفرقا، وجوزنا
الاستبدال.
ولو وجد المسلم إليه برأس مال السلم عيبا بعد تلفه عنده، فإن كان معينا أو في
الذمة، وعين وتفرقا، ولم نجوز الاستبدال، سقط من المسلم فيه بقدر نقصان
العيب من قيمة رأس المال. وإن كان في الذمة وهما في المجلس، غرم التالف
واستبدل. وكذا إن كان بعد التفرق وجوزنا الاستبدال.
المسألة الثالثة: باع عبدا بألف، وأخذ بالألف ثوبا، ثم وجد المشتري بالعبد
عيبا، ورده، قال القاضي أبو الطيب: يرجع بالثوب، لأنه إنما تملكه بالثمن. وإذا
فسخ البيع، سقط الثمن فانفسخ بيع الثوب. وقال الجمهور: يرجع بالألف، لان
الثوب مملوك بعقد آخر.
156

ولو مات العبد قبل القبض، وانفسخ البيع، قال ابن سريج: يرجع بالألف
دون الثوب، لأن الانفساخ بالتلف يقطع العقد، ولا يرفعه من أصله، وهو الأصح،
وفيه وجه آخر.
الرابعة: باع عصيرا، فوجد المشتري به عيبا بعدما صار خمرا، فلا سبيل
إلى رد الخمر، فيأخذ الأرش. فإن تخلل، فللبائع أن يسترده، ولا يدفع الأرش.
ولو اشترى ذمي من ذمي خمرا، ثم أسلما، وعلم المشتري بالخمر عيبا، استرد
جزءا من الثمن على سبيل الأرش، ولا رد. ولو أسلم البائع وحده، فلا رد أيضا.
ولو أسلم المشتري وحده، فله الرد، قاله ابن سريج، وعلل بأن المسلم لا يتملك
الخمر، بل نزيل يده عنها.
الخامسة: مؤنة رد المبيع بعد الفسخ بالعيب، على المشتري، ولو هلك في
يده، ضمنه.
السادسة: اختلفا في الثمن بعد رد المبيع، فالصحيح: أن القول قول
البائع، لأنه غارم، كما لو اختلفا في الثمن بعد الإقالة. وقيل: يتحالفان، وتبقى
السلعة في يد المشتري، وله الأرش على البائع، قاله ابن أبي هريرة. فقيل له: إذا
لم يعرف الثمن، كيف يعرف الأرش؟ فقال: أحكم بالأرش من القدر المتفق
عليه.
السابعة: لو احتيج إلى الرجوع بالأرش، فاختلفا في الثمن، فالقول قول
البائع على الأظهر. وعلى الثاني: قول المشتري.
الثامنة: أوصى إلى رجل ببيع عبده أو ثوبه وشراء جارية بثمنه وإعتاقها، ففعل
الوصي ذلك، ثم وجد المشتري بالبيع عيبا، فله رده على الوصي ومطالبته
بالثمن، كما يرد على الوكيل، ثم الوصي يبيع العبد المردود، ويدفع الثمن إلى
المشتري. ولو فرض الرد بالعيب على الوكيل، فهل للوكيل بيعه ثانيا؟ وجهان.
أحدهما: نعم، كالوصي. وأصحهما: لا، لان هذا ملك جديد فاحتاج إلى إذن
جديد، بخلاف الايصاء، فإنه تولية وتفويض كلي. ولو وكله في البيع بشرط
157

الخيار للمشتري، فامتثل ورد المشتري، فإن قلنا: ملك البائع لم يزل، فله بيعه
ثانيا. وإن قلنا: زال وعاد، فهو كالرد بالعيب. ثم إذا باعه الوصي ثانيا، نظر، إن
باعه بمثل الثمن الأول، فذاك. وإن باعه بأقل، فهل النقص على الوصي، أو في
ذمة الموصي؟ وجهان. أصحهما: الأول، وبه قال ابن الحداد، لأنه إنما أمره
بشراء الجارية بثمن العبد، لا بالزيادة. وعلى هذا، لو مات العبد في يده بنفس
الرد، غرم جميع الثمن.
ولو باعه بأكثر من الثمن الأول، فإن كان ذلك لزيادة قيمة أو رغبة راغب، دفع
قدر الثمن إلى المشتري، والباقي للوارث. وإن لم يكن كذلك فقد بان أن البيع
الأول باطل، للغبن. ويقع عتق الجارية عن الوصي إن اشتراها في الذمة، وإن
اشتراها بعين ثمن العبد، لم ينفذ الشراء ولا الاعتاق، وعليه شراء جارية أخرى بهذا
الثمن وإعتاقها عن الموصي، هكذا أطلقه الأصحاب، ولا بد فيه من تقييد وتأويل،
لان بيعه بالغبن وتسليمه عن علم بالحال، خيانة.
والأمين ينعزل بالخيانة، فلا يتمكن من شراء جارية أخرى.
قلت: ليس في كلام الأصحاب، أنه باع بالغبن عالما، فالصورة مفروضة
فيمن لم يعلم الغبن، ولا يحتاج إلى تكلف تصويرها في العالم وأن القاضي جدد له
ولاية.
وهذه مسائل ألحقتها. لو اشترى سلعة بألف في الذمة، فقضاه عنه أجنبي
متبرعا فردت السلعة بعيب، لزم البائع رد الألف. وعلى من يرد؟ وجهان.
أحدهما: على الأجنبي، لأنه الدافع. والثاني: على المشتري، لأنه يقدر دخوله
في ملكه. فإذا رد المبيع، رد إليه ما قابله، وبهذا الوجه قطع صاحب المعاياة
ذكره في باب الرهن.
قال: ولو خرجت السلعة مستحقة، رد الألف على الأجنبي قطعا، لأنا تبينا أن
لا ثمن ولا بيع.
158

قال أصحابنا: إذا انعقد البيع، لم يتطرق إليه الفسخ إلا بأحد سبعة أسباب،
خيار المجلس، والشرط، والعيب، وخلف المشروط المقصود، والإقالة،
والتحالف، وهلاك المبيع قبل القبض.
قال القفال، والصيدلاني، وآخرون: لو اشترى ثوبا وقبضه وسلم ثمنه، ثم
وجد بالثوب عيبا قديما، فرده، فوجد الثمن معيبا ناقص الصفة بأمر حدث عند
البائع، يأخذه ناقصا، ولا شئ له بسبب النقص. وفيه احتمال لإمام الحرمين،
ذكره في باب تعجيل الزكاة. والله أعلم.
باب حكم المبيع قبل القبض وبعده وصفة القبض
للقبض حكمان.
أحدهما: انتقال الضمان إلى المشتري. فالمبيع قبل القبض، من ضمان
البائع، ومعناه، أنه لو تلف، انفسخ العقد وسقط الثمن.
159

فلو أبرأ المشتري البائع من ضمان المبيع قبل القبض، فهل يبرأ، حتى لو
تلف لا ينفسخ العقد ولا يسقط الثمن؟ قولان. أظهرهما: لا يبرأ، ولا يتغير حكم
العقد. ثم إذا انفسخ البيع، كان المبيع هالكا على ملك البائع. حتى لو كان
عبدا، كانت مؤنة تجهيزه على البائع. وهل نقول بانتقال الملك إليه قبيل الهلاك،
أم يرتفع العقد من أصله؟ وجهان خرجهما ابن سريج. أصحهما وهو اختياره واختيار
ابن الحداد: لا يرتفع من أصله كالرد بالعيب، وفي الزوائد الحادثة بيد
البائع، من الولد والثمرة واللبن والبيض والكسب وغيرها هذان الوجهان، وذكرنا
نظيرهما في الرد بالعيب قبل القبض، وطردهما جماعة في الإقالة إذا جعلناها
160

فسخا، وخرجوا عليهما الزوائد. والأصح في الجميع: أنها للمشتري، وتكون
أمانة في يد البائع. ولو هلكت، والأصل باق بحاله، فلا خيار للمشتري. وفي
معنى الزوائد، الركاز الذي يجده العبد وما وهب له، فقبضه وقبله، وما أوصي له
به فقبله، هذا حكم التلف بآفة سماوية. أما إذا أتلف المبيع قبل القبض، فله ثلاثة
أقسام.
الأول: أن يتلفه المشتري، فهو قبض منه على الصحيح، لأنه أتلف
ملكه، فصار كما لو أتلف المالك المغصوب في يد الغاصب، يبرأ الغاصب،
ويصير المالك مستردا بالاتلاف. وفي وجه: إتلافه ليس بقبض، لكن عليه القيمة
للبائع، ويسترد الثمن، ويكون التلف من ضمان البائع. هذا عند العلم. أما إذا
كان جاهلا، بأن قدم البائع الطعام المبيع إلى المشتري فأكله، فهل يجعل قبضا؟
وجهان بناء على القولين، فيما إذا قدم الغاصب الطعام المغصوب إلى المالك فأكله
جاهلا، هل يبرأ الغاصب؟ فإن لم نجعله قابضا، فهو كإتلاف البائع.
القسم الثاني: أن يتلفه أجنبي، فطريقان. أصحهما: على قولين.
أحدهما: أنه كالتلف بآفة سماوية، لتعذر التسليم. وأظهرهما: أنه لا ينفسخ، بل
161

للمشتري الخيار، إن شاء فسخ واسترد الثمن، ويغرم الأجنبي للبائع، وإن شاء
أجاز وغرم الأجنبي.
والطريق الثاني: القطع بالقول الثاني، قاله ابن سريج. وإذا قلنا به، فهل
للبائع حبس القيمة لاخذ الثمن؟ وجهان. أحدهما: نعم. كما يحبس المرتهن قيمة
المرهون. وأصحهما: لا، كالمشتري إذا أتلف المبيع، لا يغرم القيمة ليحبسها
البائع. وعلى الأول، لو تلفت القيمة في يده بآفة سماوية، هل ينفسخ البيع لأنها
بدل المبيع؟ وجهان. أصحهما: لا.
القسم الثالث: أن يتلفه البائع، فطريقان. أصحهما: على قولين.
أظهرهما: ينفسخ البيع كالآفة. والثاني: لا، بل إن شاء فسخ وسقط الثمن، وإن
شاء أجاز وغرم البائع القيمة وأدى له الثمن. وقد يقع ذلك في أقول التقاص.
والطريق الثاني: القطع بالقول الأول. فإن لم نقل بالانفساخ، عاد الخلاف في
حبس القيمة. وقيل: لا حبس هنا قطعا، لتعديه بإتلاف العين.
فرع باع شقصا من عبد وأعتق باقيه قبل القبض وهو موسر، عتق كله،
وانفسخ البيع، وسقط الثمن إن جعلنا إتلاف البائع كالآفة السماوية، وإلا،
فللمشتري الخيار.
فرع لو استعمل البائع المبيع قبل القبض، فلا أجرة عليه إن جعلنا إتلافه
كالآفة، وإلا، فعليه الأجرة.
فرع إتلاف الأعجمي، والصبي الذي لا يميز، بأمر البائع أو المشتري، كإتلافهما.
وإتلاف المميز بأمرهما، كإتلاف الأجنبي. وذكر القاضي حسين، أن
إذن المشتري للأجنبي في الاتلاف يلغو، وإذا أتلف، فله الخيار. وأنه لو أذن البائع
162

في الاكل والاحراق، ففعل، كان التلف من ضمان البائع، بخلاف ما لو أذن
للغاصب ففعل، فإنه يبرأ، لان الملك هناك مستقر. وفي فتاوى القفال: أن إتلاف
عبد البائع، كإتلاف الأجنبي. وكذا، إتلاف عبد المشتري بغير إذنه. فإن أجاز،
جعل قابضا، كما لو أتلفه بنفسه. وإن فسخ، اتبع البائع الجاني. وأنه لو كان
المبيع علفا، فاعتلفه حمار المشتري بالنهار، ينفسخ البيع. وإن اعتلفه بالليل، لم
ينفسخ، وللمشتري الخيار، فإن أجاز، فهو قابض، وإلا، طالبه البائع بقيمة ما
أتلف حماره. وأطلق القول، بأن إتلاف بهيمة البائع، كالآفة السماوية. فقيل له:
فهلا فرقت فيها أيضا بين الليل والنهار؟ فقال: هذا موضع فكر.
فرع لو صال العبد المبيع على المشتري في يد البائع، فقتله دفعا، قال
القاضي: يستقر عليه الثمن، لأنه أتلفه لغرضه. وقال الشيخ أبو علي: لا يستقر.
قلت: قول أبي علي أصح. ولهذا، لا يضمنه الأجنبي، ولا المحرم لو كان
صيدا. وكذا لو صال المغصوب على مالكه فقتله دفعا، لم يبرأ الغاصب، سواء
علم أنه ملكه، أم لا. وفي العالم، وجه شاذ، وسيأتي إيضاحه في أول كتاب
الغصب إن شاء الله تعالى. والله أعلم.
فرع لو أخذ المشتري المبيع بغير إذن البائع، فللبائع الاسترداد إذا ثبت له
حق الحبس، فإن أتلفه في يد المشتري، فقولان. أحدهما: عليه القيمة ولا
خيار للمشتري، لاستقرار العقد بالقبض وإن كان ظالما فيه. والثاني: يجعل
مستردا بالاتلاف، كما أن المشتري قابض بالاتلاف. وعلى هذا، فيفسخ البيع، أو
يثبت الخيار للمشتري. قال الامام: الظاهر: الثاني.
فرع وقوع الدرة في البحر قبل القبض، كالتلف، فينفسخ به البيع.
وكذا انفلات الصيد المتوحش والطير، قاله في التتمة: ولو غرق الماء الأرض
المشتراة، أو وقع عليها صخور عظيمة من جبل، أو ركبها رمل، فهل هو كالتلف أو
يثبت الخيار؟ وجهان. أصحهما: الثاني.
فرع لو أبق العبد قبل القبض، أو ضاع في انتهاب العسكر، لم ينفسخ
البيع، لبقاء المالية ورجاء العود. وفي وجه ضعيف: ينفسخ كالتلف.
163

ولو غصبه غاصب، فليس له إلا الخيار. فإن أجاز، لم يلزمه تسليم الثمن،
وإن سلمه،
قال القفال: ليس له الاسترداد، لتمكنه من الفسخ. وإن أجاز، ثم أراد
الفسخ، فله ذلك، كما لو انقطع المسلم فيه فأجاز ثم أراد الفسخ، لأنه يتضرر كل
ساعة. وحكي عن القفال مثله فيما إذا أتلف الأجنبي المبيع قبل القبض، وأجاز
المشتري ليتبع الأجنبي، ثم أراد الفسخ،
قال القاضي: في هذه الصورة، ينبغي أن لا يمكن من الرجوع، لأنه رضي
بما في ذمة الأجنبي، فأشبه الحوالة.
فرع لو جحد البائع العين قبل القبض، فللمشتري الفسخ، للتعذر.
فرع منقول من فتاوى القاضي باع عبده رجلا، ثم باعه لآخر وسلمه
إليه، وعجز عن انتزاعه منه وتسليمه إلى الأول، فهذا جناية منه على المبيع، فهو
كالجناية الحسية، فينفسخ البيع على الأظهر، ويثبت للمشتري الخيار في القول
الثاني، بين أن يفسخ وبين أن يجيز ويأخذ القيمة من البائع. ولو طالب البائع
بالتسليم، وزعم قدرته عليه، وقال البائع: أنا عاجز عنه، حلف. فإن نكل،
حلف المشتري أنه قادر، وحبس إلى أن يسلمه أو يقيم البينة بعجزه، فإن ادعى ا
لمشتري الأول على الثاني العلم بالحال، فأنكر: حله، فإن نكل، حلف هو
وأخذ منه.
فصل إذا طرأ على المبيع قبل القبض، عيب أو نقص ص، نظر إن كان
بآفة سماوية، بأن عمي العبد، أو شلت يده، أو سقطت، فللمشتري الخيار، إن
شاء فسخ، وإلا، أجاز بجميع الثمن، ولا أرش له مع القدرة على الفسخ. وإن
كان بجناية، عادت الأقسام الثلاثة.
أولها: أن يكون الجاني هو المشتري. فإذا قطع يد العبد مثلا قبل القبض،
فلا خيار له، لان النقص بفعله، بل يمتنع بسببه الرد بجميع العيوب القديمة، ويجعل
قابضا لبعض المبيع، حتى يستقر عليه ضمانه. فإن مات العبد في يد البائع بعد
الاندمال، لم يضمن المشتري اليد بأرشها المقدر، ولا بما نقص من القيمة، وإنما
164

يضمنها بجزء من الثمن، كما يضمن الجميع بكل الثمن.
وفي معياره، وجهان. أصحهما وبه قال ابن سريج وابن الحداد: يقوم العبد
صحيحا ثم مقطوعا، ويعرف التفاوت، فيستقر عليه من الثمن بمثل تلك النسبة.
بيانه: قوم صحيحا بثلاثين، ومقطوعا بخمسة عشر، فعليه نصف الثمن. ولو
قوم مقطوعا بعشرين، كان عليه ثلث الثمن. والوجه الثاني، قاله القاضي أبو
الطيب: يستقر من الثمن بنسبة أرش اليد من القيمة، وهو النصف. وعلى هذا، لو
قطع يديه واندملتا، ثم مات العبد في يد البائع، لزم المشتري تمام الثمن
هذا كله تفريع على الصحيح أن إتلاف المشتري قبض. فأما على الوجه
الضعيف أنه ليس بقبض، فلا يجعل قابضا لشئ من العبد، وعليه ضمان اليد
بأرشها المقدر، وهو نصف القيمة كالأجنبي. وقياسه: أن يكون له الخيار.
القسم الثاني: أن يكون الجاني أجنبيا، فيقطع يده قبل القبض، فللمشتري
الخيار، إن شاء فسخ، وتبع البائع الجاني، وإن شاء أجاز البيع بجميع الثمن وغرم
الجاني. قال الماوردي: وإنما يغرمه إذا قبض العبد. أما قبله، فلا، لجواز موت
العبد في يد البائع وانفساخ البيع. ثم الغرامة الواجبة على الأجنبي، هل هي نصف
القيمة، أو ما نقص من القيمة بالقطع؟ قولان جاريان في جراح العبيد مطلقا.
والمشهور: الأول.
القسم الثالث: أن يجني البائع، فيقطع يد العبد قبل تسليمه، فإن قلنا
بالأظهر: إن جنايته كالآفة السماوية، فللمشتري الخيار، إن شاء فسخ واسترد
165

الثمن، وإن شاء أجاز بجميع الثمن. وإن قلنا: كجناية الأجنبي، فله الخيار
أيضا، إن فسخ، فذاك، وإن أجاز، رجع بالأرش على البائع. وفي قدره القولان
المذكوران في الأجنبي.
فصل إذا اشترى عبدين، فتلف أحدهما قبل القبض، انفسخ البيع فيه،
وفي الباقي قولا التفريق. فإن قلنا: لا ينفسخ، وأجاز، فبكم يجيز؟ فيه
خلاف قدمناه في باب تفريق الصفقة.
ولو احترق سقف الدار المبيعة قبل القبض، أو تلف بعض أبنيتها، فوجهان.
أحدهما: أنه كالتعيب، كسقوط يد المبيع ونحوه. وأصحهما: أنه كتلف أحد
العبدين، فينفسخ البيع فيه. وفي الباقي، القولان، لان السقف يمكن بيعه
منفصلا، بخلاف يد العبد. وذكر بعض المتأخرين: أنه إذا احترق من الدار ما
يفوت الغرض المطلوب منها، ولم يبق إلا طرف، انفسخ البيع في الكل، وجعل
فوات البعض في ذلك، كفوات الكل.
الحكم الثاني للقبض: التسلم على التصرف، فلا يجوز بيع المبيع قبل
القبض، عقارا كان أو منقولا، لا بإذن البائع، ولا دون إذنه، لا قبل أداء الثمن،
ولا بعده.
166

وفي الاعتاق قبل القبض أوجه. أصحها: يصح، ويصير قبضا، سواء كان
للبائع حق الحبس، أم لا. والثاني: لا يصح. والثالث: إن لم يكن للبائع حق
الحبس، بأن كان الثمن مؤجلا أو حالا وقد أداه المشتري، صح، وإلا،
فلا.
وإن وقف المبيع قبل القبض. قال في التتمة: إن قلنا: الوقف يفتقر إلى
القبول، فهو كالبيع، وإلا، فهو كالاعتاق، وبه قطع في الحاوي، وقال:
يصير قابضا، حتى لو لم يرفع البائع يده عنه، صار مضمونا عليه بالقيمة. وكذا قال
في إباحة الطعام للمساكين إذا كان قد اشتراه جزافا. والكتابة كالبيع على الأصح، إذ
ليس لها قوة العتق وغلبته، والاستيلاد كالعتق.
وفي الرهن والهبة، وجهان. وقيل: قولان. أصحهما عند جمهور
الأصحاب: لا يصحان. وإذا صححناهما، فنفس العقد ليس بقبض، بل يقبضه
المشتري من البائع، ثم يسلمه للمتهب والمرتهن.
فلو أذن للمتهب والمرتهن في قبضه، قال في التهذيب: يكفي، ويتم به
البيع والرهن والهبة بعده. وقال الماوردي: لا يكفي ذلك للبيع وما بعده، ولكن
ينظر، إن قصد قبضه للمشتري، صح قبض البيع، ولا بد من استئناف قبض
للهبة، ولا يجوز أن يأذن له في قبضه من نفسه لنفسه. وإن قصد قبضه لنفسه، لم
يحصل القبض للبيع، ولا للهبة، لان قبضها، يجب أن يتأخر عن تمام البيع.
167

والاقراض والتصدق كالهبة والرهن، ففيهما الخلاف. ولا تصح إجارته على الأصح
عند الجمهور.
ويصح التزويج على أصح الأوجه، ولا يصح في الثاني.
وفي الثالث: إن كان للبائع حق الحبس، لم يصح، وإلا، صح. وطرد هذا
الوجه في الإجارة. وإذا صححنا التزويج، فوطئ الزوج، لم يكن قبضا.
فرع كما لا يجوز بيع المبيع قبل القبض، لا يجوز جعله أجرة ولا عوضا
في صلح. ولا يجوز السلم ولا التولية والاشراك. وفي التولية والاشراك، وجه
ضعيف.
فرع جميع ما ذكرنا، في تصرفه مع غير البائع. أما إذا باعه للبائع،
فوجهان. أصحهما: أنه كغيره. والثاني: يصح، وهما فيما إذا باعه بغير جنس
الثمن، أو بزيادة، أو نقص، أو تفاوت صفة، وإلا، فهو إقالة بصيغة البيع،
قاله في التتمة. ولو رهنه أو وهبه له، فطريقان. أحدهما: القطع بالبطلان.
وأصحهما: أنه على الخلاف كغيره. فإن جوزنا، فأذن له في القبض، فقبض،
ملك في صورة الهبة، وثبت الرهن.
ولا يزول ضمان البيع في صورة الرهن، بل إن تلف، انفسخ البيع. ولو رهنه
عند البائع بالثمن، فقد سبق حكمه.
فرع لابن سريج باع عبدا بثوب، وقبض الثوب، ولم يسلم العبد، فله
بيع الثوب، وليس للآخر بيع العبد. فلو باع الثوب وهلك العبد، بطل العقد فيه،
ولا يبطل في الثوب، ويغرم قيمته لبائعه. ولا فرق بين أن يكون هلاك العبد بعد
تسليم الثوب أو قبله، لخروجه عن ملكه بالبيع، ولو تلف الثوب والعبد في يده،
168

غرم لبائع الثوب القيمة، ولمشتريه الثمن.
فصل المال المستحق للانسان عند غيره، عين، ودين. أما الثاني،
فسيأتي في الفصل الذي بعد هذا إن شاء الله تعالى.
وأما الأول: فضربان، أمانة، ومضمون. الضرب
الأول: الأمانات، فيجوز للمالك بيعها، لتمام الملك، وهي كالوديعة في
يد المودع، ومال الشركة والقراض في يد الشريك والعامل، والمال في يد الوكيل
في البيع ونحوه، وفي يد المرتهن بعد فكاك الرهن، وفي يد المستأجر بعد فراغ
المدة، والمال في يد القيم بعد بلوغ الصبي رشيدا، وما كسبه العبد باحتطاب
وغيره، أو قبله بالوصية قبل أن يأخذه السيد. ولو ورث مالا، فله بيعه قبل أخذه،
إلا إذا كان المورث لا يملك بيعه أيضا مثل ما اشتراه ولم يقبضه. ولو اشترى من
مورثه شيئا، ومات المورث قبل التسليم، فله بيعه، سواء كان على المورث دين،
أم لا. وحق الغريم يتعلق بالثمن، فإن كان له وارث آخر، لم ينفذ بيعه في قدر
نصيب الآخر حتى يقبضه.
ولو أوصى له بمال، فقبل الوصية بعد موت الموصي، فلبيعه قبل قبضه.
وإن باعه بعد الموت وقبل القبول، جاز إن قلنا: تملك الوصية بالموت. وإن قلنا:
بالقبول، أو هو موقوف، فلا.
الضرب الثاني: المضمونات، وهي نوعان.
الأول: المضمون بالقيمة، ويسمى: ضمان اليد، فيصح بيعه قبل القبض،
لتمام الملك فيه. ويدخل فيه ما صار مضمونا بالقيمة بعقد مفسوخ وغيره. حتى لو
باع عبدا، فوجد المشتري به عيبا، وفسخ البيع، كان للبائع بيع العبد وإن لم
يسترده،
قال في التتمة: إلا إذا لم يؤد الثمن، فإن للمشتري حبسه إلى استرجاع
169

الثمن. ولو فسخ السلم لانقطاع المسلم فيه، فللمسلم بيع رأس المال قبل
استرداده. وكذا للبائع بيع المبيع إذا فسخ بإفلاس المشتري، ولم يسترده بعد.
ويجوز بيع المال في يد المستعير والمستام، وفي يد المشتري والمتهب في الشراء
والهبة الفاسدين. ويجوز بيع المغصوب للغاصب.
النوع الثاني: المضمون بعوض في عقد معاوضة، لا يصح بيعه قبل القبض،
لتوهم الانفساخ بتلفه، وذلك كالمبيع والأجرة والعوض المصالح عليه عن المال.
وفي بيع الصداق قبل القبض، قولان، بناء على أنه مضمون على الزوج ضمان
العقد، أو ضمان اليد؟ والأظهر: ضمان العقد. يجري القولان في بيع الزوج
بدل الخلع قبل القبض، وبيع العافي عن القود المال المعفو عليه قبل القبض لمثل
هذا المأخذ.
فرع وراء ما ذكرنا صور، إذا تأملتها عرفت من أي ضرب هي.
فمنها: حكى صاحب التلخيص عن نص الشافعي رضي الله عنه: أن
الأرزاق التي يخرجها السلطان للناس، يجوز بيعها قبل القبض. فمن الأصحاب من
قال: هذا إذا أفرزه السلطان، فتكون يد السلطان في الحفظ يد المفرز له، ويكفي
ذلك لصحة البيع. ومنهم من لم يكتف بذلك، وحمل النص على ما إذا وكل وكيلا
في قبضه، فقبضه الوكيل، ثم باعه الموكل، وإلا، فهو بيع شئ غير مملوك،
وبهذا قطع القفال في الشرح.
قلت: الأول: أصح وأقرب إلى النص. وقوله: وبه قطع القفال، يعني
بعدم الاكتفاء، لا بالتأويل المذكور، فإني رأيت في شرح التلخيص للقفال،
المنع المذكور. قال: ومراد الشافعي رضي الله عنه بالرزق، الغنيمة، ولم يذكر
غيره. ودليل ما قاله الأول، أن هذا القدر من المخالفة للقاعدة، احتمل للمصلحة
والرفق بالجند، لمسيس الحاجة. والله أعلم.
ومنها: بيع أحد الغانمين نصيبه على الإشاعة قبل القبض، صحيح إذا كان
معلوما وحكمنا بثبوت الملك في الغنيمة. وفيما يملكها به خلاف مذكور في بابه.
ومنها: لو رجح فيما وهب لولده، فله بيعه قبل قبضه على الصحيح.
ومنها: الشفيع إذا تملك الشقص، قال في التهذيب: له بيعه قبل
170

القبض. وقال في التتمة: ليس له ذلك، لان الاخذ بها معاوضة.
قلت: الثاني: أقوى. والله أعلم.
ومنها: للموقوف عليه بيع الثمرة الخارجة من الشجرة الموقوفة، قبل أن
يأخذها.
ومنها: إذا استأجر صباغا لصبغ ثوب وسلمه إليه، فليس للمالك بيعه قبل
صبغه، لان له حبسه لعمل ما يستحق به الأجرة. وإذا صبغه، فله بيعه قبل استرداده
إن دفع الأجرة، وإلا، فلا، لأنه يستحق حبسه إلى استيفاء الأجرة.
ولو استأجر قصارا لقصر ثوب وسلمه إليه، لم يجز بيعه قبل قصره، فإذا
قصره، بني على أن القصارة عين فيكون كمسألة الصبغ، أو أثر، فله البيع، إذ
ليس للقصار الحبس على هذا، وعلى هذا قياس صبغ الذهب، ورياضة الدابة،
ونسج الغزل.
ومنها: إذا قاسم شريكه، فبيع ما صار له قبل قبضه، يبنى على أن القسمة
بيع، أو إفراز؟
ومنها: إذا أثبت صيدا بالرمي، أو وقع في شبكه، فله بيعه وإن لم يأخذه،
ذكره صاحب التلخيص هنا،
قال القفال: ليس هو مما نحن فيه، لأنه بإثباته قبضه حكما.
فرع تصرف المشتري في زوائد المبيع قبل القبض، كالولد، والثمرة،
يبنى على أنها تعود إلى البائع لو عرض انفساخ، أو لا تعود، فإن أعدناها، لم
يتصرف فيها كالأصل، وإلا، تصرف.
ولو كانت الجارية حاملا عند البيع، وولدت قبل القبض، إن قلنا: الحمل
يقابله قسط من الثمن، لم يتصرف فيه، وإلا، فهو كالولد الحادث بعد البيع.
فرع إذا باع متاعا بدراهم، أو بدنانير معينة، فلها حكم المبيع، فلا يجوز تصرف
البائع فيها قبل قبضها، لأنها تتعين بالتعيين، فلا يجوز للمشتري إبدالها
بمثلها، ولو تلفت قبل القبض، انفسخ البيع، ولو وجد البائع بها عيبا، لم يستبدل
171

بها، بل إن رضيها، وإلا، فسخ العقد، فلو أبدلها بمثلها، أو بغير جنسها برضى
البائع، فهو كبيع المبيع للبائع.
فصل الدين في الذمة ثلاثة أضرب. مثمن، وثمن، وغيرهما.
وفي حقيقة الثمن أوجه. أحدها: ما ألصق به الباء، قاله القفال والثاني:
النقد، والمثمن ما يقابله على الوجهين. وأصحها: أن الثمن: النقد، والمثمن:
ما يقابله. فإن لم يكن في العقد نقد، أو كان العوضان نقدين، فالثمن ما ألصق
به الباء، والمثمن ما يقابله.
فلو باع أحد النقدين بالآخر، فعلى الوجه الثاني: لا مثمن فيه. ولو باع عرضا
بعرض، فعلى الوجه الثاني: لا ثمن فيه، وإنما هو مبادلة.
ولو قال: بعتك هذه الدراهم بهذا العبد، فعلى الوجه الأول: العبد ثمن،
والدراهم مثمن. وعلى الوجه الثاني والثالث: في صحة العقد، وجهان، كالسلم
في الدراهم والدنانير. فإن صححنا، فالعبد مثمن.
ولو قال: بعتك هذا الثوب بعبد، ووصفه، صح العقد، فإن قلنا: الثمن ما
ألصق به الباء، فالعبد ثمن. ولا يجب تسليم الثوب في المجلس، وإلا، ففي
وجوب تسليم الثوب وجهان، لأنه ليس فيه لفظ السلم، لكن فيه معناه، فإذا عرفت
هذا، عدنا إلى بيان الأضرب.
الضرب الأول: المثمن، وهو المسلم فيه، فلا يجوز الاستبدال عنه، ولا
بيعه. وهل تجوز الحوالة به، بأن يحيل المسلم إليه المسلم بحقه على من له
عليه دين قرض أو إتلاف، أو الحوالة عليه، بأن يحيل المسلم من له دين قرض أو
إتلاف على المسلم إليه؟ فيه ثلاثة أوجه. أصحها: لا. والثاني: نعم. والثالث:
لا تجوز عليه، وتجوز به. وهكذا حكوا الثالث، وعكسه في الوسيط فقال:
تجوز عليه لا به، ولا أظن نقله ثابتا.
الضرب الثاني: الثمن، فإذا باع بدراهم أو دنانير في الذمة، ففي الاستبدال
172

عنها، طريقان. أحدهما: القطع بالجواز، قاله القاضي أبو حامد، وابن القطان.
وأشهرهما: على قولين. أظهرهما، وهو الجديد: جوازه. والقديم: منعه.
ولو باع في الذمة بغير الدراهم والدنانير، فإن قلنا: الثمن ما ألصق به الباء،
جاز الاستبدال عنه كالنقدين، وادعى في التهذيب: أنه المذهب، وإلا، فلا،
لان ما ثبت في الذمة مثمنا، لم يجز الاستبدال عنه. والأجرة كالثمن، والصداق
وبدل الخلع، كذلك إن قلنا: إنهما مضمونان ضمان العقد، وإلا، فهما كبدل
الاتلاف.
التفريع: إن منعنا الاستبدال عن الدراهم، فذاك إذا
استبدل عنها عرضا. فلو استبدل نوعا منها بنوع، أو استبدل الدراهم عن الدنانير، فوجهان. لاستوائهما في
الرواج، وإن جوزناه، فلا فرق بين بدل وبدل. ثم ينظر، إن استبدل ما يوافقهما
في علة الربا كدنانير عن دراهم، اشترط قبض البدل في المجلس، وكذا إن استبدل
عن الحنطة المبيع بها شعيرا إن جوزنا ذلك.
وفي اشتراط تعيين البدل عند العقد، وجهان. أحدهما: يشترط، وإلا، فهو
بيع دين بدين. وأصحهما: لا، كما لو تصارفا في الذمة، ثم عينا وتقابضا في
المجلس. وإن استبدل ما لا يوافقها في علة الربا، كالطعام والثياب عن الدراهم،
نظر، إن عين البدل، جاز. وفي اشتراط قبضه في المجلس، وجهان. صحح
الغزالي وجماعة الاشتراط، وهو ظاهر نصه في المختصر، وصحح الامام والبغوي عدمه.
قلت: الثاني: أصح، وصححه في المحرر. والله أعلم.
وإن لم يعين، بل وصف في الذمة، فعلى الوجهين السابقين. إن جوزنا،
اشترط التعيين في المجلس. وفي اشتراط القبض، الوجهان.
173

الضرب الثالث: ما ليس بثمن ولا مثمن، كدين القرض والاتلاف، فيجوز
الاستبدال عنه بلا خلاف، كما لو كان له في يد غيره مال بغصب أو عارية، يجوز
بيعه له، ثم الكلام في اعتبار التعيين والقبض، على ما سبق. وفي الشامل أن
القرض إنما يستبدل عنه إذا تلف. فإن بقي في يده، فلا، ولم يفرق الجمهور. ولا
يجوز استبدال المؤجل عن الحال، ويجوز عكسه.
فرع اعلم أن الاستبدال، بيع لمن عليه دين. فأما بيعه لغيره،
كمن له على إنسان مائة، فاشترى من آخر عبدا بتلك المائة، فلا يصح على الأظهر
، لعدم القدرة على التسليم. وعلى الثاني: يصح، بشرط أن يقبض مشتري
الدين الدين ممن عليه، وأن يقبض بائع الدين العوض في المجلس. فإن تفرقا قبل
قبض أحدهما، بطل العقد.
قلت: الأظهر: الصحة. والله أعلم.
ولو كان له دين على إنسان، والآخر مثله على ذلك الانسان، فباع أحدهما ما
له عليه بما لصاحبه، لم يصح، اتفق الجنس أو اختلف، لنهيه (ص) عن بيع الكالئ
بالكالئ.
174

فصل في حقيقة القبض والقول الجملي فيه، أن الرجوع فيما يكون
قبضا إلى العادة. ويختلف بحسب اختلاف المال. وتفصيله أن المبيع نوعان.
النوع الأول: ما لا يعتبر فيه تقدير، إما لعدم إمكانه، وإما مع إمكانه،
فينظر، إن كان مما لا ينقل كالأرض والدور، فقبضه بالتخلية بينه وبين المشتري،
وتمكينه من اليد والتصرف بتسليم المفتاح إليه. ولا يعتبر دخوله وتصرفه فيه،
ويشترط كونه فارغا من أمتعة البائع، فلو باع دارا فيها أمتعة للبائع، توقف التسليم
على تفريغها، وكذا لو باع سفينة مشحونة بالقماش.
قلت: وقد حكى الرافعي بعد هذا وجها عند بيع الأرض المزروعة في باب
الألفاظ المطلقة في البيع، أنه لا يصح بيع الدار المشحونة، وأن إمام الحرمين،
ادعى أنه ظاهر المذهب. والله أعلم.
ولو جمع البائع متاعه في بيت من الدار، وخلى بين المشتري وبين الدار،
حصل القبض فيما عدا ذلك البيت.
وفي اشتراط حضور المتبايعين عند المبيع، ثلاثة أوجه. أحدها: يشترط،
فإن حضرا عنده، فقال البائع للمشتري: دونك هذا ولا مانع، حصل القبض،
وإلا، فلا. والثاني: يشترط حضور المشتري دون البائع. وأصحها: لا يشترط
حضور واحد منهما، لان ذلك يشق. فعلى هذا هل يشترط زمان إمكان المضي؟
وجهان. أصحهما: نعم. وفي معنى الأرض الشجر الثابت، والثمرة المبيعة على ا
لشجر قبل أوان الجداد. وإن كان المبيع من المنقولات، فالمذهب والمشهور: أنه
175

لا يكفي فيه التخلية، بل يشترط النقل والتحريك. وفي قول رواه حرملة: يكفي.
وفي وجه: يكفي لنقل الضمان إلى المشتري، ولا يكفي لجواز تصرفه. فعلى
المذهب: يأمر العبد بالانتقال من موضعه، ويسوق الدابة أو يقودها.
قلت: ولا يكفي استعماله الدابة وركوبها بلا نقل، وكذا وطئ
الجارية على الصحيح. ذكره في البيان. والله أعلم.
وإذا كان المبيع في موضع لا يختص بالبائع، كموات، ومسجد، وشارع،
أو في موضع يختص بالمشتري، فالتحويل إلى مكان منه، كاف. وإن كان في بقعة
مخصوصة بالبائع، فالنقل من زاوية منه إلى زاوية، أو من بيت من داره إلى بيت بغير
إذن البائع لا يكفي لجواز التصرف، ويكفي لدخوله في ضمانه. وإن نقل بإذنه،
حصل القبض، وكأنه استعار ما نقل إليه. ولو اشترى الدار مع أمتعة فيها صفقة
واحدة، فخلى البائع بينها وبينه، حصل القبض في الدار. وفي الأمتعة، وجهان.
أصحهما: يشترط نقلها كما لو أفردت. والثاني: يحصل فيها القبض تبعا، وبه
قطع الماوردي وزاد فقال: لو اشترى صبرة ولم ينقلها حتى اشترى الأرض التي
عليها الصبرة، وخلى البائع بينه وبينها، حصل القبض في الصبرة.
قلت: قال: ولو استأجرها، فوجهان. الصحيح: أنه ليس قبضا. والله
أعلم.
فرع لو لم يتفقا على القبض، فجاء البائع بالمبيع، فامتنع المشتري من
قبضه، أجبره الحاكم عليه. فإن أصر، أمر الحاكم من يقبضه عنه، كما لو كان
غائبا.
176

فرع لو جاء البائع بالمبيع، فقال المشتري: ضعه، فوضعه بين يديه،
حصل القبض، وإن وضعه بين يديه ولم يقل المشتري شيئا، أو قال: لا أريده،
فوجهان. أحدهما: لا يحصل القبض، كما لا يحصل الايداع. وأصحهما:
يحصل، لوجوب التسليم، كما لو وضع الغاصب المغصوب بين يدي المالك، يبرأ
من الضمان. فعلى هذا، للمشتري التصرف فيه، ولو تلف، فمن ضمانه. لكن لو
خرج مستحقا ولم نجز إلا وضعه، فليس للمستحق مطالبة المشتري بالضمان، لان
هذا القدر لا يكفي لضمان الغصب.
ولو وضع المديون الدين بين يدي مستحقه، ففي حصول التسليم خلاف
مرتب على المبيع، وأولى بعدم الحصول، لعدم تعين الدين فيه.
فرع للمشتري الاستقلال بنقل المبيع، إن كان دفع الثمن، أو كان
مؤجلا، كما للمرأة قبض الصداق بغير إذن الزوج إذا سلمت نفسها، وإلا، فلا،
وعليه الرد، لان البائع يستحق الحبس لاستيفاء الثمن، ولا ينفذ تصرفه فيه، لكن
يدخل في ضمانه.
فرع دفع ظرفا إلى البائع وقال: اجعل المبيع فيه، ففعل، لا يحصل
التسليم، إذ لم يوجد من المشتري قبض، والظرف غير مضمون على البائع، لأنه
استعمله في ملك المشتري بإذنه. وفي مثله في السلم، يكون الظرف مضمونا على
المسلم إليه، لأنه استعمله في ملك نفسه. ولو قال للبائع: أعرني ظرفك، واجعل
المبيع فيه، ففعل، لا يصير المشتري قابضا.
النوع الثاني: ما يعتبر فيه تقدير، بأن اشترى ثوبا أو أرضا مذارعة، أو متاعا
موازنة، أو صبرة مكايلة، أو معدودا بالعدد، فلا يكفي للقبض ما سبق في النوع
الأول، بل لا بد مع ذلك من الذرع، أو الوزن، أو الكيل، أو العد.
وكذا لو أسلم في آصع طعام، أو أرطال منه،
يشترط في قبضه الكيل والوزن.
فلو قبض جزافا ما اشتراه مكايلة، دخل المقبوض في ضمانه.
وأما تصرفه فيه بالبيع ونحوه، فإن باع الجميع، لم يصح، لأنه قد يزيد على
لمستحق. فإن باع ما يتيقن أنه له، لم يصح أيضا على الصحيح الذي قاله
177

الجمهور. وقبض ما اشتراه كيلا بالوزن، أو وزنا بالكيل، كقبضه جزافا.
ولو قال البائع: خذه، فإنه كذا، فأخذه مصدقا له، فالقبض فاسد أيضا حتى
يقع اكتيال صحيح. فإن زاد، رد الزيادة. وأن نقص، أخذ التمام. فلو تلف
المقبوض، فزعم الدافع أنه كان قدر حقه أو أكثر، وزعم القابض أنه كان دون حقه
أو قدره، فالقول قول القابض. فلو أقر بجريان الكيل، لم يسمع منه خلافه.
وللمبيع مكايلة صور.
منها: قوله: بعتك هذه الصبرة كل صاع بدرهم.
ومنها: بعتكها على أنها عشرة آصع.
ومنها: بعتك عشرة آصع منها، وهما يعلمان صيعانها، أو لا يعلمان إذا
جوزنا ذلك.
فرع ليس على البائع الرضى بكيل المشتري، ولا على المشتري الرضى
بكيل البائع، بل يتفقان على كيال، وإن لم يتراضيا، نصب الحاكم أمينا يتولاه،
قاله في الحاوي
فرع مؤنة الكيل الذي يفتقر إليه القبض على البائع، كمؤنة إحضار المبيع
الغائب، ومؤنة وزن الثمن على المشتري، لتوقف التسليم عليه. ومؤنة نقد الثمن
هل على البائع، أو المشتري؟ وجهان.
قلت: ينبغي أن يكون الأصح، أنها على البائع. والله أعلم.
فرع لو كان لزيد على عمرو طعام سلما، ولآخر مثله على زيد، فأراد زيد
أداء ما عليه مما له على عمرو، فقال لغريمه: اذهب إلى عمرو واقبض لنفسك ما لي
عليه، فقبضه، فهو فاسد، وكذا لو قال: أحضر معي لأكتاله منه لك، ففعل. وإذا
فسد القبض، فالمقبوض مضمون على القابض. وهل تبرأ ذمة عمرو من حق زيد؟
وجهان. أصحهما: نعم. فإن قلنا: لا تبرأ، فعلى القابض رد المقبوض إلى
عمرو. ولو قال زيد: اذهب فاقبضه لي، ثم اقبضه مني لنفسك بذلك الكيل، أو
178

قال: أحضر معي لأقبضه لنفسي، ثم تأخذه بذلك الكيل، ففعل، فقبضه لزيد في
الصورة الأولى، وقبض زيد لنفسه في الثانية، صحيحان، وتبرأ ذمة عمرو من حق
زيد، والقبض الآخر فاسد، والمقبوض مضمون عليه. وفي وجه: يصح قبضه
لنفسه في الصورة الأولى. ولو اكتال زيد وقبضه لنفسه، ثم كاله على مشتري
وأقبضه، فقد جرى الصاعان، وصح القبضان. فلو زاد حين كاله ثانيا، أو نقص،
فالزيادة لزيد، والنقص عليه إن كان قدرا يقع بين الكيلين. فإن كان أكثر، علمنا أن
الكيل الأول غلط، فيرد زيد الزيادة، ويرجع بالنقصان. ولو أن زيدا لما اكتاله لنفسه
لم يخرجه من المكيال، وسلمه كذلك إلى مشتريه، فوجهان. أحدهما: لا يصح
القبض الثاني حتى يخرجه ويبتدئ كيلا. وأصحهما عند الأكثرين: أن استدامته في
المكيال، كابتداء الكيل.
وهذه الصورة، كما تجري في ديني السلم، تجري فيما لو كان أحدهما
مستحقا بالسلم، والآخر بقرض أو إتلاف.
فرع للمشتري أن يوكل في القبض، وللبائع أن يوكل في الاقباض،
ويشترط فيه أمران.
أحدهما: أن لا يوكل المشتري من يده يد البائع، كعبده، ومستولدته، ولا بأس
بتوكيل أبيه وابنه ومكاتبه. وفي توكيله عبده المأذون له، وجهان. أصحهما: لا
يجوز. ولو قال للبائع: وكل من يقبض لي منك، ففعل، جاز، ويكون وكيلا
للمشتري. وكذا لو وكل البائع بأن يأمر من يشتري منه للموكل.
الأمر الثاني: أن لا يكون القابض والمقبض واحدا، فلا يجوز أن يوكل البائع
رجلا بالاقباض، ويوكله المشتري بالقبض. كما لا يجوز أن يوكله هذا بالبيع،
وذاك بالشراء. ولو كان عليه طعام أو غيره من سلم أو غيره، فدفع إلى المستحق
دراهم، وقال: اشتر بها مثل ما تستحقه لي، واقبضه لي، ثم اقبضه لنفسك،
ففعل، صح الشراء والقبض للموكل، ولا يصح قبضه لنفسه، لاتحاد القابض
179

والمقبض، ولامتناع كونه وكيلا لغيره في حق نفسه. وفي وجه ضعيف: يصح قبضه
لنفسه، وإنما يمتنع قبضه من نفسه لغيره. ولو قال: اشتر بهذه الدراهم لي،
واقبضه لنفسك، ففعل، صح الشراء، ولم يصح قبضه لنفسه، ويكون المقبوض
مضمونا عليه. وهل تبرأ ذمة الدافع من حق الموكل؟ فيه الوجهان السابقان. ولو
قال: اشتر لنفسك، فالتوكيل فاسد، وتكون الدراهم أمانة في يده، لأنه لم
يقبضها ليملكها. فإن اشترى في الذمة، وقع عنه وأدى الثمن من ماله. وإن اشترى
بعينها، فهو باطل على الصحيح. ولو قال لمستحق الحنطة: اكتل حقك من
الصبرة، لم يصح على الأصح، لان الكيل أحد ركني القبض، وقد صار نائبا فيه
من جهة البائع، متأصلا لنفسه.
فرع يستثنى عن الشرط الثاني، ما إذا اشترى الأب لابنه الصغير من مال
نفسه، أو لنفسه من مال الصغير، فإنه يتولى طرفي القبض، كما يتولى طرفي
البيع.
وفي احتياجه إلى النقل في المنقول، وجهان. أصحهما: يحتاج، كما
يحتاج إلى الكيل إذا باع كيلا.
فرع يستثنى عن صورة القبض المذكور، إتلاف المشتري المبيع، فإنه
قبض كما سبق.
قلت: ومما يستثنى أيضا، إذا كان المبيع خفيا يتناول باليد، فقبضه بالتناول
واحتواء اليد عليه، كذا قاله المحاملي وصاحب التنبيه وغيرهم، لأنه يعد قبضا.
والله أعلم.
فرع قبض الجزء الشائع، إنما يحصل بتسليم الجميع، ويكون ما عدا
المبيع أمانة في يده، ولو طلب القسمة قبل القبض، قال في التتمة:
يجاب إليها، لأنا إن قلنا: القسمة إفراز، فظاهر. وإن قلنا: بيع، فالرضي غير
180

معتبر فيه، فإن الشريك يجبر عليه. وإذا لم يعتبر الرضى، جاز أن لا يعتبر القبض
كالشفعة.
فصل يلزم كل واحد من المتبايعين تسليم العوض الذي يستحقه الآخر.
فإن قال كل: لا أسلم حتى أقبض ما أستحقه، فأربعة أقول.
أحدها: يلزم الحاكم كل واحد بإحضار ما عليه، فإذا أحضر، سلم الثمن
إلى البائع، والمبيع إلى المشتري، يبدأ بأيهما شاء، أو يأمرهما بالوضع عند عدل
ليفعل العدل ذلك. والثاني: لا يجبر واحدا منهما، بل يمنعهما من التخاصم. فإذا
سلم أحدهما، أجبر الآخر. والثالث: يجبر المشتري. وأظهرهما: يجبر
البائع. وقيل: يجبر البائع قطعا، واختاره الشيخ أبو حامد. هذا إذا كان الثمن
في الذمة، فإن كان معينا، سقط القول الثالث.
قلت: الذي قطع به الجمهور وهو المذهب: أنه يسقط الرابع أيضا، كما إذا
باعه عرضا بعرض، لان الثمن يتعين بالتعيين عندنا. والله أعلم.
وإن تبايعا عرضا بعرض، سقط القول الرابع أيضا، وبقي الأولان.
181

أظهرهما: يجبران، وبه قطع في الشامل. فإذا قلنا: يجبر البائع أولا، أو
قلنا: لا يجبر، فتبرع، وسلم أولا، أجبر المشتري على تسليم الثمن في الحال إن
كان حاضرا في المجلس، وإلا، فللمشتري حالان.
أحدهما: أن يكون موسرا، فإن كان ماله في البلد، حجر عليه أن يسلم
الثمن، لئلا يتصرف في أمواله بما يبطل حق البائع. وحكى الغزالي وجها: أنه لا
يحجر عليه، ويمهل إلى أن يأتي بالثمن. ولم أر هذا الوجه على هذا الاطلاق
لغيره. فإذا قلنا بالمذهب المعروف، قال جماهير الأصحاب: يحجر عليه في
المبيع وسائر أمواله. وقيل: لا يحجر في سائر أمواله إن كان ماله وافيا بديونه.
وعلى هذا، هل يدخل المبيع في الاحتساب؟ وجهان. أشبههما: يدخل.
قلت: هذا الحجر، يخالف الحجر على المفلس من وجهين، أحدهما: أنه
لا يسلط على الرجوع إلى عين المال. والثاني: أنه لا يتوقف على ضيق المال عن
الوفاء. واتفقوا، على أنه إذا كان محجورا عليه بالفلس، لم يحجر أيضا هذا
الحجر، لعدم الحاجة إليه. والله أعلم.
وإن كان ماله غائبا عن البلد، نظر، إن كان على مسافة القصر، لم يكلف
البائع الصبر إلى إحضاره. وفيما يفعل؟ وجهان. أحدهما: يباع في حقه ويؤدى
من ثمنه. وأصحهما عند الأكثرين: أن له فسخ البيع، لتعذر تحصيل الثمن، كما
لو أفلس المشتري بالثمن. فإن فسخ، فذاك، وإن صبر إلى الاحضار، فالحجر
على ما سبق. وقال ابن سريج: لا فسخ، بل يرد المبيع إلى البائع، ويحجر على
المشتري، ويمهل إلى الاحضار، وزعم في الوسيط أنه الأصح، وليس كذلك.
وإن كان دون مسافة القصر، فهل هو كالذي في البلد، أو كالذي على مسافة
القصر؟ وجهان.
قلت: أصحهما: الأول، وبه قطع في المحرر. والله أعلم.
182

الحال الثاني: أن يكون معسرا، فهو مفلس، والبائع أحق بمتاعه، هذا هو ا
لصحيح المنصوص. وفيه وجه ضعيف: أنه لا فسخ، بل تباع السلعة، ويوفى
من ثمنها حق البائع، فإن فضل شئ، فللمشتري.
فرع جميع ما ذكرناه من الأقوال والتفريع، جار فيما إذا اختلف المكري
والمستأجر في الابتداء بالتسليم بلا فرق.
فرع هنا أمر مهم، وهو أن طائفة توهمت أن الخلاف في الابتداء
بالتسليم، خلاف في أن البائع، هل له حق الحبس، أم لا؟ إن قلنا: الابتداء
بالبائع، فليس له حبس المبيع لاستيفاء الثمن، وإلا، فله. ونازع الأكثرون فيه،
وقالوا: هذا الخلاف مفروض فيما إذا كان نزاعهما في مجرد الابتداء، وكان كل
واحد يبذل ما عليه، ولا يخاف فوت ما عند صاحبه. فأما إذا لم يبذل البائع المبيع
وأراد حبسه خوفا من تعذر الثمن، فله ذلك بلا خلاف، وكذلك للمشتري حبس
الثمن خوفا من تعذر المبيع. وبهذا صرح الشيخ أبو حامد، والماوردي. والمثبتون
من المتأخرين قالوا: وإنما يحبس البائع المبيع إذا كان الثمن حالا. أما المؤجل،
فليس له الحبس به، لرضاه بتأخيره. ولو لم يتفق التسليم حتى حل الأجل، فلا
حبس أيضا. ولو تبرع بالتسليم، لم يكن له رده إلى حبسه، وكذا لو أعاره للمشتري
على الأصح. ولو أودعه إياه، فله ذلك.
ولو صالح من الثمن على مال، فله إدامة حبسه لاستيفاء العوض.
ولو اشترى بوكالة اثنين شيئا، ووفى نصف الثمن عن أحدهما، لم يلزم البائع
تسليم النصف، بناء على أن الاعتبار بالعاقد.
ولو باع بوكالة اثنين، فإذا قبض نصيب أحدهما من الثمن، لزم تسليم
النصف، كذا قاله في التهذيب
183

وينبغي أن يجئ وجه في لزوم تسليم النصف من الوجهين السابقين في باب
تفريق الصفقة، أن البائع إذا قبض بعض الثمن، هل يلزمه تسليم قسطه من المبيع؟
ووجه في جواز أخذ الوكيل لأحدهما وحده من الوجهين في العبد المشترك إذا باعاه،
هل لأحدهما أن يتفرد بأخذ نصيبه؟
باب بيان الألفاظ التي تطلق في البيع وتتأثر بالقرائن المنضمة إليها
هي ثلاثة أقسام، راجعة إلى مطلق العقد، وإلى الثمن، وإلى المبيع.
القسم الأول: لفظان.
أحدهما: التولية، وهي أن يشتري شيئا، ثم يقول لغيره: وليتك هذا
العقد، فيجوز. ويشترط قبوله في المجلس على عادة التخاطب، بأن يقول:
قبلت، أو توليت، ويلزمه مثل الثمن الأول قدرا وصفة، ولا يشترط ذكره إذا
علماه، فإن لم يعلمه المشتري، أعلمه به ثم ولاه. وهي نوع بيع، فيشترط
فيه القدرة على التسليم والتقابض إذا كان صرفا، وسائر الشروط، ولا يجوز قبل
القبض على الصحيح.
والزوائد المنفصلة قبل التولية، تبقى للمولي، ولو كان المبيع شقصا
مشفوعا، وعفا الشفيع، تجددت الشفعة بالتولية.
ولو حط البائع بعد التولية بعض الثمن، انحط على المولى أيضا. ولو حط
الكل، فكذلك، لأنه وإن كان بيعا جديدا، فخاصيته وفائدته التنزيل على الثمن
الأول.
وعن القاضي حسين: أنه ينبغي جريان خلاف في جميع هذه الأحكام. ففي
وجه: يجعل المولى نائبا عن المولي، فتكون الزوائد للنائب، ولا تتجدد
184

الشفعة، ويلحقه الحط. وفي وجه: تعكس هذه الأحكام، ونقول: هي بيع
جديد. والمذهب: ما سبق. وعلى هذا، لو حط البعض قبل التولية، لم تصح
التولية إلا بالباقي. ولو حط الكل، لم تصح التولية.
فرع من شرط التولية، كون الثمن مثليا. فلو اشتراه بعرض، لم يصح،
إلا إذا انتقل ذلك العرض من البائع إلى إنسان فولاه العقد.
ولو اشتراه بعرض وقال: قام علي بكذا، وقد وليتك العقد بما قام علي، أو
أرادت عقد التولية على صداقها بلفظ القيام، أو أرادها الرجل في عوض الخلع،
فوجهان. ولو أخبر المولي عما اشترى وكذب، فقيل: هو كالكذب في
المرابحة، ويأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقيل: يحط قدر الخيانة قولا واحدا.
اللفظ الثاني: الاشراك، وهو أن يشتري شيئا، ثم يشرك غيره فيه ليصير
بعضه له بقسطه من الثمن. ثم إن صرح بالمناصفة وغيرها، فذاك. وإن أطلق
الاشراك، فوجهان. أحدهما وبه قطع صاحب التهذيب: يفسد العقد،
وأصحهما عند الغزالي وقطع به في التتمة: أنه يصح ويحمل على المناصفة.
قلت: قطع القفال في شرح التلخيص بالوجه الثاني، وصححه في
المحرر وهو الأصح. قال القفال، وصورة التصريح بالاشراك في النصف، أن
يقول: أشركتك بالنصف. فإن قال: أشركتك في النصف، كان له الربع. والله
أعلم.
والاشراك في البعض، كالتولية في الكل في الاحكام السابقة.
القسم الثاني: المرابحة: بيع المرابحة جائز من غير كراهة، وهو عقد يبنى
185

الثمن فيه على ثمن المبيع الأول مع زيادة، بأن يشتري شيئا بمائة، ثم يقول لغيره:
بعتك هذا بما اشتريته وربح درهم زيادة، أو بربح درهم لكل عشرة، أو في كل عشرة،
ويجوز أن يضم إلى رأس المال شيئا ثم يبيعه مرابحة، مثل أن يقول: اشتريته
بمائة، وقد بعتكه بمائتين وربح درهم زيادة، وكأنه قال: بعت بمائتين وعشرين. وكما
يجوز البيع مرابحة، يجوز محاطة مثل أن يقول: بعت بما اشتريت به وحط
ده زيادة. وفي القدر المحطوط، وجهان. أحدهما: من كل عشرة واحد، كما
زيد في المرابحة على كل عشرة واحد. وأصحهما: يحط من كل أحد عشر واحد،
لان الربح في المرابحة جزء من أحد عشر، فكذا الحط، وليس في حط واحد من
عشرة رعاية للنسبة. فإذا كان قد اشترى بمائة، فالثمن على الوجه الأول: تسعون.
وعلى الثاني: تسعون وعشرة أجزاء من أحد عشر جزءا من درهم. ولو اشترى بمائة
وعشرة، فالثمن على الوجه الأول، تسعة وتسعون. وعلى الثاني، مائة. وطرد كثير
من العراقيين وغيرهم الوجهين. فمن قال: بعت بما اشتريت، بحط درهم من كل
عشرة، قال إمام الحرمين: هذا غلط، فإن في هذه الصيغة تصريحا بحط واحد من
كل عشرة، فلا وجه للخلاف فيه. وهذا الذي قاله الامام بين. وذكر الماوردي
وغيره: أنه إذا قال: بحط درهم من كل عشرة، فالمحطوط درهم من كل عشرة.
وإن قال: بحط درهم لكل عشرة، فالمحطوط واحد من أحد عشر.
فصل لبيع المرابحة عبارات. أكثرها دورانا على الألسنة ثلاث.
إحداهن بعت بما اشتريت، أو بما بذلت من الثمن وربح كذا.
الثانية: بعت بما قام علي وربح كذا. ويختلف حكم العبارتين فيما يدخل
تحتهما، وفيما يجب الاخبار عنه، كما سنفصله إن شاء الله تعالى. فإذا قال: بعت
بما اشتريت، لم يدخل فيه سوى الثمن. فإذا قال: بما قام علي، دخل فيه مع
الثمن أجرة الكيال والدلال والحمال والحارس والقصار والرفاء والصباغ، وقيمة
186

الصبغ، وأجرة الختان، وتطيين الدار، وسائر المؤن التي تلتزم للاسترباح، وألحق
بها كراء البيت الذي فيه المتاع. وأما المؤن التي يقصد بها استبقاء الملك، دون
الاسترباح، كنفقة العبد وكسوته، وعلف الدابة، فلا تدخل على الصحيح. ويقع
ذلك في مقابلة الفوائد المستوفاة من المبيع، لكن العلف الزائد على المعتاد
للتسمين، يدخل. وأجرة الطبيب إن اشتراه مريضا، كأجرة القصار. فإن حدث
المرض عنده، فكالنفقة. وفي مؤنة السائس، تردد عند الامام. والأصح: أنها
كالعلف.
ولو قصر الثوب بنفسه، أو كال، أو حمل، أو طين الدار بنفسه، لم تدخل
الأجرة فيه، لان السلعة إنما تعد قائمة عليه بما بذل، وكذا لو كان البيت ملكه، أو
تبرع أجنبي بالعمل، أو بإعارة البيت، فإن أراد استدراك ذلك، فطريقه أن يقول:
اشتريت، أو قام علي بكذا، وعملت فيه ما أجرته كذا، وقد بعتكه بهما وربح كذا.
العبارة الثالثة: بعتك برأس المال وربح كذا، فالصحيح: أنه كقوله: بما
اشتريت، وقال القاضي أبو الطيب: هو كقوله: بما قام علي، واختاره ابن
الصباغ.
فرع قال في التتمة: المكس الذي يأخذه السلطان، يدخل في لفظ
القيام. قال: وفي دخول فداء العبد إذا جنى ففداه، وجهان. وقطع الجمهور
بأن الفداء لا يدخل، ولا ما أعطاه لمن رد المغصوب في شئ من الألفاظ.
فرع العبارات الثلاث، تجري في المحاطة جريانها في المرابحة.
فصل ينبغي أن يكون رأس المال، أو ما قامت به السلعة، معلوما عند
المتبايعين مرابحة. فإن جهله أحدهما، لم يصح العقد على الأصح كغير
المرابحة. فعلى هذا، لو زالت الجهالة في المجلس، لم ينقلب صحيحا على
187

الصحيح. والثاني من الوجهين الأولين: يصح، لان الثمن الثاني مبني على
الأول، ومعرفته سهلة، فصار كالشفيع يطلب الشفعة قبل معرفة الثمن لسهولتها.
فعلى هذا، في اشتراط زوال الجهالة في المجلس، وجهان. ومهما كان الثمن
دراهم معينة غير معلومة الوزن. ففي جواز بيعه مرابحة، الخلاف المذكور،
الأصح: البطلان.
فصلان بيع المرابحة مبني على الأمانة، فعلى البائع الصدق في الاخبار
عما اشترى به، وعما قام به عليه إن باع بلفظ القيام. ولو اشترى بمائة، وخرج
عن ملكه، ثم اشتراه بخمسين، فرأس ماله خمسون، ولا يجوز ضم الثمن الأول
إليه. ولو اشتراه بمائة، وباعه بخمسين، ثم اشتراه ثانيا بمائة، فرأس ماله مائة،
ولا يجوز أن يضم إليه خسرانه أولا، فيخبر بمائة وخمسين. ولو اشتراه بمائة، وباعه
بمائة وخمسين، ثم اشتراه بمائة، فإن باعه مرابحة بلفظ رأس المال، أو بلفظ ما
اشتريت، أخبر بمائة. وإن باعه بلفظ قام علي، فوجهان. أصحهما: يخبر
بمائة. والثاني: بخمسين.
فرع يكره أن يواطئ صاحبه فيبيعه بما اشتراه، ثم يشتريه منه بأكثر،
ليخبر به في المرابحة. فإن فعل ذلك، قال ابن الصباغ: ثبت للمشتري الخيار،
188

وخالفه غيره.
قلت: ممن خالفه صاحب المهذب وغيره. وقول ابن الصباغ أقوى. والله
أعلم.
فرع لو اشترى سلعة، ثم قبل لزوم العقد، ألحقا بالثمن زيادة أو نقصا،
وصححناه، فالثمن ما استقر عليه العقد. وإن حط عنه بعض الثمن بعد لزوم
العقد، وباع بلفظ ما اشتريت، لم يلزمه حط المحطوط عنه، وإن باع بلفظ
قام علي، لم يخبر إلا بالباقي. فإن حط الكل، لم يجز بيعه مرابحة بهذا
اللفظ، ولو حط عنه بعض الثمن بعد جريان المرابحة، لم يلحق الحط المشترى منه
على الصحيح. وفي وجه: يلحق كما في التولية والاشراك.
فرع لو اشترى شيئا بعرض، وباعه مرابحة بلفظ الشراء، أو بلفظ القيام،
ذكر أنه اشتراه بعرض قيمته كذا، ولا يقتصر على ذكر القيمة. وإن اشتراه بدين
على البائع، فإن كان مليئا غير مماطل، لم يجب الاخبار به. وإن كان مماطلا،
وجب.
فرع يجوز أن يبيع مرابحة بع ض ما اشتراه، ويذكر قسطه من الثمن. وكذا
189

لو اشترى قفيزي حنطة ونحوها، وباع أحدهما مرابحة.
ولو اشترى عبدين أو ثوبين، وأراد بيع أحدهما مرابحة، فطريقه أن يعرف قيمة
كل واحد منهما يوم الشراء، ويوزع الثمن على القيمتين، ثم يبيعه بحصته من
الثمن.
فرع يجب الاخبار بالعيوب الحادثة في يده، سواء حدث العيب بآفة
سماوية، أو بجنايته، أو بجناية غيره، سواء نقص العين، أو القيمة.
ولو اطلع على عيب قديم، فرضي به، ذكره في المرابحة.
ولو تعذر رده بعيب حادث وأخذ الأرش، فإن باعه بلفظ قام علي، حط
الأرش، وإن باع بلفظ ما اشتريت، ذكر ما جرى به العقد والعيب، وأخذ
الأرش.
ولو أخذ أرش جنايته، ثم باعه، فإن باع بلفظ ما اشتريت، ذكر الثمن
والجناية. وإن باع بلفظ قام علي فوجهان. أحدهما: أنه كالكسب والزيادات،
والمبيع قائم عليه بتمام الثمن. وأصحهما: يحط الأرش من الثمن، كأرش
العيب. والمراد من الأرش هنا: قدر النقص، لا المأخوذ بتمامه.
فإذا قطعت يد العبد، وقيمته مائة فنقص ثلاثين، أخذ خمسين من الجاني،
وحط من الثمن ثلاثين، لا خمسين، هذا هو الصحيح. وفي وجه: يحط جميع
المأخوذ من الثمن، وهو شاذ. ولو نقص من القيمة أكثر من الأرش المقدر، حط ما
أخذ من الثمن، وأخبر عن قيامه عليه بالباقي، وأنه نقص من قيمته كذا.
فرع لو اشتراه بغبن، لزم الاخبار به على الأصح عند الأكثرين. واختار
الامام والغزالي: أنه لا يلزم. ولو اشترى من ابنه الطفل، وجب الاخبار به، لان
الغالب في مثله الزيادة، نظرا للطفل، ودفعا للتهمة. ولو اشترى من أبيه أو ابنه
190

الرشيد، لم يجب الاخبار به على الأصح باتفاقهم، كالشراء من زوجته ومكاتبه. وفي
الشامل ما يقتضي ترددا في المكاتب.
فرع لو اشتراه بثمن مؤجل، وجب الاخبار به على الصحيح.
فرع لا يجب الاخبار بوطئ الثيب، ولا مهرها الذي أخذه، ولا الزيادات
المنفصلة، كالولد، واللبن، والصوف، والثمرة. ولو كانت حاملا يوم الشراء، أو
كان في ضرعها لبن، أو على ظهرها صوف، أو على النخلة طلع، فاستوفاها، حط
بقسطها من الثمن. وهذا في الحمل بناء على أنه يأخذ قسطا من الثمن.
فصل لو قال: اشتريت بمائة، وباعه مرابحة، ثم بان أنه اشتراه بتسعين
بإقراره أو ببينة، فالبيع صحيح على الصحيح.
فعلى هذا، كذبه ضربان، خيانة، وغلط. وفي الضربين، قولان.
أظهرهما: يحكم بسقوط الزيادة وحصتها من الربح. والثاني: لا تسقط. فإن قلنا
بالسقوط، ففي ثبوت الخيار للمشتري طريقان. أصحهما: على قولين.
أظهرهما: لا خيار. والثاني: يثبت. والطريق الثاني: إن بان كذبه بالبينة، فله
الخيار. وإن بان بالاقرار، فلا، لأنه إذا ظهر بالبينة، لا يؤمن خيانة أخرى،
والاقرار يشعر بالأمانة. فإن قلنا: لا خيار، أو قلنا به، فأمسك بما بقي بعد الحط،
فهل للبائع خيار؟ وجهان. وقيل: قولان. أصحهما: لا. وقيل الوجهان في صورة
الخيانة.
وأما في صورة الغلط، فله الخيار قطعا. وإن قلنا بعدم السقوط، فللمشتري
191

الخيار، إلا أن يكون عالما بكذب البائع، فيكون كمن اشترى معيبا وهو يعلمه.
وإذا ثبت الخيار، فقال البائع: لا تفسخ، فإني أحط عنك الزيادة، ففي سقوط
خياره، وجهان. وجميع ما ذكرناه، إذا كان المبيع باقيا. فأما إذا ظهر الحال بعد
هلاك المبيع، فقطع الماوردي بسقوط الزيادة وربحها. والأصح: طرد القولين.
قلت: هذا الذي قطع به الماوردي، نقله صاحب المهذب والشاشي عن
أصحابنا مطلقا. والله أعلم.
فإن قلنا بالسقوط، فلا خيار للمشتري. وأما البائع، فإن لم يثبت له الخيار
عند بقاء السلعة، فكذا هنا، وإلا، فيثبت هنا، وإن قلنا بعدم السقوط، فهل
للمشتري الفسخ؟ وجهان. أصحهما: لا، كما لو علم العيب بعد تلف المبيع،
لكن يرجع بقدر التفاوت وحصته من الربح، كما يرجع بأرش العيب. ولو اشتراه
بمؤجل فلم يبين الأجل، لم يثبت في حق المشتري الثاني، ولكن له الخيار، وكذا
إذا ترك شيئا آخر مما يجب ذكره. قال الغزالي: إذا لم يخبر عن العيب، ففي
استحقاق حط قدر التفاوت القولان في الكذب - ولم أر لغيره تعرضا لذلك - فإن ثبت
الخلاف، فالطريق على قول الحط النظر إلى القيمة وتقسيط الثمن عليها.
قلت: المعروف في المذهب: أنه لا حط بذلك، ويندفع الضرر عن
المشتري بثبوت الخيار. والله أعلم.
فرع إذا كذب بالنقصان فقال: كان الثمن، أو رأس المال، أو ما قامت به
السلعة مائة، وباع مرابحة، ثم قال: غلطت، إنما هو مائة وعشرة، فينظر، إن
صدقه المشتري، فوجهان. أحدهما: يصح البيع، كما لو غلط بالزيادة، وبه
قطع الماوردي، والغزالي في الوجيز، وأصحهما عند الامام والبغوي: لا
يصح، لتعذر إمضائه.
قلت: الأول: أصح، وبه قطع المحاملي، والجرجاني، وصاحب
المهذب، والشاشي، وخلائق. والله أعلم.
فإن قلنا بالأول، فالأصح: أن الزيادة لا تثبت، لكن للبائع الخيار.
192

والثاني: أنها ثبت مع ربحها، وللمشتري الخيار. وإن كذبه المشتري، فله
حالان. أحدهما: أن لا يبين للغلط وجها محتملا، فلا يقبل قوله، ولو أقام
بينة، لم تسمع. فلو زعم أن المشتري عالم بصدقه، وطلب تحليفه أنه لا يعلم،
فهل له ذلك؟ وجهان.
قلت: أصحهما: له تحليفه، وبه قطع المحاملي في المقنع وغيره. والله
أعلم.
فإن قلنا: يحلفه، فنكل، ففي رد اليمين على المدعي، وجهان.
قلت: أصحهما: ترد. والله أعلم.
وإذا قلنا: يحلف المشتري، حلف على نفي العلم، فإن حلف، أمضي
العقد على ما حلف عليه. وإن نكل، ورددنا اليمين، فالبائع يحلف على القطع.
وإذا حلف، فللمشتري الخيار بين إمضاء العقد بما حلف عليه، وبين الفسخ، كذا
أطلقوه. ومقتضى قولنا: إن اليمين المردودة مع نكول المدعى عليه كالاقرار، أن
يعود فيه ما ذكرنا في حالة التصديق.
الحال الثاني: أن يبين للغلط وجها محتملا، بأن يقول: إنما اشتراه وكيلي
وأخبرت أن الثمن مائة فبان خلافه، أو ورد علي منه كتاب فبان مزورا، أو كنت
راجعت جريدتي، فغلطت من ثمن متاع إلى غيره، فتسمع دعواه للتحليف. وقيل
بطرد الخلاف في التحليف. فإن قلنا: لا يحلف، لم تسمع بينته، وإلا، سمعت
على الأصح.
فصل قوله في المرابحة: بعتك بكذا، يقتضي أن يكون الربح من جنس
الثمن الأول، ولكن يجوز جعل الربح من غير جنس الأصل. ولو قال: اشتريت
193

بكذا، وبعتك به وربح درهم على كل عشرة، فالربح يكون من نقد البلد، لاطلاقه
الدراهم، ويكون الأصل مثل الثمن، سواء كان من نقد البلد أو غيره.
فصل لو اتهب بغير عوض، لم يجز بيعه مرابحة إلا أن يبين القيمة، ويبيع
بها مرابحة. ولو اتهب بشرط الثواب، ذكره وباع به مرابحة، وإذا أجر دارا بعبد، أو
نكحت على عبد، أو خالعها على عبد، أو صالح من دم عليه، لم يجز بيع العبد
مرابحة بلفظ الشراء، ويجوز بلفظ قام علي. ويذكر في الإجارة، أجرة مثل
الدار. وفي النكاح والخلع، مهر المثل. وفي الصلح، الدية.
فصل أطبقوا على تصوير المرابحة، فيما إذا قال: بعتك بما اشتريت
وربح كذا، وبما قام علي، ولم يذكروا فيه خلافا. وذكروا فيما إذا قال: أوصيت له
بنصيب ابني، وجها أنه لا يصح، وإنما يصح، إذا قال: بمثل نصيب ابني،
فكأنهم اقتصروا هنا على الأصح، وإلا، فلا فرق بين البابين.
قلت: هذا التأويل، خلاف مقتضى كلامهم، والفرق ظاهر، فإن السابق إلى
الفهم من قوله: بما اشتريت، أن معناه: بمثل ما اشتريت، وحذفه اختصار، ولا
يظهر هذا التقدير في الوصية. والله أعلم.
القسم الثالث: فيما يطلق من الألفاظ في المبيع، وهي ستة.
الأول: لفظ الأرض، وفي معناها، البقعة، والساحة، والعرصة. فإذا
قال: بعتك هذه الأرض، وكان فيها أبنية وأشجار، نظر، إن قال: دون ما فيها من
الشجر والبناء، لم تدخل الأشجار والأبنية في البيع. وإن قال: بما فيها، دخلت.
وكذا إن قال: بعتكها بحقوقها على الصحيح. فإن أطلق، فنص هنا أنها تدخل.
ونص فيما لو رهن الأرض، وأطلق: أنها لا تدخل. وللأصحاب طرق. أصحها
عند الجمهور: تقرير النصين. والثاني: فيهما قولان. والثالث: القطع بعدم
194

الدخول فيهما، قاله ابن سريج، واختاره الامام، والغزالي.
فصل الزرع، ضربان. الأول: ما يؤخذ دفعة واحدة، كالحنطة والشعير، فلا يدخل في مطلق بيع
الأرض. ويصح بيع الأرض المزروعة على المذهب، كما لو باع دارا مشحونة
بأمتعته. وقيل: يخرج على القولين في بيع المستأجرة. فإذا قلنا بالمذهب،
فللمشتري الخيار إن جهل الحال، بأن كانت رؤية الأرض سابقة على البيع، وإلا،
فلا. وهل يحكم بمصير الأرض في يد المشتري ودخولها في ضمانه إذا خلى
البائع بينه وبينها؟ وجهان. أحدهما: لا، لأنها مشغولة فاشتبهت المشحونة
بأمتعته. وأصحهما: نعم، لحصول تسليم الرقبة المبيعة. ويخالف الدار، فإن
تفريغها ممكن في الحال وقد سبق فيها خلاف.
فرع إذا كان في الأرض جزر أو فجل أو سلق أو ثوم، لم يدخل في بيع
الأرض كالحنطة.
195

واعلم أن كل زرع لا يدخل عند الاطلاق، لا يدخل وإن قال: بحقوقها.
فرع الضرب الثاني: ما تؤخذ ثمرته مرة بعد أخرى في سنتين أو أكثر، كالقطن
الحجازي، والنرجس، والبنفسج، فالظاهر من ثمارها عند بيع الأرض يبقى
للبائع. وفي دخول الأصول، الخلاف السابق في الأشجار. وحكي وجه في
النرجس والبنفسج: أنهما من الضرب الأول. وأما ما يجز مرارا، كالقت،
والقصب، والهندباء، والنعنع، والكرفس، والطرخون، فتبقى جزتها الظاهرة عند
البيع للبائع. وفي دخول الأصول، الخلاف. وعن الشيخ أبي محمد، القطع
بدخولها في بيع الأرض. وإذا قلنا: بدخولها، فليشترط على البائع قطع الجزة
الظاهرة، لأنها تزيد، ويشتبه المبيع بغيره. وسواء كان ما ظهر بالغا أوان الجز، أم
لا. قال في التتمة: إلا القصب، فلا يكلف قطعه، إلا أن يكون ما ظهر قدرا
ينتفع به. ولو كان في الأرض أشجار خلاف تقطع من وجه الأرض، فهي
كالقصب.
فرع لو كانت الأرض المبيعة مبذورة، ففي البذر الكامن مثل التفصيل
196

المذكور في الزرع. فالبذر الذي لا ثبات لنباته، ويؤخذ دفعة واحدة، لا يدخل في
بيع الأرض، ويبقى إلى أوان الحصاد، وللمشتري الخيار إن كان جاهلا به، فإن
تركه البائع له، سقط خياره، وعليه القبول، ولو قال: آخذه وأفرغ الأرض، سقط
الخيار أيضا إن أمكن ذلك في زمن يسير. والبذر الذي يدوم، كنوى النخيل،
والجوز، واللوز، وبذر الكراث ونحوه من البقول، حكمه في الدخول تحت بيع
الأرض، حكم الأشجار. وجميع ما ذكرنا في المسألتين، هو فيمن أطلق بيع
الأرض. فأما إن باعها مع الزرع أو البذر، فسنذكره في اللفظ السادس إن شاء الله
تعالى.
فصل الحجارة إن كانت مخلوقة في الأرض، أو مثبتة، دخلت في بيع
الأرض. فإن كانت تضر بالزرع والغرس، فهو عيب إن كانت الأرض تقصد لذلك.
وفي وجه ضعيف: أنه ليس بعيب، وإنما هو فوات فضيلة. وإن كانت مدفونة فيها،
لم تدخل في البيع، كالكنوز والأقمشة في الدار. ثم إن كان المشتري عالما به، فلا
خيار له في فسخ العقد، وله إجبار البائع على القلع والنقل، تفريغا لملكه، بخلاف
الزرع، فإن له أمدا ينتظر، ولا أجرة للمشتري في مدة القلع والنقل وإن طالت،
كما لو اشترى دارا فيها أقمشة يعلمها، فلا أجرة له في مدة نقلها، ويجب على البائع
إذا نقل تسوية الأرض. وإن كان جاهلا، فللحجارة مع الأرض، أربعة أحوال.
أحدها: أن لا يكون في قلعها ولا في تركها ضرر، بأن لا يحوج النقل وتسوية
الأرض إلى مدة لمثلها أجرة، ولا تنقص الأرض بها، فللبائع النقل، وعليه تسوية
الأرض، ولا خيار للمشتري، وله إجبار البائع على النقل على الصحيح. وفي
وجه: لا يجبره، والخيار للبائع.
الحال الثاني: أن لا يكون في قلعها ضرر، ويكون في تركها ضرر، فيؤمر
البائع بالنقل. ولا خيار للمشتري، كما لو اشترى دارا، فلحق سقفها خلل يسير
يمكن تداركه في الحال، أو كانت منسدة البالوعة، فقال البائع: أنا أصلحه
197

وأنقيها، لا خيار للمشتري.
الحال الثالث: أن يكون القلع والترك مضرين، فللمشتري الخيار، سواء
جهل أصل الأحجار، أو كون قلعها مضا، ولا يسقط خياره بترك البائع الأحجار لان
لقاءها مضر. وهل يسقط بقول البائع: لا تفسخ لأغرم لك أجرة المثل مدة النقل؟
وجهان. أصحهما: لا، كما لو قال البائع: لا تفسخ بالعيب لأغرم لك الأرش. ثم
إن اختار المشتري إمضاء البيع، لزم البائع النقل، وتسوية الأرض، سواء كان النقل
قبل القبض أو بعده. وهل تجب أجرة المثل لمدة النقل قبل
القبض بني على أن جناية البائع قبل القبض كآفة سماوية، أم كجناية الأجنبي؟ إن
قلنا بالأول، لم تجب، وإلا، فهو كما لو نقل بعد القبض. وإن كان النقل بعد
القبض، ففي وجوبها وجهان. أصحهما عند الأكثرين: تجب، كما لو جنى على
المبيع بعد القبض، عليه ضمانه. وإن اختصرت قلت: في الأجرة أوجه. أصحها
ثالثها: إن كان النقل قبل القبض، لم يجب، وبعده، يجب. ويجري هذا
الخلاف في وجوب الأرش لو بقي في الأرض بعد التسوية عيب.
الحال الرابع: أن يكون في قلعها ضرر، وليس في تركها ضرر، فللمشتري
الخيار، فإن أجاز، ففي وجوب الأجرة والأرش ما سبق، ولا يسقط خياره بقول
البائع: اقلع وأغرم الأجرة أو أرش النقص، قاله في التهذيب. ويجئ فيه
الخلاف المذكور في الحالة الثالثة.
ولو رضي بترك الأحجار في الأرض، سقط خيار المشتري. ثم ينظر، إن
قال: تركتها للمشتري، فهل هو تمليك للمشتري، أم مجرد إعراض لقطع
الخصومة؟ وجهان. كالوجهين في ترك نعل الدابة المردودة بالعيب. أصحهما:
الثاني. فإن قلنا بالأول، فلو قلعها المشتري يوما، فهي له.
ولو أراد البائع الرجوع فيها، لم يكن له. وإن قلنا بالثاني، فهي للبائع. فلو
أراد الرجوع، قال الأكثرون: له ذلك، ويعود خيار المشتري. وقال الامام: لا
198

رجوع له، ويلزمه الوفاء بالترك. وإن قال: وهبتها لك، واجتمعت شرائط الهبة،
حصل الملك، وقيل بطرد الخلاف. فإن لم تجتمع، ففي صحتها للضرورة،
وجهان. فإن صححنا، ففي حصول الملك ما ذكرنا في لفظ الترك. وجميع ما
ذكرنا، إذا كانت الأرض بيضاء. أما إذا كان فيها غراس، فينظر، إن كان حاصلا
يوم البيع واشتراه مع الأرض، فنقصان الغراس وتعيبه بالأحجار، كتعيب الأرض في
إثبات الخيار وسائر الأحكام. وإن أحدثه المشتري عالما بالأحجار، فللبائع قلعها،
وليس عليه ضمان نقص الغراس. وإن أحدثه جاهلا، لم يثبت الخيار على
الأصح، لان الضرر راجع إلى غير المبيع. فإن كانت الأرض تنقص أيضا
بالأحجار، نظر، إن لم يحصل بالغرس وقلع المغروس نقص في الأرض، فله
القلع والفسخ. وإن حصل، فلا خيار في الفسخ، إذ لا يجوز رد المبيع ناقصا،
لكن يأخذ الأرش. وإذا قلع البائع، فنقص الغراس، لزمه أرش النقص بلا
خلاف، أما إذا كان فوق الأحجار زرع للبائع أو للمشتري، ففي التهذيب: أنه
يترك إلى أوان الحصاد، لان له غاية منتظرة، بخلاف الغراس. ومنهم من سوى بينه
وبين الغراس.
قلت: الأصح: قول صاحب التهذيب، وقد وافقه جماعة. قال صاحب
الإبانة: إذا قلع البائع الأحجار بعد الحصاد، فعليه تسوية الأرض. والله أعلم.
فرع هل له الأجرة في مدة بقاء الزرع؟ قطع الجمهور، بأن لا أجرة.
وقيل: وجهان. الأصح: لا أجرة، وتقع تلك المدة مستثناة، كمن باع دارا
مشحونة بأمتعة، لا يستحق المشتري أجرة لمدة التفريغ.
فرع تكلم إمام الحرمين، في أن الأصحاب رحمهم الله، لم يوجبوا على
هادم الجدار إعادته، بل أوجبوا أرشه، وأوجبوا تسوية الحفر على البائع والغاصب،
وأجاب عنه، بأن طم الحفر لا يكاد يتفاوت، وهيئات الأبنية تتفاوت، فشبه الطم
بذوات الأمثال، والجدار بذوات القيم. حتى لو رفع لبنة أو لبنتين من رأس جدار،
وأمكن الرد من غير خلل في الهيئة، فهو كطم الحفر. وفي وجوب إعادة الجدار،
خلاف نذكره في الصلح إن شاء الله تعالى.
199

واللفظ الثاني: البستان، والباغ - بالغين المعجمة -، وهو بمعنى البستان.
فإذا قال: بعتك هذا الباغ أو البستان، دخل في البيع الأرض والأشجار والحائط.
وفي دخول البناء الذي فيه، ما سبق في دخوله في لفظ الأرض، وفي العريش الذي
توضع عليه القضبان تردد للشيخ أبي محمد. والظاهر عند الامام: دخوله. وذكروا
أن لفظ الكرم، كلفظ البستان. لكن العادة في نواحينا، إخراج الحائط عن مسمى
الكرم، وإدخاله في مسمى البستان. ولكن لا يبعد أن يكون الحكم على ما استمر
الاصطلاح عليه. ولو قال: هذه الدار، البستان، دخل الأبنية والأشجار جميعا.
ولو قال: هذا الحائط، البستان، أو هذه المحوطة، دخل الحائط المحوط وما فيه
من الأشجار، وفي البناء، الخلاف السابق، كذا ذكره في التهذيب، ولا يظهر
في لفظ المحوطة فرق بين الأبنية والأشجار، فليدخلا، أو ليكونا على الخلاف.
فرع لو قال: بعتك هذه القرية، دخلت الأبنية والساحات التي يحيط بها
السور. وفي الأشجار وسطها، الخلاف. الصحيح: دخولها. وفي المزارع،
ثلاثة أوجه. الصحيح الذي عليه الجمهور: لا تدخل، سواء قال: بحقوقها، أم لا، بل
لا تدخل إلا بالنص على المزارع. والثاني قاله إمام الحرمين: تدخل.
والثالث قاله ابن كج: إن قال: بحقوقها، دخلت، وإلا، فلا.
قلت: قد قال الغزالي وغيره: بعتك الدسكرة كبعتك القرية. والله
أعلم
اللفظ الثالث: الدار، فإذا قال: بعتك هذه الدار، دخلت الأرض والأبنية
جميعها، حتى يدخل الحمام المعدود من مرافقها. وحكي عن نصه: أن الحمام لا
يدخل، وحملوه على حمامات الحجاز، وهي بيوت من خشب تنقل. ولو كان في
وسطها شجر، ففي دخوله الخلاف السابق في لفظ الأرض. ونقل الامام في
200

دخولها، ثلاثة أوجه. ثالثها: إن كثرت بحيث يجوز تسمية الدار بستانا، لم
تدخل، وإلا، دخلت.
وأما الآلات في الدار، فثلاثة أضرب.
أحدها: المنقولات، كالدلو، والبكرة، والرشاء، والمجارف، والسرر،
والرفوف الموضوعة على الأوتاد، والسلالم التي لم تسمر ولم تطين، والأقفال،
والكنوز، والدفائن، فلا يدخل شئ منها.
وفي مفتاح المغلاق المثبت، وجهان. أصحهما: يدخل. ويجري الوجهان
في ألواح الدكاكين، وفي الأعلى من حجري الرحى.
الضرب الثاني: ما أثبت تتمة للدار ليبقى فيها، كالسقف والأبواب المنصوبة
وما عليها من الاغلاق والحلق والسلاسل والضبات، فتدخل قطعا.
الثالث: ما أثبت على غير هذا الوجه، كالرفوف والدنان والأجانات المثبتة
والسلالم المسمرة، والأوتاد المثبتة في الأرض، أو في الجدار، والأسفل من
حجري الرحى، وخشب القصار، ومعجن الخباز، فيدخل كل ذلك على
الأصح، لثباتها.
وأشار إمام الحرمين إلى القطع بدخول الحجرين في البيع باسم الطاحونة،
وتدخل الأجانات المثبتة إذا باع باسم المدبغة والمصبغة، وإن الخلاف إنما
هو في البيع باسم الدار. وفي التتمة ما يقتضي التسوية بين اسم الدار والمدبغة.
201

قلت: ويجري الوجهان في قدر الحمام، قاله في التتمة. والله أعلم.
فرع لا تدخل مسايل الماء في بيع الأرض، ولا يدخل فيه شربها من القناة
والنهر المملوكين، إلا أن يشرطه، أو يقول: بحقوقها. وفي وجه: لا يكفي ذكر
الحقوق.
فرع لو كان في الدار المبيعة بئر ماء، دخلت في البيع، والماء الحاصل
في البئر حال البيع، لا يدخل على الصحيح. وفي وجه: يدخل، كالثمرة التي لم
تؤبر، للعرف. وإن شرط دخوله في البيع، صح على قولنا: الماء مملوك، بل لا
يصح البيع دون هذا الشرط، وإلا، اختلط الماء الموجود للبائع بماء يحدث
للمشتري، وانفسخ البيع.
قلت: هذا الشرط على قولنا: الماء مملوك. فإن قلنا: لا يملك، صح البيع
مطلقا، بل لا يجوز شرطه، لأنه لا يملكه، ويكون المشتري أحق به، لأنه في
يده، كما لو توحل صيد في أرضه. والله أعلم.
وذكر الخلاف في الماء وفروعه، يأتي في إحياء الموات إن شاء الله تعالى.
فرع لو كان في الأرض أو الدار معدن ظاهر، كالنفط، والملح، والقار،
والكبريت، فهو كالماء. وإن كان باطنا، كالذهب، والفضة، دخل في البيع، إلا
أنه لا يجوز بيع ما فيه معدن ذهب بالذهب، بسبب الربا. وفي بيعه بالفضة قولان،
للجمع بين الصرف والبيع في صفقة.
فرع باع دارا في طريق غير نافذ، دخل حريمها في البيع. وفي دخول
الأشجار، الخلاف السابق. وإن كان في طريق نافذ، لم يدخل الحريم والأشجار
202

في البيع، بل لا حريم لمثل هذه الدار، مما سنذكره في إحياء الموات إن شاء الله
تعالى.
اللفظ الرابع: العبد، إذا ملك السيد عبده مالا، لم يملكه على الأظهر. فلو
ملكه، ثم باعه، لم يدخل المال في البيع. فإن باعه مع المال، فإن قلنا: لا
يملك، اعتبر في المال شروط المبيع. حتى لو كان مجهولا أو غائبا، أو دينا والثمن
دين، أو ذهبا والثمن ذهب، لم يصح. فلو كان ذهبا، والثمن فضة، أو عكسه،
ففيه قولا الجمع بين بيع وصرف. وإن قلنا: يملك، فقد نص أن المال ينتقل إلى
المشتري مع العبد، وأنه لا بأس بجهالته وغيبته.
واختلفوا في سبب احتمال ذلك، فقال الإصطخري: لان المال تابع،
ويحتمل في التابع ما لا يحتمل في الأصل، كما يحتمل الجهل بحقوق الدار.
والأصح عند الأصحاب، ما قاله ابن سريج وأبو إسحاق: أن المال ليس مبيعا أصلا
ولا تبعا، ويكون شرطه تبقية له على العبد كما كان، فللمشتري انتزاعه كما كان للبائع
(الانتزاع). فعلى هذا، لو كان الثمن ربويا، والمال من جنسه، فلا بأس.
وعلى الأول: لا يجوز. ولا يحتمل الربا في التابع، كما لا يحتمل في الأصل.
فرع الثياب التي على العبد في دخولها في بيعه، أوجه. أصحها: لا
يدخل شئ منها. والثاني: تدخل. والثالث: يدخل ساتر العورة فقط. ولا
يدخل عذار الدابة في بيعها على الأصح كالسرج، ويدخل النعل، وبرة الناقة، إلا
أن يكون من ذهب.
203

اللفظ الخامس: الشجر، فإذا باع الشجرة مطلقا، دخلت الأغصان لكن لا
يدخل الغصن اليابس في بيع الشجرة الرطبة، لان العادة قطعة كالثمار، وقال في
التهذيب: ويحتمل أن يدخل كالصوف على الغنم، وتدخل العروق
والأوراق، إلا أن شجرة الفرصاد إذا بيعت في الربيع وقد خرجت أوراقها،
ففي دخولها وجهان. أصحهما: الدخول كغير وقت الربيع،
وتدخل أوراق شجر النبق على المذهب، وقيل: كالفرصاد.
قلت: وتدخل الكمام تحت اسم الشجرة، لأنها تبقى بقاء الأغصان، قاله في
الوسيط. والله أعلم.
ولو باع شجرة يابسة نابتة، لزم المشتري تفريغ الأرض منها، للعادة. وقال
في التتمة: لو شرط إبقاءها، بطل البيع، كما لو اشترى ثمرة مؤبرة وشرط عدم
القطع عند الجداد، وإن باعها بشرط القطع، جاز. وتدخل العروق في البيع عند
شرط القلع، ولا تدخل عند شرط القطع، بل تقطع عن وجه الأرض. وإن كانت
الشجرة رطبة، فباعها بشرط الابقاء أو بشرط القلع، اتبع الشرط، وإن أطلق، جاز
الابقاء للعادة. وهل يدخل المغرس في البيع؟ وجهان. أصحهما: لا، لان
الاسم لا يتناوله، فإن أدخلناه فانقلعت الشجرة، أو قلعها المالك، كان له غرس
بدلها، وله بيع المغرس، وإلا، فلا. ويجري الوجهان، فيما لو اشترى أرضا
وشرط البائع لنفسه شجرة، هل يبقى له المغرس، أم لا؟
قلت: وإذا لم يدخل المغرس في الصورة الأولى، فليس للبائع قلع الشجرة
204

مجانا. وهل يجب عليه إبقاؤها ما أراد المشتري، أم له قلعها بغير رضاه ويغرم ما
نقص بالقلع كالعارية؟ وجهان محكيان في النهاية والبسيط في كتاب
الرهن. أصحهما: الأول. والله أعلم.
فصل في بيان الحال الذي تندرج فيه الثمرة في بيع الشجرة
النخل، ذكور وإناث. ومعظم المقصود من الذكور، استصلاح الإناث بها. والذي
يبدو فيها أولا أكمة صغار، ثم تكبر وتطول حتى تصير كأذان الحمر. فإذا كبرت،
شققت فظهرت العناقيد في أوساطها، فيذر فيها طلع الذكور ليكون رطبها أجود.
والتشقيق وذر الطلع فيها، يسمى: التأبير، ويسمى: التلقيح. ثم الأكثرون يسمون
الكمام الخارج كله: طلعا. والامام خص اسم الطلع بما يظهر من النور على العنقود
عند تشقق الكمام. ثم المتعهدون للنخل، لا يؤبرون جميع الكمام، بل يكتفون
بتأبير البعض، ويتشقق الباقي بنفسه، وتنبث ريح الذكور إليه. وقد لا يؤبر في ا
لحائط شئ، وتتشقق الأكمة بنفسها، إلا أن رطبه لا يجئ جيدا. وكذا الخارج
من الذكور، يتشقق بنفسه، ولا يشقق غالبا. فإذا باع نخلة عليها ثمرة، فإن شرطت
لأحدهما، اتبع الشرط. وإن أطلقا، فإن كانت شققت أو تشققت بنفسها، فهي
للبائع، وإلا، فللمشتري. وإن باع الذكور من النخل بعد تشقق طلعها، فالطلع
للبائع، وإلا، فوجهان. أصحهما: للمشتري. والثاني: للبائع.
فرع ما عدا النخل من الشجر، أقسام.
أحدها: ما يقصد منه الورق، كشجر الفرصاد، وقد ذكرناه. قال في
البيان: وشجر الحناء ونحوه، يجوز أن يكون فيه خلاف كالفرصاد، ويجوز أن
يقطع بأنه إذا ظهر ورقه، كان للبائع، لأنه لا ثمر لها سوى الورق، بخلاف
الفرصاد، فإن له ثمرة مأكولة.
القسم الثاني: ما يقصد منه الورد، وهو ضربان.
205

أحدهما: يخرج في كمام، ثم يتفتح كالورد الأحمر. فإذا بيع أصله بعد
خروجه وتفتحه، فهو للبائع كطلع النخل المتشقق. إن بيع قبل تفتحه، فللمشتري
على الأصح.
والضرب الثاني: يخرج ورده ظاهرا كالياسمين. فإن خرج ورده، فللبائع،
وإلا، فللمشتري.
القسم الثالث: ما يقصد منه الثمرة، وهو نوعان. ما تخرج ثمرته بارزة بلا
قشر ولا كمام، كالتين، والعنب، فهو كالياسمين. والثاني: ما تخرج بهما، وهو
ضربان.
أحدهما: ما تخرج ثمرته في نور، ثم يتناثر نوره فتبرز الثمرة بلا حائل،
كالمشمش، والتفاح، والكمثرى وشبهها. فإن باع الأصل قبل انعقاد الثمرة،
انعقدت للمشتري وإن كان النور قد خرج. وإن باعه بعد الانعقاد وتناثر النور،
فللبائع. وإن باعه بعد الانعقاد وقبل تناثر النور، فوجهان. أصحهما وهو نصه:
أنها للمشتري. والثاني: للبائع
الثاني: ما يبقى له حائل على الثمرة المقصودة، وهو صنفان.
أحدهما: له قشر واحد كالرمان. فإذا بيع أصله وقد ظهر الرمان، فهو
للبائع، وإلا، فهو للمشتري.
والثاني: ما له قشران، كالجوز واللوز والفستق والرانج. فإن باعها قبل
خروجها، فالذي يخرج للمشتري، وإلا، فللبائع. ولا يعتبر مع ذلك تشقق القشر
206

الاعلى على الأصح.
ثم من هذين الصنفين، ما تخرج ثمرته في قشر بغير نور، كالجوز والفستق.
ومنها: ما تخرج في نور، ثم يتناثر نوره، كالرمان، واللوز. وما ذكرناه من
حكمهما، هو فيما إذا بيع الأصل بعد تناثر النور. فإن بيع قبله، عاد فيه الكلام
السابق.
فرع القطن نوعان. أحدهما: له ساق يبقى سنين يثمر كل سنة، وهو
قطن الحجاز والشام والبصرة، فهو كالنخل، وإن بيع أصله قبل تشقق الجوزق،
فالثمر للمشتري، وإلا، فللبائع. والثاني: ما لا يبقى أكثر من سنة، هو كالزرع،
إن باعه قبل خروج الجوزق، أو بعده وقبل تكامل القطن، وجب شرط القطع. ثم
إن لم يقطع حتى خرج الجوزق، فهو للمشتري، لحدوثه في ملكه. قاله في
التهذيب: وإن باعه بعد تكامل القطن، فإن تشقق الجوزق، صح البيع مطلقا،
ودخل القطن في البيع، بخلاف الثمرة المؤبرة، لا تدخل، لان الشجرة مقصودة
لثمار جميع الأعوام، ولا مقصود هنا سوى الثمرة الموجودة. وإن لم يتشقق، لم
يصح البيع على الأصح، لان المقصود مستور بما ليس من صلاحه، بخلاف الجوز
واللوز في القشر الأسفل.
فرع لا يشترط لبقاء الثمرة على ملك البائع التأبير في كل كمام وعنقود،
بل إذا باع نخلة أبر بعضها، فالكل للبائع، وإن باع نخلات أبر بعضها فقط، فله
حالان.
أحدهما: أن يكون في بستان واحد، فينظر، إن اتحد النوع والصفقة،
فجميع الثمار للبائع. وإن أفرد بالبيع غير المؤبر، فالأصح أن الثمرة للمشتري،
والثاني للبائع اكتفاء بوقت التأبير عنه. وإن اختلف النوع، فالأصح أن الجميع
للبائع. وقال ابن خيران: غير المؤبر للمشتري، والمؤبر للجائع.
الحال الثاني: أن تكون في بستانين، فالمذهب: أنه يستفرد كل بستان
بحكمه. وقيل: هما كالبستان الواحد، سواء تباعد البستانان أو تلاصقا.
207

فرع باع نخلة وبقيت الثمرة له، ثم خرج طلع آخر من تلك النخلة، أو
من أخرى حيث يقتضي الحال اشتراكهما، فوجهان. أصحهما: الطلع الجديد
للبائع أيضا، لأنه من ثمرة العام. وقال ابن أبي هريرة: للمشتري، لحدوثه في
ملكه.
فرع جمع في صفقة ذكور النخل وإناثها، له حكم الجمع بين نوعين من
الإناث.
فرع قال في التهذيب: تشقق بعض جوز القطن، كتشقق كله. وما
تشقق من الورد، للبائع، وما لم يتشقق، للمشتر وإن كانا على شجرة واحدة،
ولا يتبع بعضه بعضا، بخلاف النخل، لان الورد يجنى في الحال، فلا يخاف
اختلاطه. قال: ولو ظهر بعض التين والعنب، فالظاهر للبائع، وغيره للمشتري،
وفي هذه الصورة نظر.
فصل إذا باع الشجرة، وبقيت الثمرة للبائع، فإن شرط القطع في
الحال، لزمه. وإن أطلق، فليس للمشتري تكليفه القطع في الحال، بل له الابقاء
إلى أوان الجداد وقطاف العنب. فإذا جاء وقت الجداد، لم يمكن من أخذها
على التدريج، ولا أن يؤخرها إلى نهاية النضج. ولو كانت الثمرة من نوع يعتاد قطعه
قبل النضج، كلف القطع على العادة.. ولو تعذر السقي لانقطاع الماء وعظم ضرر
النخل ببقاء الثمرة، فالأظهر أنه ليس له الابقاء. ولو أصاب الثمار آفة، ولم يكن في
تركها فائدة، فهل له الابقاء؟ قولان. وسقي الثمار عند الحاجة على البائع، وعلى
المشتري تمكينه من دخول البستان للسقي. فإن لم يأتمنه، نصب الحاكم أمينا
للسقي، ومؤنته على البائع. وإذا كان السقي ينفع الثمار والأشجار، فلكل واحد
208

السقي، وليس للآخر منعه. وإن كان يضر بهما، فليس لأحدهما السقي إلا برضى
الآخر، وإن أضر بالثمار ونفع الأشجار، فأراد المشتري السقي، فمنعه البائع،
فوجهان. أحدهما: له السقي. وأصحهما: أنه إن سامح أحدهما بحقه أقر، وإلا،
فسخ البيع، وإن أضر بالشجر ونفع الثمار، فتنازعا، فعلى الوجهين،
الأصح: يفسخ إن لم يسامح. والثاني: للبائع السقي. هذا نقل الجمهور. وقال
الامام: في الصورتين ثلاثة أوجه: أحدها: يجاب المشتري. والثاني: البائع.
والثالث: يتساويان. ولو كان السقي يضر بواحد، وتركه يمنع حصول زيادة للآخر،
ففي إلحاقه بتقابل الضرر، احتمالان عند الامام. ولو لم يسق البائع، وتضرر
المشتري ببقاء الثمار لامتصاصها رطوبة الشجر، أجبر على السقي أو القطع. فإن
تعذر السقي لانقطاع الماء، ففيه القولان السابقان.
قلت: هذان القولان، فيما إذا كان للبائع نفع في ترك الثمرة. فإن لم يكن،
وجب القطع بلا خلاف، كذا قاله الامام، وصاحب التهذيب. والله أعلم.
اللفظ السادس: الثمار، وهي تباع بعد بدو الصلاح وقبله.
الحالة الأولى: إذا بيعت بعد بدو الصلاح، جاز مطلقا، وبشرط إبقائها إلى
وقت الجداد، وبشرط القطع، سواء كانت الأصول للبائع، أم للمشتري، أم
لغيرهما. فإن أطلق، فله الابقاء إلى وقت الجداد، ولا يجوز بيع الثمار بعد الصلاح
مع ما يحدث بعدها.
209

الثانية: إذا بيعت قبل بدو الصلاح، فإما أن تباع مفردة عن الشجر، وإما
معه.
الضرب الأول: المفردة. وللأشجار صورتان.
إحداهما: أن تكون للبائع الغلة أو للمشتري أو لغيرهما. فلا يجوز بيع
الثمار مطلقا، ولا بشرط الابقاء، ويجوز بشرط القطع بالاجماع. ولو كانت الكروم
في بلاد شديدة البرد بحيث لا تنتهي ثمارها إلى الحلاوة، واعتاد أهلها قطع
الحصرم، فوجهان. قال القفال: يجوز بيعها بغير شرط القطع، ويكون المعتاد
كالمشروط. ومنع الأكثرون ذلك. ويجري الخلاف فيما لو جرت عادة قوم بانتفاع ا
لمرتهن بالمرهون، حتى تنزل عادتهم على رأي منزله شرط الانتفاع، ويحكم بفساد
الرهن. ولو باع بشرط القطع، وجب الوفاء به. فلو تراضيا على تركه، فلا بأس،
ويكون بدو الصلاح، ككبر العبد الصغير. وإنما يجوز البيع بشرط القطع، إذا كان
المقطوع منتفعا به، كالحصرم واللوز ونحوهما. فأما ما لا منفعة فيه، كالجوز
والكمثرى، فلا يصح بيعه بشرط القطع أيضا.
الصورة الثانية: أن تكون الأشجار للمشتري، بأن يبيع إنسانا شجرة، وتبقى
الثمرة له، ثم يبيعه الثمرة، أو يوصي لانسان بالثمرة فيبيعها لصاحب الشجرة، ففي
اشتراط القطع، وجهان. أصحهما عند الجمهور: يشترط، ولكن لا يلزمه الوفاء
بالشرط هنا، بل له الابقاء، إذ لا معنى لتكليفه قطع ثماره عن أشجاره ولو باع
شجرة عليها ثمرة مؤبرة، فبقيت للبائع، فلا حاجة إلى شرط القطع، لأن المبيع هو
210

الشجرة، وهي غير متعرضة للعاهات، والثمرة مملوكة له بحكم الدوام. ولو كانت
الثمرة غير مؤبرة، فاستثناها لنفسه، ففي وجوب شرط القطع وجهان. أصحهما: لا
يجب، لأنه في الحقيقة استدامة لملكها. فعلى هذا، له الابقاء إلى وقت الجداد.
ولو صرح بشرط الابقاء، جاز. والثاني: يجب، ولا يصح التصريح بالابقاء.
قلت: قال الامام: إذا قلنا: يجب شرط القطع، فأطلق، فظاهر كلام
الأصحاب أن الاستثناء باطل، والثمرة للمشتري. قال: وهذا مشكل، فإن صرف
الثمرة إليه مع التصريح باستثنائها محال. قال: فالوجه عد الاستثناء المطلق شرطا
فاسدا مفسدا للعقد في الأشجار، كاستثناء الحمل. والله أعلم.
الضرب الثاني أن تباع الثمرة مع الشجر، فيجوز من غير شرط القطع، بل
لا يجوز شرط القطع.
قلت: لو قطع شجرة عليها ثمرة ثم باع الثمرة وهي عليها، جاز من غير
شرط القطع، لان الثمرة لا تبقى عليها، فيصير كشرط القطع. والله أعلم.
فرع لا يشترط للاستغناء عن شرط القطع بدو الصلاح في كل عنقود، بل
إذا باع ثمرة شجرة واحدة بدا الصلاح في بعضها، صح من غير شرط القطع. ولو
باع ثمار أشجار بدا الصلاح في بعضها، نظر، إن اختلف الجنس، لم يغير بدو
الصلاح في جنس حكم جنس آخر. فلو باع رطبا وعنبا بدا الصلاح في أحدهما
فقط، وجب شرط القطع في الآخر. وإن اتحد الجنس، فالكلام في اتحاد البستان
وتعدده. وإذا اتحد، ففي بيعها صفقة واحدة وإفراد ما لم يبد فيه الصلاح بالبيع.
وحكم الأقسام كلها على ما سبق في التأبير بلا فرق، حتى أن الأصح: أنه لا
211

تبعية عند الافراد، وأنه لا أثر لاختلاف النوع، وأنه لا يتبع بستان بستانا. ولو بدا
الصلاح في ملك غير البائع، ولم يبد في ملكه، فإن كانا في بستانين، فلا عبرة به
قطعا، وكذا إن كانا في بستان واحد على الأصح. ويجري الوجهان، فيما لو أبر
ملك غير البائع في بستان واحد. والأصح: أنه لا يكون للمبيع حكم المؤبر.
فرع يحصل بدو الصلاح بظهور النضج، ومبادئ الحلاوة، وزوال
العفوصة أو الحموضة المفرطتين، وذلك فيما لا يتلون، بأن يتموه ويلين، وفيما
يتلون، بأن يحمر أو يصفر أو يسود، وهذه الأوصاف وإن عرف بها بدو الصلاح،
فليس واحد منها شرطا فيه، لان القثاء لا يتصور فيه شئ منها، بل يستطاب أكله
صغيرا وكبيرا. وإنما بدو صلاحه، أن يكبر بحيث يجنى في الغالب ويؤكل، وإنما
يؤكل في الصغر على الندور. وكذا الزرع، لا يتصور فيه شئ منها، وبدو صلاحه
باشتداد الحب. قال صاحب التهذيب: بيع أوراق الفرصاد قبل تناهيها،
لا يجوز إلا بشرط القطع، وبعده يجوز مطلقا وبشرط القطع.
212

والعبارة الشاملة، أن يقال: بدو الصلاح في هذه الأشياء، ضرورتها إلي الصفة التي تطلب غالبا لكونها على تلك الصفة.
فرع بيع البطيخ قبل بدو صلاحه، لا يصح من غير شرط القطع،
فإن بدا الصلاح في كله أو بعضه، نظر، إن كان يخاف خروج غيره، فلا بد
من شرط القطع، فإن شرط فلم يقطع حتى اختلط، ففي انفساخ البيع قولان يأتي
نظيرهما إن شاء الله تعالى. وإن كان لا يخاف خروج غيره، جاز بيعه من غير شرط
القطع. هذا إذا أفرد البطيخ بالبيع، ووراءه حالتان.
إحداهما: لو أفرد أصوله بالبيع، قال العراقيون وغيرهم: يجوز، ولا حاجة
إلى شرط القطع إذا لم يخف الاختلاط. ثم الحمل الموجود، يبقى للبائع، وما
يحدث، يكون للمشتري. وإن خيف اختلاط الحملين، فلا بد من شرط القطع.
فإن شرط، فلم يتفق حتى وقع الاختلاط، فطريقان سنذكرهما في نظيره إن شاء الله
تعالى. ولو باع الأصول قبل خروج الحمل، فلا بد من شرط القطع والقلع، كالزرع
الأخضر. وإذا شرط، ثم اتفق بقاؤه حتى خرج الحمل، فهو للمشتري.
الحالة الثانية: باع البطيخ مع أصوله، قال الامام والغزالي: لا بد من شرط
القطع، لان البطيخ مع أصوله متعرض للعاهة، بخلاف الشجرة مع الثمرة. فلو باع
البطيخ مع الأرض، استغني عن شرط القطع، والأرض كالشجر. ومقتضى ما
ذكرناه في بيع الأصول وحدها إذا لم يخف الاختلاط، أنه لا حاجة إلى شرط
القطع. والباذنجان ونحوه، كالبطيخ في الأحوال الثلاث.
فرع لابن الحداد لو باع نصف الثمار على رؤوس الشجر مشاعا قبل بدو
الصلاح، لم يصح. وعللوه بأن هذا البيع يفتقر إلى شرط القطع، ولا يمكن قطع
النصف إلا بقطع الكل، فيتضرر البائع بقطع غير المبيع، فأشبه ما إذا باع نصفا معينا
من سيف. وما ذكروه من أن قطع النصف لا يمكن إلا بقطع الجميع، إنما يستمر
بتقدير دوام الإشاعة وامتناع القسمة.
213

أما إذا جوزنا قسمة الثمار الرطبة بناء على أنها إفراز، فيمكن قطع النصف من
غير قطع الجميع، بأن يقسم أولا، فليكن منع البيع مبنيا على القول بامتناع
القسمة، لا مطلقا، وعلى هذا يدل كلام ابن الحداد. قال القاضي أبو الطيب: وهو
الصحيح.
ولو باع نصفها مع نصف النخل، صح وكانت الثمار تابعة. ولو كانت الثمرة
لواحد، والشجرة لآخر، فباع صاحب الثمرة صاحب الشجرة نصفها، فوجهان بناء
على اشتراط القطع هنا. ولو كانت الأشجار والثمار مشتركة بين رجلين، فاشترى
أحدهما نصيب شريكه من الثمرة، لم يصح.
ولو اشترى نصيب شريكه من الثمرة بنصيبه من الشجر، لم يجز مطلقا،
ويجوز بشرط القطع، لان جملة الثمار تصير لمشتري الثمرة، وجملة الشجر
للآخر، ويلزم مشترى الثمرة قطع الجميع، لأنه بهذه المعاملة التزم قطع النصف
المشترى، وتفريغ الأشجار لصاحبه، وبيع الشجرة على أن يفرغها البائع، جائز.
وكذا لو كانت الأشجار لأحدهما، والثمرة بينهما، فاشترى صاحب الشجر نصيب
صاحبه من الثمر بنصف الشجر على شرط القطع، جاز.
فرع لا يصح بيع الزرع الأخضر إلا بشرط القطع. فإن باعه مع
الأرض، جاز تبعا. وكذا لا يجوز بيع البقول في الأرض دون الأرض إلا بشرط
القطع أو القلع، سواء كان مما يجز مرارا، أو لا يجز إلا مرة، هكذا نقله صاحب
التهذيب وغيره في البقول. وقال الغزالي: بيع أصول البقول لا يتقيد بشرط
القطع، إذ لا تتعرض للآفة. وبيع الزرع بعد اشتداد حبه، كبيع الثمر بعد صلاحه،
214

فلا يحتاج إلى شرط القطع.
فرع يشترط ظهور المقصود. فإذا باع ثمرة لا كمام لها، كالتين والعنب
والكمثرى، جاز، سواء باعها على الشجرة، أو على الأرض.
ولو باع الشعير أو السلت مع سنبله، جاز بعد الحصاد وقبله، لان حباته
ظاهرة.
ولو كانت للثمر أو الحب كمام لا يزال إلا عند الاكل، كالرمان والعلس،
فكمثل. وأما ما له كمامان يزال أحدهما، ويبقى الآخر إلى وقت الاكل، كالجوز
واللوز والرانج، فيجوز بيعه في القشر الأسفل، ولا يجوز في الأعلى، لا على
الشجر، ولا على الأرض. وفي قول: يجوز في القشر الاعلى ما دام رطبا.
وبيع الباقلاء في القشر الاعلى، فيه هذا الخلاف. وادعى إمام الحرمين، أن
الظاهر فيه الصحة، لان الشافعي رضي الله عنه، أمر أن يشترى له الباقلاء الرطب.
قلت: المنصوص في الام: أنه لا يصح بيعه. قال صاحب التهذيب
وغيره: هو الأصح، وبه قطع صاحب التنبيه.
هذا إذا كان الجوز واللوز والباقلاء رطبا. فإن بقي في قشره الاعلى، فيبس،
لم يجز بيعه وجها واحدا إذا لم نجوز بيع الغائب، كذا قاله الامام وصاحب
التهذيب وغيرهما. وحكى فيه صاحب التتمة وجها: أنه يصح وإن أبطلنا بيع
215

الغائب. ويصح بيع طلع النخل مع قشره في الأصح. والله أعلم.
وأما ما لا يرى حبه في سنبله، كالحنطة، والعدس، والسمسم، فما دام في
سنبله، لا يجوز بيعه مفردا عن سنبله قطعا، ولا معه على الجديد الأظهر، كبيع
تراب الصاغة، وكبيع الحنطة في تبنها، فإنه لا يصح قطعا.
وفي الأرز، طريقان. المذهب: أنه كالشعير، فيصح بيعه في سنبله.
وقيل: كالحنطة. ولا يصح بيع الجزر، والثوم، والبصل، والفجل، والسلق في
الأرض، لتستر مقصودها. ويجوز بيع أوراقها الظاهرة بشرط القطع. ويجوز بيع
القنبيط في الأرض، لظهوره، وكذا نوع من السلجم يكون ظاهرا. ويجوز بيع اللوز
في القشر الاعلى قبل انعقاد الأسفل، لأنه مأكول كله كالتفاح. وهل المنع في صور ا
لفرع مقطوع به، أم مفرع على منع بيع الغائب؟ قال الامام: هو مفرع عليه. فإن
جوزنا بيع الغائب صح البيع في جميعها. وفي التهذيب: أن المنع في بيع الجزر
ونحوه في الأرض، ليس مفرعا عليه، لان في بيع الغائب يمكن رد المبيع بعد الرؤية
بصفته، وهنا لا يمكن.
قلت: هذا أصح، ونقله الماوردي عن جمهور الأصحاب. ونقل عن بعضهم
كقول إمام الحرمين في الجزر ونحوه. والله أعلم.
وإذا قلنا بالمنع، فباع الجوز مثلا في القشر الاعلى مع الشجرة، أو باع
الحنطة في سنبلها مع الأرض، فطريقان. أحدهما: يبطل في الجوز والحنطة،
وفي الشجرة والأرض قولا تفريق الصفقة. وأصحهما: القطع بالبطلان - في
الجميع، للجهل بأحد المقصودين، وتعذر التوزيع. ولو باع أرضا مبذورة مع
البذر، فقيل: يصح في البذر أيضا تبعا للأرض. والمذهب: بطلان البيع فيه. ثم
في الأرض الطريقان. ومن قال بالصحة في الأرض، لا يذهب إلى التوزيع، بل
يوجب جميع الثمن بناء على قولنا في تفريق الصفقة، بأخذ جميع الثمن.
فصل لا يصح بيع المحاقلة، وهو أن يبيع الحنطة في سنبلها بكيل
216

معلوم من الحنطة.
ولبطلانه علتان. إحداهما: أنه بيع حنطة وتبن بحنطة، وذلك ربا. والثانية:
أنه بيع حنطة في سنبلها. فلو باع شعيرا في سنبله بحنطة خالصة، وتقابضا في
المجلس، أو باع زرعا قبل ظهور الحب بحب، جاز، لان الحشيش غير ربوي.
فصل قد سبق أنه لا يجوز بيع الرطب بالتمر، ويستثنى منه بيع
العرايا، فإنه جائز، وهو أن يبيع رطب نخلة أو نخلات باعتبار الخرص بقدر
كيلها من التمر، ولا يصح إلا بالخرص.
ويشترط التقابض في المجلس بتسليم التمر إلى البائع بالكيل، وتخلية البائع
بينه وبين النخلة. فإن كان التمر غائبا عنهما، أو كانا غائبين عن النخل، فأحضراه،
أو حضرا عند النخل، جاز. ثم إن لم يظهر تفاوت بين التمر المجعول عوضا، وبين
ما في الرطب من التمر، بأن أكيل الرطب في الحال، فذاك. وإن ظهر، نظر، فإن
217

كان قدر ما يقع بين الكيلين، لم يضر. وإن كان أكثر، فالعقد باطل. وفي وجه
ضعيف: يصح في قدر القليل من الكثير، ولمشتري الكثير الخيار. ويجوز بيع
العرايا في العنب كالرطب، ولا يجوز في سائر الثمار على الأظهر. ويجوز فيما دون
خمسة أسوق من التمر، لا فيما زاد على الخمسة قطعا، ولا في خمسة على الأظهر
. هذا إذا باع في صفقة. فلو باع قدرا كثيرا في صفقات لا تزيد كل واحدة
على ما ذكرنا، جاز. وكذا لو باع في صفقة لرجلين بحيث يخص كل واحد القدر
الجائز. فلو باع رجلان لرجل، فوجهان. أصحهما: أنه كبيع رجل لرجلين.
والثاني: كبيعه لرجل صفقة. ولو باع رجلان لرجلين صفقة، لم يجز فيما زاد على
عشرة أوسق، ويجوز فيما دون العشرة. وفي العشرة القولان.
قلت: وسواء في هذه الصور كانت العقود في مجلس أو مجالس. حتى لو باع
رجل لرجل ألف وسق في مجلس واحد بصفقات كل واحدة دون خمسة أوسق،
جاز. والله أعلم.
وجميع ما ذكرنا في بيع الرطب بالتمر، فلو باع رطبا على النخل، برطب على
النخل خرصا فيهما، أو برطب على الأرض كيلا فيه، فأوجه. أصحها: لا يجوز،
قاله الإصطخري. والثاني: يجوز، قاله ابن خيران. والثالث: إن اختلف
نوعهما، جاز، وإلا، فلا، قاله أبو إسحاق. والرابع: جريان هذا التفصيل إن كانا
على النخل، فإن كان أحدهما على الأرض، لم يجز، حكي أيضا عن أبي
إسحاق. ولو باع الرطب بالرطب على الأرض، لم يصح على المذهب، وبه قطع
الجمهور. وقال القفال: فيه هذا الخلاف، لأنه إذا جاز البيع وهما على النخل،
واحتملت جهالة الخرص، فالجواز مع تحقق المساواة بالكيل أولى.
فرع يجوز بيع العرايا للمحتاجين، وفي الأغنياء قولان. أظهرهما:
الجواز.
218

فصل إذا باع الثمرة بعد بدو الصلاح، لزمه سقيها قبل التخلية وبعدها
بقدر ما تنمى به الثمار وتسلم من التلف والفساد. فلو شرط كون السقي على
المشترى، بطل البيع، ثم المشترى يتسلط على التصرف في الثمرة بعد تخلية البائع
بينه وبينها من كل وجه. فإن عرضت جائحة من حر، أو برد، أو جراد، أو حريق،
أو نحوها قبل التخلية، فهي من ضمان البائع. فإن تلف جميع الثمار، انفسخ
البيع. وإن تلف بعضها، انفسخ فيه. وفي الباقي قولا التفرق. وإن عرضت
بعدها، فإن كان باعها بعد بدو الصلاح، فقولان. الجديد الأظهر: أن الجوائح من
ضمان المشترى. والقديم: أنها من ضمان البائع. ولا فرق على القولين، بين
أن يشرط القطع، أم لا. وقيل: إن شرطه، كانت من ضمان المشترى قطعا،
لتفريطه، ولأنه لا علقة بينهما، إذ لا يجب السقي على البائع هنا، وحكي هذا عن
القفال. وقيل: إن شرطه، كانت من ضمان البائع قطعا، لان ما شرط قطعه،
فقبضه بالقطع والنقل، فقد تلفت قبل القبض.
ويتفرع على كونها من ضمان البائع، فروع.
أحدها: أن المحكوم بكونه من ضمان البائع، ما تلف قبل وقت الجداد أما
ما تلف بعد وقت الجداد، وإمكان النقل، فمن ضمان المشترى على الأظهر. وقيل:
على الأصح لتقصيره. وعلى الثاني: من ضمان البائع، لعدم التسليم التام. قال
الامام: وهذا الخلاف إذا لم يعد مقصرا مضيعا بتأخيره، كاليوم واليومين. فإن
عد، فلا مساغ للخلاف.
الثاني: لو تلف بعض الثمر، فالحكم على هذا القول كما لو تلف قبل
التخلية. ولو عابت الثمرة بالجائحة، ثبت الخيار على هذا القول، كما لو عابت قبل
219

التخلية. وعلى الجديد: لا يثبت.
الثالث: لو ضاعت الثمرة بغصب أو سرقة، فالمذهب: أنها من ضمان
المشترى، وبه قطع الأكثرون. وقيل: على القولين فالجائحة، وبه قطع
العراقيون.
قلت: إذا قلنا بالقديم، فاختلفا في الفائت بالجائحة، فقال البائع: ربع
الثمرة. وقال المشترى: نصفها، فالقول قول البائع، لان الأصل براءة ذمته وعدم
الهلاك. قال في التتمة: لو اختلفا في وقوع الجائحة، فالغالب أنها لا تخفى،
فإن لم تعرف أصلا، فالقول قول البائع بلا يمين. وإن عرف وقوعها عاما، فالقول
قول المشترى بلا يمين وإن أصابت قوما دون قوم، فالقول قول البائع بيمينه، لان
الأصل عدم الهلاك ولزوم الثمن. والله أعلم.
فرع هذا الذي ذكرناه من القولين، هو في الجوائح السماوية التي لا
تنسب إلى البائع بحال. فأما إن ترك السقي وعرضت في الثمار آفة بسبب العطش.
فإن تلفت، فالمذهب: القطع بانفساخ العقد. وقيل: فيه القولان كالسماوية.
فإن قلنا: لا انفساخ، لزم البائع الضمان بالقيمة، أو المثل. وإنما يضمن ما تلف،
ولا ينظر إلى ما كان ينتهي إليه لولا العارض. وإن تعيبت، فللمشتري الخيار. وإن
قلنا: الجائحة من ضمانه، لان الشرع ألزم البائع تنمية الثمار بالسقي، فالتعيب
الحادث بترك السقي، كالعيب المتقدم على القبض. وإن أفضى التعيب إلى تلف،
نظر، إن لم يشعر به المشترى حتى تلف، عاد الخلاف في الانفساخ، ولزم البائع
الضمان إن قلنا: لا انفساخ ولا خيار بعد التلف، كذا قاله الامام. وإن شعر به ولم
يفسخ حتى تلف، فوجهان. أحدهما: يغرم البائع، لعدوانه. والثاني: لا،
لتقصير المشترى بترك الفسخ.
فرع باع الثمر مع الشجر، فتلف الثمر بجائحة قبل التخلية، بطل العقد
فيه. وفي الشجر القولان. وإن تلف بعد التخلية، فمن ضمان المشترى بلا
خلاف.
قلت: ولو كانت الثمرة لرجل، والشجر لآخر، فباعها لصاحب الشجرة،
220

وخلى بينهما، ثم تلفت، فمن ضمان المشترى بلا خلاف، لانقطاع العلائق. والله
أعلم.
فرع اشترى طعاما مكايلة، وقبضه جزافا، فهلك في يده، ففي انفساخ
البيع وجهان، لبقاء الكيل بينهما.
فرع من العوارض، اختلاط الثمار المبيعة بغيرها لتلاحقها. فأما
الاختلاط الذي يبقى معه التمييز، فلا اعتبار به. وأما غيره، فإذا باع الثمرة بعد بدو
الصلاح والشجرة تثمر في السنة مرتين، نظر، إن كان ذلك مما يغلب التلاحق فيه،
وعلم أن الحمل الثاني يختلط بالأول، كالتين، والبطيخ، والقثاء، والباذنجان، لم
يصح البيع، إلا أن يشرط أن المشترى يقطع ثمرته عند خوف الاختلاط. وفي قول
أو وجه: أنه موقوف. فإن سمح البائع بما حدث، تبين انعقاد البيع، وإلا، فلا.
ثم إذا شرط القطع فلم يتفق حتى اختلط، فهو كالتلاحق فيما يندر. وإن كان مما
يندر فيه التلاحق، وعلم عدم الاختلاط، أو لم يعلم كيف يكون الحال، فيصح
البيع مطلقا، وبشرط القطع والتبقية. ثم إن حصل الاختلاط، فله حالان.
أحدهما: أن يحصل قبل التخلية، فقولان. أحدهما: ينفسخ البيع، لتعذر
التسليم قبل القبض. وأظهرهما: لا، لبقاء عين المبيع، فعلى هذا، يثبت
للمشتري الخيار. وفي قول ضعيف: لا خيار. والاختلاط قبل القبض، كهو
بعده. ثم إن سمح البائع بترك الثمرة الجديدة للمشتري، سقط خياره على
الأصح كما سبق في نعل الدابة. وإن باع الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط القطع، فلم
يتفق القطع حتى اختلطت، جرى القولان في الانفساخ، ويجريان فيما إذا باع حنطة
فانصب عليها مثلها قبل القبض، وكذا في المائعات. وإن اختلط الثوب بأمثاله،
221

أو الشاة المبيعة بأمثالها، فالصحيح الانفساخ. وفي وجه: لا، لامكان تسليمه
بتسليم الجميع. ولو باع جزة من ألقت بشرط القطع، فلم يقطعها حتى طالت،
وتعذر التمييز، جرى القولان. وقيل: لا ينفسخ هنا قطعا، تشبيها لطولها بكبر
الثمرة والشجرة، وبنماء الحيوان، وهو ضعيف، لان البائع يجبر على تسليم الأشياء
المذكورة بزيادتها، وهنا لا يجبر على تسليم ما زاد.
الحال الثاني: أن يحصل الاختلاط بعد التخلية، فطريقان. أحدهما:
القطع بعدم الانفساخ. وأصحهما عند الجمهور: أنه على القولين. فإن قلنا: لا
انفساخ، فإن تصالحا وتوافقا على شئ، فذاك، وإلا، فالقول قول صاحب اليد
في قدر حق الآخر. ولمن اليد في صورة الثمار؟ فيه أوجه. أحدها: للبائع.
والثاني: للمشتري. والثالث: لهما. وفي صورة الحنطة للمشترى، فإن كان
المشترى أودعه الحنطة بعد القبض ثم اختلطت، فالقول قول البائع.
فرع باع شجرة عليها ثمرة للبائع، وهي مما تثمر في السنة مرتين،
ويغلب تلاحقها، لا يصح البيع إلا بشرط قطع البائع ثمرته عند خوف الاختلاط،
ويجئ فيه الخلاف المذكور فيما إذا كان المبيع هو الثمرة. ثم إذا تبايع بهذا
الشرط، فلم يتفق القطع حتى اختلطا، أو كانت الشجرة مما يندر فيها التلاحق
والاختلاط، فاتفق وقوعه، فطريقان. قال الأكثرون: في الانفساخ القولان.
وقيل: لا انفساخ قطعا. فإن قلنا: لا انفساخ، فسمح البائع بترك الثمرة القديمة،
أجبر المشترى على القبول. وإن رضي المشترى بترك الثمرة الحادثة، أجبر البائع
على القبول وأقر العقد. ويحتمل خلاف في الاجبار، فأن استمرا على النزاع،
فالمثبتون للقولين قالوا: يفسخ العقد. والقاطعون قالوا: لا فسخ، بل أيهما كانت
الثمرة والشجرة في يده، فالقول قوله في قدر ما يستحقه الآخر. قال في
التهذيب: هذا هو القياس، لان الفسخ لا يرفع النزاع، لبقاء الثمرة الحادثة
222

للمشترى. وإن قلنا بالانفساخ، استرد المشترى الثمن ورد الشجرة مع جميع
الثمار، قاله في التتمة.
باب معاملات العبيد
العبد مأذون له في التجارة، وغيره.
الأول: المأذون له، فيجوز للسيد أن يأذن لعبده في التجارة وسائر
التصرفات، كالبيع والشراء بالاجماع. ويستفيد بالاذن في التجارة كل ما يندرج
تحت اسمها، وما كان من لوازمها وتوابعها، كالنشر، والطي، وحمل المتاع إلى
الحانوت، والرد بالعيب، والمخاصمة في العهدة، ونحوها. ولا يستفيد غير
ذلك، هذا جملة القول فيه.
وتفصيله بصور.
إحداها: ليس للمأذون في التجارة أن ينكح، كما ليس للمأذون في النكاح
أن يتجر.
الثانية: لا يجوز أن يؤجر نفسه على الصحيح، وله أن يؤجر مال التجارة
223

كعبيدها وثيابها ودوابها على الأصح.
الثالثة: إذا أذن له في التجارة في نوع، أو شهر، أو سنة، لم
يتجاوز المأذون.
الرابعة: لو دفع إليه ألفا وقال: أتجر فيه، فله أن يشترى بعين الألف،
وبقدره في الذمة، ولا يزيد. ولو قال: اجعله رأس مالك، وتصرف أو أتجر، فله
أن يشترى بأكثر من الألف.
الخامسة: ليس للمأذون أن يأذن لعبده في التجارة. فإن أذن له فيه السيد،
جاز، ثم ينعزل المأذون الثاني بعزل السيد، سواء انتزعه من يد المأذون الأول، أم
لا. وهل له أن يوكل عبده في آحاد التصرفات؟ وجهان. أصحهما عند الامام
والغزالي: نعم. والثاني: لا، وهو مقتضى كلام صاحب التهذيب.
قلت: وليس له أن يوكل أجنبيا، كالوكيل لا يوكل، بخلاف المكاتب، لأنه
يتصرف لنفسه. والله أعلم.
السادسة: لا يتخذ دعوة للمجهزين، ولا يتصدق، ولا ينفق على نفسه
من مال التجارة، لأنه ملك السيد، ولا يعامل سيده بيعا وشراء.
السابعة: ما كسبه المأذون بالاحتطاب، والاصطياد، والاتهاب، وقبول
الوصية، والاخذ من المعدن، هل يضم إلى مال التجارة حتى يتصرف فيه؟ فيه
وجهان. أصحهما في التهذيب: نعم، لأنها من الأكساب. والثاني: لا، وبه
224

قطع الفوراني، والامام، والغزالي.
الثامنة: لا ينعزل المأذون بالإباق، بل له التصرف في البلد الذي صار
إليه، إلا إذا خص السيد الاذن بهذا البلد.
قلت: وفي التتمة وجه ضعيف: أنه لا يصح تصرفه في الغيبة. والله أعلم. التاسعة: له أن يأذن في التجارة
لمستولدته قطعا. ولو أذن لامته، ثم استولدها، لم تنعزل على الصحيح.
العاشرة: لو رأى عبده يبيع ويشتري، فسكت عنه، لم يصر مأذونا.
الحادية عشرة: لو ركبته الديون، لم يزل ملك سيده عما في يده. فلو تصرف
فيه ببيع، أو هبة، أو إعتاق بإذن المأذون والغرماء، جاز، ويبقى الدين في ذمة
العبد. وإن أذن العبد دون الغرماء، لم يجز. وإن أذنوا دونه، فوجهان.
قلت: أصحهما: لا يجوز. وصححه البغوي، لان الدين يتعلق بذمة العبد
ولم يرض. والله أعلم.
الثانية عشرة: إقرار المأذون بدين المعاملة مقبول، سواء أقر لأبيه أو ابنه، أو
لأجنبي.
الثالثة عشرة: لا. يجوز أن يبيع بنسيئة، ولا بدون ثمن المثل، ولا يسافر بمال
التجارة إلا بإذن السيد، ولا يتمكن من عزل نفسه، بخلاف الوكيل.
225

قلت: ولو كان لرجلين عبد، فأذن له أحدهما في التجارة، لم يصح حتى
يأذن الآخر، كما لو أذن له في النكاح، لا يصح حتى يأذن الآخر. والله أعلم.
فرع قال صاحب التتمة: في جواز معاملة من لا يعرف رقه وحريته،
قولان. أظهرهما: الجواز. لان الأصل والغالب الحرية. والثاني: المنع، لان
الأصل بقاء الحجر. وقطع إمام الحرمين بالجواز. ومن عرف رقة، لم يجز له أن
يعامله حتى يعرف إذن السيد. ولا يكفي قول العبد: أنا مأذون، كما لو زعم الراهن
إذن المرتهن في بيع المرهون، وإنما يعرف كونه مأذونا بسماع الاذن من السيد، أو
ببينة. فإن شاع في الناس كونه مأذونا، كفى على الأصح. وإذا علم كونه مأذونا،
فقال: حجر علي السيد، لم تجز معاملته. فإن قال السيد: لم أحجر عليه،
فوجهان. أصحهما: لا يعامل أيضا، لأنه العاقد، وهو يقول: العقد باطل. ولو
عامل المأذون من يعلم رقه، ولم يعلم الإذن، فبان مأذونا، قال الأئمة: هو كمن
باع مال أبيه على أنه حي فبان ميتا، ومثله قولان حكاهما الحليمي فيما إذا ادعى
الوكالة فكذبه، فعامله، ثم بان أنه وكيل.
قلت: ولو باع مالا يظنه لنفسه، فبان مال أبيه وكان ميتا حال العقد، صح بلا
خلاف، كذا نقله الامام عن شيخه. والله أعلم.
فرع لو علم كونه مأذونا فعامله، ثم امتنع من التسليم إليه حتى يشهد على
الاذن، فله ذلك خوفا من إنكار السيد، كما لو صدق مدعي الوكالة بقبض الحق،
ثم امتنع من التسليم حتى يشهد الموكل على الوكالة.
فصل إذا باع المأذون سلعة، وقبض الثمن، فاستحقت وقد تلف الثمن
في يد العبد، فللمشتري الرجوع ببدله على العبد على الصحيح، لأنه مباشر
226

العقد. وفي وجه: لا يرجع عليه، لان يده يد السيد. وفي مطالبته السيد أوجه.
أصحها: يطالب أيضا، لأن العقد له. والثاني: لا. والثالث: إن كان في يد العبد
وفاء، لم يطالب، وإلا، فيطالب. وقال ابن سريج: إن كان السيد دفع إليه عين
مال وقال: بعها وخذ ثمنها واتجر فيه، أو قال: اشتر هذه السلعة وبعها واتجر في
ثمنها، ففعل، ثم ظهر الاستحقاق، فطالبه المشتري بالثمن، فله أن يطالب السيد
بقضاء الدين عنه، لأنه أوقعه فيه. وإن اشترى باختياره سلعة وباعها، ثم ظهر
الاستحقاق، فلا. ولو اشترى المأذون شيئا للتجارة، ففي مطالبة السيد بالثمن هذه
الأوجه. والوجه الأول والثاني جاريان في رب المال مع عامل القراض. ولو سلم
الرجل إلى وكيله ألفا، وقال: اشتر لي عبدا وأد هذا الألف في ثمنه، فاشترى
الوكيل، ففي مطالبة الموكل طريقان. أقيسهما: طرد الوجهين. والثاني: القطع
بالمطالبة، ولا حكم لهذا التعيين. وإذا توجهت المطالبة على العبد، ثم تندفع
بعتقه. وفي رجوعه بالمغروم بعد العتق على سيده، وجهان. أصحهما: لا يرجع.
فصل لو سلم إلى عبده ألفا ليتجر فيه، فاشترى بعينه شيئا، ثم تلف
الألف في يده، انفسخ البيع. وإن اشترى في الذمة على عزم صرف الألف في
الثمن، فأربعة أوجه. أصحها: لا ينفسخ العقد، بل أن أخرج السيد ألفا آخر،
امضي العقد، وإلا، فللبائع فسخه. والثاني: يجب على السيد ألف آخر.
والثالث: يجب الثمن في كسب العبد. والرابع: ينفسخ العقد. فإذا قلنا: على
السيد ألف آخر، فهل يتصرف العبد فيه بالاذن السابق، أم يشترط إذن جديد؟
وجهان. قال الامام: وإنما يطالب بالألف الجديد البائع دون العبد. ولا شك أن
العبد لا يمد يده إلى ألف من مال السيد، وأنه لا يتصرف فيما يسلمه البائع. وإنما
تظهر فائدة الوجهين، فيما لو ارتفع العقد بسبب ورجع الألف.
قلت: قال صاحب التهذيب: لو اشترى المأذون شيئا بعرض، فتلف
الشئ ثم خرج العرض مستحقا، فالقيمة في كسبه، أم على السيد؟ وجهان. والله
أعلم.
فصل ديون معاملات المأذون، تؤدى مما في يده من مال التجارة، سواء
الأرباح الحاصلة بتجارته ورأس المال. وهل تؤدى من أكسابه بغير التجارة
227

كالاحتطاب والاصطياد؟ وجهان. أحدهما: لا، كسائر أموال السيد.
وأصحهما: نعم. كما يتعلق به المهر ومؤن النكاح، ثم ما فضل، يكون في ذمته
إلى أن يعتق، ولا يتعلق برقبته، ولا بذمة السيد قطعا، ولا بما يكسبه المأذون بعد
الحجر على الأصح. وإذا باعه السيد، أو أعتقه، صار محجورا عليه على
الأصح. وفي قضاء ديونه مما يكسبه في يد المشتري، الخلاف المذكور فيما كسبه
بعد الحجر عليه. ولو كان للمأذون لها أولاد، لم يتعلق الدين بهم.
ولو أتلف السيد ما في يد المأذون من مال التجارة، لزمه ما أتلف بقدر الدين. ولو
قتله السيد وليس في يده مال، لم يلزمه قضاء الديون.
فرع لو تصرف السيد فيما في يد المأذون ببيع أو هبة أو إعتاق، ولا دين
على المأذون، جاز. وفي وجه ضعيف: يشترط أن يقدم عليه حجرا. وإن كان
عليه دين، فقد سبق حكم تصرفه.
فرع لو أذن لعبده في التجارة مطلقا، ولم يعين مالا، فعن أبي طاهر
الزيادي، أنه لا يصح هذا الاذن. وعن غيره: أنه يصح، وله التصرف في أنواع
أمواله. وقد بقيت من أحكام المأذون مسائل مذكورة في موضعها.
قلت: قال في التهذيب: لو جني على المأذون، أو كانت أمة فوطئت
228

بشبهة، لا تقضى ديون التجارة من الأرش والمهر. ولو اشترى المأذون من يعتق
على سيده بغير إذنه، لم يصح على الأظهر. فإن قلنا: يصح، ولم يكن على
المأذون دين، عتق على المولى. وإن كان دين، ففي عتقه قولان، كما لو اشترى
بإذن المولى. وإن اشترى بإذنه، صح. فإن لم يكن على المأذون دين، عتق.
وإن كان، فقولان. أحدهما: لا يعتق. والثاني: يعتق ويغرم قيمته للغرماء. ولو
مات المأذون وعليه ديون مؤجلة، وفي يده أموال، حلت المؤجلة، كما تحل بموت
الحر، ذكره القاضي حسين في الفتاوى. والله أعلم.
فصل وأما غير المأذون، فقد يكون مأذونا في غير التجارة، وقد لا يكون
مأذونا أصلا. وأحكامه مفرقة في أبوابها، لكن نذكر منها طرفا، فليس للعبد أن
يتزوج بغير إذن السيد، وهكذا حكم كل تصرف يتعلق برقبته. فإن وصي له، أو
وهب له، كان وصية وهبة لسيده. وفي صحة قبوله فيهما بغير إذن سيده، وجهان.
والأصح: الصحة، كما لو خالع، صح، ودخل العوض في ملك سيده قهرا. وفي
صحة ضمانه وجهان مذكوران بفروعهما في بابه. وفي صحة شرائه بغير إذن سيده،
طريقان. أحدهما: القطع ببطلانه. وأصحهما: على وجهين. أصحهما:
البطلان، فإن صححناه، فالثمن في ذمته. وذكروا وجهين. أحدهما: أن الملك
للسيد. ثم إن علم البائع رقه، لم يطالبه بشئ حتى يعتق، وإلا، فله الخيار، إن
شاء صبر إلى العتق، وإن شاء فسخ ورجع إلى عين ماله. والثاني: أن الملك
للعبد، ثم السيد بالخيار بين أن يقره عليه، وبين أن ينزعه منه. وللبائع الرجوع إلى
عين المبيع ما دام في يد العبد، لتعذر الثمن، كالافلاس. وإن تلف في يده،
فليس له إلا الصبر، إلى أن يعتق. وإن انتزعه السيد، فليس للبائع الرجوع فيه على
الصحيح الذي قاله الأكثرون، كما لو زالت يد المفلس عما اشتراه. وفي وجه:
يرجع فيأخذه من السيد. وأما إذا أبطلنا شراءه، فللمالك استرداد العين ما دامت
باقية، سواء كانت في يد السيد، أو العبد. فإن تلفت في يد العبد، تعلق الضمان
بذمته. وإن تلفت في يد السيد، فللبائع مطالبته، وله مطالبة العبد بعد العتق. وإن
أدى الثمن من مال السيد، فله استرداده، ولا يجب على السيد الضمان إذا رآه فلم
يأخذه من يد العبد. والاستقراض كالشراء في جميع ما ذكرناه.
فرع للعبد إجارة نفسه بإذن سيده، وله بيعها ورهنها على الأصح. ولو
229

اشترى أو باع لغيره بالوكالة بغير إذن السيد، لم يصح على الأصح، لتعلق العهدة
بالوكيل.
فصل لا يملك العبد بتمليك غير سيده. وفي ملكه بتمليك سيده،
قولان. الأظهر الجديد: لا يملك. فعلى القديم: للسيد الرجوع فيه متى شاء،
وليس للعبد التصرف فيه لا بإذن سيده. فلو كان له عبدان، فملك كل واحد منهما
صاحبه، فالحكم للتمليك الثاني، وهو رجوع عن الأول. فإن وقعا معا من وكيلين،
تدافعا. فإن ملكه جارية، وقلنا بالقديم، فهل للعبد وطؤها؟ فيه أوجه. الصحيح:
يجوز بإذن السيد، ولا يجوز بغيره. والثاني: يجوز مطلقا. والثالث: يحرم
مطلقا، لضعف ملكه.
قلت: قال في التهذيب: لو أولدها، فالولد مملوك للعبد، ولا يعتق
عليه، لنقصان ملكه. فإذا عتق، عتق الولد. قال: والمدبر، والمعلق عتقه على
صفة، كالقن، فلا يحل لهم الوطئ على الجديد وإن أذن السيد فيه. وفي حله على
القديم ما ذكرنا. ومن بعضه حر، إذا ملك بحريته مالا، فاشترى جارية، ملكها،
ولا يحل له وطؤها على الجديد، ويحل في القديم بإذن اليد، ولا يحل بغير إذنه،
لان بعضه مملوك، فلم يصح التسري. ولا يحل للمكاتب التسري بغير إذن سيده،
وبإذنه قولان، كتبرعه. وقيل: إن حرمنا التسري على العبد، فالمكاتب أولى،
وإلا، فقولان. والله أعلم.
باب اختلاف المتبايعين وتحالفهما
إذا اختلفا في قدر الثمن، أو جنسه، أو صفته، أو شرط الخيار أو الأجل، أو
قدرهما، أو في شرط الرهن أو الكفيل مع الاتفاق على عقد صحيح، فإن كان
لأحدهما بينة، قضي بها. فإن أقاما بينتين وقلنا بالتساقط، فكأنه لا بينة، وإلا،
230

توقفنا إلى ظهور الحال. وإن لم تكن بينة، تحالفا، سواء كانت السلعة باقية أو
تالفة، وسواء اختلف المتبايعان أو ورثتهما، وكذا لو اختلفا في قدر المبيع، فقال
البائع: بعتك العبد بألف، فقال: بعتنيه مع الجارية بألفين، تحالفا. فلو قال
البائع: بعتك العبد، فقال: بل الجارية، واتفقا على الثمن، فإن كان الثمن
معينا، تحالفا. وإن كان في الذمة، فوجهان. أحدهما: يتحالفان، قاله ابن
الحداد، واختاره القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ. والثاني: لا، قاله الشيخ أبو
حامد، واختاره الامام، وصاحب التهذيب.
فإن قلنا: لا تحالف، حلف كل واحد على نفي ما ادعي عليه فقط، ولا
يتعلق بيمينيهما فسخ ولا انفساخ. ولو كانت بحالها وأقام كل واحد بينة توافقه،
سلمت الجارية للمشتري. وأما العبد، فقد أقر البائع ببيعه، وقامت البينة عليه.
فإن كان في يد المشتري، أقر عنده. وإن كان في يد البائع، فوجهان. أحدهما:
يسلم إلى المشتري ويجبر على قبوله. والثاني: لا يجبر، بل يقبضه الحاكم وينفق
عليه من كسبه. فإن لم يكن له كسب، ورأي الحظ في بيعه وحفظ ثمنه، فعل.
فرع يجري التحالف في جميع عقود المعاوضات، كالسلم، والإجارة
والقراض، والمساقاة، والجعالة، والصلح عن الدم، والكتابة. ثم في البيع
ونحوه، يفسخ العقد بعد التحالف، أو ينفسخ ويترادان، كما سيأتي إن شاء الله
231

تعالى. وفي الصلح عن الدم، لا يعود استحقاقه، بل أثر التحالف الرجوع إلى
الدية، وكذا لا يرجع البضع، بل في النكاح ترجع المرأة إلى مهر المثل. وفي
الخلع يرجع إليه الزوج.
قال الامام: إن قيل: أي معنى للتحالف في القراض، مع أن لكل واحد
فسخه بكل حال، وقد منع القاضي حسين التحالف في البيع في زمن الخيار،
لامكان الفسخ بالخيار؟
فالجواب: أن التحالف ما وضع للفسخ، بل عرضت الايمان رجاء أن ينكل
الكاذب، فيقرر العقد بيمين الصادق. فإن لم يتفق ذلك، وأصرا، فسخ العقد
للضرورة، ونازع القاضي فيما ذكره، ثم مال إلى موافقته، ورأي في القراض أن
يفصل فيقال: التحالف قبل الشروع في العمل لا معنى له، وبعده يؤول النزاع إلى
مقصود من ربح أو أجرة مثل، فيتحالفان، والجعالة كالقراض.
فرع لو قال: بعتك هذا بألف، فقال: بل وهبتنيه، فلا تحالف إذا لم
يتفقا على عقد، بل يحلف كل واحد على نفي ما يدعى عليه. فإذا حلفا، لزم
مدعي الهبة رده بزوائده على المشهور. وفي قول: القول قول مدعي الهبة. وشذ
صاحب التتمة فحكى وجها: أنهما يتحالفان، وزعم أنه الصحيح. ولو قال:
بعتكه بألف، فقال: وهبتنيه، حلف كل واحد على نفي ما ادعي عليه، ورد
الألف، واسترد العين. ولو قال: وهبتكه بألف استقرضته، فقال: بل بعتنيه،
فالقول قول المالك مع يمينه، ويرد الألف، ولا يمين على الآخر، ولا يكون رهنا،
لأنه لا يدعيه.
فصل وإن اختلفا من غير اتفاق على عقد صحيح، بأن يدعي أحدهما
صحة العقد، والآخر فساده. مثل أن يقول: بعتك بألف، فقال: بل بألف وزق
خمر، أو قال: شرطنا شرطا مفسدا، فأنكر، فلا تحالف. والأصح عند الأكثرين:
أن القول قول من يدعي الصحة، وهو ظاهر نصه. كما لو قال: هذا الذي بعتنيه حر
الأصل، فقال: بل هو مملوك، فإن القول قول البائع. والثاني: القول قول
الآخر.
232

ولو قال: بعتك بألف، فقال: بل بخمر، فعلى الوجهين. وفيل: يقطع
بالفساد، فإذا قلنا: القول قول من يدعي الصحة، فقال: بعتك بألف، فقال: بل
بخمسمائة وزق خمر، وحلف البائع على نفي سبب الفساد، صدق، وبقي النزاع
في قدر الثمن، فيتحالفان.
فصل لو اشترى شيئا، فقبضه، ثم جاء بمعيب ليرده بالعيب، فقال البائع: ليس
هذا هو الذي سلمته إليك، فالقول قول البائع، لان الأصل السلامة. فلو كان ذلك
في السلم، فقال: ليس هذا على الوصف الذي سلمت إليك، فوجهان.
أحدهما: القول قول المسلم إليه، كما أن القول قول البائع. وأصحهما: القول
قول المسلم، لان اشتغال الذمة بمال السلم معلوم، والبراءة غير معلومة، ويخالف
البيع، لأنهما اتفقا على قبض ما ورد عليه الشراء، وتنازعا في سبب الفسخ،
والأصل بقاء العقد. ويجري الوجهان في الثمن في الذمة، أن القول قول الدافع،
أم القابض؟ وعن ابن سريج وجه ثالث، يفرق بينما يمنع صحة القبض، وما لا
يمنع. فإن كان الثمن دراهم في الذمة، وكان ما أراده البائع رده زيوفا، فالقول قول
البائع، لانكاره أصل القبض الصحيح. وإن كانت ورقا رديئة النوع، لخشونة، أو
اضطراب سكة، فالقول قول المشتري. ولا يخفى مثل هذا التفصيل في المسلم
فيه. ولو كان الثمن معينا، فهو كالمبيع، فإذا وقع فيه هذا الخلاف، فالقول قول
المشتري مع يمينه. قال في التهذيب: لكن لو كان المعين نحاسا لا قيمة له،
فالقول قول الراد. وينبغي أن يكون هذا على الخلاف فيما إذا ادعى أحدهما صحة
العقد، والآخر فساده.
233

فرع اشترى طعاما كيلا، وقبضه بالكيل، أو وزنا، وقبضه بالوزن، أو
أسلم فيه وقبضه، ثم جاء وادعى نقصا، فإن كان قدرا ينفع مثله في الكيل والوزن،
قبل، وإلا، فلا على الأظهر.
فرع اختلفا في القبض، فالقول قول المشتري.
فرع باع عصيرا وأقبضه، ووجد خمرا، فقال البائع: تخمر في يدك،
فقال: بل سلمته خمرا فيكون القبض فاسدا، وأمكن صدقهما، فأيهما يصدق؟
قولان.
قلت: أظهرهما: تصديق البائع. والله أعلم.
ولو قال أحدهما: كان خمرا عند البيع، فهذا يدعي فساد العقد، والآخر
يدعي صحته، وقد سبق حكمه. وعلى هذا يقاس ما لو اشترى لبنا، فأخذه
المشتري في ظرف، ثم وجدت فيه فأرة ميتة، وتنازعا في نجاسته عند البيع، أو عند
القبض.
فرع قال بعتنيه بشرط أنه كاتب، وأنكر البائع الشرط، فوجهان.
أصحهما: يتحالفان، كاختلافهما في الأجل. والثاني: القول قول البائع،
كاختلافهما في العيب. ولو كان الثمن مؤجلا، فاختلفا في انقضاء الأجل، فالأصل
بقاؤه.
فصل في كيفية التحالف قاعدته: أن يحلف كل واحد على إثبات
قوله، ونفي قول صاحبه. وفيمن يبدأ بيمينه؟ طريقان. أحدهما: البائع.
234

وأصحهما: أنه على ثلاثة أقوال. أظهرها: البائع. والثاني: المشتري.
والثالث: يتساويان. وعلى هذا، وجهان. أصحهما: يتخير الحاكم فيبدأ بمن
اتفق. والثاني: يقرع بينهما. ولو تحالف الزوجان في الصداق، فعلى الطريق
الأول يبدأ بالزوج. وعلى الثاني: إن قدمنا البائع، فوجهان. أصحهما وأقربهما
إلى النص: يبدأ بالزوج. والثاني: بالمرأة. وإن قدمنا المشتري، فالقياس
انعكاس الوجهين. ولا يخفى من ينزل منزلة البائع في سائر العقود. ثم جميع ما
ذكرناه في الاستحباب دون الاشتراط، نص عليه الشيخ أبو حامد، وصاحبا التتمة
والتهذيب. وتقديم أحد الجانبين، مخصوص بما إذا باع عرضا بثمن في
الذمة. فأما إذا تبادلا عرضا بعرض، فلا يتجه إلا التسوية، قاله الامام. وينبغي أن
يخرج على أن الثمن ماذا
فرع المذهب، وظاهر النص: الاكتفاء بيمين واحدة - من كل واحد
تجمع النفي والاثبات، فيقول البائع: ما بعت بخمسمائة، وإنما بعت بألف
ويقول المشتري: ما اشتريت بألف، وإنما اشتريت بخمسمائة، وفيه قول ضعيف
مخرج: أنه يحلف أولا على مجرد النفي. فإن اكتفينا بيمين تجمع النفي والاثبات،
فحلف أحدهما، ونكل الآخر، قضي للحالف، سواء نكل عن النفي والاثبات معا،
أو عن أحدهما. وينبغي أن يقدم النفي على الاثبات، لأن النفي هو الأصل.
وقال الإصطخري: يقدم الاثبات، لأنه المقصود. والصحيح: الأول. وهذا
الخلاف في الاستحباب على الأصح. وقيل: في الاستحقاق. فإذا قلنا بالمخرج:
235

إنه يحلف أولا على مجرد النفي، فأضاف إليه الاثبات، كان لغوا. فإذا حلف من
ابتدئ به، عرضنا اليمين على الآخر. فإن نكل، حلف الأول يمينا ثانية على
الاثبات، وقضي له، وإن نكل عن الاثبات، لم يقض له. قال الشيخ أبو محمد:
ويكون كما لو تحالفا، لان نكول المردود عليه عن يمين الرد، نازل في الدعاوي
منزلة حلف الناكل أولا. ولو نكل الأول عن يمين النفي أولا، حلف الآخر على
النفي والاثبات، وقضي له. ولو حلفا على النفي، فوجهان. أصحهما وبه قال
الشيخ أبو محمد: يكفي ذلك، ولا حاجة بعده إلى يمين الاثبات، لان المحوج إلى
الفسخ جهالة الثمن وقد حصلت. والثاني: تعرض يمين الاثبات عليهما. فإن
حلفا، تم التحالف. وإن نكل أحدهما، قضي للحالف. والكلام على هذا القول
المخرج في تقديم النفي أو الاثبات كما ذكرنا، على المذهب. فلو نكلا جميعا،
فوجهان. أحدهما: أنه كتحالفهما. والثاني: يوقف الامر وكأنهما تركا الخصومة.
قلت: هذان الوجهان، ذكرهما إمام الحرمين احتمالين لنفسه، وذكر أن أئمة
المذهب لم يتعرضوا لهذه المسألة، ثم ذكر في آخر كلامه أنه رأى التوقف لبعض
المتقدمين. وقال الغزالي في البسيط: له حكم التحالف على الظاهر.
والأصح: اختيار التوقف. والله أعلم.
فصل إذا تحالفا، فالصحيح المنصوص: أنه لا ينفسخ العقد بمجرد
التحالف وفي وجه: ينفسخ، حكي ذلك عن أبي بكر الفارسي، فإن قلنا:
ينفسخ، فتصادقا بعده، لم يعد البيع، بل لا بد من تجديد عقد. وهل ينفسخ في
الحال، أو نتبين ارتفاعه من أصله؟ وجهان. أصحهما: الأول، لنفوذ تصرفات
المشتري قبل الاختلاف. وإن قلنا: لا ينفسخ، دعاهما الحاكم بعد التحالف إلى
الموافقة، فإن دفع المشتري ما طلبه البائع، أجبر عليه البائع، وإلا، فإن قنع بما
قاله المشتري، فذاك، وإلا، فيفسخ العقد. وفي من يفسخ وجهان. أحدهما:
الحاكم. وأصحهما للعاقدين أيضا أن يفسخا، ولأحدهما أن ينفرد به كالفسخ
بالعيب. قال الامام: وإذا قلنا: الحاكم هو الذي يفسخ، فذاك إذا استمرا على
النزاع ولم يفسخا، أو التمسا الفسخ. أما إذا أعرضا عن الخصومة، ولم يتفقا على
شئ، ولا فسخا، ففيه تردد. ثم إذا فسخ العقد، ارتفع في الظاهر. وفي ارتفاعه
236

في الباطن، ثلاثة أوجه. ثالثها: إن كان البائع صادقا، ارتفع، لتعذر وصوله إلى
حقه. كما لو فسخ بإفلاسه. وإن كان كاذبا، فلا، لتمكنه بالصدق من حقه. وهل
يجري مثل هذا الخلاف إذا قلنا: ينفسخ بمجرد التحالف، أم يقطع بالارتفاع
باطنا؟ وجهان. فإذا قلنا: يرتفع باطنا، ترادا، وتصرف كل واحد فيما عاد إليه.
وإن منعناه، لم يجز لهما التصرف، لكن إن كان البائع صادقا، فقد ظفر بمال من
ظلمه، وهو المبيع الذي استرده، فله بيعه بالحاكم على وجه، وبنفسه على
الأصح، ويستوفي حقه من ثمنه. وقال الامام: إن صدر الفسخ من المحق، فالوجه
تنفيذه باطنا. وإن صدر من المبطل، فالوجه منعه. وإن صدر منهما، فلا شك في
الانفساخ باطنا، وليس ذلك موضع الخلاف، ويكون كما لو تقابلا. وإذا صدر من
المبطل، ولم ينفذه باطنا، فطريق الصادق إنشاء الفسخ إن أراد الملك فيما عاد
إليه. وإن صدر من القاضي، فالظاهر: الانفساخ باطنا لينتفع به المحق.
فرع إذا انفسخ البيع بالتحالف، أو فسخ، لزم المشتري رد المبيع إن كان
باقيا بحاله، ويبقى له الولد والثمرة والكسب والمهر. وإن كان تالفا، لزمه
قيمته، سواء كانت أكثر من الثمن الذي يدعيه البائع، أم لا.
قلت: وفي وجه ضعيف لابن خيران: لا يستحق البائع زيادة على ما
ادعاه. والله أعلم.
وفي القيمة المعتبرة، أوجه. وقال الامام: أقوال. أصحها: قيمة يوم
التلف. والثاني: يوم القبض. والثالث: أقلها. والرابع: أكثر القيم من القبض
إلى التلف. ولو اشترى عبدين، فتلف أحدهما، ثم اختلفا وتحالف، فهل يرد العبد
الباقي؟ فيه الخلاف المذكور في مثله إذا وجد الباقي معيبا.
إن قلنا: يرد، فيضم قيمة التالف إليه. وفي القيمة المعتبرة هذه الأوجه.
ولو كان المبيع باقيا، لكن حدث به عيب، رده مع الأرش، وهو قدر ما نقص
237

من القيمة، لان الكل مضمون عليه بجميع القيمة، فبعضه ببعضها، بخلاف ما لو
تعيب المبيع في يد البائع، واقتضى الحال الأرش، يجب جزء من الثمن، لان
الكل مضمون على البائع بجميع الثمن، فبعضه ببعضه. قال الشيخ أبو علي: هذا
أصل مطرد في المسائل: أن ما ضمن كله بالقيمة، فبعضه ببعضها كالمغصوب
وغيره، إلا في صورة،
وهي لو عجل زكاة ماله، فتلف قبل الحول، وكان ما عجله تالفا، يغرم
القابض القيمة. ولو كان معيبا، ففي الأرش وجهان. وقد ذكرنا هذه المسألة في
الزكاة، وميل الشيخ إلى طرد الأصل فيها.
ثم التلف قد يكون حكميا، بأن وقف المبيع، أو
أعتقه، أو باعه، أو وهبه وأقبضه، فتجب القيمة، وهذه التصرفات ماضية على
الصحة. وقال أبو بكر الفارسي: نتبين بالتحالف فسادها، وترد العين،
والصحيح، الأول. والتعيب أيضا، قد يكون حقيقيا، وقد يكون حكميا،
بأن زوج الأمة، فعليه ما بين قيمتها مزوجة وخلية، وتعود إلى البائع،
والنكاح صحيح. وعن الفارسي: أنه يبطل النكاح. ومهما اختلفا في القيمة أو
الأرش، فالقول قول المشتري.
ولو كان العبد المبيع قد أبق من يد المشتري حين تحالفا، لم يمتنع
الفسخ، فإن الإباق لا يزيد على التلف، ويغرم المشتري قيمته، لتعذر حصوله.
وكذا لو كاتبه كتابة صحيحة. وإن رهنه، فالبائع بالخيار، إن شاء صبر إلى فكاكه،
وإن شاء أخذ القيمة. وإن آجره، بني على جواز بيع المستأجر. إن منعناه، فهو
كما لو رهنه، وإن جوزناه، فللبائع أخذه، لكنه يترك عند المستأجر إلى انقضاء
المدة، والأجرة المسماة للمشتري، وعليه للبائع أجرة المثل للمدة الباقية. وإن كان
آجره للبائع، فله أخذه قطعا. وفي انفساخ الإجارة، وجهان، كما لو باع الدار
238

لمستأجرها. إن قلنا: لا تنفسخ، فعلى البائع الأجرة المسماة
للمشتري، وعلى المشتري أجرة مثل المدة الباقية للبائع. وإذا غرم القيمة في هذه الصور، ثم ارتفع
السبب الحائل، وأمكن الرد، فهل يرد العين ويسترد القيمة؟ يبنى ذلك على أنه قبل
ارتفاع الحائل ملك لمن؟ أما الآبق، ففيه وجهان. أحدهما: أنه ملك للمشتري،
ولا يرد عليه الفسخ، كما لا يباع، وإنما هو وارد على القيمة، وأصحهما: أنه في
إباقه ملك البائع، والفسخ وارد عليه. وإنما وجبت القيمة للحيلولة. وأما المرهون
والمكاتب، ففيهما طريقان. أحدهما: طرد الوجهين. وأصحهما: القطع ببقاء
الملك للمشتري، وبه قال الشيخ أبو محمد، كما إذا أفلس والمبيع آبق، يجوز
للبائع الفسخ والرجوع إليه. ولو كان مكاتبا أو مرهونا، لم يكن له ذلك. وأما
المستأجر، فإن منعنا بيعه، فهل هو كالمرهون، أم كالآبق؟ فيه احتمالان للامام.
فإن قلنا ببقاء الملك للمشتري، فالفسخ وارد على القيمة كما لو تلف، فلا رد
ولا استرداد. وإن قلنا بانقلابه إلى البائع، ثبت الرد والاسترداد عند زوال الحيلولة..
فصل لو اختلفا، ثم حلف كل واحد منهما بعد التحالف أو قبله بحرية
العبد، لم يكن الامر كما قال، لم يعتق في الحال، لأنه ملك المشتري وهو
صادق بزعمه، فإن عاد العبد إلى البائع بالفسخ أو بغيره، عتق عليه، لان
المشتري كاذب بزعمه، فهو كمن أقر بحريته ثم اشتراه. ولا يعتق في الباطن إن كان
البائع كاذبا، ويعتق على المشتري أن كان صادقا. وولاء هذا العبد موقوف لا يدعيه ا
لبائع ولا المشتري. ولو صدق المشتري البائع، حكم بعتقه عليه، ويرد الفسخ إن
تفاسخا. كما لو رد العبد بعيب ثم قال: كنت أعتقته، يرد الفسخ، ويحكم بعتقه.
فلو صدق البائع المشتري، نظر، إن حلف البائع بالحرية أولا، ثم المشتري، فإذا
صدقه البائع بعد يمينه، ثم عاد إليه، لم يعتق، لأنه لم يكذب المشتري بعدما
حلف بالحرية حتى يجعل مقرا بعتقه. وأن حلف المشتري بحريته أولا، ثم حلف
البائع، وصدقه، عتق إذا عاد إليه، لان حلفه بعد حلف المشتري، تكذيب له،
واعتراف بالحرية عليه.
ولو كانت المسألة بحالها، لكن المبيع بعض العبد، فإذا عاد إلى ملك
239

البائع، عتق ذلك القدر عليه، ولم يقوم عليه الباقي، لأنه لم يقع العتق بمباشرته.
فصل لو جرى العقد بين وكيلين، ففي تحالفهما وجهان، لان فائدة
اليمين الاقرار، وإقرار الوكيل لا يقبل.
قلت: ينبغي أن يكون الأصح: التحالف. وفائدته الفسخ، أو أن ينكل
أحدهما، فيحلف الآخر، ويقضى له إذا قلنا: حلفه مع النكول كالبينة. والله
أعلم.
فصل لو كان المبيع جارية، فوطئها المشتري، ثم اختلفا وتحالف، فإن
كانت ثيبا، فلا شئ عليه مع ردها. وإن كانت بكرا، ردها مع أرش البكارة، لأنه
نقصان جزء. ولو ترافع المتنازعان إلى مجلس الحكم، ولم يتحالفا بعد، فهل
للمشتري وطء المبيعة؟ وجهان. أصحهما: نعم، لبقاء ملكه. وفي جوازه بعد
التحالف وقبل الفسخ، وجهان مرتبان، وأولى بالتحريم.
فصل لو تقايلا، أو رد المشتري المبيع بعد قبض البائع الثمن، واختلفا
في قدر الثمن، فالقول قول البائع مع يمينه، لأنه غارم.
قلت: ولو قال البائع: بعتك الشجرة بعد التأبير، فالثمرة لي، فقال
المشتري: بل قبله، فلي، فالقول قول البائع، كأن الأصل بقاء ملكه. ولو اشترى
عبدين، فتلف أحدهما، ووجد بالآخر عيبا فرده، وقلنا: يجوز رد أحدهما،
فاختلفا في قيمة التالف، فالقول قول البائع على الأظهر، لأنه ملك الثمن، فلا يزال
ملكه إلا عما يقر به، والثاني: قول المشتري، كالغارم. وذكر في التتمة
وجها: أنهما إذا اختلفا في صفة البيع، لا يتحالفان، بل القول قول البائع، لان
الصفة المشروطة تلحقه بالعيب، فصار كدعواه عيبا. ولو اختلفا في وقت وجود
العيب، كان القول قول البائع. والصحيح: أنهما يتحالفان كما سبق، وبه قطع
الأصحاب.
قال في التتمة: ولو اختلفا في انقضاء الأجل، حكي عن نصه: أن القول
قول البائع. قال أصحابنا: صورة المسألة في السلم، لان الأجل في السلم حق
البائع، فإذا ادعى المسلم انقضاءه، فقد ادعى استحقا مطالبة، والبائع المسلم
240

إليه ينكرها، فالقول قوله، ولان اختلافهما في انقضاء الأجل مع اتفاقهما على
قدره، اختلاف في تاريخ العقد، فكان المسلم يدعي وقوعه في شهر، والمسلم إليه
ينكره. فلو اختلفا في أصل العقد، كان القول قول منكره، فكذا هنا. وأما في باب
الشراء، الأجل حق المشتري، فالقول قوله، لما ذكرنا من العلتين. فلو باع شيئا
ومات، فظهر أن المبيع كان لابن الميت، فقال المشتري: باعه عليك أبوك في
صغرك لحاجة، وصدقه الابن أن الأب باعه في صغره، لكن قال: لم يبعه علي،
بل باعه لنفسه متعديا، قال الغزالي في الفتاوى: القول قول المشتري، لان الأب
نائب الشرع، فلا يتهم إلا بحجة، كما لو قال: اشتريت من وكيلك، فقال: هو
وكيلي، ولكن باع لنفسه، فالقول قول المشتري. والله أعلم.
241

كتاب السلم
يقال: السلم والسلف، ولفظة السلف تطلق أيضا على القرض،
ويشترك السلم والقرض في أن كلا منهما إثبات مال في الذمة بمبذول في الحال،
وذكروا في تفسير السلم عبارات متقاربة.
منها: أنه عقد على موصوف في الذمة ببدل يعطى عاجلا. وقيل: إسلام
عوض حاضر في موصوف في الذمة. وقيل: إسلاف عاجل في عوض لا يجب
تعجيله. ثم السلم: بيع، كما سبق، ويختص بشروط.
الشرط الأول: تسليم رأس المال في مجلس العقد.
242

فلو تفرقا قبل قبضه، بطل العقد. ولو تفرقا قبل قبض بعضه، بطل فيما لم
يقبض، وسقط بقسطه من المسلم فيه. والحكم في المقبوض، كمن اشترى شيئين
نتلف أحدهما قبل القبض.
ولا يشترط تعيين رأس المال عند العقد، بل لو قال: أسلمت إليك دينارا في
ذمتي في كذا، ثم عين وسلم في المجلس، جاز، وكذلك في الصرف لو باع
دينارا بدينار، أو بدراهم في الذمة، عين وسلم في المجلس،
ولو باع طعاما بطعام في الذمة، ثم عين وسلم في المجلس، فوجهان،
أصحهما عند الأصحاب: الجواز. والثاني: المنع، لان الوصف فيه يطول بخلاف
الصرف. فلو قبض رأس المال ثم أودعه عند المسلم فبل التفرق، جاز.
ولو رده إليه عن دين، قال أبو العباس الروياني: لا يصح، لأنه تصرف قبل
انبرام ملكه. فإذا تفرقا، فعن بعض الأصحاب أنه يصح السلم لحصول القبض
وانبرام الملك، ويستأنف إقباضه للدين. ولو كان له في ذمة رجل دراهم، فقال:
أسلمت إليك الدراهم التي لي في ذمتك في كذا، فإن أسلم مؤجلا أو حالا ولم
يقبض المسلم فيه قبل التفرق، فهو باطل، وكذا إن أحضره وسلمه في المجلس
على الأصح وأطلق صاحب التتمة الوجهين في أن تسليم المسلم فيه في
المجلس وهو حال، هل يغني عن تسليم رأس المال؟ والأصح: المنع.
فرع لا يجوز أن يحيل المسلم برأس المال على رجل، وإن قبضه المسلم
إليه من الرجل في المجلس. فلو قال للمحال عليه: سلمه إليه، ففعل، لم يكف
لصحة السلم، لان الانسان في إزالة ملكه لا يصير وكيلا لغيره، لكن يصير المسلم
إليه وكيلا عن المسلم في قبض ذلك. ثم السلم يقتضي قبضا آخرا، ولا يصح قبضه
من نفسه. ولو أحال المسلم إليه برأس المال على المسلم، فتفرقا قبل التسليم،
بطل العقد وإن جعلنا الحوالة قبضا، لان المعتبر في السلم القبض الحقيقي. ولو
243

أحضر رأس المال، فقال المسلم إليه: سلمه إليه، ففعل، صح، ويكون المحتال
وكيلا عن المسلم إليه في القبض.
فرع لو كان رأس المال دراهم في الذمة، فصالح عنها على المال، لم
يصح وإن قبض ما صالح عليه. ولو كان عبدا فأعتقه المسلم إليه قبل القبض، لم
يصح إن لم يصحح إعتاق المشتري قبل القبض، وإلا فوجهان.
والفرق أنه لو نفذ، لكان قبضا حكما، ولا يكفي ذلك في السلم، فإن
صححنا متفرقا قبل قبضه، بطل العقد. وإلا فيصح.
وفي نفوذ العتق وجهان.
فرع متى فسخ السلم بسبب يقتضيه، وكان رأس المال معينا في ابتداء
العقد وهو باق، رجع المشتري بعينه. وإن كان تألفا، رجع إلى بدله، وهو
المثل في المثلي، والقيمة في غيره. وإن كان موصوفا في الذمة، وعين في
المجلس وهو باق، فهل له المطالبة بعينه، أم للمسلم إليه الابدال؟ وجهان،
أصحهما: الأول.
244

فرع لو وجدنا رأس المال في يد المسلم إليه، فقال المسلم: أقبضتكه
بعد التفرق، وقال: بل قبله، وأقام كل واحد بينة على قوله، فبينة المسلم إليه
أولى. حكي ذلك عن ابن سريج.
فرع إذا كان رأس المال في الذمة، اشترط معرفة قدره، وذكر صفته أيضا
إن كان عوضا. فإن كان معينا وهو مثلي، فهل تكفي معاينته، أم لا بد من ذكر صفته
وقدره، كيلا في المكيل، ووزنا في الموزون، وذرعا في المذروع؟ قولان.
أظهرهما: الأول. وقيل: إن كان حالا، كفت قطعا. والمذهب: طرد القولين
فيهما. وإن كان متقوما وضبطت صفاته بالمعاينة، ففي اشتراط معرفة قيمته
طريقان. قطع الأكثرون بعدم الاشتراط، وهو المذهب. وقيل بطرد القولين، ولا
فرق على القولين بين السلم الحال والمؤجل على المذهب. وقيل القولان في
المؤجل، فأما الحال، فتكفي فيه المعاينة قطعا، كما في البيع. ثم موضع
القولين، إذا تفرقا قبل العلم بالقدر، والقيمة. فلو علما، ثم تفرقا، صح بلا
خلاف.
وبنى كثير من الأصحاب على هذين القولين، أنه هل يجوز أن يجعل رأس
المال يجوز السلم فيه، كالجوهرة؟ إن قلنا بالأظهر، جاز، وإلا فلا. قال
امام رجمه الله هو على هذا الاطلاق، بل الجوهرة المثمنة إذا عرفا قيمتها
وبالغا في وصفها، وجب أن يجوز جعلها رأس مال، منع السلم فيه سببه عزة
الموجود، ولا معنى لاشتراط عموم الوجود في رأس المال. وإذا جوزنا السلم،
ورأس المال جزاف، واتفق فسخ، وتنازعا في قدره، فالقول قول المسلم إليه لأنه
غارم.
قلت: إذا كان رأس المال دراهم أو دنانير، حمل على غالب نقد البلد. فلو
245

استوت، لم يصح حتى يبين كالثمن في البيع. والله أعلم.
الشرط الثاني: كون المسلم فيه دينا، فلو استعمل لفظ السلم في العين
فقال: أسلمت إليك هذا الثوب في هذا العبد، فليس هذا سلما. وفي انعقاده
بيعا قولان. أظهرهما: لا لاختلال لفظه. ولو قال: بعتكه بلا ثمن، أو لا
ثمن لي عليك، فقال: اشتريت، وقبضه، فهل يكون هبة؟ فيه مثل هذين
القولين، وهل يكون المقبول مضمونا؟ وجهان. ولو قال: بعتك هذا ولم يتعرض
للثمن أصلا، لم يكن تمليكا على المذهب، والمقبوض مضمون. وقيل: فيه
الوجهان، ولو أسلم بلفظ الشراء، فقال: اشتريت طعاما أو ثوبا صفته كذا بهذه
الدراهم، فقال: بعتك، انعقد. وهل هو سلم اعتبارا بالمعنى، أم بيع اعتبارا
بلفظه؟ وجهان. أصحهما: الثاني. فعلى هذا، لا يجب تسليم الدراهم في
المجلس،
ويثبت فيه خيار الشرط.
وفي جواز الاعتياض عن الثوب قولان، كما في الثمن. ومنهم من قطع
بالمنع. وإن قلنا: الاعتبار بالمعنى، وجب تسليم الدراهم في المجلس، ولم
246

يثبت فيه خيار الشرط، ولم يجز الاعتياض عن الثوب. ولو قال: اشتريت ثوبا صفته
كذا في ذمتك بعشرة دراهم في ذمتي، فإن جعلناه سلما، وجب تعيين الدراهم
وتسليمها في المجلس. وإن قلنا: بيع، لم يجب.
فصل يصح السلم الحال، كالمؤجل. فان صرح بحلول أو تأجيل،
فذاك، وإن أطلق، فوجهان. وقيل: قولان، أصحهما عند الجمهور: يصح
ويكون حالا. والثاني، لا ينعقد.
ولو أطلقا العقد ثم ألحقا به أجلا في المجلس، فالنص لحوقه، وهو
المذهب، ويجئ فيه الخلاف السابق في سائر الالحاقات.
ولو صرحا بالأجل في نفس العقد، ثم أسقطاه في المجلس، سقط وصار
العقد حالا.
فرع الشرط المفسد للعقد، إذا حذفاه في المجلس، هل ينحذف وينقلب
العقد صحيحا؟ وجهان. الصحيح الذي عليه الجمهور: لا. وفي وجه: لو حذفا
الأجل المجهول في المجلس، انقلب العقد صحيحا. واختلفوا في جريان هذا
247

الوجه في سائر المفسدات، كالخيار والرهن الفاسدين وغيرهما. قال الامام:
الأصح تخصيصه بالأجل. واختلفوا في أن زمن الخيار المشروط، هل يلحق
بالمجلس في حذف الأجل المجهول تفريعا على هذا الوجه الضعيف؟ والأصح أنه
لا يلحق به.
فصل إذا أسلم مؤجلا، اشترط كونه معلوما، فلا يجوز توقيته بما
يختلف، كالحصاد، وقدوم الحاج. ولو قال: إلى العطاء، لم يصح، إن أراد
وصوله، فان أراد وقت خروجه وقد عين السلطان له وقتا، جاز، بخلاف ما إذا قال:
إلى وقت الحصاد، إذ ليس له وقت معين. ولو قال: إلى الشتاء، أو الصيف، لم
يجز إلا أن يريد الوقت. ولنا وجه شاذ قاله ابن خزيمة من أصحابنا: أنه يجوز
التوقيت باليسار.
فرع التوقيت بشهور الفرس والروم جائز كشهور العرب، لأنها معلومة،
وكذا التوقيت بالنيروز، والمهرجان جائز على الصحيح. وفي وجه: لا
248

يصح. قال الامام: لأنهما يطلقان على الوقتين اللذين تنتهي الشمس فيهما إلى
أوائل برجي الحمل والميزان، وقد يتفق ذلك ليلا، ثم ينحبس مسير الشمس كل
سنة قدر ربع يوم وليلة. ولو وقت بفصح النصارى، نص الشافعي رضي الله عنه:
أنه لا يصح، فقال بعض أصحابه بظاهره اجتنابا لمواقيت الكفار. وقال جمهور
الأصحاب: إن اختص بمعرفته الكفار، لم يصح، لأنه لا اعتماد على قولهم، وإن
عرفه المسلمون، جاز كالنيروز. ثم اعتبر جماعة فيهما معرفة المتعاقدين. وقال
أكثر الأصحاب: يكفي معرفة الناس. وسواء اعتبرنا معرفتهما، أم لا. فلو عرفا،
كفى على الصحيح. وفي وجه: يشترط معرفة عدلين من المسلمين سواهما،
لأنهما قد يختلفان، فلا بد من مرجع. وفي معنى الفصح سائر أعياد أهل الملل،
كفطير اليهود ونحوه.
قلت: الفصح، بكسر الفاء وإسكان الصاد والحاء المهملتين، وهو عيد لهم
معروف، وهو لفظ عربي. والفطير، عيد اليهود، ليس عربيا، وقد طرد صاحب
الحاوي، الوجه في الفصح في شهور الفرس وشهور الروم. والله أعلم.
فرع لو وقتا بنفر الحجيج وقيدا بالأول أو الثاني، جاز. وإن أطلقا،
فوجهان. أحدهما: لا يصح. والأصح المنصوص: صحته، ويحمل على النفر
الأول لتحقق الاسم به، ويجري الخلاف في التوقيت بشهور ربيع، أو
جمادي، أو العيد، ولا يحتاج إلى تعيين السنة إذا حملنا المذكور على الأول. وفي
الحاوي وجه: أن التوقيت بالنفر الأول، أو الثاني، لا يجوز لغير أهل مكة، لان
أهل مكة يعرفونه دون غيرهم. وذكر وجهين في التوقيت بيوم القر لأهل مكة، لأنه لا
يعرفه إلا خواصهم. وهذا الذي قاله ضعيف، لأنا إن اعتبرنا علم العاقدين، فلا
فرق، وإلا فهي مشهورة في كل ناحية عند الفقهاء وغيرهم.
قلت: يوم القر، بفتح القاف وتشديد الراء، وهو الحادي عشر من ذي
الحجة، سمي به لأنهم يقرون فيه بمنى، وينفرون بعده النفرين، في الثاني عشر،
249

والثالث عشر. وهذا الوجه الذي ذكره في الحاوي قوي. ودعوى الامام الرافعي
رحمه الله شهرته عند غير الفقهاء ومن في معناهم لا تقبل، بل ربما لا يعرف القر كثير
من المتفقهين. والله أعلم.
فرع لو أجلا إلى سنة أو سنين مطلقة، حمل على الهلالية. فان قيد
بالرومية، أو الفارسية، أو الشمسية، أو العددية. وهي ثلاثمائة وستون يوما،
تقيد. وكذا مطلق الأشهر محمول على الأشهر الهلالية. ثم إن جرى العقد في أول
الشهر، اعتبر الجميع بالأهلة، تامة كانت أو ناقصة. وإن جرى بعد مضي بعض
الشهر، عد باقيه بالأيام، واعتبرت الشهور بعده بالأهلة، ثم يتمم المنكسر بثلاثين.
وفيه وجه: أنه إذا انكسر شهرا، اعتبر جميع الشهور بالعدد. وضرب الامام مثلا
للتأجيل بثلاثة أشهر مع الانكسار فقال: عقدا وقد بقي من صفر لحظة، ونقص
الربيعان وجمادى، فيحسب الربيعان بالأهلة، ويضم جمادى إلى اللحظة من صفر،
ويكمل جمادى الآخرة يوم إلا لحظة. ثم قال الامام: كنت أود أن يكتفي في هذه
الصورة بالأشهر الثلاثة، فإنها جرت عربية كوامل. وما تمناه الامام، هو الذي نقله
صاحب التتمة وغيره، وقطعوا بحلول الأجل بانسلاخ جمادى الأولى. قالوا:
وإنما يراعى العدد، إذا عقد في غير اليوم الأخير، وهذا هو الصواب.
فرع لو قال: إلى يوم الجمعة، أو إلى رمضان، حل بأول جزء منه،
لتحقق الاسم. وربما يقال: بانتهاء ليلة الجمعة، وبانتهاء شعبان، وهما بمعنى،
ولو قال محله: في الجمعة، أو في رمضان، فوجهان. أصحهما: لا يصح
العقد، لأنه جعل اليوم ظرفا، فكأنه قال: في وقت من أوقاته. والثاني: يصح
ويحمل على الأول.
قلت: كذا قاله جمهور الأصحاب. إذا قال في يوم كذا، أو شهر كذا، أو
سنة كذا، لا يصح على الأصح، وسووا بينهما، وحكى الطبري في العد وجها: أنه
250

يصح في يوم كذا دون الشهر، وجعل صاحب الحاوي هذه الصور على مراتب،
فقال: من الأصحاب من قال: يبطل في السنة دون الشهر، قال: فأما اليوم،
فالصحيح فيه الجواز لقرب ما بين طرفيه. والأصح المعتمد قدمناه. والله أعلم.
ولو قال: إلى أول رمضان أو آخره، بطل، كذا قاله الأصحاب، لأنه يقع
على جميع النصف الأول أو الأخير. قال الامام والبغوي: ينبغي أن يصح، ويحمل
على الجزء الأول من كل نصف، كمسألة النفر، وكاليوم والشهر، يحمل على أولهما، وكتعليق الطلاق.
فرع لو أسلم في جنس إلى أجلين، أو جنسين إلى أجل، صح على الأظهر
.
الشرط الثالث: القدرة على التسليم، وهذا الشرط ليس من خواص
السلم، بل يعم كل بيع كما سبق، وإنما تعتبر القدرة على التسليم عند وجوبه.
وذلك في البيع والسلم الحال في الحال، وفي السلم المؤجل عند المحل. فلو
أسلم في منقطع لدى المحل، كالرطب في الشتاء، أو فيما يعز وجوده كالصيد حيث
يعز، لم يصح. فلو غلب على الظن وجوده، لكن لا يحصله إلا بمشقة عظيمة،
كالقدر الكثير في الباكورة، فوجهان. أقربهما إلى كلام الأكثرين: البطلان.
ولو أسلم في شئ لا يوجد ببلده ويوجد في غيره، قال الامام: إن كان قريبا
منه، صح، وإلا فلا، قال: ولا تعتبر فيه مسافة القصر، وإنما التقريب فيه أن
يقال: إن كان يعتاد نقله إليه في غرض المعاملة، لا للتحف والمصادرات، صح
السلم، وإلا فلا. ولو كان المسلم فيه عام الوجود عند المحل، فلا بأس بانقطاعه
251

قبله وبعده. وإن أسلم فيما يعم، ثم انقطع عند المحل لجائحة، فقولان.
أحدهما: ينفسخ العقد. وأظهرهما: لا، بل يتخير المسلم، فإن شاء فسخ،
وإن شاء صبر إلى وجوده.
ولا فرق في جريان القولين بين أن لا يوجد عند المحل أصلا، أو وجد
فسوف المسلم إليه حتى انقطع. وقيل: القولان في الحالة الأولى.
أما الثانية، فلا ينفسخ فيها قطعا بحال، فإن أجاز ثم بدا له، مكن من الفسخ
كزوجة المولى إذا رضيت ثم أرادت المطالبة، كان لها ذلك.
قلت: هذا هو الصحيح، وذكر صاحب التتمة في باب التفليس وجهين في
أن هذا الخيار على الفور، أم لا؟ كالوجهين في خيار من ثبت له الرجوع في المبيع
بالافلاس. والله أعلم.
ولو صرح بإسقاط حق الفسخ، لم يسقط على الأصح.
ولو قال المسلم إليه: لا تصبر وخذ رأس مالك، لم يلزمه على الصحيح.
ولو حل الأجل بموت المسلم إليه في أثناء المدة، والمسلم فيه معدوم، جرى
القولان. وكذا لو كان موجودا عند المحل وتأخر التسليم لغيبة أحد المتعاقدين،
ثم حضر وقد انقطع بعض المسلم فيه، فقد ذكرنا حكمة في باب تفريق الصفقة.
ولو أسلم فيما يعم عند المحل، فعرضت آفة علم بها انقطاع الجنس عن
المحل، فهل يتنجز حكم الانقطاع في الحال، أم يتأخر إلى المحل؟ وجهان.
أصحهما الثاني.
252

فرع فيما يحصل به الانقطاع فإذا لم يوجد المسلم فيه أصلا، بأن كان
ذلك الشئ ينشأ بتلك البلدة، فأصابه جائحة مستأصلة، فهذا انقطاع حقيقي.
ولو وجد في غير ذلك البلد، لكن يفسد بنقله، أو لم إلا عند قوم امتنعوا
من بيعه، فهو انقطاع.
ولو كانوا يبيعونه بثمن غال، فليس بانقطاع، بل يجب تحصيله.
ولو أمكن نقله، وجب إن كان قريبا.
وفيما يضبط به القرب خلاف، نقل فيه صاحب التهذيب في آخرين
وجهين. أصحهما: يجب نقله مما دون مسافة القصر. والثاني: من مسافة لو خرج
إليها بكرة أمكنه الرجوع إلى أهله ليلا. وقال الامام: لا اعتبار لمسافة القصر. فان
أمكن النقل على عسر، فالأصح أنه لا ينفسخ قطعا. وقيل: على القولين.
الشرط الرابع: بيان محل التسليم. في اشتراط بيان مكان تسليم المسلم فيه
المؤجل اختلاف نص وطرق للأصحاب. أحدها: فيه قولان مطلقا. والثاني: إن
عقدا في موضع يصلح للتسليم، لم يشترط التعيين، وإلا، اشترط. والثالث: إن
كان لحمله مؤنة، اشترط، وإلا، فلا. والرابع: إن لم يصلح الموضع، اشترط،
وإلا، فقولان. والخامس: إن لم يكن لحمله مؤنة، لم يشترط، وإلا، فقولان.
والسادس: إن كان له مؤنة، اشترط. وإلا فقولان. قال الامام: هذا أصح
الطرق، وهو اختيار القفال.
والمذهب الذي يفتى به من هذا كله: وجوب التعيين إن لم يكن الموضع
صالحا، أو كان لحمله مؤنة، وإلا، فلا، ومتى شرطنا التعيين، فتركاه، بطل
العقد. وإن لم نشرطه فعين، تعين. وعند الطلاق يحمل على مكان العقد على
الصحيح. وفي التتمة: إذا لم يكن لحمله مؤنة، سلمه في أي موضع صالح
شاء. وحكى وجها: أنه إذا لم يكن الموضع صالحا للتسليم، حمل على أقرب
موضع صالح. ولو عين موضعا فخرب، وخرج عن صلاحية التسليم، فأوجه.
253

أحدها: يتعين ذلك الموضع. والثاني: لا، وللمسلم الخيار. والثالث: يتعين
أقرب موضع صالح.
قلت: الثالث، أقيسها. والله أعلم.
وأما السلم الحال، فلا يشترط فيه التعيين، كالبيع. ويتعين موضع العقد
للتسليم، لكن لو عينا غيره، جاز، بخلاف البيع، لان السلم يقبل التأجيل، فقبل
شرطا يتضمن تأخير التسليم. والايمان لا تحتمل التأجيل، فلا تحتمل ما يتضمن
تأخير التسليم. قال في التهذيب: ولا نعني بمكان العقد ذلك الموضع بعينه،
بل تلك الناحية. وحكم الثمن في الذمة، حكم المسلم فيه. وإن كان معينا، فهو
كالمبيع.
قلت: قال في التتمة: الثمن في الذمة والأجرة إذا كانت دينا، وكذا
الصداق، وعوض الخلع، والكتابة ومال الصلح عن دم العمد، وكل عوض ملتزم
في الذمة، له حكم السلم في الحال، إن عين للتسليم مكان، جاز، وإلا تعيين موضع
العقد، لان كل الأعواض الملتزمة في الذمة تقبل التأجيل كالمسلم فيه. والله
أعلم.
الشرط الخامس: العلم بالمقدار، والعلم يكون بالكيل، أو الوزن، أو
الذرع، أو العد. ويجوز السلم في المكيل وزنا، وفي الموزون كيلا إذا تأتى
كيله. وفي وجه ضعيف: لا يجوز في الموزون كيلا، وحمل إمام الحرمين
إطلاق الأصحاب جواز كيل الموزون على ما يعد الكيل في مثله ضابطا، حتى لو
أسلم في فتات المسك والعنبر ونحوهما كيلا، لم يصح.
254

وأما البطيخ، والقثاء، والبقول، والسفرجل، والرمان، والباذنجان،
والرانج، والبيض، فالمعتبر فيها الوزن. ويجوز السلم في الجوز واللوز وزنا إذا لم
تختلف قشوره غالبا، ويجوز كيلا على الأصح، وكذا الفستق والبندق.
فصل لا يجوز السلم في البطيخة، والسفرجلة، ولا في عدد منها، لأنه
يحتاج إلى ذكر حجمها ووزنها، وذلك يورث عزة الوجود.
وكذا لو أسلم في ثوب وصفه، وقال: وزنه كذا، أو في مائة صاع حنطة على
أن وزنها كذا، لا يصح لما ذكرنا. ولو ذكر وزن الخشب مع صفاته المشروطة،
جاز، لأنه إن زاد، أمكن نحته. وأما اللبن، فيجمع فيه بين العدد والوزن.
فيقول: كذا لبنة، وزن كل واحدة كذا، لأنه باختياره، فلا يعز، ثم الامر فيها على
التقريب.
قلت: هكذا قال أصحابنا الخراسانيون يشترط في اللبن الجمع بين العدد
والوزن، ولم يعتبر العراقيون أو معظمهم الوزن. ونص الشافعي رضي الله عنه في
آخر كتاب السلم من الام على أن الوزن فيه مستحب، لو تركه فلا بأس، لكن
يشترط أن يذكر طوله وعرضه وثخانته، وأنه من طين معروف. والله أعلم.
فرع لو عين للكيل مالا يعتاد الكيل به، كالكوز، بطل السلم.
255

ولو قال في البيع: بعتك ملء هذا الكوز من هذه الصبرة، جاز على الأصح،
لعدم الغرر.
ولو عين في البيع أو السلم مكيالا معتاد، لم يفسد العقد على الأصح، بل
يلغو تعيينه كسائر الشروط التي لا غرض فيها.
وهل السلم الحال كالمؤجل، أم كالبيع؟ وجهان. قطع الشيخ أبو حامد،
بأنه كالمؤجل، لان الشافعي رضي الله عنه قال: لو أصدقها ملء هذه الجرة خلا،
لم يصح، لأنها قد تنكسر، فلا يمكن التسليم، فكذا هنا. ولو قال: أسلمت إليك
في ثوب كهذا الثوب، أو مائة صاع حنطة كهذه الحنطة، قال العراقيون: لا يصح
كمسألة الكوز، لأن هذه الحنطة والثوب قد يتلفان. وقال في التهذيب: يصح
ويقوم مقام الوصف.
ولو أسلم في ثوب وصفه، ثم أسلم في ثوب آخر بتلك الصفة، جاز إن كانا
ذاكرين لتلك الأوصاف.
فرع لو أسلم في حنطة قرية صغيرة بعينها، أو ثمرة بستان بعينه، لم
يصح.
وإن أسلم في ثمرة ناحية، أو قرية كبيرة، نظر، إن أفاد تنويعا كمعقلي
البصرة، جاز، لأنه مع معقلي بغداد صنف (واحد)، لكن يختلفان في الأوصاف، فله
غرض في ذلك. وإن لم يفد تنويعا، فوجهان. أحدهما: أنه كتعيين المكيال لعدم
الفائدة. وأصحهما: الصحة، لأنه لا ينقطع غالبا.
الشرط السادس: معرفة الأوصاف. فذكر أوصاف المسلم فيه في العقد،
شرط، فلا يصح السلم فيما لا ينضبط أوصافه، أو كانت تنضبط، فتركا بعض ما
يجب ذكره.
256

ثم من الأصحاب من يشترط التعرض للأوصاف التي يختلف بها الغرض،
ومنهم من يعتبر الأوصاف التي تختلف بها القيمة،
ومنهم من يجمع بينهما، وليس شئ منها على إطلاقه، فان كون العبد قويا
في العمل، أو ضعيفا، أو كاتبا، أو أميا، وما أشبه ذلك، أوصاف يختلف بها
الغرض والقيمة، ولا يجب التعرض لها. ولتعذر الضبط أسباب، منها:
الاختلاط، والمختلطات أربعة أنواع.
الأول: المختلطات المقصودة الأركان، ولا ينضبط أقدار أخلاطها،
وأوصافها، كالهريسة، ومعظم المرق، والحلوى، والمعجونات، والغالية المركبة
من المسك، والعود، والعنبر، والكافور، والقسي، فلا يصح السلم فيها، ولا
يجوز في الخفاف، والنعال على الصحيح. والترياق المخلوط كالغالية. فإن كان
نباتا واحدا، أو حجرا، جاز السلم فيه. والنيل بعد الخرط، والعمل عليه لا يجوز
السلم فيه، وقبلهما، يجوز، والمغازل كالنبال.
الثاني: المختلطات المقصودة الأركان، التي تنضبط أقدارها وصفاتها،
كثوب العتابي، والخز المركب من الإبريسم، والوبر، ويجوز السلم فيها على
الصحيح المنصوص لسهولة ضبطها. ويجري الوجهان في الثوب المعمول عليه
بالإبرة بعد النسج من غير جنس الأصل، كالإبريسم على القطن، والكتان، فإن كان
تركيبها بحيث لا تنضبط أركانها، فهي كالمعجونات.
الثالث: المختلطات التي لا يقصد منها إلا الخليط الواحد، كالخبز فيه
الملح، لكنه غير مقصود في نفسه. وفي السلم فيه وجهان، أصحهما عند
257

الجمهور: لا يصح، وأصحهما عند الامام والغزالي: الصحة. ويجوز السلم
في الجبن، والأقط، وخل التمر، والزبيب، والسمك الذي عليه شئ من الملح
على الأصح في الجميع، لحقارة أخلاطها. وأما الادهان المطيبة، كدهن
البنفسج، والبان، الورد، فان خالطها شئ من جرم الطيب، لم يجز السلم
فيها، وإن تروح السمسم بها واعتصر، جاز. ولا يجوز في المخيض الذي يخالطه
الماء، نص عليه. وفي التتمة: أن المصل كالمخيض، لأنه يخالطه الدقيق.
الرابع: المختلطات خلقة، كالشهد، والأصح: صحة السلم فيه، والشمع
فيه كنوى التمر. ويجوز في العسل والشمع.
فرع سبق أن ما يندر وجوده لا يجوز السلم فيه، والشئ قد يندر من حيث
جنسه، كلحم الصيد في غير موضعه، وقد يندر باستقصاء الأوصاف لندور
اجتماعها، فلا يجوز السلم في اللآلئ الكبار، واليواقيت، والزبرجد،
والمرجان، ويجوز في اللآلئ الصغار إذا عم وجودها كيلا ووزنا.
قلت: هذا مخالف لما تقدم في الشرط الخامس عن إمام الحرمين: أن مالا
يعد الكيل فيه ضبطا، لا يصح السلم فيه كيلا، فكأنه اختار هنا، ما تقدم من
إطلاق الأصحاب. والله أعلم.
واختلف في ضبط الصغير، فقيل: ما يطلب للتداوي، صغير، وما طلب
للزينة، كبير. وعن الشيخ أبي محمد: أن ما وزنه سدس دينار، يجوز السلم فيه،
وإن كان يطلب للتزين. والوجه: أن اعتباره السدس للتقريب.
258

فرع لو أسلم في الجارية وولدها، أو أختها، أو عمتها، أو شاة وسخلتها،
لم يصح لندور اجتماعهما بالصفات، هكذا أطلقه الشافعي رضي الله عنه
والأصحاب.
وقال الامام: لا يمتنع ذلك في الزنجية التي لا تكثر صفاتها، وتمتنع فيمن
تكثر.
ولو أسلم في عبد وجارية، وشرط كونه كاتبا وهي ماشطة، جاز. ولو أسلم
في الجارية، وشرط كونها حاملا، بطل السلم في المذهب. وقيل: قولان بناء على
أن الحمل، هل له حكم، أم لا؟ إن قلنا: نعم، جاز، وإلا، فلا. لو أسلم في
شاة لبون، ففي صحته قولان. أظهرهما: المنع، وبه أجاب البغوي.
فصل يجوز السلم في الحيوان، وهو أنواع.
منها، الرقيق، فإذا أسلم فيه، وجب التعرض لأمور.
أحدها: النوع، فيذكر أنه تركي أو رومي، فان اختلف صنف النوع،
وجب ذكره على الأظهر.
الثاني: اللون، فيذكر انه أبيض أو أسود، ويصف البياض بالسمرة أو
الشقرة، والسواد بالصفاء أو الكدرة، هذا إن اختلف لون الصنف، فإن لم
يختلف، لم يجب ذكر اللون.
الثالث: الذكورة والأنوثة.
259

الرابع: السن، فيقول: محتلم، أو ابن ست، أو سبع، والامر في السن
على التقريب، حتى لو شرط كونه ابن سبع سنين مثلا بلا زيادة ولا نقصان، لم يجز
لندوره. والرجوع في الاحتلام، إلى قول العبد.
وفي السن، يعتمد قوله إن كان بالغا، وقول سيده إن ولد في الاسلام،
وإلا، فالرجوع إلى النخاسين، فتعتبر ظنونهم.
الخامس: القد، فيبين أنه طويل، أو قصير، أو ربع، ونقل الامام عن
العراقيين، إنه لا يجب ذكر القد. والموجود في كتب العراقيين، القطع بوجوبه،
ولا يشترط وصف كل عضو على حياله بأوصافه المقصودة، وإن تفاوت به الغرض
والقيمة، لان ذلك يورث غرة. وفي ذكر الأوصاف التي يعتبرها أهل الخبرة ويرغب
في الأرقاء، كالكحل، والدعج، وتكلثم الوجه، وسمن الجارية وما
أشبهها، وجهان، أحدهما: يجب، قاله الشيخ أبو محمد، وأصحهما:
لا.
والأصح: أنه لا يشترط ذكر الملاحة. ويستحب أن يذكر كونه مفلج الأسنان
أو غيره، وجعد الشعر أو سبطه. ويجب ذكر الثيابة، والبكارة، على الأصح.
فرع لو شرط كون العبد يهوديا أو نصرانيا، جاز. قال الصيمري: ولو
260

شرط أنه ذو زوجة، أو أنها ذات زوج، جاز، وزعم أنه لا يندر. قال: ولو شرط
كونه زانيا، أو قاذفا، أو سارقا، جاز، بخلاف ما لو شرط كون الجارية مغنية، أو
قوادة، لا يصح.
فرع لو أسلم جارية صغيرة في كبيرة، فوجهان. قال أبو إسحاق: لا
يجوز، لأنها قد تكبر وهي بالصفة المشروطة، فيسلمها بعد أن يطأها، فيكون في
معنى اقتراض الجواري. والصحيح: الجواز، كاسلام صغار الإبل في كبارها.
وهل يمكن من تسليمها عما عليه؟ وجهان. فان قلنا: يمكن، فلا مبالاة بالوطئ
كوطئ الثيب، وردها بالعيب.
ومنها الإبل، ويجب فيها ذكر الأنوثة، والذكورة، والسن، واللون،
والنوع، فيقول: من نعم بني فلان ونتاجهم، هذا إذا كثر عددهم وعرف لهم
النتاج، كبني تميم. فأما النسبة إلى طائفة يسيرة، فكتعين ثمرة بستان. ولو اختلف
نعم بني فلان، فالأظهر: أنه يشترط التعيين. ومنها الخيل، فيجب ذكر ما يجب في
الإبل. ولو ذكر معها الشيات كالأغر، والمحجل، واللطيم، كان أولى. فان
تركه، جاز. وهكذا القول في البقر، والغنم، والبغال، والحمير. وما لا يبين نوعه
261

بالإضافة إلى قوم، يبين بالإضافة إلى بلد وغيره. ويجوز السلم في الطيور على
الصحيح، وبه قطع الجماهير. وفي المهذب: لا يجوز. فان جوزناه، وصف
منها النوع، والصغر، والكبر من حيث الجثة، ولا يكاد يعرف سنها. فان
عرف، وصف به. ويجوز السلم في السمك والجراد حيا وميتا عند عموم
الوجود، ويوصف كل جنس من الحيوان بما يليق به.
فصل السلم في اللحم جائز، ويجب فيه بيان أمور.
أحدها: الجنس، كلحم بقر أو غنم.
الثاني: النوع. فيقول: لحم بقر عراب أو جواميس، وضأن أو معز.
الثالث: ذكر أو أنثى، خصي أو فحل.
الرابع: السن، فيقول: لحم صغير أو كبير، ومن الصغير، رضيع أو
فطيم. ومن الكبير، جذع أو ثني.
الخامس: يبين أنه من راعية أو معلوفة. قال الامام: ولا أكتفي بالعلف بالمرة
والمرات، حتى ينتهي إلى مبلغ يؤثر في اللحم.
السادس: يبين أنه من الفخذ، أو الكتف أو الجنب. وفي كتب العراقيين،
أمر سابع، وهو بيان السمن والهزال. ولا يجوز شرط الأعجف، لأنه عيب،
وشرطه مفسد للعقد. ويجوز في اللحم المملح، والقديد إذا لم يكن عليه غير
المملح. فإن كان، فقد سبق الخلاف في جوازه في نظيره. ثم إذا أطلق السلم في
اللحم، وجب قبول ما فيه من العظم على العادة. وإن شرط نزعه، جاز ولم
يجب قبوله.
فرع يجوز السلم في الشحم، والألية، والكبد، والطحال، والكلية،
والرئة.
262

فرع إذا أسلم في لحم صيد، ذكر ما يجب في سائر اللحوم. لكن الصيد
لا يكون خصيا، ولا معلوفا، فلا يجب ذكر هذين الامرين. قال الشيخ أبو حامد
والمقتدون به: يبين أنه صيد بأحبولة، أو بسهم، أو بجارحة، وأنها كلب، أو
فهد، لان صيد الكلب أطيب.
فرع في لحم الطير والسمك يبين الجنس، والنوع، والصغر، والكبر من
حيث الجثة. ولا يشترط ذكر الذكورة والأنوثة، إلا إذا أمكن التمييز، وتعلق به
غرض. ويبين موضع اللحم إذا كان الطير والسمك كبيرين. ولا يلزمه قبول الرأس
والرجل من الطير، والذنب من السمك.
فصل لا يجوز السلم في اللحم المطبوخ والمشوي، ولا في الخبز على
الأصح كما سبق. وفي الدبس، والعسل المصفى بالنار، والسكر،
والفانيذ، واللبأ، وجهان، واستبعد الامام المنع فيها كلها.
قلت: وممن اختار الصحة في هذه الأشياء الغزالي وصاحب التتمة.
والله أعلم.
وتردد صاحب التقريب في السلم في الماء، ورد لاختلاف تأثير النار فيما
263

يتصعد ويقطر، ولا عبرة بتأثير الشمس، فيجوز السلم في العسل المصفى
بالشمس
فرع لا يجوز السلم في رؤوس الحيوان على الأظهر، والأكارع
كالرؤوس.
قلت: فإذا جوزناه في الأكارع، فمن شرطه أن يقول: من الأيدي والأرجل.
والله أعلم.
فان جوزنا، فله ثلاثة شروط. أن تكون نيئة، وأن تكون منقاة من الشعر
والصوف، ويسلم فيها وزنا، فان فقد شرط، لم يجز قطعا.
فصل يذكر في التمر النوع، فيقول: معقلي أو برني، والبلد،
فيقول: بغدادي، واللون، وصغر الحبات، وكبرها، وكونه جديدا، أو عتيقا.
والحنطة، وسائر الحبوب، كالتمر. وفي الرطب، يذكر جميع ذلك، إلا الجديد
والعتيق. قال في الوسيط يجب ذكر ذلك في الرطب دون الحنطة والحبوب، وهو
خلاف ما عليه الأصحاب. وفي العسل، يذكر أنه جبلي، أو بلدي، صيفي أو
خريفي، أو أصفر أو أبيض، ولا يشترط ذكر الجديد والعتيق، ويقبل ما رق
بسبب الحر، ولا يقبل ما رق رقة عيب.
فصل يجوز السلم في اللبن، ويبين فيه ما يبين في اللحم، سوى الامر
264

الثالث والسادس، ويبين نوع العلف، لاختلاف الغرض به، ولا حاجة إلى ذكر
اللون والحلاوة، لأن المطلق ينصرف إلى الحلو، بل لو أسلم في اللبن الحامض،
لم يجز، لان الحموضة عيب. وإذا أسلم في لبن يومين أو ثلاثة، فإنما يجوز إذا
بقي حلوا في تلك المدة. وإذا أسلم في السمن، يبين ما يبين في اللبن، ويذكر أنه
أبيض، أو أصفر. وهل يحتاج إلى ذكر العتيق والجديد؟ وجهان. قال الشيخ أبو
حامد: لا بل العتيق معيب لا يصح السلم فيه. وقال القاضي أبو الطيب: العتيق
المتغير هو المعيب، لا كل عتيق، فيجب بيانه. وفي الزبد يذكر ما يذكر في
السمن، وأنه زبد يومه أو أمسه. ويجوز في اللبن كيلا ووزنا، لكن لا يكال حتى
تسكن رغوته، ويوزن قبل سكونها. والسمن يكال ويوزن، إلا إذا كان جامدا
يتجافى في المكيال، فيتعين الوزن، وليس في الزبد الا الوزن، وكذا اللبأ
المجفف، وقبل الجفاف، هو كاللبن. وإذا جوزنا السلم في الجبن، وجب بيان
نوعه وبلده، وأنه رطب أو يابس. وأما المخيض الذي فيه ماء، فلا يجوز السلم
فيه، نص الشافعي رضي الله عنه. وإن لم يكن فيه ماء، جاز، وحينئذ لا يضر
وصف الحموضة، لأنها مقصودة فيه.
فصل إذا أسلم في الصوف، قال: صوف بلد كذا، وذكر لونه وطوله
وقصره، وأنه خريفي أو ربيعي، من ذكور أو إناث، لان صوف الإناث أشد نعومة.
واستغنوا بذلك عن ذكر اللين والخشونة، ولا يقبل إلا خالصا من الشوك والبعر، فان
شرط كونه مغسولا، جاز، إلا أن يعيبه الغسل. والشعر والوبر، كالصوف، ويضبط
الجميع وزنا
فصل يبين في القطن بلده، ولونه، وكثرة لحمه، وقلته، والخشونة،
265

والنعومة، وكونه عتيقا أو جديدا إن اختلف الغرض به، والمطلق يحمل على الجاف
وعلى ما فيه الحب. ويجوز في الحليج، وفي حب القطن، ولا يجوز في القطن في
الجوزق قبل التشقق. وأما بعده، ففي التهذيب: أنه يجوز. وقال في
التتمة: ظاهر المذهب: أنه لا يجوز، لاستتار المقصود بما لا مصلحة فيه،
وهذا هو الذي أطلق العراقيون حكايته عن النص.
فصل يبين في الإبريسم لونه، وبلده، ودقته، وغلظه، ولا يشترط ذكر
الخشونة والنعومة، ولا يجوز السلم في القز وفيه الدود، لا حيا ولا ميتا، لأنه يمنع
معرفة وزن القز. وبعد خروج الدود، يجوز.
فصل وإذا أسلم في الغزل، ذكر ما يذكر في القطن، ويذكر الدقة
والغلظ. ويجوز السلم في غزل الكتان، ويجوز شرط كونه مصبوغا، ويشترط
بيان الصبغ.
فصل إذا أسلم في الثياب، ذكر جنسها من إبريسم، أو قطن، أو كتان،
والنوع، والبلد الذي ينسج فيه إن اختلف به الغرض، وقد يغني ذكر النوع عنه،
وعن الجنس أيضا، ويبين الطول، والعرض، والغلظ، والدقة، والنعومة،
والخشونة، ويجوز في المقصود، والمطلق محمول على الخام. ولا يجوز في
الملبوس، لأنه لا ينضبط. ويجوز فيما صبغ غزله قبل النسج، كالبرود. والمعروف في
كتب الأصحاب: أنه لا يجوز المصبوغ بعد النسج. وفيه وجه: أنه يجوز،
قاله طائفة، منهم الشيخ أبو محمد، وصاحب الحاوي، وهو القياس. قال
266

الصيمري: يجوز السلم في القمص، والسراويلات، إذا ضبطت طولا وعرضا،
وسعة وضيقا.
فصل الخشب أنواع.
منها الحطب، فيذكر نوعه، وغلظه، ودقته، وأنه من نفس الشجر، أو
أغصانه، ووزنه، ولا يجب التعرض للرطوبة، والجاف، والمطلق محمول على
الجفاف، ويجب قبول المعوج، والمستقيم.
ومنها ما يطلب للبناء، كالجذوع، فيذكر النوع، والطول، والغلظ،
والدقة، ولا يشترط الوزن على الصحيح، وشرطه الشيخ أبو محمد، ولو ذكر،
جاز، بخلاف الثياب. ولا يجوز في المخروط، لاختلاف أعلاه وأسفله. ومنها
ما يطلب ليغرس، فيذكر العدد، والنوع، والطول، والغلظ. ومنها ما يطلب ليتخذ
منه القسي والسهام، فيذكر فيه النوع، والدقة، والغلظ، وزاد بعضهم كونه سهليا،
أو جبليا، لان الجبلي أصلح. ومنهم من شرط الوزن فيه، وفي خشب البناء.
فصل إذا أسلم في الحديد، ذكر نوعه، وأنه ذكر أو أنثى، ولونه،
وخشونته، ولينه. وفي الرصاص يذكر نوعه من قلع وغيره. وفي الصفر، من شبه
وغيره، ولونهما، وخشونتهما، ولينهما، ولا بد من الوزن في جميع ذلك.
فرع كل شئ لا يتأتى وزنه بالقبان لكبره، يوزن بالعرض على الماء.
قلت: قد سبقت كيفية الوزن بالماء في باب الربا. والله أعلم.
فصل في مسائل منثورة تتعلق بما سبق إحداها: السلم في المنافع،
كتعليم القرآن وغيره، جائز، ذكره الروياني
267

الثانية: السلم في الدراهم والدنانير، جائز على الأصح، بشرط أن يكون
رأس المال غيرهما.
قلت: اتفق أصحابنا على أنه لا يجوز إسلام الدراهم في الدنانير، ولا عكسه
سلما مؤجلا. وفي الحال وجهان محكيان في البيان وغيره. الأصح المنصوص
في الام في مواضع: أنه لا يصح. والثاني: يصح بشرط قبضهما في
المجلس، قاله القاضي أبو الطيب. والله أعلم.
الثالثة: يجوز السلم في أنواع العطر العامة الوجود، كالمسك، والعنبر،
والكافور، فيذكر وزنها ونوعها فيقول: عنبر أشهب.
الرابعة: يجوز السلم في الزجاج، والطين، والجص، والنورة، وحجارة
الأرحية، والأبنية، والأواني، فيذكر نوعها وطولها وعرضها وغلظها، ولا يشترط
الوزن.
قلت: عدم اشتراط الوزن في الأرحية، هو الأصح، وبه قطع الشيخ أبو
حامد، والبغوي، وآخرون، وقطع الغزالي باشتراطه. وادعى إمام الحرمين الاتفاق
عليه، وليس كما ادعى. والله أعلم.
الخامسة: لا يجوز السلم في الحباب، والكيزان، والطسوت، والقماقم،
والطناجير والمنائر، والبرام المعمولة، لندور اجتماع الوزن مع الصفات
المشروطة. ويجوز السلم فيما يصب منها في القالب، لعدم اختلافه، وفي
الأسطال المربعة.
السادسة: يجوز السلم في الكاغد عددا، ويبين نوعه وطوله. ويجوز في
الآجر على الأصح. وفي وجه: لا يصح لتأثير النار. ولا يجوز السلم في العقار،
ولا في الأرز، والعلس، لاستتارهما بالكمام، ويجوز في الدقيق على الصحيح.
268

فصل هل يشترط ذكر الجودة والرداءة في المسلم فيه؟ وجهان. قال
العراقيون: يشترط، وهو ظاهر النص، لاختلاف الغرض به. وقال غيرهم: لا
يشترط، ويحمل المطلق على الجيد، وهو الأصح.
قلت: قوله: ظاهر النص، مما ينكر عليه. فقد نص عليه في مواضع من الام
نصا صريحا، وهو مبين في شرح المهذب. والله أعلم.
وسواء قلنا بالاشتراط، أو شرطا، ينزل على أقل الدرجات. ولو شرط
الأجود، لم يصح العقد على المذهب. وقيل: فيه قولان كالأردأ. ولو شرطا
الرداءة، فان كانت رداءة العيب، لم يصح العقد. وإن كانت رداءة النوع، فقال
كثيرون: يصح. وأطلق الغزالي في الوجيز البطلان.
قلت: وقد قال بالبطلان أيضا إمام الحرمين. والأصح: الصحة، وبه قطع
العراقيون. ونص عليه الشافعي رضي الله عنه في الام نصا صريحا في
مواضع. والله أعلم.
وإن شرط الأردأ، جاز على الأظهر. وقيل: الأصح.
فرع ينزل الوصف في كل شئ على أقل درجاته. فإذا أتى بما يقع على
اسم الوصف المشروط، كفى، ووجب قبوله، لان الرتب لا نهاية لها، وهي كمن
باع بشرط أنه كاتب أو خباز.
فصل صفات المسلم فيه مشهورة عند الناس، وغير مشهورة، ولابد من
معرفة العاقدين صفاته. فان جهلها أحدهما، لم يصح العقد، وهل يكفي
269

معرفتهما؟ وجهان. أصحهما: لا، وهو منصوص، بل لا بد من معرفة عدلين
ليرجع إليهما عند تنازعهما. وقيل: تعتبر فيها الاستفاضة، ويجري الوجهان فيما إذا
لم يعرف المكيال المذكور إلا عدلان. وما ذكرناه الآن، يخالف ما قدمناه في فصح
النصارى من بعض الوجوه. ولعل الفرق، أن الجهالة هناك عائدة إلى الأجل، وهنا
إلى المعقود عليه، فجاز أن يحتمل هناك ما لا يحتمل هنا.
فصل في أداء المسلم فيه، والكلام في صفته وزمانه ومكانه أما
صفته، فإن أتى بغير جنسه، لم يجز قبوله، إذ لا يجوز الاعتياض عنه. وإن أتى
بجنسه وعلى صفته المشروطة، وجب قبوله قطعا، وإن كان أجود، جاز قبوله
قطعا، ووجب على الأصح. وإن كان أردأ، جاز قبوله ولم يجب. وإن أتى بنوع
آخر، بأن أسلم في التمر المعقلي، فأحضر البرني، أو في ثوب هروي، فأتى
بمروي، فأوجه. أصحها: يحرم قبوله. والثاني: يجب. والثالث: يجوز، كما
لو اختلفت الصفة، واختلفوا في أن التفاوت بين التركي والهندي، تفاوت جنس،
أم تفاوت نوع؟ والصحيح: الثاني. وفي أن التفاوت بين الرطب والتمر، وبين ما
سقي بماء السماء وما سقي بغيره، تفاوت نوع، أو صفة؟ والأصح الأول.
فرع ما أسلم فيه كيلا قبضه كيلا. وما أسلم فيه وزنا، قبضه وزنا ولا يجوز العكس.
وإذا كال لا يزلزل المكيال، ولا يضع الكف على جوانبه. ويجب
تسليم الحنطة ونحوها نقية من الزوان والمدر والتراب، فإن كان فيها شئ قليل من
ذلك، وقد أسلم كيلا، جاز، وإن أسلم وزنا، لم يجز.
قلت: هكذا أطلق جمهور الأصحاب، وقال صاحب الحاوي: فيما إذا
أسلم كيلا، إلا أن يكون لاخراج التراب مؤنة، فلا يلزمه قبولها. قال في البيان
دقاق التبن كالتراب. والله أعلم.
270

ويجب تسليم التمر جافا، والرطب صحيحا غير مشدخ.
وأما زمانه: فإن كان السلم مؤجلا، لم يخف انه لا مطالبة قبل المحل. فان
أتى به المسلم إليه قبله، فامتنع من قبوله، قال جمهور الأصحاب: إن كان له
غرض في الامتناع، بأن كان وقت نهب، أو كان حيوانا يحتاج علفا، أو ثمرة، أو
لحما يريد أكلها عند المحل طريا، أو كان يحتاج إلى مكان له مؤنة، كالحنطة
وشبهها، لم يجبر على القبول. وإن لم يكن له غرض في الامتناع، فإن كان
للمؤدي غرض سوى براءة الذمة، بأن كان به رهن أو كفيل، أجبر على القبول على
المذهب. وقيل: قولان. وهل يلحق بهذه الاعذار خوفه من انقطاع الجنس قبل
الحلول؟ وجهان. الأصح: يلحق. وإن لم يكن للمؤدي غرض سوى براءة الذمة،
فقولان، أصحهما: يجبر، وإن تقابل غرضاهما، فالمرعي جانب المستحق على
المذهب. وقيل بطرد القولين، وعكس الغزالي هذا الترتيب، وهو شاذ مردود.
وحكم سائر الديون المؤجلة فيما ذكرنا حكم المسلم فيه. وأما إذا كان السلم حالا،
فله المطالبة به في الحال. فلو أتى به المسلم إليه، فامتنع من قبضه، فإن كان
للدافع غرض سوى البراءة، أجبر على القبول، وإلا، فالمذهب: أنه يجبر على
القبول أو الابراء. وقيل: على القولين، وحيث ثبت الاجبار، فلو أصر على
الامتناع، أخذه الحاكم له.
وأما مكانه: فإذا قلنا: يتعين مكان العقد للتسليم، أو قلنا: لا يتعين فعيناه،
وجب التسليم فيه. فلو وجد المسلم إليه في غير ذلك المكان، فإن كان لنقله
مؤنة، لم يطالب به. وهل يطالب بالقيمة للحيلولة؟ وجهان. الصحيح: لا،
لان أخذ العوض عن المسلم فيه قبل القبض غير جائز، وبهذا قطع العراقيون
271

وصاحب التهذيب، فعلى هذا، للمسلم الفسخ واسترداد رأس المال، كما لو
انقطع المسلم فيه. وإن لم يكن لنقله مؤنة كالدراهم والدنانير، فله مطالبته به،
وأشار إمام الحرمين إلى الخلاف فيه.
ولو ظفر المالك بالغاصب في غير مكان الغصب أو الاتلاف، فهل له مطالبته
بالمثل؟ فيه خلاف، الأصح: ليس له المطالبة إلا بالقيمة. ولو أتى المسلم إليه
بالمسلم فيه في غير مكان التسليم، فامتنع المستحق من أخذه، فإن كان لنقله
مؤنة، أو كان الموضع مخوفا، لم يجز، وإلا فوجهان بناء على القولين في التعجيل
قبل المحل. فلو رضي، وأخذه، لم يكن له أن يكلفه مؤمنة النقل.
قلت: أصحهما: إجباره. ولو اتفق كون رأس المال على صفة المسلم فيه،
فأحضره، فوجهان مشهوران. أصحهما: يجب قبوله. والثاني: لا يجوز. والله
أعلم.
باب القرض
هو مندوب إليه.
272

وأركانه أربعة. العاقدان،
والصيغة،
والشئ المقرض،
فلا يصح إلا من أهل التبرع.
وأما الصيغة، فالايجاب لا بد منه، وهو أن يقول أقرضتك، أو
أسلفتك، أو خذه هذا بمثله، أو خذ هذا واصرفه في حوائجك ورد بدله، أو ملكتك
على أن ترد بدله، فلو اقتصر على ملكتكه فهو هبة، فان اختلفا في ذكر البدل،
فالقول قول الآخذ.
قلت: وحكي وجه: أن القول قول الدافع، وهو متجه. وفي التتمة
وجه: أن الاقتصار على ملكتكه قرض. والله أعلم.
وأما القبول، فشرط على الأصح، وبه قطع الجمهور. وادعى إمام المحرمين
أن عدم الاشتراط أصح.
قلت: وقطع صاحب التتمة بأنه لا يشترط الايجاب، ولا القبول، بل إذا
قال لرجل: أقرضني كذا، أو أرسل إليه رسولا، فبعث إليه المال، صح القرض.
وكذا قال رب المال: أقرضتك هذه الدراهم، وسلمها إليه، ثبت القرض. والله
أعلم.
273

وأما الشئ المقرض، فالمال ضربان.
أحدهما: يجوز السلم فيه، فيجوز إقراضه حيوانا
كان، أو غيره. لكن إن كان جارية، نظر، إن كانت محرما للمستقرض، بنسب، أو رضاع، أو مصاهرة،
جاز إقراضها قطعا. وإن كانت حلالا، لم يجز على الأظهر المنصوص قديما
وجديدا.
قلت: هذا الذي جزم به من جواز إقراض المحرم، هو الذي قطع به
الجماهير. وقال في الحاوي، إن كانت ممن لا يستبيحها المستقرض، بأن
اقترضها محرم، أو امرأة، فوجهان. قال البغداديون: يجوز. وقال البصريون: لا
يجوز ويصرن جنسا لا يجوز قرضه. والله أعلم.
الضرب الثاني: ما لا يجوز السلم فيه، فجواز إقراضه يبنى على أن الواجب
في المتقومات رد المثل أو القيمة، إن قلنا بالأول، لم يجز. وبالثاني، جاز. وفي
إقراض الخبز، وجهان، كالسلم فيه. أصحهما في التهذيب: لا يجوز. واختار
صاحب الشامل وغيره: الجواز. وأشار في البيان إلى ترتيب الخلاف، إن
274

جوزنا السلم، جاز هنا، وإلا فوجهان. قال: فان جوزناه، رد مثله وزنا إن أوجبنا
في المتقومات المثل. وإن أوجبنا القيمة، وجبت هنا. فان شرط المثل فوجهان.
قلت: قطع صاحب التتمة والمستظهري، بجواز قرضه وزنا. واحتج
صاحبا الشامل والتتمة باجماع أهل الأمصار على فعله في الأعصار بلا إنكار،
وهو مذهب أحمد رضي الله عنه، وأبي يوسف، ومحمد، وذكر صاحب التتمة
وجهين في إقراض الخمير الحامض. أحدهما: الجواز، لاطراد العادة.
وفي فتاوى القاضي حسين: لا يجوز إقراض الروبة، لأنها تختلف
بالحموضة. قال: ولا يجوز إقراض المنافع، لأنه لا يجوز السلم فيها، ولا
إقراض ماء القناة، لأنه مجهول. والله أعلم.
فرع يشترط أن يكون المقرض معلوم القدر،
ويجوز إقراض المكيل وزنا وعكسه كالسلم.
وقال القفال: لا يجوز إقراض المكيل وزنا، بخلاف السلم، فإنه لا يشترط
فيه استواء العوضين. وزاد فقال: لو أتلف مائة رطل حنطة، ضمنها بالكيل. ولو
باع شقصا بمائة رطل حنطة، أخذ الشفيع بمثلها كيلا. والأصح في الجميع:
الجواز.
فصل يحرم كل قرض جر منفعة، كشرط رد الصحيح عن المكسر، أو
الجيد عن الردئ، وكشرط رده ببلد آخر، فان شرط زيادة في القدر، حرم إن كان
المال ربويا، وكذا إن كان غير ربوي على الصحيح. وحكى الامام أنه يصح الشرط
الجار للمنفعة في غير الربوي، وهو شاذ غلط. فان جرى القرض بشرط من هذه،
275

فسد القرض على الصحيح،
فلا يجوز التصرف فيه. وقيل: لا يفسد، لأنه عقد مسامحة.
ولو أقرضه بلا شرط، فرد أجود أو أكثر أو ببلد آخر، جاز،
ولا فرق بين الربوي وغيره، ولا بين الرجل المشهور برد الزيادة أو غيره على
الصحيح.
قلت: قال في التتمة: لو قصد إقراض المشهور بالزيادة للزيادة، ففي
كراهته وجهان. والله أعلم.
ولو شرط رد الأردأ أو المكسر، لغا الشرط، ولا يفسد العقد على الأصح،
وأشار بعضهم إلى خلاف في صحة الشرط. ولا يجوز شرط الأجل فيه، ولا يلزم
بحال. فلو شرط أجلا، نظر، إن لم يكن للمقرض غرض فيه، فهو كشرط رد
المكسر عن الصحيح. وإن كان، بأن كان زمن نهب والمستقرض ملئ، فهو
كالتأجيل بلا غرض، أم كشرط رد الصحيح عن المكسر؟ وجهان. أصحهما:
الثاني، ويجوز فيه شرط الرهن والكفيل، وشرط أن يشهد عليه أو يقر به عند
الحاكم. فان شرط رهنا بدين آخر، فهو كشرط زيادة الصفة.
276

ولو شرط أن يقرضه مالا آخر، صح على الصحيح، ولم يلزمه ما شرط، بل
هو وعد، كما لو وهبه ثوبا بشرط أن يهبه غيره.
فصل فيما يملك به المقرض قولان منتزعان من كلام الشافعي رضي الله
عنه. أظهرهما: بالقبض. والثاني: بالتصرف. فان قلنا: بالقبض، فهل
للمقرض أن يلزمه رده بعينه ما دام باقيا، أم للمستقرض رد بدله مع وجوده؟
وجهان. أصحهما عند الأكثرين: الأول.
ولو رده المستقرض بعينه لزم المقرض قبوله قطعا. وإن قلنا: يملك
بالتصرف، فمعناه: إذا تصرف، تبين ثبوت ملكه. ثم في ذلك التصرف، أوجه.
أصحها: أنه كل تصرف يزيل الملك. والثاني: كل تصرف يتعلق بالرقبة.
والثالث: كل تصرف يستدعي الملك. فعلى الأوجه: يكفي البيع، والهبة،
والاعتاق، والاتلاف. ولا يكفي الرهن، والتزويج، والإجارة، وطحن الحنطة،
وخبز الدقيق، وذبح الشاة، على الوجه الأول.
قلت: فتكون هذه العقود باطلة والله أعلم.
ويكفي ما سوى الإجارة على الثاني، وما سوى الرهن، على الثالث، لأنه
يجوز أن يستعير الرهن، فيرهنه. وحكي عن الشيخ أبي حامد: أنه كل تصرف يمنع
رجوع الواهب والبائع عند إفلاس المشتري. فان قلنا بالأول، فهل يكفي البيع
بشرط الخيار؟ إن قلنا: لا يزيل الملك، فلا، وإلا، فوجهان، لأنه لا يزيله بصفة
اللزوم.
فرع اقترض حيوانا، إن قلنا: يملك بالقبض، فنفقته على المفترض،
وإلا، فعلى المقرض إلى أن يتصرف المستقرض. ولو اقترض من يعتق عليه، عتق
277

إذا قبضه إن قلنا: يملك به، ولا يعتق إن قلنا: بالتصرف. قال في التهذيب
ويجوز أن يقال: يعتق ويحكم بالملك قبيله.
قلت: جزم صاحب التتمة بهذا الاحتمال، ولكن المعروف: أن لا
يعتق. والله أعلم.
فصل أداء القرض في الصفة والمكان والزمان، كالمسلم فيه. ولو ظفر
بالمستقرض في غير مكان الاقراض، فليس له مطالبته بالمثل، وله مطالبته
بالقيمة.
فلو عاد إلى مكان الاقراض، فهل له رد القيمة والمطالبة بالمثل؟ وهل
للمقرض مطالبته برد القيمة؟ وجهان.
قلت: أصحهما: لا. والله أعلم.
والقيمة التي يطالب بها، قيمة بلد القرض يوم المطالبة. وكذا في السلم
يطالب بقيمة بلد العقد إذا جوزنا أخذ قيمته.
قلت: المعتبر في السلم، قيمة الموضع الذي يستحق فيه التسليم. والله
أعلم.
فرع إذا اقترض مثليا، رد مثليا، وإن رد متقوما، فالأصح عند
الأكثرين: أنه يرد مثله من حيث الصورة. والثاني: يرد القيمة يوم القبض إن
278

قلنا: يملك به. وإن قلنا بالتصرف، فوجهان. أحدهما: كذلك. والثاني:
تجب قيمته أكثر ما كانت من القبض إلى التصرف. وإذا اختلفا في قدر القيمة، أو
صفة المثل، فالقول قول المستقرض.
قلت: قال في المهذب لو قال: أقرضتك ألفا وقبل وتفرقا، ثم دفع إليه
ألفا، فإن لم يطل الفصل، جاز، وإلا، فلا، لأنه لا يمكن البناء مع طول
الفصل. وإذا جوزنا إقراض الخبز، فهل يرد المثل أو القيمة؟ فيه الوجهان. فان
قلنا: القيمة، فشرط الخبز، فوجهان. أحدهما: يصح الشرط، لان مبناه على
المساهلة والرفق. قال الشاشي: قال القاضي أبو حامد: إذا أهدى المستقرض
للمقرض هدية، جاز قبولها بلا كراهة، هذا مذهبنا ومذهب ابن عباس، وكرهها ابن
مسعود.
قال المحاملي وغيره من أصحابنا: يستحب للمستقرض أن يرد أجود مما
أخر، للحديث الصحيح في ذلك ولا يكره للمقرض أخذ ذلك.
ولو أقرضه نقدا، فأبطل السلطان المعاملة به، فليس له إلا النقض الذي أقرضه،
نص عليه الشافعي رضي الله عنه، ونقله عنه أيضا ابن المنذر، وقد سبق نظيره في
البيع.
279

وفي فتاوى القاضي حسين: أنه لو قال: أقرضني عشرة، فقال: خذها من
فلان، فأخذها منه، لا يكون قرضا، بل هذا توكيل بقبض الدين، فبعد القبض
لا بد من قرض جديد. ولو كانت العشرة في يد فلان معينة، وديعة أو غيرها،
صح. والله أعلم.
280

كتاب الرهن
فيه أربعة أبواب.
الأول: في أركانه،
وهي أربعة. الأول: المرهون،
وله شروط.
والأول: كونه عينا،
فلا يصح رهن المنفعة، بأن يرهنه سكنى الدار مدة،
281

سواء كان الدين المرهون به حالا أو مؤجلا. ولا يصح رهن الدين على الأصح،
ويصح رهن المشاع سواء رهنه عند شريكه أو غيره، قبل القسمة أم لم يقبلها.
قلت: سواء كان الباقي من المشاع المراهن أم لغيره. والله أعلم.
ولو رهن نصيبه من بيت من دار باذن شريكه، صح، وبغير إذنه، وجهان.
أصحهما عند الامام: صحته كما يصح بيعه. وأصحهما عند البغوي: فاسده،
وادعى طرد الخلاف في البيع.
قلت: وممن وافق الامام في تصحيح صحته الغزالي في البسيط،
وصاحب التتمة، وغيرهما. وأما طرد الخلاف في البيع، فشاذ، فقد قطع
الأصحاب بصحته. والله أعلم.
فان قسمت الدار، فوقع هذا البيت في نصيب شريكه، فهل هو كتلف
المرهون بآفة سماوية، أم يغرم الراهن قيمته ويكون رهنا لكونه حصل له بدله؟ فيه
احتمالان للامام. أصحهما: الثاني. وقال الإمام محمد بن يحيى: إن كان
مختارا في القسمة، غرم، وإن كان مجبرا، فلا.
قلت: هذا المذكور تفريع على الصحيح الذي قطع به جماهير الأصحاب:
أن هذه الدار تقسم قسمة واحدة. وشذ صاحب التتمة فقال: لا تقسم قسمة
واحدة، بل يقسم البيت وحده، ويسلم نصيب الرهن للمرتهن، ثم يقسم الباقي،
282

كما لو باع نصيبه من ذلك البيت. وقد أشار صاحب المهذب ومن تابعه، إلى
أنهما إذا اقتسما فخرج البيت في نصيب شريكه، يبقى مرهونا، وهذا ضعيف.
والمتحصل من هذا الخلاف: أن المختار جواز قسمتهما جملة، وأن لا يبقى
مرهونا، بل يغرم. والله أعلم.
فرع إذا رهن المشاع، فقبضه بتسليم له، فإذا قبض، جرت
المهاياة بين المرتهن والشريك جريانها بين الشريكين.
ولا بأس بتبعض اليد بحكم الشرع، كما لا بأس به لاستيفاء الراهن المنافع.
قلت: قال أصحابنا: إن كان المرهون مما لا ينقل، خلى الراهن بين
المرتهن وبينه، سواء حضر الشريك أم لا. وإن كان مما ينقل، لم يحصل قبضه إلا
بالنقل، ولا يجوز نقله بغير إذن الشريك.
فان أذن، قبض، وان امتنع، فان رضي المرتهن بكونها في يد الشريك،
جاز، وناب عنه في القبض، وإن تنازعا، نصب الحاكم عدلا يكون في يده لهما،
فإن كان له منفعة آجره. والله أعلم.
الشرط الثاني: مختلف فيه، وهو صلاحية المرتهن، لثبوت اليد عليه. فان
رهن عبدا مسلما أو مصحفا عند كافر، أو السلاح عند حربي، أو جارية حسناء عند
أجنبي، صح على المذهب في جميعها، فيجعل العبد والمصحف في يد عدل.
قلت: وإذا صححنا رهن العبد والمصحف عند الكافر، ففي تهذيب
الشيخ نصر المقدسي الزاهد وغيره: أن العقد حرام. وفي التهذيب للبغوي:
أنه مكروه، ذكره في كتاب الجزية. والله أعلم.
ثم إن كانت الجارية صغيرة لا تشتهى، فهي كالعبد، وإلا، فان رهنت عند
283

محرم أو امرأة، فذاك. وإن رهنت عند أجنبي ثقة وعنده زوجته، أو جاريته، أو
نسوة يؤمن معهم الالمام بها، فلا بأس، وإلا، فلتوضع عند محرم لها أو امرأة ثقة،
أو رجل عدل بالصفة المذكورة في المرتهن. فان شرط وضعها عند غير من ذكرنا،
فهو شرط فاسد.
وألحق الامام بالصغيرة، الخسيسة مع دمامة الصورة، لكن الفرق ظاهر.
ولو كان المرهون خنثى، فكالجارية، إلا أنه لا يوضع عند امرأة.
الشرط الثالث: كون العين قابلة للبيع عند حلول الدين، فلا يصح رهن أم
الولد، والمكاتب، والوقف، وسائر ما لا يصح بيعه. وسواد العراق وقف على
المسلمين على المذهب، فلا يجوز رهنه. وأبنيته، وأشجاره، إن كانت من تربته
وغراسه الذي كان قبل الوقف، فهي كالأرض. وإن أحدثت فيها من غيرها، جاز
رهنها. فان رهنت مع الأرض، فهي من صور تفريق الصفقة، وكذا رهن الأرض
مطلقا إن قلنا: إن البناء والغراس يدخلان فيه. وإذا صح الرهن في البناء، فلا
284

خراج على المرتهن، وإنما هو على الراهن. فان أداه المرتهن بغير إذنه، فهو
متبرع، وإن أداه بإذنه بشرط الرجوع، رجع. وإن لم يشرط الرجوع، فوجهان
يجريان في أداء دين الغير بإذنه مطلقا، وظاهر النص: الرجوع.
فصل التفريق بين الام وولدها الصغير، حرام، وفي إفساده البيع قولان
سبقا. ويصح رهن أحدهما دون الآخر. وإذا أريد البيع، ففيه وجهان. أحدهما:
يباع المرهون وحده، ويحتمل التفريق للضرورة. وأصحهما: يباعان جميعا، ويوزع الثمن على قيمتهما.
وفي كيفيته كلام يحتاج إلى مقدمة، وهي رجل رهن أرض بيضاء، فنبت فيها
نخل، فله حالان.
أحدهما: أن يرهن الأرض ثم يدفن النوى فيها، أو يحمله السيل أو الطير،
فهي للراهن، ولا يجبر في الحال على قلعها، فلعله يؤدي الدين من موضع آخر.
فان دعت الحاجة إلى بيع الأرض، نظر، إن وفى ثمن الأرض إذا بيعت وحدها
بالدين، بيعت وحدها ولم يقلع النخل. وكذا لو لم يف به، إلا أن قيمة الأرض
وفيها الأشجار كقيمتها بيضاء. ولو لم يف به وقيمتها تنقص بالأشجار، فللمرتهن
قلعها لبيع الأرض بيضاء، إلا أن يأذن الراهن في بيعها مع الأرض، فتباعان ويوزع
الثمن عليها. هذا إذا لم يكن الراهن محجور عليه بالافلاس. فإن كان، فلا قلع
بحال، لتعلق حق الغرماء به، بل يباعان ويوزع الثمن عليهما، فما قابل الأرض،
اختص به المرتهن، وما قابل الأشجار، قسم بين الغرماء. فان نقصت قيمة الأرض
بسبب الأشجار، حسب النقص على الشجر، لان حق المرتهن في الأرض فارغة.
285

الحال الثاني: أن يكون النوى مدفونا في الأرض يوم الرهن، ثم ينبت. فإن كان
المرتهن جاهلا بالحال، فله الخيار في فسخ البيع الذي شرط فيه هذا الرهن. فان
فسخ، وإلا فهو كما لو كان عالما، وإن كان عالما فلا خيار. وإذا بيعت الأرض
مع النخل، وزع الثمن عليهما. والمعتبر في الحال الأول، قيمة الأرض فارغة.
وفي الحال الثاني، قيمة أرض مشغولة، لأنها كانت مشغولة يوم الرهن. وفي كيفية
اعتبار الشجر وجهان نقلهما الامام في الحالين. أصحهما: تقوم الأرض وحدها.
فإذا قيل: هي مائة، قومت مع الأشجار، فإذا قيل: هي مائة وعشرون، فالزيادة
بسبب الأشجار سدس، فيراعي في الثمن نسبة الأسداس. والثاني: تقوم الأشجار
وحدها. فإذا قيل: هي خمسون، كانت النسبة بالثلث، ثم في المثال المذكور
لايضاح الوجهين تكون قيمة الأرض ناقصة بسبب الاجتماع، لأنا فرضنا قيمتها
وحدها مائة، وقيمة الأشجار وحدها ثابتة خمسين، وقيمة المجموع مائة وعشرين.
عدنا إلى مسألة الام والولد، فإذا بيعا معا، وأردنا التوزيع، ففيه طريقان.
أحدهما: أن التوزيع عليهما كالتوزيع على الأرض والشجر، فتعتبر قيمة الام
وحدها. وفي الولد الوجهان.
والثاني: أن الام لا تقوم وحدها، بل تقوم مع الولد وهي خاصته، لأنها
رهنت وهي ذات ولد، والأرض بلا أشجار. وبهذا الوجه قطع الأكثرون. فلو حدث
الولد بعد الرهن والتسليم من نكاح أو زنى، وبيعا معا، فللمرتهن قيمة جارية لا ولد
لها.
قلت: ذكر الامام الرافعي في مسألة الغراس والأرض الفرق بين علم المرتهن
وجهله في ثبوت الخيار، ولم يذكره هنا، فكأنه أراد أنه مثله. وقد صرح صاحب
الشامل بذلك فقال: إن كان عالما بالولد حال الارتهان، فلا خيار، وإلا، فله
الخيار في فسخ البيع المشروط فيه الرهن. وقال صاحب الحاوي: إن علم، فلا
خيار، وإلا، فان قلنا: تباع الام دون الولد، فلا خيار، وإن قلنا: يباعان، ففي
الخيار وجهان. وجه المنع: أنه لا يتحقق نقصها، بل قد تزيد. فان قيل: ما فائدة
الخلاف في التوزيع، والراهن يجب عليه قضاء الدين بكل حال؟! قلنا: تظهر
فائدته عند ازدحام غرماء الميت والمفلس، وفي تصرف الراهن في الثمن قبل قضاء
286

الدين، فينفذ في حصة الولد دون الام، ذكره الامام، والغزالي في البسيط.
والله أعلم.
فصل إذا رهن ما يتسارع إليه الفساد، فان أمكن تجفيفه كالرطب
والعنب، صح رهنه وجفف. وإن لم يمكن كالثمرة التي لا تجفف،
والريحان، والجمد، فان رهنه بدين حال، صح، ثم إن بيع في الدين، أو قضي
الدين من موضع آخر، فذاك، وإلا بيع وجعل الثمن رهنا، فلو تركه المرتهن حتى
فسد، قال في التهذيب: إن كان الراهن أذن له في بيعه، ضمن، وإلا، فلا.
ويجوز أن يقال: عليه الرفع إلى القاضي ليبيعه.
قلت: هذا الاحتمال الذي قاله الامام الرافعي رحمه الله، قوي أو متعين.
وقد قال صاحب التتمة في هذه الصورة: إن سكتا حتى فسد، أو طلب المرتهن
بيعه، فامتنع الراهن، فهو من ضمان الراهن. وإن طلب الراهن بيعه، فامتنع
المرتهن، فمن ضمان المرتهن. والله أعلم.
وإن رهنه بدين مؤجل، فله ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يعلم حلول الأجل قبل فساده، فهو كرهنه بالحال.
الثاني: أن يعلم عكسه. فان شرط في الرهن بيعه عند الاشراف على
الفساد، وجعل ثمنه رهنا، صح ولزم الوفاء بالشرط.
فلو شرط أن لا يباع بحال عند حلول الأجل، بطل الرهن لمناقضته مقصود
الرهن. وإن لم يشرط ذا ولا ذاك، فهل هو كشرط البيع أم كشرط عدم البيع؟
287

قولان، أظهرهما عند العراقيين: الثاني، وميل غيرهم إلى الأول.
قلت: قال الامام الرافعي في المحرر أظهرهما: لا يصح الرهن. والله
أعلم.
الثالث: أن لا يعلم واحد من الامرين وهما محتملان، فالمذهب:
الصحة.
ولو رهن ما لا يسرع إليه الفساد، فحدث ما عرضه للفساد قبل الأجل، بأن
ابتلت الحنطة، وتعذر تجفيفها، لم ينفسخ بحال.
ولو طرأ ذلك قبل قبض المرهون، ففي الانفساخ وجهان، كما في حدوث
الموت والجنون. وإذا لم ينفسخ، بيع وجعل الثمن رهنا مكانه.
قلت: الأرجح: أنه لا ينفسخ، وهذا الذي قطع به، من أنه إذا لم ينفسخ
يباع، وهو المذهب. ونقل الامام: أن الأئمة قطعوا بأنه يستحق بيعه. ونقل صاحب
الحاوي فيه قولين.
أحدهما: يجبر الراهن على بيعه حفظا للوثيقة، كما يجبر على نفقته.
والثاني: لا، لان حق المرتهن في حبسه فقط، وهذا ضعيف. والله أعلم.
فصل رهن العبد المحارب، كبيعه. ورهن المرتد صحيح على المذهب
كبيعه. فان علم المرتهن ردته، فلا خيار له في فسخ البيع المشروط فيه الرهن.
وإن جهل، يخير، فان قتل قبل قبضه، فله فسخ البيع. وإن قتل بعده، فمن
ضمان من؟ فيه وجهان سبقا في البيع. فان قلنا: من ضمان البائع، فللمرتهن فسخ
البيع، وإلا فلا فسخ ولا أرش، كما لو مات في يده.
288

قلت: ولو رهنه عبدا مريضا، لم يعلم بمرضه المرتهن حتى مات في يده،
فلا خيار له، قاله في المعاياة، قال: لان الموت بألم حادث، بخلاف قتل المرتد.
والله أعلم.
فرع الجاني إن لم نصحح بيعه، فرهنه أولى، وإلا، فقولان، لان
الجناية الطارئة، يقدم صاحبها على حق المرتهن، فالمتقدمة أولى.
فإن لم نصحح رهنه، ففداه السيد، أو أسقط المجني عليه حقه، فلا بد من
استئناف رهن. وإن صححناه، فقال المسعودي والامام: يكون مختارا للفداء كما
لو باعه، وقال ابن الصباغ: لا يلزمه الفداء، بخلاف البيع، لان محل الجناية باق
هنا، والجناية لا تنافي الرهن.
قلت: قال البغوي أيضا: يكون ملتزما للفداء. ولكن الأكثرون قالوا كقول
ابن الصباغ منهم الشيخ أبو حامد، والماوردي، وصاحب العدة وغيرهم.
قالوا: هو مخير بين فدائه وتسليمه للبيع في الجناية. فان فداه، بقي الرهن، وإلا
بيع في الجناية، وبطل الرهن إن استغرقه الأرش، وإلا بيع بقدره، واستقر الرهن
في الباقي. وإذا قلنا: لا يصح رهن الجاني، فسواء كان الأرش درهما، والعبد
يساوي الوفاء، أم غير ذلك، نص عليه الشافعي رضي الله عنه والأصحاب.
وأما إثبات الخيار للمرتهن في فسخ البيع المشروط فيه رهنه، ففيه تفصيل في
الحاوي وغيره. إن كان عالما بالجناية، فلا خيار في الحال. فان اقتص منه في
طرفه، بقي رهنا، ولا خيار للمرتهن في البيع، لعلمه بالعيب. وإن قتل قصاصا،
فان قلنا: إنه من ضمان البائع، فله الخيار كما لو بان مستحقا، وإن قلنا: من
ضمان المشتري، فلا خيار، لأنه معيب علم به، وإن عفا مستحق القصاص على
289

ماله، فان فداه، بقي رهنا، ولا خيار للمرتهن، وإن بيع للجانية، بطل الرهن.
وفي الخيار وجهان. وإن عفا عن القصاص، سقط أثر الجناية. أما إذا كان جاهلا
بالجناية، فان علم قبل استقرار حكمها، يخير. فان فسخ، وإلا فيصير عالما،
وحكمه ما سبق. وإن لم يعلم إلا بعد استقرار حكمها على قصاص طرف، لم يبطل
الرهن بالقصاص، لكن للمرتهن الخيار. وإن كان قصاص نفس، بطل الرهن.
وفي الخيار الوجهان. وإن استقر حكمها على مال، فان فداه، كان كالعفو على
مال. وإن بيع، بطل الرهن. وفي الخيار الوجهان. وإن عفا بلا مال، سقط أثر
الجناية، ثم إن لم يتب العبد من الجناية وكان مصرا، فهذا عيب، فللمرتهن
الخيار. وإن تاب، فهل ذلك عيب في الحال؟ وجهان. فان قلنا: عيب، فله
الخيار، وإلا، فوجهان. أحدهما: يعتبر الابتداء فيثبته. والآخر: ينظر في
الحال، هذا كلام صاحب الحاوي وفيه نفائس. والله أعلم.
وإذا قلنا: يصح رهن الجاني جناية توجب القصاص، ولا يصح إذا أوجبت
مالا، فرهن والواجب القصاص، فعفا على مال، فهل يبطل الرهن من أصله، أم
يكون كجناية تصدر من المرهون حتى يبقى الرهن لو يبع في الجناية؟ وجهان.
اختار الشيخ أبو محمد أولهما. فعلى هذا لو كان العبد حفر بئرا في محل عدوان،
فمات فيها بعدما رهن إنسان، ففي تبين الفساد، وجهان. والفرق أنه رهن في
الصورة الأولى وهو جان.
فرع رهن المدبر باطل على المذهب، وهو نصه، ورجحه الجمهور.
فعلى هذا، التدبير باق على صحته. وإن صححنا رهنه، بطل التدبير بناء على أنه
وصية، فقد رجع عنها. وقيل: لا يبطل فيكون مدبرا مرهونا. فعلى هذا إن قضى
الدين من غيره، فذاك، وإن رجع في التدبير وباعه في الدين، بطل التدبير. وإن
امتنع من الرجوع ومن بيعه، فإن كان له مال آخر، أجبر على قضائه منه، وإلا
فوجهان. أصحهما: يباع في الدين. والثاني: يحكم بفساد الرهن.
290

قلت: هذا الذي ذكر حكم المذهب، ولا يغتر بقوله في الوسيط:
ذهب أكثر الأصحاب إلى صحة رهنه، وإن كان قويا في الدليل. والله أعلم.
فرع رهن المعلق عتقه بصفة، له صور.
إحداها: رهنه بدين حال أو مؤجل تيقن حلوله قبل وجود الصفة، فيصح
ويباع في الدين. فإن لم يتفق بيعه حتى وجدت الصفة، بني على القولين في أن
الاعتبار بالعتق المعلق بحالة التعليق، أم بحال وجود الصفة؟ إن قلنا بالأول،
عتق، وللمرتهن فسخ البيع المشروط فيه الرهن إن كان جاهلا.
قلت: هذا الذي جزم به من ثبوت الفسخ للمرتهن على هذا القول، هو الذي
جزم به صاحب التهذيب وجزم صاحب التتمة بأنه لا خيار له، وقد سقط
حقه، لان الرهن سلم له ثم بطل فصار كموته، والأول: أصح، وأقيس. والله
أعلم.
وإن قلنا بالثاني، فهو كاعتاق المرهون، وسنذكره إن شاء الله تعالى.
الثانية: رهنه بدين مؤجل تيقن وجود الصفة قبل حلوله، فالمذهب: بطلان
الرهن. وقيل: قولان، وهو ضعيف. فعلى الصحة: يباع إذا قرب أوان الصفة.
ويجعل ثمنه رهنا.
الثالثة: أن لا يتيقن تقدم الصفة على الحلول وعكسه، فالأظهر: بطلانه.
وقيل: باطل قطعا.
فرع رهن الثمر على الشجر له حالان.
أحدهما: أن يرهنه مع الشجر. فإن كان الثمر مما يمكن تجفيفه، صح،
سواء بدا فيها الصلاح. أم لا، وسواء كان الدين حالا أو مؤجلا، وإن لم يمكن ولم
نصحح رهن ما يسرع الفساد، فالمذهب: بطلان رهن الثمر. وفي الشجر قولا تفريق
الصفقة. وقيل: يصح فيهما قطعا.
الثاني: رهن الثمر وحده. فإن لم يمكن تجفيفه، فهو كرهن ما يسرع
فساده، وإلا، فهو ضربان. أحدهما: يرهن قبل بدو الصلاح. فان رهن بدين
حال وشرط قطعها وبيعها بشرط القطع، جاز. وإن أطلق، جاز أيضا على الأظهر.
291

وإن رهن بمؤجل، نظر، إن كان يحل قبل بلوغ الثمر وقت الادراك أو بعده، فهو
كالحال. وإن كان يحل قبل بلوغه وقت الادراك، فان رهنها مطلقا، لم يصح عل
الأظهر. وقيل: لا يصح قطعا كالبيع. وإن شرط القطع، فقيل: يصح قطعا.
وقيل: على القولين، وجه المنع: التشبيه بمن باع بشرط القطع بعد مدة.
قلت: المذهب الصحة فيما إذا شرط القطع، وبه قطع جماعة. والله أعلم.
الضرب الثاني: أن يرهن بعد بدو الصلاح، فيجوز بشرط القطع ومطلقا. إن
رهن بحال أو مؤجل، هو في معناه. وإن رهنه بمؤجل يحل قبل بلوغها وقت
الادراك، فعلى ما سبق في الضرب الأول. ومتى صح رهن الثمار على الأشجار،
فمؤنة السقي والجداد والتجفيف على الراهن. فإن لم يكن له شئ، باع الحاكم
جزءا منها وأنفقه عليها. ولو توافق الراهن والمرتهن على ترك السقي، جاز على
الصحيح. وقيل: يجبر عليه كما يجبر على علف الحيوان. وادعى الروياني أنه لا
يصح. ولو أراد أحدهما قطع الثمرة قبل وقت الجداد، فللآخر الامتناع، وليس له
الامتناع بعد وقت الجداد، بل يباع في الدين إن حل، وإلا، أمسكه رهنا.
فرع الشجرة التي تثمر في السنة مرتين، يجوز رهن ثمرها الحاصل بدين
حال. وبمؤجل يحل قبل اختلاط الثمرة الثانية بالأولى، وإلا، فان شرط أن لا
يقطع عند خروج الثانية، لم يصح. وإن شرط قطعه، صح. وإن أطلق، فقولان.
فان صححنا، أو رهن بشرط القطع، فلم يقطع حتى اختلط، ففي بطلان الرهن
قولان كالقولين في البيع إذا عرضت هذه الحالة قبل القبض. والرهن بعد القبض،
كالبيع قبله، فان قلنا: يبطل الرهن، فذاك. وإن قلنا: لا يبطل، فلو اتفقا قبل
القبض، بطل على الصحيح. وإذا لم يبطل، فان رضي الراهن، يكون الجميع
رهنا أو توافقا على كون النصف - من الجملة مثلا - رهنا، فذاك، وإن اختلفا في
قدر المرهون، هل هو نصف المختلط، أو ثلثه، أو نحو ذلك؟ فالقول قول الراهن
مع يمينه. وقال المزني: قول المرتهن.
فرع رهن زرعا بعد اشتداد حبه، فكبيعه، إن كان ترى حباته في سنبله،
صح، وإلا فلا، على الأظهر. وإن رهنه وهو بقل، فكرهن الثمرة قبل بدو
الصلاح. وقال صاحب التلخيص: لا يجوز قطعا إن كان الدين مؤجلا، وإن
292

صرح بشرط القطع عند المحل، لان الزرع لا يجوز بيعه مسنبلا. وقد يقع الحلول
في تلك الحالة، ولان زيادة الزرع يطوله، فهو كثمرة تحدث وتختلط.
فصل لا يشترط كون المرهون ملك الراهن على المذهب، فلو استعاد
عبدا ليرهنه بدين، فرهنه، جاز. وهل سبيله سبيل الضمان، أم العارية؟
قولان. أظهرهما: الأول. ومعناه: أنه ضمن الدين في رقبة عبده. قال الامام:
هذا العقد أخذ شبها من ذا، وشبها من ذاك، وليس القولان في تمحضه عارية أو
ضمانا، وإنما هما في أن المغلب أيهما؟ وقال ابن سريج: إذا جعلناه عارية، لم
يصح هذا التصرف، لان الرهن ينبغي أن يلزم بالقبض، والعارية لا يلتزم. فعلى
هذا يشترط في المرهون كونه ملك الراهن. والصواب، ما سبق، وعليه التفريع.
والعارية قد تلزم، كالإعارة للدفن، ونظائره. ويتفرع على المذهب فروع.
أحدها: لو أذن في رهن عبده، ثم رجع قبل أن يقبض المرتهن، جاز، وبعد
قبضه: لا رجوع على قول الضمان قطعا، ولا على قول العارية على الأصح، وإلا، فلا
فائدة في هذا العقد ولا وثوق به. وقال صاحب التقريب إن كان الدين حالا،
رجع. وإن كان مؤجلا، ففي جواز رجوعه قبل الأجل، وجهان، كما لو أعار
للغراس مدة. ومتى جوزناه فرجع، وكان الرهن مشروطا في بيع، فللمرتهن فسخ
البيع إن جهل الحال.
الثاني: لو أراد المالك إجبار الراهن على فكه، فله ذلك بكل حال، إلا إذا
كان الدين مؤجلا، وقلنا: إنه ضمان، وإذا حل الأجل وأمهل المرتهن الراهن،
فللمالك أن يقول للمرتهن: إما أ ترد إلي، وإما أن تطالبه بالدين ليؤدي فينفك
الرهن، كما إذا ضمن دينا مؤجلا ومات الأصيل، فللضامن أن يقول: إما أن تطالب
بحقك، وإما أن تبرئني.
293

الثالث: إذا حل المؤجل، أو كان حالا، قال الامام: إن قلنا: إنه ضمان،
لم يبع في حق المرتهن، إن قدر الراهن على إداء الدين إلا باذن جديد، وإن كان
معسرا، بيع وإن سخط المالك. وإن قلنا: عارية، لم يبع إلا باذن جديد، سواء
كان الراهن موسرا، أو معسرا. ولك أن تقول: الرهن وإن صدر من المالك، لا
يسلط على البيع إلا باذن جديد، فإن لم يأذن، بيع عليه، فالمراجعة لا بد منها. ثم
إذا لم يأذن في البيع، فقياس المذهب أن يقال: إن قلنا: عارية، عاد الوجه في
جواز رجوعه، وإن قلنا: ضمان، ولم يؤد الراهن الدين، لم يمكن من الانتفاع،
ويباع عليه معسرا كان الراهن أو موسرا، كما لو ضمن في ذمته، يطالب موسرا كان
الأصيل، أو معسرا، ثم إذا بيع في الدين بقيمته، رجع بها المالك على الراهن.
وإن بيع بأقل، بقدر يتغابن الناس بمثله، فان قلنا: ضمان، رجع بما بيع به. وإن
قلنا: عارية، رجع بقيمته، وإن بيع بأكثر من قيمته رجع بما بيع به إن قلنا:
ضمان. وإن قلنا: عارية، فقال الأكثرون: لا يرجع إلا بالقيمة، لان العارية بها
يضمن. وقال القاضي أبو الطيب: يرجع بما بيع به كله، لأنه ثمن ملكه وقد صرف
إلى دين الراهن، وهذا أحسن، واختاره الامام، وابن الصباغ، والروياني.
قلت هذا الذي قاله القاضي، وهو الصواب، واختاره أيضا الشاشي وغيره.
والله أعلم.
الرابع: لو تلف في يد المرتهن، فان قلنا: عارية، لزم الراهن الضمان.
وإن قلنا: ضمان، فلا شئ عليه ولا شئ على المرتهن بحال، لأنه مرتهن لا
مستعير. ولو تلف في يد الراهن، قال الشيخ أبو حامد: هو على القولين، كما لو
تلف في يد المرتهن، وأطلق الغزالي، أنه يضمن، لأنه مستعير.
قلت: المذهب: الضمان. والله أعلم.
الخامس: لو جنى في يد المرتهن، فبيع في الجناية، فان قلنا: عارية، لزم
الراهن القيمة. قال الامام: هذا إذا قلنا: العارية تضمن ضمان المغصوب، وإلا،
فلا شئ عليه.
السادس: إذا قلنا: ضمان، وجب بيان جنس الدين وقدره وصفته في الحلول
294

والتأجيل وغيرهما، وحكي قول قديم غريب ضعيف: ان الحلول والتأجيل لا يشترط
ذكرهما، والأصح: أنه يشترط بيان من يرهن عنده، ولا خلاف أنه إذا عين شيئا من
ذلك، لم يجز مخالفته، لكن لو عين قدرا فرهن بما دونه، جاز، ولو زاد عليه،
فقيل: يبطل في الزائد، وفي المأذون قولا تفريق الصفة والمذهب: القطع بالبطلان
في الجميع للمخالفة. وكما لو باع الوكيل بغبن فاحش، لا يصح في شئ. ولو
قال: أعرني لأرهنه بألف، أو عند فلان، كان ذلك كتقييد المعير على الأصح.
قلت: وإذا قلنا: عارية، فله أن يرهن عند الاطلاق بأي جنس شاء، وبالحال
والمؤجل. قال في التتمة لكن لا يرهنه بأكثر من قيمته، لان فيه ضررا. فإنه لا
يمكنه فكه إلا بقضاء جميع الدين. ولو أذن في حال فرهنه بمؤجل، لم يصح
كعكسه، لأنه لا يرضى أن يحال بينه وبين عبده إلى أجل. والله أعلم.
السابع: لو أعتقه المالك، إن قلنا: ضمان، فقد حكى الامام عن القاضي:
أنه ينفذ ويوقف فيه. وفي التهذيب أنه كإعتاق المرهون، وإن قلنا: عارية، قال
القاضي: كاعتاق المرهون، وهذا تفريع على اللزوم هذا الرهن على قول العارية.
وفي التهذيب أنه يصح ويكون رجوعا، وهو تفريع على عدم اللزوم.
الثامن: لو قال مالك العبد: ضمنت ما لفلان عليك في رقبة عبدي هذا، قال
القاضي: صح ذلك على قول الضمان، ويكون كالإعارة للرهن. قال الامام: وفيه
تردد من جهة أن المضمون له لم يقبل، ويجوز أن يعتبر القبول في الضمان المتعلق
بالأعيان، تقريبا له من المرهون، وإن لم يعتبر ذلك في الضمان المطلق في الذمة.
التاسع: لو قضى المعير الدين بمال نفسه، انفك الرهن، ثم رجوعه على
الراهن يتعلق بكون القضاء باذن الراهن أم بغيره، وسنوضحه في باب الضمان إن شاء
الله تعالى. فلو اختلفا في الاذن، فالقول قول الراهن، ولو شهد المرتهن للمعير،
قبلت شهادته لعدم التهمة. ولو رهن عبده بدين غيره دون إذنه، جاز، وإذا بيع فيه،
فلا رجوع.
الركن الثاني: المرهون به، وله ثلاثة شروط.
295

أحدهما: كونه دينا، فلا يصح بالأعيان المضمونة بحكم العقد، كالمبيع،
أو بحكم اليد كالمغصوب، والمستعار، والمأخوذ على جهة السوم، وفي وجه
ضعيف: يجوز كل ذلك.
الثاني: كونه ثابتا، فلا يصح بما لم يثبت، بأن رهنه بما يستقرضه، أو
بثمن ما سيشتريه. وفي وجه شاذ: يصح أن عين ما يستقرضه. وفي وجه: لو تراهنا
بالثمن، ثم لم يتفرقا حتى تبايعا، صح الرهن إلحاقا للحاصل في المجلس
بالمقارن، والصحيح: الأول. فعلى الصحيح: لو ارتهن قبل ثبوت الحق وقبضه،
كان مأخوذا على جهة سوم الرهن. فإذا استقرض أو اشترى منه، لم يصر دينا إلا
برهن جديد. وفي وجه ضعيف: يصير. ولو امتزج الرهن وسبب ثبوت الدين، بأن
قال: بعتك هذا بألف، وارتهنت هذا الثوب به، فقال: اشتريت ورهنت، أو قال:
أقرضتك هذه الدراهم، وارتهنت بها عبدك، فقال: استقرضتها ورهنته، صح
296

الرهن على الأصح، وهو ظاهر النص.
ولو قال البائع: ارتهنت وبعت، وقال المشتري اشتريت ورهنت، لم يصح
لتقدم شقي الرهن على أحد شقي البيع.
وكذا لو قال: ارتهنت وبعت، وقال المشتري: رهنت واشتريت، لتقدم شقي
الرهن على شقي البيع، فالشرط أن يقع أحد شقي الرهن بين شقي البيع، والآخر
بعد شقي البيع. ولو قال: بعني عبدك بكذا ورهنت به هذا الثوب، فقال: بعت
وارتهنت، بني على الخلاف في مسألة الايجاب والاستيجاب.
ولو قال: بعني بكذا على أن ترهنني دارك، فقال اشتريت ورهنت،
فوجهان. أحدهما، يتم العقد بما جرى. قال في التتمة هو ظاهر النص.
والثاني، قاله القاضي: لا يتم بل يشترط أن يقول بعده: ارتهنت أو قبلت، لان
الذي وجد منه الشرط إيجاب الرهن لا استيجابه، كما لو قال: افعل كذا لتبيعني، لا
يكون مستوجبا للبيع، وهذا أصح عند صاحب التهذيب والأولى أن يفرق، فإنه
لم يصرح في المقيس عليه بالتماس، وإنما أخبر عن السبب الداعي له إلى ذلك الفعل،
وهنا باع وشرط الرهن، وهو يشتمل الالتماس، أو أبلغ منه.
الشرط الثالث: كونه لازما.
والديون الثابتة ضربان. أحدهما: ما لا يصير لازما بحال، كنجوم الكتابة،
فلا يصح الرهن به، والآخر غيره.
وهو نوعان. لازم في حال الرهن، وغير لازم.
فالأول يصح الرهن به، سواء كان مسبوقا بحالة الجواز، أم لا، وسواء كان
مستقرا، كالقرض وأرش الجناية، وثمن المبيع المقترض، أو غير مستقر، كالثمن
297

قبل قبض المبيع، والأجرة قبل استيفاء المنفعة والصداق قبل الدخول. وأما الثاني:
فينظر، إن كان الأصل في وضعه اللزوم، كالثمن في مدة الخيار، صح الرهن به
أيضا، لقربه من اللزوم،
قال الامام: وهذا مفرع على أن الخيار لا يمنع نقل الملك في الثمن إلى
البائع، فأما إذا جعلناه مانعا، فالظاهر منع الرهن، لوقوعه قبل ثبوت الدين،
ولا شك أنه لا يباع المرهون في الثمن ما لم يمض مدة الخيار. أما ما كان أصل
وضعه على الجواز، كالجعل في الجعالة بعد الشروع في العمل، وقبل تمامه، فلا
يصح الرهن به على الأصح. وإن كان بعد الفراغ من العمل، صح قطعا، للزومه.
وإن كان قبل الشروع، لم يصح قطعا، لعدم ثبوته، وعدم تعين المستحق.
قلت: هذا الذي جزم به الامام الرافعي هو الصواب، لكن ظاهر كلام كثيرين
من الأصحاب، أو أكثرهم، إجراء الوجهين قبل الشروع في العمل، لا سيما عبارة
الوسيط وتعليله. والله أعلم.
أما المسابقة، فان جعلناها كالإجارة، أو كالجعالة، فلها حكمها.
فرع يصح الرهن بالمنافع المستحقة بالإجارة إن وردت على الذمة، ويباع
المرهون عند الحاجة، وتحصل المنفعة من ثمنه، وإن كانت إجارة عين، لم يصح
لفوات الشرط الأول.
فرع لا يصح رهن الملاك بالزكاة، والعاقلة بالدية قبل تمام الحول،
لفوات الشرط الثاني، ويجوز بعده.
فرع التوثق بالرهن والضمان شديد التقارب، فما جاز الرهن به، جاز
ضمانه، وكذا عكسه إلا أن ضمان العهدة جائز. ولا يجوز الرهن به. هذا هو
المذهب وحكي وجه: أنه لا يصح ضمان العهدة. ووجه عن القفال: أنه يصح
الرهن بها.
قلت: كذا قال الشيخ أبو حامد في التعليق والغزالي في الوسيط ما صح
ضمانه، صح الرهن به إلا في مسألة العهدة ويستثنى أيضا، أن ضمان رد الأعيان
المضمونة، صحيح على المذهب بها، باطل على الصحيح، وممن استثناها
298

الغزالي في البسيط. والله أعلم.
فصل يجوز أن يرهن بالدين الواحد رهنا بعد رهن، ثم هو كما لو
رهنهما معا.
ولو كان الشئ مرهونا بعشرة، وأقرضه عشرة أخرى على أن يكون مرهونا بها
أيضا، لم يصح على الجديد الأظهر. فان أراد ذلك، فطريقه أن يفسخ المرتهن
الرهن الأول، ثم يرهنه بالجميع.
ولو جنى المرهون، ففداه المرتهن باذن الراهن ليكون مرهونا، بالدين
والفداء، صح على المذهب وهو نصه، لأنه من مصالح الرهن، فإنه يتضمن
إبقاءه. وقيل: فيه القولان. ولو اعترف الراهن أنه مرهون بعشرين، ثم
رهنه أولا بعشرة ثم بعشرة، وقلنا: لا يجوز، ونازعه المرتهن، فالقول قول المرتهن
مع يمينه، لان اعتراف الراهن، يقوي جانبه،
ولو قال المرتهن في جوابه: فسخنا الرهن الأول، واستأنفنا بالعشرين رهنا،
فهل القول قول المرتهن لاعتضاده بقول الراهن، رهن بعشرين أم قول الراهن لان
الأصل عد الفسخ؟ وجهان، ميل الصيدلاني إلى أولهما، وصحح صاحب
التهذيب الثاني، ورتب عليه فقال: لو شهد شاهدان أنه رهنه بألف، ثم بألفين،
لم يحكم بأنه رهن بألفين، ما لم يصرحا بأن الثاني كان بعد فسخ الأول.
فرع رهن بعشرة ثم استقرض عشرة ليكون رهنا بهما، وأشهد شاهدين أنه
رهن بالعشرين، فإن لم يعلم الشاهدان الحال ونقلا ما سمعا، فهل يحكم بكونه
رهنا بالعشرين، إذا كان الحاكم يعتقد القول الجديد، وجهان. وإن عرفا
299

الحال، فإن كانا يعتقدان جواز الالحاق، فهل لهما أن يشهدا بأنه رهن بالعشرين، أم
عليهما بيان الحال؟ وجهان.
قلت: أصحهما: لا يجوز، لان الاجتهاد إلى الحاكم، لا إليهما. والله
أعلم.
وإن كانا يعتقدان منع الالحاق، لم يشهدا إلا بما جرى باطنا على الصحيح.
وهذا التفصيل، فيما إذا شهدا بنفس الرهن، وفيه صور الجمهور: فان شهدا على
إقرار الراهن، فالوجه تجويزه مطلقا.
قلت: كذا أطلق الجمهور هذا التفصيل، وقال صاحب الحاوي: إن كان
الشاهدان مجتهدين، ففيه التفصيل، وإن كانا غير مجتهدين، لم يجز مطلقا،
ولزمهما شرح الحال. ولو مات وعليه دين مستغرق، فرهن الوارث التركة عند
صاحب الدين على شئ آخر أيضا، ففي صحته الوجهان بناء على
القولين. والله أعلم.
الركن الثالث: الصيغة، فيعتبر الايجاب والقبول، اعتبارهما في البيع،
والخلاف في المعاطاة والاستيجاب والايجاب عائد كله هنا.
فرع الرهن قسمان. أحدهما: مشروط في عقد، كمن باع، أو أجر، أو
أسلم، أو زوج بشرط الرهن بالثمن، أو الأجرة، أو المسلم فيه، أو الصداق.
والقسم الثاني: ما لم يشرط، ويسمى: رهن التبرع، والرهن المبتدأ.
فالأول، كبعتك داري بكذا على أن ترهنني به عبدك، فقال: اشتريت
ورهنت، وقد ذكرنا خلافا في أنه يتم الرهن بهذا، أم لا بد من قوله بعده: ارتهنت.
فعلى الأول يقوم الشرط مقام القبول، كما يقوم الاستيجاب مقامه، وحكي وجه:
300

أنهما إذا شرطا الرهن في نفس البيع، صار مرهونا من غير استئناف رهن، ويقام
التشارط مقام الايجاب والقبول.
فرع الشرط في الرهن ضربان.
أحدهما: شرط يقتضيه، فلا يضر ذكره في رهن التبرع، ولا في الرهن
المشروط في عقد، كقوله: رهنتك على أن تباع في دينك، أو لا تباع إلا باذنك،
أو يتقدم به على الغرماء.
والثاني: ما لا يقتضيه، وهو إما متعلق بمصلحة العقد، كالاشهاد، وإما لا
غرض فيه، كقوله: بشرط أن لا يأكل إلا الهريسة، وحكمهما كما سبق في كتاب
البيع.
وأما غيرهما،
وهو نوعان. أحدهما ينفع المرتهن ويضر الراهن، كشرط المنافع أو الزوائد
للمرتهن، فالشرط باطل، فإن كان رهن تبرع، بطل الرهن أيضا على الأظهر،
وإن كان مشروطا في بيع، نظر، إن لم يجر جهالة الثمن، بأن الشرط في البيع رهنا
على أنه يبقى بعد قضاء الدين محبوسا شهرا، فسد الرهن على الأظهر.
وفي فساد البيع القولان فيما إذا شرط عقدا فاسدا في بيع، فإن صححنا
البيع، فللبائع الخيار، صح الرهن أم فسد، لأنه وإن صح، لم يسلم له الشرط،
وإن جر جهالة، بأن شرط في البيع رهنا تكون منافعه للمرتهن، فالبيع باطل على
المذهب. وقيل: هو الذي لا يجر جهالة، ثم البطلان فيما إذا أطلق المنفعة. فلو
قيدها فقال: ويكون منفعتها لي سنة مثلا، فهذا جمع بين بيع وإجارة في صفقة،
وفيه خلاف سبق.
النوع الثاني: ينفع الراهن ويضر المرتهن، كرهنتك بشرط أن لا يباع في
الدين، أو لا يباع إلا بعد المحل بشهر أو بأكثر من ثمن المثل، أو برضاي،
301

فالرهن باطل، كذا قطع به الأصحاب. وعن ابن خيران: أنه قال: يجئ في فساده
القولان، وهو غريب. والصواب الأول، فلو كان مشروطا في بيع، عاد القولان في
فساده بفساد الرهن، فإن لم يفسد، فللبائع الخيار.
فرع زوائد المرهون غير مرهونة، فلو رهن شجرة أو شاة بشرط أن
تحدث الثمرة أو الولد مرهونا، لم يصح الشرط على الأظهر. وقيل: قطعا، لأنه
مجهول معدوم، فان صححنا، ففي أكساب العبد إذا شرط كونها مرهونة وجهان.
أصحهما: المنع، لأنها ليست من أجزاء الأصل.
وإن أفسدنا، ففي صحة الرهن قولان. فإن كان شرطا في بيع، وصححنا
الشرط، أو أبطلناه وصححنا الرهن، صح البيع، وللبائع الخيار، وإلا ففي صحة
البيع قولان. وإذا اختصرت. قلت: فيه أربعة أقوال.
أحدها: بطلان الجميع. والثاني: صحة الجميع. والثالث: صحة البيع
فقط. والرابع: صحته مع الرهن دون الشرط.
قلت: هذا الرابع، هو المنصوص، كذا قاله في الشامل. والله أعلم.
فرع: أقرضه بشرط أن يرهن به شيئا يكون منافعه للمقرض، فالقرض
باطل. فلو شرط كون المنافع مرهونة، فالشرط باطل، والقرض صحيح، لأنه لا
يجر نفعا وفي صحة الرهن القولان.
فرع لو قال: أقرضتك هذا الألف بشرط أن ترهن به، وبالألف الذي لي
عليك كذا أو بذلك الألف وحده، فالقرض فاسد. ولو قال المستقرض: أقرضني
ألفا على أن أرهبه، وبالألف القديم، أو بالقديم فقط كذا، فالأصح فساد
القرض. لو باع بشرط أن يرهن بالثمن والدين، أو بالدين رهنا، بطل البيع كما
سبق. فلو رهن المستقرض، أو المشتري كما شرط، فإن علم فساد الشرط، نظر،
302

إن رهن بالألف القديم، صح، وإن رهن بهما، لم يصح بالألف الذي فسد قرضه،
لأنه لم يملكه، وإنما هو مضمون في يده، والأعيان لا يرهن بها. وفي صحته في
الألف القديم قولا تفريق الصفقة. فان صح، لم يوزع، بل كله مرهون بالألف
القديم، لان وضع الرهن على وثيق كل بعض من (أبعاض) الدين بجميع
المرهون. فلو تلف الألف الذي فسد قبضه في يده، صار دينا في ذمته، وصح
الرهن بالألفين حينئذ. وإن ظن صحته، فإن رهن بالقديم، فوجهان. قال
القاضي: لا يصح، وقال الشيخ أبو محمد وغيره: يصح.
قلت: قول الشيخ أبي محمد، هو الأصح، واختاره الامام، والغزالي في
البسيط وزيف الامام قول القاضي. والله أعلم.
ولو رهن بالألفين وقلنا: الصفقة تفرق، فصحته بالألف القديم على هذا
الخلاف. وكذا لو باع بشرط بيع آخر، فأنشأه ظانا صحة العقد، وقد سبقت هذه
الصورة في بابها.
فصل سبق ذكر الخلاف في دخول الأبنية والأشجار في الرهن تحت اسم
الأرض، وفي دخول المغرس تحت رهن الشجرة، والأس تحت الجدار، خلاف
مرتب على البيع، و (الرهن) أولى بالمنع لضعفه.
ولا تدخل الثمرة المؤبرة تحت رهن الشجرة قطعا، ولا غير المؤبرة على الأظهر
. وقيل: قطعا.
ولا يدخل البناء بين الأشجار تحت رهن الأشجار، وإن كان بحيث يمكن
إفراده بالانتفاع. وإن لم ينتفع به إلا بتبعية الأشجار فلذلك على المذهب.
وقيل: فيه الوجهان كالمغرس. ويدخل في الأشجار، الأغصان، والأوراق، لكن الذي يفصل غالبا،
كأغصان الخلاف، وورق الآس، والفرصاد، فيه القولان في الثمرة غير المؤبرة،
وفي اندراج الجنين تحت رهن الحيوان خلاف سيأتي إن شاء الله تعالى.
واللبن في الضرع لا يدخل على المذهب، ولا يدخل الصوف على الظهر.
303

وقيل: يدخل قطعا. وقيل: إن كان قد بلغ أوان الجز لم يدخل، وإلا
دخل.
فصل قال: رهنتك هذه الخريطة بما فيها، أو هذا الحق بما فيه، فإن كان
ما فيهما معلوما مرئيا، صح الرهن في الظرف والمظروف، وإلا، لم يصح في
المظروف.
وفي الخريطة والحق قولا الصفقة.
وأما نصه في المختصر على الصحة في الحق، وعدمها في الخريطة، فسببه
أنه فرض المسألة في حق له قيمة تقصد بالرهن، وفي خريطة ليست لها قيمة تقصد
بالرهن، وحينئذ يكون المقصود ما فيها.
ولو كان اللفظ مضافا إلى ما فيهما جميعا، وكان ما فيهما بحيث لا يصح الرهن
فيه، بطل فيهما جميعا، وفي وجه: يصح فيها وإن كانت قليلة القيمة اعتبارا
باللفظ ولو عكست التصوير في الحق والخريطة، كان الحكم يعكس، كما نص
عليه بلا فرق. ولو قال: رهنتك الظرف دون ما فيه، صح الرهن فيه مهما كان له
قيمة. فان قلت: لأنه إذا أفرده فقد وجه الرهن نحوه، وجعله المقصود. وإن رهن
الظرف ولم يتعرض لما فيه نفيا ولا إثباتا. فإن كان بحيث يقصد بالرهن وحده، فهو
المرهون لا غير، وإن كان لا يقصد منفردا لكنه متمول، فهل المرهون الظرف فقط؟
أو مع المظروف؟ وجهان. أصحهما: أولهما. ويجئ على قياسه وجهان إذا لم
يكن متمولا، لان الرهن ينزل على المظروف أم يلغى.
قلت: قال إمام الحرمين، والغزالي في البسيط كما ذكرناه في الرهن،
يجري مثله في البيع حرفا حرفا، فيما إذا قال: بعتك الخريطة بما فيها، أو
وحدها، أو الخريطة، لان مأخذه اللفظ. والله أعلم.
الركن الرابع: العاقدان، فيعتبر فيهما التكليف، لكن الرهن تبرع. فإن
صدر من أهل التبرع فيما له، فذاك، وإلا فالشرط وقوعه على وفق المصلحة
والاحتياط، فرهن الولي مال الصبي، والمجنون، والمحجور عليه لسفه،
304

وارتهانه لهم، مشروطان بالمصلحة والاحتياط،
فمن صور الرهن للمصلحة،
أن يشتري للطفل ما يساوي مائتين بمائة نسيئة، ويرهن به ما يساوي مائة من
ماله، فيجوز لأنه إن لم يعرض تلف، ففيه غبطة ظاهرة.
وإن تلف المرهون، كان في المشترى ما يجبره.
ولو امتنع البائع إلا برهن ما يزيد على مائة، ترك هذا الشراء، لأنه ربما تلف
المرهون. فإن كان مما لا يتلف في العادة كالعقار، فالمذهب أنه لا يجوز. وعن
الشيخ أبي محمد ميل إلى جوازه. ومنها إذا وقع نهب أو حريق، وخاف الولي على
ماله، فله أن يشتري عقارا، ويرهن بالثمن شيئا من ماله إذا لم يمكن أداؤه في
الحال، ولم يبع صاحب العقار عقاره إلا بشرط الرهن. ولو اقترض له والحالة هذه،
ورهن به، لم يجز، قاله الصيدلاني، لأنه يخاف التلف على ما يقرضه خوفه على ما
يرهنه. ولك أن تقول: إن لم يجد من يستودعه، ووجد من يرتهنه، والمرهون أكثر
قيمة من القرض، وجب أن يجوز رهنه. ومنها أن يقترض له لحاجته إلى النفقة، أو
الكسوة، أو لتوفية ما لزمه، أو لاصلاح ضياعه أو مرمتها ارتقابا لغلتها، أو لانتظار
حلول دين له مؤجل، أو نفاق متاعه الكاسد فإن لم يرتقب شيئا من ذلك، فبيع ما
يريد رهنه أولى من الاستقراض. وحكي وجه شاذ: أنه لا يجوز رهن مال الصبي
بحال، وليس بشئ. وأما الارتهان، فمن صور المصلحة فيه، أن يتعذر على
الولي استيفاء دين الصبي، فيرتهن به إلى تيسيره. ومنها أن يكون دينه مؤجلا بأن
ورثه كذلك. ومنها أن يبيع الولي ماله مؤجلا بغبطة، فلا يكتفى بيسار المشتري، بل
لا بد من الارتهان بالثمن. وفي النهاية إشارة إلى خلاف ذلك، أخذا من جواز
إبضاع ماله. وإذا ارتهن جاز أن يرتهن بجميع الثمن على الصحيح. وفي وجه:
يشترط أن يستوفي ما يساوي المبيع نقدا، وإنما يرتهن ويؤجل بالنسيئة للفاضل.
قلت: هذا الوجه حكاه بعض العراقيين عن الإصطخري. وقول الغزالي: إنه
305

مذهب العراقيين، ليس بجيد، ولا ذكر لهذا الوجه في معظم كتب العراقيين. وإنما
اشتهر الخلاف عندهم، فيما إذا باع ما يساوي مائة نقدا، ومائة وعشرين نسيئة بمائة
وعشرين نسيئة، وأخذ بالجميع رهنا، ففيه عندهم وجهان. الصحيح وظاهر
النص، وقول أكثرهم: إنه صحيح. قال صاحب الحاوي، وشيخه الصيمري،
وصاحب البيان وآخرون من العراقيين: فإذا جوزنا البيع نسيئة، فشرطه كون
المشتري ثقة موسرا، ويكون الأجل قصيرا: قال واختلفوا في حد الأجل التي لا
تجوز الزيادة عليه، فقيل: سنة. وقال الجمهور: لا يتقدر بالسنة، بل يعتبر عرف
الناس. ويشترط كون الرهن وافيا بالثمن، فان فقد شرط من هذه، بطل البيع،
ويلزمه أن يشهد عليه، فان ترك الاشهاد، ففي بطلان البيع وجهان. والله أعلم.
ومنها أن يقرض ماله أو يبيعه لضرورة نهب، ويرتهن به، قال الصيدلاني:
والأولى أن لا يرتهن إذا خيف تلف المرهون، لأنه قد يتلف ويرفعه إلى حاكم يرى
سقوط الدين بتلف الرهن، وحيث جاز الرهن، فشرطه أن يرهن عند أمين يجوز
إيداعه. وسواء في ذلك كان الولي أبا، أو جدا، أو وصيا، أو حاكما، أو أمينه.
لكن حيث جاز الرهن أو الارتهان، جاز للأب والجد أن يعاملا به أنفسهما،
ويتوليا الطرفين، وليس لغيرهما ذلك، وإذا تولى الأب الطرفين، فقبضه وإقباضه
سنذكرهما قريبا في رهن الوديعة عند المودع إن شاء الله تعالى.
فصل رهن المكاتب وارتهانه، جائزان بشرط المصلحة والاحتياط، كما
ذكرنا في الصبي. وتفصيل صور الارتهان، كما سبق في الصبي. وقيل: لا يجوز
أن يستقل بالرهن، وبإذن السيد قولان، تنزيلا لرهنه منزلة تبرعه. وقيل: لا يجوز
استقلاله بالبيع نسيئة بحال، وبإذن السيد القولان.
306

فصل المأذون إذا دفع إليه سيده مالا ليتجر فيه، فهو كالمكاتب إلا في
شيئين. أحدهما: أن رهنه أولى بالمنع، لكون الرهن ليس من عقد التجارة.
والثاني: له البيع نسيئة بإذن سيده بلا خلاف. فإن قال له: أتجر بجاهك، ولم
يدفع إليه مالا، فله البيع والشراء في الذمة حالا ومؤجلا، وكذا الرهن والارتهان،
إذ لا ضرر على سيده. فإن فضل في يده مال، كان كما لو دفع إليه مالا.
قلت: قوله: إن رهنه أولى بالمنع، يعني ما منعناه في المكاتب فهنا أولى،
وما لا، فوجهان. وهذا ترتيب الامام، وقطع الشيخ أبو حامد وصاحبا الشامل
والتهذيب بأنه كالمكاتب. والله أعلم.
الباب الثاني في حكم القبض والطوارئ قبله
القبض ركن في لزوم الرهن.
ولو رهن ولم يقبض، فله ذلك. فإن كان شرط في بيع، فللبائع الخيار. ثم
من صح ارتهانه، صح قبضه. وتجري النيابة في القبض جريانها في العقد، لكن
لا يصح أن يستنيب الراهن، ولا عبده ومدبره، وأم ولده قطعا، ولا عبده
المأذون على أصح الأوجه.
307

وفي الثالث: إن ركبته ديون، صحت استنابته، لانقطاع سلطة السيد عما في
يده كالمكاتب، وإلا، فلا، ويصح استنابة المكاتب، لاستقلاله باليد والتصرف.
فصل صفة القبض هنا في العقار والمنقول، كما سبق في البيع،
ويطرد الخلاف في كون التخلية في المنقول قبضا، وعن القاضي: القطع بأنها لا
تكفي هنا، لان القبض مستحق هناك.
فرع أودع عند رجل مالا، ثم رهنه عنده، فظاهر نصه: أنه لا بد من إذن
جديد في القبض، ولو وهبه له، فظاهر نصه: حصول القبض بلا إذن في القبض،
وللأصحاب طرق. أصحها: فيهما قولان، أظهرهما: اشتراط الاذن فيهما.
والطريق الثاني: تقرير النصين، لان الرهن توثيق، وهو حاصل بغير
القبض، والهبة تمليك، ومقصوده الانتفاع، ولا يتم ذلك إلا بالقبض، فكانت الهبة
لمن في يده رضا بالقبض. والثالث باعتبار الاذن فيهما، قاله ابن خيران.
وسواء شرط الاذن الجديد، أم لا، فلا يلزم العقد ما لم يمض زمان يتأتى فيه صورة
القبض. لكن إذا شرط الاذن، فهذا الزمان يعتبر من وقت الاذن. وإن لم يشترطه،
فمن وقت العقد. وقال حرملة: لا حاجة إلى مضي هذا الزمان، ويلزم العقد
بنفسه، والصحيح الأول.
قلت: قوله: قال حرملة معناه: قال حرملة مذهبا لنفسه، لا نقلا عن
الشافعي رضي الله عنه، كذا صرح به الشيخ أبو حامد آخرون. وإنما نبهت على
هذا، لئلا يغتر بعبارة صاحب المهذب فإنها صريحة، أو كالصريحة، في أن
حرملة نقله عن الشافعي رضي الله عنه، فحصل أن المسألة ذات وجهين، لا
قولين. والله أعلم.
فعلى الصحيح، إن كان المرهون منقولا غائبا، اعتبر زمان يمكن المصير فيه
إليه ونقله. وهل يشترط مع ذلك نفس المصير ومشاهدته؟ فيه أوجه. أصحهما:
لا. والثاني: نعم. والثالث: إن كان مما يشك في بقائه، كالحيوان، فإنه معرض
308

للآفات، اشترط. وإن تيقن بقاؤه، فلا، فإن شرطنا الحضور والمشاهدة،
فالمذهب أنه لا يشترط مع ذلك نقله، فإن شرطنا النقل، أو المشاهدة، فهل يصح
التوكيل فيه؟ فيه وجهان. أصحهما: الصحة، كابتداء القبض. والثاني: لا، لان
ابتداء القبض له، فليتمه.
فرع لو ذهب ليقبضه، فوجده قد ذهب من يده، نظر، إن أذن له في
القبض بعد العقد، فله أخذه حيث وجده، وإلا، لم يأخذه حتى يقبضه الراهن، سواء
شرطنا الاذن الجديد، أم لا، كذا قاله ابن عبدان، وكأنه صوره فيما إذا علم خروجه
من يده قبل العقد. أما إذا خرج بعده ولم يشترط الاذن الجديد، فقد جعلنا الرهن
ممن هو في يده إذنا في القبض، فليكن كما لو استأنف إذنا.
فرع إذا رهن الأب مال الطفل عند نفسه، أو ماله عند الطفل، ففي
اشتراط مضي زمان يمكن فيه القبض، وجهان. فإن شرطناه، فهو كرهن الوديعة عند
المودع، فيعود الخلاف المذكور. وقصد الأب قبضا وإقباضا، كالاذن الجديد
هناك.
فرع إذا باع المالك الوديعة، أو العارية ممن في يده، فهل يعتبر زمان
إمكان القبض لجواز التصرف وانتقال الضمان؟ وجهان. أصحهما: نعم. ثم
اشتراط المشاهدة والنقل، كما سبق في الرهن والهبة، فعلى هذا، هل يحتاج إلى
إذن في القبض؟ نظر، إن كان الثمن حالا ولم يوفه، لم يحصل على القبض إلا بإذ
البائع، فإن وفاه أو كان مؤجلا، فالمذهب: أنه لا يحتاج إليه، وبهذا قطع
الجمهور. وقيل: هو كالرهن، والفرق على المذهب: أن القبض مستحق في
البيع، فكفى دوامه.
فرع إذا رهن المالك ماله عند الغاصب، أو المستعير، أو المستام، أو
الوكيل، صح.
309

والقول في افتقار لزومه إلى مضي زمان يتأتي فيه القبض، وإلى إذن جديد في
القبض، على ما ذكرناه في رهن الوديعة عند المودع. وقيل: لا بد في الغصب من
إذن قطعا، لعدم الاذن في أول اليد. وإذا رهن عند الغاصب، لا يبرأ من
الضمان، فإن أراد البراءة، رده إلى الراهن، ثم له الاسترداد بحكم الارتهان.
فإن امتنع الراهن من قبضه، فله إجباره.
ولو أراد الراهن إجبار المرتهن على رده إليه، ثم يرده هو عليه، لم يكن له
ذلك على الأصح، وبه قال القاضي، إذ لا غرض له في براءة ذمة المرتهن.
وإن أودعه عند الغاصب، برئ على الأصح، لان مقصود الايداع،
الائتمان، والضمان والأمانة لا يجتمعان، فإنه لو تعدى في الوديعة، لم يبق أمينا،
بخلاف الرهن، فإنه يجتمع هو والضمان، فإنه لو تعدى في الرهن، صار ضامنا
وبقي الرهن. والإجارة، والتوكيل، والقراض على المال المغصوب، وتزويجه
للجارية التي غصبها لا يفيد البراءة على المذهب. ولو صرح بإبراء الغاصب من
ضمان الغصب، والمال باق في يده، ففي براءته ومصير يده يد أمانة، وجهان
أصحهما لا يبرأ.
قلت: قطع صاحب الحاوي بأنه يبرأ، وصححه البغوي، قال صاحبا
الشامل والمهذب: هو ظاهر النص. والله أعلم.
فرع لو رهن العارية عند المستعير، أو المقبوض بالسوم، أو بشراء فاسد
عند قابضه، لم يبرأ على الأصح.
قلت: قال صاحب الشامل: إذا رهن العارية عند المستعير، لم يزل
ضمانها، وكان له الانتفاع بها. فإن منعه الانتفاع، ففي زوال الضمان وجهان.
وقال في الحاوي: في بطلان العارية وجهان. أحدهما: لا تبطل، وله
310

الانتفاع. فعلى هذا، يبقى الضمان. والثاني: تبطل العارية، وليس له الانتفاع،
ويسقط الضمان. والله أعلم.
فصل في الطوارئ المؤثرة في العقد قبل القبض
وهي ثلاثة أنواع.
الأول: ما ينشؤه الراهن من التصرفات، فكل مزيل للملك، كالبيع،
والاعتاق، والاصداق، وجعله أجرة، والرهن، والهبة مع القبض والكتابة، والوطئ
مع الاحبال، يكون رجوعا عن الرهن إذا وجد قبل القبض. والتزويج، والوطئ
بلا إحبال، ليس برجوع، بل رهن المزوجة ابتداء جائز.
وأما الإجارة، فإن جوزنا رهن المستأجر وبيعه، فليس برجوع، وإلا،
فرجوع على الأصح. والتدبير، رجوع على الصحيح المنصوص.
قلت: قال أصحابنا العراقيون وصاحب التتمة: إن كانت الإجارة إلى مدة
تنقضي قبل محل الدين، لم يكن رجوعا قطعا، وإلا فعلى الخلاف والبناء المذكور.
والأصح على الجملة: أنها ليست رجوعا مطلقا، ونص عليه في الام وقطع به
الشيخ أبو حامد والبغوي. والله أعلم.
النوع الثاني: ما يعرض للمتعاقدين، فإن مات أحدهما قبل القبض، فنص:
أنه يبطل بموت الراهن دون المرتهن، وفيهما طرق. أصحها. فيهما قولان.
أظهرهما: لا يبطل فيهما، لان مصيره إلى اللزوم، فلا يبطل بموتهما كالبيع.
والثاني: يبطل، لأنه جائز، فبطل كالوكالة. والطريق الثاني: تقرير النصين، لان
المرهون بعد موت الراهن، ملك لوارثه. وفي إبقاء الرهن ضرر عليهم، وفي موت ا
لمرتهن يبقى الدين والوارث محتاج إلى الوثيقة حاجة ميته. والثالث: القطع بعدم
البطلان فيهما. فإذا قلنا بالقولين، فقيل: هما مختصان برهن التبرع.
فأما المشروط في بيع، فلا يبطل قطعا لتأكده. والمذهب: طردهما في
النوعين، وبه قال الجمهور.
311

فإذا أبقينا الرهن، قام وارث الراهن مقامه في الاقباض، ووارث المرتهن في
القبض، وسواء أبطلناه أم لا، ولم يتحقق الوفاء بالرهن المشروط، ثبت الخيار في
فسخ البيع. ولو جن أحدهما، أو أغمي عليه قبل القبض، فإن قلنا: لا يبطل
بالموت، فهنا أولى، وإلا، فوجهان. فإن لم نبطله، فجن المرتهن، قبض من
ينظر في ماله.
فإن لم يسلمه الراهن وكان مشروطا في بيع، فعل ما فيه المصلحة من الفسخ
والإجازة.
وإن جن الراهن، فإن كان مشروطا في بيع، وخاف الناظر فسخ المرتهن إن
لم يسلمه، والحظ في الامضاء، سلمه.
وإن لم يخف، أو كان الحظ في الفسخ، أو كان رهن تبرع، لم يسلمه، كذا
أطلقوه، ومرادهم: إذا لم يكن ضرورة ولا غبطة، لأنهما تجوزان رهن مال المجنون
ابتداء، فالاستدامة أولى. ولو طرأ على أحدهما حجر سفه، أو فلس، لم يبطل
على المذهب.
النوع الثالث: ما يعرض في المرهون.
فلو رهن عصيرا وأقبضه، فانقلب في يد المرتهن خمرا، بطل الرهن على
الصحيح، وبه قطع الجمهور، لخروجه عن المالية. وقيل: إن عاد خلا، بان أن
الرهن لم يبطل، وإلا، بأن بطلانه، فإن أبطلنا، فلا خيار للمرتهن إن كان مشروطا
في بيع لأنه حدث في يده، فإن عاد خلا، عاد الرهن على المشهور، كما يعود
الملك. ومرادهم ببطلانه أولا: ارتفاع حكمه ما دام خمرا، ولم يريدوا اضمحلال
أثره بالكلية. ولو رهن شاة فماتت في يد المرتهن، فدبغ جلدها، لم يعد رهنا
على الأصح، واختاره الأكثرون، لان ماليته حدثت بالمعالجة، بخلاف الخمر،
ولان العائد غير ذلك الملك.
ولو انقلب خمرا قبل القبض، ففي بطلانه البطلان الكلي، وجهان.
312

أحدهما: نعم، لاختلاله في حال ضعف الرهن، وعدم لزومه. والثاني: لا، كما
بعد القبض.
ومقتضى كلامهم، ترجيح هذا.
قلت: قد قطع صاحبا الشامل والبيان بالأول، ولكن في الثاني أصح،
وصححه في المحرر. والله أعلم.
قال في التهذيب وعلى الوجهين لو كان مشروطا في بيع، ثبت الخيار
للمرتهن، لان الخل دون العصير. ولا يصح الاقباض في حال الخمرية، فلو فعل
وعاد خلا، فعلى الوجه الثاني: لا بد من استئناف قبض، وعلى الأول: لا بد من
استئناف عقد، ثم القبض فيه على ما ذكرنا فيما إذا رهنه ما هو في يده.
فرع لو انقلب المبيع خمرا قبل القبض، فالكلام في انقطاع البيع وعوده
إذا عاد خلا على ما ذكرناه في انقلاب العصير المرهون خمرا بعد القبض.
قلت: هذا هو المذهب، وبه قال الأكثرون، وقطع جماعة من العراقيين،
منهم صاحب الشامل بأنه يبطل البيع، وفرقوا بينه وبين الرهن بعد القبض، بأن
الرهن عاد تبعا لملك الراهن، وهنا يعود ملك البائع لعدم البيع، ولا يصح أن يبيع
ملك المشتري. والله أعلم.
ولو جنى المرهون قبل القبض، وتعلق برقبته أرش، وقلنا: رهن الجاني
ابتداء فاسد، ففي بطلان الرهن وجهان، كتخمر العصير، وهنا أولى بعدم
البطلان، لدوام الملك في الجاني. قال الامام: وإباق المرهون قبل القبض يخرج
على وجهين، لأنه انتهى إلى حاله تمنع ابتداء الرهن.
قلت: أصحهما: لا يبطل، وصححه في المحرر. والله أعلم.
فصل في تخلل الخمر وتخليلها
الخمر نوعان.
أحدهما: محترمة، وهي التي اتخذ عصيرها ليصير خلا، وإنما كانت
313

محترمة، لان اتخاذ الخل جائز بالاجماع، ولا ينقلب العصير إلى الحموضة إلا
بتوسط الشدة، فلو لم يحترم وأريق في تلك الحال، لتعذر اتخاذ الخل.
النوع الثاني: غير محترمة، وهي التي اتخذ عصيرها للخمرية.
ثم في النوعين مسائل.
إحداها: تخليل الخمر بطرح العصير، أو الملح، أو الخل، أو الخبز
الحار، أو غيرها (فيها) حرام.
والخل الحاصل منها نجس لعلتين
إحداهما: تحريم التخليل.
والثانية: نجاسة المطروح بالملاقاة، فتستمر نجاسته، إذ لا مزيل لها، ولا
ضرورة إلى الحكم بانقلابه طاهرا، بخلاف أجزاء الدن. ثم سواء في هذا الخمر
المحترمة وغيرها، والمطروح قصدا، أو اتفاقا، كإلقاء الريح. وفي وجه: يجوز
تخليل المحترمة. وفي وجه: تطهر إذا طرح تعبير على حساب قصد. والصحيح: الأول.
ولو طرح في العصير بصلا، أو ملحا، واستعجل به الحموضة بعد الاشتداد،
فوجهان. أحدهما: يطهر، لأنه لاقاه في حال طهارته كأجزاء الدن. وأصحهما:
لا، لان المطروح تنجس بالتخمر، فيستمر، بخلاف أجزاء الدن للضرورة. ولو
طرح العصير على الخل، وكان العصير غالبا يغمر الخل عند الاشتداد، ففي طهارته
إذا انقلب خلا هذان الوجهان. ولو كان الخل غالبا يمنع العصير من الاشتداد، فلا
بأس.
المسألة الثانية: إمساك المحترمة لتصير خلا، جائز، وغير المحترمة يجب
إراقتها. فلو لم يرقها فتخللت، طهرت، لأن النجاسة والتحريم للشدة، وقد
زالت، وحكي وجه: أنه لو أمسك غير المحترمة فتخللت، لم تطهر.
وحكى الامام عن بعض الخلافيين: أنه لا يجوز إمساك المحترمة، بل طريقه
314

أن يعرض عن العصير إلى أن يصير خلا، فإن اتفق رؤيته إياه خمرا، أراقه، وهذان
شاذان منكران.
فرع متى عادت الطهارة بالتخلل، طهرت أجزاء الظرف للضرورة، وعن
الداركي: إن لم يتشرب شيئا من الخمر كالقوارير، طهر، وإلا، فلا، والصواب
المعروف: الطهارة مطلقا. وكما يطهر ما يلاقي الخل بعد التخلل، يطهر ما فوقه
مما أصابه الخمر في حال الغليان، قاله القاضي حسين، وأبو الربيع الإيلاقي.
قلت: هو بكسر الهمزة، وبالياء المثناة تحت، وبالقاف منسوب إلى إيلاق،
وهي ناحية من بلاد الشاش، واسم أبي الربيع هذا: طاهر بن عبد الله، إمام
جليل، من أصحاب القفال المروزي، وأبي إسحاق الأسفراييني. والله أعلم.
الثالثة لو كان ينقلها من الظل إلى الشمس وعكسه، أو يفتح رأسها ليصيبها
الهواء استعجالا للحموضة، طهرت على الأصح، وقال أبو سهل الصعلوكي: لا
تطهر، والمحترمة أولى بالطهارة.
فرع عن الشيخ أبي علي، خلاف في صحة بيع الخمر المحترمة، بناء
على الخلاف في طهارتها، وقد سبق في الطهارة.
وإذا استحالت أجواف حبات العناقيد خمرا، ففي بيعها اعتمادا على طهارة
ظاهرها، وتوقع طهارة باطنها، وجهان، وطردوهما في البيضة المستحيل باطنها
دما، والصحيح: المنع.
الباب الثالث في حكم المرهون بعد القبض
فيه ثلاثة أطراف.
الأول: في جانب الراهن، وهو ممنوع من كل تصرف يزيل الملك وينقل
315

العين، كالبيع والهبة ونحوهما. ومما يزحم المرتهن في مقصود الرهن، وهو
الرهن عند غيره، ومن كل تصرف ينقص المرهون، أو يقلل الرغبة فيه، كالتزويج.
قلت: فلو خالف فزوج العبد أو الأمة المرهونين، فالنكاح باطل، صرح به
القاضي أبو الطيب، لأنه ممنوع منه، وقياسا على البيع. والله أعلم.
وأما الإجارة، فإن كان الدين حالا أو مؤجلا يحل قبل انقضاء مدتها، بطلت
الإجارة على المذهب، وبه قطع الجمهور، وقيل: إن جوزنا بيع المستأجر،
صحت، وإلا فلا، وقال في التتمة: تبطل في قدر الأجل. وفي الزائد قولا
تفريق الصفة. ولم يفصل الجمهور، بل أطلقوا القول بالبطلان.
وإن كان الأجل يحل بعد انقضائها مدة الإجارة أو معها، صحت قطعا. فإن حل
قبل انقضاء بموت الراهن، فوجهان. أحدهما: تنفسخ الإجارة رعاية لحق
المرتهن، لأنه أسبق، ويضارب المستأجر بالأجرة المدفوعة مع الغرماء. والثاني
وهو اختيار ابن القطان: أن المرتهن يصبر إلى انقضاء مدة الإجارة، كما يصبر
الغرماء إلى انقضاء العدة لتستوفي المعتدة حق السكنى جمعا بين الحقين. وعلى
هذا، يضارب المرتهن بدينه في الحال. فإذا انقضت المدة وبيع المرهون، قضي
باقي دينه. فإن فضل شئ، فللغرماء. هذا كله إذا أجر لغير المرتهن. فلو أجره،
جاز ولا يبطل الرهن، وكذا لو كان مستأجره فرهنه عنده، جاز.
فلو كانت الإجارة قبل تسليم الرهن، ثم سلمه عنهما جميعا، جاز. ولو سلم عن
الرهن، وقع عنهما جميعا، لان القبض في الإجارة مستحق. ولو سلم عن
الإجارة، لو يحصل قبض الرهن. وما قدمناه من منع الراهن [من] البيع وسائر
التصرفات. والحكم بإبطالها، هو الجديد المشهور. وعلى القديم المجوز وقف
العقود: تكون هذه التصرفات موقوفة على الفكاك وعدمه، ومال الإمام إلى تخريجها
316

على الخلاف في بيع المفلس ماله، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
فرع إذا أعتق الراهن المرهون، ففي تنفيذه ثلاثة أقوال. أظهرها:
الثالث، وهو إن كان موسرا، نفذ، وإلا، فلا، فإن قلنا: لا ينفذ، فالرهن بحاله، فلو
انفك بإبداء أو غيره، فقولان، أو وجهان، أصحهما: لا ينفذ، لأنه أعتق وهو لا
يملك إعتاقه، فأشبه ما لو أعتق المحجور عليه بسفه، ثم زال حجره. وقطع جماعة
بالنفوذ. وإن بيع في الدين ثم ملكه، لم يعتق على المذهب. وقيل: على
الخلاف. وإن قلنا: ينفذ مطلقا، لزم الراهن قيمته يوم الاعتاق، فإن كان موسرا،
أخذت في الحال، وجعلت رهنا مكانه، وإلا، أمهل إلى اليسار، فإذا أيسر،
أخذت وجعلت رهنا إن لم يحل الدين، وإن حل، طولب به، ولا معنى للرهن،
كذا قاله العراقيون. ولك أن تقول: كما أن ابتداء الرهن قد يكون بالحال، وقد
يكون بالمؤجل، فكذا قد تقتضي المصلحة أخذ القيمة رهنا وإن حل إلى تيسر
الاستيفاء. قال الامام: ومهما بذل القيمة على قصد الغرم، صارت رهنا ولا حاجة
إلى عقد مستأنف، والاعتبار بقصد المؤدي. ومتى كان موسرا، وقلنا: ينفذ
مطلقا، أو من الموسر، ففي وقت نفوذه طريقان. أحدهما: على الأقوال في وقت
317

نفوذ عتق نصيب شريكه. ففي قول: يتعجل. وفي قول: يتأخر إلى دفع القيمة.
وفي قول: يتوقف. فإذا غرم، أسندنا العتق تبينا. والطريق الثاني، وهو
المذهب: القطع بنفوذه في الحال. والفرق: أن العتق هناك إلى ملك
غيره، فلا يزول إلا بقبضه قيمته، وهنا يصادف ملكه.
قلت: قوله: إذا كان موسرا، ففيه طريقان، إشارة إلى أن المعسر إذا نفذنا
عتقه، يعتق في الحال بلا خلاف، وبهذا صرح الشيخ أبو حامد، وصاحب
الشامل وغيرهما. والله أعلم.
فرع لو علق عتقه بفكاك الرهن، نفذ عند الفكاك، إذ لا ضرر على
المرتهن. وإن علق بصفة أخرى، فإن وجدت قبل فكاك الرهن، ففيه أقوال
التنجيز. وإن وجدت بعده، نفذ على الأصح.
فرع لو رهن نصف العبد ثم أعتق نصفه، فإن أضاف العتق إلى النصف
المرهون، ففيه الأقوال. وإن أضافه إلى النصف الآخر، أو أطلق، عتق ما ليس
بمرهون، ويسري إلى المرهون إن نفذنا إعتاقه، وكذا إن لم ننفذه على الأصح لأنه
يسري إلى ملك غيره، فملكه أولى. وعلى هذا، يفرق بين الموسر والمعسر على
الأصح، حكاه الامام عن المحققين، وجزم في التتمة بأن لا فرق لأنه ملكه.
قلت: إذا أعتق المرهون عن كفارته، أجزأه إن قلنا: ينفذ إعتاقه. وإن أعتقه
عن كفارة غيره، فلا يعتق، لأنه بيع، قاله القاضي حسين في الفتاوى. والله
أعلم.
فرع وقف المرهون، باطل على المذهب. وقيل: على الأقوال. وقال
في التتمة إن قلنا: لا يحتاج إلى القبول، فكالعتق، وإلا فباطل.
فصل ليس للراهن وطئ المرهونة بكرا كانت أو ثيبا، عزل، أم لا.
318

وفي وجه ضعيف: يجوز وطئ ثيب لا تحبل لصغر، أو إياس، ووطئ الحامل
من الزنا، ولكن وطئ الحامل من الزنا، مكروه مطلقا.
قلت: وفي وجه: يحرم. والله أعلم.
فلو خالف فوطئ، فلا حد ولا مهر، وعليه أرش البكارة إن افتضها.
فإن شاء جعله رهنا، وإن شاء قضاه من الدين، فإن أولدها، فالولد نسيب
حر، ولا قيمة عليه، وفي مصيرها أم ولد أقوال العتق، وهنا أولى بالنفوذ عند
الأكثر، لقوة الاحبال.
وقيل: عكسه، لان العتق أقوى من جهة، فإنه تنجز به الحرية، بخلاف
الاستيلاد. وقيل: هما سواء. وإن شئت قالت: فيه ثلاثة طرق، القطع بالنفوذ،
وعدمه، وأصحها وهو الثالث: طرد الأقوال، فإن نفذ بالاستيلاد، لزمه القيمة،
والحكم على ما سبق في العتق، وإلا، فالرهن بحاله.
فلو حل الحق وهي حامل، لم يجز بيعها على الأصح، لأنها حامل بحر.
وإذا ولدت لا تباع حتى تسقي الولد اللبأ، ونجد مرضعا خوفا من أن يسافر بها
المشتري، فيهلك الولد، فإذا وجدت المرضع، بيعت الام، ولا يبالي بالتفريق
بينها وبين الولد للضرورة. ثم إن استغرقها الدين، بيعت كلها، وإلا فيباع قدر
الدين وإن أفضى التشقيص إلى نقصان رعاية لحق الاستيلاد، فإن لم يوجد من
يشتري البعض، بيع الجميع للضرورة، وإذا بيع بقدر الدين، انفك الرهن عن
الباقي واستقر الاستيلاد فيه، وتكون النفقة على المشتري والمستولد بحسب
النصيبين، ويكون الكسب بينهما. ومتى عادت إلى ملكه بعد بيعها في الدين، نفذ
الاستيلاد على الأظهر. وقيل: قطعا. ولو انفك رهنها من غير بيع، نفذ الاستيلاد على
المذهب. وقيل: هو كما لو بيعت ثم ملكها. وليس للراهن أن يهب هذه الجارية
للمرتهن، وإنما تباع في الحق للضرورة، وهذا معنى قول الأئمة: الاستيلاد ثابت
في حق الراهن. وإنما الخلاف في ثبوته في حق المرتهن.
فرع لو ماتت هذه الجارية بالولادة. وقلنا: الاستيلاد لا ينفذ، لزمه قيمتها
319

على الصحيح، فتكون رهنا مكانها. ولو أولد أمة غيره بشبهة وماتت بالولادة،
وجبت قيمتها على الصحيح. ولو كانت حرة، لم تجب الدية على الأصح، لان
الوطئ سبب ضعيف، وإنما أوجبنا الضمان في الأمة، لان الوطء استيلاء عليها،
والعلوق من آثاره، فأدمنا الاستيلاء كالمحرم إذا نفر صيدا وبقي نفاره إلى الهلاك
بالتعثر وغيره. والحرة لا تدخل تحت الاستيلاء. ولو أولد امرأة بالزنا مكرهة،
فماتت بالولادة حرة (كانت) أو أمة، يجب الضمان على الأظهر، لان الولادة غير
مضافة إليه، لقطع النسب.
ولو ماتت زوجته من الولادة، لم يجب الضمان بلا خلاف، لتولده من
مستحق. وحيث أوجبنا ضمان الحرة، فهو الدية على عاقلته. وحيث أوجبنا
القيمة، وجب قيمتها يوم الاحبال على الأصح، لأنه سبب التلف، كما لو جرح
عبدا قيمته مائة، فبقي زمنا حتى مات وقيمته عشرة، لزمه مائة.
والوجه الثاني: تجب قيمتها يوم الموت، لأنه وقت التلف.
والثالث: يجب أكثرهما، كالغصب. ولو لم تمت، ونقصت بالولادة، لزمه
الأرش. فإن شاء جعله رهنا معها، وإن شاء صرفه في قضاء الدين.
فصل للراهن استيفاء المنافع التي لا تضر بالمرتهن، كسكنى الدار،
وركوب الدابة، استكساب العبد، ولبس الثوب، وإلا إذا نقص باللبس، وإنزاء
الفحل، إلا إذا نقص قيمته. والانزاء على الأنثى، إن كان الدين يحل قبل ظهور
الحمل، أو تلد قبل حلوله. فإن كان يحل بعد ظهوره وقبل الولادة، فإن قلنا:
الحمل لا يعرف، جاز أيضا، لأنها تباع مع الحمل. وإن قلنا: يعرف هو الأظهر،
320

لم يجز، لأنه لا يمكن بيعها دون الحمل، وهو غير مرهون. وليس له البناء في
الأرض المرهونة، ولا الغراس، وفي وجه: يجوز إن كان الدين مؤجلا،
والصحيح: المنع. والزرع إن نقص قيمة الأرض لاستيفاء قوتها، ممنوع. وإن لم
ينقص وكان بحيث يحصد قبل حلول الأجل، فلا [منع]. فلو تأخر الادراك لعارض،
ترك إلى الادراك.
وإن كان بحيث يحصد بعد الحلول، أو كان الدين حالا، منع على
المشهور، لأنه تقل الرغبة في المزروعة. وفي قول: لا منع، ويجبر على القطع
عند المحل إن لم يف قيمتها مزروعة دون الزرع بالدين. ولو غرس أو بنى حيث
منعناه، لم يقلع قبل حلول الأجل على الصحيح، فلعله يقضي الدين من غيره.
وأما بعد حلول الأجل والحاجة إلى البيع، فيقلع إن لم تف قيمة الأرض بدينه،
وزادت بالقلع. فلو صار الراهن محجورا عليه بالافلاس، ففي القلع وجهان،
بخلاف ما لو نبت النخل من نوى حمله السيل، حيث جزمنا بأنه لا يقلع في مثل هذه
الحالة، لأنا منعناه هنا.
فصل اليد على المرهون، مستحقة للمرتهن لأنها مقصود التوثق. فما
لا منفعة فيه مع بقاء عينه، كالنقود والحبوب، لا تزال يد المرتهن عنه. وأما غيره،
فإن أمكن تحصيل الغرض مع بقائه في يد المرتهن، تعين فعله جمعا بين الحقين،
وإنما تزال يده عند اشتداد الحاجة إليه. فإن كان العبد مكتسبا وتيسر استكسابه
هناك، لم يخرج من يده إن أراد الراهن الاستكساب.
فإن أراد الاستخدام أو الركوب أو غيرهما من الانتفاع المحوج إلى إخراجه من
يده، ففي قول قديم: لا يخرج، والمشهور: أنه يخرج. ثم إن استوفى تلك
المنافع بإعارة لعدل، أو إجارة بشرطها السابق، فله ذلك. وإن أراد استيفاءها
321

بنفسه، قال في الام: له ذلك، ومنعه في القديم، فحمل حاملون الأول على
الثقة المأمون جحوده. والثاني: على غيره. وقال آخرون: هما قولان مطلقا،
وهذا أصح.
قلت: المذهب: جوازه مطلقا. والله أعلم.
وفرع الامام والغزالي على الجواز: أنه إن وثق المرتهن بالتسليم، فذاك،
وإلا أشهد عليه شاهدين أنه يأخذه للانتفاع، فإن كان موثوقا به عند الناس، مشهور
العدالة، لم يكلف الاشهاد في كل أخذة على الأصح. فإن كان المرهون جارية،
فأراد أخذها للاستخدام، لم يمكن منه، إلا إذا أمن غشيانه، بأن كان محرما، أو
ثقة وله أهل. ثم إن كان له إخراج المرهون من يد المرتهن لمنفعة يدوم استيفاؤها،
فذاك. وإن كانت تستوفى (في) بعض الأوقات، كالركوب، والاستخدام، استوفي
نهارا، ورد إلى المرتهن ليلا.
فرع ليس للراهن المسافرة به بحال وإن قصر سفره، لما فيه من
الخطر. ولهذا منع زوج الأمة من السفر بها. وإنما جاز لسيدها السفر بها لحقه
المتعلق بالرقبة، ولئلا يمتنع من تزويجها، ويجوز للحر السفر بزوجته الحرة.
فرع كلام الغزالي يدل على أنه لا ينتزع العبد من يد المرتهن إذا أمكن
استكسابه وإن طلب الراهن خدمته، ولم يتعرض إلا الأكثر لذلك. ومقتضى
كلامهم: أن له الاستخدام مع إمكان الاستكساب.
قلت: كلام الغزالي، محمول على موافقة الأصحاب، وقد ذكرت تأويله في
شرح الوسيط. والله أعلم.
فرع لا تزال يد البائع عن العبد المحبوس بالثمن بسبب الانتفاع، لان
ملك المشتري غير مستقر قبل القبض، وملك الراهن مستقر. وهل يستكسب في يده
للمشتري، أم تعطل منافعه؟ فيه خلاف للأصحاب.
322

قلت: الأرجح: استكسابه. والله أعلم.
فرع التصرفات التي منع بها الراهن لحق المرتهن، إذا أذن فيها، نفذت.
فإن أذن في الوطئ، حل، فإن لم تحبل، فالمرهون والرهن بحاله. وإن أحبل، أو
أعتق، أو باع بالاذن، نفذت وبطل الرهن، وله الرجوع عن الاذن قبل تصرف
الراهن. وإذا رجع، فالتصرف بعده تصرف بلا إذن.
ولو أذن في الهبة والاقباض، ورجع قبل الاقباض، صح وامتنع الاقباض.
ولو أذن في البيع فباع الراهن بشرط الخيار، فرجع المرتهن، لم يصح رجوعه على
الأصح، لان البيع مبني على اللزوم.
ولو رجع عن الاذن ولم يعلم الراهن، فتصرف لم ينفذ على الأصح. ومتى
أحبل، أو أعتق، أو باع وادعى الاذن، فالقول قول المرتهن مع يمينه. فإن حلف،
فتصرفه بغير إذن. وإن نكل، فحلف الراهن، فهو كالتصرف بالاذن. فإن نكل
الراهن، ففي رد اليمين على الجارية والعبد، طريقان. أحدهما: على القولين في
الرد على الغرماء إذا نكل الوارث وأصحهما: القطع بالرد، لان الغرماء يثبتون
الحق ابتداء للميت، وهذان يثبتان لأنفسهما.
ولو اختلف الراهن وورثة المرتهن، حلفوا على نفي العلم. ولو اختلف
المرتهن وورثه الراهن، حلفوا يمين الرد على البت. وفي ثبوت إذن المرتهن برجل و
امرأتين، وجهان حكاهما ابن كج، القياس: المنع، كالوكالة.
فرع لو حصل عند المرهونة ولد، فقال الراهن: وطئتها بإذنك فأتت بهذا
الولد مني وهي أم ولد، فقال المرتهن: بل هو من زوج أو زنى، فالقول قول الراهن بلا
323

يمين، لأنه إذا أقر بكون الولد منه، لم يقبل رجوعه، فلا يحلف، وإنما يقبل قوله
بشرط أن يسلم له المرتهن أربعة أشياء، وهي: الاذن في الوطئ، وأنه وطئ،
وأنها ولدت، وأنها مضت مدة إمكان الولد منه.
فإن أنكر واحدا من الأربعة، فالقول قوله، لان الأصل عدمه. وفي وجه:
القول قول الراهن في الوطئ، ولو لم يتعرض المرتهن لهذه الأشياء منعا وتسليما،
واقتصر على إنكار الاستيلاد، فالقول قوله، وعلى الراهن إثبات هذه الأشياء.
فرع لو أعتق أو وهب بإذن المرتهن، بطل حقه من الرهن، سواء كان دينه
حالا أو مؤجلا، وليس عليه أن يجعل قيمته رهنا مكانه. ولو باع بإذنه والدين
مؤجل، فكذلك. وإن كان حالا، قضى حقه من ثمنه، وحمل إذنه المطلق على
البيع لغرضه. ولو أذن بشرط أن يجعل الثمن رهنا مكانه، فقولان، سواء كان الدين
حالا، أو مؤجلا. أظهرهما: يبطل الاذن والبيع. والثاني: يصحان، ويلزم الراهن ا
لوفاء بالشرط. ولو أذن في الاعتاق بشرط جعل القيمة رهنا، أو في الوطئ بهذا
الشرط، إن أحبل، ففيه القولان.
ولو أذن في البيع بشرط أن يجعل حقه من ثمنه وهو مؤجل، فالصحيح
المنصوص: فساد البيع والاذن، لفساد الشرط. وفي قول مخرج: يصحان،
ويجعل الثمن رهنا مكانه. ولو اختلفا فقال المرتهن: أذنت بشرط أن ترهن الثمن،
فقال الراهن: بل أذنت مطلقا، فالقول قول المرتهن. ثم إن كان الاختلاف قبل
البيع، فليس له البيع. وإن كان بعده، وحلف المرتهن، فإن صححنا الاذن،
فعلى الراهن رهن الثمن، وإلا، فإن صدق المشتري المرتهن، فالبيع باطل ويبقى
مرهونا. وإن كذبه، نظر، إن أنكر أصل الرهن، حلف، وعلى الراهن أن يرهن
قيمته، وإن أقر بكونه مرهونا، وادعى مثل ما ادعاه الراهن، فعليه رد المبيع ويمين
المرتهن حجة عليه. قال الشيخ أبو حامد: ولو أقام المرتهن بينة أنه كان مرهونا،
فهو كإقرار المشتري به.
فرع منقول عن الام لو أذن المرتهن للراهن في ضرب العبد
324

المرهون، فهلك في الضرب، فلا ضمان، لأنه تولد من مأذون فيه، كما لو أذن في
الوطئ وأحبل. ولو قال: أدبه، فضربه فهلك، لزمه الضمان.
فصل الديون التي على الميت، تتعلق بتركته قطعا. وقد سبق في آخر باب
زكاة الفطر، أن هذا التعلق لا يمنع الإرث على الصحيح. فعلى هذا، في
كيفيته قولان، ويقال: وجهان. أحدهما: كتعلق الأرش برقبة الجاني.
وأظهرهما: كتعلق الدين بالمرهون، لان الشارع إنما أثبت هذا التعلق نظرا
للميت، لتبرأ ذمته، فاللائق به، أن لا يسلط الوارث عليه. فلو أعتق الوارث أو باع
وهو معسر، لم يصح قطعا، سواء جعلناه كالجاني أو كالمرهون. ويجئ في
الاعتاق خلاف، فإن كان موسرا، نفذ في وجه، بناء على تعلق الأرش، ولا ينفذ
في وجه، بناء على تعلق المرهون. وفي وجه: هما موقوفان.
فإن قضي الدين، تبينا نفوذهما، وإلا، فلا. ولا فرق بين كون الدين
مستغرقا للتركة، أو أقل منها على الأصح على قياس المرهون. والثاني: إن كان
الدين أقل، نفذ تصرف الوارث إلى أن لا يبقى إلا قدر الدين، لان الحجر في مال
كثير لشئ حقير، بعيد. وإذا حكمنا ببطلان تصرف الوارث، فلم يكن على التركة
دين ظاهر، فتصرف، ثم ظهر دين، بأن كان باع شيئا وأكل ثمنه، فرد بالعيب، ولزم
رد الثمن، أو سقط ساقط في بئر كان احتفرها عدوانا، فوجهان. أحدهما: تبين
فساد التصرف لتقدم سبب الدين، فألحق بالمقارن. وأصحهما: لا يفسد. فعلى
هذا، إن أدى الوارث الدين، وإلا، فوجهان. أصحهما: يفسخ ذلك التصرف
ليصل إلى المستحق حقه. والثاني: لا، بل يطالب الوارث بالدين، ويجعل
كالضامن، وللوارث على كل حال أن يمسك عين التركة ويؤدي الدين من خالص
ماله.
ولو كان الدين أكثر من التركة، فقال الوارث: آخذها بقيمتها، وأراد الغرماء
325

بيعها لتوقع زيادة راغب، أيهما يجاب؟ وجهان. أصحهما: الوارث. وفي تعلق
حق الغرماء بزوائد التركة، كالكسب والنتاج، خلاف مبني على أن الدين يمنع
الإرث، أم لا؟ إن منع، تعلق، وإلا، فلا.
قلت: سواء تصرف الوارث في جميع التركة أو في بعضها، ففيه الخلاف
السابق، وسواء علم الوارث بالدين المقارن، أم لا، قاله الشيخ نصر المقدسي،
لان ما يتعلق بحقوق الآدميين، لا يختلف به. والله أعلم.
الطرف الثاني: في جانب المرتهن، وهو مستحق لليد بعد لزوم الرهن، ولا
تزال يده إلا للانتفاع كما سبق، ثم يرد إليه ليلا، وإن كان العبد ممن يعمل ليلا
كالحارس، رد إليه نهارا. ولو شرطا في الابتداء وضعه في يد ثالث، جاز فإن
شرطا عند اثنين، ونصا على أن لكل واحد منهما الانفراد بالحفظ، أو على أن
يحفظاه معا في حرر، اتبع الشرط. وإن أطلقناه، فوجهان. أصحهما: ليس
لأحدهما أن ينفرد بالحفظ. كما لو أوصى إلى رجلين، أو وكل رجلين في شئ لا
يستقل أحدهما، فعلى هذا يجعلانه في حرز لهما. والثاني: يجوز الانفراد لئلا
يشق عليهما، فعلى هذا إن اتفقا على كونه عند أحدهما، فذاك، وإن تنازعا والرهن
مما ينقسم، قسم وحفظ كل واحد نصفه، وإلا حفظ هذا مدة، وهذا مدة. ولو
قسماه بالتراضي والتفريع على الوجه الثاني، فأراد أحدهما أن يرد ما في يده على
صاحبه، ففي جوازه وجهان.
قلت: قطع صاحب التهذيب بأنه لا يجوز. والله أعلم.
فرع إذا أراد الذي وضعاه عنده الرد، رده إليهما، أو إلى وكيلهما، فإن
كانا غائبين ولا وكيل، فهو كرد الوديعة، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وليس له دفعه
إلى أحدهما بغير إذن الآخر، فإن فعل ضمن واسترد منه إن كان باقيا، وإن تلف في
يد المدفوع إليه، نظر، إن دفعه إلى الراهن، رجع المرتهن بكمال قيمته وإن زادت
على حقه، ليكون رهنا مكانه، ويغرم من شاء من العدل والراهن، والقرار على
الراهن، وإن دفع إلى المرتهن، ضمنا، والقرار على المرتهن، فإن كان الدين
حالا وهو من جنس القيمة، جاء الكلام في التقاص، وإن غصب المرتهن الرهن
من يد العدل، ضمن. فلو رده إليه برئ. وقيل: لا يبرأ إلا بالرد إلى المالك، أو
326

بإذن جديد للعدل في أخذه، والصحيح: الأول. وكذا الحكم لو غصب الوديعة من
المودع، أو العين المستأجرة من المستأجر، أو المرهونة من المرتهن، ثم رد
إليهم. ولو غصب اللقطة من الملتقط، ثم رد إليه، لم يبرأ. ولو غصب من
المستعير أو المستام، ثم رده إليه، فوجهان، لأنهما مأذونان من جهة المالك،
لكنهما ضامنان.
فرع لو اتفق المتراهنان على نقل الرهن إلى يد عدل آخر، جاز، وإن
طلبه أحدهما، لا يجاب، إلا أن يتغير حاله بفسق أو ضعف عن الحفظ، أو تحدث
بينه وبين أحدهما عداوة، ويطلب نقله، فينقل آخر يتفقان عليه، فإن تشاحا،
وضعه الحاكم عند من يراه. ولو كان من وضعاه عنده فاسقا في الابتداء، فازداد
فسقا، فهو كما لو حدث فسقه. وكذا لو مات وأراد أحدهما إخراجه من يد وارثه.
ولو كان في يد المرتهن فتغير حاله، أو مات، كان للراهن نقله على
الصحيح، وفي وجه: لا تزال يد ورثته، لكن إذا لم يرض بيدهم، ضم القاضي
إليهم مشرفا.
فرع إذا ادعى العدل هلاك الرهن في يده، أو رده، فالقول قوله مع
يمينه، كالمودع. ولو أتلف الرهن عمدا، أخذت منه القيمة ووضعت عند آخر. ولو
أتلفه مخطئا، أو أتلفه غيره، أخذت القيمة ووضعت عنده، كذا قاله الأكثرون،
وذهب الامام إلى أنه لا بد من استحفاظ جديد. وقياسه، أن يقال: لو كان في يد
المرتهن، فأتلف وأخذ بدله، كان للراهن أن لا يرضى بيده في البدل.
فصل المرتهن يستحق بيع المرهون عند الحاجة، ويتقدم بثمنه على سائر
الغرماء، وإنما يبيعه أو وكيله بإذن المرتهن، فلو لم يأذن المرتهن
327

وأراد الراهن بيعه، قال له القاضي: ائذن في بيعه وخذ حقك من ثمنه، أو أبرئه.
وإن طلب المرتهن بيعه، وأبى الراهن، ولم يقض الدين، أجبره القاضي على
قضائه، أو البيع، إما بنفسه، أو وكيله، فإن أصر، باعه الحاكم. ولو كان الراهن
غائبا، أثبت الحال عند الحاكم ليبيعه. فإن لم يكن له بينة، أو لم يكن في البلد
حاكم، فله بيعه بنفسه كمن ظفر بغير جنس حقه من مال المديون وهو جاحد ولا
بينة.
فرع لو أذن الراهن للمرتهن في بيعه بنفسه، فباع في غيبة الراهن،
فوجهان. أحدهما: يصح البيع كما لو أذن له في بيع غيره. وأصحهما: لا، لأنه
يبيعه لغرض نفسه، فيتهم في الاستعجال وترك النظر. وإن باعه بحضوره، صح
على الصحيح، وهو ظاهر النص لعدم التهمة. وقيل: لا يصح، لأنه توكيل فيما
يتعلق بحقه، فعلى هذا، لا يصح توكيله ببيعه أصلا، ويتفرع عليه، أنه لو شرط
ذلك في ابتداء الرهن، فإن كان الرهن مشروطا في بيع، فالبيع باطل. وإن كان
رهن تبرع، فعلى القولين في الشرط الفاسد النافع للمرتهن أنه هل يبطل الرهن؟ ولو
قال للمرتهن: بع المرهون، واستوف الثمن لي، ثم استوفه لنفسك، صح البيع،
والاستيفاء للراهن، ولا يحصل الاستيفاء لنفسه بمجرد إدامة اليد والامساك، فلا بد
من وزن جديد، أو كيل جديد، كما هو شأن القبض في المقدرات. ثم إذا استوفاه
لنفسه بعد ذلك بكيل أو وزن، ففي صحته وجهان ذكرناهما في نظائرهما في البيع،
لاتحاد القابض والمقبض. فإن صححنا، برئت ذمة الراهن من الدين، والمستوفى
من ضمانه. وإن أبطلنا وهو الأصح، لم يبرأ الراهن، ويدخل المستوفى في
ضمانه، لان القبض الفاسد كالصحيح في اقتضاء الضمان.
قلت: دخوله في ضمانه، يكون بعد قبضه لنفسه، فأما قبله، فهو في يده
أمانة بلا خلاف. وكذا لو نوى إمساكه لنفسه من غير إحداث فعل، فالأمانة
مستمرة، صرح به الامام والغزالي في البسيط وغيرهما. ولو قبضه لنفسه بفعل
328

من غير وكيل ولا وزن، دخل في ضمانه، لأنه قبض فاسد، فله في الضمان حكم
الصحيح. والله أعلم.
ولو كانت الصيغة: ثم أمسكه لنفسك، فلا بد من إحداث فعل على الأصح.
وعلى الثاني: يكفي مجرد الامساك. ولو قال: بعه لي واستوف الثمن لنفسك،
صح البيع، ولم يصح استيفاء الثمن، لأنه ما لم يصح القبض للراهن، لا يتصور
القبض لنفسه، وهنا بمجرد قبضه يصير مضمونا عليه. ولو قال: بعه لنفسك،
فقولان. أظهرهما: أن الاذن باطل، ولا يتمكن من البيع، لأنه لا يتصور أن يبيع
الانسان مال غيره لنفسه. والثاني: يصح اكتفاء بقوله: بعه، وإلغاء للباقي، ولان
السابق أن الفهم منه، الامر بالبيع لغرضه بالتوصل إلى دينه. ولو أطلق وقال
بعه، ولم يقل: لي، ولا لنفسك، فوجهان. أصحهما: صحة البيع، كما لو قال
لأجنبي: بعه. والثاني: المنع لعلتين. إحداهما: أن البيع مستحق للمرتهن،
فكأنه قال: بعه لنفسك. والثانية: التهمة كما سبق. وعلى العلتين، لو كان الثمن
مؤجلا وقال: بعه، صح، لانتفائهما. وإن قال: بعه واستوف حقك من ثمنه،
جاءت التهمة. وإن قدر له الثمن، لم يصح البيع على العلة الأولى، ويصح على
الثانية، وكذا لو كان الراهن حاضرا عند البيع.
فرع إذن الوارث لغرماء الميت في بيع التركة، كإذن الراهن للمرتهن،
وكذا إذن السيد للمجني عليه في بيع الجاني.
فرع إذا وضعا الرهن عند عدل، وشرطا أن يبيعه عند المحل، جاز،
وهل يشترط تجديد إذن الراهن؟ وجهان. أصحهما: لا، لان الأصل بقاؤه. وأما
المرتهن، فقال العراقيون: يشترط مراجعته قطعا، لان البيع لإيصاله حقه إذا
طالب، فليستأذن، فربما أمهل، وربما أبرأ. وعكسه الامام فقال: لا خلاف أنه لا
يراجع، لان غرضه توفية الحق، بخلاف الراهن، فإنه قد يبقي العين لنفسه.
فرع لو عزل الراهن العدل قبل البيع، انعزل. ولو عزله المرتهن،
فوجهان. أصحهما: لا ينعزل، لأنه وكيل الراهن، فإنه المالك. والثاني:
329

ينعزل، وهو ظاهر النص، كما لو عزله الراهن، لأنه يتصرف لهما، ولا خلاف أنه
لو منعه من البيع، لم يبع، وكذا لو مات أحدهما. وإذا قلنا: لا ينعزل بعزل
المرتهن، فجدد له إذنا، جاز البيع، ولم يشترط تجديد توكيل الراهن. قال في
الوسيط ومساق هذا، أنه لو عزله الراهن، ثم عاد فوكله، اشترط إذن جديد من
المرتهن، ويلزم عليه أن يقال: لا يعتد بإذن المرتهن قبل توكيل الراهن، ولا بإذن
المرأة للوكيل قبل توكيل الولي إياه، والكل محتمل.
فرع إذا باع العدل وأخذ الثمن، فهو أمين، والثمن من ضمان الراهن إلى
أن يتسلمه المرتهن.
فلو تلف في يد العدل، ثم خرج الرهن مستحقا، فالمشتري بالخيار بين أن
يرجع بالثمن على العدل أو الراهن، والقرار على الراهن.
ولو مات الراهن، فأمر الحاكم العدل أو غيره ببيعه فباعه، وتلف الثمن ثم
خرج مستحقا، رجع المشتري في مال الرهن، ولا يكون العدل طريقا في الضمان
على الأصح، لأنه نائب الحاكم، والحاكم لا يضمن. والثاني: يكون كالوكيل
والوصي. وإذا ادعى العدل تلف الثمن في يده، قبل قوله مع يمينه. وإن ادعى
تسليمه إلى المرتهن فالقول قول المرتهن مع يمينه. فإذا حلف، أخذ حقه من الراهن، ورجع
الراهن على العدل وإن كان قد أذن له في التسليم. ولو صدقه
الراهن في التسليم، فإن كان أمره بالاشهاد، ضمن العدل بلا خلاف، لتقصيره.
وكذا إن لم يأمره على الأصح، لتفريطه. فلو قال: أشهدت ومات شهودي،
وصدقه الراهن، فلا ضمان. وإن كذبه، فوجهان سنذكرهما مع نظائرهما في باب
الضمان إن شاء الله تعالى.
فرع لو باع العدل بدون ثمن المثل بما لا يتغابن الناس به، أو بثمن مؤجل، أو بغير
330

نقد البلد، لم يصح. وقيل: بالمؤجل، وهو غلط. ولو سلم المال إلى
المشتري، صار ضامنا. فإن كان المبيع باقيا، استرد، وجاز للعدل بيعه بالاذن
السابق وإن صار مضمونا عليه. وإذا باعه وأخذ ثمنه، لم يكن الثمن مضمونا عليه،
لأنه لم يتعد فيه. وإن كان تالفا، فإن باع بغير نقد البلد، أو بمؤجل، فالراهن
بالخيار في التغريم من شاء من العدل والمشتري كمال قيمته. وكذا إن باع بدون ثمن
المثل على الأظهر. وعلى الثاني: إن غرم العدل، حط النقص الذي كان يحتمل
في الابتداء للغبن المعتاد. مثاله، ثمن مثله عشرة، ويتغابن فيه بدرهم، فباعه
بثمانية، نغرمه تسعة، ونأخذ الدرهم الباقي من المشتري، كذا نقلوه. وغالب
الظن طرد هذا الخلاف في البيع بغير نقد البلد، وفي المؤجل، وإنما اتفق النص
على القولين في الغبن، لأنه يخالف الامرين الآخرين. ويدل عليه أن صاحب
التهذيب وآخرين، جعلوا كيفية تغريم الوكيل إذا باع على صفة من هذه
الصفات، وسلم المبيع على هذا الخلاف، وسووا بين الصور الثلاث. ومعلوم أنه
لا فرق بين العدل في الرهن وسائر الوكلاء. وعلى كل حال، فالقرار
المشتري، لحصول الهلاك عنده.
فرع لو قال أحد المتراهنين: بعه بالدراهم، وقال الآخر: بالدنانير، لم
يبع بواحد منهما، فيرفعان الامر إلى القاضي ليبيع بنقد البلد، ثم إن كان الحق من
نقد البلد، وإلا صرف نقد البلد إليه. فلو رأى الحاكم بيعه بجنس حق المرتهن،
جاز.
فرع لو باع بثمن المثل، فزاد راغب قبل التفرق، فليفسخ البيع، وليبعه
له. فإن لم يفعل، فوجهان. أحدهما: لا ينفسخ البيع، لان الزيادة غير موثوق
331

بها، وأصحهما الانفساخ، لان المجلس كحال العقد. فعلى هذا، لو بدا
للراغب قبل التمكن من بيعه، فالبيع الأول بحاله، وإن كان بعده، بطل، فلا بد
من بيع جديد. وفي وجه: إذا بدا له، بان أن البيع بحاله، وهو ضعيف. ولو لم يفسخ
العدل، بل باع الراغب، ففي كونه فسخا لذلك البيع، ثم في صحته في نفسه،
خلاف سبق في البيع، وأشار الامام إلى أن الوكيل لو باع ثم فسخ البيع، هل يتمكن
من البيع مرة أخرى، فيه خلاف. والامر بالبيع من الراغب هنا، تفريع على أنه
يتمكن. أو مفروض فيمن صرح له في الاذن بذلك. وأكثر هذه المسائل، تطرد في
جميع الوكالات.
قلت: قوله فزاد راغب قبل التفرق، فيه نقص، وكان ينبغي أن يقول: قبل
انقضاء الخيار، ليعم خياري المجلس والشرط، فإن حكمها في هذا سواء. صرح
به صاحب الشامل وغيره. قال أصحابنا: ولو زاد الراغب بعد انقضاء الخيار،
لزم البيع، ولا أثر للزيادة، لكن يستحب للعدل أن يستقيل المشتري ليبيعه بالزيادة
للراغب، أو لهذا المشتري إن شاء. والله أعلم.
فصل مؤنة الرهن التي يبقى بها، كنفقة العبد وكسوته، وعلف الدابة على
الراهن. وفي معناها، سقي الأشجار والكروم، ومؤنة الجداد، وتجفيف الثمار،
وأجرة الإصطبل، والبيت الذي يحفظ فيه المتاع المرهون إذا لم يتبرع به من هو في
يده، وأجرة من يرد الآبق، وما أشبه ذلك. وحك الامام والمتولي وجهين، في أن
هذه المؤن، هل يجبر عليها الراهن حتى يقوم بها من خالص ماله، أصحهما:
الاجبار، حفظا للوثيقة. والثاني: عن الشيخ أبي محمد وغيره: لا يجبر، بل يبيع
القاضي جزءا منه فيها بحسب الحاجة. وفرع الامام على هذا، أن النفقة لو كانت
تأكل الرهن قبل الأجل، ألحق في ذلك بما يفسد قبل الأجل، فيباع ويجعل ثمنه رهنا،
وهذا ضعيف، وكذا أصله المفرع عليه. وإذا قلنا بالأصح فلم يكن للراهن شئ،
أو لم يكن حاضرا، باع الحاكم جزءا من المرهون واكترى به بيتا يحفظ فيه
الرهن، كذا قاله الأصحاب. وأما المؤنات الدائرة، فيشبه أن يقال: حكمها حكم
332

ما لو هرب الجمل وترك الجمال المستأجرة، أو عجز عن الانفاق عليها.
قلت: قال القاضي أبو الطيب: إن قال المرتهن: أنا أنفق عليه لأرجع في مال
الراهن، أذن له الحاكم. فإن اتفق وأراد أن يكون رهنا بالنفقة والدين، فهو كفدائه
المرهون الجاني على أن يكون رهنا بالدين والفداء، وقد نص على جوازه، وفيه
طريقان تقدما. والمذهب: الصحة. فإن أنفق بغير إذن الحاكم، فإن أمكنه
الحاكم، أو لم يمكنه، ولم يشهد، فلا رجوع، وإن أشهد، فوجهان بناء على
هرب الجمال. والله أعلم.
فرع لا يمنع الراهن مصلحة في المرهون، كفصده وحجامته، وتوديج الدابة وبزغها والمعالجة
بالأدوية والمراهم، لكن لا يجبر عليها، بخلاف
النفقة. وطرد صاحب التتمة الوجهين في المداواة. ثم إن كانت المداواة مما
يرجى نفعه ويؤمن ضرره، فذاك، وإن خيف وغلبت السلامة، فهل للمرتهن منعه؟
وجهان.
قلت: أصحهما: لا. والله أعلم.
ويجريان في قطع اليد المتآكلة إذا كان في قطعها وتركها خطر. فإن كان
الخطر في الترك دون القطع، فله القطع، وليس له قطع سلعة وأصبع لا خطر في تركها، إذا
خيف ضرر، فإن كان الغالب السلامة، فعلى الخلاف. وله ختان العبد والأمة في
وقت اعتدال الهواء، إن كان يندمل قبل حلول الأجل، لأنه ضروري، والغالب منه
السلامة. وإن لم يندمل، وكان فيه نقص، لم يجز. وكذا لو كان به عارض يخاف
معه من الختان.
333

قلت: كذا أطلق أكثر الأصحاب، أو كثيرون منهم، جواز الختان من غير فرق
بين الصغير والكبير، وصرح المتولي والشيخ نصر، بأنه لا فرق. وقال صاحب
المهذب ومن تابعه: يمنع من ختان الكبير دون الصغير، لخوف التلف. وهذا
ظاهر نصه في الام والمختصر ويؤيده، أنهم عدوا عدم الختان عيبا في
الكبير، دون الصغير، كما سبق. والله أعلم.
فرع له تأبير النخل المرهونة. ولو ازدحمت وقال أهل الخبرة: تحويلها
أنفع، جاز تحويلها، وكذا لو رأوا قطع البعض لصلاح الأكثر. ثم ما يقطع منها أو
يجف، يبقى مرهونا، بخلاف ما يحدث من السعف ويجف، فإنه غير مرهون،
كالثمرة، وما كان ظاهرا منها عند الرهن، قال في التتمة: هو مرهون. وقال في
الشامل: لا فرق.
قلت: قال القاضي أبو الطيب: وما يحصل من الليف، والعراجين والكرب،
كالسعف. والكرب بفتح الكاف والراء: أصول السعف. والله أعلم.
فرع لا يمنع من رعي الماشية وقت الامن، وتأوي ليلا إلى يد المرتهن أو
العدل. ولو أراد الراهن أن يبعد في طلب النجعة، وبالقرب ما يبلغ منها مبلغا، فللمرتهن
المنع، وإلا، فلا منع، وتأوي إلى يد عدل يتفقان عليه، وإلا، فينصبه الحاكم.
وإن أراد المرتهن ذلك، وليس بالقرب ما يكفي، لم يمنع. وكذا لو أراد نقل المتاع
من بيت عير محرز إلى محرز. ولو أراد الانتقال من مكانهما، فإن انتقلا إلى أرض
واحدة، فذاك، وإلا، جعلت الماشية مع الراهن، ويحتاط ليلا كما سبق.
فصل الرهن أمانة في يد المرتهن، لا يسقط بتلفه شئ من الدين،
334

ولا يلزمه، ضمانه إلا إذا تعدى فيه. وإذا برئ الراهن من الدين بأداء أو إبراء أو
حوالة، بقي الرهن أمانة في يد المرتهن، ولا يصير مضمونا إلا إذا امتنع من الرد بعد
المطالبة. وقال ابن الصباغ: ينبغي أن يكون المرتهن بعد الابراء، كمن طيرت
الريح ثوبا إلى داره، فيعلم المرتهن به، أو يرده، لأنه لم يرض بيده إلا على سبيل
الوثيقة.
فرع كل عقد اقتضى صحيحه الضمان، فكذلك فاسده. وما لا
يقتضي صحيحه الضمان، فكذا فاسده. أما الأول: فلان الصحيح إذا أوجب
335

الضمان، فالفاسد أولى. وأما الثاني: فلان إثبات اليد عليه بإذن المالك، ولم
يلتزم بالعقد ضمانا.
فرع لو أعار الراهن المرهون للمرتهن لينتفع به، ضمنه المرتهن، ولو
رهنه أرضا، وأذن له في غراسها بعد شهر، فهي بعد الشهر عارية، غرس، أم لا؟
وقبله أمانة، حتى لو غرس قبله قلع.
فرع رهنه مالا على أنه إذا حل الأجل، فهو مبيع له، أو على أنه مبيع
له بعد شهر، فالبيع والرهن باطلان، ويكون المال أمانة في يده قبل دخول وقت
البيع، وبعده مضمون، لان البيع عقد ضمان. وفي وجه: إنما يصير مضمونا، إذا
أمسكه على سبيل الشراء. أما إذا أمسكه على موجب الدين، فلا، والصحيح:
الأول. فلو كان أرضا، فغرس فيها المرتهن، أو بنى قبل وقت البيع، قلع مجانا،
وكذا لو غرس بعده عالما بفساد البيع. وإن كان جاهلا، لم يقلع مجانا، لوقوعه
بإذن المالك وجهله التحريم، فيكون حكمه كما لو غرس المستعير ورجع المعير.
336

فرع إذا ادعى المرتهن تلف المرهون في يده، قبل قوله مع يمينه. وإن
ادعى رده إلى الراهن،
قال العراقيون: القول قول الراهن مع يمينه، لأنه أخذه لمنفعة نفسه، فأشبه
المستعير، بخلاف دعوى التلف، فإنه لا يتعلق بالاختيار، فلا تساعده فيه البينة.
قالوا: وكذا حكم المستأجر إذا ادعى الرد، ويقبل قول المودع والوكيل بغير جعل مع
يمينهما. لأنهما أمينان متمحضان. وفي الوكيل الجعل. والمضارب والأجير
المشترك، إذا لم نضمنه، ذكروا وجهين. أصحهما: يقبل قولهم مع اليمين،
لأنهم أخذوا العين لمنفعة المالك، وانتفاعهم بالعمل في العين، لا بالعين،
بخلاف المرتهن والمستأجر. وهذه الطريقة، هي طريقة أكثر الأصحاب، لا سيما
قدماؤهم، وتابعهم الروياني. وقال بعض الخراسانيين من المراوزة وغيرهم: كل
أمين يصدق في دعوى الرد، كالتلف. فقد اتفقوا في الطرق، على تصديق جميعهم
في دعوى التلف وفي عبارة الغزالي ما يقتضي خلافا فيه، وليس هو كذلك قطعا.
فرع لو رهن الغاصب المغصوب عند إنسان، فتلف في يد المرتهن،
فللمالك تضمين الغاصب. وفي تضمينه المرتهن، طريقان. قال العراقيون: فيه
وجهان.
أحدهما: لا، لان يده يد أمانة. وأصحهما: يضمن، لثبوت يده على ما لم
يأتمنه مالكه عليه. فعلى هذا، وجهان. أحدهما: يستقر الضمان عليه، لحصول
التلف عنده ونزول التلف منزلة الاتلاف في الغصب. وأصحهما: يرجع على
الغاصب لتغريره. والطريق الثاني: القطع بتضمين هو عدم الاستقرار، قاله المراوزة
ويجري الطريقان في المستأجر من الغاصب، والمستودع، والمضارب، ووكيله في
بيعه.
وكل هذا إذا جهلوا الغصب، فإن علموا، فهم غاصبون أيضا، والمستعير
منه، والمستام، يطالبان ويستقر عليهما الضمان، لأنها يد ضمان.
337

فرع لو رهن بشرط كونه مضمونا على المرتهن، فسد الشرط والرهن، ولا
يكون مضمونا عليه لما سبق.
فرع قال: خذ هذا الكيس واستوف حقك منه، فهو أمانة في يده قبل أن
يستوفي منه، فإذا استوفى، كان مضمونا عليه. ولو كان فيه دراهم، فقال خذه
بدراهمك، وكانت الدراهم التي فيه مجهولة القدر، أو كانت من أكثر دراهمه،
لم يملكه، ودخل في ضمانه بحكم الشراء الفاسد. وإن كانت معلومة وبقدر حقه،
ملكه. ولو قال: خذ هذا العبد بحقك، ولم يكن سلما، فقبل، ملكه. وإن لم
يقبل وأخذه، دخل في ضمانه بحكم الشراء الفاسد.
فصل ليس للمرتهن في المرهون إلا حق الاستيثاق، وهو ممنوع من جميع
التصرفات القولية والفعلية، ومن الانتفاع.
فلو وطئ المرهونة بغير إذن الراهن، فكوطء غيرها. فإن ظنها زوجته أو
أمته، فلا حد، وعليه المهر، والولد نسيب حر، وعليه قيمته للراهن. وإن لم يظن
ذلك، ولم يدع جهلا، فهو زان يلزمه الحد، كما لو وطئ المستأجر المستأجرة، ويجب
المهر إن كانت مكرهة. وإن طاوعته، فلا على الأصح. وإن ادعى الجهل
بالتحريم، لم يقبل إلا أن يكون قريب عهد بالاسلام، أو نشفي بادية بعيدة عن
علماء المسلمين، فيقبل، لدفع الحد. وحكى المسعودي في قبوله لثبوت النسب
وحرية الولد والمهر، خلافا. والأصح: ثبوت الجميع، لان الشبهة كما تدفع
الحد، تثبت النسب والحرية. وإذا سقط الحد، وجب المهر. وإن وطئ بإذن
الراهن، فإن علم أنه حرام، لزمه الحد على الصحيح. وإن ادعى جهل التحريم،
فوجهان. أحدهما: لا يقبل إلا أن يكون قريب عهد بالاسلام، أو في معناه.
وأصحهما: يقبل مطلقا، لأنه قد يخفى التحريم مع الاذن. وإذا سقط الحد،
338

سقط المهر إن كانت مطاوعة، وإلا وجب على الأظهر، لسقوط الحد، وقياسا على
المفوضة في النكاح. والثاني لا يجب، لاذن مستحقه، فأشبه زنا الحرة. فإن
أولدها بوطئه، فالولد له نسيب حر، وتجب قيمته على المذهب. وقيل: فيه القولان
في المهر، ولا تصير الجارية أم ولد له في الحال. فإن ملكها، فقولان،
أظهرهما: لا تصير.
فرع زعم المرتهن بعد الوطئ أن الراهن كان باعه إياها، أو وهبها له،
وأقبضه، وأنكر الراهن، فالقول قول الراهن مع يمينه. فإن حلف، فهي والولد
رقيقان له. فإن ملكها المرتهن، فهي أم ولد له، والولد حر لاقراره. فإن نكل
الراهن، فحلف المرتهن، فهي أم ولد، والولد حر.
فصل فيما يتعلق به حق الوثيقة وهي متعلقة بعين المرهون قطعا.
وأما غير العين، فضربان.
أحدهما: بدل العين
فلو جنى على المرهون، وأخذ الأرش، وانتقل الرهن إليه، كما ينتقل
الملك لقيامه مقام الأصل، ويجعل في يد من كان الأصل في يده. وما دام الأرش
في ذمة الجاني، هل يحكم بأنه مرهون؟ وجهان. أحدهما: لا، لان الدين لا
يكون رهنا. فإذا تعين، صار مرهونا، والحالة المتخللة، كتخمر العصير وتخلله
بعد. والثاني: نعم، لأنه مال بخلاف الخمر، وإنما يمتنع رهن الدين ابتداء.
قلت: الثاني: أرجح، وبالأول قطع المراوزة. والله أعلم.
339

والخصم في بدل المرهون، هو الراهن. فلو ترك الخصومة، فهل يخاصم
المرتهن؟ قولان. أظهرهما عند الأصحاب: لا، كذا قاله في التهذيب.
قلت: وقطع الامام، والغزالي، بأنه يخاصم. والله أعلم.
وإذا خاصم الراهن، فللمرتهن حضور خصومته، لتعلق حقه بالمأخوذ. ثم
إن أقر الجاني، أو أقام الراهن بينة، أو حلف بعد نكول المدعى عليه، ثبتت
الجناية. وإن نكل الراهن، فهل يحلف المرتهن؟ قولان، كغرماء المفلس إذا نكل.
فرع إذا ثبتت الجناية، فإن كانت عمدا، فللراهن أن يقبض ويبطل حق
المرتهن. وإن عفا عن القصاص، ثبت المال إن قلنا: مطلق العفو يقتضي المال،
وإلا، لم يجب، وهو الأصح، كذا قاله في التهذيب. وإن عفا على أن لا
مال، فإن قلنا: يوجب العمد أحد الامرين، لم يصح عفوه عن المال، وإن قلنا:
موجبه القود، فإن قلنا العفو المطلق لا يوجب المال، لم يجب شئ، وإن قلنا:
يوجبه، فالأصح: أنه لا يجب أيضا، لان القتل لم يوجبه، وإنما يجب بعفوه،
وذلك نوع اكتساب، ولا يجب عليه الاكتساب للمرتهن. وإن لم يقبض ولم يعف،
فقيل: يجبر على أحدهما. وقيل: إن قلنا: موجب أحد الامرين، أجبر، وإلا،
فلا، لأنه يملك إسقاطه، فتأخيره أولى بأن يملكه.
قلت: ينبغي أن يقال: إن قلنا: إذا عفا على أن لا مال لا يصح، أجبر،
وإلا، فلا. والله أعلم.
وإن كانت الجناية خطأ، أو عفا ووجب المال، فعفا عنه، لم يصح عفوه
على المشهور لحق المرتهن. وفي قول العفو موقوف، ويؤخذ المال في الحال لحق
المرتهن، فإن انفك الرهن، رد إلى الجاني، وبان صحة العفو، وإلا بان بطلانه.
ولو أراد الراهن المصالحة عن الأرش الواجب على جنس آخر، لم يصح إلا بإذن
المرتهن. وإذا أذن، صح وكان المأخوذ مرهونا، كذا نقلوه.
340

ولو أبرأ المرتهن الجاني، لم يصح، لكن لا يسقط حقه من الوثيقة على
الأصح، لأنه لم يصح الابراء، فلا يصح ما تضمنه. كما لو وهب المرهون لرجل.
الضرب الثاني: زوائده، فإن كانت متصلة، كسمن العبد، وكبر الشجرة،
تبعت الأصل في الرهن. وإن كانت منفصلة، كالثمرة، والولد، واللبن،
والبيض، والصوف، لم يسر إليها الرهن، وكذا الأكساب والمهر، وما أشبه ذلك
مما يحدث بعد الرهن. ولو رهن حاملا، واحتيج إلى بيعها حاملا، بيعت كذلك في
الدين، لأنا إن قلنا: الحمل يعلم، فكأنه رهنهما، وإلا، فقد رهنها والحمل
محض صفة. ولو ولدت قبل البيع، فهل الولد رهن قولان. إن قلنا: الحمل لا
يعلم، فلا، وإلا فنعم. وقيل: قولان، لضعف الرهن عن الاستتباع. فإن
قلنا: لا فقال في ابتداء العقد: رهنتها مع حملها، لا يكون مرهونا على الأصح.
ولو جاز ذلك، لجاز إفراده بالرهن.
أما إذا حبلت بعد الرهن، وكانت يوم البيع حاملا، فإن قلنا: لا يعلم،
بيعت، وهو كالسمن، وإلا، فلا يكون مرهونا، ويتعذر بيعها، لان استثناء الحمل
متعذر، ولا سبيل إلى بيعها حاملا وتوزيع الثمن، لان الحمل لا تعرف قيمته.
فرع لو رهن نخلة، ثم أطلعت، فطريقان. أحدهما: أن بيعها مع
الطلع، على القولين كالحمل. والثاني: القطع بأن الطلع غير مرهون. فعلى هذا
يباع النخل، ويستثنى الطلع، بخلاف الحامل. ولو كانت مطلعة وقت الرهن، ففي
دخول الطلع، على ما سبق في الباب الأول. فإن أدخلناه، فكان وقت البيع طلعا
بعد، بيع مع النخلة، وإن كانت قد أبرت، فطريقان.
أحدهما: على القولين، كما لو ولدت الحامل. والثاني: القطع ببيعه مع
النخلة، لأنه معلوم مشاهد وقت الرهن.
فرع الاعتبار في مقارنة الولد الرهن وحدوثه، وسائر الزوائد، بحالة العقد
341

على الصحيح. وقيل: بحالة القبض، لان الرهن به يلزم.
فرع أرش البكارة، وأطراف العبد مرهون لأنهما ليسا من الزوائد، بل بدل
جزء.
فرع ضرب الرجل الجارية المرهونة، فألقت جنينا ميتا، لزم الضارب عشر
قيمة الام، ولا يكون مرهونا، لأنه بدل الولد، فإن دخلها نقص، لم يجب بسببه
شئ، ولكن قدر أرش النقص من العشر يكون رهنا، فإن ألقته حيا ومات، ففيما
يلزم الجاني؟ قولان. أظهرهما: قيمة الجنين حيا، وأرش نقصان الام إن نقصت.
فعلى هذا القيمة للراهن، والأرش مرهون. والثاني: أكثر الامرين من أرش
النقض، وقيمة الجنين. فعلى هذا، إن كان الأرش أكثر، فالمأخوذ رهن كله.
وإن كانت القيمة أكثر، فقدر الأرش رهن. وأما البهيمة المرهونة، إذا ضربت فألقت
جنينا ميتا، فلا شئ على الضارب سوى أرش النقص إن نقصت، ويكون رهنا.
الطرف الثالث: في فك الرهن.
ينفك بأسباب. أحدها: فسخ المرتهن. والثاني: تلف المرهون بآفة
سماوية. إذا جنى المرهون، لم يبطل الرهن بمجرده، بل الجناية ضربان.
أحدهما: يتعلق بأجنبي، فيقدم حق المجني عليه، لأنه متعين في الرقبة.
وحق المرتهن ثابت في الذمة. فإن اقتص منه، بطل الرهن. فإن وجب مال، فبيع
فيه، بطل أيضا. حتى لو عاد إلى ملك الراهن، لم يكن رهنا. ولو كان الواجب
دون قيمة العبد، بيع بقدره، والباقي رهن. فإن تعذر بيع بعضه، أو نقص
بالتبعيض، بيع كله، وما فضل عن الأرش يكون رهنا. ولو عفا عن الأرش، أو فداه
الراهن، بقي رهنا. وكذا لو فداه المرتهن. ثم في رجوعه على الراهن، ما سبق في
رهن أرض الخراج. هذا كله إذا جنى بغير إذن سيده. فإن أمره السيد بها فإن لم
يكن مميزا، أو كان أعجميا يعتقد وجوب طاعة السيد في كل ما يأمر به، فالجاني هو
السيد، وعليه القصاص أو الضمان، ولا يتعلق المال برقبة العبد على الأصح. فإن
342

قلنا: يتعلق، فبيع في الجناية، لزم السيد أن يرهن قيمته مكانه. وإذا جنى مثل هذا
العبد، فقال السيد: أنا أمرته بذلك، لم يقبل قوله في حق المجني عليه، بل يباع
العبد فيها، وعلى السيد القيمة، لاقراره. وإن كان العبد
مميزا يعرف أنه لا يطاع ا لسيد فيه، بالغا كان أو غير بالغ، فهو كما لو لم يأذن السيد إلا أن السيد يأثم.
الضرب الثاني: أن يتعلق بالسيد، وفيه مسائل.
إحداها: إذا جنى على طرف سيده عمدا، فله القصاص. فإن اقتص،
بطل الرهن. وإن عفا على مال، أو كانت الجناية خطأ، فالصحيح: أنه لا يثبت
المال، لان السيد لا يثبت له على عبده مال، فيبقى الرهن كما كان. وقال ابن
سريج: يثبت للسيد المال، ويتوصل به إلى فك الرهن.
الثانية: جنى على نفس السيد عمدا، فللوارث القصاص. فإن عفا على
مال، أو كانت الجناية خطأ، لم يثبت على الأظهر.
الثالثة: جنى على طرف من يرثه السيد، كأبيه، فله القصاص، وله العفو
على مال. ولو جنى خطأ، ثبت المال. فإن مات قبل الاستيفاء، وورثه السيد،
فوجهان. أصحهما عند الصيدلاني والامام: يسقط بمجرد انتقاله، ولا يجوز أن
يثبت له على عبده استدامة الدين، كما لا يجوز ابتداؤه. والثاني وبه قطع
العراقيون: لا يسقط، وله بيعه فيه كما كان للمورث.
الرابعة: جنى على نفس المورث عمدا، فللسيد القصاص. فإن عفا على
مال، أو كانت خطأ، بني على أن الدية تثبت للوارث ابتداء، أم يتلقاها عن
المورث. إن قلنا بالأول، لم يثبت، وإلا، فعلى الوجهين فيما إذا جنى على طرفه
وانتقل إليه بالإرث.
الخامسة: قتل عبدا آخر للراهن، نظر، إن لم يكن المقتول مرهونا، فهو كما
343

(لو) جنى على السيد. وحكم القن والمدبر وأم الولد سواء. وإن كان مرهونا أيضا،
فله حالان.
أحدهما: أن يكون مرهونا عند غير المرتهن القاتل، فإن قتل عمدا، فللسيد
القصاص، ويبطل الرهنان جميعا،
وإن عفا على مال، أو قتل خطأ، وجب المال متعلقا برقبته لحق المرتهن
القتيل. وإن عفا بلا مال، فإن قلنا: موجب العمد أحد الامرين، وجب المال،
ولم يصح العفو إلا برضى المرتهن. وإن قلنا: موجبه القود، فإن قلنا: العفو
المطلق لا يوجب المال، لم يجب شئ، وإن قلنا: يوجبه، فكذلك على
الأصح، وإن عفا مطلقا، فإن قلنا: مطلق العفو يوجب المال، ثبت كما لو عفا على
مال. وإن قلنا: لا يوجبه، صح العفو، وبطل رهن مرتهن القتيل، وبقي القاتل
رهنا. وعفو المحجور عليه بالفلس، كعفو الراهن، لان أموال المفلس والمرهون
سواء في الحجر. ثم متى وجب المال، نظر، إن كان الواجب أكثر من قيمة القاتل
أو مثلها، فوجهان. أحدهما: ينقل القاتل إلى يد المرتهن القتيل، ولا يباع، لأنه
لا فائدة فيه، وأصحهما: يباع ويجعل الثمن رهنا في يده، لان حقه في مالية
العبد، لا في عينه، لأنه قد يرغب راغب بزيادة. وإن كان أقل من قيمة القاتل،
فعلى الوجه الأول: ينتقل من القاتل بقدر الواجب إلى مرتهن القتيل. وعلى الثاني:
يباع منه بقدر الواجب، ويبقى الباقي رهنا. فإن تعذر بيع البعض، أو نقص
بالتبعيض، بيع الجميع، وجعل الزائد على الواجب عند مرتهن القاتل وإنما
يجئ الوجهان، إذا طلب الراهن النقل، ومرتهن القتيل البيع، فأيهم يجاب؟ فيه
الوجهان. أما إذا طلب الراهن البيع، ومرتهن القتيل النقل، فالمجاب الراهن، لأنه
لا حق للمرتهن المذكور في عينه. ولو اتفق الراهن والمرتهنان على أحد الطريقين،
فهو المسلوك قطعا. ولو اتفق الراهن ومرتهن القتيل على النقل، قال الامام: ليس
لمرتهن القاتل المنازعة فيه، وطلب البيع. ومقتضى التعليل السابق، يتوقع راغب
أنه له ذلك.
344

الحال الثاني: أن يكون مرهونا عند مرتهن القاتل أيضا. فإن كان العبدان
مرهونين بدين واحد، فقد نقصت الوثيقة ولا جابر، كما لو مات أحدهما. وإن
كانا مرهونين بدينين، نظر في الدينين، أهما مختلفان حلولا وتأجيلا، أم لا؟ فإن
اختلفا، فله التوثق لدين القتيل بالقاتل، لأنه إن كان الحال دين المقتول، ففائدته
الاستيفاء من ثمنه في الحال. وإن كان دين القاتل، فتحصل الوثيقة بالمؤجل،
ويطالب بالحال. وكذا الحكم، لو كانا مؤجلين، وأحد الأجلين أطول. وإن اتفقا
في الحلول والتأجيل، نظر، هل بينهما اختلاف قدر، أم لا؟ فإن لم يكن كعشرة
وعشرة، فإن كان العبدان مختلفي القيمة، وقيمة القتيل أكثر، لم تنقل الوثيقة. وإن
كانت قيمة القاتل أكثر، نقل منه قدر قيمة القتيل إلى دين القتيل، وبقي الباقي رهنا
بما كان. وإن كانا سواء في القيمة، بقي القاتل رهنا بما كان، ولا فائدة في النقل.
وإن اختلف قدر الدينين، نظر، إن تساوت قيمة العبدين، أو كان القتيل أكثر قيمة،
فإن كان المرهون بأكثر الدينين هو القتيل، فله توثيقه بالقاتل. وإن كان المرهون
بأقلهما هو القتيل، فلا فائدة في النقل. وإن كان القتيل أقلهما قيمة، فإن كان
مرهونا بأقل الدينين، فلا فائدة في النقل. وإن كان بأكثرهما، نقل من القاتل قدر
قيمة القتيل إلى الدين الآخر. وحيث قلنا: تنقل الوثيقة، فهل يباع ويقام ثمنه مقام
القتيل، أم يقام عينه مقامه؟ فيه الوجهان السابقان.
فرع هذا الذي ذكرناه من أقسام اختلاف الدينين، هو المعتبر فقط، كذا
قاله الأكثرون. فلو اختلف الدينان في الاستقرار وعدمه، بأن كان أحدهما عوض ما
يتوقع رده بالعيب، أو صداقا قبل الدخول، فلا أثر له عند الجمهور. وحكى في
الشامل عن أبي إسحاق المروزي أنه إن كان القاتل مرهونا بالمستقر، فلا فائدة
في النفل. وإن كان مرهونا بالآخر، فوجهان وكذا قول الغزالي في الوسيط:
اختلاف جنس الدينين، كاختلاف القدر، فهو وإن كان متجها في المعنى،
فمخالف لنص الشافعي رضي الله عنه والأصحاب كلهم: لا تأثير لاختلاف الجنس.
قلت: المراد باختلاف الجنس، أن يكون أحدهما دنانير، والآخر دراهم،
345

واستويا في المالية بحيث لو قوم أحدهما بالآخر، لم يزد ولم ينقص. والله أعلم.
فرع لو تساوى الدينان في الأوصاف، وقلنا: الوثيقة لا تنقل، فقال
المرتهن: قد جنى فلا آمنه، فبيعوه وضعوا ثمنه رهنا مكانه، هل يجاب؟ وجهان.
فرع لو جني على مكاتب السيد، فانتقل الحق إليه بموته أو عجزه، فهو
كالمنتقل من المورث.
السبب الثالث لانفكاك الرهن: براءة الذمة عن جميع الدين بالقضاء، أو
الابراء، أو الحوالة، أو الإقالة المسقطة للثمن المرهون به، أو المسلم فيه المرهون
به. ولو اعتاض عن الدين عينا، انفك الرهن، لتحول الحق من الذمة إلى العين.
ثم لو تلفت العين قبل التسليم، بطل الاعتياض، ويعود الرهن كما عاد الدين، ولا
ينفك بالبراءة عن بعض الدين بعض الرهن، كما أن حق الحبس يبقى ما بقي شئ
من الثمن، ولا يعتق شئ من المكاتب ما بقي شئ من المال. ولو رهن عبدين
وسلم أحدهما، كان المسلم مرهونا بجميع الدين.
فرع إنما يتصور انفكاك بعض المرهون عن بعض أمور.
أحدها: تعدد العقد، بأن رهنه نصف العبد بعشرة، ونصفه الآخر في صفة
أخرى.
الثاني: أن يتعدد مستحق الدين، بأن رهنه عند رجلين صفقة واحدة، ثم
برئ من دين أحدهما بأداء أو إبراء، انفك الرهن بقسط دينه. وفي وجه: إن
اتحدت جهة دينيهما، بأن أتلف عليهما مالا، أو ابتاع منهما، لم ينفك شئ
بالبراءة عن أحدهما، وإنما ينفك إذا اختلفت الجهة. والصحيح: الانفكاك
مطلقا.
الثالث: أن يتعدد من عليه الدين، بأن رهن رجلان عند رجل، فإذا برئ
أحدهما، انفك نصيبه.
الرابع: إذا وكل رجلان رجلا يرهن عبدهما عند زيد بدينه عليهما، ثم قضى
أحد الموكلين دينه، فقيل: قولان. والمذهب: القطع بانفكاك نصيبه، ولا نظر
إلى اتحاد الوكيل وتعدده. قال الامام: لان مدار الباب على اتحاد الدين وتعدده،
346

ومتى تعدد المستحق أو المستحق عليه، تعدد الدين. ويخالف هذا، البيع
والشراء، حيث ذكرنا خلافا في أن الاعتبار في تعدد الصفقة واتحادها بالمتبايعين،
أم بالوكيل؟ لان الرهن ليس عقد ضمان حتى ينظر فيه إلى المباشر.
الخامس: إذا استعار عبدا من مالكيه ليرهنه، فرهنه، ثم أدى نصف الدين، وقصد به
الشيوع من غير تخصيص بحصة أحدهما، لم ينفك من الرهن شئ. وإن قصد أداء
عن نصيب أحدهما بعينه لينفك نصيبه، ففي انفكاكه أقوال. ثالثها: أنه إن علم
المرتهن أن العبد لمالكين، انفك، وإلا، فلا، حكاه المحاملي وغيره. قال
الامام: ولا نعلم لهذا وجها، لأن عدم الانفكاك لاتحاد الدين والعاقدين، ولا يختلف
ذلك بالجهل والعلم، وإنما أثر الجهل إثبات الخيار. ثم في عيون المسائل، ما
يدل على أن الأظهر الانفكاك.
قلت: صرح صاحب الحاوي وغيره، بأن الانفكاك أظهر. والله أعلم.
ولو كان لرجلين عبدان متماثلا القيمة، فاستعارهما للرهن، فرهنهما، ثم قضى
نصف الدين لينفك أحدهما، فالأصح طرد القولين. وقيل: ينفك قطعا. وإذا قلنا
بالانفكاك، وكان الرهن مشروطا في بيع، فللمرتهن الخيار إذا جهل بأنه لمالكين
على الأصح. وقيل: الأظهر. ولو استعار من رجلين ورهن عند رجلين،
كان نصيب كل واحد من المالكين مرهونا عند الرجلين. فلو أراد فك
نصيب أحدهما بقضاء نصف دين كل واحد من المرتهنين، فعلى القولين. وإن أراد
فك نصف العبد بقضاء دين أحدهما، فله ذلك بلا خلاف. ولو استعار اثنان من
واحد، ورهنا عند واحد، ثم قضى أحدهما ما عليه، انفك النصف لتعدد العاقد،
هكذا نقلوه.
فرع قال في التهذيب: لو استعار ليرهن عند واحد، فرهن عند
اثنين، أو بالعكس، لم يجز.
أما في الصورة الأولى، فلعدم الاذن،
وأما العكس، فلأنه إذا رهن عند اثنين، ينفك بعض الرهن بأداء دين أحدهما، وإذا رهن عند
واحد، لا ينفك شئ إلا بأداء الجميع، ونقل صاحب
347

التتمة وغيره الجواز في الطرفين، والأول أصح.
السادس: لو رهن عبدا بمائة، ثم مات عن اثنين، فقضى أحدهما حصته من
الدين، ففي انفكاك نصيبه قولان. أظهرهما: لا ينفك، وقطع به جماعة، لان
الرهن صدر أولا من واحد. ولو مات من عليه دين، وتعلق الدين بتركته، فقضى بعض
الورثة نصيبه، قال الامام: لا يبعد أن يخرج انفكاك نصيبه من التركة على قولين،
بناء على أن أحد الورثة لو أقر بالدين، وأنكر الباقون، هل على المقر أداء جميع
الدين من نصيبه من التركة؟ وعلى هذا البناء، فالأصح الانفكاك، لان الجديد: أنه
لا يلزم أداء جميع الدين مما في يده من التركة ثم الحكم بانفكاك نصيبه، إنما
يظهر إذا كان ابتداء التعلق مع ابتداء تعدد الملاك. فلو كان الموت مسبوقا بالمرض،
كان التعلق سابقا على ملك الورثة، فإن للدين أثرا بينا في الحجر على المريض.
فيشبه أن يكون القول في انفكاك نصيبه، كما سبق في الصورة السابقة، ولا فرق بين
أن يكون تعلق الدين بالتركة في هذه الصورة، ثابتا بإقرار الوارث، أو ببينة وقد
قيدها الغزالي، بما إذا ثبت بإقرار الوارث، وصورة المسألة غنية عن هذا القيد، ولم
يذكره إمام الحرمين.
قلت: قول الإمام الرافعي: الحكم بالانفكاك، إنما يظهر إذا كان ابتداء
التعلق... إلى آخره. هذا خلاف مقتضى إطلاق الامام، والغزالي، والظاهر أن
المسألة على إطلاقها، وليست هذه الصورة من الأولى في شئ، لان الأولى: في
انفكاك نصيب الابن من العين التي رهنها الميت. والثانية: ففك نصيبه من تعلق
التركة، وليس للرهن في الثانية وجود، ففي قول: ينفك تعلق الدين بنصيبه، فينفذ
تصرفه فيه. وفي قول: لا ينفك التعلق، فلا ينفذ تصرفه فنصيبه إذا منعنا تصرف
الوارث في التركة قبل قضاء الدين. والله أعلم.
فرع إذا كان المرهون لمالكين، وانفك نصيب أحدهما بأداء أو إبراء
فأراد القسمة، فإن كان مما ينقسم بالاجزاء كالمكيل والموزون، فله أن يقاس
المرتهن بإذن شريكه، نص عليه وإن كان مما لا ينقسم بالاجزاء كالثياب، والعبيد،
قال العراقيون: لا يجاب إليه. وإن كان أرضا مختلفة الاجزاء كالدار، قالوا: لزم
الشريك أن يوافقه، وفي المرتهن، وجهان. أصحهما: له الامتناع لما في القسمة
348

من التبعيض وقلة الرغبة، هذا ما ذكره العراقيون في طرقهم. وزاد آخرون، منهم
أصحاب القفال، فقالوا: تجويز القسمة حيث جوزناه مبني على أن القسمة إفراز
حق، فإن جعلناها بيعا، فهو بيع المرهون بغيره، وهو ممتنع. والجمهور أطبقوا
على تجويز القسمة هنا، وجعلوا تأثير كونها بيعا افتقارها إلى إذن المرتهن. ثم إذا
جوزنا القسمة، فطريق الطالب أن يراجع الشريك، فإن ساعد، فذاك، وإلا،
فيرفع الامر إلى القاضي ليقسم. وفي وجه: لا حاجة إلى إذن الشريك في
المتماثلات، لان قسمتها إجبار، والصحيح الأول. ولو قاسم المرتهن وهو مأذون له
من جهة المالك، أو الحاكم عند امتناع المالك، جاز، وإلا، فلا. وإذا منعناها
فرضي المرتهن، فالمفهوم من كلام الجمهور صحتها. قال الامام: لا يصح وإن
رضي، لان رضاه إنما يؤثر في فك الرهن. فأما في بيعه بما ليس برهن ليصير رهنا،
فلا. وهذا إشكال قوي.
قلت: ليس بقوي لمن تأمله، ولا يسلم الحكم الذي ادعاه، فالمعتمد ما قاله
الأصحاب. والله أعلم.
ولو أراد الراهنان القسمة قبل انفكاك شئ من الرهن، فعلى التفصيل الذي
بيناه. ولو رهن واحد عند اثنين، وقضى نصيب أحدهما، ثم أراد القسمة ليمتاز ما
بقي رهنا، ففي اشتراط رضى الذي بقي رهنه ما ذكرنا.
الباب الرابع في الاختلاف
التنازع في الرهن يفرض في أمور.
الأول: أصل العقد.
فإذا قال: رهنتني، فأنكر المالك، أو رهنتني ثوبك، فقال: بل عبدي.
أو بألفين، فقال: بل بألف. أو رهنتني الأرض بأشجارها، فقال: بل وحدها،
فالقول قول المالك مع يمينه. ولو قال: رهنتني الأشجار مع الأرض يوم رهن
الأرض، فقال: لم تكن هذه الأشجار أو بعضها يوم رهن الأرض، بل أحدثتها
بعد، نظر، فإن كانت الأشجار بحيث لا يتصور وجودها يوم الرهن، فالمرتهن كاذب،
349

والقول قول الراهن بلا يمين. وإن كانت بحيث لا يتصور حدوثها بعده، فالراهن
كاذب، فإن اعترف في مفاوضتها أنه رهن الأرض بما فيها، كانت الأشجار مرهونة،
ولا حاجة إلى يمين المرتهن، وإن زعم رهن الأرض وحدها، أو ما سوى الأشجار
المختلف فيها، واقتصر على نفي الوجود، فلا يلزم من كذبه في إنكار الوجود كونها
مرهونة، فيطالب بجواب دعوى الرهن، فإن أصر على إنكار الوجود، فقد جعل
ناكلا، وردت اليمين على المرتهن. فإن رجع إلى الاعتراف بالوجود، وأنكر
رهنها، قبلنا إنكاره، وحلف لجواز صدقه في نفي الرهن. وإن كان الشجر بحيث
يحتمل الوجود يوم رهن الأرض، والحدوث بعده فالقول قول الراهن. فإذا
حلف، فهي كالشجرة الحادثة بعد الرهن في القلع وسائر الأحكام، وقد سبق
بيانها. هذا كله تفريع على الاكتفاء منه بإنكار الوجود، وهو الصحيح. وفي وجه:
لا بد من إنكار الرهن صريحا. والحكم بتصديق الراهن في هذه الصورة، مفروض
فيما إذا كان اختلافهما في رهن تبرع. فإن اختلفا في رهن مشروط في بيع، تحالفا
كسائر صفات البيع إذا اختلف فيها
فصل لو ادعى رجل على رجلين أنهما رهناه عبدهما بمائة، وأقبضاه،
فأنكرا الرهن، أو الرهن والدين جميعا، فالقول قولهما مع اليمين. وإن صدقه
أحدهما، فنصيبه رهن بخمسين، والقول قول المكذب في نصيبه مع يمينه.
فلو شهد المصدق للمدعي على شريك المكذب، قبلت شهادته، فإن
شهد معه آخر، وحلف المدعي، ثبت رهن الجميع. ولو زعم كل منهما أنه ما رهن
نصيبه، وأن شريكه رهن، وشهد عليه، فوجهان. ويقال: قولان: أحدهما: لا
تقبل شهادته، لان كل واحد يزعم أن صاحبه كاذب ظالم بالجحود. وطعن المشهود
له في الشاهد، يمنع قبول شهادته له. وأصحهما: تقبل، وبه قال الأكثرون، لأنه
ربما نسيا. فإن تعمدا، فالكذبة الواحدة لا توجب الفسق. ولهذا، لو تخاصم
رجلان في شئ، ثم شهدا في حادثة، قبلت شهادتهما وإن كان أحدهما كاذبا في
350

ذلك التخاصم. فعلى هذا، إذا حلف مع كل واحد، أو أقام شاهدا آخر، ثبت
رهن الجميع. وقال ابن القطان: الذي شهد أولا يقبل، دون الآخر، لأنه انتهض
خصما منتقما.
فرع ادعى رجلان على رجل أنه رهنهما وأقبضهما، فإن صدقهما أو
كذبهما، لم يخف الحكم. وإن صدق أحدهما، فنصف العبد رهن عنده، ويحلف
للآخر.
وهل تقبل شهادة المصدق للمكذب؟ قال ابن كج: نعم. وقال الآخرون:
لا. وحكى الامام والغزالي وجهين بناء على أن الشريكين إذا ادعيا حقا أو ملكا
بابتياع أو غيره، فصدق أحدهما، هل يستبد بالنصف، أم يشاركه الآخر فيه؟ فيه
وجهان. إن قلنا: يستبد، قبلت، وإلا، فلا، لأنه متهم. وقال البغوي: إن لم
ينكر إلا الرهن، قبل. وإن أنكر الرهن والدين، فحينئذ يفرق بين دعواهما الإرث
وغيره. والذي ينبغي أن يفتى به، القبول إن كانت الحال لا تقتضي الشركة، والمنع
إن اقتضت، لأنه متهم.
فرع منصوص عليه ادعى زيد وعمرو على ابني بكر، أنهما رهنا عندهما
عبدهما المشترك بينهما بمائة، فصدقا أحد المدعيين، ثبت ما ادعاه، وكان له على
كل واحد منهما ربع المائة، ونصف نصيب كل واحد منهما مرهون به. وإن صدق
أحد الابنين زيدا، والآخر عمرا، ثبت الرهن في نصف العبد، لكل واحد من
المدعيين في ربعه بربع المائة. فلو شهد أحد الاثنين على أخيه، قبلت.
ولو شهد أحد المدعيين للآخر، فعلى ما ذكرناه في الصورة الثانية.
فرع منصوص في المختصر ادعى رجلان على رجل، فقال كل
واحد: رهنتني عبدك هذا وأقبضتنيه، فإن كذبهما، فالقول قوله، ويحلف لكل
351

واحد يمينا. وإن كذب أحدهما، وصدق الآخر، قضي بالرهن للمصدق. وفي
تحليفه للمكذب قولان. أظهرهما: لا. فإن قلنا: يحلف، فنكل، فحلف
المكذب يمين الرد، ففيما يستفيد بها وجهان. أحدهما: يقضى له بالرهن وينزع
من الأول. وأصحهما: يأخذ القيمة من المالك، ليكون رهنا عنده. وإن صدقهما
جميعا، نظر، فإن لم يدعيا السبق، أو ادعاه كل منهما، وقال المدعى عليه: لا
أعرف السابق، وصدقاه، فوجهان. أحدهما: يقسم بينهما، كما لو تنازعا شيئا في
يد ثالث فاعترف لهما، وأصحهما: يحكم ببطلان العقد، كما لو زوج وليان ولم
يعرف السابق.
وإن ادعى كل واحد السبق، وأن الراهن عالم بصدقه، فالقول قوله مع
يمينه.
فإن نكل، ردت اليمين عليهما. فإن حلف أحدهما، قضي له. وإن حلفا،
أو نكلا، تعذر معرفة السابق، وعاد الوجهان. وإن صدق أحدهما في السبق،
وكذب الآخر، قضي للمصدق. وهل يحلفه المكذب؟ فيه القولان السابقان.
وحيث قلنا: مقتضى الصدق، فذلك إذا لم يكن العبد في يد المكذب. فإن كان،
فقولان. أحدهما: يقضى لصاحب اليد. وأظهرهما: المصدق يقدم، لان اليد لا
دلالة لها على الرهن. ولو كان العبد من أيديهما، فالمصدق مقدم في النصف الذي
في يده، وفي النصف الآخر، القولان. والاعتبار في جميع ما ذكرناه بسبق
القبض، لا العقد. حتى لو صدق هذا في سبق العقد، وهذا في سبق القبض، قدم
الثاني.
قلت: ولو قال المدعى عليه: رهنته عند أحدكما، ونسيت، حلف على نفي
العلم. فإن نكل، ردت عليهما، فإن حلفا، أو نكلا، انفسخ العقد على المذهب
الذي قطع به الجماهير في الطرق، ونقله الامام وغيره عن الأصحاب. وخرج وجه:
أنه لا ينفسخ، بل يفسخه الحاكم، وبهذا الوجه قطع صاحب الوسيط، وهو شاذ
ضعيف. وإن حلف الراهن على نفي العلم، تحالفا على الصحيح، كما لو نكل.
وفي وجه: انتهت الخصومة. والله أعلم.
فرع دفع متاعا إلى رجل، وأرسله إلى غيره ليستقرض منه للدافع ويرهن
352

المتاع، ففعل، ثم اختلفا، فقال المرسل إليه: استقرض مائة ورهنه بها، وقال
المرسل: لم آذن إلا في خمسين، نظر، إن صدق الرسول المرسل، فالمرسل إليه
مدع على المرسل بالاذن، وعلى الرسول بالأخذ، فالقول قولهما في نفي دعواه.
وإن صدق المرسل إليه، فالقول فنفي الزيادة قول المرسل، ولا يرجع المرسل
إليه على الرسول بالزيادة إن صدقه في الدفع إلى المرسل، لأنه مظلوم بزعمه. وإن
لم يصدقه، رجع عليه. هكذا ذكره، وفيه إشكال، وينبغي أن يرجع على الرسول
وإن صدقه في الدفع إلى المرسل.
الأمر الثاني: القبض. فإذا تنازعا في قبض المرهون، فإن كان في وقت
النزاع في يد الراهن، فالقول قوله مع يمينه. وإن كان في يد المرتهن وقال: قبضته
عن الرهن، وأنكر الراهن، فقال: غصبتنيه، فالقول قول الراهن على
الصحيح. وقيل: قول المرتهن، وهو شاذ ضعيف. وإن قال الراهن: بل قبضته
عن جهة أخرى مأذون فيها، بأن قال: أودعتكه، أو أعرت، أو أكريت، أو أكريته
لفلان فأكراكه، فهل القول قول المرتهن، لاتفاقهما على قبض مأذون فيه، أو قول
الراهن، لان الأصل عدم ما ادعاه؟ وجهان. أصحهما: الثاني، وهو المنصوص.
ويجري مثل هذا التفصيل، فيما إذا اختلف البائع والمشتري، حيث كان للبائع حق
الحبس، وصادفنا المبيع في يد المشتري، فادعى البائع أنه أعاره، أو أودعه، لكن
الأصح هنا حصول القبض، لقوة يده بالملك. وهذا تفريع على أنه لا يبطل حق
الحبس بالإعارة والايداع، وفيه خلاف سبق.
ولو صدقه الراهن في إذنه في القبض على جهة الرهن، ولكن قال: رجعت
قبل قبضك، فالقول قول المرتهن في عدم الرجوع، لان الأصل عدمه. ولو قال
الراهن لم يقبضه بعد، وقال المرتهن قبضته، فمن كان المرهون في يده منهما،
فالقول قوله باتفاق الأصحاب، وعليه حملوا النصين المختلفين في الام.
فرع إقرار الراهن بإقباض المرهون، مقبول ملزم، لكن بشرط الامكان.
حتى لو قال: رهنته اليوم داري بالشام، وأقبضته إياها وهما بمكة، فهو لاغ. ولو
353

قامت البينة على إقراره بالاقباض في موضع الامكان، فقال: لم يكن إقراري عن
حقيقة، فحلفوه أنه قبض، نظر، إن ذكر لاقراره تأويلا، بأن قال: كنت أقبضته
بالقول، وظننت أنه يكفي قبضا، أو وقع إلي كتاب على لسان وكيلي بأنه أقبض وكان
مزورا، أو قال: أشهدت على رسم القبالة قبل حقيقة القبض، فله تحليفه. وإن
لم يذكر تأويلا، فوجهان. أصحهما عند العراقيين: يحلفه، وبه قال: ابن خيران
وغيره، وهو ظاهر النص. وأصحهما عند المراوزة: لا، وبه قال أبو إسحاق.
قلت: طريقة العراقيين أفقه وأصح. والله أعلم.
وقد حكى في الوسيط وجها: أنه لا يحلفه مطلقا وإن ذكر تأويلا.
وهذا الوجه غريب ضعيف مخالف لما قطع به الأصحاب. ولو لم يقم بينة على
إقراره، بل أقر في مجلس القضاء بعد توجه الدعوى عليه، فوجهان. قال القفال:
لا يحلفه وإن ذكر تأويلا، لأنه لا يكاد يقر عند القاضي إلا عن تحقيق. وقال غيره:
لا فرق، لشمول الامكان. ولو شهد الشهود على نفس القبض، فليس له التحليف
بحال، وكذا لو شهدوا على إقراره، فقال: ما أقررت، لأنه تكذيب للشهود.
فرع لو كان الرهن مشروطا في بيع، فقال المشتري: أقبضت، ثم تلف
الرهن، فلا خيار لك في البيع، وأقام على إقراره بالقبض حجة، فأراد المرتهن
تحليفه، فهو كما ذكرنا في إقرار الرهن وطلب الراهن يمين المرتهن. ويقاس
على هذا، ما إذا قامت بينة بإقراره لزيد بألف، فقال: إنما أقررت وأشهدت
ليقرضني، ثم لم يقرضني، وكذا سائر نظائرها.
الأمر الثالث: الجناية، وهي ضربان.
الأول: جني على العبد المرهون، فأقر رجل أنه الجاني، فإن صدقه
المتراهنان أو كذباه، لم يخف حكمه. وإن صدقه الراهن فقط، أخذ الأرش وفاز
354

به، فليس للمرتهن التوثق به. وإن صدقه المرتهن فقط، أخذ الأرش وكان مرهونا.
فإن قضى الدين من غيره، أو أبرأه المرتهن، فالأصح: أنه يرد الأرش إلى المقر.
والثاني: يجعل في بيت المال، لأنه مال ضائع لا يدعيه أحد.
الضرب الثاني: جناية المرهون، والنزاع في جنايته، يقع تارة بعد لزوم
الرهن، وتارة قبله.
الحال الأول: بعده، فإذا أقر المرتهن بأنه جنى، ووافقه العبد أم لا، فالقول
قول الراهن مع يمينه. وإذا بيع في دين المرتهن، لم يلزمه تسليم الثمن إليه بإقراره
السابق. ولو أقر الراهن بجنايته، وأنكر المرتهن، فالقول قوله. وإذا بيع في
الدين، فلا شئ للمقر له على الراهن. وحكى ابن كج وجها: أنه يقبل إقرار
الراهن، ويباع العبد في الجناية، ويغرم الراهن للمرتهن.
الحال الثاني: تنازعا في جنايته قبل لزوم الرهن، فأقر الراهن بأنه كان أتلف
مالا، أو جنى جناية توجب المال، فإن لم يعين المجني عليه، أو عينه فلم يصدقه،
أو لم يدع ذلك، فالرهن مستمر بحاله. وإن عينه وادعاه المجني عليه، نظر، إن
صدقه المرتهن، بيع في الجناية، والمرتهن بالخيار إن كان الرهن مشروطا في بيع.
وإن كذبه، فقولان. أظهرهما: لا يقبل قول الراهن، صيانة لحق المرتهن.
والثاني: يقبل، لأنه مالك.
ويجري القولان فيما لو قال: كنت غصبته، أو اشتريته شراء فاسدا، أو
بعته، أو وهبته وأقبضته وأعتقته. ولا حاجة في صورة العتق إلى تصديق العبد
ودعواه، بخلاف المقر له في باقي الصور. وفي الاقرار بالعتق قول ثالث: أنه إن
كان موسرا، نفذ، وإلا، فلا، كالاعتاق. ونقل الامام هذا القول في جميع هذه
الصور. فإن قلنا: لا يقبل إقرار الراهن، فالقول في بقاء الرهن قول المرتهن مع
يمينه، ويحلف على نفي العلم بالجناية. وإذا حلف واستمر الرهن، فهل يغرم
الراهن للمجني عليه؟ قولان. قال الأئمة. أظهرهما: يغرم كما لو قبله، لأنه حال
بينه وبين حقه، وهما كالقولين فيمن أقر بالدار لزيد، ثم لعمرو، هل يغرم لعمرو؟
ويعبر عنهما بقولي الغرم للحيلولة، لأنه بإقراره الأول حال بين من أقر له ثانيا وبين
حقه. فإن قلنا: يغرم، طولب في الحال إن كان موسرا. وإن كان معسرا فإذا
355

أيسر. وفيما يغرم للمجني عليه؟ طريقان. أحدهما: على قولين. أظهرهما:
الأقل من قيمته وأرش الجناية. وثانيهما: الأرش بالغا ما بلغ. والطريق الثاني وهو
المذهب وبه قال الأكثرون: يغرم الأقل قطعا، كأم الولد، لامتناع البيع بخلاف
القن. وإذا قلنا: لا يغرم الراهن، فإن بيع في الدين، فلا شئ عليه. لكن لو
ملكه، لزمه تسليمه في الجناية، وكذا لو انفك رهنه. هذا كله إذا حلف المرتهن،
فإن نكل، فعلى من ترد اليمين؟ قولان. ويقال: وجهان. أحدهما: على
الراهن، لأنه مالك العبد، والخصومة تجري بينه وبين المرتهن. وأظهرهما: على
المجني عليه، لان الحق له، والراهن لا يدعي لنفسه شيئا. فإذا حلف المردود عليه
منهما، بيع العبد في الجناية، ولا خيار للمرتهن في فسخ البيع المشروط فيه، لان
فواته حصل بنكوله. ثم إن كان يستغرق الواجب قيمته، بيع كله، وإلا فبقدر
الأرش. وهل يكون الباقي رهنا؟ وجهان. أصحهما: لا، لان اليمين المردودة
كالبينة، كالاقرار بأنه كان جانيا في الابتداء، فلا يصح رهن شئ منه. وإذا رددنا
على الراهن، فنكل، فهل يرد على المجني عليه؟ قولان. ويقال: وجهان.
أحدهما: نعم لان الحق له. وأصحهما: لا، لان اليمين لا ترد مرة بعد أخرى.
فعلى هذا، نكول الراهن كحلف المرتهن في تقرير الرهن. وهل يغرم الراهن
للمجني عليه؟ فيه القولان. وإن رددناه على المجني عليه فنكل، قال الشيخ أبو
محمد: تسقط دعواه، وانتهت الخصومة. وطرد العراقيون في الرد منه على الراهن
الخلاف المذكور في عكسه. وإذا لم ترد، لا يغرم له الراهن، قولا واحدا، وتحال
الحيلولة على نكوله، هذا تمام التفريع على أحد القولين في أصل المسألة، وهو أن ا
لراهن لا يقبل إقراره. فإن قبلناه، فهل يحلف، أم يقبل بلا يمين؟ قولان، أو
وجهان. أحدهما: لا يحلف، لان اليمين للزجر ليرجع الكاذب. وهنا لا يقبل
رجوعه. وأصحهما عند الشيخ أبي حامد ومن وافقه: يحلف لحق المرتهن،
ويحلف على البت. وسواء حلفناه، أم لا، فيباع العبد في الجناية كله أو بعضه
على ما سبق، وللمرتهن الخيار في فسخ البيع. وإن نكل، حلف المرتهن، لأنا
إنما حلفنا الراهن لحقه. وفي فائدة حلفه قولان حكاهما الصيدلاني وغيره.
أظهرهما: أن فائدته: تقدير الرهن في العبد على ما هو قياس الخصومات.
والثاني: فائدته: أن يغرم الراهن قيمته، ليكون رهنا مكانه، ويباع العبد في الجناية
356

بإقرار الراهن. فإن قلنا بالأول، فهل يغرم الراهن للمقر له لكونه حال بنكوله بينه
وبين حقه؟ فيه القولان السابقان. وإن قلنا بالثاني، فهل للمرتهن الخيار في فسخ
البيع؟ وجهان. أصحهما: نعم، لفوات العين المشروطة. والثاني: لا،
لحصول الوثيقة بالقيمة. وإن نكل المرتهن، بيع العبد في الجناية، ولا خيار له في
فسخ البيع، لا غرم على الراهن. وجميع ما ذكرناه مبني على أن رهن الجاني لا
يصح، فإن صححناه، فقيل: يقبل إقراره قطعا، فيغرم المجني عليه، ويستمر
الرهن.
وقال آخرون: بطرد القولين. ووجه المنع: أنه يحل بلزوم الرهن، لان
المجني عليه يبيع المرهون لو عجز عن تغريم الراهن.
فرع لو أقر السيد عليه بجناية توجب القصاص، لم يقبل إقراره على
العبد، فلو قال، ثم عفا على مال، فهو كما لو أقر بما يوجب المال.
فرع لو أقر بالعتق وقلنا: لا يقبل، فالمذهب والمنصوص: أنه يجعل
كإنشاء الاعتاق. وفيه الأقوال، لان من ملك إنشاء أمر، قبل إقراره به. ونقل الامام
في نفوذه وجهين، مع قولنا: ينفذ الانشاء.
فرع رهن الجارية الموطوءة جائز، ولا يمنع من التصرف، لاحتمال
الحمل.
فإذا رهن جارية، فأتت بولد، فإن كان الانفصال لدون ستة أشهر من الوطئ،
أو لأكثر من أربع سنين، فالرهن بحاله، والولد مملوك له، لأنه لا يلحق به. وإن
كان لستة أشهر فأكثر إلى أربع سنين، فقال الراهن: هذا الولد مني، وكنت وطئتها
قبل لزوم الرهن، فإن صدقه المرتهن، أو قامت بينة، فهي أم ولد له، والرهن
باطل، وللمرتهن فسخ البيع المشروط فيه رهنها. وإن كذبه ولا بينة، ففي قبول
إقراره لثبوت الاستيلاد، قولان، كإقراره بالعتق ونظائره، والتفريع كما سبق. وعلى
كل حال، فالولد حر ثابت النسب عند الامكان. ولو لم يصادف ولدا في الحال،
وزعم الراهن أنها ولدت منه قبل الرهن، ففيه التفصيل السابق والخلاف، وحيث
قلنا: يحلف المجني عليه، تحلف المستولدة، فإنها في مرتبته، وفي العتق يحلف
العبد.
357

قلت: ولو أقر بأنه استولدها بعد لزوم الرهن، فإن لم ينفذ استيلاده، لم يقبل
إقراره، وإلا، ففيه الوجهان السابقان في إقراره بالعتق، أصحهما: يقبل. والله
أعلم.
فرع لو باع عبدا، ثم أقر بأنه كان غصبه، أو باعه، أو اشتراه شراء
فاسدا، لم يقبل قوله، لأنه أقر في ملك الغير، وهو مردود ظاهرا، ويخالف إقرار
الراهن فإنه في ملكه. وقيل بطرد الخلاف، والمذهب: الأول. وعلى هذا،
فالقول قول المشتري. فإن نكل فهل الرد على المدعي، أم على المقر البائع؟
قولان ولو أجر عبدا، ثم قال: كنت بعته، أو أجرته، أو أعتقته، ففيه الخلاف
المذكور في الرهن، كبقاء الملك. ولو كاتبه، ثم أقر بما لا يصح معه كتابة، قال
ابن كج: فيه الخلاف. وقطع الشيخ أبو حامد بأنه لا يقبل، لان المكاتب كمن زال
ملكه عنه
الأمر الرابع: ما يفك به الرهن. فإذا أدن المرتهن في بيع الرهن، فباع
الراهن، ورجع المرتهن عن الاذن، ثم اختلفا، فقال: رجعت قبل البيع، فلم
يصح، وبقي رهنا كما كان، وقال الراهن: بل رجعت بعده، فالقول قول المرتهن
على الأصح عند الأكثرين، وقيل: قول الراهن. وقال في التهذيب: إن
قال الراهن أولا: تصرفت بإذنك، ثم قال المرتهن: كنت رجعت قبله، فالقول قول
الراهن. وإن قال: رجعت، ثم قال الراهن: كنت بعت قبل رجوعك، فالقول قول
المرتهن. ولو أنكر الراهن أصل الرجوع، فالقول قوله مع يمينه.
358

فصل عليه دينان، أحدهما حال، وبه رهن، أو كفيل، أو هو ثمن مبيع
محبوس به، فسلم إليه ألفا، وقال: أعطيتك عنه، وقال القابض: بل عن الدين
الآخر، فالقول قول الدافع، سواء اختلفا في نيته أو لفظه. قال الأئمة: فالاعتبار
في أداء الدين، بقصد المؤدي. حتى لو ظن المستحق أنه يودعه عنده، ونوى من عليه
الدين أداء الدين برئت ذمته، وصار المدفوع ملكا للقابض.
فرع كان عليه دينان، فأدى عن أحدهما بعينه، وقع عنه. وإن ادعى عنهما، قسط
عليهما. وإن لم يقصد في الحال شيئا، فوجهان. أصحهما:
يراجع، فيصرفه إليهما أو إلى ما شاء منهما. والثاني: يقع عنهما. وعلى
هذا تردد الصيدلاني في حكايته، أنه يوزع عليهما بالتسوية، أم بالتقسيط؟ وعلى
هذا القياس نظائر المسألة، كما إذا تبايع مشركان درهما بدرهمين، وسلم الزيادة من
التزمها، ثم أسلما، فإن قصد تسليمه عن الزيادة، لزمه الأصل، وإن قصد تسليمه
عن الأصل فلا شئ عليه. وإن قصد تسليمه عنهما، وزع عليهما، وسقط ما بقي
من الزيادة. وإن لم يقصد شيئا، ففيه الوجهان. ولو كان لزيد عليه مائة، ولعمرو
مثلها، فوكلا وكيلا بالاستيفاء، فدفع المديون إلى الوكيل لزيد أو لعمرو، فذاك،
وإن أطلق، فعلى الوجهين. ولو قال: خذه وادفعه إلى فلان، أو إليهما، فهذا
توكيل منه بالأداء، وله التغيير ما لم يصل إلى المستحق.
قلت: هذا الذي ذكره، اقتصار على الأصح. فقد قال إمام الحرمين: إذا
359

قال من عليه الدين لهذا الوكيل: خذ الألف وادفعه إلى فلان، فوجهان. أفقههما أنه
بالقبض ينعزل عن وكالة المستحق، وصار وكيلا للمديون. والثاني: يبقى وكيلا
للأول. فعلى هذا، لو تلف في يد الوكيل بغير تقصير، فمن ضمان صاحب الدين
وقد برئ الدافع. وعلى الأول: هو من ضمان الدافع، والدين باق عليه. وإن
قصر الوكيل، فعليه الضمان. وأيهما يطالبه؟ فيه الوجهان. قال الامام: ولا يشترط
في جريان الوجهين قبول الوكيل صريحا بالقول، بل مجرد قوله: إدفع إلى فلان،
فيه الوجهان. والله أعلم.
ولو أبرأ مستحق الدينين المديون عن مائة، وكل واحد منهما مائة، فإن
قصدهما أو أحدهما، فهو لما قصد. وإن أطلق، فعلى الوجهين. وإن اختلفا فقال
المبرئ: أبرأت عن الدين الخالي عن الرهن والكفيل، فقال المديون: بل عن
الآخر، فالقول قول المبرئ مع يمينه.
فصل اختلفا في قدم عيب المرهون وحدوثه، فقد سبق بيانه في كتاب
البيع. ولو رهنه عصيرا، ثم بعد قبضه اختلفا، فقال المرتهن: قبضته وقد
تخمر، فلي الخيار في فسخ البيع المشروط، وقال الراهن: بل صار عندك خمرا،
فالأظهر: أن القول قول الراهن، لان الأصل بقاء لزوم البيع. والثاني: قول
المرتهن، لان الأصل عدم قبض صحيح. ولو زعم المرتهن أنه كان خمرا يوم
العقد، وكان شرطه في البيع شرط رهن فاسد، فقيل بطرد القولين. وقيل: القول
قول المرتهن قطعا. ولو سلم العبد المشروط رهنه ملتفا بثوب، ثم وجد ميتا، فقال
الراهن: مات عندك، فقال: بل أعطيتنيه ميتا، فأيهما يقبل؟ فيه القولان. ولو
اشترى مائعا، وجاء بظرف فصبه البائع فيه، فوجدت فيه فأرة ميتة، فقال
البائع: كانت في ظرفك، وقال المشتري: قبضته وفيه الفأرة، ففيمن يصدق؟
القولان. ولو زعم المشتري كونها فيه حال البيع، فهذا اختلاف في جريان العقد
صحيحا، أم فاسدا؟ وقد سبق بيانه.
فصل ليس للراهن أن يقول: أحضر المرهون وأنا أقضي دينك من مالي،
(بل) لا يلزمه الاحضار بعد قضائه، وإنما عليه التمكين كالمودع. والاحضار، وما
360

يحتاج إليه من مؤنة على رب المال. ولو احتيج إلى بيعه في الدين، فمؤنة الاحضار
على الراهن.
قلت: قال صاحب المعاياة: إذا رهن شيئا ولم يشرط جعله في يد عدل،
أو المرتهن، فإن كان جارية، صح قطعا، وكذا غيرها على الصحيح.
والفرق أنها لا تكون في يد المرتهن، وغيرها قد يكون، فيتنازعان. قال
أصحابنا: لو كان بالمرهون عيب، ولم يعلم به المرتهن حتى مات، أو حدث به
عيب في يده، لم يكن له فسخ البيع المشروط فيه، كما لو جرى ذلك في يد
المشتري، وليس له أن يطالب بالأرش ليكون مرهونا، صرح به القاضي أبو الطيب
وغيره. قال القاضي: ولو رهن عبدين، وسل أحدهما فمات في يد المرتهن، وامتنع
الراهن من تسليم الآخر، لم يكن له خيار في فسخ البيع لأنه لم يمكنه رده على
حاله. والله أعلم.
361

كتاب التفليس
التفليس في اللغة: النداء على المفلس، وشهره بصفة الافلاس.
وأما في الشرع، فقال الأئمة المفلس: من عليه ديون لا يفي بها ماله.
ومثل هذا الشخص يحجر عليه القاضي بالشرائط التي سنذكرها إن شاء الله
تعالى. وإذا حجر عليه، ثبت حكمان. أحدهما: تعلق الدين بماله حتى لا ينفذ
362

تصرفه فيه بما يضر بالغرماء، ولا تزاحمها الديون الحادثة، كما سيأتي إن شاء الله
تعالى. والثاني: أن من وجد عند المفلس عين ماله، كان أحق به من غيره. فلو
مات مفلسا قبل الحجر عليه، تعلقت الديون بتركته كما سبق في الرهن. ولا فرق
في ذلك بين المفلس وغيره، ولكن يثبت الحكم الثاني، ويكون موته مفلسا كالحجر
عليه. ولو كان مال الميت وافيا بديونه، فالصحيح: أنه لا يرجع في عين المبيع،
كما في حال الحياة، لتيسر الثمن. وقال الإصطخري: يرجع.
واعلم أن التعلق المانع من التصرف، يفتقر إلى حجر القاضي عليه قطعا.
وكذا الرجوع إلى عين المبيع. هذا هو الذي يدل عليه كلام الأصحاب تعريضا
وتصريحا. وقد يشعر بعض كلامهم بالاستغناء فيه عن حجر القاضي، ولكن المعتمد
الأول.
فصل يحجر القاضي على المفلس بالتماس الغرماء الحجر عليه بالديون
الحالة الزائدة على قدر ماله، فهذه قيود.
الأول: الالتماس، فلا بد منه. فليس للقاضي الحجر بغير التماس، لان
الحق لهم. فلو كانت الديون لمجانين أو صبيان، أو محجور عليه بسفه، حجر
لمصلحتهم بلا التماس، ولا يحجر لدين الغائبين، لأنه لا يستوفي مالهم في
الذمم، إنما يحفظ أعيان أموالهم.
قلت: وإذا وجد الالتماس مع باقي الشروط المجوزة للحجر، وجب على
الحاكم الحجر، صرح به أصحابنا كالقاضي أبي الطيب، وأصحاب الحاوي و
الشامل والبسيط وآخرين. وإنما نبهت عليه، لان عبارة كثيرين من
أصحابنا: فللقاضي الحجر، وليس مرادهم أنه مخير فيه. والله أعلم.
القيد الثاني: كون الالتماس من الغرماء، فلو التمس بعضهم ودينه قدر يجوز
363

الحجر به، حجر، وإلا، فلا، على الأصح. وإذا حجر، لا يختص أثره
بالملتمس، بل يعمهم كلهم.
قلت: أطلق أبو الطيب وأصحاب الحاوي والتتمة و التهذيب: أنه
إذا عجز ماله عن ديونه، فطلب الحجر بعض الغرماء، حجر، ولم يعتبروا قدر دين ا
لطالب، وهذا قوي. والله أعلم.
ولو لم يلتمس أحد عنهم، والتمسه المفلس، حجر على الأصح، لان له
غرضا.
القيد الثالث: كون الدين حالا، فلا حجر بالمؤجل وإن لم يف المال به،
لأنه لا مطالبة في الحال. فإن كان بعضه حالا، فإن كان قدرا يجوز الحجر له [حجر]
وإلا، فلا.
فرع إذا حجر عليه بالفلس، لا يحل ما عليه من الدين المؤجل على
المشهور، لان الأجل حق مقصود له فلا يفوت. وفي قول: يحل كالموت.
فعلى هذا القول، لو لم يكن عليه إلا مؤجل هل يحجر عليه؟ وجهان.
الصحيح: لا.
ولو جن وعليه مؤجل، حل على المشهور.
364

فإن قلنا بالحلول، قسم المال بين أصحاب هذه الديون. وأصحاب الحالة من
الابتداء، كما لو مات. وإن كان في المؤجل ثمن متاع موجود عند المفلس، فلبائعه
الرجوع إلى عينه، كما لو كان حالا في الابتداء. وفي وجه: أن فائدة الحلول، أن
لا يتعلق بذلك المتاع حق غير بائعه، فيحفظه إلى مضي المدة. فإن وجد وفاء،
فذاك، وإلا فحينئذ ينفسخ. وقيل: لا فسخ حينئذ أيضا. بل لو باع بمؤجل وحل
الأجل، ثم أفلس المشتري وحجر عليه، فليس للبائع الفسخ والرجوع. والأول:
أصح. وإن قلنا بعدم الحلول، بيع ماله، وقسم على أصحاب الحال، ولا يدخر
لأصحاب المؤجل شئ، ولا يدام الحجر عليه بعد القسمة لأصحاب المؤجل، كما
لا يحجر به ابتداء. وهل تدخل في البيع الأمتعة المشتراة بمؤجل؟ وجهان.
أصحهما: نعم، كسائر أمواله، وليس لبائعها تعلق بها، لأنه لا مطالبة في الحال
على هذا. فإن لم يتفق بيعها وقسمتها حتى حل الأجل، ففي جواز الفسخ الآن
وجهان.
قلت: أصحهما: الجواز، قاله في الوجيز. والله أعلم.
والوجه الثاني: لاتباع، فإنها كالمرهونة بحقوق بائعها، بل توقف إلى
انقضاء الأجل، فإن انقضى والحجر باق، ثبت حق الفسخ. وإن فك، فكذلك،
ولا حاجة إلى إعادة الحجر على الصحيح، بل عزلها وانتظار الأجل كبقاء الحجر
بالإضافة إلى المبيع.
القيد الرابع: كون الديون زائدة على أمواله. فلو كانت مساوية والرجل
كسوب ينفق من كسبه، فلا حجر. وإن ظهرت أمارات الافلاس، بأن لم يكن
كسوبا، وكان ينفق من ماله، أو لم يف كسبه بنفقته، فوجهان. أصحهما عند
العراقيين: لا حجر، واختار الامام الحجر. ويجري الوجهان، فيما إذا كانت
الديون أقل، وكانت بحيث يغلب على الظن مصيرها إلى النقص أو المساواة، لكثرة
365

النفقة. وهذه الصورة أولى بالمنع. وإذا حجر عليه في صورة المساواة، فهل لمن
وجد عين ماله الرجوع؟ وجهان. أحدهما: نعم، لاطلاق الحديث. والثاني:
لا، لتمكنه من استيفاء الثمن بكماله.
وهل تدخل هذه الأعيان في حساب أمواله، وأثمانها في حساب ديونه؟
وجهان. أصحهما: الادخال.
فصل وإذا حجر عليه، استحب للحاكم أن يشهد عليه، ليحذر الناس
معاملته. وإذا حجر، امتنع منه كل تصرف مبتدء يصادف المال الموجود عند
الحجر، فهذه قيود.
الأول: كون التصرف مصادفا للمال. والتصرف ضربان. إنشاء، وإقرار.
الأول: الانشاء، وهو قسمان. أحدهما: يصادف المال، وينقسم إلى تحصيل،
كالاحتطاب والاتهاب، وقبول الوصية، ولا منع منه قطعا، لأنه كامل الحال.
وغرض الحجر: منعه مما يضر الغرماء وإلى تفويت، فينظر، إن تعلق بما بعد
الموت وهو التدبير والوصية، صح، فإن فضل المال، نفذ، وإلا،
فلا. وإن كان غير ذلك، فأما أن يكون مورده عين مال، وإما في الذمة، فهما
نوعان. الأول: كالبيع، والهبة، والرهن، والاعتاق، والكتابة، وفيها قولان.
أحدهما: أنها موقوفة، إن فضل ما يصرف فيه عن الدين لارتفاع القيمة، أو إبراء،
366

نفذناه، وإلا، فتبين أنه كان لغوا. وأظهرهما: لا يصح شئ منها، لتعلق حق
الغرماء بالأعيان، كالرهن. ثم اختلف في محل القولين، فقيل: هما فيما إذا
اقتصر الحاكم على الحجر، ولم يجعل ماله لغرمائه حيث وجدوه. فإن جعل ذلك،
لم ينفذ تصرفه قطعا، واحتج هؤلاء بقول الشافعي رضي الله عنه: إذا جعل ماله
لغرمائه، فلا زكاة عليه وطردهما آخرون في الحالين، وهو الأشهر، قال هؤلاء:
وتجب الزكاة على الأظهر ما دام ملكه باقيا، والنص محمول على ما إذا باعه لهم.
فإن نفذناه بعد الحجر، وجب تأخير ما تصرف فيه، وقضاء الدين من غيره، فلعله يفضل، فإن لم
يفضل، نقصنا من تصرفاته الأضعف فالأضعف، والأضعف
الرهن والهبة، لخلوهما عن العوض، ثم البيع، ثم الكتابة، ثم العتق، قال
الامام: فلو لم يوجد راغب في أموال المفلس إلا في العبد المعتق، فقال الغرماء:
بيعوه ونجزوا حقنا، ففيه احتمال. وغالب الظن أنهم يجابون.
قلت: هذا الذي ذكره من فسخ الأضعف فالأضعف، هو الذي قطع به
الأصحاب في جميع الطرق، وحكاه صاحب المهذب عن الأصحاب. ثم قال:
ويحتمل أن يفسخ الآخر فالآخر، كما قلنا في تبرعات المريض إذا عجز عنها
الثلث، والمختار ما قاله الأصحاب. فعلى هذا، لو كان وقف وعتق، ففي
الشامل أن العتق يفسخ، ثم الوقف. وقال صاحب البيان: ينبغي أن يفسخ
الوقف أولا، لان العتق له قوة وسراية، وهذا أصح. ولو تعارض الرهن والهبة،
فسخ الرهن، لأنه لا يملك به العين. والله أعلم
وهذا الذي ذكرناه في بيعه لغير الغرماء، فإن باعهم، فسيأتي بيانه إن شاء الله
تعالى.
367

النوع الثاني: ما يرد على الذمة بأن اشترى في الذمة، أو باع طعاما سلما،
فيصح ويثبت في ذمته. وفي قول شاذ: لا يصح.
القسم الثاني: ما لا يصادف المال، فلا منع منه، كالنكاح، والطلاق،
والخلع، واستيفاء القصاص، والعفو عنه، واستلحاق النسب، ونفيه باللعان.
الضرب الثاني: الاقرار. فإن أقر بدين لزمه قبل الحجر عن معاملة، أو
إتلاف، أو غيرهما، لزمه ما أقر به. وهل يقبل في حق الغرماء؟ قولان. أحدهما:
لا. لئلا يضرهم بالمزاحمة. وأظهرهما: يقبل، كما لو ثبت بالبينة. وكإقرار
المريض بدين يزحم غرماء الصحة، ولعدم التهمة الظاهرة. وإن أقر بدين لزمه بعد
الحجر، فإن قال: عن معاملة، لم تقبل في حق الغرماء. وإن قال: عن إتلاف أو
جناية، فالمذهب: أنه كما قبل الحجر، وقيل: كدين المعاملة بعده. وإن أقر
بدين ولم ينسبه، فقياس المذهب: التنزيل على الأول، وجعله كإسناده إلى ما قبل
الحجر.
قلت: هذا ظاهر إن تعذرت مراجعة المقر. فإن أمكنت، فينبغي أن يراجع،
لأنه يقبل إقراره. والله أعلم.
368

وأما إذا أقر بعين مال لغيره، فقال: غصبته، أو استعرته، أو أخذته سوما،
فقولان كما لو أسند الدين إلى ما قبل الحجر، أظهرهما: القبول. لكن إذا قبلنا،
ففائدته هناك مزاحمة المقر له الغرماء، وهنا تسلم إليه العين وإن لم يقبل، فإن
فضل، سلم إليه، وإلا، فالغرم في ذمته. والفرق بين الانشاء، حيث أبطلناه في
الحال قطعا وكذا عند زوال الحجر على الأظهر، وبين الاقرار حيث قبلناه في
المفلس قطعا، وفي الغرماء على الأظهر، أن مقصود الحجر، منعه التصرف،
فأبطلناه. والاقرار إخبار عن ماض، والحجر لا يسلبه العبارة.
فرع إذا أقر بسرقة توجب القطع، قطع. وفي ر المسروق، القولان.
والقبول هنا أولى، لبعده عن التهمة. ولو أقر بما يوجب القصاص، فعفا على مال،
ففي التهذيب أنه كالاقرار بدين الجناية. وقطع بعضهم بالقبول، لانتقاء التهمة.
فرع إدعي عليه مال لزمه قبل الحجر، فأنكر ونكل، فحلف المدعي، إن
قلنا: النكول ورد اليمين كالبينة، زاحم، وإن قلنا: كالاقرار، فعلى القولين.
القيد الثاني: كونه مصادفا للمال الموجود عند الحجر. فلو تجدد بعده
باصطياد، أو اتهاب، أو قبول وصية، ففي تعدي الحجر إليه ومنعه التصرف فيه،
وجهان. أصحهما: التعدي. ولو اشترى في الذمة، ففي تصرفه، هذان
الوجهان. وهل للبائع الخيار والتعلق بعين متاعه؟ فيه أوجه. أصحها: الثالث
، وهو إثباته للجاهل دون العالم. فإن لم نثبته، فهل يزاحم الغرماء بالثمن؟ وجهان.
أصحهما: لا، لأنه حادث برضى مستحقه،
والمزاحمة بالدين الحادث ثلاثة أقسام.
أحدها: ما لزم برضى مستحقه. فإن كان في مقابلته شئ، كثمن المبيع،
ففيه هذه الوجهان، وإلا، فلا مزاحمة بلا خلاف، بل يصير إلى انفكاك الحجر.
الثاني: ما لزم بغير رضى المستحق، كالجناية والاتلاف، فيزاحم به على
المذهب، وبه قطع العراقيون. وقيل: وجهان، لتعلق حقوق الأولين، كما لو جنى
وليس له إلا عبد مرهون، لا يزاحم المجني عليه المرتهن.
الثالث: ما يتجدد بسبب مؤنة المال، كأجرة الكيال، والوزان، والحمال
369

والمنادي، والدلال، وكراء البيت الذي فيه المتاع، فهذه المؤن تقدم على حقوق
الغرماء، لأنها لمصلحة الحجر. هذا إن لم نجد متبرعا. فإن وجد، أو كان في
بيت المال سعة، لم يصرف مال المفلس إليها.
قلت: لو تجدد دين بعد الحجر، وأقر بسابق وقلنا: لا مزاحمة بهما، فهما
سواء، وما فضل، قسم بينهما، قاله في التتمة. والله أعلم.
القيد الثالث: كون التصرف مبتدءا، فلو اشترى شيئا قبل الحجر، فوجده بعد
الحجر معيبا، فله رده إن كان في الرد غبطة، لان الحجر لا ينعطف على ماض،
فإن منع من الرد عيب حادث، لزمه الأرش، ولم يملك المفلس إسقاطه. وإن
كانت الغبطة في بقائه، لم يملك رده، لأنه تفويت بغير عوض. ولهذا نص
الشافعي رضي الله عنه، على أنه لو اشترى في صحته شيئا، ثم مرض، ووجده
معيبا، فأمسكه والغبطة في رده، كان القدر الذي نقصه العيب محسوبا من الثلث،
وكذلك الولي إذا وجد ما اشتراه للطفل معيبا، لا يرده إذا كانت الغبطة في بقائه، ولا
يثبت الأرش في هذه الصورة، لان الرد غير ممتنع في نفسه، وإنما المصلحة تقتضي
الامتناع.
فرع لو تبايعا بشرط الخيار، ففلسا أو أحدهما، فلكل منهما إجازة البيع
ورده بغير رضى الغرماء، هكذا نص عليه الشافعي رضي الله عنه.
وفيه ثلاثة طرق. أصحها: الاخذ بظاهره، فيجوز الفسخ والإجازة على وفق
الغبطة، وعلى خلافها، لأنه إنما يمنع من ابتداء تصرف. والثاني: تجويزهما
بشرط الغبطة كالرد بالعيب. والثالث: إن وقعا على وفق الغبطة، صح، وإلا،
فيبنى على أقوال الملك في زمن الخيار، وينظر من أفلس. فإن كان المشتري،
370

وقلنا: الملك للبائع، فللمشتري الإجازة والفسخ. وإن قلنا: للمشتري، فله
الإجازة، لأنها استدامة ملك، ولا فسخ، لأنه إزالة. وإن أفلس البائع، وقلنا:
الملك له، فله الفسخ، لأنه استدامة، وليس له الإجازة. وإن قلنا: للمشتري،
فللبائع الفسخ والإجازة.
فصل من مات وعليه دين، فادعى وارثه دينا له على رجل، وأقام شاهدا
وحلف معه، ثبت الحق وجعل في تركته. فإن لم يحلف، لم ترد اليمين على
الغرماء على الجديد.
ولو ادعى المحجور عليه بالفلس دينا والتصوير كما ذكرنا، لم يحلف الغرماء
على المذهب. وقيل: فيه القولان. وحكى الامام عن شيخه طرد الخلاف في
ابتداء الدعوى من الغرماء. وعن الأكثرين، القطع بمنع الدعوى ابتداء، وتخصيص
الخلاف باليمين بعد دعوى الوارث في المسألة الأولى، والمفلس في الثانية.
قلت: وطرد صاحب التهذيب القولين في الدعوى من غريم الميت إذا
تركها وارثه. والله أعلم.
وسواء كان المدعى عينا أو دينا، قاله ابن كج: وفرع على قولنا: يحلف
الغرماء، أنه لو حلف بعضهم فقط، استحق الحالفون بالقسط، كما لو حلف بعض
الورثة. قال: ولو حلفوا ثم أبرئوا من ديونهم، فهل يكون المحلوف عليه لهم ويبطل
الابراء؟ أم يكون للمفلس؟ أم يسقط عن المدعى عليه فلا يستوفى أصلا؟ فيه ثلاثة
أوجه.
قلت: ينبغي أن يكون أصحها: كونه للمفلس. ويجئ مثله في غرماء
الميت، وهذا المذكور عن ابن كج في حلف بعضهم، قاله آخرون، منهم صاحب
الحاوي. ولو ادعى المفلس على رجل مالا، ولم يكن له شاهد، ونكل
المدعى عليه، ثم المفلس، ففي حلف الغرماء الخلاف المذكور مع الشاهد، قاله
القاضي أبو الطيب، وصاحب التهذيب. ولا يحلف الغريم إلا على قدر دينه.
والله أعلم.
فصل إذا أراد السفر من عليه دين، فإن كان حالا، فلصاحبه منعه حتى
371

يقضي حقه. قال أصحابنا: وليس هذا منعا من السفر، كما يمنع عبده وزوجته
السفر، بل يشغله عن السفر برفعه إلى مجلس القاضي ومطالبته حتى يوفي. وإن
كان مؤجلا، فإن لم يكن السفر مخوفا، فلا منع، إذ لا مطالبة، وليس له طلب رهن
ولا كفيل قطعا، ولا يكلفه الاشهاد على الصحيح. وسواء كان الأجل قريبا أم
بعيدا، فإن أراد السفر معه ليطالبه عند حلوله، فله ذلك بشرط أن لا
يلازمه. فإن كان السفر مخوفا، كالجهاد، وركوب البحر، فلا منع على الأصح
مطلقا. وفي وجه: يمنع إلى أن يؤدي الحق، أو يعطي كفيلا، قاله الإصطخري
وفي وجه: إن لم يخلف وفاء، منعه. وفي وجه: إن كان المديون من المرتزقة،
لم يمنع الجهاد، وإلا، منع، واختار الروياني مذهب مالك رضي الله عنه فقال: له
المطالبة بالكفيل في السفر المخوف، وفي السفر البعيد عند قرب الحلول.
فصل إذا ثبت إعسار المديون، لم يجز حبسه، ولا ملازمته، بل يمهل
إلى أن يوسر. وأما الذي له مال وعليه دين، فيجب أداؤه إذا طلب. فإذا امتنع،
أمره الحاكم به. فإن امتنع، باع الحاكم ماله وقسمه بين غرمائه.
قلت: قال القاضي أبو الطيب والأصحاب: إذا امتنع، فالحاكم بالخيار، إن
شاء باع ماله عليه بغير إذنه، وإن شاء أكرهه على بيعه، وعزره بالحبس وغيره حتى
يبيعه. والله أعلم.
فإن التمس الغرماء الحجر عليه، حجر على الأصح كيلا يتلف ماله. فإن
أخفى ماله، حبسه القاضي حتى يظهره. فإن لم ينزجر بالحبس. زاد في تعزيره بما
يراه من الضرب وغيره. وإن كان ماله ظاهرا، فهل يحبسه لامتناعه؟ قال في
التتمة: فيه وجهان. الذي عليه عمل القضاة، الحبس. فإن ادعى أنه تلف
وصار مفلسا، فعليه البينة. ثم إن شهدوا على التلف، قبلت شهادتهم، ولم
تعتبر فيهم الخبرة مطلقا. وإن شهدوا بإعساره، قبلت بشرط الخبرة الباطنة. قال
372

الصيدلاني: ويحمل قولهم: معسر، على أنهم وقفوا على تلف المال.
فرع إذا ادعى المديون أنه معسر، أو قسم مال المحجور عليه على
الغرماء، وبقي بعض الدين، فزعم أنه لا يملك شيئا آخر، وأنكر الغرماء، نظر،
إن لزمه الدين في مقابلة مال، بأن اشترى، أو اقترض، أو باع سلما، فهو كما لو
ادعى هلاك المال، فعليه البينة. وإن لزمه لا في مقابلة مال، فثلاثة أوجه.
أصحها: يقبل قوله بيمينه. والثاني: يحتاج إلى البينة. والثالث: إن لزمه
باختياره كالصداق والضمان، لم يقبل، واحتاج إلى البينة، إن لزمه لا باختياره
كإرش الجناية وغرامة المتلف، قبل قوله بيمينه، لأن الظاهر أنه لا يشغل ذمته بما لا
يقدر عليه.
فرع البينة على الاعسار مسموعة، وإن تعلقت بالنفي للحاجة، كشهادة
أن لا وارث غيره، وتسمع وإن أقامها في الحال. ويشترط في الشهود مع شروط
الشهود، الخبرة الباطنة كطول الجوار أو المخالطة. فإن عرف القاضي أنهم بهذه
الصفة، فذاك، وإلا، فله اعتماد قولهم: إنا بهذه الصفة، قاله في النهاية.
ويكفي شاهدان كسائر الحقوق. وقال الفوراني: يشترط ثلاثة، وهذا شاذ. وفيه
حديث في صحيح مسلم وحمله الجمهور على الاستظهار والاحتياط.
وأما صيغة شهادتهم، فأن يقولوا: هو معسر لا يملك إلا قوت يومه وثياب
بدنه.
373

ولو أضافوا إليه: وهو ممن تحل له الصدقة، جاز ولا يشترط. قال في
التتمة: ولا يقتصرون على أنه لا ملك له، حتى لا تتمحض شهادتهم نفيا، لفظا
ومعنى، ويحلف المشهود له مع البينة، لجواز أن يكون له مال في الباطن.
وهل هذا التحليف واجب، أم مستحب؟ قولان. ويقال: وجهان. أظهرهما:
الوجوب، وعلى التقديرين، هل يتوقف على استدعاء الخصم؟ وجهان. أحدهما:
لا، كما لو ادعي على ميت أو غائب. فعلى هذا هو من آداب القضاء. وأصحهما:
نعم. كيمين المدعى عليه. قال الامام: الخلاف فيما إذا سكت، فأما إذا قال:
لست أطلب يمينه، ورضيت بإطلاقه، فلا يحلف بلا خلاف.
فرع حيث قبلنا قوله مع يمينه، فيقبل في الحال كالبينة. قال الامام:
ويحتمل أن يتأنى القاضي ويسأل عن باطن حاله، بخلاف البينة. وحيث قلنا: لا
يقبل قوله إلا ببينة، فادعى أن الغرماء يعرفون إعساره، فله تحليفهم على نفي
العلم، فإن نكلوا، حلف وثبت إعساره. وإن حلفوا، حبس. ومهما ادعى ثانيا
وثالثا أنه بان لهم إعساره، فإن له تحليفهم، قال في التتمة: إلا أن يظهر
للقاضي أنه يقصد الايذاء واللجاج.
فرع إذا حبسه، لا يغفل عنه بالكلية. فلو كان غريبا لا يتأتى له إقامة
البينة، فينبغي أن يوكل به القاضي من يبحث عن وطنه ومنقلبه، ويتفحص عن
أحواله بحسب الطاقة، فإذا غلب على ظنه إعساره، شهد به عند القاضي لئلا يتخلد
في الحبس، ومتى ثبت الاعسار، وخلاه الحاكم، فعاد الغرماء وادعوا بعد أيام
أنه استفاد مالا، وأنكر، فالقول قوله، وعليهم البينة. فإن أتوا بشاهدين فقالا:
رأينا في يده مالا يتصرف فيه، أخذه الغرماء. فإن قال: أخذته من فلان وديعة أو
قراضا، وصدقه المقر له، فهو له ولا حق فيه للغرماء. وهل لهم تحليفه: أنه لم
374

يواطئ المقر له، وأقر عن تحقيق؟ وجهان. أصحهما: لا، لأنه لو رجع عن
إقراره، لم يقبل. وإن كذبه المقر له، صرف إلى الغرماء، ولا يلتفت إلى إقراره
لآخر. وإن كان المقر له غائبا، توقف حتى يحضر، فإن صدقه، أخذه، وإلا،
فيأخذه الغرماء.
فرع في حبس الوالدين بدين الولد، وجهان. أصحهما عند الغزالي:
يحبس. وأصحهما في التهذيب وغيره، لا يحبس، ولا فرق بين دين النفقة
وغيره، ولا بين الولد الصغير والكبير.
قلت: وإذا حبس المفلس، لم يأثم بترك الجمعة إذا كان معسرا. قال
الصيمري: وقيل: يلزمه استئذان الغريم حتى يمنعه، فيسقط الحضور. والنفقة في
الحبس في ماله على المذهب. وحكى الصيمري، والشاشي، وصاحب البيان
فيها وجهين ثانيهما أنها على الغريم. فإن كان المفلس ذا صنعة، مكن من عملها في
الحبس على الأصح. والثاني: يمنع إن علم منه مماطلة بسبب ذلك، حكاهما
الصيمري والشاشي وصاحب البيان. ورأيت في فتاوى الغزالي رحمه الله، أنه
سئل، هل يمنع المحبوس من الجمعة والاستمتاع بزوجته ومحادثة أصدقائه؟ فقال:
الرأي إلى القاضي في تأكيد الحبس بمنع الاستمتاع ومحادثة الصديق، ولا يمنع من
الجمعة إلا إذا ظهرت المصلحة في منعه. وفي فتاوى صاحب الشامل أنه إذا أراد
شم الرياحين في الحبس، إن كان محتاج إليه لمرض ونحوه، لم يمنع، وإن كان
غير محتاج بل يريد الترفه، منع. وأنه يمنع من الاستمتاع بالزوجة، ولا يمنع من
دخولها لحاجة كحمل الطعام ونحوه. وأن الزوجة إذا حبست في دين استدانته بغير
375

إذن الزوج، فإن ثبت بالبينة، لم يسقط نفقتها مدة الحبس، لأنه بغير رضاها فأشبه
المرض. وإن ثبت بالاقرار، سقطت، هكذا قال، والمختار سقوطها في الحالين،
كما لو وطئت بشبهة فاعتدت، فإنها تسقط، وإن كانت معذورة. قال أصحابنا: ولو
حبس في حق رجل، فجاء آخر وادعى عليه، أخرجه الحاكم فسمع الدعوى، ثم
يرده. قال في البيان لو مرض في الحبس ولم يجد من يخدمه فيه، أخرج. فإن
وجد من يخدمه، ففي وجوب إخراجه، وجهان. فإن جن، أخرج قطعا. وإذا
حبس لحق جماعة، لم يكن لواحد إخراجه، حتى يجتمعوا على إخراجه ولو حبس
لحق غريم، ثم استحق آخر حبسه، جعله القاضي محبوسا للاثنين، فلا يخرج إلا
باجماعهما. قال: وإذا ثبت إعساره، أخرجه بغير إذن الغريم.. والله أعلم.
فصل إذا حجر الحاكم على المفلس، استحب أن يبادر ببيع ماله
وقسمته، لئلا يطول زمن الحجر، ولا يفرط في الاستعجال، لئلا يباع بثمن
بخس، ويستحب أن يبيع بحضرة المفلس، أو وكيله، وكذا يفعل إذا باع
المرهون. ويستحب أيضا إحضار الغرماء، ويقدم بيع المرهون والجاني، ليتعجل
حق مستحقيهما. فإن فضل عنهما شئ ضم إلى سائر الأموال. وإن بقي من دين
المرتهن شئ، ضارب به.
قلت: ويقدم أيضا المال الذي تعلق به حق عامل القراض، ويقدم بالربح
376

المشروط، صرح به الجرجاني وهو ظاهر. والله أعلم.
ويبيع أولا ما يخاف فساده، ثم الحيوان، ثم سائر المنقولات، ثم العقار،
ويباع كل شئ في سوقه.
قلت: بيع شئ في سوقه، مستحب. فلو باع في غيره بثمن مثله،
صح، قاله أصحابنا. وهذا المذكور من تقديم بيع المرهون والجاني، وهو إذا لم
يخف تلف ما يسرع فساده. فإن خيف، قدم بيعه عليهما. والله أعلم.
ويجب أن يبيع بثمن المثل حالا من نقد البلد. فإن كانت الديون من غير
ذلك النقد، ولم يرض المستحقون إلا بجنس حقهم، صرفه إليه. وإلا فيجوز
صرفه إليهم إلا أن يكون سلما.
فرع لا يسلم المبيع قبل قبض الثمن، نص عليه الشافعي رضي الله عنه.
وقد سبق أقواله، فيما إذا تنازع المتبايعان في البداءة بالتسليم، فقال أبو إسحاق:
نصه هنا تفريع على قولنا يبدأ بالمشتري، ويجئ عند النزاع قول آخر: أنهما
يجبران معا، ولا يجئ قولنا لا يجبر واحد منهما، لان الحال لا يحتمل التأخير، ولا
قولنا: البداءة بالبائع، لان من تصرف لغيره، لزمه الاحتياط. وقال ابن القطان:
تجب البداءة هنا بتسليم الثمن، بلا خلاف. ثم لو خالف الواجب وسلم قبل قبض
الثمن، ضمن، وسنذكر إن شاء الله تعالى كيفية الضمان.
فرع ما يقبضه الحاكم من أثمان أمواله على التدريج إن كان يسهل قسمته
عليهم، فالأولى أن لا يؤخر. وإن كان يعسر لقلته وكثرة الديون. فله التأخير
377

لتجتمع، فإن أبوا التأخير، ففي النهاية إطلاق القول بأنه يجيبهم. والظاهر،
خلافه وإذا تأخرت القسمة، فإن وجد من يقرضه إياه، فعل، ويشترط فيه الأمانة
واليسار. وليودع عند من يرضاه الغرماء، فإن اختلفوا أو عينوا غير عدل، فالرأي
للحاكم، ولا يقنع بغير عدل. ولو تلف شئ في يد العدل، فهو من ضمان
المفلس، سواء كان في حياة المفلس أو بعد موته.
فرع لا يكلف الغرماء عند القسمة إقامة البينة على أنه لا غريم سواهم،
ويكفي بأن الحجر قد استفاض.
فلو كان غريم، لظهر وطلب حقه، هكذا نقله الامام عن صاحب
التقريب، ثم قال: ولا فرق عندنا بين القسمة على الغرماء وبين القسمة على
الورثة. فإذا قلنا: في الورثة لا بد من بينة بأن لا وارث غيرهم، فكذا الغرماء.
ولفارق أن يفرق بأن الورثة على كل حال أضبط من الغرماء.
قلت: الأصح: قول صاحب التقريب وهو ظاهر كلام الجمهور. ويفرق
أيضا، بأن الغريم الموجود، تيقنا استحقاقه لما يخصه، وشككنا في مزاحم. ثم لو
قدر مزاحم، لم يخرج هذا عن كونه يستحق هذا القدر في الذمة، وليست مزاحمة
الغريم متحتمة، فإنه لو أبرأ أو أعرض، سلمنا الجميع إلى الآخر، والوارث يخالفه
في جميع ذلك. والله أعلم.
وإذا جرت القسمة، ثم ظهر غريم، فالصحيح أن القسمة لا تنقض، ولكن
يشاركهم بالحصة، لان المقصود يحصل بذلك. وفي وجه، ينقض فيستأنف.
فعلى الصحيح، لو قسم ماله وهو خمسة عشر على غريمين، لأحدهما عشرون،
وللآخر عشرة، فأخذ الأول عشرة، والآخر خمسة، فظهر غريم له ثلاثين، استرد
378

من كل واحد نصف ما أخذه. ولو كان دينهما عشرة وعشرة، فقسم المال نصفين،
ثم ظهر غريم بعشرة، رجع على كل واحد بثلث ما أخذه. فإن أتلف أحدهما، ما
أخذ وكان معسرا لا يحصل منه شئ، فوجهان. أصحهما: يأخذ الغريم الثالث
من الآخر نصف ما أخذه، وكأنه كل مال ثم إذا أيسر المتلف أخذ منه ثلث ما
أخذه وقسماه بينهما. والثاني: لا يأخذ منه إلا ثلث ما أخذه، وله ثلث ما أخذ
المتلف دين عليه. ولو ظهر الغريم الثالث، وظهر للمفلس مال عتيق، أو حادث بعد
الحجر، صرف منه إلى من ظهر بقسط ما أخذه الأولان. فإن فضل شئ قسم على
الثلاثة، وهذا كله في ظهور غريم بدين قديم. فإن كان بحادث بعد الحجر، فلا
مشاركة في المال القديم. وإن ظهر مال قديم، وحدث مال باحتطاب وغيره،
فالقديم للقدماء خاصة، والحادث للجميع.
فرع لو خرج شئ مما باعه المفلس قبل الحجر مستحقا، والثمن غير
باق، فهو كدين ظهر، وحكمه ما سبق. وإن باع الحاكم ماله، فظهر مستحقا بعد
قبض الثمن وتلفه، رجع المشتري في مال المفلس، ولا يطالب الحاكم به. ولو
نصب أمينا فباعه، ففي كونه طريقا، وجهان. كما ذكرنا في العدل الذي نصبه
القاضي ليبيع المرهون.
قلت: أصحهما: لا يكون، قاله صاحب التهذيب. والله أعلم.
وإذا رجع المشتري أو الأمين إذا جعلناه طريقا، وغرم في مال المفلس، قدما
على الغرماء على المذهب، لأنه من مصالح البيع كأجرة الكيال لئلا يرغب عن
الشراء من ماله. وفي قول، يضاربان. وقيل: إن رجعا قبل القسمة، قدما. وإن
كان بعد القسمة واستئناف حجر بسبب مال تجدد، ضاربان.
فصل فيما يباع من مال المفلس فيه مسائل: إحداها: ينفق الحاكم
على المفلس إلى فراغه من بيع ماله وقسمته، وكذا ينفق على من عليه مؤنته من
379

الزوجات والأقارب، لأنه موسر ما لم يزل ملكه. وكذلك يكسوهم بالمعروف.
هذا إذا لم يكن له كسب يصرف إلى هذه الجهات. وأما قدر نفقة الزوجات، فقال
الامام: لا شك أن نفقته نفقة المعسرين. وقال الروياني: نفقة الموسرين. وهذا
قياس الباب، إذ لو كان نفقة المعسر، لما أنفق على القريب.
قلت: يرجح قول إمام الحرمين بنص الشافعي رضي الله عنه، إذ قال في
المختصر: أنفق عليه وعلى أهله كل يوم أقل ما يكفيهم من نفقة وكسوة. والله
أعلم.
الثانية: يباع مسكنه وخادمه. وإن كان محتاجا إلى من يخدمه لزمانة، أو كان
منصبه يقتضي ذلك، هذا هو المذهب والمنصوص. وفي وجه، يبقيان إذا كانا
لائقين به بدون النفيسين. وفي وجه، يبقى المسكن فقط.
الثالثة: يترك له دست ثياب تليق به، من قميص، وسراويل، ومنعل،
ومكعب. وإن كان في الشتاء زاد جبة. ويترك له عمامة، وطيلسان، وخف
380

دراعة يلبسها فوق القميص، إن كان يليق به لبسها. وتوقف الامام في الخف
والطيلسان وقال: تركهما لا يخرم المروءة. وذكر أن الاعتبار بحاله في إفلاسه، لا
في بسطته وثروته. لكن المفهوم من كلام الأصحاب، أنهم لا يوافقونه ويمنعون
قوله: تركهما لا يحرم المروءة. ولو كان يلبس قبل إفلاسه فوق ما يليق بمثله رددناه
إلى ما يليق، ولو كان يلبس دون اللائق تقتيرا، لم يرد إليه. ويترك لعياله من
الثوب، كما يترك له. ولا يترك الفرش والبسط، لكن يسامح باللبد والحصير القليل
القيمة.
الرابعة: يترك قوت يوم القسمة له ولمن عليه نفقته، لأنه موسر في أوله. ولا
يزاد على نفقة ذلك اليوم، وذكر الغزالي، أنه يترك له سكنى ذلك اليوم أيضا،
فاستمر على قياس النفقة، لكنه لم يتعرض له غيره.
الخامسة: كل ما قلنا يترك له، إن لم نجده في ماله، اشتري له.
قلت: قال صاحب التهذيب يباع عليه مركوبه، وإن كان ذا مروءة. قال
أصحابنا: وإذا مات المفلس، قدم كفنه، وحنوطه، ومؤنة غسله ودفنه على
الديون، وكذلك من مات من عبيده، وأم ولده، وزوجته إن أوجبنا عليه كفنها،
وكذلك أقاربه الذين تلزمه نفقتهم، نص عليه في المختصر واتفقوا عليه. قال في
البيان وتسلم إليه النفقة يوما بيوم. والله أعلم.
فصل من قواعد الباب، أن المفلس لا يؤمر بتحصيل ما ليس بحاصل،
ولا يمكن من تفويت ما هو حاصل.
فلو جني عليه أو على عبده، فله القصاص. ولا يلزمه العفو على مال. فلو
كانت الجناية موجبة للمال، فليس له ولا لوارثه العفو بغير إذن الغرماء. ولو كان
381

أسلم في شئ، فليس له أن يقبضه مسامحا ببعض الصفات المقصودة المشروطة إلا
بإذنهم. ولو كان وهب هبة تقتضي الثواب، وقلنا: يتقدر الثواب بما يرضى به
الواهب، فله أن يرضى بما شاء. ولا يكلفه طلب زيادة، لأنه تحصيل. وإن قلنا:
يتقدر المثل، لم يجز الرضى بما دونه. ولو زاد على المثل، لم يجب القبول.
وليس على المفلس أن يكتسب ويؤاجر نفسه ليصرف الكسب والأجرة في الديون
أو بقيتها. ولو كان له أم ولد أو صيغة موقوفة عليه، فهل يؤاجران عليه؟ وجهان.
ميل الامام إلى المنع. وفي تعاليق العراقيين، ما يدل على أن الايجار أصح.
فعلى هذا، يؤجر مرة بعد أخرى إلى أن يفنى الدين. ومقتضى هذا، إدامة الحجر
إلى فناء الدين، وهذا كالمستبعد.
قلت: الايجار أصح، وصححه في المحرر. وذكر الغزالي في
الفتاوي أنه يجبر على إجارة الوقف ما لم يظهر تفاوت بسبب تعجيل الأجرة إلى
حد لا يتغابن به الناس في عرض قضاء الدين، والتخلص من المطالبة. والله أعلم
فصل إذا قسم الحاكم مال المفلس بين الغرماء، فهل ينفك الحجر
بنفسه، أم يحتاج إلى فك الحاكم؟ وجهان. أصحهما: يحتاج كحجر السفه. هذا
382

إن اعترف الغرماء أن لا مال له سواه. فإن ادعوا مالا آخر، فأنكر، فقد سبق بيانه.
ولو اتفق الغرماء على دفع الحجر، فهل يرتفع كالمرهون، أم لا يرتفع إلا بالحاكم
لاحتمال غريم آخر؟ فيه وجهان. ولو باع المفلس ماله لغريمه بدينه ولا غريم
سواه، أو حجر عليه لجماعة، فباعهم أمواله بديونهم، فهل يصح بغير إذن
القاضي؟ وجهان. أصحهما: لا بد من إذنه. ولو باعه لغريمه بعين أو ببعض دينه،
فهو كما لو باعه لأجنبي، لان ذلك لا يتضمن ارتفاع الحجر عنه، بخلاف ما إذا باع
بكل الدين، فإنه يسقط الدين، وإذا سقط، ارتفع الحجر. ولو باع لأجنبي بإذن
الغرماء، لم يصح. وقال الامام: يحتمل أن يصح كبيع المرهون بإذن المرتهن.
الحكم الثاني: الرجوع في عين المال، ونقدم عليه مسائل.
إحداها: من حجر عليه بافلاس، ووجد من باعه ولم يقبض الثمن متاعه
عنده، فله أن يفسخ البيع ويأخذ عين ماله، والأصح: أن هذا الخيار على
الفور، كخيار العيب والخلف. فإن علم فلم يفسخ، بطل حقه من الرجوع في
العين. وفي وجه: يدوم كخيار الهبة للولد. وفي وجه: يدوم ثلاثة أيام.
الثانية في افتقار هذا الفسخ إلى إذن الحاكم، وجهان. أصحهما: لا
يفتقر، لثبوت الحديث فيه، كخيار العتق. ولوضوح الحديث، قال الإصطخري:
لو حكم الحاكم بمنع الفسخ، نقضنا حكمه.
قلت: الأصح: أن لا ينقض، للاختلاف فيه. والله أعلم.
الثالثة: لا يحصل هذا الفسخ ببيع البائع، وإعتاقه، ووطئه المبيعة على
الأصح، وتلغو هذه التصرفات.
الرابعة: صيغة الفسخ، كقوله: فسخت البيع، أو نقضته، أو رفعته، فلو
اقتصر على رددت الثمن، أو فسخت البيع فيه، حصل الفسخ على الأصح. ووجه
المنع: أن مقتضى الفسخ، إضافته إلى العقد المطلق.
383

فصل حق الرجوع، إنما يثبت بشروط، ولا يختص بالمبيع، بل يجري
في غيره من المعاوضات، ويحصل بيانه بالنظر في العوض المتعذر تحصيله،
والمعوض المسترجع، والمعاوضة التي انتقل الملك بها إلى المفلس. أما العوض
وهو الثمن وغيره من الأعواض، فيعتبر فيه وصفان. أحدهما: تعذر استئنافه
بالافلاس، وفيه صور.
إحداها: إذا كان ماله وافيا بالديون وجوزنا الحجر، فحجر، ففي ثبوت
الرجوع، وجهان. وقطع الغزالي بالمنع، لأنه يصل إلى الثمن.
الثانية: لو قال الغرماء: لا نفسخ لتقدمك بالثمن، لم يلزمه ذلك على
الصحيح، لان فيه منة وقد يظهر مزاحم. ولو قالوا: نؤدي الثمن من خالص أموالنا،
أو تبرع به أجنبي، فليس عليه القبول. ولو أجاب، ثم ظهر غريم آخر، لم يزاحمه
في المأخوذ. ولو مات المشتري، فقال الوارث: لا ترجع فأنا أقدمك، لم يلزمه
القبول. فلو قال: أؤدي من مالي، فوجهان. وقطع في التتمة بلزوم
القبول، لان الوارث خليفة الميت.
الثالثة: لو امتنع المشتري من تسليم الثمن مع اليسار، أو هرب، أو مات
مليئا، وامتنع الوارث من التسليم، فلا فسخ على الأصح، لعدم عيب الافلاس،
وإمكان الاستيفاء بالسلطان. فإن فرض عجز، فنادر لا عبرة به.
384

ولو ضمن بغير إذنه، فوجهان. أحدهما: يرجع كما لو تبرع رجل بالثمن.
والثاني: لا، لان الحق قد صار في ذمته، وتوجهت عليه المطالبة، بخلاف
المتبرع. ولو أعير للمشتري شئ، فرهنه على الثمن، فعلى الوجهين. ولو انقطع
الجنس الثمن، فإن جوزنا الاعتياض عنه، فلا تعذر في استيفاء عوض عنه، فلا
فسخ، وإلا فكانقطاع المسلم فيه، فيثبت حق الفسخ على الأظهر. وعلى الثاني:
ينفسخ.
الوصف الثاني: كون الثمن حالا. فلو كان مؤجلا، فلا فسخ على
المذهب. وفيه وجه سبق في أول الباب. ولو حل الأجل قبل انفكاك حجره، فقد
سبق بيانه هناك وأما المعاوضة، فيعتبر فيما ملك به المفلس، شرطان.
أحدهما: كونه معاوضة مختصة، فيدخل فيه أشياء، ويخرج منه أشياء. فما يخرج
أنه لا فسخ بتعذر استيفاء عوض الصلح عن الدم، ولا يتعذر عوض الخلع قطعا.
وأنه لا فسخ للزوج بامتناعها من تسليم نفسها. وفي فسخها بتعذر الصداق، خلاف
معروف. وأما الذي يدخل فيه، فمنه السلم، والإجارة. أما السلم، فإذا أفلس
المسلم إليه قبل أداء المسلم فيه، فلرأس المال ثلاثة أحوال.
الأول: أن يكون باقيا، فللمسلم فسخ العقد والرجوع إلى رأس المال
كالبيع. فإن أراد أن يضارب بالمسلم فيه، فسنذكر كيفية المضاربة.
الثاني: أن يكون تالفا، فوجهان. أحدهما: له الفسخ والمضاربة برأس
385

المال، لأنه تعذر الوصول إلى تمام حقه، فأشبه انقطاع جنس المسلم فيه. فعلى
هذا قيل: يجئ قول بانفساخ السلم، كما جاء في الانقطاع. وقيل: لا، لأنه ربما
حصل باستقراض وغيره، بخلاف صورة الانقطاع. وأصحهما: ليس له الفسخ،
كما لو أفلس المشتري بالثمن والمبيع تالف. ويخالف الانقطاع، لان هناك إذا
فسخ، رجع إلى رأس المال بتمامه، وهنا ليس إلا المضاربة، ولو لم يفسخ لضارب
بالمسلم فيه وهو أنفع غالبا، فعلى هذا يقوم المسلم فيه ويضارب المسلم بقيمته،
فإذا عرف حصته، نظر، إن كان في المال من جنس المسلم فيه، صرفه إليه، وإلا
فيشتري بحصته منه ويعطاه، لان الاعتياض عنه لا يجوز. هذا إذا لم يكن جنس
المسلم فيه منقطعا. فإن كان، فقيل: لا فسخ، إذ لا بد من المضاربة على
التقديرين. والصحيح: ثبوت الفسخ، لأنه يثبت في هذه الحالة في حق غير
المفلس، ففي حقه أولى، وكالرد بالعيب. وفيه فائدة، فإن ما يخصه بالفسخ،
يأخذه في الحال عن رأس المال. وما يخصه بلا فسخ، لا يعطاه، بل يوقف إلى
عود المسلم فيه فيشتري به.
فرع لو قومنا المسلم فيه، فكانت قيمته عشرين، فأفرزنا للمسلم فيه من
المال عشرة، لكون الدين مثل المال، فرخص السعر قبل الشراء، فوجد بالعشرة
جميع المسلم فيه، فوجهان. أحدهما وبه قطع في الشامل: يرد الموقوف إلى ما
يخصه باعتبار قيمته آخرا، فيصرف إليه خمسة، والخمسة الباقية توزع عليه وعلى
سائر الغرماء، لان الموقوف باق على ملك المفلس، وحق المسلم في الحنطة، فإذا
صارت القيمة عشرة، فهي دينه. والثاني وبه قطع في التهذيب ونقله الامام عن
الجماهير: يشتري به جميع حقه ويعطاه، اعتبارا بيوم القسمة. وهو إن لم يملك
الموقوف، فهو كالمرهون بحق، وانقطع به حقه من الحصص، حتى لو تلف قبل
التسليم إليه، لم يتعلق بشئ مما عند الغرماء وبقي حقه في ذمة المفلس. ولا
خلاف أنه لو فضل الموقوف عن جميع حق المسلم، كان الفاضل للغرماء، وليس له
أن يقول: الزائد لي. ولو وقفنا في الصورة المذكور عشرة، فغلا السعر، ولم نجد
القدر المسلم فيه إلا بأربعين، فعلى الوجه الأول بان أن الدين أربعون، فيسترجع
من الغرماء ما يتم به حصته أربعين. وعلى الثاني: لا يزاحمهم، وليس له إلا ما
وقف له.
386

فرع لو تضاربوا، وأخذ المسلم ما يخصه قدرا من المسلم فيه، وارتفع
الحجر عنه، ثم حدث له مال وأعيد الحجر، واحتاجوا إلى المضاربة ثانيا، قدمنا
المسلم فيه. فإن وجدنا قيمته كقيمته أولا، فذاك. وإن زادت، فالتوزيع الآن يقع
باعتبار القيمة الزائدة، وإن نقصت، فهل الاعتبار بالقيمة الثانية، أم بالقيمة
الأولى؟ وجهان. الصحيح: الأول. قال الامام: ولا أعرف للثاني وجها. ولو كان
المسلم فيه عبدا أو ثوبا، فحصه المسلم يشترى بها شقص منه للضرورة. فإن لم
يوجد، فللمسلم الفسخ.
الحال الثالث: أن يكون بعض رأس المال باقيا، وبعضه تالفا، وهو كتلف
بعض المبيع، وسنذكره إن شاء الله تعالى، وأما الإجارة، فنتكلم في إفلاس
المستأجر، ثم المؤجر.
القسم الأول: المستأجر، والإجارة نوعان.
أحدهما: إجارة عين. فإذا أجر أرضا، أو دابة، وأفلس المستأجر قبل تسليم الأجرة
ومضي المدة، فللمؤجر فيه فسخ الإجارة على المشهور، تنزيلا للمنافع منزلة
الأعيان في البيع.
وفي قول: لا، إذ لا؟ وجود لها. فعلى المشهور: إن لم يفسخ، واختار
المضاربة بالأجرة، فله ذلك. ثم إن كانت العين المستأجرة فارغة، أجرها الحاكم
على المفلس، وصرف الأجرة إلى الغرماء. وإن كان الفلس بعد مضي بعض
المدة، فللمؤجر فسخ الإجارة في المدة الباقية، والمضاربة بقسط الماضية من
الأجرة المسماة، بناء على أنه لو باع عبدين، فتلف أحدهما، ثم أفلس، يفسخ
البيع في الباقي، ويضارب بثمن التالف.
ولو أفلس مستأجر الدابة في خلال الطريق، وحجر عليه، ففسخ المؤجر، لم
يكن له ترك متاعه في البادية المهلكة، ولكن ينقله إلى مأمن بأجرة مثل يقدم بها على
الغرماء، لأنه لصيانة المال، ثم في المأمن يضعه عند الحاكم. ولو وضعه عند عدل
من غير إذن الحاكم، فوجهان مذكوران في نظائرهما. ولو فسخ والأرض المستأجرة
مشغولة بزرع المستأجر، نظر، إن استحصد الزرع، فله المطالبة بالحصاد، وتفريغ
الأرض، وإلا، فإن اتفق المفلس والغرماء على قطعه، قطع، أو على التبقية إلى
387

الادراك، فلهم ذلك، بشرط أن يقدموا المؤجر بأجرة المثل للمدة الباقية، لأنها
لحفظه على الغرماء. وإن اختلفوا، فأراد بعضهم القطع، وبعضهم التبقية، فعن
أبي إسحاق: يعمل بالمصلحة، والصحيح: أنه إن كان له قيمة قطع، أجبنا من
أراد القطع من المفلس والغرماء، إذ ليس عليه تنمية ماله لهم، ولا عليهم انتظار
النماء. فعلى هذا، لو لم يأخذ المؤجر أجرة المدة الماضية، فهو أحد الغرماء، فله
طلب القطع، وإن لم يكن له قيمة لو قطع، أجبنا من طلب التبقية، إذ لا فائدة
لطالب القطع. وإذا أبقوا الزرع بالاتفاق، أو بطلب بعضهم، وأجبناه، فالسقي
وسائر المؤن، إن تطوع بها الغرماء أو بعضهم، أو أنفقوا عليه على قدر ديونهم،
فذاك، وإن أنفق بعضهم ليرجع، فلا بد من إذن الحاكم، أو اتفاق الغرماء
والمفلس. فإذا حصل الاذن، قدم المنفق بما أنفق. وكذا لو أنفقوا على قدر
ديونهم، ثم ظهر غريم آخر، قدم المنفقون بما أنفقوا على الغرماء. وهل يجوز
الانفاق عليه من مال المفلس؟ وجهان. أصحهما: الجواز. ووجه المنع: أن
حصول الفائدة متوهم.
قلت: وإن أنفق بإذن المفلس وحده، على أن يرجع بما أنفق،
جاز وكان دينا في ذمة المفلس، لا يشارك به الغرماء، لأنه وجب بعد الحجر. وإن
أنفق بعضهم بإذن باقيهم فقط، على أن يرجع عليهم، رجع عليهم في مالهم. والله
أعلم.
النوع الثاني: الإجارة على الذمة. ولنا خلاف في أن هذه الإجارة، هل لها
حكم السلم حتى يجب فيها تسليم رأس المال في المجلس، أم لا؟ فإن قلنا: لا،
فهي كإجارة العين، وإلا، فلا أثر للافلاس بعد التفرق لمصير الأجرة مقبوضة قبل
التفرق. فلو فرض الفلس في المجلس، فإن أثبتنا خيار المجلس فيها، استغني عن
هذا الخيار، وإلا، فهي كإجارة العين.
القسم الثاني: إفلاس المؤجر في إجارة العين، أو الذمة. أما الأولى، فإذا
أجر دابة، أو دارا لرجل، فأفلس، فلا فسخ للمستأجر، لان المنافع المستحقة له
متعلقة بعين ذلك المال، فيقدم بها كما يقدم حق المرتهن، ثم إذا طلب الغرماء بيع
المستأجر، فإن قلنا: لا يجوز، فعليهم الصبر إلى انقضاء المدة. وإن جوزناه،
388

أجيبوا ولا مبالاة بما ينقص من ثمنه بسبب الإجارة، إذ ليس عليهم الصبر لتنمية
المال. وأما الثانية: فإذا التزم في ذمته نقل متاع إلى بلد، ثم أفلس، نظر، إن
كانت الإجارة باقية في يد المفلس، فله فسخ الأجرة والرجوع إلى عين ماله،
كانت تالفة، فلا فسخ، ويضارب الغرماء بقيمة المنفعة المستحقة، وهي أجرة
المثل، كما يضارب المسلم بقيمة المسلم فيه. ثم إن جعلنا هذه الإجارة سلما،
فحصته بالمضاربة لا تسلم إليه، لامتناع الاعتياض عن المسلم فيه، بل ينظر، فإن
كانت المنفعة المستحقة قابلة للتبعيض، بأن كان الملتزم حمل مائة رطل، فينقل
بالحصة بعض المائة. وإن لم يقبله كقصارة ثوب، ورياضة دابة، وركوب إلى
بلد، ولو نقل إلى نصف الطريق لبقي ضائعا، قال الامام: للمستأجر الفسخ بهذا
السبب، والمضاربة بالأجرة المبذولة. وأما إذا لم نجعل هذه الإجارة سلما، فتسلم
الحصة بعينها إليه، لجواز الاعتياض. هذا كله إذا لم يكن سلم عينا لاستيفاء
المنفعة الملتزمة. فإن كان التزم النقل، وسلم دابة لينقل عليها، ثم أفلس، بني
على أن الدابة المسلمة تتعين بالتعيين، وفيها وجهان مذكوران في باب الإجارة.
فإن قلنا: تتعين، فلا فسخ، ونقدم المستأجر بمنفعتها، كالمعينة في العقد،
وإلا، فهو كما لو لم يسلمها.
فرع اقترض مالا، ثم أفلس وهو باق في يده، فللمقرض الرجوع فيه،
سواء قلنا: يملك بالقبض أو بالتصرف.
فرع باع مالا واستوفى ثمنه، وامتنع من تسليم المبيع، أو هرب، فهل
للمشتري الفسخ كما لو أبق المبيع، أم لا لأنه لا نقص في نفس المبيع؟ فيه
وجهان.
الشرط الثاني للمعاوضة: أن تكون سابقة للحجر.
وفي بعض مسائل هذا الشرط، خلاف.
فإذا اشترى المفلس شيئا بعد الحجر، وصححناه، فقد سبق في ثبوت الرجوع
خلاف.
389

ولو أجر دارا وسلمها إلى المستأجر وقبض الأجرة ثم أفلس وحجر عليه فقد
سبق أن الإجارة مستمرة، فإن انهدمت في أثناء المدة، إنفسخت الإجارة فيما بقي،
وضارب المستأجر بحصة ما بقي منها إن كان الانهدام قبل قسمة المال بينهم. وإن
كان بعدها ضارب أيضا على الأصح، لاستناده إلى عقد سبق الحجر، فأشبه
انهدامها قبل القسمة. ووجه المنع: أنه دين حدث بعد القسمة. ولو باع جارية
بعبد، وتقابضا، ثم أفلس مشتري الجارية وحجر عليه، وهلكت في يده، ثم وجد
بائعها بالعبد عيبا، فرده، فله طلب قيمة الجارية لا محالة. وكيف يطالب؟
وجهان. أصحهما: يضارب كغيره. والثاني: يقدم على الغرماء بقيمتها، لأنه
أدخل بدلها عبدا في المال، ويخالف هذا من باعه شيئا، لان هذا حق مستند إلى ما
قبل الحجر. وأما المعوض، فيشترط في المبيع المرجوع فيه شرطان.
أحدهما: بقاؤه في ملك المفلس. فلو هلك بآفة أو جناية، لم يرجع، سواء
كانت قيمته مثل الثمن، أو أكثر، وليس له إلا المضاربة بالثمن. وفي وجه: إن
زادت القيمة، ضارب بها واستفاد زيادة حصته.
ولو خرج عن ملكه ببيع، أو هبة، أو اعتاق، أو وقف، كالهلاك، وليس
له فسخ هذه التصرفات بخلاف الشفيع، فإنه يفسخها. لسبق حقه عليها. ولو
استولد، أو كاتب، فلا رجوع. ولو دبر، أو علق بصفة، أو زوجها، رجع. وإن
أجر، فلا رجوع إن لم نجوز بيع المستأجر، وإلا، فإن شاء أخذه مسلوب المنفعة
لحق المستأجر، وإلا، فيضارب بالثمن، وإن جنى، أو رهن، فلا رجوع. فإن
قضى حق المجني عليه والمرتهن ببيع بعضه، فالبائع واجد لبعض المبيع، وسيأتي
390

حكمه إن شاء الله تعالى. ولو انفك الرهن، أو برئ عن الجناية، رجع. ولو كان
المبيع صيدا فأحرم البائع، لم يرجع.
فرع لو زال ملك المشتري، ثم عاد، ثم حجر عليه، فإن عاد بلا
عوض، كالإرث، والهبة، والوصية، ففي رجوعه وجهان. وإن عاد بعوض، بأن
اشتراه، فإن كان دفع الثمن إلى البائع الثاني، فكعوده بلا عوض. وإن لم يدفعه،
وقلنا بثبوته للبائع لو عاد بلا عوض، فهل الأول أولى لسبق حقه، أم الثاني لقرب
حقه، أم يشتركان ويضارب كل بنصف الثمن؟ فيه أوجه.
قلت: أصح الوجهين أولا: أنه لا يرجع، وبه قطع الجرجاني في التحرير
وغيره. قال البغوي: ويجري الوجهان فيما لو رد عليه بعيب. والله أعلم.
وعجز المكاتب وعوده، كانفكاك الرهن. وقيل: كعود الملك.
قلت: لو كان المبيع شقصا مشفوعا، ولم يعلم الشفيع حتى حجر على
المشتري، وأفلس بالثمن، فأوجه. أحدها: يأخذه الشفيع، ويؤخذ منه الثمن،
فيخص به البائع، جمعا بين الحقين. والثاني يأخذه البائع، وأصحهما عند الشيخ
أبي حامد، والقاضي أبي الطيب، وآخرين: يأخذه الشفيع، ويكون الثمن بين
الغرماء كلهم. والله أعلم. الشرط الثاني: أن لا يحدث في المبيع تغير مانع.
وللتغير حالان. حال بالنقص، وحال بالزيادة. الأول: النقص، وهو
قسمان.
أحدهما: نقص لا يتقسط الثمن عليه، ولا يفرد بعقد، كالعيب. فإن كان
بآفة سماوية، فالبائع بالخيار. إن شاء رجع فيه ناقصا ولا شئ له غيره، وإشاء
ضارب بالثمن كتعيب المبيع في يد البائع، وسواء كان النقص حسيا كسقوط بعض
الأعضاء والعمى، أو غيره، كنسيان الحرفة والتزويج والإباق والزنا. وحكي قول:
أنه يأخذ المعيب، ويضارب بأرش النقص، كما نذكره في القسم الثاني إن شاء الله
تعالى. وهو شاذ ضعيف. وإن كان بجناية، فإن كان بجناية أجنبي، لزمه الأرش
إما مقدر، وإما غير مقدر، بناءا على الخلاف، في أن جرح العبد مقدر، أم لا؟
391

وللبائع أخذه معيبا، والمضاربة بمثل نسبة ما نقص من القيمة من الثمن. وإن كان
بجناية البائع، فكالأجنبي 2 (212). وإن كان بجناية المشتري، فطريقان. أصحهما عند
الامام: أنه كالأجنبي، لان جناية المشتري قبض واستيفاء، فكأنه صر ف جزءا من
المبيع إلى غرضه. والثاني وبه قطع صاحب التهذيب وغيره: أنه كجناية
البائع على المبيع قبل القبض، ففي قول، كالأجنبي، وعلى الأظهر، كالآفة السماوية.
قلت: المذهب: أنه كالآفة السماوية، وبه قطع جماعات. والله أعلم.
القسم الثاني: نقص يتقسط الثمن عليه، ويصح إفراده بالعقد، كمن اشترى
عبدين أو ثوبين، فتلف أحدهما في يده، ثم حجر عليه، فللبائع أخذ الباقي بحصته
من الثمن، والمضاربة بحصة ثمن التالف. ولو بقي جميع المبيع، وأراد البائع
الرجوع في بعضه، مكن، لأنه أنفع للغرماء من الفسخ في كله، فهو كما لو رجع
الأب في نصف ما وهبه، يجوز. ومن الأصحاب، من حكى قولين في أنه يأخذ
الباقي بحصته من الثمن، أم بجميع الثمن ولا يضارب بشئ؟ قال الامام:
وطردهما أصحاب هذه الطريقة في كل مسألة تضاهيها. حتى لو باع شقصا وسيفا
بمائة، يأخذ الشقص بجميع المائة على قول. قال الامام: وهذا قريب من خرق
الاجماع هذا إذا تلف أحد العبدين ولم يقبض من الثمن شيئا. أما إذا باع عبدين
متساويي القيمة بمائة، وقبض خمسين، فتلف أحدهما في يد المشتري، ثم
أفلس، فالقديم: أنه لا رجوع، بل يضارب بباقي الثمن مع الغرماء، والجديد:
أنه يرجع. فعلى هذا يرجع في جميع العبد الباقي بما يفي من الثمن، ويجعل ما
قبض في مقابلة التالف. هذا هو المذهب، والمنصوص. وقيل: فيه قول مخرج:
أنه يأخذ نصف العبد الباقي بنصف باقي الثمن، ويضارب الغرماء بنصفه.
ولو قبض بعض الثمن، ولم يتلف شئ من المبيع، ففي رجوعه، القولان،
القديم، والجديد. فعلى الجديد: يرجع في المبيع بقسط الباقي من الثمن. فلو
392

قبض نصف الثمن، رجع في نصف العبد المبيع، أو العبدين المبيعين.
فرع لو أغلى الزيت المبيع حتى ذهب بعضه، ثم أفلس، فالمذهب وبه
قطع الجمهور: أنه كتلف بعض المبيع، كما لو انصب. فعلى هذا إن ذهب
نصفه، أخذ الباقي بنصف الثمن، وضارب بنصفه. وإن ذهب ثلثه، أخذ بثلثيه
وضارب بثلث الثمن. وقيل: وجهان. أصحهما: هذا. والثاني: أنه كتعيب
المبيع، فيرجع فيما بقي إن شاء، ويقنع به. ولو كان بدل الزيت عصير، فالأصح:
أنه كالزيت. وقيل: تعيب قطعا، لان الذاهب منه الماء، ولا مالية له، بخلاف
الزيت. فإذا قلنا: بالأصح، فكان العصير أربعة أرطال، يساوي ثلاثة دراهم،
فأغلاها فصارت ثلاثة أرطال، فيرجع في الباقي، ويضارب بربع الثمن للذاهب،
ولا عبرة بنقص قيمة المغلي لو عادت إلى درهمين. فلو زادت فصارت أربعة، بني
على أن الزيادة الحاصلة بالصنعة، عين، أم أثر؟ إن قلنا: أثر، فاز البائع بما زاد. وإن
قلنا: عين، قال القفال: الجواب كذلك. وقال غيره: يكون المفلس شريكا
بالدرهم الزائد. فلو بقيت القيمة ثلاثة، فإن قلنا: الزيادة أثر، فاز بها البائع. وإن
قلنا: عين، فكذلك عند القفال وعند غيره، يكون المفلس شريكا بثلاثة أرباع
درهم، فإن هذا القدر، هو قسط الرطل الذاهب، فهذا هو المستمر على القواعد.
ولصاحب التلخيص في المسألة كلام غلطوه فيه.
فرع لو كان المبيع دارا فانهدمت، ولم يتلف من نقضها شئ، فله حكم
القسم الأول، كالعمى ونحوه. وإن تلف نقضها بإحراق وغيره، فهو من القسم
الثاني، كذا أطلقوه. ولك أن تقول: ينبغي أن يطرد فيه الخلاف السابق في تلف
سقف الدار المبيعة قبل القبض، أنه كالتعيب، أو كتلف أحد العبدين.
الحال الثاني: التغير بالزيادة، وهو نوعان. أحدهما: الزيادات الحاصلة،
لا من خارج، وهي ثلاثة أضرب.
أحدها: المتصلة من كل وجه، كالسمن، وتعلم الصنعة، وكبر الشجرة،
393

فلا عبرة بها. وللبائع الرجوع من غير شئ يلتزمه للزيادة، وهذا حكم الزيادات في
جميع الأبواب، إلا الصداق، فإن الزوج إذا طلق قبل الدخول، لا يرجع في
النصف الزائد إلا برضاها.
الضرب الثاني: الزيادات المنفصلة من كل وجه، كالولد، واللبن،
والثمرة، فيرجع في الأصل، وتبقى الزوائد للمفلس. فلو كان ولد الأمة صغيرا،
فوجهان. أحدهما: أنه إن بذل قيمة الولد، أخذه مع الام، وإلا، فيضار ب
لامتناع التفريق. وأصحهما: إن بذل قيمة الولد، وإلا فيباعان ويصرف ما يخص
الا إلى البائع، وما يخص الولد إلى المفلس. وذكرنا وجهين، فيما إذا وجد الام
معيبة، وهناك ولد صغير: أنه الرد وينتقل إلى الأرش، أو يحتمل التفريق
للضرورة. وفيما إذا رهن الام دون الولد، أنهما يباعان معا، أو يحتمل التفريق.
ولم يذكروا فيما نحن فيه احتمال التفريق، بل احتالوا في دفعه، فيجوز أن يقال:
يجئ وجه التفريق هنا، لكن لم يذكروه اقتصارا على الأصح، ويجوز أن يفرق بأن
مال المفلس مبيع كله، مصروف إلى الغرماء، فلا وجه لاحتمال التفريق، مع إمكان
المحافظة على جانب الراجع، وكون ملك المفلس مزالا.
قلت: هذا الثاني هو الصواب، وبه قطع الجمهور تصريحا وتعريضا، وحكى
صاحب الحاوي والمستظهري، وغيرهما وجها غريبا ضعيفا: أنه يجوز التفريق
بينهما للضرورة، كمسألة الرهن. وقالوا: ليس هو بصحيح، إذ لا ضرورة، وفرقوا
بما سبق، فحصل أن دعوى الامام الرافعي ليست بمقبولة. والله أعلم.
فرع لو كان المبيع بذرا، فزرعه فنبت، أو بيضة فتفرخت في يده، ثم
فلس، فوجهان. أصحهما عند العراقيين وصاحب التهذيب: يرجع فيه، لأنه
حدث من عين ماله، أو هو عين ماله اكتسب صفة أخرى، فأشبه الودي إذا صار
نخلا. والثاني: ليس له الرجوع، لأن المبيع هلك، وهذا شئ جديد استجد
394

اسما، ويجري الوجهان في العصير إذا تخمر في يد المشتري، ثم تخلل، ثم
فلس. ولو اشترى زرعا أخضر مع الأرض، ففلس وقد اشتد الحب، فقيل بطرد
الوجهين. وقيل: القطع بالرجوع.
الضرب الثالث: الزيادات المتصلة من وجه دون وجه، كالحمل. فإن
حدث بعد الشراء، وانفصل قبل الرجوع، فحكمه ما سبق في الضرب الثاني. وإن
كانت حاملا عند الشراء والرجوع جميعا، فهو كالسمن فيرجع فيها حاملا. وإن
كانت حاملا قبل الشراء وولدت قبل الرجوع، ففي تعدي الرجوع إلى الولد، قولان، بناء
على أن الحمل يعرف، أم لا؟ إن قلنا: نعم وهو الأظهر، رجع كما لو اشترى
شيئين، وإلا، فلا، وإن كانت حائلا عند الشراء، حاملا عند الرجوع، فقولان
أظهرهما عند الجمهور: يرجع فيها حاملا، لان الحمل تابع في البيع، فكذا هنا.
والثاني: لا يرجع في الحمل، فعلى هذا: يرجع في الام على الأصح. وقيل:
لا، بل يضارب. فإن قلنا: يرجع في الام فقط، قال الشيخ أبو محمد: يرجع فيها
قبل الوضع. فإذا ولدت، فالولد للمفلس. وقال الصيدلاني وغيره: لا يرجع في
الحال، بل يصير إلى انفصال الولد، ثم الاحتراز عن التفريق بين الام والولد،
طريقه ما سبق.
قلت: قول الشيخ أبي محمد هو ظاهر كلام الأكثرين، وصرح به صاحب الحاوي وغيره. قال صاحب
الحاوي: ولا يلزم تسليمها إلى البائع، لحق المفلس، ولا إقرارها في يد
المفلس أو غرمائه، لحق البائع في الام، ولا يجوز
أخذ قيمة الولد، فتوضع الام عند عدل يتفقان عليه، وإلا فيختار الحاكم عدلا.
قال: ونفقتها على البائع دون المفلس، لأنه مالك الام، وسواء قلنا: تجب نفقة
الحامل لحملها، أم لا. قال أصحابنا: وحكم سائر الحيوانات الحائلة والحاملة
حكم الجارية، إلا أن في باقي الحيوانات، يجوز التفريق بينهما وبين ولدها
الصغير، بخلاف الجارية. والله أعلم.
فرع استتار الثمار بالأكمة وظهورها بالتأبير، قريبان من استتار الجنين
395

وظهوره بالانفصال. وفيها الأحوال الأربع المذكورة في الجنين. أولها: أن يشتري
نخلا عليها ثمرة غير مؤبرة كانت عند الرجوع غير مؤبر أيضا. وثانيها: أن
يشتريها ولا ثمرة عليها، ثم حدث بها ثمرة عند الرجوع مؤبرة، أو مدركة، أو
مجذوذة، فحكمها ما ذكرناه في الحمل. وثالثها: إذا كانت ثمرتها عند الشراء غير
مؤبرة، وعند الرجوع مؤبرة، فطريقان. أحدهما: أن أخذ البائع الثمرة على القولين
في أخذ الولد إذا كانت حاملا عند البيع ووضعت عند الرجوع. والثاني: القطع
بأخذها، لأنها وإن كانت مستترة، فهي شاهدة موثوق بها، قابلة للافراد بالبيع،
وكانت أحد مقصودي البيع، فرجع فيها رجوعه في النخيل. ورابعها: إذا كانت
النخلة عند الشراء غير مطلعة، وأطلعت عند المشتري، وكانت يوم الرجوع غير
مؤبرة، فقولان. أظهرهما وهو رواية المزني وحرملة: يأخذ الطلع مع النخل، لأنه
تبع في البيع، فكذا هنا. والثاني: لا يأخذه وهو رواية الربيع، لأنه يصح إفراده
فأشبه المؤبرة. وقيل: لا يأخذه قطعا. قال الشيخ أبو حامد: وعلى هذا قياس
الثمرة التي لم تؤبر. فحيث أزال الملك باختياره بعوض، بيع ما لم يؤبر. وإن زال
قهرا بعوض، كالشفعة، والرد بالعيب، فالتبعية على هذين القولين. وإن زال بلا
عوض، باختيار أو قهر، كالرجوع بهبة الولد، ففيه أيضا القولان. وحكم باقي
الثمرة وما يلتحق منها بالمؤبرة، ومالا، أوضحناه في البيع. فإذا قلنا برواية
المزني، فجرى التأبير والرجوع، فقال البائع: رجعت قبل التأبير، فالثمار لي،
وقال المفلس: بعده، فالمذهب: أن القول قول المفلس مع يمينه، لان الأصل
عدم الرجوع حينئذ، وبقاء الثمار له. قال المسعودي: ويخرج قول أن القول قوله
بلا يمين، بناء على أن النكول ورد اليمين كالاقرار، وأنه لو أقر، لم يقبل إقراره.
وفي قول: القول قول البائع، لأنه أعرف بتصرفه.
قلت: ينبغي أيجئ قول: أن القول قول السابق بالدعوى. وقول: أنهما
إن اتفقا على وقت التأبير، واختلفا في الفسخ، فقول المفلس. وإن اتفقا على وقت
الفسخ، واختلفا في التأبير، فقول البائع، كالقولين في اختلاف الزوجين في انقضاء
العدة، والرجعة، والاسلام. قال صاحب الشامل وغيره: وكذا لو قال البائع:
بعتك بعد التأبير، فالثمرة لي. وقال المشتري: قبله، فالقول قول البائع مع يمينه،
وقد ذكرت هذه المسألة في اختلاف المتبايعين. والله أعلم.
396

فإذا حلف المفلس، حلف على نفي العلم بسبق الرجوع على التأبير، لا على
نفي السبق.
قلت: فلو أقر البائع أن المفلس لا يعلم تاريخ الرجوع، سلمت الثمرة
للمفلس بلا يمين، لأنه يوافقه على نفي علمه، قاله الامام. والله أعلم.
فإن حلف، بقيت الثمار له وإن نكل، فهل للغرماء أن يحلفوا؟ فيه
الخلاف السابق، فيما إذا ادعى المفلس شيئا ولم يحلف. فإن قلنا: لا يحلفون
وهو المذهب، أو يحلفون، فنكلوا، عرضت اليمين على البائع، فإن نكل، فهو
كما لو حلف المفلس. وإن حلف، فإن جعلنا اليمين المردودة بعد النكول كالبينة،
فالثمرة له. وإن جعلناها كالاقرار، فعلى القولين في قبول إقرار المفلس في مزاحمة
المقر له الغرماء. فإن لم يقبله، صرفت الثمار إلى الغرماء. فإن فضل شئ، أخذه
البائع بحلفه السابق. هذا إذا كذب الغرماء البائع، كما كذبه المفلس. فإن
صدقوه، لم يقبل قولهم على المفلس، بل إذا حلف، بقيت الثمار له، وليس لهم
طلب قسمتها، لأنهم يزعمون أنها للبائع، وليس له التصرف فيها، للحجر،
واحتمال أن يكون له غريم آخر، لكن له إجبارهم على أخذها إن كانت من جنس
حقهم، أو إبراء ذمته من ذلك القدر، هذا هو الصحيح، كما لو جاء المكاتب
بالنجم، فقال السيد: غصبته، فيقال: خذه، أو أبرئه عنه. وفي وجه: لا
يجبرون، بخلاف المكاتب، لأنه يخاف العود إلى الرق إن لم يأخذه، وليس على
المفلس كبير ضرر. وإذا أجبروا على أخذها، فللبائع أخذها منهم لاقرارهم. وإن
لم يجبروا وقسمت أمواله، فله طلب فك الحجر إذا قلنا: لا يرتفع بنفسه. ولو كانت
من غير جنس حقوقهم، فبيعت وصرف ثمنها إليهم تفريعا على الاجبار، لم يتمكن
البائع من أخذه منهم، بل عليهم رده إلى المشتري. فإن لم يأخذه، فهو مال
ضائع.
قلت: هذا هو الصحيح المعروف. وفي الحاوي وجه شاذ: أنه يجب
عليهم دفع الثمن إلى البائع، لأنه بدل الثمرة فأعطى حكمها، والصواب ما سبق.
والله أعلم.
ولو كان في المصدقين عدلان شهدا للبائع بصيغة الشهادة وشرطها، أو عدل
397

وحلف معه البائع، قضي له. كذا أطلق الشافعي رضي الله عنه وجماهير
الأصحاب، وأحسن بعض الشارحين للمختصر، فحمله على ما إذا شهدا قبل
تصديق البائع. ولو صدق بعض الغرماء البائع، وكذبه بعضهم، فللمفلس تخصيص
المكذبين بالثمرة. فلو أراد قسمتها على الجميع، فوجهان. قال أبو إسحاق: له
ذلك، كما لو صدقه الجميع. وقال الأكثرون: لا، لان المصدق يتضرر، لكون
البائع يأخذ منه ما أخذ، والمفلس لا يتضرر بعدم الصرف إليه، لامكان الصرف إلى
من كذب، بخلاف ما إذا صدقه الجميع. وإذا صرف إلى المكذبين، ولم يف
بحقوقهم، ضاربوا المصدقين في باقي الأموال ببقية دينهم مؤاخذة لهم على الأصح
المنصوص - وفي وجه: بجميع ديونهم - لان زعم المصدقين، أن شيئا من ديون
المكذبين لم يتأد. هذا كله إذا كذب المفلس البائع، فلو صدقه، نظر، إن صدقه
الغرماء أيضا، قضي له. وإن كذبوه وزعموا أنه أقر بمواطأة، فعلى القولين
بإقراره بعين أو دين. إن قلنا: لا يقبل، فللبائع تحليف الغرماء أنهم لا يعرفون
رجوعه قبل التأبير على المذهب. وقيل: في تحليفهم القولان في حلف الغرماء على
الدين، وهو ضعيف، لان اليمين هنا توجهت عليهم ابتداء، وهناك ينوبون عن
المفلس. واليمين لا تجري فيها النيابة.
قلت: وليس للغرماء تحليف المفلس، لان المقر لا يمين عليه فيما أقر به،
قاله في الحاوي وغيره. والله أعلم.
فرع الاعتبار في انفصال الجنين وتأبير الثمار بحال الرجوع دون الحجر،
لان ملك المفلس باق إلى أن يرجع البائع.
فصل متى رجع البائع في الشجر وبقيت الثمار للمفلس، فليس له قطعها،
بل عليه إبقاؤها إلى الجداد، وكذا لو رجع في الأرض وهي مزروعة بزرع المفلس،
يترك إلى الحصاد، كما لو اشترى أرضا مزروعة، لم يكن له تكليف البائع قلعه. ثم
إذا أبقي الزرع، فلا أجرة على المذهب. وحكي قول مخرج مما لو بنى أو غرس،
فإن للبائع الابقاء بأجرة، ثم الكلام في طلب الغرماء والمفلس، القطع، أو الجداد
والحصاد على ما سبق.
فرع متى ثبت الرجوع في الثمار بالتصريح ببيعها مع الشجر، أو قلنا به في
398

الحالة الثالثة والرابعة، فتلفت الثمار بجائحة، أو أكل أو غيرهما، ثم فلس، أخذ البائع
الشجر بحصتها من الثمن، وضارب بحصة الثمر، فتقوم الشجر وعليها الثمر، فيقال
مثلا: قيمتها مائة، وتقوم وحدها فيقال: تسعون، فيضارب بعشر الثمن. فإن حصل في
قيمتها انخفاض أو ارتفاع، فالصحيح أن الاعتبار في الثمار بالأقل من قيمتي يومي العقد
والقبض، لأنها إن كانت يوم القبض أكثر، فالنقص قبله كان من ضمان البائع، فلا
يحسب على المشتري. وإن كانت يوم العقد أقل، فالزيادة ملك المشتري،
وتلفت، فلا حق للبائع فيها. وفي وجه شاذ: يعتبر يوم القبض. وأما الشجر، ففيها
وجهان. أحدهما: يعتبر أكثر القيمتين، لأن المبيع بين العقد والقبض من ضمان
البائع، فنقصه عليه، وزيادته للمشتري، فيأخذ بالأكثر، ليكون النقص محسوبا
عليه. كما أن في الثمرة الباقية على المشتري، يعتبر الأقل، ليكون النقص محسوبا
عليه. والثاني: يعتبر يوم العقد قل أم كثر، لان ما زاد بعده فهو من الزيادات
المتصلة، وعين الأشجار باقية، فيفوز بها البائع، ولا يحسب عليه. وهذا الثاني،
هو المنقول في التهذيب والتتمة وبالأول جزم الصيدلاني وغيره، وصححه
الغزالي. مثل ذلك، قيمة الشجر يوم البيع عشرة، وقيمة الثمر خمسة. فلو لم تختلف
القيمة، لاخذ الشجرة بثلثي الثمن، وضارب للثمرة بالثلث. وإن زادت قيمة الثمرة
وكانت يوم القبض عشرة، فعلى الصحيح، هو كما لو كانت بحالها اعتبارا لأقل
قيمتها. وعلى الشاذ يضارب بنصف الثمن. ولو نقصت وكانت يوم القبض
درهمين ونصفا، ضارب بخمس الثمن. فلو زادت قيمة الشجر أو نقصت،
فالحكم على الوجه الثاني، كما لو بقيت بحالها. وعلى الأول كذلك إن نقصت.
وإن زادت، فكانت خمسة عشر، ضار ب بربع الثمن. قال الامام: وإذا اعتبرنا في
الثمار أقل القيمتين فتساوتا، ولكن بينهما نقص. فإن كان لمجرد انخفاض السوق،
فلا عبرة به. وإن كان لعيب طرأ وزال، فكذلك على الظاهر. كما أنه يسقط بزواله
حق الرد بالعيب. وإن لم يزل العيب، لكن عادت قيمته إلى ما كان بارتفاع السوق،
فالذي أراه، اعتبار قيمته يوم العيب، لان النقص من ضمان البائع، والارتفاع بعده
في ملك المشتري، فلا يجبره. قال: وإذا اعتبرنا في الشجر أكثر القيمتين، فكانت
399

قيمته يوم العقد مائة، ويوم القبض مائة وخمسين، ويوم رجوع البائع مائتين،
فالوجه: القطع باعتبار المائتين. ولو كانت قيمتها يومي العقد والقبض ما ذكرناه،
ويوم الرجوع مائة، اعتبر يوم الرجوع، لان ما طرأ من زيادة ونقص وزال، ليس ثابتا
يوم العقد حتى يقول: إنه وقت المقابلة، ولا يوم أخذ البائع ليحسب عليه.
فرع سبيل التوزيع في كل صورة تلف فيها أحد الشيئين المبيعين،
واختلفت القيمة وأراد الرجوع إلى الباقي، على ما ذكرناه في الأشجار والثمار بلا
فرق.
النوع الثاني من الزيادات: ما التحق بالمبيع من خارج، وينقسم إلى عين
محضة، وصفة محضة، ومركب منهما. الضرب الأول: العين المحضة، ولها
حالان. أحدهما: أن تكون قابلة للتمييز عن المبيع، كمن اشترى أرضا فغرس
فيها، أو بنى، ثم فلس قبل أداء الثمن، فإذا اختار البائع الرجوع في الأرض،
نظر، إن اتفق الغرماء والمفلس على القلع وتسليم الأرض بيضاء، رجع فيها
وقلعوا، وليس له أن يلزمهم أخذ قيمة الغراس والبناء ليتملكها مع الأرض. وإذا
قلعوا، وجب تسوية الحفر من مال المفلس، وإن حدث في الأرض نقص بالقلع،
وجب أرشه في ماله. قال الشيخ أبو حامد: يضارب به. وفي المهذب
والتهذيب: أنه يقدم به، لأنه لتخليص ماله. وإن قال المفلس: يقلع. وقال
الغرماء: نأخذ القيمة من البائع ليتملكه، أو بالعكس، أو وقع هذا الاختلاف بين
الغرماء، أجيب من في قوله المصلحة. فإن امتنعوا جميعا من القلع، لم
يجبروا، لأنه غير متعد. ثم ينظر، إن رجع على أن يتملك البناء والغراس
بقيمتهما، أو يقلع ويغرم أرش النقص، فله ذلك، لأنه يندفع به الضرر من
الجانبين، والاختيار فيهما إليه، وليس للغرماء والمفلس الامتناع، بخلاف ما سبق
في الزرع، لان له أمدا قريبا. وإن أراد الرجوع في الأرض وحدها، لم يكن له ذلك
على الأظهر، لأنه ينقض قيمة البناء والغراس، ويضرهم، والضرر لا يزال بالضرر.
وفي قول: له ذلك، كما لو صبغ المشتري الثوب ثم فلس، يرجع البائع في الثوب
400

فقط. وقيل: إن كانت الأرض كثيرة القيمة، والبناء والغراس مستحقرين بالإضافة
إليها، كان له ذلك. وإن كان عكسه، فلا، اتباعا للأقل الأكثر. وقيل: إن أراد
الرجوع في البياض المتخلل بين البناء والشجر، ويضارب للباقي بقسطه من الثمن،
كان له. وإن أراد الرجوع في الجميع، فلا، فإن قلنا بالأظهر، فالبائع يضارب
بالثمن، أو يعود إلى بذل قيمتهما أو قلعهما مع غرامة أرش النقص. وإن مكناه من
الرجوع فيها، فوافق الغرماء والمفلس، وباع الأرض معهم حين باعوا البناء
فذاك. وطريق التوزيع، ما سبق في الرهن. وإن امتنع، لم يجبر على الأظهر،
وإذا لم يوافقهم، فباعوا البناء والغراس، بقي للبائع ولاية التملك بالقيمة، والقلع
مع الأرش، وللمشتري الخيار في البيع إن كان جاهلا بحال ما اشتراه، هذا الذي
ذكرناه في هذا الضرب، هو الذي قطع به الجماهير في الطرق كلها، وهو الصواب
المعتمد. وذكر إمام الحرمين في المسألة أربعة أقوال.
أحدها: لا رجوع بحال. والثاني: تباع الأرض والبناء رفقا بالمفلس.
والثالث: يرجع في الأرض ويتخير بين ثلاث خصال: تملك البناء والغراس
بالقيمة، وقلعهما مع التزام أرش النقص، وإبقاؤهما بأجرة المثل، يأخذها من
ملكهما. وإذا عين خصلة، فاختار الغرماء والمفلس غيرها، أو امتنعوا من الكل،
فوجهان في أنه يرجع إلى الأرض، ويقلع مجانا، أو يجبرون على ما عينه.
والرابع: إن كانت قيمة البناء أكثر، فالبائع فاقد عين ماله. وإن كانت قيمة الأرض
أكثر، فواجد. هذا نقل الامام، وتابعه الغزالي وأصحابه على الأقوال الثلاثة
الأول، وهذا النقل شاذ منكر لا يعرف، وليت شعري من أين أخذت هذه
الأقوال؟!
فرع اشترى الأرض من رجل، والغراس من آخر، وغرسه فيها، ثم
فلس، فلكل الرجوع إلى عين ماله. فإن رجعا وأراد صاحب الغراس القلع، مكن
وعليه تسوية الحفر وأرش نقص الأرض إن نقصت. وإن أراده صاحب الأرض،
فكذلك إن ضمن أرش النقص، وإلا، فوجهان. أحدهما: المنع، لأنه غرس
محترم، كغرس المفلس. والثاني: له، لأنه باع الغرس مفردا، فيأخذه كذلك.
401

الحال الثاني: أن لا تكون الزيادة قابلة للتمييز، كخلط ذوات الأمثال بعضها
ببعض، فإذا اشترى صاع حنطة أو رطل زيت، فخلطه بحنطة، أو زيت، ثم
فلس، فإن كان مثله، فللبائع الفسخ، وتملك صاع من المخلوط، وطلب
القسمة. وإن طلب البيع، فهل يجاب؟ وجهان. أصحهما: لا، كما لا يجاب
الشريك. والثاني: نعم، لأنه لا يصل بالقسمة إلى عين حقه، ويصل بالبيع إلى
بدل حقه، وقد يكون له غرض. وإن كان المخلوط أردأ من المبيع، فله الفسخ
والرجوع في قدر حقه من المخلوط. وفي كيفيته وجهان. أحدهما: يباع الجميع،
ويقسم الثمن بينهما على قدر القيمتين، لأنه لو أخذ صاعا، نقص حقه. ولو أخذ
أكثر، حصل الربا. فعلى هذا، إن كان المبيع يساوي درهمين، والمخلوط به
درهما، قسم الثمن أثلاثا. وأصحهما: ليس له إلا أخذ صاع، أو المضاربة، لأنه
نقص حصل في المبيع، كتعيب العبد. وخرج قول أن الخلط بالمثل والأردأ يمنع
الرجوع، وليس بشئ. وإن كان المخلوط به أجود، فأقوال. أظهرها: ليس له
الرجوع، بل يضارب بالثمن. والثاني: يرجع ويباعان، ثم يوزع الثمن على نسبة
القيمة. والثالث: يوزع نفس المخلوط بينهما باعتبار القيمة. فإذا كان المبيع
يساوي درهما، والمخلوط به درهمين، أخذ ثلثي صاع، وهذا القول أضعفها، وهو
رواية البويطي والربيع.
فرع قال الامام: إذا قلنا: الخلط يلحق المبيع بالمفقود، فكان أحد
الخليطين كثيرا، والآخر قليلا، لا تظهر به زيادة في الحس، ويقع مثله بين
الكيلين، فإن كان الكثير للبائع، فالوجه: القطع بكونه واجدا عين ماله، وإن كان
الكثير للمشتري، فالظاهر كونه فاقدا.
فرع لو كان المخلوط به من غير جنس المبيع، كالزيت بالشيرج، فلا
فسخ، بل هو كالتالف، وفيه احتمال للامام.
الضرب الثاني: الصفة المحضة. فإذا اشترى حنطة فطحنها، أو ثوبا
فقصره، أو خاطه بخيوط من نفس الثوب، ثم فلس، فللبائع الرجوع فيه. ثم إن لم
تزد قيمته، فلا شركة للمفلس، وإن نقصت، فلا شئ للبائع غيره، وإن زادت،
فقولان. أحدهما: أن هذه الزيادة أثر، ولا شركة للمفلس، لأنها صفات تابعة،
402

كسمن الدابة بالعلف، وكبر الودي بالسقي. وأظهرهما: أنها عين، والمفلس شريك
بها، لأنها زيادة بفعل محترم متقوم، ويجري القولان، فيما لو اشترى دقيقا فخبزه،
أو لحما فشواه، أو شاة فذبحها، أو أرضا فضرب من ترابها لبنا أو عرصة، وآلات
البناء فبنى بها دارا. أما تعليم العبد القرآن، والحرفة، والكتابة، والشعر المباح،
ورياضة الدابة، فالأصح أنها على القولين. وقيل: هي أثر قطعا، كالسمن.
وضبط صور القولين، أن يصنع به ما يجوز الاستئجار عليه، فيظهر به أثر فيه. وإنما
اعتبرنا الأثر، لان حفظ الدابة وسياستها، يجوز الاستئجار عليه، ولا تثبت به
مشاركة للمفلس، لأنه لا يظهر بسببه أثر على الدابة. فإن قلنا: أثر، أخذ البائع
المبيع بزيادته. وإن قلنا: عين، بيع وللمفلس بنسبة ما زاد في قيمته.
مثاله، قيمة الثوب خمسة، وبلغ بالقصارة ستة، فللمفلس سدس الثمن. فلو
ارتفعت القيمة، أو انخفضت بالسوق، فالزيادة والنقص بينهما على هذه النسبة.
فلو ارتفعت قيمة الثوب دون القصارة، بأن صار مثل ذلك الثوب يساوي غير مقصور
ستة، ومقصورا سبعة، فللمفلس سبع الثمن فقط. فلو زادت قيمة القصارة دون
الثوب، بأن كان مثل هذا الثوب يساوي مقصورا سبعة، وغير مقصور خمسة،
فللمفلس سبعان من الثمن. وعلى هذا القياس. ويجوز للبائع أن يمسك المبيع،
ويمنع من بيعه، ويبذل للمفلس حصة الزيادة، كذا نقل في التهذيب وغيره،
كما تبذل قيمة البناء والغراس. ومنعه في التتمة لان الصفة لا تقابل بعوض.
قلت: الأصح: نقل صاحبا التهذيب، وبه قطع صاحب الشامل
والبيان. وقال صاحب الحاوي: ولا يسلم هذا الثوب إلى البائع، ولا
المفلس، ولا الغرماء، بل يوضع عند عدل حتى يباع كالجارية الحامل. والله
أعلم.
فرع إذا استأجر المفلس أو غيره على القصارة، أو الطحن، فعمل الأجير
عمله، فهل له حبس الثوب المقصور والدقيق لاستيفاء الأجرة؟ إن قلنا: القصارة
وما في معناها أثر، فلا. وإن قلنا: عين، فنعم. كما للبائع حبس المبيع،
لاستيفاء الثمن، وبه قال الأكثرون.
قلت: هكذا أطلق المسألة كثيرون، أو الأكثرون، ونص الشافعي رضي الله
403

عنه في الام والشيخ أبو حامد، والماوردي، وغيرهم، على أنه ليس للأجير
حبسه، ولا لصاحب الثوب أخذه، بل يوضع عند عدل حتى يوفيه الأجرة، أو يباع
لهما. وهذا الذي قالوه ليس مخالفا لما سبق. فإن جعله عند العدل، حبس. لكن
ظاهر كلام الأكثرين: أن الأجير يحبسه في يده. والله أعلم.
الضرب الثالث: ما هو عين من وجه، وصفة من وجه، كصبغ الثوب، ولت
السويق وشبههما. فإذا اشترى ثوبا وصبغه، فإن نقصت القيمة، أو لم تزد، فحكمه
ما سبق في الضرب الثاني. وإن زادت، فقد تزيد بقدر قيمة الصبغ أو أقل، أو
أكثر.
الحال الأول: مثل أن يكون الثوب يساوي أربعة، والصبغ درهمين، وصارت
قيمته مصبوغا ستة، فللبائع أن يفسخ البيع في الثوب، ويكون المفلس شريكا له في
الصبغ، فيباع ويكون الثمن بينهما أثلاثا. وهل يقول: كل الثوب للبائع، وكل
الصبغ للمفلس، كما لو غرس؟ أو يقول: يشتركان فيهما جميعا بالأثلاث لتعذر
التمييز كخلط الزيت؟ فيه وجهان.
الحال الثاني: مثل أن تصير قيمته مصبوغا خمسة، فالنقص محال على
الصبغ، لأنه هالك في الثوب، والثوب بحاله، فيباع، وللبائع أربعة أخماس
الثوب، وللمفلس خمس.
الحال الثالث: مثل أن تصير قيمته مصبوغا ثمانية، فالزيادة حصلت بصنعة
الصبغ. فإن قلنا: الصنعة عين، فالزيادة مع الصبغ للمفلس، فيجعل الثمن بينهما
نصفين. وإن قلنا: أثر، فوجهان. أحدهما: يفوز البائع بالزيادة، فله ثلاثة أرباع
الثمن، وللمفلس ربع. وأصحهما وبه قال الأكثرون: يكون للبائع ثلثا الثمن،
وللمفلس ثلثه، لان الصنعة اتصلت بهما، فوزعت عليهما. ولو صارت قيمته
مصبوغا ستة عشر مثلا، أو رغب فيه رجل فاشتراه، ففي كيفية القسمة، هذه الأوجه
الثلاثة. ثم ما يستحقه المفلس من الثمن للبائع، دفعه ليخلص له الثوب مصبوغا.
ومنع ذلك صاحب التتمة كما سبق. هذا كله إذا صبغه بصبغ نفسه. أما إذا
اشترى ثوبا وصبغا من رجل، فصبغه به، ثم فلس، فللبائع الرجوع فيهما، إلا أن
تكون قيمته بعد الصبغ كقيمة الثوب قبل الصبغ أو دونها، فيكون فاقد للصبغ. فإن
404

زادت القيمة، بأن كانت قيمة الثوب أربعة، والصبغ درهمين، فصارت مصبوغا
ثمانية، وقلنا: الصنعة أثر، أخذه، ولا شئ للمفلس. وإن قلنا: عين،
فالمفلس شريك بالربع. ولو اشترى الثوب من واحد بأربعة وهي قيمته، والصبغ من
آخر بدرهمين وهما قيمته، وصبغه، وأراد البائعان الرجوع، فإن كان مصبوغا لا
يزيد على أربعة، فصاحب الصبغ فاقد ماله، وصاحب الثوب واجد ماله، بكماله إن
لم ينقص عن أربعة، وناقصا إن نقص. فإن زاد على أربعة، فصاحب الصبغ أيضا
واجد ماله، بكماله إن بلغت الزيادة درهمين، وناقصا إن لم تبلغهما. وإن كانت
قيمته مصبوغا ثمانية، فإن قلنا: الصنعة أثر، فالشركة بين البائعين، كهي بين البائع
والمفلس إذا صبغه بصبغ نفسه. وإن قلنا: عين، فنصف الثمن لبائع الثوب،
وربعه لبائع الصبغ، والربع للمفلس. ولو اشترى صبغا وصبغ به ثوبا له، فللبائع
الرجوع إن زادت قيمته مصبوغا على ما كانت قبل الصبغ، وإلا، فهو فاقد. وإذا
رجع، فالقول في الشركة بينهما كما سبق.
قلت: وإذا شارك ونقصت حصته عن ثمن الصبغ، فوجهان. أصحهما وهو
قول أكثر الأصحاب على ما حكاه صاحب البيان: أنه إن شاء قنع به ولا شئ له
غيره، وإن شاء ضارب بالجميع. والثاني: له أخذه والمضاربة بالباقي. وبهذا قطع
في المهذب والشامل والعدة وغيرها. والله أعلم.
فرع حكم صبغ الثوب، كالبناء والغراس. فلو قال المفلس والغرماء: نقلعه ونغرم نقص الثوب، قال ابن كج: لهم ذلك.
فرع ما ذكرناه من القطع بالشركة بالصبغ، إذا لم يحصل، هو على
إطلاقه، سواء أمكن تمييز الصبغ من الثوب، أو صار مستهلكا. وفي وجه: إذا صار
مستهلكا، صار كالقصارة في أنه عين أم أثر.
فرع إذا اشترى ثوبا، واستأجر قصارا فقصره، ولم يوفه أجرته حتى
فلس، فإن قلنا: القصارة أثر، فليس للأجير إلا المضاربة بالأجرة، وللبائع الرجوع
في الثوب مقصورا، ولا شئ عليه لما زاد. وقال صاحب التلخيص: عليه أجرة
القصار، فكأنه استأجره. وغلطه الأصحاب فيه. وإن قلنا: عين، نظر، إن لم تزد
قيمته مقصورا على ما قبل القصارة، فالأجير فاقد عين ماله. وإن زادت، فلكل
405

من البائع والأجير، الرجوع إلى عين ماله. فلو كانت قيمة الثوب عشرة، والأجرة
درهم، والثوب المقصور يساوي خمسة عشر، بيع. وللبائع عشرة، وللأجير
درهم، والباقي للمفلس. ولو كانت الأجرة تساوي خمسة دراهم، والثوب بعد
القصارة يساوي أحد عشر، فإن فسخ الأجير الإجارة، فعشره للبائع، ودرهم
للأجير، ويضارب بأربعة. وإن لم يفسخ، فعشرة للبائع، ودرهم للمفلس،
ويضارب الأجير بالخمسة. وحكى في الوسيط وجها: أنه ليس للأجير إلا
القصارة الناقصة، أو المضاربة، كما هو قياس الأعيان. ولم أر هذا النقل لغيره،
فالمعتمد ما سبق. ولو كانت قيمة الثوب عشرة، واستأجر صباغا صبغه بصبغ قيمته
درهم، فصارت قيمته خمسة عشرة، فالأربعة الزائدة حصلت بالصنعة، فيجري فيها
القولان في أنها عين أو أثر. فإن رجع البائع والصباغ، بيع بخمسة عشر، وقسم
على أحد عشر إن قلنا: أثر. وإن قلنا: عين، فلهما أحد عشر، والأربعة
للمفلس. ولو كانت بحالها، وبيع بثلاثين، قال ابن الحداد: للبائع عشرون،
وللصباغ درهمان وللمفلس ثمانية. وقال غيره يقسم الجميع على أحد عشر،
عشرة للبائع، ودرهم للصباغ، ولا شئ للمفلس. قال أبو علي: الأول جواب
على قولنا: عين. والثاني: على أنها أثر. ولو كانت قيمة الثوب عشرة، واستأجره
على قصارته بدرهم، وصارت قيمته مقصورا خمسة عشر، فبيع بثلاثين، قال
الشيخان أبو محمد والصيدلاني وغيرهما تفريعا على العين: إنه يتضاعف حق كل
منهم، كما قاله ابن الحداد في الصبغ. قال الامام: ينبغي أن يكون للبائع
عشرون، وللمفلس تسعة، وللقصار درهم كما كان، ولا يزيد حقه، لان القصارة
غير مستحقة للقصار. وإنما هي مرهونة بحقه، وهذا استدراك حسن.
فرع لو قال الغرماء للقصار: خذ أجرتك ودعنا نكون شركاء صاحب
الثوب، أجبر على الأصح، كالبائع إذا قدمه الغرماء بالثمن، فكأن هذا القائل
406

يعطي القصارة حكم العين من كل وجه.
فصل لو أخفى المديون بعض ماله، ونقص الموجود عن دينه فحجر
عليه، ورجع أصحاب الأمتعة فيها، وقسم باقي ماله بين غرمائه، ثم علمنا إخفاءه،
لم ينقص شئ من ذلك، لان للقاضي بيع مال الممتنع وصرفه في دينه. والرجوع
في عين المبيع بامتناع المشتري من أداء الثمن، مختلف فيه. فإذا حكم به، نفذ،
كذا قاله في التتمة، وفيه توقف، لان القاضي ربما لا يعتقد جواز ذلك.
فصل من له الفسخ بالافلاس، لو ترك الفسخ على مال، لم يثبت
المال. فإن كان جاهلا بجوازه، ففي بطلان حقه من الفسخ، وجهان كما سبق في
الرد بالعيب.
407

كتاب الحجر
هو نوعان. حجر شرع لغيره، وحجر لمصلحة نفسه.
الأول: خمسة أضرب. حجر الراهن لحق المرتهن، وحجر المفلس لحق
الغرماء، وحجر المريض للورثة، وحجر العبد لسيده، وكذا المكاتب لسيده ولله
تعالى. وخامسها: حجر المرتد لحق المسلمين.
408

وهذه الأضرب خاصة لا تعم التصرفات، بل يصح من هؤلاء المحجورين،
الاقرار بالعقوبات، وكثير من التصرفات، وهي مذكورة في أبوابها.
410

النوع الثاني: ثلاثة أضرب. أحدها: حجر المجنون، ويثبت بمجرد
الجنون، ويرتفع بالإفاقة، وتنسلب به الولايات واعتبار الأقوال كلها. ومن
عامله، أو أقرضه، فتلف المال عنده، أو أتلفه، فمالكه هو المضيع. وما دام باقيا
يجوز استرداده. والثاني: حجر الصبي. قال في التتمة: ومن له أدنى تمييز،
ولم يكمل عقله، فهو كالصبي المميز. وتدبيره ووصيته، يأتي بيانهما إن شاء الله
تعالى. وقد سبق إذنه في الدخول وحمله الهدية. والثالث: حجر السفيه المبذر،
والضرب الأول أعم من الثاني. والثاني أعم من الثالث. ومقصود الكتاب هذه
الأضرب، والثالث معظم المقصود.
فصل فيما يزول به حجر الصبي قال جماعة: ينقطع حجر الصبي
بالبلوغ رشيدا. ومنهم من يقول: حجر الصبي ينقطع بمجرد البلوغ، وليس هذا
اختلافا محققا، بل من قال بالأول، أراد الاطلاق الكلي، ومن قال بالثاني،
بالحجر أراد الحجر المخصوص بالصبي، وهذا أولى، لان الصبي سبب مستقل بالحجر،
وكذلك التبذير. وأحكامهما متغايرة. ومن بلغ مبذرا، فحكم تصرفه حكم تصرف
السفيه، لا حكم تصرف الصبي.
فرع للبلوغ أسباب. منها مشترك بين الرجال والنساء، ومختص بالنساء.
أما المشترك، فمنه السن. فإذا استكمل المولود خمسة عشرة سنة قمرية،
فقد بلغ. وفي وجه: يبلغ بالطعن في الخامسة عشرة، وهو شاذ ضعيف.
411

السبب الثاني: خروج المني ويدخل وقت إمكانه باستكمال تسع سنين،
ولا عبرة بما ينفصل قبلها، هذا هو الصحيح المعتمد. وفي وجه: إنما يدخل
بمضي نصف السنة العاشرة. وفي وجه: باستكمال العاشرة. ولنا وجه: أن
المني لا يكون بلوغ في النساء، لأنه نادر فيهن. وعلى هذا، قال الامام: الذي
يتجه عندي: أنه لا يلزمها الغسل. وهذا الوجه شاذ، وفيما قاله الامام نظر.
السبب الثالث: إنبات العانة يقتضي الحكم بالبلوغ في الكفار. وهل هو
حقيقة البلوغ، أم دليله؟ قولان. أظهرهما: الثاني. فإن قلنا بالأول، فهو بلوغ في
المسلمين أيضا. وإن قلنا بالثاني، فالأصح أنه ليس ببلوغ.
قلت: اختلف أصحابنا فيما يفتى به في حق المسلمين، واختار الامام
الرافعي في المحرر أنه لا يكون بلوغا. والله أعلم.
ثم المعتبر شعر خشن يحتاج في إزالته إلى حلق، فأما الزغب والشعر الضعيف
الذي قد يوجد في الصغر، فلا أثر له. وأما شعر الإبط، واللحية، والشارب،
فقيل: كالعانة. وقيل: لا أثر لها قطعا. وألحق صاحب التهذيب الإبط بالعانة
دون اللحية والشارب.
412

قلت: ويجوز منبت عانة من احتجنا إلى معرفة بلوغه بها
للضرورة، هذا هو الصحيح. وقيل: تمس من فوق حائل. يلصق بها
شمع ونحوه ليعتبر بلصوقه به وكلاهما خطأ، إذ يحتمل أنه حلقه، أو نبت شئ
يسير. والله أعلم
وأما ثقل الصوت، ونهود الثدي، ونتوء طرف الحلقوم وانفراق الأرنبة، فلا
أثر لها على المذهب. وطرد في التتمة فيها الخلاف. وأما ما يختص بالنساء،
فاثنان. أحدهما: الحيض فهو لوقت الامكان، بلوغ. والثاني: الحبل، فإنه
مسبوق بالانزال، لكن لا نستيقن الولد إلا بالوضع. فإذا وضعت، حكمنا بحصول
البلوغ قبل الوضع بستة أشهر وشئ. فإن كانت مطلقة، وأتت بولد يلحق الزوج،
حكمنا ببلوغها قبل الطلاق.
فرع الخنثى المشكل، إذا خرج من ذكره ما هو بصفة المني، ومن فرجه
ما هو بصفة الحيض، حكم ببلوغه على الأصح. لأنه ذكر أمنى، أو أنثى حاضت.
والثاني: لا للتعارض. وإن وجد أحد الامرين فقط، أو أمنى وحاض بالفرج، فقطع
الجمهور بأنه ليس ببلوغ، لجواز أن يظهر من الفرج الآخر ما يعارضه. والحق، ما
قاله الامام، أنه ينبغي أن يحكم ببلوغه بأحدهما، كما يحكم بذكورته وأنوثته.
إن ظهر خلافه، غيرنا الحكم.
قلت: قال صاحب التتمة إذا أنزل الخنثى من ذكره أو خرج الدم من
فرجه مرة، لم يحكم ببلوغه. فإن تكرر، حكم به. وهذا الذي قاله حسن وإن
كان غريبا. والله أعلم.
فرع وأما الرشد، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: هو إصلاح الدين
413

والمال، والمراد بالصلاح في الدين: أن لا يرتكب محرما يسقط العدالة،
وفي المال: أن لا يبذر. فمن التبذير تضييع المال بإلقائه في البحر، أو احتمال
الغبن الفاحش في المعاملات ونحوها، وكذا الانفاق في المحرمات.
وأما الصرف في الأطعمة النفيسة التي لا تليق بحاله، فقال الامام،
والغزالي: هو تبذير. وقال الأكثرون: لا، لان المال يتخذ لينتفع فيه ويلتذ. وكذا
القول في التجمل بالثياب الفاخرة، والاكثار من شراء الجواري، والاستمتاع بهن،
وما أشبه ذلك.
وأما الصرف إلى وجوه الخير، كالصدقات، وفك الرقاب، وبناء المساجد و
المدارس، وشبه ذلك، فليس بتبذير، فلا سرف في الخير، كما لا خير في السر
وقال الشيخ أبو محمد: إن بلغ الصبي وهو مفرط بالانفاق في هذه الوجوه،
فهو مبذر. وإن عرض ذلك بعد بلوغه مقتصدا، لم يصر مبذرا، والمعروف
للأصحاب ما سبق. وبالجملة التبذير على ما نقله معظم الأصحاب محصور في
التضييعات وصرفه في المحرمات.
فرع لا بد من اختبار الصبي ليعرف حاله في الرشد وعدمه. ويختلف
414

بطبقات الناس، فولد التاجر يختبر في البيع والشراء والمماكسة فيهما، وولد
الزارع في أمر الزراعة والانفاق على القوام بها، والمحترف فيما يتعلق
بحرفته، والمرأة في أمر القطن والغزل وحفظ الأقمشة وصون الأطعمة عن الهرة
والفأرة وشبهها من مصالح البيت. ولا تكفي المرة الواحدة في الاختبار، بل لا بد
من مرتين فأكثر بحيث يفيد غلبة الظن برشده. وفي وقت الاختبار. وجهان.
أحدهما: بعد البلوغ. وأصحهما: قبله. وعلى هذا في كيفيته وجهان.
أصحهما: يدفع إليه قدر من المال، ويمتحن في المماكسة والمساومة. فإذا آن
الامر إلى العقد، عقد الولي. والثاني: يعقد الصبي ويصح منه هذا العقد
للحاجة. ولو تلف في يده المال المدفوع إليه للاختبار، فلا ضمان على الولي.
قلت: والصبي الكافر كالمسلم في هذا الباب، فيعتبر في صلاح دينه وماله ما
هو صلاح عندهم، وصرح به القاضي أبو الطيب وغيره. والله أعلم.
415

فصل إن بلغ الصبي غير رشيد لاختلال صلاح الدين، أو المال، بقي
محجورا عليه، ولم يدفع إليه المال. وفي التتمة وجه، أنه إن بلغ مصلحا
لماله، دفع إليه وصح تصرفه فيه، وإن كان فاسقا. وإن بلغ مفسدا لماله، منع منه
حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، وهذا الوجه شاذ ضعيف، والصواب ما تقدم وعليه
التفريع، فيستدام الحجر عليه، ويتصرف في ماله من كان يتصرف قبل بلوغه. وإن
بلغ رشيدا، دفع إليه ماله. وهل ينفك الحجر بنفس البلوغ والرشد؟ أم يحتاج إلى
فك؟ وجهان. أصحهما: الأول لأنه لم يثبت بالحاكم، فلم يتوقف عليه، كحجر
المجنون، يزول بنفس الإفاقة. والثاني، يحتاج، فعلى هذا ينفك بالقاضي أو
الأب، أو الجد.
وفي الوصي والقيم وجهان. وعلى هذا لو تصرف قبل الفك، فهو كتصرف من
أنشئ عليه الحجر بالسفه الطارئ بعد البلوغ. ويجري الوجهان في الاحتياج فيما
لو بلغ غير رشيد، ثم رشد. وإذا حصل الرشد، فلا فرق بين الرجل والمرأة وبين
أن تكون مزوجة أو غيرها.
فرع لو عاد التبذير بعدما بلغ رشيدا، فوجهان. أحدهما: يعود الحجر
عليه بنفس التبذير، كما لو جن. وأصحهما: لا يعود، لكن يعيده القاضي، ولا
يعيده غيره على الصحيح. وقال أبو يحيى البلخي: يعيده الأب والجد كما يعيده
القاضي. ولو عاد الفسق دون التبذير، لم يعد الحجر قطعا، ولا يعاد أيضا على
المذهب، لان الأولين لم يحجروا على الفسقة، بخلاف الاستدامة، لان الحجر
كان ثابتا، فبقي. وإذا حجر على من طرأ عليه السفه، ثم عاد رشيدا، فإن قلنا:
الحجر عليه لا يثبت إلا بحجر القاضي، لم يرتفع إلا برفعه. وإذا قلنا: يثبت
بنفسه، ففي زواله الخلاف السابق فيمن بلغ رشيدا. وأما الذي يلي أمر من حجر
عليه للسفه الطارئ، فهو القاضي إن قلنا: لا بد من حجر القاضي. وإن قلنا:
416

يصير محجورا بنفس السفه، فوجهان، كالوجهين فيما إذا طرأ عليه الجنون بعد
البلوغ، أحدهما الأب، ثم الجد كحال الصغر، وكما لو بلغ مجنونا. والثاني:
القاضي لأن ولاية الأب زالت، فلا تعود. والأول أصح في صورة الجنون، والثاني
أصح في صورة السفه. وأعلم أن الغزالي صرح في الوسيط والوجيز بأن عود
التبذير وحده لا أثر له، وإنما المؤثر في عود الحجر أو إعادته عود الفسق والتبذير
جميعا، وليس كما قال، بل الأصحاب متفقون على أن عود التبذير كاف في ذلك
كما سبق.
قلت: أما الوجيز فهو فيه كما نقله عنه، وكذا في أكثر نسخ الوسيط.
وفي بعضها حذف هذه المسألة وإصلاحها على الصواب. وكذا وجد في أصل
الغزالي، وقد ضرب على الأول وأصلحه على الصواب. والله أعلم.
فرع لو كان يغبن في بعض التصرفات خاصة، فهل يحجر عليه حجر
خاص في ذلك النوع؟ وجهان، لبعد اجتماع الحجر بالسفه وعدمه في شخص.
فرع الشحيح على نفسه جدا مع اليسار، في الحجر عليه لينفق بالمعروف
وجهان، أصحهما: المنع.
فصل فيما يصح من تصرفات المحجور عليه بالسفه، وما لا
يصح وفيه مسائل.
الأولى: لا تصح منه العقود التي هي مظنة الضرر المالي، كالبيع، والشراء،
والاعتاق، والكتابة، والهبة، والنكاح، وسواء اشترى بعين أو في الذمة.
417

وفي الشراء في الذمة وجه، أنه يصح تخريجا من العبد، وليس بشئ. وإذا
باع وأقبض، استرد من المشتري، فإن تلف في يده، ضمن. ولو اشترى وقبض،
أو استقرض فتلف المأخوذ في يده، أو أتلفه، فلا ضمان لان الذي أقبضه هو
المضيع، ويسترد وليه الثمن إن كان أقبضه. وسواء كان من عامله عالما بحاله، أم
جاهلا لتقصيره بالبحث عن حاله. ولا يجب على السفيه أيضا الضمان بعد فك
الحجر، لأنه حجر ضرب لمصلحته فأشبه الصبي، لكن الصبي لا يأثم، والسفيه
يأثم لأنه مكلف. وفي وجه، يضمن بعد فك الحجر إن كان أتلفه بنفسه، وهو
شاذ.
قلت: هذا إذا أقبضه البائع الرشيد. فأما إذا أقبضه السفيه بغير إذن البائع، أو
أقبضه البائع، وهو صبي أو محجور عليه بسفه، فإنه يضمنه بالقبض قطعا، صرح به
أصحابنا وفقهه ظاهر. والله أعلم.
هذا كله إذا استقل بهذه التصرفات، فأما إذا أذن له الولي، فإن أطلق الاذن،
فهو لغو وإن عين تصرفا وقدر العوض، فوجهان. أصحهما عند الغزالي:
الصحة، كما لو أذن في النكاح، فإنه يصح قطعا، وإن كان بعضهم قد أشار إلى طرد
الخلاف فيه. وأصحهما عند البغوي: لا يصح كما لو أذن للصبي.
قلت: هذا الثاني أصح عند الأكثرين منهم، الجرجاني، والرافعي في
المحرر وجزم به الروياني في الحلية. والله أعلم.
ويجري الوجهان فيما لو وكله رجل بشئ من هذه التصرفات، هل يصح عقده
للموكل، وفيما لو اتهب أو قبل الوصية لنفسه.
قلت: الأصح: صحة اتهابه وبه قطع الجرجاني. والله أعلم.
ولو أودعه إنسان شيئا فتلف عنده، فلا ضمان عليه. وإن أتلفه، فقولان كما
لو أودع صبيا.
المسألة الثانية: لو أقر بدين معاملة، لم يقبل سواء أسنده إلى ما قبل الحجر أو
418

بعده، كالصبي. وفيما إذا أسنده إلى ما قبل الحجر، وجه أنه يصح تخريجا من
المفلس على قول، وليس شئ. ولو أقر بإتلاف أو جناية توجب المال، لم يقبل
على الأظهر كدين المعاملة. ثم ما رددناه من إقراره لا يؤاخذ به بعد فك الحجر. ولو
أقر بما يوجب حدا أو قصاصا، قبل. ولو أقر بسرقة توجب القطع قبل في القطع.
وفي المال قولان كالعبد إذا أقر بالسرقة. هذا إن لم يقبل إقراره بالاتلاف. فإن
قبلناه فهنا أولى. ولو أقر بقصاص وعفا المستحق على مال ثبت على الصحيح،
لأنه يتعلق باختيار غيره، لا بإقراره. ولو أقر بنسب، ثبت وينفق على الولد
المستلحق من بيت المال.
قلت: كذا قال الأصحاب في كل طرقهم: يقبل إقراره بالنسب، وينفق عليه
من بيت المال قطعا.
وشذ الروياني فقال في الحلية: يقبل إقراره بالنسب في أصح الوجهين،
وينفق عليه من ماله، وهذا شاذ نبهت عليه لئلا يغتر به. ولو أقر بالاستيلاد، لم
يقبل. والله أعلم.
ومن ادعى عليه دين معاملة قبل الحجر وأقام بينة سمعت، فإن لم تكن بينة،
وقلنا: النكول ورد اليمين كالبينة، سمعت، وإن قلنا: كالاقرار، فلا.
الثالثة: يصح طلاقه وخلعه، وظهاره، ورجعته، ونفيه النسب باللعان، وشبه
ذلك، إذ لا تعلق لها بالمال. ولو كان السفيه مطلقا مع حاجته إلى النكاح،
سري بجارية فإن تضجر منها، أبدلت.
الرابعة: حكمه في العبادات، كالرشيد، لكن لا يفرق الزكاة بنفسه.
419

ولو أحرم بغير إذن الولي، انعقد إحرامه. فإن أحرم بحج تطوع، وزاد ما يحتاج إليه
في سفره على نفقته المعهودة، ولم يكن له في طريقه كسب يفي بتلك الزيادة،
فللولي منعه. ثم المذهب وبه قطع الأكثرون، أنه كالمحصر يتحلل بالصوم، إذا
قلنا: لدم الاحصار بدل، لأنه ممنوع من المال، ونقل الامام فيه وجهين: هذا،
والثاني أن عجزه عن النفقة لا يلحقه بالمحصر، بل هو كالمفلس الفاقد للزاد
والراحلة، لا يتحلل إلا بلقاء البيت. وإن لم يزد ما يحتاج إليه على النفقة
المعهودة، أو كان يكتسب في الطريق ما يفي بالزيادة، لم يمنعه الولي، بل ينفق
عليه من ماله، ولم يسلمه إليه، بل إلى ثقة لينفق عليه في الطريق. وإن أحرم
بحجة مفروضة، كحجة الاسلام والنذر قبل الحجر، لم ينفق عليه الولي كما
ذكرنا. قال في التتمة: وكالمنذورة بعد الحجر، كالمنذورة قبله إن سلكنا بالنذر
مسلك واجب الشرع، وإلا فهي كحجة التطوع.
قلت: ولو أفسد حجة المفروض بالجماع، لزمه المضي فيه والقضاء. وهل
يعطيه الولي نفقة القضاء؟ وجهان. حكاهما الماوردي. والله أعلم.
ولو نذر التصدق بعين مال، لم يصح. وفي الذمة ينعقد. ولو حلف،
420

انعقدت بيمينه ويكفر عند الحنث بالصوم كالعبد.
قلت: وفيه وجه حكاه صاحب الحاوي، والقاضي حسين، والمتولي،
أنه يلزمه التكفير بالمال، فيجب على الولي إخراج الكفارة من مال السفيه. قال ا
لقاضي: فإن كثر حنثه، لزمه الكفارة، ولا يخرجها الولي، ولا يصح صومه، بل
تبقى عليه حتى يعسر، فيصوم إذا قلنا: الاعتبار في الكفارة بحال الأداء. وإذا قلنا:
بالصحيح أن واجبه الصوم، فلم يصم حتى فك حجره. قال الماوردي: إن قلنا
يعتبر في الكفارة حال الأداء، لم يجزئه الصوم مع اليسار. وإن اعتبرنا حال
الوجوب، ففي إجزاء الصوم وجهان، لأنه كان من أهل الصوم، إلا أنه كان موسرا.
والله أعلم.
فصل فيمن يلي أمر الصبي والمجنون، وكيف يتصرف أما الذي
يلي، فهو الأب ثم الجد، ثم وصيهما، ثم القاضي، أو من ينصبه القاضي.
قلت: وهل يحتاج الحاكم إلى ثبوت عدالة الأب والجد لثبوت ولايتهما؟
وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب، والشاشي، وآخرون. وينبغي أن يكون
الراجح، الاكتفاء بالعدالة الظاهرة. والله أعلم.
ولا ولاية للام على الأصح.
421

وقال الإصطخري: لها ولاية المال بعد الأب والجد، وتقدم على وصيهما.
وأما كيفية التصرف، فالقول الجملي فيه: كون التصرف على وجه النظر
والمصلحة، فيجوز للولي أن يشتري له العقار، بل هو أولى من التجارة. فإن
لم يكن فيه مصلحة لثقل الخراج، أو جور السلطان، أو إشراف الموضع على
الخراب، لم يجز. ويجوز أن يبني له الدور والمساكن، ويبني بالآجر والطين دون
اللبن والجص. قال الروياني: جوز كثير من الأصحاب البناء على عادة البلد
كيف كان. قال: وهو الاختيار.
ولا يبيع عقاره إلا لحاجته، مثل أن لا يكون له ما يصرفه في نفقته وكسوته،
وقصرت غلته عن الوفاء بهما ولم يجد من يقرضه، أو لم ير المصلحة في
422

الاقتراض، أو لغبطة مثل أن يكون ثقيل الخراج، أو رغب فيه شريك أو جار بأكثر من
ثمن مثله وهو يجد مثله ببعض ذلك الثمن. ويجوز أن يبيع ماله نسيئة وبالعرض، إذا
رأى المصلحة فيه. وإذا باع نسيئة، زاد على ثمنه نقدا، وأشهد عليه وارتهن به
رهنا وافيا. فإن لم يفعل، ضمن، كذا قاله الجمهور. وحكى الامام وجهين في
صحة البيع إذا لم يرتهن، وكان المشتري مليئا، وقال: الأصح الصحة. ويشبه أن
يذهب القائل بالصحة إلى أنه لا يضمن، ويجوزه اعتمادا على ذمة الملئ. وإذا
باع الأب مال ولده لنفسه نسيئة، لا يحتاج إلى رهن من نفسه، لأنه أمين في حق ولده.
فرع إذا باع الأب أو الجد عقار الطفل ورفع إلى القاضي، سجل على
بيعه، ولم يكلفه إثبات الحاجة أو الغبطة بالبينة، لأنه غير متهم. وفي بيع الوصي
والأمين لا يسجل إلا إذا قامت البينة على الحاجة أو الغبطة.
قلت: وفي احتياج الحاكم إلى ثبوت عدالة الأب والجد ليسجل لهما،
وجهان حكاهما في البيان. والله أعلم.
وإذا بلغ الصبي وادعى على الأب أو الجد بيع ماله بغير مصلحة، فالقول
قولهما مع اليمين. وإن ادعاه على الوصي أو الأمين، فالقول قول المدعي في العقار،
وعليهما البينة. وفي غير العقار وجهان. أصحهما: كالعقار. والفرق عسر الاشهاد
في كل قليل وكثير يبيعه، ومنهم من أطلق وجهين من غير فرق بين ولي وولي، ولا
بين العقار وغيره. ودعواه على المشتري من الولي، كهي على الولد.
423

فرع ليس للوصي بيع ماله لنفسه، ولا بيع مال نفسه له، وللأب والجد
ذلك، ولهما بيع مال أحد الصغيرين للآخر. وهل يشترط أن يقول: بعت
واشتريت، كما لو باع لغيره. أم يكفي أحدهما؟ وجهان سبقا في البيع.
فرع إذا اشترى الولي للطفل، فليشتر من ثقة. وحيث أمر بالارتهان، لا
يقوم الكفيل مقامه.
فرع لا يستوفى القصاص المستحق له، ولا يعفو، ولا يعتق
عبيده، ولو كان بعوض، ولا يكاتبهم، ولا يهب أمواله ولو بشرط الثواب، ولا
يطلق زوجته ولو بعوض. ولو باع شريكه شقصا مشفوعا، أخذ أو ترك بحسب
المصلحة. فإن ترك بحسب المصلحة، ثم بلغ الصبي وأراد أخذه، لم يمكن على
الأصح، كما لو أخذ للمصلحة، ثم بلغ الصبي وأراد رده. والثاني: يمكن لأنه لو
كان بالغا، كان له الاخذ. وإن خالف المصلحة والآخذ المخالف للمصلحة، لم
يدخل في ولايته، فلا يفوت بتصرف الولي.
قلت: فإذا قلنا بالأصح، فبلغ وادعى أنه ترك الشفعة من غير غبطة، قال
صاحب المهذب وغيره: حكمه حكم بيع العقار. والله أعلم.
فرع ليس للولي أخذ أجرة ولا نفقة من مال الصبي إن كان غنيا، وإن
424

كان فقيرا وانقطع بسببه عن الكسب، فله أخذ قدر النفقة. وفي التعليق: أنه يأخذ
أقل الأمرين من قدر النفقة، وأجرة المثل.
قلت: هذا المنقول عن التعليق، هو المعروف في أكثر كتب العراقيين ونقله
صاحب البيان عن أصحابنا مطلقا، وحكاه هو وغيره عن نص الشافعي رضي الله
عنه، وحكى الماوردي والشاشي وجها، أنه يجوز أيضا للغني أن يأكل بقدر أجرته.
والصحيح المعروف، القطع بأنه لا يجوز للغني مطلقا. والله أعلم.
والقول في أنه هل يستبد بالأخذ، يأتي في كتاب النكاح إن شاء الله
تعالى. وهل عليه ضمان ما أخذه كالمضطر إذا أكل طعام الغير أم لا؟ كالامام إذا
أخذ الرزق من بيت المال؟ فيه قولان.
قلت: أظهرهما: لا ضمان، لظاهر القرآن، ولأنه بدل عمله. والله أعلم.
فرع للولي أن يخلط ماله بمال الصبي ويؤاكله، قال ابن سريج:
وللمسافرين خلط أزوادهم وإن تفاوتوا في الاكل، قال: وهذا أولى بالجواز، لان
كلا منهم من أهل المسامحة.
قلت: لا خلاف في جواز خلط المسافرين على الوجه المذكور، بل هو
مستحب، ونقل صاحب البيان من أصحابنا، أنه مستحب، ذكره في باب
الشركة، ودلائله من الأحاديث الصحيحة كثيرة. والله أعلم.
فرع يجب على الولي أن ينفق عليه ويكسوه بالمعروف، ويخرج من أمواله
الزكاة وأروش الجنايات وإن لم تطلب، ونفقة القريب بعد الطلب.
فرع إن دعت ضرورة حريق أو نهب إلى المسافرة بماله، سافر، وإلا،
فإن كان الطريق مخوفا، لم يسافر به، وإن كان آمنا، فوجهان. أصحهما: الجواز
لان المصلحة قد تقتضي ذلك، والولي مأمور بالمصلحة بخلاف المودع. والثاني:
425

المنع وبه قطع العراقيون كالوديعة.
قلت: لو سافر به في البحر، لم يجز إن كان مخوفا، وكذا إن كانت سلامته
غالبة على المذهب، وبه قطع القاضي حسين، ونقله الامام عن معظم الأصحاب.
وقيل: يجوز إن أوجبنا ركوبه للحج. والله أعلم.
ثم إذا أجاز له المسافرة به، جاز أن يبعثه مع أمين.
فرع ليس لغير القاضي إقراض مال الصبي، إلا عند ضرورة نهب أو حريق
ونحوه، أو إذا أراد سفرا. ويجوز للقاضي الاقراض، وإن لم يكن شئ من ذلك
لكثرة أشغاله. وفي وجه: القاضي كغيره. ولا يجوز إيداعه مع إمكان الاقراض
على الأصح، فإن عجز عنه، فله الايداع. ويشترط فيمن يودعه الأمانة، وفي من
يقرضه الأمانة واليسار. وإذا أقرض ورأي أن يأخذ به رهنا، أخذه، وإلا تركه.
قلت: يستحب للحاكم إذا حجر على السفيه، أن يشهد على حجره. وإن
رأى أن ينادي عليه في البلد، نادى مناديه ليتجنب الناس معاملته. وحكى في
الحاوي والمستظهري عن أبي علي ابن أبي هريرة وجها، أنه يجب
الاشهاد، وهو شاذ. وإذا كان للصبي أو السفيه كسب، أجبره الولي على الاكتساب
ليرتفق به في النفقة وغيرها، حكاه في البيان. ولو وجب للسفيه قصاص، فله أن
يقتص ويعفو. فإن عفا على مال، صح، ووجب دفع المال إلى وليه. وإن عفا
مطلقا، أو على غير مال، فإن قلنا: القتل يوجب أحد الامرين: القصاص أو
الدية، وجبت الدية لان عفوه عنها لا يصح، وإن قلنا: يوجب القصا ص فقط،
سقط القصاص، ولا مال. وإذا مرض المحجور عليه لسفه مرضا مخوفا، لم يتغير
حكمه، وتصرفاته فيه كتصرفه في صحته. وحكى في الحاوي وجها، أنه يغلب
عليه حجر المرض، فيصح عتقه من ثلثه، وهذا شاذ ضعيف. والله أعلم.
426

كتاب الصلح
فسره الأئمة بالعقد الذي تنقطع به خصومة المتخاصمين، وليس هذا على
سبيل الحد، بل أرادوا ضربا من التعريف، إشارة إلى أن هذه اللفظة تستعمل عند
سبق المخاصمة غالبا، ثم أدخل الشافعي والأصحاب رضي الله عنهم في الباب،
التزاحم في المشترك، كالشوارع ونحوها. وفي الكتاب ثلاثة أبواب.
الأول: في أحكام الصلح. وقد يجري بين المتداعيين، وبين المدعي
وأجنبي.
والقسم الأول نوعان. أحدهما: ما يجري على الاقرار وهو ضربان.
427

أحدهما: الصلح عن العين. وهو صنفان.
أحدهما: صلح المعاوضة، وهو الذي يجري على غير العين المدعاة، بأن
ادعى عليه دارا فأقر له بها، وصالحه منها على عبد أو ثوب، فهذا الصنف حكمه
حكم البيع، وإن عقد بلفظ الصلح. وتتعلق به جميع أحكام البيع كالرد بالعيب،
والشفعة، والمنع من التصرف قبل القبض، واشتراط القبض في المجلس إن كان
المصالح عليه والمصالح عنه متفقين في علة الربا، واشتراط التساوي في معيار
الشرع إن كان جنسا ربويا، وجريان التحالف عند الاختلاف، ويفسد بالغرر،
والجهل، والشروط الفاسدة كفساد البيع. ولو صالحه منها على منفعة دار، أو خدمة
عبد مدة معلومة، جاز، ويكون هذا الصلح إجارة، فتثبت فيه أحكام الإجارة.
الصنف الثاني: صلح الحطيطة، وهو الجاري على بعض العين المدعاة،
كمن صالح من الدار المدعاة على نصفها أو ثلثها، أو من العبدين على أحدهما،
فهذا هبة بعض المدعى لمن في يده،
فيشترط لصحته القبول ومضي مدة إمكان القبض. وفي اشتراط إذن جديد
في قبضه، الخلاف المذكور في كتاب الرهن. ويصح بلفظ الهبة، وما هو في
معناها. وفي صحته بلفظ الصلح، وجهان. أحدهما: لا، لان الصلح يتضمن
المعاوضة. ومحال أن يقابل ملكه ببعضه. وأصحهما: الصحة، لان الخاصية
التي يفتقر إليها لفظ الصلح، هي سبق الخصومة، وقد حصلت. ولا يصح هذا
الصنف بلفظ البيع.
428

فرع الصلح يخالف البيع في صور.
إحداها: المسألة السابقة، وهي إذا صالح صلح الحطيطة بلفظ الصلح، فإنه
يصح على الأصح. ولو كان بلفظ البيع، لم يصح قطعا.
الثانية: لو قال من غير سبق خصومة: بعني دارك بكذا، فباع، صح. ولو
قال والحالة هذه: صالحني عن دارك هذه بألف، لم يصح على الأصح، لان
لفظ الصلح لا يطلق إلا إذا سبقت خصومة، وكأن هذا الخلاف فيما لو استعملا لفظ
الصلح بلا نية. فلو استعملاه ونويا البيع، كان كناية بلا شك، وجرى فيه
الخلاف في انعقاد البيع بالكناية.
الثالثة: لو صالح عن القصاص، صح ولا مدخل للفظ البيع فيه.
الرابعة: قال صاحب التلخيص لو صالحنا أهل الحرب من أموالهم على
شئ نأخذه منهم، جاز ولا يقوم مقامه البيع، واعترض عليه القفال، بأن تلك
المصالحة، ليست مصالحة عن أموالهم وإنما نصالحهم ونأخذ منهم للكف عن
دمائهم وأموالهم، وهذا صحيح، ولكن لا يمنع مخالفة اللفظين، فإن لفظ البيع لا
يجري في أمثال تلك المصالحات.
الخامسة: قال صاحب التلخيص لو صالح من أرش الموضحة على شئ
معلوم، جاز إذا علما قدر أرشها.
ولو باع، لم يجز وخالفه الجمهور في افتراق اللفظين، وقالوا: إن كان الأرش
مجهولا كالحكومة التي لم تقدر ولم تضبط، لم يصح الصلح عنه ولا بيعه. وإن كان
معلوم القدر والصفة، كالدراهم، إذا ضبطت، صح الصلح عنها، وصح بيعها
ممن هي عليه. وإن كان معلوم القدر دون الصفة، على الوجه المعتبر في السلم،
كالإبل الواجبة في الدية، ففي جواز الاعتياض عنها بلفظ الصلح وبلفظ البيع جميعا
429

وجهان. ويقال: قولان. أحدهما: يصح كمن اشترى عينا لم يعرف صفتها.
وأصحهما: المنع كما لو أسلم في شئ لم يصفه، هذا في الجراحة التي لا توجب
القود، فإن أوجبته في النفس، أو فيما دونها، فالصلح عنها مبني على أن موجب
العمد ماذا؟ وسيأتي في بابه إن شاء الله تعالى.
الضرب الثاني: الصلح عن الدين، وهو صنفان.
أحدهما: صلح المعاوضة وهو الجاري على عين الدين المدعى. فينظر،
إن صالح عن بعض أموال الربا على ما يوافقه في العلة، فلا بد من قبض العوض في
المجلس، ولا يشترط تعيينه في نفس الصلح على الأصح. فإن لم يكن العوضان
ربويين، فإن كان العوض عينا، صح الصلح، ولا يشترط قبضه في المجلس على
الأصح. وإن كان دينا، صح على الأصح، ولكن يشترط التعيين في المجلس، ولا
يشترط القبض بعد التعيين على الأصح.
الصنف الثاني: صلح الحطيط وهو الجاري على بعض الدين المدعى، فهو
إبراء عن بعض الدين، فإن استعمال لفظ الابراء أو ما في معناه، بأن قال: أبرأتك
من خمسمائة من الألف الذي عليك، أو صالحتك على الباقي، برئ مما أبرأه،
ولا يشترط القبول على الصحيح. وفي وجه بعيد: يشترط فيه، وفي كل إبراء، ولا
يشترط قبض الباقي في المجلس. وإن اقتصر على لفظ الصلح فقال: صالحتك
على الألف الذي لي عليك على خمسمائة، فوجهان كنظيره في صلح الحطيطة في
العين، والأصح الصحة. وفي اشتراط القبول وجهان، كالوجهين فيما لو قال لمن
عليه الدين: وهبته لك. والأصح، الاشتراط، لان اللفظ بوضعه يقتضيه. ولو
430

صالح منه على خمسمائة معينة، جرى الوجهان. ورأي الامام الفساد هنا أظهر.
ولا يصح هذا الصنف بلفظ البيع، كنظيره في الصلح عن العين. ولو صالح
من ألف مؤجل على ألف حال أو عكسه. فباطل، لان الأجل لا يسقط ولا يلحق.
فلو عجل من عليه المؤجل وقبله المستحق، سقط الأجل بالاستيفاء، وكذا الحكم
في الصحيح والمكسر. ولو صالح من ألف مؤجل على خمسمائة، حالة فباطل. ولو
صالح من ألف حال على خمسماءة مؤجلة، فهذا ليس من المعاوضة في شئ، بل
هو مسامحة من وجهين. أحدهما حط خمسمائة. والثاني: إلحاق أجل بالباقي.
والأول شائع، فيبرأ. عن خمسمائة. والثاني: وعد لا يلزم، فله المطالبة بالباقي في
الحال.
فرع قال أحد الوارثين لصاحبه: تركت حقي من التركة لك، فقال
قبلت، لم يصح ويبقى حقه كما كان. ولو قال صالحتك من نصيبي على هذا
الثوب، فإن كانت التركة أعيانا، فهو صلح عن العين. وإن كانت ديونا عليه، فهو
صلح عن الدين. وإن كانت على غيره، فهو بيع دين لغير من عليه، وقد سبق
حكمه. وإن كان فيها عين ودين على الغير، ولم نجوز بيع الدين لغير من عليه،
بطل الصلح في الدين. وفي العين قولا تفريق الصفقة.
فرع له في يد رجل ألف درهم، وخمسون دينارا، فصالحه منه على
ألفي درهم، لا يجوز. وكذا لو مات عن ابنين والتركة ألفا درهم، ومائة دينار،
وهي في يد أحدهما، فصالحه الآخر من نصيبه على ألفي درهم، لم يجز. ولو كان
المبلغ المذكور دينا في ذمة غيره، فصالحه منه على ألفي درهم، جاز. والفرق أنه
إذا كان في الذمة، فلا ضرورة إلى تقدير المعاوضة فيه، فيجعل مستوفيا لاحد
الألفين، ومعتاضا عن الدنانير الألف الآخر. وإذا كان معينا، كان الصلح عنه
اعتياضا، فكأنه باع ألف درهم وخمسين دينارا بألفي درهم. وهو من صور
431

مد عجوة. ونقل الامام عن القاضي حسين وجها في صورة الدين بالمنع، تنزيلا
على المعاوضة.
فرع صالحه عن الدار المدعاة على أن يسكنها سنة، فهو إعادة للدار يرجع
فيها متى شاء. وإذا رجع، لم يستحق أجرة للمدة الماضية على الصحيح، لأنها
عارية. وفي وجه: يستحق، لأنه قابل به رفع اليد عنها، وهو عوض فاسد، فيرجع
بأجرة المثل.
ولو صالحه عنها على أن يسكنها بمنفعة عبده سنة، فهو كما لو أجر دارا
بمنفعة عبد سنة.
فرع صالح عن الزرع الأخضر بشرط القطع، جاز. ودون هذا
الشرط لا يجوز. ولو كانت المصالحة عن الزرع مع الأرض، فلا حاجة إلى شرط
القطع على الأصح. ولو كان النزاع في نصف الزرع، ثم أقر المدعى عليه،
وتصالحا عنه على الشئ، لم يجز. وإن شرطا القطع، كما لو باع نصف الزرع
مشاعا، لا يصح، سواء شرط، أم لا.
النوع الثاني: الصلح عن الانكار، فينظر، إن جرى على غير المدعى، فهو
باطل. وصورة الصلح على الانكار، أن يدعي عليه دارا مثلا، فينكر، ثم
432

يتصالحا على ثوب أو دين، ولا يكون طلب الصلح منه إقرارا، لأنه ربما يريد
قطع الخصومة، هذا إذا قال: صالحني مطلقا، أو صالحني عن دعواك. بل الصلح
عن الدعوى، لا يصح مع الاقرار أيضا، لان مجرد
الدعوى لا يعتاض عنه. ولو قال بعد الانكار: صالحني عن الدار التي ادعيتها، فهل
يكون إقرارا، كما لو قال: ملكني، أم لا، لاحتمال قطع الخصومة؟ وجهان.
أصحهما: الثاني. فعلى هذا، يكون الصلح بعد هذا الالتماس صلح إنكار.
ولو قال: بعنيها، أو هبها لي، فالصحيح أنه إقرار. لأنه صريح في التماس
التمليك. وقال الشيخ أبو حامد: هو كقوله: صالحني. ومثله: لو كان النزاع في
جارية، فقال: زوجنيها. ولو قال: أعرني أو أجرني فأولى بأن لا يكون
إقرارا. ولو كان النزاع في دين، فقال: أبرئني، فهو إقرار. ولو أبرأ المدعي
المدعى عليه وهو منكر، وقلنا: لا يفتقر الابراء إلى القبول، صح، لأنه مستقل
به، فلا حاجة إلى تصديق الغريم، بخلاف الصلح. ولهذا لو أبرأه من بعد
433

التحليف، لو صح، ولو تصالحا بعد التحليف، لم يصح.
فرع لو جرى الصلح على الانكار على بعض العين المدعاة وهو صلح
الحطيطة في العين، فوجهان. قال القفال: يصح، لأنهما متفقان على أن المدعي
يستحق النصف، لان المدعي يزعم استحقاق الجميع، والمدعى عليه يسلم
النصف له بحكم هبته له، وتسليمه إليه، فبقي الخلاف في جهة الاستحقاق، وقال
الأكثرون: باطل، كما لو كان على غير المدعي.
قالوا: ومتى اختلف القابض والدافع في الجهة، فالقول قول الدافع كما سبق
في الرهن. والدافع هنا، يقول: إنما بذلت النصف لدفع الأذى، حتى لا يرفعني
إلى القاضي، ولا يقيم علي بينة زور. وإن كان المدعى دينا، وتصالحا على بعضه
على الانكار، نظر، إن صالحه عن ألف على خمسمائة مثلا في الذمة، لم يصح.
ولو أحضر الخمسمائة وتصالحا من الألف المدعى عليها، فهو مرتب على صلح
الحطيطة في العين. فإن لم يصح، فهنا أولى. وإلا، فوجهان. والأصح:
البطلان باتفاقهم. والفرق أن ما في الذمة، ليس هو ذلك المحضر، وفي الصلح
عليه معنى المعاوضة، ولا يمكن تصحيحه معاوضة مع الانكار.
ولو تصالحا، ثم اختلفا هل تصالحا على الانكار، أم على الاعتراف؟ قال
ابن كج: القول قول مدعي الانكار، لان الأصل أن لا عقد.
وينبغي أن يخرج على الوجهين فيما لو تنازع المتبايعان، هل عقدا صحيحا أم
فاسدا.
قلت: الصواب، ما قاله ابن كج وقد صرح به أيضا الشيخ أبو حامد،
وصاحب البيان وغيرهما.
والفرق أن الظاهر والغالب جريان البيع على الصحة، والغالب وقوع الصلح
على الانكار. والله أعلم.
القسم الثاني من الباب: في الصلح الجاري بين المدعى وأجنبي، وله
حالان.
434

الأول: مع إقرار المدعى عليه. فإن كان المدعى عينا، وقال الأجنبي: إن المدعى عليه وكلني في مصالحتك له على نصف
المدعى، أو على هذا العبد من
ماله، فتصالحا عليه، صح. وكذا لو قال: وكلني في مصالحتك عنه على عشرة في
ذمته. ثم إن كان صادقا في الوكالة، صار المدعى ملكا للمدعى عليه، وإلا، فهو
شراء الفضول، وقد سبق بيانه وتفريعه.
وإن قال: أمرني بالمصالحة عنه على هذا العبد من مالي، فصالحه عليه،
فهو كما لو اشترى لغيره بمال نفسه بإذن ذلك الغير، وقد سبق خلاف في صحته،
وأنه إذا صح، هل هو هبة، أو قرض؟ ولو صالح الأجنبي لنفسه بعين ماله، أو
بدين في ذمته، صح له، كما لو اشتراه. وقيل: وجهان، كما لو قال لغيره من غير
سبق دعوى: صالحني من دارك على ألف، لأنه لم يجر مع الأجنبي خصومة.
والمذهب، الصحة، لان الصلح ترتب على دعوى وجواب. أما إذا كان هذا المدعى
دينا، وقال: وكلني المدعى عليه بمصالحتك على نصفه، أو على هذا الثوب من
ماله، فصالحه، صح. ولو قال: على هذا الثوب، وهو ملكي، فوجهان.
أحدهما: لا يصح، لأنه بيع شئ بدين غيره. والثاني: يصح، ويسقط الدين
كمن ضمن دينا وأداه.
قلت: الأول: أصح. والله أعلم.
ولو صالح لنفسه على عين أو دين في ذمته، فهو ابتياع دين في ذمة الغير،
وسبق بيانه في موضعه.
قلت: لو قال: صالحني عن الألف الذي لك على فلان على خمسمائة،
صح، سواء كان بإذنه أم لا، لان القضاء دين غيره بغير إذن جائز. والله أعلم.
الحال الثاني: أن يكون منكرا ظاهرا، فجاء أجنبي فقال: أقر المدعى عليه
عندي، ووكلني في مصالحتك له، إلا أنه لا يظهر إقراره لئلا تنزعه منه، فصالحه،
435

صح، لان دعوى الانسان الوكالة في البيع والشراء وسائر المعاملات مقبولة. فإن
قال: هو منكر، ولكنه مبطل، فصالحني له على عبدي هذا، لتنقطع الخصومة
بينكما، فوجهان. قال الامام: أصحهما: لا يصح، لأنه صلح إنكار. والثاني:
يصح، لأن الاعتبار في شروط العقد بمن يباشره وهما متفقان. هذ إذا كان المدعى
عينا، فإن كان دينا، فقيل: على الوجهين. والمذهب: القطع بالصحة. والفرق
أنه لا يمكن تمليك الغير عين ماله بغير إذنه. ويمكن قضاء دينه بغير إذنه. وإن
قال: هو منكر، وأنا أيضا لا أعلم صدقك، وصالحه مع ذلك، لم يصح، سواء
كان المصالح عليه له، أو للمدعى عليه. كما لو صالحه المدعي وهو منكر. وإن
قال: هو منكر ومبطل في إنكاره، فصالحني لنفسي بعبدي هذا، أو بعشرة في ذمتي
لآخذه منه، فإن كان المدعى دينا، فهو ابتياع دين في ذمة غيره. وإن كان عينا،
فهو شراء مغصوب، فينظر في قدرته على انتزاعه وعجزه. وقد سبق بيان الحالين في
أول البيع.
ولو صالح وقال: أنا قادر على انتزاعه، صح العقد على الأصح، اكتفاء
بقوله. والثاني: لا، لان الملك في الظاهر للمدعى عليه، وهو عاجز عن انتزاعه.
قال الامام: والوجه أن يقال: إن كان الأجنبي كاذبا، فالعقد باطل باطنا، وفي
مؤاخذته في الظاهر لالتزامه، الوجهان. وإن كان صادقا، حكم بصحة العقد
باطنا، وقطعنا بمؤاخذته، لكن لا تزال يد المدعى عليه إلا بحجة.
فرع كالمثال لما ذكرنا ادعى رجل على ورثة ميت دارا من تركته،
وقال: غصبنيها، فأقروا له، جاز لهم مصالحته. فإن دفعوا إلى بعضهم ثوبا مشتركا
بينهم ليصالح عليه، جاز، وكان عاقدا عن نفسه ووكيلا عن الباقين. ولو قالوا
لواحد: صالحه عنا على ثوبك، فصالحه عنهم، فإن لم يسمهم في الصلح، وقع
الصلح عنه. وإن سماهم، فهل تلغى التسمية؟ وجهان. فإن لم نلغها، وقع
الصلح عنهم. وهل الثوب هبة لهم، أو قرض عليهم؟ وجهان. وإن ألغيناها،
فهل يصح الصلح كله للعاقد، أم يبطل في نصيب الشركاء ويخرج نصيبه على قولي
436

تفريق الصفقة؟ وجهان. وإن صالحه بعضهم على مال له دون إذن الباقين ليتملك
جميع الدار، جاز. وإن صالح لتكون الدار له ولهم جميعا، لغا ذكرهم، وعاد
الوجهان في أن الجميع يقع له، أم يبطل في نصيبهم. ويخرج نصيبه على قولي
الصفقة.
فرع أسلم كافر على أكثر من أربع نسوة، ومات قبل الاختيار والتعيين،
وقف الميراث بينهن. فإن اصطلحن على القسمة على تفاوت أو تساو، جاز،
وللضرورة. ولو اصطلحن على أن تأخذ ثلاث منهم أو أربع المال الموقوف،
ويبذلن للباقيات عوضا من خالص أموالهم، لم يصح. ونظير المسألة، ما لو
طلق إحدى امرأتيه ومات قبل البيان، ووقف لهم نصيب زوجة فاصطلحتا، وما إذا
ادعى اثنان وديعة في يد رجل، فقال: لا أعلم لأيكما هي، وما إذا تداعيا دارا في
يدهما، وأقام كل بينة. ثم اصطلحا. وكذا لو كانت في يد ثالث وقلنا باستعمال
البينتين.
قلت: وهذه مسائل تتعلق بالباب.
إحداها: ادعى دارا، فأقر، فصالحه على عبد، فخرج مستحقا، أو رده
بعيب، أو هلك قبل القبض، رجعت الدار إلى الأول. وإن وجد به عيبا بعد ما
هلك، أو تعيب في يده، أخذ من الدار بقدر ما نقص من قيمة العبد، كما لو باعها
بعبد.
الثانية: ادعى عليه دارا، فأنكره، فقال المدعي: أعطيك ألفا وتقر لي
بها، ففعل، فليس بصلح، ولا يلزم الألف، بل بذله وأخذه حرام. وهل يكون
هذا إقرارا؟ وجهان فالعدة والبيان.
الثالثة: صالح أجنبي عن المدعي عليه بعوض معين، فوجده المدعي معيبا،
فله رده، ولا يرجع ببدله بل ينفسخ الصلح ويرجع إلى خصومة المدعى عليه،
437

وكذا لو خرج العوض مستحقا. ولو صالحه على دراهم في الذمة، فأعطاه دراهم،
فوجدها معيبة وردها، أو خرجت مستحقة، فله المطالبة ببدلها.
الرابعة: قال الشافعي رضي الله عنه: لو اشترى رجل أرضا وبناها مسجدا،
فجاء رجل فادعاها، فإن صدقه المشتري، لزمه قيمتها. وإن كذبه، فصالحه رجل
آخر، صح الصلح، لأنه بذل مال على جهة القربة، ولان القيمة على المشتري،
لأنه وقفه. والصلح عما في ذمة بغير إذنه، جائز.
الخامسة: لو أتلف عليه شيئا قيمته دينار، فأقر به، وصالحه على أكثر من
دينار، لم يصح، لان الواجب قيمة المتلف، فلم يصح الصلح على أكثر منه، كمن
غصب دينارا، فصالح على أكثر منه. ولو صالحه عنه بعوض مؤجل، لم يصح.
السادسة: سبق في أول الباب أن الصلح عن المجهول، لا يصح. قال
الشافعي رضي الله عنه: لو ادعى عليه شيئا مجملا، فأقر له به وصالحه عنه على
عوض، صح الصلح. قال الشيخ أبو حامد وغيره: هذا إذا كان المعقود عليه معلوما
لهما، فيصح وإن لم يسمياه، كما لو قال: بعتك الشئ الذي نعرفه أنا وأنت
بكذا، فقال: اشتريت، صح.
السابعة: إذا أنكر المدعى عليه، ووكل أجنبيا ليصالح كما سبق، فهل يحل
له التوكيل؟ وجهان. قال ابن سريج: يحرم عليه الانكار. ولو فعله، فله التوكيل
في المصالحة. وقال أبو إسحاق: يحرم عليه أيضا التوكيل. ولو مات مورثه وخلف
عينا فادعاها رجل، فأنكره ولا يعلم صدقه، وخاف من اليمين، جاز أن يوكل
أجنبيا في الصلح، لتزول الشبهة، حكاه في البيان. والله أعلم.
الباب الثاني في التزاحم على الحقوق
وفيه فصول.
الأول: في الطريق، وهو قسمان: نافذ، وغيره.
أما النافذ، فالناس كلهم
يستحقون المرور فيه، وليس لأحد أن يتصرف فيه بما يبطل المرور، ولا أن يشرع
438

فيه جناحا، أو يتخذ على جدرانه ساباطا يضر بالمارة. فإن لم يضر، فلا منع
منهما. ويرجع في معرفة الضرر وعدمه إلى حال الطريق. فإن كان ضيقا لا تمر
فيه القوافل والفوارس، فينبغي أن يرتفع بحيث يمر المار تحته منتصبا. وإن كانوا
يمرون فيه، فليكن ارتفاعه إلى حد يمر فيه المحمل مع الكنيسة فوقه على البعير،
لأنه وإن كان نادرا، فإنه قد يتفق. ولا تشترط زيادة على هذا، على الصحيح.
وقال أبو عبيد بن حربويه: يشترط أن يكون بحيث يمر الراكب تحته منصوب الرمح.
واتفق الأصحاب على تضعيف قوله، لان وضع الرمح على الكتف، ليس بعسير.
ويجوز لكل أحد أن يفتح الأبواب من ملكه إلى الشارع كيف شاء. وأما نصب
الدكة وغرس الشجرة، فإن كان يضيق الطريق ويضر بالمارة، منع، وإلا،
فوجهان. أحدهما: الجواز، كالجناح الذي لا يضر بهم. وأصحهما، وبه قطع
العراقيون واختاره الامام: المنع.
ولا يجوز أن يصالح عن إشراع الجناح على شئ، سواء صالح الامام، أو
غيره، وسواء ضر بالمارة، أم لا. ولو أشرع جناحا لا ضرر فيه، فانهدم، أو
439

هدمه، فأشرع رجل آخر جناحا في محاذاته لا تمكن معه إعادة الأول، جاز، كما لو
قعد في طريق واسع ثم انتقل عنه، ويجوز لغيره الارتفاق به، هكذا قاله الأصحاب.
ولك أن تقول: المرتفق بالقعود للمعاملة لا يبطل حقه بمجرد الزوال عن ذلك
الموضع، وإنما يبطل بالسفر والاعراض عن الحرفة. فقياسه أن لا يبطل هنا بمجرد
الهدم والانهدام، بل يعتبر إعراضه عن إعادته.
قلت: إن ما قاسه كثيرون على ما إذا وقف في الطريق، ثم فارق موقفه، أو
قعد للاستراحة ونحوها فلا يرد اعتراض الامام الرافعي رحمه الله. قال أصحابنا:
ولو أخرج جناحا تحت جناح من يحاذيه، لم يكن للأول منعه، إذ لا ضرر. ولو
أخرج فوق جناح الأول، قال ابن الصباغ: إن كان الثاني عاليا لا يضر بالمار فوق
الجناح الأول، لم يمنع، وإلا، فله منعه. ولو أخرج مقابلا له، لم يمنع، إلا أن
يعطل انتفاع الأول. ولو كان الأول قد أخذ أكثر هواء الطريق، لم يكن لجاره مطالبته
بتقصير جناحه ورده إلى نصف الطريق، لأنه مباح سبق إليه. والله أعلم.
واعلم أن الأكثرين، لم يتعرضوا في الاضرار الممنوع إلا للارتفاع،
والانخفاض. وأما إظلام الموضع، فقال ابن الصباغ وطائفة: لا يؤثر،
ومقتضى المعنى المذكور، ولفظ الشافعي رضي الله عنه، وأكثر الأصحاب،
تأثيره. وقد صرح به منصور التميمي. وفي التتمة: إن انقطع الضوء كله، أثر،
وإن نقص، فلا.
فرع الشوارع التي في البلاد، والجواد الممتدة في الصحاري سواء في
أنها منفكة عن الملك والاختصاص. والأصل فيها، الإباحة وجواز الانتفاع، إلا
فيما يقدح في مقصودها هو الاستطراق. قال الامام: ومصير الموضع شارعا، له
صورتان، إحداهما: أن يجعل الرجل ملكه شارعا وسبيلا مسبلا. والثانية: أن
تجئ جماعة بلدة أو قرية، ويتركوا مسلكا نافذا بين الدور والمساكن، ويفتحوا إليه
الأبواب. ثم حكي عن شيخه، ما يقتضي صورة ثالثة، وهو أن يصير موضع من
440

الموات جادة يستطرقها الرفاق، فلا يجوز تغييره. وإنه كان يتردد في بنيات الطرق
التي يعرفها الخواص ويسلكونها. وكل موات، يجوز استطراقه، لكن لا يمنع أحد
من إحيائه وصرف الممر عنه، بخلاف الشوارع.
قلت: قال الامام: ولا حاجة إلى لفظ في مصير ما يجعل شارعا. قال: وإذا
وجدنا جادة مستطرقة، ومسلكا مشروعا نافذا، حكمنا باستحقاق الاستطراق فيه
بظاهر الحال، ولم نلتفت إلى مبدأ مصيره شارعا. وأما قدر الطريق، فقل من
تعرض لضبطه، وهو مهم جدا، وحكمه، أنه إن كان الطريق من أرض مملوكة
يسبلها صاحبها، فهو إلى خيرته، والأفضل توسيعها. وإن كان بين أراض يريد
أصحابها إحياءها، فإن اتفقوا على شئ، فذاك. وإن اختلفوا، فقدره سبع أذرع،
هذا معنى ما ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه:
قضى رسول الله (ص) عند الاختلاف في الطريق، أن يجعل عرضه سبع أذرع.
ولو كان الطريق واسعا، لم يجز لاحد أن يستولي على شئ منه، وإن قل،
يجوز عمارة ما حوله من الموات، ويملكه بالاحياء بحيث لا يضر بالمارة. ومن
المهمات المستفادة، أن أهل الذمة يمنعون من إخراج الأجنحة إلى شوارع المسلمين
النافذة. وإن جاز لهم استطراقها، لأنه كإعلائهم على بناء المسلمين، أو
أبلغ. هذا هو الصحيح، وذكر الشاشي في جوازه وجهين. ومن أخرج جناحا على
وجه لا يجوز، هدم عليه. والله أعلم.
القسم الثاني: الطريق الذي لا ينفذ، كالسكة المسدودة الأسفل، والكلام
فيها ثلاثة أمور.
الأول: إشراع الجناح، فلا يجوز لغير أهل السكة بلا خلاف، ولا لهم على
441

الأصح الذي قاله الأكثرون إلا برضاهم، سواء تضرروا، أم لا. والثاني وهو قول
الشيخ أبي حامد ومن تابعه: يجوز إذا لم يضر الباقين، فإن أضر ورضي أهل
السكة جاز. ولو صالحوه على شئ، لم يصح بلا خلاف، لان الهواء تابع،
فلا يفرد بالمال صلحا، كما لا يفرد به بيعا. وهكذا الحكم في صلح صاحب الدار
عن الجناح المشرع إليها، ونعني بأهل السكة كل من له باب نافذ إليها دون من
يلاصق جدار دار السكة من غير نفوذ باب. ثم هل الاشتراك في جميعها لجميعهم،
أم شركة كل واحد تختص بما بين رأس السكة وباب داره؟ وجهان. أصحهما:
الاختصاص، لان ذلك هو محل تردده، وما عداه، فهو فيه كغير أهل السكة.
وتظهر فائدة الخلاف على قول الأكثرين في منع إشراع الجناح إلا برضاهم. فإن
شركنا الكل في الكل، جاز لكل واحد من أهل السكة المنع. وإن خصصنا، فإنما
يجوز المنع لمن موضع الجناح بين بابه ورأس الدرب. وتظهر فائدته على قول الشيخ
أبي حامد، في أن مستحق المنع إذا أضر الجناح: من هو؟ لكنهم لم يذكروه.
قول الرافعي: لم يذكروه، من أعجب العجب، فقد ذكره صاحب
التهذيب، مع أن معظم نقل الرافعي منه ومن النهاية. والله أعلم.
ولو اجتمع المستحقون فسدوا رأس السكة، لم يمنعوا منه، كذا قاله
الجمهور. وقال أبو الحسن العبادي: يحتمل أن يمنعوا، لان أهل الشارع يفزعون
إليه إذا عرضت زحمة. ولو امتنع بعضهم، لم يكن للباقين السد قطعا. ولو سدوا
باتفاقهم، لم يستقل بعضهم بالفتح.
ولو اتفقوا على قسمة صحن السكة بينهم، جاز. ولو أراد أهل رأس السكة
قسمة رأسها بينهم، منعوا لحق من يليهم. ولو أراد الأسفل قسمته فوجهان، بناء
على الاشتراك فيه، ثم ما ذكرناه من سد الباب وقسمة الصحن، مفروض فيما لو لم
يكن في السكة مسجد. فإن كان فيها مسجد عتيق، أو جديد، منعوا من السد
والقسمة، لان المسلمين كلهم يستحقون الاستطراق إليه، ذكره ابن كج. وعلى
442

قياسه، لا يجوز الاشراع عند الاضرار وإن رضي أهل السكة، لحق سائر
المسلمين.
الأمر الثاني: فتح الباب، فليس لمن لا باب له في السكة إحداث باب إلا
برضى أهلها كلهم. فلو قال: أفتح إليها بابا للاستضاءة دون الاستطراق، أو أفتحه
وأسمره، فوجهان. أصحهما: عند أبي القاسم الكرخي: لا يمنع.
قلت: قل من بين الأصح من هذين الوجهين، ولهذا، اقتصر الرافعي على
نسبة التصحيح إلى الكرخي. وممن صححه، صاحب البيان والرافعي في
المحرر وخالفهم الجرجاني، والشاشي، فصححا المنع، وهو أفقه. والله
أعلم.
ولو كان له باب في السكة، وأراد أن يفتح غيره، فإن كان ما يفتحه أبعد من
رأس السكة، فلمن الباب المفتوح بين داره ورأس السكة منعه، وفيمن داره بين
الباب ورأس السكة، وجهان، بناء على كيفية الشركة كما سبق في الجناح. وإن
كان ما يفتحه أقرب إلى رأس السكة، فإن سد الأول، جاز، وإلا، فكما إذا
كان أبعد، لان الباب الثاني إذا انضم إلى الأول، أورث زيادة زحمة الناس ووقوف
الدواب، فيتضررون به. وحكى في النهاية طريقة جازمة، بأن لا منع لمن
يقع المفتوح بين داره ورأس السكة، لان الفاتح لا يمر عليهم. وهذا ينبغي أن
يطرد فيما إذا كان المفتوح أبعد من رأس السكة.
قلت: جزم صاحب الشامل بأنه إذا فتح بابا آخر أقرب إلى رأس السكة،
ولم يسد الأول، جاز، ولا منع لاحد. وهذا وإن كان ظاهرا، فما نقله الامام
أقوى. ولم يذكر الرافعي - فيما إذا كان المفتوح أبعد - حكم من بابه مقابل
المفتوح، لا فوقه ولا تحته. وقد ذكر الامام، أنه كمن هو أقرب إلى رأس السكة،
ففيه الوجهان. والله أعلم.
وتحويل الميزاب من موضع إلى موضع، كفتح باب وسد باب.
443

فرع لو كان له داران، ينفذ باب إحداهما إلى الشارع، والأخرى إلى
سكة منسدة، فأراد فتح باب من إحداهما إلى الأخرى، لم يكن لأهل السكة منعه
على الأصح. ولو كان باب كل واحدة في سكة غير نافذة، ففتح من إحداها إلى
الأخرى، ففي ثبوت المنع لأهل السكتين، الوجهان، قاله الامام. وموضع
الوجهين، ما إذا سد باب إحداهما، وفتح الباب لغرض الاستطراق. أما إذا قصد
اتساع ملكه ونحوه، فلا منع قطعا.
قلت: هذه العبارة فاسدة، فإنها توهم اختصاص الخلاف، بما إذا سد باب
إحداهما، وذلك خطأ، بل الصواب، جريان الوجهين إذا بقي البابان نافذين، وكل
الأصحاب مصرحون به. قال أصحابنا: ولو أراد رفع الحائط بينهما وجعلهما دارا
واحدة، ويترك بابيهما على حالهما، جاز قطعا. وممن نقل اتفاق الأصحاب على
هذا، القاضي أبو الطيب في تعليقه. فالصواب أن يقال: موضع الوجهين، إذا لم
يقصد اتساع ملكه. وأما قوله: كذا نقله الامام، فإن الوجهين مشهوران جدا.
وقوله الأصح: الجواز، تابع فيه صاحب التهذيب، وخالفه أصحابنا
العراقيون، فنلقوا عن الجمهور، المنع. بل نقل القاضي أبو الطيب اتفاق
الأصحاب على المنع. قال: وعندي أنه يجوز. والله أعلم.
فرع حيث منعنا فتح الباب إلى السكة المنسدة، فصالحه أهل السكة
بمال، جاز، بخلاف الجناح، لأنه هناك بذل مال في مقابلة الهواء. قال في
التتمة: ثم إن قدروا مدة، فهو إجارة. وإن أطلقوا، أو شرطوا التأبيد، فهو بيع
جزء شائع من السكة، وتنزيل له منزلة أحدهم. كما لو صالح رجلا على مال ليجري
في أرضه نهرا، كان ذلك تمليكا للنهر. ولصالحه بمال على فتح باب من داره إلى
داره، صح، ويكون كالصلح عن إجراء الماء على سطحه، ولا يملك شيئا من الدار
والسطح، لان السكة لا تراد إلا للاستطراق، فإثبات الاستطراق فيها يكون نقلا
للملك.
444

وأما الدار والسطح، فلا يقصد بهما الاستطراق وإجراء الماء.
قلت: قال أصحابنا: لو كانت داره في آخر السكة المنسدة، فأراد نقل بابها
إلى الوسط، ويجعل ما بين الباب وأسفل السكة دهليزا، فإن شركنا الجميع في
جميع السكة، كان للباقين منعه، وإلا، فلا. والله أعلم.
الأمر الثالث: فتح المنافذ والكوات للاستضاءة، ولا منع منه بحال،
لمصادفته الملك، بل له إزالة رفع الجدار، وجعل شباك مكانه.
فرع قال الامام: لو فتح من لا باب له في السكة المنسدة بابا برضى
أهلها، كان لأهلها الرجوع متى شاؤوا، ولا يلزمهم بالرجوع شئ، بخلاف ما لو
أعار الأرض للبناء والغراس، ثم رجع، فإنه لا يقلعه مجانا. وهذا لم أره لغيره.
والقياس: أن لا فرق.
فرع قال الروياني: إذا كان بين داريه طريق نافذ، فحفر تحته سردابا من
إحداهما إلى الأخرى، وأحكمه بالأزج لم يمنع. قال: وبمثلها أجاب
الأصحاب فيما إذا لم يكن نافذا، لان لكل أحد دخول هذا الزقاق، كاستطراق
الدرب النافذ.
قال: وغلط من قال بخلافه، وهذا اختيار منه لكونها في معنى الشارع،
والظاهر خلافه. واعتذر الامام عن جواز دخولها بأنه من قبيل الإباحة المستفادة من
قرائن الأحوال.
قلت: هذا الذي ذكره الروياني - فيما كان الطريق نافذا - صحيح. وكذا
صرح به القاضي أبو الطيب وغيره.
445

وأما تجويزه ذلك - فيما إذا لم يكن الطريق نافذا - ونقله ذلك عن الأصحاب،
فضعيف، ولا يوجد ذلك في كتب معظم الأصحاب، ولعله وجده في كتاب أو
كتابين، فإني رأيت له مثل هذا كثيرا. وكيف كان، فهذا الحكم ضعيف، فإن
الأصحاب مصرحون بأن الطريق في السكة المسدودة ملك لأصحاب السكة، وأنهم
لو أرادوا سدها وجعلها مساكن، جاز، ونقل الامام اتفاق الأصحاب على هذا. وإذا
ثبت إنها ملكهم، فالقرار تابع للأرض كما يتبعها الهواء، فكما لا يجوز إخراج
الجناح فوق أرضهم بغير رضاهم، كذا السرداب تحتها. والله أعلم.
الفصل الثاني في الجدار: الجدار بين المالكين قسمان.
الأول: المختص. فهل للجار وضع الجذوع عليه بغير إذن مالكه؟ قولان.
القديم: نعم. ويجبر المالك إن امتنع، والجديد: لا، ولا يجبر.
قلت: الأظهر: هو الجديد. وممن نص على تصحيحه، صاحب
المهذب، والجرجاني، والشاشي، وغيرهم، وقطع به جماعة. والله أعلم.
فعلى القديم: إنما يجبر بشروط.
أحدها: أن لا يحتاج مالك الجدار إلى وضع جذوع عليه.
والثاني: أن لا يزيد الجار في ارتفاع الجدار، ولا يبني عليه أزجا، ولا يضع
عليه ما يضر الجدار.
والثالث: أن لا يملك شيئا من جدران البقعة التي يريد تسقيفها، أو لا يملك
إلا جدارا، فإن ملك جدارين، فليسقف عليهما، وليس له إجبار صاحب الجدار،
ولم يعتبر الامام هذا الشرط هكذا. بل قال: يشترط كون الجوانب الثلاثة من البيت
لصاحب البيت، ويحتاج رابعا. فأما إذا كان الكل للغير، فلا يضع قولا واحدا.
قال: ولم يعتبر بعض الأصحاب هذا الشرط، واعتبر في التتمة مثل ما ذكره
الامام، وحكى الوجهين فيما إذا لم يملك إلا جانبا أو جانبين. والمذهب: ما
446

قدمناه. وإن قلنا بالجديد، فلا بد من رضى المالك. فإن رضي بلا عوض، فهو
عارية، يرجع فيها قبل وضع الجذوع والبناء عليها قطعا، وبعده، على الأصح
كسائر العواري. وإذا رجع، لا يتمكن من قلعه مجانا.
وفي فائدة رجوعه وجهان. أصحهما: أنه يتخير بين أن يبقى بأجره، وبين أن
يقلع، ويضمن أرش النقص، كما لو أعار أرضا للبناء. لكن في إعارة الأرض
خصلة ثالثة، وهي تملك البناء بقيمته، وليس لمالك الجدار ذلك، لان الأرض
أصل، فجاز أن يستتبع البناء، والجدار تابع، فلا يستتبع. والثاني: ليس له إلا
الأجرة، ولا يملك القلع أصلا، لان ضرر القلع يصل إلى ما هو خالص ملك
المستعير، لان الجذوع إذا رفعت أطرافها، لم تستمسك على الجدار الباقي.
والوجه الثاني: لا يملك الرجوع أصلا، ولا يستفيد به القلع، ولا طلب الأجرة
للمستقبل، وبه قطع العراقيون، لان مثل هذه الإعارة، يراد بها التأبيد، فأشبه
الإعارة لدفن ميت، فإنه لا ينبش ولا أجرة. فعلى هذا، لو رفع الجذوع صاحبها،
أو سقطت بنفسها، لم يملك إعادتها بغير إذن جديد على الأصح. وكذا لو سقط
الجدار فبناه مالكه بتلك الآلة، لان الاذن تناول مرة. فإن بناه بغير تلك الآلة،
فلا خلاف أنه لا يعيد إلا بإذن جديد، لأنه جدار آخر.
قلت: الخلاف في جواز الإعادة بلا إذن. فلو منعه المالك، لم يعد بلا
خلاف، إذ لا ضرر، كذا صرح به صاحب التتمة. وأشار القاضي أبو الطيب أو
صرح بجريان الوجهين في جواز منعه، فقال في وجه: ليس له منعه لأنه صار له
حق لازم، هذا كله إذا وضع أولا بإذن. فلو ملكا دارين، ورأيا خشبا على الجدار،
ولا يعلم كيف وضع، فإذا سقط الحائط، فليس له منعه، من إعادة الجذوع بلا
خلاف، كذا صرح به القاضي أبو الطيب وصاحب المهذب والشامل
وآخرون، لأنا حكمنا بأنه وضع بحق، وشككنا في المجوز للرجوع. ولو أراد
صاحب الحائط نقضه، فإن كان مستهدما، جاز، وحكم إعادة جذوع ما سبق.
وإن لم يكن مستهدما، لم يمكن من نقضه قطعا. والله أعلم.
أما إذا رضي بعوض، فقد يكون على وجه البيع أو الإجارة، وسنتكلم فيهما
447

إن شاء الله تعالى. ولو صالحه عنه على المال، لم يجز على قول الاجبار، لان من
ثبت له حق، لا يجوز أخذ عوض من عليه، وإن قلنا لا، جاز، بخلاف الصلح
عن الجناح، لأنه هواء مجرد.
القسم الثاني: المشترك، والكلام فيه ثلاثة أمور.
الأول: الانتفاع به، فليس لأحد الشريكين أن يتد فيه وتدا، أو يفتح فيه
كوة، أو يترب الكتاب بترابه بغير إذن شريكه، كسائر الأملاك المشتركة، لا
يستقل أحد الشريكين بالانتفاع،
ويستثنى من الانتفاع، ضربان.
أحدهما: لو أراد أحدهما وضع الجذوع عليه، ففي إجبار شريكه، القولان،
كالجار وأولى.
ما لا تقع فيه المضايقة من الانتفاعات، فلكل واحد منهما الاستقلال به،
كالاستناد وإسناد المتاع إليه، ويجوز في الجدار الخالص للجار مثله، وهو
كالاستضاءة بسراج الغير، والاستظلال بجداره، فإنه جائز. ولو منع أحدهما الآخر
من الاستناد، فهل يمتنع؟ وجهان، لأنه عناد محض.
قلت: أصحهما: لا يمتنع. والله أعلم.
ومن الضرب الثاني، ما إذا بنى في ملكه جدارا متصلا بالجدار المشترك،
بحيث لا يقع ثقله عليه.
الأمر الثاني: قسمته، إما في كل الطول ونصف والعرض، وإما في نصف
الطول وكل العرض، وليس المراد بالطول: ارتفاعه عن الأرض، فإن ذلك سمك،
448

وإنما طول الجدار: امتداده زاويته البيت إلى زاويته الأخرى مثلا، والعرض: هو
البعد الثالث، فإذا كان طوله عشرة أذرع، وعرضه ذراعا، فقسمته في كل الطول
ونصف العرض: أن يجعل لكل واحد نصف ذراع من العرض في طول عشرة أذرع.
وقسمته بالعكس: أن يجعل لكل واحد خمسة أذرع طولا في عرض ذراع، أو أي
واحدا من النوعين تراضيا عليه، جاز. لكن كيف يقسم؟ وجهان. أحدهما: يعلم
بعلامة وخط يرسم. والثاني: يشق وينشر بالمنشار. وينطبق على هذا الثاني ما ذكره
العراقيون: أنهما لو طلبا من الحاكم القسمة بالنوع الأول، لم يجبهما، لان شق
الجدار في الطول إتلاف له، وتضييع، ولكنهما يباشرانها بأنفسهما إن شاءا، وهو
كما لو هدماه، واقتسما النقض. وإن طلب أحدهما القسمة، وامتنع الآخر، نظر،
إن طلب النوع الأول، لم يجب إليه على الصحيح لما فيه من الاضرار.
وقيل: يجاب ويجبر الممتنع، لكن لا يقسم بالقرعة، بل يخص كل واحد
مما يليه. وإن طلب النوع الثاني، لم يجب إليه على الأصح. أما إذا انهدم الجدار
وظهرت العرصة، أو كان بينهما عرصة جدار لم يبن عليها، فطلب أحدهما قسمتها
بالنوع الثاني، يجاب قطعا. وإن طلبها بالنوع الأول، فإن قلنا في الجدار: إن
طالب مثل هذه القسمة يجاب، ويخص كل واحد بالشق الذي يليه بغير قرعة، فكذا
هنا. وإن قلنا هناك: لا يجاب، فهنا وجهان. أصحهما عند العراقيين وغيرهم:
الإجابة. وإذا بنى الجدار وأراد تعريضه، زاد فيه من عرض بيته.
الأمر الثالث: العمارة، فإذا هدم أحد الشريكين الجدار المشترك من غير إذن
صاحبه لاستهدامه، أو لغيره، ففي التهذيب وغيره: أن النص إجبار الهادم على
إعادته، وأن القياس: أنه يغرم نقضه ولا يجبر على البناء، لان الجدار ليس مثليا.
قلت: قد ذكر صاحب التنبيه وسائر العراقيين وطائفة من غيرهم، فيما إذا
استهدم، فهدمه أحدهما بلا إذن، طريقين. أصحهما: القطع بإجباره على إعادة
مثله. والثاني: فيه القولان السابقان في الاجبار ابتداء، أحدهما عليه إعادة مثله،
والثاني: لا شئ. وقطع إمام الحرمين في أواخر باب ثمرة الحائط يباع أصله بأن
من هدمك حائط غيره عدوانا، يلزمه أرش ما نقص، ولا يلزمه بناؤه، لأنه ليس
بمثلي، والمذهب ما نص عليه. والله أعلم.
449

ولو انهدم الجدار بنفسه، أو هدماه معا لاستهدامه أو غيره، وامتنع أحدهما من
العمارة، فقولان. القديم: إجباره عليها دفعا للضرر وصيانة للأملاك المشتركة عن
التعطيل. والجديد: لا إجبار، كما لا يجبر على زرع الأرض المشتركة،
ولان الممتنع يتضرر أيضا بتكليفه العمارة. ويجري القولان في النهر، والقناة،
والبئر المشتركة، إذا امتنع أحدهما من التنقية والعمارة.
قلت: لم يبين الامام الرافعي الأظهر من القولين، وهو من المهمات.
والأظهر عند جمهور الأصحاب، هو جديد. ممن صرح بتصحيحه:
المحاملي، والجرجاني، وصاحب التنبيه وغيرهم. وصحح صاحب الشامل
القديم، وأفتى به الشاشي. وقال الغزالي في الفتاوى: الأقيس، أن يجبر. وقال: والاختيار، إن ظهر للقاضي أن امتناعه مضارة، أجبره. وإن كان لاعسار،
أو غرض صحيح، أو شك فيه، لم يجبر. وهذا التفصيل الذي قاله، وإن كان
أرجح من إطلاق القول بالاجبار، فالمختار الجاري على القواعد: أن لا إجبار
مطلقا. والله أعلم.
ولو كان علو الدار لواحد، وسفلها لآخر، فانهدمت، فليس لصاحب السفل
إجبار صاحب العلو على معاونته في إعادة السفل وهل لصاحب العلو إجبار صاحب
السفل على إعادته ليبني عليه؟ فيه القولان. وقيل: القولان فيما إذا انهدم، أو
هدما، فلا شرط.
أما لو استهدم، فهدمه صاحب السفل بشرط الإعادة، فيجبر قطعا. ويجري
القولان، فيما إذا طلب أحدهما اتخاذ سترة بين سطحيهما، هل يجبر الآخر على
مساعدته؟
قلت: قال أصحابنا: ويجريان فيما لو كان بينهما دولاب وتشعث واحتاج إلى
450

إصلاحه. والله أعلم.
فرع إذا قلنا بالقديم، فأصر الممتنع، أنفق الحاكم عليه من ماله. فإن لم
يكن له مال، اقترض عليه، أو أذن الشريك في الانفاق عليه، ليرجع على
الممتنع.
فلو استقل به للشريك، فلا رجوع على المذهب. وقيل: قولان. القديم:
نعم. والجديد: لا. وقيل: يرجع في القديم. وفي الجديد، قولان وقيل: إن لم
يمكنه عند البناء مراجعة الحاكم، رجع، وإلا، فلا. ثم إذا بناه، إن كان بالآلة
القديمة، فالجدار بينهما كما كان. والسفل في الصورة الأخرى لصاحبه كما كان،
وليس لصاحب العلو نقضه ولا منعه من الانتفاع بملكه. وإن بناه بآلة من عنده،
فالمعاد ملكه، وله نقضه. فلو قال الشريك: لا تنقض وأغرم لك نصف القيمة،
لم يجز له النقض، لأنا على هذا القول نجبر الممتنع على ابتداء العمارة، فالاستدامة
أولى.
فرع إذا قلنا بالجديد، فأراد الطالب الانفراد بالعمارة، نظر، إن أرادها
بالنقض المشترك، أو أراد صاحب العلو إعادة السفل بنقض صاحب الأسفل، أو بآلة
مشتركة، فللآخر منعه. وإن أراد بناءه بآلة من عنده، فله ذلك ليصل إلى حقه. ثم
المعاد ملكه، يضع عليه ما شاء، وينقضه إذا شاء. فلو قال شريك الجدار: لا
تنقض لأغرم لك نصف القيمة، أو قال صاحب السفل: لا تنقض لأغرم لك
القيمة، لم يلزمه إجابته على هذا القول كابتداء العمارة. ولو قال صاحب
السفل: انقض ما أعدته لابنيه بآلة نفسي. فإن كا طالبه بالبناء، فامتنع، لم
يجبره، وإن لم يطالبه وقد بنى علوه، لم يجب، لكن له أن يتملك السفل بالقيمة،
451

ذكره في التهذيب، وإن لم يبن عليه العلو، أجيب صاحب السفل، ومتى بنى
بآلة نفسه، فله منع صاحبه من الانتفاع بالمعاد، بفتح كوة وغرز وتد ونحوهما،
وليس له منع صاحب السفل من السكون على الصحيح، لان العرصة ملكه. ولو
أنفق على البئر والنهر، فليس له منع الشريك من الانتفاع بالماء لسقي الزرع وغيره،
وله منعه من الانتفاع بالدولاب والبكرة المحدثين. ولو كان للممتنع على الجدار
المنهدم جذوع، فأراد إعادتها بعد أن بناه الطالب بآلة نفسه، لزمه تمكينه، أو نقض
ما أعاد ليبني معه الممتنع، ويعيد جذوعه.
فرع لو تعاونا على إعادة الجدار المشترك بنقضه، بقي على ما كان. فلو
شرطا زيادة لأحدهما، لم يصح على الصحيح. وفي وجه: يصح، لتراضيهما.
فلو انفرد أحدهما بالبناء بالنقض المشترك بإذن شريكه، بشرط أن يكون له الثلثان،
جاز، ويكون السدس الزائد في مقابلة عمله في نصيب الآخر، هكذا أطلقوه.
واستدرك الامام فقال: هذا مصور فيما إذا شرط له سدس النقض في الحال، لتكون
الأجرة عتيدة.
فأما إذا شرط السدس الزائد له بعد البناء، فلا يصح، لان الأعيان لا تؤجل.
ولو بناه أحدهما بآلة نفسه بإذن الآخر، بشرط أن يكون ثلثا الجدار له، فقد قابل ثلث
الآلة المملوكة له، وعمله فيه بسدس العرصة المبني عليها.
وفي صحة هذه المعاملة قولان، لجمعها بيعا وإجارة. وشرط صحتها: معرفة
الآلات وصفة الجدار، ويعود النظر في شرط ثلث النقض في الحال، أو بعد البناء.
فرع إذا كان له حق إجراء ماء في ملك غيره، فانهدم، لم يجب على
مستحق الاجراء مشاركته في العمارة، لأنها تتعلق بالآلات وهي لمالكها. وإن كان
الانهدام بسبب الماء، فلا عمارة عليه أيضا. قال الامام: وفيه احتمال، لكن
الظاهر، أن لا عمارة عليه، لان الانهدام تولد من مستحق.
452

الفصل الثالث في السقف فإذا كان السفل لرجل، والعلو لرجل، فقد
يكون السقف بين ملكيهما مشتركا، وقد يكون لأحدهما. وحكم القسمين في
الانتفاع، يخالف حكمهما في الجدار، فيجوز لصاحب العلو، الجلوس ووضع
الأثقال عليه على العادة، ولصاحب السفل الاستكنان به، وتعليق ما ليس له ثقل
يتأثر به السقف، كالثوب ونحوه قطعا. وفي غيره، أوجه. أحدها: لا يجوز
أصلا. والثاني: يجوز ما لا يحتاج إلى إثبات وتد في السقف. وأصحها: يجوز
مطلقا على العادة بلا فرق بين ما يحتاج إلى وتد وغيره. قال الشيخ أبو محمد: فإن
قلنا: ليس له إثبات الوتد والتعليق فيه، فليس لصاحب العلو غرز الوتد في الوجه
الذي يليه. وإن جوزناه له، ففي جوازه لصاحب العلو وجهان، لندور حاجته،
بخلاف التعليق.
فرع إذن المالك لغيره في البناء على ملكه، قد يكون بغير عوض، وهو
الإعارة، وقد يكون بعوض. فمن صوره، أن يكري أرضه، أو رأس جداره، أو
سقفه، مدة معلومة بأجرة معلومة، فيجوز، وسبيله سبيل سائر الإجارات. ومنها أن
يأذن فيه بصيغة البيع، ويبين الثمن، وهو صحيح، خلافا للمزني رحمه الله. ثم
يتصور ذلك بعبارتين. إحداهما: أن يبيع سطح البيت أو علوه للبناء عليه بثمن
معلوم. والثانية: أن يبيع حق البناء على ملكه. والأولى، هي عبارة الشافعي رضي
الله عنه وجماهير الأصحاب. والثانية: عبارة الامام، والغزالي،
رحمهما الله تعالى. والأشبه: أن المراد منهما شئ واحد. ثم في حقيقة هذا
العقد، أوجه. أحدها أنه بيع ويملك المشتري به مواضع رؤوس الجذوع.
والثاني: أنه إجارة. وإنما لم يشرط تقدير المدة، لأن العقد الوارد على المنفعة،
تتبع فيه الحاجة. فإذا اقتضت التأبيد، أبد، كالنكاح. وأصحهما: أنه ليس بيعا
ولا إجارة محضين، بل فيه شبههما، لكونه على منفعة، لكنها مؤبدة. فإذا قلنا:
ليس بيعا، فعقده بلفظ الإجارة، ولم يتعرض لمدة، انعقد أيضا على الأصح، كما
ينعقد بلفظ الصلح، لأنه كما يوافق البيع في التأبيد، يوافقها في المنفعة. وإذا
جرت هذه المعاملة، وبنى المشتري عليه، لم يكن للبائع أن يكلفه النقص ليغرم له
453

أرش النقض. ولو انهدم الجدار أو السقف بعد بناء المشتري عليه وإعادة مالكه،
فللمشتري إعادة البناء بتلك الآلات أو بمثلها. ولو انهدم قبل البناء، فللمشتري
البناء عليه إذا أعاده. وهلل يجبره على إعادته؟ فيه الخلاف السابق. ولو هدم
صاحب السفل أو غيره السفل قبل بناء المشتري، فعلى الهادم قيمة حق البناء
للمشتري، لأنه حال بينه وبين حقه. فلو أعيد السفل، استرد الهادم القيمة لزوال ا
لحيلولة. ولو كان الهدم بعد البناء، فالقياس أن يقال: إن قلنا: إن من هدم جدار
غيره، يلزمه إعادته، لزمه إعادة السفل والعلو. وإن قلنا: عليه أرش النقص،
فعليه أرش نقص الآلات، وقيمة حق البناء للحيلولة. وبالجملة لا ينفسخ هذا العقد
بعارض هدم وانهدام، لالتحاقه بالبيوع.
فرع سواء جرى الاذن في البناء بعوض أو بغيره، يجب بيان قدر الموضع
المبني عليه طولا وعرضا، ويجب مع ذلك إن كان البناء على الجدار أو السطح،
بيان سمك البناء وطوله وعرضه، وكون الجدران منضدة أو خالية الأجواف، وكيفية
السقف المحمول عليه، لان الغرض يختلف بذلك. وفي وجه: يكفي إطلاق ذكر
البناء، ويحمل على ما يحتمله المبني عليه، ولا يشترط التعرض لوزن ما يبنيه على
الصحيح، لان التعريف في كل شئ بحسبه. ولو كانت الآلات حاضرة، أغنت
مشاهدتها عن كل وصف. وإذا أذن في البناء على أرضه، لم يجب ذكر سمك البناء
وكيفيته على الصحيح، لان الأرض تحتمل كل شئ.
فرع ادعى بيتا في يد رجل، فأقر، وتصالحا على أن يبني المقر على
سطحه، جاز وقد أعاره المقر له سطح بيته للبناء. ولو تنازعا في سفله، واتفقا على
كون العلو للمدعى عليه، فأقر له بما ادعى، وتصالحا على أن يبني المدعي على
السطح، ويكون السفل للمدعى عليه، جاز، وذلك بيع السفل بحق البناء على
العلو.
فصل من احتاج إلى إجراء ماء المطر من سطحه على سطح غيره، أو
إجراء ماء في أرض رجل، لم يكن له إجبار صاحب السطح والأرض على
المذهب. وحكي قول قديم: أنه يجبر، وهو شاذ. فإن أذن فيه بإجارة، أو إعارة،
454

أو بيع، جاز. ثم في السطح لا بد من بيان الموضع الذي يجري عليه الماء،
والسطوح التي ينحدر الماء إليه منها. ولا بأس بالجهل بقدر ماء المطر، لأنه لا
يمكن معرفته، وهذا عقد جوز للحاجة. وإذا أذن وبين، ثم بنى على سطحه ما
يمنع الماء، فإن كان عارية، فهو رجوع، وإن كان بيعا أو إجارة، فللمشتري أو
المستأجر نقب البناء وإجراء الماء فيه. وأما في الأرض، فقال في التهذيب: لا
حاجة في العارية إلى بيان، لأنه إذا شاء رجع، والأرض تحتمل ما تحتمل. وإن
أجر، وجب بيان موضع الساقية وطولها وعرضها وعمقها، وقدر المدة. قال في
الشامل: ويشترط كون الساقية محفورة. وإذا استأجر، لا يملك الحفر. وإن
باع، وجب بيان الطول والعرض. وفي العمق وجهان، بناء على أن المشتري،
يملك موضع المجرى، أم لا يملك إلا حق الاجراء؟ ومقتضى كلام الأصحاب
ترجيح الأول. هذا إذا كان لفظ البيع: بعتك مسيل الماء. فإن قال: حق مسيل
الماء، فهو كبيع حق البناء، ويجئ في حقيقة العقد ما سبق في بيع حق البناء.
وفي المواضع كلها، ليس له دخول الأرض بغير إذن مالكها، إلا أن يريد تنقية
النهر، وعليه أن يخرج من أرضه ما يخرجه من النهر.
فرع المأذون له في إجراء ماء المطر، ليس له إلقاء الثلج، ولا أن يترك
الثلج حتى يذوب ويسيل إليه، ولا أن يجري فيه ما يغسل به ثيابه وأوانيه، بل لا
يجوز أن يصالح على ترك الثلوج على سطحه ولا إجراء الغسالات على مال، لان
الحاجة لا تدعو إليه. وفي الأول، ضرر ظاهر. وفي الثاني، جهالة. والمأذون له
في إلقاء الثلج، ليس له إجراء الماء.
فرع تجوز المصالحة على قضاء الحاجة في حش غيره على مال، وكذا
على جمع الزبل والقمامة في ملكه، وهي إجارة يراعى فيها شرائطها، وكذا
المصالحة على البيتوتة على سطح. فلو باع مستحق البيتوتة منزله، فليس للمشتري
أن يبيت عليه، بخلاف ما إذا باع مستحق إجراء الماء على غيره مدة [بقاء]
داره، فإن المشتري يستحق الاجراء بقية المدة، لان الاجراء من مرافق الدار،
بخلاف البيتوتة.
455

فرع لو خرجت أغصان شجرة إلى هواء ملك جاره، فللجار مطالبته
بإزالتها. فإن لم يفعل، فله تحويلها عن ملكه. فإن لم يمكن، فله قطعها، ولا
يحتاج فيه إلى إذن القاضي، وفيه وجه ضعيف. فلو صالحه على إبقائها بعوض، لم
يصح إن لم يستند الغصن إلى شئ، لأنه اعتياض عن مجرد الهواء. وإن استند إلى
جدار، فإن كان بعد الجفاف، جاز، وإن كان رطبا، فلا، لأنه يزيد ولا يعرف قدر
ثقله وضرره. فقال طائفة من أصحابنا البصريين: يجوز، وما ينمى يكون تابعا.
والأول أصح. وانتشار العروق، كانتشار الأغصان. وكذلك ميل الجدار إلى هواء
الجار، قاله الإصطخري.
الباب الثالث في التنازع
فيه مسائل.
الأولى: إذا ادعى على رجلين دارا في يدهما، فصدقه أحدهما، وكذبه
الآخر، ثبت له النصف بإقرار المصدق، والقول قول المكذب. فلو صالح المدعي
المقر على مال، وأراد المكذب أخذها بالشفعة، ففيه طريقان.
أحدهما، قول الشيخ أبي حامد وجماعة: إن ملكاها في الظاهر بسببين
مختلفين، فله ذلك، لأنه لا تعلق لاحد الملكين بالآخر. وإن ملكا بسبب واحد،
من إرث، أو شراء، فوجهان. أحدهما: المنع، لأنه زعم أن الدار ليست
للمدعي، وأن الصلح باطل. وأصحهما: يأخذ، لأنا حكمنا في الظاهر بصحة
الصلح. ولا يبعد انتقال ملك أحدهما فقط وإن ملكا بسبب. و
الطريق الثاني، قاله ابن الصباغ: إن اقتصر المكذب على قوله: لا شئ
لك في يدي، أو لا يلزمني تسليم شئ إليك، أخذ. وإن قال مع ذلك: وهذه
الدار ورثناها، ففيه الوجهان. وهذا الطريق، أقرب، مع أن قوله: ورثناها، لا
يقتضي بقاء نصيب الشريك في ملكه، بل يجوز انتقاله إلى المدعي. فالاختيار: أن
يقطع بجواز الاخذ، إلا أن يقول: إن الشريك مالك في الحال.
456

قلت: هذا الذي اختاره، هو الصواب، وقد قطع به هكذا القاضي أبو الطيب
في تعليقه. والله أعلم.
المسألة الثانية: ادعى رجلان دارا في يد رجل، فأقر لأحدهما بنصفها،
نظر، إن ادعياها إرثا ولم يتعرضا لقبض، شارك صاحبه فيما أخذه، لان التركة
مشتركة، فالحاصل منها مشترك. وإن قالا: ورثناها وقبضناها، ثم غصبناها، لم
يشاركه على الصحيح وقول الأكثرين. فإن ادعيا ملكا بشراء أو غيره، فإن لم يقولا:
اشترينا معا، فلا مشاركة. وإن قالا: اشترينا معا، أو اتهبنا معا، وقبضنا معا،
فوجهان. أصحهما: أنه كالإرث. والثاني: لا مشاركة. فلو لم يتعرضا لسبب
الملك، فلا مشاركة قطعا، نص عليه في المختصر. وحيث شركنا في هذه
الصور، فصالح المصدق المدعى عليه على مال، فإن كان بإذن الشريك، صح،
وإلا، فباطل في نصيب الشريك. وفي نصيبه قولا تفريق الصفقة. وقيل: يصح في
جميع المقر به لتوافق المتعاقدين، وهو ضعيف.
ولو ادعيا دارا في يده، فأقر لأحدهما بجميعها، فإن وجد من المقر له في
الدعوى ما يتضمن إقرارا لصاحبه، بأن قال: هذه الدار بيننا، ونحو ذلك، شاركه.
وإن لم يوجد، بل اقتصر على دعوى النصف، نظر، إن قال بعد إقرار المدعى عليه
بالكل: الجميع لي، سلم الجميع له، ولا يلزم من ادعائه النصف أن لا يكون
الباقي له، ولعله ادعى النصف، لكون البينة ما تساعده على غيره، أو يخاف
الجحود الكلي. وإن قال: النصف الآخر لصاحبي، سلم لصاحبه. وإن لم يثبته
لنفسه، لا لرفيقه، فهل يترك في يد المدعى عليه، أم يحفظه القاضي، أم يسلم
إلى رفيقه؟ فيه أوجه، أصحها: أولها.
الثالثة: تداعيا جدارا حائلا بين ملكيهما، فله حالان.
أحدهما: أن يكون متصلا ببناء أحدهما دون الآخر اتصالا لا يمكن إحداثه
457

بعد بنائه، فيرجح جانبه. وصورته: أن يدخل نصف لبناء الجدار المتنازع فيه في
جداره الخاص، ونصف جداره الخاص في المتنازع فيه، ويظهر ذلك في الزوايا.
وكذلك لو كان لأحدهما عليه أزج لا يمكن إحداثه بعد بناء الجدار بتمامه، بأن
أميل من مبدأ ارتفاعه عن الأرض قليلا. وإذا ترجح جانبه، حلف وحكم له
بالجدار، إلا أن تقوم بينة على خلافه. ولا يحصل الرجحان بوجود الترصيف
المذكور في مواضع معدودة من طرف الجدار، لامكان إحداثه بعد بناء الجدار بنزع
لبنة ونحوها، وإدراج أخرى. ولو كان الجدار المتنازع فيه مبنيا على خشبة طرفها في
ملك أحدهما، وليس منها شئ في ملك الآخر، فالخشبة لمن طرفها في ملكه،
والجدار المبني عليها تحت يده ظاهرا، قال الامام: ولا يخلو من احتمال.
الحال الثاني: أن يكون متصلا ببنائهما جميعا، أو منفصلا عنهما، فهو في
أيديهما، فإن أقام أحدهما بينة، قضي له، وإلا، فيحلف كل واحد منهما
للآخر. فإذا حلفا، أو نكلا، جعل الجدار بينهما بظاهر اليد. وإن حلف أحدهما
ونكل الآخر، قضى للحالف بالجميع. وهل يحلف كل واحد على النصف الذي
يحصل له، أم على الجميع لأنه ادعاه؟ وجهان. أصحهما: الأول. قال الشافعي
رضي الله عنه: ولا أنظر إلى من إليه الدواخل والخوارج، ولا أنصاف اللبن، ولا
معاقد القمط معناه: لا أرجح بشئ منها.
قال المفسرون لكلامه: المراد بالخوارج: الصور، والكتابة المتخذة في
ظاهر الجدار. وبالدواخل: الطاقات، والمحاريب في باطن الجدار. وبأنصاف
اللبن: أن يكون الجدار من لبنات مقطعة، فتجعل الأطراف الصحاح إلى جانب،
ومواضع الكسر إلى جانب. ومعاقد القمط، تكون في الجدار المتخذ من قصب أو
458

حصير ونحوهما. وأغلب ما يكون ذلك، في الستر بين السطوح، فيشد بحبال، أو
خيوط. وربما جعل عليها خشبة معترضة، فيكون العقد من جانب، والوجه
المستوي من جانب. ولو كان لأحدهما عليه جذوع، لم يرجح، لأنه لا يدل على
الملك، كما لو تنازعا دارا في يدهما ولأحدهما فيها متاع، فإذا حلفا، بقيت
الجذوع بحالها، لاحتمال أنها وضعت بحق.
الرابعة: السقف المتوسط بين سفل أحدهما وعلو الآخر، كالجدار بين
ملكيهما، فإذا تداعياه، فإن لم يكن إحداثه بعد بناء العلو كالأزج الذي لا يمكن
عقده على وسط الجدار بعد امتداده في العلو، جعل في يد صاحب السفل،
لاتصاله ببنائه على سبيل الترصيف. وإن أمكن بأن يكون السقف عاليا، فيثقب وسط
الجدار، وتوضع رؤوس الجذوع في الثقب، فيصير البيت بيتين، فهو في أيديهما،
لاشتراكهما في الانتفاع به.
الخامسة: علو الخان أو الدار لأحدهما، والسفل للآخر، وتنازعا في العرصة
أو الدهليز. فإن كان المرقى في الصدر، جعلت بينهما، لان لكل واحد يدا،
وتصرفا بالاستطراق ووضع الأمتعة وغيرهما.
قال الامام: وكان لا يبعد أن يقال: ليس للعلو إلا الممر، وتجعل الرقبة
للسفل. لكن لم يصر إليه أحد من الأصحاب. وإن كان المرقى في الدهليز أو
الوسط، فمن أول الباب إلى المرقى، بينهما، وفيما وراءه، وجهان. أصحهما:
لصاحب السفل، لانقطاع صاحب العلو عنه، واختصاص صاحب السفل يدا
459

وتصرفا. والثاني: بينهما، لان صاحب العلو قد ينتفع به بوضع الأمتعة فيه، وطرح
القمامة. وإن كان المرقى خارجا، فلا تعلق لصاحب العلو بالعرصة بحال. ولو
تنازعا المرقى وهو داخل، فإن كان منقولا كالسلم الذي يوضع ويرفع، فإن كان في
بيت لصاحب السفل، فهو في يده، وإن كان في غرفة لصاحب العلو، ففي يده.
وإن كان منصوبا في موضع المرقى، فنقل ابن كج عن الأكثرين: أنه لصاحب
العلو، لعود منفعته إليه. وعن ابن خيران: أنه لصاحب السفل كسائر المنقولات.
وهذا هو الوجه. وإن كان المرقى مثبتا في موضعه، كالسلم المسمر، والأخشاب
المعقودة، فلصاحب العلو، لعود نفعه إليه. وكذا إن كان مبنيا من لبن أو آجر إذا لم
يكن تحته شئ. فإن كان تحته بيت، فهو بينهما كسائر السقوف. وإن كان تحته
موضع حب أو جرة، فالأصح: أنه لصاحب العلو. والثاني: أنه كما لو كان تحته
بيت.
460

كتاب الحوالة
أصلها مجمع عليه. ومن أحيل على ملئ استحب أن يحتال. ولا بد في
وجودها من ستة أمور: محيل، ومحتال، ومحال عليه، ودين للمحتال على المحيل، ودين
للمحيل على المحال عليه، ومراضاة بالحوالة بين المحيل
والمحتال.
ويشترط في صحتها أمور. منها ما يرجع إلى الدينين، ومنها ما يتعلق
بالاشخاص الثلاثة.
461

وفي حقيقة الحوالة، وجهان. أحدهما: أنها استيفاء حق، كأن المحتال
استوفى ما كان له على المحيل وأقرضه المحال عليه. إذ لو كانت معاوضة، لما جاز
فيها التفرق قبل القبض إذا كانا ربويين. وأصحهما: أنها بيع، وهو المنصوص،
لأنها تبديل مال بمال. وعلى هذا، وجهان. أحدهما: أنها بيع عين بعين، وإلا،
فيبطل، للنهي عن بيع دين بدين. والصحيح: أنها بيع دين بدين، واستثني
هذا للحاجة. قال الامام وشيخه رحمهما الله: لا خلا ف في اشتمال الحوالة على
المعنيين: الاستيفاء والاعتياض، والخلاف في أن أيهما أغلب؟
أما شروطها فثلاثة.
الأول: الرضى، فلا تصح إلا برضى المحيل والمحتال. وأما المحال
عليه، فإن كان عليه دين للمحيل، لم يعتبر رضاه على الأصح. وإن لم يكن، لم
يصح بغير رضاه قطعا. وبإذنه وجهان، بناء على أنها اعتياض أم
استيفاء، إن قلنا: استيفاء، صح، وإلا، فلا. فإن صححنا، فوجهان. أحدهما: يبر المحيل
بنفس الحوالة كسائر الحوالات. وأصحهما وبه قطع الأكثرون: لا يبرأ، بل قبوله
ضمان مجرد. فإن قلنا: لا تصح هذه الحوالة، فلا شئ على المحال عليه. فإن
تطوع وأداه، كان قضاء لدين غيره. وإن قلنا: يصح، فهو كما لو ضمن، فيرجع
462

على المحيل إن أدى بإذنه، وكذا بغير إذنه على الأصح، لجريان الحوالة بإذنه،
وفي رجوعه قبل الأداء، وجهان بناء على براءة المحيل. إن قلنا: يبرأ، فنعم،
وإلا، فلا. وإذا طالب المحتال بالأداء، فله مطالبة المحيل بتخليصه. وهل
له ذلك قبل مطالبة المحتال؟ وجهان، كالوجهين في مطالبة الضامن. ولو أبرأ
المحتال، لم يرجع على المحيل بشئ. ولو قبضه المحتال ثم وهبه له، ففي
الرجوع وجهان.
قلت أصحهما: الرجوع. والله أعلم.
ولو ضمن عنه ضامن، لم يرجع على المحيل حتى يأخذ المحتال منه، أو من
ضامنه. ولو أحال المحتال على غيره، نظر، إن أحاله على من عليه دين، رجع
على محيله بنفس الحوالة، لحصول الأداء بها. وإن أحال على من لا دين عليه، لم
يرجع (ما لم يرجع) عليه الذي أحال عليه.
فرع قد ذكرنا أن الرضى شرط. والمراد به: الايجاب والقبول. ولو قال
المحتال: أحلني. فقال: أحلتك، ففيه الخلاف السابق في مثله في البيع.
وقيل: ينعقد هنا قطعا، لان مبناها على الرفق والمسامحة.
الشرط الثاني: أن يكون دينا لازما، أو مصيره إلى اللزوم.
والدين، ضربان. لازم، وغيره.
أما غيره، ففيه مسائل.
463

إحداها: الثمن في مدة الخيار، تصح الحوالة به وعليه، على الأصح. فإن
منعنا، ففي انقطاع الخيار به، وجهان. وإن جوزنا، فقطع الامام والغزالي: بأنه لا
يبطل الخيار. فلو اتفق فسخ البيع، بطلت الحوالة، لأنها إنما صحت لافضاء البيع
إلى اللزوم. فإذا لم يفض، لم تصح. ومنقول الشيخ أبي علي واختياره، بطلان
الخيار، لان مقتضى الحوالة اللزوم. فلو بقي الخيار، فات مقتضاها، فإن أبطلنا،
فأحال البائع المشتري على ثالث، بطل خيارهما، لتراضيهما. وإذا أحال البائع
رجلا على المشتري، لا يبطل خيار المشتري إلا إذا فرض منه قول ورضى.
وأما الحوالة بالثمن بعد انقضاء الخيار، وقبل قبض المبيع، فالمذهب الذي
عليه الجمهور: القطع بجوازها. وللمسعودي إشارة إلى منعها، لكونه غير مستقر.
وقد اشتهر في كتب الأصحاب اشتراط استقرار ما يحال به وعليه.
المسألة الثانية: إذا أحال السيد على مكاتبه بالنجوم، لم يصح على الأصح.
وقال الحليمي: يصح. ولو أحال المكاتب سيده بالنجوم، صح على الأصح، وبه
قطع الأكثرون. ولو كان للسيد عليه دين معاملة، فأحال عليه، بني على أنه لو
عجز نفسه، هل يسقط ذلك الدين؟ إن قلنا: لا، صحت، وإلا، فلا.
قلت: الأصح: الصحة، وبه قطع صاحب الشامل. والله أعلم.
الثالثة: مال الجعالة. القياس أن يجئ في الحوالة به وعليه، الخلاف
المذكور في الرهن به، وفي ضمانه. وقطع المتولي بجوازها به وعليه بعد العمل،
ومنعها قبله.
قلت: قطع الماوردي بالمنع مطلقا. والله أعلم.
464

قال المتولي: لو أحال من عليه الزكاة الساعي، جاز إن قلنا: هي استيفاء.
وإن قلنا: اعتياض، فلا، لامتناع أخذ العوض عن الزكاة.
الضرب الثاني: الدين اللازم، فتجوز الحوالة به وعليه، سواء اتفق الدينان
في سبب الوجوب، أو اختلفا، بأن كان أحدهما ثمنا، والآخر أجرة، أو قرضا، أو
بدل متلف.
قلت: أطلق الامام الرافعي، أن الدين اللازم، تصح الحوالة به وعليه،
واقتدى في ذلك بالغزالي، وليس كذلك، فإن دين السلم لازم، ولا تصح الحوالة به
ولا عليه على الصحيح، وبه قطع الأكثرون. وحكي وجه في الحاوي
والتتمة وغيرهما: أنه يجوز بناء على أنها استيفاء، وسبقت هذه المسألة في باب
حكم المبيع قبل القبض. فكان ينبغي أن يقول: الدين المستقر، ليخرج هذا.
والله أعلم.
فرع كل دين تجوز الحوالة به وعليه، فسواء كان مثليا كالأثمان
والحبوب، أو متقوما كالثياب والعبيد. وفي وجه: يشترط كونه مثليا. ولا خلاف أنه
يشترط العلم بقدر ما يحال به وعليه، وبصفتهما، إلا إذا أحال بابل الدية أو
عليها، وصححنا الحوالة في المنقولات، فوجهان، أو قولان، بناء على جواز
المصالحة والاعتياض عنها. والأصح: المنع، للجهل بصفتها.
465

الشرط الثالث: اتفاق الدينين، فيشترط اتفاقهما جنسا، وقدرا، وحلولا،
وتأجيلا، وصحة، وتكسرا، وجودة، ورداءة وفي وجه: تجوز الحوالة بالقليل
على الكثير، وبالصحيح على المكسر، وبالجديد على الردئ، وبالمؤجل
على الحال، وبالأبعد أجلا على الأقرب، وكأنه تبرع بالزيادة. والصحيح:
المنع. قال المتولي: ومعنى قولنا: هذه الحوالة غير صحيحة عند الاختلاف، أن
الحق لا يتحول من الدراهم إلى الدنانير مثلا، لكنها لو جرت فهي حوالة على من لا
دين عليه وسبق حكمها.
فصل الحوالة إذا جرت بشروطها، برئ المحيل من دين المحتال،
وتحول الحق إلى ذمة المحال عليه، وبرئ المحال عليه من دين المحيل. حتى
لو أفلس المحال عليه ومات، أو لم يمت، أو جحد وحلف، لم يكن للمحتال
الرجوع إلى المحيل، كما لو أخذ عوضا عن الدين ثم تلف في يده. فلو شرط في
الحوالة الرجوع بتقدير الافلاس، أو الجحود، فهل تصح الحوالة والشرط، أم
الحوالة فقط؟ أم لا يصحان؟ فيه أوجه، هذا إذا طرأ الافلاس. فلو كان مفلسا حال
الحوالة، فالصحيح المنصوص الذي عليه جمهور الأصحاب: أنه لا خيار
للمحتال، سواء شرط يساره، أم أطلق. وفي وجه: يثبت خياره في الحالين، وفي
وجه: يثبت إن شرط فقط. واختار الغزالي، الثبوت مطلقا، وهو خلاف المذهب.
466

فرع صالح مع أجنبي عن دين على عين، ثم جحده الأجنبي وحلف،
ففي عوده إلى من كان عليه الدين، وجهان. قال القاضي حسين: نعم. وأبو
عاصم: لا. قلت: الأصح: قول القاضي. والله أعلم.
فرع خرج المحال عليه عبدا. فإن كان لأجنبي وللمحيل دين في ذمته،
صحت الحوالة، كما لو أحال على معسر، ويتبعه المحتال بعد العتق. وهل له
الرجوع على المحيل؟ فيه خلاف مرتب على ما إذا بان معسرا، وأولى بالرجوع.
وإن كان عبدا للمحيل، فإن كان له في ذمته دين، بأن ثبت قبل ملكه، وقلنا: لا
يسقط، فهو كما لو كان لأجنبي. وإن لم يكن له في ذمته دين، فهي حوالة على من
لا دين عليه. فإن صححناها وجعلناها ضمانا، فهو ضمان العبد عن سيده بإذنه،
وسيأتي بيانه في كتاب الضمان إن شاء الله تعالى. ولا يخفى حكمه لو كان لأجنبي
ولم يكن للمحيل عليه دين.
فصل إذا اشترى عبدا، وأحال البائع بالثمن على رجل، ثم علم
بالعبد عيبا قديما، فرده بالعيب أو بالإقالة، أو التحالف، أو غيرها، ففي بطلان
الحوالة، ثلاثة طرق. أحدها: البطلان. والثاني: لا. والثالث: على قولين.
أظهرهما: البطلان، وهما مبنيان على أنها استيفاء، أم بيع؟ إن قلنا: استيفاء
بطلت، وإلا، فلا.
قلت: المذهب: البطلان، وصححه في المحرر. والله أعلم.
وسواء كان الرد بالعيب بعد قبض المبيع، أو قبله، على المذهب، وبه قطع
الجمهور. وقيل: إنما الخلاف إذا كان بعده. فإن رد قبله، بطلت قطعا، لعدم
تأكدها. وسواء كان الرد بعد قبض المحتال مال الحوالة أم قبله على الأصح، وهو
اختيار الأكثرين. وقال العراقيون والشيخ أبو علي: إن كان بعده، لم تبطل قطعا،
وإنما الخلاف قبله. ولو أحال البائع رجلا على المشتري بالثمن، فقيل: فيه
467

القولان، والمذهب: أنها لا تبطل قطعا، وبه قطع الجمهور، سواء قبض المحتال
مال الحوالة، من المشتري، أم لا. والفرق، أن هنا تعلق الحق بثالث، فإذا القولان
مخصوصان بالصورة الأولى، فنفرع عليهما. فإن لم نبطلها، لم يطالب المشتري
المحال عليه بحال، بل يرجع على البائع فيطالبه إن كان قبض مال الحوالة، ولا
يتعين حقه في ما أخذ، بل له إبداله. وإن لم يقبضه، فله قبضه. وهل للمشتري
الرجوع عليه قبل قبضه لكون الحوالة كالمقبوض، أم لا، لعدم حقيقة القبض؟
وجهان. أصحهما: الثاني. فعلى هذا له مطالبته بتحصيل القبض ليرجع عليه.
وفي وجه: لا يملك مطالبته بالتحصيل أيضا، وهو شاذ ضعيف. وأما إذا أبطلنا
الحوالة، فإن كان قبض من المحال عليه، فليس له رده عليه، لان قبضه بإذن
المشتري. فلو رد، لم يسقط عنه مطالبة المشتري، بل يلزمه الرد على المشتري،
ويتعين حقه فيما قبضه. فإن كان تالفا، لزمه بدله، وإن لم يكن قبضه، فليس له
قبضه، لأنه عاد إلى ملك المشتري كما كان فلو خالف وقبض، لم يقع عنه وفي
وقوعه عن المشتري، وجهان. أحدهما: يقع، لبقاء الاذن. وأصحهما: لا،
لعدم الحوالة والوكالة، ولأنه إنما يقبض لنفسه، ولم يبق له حق، بخلاف ما إذا
فسدت الشركة والوكالة، فإن التصرف يصح، لبقاء الاذن، لكن التصرف يقع
للموكل. أما في صورة إحالة البائع على المشتري، إذا قلنا بالمذهب: إنها لا تبطل،
فإن كان المحتال قبض من المشتري، رجع المشتري على البائع، وإن لم يقبض،
فهل للمشتري الرجوع في الحال، أم لا يرجع إلا بعد القبض؟ فيه الوجهان
السابقان.
فرع قال ابن الحداد: إذا أحالها بصداقها، ثم طلقها قبل الدخول، لم
تبطل الحوالة، وللزوج مطالبتها بنصف المهر. قال من شرح كتابه: المسألة تترتب
على ما إذا أحال المشتري البائع. فإن لم تبطل هناك، فهنا أولى، وإلا ففي بطلانها
في نصف الصداق، وجهان. والفرق أن الطلاق سبب حادث، لا يستند إلى ما
تقدم، بخلاف الفسخ، ولان الصداق أثبت من غيره. ولو أحالها ثم انفسخ النكاح
بردتها، أو بفسخ أحدهما بعيب، لم تبطل الحوالة على الأصح أيضا، ويرجع
الزوج عليها في صورة الطلاق بنصف الصداق، وبجميعه في الردة والفسخ. وإذا
قلنا بالبطلان، فليس له مطالبة المحال عليه، ويطالب الزوج بالنصف في الطلاق.
468

فرع باع عبدا وأحال بثمنه على المشتري، ثم تصادق المتبايعان على أنه
حر الأصل. فإن وافقهما المحتال، أو قامت بينة بحريته، بطلت الحوالة،
لبطلان البيع، فيرد المحتال ما أخذه على المشتري، ويبقى حقه كما كان، وهذه
البينة يقيمها العبد، أو يشهدون حسبة. ولا يتصور أن يقيمها المتبايعان، لأنهما
كذباها بدخولهما في البيع. وإن كذبهما المحتال، ولا بينة، فلهما تحليفه على نفي
العلم، فإذا حلف، بقيت الحوالة في حقه، وله أخذ المال من المشتري.
وهل يرجع المشتري على البائع لأنه قضى دينه بإذنه؟ أم لا، لأنه يقول:
ظلمني المحتال بما أخذ، والمظلوم لا يطالب غير ظالمه؟ قال في التهذيب
بالثاني. وقال الشيخ أبو حامد، وابن كج، وأبو علي بالأول فعلى هذا، يرجع إذا
دفع المال إلى المحتال. وفي رجوعه قبله، الوجهان السابقان. وإن نكل
المحتال، حلف المشتري. ثم إن جعلنا اليمين المردودة كالاقرار، بطلت
الحوالة. وإن جعلناها كالبينة، فهو كما لو حلف، لأنه ليس للمشتري إقامة البينة.
ثم ما ذكرناه في إقرار المحتال وقيام البينة، من بطلان الحوالة، مفروض فيما إذا وقع
التعرض، لكون الحوالة بالثمن. فإن لم تقع، وزعم البائع أن الحوالة عليه بدين
آخر له على المشتري. فإن أنكر المشتري أصل الدين، فالقول قوله مع يمينه. وإن
469

صدقه وأنكر الحوالة به، فإن لم نعتبر رضى المحال عليه، فلا عبرة بإنكاره. وإن
اعتبرناه، فهل القول قول مدعي صحة الحوالة، أو فسادها؟ فيه الخلاف في نظائرها.
فصل إذا كان لزيد عليك مائة، ولك على عمرو مائة، فوجد زيد منك ما
يجوز له قبض مالك على عمرو، فله صورتان.
إحداها: أن تقول لزيد: وكلتك لتقبضه لي، وقال: بل أحلتني عليه 2 (212)،
فينظر، إن اختلفتما في أصل اللفظ، فزعمت الوكالة بلفظها، وزعم زيد الحوالة
بلفظها، فالقول قولك مع يمينك عملا بالأصل. وإن اتفقتما على جريان لفظ
الحوالة، وزعمت أنك أردت به تسليطه بالوكالة، فوجهان. أصحهما: القول
قولك، وبه قال أكثر الأصحاب. وقال ابن سريج: القول قول زيد مع يمينه. وقطع به
القاضي حسين. قال الأئمة: وموضع الوجهين أن يكون اللفظ الجاري بينكما:
أحلتك بمائة على عمرو. فأما إذا قلت بالمائة التي لك علي على عمرو، فهذا لا
يحتمل إلا حقيقة الحوالة، فالقول قول زيد قطعا. فإن قلنا: القول قول زيد،
فحلف، ثبتت الحوالة وبرئت. وإن قلنا: القول قولك في الصورة الأولى أو الثانية
على الأصح، فحلفت، نظر، هل قبض زيد من عمرو، أم لا؟ فإن قبض، برئت
ذمة عمرو، لدفعه إلى وكيل أو محتال. وفي وجه: لا يبرأ في صورة اتفاقكما على
لفظ الحوالة. والصحيح: الأول. ثم ينظر، فإن كان المقبوض باقيا، لزمه تسليمه
إليك. وهل له مطالبتك بحقه؟ وجهان. أحدهما: لا، لاعترافه ببراءتك بدعوى
الحوالة. وأصحهما: نعم، لأنه إن كان وكيلا، فظاهر. وإن كان محتالا، فقد
استرجعت منه ظلما، فلا يضيع حقه والوجهان، في الرجوع ظاهرا. فأما بينه
وبين الله تعالى، فإنه إذا لم يصل إلى حقه عندك، فله إمساك المأخوذ، لأنه ظفر
بجنس حقه من مالك وأنت ظالمه. وإن كان المقبوض تالفا، فقد قطع الأكثرون،
بأنه لا يضمن إذا لم يكن التلف بتفريط، لأنه وكيل في زعمك، والوكيل أمين،
وليس له مطالبتك، لأنه استوفى بزعمه. وقال في التهذيب: يضمن، لأنه ثبتت
وكالته. والوكيل، إذا أخذ المال لنفسه، ضمن. أما إذا لم يقبض زيد من عمرو،
فليس له القبض بعد حلفك، لان الحوالة اندفعت وصار معزولا عن الوكالة بانكاره،
ولك مطالبة عمرو بحقك. وهل لزيد مطالبتك بحقه؟ فيه الوجهان فيما إذا قبض
470

وسلم إليك، قال صاحب البيان: ينبغي أن لا يطالبك هنا قطعا، لاعترافه بأن
حقه على عمرو، وأن ما قبضته أنت من عمرو، ليس حقا له، بخلاف ما إذا قبض،
فإن حقه تعين في المقبوض، فإذا أخذته، أخذت ماله.
الصورة الثانية: أن تقول لزيد: أحلتك على عمرو، فيقول: بل وكلتني
بقبض ما عليه، وحقي باق. ويظهر تصوير هذا الخلاف عند إفلاس عمرو. فينظر،
إن اختلفتما في أصل اللفظ، فالقول قول زيد مع يمينه. وإن اتفقتما على لفظ
الحوالة، جرى الوجهان السابقان في الصورة الأولى على عكس ما سبق. فعلى قول
ابن سريج، القول قولك، مع اليمين، وعلى قول الأكثرين، القول قول زيد مع
يمينه. فإن قلنا: قولك، فحلفت، برئت من دين زيد، ولزيد مطالبة عمرو، إما
بالوكالة، وإما بالحوالة، وما يأخذه يكون له، لأنك تقول: إنه حقه، وعلى زعمه
هو لك، وحقه عليك، فيأخذه بحقه. وحيث قلنا: القول قول زيد، فحلف، فإن
لم يكن قبض المال من عمرو، فليس له قبضه، لان قولك: ما وكلتك، يتضمن
عزله إن كان وكيلا، وله مطالبتك بحقه. وهل لك الرجوع إلى عمرو؟ وجهان.
لأنك اعترفت بتحول ما عليه إلى زيد. ووجه الرجوع وهو اختيار ابن كج، أن زيدا
إن كان وكيلا فلم يقبض، فبقي حقك. وإن كان محتالا، فقد ظلمك بأخذه منك،
وما على عمرو حقه، فلك أخذه عوضا عما ظلمك به. وإن قبض المال من عمرو،
فقد برئت ذمة عمرو. ثم إن كان المقبوض باقيا، فقد حكى الغزالي وجهين.
أحدهما: يطالبك بحقه، ويرد المقبوض عليك. والثاني وهو الصحيح: أنه يملكه
الآن وإن لم يملكه عند القبض، لأنه من جنس حقه، وصاحبه يزعم أنه ملكه.
ويشبه أن لا يكون فيه خلاف محقق، بل له أن يرده ويطالب ببدل حقه، وله أن
يأخذه بحقه. وإن تلف بتفريط، فلك عليه الضمان، وله عليك حقه. وربما يقع
التقاص. وإن لم يكن منه تفريط، فلا ضمان، لأنه وكيل أمين. وفي وجه
ضعيف: يضمن، لان الأصل فيما يتلف في يد الانسان من ملك غيره، الضمان،
ولا يلزم من تصديقه في نفي الحوالة ليبقى حقه، تصديقه في إثبات الوكالة، ليسقط
عنه الضمان.
فصل في مسائل منثورة الأولى: لو أحلت زيدا على عمرو، ثم أحال
471

عمرو زيدا على بكر، ثم أحاله بكر على آخر، جاز، وقد تعدد
المحال عليهم دون المحتال. هنا ولو أحلت زيدا على عمرو، ثم أحال زيد بكرا على عمرو، ثم أحال بكر
آخر على عمرو، جاز التعدد هنا في المحتالين دون المحال عليه. ولو أحلت زيدا
على عمرو، ثم ثبت لعمرو عليك مثل ذلك الدين، فأحال زيدا عليك، جاز.
الثانية: لك على رجلين مائة، على كل واحد خمسون، وكل واحد ضامن
عن صاحبه، فأحالك أحدهما بالمائة على إنسان، برئا جميعا. وإن أحلت على
أحدهما بالمائة، برئ الثاني، لان الحوالة كالقبض. وإن أحلت عليهما على أن
يأخذ المحتال من كل واحد خمسين، جاز، ويبرأ كل واحد عما ضمن. وإن أحلت
عليهما على أن يأخذ المائة من أيهما شاء، فعن ابن سريج: في صحته وجهان.
وجه المنع: أنه لم يكن له إلا مطالبة واحد، فلا يستفيد بالحوالة زيادة صفة.
الثالثة: لك على رجل مال، فطالبته، فقال: أحلت فلانا علي وفلان
غائب، فأنكرت، فالقول قولك مع يمينك. فلو أقام بينة، سمعت وسقطت
مطالبتك له. وهل تثبت به الحوالة في حق الغائب حتى لا يحتاج إلى إقامة بينة إذا
قدم؟ وجهان.
472

كتاب الضمان هو صحيح بالاجماع، وفيه بابان.
الأول: في أركانه، وهي خمسة.
الأول: المضمون عنه. ولا يشترط رضاه بالاتفاق، لان قضاء دينه بغير إذنه
جائز، فضمانه أولى، وكما يصح الضمان عن الميت اتفاقا سواء خلف وفاء، أم لا.
ولا يشترط معرفة المضمون عنه على الأصح.
473

قلت: وسواء كان المضمون عنه حرا، أم عبدا، أم معسرا. والله أعلم.
الركن الثاني: المضمون له، ويشترط معرفته على الأصح. وعلى هذا
لا يشترط رضاه على الأصح وقول الأكثرين، فان شرطناه، لم يشترط قبوله لفظا على
الأصح، فإن شرطناه، فليكن بينه وبين الضمان ما بين الايجاب والقبول في سائر
العقود. وإن لم نشترطه، جاز أن يتقدم الرضى على الضمان. فإن تأخر عنه، فهو
إجارة إن جوزنا وقف العقود، قاله الامام، وفرع على قولنا: لا يشترط رضاه،
فقال: إذا ضمن بغير رضاه، نظر إن ضمن بغير إذن المضمون عنه، فالمضمون
له بالخيار، إن شاء طالب الضامن، وإن شاء تركه. وإن ضمن بإذنه، فحيث قلنا:
يرجع الضامن على المضمون عنه، يجبر المضمون له على قبوله، لان ما يؤديه في
حكم ملك المضمون عنه. وإن قلنا: لا يرجع، فهو كما لو قال لغيره: أد ديني ولم
يشترط الرجوع، وقلنا: لا يرجع. وهل لمستحق الدين والحالة هذه أن يمتنع من
القبول؟ وجهان بناء على أن المؤدى يقع فداء، أم موهوبا لمن عليه الدين؟ إن قلنا
بالثاني، لم يكن له الامتناع، وهو الأشهر، فحصل في معرفة المضمون عنه، وله
أوجه. أصحها: يشترط معرفة المضمون له فقط. والثاني: يشترط معرفتهما.
والثالث: لا. ورابع حكاه الامام: يشترط معرفة المضمون عنه فقط، وهو غريب
ضعيف.
قلت: وإذا شرطنا قبول المضمون له، فللضامن الرجوع عن الضمان قبل
قبوله، قاله في الحاوي لأنه لم يتم الضمان، فأشبه البيع. والله أعلم.
الركن الثالث: الضامن. وشرطه: صحة العبارة، وأهلية التبرع.
أما صحة العبارة، فيخرج عنه الصغير، والمجنون، والمبرسم الذي يهذي،
474

فلا يصح ضمانهم. ولو ضمن إنسان ثم قال: كنت صبيا يوم الضمان، وكان
محتملا، قبل قوله مع يمينه. وكذا لو قال: كنت مجنونا وقد عرف له جنون
سابق، أو أقام به بينة، وإلا فالقول قول المضمون له مع يمينه. وفي ضمان
السكران، الخلاف المذكور في تصرفاته.
قلت: هذا في السكران بمعصية. فأما السكران بمباح، فكالمجنون. والله
أعلم.
وأما الأخرس، فإن لم يكن له إشارة مفهومة، ولا كتابة، لم نعرف أنه ضمن
حتى نصحح أو نبطل، وإن كانت له إشارة مفهومة، صح ضمانه بها كبيعه وسائر
تصرفاته. وفي وجه: لا يصح ضمانه، إذ لا ضرورة إليه، بخلاف سائر
التصرفات. ولو ضمن بالكتابة، فوجهان، سواء أحسن الإشارة، أم لا.
أصحهما: الصحة، وذلك عند القرينة المشعرة، ويجري الوجهان في الناطق وفي
سائر التصرفات.
وأما أهلية التبرع، فلا يصح ضمان المحجور عليه لسفه وإن أذن الولي، لأنه
تبرع، وتبرعه لا يصح بإذن الولي. كذا قال الامام، والغزالي: إن الضمان تبرع،
وإنما يظهر هذا حيث لا رجوع. وأما حيث ثبت الرجوع، فهو قرض محض. ويدل
عليه نص الشافعي رضي الله عنه: أنه لو ضمن في مرض موته بغير إذن المضمون
عنه، حسب من ثلثه. وإن ضمن باذنه، فمن رأس المال، لان للورثة الرجوع على
الأصيل، وهو وإن لم يكن تبرعا فلا يصح من السفيه كالبيع وسائر التصرفات
المالية. فان أذن فيه الولي، فليكن كما لو كان في البيع.
475

قلت: الذي قاله الامام، هو الصواب. وقد صرح الأصحاب بأنه لا يصح
ضمانه من غير فرق بين الاذن وعدمه. وقول الرافعي: إنه ليس تبرعا، فاسد، فإنه
لو سلم أنه كالقرض، كان القرض تبرعا. وقوله: إذا أذن الولي، كان كالبيع،
يعني فيجري فيه الوجهان، فاسد أيضا، فان البيع، إنما صح على وجه، لأنه لا
يأذن إلا فيما فيه ربح أو مصلحة، والضمان غرر كله بلا مصلحة. وأما ضمان
المريض، فقال صاحب الحاوي: هو معتبر من الثلث، لأنه تبرع. فإن كان
عليه دين مستغرق، فالضمان باطل. وإن خرج بعضه من الثلث، صح فيه. فلو
ضمن في مرضه، ثم أقر بدين مستغرق، قدم الدين ولا يؤثر تأخر الاقرار به. والله
أعلم.
وأما المحجور عليه لفلس، فضمانه كشرائه.
فرع ضمان المرأة صحيح، مزوجة كانت أو غيرها، ولا حاجة إلى إذن
الزوج كسائر تصرفاتها.
فرع في ضمان العبد بغير إذن سيده مأذونا كان أو غيره، وجهان.
أحدهما: صحيح يتبع به إذا عتق، إذ لا ضرر على سيده، كما لو أقر باتلاف مال
وكذبه السيد. وأصحهما: لا يصح. وإن ضمن بإذن سيده، صح. ثم إن
قال: اقضه مما تكسبه، أو قال للمأذون: اقضه مما في يدك، قضى منه. وإن عين
مالا وأمر بالقضاء منه، فكمثل. وإن اقتصر على الاذن في الضمان، فإن لم يكن
مأذونا، ففيه أوجه، أصحها: يتعلق بما يكسبه بعد الاذن كالمهر. والثاني:
يكون في ذمته إلى أن يعتق لأنه أذن في الالتزام دون الأداء. والثالث يتعلق برقبته.
وإن كان مأذونا له في التجارة، فهل يتعلق بذمته أم بما يكسبه بعد؟ أم به وبما في
يده من الربح الحاصل؟ أم بهما وبرأس المال؟ فيه أوجه، أصحها: آخرها.
476

وحيث قلنا: يؤدي مما في يده، فلو كان عليه ديون، ففيه أوجه عن ابن سريج،
أحدها: يشارك المضمون له الغرماء، كسائر الديون. والثاني: لا يتعلق الضمان
بما في يده أصلا، لأنه كالمرهون بحقوق الغرماء. والثالث: يتعلق بما فضل عن
حقوقهم رعاية للجانبين.
قلت: أصحها: الثالث. والله أعلم.
وهذا إذا لم يحجر القاضي عليه. فإن حجر باستدعاء الغرماء، لم يتعلق
الضمان بما في يده قطعا. وأم الولد والمدبر، كالقن في الضمان، وكذا من بعضه
حر إن لم يكن بينه وبين سيده مهاياة، أو كانت وضمن في نوبة السيد. فإن ضمن
في نوبته، صح قطعا. ويجوز إن ضمن في نوبته، أن يخرج على الخلاف في
المؤن والأكساب النادرة، هل تدخل في المهاياة؟ والمكاتب بلا إذن، كالقن،
وبالاذن، قالوا: هو على القولين في تبرعاته.
فرع ضمن عبد باذن سيده، وأدى في حال رقه، فحق الرجوع لسيده.
وإن أدى بعد عتقه، فالرجوع للعبد على الأصح. ولو ضمن العبد لسيده عن
أجنبي، لم يصح لأنه يؤدي من كسبه وهو لسيده، ولو ضمن لأجنبي عن سيده، فإن
لم يأذن السيد، فهو كما لو ضمن عن أجنبي. وإن أذن، صح. ثم إن أدى قبل
عتقه، فلا رجوع، وبعده، وجهان بناء على ما لو أجره ثم أعتقه في المدة، هل
يرجع بأجرة المثل لما بقي؟
قلت: لو ثبت على عبد دين بالمعاملة فضمنه سيده، صح كالأجنبي. ولو
ضمن السيد لعبده دينا على أجنبي، فإن لم يكن على العبد دين من التجارة،
فالضمان باطل. وإلا فوجهان، قاله في الحاوي. والله أعلم.
477

الركن الرابع: الحق المضمون، وشرطه ثلاث صفات: كونه ثابتا، لازما،
معلوما.
الصفة الأولى: الثبوت، وفيها مسائل.
إحداها: إذا ضمن ما لم يجب، وسيجب بقرض أو بيع، وشبههما،
فطريقان. أحدهما: القطع بالبطلان، لأنها وثيقة، فلا تسبق وجوب الحق
كالشهادة.
وأشهرهما على قولين. الجديد، البطلان. والقديم، الصحة، لان الحاجة
قد تدعو إليه. ونقل الامام، فروعا على القديم. أحدها: إذا قال ضمنت لك ثمن
ما تبيع فلانا، فباع شيئا بعد شئ، كان ضامنا للجميع، لان ما من أدوات
الشرط، فتقتضي التعميم، بخلاف ما إذا قال: إذا بعت فلانا، فأنا ضامن، لا
يكون ضامنا إلا ثمن ما باعه أولا، لان إذا ليست من أدوات الشرط. والثاني: إن
شرطنا معرفة المضمون له عند ثبوت الدين، فهنا أولى. وإلا، فوجهان. وكذا معرفة
المضمون عنه. والثالث: لا يطالب الضامن ما لم يجب الدين على الأصيل، وليس
له الرجوع بعد لزومه. وأما قبله، فعن ابن سريج، أن له الرجوع. وقال غيره:
لا، لان وضعه على اللزوم. وأما إذا قلنا بالجديد، فقال: أقرض فلانا كذا وعلي
ضمانة، فأقرضه، فالصحيح، أنه لا يجوز، وجوزه ابن سريج.
المسألة الثانية: ضمان نفقة المدة الماضية للزوجة، صحيح سواء كانت نفقة
الموسرين أو المعسرين. وكذا ضمان الأدم، ونفقة الخادم، وسائر المؤن. ولو
ضمن نفقة اليوم، فكمثل، لأنها تجب بطلوع الفجر. وفي ضمان نفقة الغد والشهر
المستقبل، قولان بناء على أن النفقة تجب بالعقد أم بالتمكين؟ إن قلنا بالأول وهو
478

القديم، صح، وإن قلنا بالثاني، وهو الجديد الأظهر، فلا، هكذا نقله عامة
الأصحاب. وأشار الامام إلى أنه على قولين مع قولنا: ضمان ما لم يجب باطل، لان
سبب وجوب النفقة ناجز وهو النكاح. فإن جوزنا ضمن نفقة المستقبل، فله
شرطان.
أحدهما: أن يقدر مدة. فإن أطلق، لم يصح فيما بعد الغد، وفيه وجهان
كما لو قال أجرتك كل شهر بدرهم، هل يصح في الشهر الأول؟
الشرط الثاني: أن يكون المضمون نفقة المعسر، وإن كان المضمون عنه
موسرا لأنه ربما أعسر. وفي التتمة وجه، أنه يجوز ضمان نفقة الموسر
والمتوسط، لأن الظاهر استمرار حاله.
فرع لا يجوز ضمان نفقة القريب لمدة مستقبلة. وفي نفقة يومه وجهان،
لان سبيلها سبيل البر والصلة. ولهذا، تسقط بمضي الزمان وبضيافة الغير.
المسألة الثالثة: باع شيئا فخرج مستحقا، لزمه رد الثمن، ولا حاجة فيه إلى
شرط والتزام. قال القفال: ومن الحماقة اشتراط ذلك في القبالات. وإن ضمن عنه
ضامن ليرجع المشتري عليه بالثمن لو خرج المبيع مستحقا، فهذا ضمان العهدة،
ويسمى ضمان الدرك. أما ضمان العهدة، فقال في التتمة إنما سمي به لالتزامه
ما في عهدة البائع رده، والدرك لالتزامه الغرم عند إدراك المستحق عين ماله. وفي
صحة هذا الضمان، طريقان. أحدهما: يصح قطعا. وأصحهما: على قولين.
أظهرهما: الصحة للحاجة إليه. والثاني: البطلان. فإن صححنا، فذلك إذا ضمن
بعد قبض الثمن. فأما قبله، فوجهان. أصحهما. المنع لأنه إنما يضمن ما دخل
479

في ضمان البائع ولا يوجد ذلك قبل القبض. والثاني: الصحة لأنه قد تدعو إليه
حاجة بأن لا يسلم الثمن إلا بعده.
فرع كما يصح ضمان العهدة للمشتري، يصح ضمان نقص الصنجة
للبائع بأن جاء المشتري بصنجة ووزن بها الثمن، فاتهمه البائع فيها، فضمن ضامن
نقصها إن نقصت. وكذا ضمان رداءة الثمن إذا شك البائع، هل المقبوض من النوع
الذي يستحقه؟ فإذا خرج ناقصا، أو رديئا، طالب البائع الضامن بالنقص وبالنوع
المستحق إذا رد المقبوض على المشتري. ولو اختلف البائع والمشتري في نقص
الصنجة، صدق البائع بيمينه. فإذا حلف، طالب المشتري بالنقص ولا يطالب
الضامن على الأصح، لان الأصل براءته. ولو اختلف البائع والضامن في نقصها،
فالمصدق الضامن على الأصح، لان الأصل براءته بخلاف المشتري، فان ذمته
كانت مشغولة.
فرع لو ضمن عهدة الثمن، إن خرج المبيع معيبا ورده، أو بان فساد البيع
بغير الاستحقاق كفوات شرط معتبر في البيع، أو اقتران شرط مفسد، فوجهان.
أصحهما: الصحة. وهو الذي ذكره العراقيون للحاجة. والثاني: المنع لندور
الحاجة، ولأنه في المعيب ضمان ما لم يجب. فإن قلنا يصح إذا ضمن صريحا،
فحكى الامام والغزالي وجهين في اندراجه تحت مطلق ضمان العهدة.
فرع في مسائل تتعلق بضمان الدرك إحداها: من ألفاظ هذا
الضمان، أن يقول للمشتري: ضمنت لك عهدته، أو دركه، أو خلاصك منه. ولو
قال: ضمنت لك خلاص المبيع، لم يصح لأنه لا يستقل بتخليصه إذا استحق. ولو
ضمن عهدة الثمن وخلاص المبيع معا، لم يصح ضمان الخلاص. وفي العهدة قولا
الصفقة. ولو شرط في البيع كفيلا بخلاص المبيع، بطل، بخلاف ما لو شرط كفيلا
بالثمن.
الثانية: يشترط أن يكون قدر الثمن معلوما للضامن. فإن لم يكن، فهو كما لو
لم يكن قدر الثمن في المرابحة معلوما.
480

الثالثة يجوز ضمان المسلم فيه للمسلم إليه لو خرج رأس المال مستحقا بعد
تسليم المسلم فيه، ولا يجوز قبله على الأصح. ولا يجوز ضمان رأس المال
للمسلم لو خرج المسلم فيه مستحقا، لان المسلم فيه في الذمة، والاستحقاق لا
يتصور فيه، وإنما يتصور في المقبوض، وحينئذ يطالبه المسلم بمثله لا برأس
المال.
الرابعة: إذا ظهر الاستحقاق، فالمشتري يطالب من شاء من البائع
والضامن. ولا فرق في الاستحقاق بين أن يخرج مستحقا أو كان شقصا ثبت فيه
شفعة ببيع سابق، فأخذه الشفيع بذلك البيع، ولو بان فساد البيع بشرط أو غيره،
ففي مطالبته الضامن، وجهان. أحدهما: نعم كالاستحقاق. والثاني: لا للاستغناء
عنه بامكان حبس المبيع حتى يسترد الثمن. ولو خرج المبيع معيبا فرده المشتري،
ففي مطالبته الضامن بالثمن، وجهان، وأولى بأن لا يطالب، لان الرد هنا بسبب
حادث وهو مختار فيه، فأشبه الفسخ بخيار شرط أو مجلس أو تقايل، هذا إذا كان
العيب مقرونا بالعقد. أما إذا حدث في يد البائع بعد العقد، ففي التتمة أنه لا
يطالب الضامن بالثمن وجها واحدا، لأنه لم يكن سبب رد الثمن مقرونا بالعقد، ولم
يكن من البائع تفريط فيه. وفي العيب الموجود عند العقد، سبب الرد موجود عند
العقد، والبائع مفرط بالاخفاء، فالتحق بالاستحقاق على رأي.
قلت: أصح الوجهين الأولين، لا يطالب. ولو خرج المبيع معيبا وقد حدث
عند المشتري عيب، ففي رجوعه بالأرش على الضامن، الوجهان. والله أعلم.
ولو تلف المبيع قبل القبض بعد قبض الثمن، وانفسخ العقد، هل يطالب
الضامن بالثمن؟ إن قلنا ينفسخ من أصله، فهو كظهور الفساد بغير الاستحقاق. وإن
قلنا: من حينه، فكالرد بالعيب. ولو خرج بعض المبيع مستحقا، ففي صحة البيع
في الباقي قولا الصفقة، وإن قلنا: يصح وأجاز المشتري، فإن قلنا: يجيز بجميع
الثمن، لم يطالب الضامن بشئ. وإن قلنا: بالقسط، طالبه بقسط المستحق من
الثمن. وإن فسخ، طالبه بالقسط، ومطالبته بحصة الباقي من الثمن، كمطالبته عند
الفسخ بالعيب. وإن قلنا: لا يصح ففي مطالبته بالثمن طريقان. أحدهما: أنه
كما لو بان فساد العقد بشرط ونحوه، والثاني: القطع بتوجه المطالبة لاستناد الفساد
481

إلى الاستحقاق، هذا كله إذا كانت صيغة الضمان كما ذكرنا في المسألة الأولى. أما
إذا عين جهة الاستحقاق، فقال: ضمنت لك الثمن متى خرج المبيع مستحقا، فلا
يطالب بجهة أخرى. وكذا لو عين جهة غير الاستحقاق، لم يطالب عند
الاستحقاق.
الخامسة: اشترى أرضا وبنى فيها، أو غرس ثم خرجت مستحقة، فقلع
المستحق البناء والغراس، فهل يجب أرش النقص على البائع وهو ما بين قيمته قائما
ومقلوعا؟ وجهان. الأصح المنصوص، وجوبه. فعلى هذا، لو ضمنه ضامن،
نظر إن كان قبل ظهور الاستحقاق، أو بعده وقبل القلع، لم يصح. وإن كان
بعدهما، إن كان قدره معلوما. ولو ضمن رجل عهدة الأرض وأرش نقص البناء
والغراس في عقد واحد، لم يصح في الأرش، وفي العهدة قولا الصفقة. ولو كان
المبيع بشرط أن يعطيه كفيلا بهما، فهو كما لو شرط في البيع رهنا فاسدا. وقال
جماعة من الأصحاب: ضمان نقص البناء والغراس، كما
لا يصح من غير البائع، لا يصح من البائع، وهذا إن أريد به أنه لغو. كما لو ضمن العهدة لوجوب الأرش
عليه من غير التزام، فهو جار على ظاهر المذهب. وإلا، فهو ذهاب منهم إلى أنه لا
أرش عليه.
الصفة الثانية: اللزوم.
والديون الثابتة، ضربان.
أحدهما: ما لا يصير إلى اللزوم بحال، وهو نجوم الكتابة، فلا يصح
ضمانها على الصحيح. ولو ضمن رجل عن المكاتب غير النجوم، فان ضمن
لأجنبي، صح. وإذا غرم، رجع على المكاتب إن ضمنه باذنه. وإن ضمنه
لسيده، نبني على أن ذلك الدين، هل يسقط بعجزه؟ وفيه وجهان. إن قلنا: نعم
وهو الأصح، لم يصح كضمان النجوم
الضرب الثاني: ماله مصير إلى اللزوم. فإن كان لازما في حال الضمان،
482

صح ضمانه سواء كان مستقرا أم لا كالمهر قبل الدخول، والثمن قبل قبض المبيع،
ولا نظر إلى احتمال سقوطه، كما لا نظر إلى احتمال سقوط المستقر بالابراء، والرد
بالعيب وشبههما. وإن لم يكن لازما حال الضمان، فهو نوعان.
أحدهما: الأصل في وضعه اللزوم، كالثمن في مدة الخيار، وفي ضمانه
وجهان. أصحهما: الصحة. قال في التتمة هذا الخلاف، إذا كان الخيار
للمشتري أو لهما. أما إذا كان للبائع، فقط، فيصح قطعا لان الدين لازم في حق
من عليه. وأشار الامام إلى أن تصحيح الضمان، مفرع على أن الخيار لا يمنع نقل
الملك في الثمن إلى البائع. أما إذا منعه، فهو ضمان ما لم يجب.
النوع الثاني: ما الأصل في وضعه الجواز، كالجعل في الجعالة، وفيه
وجهان كما سبق في الرهن به، وموضع الوجهين بعد الشروع في العمل وقبل
تمامه، كما سبق هناك. وضمان مال المسابقة، إن جعلناها إجارة، صح، وإلا
فكالجعل.
الصفة الثالثة: العلم، وفيه صور.
إحداها: ضمان المجهول، فيه طريقان، كضمان ما لم يجب. فان
صححناه، فشرطه أن يمكن الإحاطة به، بأن يقول: أنا ضامن ثمن ما بعته فلانا،
483

وهو جاهل به، لان معرفته متيسرة. أما إذا قال: ضمنت لك شيئا مما لك على
فلان، فباطل قطعا. والقولان في صحة ضمان المجهول يجريان في صحة الابراء
عنه. وذكروا للخلاف في الابراء مأخذين. أحدهما: الخلاف في صحة شرط
البراءة عن العيوب، فإن العيوب مجهولة الأنواع والاقدار. والثاني: أن الابراء هل
هو اسقاط كالاعتاق؟ أم تمليك المديون ما في ذمته، ثم إذا ملكه سقط؟ وفيه
رأيان. إن قلنا: اسقاط، صح الابراء عن المجهول. وإلا، فلا، وهو الأظهر.
ويتخرج على هذا الأصل مسائل. منها: لو عرف المبرئ قدر الدين ولم يعرفه
المبرأ. إن قلنا: اسقاط، صح، وإلا فيشترط علمه كالمتهب. ومنها: لو كان له
دين على هذا، ودين على هذا، فقال: أبرأت أحدكما. إن قلنا اسقاط، صح،
وأخذ بالبيان. وإلا فلا، كما لو كان له في يد كل واحد عبد، فقال: ملكت أحدكما
العبد الذي في يده. ومنها: لو كان لأبيه دين على رجل، فأبرأه منه وهو لا يعلم
موت الأب، إن قلنا: إسقاط صح، كما لو قال لعبد أبيه: أعتقك، وهو لا يعلم
موت الأب. إن قلنا: تمليك، فهو على الخلاف فيما لو باع مال أبيه على ظن أنه
حي، فبان ميتا. ومنها: أنه لا يحتاج إلى القبول إن جعلناه اسقاطا، وإن جعلناه
تمليكا، لم يحتج إليه على الصحيح المنصوص. فإن اعتبرنا القبول، ارتد بالرد،
وإلا، فوجهان.
قلت: أصحهما: لا يرتد. والله أعلم.
وهذه المسائل، ذكرها في التتمة مع أخوات لها. واحتج للتمليك بأنه لو
قال للمديون: ملكتك ما في ذمتك، صح وبرئت ذمته من غير نية وقرينة، ولولا أنه
تمليك، لافتقر إلى نية أو قرينة، كما إذا قال لعبده: ملكتك رقبتك، أو لزوجته:
ملكتك نفسك، فإنه يحتاج إلى النية.
فرع لو اغتابه فقال اغتبتك، فاجعلني في حل ففعل، وهو لا يدري ما
اغتابه به، فوجهان. أحدهما: يبرأ لأنه اسقاط محض، كمن قطع عضوا من عبد
ثم عفا سيده عن القصاص، وهو لا يعلم عين المقطوع، فإنه يصح. والثاني: لا
لان المقصود رضاه، ولا يمكن الرضى بالمجهول، ويخالف القصاص، فإنه مبني
484

على التغليب والسراية بخلاف اسقاط المظالم.
الصورة الثانية: ضمان أروش الجنايات، صحيح إن كان دراهم أو دنانير.
وفي ضمان إبل الدية، إذا لم نجوز ضمان المجهول، وجهان. ويقال: قولان.
أصحهما: الصحة. وقيل: يصح قطعا كما يصح الابراء عنها. وإذا دفع
الحيوان وكان الضمان يقتضي الرجوع، فهل يرجع بالحيوان؟ أم بالقيمة؟ قال
الامام: لا يبعد أن يجرى فيه الخلاف المذكور في إقراض الحيوان. ولا يجوز
ضمان الدية عن العاقلة قبل تمام السنة، لأنها غير ثابتة بعد.
الصورة الثالثة: إذا منعنا ضمان المجهول، فقال: ضمنت مما لك على فلان
من درهم إلى عشرة، فوجهان. وقيل: قولان. أصحهما الصحة لانتفاء الغرر،
فعلى هذا، يلزمه عشرة على الأصح. وقيل: ثمانية. وقيل: تسعة. قلت: الأصح:
تسعة، وسنوضحه في الاقرار إن شاء الله تعالى. والله
أعلم.
وإن قال ضمنت لك ما بين درهم وعشرة، فإن عرف أن دينه لا ينقص عن
عشرة، صح وكان ضامنا لثمانية. وإلا، ففي صحته في الثمانية القولان، أو
الوجهان. ولو قال ضمنت لك الدراهم التي لك على فلان، وهو لا يعرف مبلغها،
فهل يصح الضمان في ثلاثة لدخولها في اللفظ على كل حال؟ كما لو أجر
كل شهر بدرهم، فهل يصح في الشهر الأول، وهذه المسائل بعينها جارية في
الابراء.
فرع يصح ضمان الزكاة عمن هي عليه على الصحيح. وقيل: لا لأنها
حق لله تعالى ككفالة بدن الشاهد لأداء الشهادة. فعلى الصحيح، يعتبر الاذن عند
الأداء على الأصح.
485

فرع يجوز ضمان المنافع الثابتة في الذمة كالأموال.
فصل في كفالة البدن ويسمى أيضا، كفالة الوجه، وهي صحيحة
على المشهور. وقيل: تصح قطعا، فتجوز ببدن من عليه مال، ولا يشترط العلم
بقدره على الأصح. والثاني: يشترط بناء على أنه لو مات، غرم الكفيل المال.
ويشترط أن يكون المال مما يصح ضمانه. فلو تكفل ببدن مكاتب للنجوم التي
عليه، لم يصح. فإن كان عليه عقوبة، فإن كانت لآدمي كالقصاص وحد
القذف، صحت الكفالة على الأظهر. وقيل: لا تصح قطعا. وإن كانت حدا لله
تعالى، لم تصح على المذهب. وقيل: قولان. وضبط الامام والغزالي من
تكفل ببدنه فقالا: حاصل كفالة البدن التزام إحضار المكفول ببدنه، فكل من يلزمه
حضور مجلس الحكم عند الاستعداء أو يستحق إحضاره، تجوز الكفالة ببدنه،
فيخرج على هذا الضابط صور، منها: الكفالة ببدن امرأة يدعي رجل زوجيتها،
صحيحة. وكذلك الكفالة بها، لمن تثبت زوجيته. قال في التتمة والظاهر، أن
حكم هذه الكفالة حكم الكفالة ببدن من ادعي عليه القصاص، لان المستحق عليها لا يقبل
النيابة. ومنها: لو تكفل ببدن عبد آبق لمالكه، قال ابن سريج: يصح ويلزمه
السعي في رده. ويجئ فيه مثل ما حكينا في الزوجة.
ومنها: الميت قد يستحق إحضاره ليقيم الشهود الشهادة على صورته إذا
تحملوها كذلك ولم يعرفوا اسمه ونسبه. وإذا كان كذلك، صحت الكفالة
ببدنه.
486

ومنها: الصبي، والمجنون، قد يستحق إحضارهما لإقامة الشهادة على
صورتها في الاتلاف، وغيره، فتجوز الكفالة فيهما. ثم إن كفل بإذن وليها، فله
مطالبة الولي بإحضارهما عند الحاجة، وإن كفل بغير إذنه، فهو كالكفالة ببدن العاقل
البالغ بغير إذنه. ومنها: قال الامام: لو تكفل رجل ببغداد ببدن رجل بالبصرة،
فالكفالة باطلة، لان من بالبصرة لا يلزمه الحضور ببغداد للخصومات، والكفيل فرع
المكفول به. وإذا لم يجب حضوره، لا يمكن إيجاب الاحضار على الكفيل. وهذا
الذي قاله، تفريع على أنه لا يلزم إحضار من هو على مسافة القصر، وفيه خلاف
يأتي إشاء الله تعالى.
فرع الحق الذي تجوز بسببه الكفالة، إن ثبت على المكفول ببدنه بإقرار
أو بينة، فذاك. وإن لم يثبت، لكنه ادعى عليه، فلم ينكر وسكت، صحت
الكفالة أيضا. وإن أنكر، فوجهان. أحدهما: أنها باطلة. لان الأصل البراءة
والكفالة بمن لا حق عليه باطلة. وأصحهما: الصحة لان الحضور مستحق.
ومعظم الكفالات إنما تقع قبل ثبوت الحق.
فرع تجوز الكفالة ببدن الغائب، والمحبوس، وإن تعذر تحصيل
الغرض في الحال، كما يجوز للمعسر ضمان المال.
فرع يشترط كون المكفول ببدنه معينا. فلو قال: كفلت بدن أحد هذين،
لم يصح كما لو ضمن أحد الدينين.
فصل في ضمان الأعيان فإذا ضمن عينا لمالكها وهي في يد غيره،
487

نظر، إن كانت مضمونة عليه كالمغصوب، والمستعار، والمستام، والأمانات إذا
خان فيها، فله صورتان.
إحداهما: يضمن رد أعيانها. فالمذهب الذي عليه الجمهور، أنه على قولي
كفالة البدن. وقيل: يصح قطعا.
والفرق أن حضور الخصم ليس مقصودا في نفسه، وإنما هو ذريعة إلى
تحصيل المال، فالتزام المقصود، أولى. فإن صححنا، فردها، برئ من
الضمان. وإن تلفت وتعذر الرد، فهل عليه قيمتها؟ وجهان، كما لو مات المكفول
ببدنه. فان أوجبنا، فهل يجب في المغصوب أكثر القيم؟ أم قيمته يوم التلف لان
الكفيل لم يكن متعديا؟ وجهان.
قلت: الثاني أقوى. والله أعلم.
ولو ضمن تسليم المبيع وهو بعد في يد البائع، جرى الخلاف في الضمان.
فإن صححناه وتلف، انفسخ البيع. فإن لم يدفع المشتري الثمن، لم يطالب
الضامن بشئ. وإن كان دفعه، عاد الوجهان في أن الضامن، هل يغرم؟ فان
غرمناه، فهل يغرم الثمن؟ أم أقل الأمرين من الثمن وقيمة المبيع؟ وجهان.
أصحهما: أولهما.
الصورة الثانية: أن يضمن قيمتها لو تلفت. قال البغوي: يبنى على أن
المكفول ببدنه لو مات، هل يغرم الكفيل الدين؟ إن قلنا: نعم، صح ضمان القيمة
لو تلف العين. وإلا، فلا، وهو الصحيح لهذا، ولان القيمة قبل تلف العين، غير
واجبة. أما إذا لم تكن العين مضمونة على من هي في يده كالوديعة والمال في يد
الشريك، والوكيل، والوصي، فلا يصح ضمانها قطعا، لأنها غير مضمونة الرد
أيضا، وإنما يجب على الأمين التخلية فقط. ولو تكفل ببدن العبد الجاني جناية
توجب المال، فهو كضمان العين. ومنهم من قطع بالمنع.
والفرق أن العين المضمونة مستحقة، ونفس العبد ليست مستحقة، وإنما
المقصود تحصيل الأرش من بدله، وبدله مجهول.
فرع باع شيئا بثوب أو بدراهم معينة، فضمن قيمته، فهو كما لو كان
488

الثمن في الذمة وضمن العهدة.
فرع رهن ثوبا ولم يسلمه، فضمن رجل تسليمه، لم يصح لأنه ضمان
ما ليس بلازم.
فرع في مسائل من الكفالة إحداها: إذا عين في الكفالة مكانا
للتسليم، تعين. وإن أطلق، فالمذهب أنها تصح ويجب التسليم في مكان
الكفالة. وقيل: هو كما لو أطلق السلم. وإذا أتى الكفيل بالمكفول به في غير
الموضع المستحق، جاز قبوله، وله أن يمتنع إن كان فيه غرض، بأن كان قد عين
مجلس الحكم، أو موضعا يجد فيه من يعينه على خصمه. فإن لم يختلف الغرض،
فالظاهر أنه يلزمه قبوله. فان امتنع، رفعه إلى الحاكم ليقبض عنه. فإن لم يكن
حاكم، أشهد شاهدين أنه سلمه إليه.
الثانية: يخرج الكفيل عن العهدة بتسليمه في المكان الذي وجب فيه
التسليم، سواء طلبه المستحق أم أباه، بشرط أن لا يكون هناك حائل كيد سلطان،
ومتغلب، وحبس بغير حق ينتفع بتسليمه. وحبس الحاكم بالحق، لا يمنع صحة
التسليم، لامكان إحضاره ومطالبته بالحق. ولو حضر المكفول به وقال: سلمت
نفسي إليك عن جهة الكفيل، برئ الكفيل كما يبرأ الضامن بأداء الأصيل الدين.
ولو لم يسلم نفسه عن جهة الكفيل، لم يبرأ الكفيل لأنه لم يسلمه إليه هو، ولا أحد
عن جهته، حتى قال القاضي حسين: لو ظفر به المكفول له في مجلس الحكم
وادعى عليه، لم يبرأ الكفيل. وكذلك لو سلمه أجنبي، لا عن جهة الكفيل. وإن
سلمه عن جهة الكفيل، فإن كان باذنه، فهو كما لو سلمه الكفيل. وإن كان بغير
إذنه، فليس على المكفول به قبوله، لكن لو قبل: برئ الكفيل. ولو كفل رجل
لرجلين، فسلم إلى أحدهما، لم يبرأ من حق الآخر. ولو كفل رجلان لرجل،
فسلم
أحدهما، قال في التهذيب: إن كفلاه على الترتيب، وقع تسليمه عن
489

المسلم دون صاحبه، سواء قال: سلمت عن صاحبي أم لم يقل. وإن كفلاه معا،
فوجهان. قال المزني: يبرأ أيضا صاحبه، كما لو دفع أحد الضامنين الدين. وقال
ابن سريج والأكثرون: لا يبرأ، كما لو كان بالدين رهنان، فانفك أحدهما، لا
ينفك الآخر، ويخالف قضاء الدين، فإنه يبرئ الأصيل، وإذا برئ، برئ كل
ضامن. ولو كانت المسألة بحالها، وكفل كل واحد من الكفيلين بدن صاحبه، ثم
أحضر أحدهما المكفول به وسلمه، فعلى قول المزني: يبرأ كل واحد عن الكفالة
الأولى وعن كفالة صاحبه. وعلى قول ابن سريج: يبرأ المسلم عن الكفالتين،
ويبرأ صاحبه عن كفالته دون الكفالة الأولى.
الثالثة: كما يخرج الكفيل عن العهدة بالتسليم، يبرأ أيضا إذا أبرأه المكفول
له. ولو قال المكفول له: لا حق لي قبل المكفول به أو عليه، فوجهان. أحدهما:
يبرأ الأصيل والكفيل. والثاني: يرجع. فإن فسر بنفي الدين، فذاك. وإن فسر
بنفي الوديعة والشركة ونحوهما، قبل قوله، فإن كذباه، حلف.
الرابعة: إذا غاب المكفول ببدنه، نظر، إن غاب غيبة منقطعة والمراد بها أن لا
يعرف موضعه وينقطع خبره، فلا يكلف الكفيل إحضاره. وإن عرف موضعه،
فإن كان دون مسافة القصر، لزمه إحضاره لكن يمهل مدة الذهاب والإياب ليحضره.
فإن مضت المدة ولم يحضره، حبس. وإن كان على مسافة القصر، فوجهان.
أصحهما: يلزمه إحضاره. والثاني: لا يطالب به.
ولو كان غائبا حال الكفالة، فالحكم في إحضاره كما لو غاب بعد الكفالة.
490

الخامسة: إذا مات المكفول به، ففي انقطاع طلب الاحضار عن الكفيل،
وجهان. أصحهما: لا ينقطع، بل عليه إحضاره ما لم يدفن إذا أراد المكفول له إقامة
البينة على صورته، كما لو تكفل ابتداء ببدن الميت. والثاني: ينقطع. وهل يطالب
الكفيل بمال؟ وجهان. أصحهما: لا لأنه لم يلتزمه. كما لو ضمن المسلم فيه
فانقطع، فإنه لا يطالب برد رأس المال. والثاني: يطالب، وبه وقال ابن
سريج لأنه وثيقة كالرهن. وعلى هذا، هل يطالب بالدين، أم بأقل الامرين من
الدين ودية المكفول به؟ وجهان بناء على القولين، في أن السيد يفدي الجاني
بالأرش، أم بأقل الامرين من الأرش وقيمة العبد؟
قلت: المختار، المطالبة بالدين فإن الدية غير مستحقة، بخلاف قيمة
العبد. قال صاحب الحاوي: ولو مات الكفيل، فعلى مذهب الشافعي
والأصحاب رضي الله عنهم، بطلت الكفالة ولا شئ في تركته. وعلى قول ابن
سريج: ينبغي أن لا تبطل، لأنها عنده قد تفضي إلى مال بتعلق بالتركة، لكن لم أر
له فيه نصا. ولو مات المكفول له، بقي الحق لوارثه. فإن كان له غرماء وورثة،
وأوصى إلى زيد بإخراج ثلثه، لم يبرأ الكفيل إلا بالتسليم إلى الورثة والغرماء
والوصي. فلو سلم إلى الورثة والغرماء والموصى لهم، دون الوصي، ففي براءته
وجهان حكاهما ابن سريج. والله أعلم.
السادسة: لو هرب المكفول به إلى حيث لا يعلم، أو توارى، ففي مطالبة
الكفيل بالمال، خلاف مرتب على الموت، وأولى بأن لا يطالب، إذ لم نأيس من
إحضاره.
السابعة: إذا تكفل وشرط أنه [إن] عجز عن تسليمه، غرم الدين. فان قلنا:
يغرم عند الاطلاق، صح، وإلا، فالكفالة باطلة.
الثامنة: يشترط رضى المكفول ببدنه على الصحيح، ولا يشترط رضى
491

المكفول له على الصحيح. فإذا كفل بغير رضى المكفول به، فأراد إحضاره
لطلب المكفول له، نظر، إن قال: أحضر خصمي، فللكفيل مطالبته بالحضور،
وعليه الإجابة لا بسبب الكفالة، بل لأنه وكله في إحضاره. وإن لم يقل ذلك، بل
قال: أخرج عن حقي، فهل له مطالبة المكفول به؟ وجهان. أحدهما: لا كما لو
ضمن عنه بغير إذنه مالا، وطالب المضمون له الضامن، فإنه لا يطالب المضمون
عنه. وذكروا على هذا أنه يحبس، واستبعده الأئمة لأنه حبس على ما لا يقدر عليه.
والثاني: نعم، لان المطالبة بالخروج عن العهدة، تتضمن التوكيل في الاحضار.
التاسعة: لو تكفل ببدن الكفيل كفيل، ثم كفيل، ثم كذلك آخرون بلا
حصر، جاز، لأنه تكفل بمن عليه حق لازم، وقياسا على ضمان المال. ثم إذا برئ واحد
برئ من بعده دون من قبله.
العاشرة: في موت المكفول له، ثلاثة أوجه، أصحها: بقاء الكفالة وقيام
وارثه مقامه، كما لو ضمن له المال، والثاني: تبطل، لأنها ضعيفة. والثالث: إن
كان عليه دين، أو له وصي، بقيت، وإلا، فلا، لان الوصي نائبه والدين لا بد
منه.
الركن الخامس: الصيغة، وفيه مسائل.
الأولى: لا بد من صبغة دالة على التزام، كقوله: ضمنت لك مالك على
فلان، أو تكفلت ببدن فلان، أو أنا باحضار هذا المال أو هذا الشخص كفيل، أو
ضامن، أو زعيم، أو حميل، أو قبيل. وفي البيان وجه: أن لفظ القبيل ليس
492

بصريح، ويطرد هذا الوجه في الحميل وما ليس بمشهور في العقد. ولو قال: خل
عن فلان والدين الذي لك عليه عندي، فليس بصريح في الضمان. ولو قال: دين
فلان إلي، فوجهان.
قلت: أقواهما: ليس بصريح. والله أعلم.
ولو قال: أؤدي المال، أو أحضر الشخص، فهذا ليس بالتزام، وإنما هو
وعد. ولو تكفل فأبراه المستحق، ثم وجده ملازما للخصم فقال: خله وأنا على ما
كنت عليه من الكفالة، صار كفيلا.
الثانية: لو شرط الضامن، أو الكفيل الخيار لنفسه، لم يصح الضمان. فلو
شرط للمضمون له، لم يضر، لان الخيار في المطالبة والابراء له أبدا.
الثالثة: لو علق الضمان بوقت أو غيره فقال: إذا جاء رأس الشهر، فقد
ضمنت، أو إن لم يؤد مالك غدا، فأنا ضامن، لم يصح على المذهب، كما لا
يصح مؤقتا، كقوله: أنا ضامن إلى شهر، فإذا مضى ولم أغرم، فأنا برئ. وعن
ابن سريج أنه إذا جاز على القديم ضمان المجهول وما لم يجب، جاز التعليق. قال
الامام: ويجئ في تعليق الابراء القولان، لأنه اسقاط فإذا قلنا بالقديم، فقال:
إذا بعت عبدك بألف، فأنا ضامن لثمن، فباعه بألفين، قال ابن سريج: لا يكون
ضامنا لشئ. وفي وجه: يصير ضامنا لألف. ولو باعه بخمسمائة، ففي كونه
ضامنا لها، الوجهان. ولو قال: إذا أقرضته عشرة، فأنا ضامن لها، فأقرضه خمسة
عشر، فهو ضامن للعشرة على الوجهين، لان من أقرض خمسة عشر، فقد أقرض
عشرة، والبيع بخمسة عشر ليس بيعا بعشرة. وإن أقرضه خمسة، فعن ابن سريج:
تسليم كونه ضامنا لها. قال الامام: وهو خلاف قياسه، لان الشرط لم يتحقق. ولو
علق كفالة البدن بمجئ الشهر، فإن جوزنا تعليق المال، فهي أولى، وإلا،
فوجهان، كالخلاف في تعليق الوكالة، والفرق أن الكفالة مبنية على المصلحة
والحاجة. ولو علقها بحصاد الزرع، فوجهان مرتبان، وأولى بالمنع، لانضمام
الجهالة. وإن علقها بقدوم زيد، فأولى بالمنع، للجهل بأصل حصول القدوم، فإن
493

جوزنا، فوجد الشرط المعلق عليه، صار كفيلا.
الرابعة: لو وقت كفالة البدن فقال: أنا كفيل به إلى شهر، فإذا مضى،
برئت، فوجهان، وقيل: قولان. أصحهما: البطلان، كضمان المال. ولو نجز
الكفالة وشرط التأخير في الاحضار شهرا، جاز للحاجة كمثله في الوكالة، وتوقف
فيه الامام، وجعل الغزالي في الوسيط هذا التوقف وجها. فإذا صححنا فأحضره
قبل المدة وسلمه، وامتنع المكفول له من قبوله، نظر، هل له غرض في الامتناع
بأن كانت بينته غائبة أو دينه مؤجلا، أم لا؟ وحكم القسمين، على ما سبق فيمن
سلمه في غير المكان المعين. ولو شرط لاحضاره أجلا مجهولا، كالحصاد، ففي
صحة الكفالة، وجهان. أصحهما: المنع.
الخامسة: لو ضمن الدين الحال حالا، أو أطلق، لزمه حالا، وإن ضمن المؤجل
مؤجلا بأجل، أو أطلق لزمه لأجله. وإن ضمن الحال مؤجلا بأجل معلوم،
فوجهان. أحدهما: لا يصح الضمان، للاختلاف. وأصحهما: الصحة، للحاجة،
وعلى هذا، فالمذهب ثبوت الأجل، فلا يطالب إلا كما التزم، وبهذا قطع
الجمهور. وشذ إمام الحرمين فادعى إجماع الأصحاب على أن الأجل لا يثبت،
وأن في فساد الضمان لفساده، وجهين. أصحهما: الفساد.
أما لو ضمن المؤجل حالا، والتزم التبرع بالتعجيل مضموما إلى التبرع بأصل
الضمان، فوجهان كعكسه، أصحهما: الصحة. وعلى هذا، هل يلزمه الوفاء
بالتعجيل؟ وجهان. أصحهما: لا، كما لو التزم الأصيل التعجيل. وعلى هذا،
هل يثبت الأجل في حقه مقصودا، أم تبعا؟ فيه وجهان.
وفائدتهما فيما لو مات الأصيل والحالة هذه. ولو ضمن المؤجل إلى شهرين
مؤجلا إلى شهر، فهو كضمان المؤجل حالا.
السادسة: لو تكفل ببدن رجل، أو نفسه، أو جسمه، أو روحه، صح. وإن
494

تكفل بعضو منه، فأربعة أوجه.
أحدها: أنه باطل، كالبيع والإجارة، بخلاف العتق والطلاق، لان لهما قوة
وسراية، وبهذا قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب. واختاره ابن الصباغ.
الثاني: يصح.
والثالث: إن كان عضوا لا يبقى البدن دونه، كالرأس، والقلب، والكبد،
والدماغ، صح. وإن بقي دونه، كالرجل، واليد، لم يصح. وقال في
التهذيب: هذا أصح.
والرابع: ما عبر به عن جميع البدن، كالرأس، والرقبة، يصح. وما لا،
كاليد، والرجل، فلا. قال القفال: هذا أصح. وللوجه حكم سائر الأعضاء، كذا
قاله الجمهور. وقال الامام: يصح قطعا، لشهرة هذا العقد بكفالة الوجه. وأما ا
لجزء الشائع، كالنصف والثلث، فكالجزء الذي لا يبقى البدن دونه، فيكون فيه
وجهان.
قلت: قطع صاحب الحاوي بصحة الكفالة فيما لو كفل برأسه، أو وجهه،
أو عينه، أو قلبه وفؤاده وغيرها مما لا يحيى دونه، أو جزء شائع. والله أعلم.
فرع في مسائل تتعلق بالباب إحداها: ضمن عن رجل ألفا، وشرط
للمضمون له أن يعطيه كل شهر درهما ولا يحسبه من الضمان، فالشرط باطل. وفي
بطلان الضمان، وجهان.
قلت: أصحهما: البطلان. والله أعلم.
الثانية: ضمن أو كفل، ثم ادعى أنه لم يكن على المضمون عنه، والمكفول
حق، فالقول قول المضمون له. وهل يحلف، أم يقبل بلا يمين؟ وجهان عن ابن
سريج. فإن قلنا بالأول، فنكل، حلف الضامن، وسقطت عنه المطالبة. ولو أقر
أنه ضمن، أو كفل بشرط الخيار، وأنكر المضمون له الشرط، بني ذلك على
495

تبعيض الاقرار. إن قلنا: لا يبعض، فالقول قول الضامن مع يمينه. وإن بعضناه،
فقول المضمون له.
الثالثة: قال الكفيل: برئ المكفول، وأنكر المكفول له، قبل إنكاره
بيمينه. فإن نكل فحلف الكفيل، برئ، ولا يبرأ المكفول.
الرابعة: قال تكفلت ببدن زيد، فإن أحضرته، وإلا فأنا كفيل ببدن عمرو،
لم يصح. ولو قال للمكفول له: أبرئ الكفيل، وأنا كفيل المكفول، قال
الأكثرون: لا وقال ابن سريج: يصح.
الخامسة: الكفالة ببدن الأجير المعين، صحيحة على الصحيح. ومن قال
بتغريم الكفيل عند موت الأصيل، لم يصححها، لأنه إذا مات، انفسخ العقد وسقط
الحق.
قلت الباب الثاني فيما يترتب على الضمان الصحيح من الاحكام
وهي ثلاثة.
الأول: أن تتجدد للمضمون له مطالبة الضامن، ولا تنقطع مطالبته عن
المضمون عنه، بل له مطالبتهما جميعا، ومطالبة أيهما شاء.
قلت: وله مطالبة أحدهما ببعضه، والآخر بباقيه. والله أعلم.
فلو ضمن بشرط براءة الأصيل، لم يصح على الأصح، لأنه ينافي مقتضاه.
والثاني: يصح الضمان والشرط. والثالث: يصح الضمان فقط. فإن
صححناهما، برئ الأصيل، ورجع الضامن عليه في الحال إن ضمن بإذنه، لأنه
حصل براءته كما لو أدى. ومهما أبرأ مستحق الدين الأصيل، برئ (الضامن) لسقوط
الحق، كما لو أدى الأصيل الدين، أو أحال مستحقه على إنسان، أو أحال
المستحق غريمه عليه. وكذا يبرأ ببراءته ضامن الضامن. ولو أبرأ الضامن، ولم يبرأ
496

الأصيل، لكن يبرأ ضامن الضامن. ولو أبرأ لا تلغى ضامن الضامن، لم يبرأ ضامن.
فرع ضمن دينا مؤجلا، فمات الأصيل، حل عليه الدين، ولم يحل على
الضامن على الصحيح. وقال ابن القطان: يحل، لأنه فرعه، فعلى الصحيح، لو
أخر المستحق المطالبة، كان للضامن أن يطالبه بأخذ حقه من تركة الأصيل، أو
إبرائه، لأنه قد تهلك التركة، فلا يجد مرجعا إذا غرم. وفي وجه ضعيف: ليس له
هذه المطالبة. ولو مات الضامن، حل عليه الدين. فإن أخذ المستحق المال من
تركته، لم يكن لورثته الرجوع على المضمون عنه قبل حلول الأجل، وفي وجه
شاذ: لا يحل بموت الضامن.
الحكم الثاني: في مطالبة الضامن المضمون عنه بالأداء، ومداره على وجهين
خرجهما ابن سريج رحمه الله، في أن مجرد الضمان يوجب حقا للضامن على
الأصيل ويثبت علقة بينهما، أم لا؟ فإذا طالب المضمون له الضامن بالمال، فله
مطالبة الأصيل بتخليصه إن ضمن بإذنه.
وفي وجه شاذ: ليس له، وليس له مطالبته قبل أن يطالب على الأصح.
وهل للضامن تغريم الأصيل قبل أن يغرم حيث يثبت له الرجوع؟ وجهان، بناء
على التخريج المذكور. وليكن الوجهان تفريعا على أن ما يأخذه عوضا عما يقضي به
دين الأصيل، يملكه. وفيه وجهان بناء على التخريج.
ولو دفعه الأصيل ابتداء بلا مطالبة، فإن قلنا: يملكه، فله التصرف فيه،
كالفقير إذا أخذ الزكاة المعجلة، لكن لا يستقر ملكه عليه، بل عليه رده.
ولو هلك عنده، ضمنه كالمقبوض بشراء فاسد. ولو دفعه إليه وقال: اقض
به ما ضمنت عني، فهو وكيل الأصيل، والمال أمانة في يده. ولو حبس
497

المضمون له الضامن، فهل له حبس الأصيل؟ وجهان بناء على التخريج. إن أثبتنا
العلقة بينهما. فنعم وإلا فلا، وهو الأصح. ولو أبرأ الضامن الأصيل عما
سيغرم، إن أثبتنا العلقة، صح الابراء، وإلا، فعلى الخلاف في الابراء عما لم
يجب، ووجد سبب وجوبه. ولو صالح الضامن الأصيل عن العشرة التي سيغرمها
على خمسة، إن أثبتناها في الحال، صح الصلح، وكأنه أخذ عوض بعض الحق
وأبرأ عن الباقي، وإلا، فلا يصح. ولو ضمن عن الأصيل ضامن للضامن، ففي
صحته، الوجهان. وكذا لو رهن الأصيل عند الضامن شيئا بما ضمن. والأصح في
الجميع: المنع. ولو شرط في ابتداء الضمان أن يعطيه الأصيل ضامنا بما ضمن،
ففي صحة الشرط الوجهان. فإن صححنا فوفى، وإلا فللضامن فسخ الضمان. وإن
أفسدناه، فسد به الضمان على الأصح.
الحكم الثالث: الرجوع.
أما غير الضامن إذا أدى دين غيره بغير إذنه، فلا رجوع، لأنه متبرع. وإن
أدى بإذنه، رجع إن شرط الرجوع قطعا. وكذا إن أطلق على الأصح. وفي وجه
ثالث: إن كان حالهما يقتضي الرجوع، رجع، وإلا، فلا، كنظيره من الهبة.
وأما الضامن، فله أربعة أحوال.
الحال الأول: يضمن بإذن ويؤدي بإذن، فيرجع سواء شرط
الرجوع، أم لا. قال الامام: ويحتمل أن ينزل منزلة الاذن في الأداء بلا ضمان،
حتى يقال: إن شرط الرجوع، رجع، وإلا فعلى الخلاف. وفي كلام صاحب
التقريب رمز إليه.
498

الحال الثاني: أن يضمن ويؤدي بلا إذن، فلا رجوع.
الثالث: يضمن بغير إذن، ويؤدي بالاذن، فلا رجوع على الأصح. فلو أذن
في الأداء بشرط الرجوع، ففيه احتمالان للامام، أحدهما: يرجع كما لو أذن في
الأداء بهذا الشرط من غير ضمان. والثاني: لا، لان الأداء مستحق بالضمان،
والمستحق بلا عوض لا يجوز مقابلته بعوض كسائر الحقوق الواجبة.
قلت: الاحتمال الأول أصح. والله أعلم.
الرابع: يضمن بالاذن، ويؤدي بلا إذن، فأوجه. الأصح المنصوص:
يرجع. والثاني: لا. والثالث: إن أدى من غير مطالبة أو بمطالبة، ولكن أمكنه
استئذان الأصل، لم يرجع، وإلا فيرجع.
فرع حوالة الضامن المضمون له على إنسان، وقبوله حوالة المضمون له
عليه، ومصالحتهما عن الدين على عوض، وصيرورة الدين ميراثا للضامن، كالأداء
في ثبوت الرجوع وعدمه.
499

فصل في كيفية الرجوع فإن كان ما دفعه إلى رب الدين من جنس الدين
وعلى صفته، رجع به. وإن اختلف الجنس، فالكلام في المأذون في الأداء بلا
ضمان، ثم في الضامن. أما الأول، فالمأذون بشرط الرجوع أو دونه، إن أثبتناه لو
صالح على غير الجنس، ففي رجوعه أوجه. أصحها: يرجع. والثاني: لا.
والثالث: إن قال: أد ديني أو ما علي، رجع، وإن قال: أد ما علي من الدنانير
مثلا، فلا رجوع. وإذا قلنا: يرجع، رجع بما سنذكر في الضامن إن شاء الله
تعالى. وأما الضامن، إذا صالح على غير الجنس، فيرجع بلا خلاف، لان
بالضمان ثبت المال في ذمته كثبوته في ذمة الأصيل، والمصالحة معاملة مبنية عليه.
ثم ينظر، فإن كانت قيمة المصالح عليه أكثر من قدر الدين، لم يرجع بالزيادة. وإن لم
تكن أكثر، كمن صالح عن ألف بعبد يساوي تسعمائة، فوجهان. وقيل: قولان.
أصحهما: يرجع بتسعمائة. والثاني: بالألف. ولو باعه العبد بألف، ثم تقاصا،
رجع (بالألف) بلا خلاف. ولو قال: بعتك العبد بما ضمنته لك عن فلان، ففي صحة
البيع، وجهان. فإن صححنا، فهل يرجع بما ضمنه؟ أم بالأقل مما ضمنه، ومن
قيمة العبد؟ وجهان.
قلت: المختار الصحة، وأنه يرجع بما ضمنه. والله أعلم.
أما إذا اختلفت الصفة، فإن كان المؤدى خيرا، بأن أدى الصحاح عن
المكسرة، لم يرجع بالصحاح. وإن كان بالعكس، ففيه الخلاف المذكور في
خلاف الجنس. وعن الشيخ أبي محمد، القطع بالرجوع.
500

فرع في مسائل تتعلق بالرجوع إحداها: ضمن عشرة، وأدى خمسة،
وأبرأه رب المال عن الباقي، لم يرجع إلا بالخمسة المغرومة، وتبقى الخمسة
الأخرى على الأصيل. ولو صالحه من العشرة على خمسة، لم يرجع إلا بالخمسة
أيضا، لكن يبرأ الضامن والأصيل عن الباقي.
الثانية: ضمن ذمي لذمي دينا على مسلم، ثم تصالحا على خمر، فهل يبرأ
المسلم لان المصالحة بين ذميين، أم لا، كما لو دفع الخمر بنفسه؟ وجهان. فإن
قلنا بالأول، ففي رجوع الضامن على المسلم، وجهان، لان ما أدي ليس بمال،
إلا أنه أسقط الدين.
قلت: الأصح: لا يبرأ، ولا يرجع. والله أعلم.
الثالثة: ضمن عن الضامن آخر، وأدى الثاني، فرجوعه على الأول، كرجوع
الأول على الأصيل، فيراعى الاذن وعدمه. وإذا لم يثبت له الرجوع على الأول لم
يثبت بأدائه للأول الرجوع على الأصيل إذا وجد شرطه فلو أراد الثاني أن يرجع
على الأصيل، ويترك الأول نظر، إن كان الأصيل قال له: اضمن عن ضامني،
ففي رجوعه عليه، وجهان. كما لو قال لانسان: أد ديني وليس كما لو قال: أد دين
فلان، حيث لا يرجع قطعا على الآمر، لان الحق لم يتعلق بذمته. وإن لم يقل له:
اضمن عن ضامني، فإن كان الحال لا يقتضي رجوع الأول على الأصيل، لم يرجع
الثاني عليه. وإن اقتضاه، فكذلك على الأصح، لأنه لم يضمن عن الأصيل. ولو
أن الثاني ضمن عن الأصيل أيضا، فلا رجوع لاحد الضامنين على الآخر، وإنما
الرجوع للمؤدي على الأصيل. ولو ضمن عن الأول والأصيل معا، فأدى، فله أن يرجع على
501

أيهما شاء، وأن يرجع على هذا بالبعض، وعلى ذاك بالبعض، ثم للأول الرجوع
على الأصيل بما غرم بشرطه.
الرابعة: على زيد عشرة، ضمنها اثنان، كل واحد خمسة، وضمن كل واحد
عن الآخر، فلرب المال مطالبة كل واحد منهما بالعشرة، نصفها عن الأصيل،
ونصفها عن الآخر، فإن أدى أحدهما العشرة، رجع بالنصف على الأصيل،
وبالنصف على صاحبه. وهل له الرجوع بالجميع على الأصيل إذا كان لصاحبه
الرجوع عليه لو غرم؟ فيه الوجهان. وإن لم يؤد إلا خمسة، نظر، هل أداها عن
الأصيل، أو عن صاحبه، أو عنهما؟ ويثبت الرجوع بحسبه.
الخامسة: ضمن الثمن، فهلك المبيع له أو وجد به عيبا فرده، أو ضمن
الصداق، فارتدت المرأة قبل الدخول، أو فسخت بعيب، نظر، إن كان ذلك قبل
أن يؤدي الضامن، برئ الضامن والأصيل. وإن كان بعده، فإن كان بحيث يثبت
الرجوع، رجع بالمغروم على الأصيل، وضمن ر ب الدين للأصيل ما أخذ إن كان
هالكا. وإن كان باقيا، رده بعينة. وهل له إمساكه ورد بدله؟ فيه الخلاف المذكور فيما
إذا رد المبيع بعيب وعين دراهمه عند البائع، فأراد إمساكها ورد مثلها، والأصح:
المنع. وإنما يغرم للأصيل دون الضامن، لان في ضمن الأداء عنه إقراضه وتمليكه
إياه. وإن كان بحيث لا يثبت للضامن الرجوع، فلا شئ له على الأصيل، ويلزم
المضمون له رد ما أخذ. وعلى من يرد؟ فيه الخلاف فيمن تبرع بالصداق وطلق
الزوج قبل الدخول، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى.
السادسة: أدى الضامن الدين، ثم وهبه رب الدين له، ففي رجوعه على
الأصيل، وجهان بناء على القولين فيما لو وهبت الصداق للزوج، ثم طلقها قبل
الدخول.
قلت: الأصح: الرجوع. والله أعلم.
السابعة: لرجل على رجلين عشرة، وضمن كل واحد ما على الآخر،
فلرب الدين أن يطالبهما، ومن شاء منهما بالعشرة، فإن أداها أحدهما، برئا
502

جميعا، وللمؤدي الرجوع بخمسة على صاحبه إن وجد شرط الرجوع. وإن أدى كل
واحد خمسة عما عليه، فلا رجوع. وإن أدى عن الآخر، جاء خلاف
التقاص. وإن أدى أحدهما خمسة، ولم يؤد الآخر شيئا، فإن أداها عن نفسه،
برئ مما عليه، وبقي على صاحبه ما كان عليه والمؤدي ضامن له. وإن أداها عن
صاحبه، رجع بها عليه، وبقي عليه، ما كان عليه، وصاحبه ضامن له. وإن أداها
عنهما، فلكل نصف حكمه. وإن أدى ولم يقصد شيئا، فهل يقسط عليهما؟ أو
يقال: اصرف إلى ما شئت؟ وجهان سبق نظيرهما في آخر الرهن. ومن فوائدهما،
أن يكون بنصيب أحدهما رهن. فإن قلنا: له صرفه، فصرفه إلى ما به الرهن،
انفك، وإلا، فلا. ولو قال المؤدي: أديت عما علي، فقال القابض: بل عن
صاحبك، صدق المؤدي بيمينه. فإذا حلف، برئ مما عليه، لكن لرب الدين
مطالبته بخمسة على الصحيح، لان عليه خمسة أخرى، إما بالأصالة، وإما بالضمان.
وفي وجه: لا مطالبة له، لأنه إن طالبه عن الأصالة، فالشرع يصدق المؤدي في
البراءة منها. وإن طالبه بالضمان، فرب الدين معترف بأنه أدى عنه. وإن أبرأ رب
الدين أحدهما عن جميع العشرة، برئ أصلا وضمانا، وبرئ الآخر من الضمان
دون الأصل. وإن أبرأ أحدهما عن خمسة، نظر، إن أبرأ عن الأصل، برئ عنه،
وبرئ صاحبه عن ضمانه وهي عليه ضمانة ما على صاحبه. وإن أبرأه عن
الضمان وبرئ عنه، وبقي عليه الأصيل، وبقي على صاحبه الأصل والضمان
وإن أبرأه عن الخمسة من الجهتين جميعا، سقط عنه نصف الأصل ونصف
الضمان، وعن صاحبه نصف الضمان (وبقي عليه الأصل، ونصف الضمان)،
فيطالبه بسبعة ونصف، ويطالب المبرأ بخمسة. وإن لم ينو عند الابراء شيئا، فهل
يحمل على النصف، أم يخير ليصرف إلى ما شاء؟ فيه الوجهان. ولو قال: أبرأت
عن الضمان، فقال المبرأ: بل عن الأصل، فالقول قول المبرئ.
الثامنة: ادعى أن له على زيد وعلى غائب ألفا باعهما به عبدا قبضاه، أو عن
جهة أخرى، وأن كل واحد منهما ضمن ما على الآخر وأقام بذلك بينة، فأخذ الألف
503

من زيد، نص أنه يرجع على الغائب بنصف الألف. قال الجمهور هذا إذا لم يكن
وجد من زيد تكذيب للبينة. فإن كان، لم يرجع، لأنه مظلوم بزعمه، فلا يطالب
غير ظالمه، وهذا هو الأصح. وقال ابن خيران: يرجع وإن صرح بالتكذيب، لان
البينة أبطلت حكم إنكاره.
فرع جميع ما سبق من رجوع المأذون له في الأداء، والضامن على
الأصيل، مفروض فيما إذا أشهد على الأداء رجلين أو رجلا وامرأتين. فلو أشهد
واحدا اعتمادا على أنه يحلف معه، أو أشهد مستورين، فبانا فاسقين، كفى ذلك
على الأصح. ولا يكفي إشهاد من يعلم سفره عن قرب، لأنه لا يفضي إلى
المقصود. أما إذا أدى بلا إشهاد، وأنكر رب المال، فإن أدى في غيبة الأصيل،
فمقصر، فلا يرجع إن كذبه الأصيل قطعا، وكذا إن صدقه على الأصح.
وهل يحلف الأصيل إذا كذبه؟ قال في التتمة: يبنى على أنه لو صدقه، هل
يرجع عليه؟ إن قلنا: نعم، حلفه على نفي العلم بالأداء، وإلا بني على أن النكول
ورد اليمين، كالاقرار، أم كالبينة؟ إن قلنا: كالاقرار، لم يحلفه لان غايته أن
ينكل فيحلف الضامن، فيكون كتصديقه، وذلك لا يفيد الرجوع. وإن قلنا:
كالبينة، حلفه طمعا في أن ينكل، ويحلف، فيكون كالبينة. ولو كذبه الأصيل
وصدقه رب المال، رجع على الأصح، لسقوط المطالبة، فإنه أقوى من البينة. وأما
إذا أدى بحضور الأصيل، فيرجع على الصحيح المنصوص. ولو توافق الأصيل
والضامن على أنه أشهد، ولكن مات الشهود أو غابوا، ثبت الرجوع على الصحيح.
وقيل: لا، وهو شاذ ضعيف. ولو قال الضامن: أشهدت وماتوا، وأنكر الأصيل
الاشهاد، فهل القول قول الأصيل، لان الأصل عدم الاشهاد، أو قول الضامن،
لان الأصل عدم التقصير؟ وجهان. أصحهما: الأول. ولو قال: أشهدت فلانا
وفلانا، فكذباه، فهو كما لو لم يشهد. ولو قالا: لا ندري وربما نسينا،
ففيه تردد للامام. ومتى لم تقم بينة بالأداء، وحلف رب المال، بقيت مطالبته
504

بحالها. فإن أخذ المال من الأصيل، فذاك. وإن أخذ من الكفيل مرة أخرى،
فقيل: لا يرجع بشئ، والأصح: أنه يرجع. وهل يرجع بالمغروم أولا لأنه مظلوم
بالثاني، أم بالثاني لأنه المسقط للمطالبة؟ وجهان.
قلت: ينبغي أن يرجع بأقلهما. فإن كان الأول، فهو يزعم أنه مظلوم
بالثاني. وإن كان الثاني، فهو المبرئ، فهو المبرئ، ولان الأصل براءة ذمة الأصيل من الزائد.
والله أعلم.
فصل الضمان في مرض الموت، إذا كان بحيث يثبت الرجوع، ووجد
الضامن مرجعا، فهو محسوب من رأس المال. وإن لم يثبت الرجوع، أو لم يجد
مرجعا لموت الأصيل معسرا، فمن الثلث. ومتى وفت تركة الأصيل بثلثي الدين،
فلا دور، لان صاحب الحق إن أخذه من ورثة الضامن، رجعوا بثلثيه في تركة
الأصيل. وإن أخذ تركة الأصيل وبقي شئ، أخذه من تركة الضامن ويقع تبرعا،
لان ورثة الضامن لا يجدون مرجعا. وإن لم تف التركة بالثلثين، فقد يقع الدور،
كمريض ضمن تسعين، ومات وليس له إلا تسعون، ومات الأصيل وليس له إلا
خمسة وأربعون، فرب المال بالخيار، إن شاء أخذ تركة الأصيل كلها ولا دور
حينئذ، ويطالب ورثة الضامن بثلاثين، ويقع تبرعا إذ لم يبق للأصيل تركة يرجع
فيها، وإن أراد الاخذ من تركة الضامن، لزم الدور، لان ما يغرمه ورثة الضامن،
يرجع إليهم بعضه، لان المغروم صار دينا لهم على الأصيل، فيتضاربون به مع رب
المال في تركة الأصيل، ويلزم من رجوع بعضه زيادة التركة ومن زيادة التركة زيادة
المغروم، ومن زيادة المغروم زيادة الراجع.
وطريق استخراجه أن يقال: يأخذ رب المال من ورثة الضامن شيئا، ويرجع
إليهم مثل نصفه، لان تركة الأصيل نصف تركة الضامن، فيبقى عندهم تسعون إلا نصف
شئ، وهو يعدل مثلي ما تلف بالضمان، والتالف نصف شئ، ومثلا شئ، فإذا
تسعون إلا نصف شئ يعدل شيئا. وإذا جبرنا وقابلنا، عدلت تسعون شيئا ونصفا
فيكون الشئ ستين، فبان أن المأخوذ ستون، وحينئذ يكون الستون دينا لهم على
505

الأصيل، وقد بقي لرب المال ثلاثون، فيتضاربون في تركته بسهمين وسهم، وتركته
خمسة وأربعون، يأخذ منها الورثة ثلاثين، ورب الدين خمسة عشر، ويتعطل باقي
دينه وهو خمسة عشر، ويكون الحاصل للورثة ستين، ثلاثين بقيت عندهم، وثلاثين
أخذوها من تركة الأصيل، وذلك مثلا ما تلف ووقع تبرعا، وهو ثلاثون. ولو كانت
المسألة بحالها، لكن تركة الأصيل ثلاثون، فيأخذ رب الدين شيئا، ويرجع إلى
ورثة الضامن مثل ثلثه، لان تركة الأصيل ثلث تركة الضامن، فيبقى عندهم تسعون
ناقصة ثلثي شئ تعدل مثلي التالف بالضمان، وهو ثلثا شئ، فمثلاه شئ وثلث.
فإذن تسعون إلا ثلث شئ يعدل شيئا وثلثا، فإذا جبرنا وقابلنا، عدلت تسعون
شيئين فيكون الشئ خمسة وأربعين، وذلك ما أخذه رب الدين، وصار دينا لورثة
الضامن على الأصيل، وبقي لرب الدين عليه خمسة وأربعون أيضا، فيتضاربون في
تركته بسهم وسهم، فتجعل بينهما مناصفة. ولو كانت تركة الأصيل ستين، فلا
دور، بل لرب الدين أخذ تركة الضامن كلها، ثم هم يأخذون تركة الأصيل كلها بحق
الرجوع، ويقع الباقي تبرعا.
قلت: وهذه مسائل منثورة، تتعلق بالضمان. وترك بياضا في الأصل.
506

كتاب الشركة
كل حق ثابت بين شخصين فصاعدا على الشيوع، يقال: هو مشترك وذلك
ينقسم إلى ما لا يتعلق بمال، كالقصاص، وحد القذف، ومنفعة كلب الصيد،
ونحوه، وإلى متعلق بمال، وذلك إما عين مال ومنفعته، كما لو غنموا مالا أو ورثوه
أو اشتروه. وإما مجرد منفعة، كما لو استأجروا عبدا، أو وصي لهم بمنفعته. وإما
مجرد العين، كما لو ورثوا عبدا موصى بمنافعه. وإما حق يتوصل به إلى مال،
كالشفعة الثابتة لجماعة. والشركة، قد تحدث بلا اختيار، كالإرث. وباختيار،
كالشراء، وهذا مقصود الكتاب. والشركة أربعة أنواع.
الأول: شركة العنان، ولها ثلاثة أركان. وفيه خلاف يأتي
إن شاء الله تعالى في كتاب الغصب. فإن جعلناه متقوما، لم تجز الشركة. وإلا،
فعلى الخلاف في المثلي. وأما الدراهم المغشوشة، فقال الروياني: لا تصح
الشركة فيها. وحكى في التتمة في صحة القراض عليها، خلافا مبنيا على جواز
المعاملة بها، إن جوزناها، فقد ألحقنا المغشوش بالخالص، وإلا، فلا. فإذا جاء
في القراض خلاف، ففي الشركة أولى. وقال صاحب العدة: الفتوى، جواز
الشركة فيها إن استمر في البلد رواجها.
قلت: هذا المنقول عن العدة هو الأصح.
وأما قوله: أطلقوا منع الشركة في التبر إلى آخره، فعجب، فإن صاحب
التتمة حكى في انعقاد الشركة على التبر والنقرة وجهين كالمثلي. والمراد
بصاحب العدة هنا، أبو المكارم الروياني. والله أعلم.
ثم ما ذكرناه في المسألة من منع الشركة وجوازها، المراد به: إذا أخرج هذا
قدرا من ماله، وذاك قدرا، وجعلاهما رأس مال. وتتصور الشركة على غير هذا
الوجه في جميع الأموال، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
المسألة الثانية: إذا أخرج كل واحد قدرا من المال الذي تجوز الشركة فيه،
وأراد الشركة، اشترط خلط المالين خلطا لا يمكن معه التمييز. فإن لم يفعلا،
فتلف مال أحدهما قبل التصرف، تلف على صاحبه فقط، وتعذر إثبات الشركة في
الباقي، فلا تصح الشركة إن اختلف الجنس كالدراهم والدنانير، أو الصفة كاختلاف
السكة، وكالصحاح والمكسرة، أو المثقوبة، وكالعتيقة والجديدة، والبيضاء
507

والسوداء. وفي البيض والسود، وجه عن الإصطخري. وإذا جوزنا الشركة في
المثليات، وجب تساويهما جنسا ووصفا، فلا يكفي خلط حنطة حمراء ببيضاء
لامكان التمييز، وإن كان فيه عسر. وفي وجه: يكفي، لأنه يعد خلطا. وينبغي أن
يتقدم الخلط على العقد، فإن تأخر، حكى في التتمة وجهين. أصحهما:
المنع، إذ لا اشتراك حال العقد. والثاني: الجواز إن وقع في مجلس العقد، لأنه
كالعقد. فان تأخر عنه، لم يجز على الوجهين. ومال الإمام إلى جوازه، لان
الشركة توكيل، وتوكل. لكن لو قيد الاذن بالتصرف في المال المفرد، فلا بد من
تجديد الاذن. ولو ورثوا عروضا أو اشتروها، فقد ملكوها شائعة، وذلك أبلغ من
الخلط. فإذا انضم إليه الاذن في التصرف، تم العقد. ولهذا قال المزني
والأصحاب: الحيلة في الشركة في العروض المتقومة، أن يبيع كل واحد نصف
عرضه بنصف عرض صاحبه، سواء تجانس العرضان أو اختلفا، ليصير كل واحد
منهما مشتركا بينهما، فيتقابضان، ويأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف.
وقال في التتمة: يصير العرضان مشتركين، ويملكان التصرف فيهما بالاذن، لكن
لا تثبت أحكام الشركة في الثمن حتى يستأنفا عقدا، وهو ناض، ومقتضى إطلاق
الجمهور، ثبوت الشركة وأحكامها مطلقا، وهو الصحيح. ولو لم يتبايعا العرضين،
لكن باعاهما بعرض أو نقد، ففي صحة البيع، قولان سبقا. فان صححناها، كان
الثمن مشتركا بينهما على التساوي أو التفاضل بحسب قيمة العرضين، فيأذن كل
واحد لصاحبه في التصرف.
قلت: وإذا باع كل واحد بعض عرضه ببعض عرض صاحبه، فهل يشترط
علمهما بقيمة العرضين؟ وجهان حكاهما في الحاوي. والصحيح: لا يشترط.
ومن الحيل في هذا أن يبيع كل واحد بعض عرضه لصاحبه بثمن في ذمته، ثم
يتقاصا. والله أعلم.
الثالثة: الصحيح أنه لا يشترط تساوي المالين في القدر، بل تثبت الشركة
508

مع التفاوت على نسبة المالين، وقال الأنماطي: يشترط، وهو ضعيف. وهل
يشترط العلم حالة العقد بقدر النصيبين بأن يعرفا أن المال بينهما نصفان، أو على
نسبة أخرى؟ وجهان. أصحهما: لا يشترط إذا أمكن معرفته من بعد. ومأخذ
الخلاف أنه إذا كان بينهما مال مشتر ك، وكل واحد يجهل حصته، فأذن كل واحد
لصاحبه في التصرف في كل المال أو في نصيب، هل يصح الاذن؟ وجهان.
أحدهما: لا، لجهلهما. وأصحهما: نعم، لان الحق لا يعدوهما. وعلى هذا
تكون الأثمان بينهما مبهمة كالمثمنات.
فرع لو كان لهما ثوبان اشتبها، لم يكف ذلك لعقد الشركة، فان المالين
متميزان، لكن اشتبها.
فرع قال أصحابنا العراقيون وغيرهم: إذا جوزنا الشركة في المثليات،
فإن استوت القيمتان، كانا شريكين على السواء. وإن اختلفتا، بأن كان لأحدهما
قفيز قيمته مائة، وللآخر قفيز بقيمة خمسون، فهما شريكان مثالثة، وهذا مبني على
قطع النظر في المثلي عن تساوي الاجزاء في القيمة.
فرع لأحدهما دراهم، وللآخر دنانير، واشتريا شيئا بهما، فطريقه أن
يقوم ما ليس بنقد البلد منهما بما هو نقده، فان استوت قيمتهما، فالشركة على
التساوي، وإلا فعلى الاختلاف.
النوع الثاني: شركة الأبدان، وهو ان يشترك الدلالان ان الحمالان أو غيرهما
من أهل الحرف على ما يكسبان، ليكون بينهما متساويا أو متفاضلا، وهي
509

الأول: العاقدان والمعتبر فيهما، أهلية التوكيل والتوكل. وتكره مشاركة
الذمي، ومن لا يحترز من الربا ونحوه.
الثاني: الصيغة، ولا بد من لفظ يدل على الاذن في التجارة والتصرف. فإن
أذن كل واحد لصاحبه صريحا، فذاك. فلو قالا: اشتركنا، واقتصرا عليه، لم
يكف ذلك، لتسلطهما على التصرف من الجانبين على الأصح عند الأكثرين. ولو
أذن أحدهما للآخر في التصرف في الجميع، ولم يأذن الآخر، تصرف المأذون في
جميع المال، ولم يتصرف الآخر إلا في نصيبه، وكذا لو أذن لصاحبه في التصرف
في الجميع وقال، أنا لا أتصرف إلا في نصيبي. ولو شرط أحدهما على الآخر أن لا
يتصرف في نصيبه، لم يصح العقد، لما فيه من الحجر على المالك في ملكه. ثم
ينظر في المأذون فيه، فان عين جنسا، لم يتصرف المأذون في نصيب الاذن في غير
ذلك الجنس. وإن قال: تصرف واتجر فيما شئت من أجناس المال، جاز على
الصحيح. وفي وجه: لا بد من التعيين.
قلت: ولو أطلق الاذن ولم يتعرض لما يتصرف فيه، جاز على الأصح
كالقراض. والله أعلم.
الثالث: المال المعقود عليه، وفيه مسائل.
510

الأولى: تجوز الشركة في النقدين قطعا، ولا تجوز في المتقومات
قطعا. وفي المثليات، قولان. ويقال: وجهان، أظهرهما: الجواز.
والمراد بالنقدين، الدراهم والدنانير المضروبة. أما التبر والحلي والسبائك،
فأطلقوا منع الشركة فيها. ويجوز أن يبنى على أن التبر مثلي أم لا
511

باطلة، سواء اتفقا في الصنعة، أو اختلفا، كالخياط والنجار، لان كل واحد
متميز ببدنه ومنافعه فاختص بفوائده، كما لو اشتركا في ماشيتهما وهي متميزة،
ليكون الدر والنسل بينهما، فإنه لا يصح. وفي وجه ضعيف: يصح سواء اتفقت
الصنعة أم لا.
قلت: هذا الوجه، حكاه صاحب الشامل وغيره قولا. والله أعلم.
فإذا أبطلنا، فاكتسبا، نظر، إن انفردا، فلكل كسبه، وإلا فيقسم الحاصل
على قدر أجرة المثل، لا بحسب الشرط.
النوع الثالث: شركة المفاوضة، وهي أن يشتركا ليكون بينهما ما يكسبان
ويربحان ويلزمان من غرم ويحصل من غنم. وهي باطلة. فلو استعملا لفظ
512

المفاوضة، وأرادا شركة العنان، جاز، نص عليه. وهذا يقوي تصحيح العقود
بالكنايات.
النوع الرابع: شركة الوجوه، وقد فسرت بصور.
أشهرها: أن يشترك وجيهان عند الناس، ليبتاعا في الذمة إلى أجل، على أن
ما يبتاعه كل واحد يكون بينهما، فيبيعانه ويؤديان الأثمان، فما فضل فهو بينهما.
الثانية: أن يبتاع وجيه في الذمة، ويفوض بيعه إلى خامل، ويشترطا أن يكون ربحه
بينهما. والثالثة: أن يشتري وجيه لا مال له، وخامل ذو مال، ليكون العمل من
الوجيه، والمال من الخامل، ويكون المال في يده لا يسلمه إلى الوجيه، والربح
بينهما. وبهذا الثالث فسرها ابن كج والامام. ويقرب منه ما ذكره الغزالي، وهو أن
يبيع الوجيه مال الخامل بزيادة ربح، ليكون له بعض الربح، وهي في الصور كلها
باطلة، إذ ليس بينهما مال مشترك يرجع إليه عند القسمة. ثم ما يشتريه أحدهما في
الصورة الأولى والثانية، فهو له، يختص بربحه وخسرانه، ولا يشاركه فيه الآخر إلا
إذا صرح بالاذن في الشراء بشرط التوكيل في الشراء، وقصد المشتري موكله. وأما
الصورة الثالثة، فليست بشركة في الحقيقة، بل قراض فاسد لاستبداد المالك
باليد. فإن لم يكن المال نقدا، زاد للفساد وجه آخر.
فرع في مسائل تتعلق بما سبق وهي منصوصة في البويطي.
إحداها: لو أخذ جملا لرجل، وراوية لآخر، وتشاركوا على أن يستقي الآخذ
الماء، والحاصل بينهم، فهو باطل. فلو استقى، فلمن يكون الماء؟ نقل صاحب
التلخيص وآخرون فيه اختلاف قول، وضعف الجمهور هذه الطريقة، وصوبوا
تفصيلا ذكره ابن سريج، وهو أنه إن كان الماء مملوكا للمستقي، أو مباحا، لكن قصد به
نفسه، فهو له، وعليه لكل واحد من صاحبيه أجرة المثل. وإن قصد الشركة، فهو
على الخلاف في جواز النيابة في تملك المباحات. فان منعناها، فهو للمستقي،
وعليه الأجرة لهما. وإن جوزناها وهو الأصح، فالماء بينهم. وفي كيفية الشركة،
وجهان. أحدهما: تقسم بينهم على نسبة أجور أمثالهم، وبهذا قطع الشيخ أبو
513

حامد، وحكي عن نصه في البويطي. وأصحهما عند الشيخ أبي علي وبه قطع
القفال: أنه يقسم بينهم بالسوية اتباعا لقصده، فعلى هذا، يرجع المستقي على كل
واحد من صاحبيه بثلث أجرة منفعته، إذ لم يصل إليه منها إلا الثلث، ويرجع كل
واحد من صاحبيه بثلثي أجرة ماله على صاحبه، وعلى المستقي. وعلى الوجه
الأول: لا تراجع بينهم أصلا.
الثانية: استأجر رجل الراوية من صاحبها، والجمل من صاحبه، واستأجر
أيضا المستقي لاستقاء الماء وهو مباح، نظر، إن أفرد كل واحد بعقد، صح والماء
للمستأجر، وإن جمع الجميع في عقد، ففي صحة الإجارة، قولان. كمن اشترى
عينين لرجلين بثمن واحد، فإن صححنا، وزعت الأجرة المسماة على أجور
الأمثال، وإلا، فلكل واحد عليه أجرة المثل، ويكون الماء للمستأجر صححنا
الإجارة أم أفسدناها، لأنا وإن أفسدناها، فمنافعهم مضمونة بالأجرة، قاله الامام.
وإن نوى المستقي نفسه، وفرعنا على فساد الإجارة، فعن الشيخ أبي علي: أنه
أيضا للمستأجر، وتوقف فيه الامام، لان منفعته غير مستحقة للمستأجر، وقد قصد
نفسه، فليكن الحاصل له. وموضع القولين، إذا وردت الإجارة على عين المستقي
والجمل والراوية، فأما إذا ألزم ذممهم، فتصح الإجارة قطعا.
الثالثة: اشترك أربعة، لأحدهم بيت رحى، ولآخر حجر الرحى، ولآخر بغل
يديره، والرابع يعمل في الرحى، على أن الحاصل من أجرة الطحن بينهم، فهو
فاسد. ثم إن استأجر مالك الحنطة العامل والآلات من مالكيها، وأفرد كل واحد
بعقد، لزمه ما سمى لكل واحد، وإن جمعهم في عقد، فان لزم ذممهم الطحن،
صح العقد، وكانت الأجرة المسماة بينهم أرباعا، ويتراجعون بأجرة المثل، لان
المنفعة المملوكة لكل واحد منهم قد استوفى ربعها، حيث أخذ ربع المسمى،
وانصرف ثلاثة أرباعها إلى أصحابه، فيأخذ منهم ثلاثة أرباع أجرة المثل. وإن
استأجر عين العامل وأعيان الآلات، ففيه القولان السابقان. فان أفسدنا الإجارة،
فلكل واحد أجرة مثله. وإن صححناها، وزع المسمى عليهم، ويكون التراجع
بينهم على ما سبق. وإن ألزم مالك الحنطة ذمة العامل الطحن، لزمه، وعليه إذا
استعمل ما لأصحابه أجرة المثل، إلا أن يستأجر منهم إجارة صحيحة، فعليه
المسمى.
514

الرابعة: لواحد بذر، ولآخر أرض، ولآخر آلة الحرث، اشتركوا مع رابع
ليعمل، وتكون الغلة بينهم، فالزرع لصاحب البذر، وعليه لأصحابه أجرة المثل.
قال في التتمة: فلو أصاب الزرع آفة ولم يحصل منه شئ، فلا شئ لهم،
لأنهم لم يحصلوا له شيئا. ولا يخفى عدول هذا عن القياس الظاهر.
قلت: الذي قاله في التتمة هو الصواب. والله أعلم.
فصل في حكم الشركة الصحيحة لها أحكام.
أحدها: إذا وجد الاذن من الطرفين، تسلط كل واحد منهما على التصرف.
وتصرف الشريك كتصرف الوكيل، لا ببيع نسيئة، ولا بغير نقد البلد، ولا يبيع ولا
يشتري بغبن فاحش إلا باذن الشريك. فإن باع بالغبن الفاحش، لم يصح في نصيب
شريكه. وفي نصيبه، قولا تفريق الصفقة. فإن لم نفرقها، بقي المبيع على ملكهما
والشركة بحالها. وإن فرقناها، انفسخت الشركة في المبيع، وصار مشتركا بين
المشتري والشريك. وإن اشترى بالغبن، نظر، إن اشترى بعين مال الشركة، فهو
كما لو باع. وإن اشترى في الذمة، لم يقع للشريك، وعليه وزن الثمن من خالص
ماله.
فرع ليس لأحدهما أن يسافر بمال الشركة، ولا أن يبعضه من غير إذن
صاحبه. فإن فعل، ضمن.
الحكم الثاني: لكل واحد فسخ الشركة متى شاء، كالوكالة. فلو قال أحدهما
للآخر: عزلتك عن التصرف، أو لا تتصرف، في نصيبي، انعزل المخاطب، ولا
ينعزل العازل عن التصرف في نصيب المعزول.
ولو قال: فسخت الشركة، انفسخ القعد قطعا. والمذهب: أنهما ينعزلان
عن التصرف. وقال في التتمة: في بقاء تصرفهما، وجهان إن كانا صرحا في
515

عقد الشركة بالاذن. ووجه البقاء: استمراره حتى يأتي بصريح العزل.
فرع تنفسخ الشركة بموت أحدهما أو جنونه أو إغمائه، كالوكالة. ثم
في صورة الموت، إن لم يكن دين ولا وصية، فللوارث الخيار بين القسمة وتقرير
الشركة إن كان رشيدا، فإن كان موليا عليه لصغره أو جنونه، فعل وليه ما فيه حظه من
الامرين. وإنما تتقرر الشركة بعقد مستأنف، فإن كان على الميت دين، فليس للوارث
تقرير الشركة إلا بعد قضاء الدين. وإن كان هناك وصية لمعين، فهو كأحد الورثة.
فإن كان غير معين، كالفقراء، لم يصح تقرير الشركة حتى تخرج الوصية. ثم هو
كما لو لم تكن وصية.
الحكم الثالث: أن الربح بينهما على قدر المالين، شرط ذلك، أم لا،
تساويا في العمل، أم تفاوتا. فان شرطا التساوي في الربح مع التفاوت في المال،
أو التفاوت في الربح مع التساوي في المال، فسدت الشركة على المذهب، وبه
قطع الأصحاب. وحكى الامام وجها اخر: أنها لا تفسد، ويوزع الربح على قدر
المالين. ولعل الخلاف راجع إلى الاصطلاح، فأطلق الجمهور لفظ الفساد، وامتنع
منه بعضهم لبقاء أكثر الاحكام. فلو اختص أحدهما بزيادة عمل، وشرط له زيادة
ربح، فوجهان. أحدهما: صحة الشرط، ويكون الزائد على حصة ملكه في مقابلة
العمل، ويتركب العقد من شركة وقراض. وأصحهما: المنع، كما لو شرط
التفاوت في الخسران، فإنه يلغو ويوزع الخسران على المال، ولا يصح جعله
قراضا، فإن هناك يقع العمل مختصا بمال المالك، وهنا بملكيهما. ومتى فسد
516

الشرط، لم يؤثر في فساد التصرف، لوجود الاذن، ويكون الربح على نسبة
المالين، ويرجع كل واحد على صاحبه بأجرة مثل عمله في ماله. فان تساويا في
المال والعمل، فنصف عمل كل واحد يقع في مقابلة ماله، فلا أجرة فيه، ونصفه
في مال صاحبه، ويستحق صاحبه مثل بدله عليه، فيقع في التقاص. وإن تفاوتا في
العمل مع استواء المال، فساوى عمل أحدهما مائتين، والآخر مائة. فإن كان عمل
من شرط له الزيادة أكثر، فنصف عمله مائة، ونصف عمل صاحبه خمسون، فيبقى
له بعد التقاص خمسون. وإن كان عمل صاحبه أكثر، ففي رجوعه بخمسين على من
شرط له الزيادة، وجهان. أحدهما: الرجوع، كما لو فسد القراض. وأصحهما:
المنع. ويجري الوجهان، فيما لو فسدت الشركة، واختص أحدهما بأصل التصرف
والعمل، هل يرجع بنصف أجرة عمله على الآخر؟ أما إذا تفاوتا في المال، فكان
لأحدهما ألف وللآخر ألفان، وتفاوتا في العمل، فعمل صاحب الأكثر أكثر، بأن
ساوي عمله مائتين، وعمل الآخر مائة، فثلثا عمله في ماله، وثلثه في مال
صاحبه، وعمل صاحبه بالعكس، فيكون لصاحب الأكثر ثلث المائتين على الأقل،
ولصاحب الأقل ثلثا المائة على صاحب الأكثر، وقدرهما متفق، فيقع في التقاص.
وإن كان عمل صاحب الأقل أكثر، والتفاوت كما صورنا، فثلث عمل صاحب الأقل
في، ماله وثلثاه في مال صاحبه، وثلثا عمل صاحب الأكثر في ماله، وثلثه في مال
شريكه، فيبقى لصاحب الأقل على الأكثر مائة بعد التقاص. ولو تساويا في العمل،
فلصاحب الأقل ثلثا المائة على صاحب الأكثر، ولصاحب الأكثر ثلث المائة عليه،
فثلث تقاص، ويبقى لصاحب الأقل ثلث المائة.
فرع ما ذكرناه من حكم الفساد عند تغيير نسبة الربح، يجري في سائر
أسباب فساد الشركة. لكن قال الامام: لو لم يكن بين المالين شيوع، وخلط، فلا
شركة هنا على التحقيق، بل ثمن كل مال يختص بمالكه، ولا يقع مشتركا. والكلام
في الصحة والفساد، إنما يكون بعد حصول نفس الشركة. وإن جرى توكيل من
الجانبين، لم يخف حكمه.
فرع إذا جوزنا شرط زيادة ربح لمن اختص بزيادة عمل، فلم يشترطاه،
517

ولا اشترطا توزيع الربح على قدر المالين، بل أطلقا، فذكر صاحب التقريب
والشيخ أبو محمد، خلافا في أن الربح يوزع على المالين، وتكون زياد العمل
تبرعا، أم تثبت للزيادة أجرة تخريجا مما إذا استعمل صانعا ولم يذكر أجرة. ثم إذا
شرطا زيادة ربح لمن زاد عمله، هل يشترط استقلاله باليد كالقراض؟ أم لا كسائر
الشرك؟ وجهان. وكذا لو اشترطا انفراد أحدهما بالعمل. والخلاف في جواز
اشتراط زيادة الربح لمن زاد عمله، جار فيما إذا شرط انفراد أحدهما بالتصرف
وجعل له زيادة ربح. وقيل: يجوز هنا، ولا يجوز إذا اشتركا في أصل العمل، لأنه
لا يدرى أن الربح بأي عمل حصل.
الحكم الرابع: أن يد كل منهما يد أمانة كالمودع. فإذا ادعى رد المال إلى
شريكه، أو تلفا، أو خسرانا، صدق. فإن أسند التلف إلى سبب ظاهر، طولب
بالبينة على السبب. فإذا أقامها، صدق في الهلاك به. ولو ادعى أحدهما خيانة
صاحبه، لم يسمع حتى يبين قدر ما خان به. فإذا بين، فالقول قول المنكر مع
يمينه. ولو كان في يد أحدهما مال، فقال: هو لي، صدق بيمينه. ولو اشترى شيئا
وقال: اشتريته لنفسي، وقال الآخر: بل للشركة، أو عكسه، فالقول قول
المشتري، لأنه أعلم بقصده. ولو قال صاحب اليد: اقتسمنا، وهذا نصيبي، وقال
الآخر: هو مشترك، فالقول قول الثاني. ولو كان في أيديهما أو في يد أحدهما
مال، وقال كل واحد: هذا نصيبي من المشترك، وأنت أخذت نصيبك، حلفا،
وجعل المال بينهما. فإن نكل أحدهما، قضي للحالف.
فرع بينهما عبد، باعه أحدهما بإذن شريكه، وأذن له في قبض الثمن، أو
قلناه للوكيل بالبيع قبض الثمن، ثم اختلف الشريكان في قبض الثمن، فذلك
يتصور على وجهين. أحدهما: أن يقول الشريك للبائع: قبضت كل الثمن، فسلم
إلي نصيبي، ويوافقه المشتري على أن البائع قبض، وينكر البائع، فيبرأ المشتري
عن نصيب الذي لم يبع، لاعترافه ببراءته. ثم هنا خصومة بين البائع والمشتري،
وخصومة بين الشريكين، وربما تقدمت الأولى على الثانية، وربما تأخرت. فإن
518

تقدمت، نظر، إن قامت للمشتري بينه على الأداء، اندفعت عنه مطالبة البائع. فإن
شهد له الشريك، لم يقبل في نصيبه. وفي نصيب البائع القولان في تبعيض
الشهادة. وإن لم يقم بينة، فالقول قول البائع بيمينه أنه لم يقبض. فإن حلف،
أخذ نصيبه من المشتري، ولا يشاركه الذي لم يبع فيه، لأنه يزعم أن ما يأخذه الآن
ظلم. وإن نكل، وحلف المشتري، انقطعت عنه المطالبة. وإن نكل المشتري
أيضا، فوجهان. قال ابن القطان: لا يلزمه نصيب البائع، لأنا لا نقضي بالنكول.
والصحيح: أنه يلزمه، لأنه ليس قضاء بالنكول، بل مؤاخذة باعترافه بلزوم المال
بالشراء. فإذا انقضت خصومه البائع والمشتري، فطلب الشريك حصته من البائع
لزعمه أنه قبض الثمن، فالقول قول البائع بيمينه أنه لم يقبض إلا نصيبه بعد
الخصومة. فإن نكل البائع، حلف الشريك وأخذ منه نصيبه، ولا يرجع به البائع
على المشتري، لأنه يزعم أن شريكه ظلمه، ولا يمنع البائع من الحلف نكوله على
اليمين في الخصومة مع المشتري، لأنها خصومة أخرى مع آخر. إما إذا تقدمت
خصومة الشريكين، فأدعي الذي لم يبع على البائع قبض الثمن، وطلب حقه،
فعليه البينة، ولا تقبل شهادة المشتري له. فإن لم تكن بينة، حلف البائع، فإن
نكل، حلف المشتري وأخذ نصيبه من البائع. فإذا انقضت خصومة الشريكين،
فطالب البائع المشتري بحقه، أخذه بيمينه. فإن نكل، حلف المشتري وبرئ.
ولا يمنع البائع من الحلف وطلب حقه من المشتري نكوله في الخصومة الأولى مع
شريكه. وفي وجه: يمنعه، وهو ضعيف باتفاق الأصحاب. وعلى ضعفه، قال
الامام: القياس طرده فيما إذا تقدمت خصومة البائع والمشتري، ونكل البائع،
وحلف المشتري. حتى يقال: تثبت للشريك مطالبة البائع بنصيبه من غير تجديد
خصومة.
الوجه الثاني: أن يقول البائع للشريك: قبضت الثمن كله، وصدقه
المشتري، وأنكر الشريك، فله حالان.
أحدهما: أن يكون الشريك مأذونا من جهة البائع في قبض الثمن، فيبرأ
المشتري من نصيب البائع، لاعترافه بأن وكيله قبضه. ثم تتصور خصومتان كما
سبق، فإن تخاصم الشريك والمشتري، فالقول قول الشريك، فيحلف ويأخذ
نصيبه، ويسلم له المأخوذ. وإن تخاصم البائع والشريك، حلف الشريك. فإن
519

نكل، حلف البائع وأخذ حقه منه، ولا رجوع له على المشتري. وكل هذا، كما
سبق في النزاع الأول. ولو شهد البائع للمشتري، لم يقبل، لأنه يشهد لنفسه.
الحال الثاني: أن يكون غير مأذون، فلا تبرأ ذمة المشتري عن شئ من
الثمن. ثم يكون البائع مأذونا من جهة الشريك في القبض، وتارة لا.
فإن كان، فله مطالبة المشتري بنصيبه، وليس له مطالبة بنصيب الشريك،
لأنه لما أقر بقبض الشريك نصيب نفسه، صار معزولا. ثم إذا تخاصم الشريك
والمشتري، فعلى المشتري البينة بالقبض. فإن لم تكن، فالقول قول الشريك.
فإذا حلف، ففيمن يأخذ حقه منه؟ وجهان. أحدهما: قال المزني وابن القاص
وآخرون: إن شاء أخذ تمام حقه من المشتري، وإن شاء شارك البائع في المأخوذ
وأخذ الباقي من المشتري، لان الصفقة واحدة، فكل جزء من الثمن شائع بينهما.
فإذا شارك، لم يبق للبائع إلا ربع الثمن. وقال ابن سريج وغيره: ليس له إلا الاخذ
من المشتري، ولا يشارك البائع فيما أخذه، لان البائع انعزل عن الوكالة بإقرار أن
الشريك أخذ حقه، فما يأخذه بعد الانعزال، يأخذه لنفسه فقط. وهذا الوجه
استحسنه الشيخان: أبو حامد وأبو علي. ولو شهد البائع للمشتري على الشريك
بقبض الثمن، فعلى قول المزني: لا تقبل شهادته، لأنه يدفع بها شركة صاحبه فيما
أخذه. وعلى ما ذكره ابن سريج: تقبل.
القسم الثاني: أن لا يكون البائع مأذونا في القبض، قال العراقيون: للبائع
مطالبة المشتري بحقه، وما يأخذه يسلم له، وتقبل شهادته للمشتري على الشريك.
ويجئ وجه: في مشاركة صاحبه، وفي قبول الشهادة. وحكى الحناطي وجها: أن
أحد الوارثين، لو قبض من الدين قدر حصته، لم يشاركه الآخر، إلا أن يأذن له
المديون في الرجوع عليه، أو لا يجد مالا سواه. والصحيح: المشاركة مطلقا. ولو
ملكا عبدا، فباعاه صفقة، فهل ينفرد أحدهما بقبض حصته من الثمن؟ وجهان.
أحدهما: لا. فلو قبض شيئا، شاركه الآخر كالميراث. وأرجحهما: نعم، كما لو
انفرد بالبيع.
فرع بينهما عبد، فغصب غاصب نصيب أحدهما، بأن نزل نفسه منزلته،
520

فأزال يده، ولم يزل يد صاحبه، يضمن الذي لم يغصب نصيبه بيعه، ولا يصح
من الآخر بيع نصيبه إلا للغاصب، أو لقادر على أخذه من الغاصب. فلو باع
الغاصب والذي لم يغصب نصيبه، جميع العبد صفقة واحدة بطل في نصيب
الغاصب، وصح في نصيب المالك، ولا يخرج على تفريق الصفقة، لان
الصفقة تتعدد بتعدد البائع. وقيل: يبنى نصيب المالك، على أن أحد الشريكين إذا
باع نصف العبد مطلقا، ينصرف إلى نصيبه. أم يشيع؟ فيه وجهان مذكوران في
كتاب العتق. فإن قلنا: ينصرف إلى نصيبه، صح، وإلا فيبطل في ثلاثة أرباع
العبد. وفي ربعه قولا تفريق الصفقة. ولا ينظر إلى هذا البناء إذا باع المالكان معا،
وأطلقا. ولا يجعل كما لو أطلق كل واحد بيع نصف العبد، لان هناك تناول العقد
الصحيح جميع العبد. وهذان الفرعان، غير مختصين بباب الشركة، لك ذكرهما
الأصحاب هنا.
قلت: هذه مسائل منثورة.
إحداها: يستحب اشتراك المسافرين في الزاد مجلسا مجلسا، نص عليه
أصحابنا، وصحت فيه الأحاديث (والله أعلم). وترك بياضا في الأصل.
521

كتاب الوكالة
فيه ثلاثة أبواب.
الباب الأول في أركانها
وهي أربعة.
الأول: ما فيه التوكيل. وله شروط.
الأول: أن يكون مملوكا له.
فلو وكله في طلاق من سينكحها، أو بيع عبد سيملكه، أو إعتاق من
سيملكه، أو قضاء دين سيلزمه، أو تزويج بنته إذا انقضت عدتها أو طلقها زوجها،
وما أشبه ذلك، لم يصح على الأصح.
522

الشرط الثاني: أن يكون قابلا للنيابة.
والذي يفرض فيه النيابة، أنواع.
منها العبادات. والأصل، امتناع النيابة فيها
ويستثنى الحج، والزكاة، والكفارات، والصدقات، وذبح الهدي،
والأضحية، وركعتا الطواف من الأجير.
وفيهما كلام يأتي في الوصايا إن شاء الله تعالى. وفي صوم الولي عن الميت،
خلاف سبق في موضعه. وألحق بالعبادات، الشهادات، والايمان. ومن الايمان:
الايلاء، واللعان والقسامة، فلا يصح التوكيل في شئ منها قطعا، ولا في الظهار
على الأصح. وفي معنى الايمان، النذور، وتعليق الطلاق، والعتق، وكذا التدبير
على المذهب. وقيل: إن قلنا: إنه وصية، جاز. ومنها، المعاملات، فيجوز
التوكيل في طرفي البيع بأنواعه، كالسلم، والصرف، والتولية، وغيرها، وفي
الرهن، والهبة، والصلح، والابراء، والحوالة، والضمان والكفالة، والشركة،
والمضاربة، والإجارة، والجعالة، والمساقاة، والايداع، والإعارة، والاخذ
523

بالشفعة، والوقف، والوصية، وقبولها. وفي وجه شاذ: لا يجوز التوكيل في
الوصية، لأنها قربة. ويجوز التوكيل في طرفي النكاح والخلع، وفي تنجيز الطلاق
والأعناق والكتابة ونحوها. ويجوز في الرجعة على الأصح. ولو أسلم على أكثر من
أربع نسوة، فوكل بالاختيار، أو طلق إحدى امرأتيه، أو أعتق أحد عبديه، ووكل
بالتعيين، لم يصح.
قلت: لو أشار إلى واحدة وقال: وكلتك في تعيين هذه للطلاق، أو النكاح،
أو أشار إلى أربع من المسلمات، فقال: وكلتك في تعيين النكاح فيهن، فهو
كالتوكيل في الرجعة، فيصح على الصحيح، قاله في التتمة. والله أعلم.
ويجوز التوكيل في الإقالة وسائر الفسوخ، لكن ما هو على الفور، قد يكون
التأخير بالتوكيل فيه تقصيرا. وفي التوكيل في خيار الرؤية، خلاف سبق. ويجوز
التوكيل في قبض الأموال، مضمونة كانت أو غيرها، وفي قبض الديون
وإقباضها، ومنها: الجزية، يجوز في قبضها وإقباضها. وفي وجه: يمتنع توكيل
الذمي مسلما فيها.
قلت: قال أصحابنا: ويجوز توكيل أصناف الزكاة في قبضها لهم. والله
أعلم.
ومنها: المعاصي، كالقتل، والسرقة، والغصب، والقذف، فلا مدخل
للتوكيل فيها، بل أحكامها تثبت في حق مرتكبها، لان كل شخص بعينه مقصود
بالامتناع منها.
فرع في التوكيل في تملك المباحات، كاحياء الموات، والاحتطاب،
والاصطياد، والاستقاء، وجهان. أصحهما: الجواز. فيحصل الملك للموكل
524

إذا قصده الوكيل له، لأنه أحد أسباب الملك، فأشبه الشراء.
قلت: هكذا حكاهما وجهين تقليدا لبعض الخراسانيين، وهما قولان
مشهوران. والله أعلم
. ولو استأجره ليحتطب له، أو ليستقي، قال في التهذيب: هو على
الوجهين. وبالمنع أجاب ابن كج. وقطع الامام بالجواز، وقاس عليه وجه جواز
التوكيل.
قلت: الأصح: قوله في التهذيب. وسلك الجرجاني في كتابه
التحرير طريقة أخرى فقال: يجوز التوكيل في الاحتطاب ونحوه بأجرة، وفي
جوازه بغيرها وجهان. ولا يجوز في إحياء الموات بلا أجرة، ويجوز بأجرة على
الأصح. والله أعلم.
فرع التوكيل بالاقرار، صورته أن يقول: وكلتك لتقر عني لفلان بكذا،
وفيه وجهان. أصحهما عند الأكثرين: لا يصح، لأنه خبر، فأشبه الشهادة.
فعلى هذا، هل يجعل مقرا بنفس التوكيل؟ وجهان. أحدهما: نعم، قاله ابن
القاص، واختاره الامام. وأصحهما عند البغوي: لا، كما أن التوكيل بالابراء لا
يكون إبراء.
قلت: قول ابن القاص أصح عند الأكثرين. وإذا صححنا التوكيل، لم يلزمه
شئ قبل إقرار التوكيل على الصحيح الذي قطع به الجمهور، وفي الحاوي
والمستظهري وجه: أنه يلزمه بنفس التوكيل. والله أعلم.
وإذا صححنا التوكيل، فينبغي أن يبين الوكيل جنس المقر به وقدره. فلو
525

قال: أقر عني لفلان بشئ، فأقر، أخذ الوكيل بتفسيره. ولو اقتصر على قوله: أقر
عني لفلان، فوجهان. أحدهما: هو كقوله: أقر عني بشئ. وأصحهما: لا يلزمه
شئ بحال، لاحتمال أنه يريد الاقرار بعلم أو شجاعة، لا بمال.
قلت: ولو قال: أقر عني لفلان بألف له علي، فهو إقرار بلا خلاف، صرح
به الجرجاني وغيره. والله أعلم.
فرع للمدعي والمدعى عليه التوكيل في الخصومة، رضي الخصم أم لم
يرض، وليس لصاحبه الامتناع من مخاصمة الوكيل، سواء كان للموكل عذر، أم
لا، وسواء كان المطلوب بالتوكيل في الخصومة مالا، أو عقوبة لآدمي، كالقصاص
وحد القذف. وأما حدود الله تعالى، فلا يجوز التوكيل في إثباتها، لأنها مبنية على ا
لدرء.
فرع يجوز التوكيل في استيفاء حدود الله تعالى للامام، وللسيد في حد
مملوكه، ويجوز للوكيل استيفاء عقوبات الآدميين بحضرة المستحق.
وفي غيبته، طرق. أشهرها على قولين. أظهرهما: الجواز.
والطريق الثاني: الجواز قطعا. والثالث: المنع قطعا.
قلت: قال ابن الصباغ: ولا يصح التوكيل في الالتقاط قطعا، كما لا يجوز
في الاغتنام. فإن التقط، أو غنم، كان له دون الموكل. قال صاحب البيان:
ينبغي أن يكون الالتقاط على الخلاف في تملك المباحات. وما قاله ابن الصباغ،
أقوى. ولو اصطرف رجلان، فأراد أحدهما أن يفارق المجلس قبل القبض، فوكل
526

وكيلا في ملازمة المجلس، لم يصح، وينفسخ العقد بمفارقة الموكل، لان التنفيذ
منوط بملازمة العاقد. فلو مات العاقد، فهل يقوم وارثه مقامه في القبض ليبقى
العقد؟ فيه وجهان حكاهما الامام والغزالي في البسيط بناء على بقاء خيار
المجلس. والله أعلم.
الشرط الثالث: أن يكون ما وكل فيه معلوما من بعض الوجوه، بحيث لا يعظم
الغرر. وسواء كانت الوكالة عامة أو خاصة. أما العامة ففيها طريقة لإمام الحرمين
والغزالي، وطريقة للأصحاب. فأما طريقتهما، فقالا: لو قال: وكلتك في كل
قليل وكثير، فباطلة. وإن ذكر الأمور المتعلقة به مفصلة، فقال: وكلتك في بيع
أملاكي، وتطليق زوجاتي، وإعتاق عبيدي، صح توكيله. ولو قال: وكلتك في كل
أمر هو إلي مما يقبل التوكيل، ولم يفصل أجناس التصرفات، فوجهان. أصحهما:
البطلان. وأما طريقة سائر الأصحاب، فقالوا: لو قال: وكلتك في كل قليل
وكثير، أو في كل أموري، أو في جميع حقوقي، أو في كل قليل وكثير أموري،
أو فوضت إليك جميع الأشياء، أو أنت وكيلي فتصرف في مالي كيف شئت، لم
تصح الوكالة. قالوا: ولو قال: وكلتك في بيع أموالي، أو استيفاء ديوني، أو
استرداد ودائعي، أو إعتاق عبيدي، صحت، وهذه الطريقة هي الصحيحة نقلا
ومعنى، وقد نص (عليها) الشافعي رضي الله عنه. وأما الوكالة الخاصة، ففيها صور.
إحداها: لو وكله في بيع جميع أمواله، أو قضاء ديونه واستيفائها، صح
قطعا. ولا يشترط كون أمواله معلومة على الصحيح. وكلام البغوي، يقتضي
اشتراطه. وفي فتاوى القفال: لو قال: وكلتك في استيفاء ديوني على الناس، جاز
وإن كان لا يعرف من عليه الدين، وأنه واحد أو جماعة كثيرة، وأي جنس ذلك
الدين. أما إذا قال: بع بعض مالي، أو طائفة منه، أو سهما، فلا يصح، لجهالته
527

من الجملة. وكأن الشرط أن يكون الموكل فيه معلوما أو يسهل علمه. ولو قال: بع
ما شئت من مالي، أو اقبض ما شئت من ديوني، جاز، ذكراه في المهذب
والتهذيب. وفي الحلية ما يخالفه، فإنه قال: لو قال: بع من رأيت من
عبيدي، لم يصح حتى يميز.
قلت: هذا المذكور عن المهذب هو الصحيح المعروف. قال في
التهذيب: ولا يجوز أن يبيع الكل إلا أن يقبض الكل. وأما قول صاحب
الحلية، ففي البيان أيضا عن ابن الصباغ نحوه، فإنه قال: لو قال: بع ما
تراه من مالي، لم يجز. ولو قال: ما تراه من عبيدي، جاز، وكلاهما شاذ
ضعيف. وهذا النقل عن الحلية، إن كان المراد به الحلية للروياني فغلط،
فإن الذي في حلية الروياني: لو قال: بع من عبيدي هؤلاء الثلاثة من رأيت،
جاز، ولا يبيع الجميع، لان من للتبعيض.
ولو وكله أن يزوجه من شاء، جاز، ذكره القاضي أبو حامد، وهذا لفظ
الروياني في الحلية بحروفه. وقد صرح إمام الحرمين، والغزالي في البسيط
بأنه إذا قال: بع من شئت من عبيدي، يبيع جميعهم، لان من للتبعيض. فلو
باعهم إلا واحدا، جاز، قال أصحابنا: لو قال: بع هذا العبد، أو هذا، لم
يصح. ولو وكله ليهب من ماله ما يرى، قال في الحاوي: لا يصح. وقياس ما
سبق، أنه يصح. والله أعلم.
الثانية: التوكيل في الشراء.
ولا يكفي فيه أن يقول: اشتر لي شيئا، أو حيوانا، أو رقيقا، بل يشترط أن
يبين أنه عبد أو أمة. والنوع، كالتركي والهندي وغيرهما. ولا يشترط استقصاء
528

أوصاف السلم، ولا ما يقرب منها بلا خلاف. فإن اختلفت أصناف نوع اختلافا
ظاهرا، قال الشيخ أبو محمد: لا بد من التعرض للصنف. وأما الثمن، فلا يشترط
بيان قدره على الأصح. وعلى الثاني: يشترط بيان قدره أو غايته، بأن يقول: من
مائة إلى ألف. وحكى صاحب التقريب وجها: أنه يصح التوكيل بشراء عبد
مطلقا، وهذا لوجه، ضعيف جدا. وإذا طرد في قوله: اشتر شيئا، كان أبعد.
قلت: ذكر فالبسيط ترددا في قوله: اشتر شيئا تفريعا على هذا الوجه.
والله أعلم.
ولو قال: اشتر لي عبدا كما تشاء، فقيل: يصح، كما لو قال في القراض:
اشتر من شئت من العبيد. والصحيح الذي عليه الأكثرون: لا يصح.
والفرق، أن المقصود هناك الربح، والعامل أعرف به. ولو وكله في شراء
دار، يشترط ذكر المحلة والسكة. وفي الحانوت يذكر السوق، وعلى هذا
القياس.
قلت: وفي ذكر الثمن، الوجهان. والله أعلم.
الثالثة: التوكيل في الابراء، يشترط فيه علم الموكل إذا قلنا بالأظهر: إنه لا
يصح الابراء عن المجهول كما سبق في كتاب الضمان. ولا يشترط علم الوكيل
على الأصح، وبه قطع القاضي والغزالي. وفي المهذب والتهذيب:
اشتراط علمه بجنسه وقدره كما لو قال: (بع) بما باع به فلان فرسه، فإنه يشترط لصحة
البيع علم الوكيل دون الموكل. ولا يشترط في الابراء علم من عليه الحق على
الصحيح، والخلاف فيه مبني على ما سبق أن الابراء إسقاط أو تمليك. فإن قلنا:
تمليك، اشترط علمه كالمتهب، وإلا، فلا. ثم إن كانت صيغته: أبرئ فلانا عن
ديني، أبرأه عن جميعه. وإن قال: عن شئ منه، أبرأه عن قليل منه. وإن قال:
عما شئت، أبرأه عما شاء، وأبقى شيئا.
529

قلت: قوله: أبرئه عن قليل منه، يعني أقل ما ينطلق عليه اسم الشئ، كذا
صرح به في التتمة، وهو واضح. ولو قال: أبرئه عن جميعه، فأبرأ عن
بعضه، جاز، بخلاف ما لو باع بعض ما أمره ببيعه. والله أعلم.
الرابعة: قال: وكلتك في مخاصمة خصماي، وأطلق، صح على الأصح
وصار وكيلا فجميع الخصومات. وقيل: يشترط تعيين من يخاصمه، لاختلاف الغرض به.
الركن الثاني: الموكل.
تشترط فيه صحة مباشرته بملك أو ولاية، فيخرج منه الصبي،
والمجنون، والمغمى عليه، والنائم، والمرأة في التزويج، والفاسق في
تزويج بنته إذا لم نجعله وليا. وأما السكران، فتوكيله كسائر تصرفاته، ويدخل فيه
توكيل الأب والجد في التزويج والمال. وأما الأخ والعم وغيرهما مما لا يجبر، ففي
توكيلهم في التزويج وجهان يذكران في النكاح إن شاء الله تعالى. وأما الوكيل في
البيع ونحوه، فلا يملك التوكيل إلا إذا أذن له الموكل، أو دلت عليه قرينة. وسيأتي
تفصيله إن شاء الله تعالى. وفي معناه، توكيل العبد المأذون. وأما المحجور عليه
بسفه، أو فلس، أو رق، فيجوز توكيله فيما يستقل به من التصرفات، ولا يجوز
فيما لا يستقل به إلا بعد إذن الولي، والمولى، والغريم. ومن جوز التوكيل في بيع
530

عبد سيملكه، فقياسه جواز توكيل المحجور عليه فيما سيأذن فيه الولي، ولم يتعرض
له.
قلت: قد يمكن الفرق، بأن الخلل هناك في عبارة المحجور عليه.
والله أعلم.
ويستثنى مما سبق، بيع الأعمى، وشراؤه. فإنه يصح التوكيل فيه، وإن لم
يصح من الأعمى للضرورة.
قلت: قال في الحاوي: للأب والوصي والقيم أن يوكل في بيع مال
531

الطفل، إن شاء عن نفسه، وإن شاء عن الطفل. وفي جوازه عن الطفل، نظر.
والله أعلم.
الركن الثالث: الوكيل.
وشرطه صحة مباشرته ذلك الشئ لنفسه، بأن يكون صحيح العبارة فيه،
فلا يصح توكيل الصبي والمجنون في التصرفات. وفي جواز اعتماد قول الصبي في الاذن
في دخول الدار والملك عند إيصاله الهدية وجهان، وسبقا في البيع. فإن
جوزناه، فهو وكالة من الآذن والمهدي. وعلى هذا، لو وكل الصبي فيه غيره،
فالقياس تخريجه على الخلا ف. والتفصيل في أن الوكيل، هل يوكل؟ فإن جاز،
صار الصبي أهلا للتوكيل، ولا يصح كون المرأة والمحرم وكيلين في النكاح.
وفي توكيل العبد في الشراء ونحوه، وجهان سبقا في باب مداينة العبيد. وفي توكيله
في قبول النكاح بغير إذن سيده، وجهان. أصحهما: الجواز.
قلت: وفي توكيله فيه بإذن السيد أيضا، وجهان في الشامل والبيان،
وقطعا بالمنع بغير إذنه، والمختار الجواز مطلقا. والله أعلم.
وفي توكيله في الايجاب وجهان. أصحهما: المنع، لأنه لا يزوج بنته،
فبنت غيره أولى، كذا صححه الجمهور، وقطع به جماعة. وتوكيل المحجوز عليه
لسفه في طرفي النكاح، كتوكيل العبد. والفاسق في الايجاب إذا سلبناه الولاية،
كالعبد، وفي القبول يصح قطعا. والمحجوز عليه لفلس، يوكل فيما لا يلزم ذمته
532

عهدة قطعا، وفيما يلزمها أيضا على الأصح، كما يصح شراؤه على الصحيح.
فرع يصح توكيل المرأة في طلاق غيرها على الأصح، كما يصح أن
يفوض إليها طلاق نفسها. قال في التتمة: ولا يصح توكيلها في رجعة نفسها،
ولا رجعة غيرها، لان الفرج لا يستباح بقول النساء. ولا يصح توكيلها في الاختيار
في النكاح إذا أسلم على أكثر من أربع نسوة. وفي الاختيار للفراق وجهان، لأنه
يتضمن اختيار الأربع للنكاح.
قلت: الأصح: لا يصح. والله أعلم.
فرع توكيل المرتد في التصرفات المالية، يبنى على بقاء ملكه وزواله. إن
أبقيناه، صح، وإن قطعناه، فلا، وإن وقفناه، فكذا التوكيل. ولو وكل، ثم
ارتد، ففي انقطاع التوكيل، الأقوال الثلاثة. ولو وكل رجل مرتدا، أو ارتد الوكيل،
لم يقدح في الوكالة، لان الخلاف في تصرفه لنفسه، لا لغيره، كذا نقل الأصحاب
عن ابن سريج. وفي التتمة: أنه مبني على أنه يصير محجورا عليه، إن قلنا:
نعم، انعزل، وإلا، فلا.
قلت: ولو وكل المسلم كافرا ليقبل له نكاح مسلمة، لا يصح. ولو وكله في
قبول كتابية، صح. وإن وكله في طلاق مسلمة، فوجهان، لأنه لا يملك طلاق
مسلمة، لكن يملك طلاقا في الجملة. وللمكاتب أن يوكل غيره في البيع والشراء
وسائر التصرفات التي تصح منه، ولا يملك التوكيل في التبرع بغير إذن سيده. وبإذنه
قولان، بناء على صحته بإذنه. ولو وكل رجل مكاتبا بجعل يفي بأجرته، جاز.
وبغير جعل، له حكم تبرعه. والله أعلم.
الركن الرابع: الصيغة. فيه مسائل.
الأولى: لا بد من جهة الموكل من لفظ دال على الرضى، كقوله: وكلتك في
533

كذا، أو فوضته إليك، أو أنبتك فيه، وما أشبهه. ومثله: بع أو أعتق
ونحوهما. وأما القبول، فيطلق بمعنيين. أحدهما: الرضى والرغبة فيما فوض
إليه، ونقيضه الرد. والثاني: اللفظ الدال عليه على النحو المعتبر في البيع وسائر
المعاملات. ويعتبر في الوكالة القبول بالمعنى الأول. حتى لو رد فقال: لا
أقبل، أو لا أفعل، بطلت الوكالة. فلو رد ثم ندم، وأراد أن يفعل، لم يجز، بل
لا بد من إذن جديد، لان الوكالة جائزة، ترتفع في الدوام بالفسخ، فارتدادها بالرد
في الابتداء أولى. وأما المعنى الثاني وهو القبول لفظا، ففيه أوجه. أصحها: لا
يشترط. والثاني: يشترط. والثالث: إن أتى بصيغة عقد، ك‍: وكلتك، وفوضت
إليك، اشترط. وإن أتى بصيغة أمر، نحو: بع، واشتر، لم يشترط. فإن شرطنا
القبول لفظا، فهل يشترط على الفور كالبيع، أم في المجلس وإن طال؟ أم يجوز
أبدا وإن فارق المجلس، كالوصية؟ فيه أوجه، الصحيح: الثالث. وأما القبول
بالمعنى الأول، فلا يشترط فيه التعجيل بحال بلا خلاف. وإذا لم نشرط القبول،
فوكله، والوكيل لا يعلم، ثبتت وكالته على الأصح. فعلى هذا لو تصرف الوكيل
قبل العلم بالوكالة، ثم بان وكيلا، ففي صحة تصرفه الخلاف السابق فيمن باع مال
أبيه يظنه حيا، فبان ميتا. وإن لم نثبت الوكالة، فهل نحكم بنفوذها حالة بلوغ
الخبر؟ وجهان.
فرع حيث لا نشترط القبول، تكفي الكتابة والرسالة، ونجعله مأذونا في
التصرف. وحيث شرطنا، فحكمه كما لو كتب بالبيع، وقطع الروياني في الوكالة
بالجواز.
قلت: قطع الماوردي أيضا، وكثيرون بالجواز وهو الصواب. والله أعلم.
فرع إذا شرطنا القبول، فقال: وكلني في كذا، فقال: وكلتك، فهل
يكفي، أم لا بد من قبول بعده؟ فيه الخلاف السابق في البيع ونحوه. ثم قيل:
534

الوكالة أحوج إلى الاشتراط، لأنها ضعيفة، ولو قيل: عكسه، لان الوكالة يحتمل
فيها ما لا يحتمل في البيع، لكان أقرب.
المسألة الثانية: إذا علق الوكالة بشرط، فقال: إذا قدم زيد، أو جاء رأس
الشهر، فقد وكلتك في كذا، أو أنت وكيلي، لم يصح على الأصح. فلو نجز
الوكالة وشرط للتصرف شرطا، بأن قال: وكلتك الآن في بيع هذا العبد، ولكن لا
تبعه حتى يجئ رأس الشهر، صح التوكيل بلا خلاف، ولا يبيعه إلا إذا حصل
الشرط. وإذا أفسدنا الوكالة بالتعليق، فتصرف الوكيل بعد حصول الشرط، صح
تصرفه على الأصح، لحصول الاذن. وإن كان العقد فاسدا كما لو شرط للوكيل
جعلا مجهولا، بأن قال: بع كذا ولك عشر ثمنه، تفسد الوكالة، ويصح البيع.
فعلى هذا، فائدة فساد الوكالة سقوط الجعل المسمى إن كان، والرجوع إلى أجرة
المثل، كما أن الشرط الفاسد في النكاح يفسد الصداق، ويوجب مهر المثل، ولا
يؤثر في صحة النكاح.
فرع لو قال: وكلتك، ومتى عزلتك فأنت وكيلي، ففي صحة الوكالة في
الحال، وجهان. أصحهما: الصحة. فإذا قلنا بالصحة، أو كان قوله: متى
535

عزلتك، مفصولا عن الوكالة، فعزله، نظر، إن لم يعلم به الوكيل، واعتبرنا علمه
في نفوذ العزل، فهو على وكالته. وإن لم نعتبره، أو كان عالما به، ففي عوده وكيلا
بعد العزل وجهان بناء على تعليق الوكالة، لأنه علق الوكالة ثانيا على العزل،
أصحهما: المنع. فإن قلنا: يعود، نظر في اللفظ الموصول بالعزل. فإن كان
قال: إذا عزلتك، أو مهما، أو متى، لم يقتض ذلك عود الوكالة إلا مرة واحدة.
وإن قال: كلما عزلتك، اقتضى العود مرة بعد مرة أبدا، لان كلما للتكرار. فإن
أراد أن لا يعود وكيلا، فطريقه أن يوكل غيره في عزله، فينعزل، لان المعلق عليه
عزل نفسه. فإن كان قال: كلما عزلتك، أو عزلك أحد عني، فطريقه أن يقول:
كلما عدت وكيلا، فأنت معزول. فإذا عزله، ينعزل لتقاوم التوكيل والعزل،
واعتضاد العزل بالأصل، وهو الحجر في حق الغير.
والخلاف في قبول الوكالة التعليق، جار في أن العزل هل يقبله، ولكن
بالترتيب؟ والعزل أولى بقبوله، لأنه لا يشترط فيه قبول قطعا. وتصحيح إدارة
الوكالة والعزل جميعا، مبني على قبولهما التعليق. قال الامام: وإذا نفذنا العزل،
وقلنا: تعود الوكالة، فلا شك أن العزل ينفذ في وقت وإن لطف، ثم ترتب عليه
الوكالة. فلو صادف تصرف الوكيل ذلك الوقت اللطيف، ففي نفوذ تصرفه وجهان.
المسألة الثالثة: تصح الوكالة الموقتة، كقولك: وكلتك إلى شهر رمضان.
الباب الثاني في أحكام الوكالة الصحيحة
وهي أربعة.
الأول: صحة تصرف الوكيل إذا وافق، والموافقة والمخالفة تعرفان بالنظر إلى
اللفظ تارة، وبالقرائن أخرى. فإن القرينة قد تقوى، فيترك لها إطلاق اللفظ. ولهذا
لو أمره في الصيف بشراء الجمد، لا يشتريه في الشتاء. وقد يتعادل اللفظ والقرينة،
ويحصل من تعادلهما خلاف في المسألة. وهذا القول الجملي، نوضحه بصور
536

تعرف بها أخواتها.
إحداها: وكله في بيع شئ وأطلق، لا يصح بيعه بغير نقد البلد، ولا بثمن
مؤجل، ولا بغبن فاحش على المشهور. وفي قول: يصح كل ذلك موقوفا على
إجازة الموكل، وهذا هو القول المنقول في بيع الفضولي، والصواب: الأول،
وعليه التفريع. فلو كان في البلد نقدان، لزمه البيع بأغلبهما. فإن استويا في
المعاملة، باع بأنفعهما للموكل. فإن استويا، تخير فيهما على الصحيح. وفي
وجه: لا يصح الوكيل حتى يبين. ثم إذا باع الوكيل على أحد الأوصاف الممنوعة،
لم يصر ضامنا للمبيع ما لم يسلمه إلى المشتري. فإذا سلم، ضمن. ثم القول فيه
إذا كان المبيع باقيا، أو تالفا. وفي كيفية تغريم الموكل الوكيل والمشتري على ما
بيناه فيما إذا باع العدل الرهن بغبن فاحش أو بغير نقد البلد، أو بنسيئة. فأما بيع
الوكيل بغبن يسير، فجائز. واليسير هو الذي يتغابن الناس به ويحتملونه غالبا. وبيع
ما يساوي عشرة بتسعة، متحمل. وبثمانية غير متحمل قال الروياني: ويختلف
القدر المتحمل باختلاف أجناس الثياب من الثياب والعبيد والعقار وغيرها.
فرع لا يجوز للوكيل أن يقتصر على البيع بثمن المثل وهناك طالب بزيادة.
فلو باع بثمن المثل، ثم حضر المجلس طالب بزيادة، فالحكم على ما سبق في
عدل الرهن.
فرع لو قال الموكل: بعه بكم شئت، فله البيع بالغبن الفاحش، ولا
يجوز بالنسيئة، ولا بغير نقد البلد. ولو قال: بما شئت، فله البيع بغير النقد، ولا
537

يجوز بالغبن، ولا بالنسيئة. ولو قال: كيف شئت، فله البيع بالنسيئة. ولا يجوز
بالغبن، ولا بغير نقد البلد، وعن القاضي حسين، جواز الجميع. ولو قال: بعه
بما عز وهان، قال في التتمة: هو كقوله: بكم شئت. وقال العبادي: له البيع
بالعرض والغبن، ولا يجوز بالنسيئة، وهو الأولى.
فرع الوكيل بالبيع مطلقا، هل يجوز بيعه لأبيه وابنه وسائر أصوله وفروعه؟
وجهان. أصحهما: الجواز، كما لو باع صديقه، وكالعم يزوج موليته لابنه البالغ
إذا أطلقت الاذن، وقلنا: لا يشترط تعيين الزوج، فإنه يصح قطعا. ويجري
الوجهان في البيع للزوج والزوجة إذا قلنا: لا تقبل شهادته له، أو فيما لو باع
لمكاتبه، والوجهان في الفروع المستقلين. أما ابنه الصغير، فلا يصح البيع له
مطلقا. وكذا لا يبيع من نفسه على الصحيح المعروف. وعن الإصطخري،
جوازه. فعلى الصحيح: لو صرح في الاذن في بيعه لنفسه، فوجهان. قال ابن
سريج: يصح. وقال الأكثرون: لا يصح. ولو أذن في بيعه لابنه الصغير، قال في
التتمة: هو على هذا الخلاف. وقال البغوي: وجب أن يجوز. ويجري
الوجهان فيما لو وكله في الهبة لنفسه، أو تزويج بنته لنفسه. وفي تولي ابن العم
طرفي النكاح، أن يتزوج بنت عمه بإذنها وهو وليها، والنكاح أولى بالمنع. وفيما لو
وكل مستحق الدين المدين باستيفائه من نفسه، أو وكل مستحق القصاص الجاني
باستيفائه من نفسه في النفس أو الطرف، أو وكل الامام السارق في قطع يده، أو
وكل الزاني ليجلد نفسه. والصحيح: المنع في كل ذلك، وطردوهما في الوكيل في
الخصومة من الجانبين، والأصح: المنع. فعلى هذا يتخير ويخاصم لأيهما شاء.
ولو توكل في طرفي النكاح أو البيع، فعلى الوجهين. وقيل بالمنع قطعا. ولو وكل
538

من عليه الدين في إبراء نفسه، فقيل على الوجهين. وقيل: يجوز قطعا، وهو بناء
على اشتراط القبول في الابراء. فإن اشترطناه، جرى الوجهان، وإلا فيجوز قطعا،
كما لو وكل من عليه القصاص في العفو، والعبد في إعتاق نفسه. والوكيل في الشراء
كالوكيل في البيع في أنه لا يشتري من نفسه، ولا مال ابنه الصغير. وفي ابنه
الكبير، الوجهان في سائر الصور.
قلت: وإذا وكل الابن الكبير أباه في بيع، لم يجز أن يبيع لنفسه على
الأصح. وحكى في الحاوي وجها: أنه يجوز تغليبا للأبوة، كما لو كان في
حجره. والله أعلم.
فرع إذا أذن في البيع مؤجلا، نظر. إن قدر الأجل، صح التوكيل.
وإن أطلق، فوجهان. أحدهما: لا يصح، لاختلاف الغرض. وأصحهما:
يصح. وفيما يحمل عليه، أوجه. أصحها: أنه ينظر إلى المتعارف في مثله. فإن
لم يكن فيه عرف، راعى الأنفع. والثاني. له التأجيل إلى ما شاء. والثالث: إلى
سنة.
الصورة الثانية: في قبض الثمن، وإقباض المبيع. فإذا وكله بالبيع مطلقا،
فهل يملك الوكيل قبض الثمن؟ وجهان. أحدهما: لا، لأنه لم يأذن فيه، وقد
يرضاه للبيع، ولا يرضاه لقبض الثمن. وأصحهما: نعم، لأنه من توابع البيع
ومقتضياته. وهل يملك تسليم المبيع إذا كان معه؟ أشار كثيرون إلى الجزم
بجوازه. وقال الشيخ أبو علي: هو على الوجهين في قبض الثمن. ولو صرح
539

بهما، لم يملك التسليم ما لم يقبض الثمن، وعلى هذا جرى صاحب التهذيب
وغيره.
قلت: الأصح: جواز تسليمه، ولكن بعد قبض الثمن. فهذا هو الراجح في
الدليل، وفي النقل أيضا، وقد صححه الرافعي في المحرر. والله أعلم.
والوكيل في الصرف، يملك القبض والاقباض بلا خلاف، لأنه شرط في
صحة العقد، وكذلك في السلم يدفع وكيل المسلم رأس المال، ويقبضه وكيل
المسلم إليه قطعا.
فرع إذا باع الوكيل بمؤجل حيث يجوز، سلم المبيع على المذهب، إذ
لا حبس بالمؤجل، ويجئ وجه مما ذكره أبو علي: أنه لا يسلم، إذ لم يفوض
إليه. ثم إذا حل الأجل، لا يملك الوكيل قبض الثمن إلا بإذن مستأنف. وإذا باع
بحال، وجوزنا قبض الثمن، لم يسلم المبيع حتى يقبضه كما لو أذن فيهما صريحا،
وله مطالبة المشتري بتسليم الثمن. وإذا لم نجوز له القبض، فلا تجوز له المطالبة،
وللموكل المطالبة بالثمن على كل حال. ولو منعه من قبض الثمن، لم يجز قبضه
قطعا. ولو منعه من تسليم المبيع، فكذلك عند الشيخ أبي علي. وقال آخرون:
هذا الشرط فاسد، فإن التسليم مستحق بالعقد. وفي فساد الوكالة به وجهان.
أحدهما: تفسد، ويسقط الجعل المسمى، فيرجع بأجرة المثل. والصواب أن
يقال: المسألة مبنية على أن في صورة الاطلاق، هل للوكيل التسليم، أم لا؟ إن
قلنا: لا، فعند المنع أولى، وإن قلنا: نعم، فذلك من توابع العقد وتتماته،
لا لان تسليمه مستحق بالعقد، فإن المستحق هو التسليم، لا تسليمه بعينه، والممنوع
منه تسليمه. فلو قال: امنع المبيع منه، فهذا شرط فاسد، لان منع الحق عمن
540

يستحق، وإثبات يده عليه، حرام. وفرق بين قوله: لا تسلمه إليه، وقوله: أمسكه
أو امنعه.
فرع الوكيل بالشراء، إن لم يسلم الموكل إليه الثمن، واشترى في
الذمة، فسيأتي الكلام - في أن المطالبة بالثمن، على من تتوجه؟ - في الحكم (من
الباب) الثاني إن شاء الله تعالى. وإن سلمه إليه واشترى بعينه، أو في الذمة، فهل
يملك تسليم الثمن وقبض المبيع بمجرد الاذن في الشراء؟ قال في التتمة
والتهذيب: فيه الخلاف السابق في وكيل البائع، وجزم الغزالي بالجواز، فإن
العرف يقتضيه.
قلت: الصحيح: القطع بالجواز، وهو الذي جزم به صاحب الحاوي
والأكثرون. وقال صاحب الشامل: يسلم الثمن قطعا، ويقبض المبيع على
الأصح، ففرق بينهما. والله أعلم.
فرع إذا سلم المشتري الثمن إلى الموكل أو الوكيل حيث يجوز قبضه،
لزم الوكيل تسليم المبيع وإن لم يأذن الموكل فيه، لان الثمن إذا قبض صار دفع
المبيع مستحقا، وللمشتري الانفراد بأخذه. فإن أخذه المشتري، فذاك، وإن
سلمه الوكيل، فالامر محمول على أخذ المشتري، فلا حكم للتسليم.
فرع ذكرنا أن الوكيل لا يسلم المبيع قبل قبض الثمن. فلو فعل، غرم
للموكل قيمته إن كانت القيمة والثمن سواء، أو كان الثمن أكثر. فإن كانت القيمة
أكثر، بأن باعه بغبن محتمل، فهل يغرم جميع القيمة، أم يحط قدر الغبن؟
وجهان. أصحهما: أولهما. فإن باعه بغبن فاحش بإذن الموكل، فقياس الوجه
الثاني: أن لا يغرم إلا قدر الثمن، ثم إذا قبض الوكيل الثمن بعدما غرم، دفعه إلى
الموكل، واسترد المغروم.
فرع الوكيل باستيفاء الحق، هل يثبته، أو باثباته، هل يستوفيه عينا كان أو
دينا؟ فيه أوجه. أصحها: لا. والثاني: نعم. والثالث: يثبت ولا يستوفي. فلو
كان الحق قصاصا أو حدا، لم يستوفه على المذهب. وقال ابن خيران: على
الوجهين.
541

الصورة الثالثة: في شرائه المعيب. فللوكيل بالشراء حالان.
أحدهما: أن يوكل في شراء موصوف، فلا يشتري إلا سليما، فإن اشترى
معيبا، نظر، إن كان مع العيب يساوي ما اشتراه به، فإن جهل العيب، وقع عن
الموكل، وإن علمه، فأوجه. أصحها: لا يقع عنه، لان الاطلاق يقتضي سليما.
والثاني: يقع. والثالث: إن كان عبدا يجزئ في الكفارة، وقع عنه، وإلا، فلا،
إلا أن يكون كافرا، فإنه يجوز للوكيل شراؤه. وإن لم يساو ما اشتراه (به)، فإن علم،
لم يقع عن الموكل، وإن جهل، وقع عنه على الأصح عند الأكثرين، كما لو
اشتراه بنفسه جاهلا. وحيث قلنا بوقوعه عن الموكل، فإن كان جاهلا، فللموكل
الرد قطعا، وكذا للوكيل على الصحيح. وعن ابن سريج: أنه لا ينفرد بالرد. وإن
كان الوكيل عالما، فلا رد له، وللموكل الرد على الأصح. فعلى هذا، هل ينتقل
الملك إلى الوكيل، أم ينفسخ العقد من أصله؟ وجهان. فمن قال بالانتقال، كأنه
يقول: ينعقد موقوفا حتى يتبين الحال، وإلا، فيستحيل ارتداد الملك من
الموكل إلى الوكيل، قاله الامام. وهذا الخلاف، تفريع على وقوعه للموكل مع علم
الوكيل، وهو خلاف ظاهر المذهب.
الحال الثاني: أن يكون وكيلا في شراء معين. فإن لم ينفرد الوكيل في الحال
الأول بالرد، فهنا أولى، وإلا، فوجهان. الأصح المنصوص: الجواز، لأن الظاهر
أنه يريده بشرط السلامة. ولم يذكروا في هذا الحال، متى يقع عن الموكل، ومتى
لا يقع؟ والقياس: أنه كما سبق في الحال الأول. لكن لو كان المبيع معيبا يساوي
ما اشتراه به وهو عالم، فايقاعه عن الموكل هنا أولى، لجواز تعلق الغرض بعينه.
وكل ما ذكرناه في الحالين، فيما إذا اشترى في الذمة. أما إذا اشترى بعين مال
الموكل، فحيث قلنا هناك: لا يقع عن الموكل، لا يصح هنا أصلا. وحيث قلنا:
يقع، فكذا هنا، وليس للوكيل الرد على الأصح. ومتى ثبت الرد للوكيل في صورة
الشراء في الذمة، فاطلع الموكل على العيب قبل اطلاع الوكيل أو بعده، ورضيه،
سقط خيار الوكيل، ولا يسقط خيار الموكل بتأخير الوكيل وتقصيره. وإذا أخر الوكيل
542

الرد، أو صرح بالزام العقد، فهل له العود إلى الرد، لان أصل الحق باق وهو
نائب، أم لا، لأنه بالتأخير كالعازل نفسه عن الرد؟ وجهان. أصحهما: الثاني.
فإذا قلنا به، وأثبتنا له العود ولم يعد، فاطلع الموكل عليه، وأراد الرد، فله ذلك إن
سماه الوكيل في الشراء، أو نواه وصدقه البائع، وإلا، فوجهان. أحدهما: يرده
على الوكيل، ويلزمه المبيع، لأنه اشترى في الذمة ما لم يأذن فيه الموكل.
فانصرف إليه. وبهذا قطعا في التهذيب والتتمة. والثاني وبه قطع الشيخ أبو
حامد وأصحابه: أن المبيع للموكل، وقد فات الرد لتفريط الوكيل. ويضمن
الوكيل، وفيما يضمنه وجهان. قال أبو يحيى البلخي: يضمن قدر نقص قيمته من
الثمن. فلو كانت القيمة تسعين، والثمن مائة، رجع بعشرة. فإن تساويا، فلا
رجوع. وقال الأكثرون: يرجع بأرش العيب من الثمن.
قلت: المذكور عن التهذيب والتتمة أصح، وقد نقله صاحب
المهذب عن نص الشافعي رضي الله عنه. والله أعلم.
فرع لو أراد الوكيل الرد بالعيب، فقال البائع: أخر حتى يحضر الموكل،
لم يلزمه إجابته. وإذا رد، فحضر الموكل ورضيه، احتاج إلى استئناف الشراء. ولو
أخر كما التمس البائع، فحضر الموكل ولم يرضه، قال البغوي: المبيع للوكيل،
ولا رد، لتأخيره مع الامكان. وقيل: له الرد، لأنه لم يرض بالعيب. ولقائل أن
يقول للبغوي: أنت وسائر الأصحاب متفقون على أنه إذا رضي الوكيل بالعيب، ثم
حضر الموكل وأراد الرد، فله ذلك إن كان الوكيل سماه أو نواه، وهنا الوكيل
والموكل والبائع متصادقون على أن الشراء وقع للموكل، ومن ضرورة ذلك أن يكون
سماه أو نواه، فوجب أن يقال: المبيع للموكل، وله الرد.
فرع إذا أراد الوكيل الرد، فقال البائع: قد عرفه الموكل ورضيه، ولا رد
لك، نظر، إن لم يحتمل بلوغ الخبر إليه، لم يلتفت إلى قوله، وإن احتمل،
وأنكر الوكيل، حلف على نفي العلم برضى الموكل. وفي وجه ضعيف: لا
يحلف. فإن عرضنا اليمين على الوكيل، فحلف، رده. فإن حضر الموكل،
فصدق البائع، فعن ابن سريح: أن له استرداد المبيع من البائع، لموافقته إياه على
الرضى قبل الرد. وعن القاضي حسين: لا يسترد، وينفذ فسخ الوكيل.
543

قلت: المنقول عن ابن سريج أصح، وبه قطع صاحبا الشامل
والبيان. والله أعلم.
وإن نكل الوكيل، حلف البائع، وسقط رد الوكيل. ثم إذا حضر
الموكل، وصدق البائع، فذاك. وإن كذبه، قال في التهذيب: يلزم العقد
الوكيل، ولا رد له، لابطال الحق بالنكول. وفيه الاشكال السابق في الفرع قبله.
فرع الوكيل بالبيع إذا باع، فوجد المشتري بالمبيع عيبا، رده عليه إن لم
يعلمه وكيلا، وإن علمه، فإن شاء رده عليه، ثم هو يرد
على الموكل، وإن شاء رد على الموكل. وهل للوكيل حط بعض الثمن للعيب؟ فيه قولان.
قلت: ينبغي أن يكون أصحهما: عدم الحط. والله أعلم.
ولو زعم الموكل حدوث العيب في يد المشتري، وصدق الوكيل المشتري،
رد على الوكيل، ولم يرد الوكيل على الموكل.
فرع سيأتي في كتاب القراض إن شاء الله تعالى: أن الوكيل بالشراء، هل
يشتري من يعتق على الموكل؟ فإن قلنا: يشتريه، فكان معيبا، فللوكيل رده، لأنه
لا يعتق على الموكل قبل رضاه بالعيب، ذكره في التهذيب.
الصورة الرابعة: في توكيل الوكيل، فإن سكت الموكل عنه، نظر، إن كان
أمرا يتأتى له الاتيان به، لم يجز أن يوكل فيه. وإن لم يتأت منه، لكونه لا يحسنه،
أو لا يليق بمنصبه، فله التوكيل على الصحيح، لان المقصود من مثله الاستنابة.
وفي وجه: لا يوكل، لقصور اللفظ. ولو كثرت التصرفات الموكل فيها، ولم يمكنه
الاتيان بجميعها، لكثرتها، فالمذهب: أنه يوكل فيما يزيد على الممكن، ولا يوكل
في الممكن. وفي وجه: يوكل في الجميع. وقيل: لا يوكل في الممكن. وفي
544

الباقي وجهان. وقيل: في الجميع وجهان. وإن أذن له في التوكيل، فله أحوال.
الأول: إذا قال: وكل عن نفسك، ففعل، انعزل الثاني بعزل الأول إياه،
وبموته وجنونه على الصحيح في الجميع، لأنه نائبه. ولو عزل الموكل الأول،
انعزل. وفي انعزال الثاني بانعزاله هذا الخلاف. ولو عزل الموكل الثاني، انعزل
على الأصح، كما ينعزل بموته وجنونه. والثاني: لا، لأنه ليس وكيلا من جهته.
والذي يجمع هذه الاختلافات، أن الوكيل الثاني، هل هو وكيل الوكيل الأول كما لو
صرح به، أم وكيل الموكل، ويكون تقديره: أقم غيرك مقام نفسك؟ والأصح: أنه
وكيل الوكيل الأول.
الحال الثاني: أن يقول: وكل عني، فالثاني وكيل الموكل، وله عزل
أيهما شاء، وليس لأحدهما عزل الآخر، ولا ينعزل أحدهما بانعزال الآخر.
الحال الثالث: إذا قال: وكلتك في كذا، وأذنت لك أن توكل فيه، ولم
يقل: عنك، ولا عني، فهذا كالصورة الأولى، أم كالثانية؟ وجهان. أصحهما:
الثاني. وإذا جوزنا له أن يوكل في صورة سكوت الموكل، فينبغي أن يوكل عن موكله.
فلو وكل عن نفسه، فوجهان.
قلت: أصحهما: لا يجوز. والله أعلم.
فرع حيث ملك الوكيل أن يوكل، فشرطه أن يوكل أمينا، إلا أن يعين له
غيره. ولو وكل أمينا، ثم فسق، هل له عزله؟ وجهان.
قلت: أقيسهما: المنع. والله أعلم.
فرع لو وكله في تصرف، وقال: افعل فيه ما شئت، لم يكن ذلك إذنا في
التوكيل على الأصح.
545

قلت: لو قال: كل ما تصنعه، فهو جائز، فهو كقوله: افعل ما شئت. والله
أعلم.
الصورة الخامسة: في امتثال تقييد الموكل. والصور المذكورة من أول الباب
إلى هنا، مفروضة في التوكيل المطلق، ومن هنا إلى آخره في التوكيل المقرون
بتقييد. وحاصله: أنه يجب مراعاة تقييد الموكل، ورعاية المفهوم منه بحسب
العرف، وفيه مسائل.
إحداها: إذا عين الموكل شخصا، بأن قال: بع لزيد. أو (عين) وقتا،
بأن قال: بع يوم الجمعة، لم يجز أن يبيع لغير زيد، ولا قبل الجمعة، ولا بعده.
قلت: هكذا قال الأصحاب في البيع قبل الجمعة وبعده: إنه لا يصح.
قالوا: وكذا حكم العتق، لا يجوز قبل الجمعة بعده. وأما الطلاق، فنقل
صاحبا الشامل والبيان عن الداركي، أنه قال: إن طلقها قبل الجمعة،
لم يقع، وإن طلقها بعده يقع، لأنها إذا كانت مطلقة يوم الجمعة، كانت
مطلقة يوم السبت، بخلاف الخميس. ولم أر هذا لغيره، وفيه نظر. والله أعلم.
لو عين مكانا من سوق ونحوها، نظر، إن كان له في ذلك المكان غرض
ظاهر، بأن كان الراغبون فيه أكثر، أو النقد فيه أجود، لم يجز البيع في غيره.
وإلا، فوجهان. أحدهما: يجوز، وبه قال القاضي أبو حامد، وقطع به الغزالي.
وأصحهما عند ابن القطان والبغوي: المنع.
قلت: قطع بالجواز أيضا صاحبا التنبيه والتتمة وغيرهما، لكن الأصح
على الجملة: المنع، وهو الذي صححه الماوردي والرافعي في المحرر.
قلت: هذا إذا لم يقدر الثمن. فإن قال: بع في سوق كذا بمائة، فباع بمائة
في غيرها، جاز، صرح به صاحبا الشامل والتتمة وغيرهما. والله أعلم.
ولو نهاه صريحا عن البيع في غيره، امتنع قطعا. ولو قال: بع في بلد كذا،
قال ابن كج: هو كقوله: بع في سوق كذا، حتى لو باع في بلد آخر، جاء فيه
546

التفصيل المذكور، وهذا صحيح، لكنه يصير ضامنا بالنقل من ذلك البلد، ويكون
الثمن مضمونا في يده. بل لو أطلق التوكيل في البيع في بلد، فليبع فيه فإن نقل،
ضمن.
المسألة الثانية: قال: بع بمائة درهم، لم يبع بدونها، وله البيع بأكثر.
والمقصود بالتقدير: أن لا ينقص فيهما من العرف. وفي وجه شاذ حكاه العبادي:
لا يجوز البيع بأكثر من مائة. والصحيح المعروف: الأول. ولو نهاه عن الزيادة
صريحا، لم يزد قطعا.
قلت: حكي في النهاية والبسيط عن صاحب التقريب أنه لو قال:
بع بمائة ولا تزد، فزاد، أو اشتر هذا العبد بمائة ولا تنقص، فنقص، ففي صحته
وجهان. قالا: والوجه أن يقال: إن أتى بما هو نص في المنع، لم ينفذ،
لمخالفته، وإن احتمل أنه يريد: لا تتعب نفسك في طلب الزيادة والنقص، اتجه
التنفيذ. والله أعلم.
وهل له البيع بمائة وهناك راغب بزيادة على المائة؟ فيه وجهان.
قلت: أصحهما: المنع، لأنه مأمور بالاحتياط والغبطة. والله أعلم.
قال الأصحاب: ولو كان المشتري معينا، فإن قال: بعه لزيد بمائة، لم يجز
أن يبيع بأكثر منها قطعا، لأنه ربما قصد إرفاقه.
فرع لو قال: بع ثوبي، ولا تبعه بأكثر من مائة، لم يبعه بأكثر من مائة،
ويبيع بها وبما دونها ما لم ينقص عن ثمن المثل. ولو قال: بعه بمائة، ولا تبعه
بمائة وخمسين، فليس له بيعه بمائة وخمسين، ويجوز بما دون ذلك ما لم ينقص
عن مائة، ولا يجوز بما زاد على مائة وخمسين على الأصح.
فرع الشراء كالبيع فيما سبق. فإذا قال: اشتر بمائة، فله الشراء بأقل،
إلا أن ينهاه، ولا يشتري بما فوقها. ولو قال: اشتر بمائة، ولا تشتر بخمسين، فله
الشراء بالمائة وبما بينها وبين خمسين، ولا يجوز بخمسين. وفيما دونها،
الوجهان.
547

قلت: قال أصحابنا: لو قال: اشتر عبد فلان بمائة، فاشتراه بأقل منها،
صح، وهذا يخالف ما سبق في قوله: بعه لزيد بمائة. قال صاحب الحاوي:
والفرق أنه في البيع ممنوع من قبض ما زاد على المائة، فلا يجوز قبض ما
نهي عنه. وفي الشراء، مأمور بدفع مائة، ودفع الوكيل بعض المأمور به جائز. والله
أعلم.
المسألة الثالثة: لو قال: بعه إلى أجل، وبين قدره، أو قلنا: لا حاجة إلى
بيانه، وحملناه على المعتاد، فخالف وباع حالا، نظر، إن باعه بقيمته حالا، لم
يصح، لأنه أقل مما أمره به. وإن باعه حالا بقيمته إلى ذلك الأجل، نظر، إن كان
في وقت لا يؤمن النهب والسرقة، أو كان لحفظه مؤنة في الحال، لم يصح أيضا.
وإن لم يكن شئ من ذلك، صح على الأصح. ولا فرق فيما ذكرنا بين ثمن المثل
عند الاطلاق، وبين ما قدره من الثمن، بأن قال: بع بمائة نسيئة، فباع بمائة
نقدا. ولو قال: بع بكذا إلى شهرين، فباع به إلى شهر، ففيه الوجهان. ولو قال:
اشتر حالا، فاشتراه مؤجلا بقيمته مؤجلا، لم يصح للموكل، لأنه أكثر، وإن اشتراه
بقيمته حالا، فوجهان كما في طرف البيع. قال صاحب التتمة: هذا إذا قلنا:
إن مستحق الدين المؤجل إذا عجل حقه، يلزمه القبول. وأما إذا قلنا: لا يلزمه،
فلا يصح الشراء هنا للموكل بحال. وذكر هو وغيره تخريجا على المسألة التي نحن
فيها: أن الوكيل بالشراء مطلقا، لو اشترى نسيئة بثمن مثله نقدا، جاز، لأنه زاد
خيرا، وللموكل تفريغ ذمته بالتعجيل.
قلت: هذا المنقول أولا عن التتمة قد عكسه صاحب الشامل فقال:
هذا الخلاف حيث لا يجبر صاحب الدين على قبول تعجيله، وحيث يجبر، يصح
الشراء قطعا. وهذا الذي قاله، أصح وأفقه وأقرب إلى تعليل الأصحاب. والله
أعلم.
فرع لو دفع (إليه) دينارا، وقال: اشتر به شاة، ووصفها، فاشترى به شاتين
بتلك الصفة، نظر، إن لم تساو واحدة منهما دينارا، لم يصح الشراء للموكل وإن
548

زادت قيمتهما جميعا على الدينار، لفوات ما وكل فيه. وإن ساوت كل واحدة
دينارا، فقولان. أظهرهما: صحة الشراء، وحصول الملك فيهما للموكل، لأنه
حصل غرضه وزاد خيرا. والثاني: لا تقع الشاتان للموكل، لأنه لم يأذن فيهما، بل
ينظر، إن اشتراهما في الذمة، فللموكل واحدة بنصف دينار، والأخرى للوكيل،
ويرد على الموكل نصف دينار. وللموكل أن ينتزع الثانية منه، ويقرر العقد فيهما،
لأنه عقد العقد له. وفي قول شاذ: لا يصح الشراء للموكل في واحدة منهما، بل
يقعان للوكيل. وإن اشتراهما بعين الدينار، فقد اشترى شاة باذنه، وشاة بلا إذنه،
فيبنى على وقف العقود. فإن قلنا: لا توقف على الإجازة، بطل العقد في شاة.
وفي الأخرى قولا (تفريق) الصفقة. وإن قلنا: توقف، فإن شاء الموكل أخذهما
بالدينار، وإن شاء اقتصر على واحدة ورد الأخرى على البائع.
وهذا القول مشكل، لان تعين الشاة للموكل أو لابطال العقد فيها، ليس بأولى
من تعين الأخرى، والتخيير يشبه بيع شاة من شاتين، وهو باطل. فإذا صححنا
الشراء فيهما للموكل، فباع الوكيل إحداهما بغير إذن الموكل، ففي صحة بيعه،
قولان. وعلى هذا يخرج ما إذا اشترى شاة بدينار، وباعها بدينارين. وقيل: هذا
الخلاف، هو القولان في بيع الفضولي، فعلى الجديد: يلغو، وعلى القديم:
ينعقد موقوفا على إجازة الموكل.
قلت: الأظهر: أنه لا يصح بيعه. قال أصحابنا: ولو اشترى به شاتين،
تساوي إحداهما دينارا، والأخرى بعض دينار، فطريقان. الأصح منهما عند
القاضي أبي الطيب والأصحاب: صحة البيع فيهما جميعا، ويكون كما لو ساوت
كل واحدة دينارا على ما سبق. فعلى الأظهر: يلزم البيع فيهما جميعا للموكل، وبه
قطع المحاملي وغيره. والطريق الثاني: لا يصح في حق الموكل واحدة منهما.
549

فعلى الأظهر: لو باع الوكيل التي تساوي دينارا، لم يصح قطعا، وإن باع الأخرى،
فعلى الخلاف. وإن قلنا: للوكيل إحداهما، كان له التي لا تساوي دينارا
بحصتها، وللموكل انتزاعها كما سبق. والله أعلم.
فرع قال: بع عبدي بمائة درهم، فباعه بمائة وعبد أو وثوب يساوي
مائة، فعن ابن سريج: أنه على قولين بالترتيب على مسألة الشاتين، وأولى بالمنع،
لأنه عدل عن الجنس. فإن أبطلنا، فهل يبطل في القدر المقابل لغير الجنس وهو
النصف، أم في الجميع؟ قولان. فإن قلنا: في ذلك القدر، قال في التتمة:
لا خيار له، لأنه إذا رضي ببيع الجميع بمائة، فالبعض أولى. وأما المشتري، فإن
لم يعلم أنه وكيل بالبيع بدراهم، فله الخيار، وإن علم، فوجهان، لشروعه في
العقد مع العلم بأن بعض المعقود عليه لا يسلم له.
قلت: ولو باعه بمائة درهم ودينار، ففي التتمة والتهذيب: أنه على
الخلاف في مائة وثوب. وقطع صاحب الشامل بالصحة، لأنه من جنس
الأثمان، وينبغي أن يكون الأصح في الجميع: الصحة. والله أعلم.
فرع لو قال: بع بألف درهم، فباع بألف دينار، لم يصح، لأنه غير
المأمور به، وفيه احتمال ذكره ابن كج، والغزالي في الوجيز. وعلى هذا
الاحتمال: البيع بعرض يساوي ألف دينار، يشبه أن يكون كالبيع بألف دينار.
الصورة السادسة: في الوكالة في الخصومة، وفيها مسائل.
إحداها: الوكيل بالخصومة من جهة المدعي، يدعي ويقيم البينة ويسعى في
تعديلها، ويحلف ويطلب الحكم والقضاء، ويفعل ما هو وسيلة إلى الاثبات.
والوكيل من جهة المدعى عليه، ينكر ويطعن في الشهود، ويسعى في الدفع بما
أمكنه.
الثانية: هل يشترط في التوكيل في الخصومة بيان ما فيه الخصومة، من دم،
أو مال، أو عين، أو دين، أو أرش جناية، أو بدل مال حكى العبادي فيه وجهين
كالوجهين في بيان من يخاصمه.
الثالثة: لو أقر وكيل المدعي بالقبض، أو الابراء، أو قبول الحوالة، أو
550

المصالحة على مال، أو بأن الحق مؤجل، أو أقر وكيل المدعى عليه بالحق
للمدعي، لم يقبل، سواء أقر في مجلس الحكم، أم في غيره، كما لا يصح إبراؤه
ومصالحته، لان اسم الخصومة لا يتناولهما، فكذا الاقرار. ثم وكيل المدعي، إذا
أقر بالقبض، أو الابراء، انعزل، وكذا وكيل المدعى عليه، إذا أقر بالحق،
انعزل، لأنه بعد الاقرار ظالم في الخصومة. وأطلق ابن كج وجهين في بطلان وكالته
بالاقرار.
قلت: ولو أبرأ وكيل المدعي خصمه، لم ينعزل، لان إبراءه باطل، ولا
يتضمن اعترافا بأن المدعي ظالم، الاقرار، وكذا فرق صاحب الحاوي
وغيره. والله أعلم.
فرع نقل في النهاية أن الوكيل بالخصومة من جهة المدعى عليه، لا
يقبل تعديله بينة المدعي، لأنه كالاقرار في كونه قاطعا للخصومة، وليس للوكيل قطع
الخصومة بالاختيار.
الرابعة: تقبل شهادة الوكيل على موكله، وتقبل لموكله في غير ما توكل فيه.
وإن شهد بما توكل فيه، نظر، إن شهد قبل العزل، أو بعده وقد خاصم فيه، لم
يقبل، للتهمة. وإن كان بعده ولم يخاصم، قبلت على الأصح. هذه هي الطريقة
الصحيحة المشهورة. وقال الامام: قياس المراوزة، أن يعكس فيقال: إن لم
يخاصم، قبلت، وإلا، فوجهان. قال: وهذا التفصيل، إذا جرى الامر على
تواصل. فإن طال الفصل، فالوجه: القطع بقبول الشهادة مع احتمال فيه.
الخامسة: لو وكل رجلين بالخصومة، ولم يصرح باستقلال كل واحد منهما،
فوجهان. الأصح: لا يستقل واحد منهما، بل يتشاوران ويتباصران. كما لو وكلهما
في بيع أو طلاق أو غيرهما، أو وصى إليهما. ولو وكل رجلين في حفظ متاع،
فالأصح: أنه لا ينفرد واحد منهما بحفظه، بل يحفظانه في حرز بينهما. والثاني:
ينفرد. فإن قبل القسمة، قسم ليحفظ كل واحد بعضه.
السادسة: ادعى عند القاضي أنه وكيل زيد، فإن كان المقصود بالخصومة
حاضرا، وصدقه، ثبتت الوكالة، وله مخاصمته، وإن كذبه، أقام البينة على
الوكالة. ولا يشترط في إقامة البينة تقدم دعوى حق الموكل على الخصم. وإن كان
551

غائبا، وأقام الوكيل بينة بالوكالة، سمعها القاضي وأثبتها. ولا يعتبر حضور الخصم
في إثبات الوكالة، خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه حيث (قال): لا تسمع البينة إلا
في وجه الخصم. قال الامام: وهو بناء على مذهبه، في امتناع القضاء على الغائب.
ثم حكى الامام عن القاضي حسين: أنه لا بد (و) أن ينصب القاضي مسخرا ينوب عن
الغائب، ليقيم المدعي البينة في وجهه. قال الامام: وهذا بعيد لا أعرف له أصلا،
مع ما فيه من مخالفة الأصحاب. وحكى عنه أيضا أن القضاة اصطلحوا على أن من
وكل في مجلس القضاء وكيلا بالخصومة، اختص التوكيل بالمخاصمة في ذلك
المجلس. قال الامام: والذي نعرفه للأصحاب أنه يخاصم في ذلك المجلس
وبعده، ولا نعرف للقضاة العرف الذي ادعاه.
السابعة: وكل رجلا عند القاضي بالخصومة عنه، وطلب حقوقه، فللوكيل أن
يخاصم عنه ما دام حاضرا في المجلس، اعتمادا على العيان. فإن غاب وأراد
الوكيل الخصومة عنه اعتمادا على اسم ونسب يذكره، فلا بد من إقامة بينة على أن
فلان ابن فلان وكله، أو على أن الذي وكله هو فلان بن فلان، ذكره أصحابنا
العراقيون، والشيخ أبو عاصم العبادي. وعبارة العبادي: إنه لا بد وأن يعرف
الموكل شاهدان يعرفهما القاضي ويثق بهما. ثم إن الامام حكى عن القاضي
حسين - رحمهما الله - أن عادة الحكام التساهل في هذه البينة، والاكتفاء بالعدالة
الظاهرة، وترك البحث والاستزكاء تسهيلا على الغرباء. وقال القاضي أبو سعد ابن
أبي يوسف في شرح مختصر العبادي: يمكن أن يكتفى بمعرف واحد إذا كان
موثوقا به، كما قال الشيخ أبو محمد: إن تعريف المرأة في تحمل الشهادة عليها،
يحصل بمعرف واحد، لأنه إخبار لا شهادة.
قلت: وإذا ادعى على وكيل مالا، وأقام بينة وقضى بها الحاكم، ثم حضر
الغائب وأنكر الوكالة، أو ادعى عزله، لم يكن له أثر، لان الحكم على الغائب
جائز. قال في التتمة: وإذا اعترف الخصم عند القاضي بأنه وكيل، جاز له
المحاكمة قطعا. وفي وجوبها عليه، الخلاف فيما إذا اعترف بأنه وكيل في قبض
الدين، هل يلزمه دفعه إليه، أم لا يجب حتى يقيم بينة؟ والله أعلم.
552

الصورة السابعة: وكله في الصلح عن الدم على خمر، ففعل، حصل العفو
ووجبت الدية كما لو فعله الموكل بنفسه. فلو صالح على خنزير، فهو لغو على
الأصح، فيبقى القصاص، لأنه غير مأذون فيه. والثاني: أنه كالعفو على خمر.
وعلى هذا، لو صالح على الدية، أو على ما يصلح عوضا، جاز. ولو جرت هذه
المخالفة بين الموجب والقابل في الصلح، لغا قطعا، لعدم انتظام الخطاب. ولو
وكله في خلع زوجته على خمر، فخالعها على خمر أو خنزير، فعلى ما سبق في
الصلح عن الدم.
فرع وكله في بيع أو شراء فاسد، لم يملك فاسدا ولا صحيحا، لعدم
الاذن.
الصورة الثامنة: في مخالفته، فإذا سلم إليه ألفا، وقال: اشتر بعينه ثوبا،
فاشترى في الذمة لينقذ الألف، لم يصح للموكل. ولو قال: اشتر في الذمة
وسلم الألف في ثمنه، فاشترى بعينه، لم يصح على الأصح. ولو سلمه إليه،
وقال: اشتر ثوبا، ولم يقل: بعينه، ولا في الذمة، فوجهان. أحدهما: أنه
كقوله: اشتر بعينه، لان قرينة التسليم تشعر به. وأصحهما: أن الوكيل يتخير بين
الشراء بعينه أو في الذمة، لان الاسم يتناولهما.
قلت: وإذا قال: اشتر في الذمة وسلمه فيه، فاشترى للموكل في الذمة،
ونقد الوكيل الثمن من ماله، برئ الموكل من الثمن، ولا يرجع عليه الوكيل
بشئ، لأنه متبرع بقضاء دينه، ويلزمه رد الألف المعينة إلى الموكل، صرح به
الماوردي وغيره، وهو ظاهر. والله أعلم.
فصل في حكم البيع والشراء المخالفين أمر الموكل أما البيع، فإذا
قال: بع هذا العبد، فباع آخر، فباطل. وأما الشراء، فإن وقع بعين مال الموكل،
فباطل. وإن وقع في الذمة، نظر، إن لم يسم الموكل، وقع عن الوكيل، وكذا
553

إن سماه على الأصح. وتلغو التسمية، لان تسمية الموكل غير معتبرة في الشراء،
فإذا سماه، ولم يكن صرفه إليه، صار كأنه لم يسمه. والثاني: العقد باطل. فإذا
قلنا بالأصح، فذلك إذا قال: بعتك، فقال: اشتريت لموكلي فلان. فأما إذا قال
البائع: بعت فلانا، فقال الوكيل: اشتريته له، فالمذهب بطلان العقد، لأنه لم
تجر بينهما مخاطبة. ويخالف النكاح حيث يصح من الولي ووكيل الزوج على هذه
الصيغة، بل لا يصح إلا كذلك، لان للبيع أحكاما تتعلق بالمجلس كالخيار وغيره،
وتلك الأحكام، إنما يمكن اعتبارها بالمتعاقدين، فاعتبر جريان المخاطبة بينهما،
والنكاح سفارة محضة. ثم ما ذكرناه في هذا الفصل، تفريع على الجديد، وهو منع
وقف العقود، وإلغاء تصرف الفضولي. وأما على القديم، فالوكيل كأجنبي، فيقف
الشراء في الذمة على إجازته. فإن أجاز، وقع عنه، وإلا، فعن الوكيل، وكذا
الشراء بعين ماله، وبيع العبد الآخر، ينعقدان موقوفين على هذا القول كما ذكرنا في
بابه.
فرع وكيل المتهب في القبول، يجب أن يسمي موكله، وإلا فيقع عنه،
لجريان الخطاب معه، ولا ينصرف بالنية إلى الموكل، لان الواهب قد يقصد
بتبرعه المخاطب، وليس كل أحد يسمح بالتبرع عليه، بخلاف الشراء، فإن
المقصود منه حصول العوض.
قلت: قال في البيان: لو وكله أن يزوج بنته زيدا، فزوجها وكيل زيد
لزيد، صح. ولو وكله في بيع عبده لزيد، فباعه لوكيل زيد، لم يصح. والفرق أن
النكاح لا يقبل نقل الملك، والبيع يقبله. ولهذا يقول وكيل النكاح: زوج موكلي،
ولا يقول: زوجني لموكلي. وفي البيع يقول: بعني لموكلي (ولا يقول: بع
موكلي). والله أعلم.
الحكم الثاني: للوكالة حكم الأمانة. فيد الوكيل يد أمانة، فلا يضمن ما تلف
في يده بلا تفريط، سواء كان بجعل، أو متبرعا، فإن تعدى، بأن ركب الدابة، أو
لبس الثوب، ضمن قطعا، ولا ينعزل عن المذهب، بل يصح تصرفه، وإذا باع
وسلم المبيع، زال عنه الضمان، لأنه أخرجه من يده بإذن المالك. وفي زوال
554

الضمان بمجرد البيع، وجهان. أحدهما: نعم، لزوال ملك الموكل. وأصحهما:
لا، لأنه يرتفع العقد بتلفه قبل القبض. وأما الثمن الذي يقبضه، فلا يكون مضمونا
عليه، لأنه لم يتعد فيه. ولو رد عليه المبيع بعيب، عاد الضمان.
فرع لو دفع إلى وكيله دراهم ليشتري بها شيئا، فتصرف فيها على أن
يكون قرضا عليه، صار ضامنا. وليس له أن يشتري للموكل بدراهم نفسه، ولا في
الذمة، فلو حصل، كان ما اشتراه لنفسه دون موكله. ولو عادت الدراهم التي
تصرف فيها إليه، فاشترى بها للموكل، فهو على الخلاف في انعزاله بالتعدي.
فعلى المذهب: لا ينعزل، فيصح شراؤه، ولا يكون ما اشتراه مضمونا عليه، لأنه
لم يتعد فيه. فلو رد ما اشتراه بعيب، واسترد الثمن، عاد مضمونا عليه.
فرع متى طالب الموكل الوكيل برد ماله، لزمه أن يخلي بينه وبينه، فإن
امتنع، صار ضامنا كالمودع.
الحكم الثالث: في العهدة، فيه مسائل.
إحداها: الوكيل بالشراء إذا اشترى لموكله ما وكله في شرائه فلمن يقع
الملك؟ وجهان. أحدهما: للوكيل ثم ينتقل إلى الموكل، لان الخطاب جرى
معه. وأحكام العقد تتعلق به. والصحيح: أنه يقع أولا للموكل، كما لو اشترى
الأب للطفل، فإنه يقع للطفل ابتداء، ولأنه لو وقع للوكيل، لعتق عليه أبوه إذا
اشتراه لموكله، فلا يعتق قطعا.
الثانية: أحكام العقد في البيع والشراء، تتعلق بالوكيل دون الموكل، حتى
تعتبر رؤية الوكيل للمبيع دون الموكل، وتلزم بمفارقة الوكيل المجلس دون الموكل،
وكذا تسليم رأس المال في السلم والتقابض حيث يشترط، يعتبران قبل مفارقة
الوكيل. والفسخ بخيار المجلس وخيار الرؤية، إن أثبتناه يثبت للوكيل دون الموكل،
حتى لو أراد الموكل الإجازة، كان للوكيل الفسخ، ذكره في التتمة.
555

الثالثة: إذا اشترى الوكيل بثمن معين، طالبه به البائع، إن كان في يده،
وإلا، فلا. وإن اشترى في الذمة، فإن كان الموكل قد سلم إليه ما يصرفه في
الثمن، طالبه البائع، وإلا، فإن أنكر البائع كونه وكيلا، أو قال: لا أدري، هل هو
وكيل، أم لا؟ طالبه به. وإن اعترف بوكالته، فهل يطالب به الموكل فقط؟ أم
الوكيل فقط؟ أم يطالب أيهما شاء؟ فيه أوجه. أصحها: الثالث. فإن قلنا بالثاني،
فهل للوكيل مطالبة الموكل قبل أن يغرم؟ فيه وجهان. أصحهما: المنع. وإذا غرم
الوكيل للبائع، رجع على الموكل، ولا يشترط لثبوت الرجوع اشتراط الرجوع على
المذهب. وإذا قلنا بالثالث، فالوكيل كالضامن، والموكل كالمضمون عنه، فيرجع
الوكيل إذا غرم. والقول في اعتبار شرط الرجوع، وفي أنه هل يطالبه بتخليصه قبل
الغرم، كما سبق في الضمان. وفرع ابن سريج على الأوجه فقال: لو سلم دراهم
إلى الوكيل ليصرفها إلى الثمن الملتزم في الذمة، ففعل، ثم ردها البائع بعيب، فإن
قلنا بالوجه الأول أو الثالث، لزم الوكيل تلك الدراهم بأعيانها إلى الموكل، وليس له
إمساكها ودفع بدلها. وإن قلنا بالثاني، فله ذلك، لان ما دفعه الموكل إليه على هذا
الوجه، أقرضه إياه ليبرئ ذمته. فإن عاد، فهو ملكه. وللمستقرض إمساك ما
استقرضه ورد مثله. ولك أن تقول: لا خلاف أن للوكيل أن يرجع على الموكل في
الجملة، وإنما الكلام في أنه متى يرجع؟ وبأي شئ يرجع؟ فإذا كان كذلك،
اتجه أن يكون تسليم الدراهم دفعا لمؤنة التراجع، لا إقراضا.
الرابعة: الوكيل بالبيع إذا قبض الثمن، إما بإذن صريح، وإما بمقتضى
البيع. إذا قلنا به، فتلف المقبوض في يده، ثم خرج المبيع مستحقا، والمشتري
معترف بالوكالة، فهل يرجع بالثمن على الوكيل لحصول التلف عنده؟ أم على
الموكل لأنه سفيره ويده يده؟ أم على من شاء منهما؟ فيه الأوجه السابقة. فإن قلنا:
556

على الموكل أو الوكيل، فغرم، لا يرجع أحدهما على صاحبه. وإن قلنا: يغرم
أيهما شاء، فثلاثة أوجه. أصحها وأشهرها: أنه إن غرم الموكل، لم يرجع على
الوكيل، وإن غرم الوكيل، رجع على الموكل. والثاني: يرجع الموكل دون
الوكيل، لحصول التلف في يده. والثالث: لا يرجع واحد منهما. والذي يفتى به
من هذه الاختلافات: أن المشتري يغرم من شاء منهما، والقرار على الموكل.
ولذلك اقتصرنا على هذا الجواب في بدل الرهن وإن كان يطرد فيه الخلاف.
الخامسة: الوكيل بالشراء إذا قبض المبيع وتلف في يده، ثم بان مستحقا،
فللمستحق مطالبة البائع بقيمة المبيع أو مثله، لأنه غاصب. وفي مطالبته الوكيل أو
الموكل، الأوجه الثلاثة. قال الامام: والأقيس في المسألتين: أنه لا رجوع إلا
على الوكيل، لحصول التلف في يده، وبظهور الاستحقاق بان أن لا عقد، وصار
الوكيل قابضا ملك غيره بلا حق. ويجري الخلاف في القرار في هذه الصورة.
السادسة: الوكيل بالبيع، إذا باع بثمن في الذمة، واستوفاه ودفعه إلى
الموكل، وخرج مستحقا أو معيبا، فرده، فللموكل أن يطالب المشتري بالثمن، وله
أن يغرم الوكيل، لأنه صار مسلما للمبيع قبل أخذ عوضه. وفيما يغرمه وجهان.
أحدهما: قيمة العين، لأنه فوتها. والثاني: الثمن، لان حقه انتقل إليه. فإن قلنا
بالأول، فأخذ منه القيمة، طالب الوكيل المشتري بالثمن. فإذا أخذه، دفعه إلى
الموكل واسترد القيمة.
السابعة: دفع إليه دراهم ليشتري عبدا بعينها، ففعل، فتلفت في يده قبل
التسليم، انفسخ البيع، ولا شئ على الوكيل. وإن تلفت قبل الشراء، ارتفعت
الوكالة. ولو قال: اشتر في الذمة، واصرفها إلى الثمن، فتلفت في يد الوكيل بعد
الشراء، لم ينفسخ العقد. ولكن هل ينقلب إلى الوكيل ويلزمه الثمن؟ أم يبقى
للموكل. وعليه مثل الدراهم؟ أم يقال للموكل: إن أردته فادفع مثل تلك الدراهم،
وإلا فيقع عن الوكيل وعليه الثمن؟ فيه ثلاثة أوجه. ولو تلفت قبل الشراء، لم
ينعزل. فإن اشترى للموكل، فهل يقع له، أم للوكيل؟ فيه الوجهان الأولان من هذه
الثلاثة.
قلت: هكذا ذكره صاحب التهذيب: وقطع في الحاوي بأنه إذا قال:
557

اشتر في الذمة أو بعينها، فتلفت، انفسخت الوكالة، وانعزل، فإذا اشترى بعده،
وقع للوكيل قطعا. والله أعلم.
فرع إذا اشترى الوكيل شراء فاسدا، وقبض، وتلف المبيع في يده، أو
بعد تسليمه إلى الموكل، فللمالك مطالبته بالضمان، ثم هو يرجع على الموكل.
فرع لو أرسل رسولا ليستقرض له، فاقترض، فهو كوكيل المشتري. وفي مطالبته ما في
مطالبة وكيل المشتري بالثمن. والمذهب: أنه يطالب، وأنه إذا غرم،
رجع على الموكل.
الحكم الرابع: الجواز من الجانبين، فلكل واحد منهما العزل. ولارتفاعها
أسباب.
الأول: أن يعزله الموكل بقوله: عزلته، أو رفعت الوكالة، أو فسختها، أو
أبطلتها، أو أخرجته عنها، فينعزل سواء ابتدأ توكيله، أو وكله بسؤال الخصم،
بأن سألت زوجها أن يوكل في الطلاق، أو الخلع، أو المرتهن الراهن أن يوكل ببيع
الرهن، أو سأله خصمه أن يوكل في الخصومة. وهل ينعزل قبل بلوغ العزل إليه؟
قولان. أظهرهما: ينعزل. فإن قلنا: لا ينعزل حتى يبلغه الخبر، فالمعتبر خبر من
تقبل روايته، دون الصبي والفاسق. وإذا قلنا: ينعزل، فينبغي للموكل أن يشهد
على العزل، لان قوله بعد تصرف الوكيل: كنت عزلته، لا يقبل.
الثاني: إذا قال الوكيل: عزلت نفسي، أو أخرجتها عن الوكالة، أو رددتها،
انعزل قطعا، كذا قاله الأصحاب. وقال بعض المتأخرين: إن كانت صيغة
الموكل: بع واعتق ونحوهما من صيغ الامر، لم ينعزل برد الوكالة، وعزله نفسه،
لان ذلك إذن وإباحة، فأشبه ما لو أباحه الطعام لا يرتد برد المباح له، ولا يشترط في
انعزاله بعزل نفسه حصول علم الموكل.
الثالث: ينعزل الوكيل بخروجه، أو خروج الموكل عن أهلية تلك التصرفات
بالموت أو الجنون. وفي وجه: لا ينعزل بجنون لا يمتد، بحيث تتعطل
558

المهمات. ويخرج إلى نصب قوام. والاغماء، كالجنون على الأصح.
والثاني: لا ينعزل به، واختاره الامام، والغزالي في الوسيط، لان المغمى
عليه، لا يلتحق بمن تولى عليه. والمعتبر في الانعزال، التحاق الوكيل والموكل
بمن تولى عليه. وفي معنى الجنون، الحجر عليه بسفه، أو فلس في كل تصرف لا
ينفذ منهما. وكذا لو طرأ الرق، بأن وكل حربيا، ثم استرق. وإذا جن الموكل،
انعزل الوكيل في الحال وإن لم يبلغه الخبر قطعا، بخلاف العزل.
الرابع: خروج محل التصرف عن ملك الموكل، بأن باع (الموكل) ما وكله
في بيعه أو أعتقه. فلو وكله ببيعه. ثم آجره، قال في التتمة: ينعزل، لان
الإجارة إن منعت البيع، لم يبق مالكا للتصرف، وإلا، فهي علامة الندم، لان من
يريد البيع لا يؤاجر لقلة الرغبات. وتزويج الجارية، عزل. وفي طحن الحنطة
وجهان. وجه الانعزال، بطلان اسم الحنطة. وأما العرض على البيع وتوكيل وكيل
آخر، فليس بعزل قطعا.
الخامس: لو وكل عبده في بيع أو تصرف آخر، ثم أعتقه أو باعه، ففي
انعزاله أوجه. ثالثها: أنه إن كانت الصيغة: وكلتك، بقي الاذن. وإن كانت:
بع، أو نحوه، ارتفع. والكتابة، كالبيع. وعبد غيره كعبده. وإذا حكمنا ببقاء
الاذن في صورة البيع، لزمه استئذان المشتري، لان منافعه صارت له. فلو لم
يستأذن، نفذ تصرفه لبقاء الاذن وإن عصى، قال الامام: وفيه احتمال.
قلت: لم يصحح الرافعي شيئا من الخلاف في انعزاله، ولم يصححه
الجمهور. وقد صحح صاحب الحاوي والجرجاني في المعاياة انعزاله. وقطع به
الجرجاني في كتابه التحرير. وأما عبد غيره، فطرد الرافعي فيه الوجهين متابعة
لصاحب التهذيب. ولكن المذهب، والذي جزم به الأكثرون: القطع ببقائه.
قال صاحب البيان: والخلاف في عبد غيره، هو فيما إذا أمره السيد ليتوكل
لغيره. فأما إن قال: إن شئت فتوكل لفلان، وإلا، فلا تتوكل، ثم أعتقه أو باعه،
فلا ينعزل قطعا كالأجنبي. والله أعلم.
559

السادس: لو جحد الوكيل الوكالة، هل يكون ذلك عزلا؟ فيه أوجه،
أصحها: ثالثها: إن كان لنسيان أو غرض في الاخفاء، لم يكن عزلا، وإن تعمد
ولا عرض في الاخفاء، انعزل. ولو أنكر الموكل التوكيل، ففي انعزاله الأوجه.
قلت ومن فروع هذه، لو وكل رجلين، فعزل أحدهما لا بعينه، فوجهان في
الحاوي والمستظهري، أصحهما: لا ينفذ تصرف واحد منهما حتى يميز،
للشك في أهليته. والثاني: لكل التصرف، لان الأصل بقاء تصرفه. والله أعلم.
فرع متى قلنا: الوكالة جائزة، أردنا الخالية عن الجعل. فأما إذا شرط
(فيها) جعل معلوم، واجتمعت شرائط الإجارة، وعقد بلفظ الإجارة، فهي لازمة.
وإن عقد بلفظ الوكالة، أمكن تخريجه على أن الاعتبار بصيغ العقود، أم بمعانيها؟
فصل في مسائل منثورة إحداها: وكله ببيع، فباع، ورد عليه المبيع
بعيب، أو أمره بشرط الخيار، فشرطه، ففسخ البيع، لم يكن له بيعه ثانيا.
الثانية: قال: بع نصيبي من كذا، أو قاسم شركائي، أو خذ بالشفعة، فأنكر
الخصم ملكه، هل له الاثبات؟ يخرج على الوجهين في أن الوكيل بالاستيفاء، هل
يثبت؟
الثالثة: قال: بع بشرط الخيار فباع مطلقا، لم يصح. ولو أمره بالبيع
وأطلق، لم يكن للوكيل شرط الخيار للمشتري، وكذا ليس للوكيل بالشراء شرط
الخيار للبائع. وفي شرطهما الخيار لأنفسهما أو للموكل، وجهان.
قلت: أصحهما: الجواز، وبه قطع في التتمة. والله أعلم.
الرابعة: أمره بشراء عبد، أو بيع عبد، لا يجوز العقد على بعضه، لضرر
التبعيض ولو فرضت فيه غبطة. وفيه وجه شاذ ضعيف. ولو قال: اشتره بهذا
الثوب، فاشتراه بنصف الثوب، صح.
560

الخامسة: قال: بع هؤلاء العبيد، أو اشتر لي خمسة أعبد،
ووصفهم، فله الجمع والتفريق، إذ لا ضرر. ولو قال: اشترهم صفقة، ففرق،
لم يصح للموكل. فلو اشترى خمسة من مالكين، لأحدهما ثلاثة، وللآخر اثنان
دفعة، وصححنا مثل هذا العقد، ففي وقوع شرائهم عن الموكل وجهان.
أحدهما: الصحة، لأنه ملكهم دفعة. وأصحهما: المنع، لأنه إذا تعدد البائع،
لم تكن الصفقة واحدة.
السادسة: قال: بع هؤلاء الأعبد الثلاثة بألف، لم يبع واحدا منهم بدون
ألف. ولو باعه بألف، صح. ثم هل يبيع الآخرين؟ فيه وجهان. أصحهما
نعم. ولو قال: بع من عبيدي من شئت، أبقى بعضهم ولو واحدا.
السابعة: وكله باستيفاء دينه على زيد، فمات زيد، نظر، إن قال: وكلتك
بطلب حقي من زبد، لم يطالب الورثة. وإن قال: بطلب حقي الذي على زيد،
طالبهم.
قلت: ولو لم يمت، جاز له القبض من وكيله قطعا كيف كان، قاله في
الشامل وغيره. والله أعلم.
الثامنة: أمره بالبيع مؤجلا، لا يلزمه المطالبة بعد الأجل، ولكن عليه بيان
الغريم. وكذلك لو قال: ادفع هذا الذهب إلى صائغ، فقال: دفعته، فطالبه
الموكل ببيانه، فقال القفال: يلزمه البيان. فلو امتنع، صار متعديا، حتى لو بينه
بعد ذلك، وكان تلف في يد الصائغ، يلزمه الضمان. قال القفال: والأصحاب
يقولون: لا يلزمه البيان.
قلت: هذا المنقول عن الأصحاب، ضعيف أو خطأ. والله أعلم.
التاسعة: قال لرجل: بع عبدك لفلان بألف، وأنا أدفعه إليك، فباعه له،
561

قال ابن سريج: يستحق البائع الألف على الآمر دون المشتري. فإذا غرم الآمر،
رجع على المشتري.
قلت: هذا كله مشكل مخالف للقواعد من وجهين، وهما لزوم الألف للآمر،
ورجوعه بها بغير إذن المشتري. ومن قضى دين غيره بلا إذن، لا يرجع قطعا كما
سبق في الضمان. وقد قال أصحابنا: لو قال: بع عبدك لفلان بألف علي، لم
يصح التزامه. فالصواب: أنه لا يلزم الآمر شئ، لأنه ضمان ما لم يجب، ولا
جرى سبب وجوبه. ثم رأيت صاحب الحاوي رحمه الله، أوضح المسألة فقال:
لو قال لرجل: بع عبدك هذا على زيد بألف درهم، وهي علي دونه، فله حالان.
أحدهما: أن يكون هذا الآمر هو المتولي للعقد، فيصح ويكون مشتريا لغيره
بثمن في ذمته، فيعتبر حال زيد المشتري له. فإن كان موليا عليه، أو أذن فيه، كان
الشراء له، والثمن على العاقد الضامن. وإن كان غير مولى عليه، ولا أذن، كان
المشترى للعاقد، يعني على الأصح فيما لو قال: اشتره لزيد، وليس وكيلا له
وعلى وجه: بيعه باطل.
الحال الثاني: أن يكون زيد هو العاقد، فوجهان. أحدهما: يصح ويكون
العبد لزيد بلا ثمن، والثمن على الضامن الآمر، قاله ابن سريج. والثاني - قال:
وهو الصحيح -: أن البيع باطل، لان عقد البيع ما أوجب تمليك المبيع عوضا على
المالك، وهذا مفقود هنا، فيبطل. فعلى هذا، لو قال: بع عبدك على زيد بألف
درهم، وخمسمائة علي، ففعل، فعند ابن سريج: العقد صحيح، وعلى
المشتري ألف، وعلى الآمر خمسمائة، وعلى الصحيح: العقد باطل، هذا كلام
صاحب الحاوي وهو واضح حسن. وعجب من] الامام الرافعي، اقتصاره على ما
حكاه عن ابن سريج، وإهماله بيان المذهب الصحيح. ثم حكايته عن ابن سريج،
مخالفة في الرجوع ما ذكرنا. والله أعلم.
العاشرة: قال: اشتر لي عبد فلان بثوبك هذا، أو بدراهمك، ففعل،
حصل الملك للآمر ورجع عليه المأمور بالقيمة أو المثل. وفي وجه ضعيف: لا
يرجع إلا أن يشرطا الرجوع.
562

الحادية عشرة: متى قبض وكيل المشتري المبيع، وغرم الثمن من ماله، لم
يكن له حبس المبيع ليغرم الموكل له. وفي وجه ضعيف: له ذلك.
الثانية عشرة: وكله عمرو باستيفاء دينه من زيد، فقال زيد: خذ هذه
العشرة، واقض بها دين عمرو، فأخذها، صار وكيلا لزيد في قضاء دينه، حتى
يجوز لزيد استردادها ما دامت في يد الوكيل. ولو تلفت عند الوكيل، بقي الدين
على زيد. ولو قال زيد: خذها عن الدين الذي تطالبني به لعمرو، فأخذها، كان
قبضا لعمرو، وبرئ زيد، وليس له الاسترداد. ولو قال: خذها قضاء لدين فلان،
فهذا محتمل للحالين. فلو تنازع عمرو وزيد، فالقول قول زيد بيمينه.
قلت: المختار في هذه الصورة، أنه عند الاطلاق إقباض بوكالة عمرو. والله
أعلم.
الثالثة عشرة: دفع إليه دراهم ليتصدق بها، فتصدق ونوى نفسه، لغت نيته ووقعت الصدقة للآمر.
الرابعة عشرة: وكل عبدا ليشتري له نفسه، أو مولى اخر من مولاه، صح
على الأصح. فعلى هذا، قال صاحب التقريب: يجب أن يصرح بذكر الموكل
فيقول: اشتريت نفسي منك لموكلي فلان، وإلا فقوله: اشتريت نفسي، صريح
في اقتضاء العتق، فلا يندفع بمجرد النية. ولو قال العبد لرجل: اشتر لي نفسي من
سيدي، ففعل، صح. قال صاحب التقريب: ويشترط التصريح بالإضافة إلى
العبد، فلو أطلق، وقع الشراء للوكيل، لان البائع لا يرضى بعقد يتضمن
الاعتاق قبل توفية الثمن.
الخامسة عشرة: قال لرجل: أسلم لي في كذا، وأد رأس المال من مالك،
ثم ارجع علي، قال ابن سريج: يصح ويكون رأس المال قرضا على الآمر. وقيل:
لا يصح، لان الاقراض لا يتم إلا بالاقباض، ولم يوجد من المستقرض قبض.
قلت: الأصح عند الشيخ أبي حامد وصاحب العدة: أنه لا يصح. قال
الشيخ أبو حامد: هذا الذي قاله أبو العباس، سهو منه. قال: وقد نص الشافعي
563

رضي الله عنه في كتاب الصرف، أن ذلك لا يجوز. والله أعلم.
السادسة عشرة: لو أبرأ وكيل المسلم المسلم إليه، لم يلزم إبراؤه الموكل.
لكن المسلم إليه لو قال: لا أعلمك وكيلا، وإنما التزمت لك شيئا وأبرأتني منه، نفذ في الظاهر، ويتعطل بفعله حق المسلم. وفي وجوب الضمان عليه قولا الغرم
بالحيلولة. والأظهر: وجوبه، لكن لا يغرم مثل المسلم (فيه) ولا قيمته، كي لا يكون
اعتياضا عن السلم، وإنما يغرم رأس المال، كذا حكاه الامام عن العراقيين،
واستحسنه. ورأيت في تعليق الشيخ أبي حامد: أنه يغرم للموكل مثل المسلم فيه.
السابعة عشرة: قال: اشتلي طعاما، نص الشافعي رضي الله عنه، على
أنه يحمل على الحنطة اعتبارا بعرفه. قال الروياني: وعلى هذا لو كان بطبرستان،
لم يصح التوكيل، لأنه لا عرف فيه لهذا اللفظ عندهم.
الثامنة عشرة: قال: وكلتك بابراء غرمائي، لم يملك الوكيل إبراء نفسه. فإن
قال: وإن شئت فأبرئ نفسك، فعلى الخلاف في توكيل المديون بإبراء نفسه. ولو
قال: فرق ثلثي على الفقراء، وإن شئت أن تضعه في نفسك فافعل، فعلى الخلاف
فيمن أذن له في البيع لنفسه.
التاسعة عشرة: قال: بع هذا ثم هذا، لزمه رعاية الترتيب، قاله القفال.
العشرون: جعل للوكيل جلا، فباع، استحقه وإن تلف الثمن في يده، لان
استحقاقه بالعمل وقد عمل
قلت: ومسائل الباب فروع.
أحدها: قال في الحاوي: لو شهد لزيد شاهدان عند الحاكم أن عمرا
وكله، فإن وقع في نفس زيد صدقهما، جاز العمل بالوكالة. ولو رد الحاكم
شهادتهما، لم يمنعه ذلك من العمل بها، لان قبولها عند زيد خبر، وعند الحاكم
شهادة. وإن لم يصدقهما، لم يجز (له) العمل بها، ولا يغني قبول الحاكم شهادتهما
عن تصديقه.
الثاني: قال في الحاوي: إذا سأل الوكيل موكله أن يشهد على نفسه
بتوكيله، فإن كانت الوكالة فيما لو جحده الموكل ضمنه الوكيل، كالبيع، والشراء،
564

وقبض المال، وقضاء الدين، لزمه. وإن كانت فيما لا يضمنه الوكيل، كاثبات
الحق بطلب الشفعة ومقاسمة الشريك، لم يلزمه.
الثالث: قال في البيان: لو قال: اشتر لي جارية أطؤها، ووصفها، وبين
ثمنها، فاشترى من تحرم عليه، أو أخت من يطؤها، لم يلزم الموكل، لأنه غير
المأذون فيه.
الرابع: وكله أن يتزوج امرأة، ففي اشتراط تعيينها وجهان في البيان
وغيره، الأصح أو الصحيح: الاشتراط. والله أعلم.
الباب الثالث في الاختلاف
وهو ثلاثة أضرب.
الأول: في أصل العقد. فإذا اختلفا في أصل الوكالة، أو كيفيتها، أو قدر ما
يشترى به، فقال: وكلتني في بيع كله، أو بيع نسيئة، أو بعشرة، فقال: بل في
بيع بعضه، أو بحال، أو بخمسة، فالقول قول الموكل.
فرع أذن في شراء جارية، فاشتراها الوكيل بعشرين، وقال: أذنت لي في
العشرين، وقال الموكل: بل في عشرة، وحلفناه، فحلف، فينظر في الشراء،
أكان بعين مال الموكل، أم في الذمة؟ فإن كان بعينه، فإن ذكر في العقد أن المال
لفلان، وأن الشراء له، فهو باطل. وإن لم يذكر في العقد، وقال بعد الشراء: إنما
اشتريت له، فإن صدقه البائع، فالعقد باطل، فإذا بطل، فالجارية للبائع وعليه رد ما
أخذ. وإن كذبه البائع، وقال: إنما اشتريت لنفسك والمال لك، حلف على نفي
العلم بالوكالة، وحكم بصحة الشراء للوكيل في الظاهر، وسلم الثمن المعين إلى
البائع، وغرم الوكيل مثله للموكل. وإن كان الشراء في الذمة، نظر، إن لم
يسم الموكل بل نواه، كانت الجارية للوكيل بالشراء له ظاهرا، وإن سماه، فإن
صدقه البائع بطل الشراء، لاتفاقهما على أنه للغير. وإن كذبه، وقال: أنت مبطل
في تسميته، لزم الشراء للوكيل. وهل يكون كما لو اقتصر على النية، أم يبطل
الشراء؟ وجهان سبق نظائرهما. أصحهما: صحته ووقوعه للوكيل. وحيث صححنا
الشراء، وجعلنا الجارية للوكيل ظاهرا، وهو يزعم أنها للموكل، قال المزني:
والشافعي رضي الله عنه: يستحب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالآمر للمأمور،
565

فيقول: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين، فقد بعته إياها بعشرين. فيقول الآخر:
قبلت ليحل له الفرج. قال أصحابنا: إن أطلق الموكل وقال: بعتكها بعشرين.
فقال المشتري: اشتريت، صارت الجارية له ظاهرا وباطنا. وإن علق كما ذكره
المزني، فوجهان. أحدهما: لا يصح، للتعليق. قالوا: والتعليق فيما حكاه
المزني، من كلام الحاكم، لا من كلام الموكل. وأصحهما: الصحة، لأنه لا
يتمكن من البيع إلا بهذا الشرط، فلا يضر التعرض له. وسواء أطلق البيع، أو
علقه، لا نجعل ذلك إقرارا بما قاله الوكيل. وإن امتنع الموكل من الإجابة، أو لم
يرفق به الحاكم، نظر، إن كان الوكيل كاذبا، لم يحل له وطؤها، ولا التصرف فيها
ببيع ولا غيره إن كان الشراء بعين مال الموكل، لان الجارية للبائع. وإن كان في
الذمة، ثبت الحل، لوقوع الشراء للوكيل، لكونه مخالفا للموكل. وذكر في
التتمة: أنه إذا كان كاذبا والشراء بعين مال الموكل، فللوكيل بيعها بنفسه أو
بالحاكم، لان البائع يكون أخذ مال الموكل بغير استحقاق، وقد غرم الوكيل
للموكل، وكان له أن يقول للبائع: رد مال الموكل، لكن تعذر ذلك باليمين، فله
أخذ حقه من الجارية التي هي ملكه.
وإن كان الوكيل صادقا، ففيه أوجه.
أحدها: يحل للوكيل ظاهرا وباطنا، فيحل له الوطئ وكل تصرف، حكي عن
الإصطخري، وهو بناء على أن الملك يقع للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل. فإذا
تعذر نقله، بقي له. ومنهم من خص هذا الوجه بما إذا اشترى في الذمة، وإليه مال الإمام.
والوجه الثاني: إن ترك الوكيل مخاصمة الموكل، فالجارية له ظاهرا وباطنا،
وكأنه كذب نفسه، وإلا، فلا.
والثالث: وهو الأصح: أنه لا يملكها باطنا، بل هي للموكل، وللوكيل عليه
الثمن، فهو كمن له على رجل دين لا يؤديه، فظفر بغير جنس حقه، ففي جواز بيعه
وأخذ الحق من ثمنه، خلاف. الأصح: الجواز. ثم هل يباشر البيع بنفسه، أم
يرفع الامر إلى القاضي ليبيع؟ فيه خلاف. والأصح هنا: (له) البيع بنفسه، لان القاضي
لا يجيبه إلى البيع. وإذا قلنا: ليس له أخذ حقه من ثمنها، فهل يوقف في يده حتى
566

يظهر مالكها، ويأخذها الحاكم ويحفظها؟ وجهان. يأتي نظائرهما إن شاء الله تعالى.
فرع لو اشترى جارية، فقال الموكل: إنما وكلتك بشراء غيرها، وحلف
عليه، بقيت الجارية في يد الوكيل، والحكم على ما ذكرناه في الصورة السابقة،
فيتلطف الحاكم ويرفق.
فرع باع الوكيل مؤجلا، ثم ادعى أنه مأذون له فيه، فقال الموكل ما
أذنت لك إلا في حال، فالقول قول الموكل. ثم لا يخلو، إما أن ينكر المشتري
الوكالة، أو يعترف بها.
الحال الأول: أن ينكر، فالموكل يحتاج إلى البينة. فإن لم تكن فالقول
قول المشتري مع يمينه على نفي العلم بالوكالة، فإن حلف، قرر المبيع في يده،
وإلا، فترد العين على الموكل. فإن حلف، حكم ببطلان البيع، وإلا،
فهو كما لو حلف المشتري. ونكول الموكل عن يمين الرد في خصومة
المشتري، لا يمنعه من الحلف على الوكيل. وإذا حلف عليه، فله أن يغرم الوكيل
قيمة المبيع، أو مثله إن كان مثليا، ولا يطالب الوكيل المشتري حتى يحل الأجل،
مؤاخذة له بمقتضى تصرفه، فإذا حل، نظر، إن رجع عن قوله الأول وصدق
الموكل، لم يأخذ من المشتري إلا أقل الأمرين من الثمن والقيمة. وإن لم يرجع،
بل أصر على قوله، طالبه بالثمن بتمامه. فإن كان مثل القيمة أو أقل، فذاك. وإن
كان أكثر، فالزيادة في يده للموكل بزعمه، والموكل ينكرها، فهل يحفظها أم
يلزمه دفعها إلى القاضي؟ فيه خلاف مذكور في مواضع ثم إن كان ما أخذه من جنس
حقه، فذاك، وإلا فعلى الخلاف السابق، كذا قاله الجمهور وهو المذهب. وقال
الامام، والغزالي: يقطع هنا بأخذه، لان المالك في غير الجنس يدعيه لنفسه،
والموكل هنا لا يدعي الثمن، فأولى مصارفه التسليم إلى الوكيل الغارم.
الحال الثاني: أن يعترف المشتري بالوكالة، فينظر، إن صدق الموكل،
فالبيع باطل، وعليه رد المبيع. فإن تلف، فالموكل بالخيار، إن شاء غرم الوكيل،
لتعديه، وإن شاء غرم المشتري. وقرار الضمان على المشتري، لحصول الهلاك
في يده، ويرجع بالثمن الذي دفعه على الوكيل. وإن صدق الوكيل، فالقول قول
567

الموكل مع يمينه، فإن حلف، أخذ العين. وإن نكل، حلف المشتري وبقيت له.
الموضع الثاني: في المأذون فيه، إذا وكله في بيع، أو هبة، أو صلح، أو طلاق،
أو إعتاق، أو إبراء، فقال: تصرفت كما أذنت، وقال الموكل: لم تتصرف بعد،
نظر، إن جرى هذا الاختلاف بعد انعزال الوكيل، لم يقبل قوله إلا ببينة، لأنه غير
مالك للتصرف حينئذ. وإن جرى قبل الانعزال، فهل القول قول الموكل، أم
الوكيل؟ قولان. أظهرهما عند الأكثرين: الأول، وهو نصه في مواضع. وقيل: ما
يستقل به الوكيل، كالطلاق، والاعتاق، والابراء، يقبل قوله فيه بيمينه، وما لا،
كالبيع، فلا. ولو صدق الموكل الوكيل في البيع ونحوه، لكن قال: عزلتك قبل
التصرف، وقال الوكيل: بل بعد التصرف، فهو كما لو قال الزوج: راجعتك قبل
انقضاء العدة، فقالت: انقضت عدتي قبل الرجعة. ولو قال الموكل: باع الوكيل،
فقال: لم أبع. فإن صدق المشتري الموكل، حكم بانتقال الملك إليه، وإلا،
فالقول قوله.
فرع دعوى الوكيل تلف المال، مقبولة بيمينه قطعا، وكذا دعواه الرد إن
كان بلا جعل، وكذا إن كان بجعل على الأصح، وقد ذكرناه في كتاب الرهن. وكل
ما ذكرناه هنا وهناك، إذا ادعى الرد على من ائتمنه. فإن ادعى الرد على غيره، لم
يقبل، وسيأتي إيضاحه في كتاب الوديعة إن شاء الله تعالى. ومن ذلك، أن يدعي
الوكيل الرد على رسول المالك، لاسترداد ما عنده، وينكر الرسول، فالقول قول
الرسول بلا خلاف، ولا يلزم الموكل تصديق الوكيل على الصحيح، لأنه يدعي
الرد على من لم يأتمنه. وقيل: يلزمه، لأنه معترف بالرسالة، ويد رسوله يده،
فكأنه ادعى الرد عليه. الموضع الثالث: في القبض، فإذا وكله بقبض دين،
فقال: قبضته، وأنكر الموكل، نظر، إن قال: قبضته وهو باق في يدي، فخذه،
لزمه أخذه، ولا معنى لهذا الاختلاف. وإن قال: قبضته وتلف في يدي، فالقول
قول الموكل مع يمينه على نفي العلم بقبض الوكيل، لان الأصل بقاء حقه، هذا
هو المذهب. وقيل بطرد الخلاف في اختلافهما في البيع ونحوه. فعلى المذهب،
568

إذا حلف الموكل، أخذ حقه ممن كان عليه، ولا رجوع له على الوكيل، لاعترافه
بأنه مظلوم. ولو وكله في البيع وقبض الثمن، أو في البيع مطلقا، وجوزنا له قبض
الثمن، فاتفقا على البيع، واختلفا في قبض الثمن، فقال الوكيل: قبضته وتلف في
يدي، أو دفعته إليك وأنكر الموكل، ففي المصدق منهما طريقان. أحدهما: على
الخلاف السابق في البيع ونحوه. وأصحهما: أنهما إن اختلفا قبل تسليم المبيع،
فالقول قول الموكل، وإن كان بعد تسليمه، فوجهان. أحدهما: قول الموكل.
وأصحهما: قول الوكيل، وبه قال ابن الحداد، لان الموكل يدعي تقصيره وخيانته
بالتسليم بلا قبض، والأصل عدمه. وهذا التفصيل فيما إذا أذن في البيع مطلقا.
فإذا أذن في التسليم قبل قبض الثمن، أو في البيع بمؤجل وفي القبض بعد الأجل،
لم يكن خائنا بالتسليم بلا قبض، كالاختلاف قبل التسليم، فإذا صدقنا
الوكيل فحلف، ففي براءة المشتري، وجهان. أصحهما عند الامام: يبرأ.
وأصحهما عند البغوي: لا. فعلى الأول، إذا حلف وبرئ المشتري، ثم وجد
المشتري بالمبيع عيبا، فإن رده على الموكل وغرمه الثمن، لم يكن له الرجوع على
الوكيل، لاعترافه بأن الوكيل لم يأخذ شيئا. وإن رده على الوكيل وغرمه، لم يرجع
على الموكل، والقول قوله بيمينه أنه لم يأخذ منه شيئا، ولا يلزم من تصديقنا للوكيل
في الدفع عن نفسه بيمينه أن نثبت بها حقا على غيره. ولو خرج المبيع مستحقا،
رجع المشتري بالثمن على الوكيل، لأنه دفعه إليه، ولا رجوع له على الموكل لما
سبق. ولو اتفقا على قبض الوكيل الثمن، وقال الوكيل: دفعته إليك، وقال
الموكل: بل هو باق عندك، فهو كما لو اختلفا في رد المال المسلم إليه.
والمذهب: أن القول قول الموكل. ولو قال الموكل: قبضت الثمن فادفعه إلي،
فقال الوكيل: لم أقبضه بعد، فالقول قول الوكيل مع يمينه، وليس للموكل طلبه من
المشتري، لاعترافه بقبض وكيله، لكن لو سلم الوكيل المبيع حيث لا يجوز التسليم
قبل قبض الثمن، فهو متعد، فللموكل أن يغرمه قيمة المبيع.
فصل دفع إليه مالا، ووكله بقضاء دينه به، ثم قال الوكيل: قضيت به،
وأنكر رب الدين، صدق رب الدين بيمينه، فإذا حلف، طالب الموكل بحقه،
وليس له مطالبة الوكيل. وهل يقبل قول الوكيل على الموكل؟ قولان. أظهرهما:
لا. والثاني: نعم بيمينه. فعلى الأظهر: ينظر، إن ترك الاشهاد على الدفع، فإن
569

دفع بحضرة الموكل، فلا رجوع للموكل عليه على الأصح. وإن دفع في غيبته،
رجع، وسواء صدقه الموكل في الدفع، أم لا، على الصحيح. وفي وجه: لا
يرجع إذا صدقه. فلو قال: دفعت بحضرتك، صدق الموكل بيمينه. وإن كان قد
أشهد، لكن مات الشهود، أو جنوا، أو غابوا، فلا رجوع. وإن أشهد واحدا أو
مستورين، فبانا فاسقين، فوجهان. وكل ذلك، على ما ذكرناه في رجوع الضامن
على الأصيل. ولو أمره بالايداع، ففي لزوم الاشهاد وجهان مذكوران في الوديعة.
فصل إذا ادعى قيم اليتيم أو الوصي دفع المال إليه بعد البلوغ، لم يقبل
إلا ببينة على الصحيح.
فصل إذا طالب المالك من في يده المال بالرد، فقال: لا أرد حتى تشهد
عليك، نظر، إن كان ممن يقبل قوله في الرد كالمودع والوكيل، فأوجه. أصحها:
ليس له ذلك. والثاني: بلى. والثالث: إن كان التوقف إلى الاشهاد يؤخر
التسليم، فليس له، وإلا، فله. وإن كان ممن لا يقبل قوله كالغاصب، فإن كان
عليه بينة بالأخذ، فله الامتناع، وإلا، فوجهان. صحح البغوي الامتناع، وقطع
العراقيون بعدمه، لأنه يمكنه أن يقول: ليس له عندي شئ، ويحلف، والمديون
في هذا الحكم كمن لا يقبل قوله في رد الأعيان.
فصل إذا كان عليه دين لزيد، أو عين في يده، فقال رجل: أنا وكيله
بالقبض منك فأقبضنيه، فله حالان. أحدهما: أن يصدقه في دعوى الوكالة، فله
دفعه إليه. فإن دفع فحضر زيد، وأنكر الوكالة، فالقول قوله بيمينه. فإذا حلف،
فإن كان الحق عينا، أخذها، فإن تلفت، فله تغريم من شاء منهما، ولا رجوع
للغارم على الآخر، لأنه مظلوم بزعمه، فلا يؤاخذ غير ظالمه. قال في التتمة:
هذا إذا تلفت بلا تفريط وإن تلفت بتفريط القابض، نظر، إن غرم القابض، فلا
رجوع. وإن غرم الدافع، رجع، لان القابض وكيل عنده، والوكيل يضمن
بالتفريط، وزيد ظالمه بأخذ القيمة منه، وماله في ذمة القابض، فيستوفيه بحقه.
وإن كان الحق دينا، فلمطالبة الدافع بحقه. وإذا غرمه، قال المتولي: إن كان
المدفوع باقيا، فله استرداده وإن كان ذلك لزيد في زعمه، لأنه ظالمه بتغريمه،
570

وقد ظفر بماله. وإن كان تالفا، فإن فرط فيه، غرمه، وإلا، فلا. وهل لزيد مطالبة
القابض؟ نظر، إن تلف المدفوع عنده، فلا، وكذا إن كان باقيا على الأصح،
وبه قال الأكثرون، لان الآخذ فضولي بزعمه، والمأخوذ ليس حقه، وإنما هو مال
المديون. وقال أبو إسحاق، والشيخ أبو حامد: له مطالبته، لأنه في معنى وكيله
بالدفع إليه. فعلى هذا، إذا أخذه، برئ الدافع، هذا كله في جواز الدفع إذا
صدقه في الوكالة، وهل يلزم الدفع، أم له الامتناع إلى قيام البينة؟ نص هنا، أن له
الامتناع. ونص فيما لو أقر بدين أو عين لزيد، وأنه مات وهذا وارثه: أنه يلزمه
الدفع بلا بينة؟ فقيل قولان فيهما. والمذهب: تقرير النصين.
الحال الثاني: أن لا يصدقه، فلا يكلف الرفع إليه. فإن دفع ثم حضر زيد
وحلف على نفي الوكالة، غرم الدافع، وكان له أن يرجع على القابض دينا كان أو
عينا، لأنه لم يصرح بصدقه. ولو أنكر الوكالة أو الحق، وكان الوكيل مأذونا له في
إقامة البينة، أو قلنا: الوكيل بالقبض مطلقا له إقامة البينة، أقامها وأخذ الحق. فإن
لم تكن بينة، فهل له التحليف؟ يبنى على أنه لو صدقه، هل يلزمه الدفع؟ إن
قلنا: نعم، حلفه، وإلا، فيبنى على أن النكول مع يمين الرد كالبينة، أم
كالاقرار؟ وإن قلنا بالأول، حلفه، وإلا، فلا.
فرع جاء رجل وقال لمن عليه الدين: أحالني به مالكه، فصدقه. وقلنا: إذا
صدق مدعي الوكالة، لا يلزمه الدفع، فهنا وجهان. أصحهما: يلزمه كالوارث.
ولو كذبه ولم تكن بينة، هل له تحليفه؟ إن ألزمناه الدفع، فنعم، وإلا، فكما
سبق. ولو قال: مات فلان وله عندي كذا، وهذا وصيه، فهو كقوله: وارثه. فلو
قال: مات، وقد أوصى به لهذا الرجل، فكاقراره بالحوالة.
فرع إذا أوجبنا الدفع إلى الوارث والوصي، أو لم نوجب، فدفع، ثم بان
حياة المستحق وغرم الدافع، فله الرجوع على المدفوع إليه. ولو جحد الحوالة،
فكجحد الوكالة.
فصل إذا ادعى على رجل أنه دفع إليه متاعا ليبيعه ويقبض ثمنه، وطالبه
برده، أو قال: بعته وقبضت ثمنه فسلمه إلي، فأنكر المدعي عليه، فأقام المدعي
بينة بما ادعى، فادعى المدعى عليه أنه كان تلف، أو رد، نظر في صيغة جحوده،
فإن قال: ما لك عندي شئ، أو لا يلزمني تسليم شئ إليك، قبل قوله في الرد
571

والتلف. وإن أقام بينة، سمعت، إذ لا تناقض بين كلاميه. وإذا كانت صيغته: ما
وكلتني، أوما دفعت إلي شيئا، أو ما قبضت، فإن ادعى التلف أو الرد قبل
الجحود، لم يقبل، لمناقضته، ولزمه الضمان. وإن أقام بينة بما ادعاه، فوجهان.
أصحهما: تسمع دعواه وبينته. وأصحهما عند الامام، والغزالي: لا تسمع. ولو
ادعى أنه رد بعد الجحود، لم يصدق، لمصيره خائنا. فلو أقام بينة، سمعت على
المذهب، وهو المعروف، لان غايته أن يكون كالغاصب، ومعلوم أنه تسمع بينته
بالرد. وقال الامام: فيه الوجهان، للتناقض، وهو حسن. ولو ادعى التلف بعد
الجحود، صدق بيمينه لتنقطع عنه المطالبة برد العين، ولكن يلزمه الضمان،
لخيانته، كما إذا ادعى الغاصب التلف.
فصل إذا ادعى عليه خيانة، لم تسمع حتى يبين ما خان به، بأن يقول:
بعت بعشرة، وما دفعت إلي إلا خمسة.
فصل وكل بقبض دين أو استرداد وديعة، فقال المديون والمودع:
دفعت، وصدقه الموكل، وأنكر الوكيل، هل يغرم الدافع بترك الاشهاد؟ وجهان
كما لو ترك الوكيل بقضاء الدين الاشهاد.
قلت: الأصح: أنه لا يغرم. والله أعلم.
فصل من قال: أنا وكيل في النكاح أو البيع، وصدقه من يعامله، صح
العقد. فلو قال الوكيل بعد العقد: لم أكن مأذونا فيه، لم يلتفت إليه، ولم يحكم
ببطلان العقد، وكذا لو صدقه المشتري، لان فيه حقا للموكل، إلا أن يقيم
المشتري بينة على إقراره بأنه لم يكن مأذونا في ذلك التصرف.
572