الكتاب: المجموع
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ١٤
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع
ردمك:
ملاحظات: التكملة الثانية

التكملة الثانية
المجموع
شرح المهذب
الجزء الرابع عشر
دار الفكر
للطباعة والنشر والتوزيع
1

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الضمان (1)
(الشرح) الأصل في جواز الضمان الكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى في سورة يوسف الآية 72 " قالوا: نفقد صواع
الملك ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم " قال ابن عباس: الزعيم الكفيل.
وفيها ست مسائل:
(الأولى) قال علماؤنا: هذا نص في جواز الكفالة. وقال القاضي أبو إسحاق
ليس هذا من باب الكفالة فإنها ليس فيها كفالة إنسان عن إنسان وإنما هو رجل التزم
عن نفسه وضمن منها، وذلك جائز لغة لازم شرعا. قال الشاعر:
فلست بآمر فيها بسلم * ولكني على نفسي زعيم
وقال الآخر:
وإني زعيم إن رجعت مملكا * بسير ترى منه الغرانق أزورا
قال الإمام أبو بكر بن العربي: هذا الذي قاله القاضي أبو إسحاق صحيح. بيد أن
الزعامة فيه نص، فإذا قال أنا زعيم فمعناه أنى ملتزم، وأي فرق بين أن يقول:
التزمه عن نفسي أو التزمت به عن غيري؟
(الثانية) قوله " وأنا به زعيم " إنما يكون في الحقوق التي تجوز النيابة فيها،
وأما كل حق لا يقوم فيه أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيها، وتركب على
هذا مسألة وهي:
(الثالثة) إذا قال: أنا زعيم لك بوجه فلان. قال مالك " يلزمه " وقال
الشافعي لا يلزمه لأنه غرر، إذ لا يدرى هل يجحده أم لا؟ والدليل على جوازه

(1) الضمان مشتق من ضم ذمة إلى ذمة. وقال في البسيط: هو مشتق من
التضمين، ومعناه تضمين الدين في ذمة من لا دين عليه، وقد غلط من قال هو
مأخوذ من الضم فان النون أصلية فيه وهذا لام فعل منه ميم، وأصله ضمم،
والضمان لام فعل منه نون.
3

أن المقصود بالزعامة تنزيل الزعيم مقام الأصل، والمقصود من حضور الأصل
أداء المال، فكذلك الزعيم
(الرابعة) كما أن لفظ الآية نص في الزعامة فمعناها نص في الجعالة، وهي نوع
من الإجارة، لكن الفرق بين الجعالة والإجارة أن الإجارة يتقدر فيها العوض
والمعوض من الجهتين، والجعالة يتقدر فيها الجعل والعمل غير مقدر.
ودليله أن الله سبحانه شرع البيع والابتياع في الأموال لاختلاف الاغراض
وتبدل الأحوال، فلما دعت الحاجة إلى انتقال الاملاك شرع لها سبيل البيع،
وبين أحكامه، ولما كانت المنافع كالأموال في حاجة إلى استيفائها، إذ لا يقدر
كل أحد أن يتصرف لنفسه في جميع أغراضه نصب الله الإجارة في استيفاء المنافع
بالاعواض، لما في ذلك من الاغراض
(الخامسة) فإذا ثبت هذا فقد يمكن تقدير العمل بالزمان كقوله: تخدمني
اليوم. وقد يقول: تخيط لي هذا الثوب، فيقدر العمل بالوجهين، وقد يتعذر
تقدير العمل، كقوله: من جاءني بضالتي فله كذا. فأحد العوضين لا يصح تقديره
والعوض الآخر لا بد من تقديره، فان ما يسقط بالضرورة لا يتعدى سقوطه
إلى مالا ضرورة فيه، والأصل فيه الحديث الذي ورد من أخذ الأجرة على
الرقية: وهو عمل لا يتقدر، وقد كانت الإجارة والجعالة قبل الاسلام فأقرتهما
الشريعة، ونفت عنهما الغرر والجهالة
(السادسة) في حقيقة القول في الآية: ان المنادى لم يكن مالكا، إنما كان
نائبا عن يوسف ورسولا له: فشرط حمل البعير على يوسف لمن جاء بالصواع،
وتحمل هو به عن يوسف، فصارت فيه ثلاث فوائد:
(الأولى) الجعالة، وهي عقد يتقدر فيه الثمن، ولا يتقدر فيه المثمن
(الثانية) الكفالة، وهي ههنا مضافة إلى سبب موجب على وجه التعليق
بالشرط، وقد اختلف الناس فيها اختلافا متباينا تقريره في المسائل وهذا دليل
على جوازه فإنه فعل نبي ولا يكون إلا شرعا.
وقد اختلف الأئمة في الكفالة، فجوزها أصحاب أبي حنيفة محالة على سبب
4

وجوب. كقوله: ما كان لك على فلان فهو على، أو إذا أهل الهلال فلك على
عنه كذا، بخلاف أن تكون معلقة على شرط محضر، كقوله إن قدم فلان.
أو إن كلمت زيدا.
وقال الشافعي لا يجوز بشئ من ذلك. وهذه الآية نص على جوازها محالة
على سبب الوجوب.
(الثالثة) جهالة المضمون له.
قال علماؤنا هي جائزة، وتجوز عندهم أيضا مع جهاله الشئ المضمون أو كليهما
ومن العجب أن أبا حنيفة والشافعي اتفقا على أنه لا تجوز الكفالة مع جهالة
المكفول له. وادعى أصحاب أبي حنيفة أن هذا الخبر منسوخ من الآية خاصه
وقال أصحابنا من أئمة المذهب هذه الآية دليل على جواز الجعل، وهي شرع
من قبلنا، وليس لهم فيه تعلق في مذهب
وقال أصحابنا أيضا إن معرفة المضمون عنه والمضمون له فيه ثلاثة أقوال
(أحدها) أنه لابد من معرفتهما، أما معرفة المضمون عنه فليعلم هل هو
أهل للإحسان أم لا، وأما معرفة المضمون له فليعلم هل يصلح للمعاملة أم لا؟
(الثاني) أنه افتقر إلى معرفة المضمون له خاصة، لان المعاملة معه خاصة
(الثالث) أنه لا يفتقر إلى معرفة واحد منهما وهو الصحيح في حديث أبي
قتادة أنه ضمن عن الميت ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن المضمون له،
ولا عن المضمون عنه، والآية نص في جهالة المضمون له، وحمل جهالة
المضمون عليه أخف
وقال القرطبي، إن قيل كيف ضمن حمل البعير وهو مجهول، وضمان المجهول
لا يصح، قيل له
حمل البعير كان معينا معلوما عندهم كالوسق فصح ضمانه، غير أنه بذل مال
للسارق، ولا يحل للسارق ذلك، فلعله كان يصح في شرعهم، أو كان هذا جعالة
وبذل مال لمن يفتش ويطلب، ثم قال
قال بعض العلماء في هذه الآية دليلان (أحدهما) جواز الجعل وقد أجيز
5

للضرورة، ثم ساق كلام الشافعي الذي سبق إيراده (الثاني) جواز الكفالة على
الرجل لان المؤذن الضامن هو غير يوسف.
قال علماؤنا: إذا قال الرجل تحملت أو تكفلت أو ضمنت أو وأنا حميل لك
أو زعيم لك أو كفيل أو ضامن أو قبيل، أو هو لك عندي أو على أو إلى أو
قبلي، فذلك كله حمالة لازمة. والزعامة لا تكون إلا في الحقوق التي تجوز
النيابة فيها بما يتعلق بالذمة في الأموال وكان ثابتا مستقرا فلا تصح الحمالة بالكتابة
لأنها ليست بدين ثابت مستقر، لان للعبد إن عجز رق وانفسخت الكتابة، وأما
كل حق لا يقوم به أحد عن أحد كالحدود فلا كفالة فيه. ويسجن المدعى عليه
الحد حتى ينظر في أمره.
وشذ أبو يوسف ومحمد فأجازا الكفالة في الحدود والقصاص وقالا: إذا قال
المقذوف أو المدعى القصاص بينتي حاضرة كفله ثلاثة أيام. واحتج الطحاوي لهم
بما رواه حمزة بن عمرو عن عمر وابن مسعود وجرير بن عبد الله والأشعث أنهم
حكموا بالكفالة بالنفس بمحضر الصحابة رضي الله عنهم
وأما السنة ففي حديث أبي هريرة عند أبي داود والترمذي وقال حديث حسن
أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة فقال " ألا إن الله تعالى قد أعطى
كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، ولا تنفق امرأة شيئا من بيتها إلا بإذن
زوجها، والعارية مؤداة والمنحة مردودة، والدين مقضى والزعيم غارم، فلولا
أن الضمان يلزمه إذا ضمن لم يجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم غارما
وروى قبيصة بن المخارق الهلالي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا تحل
الصدقة إلا لثلاثة. فذكر رجلا تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك "
فأباح له الصدقة حتى يؤدى، فدل على أن الحمالة قد لزمته
وروى عن سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل ليصلى عليه
فقال " هل عليه دين " قالوا " نعم. ديناران " قال " هل ترك لهما وفاء؟ قالوا لا
فتأخر. فقيل لم لا تصلى عليه؟ فقال ما تنفعه صلاتي وذمته مرهونة، إلا إن
قام أحدكم فضمنه، فقام أبو قتادة فقال: هما علي يا رسول الله، فصلى عليه النبي
6

صلى الله عليه وسلم " رواه البخاري وأحمد والنسائي والترمذي وصححه. والنسائي
وابن ماجة وقالا " فقال أبو قتادة أنا أتكفل به "
وقد أخرج أحمد وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله وأخرجه أيضا
ابن حبان والدارقطني والحاكم وفيه " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فمن ترك دينا
فعلى، ومن ترك مالا فلورثته "
وفى معناه عند الدارقطني والبيهقي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وفيه
أن عليا قال أنا ضامن، ثم دعا له الرسول صلى الله عليه ثم قال " ما من مسلم فك
رهان أخيه إلا فك الله رهانه يوم القيامة " قال الحافظ بن حجر في إسناده ضعف
وعن سلمان عند الطبراني بنحو حديث أبي هريرة رضي الله عنه وزاد " وعلى
الولاة من بعدي من بيت مال المسلمين " وفى إسناده عبد الله بن سعيد الأنصاري
متروك ومتهم.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه عند ابن حبان في ثقاته ضعف
والحكمة في ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة على من عليه دين
تحريض الناس على قضاء الديون في حياتهم، والتوصل إلى البراءة، وقد توسع
شيخنا الامام النووي رضي الله عنه في كتاب الجنائز من المجموع في بحث صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيان الأحاديث الواردة فيها والكلام عليها
وأما الاجماع فإن أحدا من العلماء لم يخالف في صحة الضمان، وان اختلفوا
في فروع منه على ما بينا في أقوالهم في الكتاب، فإذا ثبت هذا فإنه يقال: ضمين
وكفيل وقبيل وحميل وزعيم وصبير كلها بمعنى واحد
ولابد في الضمان من ضامن ومضمون عنه ومضمون له، ولابد من رضى
الضامن، فان أكره على الضمان لم يصح، ولا يعتبر رضا المضمون عنه. لا نعلم
في ذلك خلافا، لأنه لو قضى الدين عنه بغير إذنه ورضاه صح فكذلك إذا ضمن
عنه. ولا يعتبر رضا المضمون له.
وقال أبو حنيفة " يعتبر " لأنه إثبات مال لآدمي فلم يثبت إلا برضاه أو رضى
من ينوب عنه كالبيع والشراء. وعندنا كالمذهبين لأصحابنا، والله أعلم
7

قال المصنف رحمه الله تعالى:
يصح ضمان الدين عن الميت، لما روى أبو قتادة قال " أقبل بجنازة على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل على صاحبكم من دين فقالوا: عليه
ديناران، قال صلى الله عليه وسلم: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة هما على
يا رسول الله فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " ويصح عن الحي لأنه
دين لازم فصح ضمانه كالدين على الميت.
(الشرح) الحديث مر تخريجه في شرح الترجمة.
أما الأحكام: فإنه يصح ضمان الدين عن الميت سواء خلف وفاء بدينه أو لم
يخلف، وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد. وقال الثوري وأبو حنيفة. لا يصح
الضمان عن الميت إذا لم يخلف وفاء بماله أو بضمان ضامن.
دليلنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال. كان النبي صلى الله عليه وسلم
يؤتى بالميت وعليه دين فيقول. هل خلف لدينه قضاء؟ وروى. وفاء؟ فإذا قيل
له. لم يخلف وفاء، قال للمسلمين. صلوا عليه، فلما فتح الله عليه الفتوح قال.
من خلف مالا فلورثته، ومن خلف دينا فعلى قضاؤه " فضمن النبي صلى الله
عليه وسلم القضاء.
وكذلك حديث جابر رضي الله عنه الذي أشرنا إلى تخريجه في شرح ترجمة
هذا الباب ولفظه " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصلى على رجل مات
عليه دين فأتى بميت فسأل. عليه دين؟ قالوا. نعم ديناران، قال. صلوا على
صاحبكم الحديث " وهي أحاديث تدل على جواز الضمان عن الميت، ولأنه لم يكن
يمتنع من الصلاة إلا على من مات وعليه دين ولم يخلف وفاء، ولان صلاة
رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة، والدين يحجبها بدليل ما روى عن أنس
رضي الله عنه أنه قال. من استطاع منكم أن يموت وليس عليه دين فليفعل فإني
شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أتى بجنازة فقالوا صل عليها فقال أليس عليه
8

دين؟ فقالوا: بلى، فقال " ما ينفعكم صلاتي عليها وهو مرتهن في قبره، فإن
ضمنه أحدكم قمت وصليت عليه ".
قال في البيان: بعد أن ساق هذا الحديث " فكانت صلاتي تنفعه " لان كل
من صح الضمان عنه إذا كان له وفاء بما عليه، صح الضمان عنه، وإن لم يكن له
وفاء كالحي.
(فرع) قال أبو علي الطبري رحمه الله: لو قال تكفلت لك بمالك على فلان
صح، وإن قال: أنا به قبيل، لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين خلافا
لأبي حنيفة، لان القبيل بمعنى قابل كالسميع بمعنى سامع وإيجاب الضمان لا يكون
موقوفا على قبوله فلم يصح.
وإن قال: إلى دين فلان، لم يكن صريحا في الضمان في أحد الوجهين خلافا
لأبي حنيفة. دليلنا: أنه يحتمل قوله إلى بمعنى إذن عنه، ويحتمل مرجعه إلى بحق
أستحقه. ولو قال: خل عن فلان والدين الذي عليه لك عندي، لم يكن صريحا
في الضمان خلافا لأبي حنيفة، لان كلمة عندي تستعمل في غير مضمون كقولهم
الوزير عند الأمير.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ويصح ذلك من كل جائز التصرف في ماله، فأما من يحجر عليه
لصغر أو جنون أو سفه فلا يصح ضمانه، لأنه إيجاب مال بعقد، فلم يصح من
الصبي والمجنون والسفيه كالبيع، ومن حجر عليه للفلس يصح ضمانه. لأنه إيجاب
مال في الذمة بالعقد فصح من المفلس كالشراء بثمن في الذمة. وأما العبد فإنه إن
ضمن بغير إذن المولى ففيه وجهان.
قال أبو إسحاق: يصح ضمانه ويتبع به إذا عتق لأنه لا ضرر فيه على المولى
لأنه يطالب به بعد العتق، فصح منه كالاقرار بإتلاف ماله. وقال أبو سعيد
الإصطخري: لا يصح لأنه عقد تضمن إيجاب مال فلم يصح منه بغير إذن المولى
كالنكاح، فإن ضمن بإذن مولاه صح ضمانه، لان الحجر لحقه فزال بإذنه، ومن
أين يقضي؟ ينظر فيه، فان قال له المولى اقضه من كسبك قضاه منه، وإن قال.
9

أقضه مما في يدك للتجارة قضاه منه لان المال له، وقد أذن له فيه، وإن لم يذكر
القضاء ففيه وجهان.
(أحدهما) يتبع به إذا أعتق، لأنه أذن في الضمان دون الأداء.
(والثاني) يقضى من كسبه إن كان له كسب: أو مما في يده إن كان مأذونا له
في التجارة، لأن الضمان يقتضى الغرم كما يقتضى النكاح المهر، ثم إذا أذن له في
النكاح وجب قضاء المهر مما في يده، فكذلك إذا أذن له في الضمان وجب قضاء
الغرم مما في يده، فإن كان على المأذون له دين وقلنا: إن دين الضمان يقضيه مما
في يده، فهل يشارك فيه الغرماء؟ فيه وجهان.
(أحدهما) يشارك به، لان المال للمولى، وقد أذن له في القضاء منه، اما
بصريح الاذن، أو من جهة الحكم، فوجب المشاركة به.
(والثاني) أنه لا يشارك به، لان المال تعلق به الغرماء فلا يشارك بمال
الضمان كالرهن. وأما المكاتب فإنه ضمن بغير اذن المولى فهو كالعبد القن، وان
ضمن بإذنه فهو تبرع، وفى تبرعات المكاتب بإذن المولى قولان نذكرهما في
المكاتب إن شاء الله تعالى.
(الشرح) الأحكام: يصح الضمان من كل جائز التصرف في المال، فأما الصبي
والمجنون والسفيه فلا يصح ضمان أحد منهم، لأنه ايجاب مال بعقد فلم يصح
كالبيع، فقوله بعقد، احتراز من ايجاب المال عليه بالجناية، ومن نفقة من تجب
عليه نفقته، والزكاة.
وأما المحجور عليه للافلاس فيصح ضمانه لأنه ايجاب مال في الذمة بالعقد
فصح من المفلس، كالشراء بثمن في ذمته كما مضى في التفليس.
وأما المرأة فإنه يصح الضمان منها إذا كانت جائزة التصرف. وقال مالك:
لا يصح الا أن يكون بإذن زوجها. دليلنا أن كل من لزمه الثمن في البيع والأجرة
في الإجارة صح ضمانه كالرجل.
(فرع) ولا يصح الضمان من المبرسم - على ما لم يسم فاعله، والبرسم علة
تصيب الأعصاب - الذي لا يعقل لأنه لا حكم لكلامه، فأما الأخرس فإن لم
10

يكن له إشارة مفهومة وكناية معقولة أو كتابة مقروءة لم يصح ضمانه، وإن كانت
له إشارة مفهومة وكناية معقولة، لأنه حصل مع الكناية إشارة مفهومة،
وإلا فالكتابة المقروءة تنفرد مكانهما أو مكان النطق ما دام ذلك يؤدى إلى فهم
قصده من الضمان على أحد القولين. وإن انفردت إشارته المفهومة بالضمان صح
وإن انفردت الكتابة في الضمان عن إشارة يفهم بها أن قصده الضمان. قال ابن
الصباغ لم يصح الضمان، لان الكتابة قد تكون عبثا، أو تجربة للقلم أو حكاية
للخط. فلم يلزمه الضمان بمجردها.
(مسألة) إذا ضمن العبد دينا لغير سيده فإن كان غير مأذون له في التجارة
نظرت، فإن كان بغير اذن سيده فهل يصح ضمانه؟ فيه وجهان (أحدهما) يصح
ضمانه لأنه مكلف له قول صحيح، وإنما منع من التصرف فيما فيه ضرر على السيد
ولا ضرر على السيد في ضمانه، فهو كما لو أقر لغيره بمال. فعلى هذا يثبت في ذمته
إلى أن يعتق.
(والثاني) لا يصح، لأنه اثبات مال لآدمي بعقد، فلم يصح من العبد بغير
اذن سيده كالمهر، فقولنا " لآدمي " احتراز من النذر. وقولنا " بعقد " احتراز
من الاقرار لأنه اجبار. ومن الجناية على غير سيده.
وان ضمن بإذن سيده صح لان المنع منه لحق السيد، وقد أذن فيه فإن أذن
فيه أن يؤديه من كسبه قضاه منه. وان أطلق الاذن ففيه وجهان
(أحدهما) يقضيه من كسبه. كما لو أذن له سيده في النكاح، فإن المهر والنفقة
يقضيان من كسبه.
(والثاني) لا يقضيه من كسبه، ولكن يتبع به إذا عتق، لان السيد إنما
أذن في الضمان دون القضاء، فيعلق ذلك بذمة العبد لأنها محل للضمان، ويفارق
المهر والنفقة يجبان عوضا عن الاستمتاع المعجل، وكان ما في مقابلهما معجلا.
وحكى أبو علي الشيحي وجها آخر أنه يتعلق برقبته - وليس بشئ - وإن كان
العبد مأذونا له في التجارة فلا يخلو اما أن يضمن بإذن السيد أو بغير اذنه، فإن
ضمن بغير إذنه نظرت، فإن قال: ضمنت لك حتى أؤدي من هذا المال لم يصح
الضمان، لان السيد إنما أذن له في التجارة فيما ينمى المال لا فيما يتلفه.
11

وان ضمن له مطلقا فهل يصح ضمانه؟ على الوجهين في غير المأذون، فإذا قلنا
لا يصح فلا كلام، وان قلنا يصح فإنه لا يجوز له أن يقضى مما في يده من مال
التجارة، ولكن يثبت في ذمته إلى أن يعتق. وان ضمن باذنه صح الضمان.
فإن كان اذن السيد بالضمان مطلقا فمن أين يقضى العبد دين الضمان، فيه
وجهان (أحدهما) من كسبه أو مما في يده للتجارة (والثاني) يثبت في ذمته إلى أن
يعتق. وان أذن له السيد بالضمان في المال الذي في يديه فقال: ضمنت لك حقك
الذي لك على فلان حتى أؤدي من المال الذي في يدي صح الضمان ولزمه أن
يؤدى من المال الذي في يده للتجارة لان المنع منه لأجل السيد، وقد أذن فجاز
فإذا قال الحر: ضمنت لك دينك على فلان في هذا المال لم يصح الضمان،
والفرق بينهما أن العبد ضمن الحق في ذمته. وإنما علق الأداء في مال بعينه،
والحر لم يضمن الحق في ذمته، وإنما ضمنه في المال بعينه، فوزانه أن يقول الحر
ضمنت لك دينك على فلان وأزنه من هذا المال فيصح الضمان، فإن كان على
المأذون له (العبد) دين يستغرق ما بيده ثم أذن له السيد بالضمان والقضاء مما في
يده من مال التجارة، أو قلنا يلزمه القضاء منه، على أحد الوجهين، فهل يشارك
المضمون له الغرماء، فيه وجهان
(أحدهما) يشاركهم، لان المال للسيد، وقد أذن بالقضاء منه، اما بصريح
القول أو من جهة الحكم
(والثاني) لا يشاركهم، لان حقوق أصحاب الديون متعلقة بما في يده فصار
ذلك كالمرهون بحقوقهم، نرى أن السيد لو أراد أخذ ذلك قبل قضاء الغرماء لم
يكن له ذلك.
(فرع) وإن كان في ذمة العبد دين فضمن عنه ضامن صح الضمان لان
الدين في ذمته لازم، وإنما لا يطالب به لعجزه في حال رقه فصح الضمان عنه
كالدين على المعسر. قال الصيمري: لو ثبت على عبده دين بالمعاملة فضمنه عنه
سيده صح ضمانه كالأجنبي
(فرع) وأما المكاتب فإنه إذا ضمن دينا على سيده - فإن كان بغير اذنه
12

فهل يصح؟ فيه وجهان كما قلنا في غير المكاتب، وإن قلنا لا يصح فلا كلام،
وان قلنا يصح كان ذلك في ذمته إلى أن يعتق
وإن ضمن بإذن سيده، فان قلنا يجوز للكاتب أن يهب شيئا من حاله بإذن سيده
على ما مضى من بياننا لحكمه وإن قلنا لا يجوز للمكاتب أن يهب شيئا لغيره
بغير إذن سيده فالذي يقتضى المذهب أن يصح الضمان ويتبع به إذا عتق، ولا
يقضى من المال الذي بيده قبل أداء الكتابة والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويصح الضمان من غير رضا المضمون عنه لأنه لما جاز قضاء دينه
من غير رضاه، جاز ضمان ما عليه من غير رضاه. واختلف أصحابنا في رضا
المضمون له، فقال أبو علي الطبري: يعتبر رضاه لأنه إثبات مال في الذمة بعقد
لازم، فشرط فيه رضاه كالثمن في البيع
وقال أبو العباس: لا يعتبر، لان أبا قتادة ضمن الدين عن الميت بحضرة
النبي. ولم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم رضا المضمون له
(فصل) وهل يفتقر إلى معرفة المضمون له والمضمون عنه. فيه ثلاثة
أوجه (أحدها) أنه يفتقر إلى معرفة المضمون عنه، ليعلم أنه هل هو ممن يسدى
إليه الجميل ويفتقر إلى معرفة المضمون له ليعلم هل يصلح لمعاملته أم لا يصلح، كما
يفتقر إلى معرفة ما تضمنه من المال هل يقدر عليه أم لا يقدر عليه (والثاني) أنه
يفتقر إلى معرفة المضمون له: لان معاملته معه ولا يفتقر إلى معرفة المضمون
عنه لأنه لا معاملة بينه وبينه (والثالث) أنه لا يفتقر إلى معرفة واحد منهما لان
أبا قتادة ضمن عن الميت: ولم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن المضمون له،
والمضمون عنه.
(الشرح) الأحكام: يصح الضمان من غير رضى المضمون عنه، لان عليا
رضي الله عنه وأبا قتادة رضي الله عنه ضمنا عن الميت بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم.
والميت لا يمكن رضاه، ولأنه لما جاز له أن يقضى الدين بغير اذن جاز أن يضمن
عنه الدين بغير اذنه. وأما المضمون له فهل يعتبر رضاه؟ فيه وجهان قال أبو علي
13

الطبري: يعتبر رضاه، وهو قول أبي حنيفة كما سبق في شرح ترجمة الباب إلا في
مسألة واحدة، وهو إذا قال المريض لبعض ورثته اضمن عنى دينا لفلان الغائب
فضمن عنه بغير اذن المضمون له وان لم يسم الدين استحسانا، لأنه اثبات مال
لآدمي فلم يصح الا برضاه أو من ينوب عنه كالبيع والشراء له
فقولنا " لآدمي " احتراز كما قلنا من النذر. وقال أبو العباس بن سريج يصح
من غير رضاه، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، وبه قال أبو يوسف لان عليا
وأبا قتادة رضي الله عنهما ضمنا الدين بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بغير رضا المضمون له
ولأن الضمان وثيقة بالحق فلم يفتقر إلى رضا من له الوثيقة، كما لو أشهد من
عليه الدين بنفسه فصحت الشهادة وان لم يرض المشهود له.
وأما معرفة الضامن للمضمون له والمضمون عنه فهل يفتقر إلى ذلك
فيه ثلاثة أوجه
(أحدها) أنه لا يفتقر إلى معرفة واحد منهما، وإنما يضمن بالاسم والنسب
ووجهه ضمان أبى قتادة وعلي، ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يعرفان
عين المضمون له والمضمون عنه أم لا، ولو كان الحكم يختلف بذلك لبينه
النبي صلى الله عليه وسلم، ولان الواجب أداء الحق فلا حاجة إلى معرفة
ما سوى ذلك.
(والثاني) أنه لا يصح حتى يعرف الضامن عينهما: لان معاملته المضمون له
فلابد من معرفته بعينه ليعلم هل هو أهل لان يسدى إليه الجميل أم لا.
(والثالث) أنه يفتقر إلى معرفة عين المضمون له لان معاملته معه، ولا
يفتقر إلى معرفة المضمون عنه، لأنه لا معاملة بينه وبينه
قال المحاملي فإذا قلنا بهذا افتقر إلى قبوله، فان قيل لزم الضمان وان رد
بطل، وان رجع الضامن قبل قبول المضمون له صح رجوعه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان باعه بشرط أن يضمن الثمن ضامن، لم يجز حتى يعين
الضامن، لان الغرض يختلف باختلاف من يضمن، كما يختلف باختلاف
14

ما يرهن من الرهون: وإن شرط أن يضمنه ثقة لم يجز حتى يعين، لان الثقات
يتفاوتون، فإن لم يف له بما شرط من الضمين ثبت للبائع الخيار، لأنه دخل في
العقد بشرط الوثيقة ولم يسلم له الشرط، فثبت له الخيار، كما لو شرط له رهنا ولم
يف له بالرهن.
وإن شرط أن يشهد له شاهدين جاز من غير تعيين، لان الاغراض
لا تختلف باختلاف الشهود، فان عين له شاهدين فهل يجوز إبدالهما بغيرهما؟
فيه وجهان (أحدهما) لا يجوز. كما لا يجوز في الضمان (والثاني) يجوز،
لان الغرض لا يختلف.
(الشرح) الأحكام: إذا باع رجل من غيره شيئا بثمن في ذمته بشرط أن
يضمن له بالثمن ضامن معين صح البيع والشرط، لان الحاجة تدعو إلى شرط
الضمين في عقد البيع، فإن لم يضمن له الضمين المعين ثبت للبائع الخيار في
فسخ البيع، لأنه إنما دخل في البيع بهذا الشرط، فإذا لم يف له المشترى بالشرط
ثبت للبائع الخيار. وان أتاه المشترى بضمين غير الضمين المعين لم يلزم البائع
قبوله بل يثبت له الخيار، وإن كان الذي جاءه به أملا من المعين، لأنه قد يكون
له غرض في ضمانه المعين، وان شرط في البيع أن يضمن له بالثمن معه لم يصح
الشرط وبطل البيع لان الثقات يتفاوتون، وإذا كان الشرط مجهولا بطل البيع
(فرع) وان باعه سلعة بثمن بشرط أن يشهد له شاهدين جاز من غير
تعيين وكان عليه أن يشهد له شاهدين عدلين، لان الاغراض لا تختلف
باختلاف الشهود، فإذا لم يشهد له ثبت لصاحبه الخيار في فسخ البيع، وان باعه
بشرط أن يشهد له شاهدين معينين فأشهد له شاهدين عدلين غير المعينين
فهل يسقط خيار الآخر؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يلزم الآخر قبول ذلك بل يثبت له الخيار في فسخ البيع. كما
قلنا في الضمين المعين (والثاني) يلزم قبول ذلك ولا خيار له لأنه لا غرض له
في أعيان الشهود إذا حصلت العدالة، ولهذا قلنا لابد في شرط الضمين من تعيينه
وفى الشهادة يجوز شرط شاهدين عدلين وإن كانا غير معينين. والذي يقتضى
15

المذهب أن هذا الشرط في الشهادة يصح أن يكون وثيقة لكل واحد من المتبايعين
ويثبت لكل واحد منهما الخيار، إذا شرط ذلك على الآخر ولم يف الآخر له
بذلك، لان للبائع غرضا في الاستيثاق بالشهادة خوفا أن يستحق عليه المبيع
فيرجع بالثمن على البائع
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ويصح ضمان كل دين لازم كالثمن والأجرة وعوض القرض ودين
السلم وأرش الجناية وغرامة المتلف لأنه وثيقة يستوفى منها الحق فصح في كل
دين لازم كالرهن، وأما مالا يلزم بحال وهو دين الكتابة فلا يصح ضمانه لأنه
لا يلزم المكاتب أداؤه فلم يلزم ضمانه، ولأن الضمان يراد لتوثيق الدين،
ودين الكتابة لا يمكن توثيقه، لأنه يملك إسقاطه إذا شاء فلا معنى لضمانه،
وفى مال الجعالة والثمن في مدة الخيار ثلاثة أوجه
(أحدها) لا يصح ضمانه لأنه دين غير لازم فلم يصح ضمانه كدين الكتابة
(والثاني) يصح لأنه يؤول إلى اللزوم فصح ضمانه (والثالث) يصح ضمان الثمن
في مدة الخيار ولا يصح ضمان مال الجعالة لان عقد البيع يؤول إلى اللزوم وعقد
الجعالة لا يلزم بحال.
فأما المال المشروط في السبق والرمي ففيه قولان (أحدهما) أنه كالإجارة
فيصح ضمانه (والثاني) أنه كالجعالة فيكون في ضمان وجهان
(الشرح) الأحكام قال أصحابنا: الحقوق على أربعة أضرب
(أحدها) حق لازم كالثمن في الذمة بعد قبض المبيع، والأجرة في الذمة بعد
انقضاء الإجارة ومال الجعالة بعد العمل، والمهر بعد الدخول وعوض القرض
وقيم المتلفات فهذا يصح ضمانه لأنه دين لازم مستقر
(الضرب الثاني) دين لازم غير مستقر كالمهر قبل الدخول، وثمن المبيع
قبل قبض المبيع والأجرة قبل انقضاء الإجارة ودين السلم، فهذا يصح ضمانه
أيضا وقال احمد رضي الله عنه في إحدى الروايتين لا يصح سمان المسلم فيه.
16

لأنه يؤدى إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم عليه فهو كالحوالة. ودليلنا أنه
دين لازم فصح ضمانه كالمهر بعد الدخول
(الضرب الثالث) دين ليس بلازم ولا يؤول إلى اللزوم، وهو دين الكتابة
فلا يصح ضمانه لان المكاتب يملك إسقاطه بتعجيز نفسه فلا معنى لضمانه، ولان
ذمة الضامن فرع لذمة المضمون، فإذا لم يلزم الأصل لم يلزم الفرع، ومن حكم
الضمان أن يكون لازما، وإن كان على المكاتبة دين لأجنبي صح ضمانه لأنه
دين لازم عليه، وإن كان عليه لسيده دين من غير جهة الكتابة فهل يصح ضمانه
فيه وجهان (أحدهما) يصح ضمانه لأنه يجبر على أدائه (والثاني) لا يصح ضمانه
لأنه قد يعجز نفسه فيسقط ما في ذمته لسيده
قال العمراني: وأصلهما الوجهان هل يستدام ثبوت الدين في ذمته لسيده بعد
أن يصير ملكا له؟ فيه وجهان.
فإن قلنا: يستدام ثبوته صح ضمانه، وإن قلنا: لا يستدام ثبوته لم يصح
ضمانه. الضرب الرابع: دين غير لازم إلا أن يؤول إلى اللزوم، وهو مال الجعالة
قبل العمل بأن يقول: من رد ضالتي فله دينار، فان أضمن عنه غيره ذلك قبل
رد الضالة هل يصح، فيه وجهان.
(أحدهما) يصح لقوله تعالى: قالوا " نفقد صواع الملك ولمن جاء به حمل
بعير وأنا به زعيم " فضمن المنادى مال الجعالة، وحمل البعير معلوم.
(والثاني) لا يصح، لأنه دين غير لازم فلا يصح ضمانه، كمال الكتابة،
وممن قال: لم يضمن المنادى، وإنما أخبر عن الملك أنه بذل لمن رده حمل البعير،
وأن الملك قال: وأنا به زعيم.
وأما ضمان ثمن المبيع في مدة الخيار فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال:
فيه وجهان، كمال الجعالة قبل العمل، ومنهم من قال يصح ضمانه وجها واحدا
لأنه يؤول إلى اللزوم، ولان الثمن قد لزم، وإنما له إسقاطه بالفسخ بخلاف مال
الجعالة، فإنه لا يلزم بحال.
(فرع) وأما مال السبق والرمي بعد العمل فيصح ضمانه، لأنه دين لازم
17

مستقر، فهو المهر بعد الدخول، وأما قبل العمل فإن كان المخرج للسبق أحدهما
أو أجنبيا فهل يصح ضمانه: فيه وجهان، كما في الجعالة، وإن كان مال السبق
منهما وبينهما محلل، فان قلنا إن ذلك كالإجارة صح ضمانه، كضمان الأجرة قبل
انقضاء مدة الإجارة، وإن قلنا: إنها كالجعالة كان في ضمان المال عنهما: أو عن
أحدهما، وجهان كمال الجعالة.
(فرع) وأما أرش الجناية والدية - فإن كان دراهم أو دنانير - مثل أن جنى
على عبد أو كانت الإبل معدومة، فأوجبنا قيمتها وكانت معلومة، أو قلنا يجب
ألف مثقال، أو اثنى عشر ألف درهم صح ضمانها. وإن كان الواجب الإبل. فهل
يصح ضمانها، فيه وجهان، بناء على القولين في جواز بيعها.
(فرع) وأما ضمان نفقة الزوجة - فإن ضمن عنه نفقة مدة قد مضت -
صح ضمانها، لأنه دين لازم مستقر فهي كالمهر بعد الدخول، وإن ضمن عنه نفقة
يومه الذي هو فيه صح أيضا، لأنه دين لازم فصح ضمانه، وإن كان غير مستقر
كضمان المهر قبل الدخول لم يصح، وإن ضمن عنه مدة مستقبلة
معلومة فهل يصح؟ فيه قولان بناء على أن النفقة تجب بالعقد أو بالعقد والتمكين
من الاستمتاع، فقال في القديم: يجب بالعقد، وإنما يجب استيفاؤها يوما بيوم
فعلى هذا يصح أن يضمن نفقة مدة معلومة، ولكن لا يضمن إلا نفقة المعسر.
وإن كان الزوج وقت الضمان موسرا، لان نفقة المعسر متحققة، وما زاد
على ذلك مشكوك فيه.
وقال في الجديد: لا تجب النفقة إلا بالعقد والتمكين من الاستمتاع، فعلى
هذا لا يصح أن يضمن نفقة مدة مستقبلة بحال.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز ضمان المجهول، لأنه إثبات مال في الذمة بعقد لآدمي
فلم يجز مع الجهالة، كالثمن في البيع، وفى إبل الدية وجهان.
(أحدهما) لا يجوز ضمانه، لأنه مجهول اللون والصفة (والثاني) أنه يجوز
18

لأنه معلوم السن والعدد، ويرجع في اللون والصفة إلى عرف البلد.
(فصل) ولا يصح ضمان ما لم يجب، وهو أن يقول: ما تداين فلان فأنا
ضامن له، لأنه وثيقة بحق، فلا يسبق الحق كالشهادة.
(الشرح) الأحكام: لا يصح ضمان مال مجهول، وهو أن يقول ضمنت لك
ما تستحقه على فلان من الدين، وهو لا يعلم قدره، وكذلك لا يصح ضمان ما لم
يجب، وهو أن يقول: ضمنت لك ما تداين فلانا، وبه قال الليث وابن أبي ليلى
وابن شبرمة والثوري وأحمد.
وقال مالك وأبو حنيفة: يصح ضمان المجهول، وضمان ما لم يجب، وقال
أبو العباس بن سريج: وهو قول الشافعي في القديم كما قال الشافعي في القديم:
يصح ضمان نفقة الزوجة عن مدة مستقبلة، وهذا ضمان ما لم يجب، وضمان
مجهول وهو طريقة الخراسانيين أنها على قولين، قال الشيخ أبو حامد خالف سائر
أصحابنا ذلك، وقالوا: لا يصح قولا واحدا، وما قاله الشافعي رحمه الله في القديم
أنه يصح ضمان نفقة الزوجة مدة مستقبلة، فإنها أجازه لان النفقة تجب على هذا
بالعقد فقد ضمن ما وجب، ولا يصح منها إلا ضمان شئ مقدر وليس بمجهول
دليلنا: على أنه لا يصح ضمانها لأنه إثبات مال في الذمة بعقد لازم فلم يصح
مع جهله، ولا قبل ثبوته كالثمن في البيع، والمهر في النكاح فقولنا: في الذمة
احتراز ممن غصب من رجل شيئا مجهولا، وقولنا بعقد، احتراز ممن أتلف على
غيره مالا أو وطئ امرأة بعقد فاسد، فان ذلك يثبت في ذمته مالا، وإن كان
لا يعلم قدره.
(فرع) قال في الإبانة: فلو جهل مقدار الدين إلا أنه قال: ضمنت لك من
درهم إلى عشرة. وقلنا لا يصح ضمان المجهول، فهل يصح هذا، فيه قولان.
(أحدهما) قال: وهو الأشهر -: يصح، لان جملة ما ضمن معلومة (والثاني)
وهو الاقيس أنه لا يصح، لان مقدار الحق مجهول.
(فرع) فأما إذا قال الرجل لغيره ضمنت لك ما تعطى وكيلي وما يأخذ منك
فان يلزمه ذلك، لا من جهة الضمان، ولكن من جهة التوكيل، وذلك أن يد
الوكيل يد الموكل.
19

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز تعليقه على شرط، لأنه ايجاب مال لآدمي بعقد، فلم
يجز تعليقه على شرط كالبيع. وان قال: ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه صح
فإذا ألقاه وجب ما ضمنه. لأنه استدعاء اتلاف بعوض لغرض صحيح. فأشبه إذا
قال: طلق امرأتك أو أعتق عبد على ألف، وان قال: بع عبدك من زيد
بخمسمائة ولك على خمسمائة أخرى فباعه، ففيه وجهان.
(أحدهما) يصح البيع، ويستحق ما بذله لأنه مال بذله في مقابلة إزالة الملك
فأشبه إذا قال: طلق امرأتك أو أعتق عبدك على ألف.
(والثاني) لا يصح لأنه بذل مال لغرض غير صحيح فلم يجز، ويخالف ما بذله
في الطلاق والعتق، فان ذلك بذل مال لغرض صحيح، وهو تخليص المرأة من
الزوج وتخليص العبد من الرق
(الشرح) الأحكام: لا يصح تعليق الضمان على شرط بأن يقول: إذا جاء
رأس الشهر فقد ضمنت لك دينك على فلان. وحكى المسعودي أن أبا حنيفة
قال " يصح ".
دليلنا أنه إيجاب مال لآدمي بعقد فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع. وقوله
لآدمي احتراز من النذر كما سبق تقريره، وقولنا بعقد احتراز من وجوب النفقة
للقريب والزوجة فإنه معلق بشروط
(فرع) إذا قال لغيره في البحر عند هيجان الموج وخوف الغرق: ألق
متاعك في البحر وعلى ضمانه فألقاه، وجب على المستدعى ضمانه. وقال أبو ثور
لا يصح لأنه ضمان ما لم يجب
دليلنا أنه استدعاء إتلاف ملك لغرض صحيح فصح، كما لو قال: طلق امرأتك
بمائة درهم على، وكان الغرض صحيحا لحسم نزاع أو درء مضارة صح الضمان.
وكذا لو قال: أعتق عبدك بمائة على، فإن ذلك غرض صحيح لان فيه فكاكا
لآدمي من الرق وهو قربة إلى الله تعالى ومقصد من مقاصد الشريعة السمحة،
فان قال لرجل: بع عبدك من زيد بألف وعلى لك خمسمائة فباعه. قال الصيدلاني
20

وقاله في العقد. فهل يصح العقد؟ فيه وجهان لأبي العباس بن سريج. أحدهما
يصح البيع ويستحق البائع على المشترى خمسمائة وعلى المستدعى خمسمائة، لأنه
مال بذله في مقابلة إزالة ملكه فيصح
والثاني: لا يصح. ولا يستحق على الباذل شيئا لان الثمن يجب أن يكون
جميعه على المشترى، فإذا شرط بعضه على غيره لم يصح.
وإذا قال بع سيارتك من فلان بألف على إن أذن منه خمسمائة جاز وينظر
فان ضمن قبل المبيع لم يلزمه لأنه ضامن قبل الوجوب، وان ضمنه بعده لزمه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجوز أن يضمن الدين الحال إلى أجل لأنه رفق ومعروف
فكان على حسب ما يدخل فيه، وهل يجوز أن يضمن المؤجل حالا؟ فيه وجهان
(أحدهما) يجوز كما يجوز أن يضمن الحال مؤجلا
(والثاني) لا يجوز، لأن الضمان فرع لما على المضمون عنه فلا يجوز أن
يكون الفرع معجلا والأصل مؤجلا
(الشرح) الأحكام: إذا كان لرجل على غيره دين حال فضمنه عنه ضامن
إلى أجل معلوم صح الضمان وكان الدين معجلا على المضمون مؤجلا على
الضامن، لأن الضمان رفق ومعروف، فكان على حسب الشرط، وكذلك
إذا كان الدين مؤجلا إلى شهر، فضمنه عنه ضامن مؤجلا إلى شهرين كان
مؤجلا على المضمون عنه إلى شهر وعلى الضامن إلى شهرين، فان قبل فعندكم
الدين الحال لا يتأجل فكيف تأجل على هذا الضامن؟
فالجواب أن الدين لم يثبت على الضامن حالا، وإنما ثبت عليه مؤجلا،
والدين يتأجل في ابتداء ثبوته، وإن كان الدين على رجل مؤجلا فضمنه
ضامن حالا أو كان مؤجلا على من هو عليه إلى شهرين فضمنه عنه ضامن
إلى شهر ففيه ثلاثة أوجه حكاها المحاملي وابن الصباغ
(أحدها) يصح الضمان ويلزم الضامن تعجيل الدين دون المضمون عنه
لأنه ضمن له دينا فكان على حسب ما ضمنه، كما لو ضمن المعجل مؤجلا.
21

(والثاني) لا يصح الضمان، لان الضامن فرع للمضمون عنه، فلا يجوز أن
يستحق مطالبة الضامن دون المضمون عنه (والثالث) يصح الضمان ولا يلزمه
التعجيل كأصله.
إذا ثبت هذا فضمن الحال مؤجلا فمات الضامن، حل عليه الدين ووجب
دفع ذلك من تركته، ولو لم يكن لورثته الرجوع على المضمون عنه حتى يحل
الأجل. وقال زفر: يرجعون عليه في الحال، لأنه أدخله في ذلك مع علمه
أنه يحل بموته.
دليلنا أن المضمون عنه لم يأذن في الضمان عنه إلا إلى أجل، فلا يستحق
الرجوع عليه في الحال.
وإن مات المضمون عنه - فإن اختار المضمون له الرجوع على الضامن
لم يطالبه قبل حلول الأجل، وإن اختار المطالبة من تركة المضمون عنه كان له
ذلك في الحال، وبه قال أحمد وأصحابه.
قال المصنف رحمه الله تعالى.
(فصل) ولا يثبت في الضمان خيار، لان الخيار لدفع الغبن وطلب
الحظ، والضامن يدخل في العقد على بصيرة أنه مغبون، وانه لاحظ له في
العقد، ولهذا يقال الكفالة أولها ندامة، وأوسطها ملامة. وآخرها غرامة
(الشرح) الأحكام: لا يجوز شرط الخيار في الضمان، فإذا شرط فيه
أبطله. وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى يصح الضمان ويبطل الشرط.
دليلنا أن الخيار يراد لطالب الحظ. والضامن يعلم أنه مغبون لا من جهة المال
بل من جهة الثواب. ولهذا يقال الكفالة أولها ندامة، وأوسطها ملامة وآخرها
غرامة، وإذا ثبت أنه لا وجه لشرط الخيار فيه. قلنا عقد لا يدخله خيار
الشرط فأبطله كالصرف والسلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ويبطل بالشروط الفاسدة، لأنه عقد يبطل بجهالة المال فبطل
22

بالشرط الفاسد كالبيع، وان شرط ضمانا فاسدا في عقد بيع فهل يبطل البيع؟
فيه قولان كالقولين في الرهن الفاسد إذا شرطه في البيع، وقد بينا وجه القولين
في الرهن.
(الشرح) الأحكام: يبطل الضمان بالشروط الفاسدة، لأنه عقد يبطل
بجهالة المال فبطل بالشروط الفاسدة كالبيع وفيه احتراز من الوصية، فإن قال
بعتك سيارتي بألف على أن يضمن لي فلان عليك على أنه بالخيار، فهذا شرط
يفسد الضمان، وهل يفسد البيع في السيارة بذلك، فيه قولان كالقولين فيمن
شرط رهنا فاسدا في بيع، وقد سبق توجيهما في الرهن
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ويجب بالضمان الدين في ذمة الضامن ولا يسقط عن المضمون
عنه. والدليل عليه ما روى جابر رضي الله عنه قال " توفى رجل منا فأتينا النبي
صلى الله عليه وسلم ليصلى عليه، فخطى خطوة ثم قال: أعليه دين، قلنا ديناران
فتحملهما أبو قتادة، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران، قال إنما مات أمس
ثم أعاد عليه بالغد، قال قد قضيتهما، قال الآن بردت عليه جلده " ولأنه وثيقة
بدين في الذمة فلا يسقط الدين عن الذمة كالرهن، ويجوز للمضمون له مطالبة
الضامن والمضمون عنه، لان الدين ثابت في ذمتهما فكان له مطالبتهما، فإن
ضمن عن الضامن ثالث جاز لأنه ضمان دين ثابت فجاز كالضمان الأول،
وان ضمن المضمون عنه عن الضامن لم يجز لان المضمون عنه أصل والضامن
فرع، فلا يجوز أن يصير الأصل فرعا والفرع أصلا، ولأنه يضمن ما في ذمته
ولأنه لا فائدة في ضمانه وهو ثابت في ذمته.
(الشرح) حديث جابر رضي الله عنه ولفظه " توفى رجل فغسلناه وحنطناه
وكفناه ثم أتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فقلنا: تصلى عليه فخطى خطوة ثم قال:
أعليه دين. قلنا ديناران، فانصرف، فتحملهما أبو قتادة، فأتيناه فقال أبو قتادة
الديناران على، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أوفى الله حق الغريم وبرئ
23

منه الميت، قال نعم. فصلى عليه، ثم قال بعد ذلك بيوم: ما فعل الديناران؟
إنما مات أمس. قال فعاد إليه من الغد فقال: قد قضيتهما، فقال النبي صلى الله
عليه وسلم: الآن بردت عليه جلده " رواه أحمد وأبو داود والنسائي والدارقطني
وصححه ابن حبان والحاكم.
وفى قوله " أتينا به النبي صلى الله عليه " زاد الحاكم " ووضعناه حيث توضع
الجنائز عند مقام جبريل عليه السلام "
قوله " فانصرف " لفظ البخاري في حديث أبي هريرة: فقال النبي صلى الله
عليه وسلم " صلوا على صاحبكم " وقد سبق لنا تخريجه. وكذلك حديث
سلمة بن الأكوع
أما الأحكام: فإنه إذا ضمن عن غيره دينا تعلق الدين بذمة الضامن ولا
يبرأ المضمون عنه بالضمان، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأهل العلم. وقال ابن أبي
ليلى وابن شبرمة وداود وأبو ثور: تبرأ ذمة المضمون عنه
بالضمان ويتحول الحق إلى ذمة الضامن، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم
لأبي قتادة رضي الله عنه: حق الغريم عليك والميت منه برئ. قال نعم، ولقوله
صلى الله عليه وسلم لعلى رضي الله عنه: فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك
ودليلنا ما روى جابر رضي الله عنه الحديث الذي سقناه وفيه " الآن بردت عليه
جلده " فلو كان قد تحول الدين عن المضمون عنه بالضمان لكان قد برد جلده
بالضمان، ولأن الضمان وثيقة بدين، فلم يتحول إلى الوثيقة ويسقط عن
الذمة كالرهن والشهادة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة رضي الله عنه " والميت منه برئ "
يريد به من الرجوع في تركته. وأما قوله صلى الله عليه وسلم لعلى رضي الله عنه
" فك الله رهانك كما فككت رهان أخيك " أراد به لامتناعه صلى الله عليه وسلم
من الصلاة عليه لأجل ما عليه من الدين فلما ضمنهما عنه فك رهانه لصلاة النبي
صلى الله عليه وسلم، لان صلاته رحمة
إذا ثبت هذا فيجوز للمضمون له مطالبة من شاء من الضامن والمضمون عنه
وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك: لا يطالب الضامن إلا إذا تعذرت مطالبة
24

المضمون عنه، دليلنا أن الحق متعلق بذمة كل واحد منهما، فكان له مطالبة كل
واحد منهما كالضامنين.
(فرع) قال العمراني في البيان: فإن ضمن عن الضامن ضامن أجنبي صح
الضمان لأنه دين لازم عليه كالضمان الأول، وان ضمن عن الضامن المضمون
عنه لم يصح ضمانه، لأن الضمان يستفاد به حق المطالبة، ولا فائدة في هذا
الضمان لان الحق ثابت في ذمته قبل الضمان، ولان الضامن فرع المضمون
عنه فلا يجوز أن ينقلب الأصل فرعا والفرع أصلا. اه‍
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن ضمن عن رجل دينا بغير إذنه لم يجز له مطالبة المضمون عنه
بتخليصه، لأنه لم يدخل فيه بإذنه فلم يلزمه تخليصه، وان ضمن بإذنه نظرت،
فإن طالبه صاحب الحق جاز له مطالبته بتخليصه، لأنه إذا جاز أن يغرمه إذا
غرم جاز أن يطالبه إذا طولب
وإن لم يطالب ففيه وجهان (أحدهما) له أن يطالبه، لأنه شغل ذمته بالدين
بإذنه فجاز له المطالبة بتفريغ ذمته، كما لو أعاره عينا ليرهنها فرهنها
(والثاني) ليس له، وهو الصحيح، لأنه لما لم يغرمه قبل أن يغرم لم يطالبه
قبل أن يطالب، ويخالف إذا أعاره عينا ليرهنها فرهنها لان عليه ضررا في حبس
العين والمنع من التصرف فيها ولا ضرر عليه في دين في ذمته لا يطالب به،
فإن دفع المضمون عنه مالا إلى الضامن وقال: خذ هذا بدلا عما يجب لك
بالقضاء، ففيه وجهان
(أحدهما) يملكه، لان الرجوع يتعلق بسببين: الضمان والغرم، وقد
وجد أحدهما فجاز تقديمه على الآخر، كإخراج الزكاة قبل الحول، وإخراج
الكفارة قبل الحنث، فإن قضى عنه الدين استقر ملكه على ما قبض، وان أبرئ
من الدين قبل القضاء وجب رد ما أخذ، كما يجب رد ما عجل من الزكاة إذا هلك
النصاب قبل الحول
25

(والثاني) لا يملك لأنه أخذه بدلا عما يجب في الثاني فلا يملكه، كما لو دفع
إليه شيئا عن بيع لم يعقده فعلى هذا يجب رده، فإن هلك ضمنه لأنه قبضه
على وجه البدل فضمنه كالمقبوض بسوم البيع
(الشرح) الأحكام: إذا ضمن الرجل دينا عن رجل آخر بغير إذنه لم يكن
للضامن مطالبة المضمون عنه بتخليص ذمته لأنه لم يدخل فيه بإذنه فلزمه
تخليصه، وإن ضمن عنه بإذنه، فإن طالب المضمون له الضامن بالحق كان
للضامن أن يطالب المضمون عنه بتخليصه لأنه دخل في الضمان بإذنه، وإن لم
يطالب المضمون له الضامن فهل للضامن أن يطالب عنه؟ قال الشيخ أبو حامد
نظرت فان قال أعطني المال الذي ضمنته عنك ليكون عندي حتى إذا طالبني
المضمون له أعطيته ذلك، لم يكن له ذلك، لأنه لم يغرم
وإن قال خلصني من حق المضمون له وفك ذمتي من حقه، كما أوقعتني فيه
فهل له ذلك. فيه وجهان (أحدهما) له ذلك لأنه لزمه هذا الحق من جهته وبأمره
فكان له مطالبته بتخليصه كما لو استعار كتابا ليرهنه فرهنه فللمعير أن يطالب
المستعير بقضاء الدين وفك الرهن عن الكتاب.
(والثاني) ليس له ذلك، لأنه إذا لم يطالبه المضمون له، فلا ضرر عليه في
كون الحق في ذمته، فلم يكن له مطالبته بذلك، ويفارق الكتاب المرهون، لان
على صاحب الكتاب يقع الضرر في كون الكتاب مرهونا
قال المسعودي: وأصل هذين الوجهين ما قال ابن سريج: هل ينعقد بين
الضامن والمضمون عنه حكم بنفس الضمان. على قولين. ولهذا خمس فوائد.
إحداهن هذه المسألة المتقدمة. الثانية: إذا دفع المضمون عنه إلى الضامن مال
الضمان عوضا عما سيغرم فهل يملكه الضامن، فيه وجهان (أحدهما) يملكه
لان الرجوع يتعلق بسببين بالضمان والغرم، وقد وجد أحدهما فجاز تقديمه
على الآخر، كإخراج الزكاة بعد النصاب وقبل الحول، فعلى هذا إذا قضى الحق
استقر ملكه على ما قبض، وإن أبرأه من الدين قبل القضاء وجب رد ما أخذ
(الثاني) لا يملك ما قبض لأنه أخذه بدلا عما يجب في الثاني فلا يملكه،
26

كما لو دفع إليه شيئا عن بيع لم يعقد، فعلى هذا يجب رده، وان تلف ضمنه لأنه
قبضه على وجه البدل فضمنه كالمقبوض بسوم البيع
(الفائدة الثالثة) لو أبرأ الضامن المضمون عنه عما سيغرم، هل يصح.
على الوجهين.
(الفائدة الرابعة) لو ضمن الضامن ضامن عن المضمون عنه، هل يصح
فيه وجهان، وعلى قياس هذا إذا رهن المضمون عنه الضامن بما ضمن عنه،
هل يصح. على الوجهين
(الفائدة الخامسة) لو ضمن في الابتداء بشرط أن يعطيه المضمون عنه
ضامنا معينا بما ضمن هل يصح، على الوجهين
وعلى قياس هذا إذا ضمن عنه باذنه بشرط أن يرهنه رهنا معلوما هل يصح
على الوجهين، والله تعالى الموفق للصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان قبض المضمون له الحق من المضمون عنه، برئ الضامن
لأنه وثيقة بحق فانحلت بقبض الحق كالرهن، وان قبضه من الضامن برئ
المضمون عنه، لأنه استوفى الحق من الوثيقة فبرئ من عليه الدين، كما لو
قضى الدين من ثمن الرهن. وان أبرئ المضمون عنه برئ الضامن، لان
الضامن وثيقة بالدين، فإذا أبرئ من عليه الدين انحلت الوثيقة، كما ينحل
الرهن إذا أبرئ الراهن من الدين، وان أبرئ الضامن لم يبرأ المضمون عنه
لان إبراءه إسقاط وثيقة من غير قبض، فلم يبرأ به من عليه الدين
كفسخ الرهن.
(الشرح) الأحكام: إذا قبض المضمون له حقه من المضمون عنه برئ
الضامن، لأن الضمان وثيقة بالحق فانحلت باستيفاء الحق، كما لو استوفى المرتهن
الحق من غير الرهن فان قبض الحق من الضامن برئ المضمون عنه لأنه قبض
الحق من الوثيقة فبرئ من عليه الحق كالمرتهن إذا استوفى حقه من ثمن الرهن
27

وإن أبرأ المضمون له المضمون عنه، برئ المضمون عنه وبرئ الضامن، لان
المضمون عنه أصل والضامن فرع، فإذا برئ الأصل برئ الفرع.
وإن أبرأ الضامن برئ الضامن ولم يبرأ المضمون عنه كالمرتهن إذا أسقط حقه
من الرهن فان الراهن لا يبرأ
قال المسعودي وان قال المضمون له للضامن وهبت الحق منك. أو تصدقت
به عليك كان إبراء منه للضامن. وقال أبو حنيفة يكون كما لو استوفى منه الحق.
دليلنا أن الاستيفاء منه هو أن يغرم الضامن ولم يغرم شيئا هنا
(فرع) وإن ضمن عن الضامن ثم ضمن عن الثاني ثالث ثم رابع عن
الثالث صح ذلك، فإذا قبض المضمون له الحق حقه من أحدهم برئ الجميع،
لأنه قد استوفى حقه. وإن أبرأ المضمون له المضمون أولا برئوا جميعا،
وإن أبرأ أحد الضمناء برئ وبرئ فرعه وفرع فرعه، ولا يبرأ أصله،
لما ذكرناه في المسألة قبلها، ولأنه وثيقة انحلت من غير استيفاء الدين منها فلم تبرأ
ذمة الأصل كالرهن إذا انفسخ من غير استيفائه، وأي الضامنين قضى الحق
برئ الباقون من المضمون له لأنه حق واحد. وبهذا كله قال أصحاب أحمد،
والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان قضى الضامن الدين نظرت، فان ضمن باذن المضمون
عنه وقضى باذنه رجع عليه، لأنه أذن له في الضمان والقضاء، وإن ضمن بغير
اذنه وقضى بغير اذنه لم يرجع لأنه تبرع بالقضاء فلم يرجع، وان ضمن بغير
اذنه وقضى باذنه ففيه وجهان، من أصحابنا من قال يرجع لأنه قضى باذنه،
والثاني لا يرجع وهو المذهب، لأنه لزمه بغير اذنه فلم يؤثر اذنه في قضائه،
وان ضمن باذنه وقضى بغير اذنه فالمنصوص أنه يرجع عليه، وهو قول أبى على
ابن أبي هريرة، لأنه اشتغلت ذمته بالدين باذنه فإذا استوفى منه رجع، كما لو
أعاره مالا فرهنه في دينه وبيع في الدين
وقال أبو إسحاق ان أمكنه أن يستأذنه لم يرجع لأنه قضاه باختياره. وان لم
28

يمكنه رجع لأنه قضاه بغير اختياره، وان أحاله الضامن على رجل له عليه دين
برئت ذمة المضمون عنه، لان الحوالة بيع فصار كما لو أعطاه عن الدين عوضا.
وإن أحاله على من لا دين له عليه وقبل المحال عليه وقلنا يصح برئ الضامن،
لان بالحوالة تحول ما ضمن، ولا يرجع على المضمون عنه، لأنه لم يغرم، فان
قبضه منه ثم وهبه له، فهل يرجع على الضامن، فيه وجهان بناء على القولين في
المرأة إذا وهبت الصداق من الزوج ثم طلقها قبل الدخول.
(فصل) وان دفع الضامن إلى المضمون له ثوبا عن الدين في موضع يثبت
له الرجوع رجع بأقل الأمرين من قيمة الثوب أو قدر الدين، فإن كان قيمة
الثوب عشرة والدين عشرين لم يرجع بما زاد على العشرة، لأنه لم يغرم، وإن كان
قيمة الثوب عشرين والدين عشرة لم يرجع بما زاد على العشرة لأنه تبرع بما
زاد فلا يرجع به، وإن كان الدين الذي ضمنه مؤجلا فعجل قضاءه لم يرجع به
قبل المحل لأنه تبرع بالتعجيل
(الشرح) الأحكام: إذا قضى الضامن الحق فهل يرجع على المضمون عنه.
فيه أربع مسائل
إن قال اضمن عنى هذا الدين أو أنفذ عنى رجع عليه، وان قال اضمن هذا
الدين أو أنفذ هذا الدين ولم يقل عنى لم يرجع عليه، الا أن يكون بينهما خلطة.
مثل أن يكون يودع أحدهما الآخر أو يستقرض أحدهما من الآخر، أو يكون
ذا قرابة أو مصاهرة فالاستحسان أن يرجع عليه.
دليلنا انه ضمن عنه بأمره، وقضى عنه بأمره، فرجع عليه، كما لو قال
اضمن عنى أو كان بينهما قرابة
(الثانية) أن يضمن عنه بغير أمره ويقضى عنه بغير اذنه فإنه لا يرجع عليه
وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك وأحمد رضي الله عنهما له أن يرجع
دليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يصلى على من عليه دين، وقد ضمن
على وأبو قتادة عن الميتين بحضرة النبي صلى الله عليه بغير اذنهما فصلى عليهما النبي
صلى الله عليه وسلم، ولان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي قتادة " الآن بردت
29

عليه جلده " فلو كان إذا قضى عنه يستحق عليه الرجوع لم يبرد عليه جلده،
ولأنه ضمن عنه بغير اذنه وقضى عنه بغير اذنه فلم يرجع، كما لو علف دوابه
أو أطعم خادمه.
(الثالثة) إذا ضمن بغير اذنه ثم قضى باذنه فهل يرجع عليه، فيه وجهان
أحدهما لا يرجع عليه وهو المذهب، لأنه لزمه بغير اذنه وأمره بالقضاء انصرف
إلى ما وجب عليه بالضمان، والثاني يرجع عليه لأنه أدى عنه بأمره فرجع عليه
كما لو ضمن عنه باذنه، وأصل هذين الوجهين من قال لغيره، اقض عنى ديني،
فقضى عنه فهل له أن يرجع عليه. فيه وجهان
قال المسعودي والصيمري الا أن الأصح ههنا أن يرجع، والأصح في الأولى
أن لا يرجع، والفرق بينهما أن في الضمان وجب في ذمته بغير اذنه، وفى القضاء
لم يتعلق الحق بذمته، بل حصل القضاء باذنه. وان قال اقض الدين ولم يقل عنى
فان قلنا لا يرجع عليه فها هنا أولى أن لا يرجع، وان قلنا هناك يرجع فها هنا فيه
وجهان حكاهما الصيمري الصحيح لا يرجع
وان قال اقض عنى ديني لترجع على فقضى عنه رجع عليه وجها واحدا لقوله
صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم "
وان قال اقض عن فلان دينه فقضى عنه، قال المسعودي لم يرجع عليه وجها
واحدا لأنه لا غرض عليه في ذلك
(الرابعة) إذا ضمن عنه بأمره وقضى بغير أمره، فهل له أن يرجع عليه،
فيه ثلاثة أوجه - حكاها الشيخ أبو حامد -
(أحدها) يرجع عليه وهو المذهب، لأنه دين لازم باذنه، فرجع عليه كما
لو ضمن باذنه وقضى باذنه
(الثاني) لا يرجع عليه لأنه أسقط الدين عنه بغير اذنه فلم يرجع عليه.
كما لو ضمن بغير اذنه وقضى بغير اذنه
(والثالث) وهو قول أبي إسحاق إن كان الضامن مضطرا إلى القضاء مثل أن
طالبه المضمون له والمضمون عنه غائب أو حاضر معسر فقضى المضمون له رجع
الضامن لأنه مضطر إلى القضاء. وإن كان غير مضطر إلى القضاء، مثل أن كان
30

المضمون عنه حاضرا موسرا يمكنه أن يطالبه بتخليصه من الضمان، فقضى لم
يرجع لأنه متطوع بالأداء، وكل موضع ثبت للضامن الرجوع على
المضمون عنه، فأحال الضامن المضمون له بالحق على من له عليه دين فإنه يرجع
على المضمون عنه في الحال، لان الحوالة كالقبض
وإن أحاله على من لا حق له عليه وقبل المحال عليه - وقلنا يصح برئ
الضامن والمضمون عنه ولا يرجع الضامن على المضمون عنه بشئ في الحال لأنه
لم يغرم شيئا، فان قبض المحتال من المحال عليه ورجع المحتال عليه على الضامن
رجع الضامن على المضمون عنه
وان أبرأ المحتال المحال عليه من مال الحوالة لم يرجع المحال عليه على المحيل
وهو الضامن بشئ، ولم يرجع الضامن على المضمون عنه، لأنه لم يغرم واحد
منهما شيئا. وان قبض المحتال الحق من المحال عليه ثم وهبه منه، أو قبض المضمون
له الحق من الضامن ثم وهبه منه فهل لهما الرجوع. فيه وجهان، بناء على القولين
في المرأة إذا وهبت صداقها من الزوج ثم طلقها قبل الدخول
(فرع) إذا كان لرجل على رجلين ألف دينار على كل واحد منهما ضامن
عن صاحبه، فلمن له الدين أن يطالب بالألف من شاء منهما، فان قبض من
أحدهما ألفا برئا جميعا، وكان للدافع أن يرجع على صاحبه بخمسمائة ان ضمن
باذنه وقضى باذنه.
وان قبض من أحدهما خمسمائة، فان قال الدافع خذها عن التي على لك أصلا
لم يرجع الدافع على صاحبه بشئ، وان قال خذها عن التي ضمنت برئا عنها وكان
رجوعه على صاحبه على ما مضى
وان دفعها إليه وأطلق، فاختلف الدافع والقابض فقال الدافع دفعتها وعينتها
عن التي ضمنتها أو نويتها عنها، وقال المضمون له بل عينتها أو نويتها عن التي هي
أصل عليك، فالقول قول الدافع مع يمينه لان أعلم بقوله ونيته
وان اتفقا أنه لم يعينها عن أحدهما ولا نواها، ثم اختلفا في جهة صرفها، ففيه
وجهان (أحدهما) يصرف إليهما نصفين
31

(والثاني) للدافع أن يصرفها إلى أيهما شاء. وقد مضى دليل الوجهين في
الرهن. وان أبرأه المضمون له عن خمسمائة واختلفا فيما وقعت عليه البراءة.
ففي هذه المسائل القول قول المضمون له فيما أبرأ عنه إذا اختلفا في تعيينه أو نيته
وان أطلق ففيه وجهان (أحدهما) ينصرف إليهما (والثاني) يعينه المضمون
له فيما شاء.
(فرع) إذا ضمن عن غيره ألف درهم. قال العمراني في البيان وكانت هذه
الألف مكسرة فدفع إليه ألفا صحاحا في موضع يثبت له الرجوع على المضمون عنه
فإنه لا يرجع عليه بالصحاح لأنه تطوع بتسليمها وإنما يرجع بالمكسرة، قال وان
ضمن عنه ألف درهم صحاحا فدفع ألفا مكسرة لم يرجع الا بالمكسرة لأنه لم يغرم
غيرها، وان صالح الضامن عن الألف على ثوب ففيه وجهان
(أحدهما) وهو المشهور أنه يرجع على المضمون عنه بأقل الأمرين من قيمة
الثوب أو الألف، لأنه إن كانت قيمة الثوب أقل لم يرجع بما زاد عليه لأنه لم
يغرم غير ذلك، وإن كانت قيمة الثوب أقل لم يرجع بما زاد عليه لأنه لم يغرم
غير ذلك، وإن كانت قيمة الثوب أكثر من الألف لم يرجع بما زاد على الألف
لأنه متطوع بالزيادة عليه
والوجه الثاني حكاه المسعودي والشيخ أبو نصر المروذي أنه يرجع بالألف
وهو قول أبي حنيفة رحمه الله، كما لو اشترى رجل شقصا بألف ثم أعطاه عن
الألف ثوبا يساوى خمسمائة فان المشترى يرجع على الشفيع بألف
وأما إذا صالح الضامن المضمون له عن الألف على خمسمائة وقلنا يصح.
فان الضامن والمضمون عنه يسقط عنهما الألف كما لو أخذ بالألف ثوبا يساوى
خمسمائة. قال المسعودي ولا يرجع الضامن على المضمون عنه الا بخمسمائة
وجها واحدا، لأنه لم يغرم غيرها
(فرع) إذا كان على مسلم لذمي ألف درهم فضمن عنه ذمي، ثم إن الضامن
صالح المضمون له عن الدين الذي ضمنه على المسلم على خمر أو خنزير، فهل
يصح الصلح. فيه وجهان
32

(أحدهما) لا يصح ولا يبرأ واحدا منهما عنه حق المضمون له لأنه متصل
بحق المسلم.
(والثاني) يصح لان المعاملة بين ذمتين، فإذا قلنا بهذا فبماذا يرجع الضامن
على المسلم، إن قلنا إنه إذا صالحه على ثوب يرجع عليه بأقل الأمرين، لم يرجع
ها هنا شئ، وان قلنا يرجع بالألف رجع ها هنا فيها أيضا
(فرع) إذا ضمن عن غيره دينا مؤجلا بإذنه ثم إن الضامن عجل الدين
المضمون له قبل أجله لم يرجع على المضمون عنه قبل حلول الأجل لتطوعه
بالتأجيل، فإذا ضمن رجل صداق امرأة فأداه إليها الضامن فارتدت قبل
الدخول سقط مهرها.
قال المسعودي: وترد المرأة ما قبضت من الصداق إلى الزوج ثم ترده إلى الضامن
(فرع) إذا ضمن رجل عن غيره ألف درهم بإذنه، ثم ادعى الضامن أنه
دفعها إلى المضمون له وأنكر المضمون له ذلك ولم يكن هناك بينة فالقول قول
المضمون له مع يمينه، لان الأصل عدم القبض، فإذا حلف كان له أن يطالب
أيهما شاء، لان حقه ثابت في ذمتهما، فإن أخذ الألف من المضمون عنه برئت
ذمته وذمة الضامن. وهل للضامن أن يرجع بالألف الأولى على المضمون عنه
لا يخلو إما أن يكون دفع بغير محضر المضمون أو بمحضره، فان دفع بغير محضره
فلا يخلو إما أن يشهد على الدفع أو لم يشهد على الدفع، فإن لم يشهد نظرت في
المضمون عنه، فان صدق الضامن أنه دفع، فهل له الرجوع عليه. فيه وجهان
حكاهما ابن الصباغ
(أحدهما) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه يرجع عليه لأنه قد صدقه أنه
أبرأ ذمته بدفع الألف فكان له الرجوع عليه. كما لو كان دفع بحضرته
(والثاني) وهو قول أبي إسحاق انه لا يرجع عليه بشئ وهو المشهور. ولم يذكر
الشيخ أبو حامد الأسفراييني غيره، لأنه يقول: إن دفعت فلم تدفع دفعا يبرئني
من حقه، لأنك لم تسقط عنى بذلك المطالبة، فلم تستحق على بذلك رجوعا.
قال صاحب البيان: ويخالف إذا كان بحضرته. فان المفرط هو المضمون
عنه، وإن كذبه المضمون عنه فهل عليه اليمين. إن قلنا لو صدقه كان له الرجوع
33

كان على المضمون عنه أن يحلف أنه ما يعلم أنه دفع. وإن قلنا لو صدقه لا رجوع
له عليه، فلا يمين عليه.
وإن اختار المضمون له أن يرجع على الضامن فيرجع عليه برئت ذمة
المضمون عنه والضامن، وهل للضامن ان يرجع عن المضمون عنه إذا صدقه
في دفع الأولة. ان قلنا بقول أبي علي بن أبي هريرة ان للضامن أن يرجع بالأولة
على المضمون عنه إذا رجع المضمون له على المضمون عنه رجع الضامن ههنا
بالألف الأولة على المضمون عنه، ولا يرجع عليه بالثانية لأنه يعترف أن
المضمون له ظلم بأخذها فلا يرجع بها على غير من ظلمه
وان قلنا بالشهود وأنه لا يرجع عليه في الأولة فهل يرجع ها هنا بشئ. فيه
وجهان حكاهما ابن الصباغ
(أحدهما) لا يرجع عليه بشئ. أما الأولة فقد ذكرنا الدليل عليها. وأما
الثانية فلا يرجع بها، لأنه يعترف أن المضمون له ظلم بأخذها، فلا يرجع بها
على غير من ظلمه.
(والثاني) يرجع عليه، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره، لأنه قد أبرأ
المضمون عنه بدفعه عنه ظاهرا وباطنا فكان له الرجوع عليه كما لو دفع بالبينة،
فإذا قلنا بهذا فبأيتهما يرجع. فيه ثلاثة أوجه
أحدها وهو قول أبى حامد الأسفراييني أنه يرجع عليه بالثانية، لان المطالبة
عن المضمون عنه سقطت بها في الظاهر
والثاني يرجع بالأولة لان براءة الذمة حصلت بها في الباطن
والثالث وهو قول ابن الصباغ: أنه يرجع بأقلهما لأنه إن كان قد ادعى أنه
دفع في المرة الأولة ثوبا قيمته دون الألف وفى الثانية دفع الألف، فقد أقر بأن
الثانية ظلمه بها المضمون له فلا يرجع بها على غير من ظلمه، وإن كان يدعى أنه
دفع في المرة الأولة ألف درهم، وفى المرة الثانية ثوبا قيمته دون الألف لم يرجع
الا بقيمة الثوب، لأنه لم يستحق الرجوع بالأولة فلم يستحق الا قيمة الثوب.
فإن كان الضامن حين دفع الألف الأولة بغير محضر المضمون عنه قد أشهد على
34

الدفع، فإن كانت البينة قائمة حكم بها على المضمون له ولم يقبل يمنيه ويكون للضامن
أن يرجع على المضمون عنه.
وإن كانت البينة غير قائمة وصدقه المضمون له أنه قد دفع وأشهد نظرت،
فإن كان قد أشهد شاهدين عدلين إلا أنهما غابا أو ماتا أو فسقا، فان المضمون له
إذا حلف كان له أن يرجع على أيهما شاء، فإن رجع على المضمون عنه كان للضامن أن
يرجع أيضا على المضمون عنه بالألف التي قد دفعها عنه، لأنه قد اعترف أنه
دفع عنه دفعا يبرئه ولا صنع له في تعذر الشهادة. وان رجع المضمون له على
الضامن لم يرجع بالثانية لأنه ظلمه بها، وإنما يرجع بالأولة لما ذكرناه وان أشهد
شاهدين كافرين أو فاسقين ظاهرين الفسق فهو كما لو لم يشهد، هل له أن يرجع
على المضمون عنه. على الوجهين، إذا صدقه على الدفع ولم يشهد على ما مضى
في الأولة من التفريع.
وان أشهد شاهدين ظاهرهما العدالة ثم بان أنهما كانا فاسقين ففيه وجهان
(أحدهما) يرجع الضامن على المضمون عنه، لأنه لم يفرط في الاشهاد،
وليس عليه المعرفة في الباطن، فعلى هذا حكمه حكم ما لو أشهد عدلين ثم ماتا
(والثاني) حكمه حكم ما لو لم يشهد، لأنه أشهد من لا يثبت الحقوق بشهادته
وان أشهد شاهدا واحدا عدلا حرا، فإن كان موجودا حلف معه، وكان كما لو
أشهد عدلين وحكم بشهادتهما. وإن كان ميتا أو غائبا أو طرأ الفسق عليه.
فقيه وجهان.
(أحدهما) حكمه حكم ما لو أشهد عدلين ثم فسقا لأنه دفع بحجته، وإنما
عدمت كالشاهدين
(والثاني) حكمه حكم ما لو لم يشهد، لأنه فرط حيث اقتصر على بينة
مختلف في قبولها; فهو كما لو لم يشهد.
وأما إذا دفع الضامن الألف الأولة بمحضر من المضمون عنه، فان أشهد
على الدفع فإن كانت البينة قائمة أقامها وحكم بها، وإن كانت غير قائمة فعلى ما مضى
وان لم يشهد فحلف المضمون له رجع على من يشاء منهما. وهل للضامن أن
يرجع على المضمون عنه، فيه وجهان. من أصحابنا من قال: حكمه حكم ما لو لم
35

يشهد، فكان الدفع بعينه المضمون عنه على ما مضى، لأنه فرط في ترك الاشهاد
فصار الدفع بعينه المضمون عنه، لأنه فرط في ترك الاشهاد فصار كما لو دفع في
عين المضمون عنه.
(والثاني) وهو المنصوص أنه يرجع عليه، لان المفرط في ترك الاشهاد
هو المضمون عنه.
وإن ادعى الضامن أنه دفع الحق إلى المضمون له فأنكر ذلك المضمون له.
والمضمون عنه. ولم تكن هناك بينة فالقول قول المضمون له مع يمينه، فإن لم
يحلف ردت اليمين على الضامن، فان حلف بنينا على القولين في يمين المدعى مع
نكول المدعى عليه. فإن قلنا إنه كالبينة برئ الضامن والمضمون عنه من دين
المضمون له. وكان للضامن أن يرجع على المضمون عنه
وإن قلنا إن يمين المدعى مع نكول المدعى عليه كإقرار المدعى عليه، فهو
كما لو صدق المضمون له الضامن على الدفع، وأنكر المضمون عنه الدفع، فإنه
لا مطالبة للمضمون له على أحدهما، لأنه قد استقر باستيفاء الحق
وهل للضامن أن يرجع بشئ على المضمون عنه. فيه وجهان لأبي العباس
ابن سريج (أحدهما) القول قول المضمون عنه مع يمينه، ولا يرجع الضامن
عليه بشئ، لان الضامن يدعى القضاء ليرجع، فلم يقبل، لان الأصل عدمه،
والمضمون له يشهد على فعل نفسه فلم يقبل
(والثاني) يرجع الضامن على المضمون عنه، لان قبض المضمون له يثبت
مرة بالبينة ومرة بالاقرار، ولو ثبت القبض بالبينة لرجع عليه، وكذلك إذا ثبت
بالاقرار، والله تبارك وتعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويصح ضمان الدرك على المنصوص، وخرج أبو العباس قولا
آخر أنه يصح لأنه ضمان ما يستحق من المبيع، وذلك مجهول، والصحيح أنه
يصح قولا واحدا، لان الحاجة داعية إليه لأنه يسلم الثمن ولا يأمن أن يستحق
عليه المبيع، ولا يمكنه أن يأخذ على الثمن رهنا، لان البائع لا يعطيه مع المبيع
36

رهنا ولا يمكنه أن يستوثق بالشهادة، لأنه قد يفلس البائع فلا تنفعه الشهادة،
فلم يبق ما يستوثق به غير الضمان، ولا يمكن أن يجعل القدر الذي يستحق
معلوما فعفى عن الجهالة فيه، كما عفى عن الجهل بأساس الحيطان، ويخالف ضمان
المجهول لأنه يمكنه أن يعلم قدر الدين ثم يضمنه، وفى وقت ضمانه وجهان
(أحدهما) لا يصح حتى يقبض البائع الثمن، لأنه قبل أن يقبض ما وجب
له شئ; وضمان ما لم يجب لا يصح
(والثاني) يصح قبل قبض الثمن، لان الحاجة داعية إلى هذا الضمان في عقد
البيع فجاز قبل قبض الثمن. وإن اشترى جارية وضمن دركها فخرج بعضها مستحقا
فان قلنا إن البيع يصح في الباقي رجع بثمن ما استحق، وإن قلنا يبطل البيع في
الجميع رجع على الضامن بثمن ما استحق، وهل يرجع عليه بثمن الباقي. فيه
وجهان (أحدهما) يرجع عليه، لأنه بطل البيع فيه لأجل الاستحقاق،
فضمن كالمستحق.
(والثاني) لا يرجع لأنه لم يضمن إلا ما يستحق فلم يضمن ما سواه، وإن
ضمن الدرك فوجد بالمبيع عيبا فرده، فهل يرجع على الضامن بالثمن؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يرجع، وهو قول المزني وأبى العباس، لأنه زال ملكه عنه بأمر
حادث فلم يرجع عليه بالثمن، كما لو كان شقصا فأخذه الشفيع
(والثاني) يرجع لأنه رجع إليه الثمن بمعنى قارن العقد، فثبت له الرجوع
على الضامن، كما لو خرج مستحقا، وإن وجد به العيب وقد حدث عنده عيب
فهل يرجع بأرش العيب؟ على ما ذكرناه من الوجهين
(الشرح) قوله " الدرك " التبعة بفتح الراء وسكونها، قال في الصحاح:
يقال ما لحقك من درك فعلى خلاصه
أما الأحكام: فإنه يصح ضمان العهد على المنصوص في الام، وهو أن يشترى
رجل عينا بثمن في ذمته فيضمن رجل عن البائع الثمن ان خرج المبيع مستحقا،
وخرج أبو العباس بن سريج قولا آخر أنه لا يصح وبه قال ابن القاص، لأنه
ضمان ما لم يجب، ولأنه ضمان مجهول لأنه لا يعلم هل يستحق المبيع أو بعضه.
37

والصحيح أنه يصح، لان البائع لا يعطيه مع المبيع رهنا، والشهادة لا تفيد لان
الباع قد يفلس فلا تفيد الشهادة، فلم يبق ما يستوثق المشترى به غير الضمان
وأما قول ابن القاص انه ضمان ما لم يجب وضمان مجهول فغير صحيح، لأنه
ان لم يكن المبيع مستحقا فلا ضمان أصلا، وإن كان مستحقا فقد ضمن الحق بعد
وجوبه، وإنما صح الضمان ها هنا مع جهالة ما يستحقه المشترى، لان الحاجة
تدعو إلى ذلك،
وقال أبو يوسف: إذا ضمن له العهد كان ضامنا لنكبات الابتياع. وهذا
ليس بصحيح، لان العرف قد صار في العهد عبارة من الدرك وضمان الثمن
فانصرف الاطلاق إليه، فإذا قلنا يصح ضمان العهد صح بعد قبض الثمن وجها
واحدا، لأنه ضمان الحق بعد وجوبه، وهل يصح ضمانه قبل أن يقبض البائع
الثمن؟ فيه وجهان.
(أحدهما) يصح لان الحاجة تدعو إلى هذا الضمان قبل قبض الثمن، كما تدعو
إليه بعد قبضه.
(والثاني) ولم يذكر ابن الصباغ غيره: أنه لا يصح لأنه ضمان الحق قبل
وجوبه. فلم يصح
قال ابن الصباغ: وألفاظه أن يقول: ضمنت عهدته أو ثمنه أو دركه، أو
يقول للمشترى ضمنت خلاصك منه، أو يقول: متى خرج المبيع مستحقا فقد
ضمنت لك الثمن، فإن قال ضمنت لك خلاص المبيع لم يصح لان التقدير على ذلك
متى خرج مستحقا. قال ابن سريج: لا يضمن درك المبيع إلا أحمق. إذا ثبت
هذا فإنه إذا ضمن له عهدة دار اشتراها أو خلاصها فاستحقت رجع بالثمن على
الضامن، ان شاء الخلاص الحال يسلم إليه، فتأول أصحابنا ذلك تأويلين
(أحدهما) أنه أراد خلاصك به (والثاني) أنه أراد وخلاصها، وقد جاءت
(أو) بمعنى الواو. قال تعالى " وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون " وقال تعالى
" ولا تطع منهم آثما أو كفورا "
وأما (ما) فتكتب في الوثائق: ضمن فلان البائع لفلان بن فلان المشترى
38

قيمة ما أحدث في المبيع من غراس أو بناء وغير ذلك إذا خرج مستحقا.
قال أصحابنا: فان هذا ضمان باطل بلا خلاف على المذهب. لأنه ضمان ما لم
يجب وضمان مجهول، فان قيد ذلك وقال: من درهم إلى ألف لم يصح، لأنه
ضمان ما لم يجب.
وقال أبو حنيفة رحمه الله يصح ضمان هذا مع العهدة بناء على أصله ما لم يجب
وقد مضى ذكره; فإن ضمن خلاص المبيع أو ضمن قيمة ما يحدث في المبيع من
بناء أو غراس، فإن كان في غير عقد البيع نظرت، فان أفرد ذلك عن ضمان
العهدة لم يبطل البيع ولا ضمان العهدة، بل يبطل ضمان خلاص المبيع وضمان
ما يحدث فيه من بناء أو غراس، وإن قرنه مع ضمان العهدة بطل خلاص المبيع
وما يحدث فيه، وهل يبطل ضمان العهدة؟ فيه قولان، بناء على القولين في
تفريق الصفقة.
وإن شرط ذلك في البيع بأن قال: بعني هذه الأرض بمائة دينار بشرط أن
يضمن لي فلان خلاصها، وقيمة ما أحدثته فيها من بناء أو غراس إذا استحققت
فقال بعتك. أو كان هذا الشرط في زمان الخيار فسد البيع لأنه بيع بشرط فاسد
قال الشيخ أبو حامد: ويجئ فيه قول آخر أنه لا يبطل البيع إذا شرط ضمان قيمة
ما يحدث في الأرض - كما قلنا فيمن شرط رهنا فاسدا في البيع - والأول أصح
(فرع) إذا ضمن رجل لرجل العهدة واستحق جميع المبيع على المضمون له
وقد دفع الثمن إلى البائع فالمشترى بالخيار ان شاء طالب البائع بالثمن، وان شاء
طالب به الضامن. وإن خرج بعضه مستحقا بطل البيع فيما خرج منه مستحقا
وكان للمشترى أن يطالب الضامن بثمن القدر الذي خرج منه مستحقا، وهل
يبطل البيع في الباقي؟ فيه قولان، فإذا قلنا يبطل البيع أو قلنا لا يبطل إلا أن
المشترى اختار فسخ البيع فيه. فهل للمشترى أن يرجع بثمن ذلك القدر على
الضامن؟ فيه وجهان
(أحدهما) يرجع عليه، لأنه ثبت له بسبب الاستحقاق
(والثاني) لا يرجع عليه، لأنه لم يضمن إلا ثمن ما استحق، فهذا ثمن ما لم
يستحق، وإنما بطل البيع فيه لأنه لا يفرق الصفقة، ويفسخه المشترى،
39

وان وجد المشترى بالمبيع عيبا فرده فهل له أن يطالب الضامن بالثمن. قال أصحابنا
ان قال الضامن ضمنت لك درك ما يلحقك في المبيع، أو ضمنت لك درك المبيع
لكل عيب تجد فيه، فله أن يرجع بالثمن على الضامن وجها واحدا، وكذلك إن
حدث عند المشترى عيب وقد وجد به عيبا فله أن يرجع بالأرش على الضامن،
لان ضمانه يقتضى ذلك
وإن ضمن درك المبيع أو عهدته لا غير: فهل له أن يرجع بالثمن على الضامن
إذا وجد به عيبا. أو بالأرش إن حدث عنده عيب آخر؟ فيه وجهان
(أحدهما) يرجع عليه بالثمن، لان الثمن رجع إليه بمعنى قارن عقد البيع
بتفريط من البائع فرجع به على الضامن كما لو استحق المبيع (والثاني) لا يرجع
به عليه بل يرجع به على البائع وهو قول المزني وأبى العباس بن سريج، لأنه زال
ملكه عن المبيع بغير الاستحقاق فلم يرجع بالثمن على الضامن، كما لو كان المبيع
شقصا فأخذه الشفيع
(فرع) فان ضمن العهدة فبان أن البيع كان باطلا بغير الاستحقاق فهل
للمشترى ان يرجع بالثمن على الضامن. فيه وجهان حكاهما في الإبانة
(أحدهما) يرجع به عليه، لأنه رجع إليه الثمن لمعنى قارن عقد البيع،
فصار كما لو استحق.
(والثاني) لا يرجع عليه به لأنه يمكنه أن يمسك العين المبيعة إلا أن يسترجع
ما دفع من الثمن، فلم يرجع به على الضامن: بخلاف ما لو استحق المبيع في يد
البائع قبل القبض أو فسخ المبيع، أو كان شقصا فأخذه الشفيع بالشفعة، فإن
المشترى لا يرجع بالثمن على الضامن، لان الثمن رجع إليه بمعنى حادث بعد
العقد ولم يضمن الضامن الا الثمن عند استحقاق المبيع
(فرع) قال المسعودي: لو اشترى رجل شيئا بثمن وسلمه وضمن رجل للبائع
نقصان الوزن أو رداءة الثمن، فخرج الثمن ناقصا أو رديئا أو معيبا فله أن
يطالب الضامن بما نقص من المثن، وله أن يرد الردئ والمعيب على المشترى
ويطالب الضامن بالثمن، اه‍
40

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتجوز كفالة البدن على المنصوص في الكتب، وقال في الدعاوي
والبينات: إن كفالة البدن ضعيفة، فمن أصحابنا من قال: تصح قولا واحدا،
وقوله: ضعيفة أراد من جهة القياس، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان.
أحدهما: أنها لا تصح، لأنه ضمان عين في الذمة بعقد فلم يصح كالسلم في ثمرة
نخلة بعينها. والثاني: يصح، وهو الأظهر لما روى أبو إسحاق السبيعي عن حارثة
ابن مضرب قال صليت مع عبد الله بن مسعود الغداة فلما سلم قام رجل فحمد الله
وأثنى عليه وقال: أما بعد فوالله لقد بت البارحة وما في نفسي على أحد احنة
وانى كنت استطرقت رجل من بنى حنيفة، وكان أمرني أن آتيه بغلس فانتهيت
إلى مسجد بنى حنيفة، مسجد عبد الله بن النواحة: فسمعت مؤذنهم يشهد أن
لا إله إلا الله، وأن مسيلمة رسول الله، فكذبت سمعي وكففت فرسي حتى
سمعت أهل المسجد قد تواطأوا على ذلك فقال عبد الله بن مسعود، على بعبد الله
ابن النواحة، فحضر واعترف، فقال له عبد الله: أين ما كنت تقرأ من القرآن
قال: كنت أتقيكم به، فقال له: تب فأبى، فأمر به فأخرج إلى السوق فجز رأسه
ثم شاور أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في بقية القوم، فقال عدى بن حاتم:
تؤلول كفر قد أطلع رأسه فاحسمه.
وقال جرير بن عبد الله والأشعث بن قيس اسثتبهم فان تابوا كفلهم عشائرهم
فاستتابهم فتابوا، وكفلهم عشائرهم، ولان البدن يستحق تسليمه بالعقد فجاز
الكفالة به كالدين، فإن قلنا: تصح جازت الكفالة ببدن كل من يلزمه الحضور
في مجلس الحكم بدين، لأنه حق لازم لآدمي فصحت الكفالة به كالدين، وإن
كان عليه حد فإن كان لله تعالى لم تصح الكفالة به، لان الكفالة للاستيثاق
وحق الله تعالى مبنى على الدرء والاسقاط; فلم يجز الاستيثاق بمن عليه، وإن
كان قصاصا أو حد قذف ففيه وجهان.
(أحدهما) لا تصح، لأنه لا تصح الكفالة بما عليه فلم تصح الكفالة به
41

كمن عليه حد لله تعالى. والثاني: تصح لأنه حق لآدمي فجازت الكفالة ببدن من
عليه كالدين، ومن عليه دين غير لازم كالمكاتب لا تجوز الكفالة ببدنه، لان
الحضور لا يلزمه فلا تجوز الكفالة به كدين الكتابة.
(الشرح) حديث أبي إسحاق السبيعي أخرجه أبو داود من طريق حارثة بن
مضرب - وهو بتشديد الراء المكسورة - العبدي الكوفي، وهو ثقة من الطبقة
الثانية، وقد غلط من نقل عن المديني أنه تركه. هكذا في التهذيب لابن حجر:
أنه أتى عبد الله بن مسعود فقال " ما بيني وبين أحد من العرب حنة، وإني مررت
بمسجد لبنى حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة، فأرسل إليهم عبد الله فجئ بهم
فاستتابهم غير ابن النواحة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
لولا أنك رسول لضربت عنقك، فأنت اليوم لست برسول، فأمر قرظة بن
كعب فضرب عنقه في السوق، ثم قال: من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة
قتيلا في السوق،
وترجع قصة بن النواحة هذا إلى أيام النبي صلى الله عليه وسلم حين أرسله
مسيلمة مع آخر هو بن أثال - بضم الهمزة بعدها مثلثة - فقال لهما رسول الله
صلى الله عليه وسلم: أتشهدان أنى رسول الله. قالا نشهد أن مسيلمة رسول الله،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمنت بالله ورسوله، ولو كنت قاتلا رسولا
لقتلتكما. قال عبد الله: فمضت السنة أن الرسل لا تقتل رواه أحمد وأبو داود.
والحاكم والنسائي مختصرا من حديث عبد الله بن مسعود، وليس في رواية من
الروايات أن ابن النواحة قد أسلم، وإنما كان هناك من الصحابة عندما أعلن
مسيلمة أكذوبته من انضم إليه وارتد عن الاسلام، مع أنه كان من حفظة
القرآن هو الفقيه الخوان الأثيم، القارئ للقرآن الرجال بن عنفوة. وقد كان
على مقدمة جيش مسيلمة حين هاجمهم المسلمون بقيادة خالد بن الوليد، وقد قتل
في هذه المعركة وعجل الله به إلى النار
أما ابن النواحة فعله كان قد أسلم ثم ارتد مع مسيلمة ثم ظل على ولائه لمسيلمة
عصبية جاهلية لأنهم كانوا يقولون: كذاب، ربيعة خير من صادق مضر
42

فلما لم يقتل النبي صلى الله عليه وسلم الرسولين وفيهما ابن النواحة. وبعد
حروب الردة ذهب عبد الله بن مسعود يستطرق لفرسه ذكرا من بنى حنيفة.
وقد أنفق مع صاحب الفرس الذكر أن يأتيه بغلس فانتهى إلى مسجد القوم وكان
الذي بناه عبد الله بن النواحة، فسمع المؤذن يشهد لمسيلمة بالرسالة، حتى إذا
استيقن عبد الله من هذه المفاجأة المذهلة واستوضحه فاعترف، وكان رأى
الصاحبة الذين استشارهم أن ثؤلول كفر - والثؤلول بضم الثاء وإسكان الهمزة
والثآليل أورام خبيثة تظهر كالدرن في الجسم - قد أطلع رأسه ويجب أن يحسم
قوله: عدى بن حاتم الطائي: وكان ممن ثبت على الاسلام في الردة وحضر
فتوح العراق، وحارب مع علي ومات سنة ثمان وستين، وكان أبوه مضرب
المثل في الكرم.
قوله: جرير بن عبد الله هو ابن جابر البجلي صاحبي مشهور ويكنى أبا عمرو،
ويقال له: الشليل بن مالك من ولد انمار بن نزار، ولم يختلف النسابون أن بجيلة
أمهم نسبوا إليها، وهي بجيلة بنت صعب، وكان جرير سيد قبيلته، وكان إسلامه
في العام الذي توفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال هو عن نفسه
انه أسلم قبل موت النبي صلى الله عليه وسلم بأربعين يوما. وفيه قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه، وفى جرير قال الشاعر:
لولا جرير هلكت بجيله * نعم الفتى وبئست القبيلة
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما مدح من هجى قومه. وكان عمر
يقول: جرير بن الله يوسف هذه الأمة، يعنى في حسنه، وكان جرير رسول
علي بن أبي طالب إلى معاوية فحبسه مدة طويلة، روى عنه أنس بن مالك وقيس
ابن أبي حازم وهمام بن الحارث والشعبي، وروى عنه بنوه عبيد الله والمنذر
وإبراهيم. وأما الأشعث بن قيس فقد ساق نسبه ابن منده وأبو نعيم هكذا:
الأشعث بن قيس بن معد يكرب بن معاوية بن ثعلبة بن عدي بن ربيعة الكندي
وكنيته أبو محمد.
وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر من الهجرة في وفد كنده وكانوا
43

ستين راكبا فأسلموا. وقال الأشعث لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت منا
فقال " نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفو أمنا ولا تنتفي من أبينا " فكان الأشعث
يقول: لا أوتى بأحد ينفى قريشا من النضر بن كنانة إلا جلدته
ولما أسلم خطب أم فروة أخت أبى بكر الصديق رضي الله عنه ثم عاد إلى اليمن
شهد اليرموك وفقئت عينه، ثم سار إلى العراق فشهد القادسية والمدائن وجلولاء
ونهاوند، وسكن الكوفة وشهد صفين مع علي، وكان ممن ألزم عليا بالتحكيم،
وشهد الحكمين بدومة الجندل، وكان عثمان قد استعمله على أذربيجان وكان
الحسن بن علي تزوج ابنته. فقيل هي التي دست السم له فمات منه. روى عن
النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث وروى عنه قيس بن أبي حازم وأبو وائل.
وقد نزل في الأشعث بن قيس قوله تعالى " ان الذين يشترون بعهد الله
وأيمانهم ثمنا قليلا " الآية، لأنه خاصم رجلا في بئر، توفى سنة ثنتين وأربعين
وصلى عليه الحسن بن علي.
وقال ابن منده: هذا وهم، لان الحسن لم يكن بالكوفة، وإنما كان قد سلم
الامر إلى معاوية ثم رجع إلى المدينة. ولكن أبا نعيم يؤكد أنه توفى بعد على
بأربعين ليلة وصلى عليه الحسن.
أما أحكام الفصل: فان المنصوص للشافعي رضي الله عنه في أكثر كتبه أن
الكفالة بالبدن تصح.
وقال في الدعوى والبينات: كفالة الوجه عندي ضعيف. واختلف أصحابنا
فيه، فمنهم من قال تصح الكفالة بالبدن قولا واحدا، وقوله في الدعوى والبينات
ضعيف، يريد في القياس، وهو قوى في الأثر، وذهب المزني وأبو إسحاق إلى
أن المسألة على قولين (أحدهما) لا يصح لان الكفالة بعين فلم تصح كالكفالة
بالزوجة وبدن الشاهد، ولأنه ضمان عين في الذمة بعقد فلم يصح، كما لو أسلم في
ثمرة نخلة بعينها.
فقوله " في الذمة " احتراز من البائع فإنه يضمن العين المبيعة في يده لا في ذمته
فلو تلفت قبل القبض لم يضمنها في ذمته
وقوله " بعقد " احتراز من الغاصب، فإنه يضمن العين المغصوبة في يده وفى ذمته
44

والقول الثاني: أن الكفالة بالبدن صحيحة، وهو قول شريح والشعبي ومالك
وأبي حنيفة والليث بن سعد وعبد الله بن الحسن وأحمد رضي الله عنهم. وهو
الصحيح لقوله تعالى " فخد أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين " ولحديث عبد الله
ابن مسعود الذي استشار في الذين كانوا يضجون في مسجدهم بمسيلمة استشار
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار عليه جرير بن عبد الله والأشعث
ابن قيس أن يستتابوا ويتكفل بهم عشائرهم، فاستتابهم فتابوا وكفلهم عشائرهم
فدل على أن الكفالة بالبدن كانت سائغة عند الصحابة رضوان الله عليهم: إذ لم
ينكر عليه أحد من الصحابة ذلك: وإن كان هذا الموضع لم يتوجه عليهم فيه حق
فلم يكن موضعا تصح فيه الكفالة بالبدن، إلا أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
وأصحابه الذين معه أرادوا بهذا الاستظهار على هؤلاء المارقين
فإذا قلنا لا تصح الكفالة بالبدن فلا تفريع عليه، وإذا قلنا تصح، فإنما تصح
ببدن كل من يلزمه الحضور إلى مجلس الحكم بدين، لأنه لازم فصحت الكفالة
ببدن من عليه كالدين.
(فرع) وأما الكفالة ببدن من عليه جلد، فإن كان لله تعالى كحد الزنا وحد
شرب الخمر وما أشبههما لم يصح لمعنيين (أحدهما) أنه لما لم تصح الكفالة بما
عليه من الحق لم تصح الكفالة ببدن من عليه
(والثاني) لا، لان الكفالة وثيقة وحدود الله لا يستوثق بها لأنها تسقط
بالشبهات. وإن كان الحد للآدمي كحد القذف والقصاص، فهل تصح الكفالة
ببدن من عليه؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا تصح، لأنها لا تصح الكفالة بما عليه من الحق، فلم تصح
الكفالة ببدنه. كمن عليه حد الزنا
(والثاني) تصح الكفالة ببدنه لان عليه حقا لآدمي فصحت الكفالة ببدنه،
كما لو كان له عليه دين
(فرع) وان تكفل ببدن مكاتب السيدة لأجل مال الكتابة لم يصح، لان
الحق الذي عليه غير لازم له فلم تصح الكفالة، قال ابن الصباغ: وان تكفل
ببدن صبي أو مجنون صحت الكفالة لان الحق يجب عليهما، وقد يحتاج إلى
45

إحضارهما للشهادة عليهما للاتلاف. وان رهن رجل شيئا ولم يسلمه فتكفل رجل
عليه بتسليمه لم يصح، لان تسليمه غير لازم له فلم تصح الكفالة به. وان
ادعى على رجل حقا فأنكره جازت الكفالة ببدنه: لان عليه حق الحضور،
والكفالة واقعة على إحضاره.
(فرع) إذا قال رجل لرجل: تكفل بفلان لفلان ففعل كان الكفالة لازمة
على الذي باشر الكفالة دون الآمر، لان المتكفل فعل ذلك باختياره، والامر
بذلك حث على المعروف. وهكذا في الضمان مثله. والله تعالى الموفق للصواب
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن كان عليه دين مجهول ففيه وجهان، قال أبو العباس:
لا تصح الكفالة ببدنه لأنه قد يموت المكفول به فيلزمه الدين، فإذا كان مجهولا
لم تمكن المطالبة (والثاني) أنه تصح، وهو المذهب، لان الكفالة بالبدن
لا تعلق لها بالدين.
(فصل) وتصح الكفالة ببدن الكفيل كما يصح ضمان الدين عن الضمين
(الشرح) الأحكام: إذا تكفل ببدن رجل لرجل له عليه دين فمات المكفول
به بطلت الكفالة ولم يلزم الكفيل ما كان على المكفول به من الدين. وبه قال
أبو حنيفة رضي الله عنه. وقال مالك رضي الله عنه وأبو العباس بن سريج: يلزم
الكفيل ما كان على المكفول به من الدين المكفول له، لان الكفالة وثيقة
بالحق; فإذا تعذر الحق من جهة من عليه الدين استوفى من الوثيقة كالرهن
دليلنا أنه تكفل ببدنه لا بدينه فلم يلزمه ما عليه من الدين، كما لو غاب،
ويفارق الرهن لأنه علق به الدين فاستوفى منه وها هنا لم يتكفل إلا بإحضاره.
وقد تعذر إحضاره بموته، فإذا قلنا بالمذهب صحت الكفالة ببدن من عليه دين
مجهول عند الكفيل، وإن قلنا بقول أبى العباس لم تصح الكفالة ببدن من عليه
دين مجهول عند الكفيل
(فرع) وان تكفل ببدن رجل وشرط أنه متى لم يحضر فعليه الحق الذي عليه
46

أو قال على كذا وكذا لم تصح الكفالة ولم يجب عليه المال المضمون به، وبه قال
محمد بن الحسن، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: ان لم يحضره عليه المال
دليلنا أن هذا حظر فلم يجز تعليق الضمان عليه، كما لو قال: إن جاء المطر
فأنا ضامن ببدنه، وإن قال تكفلت لك ببدن زيد على إن جئت به، وإلا فأنا
كفيل لك ببدن عمرو لم يصح، لأنه لم يلتزم بإحضار أحدهما فصار كما لو تكفل
بأحدهما لا بعينه، وإن تكفل ببدن رجل بشرط الخيار لم تصح الكفالة. وقال
أبو حنيفة يفسد الشرط وتصح الكفالة
دليلنا أنه عقد لا يجوز فيه شرط الخيار، فإذا شرط فيه الخيار أفسده
كالصرف، ولو أقر رجل فقال إنما تكفل لك ببدن فلان على أن لي الخيار.
ففيه قولان.
(أحدهما) يقبل إقراره في الجميع فيحكم ببطلان الكفالة، كما لو قال له على
ألف درهم إلا خمسمائة
(والثاني) يقبل إقراره في الكفالة ولا يقبل في أنه كان بشرط الخيار. لأنه
وصل إقراره بما يسقط فلم يصح، كما لو قال له على ألف درهم إلا ألف درهم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وتجوز الكفالة حالا ومؤجلا، كما يجوز ضمان الدين حالا ومؤجلا
وهل يجوز إلى أجل مجهول. فيه وجهان
(أحدهما) يجوز، لأنه تبرع من غير عوض، فجاز في المجهول كإباحة الطعام
(والثاني) لا يجوز لأنه إثبات حق في الذمة لآدمي فلا يجوز إلى أجل مجهول
كالبيع، ويخالف الإباحة فإنه لو أباحه أحد الطعامين جاز، ولو تكفل ببدن أحد
الرجلين لم يجز.
(الشرح) الأحكام. إذا تكفل ببدن رجل نظرت، فان شرط احضاره حالا
لزمه إحضاره في الحال، كما لو تكفل ببدنه وأطلق اقتضى ذلك إحضاره في الحال
كما قلنا فيمن باع بثمن وأطلق فان ذلك يقتضى الحلول، وان تكفل ببدنه إلى
أجل معلوم صحت الكفالة، ولا يلزمه إحضاره قبل ذلك، كما إذا ضمن الدين
إلى أجل معلوم.
47

وإن تكفل ببدنه إلى أجل مجهول فهل يصح، فيه وجهان.
(أحدهما) يصح، كما تصح العارية إلى أجل مجهول.
(والثاني) لا يصح وهو الصحيح، لأنه إثبات حق في الذمة لآدمي فلم يصح
إلى أجل مجهول، كضمان المال. ويخالف العارية فإنها لا تلزم، ولهذا لو أعاره
إلى مدة كان له الرجوع فيها قبل انقضائها، ولو تكفل له ببدنه إلى أجل معلوم
لم تكن له المطالبة به قبل حلول الأجل، ولان العارية تجوز من غير تعيين،
ولهذا لو قال: أعرتك أحد هذين الكتابين جاز، ولو قال تكفلت لك ببدن أحد
هذين الرجلين لم يجز والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتجوز الكفالة به ليسلم في مكان معين، وتجوز مطلقا، فإن
أطلق وجب التسليم في موضع العقد، كما تجوز حالا ومؤجلا، وإذا أطلق وجب
التسليم في حال العقد.
(الشرح) الأحكام: وتجوز الكفالة ببدن رجل ليسلمه في مكان معين;
كما يصح السلم بشرط أن يسلم المسلم فيه في موضع معين، وتجوز الكفالة ببدن
رجل وإن لم يذكر موضع التسليم، فعلى هذا في موضع العقد، كما تصح الكفالة
بالبدن حالا ومؤجلا، وإذا أطلق اقتضى الحلول، فإذا تكفل له ببدن رجل
ليسلمه إليه في موضع معين، فسلمه إليه في غير ذلك البلد لم يلزم المكفول له
قبوله لان عليه مشقة في تسلمه في غير ذلك البلد، وقد يكون له غرض بتسليمه
في ذلك البلد، وإن تكفل له ببدنه ليسلمه في موضع معين من البلد، بأن يقول
في مجلس القاضي أو في مسجده سلمه إليه في ذلك البلد في غير ذلك الموضع المعين
فهل يلزمه قبوله؟ فيه وجهان لأبي العباس بن سريج.
(أحدهما) لا يلزمه قبوله، كما لو سلمه في غير ذلك البلد.
(والثاني) يلزمه قبوله، لان العادة أنه لا مؤنة عليه في نقله من موضع في
البلد إلى موضع فيه والله الموفق والمعين.
48

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا تصح الكفالة بالبدن من غير إذن المكفول به، لأنه إذا
تكفل به من غير اذنه لم يقدر على تسلميه، ومن أصحابنا من قال. تصح كما تصح
الكفالة بالدين من غير اذن من عليه الدين.
(الشرح) الأحكام: إذا تكفل ببدن رجل بإذن المكفول به صحت الكفالة
فإذا سأل المكفول له الكفيل احضار المكفول به وجب على الكفيل أن يحضره
ووجب على المكفول أن يحضر لأنه يكفل به بإذنه، وان لم يطالبه المكفول له،
فقال الكفيل للمكفول به أحضر معي لأردك إلى المكفول له لتبرئ ذمتي من
الكفالة، كان عليه أن يحضر معه، لأنه قد تعلق عليه احضاره بأمره، فلزمه
تخليصه منه.
وان تكفل رجل لرجل ببدن رجل بغير اذن المكفول به، فهل يصح، فيه
وجهان. قال عامة أصحابنا: لا يصح، لان المقصود بالكفالة بالبدن احضار
المكفول به عند المطالبة. فإذا كان ذلك بغير اذنه لم يلزمه الحضور معه فلا تفيد
الكفالة شيئا. فعلى هذا إذا تكفل ببدن صبي أو مجنون لم يصح ذلك الا بإذن وليه
. لان الصبي والمجنون لا اذن لهما.
وقال أبو العباس بن سريج: تصح الكفالة بالبدن من غير اذن المكفول به
كما يصح الضمان عليه بالدين من غير اذنه. قال أبو العباس: فعلى هذا إذا قال
المكفول له للكفيل: أحضر المكفول به، وجب على الكفيل أن يطالب
المكفول به بالحضور، فإذا طالبه وجب على المكفول به الحضور من غير جهة
الكفالة، ولكن لان صاحب الحق قد وكل الكفيل باحضاره.
وان قال المكفول له للكفيل: أخرج إلى من كفالتك. أو رد على كفالتي
فهل يلزم المكفول به الحضور؟ فيه وجهان (أحدهما) يلزمه. لان ذلك يتضمن
الاذن في احضاره. فهو كما وكله باحضاره (والثاني) لا يلزمه الحضور. لأنه
إنما طالبه بما عليه من الاحضار. قال أبو العباس: فعلى هذا المكفول له حبس
49

الكفيل، قال ابن الصباغ: وهذا يدل عندي على فساد ما قاله، لأنه يحبس على
مالا يقدر عليه. والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن تكفل بعضو منه، ففيه ثلاثة أوجه:
(أحدها) أنه يصح لان في تسليمه تسليم جميعه.
(والثاني) لا تجوز، لان إفراد العضو بالعقد لا يصح، وتسريته إلى الباقي
لا تمكن; لأنه لا سراية له فبطلت.
(والثالث) إن كان العضو لا يبقى البدن دونه كالرأس والقلب جاز، لأنه
لا يمكن تسليمه إلا بتسليم البدن، وإن كان عضوا يبقى البدن دونه كاليد والرجل
لم يصح، لأنه قد يقطع فيبرأ مع بقائه.
(الشرح) الأحكام: إذا تكفل بعضو رجل كيده أو رجله أو رأسه أو بجزء
مشاع منه كنصفه، أو ثلثه، أو ربعه، فيه ثلاثة أوجه:
(أحدها) يصح لأنه لا يمكن تسليم نصفه أو ثلثه الا بتسليم جميع البدن،
ولا يسلم اليد والرجل الا على هيئتها عند الكفالة، وذلك لا يمكن الا بتسليم
جميعه (والثاني) وهو قول القاضي أبى الطيب، وحكاه ابن الصباغ عن الشيخ
أبى حامد: أنه لا يصح لان مالا يسرى إذا خص به عضو أو جزء مشاع لم يصح
كالبيع منه، والإجارة والوصية، وفيه احتراز من العتق والطلاق.
(والثالث) ان تكفل بمالا يبقى البدن الا به كالرأس والقلب والكبد،
والنصف والثلث، لأنه لا يمكن تسليم ذلك الا بتسليم جميع البدن، وان تكفل
بما يبقى البدن دونه كاليد والرجل لم يصح، لأنه قد يقطع منه ويبقى البدن، ولا
فائدة في تسليمه وحده، والله تعالى أعلم،
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان أحضر المكفول به قبل المحل أو في غير الموضع الذي شرط
فيه التسليم، فإن كان عليه في قبوله ضرر. أو له في رده غرض. لم يلزم قبوله،
50

وان لم يكن عليه ضرر ولا له في رده غرض وجب قبوله، فإن لم يتسلمه أحضره
عند الحاكم ليتسلم عنه ويبرأ كما قلنا في دين السلم وان أحضره وهناك يد حائلة
لم يبرأ، لان التسليم المستحق هو التسليم من غير حائل، ولهذا لو سلم المبيع مع
الحائل لم يصح تسلميه: وان سلمه وهو في حبس الحاكم صح التسليم لان حبس
الحاكم ليس بحائل، ويمكن احضاره ومطالبته بما عليه من الحق.
وان حضر المكفول به بنفسه، وسلم نفسه برئ الكفيل كما يبرأ الضامن إذا
أدى المضمون عنه الدين، وان غاب المكفول به إلى موضع لا يعرف خبره، لم
يطالب به، وان غاب إلى موضع يعلم خبره لم يطالب به حتى يمضى زمان يمكن
فيه الذهاب والمجئ، لان ما لزم تسليمه لم يلزم الا بامكان التسليم، فان مضى
زمان الامكان ولم يفعل حبس الكفيل إلى أن يحضره، فان أبرأه المكفول له من
الكفالة برئ كما يبرأ الضامن إذا أبرأه المضمون له، فان جاء رجل وقال أبرئ
الكفيل وأنا كفيل بمن تكفل به، ففيه وجهان،
قال أبو العباس: يصح، لأنه نقل الضمان إلى نفسه فصار كما لو ضمن رجل
مالا فأحال الضامن المضمون له على آخر. وقال الشيخ أبو حامد والقاضي
أبو الطيب الطبري رحمهما الله لا يصح لأنه تكفل بشرط أن يبرأ الكفيل. وذلك
شرط فاسد فمنع صحة العقد.
وان تكفل ببدن رجل لنفسين، فسلمه إلى أحدهما لم يبرأ من حق الآخر.
لأنه ضمن تسليمين فلم يبرأ بأحدهما، كما لو ضمن لهما دينين فأدى دين أحدهما
وان تكفل اثنان لرجل ببدن رجل فأحضره أحدهما، فقد قال شيخنا القاضي
أبو الطيب رحمه الله: انه لا يبرأ الاخر، لأنه لو أبرئ أحدهما لم يبرأ الاخر
فإذا سلمه أحدهما لم يبرأ الاخر، وعندي أنه يبرأ، لان المستحق احضاره وقد
حصل فبرئا، كما لو ضمن رجلان دينا فأداه أحدهما. ويخالف الابراء فان الابراء
مخالف للأداء; والدليل عليه أن في ضمان المال لو أبرئ أحد الضامنين لم يبرأ
الآخر، ولو أدى أحد الضامنين برئ.
51

(الشرح) الأحكام: إذا تكفل ببدن ليحضره إلى أجل، فأحضره الكفيل
قبل الأجل - فإن قبل المكفول له - برئ الكفيل، وإن امتنع المكفول له
من القبول نظرت، فإن كان عليه في قبوله ضرر، بأن كان حقه مؤجلا، أو كان
حقه حالا إلا أن له بينة غائبة فإنه لا يلزمه قبوله لان عليه ضررا في قبوله فإن امتنع من
تسلمه. قال الشيخ أبو حامد رفعه الكفيل إلى الحاكم وسلمه إليه ليبرأ وإن لم يجد حاكما
أحضر شاهدين يشهدان بتسليمه أو امتناع المكفول له
وذكر القاضي أبو الطيب أنه يشهد على امتناعه رجلين. قال ابن الصباغ
وهذا أقيس لأنه مع وجود صاحب الحق لا يلزمه دفعه إلى من ينوب عنه من
حاكم أو غيره، وإن أحضره الكفيل وهناك يد سلطان لا يقدر عليه يمنع منه لم
يبرأ الكفيل بذلك، لان المستحق تسليمه من غير حائل، وإن سلمه وهو في
حبس الحاكم لزمه تسليمه، لان حبس الحاكم لا يمنعه من استيفاء حقه، فإن
كان حقه قد ثبت عليه بالبينة وطلب إحضاره، فإن الحاكم يحضره ليحكم بينهما،
فان ثبت عليه حق وطلب حبسه فان الحاكم يحبسه به وبالحق الأول
فإذا سقط حق أحدهما لم يجز تخليته الا بعد سقوط حق الآخر، وإن جاء
المكفول به إلى المكفول له وسلم نفسه إليه برئ الكفيل كما يبرأ الضامن إذا دفع
المضمون عنه مال الضمانة.
(فرع) إذا تكفل ببدن رجل ثم ارتد المكفول به ولحق بدار الحرب: أو
حبس بحق لزم الكفيل احضاره فيخرج إلى دار الحرب لاحضاره; والمحبوس
يمكنه أن يقضى عنه الحق ويطلق من الحبس
(فرع) إذا غاب المكفول به نظرت، فإن كانت غيبته إلى موضع معلوم فعلى
الكفيل أن يحضره، فإذا مضت مدة يمكنه فيها الذهاب إليه والمجئ به، ولم يأت
به حبسه الحاكم، هذا قولنا
وقال ابن شبرمة: يحبس في الحال، لان حقه قد توجه عليه، وهذا ليس
بصحيح، لان الحق وإن كان قد حل; فإنه يعتبر فيه امكان التسليم، وإنما يجب
عليه احضار الغائب عند امكان ذلك، وإن كان غائبا غيبة منقطعة، لا يعلم مكانه
52

لم يطالب الكفيل باحضاره، وان أبرأ المكفول له المكفول به من الحق برئ
المكفول به كما قلنا في المضمون له إذا أبرأ الضامن
(فرع) إذا تكفل ببدن رجل ثم جاء رجل إلى المكفول له وقال تكفلت
لك ببدن فلان المكفول به على أن تبرئ فلانا الكفيل ففيه وجهان. قال أبو العباس
تصح كفالة الثاني ويبرأ الأول، لان الثاني قد حول الكفالة إلى نفسه فبرئ
الأول كما لو كان له حق فاحتال به على آخر
قال الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب لا تصح الكفالة الثانية، ولا يبرأ
الأول لان الكفالة والضمان لا يحول الحق، فكفالة الثاني لا تبرئ الأول من
كفالته; وإذا لم يبرأ الأول فلم يتكفل به الثاني الا بهذا الشرط، وإذا لم يصح
الشرط لم تصح الكفالة
(فرع) وان تكفل ببدن رجل لرجلين بعقد فرد على أحدهما برئ من حقه
ولم يبرأ من حق الآخر حتى يرد عليه، لأن العقد مع اثنين بمنزلة العقدين فهو
كما لو تكفل لكل واحد منهما بعقد منفرد، وان تكفل رجلان لرجل ببدن رجل
فأحضره أحدهما إلى المكفول له برئ الذي أحضره، وهل يبرأ الكفيل الآخر
فيه وجهان.
(أحدهما) وهو قول المزني والشيخ أبي إسحاق أنه يبرأ كما لو ضمن رجلان
لرجل دينا على رجل فأداه أحدهما. فان الآخر يبرأ
(والثاني) وهو قول أبى العباس والشيخ أبى حامد والقاضي أبى الطيب
وابن الصباغ أنه لا يبرأ الآخر، لان الحق باق لم يسقط، والكفيلان وثيقتان
فلا تنفك إحدى الوثيقتين بانفكاك الأخرى، كما لو كان الحق مرهونا فانفك
أحدها مع بقاء الحق فإنه لا ينفك الباقي منها، ويفارق إذا قضى أحد الضامنين
المال المضمون به. فان الحق هناك قد سقط. فانفكت الوثيقة. وههنا
الحق لم يسقط.
(فرع) إذا تكفل رجل لرجل بدن رجل فقال المكفول له مالي قبل
المكفول به حق. قال أبو العباس. ففيه وجهان
53

(أحدهما) يبرأ المكفول به مما عليه. وتبطل الكفالة لان قوله لا حق لي
قبله نفى في سياق نكرة فاقتضى العموم
(والثاني) يرجع إليه. فإن قال: أردت به لا شئ لي عليه بطلت الكفالة،
وبرئ المكفول.
وان قال: أردت به لا حق لي عليه من عارية أو وديعة، وصدقه الكفيل
والمكفول به قبل قوله، وان كذباه أو أحدهما فالقول قوله مع يمينه لأنه أعلم
بنيته، وان قال لا حق لي في ذمته ولا في يده برئا جميعا، قيل للشيخ أبى حامد:
فإذا كان لرجل على رجل دين، فقال: لا حق لي قبله. فقال: هو على
هذين الوجهين.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان تكفل ببدن رجل فمات المكفول به برئ الكفيل. وقال
أبو العباس يلزمه ما على المكفول به من الدين لأنه وثيقة، فإذا مات من عليه
الدين وجب أن يستوفى الدين منها كالرهن، والمذهب الأول، لأنه لم يضمن
الدين فلا يلزمه.
(فصل) وان تكفل بعين نظرت، فإن كان أمانة كالوديعة لم يصح، لأنه
إذا لم يجب ضمانها على من هي عنده، فلان لا يجب على من يضمن عنه أولى،
وإن كان عينا مضمونة كالمغصوب والعارية والمبيع قبل القبض ففيه وجهان،
بناء على القولين في كفالة البدن. فان قلنا إنها تصح فهلكت العين فقد قال
أبو العباس فيه وجهان
(أحدهما) يجب عليه ضمانها (والثاني) لا يجب، وقال الشيخ أبو حامد
لا يجوز بناء ذلك على كفالة البدن، فان البدن لو تلف لم يضمن بدله، ولو
هلكت العين ضمنها.
54

(الشرح) الأحكام. إذا تكفل رجل ببدن رجل لرجل فأبرأ المكفول له
الكفيل ثم رآه ملازما له فقال له خل عنه وأنا على ما كنت عليه من الكفالة،
أو على مثل ما كنت عليه، قال أبو العباس بن سريج: صحت كفالته لأنه إما أن
يكون هذا إخبارا عن كفالته، أو إقرارا به، أو ابتداء كفالة في الحال، وأنها
كانت فوجب أن يصح،
وإن تكفل رجل ببدن رجل، ورابع بالثالث; فيصح الجميع، فان أحضر
المكفول به الأول نفسه أو أحضره الكفيل برئ جميع الكفلاء. وإن مات
المكفول به الذي عليه الدين برئ الكفلاء على المذهب، فان مات الكفيل
الأول برئ جميع الكفلاء. وان مات الكفيل الثاني برئ الثالث والرابع. وان
مات الثالث برئ الرابع ولم يبرأ الأولون. وإن مات الرابع بطلت كفالته وحده
وحكم البراءة حكم الموت، وان المكفول به سقطت الكفالة ولم يلزم الكفيل شئ
وبهذا قال شريح والشعبي وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأحمد
وقال الحكم ومالك والليث: يجب على الكفيل غرم ما عليه
وحكى ذلك عن ابن شريح، لان الكفيل وثيقة بحق، فإذا تعذرت من جهة
من عليه الدين استوفى من الوثيقة كالرهن، ولأنه تعذر إحضاره فلزم كفيله
ما عليه كما لو غاب.
ولنا أن الحضور سقط عن المكفول به فبرئ الكفيل، كما لو برئ من الدين
ولان ما التزمه من أجله سقط عن الأصل فبرئ الفرع، كالضامن إذا قضى
المضمون عنه الدين أو أبرئ منه، وفارق ما إذا غاب، فان الحضور لم يسقط
عنه، ويفارق الرهن فإنه علق به المال فاستوفى منه
(فرع)
إذا ضمن الرجل في مرض موته عن غيره دينا، فإن ذلك معتبر من ثلث
ماله لأنه تبرع، فهو كما لو ذهب لغيره مآلا
55

إذا ثبت هذا: فإذا ضمن رجل في مرض موته عن غيره تسعين درهما بإذنه
ومات الضامن، وخلف تسعين درهما لا غير ومات المضمون عنه، ولا يملك
غير خمسة وأربعين درهما، فان طالب المضمون له بحقه من تركة الضامن وقع في
هذه المسألة دور، والعمل فيه أن يقول: يذهب بالضمان من التسعين شئ،
ولكنه يرجع إليهم نصف شئ، لان ما خلفه المضمون عنه مثل نصف تركة
الضامن فيعلم أنه ما ذهب عنهم بالضمان إلا نصف شئ، ويجب أن تكون هذه
التسعون إلا نصف شئ الباقية معهم تعدل شيئا كاملا مثلي ما ذهب عنهم بالضمان
فأجبر التسعين بنصف الشئ الناقص عنها، ثم رده على الشئ الكامل، فيكون
تسعون تعدل شيئا ونصف شئ الشئ، ثلثاها وهو ستون، فيأخذ المضمون
ستين من تركة الضامن، ويستحق ورثة الضامن الرجوع في تركة المضمون عنه
بها، لأن الضمان باذنه ويبقى للمضمون له من دينه ثلاثون، فيرجع بها في تركة
المضمون عنه وتركته أقل من ذلك فيقاسم المضمون له ورثة الضامن الخمسة
والأربعين على قدر حقهم، فيكون لورثة الضامن ثلثاها، وهو ثلاثون،
وللمضمون له ثلثها، وهو خمسة عشر، فيجتمع لورثة الضامن ستون، وخرج
منهم بالضمان ثلاثون، فقد بقي معهم مثلا ما خرج عنهم.
فإذا تقرر هذا: وعرف ما يستحقه المضمون له من تركة الضامن بالعمل فهو
بالخيار، إن شاء فعل ما ذكرناه، وإن شاء أخذ من ورثة الضامن خمسة وسبعين
ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه، فإن كانت بحالها إلا أن المضمون
عنه خلف ثلاثين درهما لا غير، فالعمل فيه يخرج من التسعين شئ بالضمان،
ويرجع إليهم ثلث شئ، لان تركة المضمون له ثلث تركة الضامن، فيبقى مع
ورثة الضامن تسعون إلا ثلثي شئ يعدل شيئا وثلث شئ.
فإذا أجبرت التسعون عدلت شيئين الشئ نصفها وهو خمسة وأربعون،
فيأخذها من تركة الضامن ويرجع المضمون له وورثة الضامن في تركة المضمون
عنه بنصفين لاستواء حقهما فيرجع إلى ورثة الضامن خمسة عشر فيجتمع لهم
ستون، وخرج منهم ثلاثون، ويجتمع للمضمون له ستون; ويسقط من دينه
56

ثلاثون; فإن شاء فعل ما ذكرناه، وإن شاء أخذ الستين كلها من تركة الضامن
ورجع ورثة الضامن بجميع تركة المضمون عنه، وإن شاء المضمون له أخذ
جميع تركة المضمون عنه وهو ثلاثون، وأخذ من تركة الضامن ثلثها، وهو
ثلاثون، يبقى لهم ستون مثلا ما خرج منهم، فإن خلف المضمون عنه ستين
فإن المضمون له لا ينقص شئ من دينه ههنا، والعمل فيه على قياس ما مضى
والله تبارك وتعالى المستعان.
(مسألة)
إذا ادعى رجل على رجل حاضر أنه ابتاع منه هو ورجل غائب سيارة بألف
دينار على كل واحد منهما خمسمائة، وقبضاه وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه
فان أقر الحاضر بذلك لزمه أن يدفع إلى المدعى ألفا، فإذا قدم الغائب فإن صدق
الحاضر رجع عليه الحاضر بما قضى عنه، وهو خمسمائة، وإن كذبه فالقول قوله
مع يمينه، فإذا حلف سقط حق الحاضر، وإن أنكر الحاضر المدعى فإنه لم يكن
للمدعى بينة، فالقول قول الحاضر مع يمينه. فإذا حلف سقطت عنه المطالبة.
فإذا قدم الغائب فادعى عليه البائع - فان أنكره - حلف له أيضا ولا كلام
وإن أقر بما ادعاه عليهما لزم القادم الخمسمائة التي أقر أنه اشترى هو بها. وهل
يلزمه الخمسمائة التي أقر أن شريكه أنه اشترى بها وضمن هو عليه؟ فيه وجهان.
قال القاضي أبو الطيب: لا يلزمه لأنا قد حكمنا بسقوطها عن الحاضر بيمينه.
وقال ابن الصباغ: يلزم القادم لان اليمين لم تبرئه من الثمن، وإنما سقطت عنه
المطالبة في الظاهر، فإذا أقر أنه الضامن لزمه، ولهذا لو أقام بينة عليه بعد يمينه
لزمه الثمن، ولزم الضامن فثبت أن الحق لم يسقط عن الحاضر وعن الغائب.
فإذا أقام المدعى بينة على الحاضر بأنهما اشتريا منه السيارة بألف وقبضاها
وضمن كل واحد منهما عن صاحبه الخمسمائة فللمدعى أن يطالب الحاضر بجميع
الألف، لان البينة قد شهدت عليه بذلك، وهل للحاضر أن يرجع بنصفها على
الغائب إذا قدم؟ نقل المزني أنه يرجع بالنصف على الغائب. واختلف أصحابنا
57

في ذلك، فمنهم من قال: لا يرجع عليه بشئ; ولم يذكر ابن الصباغ غيره. لأنه
منكر لما شهدت له البينة، مقر أن المدعى ظالم له فلا يرجع على عين من ظلمه،
ومن قال بهذا تأول ما نقله المزني أربع تأويلات.
(أحدها) يحتمل أن يكون الحاضر صدق المدعى فيما ادعى غير أن المدعى
قال: وأنا أقيم البينة أيضا فأقامها، فيرجع ههنا، لأنه ليس فيه تكذيب البينة.
(الثاني) أن يكون الحاضر لم يقر ولم ينكر، بل سكت، فأقام المدعى البينة
فليس فيه تكذيب.
(الثالث) أن يكون الحاضر أنكر شراء نفسه، ولم يعرض لشراء شريكه.
فقامت عليه البينة.
(الرابع) أن يكون الحاضر أنكر شراءه وشراء شريكه وضمانهما إلا أن
الحاضر لما قامت البينة وأخذ من المدعى الألف ظلما ثبت على الغائب خمسمائة
بالبينة، وقد أخذ المدعى من الحاضر خمسمائة ظلما فيكون للحاضر أن يأخذ
ما ثبت للمدعى على الغائب.
ومن أصحابنا من وافق المزني وقال: يرجع الحاضر على الغائب بخمسمائة
وإن أنكر الشراء والضمان لأنه يقول: كان عندي إشكال في ذلك، وقد كشفت
هذه البينة هذا الاشكال وأزالته، فهو كمن اشترى شيئا وادعاه عليه آخر بأنه له
وأنكر المشترى ذلك، وأقام المدعى بينه وانتزع منه. فان له أن يرجع على البائع
بالثمن، ولا يقال: إن باقراره أن المدعى ظالم يسقط حقه من الرجوع.
وقال الشيخ أبو حامد في التعليق ينظر في الحاضر فان تقدم منه تكذيب البينة
مثل أن قال من يبيع منك شيئا ولا يستحق علينا شيئا. ثم قامت البينة بذلك فإنه
لا يرجع على صاحبه بشئ لأنه قد كذب البينة بما شهدت وأن هذا المدعى ظالم
قيل له. فان قدم الغائب واعترف بصدق المدعى وقال: لا يرجع عليه بشئ لأنه
يقر له بما لا يدعيه. وان لم يتقدم منه تكذيب البينة مثل أن قال. مالك عندي
شئ. فإنه يرجع على صاحبه بخمسمائة لأنه ضمن عنه باذنه ودفع عنه (قلت)
ولعل صاحب الوجه الأول لا يخالف تفصيل الشيخ أبى حامد في جواب الحاضر
وأن الحكم يختلف باختلاف جوابه كما ذكر والله الموفق والمعين.
58

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإن ضمن عنه دينا ثم اختلفا فقال الضامن: ضمنت وأنا صبي،
وقال المضمون له. ضمنت وأنت بالغ، فالقول قول الضامن، لان الأصل عدم
البلوغ، وإن قال. ضمنت وأنا مجنون، وقال. بل ضمنت وأنت عاقل، فإن لم
يعرف له حالة جنون فالقول قول المضمون له، لان الأصل العقل وصحة
الضمان، وان عرف له حالة جنون فالقول قول الضامن، لأنه يحتمل أن يكون
الضمان في حاله الإفاقة. ويحتمل أن يكون في حالة الجنون، والأصل عدم
الضمان وبراءة الذمة.
وان ضمن عن رجل شيئا وأدى المال ثم ادعى أنه ضمن باذنه وأدى باذنه
ليرجع، وأنكر المضمون عنه الاذن لم يرجع عليه، لان الأصل عدم الإذن،
وان تكفل ببدن رجل ثم ادعى أنه تكفل به ولا حق عليه فالقول قول المكفول له
لان الكفيل قد أقر بالكفالة، والكفالة لا تكون الا بمن عليه حق فكان القول
قول المكفول له، فان طلب الكفيل يمين المكفول له على ذلك ففيه وجهان.
(أحدهما) يحلف، لان ما يدعيه الكفيل ممكن، فحلف عليه الخصم.
(والثاني) لا يحلف، لان اقراره بالكفالة يقتضى وجوب الحق وما يدعيه
يكذب اقراره، فلم يحلف الخصم. وان ادعى الضامن أنه قضى الحق عن المضمون
عنه. وأقر المضمون له. وأنكر المضمون عنه. ففيه وجهان.
(أحدهما) أن القول قول المضمون عنه. لان الضامن يدعى القضاء ليرجع
فلم يقبل قوله. والمضمون له يشهد على فعل نفسه أنه قبض فلم تقبل شهادته.
فسقط قولهما وحلف المضمون عنه (والثاني) أن القول قول الضامن لان قبض
المضمون له يثبت بالاقرار مرة. وبالبينة أخرى. ولو ثبت قبضه بالبينة رجع
الضامن. فكذلك إذا ثبت بالاقرار.
(الشرح) الأحكام. إذا ضمن عن رجل دينا ثم اختلفا. فقال الضامن.
ضمنت وأنا صبي. وقال المضمون له. بل ضمن وأنت بالغ فان أقام المضمون له
59

بينة أنه ضمن وهو بالغ حكم بصحة الضمان، وان لم تكن بينة فالقول قول الضامن
لان الأصل عدم البلوغ
وان قال الضامن ضمنت وأنا مجنون، وقال المضمون له بل ضمنت وأنت
عاقل، فان أقام المضمون له بينة أنه ضمن له وهو عاقل حكم له بصحة الضمان.
وان لم تكن له بينة: فإن لم يعرف للضامن حال جنون فالقول قول المضمون له مع
يمينه، لان الأصل صحة الضامن
وان عرف له حال جنون فالقول قول الضامن مع يمينه، لأنه يحتمل أنه
ضمنه في حال الجنون، ويحتمل أنه ضمن في حال الإفاقة، والأصل براءة ذمته
(فرع) وإن ادعى الضامن أن المضمون له أبرأه عن الضمان وأنكر المضمون
له البراءة، فأحضر الضامن شاهدين أحدهما المضمون عنه. قال الصيمري،
فإن لم يأمره بالضمان عنه قبلت شهادته، وان أمره بالضمان عنه لم تقبل شهادته
(فرع) وان ادعى على رجل أنه ضمن له دينا على رجل غائب معين وأنكر
الضامن واحضر المضمون له بينة تشهد بالضمان، فان بين قدر المال المضمون له
وشهدت معه البينة بذلك حكم بها، وان ادعى الضمان بمال معلوم والمضمون
مجهول وشهدت له بينة بذلك فهل تسمع بينته فيه وجهان
(أحدهما) لا تسمع هذه البينة ولا يحكم له على الضامن بشئ لان الذي
عليه الحق إذا كان مجهولا لم يثبت حقه، وإذا لم يثبت على الأصل لم يثبت
على الضامن.
(والثاني) يحكم له على الضامن لان البينة قد قامت عليه بذلك، ألا ترى
أنها لو شهدت بأن عليه ألفا من جهة الضامن سمعت; فكذلك هذا مثله
(فرع) إذا ضمن الرجل لغيره دينا وقضاه، وادعى الضامن على المضمون
منه أنه ضمن باذنه وقضى باذنه فليرجع عليه، وأنكر المضمون عنه الاذن، فان
أقام الضامن بينة حكم له بالرجوع على المضمون عنه، وان لم يقم بينة فالقول
قول المضمون عنه مع يمينه لان الأصل عدم الإذن
(فرع) فان قال تكفلت لك ببدن فلان مؤجلا، وقال المكفول له تكفلت
به معجلا. وأقام كل واحد منهما شاهدا واحدا بما قال. ففيه قولان حكاهما
60

الصيدلاني (أحدهما) لا يلزمه إلا مؤجلا لأنه لم يقر بغيره (والثاني) يحلف كل
واحد منهما مع شاهده ويتعارضان ويسقطان ويبقى الضمان معجلا
(فرع) إذا ادعى الكفيل أن المكفول به برئ من الحق، وأن الكفالة قد
سقطت، وأنكر ذلك المكفول له ولم تكن بينة، فالقول قول المكفول له مع
يمينه لان الأصل بقاء الحق، لأنه لا يبرأ بيمين غيره. وإن قال الكفيل تكفلت
به ولا حق لك عليه فالقول قول المكفول له لأن الظاهر صحة الكفالة. وهل
يحلف؟ قال أبو العباس فيه وجهان (أحدهما) لا يحلف، لان دعوى الكفيل
تخالف ظاهر قوله.
(والثاني) يحلف لان ما يدعيه الكفيل ممكن، فإن حلف فلا كلام، وان
نكل رد اليمين على الكفيل لأنه لا يجوز أن يعلم أنه لا حق للمكفول له بإقرار،
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
كتاب الشركة
يصح عقد الشركة على التجارة، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى " أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما
صاحبه، فإذا خانا خرجت من بينهما " ولا تصح الشركة إلا من جائز التصرف في
المال، لأنه عقد على التصرف في المال فلم تصح إلا من جائز التصرف في المال.
(فصل) ويكره أن يشارك المسلم الكافر، لما روى أبو جمرة عن ابن عباس
رضي الله عنه أنه قال: لا تشاركن يهوديا ولا نصرانيا ولا مجوسيا، قلت: لم؟
قال لأنهم يربون، والربا لا يحل
(الشرح) حديث أبي هريرة رضي الله عنه رفعه. رواه أبو داود والحاكم
وصححه، وأعله ابن القطان بالجهل بحال سعيد بن حيان. وقد ذكره ابن حبان
في الثقات، وأعله أيضا ابن القطان بالارسال، فلم يذكر فيه أبا هريرة وقال:
61

إنه الصواب، ولم يسنده غير أبى همام محمد بن الزبرقان، وسكت أبو داود
والمنذري عن هذا الحديث. وأخرج نحوه أبو القاسم الأصبهاني في الترغيب
والترهيب عن حكيم بن حزام
أما لغات الفصل وغريب الحديث، فالشركة بكسر الشين وسكون الراء،
وحكى ابن باطيش فتح الشين وكسر الراء. وذكر صاحب الفتح فيها أربع لغات
فتح الشين وكسر الراء، وكسر الشين وسكون الراء، وقد تحذف الهاء مع كسر
أوله، وقد تحذف مع فتح أوله.
قوله " أنا ثالث الشريكين " المراد أن الله جل جلاله يضع البركة للشريكين في
مالهما مع عدم الخيانة ويمدهما بالرعاية والمعونة ويتولى الحفظ لما لهما.
قوله " خرجت من بينهما " أي نزعت البركة من المال، زاد رزين " وجاء
الشيطان " ورواية الدارقطني " فإذا خان أحدهما صاحبه رفعها عنهما " يعنى البركة
والشركة ثبوت الحق لاثنين فأكثر على جهة الشيوع. وعن السائب بن أبي
السائب المخزومي أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: كنت شريكي
ونعم الشريك، كنت لا تداريني ولا تماريني " رواه أبو داود وابن ماجة بلفظ
" كنت شريكي ونعم الشريك، لا تداري ولا تماري "
وفى لفظ أن السائب المخزومي كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة
فجاء يوم الفتح فقال: مرحبا بأخي وشريكي، لا تداري ولا تماري. وفى لفظ
أن السائب قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يثنون علي ويذكرونني،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم به، فقلت: صدقت بأبي أنت
وأمي، كنت شريكي فنعم الشريك لا تداري ولا تماري "
وقوله " لا تداري " أي لا تخالف ولا تنازع من قوله تعالى " فادارأتم
فيها " يعنى اختلفتم وتنازعتم
أما الأحكام فان الأصل في جواز الشركة الكتاب والسنة والاجماع، أما
الكتاب فقوله تعالى " واعلموا أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول " الآية
فجعل الخمس مشتركا بين الغانمين
وقوله تعالى " يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين "
62

فجعل الميراث مشتركا بين الأولاد. وقوله تعالى " إنما الصدقات للفقراء
والمساكين " الآية. فجعل الصدقة مشتركة بين أهل الأصناف. وقوله تعالى
" وإن كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض " والخلطاء هم الشركاء
وأما السنة فقد مضى بعضها، ونضيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من
كان له شريك في ربع أو حائط فلا يبعه حتى يؤذن شريكه " وقد سبق تخريجه
وطرقه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
وأما أثر أبى جمرة عن ابن عباس " لا تشاركن يهوديا ولا نصرانيا ولا
مجوسيا، قلت لم؟ قال لأنهم يربون. وأبو جمرة هو نصر بن عمران الضبعي
صاحب ابن عباس، والأثر رواه الأثرم. وقد روى الخلال بإسناده عن عطاء
قال " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مشاركة اليهودي والنصراني، إلا
أن يكون الشراء والبيع بيد المسلم "
وأما الاجماع فإن أحدا من العلماء لم يخالف في جوازها. إذا ثبت هذا فإن
الشركة تنقسم على ستة أقسام: شركه في الأعيان والمنافع، وشركه في الأعيان
دون المنافع، وشركه في المنافع دون الأعيان، وشركه في المنافع المباحة، وشركه
في حق الأبدان، وشركه في حقوق الأموال.
فأما شركة المنافع والأعيان فهو أن يكون بين الرجلين أو بين الجماعة أرض
أو بهائم ملكوها بالإرث أو بالبيع أو الهبة مشاعا
وأما شركة الأعيان دون المنافع فمثل أن يوصى رجل لرجل بمنفعة أرضه أو
داره فيموت ويخلف جماعة ورثة، فإن رقبة الأرض والدار تكون موروثة
للورثة دون المنفعة.
وأما الشركة في المنافع دون الأعيان فمثل أن يوصى بمنفعة عربته لجماعه أو
يستأجر جماعة عربة
وأما الوقف على جماعة - فان قلنا إن ملك الرقبة إلى الله كانت الشركة بينهم
في المنافع دون الأعيان، وإن قلنا ينقل الملك إليهم كانت الشركة بينهم في المنافع
والأعيان، وأما الشركة في المنافع المباحة فمثل أن يموت رجل وله ورثة جماعة
ويخلف كلب صيد أو كلب ماشية أو زرع، فإن المنفعة مشتركة بينهم
63

وأما الشركة في حقوق الأبدان فهو أن يرث جماعه قصاصا أو حد قذف،
وأما الشركة في حقوق الأموال فهو أن يرث جماعه الشفعة أو الرد بالعيب وخيار
الشرط وحقوق الرهن ومرافق الطرق
(مسألة) وتجوز الشركة في التجارة لما روى أن البراء بن عازب وزيد بن
أرقم كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان بنسيئة فردوه، ويكره
للمسلم أن يشارك الكافر سواء كان المسلم هو المتصرف أو الكافر أو هما، وقال
الحسن رضي الله عنه " إن كان المسلم هو المتصرف لم يكره، وإن كان الكافر هو
المتصرف أو هما كره
دليلنا ما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال " أكره أن يشارك
المسلم اليهودي والنصراني، ولا مخالف له، ولأنهم لا يمتنعون من الربا ومن
بيع الخمر، ولا يؤمن أن يكون ماله الذي عقد عليه الشركة من ذلك فكره،
فإن عقد الشركة معه صح، لأن الظاهر مما في أيديهم أنه ملكهم، وقد اقترض
النبي صلى الله عليه وسلم من يهودي شعيرا ورهنه درعه، وقال أحمد يشارك
اليهودي والنصراني ولكن لا يخلوان به، ويخلو به المسلم، وحديث الأثرم فيه
إرسال، وخبر ابن عباس موقوف عليه
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وتصح الشركة على الدراهم والدنانير، لأنهما أصل لكل ما يباع
ويبتاع، وبهما تعرف قيمة الأموال وما يزيد فيها من الأرباح، فأما ما سواهما
من العروض فضربان، ضرب لا مثل له، وضرب له مثل، فأما مالا مثل له
كالحيوان والثياب فلا يجوز عقد الشركة عليها لأنه قد تزيد قيمة أحدهما دون
الآخر، فإن جعلنا ربح ما زاد قيمته لمالكه أفردنا أحدهما بالربح والشركة معقودة
على الاشتراك في الربح، وان جعلنا الربح بينهما أعطينا من لم تزد قيمة ماله ربح
مال الآخر، وهذا لا يجوز
وأما ماله مثل كالحبوب والادهان ففيه وجهان (أحدهما) لا يجوز عقد
64

الشركة عليه، وعليه نص في البويطي لأنه من غير الأثمان فلم يجز عقد الشركة
عليه كالثياب والحيوان (والثاني) يجوز، وهو قول أبي إسحاق لأنه من ذوات
الأمثال فأشبه الأثمان، وإن لم يكن لهما غير العروض وأرادا الشركة باع كل
واحد منهما بعض عرضه ببعض عرض الاخر، فيصير الجميع مشتركا بينهما،
ويشتركان في ربحه.
(الشرح) الأحكام. قال المزني: والذي يشبه قول الشافعي رحمه الله أنه
لا تجوز الشركة في العروض ولا فيما يرجع في حال المفاضلة إلى القيم ولغير
الأثمان. وجملة ذلك أن عقد الشركة يصح على الدراهم والدنانير لأنها قيم المتلفات
ومعايير الأثمان، وبها تعرف قيم الأموال وما يزيد فيها من الأرباح، وممن منع
الشركة بالعروض أصحاب أحمد كما نص عليه هو في رواية أبى طالب وحرب،
وحكاه عنه ابن المنذر. وكره ذلك ابن سيرين ويحيى بن أبي كثير والثوري وإسحاق
وأبو ثور وأصحاب الرأي، لان الشركة إما أن تقع على أعيان العروض أو قيمتها
أو أثمانها. فأما أعيانها فإنه لا يجوز أن تقع عليها لان الشركة تقتضي الرجوع
عند المفاصلة برأس المال أو بمثله، وهذه لا مثل لها فيرجع إليه، وقد تزيد قيمة
جنس أحدهما دون الاخر فيستوعب بذلك جميع الربح أو جميع المال، وقد تنقص
قيمته فيؤدى إلى أن يشاركه الاخر في ثمن ملكه الذي ليس بربح
وأما قيمتها فإنها غير متحققة القدر فيفضى إلى التنازع، وقد يقوم الشوء
بأكثر من قيمته، ولان القيمة قد تزيد في أحدهما قبل بيعه فيشاركه الاخر في
العين المملوكة له.
وأما الأثمان فإنها معدومة حال العقد ولا يملكانها، ولأنه إن أراد ثمنها الذي
اشتراها به فقد خرج عن مكانه وصار للبائع. وان أراد ثمنها الذي يبيعها به فإنها
تصير شركه معلقة على شرط وهو بيع الأعيان، ولا يجوز ذلك
وقد فرق أصحابنا بين ماله مثل وبين مالا مثل له. فأما مالا مثل له كالنبات
والحيوان وما أشبههما فلا يصح عقد الشركة عليها، وبه قال من مضى ذكرهم،
وقال مالك يصح عقد الشركة عليها ويكون رأس المال قيمتها
65

دليلنا: أن موضع الشركة على أن لا ينفرد أحد الشريكين بربح مال أحدهما
وهذه الشركة تفضي إلى ذلك، لأنه قد يزيد قيمة عرض أحدهما، ولا يزيد قيمة
عرض الآخر، فيشاركه من لم يزد قيمة عرضه عند المفاصلة، وهذا لا سبيل إليه
فإن كان لكل واحد منهما عربة تساوى مائة وأراد الشركة، باع أحدهما نصف
عربته بنصف عربة صاحبه ثم يتقابضان ويأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف
وإن كانت قيمة إحداهما مائتين وقيمة الأخرى مائة باع من قيمة عربته مائتان
ثلث عربته بثلثي عربة الآخر، وان شاءا باع كل واحد منهما من صاحبه بعض
عرضه بثمن في ذمته ثم تقاصا، وان شاءا اشتريا عرضا من رجلين بثمن في ذمتهما
ثم دفعا عرضهما عما في ذمتهما.
وأما ما له مثل كالحبوب والادهان، فهل يصح عقد الشركة فيها؟ فيه وجهان
(أحدهما) يجوز، وهو ظاهر ما نقله المزني، لأنه قال: ولا فيما يرجع حال
المفاصلة إلى القيم، وما له مثل لا يرجع إلى قيمته ولأنهما مالان إذا خلطا لم يتميز
أحدهما عن الآخر، فصح عقد الشركة عليهما كالدراهم والدنانير.
(والثاني) لا يجوز، لان الشافعي رضي الله عنه قال في البويطي ولا تجوز
الشركة في العروض، وما له مثل من العروض، ولأنها شركة على عروض فلم
يصح كالنبات والحيوان.
قال أبو إسحاق المروزي في الشرح: فإذا قلنا: تصح الشركة فيها - فإن كانت
قيمتهما سواء - أخذ كل واحد منهما مثل سلعته يوم المفاصلة واقتسما ما بقي من
الربح، وإن كانت قيمتهما مختلفه مثل أن كانت حنطة أحدهما جيده وحنطة الآخر
مسوسة كان لكل واحد منهما قيمة حنطته يوم الشركة واقتسما ما بقي من الربح
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ولا يصح من الشرك الا شركة العنان، ولا يصح ذلك الا أن
يكون مال أحدهما من جنس مال الآخر وعلى صفته، فإن كان مال أحدهما دنانير
والآخر دراهم، أو مال أحدهما صحاحا والآخر قراضه أو مال أحدهما من سكة
ومال الآخر من سكة أخرى لم تصح الشركة، لأنهما مالان لا يختلطان فلم تصح
66

الشركة عليهما كالعروض، فإن كان مال أحدهما عشرة دنانير ومال الآخر مائة
درهم، وابتاعا بها شيئا وربحا قسم الربح بينهما على قدر المالين، فإن كان نقد البلد
أحدهما قوم به الاخر، فان استوت قيمتاهما استويا في الربح، وان اختلفت
قيمتاهما تفاضلا في الربح على قدر مالهما.
(فصل) ولا تصح حتى يختلط المالان، لأنه قبل الاختلاط لا شركة
بينهما في مال، ولأنا لو صححنا الشركة قبل الاختلاط وقلنا: إن من ربح شيئا
من ماله انفرد بالربح أفردنا أحدهما بالربح، وذلك لا يجوز، وان قلنا: يشاركه
الاخر أخذ أحدهما ربح مال الاخر، وهذا لا يجوز، وهل تصح الشركة مع
تفاضل المالين في القدر؟ فيه وجهان.
(أحدهما) لا تصح، وهو قول أبى القاسم الأنماطي لان الشركة تشتمل على
مال وعمل ثم لا يجوز أن يتساويا في المال ويتفاضلا في الربح، فكذلك لا يجوز
أن يتساويا في العمل ويتفاضلا في الربح وإذا اختلف مالهما في القدر فقد تساويا
في العمل وتفاضلا في الربح، فوجب أن لا يجوز.
(والثاني) تصح، وهو قول عامة أصحابنا وهو الصحيح، لان المقصود
بالشركة أن يشتركا في ربح مالهما، وذلك يحصل مع تفاضل المالين كما يحصل مع
تساويهما، وما قاله الأنماطي من قياس العمل على المال لا يصح، لأن الاعتبار
في الربح بالمال لا بالعمل، والدليل عليه أنه لا يجوز أن ينفرد أحدهما بالمال
ويشتركا في الربح، فلم يجز أن يستويا في المال ويختلفا في الربح، وليس كذلك
العمل، فإنه يجوز أن ينفرد أحدهما بالعمل ويشتركا في الربح، فجاز أن يستويا
في العمل ويختلفا في الربح.
(الشرح) قوله: شركة العنان وهو أن يشتركا في شئ خاص دون سائر
أموالهما، كأنه عن لهما شئ فاشترياه مشتركين فيه، وقيل: مأخوذة من عناني
فرسي الرهان، لان الفارسين إذا تسابقا تساوى عنانا فرسيهما، وكذلك الشركة
يتساوى فيها الشريكان.
67

والشركة أربع: شركة العنان، وشركة الأبدان، وشركة المفاوضة وشركة
الوجوه، ولا يصح من هذه الشركة عندنا إلا شركة العنان.
قال في البيان واختلف الناس لم سميت شركه العنان فقيل سميت شركة العنان لظهورها
وهو أنهما ظاهرا باخراج المالين، ويقال عن الشئ إذا ظهر ومنه قول امرئ القيس
فعن لنا سرب كأن نعاجه * عذارى دوار في ملاء مذيل
(وقيل) سميت عنانا من المعاننة وهي المعارضة، وكل واحد من الشريكين
عارض شريكه بمثل ماله، إلى أن قال. وقال أبو بكر الرازي سميت بذلك مأخوذا
من العنان، لان الانسان يأخذ عنان الدابة بإحدى يديه، ويحبسه عليها، ويده
الأخرى مرسلة يتصرف بها كيف شاء، كذلك هذه الشركة كل واحد من
الشريكين بعض ماله مقصور عن التصرف فيه من جهة الشركة، وبعض ماله
يتصرف فيه كيف شاء. اه‍
وقد اعتبر أصحاب أحمد الشركة خمسا حيث زادوا شركة المضاربة، وقد
أجازوا بعض ما هو ممنوع عندنا على تفصيل سيأتي إن شاء الله تعالى.
وجماع القول في شركة العنان هو أن يخرج كل واحد منهما مالا من جنس
مال الآخر وعلى صفته ويخلطا المالين، ولا خلاف في صحة هذه الشركة لسلامتها
من سائر أنواع الغرر، ويشترط فيها لفظ صريح من كل للآخر يدل على الاذن
للمتصرف من كل منهما أو من أحدهما، أو كناية تشعر بذلك وكاللفظ الكتابة
وإشارة الأخرس المفهمة فلو أذن أحدهما فقط تصرف المأذون في الكل والآذن
في نصيبه خاصة، فإن شرط عدم تصرفه في نصيبه لم تصح.
(فرع) الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد من الشريكين دنانير مثل دنانير
صاحبه ويخلطاها فيكونا شريكين، وجملة ذلك أن من شرط صحة شركه العنان
أن يكون مالهما المشترك بينهما من جنس واحد وسكة واحدة، فإن كان مال أحدهما
عملة محلية والاخر عملة أجنبيه واختلفا قيمة لم تصح الشركة لاختلاف جهة
الاصدار وعدم اتحاد القيمة واحتمال دخول عنصر الغرر أو الربا في الاستبدال
والصرف فلم تصح كما لو كانت نقود أحدهما مكسرة والاخر صحيحه، أو كانت
68

لأحدهما دنانير والآخر دراهم، أو كانت لأحدهما طبرية والاخر عبدية، وقال
أبو حنيفة " يصح "
دليلنا أنه مالان مختلفان، فوجب أن لا ينعقد عليهما عقد الشركة، كما لو كان
مال أحدهما حنطة ومال الاخر شعيرا، فإن خالفا وأخرج أحدهما عشرة دنانير
والاخر عشرة دراهم وخلطا ذلك وابتاعا فإن ذلك يكون ملكا لهما على قدر مالهما
فإن كان نقد البلد دنانير قومت الدراهم، فإن كانت قيمتها خمسة دنانير كان لصاحب
الدنانير ثلثا المتاع ولصاحب الدراهم ثلثه، وكذلك بقسم الربح والخسران بينهما،
وإن كان نقد البلد من غير جنس ما أخرجاه قوم ما أخرج كل واحد منهما بنقد
البلد، فان تساويا كان ذلك بينهما نصفين، وإن تفاضلا كان الحكم في ملك
المتاع لهما كذلك.
ولا تصح الشركة حتى يختلط المالان ثم يقولا: تشاركنا أو اشتركنا، فان
عقدا الشركة قبل خلط المالين لم يصح
وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى تصح الشركة وان لم يخلطا المالين، بل مال
كل واحد منهما بيده يتصرف فيه كيف شاء ويشتركان في الربح وقال مالك
رحمه الله تعالى: من شرط عقد الشركة أن تكون أيديهما على المالين، أو يد
وكيلهما. وان لم يكونا مخلوطين
دليلنا أنهما مالان يتميز أحدهما عن الاخر فلم تصح الشركة عليهما كما لو كانا
حنطة وشعيرا، أو كما لو لم تكن يدهما على المالين، ولأنا لو صححنا عقد الشركة
قبل الخلط لأدى إلى أن يأخذ أحدهما ربح مال الاخر، لأنه قد ربح بمال
أحدهما دون الاخر
وهل من شرط صحة هذه الشركة أن يتساويا في قدر ماليهما؟ فإن كان مال
أحدهما عشرة دنانير ومال الاخر خمسة لم تصح، لان الشافعي شرط أن يخرج
أحدهما مثل ما يخرج الاخر، ولأنهما إذا تفاضلا في المال فلابد أن يتفاضلا
في الربح. لان الربح على قدر المالين، فلم يجز أن يتفاضلا في الربح مع تساويهما
في العمل، كما لا يجوز أن يتساويا في المال ويتفاضلا في الربح
قال أبو القاسم الأنماطي: لا تصح الشركة. وقال عامة أصحابنا تصح الشركة
69

وإن كانا متفاضلين في المالين، لان المقصود في الشركة أن يشتركا في ربح ماليهما
وذلك يمكن مع تفاضل المالين، كما يمكن مع تساويهما. وما قال الشافعي فأراد
به المثل من جهة الجنس والسكة، لا من جهة المقدار، وأما اعتبار الربح بالعمل
فغير صحيح، لان عمل الشريكين في مال الشركة لا تأثير له، لأنه تابع، وقد
يعمل أحدهما في مال الشركة أكثر من عمل الاخر مع استوائهما في المال. وقد
يعمل أحدهما في مال الشركة وحده من غير شرط في العقد، ويصح ذلك كله
ولا يؤثر في الربح.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ولا يجوز لاحد الشريكين أن يتصرف في نصيب شريكه إلا بإذنه
فان أذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف تصرفا، وإن أذن أحدهما ولم يأذن
الاخر تصرف المأذون في الجميع، ولا يتصرف الاخر الا في نصيبه، ولا يجوز
لأحدهما أن يتجر في نصيب شريكه إلا في الصنف الذي يأذن فيه الشريك، ولا
أن يبيع بدون ثمن المثل، ولا بثمن مؤجل، ولا بغير نقد البلد إلا أن يأذن له
شريكه، لان كل واحد منهما وكيل للآخر في نصفه، فلا يملك الا
ما يملك كالوكيل.
(الشرح) الأحكام: إذا عقدا الشركة على مال لهما نصفين، فان كل واحد
منهما يملك التصرف في نصف المال مشاعا من غير إذن شريكه لأنه ملكه، وهل
له أن يتصرف في النصف الآخر من غير اذن شريكه؟ فيه وجهان حكاهما المسعودي
أحدهما يملك ذلك، وبه قال أبو حنيفة لان هذا مقتضى عقد الشركة، فلم يحتج
إلى إذن الاخر، كما لو عقد القراض على مال له
والثاني: وهو طريقة البغداديين من أصحابنا أنه لا يملك ذلك من غير إذن
شريكه، لان المقصود بالشركة هو أن يشتركا في ربح ماليهما. وذلك لا يقتضى
التوكيل من كل واحد منهما لصاحبه.
إذا ثبت هذا فان أذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف بنصيبه تصرف
70

كل واحد منهما بجميع مال الشركة، وان أذن أحدهما لصاحبه دون الآخر صح
تصرف المأذون له في جميع المال، ولا يتصرف من لم يؤذن له الا في نصفه مشاعا
ولا يتجر المأذون له في نصيب شريكه إلا في النوع المأذون له فيه من الأمتعة،
سواء كان يعم وجوده أو لا يعم وجوده، ولان ذلك توكيل، وللانسان أن
يوكل غيره يشترى له نوعا من الأمتعة، وإن لم يكن عام الوجود بخلاف القراض
فإن المقصود منه الربح، وذلك لا يحصل إلا في الاذن بالتجارة فيما يعم وجوده.
قال ابن الصباغ: وإن أذن له أن يتجر في جميع التجارات جاز ذلك أيضا.
ولا يبيع المأذون له نصيب شريكه إلا بنقد البلد حالا بثمن المثل كما نقول في الوكيل
قال المصنف رحمه الله تعالى.
(فصل) ويقسم الربح والخسران على قدر المالين، لان الربح نماء مالهما
والخسران نقصان مالهما، فكانا على قدر المالين، فإن شرطا التفاضل في الربح
والخسران مع تساوى المالين، أو التساوي في الربح أو الخسران مع تفاضل المالين
لم يصح العقد، لأنه شرط ينافي مقتضى الشركة فلم يصح، كما لو شرط أن يكون
الربح لأحدهما، فإن تصرفا مع هذا الشرط صح التصرف، لان الشرط لا يسقط
الاذن فنفذ التصرف، فان ربحا أو خسرا جعل بينهما على قدر المالين، ويرجع
كل واحد منهما بأجرة عمله في نصيب شريكه، لأنه إنما عمل ليسلم له ما شرط،
وإذا لم يسلم رجع بأجرة عمله.
(الشرح) الأحكام: إذا اشترك رجلان وتصرفا - فان ربحا - قسم الربح
بينهما والخسران على قدر المالين. سواء شرطا ذلك في العقد أو أطلقا، لان
هذا مقتضى الشركة، وان شرطا التفاضل في الربح أو الخسران مع تساوى المالين
أو شرطا التساوي في الربح أو الخسران مع تفاضل المالين لم يصح هذا الشرط.
وقال أبو حنيفة " يصح "
دليلنا أنه شرط ينافي مقتضى الشركة فلم يصح، كما لو شرطا الربح لأحدهما
فان تصرفا مع هذا الشرط صح تصرفهما، لان الشرط يسقط الاذن، فان ربحا
71

أو خسرا قسم الربح والخسران على قدر مالهما، لأنه مستفاد بمالهما، ولأنه ثمرة
المال فكان على قدرهما، كما لو كان بينهما نخيل فأثمرت، ويرجع كل واحد
منهما على صاحبه بأجرة عمله في ماله. لأنه إنما عمل بشرط ولم يسلم له الشرط.
قال المصنف رحمه الله تعالى.
(فصل) وأما شركة الأبدان، وهي الشركة على ما يكتسبان بأبدانهما فهي
باطلة، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل شرط
ليس في كتاب الله فهو باطل " وهذا الشرط ليس في كتاب الله تعالى. فوجب
أن يكون باطلا، ولان عمل كل واحد منهما ملك له يختص به فلم يحز أن يشاركه
الآخر في بدله، فإن عملا وكسبا أخذ كل واحد منهما أجرة عمله. لأنها بدل
عمله فاختص بها.
(الشرح) حديث عائشة رضي الله عنها رواه الشيخان: قال النووي: صنف
فيه ابن خزيمة وابن جرير تصنيفين كبيرين أكثرا فيهما من استنباط الفوائد.
أما الأحكام: فإذا كان بين رجلين ثلاثة آلاف درهم لأحدهما ألف
وللآخر ألفان، وعقدا الشركة على أن يكون الربح بينهما نصفين، فان شرط
صاحب الألفين على نفسه شيئا من العمل كانت الشركة فاسدة، فإذا عملا قسم
الربح والخسران بينهما على قدر مالهما، ويرجع كل منهما على صاحبه بأجرة
عمله في ماله.
وقال أبو حنيفة رحمه الله: الشركة فاسدة ولا يرجع أحدهما على الاخر
بأجرة عمله في ماله.
دليلنا أنه عقد قصدا به الربح في كل حال، فإذا كان فاسدا استحق أجرة عمله
فيه كالقراض، فإن عمل صاحب الألف على مال الشركة عملا أجرته ثلاثمائة.
وعمل صاحب الألفين على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون، فإن صاحب
الألف يستحق على صاحب الألفين مائتين ويستحق عليه صاحب الألفين خمسين
فيقاصه بها، وتبقى لصاحب الألف على صاحب الألفين مائة وخمسون. وان
عمل كل واحد منهما على مال الشركة عملا أجرته مائة وخمسون فان صاحب
72

الألف يستحق على صاحب الألفين مائة، ويستحق صاحب الألفين عليه خمسين
فيقاصه بها، ويبقى لصاحب الألف على صاحب الألفين خمسون
وإن شرط صاحب الألفين جميع العمل على صاحب الألف وشرط نصف
الربح، فان هذه الشركة صحيحة وقراض صحيح، لان صاحب الألف يستحق
ثلث الربح بالشركة، لان له ثلث المال ولصاحب الألفين ثلثا الربح، فلما شرط
جميع العمل على صاحب الألف وشرط له نصف الربح فقد شرط لعمله سدس
الربح فجاز، كما لو قارضه على سدس الربح
فان قيل كيف صح عقد القراض على مال مشاع؟ قلنا إنما صح لان الإشاعة
مع العامل فلا يتعذر تصرفه، وإنما لا تصح إذا كانت الإشاعة في رأس المال مع
غيره، لأنه لا يتمكن من التصرف
(فرع) قال صاحب البيان: وإن كان بين رجلين ألفا درهم لكل واحد
منهما ألف فأذن أحدهما لصاحبه أن يعمل في ذلك ويكون الربح بينهما نصفين.
فان هذا ليس بشركة ولا قراض، لان مقتضى الشركة أن يشتركا في العمل
والربح. ومقتضى القراض أن للعامل نصيبا من الربح. ولم يشترط له ههنا
شيئا. انتهى.
إذا ثبت هذا فعمل وربح كان الربح بينهما نصفين لأنه نماء مالهما قال ابن
الصباغ: ولا يستحق العامل لعمله في مال شريكه أجرة لأنه لم يشترط لنفسه
عوضا. فكان عمله تبرعا
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وأما شركة المفاوضة وهو أن يعقدا الشركة على أن يشتركا فيما
يكتسبان بالمال والبدن، وأن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر بغصب
أو بيع أو ضمان فهي شركة باطلة، لحديث عائشة رضي الله عنها. ولأنها شركة
معقودة على أن يشارك كل واحد منهما صاحبه فيما يختص بسببه فلم تصح، كما
لو عقدا الشركة على ما يملكان بالإرث والهبة. ولأنها شركة معقودة على أن
يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر بعدوانه فلم تصح. كما لو عقدا الشركة
73

على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر بالجناية، فان عقدا الشركة على
ذلك واكتسبا وضمنا أخذ كل واحد منهما ربح ماله وأجرة عمله، وضمن كل
واحد منهما ما لزمه بغصبه وبيعه وضمانه، لان الشرط قد سقط، وبقى الربح
والضمان على ما كانا قبل الشرط، ويرجع كل واحد منهما بأجرة عمله في نصيب
شريكه، لأنه عمل في ماله ليسلم له ما شرط له، ولم يسلم فوجب أجرة عمله.
(الشرح) الأحكام: إن شركة المفاوضة باطلة عندنا، وهي أن يشترطا أن
يكون ما يملكان من المال بينهما، وأن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر
بغصب أو بيع أو ضمان.
قال الشافعي رضي الله عنه في اختلاف العراقيين: لا أعلم في الدنيا شيئا باطلا
إن لم تكن شركة المفاوضة باطلة، ولا أعلم القمار إلا هذا وأقل منه.
وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي رضي الله عنهم: شركة المفاوضة
صحيحة إلا أن أبا حنيفة يقول: من شرط صحتها أن يخرج كل واحد منهما جميع
ما يملكه من الذهب والفضة، حتى لو أن أحدهما استثنى مما يملكه درهما لم تصح
الشركة، ويكون مال أحدهما مثل مال صاحبه، ويكونان حرين بالغين مسلمين.
ولا تصح بين مسلم وذمي، ولا بين ذميين، ولا بين حر وعبد، فإذا وجدت هذه
الشركة تضمنت الوكالة والكفالة.
فأما الوكالة فهو أن يشارك كل واحد منهما صاحبه في الكسب وفيما يوهب
له، وفى الكنز الذي يجده وفى جميع ما يكسبه إلا الاصطياد والاحتشاش فإنهما
ينفردان. وأما الميراث فإنهما لا يشتركان فيه، فإذا ورث أحدهما نظر فيه،
فإن كان عرضا لم يضمن الشركة، وإن كان ذهبا أو فضه فما لم يقبضه فالشركة
بحالها وان قبضه بطلت الشركة، لأنه قد صار ماله أكثر من مال الاخر.
وأما الكفالة فإن كل ما يلزم أحدهما باقرار أو غصب أو ضمان أو عهدة فان
صاحبه يشاركه فيه إلا أرش الجناية.
دليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغرر وهذا غرر، والنهى يقتضى
فساد المنهى عنه، ولأنها شركة تصح مع المفاضلة فلم تصح مع المساواة كالشركة
74

في العروض وعكسه شركة العنان، ولأنهما عقدا الشركة على ما يملكان بالإرث
أو بقول شركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على الاخر بعدوانه فلم يصح
كما لو عقدا الشركة على أن يضمن كل واحد منهما ما يجب على كل واحد منهما
كالجناية. إذا ثبت هذا فان كسبا اختص كل واحد منهما بملك ما كسبه ووجب
عليه ضمان ما أتلفه وغصبه، لان وجود هذا العقد بمنزلة عدمه
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وأما شركة الوجوه، وهو أن يعقدا الشركة على أن يشارك كل
واحد منهما صاحبه في ربح ما يشتريه بوجهه، فهي شركة باطلة، لان ما يشتريه
كل واحد منهما ملك له ينفرد به، فلا يجوز أن يشاركه غيره في ربحه، وإن وكل
كل واحد منهما صاحبه في شراء شئ بينهما، واشترى كل واحد منهما ما أذن فيه
شريكه. ونوى أن يشتريه بينه وبين شريكه دخل في ملكهما وصارا شريكين فيه
فإذا بيع قسم الثمن بينهما لأنه بدل مالهما
(الشرح) هذه أيضا إحدى الصور من الشركات التي لا تصح عندنا وتسمى
شركة الوجوه. وهو أن يتفقا على أن يشترى كل واحد منهما بوجهه، ويكون
ذلك شركه بينهما وإن لم يذكر شريكه
وقال أبو حنيفة " تصح "
دليلنا أن ما يشتريه كل واحد منهما ملك له، فلا يشارك غيره فيه، فان أذن
أحدهما لصاحبه أن يشترى له عينا معينة أو موصوفة ويبين له الثمن فاشترى له
ونواه عند الشراء كان ذلك للآخر.
(فرع) حكى الصيمري أن الشافعي رحمه الله قال: شركة الأزواد في السفر
سنة، فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم، وليس من
باب الربا سبيل، فيخلط هذا طعامه بطعام غيره جنسا وجنسين وأقل وأكثر،
ويأكلان ولا ربا في ذلك، ونحو هذا إشراك الجنس في الطعام بدار الحرب.
والله تعالى أعلم.
75

قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن أخذ رجل من رجل جملا، ومن آخر راوية، على أن
يستقى الماء ويكون الكسب بينهم، فقد قال في موضع: يجوز. وقال في موضع
لا يجوز، فمن أصحابنا من قال: إن كان الماء مملوكا للسقاء فالكسب له، ويرجع
عليه صاحب الجمل والراوية بأجرة المثل للجمل والراوية، لأنه استوفى منفعتهما
بإجارة فاسدة فوجب عليه أجرة المثل وإن كان الماء مباحا فالكسب بينهم أثلاثا لأنه
استقى الماء على أن يكون الكسب بينهم فكان الكسب بينهم كما لو وكلاه في شراء ثوب
بينهم فاشتراه، على أن يكون بينهم، وحمل القولين على هذين الحالين، ومنهم
من قال: إن كان الماء مملوكا للسقاء كان الكسب له، ويرجعان عليه بالأجرة
لما ذكرناه، وإن كان الماء مباحا ففيه قولان.
(أحدهما) أنه بينهم أثلاثا لأنه أخذه على أن يكون بينهم فدخل في ملكهم
كما لو اشترى شيئا بينهم بإذنهم.
(والثاني) أن الكسب للسقاء، لأنه مباح اختص بحيازته فاختص بملكه
كالغنيمة، ويرجعان عليه بأجرة المثل لأنهما بذلا منفعة الجمل والراوية، ليسلم
لهما الكسب ولم يسلم، فثبت لهما أجرة المثل.
(الشرح) الأحكام: قال الشافعي رحمه الله تعالى في البويطي: إذا اشترك
أربعة أنفس في الزراعة فأخرج أحدهما البذر ومن الثاني الأرض ومن الثالث
الفدان يعنى البقر التي يعمل عليها، والرابع يعمل على أن يكون الزرع بينهم فإن
هذا عقد فاسد، لأنه ليس شركة ولا قراضا ولا إجارة لان الشركة لا تصح حتى
يخلط الشركاء أموالهم، وها هنا أموالهم متميزة، وفى القراض يرجع رب المال
إلى رأس ماله عند المفاصلة، وههنا لا يمكن، والإجارة تفتقر إلى أجرة معلومة
وعمل معلوم، فإذا ثبت هذا كانت الغلة كلها لمالك البذر لأنها عين ماله زادت،
وعليه لصاحب الأرض ولصاحب الفدان أجرة مثل مالهم، وللعامل أجرة مثل
عمله عليه، لان كل واحد منهم دخل في العقد ليكون له شئ من الغلة، ولم يسلم
لهم ذلك، وقد تلفت منافعهم فكان لهم بدلها.
76

(فرع) قال في البويطي: فان اشترك أربعة فأخرج أحدهم بغلا والآخر
حجر الرحى، ومن الآخر البيت، ومن الرابع العمل على أن يكون ما حصل من
الأجرة بينهم على ما شرطوه، فان هذه معاملة فاسدة، لأنها ليست شركة ولا
قراضا ولا إجارة لما بيناه في الفصل قبله.
قال الشافعي رضى الله تعالى عنه: فإذا أصابوا شيئا جعل لكل واحد منهم
أجرة مثله، وجعل كرأس ماله، وقسم ما حصل بينهم على قدره. قال أبو العباس
ابن سريج: في هذا مسألتان.
(إحداهما) إذا جاء رجل فاستأجر من كل واحد ماله ليطحنوا له طعاما
معلوما بأجرة معلومة بينهم، بأن يقول لصاحب البيت: استأجرت منك هذا
البيت ومن هذا الحجر، ومن هذا البغل، ومن هذا نفسه ليطحنوا لي كذا وكذا
من الحنطة بكذا وكذا درهم، فقالوا: قبلنا الإجارة، فهل يصح هذا العقد؟ فيه
قولان كالقولين في أربعة أنفس لهم أربع دواب باعوها بثمن واحد، وكالقولين
فيمن تزوج أربع نسوة بمهر واحد، أو خالعنه بعوض واحد، فإذا قلنا لا يصح
استحق كل واحد منهم أجرة مثل ماله على صاحب الطعام. وإن قلنا يصح نظر،
كم أجرة مثل كل واحد منهم. وقسم المسمى بينهم على قدر أجور مثلهم، ولو
استأجر من كل واحد ملكه بأجرة معلومة على عمل معلوم أو مدة معلومة بعقد
مفرد صح ذلك قولا واحدا واستحق كل واحد منهما ما يسمى له.
(المسألة الثانية) إذا استأجرهم في الذمة مثل أن يقول: استأجرتكم لتحصلوا
لي طحن هذا الطعام بمائة صحت الإجارة قولا واحدا. ووجب على كل واحد
منهم ربع العمل واستحق ربع المسمى من غير تقسيط فإذا طحنوا استحقوا
المسمى أرباعا، وكان لكل واحد منهم أن يرجع على شركائه بثلاثة أرباع عمله.
فيرجع صاحب البغل على شركائه بثلاثة أرباع أجرة بغله. وكذلك صاحب البيت
والرحى والعامل، لان كل واحد منهم يستحق عليه ربع العمل. وقد عمل الجميع
فسقط الربع لأجل ما استحق عليه، ورجع على شركائه بما لم يستحق عليه.
فان قال: استأجرتكم لتطحنوا لي هذا الطعام بمائة فقالوا قبلنا. فذكر الشيخ
77

أبو حامد الأسفراييني في التعليق أنها على قولين كالمسألة الأولى. وذكر المحاملي
في البحر وابن الصباغ: أنها لا تصح قولا واحدا كالمسألة الثانية.
فإن قال لرجل منهم: استأجرتك لتحصل لي طحن هذا الطعام بمائة فقال:
قبلت الإجارة لي ولأصحابي، أو نوى ذلك وكانوا قد أذنوا له في ذلك فالإجارة
صحيحة، والمسمى بينهم أرباعا، فإذا طحنوا رجع كل واحد منهم بثلاثة أرباع
أجرة ماله على شركائه، وان لم ينو أن يقبل له ولأصحابه لزمه العمل بنفسه، فإذا
طحن الطعام بالآلة التي بينه وبين شركائه استحق المسمى وكان عليه أجرة مثل آلاتهم
(فرع) قال في البويطي: فإن اشترك ثلاثة من أحدهم البغل، ومن الاخر
الراوية، ومن الاخر العمل على أن يستقى الماء ويكون ما رزق الله بينهم، فإن
هذه معاملة فاسدة، لأنها ليست بشركة ولا قراض ولا إجارة لما بيناه، فإذا استقى
الماء وباعه، وحصل منه ثمن فقد قال الشافعي رضي الله عنه في موضع: يكون
ثمن الماء كله للعامل، وعليه أجرة مثل البغل والراوية.
وقال في موضع: يكون ثمن الماء كله للسقاء، وعليه أجرة البغل والراوية
إذا كان الماء ملكا له مثل أن يأخذ الماء من بركة له أو مما ينبع في ملكه لأن الماء
ملكه، وكان ثمنه ملكا له، وعليه أجرة البغل والراوية لأنه استوفى منفعتهما
على عوض، ولم يسلم لهما الغرض.
والموضع الذي قال: يكون ثمن الماء بينهم، إذا كان الماء مباحا، لان الثمن
حصل بالعمل والبغل والراوية، ومنهم من قال: إن كان الماء ملكا للسقاء فالثمن
كله له. وعليه أجرة البغل والراوية لما ذكرناه، وإن كان الماء مباحا ففيه قولان
(أحدهما) أن الثمن كله للسقا لأن الماء يملك بالحيازة ولم توجد الحيازة إلا
منه، وعليه أجرة مثل البغل والراوية، لأنهم دخلوا على أن يكون لهم قسط
من ثمن الماء، فإذا لم يحصل ذلك لهم استحقوا أجرة المثل.
(والقول الثاني) أن ثمن الماء بينهم لأنه لم يتناول الماء لنفسه، وإنما تناوله
ليكون بينهم فكان بينهم، فصار كالوكيل لهم.
قال ابن الصباغ وهكذا لو اصطاد له ولغيره فهل لغيره منه شئ؟ فيه وجهان:
78

أحدهما وهو قول الشيخ أبى حامد في التعليق أنه يقسم بينهم بالتقسيط على قدر
أجور أمثالهم. وحكى أن الشافعي رحمه الله نص على ذلك.
والثاني: حكاه ابن الصباغ عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه يكون بينهم أثلاثا
ويرجع صاحب البغل بثلثي أجرته على صاحبه ويرجع صاحب الراوية بثلثي أجرته
على صاحبيه، ويرجع السقا على صاحبيه بثلثي أجرته.
وأما صاحبنا المصنف فذكر أنه يكون بينهم أثلاثا وأطلق، فان استأجرهم
غيرهم ليستقوا له ماء. قال أبو العباس: ففيه مسألتان كما ذكر في الطحن إن
استأجرهم إجارة معينة بأجرة واحدة ففيه قولان، وإن استأجرهم في ذممهم صح
قولا واحدا والله تعالى أعلم.
ويستخلص مما مضى أنه يجوز عندنا على أحد الوجهين اشتراك مالين وبدن
صاحب أحدهما على سبيل الشركة والمضاربة معا بصورة يمتنع فيها الغرر مثل
أن يشترك رجلان بينهما ثلاثة آلاف درهم لأحدهم ألف وللآخر ألفان فأذن
صاحب الألفين على أن يتصرف صاحب الألف على أن يكون الربح بينهما نصفين
ويكون لصاحب الألف ثلث الربح بحق ماله والباقي وهو ثلثا الربح بينهما لصاحب
الألفين ثلاثة أرباعه وللعامل ربعه، وذلك لأنه جعل له نصف الربح، فجعلناه
ستة أسهم منها ثلاثة للعامل، حصة ماله سهمان وسهم يستحقه بعمله في مال
شريكه، وحصة مال شريكه أربعة أسهم سهم للعامل وهو الربع.
وقال مالك: لا يجوز أن يضم إلى القراض شركة، كما لا يجوز أن يضم إليه
عقد إجارة. دليلنا: أنهما لم يجعلا أحد العقدين شرطا للآخر، فلم نمنع من
جمعهما كما لو كان المال متميزا.
(مسألة) إذا اشترى الشريكان عينا فوجدا به عيبا، فإن اتفقا على رده
وإمساكه فلا كلام، وان أراد أحدهم الرد والآخر الامساك، فإن كانا قد عقدا
جميعا عقد البيع فلأحدهما أن يرد نصيبه دون نصيب شريكه، وقد مضى ذكرهما
في البيوع، وإن تولى أحدهما عقد البيع له ولشريكه فإن كان لم يذكر أنه يشترى
له ولشريكه ثم قال بعد ذلك: كنت اشتريت لي ولشريكي لم يقبل قوله على البائع
79

لأن الظاهر أنه اشترى لنفسه، وإن كان قد ذكر في الشراء أنه لنفسه ولشريكه
فهل له أن يرد حصته دون شريكه؟ فيه وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد. أحدهما
له ذلك، لان البائع قد علم أن الصفقة لنفسين فصار كما لو اشتريا بأنفسهما.
والثاني: ليس له الرد، وإن ذكر أنه يشترى له ولشريكه، فحكم العقد له،
ألا ترى أنه لو اشترى سيارة فقال: اشتريتها لخالد فقال خالد: ما أذنت له. كان
الشراء لازما للمشترى.
فأما إذا باع لرجل سيارة ثم قال: كانت بيني وبين فلان، فان باعها مطلقا ثم
قال بعد ذلك: إنها بينه وبين غيره لم يبقل قوله على المشترى، لأن الظاهر أنه
باع ملكه. قال الشيخ أبو حامد فيحلف المشترى أنه لا يعلم ذلك، فان أقام
الشريك بينة أنها بينه وبينه حكم له بذلك، فإن كان قد أذن له بالبيع صح، وان
لم يأذن له كان القول قوله أنه ما أذن له، لان الأصل عدم الإذن، فان ذكر
البائع حين البيع أنها بينه وبين شريكه قبل قوله، لأنه مقر على نفسه في ملكه.
وان أقر الشريك أنه أذن له في البيع نفذ البيع، وان لم يقر بالاذن ولا بينة
عليه حلف أنه ما أذن له وبطل البيع، لان الأصل عدم الإذن.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) والشريك أمين فيما في يده من مال شريكه فان هلك المال في يده
من غير تفريط لم يضمن، لأنه نائب عنه في الحفظ والتصرف، فكان للهالك في
يده كالهالك في يده، فان ادعى الهلاك - فإن كان بسبب ظاهر - لم يقبل حتى
يقيم البينة عليه، فإذا أقام البينة على السبب فالقول قوله في الهلاك مع يمينه،
وإن كان بسبب غير ظاهر فالقول قوله مع يمينه من غير بينة، لأنه يتعذر إقامة
البينة على الهلاك، فكان القول قوله مع يمينه. وان ادعى عليه الشريك خيانة
وأنكر فالقول قوله لان الأصل عدم الخيانة. وإن كان في يده عين وادعى
شريكه أن ذلك من مال الشركة، وادعى هو أنه له فالقول قوله مع يمينه، لأن الظاهر
مما في يده أنه ملكه فان اشترى شيئا فيه ربح فادعى الشريك أنه اشتراه
للشركة، وادعى هو أنه اشتراه لنفسه أو اشترى شيئا فيه خسارة، وادعى
80

الشريك أنه اشتراه لنفسه، وادعى هو أنه اشتراه للشركة. فالقول قوله، لأنه
أعرف بعقده ونيته
(الشرح) الأحكام: الشريك أمين فيما في يده من مال الشركة، فإن تلف
في يده شئ منه من غير تفريط لم يجب عليه ضمانه، لأنه نائب عن شريكه في
الحفظ فكان الهالك في يده كالهالك في يد المالك، وللأمانة أن تحفظ بدعامتين من
الصدق والثقة، فان ادعى الهلاك بسبب ظاهر لم يقبل قوله حتى يقيم البينة على
السبب الظاهر، لأنه يمكنه إقامة البينة عليه، فإن شهدت البينة بصدق قوله
وترتب الهلاك على السبب الظاهر فلا كلام. وإن شهدت البينة بالسبب ولم تذكر
هلاك المال فالقول قول الشريك مع يمينه أنه هلك بذلك. وإن ادعى الهلاك
بسبب غير ظاهر فالقول قوله مع يمينه لأنه يتعذر عليه إقامة البينة مع الهلاك.
وإن ادعى الشريك على شريكه جناية لم تسمع دعواه حتى يبين قدر الجناية
فإذا بينها فأنكرها الآخر، ولا بينة على المنكر فالقول قوله مع يمينه، لان
الأصل عدم الجناية.
وإن اشترى أحد الشريكين شيئا فيه ربح، فقال شريكه اشتريته شركة بيننا
وقال المشترى: بل اشتريته لنفسي فالقول قول المشترى مع يمينه
وإن اشترى شيئا فيه خسارة، فقال المشترى: اشتريته شركة بيننا. وقال
الآخر: بل اشتريته لنفسك فالقول قول المشترى مع يمينه، لأنه أعرف بعقده
ولان الأصل عدم الخيانة.
(فرع) إذا أذن كل واحد من الشريكين لصاحبه بالتصرف، فاشترى أحدهما
شيئا للشركة بأكثر من ثمن المثل بما لا يتغابن الناس بمثله، فان اشترى ذلك
بثمن في ذمته لزم المشترى جميع ما اشتراه، ولا يلزم شريكه ذلك، لان الاذن
يقتضى الشراء بثمن المثل، فان دفع الثمن من مال الشركة ضمن نصيب شريكه
بذلك لأنه تعدى بذلك. وإن اشتراه بعين مال الشركة لم يصح الشراء في نصيب
الشريك، لأن العقد متعلق بعين المال. وهل يبطل في نصيب المشترى؟ فيه
قولان بناء على القولين في تفريق الصفقة.
81

فإذا قلنا يبطل فهما على شركتهما كما كانت وإن قلنا يصح الشراء في نصيبه
انفسخت الشركة بينهما في قدر الثمن، لان حقه من الثمن قد صار للبائع، فيكون
البائع شريك شريكه بقدر الثمن، ويكون هو شريك البائع في السلعة، فان باع
أحد الشريكين شيئا من مال الشركة بأقل من ثمن المثل بمالا يتغابن الناس بمثله
بطل البيع في نصيب شريكه لان مطلق الاذن يقتضى البيع بثمن المثل
وهل يبطل البيع في نصيب البائع؟ فيه قولان بناء على القولين، إن قلنا
يبطل فهما على الشركة كما كانا، وإن قلنا لا يبطل بطلت الشركة بينهما في المبيع،
لان حصته منها صارت للمشترى للابتياع، فيكون المشترى شريك شريكه.
قال أبو إسحاق: ولا يضمن البائع نصيب شريكه ما لم يسلمه، لان ذلك
موضع اجتهاد لوجود الاختلاف فيه، ولو أودع عند رجل عينا فباعها المودع
فإنه يضمن ذلك بفسخ البيع إن لم يسلم، لان المودع لا يجوز له البيع بالاجماع،
واستضعف الشيخ أبو حامد هذا وقال: هو متعد بالبيع، فلا فرق بين أن يكون
مختلفا فيه أو مجمعا عليه. ألا ترى أنه إذا ضمن وإن كان مختلفا فيه.
(فرع) إذا كانت بهيمة بين اثنين فجاء رجل أجنبي وأزال يد أحد الشريكين
من البهيمة صار غاصبا لحصته منها، وإن كانت مشاعا لأن الغصب أزال اليد،
وذلك يوجد في المشاع كما يوجد في المقسوم. ألا ترى أن رجلين لو كان بينهما
دار فجاء رجل وأخرج أحدهما من الدار وقعد فيه مكانه كان غاصبا لحصته من
الدار. هكذا ذكر الشيخ أبو حامد
فإذا باع الغاصب والشريك الذي لم يغصب منه البهيمة صفقة واحدة من
رجل، فان الشافعي رضي الله عنه قال: يصح البيع في نصيب المالك، ويبطل
فيما باعه الغاصب.
قال العمراني: واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال هي على قولين بناء على
القولين في تفريق الصفقة. ومنهم من قال: يصح البيع في نصيب المالك قولا
واحدا، لان عقد الواحد مع الاثنين بمنزلة العقدين، فلا يفسد أحدهما بفساد
الآخر. وإن وكل الشريك الذي لم يغصب منه الغاصب في بيع نصيبه فباع جميع
82

العين صفقة واحدة. فان باع وأطلق ولم يذكر الشريك الموكل لم يصح البيع في
نصيب المغصوب منه.
وهل يصح البيع في نصيب الموكل؟ فيه قولان. وان ذكر الغاصب في البيع
أنه وكيل في بيع نصفه لم يصح بيع نصيب المغصوب منه. وهل يصح البيع في
نصيب الموكل؟ على الطريقين في المسألة قبلها لأنه بمنزلة العقدين. وان غصب
الشريك نصيب شريكه فباع العبد صفقة واحدة بطل البيع في نصيب المغصوب
منه. وهل يبطل في نصيبه؟ فيه قولان. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان بينهما عبد فأذن أحدهما لصاحبه في بيعه فباعه بألف
ثم أقر الشريك الذي لم يبع أن البائع قبض الألف من المشترى وادعى
المشترى ذلك وأنكر البائع. فان المشترى يبرأ من حصة الشريك الذي لم
يبع لأنه أقر أنه سلم حصته من الثمن إلى شريكه باذنه وتبقى الخصومة بين البائع
وبين المشترى وبين الشريكين.
فان تحاكم البائع والمشترى. فإن كان للمشترى بينة بتسليم الثمن قضى له وان
لم يكن له من يشهد غير الشريك الذي لم يبع فان شهادته مردودة في قبض
حصته - لأنه يجر بها إلى نفسه نفعا - وهو حق الرجوع عليه بما قبض
من حصته.
وهل ترد في حصة البائع؟ فيه قولان:
فان قلنا تقبل تحلف معه المشترى ويبرأ. وان قلنا لا تقبل أو لم يكن عدلا
فالقول قول البائع مع يمينه إنه لم يقبض. فان حلف أخذ منه نصف الثمن وليس
للشريك الذي لم يبع أن يأخذ مما أخذ البائع شيئا. لأنه أقر أنه قد أخذ
الحق مرة. وإن ما أخذه الآن أخذه ظلما فلا يجوز أن يأخذ منه. وان نكل
البائع حلف المشترى ويبرأ
83

وإن تحاكم الشريكان - فإن كان للذي لم يبع بينة بأن البائع قبض الثمن -
رجع عليه بحصته، وإن لم تكن له بينة حلف البائع أنه لم يقبض ويبرأ، وإن
نكل عن اليمين ردت اليمين على الذي لم يبع فيحلف ويأخذ منه حصته وان ادعى
البائع أن الذي لم يبع قبض الألف من المشترى وادعاه المشترى وأنكر الذي لم
يبع نظرت، فإن كان الذي لم يبع مأذونا له في القبض برئت ذمة المشتري من
نصيب البائع، لأنه أقر أنه سلمه إلى شريكه باذنه. وتبقى الخصومة بين الذي لم
يبع وبين المشترى وبين الشريكين، فيكون البائع ههنا كالذي لم يبع، والذي لم
يبع كالبائع في المسألة قبلها، وقد بيناه.
وإن لم يكن واحد منهما مأذونا له في القبض لم تبرأ ذمة المشتري من شئ
من الثمن، لان الذي باعه أقر بالتسليم إلى من لم يأذن له، والذي لم يبع أنكر
القبض، فان تحاكم البائع والمشترى أخذ البائع منه حقه من غير يمين، لأنه سلمه
إلى شريكه بغير إذنه.
وإن تحاكم المشترى والذي لم يبع، فإن كان للمشترى بينة برئ من حقه،
وان لم يكن له من يشهد غير البائع - فإن كان عدلا - قبلت شهادته لأنه
لا يجر بهذه الشهادة إلى نفسه نفعا ولا يدفع بها ضررا، فإذا شهد حلف معه
المشترى وبرئ، وان لم يكن عدلا فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه، فإذا
حلف أخذ منه حقه.
وإن كان البائع مأذونا له في القبض والذي لم يبع غير مأذون له، وتحاكم
البائع والمشترى قبض منه حقه من غير يمين، لأنه سلمه إلى شريكه من غير اذنه
وهل للشريك الذي لم يبع مشاركته فيما أخذ. قال المزني: له مشاركته وهو
بالخيار بين أن يأخذ من المشترى خمسمائة، وبين أن يأخذ من المشترى مائتين
وخمسين، ومن الشريك مائتين وخمسين.
وقال أبو العباس: لا يأخذ منه شيئا لأنه لما أقر أن الذي لم يبع قبض جميع
الثمن عزل نفسه من الوكالة في القبض، لأنه لم يبق له ما يتوكل في قبضه،
فلا يأخذ بعد العزل الا حق نفسه، فلا يجوز للذي لم يبع أن يشاركه فيه، فان
84

تحاكم المشترى والذي لم يبع فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه أنه لم يقبض،
لان الأصل عدم القبض، فإن كان للمشترى بينة قضى له وبرئ، وان لم يكن
له من يشهد الا البائع لم تقبل شهادته على قول المزني، لأنه يدفع عن نفسه بهذه
الشهادة ضررا وهو رجوع الشريك الذي لم يبع عليه بنصف ما في يده، وعلى
قول أبى العباس تقبل شهادته قولا واحدا، لأنه لا يدفع بشهادته ضررا لأنه
لا رجوع له عليه.
(الشرح) الأحكام: إذا كانت الشركة بينهما مناصفة في شئ فأذن أحدهما
لصاحبه ببيع نصيبه منه وقبض ثمنه، أو قلنا: إنه يملك القبض بمقتضى الوكالة
في البيع فباع العين المشتركة من رجل بألف، ثم أقر الشريك الذي لم يبع أن
البائع قبض الألف من المشترى، وادعى ذلك المشترى وأنكر البائع فإن المشترى
يبرأ من نصيب الشريك الذي لم يبع، لأنه اعترف أنه سلم ما يستحقه عليه من
الثمن إلى شريكه بإذنه، ثم تبقى الخصومة بين الشريكين وبين البائع والمشترى،
فان تحاكم البائع والمشترى، فان أقام المشترى بينة شاهدين أو شاهدا وامرأتين
بأنه قد سلم إليه الألف حكم على البائع أنه قد قبض الألف وبرئ المشترى منها
ولزم البائع بذلك تسليم خمسمائة إلى الذي لم يبع، وإن لم يكن مع المشترى من
يشهد له غير الشريك الذي لم يبع فان شهادته في نصيبه لا تقبل على البائع.
وهل تقبل شهادته في نصيب البائع؟ فيه قولان، فان قلنا: إنها تقبل حلف
عنه المشترى وبرئ من حصة البائع. وان قلنا: لا تقبل أو كان فاسقا فالقول
قول البائع مع يمينه أنه ما قبض الألف ولا شيئا منها، لان الأصل عدم القبض
فإذا حلف أخذ منه خمسمائة درهم، ولا يشاركه الذي لم يبع، لأنه لما أقر أن البائع
قد قبض الألف اعترف ببراءة ذمة المشتري من الثمن، وأنه يأخذه الآن ظلما
فلا يشاركه فيه.
وان نكل البائع عن اليمين حلف المشترى أنه قد سلم إليه الألف، وبرئ
من الألف، ولا يستحق الشريك الذي لم يبع على البائع بيمين المشترى شيئا،
85

سواء قلنا إن يمين المدعى مع نكول المدعى عليه بمنزلة الاقرار من المدعى عليه
أو بمنزلة إقامة البينة من المدعى، لأنا إنما نجعل ذلك في حق المتحالفين
في حق غيرهما.
وكذا لو أقام المشترى شاهدا واحدا وحلف معه فإنه يبرأ من الألف، ولا
يرجع الذي لم يبع على البائع بشئ إلا إذا حلف مع الشاهد، بخلاف ما لو أقام
المشترى بينة، فإنه يحكم بها للمشترى وللذي لم يبع
وإن بدأ الشريكان فتحاكما - فإن كان للشريك الذي لم يبع بينة أن البائع
قبض الألف فأقامها - حكم بها على البائع للمشترى وللذي لم يبع، وإن لم يكن
له بينة غير المشترى لم تقبل شهادته للمشترى قولا واحدا، لأنه يشهد على فعل
نفسه، فيحلف البائع أنه لم يقبض الألف ولا شيئا منها ويسقط حق الذي لم
يبع من كل جهة.
وإن نكل البائع عن اليمين فرد اليمين على الذي لم يبع فحلف استحق الرجوع
على البائع بخمسمائة، ولا يثبت حق المشترى على البائع، سواء قلنا إن يمين الذي
لم يبع بمنزلة إقرار البائع أو بمنزلة قيام البينة عليه، لان ذلك إنما يحكم به في حق
المتحالفين لا في حق غيرهما. ولان اليمين حجة في حق الحالف لا تدخلها النيابة
فلم يثبت بيمينه حق غيره بخلاف البينة. هكذا ذكر عامة أصحابنا. وذكر
أبو علي الشيخي وجها لبعض أصحابنا أنه ثبت باليمين والنكول جميع الثمن على
البائع في هذه وفى التي قبلها، وهو إذا حلف المشترى مع نكول البائع كما قلنا
في البينة وليس بشئ.
وإن ادعى البائع أن الذي لم يبع قبض الألف من المشترى، وادعى
المشترى ذلك وأنكر الذي لم يبع، فلا يخلو من أربعة أقسام. إما أن يكون
كل واحد منهما مأذونا له في القبض، أو كان الذي لم يبع مأذونا في القبض وحده
أو كان كل واحد منهما غير مأذون له في القبض، أو كان البائع مأذونا له في
القبض وحده.
فإن كان كل واحد منهما قد أذن لصاحبه بالقبض، أو كان البائع قد أذن
86

للذي لم يبع بقبض نصيبه وحده، فان المشترى يبرأ من نصيب البائع من الثمن
لأنه أقر أنه دفع حقه إلى وكيله فيكون النظر إلى هذه المسألة كالنظر في التي قبلها
إلا أن البائع ههنا يكون كالذي لم يبع هناك، والذي لم يبع ههنا كالبائع هناك
على ما ذكرنا حرفا بحرف.
قال العمراني: وإن كان كل واحد منهما غير مأذون له في القبض فإنه باقرار
البائع أن الذي لم يبع قبض الألف لا تبرأ ذمة المشتري من شئ من الثمن: لان
البائع أقر بتسليم حصته من الألف إلى غير وكيله، والذي لم يبع ينكر القبض
فيأخذ البائع حقه من الثمن من غير يمين، وتبقى الخصومة بين الذي لم يبع وبين
المشترى، فان طالب الذي لم يبع المشترى بحقه من الثمن، فإن كان مع المشترى
بينة حكم له بها على الذي لم يبع. وإن لم يكن له بينة غير البائع وهو عدل حلف
معه وحكم ببراءة ذمة المشتري من نصيب الذي لم يبع قولا واحدا
والفرق بين هذه وبين المسائل المتقدمة أن هناك ردت شهادته في القبض
للتهمة، وههنا لم ترد شهادته في شئ أصلا، وإن لم يكن البائع عدلا، أو كان
ممن لا تقبل شهادة المشترى بأن يكون والده أو ولده، أو كان ممن لا تقبل شهادته
على الذي لم يبع بأن يكون عدوا له، فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه، لأنه
لم يقبض الألف ولا شيئا منه، فإذا حلف أخذ حقه من الثمن، وان نكل
حلف المشترى وبرئ من حق الذي لم يبع
وأما إذا كان البائع قد أذن له الذي لم يقبض حقه، وقلنا إن الأول في البيع
يقتضى قبض الثمن ولم يأذن البائع الذي لم يبع بقبض حقه من الثمن، فان
باقرار البائع لا تبرأ ذمة المشتري من نصيب البائع من الثمن، لأنه يقر أنه دفع
ذلك إلى غير وكيله.
وأما نصيب الذي لم يبع، فان المزني نقل أن المشترى يبرأ من نصف الثمن
باقراره البائع أن شريكه قد قبض، لأنه في ذلك أمين. فمن أصحابنا من خطأه
في النقل وقالوا هذا مذهب أهل العراق، وأن إقرار الوكيل يقبل على الموكل.
87

فيحتمل أن يكون الشافعي رحمه الله ذكر ذلك. قال: وبه قال محمد بن الحسن
رحمه الله، فظن المزني أنه أراد بذلك نفسه، ولم يرد الشافعي رحمه الله تعالى
إلا محمد بن الحسن
ومن أصحابنا من اعتذر للمزني وقال: معنى قوله " يبرأ المشترى من نصف
الثمن يريد به في حق البائع، فان البائع كان له المطالبة بجميع الألف فلما أقر أن
شريكه قبض الألف سقطت مطالبته بالنصف
إذا ثبت هذا وأن المشترى لا يبرأ من شئ من الثمن فان البائع يأخذ
خمسمائة من غير يمين، فإذا قبض ذلك فهل للذي لم يبع أن يشارك البائع بما
قبضه؟ نقل المزني أن له أن يشاركه فيما قبضه، وبه قال بعض أصحابنا، لان الذي
لم يبع يقول: قد أخذ البائع خمسمائة من المشترى بحق مشاع بيني وبينه، وقول
البائع: إنه أخذه لنفسه لا يقبل على الذي لم يبع لان المال إذا كان مشاعا بين
اثنين فقبض أحدهما منه شيئا ثم قال قبضته لنفسي لم يقبل
وقال أبو العباس والمصنف وعامة الأصحاب: لا يشاركه فيما قبض، لان
البائع لما أقر أن الذي لم يبع قد قبض الثمن تضمن ذلك عزل نفسه من الوكالة
لأنه لم يبق ما يتوكل فيه
فان قلنا بقول المزني كان الذي لم يبع بالخيار بين أن يطالب المشترى
بخمسمائة وبين أن يأخذ من البائع مائتين وخمسين ومن المشترى مائتين وخمسين
فإذا أخذ من البائع مائتين وخمسين لم يكن للبائع أن يرجع بها على المشترى،
لأنه يقول: إن للذي لم يبع ظلمه بها فلا يرجع بها على غير من ظلمه
وإن قلنا بقول أبى العباس ومن تابعه لم يكن للذي لم يبع أن يشارك البائع
بشئ مما أخذ، بل له أن يطالب المشترى بحقه من الثمن وهو خمسمائة فإذا طالب
الذي لم يبع المشترى - فإن كان مع المشترى بينة على الذي لم يبع أنه قبض منه
الألف - برئ من نصيبه من الثمن، وكان له أن يرجع عليه بخمسمائة لأنه
قبض منه ألفا ولا يستحق عليه إلا خمسمائة.
وإن لم يكن مع المشترى من يشهد له بقبض الذي لم يبع الألف غير البائع
وكان عدلا، فهل تقبل شهادته، إن قلنا بقول أبى العباس: إن الذي لم يبع
88

لا يشارك البائع فيما قبض قبلت شهادته عليه، فيحلف معه المشترى وتبرأ ذمته
من حقه من الثمن، ويرجع عليه بخمسمائة لأنه لا يدفع بشهادته عن نفسه ضررا
ولا يجر بها إلى نفسه نفعا
وان قلنا بقول المزني ومن تابعه: ان الذي لم يبع يشارك البائع فيما قبض
لم تقبل شهادته، لأنه يدفع بها عن نفسه ضررا وهو حق الرجوع عليه بنصف
ما قبض، لأنه إذا ثبت أنه قد استوفى الخمسمائة من المشترى لم يشارك البائع
في شئ مما قبض.
فإن قلنا: لا تقبل شهادته عليه، أو كان ممن لا تقبل شهادته عليه، أو كان
ممن لا تقبل شهادته لمعنى غير هذا فالقول قول الذي لم يبع مع يمينه أنه لم يقبض
الألف ولا شيئا منه فإذا حلف استحق الرجوع بحصته من الثمن على ما مضى،
وان نكل عن اليمين فحلف المشترى أنه قد قبض منه الألف برئ من حصته من
الثمن، ويرجع عليه بما زاد على حقه.
(فرع) وان أقر أحد الشريكين أنه باع وقبض الثمن وتلف في يده وهو
مأذون له فأنكر شريكه البيع أو القبض فهل يقبل قول المأذون له؟ فيه قولان
نذكرهما في الوكالة إن شاء الله تعالى.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ولكل واحد من الشريكين أن يعزل نفسه عن التصرف إذا شاء،
لأنه وكيل، وله أن يعزل شريكه عن التصرف في نصيبه لأنه وكيله فيملك عزله
فإذا انعزل أحدهما لم ينعزل الآخر عن التصرف، لأنهما وكيلان، فلا ينعزل
أحدهما بعزل الاخر، فإن قال أحدهما فسخت الشركة انعزلا جميعا، لان الفسخ
يقتضى رفع العقد من الجانبين فانعزلا، وإن ماتا أو أحدهما انفسخت الشركة،
لأنه عقد جائز فبطل بالموت كالوديعة، وإن جنا أو أحدهما، أو أغمي عليهما
أو على أحدهما، بطل لأنه بالجنون والاغماء يخرج عن أن يكون من أهل التصرف
ولهذا تثبت الولاية عليه في المال، فبطل العقد كما لو مات، والله أعلم.
89

(الشرح) الأحكام: إذا اشتركا وأذن كل واحد منهما لصاحبه بالتصرف
ثم عزل أحدهما صاحبه عن التصرف في نصيبه أو عزل أحدهما نفسه عن التصرف
في نصيب شريكه كانت الشركة باقية إلا أن المعزول لا يتصرف إلا في نصيب نفسه
مشاعا ولا ينعزل الاخر عن التصرف في نصيب صاحبه ما لم يعزله صاحبه، أو
يعزل نفسه - أي ينحيها عن التصرف - لان تصرف كل واحد منهما في نصيب
شريكه بالاذن، فإذا عزله المالك أو عزل نفسه انعزل، وان عزل كل واحد منهما
صاحبه، أو قال أحدهما: عزلت نفسي عن التصرف في نصيب شريكي وعزلته
عن التصرف في نصيبي انعزل كل واحد منهما عن التصرف في نصيب شريكه،
ولا تبطل الشركة بذلك.
وإن قال أحدهما: فسخت الشركة انعزل كل واحد منهما عن التصرف في
نصيب شريكه، لان ذلك يقتضى العزل من الجانبين ولا يبطل الاشتراك، وإن
اتفقا على القسمة قسم، وإن اتفقا على البيع أو التبقية كان لهما ذلك فان دعا أحدهما
إلى البيع والاخر إلى القسمة أجيب من دعا إلى القسمة كالمال الموروث بين الورثة
وان جن أحدهما أو أغمي عليه انفسخت الشركة وانعزل كل واحد منهما عن التصرف
في نصيب الاخر، لان الاذن عقد جائز فبطل بالجنون والاغماء كالوكالة.
(فرع) إذا مات أحدهما انفسخت الشركة وانعزل الباقي منهما عن التصرف
في نصيب الاخر، لان الاذن عقد جائز فبطل بالموت كالوكالة،
إذا ثبت هذا: فإن لم يكن على الميت دين ولا أوصى بشئ، وإن كان
الوارث بالغا رشيدا فله أن يقيم على الشركة بأن يأذن الاخر في التصرف،
وبإذن الشريك له، وله أن يقاسم لان الحق لهما، فكان لهما أن يفعلا ما شاءا.
قال الشيخ أبو إسحاق: غير أن الأولى أن يقاسمه، وإن كان الحظ في الشركة
لان الحوالة وقعت وهو رشيد، وإن كان الوارث مولى عليه كان النظر فيه إلى
وليه، فإن كان الحظ في الشركة لم يجز له أن يقاسمه، وإن كان الحظ في القسمة
لم يجز له أن يقيم على الشركة، لان الناظر في مال المولى عليه لا ينفذ تصرفه فيه
الا فيما له حظ. وسواء إن كان المال نقدا أو عرضا فان الشركة تجوز، لان
90

الشركة إنما لا تجوز ابتداء على العروض، وهذا استدامة للشركة وليس بابتداء
عقد، وان مات وعليه دين لم يجز للوارث أن يأذن في التصرف بمال الشركة،
لان الدين يتعلق بجميع المال فهو كالمرهون، فان قضى الدين من غير مال الشركة
كان كما لو مات ولا دين عليه، وهكذا إذا قضى الدين ببعض مال الشركة كان
للوارث أن يأذن له في التصرف فيما بقي، فان أوصى بثلث ماله أو بشئ من مال
الشركة - فإن كانت الوصية لمعين - كان الموصى له شريكا كالوارث، وله أن
يفعل ما يفعل الوارث.
وإن كانت الوصية لغير معين لم يجز للوصي الاذن للشريك في التصرف،
لأنه قد وجب دفعه إليهم، بل يعزل نصيبه ويفرق عليهم، فإن كان قد أوصى
بثلث ماله فأعطى الوارث ثلث الموصى لهم من غير ذلك المال مثله لم يجز له
ذلك لان الموصى لهم قد استحقوا ثلث ذلك المال بعينه، فلا يجوز أن يعطوا
من غيره.
مسائل حول الشركة. لو دفع شبكة إلى الصياد ليصيد بها السمك بينهما نصفين
فقياس المذهب أن السمك كله للصياد، إذا قلنا: إن الآلة تؤجر بأجر معلوم،
فيكون لصاحب الشبكة أجر المثل، وبهذا لا يكون صاحب الشبكة شريكا في
حصيلة الصيد، فإذا قلنا: إن الآلة لا تؤجر، وان الصياد قد لا يجد سمكا يحصل
في شبكته فمن أين يأتي بأجر الشبكة وليس لها أجر مثل معلوم في حين أن أجر
الصياد معلوم قضينا بأن صاحب الشبكة له الصيد كله وللصياد أجر مثله على
صاحب الشبكة. لان الربح تابع للمال وقياس مذهب أحمد أن الصيد بينهما نصفان
جائز على ما شرطاه لأنها عين تنمى بالعمل، فصح دفعها ببعض نمائها كالأرض التي
دفعها رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود في خيبر أن يعملوا فيها على الشطر.
الشركات التي تؤسس من بلاد غير بلاد المسلمين لتعمل في أرض المسلمين
لاستخراج خيراتها واستنباط خاماتها واستدرار زيوتها ومعادنها لا تصح إلا إذا
قامت على هيمنة المسلمين وسيطرتهم على إدارتها. ويجب على المسلمين أن يبعثوا
طائفة منهم تتعلم علوم طبقات الأرض ووسائل استثمار خاماتها وخيرا بها،
ولو أن المسلمين فقهوا دينهم والتزموا في سلوكهم بأحكام هذه الفروع الدقيقة
91

لدانت لهم الأرض ولبرعوا في شتى علومها الدنيوية وفنونها الحيوية. ولم تتعرض
أرضهم للاغتصاب ورقابهم للعناء. وقد عرفنا أن احتلال الكفار للهند
وإندونيسيا وماليزيا بدأ بتكوين شركات مالية تعمل على المناجرة واستغلال
الأرض حتى انقلبت إلى سيطرة على المسلمين، وكذلك فعل اليهود في فلسطين.
فقد بدأوا بعمل شركات وجلبوا لها خبراء وعمالا فنيين، ثم اتسعوا في ذلك حتى
ابتلعوا ديار المسلمين وأرضهم وأموالهم، وصاروا خطرا جاثما قائما على أنفاسنا
ومقدراتنا، فليتنا نتنبه إلى خطر الترخص في معاملة غير المسلمين، والله الموفق
للصواب، وهو حسبنا ونعم الوكيل
قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الوكالة
(الشرح) الوكالة مشتقة من وكل يكل الامر إليه. إذا أنابه عنه واعتمد عليه
لعجز أو طلب للراحة، وفى الحديث: اللهم لا تكلنا إلى أنفسنا. وأيضا " من تعلق
تميمة وكل أمره إليها " كأن الله قد تخلى عنه وجرده من عنايته به فصار أمره إلى
نفسه أو إلى التميمة التي يتعلقها. والوكالة جائزة بالكتاب والسنة والاجماع.
فأما الكتاب فقوله تعالى (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها)
الآية 60 من سورة التوبة. فجواز العمل عليها يفيد حكم النيابة عن المستحقين
في تحصيل حقوقهم.
ويقول القاضي أبو بكر بن العربي: قوله تعالى (والعاملين عليها) وهم الذين
يقدمون لتحصيلها ويوكلون على جمعها، وقال القرطبي في جامع أحكام القرآن:
قوله تعالى (والعاملين عليها) يعنى السعاة والجباة الذين يبعثهم الامام لتحصيل
الزكاة بالتوكل على ذلك.
ومن أدلة الكتاب على جواز الوكالة قوله تعالى (فابعثوا أحدكم بورقكم هذه
إلى المدينة، فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه وليتلطف)
قال ابن العربي في أحكام القرآن: هذا يدل على صحة عقد الوكالة، وهو عقد
92

نيابة أذن الله فيه للحاجة إليه وقيام المصلحة به، إذ يعجز كل أحد عن تناول
أمور إلا بمعونة من غيره أو يترفه فيستنيب من بريحه حتى جاز ذلك في العبادات
لطفا منه سبحانه ورفقا بضعفة الخليقة، ذكرها الله كما ترون، وبينها رسول الله
صلى الله عليه وسلم كما تسمعون. وهو أقوى آية في الغرض
وقد تعلق بعض علمائنا في صحة الوكالة من القرآن بقوله تعالى (والعاملين
عليها) وبقوله (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبى يأت بصيرا) وآية
القميص ضعيفة في الاستدلال، وآية العاملين حسنه. وقد روى جابر بن عبد الله
قال: أردت الخروج إلى خيبر فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقلت له: إني أريد
الخروج إلى خيبر، فقال ائت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا، فإن ابتغى منك
آية فضع يدك على ترقوته. رواه أبو داود
وقد جازت في الطهارة، وهي عبادة تجوز النيابة فيها في صب الماء خاصة
على أعضاء الوضوء، ولا تجوز على عركها إلا أن يكون المتوضئ مريضا لا يقدر
عليه. وتجوز في الزكاة في أخذها وإعطاءها، وتجوز النيابة في الصيام عند
الشافعي وأحمد وجملة من السلف الأول. وكذلك الاعتكاف مثله، كما تجوز
النيابة في الحج على ما مضى في أحكام الحج.
وتجوز الوكالة في البيع - وهو المعاوضة وأنواعها - والرهن وسائر
المعاملات من الحجر والحوالة والضمان والشركة والاقرار والصلح، والعارية
كلها أعمال تجوز النيابة فيها.
وكذلك من الكتاب قوله تعالى (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها)
بناء على أنه وكيل.
وأما السنة فقد روى أبو داود والأثرم وابن ماجة عن الزبير بن الخريت
عن أبي لبيد عن عروة بن الجعد قال: عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم جلب
فأعطاني دينارا، فقال يا عروة ائت الجلب فاشتر لنا شاة، قال فأتيت الجلب
فساومت صاحبه فاشتريت شاتين بدينار، فجئت أسوقهما أو أقودهما: فلقيني
رجل في الطريق فساومني فبعت منه شاة بدينار، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم
بالدينار وبالشاة، فقلت يا رسول الله هذا ديناركم وهذه شاتكم. قال وصنعت
93

كيف؟ قال فحدثته الحديث، قال اللهم بارك له في صفقة يمينه. هذا لفظه رواية
الأثرم. وروى أبو داود بإسناده حديث جابر الذي مضى وحديث أبي: استسلف
النبي صلى الله عليه وسلم بكرا فجاءت إبل الصدقة فأمرني أن أقضى الرجل بكره "
وقد تقدم تخريجه في السلم، وحديث ابن أبي أوفى، وقد مر في كتاب القرض
وكتاب الزكاة. وحديث أبي هريرة " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم في
حفظ زكاة رمضان. وأعطى عقبة بن عامر غنما يقسمها بين أصحابه " وقد مر
في كتاب الزكاة.
وفى الوكالة أحاديث كثيرة ستأتي في فصول هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.
وأما الاجماع فهو منعقد على مدى الدهر منذ نزل الوحي إلى اليوم وإلى يوم الدين
قال المصنف رحمه الله تعالى:
تجوز الوكالة في عقد البيع لما روى عن عروة بن الجعد قال: أعطاني
رسول الله صلى الله عليه وسلم دينارا اشترى له شاة أو أضحية، فاشتريت شاتين
فبعت إحداهما بدينار، وأتيته بشاة ودينار، فدعا لي بالبركة. فكان لو اشترى
ترابا لربح فيه، ولان الحاجة تدعو إلى الوكالة في البيع، لأنه قد يكون له مال
ولا يحسن التجارة فيه وقد يحسن ولا يتفرغ إليه لكثرة أشغاله فجاز أن يوكل فيه
غيره، وتجوز في سائر عقود المعاملات كالرهن والحوالة والضمان والكفالة
والشركة والوكالة والوديعة والإعارة والمضاربة والجعالة والمساقاة والإجارة
والقرض والهبة والوقف والصدقة، لان الحاجة إلى التوكيل فيها كالحاجة إلى
التوكيل في البيع وفى تملك المباحات، كإحياء الموات واستقاء الماء والاصطياد
والاحتشاش قولان.
(أحدهما) لا يصح التوكيل فيها، لأنه تملك مباح فلم يصح التوكيل فيه،
كالاغتنام (والثاني) يصح، لأنه تملك مال بسبب لا يتعين عليه، فجاز أن يوكل
فيه كالابتياع والاتهاب، ويخالف الاغتنام لأنه يستحق بالجهاد. وقد تعين عليه
بالحضور، فتعين له ما استحق به.
94

(الشرح) حديث عروة بن أبي الجعد البارقي رواه البخاري وأحمد وأبو داود
والأثرم والترمذي وابن ماجة والدارقطني، وفى إسناد من عدا البخاري سعيد
ابن زيد أخو حماد، وهو مختلف فيه، عن أبي لبيد لمازة بن زبار، وقد قيل إنه
مجهول، لكنه قال الحافظ ابن حجر انه وثقه ابن سعد. وقال حرب سمعت أحمد
يثنى عليه. وقال في التقريب انه ناصبي جلد
قال المنذري والنووي اسناده صحيح لمجيئه من وجهين، وقد رواه البخاري
من طريق ابن عيينة عن شبيب بن غرقد سمعت الحي يحدثون عن عروة.
ورواه الشافعي عن ابن عيينة، وقال إن صح قلت به. ونقل المزني عنه أنه ليس
بثابت عنده. قال البيهقي إنما ضعفه لان الحي غير معروفين. وقال في موضع آخر
هو مرسل لان شبيب بن غرقد لم يسمعه من عروة، وإنما سمعه من الحي. وقال
الرافعي هو مرسل. قال الحافظ ابن حجر في تخريج أحاديث الرافعي من فتح
العزيز " الصواب أنه متصل في إسناده مبهم "
أما الأحكام فإن الاجماع منعقد على أن ما جاز فيه المباشرة من الحقوق
جازت فيه الوكالة كالبيع والشراء والإجارة وقضاء الديون والخصومات في
المطالبة بالحقوق والتزويج والطلاق ونحو ذلك، واتفق الأئمة على أن اقرار
الوكيل على موكله في غير مجلس الحكم لا يقبل بحال. وكذلك اتفقوا على أن
اقراره على موكله في الحدود والقصاص غير مقبول، سواء كان بمجلس الحكم
أو غيره. وكذلك اتفقوا على أنه لا يجوز للوكيل أن يشترى بأكثر من ثمن
المثل ولا إلى أجل. وعلى أن قول الوكيل مقبول في تلف المال بيمينه. وأما ما
اختلفوا فيه فأمور ستأتي منبثة في فروع هذا
وحول حديث عروة في شراء الشاة يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى انه يدل
على الوكيل في شراء معلوم بمعلوم إذا اشترى به أكثر من المقدر جاز له بيع
الفاضل. وكذا ينبغي أن يكون الحكم. وقال صاحب الكافي " ظاهر كلام أحمد
صحة ذلك الحديث عن عروة "
وفى الحديث دليل على أنه يجوز للوكيل إذا قال له المالك اشتر بهذا الدينار
شاة ووصفها أن يشترى به شاتين بالصفة المذكورة، لان مقصود الموكل قد
95

حصل وزاد الوكيل خيرا، ومثل هذا لو أمره أن يبيع شاة بدرهم فباعها بدرهمين
أو بأن يشتريها بدرهم فاشتراها بنصف درهم، وهو الصحيح عندنا كما نقله النووي
في زيادات الروضة.
وقد استدل بهذا الحديث على صحة بيع الفضولي، وهو الذي يبيع مالا يملك
أو ما ليس مأذونا في بيعه، وهو قول مالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه،
والشافعي في القديم، وقواه النووي في الروضة، وهو مروى عن جماعة من
السلف منهم على وابن عباس وابن مسعود وابن عمر، واليه ذهب الزيدية
وقال الشافعي في الجديد وأصحابه: إن البيع الموقوف والشراء الموقوف
باطلان لحديث " لا تبع ما ليس عندك " وأجابوا عن حديث عروة بما فيه من
المقال. وعلى تقدير الصحة فيمكن أن يكون وكيلا في البيع أيضا بقرينة فهمها من
النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال أبو حنيفة: إنه يكون البيع الموقوف صحيحا دون الشراء. والوجه أن
الاخراج عن ملك المالك مفتقر إلى إذنه بخلاف الادخال، ويجاب بأن الادخال
المبيع في الملك يستلزم الاخراج من الملك للثمن. وروى عن مالك العكس من
قول أبي حنيفة، فإن صح فهو قوى فإن فيه جمعا بين الأحاديث
وأما الوكالة في تملك المباحات كإحياء الموات واستقاء الماء والاصطياد
والاحتشاش فعلى قولين (أحدهما) لا يصح فيها لأنه تملك مباح، فهل يكون
بتملكه بوضع يده نائبا عن غيره من نفسه، كأنه قد حاز شيئا ثم وهبه فلم يصح
التوكيل فيه كالغنيمة، لا يخرج المجاهد بالغنيمة وكيلا لغيره
(والثاني) يصح، لأنه امتلك مالا بسبب لا يتعين عليه فجاز أن يوكل فيه
كسائر المعاملات من المعاوضات والهبات قال في روضة الطالب: يجوز التوكيل
في تملك المباحات وإحياء الموات والالتقاط، ويخالف الاغتناء لأنه لا يستحق
إلا بالجهاد، والجهاد لا وكالة فيه، لأنه يتعين عليه بالحضور للملحمة، فاستحق
قسمه وسهمه فتعين له.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجوز التوكيل في عقد النكاح لما روى " أن النبي صلى الله عليه وسلم
96

وكل عمرو بن أمية الضمري في نكاح أم حبيبة " ويجوز في الطلاق والخلع والعتاق
لان الحاجة تدعو إلى التوكيل فيه كما تدعو إلى التوكيل في البيع والنكاح، ولا
يجوز التوكيل في الايلاء والظهار واللعان، لأنها أيمان فلا تحتمل التوكيل. وفى
الرجعة وجهان (أحدهما) لا يجوز التوكيل فيه كما لا يجوز في الايلاء والظهار
(والثاني) أنه يجوز، وهو الصحيح، فإنه إصلاح للنكاح، فإذا جاز في النكاح
جاز في الرجعة.
(الشرح) حديث زواج أم حبيبة رضي الله عنها أخرجه أبو داود وأحمد
والنسائي عن عروة عن أم حبيبة ولفظ أبى داود " أنه زوجها النجاشي النبي صلى الله عليه وسلم
وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم وبعث بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع شرحبيل بن حسنة،
وأخرج أبو داود أيضا من حديث الزهري مرسلا " أن النجاشي زوج أم حبيبة
بنت أبي سفيان من رسول الله صلى الله عليه وسلم على صداق أربعة آلاف درهم
وكتب بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "
وكانت أم حبيبه مهاجرة إلى أرض الحبشة مع زوجها عبد الله بن جحش فمات
بتلك الأرض فزوجها النجاشي للنبي صلى الله عليه وسلم
وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم أبا رافع في نكاح ميمونة وقد مضى تخريجه في كتاب
الحج في أحكام نكاح المحرم ووجه الصواب في ذلك.
أما الأحكام فإنه يصح من كل من صح تصرفه في شئ بنفسه وكان مما تدخله
النيابة كالزواج. وهل يصح توكيل العبد في قبول النكاح لأنه ممن يجوز أن يقبله
لنفسه. ذكر أصحابنا في ذلك وجهين (أحدهما) يجوز توكيله لأنه ليس بولي.
ووجه الوجه الآخر أنه موجب للنكاح فأشبه الولي.
وقد صحح الأئمة التوكيل في عقد النكاح في الايجاب والقبول، لان النبي
صلى الله عليه وسلم وكل عمرو بن أمية وأبا رافع في قبول النكاح له، ولان
الحاجة تدعو إليه فإنه ربما احتاج إلى التزوج من مكان بعيد لا يمكنه السفر إليه.
وفى الرجعة وجهان (أحدهما) أنه يجرى مجرى الايلاء والظهار فلا يجوز
التوكيل (والثاني) وهو الصحيح أنه إصلاح لما فسد من النكاح، فإذا صح التوكيل
في عقد النكاح ابتداء فقد صح في استئنافه وإعادته فجاز. والله تعالى أعلم
97

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ويجوز التوكيل في اثبات الأموال والخصومة فيها لما روى أن عليا
كرم الله وجهه وكل عقيلا (رض) عند أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقال:
ما قضى له فلي وما قضى عليه فعلي، ووكل عبد الله بن جعفر عند عثمان (رض)
وقال علي: إن للخصومات قحما. قال أبو زياد الكلابي: القحم المهالك، ولان
الحاجة تدعو إلى التوكيل في الخصومات لأنه قد يكون له حق أو يدعى عليه
حق ولا يحسن الخصومة فيه، أو يكره أن يتولاها بنفسه، فجاز أن يوكل فيه.
ويجوز ذلك من غير رضى الخصم، لأنه توكيل في حقه فلا يعتبر فيه رضى من
عليه كالتوكيل في قبض الديون، ويجوز التوكيل في إثبات القصاص وحد القذف
لأنه حق آدمي فجاز التوكيل في إثباته كالمال، ولا يجوز التوكيل في إثبات حدود
الله تعالى لان الحق له، وقد أمرنا فيه بالدرء والتوصل إلى إسقاطه، وبالتوكيل
يتوصل إلى إيجابه فلم يجز، ويجوز التوكيل في استيفاء الأموال، لان النبي صلى الله عليه وسلم
بعث العمال لقبض الصدقات وأخذ الجزى. ويجوز في استيفاء حدود الله تعالى،
لان النبي صلى الله عليه وسلم بعث أنيسا لإقامة الحد وقال: يا أنيس اغد على امرأة هذا فإن
اعترفت فارجمها، ووكل عثمان (رض) عليا كرم الله وجهه ليقيم حد الشرب على
الوليد بن عقبه. وأما القصاص وحد القذف فإنه يجوز التوكيل في استيفائهما
بحضرة الموكل لان الحاجة تدعو إلى التوكيل فيه لأنه قد يكون له حد أو قصاص
ولا يحسن أن يستوفيه فجاز أن يوكل فيه غيره، وهل يجوز أن يستوفيه في غيبة
الموكل؟ قال في الوكالة: لا يستوفى، وقال في الجنايات: ولو وكل فتنحى به فعفا
الموكل فقتله الوكيل بعد العفو، وقبل العلم بالعفو، ففي الضمان قولان. وهذا
يدل على أنه يجوز أن يقتص مع غيبة الموكل، فمن أصحابنا من قال: يجوز قولا
واحدا، وهو قول أبي إسحاق، لأنه حق يجوز أن يستوفيه بحضرة الموكل فجاز
في غيبته كأخذ المال، وحمل قوله لا يستوفى على الاستحباب، ومنهم من قال
لا يجوز قولا واحدا، لان القصاص والحد يحتاط في إسقاطهما، والعفو مندوب
إليه فيهما، فإذا حضر رجونا أن يرحمه فيعفو عنه، وحمل قوله في الجنايات على
أنه أراد إذا تنحى به ولم يغب عن عينه فعفا ولم يسمع الوكيل فقتل.
98

ومنهم من قال فيه قولان. أحدهما يجوز، والثاني لا يجوز ووجههما ما ذكرناه
(فصل) ويجوز التوكيل في فسخ العقود لأنه إذا جاز التوكيل في عقدها
ففي فسخها أولى، ويجوز أن يوكل في الابراء من الديون، لأنه إذا جاز التوكيل
في إثباتها واستيفائها جاز التوكيل في الابراء عنها، وفى التوكيل في الاقرار
وجهان (أحدهما) يجوز، وهو ظاهر النص، لأنه اثبات مال في الذمة بالقول
فجاز التوكيل فيه كالبيع.
(والثاني) لا يجوز، وهو قول أبى العباس، لأنه توكيل في الاخبار عن
حق فلم يجز كالتوكيل في الشهادة بالحق، فإذا قلنا: لا يجوز فهل يكون توكيله
اقرارا؟ فيه وجهان.
(أحدهما) أنه اقرار، لأنه لم يوكل في الاقرار بالحق الا والحق واجب عليه
(والثاني) أنه لا يكون اقرارا كما لا يكون التوكيل في الابراء ابراء.
(الشرح) حديث أنيس سيأتي في كتاب الحدود وقد أخرجه البخاري ومسلم
وقصة توكيل على لأخيه عقيل وابن أخيه عبد الله بن جعفر. قال الشافعي في
الام: وأقبل الوكالة من الحاضر من الرجال والنساء في العذر وغير العذر، وقد
كان علي بن أبي طالب وكل عند عثمان عبد الله بن جعفر، وعلى حاضر، فقيل:
ذلك عثمان وكان يوكل قبل عبد الله بن جعفر عقيل بن أبي طالب ولا أحسبه الا
كان يوكله عند عمر، ولعل عند أبي بكر: وكان على يقول: إن للخصومة قحما
وان الشيطان يحضرها اه‍.
وأما أحكام الفصل: أنه يجوز التوكيل في اثبات حقوق الله تعالى وحقوق
العباد، فإذا كان لرجل خصومة لرجل على شئ فوكل غيره عنه كما فعل على حين
وكل عقيلا أخاه عند أبي بكر وعبد الله بن جعفر بن أخيه عند عثمان وقال " ان
للخصومة قحما، وان الشيطان ليحضرها، وانى لأكره أن أحضرها " قال
أبو زياد الكلابي: القحم المهالك، وهذه الروايات تحتاج إلى تحرير وتخريج الا
أن ابن قدامة في المغنى يقول: وهذه قصص قد انتشرت، لأنها في مظنة الشهرة
فلم ينقل انكارها، ولان الحاجة تدعو إلى ذلك، فإنه قد يكون له حق أو يدعى
عليه ولا يحسن الخصومة، أو لا يحب أن يتولاها بنفسه.
99

قلت: ولأصحابنا وجهان (أحدهما) لا يجوز التوكيل فيه لأنه اخبار بحق
فلم يجز التوكيل فيه كالشهادة.
(والثاني) يجوز، وهو الصحيح، واليه ذهب المصنف رحمه الله تعالى،
ولا يشترط في صحة التوكيل رضى الخصم، لأنه توكيل في حقه فلا يعتبر فيه
رضى من عليه الحق كالتوكيل في قبض الديون، وبهذا قال الشافعي ومالك
وأحمد رضي الله عنهم من أن وكالة الحاضر صحيحة، وان لم يرض الخصم بشرط
أن لا يكون الوكيل عدوا للخصم. وقال أبو حنيفة لا تصح وكالة الحاضر الا
برضى الخصم الا أن يكون الموكل مريضا أو مسافرا على ثلاثة أيام فيجوز حينئذ
وأما التوكيل في الجنايات فينقسم إلى قسمين:
(أحدهما) التوكيل في اثبات الجناية فهذا غير جائز، لان الحق لله تعالى
وقد أمرنا فيه بالدرء لقوله صلى الله عليه وسلم " ادرءوا الحدود بالشبهات " وأمرنا
بالتوصل إلى اسقاطه وقد يتوصل بالتوكيل إلى ايجابه فلم يجز.
(القسم الثاني) وهو استيفاء حدود الله تعالى، كالقصاص وأرش الجناية
وحد القذف وكل ما تعلق به حق للعباد، وكذلك في إقامة الحد بعد ثبوت الجناية
لان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنيس اذهب إلى امرأة فلان فان اعترفت فارجمها
فعلق الجزاء على شرط الاعتراف، وكذلك يمكن التوكيل في حضرة الموكل،
وهذه العبارة التي ساقها المصنف في قوله: فإنه يجوز التوكيل في استيفائها بحضرة
الموكل، لان الحاجة تدعو إلى التوكيل فيه، لأنه قد يكون له حد أو قصاص
الخ عبارته. تدل هذه العبارة على صحة ما اتسم به عصرنا هذا من تخصيص فريق
من الدارسين لأحكام الشرع وفقه الفروع يتوكلون عن أصحاب الخصومات
في عمل الاجراءات التي يترافعون بها في ساحة المحاكم ومجالس القضاء
ويسمونهم بالمحامين.
(فرع) قال الشافعي في الجنايات: ولو وكل فتنحى به فعفا الموكل فقتله الوكيل
بعد العفو وقبل العلم بالعفو، فعلى من يكون الضمان؟ على القاتل الذي لم يعلم
بعفو موكله؟ أم على الموكل الذي لم يحتط فوقع القتل؟
100

قال المصنف فيه قولان، وهذا يدل على أنه يجوز أن يقتص مع غيبة الموكل
فمن أصحابنا من قال: يجوز قولا واحدا، وهو قول أبي إسحاق المروزي، لأنه
حق يجوز استيفاؤه بحضرة الموكل فجاز في غيبته، كقبض الدين، وحمل قوله:
لا يستوفى الذي قاله الشافعي في الوكالة على الاستحباب
ومن أصحابنا من قال: لا يجوز قولا واحدا، لان الحد والقصاص إذا عرفنا
أننا مأمورون بالدرء والاحتياط والتماس الشبهات الصارفة عن الإدانة وعرفنا
مع ذلك أن العفو مندوب إليه بل رغب الله فيه وقال " فمن عفى له من أخيه شئ
فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " ومن ثم كان رجاؤنا أن يرحم أخاه فيعفو
عنه، ومن هنا حمل قول الشافعي في الجنايات على أنه أراد إذا تنحى به ولم يغب
عن عينه فعفا عنه من حيث لم يسمع الوكيل صيغة العفو فقتله، ووجه القولين
بالجواز وعدمه ما ذكرنا والله تعالى أعلم.
(فرع) توكيل مسلم كافرا في استيفاء قود من مسلم هل يصح؟ قولان.
(أحدهما) لا يصح (والثاني) يصح، وهو اختيار الرملي في شرحه للمنهاج للنووي
قال: وهذه مردودة بأن الوكيل لا يستوفيه لنفسه، وبأن المصنف إنما جعل
صحة مباشرته شرطا لصحة توكله، ولا يلزم من وجود الشرط وجود المشروط
وإنما يلزم من عدمه عدمه والأول صحيح والثاني في غير محله إذ الشرط وهو صحة
المباشرة غير موجود هنا رأسا، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ولا يصح التوكيل إلا ممن يملك التصرف في الذي يوكل فيه بملك
أو ولاية فأما من لا يملك التصرف في الذي يوكل فيه كالصبي والمجنون والمحجور
عليه في المال والمرأة في النكاح والفاسق في تزويج ابنته، فلا يملك التوكيل فيه
لأنه لا يملكه، فلا يملك أن يملك دلك غيره، وأما من لا يملك التصرف إلا
بالاذن كالوكيل والعبد المأذون، فإنه لا يملك التوكيل الا بالاذن لأنه يملك
التصرف بالاذن، فكان توكيله بالاذن، واختلف أصحابنا في غير الأب والجد
من العصبات، هل يملك التوكيل في التزويج من غير إذن المرأة؟ فمنهم من قال:
101

يملك، لأنه يملك التزويج بالولاية من جهة الشرع، فملك التوكيل من غير اذن
كالأب والجد، ومنهم من قال: لا يملك لأنه لا يملك التزويج إلا بإذن فلا يملك
التوكيل إلا بإذن كالوكيل والعبد المأذون.
(الشرح) الأحكام: لا يصح التوكيل إلا إذا صدر للوكيل من الموكل الذي
يملك التصرف عن نفسه في ملكه أو فيما يولى فيه أو عليه فإذا كان فاقد الأهلية
لصغر سن أو جنون أو حجر لسفه أو غيره فإن أولئك لا يصح توكيلهم ما داموا
لا يملكون التصرف، وفاقد الشئ لا يعطيه،
ويلحق بهؤلاء المرأة لا تكون
وكيلة عن غيرها من النساء ولو ابنتها في عقد النكاح، وكذلك الفاسق المعروف
بفسقه في تزويج ابنته، لفقده حق الولاية عليها، ويلحق بالمجنون المغمى عليه
والنائم، إذ تصرفه لنفسه أقوى منه لغيره فإذا لم يملك الأقوى لم يملك ما دونه
بالأولى وإنما أبيح توكيل الصبي فيما يكون مصدقا فيه كالخادم والعبد ما دام الصبي
مميزا لم يجرب عليه كذب وذلك في الاذن في دخول دار وايصال هدية. أما
الصبي غير المأمون المجرب الكذب عليه فلا يعتمد قطعا وما حفته قرينة يعتمد
قطعا، وحينئذ يكون العمل بالعلم لا بالخبر.
وأما المرأة فلا تتوكل في عقد النكاح كما قلنا ايجابا وقبولا.
واختلف في الجد وغير الأب من العصبات هل يملك التوكيل في التزويج
من غير اذن المرأة؟ فان قلنا بحصول ولايته عليها من جهة الشرع فملك التوكيل
من غير اذنها كالأب وأبى الأب.
ومنهم من قال: لا يملك التزويج الا باذن، ويكون الاذن بمثابة توكيل منها
والحق أن الاذن والتوكيل والولاية الشرعية أمور تحتاج منا إلى بيان درجاتها
واعطائها ما تستحقه من تقويم فالولاية الشرعية يعطى الولي الحق في التزويج
بغير اذن ولا توكيل، والتوكيل يعطى الحق للوكيل بالولاية الجعلية أو الولاية
العرفية، والظاهر أن الأولى أقوى فيكتفى فيها بما لا يكتفى في الثانية، وأن باب
الاذن أوسع من باب الوكالة، وما جمع به بعضهم بين ما ذكر بحمل عدم الصحة
102

على الوكالة، والصحة على التصرف، إذ قد تبطل الوكالة ويصح التصرف، رد
بأنه خطأ صريح مخالف للمنقول إذ الابضاع يحتاط لها فوق غيرها ومقابل الأصح
أنه يصح والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ومن لا يملك التصرف في حق نفسه لنقص فيه كالمرأة في النكاح
والصبي والمجنون في جميع العقود لم يملك أن يتوكل لغيره لأنه إذا لم يملك ذلك
في حق نفسه بحق الملك لم يملكه في حق غيره بالتوكيل، ومن ملك التصرف فيما
تدخله النيابة في حق نفسه جاز أن يتوكل فيه لغيره، لأنه يملك في حق نفسه بحق
الملك فملك في حق غيره بالاذن.
واختلف أصحابنا في العبد، هل يجوز أن يتوكل في قبول النكاح؟ فمنهم من
قال: يجوز، لأنه يملك قبول العقد لنفسه بإذن المولى، فملك أن يقبل لغيره
بالتوكيل، ومنهم من قال: لا يجوز لأنه لا يملك النكاح، وإنما أجيز له القبول
لنفسه للحاجة إليه ولا حاجة إلى القبول لغيره، فلم يجز، واختلفوا في توكيل
المرأة في طلاق غيرها، فمنهم من قال: يجوز كما يجوز توكيلها في طلاقها، ومنهم
من قال: لا يجوز، لأنها لا تملك الطلاق، وإنما أجيز توكيلها في طلاق نفسها
للحاجة، ولا حاجة إلى توكيلها في طلاق غيرها، فلم يجز، ويجوز للفاسق أن
يتوكل في قبول النكاح للزوج، لأنه يجوز أن يقبل لنفسه مع الفسق، فجاز أن
يقبل لغيره، وهل يجوز أن يتوكل في الايجاب؟ فيه وجهان.
(أحدهما) لا يجوز، لأنه موجب للنكاح فلم يجز أن يكون فاسقا كالولي،
(والثاني) يجوز، لأنه ليس بولي. وإنما هو مأمور من جهة الولي، والولي عدل
(الشرح) الأحكام: بعض أحكام هذا الفصل مضى في الذي قبله. وقال
الرملي في شرح المنهاج
وشرط الوكيل تعيينه الا في نحو: من حج عنى فله كذا، فيبطل: وكلت
أحدكما، نعم ان وقع غير المعين تبعا لمعين كوكلتك في كذا وكل مسلم صح كما بحثه
103

الشيخ في شرح منهجه قال: وعليه العمل. وما نظر فيه من قياسه على الموكل فيه
غير صحيح فسيأتي الفرق بينهما، ودعوى أنه يحتاط في العاقد مالا يحتاط في
المعقود عليه لا التفات له هنا، إذ الغرض الأعظم الاتيان بالمأذون فيه وصحة
مباشرته التصرف الذي وكل فيه لنفسه، وإلا لم يصح توكيله إذ تصرفه لنفسه
أقوى منه لغيره. إلى أن قال:
والأصح صحة توكيل عبد في قبول نكاح وإن لم يأذن له سيده لانتفاء ضرره
وتعبيره بلكن فيه إشارة إلى استثناء هذين من عكس الظابط، وهو من لا تصح
مباشرته لنفسه لا يصح توكله، ويستثنى صحة توكل سفيه في قبول نكاح بغير
إذن وليه وتوكل امرأة في طلاق غيرها ومرتد في تصرف لغيره مع امتناعه لنفسه
وإنما يصح ذلك إن لم يشرط في بطلان تصرفه لنفسه حجر الحاكم عليه، وسيأتي
في بابه ما فيه: ورجل في قبول نكاح أخت زوجته مثلا أو خامسة وتحته أربع
والموسر في قبول نكاح أمة. واستثناء بعضهم توكل كافر عن مسلم في شراء مسلم
أو طلاق مسلمة غير صحيح، إذ لو أسلمت زوجته فطلق ثم أسلم في العدة بان
نفوذ طلاقه.
وأشار المصنف - يعنى النووي في المنهاج - في مسألة طلاق الكافر للمسلمة
بأنه يصح طلاقه في الجملة إلى أن المراد صحة مباشرة الوكيل التصرف لنفسه في
جنس ما وكل فيه في الجملة لا في عينه، وحينئذ فيسقط أكثر ما مر من المستثنيات
وقياسه جريان ذلك في الموكل أيضا كما قدمناه، ومنعه أي توكيل العبد، أي من
فيه رق في الايجاب للنكاح، لأنه إذا امتنع عليه تزويج ابنته فبنت غيره أولى،
ويصح توكيل المكاتب في تزويج أمته كما بحثه الأذرعي وشرط الموكل فيه أن
يملكه الموكل حالة التوكيل، وإلا فكيف يأذن فيه؟
(فرع) إذا جاز للفاسق أن يتزوج وصح تعاقده فجاز أن يتعاقد لغيره على
أحد الوجهين لأنه ليس بولي. والولي عدل. والوجه الثاني: إذا امتنع عليه
تزويج ابنته فبنت غيره أولى.
104

قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ولا تصح الوكالة إلا بالايجاب والقبول، لأنه عقد تعلق به حق
كل واحد منهما فافتقر إلى الايجاب والقبول كالبيع والإجارة، ويجوز القبول
على الفور وعلى التراخي.
وقال القاضي أبو حامد المروروذي: لا يجوز إلا على الفور لأنه عقد في حال
الحياة فكان القبول فيه على الفور كالبيع - والمذهب الأول - لأنه إذن في
التصرف، والاذن قائم ما لم يرجع فيه، فجاز القبول. ويجوز القبول بالفعل،
لأنه أذن في التصرف فجاز القبول فيه بالفعل كالاذن في أكل الطعام
(الشرح) الأحكام: الوكالة كأي عقد من العقود لا ينقدح في الذمة إلا
بتحقق هذين الشرطين: الايجاب والقبول، لما يترتب على هذا العقد من حق
كل واحد منهما.
فيشترط من الموكل أو نائبه لفظ صريح أو كناية ككتابة أو إشارة أخرس
مفهمه لا لكل أحد يقتضى رضاه كوكلتك في كذا أو فوضته إليك أو أنبتك فيه
أو أقمتك مقامي فيه، أو أنت وكيلي فيه كبقية العقود، إذ الشخص ممنوع من
التصرف في مال غيره إلا برضاه، فلا يصح أن يقول: وكلت من أراد بيع داري
ولا ينفذ تصرف أحد بهذا الاذن لفساده.
نعم لو لم يتعلق بعين الوكيل فيه غرض كوكلت من أراد في إعتاق عبدي هذا
أو تزويج أمتي هذه صح على ما بحثه السبكي وأخذ منه صحة قول من لا ولى لها
أذنت لكل عاقد في البلد أن يزوجني. قال الأذرعي: وهذا إن صح فمحله عند
تعيينها الزوج ولم تفوض سوى صيغة العقد خاصة، وبذلك أفتى بن
الصلاح، ويجرى ذلك التعميم في التوكيل، إذ لا يتعلق بعين الوكيل غرض
وعليه عمل القضاة.
وقد يشترط القبول هنا لفظا، كما لو كان له عين مؤجرة أو معارة أو مغصوبة
فوهبها لآخر وأذن له في قبضها فوكل من هي في يده في قبضها له، لابد من قبول
لفظا لنزول يده عنها به.
105

إذا ثبت هذا فهل يجوز القبول على الفور. أم يصح على التراخي. قولان
فالمصنف والأصحاب كافة على جوازه على الفور وعلى التراخي خلافا للقاضي
أبى حامد المروروذي فإنه قال: لا يجوز إلا على الفور كالبيع
(فرع) إذا قال أذنت لك في إعطاء فلان صكا بمائة دينار فأخرج القلم وأخذ
يكتب الصك كان ذلك هو القبول. ومن أصحابنا من اشترط التلفظ بلفظ القبول
وهو مرجوح، إذ لو قال له أذنتك في الطعام فأقبل على الطعام ولم يقل شيئا
وأكل ألا يكون ذلك قبولا، وما دام التوكيل أو الاذن القصد منه أداء الفعل
فأداه فقد تحقق الغرض من الوكالة أو النيابة. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى.
(فصل) ولا يجوز التوكيل إلا في تصرف معلوم. فإن قال وكلتك في كل
قليل وكثير لم يصح، لأنه يدخل فيه ما يطيق ومالا يطيق، فيعظم الضرر ويكثر
الغرر. وإن قال وكلتك في بيع جميع مالي أو قبض جميع ديوني صح، لأنه يعرف
ماله ودينه، وإن قال بع ما شئت من مالي أو اقبض ما شئت من ديوني جاز لأنه
إذا عرف ماله ودينه عرف أقصى ما يبيع ويقبض فيقل الغرر.
وإن قال اشتر لي عبدا لم يصح لان فيه ما يكون بمائة وفيه ما يكون بألف،
فيكثر الغرر، وان قال اشتر لي عبدا بمائة لم يصح، لان ذكر الثمن لا يدل على
النوع فيكثر الغرر.
وإن قال اشتر لي عبدا تركيا بمائة جاز، لان مع ذلك النوع وقدر الثمن يقل
الغرر، فإن قال اشتر لي عبدا تركيا ولم يقدر الثمن ففيه وجهان. قال أبو العباس
يصح لأنه يحمل الامر على أعلى هذا النوع ثمنا فيقل الغرر. ومن أصحابنا من
قال لا يصح لان أثمان الترك تختلف وتتفاوت، فيكثر الغرر، وإن وكله في
الابراء لم يجز حتى يبين الجنس الذي يبرئ منه والقدر الذي يبرئ منه، وان
وكله في الاقرار وقلنا إنه يصح التوكيل فيه لم يجز حتى يبين جنس ما يقر به،
وقدر ما يقربه، لأنه إذا أطلق عظم الضرر وكثر الغرر فلم يجز، وإن وكله في
106

خصومة كل من يخاصمه ففيه وجهان (أحدهما) يصح، لان الخصومة معلومة
(والثاني) لا يصح، لأنها قد تقل الخصومات وقد تكثر فيكثر الغرر.
(الشرح) الأحكام: لا يجوز التوكيل إلا في تصرف معلوم من بعض
الوجوه لئلا يعظم الغرر. ولا يشترط علمه من كل وجه. هكذا قرر النووي في
المنهاج، ولا يشترط ذكر أوصاف المسلم فيها لأنها جوزت للحاجة فسومح فيها
فلو قال: وكلتك في كل قليل وكثير لي في كل أموري أو حقوقي، أو فوضت
إليك كل شئ لي، أو كل ما شئت من مالي لم يصح لما فيه من عظيم الغرر، لأنه
يدخل فيه مالا يسمح الموكل ببعضه كعتق أرقائه وطلاق زوجاته والتصدق بأمواله
وظاهر كلامهم بطلان هذا وإن كان تابعا لمعين. وكذلك أفتى الرملي الكبير
شهاب الدين. فلا ينفذ تصرف الوكيل في شئ من التابع لان عظم الغرر فيه
الذي هو السبب في البطلان لا يندفع بذلك.
قال شمس الدين الرملي: وفارق ما مر عن أبي حامد بأن ذاك في جزئي خاص
معين فساغ كونه تابعا لقلة الغرر فيه بخلاف هذا، وبخلاف ما جاء في قوله:
وكلتك في كذا وكل مسلم. إذ الوكيل المتبوع معين والتابع غير معين وهو مستثنى
من أن يكون الوكيل معينا، وليست هذه المسألة مثل ذلك لما تقرر من كثرة
الغرر في التابع فيها.
وإن قال: وكلتك في بيع أموالي وعتق أرقائي ووفاء ديوني واستيفائها ونحو
ذلك صح، وإن كان ما ذكر معلوما عندهما لقلة الغرر فيه. ولو قال في بعض
أموالي أو شئ منها لم يصح. أما لو قال: بع هذا أو هذا لتناول كل بطريق
العموم البدلي فلا إبهام فيه. وكما لو قال: أبرئ فلانا عن شئ من ديني صح
وحمل على أدنى شئ. إذ الابراء عقد غبن فتوسع فيه بخلاف البيع. وكقوله
أبرئ فلانا عما شئت من ديني فليبق عليه شيئا. أما لو قال أبرئه عن جميعه صح
ابراؤه عن بعضه بخلاف بيعه لبعض ما وكله ببيعه بأنقص من قيمة الجميع لتضمن
التشقيص فيه الغرر.
وان قال اشتر لي عبدا بمائة ولم يبين جنسه ولا يغنى ذكر الوصف كأبيض أو
107

أسود. نعم لا يشترط ذكر أوصاف السلم ولا ما يقرب منها. هذا إذا كان العبد
للاقتناء أما إذا كان للتجارة فلا يجب فيه ذكر نوع أو غيره لشبهه بالقراض.
ونقله ابن الرفعة عن الماوردي وغيره.
قال الرملي شمس الدين: ولو وكله في تزويج امرأة اشترط تعيينها، ولا يكتفى
بكونها مكافئة له، لان الغرض يختلف مع وجود وصف المكافأة كثيرا فاندفع
ما ذكره السبكي هنا. نعم ان أتى له بلفظ عام كزوجني من شئت صح للعموم،
وجعل الامر راجعا إلى رأى الوكيل بخلاف الأول فإنه مطلق، ودلالة العام
على أفراد ظاهرة، وأما المطلق فلا دلالة فيه على فرد فلا تناقض، أو في شراء
دار للقنية أيضا وجب بيان المحلة - أي الحارة - ومن لازمها بيان البلد، فلذا
لم يصرح به.
أما الاقرار فإنه لا يصح التوكيل فيه الا إذا بين جنس ما يقر به وقدره لعظم
الغرر عند الاطلاق وكثرة الضرر فلم يصح، فإذا وكله في خصوماته، كقوله:
وكلتك في خصومة من أخاصمه ففيه وجهان
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ولا يجوز تعليق الوكالة على شرط مستقبل. ومن أصحابنا من قال
يجوز لأنه أذن في التصرف فجاز تعليقه على شرط مستقبل كالوصية، والمذهب
الأول لأنه عقد تؤثر الجهالة في إبطاله فلم يصح تعليقه على شرط كالبيع والإجارة
ويخالف الوصية فإنها لا يؤثر فيها غرر الجهالة فلا يؤثر فيها غرر الشرط والوكالة تؤثر الجهالة
في ابطالها فأثر غرر الشرط فإن علقها على شرط مستقبل ووجد الشرط وتصرف الوكيل
صح التصرف، لان مع فساد العقد الاذن قائم فيكون تصرفه بإذن فصح،
فإن كان قد سمى له جعلا سقط المسمى ووجب له أجرة المثل لأنه عمل في عقد
فاسد لم يرض فيه بغير بدل فوجب أجرة المثل كالعمل في الإجارة الفاسدة، وان
عقد الوكالة في الحال وعلق التصرف على شرط، بأن قال وكلتك أن تطلق امرأتي
أو تبيع مالي بعد شهر صح، لأنه لم يعلق العقد على شرط، وإنما علق التصرف
على شرط فلم يمنع صحة العقد
108

(الشرح) الأحكام: فرقوا بين تعليق العقد على شرط وتعليق التصرف
على شرط فالأول لا يجوز والثاني يجوز.
أما أجرة الوكيل فتتحدد بأجرة المثل ولو سمى له جعلا.
أما الشرط فقد قال الرملي شمس الدين: ولا يصح تعليقها بشرط من صفة
أو وقت في الأصح كسائر العقود سوى الوصية لقبولها الجهالة والامارة للحاجة
والثاني: تصح كالوصية ورد بما مر اه‍، ومثال الوصية قوله: إذا جاء رأس الشهر
فقد أوصيت له بكذا، وصورة الوكالة الباطلة لارتباطها بالشرط كقوله: وكلت
من أراد بيع داري، وقال الزركشي: لا ينفذ التصرف. قال ابن الصلاح:
والاقدام على التصرف بالوكالة الفاسدة جائز، إذ أنه ليس من تعاطى العقود
الفاسدة لأنه إنما قدم على عقد صحيح خلافا لابن الرفعة.
فإن نجزها وشرط للتصرف شرطا جاز، كوكلتك الآن ببيع هذا ولكن
لا تبعه الا بعد شهر، وعلم من هذا أنه لو قال لآخر قبل رمضان: وكلتك في
إخراج فطرتي وأخرجها في رمضان صح لتنجيزه الوكالة، وإنما قيدها بما قيدها به
الشارع، بخلاف إذا جاء رمضان فأخرج فطرتي، لأنه تعليق محض وعلى هذا
التفصيل يحمل إطلاق من أطلق الجواز ومن أطلق المنع.
قال الشمس الرملي: والأقرب إلى كلامهم عدم الصحة إذ كل من الموكل
والوكيل لا يملك ذلك عن نفسه حال التوكيل (قلت) وعلى هذا يتوجه كلام
ابن الصلاح، لان إخراج الفطرة هنا عمل صحيح ترتب على وكالة فاسدة فنقول
بصحة إخراجها عنه.
قال المصنف رحمه الله تعالى.
(فصل) ولا يملك الوكيل من التصرف إلا ما يقتضيه اذن الموكل من
جهة النطق أو من جهة العرف لان تصرفه بالاذن فلا يملك الا ما يقتضيه الاذن
والاذن يعرف بالنطق وبالعرف فان تناول الاذن تصرفين. وفى أحدهما اضرار
بالموكل لم يجز ما فيه ضرار لقوله صلى الله عليه وسلم " لا ضرر ولا ضرار " فان
109

تناول تصرفين وفى أحدهما نظر للموكل لزمه ما فيه النظر للموكل لما روى ثوبان
مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأس
الدين النصيحة: قلنا يا رسول الله لمن قال لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين
وللمسلمين عامة وليس من النصح أن يترك ما فيه الحظ والنظر للموكل.
(الشرح) حديث " لا ضرر ولا ضرار " مضى تخريجه في غير موضع،
وحديث ثوبان رواه الجماعة.
الأحكام: إذا وكله في بيع شئ أو طلب الشفعة أو قسم شئ ففيه وجهان
(أحدهما) يملك تثبيته، وهو قول أبي حنيفة في القسمة وطلب الشفعة، لأنه
لا يتوصل إلى ما وكله فيه إلا بالتثبيت (والثاني) لا يملكه، وهو قول بعض
أصحابنا لأنه يمكن أحدهما دون الآخر، فلم يتضمن الاذن في أحدهما الاذن في
الآخر، فإذا قال: اقبض حقي من فلان لم يكن له قبضه من وارثه. لأنه لم يؤمر
بذلك، وإن قال: اقبض حقي الذي قبل فلان أو على فلان جاز له مطالبة وارثه
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان وكل في تصرف وأذن له أن يوكل إذا شاء نظرت، فإن عين
له من يوكله وكله أمينا كان أو غير أمين لأنه قطع اجتهاده بالتعيين، وان لم يعين
من يوكل لم يوكل الا أمينا لأنه لا نظر للموكل في توكيل غير الأمين، فان وكل
أمينا فصار خائنا فهل يملك عزله، فيه وجهان.
(أحدهما) يملك عزله، لان الوكالة تقتضي استعمال أمين، فإذا خرج عن
أن يكون أمينا لم يجز استعماله، فوجب عزله.
(والثاني) لا يملك عزله، لأنه أذن له في التوكيل دون العزل، وان وكله
ولم يأذن له في التوكيل نظرت، فإن كان ما وكله فيه مما يتولاه الوكيل ويقدر
عليه، لم يجز أن يوكل فيه غيره، لان الاذن لا يتناول تصرف غيره من جهة
النطق، ولا من جهة العرف، لأنه ليس في العرف إذا رضيه أن يرضى غيره،
110

وإن وكله في تصرف وقال: اصنع فيه ما شئت ففيه وجهان (أحدهما) أنه يجوز
أن يوكل فيه غيره لعموم قوله: اصنع فيه ما شئت.
(والثاني) لا يجوز، لان التوكيل يقتضى تصرفا يتولاه بنفسه، وقوله:
اصنع فيه ما شئت يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل في تصرفه بنفسه، وإن كان
ما وكله فيه مما لا يتولاه بنفسه كعمل لا يحسنه، أو عمل يترفع عنه، جاز أن
يوكل فيه غيره، لان توكيله فيما لا يحسنه أو فيما يترفع عنه إذن في التوكيل فيه
من جهة العرف.
وإن كان مما يتولاه إلا أنه لا يقدر على جميعه لكثرته، جاز له أن يوكل فيما
لا يقدر عليه منه، لان توكيله فيما لا يقدر عليه إذن في التوكيل فيه من جهة
العرف، وهل يجوز أن يوكل في جميعه؟ فيه وجهان.
(أحدهما) له أن يوكل في جميعه. لأنه ملك التوكيل فملك في جميعه كالموكل
(والثاني) ليس له أن يوكل فيما يقدر عليه منه، لان التوكيل يقتضى أن
يتولى الوكيل بنفسه، وإنما أذن له فيما لا يقدر عليه للعجز، وبقى فيما يقدر عليه
على مقتضى التوكيل، وإن وكل نفسين في بيع أو طلاق فإن جعله إلى كل واحد
منهما جاز لكل واحد منهما أن ينفرد به، لأنه أذن لكل واحد منهما في التصرف
وإن لم يجعل إلى كل واحد منهما لم يجز لأحدهما أن ينفرد به، لأنه لم يرض
بتصرف أحدهما، فلا يجوز أن ينفرد به، وإن وكلهما في حفظ ماله حفظاه في
حرز لهما.
وخرج أبو العباس وجها آخر أنه إن كان مما ينقسم، جاز أن يقتسما ويكون
عند كل واحد منهما نصفه، وان لم ينقسم جعلاه في حرز لهما كما يفعل المالكان
والصحيح هو الأول، لأنه تصرف أشرك فيه بينهما. فلم يجز لأحدهما أن ينفرد
ببعضه فيه كالبيع، ويخالف المالكين، لان تصرف المالكين بحق الملك ففعلا
ما يقتضى الملك، وتصرف الوكيلين بالاذن، والاذن يقتضى اشتراكهما،
ولهذا يجوز لاحد المالكين أن ينفرد ببيع بعضه ولا يجوز لاحد الوكيلين أن ينفرد
ببيع بعضه.
111

(الشرح) الأحكام: لا يخلو التوكيل من ثلاثة أحوال:
(أحدها) أن ينهى الموكل وكيله عن التوكيل فلا يجوز له ذلك بغير خلاف
لان ما نهاه عنه غير داخل في اذنه كما لو لم يوكله.
(الثاني) أذن له في التوكيل فيجوز له ذلك، لأنه عقد أذن له فيه فكان له
فعله كالتصرف المأذون فيه، ولا نعلم في هذا خلافا، فإن قال له: وكلتك فاصنع
ما شئت فهل له أن يوكل؟ نظرت فإن كان ما وكله فيه مما يمكن أن يتولاه الوكيل
ويقدر عليه، فإنه ليس له التوكيل، لأنه موكل بتصرف يتولاه بنفسه، وقوله
اصنع ما شئت يرجع إلى ما يقتضيه التوكيل من تصرفه بنفسه، وقال أصحاب أحمد
له أن يوكل من شاء لدخوله في عموم التوكيل.
ولنا أنه إذا كان ما وكل به كثير الجوانب متعدد الجهات بحيث يحتاج الوكيل
إلى من يعينه على أدائه، ومثله لو كان العمل شاقا لا يقدر مثله على القيام به،
ويحتاج إلى شخص قوى يؤديه جاز له توكيله، ومثل ذلك لو كان العمل يحتاج
إلى مهارة أو فن خاص له دارسوه والمتخصصون فيه كالهندسة ونحوها جاز له
توكيله، وكذلك لو كان عملا سهلا ولكنه من الأعمال التي يترفع مثله عن القيام
بها لدناءتها جاز له أن يوكل من يقوم به.
(الثالث) أطلق الوكالة فلا يخلو من ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون العمل من الأعمال التي أشرنا إليها مما يرتفع الوكيل عن
مثله كالأعمال الدنيئة في حق أشراف الناس أو يعجز عن فعلها أو لأي اعتبار مما
ذكرنا آنفا فإن الاذن ينصرف إلى ما جرت به العادة من الاستنابة، وبه قال أحمد
وأصحابه، القسم الثاني. أن يكون مما يعجز عن عمله لكثرته وانتشاره فجاز التوكيل
في بعضه فيما لا يقدر عليه منه، أما التوكيل في جميعه فيجوز عند أصحاب أحمد، أما
عند أصحابنا فوجهان (أحدهما) له أن يوكل في جميعه لأنه ملك التوكيل فملك في
جميعه كالموكل (والثاني) ليس له أن يوكل الا فيما لا يقدر عليه منه، وإنما أذن
له فيما لا يقدر عليه للعجز، وبقى ما يقدر عليه على مقتضى التوكيل، وهذا قول
عند أصحاب أحمد ذكره ابن قدامة عن القاضي.
112

(القسم الثالث) وهو ما يمكنه عمله بنفسه ولا يترفع عنه، فهل يجوز له
التوكيل فيه؟ على روايتين
إحداهما لا يجوز. وهو المذهب عندنا، واليه ذهب أبو حنيفة وأبو يوسف
لأنه لم يأذن له في التوكيل ولا تضمنه إذنه فلم يجز كما لو نهاه، ولأنه استئمان فيما
يمكنه النهوض فيه فلم يكن له أن يوليه لمن لم يأمنه كالوديعة
والأخرى يجوز، نقلها حنبل وبه قال ابن أبي ليلى، إذا مرض أو غاب،
لان الوكيل له أن يتصرف بنفسه فملكه نيابة كالمالك. دليلنا أن التوكيل لا يتناول
تصرف غيره من جهة النطق ولا من جهة العرف، لأنه ليس في العرف إذا
رضيه أن يرضى غيره ويفارق المالك، فإن المالك يتصرف بنفسه في ملكه كيف
شاء بخلاف الوكيل فإنه يتصرف بالاذن.
(فرع) كل وكيل جاز له التوكيل فليس له أن يوكل إلا أمينا لأنه لا نظر
للموكل في توكيل من ليس بأمين، فيقيد جواز التوكيل بما فيه الحظ والنظر،
كما أن الاذن في البيع يتقيد بالبيع بثمن المثل، إلا أن يعين له الموكل من يوكله
فيجوز توكيله وإن لم يكن أمينا، لأنه قطع نظره بتعيينه. وإن وكل أمينا وصار
خائنا فعليه عزله، لان تركه يتصرف مع الخيانة تضييع وتفريط، والوكالة
تقتضي استئمان أمين. وهذا ليس بأمين فوجب عزله
ويقول النووي: لا يملك الوكيل عزله في الأصح لأنه أذن في التوكيل دون
العزل. وقد أورد الرملي الوجهين.
(فرع) إذا وكل وكيلين في تصرف وجعل لكل واحد الانفراد بالتصرف
فله ذلك، لأنه مأذون له فيه، فإن لم يجعل ذلك فليس لأحدهما الانفراد به،
لأنه لم يأذن له في ذلك، وإنما يجوز له ما أذن فيه موكله، وبهذا قال أحمد
وأصحاب الرأي.
وإن وكلهما في حفظ ماله حفظاه معا في حرز لهما، لان قوله افعلا كذا
يقتضى اجتماعهما على فعله، وهو مما يمكن فتعلق بهما. وفارق هذا قوله بعتكما،
حيث كان منقسما بينهما. لأنه لا يمكن كون الملك لهما على الاجتماع فانقسم بينهما
فإن غاب أحد الوكيلين لم يكن للآخر أن يتصرف.
113

وخرج أبو العباس بن سريج وجها آخر أنه إن كان المال مما ينقسم اقتسماه
ويكون عند كل واحد منهما نصفه والصحيح ما قررنا
وليس للحاكم أن يضم أمين إلى الوكيل ليحل محل الغائب، لان الموكل
رشيد جائز التصرف لا ولاية للحاكم عليه، فلا يضم الحاكم وكيلا له بغير أمره
وفارق ما لو مات أحد الوصيين - وفرق بين الوصاية والوكالة - حيث يضيف
الحاكم إلى الوصي أمينا ليتصرف، لكون الحاكم له النظر في حق الميت واليتيم.
ولهذا لو لم يوص إلى أحد أقام الحاكم أمينا في النظر لليتيم. وإن حضر الحاكم
أحد الوكيلين والآخر غائب وادعى الوكالة لهما وأقام بينة سمعها الحاكم وحكم
بثبوت الوكالة لهما، ولم يملك الحاضر التصرف وحده، فإذا حضر الآخر تصرفا
معا ولا يحتاج إلى إعادة البينة، لان الحاكم سمعها لهما مرة.
وإن جحد الغائب الوكالة أو عزل نفسه لم يكن للآخر أن يتصرف، وبما
ذكرناه قال أحمد وأبو حنيفة
وقال أبو حنيفة إذا وكلهما في خصومة فكل واحد منهما الانفراد بها.
ولنا أنه لم يرض بتصرف أحدهما فأشبه البيع والشراء والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وكل رجلا في الخصومة لم يملك الاقرار على الموكل، ولا
الابراء من دينه ولا الصلح عنه، لان الاذن في الخصومة لا يقتضى شيئا من
ذلك، وان وكله في تثبيت حق فثبته لم يملك قبضه، لان الاذن في التثبيت ليس
بإذن في القبض من جهة النطق، ولا من جهة العرف، لأنه ليس في العرف
أن من يرضاه للتثبيت يرضاه للقبض، وان وكله في قبض حق من رجل فجحد
الرجل الحق، فهل يملك أن يثبته عليه؟ فيه وجهان
(أحدهما) لا يملك، لان الاذن في القبض ليس بإذن في التثبيت من جهة
النطق، ولا من جهة العرف، لأنه ليس في العرف أن من يرضاه للقبض
يرضاه للتثبيت.
(والثاني) أنه يملك لأنه يتوصل بالتثبيت إلى القبض، فكان الاذن في
114

القبض إذنا في التثبيت، وإن وكله في بيع سلعة فباعها لم يملك الابراء من الثمن،
لان الاذن في البيع ليس بإذنه في الابراء من الثمن. وهل يملك قبضه أم لا؟ فيه
وجهان (أحدهما) أنه لا يملك، لان الاذن في البيع ليس بإذن في قبض الثمن
من جهة النطق ولا من جهة العرف، لأنه قد يرضى الانسان للبيع من لا يرضاه
للقبض (والثاني) أنه يملك، لان العرف في البيع تسليم للمبيع وقبض الثمن،
فحملت الوكالة عليه، وإن وكله في شراء عبد فاشتراه وسلم الثمن ثم استحق العبد
فهل يملك أن يخاصم البائع في درك الثمن. فيه وجهان (أحدهما) يملك، لأنه
من أحكام العقد (والثاني) لا يملك، لان الذي وكل فيه هو العقد، وقد فرغ
منه فزالت الوكالة.
(الشرح) الأحكام: إذا وكل رجلا في الخصومة لم يقبل إقراره على موكله
بقبض الحق ولا غيره، وبهذا قال أحمد ومالك وابن أبي ليلى. وقال أبو حنيفة
ومحمد: يقبل إقراره في مجلس الحكم فيما عدا الحدود والقصاص. وقال أبو يوسف
يقبل إقراره في مجلس الحكم وغيره، لان الاقرار أحد جوابي الدعوى فصح
من الوكيل كالانكار
دليلنا أن الاقرار معنى يقطع الخصومة وينافيها، فلا يملكه الوكيل فيها
كالابراء، وفارق الانكار فإنه لا يقطع الخصومة، ويملكه في الحدود وفى غير
مجلس الحاكم، ولان الوكيل لا يملك الانكار على وجه يمنع الموكل من الاقرار
فلو ملك الاقرار لامتنع على الموكل الاقرار فافترقا. ولا يملك المصالحة عن
الحق ولا الابراء منه بغير خلاف نعلمه، لان الاذن في الخصومة لا يقتضى شيئا
من ذلك، وان أذن له في تثبيت حق لم يملك قبضه، وبهذا قال أحمد. وقال
أبو حنيفة يملك قبضه، لان المقصود من التثبيت قبضه وتحصيله.
دليلنا أن القبض لا يتناوله الاذن نطقا ولا عرفا، إذ ليس كل من يرضاه
لتثبيت الحق يرضاه لقبضه
وإن وكله في قبض حق فجحد من عليه الحق فهل يملك القيام بتثبيت الحق
على الجاحد. فيه وجهان لأصحابنا (أحدهما) لا يملك وليس له ذلك، وهو أحد
115

الوجهين عند أصحاب أحمد، لأنهما معنيان مختلفان، فالوكيل في أحدهما لا يكون
وكيلا في الآخر، كما لا يكون وكيلا في القبض بالتوكيل في الخصومة.
(والثاني) كان له القيام بتثبيت الحق على جاحده، وبهذا قال أبو حنيفة،
وهو أحد الوجهين عند أصحاب أحمد
ووجه هذا الوجه أنه لا يتوصل إلى القبض إلا بالتثبيت، فكان إذنا فيه
عرفا، ولان القبض لا يتم الا به فملكه، كما لو وكل في شراء شئ ملك وزن ثمنه
أو وكل في بيع شئ ملك تسليمه، ويحتمل أنه أن كان الموكل عالما بجحد من عليه
الحق أو مطله كان توكيلا في تثبيته والخصومة فيه لعلمه بوقوف القبض عليه.
وان لم يعلم ذلك لم يكن توكيلا فيه لعدم علمه بتوقف القبض عليه، ولا فرق
بين كون الحق عينا أو دينا.
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: ان وكله في قبض عين لم يملك تثبيتها لأنه
وكيل في نقلها، أشبه الوكيل في نقل الزوجة.
(فرع) إذا وكله في بيع شئ ملك تسليمه، لأن اطلاق التوكيل في البيع
يقتضى التسليم لكونه من تمامه، ولم يملك الابراء من ثمنه، وبهذا قال أحمد.
وقال أبو حنيفة: يملكه
دليلنا أن الابراء ليس من البيع ولا من تتمته، فلا يكون التوكيل في البيع
توكيلا فيه كالابراء من غير ثمنه
(فرع) وأما قبض الثمن فعلى وجهين، ان قلنا إنه قد يوكل في البيع من
لا يأمنه على قبض الثمن فعلى هذا ليس له قبض الثمن. وان قلنا إن العرف في
البيع تسليم للمبيع وقبض للثمن. وأنه موجب للبيع ملك القبض فكان كتسليم
المبيع، فعلى هذا ليس له تسليم المبيع الا بقبض الثمن، فإذا سلمه قبل قبض ثمنه
ضمنه، والأولى أن ينظر فيه فان دلت قرينة الحال على قبض الثمن مثل توكيله
في بيع ثوب في سوق غائب عن الموكل، أو موضع يضيع الثمن بترك قبض
الوكيل له كان اذنا في قبضه، ومتى ترك قبضه كان ضامنا له، لان ظاهر حال
الموكل أنه إنما أمره بالبيع لتحصيل ثمنه فلا يرضى بتضييعه، ولهذا يعد من فعل
116

ذلك مضيعا مفرطا وان لم تدل القرينة على ذلك لم يكن له قبضه، وبالوجهين قال
أحمد وأصحابه.
قال الماوردي في الحاوي: لو وكله في المطالبة بدين لم يكن له قبضه بعد
المطالبة، وان وكله في المخاصمة في دار يدعيها لم يكن له قبضها. ولو وكله في اثبات
منفعة يستحقها لم يكن له انتزاعها وكان عمل الوكيل في هذه الأحوال كلها مقصورا
على ما تضمنه الاذن
والقسم الثاني ما كان عمل الوكيل فيه متجاوزا إلى ما تضمنته الوكالة من
مقصوده، وهو ما كان مقصود واجبا على الموكل، كالتوكيل في بيع أو شراء
فله إذا عقد البيع أن يسلم المبيع ويتسلم الثمن. وان لم يصرح له الموكل به، لان
عقد البيع أوجب عليه تسليم ما باعه، وهو مندوب إلى أن لا يسلمه الا بعد قبض
ثمنه، فلذلك جاز أن يتجاوز العقد إلى تسليم المبيع وقبض ثمنه
وهكذا لو وكله في شراء سلعة جاز له أن يقبضها ويدفع ثمنها، فان الشراء
قد أوجب عليه دفع الثمن، وهو مندوب إلى أن لا يدفع الثمن الا بعد قبض
المبيع، فان وكله في البيع على أن لا يقبض الثمن من المشترى صحت الوكالة ولم
يكن له قبض الثمن، ولو وكله فيه على أن لا يسلم المبيع كان في الوكالة وجهان
ذكرهما أبو علي الطبري في افصاحه
(أحدهما) تصح الوكالة، كما لو نهاه عن قبض الثمن، فإذا أخذ تسليم
المبيع أخذ به الموكل.
(والوجه الثاني) أن الوكالة باطلة، لان اقباض المبيع من لوازم البيع فإذا
نهاه عنه بطل التوكيل
(القسم الثالث) ما اختلف المذهب، هل يكون عمل المذهب فيه مقصورا
على ما تضمنه الاذن أو تجوز له المجاوزة إلى ما أدى إليه، وهو مالا يمكن من عمل
المأذون فيه الا به كالوكالة في مقاسمته في دار وقبض الحصة منها إذا جحد
الشريك، هل يجوز للوكيل المخاصمة فيها واثبات الحجج والبينات عليها،
وكالوكالة في قبض دين، أما جحده المطلوب هل يجوز للوكيل مخاصمته واثبات
117

البينة عليه؟ فيه قولان حكاهما ابن سريج مخرجا (أحدهما) ليس له ذلك ويكون
مقصود العمل على ما تضمنه صريح الاذن، لان ما تجاوزه ليس بواجب فيه
فشابه القسم الأول.
(والقول الثاني) يجوز له ذلك، لأنه لا يصل إلى العمل المأذون فيه إلا به
كالقسم الثاني. والله أعلم اه‍
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وان وكل في البيع في زمان لم يملك البيع قبله ولا بعده، لان
الاذن لا يتناول ما قبله ولا ما بعده من جهة النطق ولا من جهة العرف، لأنه
قد يؤثر البيع في زمان لحاجة، ولا يؤثر في زمان قبله ولا زمان بعده،
وإن وكله في البيع في مكان - فإن كان الثمن فيه أكثر أو النقد فيه أجود -
لم يجز البيع في غيره، لأنه قد يؤثر البيع في ذلك المكان لزيادة الثمن أو جودة
النقد، فلا يجوز تفويت ذلك عليه، وإن كان الثمن فيه وفى غيره واحدا ففيه
وجهان (أحدهما) أنه يملك البيع في غيره، لان المقصود فيهما واحد، فكان
الاذن في أحدهما اذنا في الآخر (والثاني) لا يجوز لأنه لما نص عليه دل على
أنه قصد عينه لمعنى هو أعلم به من يمين وغيرها فلم تجز مخالفته.
(الشرح) الأحكام: قال الماوردي في الحاوي. وقال أبو حنيفة: يجوز له
أن يوكل لامرين (أحدهما) أنه لما أقامه فيه مقام نفسه جاز له التوكيل فيه كما
يجوز لنفسه (والثاني) أن المقصود بوكالته حصول العمل في الحالين لموكله.
وهذا خطأ من وجهين:
(أحدهما) أن فعل الوكيل مقصور على ما تضمنه الاذن من غير مجاوزة،
وليس في التوكيل مجاوزة
(والثاني) أن الموكل يسكن في عمله إلى أمانة وكيله فلم يجز أن يوكل من لم
يسكن الموكل إلى أمانته كالوديعة التي لا يجوز للمودع أن يودعها عند غيره، لان
المالك لم يرض الا بأمانته. فأما استدلاله بأن هذا أقامه مقام نفسه فلعمري أنه
118

كذلك في فعل ما وكل فيه لا في غيره، ألا ترى أنه لا يجوز أن يهب ولا يبرئ
وإن كان للموكل أن يهب ويبرئ لأنه لم يأذن له فيه، فكذلك في التوكيل.
وأما الجواب عن قولهم بأن الغرض حصول العمل فهو كذلك لكن قد خصه
به وارتضى أمانته، كمن استأجر أجيرا بعينه لعمل لم يكن له أن يستأجر غيره
في عمله، لان قصد المستأجر إنما هو حصول العمل من جهة الأجير وفعله
لا بفعل غيره. كذلك ها هنا.
قلت: ولكلام المصنف هنا دلالته على ما يترتب على مخالفة الاذن ومجاوزته
من أحكام، فمثلا إذا أذن الموكل للوكيل بالبيع في زمان فباع قبله فترتب على
بيعه قبله نقص ثمنه عن مثله في الزمن المحدد لنقص في السن أو الوزن أو الصفة
كان ذلك من ضمان الوكيل. وكذلك إذا باعه بعد الزمان الذي أذن له فيه فترتب
على ذلك ما ذكرنا كان من ضمانه.
وكذلك إذا أذن له في مكان لمصلحة يراها الموكل لكثرة الطالبين للسلعة في
ذلك المكان أو لكثرة الثمن أو جودة النقد فلا يملك الوكيل مخالفة مضمون
الاذن، فإذا كان الثمن في كل هذه الأحوال التي خالف فيها متفقا مع الزمن
المطلوب أو المكان المطلوب بحيث لا يفوت الموكل شئ من الفائدة فهل يجوز
للوكيل مخالفة الاذن؟ فيه وجهان (أحدهما) يجوز له ذلك، لان المقصود فيها
واحد (والثاني) لا يجوز، لان الموكل أعرف بما هو الاحظ له وعلى الوكيل
الامتثال لأمر الموكل
قال الماوردي في الحاوي: أن يكون الشرط الذي شرطه الموكل في بيع
وكيله يصح معه العقد ولا يبطل به البيع، فعلى الوكيل أن يعقد البيع على الشرط
المأذون فيه ولا يتجاوزه الا أن يكون الشرط بالمجاوزة موجودا مع زيادة فصح
البيع حينئذ على ما سنشرحه ولا تكون الزيادة مانعة من صحته. فأما اذنه في بيعه
على رجل بعينه فلازم ولا يجوز للوكيل أن يعدل إلى بيعه على غيره لأنه المقصود
بالتمليك فلم يصح عدول الوكيل عنه كالهبة، فعلى هذا لو مات ذلك الرجل بطلت
الوكالة بالبيع. ولم يجز للوكيل أن يبيعه على وارثه ولا على غير وارثه.
119

ولو كان حيا وامتنع من ابتياعه لم تبطل الوكالة لجواز أن يرغب فيه من بعد،
وأما إذنه ببيعه في زمان بعينه فلازم، ولا يجوز للوكيل أن يبيعه قبل ذلك الزمان
ولا بعده، أما قبله فلان وقت الاذن لم يأت، وأما بعده فلبطلان الوكالة بالفوات
وقد يكون للانسان غرض صحيح في استيفاء ملكه إلى زمان بعينه.
فأما إذنه في مكان بعينه - فإن كان فيه غرض صحيح لاختلاف الأسعار
باختلاف الأماكن أو جودة النقود وهو شرط لازم فلا يجوز للوكيل أن يبيعه
في غير ذلك المكان، فان فعل وسلمه فالبيع باطل وهو بالتسليم ضامن، فإن لم
يكن في ذلك المكان غرض صحيح، ولا معنى مستفاد نظر في صفة إذنه، فإن كان
قال: لا تبيعوا إلا في مكان كذا أو في سوق كذا لزم، وكان بيع الوكيل في غير
ذلك المكان باطلا لصريح النهى عنه.
وإن قال: بعه في سوق كذا أو في مكان كذا، ولم يصرح بالنهي عما سواه ففي
لزوم اشتراطه وجهان.
(أحدهما) أنه شرط لازم لا يجوز للوكيل أن يبيعه في غيره، لأنه أملك
بأحوال إذنه.
(والوجه الثاني) أنه شرط غير لازم لفساد الغرض المقصود به، والأول
أشبه والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وكله في البيع من رجل لم يجز أن يبيع من غيره، لأنه قد
يؤثر تمليكه دون غيره، فلا يكون الاذن في البيع منه إذنا في البيع من غيره،
وان قال خذ مالي من فلان فمات لم يجز أن يأخذ من ورثته، لأنه قد لا يرضى أن
يكون ماله عنده، ويرضى أن يكون عند ورثته، فلا يكون الاذن في الاخذ منه
إذنا في الاخذ من ورثته، وإن قال: خذ مالي على فلان فمات، جاز أن يأخذ من
ورثته، لأنه قصد أخذ ماله، وذلك يتناول الاخذ منه، ومن ورثته، وان وكل
العدل في بيع الرهن فأتلفه رجل، فأخذت منه القيمة لم يجز له بيع القيمة، لان
الاذن لم يتناول بيع القيمة.
120

(الشرح) الأحكام: فأما إذنه على رجل بعينه فلازم، لأنه المقصود بالتمليك
فلم يصح عدول الوكيل عنه كما أوضح ذلك الماوردي فيما نقلناه في الفصل قبله، وأما
إذا قال الموكل لوكيله: قد وكلتك في استيفاء مالي (على) زيد فمات زيد جاز
للوكيل أن يستوفيه من وارثه، فإذا قال الموكل لوكيله: قد وكلتك في استيفاء
مالي (من) زيد فمات زيد لم يجز للوكيل أن يستوفيه من وارثه، والفرق بينهما
أن الامر باستيفائه من زيد في الأول متوجه إلى المال فجاز أن يستوفيه من ورثته
والامر باستيفائه من زيد في الثاني متوجه إلى زيد أن يكون هو المستوفى منه، فلم
يجز أن يستوفيه من غيره.
فإذا وكل العدل لأمانته وصدقه في بيع الرهن فأتلفه غيره فأخذت القيمة من
المتلف فلا يجوز له أن يبيع القيمة ليحصل على الثمن لرده إلى الموكل، لان الاذن
لا يتضمن بيع القيمة، وإنما كان قاصرا على بيع الرهن وليست القيمة عين الرهن
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وكل في بيع فاسد لم يملك الفاسد، لان الشرع لم يأذن فيه،
ولا يملك الصحيح، لان الموكل لم يأذن فيه.
(الشرح) الأحكام: إذا وكله في بيع فاسد كبيع الخمر أو الكلب أو الخنزير
أو بيع حر أو بيع مالا يملك كالمغصوب أن بيع الثمر قبل بدو صلاحه أو البيع بغير
جنس الأثمان، أو بيع مباح بمحرم أو باع بمالا يتغابن الناس بمثله على ما سيأتي
تفصيله أو أعطاه دراهم ليسلم فيما لا يجوز السلم فيه كاللحم والثياب على ما مضى
في كتاب السلم وكتاب البيوع بطلت الوكالة لان الشرع لم يأذن فيه للموكل فكان
الحظر على الوكيل، وما كان محظورا على الوكيل لنفسه كان محظورا عليه نيابة
لغيره، فإذا استبدل المبيع المحرم بمباح أو أبدل المسلم فيه بمجاز السلم فيه لم يملك
ذلك من قبل أنه لم يأذن له الموكل في ذلك، لان مقتضى الوكالة في الاذن في
البيع الفاسد فلم يصح العدول عن الفاسد إلى الصحيح كما لم يصح نفاذ الوكالة في
الفاسد من جهة الشرع والله أعلم.
121

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان وكل في بيع سلعة لم يملك بيعها من نفسه من غير اذن،
لان العرف في البيع أن يوجب لغيره فحمل الوكالة عليه، ولان اذن الموكل
يقتضى البيع ممن يستقصى في الثمن عليه، وفى البيع من نفسه لا يستقصى في
الثمن، فلم يدخل في الاذن، وهل يملك البيع من ابنه أو مكاتبه؟ فيه وجهان.
(أحدهما) يملك، وهو قول أبي سعيد الإصطخري، لأنه يجوز أن يبيع
منه ماله، فجاز له أن يبيع منه مال موكله كالأجنبي.
(والثاني) لا يجوز، وهو قول أبي إسحاق، لأنه متهم في الميل إليهما كما يتهم
في الميل إلى نفسه، ولهذا لا تقبل شهادته لهما، كما لا تقبل شهادته لنفسه، فان
أذن له في البيع من نفسه، ففيه وجهان.
أحدهما: يجوز كما يجوز أن يوكل المرأة في طلاقها.
والثاني: لا يجوز، وهو المنصوص لأنه يجتمع في عقده غرضان متضادان
الاستقصاء للموكل، والاسترخاص لنفسه فتمانعا، ويخالف الطلاق، فإنه يصح
بالزوج وحده، فصح بمن يوكله، والبيع لا يصح بالبائع وحده، فلم يصح بمن
يوكله، وان وكل رجلا في بيع عبده ووكله آخر في شرائه لم يصح، لأنه عقد
واحد يجتمع فيه غرضان متضادان، فلم يصح التوكيل فيه كالبيع من نفسه.
وان وكله في خصومة رجل ووكله الرجل في خصومته، ففيه وجهان.
أحدهما: لا يصح لأنه توكيل في أمر يجتمع فيه غرضان متضادان، فلم يصح،
كما لو وكله أحدهما في بيع عبده ووكله آخر في شرائه. والثاني: يصح، لأنه
لا يتهم في إقامة الحجة لكل واحد منهما مع حضور الحاكم فان وكل عبد الرجل
ليشترى له نفسه أو عبدا غيره من مولاه، ففيه وجهان.
(أحدهما) يجوز، لأنه لما جاز توكيله في الشراء من غير مولاه جاز توكيله
في الشراء من مولاه (والثاني) لا يجوز، لان يد العبد كيد المولى، ولهذا يحكم
له بما في يد العبد كما يحكم له بما في يده. ثم لو وكل المولى في الشراء من نفسه
لم يجز فكذلك إذا وكل العبد.
122

(الشرح) الأحكام: إذا وكله في بيعها لا يجوز له أن يبيعها من نفسه، فان
أذن له كان بيعا، فان وقع حين التسليم وعقد الوكالة كان بيعا ولا عبرة بالوكالة
ولان العرف في البيع وأيضا أحكام الشريعة في البيع تقوم على الايجاب،
والايجاب هو أن يوجب لغيره، ولان اذن البيع يقتضى من الوكيل أن يبيع
بما هو الاحظ في الثمن من حيث استقصاء الثمن بغير محاباة، فلو باع من نفسه
فإنه ربما تغاضى عن مراعاة هذا الاعتبار بمحاباة نفسه، ولم يدخل في الاذن.
ودليلنا أن كل ما عقده الوكيل للموكل اقتضى وقوع الملك بالعقد للموكل
كالنكاح، ولان كل من ناب في العقد عن غيره وقع الملك به للمعقود له دون
عاقده قياسا على ولى اليتيم وأب الطفل، ولأنه لما كان الوكيل في البيع لا يملك
الثمن ويكون الثمن بالعقد ملكا للموكل وجب أن يكون الوكيل في الشراء لا يملك
الثمن ويكون الملك بالعقد واقعا للموكل
وأما الجواب عن استدلالهم بالشفعة فمنتقض بولي اليتيم وأب الطفل، ثم
المعنى في الشفيع أنه يملك المبيع بالشفعة دون العقد. وأما الجواب عن استدلالهم
بالثمن فسيذكر من شرح المذهب فيه ما يكون انفصالا عنه. وأما الجواب عن
استدلالهم بأن تمام العقد لمتعاقدين فكذا موجبه من الملك يكون واقعا بالمتعاقدين
فهو أنه منتقض بالحاكم وولى اليتيم وأب الطفل وبعقد النكاح، وليس لهم
استدلال في المسألة يسلم من الكسر.
(فرع) قال في الحاوي: قال المزني: أعلم للوكيل والوصي أن يشترى من
نفسه. اعلم أن النيابة في البيع والشراء قد يكون من أربعة أوجه، أحدها من جهة
النسب، وهي الأب والجد على ابنه الطفل، والثاني من جهة الحكم، وهي للحاكم
أو أمينه على المولى عليه لصغر أو سفه. والثالث من جهة الوصية، وهي وصاية
الأب والجد وغيرهما على الطفل ممن تصح وصايته. والرابع من جهة الوكالة،
وهو الوكيل الرشيد، فاختلف الفقهاء هل لهم ولاية أن يبيعوا على أنفسهم مالهم
بيعه، ويشتروا من أنفسهم ما لهم شراؤه؟ على أربعة مذاهب (أحدها) وهو
مذهب مالك والأوزاعي أنه يجوز لجميعهم أن يبيعوا على أنفسهم ويشتروا
من أنفسهم.
123

والمذهب الثاني، وهو قول زفر بن الهذيل: أنه لا يجوز لجميعهم أن يبيعوا
على أنفسهم ولا أن يشتروا من أنفسهم
والمذهب الثالث، وهو قول أبي حنيفة: أنه يجوز ذلك لجميعهم إلا الوكيل
وحده. والمذهب الرابع، وهو مذهب الشافعي: أنه لا يجوز ذلك لجميعهم إلا
الأب وحده والجد مثله
واستدل من ذهب إلى جوازه لجميعهم بأن المقصود في البيع حصول الثمن
وفى الشراء حصول المشترى. ولذلك لم يلزم ذكر من له البيع والشراء بخلاف
النكاح، فلم يقع الفرق بين حصول الثمن من النائب وغيره لحصول المقصود في
الحالين، وقياسا على الأب أن كل من جاز له بيعه على نفسه كالأب
واستدل من منع جوازه لجميعهم بأن الانسان مجبول على تغليب حظ نفسه
على حظ غيره، والنائب مندوب إلى طلب الحظ المستبين فإن باع نفسه انصرف
بجبلة الطبع إلى حظ نفسه، فصار المقصود بالنيابة معدوما فلم يجز، وقياسا على
الوكيل لأنه نائب في العقد عن غيره فلم يجز أن يعقد مع نفسه
واستدل من منع منه للوكيل وحده، وأجاز لمن سواه بأن نيابة الوكيل غير
جائز الامر فكان مأذونا له من غير ولاية فصار أنقص حالا من ذي الولاية.
فجاز للولي مبايعة نفسه لقوة سببه كالأب، ولم يجز لغير ذي الولاية كالوكيل
مبايعة نفسه لضعف سببه كالأجنبي
ودليلنا أن غير الأب لا يجوز له مبايعة نفسه، ما روى أن رجلا أوصى إلى
رجل بوصية فأراد الوصي بيع فرس من التركة على نفسه، فسأل عبد الله بن
مسعود عن جوازه فقال لا. وليس نعرف له مخالفا في الصحابة ولا جبلة الطبع
تصرفه عن حظ غيره إلى حظ نفسه، ولان كل من كانت ولايته لغيره لم يكن له
مبايعة نفسه كالوكيل
ودليلنا على أن الأب يجوز له مبايعة نفسه هو أن الأب مجبول بحيوية الأبوة
وشدة الميل والمحبة على طلب الحظ لولده والايثار على نفسه والاستكثار لولده
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: الولد مجبنة مبخلة مجهلة، فانتفت التهمة عنه
في مبايعة نفسه. وهذا المعنى مفقود فيمن عداه، فصار هذا الحكم لاختصاصه
124

بمعناه مقصورا عليه منتفيا عما سواه. وهذا دليل وانفصال، فلو وكل الابن البالغ أباه
في بيع سلعة، فاختلف أصحابنا هل يجوز له بيعها على نفسه أم لا؟ على وجهين:
(أحدهما) يجوز كما لو كان في حجره تغليبا لحكم الأبوة (والثاني) لا يجوز، لان
ارتفاع الحجر يقتضى تغليب الوكالة.
(فرع) فأما الوصي والوكيل إذا أراد بيعها لمتولاه بالوصية والوكالة، على
ابن نفسه أو على أب نفسه ففيه لأصحابنا وجهان (أحدهما) وهو قول أبي سعيد
الإصطخري: أنه يجوز لأنه غير مبايع لنفسه
(والوجه الثاني) وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه لا يجوز لأنه مقهور في
الميل إلى ولده كما كان مقهورا في الميل إلى نفسه. ولذلك لم يجز أن يشهد لولده،
كما لا يصح منه الشهادة لنفسه فلم يجز مبايعة ولده بمال غيره، كما لم يجز مبايعة نفسه
أو يشترى من نفسه، فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنه غير جائز لما فيه تنافى
المقصود والغرض من الوكالة
قال الماوردي: لان عقد الوكالة قد أوجب عليه الاستقصاء لموكله، وإذا
كان هو المشترى انصرف منه إلى الاستقصاء لنفسه. وقال ابن سريج: يجوز
ذلك كما يجوز أن يجعل إلى زوجته الطلاق لنفسها أو إلى أمته عتقها
قال الماوردي: وهذا خطأ لما ذكرنا في الفرق بين البيع والطلاق والعتق
من ثلاثة أوجه (أحدها) أن في البيع ثمنا يختلف بالزيادة والنقصان، فصار
بالميل إلى نفسه متهما فيه، وليس في الطلاق والعتق لمن تصير بالميل إلى نفسها
متهمة فيه (والثاني) أن العتق والطلاق أوسع لوقوعهما بالصفات، والبيع
أضيق حكما منهما.
(والثالث) أنه ليس في الطلاق والعتق قبول معتبر. وفى البيع قبول معتبر
فلم يجز أن يكون الباذل قابلا.
فأما إذا وكله رجل في بيع سيارته ووكله آخر في شراء السيارة الموكل في
بيعها لم يجز لتنافي المقصود في العقدين، وكان له أن يقيم على إحدى الوكالتين،
فإن أراد أن يقيم على أسبقهما في بيع أو شراء جاز، وإن أراد أن يقيم على الثانية
فيهما بيعا كان أو شراء احتمل وجهين، لان ثبوت الأولة يمنع من جواز الثانية
125

والوجه الثاني: يجوز، لان الوكالة لا تلزم، فلم يكن للمتقدمة منهما تأثير،
وتبطل بقبول الثانية. ومثل ذلك يقال في التوكل في الخصومة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وكل في شراء سلعة موصوفة لم يجز أن يشترى معيبا لان
إطلاق البيع يقتضى السلامة من العيب، ولهذا لو اشترى عينا فوجد بها عيبا
ثبت له الرد، فإن اشترى معيبا نظرت، فإن اشتراه وهو يعلم أنه معيب لم يصح
الشراء للموكل، لأنه اشترى له ما لم يأذن فيه، فلم يصح له، وإن اشتراه وهو
لا يعلم أنه معيب ثم علم لم يخل إما أن يرضى به أو لا يرضى، فإن لم يرض به
نظرت، فان علم الموكل ورضى به لم يجز للوكيل رده، لان الرد لحقه وقد رضى
به فسقط. وإن لم يعلم الموكل ثبت للوكيل الرد، لأنه ظلامة حصلت بعقده
فجاز له رفعها كما لو اشترى لنفسه
فإن قال له البائع: أخر الرد حتى تشاور الموكل، فإن لم يرض قبلته لم يلزمه
التأخير، لأنه حق تعجل له فلم يلزمه تأخيره، وإن قبل منه وأخره بهذا الشرط
فهل يسقط حقه من الرد، فيه وجهان:
(أحدهما) يسقط لأنه ترك الرد مع القدرة
(والثاني) لا يسقط لأنه لم يرض بالعيب، فان ادعى البائع أن الموكل علم
بالعيب ورضى به فالقول قول الوكيل مع يمينه، لان الأصل عدم الرضا، فان
رضى الوكيل بالعيب سقط خياره، فان حضر الموكل ورضى بالعيب استقر العقد
وإن اختار الرد نظرت فإن كان قد سماه الوكيل في الابتياع أو نواه وصدقه البائع
جاز أن يرده، لأن الشراء له وهو لم يرض بالعيب، وإنما رضى وكيله فلا
يسقط حقه من الرد، وإن لم يسمه الوكيل في الابتياع ولا صدقه البائع أنه نواه
فالمنصوص أن السلعة تلزم الوكيل، لأنه ابتاع في الذمة للموكل ما لم يأذن فيه له
ومن أصحابنا من قال يلزم الموكل، لأن العقد وقع له وقد تعذر الرد بتفريط
الوكيل في ترك الرد، ويرجع الموكل على الوكيل بنقصان العيب، لان الوكيل
صار كالمستهلك له بتفريطه
126

وفى الذي يرجع به وجهان (أحدهما) وهو قول أبى يحيى البلخي: أنه يرجع
بما نقص من قيمته معيبا عن الثمن، فإن كان الثمن مائة وقيمة السلعة مائة لم يرجع
بشئ، وإن كان الثمن مائة وقيمة السلعة تسعين رجع بعشرة، كما نقول في شاهدين
شهدا على رجل أنه باع سلعة بمائة، فأخذت منه ووزن له المشترى الثمن، ثم رجع
الشهود عن الشهادة فإن الحكم لا ينقض ويرجع البائع على الشهود بما نقص من
القيمة عن الثمن، فإن كان الثمن والقيمة سواء لم يرجع عليهم بشئ، وإن كانت
القيمة مائة والثمن تسعون رجع بعشرة
(والثاني) أنه يرجع بأرش العيب، وهو الصحيح، لأنه عيب فات الرد به
من غير رضاه فوجب الرجوع بالأرش. وإن وكل في شراء سلعة بعينها فاشتراها
ووجد بها عيبا فهل له أن يرد من غير إذن الموكل؟ فيه وجهان
(أحدهما) له أن يرد، لان البيع يقتضى السلامة من العيب ولم يسلم من
العيب فثبت له الرد كما لو وكل في شراء سلعة موصوفة فوجد بها عيبا فعلى هذا
يكون حكمه في الرد على ما ذكرناه في السلعة الموصوفة
(والثاني) لا يرد من غير إذن الموكل لأنه قطع نظره واجتهاده بالتعيين.
(الشرح) قال المزني رحمه الله تعالى: ولو وكله بشراء سلعة فأصاب بها عيبا
كان له الرد بالعيب. وليس عليه أن يحلف: ما رضى به الآمر، فهذا قول
الشافعي ومعناه. اه‍
قال الماوردي في الحاوي: أعلم أن للموكل إذا أمر وكيله بشراء شئ فعلى
حالين (أحدهما) أن يعينه (والثاني) أن يصفه ولا يعينه، فإن وصفه ولم يعينه
لزمه أن يشتريه سليما من العيوب لان إطلاق الصفة يقتضيه، ويجوز للعامل في
القراض أن يشترى السليم والمعيب، والفرق بينهما أن يشترى الوكيل للقنيه،
وليس في المعيب صلاح للمقتنى، وشراء العامل في القراض طلبا للربح، وقد
يوجد الربح في المعيب كوجوده في السليم
فإن اشترى الوكيل شيئا على الصفة وكان معيبا فعلى ضربين (أحدهما) أن
127

يشتريه عالما بعيبه فالشراء غير لازم للموكل لاقدامه على ابتياع ما لم يقتضه الاذن
وهو لازم للوكيل على ما تقدم من اعتبار صفة الاذن
والضرب الثاني: أن يشتريه غير عالم بعيبه فللوكيل إذا علم بعيبه أن يبادر
إلى رده ولا يلزمه استئذان موكله، لان رد المعيب من حقوق عقده. فلو قال
له البائع: قد أمهلتك في رده فطالع موكلك بعيبه لم يلزمه المطالعة وكان له تعجيل
الرد لما ذكرنا، فإن رده ثم جاء الموكل راضيا بعيبه لم يكن لرضاه بعد ذلك تأثير
لفسخ البيع بالرد قبل الرضى
ولو رضى بعيب قبل رد الوكيل لزم البيع ولم يكن للوكيل الرد، ولو رضى
رب المال في القراض بعيب المشترى كان للعامل أن يرده بخلاف الوكيل والفرق
بينهما أن للعامل في القراض شرك في الربح. وليس للوكيل فيه شرك
فإن ادعى البائع على الوكيل حين أراد الرد أن موكله راض بالعيب فلا يمين
له على الوكيل، فان ادعى عليه أنه قد علم برضى موكله بالعيب وكان عليه أن يحلف
أنه ما علم برضى موكله بالعيب، وله الرد واسترجاع الثمن. ثم للبائع إذا أراد
الثمن على الوكيل وظفر بالموكل أن يحلفه بالله أيضا ما رضى بعيب المشترى
الذي ابتاعه موكله قبل رده، فان نكل عن اليمين حلف البائع وحكم له بلزوم البيع
واستحقاق الثمن، وهذا حكم الوكيل إذا رد بالعيب والله أعلم
فأما إن رضى الوكيل بالعيب نظر في الموكل، فان رضى بالعيب كان الشراء
لازما له، وإن لم يرض بالعيب نظر في عقد البائع فإن كان قد سمى موكله فيه
فله الرد، لان مالك المشترى لا يلتزم عيبا لم يرض به، وإن لم يسم الموكل
في عقده نظر في البائع، فان صدق المبيع أن عقد الشراء لموكله كان له الرد،
وإن لم يصدقه حلف له، ولا رد للوكيل على البائع لما تقدم من رضاه
وفى كيفية رجوع الموكل به وجهان:
(أحدهما) وهو قول أبى يحيى البلخي: أنه يرجع عليه بقدر النقص من ثمنه
فأما إن كان يساوى معيبا بمثل ما اشتراه فلا شئ له على الوكيل لعدم النقص
في الثمن استشهادا بأن من ادعى بيع سيارته بمائة على رجل وأنكر، وأقام
المدعى بينة بالبيع فحكم له بالثمن ثم رجع الشهود، فإن كان ثمن السيارة مائة
128

فلا غرم على الشهود، وإن كان ثمنها أقل من مائة غرم الشهود برجوعهم قدر
النقص من ثمنها.
والوجه الثاني، وهو قول جمهور أصحابنا: أنه يرجع على الوكيل بأرش
العيب سواء كان يساوى قدر ثمنه معيبا أم لا، لان العيب إذا فات معه الرد كان
مقدرا بالأرش، وإن لم يكن معتبرا بنقص الثمن، وليس كالذي استشهد به من
رجوع الشهود، لان غارم الثمن بشهادتهم إنما يستحق الرجوع بما غرم، فإذا
وصل إليه من الثمن لم يبق له حق بغرمه، فهذا حكم التوكيل في شراء سيارة
موصوفة، فأما إذا كانت السيارة معيبة فهل للوكيل عند ظهور العيب أن يردها
قبل استئذان موكله أم لا؟
على وجهين (أحدهما) وهو قول جمهور أصحابنا لا رد له إلا بعد استئذان
موكله فيها، لأنه بالتعيين فيها قد قطع اجتهاده فيها، ولعله قد أمره بشرائها مع
علمه بعيبها.
والوجه الثاني وهو قول أبى حامد الأسفراييني: له الرد من غير استئذان،
لان الرد من حقوق عقده، ولأنها لا تكون مأخوذة به إن لم يرض الموكل
بعيبها هذا والله الموفق للصواب.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وكل في بيع عبد أو شراء عبد لم يجز أن يعقد على بعضه،
لان العرف في بيع العبد وشرائه أن يعقد على جميعه، فحمل الوكالة عليه، ولان
في تبعيضه إضرارا بالموكل فلم يملك من غير إذن، وإن وكل في شراء أعبد أو بيع
أعبد جاز أن يعقد على واحد واحد، لان العرف في العبيد أن تباع وتشترى
واحدا واحدا، ولأنه لا ضرر في إفراد بعضهم عن بعض، وإن وكله أن
يشترى له عشرة اعبد صفقة واحدة فابتاع عشرة أعبد من اثنين صفقة واحدة،
ففيه وجهان، قال أبو العباس: يلزم الموكل، لأنه اشتراهم صفقة واحدة، ومن
أصحابنا من قال: لا يلزم الموكل، لان عقد الواحد مع الاثنين عقدان
(فصل) ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بغير نقد البلد من غير إذن،
129

ولا للوكيل في الشراء أن يشترى بغير نقد البلد من غير إذن، لان إطلاق البيع
يقتضى نقد البلد، ولهذا لو قال: بعتك بعشرة دراهم حمل على نقد البلد، وإن
كان في البلد نقدان باع بالغالب منهما، لان نقد البلد هو الغالب، فإن استويا في
المعاملة باع بما هو أنفع للموكل، لأنه مأمور بالنصح له، ومن النصح أن يبيع
بالأنفع، فان استويا باع بما شاء منهما لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر فخير بينهما
وإن أذن له في العقد بنقد لم يجز أن يعقد بنقد آخر، لان الاذن في جنس ليس
بإذن في جنس آخر، ولهذا لو أذن له في شراء عبد لم يجز أن يشترى جارية،
ولو أذن له في شراء حمار لم يجز أن يشترى فرسا.
(الشرح) الأحكام: إذا وكله في بيع الشئ جميعه لأنه لا يتجزأ، أو يتجزأ
ولكن الاذن منعقد على أن يباع صفقة واحدة، فلبس له أن يبيع بعضه، فان
قال له: بع هذه السيارة بمائة، فباع نصفها بسبعين، فان هذا البيع لا يلزم
الموكل، لأنه لا يأمن أن يبيع الباقي بثلاثين
فإن قال له: بع هذه السيارة بمائة، فباع نصفها بمائة جاز، لأنه زاد خيرا
وأتى بالغرض للموكل من الحصول على المائة، وزيادة ملكيته لنصف السيارة،
وليس عليه ضير من هذه التجزئة. وكذلك توكيله في بيع شيئين بمائه فباع
أحدهما بمائه. وبهذا قال أحمد والشافعي ومحمد وأبو يوسف
وقال أبو حنيفة: يجوز أن يبيع بعض الموكل فيه بأي ثمن إذا كان التوكيل
مطلقا بناء على أصله في أن للوكيل المطلق البيع بما شاء. أما الشراء فإذا وكله في
شراء طن من الورق فاشتراه رزمه رزمه، فإذا كان ثمنه ثمن الطن مرة واحدة
جاز إذا لم يختلف بعضها عن بعض نوعا أو وزنا أو لونا أو ملمسا، وعند أحمد
لا يصح لعدم الإذن
والذي يدور عليه مفهوم الوكالة هو اذن الموكل أولا، وتوخى الأنفع أو
الاحظ له ثانيا، ومراعاة أن يكون النقد الذي يبيع به نقدا محليا، حتى لا يشق
على الموكل الانتفاع به أو الحصول على نقد معتبر متداول معروف، فقد تتفق
بعض النقود في الأسماء ولكنما تختلف من حيث القيمة وجهة الاصدار،
130

والمعتبر هو نقد بلد البيع وليس بلد التوكيل، فقد تعقد الوكالة في بلد والمراد
بيعه في بلد آخر فيكون البيع بنقد البلد الذي جرى فيه البيع، وذلك لمعرفة أهل
البلد بنقدهم، وتقويمهم المبيع بنقدهم يمنع وقوعهم في الغرر.
قال الماوردي: لما لم يصح من الوكيل أن يشترى بغير نقد البلد لم يصح من
الوكيل في البيع أن يبيع بغير نقد البلد، وتحريره أنه عقد معاوضة بوكالة مطلقة
فوجب أن لا يصح بغير نقد البلد قياسا على الشراء، أو لان كل جنس لا يجوز
للوكيل أن يبتاع به لم يجز للوكيل أن يبيع به قياسا على البيع بغير جنس الأثمان
وبالمحرمات، فعلى هذا لو كان غالب نقد البلد ذهبا لم يبعه بالفضة، ولو كان كلا
النقدين سواء وليس أحدهما غالبا لزم الوكيل ببيعها بأحظها للموكل، فان استويا
كان حينئذ مخيرا في بيعه بأيهما شاء، فان باعه بكلا النقدين فإن كان في عقدين صحا
جميعا إذا كان مما يجوز تفريق الصفقة في بيعه، وإن كان في عقد واحد فعلى وجهين
أحدهما: يجوز الجمع بين النقدين كما جاز إفراد كل واحد من النقدين.
والثاني: لا يجوز، لان غالب البياعات يتناول جنسا واحدا من الأثمان فلم
يجز أن يعدل إلى غالبها، وبالله التوفيق
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان دفع إليه ألفا وقال اشتر بعينها عبدا، فاشترى في ذمته لم يصح
الشراء للموكل لأنه لم يرض بالتزام غير الألف، فإذا ابتاع بألف في الذمة فقد
ألزمه في ذمته ألفا لم يرض بالتزامها فلم يلزمه. وان قال اشتر لي في الذمة وانقد
الألف فيه، فابتاع بعينها ففيه وجهان، أحدهما أن البيع باطل، لأنه أمره بعقد
لا ينفسخ بتلف الألف فعقد عقدا ينفسخ بتلف الألف، وذلك لم يأذن فيه ولم
يرض به. والثاني أنه يصح لأنه أمره بعقد يلزمه الثمن مع بقاء الألف ومع تلفها
وقد عقد عقدا يلزمه الثمن مع بقائها ولا يلزمه مع تلفها فزاده بذلك خيرا، وان
دفع إليه ألفا وقال اشتر عبدا ولم يقل بعينها، ففيه وجهان. أحدهما أن مقتضاه
الشراء بعينها لأنه لما دفع إليه الألف دل على أنه قصد الشراء بها، فعلى هذا إذا اشترى في
ذمته لم يصح الشراء. والثاني أنه لا يقتضى الشراء بعينها لان الامر مطلق، فعلى هذا يجوز
أن يشترى بعينها، ويجوز أن يشترى في الذمة وينقد الألف فيه.
131

(الشرح) الأحكام: إذا أذن له في الشراء بالنقد فاشترى بالنسيئة، فهذا على
ضربين (أحدهما) أن يعين له الثمن الذي يشترى به، فالشراء غير لازم للموكل
لأنه إذا اشترى بغير العين كان مخالفا ولزم الوكيل، وإن اشترى بالعين إلى أجل
كان باطلا، ولم يلزم الموكل ولا الوكيل، وبهذا قال أحمد.
(والضرب الثاني) أن لا يعين له الذي يشترى به فهذا على ضربين (أحدهما)
أن يشتريه نسئا بما يساوى ثمنه نقدا أو بأقل من ثمن النساء، فمذهب الشافعي
وأحمد رضي الله عنهما أن الشراء لازم للموكل، لأنه قد حصل له غرضه في
استصلاح مع تعجيل الثمن، ومن أصحابنا من قال: الشراء غير لازم للموكل
لمخالفته، وبقاء الثمن في ذمته، وهو قول من زعم أن الوكيل في بيع النساء
لا يجوز بيعه نقدا.
(والثاني) أن يشتريه بما يساوى نسئا وبأكثر مما يساوى نقدا، فالشراء غير
لازم للموكل لما فيه من التزام فعل النساء والشراء لازم للوكيل إن لم يذكر اسم
موكله، وإن ذكره فعلى وجهين.
أحدهما باطل، والثاني لازم للوكيل. أما إذا أذن له في الشراء بالنسيئة فاشترى
بالنقد فالشراء غير لازم للموكل لا يختلف مذهب الشافعي وسائر أصحابه سواء اشتراه
بما يساوى نقدا أو نسئا لما فيه من التزامه التعجيل بما لم يأذن به.
وهكذا لو أذن له أن يشتريه إلى أجل فاشتراه إلى أجل هو أقرب لم يلزم الموكل
ولو اشتراه إلى أجل هو أبعد كان حكمه للوكيل حكمه في النقد إذا اشترى بالنساء
فيكون لازما للموكل. قال الماوردي: وهذا على مذهب الشافعي رضي الله عنه
وعلى مذهب بعض أصحابه غير لازم.
(فرع) إذا دفع الموكل إلى وكيله ليشترى له به سيارة فهذا على ثلاثة أقسام
أحدها: أن يأمره أن يشترى بعين المال سيارة فوجب على الوكيل أن يشترى
بعين مال موكله، فان اشتراه في ذمته لم يلزم الموكل، وكان الشراء
لازما للوكيل.
وقال أبو حنيفة: الوكيل بالخيار بين أن يشترى الشئ بعين المال وبين أن
132

يشتريه في ذمته، وهو في كلا الحالين لازم للموكل، وبنى ذلك على أصله: أن
الدراهم والدنانير لا يتعينان عنده. قال الماوردي: وهذا خطأ لتعين الدراهم
والدنانير عندنا في العقود كما يتعين في الغصوب، وقد دللنا على ذلك في كتاب
البيوع، ولان يد الوكيل كيد المودع، ومال الوديعة متعين وكذا ما بيد الوكيل
متعين، وإذا تعين ما بيده لموكله حتى لا يجوز أن يرد عليه غير ماله، وجب
أن يكون الشراء محمولا على موجب اذنه.
والقسم الثاني: أن يأمره أن يشترى في ذمته وينقد المال في ثمنه، فان اشتراه
في الذمة صح وكان لازما للموكل، وان اشتراه بعين المال ففيه وجهان: أحدهما
وهو قول أبى على الطبري ذكره في افصاحه أن الشراء جائز، وهو للموكل لازم
لأن العقد على المعين أحوط.
والوجه الثاني وهو اختيار أبى حامد الأسفراييني: أن الشراء باطل لا يلزم
الوكيل لأنه غير مالك للعين، فلا يلزم الموكل، لان الموكل قد فوت عليه
بالمخالفة غرضا، لأن العقد في الذمة لا يبطل بتلف الثمن، والعقد على العين
يبطل بتلف الثمن. فصار فعل الوكيل مخالفا لأمر الموكل، فلو امتثل الوكيل أمر
موكله أو اشترى السيارة بثمن في ذمته ثم نقد الثمن من عنده، برئ الوكيل
والموكل منه، ولم يكن للوكيل أن يرجع على الموكل لان أمره بنقد هذا المال في
الثمن يتضمن نهيا عن نقده من غيره.
والقسم الثالث: أن يطلق الاذن في الشراء عند دفع المال فيقول: خذ هذا
المال فاشتر لي به سيارة فقد اختلف أصحابنا هل يكون اطلاقه مقتضيا للتعيين
أم لا؟ على وجهين.
أحدهما - وهو قول أبى على الطبري: أنه يقتضيه لان تقديم الثمن على
السيارة شاهد فيه، فعلى هذا ان اشترى في ذمته كان الشراء لازما للوكيل دون
الموكل، والوجه الثاني - وهو قول بعض البصريين: انه لا يقتضى التعيين،
لان الاطلاق على العموم، فعلى هذا يكون الوكيل مخيرا بين العقد على العين أو في
الذمة، ومذهب أحمد في هذا كله كنحو مذهبنا.
133

فإذا تقرر ما أوضحنا فصورة مسألة الكتاب في رجل دفع إلى رجل مالا
ليشترى له به طعاما فتسلف المال قرضا ثم اشترى له بمثله من ماله طعاما فالشراء
غير لازم للموكل سواء كان الموكل قد أذن في الشراء بعين المال أو في الذمة.
وقال أبو حنيفة: الشراء لازم للموكل سواء كان الاذن بالعين أو في الذمة
وهذا خطأ لان الوكالة بتلف المال أو استهلاكه باطلة لانعقاد بقائه، فإذا بطلت
الوكالة وانعزل الوكيل فعقده لازم لنفسه دون موكله، فلو أن الوكيل لم يستهلك
ولكن تعدى فيه تعديا صار له ضامنا فقد اختلف أصحابنا هل ينعزل بتعديه عن
الوكالة أم لا، على وجهين:
(أحدهما) ينعزل عن الوكالة بالتعدي لأنه مؤتمن كالمودع الذي ينعزل
بالتعدي عن الوديعة، فعلى هذا يكون الشراء لازما للوكيل دون موكله.
(والوجه الثاني) وهو قول أبى على الطبري أنه على الوكالة لا ينعزل عنها
بالتعدي مع بقاء الملك كالمرتهن لا يبطل الرهن بتعديه، وإن كان مؤتمنا فعلى هذا
يكون الشراء لازما للموكل والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى.
(فصل) فإن وكله في الشراء ولم يدفع إليه الثمن فاشتراه، ففي الثمن ثلاثة
أوجه (أحدها) أنه على الموكل والوكيل ضامن، لأن المبيع للموكل فكان الثمن
عليه، والوكيل تولى العقد والتزم الثمن فضمنه، فعلى هذا يجوز للبائع أن
يطالب الوكيل والموكل، لان أحدهما ضامن والآخر مضمون عنه، فان وزن
الوكيل الثمن رجع على الموكل، وإن وزن الموكل لم يرجع على الوكيل.
(والثاني) أن الثمن على الوكيل دون الموكل، لان الذي التزم هو الوكيل
فكان الثمن عليه، فعلى هذا يجوز للبائع مطالبة الوكيل، لان الثمن عليه،
ولا يجوز له مطالبة الموكل لأنه لا شئ عليه، فان وزن الوكيل رجع على الموكل
لأنه التزم باذنه، وإن لم يزن لم يرجع كما نقول فيمن أحال بدين عليه على رجل
لا دين له عليه: إنه إذا وزن رجع، وإذا لم يزن لم يرجع، وإن أبرأ البائع
الوكيل سقط الثمن وحصلت السلعة للموكل من غير ثمن.
134

(والثالث) أن الثمن على الوكيل، وللوكيل في ذمة الموكل مثل الثمن،
فيجوز للبائع مطالبة الوكيل دون الموكل، وللوكيل مطالبة الموكل بالثمن وإن لم
يطالبه البائع.
(الشرح) الأحكام: قال الماوردي في الحاوي: فإذا ثبت أن الملك يكون
واقعا بالعقد للموكل دون الوكيل فللوكيل حالتان:
(إحداهما) أن يذكر اسم موكله في العقد فيقول: قد اشتريت هذا الشئ
لفلان بأمره، فيكون الثمن واجبا على الموكل، وهل يكون الوكيل ضامنا أم لا
على وجهين، حكاهما ابن سريج (أحدهما) عليه ضمانه لأنه عاقد (والثاني)
لا يلزمه ضمانه لأنه غير مالك.
(والحال الثانية) أن لا يذكر الوكيل اسم موكله في العقد، ولكن ينوى قبله
أن الشراء لموكله، فعلى الوكيل ضمان الثمن بالعقد.
وهل يصير الثمن واجبا على الموكل بالعقد؟ أم لا؟ على وجهين حكاهما ابن
سريج. أحدهما: أنه يكون الثمن واجبا عليه بالعقد لوقوع الملك له بالعقد، فعلى
هذا يكون البائع بالخيار بين مطالبة الوكيل به أو الموكل، فإذا أخذه من
أحدهما برئا معا.
والوجه الثاني: أن الثمن غير واجب على الموكل بالعقد، وإنما يلزم الوكيل
وحده لتفرده بالعقد، فعلى هذا يطالب الوكيل وحده بالثمن دون الموكل.
وهل يستحق الوكيل الثمن على الموكل قبل أدائه عنه أم لا؟ على وجهين
حكاهما ابن سريج. أحدهما: أنه لا يستحقه عليه إلا بعد أدائه عنه، فإن أداه
الوكيل عنه رجع به عليه حينئذ، وإن أبرأه البائع منه لم يرجع به على الموكل،
فصار الموكل مالكا للمبيع بغير بدل.
والوجه الثاني: أن الوكيل قد استحق الثمن على الموكل بما وجب على الوكيل
من ضمانه بالعقد وله مطالبة الموكل به قبل أدائه، وإن أبرأ الوكيل منه رجع به
على الموكل، ولو دفع بالثمن عرضا رجع على الموكل بالثمن دون قيمة العرض
وعلى الوجه الأول إذا دفع الوكيل بالثمن عرضا رجع على الموكل بأقل الأمرين
135

من الثمن أو قيمة العرض، فلو أراد الوكيل أن يمنع الموكل من المبيع إلا بعد
قبض ثمنه لم يكن له ذلك على الوجهين معا، لان البائع لم يبعه منه.
قال المصنف رحمه الله تعالى.
(فصل) ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بثمن مؤجل من غير إذن،
لان الأصل في البيع النقد، وإنما يدخل التأجيل لكساد أو فساد، فإذا أطلق
حمل على الأصل، فإن أذن له في بيع مؤجل وقدر الأجل لم يبع إلى أجل أكثر
منه، لأنه لم يرض بما زاد على المقدر، فبقي على الأصل في المنع، إن أطلق
الأجل ففيه وجهان.
أحدهما: لا يصح التوكيل، لان الآجال تختلف فيكثر الغرر فيه فلم يصح،
والثاني: يصح ويحمل على العرف في مثله، لان مطلق الوكالة يحمل على المتعارف
وإن لم يكن فيه عرف باع بأنفع ما يقدر عليه، لأنه مأمور بالنصح لموكله، ومن
أصحابنا من قال: يجوز القليل والكثير لان اللفظ مطلق، ومنهم من قال: يجوز
إلى سنة، لان الديون المؤجلة في الشرع مقدرة بالسنة، وهي الدية والجزية،
والصحيح هو الأول.
وقول القائل الثاني: إن اللفظ مطلق لا يصح، لان العرف يخصه، ونصح
الموكل يخصه وقول القائل الثالث: لا يصح لان الدية والجزية وجبت بالشرع
فحمل على تأجيل الشرع، وهذا وجب باذن الموكل فحمل على المتعارف، وان
أذن له في البيع إلى أجل فباع بالنقد نظرت، فان باع بدون ما يساوى نسيئة لم
يصح لان الاذن في البيع نسيئة يقتضى البيع بما يساوى نسيئة فإذا باع بما دونه لم
يصح، وان باع نقدا بما يساوى نسيئة، فإن كان في وقت لا يأمن أن ينهب أو
يسرق لم يصح، لأنه ضرر لم يرض به فلم يلزمه، وإن كان في وقت مأمون،
ففيه وجهان.
أحدهما: لا يصح، لأنه قد يكون له غرض في كون الثمن في ذمة ملي ففوت
عليه ذلك فلم يصح. والثاني: يصح، لأنه زاده بالتعجيل خيرا، وان وكله أن
يشترى عبدا بألف فاشتراه بألف مؤجل ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح الشراء
136

للموكل لأنه قصد أن لا يكون عليه دين وأن لا يشترى إلا بما معه (والثاني) أنه
يصح لأنه حصل له العبد وزاده بالتأجيل خيرا.
(فصل) ولا يجوز للوكيل في البيع أن يشترط الخيار للمشترى ولا للوكيل
في الشراء أن يشترط الخيار للبائع من غير اذن لأنه شرط لاحظ فيه للموكل،
فلا يجوز من غير إذن كالأجل، وهل يجوز أن يشترط لنفسه أو للموكل،
فيه وجهان.
(أحدهما) لا يجوز لأن اطلاق البيع يقتضى البيع من غير شرط (والثاني)
يجوز لأنه احتاط للموكل بشرط الخيار.
(الشرح) الأحكام: ان بيعه بالثمن المؤجل من غير اذن موكله لا يجوز،
ودليلنا أن الأجل في البيوع يدخل تارة في المثمن فيكون سلما، وتارة في الثمن
فيكون دينا، فلما لم يجز للوكيل أن يدخل الأجل في الثمن فيجعله دينا، وتحريره
أنه تأجيل أحد العوضين فوجب أن لا يصح من الوكيل مع اطلاق الاذن قياسا
على تأجيل المثمن، ولان الأجل لما لم يلزم المالك في عقده، ولا شرط صريح لم
يلزم الموكل الا بإذن صريح، لأن اطلاق كل واحد من العقدين معتبر بالآخر
وسواء طال الأجل أو قصر.
فأما الجواب عن الاستدلال بأن اطلاق الاذن يقتضى العموم فهو أنه خطأ
في القول، بل الاطلاق في الاذن يقتضى العرف بدليل أن اطلاق الاذن بالشراء
لا يقتضى عموم الأشرية كذلك اطلاق الاذن بالبيع لا يقتضى عموم البيوع.
وأما قياسه على نقد البلد فالمعنى فيه أن المعهود يقتضيه، وأما قياسه في الأجل
على خيار الثلاث فلأصحابنا في جوازه للوكيل وجهان سيأتي بيانهما، والقياس
منتقض بالأجل في المثمن، ثم المعنى في خيار الثلاث أنه لما ملكه الوكيل
في الشراء ملكه في البيع، ولأصحابنا في جوازه للوكيل وجهان.
أحدهما: لا يصح من الوكيل، فعلى هذا سقط الدليل.
والثاني: يصح منه والقياس عليه منتقض بالأجل في المثمن، فهذا حكم العقد
مع اطلاق اذن الموكل، وما يلزم من الشروط في عقد التوكيل.
137

وأما حالة التقييد مثل أن يكون إذن الموكل في البيع مقيدا بشرط، فإن كان
الشرط مبطلا للعقد كالأجل المجهول، وهو كما يقول المصنف باطل على أحد
الوجهين، لان الآجال تختلف فيكثر فيها الغرر، وكالخيار أكثر من ثلاث
إلى ما جرى هذا المجرى الذي يبطل معه العقد على وجه من الوجوه، فقد صار
الموكل بها آذنا لوكيله بالبيع الفاسد، فإن باع الوكيل ذلك على الشرط الذي أذن
فيه الموكل كان فاسدا، وإن رضى المالك بفساده، فإذا أذن له في الأجل وأطلق
الأجل فإن الصحيح بطلانه كما قلنا.
والثاني وهو وجه عند أصحابنا وبه قال أبو حنيفة: يصح. ويحمل على العرف
في مثله، لأن المطلق يحمل على المقيد نصا أو عرفا، فإن لم يكن ثم عرف اجتهد
في البيع بأحظ وأنفع ما يقدر عليه لموكله، لأنه مؤتمن له ومن خصاله النصح له
ومن أصحابنا من أجاز بيعه على أي نحو ولو لم يتحر الأنفع لموكله
ومنهم من قيد الاطلاق الأجل بسنة قمرية، لان الله تعالى جعل عدة الشهور
اثنى عشر شهرا، ولان الجزية والدية والزكوات لأنها ديون شرعية في ذمة
المكلفين بها مقدرة بالسنة، فإذا أطلق الموكل حملنا إطلاقه على القيد الشرعي في
الديون الشرعية، والقول الأول هو الذي جعله الماوردي في الحاوي قولا
واحدا للمذهب ولم يحك غيره، أما المصنف رحمه الله فقد ساق الأقوال كلها
ثم رجح الأول.
ثم هو إذا خشي تلف المال أو سطو غاصب عليه أو كساده مما يلحق الضرر
بموكله جاز له أن يبيع ولو لم يأذن له الموكل إذا لم يجد مشتريا نقدا
فإذا قدر الموكل له الأجل لم يصح أن يؤجل أكثر منه
(فرع) إذا باع نقدا ما هو مأذون فيه بأجل نظرت فان تساوى ثمن المبيع
نقدا مع ما قدره الموكل للثمن نسئا، فعلى وجهين (أحدهما) يصح لأنه زاد
خيرا بتعجيل الثمن.
(والثاني) لا يصح لأنه قد يكون له غرض في جعل الثمن في ذمة ملئ كأنه
وديعة في صورة دين ففوت عليه هذا القصد فلم يصح
138

(فرع) لا يجوز أن يشترط الوكيل الخيار للمشترى ولا لوكيله، كما لا يجوز
له أن يقبل شرط الخيار من غير اذن موكله في البيع أو في الشراء، وهل يجوز
أن يشترط الخيار لنفسه أو لموكله؟ وجهان (أحدهما) لا يجوز لأنه قيد المطلق
بشرط ليس مأذونا فيه.
والوجه الثاني: إذا رأى أن هذا الشرط أنفع لموكله للاحتياط ولضمان
مصلحته فإنه يصح والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) ولا يجوز للوكيل في البيع أن يبيع بدون ثمن المثل بما لا يتغابن
به من غير إذن، ولا للوكيل في الشراء أن يشترى بأكثر من ثمن المثل بمالا
يتغابن الناس به من غير إذن، لأنه منهى عن الاضرار بالموكل مأمور بالنصح له
وفى النقصان عن ثمن المثل في البيع، والزيادة على ثمن المثل في الشراء اضرار،
وترك النصح، ولان العرف في البيع ثمن المثل، فحمل إطلاق الاذن عليه، فان
حضر من يطلب بالزيادة على ثمن المثل لم يجز أن يبيع بثمن المثل لأنه مأمور
بالنصح والنظر للموكل، ولا نصح ولا نظر للموكل في ترك الزيادة
وإن باع بثمن المثل ثم حضر من يزيد في حال الخيار ففيه وجهان
(أحدهما) لا يلزمه فسخ البيع، لان المزايد قد لا يثبت على الزيادة فلا
يلزمه الفسخ بالشك.
(والثاني) يلزمه الفسخ وهو الصحيح، لان حال الخيار كحال العقد. ولو
حضر في حال العقد من يزيد وجب البيع منه، فكذلك إذا حضر في حال الخيار
وقول القائل الأول: إنه قد لا يثبت على الزيادة فيكون الفسخ بالشك، لا يصح
لأن الظاهر أنه يثبت فلا يكون الفسخ بالشك، وإن باع بنقصان يتغابن الناس
بمثله، بأن باع ما يساوى عشرة بتسعة صح البيع. وإن اشترى بزيادة يتغابن
الناس بمثلها بأن ابتاع ما يساوى عشرة بأحد عشرة صح الشراء ولزم الموكل،
لان ما يتغابن الناس بمثله يعد ثمن المثل، ولأنه لا يمكن الاحتراز منه فعفى عنه
139

وإن اشترى بزيادة لا تتغابن الناس بمثلها بأن ابتاع ما يساوى عشرة باثني عشر
فإن كان بعين مال الموكل بطل الشراء، لأنه عقد على ماله عقدا لم يأذن فيه، وإن
كان في الذمة لزم الوكيل لأنه اشترى في الذمة بغير إذن فوقع الملك له. وإن باع
بنقصان لا يتغابن الناس بمثله بأن باع ما يساوى عشرة بثمانية لم يصح البيع لأنه بيع
غير مأذون فيه، فإن كان المبيع باقيا رد، وإن كان تالفا وجب ضمانه
وللموكل أن يضمن الوكيل لأنه سلم ما لم يكن له تسليمه، وله أن يضمن
المشترى لأنه قبض ما لم يكن له قبضه، فان اختار تضمين المشترى ضمن جميع
القيمة، وهو عشرة، لأنه ضمن المبيع بالقبض فضمنه بكمال البدل، وإن اختار
تضمين الوكيل ففيه ثلاثة أقوال
(أحدها) أنه يضمنه جميع القيمة، لأنه لزمه رد المبيع فضمن جميع بدله
(والثاني) يضمنه تسعة لأنه لو باعه بتسعة جاز، فلا يضمن ما زاد ويضمن
المشترى تمام القيمة وهو درهم.
(والثالث) يضمنه درهما لأنه لم يفرط إلا بدرهم، فلا يضمن غيره ويضمن
المشترى تمام القيمة وهو تسعة، وما يضمنه الوكيل يرجع به على المشترى، وما
يضمنه المشترى لا يرجع به على الوكيل، لأن المبيع تلف في يده فاستقر
الضمان عليه.
وإن قدر الثمن فقال: بع بألف درهم، لم يجز أن يبيع بما دونها، لان الاذن
في الألف ليس بإذن فيما دونها، وإن باع بألفين نظرت، فإن كان قد عين من
يبيع منه لم يجز، لأنه قصد تمليكه بألف فلا يجوز أن يفوت عليه غرضه، وإن
لم يعين من يبيع منه جاز. لان الاذن في الألف إذن فيما زاد من جهة العرف.
لان من رضى بألف رضى بألفين
وإن قال بع بألف ولا تبع بما زاد لم يجز أن يبيع بما زاد، لأنه صرح بالنهي
فدل على غرض قصده فلم يجز مخالفته وإن قال بع بألف فباع بألف وثوب ففيه
وجهان (أحدهما) أنه يصح لأنه حصل له الألف وزيادة، فصار كما لو باع بألفي
درهم (والثاني) أنه لا يصح، لان الدراهم والثوب تتقسط على السلعة فيكون
ما يقابل الثوب من السلعة مبيعا بالثوب. وذلك خلاف ما يقتضيه الاذن: فان
140

الاذن يقتضى البيع بالنقد. فعلى هذا هل يبطل العقد في الدراهم؟ فيه قولان بناء
على تفريق الصفقة
وإن وكله في بيع عبد بألف فباع نصفه بألف جاز، لأنه مأذون له فيه من
جهة العرف، لان من يرضى ببيع العبد بألف يرضى ببيع نصفه بالألف، فان
باع نصفه بما دون الألف لم يصح، لأنه ربما لم يمكنه الباقي بتمام الألف.
وإن وكله في بيع ثلاثة أعبد بألف فباع عبدا بدون الألف لم يصح، لأنه قد
لا يشترى الباقي بما بقي من الألف، وإن باع أحد الثلاثة بألف جاز، لان من
رضى ببيع ثلاثة بألف رضى ببيع أحدهم بألف
وهل له أن يبيع الآخرين فيه وجهان (أحدهما) لا يملك لأنه قد حصل
المقصود وهو الألف (والثاني) أنه يجوز لأنه أذن له في بيع الجميع فلا يسقط
الامر ببيع واحد منهم، كما لو لم يقدر الثمن. وإن وكله في شراء عبد بعينه بمائة
فاشتراه بخمسين لزم الموكل لأنه مأذون فيه من جهة العرف. لان من رضى أن
يشترى عبدا بمائة رضى أن يشتريه بخمسين، وإن قال اشتر بمائة ولا تشتر
بخمسين جاز أن يشترى بمائة، لأنه مأذون فيه، ولا يشترى بخمسين لأنه منهى
عنه، ويجوز أن يشترى بما بين الخمسين والمائة، لأنه لما أذن في الشراء بالمائة
دل على أنه رضى بالشراء بما دونها، ثم خرج الخمسون بالنهي وبقى فيما زاد على
ما دل عليه المأمور به
وهل يجوز أن يشترى بأقل من الخمسين؟ فيه وجهان (أحدهما) يجوز لأنه
لما نص على المائة دل على أن ما دونها أولى إلا فيما أخرجه النهى (والثاني) لا يجوز
لأنه لما نهى عن الخمسين دل على أن ما دونها أولى بالمنع. وإن قال اشتر هذا
العبد بمائة فاشتراه بمائة وعشرة لم يلزم الموكل.
وقال أبو العباس يلزم الموكل بمائة ويضمن الوكيل ما زاد على المائة لأنه تبرع
بالتزام الزيادة، والمذهب الأول، لأنه زاد على الثمن المأذون فلم يلزم الموكل.
كما لو قال اشتر لي عبدا فاشتراه بأكثر من ثمن المثل، ولأنه لو قال: بع هذا العبد
بمائة فباعه بمائة إلا عشرة لم يصح، ثم يضمن الوكيل ما نقص من المائة، فكذلك
141

إذا قال اشتر هذا العبد بمائة فاشتراه بمائة وعشرة. لم يلزم الموكل، ثم يضمن
الوكيل ما زاد على المائة.
وإن وكله في شراء عبد بمائة فاشترى عبدا بمائتين وهو يساوى المائتين، لم
يلزم الموكل، لأنه غير مأذون فيه من جهة النطق ولا من جهة العرف، لان
رضاه بعبد بمائة لا يدل على الرضا بعبد بمائتين، وإن دفع إليه دينارا وأمره أن
يشترى شاة فاشترى شاتين، فإن لم تساو كل واحدة منهما دينارا لم يلزم الموكل
لأنه لا يطلب بدينار مالا يساوى دينارا، وإن كان كل واحدة منهما تساوى دينارا
نظرت، فان اشترى في الذمة ففيه قولان.
(أحدهما) أن الجميع للموكل، لان النبي صلى الله عليه وسلم " دفع إلى عروة
البارقي دينارا ليشترى له شاة فاشترى شاتين فباع إحداهما بدينار وأتى النبي صلى الله عليه وسلم
بشاة ودينار فدعا له بالبركة " ولان الاذن في شاة بدينار إذن في شاتين بدينار،
لان من رضى شاة بدينار رضى شاتين بدينار
(والثاني) أن للموكل شاة لأنه أذن فيه، والأخرى للوكيل لأنه لم يأذن فيه
الموكل، فوقع الشراء للوكيل
فان قلنا إن الجميع للموكل فباع إحداهما فقد خرج أبو العباس فيه وجهين
(أحدهما) أنه لا يصح لأنه باع مال الموكل بغير إذنه فلم يصح (والثاني) أنه يصح
لحديث عروة البارقي، والمذهب الأول، والحديث يتأول
وإن قلنا إن للوكيل شاة استرجع الموكل منه نصف دينار، وإن اشترى
الشاتين بعين الدينار، فإن قلنا فيما اشترى في الذمة: إن الجميع للموكل كان الجميع
ههنا للموكل. وإن قلنا: إن إحداهما للوكيل والأخرى للموكل صح الابتياع
للموكل في إحداهما ويبطل في الأخرى، لأنه لا يجوز أن يحصل الابتياع له
بمال الموكل فبطل.
(الشرح) حديث عروة البارقي مر في غير موضع الكلام عليه في البيع والربا
وأول الوكالة، وقد أوفيناه حقه من البحث فليراجع.
أما الأحكام فقد قال المزني: ومن باع بمالا يتغابن الناس بمثله فبيعه مردود.
142

لأنه تلف على صاحبه، فهذا قول الشافعي ومعناه. وهذا صحيح. قال الماوردي
للموكل فيما أذن له ببيعه حالتان: حالة إطلاق. وحالة تقييد
فأما حالة الاطلاق فهو أن يأذن لوكيله في البيع إذنا مطلقا من غير أن يقيده
بشرط، أو على صفة، فعلى الوكيل في بيعه ثلاثة شروط:
(أحدها) أن يبيعه بغالب نقد البلد، فان عدل إلى غيره لم يجز
والشرط الثاني: أن يبيعه بثمن مثله، فان باعه بمالا يتغابن الناس بمثله وإلى
أجل، كان بيعه نافذا، ولموكله نافذا استدلالا بأن إطلاق الاذن يشتمل على
عموم البيع، وتخصيص المطلق لا يكون إلا بدليل، كالمطلق من عموم الكتاب
والسنة، فلما كان اسم البيع ينطبق على المبيع بغير نقد البلد وبما لا يتغابن الناس به
وعلى المؤجل، وجب أن يصح لأنه عقد مأذون فيه، كما لو باعه بنقد البلد
وبثمن المثل وبالمعجل. ثم استدل على جواز البيع بغير نقد البلد بأنه بيع بجنس
الأثمان فصح كالمبيع بنقد البلد
واستدل على جوازه إلى أجل بأن الأجل مدة ملحقة بالعقد فجاز أن يملكها
الوكيل قياسا على خيار الثلاث، وهذا كله خطأ. والدليل على ما قلنا على
الشرط الأول وهو أن بيعه بغير نقد البلد لا يجوز هو أنه لما لم يصح من الوكيل
في الشراء أن يشترى بغير نقد البلد لم يصح من الوكيل في البيع أن يبيع بغير نقد
البلد. وتحريره أنه عقد معاوضة بوكالة مطلقة فوجب ألا يصح بغير نقد البلد،
قياسا على الشراء، أو لان كل جنس لا يجوز للوكيل أن يبتاع به لم يجز للوكيل
أن يبيع به قياسا على البيع بغير جنس الأثمان وبالمحرمات
والدليل على الشرط الثاني، وهو أن بيعه بمالا يتغابن الناس بمثله لا يجوز
هو أنه عقد معاوضة عن وكالة مطلقة فوجب أن لا يصح بأكثر من ثمن المثل
قياسا على الشراء ولان من لم يملك الهبة في مال لم يملك المحاباة فيه كالوصي والعبد
المأذون له في التجارة، ولان المحاباة كالهبة لاعتبارها من الثلث، فلما لم يصح
من الوكيل في البيع هبة المال أو بعضه لم تصح منه المحاباة فيه.
وتحريره أنه عقد استهلك به شيئا من مال موكله بغير إذنه فوجب أن يكون
باطلا كالهبة، فإذا ثبت ما ذكرنا وأن المثل معتبر، وأن البيع بمالا يتغابن الناس
143

بمثله، فالاعتبار بالغبن عرف الناس في مثل المبيع، وليس له حد مقدر.
وقال مالك: حد الغبن في البيوع الثلث فصاعدا لقوله صلى الله عليه وسلم
" الثلث والثلث كثير "
وقال أبو حنيفة: حد الغبن من العشر فصاعدا لأنه أقل ما يجب في زكوات
الزروع والثمار.
قال الماوردي: وكلا المذهبين فاسد، لان عرف الناس فيما يكون غبنا كثيرا
يختلف باختلاف الأجناس، فمن الأجناس ما يكون ربع العشر فيه غبنا كثيرا،
وهو الحنطة والشعير والذهب والورق. ومنها ما يكون نصف العشر فيه غبنا
يسيرا، كالرقيق والجوهر، فلم يجز أن يحد ذلك بقدر مع اختلافه في عرفهم.
ووجب الرجوع فيه إليهم.
فإذا باع الوكيل بمالا يتغابن الناس بمثله كان بيعه باطلا ولا ضمان عليه ما لم
يسلم المبيع، فان سلمه كان ضامنا ولزمه استرجاع المبيع إن كان باقيا، فان هلك
في يد المشترى كان كل واحد من الوكيل والمشترى ضامنا. أما المشترى فضامن
بجميع القيمة، لأنه فائض عن عقد بيع فاسد. وأما الوكيل ففي قدر ما يضمنه
قولان ذكرهما الشافعي في كتاب الرهن الصغير (أحدهما) أنه يضمن جميع القيمة
(والثاني) أنه يضمن ما غبن به من قدر المحاباة، لان به فسد العقد ولزم الضمان
وقد مضى من التفريع في كتاب الرهن ما يقنع.
والدليل على الشرط الثالث وأن بيعه بالثمن المؤجل لا يجوز هو أن الأجل
في البيوع يدخل تارة في المثمن فيصير سلما، وتارة في الثمن فيكون دينا، فلما لم
يجز للوكيل أن يدخل الأجل في الثمن لم يجز أن يدخل الأجل في المثمن على
ما مضى في الفصل قبله
(فرع) قال الماوردي رحمه الله تعالى:
" وأما المختص بقدر الثمن وصورته أن يقول: بع بمائة درهم، فلا يجوز أن
يبيعه بأقل منها ولو بقيراط، فان فعل كان البيع باطلا، ولو باعه بأكثر من مائه
درهم كان البيع جائزا لحصول المائة التي أرادها، والزيادة عليها زيادة حظ له،
144

إلا أن يكون قد أمره أن يبيعه بالمائة على رجل بعينه، فلا يجوز أن يبيعه عليه
بأكثر من مائة، كما لا يجوز أن يبيعه على غيره، لأنه لما نص على القدر صار
مسامحا له بالزيادة عليه. فلو باع نصف العبد بمائة درهم صح البيع، لان بقاء
نصف العبد مع حصول المائة التي أرادها أحظ، فلو باع نصف العبد بأقل من
مائة درهم ولو بقيراط لم يجز لتفويت ما أراده من كمال الثمن وتفريق الصفقة.
فلو وكله ببيع عبيد فباع كل عبد في عقد، فإن لم يذكر له قدر الثمن جاز.
لان العادة في بيع العبيد جارية بإفرادهم في العقود. ولو ذكر له قدر الثمن فقال:
بع هؤلاء العبيد الثلاثة بألف درهم. فإن باع أول صفقة من العبيد بأقل من
ألف درهم لم يجز لأنه قد لا يشترى العبدان الآخران بما بقي من تكملة الألف
وإن باع أول صفقة بأكثر من ألف درهم جاز. وهل يجوز بيع الاثنين
الآخرين بعد حصول الألف؟ على وجهين
أحدهما: لا يجوز، لان مقصوده بالبيع حصول الألف من ثمنه، فصارت
الوكالة مقصورة عليها وباطلة فيما سواها
والوجه الثاني: أنه يجوز له بيع من بقي منهم لانعقاد الوكالة يبيعهم. ولا
يكون حصول الثمن بكماله من بعضهم مانعا من بيع باقيهم. كما لو باع أحدهم بأكثر
من ألف. ولم يلزمه أن يبيع منه بقدر الألف، ويكون عن بيع باقيه بالزيادة
على الألف.
فأما العدد من الثياب إذا وكله في بيعها وأمكن أن يبتاع صفقة وتفاريق.
فعلى الوكيل أن يعمل على أحظ الامرين لموكله في بيع جميعها صفقة أو أفرادا
كل واحد منها بعقد. فان عدل عن أحظهما لم يجز ما لم يكن من الموكل
تصريح به " اه‍
(قلت) وكلام المصنف في المهذب يفيد أن البيع يصح وينفذ في كل حالة
نقص فيها الثمن عن القدر الذي أذن فيه وضمنه الوكيل أعني ضمن - الفرق
الذي ينقص عن القدر المأذون فيه - كأن أذن له في البيع بمائة فباع بتسعين كان
على الوكيل ضمان النقص وهو العشرة، ونتيجة هذا أن البيع ينفذ بحصول الموكل
على الثمن الذي حدده بكماله، وذلك بضمان مقدار النقص على الوكيل
145

ومثل ما ذكر في البيع يكون في الشراء فلو أمره أن يشترى شاة بعشرة
فاشتراها بأحد عشرة كان عليه ضمان الفرق ولا يلزم الموكل سوى عشرة، وهذا
هو تخريج أبى العباس بن سريج رحمه الله تعالى.
هذا وبقية ما ورد في هذا الفصل مضى بيانه في شرح الفصول السابقة: لان
المصنف في هذا الفصل ضمنه ما ورد في بعض الفصول السابقة، وقد شرحناها
والله المستعان.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا اشترى الوكيل ما أذن فيه الموكل انتقل الملك إلى الموكل لأن العقد
له فوقع الملك له كما لو عقده بنفسه وان اشترى ما لم يأذن فيه، فإن كان قد
اشتراه بعين مال الموكل، فالعقد باطل، لأنه عقد على مال لم يؤذن في العقد
عليه، فبطل كما لو باع مال غيره بغير إذنه، وإن اشتراه بثمن في الذمة نظرت،
فإن لم يذكر الموكل في العقد لزمه ما اشترى، لأنه اشترى لغيره في الذمة ما لم يأذن
فيه فانعقد الشراء له كما لو اشتراه من غير وكالة، وإن ذكر الموكل في العقد ففيه
وجهان (أحدهما) أن العقد باطل، لأنه عقد على أنه للموكل والموكل لم يأذن
فيه فبطل (والثاني) أنه يصح العقد ويلزم الوكيل ما اشتراه، وهو قول
أبي إسحاق، وهو الصحيح، لأنه اشترى في الذمة ولم يصح في حق الموكل فانعقد
في حقه كما لو لم يذكر الموكل.
(فصل) وإن وكله في قضاء دين لزمه أن يشهد على القضاء، لأنه مأمور
بالنظر والاحتياط للموكل، ومن النظر أن يشهد عليه لئلا يرجع عليه، فإن
ادعى الوكيل أنه قضاه وأنكر الغريم لم يقبل قول الوكيل على الغريم، لان الغريم
لم يأتمنه على المال، فلا يقبل قوله عليه في الدفع، كالوصي إذا ادعى دفع المال
إلى الصبي، وهل يضمن المال للموكل؟ ينظر فيه فإن كان في غيبة الموكل وأشهد
شاهدين ثم مات الشهود أو فسقوا لم يضمن، لأنه لم يفرط، وان لم يشهد
ضمن لأنه فرط.
146

وأن أشهد شاهدا واحدا ففيه وجهان (أحدهما) لا يضمن، لان الشاهد
مع اليمين بينة (والثاني) يضمن لأنه فرط حيث إنه اقتصر على بينة مختلف فيها
وإن كان بمحضر الموكل وأشهد لم يضمن، وإن لم يشهد ففيه وجهان.
أحدهما: لا يضمن، لان المفرط هو الموكل، فإنه حضر وترك الاشهاد.
والثاني: أنه يضمن لان ترك الاشهاد يثبت الضمان فلا يسقط حكمه بحضور
الموكل، كما لو أتلف ماله وهو حاضر، وان وكله في إيداع ماله عند رجل فهل
يلزمه الاشهاد؟ ففيه وجهان.
أحدهما: يلزمه لأنه لا يأمن أن يجحد فيشهد عليه الشهود.
والثاني: لا يلزمه، لان القول قول المودع في الرد والهلاك، فلا فائدة في
الاشهاد، وإن وكله في الايداع فادعى أنه أودع وأنكر المودع لم يقبل قول
الوكيل عليه، لأنه لم يأتمنه المودع فلا يقبل قوله عليه، كالوصي إذا ادعى دفع
المال إلى اليتيم، وهل يضمن الوكيل؟ ينظر فيه، فإن أشهد ثم مات الشهود أو
فسقوا لم يضمن، لأنه لم يفرط، وإن لم يشهد - فإن قلنا: إنه يجب الاشهاد
ضمن لأنه فرط، وإن قلنا: لا يجب لم يضمن لأنه لم يفرط.
(الشرح) الأحكام: قال المزني رحمه الله تعالى: لو دفع إليه مالا اشترى به
طعاما فيسلفه، ثم اشترى له بمثله طعاما فهو ضامن للمال والطعام، لأنه خرج
من وكالته بالتعدي، واشترى بغير ما أمره به
اعلم أن لهذه المسألة مقدمة لا يستغنى عن شرحها وتقدير المذهب فيها ليكون
الجواب في المسألة مبنيا عليها، وهو أن الرجل إذا وكل رجلا في ابتياع متاع له
فلا يخلو حاله من أحد أمرين، إما أن يدفع إليه ثمنه أم لا، فإن لم يدفع الثمن
إليه جاز للوكيل أن يشتريه بثمن في ذمته ناويا به أنه لموكله، فيكون بالعقد
واقعا للموكل دون الوكيل.
وقال أبو حنيفة: يقع الملك بالعقد للوكيل، ثم ينتقل إلى الموكل استدلالا
بأن ما ملكه الانسان بعقد غيره وقع الملك للعاقد، ثم انتقل عنه إلى متملكه
كالشفعة يقع الملك إلى المشترى ثم ينتقل عنه إلى الشفيع، ولان الوكيل يلزمه
147

الثمن بعقده فوجب أن يقع له الملك بعقده، لان الثمن في مقابلة المثمن، ولأنه
لما كان شروط العقد والافتراق معتبرا بالعاقدين اقتضى أن يكون موجبه من
الملك واقعا للعاقدين.
ودليلنا أن كل ما عقده الوكيل للموكل اقتضى وقوع الملك بالعقد للموكل
كالنكاح، ولان كل من ناب في العقد عن غيره وقع الملك به للمعقود له دون
عاقده قياسا على ولى اليتيم.
(فرع) قال المزني: ولو أمر الموكل الوكيل بدفع مال إلى رجل فادعى أنه
دفعه إليه لم يقبل منه الا ببينة اه‍
قلت: وصورة ذلك تتضح في رجل أمر وكيله بدفع مال إلى رجل فادعى
الوكيل الدفع وأنكر المدفوع إليه القبض، فلا يخلو حال ذلك المال من أربعة
أقسام. أحدها: أن يكون دينا في ذمة الموكل، فقول الوكيل في الدفع غير مقبول
على المدفوع إليه، لان الموكل لو ادعى دفع الدين لم تقبل دعواه، فوكيله في
دفعه أولى أن لا تقبل دعواه، ويكون صاحب الدين على حقه في مطالبة الموكل
بدينه، وليس له مطالبة الوكيل به
فأما قبول قول الوكيل على الموكل فلا يخلو حال الموكل من أن يصدقه على الدفع أو يكذبه
فإن كذبه على ما ادعاه من الدفع لم يقبل قوله عليه، وكان ضامنا له لأنه، وإن كان
أمينا له بقوله - غير مقبول في الدفع إلى غيره. ألا ترى أن الوصي أمين
للموصى، ولا يقبل قوله على اليتيم في دفع ماله إليه، لأنه يدعى دفعا إلى غير
من ائتمنه. وكذلك أمره الله تعالى بالاشهاد على اليتيم في دفع ماله إليه بقوله " فإذا
دفعتم الهم أموالهم فأشهدوا عليهم " لان غير الأيتام قد ائتمنوهم.
وقال في غير الأوصياء " فان أمن بعضكم بعضا. فليؤد الذي اؤتمن أمانته "
فأمره بأداء الأمانة إلى من ائتمنه من غير اشهاد. لان قوله في الدفع مقبول.
وأمر الأوصياء بالاشهاد. لان قولهم في الدفع غير مقبول فإذا ثبت أن قول
الوصي غير مقبول في دفع مال اليتيم إليه. وإن كان مؤتمنا لان الائتمان من جهة
غيره فكذا قول الوكيل غير مقبول في دفع المال إلى غير موكله، وإن كان مؤتمنا
148

لأنه دفع إلى غير مؤتمنه، أو لا فرق بين أن يكون المؤتمن موصيا مات، أو
موكلا باقيا. فأما إن صدق الموكل وكيله في الدفع فلا يخلو حال الموكل من أن
يكون حاضرا للدفع أو غائبا عنه، فإن كان غائبا عنه فالوكيل ضامن مع تصديق
الموكل، كما كان ضامنا مع تكذيبه، لأنه وإن صدقة على الدفع فقد فرط بترك
الاشهاد، لان أمره بالدفع يقتضى دفعا بيديه من المطالبة، ولا يكون ذلك مع
جواز الجحود إلا بالاشهاد، فصار الاشهاد من مقومات الدفع، وكما نقول في
الاشهاد نقول في التوثيق والاشهار وكتابة الصكوك مع توقيع المدفوع إليه، لان
العرف في زماننا هذا وفشو الفساد واستحلال المحرمات، وصعوبة الاثبات بغير
الوثائق المكتوبة صار من مقومات الدفع اعتبار هذه العناصر من البينات،
وعدم التفريط فيها.
فصار الوكيل بترك الاشهاد مفرطا فيضمن به كما يضمن بالجناية
وإن كان الوكيل حاضرا لدفع الوكيل ففي وجوب الضمان على الوكيل وجهان
(أحدهما) لا ضمان عليه، والاشهاد غير لازم له، لان الموكل إذا حضر كان
هو المستوفى لنفسه الاشهاد، لان ما كان من شروط الدفع مع غيبة الموكل كان
من شروطه مع حضوره، وليس ما اتفق من حضور الموكل بمسقط لحق
الاستيثاق عن الوكيل.
والقسم الثاني: أن يكون المدفوع عينا مضمونة في يد الموكل كالعوارى
والغصوب، فيدعى الوكيل المأمور بالدفع أنه قد دفعها إلى ربها، وينكر ربها
ذلك فالقول قوله مع يمينه، وقول الوكيل غير مقبول على واحد منهما في الدفع،
ولصاحب العارية والمال المغصوب أن يرجع على من شاء من الموكل والوكيل
بخلاف الدين الذي لا يرجع صاحبه به على الوكيل، لان الوكيل في قضاء الدين
لم تثبت له يد على عين مال لرب الدين، وقد ثبت للوكيل في العارية والغصب
فكانت يد الوكيل في وجوب الضمان كالموكل، فإن رجع رب العارية بالغرم على
الموكل رجع الموكل به على الوكيل إن لم يصدقه على الدفع
وإن صدقه على الدفع وكان غائبا عن الدفع رجع به أيضا، وإن كان حاضرا
فعلى ما ذكرنا من الوجهين، وإن رجع رب العارية بالغرم على الوكيل لم يرجع
149

الوكيل به على الموكل إن كذبه ولا إن صدقه وكان غائبا، وهل يرجع به إن كان
حاضرا معه على الوجهين.
والقسم الثالث: أن يكون ذلك وديعة في يد الموكل، فلا يخلو حال رب
الوديعة من أحد أمرين: إما أن يكون قد أذن للمودع أن يوكل في ردها أم لا،
فإن لم يأذن له في التوكيل في رد الوديعة عليه فقول الوكيل غير مقبول في الرد
والمودع ضامن للوديعة، وهل يكون الوكيل ضامنا لها أم لا؟ على وجهين. وإن
أذن له ان يوكل في ردها فهذا على ضربين (أحدهما) أن يصدقه على التوكيل.
فيكون قول الوكيل في هذا مقبولا على رب الوديعة في ردها عليه، لأنه قد صار
وكيلا له، وقول الوكيل مقبول على موكله
والضرب الثاني: أن يكذبه في التوكيل مع اعترافه بالاذن فيه. فهل يقبل
قول المودع في الوكالة أم لا. على وجهين (أحدهما) يقبل قوله، لان التوكيل
من جهته، فعلى هذا يصح وكالة الوكيل عن رب الوديعة، ويصير قول الوكيل
مقبولا عليه في الرد. والوجه الثاني: أن قول المودع غير مقبول في الوكالة لأنه
يدعى عقد توكيل على غيره، فعلى هذا لا يقبل بقبول الوكيل في الرد، ويصير
المودع ضامنا، وليس له إذا غرم الوديعة أن يرجع بها على الوكيل، لان المودع
مفرط بترك الاشهاد في التوكيل، فصار ضامنا لتفريطه. فلم يجز أن يرجع
به على غيره.
والقسم الرابع: أن يكون ذلك وديعة للموكل ويأمر وكيله بإيداعها عند رجل
فيدعى الوكيل تسليمها إليه فيكذب في دعواه فلا يخلو ذلك من ثلاثة أقسام. أحدها
أن يكذبه المالك الموكل في الدفع ويكذبه المودع في القبض، ففيه وجهان من
اختلافهم في وجوب الاشهاد عليه عند الدفع (أحدهما) يجب عليه الاشهاد، كما
يجب عليه في قضاء الدين، فعلى هذا يكون الوكيل بترك الاشهاد مفرطا. وقوله
في الدفع بعد ضمانه بالتفريط غير مقبول. والوجه الثاني: أن الاشهاد لا يجب
عليه في دفع الوديعة. لان المودع عنده لو ادعى تلفها بعد الاشهاد عليه كان
مقبول القول فيه. فعلى هذا لا يكون مفرطا. وقوله في الدفع مقبول
150

القسم الثاني: أن يصدقه المالك الموكل ويكذبه المودع، فلا ضمان على الوكيل
وقوله بتصديق الموكل مقبول عليه في سقوط الضمان عنه، وغير مقبول على
المودع. فإذا حلف المودع: ما تسلم منه الوديعة برئ من الدعوى
القسم الثالث: أن يصدقه المودع على قبضها منه ويدعى تلفها وتكذيب المالك
الموكل لقول الوكيل مقبول. وهو من ضمانها برئ لان إقرار المودع بالقبض
أقوى من الاشهاد عليه فلما برئ من الاشهاد عليه فأولى ان يبرأ بالاقرار والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن كان عليه حق لرجل فجاء رجل وادعى أنه وكيل صاحب
الحق في قبضه وصدقه، جاز أن يدفع إليه، ولا يجب الدفع إليه. وقال المزني:
يجب الدفع إليه، لأنه أقر له بحق القبض، وهذا لا يصح لأنه دفع غير مبرئ
فلم يجبر عليه، كما لو كان عليه دين بشهادة فطولب به من غير إشهاد. فان دفع
إليه ثم حضر الموكل وأنكر التوكيل فالقول قوله مع يمينه: أنه ما وكل، لان
الأصل عدم التوكيل، فإذا حلف نظرت. فإن كان الحق عينا أخذها إن كانت
باقية ورجع ببدلها إن كانت تالفة، وله أن يطالب الدافع والقابض. لان الدافع
سلم إلى من لم يأذن له الموكل. والقابض أخذ ما لم يكن له أخذه. فان ضمن
الدافع لم يرجع على القابض. وان ضمن القابض لم يرجع على الدافع. لان كل
واحد منهما يقول: إن ما يأخذه المالك ظلم فلا يرجع به على غيره.
وإن كان الحق دينا فله أن يطالب به الدافع. لان حقه في ذمته لم ينتقل.
وهل له أن يطالب القابض؟ فيه وجهان (أحدهما) له أن يطالب. وهو قول
أبي إسحاق لأنه يقر بأنه قبض حقه فرجع عليه كما لو كان الحق عينا (والثاني)
ليس له. وهو قول أكثر أصحابنا. لان دينه في ذمة الدافع لم يتعين فيما صار في
يد القابض فلم يجز أن يطالب به. وان جاء رجل إلى من عليه الحق وادعى أنه
وارث صاحب الحق فصدقه وجب الدفع إليه لأنه اعترف بأنه لا مالك له غيره
وأن دفعه إليه دفع مبرئ فلزمه. وان جاء رجل فقال: أحالني عليك صاحب
الحق فصدقه. ففيه وجهان
151

(أحدهما) يلزمه الدفع إليه، لأنه أقر له أنه انتقل الحق إليه فصار كالوارث
(والثاني) أنه لا يلزمه لان الدفع غير مبرئ لأنه ربما يجئ صاحب الحق
فينكر الحوالة فيضمنه، وإن كذبه لم يلزمه الدفع إليه في المسائل كلها وهل يحلف
إن قلنا: إنه إن صدقه لزمه الدفع إليه حلف، لأنه قد يخاف اليمين فيصدقه فيلزمه
الدفع إليه. وإن قلنا لا يلزمه الدفع إليه إذا صدقه لم يحلف لان اليمين يعرض
ليخاف فيصدق، ولو صدق لم يلزمه الدفع فلا معنى لعرض اليمين.
(الشرح) الأحكام: قال المزني: ولو كان لرجل على رجل حق، فقال له
رجل: وكلني فلان بقبضه منك فصدقه ودفعه إليه فتلف وأنكر رب الحق أن
يكون وكله فله الخيار، فإن أغرم الدافع على القابض لأنه يعلم أنه وكيل برئ،
وان أغرم القابض لم يكن له الرجوع على الدافع لأنه يعلم أنه مظلوم وبرئ.
وصورتها فيمن غاب وله مال على رجل أو في يده، فحضر رجل ادعى وكالة
الغائب في قبض ماله، فان أقام على ما ادعاه من الوكالة بينة عادلة حكم بها والبينة
شاهدان عدلان، فإن كان فيهما ابن مدعى الوكالة لم تقبل شهادته، لأنه يشهد
لأبيه، وكذا لو كان فيهما ابن من عليه الحق لم يقبل، لأنه يشهد لأبيه بالبراءة
من صاحب الحق بهذا الدفع، ولكن لو كان فيهما ابن صاحب الحق قبلت شهادته
لأنه يشهد على أبيه لا له، فإذا قامت البينة بالوكالة أجبر الحاكم من عليه المال على
دفعه إلى الوكيل، لان لصاحب الحق أن يستوفيه بنفسه ان شاء، وتوكيله ان
شاء، وليس لمن هو عليه أن يمتنع من تسليمه إلى وكيل مالكه، وان لم يكن
لمدعى الوكالة بينة يثبت بها الوكالة لم يلزم من عليه الحق أن يدفعه إلى مدعى
الوكالة، سواء صدقه على الوكالة أو كذبه،
وقال أبو حنيفة وكذا قال المزني: ان صدقه على الوكالة لزمه دفع المال إليه
كالمصدق لمدعى سداد رب المال يلزمه دفع المال إليه.
وهذا خطأ من وجهين. أحدهما وهو تعليل أبي إسحاق: انه دفع لا يبرئه من
حق الوكيل عند انكار الوكالة ومن لم يبرأ بالدفع عند انكاره لم يجبر. ألا ترى
أن من عليه حق توثيقه فله الامتناع من الدفع الا باشهاد صاحب الحق على نفسه
152

ولو لم تكن عليه وثيقة ففي جواز امتناعه لأجل الشهادة وجهان (أحدهما) وهو
قول أبي إسحاق المروزي: له أن يمتنع لأنه لا يتوجه يمين عند ادعائه بعد دفعه
(والثاني) ليس له أن يمتنع ولا يلزم صاحب الحق الاشهاد، لأنه إذا أنكر الحق
بعد أدائه حلف بارا.
والتعليل الثاني - وهو تعليل أبي علي بن أبي هريرة - أنه مقر في ملك
غيره، ومدع عقد وكاله لغيره، فلم تقبل دعواه، ولم يلزم إقراره، ألا ترى أن
من عليه الحق لو أقر بموت صاحب الحق، وأن هذا الحاضر وصيه في قبض دينه
لم يلزم دفع المال إليه، وان أقر باستحقاق قبضه، فكذا الوكيل، فأما اعترافه
للوارث بموت صاحب الحق فيلزمه دفع المال إليه، والفرق بينه وبين الوكيل أنه
مقر للوارث بالملك، فيلزمه الدفع لأنه بين أنه من الحق، ولا يصير الوكيل
مالكا، ولا يبرأ بقبضه من الحق.
فأما ان أقر من عليه المال بأن صاحبه قد أحال هذا الحاضر به، فهل يلزمه
دفع المال إليه باقراره؟ أم لا؟ على وجهين (أحدهما) يلزمه لأنه مقر له بالملك
فصار كإقراره للوارث (والثاني) لا يلزمه لأنه لا يبرأ بالدفع عند الجحود،
فصار كإقراره بالتوكيل.
فإذا تقرر ما وصفنا لم يخل حال من عليه الحق من أن يصدق الوكيل أو يكذبه
فان كذبه على الوكالة وأنكره فلا يمين عليه، وعليه عند أبي حنيفة والمزني اليمين
لوجوب الدفع عندهما مع التصديق، ولا يجوز مع تكذيبه للوكيل أن يدفع إليه
المال، وان صدقه على الوكالة لم يلزمه دفع المال إليه لما ذكرنا، لكن يجوز له في
الحكم أن يدفعه إليه، فان دفعه إليه، وقدم صاحب الحق فلا يخلو حاله من أحد
أمرين اما أن يعترف بالوكالة أو ينكرها، فان اعترف بها برئ من عليه الحق
بالدفع سواء وصل الموكل إلى حقه من وكيله أو لم يصل إليه بتلفه.
فان أنكر الوكالة فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف فله المطالبة، ثم لا يخلو
حال حقه من أحد أمرين، اما أن يكون عينا أو دينا، فإن كان حقه عينا قائمة
كالغصوب والعواري والودائع فكل واحد من الدافع والقابض ضامن لها،
153

أما الدافع فلتعديه بالدفع. وأما القابض فليده عند إنكار توكيله، ويكون ربها
بالخيار في مطالبة من شاء بها من الدافع والقابض، سواء كانت باقية أو تالفة،
إلا أنها إن كانت باقية فله مطالبة أيهما شاء بالقيمة: فان طالب بها الدافع وأغرمه
برئا ولم يرجع الدافع على القابض بغرمها لأنه مقر أن القابض وكيل برئ منها
وأنه هو المظلوم بها.
وإن طالب القابض فأغرمه برئا، ولم يرجع القابض على الدافع بغرمها: لأنه
مقر ببراءته منها، وأنه هو المظلوم بها، والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجوز للموكل أن يعزل الوكيل إذا شاء، ويجوز للوكيل أن
يعزل نفسه متى شاء، لأنه أذن في التصرف في ماله فجاز لكل واحد منهما ابطاله
كالاذن في أكل طعامه، وان رهن عند رجل شيئا وجعلاه على يد عدل واتفقا
على أنه يبيعه إذا حل الدين ثم عزله الراهن عن البيع انعزل لأنه وكيله في البيع
فانعزل بعزله كالوكيل في بيع غير الرهن.
وان عزله المرتهن ففيه وجهان (أحدهما) أنه ينعزل، وهو ظاهر النص
لأنه يبيع الرهن لحقه، فانعزل بعزله كالراهن (والثاني) لا ينعزل، وهو قول
أبي إسحاق لأنه ليس بوكيل له في البيع، فلم ينعزل بعزله، وان وكل رجلا في
تصرف وأذن له في توكيل غيره نظرت، فان أذن له في التوكيل عن الموكل فهما
وكيلان للموكل، فان بطلت وكالة أحدهما لم تبطل وكالة الآخر، وان أذن له في
توكيله عن نفسه فان الثاني وكيل الوكيل، فان عزله الموكل انعزل لأنه يتصرف
له فملك عزله كالوكيل، وان عزله الوكيل انعزل، لأنه وكيله فانعزل بعزله،
وان بطلت وكالة الوكيل بطلت وكالته، لأنه فرع له، فإذا بطلت وكالة الأصل
بطلت وكالة الفرع.
وان وكل رجلا في أمر ثم خرج عن أن يكون من أهل التصرف في ذلك
الامر بالموت أو الجنون أو الاغماء أو الحجر أو الفسق بطلت الوكالة، لأنه
154

لا يملك التصرف فلا يملك غيره من جهته، وإن أمر عبده بعقد ثم أعتقه أو باعه
ففيه وجهان.
(أحدهما) لا ينعزل كما لو أمر زوجته بعقد ثم طلقها.
(والثاني) أنه ينعزل، لان ذلك ليس بتوكيل في الحقيقة، وإنما هو أمر
ولهذا يلزم أمثاله، وبالعتق والبيع سقط أمره عنه، وإن وكل في بيع عين فتعدى
فيها بأن كان ثوبا فلبسه، أو دابة فركبها، فهل تبطل الوكالة أم لا؟ فيه وجهان
أحدهما: تبطل فلا يجوز له البيع، لأنه عقد أمانة فتبطل بالخيانة كالوديعة.
والثاني: أنها لا تبطل، لأن العقد يتضمن أمانة وتصرفا، فإذا تعدى فيه بطلت
الأمانة وبقى التصرف، كالرهن يتضمن أمانة ووثيقة، فإذا تعدى فيه بطلت
الأمانة وبقيت الوثيقة.
وان وكل رجلا في تصرف ثم عزله ولم يعلم الوكيل بالعزل، ففيه قولان.
(أحدهما) لا ينعزل، فان تصرف صح تصرفه، لأنه أمر فلا يسقط حكمه قبل
العلم بالنهي كأمر صاحب الشرع (والثاني) أنه ينعزل، فان تصرف لم ينفذ تصرفه
لأنه قطع عقد لا يفتقر إلى رضاه فلم يفتقر إلى علمه كالطلاق.
(الشرح) الأحكام: لما كانت الوكالة عقدا جائزا من الطرفين فللموكل
عزل وكيله متى شاء، وللوكيل عزل نفسه، لأنه أذن في التصرف، فكان لكل
واحد منهما ابطاله، كما لو أذن في أكل طعامه، وتبطل أيضا بموت أحدهما أيهما
كان وجنونه المطبق، ولا خلاف في هذا كله فيما نعلم، فمتى تصرف الوكيل بعد
فسخ الموكل أو موته فهو باطل إذا علم ذلك، فإن لم يعلم الوكيل بالعزل ولا موت
الموكل فعن أحمد فيه روايتان، وللشافعي فيه قولان، وظاهر النص أنه ينعزل
علم أو لم يعلم، ومتى تصرف فبان أن تصرفه بعد عزله أو موت موكله فتصرفه
باطل، لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضا صاحبه، فلا يفتقر إلى علمه كالطلاق
والعتاق والى هذا ذهب الخرقي من الحنابلة.
والقول الثاني وهي الرواية الثانية عن أحمد: لا ينعزل قبل علمه بموت الموكل
وعزله، نص عليه في رواية جعفر بن محمد امام العترة، لأنه لو انعزل قبل علمه
155

كان فيه ضرر، لأنه قد يتصرف تصرفات فتقع باطلة، وربما باع الطعام فيأكله
المشترى أو غير ذلك من اطلاق يد المشترى ويجب ضمانه. فيتضرر المشترى
والوكيل. ولأنه يتصرف بأمر الموكل ولا يثبت حكم الرجوع في حق المأمور
قبل علمه بالفسخ. فعلى هذا لو تصرف قبل العلم نفذ تصرفه.
وعن أبي حنيفة أنه ان عزله الموكل فلا ينعزل قبل علمه لما ذكرنا، وان
عزل الوكيل نفسه لم ينعزل الا بحضرة الموكل، لأنه متصرف بأمر الموكل،
فلا يصح رد أمره بغير حضرته كالمودع في رد الوديعة.
ولنا ما تقدم، فأما الفسخ ففيه وجهان كالروايتين ثم هما مفترقان، فان أمر
الشارع يتضمن المعصية بتركه: ولا يكون عاصيا من غير علمه، وهذا يتضمن
العزل عنه ابطال التصرف، فلا يمنع منه عدم العلم.
ومتى خرج أحدهما عن أن يكون من أهل التصرف مثل أن يجن أو يحجر عليه
لسفه فحكمه حكم الموت. لأنه لا يملك التصرف فلا يملكه غيره من جهته.
فإذا وسوس أحدهما فهو مثل العزل. وان حجر على الوكيل لفلس فالوكالة
بحالها، لأنه لم يخرج عن كونه أهلا للتصرف. وان حجر على الموكل وكانت
الوكالة في أعيان ماله بطلت لانقطاع تصرفه في أعيان ماله. وإن كانت في
الخصومة أو الشراء في الذمة أو الطلاق أو الخلع أو القصاص فالوكالة بحالها،
لان الموكل أهل لذلك. وله أن يستنيب فيه ابتداء فلا تنقطع الاستدامة، وان
فسق الوكيل لم ينعزل. لأنه من أهل التصرف. الا أن تكون الوكالة فيما ينافيه
الفسق كالايجاب في عقد النكاح فإنه ينعزل بفسقه أو فسق موكله بخروجه عن
أهلية التصرف. فإن كان وكيلا في القبول للموكل لم ينعزل بفسق موكله لأنه
لا ينافي جواز قبوله.
وهل ينعزل بفسق نفسه؟ فيه وجهان.
وإن كان وكيلا فيما تشترط فيه الأمانة كوكيل اليتيم وولى الوقف على
المساكين ونحو هذا انعزل بفسقه وفسق موكله بخروجهما بذلك عن أهلية التصرف
وإن كان وكيلا لوكيل من يتصرف في مال نفسه انعزل بفسقه. لان الوكيل
156

ليس له توكيل فاسق. ولا ينعزل بفسق موكله. لان موكله وكيل لرب المال،
ولا ينافيه الفسق ولا تبطل الوكالة بالنوم والسكر والاغماء، لان ذلك لا يخرجه
عن أهلية التصرف، ولا تثبت عليه ولاية إلا أن يحصل الفسق بالسكر فيكون
فيه من التفصيل ما أسلفنا
(فرع) إذا تعدى فيما وكل فيه، مثل أن يلبس الثوب أو يركب الدابة فهل
تبطل الوكالة. وجهان (أحدهما) تبطل الوكالة لأنها عقد أمانة فتبطل بالتعدي
كالوديعة (الثاني) لا تبطل الوكالة بالتعدي فيما وكل فيه، وبهذا الوجه قال أحمد
وأصحابه. لأنه إذا تصرف فإنما يتصرف في نطاق إذن موكله فكان كما لو لم يتعد
فصح ويفارق الوديعة من جهة أنها أمانة مجردة فنافاها التعدي والخيانة، والوكالة
إذن في التصرف تضمنت الأمانة، فإذا انتفت الأمانة بالتعدي بقي الاذن بحاله.
فعلى هذا لو وكله في بيع ثوب فلبسه صار ضامنا، فإذا باعه صح بيعه وبرئ
من ضمانه لدخوله في ملك المشتري وضمانه، فإذا قبض الثمن كان أمانة في يده غير
مضمون عليه، لأنه قبضه باذن الموكل ولم يتعد فيه. وإذا دفع إليه مالا ووكله
في شراء شئ فتعدى في الثمن فصار ضامنا له، فإذا اشترى به وسلمه زال الضمان
وقبضه للمبيع قبض أمانة.
وإن وجد بالمبيع عيبا فرد عليه، أو وجد هو بما اشترى عيبا فرده وقبض
الثمن كان مضمونا عليه، لأن العقد المزيل للضمان زال فعاد ما زال عنه.
(فرع) إذا وكل امرأته في بيع أو شراء أو غيره ثم طلقها لم تنفسخ الوكالة
لان زوال النكاح لا يمنع ابتداء الوكالة فلا يقطع استدامتها. والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والوكيل أمين فيما في يده من مال الموكل، فان تلف في يده
من غير تفريط لم يضمن، لأنه نائب عن الموكل في اليد والتصرف، فكان
الهلاك في يده كالهلاك في يد الموكل فلم يضمن.
وإن وكله في بيع سلعة وقبض ثمنها فباعها وقبض ثمنها. وتلف الثمن واستحق
157

المبيع رجع المشترى بالثمن على الموكل لان البيع له فكان الرجوع بالعهدة عليه.
كما لو باع بنفسه.
(الشرح) الأحكام: اليد في أموال الغير على ثلاثة أقسام، يد ضامنة ويد
أمينة، ويد اختلف الشافعي هل هي ضامنة أو أمينة، فالأولى كيد الغاصب
والمستعير والمساوم والمشترى والمستقرض، وكل هؤلاء يلزمهم ضمان ما هلك
بأيديهم، وإن كان هلاكه من غير تعديهم، لأنهم أصلا بين متعد أو معاوض.
والثانية كيد الوكيل والمضارب والشريك والمودع والمستأجر والمرتهن،
فهؤلاء كلهم لا ضمان عليهم ما لم يتعدوا ويفرطوا، لأنه ليس فيهم متعد بيده
ولا معاوض.
وأما اليد المختلف فيها فيد الأجير المشترك إذا هلك بيده ما استؤجر على عمله
من غير تفريط فيه ولا تعد عليه، ففيها قولان (أحدهما) أنها كيد المستعير
عليها الضمان، والثاني أنها كيد المودع لا ضمان عليها فيما هلك
فإذا تقرر هذا فإن الوكيل أمين فيما بيده لموكله، ولا ضمان عليه إن هلك
لامرين (أحدهما) أن الموكل قد أقامه فيه مقام نفسه، وهو لا يلزم لنفسه ضمان
ما بيده، فكذلك الوكيل الذي هو بمثابته
(والثاني) أن الوكيل له عقد ارفاق ومعونة، وفى تعلق الضمان بها ما يخرج
عن مقصود الارفاق والمعونة فيها: وسواء كانت الوكالة بعوض أو بغير عوض
فكان أبو علي الطبري رحمه الله يقول: إذا كانت بعوض جرت مجرى الأجير
المشترك فيكون وجوب الضمان على قولين. وهذا ليس بصحيح. لأنها إذا
خرجت عن حكم الإجارة في اللزوم خرجت عن حكمها في الضمان
(فرع) قال المزني: فإن طلب منه الثمن فمنعه فقد ضمنه الا في حال لا يمكنه
فيه دفعه. قال الماوردي في حاويه " وهذا كما قال: إذا كان مع الوكيل ثمن
ما باع الموكل فطلب منه فمنعه، فلا يخلو حال منعه من أحد أمرين. اما أن يكون
بعذر أو بغير عذر. فإن كان لعذر لحدوث مرض أو خوف منع من الوصول
إلى موضع الثمن. أو لخوف فوات فرض من جمعة أو مكتوبة قد ضاق وقتها.
158

أو لضياع مفتاح أو لملازمة غريم له إلى ما جرى مجرى ذلك فهذا عذر في تأخير
الدفع ولا ضمان عليه ان تلف قبل الدفع. وان منعه لغير عذر صار ضامنا له.
فان تلف كان عليه غرمه. فلو منعه من دفعه حتى يشهد على نفسه بقبضه فقد
اختلف أصحابنا الخ "
(قلت) سيأتي مزيد ايضاح لهذا الفصل في آخر فصل في هذا الباب لتعلقها به
هناك. أما بقية الكلام على أحكام هذا الفصل فنقول:
ان تلفت العين التي وكل في التصرف فيها فقد بطلت الوكالة. لان محلها
ذهب فذهبت الوكالة كما لو وكله في بيع بقرة فماتت. ولو دفع إليه دينارا ووكله
في الشراء به فهلك الدينار أو ضاع. أو استقرضه الوكيل وتصرف فيه بطلت
الوكالة. سواء وكله في الشراء بعينه أو مطلقا: ويجرى عليه من الضمان
ما أسلفنا ايضاحه من حيث التعدي والتفريط أو عكسهما والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى.
(فصل) إذا ادعى رجل على رجل أنه وكله في تصرف فأنكر المدعى
عليه فالقول قوله لأنه ينكر عقدا الأصل عدمه فكان القول قوله. وان اتفقا
على الوكالة واختلفا في صفتها. بأن قال الوكيل: وكلتني في بيع ثوب. وقال
الموكل: بل وكلتك في عبد، أو قال الوكيل: وكلتني في البيع بألف وقال: بل
وكلتك في البيع بألفين. أو قال الوكيل: وكلتني في البيع بثمن مؤجل وقال
الموكل: بل وكلتك في البيع بثمن حال فالقول قول الموكل لأنه ينكر اذنا
والأصل عدمه، ولان من جعل القول قوله في أصل التصرف كان القول قوله
في كيفيته كالزوج في الطلاق
(فصل) وان اختلفا في التصرف فادعى الوكيل أنه باع المال وأنكر
الموكل أو اتفقا على البيع واختلفا في قبض الثمن فادعى الوكيل أنه قبض الثمن
وتلف وأنكر الموكل ففيه قولان (أحدهما) أن القول قول الوكيل لأنه يملك
العقد والقبض. ومن ملك تصرفا ملك الاقرار به. كالأب في تزويج البكر.
159

(والثاني) أنه لا يقبل قوله، لأنه إقرار على الموكل بالبيع وقبض الثمن، فلم يقبل
كما لو أقر عليه أنه باع ماله من رجل وقبض ثمنه، وإن وكله في ابتياع جارية
فابتاعها ثم اختلفا، فقال الوكيل: ابتعتها بإذنك بعشرين. وقال الموكل: بل
أذنت لك في ابتياعها بعشرة، فالقول قول الموكل لما بيناه. فإن حلف الموكل
صارت الجارية للوكيل في الظاهر، لأنه قد ثبت أنه ابتاعها بغير الاذن، فإن
كان الوكيل كاذبا كانت الجارية له في الظاهر والباطن، وإن كان صادقا كانت
الجارية للموكل في الباطن، وللوكيل في الظاهر
قال المزني: ويستحب الشافعي رحمه الله في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالموكل
فيقول: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين فبعه إياها بعشرين، فان قال له:
بعتك هذه الجارية بعشرين صارت الجارية للوكيل في الظاهر والباطن
وإن قال كما قال المزني: إن كنت أذنت لك في ابتياعها بعشرين فقد بعتكها
بعشرين، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال لا يصح، لأنه بيع معلق على
شرط فلم يصح، وجعل ما قاله المزني من كلام الحاكم لا من كلام الموكل. ومنهم
من قال يصح، لان هذا الشرط يقتضيه العقد لأنه لا يصح أن يبيعها إلا أن
يكون قد أذن له في الابتياع بعشرين، وما يقتضيه العقد لا يبطل العقد بشرطه
فان امتنع الموكل من البيع قال المزني: يبيعها الوكيل ويأخذ حقه من ثمنها. وقال
أبو سعيد الإصطخري فيه وجهان
(أحدهما) ما قال المزني.
(والثاني) أنه يملكها ظاهرا وباطنا بناء على القولين فيمن ادعى على رجل
أنه اشترى منه دارا وأنكر المشترى، وحلف أن المستحب للمشترى أن يقول
للبائع: إن كنت اشتريتها منك فقد فسخت البيع، وإن لم يفعل المشترى ذلك ففيه
قولان (أحدهما) أن البائع يبيع الدار ويأخذ ثمنها (والثاني) أن البائع يملك
الدار لان المشترى صار كالمفلس بالثمن لتعذر الثمن من جهته، فيكون البائع
أحق بعين ماله.
وقال أبو إسحاق: لا يملك الوكيل الجارية قولا واحدا، وتخالف الدار
لأنها كانت للبائع، فإذا تعذر الثمن انفسخ البيع وعاد المبيع إليه كما يعود إذا
160

تحالف المتبايعان والجارية لم تكن للوكيل، فتعود إليه عند التعذر، فان قلنا
يملكها ظاهرا وباطنا تصرف فيها بالوطئ وغيره. وان قلنا إنها للموكل في الباطن
كان كمن له على رجل دين لا يصل إليه. ووجد له مالا من غير جنس حقه.
(الشرح) الأحكام: قال المزني رحمه الله تعالى: فإن كان وكله ببيع متاعه
فباعه فقال الوكيل قد دفعت إليك الثمن فالقول قوله مع يمينه. وقال الماوردي
في حاويه: اعلم أن ما يدعيه الوكيل على موكله ينقسم ثلاثة أقسام: قسم يقبل
فيه قول الوكيل. وقسم لا يقبل فيه قوله. وقسم اختلف قوله في قبول قوله (1)
فيه. فأما القسم الأول وهو ما قبل فيه قول الوكيل على الموكل فهو في رد ما قد
ائتمنه عليه. وجملة الأيدي التي لا يتعلق بها ضمان أنها على ثلاثة أقسام
(أحدها) ما يقبل فيه (قول (2)) صاحبها في رد ما كان معه، وهو من ائتمنه
المالك على ماله في حق نفسه من غير نفع يعود (عليه) في أمانته كالمودع، فقوله
في رد ما بيده من الوديعة على ربها مقبول، لأنه لما أقامه مقام نفسه وجب أن
يكون قوله عليه (مقبولا) كقوله على نفسه
(والثاني) من لا يقبل قوله وإن كان أمينا في رد ما بيده وهو من يده لحق
نفسه كالمرتهن فلا يقبل قوله في الرهن على راهنه، لأنه ليس بنائب عنه، فلم
يقبل قوله عليه
(والثالث) من اختلف أصحابنا في قبول (قوله) وهو من كان نائبا عن
المالك لكن لنفع يعود عليه (من) نيابته، كالعامل في القراض، والأجير
المشترك، ففي قبول قولهم وجهان
(أحدهما) أن قولهم مقبول في رد ما بأيديهم لنيابتهم عن المالك، وهذا
أظهر القولين (الوجهين) وهو قول الجمهور

(1) اختلف قوله، أي قول الإمام الشافعي رضي الله عنه، وكذا كل ما جاء
على هذا النحو من عود ضمير الغائب على غير مذكور في اثبات قول أو حكم أو
مذهب.
(2) ما بين القوسين منا.
161

(والثاني) وهو قول أبى على الطبري: أن قولهم غير مقبول في رد ما بأيديهم
لان عود النفع إليهم يجعلهم كالمتصرفين في حق أنفسهم فلم يقبل قولهم كالمرتهن
فإذا تقرر هذا للأصل فالوكيل إن كان متطوعا، فقوله في رد ما بيده مقبول على
موكله، وإن كان بأجرة ففي قبول قوله وجهان، فهذا ما يتعلق بالقسم الأول مما
يقبل فيه قول الوكيل على الموكل.
وأما القسم الثاني: وهو مالا يقبل فيه قول الوكيل على الموكل، فهو أن
يدعى إذنا في تصرف لقول الوكيل: أمرتني ببيع كذا، أو بإعطاء زيد كذا
فينكر الموكل ذلك، فالقول قول الموكل دون الوكيل، لأنه في هذه الدعوى
بمثابة مدعى عقد الوكالة، ومدعى الوكالة لا يقبل قوله في ادعائها، لذلك مدعى
الاذن لا يقبل قوله في ادعائه، وكذلك إذا اتفقا على الاذن، واختلفا في صفته
كقول الوكيل أمرتني بإعطاء زيد ألفا فقال: بل أمرتك بإعطائه ثوبا، وكقوله
أمرتني ببيع عبدك بألف، فقال: بل أمرتك بألفين، فالقول فيه قول الموكل،
فلا يقبل فيه دعوى الوكيل إلا ببينة يقيمها على ادعاءه، والبينة شاهدان عدلان
لا غير، لأنها بينة في إثبات الوكالة.
وأما القسم الثالث: وهو ما اختلف قوله في قبول (قول) الوكيل فيه على
موكله، فهو أن يوكل في عمل فيدعى الوكيل إيقاعه على الوجه المأذون فيه،
وينكره الموكل، كتوكيله في بيع أو نكاح أو هبة أو عتق أو طلاق أو إقباض
مال، فينكر الموكل ذلك مع تصديق البائع والمنكوحة والموهوبة له والمطلقة
والقابض والمقبض، ففيه قولان محكيان عن الشافعي، ووجهان ذكرهما ابن
سريج، فأحد قولي الشافعي أن القول في جميع ذلك قول الموكل إلا أن يقيم
الوكيل بينة على ما ادعاه، والبينة عليه معتبرة في كونه مالا أو غير مال، وإنما
كان القول قول الموكل لأنها عقود فلم يلزم بمجرد الدعوى.
والقول الثاني: أن القول في جميع ذلك قول الوكيل، لان الموكل أقامه مقام
نفسه، بعد قوله عليه. فهذان قولا الشافعي المحكيان عنه.
وأما وجها أبى العباس بن سريج فإنه ذكر في كتاب الوكالة بعد حكاية قول
162

الشافعي وجهين ذكر احتمالهما، ونص توجيههما، أحد الوجهين أنه إن كان
ما أقر به الوكيل يتم به وحده كالعتق والطلاق والابراء كان قوله مقبولا فيه،
لأنه لما كان يصح من الوكيل في الحال صح إقراره به في تلك الحال، وما كان
بخلافه لم يقبل إقراره به.
والوجه الثاني: وهو الذي عول عليه واعتمد على نصرته: إن؟ ن الاقرار
به كإيقاع (طلاق) قبل قوله فيه، وما كان بخلافه لم يقبل قوله فيه، وهذان
الوجهان إنما يكون للقول بها وجه إذا كان الوكيل عند الاختلاف باقيا على
الوكالة، فأما منع عزله عنها فلا وجه لتخريجها لما يقتضيه تعليل كل واحد منهما
والله تعالى أعلم.
(فرع) إذا أمر الموكل وكيله ببيع متاعه وقبض ثمنه، فادعى الوكيل البيع
وقبض الثمن وتسليمه إلى الموكل، فإن صدقه على البيع وقبض الثمن وتسليمه إلى
الموكل، فإن صدقه على البيع وقبض الثمن وأنكر أن يكون قبضه منه كان قول
الوكيل مقبولا عليه، لكن مع يمينه، لأنه اختلاف في الدفع، ولو صدقه على
البيع وأنكر قبض الوكيل الثمن من المشترى فهو على قولين، لان الوكيل
يدعى عملا ينكره الموكل، وإن كذبه في البيع وقبض الثمن، فهو على قولين
أيضا لما ذكرنا.
(فرع) إذا أمر الرجل وكيله أن يشترى سيارة، فقال الوكيل: اشتريتها
بألف، قال الموكل: اشتريتها بخمسمائة فالقول قول الوكيل مع يمينه أنه اشترى
السيارة بألف - وثمة قول بأنه إذا كانت السيارة ليست بيده فالقول قول الموكل -
وهذا ليس بصحيح، بل قول الوكيل أولى في الحالين لقبول قوله في أصل الشراء
وكذا يقبل قوله في قدر أصل ثمنه.
(فرع) قال المزني: ولو قال أمرتك أن تشترى هذه الجارية بعشرة فاشتريتها
بعشرين. وقال الوكيل: بل أمرتني بعشرين فالقول قول الآمر مع يمينه وتكون
الجارية في الحكم للموكل، والشافعي يستحب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالآمر
فيقول: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين فقد بعته إياها بعشرين، ويقول
للآخر: قد قبلت، ليحل له الفرج ولمن يبتاعها منه.
163

وقد أثارت هذه العبارة من المزني كلاما لدى الأصحاب، لأنه إن قبل فبيع
الموكل معقود بشرط وهو قوله: ان كنت أمرتك أن تشتريها بعشرين فقد بعتها
عليك بعشرين، وهذا شرط يفسد معه البيع، فاختلف أصحابنا فيما ذكره المزني
من ذلك على وجهين.
أحدهما: أن المزني إنما اختار للحاكم أن يقول ذلك لهما تنبيها على معنى هذا
العقد، والسبب المقصود به من غير أن يذكراه في نفس العقد، فإذا ذكراه فيه
لم يصح، بل يعقد له مطلقا من هذا الشرط، وهذا قول أكثر البصريين.
والوجه الثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وجمهور البغداديين أنه
يجوز لهما أن يعقداه كذلك لأنه هكذا يكون في الحكم فجائز أن يكون ملفوظا به
في العقد.
(فرع) إذا ثبت ما أسلفنا فللموكل حالتان:
إحداهما: أن يجيب إلى بيعها على الوكيل إن كان صادقا فيصير الوكيل مالكا لها
ظاهرا وباطنا. ويجوز له امساكها والاستمتاع بها وبيعها وأخذ الفضل من ثمنها
والحال الثانية: أن لا يجيب إلى بيعها فلا يجبر عليه لأنه ليس بمالك، ولو
كان مالكا لم يجبر على بيع ملكه، وهل يكون الوكيل مالكا لها أم لا؟ على وجهين
أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري انه قد ملكها ملكا تاما ظاهرا وباطنا
لان الملك قد انتقل عن الموكل بثمنه فاقتضى أن ينتقل إلى الوكيل بعقده، فعلى هذا
يجوز للوكيل أن يمسكها، وان باعها ملك الفضل في ثمنها.
والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة: انه
لا يصير مالكا لها، وإنما له أن يأخذ من ثمنها ما غرم فيه، لأنه مقر بأنها ملك
لموكله، فعلى هذا لا يجوز أن يستمتع بها، وإن كان في ثمنها فضل لم يملكه،
وهل يجوز أن ينفرد ببيعها أم لا؟ على وجهين.
(أحدهما) يبيعها بنفسه (والثاني) يتولاه الحاكم، فإن كان الثمن بقدر
ما دفع فقد استوفاه، وإن كان أقل فلا رجوع له ينافيه، وإن كان أكثر فلا
حق له في الزيادة.
وهل يجوز اقرارها في يده؟ أم ينزعها الحاكم منه؟ على وجهين، أحدهما:
164

يقرها في يده لأنه لا خصم له فيها، والوجه الثاني: ينزعها منه لأنه مال قد جهل
مستحقه فصار كأموال العيب - التي ترد بالعيب ويختلف فيها المتبايعان ويضع
الحاكم يده عليها حتى يفصل في النزاع - أم يكون مشترى الجارية مالكها، على
الوجهين جميعا، ولا يكون عدم ملك البائع لها بمانع من استقرار ملك المشتري
من وكيل في بيعها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن اختلفا في تلف المال فادعى الوكيل أنه تلف وأنكر الموكل
فالقول قول الوكيل، لان التلف يتعذر إقامة البينة عليه فجعل القول قوله.
(فصل) وإن اختلفا في رد المال فقال الوكيل: رددت عليك المال وأنكر
الموكل نظرت، فإن كانت الوكالة بغير جعل فالقول قول الوكيل مع يمينه: لأنه
قبض العين لمنفعة المالك، فكان القول في الرد قوله كالمودع، وإن كانت الوكالة
بجعل ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يقبل قوله لأنه قبض العين لمنفعة نفسه، فلم يقبل قوله في
الرد كالمستأجر والمرتهن (والثاني) أنه يقبل قوله لان انتفاعه بالعمل في العين،
فأما العين فلا منفعة له فيها، فقبل قوله في ردها كالمودع في الوديعة.
(فصل) إذا كان لرجل على رجل آخر حق فطالبه به فقال: لا أعطيك
حتى تشهد على نفسك بالقبض نظرت، فإن كان مضمونا عليه كالغصب والعارية
فإن كان عليه فيه بينة فله أن يمتنع حتى يشهد عليه بالقبض، لأنه لا يأمن أن
يقبض ثم يجحد، ويقيم عليه البينة فيغرمه، وإن كان أمانة كالوديعة أو ما في
يد الوكيل والشريك أو مضمونا لا بينة عليه فيه، ففيه وجهان.
(أحدهما) أن له أن يمتنع حتى يشهد بالقبض، وهو قول أبي علي بن
أبي هريرة، لأنه لا يأمن أن يقبض ثم يجحد، فيحتاج أن يحلف أنه لا يستحق
عليه، وفى الناس من يكره أن يحلف (والثاني) أنه ليس له أن يمتنع، لأنه إذا
جحد كان القول قوله أنه لا يستحق عليه شيئا، وليس عليه في اليمين على الحق
ضرر فلم يجز له أن يمتنع والله أعلم.
165

(الشرح) الأحكام: هذا الفصل قد أسلفنا الكلام على بعضه ومجمل القول:
إذا اختلف الموكل والوكيل لم يخل من ستة أحوال:
الأول: إذا اختلفا في التلف، فقال الوكيل تلف مالك في يدي، أو الثمن
الذي قبضته ثمن متاعك تلف في يدي فيكذبه الموكل، فالقول قول الوكيل مع
يمينه لأنه أمين. وهذا مما يتعذر إقامة البينة عليه، فلا يكلف ذلك كالمودع.
وكذلك كل من كان في يده شئ على سبيل الأمانة، كالأب والوصي وأمين الحاكم
والمودع والشريك والمضارب والمرتهن والمستأجر والأجير المشترك على اختلاف
فيه، إلا أن يدعى التلف بأمر ظاهر كالحريق والنهب وشبههما فعليه إقامة البينة
على وجود ذلك في ناحيته، ثم يكون القول قوله في تلفها، وهذا هو مذهبنا
ومذهب أحمد. لان وجود الامر الظاهر مما لا يخفى، فلا تتعذر إقامة البينة عليه
الثاني: أن يختلفا في تعدى الوكيل أو تفريطه في الحفظ ومخالفته أمر موكله
مثل أن يدعى عليه أنه حمل على الدابة فوق طاقتها، أو حمل عليها شيئا لنفسه،
أو فرط في حفظها أو لبس الثوب، أو أمره برد المال فلم يفعل، ونحو ذلك
فالقول قول الوكيل مع يمينه، لأنه أمين ولأنه منكر لما يدعى عليه. والقول
قول المنكر.
الثالث: أن يختلفا في التصرف فيقول الوكيل: بعت الثوب، وقبضت الثمن
فتلف، فيقول الموكل: لم تبع ولم تقبض شيئا، فالقول قول الوكيل مع يمينه
إن كان بغير جعل، لأنه إن كان يجعل كان أجيرا ويده ضامنة
(فرع) قال المزني: ولو قال لصاحب له قد طلبته منك فمنعتني وأنت ضامن
فهو مدع ان الأمانة تحولت مضمونة وعليه البينة، وعلى المنكر اليمين. وهذا
كما قال، إذا منعه من دفع الثمن إليه حتى هلك، ثم اختلفا فقال الوكيل: منعتك
معذورا فلا ضمان على. وقال الموكل منعتني غير معذور فعليك الضمان، فالقول
قول الوكيل مع يمينه إذا كان ما قاله ممكنا، ولا ضمان عليه لأنه على أصل أمانته
فلا تقبل دعوى الموكل عليه في انتقاله عن الأمانة إلى الضمان
(فرع) قال المزني: ولو قال وكلتك ببيع متاعي فقبضته منى وأنكر ثم أقر،
166

أو قامت عليه البينة ضمن - أي انتقل من حال الأمين إلى حال الضامن - لأنه
خرج بالجحود من الأمانة، وهذا صحيح، وصورة ذلك في رجل ادعى على رجل
أنه وكله ببيع متاعه وأقبضه إياه فأنكر المدعى عليه الوكالة وقبض المتاع فالقول
قوله مع يمينه لأنه منكر، فإن أقام المدعى بينة بالوكالة وقبض المتاع صار ضامنا
وخرج بالجحود عن الأمانة فصار كجاحد الوديعة، فلو ادعى بعد قيام البينة
عليه تلفها أو ردها على مالكها لم تقبل دعواه، لأنه ضمن مالا يقبل قوله في
ادعاء البراءة منه، ولأنه صار بالانكار الأول مكذبا لهذه الدعوى منه، وهكذا
لو عاد بعد إنكاره فأقر بقبض المتاع فادعى تلفه أو رده لم يقبل منه، وكان ضامنا
له كقيام البينة عليه بقبضه.
فلو أقام البينة برده على موكله أو بتلف ذلك في يده قبل جحوده ففيه وجهان
أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: إنها بينة مردودة، لأنه قد أكذبها
بسابق إنكاره.
والوجه الثاني وهو قول أبى القاسم الصيمري، وحكاه أبو حامد الأسفراييني
إن بينته مقبولة، يقدم ما شهدت به على الجحود الموجب للضمان. قال الماوردي
والوجه الأول أصح.
(فرع) قال المزني: ولو قال: وكلتك في بيع متاعي فبعته، وقال: مالك
عندي شئ، فأقام عليه البينة فقال: صدق أو قد دفعت إلى أهله ثمنه فهو مصدق
لان من دفع شيئا إلى أهله فليس هو عنده، ولم يكذب نفسه فهو على أصل أمانته
وتصديقه. وهذا صحيح، إذا ادعى أنه وكله في متاع أقبضه إياه ليبيعه فقال
الوكيل: مالك عندي شئ أو ليس لك في يدي حق فهذا جواب مقنع في الدعوى
والقول فيه قوله مع يمينه، لأنه منكر. وكل من ادعى عليه مال في يديه وذكر
المدعى سبب استحقاقه كالوديعة والغصب فالمدعى عليه إذا كان منكرا له أن
يجيب بأحد جوابين، إما أن يقول: ما أخذت منك هذه الوديعة، ولا غصبتك
هذا المال، وإما أن يقول: مالك قبلي حق، فكلا الجوابين مقنع في إنكار
الدعوى وعليه اليمين.
وصفة إحلافه وتحليفه بحسب اختلاف الجواب، فإن كان جوابه مطلقا
167

بأن قال: ليس عندي لك حق، أحلف على ما أجاب بالله أن ماله قبله حق،
ولا يجوز للحاكم أن يحلفه: ما أخذ وديعة، أو ما غصبه، لأنه قد يجوز أن يكون
قد ملكه عليه بعد الوديعة والغصب، بهبة أو بيع استوفى ثمنه، فلا يكون قبله
حق، وبحيث إن حلف ما استودع ولا غصب بر
وإن كان جوابه أن قال: ما غصبتك، أو قال: ما أخذت وديعتك، فقد
اختلف أصحابنا في صفة إحلافه على وجهين (أحدهما) أنه يحلف بالله ماله قبله
حق احترازا مما ذكرنا (والوجه الثاني) أنه يحلف على ما أجاب بالله ما غصبه،
ولا أخذ وديعته لان تركه الاحتراز في جوابه ينفى التوهم عنه فيما ذكرنا.
فإذا ثبت أن جوابه بما ذكرنا مقنع فحلف ثم قامت البينة عليه بقبض المال
أو عاد فأقر به ثم ادعى تلفه أو رد ثمنه لم يضمن وكان قوله مقبولا فيه لامرين
أحدهما: أن ما ادعاه في الثاني مطابق لما أجاب به في الأول، لان من يرد الشئ
على مالكه فليس له شئ في يده.
والثاني: أنه ليس له في جوابه الأول تكذيب الشهود، وبهذين المعنيين
فرقنا بين المسألتين، فلو قامت عليه البينة في هذه المسألة بأن المتاع كان في يده
بعد أن أجاب بأن لا شئ لك عندي صار ضامنا ولم يقبل قوله في الرد أو التلف
لان هذا الجواب منه مع بقاء الشئ في يده كذب وجحود فصار ضامنا:
(فرع) قال المزني: ولو جعل للوكيل فيما وكله جعلا، فقال للموكل جعلي
قبلك، وقد دفعت إليك مالك، فقال: بل خنتني فالجعل مضمون لا تبرئه منه
الجناية عليه.
وقد ذكرنا أن الوكالة تجوز بجعل وبغير جعل، ولا يصح الجعل إلا أن
يكون معلوما، فلو قال: قد وكلتك في بيع هذا الثوب على أن جعلك عشر ثمنه
أو من كل مائة درهم من ثمنه درهم لم يصح للجهل بمبلغ الثمن وله أجرة مثله،
فلو وكله في بيع كتاب بأجر معلوم فباعه بيعا فاسدا فلا جعل له، لان مطلق
الاذن بالبيع يقتضى ما صح منه، فصار الفاسد غير مأذون فيه فلم يستحق جعلا
عليه، فلو باعه بيعا صحيحا وقبض ثمنه، وتلف الثمن في يده فله الأجرة لوجود
العمل، وهذا بخلاف الصانع إذا استؤجر عليه حياكة ثوب أو تجليد كتاب
168

فتلف الثوب أو الكتاب في يده بعد عمله، فلا أجرة له إن كان مشتركا، والفرق
الذي تلف الثمن في يده والذي تلف الثوب أو الكتاب في يده أن المقصود من
الأجير تسليم العلم المستحق في مقابلة العوض، فما لم يحصل التسليم لم يجب ما في
مقابلته من العوض، والمقصود من الوكيل وجود العمل المأذون فيه، فلو باع
الوكيل الثوب فتلف الثوب في يده قبل تسليمه إلى مستحقه بطل البيع، ولم
يبطل جعل الوكيل، لان بطلانه بمعنى حادث بعد صحته، فصار بالعمل مأجورا
فيه، وكان بخلاف وقوع البيع فاسدا، فلو سلم الثوب إلى مشتريه وقبض ثمنه
فتلف في يده، ثم استحق الثوب من يد المشترى كان البيع فاسدا وللوكيل جعله
لان بطلانه ليس من جهة الوكيل فصار مقصوده بالاذن مجرد العمل على وجه
الصحة دون الصحة، وقد وجد من الوكيل ذلك العمل.
فأما رجوع المشترى بالثمن، فإن لم يعلم بالوكالة فله الرجوع على الوكيل
ويرجع الوكيل به على الموكل، وإن علم بالوكالة ففيه وجهان (أحدهما) وهو
قول أبى حامد المروزي ذكره في جامعه أن يرجع على الموكل دون الوكيل، لأنه
مبيع عليه كالمبيع على المفلس (والثاني) يرجع على من شاء منهما، لان لكل
واحد منهما في العقد تأثيرا
فإذا ثبت ما وصفنا من جواز الوكالة بجعل واستحقاقه بعد العمل، فطالب
الوكيل الموكل بجعله، وادعى أنه قد باع ما وكل في بيعه، وأنه قد رد ثمنه على
موكله فللموكل حالتان، حالة ينكر العمل الذي ادعاه من البيع وقبض الثمن،
وحالة يعترف به، فإن أنكر الموكل ذلك فالقول قوله مع يمينه، ولا جعل
للوكيل إلا ببينة يقيمها على البيع، سواء قبل قوله في البيع؟ أم لا، لأنه يدعى
عملا يستحق به جعلا فلم يقبل قوله في دعواه، وإن صدقه الموكل على ذلك
وادعى دفع الجعل إليه فالقول قول الوكيل مع يمينه وله الجعل، لان الموكل
مدع براءة الذمة من جعل تعلق بها، فلو قال الموكل له بعد تصديقه على البيع،
إنك خنتني في عملك بقدر جعلك فبرئت منه بخيانتك، وأنكر الوكيل الخيانة،
فالقول قول الوكيل مع يمينه أنه لم يخن وله المطالبة بجعله.
169

(فرع) إذا تلف الثمن قبل دفعه للموكل، فإن كان لعذر في تأخير الدفع فلا
ضمان، فلو منعه من دفعه حتى يشهد على نفسه بقبضه فقد اختلف أصحابنا هل له
ذلك ويلزم الموكل الاشهاد على نفسه بالقبض أم لا؟ على ثلاثة أوجه.
أحدها وهو الصحيح: أن ليس له ذلك ولا يلزم الموكل بالاشهاد على نفسه
بالقبض، لان قول الوكيل مقبول في الدفع، فعلى هذا يصير بالمنع ضامنا،
وعليه الغرم إن تلف.
والوجه الثاني: له الامتناع بالدفع إلا بالاشهاد ليسلم من اليمين مع الاكذاب
فعلى هذا لا يصير بالمنع ضامنا ولا غرم عليه إن تلف.
والوجه الثالث وهو مذهب مالك: أنه إذا قبض المال بالاشهاد لم يلزم دفعه
إلا بالاشهاد، وإن قبضه بغير إشهاد لزمه الدفع بغير إشهاد، فأما من كان غير
مقبول القول في الدفع فلا يلزمه الدفع إلا بالاشهاد سواء كان ضامنا كالغاصب
والمستعير أو غير ضامن كالمرتهن.
فأما المضارب والأجير المشترك - فإن قلنا بأحد الوجهين: إن قوله في الدفع
غير مقبول لم يلزمهم الدفع الا بالاشهاد، وان قلنا بالصحيح من المذهب: ان
قولهم في الدفع مقبول ففي وجوب الاشهاد لهم ثلاثة أوجه على ما أسلفنا والله
تعالى الموفق للصواب وهو حسبنا ونعم الوكيل.
170

قال المصنف رحمه الله:
كتاب الوديعة
(الشرح) يقال: ودعته أدعه ودعا تركته، وأصل المضارع الكسر من ثم
حذفت الواو ثم فتح لمكان حرف الحلق، قال بعض المتقدمين: وزعمت النحاة
أن العرب أماتت ماضي يدع ومصدره واسم الفاعل، وقد قرأ مجاهد وعروة
ومقاتل وابن أبي عبلة ويزيد النحوي " ما ودعك ربك " بالتخفيف، وفى الحديث
" لينتهين قوم عن ودعهم الجمعات " أي تركهم، فقد رويت هذه الكلمة عن
أفصح العرب ونقلت من طريق القراء، فكيف يكون إماتة، وقد جاء الماضي
في بعض الاشعار وما هذه سبيله فيجوز القول بقلة الاستعمال، ولا يجوز القول
بالإماتة، ووادعته موادعة صالحته، والاسم الوداع بالكسر وودعته توديعا
والاسم الوداع بالفتح مثل سلم سلاما وهو ان تشيعه عند سفره، والوديعة
فعيلة، بمعنى مفعولة، وأودعت زيدا مالا دفعته إليه ليكون عنده وديعة وجمعها
ودائع واشتقاقها من الدعة وهي الراحة، أو أخذته منه وديعة، فيكون الفعل
من الأضداد لكن الفعل في الدفع أشهر واستودعته مالا دفعته له وديعة يحفظه
وقد ودع زيد بضم الدال وفتحها وداعة بالفتح والاسم الدعة وهي الراحة وخفض
العيش والهاء عوض من الواو
والأصل فيها الكتاب والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " وقوله
تعالى " فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته " وقوله تعالى " وتعاونوا
على البر والتقوى ".
أما السنة: فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أد الأمانة إلى من ائتمنك
ولا تخن من خانك " رواه أبو داود والترمذي من حديث أبي هريرة (رض)
171

وقال: حديث حسن. وأخرجه الحاكم وصححه، وفى إسناده طلق بن غنام عن
شريك واستشهد له الحاكم بحديث أبي التياح عن أنس، وفى إسناده أيوب بن
سويد وهو مختلف فيه، وقد تفرد به كما قال الطبراني، وقد استنكره أبو حاتم
وقد روى هذا الحديث أيضا البيهقي ومالك.
وفى هذا الباب عن أبي بن كعب عند ابن الجوزي في العلل المتناهية، وفى
إسناده من لا يعرف، وأخرجه أيضا الدارقطني. وعن أبي أمامة عند البيهقي
والطبراني بسند ضعيف. وعن أنس عند الدارقطني والطبراني والبيهقي وأبى نعيم
وعن رجل من الصحابة عند أحمد وأبى داود والبيهقي، وفى إسناده مجهول آخر
غير الصحابي، لان يوسف بن ماهك رواه عن فلان آخر وقد صححه ابن السكن
وعن الحسن مرسلا عند البيهقي.
قال الشافعي رضي الله عنه: هذا الحديث ليس بثابت، وقال أحمد: هذا
حديث باطل لا أعرفه من وجه يصح. وقال ابن الجوزي: لا يصح من جميع
طرقه، ولا يخفى أن ورود هذا الحديث بهذه الطرق المتعددة مع تصحيح
إمامين من الأئمة المعتبرين لبعضها، وتحسين إمام ثالث منهم مما يصير به الحديث
منتهضا للاحتجاج به.
وقوله " ولا تخن من خانك " فيه دليل على عدم جواز مكافأة الخائن بمثل
فعله، فيكون مخصصا للعموم في قوله تعالى " وجزاء سيئة سيئة مثلها " وقوله
تعالى " وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " وقوله تعالى " فمن اعتدى عليكم
فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ".
قال الشوكاني رحمه الله تعالى: إن الأدلة القاضية بتحريم مال الآدمي ودمه
وعرضه عمومها مخصص بهذه الآيات الثلاث، والحديث مخصص لهذه الآيات،
فيحرم من مال الآدمي وعرضه ودمه ما لم يكن على طريق المجازاة فإنها حلال إلا
الخيانة ولكن الخيانة إنما تكون في الأمانة كما يشعر بذلك كلام صاحب القاموس
على أن الأحاديث التي يثبت معها أداء الوديعة كثيرة سيأتي كثير منها في فصول
هذا الباب إن شاء الله
172

وأما الاجماع فأجمع علماء كل عصر على جواز الابداع والاستيداع والضرورة تقتضيها
وبالناس إليها حاجة فإنه يتعذر على جميعهم حفظ أموالهم بأنفسهم ويحتاجون إلى من يحفظ
لهم، واشتقاق الوديعة من السكون يقال ودع وديعة فكأنها ساكنة عند المودع
مستقرة، أو هي مشتقه من الخفض والدعة فكأنها في دعة عند المودع وقبولها
مستحب لمن يعلم من نفسه الأمانة، لان فيها قضاء حاجة أخيه المؤمن ومعاونته
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
يستحب لمن قدر على حفظ الوديعة وأداء الأمانة فيها أن يقبلها لقوله تعالى
" وتعاونوا على البر والتقوى " ولما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه
كربة من كرب يوم القيامة، والله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه
فإن لم يكن من يصلح لذلك غيره وخاف ان لم يقبل أن تهلك تعين عليه قبولها،
لان حرمة المال كحرمة النفس، والدليل عليه ما روى ابن مسعود أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " حومة مال المؤمن كحرمة دمه " ولو خاف على دمه
لوجب عليه حفظه، فكذلك إذا خاف على ماله وإن كان عاجزا عن حفظها
أو لا يأمن أن يخون فيها لم يجز له قبولها، لأنه يغرر بها ويعرضها للهلاك،
فلم يجز له أخذها.
(الشرح) حديث أبي هريرة رواه البخاري، ومسلم عن ابن عمر، وروى
بعضه ابن ماجة واسناده صحيح ورواه الترمذي يلفظ " المسلم أخو السلم لا يخونه
ولا يكذبه ولا يخذله، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه، التقوى
ههنا، بحسب امرئ من الشر ان يحقر أخاه المسلم " قال الترمذي: حديث حسن
أما حديث ابن مسعود رضي الله عنه: فقد رواه أبو نعيم في الحلية. قال في
الجامع الصغير: وهو غريب ضعيف، وقد وردت أحاديث كثيرة بمعناه أظهرها
ما جاء في خطبة الوداع " ان الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة
173

يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا " واقتران المال والدم والعرض في حرمتها
وتشبيه الحرمة بحرمة مكة في يوم الوقوف من شهر ذي الحجة يدل على صحة
التساوي بين المال والدماء.
أما الأحكام فقد اتفق الأئمة كلهم على أن الوديعة من القرب المندوب إليها.
واتفقوا على أن حفظها فيه ثواب، وأن قبول حفظها أمانة محضة، وأن الضمان
لا يجب على المودع إلا إذا تعدى، وأن القول قوله في تلفها وردها على الاطلاق
مع يمينه على تفصيل سيأتي كما سيأتي ما اختلفوا فيه. أما إذا خاف على الوديعة
التلف أو الضياع أو عدم القدرة على حمايتها وكان معرضا للغارة، أو كان له غرماء
ولا يأمن أن يستولوا عليها وفاء لحقهم، أو كان لا يأمن أن تحدثه نفسه بالخيانة
فيها، وجب عليه بذل النصيحة لصاحبها، ولا يجوز له قبولها، حتى لا يغرر بها
ويعرضها للهلاك فلم يجز له أخذها.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يصح الايداع إلا من جائز التصرف في المال، فإن أودعه
صبي أو سفيه لم يقبل لأنه تصرف في المال، فلم يصح من الصبي والسفيه كالبيع،
فإن أخذها منه ضمنها، لأنه أخذ ماله من غير إذن فضمنه كما لو غصبه، ولا يبرأ
من الضمان إلا بالتسليم إلى الناظر في ماله، كما نقول فيما غصبه من ماله، وإن
خاف المودع أنه إن لم يأخذ منه استهلكه فأخذه ففيه وجهان، بناء على القولين
في المحرم إذا خلص طائرا من جارحة وأمسكه ليحفظه (أحدهما) لا يضمن،
لأنه قصد حفظه (والثاني) يضمن، لأنه ثبتت يده عليه من غير ائتمان
(الشرح) الأحكام: يشتمل هذا الفصل على أمور:
أولها: لا يجوز لاحد أن يقبل الوديعة الا من جائز التصرف، وكما عرفنا
من قبل أنه العاقل البالغ
ثانيها: إذا أودعه من لا يجوز له التصرف فقبله منه ضمن الوديعة وانتقلت
يده من يد أمينة إلى يد ضامنة كالغاصب
ثالثها: إذا أراد أن يبرئ ذمته بعد قبض الوديعة فإن عليه أن يسلمها إلى
174

الناظر في مال الصبي أو المحجور عليه. رابعها: إذا خشي على مال الصبي أو السفيه
التلف أو الهلاك أو التبذير أو استهلاكه في غير ما يصلح شأنه كان عليه أن يقبله
صيانة له وحفظا من الضياع، كالمحرم إذا خلص طائرا من جارحة وأمسكه
ابتغاء حفظه.
خامسا: إذا قبله على هذا النحو في الأمر الرابع هل عليه ضمانه أم لا؟ فيه
وجهان (أحدهما) لا يضمن لان أخذه كان ضرورة اقتضاها واجب حفظ المال
وصيانته (والثاني) وجب عليه الضمان. لأنه استقرت يده على الوديعة من غير
توفر شرط الائتمان وهو يتسلمها من غير جائز التصرف فكان عليه الضمان كما أسلفنا
في الأمر الثاني ولا يزول عنه الضمان بردها إليه، وإنما بدفعها إلى وليه الناظر له
في ماله أو الحاكم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يصح إلا عند جائز التصرف، فإن أودع صبيا أو سفيها لم
يصح الايداع، لان القصد من الايداع الحفظ، والصبي والسفيه ليسا من أهل
الحفظ، فإن أودع واحدا منهما فتلف عنده لم يضمن، لأنه لا يلزمه حفظه فلا
يضمنه، كما لو تركه عند بالغ من غير إيداع فتلف، وإن أودعه فأتلفه ففيه
وجهان (أحدهما) يضمن لأنه لم يسلطه على اتلافه فضمنه بالاتلاف، كما لو
أدخله داره فأتلف ماله (والثاني) لا يضمن، لأنه مكنه من اتلافه فلم يضمنه،
كما لو باع منه شيئا وسلمه إليه فأتلفه.
(الشرح الأحكام: كما لا يجوز للعاقل المكلف الرشيد أن يقبل الوديعة
من الصبي والسفيه حسبما أسلفنا من البيان، فإنه لا يجوز له أن يودع عند صبي
أو سفيه أو مجنون لان الايداع مقصود للحفظ، وهؤلاء ليسوا من أهل الحفظ
وهم مفتقرون إلى من يحفظ لهم مالهم، فلا يحفظون مال غيرهم
فإذا أودع رجل عند صبي أو معتوه وديعة فتلفت في يده لم يضمنها، سواء
حفظها أو فرط فيها، فإن أتلفها أو أكلها أو استهلكها ضمنها في ظاهر المذهب،
وبه قال القاضي من الحنابلة والخرقي وابن قدامة، وذهب بعض الحنابلة، وهو
175

قول أبي حنيفة وبعض أصحابنا إلى أنه لا ضمان عليه، لان ربها سلطه على إتلافها
بدفعها إليه، فلا يلزمه ضمانها، ألا ترى أنه لو دفع إلى صغير سكينا فوقع عليها
كان ضمانه على عاقلته؟
ولنا أن ما ضمنه باتلافه قبل الايداع ضمنه بعد الايداع كالبالغ، ولا يصح
قولهم: إنه سلطه على إتلافها لأنه استحفظه إياها، وفارق دفع السكين فإنه سبب
للاتلاف، ودفع الوديعة بخلاف ذلك
(فرع) إذا ترك ماله عند رجل عاقل من غير إيداع فتلف لا ضمان عليه،
كما لو أودعه ويفارق الايداع من حيث التفريط، فلو فرط فيه لم يضمنه في ظاهر
المذهب بخلاف المودع والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وتنعقد الوديعة بما تنعقد به الوكالة من الايجاب بالقول،
والقبول بالفعل، وتنفسخ بما تنفسخ به الوكالة من العزل والجنون والاغماء
والموت، كما تنفسخ الوكالة، لأنه وكالة في الحفظ، فكان كالوكالة في
العقد والفسخ.
(الشرح) الأحكام: وتتبع الوديعة الوكالة في جوازها وانعقادها وفسخها،
فمن هنا لا تنعقد إلا بالايجاب والقبول.
وصورة الايجاب أن يدفع الوديعة إليه - وهذا فعل - فإذا كانت سيارة
فأدخلها مرساه أو حظيرته أو جراشه وقال له: هذه سيارتي عندك وديعة
صح الايجاب. أما القبول فبأي لفظ دال على القبول يصح عقد الوديعة
أما الفسخ فيجرى فيه ما يجرى في فسخ الوكالة، فإذا أراد المودع ردها
انفسخ عقدها، لأنه متبرع بالقبول. وإذا أراد ربها استردادها وفسخ عقدها
كان له ذلك لأنه مالكها، كما تنفسخ بجنون أحدهما أو موته أو اغمائه، لان
استمرار العقد ينبغي أن تتوفر فيه شروط العقد ابتداء، ويبطل العقد
ما يمنعه ابتداء.
ففي حالة عزل الوديع نفسه يرد الوديعة إلى ربها، وفى حالة الجنون أو
176

الاغماء يردها إلى الناظر في مال مالكها، وفى حالة الموت يردها إلى وارثه، فإن لم
يفعل فقد زال الائتمان وصار ضامنا كالغاصب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والوديعة أمانة في يد المودع، فان تلفت من غير تفريط لم تضمن
لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" من أودع وديعة فلا ضمان عليه " وروى ذلك عن أبي بكر وعمر وعلى وابن
مسعود وجابر رضي الله عنهم، وهو اجماع فقهاء الأمصار، ولأنه يحفظها للمالك
فكانت يده كيده، ولان حفظ الوديعة معروف واحسان، فلو ضمنت من غير
عدوان زهد الناس في قبولها، فيؤدى إلى قطع المعروف، فان أودعه وشرط
عليه الضمان لم يصر مضمونا لأنه أمانة فلا يصير مضمونا بالشرط، كالمضمون
لا يصير أمانة بالشرط.
وإن ولدت الوديعة ولدا كان الولد أمانة، لأنه لم يوجد فيه سبب يوجب
الضمان لا بنفسه ولا بأمه، وهل يجوز له امساكه؟ فيه وجهان (أحدهما) لا يجوز
بل يجب أن يعلم صاحبه، كما لو ألقت الريح ثوبا في داره (والثاني) يجوز، لان
ايداع الام ايداع لما يحدث منها.
(الشرح) حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رواه الدارقطني. وقال
الحافظ ابن حجر: فيه ضعف، وأخرجه الدارقطني من طريق أخرى بلفظ
" ليس على المستعير غير المغل ضمان، ولا على المستودع غير المغل ضمان " وقال
الدارقطني: إنما نروي هذا عن شريح غير مرفوع. قال الحافظ ابن حجر:
في اسناده ضعيفان.
وقد روى ابن ماجة عن ابن عمرو بلفظ " من أودع وديعة فلا ضمان عليه "
وفى اسناده المثنى بن الصباح وهو متروك، وتابعه ابن لهيعة فيما ذكره البيهقي.
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن حبان وصححه من حديث أبي أمامة
الباهلي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع
" العارية مؤداة، والزعيم غارم "
177

وحديث الفصل الذي رواه الدارقطني يتجه ضعفه إلى ما اشتهر بين المحدثين
من أن عمرو بن شعيب يروى عن أبيه وأبوه شعيب يروى عن جده عبد الله بن
عمرو بن العاص، وفى سماع شعيب من جده نظر، وقد أثبتت السماع في حاشيتي
على تفسير القرآن للعلامة صديق خان المسمى " بفتح البيان في مقاصد القرآن "
الصادرة عن مطبعة الامام.
وشعيب هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو، فالضمير في جده يعود على
شعيب لا على عمرو، ويمكن حمل الضمير على عمرو وصرف الجد إلى عبد الله
لان جد الأب جد، والمدار على ثبوت لقاء شعيب لجده وسماعه منه، وليس
منصرفا إلى جده محمد بن عبد الله بن عمرو
أما الأحكام: ففي الحديث دليل على أنه لا ضمان على من كان أمينا على عين
من الأعيان كالوديع والمستعير، أما الوديع فلا يضمن بالاجماع إلا لجناية منه
على العين. وقد حكى في البحر الاجماع على ذلك.
وتأول ما حكى عن الحسن البصري أن الوديع لا يضمن إلا بشرط الضمان
بأن ذلك محمول على ضمان التفريط لا الجناية المتعمدة، والوجه في تضمينه
الجناية أنه صار بها خائنا، والخائن ضامن لقوله صلى الله عليه وسلم " ولا على
المستودع غير المغل ضمان " والمغل هو الخائن. وهكذا يضمن الوديع إذا وقع منه
تعد في حفظ العين لأنه نوع من الخيانة.
وقد استدل القائلون بالضمان بحديث الحسن البصري عن سمرة بن جندب
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " زاد أبو داود والترمذي:
قال قتادة ثم نسي الحسن فقال: هو أمينك لا ضمان عليه
قال المقبلي في المنار: يستدلون بهذا الحيث على التضمين ولا أراه صريحا،
لان اليد الأمينة أيضا عليها ما أخذت حتى ترد، والا فليست بأمينة
ومستخبر عن سر ليلى تركته * بعمياء من ليلى بغير يقين
يقولون خبرنا فأنت أمينها * وما أنا ان خبرتهم بأمين
إنما كلامنا هل يضمنها لو تلفت بغير جناية، وليس الفرق بين المضمون
178

وغير المضمون إلا هذا. وأما الحفظ فمشترك، وهو الذي تفيده " على " فعلى
هذا لم ينس الحسن كما زعم قتادة حين قال " هو أمينك لا ضمان عليه " بعد
رواية الحديث. اه‍
قال الشوكاني " ولا يخفى عليك ما في هذا الكلام من قلة الجدوى وعدم
الفائدة، وبيان ذلك أن قوله " لان اليد الأمينة عليها ما أخذت حتى ترد، والا
فليست بيد أمينة " يقتضى الملازمة بين عدم الرضا وعدم الأمانة، فيكون تلف
الوديعة والعارية بأي وجه من الوجوه قبل الرد مقتضيا لخروج الأمين عن كونه
أمينا وهو ممنوع، فان المقتضى لذلك إنما هو التلف بجناية أو خيانة، ولا نزاع
في أن ذلك موجب للضمان، إنما النزاع في تلف لا يصير به الأمين خارجا عن
كونه أمينا كالتلف بأمر لا يطاق دفعه، أو بسبب سهو أو نسيان أو بآفة سماوية
أو سرقة، أو ضياع بلا تفريط، فإنه يوجد التلف في هذه الأمور مع بقاء
الأمانة " انتهى.
والمقتضى الذي يتوقف عليه فهم الحديث هو الامر المقدور عليه وهو
الضمان أو الحفظ، وكل منهما صالح للتقدير ولا يقدران معا، لما تقرر من أن
المقتضى لا عموم له، فمن قدر الضمان أوجبه على الوديع والمستعير، ومن قدر
الحفظ أوجبه عليهما ولم يوجب الضمان إذا وقع التلف مع الحفظ المعتبر، وبهذا
تعرف أن التأدية لغير التالف ليس على ما ينبغي
وأما مخالفة رأى الحسن لروايته فقد تقرر في الأصول أن العمل بالرواية
لا بالرأي، لا سيما إذا تعززت الرواية بعمل الصحابة رضوان الله عليهم ورأيهم
وفى مقدمتهم أبو بكر وعمر وعلى وابن مسعود وجابر
وممن قال بأن الوديعة أمانة لا يترتب على تلفها ضمان من الوديع إذا لم
يفرط شريح والنخعي ومالك وأبو الزناد والثوري والأوزاعي والشافعي وأصحاب
الرأي وأحمد، وعن أحمد رواية أخرى " ان ذهبت الوديعة من بين ماله غرمها
لما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه ضمن أنس بن مالك وديعة ذهبت
من بين ماله، وأصحاب أحمد يرجحون قول الجمهور على هذا القول
179

دليلنا: أن الله تعالى سماها أمانة والضمان ينافي الأمانة، وحديث عمرو بن
شعيب وغيره وعمل الصحابة ومن ذكرنا من أئمة أهل العلم، ولان المستودع إنما
يحفظها لصاحبها متبرعا من غير نفع يعود عليه فلو لزمه الضمان لامتنع الناس من
قبول الودائع، وذلك مضر لما بيناه من الحاجة إليها، وما روى عن عمر محمول
على التفريط من أنس في حفظها، فلا ينافي ما ذكرنا.
(فرع) إذا شرط رب الوديعة على المستودع ضمان الوديعة فقبله أو قال:
أنا ضامن لها لم يضمن، وبهذا قال الشافعي والثوري وإسحاق وابن المنذر، وقال
أحمد: إذا قال: أنا ضامن لها فسرقت لا شئ عليه، وكذلك كل ما أصله الأمانة
كالمضاربة ومال الشركة والرهن والوكالة.
دليلنا: أنه شرط ضمان ما لم يوجد سبب ضمانه فلم يلزمه، كما لو شرط ضمان
ما يتلف في يد مالكه، لأنه أقامه مقام نفسه وكالمضمون لا يصير أمانة بالشرط
(فرع) إذا ولدت الوديعة من دابة أو سائمة أو رقيق ولدا، كان ما ولدته
أمانة، لأنه لا سبب منه ولا من أمه يوجب الضمان، وهل يجوز له إمساكه،
باعتبار أنه قدر زاد عن قدر ما أودع عنده؟ فيه وجهان.
(أحدهما) لا يجوز، بل يجب أن يعلم صاحبه، كما لو ألقت الريح ثوبا في داره
(والثاني) يجوز إمساكه، لان إيداع الام إيداع لما يحدث منها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ومن قبل الوديعة نظرت، فإن لم يعين المودع الحرز لزمه حفظها
في حرز مثلها، فإن أخر إحرازها فتلفت لزمه الضمان، لأنه ترك الحفظ من غير
عذر فضمنها، فإن وضعها في حرز دون حرز مثلها ضمن، لان الايداع يقتضى
الحفظ، فإذا أطلق حمل على التعارف، وهو حرز المثل، فإذا تركها فيما دون
حرز مثلها فقد فرط فلزمه الضمان، وإن وضعها في حرز فوق حرز مثلها لم يضمن
لان من رضى بحرز المثل رضى بما فوقه، فإن قال: لا تقفل عليه فأقفل عليه،
أو قال: لا تقفل عليه قفلين، فأقفل قفلين، أو قال: لا ترقد عليه فرقد عليه
180

فالمذهب أنه لا يضمن، لأنه زاده في الحرز، ومن أصحابنا من قال: يضمن،
لأنه نبه اللص عليه وأغراه به.
(فصل) وان عين له الحرز فقال احفظها في هذا البيت فنقلها إلى ما دونه
ضمن لان من رضى حرزا لم يرض بما دونه وإن نقلها إلى مثله أو إلى ما هو أحرز
منه لم يضمن، لان من رضى حرزا رضى مثله وما هو أحرز منه، وإن قال له
احفظها في هذا البيت ولا تنقلها فنقلها إلى ما دونه ضمن، لأنه لم يرض بما دونه
وإن نقلها إلى مثلها أو إلى ما هو أحرز منه ففيه وجهان.
قال أبو سعيد الإصطخري: لا يضمن لأنه جعله في مثله، فأشبه إذا لم ينهه
عن النقل. وقال أبو إسحاق: يضمن لأنه نهاه عن النقل فضمنه بالنقل، فإن
خاف عليه في الحرز المعين من نهب أو حريق نظرت، فإن كان النهى مطلقا لزمه
النقل ولا يضمن، لان النهى عن النقل للاحتياط في حفظها، والاحتياط في هذا
الحال أن تنقل، فلزمه النقل، فإن لم ينقلها حتى تلفت ضمنها لأنه فرط في الترك
وإن قال: له لا تنقل وإن خفت عليها الهلاك فنقلها لم يضمن، لأنه زاده خيرا
وان تركها حتى تلفت ففيه وجهان.
قال أبو العباس وأبو إسحاق: لا يضمن، لان نهيه مع خوف الهلاك أبرأ
من الضمان وقال أبو سعيد الإصطخري: يضمن لان نهيه عن النقل مع خوف
الهلاك لا حكم له، لأنه خلاف الشرع، فيصير كما لو لم ينهه، والأول أظهر،
لأن الضمان يجب لحقه فسقط بقوله: وان خالف الشرع كما لو قال لغيره: اقطع
يدي أو أتلف مالي.
(الشرح) قوله: الحرز المكان الذي يحفظ فيه والجمع أحراز مثل حمل
وأحمال، وأحرزت المتاع جعلته في الحرز، ويقال: حرز حريز للتأكيد، كما
يقال: حصن حصين واحترز من كذا أي تحفظ وتحرز مثله، ومنه قولهم: أحرز
قصب السبق، إذا سبق إليها فضمها دون غيره.
أما الأحكام فإن الوديع إذا لم يعين له رب الوديعة المكان الذي يحفظها فيه،
عليه أن يجتهد في حفظها بما يحفظ به مثلها، فإذا اشترط عليه أن يحفظها في
181

صفائح وكانت زيتا أو سمنا فحفظها في زجاج ابتغاء حفظها من الرشح فكسرت
القنائن كان عليه ضمانها لأنه خالف مالكها، فإذا أمره أن يحفظها في زجاج
فكسرت القنائن فلا ضمان عليه فإذا خالفه وحفظها في براميل أو صفائح لا ينقص
منها كيلها ولا وزنها فقد زاد خيرا بهذه المخالفة وكان على أمانته، فلو أمره أن
يحفظها في حرز من الجلد فحفظها في قماش ضمن.
فإذا أمره أن لا يقفل عليها فأقفل عليها، أو أمره أن لا يقفل قفلين فأقفل
قفلين، أو قال لا ترقد عليها فرقد عليها فظاهر المذهب عدم الضمان لأنها أمور
تزيد في وسائل الحفظ، وقوة الحرز. ومن أصحابنا من قال: يضمن، لأنه بكثرة
احتياطه أو نومه على الصندوق أو شدة اهتمامه يشد انتباه اللصوص إليه. وقال
أصحاب أحمد: إذا بالغ في حفظها من غير حاجة ضمن.
(فرع) فإذا عين له الحرز فان نقلها إلى ما دونه - أعني أقل كفاءة في الحفظ -
ضمن، فإذا نقلها إلى حرز مثل الذي عينه أو أعلا كفاءة وحفظا؟ ففيه وجهان
أحدهما وهو قول أبي سعيد الإصطخري: لا يضمن لأنه لا فرق بين الحرزين
فكان كأن لم ينقلها، أو كأن ربها لم يعينه، أو لم ينهه عن غير ما عينه. والثاني
وهو قول أبي إسحاق المروزي. يضمن، لأنه نهاه عن النقل فإذا خالف انتقل من
الائتمان إلى الضمان.
(فرع) إذا كان الحرز الذي عينه المودع معرضا لخطر الحريق أو السرقة
أو كانت رطوبة الأرض تنلفه نظرت فإن كان نهيه مطلقا بأن قال. لا تنقلها من
هنا لزمه مخالفته، لان النهى أريد به التنبيه والاحتياط لحفظها، فإن لم ينقلها
حتى تلفت ضمنها لتفريطه بتركها معرضة للتلف.
(فرع) إذا قال له لا تنقلها وان خفت عليها الهلاك، فخاف عليها الهلاك
ونقلها لم يضمن بالمخالفة لأنه زاده خيرا، أما إذا لم ينقلها فتلفت ففيه وجهان
قال أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي. لا يضمن لان نهيه مع خوف
الهلاك أبرأه من الضمان.
قال أبو سعيد الإصطخري: عليه الضمان، لان هذا النهى يتعارض مع
182

مسؤولية الأمين في الاجتهاد وعدم التفريط شرعا، فلا حكم للنهي وكأنه لم يكن
وقد رجح الشيخ أبو إسحاق الشيرازي الأول لأنه بهذه الصورة من النهى قد
أهدر حقه في الضمان وإن خالف الشرع، كما لو أمر غيره بقطع يده أو إتلاف
ماله فإنه لا ضمان له، وإن أثم الفاعل، وبهذا قال الحنابلة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فإن أودعه شيئا فربطه في كمه لم يضمن، فإن تركه في كمه ولم
يربطه نظرت، فإن كان خفيفا إذا سقط لم يعلم به ضمنه، لأنه مفرط في حفظه
وإن كان ثقيلا إذا سقط علم به لم يضمن لأنه غير مفرط، وان تركه في جيبه
فإن كان مزررا أو كان الفتح ضيقا لم يضمن لأنه لا تناله اليد، وإن كان واسعا
غير مزرر ضمن لان اليد تناله.
وان أودعه شيئا فقال: أربطه في كمك فأمسكه في يده فتلف فقد روى المزني
أنه لا يضمن، وروى الربيع في الام أنه يضمن، فمن أصحابنا من قال: هو على
قولين (أحدهما) لا يضمن، لان اليد أحرز من الكم، لأنه قد يسرق من الكم
ولا يسرق من اليد (والثاني) أنه يضمن، لان الكم أحرز من اليد، لان اليد
حرز مع الذكر دون النسيان والكم حرز مع النسيان والذكر. ومن أصحابنا من
قال: إن ربطها في كمه وأمسكها بيده لم يضمن، لان اليد مع الكم أحرز من الكم
وان تركها في يده ولم يربطها في كمه ضمن، لان الكم أحرز من اليد، وحمل
الروايتين على هذين الحالين.
وان أمره أن يحرزها في جيبه فأحرزها في كمه ضمن، لان الجيب أحرز
من الكم، لان الكم قد يرسله فيقع منه ولا يقع من الجيب، وان قال احفظها في
البيت فشدها في ثوبه وخرج ضمنها، لان البيت أحرز، فان شدها في عضده،
فإن كان الشد مما يلي أضلاعه لم يضمن، لأنه أحرز من البيت، وإن كان من
الجانب الآخر ضمن، لان البيت أحرز منه، وان دفعها إليه في السوق وقال:
احفظها في البيت فقام في الحال ومضى إلى البيت فأحرزها لم يضمن، وان قعد
في السوق وتوانى ضمنها لأنه حفظها فيما دون البيت.
183

وان أودعه خاتما وقال: احفظه في البنصر فجعله في الخنصر ضمن، لان
الخنصر دون البنصر في الحرز، لان الخاتم في الخنصر أوسع فهي إلى الوقوع
أسرع. وان قال اجعله في الخنصر فجعله في البنصر لم يضمن، لان البنصر أحرز
لأنه أغلظ والخاتم فيه أحفظ. وان قال اجعله في الخنصر فلبسه في البنصر
فانكسر ضمن لأنه تعدى فيه.
(الشرح) هذا الفصل تتلخص أحكامه فيما إذا خالف الوديع المودع وكانت
المخالفة من تهاون أو تفريط أو ترتب عليها تلف الوديعة ضمن في كل الصور
التي ساقها المصنف، لأنه لو قال له اربط الدراهم في كمك فأمسكها بيده فضاعت
لارتخاء يده أو انفراج أصابعه بنوم أو غفلة أو نسيان فإنه يضمن، لان ضياعها
كان بسبب المخالفة. ولو قال له: اربطها في كمك فربطها ولم يحكم ربطها ضمن.
ولو قال له: ضعها في كور عمامتك فلم يشد عليها العمامة ضمن وهكذا. والجيب
عندهم ما ينفتح على النحر. قال تعالى (وليضربن بخمرهن على جيوبهن)
قال المصنف رحمه الله تعالى.
(فصل) وان أراد المودع السفر ووجد صاحبها أو وكيله سلمها إليه، فإن لم
يجد سلمها إلى الحاكم، لأنه لا يمكن منعه من السفر، ولا قدرة على المالك ولا
وكيله، فوجب الدفع إلى الحاكم، كما لو حضر من يخطب المرأة والولي غائب،
فان الحاكم ينوب عنه في التزويج، فإن سلم إلى الحاكم مع وجود المالك أو وكيله
ضمن، لان الحاكم لا ولاية له مع وجود المالك أو وكيله، كما لا ولاية له في
تزويج المرأة مع حضور الولي أو وكيله، فإن لم يكن حاكم سلمها إلى أمين، لان
النبي صلى الله عليه وسلم " كانت عنده ودائع فلما أراد الهجرة سلمها إلى أم أيمن
واستخلف عليا كرم الله وجهه في ردها، وان سلم إلى أمين مع وجود الحاكم،
ففيه وجهان (أحدهما) لا يضمن وهو ظاهر النص، وهو قول أبي إسحاق لأنه
أمين فأشبه الحاكم (والثاني) يضمن، وهو ظاهر قوله في الرهن. وهو قول
أبي سعيد الإصطخري، لان أمانة الحاكم مقطوع بها، وأمانة الأمين غير
184

مقطوع بها فلا يجوز ترك ما يقطع به بما لا يقطع به كما لا يترك النص للاجتهاد
فإن لم يكن أمين لزمه أن يسافر بها، لان السفر في هذه الحال أحوط، فإن وجد
المالك أو الحاكم أو الأمين فسافر بها ضمن، لان الايداع يقتضى الحفظ في
الحرز، وليس السفر من مواضع الحفظ، لأنه إما أن يكون مخوفا أو آمنا
لا يوثق بأمنه، فلا يجوز مع عدم الضرورة.
وأن دفنها ثم سافر نظرت فإن كان في موضع لا يد فيه لاحد ضمن، لان
ما تتناوله الأيدي معرض للاخذ، فإن كان في موضع مسكون فإن لم يعلم بها أحدا
ضمن، لأنه ربما أدركته المنية في السفر فلا تصل إلى صاحبها، فإن أعلم بها
من لا يسكن في الموضع ضمن، لان ما في البيت إنما يكون محفوظا بحافظ،
فان أعلم بها من يسكن في الموضع فإن كان غير ثقة ضمن، لأنه عرضه للاخذ.
وإن كان ثقة فهو كما لو استودع ثقة ثم سافر، وقد بينا حكم من استودع ثم سافر
(الشرح) أم أيمن هي بركة بنت ثعلبة بن عمرو مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ورثها عن أبيه وهي أم أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وابن حبه،
تزوجها زيد بن حارثة بعد أبي أيمن وكان حبشيا، وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: أم أيمن أمي بعد أمي هاجرت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع
عائشة وأسماء وزيد وأسامة، وأدركت المدينة والمسجد يبنى وقد عطشت وهي
مهاجرة فنزل لها دلو من السماء فشربت فما ظمئت بعد ذلك أبدا، وكانت تقول
ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش في الصوم في الهواجر فما
عطشت. والخبر وإن كان شائعا في كتب الفقه، إلا أنه غير موجود في الكتب
الستة، وليس في مسند أحمد أو سنن الدارمي أو سنن الدارقطني أو موطأ مالك،
وليس في مجمع الزوائد للهيثمي. وليس في أمهات فقه الحديث كنيل الأوطار
وسبل السلام، وليس في شئ من كتب تراجم الصحابة كالاستيعاب وسير أعلام
النبلاء. وليس في كتب السير الا ما في ابن هشام أن ابن إسحاق قال: بلغني أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر جعل عليا على الودائع، ولم يذكر شيئا
عن أم أيمن رضي الله عنها.
185

أما الأحكام فإنها تشتمل على ما يأتي:
(أولا) يجب على الوديع إذا أزمع السفر أن يردها، فإن لم يجد ربها فوكيله
والا سلمها إلى الحاكم. قال الشافعي في الام " فإن كان المستودع حاضرا أو وكيله
لم يكن له أن يسافر حتى يردها إليه أو إلى وكيله، أو يأذن له أن يودعها من رأى
فان فعل فأودعها من شاء فهلكت ضمن " وقال الشافعي أيضا " إذا استودع الرجل
الرجل وديعة وأراد المستودع سفرا فلم يثق بأحد يجعلها عنده فسافر بها برا أو
بحرا فهلكت ضمن. وكذلك لو أراد سفرا فجعل الوديعة في بيت مال المسلمين
فهلكت ضمن " اه‍
(قلت) وهذا واضح من كلام المصنف أن الحاكم لا ولاية له مع وجود المالك
(ثانيا) إذا لم يقدر على ردها أو ايداعها عند الحاكم فقد قال الشافعي " وإن كان
غائبا فأودعها من يودع ماله ممن يكون أمينا فهلكت لم يضمن، فان أودعها من
يودع ماله ممن ليست له أمانة فهلكت ضمن " ثم قال " لأنه يجوز أن يوكل بماله
غير أمين، ولا يجوز له أن يوكل بأمانته غير أمين. اه‍
(ثالثا) إذا أودعها أمينا مع وجود الحاكم فعلى الوجهين (أحدهما) وهو
ظاهر النص الذي أسلفنا نقله لا يضمن، وبه أخذ أبو إسحاق المروزي (والثاني)
وهو ظاهر قول الشافعي في الرهن حيث يقول " وإذا أراد العدل الذي عليه الرهن الذي
هو غير الراهن والمرتهن رده بلا علة أو لعلة والمرتهن والراهن حاضران فله ذلك
وإن كانا غائبين أو أحدهما لم يكن له اخراجه من يدي نفسه، فان فعل بغير أمر
الحاكم فهلك ضمن، وان جاء الحاكم فإن كان له عذر أخرجه من يديه. وذلك
أن يبدو له سفر أو يحدث له. وإن كان مقيما لشغل أو علة، وان لم يكن له عذر
يحبسه إن كان قريبا حتى يقدما أو يوكلا، فإن كانا بعيدا لم أر عليه أن يضطره إلى
حبسه، وإنما هي وكالة وكل بها بلا منفعة له فيها، ويسأله ذلك فان طابت نفسه
بحبسه والا أخرجه إلى عدل غيره " اه‍
ولان أمانة الحاكم أمر قطعي وأمانة غيره كالأمين أمر ظني والقطعي مقدم
على الظني، كالنص يرد الاجتهاد
186

(رابعا) وإن أراد السفر بها وقد نهاه المالك عن ذلك ضمنها لأنه مخالف
لصاحبها، وإن لم يكن نهاه لكن الطريق مخوف أو البلد الذي يسافر إليه مخوف
ضمنها لأنه فرط في حفظها، وإن لم يكن كذلك فله السفر بها عند أحمد وأبي حنيفة
سواء كان به ضرورة إلى السفر أو لم يكن.
وقال الشافعي: إن سافر بها مع القدرة على صاحبها أو وكيله أو الحاكم أو
أمين ضمنها لأنه يسافر بها من غير ضرورة، أشبه ما لو كان السفر مخوفا.
دليلنا: أنه متى سافر بها مع القدرة على مالكها أو نائبه أو الحاكم بغير إذنه
فهو مفرط عليه الضمان، لأنه يفوت على صاحبها إمكان استرجاعها، ويخاطر بها
لان النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن المسافر لعلى قلت إلا ما وقى الله " والقلت
الهلاك على ما أسلفنا القول.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وإن حضره الموت فهو بمنزلة من حضره السفر، لأنه لا يمكنه
الحفظ مع الموت بنفسه: كما لا يمكنه الحفظ مع السفر، وقد بينا حكمه، وإن
قال في مرضه: عندي وديعة ووصفها، ولم يوجد ذلك في تركته، فقد اختلف
أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق: لا يضرب المفر له مع الغرماء بقيمتها، لان الوديعة
أمانة فلا يضمن بالشك، ومن أصحابنا من قال يضرب المقر له بقيمتها مع الغرماء
وهو ظاهر النص، لان الأصل وجوب ردها، فلا يسقط ذلك بالشك.
(الشرح) قوله: لا يضرب المقر له. قال ابن بطال: مأخوذ من الضارب
الذي يضرب بالقداح، وهو الموكل بها، ومثله الضريب والجمع الضرباء، لأنه
يضرب مع الغرماء بسهم.
أما الأحكام فقد قال المصنف: ان حكم الميت حكم المسافر، وقد مضى في
الفصل قبله. أما إذا قال في مرض الموت: عندي وديعة ثم وصفها، فلما مات
لم توجد في تركته فقد اختلف فيه أصحابنا، فقد ذهب أبو إسحاق المروزي إلى
أنها أمانة لا يجوز أن يسقط الائتمان فيه بالشك، ومن ثم لا يضرب مالكها مع
187

الغرماء، ومنهم من قال بظاهر النص في مختصر المزني حيث يقول الشافعي " وإذا
استودع الرجل الوديعة فمات المستودع وأقر بالوديعة بعينها، أو قامت عليها بينة
- وعليه دين يحيط بماله - كانت الوديعة لصاحبها، فإن لم يعرف الوديعة بعينها
ببينة تقوم ولا إقرار من الميت، وعرف لها عدد أو قيمة كان صاحب الوديعة
كغريم من الغرماء " قلت: وذلك أقيس، لان الله تعالى أمر برد الأمانات إلى
أهلها، فكان ردها واجبا، ولا يرد الواجب بمجرد الشك.
(فرع) إذا أوصى وصيته كتابة وبين فيها وصف الوديعة ووجدت مطابقة
لوصفه كانت الوصية بمثابة بينة لصاحبها إذا كان تحريرها مؤرخا في تاريخ قريب
من يوم موته، فإن كان في تاريخ بعيد نظرت، فإذا ظهرت احتمالات شرائها من
مالكها أو وجدت مبايعة محررة بتاريخ لاحق بطلت الوصية واعتبرت المبايعة
أما إذا وضعها في حرز أو ظرف وكتب عليها اسم صاحبها: فلا تعد هذه الكتابة
بينة لمالكها، لأنه يحتمل أن يكون الظرف أو الحرز لوديعة قبل هذه، أو كانت
وديعة فابتاعها.
(فرع) إذا وجد بين أوراق الميت بيان بأن لفلان عندي وديعة لم يلزمه
بذلك لجواز أن يكون قد ردها ونسي أن يضرب على ما كتب، أو غير ذلك.
(فرع) قال الشافعي: وإذا مات الرجل وعليه دين معروف وقبله وديعة
بعينها فإن أبا حنيفة يقول: جميع ما ترك بين الغرماء وصاحب الوديعة بالحصص
وكذلك قال ابن أبي ليلى ثم ساق رواية أبي حنيفة عن إبراهيم مثله، ورواية
الحجاج بن أرطاة عن عطاء وإبراهيم مثله.
(فرع) إذا ترك الوديع الوصية عند الاشراف على الموت - والوصية
كما ستأتي إن شاء الله تعالى مفصلة - أن يعلم بها القاضي أو الأمين عند عدم وجود
القاضي مع ذكر صفاتها إن كانت غائبة، أو الإشارة إليها إن كانت حاضرة مع
الامر بردها إلى المالك أو وكيله فورا، وعلى الوديع إذا مرض مرضا مخوفا أن
يبادر بردها إلى ربها أو وكيله فإن لم يقدر ردها إلى الحاكم العادل إن وجده،
أو يوصى بها إلى من ذكرنا، فإن لم يكن حاكم ردها إلى أمين، فإن لم يفعل ضمنت
188

في تركته، وكذا لو أوصى بها إلى فاسق ضمن، وقد ذهب السبكي إلى الضمان إذا
تلفت بعد الموت لا قبله وكان لم يوص أو يودع كما أسلفنا، وذهب الأسنوي إلى
أنه يصير ضامنا بمجرد المرض حتى لو تلفت بآفة سماوية لتفريطه في ردها، ومحل
هذا كله عند التمكن منه ان بالرد أو الايداع أو الوصية، أما موت الفجاءة
أو الغيلة فلا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان أودع الوديعة غيره من غير ضرورة ضمنها لان المودع لم
يرض بأمانة غيره، فان هلكت عند الثاني جاز لصاحبها أن يضمن الأول، لأنه
سلم ما لم يكن له تسليمه، وله أن يضمن الثاني، لأنه أخذ ما لم يكن له أخذه
فان ضمن الثاني نظرت، فإن كان قد علم بالحال لم يرجع بما ضمنه على الأول،
لأنه دخل على أنه يضمن فلم يرجع. فإن لم يعلم ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يرجع لأنه دخل على أنه أمانه. فإذا ضمن رجع على من غره
(والثاني) أنه لا يرجع. لأنه هلك في يده فاستقر الضمان عليه. فان ضمن
الأول. فان قلنا: إن الثاني إذا ضمن يرجع على الأول - لم يرجع الأول عليه
وان قلنا إنه لا يرجع رجع الأول عليه. فأما إذا استعان بغيره في حملها ووضعها
في الحرز. أو سقيها أو علفها. فإنه لا يضمن. لان العادة قد جرت بالاستعانة
ولأنه ما أخرجها عن يده ولا فوض حفظها إلى غيره.
(الشرح) قوله: يضمن الأول - من ضمن يضمن بتضعيف الميم لتتعدى
إلى مفعولين. ومعناها ألزمه بالضمان. وقال بعض الفقهاء: الضمان مأخوذ من
الضم. وهو غلط من جهة الاشتقاق. لان نون الضمان أصلية. وضمنت الشئ
كذا جعلته محتويا عليه هكذا ذكر الفيومي في المصباح.
(أما الأحكام) فقد قال المزني: قال الشافعي: وإذا أودع الرجل الوديعة
فاستودعها غيره ضمن ان تلفت. لان المستودع رضى بأمانته لا أمانة غيره ولم
يسلطه على أن يودعها غيره. وكان متعديا ضامنا ان تلفت اه‍.
189

(قلت) للايداع لدى غيره صورتان (إحداهما) أن يودعها غيره لغير عذر
فعليه الضمان بغير خلاف في المذهب. وهو قول شريح ومالك وأحمد وأصحابه
وأبي حنيفة وأصحابه وإسحاق بن راهويه. وقال ابن أبي ليلى لا ضمان عليه، لان
عليه حفظها وإحرازها. وقد أحرزها عند غيره وحفظها به. ولأنه يحفظ ماله
بإيداعه، فإذا أودعها فقد حفظها بما يحفظ به ماله فلم يضمنها، كما لو حفظها في
حرزه. دليلنا أنه خالف المودع فضمنها، كما لو نهاه عن ايداعها، فإنه أمره
بحفظها بنفسه ولم يرض لها غيره
فإذا ثبت هذا فان له تضمين الأول وليس للأول الرجوع على الثاني لأنه
دخل معه في العقد على أنه أمين لا ضمان عليه، فان أحب المالك تضمين الثاني
كان له ذلك. وقال أبو حنيفة ليس له تضمين الثاني. وهذا هو ظاهر كلام أحمد
إذ ذكر الضمان على الأول فقط.
دليلنا أنه أخذ ما لم يكن له أخذه، فإذا استعمل المالك حقه وضمنه، فإن لم
يكن يعلم - أعني الوديع الثاني - بأن هذه الوديعة ليست لمن أودعها إياه ففي
رجوع الثاني على الأول وجهان
(أحدهما) أنه يرجع عليه لأنه غره ولم يوضح له الامر (والثاني) لا يرجع
لأنها تلفت في يده فاستقر الضمان عليه، فان قلنا بالوجه الأول برجوع الثاني
على الأول فليس للأول أن يرجع عليه. وإن قلنا بالوجه الثاني رجع عليه
وإن كان يعلم فلم يغرر به الأول فليس له الرجوع عليه وجها واحدا
(فرع) للوديع أن يعين للوديعة إن كانت ماشية من يقوم على رعيها
وسقيها، فإن كانت تحتاج إلى حمل أو تنظيف أو صيانة فعهد بذلك لمن يقوم به
مما جرى العرف ولا يعد هذا إيداعا لغيره وسيأتي مزيد له.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن أودعه دراهم فخلطها بمثلها من ماله ضمن، لان صاحبها لم
يرض أن يخلط ماله بمال غيره، فان خلطها بدراهم لصاحب الدراهم ففيه وجهان
(أحدهما) لا يضمن، لان الجميع له (والثاني) أنه يضمن وهو الأظهر، لأنه
190

لم يرض أن يكون أحدهما مختلطا بالآخر. وإن أودعه دراهم في كيس مشدود فحله
أو خرق ما تحت الشد ضمن ما فيه، لأنه هتك الحرز من غير عذر، وإن أودعه
دراهم في غير وعاء فأخذ منها درهما ضمن الدرهم لأنه تعدى فيه ولا يضمن الباقي
لأنه لم يتعد فيه، فان رد الدرهم فإن كان متميزا بعلامة لم يضمن غيره، وان لم
يتميز بعلامة فقد قال الربيع يضمن الجميع، لأنه خلط المضمون بغيره فضمن
الجميع. والمنصوص أنه لا يضمن الجميع، لان المالك رضى أن يختلط هذا الدرهم
بالدراهم فلم يضمن. فان أنفق الدرهم ورد بدله، فإن كان متميزا عن الدراهم لم
يضمن الدراهم لأنها باقية كما كانت، وإن كان غير متميز ضمن الجميع لأنه خلط
الوديعة بمالا يتميز عنها فضمن الجميع
(الشرح) الأحكام: إذا خلط دراهمه بمثلها من دراهمه ضمن عندنا، وبهذا
قال الشافعي وأحمد وأصحاب الرأي. وقال مالك: لا يضمن. وقال ابن القاسم
من المالكية: إن خلط دراهم بدراهم على وجه الحرز لم يضمن
قال في الام: ولو أودعه عشرة دراهم فتعدى منها في درهم فأخرجه فأنفقه
ثم أخذه فرده بعينه ثم هلكت الوديعة ضمن الدرهم ولا يضمن التسعة، لأنه
تعدى بالدرهم ولم يتعد بالتسعة، وكذلك إن كان ثوبا فلبسه ثم رده بعينه ضمنه
وقال الربيع: قول الشافعي: إن كان الدرهم الذي أخذه ثم وضع عينه معروفا من
الدراهم ضمن عينه ولم يضمن التسعة. وإن كان لا يتميز ضمن العشرة. انتهى
من الام، ولم أطلع على قول الربيع الذي أشار إليه الشيخ أبو إسحاق
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) فان أودعه دابة فلم يسقها ولم يعلفها حتى ماتت ضمنها، لأنها
ماتت بسبب تعدى به فضمنها، وان قال لا تسقها ولا تعلفها فلم يسقها ولم يعلفها
حتى ماتت ففيه وجهان. قال أبو سعيد الإصطخري: يضمن لأنه لا حكم لنهيه،
لأنه يجب عليه سقيها وعلفها، فإذا ترك ضمن كما لو لم ينه عن السقي والعلف
وقال أبو العباس وأبو إسحاق: لا يضمن. لأن الضمان يجب لحق المالك،
وقد رضى بإسقاطه.
191

(الشرح) الأحكام، قال الشافعي في الام: وإذا أودع الرجل الرجل الدابة
فأمره بسقيها وعلفها، فأمر بذلك من يسقى دوابه ويعلفها فتلفت من غير جناية
لم يضمن، وإن كان سقى دوابه في داره فبعث بها خارجا من داره ضمن قال
وإذا استودع الرجل الرجل الدابة فلم يأمره بسقيها ولا علفها فحبسها المستودع
مدة إذا أتت على مثلها لم تأكل ولم تشرب تلفت فتلفت فهو ضامن. وإن كانت
تلفت في مدة قد تقيم الدواب في مثلها ولا تتلف فتلفت لم يضمن ممن تركها.
وإذا دفع إليه الدابة. اه‍
(قلت) فإذا أودعه بهيمة فأمره بعلفها وسقيها كان واجبا ذلك لوجهين.
(الأول) لحرمة صاحبها (والثاني) لحرمة البهيمة لحديث " دخلت امرأة النار
في هرة " وإن لم يأمره بقيت في ذمته حرمة البهيمة، كما لو أطلق ولم يأمره.
وبهذا قال أحمد والشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه لأنه استحفظه إياها ولم
يأمره بعلفها والعلف على مالكها، فإذا لم يعلفها كان التفريط من مالكها
دليلنا أنه لا يجوز له إتلافها أو التفريط فيها، فإذا أمره بحفظها تضمن الامر
علفها وسقيها.
فان قدر المستودع على صاحبها أو وكيله طالبه بالانفاق عليها أو يردها عليه
أو يأذن له في الانفاق عليها ليرجع به عليه. فإذا عجز عن صاحبها أو وكيله رفع
الامر إلى الحاكم، فان وجد لصاحبها مالا أنفق عليها منه، وان لم يجد مالا
فعل ما يرى لصاحبها الحظ فيه من اجارتها أو بيع جزء منها فان تعذر عليه، علفها
وأشهد على ذلك ليرجع به عليه، فإذا نهاه عن إطعامها لتخمة حاصلة لها فأطعمها
فتلفت ضمن بالتعدي والمخالفة لعلمه بعلة النهى. وبهذا قال أحمد وأصحابه. وقال
بعضهم يضمن مطلقا.
أما إذا نهاه عن إطعام بهيمة سليمة فإنه لا يضمن إذا تلفت، وعليه إثم ترك
إطعامها، لأن الضمان يجب لحق المالك وقد أسقطه، وهو قول أبى العباس ابن
سريج وأبي إسحاق المروزي.
وقال أبو سعيد الإصطخري يضمن إذ لا حكم لنهيه عما أوجبه الله من حرمة
البهيمة. وقال الزركشي " لو كانت الدابة ملكا لغيره، كأن أودع الولي حيوان
192

محجوره فيشبه أن نهيه كالعدم. قال الشافعي: وإذا أودع الرجل الرجل شيئا
من الحيوان ولم يأمره بالنفقة عليه انبغى له أن يرفعه إلى الحاكم حتى يأمره بالنفقة
عليه ويجعله دينا على المستودع، ويوكل الحاكم بالنفقة من يقبضها منه وينفقها
غيره لئلا يكون أمين نفسه أو ببيعها، وإن لم يفعل فأنفق عليها فهو متطوع ولا
يرجع عليه بشئ، وإذا خاف هلاك الوديعة فحملها إلى موضع آخر فلا يرجع
بالكراء على رب الوديعة لأنه متطوع. اه‍
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا أخرج الوديعة من الحرز لمصلحة لها، كإخراج الثياب للتشرير
لم يضمن، لان ذلك من مصلحة الوديعة، ومقتضى الايداع فلم يضمن به، وإن
أخرجها لينتفع بها ضمنها، لأنه تصرف في الوديعة بما ينافي مقتضاها فضمن به.
كما لو أحرزها في غير حرزها، فإن كان دابة فأخرجها للسقي والعلف إلى خارج
الحرز، فإن كان المنزل ضيقا لم يضمن لأنه مضطر إلى الاخراج، وإن كان المنزل
واسعا ففيه وجهان
(أحدهما) يضمن، وهو المنصوص، وهو قول أبي سعيد الإصطخري.
لأنه أخرج الوديعة من حرزها من غير حاجة فضمنها، كما لو أخرجها ليركبها.
(والثاني) أنه لا يضمنها. وهو قول أبي إسحاق، لان العادة قد جرت بالسقي
والعلف خارج المنزل، وحمل النص عليه إذا كان الخارج غير آمن. وان نوى
إخراجها للانتفاع كاللبس والركوب، أو نوى أن لا يردها على صاحبها، ففيه
ثلاثة أوجه (أحدها) وهو قول أبى العباس أنه يضمن كما يضمن اللقطة إذا نوى
تملكها (والثاني) وهو قول القاضي أبى حامد المروروذي أنه ان نوى اخراجها
للانتفاع بها لم يضمن. وان نوى أن لا يردها ضمن، لان بهذه النية صار ممسكا
لها على نفسه، وبالنية الأولى لا يصير ممسكا على نفسه (والثالث) وهو قول
أكثر أصحابنا أنه لا يضمن، لأن الضمان إنما يكون بفعل يوقع في العين،
وذلك لم يوجد.
(الشرح) الأحكام: هناك بعض الودائع لا تحفظ الا بتعريضها للهواء أو
الشمس في بعض الأوقات مع عدم المبالغة حتى لا يحول لونها لتأثير الهواء والشمس
193

على ألوان النسيج وغيره كما هو مشاهد ومعروف في علم الكيمياء حتى أن الضوء
له تأثير على الألوان، فإذا شررها - أي نشرها - بفرض حفظها فتلفت أو حالت
ألوانها لم يضمن، وإذا بسط السجاد واستعمله حتى لا يتلف بتخزينه كان له
استعمالها استعمالا يحفظها، فان هلكت فلا يضمن لأنه إذا أهملها تلفت، ولان
ذلك من مصلحتها فلم يضمن
وقال بعض أصحابنا: لا يضمن الا إذا تحقق أن السارق دله على الموضع بعض
من دخل أولا أو دله عليها وان لم يحدد موضعها، فلو أخرجها ليركبها أو كان
ثوبا ليلبسه ضمن، أو نوى أن لا يردها على صاحبها فعلى ثلاثة أوجه:
(أحدها) وهو قول ابن سريج أنه يضمن، لأنه نوى امتلاكها، كما لو
التقط شيئا ونوى امتلاكه (والثاني) وهو قول الشيخ أبى حامد أنه لا يضمن في
الانتفاع ويضمن في عدم الرد (والثالث) وهو قول أكثر الأصحاب أنه لا يضمن
لان نية الامتلاك لا تؤثر في عين الوديعة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان أخذت الوديعة منه قهرا لم يضمن لأنه غير مفرط في ذلك،
وان أكره حتى سلمها ففيه وجهان، بناء على القولين فيمن أكره حتى أكل في
الصوم (أحدهما) أنه يضمن، لان فوت الوديعة على صاحبها لدفع الضرر عن
نفسه، فأشبه إذا أنفقها على نفسه لخوف التلف من الجوع (والثاني) أنه لا يضمن
لأنه مكره فأشبه إذا أخذت بغير فعل من جهته
(فصل) وان طالبه المودع برد الوديعة فأخر من غير عذر ضمن لأنه
مفرط، فان أخرها لعذر لم يضمن لأنه غير مفرط
(فصل) وان تعدى في الوديعة فضمنها ثم ترك التعدي في الوديعة لم يبرأ
من الضمان لأنه ضمن العين بالعدوان فلم يبرأ بالرد إلى المكان، كما لو غصب من
داره شيئا ثم رده إلى الدار، فإن قال المودع أبرأتك من الضمان أو أذنت لك في
حفظها ففيه وجهان (أحدهما) يبرأ من الضمان وهو ظاهر النص، لأن الضمان
يجب لحقه فسقط بإسقاطه (والثاني) لا يبرأ حتى يردها إليه، لان الابراء إنما
يكون عن حق في الذمة، ولا حق له في الذمة فلم يصح الابراء
194

(الشرح) الأحكام: فرق المصنف بين الاخذ منه قهرا وتسليمها للظالم قهرا
فالأخذ قهرا بدون أن يسلم فيها حتى استطاع الظالم أن ينتزعها لم يضمن، أما إذا
أكره على تسليمها فسلمها، فإن للمالك تضمينه على أصح الوجهين إذ لا فرق بين
أن يسلمها مجبرا وبين أن يسلمها مختارا، ويرجع الوديع على الظالم بما غرمه كما
يرجع المالك أيضا، وعلى الوجه الثاني: ليس للمالك تضمين الوديع، لأنه أكره
ويرجع المالك على الظالم في كلا الحالين، وهما مبنيان على الوجهين فيمن أكره في
الصوم على الاكل.
(أحدهما) لا يكون مفطرا (والثاني) يحكم بإفطاره. ويجب على الوديع
إنكار الوديعة عن الظالم والامتناع عن اعلامه بها جهده، فإن ترك ذلك مع
القدرة ضمن، ويجوز له أن يحلف على ذلك لحفظها، ويجب عليه إذا أمكنته
التورية أن يورى فإن لم يمكنه صرح بغير تورية منكرا لها وكفر عن يمينه
(فرع) لا خلاف في وجوب رد الوديعة على مالكها إذا طلبها لقوله تعالى
" إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها " ولقوله صلى الله عليه وسلم " أد
الأمانة إلى من ائتمنك " يعنى عند طلبها، ولأنها حق لمالكها لم يتعلق بها حق
غيره فلزم أداؤها له كالمغصوب والدين الحال، فإن أمتنع فتلفت ضمنها لأنه
صار غاصبا لامساكه مال غيره بغير إذنه، أما ان طلبها في وقت لا يمكن دفعها
إليه لبعدها أو لمخافة في طريقها أو للعجز عن حملها أو غير ذلك لم يكن متعديا
بترك تسليمها لان الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، فان تلفت لم يضمنها لعدم
عدوانه، فإذا قال: أمهلوني حتى أقضى صلاتي أو آكل لأني جائع أو أنام فاني
ناعس أو ينهضم عنى الطعام فاني ممتلئ أمهل بقدر ذلك.
(فرع) إذا تعدى في الوديعة بأي من أنواع التعدي كجحودها ثم عاد فأقر
بها انتقلت يده من الائتمان إلى الضمان ولو زالت أسباب ذلك بالاقرار فإنه يبقى
على الضمان ولا يبرأ منه الا بالرد وان أقام البينة على تلفها بعد جحودها لم يسقط
عنه الضمان، فلو أقام البينة بتلفها قبل جحودها فهل تسمع بينته؟ فيه وجهان.
أحدهما: لا تسمع بينته لأنه مكذب لها بانكاره الايداع. والثاني: تسمع بينته،
195

فإذا أبرأه المودع من الضمان، أو أذن له في حفظها بعد ذلك فوجهان. أحدهما
وهو ظاهر قول الشافعي: يبرأ من الضمان، لأن الضمان وجب لحقه فسقط
باسقاطه له. والثاني: لا يبرأ حتى يردها على ربها لان الابراء لا يكون الا عن
حق في الذمة فلم يصح.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) إذا اختلف المودع والمودع فقال أودعتك وديعة وأنكرها
المودع فالقول قوله، لما روى ابن عباس رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال " لو أن الناس أعطوا بدعاويهم لادعى ناس من الناس دماء ناس وأموالهم
ولكن اليمين على المدعى عليه والبينة على من أنكر " ولان الأصل أنه لم يودعه
فكان القول قوله.
(فصل) وان ادعى أنها تلفت نظرت، فإن ادعى التلف بسبب ظاهر
كالنهب والحريق لم يقبل حتى يقيم البينة على وجود النهب والحريق، لان الأصل
أن لا نهب ولا حريق، ويمكن إقامة البينة عليها، فلم يقبل قوله من غير بينة
فان أقام البينة على ذلك أو ادعى الهلاك بسبب يخفى فالقول قوله مع اليمين أنها
هلكت، لان الهلاك يتعذر إقامة البينة عليه، فقبل قوله مع يمينه.
(فصل) وإن اختلفا في الرد فالقول قوله مع يمينه، لأنه أخذ العين لمنفعة
المالك فكان القول في الرد قوله، وإن ادعى عليه أنه أودعه فأنكر الايداع
فأقام المودع بينة بالايداع فقال المودع: صدقت البينة أودعتني، ولكنها تلفت
أو رددتها لم يقبل قوله، لأنه صار خائنا ضامنا فلا يقبل قوله في البراءة بالرد
والهلاك، فإن قال: أنا أقيم البينة بالتلف أو الرد ففيه وجهان
(أحدهما) أنها تسمع، لأنه لو صدقه المدعى ثبتت براءته، فإذا قامت البينة
سمعت (والثاني) لا تسمع، لأنه كذب البينة بإنكاره الايداع، فأما إذا ادعى
عليه أنه أودعه فقال: ماله عندي شئ فأقام البينة بالايداع فقال: صدقت البينة
أودعتني، ولكنها تلفت أو رددتها قبل قوله مع اليمين لأنه صادق في إنكاره أنه
لا شئ عنده، لأنها إذا تلفت أو ردها عليه لم يبق له عنده شئ والله أعلم.
196

(الشرح) الحديث سبق وسبق تخريجه.
اما الأحكام: فإنه إذا ادعى عليه أنه أودعه وديعة فقال: مالك عندي شئ
أو لا تستحق على شيئا فالقول قوله. فإذا أقام المالك البينة فأقر الوديع قائلا:
صدقت بالبينة ولكنها تلفت، أو قال: ولكني رددتها إليك لم يقبل قوله، لأنه
خان بجحوده، فلا يقبل قوله في التلف أو الرد.
وقد جمع الأستاذ محمد الخضراوي من فقهائنا المعاصرين عناصر ذات فائدة
في أحكام دعوى الرد على المالك أو وارثه، قال أثابه الله: وإذا ادعى الوديع
رد الوديعة على من ائتمنه من مالك وحاكم وولى ووصى وقيم، صدق بيمينه،
وإن أشهد عليه بها عند دفعها لأنه ائتمنه. أما لو ضمنها بتفريط أو عدوان فإنه
لا يقبل دعواه ردها، ويجرى ما ذكر في كل أمين أو وكيل وشريك وعامل
قراض وجاب في رد ما جباه على الذي استأجره للجباية كما قاله ابن الصلاح وأمين
ادعى الرد على الوديع إذا أودعه عند سفره، لأنه ائتمنه بناء على أن للوديع
الاسترداد إذا عاد من سفره، وهو المعتمد بخلاف ما إذا ادعى الرد على المالك
فإنه لا يصدق لأنه لم يأتمنه. ولا يصدق ملتقط الشئ ولا من ألقت عليه الريح
ثوبا في الرد إلى المالك، لأنه لم يأتمنهما وضابط الذي يصدق بيمينه في الرد هو
كل أمين ادعى الرد على من ائتمنه الا المرتهن والمستأجر فإنهما يصدقان في التلف
لا في الرد، لأنهما أخذا العين لغرض أنفسهما.
قال ابن القاص وغيره: كل مال تلف في يد أمين من غير تعد لا ضمان عليه
الا فيما إذا استسلف السلطان لحاجة المساكين زكاة قبل حلولها، فتلفت في يده،
فيضمنها لهم. وإذا ادعى الوديع الرد على غير من ائتمنه كوارث المالك، أو
ادعى وارث الوديع الرد للوديع منه لا من مورثه على المالك أو أودع عند
سفره أمينا فادعى الأمين الرد على المالك طولب كل من ذكر ببينة بالرد على من
ذكر، إذ الأصل عدم الرد ولم يأتمنه.
أما إذا ادعى الوارث الرد من مورثه فإنه يصدق بيمينه، وصرح به البغوي
197

وقال الرافعي وهو الوجه، لان الأصل عدم حصولها في يده. وقال ابن أبي الدم
انه الأصح، وخالف في ذلك المتولي وقال: يطالب بالبينة.
ولو تنازع الوديعة بأن ادعى كل منهما أنه ملكه، فصدق الوديع أحدهما
بعينه فللآخر تحليفه، فان حلف سقطت دعوى الآخر، وان نكل حلف الآخر
وغرم له الوديع القيمة، وان صدقهما فاليد لهما والخصومة بينهما، وان قال:
هي لأحدكما ونسيته، وكذباه في النسيان ضمن كالغاصب، والغاصب إذا قال:
المغصوب لأحدكما وأنسيته، فحلف أحدهما على البت أنه لم يغصبه تعين المغصوب
للآخر بلا يمين.
ولو ادعى الوارث علم الوديع بموت المالك، وطلب منه الوديعة فله تحليفه
على نفى العلم بذلك، فان نكل الوارث وأخذها، وان قال الوديع: حبستها عندي
لأنظر هل أوصى بها مالكها أم لا؟ فهو متعد ضامن.
(مسألة) سئل الشيخ عز الدين عن رجل تحت يده وديعة ولم يعرف
صاحبها وأيس من معرفته بعد البحث التام فقال: يصرفها في أهم مصالح المسلمين
ويقدم أهل الضرورة ومسيس الحاجة، ولا يبنى بها مسجدا، ولا يصرفها الا
فيما يجب على الإمام العادل صرفها فيه، وان جهله فليسأل أورع العلماء بالمصالح
الواجبة التقديم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
198

كتاب العارية
العارية بتشديد الياء. يقال تعاوروا الشئ واعتوروه تداولوه. والعارية
منه. والأصل فعلية بفتح العين. قال الأزهري: نسبة إلى العارة وهم اسم من
الإعارة. يقال أعرته الشئ إعارة وعارة، مثل أطعته إطاعة وطاعة، وأجبته
إجابة وجابه. وقال الليث: سميت عارية لأنها عار على طالبها، وقال الجوهري
مثلة. وبعضهم يقول مأخوذة من عار الفرس إذا ذهب من صاحبه لخروجها من
يد صاحبها وهما غلط، لان العارية من الواو، لان العرب تقول: هم يتعاورون
العواري ويتعورونها بالواو إذا أعار بعضهم بعضا. والعار وعار الفرس من الياء
فالصحيح ما قال الأزهري، وقد تخفف العارية في الشعر والجمع العواري
بالتخفيف وبالتشديد على الأصل، واستعرت منه الشئ فأعارنيه. والفقهاء
يذهبون دائما إلى الاخذ بقول الجوهري
قال ابن قدامة: العارية إباحة الانتفاع بعين من أعيان المال مشتقة من عار
الشئ إذا جاء. ومنه قيل للبطال عيار لتردده في بطالته. اه‍
وهو كما أوضحنا خطأ لأنه من مادة أخرى، وقال ابن بطال: ومنه سميت
العير لذهابها وعودتها، وهو خطأ كما قلنا، وقال ابن الأثير مثله
قال المصنف رحمه الله تعالى:
الإعارة قربة مندوب إليها لقوله تعالى " وتعاونوا على البر والتقوى " وروى
جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من
صاحب إبل لا يفعل فيها حقها إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت بقاع قرقر
تشتد عليه بقوائمها وأخفافها، قال رجل يا رسول الله ما حق الإبل؟ قال حلبها
على الماء وإعارة دلوها وإعارة فحلها "
(فصل) ولا تصح الإعارة إلا من جائز التصرف في المال، فأما من لا يملك
التصرف في المال كالصبي والسفيه فلا تصح منه لأنه تصرف في المال فلا يملكه
الصبي والسفيه كالبيع
199

(فصل) وتصح الإعارة في كل عين ينتفع بها مع بقائها، كالدور والعقار
والعبيد والجواري والثياب والدواب والفحل للضراب، لما روى جابر رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر إعارة دلوها وإعارة فحلها. وروى أنس
" أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من أبى طلحة فرسا فركبه " وروى صفوان
" أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار منه أدرعا غزاة حنين " فثبت في هذه الأشياء
بالخبر وقسنا عليها كل ما كان ينتفع به مع بقاء عينه
(الشرح) الأصل في العارية الكتاب والسنة والاجماع
أما الكتاب فقوله تعالى (ويمنعون الماعون) روى عن ابن عباس وابن مسعود
أنهما قالا: العواري. وفسرها ابن مسعود فقال: القدر والميزان والدلو، وقوله
تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى)
وأما السنة فما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خطبة الوداع
" العارية مؤداة والدين مقضى والمنحة مردودة والزعيم غارم " أخرجه الترمذي
وقال: حديث حسن غريب، وروى صفوان بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم
استعار منه أدراعا يوم حنين فقال: أغصبا يا محمد؟ قال " بل عارية مضمونة "
رواه أبو داود وأحمد والنسائي والحاكم وأورد له شاهدا من حديث ابن عباس،
ولفظه " بل عارية مؤداة "
وفى رواية لأبي داود " ان الأدراع كانت ما بين الثلاثين إلى الأربعين "
ورواه البيهقي عن أمية بن صفوان مرسلا، وبين أن الأدراع كانت ثمانين،
ورواه الحاكم من حديث جابر بن عبد الله، وذكر أنها مائة درع، وأعل ابن
حزم وابن القطان طرق هذا الحديث، قال ابن حزم: أحسن ما فيها حديث يعلى
ابن أمية وقد سقناه في الوكالة
أما حديث جابر في الفصل فقد رواه أحمد ومسلم، فقد استوفى الكلام عليه
الامام النووي في كتاب الزكاة من المجموع
وأما الاجماع فقد انعقد من الأمة كلها على أن العارية مندوب إليها لأنها من القربات
200

وأما القياس فلانه لما جازت الهبة بالأعيان جازت الهبة بالمنافع. ولذلك
صحت الوصية بالأعيان والمنافع جميعا، ولأنه سبحانه قال " لا خير في كثير من
نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس " والعارية من
المعروف، وقال " وتعاونوا على البر والتقوى " والعارية من البر، والماعون
والماعون كان متعارفا عليه في الجاهلية بأنه كل ما فيه منفعة من قليل أو كثير
قال الأعشى:
بأجود منه بما عونه * إذا ما سماؤهم لم تغمأ
وفى الاسلام الطاعة والزكاة والمعروف وأنشدوا للراعي:
أخليفة الرحمن إنا معشر * حنفاء نسجد بكرة وأصيلا
عرب نرى لله في أموالنا * حق الزكاة منزلا تنزيلا
قوم على الاسلام لما يمنعوا * ما عونهم ويضيعوا التهليلا
أما الأحكام فإن العارية تفتقر إلى ثلاثة أشياء: معير ومستعير ومعار،
فالمعير وهو كل من كان مالكا مطلق التصرف جاز أن يكون معيرا، ولا يجوز
من غير مالك ولا ممنوع من التصرف. وأما المستعير فكل من صح منه قبول
الهبة صح منه طلب العارية لأنها نوع من الهبة. وأما المعار فهو كل مملوك صح
الانتفاع به مع بقاء عينه، ولا يصح فيما لا ينتفع به مع بقاء عينه كالمأكولات،
لاختصاص العارية بالمنافع دون الرقاب.
فأما الفضة والذهب فتنقسم ثلاثة أقسام: قسم يجوز إعارته واجارته وهو
الحلى لإباحة الانتفاع به مع بقاء عينه، وقسم لا تجوز اعارته ولا اجارته،
وهو الأواني المحظور الانتفاع بها مع بقاء عينها، وقسم تجوز اعارته، وفى جواز
اجارته وجهان وهو الدراهم والدنانير، لان في التجمل بهما نفعا، والفرق
بين العارية والإجارة وان اختصا بملك المنفعة أن حكم العارية أوسع من حكم
الإجارة، لأنه يجوز أن يستعير فحل ضراب ولا يجوز أن يستأجره
والحيوان على أربعة أقسام: أحدها ما يجوز اعارته واجارته، وهو كل
ما يقتنى المنفعة، كالدواب للانتفاع بظهورها والجوارح المنتفع بصيدها،
201

والثاني: ما لا يجوز إعارته ولا إجارته، وهو نوعان (أحدهما) ما كان محرما.
(والثاني) ما كانت منفعته عينا، فأما المحرم الانتفاع به فالسباع والذئاب
والكلاب غير المعلمة، فلا يجوز أن تعار ولا أن يؤاجر، وأما ما كانت منفعته
عينا فذات الدر من المواشي كالغنم فلا يجوز أن تعار ولا تؤاجر لاختصاص
العارية والإجارة بالمنافع دون الأعيان، ولكن يجوز أن تمنح
قال الشافعي: والمنحة أن يدفع الرجل ناقته أو شاته إلى رجل ليحلبها ثم
يردها فيكون اللبن ممنوحا. وروى الشافعي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج
عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المنحة أفضل الصدقة تغدو بأجر وتروح
بأجر. والقسم الثالث ما تجوز إعارته ولا تجوز إجارته كالفحول إذ إجارتها ثمن
لعشبها، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن عشب الفحل
والقسم الرابع ما تجوز إعارته، وفى جواز إجارته وجهان، وهو ما انتفع
به من كلاب الصيد والفحول لغير العسب، وإذا صحت إعارة البهائم دون إجارتها
فعلفها ومؤونتها على المالك دون المستعير والمستأجر، لان ذلك من حقوق
الملك، والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز إعارة جارية ذات جمال لغير ذي رحم محرم، لأنه
لا يأمن أن يخلو بها فيواقعها، فإن كانت قبيحة أو كبيرة لا تشتهى لم يحرم،
لأنه يؤمن عليها الفساد، ولا تجوز إعارة العبد المسلم من الكافر، لأنه لا يجوز
أن يخدمه. ولا تجوز إعارة الصيد من المحرم، لأنه لا يجوز له امساكه ولا
التصرف فيه. ويكره أن يستعير أحد أبويه للخدمة، لأنه يكره أن يستخدمهما
فكره استعارتهما لذلك.
(فصل) ولا تنعقد الا بإيجاب وقبول لأنه ايجاب حق لآدمي فلا يصح
الا بالايجاب والقبول كالبيع والإجارة، وتصح بالقول من أحدهما والفعل من
الآخر، فإن قال المستعير أعرني فسلمها إليه انعقد، وان قال المعير: أعرتك
202

فقبضها المستعير انعقد، لأنه إباحة للتصرف في ماله، فصح بالقول من أحدهما
والفعل من الآخر، كإباحة الطعام
(الشرح) هذا الفصل فيه من محاسن الاسلام في معاملة السبي، وهو ظاهرة
اجتماعية عالمية جاء الاسلام لتصفيتها بالتقرب إلى الله تعالى بفك رقابها. ومن
ذلك أن المرء إذا كانت عنده جارية جميلة فإنه لا يجوز اعارتها لخدمة آخر حتى
لا يؤدى ذلك إلى اغرائه بأن ينزو عليها، ويسرى هذا الامر على الخادمات
اللائي يغشين المنازل في زماننا هذا لأداء بعض الخدمة وإعانة ربات البيوت على
بعض ما يشق عليهن، فلا يجوز إعارة مثل هؤلاء الخادمات إذا كن جميلات،
كما يكره للرجل أن يتحرى أن تكون خادمته ذات جمال، كما لا يجوز للمرء أن
يستخدم أباه ولا أن يستعيره لخدمته، وهذا الحكم في شكله الذي سقناه هو
الملائم الآن. اه‍
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإذا قبض العين ضمنها، لما روى صفوان " أن النبي صلى الله عليه
وسلم استعار منه أدرعا يوم حنين، فقال أغصبا يا محمد؟ قال بل عارية مضمونة
ولأنه مال لغيره أخذه لمنفعة نفسه، لا على وجه الوثيقة، فضمنها كالمغصوب
فان هلكت نظرت، فإن كان مما لا مثل له ففي ضمانها وجهان (أحدهما) يضمنها
بأكثر ما كانت قيمتها من حين القبض إلى حين التلف كالمغصوب، وتصير
الاجزاء تابعة للعين ان سقط ضمانها بالرد سقط ضمان الاجزاء وان وجب
ضمانها بالتلف وجب ضمان الاجزاء (والثاني) أنها تضمن بقيمتها يوم التلف
وهو الصحيح، لأنا لو ألزمناه قيمتها أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين
التلف أوجبنا ضمان الاجزاء التالفة بالاذن، وهذا لا يجوز، ولهذا لو كانت العين
باقية وقد نقصت أجزاؤها بالاستعمال لم يجب ضمانها وإن كان مما له مثل.
فإن قلنا فيما لا مثل له انه يضمن بأكثر ما كانت قيمته لزمه مثلها، وان قلنا إنه
يضمن بقيمته يوم التلف ضمنها بقيمتها
203

واختلف أصحابنا في ولد المستعارة فمنهم من قال: إنه مضمون لأنها مضمونة
فضمن ولدها كالمغصوبة، ومنهم من قال: لا يضمن: لان الولد لم يدخل في
الإعارة فلم يدخل في الضمان، ويخالف المغصوبة، فإن الولد يدخل في الغصب
فدخل في الضمان، فإن غصب عينا فأعارها من غيره، ولم يعلم المستعير وتلفت
عنده، فضمن المالك المستعير لم يرجع بما غرم على الغاصب، لأنه دخل على أنه
يضمن العين، وإن ضمنه أجرة المنفعة فهل يرجع على الغاصب؟ فيه قولان،
بناء على القولين فيمن غصب طعاما وقدمه إلى غيره. أحدهما: يرجع لأنه غره
والثاني: لا يرجع، لان المنافع تلفت تحت يده.
(الشرح) قال الشافعي رضي الله عنه: العارية كلها مضمونة، الدواب
والرقيق والدور والثياب لا فرق بين شئ منها، فمن استعار شيئا فتلف في يده
بفعله أو بغير فعله فهو ضامن له، والأشياء لا تخلو أن تكون مضمونة أو غير
مضمونة، فما كان منها مضمونا مثل الغصب وما أشبهه فسواء ما ظهر منها هلاكه
وما خفى فهو مضمون على الغاصب والمستسلف جنيا فيه أو لم يجنيا أو غير مضمونة
مثل الوديعة فسواء ما ظهر هلاكه وما خفى فالقول فيها قول المستودع مع يمينه
وخالفنا بعض الناس في العارية فقال: لا يضمن شيئا إلا ما تعدى فيه، فسئل
من أين قاله؟ فزعم أن شريحا قاله، وقال: ما حجتكم في تضمينها.
قلنا: استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان فقال له النبي صلى الله عليه وسلم
" عارية مضمونه مؤداة " قال: أفرأيت إذا قلنا: فان شرط المستعير الضمان ضمن
وإن لم يشرطه لم يضمن؟
قلنا: فأنت إذن تترك قولك. قال: وأين؟ قلنا: أليس قولك: إنها غير
مضمونة إلا أن يشترط؟ قال: بلى، قلنا: فما تقول في الوديعة إذا اشترط
المستودع أنه ضامن أو المضارب؟ قال لا يكون ضامنا، قلنا فما تقول في المستسلف
إذا اشترط أنه غير ضامن؟ قال. لا شرط له ويكون ضامنا. قلنا. ويرد الأمانة
إلى أصلها والمضمون إلى أصله ويبطل الشرط فيهما جميعا؟ قال. نعم، قلنا.
وكذلك ينبغي لك أن تقول في العارية، وبذلك شرط النبي صلى الله عليه وسلم
204

أنها مضمونة الا لما يلزم. قال. فلم شرط؟ قلنا لجهالة صفوان، لأنه كان مشركا
لا يعرف الحكم، ولو عرفه ما ضر الشرط إذا كان أصل العارية أنها مضمونة
بلا شرط كما لا يضر شرط العهدة وخلاص عقدك في البيع، ولو لم يشترط كان
عليه العهدة والخلاص أو الرد، قال. فهل قال هذا أحد؟ قلنا في هذا كفاية،
وقد قال أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما " ان العارية مضمونة " وكان
قول أبي هريرة في بعير استعير فتلف. انه مضمون اه‍.
وقال الماوردي في الحاوي: فتمامها بالقبض فقد اتفق الفقهاء على أن ما تلف
من أجزائها بالاستعمال غير مضمون على المستعير، واختلفوا في تلف عينها على
خمسة مذاهب.
(أحدها) وهو مذهب الشافعي أنها مضمونة عليه سواء تلفت بفعل آدمي
أو بجائحة سماوية، وبه قال من الصحابة ابن عباس وعائشة وأبو هريرة رضي الله عنه
م ومن التابعين عطاء ومن الفقهاء أحمد بن حنبل.
(والمذهب الثاني) وهو مذهب أبي حنيفة أنها غير مضمونه عليه الا بالتعدي
وبه قال الحسن البصري والنخعي والثوري والأوزاعي.
(والثالث) وهو مذهب مالك: إن كان مما يخفى هلاكه ضمن، وإن كان
مما يظهر لم يضمن.
(والرابع) وهو مذهب الشيعة: ان تلفت بالموت لم يضمن، وان تلفت
بغيره ضمن.
(والخامس) وهو مذهب قتادة وعبيد الله الحسن العنبري وداود: ان شرط
ضمانها لزم، وان لم يشترط لم يلزم، واستدلوا على سقوط الضمان برواية
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس على
المستعير غير المغل ضمان " وهذا نفى، وبرواية عطاء بن أبي رباح عن صفوان
ابن يعلى عن أبيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا أتتك رسلي فأعطهم
ثلاثين بعيرا وثلاثين درعا فقلت يا رسول الله أعارية مضمونة أو عارية مؤداة
قال: بل مؤداة " قالوا: فقد نفى الضمان عنها فلم يجز أن يتوجه إليها قالوا: ولأنه
205

مستعار تلف بغير تفريط فوجب أن لا يضمنه المستعير قياسا على تلف الاجزاء
قالوا: ولان ما لم تكن أجزاؤه مضمونه لم تكن جملته مضمونه كالودائع طردا
والغصوب عكسا.
دليلنا رواية قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
" على اليد ما أخذت حتى تؤدى " وهذا تضمين، ثم ساق الماوردي حديث صفوان
المار كدليل آخر، فإن قيل: هو محمول على ضمان الرد كالودائع التي هي مضمونة
الرد، وليست مضمونة العين، قيل: إطلاق القول يتناول ضمان الأعيان،
ولذلك امتنع أن يطلق على الأمانات المؤداة حكم الضمان، على أنه روى عنه
صلى الله عليه وسلم قال " عارية مضمونه مؤداة " وكان الأداء محمولا على الرد
والضمان على التلف، ثم يجيب صاحب الحاوي على اعتراضات المخالفين فيقول
عن حديث ليس على المستعير غير المغل ضمان:
الجواب من وجهين: أحدهما أنه محمول على ضمان الاجزاء التالفة بالاستعمال
وهذا وإن كان تخصيصا فلما عارضه من الاخبار المخصصة.
والثاني: أن المغل في هذا الموضع ليس بمأخوذ من الخيانة والغلول وإنما هو
مأخوذ من استغلال الغلة، يقال: هذا غل فهو مغل إذا أخذ الغلة.
قال زهير بن أبي سلمى:
فتغل لكم مالا تغل لأمثالها * قرى بالعراق من قفيز ودرهم
فيكون لا ضمان على المستعير غير المستغل أي غير القابض لأنه بالقبض يصير مستغلا
وهذا صحيح، وأما الجواب عن " عارية مضمونة أو مؤداة؟ " فهو أن معناه
عارية مضمونه بالبدل، أو مؤداة العين استعلاما لحكمها هل تؤخذ على طريق
البدل والمعاوضة أو على طريق الرد والأداء فأخبر أنها مؤداة العين، لا يملكها
الآخذ بالبدل، وأما تلفها بالاستعمال المأذون فيه كالثوب المستعار إذا بلى باللبس
لم يضمنه المستعير، والمعنى فيه أنه أتلفه بإذن مالكه فسقط عنه ضمانه، والعارية
إذا تلفت بغير إذن مالكها وجب عليه ضمانها، ولو تلف الثياب بغير اللبس
المأذون فيه كأن شد فيها متاعا أو حل فيها ترابا ضمن، وعند أحمد في أظهر
القولين يجب ضمانها لو بليت باللبس.
206

(فرع) لا يخلو حال العارية إذا تلفت عن أحد أمرين. اما أن يكون لها
مثل أو لا مثل لها، فإن لم يكن لها مثل ضمنها بالقيمة، وفيها وجهان.
(أحدهما) يضمن قيمتها يوم التلف ليسقط ضمان الاجزاء التالفة بالاستعمال
(والوجه الثاني) أنه يضمن أكثر قيمتها من حين القبض إلى حين التلف
كالغصب، وتصير الاجزاء تبعا للجملة، فإن كان للعارية مثل ففي ما يضمنها به
وجهان بناء على صفة ضمان مالا مثل له.
(أحدهما) يضمنها بالمثل إذا جعل ضمانها في أكثر الأحوال كالغصب
(والثاني) يضمنها بالقيمة إذا جعل ضمانها وقت التلف.
فأما ما تنتجه العارية من ولد إذا حدث في يد المستعير ففي وجوب ضمانه عليه
وجهان، أحدهما: عليه ضمانه لان ولد المضمون مضمون كالمغصوبة، والوجه
الثاني: لا ضمان عليه لان معنى الضمان في الام معدوم في الولد بخلاف الغصب
لان ولد العارية لا يكون مستعارا، وولد المغصوبة يكون مغصوبا.
وأما قول الشافعي في موضع من كتاب الإجارات: ان العارية غير مضمونه
الا بالتعدي - وهو ما أشرنا إليه في كتاب الضمان - فليس بقول ثان في سقوط
ضمانها كما وهم فيه الربيع، وهو محمول على أحد ثلاثة أوجه، اما على سقوط
ضمان الأجرة، أو على سقوط ضمان الاجزاء: أو حكاية عن مذهب غيره كما
قال: يجوز نكاح المحرم حكاية عن مذهب غيره وفرع عليه وان لم يعلنه مذهبا
لنفسه والله أعلم. هذا وما يتعلق بالغصب في هذا الفصل آت إن شاء الله في الغصب
ومن الله التوفيق.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ويجوز للمعير أن يرجع في العارية بعد القبض، ويجوز للمستعير
أن يرد، لأنه إباحة فجاز لكل واحد منهما رده كإباحة الطعام. وإذا فسخ العقد
وجب الرد على المستعير، لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية أدرعا وسلاحا، فقال أعارية مؤداة؟
قال: عارية مؤداة، ويجب ردها إلى المعير أو إلى وكيله، فان ردها إلى المكان
207

الذي أخذها منه لم يبرأ من الضمان، لان ما وجب رده وجب رده إلى المالك أو
إلى وكيله كالمغصوب والمسروق.
(فصل) ومن استعار عينا جاز له أن يستوفى منفعتها بنفسه وبوكيله،
لان الوكيل نائب عنه، وهل له أن يعير غيره؟ فيه وجهان (أحدهما) يجوز كما
يجوز للمستأجر أن يؤجر (والثاني) لا يجوز وهو الصحيح، لأنه إباحة فلا يملك
بها الإباحة لغيره كإباحة الطعام، ويخالف المستأجر فإنه يملك المنافع. ولهذا
يملك أن يأخذ عليه العوض، فملك نقله إلى غيره كالمشتري للطعام والمستعير
لا يملك، ولهذا لا يملك أخذ العوض عليه، فلا يملك نقله إلى غيره، كمن
قدم إليه الطعام.
(فصل) وتجوز الإعارة مطلقا ومعينا، لأنه إباحة فجاز مطلقا ومعينا
كإباحة الطعام، فإن قال: أعرتك هذه الأرض لتنتفع بها، جاز له أن يزرع
ويغرس ويبنى، لان الاذن مطلق، وإن استعار للبناء أو للغراس جاز له أن
يزرع لان الزرع أقل ضررا من الغراس والبناء فإذا رضى بالبناء والغراس رضى بالزرع
ومن أصحابنا من قال: إن استعار للبناء لم يزرع، لان في الزرع ضررا ليس
في البناء، وهو أنه يرخى الأرض، وإن استعار للزرع لم يغرس ولم يبن، لان
الغراس والبناء أكثر ضررا من الزرع فلا يكون الاذن في الزرع إذنا في الغراس
والبناء. وإن استعار للحنطة زرع الحنطة وما ضرره ضرر الحنطة، لان الرضا
بزراعة الحنطة رضا بزراعة مثله،. وإن استعار للغراس أو البناء ملك ما أذن
فيه منهما، وهل يملك الآخر؟ فيه وجهان
(أحدهما) أنه يملك الآخر، لان الغراس والبناء يتقاربان في البقاء والتأبيد
فكان الاذن في أحدهما إذنا في الآخر (والثاني) أنه لا يجوز، لان في كل واحد
منهما ضررا ليس في الآخر، فان ضرر الغراس في باطن الأرض أكثر، وضرر
البناء في ظاهر الأرض أكثر، فلا يملك بالاذن في أحدهما الآخر
(الشرح) أما الأحكام فإنه إذا طالب المعير بردها كانت ضرورة ردها واجبة
على المستعير بخلاف المستأجر، والفرق بينهما أن تسليم المنفعة في الإجارة مستحق
208

على المؤاجرة فكانت مؤونة الرد عليه، وتسليمها في العارية هبة للمستعير فكانت
مؤونة الرد عليه.
فإذا استعار دابة ثم ردها إلى اصطبل المعير لم يبرأ من ضمانها حتى يدفعها إلى
المعير أو وكيله فيها. وقال أبو حنيفة: يبرأ منها بردها إلى الإصطبل استحسانا
لا قياسا وهذا خطأ، لان الإصطبل لو كان كيده لاقتضى أن يكون سارقها من
الإصطبل إذا ردها إليه أن يسقط عنه ضمانها كما يسقط بردها إلى يده، وفى بقاء
الضمان عليه دليل على أن ليس عودها إلى الإصطبل عودا إلى يده. وقال الحنابلة
إن كانت العين باقية فعلى المستعير ردها إلى المعير أو وكيله في قبضها، ويبرأ بذلك
من ضمانها. وان ردها إلى من جرت عادته بجريان ذلك على يده كزوجته المتصرفة
في ماله ورد الدابة إلى سائسها فقياس المذهب أنه يبرأ
(فرع) إذا استعار شيئا فله استيفاء منفعته بنفسه وبوكيله، لان وكيله
نائب عنه ويده كيده، وليس له أن يؤجره لأنه لم يملك المنافع فلا يصح أن
يملكها غيره، لان المستعير لا يملك العين، وليس للمستعير استعمال المعار الا
فيما أذن له فيه، وليس له أن يعيره غيره. وهذا هو الوجه الأصح عندنا، ولا
قول غيره عند الحنابلة.
والوجه الآخر له ذلك - وهو قول أبي حنيفة - لأنه يملكه على حسب
ما ملكه فجاز كما للمستأجر أن يؤجر، قال أصحاب الرأي: إذا استعار ثوبا ليلبسه
هو فأعطاه غيره فلبسه فهو ضامن، وان لم يسم من يلبسه فلا ضمان عليه.
وقال مالك: إذا لم يعمل بها الا الذي كان يعمل بها الذي أعيرها فلا ضمان عليه.
ولنا أن العارية إباحة المنفعة فلم يجز أن يبيحها غيره كإباحة الطعام، وفارق
الإجارة لأنه ملك الانتفاع على كل وجه فملك أن يملكها، وفى العارية لم يملكها
إنما ملك استيفاءها على وجه ما أذن له فأشبه من أبيح له أكل الطعام، فعلى هذا
ان أعار فللمالك الرجوع بأجر المثل، وله أن يطالب من شاء منهما، لان الأول
سلط غيره على أخذ مال غيره بغير اذنه. والثاني استوفاه بغير اذنه فان ضمن
الأول رجع على الثاني، لان الاستيفاء حصل منه فاستقر الضمان عليه، وان
ضمن الثاني لم يرجع على الأول الا أن يكون الثاني لم يعلم بحقيقة الحال فيحتمل
209

أن يستقر الضمان على الأول لأنه غر الثاني. ودفع إليه العين على أنه يستوفى
منافعها بغير عوض، وإن تلفت العين في يد الثاني استقر الضمان عليه بكل حال،
لأنه قبضها على أن تكون مضمونة عليه، فان رجع على الأول رجع الأول على
الثاني. وإن رجع على الثاني لم يرجع على أحد على أحد القولين والثاني: له أن
يرجع، وسيأتي في الغصب إن شاء الله
(فرع) تجوز الإعارة مطلقا ومقيدا لأنها إباحة فجاز فيها إباحة ذلك كإباحة
الطعام، ولان الجهالة إنما تؤثر في العقود اللازمة، فإذا أعاره شيئا مطلقا أبيح
له الانتفاع به في كل ما هو مستعد له من الانتفاع به، فإذا أعاره أرضا مطلقا فله
أن يزرع فيها ويغرس ويبنى ويفعل فيها كل ما هي معدة له من الانتفاع لان
الاذن مطلق، وإن أعاره للغراس أو للبناء فله أن يزرع فيها ما شاء لان ضرره
دون ضررهما، فكأنه استوفى بعض ما أذن له فيه، وإن استعارها للزرع لم
يغرس ولم يبن، لان ضررهما أكثر، فلم يكن الاذن في القليل إذنا في الكثير.
وإن استعارها للغراس أو للبناء ملك المأذون فيه منهما وفى امتلاك الآخر
وجهان (أحدهما) يملك الآخر لان الغراس والبناء يتقاربان في البقاء والتأبيد
فكان الاذن في أحدهما إذنا في الآخر
(والثاني) لا لاختلاف كل منهما. ولان ضررهما مختلف، فان ضرر الغراس
في باطن الأرض لانتشار العروق فيها، وضرر البناء في ظاهرها فلم يكن الاذن
في أحدهما إذنا في الاخر.
وإن استعارها لزرع الحنطة فله زرعها وزرع ما هو أقل ضررا منها كالشعير
والباقلا والعدس، وله زرع ما ضرره كضرر الحنطة، لان الرضى بزراعة شئ
رضى بضرره وما هو دونه، وليس له زرع ما هو أكثر ضررا منه كالذرة
والدخن والقطن. لان ضرره أكثر، وحكم إباحة الانتفاع في العارية كحكم
الانتفاع في الإجارة فيما له أن يستوفيه، وما يمنع منه. وفى الإجارة مزيد
إن شاء الله تعالى.
ولما كانت بعض النباتات تجهد الأرض مثل القطن، ولذا تحتاج إلى تسميد
وسباخ وبعضها يفيد الأرض كالفول والبرسيم فإنهما يفيدان الأرض ويكسبانها
210

مادة الازوت. وفى البرسيم ميزة أخرى وهي تمكين الماشية والدواب من التغذي
به بربطها عليه فتحدث أنفاسها، وبخاصة أنفاس الغنم، وكذلك أبوالها وأرواثها
تسميدا للأرض يكسبها قوة ويكمل في التربة بالمواد العضوية من الكفاءة والقوة
والخصب مالا يتوفر في الذرة والقمح والقطن التي تضعف خصوبة التربة، فان
اختلاف ضرر الأرض أو انتفاعها يختلف باختلاف مزروعها. والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن أعاره أرضا للغراس أو البناء فغرس وبنى ثم رجع لم يجز
أن يغرس ويبنى شيئا آخر، لأنه يملك الغراس والبناء بالاذن وقد زال الاذن،
فأما ما غرس وبنى فينظر، فإن كان قد شرط عليه القلع أجبر على القلع، لقوله
صلى الله عليه وسلم " المؤمنون عند شروطهم " ولأنه رضى بالتزام الضرر الذي
يدخل عليه بالقلع، فإذا قلع لم تلزمه تسوية الأرض، لأنه لما شرط عليه القلع
رضى بما يحصل بالقلع من الحفر، ولأنه مأذون فيه فلا يلزمه ضمان ما حصل
به من النقص، كاستعمال الثوب لا يلزمه ضمان ما يبليه منه، وان لم يشرط القلع
نظرت، فإن لم تنقص قيمة الغراس والبناء بالقلع قلع، لأنه يمكن رد العارية
فارغة من غير اضرار، فوجب ردها، فان نقصت قيمة الغراس والبناء بالقلع
نظرت، فان اختار المستعير القلع كان له ذلك. لأنه ملكه فملك نقله
فإذا قلعه فهل تلزمه تسوية الأرض؟ فيه وجهان (أحدهما) لا تلزمه، لأنه
لما أعاره مع العلم بأن له أن يقلع، كان ذلك رضا بما يحصل بالقلع من التخريب
فلم تلزمه التسوية. كما لو شرط القلع (والثاني) تلزمه لان القلع باختياره، فإنه
لو امتنع لم يجبر عليه فلزمه تسوية الأرض، كما لو أخرب أرض غيره من غير
غراس، وان لم يختر القلع نظرت، فان بذل المعير قيمة الغراس والبناء ليأخذه
مع الأرض أجبر المستعير عليه، لأنه رجوع في العارية من غير اضرار، وان
ضمن أرش النقص بالقلع أجبر المستعير على القلع، لأنه رجوع في العارية
من غير إضرار.
وان بذل المعير القيمة ليأخذه مع الأرض، وبذل المستعير قيمة الأرض
211

ليأخذها مع الغراس قدم المعير، لان الغراس يتبع الأرض في البيع فجاز أن يتبعها
في التملك، والأرض لا تتبع الغراس في البيع فلم تتبعه في التملك، وإن امتنع
المعير من بذل القيمة وأرش النقص وبذل المستعير أجرة الأرض لم يجبر على القلع
لقوله صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق " وهذا ليس بظالم فوجب أن
يكون له حق، ولأنه غراس مأذون فيه فلا يجوز الاضرار به في قلعه، وإن لم
يبذل المستعير الأجرة ففيه وجهان (أحدهما) لا يقلع لان الإعارة تقتضي الانتفاع
من غير ضمان (والثاني) يقلع لان بعد الرجوع لا يجوز الانتفاع بماله من غير أجرة
(فصل) وإذا أقررنا الغراس في ملكه فأراد المعير أن يدخل إلى الأرض
للتفرج أو يستظل بالغراس لم يكن للمستعير منعه، لان الذي استحق المستعير من
الأرض موضع الغراس. فأما البياض فلا حق للمستعير فيه فجاز للمالك دخوله
وإن أراد المستعير دخولها نظرت فإن كان للتفرج والاستراحة لم يجز، لأنه قد
رجع في الإعارة فلا يجوز دخولها من غير إذن، وإن كان لاصلاح الغراس أو
أخذ الثمار ففيه وجهان (أحدهما) لا يملك لان حقه إقرار الغراس والبناء دون
ما سواه (والثاني) أنه يملك، وهو الصحيح لان الاذن في الغراس إذن فيه فيما
يعود بصلاحه وأخذ ثماره، وإن أراد المعير بيع الأرض جاز لأنه لا حق فيها
لغيره فجاز له بيعها، وإن أراد المستعير بيع الغراس من غير المعير، ففيه وجهان
(أحدهما) يجوز لأنه ملك له لا حق فيه لغيره (والثاني) لا يجوز لان ملكه
غير مستقر، لان للمعير أن يبذل له قيمة الغراس والبناء فيأخذهما، والصحيح
هو الأول لأن عدم الاستقرار لا يمنع البيع كالشقص المشفوع يجوز للمشترى
بيعه، وإن جاز أن ينتزعه الشفيع بالشفعة
(الشرح) حديث " المؤمنون عند شروطهم " وكذلك حديث " ليس لعرق
ظالم حق " أسلفنا القول فيهما في غير موضع. أما الأحكام فقد قال صاحب الحاوي
إذا قبض المستعير الأرض للغرس والبناء ثم رجع المعير فإن كان رجوعه قبل
الغرس منع المستعير من غرسها وبنائها، فإن بنى بعد رجوعه أو غرس كان في
حكم الغاصب يؤخذ بقلع الغرس والبناء مع أجرة المثل وتسوية الأرض، فإن
رجع المعير بعد الغرس والبناء لم يكن له إحداث زيادة في غرسه وبنائه، فإن
212

أحدث زيادة أجبر على قلعها. فأما ما تقدم من الغرس والبناء قبل الرجوع
فللمعير حالتان:
إحداهما أن يكون قد شرط على المستعير حين أعاره أن يقلع غرسه وبناءه عند رجوعه
فيؤخذ المستعير بقلع ذلك للشرط المتقدم، ولقوله صلى الله عليه " المؤمنون عند
شروطهم " ولان رضاه بهذا الشرط التزام منه للضرر الداخل عليه بالقلع فكان
هو الضامن لنفسه، ولم يكن مغرورا بغيره.
(والحال الثانية) أن لا يشترط المعير على المستعير القلع بعد الرجوع فهذا
على ضربين. أحدهما أن يكون قيمة الغرس والبناء مقلوعا كقيمته قائما أو
أكثر، فيؤخذ المستعير بالقلع، لان العارية لا تلزم والضرر بالقلع مرتفع.
والضرب الثاني: أن يكون قيمته مقلوعا أقل، فإن بذل المعير قيمته قائما أو بذل
نقص ما يميز قيمته مقلوعا وقائما منع المستعير من إقراره وخير بين قلعه أو أخذ
قيمته أو أرش نقصه، لان ما يخافه من ضرر النقص بالقلع قد زال ببذل القيمة
أو الأرش، فلو بذل المستعير قيمة الأرض وبذل المعير قيمة الغرس كان المعير
أحق من المستعير لامرين.
(أحدهما) أن الأرض أصل والغرس تبع فكان ملك الأصل أقوى.
(والثاني) أنه أسبق ملكا، وقيل للمستعير: لا يجوز مع زوال الضرر عنك
أن تدخل الضرر على المعير بالترك، فان أخذت القيمة وإلا أجبرت على القلع
فإذا قلع فهل تلزمه تسوية الأرض بعد القلع أم لا، على وجهين (أحدهما)
لا يلزم لأنه مأذون فيه، فأشبه بلى الثوب باللبس (والوجه الثاني) يلزمه ذلك
لأنه قلع باختياره بعد زوال العارية من غير أن يلجأ إليه فصار مأخوذا بنقصه
(فرع) إذا امتنع المعير من بذل قيمة الغرس وامتنع المستعير من القلع فقد
اختلفوا في حكمه على ثلاثة مذاهب:
أحدها وهو قول أبي حنيفة أنه يؤخذ بالقلع سواء كانت مدة العارية مقررة
أو مطلقه لحديث " العارية مؤداة ".
والثاني وهو قول أبى إبراهيم المزني أنه إن كانت العارية مطلقه تترك وإن كانت
مقدرة بمدة قلع بعدها، فرقا بين المطلقة والمقيدة. لأنه المقصود في اشتراط المدة
213

والثالث: وهو قول الشافعي أنه يقر ولا يجبر على القلع إذا بذل الأجرة بعد
الرجوع في العارية لقوله صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق " والمستعير
ليس بظالم فلم يجز أن يؤخذ بالقلع كالظالم لان العارية إرفاق ومعونة فلو أوجبت
الاضرار بالقلع لخرجت عن حكم الارفاق والمعونة إلى حكم العدوان والضرر.
(فرع) إذا ثبت أن الغرس والبناء مقر فإقراره مشروط ببذل الأجرة
وإقامة المعير على المبيع من ترك القيمة، فصار اقراره مستحقا بهذين الشرطين
فإن أجاب المعير من بعد إلى بذل القيمة أو امتنع المستعير من بذل الأجرة أجبر
على القلع، لأنه لا يجوز أن يدخل الضرر على المعير بتفويت الإجارة وما استدام
وجب الاقرار ولم يكن للمستعير منع المعير من دخول أرضه: وإن كان مستظلا
بغرسه وبنائه لان الأجرة مأخوذة على اقرار الغرس والبناء، فأما البياض الذي
بين أثنائه فليس بمشغول بملك المستعير فلم يجز منه المعير منه، وان بذلت له
الأجرة عليه أن يجيب إلى اجارتها طوعا بمسمى يرضاه فيكون كمن أجر أرضه
مختارا، فأما المستعير فهل يستحق دخول الأرض ليصل إلى غرسه وبنائه أم لا
على وجهين.
(أحدهما) لا يستحق الدخول لأرض المعير.
(والوجه الثاني) وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: انه يستحق دخول
الأرض ليصل إلى غرسه وبنائه في مراعاته ومصلحته، ويجبر المعير على تمكينه
لان الاذن بالغرس والبناء اذن به وبمنافعه، فإن مات الغرس وانهدم البناء لم
يكن له إعادة بدله الا باستحداث عارية والى ما سبق ذهب الحنابلة.
(فرع) وإذا أراد المستعير بيع غرسه وبنائه على غير المعير ففي جوازه
وجهان، أحدهما: يجوز، لأنه مملوك، وليس للمعير أن يأخذ المشترى بالقلع
كما لم يكن له أن يأخذ به المستعير. والوجه الثاني أن بيعه لا يجوز، لان المشترى
غير مستعير، وترك ما اشتراه غير مستديم، لان المعير متى بذل القيمة استحق
بها أخذ الغرس أو قلعه، وهذان الوجهان من اختلافهم في المستعير هل يجوز
له أن يعير؟
214

(فرع) وللمعير دخول أرضه كيف شاء للتفرج والاستراحة، لان بين
الغراس أرضا بيضاء ليست عارية، وليس لصاحب الغرس منع صاحب الأرض
من غشيانها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان حمل السيل طعام رجل إلى أرض آخر فنبت فيها فهل يجبر
صاحب الطعام على القلع مجانا، فيه وجهان (أحدهما) لا يجبر لأنه غير مفرط
في انباته (والثاني) يجبر، وهو الصحيح، لأنه شغل ملك غيره بملكه من غير
اذن، فأجبر على ازالته كما لو كان في داره شجرة فانتشرت أغصانها في هواء
دار غيره.
(فصل) وان أعاره أرضا للزراعة فزرعها ثم رجع في العارية قبل أن يدرك الزرع
وطالبه بالقلع، ففيه وجهان. أحدهما: أنه كالغراس في التبقية والقلع والأرش
والثاني: أنه يجبر المعير على التبقية إلى الحصاد بأجرة المثل، لان للزرع وقتا
ينتهى إليه، وليس للغراس وقت ينتهى إليه، فلو أجبرناه على التبقية عطلنا
عليه أرضه.
(فصل) وان أعاره حائطا ليضع عليه أجذاعا فوضعها لم يملك اجباره على
قلعها، لأنها تراد للبقاء، فلا يجبر على قلعها كالغراس، وان ضمن المعير قيمة
الأجذاع ليأخذها، لم يجبر المستعير على قبولها، لان أحد طرفيها في ملكه فلم
يجبر على أخذ قيمته، وان تلفت الأجذاع وأراد أن يعيد مثلها على الحائط لم يجز
أن يعيد الا باذن، لان الاذن تناول الأول دون غيره، فان انهدم الحائط
وبناه بتلك الآلة لم يجز أن يضع الأجذاع على الثاني، لان الاذن تناول الأول
ومن أصحابنا من قال: يجوز لان الإعارة اقتضت التأبيد والمذهب الأول.
(فصل) وان وجدت أجذاع على الحائط، ولم يعرف سببها، ثم تلفت
جاز إعادة مثلها، لأن الظاهر أنها بحق ثابت.
(الشرح) الأحكام: إذا حمل السيل بذر رجل فنبت في أرض غيره أو نوى
فصار غرسا فهو لمالك البذر والنوى لأنه نماء ملكه، وهل لصاحب الأرض
215

أن يأخذه المالك بقلعه أم لا؟ على وجهين (أحدهما) له قلعه لأنه نبت في
أرضه بغير اختياره.
والوجه الثاني: ليس له قلعه إذا بذلت له الإجارة، لان مالكه غير متعد به
وإلى هذا ذهب أحمد وأصحابه، لان قلعه إتلاف للمال على مالكه، ولم يوجد
منه تفريط ولا يدوم ضرره فلا يجبر على ذلك. وفرق الحنابلة بين الحب والنوى
أي بين الزرع والغرس.
وقد صححنا الوجه الأول أنه يجبر على ذلك إذا طالبه رب الأرض به، لان
ملكه نما في ملك غيره بغير إذنه، فأشبه ما لو انتشرت أغصان شجرته في هواء
ملك جاره. وكذلك النوى حيث ينبت شجرا كالزيتون والنخيل ونحوهما فهو
لمالك النوى ويجبر على قلعه. وبهذا أخذ الحنابلة وأوجبوا إزالتها قولا واحدا.
(فرع) إذا غرس الأرض المعارة ثم رجع المعير قبل إدراك الزرع ففي لزوم
قلعه وجهان (أحدهما) أنه كالغراس في التبقية والقلع والأرش على ما مضى في
الفصل قبله (والثاني) يجبر المعير على التبقية إلى الحصاد بأجرة المثل، وذلك لان
الزرع يختلف عن الغرس من حيث الزمن فالزرع يحصد في أشهر معلومات.
أما الغراس فلا حد له.
(فرع) إذا أعار الرجل جاره حائطا ليضع عليه أجذاعا فليس للمعير أن
يأخذ المستعير بقطعها بعد الوضع، لان وضع الأجذاع يراد للاستدامة والبقاء
وهل يستحق عليه الاجر بعد رجوعه في العارية أم لا؟ على وجهين
(أحدهما) يستحقها كما يستحق أجرة أرضه بعد الغرس والبناء، فعلى هذا
إن امتنع صاحب الأجذاع من بذلها أخذ بقلعها (والوجه الثاني) وهو أصح:
لا أجرة له. والفرق بين الحائط والأرض أن الحائط قد يصل مالكه إلى منافعه
وإن كانت الأجذاع موضوعة فيه وليس كالأرض التي لا يصل مالكها إلى منافعها
مع بقاء الغرس والبناء فيها، مع أن العرف لم يمكن بإجارة الحائط وهو جار كما
يمكن بإجارة الأرض، فلو بذل صاحب الحائط ثمن الأجذاع لصاحبها لم يجبر على
قبولها ولا على قلعها بخلاف الغرس والبناء، والفرق بينهما أن الأجذاع إذا حمل
أحد طرفيها في حائط المعير والطرف الآخر في حائط المستعير فلم يجبر أن يأخذ
216

قيمة ما في ملكه، والغرس والبناء كله في أرض المعير فجاز أن يجبر على أخذ قيمة
ما في غير ملكه.
فلو انهدم الحائط الذي فيه الأجذاع موضوعة فبناه المالك فهل يجوز لصاحب
الأجذاع إعادة موضعها بالاذن الأول أم لا، على وجهين (أحدهما) له إعادتها
لان العارية أوجبت دوام وضعها، فعلى هذا لو امتنع صاحب الحائط من بنائه
كان لصاحب الأجذاع أن يبنيه ليصل إلى حقه من وضع أجذاعه فيه
والوجه الثاني: ليس له إعادتها، لان الحائط المأذون فيه لم يبق وهذا غيره
ولم يعره مالكه، فعلى هذا لو أراد صاحب الأجذاع أن يبنى الحائط عند امتناع
صاحبه من بنائه لم يكن له
(فرع) إذا أعاره جذعا ليمسك به حائط فليس له بعد الامساك أن يرجع
فيه ما كان الحائط قائما وكان الجذع صحيحا لما فيه من إدخال الضرر على صاحب
الحائط بعد إقامته من خوف السقوط وهلاكه. وهل له المطالبة بعد الرجوع
بأجرته أم لا، على ما ذكرنا من الوجهين، فإن أنكر الجذع أو انهدم الحائط فله
الرجوع به لأنه لا يتجدد بأخذه ضرر
(فرع) إذا أعار أرضا لدفن ميت فليس له بعد الدفن الرجوع فيها، لان
دفن الميت للاستدامة والبقاء شرعا وعرفا، ولو رضى أولياؤه بنقله منعوا منه،
لأنه حق للميت ولما فيه من انتهاك حرمته بالنقل، وليس لصاحب الأرض
المطالبة بأجرة القبر بعد الرجوع في العارية وجها واحدا لا يختلف لامرين.
(أحدهما) أن العرف غير جار به (والثاني) أن الميت زائل الملك والأولياء
لا يلزمهم، فلو أن الميت المدفون نبشه الوحش وجب أن يعاد إلى قبره جبرا
وليس لصاحب الأرض بعد ظهوره أن يرجع في عاريته ويمنع من دفنه، لأنه
قد صار حقا للميت مؤبدا، فلو أن رجلا أذن للناس أن يدفنوا أمواتهم في أرضه
فإن سبلها للدفن فليس له الرجوع فيها لخروجها عن ملكه، وإن لم يسبلها فله
الرجوع فيها، ولا يكون الاذن بالدفن فيها تسبيلا لها. فإذا رجع فله المنع من
إحداث دفن، وليس له نقل من دفن، ويحرم على من أعار الأرض للدفن أن
217

يتصرف على ظاهر القبر من أرضه لما فيه من انتهاك حرمة الميت مع ورود النهى
عنه فلو أراد أن يدفن فيه ميتا آخر لم يجز إلا أن يتجاوز مكان لحده فيجوز
وإن كان مقارنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا استعار من رجل عبدا ليرهنه فأعاره ففيه قولان. أحدهما أنه
ضمان وأن المالك للرهن ضمن الدين عن الراهن في رقبة عبده، لان العارية
ما يستحق به منفعة العين والمنفعة ههنا للمالك، فدل على أنه ضمان. والثاني أنه
عارية لأنه استعاره ليقضى به حاجته فهو كسائر العواري
فإن قلنا إنه ضمان لم يصح حتى يتعين جنس الدين وقدره ومحله، لأنه ضمان
فاعتبر فيه العلم بذلك. وإن قلنا إنه عارية لم يفتقر إلى ذلك لأنه عارية فلا يعتبر
فيه العلم، فإن عين له جنسا وقدرا ومحلا، تعين على القولين، لأن الضمان
والعارية يتعينان بالتعيين، فإن خالفه في الجنس لم يصح لأنه عقد على ما لم يأذن
له فيه، وإن خالفه في المحل بأن أذن له في دين مؤجل فرهنه بدين حال لم يصح.
لأنه قد لا يجد ما يفك به الرهن في الحال، وان أذن له في دين حال فرهنه بدين
مؤجل لم يصح، لأنه لا يرضى أن يحال بينه وبين عبده إلى أجل، فإن خالفه في
القدر بأن أذن له في الرهن بعشرة فرهن بما دونها جاز، لان من رضى أن يقضى
عن غيره عشرة رضى أن يقضى ما دونه، وإن رهنه بخمسة عشر لم يصح، لان
من رضى بقضاء عشرة لم يرض بما زاد.
(فصل) وإن رهن العبد بإذنه بدين حال جاز للسيد مطالبته بالفكاك على
القولين في الحال، لان للمعير أن يرجع في العارية، وللضامن أن يطالب
بتخليصه من الضمان، فان رهنه بدين مؤجل بإذنه، فان قلنا: إنه عارية جاز له
المطالبة بالفكاك، لان للمعير أن يرجع متى شاء. وان قلنا إنه ضمان لم يطالب
قبل المحل لان الضامن إلى أجل لا يملك المطالبة قبل المحل.
(فصل) وان بيع في الدين فان قلنا إنه عارية رجع السيد على الراهن بقيمته
لان العارية تضمن بقيمتها. وان قلنا إنه ضمان رجع بما بيع به، سواء بيع بقدر
218

قيمته أو بأقل أو بأكثر، لان الضامن يرجع بما غرم، ولم يغرم إلا ما بيع به.
(فصل) وإن تلف العبد فإن قلنا إنه عارية ضمن قيمته، لان العارية
مضمونة بالقيمة، وإن قلنا إنه ضمان لم يضمن شيئا لأنه لم يغرم شيئا.
(فصل) وإن استعار رجل من رجلين عبدا فرهنه عند رجل بمائة ثم
قضى خمسين على أن تخرج حصة أحدهما من الرهن، ففيه قولان (أحدهما) لا تخرج
لأنه رهنه بجميع الدين في صفقة فلا ينفك بعضه دون بعض (والثاني) يخرج
نصفه لأنه لم يأذن كل واحد منهما إلا في رهن نصيبه بخمسين، فلا يصير رهنا
بأكثر منه.
(الشرح) الأحكام: سبق أن قلنا إن العارية إباحة المنفعة فلم يجز أن يبيحها
غيره، ولكن إذا أذن له المعير في إجارتها أو رهنها أو إعارتها مدة معلومة جاز،
لان الحق لمالكه فجاز ما أذن فيه. وهل تكون العين مضمونه على المستعير أم
تبقى يده على الائتمان؟
قلنا: إن كان ذلك بإذنه لا تكون العين مضمونه، أما إذا خالف المستعير
المعير بأن أذن له في رهنها فأعارها ففيه قولان (أحدهما) أنه لا ضمان لأن العين
قد استعارها للانتفاع بمنفعتها ولقضاء حاجته منها (والثاني) أنه تعدى في منفعة
العين على وجه لم يأذن فيه مالكها، وهو الذي يملك المنفعة فدل على أنه ضمان.
وقال ابن المنذر: إذا استعار الرجل من الرجل شيئا يرهنه عند رجل على شئ
معلوم إلى وقت معلوم فرهن ذلك على ما أذن فيه له فقد أجمعوا على أن ذلك
جائز، وذلك لأنه استعاره ليقضى به حاجته، فصح كسائر العواري.
فإذا أذن له في رهن العارية، فان مالك العارية يكون مالكا للرهن فيضمن
بذلك الدين عن الراهن، فيجب أن يكون المعير عالما بقدر الدين ومحله، فإذا
خالفه في أيهما لم يصح لما يترتب عليه من حرج لمالك الرهن
وقال أحمد وأبو ثور وأصحاب الرأي: لا يعتبر العلم بقدر الدين وجنسه إلا
إذا عينه المستعير من تلقاء نفسه لان العارية لا يعتبر فيها العلم، ولان العارية
لجنس من النفع فلم تعتبر معرفة قدره كعارية الأرض للزرع. ولنا في هذه المسألة
219

قولان. وكذلك إذا رهنه بأكثر مما قدره. أو حال بمؤجل أو مؤجل بحال للعلل
التي أوضحها المصنف، فإذا رهنه بأقل من القدر الذي عينه جاز، لان من رضى
بعشرة رضى بما دونها عرفا، فأشبه من أمر بشراء شئ بثمن فاشتراه بأنقص،
وللمعير مطالبة الراهن بفكاك الرهن في حال، سواء كان بدين مؤجل أو حال،
لان للمعير الرجوع في العارية متى شاء. وهو أحد القولين عندنا، وقول واحد
عند أصحاب أحمد.
(فرع) إذا حل الدين فلم يفكه الراهن جاز بيعه لان ذلك مقتضى الرهن،
فإذا بيع في الدين أو تلف. فان قلنا: إنه عارية رجع المعير على المستعير بقيمتها
لان العارية تضمن بقيمتها، وان تلف من غير تفريط فلا شئ على المرتهن،
لان الرهن لا يضمن من غير تعد. وإذا استعار عارية من رجلين فرهنها بمائة
ثم قضى خمسين على أن تخرج حصة أحدهما فقولان (أحدهما) لا تخرج لأنه
رهنها بجميع الدين في الصفقة فلا ينفك بعضه بقضاء بعض الدين كما لو كان العبد
لواحد. وبهذا قال أحمد وأصحابه (والثاني) يخرج نصفه لان كل واحد منهما لم
يأذن إلا في رهن نصيبه. وله أن يرجع متى شاء والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) إذا ركب دابة غيره ثم اختلفا فقال المالك أكريتها فعليك الأجرة
وقال الراكب: بل أعرتنيها فلا أجرة لك، فقد قال في العارية: القول قول
الراكب. وقال في المزارعة: إذا دفع أرضه إلى رجل فزرعها ثم اختلفا فقال
المالك أكريتكها وقال الزارع بل أعرتنيها، فالقول قول المالك: فمن أصحابنا من
حمل المسئلتين على ظاهرهما، فقال في الدابة: القول قول الراكب، وقال في
الأرض القول قول المالك لان العادة أن الدواب تعار، فالظاهر فيها مع الراكب
والعادة في الأرض أنها تكرى ولا تعار، فالظاهر فيها مع المالك، ومنهم من
نقل الجواب في كل واحدة منهما إلى الأخرى وجعلهما على قولين، وهو اختيار
المزني (أحدهما) أن القول قول المالك، لان المنافع كالأعيان في الملك والعقد
عليها، ثم لو اختلفا في عين فقال المالك بعتكها. وقال الآخر بل وهبتنيها. كان
القول قول المالك. فكذلك إذا اختلفا في المنافع
220

(والثاني) أن القول قول المتصرف، لان المالك أقر بالمنافع له، ومن أقر
لغيره بملك ثم ادعى عليه عوضا لم يقبل قوله، فان قلنا: إن القول قول المالك
حلف ووجبت له الأجرة وفى قدر الأجرة وجهان.
أحدهما: يجب المسمى لأنه قبل قوله فيها وحلف عليها.
والثاني: أنه تجب أجرة المثل وهو المنصوص لأنهما لو اتفقا على الأجرة
واختلفا في قدرها وجب أجرة المثل فلان تجب أجرة المثل وقد اختلفا في الأجرة
أولى فان نكل عن اليمين لم يرد على المتصرف لان اليمين إنما ترد ليستحق بها حق
والمتصرف لا يدعى حقا فلم ترد عليه.
(وان قلنا) ان القول قول المتصرف حلف وبرئ من الأجرة، فإن نكل
رد اليمين على المالك - فإذا حلف - استحق المسمى وجها واحدا لان يمينه بعد
النكول كالبينة في أحد القولين وكالاقرار في الآخر وأيهما كان وجب المسمى،
وان تلفت الدابة بعد الركوب ثم اختلفا (فإن قلنا) ان القول قول المالك حكم
له بالأجرة (وان قلنا) القول قول الراكب، فهل يلزمه أقل الأمرين من
الأجرة أو القيمة، فيه وجهان، أحدهما يلزمه لاتفاقهما على استحقاقه، والثاني
لا يحكم له بشئ لأنه لا يدعى القيمة ولا يستحق الأجرة.
(فصل) وان قال المالك: غصبتنيها فعليك الأجرة، وقال المتصرف:
بل أعرتنيها فلا أجرة على، فان المزني نقل أن القول قول المستعير، واختلف
أصحابنا فيه، فمنهم من قال المسألة على طريقين كما ذكرنا في المسألة قبلها، أحدهما
الفرق بين الأرض والدابة، والثاني: أنهما على قولين لان الخلاف في المسئلتين
جميعا في وجوب الأجرة، والمالك يدعى وجوبها، والمتصرف ينكر فيجب أن
لا يختلفا في الطريقين.
ومنهم من قال: إن القول قول المالك، وما نقل المزني غلط، لان في تلك
المسألة أقر المالك للمتصرف بملك المنافع، فلا يقبل قوله في دعوى العوض،
وههنا اختلفا أن الملك للمالك أو للمتصرف والأصل أنها للمالك.
(فصل) وان اختلفا فقال المالك: أعرتكها، وقال الراكب بل أجرتنيها
221

فالقول قول المالك لأنهما اتفقا أن الملك له، واختلفا في صفة انتقال اليد، فكان
القول قول المالك، فإن كانت العين باقية حلف وأخذ. وإن كانت تالفة نطرت.
فإن لم تمض مدة لمثلها أجرة حلف واستحق القيمة، وإن مضت مدة لمثلها أجرة
فالمالك يدعى القيمة والراكب يقر له بالأجرة، فإن كانت القيمة أكثر من
الأجرة لم يستحق شيئا حتى يحلف، وإن كانت القيمة مثل الأجرة أو أقل منها،
ففيه وجهان.
(أحدهما) يستحق من غير يمين، لأنهما متفقان على استحقاقه.
(والثاني) لا يستحق من غير يمين، لأنه أسقط حقه من الأجرة وهو يدعى
القيمة بحكم العارية، والراكب منكر، فلم يستحق من غير يمين.
(فصل) وإن اختلفا فقال المالك: غصبتنيها فعليك ضمانها وأجرة مثلها
وقال الراكب: بل أجرتنيها فلا يلزمني ضمانها، ولا أجرة مثلها، فالقول قول
المالك مع يمينه، لان الأصل أنه ما أجره، فإن اختلفا - وقد تلفت العين -
حلف واستحق القيمة، وان بقيت في يد الراكب مدة ثم اختلفا، فإن المالك
يدعى أجرة المثل والراكب يقر بالمسمى فإن كانت أجرة المثل أكثر من المسمى
لم يستحق الزيادة حتى يحلف، وإن لم تكن أكثر استحق من غير يمين، لأنهما
متفقان على استحقاقه، والله أعلم.
(الشرح) الأحكام: قال الشافعي في العارية من الام: ولو قال رب الدابة
أكريتها إلى موضع كذا بكذا، وقال الراكب بل عارية كان القول قول الراكب
مع يمينه، ولو قال. أعرتنيها، وقال ربها غصبتها كان القول قول المستعير، قال
المزني هذا عندي خلاف أصله، لأنه يجعل من سكن دار رجل كمن تعدى على
سلعة فأتلفها فله قيمة السكن، وقوله من أتلف شيئا ضمن، ومن ادعى البراءة
لم يبرأ به، وجملة هذه المسألة أن الكلام يشتمل فيها على أربعة فصول. فالفصل
الأول وهو مذكور في الام صورته في رجل ركب دابة غيره ثم اختلفا، فقال
المالك أجرتكها فلي الأجرة، وقال الراكب أعرتنيها، فليس لك أجرة، فالذي
نص عليه الشافعي في كتاب العارية أن القول قول الراكب، فاختلف أصحابنا
222

لاختلاف هذا الجواب، فكان أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة
وجمهورهم ينقلون جواب كل واحدة من المسألتين إلى الآخر، ويخرجونها على
قولين (أحدهما) وهو اختيار المزني والربيع أن القول قول المالك في الدابة
والأرض على ما نص عليه في المزارعة وله الأجرة، ووجهته ما ذكره المزني،
وهو أن المنافع مملوك تصح المعاوضة عليها كالأعيان، ثم ثبت أنهما لو اختلفا في
العين بعد استهلاكها، فقال ربها: بعتها عليك، وقال المستهلك. بل وهبتنيها،
فان القول قول المالك دون المتلف وله الأجرة.
(والقول الثاني) ان القول قول الراكب في الدابة والزارع في الأرض معا
على ما نص عليه في العارية ولا أجرة عليه، ووجهه أنهما متفقان على أن المتصرف
قد استهلك منافع لنفسه إما بعارية أو إجارة، ومن ادعى ثبوت عوض على غيره
في استهلاك منافعه لم يقبل منه، وخالف استهلاك العين التي قد اتفقا عليها أنها
ملك لربها دون مستهلكها، وفى هذا انفصال عما ذكره المزني توجيها.
وقال أبو العباس بن سريج. ليس ذلك على اختلاف قولين وإنما الجواب
على ظاهره في الموضعين فيكون القول في الدابة قول راكبها وفى الأرض قول
مالكها اعتبارا بالعرف فيها، لان العادة في الدواب جارية باعارتها، فكانت
العادة شاهدة لراكبها، والعادة جارية في الأرض بالإجارة فكانت العادة شاهدة
لمالكها، وهذه طريقة أبى العباس في اعتبار العرف والعادة فيها، وليس مذهبا
للشافعي لان من يؤجر قد يعير، ومن يعير قد يؤجر.
فإذا تقرر ما وصفنا فان قلنا: إن القول قول رب الدابة والأرض فمع يمينه
فإذا تلف فله الأجرة، وفيها وجهان:
(أحدهما) أنه القدر الذي سماه، لأنه قد جعل القول قوله فيه.
(والوجه الثاني) وهو أصح أن له أجرة المثل لأنهما لو اختلفا في الأجرة
مع اتفاقهما على الإجارة لم يقبل قول المؤجر فيها، فأولى أن لا يقبل قوله مع
اختلافهما فيها، فان نكل المالك عن اليمين لم ترد على المتصرف المستعير، لان
ردها لا يفيد، لان الأجرة ساقطه عنه لنكول المالك. وإن قلنا إن القول قول
223

الراكب مع يمينه، فان حلف برئ من الأجرة ورد الدابة، وإن نكل ردت
اليمين على المالك ليستحق بها ما ادعاه من الأجرة، فإذا حلف فله المسمى وجها
واحدا، لان يمينه بعد النكول، إما أن تجرى مجرى البينة أو الاقرار وأيهما
كان فيوجب الحكم بالمسمى.
فلو كانت الدابة قد تلفت بعد الركوب ثم اختلفا فالمالك يدعى الأجرة دون
القيمة، والراكب يقر بالقيمة دون الأجرة - فان قلنا: إن القول قول المالك
حكم له بالأجرة وحدها دون القيمة لأنه لا يدعيها. وإن قلنا: إن القول قول
الراكب فهل يلزمه للمالك أقل الأمرين من الأجرة أو القيمة؟ على وجهين.
(أحدهما) يحكم له به لاتفاقهما على استحقاقه.
(والوجه الثاني) لا يحكم له بشئ فيها لأنه لا يدعى القيمة ولا يستحق الأجرة
والفصل الثاني وهو أن يقول المالك غصبتها ويقول الآخر بل أعرتنيها، فهذا
الاختلاف مؤثر في الأجرة دون القيمة، لان العارية مضمونه كالغصب وأجرة
العارية غير مضمونه بخلاف الغصب، فإن كان هذا قبل الركوب سقط تأثير هذا
الاختلاف، وإن كان بعد الركوب فالذي نقله المزني ههنا أن القول قول المستعير
فاختلف أصحابنا فكان أبو علي بن أبي هريرة يخرجها على قولين كالمسألة الأولى
لاشتراكهما في العلة، ويجعل قول المزني ههنا أحد القولين.
وذهب آخرون من أصحابنا إلى أن القول في هذه المسألة قول المالك قولا
واحدا، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن في اختلافهما في العارية والإجارة
اتفاقا على أن الراكب مالك للمنفعة، فجاز أن لا يقبل قول المالك في الأجرة،
ولم يتفقا على مثل ذلك في هذه المسألة، لان المالك يقول: أتلفت أيها الراكب
منفعتي بغير حق، والراكب يقول: أتلفتها مستعيرا بحق، فلم يصدق.
فمن قال بهذا أجاب عما نقله المزني بجوابين (أحدهما) أن ذلك خطأ من المزني في
نقله وسهوه (والثاني) تسليم الراوية واستعمالها على أحد تأويلين إما على: القول
قول المستعير في قدر الأجرة، وإما على: أن القول قول المستعير في أن لا يلزمه
224

الضمان إلا في العارية دون الغصب، وهذا تأويل من فرق بين ضمان العارية
وضمان الغصب، فعلى هذا لو تلفت الدابة ضمن قيمتها وكانت الأجرة على ما مضى
والفصل الثالث أن يقول رب الدابة: أعرتكها، ويقول الراكب:
استأجرتها فتأثير هذا الاختلاف من وجهين.
(أحدهما) في ضمان رقبتها، لان العارية مضمونه والمؤاجرة غير مضمونه
فإن كانت الدابة باقية سقط هذا الاختلاف.
(والثاني) لزوم ركوبها تلك المدة، فإن كانت الدابة تالفه أو المدة منقضية
سقط تأثير هذا الاختلاف، فيكون القول قول المالك مع يمينه أنه ما أجرها
لان الراكب يدعى عليه عقدا في إجارتها، فإن كانت الدابة قائمة أخذها
ولا أجرة له، لان الراكب وإن أقر بها فالمالك لا يدعيها، وإن كانت الدابة
تالفه كان له الرجوع على الراكب بقيمتها لأنها تالفه في يده وهو يدعى بالإجارة
استئمانا فلم تقبل دعواه، ولزمه غرم القيمة، فإن لم يكن لمدة الركوب أجرة لم
يكن للمالك القيمة إلا بعد يمينه بالله تعالى أنه ما أجرها ولقد أعارها، إلا أن
تنقضي فيحلف بالله تعالى لقد أعارها ولا يحلف ما أجرها لانقضاء زمن الإجارة
وإن كان لمدة الركوب أجرة هي بقدر القيمة فصاعدا فهل يجب على المالك يمين
يستحق بها القيمة أم لا، على وجهين.
(أحدهما) لا يمين عليه، لان الراكب مقر له أجرة، والمالك يدعيها قيمة
فصارا متفقين على استحقاقه. وإن اختلفا في جنسه فسقطت اليمين فيه.
(والوجه الثاني) عليه اليمين لأنه قد أسقط حقه من الأجرة فلم يؤثر إقرار
الراكب بها وهو يدعى القيمة. والراكب منكر لها. فإذا حكم له بدعواه
لما ذكرنا من التعليل فلا يثبت إلا باليمين.
والفصل الرابع: أن يقول المالك غصبتنيها. ويقول الراكب: أجرتنيها،
فتأثير هذا الاختلاف من وجهين (أحدهما) في ضمان الرقبة. لان المغصوب
مضمون والمؤجر غير مضمون. فإن كانت العين باقيه سقط تأثير هذا الاختلاف
225

والثاني في لزوم المدة، فإن كانت المدة قد انقضت أو الدابة قد هلكت سقط
تأثير هذا الاختلاف. وإذا كان كذلك فالقول قول المالك مع يمينه أنه ما أجره
ويصير الراكب ضامنا للدابة والأجرة. فيأخذ بالملك من غير يمين الا أن
تكون أجرة المثل أكثر من المسمى الذي أقر به الراكب. فلا يستحق الزيادة
الا بيمين. وأما القيمة فلا يستحقها الا بيمين. والله أعلم بالصواب. وهو
حسبي ونعم الوكيل.
والى ما ذهبنا إليه قال أحمد وأصحابه:
قال ابن قدامه: وان قال المالك: غصبتها، وقال الراكب أجرتنيها
فالاختلاف هنا في وحوب القيمة، لان الاجر يجب في الموضعين، الا أن
يختلف المسمى وأجر المثل، والقول قول المالك مع يمينه، فإن كانت الدابة
تالفه عقيب أخذها حلف وأخذ قيمتها، وإن كانت قد بقيت مدة لمثلها أجر،
والمسمى بقدر أجر المثل أخذه المالك لاتفاقهما على استحقاقه، وكذلك إن كان
أجر المثل دون المسمى. وفى اليمين وجهان. وإن كان زائدا على المسمى لم يستحقه
الا بيمين وجها واحدا والله أعلم
226

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الغصب
الغصب محرم لما روى أبو بكرة قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم
هذا. وروى أبو حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " لا يحل
لامرئ أن يأخذ مال أخيه بغير طيب نفس منه "
(فصل) ومن غصب مال غيره، وهو من أهل الضمان في حقه ضمنه،
لما روى سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " على اليد ما أخذت حتى ترده "
(فصل) فإن كان له منفعة تستباح بالإجارة فأقام في يده مدة لمثلها أجرة
ضمن الأجرة، لأنه يطلب بدلها بعقد المغابنة. فضمن بالغصب كالأعيان.
(فصل) فإن كان المغصوب باقيا لزمه رده، لما روى عبد الله بن السائب
ابن يزيد عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " لا يأخذ أحدكم متاع
أخيه لاعبا أو جادا، فإذا أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها " فان اختلفت قيمته
من حين الغصب إلى حين الرد لم يلزمه ضمان ما نقص من قيمته
وقال أبو ثور من أصحابنا: يضمن كما يضمن زيادة العين، وهذا خطأ، لان
الغاصب يضمن ما غصب. والقيمة لا تدخل في الغصب، لأنه لا حق
للمغصوب منه في القيمة مع بقاء العين، وإنما حقه في العين، والعين باقية كما
كانت فلم يلزمه شئ
(فصل) وإن تلف فئ يد الغاصب أو أتلفه لم يخل إما أن يكون له مثل
أو لا مثل له، فإن لم يكن له مثل نظرت، فإن كان من غير جنس الأثمان كالثياب
والحيوان ضمنه بالقيمة. لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: من أعتق شركا له في عبد فإن كان معه ما يبلغ ثمن العبد قوم عليه.
وأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق عليه ما عتق
فأوجب القيمة في العبد بالاتلاف بالعتق، ولان إيجاب مثله من جهة الخلقة
227

لا يمكن لاختلاف الجنس الواحد في القيمة، فكانت القيمة أقرب إلى إيفاء حقه
وان اختلفت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف ضمنها بأكثر ما كانت لأنه
غاصب في الحال التي زادت فيها قيمته فلزمه ضمان قيمته فيها، كالحالة التي غصبه
فيها، وتجب القيمة من نقد البلد الذي تلفت العين فيه، لأنه موضع الضمان
فوجبت القيمة من نقده، وإن كان من جنس الأثمان نظرت، فإن لم يكن فيه
صنعة كالسبيكة والنقرة، فإن كان نقد البلد من غير جنسه، أو من جنسه ولكن
لا تزيد قيمته على وزنه ضمن بالقيمة، لان تضمينه بالقيمة لا يؤدى إلى الربا.
فضمن بالقيمة كما قلنا في غير الأثمان، وإن كان نقد البلد من جنسه وإذا قوم به
زادت قيمته على وزنه قوم بجنس آخر حتى لا يؤدى إلى الربا، وإن كانت فيه
صنعة نظرت، فإن كانت صنعة محرمة ضمن كما تضمن السبيكة والنقرة، لان
الصنعة لا قيمة لها فكان وجودها كعدمها، وإن كانت صنعة مباحة فإن كان النقد
من غير جنسه أو من جنسه، ولكنه لا تزيد قيمته على وزنه ضمنه بقيمته، لأنه
لا يؤدى إلى الربا.
وإن كان النقد من جنسه ونوعه وتزيد قيمته على وزنه ففيه وجهان
(أحدهما) يقوم بجنس آخر حتى لا يؤدى إلى الربا
(والثاني) أنه يضمنه بقيمته من جنسه بالغة ما بلغت، وهو الصحيح، لان
الزيادة على الوزن في مقابلة الصنعة فلا تؤدى إلى الربا، وإن كان مخلوطا من
الذهب والفضة قومه بما شاء منهما
(فصل) وإن كان مما له مثل كالحبوب والادهان ضمن بالمثل، لان ايجاب
المثل رجوع إلى المشاهدة والقطع، وايجاب القيمة رجوع إلى الاجتهاد والظن
فإذا أمكن الرجوع إلى القطع لم يرجع إلى الاجتهاد، كما لا يجوز الرجوع إلى
القياس مع النص.
وان غصب ماله مثل واتخذ منه ما لا مثل له، كالتمر إذا اتخذ منه الخل بالماء
أو الحنطة إذا جعلها دقيقا. وقلنا إنه لا مثل له ثم تلف لزمه مثل الأصل. لان
المثل أقرب إلى المغصوب من القيمة. وان غصب ما لا مثل له واتخذ منه ماله مثل
كالرطب إذا جعله تمرا ثم تلف لزمه مثل التمر، لان المثل أقرب إليه من قيمة
228

الأصل، وإن غصب ماله مثل واتخذ منه ماله مثل كالسمسم إذا عصر منه الشيرج
ثم تلف فالمغصوب منه بالخيار إن شاء رجع عليه بمثل السمسم، وإن شاء رجع
عليه بمثل الدهن، لأنه قد ثبت ملكه على كل واحد من المثلين، فرجع
بما شاء منهما.
وإن وجب المثل فأعوز فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال تجب قيمته
وقت المحاكمة، لان الواجب هو المثل، وإنما القيمة تجب بالحكم فاعتبرت وقت
الحكم. ومنهم من قال تعتبر قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين تعذر
المثل، كما تعتبر قيمة المغصوب أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف.
ومنهم من قال تضمن قيمته أكثر ما كانت من حين الغصب إلى وقت الحكم.
لان الواجب في الذمة هو المثل إلى وقت الحكم، كما أن الواجب في المغصوب
رد العين إلى وقت التلف، ثم يغرم قيمة المغصوب أكثر ما كانت من حين
الغصب إلى حين التلف، فيجب أن يعتبر في المثل أكثر ما كانت قيمته إلى وقت
الحكم. ومنهم من قال: إن كان ذلك مما يكون في وقت وينقطع في وقت كالعصير
وجبت قيمته وقت الانقطاع، لأنه بالانقطاع يسقط المثل وتجب القيمة. وإن كان
مما لا ينقطع عن أيدي الناس وإنما يتعذر في موضع وجبت قيمته وقت الحكم
لأنه لا ينتقل إلى القيمة الا بالحكم.
وان وجد المثل بأكثر من ثمن المثل احتمل وجهين
(أحدهما) لا يلزمه المثل لان وجود الشئ بأكثر من ثمن المثل كعدمه،
كما قلنا في الماء في الوضوء والرقبة في الكفارة
(والثاني) يلزمه، لان المثل كالعين، ولو احتاج في رد العين إلى أضعاف
ثمنه لزمه فكذلك المثل.
(الشرح) الغصب ومادته من غصبه غصبا من باب ضرب، واغتصبه أخذه
قهرا وظلما فهو غاصب، والجمع غصاب ككافر وكفار، ويتعدى إلى مفعولين.
فيقال: غصبته ماله، وقد تزاد من في المفعول الأول فيقال. غصبت منه ماله،
فزيد مغصوب ماله، ومغصوب منه ماله، ويبنى للمفعول فيقال: اغتصبت
229

لما لم يسم فاعله - المرأة نفسها - بالنصب على المفعولية، وربما قيل: على نفسها
يضمن الفعل معنى غلبت، والشئ مغصوب وغصب تسمية بالمصدر
وعند الفقهاء الاستيلاء على مال غيره بغير حق، وحكمه أنه محرم بالكتاب
والسنة والاجماع.
أما الكتاب فقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم
بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقوله تعالى (ولا تأكلوا
أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس
بالاثم وأنتم تعلمون)
وأما السنة: فقد أخرج أحمد والبخاري عن أبي بكرة ولفظه " خطبنا
رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ قلنا: الله
ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: أليس يوم النحر؟
قلنا بلى. قال أي شهر هذا. قلنا الله ورسوله أعلم. فسكت حتى ظننا أنه سيسميه
بغير اسمه، فقال أليس ذا الحجة. قلنا بلى. قال أي بلد هذا. قلنا الله ورسوله
أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال: أليست البلدة الحرام.
قلنا بلى. قال: فإن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم
هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت. قالوا نعم. قال اللهم اشهد
فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي
كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "
ورواه البخاري من حديث ابن عباس وفيه " قالوا يوم حرام " وقالوا " شهر
حرام " و " بلد حرام "
وعند البخاري أيضا من حديث ابن عمر بنحو حديث أبي بكرة الا أنه ليس
فيه قوله " فسكت " في المواضع الثلاثة
وقد جمع بعضهم بين الأحاديث بتعدد الواقعة، ورد ذلك الحافظ بن حجر
في الفتح فقال وليس بشئ لان الخطبة يوم النحر إنما تشرع مرة واحدة، وقد
قال في كل منها ان ذلك كان يوم النحر
230

وأشار الكرماني إلى فخامة حديث أبي بكرة مما ليس في الروايات الأخرى،
وقد رواه مسلم وغيره من حديث جابر بن عبد الله في وصف حجة النبي صلى الله
عليه وسلم وهي رواية مشهورة مرت في كتاب الحج، وقد رأيت الحديث في
كتاب دعائم الاسلام للقاضي أبي حنيفة النعمان بن محمد بن حيون التميمي من
قضاة المعز لدين الله الفاطمي قال: روينا عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن
آبائه عن علي عليه السلام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم النحر
بمنى في حجة الوداع وهو على ناقته القصواء فقال " أيها الناس، إني خشيت ألا
ألقاكم بعد موقفي هذا بعد عامي هذا، فاسمعوا ما أقول لكم وانتفعوا به، ثم قال
أي يوم أعظم حرمة؟ قالوا: هذا اليوم يا رسول الله. قال: فأي الشهور أعظم
عند الله حرمة، قالوا: هذا الشهر يا رسول الله. قال: فأي بلد أعظم حرمة.
قالوا: هذا البلد يا رسول الله، قال: فإن حرمة أموالكم عليكم وحرمة دمائكم
كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى أن تلقوا ربكم فيسألكم عن
أعمالكم، ألا هل بلغت، قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد " اه‍ من كتاب الغصب
والتعدي ج 2 ص 484.
ومن السنة أيضا حديث أبي حميد الساعدي الذي ساقه المصنف مر بك تخريجه
في كتاب الصلح وغيره من أسفار المجموع، وقد أخرجه الدارقطني وغيره.
ومن السنة أيضا ما أخرجه الشيخان وغيرهما من حديث سعيد بن زيد قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " من أخذ شبرا من الأرض ظلما
طوقه من سبع أرضين " ورواه الشيخان أيضا من حديث عائشة، ورواه أحمد
عن أبي هريرة، ورواه أحمد والبخاري عن ابن عمر، ورواه ابن حبان وابن أبي
شيبة وأبو يعلى عن يعلي بن مرة. وأبو بكرة - هو نفيع بن الحارث - أو
ابن مسروح الثقفي، وأم أبى بكرة سمية جارية الحارث بن كلدة وهي أم زياد بن
أبيه، وكان أبو بكرة يقول: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويأبى أن
ينتسب إلى أحد، وكان قد نزل يوم الطائف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصن
الطائف، فأسلم في غلمان من غلمان أهل الطائف فأعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
231

فكأن يقول: أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عد في مواليه، قال
أحمد بن زهير: سمعت يحيى بن معين يقول: أملى على هوذة بن خليفة البكراوي
نسبة إلى أبى بكرة، فلما بلغ إلى أبى بكرة، قلت: ابن من، قال. دع لا تزده،
وكان أبو بكرة يقول: أنا من إخوانكم في الدين.
وأجمع المسلمون على تحريم الغصب في الجملة، وإنما اختلفوا في فروع منه،
فإذا ثبت هذا فإن من غصب شيئا لزمه رده لحديث سمرة بن جندب أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " على اليد ما أخذت حتى ترده " رواه الحسن البصري
عن سمرة، وسماع الحسن من سمرة فيه خلاف مشهور، وقد أخرجه أبو داود
والترمذي والنسائي وابن ماجة والحاكم في المستدرك. وحديث السائب بن يزيد
عند أحمد وأبى داود والترمذي وقال: حسن غريب وقال: لا نعرفه إلا من
حديث ابن أبي ذئب.
وقال الشافعي: إذا شق رجل لرجل ثوبا شقا صغيرا أو كبيرا فأخذ ما بين
طرفيه طولا وعرضا أو كسر له شيئا صغيرا أو كبيرا أو رضخه أو جنى له على
مملوك فأعماه فذلك كله سواء، ويقوم المتاع والحيوان غير الرقيق صحيحا
ومكسورا أو صحيحا ومجروحا قد برئ من جرحه ثم يعطى مالكه ما بين القيمتين
ويكون ما بقي بعد الجناية لصاحبه نفعه أو لم ينفعه.
وقد عرف الماوردي الغصب بأدق ما رأيت تعريفا قال " الغصب هو منع
الانسان من ملكه والتصرف فيه بغير استحقاق " ومن ثم يكمل الغصب بالمنع
والتصرف، فان منع ولم يتصرف كان تعديا وتعلق به ضمان لأنه تعد على المالك
دون الملك، وإن تصرف ولم يمنع كان تعديا وتعلق به ضمان لأنه تعد على الملك
دون المالك، فإذا جمع بين المنع والتصرف تم الغصب ولزم الضمان سواء نقل
المغصوب عن محله أم لا.
وقال أبو حنيفة: لا يتم الغصب إلا بالنقل والتحويل، فإن كان مما لا ينقل
كالدور والعقار لم يصح غصبه ولم يضمن استدلالا بأن غير المنقول مختص بالمنع
دون التصرف، فصار كحبس الانسان عن ملكه لا يكون موجبا لغصب ماله،
232

ولان المسروق لا يكون مسروقا إلا بالنقل عن الحرز فكذا المغصوب لا يصير
مغصوبا إلا بالنقل. وتحريره قياسا أن كل ما لم يصر به المال مسروقا لم يصر به
مغصوبا كالمنع والإحالة، دليله ما روى عطاء بن يسار عن ابن عمر أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال " إن أعظم الغلول عند الله أن يأخذ الرجل من أرض
غيره إلى أرض نفسه " فأطلق على الأرض حكم الغلول والغصب، وروى عنه
صلى الله عليه وسلم قوله " لعن الله سارق المنار، قيل: وما سارق المنار، قال:
أن يأخذ الرجل العلامة من أرضه إلى أرض غيره " فجعل ذلك سرقة، وقوله
صلى الله عليه وسلم " ملعون من لعن أباه، ملعون من لعن أمه، ملعون من غير
نجوم الأرض " وفى نجوم الأرض تأويلان.
أحدهما: علماؤها، والثاني: حدودها وأعلامها وما ضمن بالقبض في العقود
ضمن بالتصرف في العقود كالمحول والمنقول، ولان ما ضمن به المنقول ضمن به
غير المنقول كالعقود، ولأنه عدوان فجاز أن يضمن به غير المنقول كالجناية.
فأما الجواب بأن ما لم ينقل مختص بالمنع كالحبس فهو أن المحبوس عن ماله حصل
التعدي عليه دون ماله فلم يصر المال مغصوبا، وخالف ما لو تصرف فيه، مع
اشتهار القول عرفا أن فلانا غصب دارا أو أرضا.
وأما الجواب عن المسروق فهو أن القطع فيها يعتبر بهتك الحرز وإخراج
المال عنه حتى لو نقل غير محرز لم يكن سارقا يقطع ويخالف الغصب المعتبر
بالتصرف في المال، ألا ترى أنه لا يقال: سرق دارا، ويقال: غصب دارا،
فإذا تقرر ما بينا فالمغصوب على ثلاثة أحوال.
(أحدها) أن يكون باقيا (والثاني) أن يكون تالفا (والثالث) أن يكون
ناقصا، وفى هذه الفصول التي سقناها للمصنف حالان منها.
فإن كان باقيا بحاله ارتجعه المالك منه، فإن ضعف عن ارتجاعه فعلى والى الامر
استرجاعه وتأديب الغاصب وإن كان مما لا أجرة لمثله كالطعام والدراهم والدنانير
فقد برئ بعد رده من حكم الغصب، وسواء كانت قيمته قد نقصت في الأسواق
233

أو أرخصت الأسعار أم لا، لان بقاء العين لا يعتبر فيه نقص السوق، وإن كان
مما لمثله أجرة كالدواب والآلات وسيارات الركوب (التاكسى) وأقمشة الصواوين
والسرادقات وأخشاب المقاولين وآلات المعمار والدراجات والآلات الكاتبة
والآلات الحاسبة والمكرفون وما إلى ذلك فعليه رد العين مع أجره المثل إن كان
لمثل زمان الغصب أجرة عرفا، وعليه مؤونة الرد إن كان له مؤونة.
وأما الحال الثانية: وهو أن يكون المغصوب تالفا فهو مضمون عليه، سواء
تلف بفعله أو بغير فعله لقوله صلى الله عليه وسلم: على اليد ما أخذت حتى ترده
ثم هو على ضربين.
(أحدهما) أن يكون له مثل كالذي تتساوى أجزاؤه من الحبوب والادهان
والدراهم والدنانير فعليه رد مثله جنسا ونوعا وصفة وقدرا، لان مثل الشئ
أحصر به بدلا من القيمة، لأنه مثل في الشرع واللغة، والقيمة مثل في الشرع
دون اللغة، فإن طلب أحدهما القيمة لم يجب إليها سواء كان طالبها الغاصب أو
المغصوب منه، لأنها غير المستحق، فأما إن تراضيا بالقيمة مع القدرة على المثل
ففي جوازه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في جواز أخذ أرش العيب مع
القدرة على رد المعيب (والثاني) أن لا يكون له مثل كالذي تختلف أجزاؤه من
الثياب والجوهر فعليه ثمنه في أكثر أحواله، فثمنه من وقت الغصب إلى وقت
التلف، وبه قال جمهور الفقهاء.
وقال عبيد الله بن الحسن العنبري وأحمد بن حنبل: عليه مثله من جنسه
وعلى صفته استدلالا برواية العامري عن أنس في رواية الترمذي، وعند
الجماعة بمعناه إلا مسلما، وعن عائشة في رواية أحمد وأبى داود والنسائي، قالت
عائشة: ما رأيت صانعة طعاما مثل صفية، صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم
طعاما فبعثت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم في إناء فما ملكت نفسي أن كسرته،
فقلت: يا رسول الله ما كفارته، قال: إناء مثل إناء وطعام كطعام، وما روى
أن عثمان رضي الله عنه أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين إن بنى عمك سعوا على
إبلي فاحتلبوا ألبانها وأكلوا فصلانها، فقال عثمان: نعطيك إبلا مثل إبلك،
234

وفصلانا مثل فصلانك، فقال عبد الله بن مسعود: وقد رأيت يا أمير المؤمنين
أن يكون ذلك من الوادي الذي جنى فيه بنو عمك، فقال عثمان. نعم.
ودليلنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال. من أعتق شركا له في
عبد قوم عليه إن كان موسرا فأوجب قيمة الحصة، ولم يوجب مثل تلك الحصة
ولأنه لما كانت أجزاؤه مضمونة القيمة دون المثل، حتى من قطع يد دابة لم تقطع
يد دابته، ومن حرق ثوبا لم يحرق ثوبه، وجب أن يكون في استهلاك العين
بمثابته، ولان ما تختلف أجزاؤه يتعذر فيه المماثلة، ولا يخلو من أن يكون زائدا
يظلم به الغاصب، أو ناقصا يظلم به المغصوب، والقيمة عدل يؤمن فيها ظلم
الفريقين، فأما الجواب عن قوله اناء مثل الاناء وطعام مثل طعام فهو أن القيمة
مثل في الشرع، قال تعالى " فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم
هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين " فجعل قيمة الجزاء من الطعام مثلا
وأما خبر عثمان فمحمول على التفضل منه لتطوعه بذلك عن غيره من بنى عمه.
(فرع) إذا تقرر أنه مضمون بالقيمة دون المثل فلا يخلو أن يكون من
جنس الأثمان كالثياب والحيوان فقيمته من غالب نقد البلد فيه أكثر ما كان قيمة
من حين الغصب إلى حين التلف في سوقه وبلده، فإن قيل لم لم يضمن نقص السوق
مع بقاء العين وضمن نقص السوق مع تلف العين، قيل لأنه قد فوت عليه زيادة
السوق مع تلف العين ولم يفوتها عليه مع بقاء العين. وإن كان من جنس الأثمان
فعلى ضربين.
(أحدهما) أن يكون مباح الاستعمال كالحلي ففي كيفية ضمانه وجهان.
(أحدهما) يضمن قيمته مصوغا من غير جنسه، إن كان من الذهب ضمن
قيمته فضه، وإن كان من الفضة ضمن قيمته ذهبا.
(والوجه الثاني) أنه يضمن بمثل وزنه من جنسه وبأجرة صياغته، مثل أن
يكون وزن مائة جرام من ذهب وهو مصوغ فيضمن بمائة جرام ذهبا وبأجرة
صياغته، وهل تجوز أن تكون الأجرة ذهبا، أم لا، على وجهين (أحدهما)
لا يجوز حتى تكون ورقا لئلا تفضي إلى الربا، والتفاضل في الذهب بالذهب.
235

والوجه الثاني وهو الأصح، لأنه بدل من الصياغة والعمل الذي لا يدخله
الربا، ولو دخله الربا إذا كان ذهبا لدخله الربا وإن كان ورقا، لأنه لا يجوز أن
تباع مائة دينار بمائة دينار ودرهم، كما لا يجوز أن تباع بمائة دينار ودينار.
والضرب الثاني: أن يكون محظور الاستعمال كالأواني، ففي ضمان صياغته
وجهان بناء على اختلاف الوجهين في إباحة ادخارهما (أحدهما) ان ادخارها
محظور وصياغتها غير مضمونة لأنها معصية لا تقر فلم تضمن، كصنعة الطنبور
والمزمار والعود والبيانة لا تضمن صنعتها إذا نقضت أوتارها أو تلفت أزرارها
لأنه لا يضمن النقص في الايقاع.
والوجه الثاني: أن ادخارها مباح وصياغتها مضمونة، فعلى هذا في كيفية
ضمانها وجهان على ما مضى.
(فرع) إذا غصب منه تمرا فجعله دبسا (عجوة) أو سمسما فعصره شيرجا،
أو زيتونا فاعتصره زيتا فللمغصوب أن يأخذ ذلك كله ويرجع بالنقص إن حدث
فيه، فإن ترك ذلك على الغاصب وطالبه بالبدل عن أصل ما غصبه فلا يخلو حال
الشئ المغصوب من أحد أمرين، إما أن يكون له مثل أو مما لا مثل له، فإن كان
مما لا مثل له كالعجوة (التمر اللصيق) وكان يكنز بالبصرة قديما وحديثا، وعندنا
في ديارنا يصنع مثله في واحة سيوه، رجع على الغاصب بما استخرجه من دبسه
لأنه غير ماله، ولم يكن له المطالبة بقيمة تمره، لان أجزاء المغصوب أخص به
من قيمته، وإن كان مما له مثل كالسمسم فعلى وجهين
(أحدهما) أنه بمثابة مالا مثل له في استرجاع ما استخرج منه. والثاني أن
المغصوب منه يستحق المطالبة بمثل الأصل لأنه أشبه بالمغصوب من أجزائه
الأمر الثاني: وهو على أربعة أضرب (الأول) أن يكون له مثل والمستخرج
منه مما ليس له مثل، كالحنطة إذا طحنها فيكون للمغصوب منه أن يرجع بمثل
الأصل من الحنطة ولا يرجع بقيمة الدقيق، لان مثل ذي المثل أولى من قيمته.
فإن كانت الحنطة بعد الطحن قد زادت قيمتها دقيقا على قيمتها حبا استحق
المغصوب منه أن يرجع على الغاصب بعد أخذ المثل بقدر الزيادة في الدقيق كما لو
غصب دابة فسمنت ثم ردها بعد ذهاب السمن ضمن نقص السمن الحادث في يده
236

مع بقاء العين، فلان يضمن نقص الزيادة مع استرجاع المثل أولى. والضرب
الثاني: أن يكون الأصل مما ليس له مثل. والمستخرج منه مما له مثل. كالزيتون
إذا اعتصره زيتا، لان للزيت مثلا وليس للزيتون مثل فيكون للمغصوب منه
بمثل الزيت المستخرج وبنقص ان حدث في الزيتون، لأنه لما صار المغصوب ذا
مثل كان المثل أولى من قيمة الأصل لتقديم المثل على القيمة
والضرب الثالث: أن يكون الأصل مما له مثل والمستخرج منه مما له مثل،
كالسمسم إذا اعتصره شيرجا، لان لكل واحد من السمسم والشيرج مثلا فيكون
للمغصوب منه الخيار في الرجوع بمثل أيها شاء من السمسم أو الشيرج لثبوت
ملكه على كل واحد منها، فإن رجع بالسمسم وكان أنقص ثمنا من الشيرج فأراد
نقصه لم يجز. وقيل له ان رضيت به وإلا فاعدل عنه إلى الشيرج ولا أرش لك
لان عين مالك مستهلك ولكل حقك مثل، فلا معنى لاخذ الأصل مع الأرش
مع استحقاقك لمثل لا يدخله الأرش
والضرب الرابع أن يكون مما لا مثل له والمستخرج منه لا مثل له كالدبس
(العجوة) إذا استخرج دبسه بالماء، فكل واحد من التمر والدبس غير ذي مثل
فيكون للمغصوب منه أن يرجع بمثل الأصل من الحنطة والدقيق، ولا يرجع
بقيمة الدقيق بأكثر من قيمته تمرا أو دبسا. والله أعلم
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان ذهب المغصوب من اليد وتعذر رده بأن كان عبدا فأبق،
أو بهيمة فضلت، كان للمغصوب منه المطالبة بالقيمة لأنه حيل بينه وبين ماله،
فوجب له البدل كما لو تلف، وإذا قبض البدل ملكه، لأنه بدل ماله فملكه كبدل
التالف، ولا يملك الغاصب المغصوب، لأنه لا يصح تملكه بالبيع، فلا يملك
بالتضمين كالتالف، فإن رجع المغصوب وجب رده على المالك. وهل يلزم
الغاصب الأجرة من حين دفع القيمة إلى أن رده، فيه وجهان (أحدهما) لا تلزمه
لان المغصوب منه ملك بدل العين فلا يستحق أجرته (والثاني) تلزمه لأنه
تلفت عليه منافع ماله بسبب كان في يد الغاصب فلزمه ضمانها، كما لو لم يدفع
237

القيمة. وإذا رد المغصوب وجب على المغصوب منه رد البدل، لأنه ملكه
بالحيلولة وقد زالت الحيلولة فوجب الرد، وإن زاد البدل في يده نظرت، فإن
كانت الزيادة متصلة كالسمن وجب الرد مع الزيادة لان الزيادة المتصلة تتبع الأصل في
الفسخ بالعيب. وهذا فسخ، وإن كانت زيادة منفصله كالولد واللبن لم ترد الزيادة
كما لا ترد في الفسخ بالعيب.
(الشرح) الأحكام: قال الشافعي رضي الله عنه: ولو غصب دابة فضاعت
فادعى قيمتها ثم ظهرت ردت عليه ورد ما قبض من قيمتها لأنه أخذ قيمتها على
أنها فائتة فكأن الفوت قد بطل لما وجدت، ولو كان هذا بينا ما جاز أن تباع
دابته عليه، كعين جنى عليها فابيضت، أو على سن صبي فانقلعت، فأخذ أرشها
بعد أن يئس منها ثم ذهب البياض ونبتت السن، فلما عاد أرجع حقها وبطل
الأرش بذلك فيهما. وهذا كما قال: إذا غصب عبدا فأبق أو بعيرا فشرد أو فرسا
فعاد فهذا على ضربين
(أحدهما) أن يكون ذلك ممكنا ومكانه معروفا، فالواجب أن يؤخذ الغاصب
بطلبه والتزام المؤونة في رده، ولو كانت أضعاف قيمته، كما يؤخذ بهدم بنائه،
وإن كان أكثر من قيمة الأرض المغصوبة أضعافا، فلو أمر الغاصب مالكها أن
يستأجر رجلا لطلبها فاستأجر رجلا، وجبت أجرته على الغاصب، ولو طلب
المالك بنفسه لم يستحق على الغاصب أجرة لطلبها، لأنه أمره باستئجار غيره
فصار متطوعا بطلبه.
فإن استأجر الغاصب مالكها لطلبها بأجرة مسماة ففيه وجهان. أحدهما أن
الإجارة غير جائزة وله الأجرة المسماة، لأنه مالك لمنافع نفسه فملك المعاوضة
عليها، والوجه الثاني أن الإجارة باطلة ولا أجرة له لأنه لا يصح أن يعمل في
ماله بعوض على غيره. فإذا حصل منهما عدول عن طلب المغصوب إلى أخذ
قيمته فهذا على ثلاثة أقسام
(أحدها) أن يبذلها الغاصب ويمتنع المغصوب منه. والقسم الثاني: أن يطلبها
المغصوب منه ويمتنع الغاصب. والقسم الثالث أن يتفق عليها المغصوب منه والغاصب
238

فأما القسم الأول وهو أن يبذل الغاصب قيمة المغصوب ويطالب المغصوب
منه بغصبه ويمتنع من أخذ قيمته فالقول قول المغصوب منه ويجبر الغاصب على
طلبه والتزام مئونته، لان المالك لا يجبر على إزالة ملكه
وأما القسم الثاني وهو أن يطلب المغصوب منه قيمة غصبه ويمتنع الغاصب
من بذلها ليرد الغصب بعينه فينظر: فإن كانت الغصب على مسافة قريبة يقدر
على رده بعد زمان يسير فالقول قول الغاصب ولا يجبر على بذل القيمة، لان
الشئ المغصوب مقدور عليه.
وإن كان على مسافة بعيدة لا يقدر على رده إلا بعد زمان طويل فالقول
قول المغصوب منه ويجبر الغاصب على بذل القيمة له ليتعجل ما استحقه عاجلا،
فإذا أخذ القيمة وملكها ملكا مستقرا وملك الغاصب الغصب ملكا صريحا فليس
للمغصوب منه أن يسترده، لأنه وإن ملكه بالخيار ابتداء فلم يملكه انتهاء،
والغاصب وإن لم يملكه بالخيار ابتداء فقد ملكه انتهاء، وقد استقر ملكه عليه.
الضرب الثاني: وهو أن يكون رده ممتنعا للجهل بمكانه فيؤخذ الغاصب جبرا
بقيمته أكثر ما كانت من وقت الغصب إلى فوات الرد فإذا أخذها المغصوب
منه ففي استقرار ملكه عليها وجهان لأصحابنا (أحدهما) أن ملكه عليها مستقر لفوات الرد
والوجه الثاني: لا، لجواز القدرة على الرد، فإن وجد الشئ المغصوب بعد
أخذ قيمته فقد اختلفوا في حكمه، فذهب الشافعي ومالك إلى أنه باق على ملك
المغصوب منه يأخذه ويرد ما أخذ من قيمته.
وقال أبو حنيفة: يكون المغصوب ملكا للغاصب بما دفعه من قيمته ما لم يكونا
قد تكاذبا في قيمته، فإن كانا قد تكاذبا وأقر الغاصب بأقل منها وحلف عليها
كان المغصوب منه أحق بالغصب حينئذ استدلالا بأن البدل إذا كان في مقابلة
المبدل كان استحقاق البدل موجبا لتملك المبدل، كالبيع والنكاح لما استحق على
المشترى الثمن تملك المثمن، ولما استحق على الزوج المهر ملك البضع. كذلك
الغاصب لما ملك المغصوب منه القيمة ملك الغاصب المغصوب، ولان الجمع بين
البدل والمبدل مرتفع في الأصول وفى بقاء ملك المغصوب منه على الغصب بعد
أخذ القيمة جمع بينه وبين بدله وذلك باطل، البائع لا يجوز له أن يجتمع له ملك
239

الثمن والمثمن، والزوج لا يجوز أن يجتمع له ملك المهر والبضع، ولان ما أخذت
قيمته للمغصوب امتنع بقاؤه على ملك المغصوب قياسا على ما أمكن رده
ودليلنا قوله تعالى (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة
عن تراض منكم) فما خرج عن التراضي خرج عن الإباحة في التمليك، ولحديث
سمرة مرفوعا " على اليد ما أخذت حتى ترده " فجعل الرد غاية الاخذ، فاقتضى
عموم الظاهر استحقاقه في الأحوال كلها، ولان قدرة المعاوض على ما عاوض
عليه أولى بصحة تملكه من العجز عنه
(فرع) إذا نما البدل في يد المغصوب منه فلا يخلو حال البدل من أن تكون
الزيادة منفصلة أو غير منفصلة، فإن كانت الزيادة منفصلة كالولد والبيض واللبن
فلا ترد الزيادة. أما إذا كانت متصلة كالسمن ونحوه فإن البدل يرد مع الزيادة
وهذا الحكم يختلف عنه في حالة زيادة المغصوب كما سيأتي.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) فإن نقص المغصوب نقصانا تنقص به القيمة نظرت، فإن كان
في غير الرقيق لم يخل إما أن يكون نقصانا مستقرا أو غير مستقر، فإن كان مستقرا
بأن كان ثوبا فتخرق، أو إناء فانكسر أو شاة فذبحت أو طعاما فطحن ونقصت
قيمته رده ورد معه أرش ما نقص، لأنه نقصان عين في يد الغاصب نقصت به
القيمة فوجب ضمانه كالقفيز من الطعام والذراع من الثوب، فان ترك المغصوب
منه المغصوب على الغاصب وطالبه ببدله لم يكن له ذلك
ومن أصحابنا من قال في الطعام إذا طحنه: أن له أن يتركه ويطالبه بمثل طعامه
لان مثله أقرب إلى حقه من الدقيق، والمذهب الأول، لان عين ماله باقيه فلا
يملك المطالبة ببدله كالثوب إذا تخرق والشاة إذا ذبحت
وإن كان نقصانا غير مستقر، كطعام ابتل وخيف عليه الفساد، فقد قال في
الام " للمغصوب منه مثل مكيلته " وقال الربيع فيه قول آخر أنه يأخذه وأرش
النقص، فمن أصحابنا من قال هو على قولين (أحدهما) يأخذه وأرش النقص
كالثوب إذا تخرق (والثاني) أنه يأخذ مثل مكيلته لأنه يتزايد فساده إلى أن يتلف
240

فصار كالمستهلك. ومنهم من قال يأخذ مثل مكيلته قولا واحد ولا يثبت ما قاله
الربيع، وإن كان في الرقيق نظرت، فإن لم يكن له أرش مقدر كإذهاب البكارة
والجنايات التي ليس لها أرش مقدر رده وأرش ما نقص، لأنه نقصان ليس فيه
أرش مقدر فضمن بما نقص كالثوب إذا تخرق، وإن كان له أرش مقدر كذهاب
اليد نظرت، فإن كان ذهب من غير جناية رده وما نقص من قيمته. ومن أصحابنا
من قال يرده وما يجب بالجناية، والمذهب الأول، لان ضمان اليد ضمان المال.
ولهذا لا يجب فيه القصاص ولا تتعلق به الكفارة في النفس، فلم يجب فيه أرش
مقدر. وإن ذهب بجناية بأن غصبه ثم قطع يده، فان قلنا إن ضمانه باليد كضمانه
بالجناية وجب عليه نصف القيمة وقت الجناية، لان اليد في الجناية تضمن بنصف
بدل النفس. وإن قلنا إن ضمانه ضمان المال وجب عليه أكثر الامرين من نصف
القيمة أو ما نقص من قيمته، لأنه وجد اليد والجناية فوجب أكثرهما ضمانا.
وإن غصب عبدا يساوى مائة ثم زادت قيمته فصار يساوى ألفا ثم قطع يده لزمه
خمسمائة، لان زيادة السوق مع تلف العين مضمونة، ويد العبد كنصفه فكأنه
بقطع اليد فوت عليه نصفه فضمنه بزيادة السوق.
(فصل) وإن نقصت العين ولم تنقص القيمة نظرت، فإن كان ما نقص
من العين له بدل مقدر فنقص ولم تنقص القيمة، مثل أن غصب عبدا فقطع
أنثييه ولم تنقص قيمته، أو غصب صاعا من زيت فأغلاه فنقص نصفه ولم تنقص
قيمته، لزمه في الأنثيين قيمة العبد وفى الزيت نصف صاع، لان الواجب في
الأنثيين مقدر بالقيمة. والواجب في الزيت مقدر بما نقص من الكيل فلزمه
ما يقدر به. وإن كان ما نقص لا يضمن إلا بما نقص من القيمة فنقص ولم تنقص
القيمة كالسمن المفرط إذا نقص ولم تنقص القيمة لم يلزمه شئ، لان السمن
يضمن بما نقص من القيمة ولم ينقص من القيمة شئ فلم يلزمه شئ. واختلف
أصحابنا فيمن غصب صاعا من عصير فأغلاه ونقص نصفه ولم تنقص قيمته،
فقال أبو علي الطبري: يلزمه نصف صاع كما قلنا في الزيت
وقال أبو العباس: لا يلزمه شئ لان نقص العصير باستهلاك مائية ورطوبة
241

لا قيمة لها، وأما حلاوته فهي باقيه لم تنقص، ونقصان الزيت باستهلاك أجزائه
ولأجزائه قيمة فضمنها بمثلها.
(فصل) وإن تلف بعض العين ونقصت قيمة الباقي بأن غصب ثوبا تنقص
قيمته بالقطع فشقه بنصفين ثم تلف أحد النصفين لزمه قيمة التالف، وهو قيمة
نصف الثوب، أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف ورد الباقي وأرش
ما نقص، لأنه نقص حدث بسبب تعدى به فضمنه، فإن كان لرجل خفان
قيمتهما عشرة فأتلف رجل أحدهما فصار قيمة الباقي درهمين ففيه وجهان
(أحدهما) يلزمه درهمان، لان الذي أتلفه قيمته درهمان (والثاني) تلزمه
ثمانية، وهو المذهب، لأنه ضمن أحدهما بالاتلاف ونقص قيمة الآخر بسبب
تعدى به، فلزمه ضمانه
(فصل) فان غصب ثوبا فلبسه وأبلاه، ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه
أكثر الامرين من الأجرة أو أرش ما نقص، لان ما نقص من الاجزاء في
مقابلة الأجرة، ولهذا لا يضمن المستأجر أرش الاجزاء (والثاني) تلزمه
الأجرة وأرش ما نقص، لان الأجرة بدل للمنافع، والأرش بدل الاجزاء،
فلم يدخل أحدهما في الآخر، كالأجرة وأرش ما نقص من السمن
(فصل) وان نقصت العين ثم زال النقص بأن كانت جاريه سمينه فهزلت
ونقصت قيمتها، ثم سمنت وعادت قيمتها ففيه وجهان
(أحدهما) يسقط عنه الضمان، وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، لأنه
زال ما أوجب الضمان فسقط الضمان، كما لو جنى على عين فابيضت ثم زال البياض
(والثاني) أنه لا يسقط، وهو قول أبي سعيد الإصطخري، لان السمن الثاني
غير الأول فلا يسقط به ما وجب بالأول
وإن سمنت ثم هزلت ثم سمنت ثم هزلت ضمن أكثر السمنين قيمة، في قول
أبي علي بن أبي هريرة، لان بعود السمن يسقط ما في مقابلته من الأرش،
ويضمن السمنين في قول أبي سعيد - لان السمن الثاني غير الأول -
فلزمه ضمانهما.
242

(فصل) وإن غصب عبدا فجنى على إنسان في يد الغاصب لزم الغاصب
ما يستوفى في جنايته، فإن كانت الجناية على النفس فأقيد به ضمن الغاصب قيمته
لأنه تلف بسبب كان في يده فإن كان في الطرف فأقيد منه ضمن وفى الذي يضمن
وجهان (أحدهما) أرش العضو في الجناية (والثاني) ما نقص من قيمته لأنه
ضمان وجب باليد لا بالجناية لان القطع في القصاص ليس بجناية وقد بينا الوجهين
فيما تقدم فان عفى عن القصاص على مال لزم الغاصب أن يفديه لأنه حق تعلق
برقبته في يده فلزمه تخليصه منه.
(الشرح) الأحكام: يشتمل هذا الفصل على الحال الثالثة من حالات
المغصوب وهو أن يكون المغصوب ناقصا فعلى ضربين.
أحدهما: أن يكون حيوانا. والثاني: أن يكون غير حيوان، فإن كان غير
حيوان فالنقص على ضربين (أحدهما) أن يكون متميزا كالحنطة يتلف بعضها
أو كالثياب يتلف ثوب منها أو ذراع من جملتها، فيكون ضامنا للنقص بالمثل إن
كان ذا مثل، وبالقيمة إن لم يكن ذا مثل، ويرد الباقي بعينه، سواء كان التالف
أكثر المغصوب أو أقله، وهذا متفق عليه.
(والضرب الثاني) أن يكون النقص غير متميز كثوب شقه أو إناء كسره أو
رضضه، فإن كان الناقص من أقل منافعه أخذه وما نقص من قيمته إجماعا فيقوم
صحيحا، فإن قيل: مائة درهم قوم ممزقا أو مكسورا، فإن قيل: ستون درهما
فنقصه أربعون فيأخذه ممزقا أو مكسورا ويأخذ منه أربعين درهما، وإن كان
الناقص أكثر منافعه فقد اختلف الفقهاء فيه فذهب الشافعي إلى أنه يأخذه
وما نقص من قيمته حتى لو كان يساوى مائة درهم فصار بعد النقص يساوى درهما
أخذه وتسعة وتسعين درهما، وهكذا لو تمزق الثوب وترضض الاناء حتى لم يبق
لهما قيمة أخذ قيمتها كاملة وأخذ المرضوض والممزق ولم يملكه الغاصب مع أداء
القيمة. وقال مالك: يكون المالك مخيرا بين تسليمه إلى الغاصب ويأخذ منه جميع
القيمة وبين أن يمسك به ناقصا ولا أرش له.
وقال أبو حنيفة. يكون المالك مخيرا بين أن يتمسك به ويرجع بأرش نقصه
243

وبين أن يسلمه إلى الغاصب ويرجع بجميع قيمته، وإذا تمزق الثوب وترضض
الاناء حتى بلغ النقص جميع القيمة غرم القيمة وملك المرضوض والممزق استدلالا
بأن لا يصير جامعا بين البدل والمبدل، قالوا ولأن العين إذا ذهب أكثر منافعها
صار الباقي منها ذاهب المنفعة فجاز له أن يرجع بجميع القيمة، ولان الأقل تبع
للأكثر فلما كان غارما لأكثر المنافع وجب أن يكون غارما لأقلها.
دليلنا. قوله تعالى " فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم "
فإذا اعتدى باستهلاك بعضه لم يجز أن يقوى عليه باستهلاك كله، ولان ما لم يلزم
غرم جميعه باستهلاك أكثره قياسا على النقص المتميز، ولان ما لم يكن تمييز بعضه
موجبا لغرم جميعه لم يكن عدم تمييزه موجبا لغرم جميعه قياسا على النقص الأقل
ولا يدخل على هاتين العلتين أطراف العبد كما نص عليه الماوردي في الحاوي.
فأما الجواب عن قولهم. انه جمع بين البدل والمبدل فهو غير صحيح، لان
المأخوذ بدل من المستهلك دون الباقي، فلم يكن جمعا بين البدل والمبدل، وأما
الجواب عن قولهم. ان الأقل تبع للأكثر، فهو أنه لو جاز أن يكون هذا دليلا
على وجوب الأقل تبعا لسقوط الضمان في الأكثر، حتى لو أنه أتلف أقل المنافع
لم يضمنها، لأنه لم يضمن الأكثر فيها، وهذا قول مردود عندنا، فإذا ثبت
وجوب أخذه وقدر نقصه قليلا كان النقص أو كثيرا، نفع الباقي منه أو لم ينفع
نظر، فإن كان من غير جنس الأثمان ضمن نقص قدر قيمته، وإن كان من جنس
الأثمان فقد قال أبو حنيفة ليس له الرجوع بنقصه، وهو بالخيار بين تسليمه إلى
الغاصب وأخذ قيمته كلها وبين امساكه ولا أرش، لان الأثمان مستحقة في
الأرش، فلم يجز أن يدخلها أرش، وهذا خطأ لان كل نقص دخل عوض
أو معوض استحق أرشه - ولم يجز مع امكان الأرش أن يكون جزءا، وإذا
كان هذا ضامنا ففي كيفية ضمانه وجهان على ما مضى.
(أحدهما) يضمن اجزاء صنفه لا غير.
(والثاني) يضمن قدر النقص من قيمته ذهبا إن كان من ورق وورقا إن كان
من ذهب.
244

وإن كان حيوانا فعلى ضربين (أحدهما) أن يكون بهيمة (والثاني) أن يكون
آدميا، فإن كان بهيمة - وهو محل اهتمامنا بالبحث دون الآخر - فإنه يردها
ويرد معها نقص ما بين قيمتها سليمة وناقصة، وسواء كان النقص بجناية أو
حادثة، وسواء كانت البهيمة ذات ظهر أو در.
وقال أبو حنيفة. إن كان حيوانا ينتفع به من جهة واحدة كذات ظهر لا در
لها كالبغال والحمير أو ذات در لا ظهر لها كالغنم ضمنها بما نقص من قيمتها كقولنا
وإن كان ينتفع بها من جهتين كظهر ودر كالإبل، وكذلك البقر والجاموس فإنهما
يعملان في المحراث والساقية وجر العربات والعجلات والزحافات والنوارج كان
في إحدى عينيه ربع قيمته، وفى سائر أعضائه ما نقص استدلالا بما رواه عن
عمر رضي الله عنه أنه حكم في إحدى عيني بقرة بربع قيمتها، وقد رد الماوردي
وغيره هذا الوجه، لان ما لم يضمن أعضاؤه بمقدر لم تضمن عينه قياسا على ذات
الظهر، ولان كل ما لم يضمن بمقدر في غير ذات الظهر لم يضمن بمقدر من ذات
الظهر والدر، قياسا على سائر الأعضاء، وما روى عن عمر (رض) لا دليل
فيه لأنها قصه وافقت الحكومة فيها ربع القيمة.
وقال مالك إذا قطع ذنب حمار القاضي كان عليه جميع قيمته، ولو كان لغير
القاضي لزمه ما نقص من قيمته استدلالا بأن في قطع ذنب حماره غضاضة على
المسلمين ووهن في الدين، وحسبك بقبح هذا القول دليلا على فساده، ولو جاز
أنه يجب في ذنب حماره جميع القيمة لوجب ذلك في تحريق ثيابه والتعدي في قماشه
ولتضاعف الجناية عليه على الجناية على غيره، ولكان كل ما اختص به زائدا في
الحكم على من سواه، وفى اتفاق الجميع على أن القاضي وغيره سواء في ضمان
ما استهلك له أو جنى عليه وجب أن يكون وغيره على سواء في الجناية على حماره
(فرع) صورة من نقصت العين في يده ثم زال النقص فهي كما قال الشافعي
في الام هكذا. ولو غصب جارية تساوى مائة فزادت في يده بتعليم وتهذيب
وأنفق عليها من ماله حتى صارت تساوى ألفا ثم نقصت حتى صارت تساوى مائه
فإنه يأخذها وتسعمائة معها. قال الماوردي: وهذه المسألة مشتملة على فصلين:
245

(أحدهما) يغصبها ناقصة فتزيد ثم تنقص (والثاني) أن يغصبها زائدة فتنقص
ثم تزيد، وتكلم عن الفصل الأول فصور المسألة في أمة زادت ببرء أو سمن أو
تعليم قرآن فصارت تساوى ألفا ثم نقصت بنسيان أو هزال أو مرض حتى عادت
لحالها لا تساوى إلا المائة، فإنه يردها ومعها تسعمائة لنقص الزيادة الحادثة في يده
وقال أبو حنيفة: يردها ولا غرم عليه لنقص ما زاد في يده استدلالا بأنه رد
المغصوب كما أخذه. ولان الزيادة في يد الغاصب قد تكون زيادة في السوق أو
زيادة في العين، فلما كانت زيادة الرق غير مضمونة على الغاصب إذا نقصت،
كانت زيادة العين غير مضمونة على الغاصب إذا نقصت، وتحريره قياسا أنها
زيادة حدثت في يد الغاصب فوجب أن يضمنها مع بقاء المغصوب قياسا على
زيادة السوق طردا وعلى تلف العين عكسا، وكان ضمان الغصب إنما يستحق فيما
غصب باليد دون ما لم يغصب. وإن صار تحت يده، ألا ترى لو أن شاة دخلت
دارا لرجل لم يضمنها. وان صارت تحت يده. وهكذا لو أطارت الريح ثوبا إلى
داره لحدوث ذلك بغير فعله، وكذا الزيادة الحادثة في يده
دليلنا: أنه نقص عين حدث في يد الغاصب فوجب أن يكون مضمونا عليه
قياسا على نقصها عن حال غصبها، بأن يغصبها صحيحة فتمرض أو سمينة فتهزل،
ولأنه لو باعها بعد حدوث الزيادة بها ضمن نقصها فكذلك ان لم يبعها
وفى ضمان النقص وجهان:
(أحدهما) وهو قول ابن أبي هريرة أنه غير مضمون على الغاصب استشهادا
بقول الشافعي فيمن جنى على عين رجل فابيضت فأخذ ديتها، ثم زال البياض
أنه يرد ما أخذ من الدية لارتفاع النقص بحدوث الصحة، فكذا الغاصب
والوجه الثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري، والأشبه بأصول الشافعي
أنه مضمون على الغاصب فيردها وتسعمائة معها كما نقلنا ذلك عن الشافعي فيما
سبق، ووجهه أن حدوث النقص قد أوجب ثبوت الضمان في ذمته فما طرأ بعده
من زيادة فحادث على ملك المغصوب منه، فلم يجز أن يسقط به ما قد ملكه من الغرم
وليس كبياض العين بالجناية لأنها مضمونة بالفعل، والغصب مضمون باليد.
246

فعلى هذا يتفرع على هذين الوجهين إذا ماتت ضمن على قول أبي سعيد الإصطخري
قيمتها ونقصها مهما تكرر، ويتفرع على ذلك إذا غصبها وهي تساوى ألفا فمرضت
حتى صارت تساوى مائة ثم برأت حتى صارت قيمتها ألفا ثم مرضت حتى صارت قيمتها
مائه فعلى قول أبي علي بن أبي هريرة ردها وتسعمائة نقص مرة واحدة، وعلى قول
أبي سعيد رد معها ألفا وثمانمائة نقصها مرتين. وهكذا لو عاد نقصها مائة مرة ضمن
مائة نقص، فلو عادت بعد النقص الثاني إلى البدء ثم ردها لم يلزمه على قول
أبي علي بن أبي هريرة شئ ولزمه على قول أبي سعيد نقصان. والله أعلم بالصواب
(فرع) قال الشافعي إن كان ثوبا فأبلاه المشترى أخذه من المشترى وما
بين قيمته صحيحا يوم غصبه وبين قيمته وقد أبلاه، ويرجع المشترى على الغاصب
بالثمن الذي دفع. اه‍
وهذه المسألة تشتمل على: إما إبلاء الغاصب له وإما إبلاء المشترى،
فالغاصب لا يخلو حاله في الثوب الذي غصبه من أربعة أقسام (أحدها) أن لا يبلى
في يده ولا تمضي عليه مدة يكون لها أجرة، فهذا يرد الثوب ولا شئ عليه سواه
(والثاني) أن يكون قد بلى ولم تمض عليه مدة يكون لها أجرة، فهو يرده ويرد
معه أرش البلى لا غير.
(والثالث) أن لا يبلى، لكن قد مضت عليه مدة يكون لها أجرة، فهو يرده
ويرد معه أجرة مثله لا غير
(والرابع) أن يبلى وتمضي عليه مدة يكون لها أجرة، فهل يجمع عليه بين
الأرش والأجرة أم لا؟ على وجهين (أحدهما) يجمع بينهما وتجبان عليه لاختلاف
موجبها، لان الأرش يجب باستهلاك الاجزاء والأجرة تجب باستهلاك المنفعة
والوجه الثاني: أنهما يجتمعان عليه، ويجب عليه أكثر الامرين من الأرش
والأجرة، لان استهلاك الاجزاء في مقابلة الأجرة، ألا ترى أن المستأجر
لا يضمن أرش البلى، لأنه في مقابلة ما قد ضمنه من الأجرة. ولكن لو كان
المغصوب حيوانا فمضت عليه في يد الغاصب مدة فهزل فيها بدنه وذهب فيها سمنه
لزمته الأجرة مع أرش الهزال وجها واحدا. والفرق بينها وبين الثوب أن استعمال
الثوب موجب لبلاه، وليس استخدام الحيوان موجبا لهزاله. والله أعلم
247

قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) وإذا زاد المغصوب في يد الغاصب بأن كانت شجرة فأثمرت،
أو جارية فسمنت أو ولدت ولدا مملوكا، ثم تلف، ضمن ذلك كله، لأنه مال
للمغصوب منه حصل في يده بالغصب، فضمنه بالتلف، كالعين المغصوبة، وان
ألقت الجارية الولد ميتا ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يضمنه بقيمته يوم الوضع كما لو كان حيا، وهو ظاهر النص
لأنه غصبه بغصب الام فضمنه بالتلف كالأم.
(والثاني) أنه لا يضمنه، وهو قول أبي إسحاق، لأنه إنما يقوم حال الحيلولة
بينه وبين المالك، وهو حال الوضع، ولا قيمة له في تلك الحال فلم يضمن،
وحمل النص عليه إذا ألقته حيا ثم مات.
(فصل) وان غصب دراهم فاشترى سلعه في الذمة، ونقد الدراهم في ثمنها
وربح، ففي الربح قولان، قال في القديم: هو للمغصوب منه، لأنه نماء ملكه
فصار كالثمرة والولد، فعلى هذا يضمنه الغاصب إذا تلف في يده كالثمرة والولد،
وقال في الجديد: هو للغاصب لأنه بدل ماله فكان له.
(فصل) وان غصب عبدا فاصطاد صيدا فالصيد لمولاه، لان يد العبد كيد
المولى فكان صيده كصيده وهل تلزم الغاصب أجرة العبد للمدة التي اصطاد فيها
فيه وجهان.
(أحدهما) تلزمه لأنه أتلف عليه منافعه (والثاني) لا تلزمه لان منافعه
صارت إلى المولى، وان غصب جارحه كالفهد والبازي فاصطاد بها صيدا ففي
صيده وجهان (أحدهما) أنه للغاصب، لأنه هو المرسل والجارحة آله، فكان
الصيد له، كما لو غصب قوسا فاصطاد بها، وعليه أجرة الجارحة لأنه أتلف على
صاحبها منافعها (والثاني) أن الصيد للمغصوب منه، لأنه كسب ماله فكان له
كصيد العبد فعلى هذا في أجرته وجهان على ما ذكرناه في العبد.
(فصل) وان غصب عينا فاستحالت عنده بأن كان بيضا فصار فرخا أو كان
حبا فصار زرعا أو كان زرعا فصار حبا فللمغصوب منه أن يرجع به لأنه عين ماله
248

فان نقصت قيمته بالاستحالة رجع بأرش النقص لأنه حدث في يده، وان غصب
عصيرا فصار خمرا ضمن العصير بمثله لأنه بانقلابه خمرا سقطت قيمته فصار كما لو
غصب حيوانا فمات فان صار الخمر خلا رده، وهل يلزمه ضمان العصير مع رد
الخل؟ فيه وجهان.
(أحدهما) يلزمه لان الخل غير العصير فلا يسقط برد الخل ضمان ما وجب
بهلاك العصير.
(والثاني) لا يلزمه لان الخل عين العصير فلا يلزمه مع ردها ضمان العصير،
فعلى هذا إن كانت قيمة الخل دون قيمة العصير رد مع الخل أرش النقص.
(فصل) وإن غصب شيئا فعمل فيه عملا زادت به قيمته بأن كان ثوبا
ففصره أو قطنا فغزله أو غزلا فنسجه أو ذهبا فصاغه حليا أو خشبا فعمل منه
بابا رده على المالك لأنه عين ماله ولا يشارك الغاصب فيه ببدل عمله لأنه عمل
تبرع به في ملك غيره فلم يشاركه ببدله.
(الشرح) الأحكام: قال الشافعي: وفى ولد المغصوبة الذي ولد في الغصب
مضمون على الغاصب سواء كان الحمل موجودا عند الغصب أو حادثا بعده وقال
أبو حنيفة: ولد المغصوب غير مضمون على الغاصب سواء كان الحمل موجودا
عند الغصب أو حادثا بعده، إلا أن يمنع من بعد الطلب فيضمن بالمنع استدلالا
بما ذكره في زيادة البدن من أن حدوث الشئ في يده من غير فعل لا يوجب
الضمان عليه كالريح إذا أطارت ثوبا إليه أو الشاة إذا دخلت دارا.
ودليلنا: هو أن ولد المغصوبة في يد الغاصب كالأم بدليل أنه لو ادعاه لقبل
قوله لمكان يده فوجب أن يكون ما مثاله باليد كأمه، ولان ضمان الغصب أقوى
من ضمان العبد، ثم ثبت أن ولد الصيد مضمون على المحرم فولد الغصب أولى
أن يكون مضمونا على الغاصب، لأنه نماء عن أصل مضمون بالتعدي فصح أن
يكون مضمونا ومغصوبا كالصوف واللبن، ولأنه متصل بالمغصوب فصح أن
يكون مضمونا كالسمن وثمر الغرس، ولان ما ضمن بالجناية ضمن بالغصب
كالمنفصل، ولان ما صح أن يضمن بالغصب خارج وعائه كالدراهم في كيس
والحلي في حق.
249

وأما الجواب عن استدلالهم بدخول الشاة إلى داره والثوب إذا أطارته الريح
إليها فهو أن لا يكون بذلك متعديا فلم يكن ضامنا ويكون بإمساك الولد متعديا
فكان ضامنا. ألا ترى أن دخول الصيد إلى داره لا يوجب عليه الضمان لعدم
تعديه، وولادة الصيد في يده توجب عليه الضمان لتعديه. فإذا ثبت أن ولد
المغصوبة مضمون على الغاصب فسواء تلف بعد إمكان رده أو قبل إمكانه في
ضمان قيمته في أكثر أحواله فيه من حين الولادة إلى وقت التلف، فإن نقصت
قيمة أمه بعد الولادة - فإن كان نقصها لغير الحمل - ضمنه مع قيمة الولد، وإن كان
نقصها لأجل لم يضمنهما معا لان ضمان ولدها هو ضمان لحملها، فكان ضامنا
لأكثر الامرين من نقص الحمل وقيمة الولد.
فإذا تقرر ما وصفنا فللولد ثلاثة أحوال يضمن فيها، وحال لا يضمن،
وحال مختلف فيها. فأما أحوال الضمان ففي الغصب والجناية والاحرام، فإن
ضمان الولد فيها واجب كالأم، وأما حال سقوط الضمان ففي الإجارة والرهن
والوديعة، فإن ولد المستأجرة والمرهونة والمودعة غير مضمون كالأم، فأما
الحال المختلف فيها ففي العارية والبيع الفاسد ففي ضمان الولد فيهما وجهان مبنيان
على اختلاف أصحابنا في ضمان الام في العارية والبيع الفاسد، هل هو ضمان
غصب أم لا؟ على وجهين.
(أحدهما) أنه ضمان غصب، فعلى هذا يكون الولد مضمونا بأكثر الامرين
من قيمته أو نقص الحمل كالغصب.
(والوجه الثاني) أنه يكون مضمونا ضمان عقد، فعلى هذا يكون الولد غير
مضمون لأنه لم يدخل في العقد.
فأما إذا غصب مالا فاتجر به وربح فيه ففي ربحه قولان: أحدهما وهو قوله في
القديم: أنه لرب المال، وهو مذهب مالك. والقول الثاني: أنه للغاصب وهو
مذهب أبي حنيفة، وسنذكر توجيه القولين في القراض، فأما إذا غصب شيئا
فصاد به، فعلى ثلاثة أضرب. أحدها: أن يكون آلة كالشبكة والقوس فالصيد
للغاصب وعليه أجرة الآلة، والضرب الثاني: أن يكون عبدا فالصيد للمغصوب
منه لان يده يد لصاحبه وهل على الغاصب أجرته مدة صيده أم لا؟ على وجهين
250

أحدهما: عليه الأجرة، لأنه غاصب. والثاني: لا أجرة عليه لان السيد
قد صار إلى منافعه في ذلك الزمان. والضرب الثالث: أن يكون جارحا
كالكلب والفهد والنمر ففي الصيد وجهان. أحدهما: للغاصب لأنه المرسل فعلى
هذا عليه أجرة الفهد والنمر، فهل عليه أجرة الكلب أم لا؟ على وجهين.
قال الشافعي: ولو باعها الغاصب فأولدها المشترى ثم استحقها المغصوب
منه أخذ من المشترى مهرها وقيمتها إن كانت ميتة، وأخذها إن كانت حية،
وأخذ قيمة أولادها يوم سقطوا أحياء، ولا يرجع بقيمة من سقط ميتا،
ويرجع المشترى على الغاصب بجميع ما ضمنه من قيمة الولد لأنه غره، إلى أن
قال: وعليه الحد إن لم يأت بشبهة.
(فرع) إذا كان قد غصب بيضا فصار فراخا أو فروجا كان ملكا للمغصوب
منه لتولده في ملكه، ولو غصب منه شاة فأنزى عليها فحله فوضعت سخلا كان
للغاصب، لان مالك الام ولا شئ للمغصوب منه في نزو فحله لأنه عسب فحل
محرم الثمن إلا أن يكون النزو قد نقص من بدنها وقيمتها فيرجع على الغاصب
بقدر النقص. فلو غصبه شاة فذبحها وطبخها لم يملكها ويرجع بها للمغصوب منه
مطبوخة وبنقص ما حدث فيها. وقال أبو حنيفة: قد صارت للغاصب بالطبخ،
ويغرم قيمتها استدلالا برواية عاصم بن كليب عن أبي بردة بن أبي موسى أن
النبي صلى الله عليه وسلم زار قوما من الأنصار فقدموا إليه شاة فصيلة فأكل منها
لقمة فلم يبلعها فقال مالي لا أسيغها، ان لها لشأنا أو قال خبرا، قالوا يا رسول الله إنا أخذناها
من بنى فلان وأنهم إذا وافوا راضيناهم فقال أطعموها الأسارى. فجعل لهم تملكها
بالعمل لأنه أمرهم باطعامها للأسارى ولو لم يملكوها لمنعهم.
ودليلنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال. لا يحل لاحد منكم
من مال أخيه شئ إلا بطيب نفس منه فقال له عمرو بن حزم. يا رسول الله
أرأيت إن لقيت غنم ابن عمى اخترت منها شاة؟ قال. إن لقيتها نعجة تحمل
شفرة وزنادا بخبت الجميش - بفتح فسكون، والجميش وزان الخميس - وهو
صحراء بين مكة والمدينة - فلا تأخذها. قال الماوردي.
251

وأما الخبر الذي استدل به فيحمل على أن يكونوا قد أخذوا ذلك عن إذنهم
من غير ثمن مقدر، ويحتمل أن يكون لتعذر مستحقه عن استبقاء الطعام لهم
فأمرهم بذلك حفظا لقيمته على أربابه اه‍
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن غصب شيئا فخلطه بمالا يتميز منه من جنسه، بأن غصب
صاعا من زيت فخلطه بصاع من زيته، أو صاعا من الطعام فخلطه بصاع من
طعامه، نظرت، فإن خلطه بمثله في القيمة فله أن يدفع إليه صاعا منه لأنه
تعذر بالاختلاط عين ماله، فجاز أن يدفع إليه البعض من ماله والبعض من مثله
وإن أراد أن يدفع إليه مثله من غيره وطلب المغصوب منه مثله منه، ففيه
وجهان أحدهما وهو المنصوص أن الخيار إلى الغاصب، لأنه لا يقدر على رد عين
ماله، فجاز أن يدفع إليه مثله كما لو هلك، والثاني وهو قول أبي إسحاق وأبي علي بن
أبي هريرة أنه يلزمه أن يدفع إليه صاعا منه لأنه يقدر أن يدفع إليه بعض ماله فلا ينتقل
إلى البدل في الجميع كما لو غصب صاعا فتلف بعضه، وإن خلطه بأجود منه فإن بذل
الغاصب صاعا منه لزم المغصوب منه قبوله، لأنه دفع إليه بعض ماله وبعض
مثله خيرا منه، وإن بذل مثله من غيره وطلب المغصوب منه صاعا منه ففيه
وجهان. أحدهما وهو المنصوص في الغصب. أن الخيار إلى الغاصب لأنه تعذر
رد المغصوب بالاختلاط فقبل منه المثل. والثاني. أنه يباع الجميع ويقسم الثمن
بينهما على قدر قيمتهما وهو المنصوص في التفليس، لأنا إذا فعلنا ذلك أوصلنا كل
واحد منهما إلى عين ماله، وإذا أمكن الرجوع إلى عين المال لم يلزم الرجوع إلى
البدل، فإن كان ما يخص المغصوب منه من الثمن أقل من قيمة ماله استوفى قيمة
صاعه ودخل النقص على الغاصب، لأنه نقص بفعله فلزمه ضمانه
وعلى هذا الوجه ان طلب المغصوب منه أن يدفع إليه من الزيت المختلط
بقدر قيمة ماله ففيه وجهان، أحدهما، لا يجوز، وهو قول أبى اسحق لأنه
يأخذ بعض صاع عن صاع وذلك ربا والثاني انه يجوز لان الربا إنما يكون في البيع
252

وليس ههنا بيع، وإنما يأخذ هو بعض حقه ويترك بعضه كرجل له على رجل
درهم فأخذ بعضه وترك البعض.
(فصل) وإن خلطه بما دونه فإن طلب المغصوب منه صاعا منه وامتنع
الغاصب أجبر على الدفع، لأنه رضى بأخذ حقه ناقصا، وإن طلب مثله من غيره
وامتنع الغاصب أجبر على دفع مثله، لان المخلوط دون حقه فلا يلزمه أخذه.
ومن أصحابنا من قال: يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما، ليصل كل
واحد منهما إلى عين ماله، وإن نقص ما يخصه من الثمن عن قيمته ضمن الغاصب
تمام القيمة، لأنه نقص بفعله
(فصل) وان غصب شيئا فخلطه بغير جنسه أو نوعه، فإن أمكن تمييزه
كالحنطة إذا اختلطت بالشعير أو الحنطة البيضاء إذا اختلطت بالحنطة السمراء،
لزمه تمييزه ورده، لأنه يمكن رد العين فلزمه، وإن لم يمكن تمييزه كالزيت إذا
خلطه بالشيرج لزمه صاع من مثله، لأنه تعذر رد العين بالاختلاط فعدل إلى
مثله. ومن أصحابنا من قال: يباع الجميع ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما ليصل
كل واحد منهما إلى عين ماله كما قلنا في القسم قبله
(فصل)
وإن غصب دقيقا فخلطه بدقيق له ففيه وجهان:
أحدهما: أن الدقيق له مثل. وهو قول أبى العباس وظاهر النص، لان
تفاوته في النعومة والخشونة ليس بأكثر من تفاوت الحنطة في صغر الحب
وكبره. فعلى هذا يكون حكمه حكم الحنطة إذا خلطها بالحنطة. وقد بيناه
والثاني: أنه لا مثل له. وهو قول أبي إسحاق، لأنه يتفاوت في الخشونة
والنعومة، ولهذا لا يجوز بيع بعضه ببعض، فعلى هذا اختلف أصحابنا فيما يلزمه
فمنهم من قال يلزمه قيمته لأنه تعذر رده بالاختلاط ولا مثل له فوجبت القيمة
ومنهم من قال يصيران شريكين فيه، فيباع ويقسم الثمن بينهما على ما ذكرناه في
الزيت إذا خلطه بالشيرج
253

(الشرح) الأحكام: قال الشافعي: " وما كان له كيل أو وزن فعليه مثل
كيله ووزنه " وقد ذكرنا أن ماله مثل فهو مضمون في الغصب بالمثل، ومالا مثل
له فهو مضمون بالقيمة فأما حد ماله مثل فقد قال الشافعي ما سقنا، وليس ذلك
منه حدا لماله مثل، لان كل ذي مثل مكيل أو موزون، وليس كل مكيل أو
موزون له مثل، وإنما ذكر الشافعي ذلك شرطا في المماثلة عند الغرم، ولم
يجعله حدا لماله مثل. وحد ماله مثل. أن يجتمع فيه شرطان، تماثل الاجزاء
وأمن التفاضل، فكل ما تماثلت أجزاؤه وأمن تفاضله فله مثل، كالحبوب
والادهان، فإن كان مكيلا كان الكيل شرطا في مماثلته دون الوزن، وإن كان
موزونا كان الوزن شرطا في مماثلته دون الكيل، فأما ما اختلفت أجزاؤه
كالحيوان والثياب أو خيف تفاضله كالثمار الرطبة فلا مثل له وتجب قيمته.
أما خلط الشئ بمثله كالزيت بالزيت، أو الحنطة بالحنطة فقد قال الشافعي:
" ومن الشئ الذي يخلطه الغاصب بما اغتصب فلا يتميز منه، أو يغصبه مكيال
زيت فيصبه في زيت مثله، أو خير منه، فيقال للغاصب: إن شئت أعطيته
مكيال زيت مثل زيته، وإن شئت أخذ من هذا الزيت مكيالا ثم كان غير مزداد
إذا كان زيتك مثل زيته، وكنت تاركا للفضل، إذا كان زيتك أكثر من زيته
ولا خيار للمغصوب لأنه غير منتقص، فإن كان صب ذلك المكيال في زيت
شر من زيته ضمن الغاصب له مثل زيته، لأنه قد انتقص زيته بتصييره فيما هو شر
معه، وإن كان صب زيته في شيرج أو دهن طيب أو سمن أو عسل ضمن
في هذا كله، لأنه لا يتخلص منه الزيت، ولا يكون له أن يدفع إليه مكيالا
مثله، وإن كان المكيال منه خيرا من الزيت من قبل أنه غير الزيت ولو كان
صبه في ماء إن خلصه منه حتى يكون زيتا لا ماء فيه، وتكون مخالطة الماء غير
ناقصة له كان لازما للمغصوب أن يقبله، وإن كانت مخالطة الماء ناقصة له في
العاجل والمتعقب كان عليه أن يعطيه مكيالا مثله مكانه "
قال الربيع، ويعطيه هذا الزيت بعينه وان نقصه الماء، ويرجع عليه بنقصه
254

وهو معنى قول الشافعي قلت: فهذا هو المنصوص الذي أشار إليه المصنف
وقول الشافعي أعدل حكومه وأبعد عن الغرر.
(فرع) قال الشافعي ولو اغتصبه زيتا فأغلاه على النار فنقص كان عليه أن
يسلمه إليه، وما نقص مكيلته ثم إن كانت النار تنقصه شيئا في القيمة كان عليه أن
يغرم له نقصانه وان لم تنقصه شيئا في القيمة فلا شئ عليه، ولو اغتصبه حنطة
جيدة خلطها برديئة كان خلطها بمثلها أو أجود منها كما وصفت في الزيت يغرم
له مثلها بمثل كيلها، الا أن يكون يقدر على أن يميزها حتى تكون معروفة،
وان خلطها بمثلها أو أجود كان كما وصفت في الزيت. قال: ولو خلطها بشعير أو
ذرة أو حب غير الحنطة كان عليه أن يؤخذ بتمييزها حتى يسلمها إليه بعينها بمثل
كيلها، وان نقص كيلها شيئا ضمنه، قال: ولو اغتصبه حنطة جيدة فأصابها
عنده ماء أو عفن أو أكلة أو دخلها نقص في عينها كان عليه أن يدفعها إليه
وقيمة ما نقصها تقوم بالحال التي غصبها والحال التي دفعها بها ثم يغرم فضل ما بين
القيمتين. قال: ولو غصبه دقيقا فخلطه بدقيق أجود منه أو مثله أو أردأ كان
كما وصفنا في الزيت.
هذا نصه فلو أن المغصوب منه أراد أن يأخذ من المختلط بقدر مكيلته أو
بقدر قيمة ماله وفرق بين المكيلة وقدر القيمة لان الأول التساوي في الكيل
والآخر التساوي في القيمة فعلى وجهين أحدهما وهو قول أبي إسحاق المروزي:
لا يجوز، والثاني: يجوز لأنه ليس بيعا ويكون متبرعا بفرق القيمة أو المكيلة
أو الجودة ولا يكون ذلك من الربا لأنه ليس بيعا وهو كما قال الشافعي في
الام: ان غصبه سمنا وعسلا ودقيقا فعصده كان للمغصوب الخيار في أن يأخذه
معصودا ولا شئ للغاصب في الحطب والقدر والعمل من قبل أن ماله فيه أثر
لا عين، أو يقوم له العسل منفردا والسمن والدقيق منفردين. فإن كان قيمته
عشرة وهو معصود قيمته سبعة غرم له ثلاثة من قبل أنه أدخله النقص، ولو
غصبه دابة وشعيرا فعلف الدابة الشعير رد الدابة والشعير من قبل أنه هو
المستهلك له وليس في الدابة عين من الشعير يأخذه إنما فيها منه أثر، قال: ولو
255

غصبه طعاما فأطعمه إياه والمغصوب لا يعلم كان متطوعا بالاطعام، وكان عليه
ضمان الطعام. وإن كان المغصوب يعلم أنه طعامه فأكله فلا شئ له عليه من
قبل أن سلطانه إنما كان على أخذ طعامه فقد أخذه
وقال الربيع: وفيه قول آخر أنه إذا أكله عالما أو غير عالم فقد وصل إليه
شيئه ولا شئ على الغاصب، إلا أن يكون نقص عمله فيه شيئا فيرجع بما نقصه
العمل. قلت وإلى هذا ذهب أحمد وأصحابه
(فرع) إذا نقص المغصوب نقصا غير مستقر كطعام ابتل وخيف فساده،
فعليه ضمان نقصه، فللشافعي قولان (أحدهما) يضمن (والثاني) لا يضمن.
وهو قول أحد الأقوال الثلاثة عند الحنابلة (أحدها) وهو قول القاضي لا يضمن
(والثاني) يضمن، وهو قول ابن قدامة (والثالث) المغصوب منه مخير بين أخذ
بدله وبين تركه حتى يستقر فساده ويأخذ أرش نقصه. وقال أبو حنيفة: يتخير
بين إمساكه ولا شئ له، أو تسليمه إلى الغاصب ويأخذ قيمته.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن غصب أرضا فغرس فيها غراسا أو بنى فيها بناء، فدعا
صاحب الأرض إلى قلع الغراس ونقض البناء لزمه ذلك. لما روى سعيد بن زيد
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ليس لعرق ظالم حق " فإن قلعه فقد قال في
الغصب يلزمه أرش ما نقص من الأرض. وقال في البيع: إذا قلع الأحجار
المستودعة، عليه تسوية الأرض فمن أصحابنا من جعلهما على قولين
(أحدهما) يلزمه أرش النقص لأنه نقص بفعل مضمون، فلزمه أرشه.
(والثاني) يلزمه تسوية الأرض لان جبران النقص بالمثل أولى من جبرانه
بالقيمة. ومنهم من قال: يلزمه في الغصب أرش ما نقص. وفى البيع يلزمه
تسوية الأرض، لان الغاصب متعد فغلظ عليه بالأرش لأنه أوفى، والبائع
غير متعد فلم يلزمه أكثر من التسوية، وإن كان الغراس لصاحب الأرض فطالبه
بالقلع، فإن كان له غرض في قلعه أخذ يقلعه، لأنه قد فوت عليه بالغراس
غرضا مقصودا في الأرض، فأخذ بإعادتها إلى ما كانت، وان لم يكن له غرض
256

ففيه وجهان (أحدهما) لا يؤخذ بقلعه، لان قلعه من غير غرس سفه وعبث
(والثاني) يؤخذ به، لان المالك محكم في ملكه، والغاصب غير محكم، فوجب
أن يؤخذ به.
(فصل) وان غصب أرضا وحفر فيها بئرا فطالبه صاحب الأرض بطمها
لزمه طمها لان التراب ملكه، وقد نقله من موضعه فلزمه رده إلى موضعه،
فإن أراد الغاصب طمها فامتنع صاحب الأرض أجبر. وقال المزني: لا يجبر كما
لو غصب غزلا ونسجه لم يجبر المالك على نقضه، وهذا غير صحيح، لان له غرضا
في طمها. وهو أن يسقط عنه ضمان من يقع فيها، بخلاف نقض الغزل المنسوج
فإن أبرأه صاحب الأرض من ضمان من يقع فيها ففيه وجهان (أحدهما) يصح
الابراء لأنه لما سقط الضمان عنه إذا أذن في حفرها سقط عنه إذا أبرأه منها.
(والثاني) أنه لا يصح، لان الابراء إنما يكون من واجب، ولم يجب بعد شئ
فلم يصح الابراء.
(الشرح) حديث سعيد بن زيد رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه
وأعله بالارسال والنسائي، ورجح الدارقطني الارسال أيضا، وقد اختلف مع
ترجيح الارسال على الصحابي الذي رواه فقيل جابر، وقيل عائشة، وقيل ابن
عمر، ورجح ابن حجر الأول، وقد اختلف فيه على هشام بن عروة اختلافا
كثيرا، ورواه أبو داود الطيالسي من حديث عائشة، وفى اسناده زمعة، وهو
ضعيف. ورواه البخاري تعليقا
أما الأحكام فقد قال الشافعي: ولو اغتصبه أرضا فغرسها نخلا أو أصولا أو
بنى فيها بناء أو شق فيها أنهارا كان عليه كراء مثل الأرض بالحال الذي اغتصبه
إياها، وكان على الباني والغارس أن يقلع بناءه وغرسه، فإذا قلعه ضمن ما نقص
القلع الأرض حتى يرد إليه الأرض بحالها حين أخذها ويضمن القيمة بما نقصها.
قال وكذلك ذلك في النهر وفى كل شئ أحدثه فيها لا يكون له أن يثبت فيها عرقا
ظالما. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ليس لعرق ظالم حق " ولا يكون لرب
الأرض أن يملك مال الغاصب، ولم يملكه إياه كان ما يقلع الغاصب منه ينفعه
257

أو لا ينفعه، لان له منع قليل مائه كما منع كثيره. وقال الماوردي قد ذكرنا أن
الأرض والعقار يجرى عليها حكم الغصب إبراءا وضمانا، وبه قال فقهاء الحرمين
والبصرة، وخالف أهل الكوفة فقال أبو حنيفة لا يجرى على الأرض حكم
الغصب ولا حكم الضمان باليد. وهو قول أبى يوسف، وقال محمد بن الحسن
يجرى عليها حكم الضمان باليد، ولا يجرى عليها حكم الغصب. اه‍. وكلام محمد
يرد عليه أنه كل ما ضمن باليد ضمن بالغصب كالمنقول، على أنه ليس للتفرقة بين
ضمان اليد وضمان الغصب تأثير.
فإذا صح غصب الأرض فلا يخلو حال غاصبها من أن يكون قد شغلها بغرس
أو بناء أو لم يشغلها، فإن لم يكن قد شغلها بغرس ولا بناء درها وأجرة مثلها
مدة غصبه، وان شغلها باحداث غرس أو بناء أخذ بقلع بناءه وغرسه ولا يجبر
على أخذ قيمتها، سواء أضر قلعها بالأرض أم لا.
وقال أبو حنيفة " إن لم يضر القلع بالأرض اضرارا بينا فله القلع، ولا
يجبر على أخذ القيمة، وإن كان في قلعه اضرار بالأرض فرب الأرض بالخيار
بين أن يبذل له قيمة الغرس والبناء مقلوعا فيجبر على أخذها، وبين أن يأخذه
بقلع الغرس والبناء فيجبر على قلعها استدلالا بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم
لا ضرر ولا ضرار. وبما روى مجاهد أن رجلا غصب قوما أرضا براحا فغرس
فيها نخلا فرفع ذلك إلى عمر رضي الله عنه فقال لهم " ان شئتم فادفعوا إليه قيمة
النخل " وروى رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " من زرع أرض قوم بلا
اذن منهم فليس له في الزرع شئ وله نفقته " قال ولان من دخل تملك على ملك
استحق المالك إزالة ملك الداخل كالشفيع
ودليلنا ما روى أنس مرفوعا " لا يحل مال امرئ مسلم الا بطيب نفسه "
أخرجه الدارقطني وأحمد والحاكم والبيهقي وابن حبان. وما رواه هشام بن عروة
عن أبيه أن رجلا غصب أرضا من رجلين من بنى بياضه من الأنصار فغرسها نخلا
جما فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر بقلعه ولم يجعل لرب الأرض خيارا
ولو استحق خيارا لأعلمه وحكم به. ولان يسير الغرس والبناء أشبه بأن يكون
تبعا للأرض من كثيره، فلما لم يكن لرب الأرض أن يتملك يسيره فأولى أن
258

لا يتملك كثيره ويتحرر من اعتلاله قياسان (أحدهما) أنه ما لم يملك بالغصب
يسيره لم يملك به كثيره لمتاع (والثاني) أنه عدوان لا تملك به الأعيان المنفصلة
فوجب أن لا تملك به الأعيان المتصلة. وأما حديث لا ضرر ولا ضرار فهو أن
رفع الضرر مستحق ولكن ليس بتملك العين. وأما قضية عمر فمرسلة لان مجاهدا
لم يلق عمر، ثم لا دليل فيها من وجهين (أحدهما) أنها قضية في عين إن لم تنقل
شرعا لم تلزمه حكما (والثاني) قوله إن شئم فادفعوا قيمة النخل بعد أن طلب
صاحبها ذلك. وهذا عندنا جائز. وأما قوله من زرع أرضا بغير إذنهم فليس له
في الزرع شئ ففيه جوابان (أحدهما) أنه يستعمل على أنه زرع أرضهم ببذرهم
(والثاني) ليس له في الزرع حق الترك والاستبقاء، بما بينه بقوله " ليس
لعرق ظالم حق "
فإذا ثبت هذا فلا يخلو حال الغرس والبناء من ثلاثة أقسام (أحدها) أن
تكون ملكا للغاصب (والثاني) أن يكون مغصوبا من رب الأرض (والثالث)
أن يكون مغصوبا من غيره فأما الأول فلرب الأرض والغاصب أربعة أحوال، أن
يتفقا على ترك الغرس والبناء بأجر وبغير أجر فيجوز ما أقاما على اتفاقهما،
لان الحق فيه مختص بهما، ثم ننظر فإن كان بعقد صح استحقاق المسمى فيه.
ولم يكن له الرجوع في المطالبة بالقلع قبل انقضاء المدة سواء علما قدر أجرة المثل
أو لم يعلما، وإن كان بغير عقد فله أجرة المثل ما لم يصرح بالعفو عنها وأن يأخذه
بالقطع متى شاء.
والحال الثانية أن يتفقا على أخذ قيمة الغرس والبناء قائما أو مقلوعا فيجوز
ويكون ذلك بيعا يراعى فيه شروط البيع، لأنه عن مراضاة فإن كان على الشجر
ثمر ملكه إن كان مؤبرا، ولا يلزم الغاصب أرش ما كان ينقص من الأرض
لو قلع لأنه لم يقلع، فلو باع الغاصب الغرس على غير مالك الأرض فان اشتراها
بشرط التبقية فالبيع باطل، وان اشتراها بشرط القلع فالبيع جائز، فإذا قلعه
المشترى فأحدث به نقصا فأرشه على الغاصب وحده لترتبه على تعديه أو يشتريه
مطلقا ففيه وجهان (أحدهما) باطل لاحتمال التبقية (والثاني) يجوز ويؤخذ
المشترى بالقلع.
259

والحال الثالثة: أن يتفقا على أخذ ثمن الأرض من الغاصب وتسقط المطالبة
عن الغاصب الا بثمن الأرض، وليس له أن يطالب بعد الثمن بأرش النقص لو
قلع لأنه لم يقلع، ولو كان صاحب الأرض باعها على أحد غير الغاصب كان للأجنبي
الذي ابتاعها أن يأخذ الغاصب بقلع بنائه وغرسه، فإذا قلع لم يكن للأول أن يطالبه
به لأنه عيب قد دخل أرضه، ويكون البيع سببا لسقوط الأرش عن الغاصب
والحال الرابعة ألا يتفقا على أحد الأحوال الثلاثة فيؤخذ الغاصب بالقلع،
لحديث سعيد بن زيد، فإذا قلع برئ من أجرة الأرض بعد قلعه، فان نقصت
الأرض شيئا لم يبرأ حتى يرد ما نقصت الأرض كما قال في الغصب
وأما القسم الثاني وهو أن يكون الغرس والبناء ملكا لرب الأرض فان رضى
رب الأرض ان يأخذ الأرض بغرسها وبنائها فأيما أخذه فلا شئ عليه من مئونة
البناء وليس للغاصب أن ينقص الغرس والبناء لأنه لا يستفيد بقلعها شيئا فصار
منه ذلك سفها، وان طالب رب الأرض الغاصب بقلع الغرس والبناء لينفصلا
عن الأرض فقال الماوردي: فإن كان له في ذلك غرض صحيح أجبر الغاصب على
القلع ولزمه غرم نقص الغرس والبناء عما كان قبل أن غرس وبنى ونقص الأرض
وإن لم يكن في قلعه غرض يصح لقاصد فهل يجبر الغاصب على قلعه أم لا؟ على
وجهين (أحدهما) لا يجبر عليه لأنه عبث وسفه (والثاني) يجبر عليه لان المالك
متحكم على الغاصب لتعديه، فان قيل بالأول لم يكن له الأرش، وان قيل بالوجه
الثاني استحق الأرش
وأما القسم الثالث وهو أن يكون الغرس والبناء مغصوبا من غير مالك
الأرض فلكل واحد من رب الأرض ومالك الغرس أن يأخذ الغاصب بالقلع
ثم يرجع كل واحد منهما عليه بأرش ما نقص من ملكه، فيرجع رب الأرض بما
نقص من أرضه ويرجع رب الغرس بما نقص من غرسه، فلو أن رب الأرض
اشترى الغرس من ربه قبل القلع صار مالكا لهما وله أن يأخذ الغاصب بالقلع
إن كان في قلعه غرض صحيح ثم يأخذ منه نقص الأرض دون الشجر
(فرع) قال الشافعي ولو حفر فيها بئرا وأراد الغاصب دفنها فذلك له وان لم ينفعه
وهذا كما قال " إذا غصب أرضا وحفر فيها بئرا كان متعديا بحفرها وعليه شدها
260

وضمان ما تلف فيها ثم لا يخلو حال رب الأرض والغاصب من أربعة أحوال.
(أحدها) أن يتفقا على شدها ليبرأ الغاصب من ضمان ما يسقط فيها، فإن لم
يكن للأرض بعد سدها أرش فلا شئ عليه سوى أجرة المثل في مدة الغصب،
وإن كان لها أرش كان عليه غرمه مع الأجرة.
(والثانية) أن يتفقا على تركها فذاك لهما وعلى الغاصب ضمان ما سقط فيها
لتعديه بحفرها وليس لرب الأرض من أن يطالبه بمؤونة السد وإنما له أن يأخذه
متى شاء بالسد.
(والثالثة) أن يدعو رب الأرض إلى سدها ويأبى الغاصب، فإن الغاصب
يجبر على سدها إن كان فيه غرض صحيح لحديث سعيد بن زيد " ليس لعرق ظالم
حق " قال الشافعي: والعروق أربعة عرقان ظاهران الغرس والبناء، وعرقان
باطنان البئر والنهر، وان لم يكن فيه غرض صحيح، فعلى وجهين كما قلنا في قلع
الغرس والبناء.
(والرابعة) أن يدعو الغاصب إلى سدها، ويأبى ربها، فإن لم يرؤه ربها من
ضمان ما تلف فيها فله سدها ليستفيد به سقوط الضمان عنه، وإن أبرأه بها من
الضمان ففيه وجهان.
(أحدهما) أن للغاصب أن يسدها لأن الضمان قد يجب لغيره فلم يسقط
بإبرائه (والوجه الثاني) أن الغاصب يمنع من سدها لأنه بالابراء يصير كالاذن له
في الابتداء فيرتفع التعدي، ولا يلزمه ضمان، وهذا قول أبي علي بن أبي هريرة
(فرع) إذا دفن في الأرض المغصوبة ميتا أخذ الغاصب بنبشه منها، وإن كان
فيه انتهاك حرمة الميت، لان دفنه فيها عدوان يأثم به الدافن، ثم إذا نبش
ضمن أرش نقصها إن نقصت، فلو قال مالك الأرض: أنا أقر الميت مدفونا في
الأرض إن ضمن لي نقص الأرض ففي اجبار الغاصب على بذله وجهان، أحدهما
يجبر على بذله حفظا لحرمة الميت المتعدى هو بدفنه فيها، والثاني: لا يلزمه ذلك
لأنه مدفون بغير حق.
(فرع) قال الشافعي: وكذلك لو نقل عنها ترابا كان له أن يرد ما نقل عنها
حتى يوفيه إياها بالحال التي أخذها قال المزني: غير هذا أشبه بقوله، لأنه بقوله
261

لو غصب غزلا فنسجه ثوبا أو نقرة فطبعها دنانير أو طينا فضربه لبنا فهذا أثر لا
عين، ومنفعة المغصوب له ولا حق في ذلك للغاصب كذلك نقل التراب عن
الأرض والنهر إذا لم يبن بها أثر لا عين الفعل، وصورتها في رجل غصب أرضا
فنقل منها ترابا فلا يخلو حال التراب من أن يكون باقيا أو مستهلكا فإن استهلك
فعليه رد مثله فإن للتراب مثلا، فإن لم يقدر على مثله لأنه من تربة ليس في الناحية
مثلا ضمن القيمة، وفيها وجهان.
(أحدهما) وقد نقله المزني عن الشافعي في جامعه الكبير أن تقوم الأرض
وعليها التراب ثم تقوم الأرض بعد أخذه منها ويضمن الغاصب ما بين القيمتين
(والوجه الثاني) أنه يضمن أكثر الامرين من هذا ومن قيمة التراب بعد
نقله عن الأرض، وإن كان التراب باقيا فللغاصب ورب الأرض أربعة أحوال
أحدها أن يتفقا على رده إلى الأرض فيبرأ الغاصب منه ولا يغرم الا النقص
ان وجد في الأرض وأجرة مثلها في أكثر الحالين أجرة.
الثانية: أن يتفقا على ترك التراب خارجا عنها فذلك لهما ما لم يطرح في أرض
مغصوبة، الثالثة: أن يطلب رب الأرض رد التراب إليها ويمتنع الغاصب
فيؤخذ جبرا برده إليها مهما كانت مؤونته. والرابعة: أن يدعو الغاصب إلى رد
التراب ويمتنع منه المالك فهو اما أن يبرئه من ضمان التراب أو لا يبرئه فإن لم يبرئه كان
للغاصب أن يرد التراب وحده بغير اذنه ولا اعتبار بمنعه ليسقط عنه ضمان رده
قال المصنف رحمه الله تعالى.
(فصل) إذا غصب ثوبا فصبغه بصبغ من عنده نظرت، فإن لم تزد قيمة
الثوب والصبغ، ولم تنقص بأن كانت قيمة الثوب عشرة، وقيمة الصبغ عشرة
فصارت قيمة الثوب مصبوغا عشرين، صار شريكا لصاحب الثوب بالصبغ لان
الصبغ عين مال له قيمة، فان بيع الثوب كان الثمن بينهما نصفين، فان زادت
قيمتهما بأن صارت قيمة الثوب ثلاثين حدثت الزيادة في ملكهما، لأنه بفعله
زاد ماله ومال غيره، وما زاد في ماله يملكه لأنه حصل بعمل عمله بنفسه في ماله
262

فإن بيع الثوب قسم الثمن بينهما نصفين، وإن نقص قيمتهما بأن صار الثوب يساوى
خمسة عشر حسب النقصان على الغاصب في صبغه، لأنه بفعله حصل النقص،
فان بيع الثوب بخمسة عشر دفع إلى صاحب الثوب عشرة، وإلى الغاصب خمسة
فان صارت قيمة الثوب عشرة حسب النقص على الغاصب، فان بيع الثوب بعشرة
دفع العشرة كلها إلى صاحب الثوب، لأنه إما أن يكون سقط بدل الصبغ
بالاستهلاك، أو نقص به قيمة الثوب فلزمه أن يجبر ما نقص من قيمة الثوب،
فان صارت قيمة الثوب ثمانية لم يستحق بصبغه شيئا لأنه استهلكه في الثوب،
ويلزمه درهمان لأنه نقص بصبغه من قيمة الثوب درهمان.
(فصل) إذا استهلك ثمن الصبغ لم يبق للغاصب في الثوب حق، لان
ماله هو الصبغ وقد استهلكه، وان بقي للصبغ ثمن فطلب الغاصب استخراجه
أجيب إلى ذلك لأنه عين ماله فكان له أخذه كما لو غرس في أرض مغصوبة غراسا
ثم أراد قلعه، فان نقص قيمة الثوب باستخراج الصبغ ضمن ما نقص لأنه حصل
بسبب من جهته، وان طلب صاحب الثوب استخراج الصبغ وامتنع الغاصب،
ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يجبر، وهو قول أبى العباس، لان الصبغ يهلك بالاستخراج
ولا حاجة به إلى ذلك، لأنه يمكنه أن يستوفى حقه بالبيع، ولا يجوز أن يتلف
مال الغير.
(والثاني) يجبر، وهو قول أبي إسحاق وأبي علي بن خيران، لأنه عرق ظالم
لا حق له فيه فأجبر على قلعه كالغراس في الأرض المغصوبة وان بذل المغصوب
منه قيمة الصبغ ليتملكه وامتنع الغاصب لم يجبر على القبول، لأنه اجبار على
بيع ماله، وان أراد صاحب الثوب البيع وامتنع الغاصب بيع، لأنه ملك له
فلا يملك الغاصب أن يمنعه من بيعه بتعديه، وان أراد الغاصب البيع وامتنع
صاحب الثوب ففيه وجهان.
أحدهما يجبر ليصل الغاصب إلى ثمن صبغة، كما يجبر الغاصب على البيع ليصل رب
الثوب إلى ثمن ثوبه. والثاني: لا يجبر لأنه متعد فلم يستحق بتعديه إزالة ملك
263

رب الثوب عن ثوبه، وإن وهب الغاصب الصبغ من صاحب الثوب ففيه وجهان
أحدهما: يجبر على قبوله، لأنه لا يتميز من العين فلزمه قبوله كقصارة الثوب،
والثاني: لا يجبر لأنه هبة عين فلا يجبر على قبولها.
(الشرح) الأحكام: قال الشافعي: ولو كان ثوبا فصبغه فزاد في قيمته
خمسه فقال للغاصب: إن شئت أن تستخرج الزعفران على أنك ضامن لما
نقص من الثوب وإن شئت فأنت شريك في الثوب لك ثلثه ولصاحب الثوب
ثلثاه، ولا يكون له غير ذلك، وهكذا كل صبغ كان قائما فزاد فيه، وإن صبغه
بصبغ يزيد ثم استحق الصبغ فإنما يقوم الثوب، فإن كان الصبغ زائدا في
قيمته شيئا قل أو كثر فهكذا وإن كان غير زائد في قيمته قيل له: ليس لك ههنا
مال زاد في مال الرجل فتكون شريكا به، فإن شئت فاستخرج الصبغ على أنك
ضامن لما نقص الثوب، وإن شئت فدعه.
وصورتها في رجل غصب ثوبا فصبغه فلا يخلو حال الصبغ من ثلاثة أقسام
أحدها. أن يكون للغاصب، والثاني. أن يكون لرب الثوب، والثالث. أن
يكون لأجنبي، فإن كان الصبغ للغاصب فهو على ثلاثة أقسام أحدها. أنه يمكن
استخراجه. والثاني. لا يمكن. والثالث. أن يمكن استخراج بعضه ولا يمكن
استخراج جميعه، فإن لم يمكن استخراجه لم يخل ثمنه بعد الصبغ من ثلاثة
أقسام إما أن يكون بقدر قيمته قبل الصبغ أو يكون أقل، أو يكون أكثر،
فإن كان بقدر ثمنه قبل الصبغ مثل أن يكون قيمة الثوب عشرة دراهم وقيمة
الصبغ عشرة دراهم فيباع الثوب بعد صبغه بعشرة دراهم فهي بأسرها لرب
الثوب لاستهلاك الصبغ إما بذهاب قيمته، وإما بجبره نقص الثوب.
وإن كان ثمنه بعد البيع أقل مثل أن يساوى بعد الصبغ ثمانية دراهم
فيأخذها رب الثوب ويرجع على الغاصب بنقصه وهو درهمان ليستكمل بهما
جميع الثمن، ويصير صبغ الغاصب ونقص أجزاء الثوب مستهلكين، وإن كان
ثمنه بعد الصبغ أكثر فلا يخلو حال الزيادة على ثمنه من ثلاثة أقسام، إما أن
يكون بقدر ثمن الصبغ، أو يكون أقل، أو يكون أكثر، فإن كانت بقدر ثمن
264

الصبغ مثل أن يكون ثمنه بعد الصبغ عشرين درهما فيأخذ رب الثوب منها عشرة
التي هي ثمن ثوبه ويأخذ الغاصب عشرة هي ثمن صبغه، ولم يحصل فيها نقص
لا في الثوب ولا في الصبغ، وإن كانت الزيادة أقل من ثمن الصبغ مثل أن يكون
ثمنه بعد الصبغ خمسة عشر درهما فيأخذ رب الثوب عشرة ثمن ثوبه كاملا
ويأخذ الغاصب الخمسة الباقية ويصير النقص مختصا بصبغه لضمانه نقص الثوب.
وإن كانت الزيادة أكثر من ثمن الصبغ فتكون الزيادة بينهما بقدر ماليهما
بحسب قانون النسبة المعروف في الرياضيات، وإذا كانت الزيادة بينهما على
قدر المالين لم يختص الغاصب بها، وإن كانت حادثة بعمله، لأنه عمل في ماله
ومال غيره فلم يحصل له عوض عن عمله في مال غيره وحصل له عوض عمله في
مال نفسه، فان دعا أحدهما إلى بيعه وأبى الآخر نظر في الداعي إلى البيع، فإن كان
رب الثوب فله ذاك، وليس للغاصب لتعديه بالصبغ أن يمنعه من البيع
فيستديم حكم الغصب، وان دعا الغاصب إلى بيعه ليتوصل إلى ثمن صبغه وأبى
رب الثوب، فان بذل له مع إبائه ثمن الصبغ الذي يستحقه لو بيع الثوب فله
ذاك ولا يجبر على البيع.
وان لم يبذل له الصبغ ففيه وجهان ذكرهما أبو علي الطبري في افصاحه،
أحدهما. أنه يجبر رب الثوب إلى ثمن ثوبه. والوجه الثاني أنه لا يجبر رب الثوب
على بيعه لان الغاصب متعد بصبغه فلم يستحق بتعديه إزالة ملك رب الثوب عن
ثوبه فهذا الكلام في الصبغ إذا لم يمكن استخراجه، ولا فرق بين أن يكون
سوادا وبين أن يكون غيره من الألوان.
وقال أبو حنيفة. إن كان الصبغ سوادا فلا شئ للغاصب فيه وكان رب
الثوب مخيرا بين أن يأخذه ولا شئ عليه للصبغ وبين أن يعطيه للغاصب
ويأخذ منه قيمته، وإن كان الصبغ حمرة أو صفرة فهو مخير بين أن يأخذه
وعليه قيمة الصبغ وبين أن يعطيه الغاصب ويأخذ منه قيمه الثوب فجعل له في الأصباغ
كلها أن يأخذ من الغاصب قيمته ان شاء فله أن يأخذه مصبوغا لكن إن كان
265

الصبغ سوادا فلا قيمة عليه له، وإن كان لونا غيره فعليه قيمته. واختلف
أصحابه لم خص السواد بإسقاط القيمة، فقال بعضهم لما فيه من إتلاف أجزاء
الثوب. وقال آخرون: بل قاله في آخر الدولة الأموية حين كان السواد شعارا
للعباسية في نمو دعوتها وكثرة أتباعها، فقام أبو حنيفة واعتبر السواد نقصا
وشيئا مذموما، فأما بعد أن صار شعار الدولة العباسية فقد زاد على غيره
من الألوان.
ولنا أن تمليك الغاصب الثوب بأخذ قيمته منه فخطأ، لان بقاء العين المغصوبة
يمنع من أخذ قيمتها من الغاصب قياسا عليه لو كان غير مصبوغ، ولان من لم
تجب عليه قيمة الثوب قبل صبغه لم يجب عليه قيمته بعد صبغه كالأجير، ولان
الصبغ لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون نقصا أو غير نقص، فإن كان نقصا
ضمنه لا غير، وإن لم يكن نقصا فأولى أن لا يضمن
وأما القسم الثاني وهو أن يكون الصبغ مما يمكن استخراجه فللغاصب ورب
الثوب أربعة أحوال (أحدها) ان يتفقا على تركه في الثوب وبيعه مصبوغا فيجوز
ويكون القول فيه بعد بيعه كالقول فيما لا يمكن استخراج صبغه.
والحال الثانية: ان يتفقا على استخراجه منه فذلك جائز ليصل الغاصب إلى
صبغه ورب الثوب إلى ثوبه، فإن استخرجه وأبى في الثوب نقصا ضمنه به.
والحال الثالثة: أن يدعو الغاصب إلى استخراجه ويدعو رب الثوب إلى تركه
فللغاصب أن يستخرجه سواء نفعه أو لم ينفعه، لأنها عين مملوكة فعلى هذا يكون
ضامنا لنقص الثوب ونقص الزيادة الحادثة فيه بدخول الصبغ لان رب الثوب
قد ملكها ففوتها الغاصب عليه باستخراج صبغه
مثاله: أن تكون قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ عشرة فيساوى الثوب
مصبوغا ثلاثين وبعد استخراج الصبغ منه بخمسة فيضمن الغاصب عشرة خمسة
منها هي نقص الثوب قبل صبغه، وخمسة أخرى هي نقص قسطه من الزيادة
الحادثة بعد صبغه
والحال الرابعة: أن يدعو رب الثوب إلى استخراجه ويدعو الغاصب إلى
تركه، فهذا على وجهين (أحدهما) أن يترك استبقاء لملك الصبغ فيه فينظر،
266

فإن لم يكن الصبغ قد أحدث زيادة تفوت باستخراج الصبغ منه ففيه وجهان
حكاهما ابن أبي هريرة (أحدهما) وهو اختيار أبى حامد أنه لا يجبر على استخراجه
إذا امتنع لما فيه من استهلاك ماله مع قدرة رب الثوب على الوصول إلى استيفاء
حقه بالبيع. قال وهو كلام الشافعي حيث قال: إن قيل للغاصب إن شئت
فاستخرج الصبغ على أنك ضامن لما نقص، وإن شئت فأنت شريك بما زاد الصبغ
فحصل الخيار إليه.
والوجه الثاني وهو الأصح: أنه يجبر على أخذه لأنه عرق ظالم لا حرمة له
في الاستبقاء فصار كالغرس والبناء: ويكون تخيير الشافعي له في الترك
والاستخراج عند رضا رب الثوب بالترك، فعلى هذا إذا استخرجه ضمن نقص
الثوب قبل الصبغ.
وأما القسم الثالث وهو أن يكون الصبغ مما يمكن استخراج بعضه، ولا يمكن
استخراج بعضه فالقول فيما لا يمكن استخراجه كالقول في القسم الأول، والقول
في تمكين استخراجه كالقول في القسم الثاني، فيجتمع في هذا القسم حكم
القسمين الماضيين على ما بيناه تقسيما وشرحا، فهذا حكم الصبغ إذا كان للغاصب
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) فان غصب ساجا فأدخله في البناء أو خيطا فخاط به شيئا نظرت
فإن عفن الساج وبلى الخيط لم يؤخذ برده لأنه صار مستهلكا فسقط رده ووجبت
قيمته، وإن كان باقيا على جهته نظرت فإن كان الساج في البناء والخيط في الثوب
وجب نزعه ورده، لأنه مغصوب يمكن رده فوجب رده، كما لو لم يبن عليه ولم
يخط به، وإن غصب خيطا فخاط به جرح حيوان، فإن كان مباح الدم كالمرتد
والخنزير والكلب العقور وجب نزعه ورده، لأنه لا حرمة له فكان كالثوب وإن كان
محرم الدم، فإن كان مما لا يؤكل كالآدمي والبغل والحمار وخيف من نزعه
الهلاك لم ينزع، لان حرمة الحيوان آكد من حرمة المال، ولهذا يجوز أخذ
مال الغير بغير إذنه لحفظ الحيوان ولا يجوز أخذه لحفظ المال، فلا يجوز هتك
حرمة الحيوان لحفظ المال.
267

وإن كان مما يؤكل ففيه قولان (أحدهما) يجب رده، لأنه يمكن نزعه بسبب
مباح فوجب رده كالساج (والثاني) لا يجب، لان النبي صلى الله عليه وسلم نهى
عن ذبح الحيوان لغير مأكلة
(فصل) وان غصب لوحا وأدخله في سفينة وخاف من نزعه الغرق، فإن
كان فيها حيوان - لم ينزع لما ذكرناه في الخيط، وإن كان فيها مال غير ماله،
- فإن كان لغير الغاصب - لم ينزع، لأنه إتلاف مال من له حرمة بجناية
غيره فلم يجز.
وإن كان المال للغاصب ففيه وجهان (أحدهما) ينزع كما تنقض الدار لرد
الساج (والثاني) لا ينزع لأنه يمكن رده من غير إتلاف المال، بأن تجر إلى
الشط بخلاف الساج في البناء. وعلى هذا إذا أراد المالك أن يطالب بالقيمة كان
له ذلك، لأنه حيل بينه وبين ماله فجاز له المطالبة بالبدل، كما لو غصب منه عبدا
فأبق، وإن اختلطت السفينة التي فيها اللوح بسفن للغاصب ففيه وجهان
(أحدهما) ينقض الجميع كما ينقض جميع السفينة (والثاني) لا ينقض ما لم
تتعين، لأنه إتلاف مال لم يتعين فيه التعدي
(فصل)
وإن غصب جوهرة فبلعتها بهيمة له، فإن كانت البهيمة مما لا تؤكل ضمن قيمة
الجوهرة، لأنه تعذر ردها فضمن البدل، وإن كانت مما تؤكل ففيه وجهان بناء
على القولين في الخيط الذي خيط به جرح ما يؤكل
(فصل) وإن غصب فصيلا فأدخله إلى داره فكبر ولم يخرج من الباب
نقض الباب لرد الفصيل كما ينقض البناء لرد الساج، وإن دخل الفصيل إلى داره
من غير تفريط منه نقض الباب وعلى صاحب الفصيل ضمان ما يصلح به الباب،
لأنه نقض لتخليص ماله من غير تفريط من صاحب الباب
(فصل) وان غصب دينارا وطرحه في محبرة كسرت المحبرة ورد الدينار،
كما ينقض البناء لرد الساج، وإن وقع في المحبرة من غير تفريط من صاحبها
268

كسرت وعلى صاحب الدينار قيمة المحبرة، لأنها كسرت لتخليص ماله من غير
تفريط من صاحب المحبرة.
(فصل)
وان غصب عينا وباعها وقبضها المشترى وتصرف فيها وتلفت عنده،
فللمالك أن يضمن الغاصب، لأنه غصبها. وله أن يضمن المشترى لأنه قبض
ما لم يكن له قبضه فصار كالغاصب
فإن ضمن الغاصب العين ضمنه قيمته أكثر ما كانت قيمته من حين
الغصب إلى أن تلف في يد المشترى، لأنه من حين الغصب إلى حين التلف
في ضمانه.
وإن ضمن المشترى ضمنه أكثر ما كانت قيمته من حين قبض إلى أن تلف
لأنه لم يدخل في ضمانه قبل القبض، فلا يضمن ما قبله.
فإن بدأ فضمن المشترى نظرت، فإن كان عالما بالغصب لم يرجع بما ضمنه
على الغاصب، لأنه غاصب تلف المغصوب عنده فاستقر الضمان عليه كالغاصب
من المالك إذا تلف عنده
فإن لم يعلم نظرت فيما ضمن، فان التزم ضمانه بالعقد كبدل العين وما نقص
منها لم يرجع به على الغاصب، لان الغاصب لم يغره، بل دخل معه على أن
يضمنه، وان لم يلتزم ضمانه بالعقد نظرت، فإن لم يحصل له في مقابلته منفعة
كقيمة الولد ونقصان الجارية بالولادة رجع على الغاصب، لأنه غره ودخل معه
على أن لا يضمنه.
وان حصلت له في مقابلته منفعة - كالأجرة والمهر وأرش البكارة -
ففيه قولان:
(أحدهما) يرجع به لأنه غره ولم يدخل معه على أن يضمنه (والثاني) لا يرجع، لأنه
حصل له في مقابلته منفعة وان بدأ فضمن الغاصب فما لا يرجع به المشترى على
الغاصب إذا غرم رجع به الغاصب على المشترى، وما يرجع به المشترى على
الغاصب لا يرجع به، لأنه لا فائدة في أن يرجع عليه ثم يرجع المشترى به عليه
269

(فصل) وإن غصب من رجل طعاما فأطعمه رجلا فللمالك أن يضمن
الغاصب لأنه غصبه، وله أن يضمن الآكل لأنه أكل ما لم يكن له أكله فإن ضمن
الآكل نظرت فان علم أنه مغصوب فأكله لم يرجع على الغاصب بما ضمن لأنه غاصب استهلك
المغصوب فلم يرجع بما ضمنه فان أكل ولم يعلم أنه مغصوب ففيه قولان.
(أحدهما) يرجع لأنه غره وأطعمه على أن لا يضمنه.
(والثاني) لا يرجع لأنه حصل له منفعة، فان أطعمه المالك فان علم أنه له
برئ الغاصب من الضمان، لأنه استهلك ماله برضاه مع العلم به، وإن لم يعلم ففيه
قولان (أحدهما) يبرأ الغاصب لأنه عاد إلى يده فبرئ الغاصب من الضمان،
كما لو رده عليه (والثاني) لا يبرأ لأنه إنما ضمن، لأنه أزال يده وسلطانه عن المال
وبالقديم إليه ليأكله لم تعد يده وسلطانه، لأنه لو أراد أن يأخذه لم يمكنه
فلم يزل الضمان.
(الشرح) قال الشافعي: ولو كان لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه جدارا
أخذ بقلعه، وهذا كما قال: إذا غصب لوحا فأدخله في سفينة أو بنى عليه سفينة
أو دارا أخذ بهدم بنائه اللوح بعينه إلى صاحبه، وبه قال مالك وأهل الحرمين،
وقال أبو حنيفة وأهل العراق يدفع القيمة ولا يجبر على هدم البناء لقوله صلى الله
عليه وسلم: لا ضرر ولا ضرار، فمن ضار أضر الله به، ومن شاق شق الله عليه
وفى أخذه بهدم بنائه أعظم إضرار به. ولقوله صلى الله عليه وسلم: يسروا
ولا تعسروا إني بعثت بالحنيفية السمحة.
وفى أخذ القيمة منه تيسير، وفى هدم بنائه تعسير منهى عنه، ولأنه مغصوب
يستضر برده فلم يجبر عليه كالخيط إذا خاط به جرح حيوان، ولأنه مغصوب
لا يملك رده إلا باستهلاك مال فلم يجب رده كما لو كان في السفينة مال لغير الغاصب
ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " فلزمه رد
اللوح، وروى عبد الله بن مسعود مرفوعا: لا يحل لمسلم أن يأخذ عصا أخيه
بغير طيب نفس منه، وذلك لشدة ما حرم الله مال المسلم على المسلم، وهذا خبر
ظاهره كالنص، ولقوله صلى الله عليه وسلم: إن لصاحب الحق يدا ومقالا،
270

ولان كل مغصوب كان له رده وجب عليه رده كالذي لم يبن عليه طردا، والخيط
في جرح الحيوان عكسا، ولأنه شغل المغصوب بما لا خير فيه له فوجب أن
يلزمه رده، كما لو كانت أرضا فزرعها أو غرسها، ولأنه كل ما لو احتاج ابتداء
إليه لم يجبر مالك عليه، ووجب إذا غصب أن يجبر على رده إليه كالأرض طردا
والخيط للجرح عكسا ولان دخول الضرر على الغاصب لا يمنع من رد المغصوب
كما لو حلف بعتق عبده ألا يرد ما غصبه فإن عليه رد الغصب وعتق العبد.
والجواب عن حديث: لا ضرر ولا ضرار فهو أنه مشترك الدليل، لان في
منع المالك منه إضرارا به فكان دخول الضرر على الغاصب ورفعه عن المغصوب
أولى من دخوله على المغصوب منه في تيسير أمر الغاصب ورفعه عنه والاستهانة
بحق المغصوب وحماية متعلقات الغاصب.
والجواب عن حديث: يسروا ولا تعسروا، فمن وجهين.
(أحدهما) استعماله في المغصوب منه وتيسير أمره برد ماله أولى من استعماله
في الغاصب في تمليكه غير ماله.
(والثاني) أن التيسير معصية، والغاصب عاص لا يجوز التيسير عليه لما فيه
من الذريعة إلى استدامة المعصية. والجواب عن قياسهم على الخيط في جرح
الحيوان فمن وجهين. أحدهما: أنه معارضة الأصل لان المعنى في الخيط أنه ليس
له رده، فلم يجب عليه رده، وفى اللوح له رده. والثاني: أنه إذا احتاج ابتداء
إليه أجبر المالك عليه لحرمة الحيوان وتقديمها على حرمة الملك.
فإذا تقرر أن نقض البناء لرد المغصوب واجب فسواء كان البناء قليلا أو
كثيرا أو سواء كانت قيمة اللوح قليلة أو كثيرة حتى لو كانت قيمة اللوح درهما
وقيمة البناء ألف درهم أخذ بقلعه حتى يخلص اللوح لربه، إلا أن يراضيه على
أخذ ثمنه، ثم إذا استرجع اللوح لزمه أجرة مثله إن كانت له أجرة وأرش نقصه
ان حدث به نقص فإن كان المغصوب حجرا فبنى عليه منارة مسجد أخذ بنقض
المنارة لرد الحجر عليه ثم غرم نقض المنارة للمسجد، وإن كان هو المتطوع ببنائها
لخروج ذلك عن ملكه، وإن كانت السفينة سائرة في البحر، فإن كان اللوح
271

على سطحها أو على مكان مرتفع منها وأمكن أخذه أخذ منها، وإن كان في أسفلها
بحيث لو أخذ منها هلكت وما فيها نظر، فإن كان فيها حيوان لم يجز أن يقلع
صيانة للنفوس سواء كانت آدمية أو عجماء، وسواء كانت العجماوات للغاصب أو
لغيره، لان للحيوان حرمتين، حرمة نفسه وحرمة صاحبه، وإن لم يكن فيها
حيوان وكان فيها مال نظر، فإن كان لغير الغاصب لم يجز أخذ اللوح منها لما في
أخذه من إتلاف مال له حرمة في الحفظ والحراسة وإن كان للغاصب ففيه وجهان
(أحدهما) يؤخذ اللوح منها، وإن تلف مال الغاصب فيها لذهاب حرمته
بتعديه كما يذهب ماله في هدم بنائه.
(والوجه الثاني) أنه لا يجوز أن يؤخذ منها لأنه قد يمكن أخذه بعد الدخول
إلى الشط من غير استهلاك ما فيها من مال، وليس كالبناء الذي لا يقدر على
اللوح إلا بعد استهلاكه، فعلى هذا يقال لرب اللوح: أنت بالخيار بين أن تصبر
باللوح حتى تصل السفينة إلى الشط فتأخذ لوحك وبين أن تأخذ في الموضع قيمة
لوحك، فلو اختلطت السفينة التي فيها اللوح بعشر سفن للغاصب ولم يوصل إليه
إلا بهدم جميعها ففيه وجهان.
أحدهما: تهدم جميعها حتى يوصل إليه.
والوجه الثاني: أنه لا يجوز هدم شئ منها إلا أن يتعين اللوح المغصوب فيه
لأنه لا يجوز أن يستهلك عليه مال إلا بتعيين المتعدى فيه.
فإذا عمل اللوح المغصوب بابا، أو حديدا فعمله درعا لم يملكه في هذه الأحوال
وجعله أبو حنيفة مالكا لذلك بعمله وذلك من أقوى الذرائع والمغريات للاقدام
على المغصوب، وإذا لم يملك الأرض المغصوبة ببنائه وبغرسه فيها والأرض
عندهم غير مغصوبة فلان لا يملك غيرها من المغصوب عندنا وعندهم أولى،
وإذا كان كذلك فللمغصوب منه استرجاعه منه معمولا، ولا شئ للغاصب إلا
أن يكون قطع ركبها أو مسامير أو آلات بأعيانها ركبها فيها، فيسترجعها
ويضمن نقص المغصوب.
(فرع) قال الشافعي: ولو كان خيطا فخاط به ثوبا، وكذلك فان خاط به
272

جرح إنسان أو حيوان ضمن الخيط ولم ينزعه، قال الماوردي: وصورتها فيمن
غصب خيطا فخاط به شيئا فهذا على ضربين.
(أحدهما) أن يكون قد خاط به غير حيوان كالثياب فيؤخذ الغاصب بنزعه
ورده على مالكه وأرش نقصه إن نقص.
(والضرب الثاني) أن يكون قد خاط به حيوانا فعلى ضربين. أحدهما: أن
يكون الحيوان ميتا عند المطالبة بالخيط فينظر، فإن كان الحيوان مما له حرمة
كالآدمي نظر، فإن لم يفحش حاله بعد نزع الخيط منه نزع، وإن فحش لم ينزع
لقوله صلى الله عليه وسلم حرمة ابن آدم حيا كحرمته ميتا. والضرب الثاني: أن
يكون حيا فعلى ضربين.
(أحدهما) أن يكون مباح النفس من آدمي أو بهيمة كالمرتد والخنزير والكلب
العقور فيؤخذ بنزعه لأنه مما لا حرمة لحفاظ نفسه ثم يغرم بعد نزعه أرش نقصه
(والضرب الثاني) أن يكون محظور النفس فعلى ضربين. أحدهما: أن يكون
آدميا فعلى ضربين. أحدهما: أن يخاف من نزعه التلف فيقر الخيط ولا ينزع
سواء كان الغاصب أو غيره لما يلزم من حراسة نفسه بعد غصبه، فأولى أن يجبر
على تركه فعلى هذا يغرم قيمته.
والضرب الثاني: أن يأمن التلف، فهذا على ضربين (أحدهما) أن يأمن
الضرر وشدة الألم فهذا ينزع منه ويرد على مالكه مع أرش نقصه.
(والضرب الثاني) أن يخاف ضررا أو شدة ألم وتطاول مرض إلخ اه‍.
قلت: ومثل الخيط شاش الجبائر والجص وجميع ما يستعمل في الجراح
والكسور والرضوض لدى الأطباء والصيدلانية، وكذلك جسور الأسنان
والأضراس الصناعية وأسلاكها وأقماعها وبدائلها فإنها جميعا عليها ما مضى من
حكم الخيط نزعا وضررا وحرمه للمستفيد منها والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن غصب من رجل شيئا ثم رهنه عنده أو أودعه أو آجره منه
وتلف عنده فان علم أنه له برئ الغاصب من ضمانه لأنه أعاده إلى يده وسلطانه،
273

وان لم يعلم ففيه وجهان (أحدهما) أنه يبرأ الغاصب من الضمان لأنه عاد إلى يده
(والثاني) لا يبرأ لأنه لم يعد إلى سلطانه، وإنما عاد إليه على أنه أمانة عنده، وان
باعه منه برئ من الضمان علم أو لم يعلم، لان قبضه بابتياع يوجب الضمان فبرئ
به الغاصب من الضمان.
(فصل) وان غصب شيئا فرهنه المالك عند الغاصب لم يبرأ الغاصب،
وقال المزني: يبرأ لأنه أذن له في امساكه فبرئ من الضمان كما لو أودعه،
والمذهب الأول، لان الرهن يجتمع مع الضمان وهو إذا رهنه شيئا فتعدى فيه
فلا ينافي الضمان.
(فصل) وان غصب حرا وحبسه ومات عنده لم يضمنه لأنه ليس بمال
فلم يضمنه باليد وان حبسه مدة لمثلها أجرة فان استوفى فيها منفعته لزمته الأجرة
لأنه أتلف عليه ما يتقوم فلزمه الضمان كما لو أتلف عليه ماله أو قطع أطرافه،
وان لم يستوف منفعته ففيه وجهان.
(أحدهما) تلزمه الأجرة لان منفعته تضمن بالإجارة فضمنت بالغصب
كمنفعة المال (والثاني) لا تلزمه لأنها تلفت تحت يده فلا يضمنه الغاصب
بالغصب كأطرافه وثياب بدنه.
(فصل) وان غصب كلبا فيه منفعة لزمه رده على صاحبه لأنه يجوز اقتناؤه
للانتفاع به فلزمه رده فان حبسه مدة لمثلها أجرة، فهل تلزمه الأجرة فيه وجهان
بناء على الوجهين في جواز اجارته.
(فصل) وان غصب خمرا نظرت، فان غصبها من ذمي لزمه ردها عليه
لأنه يقر على شربها فلزمه ردها عليه وان غصبها من مسلم ففيه وجهان.
أحدهما: يلزمه ردها عليه لأنه يجوز أن يطفئ بها نارا أو يبل بها طينا
فوجب ردها عليه.
والثاني: لا يلزمه وهو الصحيح، لما روى أن أبا طلحة رضي الله عنه سأل
رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرا فأمره صلى الله عليه وسلم
أن يهرقها فان أتلفها أو تلفت عنده لم يلزمه ضمانها، لما روى ابن عباس رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله تعالى إذا حرم شيئا حرم ثمنه،
274

ولان ما حرم الانتفاع به لم يضمن ببدل كالميتة والدم فإن صار خلا لزمه
رده على صاحبه لأنه صار خلا على حكم ملكه فلزمه رده إليه فإن تلف ضمنه
لأنه مال للمغصوب منه تلف في يد الغاصب فضمنه.
(فصل) وان غصب جلد ميتة لزمه رده لان له أن يتوصل إلى تطهيره
بالدباغ فوجب رده عليه فإن دبغه الغاصب ففيه وجهان أحدهما يلزمه رده كالخمر
إذا صار خلا والثاني لا يلزمه لأنه بفعله صار مالا فلم يلزمه رده
(فصل) وان غصب صليبا أو مزمارا لم يلزمه شئ لان ما أزاله
لا قيمة له والدليل عليه ما روى جابر رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
يوم فتح مكة أن الله تعالى حرم بيع الخمر وبيع الخنازير وبيع الأصنام وبيع الميتة
فدل على أنه لا قيمة له وما لا قيمة له لا يضمن فان كسره نظرت فا كان إذا فصله
يصلح لمنفعة مباحة وإذا كسره لم يصلح لزمه ما بين قيمته مفصلا ومكسورا لأنه
أتلف بالكسر ماله قيمة فلزمه ضمانه فإن كان لا يصلح لمنفعة مباحة لم يلزمه
شئ لأنه لم يتلف ماله قيمة.
(الشرح) الأحكام: إذا غصب جوهرة فابتلعتها بهيمة فقال أصحابنا حكمها
حكم الخيط الذي خاط به جرحها، ويحتمل أن الجوهرة متى كانت أكثر من
قيمة الحيوان ذبح الحيوان وردت إلى مالكها، وضمان الحيوان على الغاصب
وفارق الخيط لأنه أقل قيمة من الحيوان والجوهرة أكثر قيمة ففي ذبح الحيوان
رعاية حق المالك برد عين ماله ورعاية حق الغاصب بتقليل الضمان عليه. وإن
ابتلعت شاة رجل جوهرة آخر غير مغصوبة ولم يمكن إخراجها إلا ذبحها ذبحت
إذا كان ضرر ذبحها أقل، وكان ضمان نقصها على صاحب الجوهرة لأنه
لتخليص ماله، إلا أن يكون التفريط من صاحب الشاة يكون يده عليها فلا شئ
على صاحب الجوهرة لان التفريط من صاحب الشاة.
فإذا مرت بهيمة رجل في سوق فأتلفت جوهرة رجل قال الماوردي في
الحاوي والعمراني في البيان والروياني في البحر ما حاصله: لم يخل حال البهيمة
من أن يكون معها مالكها أو لا، فإن لم يكن معها فلا ضمان عليه في الجوهرة،
275

لأنه غير ضامن لما جنته، فلو سأله صاحب الجوهرة بيع البهيمة ليتوصل منها
إلى جوهرته، أو صيرورتهما معا في ملكه لم يجبر المالك على البيع.
وقال أبو حنيفة: إن كانت قيمة الجوهرة أكثر من قيمة البهيمة أجبر
صاحبها على أخذ قيمتها وإن كانت قيمة الجوهرة أقل لم يجبر. وهذا فاسد،
استدلالا بقياسين أحدهما: أن ما لا يستحق تملكه باستهلاك الأقل لم يستحق
تملكه باستهلاك الأكثر قياسا على كسرها إناء أو أكلها طعاما - والثاني -
أنه لا يستحق تملكه مع تلف شئ لم يستحق تملكه مع بقائه، قياسا على
ما قيمته أقل.
وإن كان صاحبها معها كان ضامنا لها عندنا سواء كانت البهيمة شاة أو بعيرا
وقال أبو علي بن أبي هريرة: إن كانت البهيمة بعيرا ضمن، وإن كان شاة لم
يضمن، وفرق بينهما بأن المألوف في البعير النفور فلزم منعه ومراعاته، والمألوف
في الشاة السكون فلم يلزم منعها ومراعاتها. وهذا خطأ عند الأصحاب لان سقوط
مراعاة الشاة إنما كان لان المعهود منها السلامة، فإذا أفضت إلى غير السلامة
لزم الضمان كما أبيح للرجل ضرب زوجته وللمعلم ضرب الصبي لان عاقبته
السلامة، فإذا أفضى إلى التلف ضمنا، فإذا ثبت أن ذلك مضمون عليه نظر في
البهيمة فإن كانت غير مأكولة اللحم غرم القيمة لتحريم ذبحها وتعذر الوصول
إليها، وإن كانت مأكولة اللحم فعلى قولين. أحدهما: تذبح عليه وتؤخذ
الجوهرة من جوفها، والثاني: لا يجوز ذبحها وتؤخذ منه قيمة الجوهرة. فعلى
هذا لو ماتت البهيمة أو ذبحها لمأكله فوصل إلى الجوهرة رجع بها المالك ورد
ما أخذه من القيمة:
ولنا بناء على ما تقدم، وعلى ما وصل إليه الطب من عمل البنج للحيوان
واجراء جراحة بيطرية لاستخراج الجوهرة أنه يجوز ذلك ويبذل صاحب
الجوهرة مؤونة الجراحة والنقاهة حتى تبرأ، فإذا كان صاحبها مفرطا كان عليه
ذلك. فإذا كان صاحب البهيمة مغتصبا للجوهرة على ما بنى المصنف فصله
فالضمان عليه.
276

(فرع) إذا تبايعا بهيمة وابتلعت ثمنها فهذا على ضربين (أحدهما) أن يكون
ذلك بعد قبض الثمن فالبيع صحيح، سواء كان الثمن معينا أو في الذمة أجراه
المشترى منه بالدفع، ثم ينظر في البهيمة فإن كانت في يد البائع فالثمن غير مضمون
لان ما جنته في يده مضمون عليه والثمن ملك له. وعليه تسليم البهيمة، فان قدر
على الثمن بموت أو ذبح اختاره المشترى لمأكلة رد على البائع
وإن كانت البهيمة في يد المشترى فالثمن مضمون عليه للبائع، فإن كانت غير
مأكولة غرم مثله، وإن كانت مأكولة اللحم فهل تذبح لاخذ الثمن منها أم لا؟
على ما مضى من القولين.
والضرب الثاني: أن تبتلع الثمن قبل قبضه فهذا على ضربين (أحدهما) أن
يكون في الذمة لم يتعين بالعقد فالبيع لا يبطل، وهو باق في ذمة المشتري.
ثم ينظر، فإن كانت البهيمة عند ذلك في يد المشترى فما ابتلعته غير مضمون على
واحد منهما. أما البائع فلزوال يده بالتسليم. وأما المشترى فلانه ماله، وجناية
البهيمة من ضمانه، وإن كانت في يد البائع فهو مضمون عليه، فإن كانت البهيمة
مما لا تؤكل لزمه غرم مثله. فعلى هذا يكون له الثمن وعليه مثله.
وإن كانت البهيمة مأكولة فهل تذبح أم لا. على القولين، فان قيل لا تذبح
لزمه غرم مثل الثمن وتقاضاه، ولا خيار للمشترى في فسخ البيع لان ذبح البهيمة
قد استحق في يد البائع، وذلك عيب حادث وهو مضمون عليه فلأجله ما استحق
المشترى خيارا به. وإن كان هو المستحق لما أوجب العيب
والضرب الثاني: أن يكون الثمن معيبا فهذا على ضربين
(أحدهما) أن تكون البهيمة غير مأكولة فالبيع باطل، لان تلف الثمن
المعين قبل قبضه فبطل البيع وهو متعذر القدرة عليه كالتالف. ثم ينظر فإن كان
ت البهيمة في يد المشترى فهو تالف من ماله والبائع غير ضامن له وعلى المشترى
رد البهيمة على البائع، فان قدر على الثمن بموتها رد على المشترى، وإن كانت في
يد البائع فالثمن مضمون عليه ويغرم مثله
(فرع) إن غصب فصيلا - وهو ولد الناقة سمى بذلك لفصله عن أمه - فأدخله
277

حظيرته فكبر حتى استحال خروجه من باب الحظيرة، أجبر على نقض الباب
أو البناء لرد الفصيل على ما مضى من نقض السفينة لرد اللوح ونقض المنارة لرد
الحجر. أما إذا دخل الفصيل إلى داره من غير تفريط منه بأن دخل الحظيرة
فاختلط بفصلانها وكبر وتعذر إخراجه من الحظيرة، نقض الباب أو البناء وعلى
صاحب الفصيل إعادة الباب أو الحائط كما كان
فإذا مرت بهيمة بقدر فول فأدخلت رأسها فيه فلم يخرج الا بكسر القدر
أو ذبح البهيمة فلا يخلو حالهما من أربعة أقسام (أحدها) أن يكون صاحب القدر
متعديا في وضعها في غير حق - بأن أشغل بها الطريق وعرضها لطريق المارة
مكشوفة بغير غطاء ولا حراسة - وكان صاحب البهيمة غير متعد فالواجب
كسر القدر لتخليص البهيمة.
والقسم الثاني: أن يكون صاحب البهيمة متعديا لادخالها في غير حق وصاحب
القدر غير متعد فيكون تخليص البهيمة مضمونا على صاحبها لتعديه بها، فإن
كانت مما لا يؤكل كسرت القدر لان لنفس البهيمة حرمة في حراستها، ثم كسر
القدر مضمونا على صاحبها، وإن كانت مما تؤكل فعلى قولين بناء على جواز ذبحها
في تخليص ما جنته.
(أحدهما) تذبح ويخرج رأسها من القدر ولا يجوز كسرها.
والقول الثاني: لا يجوز ذبحها وتكسر القدر لتخليص رأسها ثم يضمن أرش
كسرها. والقسم الثالث: أن يكون كل واحد منهما غير متعد فالتخليص مضمون
على صاحب البهيمة لا بالتعدي ولكن لاستصلاح ملكه وعليه ضمان مؤونة ذلك
فإن لم تكن البهيمة مأكولة كسرت القدر وضمن كسرها، فإن كانت مأكولة فعلى
قولين، في ذبحها أو كسر القدر وضمانه على صاحبها
والقسم الرابع: أن يكون كل واحد منهما متعديا فالتخليص مضمون عليهما
لاشتراكهما في التعدي كالمتصادمين، فإن كانت البهيمة غير مأكولة كسرت القدر
وضمن صاحب البهيمة نصف الكسر وأهدر النصف الباقي، وإن كانت مأكولة
فان قيل لا يجوز ذبحها كسرت القدر وضمن صاحب البهيمة أرش القدر كله
لا نصفه. فان قال صاحب القدر: بل تذبح البهيمة لاضمن نصف النقص
278

في ذبحها نظر البادئ منهما بطلب التخليص، فجعل ذلك في جنبته.
(فرع) وإن غصب دينارا أو جوهرة فوقع أو ألقاها في محبرته أو أخذ
دينارا لغيره فسها فوقع في محبرة كسرت ورد الدينار أو الجوهرة كما ينقض البناء
أو تهدم السفينة لرد اللوح على ما مضى. وكذلك إن كان درهما أو أقل منه.
وإن وقع من غير فعله كسرت لرد الدينار إن أحب صاحبه والضمان
عليه لأنه لتخليص ماله.
وإن غصب دينارا فوقع في محبرة آخر بفعل الغاصب أو غير فعله كسرت
لرده وعلى الغاصب ضمان المحبرة لأنه السبب في كسرها، وإن كان كسرها أكثر
ضررا من تبقية الواقع فيها ضمنه الغاصب ولم تكسر. وإن رمى إنسان ديناره في
محبرة غيره عدوانا فأبى صاحب المحبرة كسرها لم يجبر عليه لان صاحبه تعدى
برميه فيها فلم يجبر صاحبها على إتلاف ماله لإزالة ضرر عدوانه عن نفسه وعلى
الغاصب نقص المحبرة بوقوع الدينار فيها وما ترتب على قذف الدينار من رشاش
الحبر على الأوراق أو الكتب أو الثياب فعليه ضمان قيمته تالفا أو أرشه معيبا،
وأجاز أصحاب أحمد إجبار مالك المحبرة على كسرها لرد دينار الغاصب وتضمين
الغاصب قيمة المحبرة.
(فرع) قال الشافعي ولو باعه عبدا وقبض المشترى ثم أقر البائع أنه غصبه
من رجل، فإن أقر المشترى نقضنا البيع ورددناه إلى ربه، وقال في موضع آخر
وإن باعه وقبضه المشترى ثم أعتقه فقامت بينة بغصبه وكان المغصوب أو ورثته
قياما رد العتق لان البيع كان فاسدا ويرد إلى المغصوب. وإن لم تكن بينة وصدق
الغاصب والمشترى المدعى أنه غصبه لم يقبل قول واحد منهما في العتق ومضى العتق ورددنا
المغصوب على الغاصب بقيمة العبد في أكثر ما كان قيمة. وقال: ولو كان
المشترى أعتقه ثم أقر هو والبائع أنه للمغصوب منه لم يقبل قول واحد منهما في
رد العتق وللمغصوب القيمة إن شاء أخذناها له من المشترى المعتق، ويرجع
المشترى المعتق على الغاصب بما أخذ منه لأنه أقر أنه باعه مالا يملك، وهذا كما
قال: إذا كان مشترى العبد قد أعتقه ثم أحضر من ادعاه ملكا وأن البائع أخذه
غصبا كلف البينة قيل سؤالهما. اه‍
279

والعبد المغصوب بعد عتقه من مبتاعه له حق الله تعالى في الحرية، فلا يعاد
إلى مالكه وإنما تعاد قيمته كأي شئ اغتصبه ثم باعه وتلف في يد المشترى، فان
المالك يرجع على الغاصب أو المشترى. وللمشتري أن يرجع على البائع لأنه غره
فإن كان عالما بالغصب لم يرجع على الغاصب.
(فرع) ينبنى على ما تقدم أنه إذا غصب طعاما فأطعمه غيره فللمالك تضمين
أيهما شاء، لان الغاصب حال بينه وبين ماله، والآكل أتلف مال غيره بغير اذنه
وقبضه عن يد ضامنة بغير اذن مالكه، فإن كان الآكل عالما بالغصب استقر
الضمان عليه لكونه أتلف مال غيره بغير اذن عالما من غير تغرير، فإذا ضمن
الغاصب رجع عليه.
قال الشافعي: ولو غصب طعاما فأطعمه من أكله ثم استحق كان المستحق
أخذ الغاصب به، فان غرمه فلا شئ للواهب على الموهوب له، وان شاء أخذ
الموهوب له، فان غرمه فقد قيل يرجع على الواهب وقيل لا يرجع به. قال
المزني أشبه بقوله: ان هبة الغاصب لا معنى لها وقد أتلف الموهوب له ما ليس له
ولا للواهب فعليه غرمه ولا يرجع به، فان غرمه الغاصب رجع به عليه. وهذا
عندي أشبه بأصله.
وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين يتضمن كل قسم منها ثلاثة أنواع:
فأما القسم الأول فأول أنواعه أن يهبه فيأكله الموهوب له، فرب الطعام
بالخيار بالرجوع على أيهما شاء
(ثانيها) وهو أن يأذن له في أكله من غير هبة ولا اقباض، فان علم الآكل
أنه مغصوب كان مضمونا عليه وربه أيضا بالخيار لتغريم أيهما شاء، فان أغرم
الآكل فقد اختلف أصحابنا، فذهب البغداديون إلى أن في رجوعه على الغاصب
قولين. وذهب البصريون إلى الرجوع به قولا واحدا. والفرق بين الآكل
والموهوب له أن استهلاك الاكل بإذن الغاصب فرجع عليه، وأن استهلاك
الموهوب له بغير اذنه فلم يرجع عليه، فان رجع المالك على الغاصب يكون رجوعه
فعلى مذهب البغداديين يكون رجوعه بالغرم على الآكل على قولين وعلى مذهب
البصريين لا يرجع به قولا واحدا
280

وثالثها: أن يطعمه بهيمة رجل فهذا على ضربين (أحدهما) أن يكون ذلك
بغير أمر مالك البهيمة فهو مضمون على الغاصب وحده، ويرجع به المالك على
الغاصب ولا يرجع على مالك البهيمة، فإن أعسر به الغاصب فلا شئ له في رقبة
البهيمة أو مالكها لان المتلف هو الغاصب، وإن كان إطعامها بأمر مالكها نظر،
فإن علم بأنه مغصوب عند أمره ضمن ومالك الطعام بالخيار أن يرجع على أيهما
شاء وليس للغاصب إذا غرم أن يرجع على الآمر إذا لم يعلم ويرجع إذا علم ويجرى
عليه حكم الآكل والموهوب له من الاذن وعدمه.
وأما القسم الثاني فمصور في الأنواع الثلاثة الآتية: إذا وهب الغاصب الطعام
لمالكه فأكله فإن علم حين الاكل أنه طعامه لم يرجع بغرمه على الغاصب وان لم
يعلم فعلى قولين.
والنوع الثاني: أن يأذن الغاصب لرب الطعام في أكله فإن علم حين الاكل
أنه طعامه لم يرجع بغرمه، وان لم يعلم فعلى قول البغداديين يكون رجوعه على
قولين وعلى قول البصريين يرجع به قوله واحدا.
والنوع الثالث: أن يطعمه بهيمة رب الطعام فإن كان بغير أمره رجع عليه
بغرمه، وإن كان بأمره فان علم لم يرجع، وان لم يعلم فان دفعه إليه كان رجوعه
على قولين، كما لو وهبه له، وإن لم يدفعه إليه كان على اختلاف المذهبين كما لو
أطعمه إياه، فلو باع الغاصب الطعام على مالكه وهو يعلم أو لا يعلم فتلف في يده
بعد قبضه أو لم بتلف كان المالك بريئا من الثمن والغاصب بريئا من الضمان،
وذهب المصنف إلى أنه إذا علم فيه قولان على ما أوضح والله أعلم.
(فرع) إذا أودع العبد عند مالكه أو رهنه إياه أو كان مما يستأجر فأجره
وقبضه منه بالوديعة أو بالرهن أو بالأجرة ثم تلف عنده نظر، فان علم بعد قبضه
أنه ماله برئ العبد من ضمانه، وان لم يعلم نظر، فإن كان تلفه على وجه يوجب
الضمان على المودع والمرتهن المستأجر برئ الغاصب من ضمانه لكونه مضمونا
281

عليه، وإن كان تلفه على وجه لا يوجب الضمان في هذه الأحوال، ففي براءة
الغاصب منه وجهان.
أحدهما: يبرأ منه لعودته إلى يد مالكه.
والوجه الثاني: لا يبرأ منه لان خروجه من يده اما نيابة عنه أو أمانة منه،
فلم تزل يده فكان على ضمانه. فلو أن الغاصب خلطه بمال المالك فتلف والمالك
لا يعلم به، فإن لم يكن المال في يد المالك فالضمان باق على الغاصب، وإن كان
في يده فان تلف باستهلاك المالك برئ منه الغاصب، وان تلف بعد استهلاكه
كان في براءته منه وجهان.
وأما حبس الحر سواء عاش أو مات فسوف يأتي حكمه إن شاء الله تعالى في
الجنايات والحدود.
وأما كلب المنفعة ككلب الصيد أو الحراسة، فإنه يجرى فيه ما يجرى في
البهائم المستأجرة لظهرها أو لعملها في الحقول والفارق أنها غير مأكولة كبعض
الدواب التي لا تؤكل.
(فرع) قال الشافعي: فان أراق له - أي للذمي - خمرا أو قتل له خنزيرا
فلا شئ عليه ولا قيمة لمحرم لأنه لا يجرى على ملك. أما التملك بالخمر والخنزير
فمعصية، والقول فيها كالقول في الصليب ولا شئ على متلفها مسلما كان أو
ذميا على مسلم أتلفه أو على ذمي، ويعذران باتلافه على منازلهم أو بيعهم.
وقال أبو حنيفة: ان أتلفها على مسلم لم يضمن المتلف مسلما كان أو ذميا،
وان أتلفها على ذمي ضمنها المتلف مسلما كان أو ذميا، فإن كان مسلما ضمن قيمة
الخمر والخنزير، وإن كان ذميا ضمن مثل الخمر وقيمة الخنزير استدلالا من
وجوب ضمانها للذمي بما روى أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أبى موسى الأشعري
والى سمرة بن جندب في خمور أهل الذمة أن لهم بيعها، وخذ العشر من أثمانها.
فكان الدليل من وجهين. أحدهما: أن جعل لها أثمانا والعقد عليها صحيحا،
والثاني: أخذ العشر منها، ولو حرمت أثمانها لحرم عشرها، قال: ولأنه معمول
في عرفهم فوجب أن يكون مضمونا باتلافه عليهم قياسا على غيره من أموالهم،
282

قالوا: ولأنه من أشربتهم المباحة فوجب أن يكون مضمونا بإتلافه عليهم
كسائر الأشربة، قالوا: ولان ما كان متمولا عند مالكه ضمن بالاتلاف وإن
لم يتمول عند متلفه قياسا على المصحف إذا أتلفه ذمي على مسلم.
ودليلنا ما رواه ابن أبي حبيب عن عطاء عن جابر قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم فتح مكة: ان الله حرم عليكم ورسوله بيع الخمر وبيع الخنزير وبيع
الأصنام وبيع الميتة، فقال رجل يا رسول الله ما ترى في شحومها فإنها
يدهن بها السفن ويستصبح بها فقال: قاتل الله اليهود حرم عليهم شحومها فجملوها
فباعوها فدل تحريمه لبيعه على تحريم ثمنه وقيمته، ولان المرجوع في كون الشئ
مالا إلى صفته لا إلى صفة مالكه، لان صفات الشئ قد تختلف فيختلف حكمه
في كونه مالا ويختلف مالكوه. فلا يختلف حكمه في كونه مالا كالحيوان هو
مال لمسلم وكافر ثم لو مات خرج من أن يكون مالا لمسلم أو كافر ثم لو دبغ جلده
صار مالا لمسلم وكافر، فلما لم يكن الخمر والخنزير مالا لمسلم أو كافر ثم لو دبغ جلد
الميتة صار مالا لمسلم وكافر. ويتحرر من هذا قياسان:
أحدهما. أن كل ما ليس مالا مضمونا في حق المسلم لم يكن مالا مضمونا في
حق الكافر كالميتة والدم، وإن شئت قلت. كل عين لم يصح أن تشتغل ذمة المسلم
بثمنها لم يصح أن تشتغل ذمة المسلم بقيمتها أصله ما ذكرنا.
والثاني. أن ما لم يستحقه المسلم من عوض الحكم لم يستحقه الكافر كالثمن،
ولأنه شراب مسكر فوجب أن لا يستحق على متلفه قيمته، ولان ما استبيح
الانتفاع به من الأعيان النجسة إذا لم يملك الاعتياض عليه كالميتة: فما حرم
الانتفاع به من الخمر والخنزير أولى أن لا يملك الاعتياض عليه، وتحريره قياسا
أن ما حرم نفعا فأحرى أن يحرم عوضا من كافر على مسلم.
وأما الجواب عن حديث عمر وقوله. ولهم بيعها وخذ العشر من أثمانها
فمن وجهين.
أحدهما. أن معناه أن ولهم ما تولوه من بيعها، ولا يعترض عليهم فيما
283

استباحوه منها، وخذ العشر من أثمانها أي من أموالهم وان خالطت أثمانها بدليل
ما أجمعنا عليه من بطلان ثمنها.
والثاني. أنه محمول على العصير الذي يصير خمرا من باب اطلاق اسم ما سيؤول
إليه عليه قال تعالى. " وقال إني أرى في المنام أنى أراني أعصر خمرا " وتحريم
بيعها خمرا متفق عليه بيننا وبينهم كاتفاقنا على اباحته عصيرا. وأما كونه م‍؟؟ ولا
في عرفهم فمنتقض بموقوذة المجوس والعبد المرتد.
ولنا أدلة من السنة تفحم كل ذي مراء فحديث أنس عن أبي طلحة الذي ساقه
المصنف هنا ورجال اسناده وأصله في صحيح مسلم ورواه الترمذي والدارقطني
بلفظ. يا رسول الله انى اشتريت خمرا لأيتام في حجري فقال: أهرق الخمر
واكسر الدنان. وأخرجه أحمد وأبو داود
وحديث ابن عمر. أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن آتيه بمدية وهي الشفرة فأتيته بها
فأرسل بها فأرهفت ثم أعطانيها وقال أغد على بها ففعلت فخرج بأصحابه إلى
أسواق المدينة وفيها زقاق الخمر قد جليت من الشام، فأخذ المدية منى فشق ما كان
من تلك الزقاق بحضرته ثم أعطانيها، وأمر الذين كانوا معه أن يمضوا معي
ويعاونوني وأمرني أن آتي الأسواق كلها فلا أجد فيها زق خمر الا شققته
ففعلت فلم أترك في أسواقها زقا الا شققته " رواه أحمد وأشار إليه الترمذي وذكره
الحافظ ابن حجر في الفتح معزوا إلى أحمد
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد. انه رواه باسنادين في أحدهما أبو بكر بن أبي
مريم وقد اختلط وفى الاخر أبو طعمة وقد وثقه محمد بن عبد الله بن عمار
الموصلي وبقية رجاله ثقات. وقد ترجم له البخاري في صحيحه فقال. باب هل تكسر
الدنان التي فيها خمر وتخرق الزقاق. ويعلق ابن حجر على هذا فينفي أن المراد
بهذا اتلاف الأواني وإنما المقصود إراقة الخمر واهدار جرمها، واتلاف الآنية
جاء تبعا لذلك عقوبة لأصحابها.
284

(فرع) قال الشافعي: ولو كسر لنصراني صليبا، فإن كان لشئ من المنافع
مفصلا فعليه ما بين قيمته مفصلا أو مكسورا وإلا فلا شئ عليه. أما الصليب
فموضوع على معصية لزعمهم أن عيسى صلى الله عليه وسلم قتل وصلب على مثله
فاعتقدوا إعظامه طاعة والتمسك به قربة، وقد أخبر الله تعالى بتكذيبهم فيه
ومعصيتهم به، ولا يجوز أن يقتحم أحد بيعهم وكنائسهم ولا أن يعطل لهم
طقوسهم ما داموا لا يظهرون بها تحديا ولا يجاهرون بها إغاظة ولا يعد هذا إقرارا
منا على ما يعتقدونه فان جاهرونا بصليبهم نظر، فإن كان الامام قد شرط عليهم
في عقد جزيتهم ترك المجاهرة به جاز في الانكار عليهم تفصيل الصليب وكسره
رفعا لما أظهروه من مخالفة عقد الذمة، وإن لم يشترط ذلك عليهم وجب
الاقتصار على الانكار في حال المجاهرة ولا يتجاوز الانكار إلى كسره، وقد حمى
الاسلام الحنيف أهل الذمة وعاشت في ظله ديانات اليهود والنصارى بعد أن كان
يضطهد بعضهم بعضا، ويقتل بعضهم بعضا فأقر بينهم السكينة والوئام والسلام
وترك لهم حرية الاعتقاد عملا بقوله تعالى " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون
الدين كله لله ".
وباغ من تسامح المسلمين وحسن معاملتهم أن الكنائس التي فر أهلها إلى
الصحارى القصية وشعف الجبال ومغاراتها أخذوا يبنونها في المدن والقرى،
بل إن المجاهدين من السلف كانوا يتخيرون أحيانا المواقع التي بها كنيسة مثلا
فيتخذون من جوارها مدينة يتخذونها حاضرة أو عاصمة لحكمهم كمدينة تونس
بكسر النون قولا واحدا سميت كذلك لان عقبة بن نافع الفهري فاتح المغرب كان يسمع
قرب معسكر أنعام القسس وهم يترنمون في الليل بترانيمهم فقال هذه البقعة تونس
بحذف الهمزة فسميت بذلك.
قال المصنف رحمه الله تعالى.
(فصل) وان فتح قفصا عن طائر نظرت، فان نفره حتى طار ضمنه لان
تنفير الطائر بسبب ملجئ إلى ذهابه فصار كما لو باشر اتلافه وان لم ينفره نظرت
فان وقف ثم طار لم يضمنه لأنه وجد منه سبب غير ملجئ ووجد من الطائر
285

مباشرة والسبب إذا لم يكن ملجئا واجتمع مع المباشرة سقط حكمه، كما لو حفر
بئرا فوقع فيها إنسان باختياره، فإن طار عقيب الفتح ففيه قولان
(أحدهما) لا يضمن لأنه طار باختياره فأشبه إذا وقف بعد الفتح ثم طار.
(والثاني) يضمن لان من طبع الطائر النفور ممن قرب منه، فإذا طار عقيب
الفتح كان طيرانه بنفوره منه فصار كما لو نفره
(فصل) وإن وقع طائر لغيره على جدار فرماه بحجر فطار لم يضمنه،
لان رميه لم يكن سببا لفواته، لأنه قد كان ممتنعا وفائتا من قبل أن يرميه، فإن
طار في هواء داره فرماه فأتلفه ضمنه، لأنه لا يملك منع الطائر من هواء داره
فصار كما لو رماه في غير داره
(فصل) وإن فتح زقا فيه مائع فخرج ما فيه نظرت، فإن خرج في الحال
ضمنه، لأنه كان محفوظا بالوكاء فتلف بحله فضمنه. وإن خرج منه شئ فابتل
أسفله أو ثقل به أحد جانبيه فسقط وذهب ما فيه ضمنه، لأنه ذهب بعضه بفعله
وبعضه بسبب فعله فضمنه، كما لو قطع يد رجل فمات منه، وإن فتحه ولم يخرج
منه شئ ثم هبت ريح فسقط وذهب ما فيه لم يضمن، لان ذهابه لم يكن بفعله فلم
يضمنه، كما لو فتح قفصا عن طائر فوقف ثم طار، أو نقب حرزا فسرق منه
غيره، وان فتح زقا فيه جامد فذاب وخرج ففيه وجهان:
(أحدهما) لا يضمنه، لأنه لم يخرج عقيب الحل، فصار كما لو كان مائعا
فهبت عليه الريح فسقط.
(والثاني) أنه يضمن وهو الصحيح، لان الشمس لا توجب الخروج، وإنما
تذيبه والخروج بسبب فعله فضمنه كالمائع إذا خرج عقيب الفتح
وإن حل زقا فيه جامد وقرب إليه آخر نارا فذاب وخرج، فقد قال بعض
أصحابنا: لا ضمان على واحد منهما، لان الذي حل الوكاء لم توجد منه عند فعله
جناية يضمن بها وصاحب النار لم يباشر ما يضمن فصارا كسارقين نقب أحدهما الحرز
وأخرج الآخر المال، فإنه لا قطع على واحد منهما، وعندي أنه يجب الضمان
على صاحب النار، لأنه باشر الاتلاف بإدناء النار فصار كما لو حفر رجل بئرا
286

ودفع فيها آخر إنسانا، وأما السارق فهو حجة عليه، لأنا أوجبنا الضمان على من
أخرج المال فيجب أن يجب الضمان ههنا على صاحب النار. وأما القطع فلا يجب
عليهما، لأنه لا يجب القطع إلا بهتك الحرز، والذي أخذ المال لم يهتك الحرز
والضمان يجب بمجرد الاتلاف وصاحب النار قد أتلف فلزمه الضمان
(فصل)
وإذن فتح زقا مستعلى الرأس فاندفع ما فيه فخرج فجاء آخر فنكسه حتى تعجل
خروج ما فيه، ففيه وجهان.
(أحدهما) يشتركان في ضمان ما خرج بعد التنكيس كالجارحين (والثاني) أن
ما خرج بعد التنكيس يجب على الثاني كالجارح والذابح
(فصل) وإن حل رباط سفينة فغرقت نظرت، فإن غرقت في الحال ضمن
لأنها تلفت بفعله، وإن وقفت ثم غرقت، فإن كان بسبب حادث كريح هبت لم
يضمن، لأنها غرقت بغير فعله. وان غرقت من غير سبب حادث ففيه وجهان
(أحدهما) لا يضمن، كالزق إذا ثبت بعد فتحه ثم سقط (والثاني) أنه يضمن،
لأن الماء أحد المتلفات.
(فصل) إذا أجج على سطحه نارا فطارت شرارة إلى دار الجار فأحرقتها،
أو سقى أرضه فنزل الماء إلى أرض جاره فغرقها، فإن كان الذي فعله ما جرت به
العادة لم يضمن لأنه غير متعد، وان فعل ما لم تجر به العادة بأن أجج من النار
ما لا يقف على حد داره أو سقى أرضه من الماء ما لا تحتمله ضمن لأنه متعد
(فصل) إذا ألقت الريح ثوبا لانسان في داره لزمه حفظه. لأنه أمانة حصلت
تحت يده، فلزمه حفظها كاللقطة، فان عرف صاحبه لزمه إعلامه، فإن لم يفعل
ضمنه، لأنه أمسك مال غيره بغير رضاه من غير تعريف فصار كالغاصب. وان
وقع في داره طائر لم يلزمه حفظه ولا إعلام صاحبه، لأنه محفوظ بنفسه، فان
دخل إلى برج في داره طائر فأغلق عليه الباب نظرت، فان نوى إمساكه على نفسه
ضمنه لأنه أمسك مال غيره فضمنه كالغاصب، وان لم ينو إمساكه على نفسه لم
يضمنه لأنه يملك التصرف في برجه فلا يضمن ما فيه.
287

(الشرح) الأحكام: قال الشافعي: ولو حل دابة أو فتح قفصا عن طائر
فوقف ثم ذهب لم يضمن لأنهما أحدثا الذهاب
وصورة ذلك أن رجلا حل دابة مربوطة أو فتح قفصا عن طائر محبوس
فشردت الدابة وطار الطائر، فهذا على ضربين
(أحدهما) أن يكون شرود الدابة وطيران الطائر بتهييجه وتنفيره، فعليه
الضمان إجماعا، وإنما لزمه الضمان وإن كان الحل سببا والطيران مباشرة لأنه قد
ألجأه بالتنفير والتهييج إلى الطيران، وإذا انضم إلى السبب إلجاء تعلق الحكم
بالمسبب الملجئ سقط حكم الفاعل كالشاهدين على رجل بالقتل إذا اقتص منه
الحاكم بشهادتهما ثم رجعا تعلق الضمان عليهما دون الحاكم، لأنهما الجاه بالشهادة
فسقط حكم المباشرة
(والثاني) أن لا يكون منه تهييج ولا تنفير فللدابة والطائر حالتان:
(إحداهما) إن مكثا بعد حل الرباط وفتح القفص زمانا فلا ضمان عليه
لانفصال السبب عن المباشرة. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: عليه الضمان.
وكذلك قال أحمد.
والحال الثانية: أن تشرد الدابة ويطير الطائر في الحال من غير لبث، ففي
الضمان لأصحابنا وجهان:
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة: عليه
الضمان لاتصاله بالسبب. وهو قول أبي حنيفة (والثاني) وهو ظاهر نص الشافعي
في كتاب اللقطة: لا ضمان عليه لعدم الالجاء.
واستدل مالك ومن تابعه على وجوب الضمان بالسبب متصلا ومنفصلا بأن
أسباب التلف المضمونة كحفر البئر وفتح القفص سبب للتلف فوجب أن يتعلق
به الضمان، ولان كل ما تعلق به الضمان مع اتصاله بسببه جاز أن يتعلق به الضمان
مع انفصاله عن سببه كالجارح يضمن إن تعجل التلف أو تأجل
ودليلنا هو أن للحيوان اختيارا يتصرف به لما شاهد عيانا من قصده لمنافعه
واجتنابه لمضاره، ثم لما قد استقر حكما من تحريم ما قد صاده باسترساله وتحليل
ما صاده باسترسال مرسله، فإذا اجتمع السبب والاختيار تعلق الحكم على
288

الاختيار دون السبب كملقى نفسه مختارا من شاهق يسقط الضمان عن باني الشاهق
أو في بئر يسقط عن حافرها. وطيران الطائر باختياره لأنه غير ملجأ، وقد كان
يجوز بعد فتح القفص أن لا يطير، فوجب إذا طار بعد الفتح أن لا يتعلق بالفتح
ضمان، ولان طيران الطائر بفتح القفص كهرب العبد المحبوس إذا فتح حبسه فكما
أن فاتح الحبس لا يضمنه إن هرب كذلك فاتح القفص لا يضمن الطائر إذا طار،
ولان مثابته من فتح القفص عن طائر حتى طار بمثابة من هتك حرمة مال حتى
سرق، ثم كان كما لو فتح باب دار فيها مال فسرق لم يضمنه. وكذلك القفص إذا
فتح بابه حتى طار طائر لم يضمن، ولان فتح القفص يكون تعديا على القفص
دون الطائر، بدليل أنه لو مات الطائر في القفص بعد فتحه لم يضمنه، وما انتفى
عنه التعدي لم يضمن به.
* * *
فأما الجواب عن استدلالهم بأن أسباب التلف مضمونة لحافر البئر يضمن
ما سقط فيها، فهو أنهما سواء، وذاك أن من طبع الحيوان توقى المتالف. فإذا
سقط في البئر دل على أن سقوطه بغير اختياره فضمن الحافر، ولو علمنا أنه
سقط باختياره بإلقاء نفسه عمدا سقط الضمان عن الحافر، والطير مطبوع على
الطيران عند القدرة: إلا في أوقات الاستراحة، فإذا طار دل على أن طيرانه
باختياره فسقط الضمان عن فاتح القفص
ولو علمنا أنه طار بغير اختياره بالالجاء والتنفير وجب الضمان على فاتح
القفص فكانا سواء.
فأما استدلالهم باستواء الأسباب فيما تعجل بها التلف أو تأجل فلأصحابنا في
ضمانه إذا طار عقيب الفتح وجهان
(أحدهما) لا يضمنه، فعلى هذا سقط السؤال فيه (الثاني) يضمنه. فعلى
هذا يكون الفرق بين أن يطير في الحال فيضمن، وبين أن يطير بعد زمان فلا
يضمن هو أن الطير مطبوع على النفور من الانسان
289

قال الماوردي: فإذا طار في الحال علم أنه طار لنفوره منه فصار كتنفيره إياه
وإذا لبث زمانا لم يوجد منه النفور فصار طائرا باختياره، فأما إذا أمر طفلا أو
مجنونا بإرسال طائر في يده فأرسله فطار فهو كفتحه القفص في أنه إذا نفره أو
أمر الطفل بتنفيره ضمن وان لم ينفره ولبث زمانا لم يضمنه، وان طار في الحال
فعلى وجهين، ولو كان ساقطا على برج أو جدار فرماه بحجر فنفره فطار من
تنفيره لم يضمنه لأنه قبل التنفير لم يكن مقدورا عليه.
(فرع) إذا رمى رجل حجرا في هواء داره فأصاب طائرا فقتله ضمنه سواء
تعمد قتله أو لم يتعمده، لأنه وان لم يتعد بالرمي في هواء داره فليس له منع
الطائر من الطيران في هوائه، فصار كما لو رماه من غير هوائه وخالف دخول
البهيمة إذا منعها بضرب لا تخرج الا به أنه لا يضمنها.
(فرع) إذا فتح رجل مراح غنم فرعت زرعا فإن كان الفاتح مالكها ضمن
الزرع، وإن كان غيره لم يضمن، لأنه لا يلزمه حفظها، وكذلك لو حل دابة
مربوطة فأكلت شعيرا أو فولا لم يضمن لان الدابة هي المتلفة دونه وكذا لو
كسرت اناء لم يضمنه لما عللناه.
(فرع) قال الشافعي: ولو حل زقا (1) أو راوية فاندفقا ضمن الا أن يكون
الزق يثبت مستندا وكان الحل لا يدفع ما فيه ثم سقط بتحريك أو غيره فلا يضمن
لان الحل كان ولا جناية فيه.
وصورتها في زق أوكى على ما فيه فحل الوكاء حتى ذهب ما في الزق، فلا
يخلو حال ما فيه من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يكون من أرق المائعات قواما
وأسرعها ذهابا كالخل والزيت واللبن فهذا على ضربين.
أحدهما: أن يكون فم الزق منكسا فعليه ضمان ما فيه، لان الذائب مع
التنكيس لا يبقى، فكان هو المتلف له.

(1) الزق قارورة من الجلد يسميها عامة الحجاج زمزمية، والوكاء الرباط،
ومنه حديث " هاتوا سبع قرب لم تحلل أوكيتهن " وحديث " العين وكاء السه "
والسه الاست أو المقعدة من الانسان.
290

والضرب الثاني: أن يكون فم الزق مستعليا فهذا على ضربين (أحدهما) أن
يميل في الحال فيذهب ما فيه فعليه ضمانه لأنه متماسك بوكائه، فإذا حله كان بالحل
تالفا، وليس كالدابة إذا حلها لان للدابة اختيارا (والثاني) أن يلبث بعد الحل
متماسكا زمانا ثم يميل فيسقط فلا ضمان عليه وسواء كان الزق مستندا أو غير
مستند لأنه قد كان باقيا بعد الحل فعلم أن تلفه بغير الحل من هبوب ريح
أو تحريك انسان.
والقسم الثاني: أن يكون ما في الزق ثخين القوام بطئ الذهاب كالدبس
(العجوة بالعسل أو مريب التمر) والعسل القوى فإذا حل وكاؤه فاندفع يسيرا
بعد يسير حتى ذهب ما فيه، فإن كان مستعلى الرأس فلبث زمانا لا يتدفق شئ
منه ثم اندفع فلا ضمان، وان اندفع في الحال أو كان منكسا نظر، فإن لم يقدر
مالكه على استدراك سده حتى ذهب ما فيه فعليه الضمان وان قدر على الاستدراك
لسده ففي الضمان وجهان.
(أحدهما) عليه الضمان كما لو خرق ثوبه وهو قادر على منعه، لزمه الضمان
ولا يكون قدرته على الدفع اختيارا وابراء، كذلك ها هنا.
والوجه الثاني: لا ضمان عليه، والفرق بينهما أنه في القتل والتحريق، وفى
حل الوكاء غيره متسبب والسبب يسقط حكمه مع القدرة على الامتناع منه كمن
حفر بئرا فمر بها انسان وهو يراها ويقدر على اجتنابها فلم يفعل حتى سقط فيها
لم يضمنه الحافر.
ولو كان الزق مستعلى الرأس وهو يندفع بعد الحل يسيرا يسيرا فجاء آخر
فنكسه حتى تعجل خروج ما فيه فذهب فعلى الأول ضمان ما خرج قبل التنكيس
وفيما خرج بعده وجهان (أحدهما) أن ضمانه عليهما لاشتراكهما في سبب ضمانه
كالجارحين (والوجه الثاني) أن ضمانه على الثاني وحده لسقوط السبب مع المباشرة
فصار كالذابح بعد الجارح يسقط ببراءة الجارح ويتوجه للذابح.
والقسم الثالث: أن يكون ما في الزق جامدا كالسمن والدبس إذا جمدا
ومريب الجزر والفواكه إذا جف ماؤهما وتبخر فيكشف بحل الوكاء أو بكشف
الغطاء عن الاناء حتى تسطع عليه الشمس فيذوب ويذهب فإن كان الزق أو الاناء
291

على حال لو كان ما فيها عند الحل أو الكشف ذائبا يعبأ في زقه وإنائه فلا ضمان
عليه، وإن كان لا يعبأ لو كان ذائبا ففي ضمانه وجهان. أحدهما: لا ضمان عليه
لان ذوبانه من تأثير الشمس لا من تأثير حله (والوجه الثاني) عليه الضمان لان
بحله إياه وكشفه أثرت فيه الشمس فكان الحل أقوى سببا فتعلق به الضمان.
(فرع) إذا أدنى من الجامد نارا بعد كشف إنائه وحل وكائه فحمى فذاب
وذهب فلا ضمان على واحد منهما. أما صاحب النار فلم يباشر بها ما يضمن به،
وأما كاشف الاناء وحال الوكاء فلم يكن فعله جناية يضمن بها. وصارا كسارقين
ثقب أحدهما الحرز وأخرج الآخر المال لم يقطع واحد منهما، لان الأول هتك
الحرز وبهتك الحرز لا يجب القطع.
والثاني: أخذ مالا غير محرز وأخذ المال من غير حرز لا يوجب القطع،
فإن قيل: لم يضمن إذا ذاب بالشمس في أحد الوجهين ولم يضمن بالنار، قيل:
لان طلوع الشمس معلوم، فصار كالقاصد له ودنو النار غير معلوم، فلم يصر
قاصدا له ولكن لو كان كاشف الاناء وحال الوكاء هو الذي أدنى النار منه فذاب
ضمن وجها واحدا بخلاف الشمس في أحد الوجهين، ولان إدناء النار من فعله
وليس طلوع الشمس من فعله، وخالف حدوث ذلك من شخصين وصار كتفرده
بهتك الحرز وأخذ ما فيه في وجوب القطع عليه ولا يجب الضمان لو كان من
شخصين، بيد أن المصنف يقضى بأن عنده وجوب الضمان على صاحب النار قياسا
على من حفر بئرا وجاء آخر فدفع إليها آخر ضمن صاحب البئر، وفيما ذهب إليه
المصنف نظر عندي والله أعلم بالصواب.
* (فرع) *
وينبنى على ما تقدم أنه إذا حل رباط سفينة وترنحت في أحضان الموج فغرقت
فهذا على ضربين (أحدهما) أن يكون غرقها في الحال من غير لبث فعليه الضمان
لحدوث التلف بفعله (والضرب الثاني) أن يتطاول بها اللبث بعد الحل ثم تغرق
بعد فهو على ضربين، أحدهما: أن يظهر سبب غرقها بحادث من ريح - أو موج
فلا ضمان عليه لتلفها بما هو غير منسوب إليه. والضرب الثاني: أن لا يظهر
292

حدوث سبب لتلفها ففي ضمانها وجهان (أحدهما) أنه لا يضمنها كما لا يضمن
الزق إذا لبث بعد حله تم مال (والوجه الثاني) عليه الضمان بخلاف الزق لأن الماء
أحد المتلفات.
(فرع) إذا نصب رصيصا من اللبن لحرقه (قمينة) حتى يجعر آجرا في غير
المكان المخصص والوقت المناسب اللذين جرت عادة الناس بنصب الرصائص أو
القمائن فيها كأن جاء في أوقات امتلاء الاجران بحصاد الحقول فأوقد في تنور
اللبن بين الاجران أو وقت تعبئة القطن في الأكياس فطارت شرارة من النور
إلى الاجران أو الاقطان فأحرقتها ضمن ما أتلف، أما إذا أعد الرصيص في أوانه
ولم يكن وقت حصاد ولا جنى قطن، وكان لآخر صومعة فيها تبن أو طعام
فطارت شرارة أصابت ما فيها فاحترق فلا ضمان عليه لأنه غير متعد، وكذلك
لو أروى أرضه في دوره فتسربت المياه إلى حقل جاره لم يضمن لأنه غير متعد،
فإذا أرواها في غير دوره - وهو الوقت المخصص له بترتيب أصحاب الحق في المياه -
ثم تسربت إلى حقل جاره فأتلفته كان عليه ضمان المتلف، أما الثوب الذي حمله
الريح من منشر الجار فألقاه في بيته فقد أسلفنا القول في الوديعة أنه وديعة يجب
المبادرة إلى اعلام صاحبه به فإذا أخفاه أو تباطأ في اعلام صاحبه أو تلكأ كان
عليه ضمانه وارتفعت يده من الأمان إلى الضمان وإذا طار فلم يعلم به صاحب الدار
حتى احترق بنار في داره أو بهيمة أكلته لم يضمنه، ولو علم به فإن لم يقدر على
منعها لم يضمن، وان قدر على منعها فعليه الضمان، ولكن لو زاره عند حصول
الثوب في داره فتركه، فإن كان مالكه غير عالم به فعليه اعلامه فإن لم يعلمه فهو
ضامن، وإن كان مالكه عالما به فهو غير ضامن، فإذا هبت ريح فاجتاحته فألقته
بعيدا فإن لم يستطع منعه فلا ضمان، وان قدر على منعه من الريح فتركه ففي
ضمانه وجهان.
أحدهما: لا ضمان عليه لأنه لم يكن منه ما يضمن به.
والثاني: عليه الضمان كما لو أكلته بهيمة يقدر على منعها، فلو أن الثوب
حين أطارته الريح وقع في صبغ لصاحب الدار فانصبغ به فلا ضمان على واحد
293

منهما لا على صاحب الثوب ولا على صاحب الصبغ لعدم التعدي منهما، وفى حالة
إمكان استخراج الصبغ من الثوب فاستخراجه ونقص الصبغ ونقص الثوب إن
حدث نقص كل ذلك مهدر لا قيمة له في ذمة واحد منهما والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) إذا اختلف الغاصب والمغصوب منه في تلف المغصوب، فقال
المغصوب منه هو باق. وقال الغاصب تلف فالقول قول الغاصب مع يمينه لأنه
يتعذر إقامة البينة على التلف وهل يلزمه البدل فيه وجهان. أحدهما: لا يلزمه
لان المغصوب منه لا يدعيه. والثاني: يلزمه لأنه بيمينه تعذر الرجوع إلى العين
فاستحق البدل كما لو غصب عبدا فأبق.
(فصل) وإن تلف المغصوب واختلفا في قيمته، فقال الغاصب قيمته
عشرة، وقال المغصوب منه قيمته عشرون فالقول قول الغاصب، لان الأصل
براءة ذمته فلا يلزمه إلا ما أقر به كما لو ادعى عليه دينا من غير غصب فأقر ببعضه
(فصل) وإن اختلفا في صفته فقال الغاصب كان سارقا فقيمته مائة. وقال
المغصوب منه لم يكن سارقا فقيمته ألف فالقول قول المغصوب منه لان الأصل
عدم السرقة. ومن أصحابنا من قال: القول قول الغاصب لأنه غارم، والأصل
براءة ذمته مما زاد على المائة، فإن قال المغصوب منه: كان كاتبا فقيمته ألف،
وقال الغاصب: لم يكن كاتبا فقيمته مائة، فالقول قول الغاصب، لان الأصل
عدم الكتابة وبراءة الذمة مما زاد على المائة، فإن قال المغصوب منه غصبتني طعاما
حديثا، وقال الغاصب بل غصبتك طعاما عتيقا فالقول قول الغاصب، لان
الأصل أنه لا يلزمه الحديث فإذا حلف كان للمغصوب منه أن يأخذ العتيق لأنه
أنقص من حقه.
(فصل) وان غصبه خمرا وتلف عنده ثم اختلفا فقال المغصوب منه صار
خلا ثم تلف فعليك الضمان وقال الغاصب بل تلف وهو خمر فلا ضمان على فالقول
قول الغاصب، لان الأصل براءة ذمته، ولان الأصل أنه باق على كونه خمرا.
294

(فصل) وإن اختلفا في الثياب التي على العبد المغصوب، فادعى المغصوب
منه أنها له، وادعى الغاصب أنها له، فالقول قول الغاصب لان العبد وما عليه
في يد الغاصب فكان القول قوله والله أعلم
(الشرح) الأحكام. قال الشافعي: ولو غصبه جارية فهلكت فقال: ثمنها
عشرة فالقول قوله مع يمينه.
قلت: قد ذكرنا أن المغصوب مضمون بأكثر قيمته في السوق والبدن
ووقت الغصب إلى وقت التلف. وقال أبو حنيفة: هو مضمون بقيمته وقت
الغصب اعتبارا بحال التعدي، وهذا خطأ من وجهين (أحدهما) أن استدامة
الفعل كابتدائه شرعا.
أما الشرع فقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا " أي استداموا الايمان، وقال
تعالى " اهدنا الصراط المستقيم " أي ثبتنا على الهداية إليه، فاستوى حكم الابتداء
والاستدامة في الاخبار والطلب وأما اللسان فهو أن مستديم الغصب بيمين في
كل حال غاصبا. ويقال قد غصب، وإن كان قد تقدم من الغصب
(والثاني) أن الغصب عدوان يوجب الضمان كالجناية، فلما كانت براءة
الجراح في الجناية إلى تلف النفس توجب ضمان ما حدث بعد الجرح، وجب أن
يكون الحادث بعد الغصب في حكم الموجود في حال الغصب، ثم هو في الغصب
أولى منه في الجناية لبقاء يده في الغصب وارتفاعها في الجناية، وفيما ذكرناه من
المعاني الماضية في نمو البدن وزيادته دليل كاف
فإذا ثبت هذا واختلفا في المغصوب فهو على ثلاثة أضرب:
(أحدها) أن يختلفا في قيمته (والثاني) أن يختلفا في تلفه (والثالث) أن
يختلفا في مثله. فأما الضرب الأول وهو اختلافهما في قيمته فعلى ضربين:
(أحدهما) أن يكون اختلافهما في القيمة مع اتفاقهما على الصفة، فيقول
المغصوب منه قيمة مالي ألف. ويقول الغاصب: قيمة مالك مائة فالقول قول
الغاصب مع يمينه في قدر قيمته لامرين: أحدهما إنكاره الزيادة، والشرع في
الانكار يجعل القول قول المنكر دون المدعى. والثاني: أنه غارم والقول في
الأصول قول الغارم
295

فإن قيل: فكلا المعنيين يفسد بالشفيع والشفيع منكر وغارم، فالجواب عنه
من وجهين. أحدهما: أن المشترى مالك فلم يكن للشفيع انتزاع ملكه إلا بقوله
كما أن الغارم مالك، ولا يغرم إلا بقوله. والثاني: أن المشترى فاعل الشراء
فكان القول فيه قوله لأنه من صنعه، وكذلك الغاصب فاعل الغصب وهو من
صنعه فكان القول فيه قوله، فحل المشترى بهذين محل الغارم وسلم المعنيان.
فإن كان للمغصوب منه بنية على ما ادعاه من القيمة سمعت وهي شاهدان أو
امرأتان وشاهد أو شاهد ويمين، فإن شهدت بينه بأن قيمة المغصوب وقت
الغصب أو وقت التلف أو فيما بين الغصب والتلف كذا حكم بها لان الغاصب
ضامن لقيمته في هذه الأحوال كلها، وإن شهدت بينة بأن قيمته كانت ألفا قيل
الغصب لم يحكم بها لان ما قبل الغصب غير مضمون على الغاصب لكن كان
بعض أصحابنا يقول: إنه يصير لأجل هذه البينة القول قول المغصوب منه مع
يمينه، لان الأصل بقاء هذه القيمة ما لم يعلم نقصها وهذا غير صحيح، لان
ما قبل الغصب غير معتبر، والبينة فيه غير مسموعة ولو جاز أن يصير القول
بها قول المشهود له لجاز الاقتصار عليها من غير يمين، فإن شهدت البينة
بصفات المغصوب دون قيمته ليستدل بها على قدر القيمة لم يجز أن يحكم
بها لامرين.
أحدهما: أن تقويم ما لا مثل له بالصفة باطل. والثاني: أن اختلافهما في
القيمة دون الصفة فلم تسمع البينة في غير ما تداعياه واختلفا فيه.
والضرب الثاني: أن يكون اختلافهما في الصفة فهو على نوعين أحدهما: أن
تكون صفة زائدة. والثاني: أن تكون صفة نقص. فأما صفة الزيادة فترد
دعوى المغصوب منه وصورتها. أن يقول المغصوب منه قيمة سيارتي ثلاثة
آلاف لأنها مرسيدس أو كاديلاك 7 راكب موديل 68 ويقول الغاصب قيمتها
ألف لأنها مرسيدس أو كاديلاك سعة 5 راكب موديل 69 فالقول قول الغاصب
مع يمينه لا يختلف لوجود المعنيين فيه وهما الغرم والانكار. وأما صفه النقص
فهو دعوى الغاصب وصورتها أن يقول الغاصب قيمة السيارة التي غصتها منك
296

مائة لأنها مستهلكة ومحركها ضعيف وفراملها ناعمة وهي ماركة فيات أو
فكسهول موديل. فيقول المغصوب منه قيمتها ألف لأنها ليست مستهلكة
ومحركها سليم وفراملها قوية ففيه وجهان لاختلاف المعنيين أحدهما أن
القول قول الغاصب مع يمينه تعليلا بغرمه والثاني. القول قول المغصوب منه
مع يمينه تعليلا بانكاره.
وأما الضرب الثاني وهو اختلافهما في تلفه فصورته أن يقول المغصوب منه
سيارتي باقيه في يدك ويقول الغاصب، قد تلفت وذهبت أجزاؤها في (وكالة
البلح (1)) فالقول قول الغاصب مع يمينه ثم فيه وجهان أحدهما، أنه لا شئ
عليه للمغصوب منه ما لم يصدقه على تلفها، لأنه لا يدعى القيمة وإنما يدعى
عينها وقد حلف الغاصب على تلفها، والوجه الثاني، أن عليه القيمة للمغصوب
منه لأنه وإن كان منكرا للتلف فيمين الغاصب ما تلفت ولا قدرة له عليها
فصارت كالتالفة يلزم الغاصب قيمتها مع بقاء عينها إذا كانت باقيه.
وأما الضرب الثالث وهو اختلافهما في مثله فعلى ثلاثة أضرب أحدها.
أن يختلفا في صفات المثل كقول المغصوب منه غصبتني طعاما حديثا فيقول
الغاصب بل طعاما عتيقا أو قديما فالقول قول الغاصب مع يمينه تعليلا بالمعنيين
من الانكار والغرم، ثم للمغصوب منه أن يتملك ذلك لأنه أنقص من حقه
الذي يدعيه.
والضرب الثاني. أن يختلفا في أصل المثل كقول المغصوب منه، لما غصبته
مثل، وقول الغاصب، ليس له مثل فلا اعتبار باختلافهما ويرجع فيه إلى اجتهاد
الحكام، فان حكموا له بمثل طولب به، وإن حكموا فيه بالقيمة أخذت منه،
والضرب الثالث أن يختلفا في وجود المثل كقول المغصوب منه، المثل موجود
وقول الغاصب بل المثل معدوم، فيكشف الحاكم عن وجوده، ويقطع تنازعهما

(1) سوق على شاطئ النيل في الشمال الغربي من مدينة القاهرة كانت تنزل
من مرساه التمور الواردة من الصعيد الاعلى على عهد المماليك وهو اليوم سوق
تباع فيه أجزاء السيارات القديمة وغيرها من الآلات.
297

فيه، فإن وجده ألزم الغاصب دفع المثل رخيصا كان أو غالبا، وإن عدمه خير
المغصوب منه بين أن يصبر إلى وجود المثل فإن تعجل أخذ القيمة ثم وجد المثل
بعد ذلك فلا حق له فيه وقد استقر ملكه على ما أخذ من قيمته بخلاف الرقيق
إذا أخذت قيمته ثم وجد، والفرق بينهما أن قيمة الآبق أخذت عند الإياس منه
فلزم ردها بعد القدرة عليه، وقيمة المثل أخذ مع العلم بالقدرة عليه من بعد فلم
يلزم ردها بعد القدرة عليه، وإن جهد إلى وجود المثل ثم رجع مطالبا بالقسمة
قبل الوجود فذلك له لتعجل حقه بخلاف السلم في الشئ إلى مدة تنقطع فيها فرضى
المسلم بالصبر إلى وجوده فلا يكون له الرجوع قبله. والفرق بينهما أن تقدير وجود
السلم عيب فإذا رضى به لزمه ذلك بالعقد. وصبر المغصوب منه إلى وجود المثل
إنظار وتأجيل تطوع به فلم يلزم.
(فرع) ولو غصب رجل عصيرا فصار في يده خلا رجع به المغصوب منه
وينقص إن حدث في قيمته، ولو صار العصير خمرا رجع على الغاصب بقيمته
عصيرا لان الخمر لا قيمة له، وهل له أخذ الخمر أم لا؟ على وجهين: أحدهما
- وهو قول الأسفراييني - إنه ليس له أخذه لوجوب إراقته وإتلافه.
والوجه الثاني: له أخذه لأنه قد شفع بإراقته في بئر أو مسقى حيوان، فلو
صار الخمر في يد الغاصب خلا رجع به المغصوب منه، وفى رجوعه عليه بالقيمة
وجهان كنقص المرض إذا زال أحدهما: يرجع بالقيمة لوجوبها. والثاني -
لا يرجع عليه لعدم استقرارها.
وإذا غصبه خمرا فصار في يده خلا صار حينئذ مضمونا عليه لكونه خلا
ذا قيمه، فلو اختلط بعد تلفه فقال المالك: صار خلا فعليك ضمانه، وقال
الغاصب: بل تلف في يدي خمرا على حاله فالقول قول الغاصب مع يمينه اعتبارا
ببراءة ذمته، فلو صار الخمر بعد غصبه خلا ثم عاد الخل فصار خمرا ضمنه مع بقاء
عينه لأنه بمصيره خمرا قد صار تلفا، فلو عاد ثانية فصار خلا رد على المغصوب
منه، وهل يضمن قيمته مع رده على وجهين أحدهما: لا ضمان عليه لعوده إلى
ما كان عليه، والوجه الثاني: عليه الضمان لاستقراره عليه فلم يسقط عنه
والله تعالى أعلم.
298

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب الشفعة
وتجب الشفعة في العقار لما روى جابر رضي الله عنه قال " قضى رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالشفعة في كل شرك لم يقسم، ربعة أو حائط لا يحل له أن
يبيعه حتى يؤذن شريكه، فإن شاء أخذ وإن شاء ترك، فان باعه ولم يؤذنه
فهو أحق به، ولان الضرر في العقار يتأبد من جهة الشريك فثبتت فيه الشفعة
لإزالة الضرر.
(فصل) وأما غير العقار من المنقولات فلا شفعة فيه لما روى جابر رضي الله عنه
قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا شفعه إلا في ربعة أو حائط وأما البناء
والغراس، فإنه إن بيع مع الأرض ثبتت فيه الشفعة لما روى جابر رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من كان له شريك في ربع أو نخل فليس له أن يبيع
حتى يؤذن شريكه، فإن رضى أخذه، وإن كرهه تركه ولأنه يراد للتأبيد فهو
كالأرض، فإن بيع منفردا لم تثبت فيه الشفعة لأنه ينقل ويحول فلم تثبت فيه
الشفعة واختلف أصحابنا في النخل إذا بيعت مع قرارها مفردة عما يتخللها من
بياض الأرض فمنهم من قال: تثبت فيه الشفعة لأنه فرع تابع لأصل ثابت.
ومنهم من قال: لا شفعة فيها، لان القرار تابع لها، فإذا لم تجب الشفعة فيها
إذا بيعت مفردة لم تجب فيها وفى تبعها، وإن كانت دار أسفلها لواحد وعلوها
مشترك بين جماعة، فباع أحدهم نصيبه فإن كان السقف لصاحب السفل لم
تثبت الشفعة في الحصة المبيعة من العلو، لأنه بناء منفرد، وإن كان السقف
للشركاء في العلو ففيه وجهان، أحدهما لا تثبت فيه الشفعة، لأنه لا يتبع
أرضا. والثاني: تثبت لان السقف أرض لصاحب العلو يسكنه، ويأوى إليه
فهو كالأرض.
(فصل) وإن بيع الزرع مع الأرض أو الثمرة الظاهرة مع الأصل لم
299

تؤخذ مع الأصل بالشفعة، لأنه منقول فلم يؤخذ مع الأرض بالشفعة كثيران
الضيعة، فإن بيع وفيه ثمرة غير مؤبرة ففيه وجهان (أحدهما) تؤخذ الثمرة مع
الأصل بالشفعة، لأنها تبعت الأصل في البيع فأخذت معه بالشفعة كالغراس.
(والثاني) لا تؤخذ لأنه منقول فلم تؤخذ مع الأصل كالزرع والثمرة الظاهرة.
(فصل) ولا تثبت الشفعة إلا للشريك في ملك مشاع، فأما الجار والمقاسم
فلا شفعة لهما لما روى جابر رضي الله عنه قال: إنما جعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا
شفعة، ولان الشفعة إنما تثبت لأنه يدخل عليه شريك فيتأذى به، فتدعو
الحاجة إلى مقاسمته فيدخل عليه الضرر بنقصان قيمة الملك، وما يحتاج إلى إحداثه
من المرافق. وهذا لا يوجد في المقسوم.
(فصل) ولا تجب إلا فيما تجب قسمته عند الطلب، فأما ما لا تجب قسمته
كالرحا والبئر الصغيرة والدار الصغيرة فلا تثبت فيه الشفعة. وقال أبو العباس:
تثبت فيه الشفعة لأنه عقار فثبت فيه الشفعة قياسا على ما تجب قسمته، والمذهب
الأول، لما روى عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه أنه قال: لا شفعة في بئر
والارف تقطع كل شفعة، ولان الشفعة إنما تثبت للضرر الذي يلحقه بالمقاسمة،
وذلك لا يوجد فيما لا يقسم.
وأما الطريق المشترك في درب مملوك ينظر فيه، فإن كان ضيقا إذا قسم لم
يصب كل واحد منهم طريقا يدخل فيه إلى ملكه فلا شفعة فيه، وإن كان واسعا
نظرت فإن كان للدار المبيعة طريق آخر وجبت الشفعة في الطريق، لأنه أرض
مشتركة تحتمل القسمة، ولا ضرر على أحد في أخذه بالشفعة فأشبه غير الطريق
وان لم يكن للدار طريق غيره ففيه ثلاثة أوجه.
(أحدها) لا شفعة فيه، لأنا لو أثبتنا الشفعة فيه أضررنا بالمشترى لأنه
يبقى ملكه بغير طريق، والضرر لا يزال بالضرر
(والثاني) تثبت فيه الشفعة، لأنه أرض تحتمل القسمة فتثبت فيها الشفعة
كغير الطريق.
300

(والثالث) أنه إن مكن الشفيع المشترى من دخول الدار ثبت له الشفعة،
وإن لم يمكنه فلا شفعة لأنه مع التمكين يمكن دفع الضرر من غير إضرار، ولا
يمكن مع عدم التمكين إلا بالاضرار.
(فصل) وتثبت الشفعة في الشقص المملوك بالبيع لحديث جابر رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به " وتثبت
في كل عقد يملك الشقص فيه بعوض كالإجارة والنكاح والخلع، لأنه عقد معاوضة
فجاز أن تثبت الشفعة في الشقص المملوك به كالبيع
(فصل) فأما فيما ملك فيه الشقص بغير عوض كالوصية والهبة من غير عوض
فلا تثبت فيه الشفعة، لأنه ملكه بغير بدل فلم تثبت فيه الشفعة، كما لو ملكه
بالإرث، وإن باع من رجل شقصا فعفا الشفيع فيه عن الشفعة ثم رجع الشقص
إليه بالإقالة ثم تثبت فيه الشفعة، لأنه لم يملكه بعوض وإنما انفسخ البيع ورجع
المبيع إلى ملكه بغير بدل، فإن باعه شقصا فعفا الشفيع عن الشفعة ثم ولاه رجلا
ثبتت فيه الشفعة، لان التولية بيع برأس المال. وإن قال لام ولده: إن خدمت
ورثتي شهرا فلك هذا الشقص، فخدمتهم ملكت الشقص، وهل تثبت فيه الشفعة؟
فيه وجهان. أحدهما أنه تثبت لأنها ملكته ببدل هو الخدمة فصار كالمملوك بالإجارة
(والثاني) لا تثبت فيه الشفعة لأنه وصية في الحقيقة لأنه يعتبر من الثلث فلم
تثبت فيه الشفعة كسائر الوصايا، وإن دفع المكاتب إلى مولاه شقصا عن نجم
عليه ثم عجز ورق فهل للشفيع في الشقص شفعه أم لا؟ فيه وجهان.
(أحدهما) لا شفعة فيه، لأنه بالعجز صار ماله للمولى بحق الملك لا بالمعاوضة
وما ملك بغير المعاوضة لا شفعة فيه (والثاني) تثبت فيه لأنه ملكه بعوض
فثبت فيه الشفعة فلا تسقط بالفسخ بعده.
(فصل) وإن بيع شقص في شركة الوقف، فإن قلنا إن الموقوف عليه
لا يملك الوقف لم تجب فيه الشفعة لأنه لا ملك له، وان قلنا إنه يملك ففيه
وجهان (أحدهما) أنه يأخذ بالشفعة، لأنه يلحقه الضرر في ماله من جهة الشريك
فأشبه مالك الطلق (والثاني) لا يأخذه لان ملكه غير تام، بدليل أنه لا يملك
التصرف فيه، فلا يملك به ملكا تاما
301

(الشرح) قال الضياء المقدسي في شرحه لثلاثيات المسند:
الشفعة لغة الزيادة، لان الشفيع يضم ما يشفع فيه إلى نصيبه فكأنه كان
وترا فصار شفعا، والشفيع فعيل بمعنى فاعل، وعرفا: استحقاق الشريك انتزاع
حصة شريكه المنتقل عنه من يد من انتقلت إليه. اه‍
قال الحافظ بن حجر في الفتح: الشفعة بضم المعجمة وسكون الفاء وغلط
من حركها، وهي مأخوذة لغة من الشفع وهو الزوج، وقيل من الزيادة، وقيل
من الإعانة، وفى الشرع: انتقال حصة شريك إلى شريك كانت انتقلت إلى أجنبي
بمثل العوض المسمى. اه‍
وقد ثبتت بالسنة والاجماع. فأما السنة فالحديث الذي ساقه المصنف عن
جابر ولفظه عند مسلم والنسائي وأبى داود " أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى
بالشفعة في كل شركة لم تقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه
فان شاء أخذ وإن شاء ترك، فإن باعه ولم يؤذنه فهو أحق به " ولفظه عند
الترمذي وصححه " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا وقعت الحدود وصرفت
الطرق فلا شفعه "
ولفظه عند أحمد والبخاري وأبو داود وابن ماجة " إنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم
الشفعة " وفى رواية عند أحمد والبخاري والشافعي في الام " أن النبي صلى الله عليه وسلم
قضى بالشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعه "
وكلها عن جابر الا الشافعي فقد قال: أخبرنا مالك عن الزهري عن سعيد
ابن أبي سلمه. وقد روى عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" إذا قسمت الدار وحددت فلا شفعه " رواه أبو داود وابن ماجة بمعناه
أما الاجماع فقد انعقد ولم يختلف العلماء على مشروعيتها إلا ما نقل عن أبي
بكر الأصم من إنكارها، وفى ذلك يقول بعضهم: لا عبرة بقول الأصم فإنه
عن الحق أصم.
قال الماوردي في الحاوي: إن ما روى في الشفعة وان لم يكن متواترا فالعمل
به مستفيض يصير به الخبر كالمتواتر، ثم الاجماع عليه منعقد، والعلم بكونه شرعا
واقع وليس في التمسك بحديث " لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه "
302

ما يمنع من الشفعة لان المشترى يعاوض عليها بما بذله فيصل إليه ولا يستحل منه
فإذا ثبت هذا فإن الشفعة تجوز للمسلم والكافر عند الشافعي وأبي حنيفة
ومالك. وخالف أحمد فقهاء مذهبه على أنه لا شفعة لكافر على مسلم، قال
الضياء المقدسي نص عليه أحمد قال في الانصاف: وهو المذهب وعليه الأصحاب
وهو من مفردات المذهب، وبه قال الحسن البصري والشعبي، وقد أفاض الضياء
في شرح عمدة الأحكام في بيان العلة، ووجه المذهب من جهة الدليل، كما تفرد
أبو حنيفة دون الثلاثة بوجوب الشفعة للجار، وهو رواية عن أحمد إلا أنها
مرجوحة بالمرة حسب الأظهر من المذهب
فإذا ثبت هذا فإن الشفعة مستحقة في عراص الأرضين. ويكون ما أثقل بها
من الغراس والبناء تبعا، وإن كان المبيع منها مشاعا كانت الشفعة فيه على قولين
وإن كان المبيع منها محررا فالذي عليه جمهور الناس أنها غير واجبه، وبه قال من
الصحابة عمر وعثمان وعلى في أصح الروايتين عنه، ومن التابعين سعيد بن المسيب
وأبو سلمه بن عبد الرحمن وعروة بن الزبير، ومن الفقهاء ربيعه ومالك وأحمد
وإسحاق وأهل الحرمين.
وقال أبو حنيفة وصاحباه وسفيان الثوري: إن الشفعة المجوزة مستحقه للجار
وليس لهم فيه سلف، وربما أضافوه إلى ابن مسعود، فان عفا الجار عنها كانت
لمن يليه في القرب ثم لمن يليه إلى آخر الجوار، إلا أن تكون الطريق نافذة فلا
يجب لغير الجار الملاصق استدلالا برواية عمرو بن الشريد عن أبي رافع أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " الجار أحق بشقصه " وروى " بسقبه " أي
بقربه، وبرواية شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال " جار الدار أحق بدار الجار أو الأرض " وبرواية عبد الملك بن أبي سليمان
عن عطاء عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الجار أحق بشفعة
جاره ينتظر بها وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا "
وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الخليط أحق من
الشفيع، والشفيع أحق من غيره وروى عمرو بن الشريد بن سويد عن أبيه أنه
قال: قلت: يا رسول الله أرض ليس لأحد فيها شرك ولا قسم الا الجوار،
303

بيعت لي، فقال " أنت أحق بشفعة جارك يا شريد " قالوا ولان الشفعة إنما
وجبت تخوفا من سوء عشرة الداخل عليه، وهذا قد يوجد في الجار كوجوده
في الخليط، فاقتضى أن تجب الشفعة للجار كوجوبها للخليط
ودليلنا ما رواه الشافعي عن مالك عن ابن شهاب الزهري عن سعيد بن المسيب
أن النبي صلى الله عليه قال: الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة،
وهذا وإن كان مرسلا فمرسل سعيد عند الشافعي حسن، ثم قد رواه مسندا عن
مطرف بن مازن عن معمر عن الزهري عن أبي سلمة عن جابر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: الشفعة فيما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة،
فكان من هذا الحديث دليلان:
أحدهما: قوله الشفعة فيما لم يقسم، فكان دخول الألف واللام مستوعبا
لجنس الشفعة فلم يجب في المقسوم شفعه
والثاني: قوله فإذا وقعت الحدود فلا شفعة. فصرح بسقوط الشفعة مع
عدم الخلطة، فإن قيل: فإنما نفى الشفعة عنه بالقسمة الحادثة بعده ففيه جوابان
(أحدهما) أنه محمول على عموم القسمة حادثة ومتقدمة (والثاني) أنه إنما نفى
الشفعة عن المقسوم بما أثبتها في غير المقسوم. فلما أثبتها في غير المقسوم بالبيع
دل على أنه نفاها عن المقسوم بالبيع.
وقال أبو حنيفة: تجب للجار، ثم ساق أحاديث الموجبين لها للجار، وهي
التي أوردناها هنا. ثم قال:
وقال العلقمي في حاشية الجامع الصغير: يحتج بهذا الحديث من أوجب الشفعة
للجار - يعنى حديث. الجار أحق بصقبه - ومن لم يثبتها للجار تأول الجار على
الشريك، ويحتمل أن يكون المراد أحق بالبر والمعونة وما في معناهما بسبب
قربه من جاره.
وأجابوا عن حديث سمرة بأن أهل الحديث اختلفوا في لقاء الحسن له. ومن
أثبت لقاءه قال: إنه لم يرو عنه إلا حديث العقبة، وقد رواه الحسن عن سمرة.
وعن حديث الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها وإن كان غائبا بأن شعبة قال:
سها فيه عبد الملك راوي الحديث.
304

قال الإمام أحمد: هذا الحديث منكر. وقال ابن معين: لم يروه إلا عبد الملك
وقد أنكر عليه.
وقال بعض علماء الحنفية: يلزم الشافعية القائلين بحمل اللفظ على حقيقته
ومجازه أن يقولوا بشفعة الجوار، لان الجار حقيقة في المجاور مجاز في الشريك
وأجيب عنه بأن محل ذلك عند التجرد عن القرائن، وقد قامت القرينة هنا للمجاز
فان حديث جابر صريح في اختصاص الشفعة بالشريك، وحديث أبي رافع
مصروف الظاهر اتفاقا، لأنه يقتضى أن يكون الجار أحق من كل أحد حتى من
الشريك، ولا قائل به، فان القائلين بشفعة الجوار قدموا الشريك مطلقا، ثم
المشارك في الطريق ثم الجار على من ليس بمجاور.
(قلت) واختار شيخ الاسلام ابن تيمية ثبوت الشفعة للجار بشرط أن
يكون شريكا في الطريق محتجا بآخر حديث جابر مرفوعا: الجار أحق بشفعة
جاره. قال، وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية أبى طالب حيث قال: إذا كان
طريقهما واحدا شركاء لم يقتسموا، فإذا طرقت وعرفت الحدود فلا شفعه.
قلت: واختار بعض الحنابلة هذا الرأي ولكن لو استعرضنا مذهب الجمهور
في نفى شفعة الجار لوجدنا أمة من الصحابة والتابعين كعمر وعثمان وعمر بن
عبد العزيز وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري ويحيى الأنصاري
وأبو الزناد وربيعة والمغيرة بن عبد الرحمن ومالك والأوزاعي وأحمد والشافعي
وأبو ثور وابن المنذر.
وقال ابن شبرمة والثوري وابن أبي ليلى وأصحاب الرأي: الشفعة بالشركة
ثم بالشركة في الطريق ثم بالجوار.
ولان الشفعة ثبتت في موضع الوفاق على خلاف الأصل لمعنى معدوم في
محل النزاع فلا تثبت فيه.
وبيان انتفاء المعنى هو أن الشريك ربما دخل عليه شريك فيتأذى به فتدعوه
الحاجة إلى مقاسمته، أو يطلب الداخل المقاسمة فيدخل الضرر على الشريك بنقص
قيمة ملكه وما يحتاج إلى احداثه من المرافق، وهذا لا يوجد في المقسوم. م 10: 14
305

فأما حديث أبي رافع فليس بصريح في الشفعة فإن الصقب القرب، قال الشاعر:
كوفية نازح محلتها * لا أمم دارها ولا صقب
وبقية الأحاديث التي تثبت الشفعة للجار فيها مقال كما قال ابن المنذر على أنه
يحتمل أنه أراد بالجار الشريك فإن ذلك جار على ألسنة الشعراء، ويسمى كل واحد
من الزوجين جارا، قال الأعشى:
أجارتنا بيني فإنك طالقه * وموموقة ما كنت فينا ووامقه
وتسمى الضرتان جارتين لاشتراكهما في الزوج. قال حمل بن مالك: كنت
بين جارتين لي فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، وهذا كله
يمكن حمل حديث أبي رافع عليه، فإذا ثبت أن الشفعة واجبة بالخلطة دون
الجوار فالكلام فيها يشتمل على أربعة أقسام.
(أحدها) ما تجب به الشفعة.
(والثاني) ما تجب فيه (والثالث) من تجب له (والرابع) ما تؤخذ به.
فأما ما تجب به فهو انتقال الملك بعقد المعاوضات والعقود على ثلاثة أقسام
قسم يجب فيه العوض، وقسم لا يجب فيه العوض، وقسم اختلف قول الشافعي
في وجوب العوض فيه، فأما الموجب للعوض فخمسة عقود، البيع والإجارة
والصلح والصداق والخلع، فالشفعة بجميعها مستحقه كالمبيع لانتقال الملك بها
عوضا أو معوضا وسنشرح كلا في موضعه. وأما ما لا يوجب العوض إما لأنه
لا ينقل الملك كالرهن والعارية، أو لأنه لا يوجب العوض مع انتقال الملك
كالوقف والوصية فلا شفعة به لان ما لا ينقل لملك استحق به نقل الملك، وما لا
عوض فيه لا معوض فيه.
واختلف أصحابنا هل يغلب في ملك أم الولد للشقص حكم المعاوضات أو
حكم الوصايا إذا قال لها: إن خدمت ورثتي سنة بعد موتى فلك هذا الشقص
ففعلت على وجهين.
أحدهما: أن حكم المعاوضات عليه أغلب لاستحقاقه بالخدمة، فعلى هذا
يأخذه الشفيع بعد انقضاء السنة بأجرة مثل خدمتها تلك السنة.
306

والوجه الثاني: وهو ظاهر المذهب أن حكم الوصايا أغلب عليه لامرين.
أحدهما اعتباره من الثلث، والثاني: ملك الشقص من لم يملك الخدمة.
وأما ما اختلف قوله في وجوب العوض فعقد الهبة اختلف قوله في وجوب
المكافأة عليها فقال في القديم والاملاء بالوجوب، فعلى هذا تجب الشفعة بهما
بالثواب الذي تجب به المكافأة، فعلى هذا لو شرط الثواب فيها قدرا معلوما كان
على قولين.
أحدهما قاله في الاملاء: إن الهبة جائزة والشفعة فيها واجبة بالثواب
المشروط، لأنها إذا صحت مع الجهل بالثواب كانت مع العلم به أصح.
والقول الثاني: إن الهبة بشرط الثواب باطله، والشفعة فيها ساقطه لان
العوض فيها يجعلها بيعا والبيع بلفظ الهبة باطل، فهذا حكم الهبة على قوله في
القديم والاملاء. وقال في الجديد: ان المكافأة على الهبة غير واجبه، فعلى هذا
لا شفعة بها، ويكون في انتقال الملك بها في سقوط الشفعة به كانتقاله بالميراث
فهذا حكم الفصل.
وأما القسم الثاني: وهو ما تجب فيه الشفعة فهي عراص الأرضين وما يتبعها
متصلا دون غيرها، وهي على ثلاثة أنواع، أحدها ما وجب في الشفعة معقودا
وهي عراص الأرضين المحتملة للقسمة الجبرية، فإن لم تحتملها لصغرها كطريق
ضيقه وبياض يسير فلا شفعة هكذا حكاه الماوردي.
وقال أبو العباس بن سريج: يجب فيه الشفعة تعليلا بسوء المشاركة،
واستدامة الضرر بها لتعذر القسمة، وبه قال أبو حنيفة. وعند الشافعي أنه
لا شفعه فيها تعليلا في وجوبها بالخوف من مؤونة القسمة وأن ما لا يقسم جبرا
فلا شفعة فيه لارتفاع الضرر بمؤونة القسمة.
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله " لا شفعة في فناء ولا طريق
ولا منقبة ولا ركح ولا رهوة " رواه أبو الخطاب من أصحاب الإمام أحمد في
رؤوس المسائل، والمنقبة الطريق الضيقة تكون بين الدارين والركح بضم الراء
ناحية البيت من ورائه وما كان فضاء للسابلة والمارة، والرهوة الجوبة تكون في
محلة القوم يسيل فيها ماء المطر وغيره.
307

والنوع الثاني: ما تجب فيه الشفعة تبعا وهو البناء والغرس إن كان مبيعا مع
الأرض وجبت فيه الشفعة تبعا للأرض إن كان فيها ما يحتمل قسمته الاجبار،
وإن لم يحملها لم تجب فيه الشفعة عند الشافعي، ووجبت فيه عند أبي العباس بن
سريج، وهو قول أبي حنيفة، وإن كان البناء والغرس منفصلا عن الأرض في البيع
فلا شفعة فيه عند الشافعي وأبي حنيفة.
وقال مالك: يجب الشفعة في البناء المنفرد وفى الثمار والمقائي والمباطخ لاتصاله
بعراص الأرض المستحق فيها الشفعة وهذا خطأ لقوله صلى الله عليه وسلم " الشفعة
فيما لم يقسم " رواه البخاري. فإذا أوقعت الحدود فلا شفعة فجعل حدود القسم
شرطا في إبطال الشفعة، فدل على استحقاقها فيما يجبر فيه على القسمة، ولان
البناء والغرس تبع لأصله، فلما لم يستحق في الأرض شفعة لخروجها عن العقد لم
يجب في البناء والغرس شفعة، وان دخلت في العقد، فإذا تقرر ألا شفعة فيما
أفرد بالبيع من البناء والغرس، وكانت دار ذات علو مشترك، وسفلها لغير
الشركاء في علوها فباع أحد الشركاء في العلو حقه نظر في السقف، فإن كان
لأرباب السفل فلا شفعة في الحصة المبيعة من العلو لأنها بناء مفرد، وإن كان
السقف لأرباب العلو ففي وجوب الشفعة في الحصة المبيعة منه وجهان.
(أحدهما) لا شفعة فيه لأنه لا يتبع أرضا (والوجه الثاني) فيه الشفعة،
لان السقف كالعرصة. ولقول الشافعي في كتاب الصلح ان السقف أرض لصاحب
العلو، ولأنه إذا حاز أحدهما حصة من البناء والسقف أمكنه سكناه كالأرض.
والنوع الثالث: لا تجب فيه الشفعة لا مقصودا ولا تبعا وهو سائر الأشياء
سوى ما ذكرنا، وقال عطاء بن أبي رباح: الشفعة واجبة في كل مشترك من
متاع وحيوان وغيره في صنوف الأموال وسائر الكلام معه.
وأما القسم الثالث وهو من تجب له الشفعة فهو الخليط في الملك المبيع دون
الجار، وقد مضى الكلام مع أبي حنيفة في شفعة الجوار، وإذا كان كذلك فلا
فرق بين أن يكون الخليط وافر السهم وبين أن يكون قليله حتى لو خالط بنسبة
واحد من ألف استحق الشفعة، وإذا تعدد الخلطاء كانت بينهم على ما سيأتي.
308

ولا فرق بين أن يكون ملكه صار إليه بابتياع أو ميراث أو هبة أو وصية
من بائع الشقص أو من غيره لأنه مالك قد يستضر بسوء المشاركة ويتأذى
بمؤونة المقاسمة. وأما إذا كانت حصة الخليط وقفا نظر في الوقف فإن كان
عاما كالوقف على الفقراء والمساكين، أو كان خاصا لا يملك كالوقف على جامع
فلا يستحق به شفعة في المبيع، وإن كان خاصا على مالك الوقف على رجل بعينه
أو على جماعة بأعيانهم فلا يملك به الواقف شفعة لزوال ملكه عن الوقف، فأما
الموقف عليه، فقد اختلف قول الشافعي هل يكون مالكا لرقبة الوقف أم لا؟
على قولين، أحدهما: يستحق به الشفعة لثبوت ملكه واستضراره بسوء المشاركة
والوجه الثاني: لا شفعة له لأنه ليس بتام الملك ولا مطلق التصرف.
ثم الشفعة تجب للأب على ابنه وللابن علي أبيه وللرجل على زوجته وللمرأة
على زوجها وللسيد على مكاتبه وللمكاتب على مولاه ولا يستحقها السيد على عبده
ولا على مدبره ولا على أم ولده ولا يستحقها أحدهم عليه.
وأما القسم الرابع وهو ما تؤخذ به الشفعة فهو ما جعل بدلا عن الشقص
المنقول الملك من ثمن إن كان في أجرة أو بيع أو أجرة المثل إن كان في إجارة
أو مهر المثل إن كان في صداق على ما سنفصله والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) وان اشترى شقصا وشرط الخيار فيه للبائع لم يكن للشفيع أن
يأخذ قبل انقضاء الخيار لأنه في أحد الأقوال لا يملك الشقص، وفى القول
الثاني ملكه موقوف، فلا يعلم هل يملك أم لا؟ وفى القول الثالث يملكه ملكا
غير تام، لان للبائع أن يفسخه، ولأنه إذا أخذ بالشفعة أضر بالبائع لأنه
يسقط حقه من الفسخ والضرر لا يزال بالضرر وان شرط الخيار للمشترى وحده
فان قلنا أنه لا يملك أو قلنا أنه موقوف لم يأخذ لما ذكرناه في خيار البائع وان
قلنا: إنه يملكه ففيه قولان أحدهما لا يأخذه، لأنه بيع فيه خيار فلا يأخذ به
كما لو كان الخيار البائع. والثاني: يأخذه وهو الصحيح لأنه لا حق فيه لغير
309

المشترى، والشفيع يملك اسقاط حقه، ولهذا يملك اسقاط حقه بعد لزوم البيع
واستقرار الملك، فلان يملك قبل لزومه أولى.
(فصل) وتثبت الشفعة للكافر على المسلم لحديث جابر رضي الله عنه
لا يحل له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه فان باعه ولم يؤذنه فهو أحق به ولم يفرق
ولأنه خيار جعل لدفع الضرر عن المال فاستوى فيه الكافر والمسلم
كالرد بالعيب.
(فصل) ولا يأخذ بالشفعة من لا يقدر على العوض لأنه إذا أخذه ولم
يقدر على العوض أضر بالمشترى والضرر لا يزال بالضرر فان أحضر رهنا أو
ضمينا أو عوضا عن الثمن لم يلزم قبوله لان ما استحق أخذه بالعوض لم يلزم قبول
الرهن والضمين والعوض فيه كالمبيع في يد البائع.
(فصل) ويأخذ الشفيع بالعوض الذي ملك به فان اشتراه أخذه بالثمن لما
روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فان باعه فهو أحق به
بالثمن وإن اشترى شقصا وسيفا بثمن قسم الثمن عليهما على قدر قيمتهما وأخذ
الشقص بحصته وترك السيف على المشترى بحصته لان الثمن ينقسم على المبيع على
قدر قيمته ولا يثبت للمشترى الخيار في فسخ البيع بتفريق الصفقة عليه لأنه
دخل في العقد على بصيرة أن الصفقة تفرق عليه وإن اشترى الشقص بثمن ثم
ألحق به زيادة أو حط عنه بعضه أو وجد به عيبا فأخذ عنه الأرش فعلى
ما ذكرناه في بيع المرابحة فان نقص الشقص في يد المشترى فقد روى المزني أن
الشفيع يأخذه بجميع الثمن وقال في القديم يأخذه بالحصة واختلف أصحابنا في ذلك
فمنهم من قال فيه قولان وهو الصحيح أحدهما يأخذه بجميع الثمن كالعبد المبيع إذا
ذهبت عينه في يد البائع فان المشترى يأخذه بجميع الثمن والقول الثاني أنه يأخذه
بالحصة وهو الصحيح لأنه أخذ بعض ما دخل في العقد فأخذه بالحصة كما لو كان
معه سيف. ومنهم من قال إن ذهب التأليف ولم يذهب من الاجزاء شئ أخذ
بالجميع لان الذي يقابله الثمن أجزاء العين وهي باقية فان تلف بعض الاجزاء
310

من الآجر والخشب أخذه بالحصة لأنه تلف بعض ما يقابله الثمن فأخذ الباقي
بالحصة وحمل القولين على هذين الحالين ومنهم من قال إن كانت العرصة باقية
أخذ بالجميع لان العرصة هي الأصل وهي باقيه فان ذهب بعض العرصة أخذ
بالحصة لأنه تلف بعض الأصل فأخذ الباقي بالحصة وحمل القولين على هذين
الحالين ومنهم من قال إن تلف بجائحة من السماء أخذ بالجميع لأنه لم يحصل للمشترى
بدل التالف وأن تلف بفعل آدمي أخذ بالحصة لأنه حصل للمشترى بدل التالف
وحمل القولين على هذين الحالين.
(فصل) وإن اشترى الشقص بمائة مؤجلة ففيه ثلاثة أقوال أحدها يأخذ
بمائة مؤجلة لان الشفيع تابع للمشترى في قدر الثمن وصفته فكان تابعا له في
التأجيل. والثاني: أنه يأخذه بسلعة تساوى مائة إلى الأجل، لأنه لا يمكن أن
يطالب بمائة حالة لان ذلك أكثر مما لزم المشترى، ولا يمكن أن يطالب بمائة
مؤجلة، لان الذمم لا تتماثل فتجعل ذمة الشفيع مثل ذمة المشتري، فوجب أن
يعدل إلى جنس آخر بقيمته كما يعدل فيما لا مثل له إلى جنس آخر بقيمته.
والثالث: وهو الصحيح أنه يخبر بين أن يعجل الثمن ويأخذ، وبين أن يصبر إلى
أن يحل فيأخذ، لأنه لا يمكن أن يطالب بمائة حالة ولا بمائة مؤجلة لما ذكرناه
ولا يمكن أن يأخذ بسلعة لان الشفيع إنما يأخذ بالمثل أو بالقيمة، والسلعة
ليست بمثل الثمن ولا هي قيمته فلم يبق إلا التخيير.
(فصل) وإن باع رجل في مرضه من وارثه شقصا يساوى ألفين بألف ولم
تجز الورثة بطل البيع في نصفه لأنه قدر المحاباة فان اختار الشفيع أن يأخذ النصف
بالألف لم يكن للمشترى الخيار في تفريق الصفقة لان الشفيع أخذه بألف وان
لم يأخذه الشفيع فللمشتري أن يفسخ البيع ليفرق الصفقة عليه وان باع من أجنبي
وحاباه والشفيع وارث فاحتمل الثلث المحاباة ففيه خمسة أوجه أحدها أن البيع
يصح في نصف الشقص بالألف، وللشفيع أن يأخذه ويبقى النصف للمشترى
بلا ثمن، لان المحاباة وصية والوصية للمشترى تصح، ولا تصح للشفيع، فيصير
كأنه وهب له النصف وباع منه النصف بثمن المثل، ويأخذ الشفيع النصف بجميع
311

الثمن، ويبقى النصف للمشترى بغير ثمن. والثاني أن البيع يصح في نصفه بالألف
لأنا إن دفعنا الجميع إلى الشفيع بالألف حصلت الوصية للوارث وإن دفعنا إليه النصف
بالألف وتركنا النصف على المشترى ألزمنا الشفيع في النصف أكثر مما لزم
المشترى فلم يبق إلا الفسخ بالنصف، ودفع النصف إلى الوارث من غير محاباة،
والثالث أن البيع باطل لان المحاباة تعلقت بالكل فلا يجوز أن تجعل في نصفه،
والرابع أنه يصح البيع وتسقط الشفعة، لان اثبات الشفعة يؤدى إلى إبطال
البيع، وإذا بطل البيع سقطت الشفعة، وما أدى ثبوته إلى سقوطه وسقوط
غيره سقط فسقطت الشفعة وبقى البيع، والخامس وهو الصحيح أنه يصح البيع
في الجميع بالألف، ويأخذ الشفيع الجميع بالألف، لان المحاباة وقعت للمشترى
دون الشفيع والمشترى أجنبي فصحت المحاباة له
(الشرح) قال الشافعي: وان علم يعنى بالبيع فطالب مكانه فهي له، وإن
أمكنه فلم يطلب بطلت شفعته قال الماوردي في الحاوي: اعلم أن الشفعة تجب
بالبيع وتستحق بالطلب وتملك بالأخذ، فإذا بيع الشقص ووجبت فيه الشفعة
لم يخل حال الشفيع من أحد أمرين اما أن يعلم بالبيع أو لا يعلم، فإن لم يعلم
بالبيع فهو على حقه من الشفعة إذا علم وان تطاول به الزمان كالمشتري إذا لم
يعلم بعيب ما اشترى كان على حقه من الرد إذا علم، وأما إذا علم بالبيع فله حالتان
إحداهما: أن يكون قادرا على الطلب. والحال الثانية: أن يكون معذورا، فإن كان
قادرا على الطلب فله ثلاثة أحوال إحداها: أن يبادر إلى الطلب، فهو على
حقه من الشفعة، ولا يحتاج إلى حكم حاكم في الاخذ بها لأنها ثبتت بنصر واجمال
وإنما يفتقر إلى حكم الحاكم فيما ثبت باجتهاده فلو قال الشفيع حين بادر بالطلب:
انظروني بالثمن واحكموا لي بالملك لم يجز، وهكذا لو قال: احكموا لي بالملك
متراخص الثمن لم يجز أن يحكم له بالملك. لأنه لا يجوز أن يزيل الضرر عن نفسه
بالشفعة ويدخله على المشترى بالتأخير، فان سأل التوقف حتى يحضر الثمن جاز
أن ينظره الحاكم به يوما أو يومين وأكثره ثلاثا، فان جاء بالثمن كان على
حقه من الشفعة وان أخره عن المدة التي أنظره الحاكم بها بطلت شفعته.
312

والحال الثانية: من أحوال الشفيع بعد علمه بالبيع أن يعفو عن الشفعة،
والعفو على ضربين صريح وتعريض، فالصريح أن يقول: قد عفوت عن الشفعة
أو تركتها أو نزلت عنها: فهذا مبطل لشفعته، والتعريض أن يساوم المشترى
في الشقص أو يطالبه بالقسمة أو يستأجر منه أو يساميه، فهل يكون التعريض
بهذه الألفاظ كصريح العفو في إبطال الشفعة أم لا؟ على قولين نص عليهما في
القديم (أحدهما) أنها كالصريح في إبطال الشفعة (والثاني) إنه على حقه ما لم
يصرح بالعفو لما فرق الله به في الخطبة بين حكم التعريض والتصريح.
فأما قوله للمشترى " بارك الله لك في صفقتك " فليس بعفو صريح ولا
تعريض لان وصوله إلى الثمن من الشفيع بركة في صفقته، وهكذا لو شهد للمشترى
في ابتياعه لم يكن عفوا صريحا ولا تعريضا، لان الشهادة وثيقة في البيع الذي
بتمامه يستحق الشفعة. وجعل أبو حنيفة هذين الامرين عفوا صريحا
والحال الثالثة بعد علمه بالبيع وتمكنه من الاخذ أن يمسك عن الطلب.
ففيه ثلاثة أقاويل:
(أحدها) وهو قوله في الجديد والاملاء وبه تقع الفتيا أن الشفعة قد بطلت
بتقضي زمان المكنة وان حق طلبها على الفور
(والثاني) أن حق الشفعة مؤقت بثلاثة أيام بعد المكنة، فإن طلبها إلى ثلاث
كان على حقه، وان مضت الثلاث قبل طلبه بطلت قاله الشافعي في كتاب السير
قال وهذا استحسان وليس بأصل.
(والقول الثالث) أن حق الشفعة ممتد على التراخي من غير تقدير بمدة،
وبه قال في القديم.
(قلت) فإذا قيل بالأول (الفور) وبه قال أبو حنيفة، فإن أخذها فهي له
وإن تركها رجع باللائمة على نفسه، وإذا قيل بالثاني بتقديره بثلاثة أيام بعد
المكنة فوجهه أن الشفعة موضوعه لارتفاق الشفيع بها في التماس الحظ لنفسه في
الاخذ والترك والاختيار والمشترى في حسن المشاركة ليقر، أو في سوء المشاركة
ليصرف فكان تقديرها بثلاثة أيام يتوصل بها إلى إتمام حظه، ولا يضر المشترى
313

بتأخيره بخلاف ما قال مالك من تقديرها بسنة في رواية ابن وهب، وبأربعة
أشهر في رواية غيره.
دليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " الشفعة كنشيطة عقال، فان أخذها فهي له
وإن تركها رجع باللائمة على نفسه
(فرع) تثبت الشفعة للكافر على المسلم إذا كان شريكا لحديث جابر " لا يحل
له أن يبيعه حتى يؤذن شريكه " وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز والنخعي
وإياس بن معاوية وحماد بن أبي سليمان والثوري ومالك والشافعي والعنبري
وأصحاب الرأي لعموم الحديث. وقال أحمد: لا شفعة لمسلم على كافر وتصح من
الذمي للذمي، وهو مروى عن الحسن والشعبي أخذ من حديث " لا شفعة لنصراني "
وهو حديث لم يصح إسنادا
ودليلنا عموم الحديث وقواعد البياعات لأنها خيار ثابت لدفع الضرر بالشراء
فاستوى فيه المسلم والكافر كالرد بالعيب
(فرع) قال الشافعي: وان اشتراها بثمن إلى أجل قيل للشفيع: ان شئت
تعجل الثمن وتعجل الشفعة، وان شئت فدع حتى يحل الأجل، وصورتها في
رجل اشترى شقصا بثمن مؤجل وحضر الشفيع مطالبا ففيه قولان (أحدهما) وهو
قوله في القديم وبه قال مالك: إن للشفيع أن يتعجل أخذها ويكون الثمن مؤجلا
في ذمته إن كان ثقة، وإن كان غير ثقة أقام ضمينا ثقة. قال الشافعي: وهذا
أشبه بصلاح الناس.
ووجه هذا القول شيئان (أحدهما) أن الشفيع يدخل مدخل المشترى في
قدر الثمن وصفاته والأجل وصفاته، فاقتضى أن يأخذها بمثل الثمن وأجله.
(والثاني) أن تعجيل المؤجل زيادة في القدر تتفاضل الأثمان به وليس للمشترى
أن يشتريه. وتأخير الشفيع دفع له عن حقه، وليس للمشترى دفع الشفيع
والقول الثاني وبه قال في الجديد، وهو قول أبي حنيفة أن الشفيع لا يتعجل
الشقص بالثمن المؤجل، ويقال له: أنت مخير بين أن تعجل الثمن فتعجل أخذ
الشقص وبين أن تصبر إلى حلول الأجل فتدفع الثمن وتأخذ الشقص. ووجه
هذا القول شيئان (ا) إن أخذ الشفعة باستحقاق والأجل يدخل في عقود
314

المراضاة ولا يدخل في الاستحقاق ما لم يكن مراضاة (ب) إن رضا البائع بذمة
المشترى لا يوجب على المشترى أن يرضى بذمة الشفيع، ولذلك حل دين الميت
لان رضى ربه بذمته لا يوجب عليه الرضا بذمة وارثه
فإذا تقرر توجيه القولين فللمشتري والشفيع أربعة أحوال (أحدها) أن
يعجل الشفيع الثمن فيجبر المشترى على تسليم الشقص على القولين معا، لأنه
قد تعجل مؤجلا وأمن خطرا.
والحال الثانية أن يرضى المشترى تسليم الشقص وتأجيل الثمن فيلزم الشفيع
أن يأخذ أو يعفو على القولين معا، لأنه قد يتعجل منافع الشقص حتى لا يستضر
بتعجيل الثمن، فإن لم يفعل وانتظر لاخذه بحلول الأجل بطلت شفعته على قوله
في القديم، وفى بطلانها على الجديد وجهان. أحدهما وهو قول أبى العباس بن
سريج أنه على شفعته إلى حلول الأجل، لان تأجيل الثمن قد جعل حق الطلب
مقدرا به. والوجه الثاني وهو الأصح: أن شفعته قد بطلت لان طلبه قدر بمدة
الأجل رفقا بالمشترى فصار من حقوقه لا من حقوق الشفيع. والحال الثالثة:
أن يدعو المشترى إلى تعجيل الشئ وتسليم الشقص، فلا يلزم الشفيع ذلك على
القولين معا، لان تعجيل المؤجل استزادة في الثمن والمشترى ممنوع من الاستزادة
فيه، فلو قال المشترى: أنا أحطه من الثمن بسبب التعجيل قدر ما بين الحال
والمؤجل لم يجز لامرين:
(أحدهما) أنه مفض إلى الربا (والثاني) أن ما استحق تأجيله لم يلزم تعجيله
والحال الرابعة: أن يطالب الشفيع بالشقص معجلا، ويؤخر الثمن إلى حلول الأجل
فهي مسألة القولين، فعلى قوله في القديم يجاب إلى ذلك إن كان ثقة أو
يضمنه ثقة، فعلى هذا لو مات المشترى حل ما عليه من الثمن ولم يحل ما على
الشفيع منه وكان باقيا إلى أجله، ولو مات الشفيع حل ما عليه من الثمن وللمشتري
أن يتعجله وما عليه باق إلى أجله، ولو كان المشترى قد دفع الثمن رهنا لم يلزم
الشفيع أن يدفع به رهنا، لان الرهن وثيقة في الثمن، وليس في جملة الثمن وعلى
قوله في الجديد يمنع من الشقص إلى حلول الأجل والمشترى يمكن من التصرف
فيه بما شاء من سكنى واستغلال وإجارة وبيع ما لم يستهلك، لان تعلق حق
315

الشفيع به لا يزيل ملك المشتري عنه فلا يمنع من التصرف في ملكه إلا بما يفضى
إلى إبطال حق الشفيع من الاستهلاك والاتلاف وليس البيع استهلاكا لأنه بعد
البيع يقدر على أخذه بأي العقدين شاء فلو مات المشترى حل ما عليه من الثمن
وكان للشفيع أن يصبر إلى حلول الأجل، ولو مات الشفيع كان لورثته أن يصبروا
إلى حلول الأجل لأنه لم يتعلق بذمته ما يحل بموته بخلاف القول الأول
(فرع) لو باع الرجل في مرض موته شقصا بألف درهم وهو يساوى ثلاثة
آلاف حاباه في ثمنه بألفين فللمشتري وللشفيع ثلاثة أحوال: إحداهن أن يكونا
أجنبيين من البائع، والثانية أن يكون المشترى وارثا والشفيع أجنبيا، والثالثة
أن يكون المشترى أجنبيا والشفيع وارثا. فأما الحال الأولى فلا تخلو حال البائع
من أن يملك مالا غير الشقص أو لا، فإن كان يملك مالا تخرج المحاباة من ثلثه
صحت المحاباة وأخذ المشترى الشقص بألف درهم وللشفيع أن يأخذه منه بالألف
لأنه يملك الشفعة بالثمن مسترخصا كان أو غاليا، وإن كان البائع لا يملك غير
الشقص فللمشتري الخيار في أن يأخذ عن الشقص بألف درهم أو يرد ليحصل له
نصف المحاباة، وهي ألف تكون ثلث التركة ويرجع إلى الورثة ثلث الشقص
وقيمته ألف مع ألف حصلت لهم ثمنا فيصير مثلي المحاباة بالألف ثم للشفيع أن
يأخذ بالألف ثلثي الشقص الصائر للمشترى بالألف.
أما الحال الثانية: وهو أن يكون المشترى وارثا والشفيع أجنبيا فالمحاباة
باطلة. وإن خرجت من الثلث لأنها وصية لوارث والمشترى بالخيار بين أن
يأخذ ثلث الشقص بألف وبين أن يرده، فإن أخذ مثله بالألف فللشفيع أخذ
الثلث منه بالألف، وان رده المشترى عرض على الشفيع قبل رده، فإن رضى
أن يأخذ ثلث الشقص بألف كان أحق وبطل رد المشترى لأنه يرد ليحصل له
الثمن الخارج من يده وقد حصل له ذلك من جهة الشفيع فوصل إلى حقه ومنع
من إبطال حق الشفيع برده، كالمنع من رده بعيب لو ظهر إذا رضى الشفيع،
ويكون عهدة الشفيع على المشترى، فلو أن باقي الورثة أجازوا للوارث محاباته
وأعطوا الشقص كله بالألف جاز. وفيما يأخذه الشفيع قولان مبنيان على
اختلاف قولين في إجازة الورثة هل تكون عطية أو إمضاء؟
316

(أحدهما) أنه امضاء فعلى هذا للشفيع أن يأخذ الشقص كله بالألف (والثاني)
أنه ابتداء عطية فعلى هذا يأخذ ثلث الشقص بالألف ويخلص للمشترى ثلثاه
لأنها عطية له خالصة. وأما الحال الثالثة وهو أن يكون المشترى أجنبيا والشفيع
وارثا، فالمحاباة وهي ألفا درهم ثلاثة أحوال: حال يحتمل الثلث جميعها، وحال
لا يحتمل شيئا منها، وحال يحتمل الثلث بعضها، فإن لم يحتمل الثلث شيئا منها
لإحاطة الدين بالتركة بطلت المحاباة وكان للمشترى الخيار في أخذ ثلث الشقص
بالألف أو رده، فإن أخذه كان الشفيع أحق به، وإن كان وارثا لأنه لا محاباة
فيه. وان احتمل الثلث جميع المحاباة لأنه ذو مال تخرج الألفان من ثلثه فالمحاباة
بثلثي الشقص. وان احتمل الثلث بعضها وهو أن لا يملك غير الشقص المقوم
بثلاثة آلاف درهم احتمل الثلث نصف المحاباة وهو ثلث الشقص. وفيها أربعة
أوجه حكاها ابن سريج:
(أحدها) أنها جائزة للمشترى والشفيع لان المشترى مقصود بها فصحت
له، والشفيع داخل عليه فوجبت له. فعلى هذا يأخذ المشترى ثلثي الشقص
بألف درهم وللشفيع أخذ هذين الثلثين بالألف ويرجع الثلث على الورثة مع
الألف الصائر إليهم ثمنها
والوجه الثاني: أن المحاباة جائزة للمشترى دون الشفيع، لان المشترى ممن
تصح محاباته - وهو بها مقصود - والشفيع ممن لا تصح محاباته، وهو بها
غير مقصود.
فعلى هذا يأخذ المشترى ثلث الشقص بألف، وللشفيع أن يأخذ منه ثلثه
بألف ويرجع إلى الورثة الثلث، فيصير الشقص أثلاثا: ثلثه للورثة، لان
الثلث لا يحتمل، وثلثه للمشترى لأنها محاباة له، وثلثه للشفيع بعد رد
المحاباة التي لا تصح له.
والوجه الثالث: أن المحاباة باطلة للمشترى وللشفيع جميعا، لأنها قد تفضى
إلى الشفيع الذي لا يملكها وهي مقترنة بالمبيع الذي لا يجوز أن يفرد عنها،
فعلى هذا للمشترى أن يأخذ ثلث الشقص بالألف، وللشفيع أن يأخذه منه
بالألف ويرجع الثلثان على الورثة.
317

والوجه الرابع أن المحاباة موقوفة مراعاة فإن عفى الشفيع عن شفعته صحت
المحاباة للمشترى واستحق الشفيع المحاباة بشفعته، لأنها ليست محاباة من المشترى
ألا تراه يأخذها منه جبرا بلا اختيار.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن اشترى الشقص بعرض فإن كان له مثل كالحبوب والادهان
أخذه بمثله، لأنه من ذوات الأمثال، فأخذ به كالدراهم والدنانير وإن لم يكن له
مثل كالعبيد والثياب أخذه بقيمته لان القيمة مثل لما لا مثل له ويأخذه بقيمته
حال وحوب الشفعة كما يأخذ بالثمن الذي وجب عند وجوب الشفعة وان اشترى
الشقص بعبد وأخذ الشفيع بقيمته ووجد البائع بالعبد عيبا ورده أخذ قيمة
الشقص وهل يثبت التراجع للشفيع والمشترى بما بين قيمة العبد وقيمة الشقص
فيه وجهان أحدهما لا يتراجعان لان الشفيع أخذ بما استقر عليه العقد وهو قيمة
العبد فلا يتغير بما طرأ بعده والثاني يتراجعان فإن كانت قيمة الشقص أكثر رجع
المشترى على الشفيع وإن كانت قيمة العبد أكثر رجع الشفيع على المشترى لأنه
استقر الشقص على المشترى بقيمته فثبت التراجع بما بين القيمتين وان وجد
البائع بالعبد العيب وقد حدث عنده عيب آخر فرجع على المشترى بالأرش نظرت
فإن أخذ المشترى من الشفيع قيمة العبد سليما لم يرجع عليه بالأرش لان الأرش
دخل في القيمة وإن أخذ قيمته معيبا فهل يرجع بالأرش فيه وجهان أحدهما
لا يرجع لأنه أخذ الشقص بقيمة العبد المعيب الذي استقر عليه العقد. والثاني
يرجع بالأرش لأنه استقر الشقص عليه بقيمة عبد سليم فرجع به على الشفيع.
(فصل) وان جعل الشقص أجرة في إجارة أخذه الشفيع بأجرة مثل
المنفعة فإن جعل صداقا في نكاح أو بدلا في خلع أخذ الشفيع بمهر مثل المرأة
لان المنفعة لا مثل لها فأخذ بقيمتها كالثوب والعبد وان جعل متعة في طلاق
امرأة أخذ الشفيع بمتعة مثلها لا بالمهر لان الواجب بالطلاق متعة مثلها
لا المهر.
(فصل) والشفيع بالخيار بين الاخذ والترك لأنه حق ثبت له لدفع الضرر
318

عنه فخير بين أخذه وتركه وفى خياره أربعة أقوال قولان نص عليهما في القديم
أحدهما له على التراخي لا يسقط إلا بالعفو أو بما يدل على العفو كقوله بعني أو
قاسمني وما أشبههما لأنه حق له لا ضرر على المستحق عليه في تأخيره فلم يسقط
إلا بالعفو كالخيار في القصاص والثاني أنه بالخيار إلى أن يرفعه المشترى إلى الحاكم
ليجبره على الاخذ أو العفو لأنا لو قلنا أنه على الفور أضررنا بالشفيع لأنه لا يأمن
مع الاستعجال أن يترك والحظ في الاخذ أو يأخذه والحظ في الترك فيندم وإن
قلنا أنه على التراخي إلى أن يسقط أضررنا بالمشترى لأنه لا يقدر على التصرف
والسعي في عمارته خوفا من الشفيع فجعل له إلى أن يرفع إلى الحاكم ليدفع
عنه الضرر.
والثالث نص عليه في سير حرملة أنه بالخيار إلى ثلاثة أيام لأنه لا يمكن أن
يجعل على الفور لأنه يستضر به الشفيع ولا أن يجعل على التراخي لأنه يستضر
به المشترى فقدر بثلاثة أيام لأنه لا ضرر فيه على الشفيع لأنه يمكنه أن يعرف
ما فيه من الحظ في ثلاثة أيام ولا على المشترى لأنه قريب.
والرابع نص عليه في الجديد أنه على الفور وهو الصحيح لما روى أنس رضي الله عنه
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال الشفعة لمن واثبها وروى أنه قال الشفعة
كنشطة العقال إن قيدت ثبتت وان تركت فاللوم على من تركها. فعلى هذا ان أخر
الطلب من غير عذر سقط لأنه على الفور فسقط بالتأخير من غير عذر كالرد
بالعيب وان أخره لطهارة أو صلاة أو طعام أو لبس ثوب أو اغلاق باب فهو على
شفعته لأنه ترك الطلب لعذر وان قال سلام عليكم أنا مطالب بالشفعة ثبتت
الشفعة لان السلام قبل الكلام سنة فلا تسقط به الشفعة وان قال بارك الله في
صفقة يمينك أنا مطالب بالشفعة لم تسقط لان الدعاء له بالبركة لا يدل على ترك
الشفعة لأنه يجوز أن يكون دعاء للصفقة بالبركة لأنها أوصلته إلى الاخذ بالشفعة
وان قال صالحني عن الشفعة على مال لم يصح الصلح لأنه خيار فلا يجوز أخذ
العوض. عنه كخيار الشرط وفى شفعته وجهان أحدهما تسقط لأنه أعرض عن
طلبها من غير عذر والثاني لا تسقط لأنه تركها على عوض ولم يسلم له العوض
319

فبقي على شفعته فان أخذه بثمن مستحق ففيه وجهان أحدهما تسقط لأنه ترك
الاخذ الذي يملك به من غير عذر والثاني لا تسقط لأنه استحق الشقص بمثل
الثمن في الذمة فإذا عينه فيما لا يملك سقط التعيين وبقى الاستحقاق كما لو اشترى
شيئا بثمن في الذمة ووزن فيه ما لا يملك.
(الشرح) قال الشافعي وللشفيع الشفعة بالثمن الذي وقع به البيع، وهذا
كما قال: وإنما أخذه بالثمن لرواية بعضهم ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم نصا، ولأنه يدخل
مدخل المشترى فوجب أن يأخذ الشقص بما أخذه المشترى، ولان عدولهما عن
الثمن لا يخلو من ثلاثة أحوال فاسدة، إما أن يأخذه بما يرضى به المشترى، وفى
ذلك ضرر على الشفيع لأنه قد لا يرضى إلا ببعض الثمن، وإما أن يأخذه بالقيمة
فقد تكون أقل من الثمن فيستضر المشترى وقد يكون أكثر من الثمن فيستضر
الشفيع، وإذا بطلت هذه الأحوال فثبت أخذه بالثمن.
فإذا ثبت أن الشفيع يأخذه بالثمن فلا يخلو أن يكون الثمن مما له مثل كالدراهم
والدنانير والبر والشعير أو مما لا مثل له كالحيوان والعروض، فإن كان مما له مثل
أخذه بمثله جنسا وصفة وقدرا، وإن كان مما لا مثل له اخذه الشفيع بقيمته في
أقل الأحوال من وقت العقد إلى وقت تسليم المشترى له إلى البائع، لأنه إن
زاد فالزيادة حادثة في ملك البائع لم يتناولها العقد، وإن نقص فالنقصان مضمون
على المشترى فخرج من العقد.
فلو كان الثمن ألف درهم فدفعها المشترى إلى البائع فوجدها البائع زيوفا فهو
بالخيار بين أن يسامح وبين أن يبدلها، فإن رضى بها فللشفيع أن يأخذ الشقص
بألف درهم جياد، أو لو كان الثمن حيوانا فاعور الحيوان في يد المشترى
فللبائع الخيار بين فسخ البيع في الحيوان وبين الرضا بالعور وإمضاء البيع فإن
رضى بالعور أخذه الشفيع بقيمة الحيوان أعور. وقال أبو حنيفة: يأخذه بقيمته
سليما كما يأخذه بمثل الألف جيادا، لأنه ليس الرضا بالعيب الحادث خطأ في
الثمن وهذا خطأ، لان رضاه بعيبه رضا منه بأنه هو الثمن بعينه والفرق بين
الحيوان والألف أن عور الحيوان لما أحدث له خيارا في فسخ البيع صار الحيوان
320

الأعور ثمنا وزيافة الدراهم لا تحدث له خيارا في فسخ البيع، وإذا استحق أخذ
بدلها فصار الجيد ثمنا له.
(فرع) إذا اشترى شقصا من دار بمائة دينار ثم وجد به عيبا نقصه عشر
الثمن فصالحه البائع عن العيب على شئ كمذياع صغير أو كبش ثم حضر الشفيع
فله أخذ الشقص بتسعين دينارا لان المشترى قد استرجع العشر أرشا، فإن
استحق المذياع أو الكبش من يد المشترى أو ردها بخيار شرط أو عيب نظر،
فإن دفع البائع إلى المشترى العشرة التي هي أرش العيب فقد وصل إلى حقه من
تمام الثمن ولا مطالبة بينه وبين الشفيع، وإن امتنع البائع من دفعها ولم يرض إلا
برد المبيع لم يجبر على بذل الأرش، وقيل للشفيع: إن دفعت إلى المشترى عشرة
لتتم المائة التي دفعها ثمنا جمعت لك الشفعة، وإن امتنعت لم تجبر على دفعها ولزمك
رد الشقص على المشترى واسترجاع التسعين التي دفعتها، فإذا عاد الشقص إلى
المشترى كان بالخيار بين أن يأخذه معيبا بالمائة كلها وبين أن يرده، فإن رضى
بأخذه بالمائة فلا شفعه للشفيع إن عاد يريدها لأنها قد عرضت عليه بالمائة فردها
فلو أن الشفيع أنكر تقدم العيب وتصادق عليه البائع والمشترى كان القول قول
الشفيع مع يمينه على العلم دون البت ولا يصدقان في الازدياد عليه، فان نكل
الشفيع حلف المشترى دون البائع لأنه هو المتروك لنقص العيب، فان حلف
كان الشفيع مخبرا بين دفع العشرة تكملة المائة أو الرد.
(فرع)
وقال الشافعي: فان تزوجها على شقص فهو للشفيع بقيمته وهذا كما قال:
إذا تزوجها على شقص أصدقها وجب فيه الشفعة وهكذا لو خالعها عليه، وقال
أبو حنيفة: لا شفعه فيه استدلالا بأمرين.
أحدهما: أنه مملوك بغير مال فلم تجب فيه الشفعة كالهبة والميراث.
والثاني: أن البضع لا يقوم إلا في عقد أو شبهة عقد، وليس بين الشفيع
وبينهما ما يوجب تقويم بضعها.
321

ودليلنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: الشفعة فيما لم يقسم، ولأنه عقد
معاوضة فجاز أن تثبت فيه الشفعة كالبيع، ولأنه معنى وضع لرفع الضرر عن المالك
فوجب أن يثبت في الصداق كالرد بالعيب، ولأنه معنى يوجب زوال اليد
المستحدثة عن المشترى فوجب أن يستحق زوال اليد عن الصداق كالاستحقاق
ولان كل عضو استحق فيه إقباض الشقص معاوضة، استحق به إقباضه بشفعة
كالبيع، ولان كل قبض وجب في عقد البيع وجب في عقد الصداق كالقبض الأول
وبيانه أن في البيع قبضين، قبض المشترى من البائع وقبض الشفيع من الزوجة
وأما الجواب عن قوله: إنه مملوك بغير مال فهو أن البضع في حكم الأموال
لامرين. أحدهما: أنه يعاوض عليه بمال في الصداق والخلع، وما لم يكن في حكم
الأموال فلا يجوز أن يعاوض عليه بمال.
والثاني: أنه معتبر في اغتصابه بالمال وما لم يكن مالا لم يقوم في استهلاكه
بالمال، ثم المعنى في الهبة والميراث أنه مملوك بغير بدل فلم تجب فيه الشفعة،
والصداق مملوك ببدل فوجبت فيه الشفعة.
واما الجواب عن قوله: ان البضع لا يقوم الا في عقد أو شبهة عقد فهو أنه
غير مسلم لان المغتصبة مقومة البضع عندنا على غاصبها والمشهود بطلاقها مقومة
البضع على الشهود إذا رجعوا للزوج دونها، فصار بضعها مقوما في غير عقد
وشبهته في حقها وحق غيرها فلم يمنع من تقويمه في شفعة صداقها.
فإذا ثبت وجوب الشفعة في الصداق والخلع فمذهب الشافعي أنه مأخوذ بمهر
المثل. وقال مالك وابن أبي ليلى يؤخذ بقيمته لا بمهر المثل، وحكى نحوه عن
الشافعي في القديم لان المهر قد يزاد فيها وينقص فخالفت البيوع، وهذا فاسد من
وجهين، أحدهما: وجود هذا المعنى في الأثمان لجواز الزيادة والنقصان فيها،
ثم لم يمتنع أن يؤخذ الشقص بمثل الثمن، كذلك لا يمتنع في الصداق أن يؤخذ
بقيمة البضع، والثاني: أن ما لا مثل له من الأعواض يوجب الرجوع إلى قيمة
العوض دون الشقص كالعبد والثوب، كذلك البضع الذي لا مثل له يوجب
الرجوع إلى قيمته من المهر دون الشقص والله أعلم.
322

(فرع) مضى كلامنا في الخيار للشفيع بين الاخذ والترك والمدة التي يجوز له
فيها الرد، ونزيد البحث فنقول:
إذا قيل بأن حق الشفعة مقدر بثلاثة أيام بعد المكنة فوجهه أن الشفعة
موضوعه لارتفاق الشفيع بها في التماس الحظ لنفسه في الاخذ والترك والاختيار
والمشترى في حسن المشاركة ليقر أو في سوء المشاركة ليصرف. وقلنا إنه لو روعي
فيه الفور ضاق على الشفيع، ولو جعل على التأبيد أضر بالمشترى فاحتاج إلى
مدة يتوصل بها الشفيع إلى إتمام حظه ولا يستضر المشترى بتأخيره فكان أولى
الأمور تقديرها بثلاثة أيام لامرين:
أحدهما: أن الثلاث حد في الشرع لمدة الخيار. والثاني أنها أقصى حد القلة
وأدنى حد الكثرة. ألا ترى أن الله تعالى قد قضى بهلاك قوم أنظرهم بعده ثلاثا،
فقال: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب، وقد أذن النبي
صلى الله عليه وسلم أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا، فعلى هذا لو حصل في
خلال الثلاثة الأيام زمان يتعذر فيه المطالبة لم يحتسب به منها، ولقوله من زمان
الملكة ثلاثة أيام يتمكن جميعها من المطالبة، فإذا قيل بأن حق الشفعة على
التراخي فوجهه قوله صلى الله عليه وسلم " فإن باع فشريكه أحق به حتى يؤديه "
فكان على عموم الأوقات، ولان ما ملك من الحقوق لا يبطل بالتأخير كالديون
ولان تأخير الشفعة أرفق بالمشترى في حصول المنفعة وتملك الأجرة، فعلى هذا
الذي يسقط حقه من الشفعة ثلاثة أقاويل.
(أحدها) العفو الصريح دون غيره من التعويض، وليس للقاضي أن يقطع
خياره إذا رفع إليه، لان الحاكم لا يملك إسقاط الحقوق وكالديون.
والثاني: أن شفعته تسقط بأحد أمرين: إما بالعفو الصريح أو بما يدل عليه
من التعريض على ما ذكرنا.
والقول الثالث: أن شفعته تسقط بأحد ثلاثة. أحدها العفو الصريح أو بما
يدل عليه من التعريض أو بأن يتحاكم المشترى إلى القاضي فيلزمه الاخذ أو الترك
فإن أخذ وإلا حكم عليه بإبطال الشفعة، لان القاضي مندوب إلى فصل الخصومات
323

فإذا تقرر ما وصفنا وأخذ الشفيع الشقص بالشفعة لم يجز أن يشرط فيه خيار
الثلاث، وفى استحقاق خيار المجلس وجهان حكاهما أبو القاسم: أحدهما له خيار
المجلس لأنه يوافق عقد البيع. والثاني لا خيار له لأنه يملك الشقص ملك إجبار
لا عن مراضاة. والله تعالى أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن وجبت له الشفعة وهو محبوس أو مريض أو غائب نظرت
فإن لم يقدر على الطلب ولا على التوكيل ولا على الاشهاد فهو على شفعته، لأنه
ترك بعذر، وان قدر على التوكيل فلم يوكل ففيه ثلاثة أوجه (أحدها) وهو
قول القاضي أبى حامد أنه تسقط شفعته لأنه ترك الطلب مع القدرة فأشبه إذا
قدر على الطلب بنفسه فترك
(والثاني) وهو قول أبى على الطبري أنه لا تسقط، لان التوكيل إن كان
بعوض لزمه غرم وفيه ضرر، وإن كان بغير عوض احتاج إلى التزام منه وفى
تحملها مشقة وذلك عذر فلم تسقط به الشفعة
ومن أصحابنا من قال: إن وجد من يتطوع بالوكالة سقطت شفعته لأنه ترك
الطلب من غير ضرر، فإن لم يجد من يتطوع لم تسقط لأنه ترك للضرر، وان
عجز عن التوكيل وقدر على الاشهاد فلم يشهد ففيه قولان (أحدهما) تسقط
شفعته لان الترك قد يكون للزهد وقد يكون للعجز وقد قدر على أن يبين ذلك
بالشهادة، فإذا لم يفعل سقطت شفعته (والثاني) لا تسقط لان عذره في الترك
ظاهر فلم يحتج معه إلى الشهادة
(فصل) وإن قال أخرت الطلب لأني لم أصدق، فإن كان قد أخبره
عدلان سقطت شفعته لأنه أخبره من يثبت بقوله الحقوق، وان أخبره حر أو
عبد أو امرأة ففيه وجهان (أحدهما) لا تسقط لأنه ليس ببينة (والثاني) تسقط
لأنه أخبره من يجب تصديقه في الخبر وهذا من باب الاخبار فوجب تصديقهم فيه
(فصل) فإن قال المشترى اشتريت بمائة فعفا الشفيع ثم بان أنه اشترى
بخمسين فهو على شفعته لأنه عفا عن الشفعة لعذر، وهو انه لا يرضاه بمائه
324

أو ليس معه مائة. وإن قال اشتريت بخمسين فعفا ثم بان أنه كان قد اشتراه بمائة
لم يكن له أن يطالب لان من لا يرضى الشقص بخمسين لا يرضاه بمائة، وإن قال
اشتريت نصفه بمائة فعفا ثم بان أنه قد اشترى جميعه بمائة فهو على شفعته لأنه
لم يرض بترك الجميع، وإن قال اشتريت الشقص بمائة فعفا ثم بان أنه كان قد
اشترى نصفه بمائه لم يكن له أن يطالب بالشفعة. لان من لم يرض الشقص بمائة
لا يرضى نصفه بمائه.
وإن قال اشتريت بأحد النقدين فعفا ثم بان أنه كان قد اشتراه بالنقد الاخر
فهو على شفعته لأنه يجوز أن يكون عفا لاعواز أحد النقدين عنده أو لحاجته
إليه. وإن قال اشتريت الشقص فعفا ثم بان أنه كان وكيلا فيه. وإنما المشترى
غيره، فهو على شفعته لأنه قد يرضى مشاركة الوكيل، ولا يرضى
مشاركة الموكل.
(فصل) وإن وجبت له الشفعة فباع حصته، فإن كان بعد العلم بالشفعة
سقطت شفعته، لأنه ليس له ملك يستحق به، وإن باع قبل العلم بالشفعة ففيه
وجهان (أحدهما) تسقط لأنه زال السبب الذي يستحق به الشفعة، وهو الملك
الذي يخاف الضرر بسببه (والثاني) لا تسقط لأنه وجبت له الشفعة والشركة
موجودة فلا تسقط بالبيع بعده.
(فصل) ومن وجبت له الشفعة في شقص لم يجز أن يأخذ البعض ويعفو
عن البعض، لان في ذلك اضرارا بالمشترى في تفريق الصفقة عليه، والضرر
لا يزال بالضرر، فإن أخذ البعض وترك البعض سقطت شفعته لأنه لا يتبعض
فإذا عفا عن البعض سقط الجميع كالقصاص. وان اشترى شقصين من أرضين في
عقد واحد فأراد الشفيع أن يأخذ أحدهما دون الاخر ففيه وجهان، أحدهما:
لا يجوز، وهو الأظهر لما فيه من الاضرار بالمشترى في تفريق الصفقة عليه.
(والثاني) يجوز لان الشفعة جعلت لدفع الضرر وربما كان الضرر في أحدهما
دون الاخر، فإن كان البائع أو المشترى اثنين جاز للشفيع أن يأخذ نصيب أحدهما
دون الاخر، لان عقد الواحد مع الاثنين عقدان، فجاز أن يأخذ أحدهما دون الاخر كما لو اشتراه في عقدين متفرقين
325

(فصل) وإن كان للشقص شفعاء نظرت فإن حضروا وطلبوا أخذوا،
فإن كانت حصة بعضهم أكثر ففيه قولان (أحدهما) أنه يقسم الشقص بينهم على
عدد الرؤوس، وهو قول المزني، لان كل واحد منهم لو انفرد أخذ الجميع، فإذا
اجتمعوا تساووا كما لو تساووا في الملك (والثاني) أنه يقسم بينهم على قدر الأنصباء
لأنه حق يستحق بسبب الملك فيقسط عند الاشتراك على قدر الاملاك كأجرة
الدكان وثمرة البستان، وإن عفا بعضهم عن حقه أخذ الباقون جميعه. لان في
أخذ البعض إضرارا بالمشترى، فإن جعل بعضهم حصته لبعض الشركاء لم يصح
بل يكون لجميعهم، لان ذلك عفو وليس بهبة. وإن حضر بعضهم أخذ جميعه،
فإن حضر آخر قاسمه، وإن حضر الثالث قاسمهما، لأنا بينا أنه لا يجوز التبعيض،
فإن أخذ الحاضر الشقص وزاد في يده، بأن كان نخلا فأثمرت، ثم قدم الغائب
قاسمه على الشقص دون الثمار، لان الثمار حديث في ملك الحاضر فاختص بها.
وإن قال الحاضر: أنا آخذ بقدر مالي لم يجز، وهل تسقط شفعته فيه وجهان
أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها تسقط لأنه قدر على أخذ الجميع
وقد تركه. والثاني: وهو قول أبي إسحاق أنها لا تسقط لأنه تركه بعذر، وهو
أنه يخشى أن يقدم الغائب فينتزعه منه. والترك للعذر لا يسقط الشفعة، كما قلنا
فيمن أظهر له المشترى ثمنا كثيرا فترك ثم بان بخلافه
(فصل) وإن كان المشترى شريكا بأن كان بين ثلاثة دار فباع أحدهم
نصيبه من أحد شريكيه لم يكن للشريك الثاني أن يأخذ الجميع لان المشترى أحد
الشريكين فلم يجز للآخر أن يأخذ الجميع - كما لو كان المشترى أجنبيا - وقال
أبو العباس للشريك أن يأخذ الجميع، لأنا لو قلنا إنه يأخذ النصف لتركنا النصف
على المشترى بالشفعة، والانسان لا يأخذ بالشفعة من نفسه، والمذهب الأول،
لان المشترى لا يأخذ النصف من نفسه بالشفعة، وإنما يمنع الشريك أن يأخذ
الجميع، ويبقى الباقي على ملكه
(فصل) وان ورث رجلان من أبيهما دارا ثم مات أحدهما وخلف ابنين
ثم باع أحد هذين الابنين حصته ففي الشفعة قولان. أحدهما أن الشفعة بين الأخ
والعلم وهو الصحيح لأنهما شريكان للمشترى فاشتركا في الشفعة كما لو ملكاه بسبب واحد
326

(والثاني) أنها للأخ دون العم لان الأخ أقرب إليه في الشركة لأنهما ملكاه
بسبب واحد والعم ملك بسبب قبلهما فعلى هذا إن عفا الأخ عن حقه فهل يستحق
العم فيه وجهان.
أحدهما. يستحق به لأنه شريك وإنما قدم الأخ عليه لأنه أقرب في الشركة
فإذا ترك الأخ ثبت للعم كما نقول فيمن قتل رجلين أنه يقتل بالأول لان حقه
أسبق فإذا عفا ولى الأول قتل بالثاني: والوجه الثاني أنه لا يستحق لأنه لم يستحق
الشفعة وقت الوجوب فلم يستحق بعده.
وإن كان بين ثلاثة أنفس دار فباع أحدهم نصيبه من رجلين، وعفا شريكاه
عن الشفعة، ثم باع أحد المشتريين نصيبه، فعلى القولين (أحدهما) أن الشفعة
للمشترى الآخر لأنهما ملكاه بسبب واحد، والشريكان الآخران ملكاه بسبب
سابق لملك المشتريين (والثاني) أنها بين الجميع لان الجميع شركاء في الملك في حال
وجوب الشفعة، وان مات رجل عن دار وخلف ابنتين وأختين ثم باعت إحدى
الأختين نصيبها ففيه طريقان، من أصحابنا من قال: هي على القولين.
أحدهما: أن الشفعة للأخت لأنها ملكت مع الأخت بسبب واحد وملك
البنات بسبب آخر.
والثاني: أن الشفعة بين البنات والأخت لان الجميع شركاء في الملك: ومنهم
من قال: إن الشفعة بين البنات والأخت قولا واحدا، لان الجميع ملكن الشقص
في وقت واحد لم يسبق بعضهن بعضا.
(الشرح) قال الشافعي: فان علم وأخر الطلب فإن كان له عذر من حبس أو
غيره فهو على شفعته والا فلا شفعة له، ولا يقطعها طول غيبة، وإنما يقطعها
أن يعلم فيتركه، وهذا كما قال: إذا علم الشفيع بالبيع وكان معذورا بترك الطلب
اما لغيبة أو مرض أو حبس فله ثلاثة أحوال.
أحدها: أن يقدر على الترك، فان وكل كان على حقه من الشفعة بل لو وكل
وهو قادر على الطلب بنفسه جاز وكان على شفعته، لان من ثبت له حق فله الخيار
327

في استيفائه بنفسه أو بوكيله، وهل إذا قدر على التوكيل مع عجزه عن الطلب
بنفسه يكون التوكيل واجبا وشرطا في بقاء شفعته أم لا؟ على ثلاثة أوجه.
أحدها وهو قول أبى حامد المروروذي في جامعه: إن التوكيل واجب عليه
بعوض وغير عوض لكونه قادرا به على الطلب.
والوجه الثاني وهو قول أبى على الطبري في إفصاحه: إن التوكيل غير
واجب عليه بعوض وغير عوض، لان بذل العوض التزام غرم.
والوجه الثالث وهو قول بعض المتأخرين: إن وجد متطوعا بالوكالة وجب
عليه التوكيل لقدرته على الطلب من غير ضرر، وإن لم يجد إلا مستجعلا -
والمستجعل طالب الجعالة لم يجب عليه التوكيل لما فيه من التزام زيادة على الثمن،
فعلى هذا إن قيل بوجوب التوكيل بطلت شفعته إن لم يوكل، وان قيل: إنها
غير واجبة كان على شفعته.
والحال الثانية: أن يعجز عن التوكيل ويقدر على الاشهاد بالطلب، فعند
أبي حنيفة أن الاشهاد شرط في استحقاق الشفعة مع القدرة على الطلب ومع العجز
عنه وانه متى لم يشهد مع مكنته من الاشهاد بطلت الشفعة، وعند الشافعي أن
الاشهاد مع القدرة على الطلب ليس بواجب، لان الاشهاد إنما يراد ليكون بينة
له على إرادة الطلب فاستغنى عنه بظهور الطلب، فأما وجوب الاشهاد مع العجز
عن الطلب ففيه قولان.
أحدهما وهو ظاهر نص الشافعي أن الاشهاد ليس بواجب، وهو على شفعته
ان ترك كالقادر على الطلب.
والقول الثاني: أن الاشهاد واجب، وتركه مبطل للشفعة، والفرق بين القادر
على الطلب والعاجز عنه أن ظهور الطلب من القادر عليه يغنى عن الاخبار
بمراده، والعاجز عنه قد يحتمل أن يكون امساكه تركا للشفعة، ويحتمل أن يكون
قصدا للطلب مع المكنة فافتقر إلى نفى الاحتمال في الاخبار عن مراده بالاشهاد
فعلى هذا يجب أن يشهد ويكون بينة كاملة عند الحاكم وهو أن يشهد شاهدين عدلين
أو شاهدا وامرأتين، فإن أشهد شاهدا واحدا ليحلف معه لم يجز لان من الحكام
328

من لا يحكم بالشاهد واليمين فلم يصر مستوثقا لنفسه بالاشهاد، ولو أشهد عبدا
أو صبيانا أو فساقا لم يجزه.
وقال أبو حنيفة: يخرجهم به اشهادهم لأنه قد ينعتق العبيد ويرشد الفساق
ويبلغ الصبيان وهذا خطأ، لان مقصود الشهادة هو الأداء، فلم ينفع اشهاد من
لا يصح منه الأداء، وليس ما ذكره من جواز انتقالهم من أحوالهم بأغلب من
جواز بقائهم على أحوالهم، فلو يشهد وطالب عند الحاكم بالشفعة فهو أقوى من
الاشهاد في ثبوت الشفعة.
والحال الثالثة: أن يعجز عن التوكيل والاشهاد فهو على حقه من الشفعة،
وان تطاول به الزمان ما لم يقدر على القدوم للطلب، فإن قدر على القدوم فأخذ
فيه على المعهود في الناقب والمسير من غير ارهاق ولا استعجال كان على شفعته،
وان أخر قدومه عن وقت المكنة بطلت شفعته، قال الماوردي: فإن اختلفا
فقال المشترى تأخرت مع القدرة عليه، وقال الشفيع: تأخرت للعجز عنه
فالقول قول الشفيع مع يمينه إذا كان ما قال ممكنا ويكون على شفعته ولم يقبل
قول المشترى في ابطالها، وهكذا لو قال المشترى: قدمت بغير المطالبة، وقال
الشفيع: قدمت للطلب كان القول قوله مع يمينه، وهو على شفعته.
(فرع) وهكذا لو قال المشترى: تقدم علمك على زمان الطلب، وقال الشفيع
لم أعلم الا وقت الطلب فالقول قول الشفيع مع يمينه، فأما ما يصير به عالما فالبينة
العادلة، وكل جهر طرق سمعه صوته ووقع في نفسه، ولو من امرأة أو عبد أو
كافر لان ما تعلق بالمعاملات يستوي فيه خبر الحر والعبد والعدل والفاسق إذا
وقع في النفس أن المخبر صادق.
وقال أبو حنيفة: لا يصير عالما الا بالبينة العادلة لان الحق لا يثبت الا بها
فلو علم الشفيع بالبيع فأمسك عن الطلب لجهله باستحقاق الشفعة ففي بطلانها
وجهان مخرجان من اختلاف قولين في الأمة إذا أعتقت تحت عبد فأمسك عن
الفسخ لجهله باستحقاقه.
(فرع) إذا باع بمصر شقصا من دار بدمشق وحضر الشفيع فأخر طلبها مع
329

القدرة عليه ليأتي دمشق فيطالبه بها بطلت شفعته لان قدرته على أخذها بدمشق
كقدرته على أخذها بمصر. ولكن لو أنكر المشترى بمصر أنه خليط فأخرها
ليقيم البينة في دمشق كان على شفعته إذا لم يجد بينة بدمشق
قال الماوردي واختلف أصحابنا فيمن شهد به البينة في استحقاق الشفعة على
وجهين: أحدهما أنه لا شفعة له إلا أن تشهد له البينة بالملك، وبه قال أبو حنيفة
لئلا ينتزع ملكا بأمر محتمل
والوجه الثاني: أنه يستحق الشفعة إذا شهدت له البينة باليد، وبه قال
أبو يوسف، لأنها حجة في الملك، لكن يحلف الشفيع مع بينته أنه مالك، ثم
يحكم له بالشفعة.
وإذا عرض الشقص قبل البيع على الشفيع فلم يشتره ثم بيع فله المطالبة بالشفعة
ولا يسقط حقه منها بامتناعه من الشراء لوجوبها بالبيع الحادث. فلو عفا الشفيع
عنها قبل الشراء كان عفوه باطلا وهو على حقه من الشفعة بعد الشراء لأنه عفا
عنه قبل استحقاقها فصار كإبرائه من الدين قبل وجوبه.
فإذا صالح الشفيع المشترى على مال يأخذه منه عوضا على تركه الشفعة لم يجز
وكان صلحا باطلا وعوضا مردودا، كما لا يجوز أن يعاوض على ما قد استحقه
من دين أو شرط.
وفى بطلان شفعته بذلك وجهان (أحدهما) أنها قد بطلت لأنه تارك لها.
والوجه الثاني: أنها لم تبطل لان الترك مشروط بعوض فلما بطل العوض بطل
الترك. وإذا عفا الشفيع عن بعض الشفعة لم يتبعض العفو، وفيه وجهان.
أحدهما أن العفو باطل وهو على حقه من الشفعة في الكل، لان العفو لما لم يكمل
بطل، وبه قال أبو يوسف
والوجه الثاني وهو قول أبى العباس بن سريج أن العفو صحيح في الكل تعليقا
لما ظهر من حكم التسليم، وبه قال محمد بن الحسن
(فرع) إذا وجبت الشفعة بخليط فباع حصته قبل الاخذ أو الترك لم يخل
حاله عند بيعها من أحد أمرين، إما أن يبيعها قبل العلم بالشفعة أو بعد العلم بها،
فإن باع حصته بعد العلم بالشفعة فلا شفعة له، لان المعنى الموجب لها من سوء
330

المشاركة والخوف من مئونة القسمة قد ارتفع بالبيع وزوال المالك، فعلى هذا لو
باع بعض حصته ففي بطلان شفعته وجهان مخرجان من العافي عن بعض شفعته.
أحدهما: أنها لا تبطل وهو على حقه منها لأنها لا تستحق بقليل الملك كما تستحق
بكثيره. فأما إن كان بيعه لحصته قبل العلم بشفعته ففي بطلان الشفعة وجهان.
أحدهما: وهو قول أبى العباس بن سريج إن شفعته قد بطلت لأنه باع الملك
المقصود بالشفعة كما له منافعه. والثاني حكاه أبو حامد الأسفراييني أنه على شفعته
لأنه قد ملكها، وليس في بيعه قبل العلم عفو عنها. والوجه الأول أصح
فإذا علم بالمبيع وقيل له إن الثمن ألف درهم فعفا عن الشفعة ثم بان ان الثمن
مائة دينار كانت له الشفعة ولا يؤثر فيها ما تقدم من العفو لأنه قد يعفو عن
الدراهم لاعوازها معه، وهكذا لو قيل له إن الثمن مائة دينار فعفا عن الشفعة
ثم بان أنه ألف درهم كان على شفعته.
وقال أبو يوسف: إن كان قيمة الألف مائة دينار فصاعدا فلا شفعة له،
وإن كانت قيمته أقل فله الشفعة، وقد خطأ أصحابنا هذا.
وإذا تعدد الشفعاء فقد قال الشافعي: إذا حضر أحد الشفعاء أخذ الكل
بجميع الثمن، فان حضر الثاني أخذ منه النصف بنصف الثمن، فان حضر الثالث
أخذ منهما الثلث بثلث الثمن حتى يكونوا في ذلك سواء. وصورتها في دار بين
أربعة شركاء باع أحدهم حصته على غير شركائه فالشفعة فيها واجبه لشركائه
الثلاثة، فإن كانوا حاضرين وطلب بعضهم الشفعة دون بعض فيعطى الطالب
وتبطل الشفعة لمن عفا، وللطالب أن يأخذ جميع الشقص بشفعته وليس له أن
يبعض ويأخذ الثلث لما فيه من تفريق الصفقة
فإذا كانوا جميعا غائبين فهم على حقوقهم من الشفعة ما لم يكن منهم عفو،
فإذا ادعى المشترى على أحدهم العفو عن شفعته لم تسمع دعواه، لان للآخرين
أن يأخذا الجميع فلم يكن لدعواه معنى، ولكن لو ادعى شريكان على الثالث منهم
العفو سمعت دعواهما لما فيه من توفر حقه عليهما وأحلف لهما ولم تسمع شهادة
المشترى عليه بالعفو لما فيها من شفعة عن مطالبته
ولو ادعى المشترى على الثلاثة كلهم العفو كان له إحلافهم لأنهم لو نكلوا
331

ردت اليمين عليه وسقط حقهم من الشفعة، فان حلف أحد الثلاثة ونكل اثنان
منهم لم ترد أيمانهما على المشترى بنكولهما، لان عفو بعض الشفعاء مما يوجب
الترك على المشترى ويأخذه من لم يعف ثم لا يقضى للحالف بالشفعة في الكل الا
أن يحلف أن شريكيه قد عفوا، فإذا حلف أخذ كل الشقص وإن نكل أخذ منه
قدر حصته وأخذ الناكلان منه قدر حصته.
وقال الشافعي: إذا كان الاثنان اقتسما كان للثالث نقض قسمتهما، وهذا
كما قال: إذا كان للشقص المبيع ثلاثة شفعاء فحضر اثنان فأخذا الشقص
بينهما لغيبة الثالث منعا من قسمته لان في الشقص حقا لشريكهما الغائب مع السهم
الذي لم بقديم ملك، فان اقتسماه كانت القسمة باطلة، فلو حضر فعفا عن الشفعة
لم تصح القسمة المتقدمة لفسادها
ولو أراد الشفيعان الحاضران أن يبيعا ما كان لهما بقديم الملك وما أخذاه
بحادث الشفعة لم يمنعا من ذلك لحق الغائب وقدرته على أخذه بأي العقدين شاء،
فإذا قدم الغائب وقد باع الحاضران ما أخذاه بالشفعة فهو بالخيار بين أن يأخذ
بالشفعتين وبين أن يأخذ بالأولى ويعفو عن الثانية، وبين أن يأخذ بالثانية ويعفو
عن الأولى. فان أراد أن يأخذ بالشفعتين أخذ بالأولة ثلث الشقص وبطل البيع
فيه وأخذ بالثانية نصف الباقي وهو ثلث الشقص، لأنه أخذ شفعتين ففضل له
ثلث الشقص بالشفعتين
وإن أراد أن يأخذ بالشفعة الثانية ويعفو عن الأولة صح البيع في الجميع وأخذ
نصف الشقص كله لأنه أخذ شفعتين. وإن أراد أن يأخذ بالشفعة الأولة ويعفو
عن الثانية أخذ ثلث الشقص لأنه أخذ ثلث الشفعة، فان أحب أن يأخذه بشفعته
الثانية صح البيع في الكل وكان له أخذ الجميع بها لأنه شفيع واحد. وإن أراد أن
يأخذه بالشفعتين أخذ ثلث الشقص بشفعته الأولة وبطل فيه البيع وصح في ثلثيه
فيما كان لهما بقديم الملك وأخذهما بشفعته الثانية
(فرع) قال الشافعي: ولو ورثه رجلان فمات أحدهما وله ابنان فباع أحدهما
نصيبه فأراد أخوه الشفعة دون عمه فكلاهما سواء، لأنهما فيها شريكان.
332

قال المزني: هذا أصح من أحد قوليه: إن أخاه أحق بنصيبه. قال المزني: وفى
تسويته بين الشفعتين على كثرة ما للعم على الأخ. وصورتها في دار بين رجلين،
إما أخوين أو أجنبيين ملكاها بسبب واحد أو بسببين مات أحدهما وترك ابنين
فصارت الدار بينهم على أربعة أسهم للباقي من الأخوين المالكين سهمان ولكل
واحد من ابن الميت سهم واحد، باع أحد الابنين حقه وهو سهم
واحد على أجنبي فالشفعة مستحقة فيه، وهل يختص بها أخوه أو تكون بينه
وبين العم. فيه قولان
أحدهما: وهو أحد قوليه في القديم: ان الأخ أحق بشفعة أخيه من العم
لامرين: أحدهما أنهما اشتركا في سبب ملكه، وتميز العم عنهما بسببه فكان الأخ
لمشاركته في السبب أحق بشفعة أخيه من العم لتفرده (بسببه)؟
(والثاني) أن ملك الأخوين كان مجتمعا في حياة الأب وقد يجرى عليه حكم
الاجتماع بعد موت الأب. ألا ترى لو ظهر على الأب دين تعلق بالسهمين معا
ولم يتعلق بسهم العم. والقول الثاني قاله في الجديد وبعض القديم أن الشفعة
مشتركة بين الأخ والعم لامرين:
(أحدهما) أنه لما تساويا في الاشتراك وجب أن يتساويا في الاستحقاق
كالمختلفي الأسباب (والثاني) أن ما أخذ بالشفعة أخذت به الشفعة، وقد
ثبت أن العم لو باع حصته تشاركا في شفعته، فاقتضى أن يشاركهما بشفعته.
فإذا تقرر توجيه القولين، فان قيل بأن الأخ أحق بها تفرد بأخذها دون العم،
فان عفا الأخ عنها احتمل استحقاق العم لها وجهين.
(أحدهما) لا حق له فيها لخروجه عن استحقاقها
والوجه الثاني: يستحقها لخلطته، وإنما قدم الأخ عليه لامتزاج سببه،
وان قيل إنها بينهما نصفين بالسوية، وبه قال أبو حنيفة لامرين: أنها تستحق
بقليل الملك كما تستحق بكثيره حتى لو ملك أحد الشريكين سهما من عشرة أسهم
أخذ به شفعة التسعة الباقية، ولو بيع السهم أخذه صاحب التسعة الباقية فاقتضى
أن يتساوى الشريكان فيهما.
333

وإن تفاضلا في المال اعتبارا بأعداد الرؤوس لا بقدر الاملاك كالعبد
المشترك يملك أحد الثلاثة نصفه والثاني ثلثه والثالث سدسه فإذا أعتق صاحبا
النصف والسدس حقوقهما معا قوم عليهما الثلث نصفين وعتق بينهما بالسوية
كذلك الشفعة.
والثاني: أن استحقاق الشفعة لرفع الضرر بها وقد يستضر صاحب الأقل
كاستضرار صاحب الأكثر فوجب أن يساوى صاحب الأقل منهما صاحب
الأكثر فعلى هذا تصير الدار بينهم على ثمانية أسهم، خمسة منها للعم منها أربعة
بقديم ملكه وسهم بشفعته، وثلاثة أسهم للأخ منها سهمان بقديم ملكه وسهم
بشفعته. والقول الثاني قاله في الجديد - وهو الصحيح - أنها بينهما على قدر
مالهما اعتبارا بالاملاك، وبه قال مالك لامرين.
أحدهما: أن منافع الملك يتوزع على قدره كالأرباح في التجارة والنتاج في
الحيوان. والثاني: أن الشفعة إنما وجبت لرفع الضرر بها عن الملك الداخل عليه
بحق لا بظلم مثل مؤونة القسمة ونقصان القيمة بعد القسمة، وهذا يقل ويكثر
لقلة الملك وكثرته فوجب أن يتقسط على الاملاك دون الملاك.
وأما سوء المشاركة فظلم يمكن رفعه بالسلطان، وفى هذا انفصال، فعلى هذا
تكون الشفعة بينهما على ثلاثة أسهم لصاحب النصف سهمان ولصاحب الربع
سهم واحد وتصبر جميع الدار بينهما أثلاثا.
فأما المزني فإنه اختار من القولين الأولين أن تكون الشفعة بينهما وهو أصح القولين
ثم اختار من القولين الآخرين أن يكون بينهما نصفين استدلالا بما ذكرنا من العتق
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن تصرف المشترى في الشقص ثم حضر الشفيع نظرت، فان
تصرف بما لا تستحق به الشفعة كالوقف والهبة والرهن والإجارة فللشفيع أن
يفسخ ويأخذ لان حقه سابق للتصرف ومع بقاء التصرف لا يمكن الاخذ فملك
الفسخ، وإن تصرف بما تستحق به الشفعة كالبيع والصداق فهو بالخيار بين أن
334

يفسخ ويأخذ بالعقد الأول وبين أن يأخذ بالعقد الثاني، لأنه شفيع بالعقدين،
فجاز أن يأخذ بما شاء منهما، وإن قايل البائع أو رده عليه بعيب فللشفيع أن
يفسخ الإقالة والرد بالعيب، ويأخذه لان حقه سابق ولا يمكن الاخذ مع الإقالة
والرد بالعيب، فملك الفسخ، وإن تحالفا على الثمن وفسخ العقد جاز للشفيع أن
يأخذ بالثمن الذي حلف عليه البائع، لان البائع أقر للمشترى بالملك وللشفيع
بالشفعة بالثمن، الذي حلف عليه، فإذا بطل حق المشترى بالتحالف بقي حق
الشفيع، وإن اشترى شقصا بعبد ووجد البائع بالعبد عيبا ورده قبل أن يأخذ
الشفيع ففيه وجهان.
أحدهما: يقدم الشفيع لان حقه سابق لأنه ثبت بالعقد وحق البائع ثبت
بالرد، والثاني أن البائع أولى لان في تقديم الشفيع اضرارا بالبائع في إسقاط حقه
من الرد والضرر لا يزال بالضرر وإن أصدق امرأته شقصا وطلقها قبل الدخول
وقبل أن يأخذ الشفيع ففيه وجهان.
(أحدهما) يقدم الزوج على الشفيع لان حق الزوج أقوى لأنه ثبت بنص
الكتاب وحق الشفيع ثبت بخبر الواحد فقدم حق الزوج (الثاني) يقدم الشفيع
لان حقه سابق لأنه ثبت بالعقد وحق الزوج ثبت بالطلاق.
(الشرح) الأحكام: على المنصوص من حق الشفيع بقدم الملك أن يفسخ
تصرف المشترى في الشقص إذا بذله فيما لا تستحق به الشفعة كأن وقفه أو وهبه
أو رهنه أو آجره لسبق حقه على التصرف الحادث بعد قيام حقه في الشفعة لأنه
لا يملك الاخذ للشقص ما دام تصرفه نافذا فلا مناص من الفسخ. أما البيع
والصداق فهو مخير بين أن يأخذ بأحد العقدين، فإما أن يأخذ بالثمن الذي بذله
المشترى أو بالثمن الذي أخذه أو بمهر المثل بما هو الاحظ له.
فإذا تبايع الرجلان شقصا فعفا الشفيع عن شفعته فلا شفعة فيه بالإقالة لأنها رفع
للعقد وليست استيفاء ولم يكن الشفيع قد عفا حتى تقايلا كان للشفيع إبطال الإقالة
لما فيها من إسقاط حقه من الشفعة ثم يأخذ الشقص بشفعة البائع فلو كان مشترى
335

الشقص قد وقفه قبل عفو الشفيع فللشفيع إبطال الوقف وأخذ الشقص بالشفعة
وكذا إذا رهنه أبطل الرهن وأخذه بالشفعة، ولو أجره أخذه ثم له الخيار في
إمضاء الإجارة وفسخها، ولا تبطل بأخذ الشفيع بخلاف الرهن، فإن أمضاها
الشفيع فالأجرة للمشترى دون الشفيع لأنه عقدها في ملكه، ولو كان المشترى
قد باع الشقص على غيره كان الشفيع مخيرا بين إمضاء البيع وأخذه بالشفعة من
المشترى الثاني وبين فسخه وأخذه بالشفعة من المشترى الأول.
وفى الصداق خلاف بين الفقهاء فقد قال مالك وابن أبي ليلى: يأخذ الشقص
بقيمته لا بمهر المثل، وحكى نحوه عن الشافعي في القديم لان المهور قد يزاد فيها
وينقص فخالفت البيوع وهذا فاسد من وجهين.
(أحدهما) وجود هذا المعنى في الأثمان لجواز الزيادة والنقصان فيها ثم لم
يمنع ذلك من أن يؤخذ الشقص بمثل الثمن، كذلك لا يمتنع في الصداق أن يؤخذ
بقيمة البضع (والثاني) أن ما لا مثل له من الأعواض يوجب الرجوع إلى قيمة
العوض دون الشقص من ذلك البضع الذي لا مثل له فإنه يوجب الرجوع إلى
قيمته من المهر دون الشقص، فإذا ثبت أنه مأخوذ بمهر المثل فسواء كان قيمة المثل
بإزاء مهر المثل أو كان زائدا عليه أو ناقصا عنه حتى لو كان مهر المثل دينارا
وأخذ الشقص بمائة دينار فعلى هذا لو اختلفا في مهر المثل فترافعا فيه إلى الحاكم
ليجتهد في مهر مثلها ويسقط تنازعهما.
(فرع) قال الشافعي: فان طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف قيمة
الشقص وهذا كما قال: إذا طلقها الزوج وقد أصدقها شقصا من دار لم يخل
حال الطلاق من أن يكون قبل الدخول أو بعده، فإن كان بعد الدخول فلا رجوع
له بشئ منه، وإن كان قبل الدخول فقد استحق الرجوع بنصف الصداق لقوله
تعالى " وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف
ما فرضتم " ثم لا يخلو حال الشفيع من ثلاثة أحوال.
(أحدها) أن يكون قد أخذ الشقص من الزوجة شفعته فللزوج أن يرجع
عليها بنصف قيمة الشقص في أقل أحواله قيمة من حين أصدق إلى أن أقبض،
ويكون استحقاقه بالشفعة لزوال ملكها عنه ببيع أو هبة
336

والحال الثانية: أن يكون الشفيع قد عفا عن شفعته فيه فللزوج أن يرجع
عليها بنصفه لبقائه في يدها ولا شفعة على الزوج في النصف الذي ملكه بالطلاق
لأنه ملك بغير بدل.
والحال الثالثة: أن يكون الشفيع على حقه لعذر طال به فلم يعف ولم يأخذ
حتى طلق الزوج، فأيهما أحق بالشفعة؟ فيه وجهان " أحدهما " أن الزوج أحق
من الشفيع لان حقه ثابت بنص كتاب مقطوع به، وحق الشفيع ثبت استدلالا
بخبر الواحد فكان ظنيا، والقطعي يرد الظني، فعلى هذا يرجع الزوج بنصف
الشقص ويكون الشفيع بعد ذلك مخيرا في أخذ النصف الباقي بنصف مهر المثل.
والوجه الثاني وهو أصح أن الشفيع أحق به من الزوج لامرين:
(ا) لان الزوج يرجع عن الشقص إلى بدل، والشفيع لا يرجع عنه إلى بدل
(ب) أن حق الزوج متأخر وحق الشفيع أسبق، فعلى هذا يعرض على الشفيع
فان أخذه رجع الزوج عليها بنصف قيمته، وإن تركه رجع الزوج بنصفه، وقد
زعم بعض الأصحاب أن تخريج هذين الوجهين في اختلافهم في نصف الصداق هل
يملكه الزوج بالطلاق أو بالتملك، فان قيل بالطلاق كان أحق من الشفيع، وإن
قيل بالتملك كان الشفيع أحق.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان اشترى شقصا وكان الشفيع غائبا فقاسم وكيله في القسمة
أو رفع الامر إلى الحاكم فقاسمه وغرس وبنى ثم حضر الشفيع أو أظهر له ثمنا كثيرا
فقاسمه ثم غرس وبنى ثم بان خلافه وأراد الاخذ فان اختار المشترى قلع الغراس
والبناء لم يمنع لأنه ملكه فملك نقله ولا تلزمه تسوية الأرض لأنه غير متعد،
وإن لم يختر القلع فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ الشقص بالثمن والغراس والبناء
بالقيمة وبين أن يقلع الغراس والبناء ويضمن ما بين قيمته قائما ومقلوعا، لان
النبي صلى الله عليه سلم قال: لا ضرر ولا ضرار، ولا يزول الضرر
عنهما إلا بذلك.
337

(فصل) وإن اشترى شقصا وحدث فيه زيادة قبل أن يأخذ الشفيع
نظرت فإن كانت زيادته لا تتميز كالفسيل إذا طال وامتلأ، فان الشفيع يأخذه
مع زيادته لان ما لا يتميز يتبع الأصل في الملك كما يتبعه في الرد بالعيب، وإن
كانت متميزة كالثمرة فإن كانت ثمرة ظاهرة لم يكن للشفيع فيها حق لان الثمرة
الظاهرة لا تتبع الأصل كما قلنا في الرد بالعيب، وإن كانت غير ظاهرة ففيها
قولان. قال في القديم: تتبع الأصل كما تتبع في البيع. وقال في الجديد: لا تتبعه
لأنه استحقاق بغير تراض، فلا يؤخذ به إلا ما دخل بالعقد ويخالف البيع لأنه
استحقاق عن تراض يقدر فيه على الاستثناء فإذا لم يستثن تبع الأصل
(فصل) إذا أراد الشفيع أن يأخذ الشقص ملك الاخذ من غير حكم
الحاكم لان الشفعة ثابتة بالنص والاجماع فلم تفتقر إلى الحاكم كالرد بالعيب،
فإن كان الشقص في يد المشترى أخذه منه، وإن كان في يد البائع ففيه وجهان
أحدهما يجوز أن يأخذ منه لأنه استحق فملك الاخذ، كما لو كان في يد المشترى.
والثاني لا يجوز أن يأخذ منه، بل يجبر المشترى على القبض ثم يأخذه منه، لان
الاخذ من البائع يؤدى إلى إسقاط الشفعة، لأنه يفوت به التسليم، وفوات
التسليم يوجب بطلان العقد، فإذا بطل العقد سقطت الشفعة، وما أدى إثباته
إلى إسقاطه سقط.
(فصل) ويملك الشفيع الشقص بالأخذ لأنه تملك مال بالقهر فوقع الملك
فيه بالأخذ كتملك المباحات، ولا يثبت فيه خيار الشرط، لان الشرط إنما يثبت
مع تملك الاختيار، والشقص يؤخذ بالاجبار فلم يصح فيه شرط الخيار، وهل
يثبت له خيار المجلس فيه وجهان (أحدهما) يثبت لأنه تملك مال بالثمن فثبت
فيه خيار المجلس كالبيع (والثاني) لا يثبت لأنه إزالة ملك لدفع الضرر فلم يثبت
فيه خيار المجلس كالرد بالعيب.
(فصل) وإن وجد بالشقص عيبا فله أن يرده لأنه ملكه بالثمن فثبت له
الرد بالعيب كالمشتري في البيع، وإن خرج مستحقا رجع بالعهدة على المشترى
لأنه أخذ منه على أنه ملكه فرجع بالعهدة عليه كما لو اشتراه منه
338

(الشرح) قال الشافعي: ولو قاسم وبنى قيل للشفيع: إن شئت فخذ الثمن
وقيمة البناء أو دع لأنه بنى غير متعد فلا يهدم ما بناه
قال المزني: هذا غلط، وكيف لا يكون متعديا وقد بنى فيما للشفيع فيه شرك
مشاع، ولولا أن للشفيع فيه شركا ما كان شفيعا. وصورة هذه المسألة في رجل
اشترى شقصا من دار وقاسم عليه ثم بنى في حصته وحضر الشفيع مطالبا لشفعته قال الشافعي: قيل للشفيع إن شئت فخذ الشقص بثمنه وبقيمة البناء قائما، ولا
يجبر المشترى على قلعه لأنه بناء غير متعد، وهكذا عمارة الأرض للزرع.
قال المزني: هذا غلط من الشافعي لان القسمة إن وقعت مع الشفيع فقد
بطلت شفعته وصحت القسمة، وإن لم يقاسمه الشفيع فالقسمة باطلة والشفعة
واجبة، فلم تجتمع صحة القسمة مع بقاء الشفعة. وهذا الذي اعترض به المزني
على الشافعي من تنافى بقاء الشفعة وصحة القسمة غلط، لأنه قد تصح القسمة
مع بقاء الشفعة من خمسة أوجه.
(أحدها) أن يكون الشفيع غائبا وقد وكل في مقاسمة شركائه وكيلا فيطالب
المشترى الوكيل بمقاسمته على ما اشترى، فيجوز للوكيل أن يقاسمه لتوكيله في
المقاسمة، ولا يجوز أن يطالبه بالشفعة لأنه غير موكل في طلب الشفعة ويكون
الشفيع على شفعته بعد القسمة ويكون المشترى غير متعد في البناء.
والوجه الثاني: أن لا يكون للشفيع الغائب وكيل في القسمة فيأبى المشترى
التحاكم فيسأله أن يقاسمه على الغائب فيجوز للحاكم مقاسمة المشترى إذا كان
الشريك بعيد الغيبة وليس له أن يأخذ للغائب بالشفعة الا لمولى عليه، ولا تبطل
شفعة الغائب بمقاسمة الحاكم عنه، والمشترى غير متعد في البناء.
والوجه الثالث: أن يذكر المشترى للشفيع ثمنا موفورا فيعفو عن الشفعة
لوفور الثمن ويقاسم المشترى، ثم يبين أن الثمن أقل مما ذكره المشترى فالقسمة
صحيحه والشفعة واجبه والمشترى غير متعد ببنائه، لأنه بالكذب متعد في قوله
لا في قسمته وبنيانه، فصار كرجل ابتاع دارا بثمن قد داسه بعيب ثم بنى ووجد
البائع العيب في الثمن فعليه إذا رد المعيب واسترجع الدار أن يدفع إلى المشترى
قيمة البناء قائما لأنه بناء غير متعد في فعله، وان دلس كاذبا في قوله
339

والوجه الرابع أن ينكر المشترى الشراء ويدعى الهبة فيكون القول قوله مع
يمينه ولا شفعة عليه في الظاهر فيقاسمه الشريك ثم يبنى وتقوم البينة عليه بعد
بنائه بالشراء، فالشفعة واجبة مع صحة القسمة ولا يكون متعديا بالبناء مع جحوده
الشراء لأنه تعدى في القول دون الفعل
والوجه الخامس: أن يكون الشفيع طفلا أو مجنونا فيمسك الولي عن طلب
الشفعة ويقاسم المشترى، ثم يبلغ الطفل ويفيق المجنون فتكون له الشفعة مع
صحة القسمة، ولا يكون إمساك الولي عن الشفعة مبطلا للقسمة، ولا مقاسمته
مبطلا للشفعة.
فإذا صحت القسمة مع بقاء الشفعة من هذه الوجوه الخمسة وبطل اعتراض
المزني بها لم يجبر المشترى على قلع بنائه وقيل للشفيع إن شئت فخذ الشقص بثمنه
وقيمة البناء. وقال أبو حنيفة: يجبر المشترى على قلع بنائه ولا قيمة له على
الشفيع استدلالا بأن حق الشفيع أسبق من بنائه فصار كالاستحقاق بالغصب.
وهذا خطأ لان المشترى تام الملك قبل أخذ الشقص، ألا تراه يملك النماء،
ومن بنى في ملكه لم يتعد كالذي لا شفعة عليه، ومن بنى في ملكه لم يكن جواز
انتزاعه من يده موجبا لتعديه ونقض بنائه كالموهوب له إذا بنى ورجع الواهب
في هبته، ولان الشفعة موضوعه لإزالة الضرر فلم يجز أن تزال بضرر. وفى
أخذ المشترى بهدم بنائه ضرر.
فأما الجواب عما ذكره من إلحاقه بالغصب فهو تعدى الغاصب بتصرفه في
غير ملكه، وليس المشترى متعديا لتصرفه في ملكه
(فرع) قال الشافعي: ولو كان الشقص في النخل فزادت كان له أخذها
زائدة. أما النخل فلا يخلو حال بيعها من ثلاثة أقسام " أحدها " أن تباع مفردة
عن الأرض فلا شفعة فيها. وكذلك سائر الأشجار كالأبنية التي إذا أفردت
بالعقد لم تجب فيها الشفعة، لأنها مما ينتقل عن الأرض والمنقول لا شفعة فيه
كالزرع. والقسم الثاني أن تباع النخل مع الأرض فتجب فيها الشفعة تبعا للأرض
بخلاف الزرع، لأنه لا يتبع الأرض في البيع ولا يتبعها في الزرع، والفرق
بينهما ان إقرار الزرع في الأرض غير مستدام واقرار النخل والشجر مستدام.
340

وأوجب أبو حنيفة الشفعة في الزرع تبعا للأرض. والقسم الثالث أن يباع
النخل مع قرارها مفردة عما يتخللها من بياض الأرض ففي وجوب الشفعة
فيها وجهان، وكذلك بيع البناء مع قراره دون البياض على هذين الوجهين:
" أحدهما " فيه الشفعة لأنه فرع لأصل ثابت " والوجه الثاني " أنه لا شفعة فيه
لان قرار النخل يكون تبعا لها، فلما لم تجب الشفعة فيها مفردة لم تجب في تبعها
فإذا تقرر هذا وكان المبيع شقصا من أرض ذات نخل وشجر فزادت بعد البيع
وقبل أخذ الشفيع لغيبه أو عذر لا تبطل به الشفعة لم يخل حال الزيادة من أحد
أمرين: إما أن تكون مثمرة أو غير مثمرة، فإن كانت الزيادة غير مثمرة
كالفسيل إذا طال وامتلأ، والغرس إذا استغلظ واستوى فللشفيع أن يأخذ ذلك
بزيادته، لان مالا يتميز من الزيادة تبعا لأصله، وإن كانت الزيادة متميزة كالثمرة
الحادثة بعد البيع فلا يخلو حالها عند الاخذ بالشفعة من أن تكون مؤبرة أو غير
مؤبرة، فإن كانت مؤبرة فلا حق فيها للشفيع وهي ملك المشتري، لان ما كان
مؤبرا من الثمار لا يتبع أصله وعلى الشفيع أن يقرها على نخله إلى وقت الجداد،
وإن كانت الثمرة غير مؤبرة ففي استحقاق الشفيع لها قولان:
أحدهما: يستحقها لاتصالها كما يدخل في البيع تبعا. وهذا قوله في الجديد،
ويكون الفرق بين الشفعة والبيع أن البيع نقل ملك بعوض عن مراضاة فجاز أن
يكون ما لم يؤبر من الثمار تبعا للقدرة على استثنائها بالعقد، والشفعة استحقاق
ملك بغير مراضاة فلم يملك بها الا ما تناوله العقد، وهكذا الحكم في كل ما استحق
بغير مراضاة كالشفعة والتفليس، أو يكون بغير عوض كالرهن والهبة، هل
يكون ما لم يؤبر من الثمار فيها تبعا لأصلها على ما ذكرنا من القولين
(فرع) أما قوله: إذا أراد الشفيع أن يأخذ الشقص ملك الاخذ الخ، فقد
مضى قولنا ما حاصله إن كان الشفيع قادرا على الطلب فله ثلاثة أحوال:
(ا) أن يبادر إلى الطلب فهو على حقه من الشفعة ولا يحتاج إلى حكم حاكم
في الاخذ بها، لأنها ثبتت بالنص الصحيح المرفوع وبالاجماع، ولم يشذ الا
الأصم، وللحاكم أن ينظره حتى يحضر الثمن يوما أو يومين.
341

(ب) خياره في التمسك بالشفعة والعفو عنها والعفو على ضربين صريح
وتعريض، وذهب أبو حنيفة إلى صحة العفو في بعض التعريض القوى لشبهه
بالتصريح (ج) زمان المكنة، وقد أوضحنا كل هذه الأحوال بما لا مزيد عليه
إن شاء الله تعالى.
(فرع) قال الشافعي: وإذا اشترى شقصا على أنها بالخيار جميعا فلا شفعة
حتى يسلم البائع، وإن كان الخيار للمشترى دون البائع فقد خرج من ملك البائع
وفيه الشفعة اه‍.
قلت: إن ما يثبت من الخيار في البيع على أربعة أقسام:
1 - خيار عقد 2 - خيار شرط
3 - خيار رؤية 4 - خيار عيب
فالأول هو خيار المجلس فلا تستحق فيه الشفعة إلا بعد إمضائه بالافتراق
عن تمام، وسواء قيل: إن الملك منتقل بنفس العقد أو بالافتراق مع تقديم
العقد لان ثبوت الفسخ لكل واحد منهما يمنع من استقرار العقد بينهما، ولان
البائع لما لم يلزمه عقد المشترى فأولى أن لا يلزمه شفعة الشفيع، فإذا افترقا عن
تمام وإمضاء استحق الشفيع حينئذ أن يأخذ بالشفعة. وبماذا يصير الشفيع مالكا
على ثلاثة أقوال من اختلاف أقواله في اقتضاء الملك.
1 - أن يكون مالكا لها بنفس العقد
2 - أن يكون مالكا للشفعة بافتراقهما عن تراض وهذا على القول الذي
يقول فيه: لا ينتقل إلا بالعقد والافتراق.
3 - أن ملك الشفعة كان موقوفا على اتمام العقد وامضائه فتمامه يدل على
تقديم ملكها بالعقد، وفسخه يدل على أنه لم يملكها بالعقد، وهذا يدل على الذي
يقول فيه: ان الملك موقوف فإذا أخذ ذلك بالشفعة بعد الافتراق عن تراض
بحكم أو بغير حكم فهل ثبت له بعد الاخذ خيار المجلس أم لا؟ على وجهين لأصحابنا
أحدهما: أن له خيار المجلس لأنه يملك بمعاوضة كالبيع.
والوجه الثاني وهو أصح: أنه لا خيار له لان الشفعة موضوعه لرفع الضرر بها
342

كالرد بالعيب الذي لا يملك فيه بعد الرد خيارا وليس كالبيع الموضوع للمعاينة
وطلب الأرباح.
وأما خيار الشرط فله ثلاثة أحوال:
ا - أن يكون خيار الثلاث مشروطا للبائع والمشترى.
ب - أن يكون مشروطا للبائع دون المشترى.
ج - أن يكون مشروطا للمشترى دون البائع، فإن كان الخيار مشروطا للبائع
والمشترى أو للبائع دون المشترى فلا حق للشفيع في أخذه بالشفعة ما لم تنقض
مدة الخيار لما ذكرنا في خيار المجلس، فإذا تم البيع بينهما بانقضاء مدة الخيار
استحق الشفيع حينئذ الاخذ بالشفعة، وبماذا يصير مالكا لها؟ على ما مضى من
الأقوال الثلاثة، وإن كان الخيار مشروطا للمشترى دون البائع فقد روى المزني
ههنا أن للشفيع أخذه بالشفعة، ورواه الربيع أيضا، قال الربيع: وفيه قول آخر
أنه لا حق للشفيع في أخذه الا بعد نقض مدة الخيار، فإن قيل: إنه لا ينتقل
الا بالعقد وانقضاء مدة الخيار لان الشفيع يملك عن المشترى فامتنع أن يملك
ما لم يملكه المشترى، وان قيل: إن الملك قد انتقل بنفس العقد ففيه قولان.
1 - أن فيه الشفعة لان علقة البائع عنه منقطعة وخيار المشترى فيه كخياره
في الرد بالعيب وهو لا يمنع الشفيع من الاخذ وهي رواية المزني.
2 - أنه لا شفعة فيه الا بانقضاء مدة الخيار لان المشترى لم يرض بدخوله
في عهدة العقد فخالف خيار العيب الموضوع لاستدراك الغبن الذي قد يحصل له
من جهة الشفيع، وهي رواية الربيع.
وأما خيار الرؤية فهو حال غياب العين المبيعة وفى صحة البيع به قولان
ويتفرع عليهما خلاف في صحة الشفعة، وأما خيار العيب فإما أن يكون في
الشقص أو في الثمن فالأول خياره للمشترى وللشفيع أن يأخذه منه بعيبه ويمنعه
من رده، لان رد المشترى بالعيب لاستدراك الغبن وهو يستدرك من الشفيع
للحصول على الثمن الذي دفعة، فلو صالح المشترى البائع على أرشه كان للشفيع
أخذه بالباقي بعد اسقاط الأرش، ان قيل بجواز أخذ الأرش صلحا مع بقاء
343

العين في أحد الوجهين، وإن قيل لا يجوز أخذه الشفيع بجميع الثمن، وأما العيب
في الثمن ففي آخر الباب والله أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وإن مات الشفيع قبل العفو والاخذ انتقل حقه من الشفعة إلى
ورثته لأنه قبض استحقه بعقد البيع فانتقل إلى الورثة كقبض المشترى في البيع
ولأنه خيار ثابت لدفع الضرر عن المال فورث كالرد بالعيب وإن كان له وارثان
فعفا أحدهما عن حقه سقط حقه وهل يسقط حق الآخر فيه وجهان. أحدهما:
يسقط لأنها شفعة واحدة، فإذا عفى عن بعضها سقط الباقي كالشفيع إذا عفا عن
بعض الشقص، والثاني: لا يسقط لأنه عفا عن حقه فلم يسقط حق غيره كما لو
عفا أحد الشفيعين.
(فصل) إذا اختلف الشريكان في الدار فادعى أحدهما على الآخر أنه ابتاع
نصيبه فله أخذه بالشفعة، وقال الآخر: بل ورثته أو أوهبته فلا شفعة لك،
فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، لأنه يدعى عليه استحقاق ملكه بالشفعة،
فكان القول قوله كما لو ادعى عليه نصيبه من غير شفعة، فإن نكل عن اليمين
حلف المدعى وأخذ بالشفعة، وفى الثمن ثلاثة أوجه.
أحدها: أنه يقال للمدعى عليه قد أقر لك بالثمن وهو مصدق في ذلك، فاما
أن تأخذه أو تبرئه من الثمن الذي لك عليه كما قلنا في المكاتب إذا حمل نجما إلى
المولى فادعى المولى أنه مغصوب.
والثاني: أنه يترك الثمن في يد المدعى لأنه قد أقر لمن لا يدعيه فأقر في يده
كما لو أقر بدار لرجل وكذبه المقر له.
والثالث: يأخذه الحاكم ويحفظه إلى أن يدعيه صاحبه لأنهما اتفقا على أنهما
لا يستحقان ذلك.
(فصل) وان ادعى كل واحد منهما على شريكه أنه ابتاع حصته بعده،
وأنه يستحق على ذلك بالشفعة، فالقول قول كل واحد منهما، لما ذكرناه، فان
344

سبق أحدهما فادعى وحلف المدعى عليه استقر ملكه. ثم يدعى الحالف على
الآخر فإن حلف أستقر أيضا ملكه. وإن نكل الأول ردت اليمين على المدعى
فإذا حلف استحق، وإن أراد الناكل أن يدعى على الآخر بعد ذلك لم تسمع
دعواه، لأنه لم يبق له ملك يستحق به الشفعة
(الشرح) الأحكام: سبق الكلام في ميراث الشفعة في فصل مضى، فإذا
صح ما ذكرنا لم يخل أن يكون موت الشفيع قبل البيع أو بعده، فإن كان موته
قبل البيع فالشفعة إنما حدثت على ملك الورثة، ولم يكن للموروث فيها حق
لتقدم موته على البيع، ثم يكون بين جميع من ملك ميراث الحصة، وفيها قولان
(أحدهما) أنها بينهم على عدد رؤوسهم، الزوجة والابن فيها سواء على ما حكاه
المزني عن الشافعي.
(والثاني) أنها مقسطة بينهم على قدر مواريثهم للزوجة الثمن وللابن الباقي
وعلى هذا لو عفا أحد الورثة لم يسقط حق من لم يعف، وكان لمن بقي من الورثة
- ولو كان واحدا - أن يأخذ جميع الشفعة كالشراء، فإذا عفا بعضهم عاد حقه
إلى من بقي، وان مات الشفيع بعد البيع فقد ملك الشفعة بالبيع وانتقلت عنه
بالموت إلى ورثته، ويستوى فيها الوارث بنسب وسبب، وهي بينهم على قدر
مواريثهم للزوجة الثمن والباقي للابن قولا واحدا، لأنهم إنما يأخذونها عن
ميتهم فكانت بينهم على قدر مواريثهم، ويكون تأويل ما نقله المزني عن الشافعي
أن امرأته وابنه في ذلك سواء، يعنى في استحقاقها لجميع الورثة، لا يختصر بها
بعضهم دون بعض.
قال الماوردي: كان بعض أصحابنا يغلط فيخرج ذلك على قولين ويجعل
ما نقله المزني أحد القولين.
فعلى هذا لو أن أحد الورثة حضر مطالبا قضى له بجميع الشفعة، والقول
الثاني وهو أصح أنه لا يرجع على من بقي، لان جميعهم شفيع واحد. وليسوا
كالشركاء الذين كل واحد منهم شفيع مستقل، فعلى هذا لو حضر أحد الورثة
مطالبا لم يقض له بشئ حتى يجتمعوا، فإن عفا أحدهم عن حقه فهل تبطل بحقه
345

شفعة من بقي على وجهين " أحدهما " وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: إنها قد
بطلت وسقط حق من لم يعف لأنها شفعة واحدة عفا عن بعضها فصار كالشفيع
إذا عفا عن بعض شفعته سقط جميعها. والثاني وبه قال أبو حامد الأسفراييني:
إن من لم يعف على شفعته يأخذ منها بقدر ميراثه ولا يكون عفو غيره مبطلا لحقه
بخلاف الواحد إذا عفا عن بعض شفعته، لان الواحد قد كان له أخذ جميعها فجاز
أن يسقط بعفوه عن البعض جميعها، وليس كذلك أحد الورثة لأنه لا يملك منها
إلا قدر حقه فلم يبطل بالعفو عن غير حقه، ولان العافي عن البعض مختار للعفو
فجاز أن يسرى عفوه في جميع حقه، وليس الباقي من الورثة مختارا للعفو فلم
يسر عفو غيره في حقه.
(فرع) إذا ادعى على شريكه: أنك اشتريت نصيبك من عمرو فلي شفعته
فصدقه عمرو فأنكر الشريك وقال: بل ورثته من أبى فأقام المدعى بينة أنه كان
ملك عمرو لم تثبت الشفعة بذلك، وقال محمد بن الحسن: تثبت. ويقال له: إما
أن تدفعه وتأخذ الثمن وإما أن ترده إلى البائع فيأخذه الشفيع منهما لأنهما شهدا
بالملك لعمرو فكأنهما شهدا بالبيع
فإذا ادعى الشفيع على بعض الشركاء أنك اشتريت نصيبك فلي أخذه بالشفعة
فإنه يحتاج إلى تحرير دعواه فيحدد المكان الذي فيه الشقص، ويذكر قدر
الشقص والثمن ويدعى الشفعة فيه، فإذا فعل ذلك سئل المدعى عليه، فإن أقر
لزمه. وان أنكر وقال: إنما اتهبته أو ورثته فلا شفعة لك فيه فالقول قول من
ينفيه، كما لو ادعى عليه نصيبه من غير شفعة، فإن حلف برئ وان نكل وقضى
عليه. وان قال: لا تستحق على الشفعة، فالقول قوله مع يمينه، ويكون يمينه
على حسب قوله في الانكار. وإذا نكل وقضى عليه بالشفعة عرض عليه الثمن
فإن أخذه دفع إليه، وان قال لا أستحقه ففيه ثلاثة أوجه
1 - يقر في يد الشفيع إلى أن يدعيه المشترى فيدفع إليه، كما لو أقر له بدار
فأنكرها. 2 - أن يأخذه الحاكم فيحفظه لصاحبه إلى أن يدعيه
المشترى. ومتى ادعاه دفع إليه
346

3 - يقال له: اما أن تقبضه واما أن تبرئ منه كسيد المكاتب إذا جاءه
المكاتب بمال المكاتبة فادعى أنه حرام، اختار هذا القاضي، وهذا مفارق
للمكاتب لان سيده يطالبه بالوفاء من غير هذا الذي أتاه به فلا يلزمه ذلك بمجرد
دعوى السيد تحريم ما أتاه به، وهذا لا يطالب الشفيع بشئ، فلا ينبغي ان
يكلف ابراءه مما لا يدعيه. والوجه الأول أولى، وبهذا قال الحنابلة
(فرع) إذا كانت دار بين رجلين، فادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه
يستحق ما في يديه بالشفعة سألناهما متى ملكتماها؟ فإن قالا: ملكناها دفعة
واحدة، فلا شفعة لأحدهما على الآخر، لان الشفعة إنما تثبت بملك سابق
في ملك متجدد بعد
وان قال كل واحد منهما ملكي سابق ولأحدهما بينة بما ادعاه قضى له، وإن كان
لكل واحد منهما بينة قدمنا أسبقهما تاريخا، وان شهدت بينة كل واحد
منهما بسبق ملكه وتجدد ملك صاحبه تعارضتا، وان لم تكن لواحد منهما بينة
نظرنا إلى السابق بالدعوى فقدمنا دعواه وسألنا خصمه، فان أنكر فالقول قوله
مع يمينه لأنه منكر، فان حلف سقطت دعوى الأول ثم تسمع دعوى الثاني على
الأول فان أنكر وحلف سقطت دعواهما جميعا وان ادعى الأول فنكل الثاني عن
اليمين قضينا عليه ولم تسمع دعواه، لان خصمه قد استحق ملكه، وان حلف
الثاني ونكل الأول قضينا عليه.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) وان اختلفا في الثمن فقال المشترى الثمن ألف وقال الشفيع هو
خمسمائة فالقول قول المشترى مع يمينه لأنه هو العاقد فكان أعرف بالثمن ولأنه
مالك للشقص فلا ينزع منه بالدعوى من غير بينة
(فصل) وان ادعى الشفيع أن الثمن ألف، وقال المشترى لا أعلم قدره
فالقول قول المشترى، لان ما يدعيه ممكن، فإنه يجوز أن يكون قد اشترى
بثمن جزاف، ويجوز أن يكون قد علم الثمن ثم نسي، فإذا حلف لم يستحق الشفعة
لأنه لا يستحق من غير بدل ولا يمكن أن يدفع إليه ما لا يدعيه
347

وقال أبو العباس: يقال له إما أن تبين قدر الثمن أو نجعلك ناكلا فيحلف
الشفيع أن الثمن ألف ويستحق كما نقول فيمن ادعى على رجل ألفا فقال المدعى
عليه لا أعلم القدر، والمذهب الأول، لان ما يدعيه ممكن، فإنه يجوز أن يكون
قد اشتراه بثمن جزاف لا يعرف وزنه، ويجوز أن يكون قد علم ثم نسي،
ويخالف إذا ادعى عليه ألفا، فقال: لا أعرف القدر، لان هناك لم يجب عن
الدعوى. وههنا أجاب عن استحقاق الشفعة، وإنما ادعى الجهل بالثمن
(فصل) وإن قال المشترى: الثمن ألف. وقال الشفيع لا أعلم هل هو ألف
أو أقل، فهل له أن يحلف المشترى؟ فيه وجهان
(أحدهما) ليس له أن يحلفه حتى يعلم، لان اليمين لا يجب بالشك
(والثاني) له أن يحلفه لان المال لا يملك بمجرد الدعوى، وإن قال المشترى
الثمن ألف، وقال الشفيع لا أعلم كم هو؟ ولكنه دون الألف، فالقول قول
المشترى، فإن نكل لم يحلف الشفيع حتى يعلم قدر الثمن، لأنه لا يجوز أن
يحلف على ما لم يعلم
(فصل) وإن اشترى الشقص بعرض وتلف العرض (واختلفا)؟ في قيمته،
فالقول قول المشترى، لان الشقص ملك له فلا ينتزع بقول المدعى
(فصل) وإن أقر المشترى أنه اشترى الشقص بألف وأخذ الشفيع بألف
ثم ادعى البائع أن الثمن كان ألفين وصدقه المشترى لم يلزم الشفيع أكثر من
الألف، لان المشترى أقر بأنه يستحق الشفعة بألف فلا يقبل رجوعه في حقه
فان كذبه المشترى فأقام عليه بينة أن الثمن ألفان لزم المشترى الألفان، ولا يرجع
على الشفيع بما زاد على الألف، لأنه كذب البينة بإقراره السابق
(الشرح) قال الشافعي: وان اختلف فالثمن فالقول قول المشترى مع
يمينه، وهذا كما قال: إذا اختلف الشفيع والمشترى في قدر الثمن فادعى
المشترى أن الثمن ألف. وقال الشفيع خمسمائة ولا بينه لواحد منهما فالقول
قول المشترى مع يمينه لامرين:
348

(أحدهما) أنه مباشر للعقد فكان أعلم به من غيره (والثاني) أنه مالك
للشقص فلم ينتزع منه الا بقوله، فإن حلف المشترى على ما ادعاه من الثمن
أخذه الشفيع به، وإن نكل المشترى ردت اليمين على الشفيع، فإن حلف
أخذه بما قال.
فإن قيل: فهذا تحالفا عليه كما يتحالف المتبايعان. قيل لان كل واحد من
المتبايعين مدع ومدعى عليه فتحالفا لاستوائهما في الشقص. والشفيع وحده
منفرد بالدعوى أنه مالك للشقص بما ادعى، فكان القول قول المشترى لتفرده
بالانكار، فلو أقام أحدهما بينة بما ذكره من الثمن حكم بها: والبينة شاهدان أو
شاهد وامرأتان أو شاهد ويمين، فإن أقامها المشترى استفاد بها سقوط اليمين،
فلو شهد له البائع بما ادعاه من الثمن ردت شهادته لأنه شاهد بالزيادة لنفسه.
ولو أقام الشفيع البينة استفاد بها الحكم لقول الشافعي: فإن شهد له البائع بما
ادعى من الثمن ردت شهادته لأنه متهوم في شهادته بنقص الثمن عند الرجوع
عليه بالدرك مع أنه عاقد في الحالين فلم تقبل شهادته فيما تولى عقده
فلو أقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه من الثمن، فعند أبي حنيفة ومحمد
ابن الحسن أن بينة الشفيع أولى للاتفاق عليها. وعند أبي يوسف أن بينة
المشترى أولى، لان فيها زيادة علم، ويخرج في مذهب الشافعي على قولين من
تعارض البينتين.
1 - اسقاطهما بالتعارض. ويكون القول قول المشترى مع يمينه
2 - الاقراع بينهما فمن قرعت بينته كان أولى، وهل يحلف معها أم لا؟
على قولين من اختلاف قولين في القرعة، هل جاءت مرجحة للدعوى أو
مرجحة للبينة.
فعلى هذا لو أخذه الشفيع بالألف عند يمين المشترى ثم قامت البينة أن الثمن
خمسمائة رجع الشفيع على المشترى بخمسمائة ولا خيار للشفيع، لأنه لما رضى
الشقص بالألف كان له بخمسمائة أرضى ولو أخذه الشفيع بخمسمائة بيمينه ثم قامت
البينة أن الثمن ألف كان الشفيع مخيرا بين أن يأخذه بالألف أو يرده
349

ولو ادعى المشترى أن الثمن سيارة قيمتها ألف فأخذه الشفيع بها ثم ظهر أن
الثمن (ريكوردر) المسجل للصوت، فإن كانت قيمته ألفا لم يتراجعا بشئ،
لان المستحق فيه القيمة وهما سواء، وإن كانت قيمة المسجل أكثر لم يرجع
المشترى بالزيادة لأنه مقر باستيفاء حقه. وإن كانت قيمة المسجل أقل رجع
الشفيع بنقصها على المشترى ولا خيار له.
فلو قال المشترى ان الثمن ألف وقال الشفيع لست أعلم قدر الثمن مع علمي
بنقصه عن الألف فله إحلاف المشترى، فإن رد اليمين عليه لم يكن له أن
يحلف حتى يعلم قدر الثمن، ولو لم يعلم الشفيع هل الثمن ألف أو أقل فهل
يستحق إحلاف المشترى أم لا؟ على وجهين:
1 - لا يستحق إحلافه حتى يعلم خلاف قوله، لان اليمين لا يجب بالشك.
2 - يستحق إحلافه ما لم يعلم صدقه لان المال لا يملك بمجرد القول.
(فرع)
ولو قال المشترى: لا أعلم قدر الثمن لنسيان حدث. قيل للشفيع: أتعلم
قدره أم لا؟ فان قال لا أعلم قدره فلا شفعة له، وله إحلاف المشترى أنه
لا يعلم قدر الثمن، وإنما يطلب لأنها تستحق بالثمن فكان جهلها به مانعا من
استحقاقها بمجهول.
فان قال الشفيع أنا أعلم قدر الثمن وهو خمسمائة درهم. وقال المشترى:
قد نسيت قدر الثمن، قيل للمشترى: أفتصدق الشفيع على ما ذكر من الثمن
فان قال نعم، أخذ الشفيع الشقص بخمسمائة من غير يمين. وإن أكذبه قال
الشافعي حلف المشترى بالله ما يعلم قدر الثمن ولا شفعته.
واختلف أصحابنا في ذلك. فكان أبو حامد المروروذي وأبو حامد
الأسفراييني يجعلان هذا القول مذهبا له في هذه المسألة، ويبطلان بيمين
المشترى الشفعة تعليلا بأن الثمن موقوف على عاقده وقد جهل الثمن بنسيانه
فبطلت الشفعة به.
350

وكان أبو العباس بن سريج وأبو علي بن أبي هريرة يجعلان هذا الجواب
مصروفا إلى المسألة الأولى عند نسيان المشترى وجهل الشفيع دون المشترى،
ويحكم له بالشفعة، وهذا هو الصحيح لان نسيان المشترى كالنكول فوجب رد
اليمين على الشفيع.
قال الشافعي: وسواء في ذلك قديم الشراء وحديثه، وهذا إنما أراد به
ما ادعى، فإنه قال: إن ادعى المشترى نسيان الثمن والشراء حديثا حلف الشفيع
وحكم له بالشفعة، وإن كان الشراء قديما حلف المشترى وبطلت الشفعة ورفض
الماوردي هذا الفرق وقال: هذا قول مرذول وفرق معلول.
فأما إن اختلف البائع والمشترى في الثمن فقال البائع: بعته بألف، وقال
المشترى: اشتريته بخمسمائة فإنهما يتحالفان، فإذا حلفا ففي بطلان البيع بتحالفهما
وجهان ذكرا في البيوع.
أحدهما: أنه قد بطل فعلى هذا يعود الشقص إلى البائع ولا شفعة فيه.
والثاني: أن البيع لا يبطل إلا بالفسخ، فعلى هذا لا يخلو حال المثمن من
أحد أمرين إما أن يكون معينا أو غير معين، فإن كان المثمن معينا كقول البائع
بعتك شقصي بهذه السيارة فيقول المشترى: اشتريته بهذا (الريكوردر) المسجل
فإذا تحالفا وامتنع المشترى أن يأخذه بالسيارة التي ادعاها البائع ثمنا لم يعرض على
الشفيع لان عين هذه السيارة لا تحصل للبائع من جهة الشفيع، وفسخ الحاكم
البيع بينهما وأبطل الشفعة فيه، وإن كان الثمن غير معين كقول البائع بعتك
الشقص بألف فيقول المشترى بخمسمائة، عرض الشقص على المشترى والشفيع
بالألف ليأخذاه أو يرداه لأنه قد يحصل للبائع ما ادعاه من القدر من الشفيع
والمشترى، فلذلك عرض عليها، وإذا كان كذلك فللشفيع والمشترى
أربعة أحوال.
ا - أن يرضيا جميعا به فيلزم المشترى الألف وللشفيع أن يأخذ منه
الشقص بالألف.
ب - أن يرداه جميعا بالألف فيفسخ البيع وتبطل الشفعة.
351

ج - أن يرضاه المشترى بالألف ويرده الشفيع بها فيلزم البيع للمشترى
بالألف وتبطل شفعة الشفيع.
د - أن يرضى به الشفيع بالألف ويرده المشترى فيكون رد المشترى باطلا
لما فيه من إسقاط حق الشفيع، ويصير البيع لازما للمشترى ليتوصل به الشفيع
إلى حقه من الشفعة ويأخذ الشقص فيه بالألف، فلو رده الشفيع بعيب رده على
المشترى ورجع عليه بالثمن لان عهدته عليه، وللمشتري حينئذ أن يفسخ البيع فيه
والله تعالى أعلم.
قال المصنف رحمه الله تعالى
(فصل) فإن كان بين رجلين دار وغاب أحدهما وترك نصيبه في يد رجل
فادعى الشريك على من في يده نصيب الغائب أنه اشتراه منه، وأنه استحق أخذه
بالشفعة، فأقر به، فهل يلزمه تسليمه إليه بالشفعة؟ فيه وجهان (أحدهما)
لا يسلمه، لأنه أقر بالملك للغائب، ثم ادعى انتقاله بالشراء، فلم يقبل قوله
(والثاني) يسلم إليه لأنه في يده فقبل قوله فيه.
(فصل) وإن أقر أحد الشريكين في الدار أنه باع نصيبه من رجل ولم يقبض
الثمن، وصدقه الشريك وأنكر الرجل، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال
لا تثبت الشفعة للشريك، لان الشفعة تثبت بالشراء ولم يثبت الشراء، فلم تثبت
الشفعة للشريك، وذهب عامة أصحابنا إلى أنه تثبت الشفعة، وهو جواب المزني
فيما أجاب فيه على قول الشافعي رحمه الله، لأنه أقر للشفيع بالشفعة، وللمشتري
بالملك، فإذا أسقط أحدهما حقه لم يسقط حق الآخر كما لو أقر لرجلين بحق فكذبه
أحدهما وصدقه الاخر، وهل يجوز للبائع أن يخاصم المشترى. فيه وجهان.
أحدهما: ليس له ذلك لأنه يصل إلى الثمن من جهة الشفيع فلا حاجة به إلى
خصومة المشترى.
والثاني: له أن يخاصمه لأنه قد يكون المشترى أسهل في المعاملة من الشفيع،
فإن قلنا: لا يخاصم المشترى أخذ الشفيع الشقص من البائع وعهدته عليه لأنه
منه أخذ، واليه دفع الثمن.
352

وإن قلنا: يخاصمه، فان حلف أخذ الشفيع الشقص من البائع ورجع بالعهدة
عليه، وإن نكل فحلف البائع سلم الشقص إلى المشترى وأخذ الشفيع الشقص من
المشترى، ورجع بالعهدة عليه لأنه منه أخذ، واليه دفع الثمن، وان أقر البائع
بالبيع وقبض الثمن، وأنكر المشترى، فمن قال: لا شفعة إذا لم يقر بقبض الثمن
لم تثبت الشفعة إذا أقر بقبضه، ومن قال: تثبت الشفعة إذا لم يقر بقبض الثمن
اختلفوا إذا أقر بقبضه، فمنهم من قال: لا تثبت لأنه يأخذ الشقص من غير
عوض، وهذا لا يجوز، ومنهم من قال: تثبت، لان البائع أقر له بحق الشفعة
وفى الثمن الأوجه الثلاثة التي ذكرناها، فيمن ادعى الشفعة على شريكه وحلف
بعد نكول الشريك، والله أعلم.
(الشرح) قال الشافعي: وعهدة المشترى على البائع وعهدة الشفيع على
المشترى، قال الماوردي في الحاوي: أما العهدة فمشتقة من العهد لما فيه من الوفاء
بموجبه قال تعالى " وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم " وقال الفيومي في المصباح:
العهد الوصية يقال: عهد إليه يعهد من باب تعب إذا أوصاه وعهدت إليه بالامر
قدمته وفى التنزيل " ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان " والعهد الأمان
والموثق والذمة، ومنه قيل للحربي يدخل بالأمان ذو عهد. ومعاهد أيضا بالبناء
للفاعل والمفعول، لان الفعل من اثنين فكل واحد يفعل بصاحبه مثل ما يفعل
صاحبه - إلى أن قال - وقولهم: عهدته عليه من ذلك لان المشترى يرجع على البائع
بما يدركه وتسمى وثيقة المتبايعين عهدة لأنه يرجع إليها عند الالتباس اه‍.
ونعود إلى قول الشافعي فنقول: لقد سمى ضمان الدرك عهدة ثم سمى كتاب
الشراء (الفاتورة) عهدة، واختلف الفقهاء في عهدة الشفيع هل تجب على البائع
أو على المشترى؟ فذهب الشافعي إلى أن عهدة الشفيع على المشترى وعهدة
المشترى على البائع.
وقال ابن أبي ليلى: عهدة الشفيع على البائع، وقال أبو حنيفة: إن كان الشفيع
353

قد قبضه من المشترى فعهدته على المشترى، وإن كان قد قبضه من البائع فسخ
عقد المشترى وكانت عهدته على البائع.
فأما ابن أبي ليلى فاستدل بأن البائع أصل والمشترى فرع، فكان الرجوع
على البائع أولى من المشترى، لأنه لا اعتبار بالفرع مع وجود الأصل. قال:
ولان المشترى يحل محل الوكيل للشفيع لدخوله على علم بانتقال الشراء إلى
الشفيع، ثم ثبت في شراء الوكيل أن العهدة على البائع دون الوكيل، كذلك
في استحقاق الشفيع.
وأما أبو حنيفة فاستدل على أن للشفيع أن يفسخ عقد المشترى بأنه لما
استحق إزالة ملكه عنه استحق فسخ عقده فيه لان ثبوت العقد لاستيفاء الملك
ودليلنا هو أن الشفيع يملك الشقص عن المشترى، بدليل أنه لو تركه
لكان مقرا على ملك المشتري، ولو حدث منه نماء لكان للمشترى، فوجب
أن تكون العهدة عليه كما كانت على البائع للمشترى، وتحريره قياسا أن انتقال
الملك بالعوض ممن يظاهر بملك المعوض يوجب أخذه بالعهدة كالبيع، ولان
الرجوع بالثمن قد يستحق في الرد بالعيب كما يستحق في الاستحقاق بالشفعة
فلما كان الرجوع به في الرد بالعيب مستحقا على المشترى دون البائع وجب أن
يكون الرجوع به في الاستحقاق بالشفعة مستحقا على المشترى دون البائع
وقد يتحرر من اعتلال هذا الاستدلال قياسان:
(أحدهما) أن أحد نوعيه ما يوجب الرجوع بالثمن فوجب أن يستحقه
الشفيع على المشترى دون البائع قياسا على الرد بالعيب
(والثاني) أن من استحق عليه الثمن في الرد بالعيب لم يستحق عليه الثمن
في الاستحقاق وبالغصب قياسا على المشترى لو كان بائعا
فأما الجواب عن استدلال ابن أبي ليلى بأن البائع أصل والمشترى فرع
فمنتقض بالمشترى لو باع على الشفيع، ثم نقول إن المشترى وإن كان فرعا
للبائع فإنه أصل للشفيع.
وأما الجواب عن استدلاله بالوكيل فهو امتناع الجمع بينهما من وجهين:
(ا) ان الشفيع لما كان مخيرا بين أخذه من المشترى وبين تركه عليه صار مالكا
354

عنه لا عن البائع، ولما لم يكن للموكل خيار في أخذه من الوكيل وتركه عليه صار
مالكا عن البائع دون الوكيل.
(ب) إنه لما استحق الشفيع الرد بالعيب على المشترى دون البائع صار مالكا
عنه لا عن البائع، ولما استحق الموكل الرد بالعيب على البائع دون الوكيل صار
مالكا عنه لا عن الوكيل.
وأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة بأنه لما ملك إزالة ملكه رفع عقده فمن
وجهين: (ا) انه قد يملك إزالة ملكه بعد القبض ولا يملك رفع
عقده فكذلك قبل القبض. (ب) أنه بالعقد ملك الشفعة، وفى
رفعه إبطال الشفعة.
(فرع) فأما قبض الشفيع الشقص من البائع قبل قبض المشترى له أو من
ينوب عنه ففيه وجهان حكاهما ابن سريج (أحدهما) ليس له ذلك لأنه يحل محل
المشترى في الاخذ بالثمن، ولا يجوز شراء ما لم يقبض، فكذلك لا يجوز أخذ
شفعة ما لم يقبض. فعلى هذا يأخذ الحاكم المشترى بالقبض، فإذا صار بيده
انتزعه الشفيع منه، فإن كان المشترى غائبا وكل الحاكم عنه من يقبض له ثم حكم
للشفيع بأخذه منه.
(والثاني) وهو اختيار ابن سريج أن للشفيع أخذه من البائع قبل قبض
المشترى، لان الشفيع يأخذه جبرا بحق، وإن كره المشترى فجاز، وإن كان قبل
قبضه، كما يجوز الفسخ والإقالة قبل القبض ويبرأ البائع من ضمانها بقبض الشفيع
لأنه يأخذها بحق توجه على المشترى، وبالوجه الأول قال أبو إسحاق المروزي.
(فرع) قال المزني: ولو أن البائع قال قد بعت من فلان شقصا بألف درهم
وأنه قبض الشقص وأنكر ذلك فلان وادعاه الشفيع، فإن الشفيع يدفع الألف
إلى البائع ويأخذ الشقص.
وصورتها في رجل ادعى بيع شقصه على رجل فأنكر المشترى الشراء
وحضر الشفيع مصدقا للبائع ومطالبا بالشفعة، فهذا على ضربين
(ا) أن يكون البائع مدعيا بقاء الثمن على المشترى
(ب) أن يكون مقرا بقبضه، فإن كان مع ادعاء البيع مدعيا بقاء الثمن
355

حكم عليه للشفيع بالشفعة لأنه مدع على المشترى ومقر للشفيع فيحكم عليه باقراره
وإن ردت دعواه.
وفى منعه من محاكمة المشترى واحلافه على الانكار وجهان:
1 - أن يكون البائع مدعيا بقاء الثمن على المشترى
2 - أن يكون مقرا بقبضه، فإن كان مع ادعاء البيع مدعيا بقاء الثمن حكم
عليه للشفيع بالشفعة لأنه مدع على المشترى ومقر للشفيع فيحكم عليه باقراره
وإن ردت دعواه.
وفى منعه من محاكمة المشترى وإحلافه على الانكار وجهان:
1 - قول أبي علي بن أبي هريرة: ليس له إحلافه، لان قصده حصول الثمن
وقد حصل له، وسواء حصل له من مشترى أو شفيع، ولأنه لا يؤمن ان
أحلف أن يحكم بفسخ البيع، وفيه إبطال لحق الشفيع
2 - له إحلافه لاستحقاق اليمين عليه بانكاره، ولما فيه من البغية لوصول
الملك إلى مستحقه، ولا يبطل ليمينه حق الشفيع، فإذا قضى للشفيع بالشفعة
لزمه دفع الثمن إلى البائع وتكون عهدة الشفيع هنا على البائع دون المشترى،
لأنه لما لم يلزمه الشراء مع انكاره لم تلزمه عهدته. هذا ولم يتسع المقام لاستقصاء
فروع الشفعة وجميع الأوجه وأحكامها، وسأفرد ما قيدته فيها في كتاب مستقل
إن شاء الله تعالى. والله أعلم بالصواب.
356

كتاب القراض
القراض جائز لما روى زيد بن أسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر
ابن الخطاب رضي الله عنهم خرجا في جيش إلى العراق فلما قفلا مرا على عامل
لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فرحب بهما وسهل وقال: لو أقدر لكما على أمر
أنفعكما به لفعلت، ثم قال: بلى ههنا مال من مال الله أريد أن أبعث به إلى أمير
المؤمنين فأسلفكما فتبتاعان به متاعا من متاع العراق ثم تبيعانه في المدينة وتوفران
رأس المال إلى أمير المؤمنين ويكون لكما ربحه، فقالا وددنا، ففعل فكتب إلى
عمر أن يأخذ منهما المال، فلما قدما وباعا وربحا فقال عمر أكل الجيش قد أسلف
كما أسلفكما؟ فقالا لا، فقال عمر ابنا أمير المؤمنين فأسلفكما. أديا المال وربحه
فأما عبد الله فسكت، وأما عبيد الله فقال: يا أمير المؤمنين لو هلك المال ضمناه
فقال أدياه، فسكت عبد الله وراجعه عبيد الله، فقال رجل من جلساء عمر:
يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا، فأخذ رأس المال ونصف ربحه. وأخذ عبد الله
وعبيد الله نصف ربح المال، ولان الأثمان لا يتوصل إلى نمائها المقصود الا
بالعمل فجاز المعاملة عليها ببعض النماء الخارج منها كالنخل في المساقاة
(فصل) وينعقد بلفظ القراض لأنه لفظ موضوع له في لغة أهل الحجاز
وبلفظ المضاربة لأنه موضوع له في لغة أهل العراق وبما يؤدى معناه لان المقصود
هو المعنى فجاز بما يدل عليه كالبيع بلفظ التمليك
(فصل) ولا يصح إلا على الأثمان وهي الدراهم والدنانير، فأما ما سواهما
من العروض والنقار والسبائك والفلوس، فلا يصح القراض عليها لان المقصود
بالقراض رد رأس المال والاشتراك في الربح، ومتى عقد على غير الأثمان لم
يحصل المقصود لأنه ربما زادت قيمته فيحتاج أن يصرف العامل جميع ما اكتسبه
في رد مثله إن كان له مثل، وفى رد قيمته ان لم يكن له مثل. وفى هذا إضرار
بالعامل، وربما نقصت قيمته فيصرف جزءا يسيرا من الكسب في رد مثله أو
رد قيمته، ثم يشارك رب المال في الباقي، وفى هذا إضرار برب المال، لان
357

العامل يشاركه في أكثر رأس المال. وهذا لا يوجد في الأثمان لأنها لا تقوم
بغيرها، ولا يجوز على المغشوش من الأثمان لأنه تزيد قيمته وتنقص كالعروض
(فصل) ولا يجوز إلا على مال معلوم الصفة والقدر، فإن قارضه على
دراهم جزاف لم يصح، لان مقتضى القراض رد رأس المال، وهذا لا يمكن فيما
لا يعرف صفته وقدره، فان دفع إليه كيسين في كل واحد منهما ألف درهم فقال
قارضتك على أحدهما وأودعتك الآخر ففيه وجهان
(أحدهما) يصح لأنهما متساويان
(والثاني) لا يصح لأنه لم يبين مال القراض من مال الوديعة، وإن قارضه
على ألف درهم هي له عنده وديعة جاز لأنه معلوم، وان قارضه على ألف درهم
هي له عنده مغصوبة ففيه وجهان " أحدهما " يصح كالوديعة " والثاني " لا يصح
لأنه مقبوض عنده قبض ضمان، فلا يصير مقبوضا قبض أمانة
(الشرح) قال ابن بطال: القراض مشتق من القرض وهو القطع، كأنه
يقطع له قطعة من ماله أو قطعة من الربح. وقيل اشتقاقه من المساواة، يقال:
تقارض الشاعران إذا ساوى كل منهما صاحبه في المدح، وتقارضا الثناء. وقال
الصنعاني في سبل السلام: القراض بكسر القاف وهو معاملة العامل بنصيب
من الربح. وهذه تسميته في لغة أهل الحجاز، وتسمى مضاربة، مأخوذة من
الضرب في الأرض لما كان الربح يحصل في الغالب بالسفر أو من الضرب في المال
وهو التصرف. اه‍
وقال الرافعي: ولم يشتق للمالك منه اسم فاعل لان العامل يختص بالضرب
في الأرض، فعلى هذا تكون المضاربة من المفاعلة التي تكون من واحد، مثل
عاقبت اللص. وقال ابن قدامة في المغنى من كتب الحنابلة: وهذه المضاربة تسمى
قراضا أيضا، ومعناها أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتجر له فيه، على أن ما حصل
من الربح بينهما حسب ما يشترطانه، فأهل العراق يسمونه مضاربة، مأخوذة
من الضرب في الأرض. اه‍
وقد جمع النووي بين الاسمين في المنهاج فقال: القراض والمضاربة أن يدفع
358

إليه مالا ليتجر فيه والربح مشترك. قال السبكي. قد يشاح النووي في قوله: أن
يدفع. ويقال القراض العقد المقتضى للدفع لا نفس الدفع. قال الشربيني في
شرح المنهاج: وأركانه خمسة: مال وعمل وربح وصيغه وعاقدان.
وقال الرشيدي في حاشيته على شرح شمس الدين الرملي للمنهاج في عطف
الشارح: المقارضة على القرض، أي إن القراض يجوز أن يكون مشتقا من
القرض ومن المقارضة. وهذا الصنيع ظاهر في أن دفع المال على الوجه الآتي
لا يسمى مقارضة بل قراضا ومضاربة، وهو ظاهر المتن حيث اقتصر عليهما.
لكن ظاهر كلام المحلى يخالفه حيث عطف المقارضة على ما في المتن فأفاد أن
القراض والمضاربة بمعنى
قال ابن المنذر: وأجمع أهل العلم على جواز المضاربة في الجملة. وقال الصنعاني
لا خلاف بين المسلمين في جواز القراض، وأنه مما كان في الجاهلية فأقره الاسلام
وقال ابن حزم: كل أبواب الفقه فيه أصل من الكتاب والسنة حاشا القراض فما
وجدنا له أصلا في السنة لكنه إجماع صحيح، ويقطع بأنه كان في عصره صلى الله
عليه وسلم وعلم به وأقره.
(قلت) ولسنا نخالف ابن حزم الا في أن أمرا مجمعا عليه من الأمة منذ
عهد نبيها صلى الله عليه وسلم ثم لا يتبين مصدره واضحا بالاخبار، ولعل ابن حزم
لم يبلغه لبعد الشقه ما بلغ غيره، وإن كانت هذه الأخبار المرفوعة يعتريها بعض
الوهن من ناحية الاسناد فإنها مؤيدة بأخرى صحيحة موقوفة على الصحابة، وهو
لا يدل بالاستقراء على أنه كان موجودا في عهده صلى الله عليه وسلم، وإنما يدل
بمنطوقه على وجوده، فيكون استقراؤه من الاجماع على وجوده ينقصه ما رويناه
عن الصحابة من صحيح الاخبار
فأما المرفوع فقد روى ابن ماجة عن صهيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ثلاث فيهن
البركة: البيع إلى أجل والمقارضة وخلط البر بالشعير للبيت لا للبيع " أورده ابن
حجر في بلوغ المرام وضعف اسناده. وأما الموقوف فما رواه الدارقطني ورجاله
ثقات عن حكيم بن حزام أنه كان يشترط على الرجل إذا أعطاه مالا مقارضة أن لا تجعل
مالي في كبد رطبة ولا تحمله في بحر ولا تنزل به في بطن مسيل، فان فعلت شيئا من ذلك فقد
359

ضمنت مالي. وقال مالك في الموطأ عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن جده
أنه عمل في مال لعثمان على أن الربح بينهما، وروى حميد بن عبد الله عن أبيه عن
جده أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيم مضاربة يعمل به في العراق، وروى
مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر خرجا في جيش
إلى العراق فتسلفا من أبى موسى مالا وابتاعا به متاعا، وقدما به إلى المدينة،
فباعاه وربحا فيه، فأراد عمر أخذ رأس المال والربح كله فقالا: لو تلف كان
ضمانه علينا، فلم لا يكون ربحه لنا؟ فقال رجل: يا أمير المؤمنين لو جعلته قراضا
قال: قد جعلته، وأخذ منهما نصف الربح، وقد ساقها المصنف بأوفى من هذا.
وعن قتادة عن الحسن أن عليا قال: إذا خالف المضارب فلا ضمان، هما على
ما شرطا، وعن ابن مسعود وحكيم بن حزام أنهما قارضا.
قال الماوردي في الحاوي: والأصل في إحلال القراض وإباحته قوله تعالى
" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم " وفى القراض ابتغاء فضل وطلب
نماء وقد استدل بحديث " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض " على جوازها
وقد ضارب النبي صلى الله عليه وسلم لخديجة بأموالها إلى الشام وأنفذت لخدمته
عبدا لها يقال له ميسرة، وروى ابن أبي الجارود حبيب بن يسار عن ابن عباس
قال: كان العباس إذا دفع مالا مضاربة اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحرا
ولا ينزل به واديا ولا يشترى به ذات كبد رطبة، فإن فعل فهو ضامن، قال
الماوردي: فرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجازه.
وقد اختلف أصحابنا في وجه الاستدلال من حديث عمر على ثلاثة أوجه:
(أحدها) قول الجليس: لو جعلته قراضا، وإقرار عمر على صحة القراض
ولو علم عمر فساده لرده، فلم يكن ما فعله معهما قراضا لا صحيحا ولا فاسدا،
ولكن استطاب طهارة أنفسهما بما أخذه من ربحهما لاسترابته بالحال واتهامه
أبا موسى بالميل لأنهما ابنا أمير المؤمنين، الامر الذي ينفر منه الإمام العادل
وتأباه طبيعة الاسلام.
(والثاني) أن عمر أجرى عليهما في الربح حكم القراض الفاسد لأنهما عملا
360

على أن يكون الربح لهما ولم يكن قد تقدم في المال عقد يصح حملهما عليه، فأخذ
منهما جميع الربح، وعاوضهما على العمل بأجرة المثل وقدره بنصف الربح فرده
عليهما أجرة، وهو اختيار أبي إسحاق المروزي.
(والثالث) أن عمر أجرى عليهما أجرا في الربح حكم القراض الصحيح،
وإن لم يتقدم منهما عقد، لأنه كان من الأمور العامة ما يتسع حكمه عن العقود
الخاصة، فلما رأى المال لغيرهما والعمل منهما ولم يرهما متعديين فيه، جعل ذلك
عقد قراض صحيح، وهذا ذكره أبو علي بن أبي هريرة، فعلى هذا الوجه يكون
القول والفعل معا دليلا، ثم الحديث الذي ساقه المصنف من مساقاة النبي صلى
الله عليه وسلم أهل خيبر على شطر ما يخرج من تمر وزرع لا يدل بمنطوقه على
هذا وإنما يدل بالمفهوم أو المحمول، لان المساقاة عمل في محل استوجب به شطر
ثمرها فاقتضى ذلك جواز القراض من طريق المعنى. وقد ذهب الماوردي إلى
أن صحة القراض دليل على جواز المساقاة.
قوله: النقار وهو مذاب الفضة وقبل الذوب هي تبر، والسبائك جمع سبيكة
القطعة المستطيلة من الذهب.
والفلوس جمع فلس وهو أدنى ما يتعامل من المال، ويسمى في الشام قرشا
وفى العراق فلسا، وفى مصر والسودان مليما، وفى الحجاز ونجد هللة، وفى
اليمن بقشة، وفى المغرب والجزائر بيزا أو بسيطة، وفى اليونان دراخما، وفى
اليابان ين، وفى إنجلترا وأمريكا بنس، والفرق بين الفلوس قديما وحديثا
أوضحناها في كتابنا تاريخ النقود الاسلامية.
فإذا ثبت أن القراض جائز بين المتعاقدين لأنه عقد معونة وإرفاق، فإنه عقد
اختيار وليس عقد لزوم ويجوز لمن شاء منهما أن يفسخه، ومن. أجل تيسير رد
رأس المال على صاحبه لم يبحه الفقهاء إلا بالدراهم والدنانير.
قال الشافعي: ولا يجوز القراض إلا في الدراهم والدنانير التي هي أثمان الأشياء
وقيمتها، وحكى عن طاوس والأوزاعي وابن أبي ليلى جواز القراض بالعروض
لأنها كالدراهم والدنانير، ولان كل عقد صح بالدراهم والدنانير صح بالعروض
361

كالبيع، وهذا خطأ لان القراض مشروط برد رأس المال واقتسام الربح وعقده
بالعروض يمنع من هذين الشرطين، أما رد رأس المال فلان من العروض مالا
مثل لها فلم يمكن ردها.
وأما الربح فقد يفضى إلى اختصاص أحدهما به دون الآخر لأنه إن زاد خيره
العامل بالربح فاختص به رب المال، وان نقص أخذ العامل شطر فاضله من غير
عمل، وهذه أمور يمنع القراض منها فوجب أن يمنع مما أدى إليها ولان كل مال
يوجب القراض منع من أن ينعقد عليه القراض كالمنافع.
فأما الجواب عن قياسهم على الدراهم والدنانير فهو أنها لا تمنع موجب القراض
وأما قياسهم على البيع فالمعنى فيه أنه لا يلزم فيه رد مثل ولا قسمة ربح فجاز بكل
مال، فإذا ثبت أن القراض لا يصح إلا بالدراهم والدنانير فلا يصح إلا بما كان
منها مضروبا لا غش فيه، فإنه بالنقار والسبائك لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة،
وكذلك بالفضة المغشوشة، وذهب أبو حنيفة إلى جوازها إذا كانت الفضة
أكثر اعتبارا بحكم الأغلب، وهذا خطأ لان غش الفضة بالنحاس لو تميز عنها
لم يجز به القراض فإذا خالطها لم يجز به القراض، ولان ما لم تخلص فضته لم تجز
مقارضته كالكثير الغش.
فإن قيل: فمن شرطها أن تكون معلومة القدر والصفة عند عقد القراض بها
فإن تقارضا على مال لا يعلمان قدره كان القراض باطلا للجهل بما تعاقدا عليه،
وإن علما قدره وجهلا صفته بطل القراض، لان الجهل بالصفة كالجهل بالقدر في
بطلان العقد، فلو عقد القراض على ألف من أنواع شتى، فإن علما كل نوع منها
صح العقد، وإن جهلاه بطل.
فلو دفع إليه ألف درهم وألف دينار على أن يقارض بأي الألفين شاء ويستودعه
الأخرى لم يجز للجهل بالقراض هل عقد بألف درهم أو بألف دينار، كما لو أعطاه
مبلغا من العملة الصعبة كالدولار والمارك والإسترليني ومبلغا من العملة الأخرى
ولكل من النقدين قيمة رسمية وقيمة حرة، وقيمة محلية وأخرى في أسواقها
الرسمية أو الدولية، ولم يحدد له أحد النوعين المراد به القراض كان العقد باطلا
362

ولو دفع إليه بكيسين في كل واحد منهما ألف دينار على أن تكون إحدى الألفين
قراضا والأخرى وديعة ففيه وجهان.
(أحدهما) يجوز ويكون قراضا صحيحا لأنه معقود على ألف دينار معلومة
لتساوي الألفين.
(والثاني) لا يجوز للجهل بمال القراض من مال الوديعة، ولكن لو دفع
إليه ألفا وألفا على أن له من ربح أحد الألفين النصف ومن ربح الآخر الثلث،
فإن عين الألف التي شرط له نصف ربحها من الألف التي شرط له ثلث ربحها جاز
وكانا عقدين، وإن لم يعين لم يجز للجهل بمال كل واحد من العقدين.
وإذا كانت لرجل في يد رجل ألف درهم وديعة فقارضه عليها وهما يعلمان
قدرها وصفتها جاز، ولو كانا يجهلان القدر أو الصفة لم يجز، ولو قال له: قد
قارضتك على ألف من ديتي التي على فلان فاقتضى منه قراضا لم يجز لأنه قراض
على ملك غائب، فان قبضها وأنجز بها صح القبض لأنه وكل فيه، وكان الربح
والخسران لرب المال وعليه، لحدوثها عن ملكه في قراض فاسد، ولو كان له
على العامل دين فقال له: قد جعلت ألفا من ديني عليك قراضا في بدل لم يجز
تعليلا بأنه قراض على مال غائب، وفيما حصل فيه من الربح والخسران قولان
حكاهما أبو حامد في جامعه تخريجا.
(أحدهما) أنه لرب المال وعليه، كالحادث عن مقارضة من دين على غيره،
فعلى هذا تبرأ ذمة العامل من الدين إذا اتجر به.
(والقول الثاني) وهو الأصح أن الربح والخسران للعامل وعليه دين رب
المال، والفرق بين كون الدين عليه وبين كونه على غيره أن قبضه من غيره صحيح
لأنه وكيل فيه لرب المال فعاد الربح والخسران على رب المال لحدوثها عن ملكه
وقبضه من نفسه فاسد لأنه يصير مشتريا لنفسه بنفسه فعاد الربح والخسران عليه
دون رب المال لحدوثها عن ملكه لان في كل واحد من الموضعين يعود الربح
والخسران على من له المال.
(فرع) فأما إذا غصبه ألفا ثم قارضه عليها فهذا على ضربين. أحدهما: أن
363

يكون قد استهلكها بالغصب فقد صارت بالاستهلاك دينا، فيكون على ما ذكرنا
والثاني أن تكون باقية فهذا على ضربين (أحدهما) أن يقارض عليهما بعد إبرائه
من ضمانها فيجوز لأنها تصير بعد الابراء وديعة (والثاني) أن تقارضه عليها من
غير تصريح بإبرائه منها، ففي القراض وجهان
(أحدهما) باطل لأنها مضمونة عليه كالدين وبما حصل فيها من ربح وخسران
فلرب المال وعليه.
(والثاني) وهو الصحيح أن القراض صحيح لأنه قراض على مال حاضر كما لو
باعها عليه أو وهبها منه. وفى براءته بذلك من ضمانها ثلاثة أوجه:
1 - براءته من ضمانها لأنه قد صار مؤتمنا عليها 2 - لا يبرأ من ضمانها
كما لا يبرأ الغاصب من ضمان ما ارتهن 3 - أنه ما لم يتصرف فيها بعقد
القراض فضمانها باق عليه، وإن تصرف فيها بدفعها في ثمن ما ابتاعه بها برئ
من ضمانها إن عاقد عليها بأعيانها، ولم يبرأ إن عاقد بها في ذمته لأنها في التعيين
مدفوعة إلى مستحقها بإذن مالكها، فصار كردها عليه، وفيما تعلق بذمته
يكون مبرئا لنفسه.
فأما إذا دفع إليه عرضا وأمره ببيعه والمضاربة بثمنه لم يجز لعلتين (ا) جهالة
ثمنه والقراض بالمال المجهول باطل (ب) عقده بالصفة، والقراض بالصفات
باطل فإن باعه العامل كان بيعه جائزا لصحة الاذن فيه، وإن اتجر به كان الربح
والخسران لرب المال لحدوثها عن ملكه، وللعامل أجرة مثله في عمل القراض
دون القرض، لأنه لم يجعل له في بيع القرض جعلا، وإنما جعل له في عمل
القراض ربحا فصار متطوعا بالبيع معتاضا على القراض. ولو قال خذ من وكيلي
ألف درهم فضارب بها لم يجز لعلة واحدة، وهو أنه قراض بصفة وما حصل من
ربح وخسران فلرب المال وعليه.
فأما إذا دفع شبكة إلى صياد ليصيد بها ويكون الصيد بينهما لم يجز وكان الصيد
للصياد وعليه أجرة الشبكة، وقد مضى تفصيل ذلك من التكملة الأولى ومناقشة
كل من القائلين بأن الشبكة لمالكها وعليه أجر المثل للصياد. أو أن المصيد للصياد
وعليه أجر الشبكة، والاتفاق على أن الصيد لا يقسم بين الصياد والمالك مرابحة
364

قياسا على المزارعة. والفرق بين صيد الصياد ونتاج الماشية أن حدوث النتاج
من أعيانها فكان لمالكها دون عالفها وحصول الصيد بفعل الصياد فكان له دون
مالك الشبكة في رأى الماوردي وكان لمالك الشبكة حتى لا يضيع تعب العامل إذا
لم تخرج الشبكة صيدا في رأى السبكي وعلى صاحبها أجر مثله، وعلى هذا لو دفع
سفينة إلى ملاح ليعمل فيها بنصف كسبها لم يجز، وكان الكسب للملاح لأنه بعمله
وعليه لمالك السفينة أجرة المثل، وهذه الأصول من أعظم ما تتميز به شريعتنا
الإلهية من حماية العامل وجهده وكسبه، وهي السمات الظاهرة المشرقة المشرفة
في مجتمع مسلم يقوم على الاسلام.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يجوز إلا على جزء من الربح معلوم، فان قارضه على جزء
مبهم لم يصح، لان الجزء يقع على الدرهم والألف فيعظم الضرر، وإن قارضه
على جزء مقدر كالنصف والثلث جاز، لان القراض كالمساقاة، وقد ساقى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على شطر ما يخرج من تمر وزرع، وان
قارضه على درهم معلوم لم يصح، لأنه قد لا يربح ذلك الدرهم فيستضر العامل،
وقد لا يربح إلا ذلك الدرهم فيستضر رب المال.
وإن قال قارضتك على أن الربح بيننا ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح لأنه
مجهول، لان هذا القول يقع على التساوي وعلى التفاضل (والثاني) يصح لأنه
سوى بينهما في الإضافة فحمل على التساوي، كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو.
وإن قال قارضتك على أن لي نصف الربح ففيه وجهان (أحدهما) يصح ويكون
الربح بينهما نصفين، لان الربح بينهما، فإذا شرط لنفسه النصف دل على أن الباقي
للعامل (والثاني) لا يصح وهو الصحيح، لان الربح كله لرب المال بالملك،
وإنما يملك العامل جزءا منه بالشرط ولم يشرط له شيئا فبطل
وإن قال قارضتك على أن لك النصف ففيه وجهان (أحدهما) لا يصح،
لأنه لم يبين ما لرب المال (والثاني) يصح، وهو الصحيح، لان ما لرب المال
لا يحتاج إلى شرط، لأنه يملكه بملك المال، وإنما يحتاج إلى شرط ما للعامل،
365

فإذا شرط للعامل النصف بقي الباقي على ملك رب المال، فعلى هذا لو قال قارضتك
على أن لك النصف ولى الثلث وسكت عن السدس صح، ويكون النصف له،
لان الجميع له إلا ما شرطه للعامل، وقد شرط له النصف، فكان الباقي له.
(فصل) وإن قال: قارضتك على أن الربح كله لي أو كله لك بطل القراض
لان موضوعه على الاشتراك في الربح، فإذا شرط الربح لأحدهما فقد شرط
ما ينافي مقتضاه فبطل، وإن دفع إليه ألفا وقال: تصرف فيه والربح كله لك فهو
قرض لا حق لرب المال في ربحه، لان اللفظ مشترك بين القراض والقرض،
وقد قرن به حكم القرض، فانعقد القرض به كلفظ التمليك لما كان مشتركا بين
البيع والهبة إذا قرن به الثمن كان بيعا، وإن قال: تصرف فيه والربح كله لي فهو
بضاعة، لان اللفظ مشترك بين القراض والبضاعة، وقد قرن به حكم البضاعة
فكان بضاعة كما قلنا في لفظ التمليك.
(فصل) ولا يجوز أن يختص أحدهما بدرهم معلوم ثم الباقي بينهما لأنه ربما
لم يحصل ذلك الدرهم فيبطل حقه وربما لم يحصل غير ذلك الدرهم فيبطل حق
الآخر، ولا يجوز أن يخص أحدهما بربح ما في الكيسين لأنه قد لا يربح في ذلك
فيبطل حقه أو لا يربح إلا فيه فيبطل حق الاخر ولا يجوز أن يجعل حق أحدهما
في عبد يشتريه فان شرط أنه إذا اشترى عبدا أخذه برأس المال أو أخذه العامل
بحقه لم يصح العقد لأنه قد لا يكون في المال ما فيه ربح غير العبد فيبطل حق الاخر
(الشرح) حديث المساقاة رواه الجماعة عن ابن عمر ولفظه " أن النبي صلى الله عليه وسلم
عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع " ورواه الشيخان بلفظ " أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر سأله اليهود أن يقرهم بها على أن يكفون
عملها ولهم نصف الثمرة فقال لهم: نقركم بها على ذلك ما شئنا " وللبخاري
" أعطى يهود خيبر أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها " ولمسلم
وأبى داود والنسائي " دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها على أن يعملوها من
أموالهم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم شطر ثمرها " ورواه أحمد عن عمر بلفظ
366

" أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن نخرجهم متى شئنا " ورواه
البخاري بمعناه، ورواه أحمد وابن ماجة عن ابن عباس بلفظ " أن النبي صلى الله
عليه وسلم دفع خيبر أرضها ونخلها مقاسمة على النصف " ورواه البخاري عن
أبي هريرة بلفظ " قالت الأنصار للنبي صلى الله عليه وسلم: أقسم بيننا وبين إخواننا
- المهاجرين - النخل، قال: لا، فقالوا: تكفونا العمل ونشرككم في الثمرة،
فقالوا سمعنا وأطعنا ".
أما الأحكام فقد قال الشافعي: ولا يشترط أحدهما درهما على صاحبه وما بقي
سهما ويشترط أن يوليه سلعة، أو على أن يرتفق أحدهما بشئ دون صاحبه،
وهذا صحيح، فقد ظهر ان عقد القراض موجب لاشتراك رب المال والعامل في
الربح ولا يختص به أحدهما دون الاخر، لان المال والعمل متقابلان، فرأس
المال في مقابلة عمل العامل، ولذلك وجب أن يشتركا في الربح، ولم يجز أن
يختص به أحدهما مع تساويهما، وإذا منعنا من اختصاص أحدهما بالربح دون
الاخر وجب أن يمنعا مما يؤدى إلى اختصاص أحدهما بالربح دون الاخر، فمن
ذلك أن يشترط أحدهما لنفسه من الربح درهما معلوما والباقي لصاحبه أو بينهما،
فلا يجوز، لأنه قد لا يحصل من الربح إلا الدرهم المشروط فينفرد به أحدهما
وينصرف الاخر بغير شئ مع وجود العمل وحصول الربح، ومثاله في البيوع
أن يبيعه الثمرة إلا مدا يستثنيه لنفسه فيبطل البيع لأنه قد يجوز أن تهلك الثمرة
إلا ذلك المد، فيصير البائع آخذا للثمن والثمرة معا ولو شرطا تفاضلا في الربح
مثل أن يشترط أحدهما عشر الربح وتسعة أعشاره للآخر جاز لأنه ليس ينصرف
أحدهما بغير ربح، ومثاله في البيوع أن يبيع الثمرة إلا عشرها فيصح البيع لان
ما بقي منها فهو مبيع وغير مبيع.
قال الماوردي: ومن ذلك أن يشترط أحدهما أن يولى ما يرتضيه أو ما يكتسبه
برأس ماله فيبطل القراض لأنه قد لا يكون في المشترى ربح إلا فيما تولاه فيصير
مختصا بجميع الربح ويخرج الآخر بغير ربح، ومن ذلك أن يشترط أحدهما ربحا
دون صاحبه، مثل أن يشترط ركوب ما اشتراه من الدواب أو لبس ما اشتراه
367

من الثياب مدة بقائها في القراض فيبطل العقد لأنه قد لا يكون في أثمانها فضل
إلا ما اختص به أحدهما من الرفق فيصير منفردا بالربح لان المنفعة مقومة كالأعيان
فأما إذا شرطا جميع الربح لأحدهما فهما مسألتان:
1 - أن يشترطا جميع الربح لرب المال
2 - أن يشترطا جميع الربح للعامل، فإذا شرطا الأول نظر فيه، فإن لم يقل
رب المال عند دفعه: انه قراض ولكن قال: خذه فاشتر به وبع ولى جميع الربح
فهذه استعانة بعمله وليس بقراض والعامل متطوع بعمله فيه وجميع الربح لرب
المال ولا أجرة للعامل في عمله.
وإن قال خذه قراضا على أن جميع الربح لي، فهذا قراض فاسد وجميع الربح
لرب المال، وفى استحقاق العامل أجرة مثله وجهان (أحدهما) وهو قول المزني
إنه لا أجرة له، لأنه مع الرضا بأن لا ربح له متطوع بعمله (والثاني) وهو قول
ابن سريج إن له أجرة مثله لعمله في قراض فاسد، فصار كالمزوجة من غير صداق
تستحق بذلك مهر المثل.
وأما ان شرطا جميع الربح للعامل فهذا على ضربين (أحدهما) أن يقول رب
المال خذه قراضا على أن جميع الربح لك، فهذا فاسد وجميع الربح لرب المال على
حكم القراض الفاسد وللعامل أجرة مثله لدخوله على عوض لم يحصل له.
والضرب الثاني: أن يقول: خذه على أن جميع ربحه لك ولا يصرح في حال
الدفع بأنه قراض، ففيه لأصحابنا وجهان (أحدهما) أن يكون سلفا ولا يكون
قراضا لأنه غير منطوق به، فعلى هذا يكون ضامنا للمال وجميع الربح له.
والوجه الثاني: أن يكون قراضا فاسدا ولا يكون قراضا ولا سلفا لأنه غير
منطوق به. فعلى هذا لا يكون ضامنا للمال، ويكون جميع الربح لرب المال،
وللعامل أجرة المثل.
قال المصنف رحمه الله:
(فصل) ولا يجوز أن يعلق العقد على شرط مستقبل لأنه عقد يبطل
بالجهالة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالبيع والإجارة.
368

(فصل) قال الشافعي رحمه الله: ولا تجوز الشريطة إلى مدة، فمن أصحابنا
من قال لا يجوز شرط المدة فيه لأنه عقد معاوضة يجوز مطلقا فبطل بالتوقيت
كالبيع والنكاح، ومنهم من قال: إن عقده إلى مدة على أن لا يبيع بعدها لم يصح
لان العامل يستحق البيع لأجل الربح، فإذا شرط المنع منه فقد شرط ما ينافي
مقتضاه فلم يصح. وإن عقده إلى مدة على أن لا يشترى بعدها صح، لان رب
المال يملك المنع من الشراء إذا شاء، فإذا شرط المنع منه فقد شرط ما يملكه
بمقتضى العقد فلم يمنع صحته.
(فصل) ولا يصح إلا على التجارة في جنس يعم كالثياب والطعام
والفاكهة في وقتها، فان عقده على ما لا يعم كالياقوت الأحمر والخيل البلق
وما أشبهها أو على التجارة في سلعة بعينها لم يصح لان المقصود بالقراض الربح
فإذا علق على ما لا يعم أو على سلعة بعينها تعذر المقصود لأنه ربما لم يتفق ذلك
ولا يجوز عقده على أن لا يشترى إلا من رجل بعينه، لأنه قد لا يتفق عنده
ما يربح فيه أو لا يبيع منه ما يربح فيه فيبطل المقصود
(فصل) وعلى العامل أن يتولى ما جرت العادة أن يتولاه بنفسه من النشر
والطي والايجاب والقبول، وقبض الثمن ووزن ما خف كالعود والمسك، لان
إطلاق الاذن يحمل على العرف، والعرف في هذه الأشياء أن يتولاها بنفسه،
فان استأجر من يفعل ذلك لزمه الأجرة في ماله.
فأما ما لم تجر العادة أن يتولاه بنفسه كحمل المتاع ووزن ما يثقل وزنه فلا
يلزمه أن يتولاه بنفسه، وله أن يستأجر من مال القراض من يتولاه، لان
العرف في هذه الأشياء أن لا يتولاه بنفسه، فان تولى ذلك بنفسه لم يستحق الأجرة
لأنه تبرع به.
وإن سرق المال أو غصب فهل يخاصم السارق والغاصب؟ فيه وجهان:
(أحدهما) لا يخاصم، لان القراض معقود على التجارة فلا تدخل فيه
الخصومة (والثاني) أنه يخاصم فيه لان القراض يقتضى حفظ المال والتجارة
ولا يتم ذلك الا بالخصومة والمطالبة
369

(فصل) ولا يجوز للعامل أن يقارض غيره من غير إذن رب المال لان
تصرفه بالاذن ولم يأذن له رب المال في القراض فلم يملكه، فان قارضه رب المال
على النصف وقارض العامل آخر واشترى الثاني في الذمة ونقد الثمن من مال
القراض وربح بنينا على القولين في الغاصب إذا اشترى في الذمة ونقد فيه المال
المغصوب وربح، فان قلنا بقوله القديم إن الربح لرب المال فقد قال المزني ههنا
ان لرب المال نصف الربح والنصف الآخر بين العاملين نصفين. واختلف أصحابنا
في ذلك فقال أبو إسحاق هذا صحيح لان رب المال رضى أن يأخذ نصف ربح فلم
يستحق أكثر منه والنصف الثاني بين العاملين لأنهما رضيا أن يكون ما رزق الله
بينهما، والذي رزق الله تعالى هو النصف، فان النصف الآخر أخذه رب المال
فصار كالمستهلك. ومن أصحابنا من قال: يرجع العامل الثاني على العامل الأول
بنصف أجرة مثله لأنه دخل على أن يأخذ نصف ربح المال ولم يسلم له ذلك، وان
قلنا بقوله الجديد فقد قال المزني الربح كله للعامل الأول وللعامل الثاني أجرة المثل
فمن أصحابنا من قال هذا غلط لان على هذا القول الربح كله للعامل الثاني لأنه هو
المتصرف فصار كالغاصب في غير القراض. ومنهم من قال الربح للأول كما قال
المزني لان العامل الثاني لم يشتر لنفسه وإنما اشتراه للأول فكان الربح له بخلاف
الغاصب في غير القراض، فان ذلك اشتراه لنفسه فكان الربح له.
* * *
(الشرح) قال الشافعي: ولا يجوز أن يقارضه إلى مدة من المدد. فإذا
عرفت ما قررناه في أول الباب من أن القراض من العقود الجائزة لا اللازمة فقد
صح عقده مطلقا بدون شرط مدة أو تحديد وقت يكون القراض فيه، فلو شرطا
مدة يكون القراض فيها لازما بطل.
فإذا ثبت هذا فاشتراط المدة على ضربين:
(أحدهما) أن يشترطا لرفع العقد فيها فيكون القراض باطلا لما ذكرنا.
(الثاني) أن يشترطا الفسخ في العقد بعدها فهذا على ضربين:
370

(أحدهما) أن يشترطا فسخ القراض بعد المدة في البيع والشراء فيكون
القراض باطلا إذا فاته موجب العقد في بيع ما حصل في القراض من عرض.
(والثاني) أن يشترطا فسخ القراض بعد المدة في الشراء دون البيع فيكون
القراض جائزا، لان له فسخ القراض في الشراء عند مضى المدة فجاز أن يشترطه
قبل مضى المدة.
ولو قال: خذ هذا المال قراضا ما شئت أنا من الزمان أو ما شئت أنت جاز
لان كذلك تكون العقود الجائزة، ولو قال: خذه ما رضى فلان مقامك أو
ما شاء فلان أن يقارضك لم يجز وكان قراضا فاسدا، لأنه لا يجوز أن يكون
قراضهما موقوفا على رأى غيرهما.
ولو قال: خذ المال قراضا ما أقام العسكر، أو إلى قدوم الحاج نظر، فإن شرط
لزومه في هذه المدة كان باطلا، وإن شرط فسخه بعدها في الشراء دون البيع،
ففيه وجهان، أحدهما: يجوز لما لهما من ذلك. والثاني: لا يجوز، لان لجهالة
المدة قسطا من الغرر وتأثيرا في الفسخ.
(فرع)
عقد القراض يقتضى تصرف العامل في المال بالبيع والشراء، فإذا قارضه
على أن يشترى به نخلا يمسك رقابها ويطلب ثمارها لم يجز لأنه قيد تصرفه
الكامل بالبيع والشراء، ولان القراض مختص بما يكون النماء فيه نتيجة البيع
والشراء وهو في النخل نتيجة عن غير بيع وشراء فبطل أن يكون قراضا ولا
يكون مساقاة، لأنه عاقده على جهالة بها قبل وجود ملكها، وهكذا لو قارضه
على شراء دواب أو مواشي يحبس رقابها ويطلب نتاجها لم يجز لما ذكرنا، فإن
اشترى بالمال النخل والدواب صح الشراء ومنع من البيع لأن الشراء عن إذن
والبيع بغير إذن، وكان الحاصل من الثمار والنتاج ملكا لرب المال لأنه نتج عن
ملكه، وللعامل أجرة مثله في الشرط والخدمة لأنها عمل عاوض عليها، وحكى
عن محمد بن الحسن جواز ذلك كله حتى قال: لو أطلق القراض معه جاز له أن
يشترى أرضا أو يستأجرها ليزرعها أو يغرسها ويقتسما فضل زرعها وغرسها
وهذا فاسد لما بيناه.
371

وأما القسم الثاني وهو مئونة العمل فمنه ما يجب في مال القراض ومنه ما يلزم
العامل ولا يجب في مال القراض. فأما الأول فأجرة النقل والشحن وأرضيات
الجمارك إذا لم يتأخر عن تسلمها من إهمال، وأجر الصوامع والمخازن، وما صار
معهودا من الرسوم والضرائب والدمغات التي لا يقدر على عدم أدائها فله دفع
ذلك كله بالمعروف من رأس المال ثم وضعه من الربح الحاصل فيه ليكون الفاضل
بعد ذلك من الربح هو المقسوم بينهما على شرطهما.
وأما ما يلزم العامل ماليا فما يدفع من المخالفات ورسوم الأرضية في الجمارك
نتيجة الاهمال في ترك الاسراع لتسلمها وتخليصها، وما يلزمه عمليا فهو ما يفعله
التجار من تحرير العقود ومباشرة عمليات التسويق والبيع وتنضيد السلع وعرضها
وكتابة الأسعار عليها إن كانت أوامر السلطان تقضى بذلك، أما الاعلان عن
السلعة في الصحف أو الحوائط أو شاشات العرض فتكون في مال القراض.
وأما القسم الثالث وهو نفقة العامل فهو نوعان (أحدهما) ما يختص العامل
بالتزامه كمأكوله وملبوسه ونفقة إقامته (والثاني) نفقة سفره، فالذي رواه
المزني في مختصره أن له النفقة بالمعروف. وقال في جامعه الكبير: والذي أحفظ
له أنه لا يجوز القراض إلا على نفقة معلومة في كل يوم وعما يشتريه فيكتسبه،
فروى في مختصره وجامعه وجوب النفقة، وجعلها في جامعه معلومة كنفقات
الزوجات، وفى مختصره بالمعروف كنفقات الأقارب، فهذا ما رواه المزني.
وروى أبو يعقوب البويطي أنه لا ينفق على نفسه من مال المضاربة حاضرا
كان أو مسافرا. فاختلف أصحابنا، فكان أبو الطيب وأبو حفص بن الوكيل
يجعلان اختلاف الروايتين على اختلاف قولين (أحدهما) وهو رواية المزني أنه
ليس له النفقة في سفره لاختصاص سفره بمال القراض بخلاف نفقة الاستيطان
والقول الثاني: لا نفقة له لما فيه من اختصاصه بالربح أو بشئ منه
دون رب المال.
وقال أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة: لا نفقة له قولا واحدا
على ما رواه البويطي، وحملا رواية المزني على نفقة المبتاع دون العامل، وهذا
372

التأويل مدفوع بما بينه المزني في جامعه الكبير بقوله: نفقة معلومة في كل يوم،
وثمن ما يشتريه فيكتسبه.
(فرع) قال الشافعي: وإذا سافر كان له أن يكترى من المال من يكفيه بعض
المئونة في الأعمال التي لا يعملها العامل، وله النفقة بالمعروف اه‍
والكلام في هذه المسألة التي ذكرها المصنف واستدللنا له عليها بقول الشافعي
مشتمل على ثلاثة أقسام:
1 - في جواز سفر العامل بمال القراض 2 - في مئونة العمل
3 - في نفقة العامل
فأما الأول فلرب المال معه ثلاثة أحوال (ا) أن ينهاه عن السفر به فلا
يجوز أن يسافر إجماعا، فإن أذن له في السفر إلى بلد لم يجز أن يسافر إلى غيره،
وان لم يخص به بلدا جاز أن يسافر به إلى البلدان المأمونة المسالك والأمصار التي
جرت عادة أهل بلده أن يسافروا بأموالهم ومتاجرهم إليها ولا يخرج عن العرف
المعهود فيها، وفى البعد إلى أقصى البلدان، فإن أبعد إلى أقصى البلدان ضمن المال
(ب) أن يطلق فلا يأمره ولا ينهاه، فقد اختلف الناس في جواز سفره
بالمال، فذهب الشافعي أنه لا يجوز أن يسافر به قريبا ولا بعيدا سواء رد الامر
إلى رأيه أم لا.
وقال أبو حنيفة يجوز له أن يسافر بالمال إذا رأى، وان لم يأمره بذلك ما لم
ينهه، وقال محمد بن الحسن وأبو يوسف: يجوز أن يسافر بالمال إلى حيث يمكنه
الرجوع من قبل الليل، وقال محمد بن الحسن: يجوز له أن يسافر بالمال إلى حيث
لا يلزمه إليه مؤونة. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم " ان المسافر وماله على قلت
الا ما وقى الله " يعنى على خطر، وهو لا يجوز أن يخاطر بالمال، ولأنه مؤتمن
فلم يجز أن يسافر بالمال كالوكيل، ولان كل سفر منع منه الوكيل منع منه
العامل، كالسفر البعيد.
(فرع) قال الشافعي: فإن قارض العامل بالملك آخر من غير اذن صاحبه
فهو ضامن، فإن ربح به صاحب المال شطر الربح ثم يكون للذي عمل شطره مما قى
373

قال المزني: هذا قوله في القديم وأصل قوله الجديد المعروف أن كل عقد
فاسد لا يجوز. قال المزني: فإن اشترى بعين المال فهو فاسد، وإن اشترى بغير
العين جائز والربح للعامل الأول وعليه الضمان، وللعامل الثاني أجرة مثله
في قياس قوله.
وقال الماوردي: إن العامل في القراض ممنوع أن يقارض غيره بمال القراض
ما لم يأذن له رب المال به إذنا صحيحا صريحا. وقال أبو حنيفة: إن قال له
رب المال عند دفعه له: اعمل فيه برأيك جاز أن يدفع منه قراضا إلى غيره لأنه
مفوض إلى رأيه فجاز أن يقارض لأنه من رأيه. وهذا خطأ لان قوله: اعمل
فيه برأيك يقتضى أن يكون عمله فيه موكولا إلى رأيه، فإذا قارض به كان
العمل لغيره ولأنه لو قارض بجميع المال لم يجز، وإن كان ذلك من رأيه لعدوله
بذلك عن عمله إلى عمل غيره، فكذلك إذا قارض ببعضه، فإذا تقرر أنه
لا يجوز أن يقارض غيره بالمال الا بإذن صريح من رب المال فلا يخلو رب المال
من ثلاثة أقسام (أحدها) أن يأذن له في العمل بنفسه ولا يأذن له في مقارضة
غيره (والثاني) أن يأذن له في مقارضة غيره
فأما القسم الأول فإن قارض غيره بالمال فقد تعدى وصار ضامنا للمال
بعدوانه كالغاصب فيكون ربحه حكمه حكم الغاصب. ولمن يكون الربح؟ على
قولين: أحدهما وهو القديم أن ربح المغصوب لرب المال، فعلى هذا قال المزني ههنا
ان لرب المال نصف الربح والنصف الآخر بين العاملين الأول والثاني
فاختلف أصحابنا في ذلك، فكان أبو العباس بن سريج يقول:
يجب أن يكون على هذا القول جميع الربح لرب المال، لأنه ربح مال مغصوب
فأشبه المغصوب من غير مقارضه، فإذا أخذ رب المال ماله وربحه كله رجع
العامل الثاني على العامل الأول بأجرة مثله لأنه هو المستهلك لعمله والضامن له
بقراضه، فلو تلف المال في يد العامل الثاني كان رب المال بالخيار في الرجوع
برأس ماله وربحه على من شاء منهما، لان الأول ضامن بعدوانه والثاني ضامن
بيده، فإن أغرم الأول لم يرجع على الثاني بشئ لأنه أمينه فيما غرمه. وان أغرم
الثاني رجع على الأول بما غرمه مع أجرة مثل عمله، ولا يلزم رب المال - وان
374

أخذ جميع الربح - أن يدفع إلى واحد من العاملين أجرة المثل لاجراء حكم
الغصب عليهما بالمخالفة.
وذهب أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة وجمهور أصحابنا إلى أن
ما رواه المزني على هذا القول صحيح، وأن رب المال ليس له من الربح الا نصفه
خلاف المأخوذ غصبا محضا، لأب رب المال في هذا الموضع دفع المال راضيا
بالنصف من ربحه وجاعلا نصفه الباقي لغيره، فلذلك لم يستحق منه الا النصف.
فأما النصف الثاني فقد روى المزني أنه يكون بين العاملين، فاختلف أصحابنا
على وجهين.
(أحدهما) وهو قول أبي إسحاق المروزي أن هذا خطأ من المزني في نقله،
ويجب أن يكون النصف الباقي من الربح للعامل الأول ولا حق فيه للثاني لفساد
عقده، ويرجع على الأول بأجرة مثل عمله، فجعل الربح بين رب المال والعامل
الأول، ويجعل للثاني أن يرجع بأجرة مثله على الأول. والوجه الثاني وهو قول
أبي علي بن أبي هريرة أن نقل المزني صحيح ويكون النصف الباقي من الربح بين
العاملين نصفين على شرطهما، لأنه لما جرى على العامل الأول حكم القراض مع
رب المال جرى على العامل الأول حكم القراض مع العامل الثاني، فهذا
حكم قوله الجديد.
(والثاني) وهو قوله في الجديد: ان ربح المال المغصوب للغاصب، فعلى
هذا لا شئ لرب المال في الربح وله مطالبة أي العاملين شاء برأس ماله، لان
الأول ضامن بعدوانه والثاني ضامن بيده. وقال أبو حنيفة: ان الربح للغاصب
دون المغصوب لان كل نماء حدث عن سبب كان ملك النماء لمالك السبب،
وربح المال المغصوب ناتج عن التقلب والعمل دون المال فاقتضى أن يكون ملكا
لمن له العمل دون من له المال، وهذه هي النظرية الحديثة المعاصرة التي تقول
بأن فائض القيمة ناتج عن عمل العامل
وأما الثالث وهو أن يأذن له في مقارضة غيره ولا يأذن له في العمل بنفسه
فهو وكيل في عقد القراض مع غيره، فلم يجز أن يقارض نفسه كوكيل البيع
لا يجوز له أن يبايع نفسه. ثم ينظر فإن كان رب المال قد عين له من يقارضه لم
375

يجز أن يعدل عنه إلى غيره وإن لم يعينه له اجتهد رأيه فيمن يراه أهلا لقراضه
من ذوي الأمانة والخبرة، فإن قارض أمينا غير خبير بالتجارة لم يجز، وإن
قارض خبيرا بالتجارة غير أمين لم يجز حتى يجتمع الشرطان، فإن عدل عن ذلك
كان ضامنا. والله أعلم
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا يتجر العامل إلا فيما أذن فيه رب المال فان أذن له في صنف
لم يتجر في غيره، لان تصرفه بالاذن فلم يملك ما لم يأذن له فيه، فإن قال له اتجر
في البز جاز أن يتجر في أصناف البز من المنسوج من القطن والإبريسم والكتان
وما يلبس من الأصواف، لان اسم البز يقع على ذلك كله، ولا يجوز أن يتجر
في البسط والفرش لأنه لا يطلق عليه اسم البز. وهل يجوز أن يتجر في الأكسية
البركانية؟ فيه وجهان
(أحدهما) يجوز لأنه يلبس فأشبه الثياب (والثاني) لا يجوز لأنه لا يطلق
عليه اسم البز. ولهذا لا يقال لبائعه بزاز، وإنما يقال له كسائي، ولو أذن له في
التجارة في الطعام لم يجز أن يتجر في الدقيق ولا في الشعير، لان الطعام
لا يطلق إلا على الحنطة.
(فصل) ولا يشترى العامل بأكثر من رأس المال، لان الاذن لم يتناول
غير رأس المال، فإن كان رأس المال ألفا فاشترى عبدا بألف، ثم اشترى آخر
بألف قبل أن ينقد الثمن في البيع الأول فالأول للقراض لأنه اشتراه بالاذن.
وأما الثاني فينظر فيه فان اشتراه بعين الألف فالشراء باطل، لأنه اشتراه بمال
استحق تسليمه في البيع الأول فلم يصح، وإن اشتراه بألف في الذمة كان العبد
له ويلزمه الثمن في ماله لأنه اشترى في الذمة لغيره ما لم يأذن فيه فوقع الشراء له
(فصل) ولا يتجر إلا على النظر والاحتياط فلا يبيع بدون ثمن المثل ولا
بثمن مؤجل لأنه وكيل فلا يتصرف الا على النظر والاحتياط، وإن اشترى
معيبا رأى شراءه جاز لان المقصود طلب الحظ وقد يكون الربح في المعيب، وان
376

اشترى شيئا على أنه سليم فوجده معيبا جاز له الرد، لأنه فوض إليه النظر
والاجتهاد فملك الرد
(فصل) وان اختلفا فدعا أحدهما إلى الرد والآخر إلى الامساك فعل ما فيه
النظر لان المقصود طلب الحظ لهما، فإذا اختلفا حمل الامر على ما فيه الحظ.
(فصل) وان اشترى من يعتق على رب المال بغير إذنه لم يلزم رب المال
لان القصد بالقراض شراء ما يربح فيه وذلك لا يوجد في شراء من يعتق عليه
وإن كان رب المال امرأة فاشترى العامل زوجها بغير اذنها ففيه وجهان.
(أحدهما) لا يلزمها لان المقصود شراء ما تنتفع به وشراء الزوج تستضر
به لان النكاح ينفسخ وتسقط نفقتها واستمتاعها (والثاني) يلزمها لان المقصود
بالقراض شراء ما يربح فيه والزوج كغيره في الربح فلزمها شراؤه
(فصل) ولا يسافر بالمال من غير اذن رب المال لأنه مأمور بالنظر
والاحتياط، وليس في السفر احتياط، لان فيه تغريرا بالمال، ولهذا يروى أن
المسافر ومتاعه لعلى قلت، فان أذن له في السفر فقد قال في موضع له أن ينفق
من مال القراض، وقال في موضع آخر لا نفقة له، فمن أصحابنا من قال لا نفقة
له قولا واحدا لان نفقته على نفسه فلم تلزم من مال القراض كنفقة الإقامة،
وتأول قوله على ما يحتاج إليه لنقل المتاع وما يحتاج إليه مال القراض. ومنهم
من قال فيه قولان:
(أحدهما) لا ينفق لما ذكرناه (والثاني) ينفق لان سفره لأجل المال فكان
نفقته منه كأجرة الحمال.
فإن قلنا ينفق من مال القراض ففي قدره وجهان (أحدهما) جميع ما يحتاج
إليه، لان من لزمه نفقة غيره لزمه جميع نفقته (والثاني) ما يزيد على نفقة الحضر
لان النفقة إنما لزمته لأجل السفر فلم يلزمه الا ما زاد بالسفر
(فصل) وإن ظهر في المال ربح ففيه قولان (أحدهما) أن الجميع لرب المال
فلا يملك العامل حصته من الربح إلا بالقسمة لأنه لو ملك حصته من الربح لصار
شريكا لرب المال حتى إذا هلك شئ كان هالكا من المالين، فلما لم يجعل التالف
من المالين دل على أنه لم يملك منه شيئا (والثاني) أن العامل يملك حصته من
377

الربح لأنه أحد المتقارضين فملك حصته من الربح بالظهور كرب المال.
(فصل) وإن طلب أحد المتقارضين قسمة الربح قبل المفاصلة فامتنع الآخر
لم يجبر لأنه إن امتنع رب المال لم يجز إجباره لأنه يقول الربح وقاية لرأس المال
فلا أعطيك حتى تسلم لي رأس المال، وإن كان الذي امتنع هو العامل لم يجز
إجباره لأنه يقول لا نأمن أن نخسر فنحتاج أن نرد ما أخذه، وإن تقاسما جاز
لان المنع لحقهما وقد رضيا، فإن حصل بعد القسمة خسران لزم العامل أن يجبره
بما أخذ لأنه لا يستحق الربح إلا بعد تسليمه رأس المال
(فصل) وإن اشترى العامل من يعتق عليه فإن لم يكن في المال ربح لزم
الشراء في مال القراض لأنه لا ضرر فيه على رب المال، فإن ظهر بعد ما اشتراه
ربح، فإن قلنا إنه لا يملك حصته قبل القسمة لم يعتق، وإن قلنا إنه يملك
بالظهور فهل يعتق بقدر حصته؟ فيه وجهان (أحدهما) إنه يعتق منه بقدر حصته
لأنه ملكه فعتق.
(والثاني) لا يعتق لان ملكه غير مستقر، لأنه ربما تلف بعض المال فلزمه
جبرانه بماله، وإن اشترى وفى المال ربح، فان قلنا إنه لا يعتق عليه صح الشراء
لأنه لا ضرر فيه على رب المال، وإن قلنا يعتق لم يصح الشراء لان المقصود
بالقراض شراء ما يربح فيه، وهذا لا يوجد فيمن يعتق عليه.
(الشرح) قد ذكرنا أن القراض خاص وعام، فأما العام فهو أن يطلق
تصرف العامل في كل ما يرجو فيه ربحا، فهذا جائز على عموم التصرف، وأما
الخاص فهو أن يختص بالعامل على نوح واحد فهو على ثلاثة أضرب:
(أحدها) ما يوجد في عموم الأحوال كالحنطة والبر فيجوز، ويكون
مقصور التصرف على النوع الذي أذن فيه، فلو أذن له أن يتجر في البز جاز له
أن يتجر في صنوف البز كلها وجاز أن يتجر في القطن والكتان والحرير والصوف
ولا يجوز أن يتجر في البسط والفرش. وهل يجوز أن يتجر في الثياب والأكسية
أم لا؟ على وجهين:
(أحدهما) يجوز لأنها ملبوسة (والثاني) لا يجوز لخروجها عن اسم البز
378

فلو أذن له أن يتجر في الطعام اقتصر على الحنطة وحدها دون الدقيق. وقال
محمد بن الحسن: يجوز أن يتجر في الحنطة والدقيق، وعندي أن تصنيف السلع
يمكن أن تقوم على ما جرى العرف بتناسقه وانسجامه واعتبار التاجر فيه جامعا
لما يندرج تحته بالعرف لمفردات المجموعة من الأصناف المتشابهة التي يتجر فيها
فلو أذن له في البقالة اندرج تحت هذا الاسم أنواع الجبن والزيتون والمعلبات
والصابون والمأكولات المجففة.
وإذا أذن له في الخردوات (البازار) اندرج تحت هذا الاسم مجموعة من
الأصناف كالخيوط والأشرطة والعطور وما أشبه ذلك. وهكذا في كل مجموعة
من السلع المتشابهة يطلق على من يتجر فيها اسم عندما يسمعه المرء مثلت للذهن
أصناف متجره بغير عناء.
فإذا أذن له في فتح محل حاتى فلا يفتح مسمطا ولا فوالا ولا طباخا، وإن
كانت كلها مأكولات، ولكن العرف حدد لكل نوع منها اسمه الذي
لا يختلط بغيره وهكذا.
فإذا أذن له في أن يتجر فيما ندر وجوده وعز مطلبه، كالياقوت الأحمر
والخيل البلق والعبيد الخصيان فالقراض باطل سواء وجده أو لم يجده لأنه على
غير ثقة من وجوده. فإذا أذن له أن يتجر في ثمار موسمية كالثمار والفواكه
فينظر في عقد القراض، فإن كان في غير أوان تلك الثمار فالقراض باطل، فان
جاءت تلك الثمار من بعد لم يصح القراض بعد فساده، وإن كان ذلك في أوان
الثمار وإبانها فالقراض جائز ما كانت تلك الثمار باقية، فان انقطعت ففي القراض
وجهان (أحدهما) قد بطل بانقطاعها، وليس له في العام المقبل أن يتجر فيها
الا باذن وعقد مستجد.
والوجه الثاني: أن القراض على حاله ما لم يصرح بفسخه في كل عام أتت فيه
تلك الثمرة فيتجر فيها بالعقد الأول. أما إذا كان انقطاعه في العام قليلا
فالقراض على وجهه وحاله.
379

(فرع) إذا تقرر أنه لا يشترى إلا في حدود رأس المال المأذون فيه كان
ممنوعا من البيع والشراء نسيئة، فإذا عاقد بالنساء فذلك نوعان بيع وشراء
فالشراء ضربان.
(أحدهما) أن يشترى بالنساء في مال القراض فيكون الشراء باطلا.
(والثاني) أن يشترى بالنساء في ذمته فيكون الشراء لازما له، وأما البيع
فباطل ولا ضمان عليه ما لم يقبضه فإن قبضه ضمنه حينئذ بالاقباض، وعليه
استرجاعه ما كان باقيا، فإن تلف فلرب المال أن يأخذ بضمانه وغرمه من شاء
من العامل أو المشترى، فإن أغرم العامل رجع بما غرمه على المشترى، وإن أغرم
المشترى لم يرجع على العامل لان الغرم ثبت على من كان في يده التلف.
فلو قال رب المال للعامل: اعمل في القراض برأيك لم يجز أن يعاقد بالنساء
وإذا قارضه على غير مال ليشترى بالنساء فإن القراض باطل لأنه يصح في الأعيان
ولا يصح في الذمم، ولو قارضه على مال فأذن له في الشراء بالنساء لم يكن للعامل
أن يشترى نساء بأكثر من مال القراض قدرا لان ما زاد عليه خارج منه.
(فرع) لا يجوز له أن يبيع بأقل من ثمن المثل إلا إذا كان عن رغبة في
تأليف المبتاعين وترويج السلعة والقناعة بالقليل من الربح ما دام يتصرف على
النظر والاحتياط وتوخى ما فيه الحظ له ولصاحبه بشرط أن لا يكون كثيرا
لا يتغابن الناس بمثله.
(فرع) قال الشافعي: ومتى شاء رب المال أخذ ماله قبل العمل وبعده ومتى
شاء العامل أن يخرج من القراض يخرج منه، وقد سبق أن قررنا أن عقد القراض
عقد جواز وليس عقد لزوم فلكل واحد من رب المال والعامل أن ينفرد بالفسخ
قبل العمل وبعده مع وجود الربح أو حدوث الخسران، فإذا فسخها أحدهما
انفسخت فصار كاجتماعهما على قسمها، فإذا كان المال من جنس رأس المال فالعامل
ممنوع من التصرف فيه ببيع أو شراء سواء كان هو الفاسخ أو صاحبه، ثم نظر
فإن كان فيه فضل تقاسماه على شرطهما، وإن لم يكن فيه فضل أو كان فيه خسران
أخذه رب المال ولا شئ فيه للعامل، وإن كان من غير جنس رأس المال فحكم
380

هذا كحكمه لو كان عرضا، ولهما في العرض بعد فسخ القراض أربعة أحوال.
(ا) أن يجتمعا على بيعه فيلزم العامل أن يبيعه لأنه من لوازم عقده فإذا قضى
ثمنه أخذ رب المال ماله فضلا إن كان فيه.
(ب) أن يتفقا على ترك بيعه فهذا على نوعين:
أحدهما: لا يكون في ثمنه - لو بيع - فضل، فقد سقط حق العامل منه
فصار العرض ملكا لرب المال بزيادته ونقصه، فان زاد ثمنه بعد ترك العامل له
لم يكن له حق في زيادته لخروجه بالترك عن قراضه.
والنوع الثاني: أن يكون في ثمنه فضل لو بيع عند تركه نظر في ترك العامل
فإن كان قد تركه إسقاطا لحقه فقد صار العرض بزيادته ونقصه ملكا لرب المال
ولا شئ للعامل فيه، وإن كان قد ترك تأخير البيع فهو على حقه من فضل ثمنه
وله بيعه متى شاء.
(ج) أن يدعو العامل إلى بيعه ويمنعه رب المال منه فهذا على ضربين.
أحدهما: أن لا يرجو في ثمنه فضلا، ولا يأمل ربحا فليس له بيعه، ويمنع
منه لأنه لا يستفيد ببيعه شيئا.
والضرب الثاني: أن يرجو في ثمنه فضلا ويأمل ربحا فله بيعه وليس لرب
المال أن يمنعه ليصل بالبيع إلى حقه من الربح، فلو بذل له رب المال حصته من
ربحه ففي منعه من بيعه وجهان مخرجان من اختلاف قولين في سيد العبد الجاني
إذا امتنع المجني عليه من بيعه وبذل له قدر قيمته.
(أحدهما) يمنع المجني عليه من بيعه لوصوله إلى قيمته ويمنع العامل من بيع
العرض لوصوله إلى حقه.
(والقول الثاني) أن المجني عليه لا يمنع من بيع الجاني، وكذلك لا يمنع
العامل من بيع القراض لأنه قد يرجو زيادة على القيمة لوجود راغب.
(د) أن يدعو رب المال إلى بيعه ويمتنع العامل منه، فإن كان امتناعه تركا
لحقه منه ففي إجباره على بيعه وجهان، أحدهما: لا يجبر عليه لان البيع والشراء
إنما يلزم في حقيهما وببطلان القراض قد سقط أن يكون ذلك حقا لهما.
381

والثاني: أن يجبر على بيعه، لان رأس المال مستحق عليه وليس العرض
هو رأس المال وإنما هو بدل عنه.
(فرع) سبق أن قررنا أنه لا يجوز له أن يسافر بغير إذن رب المال وأوضحنا
من النفقات ما يؤخذ من القراض بالمعروف كنفقة الأقارب أو مقدرة كنفقة
الزوجة، وقال أبو حنيفة: له في نفقته أجرة حمامه وعلاجه وطبيبه وما يباح من
شهواته، وهذا غير صحيح من وجهين.
(أحدهما) أن نفقات الزوجات أوكد من نفقات العامل ومع ذلك ليس فيها
شئ من ذلك.
(والثاني) أن ذلك مما لا يختص بالسفر ولا بعمله، على أن من أصحابنا من
جعل له نفقة السفر ما زاد على نفقة الحضر، وحكاه أبو علي بن أبي هريرة عن
بعض متقدميهم وهو أشبه بالقياس، فان دخل في سفره بيتا فله النفقة ما أقام فيه
مقام المسافر ما لم يتجاوز أربعا فإن زاد على إقامة أكثر من أربع نظر، فإن كان
بغير مال القراض من مرض طرأ أو عارض يختص به فنفقته في ماله دون القراض
وإن كان مقامه لأجل مال القراض انتظارا لبيعه وقبض ثمنه أو التماسا لحمله أو
لسبب يتعلق به فنفقته في سفره لاختصاصه بالقراض.
قال الشافعي: وإن خرج بمال لنفسه كانت النفقة على قدر المالين بالحصص،
ويستفاد من ذلك أنه يصح أن يسافر بمال نفسه مع مال القراض، ومنعه بعض
العراقيين لان عمله مستحق في مال القراض فصار كالأجير، وقد خطأ بعض
أصحابنا هذا لأنه إذا كان له أن يعمل في ماله ومال القراض حضرا جاز له ذلك سفرا
ولان عمله في القراض لا يمنعه من العمل في جميع الأعمال ما دام يؤدى ما لزمه من
عمل القراض وسواء فيما لسواه ممسكا أو عاملا فلو شرطه في العقد أن لا يسافر
بمال لنفسه بطل القراض لأنه قد أوقع عليه حجرا غير مستحق، والمطلوب منه
أن لا يخلط ماله بمال القراض، وعليه تمييز كل واحد من المالين، فان خلطهما
فعلى ضربين.
(أحدهما) أن يكون باذن رب المال فيجوز ويصير شريكا ومضاربا، ومؤونة
382

المال مقسطة على قدر المالين، ونفقة نفسه إن قيل: إنها لا تجب في مال القراض
فهو مختص بها، وإن قيل إنها تجب في مال القراض فهي مقسطة على قدر المالين
(والثاني) أن يخلط المالين بغير إذن رب المال فيبطل القراض لأنه يصير كالعادل
به عن حكمه فيلتزم نفقة نفسه، وتكون نفقة المالين بقدر الحصص وربح مال
القراض كله لرب المال لفساد القراض وللعامل أجرة المثل بحيث لا يوجب له
أجرة كاملة لان عمله قد توزع على ماله ومال القراض
(فرع) إذا أبضع رب المال عامله في مال القراض بضاعة - أي أعطاه قطعة
من المال يتجر فيها لنفسه - يختص بربحها جاز إن كان من غير شرط في القراض
ولم يجز إن كان عن شرط وخالف مالك
(فرع) إذا ادعى ظهور الربح في المال وطالب بالقسمة لم يجبر المالك ما لم
يعترف بظهور الربح أو يتحاسبان فيظهر له الربح، ولا يلزم رب المال أن يحاسبه
إلا بعد حضور المال لأنه قد لا يصدق فيما يخبر به من وفوره أو سلامته فإذا حضر
المال وتحاسبا فوجدا رأس المال ناقصا ترادا الربح ليستكمل رأس المال، ولو رضى
رب المال والعامل بالمحاسبة عليه مع غيبة المال عنهما ففي جوازه وجهان:
(أحدهما) يجوز لأنه احتياط لهما تركاه (والثاني) لا يجوز. وقد ذكره
الشافعي في موضع لأنهما يتحاسبان على جهالة والله أعلم بالصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) والعامل أمين فيما في يده فان تلف المال في يده من غير تفريط لم
يضمن لأنه نائب عن رب المال في التصرف فلم يضمن من غير تفريط كالمودع،
فان دفع إليه ألفا فاشترى عبدا في الذمة ثم تلف الألف قبل أن ينقده في ثمن
العبد انفسخ القراض لأنه تلف رأس المال بعينه. وفى الثمن وجهان:
(أحدهما) أنه على رب المال لأنه اشتراه له فكان الثمن عليه، كما لو اشترى
الوكيل في الذمة ما وكل في شرائه فتلف الثمن في يده قبل أن ينقده.
(والثاني) أن الثمن على العامل، لان رب المال لم يأذن له في التجارة إلا في
رأس المال فلم يلزمه ما زاد.
383

وان دفع إليه ألفين فاشترى بهما عبدين ثم تلف أحدهما ففيه وجهان:
أحدهما: يتلف من رأس المال وينفسخ فيه القراض لأنه بدل عن رأس المال
فكان هلاكه كهلاكه.
والثاني: أنه يتلف من الربح لأنه تصرف في المال فكان في القراض، وان
قارضه رجلان على مالين، فاشترى لكل واحد منهما جارية ثم أشكلتا عليه ففيه
قولان " أحدهما " تباعان فإن لم يكن فيهما ربح قسم بين ربى المال، وإن كان فيهما
ربح شاركهما العامل في الربح، وإن كان فيهما خسران ضمن العامل ذلك لأنه
حصل بتفريطه، والقول الثاني أن الجاريتين للعامل ويلزمه قيمتهما، لأنه تعذر
ردهما بتفريطه فلزمه ضمانهما كما لو أتلفهما
(فصل) ويجوز لكل واحد منهما أن يفسخ إذا شاء لأنه تصرف في مال
الغير بإذنه فملك كل واحد منهما فسخه كالوديعة والوكالة، فان فسخ العقد والمال
من غير جنس رأس المال وتقاسماه جاز. وإن باعاه جاز لان الحق لهما، وان
طلب العامل البيع وامتنع رب المال أجبر، لان حق العامل في الربح، وذلك
لا يحصل الا بالبيع
فان قال رب المال أنا أعطيك مالك فيه من الربح وامتنع العامل، فان قلنا إنه
ملك حصته من الربح بالظهور لم يجبر على أخذه، كما لو كان بينهما مال مشترك
وبذل أحدهما للآخر عوض حقه. وان قلنا لا يملك ففيه وجهان بناء على القولين
في العبد الجاني إذا امتنع المولى عن بيعه وضمن للمجني عليه قيمته " أحدهما " لا يجبر
على بيعه لان البيع لحقه وقد بذل له حقه " والثاني " أنه يجبر لأنه ربما زاد مزايد
ورغب راغب فزاد في قيمته.
وان طلب رب المال البيع وامتنع العامل أجبر على بيعه لأنه حق رب المال
في رأس المال ولا يحصل ذلك الا بالبيع، فان قال العامل أنا أترك حقي ولا أبيع
فان قلنا إن العامل يملك حصته بالظهور لم يقبل منه، لأنه يريد أن يهب حقه
وقبول الهبات لا يجب. وان قلنا إنه لا يملك بالظهور ففيه وجهان:
" أحدهما " لا يجبر على بيعه لان البيع لحقه وقد تركه فسقط
" والثاني " يجبر لان البيع لحقه ولحق رب المال في رأس ماله، فإذا رضى
384

بترك حقه لم يرض رب المال بترك رأس ماله، وإن فسخ العقد وهناك دين
وجب على العامل أن يتقاضاه لأنه دخل في العقد على أن يرد رأس المال فوجب
أن يتقاضاه ليرده.
(فصل) وإن مات أحدهما أو جن انفسخ لأنه عقد جائز فبطل بالموت
والجنون كالوديعة والوكالة. وإن مات رب المال أو جن وأراد الوارث أو
الولي أن يعقد القراض والمال عرض، فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق
يجوز لأنه ليس بابتداء قراض، وإنما هو بناء على مال القراض فجاز. ومنهم
من قال لا يجوز وهو الصحيح لان القراض قد بطل بالموت وهذا ابتداء قراض
على عرض فلم يجز.
(فصل) وإن قارض في مرضه على ربح أكثر من أجرة المثل ومات اعتبر
الربح من رأس المال، لان الذي يعتبر من الثلث ما يخرجه من ماله والربح ليس
من ماله، وإنما يحصل بكسب العامل فلم يعتبر من الثلث، وإن مات وعليه دين
قدم العامل على الغرماء لان حقه يتعلق بعين المال فقدم على الغرماء
(فصل) وإن قارض قراضا فاسدا وتصرف العامل نفذ تصرفه لأن العقد
بطل وبقى الاذن فملك به التصرف، فان حصل في المال ربح لم يستحق العامل منه
شيئا لان الربح يستحقه بالقراض وقد بطل القراض.
فأما أجرة المثل فإنه ينظر فيه فإن لم يرض إلا بربح استحق لأنه لم يرض
أن يعمل إلا بعوض، فإذا لم يسلم له رجع إلى أجرة المثل، وان رضى من غير
ربح بأن قارضه على أن الربح كله لرب المال ففي الأجرة وجهان
(أحدهما) لا يستحق وهو قول المزني لأنه رضى أن يعمل من غير عوض
فصار كالمتطوع بالعمل من غير قراض
(والثاني) أنه يستحق وهو قول أبى العباس لان العمل في القراض يقتضى
العوض فلا يسقط بإسقاطه كالوطئ في النكاح.
وإن كان له على رجل دين فقال اقبض مالي عليك فعزل الرجل ذلك وقارضه
عليه لم يصح القراض، لان قبضه له من نفسه لا يصح، فإذا قارضه عليه فقد
385

قارضه على مال لا يملكه فلم يصح، فإن اشترى العامل شيئا في الذمة ونقد في ثمنه
ما عزله لرب المال وربح ففيه وجهان
(أحدهما) أن ما اشتراه مع الربح لرب المال لأنه اشتراه له بإذنه ونقد فيه
الثمن باذنه وبرئت ذمته من الدين، لأنه سلمه إلى من اشترى منه باذنه ويرجع
العامل بأجرة المثل لأنه عمل ليسلم له الربح ولم يسلم فرجع إلى أجرة عمله.
(والثاني) أن الذي اشتراه مع الربح له لا حق لرب المال فيه، لان رب
المال عقد القراض على مال لا يملكه فلم يقع الشراء له
(فصل) وان اختلف العامل ورب المال في تلف المال، فادعاه العامل
وأنكره رب المال، أو في الخيانة فادعاها رب المال وأنكر العامل فالقول قول
العامل لأنه أمين والأصل عدم الخيانة فكان القول قوله كالمودع
(فصل) فان اختلفا في رد المال فادعاه العامل وأنكره رب المال
ففيه وجهان:
" أحدهما " لا يقبل قوله لأنه قبض العين لمنفعته فلم يقبل قوله في الرد
كالمستعير " والثاني " يقبل قوله لان معظم منفعته لرب المال، لان الجميع له إلا
السهم الذي جعله للعامل فقبل قوله عليه في الرد كالمودع
(فصل) فان اختلفا في قدر الربح المشروط فادعى العامل انه النصف وادعى
رب المال انه الثلث تحالفا، لأنهما اختلفا في عوض مشروط في العقد فتحالفا
كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن، فان حلفا صار الربح كله لرب المال ويرجع
العامل بأجرة المثل لأنه لم يسلم له المسمى فرجع ببدل علمه
(فصل)
وان اختلفا في قدر رأس المال، فقال رب المال ألفان، وقال العامل ألف
فإن لم يكن في المال ربح فالقول قول العامل لان الأصل عدم القبض فلا يلزمه
إلا ما أقر به، وإن كان في المال ربح ففيه وجهان
386

أحدهما: أن القول قول العامل لما ذكرناه.
والثاني: أنهما يتحالفان لأنهما اختلفا فيما يستحقان من الربح فتحالفا كما لو
اختلفا في قدر الربح المشروط، والصحيح هو الأول لان الاختلاف في الربح
المشروط اختلاف في صفة العقد فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في قدر الثمن
وهذا اختلاف فيما قبض فكان الظاهر مع الذي ينكر كالمتبايعين إذا اختلفا في
قبض الثمن فان القول قول البائع.
(فصل) وإن كان في المال عبد فقال رب المال اشتريته للقراض، وقال
العامل اشتريته لنفسي أو قال رب المال اشتريته لنفسك، وقال العامل اشتريته
للقراض فالقول قول العامل لأنه قد يشترى لنفسه وقد يشتريه للقراض ولا يتميز
أحدهما عن الآخر إلا بالنية فوجب الرجوع إليه، فان أقام رب المال البينة انه
اشتراه بمال القراض ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه يحكم بالبينة لأنه لا يشترى بمال القراض الا للقراض.
(والثاني) أنه لا يحكم بها لأنه يجوز أن يشترى لنفسه بمال القراض على
وجه التعدي فلا يكون للقراض لبطلان البيع.
(فصل) وإن كان في يده عبد فقال رب المال كنت نهيتك عن شرائه
وأنكر العامل فالقول قول العامل لان الأصل عدم النهى ولان هذا دعوى خيانة
والعامل أمين فكان القول فيهما قوله.
(فصل) وإن قال ربحت في المال ألفا ثم ادعى أنه غلط فيه أو أظهر ذلك
خوفا من نزع المال من يده لم يقبل قوله لان هذا رجوع عن الاقرار بالمال لغيره
فلم يقبل كما لو أقر لرجل بمال ثم ادعى أنه غلط، فان قال قد كان فيه ربح ولكنه
هلك قبل قوله لان دعوى التلف بعد الاقرار لا تكذب اقراره فقيل.
(الشرح) سبق أن قررنا أن القراض عقد معونة وارفاق يجوز بين المتعاقدين
ما أقاما عليه مختارين وليس بلازم لهما، ويجوز فسخه لمن شاء منهما، فهو عقد
ائتمان كالوديعة والعارية، فإذا تلف في يده فعلى تفصيل نضرب له مثلا تجتمع فيه
387

صور المسألة: رب مال دفع ألفي دينار قراضا فتلف أحد الألفين في يد العامل
وبقى ألف، فلا يخلو حال تلفها من ثلاثة أقسام.
(أحدها) أن يكون تلفها قبل ابتياع العامل لهما فهذا يكون رأس المال فيه
الألف الباقية ولا يلزم العامل أن يجبر بالربح الألف التالفة لأنها بالتلف قبل
التصرف قد خرجت عن أن تكون قراضا.
(والقسم الثاني) أن يكون تلفها بعد أن اشترى بها وباع ثم تلفت الألف من
ثمن ما باع فيكون رأس المال كلا الألفين ويلزم العامل أن يجبر بالربح الألف
التالفة لأنها بالتصرف الكامل قد صارت قراضا.
(القسم الثالث) أن يكون تلفها بعد أن اشترى بها عرضا وتلف العرض
قبل بيعه ففيه وجهان. أحدهما: أنها قراض لتلفها بعد التصرف بها في الابتياع
فعلى هذا يكون رأس المال الفي دينار، وعلى العامل أن يجبر بالربح الألف
التالفة لأنها قد صارت قراضا.
(والوجه الثاني) أن الألف التالفة لا تصير قراضا لتلفها قبل كمال التصرف
ببيع ما اشترى بها فعلى هذا يكون رأس المال ألفي درهم ولا يلزم العامل أن يجبر
بالربح الألف التالفة لأنها لم تصر قراضا.
فإذا دفع رب المال ألف درهم قراضا فاشترى العامل بها عرضا ثم تلفت الألف
قبل دفعها في ثمن العرض فلا يخلو حال الشراء من أمرين (أحدهما) أن يكون
قد تعين الألف فيكون الشراء باطلا، لان تلف الثمن المعين قبل القبض موجب
لبطلان البيع، فعلى هذا قد بطل القراض ويسترجع البائع عرضه (والثاني) أن
يكون الشراء في ذمة العامل ولم يعقده على عين الألف ففي الشراء وجهان.
(أحدهما) يكون للعامل لأنه لم يبق بيده من مال القراض ما يكون الشراء
مصروفا إليه، وهذا على الوجه الذي يقول فيه الشافعي: ان ما تلف بعد الشراء
وقبل البيع خارج من القراض.
(والوجه الثاني) أن الشراء يكون في القراض لأنه معقود له، وهذا على
الوجه الذي يقول فيه الشافعي: ان ما تلف بعد الشراء وقبل البيع داخل في
388

القراض، فعلى هذا يجب على رب المال أن يدفع ألفا ثانية، تصرف في ثمن
العرض، يصير رأس المال ألفي دينار، وعلى العامل أن يجبر بالربح الألف التالفة
فلو تلفت الألف الثانية قبل دفعها في ثمن العرض لزم رب المال أن يدفع ألفا
ثالثة، ويصير رأس المال ثلاثة آلاف دينار، وعلى العامل أن يجبر بالربح كلا
الألفين التالفتين.
فإذا دفع ألفا قراضا فعمل بها العامل وخسر مائة وأخذ منها رب المال مائة
ثم عمل العامل بالباقي فصارت ألفا وخمسمائة وأرادا أن يعرفا قدر رأس المال
ليقتسما الربح، فوجه العمل فيه أن يقال لما خسر في الألف مائة لزم تقسيطها
على التسعمائة فيكون قسط كل مائة دينار أحد عشر دينارا وتسع، وهو القدر
المسترجع من الألف ويبقى رأس المال ثمانمائة وثمانية وثمانين وثمانية أتساع دينار
فلو كان قد خسر العامل مائتي دينار واسترجع رب المال مائة صار رأس المال
ثمانمائة وخمسة وسبعين لان قسط كل مائة من الخسران خمسة وعشرون ثم على
هذا القياس.
(فرع)
قال الشافعي: وإن مات رب المال صار لوارثه فإن رضى ترك المقارض على
قراضه وإلا فقد انفسخ قراضه، وإن مات العامل لم يكن لوارثه أن يعمل مكانه
وهذا كما قال: عقد القراض يبطل بموت كل واحد من رب المال والعامل لأن العقود
الجائزة دون اللازمة تبطل بموت عاقدها وهما في العقد سواء، لأنه تم
بهما وهو غير لازم، فإذا بطل بموت كل واحد منهما لم يخل أن يكون الميت هو
رب المال أو العامل، فإن كان الميت منهما هو رب المال لم يخل أن يكون المال ناضا
أو عرضا، فإن كان ناضا - والناض النقود - منع العامل أن يتصرف فيه ببيع
أو شراء ثم لورثة رب المال أن يسترجعوا رأس المال ويقاسموا العامل على ربح
إن كان، فان أدنوا له في المقام على قراض أبيهم كان ذلك عقدا مبتدأ، فلا يخلو
حالهم فيه من أحد أمرين، إما أن يكونوا عالمين بقدر المال أو جاهلين به، فان
389

كانوا عالمين بقدره صح القراض إن كانوا أهل رشد لا يولى عليهم ولم يتعلق
بتركة ميتهم ديون ولا وصايا وإن كانوا بخلاف ذلك لم يصح إذنهم، ثم إذا صح
فلا يخلو أن يكون قد حصل للعامل فيه ربح قبل موت رب المال أو لم يحصل،
فإن لم يحصل فكل المال الذي في يده قراض لورثة ربه، وإن كان قد حصل فيه
ربح قبل موت ربه فهو شريك في المال بحصته من ربحه، ويختص بما يحصل من
فضله ومضاربته فيما يبقى من الربح مع رأس المال بما شرط له من ربحه.
وإن كان الورثة جاهلين بقدر المال عند إذنهم له بالقراض ففيه وجهان
مخرجان من وجهين.
(أحدهما) أن القراض باطل لأنه معقود بمال مجهول.
(والثاني) أن القراض صحيح لأنه مبتدأ لعقد صحيح، فإن كان مال القراض
عند موت ربه عرضا فقد قال الماوردي: للعامل بيعه من غير استئذان الورثة،
ولا يجوز ان يشترى بثمنه شيئا من غير إذن الورثة لان البيع من حقوق العقد
الماضي، وليس الشراء من حقوقه إلا بعقد مستأنف، فإن أذن له الورثة في
المقام على قراض أبيهم - فإن كان بعد بيعه للعرض فقد صار الثمن ناضا - أي
نقودا - فيكون كاذنهم له بالقراض والمال ناض.
وإن كان قبل بيع العرض ففي جواز القراض وجهان خرج منهما الوجهان
المذكوران، أحدهما وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: إن القراض باطل لان
عقده بالقرض باطل. الثاني وهو قول أبي إسحاق المروزي أن القراض جائز لأنه
استصحاب لعقد جائز.
وإن كان الميت منهما هو العامل فليس لوارثه أن يبيع ويشترى سواء كان المال
ناضا أو عرضا، والفرق بين أن يموت رب المال فيجوز للعامل أن يبيع بغير إذن
الوارث وبين أن يموت العامل فلا يجوز لوارثه أن يبيع إلا باذن رب المال أن
عقد القراض قد أوجب ائتمان العامل على التصرف في المال سواء كان المال لربه
أو لوارثه، وما أوجب ائتمان وارث العامل في المال لا مع ربه ولا مع وارثه،
وإذا كان كذلك نظر في المال، فإن كان ناضا استرجع رب المال رأس ماله واقتسما
390

ربحا إن كان فيه، فلو أذن رب المال لوارث العامل في المقام على القراض صح
إن كانا عالمين بقدر المال. ويبطل إن كانا جاهلين بقدره وجها واحدا.
والفرق بين هذا حيث بطل بجهالة القدر وبين أن يموت رب المال من جهة
ربه والعمل من جهة العامل، فإذا مات رب المال كان المقصود من الامرين باقيا
فجاز استصحاب العقد المقدم لبقاء مقصوده، ولم يبطل بحدوث الجهالة فيه، وإذا
مات العامل فقد فات أخذ المقصود به فلم يكن استصحاب العقد المتقدم وكان
استئناف عقد مع وارثه فبطل بحدوث الجهالة فيه.
وإن كان مال القراض عند موت العامل عرضا لم يجز لوارثه أن ينفرد ببيع
العرض من غير اذن رب المال به، فإذا أذن له باعه واقتسما بعد رد رأس المال
بفضل إن كان فيه، فلو أذن رب المال لوارث العامل أن يقيم على عقد القراض كالعامل
- فإن كان بعد بيع العرض والعمل بثمنه - صح، وإن كان العرض باقيا أو ثمنه
مجهولا بطل وجها واحدا لما ذكرنا.
(فرع)
قال الشافعي: وبيع ما كان في يديه مع ما كان من ثياب أو أداة للسفر أو
غير ذلك مما قل أو كثر، فإن كان فيه فضل كان لوارثه وإن كان خسرانا كان ذلك
في المال، وهذا كقوله: وإذا بطل القراض بموت أحدهما وجب بيع كل ما كان
من مال القراض من غير عرض للتجارة أو أداة للسفر.
قال الشافعي: مع ما كان من ثياب فتمسك بذلك من ذهب من أصحابنا إلى
أن للعامل أن ينفق على نفسه في سفره من مال القراض، لأنه لو لم يشتر ثياب
سفره من مال القراض لم يجز بيعها في القراض وهو لعمري ظاهر يجوز التمسك به
وقد تأوله من ذلك إلى أنه لا نفقة له على ثياب اشتراها العامل للتجارة، أو
اشتراها لنفسه وهي غير مختصة بسفره، فإذا بيع جميع ما وصفنا فلا يخلو ما حصل
من ثمن جميعه من ثلاثة أنواع.
1 - أن يكون بقدر رأس المال فهو لرب المال ولا حق للعامل فيه لعدم ربحه
2 - أن يكون أكثر من رأس المال فلرب المال أن يأخذ رأس ماله ثم العامل
391

شريكه في الربح على مقتضى الشرط من نصف أو ثلث أو ربع، فلو تلف بعض
المال بعد أن صار ناضا - نقودا - نظر فيه، فإن كانا قد عينا حق العامل منها
فيه كان التالف منه تالفا بالحصص. وإن لم يكونا قد عينا حق العامل فيه فالتالف
منه تالف من الربح وحده، لان الربح قبل أن يتعين ملك للعامل مرصد لجبران
رأس المال.
3 - أن يكون أقل من رأس المال، إما بخسران حصل في المال أو لحادث
أتلف شيئا منه فيكون ذلك عائدا على رب المال دون العامل، لان الربح يعود
عليهما والخسران مختص برب المال.
فإن قيل فهلا كان الخسران عليهما كما كان الربح لهما؟ قيل هما في الحكم سواء
وإن عاد الخسران على رب المال لان الخسران يعود إليه، إلى ما تناوله عقد
القراض، لأنه إنما تناول عملا من جهة العامل ومالا من جهة رب المال، فعاد
الخسران على العامل بذهاب عمله وعلى رب المال بذهاب ماله. فعلى هذا لو
شرطا في عقد القراض تحمل العامل الخسران كان القراض باطلا لاشتراطهما
خلاف موجبه.
(فرع) قال المزني " وإن دفع مالا قراضا في مرضه وعليه دين ثم مات بعد
أن اشترى وباع وربح أخذ العامل ربحه واقتسم الغرماء ما بقي من ماله " وهذا
صحيح لأنه يجوز للمريض أن يدفع مالا قراضا لما فيه من تثمير ماله، وسواء
قارض العامل على تساو في الربح أو تفاضل فكان أقلهما سهما أو أكثر، ويكون
ما يصل إلى العامل من كثير الربح من رأس المال دون الثلث، لأنه بيسير الربح
واصل إلى ما لم يكن واصلا إليه لو كف عن القراض. وهكذا الخلاف فيمن
أجر دارا بأقل من أجرة المثل لأنه قد كان مالكا للمنفعة، فإذا عاوض عليها في
مرضه ببعض الأجرة فقد أتلف بعض ملكه فكان معتبرا في الثلث، وليس
رب المال مالكا لربح المال الذي صار إلى بعضه فلذا كان من رأس المال
فإذا تقرر صحة القراض من رأس المال في قليل الربح وكثيره تولى رب المال
وإن كان حيا محاسبة العامل واستيفاء الحقين من أصل وربح، فإن مات مفلسا
وكثرت ديونه عن ماله قدم العامل بحصته من الربح على سائر الغرماء لأنه إن كان
392

شريكا فالشريك لا يدفعه الغرماء عن شركته، وإن كان أجيرا فحقه متعلق بعين
المال كالمرتهن، والمرتهن لا يزاحمه الغرماء في رهنه. وهكذا لو أخذ المريض
مالا قراضا صح. وإن كان بأقل السهمين من الربح وكان من رأس المال، لان
قليل الربح كسب وليس بإتلاف
(فرع) قال المزني: من ذلك لو دفع إليه ألف درهم فقال: خذها فاشتر بها
هرويا أو مرويا (1) بالنصف كان فاسدا لأنه لم يبين، فان اشترى فجائز وله أجرة
مثله، وإن باع فباطل لان البيع بغير أمره
إذا دفع رب المال إلى العامل ألف درهم وقال: اشتر بها هرويا أو مرويا
كان فاسدا باتفاق أصحابنا، وإنما اختلفوا في علة فساده على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن علته أنه قال: فاشتر بها هرويا أو مرويا فلم يبين أحد النوعين
من المروى والهروي ولا جمع بينهما فجعله مشكلا، والقراض إنما يصح بأن يعم
جميع الأجناس أو يعين أحد الأجناس
والثاني: وهو اختيار أبي علي بن أبي هريرة أن علة فساده أنه قال بالنصف
ولم يبين النصف هل يكون لرب المال أو للعامل. قال واشتراطه نصف الربح
للعامل غير مبطل له فصار لنفسه مبطلا للقراض ما لم يبين نصيب العامل،
واشتراطه نصف الربح للعامل غير مبطل للقراض، فصار القراض بهذا القول
مترددا بين الصحة والفساد فبطل
والثالث: وهو اختيار أبي إسحاق المروزي: أنه بطل بقوله فاشترى ولم يقل
وبع، والقراض إنما يصح بالشراء والبيع فلذلك بطل، فإذا تقرر ما وصفنا
من اختلاف أصحابنا في علة فساده، فان اشترى كان الشراء جائزا لأنه مأمور به
وله أجرة مثله، وان باع كان البيع باطلا لأنه غير مأمور به
وإذا قال: خذ هذا المال قراضا، ولم يزد على ذلك كان قراضا فاسدا للجهل
بنصيب كل واحد منهما من الربح. الا أن شراء العامل وبيعه جائز، لأنه أمر

(1) ثياب تنسب إلى مدنها التي صنعت فيها مثل هراه ومرو وهما مدينتان
بين بخارى ونيسابور وراء بحر قزوين.
393

أمر بهما لكونهما من موجبات القراض وللعامل أجرة مثله. وحكى عن أبي
العباس بن سريج أن القراض جائز ويكون الربح بينهما نصفين، لان ذلك هو
الغالب من أحوال القراض فحمل إطلاقه عليه.
قال الماوردي: وهذا المحكى عنه غير صحيح لأنه لو جاز ذلك في إطلاق
القراض لجاز مثله في البيع إذا أغفل فيه الثمن أن يكون محمولا على ثمن المثل وهو
القيمة، وكذا في الإجارة وكل العقود.
فأما إذا قال: خذ هذا المال فاشتر به وبع ولم يزد عليه فلا خلاف بين
أصحابنا أنه لا يكون قراضا صحيحا، ويصح شراء العامل وبيعه، وهل يكون
قراضا فاسدا أو معونة؟ على وجهين:
أحدهما: يكون استعانة بعمله كما لو قال: اشتر وبع على أن جميع الربح لي.
فعلى هذا لا أجرة للعامل في عمله
والثاني: أنه يكون قراضا فاسدا لأنه الأغلب من حال أمره وحال قوله: على
أن جميع الربح لي لما فيه من التصريح بأن لا شئ له فيه. فعلى هذا يكون للعامل
أجرة مثله، وسواء حصل في المال فضل أو لم يحصل
(فرع)
قال المزني: وإن قال خذها قراضا أو مضاربة على ما شرط فلان من الربح
لفلان، فان علما ذلك فجائز، وإن جهلاه أو أحدهما ففاسد. وهذا كما قال: إذا
دفع المال قراضا من غير أن يسمى في الربح قدرا ففعله محمول على مثل ما قارض
زيد عمرا. فان علما ما تقارض زيد وعمرو عليه صح قراضهما، لأنهما عقداه
بمعلوم من الربح، إذ لا فرق بين قوله على أن الربح بيننا نصفين وبين قوله:
على مثل ما قارض به زيد عمرا كان القراض باطلا لجهلهما بقدره. والجهالة
بقدر الربح مبطلة للقراض
فان علما بعد ذلك ما تقارض عليه زيد وعمرو لم يصح لوقوعه فاسدا.
وهكذا لو علمه أحدهما حال العقد وجهله الآخر لم يصح القراض، لان جهل
394

أحد المتعاقدين بالعوض كجهلهما معا به، فلو قال: خذه قراضا على ما تقارض
به زيد وعمرو كان باطلا، لان زيدا قد يقارض عمرا وقد لا يقارضه، وقد
يقارض على قليل أو كثير. وهكذا لو قال خذه قراضا على ما يوافقك عليه زيد
لم يجز للجهل بما يكون من موافقته.
وهكذا لو قال: خذه قراضا على أن لك من الربح ما يكفيك أن يقنعك لم
يجز لجهله بكفايته وقناعته، فان اشترى وباع في هذه المسائل كلها صح بيعه
وشراؤه وكان جميع الربح والخسران لرب المال وعليه، وللعامل أجرة المثل:
(فرع) إذا اختلف رب المال والعامل في قدر رأس المال فقال العامل: هو
ألف دينار وقال رب المال هو ألفان، فإن لم يكن ربح فالقول قول العامل مع
يمينه، وإن كان في المال ربح بقدر ما ادعاه رب المال من رأس ماله، مثل أن
يدعى العامل - وقد أحضر الفي دينار - أن أحد الألفين رأس مال وليس فيها
ربح، ففيه لأصحابنا وجهان، وعن أبي حنيفة روايتان مخرجان من اختلاف
قولين في العامل هل هو وكيل أو شريك؟
(أحدهما) أن القول قول رب المال إذا قيل: إن العامل وكيل مستأجر.
وهذا قول زفر بن الهذيل
(والثاني) أن القول قول العامل إذا قيل إنه شريك مساهم. وهذا قول محمد
ابن الحسن، وهو أصح الوجهين في اختلافهما، لان قوله نافذ فيما بيده، فعلى
هذا لو أحضر ثلاثة آلاف دينار وذكر أن رأس المال منها ألف والربح ألفان.
وقال رب المال: رأس المال منها ألفان والربح ألف حكم بقول العامل واقتسما
الألفين ربحا، وجعل رأس المال ألفا.
فلو قال العامل وقد أحضر ثلاثة آلاف: رأس المال منها ألف والربح ألف
والألف الثالثة لي، أو وديعة في يدي، أو هي دين على من قراض وادعاها
رب المال ربحا فالقول قول العامل مع يمينه لمكان يده والله أعلم.
395

قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب العبد المأذون له في التجارة)
لا يجوز للعبد أن يتجر بغير إذن المولى لان منافعه مستحقة له فلا يملك
التصرف فيها بغير إذنه فإن رآه يتجر فسكت لم يصر مأذونا له لأنه تصرف يفتقر
إلى الاذن فلم يكن السكوت إذنا فيه كبيع مال الأجنبي فان اشترى شيئا في الذمة
فقد اختلف أصحابنا فيه فقال أبو سعيد الإصطخري وأبو إسحاق لا يصح لأنه
عقد معاوضة فلم يصح من العبد بغير إذن المولى كالنكاح.
وقال أبو علي بن أبي هريرة: يصح لأنه محجور عليه لحق غيره فصح شراؤه
في الذمة كالمفلس ويخالف النكاح فإنه تنقص به قيمته ويستضر به المولى فلم يصح
من غير اذنه، فإن قلنا: أنه يصح دخل المبيع في ملك المولى لأنه كسب للعبد
فكان للمولى كما لو احتش أو اصطاد ويثبت الثمن في ذمته لأن اطلاق البيع يقتضى
إيجاب الثمن في الذمة، فإن علم البائع برقه لم يطالبه حتى يعتق لأنه رضى بذمته
فلزمه الصبر إلى أن يقدر كما نقول فيمن باع من مفلس، وإن لم يعلم ثم علم فهو
بالخيار بين أن يصبر إلى أن يعتق وبين أن يفسخ البيع ويرجع إلى عين ماله لأنه
تعذر الثمن فثبت الخيار كما نقول فيمن باع من رجل ثم أفلس بالثمن، وان قلنا إن
الشراء باطل وجب رد المبيع لأنه مقبوض عن بيع فاسد فان تلف في يد العبد
أتبع بقيمته إذا عتق لأنه رضى بذمته وان تلف في يد السيد جاز له مطالبة المولى
في الحال ومطالبة العبد إذا عتق لأنه ثبتت يد كل واحد منهما عليه بغير حق.
(فصل) وان أذن له في التجارة صح تصرفه لان الحجر عليه لحق المولى
وقد زال وما يكتسبه للمولى لأنه ان دفع إليه مالا فاشترى به كان المشترى
عوض ماله فكان له، وان أذن له في الشراء في الذمة كان المشترى من أكسابه
لأنه تناوله الاذن فإن لم يكن في يده شئ اتبع به إذا عتق لأنه دين لزمه برضى
من له الحق فتعلق بذمته ولا تباع فيه رقبته لان المولى لم يأذن له في رقبته فلم
يقض منها دينه.
396

(فصل) ولا يتجر الا فيما أذن به لان تصرفه بالاذن فلا يملك الا ما دخل
فيه فان أذن له في التجارة لم يملك الإجارة، ومن أصحابنا من قال: يملك إجارة
ما يشتريه للتجارة لأنه من فوائد المال فملك العقد عليه كالصوف واللبن،
والمذهب الأول لان المأذون فيه هو التجارة. والإجارة ليست من التجارة فلم يملك
بالاذن في التجارة.
(فصل) ولا يبيع بنسيئة ولا بدون ثمن المثل لأن اطلاق الاذن يحمل على
العرف والعرف هو البيع بالنقد وثمن المثل ولأنه يتصرف في حق غيره فلا يملك
إلا ما فيه النظر والاحتياط وليس فيما ذكرناه نظر ولا احتياط فلا يملك ولا
يسافر بالمال لان فيه تغريرا بالمال فلا يملك من غير إذن، وان اشترى من يعتق
على مولاه بغير إذنه ففيه قولان.
(أحدهما) أنه لا يصح وهو الصحيح لان الاذن في التجارة يقتضى ما ينتفع به
ويربح فيه وهذا لا يوجد فيمن يعتق عليه (والثاني) أنه يصح لان العبد لا يصح
منه الشراء لنفسه فإذا أذن له فقد أقامه مقام نفسه فوجب أن يملك جميع ما يملك
فان قلنا يصح فإن لم يكن عليه دين عتق، وإن كان عليه دين ففيه قولان، أحدهما
يعتق لأنه ملكه، والثاني: لا يعتق لان حقوق الغرماء تعلقت به فان اشتراه
باذنه صح الشراء فإن لم يكن عليه دين عتق عليه، وإن كان عليه دين فعلى القولين
ومتى صح العتق لزمه أن يغرم قيمته للغرماء لأنه أسقط حقهم منه بالعتق.
(فصل) وإذا اكتسب العبد مالا بأن احتش أو اصطاد أو عمل في معدن
فأخذ منه مالا أو ابتاع أو اتهب أو أوصى له بمال فقبل دخل ذلك في ملك المولى
لأنها اكتساب ماله فكانت له فان ملكه مالا ففيه قولان، قال في القديم: يملكه
لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من باع عبدا
وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع ولأنه يملك البضع فملك المال كالحر،
وقال في الجديد. لا يملك لأنه سبب يملك به المال فلا يملك به العبد كالإرث فان
ملكه جارية وأذن له في وطئها ملك وطأها في قوله القديم ولا يملك في الجديد
وان ملكه نصابا لم يجب زكاته على المولى في قوله القديم ويجب في الجديد، فان
397

وجب كفارة عليه كفر بالطعام والكسوة في قوله القديم وكفر بالصوم في قوله
الجديد، وأما العتق فلا يكفر به على القولين لان العتق يتضمن الولاء والعبد ليس
من أهل الولاء وان باعه وشرط المبتاع ماله جاز في قوله القديم أن يكون المال
مجهولا لأنه تابع ولا يجوز في الجديد لأنه غير تابع والله أعلم.
(الشرح) الأحكام: لا يبطل الاذن بالإباق، وقال أبو حنيفة: يبطل لأنه
يزيل به ولاية السيد عنه في التجارة بدليل أنه لا يجوز بيعه ولا هبته ولا رهنه
فأشبه ما لو باعه.
وقال أحمد: ان الإباق لا يمنع ابتداء الاذن له في التجارة فلم يمنع استدامته
كما لو غصبه غاصب أو حبس بدين عليه أو على غيره، وما ذكره أبو حنيفة غير
صحيح، فان سبب الولاية باق وهو الرق، ويجوز بيعه واجارته ممن يقدر عليه
ويبطل بالمغصوب.
ولا يجوز للمأذون في التجارة التبرع بهبة الدراهم ولا كسوة الثياب ولا الهبة
بالمأكول ولا إعارة الدابة، وقال أحمد: يجوز هبته واعارته دابته واتخاذ الدعوة
ما لم يكن اسرافا، وبه قال أبو حنيفة.
دليلنا: أنه تبرع بمال مولاه فلم يجز كهبة دراهمه، وقد استدل أحمد وأبو حنيفة
بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجيب دعوة المملوك، وروى أبو سعيد مولى
أبى أسيد أنه تزوج فحضر دعوته أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
منهم عبد الله بن مسعود وحذيفة وأبو ذر فأمهم وهو يومئذ عبد، رواه صالح
في مسائله باسناده، قال ابن قدامة: ولان العادة جارية بذلك بين التجار فجاز
كما جاز للمرأة الصدقة بكسرة الخبز من بيت زوجها والله تعالى أعلم.
398

قال المصنف رحمه الله تعالى:
كتاب المساقاة
تجوز المساقاة على النخل لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر وزرع، وتجوز على
الكرم لأنه شجر تجب الزكاة في ثمرته فجازت المساقاة عليه كالنخل، وتجوز على
الفسلان وصغار الكرم إلى وقت تحمل لأنه بالعمل عليها تحصل الثمرة كما تحصل
بالعمل على النخل والكرم، ولا تجوز على المباطخ والمقاثئ والعلف وقصب
السكر لأنها بمنزلة الزرع فكان المساقاة عليها كالمخابرة على الزرع. واختلف قوله
في سائر الأشجار المثمرة كالتين والتفاح، فقال في القديم: تجوز المساقاة عليها،
لأنها شجر مثمر فأشبه النخل والكرم. وقال في الجديد: لا تجوز لأنه لا تجب
الزكاة في ثماره فلم تجز المساقاة عليه كالغرب (1) والخلاف.
واختلف قوله في المساقاة على الثمرة الظاهرة فقال في الام: تجوز لأنه إذا
جاز على الثمرة المعدومة مع كثرة الغرر فلان تجوز على الثمرة الموجودة وهي من
الغرر أبعد أولى.
وقال في البويطي: لا تجوز، لان المساقاة عقد على غرر، وإنما أجيز على
الثمرة المعدومة للحاجة إلى استخراجها بالعمل، فإذا ظهرت الثمرة زالت
الحاجة، فلم تجز.
(الشرح) حديث ابن عمر رواه الجماعة، وقد جاء في رواية الصحيحين عن
ابن عمر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر سألته اليهود أن يقرهم بها على
أن يكفوه عملها ولهم نصف الثمرة، فقال لهم: نقركم بها على ذلك ما شئنا "

(1) قال ابن بطال: الغرب ضرب من الشجر يسمى بالفارسية اسبنددار.
والخلاف شجر يستخرج منه ماء طيب كماء الورد، وسمعناه بالتخفيف وروى
بالتشديد. وذكر ابن قتيبة في كتاب عيون الأخبار ان الخلاف شجر سقط ثمره
قبل تمامه وهو الصفصاف.
399

وعن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل يهود خيبر على أن نخرجهم متى شئنا
رواه أحمد والبخاري بمعناه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قالت الأنصار
للنبي صلى الله عليه وسلم: أقسم بيننا وبين إخواننا النخل. قال لا، فقالوا تكفونا
العمل ونشرككم في الثمرة، فقالوا سمعنا وأطعنا. رواه البخاري. وعن طاوس
أن معاذ بن جبل أكرى الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر وعمر
وعثمان على الثلث والربع، فهو يعمل به إلى يومك هذا. رواه ابن ماجة. قال
البخاري وقال قيس بن مسلم عن أبي جعفر قال: ما بالمدينة أهل بيت هجرة إلا يزرعون
على الثلث والربع، وزارع على وسعد بن مالك وابن مسعود وعمر بن عبد العزيز
والقاسم وعروة وآل أبي بكر وآل على وآل عمر. قال وعامل عمر الناس على
أن جاء عمر بالبذر من عنده فله الشطر. وإن جاءوا بالبذر فلهم كذا.
وقال الشافعي: ساقى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر على أن نصف
الثمر لهم فكان يبعث عبد الله بن رواحة فيخرص بينه وبينهم، ثم يقول: إن
شئتم فلكم وان شئتم فلي.
والمساقاة على إطلاقها أن يدفع الرجل إلى آخر شجره ليقوم بسقيه وعمل
سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره، إلا أن هذا التعريف على سعته يقتضى
وقوع غبن وغرر إذا ظل على إطلاقه، فقيد الشافعي هذا المفهوم الواسع وقصره
على ما يكفل الرفق بالعامل وصاحب المال، فخص المساقاة في قوله الجديد بالنخل
والكروم وخصها داود بالنخل فقط، وتجاوز مالك فجعلها تشمل الزرع والشجر
واستثنى منها البقول، وأجازها عبد الله بن دينار في البقول، وجعلها أحمد في
الشجر والنخل والكرم
وقد ثبتت المساقاة بالسنة والاجماع، فأما السنة فقد مضى حديث ابن عمر
المتفق عليه، وأما الاجماع فقد قال أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي
طالب رضي الله عنهم: عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بالشطر
ثم أبو بكر وعمر وعثمان أهلوهم إلى اليوم يعطون الثلث والربع، وهذا عمل به
الخلفاء الراشدون في مدة خلافتهم، واشتهر ذلك فلم ينكره أحد، فإن عبد الله
ابن عمر الذي روى حديث معاملة أهل خيبر قد رجع عنه وقال: كنا نخابر
400

أربعين سنة حتى حدثنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن
المخابرة. وهذا يمنع انعقاد الاجماع ويدل على نسخ حديث ابن عمر لرجوعه
عن العمل به إلى حديث رافع.
(قلت) هذا الكلام فيه نظر، لأنه لا يجوز حمل حديث رافع على مخالفة
الاجماع، ولا حديث ابن عمر، لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يعامل أهل
خيبر حتى مات ثم عمل به الخلفاء من بعده، ثم من بعدهم، فكيف يتصور نهى
الرسول عن شئ ثم يخالفه؟ أم كيف يعمل بذلك في عهد الخلفاء ولم يخبرهم من
سمع النهى وهو حاضر معهم وعالم بفعلهم فلم يخبرهم.
قال ابن قدامة: فلو صح خبر رافع لوجب حمله على ما يوافق السنة والاجماع
وعلى أنه قد روى في تفسير خبر رافع عنه ما بدل على صحة قولنا، فروى
البخاري بإسناده قال: كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض،
فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض، وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا.
فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ، روى تفسيره أيضا بشئ غير هذا من أنواع
الفساد وهو مضطرب جدا
وسئل أحمد بن حنبل عن حديث رافع فقال: رافع روى عنه في هذا ضروب
قال الأثرم كأنه يرى أن اختلاف الروايات عنه يوهن حديثه، وقال طاوس:
إن أعلمهم - يعنى ابن عباس - أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه ولكن قال " لان
يمنح أحدكم أخاه أرضه خير من أن يأخذ عليها خراجا معلوما " متفق عليه
وأنكر زيد بن ثابت حديث رافع عليه، وكيف يجوز نسخ أمر فعله النبي
صلى الله عليه وسلم حتى مات وهو يفعله ثم أجمع عليه خلفاؤه وأصحابه بعد بخبر
لا يجوز العمل به ولو لم يخالفه غيره، ورجوع ابن عمر إليه يحتمل أنه رجع عن
شئ من المعاملات الفاسدة التي فسرها رافع في حديثه. وأما غير ابن عمر فقد
أنكر على رافع ولم يقبل حديثه وحمله على أنه غلط في روايته والمعنى يدل عليه.
فإن كثيرا من أصحاب النخيل والكروم يعجزون عن سقيه والقيام على شؤونه،
وقال الماوردي في الحاوي: والمساقاة في تسميتها ثلاثة تأويلات، أحدها أنها
401

سميت بذلك لأنها مفاعلة على ما تشرب بساق. والثاني: أنها سميت بذلك لان
موضع النخل والشجر سمى سقيا فاشتقوا اسم المساقاة منه. والثالث أنها سميت
بذلك لان غالب العمل المقصود فيها هو السقي فاشتق اسمها منه.
قال والمساقاة جائزة لا يعرف خلاف بين الصحابة والتابعين في جوازها وهو
قول الفقهاء كافة إلا أبا حنيفة وحده دون سائر أصحابه، فإنه تفرد بابطالها،
وحكى عن النخعي كراهتها.
واستدل من نصر قول أبي حنيفة على إبطال المساقاة بنهي النبي صلى الله عليه
وسلم عن الغرر، وغرر المساقاة متردد بين ظهور الثمرة وعدمها، وبين قلتها
وكثرتها، فكان الغرر فيها أعظم: فاقتضى أن يكون بابطال العقد أحق، ولأنه
عقد على منافع أعيان باقية فامتنع أن يكون معقودا ببعضها كالمخابرة، ولأنه عقد
تناول ثمرة لم تخلق فوجب أن يكون باطلا كالبيع، لأنه عمل العوض عليه ثمرة
لم تخلق فوجب أن يكون باطلا كما لو استؤجر على عمل بثمرة هذه الثمار في القابل
ولان المساقاة إجارة على عمل جعلت الثمرة فيه أجرة والأجرة لا تصح إلا أن
تكون معينة أو ثابته في الذمة، وما تثمره نخل المساقاة غير معين ولا ثابت في
الذمة فوجب أن تكون باطلة ولان ما امتنع من المساقاة فيما سوى النخل والكرم
من الشجر من جهالة الثمن منع فيها من النخل لجهالة الثمن.
فإذا ثبت ما ذكرنا فان المساقاة لا تصح في الزروع لأنها كالمخابرة على الزروع
وقد نهى عنها النبي صلى الله عليه وسلم لما رواه أحمد ومسلم عن جابر قال " كنا نخابر على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصيب من القصرى ومن كذا ومن كذا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من
كان له أرض فليزرعها وليحرثها أخاه وإلا فليدعها " وأختلف قوله في سائر الأشجار
فأجازها في قوله القديم في التين والتفاح لأنها شجر مثمر فأشبه النخل إلا أنه قال
في الجديد " والمساقاة جائزة بما وصفت في النخل والكرم دون غيرهما، لان
النبي صلى الله عليه وسلم أخذ صدقتهما بالخرص وثمرهما مجتمع بائن من شجره،
ولا حائل دونه يمنع إحاطة النظر إليه، وثمر غيرهما متفرق بين أصفاف ورق
شجره ولا يحاط بالنظر إليه.
402

وجملة الثمر من النبات مثمرا على ثلاثة أقسام، قسم لا يختلف مذهب الشافعي
في جواز المساقاة عليه وهو النخل والكرم، وقال داود: المساقاة جائزة في النخل
دون الكرم، وحكى عن الليث بن سعد جواز المساقاة فيما لم يكن بعلا من النخل
ومنع منها في البعل من النخل وفى الكرم، واختلف أصحابنا في جواز المساقاة في
الكرم، هل قال به الشافعي نصا أو قياسا، فقال بعضهم: بل قال به نصا وهو
ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم ساقى في النخل والكرم، وقال آخرون - وهو
الأشبه: إنه قال به قياسا على النخل من وجهين ذكرهما، أحدهما لاشتراكهما في
وجوب الزكاة فيها، والثاني: بروز ثمرهما وإمكان خرصهما
(والقسم الثاني) ما لا يختلف مذهب الشافعي في بطلان المساقاة فيه، وهو
المقاثي والمباطخ والباذنجان ويسميها الزراعيون النباتات الزاحفة (1) وهي التي
تمتد أوراقها وعروقها على الأرض. وحكى عن مالك جوازها في هذا كله ما لم
يبد صلاحه.
(والقسم الثالث) ما كان شجرا وهو الذي له ساق من الخشب ففي جواز
المساقاة عليه قولان، أحدهما: وبه قال في القديم وهو قول أبي ثور: ان المساقاة
عليه جائزة، ووجهه أنه لما اجتمع في الأشجار معنى النخل مع بقاء أصلها ومنع
إجارتها كانت كالنخل في جواز المساقاة عليها، مع أنه قد كان بأرض خيبر شجر
لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم إفرادها عن حكم النخل، ولان المساقاة مشتقة
مما يشرب بساق.
والقول الثاني: وبه قال في الجديد، وهو قول أبى يوسف أن المساقاة على
الشجر باطلة اختصاصا بالنخل والكرم لما ذكره الشافعي من المعنيين في الفرق
بين النخل والكرم وبين الشجر.

(1) عند علماء النبات: الزاحفة كالبطيخ والشمام والدباء والقثاء والخيار،
والمتسلقة كالعنب والياسمين واللوف، والنباتات الدرنية كالبطاطس والقلقاس
والبطاطا وهذه كلها لا يجوز المساقاة فيها واختلفوا كما ذكرنا في الأشجار الخشبية
المثمرة للفواكه كالتفاح والبرتقال والمانجو فعلى الجديد لا تصح فيها المساقاة.
403

(أحدهما) اختصاص النخل والكرم بوجوب الزكاة فيهما دون ما سواهما
من جميع الأشجار.
(والثاني) بروز ثمرهما وإمكان خرصهما دون غيرهما من سائر الأشجار،
فأما إذا كان بين النخيل شجر قليل فساقاه عليها صحت المساقاة فيها وكان الشجر
تبعا كما تصح المخابرة في البياض الذي بين النخل ويكون تبعا.
(فوائد أصولية)
انعقد اجماع الصحابة عن سيرة أبى بكر وعمر رضي الله عنهما في مساقاة أهل
خيبر بعد النبي صلى الله عليه وسلم اتباعا له إلى أن حدث من أجلائهم ما حدث،
ثم الدليل من طريق المعنى هو أنها عين تنمى بالعمل فإذا لم تجز اجارتها جاز العمل
عليها ببعض نمائها كالدراهم والدنانير في القراض ثم الاستدلال بالقراض من
وجهين، أحدهما ذكره أبو علي بن أبي هريرة أن الأمة مجمعة على جواز القراض
وما انعقد الاجماع عليه فلا بد أن يكون حكمه مأخوذا عن توقيف أو اجتهاد يرد
إلى أصل، وليس في المضاربة توقيف نص عليه، فلم يبق الا توقيف اجتهاد أدى
إلى الحاقه بأصل، وليس في المضاربة في الشرع أصل ترد إليه الا المساقاة، وإذا
كانت المساقاة أصلا لفرع مجمع عليه كانت أحق بالاجماع عليه، والثاني: ذكره
أبو حامد الأسفراييني وهو أنه لما جازت المضاربة اجماعا وكانت عملا على عوض
مظنون من ربح مجوز كانت المساقاة أولى بالجواز لأنها عوض على عمل معتاد
من ثمرة نمائية.
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا تجوز الا على شجر معلوم، وان قال: ساقيتك على أحد
هذين الحائطين لم يصح، لأنها معاوضة يختلف الغرض فيها باختلاف الأعيان
فلم يجز على حائط غير معين كالبيع وهل يجوز على حائط معين لم يره؟ فيه طريقان
أحدهما: أنه على قولين كالبيع: والثاني: أنه لا يصح قولا واحدا لان المساقاة
معقودة على الغرر فلا يجوز أن يضاف إليها الغرر لعدم الرؤية بخلاف البيع.
404

(فصل) ولا تجوز الا على مدة معلومة لأنه عقد لازم، فلو جوزناه مطلقا
استبد العامل بالأصل فصار كالمالك، ولا تجوز على أقل من مدة توجد فيها الثمرة
فإن ساقاه على النخل أو على الودي إلى مدة لا تحمل لم يصح، لان المقصود أن
يشتركا في الثمرة، وذلك لا يوجد، فإن عمل العامل فهل يستحق أجرة المثل؟
فيه وجهان.
(أحدهما) لا يستحق، وهو قول المزني، لأنه رضى أن يعمل بغير عوض
فلم يستحق الأجرة كالمتطوع في غير المساقاة (والثاني) أنه يستحق، وهو قول
أبى العباس، لان العمل في المساقاة يقتضى العوض فلا يسقط بالرضا بتركه كالوطئ
في النكاح، وان ساقاه إلى مدة قد تحمل وقد لا تحمل ففيه وجهان.
أحدهما: أنها تصح لأنه عقد إلى مدة يرجى فيها وجود الثمرة، فأشبه إذا ساقاه
إلى مدة توجد الثمرة فيها في الغالب. والثاني: أنها لا تصح وهو قول أبي إسحاق
لأنه عقد على عوض غير موجود، ولا الظاهر وجوده، فلم يصح، كما لو أسلم
في معدوم إلى محل لا يوجد في الغالب، فعلى هذا ان عمل استحق أجرة المثل،
لأنه لم يرض أن يعمل من غير ربح، ولم يسلم له الربح، فرجع إلى بدل عمله.
واختلف قوله في أكثر مدة الإجارة والمساقاة، فقال في موضع: سنة،
وقال في موضع: يجوز ما شاء، وقال في موضع: يجوز ثلاثين سنة، فمن أصحابنا
من قال: فيه ثلاثة أقوال.
أحدها: لا تجوز بأكثر من سنة، لأنه عقد على غرر أجيز للحاجة ولا تدعو
الحاجة إلى أكثر من سنة، لان منافع الأعيان تتكامل في سنة.
والثاني: تجوز ما بقيت العين، لان كل عقد جاز إلى سنة جاز إلى أكثر منها
كالكتابة والبيع إلى أجل.
والثالث: أنه لا تجوز أكثر من ثلاثين سنة، لان الثلاثين شطر العمر،
ولا تبقى الأعيان على صفة أكثر من ذلك، ومنهم من قال: هي على القولين
الأولين، وأما الثلاثون فإنما ذكره على سبيل التكثير، لا على سبيل التحديد،
وهو الصحيح.
فان ساقاه إلى سنة لم يجب ذكر قسط كل شهر، لان شهور السنة لا تختلف
405

منافعها، وإن ساقاه إلى سنتين ففيه قولان، أحدهما: لا يجب ذكر كل سنة كما
إذا اشترى أعيانا بثمن واحد لم يجب ذكر قسط كل عين منها، والثاني: يجب،
لان المنافع تختلف باختلاف السنين، فإذا لم يذكر قسط كل سنة لم نأمن أن
ينفسخ العقد فلا يعرف ما يرجع فيه من العوض، ومن أصحابنا من قال: القولان
في الإجارة، فأما في المساقاة فإنه يجب ذكر قسط كل سنه من العوض، لان الثمار
تختلف باختلاف السنين، والمنافع لا تختلف في العادة باختلاف السنين.
(فصل)
وإذا ساقاه إلى عشر سنين فانقضت المدة ثم أطلعت ثمرة السنة العاشرة لم يكن
للعامل فيها حق لأنها ثمرة حدثت بعد انقضاء العقد وان أطلعت قبل انقضاء المدة
وانقضت المدة وهي طلع أو بلح تعلق بها حق العامل لأنها حدثت قبل انقضاء المدة
(الشرح) قال الشافعي: فإذا ساقى على النخل والعنب بجزء معلوم فهي
المساقاة التي ساقى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم اه‍.
(قلت) إذا تقرر هذا، فإن المساقاة من العقود اللازمة وليست من العقود
الجائزة كالمضاربة، والفرق بينهما أن نماء النخل في المساقاة متأخر عن العمل،
فكان في ترك لزومه تفويت العمل بغير بدل، ونماء المال في المضاربة متصل
بالبيع فلم يكن في ترك لزومه تفويت للعمل بغير بدل فلذلك انعقد لازما في المساقاة
وجائزا في المضاربة، وإذا كان كذلك فان صحة العقد فيها معتبرة بأربعة شروط
1 - أن تكون النخل معلومة، فإن كانت مجهولة بأن قال: ساقيتك أحد
حوائطي، أو على مال يثبت من نخلي كان باطلا، لان النخل أصل في العقد فبطل
بالجهالة كالبيع، فلو ساقاه على نخل غائب بشرط خيار الرؤية فقد اختلف أصحابنا
فيه، فخرجه بعضهم على قولين كالبيع، وذهب آخرون منهم - وهو الأصح -
إلى فساد العقد قولا واحدا.
وفرقوا بين المساقاة والبيع بأن البيع يغرى بالغرر، فإذا دخل عليه غرر العين
الغائبة بخيار الرؤية، جرى على احتماله فصح فيه، وعقد المساقاة غرر فإذا دخل
406

عليه غرر العين الغائبة صعب احتماله فبطل فيه، وإذا لم يكن يجوز إلا على معين
مشاهد - فإن كانت عند عقد المساقاة مثمرة - فقد قال المزني: إن كان ذلك قبل
بدو الصلاح جاز. وإن كان بعده لم يجز.
وقال أبو ثور: إن احتاجت إلى القيام بها حتى يطيب جاز، وإن لم تحتج لم
يجز. وقال أبو يوسف ومحمد: إن كانت تزيد جاز، وإن لم تزد لم يجز. فأما
الشافعي فقد حكى عنه في الاملاء جوازه من غير تفصيل، لأنه لما جازت المساقاة
على ثمرة معدومة كان جوازها بالمعلومة أولى، ولعل هذا على قوله في الام إنه
أجير، والمشهور من مذهبه والأصح على أصله أن المساقاة باطلة بكل حال. وقد
حكى البويطي ذلك عنه نصا كما أشار إليه الماوردي، لأن علة جوازها عنده أن
لعمله تأثيرا في حدوث الثمرة، كما أن لعامل المضاربة تأثيرا في حصول الربح،
ولو حصل ربح المال قبل عمل العامل لم يكن له فيه حق، كذلك المساقاة، فلو
ساقاه على النخل المثمرة على ما تحدث من ثمرة العام المقبل لم يجز لأنه قد يتعجل
العمل فيها استصلاحا لثمرة قائمة من غير بدل.
(فرع) فإذا ثبت أن المساقاة عقد لازم فإنها لا تجوز إلا على مدة معلومة
وهذا الشرط هو أحد الشروط الأربعة أن يكون النخل معلوما، وأن يكون
نصيب العامل من الثمرة معلوما مدة تكون لهما معلومة. وأن يعقد بلفظ المساقاة
وقال بعض أصحاب الحديث: يجوز اطلاقها من غير تقدير بمدة محددة، لان
النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر لأهل خيبر مدة.
وقال أبو ثور: إن قدر مدة لزمت إلى انقضائها، وإن لم يقدر مدة صحت
وكانت على سنة واحدة، وكلا القولين خطأ عندنا، فإذا كانت المدة المعلومة
شرطا فيها فأقلها مدة تطلع فيها الثمرة وتستغني عن العمل، ولا يجوز أن يقدرها
بذلك حتى يقدرها بالشهور التي قد أجرى الله تعالى العادة بأن الثمار تطلع فيها
طلوعا متناهيا، فإن تأخر طلوعها فيها بحادث أطلعت بعد تقضيها فعلى الأصح
من المذهب في أن العامل شريك تكون بينهما، وإن انقضت المدة، وإن استحق
الثمرة إلا فيما اختص بالثمرة من تأبير وتلقيح إن قيل بأن العامل أجير فلا حق
407

له في الثمرة الحادثة بعد انقضاء المدة وانقطاع العمل، ولا يستهلك عمله بغير بدل
فيحكم له حينئذ بأجرة المثل، فأما أكثر مدة المساقاة فقد قال الشافعي: تجوز
المساقاة سنين.
(قلت) فإذا عرفنا أن أقلها مدة تطلع فيها الثمرة وتستغني عن العمل فان
أقصاها، فقد حكى الماوردي أنها كالإجارة. وقد رأينا كيف اختلف قول
الشافعي في أكثر مدة الإجارة على قولين (أحدهما) لا يجوز إلا سنة واحدة
لزيادة الغرر فيما زاد على السنة. والقول الثاني: يجوز سنين كثيرة
قال الشافعي يجوز ثلاثين سنة. فمن أصحابنا من جعل الثلاثين حدا لأكثر
المدة اعتبارا بظاهر كلامه. وذهب سائرهم - وهو الصحيح - إلى أن قوله ثلاثين
سنة ليس بحد لأكثر المدة، ولهم فيه تأويلان (أحدهما) أنه قاله على وجه التكثير
(والثاني) أنه محمول على ما لا يبقى أكثر من ثلاثين سنة
فعلى هذا تجوز الإجارة سنين كثيرة، فهل ذكر أجرة كل سنة لازم فيها على
قولين (أحدهما) يلزم أن يبين أجرة كل سنة منها (والثاني) لا يلزم
فأما المساقاة فأحد القولين أنها لا تجوز أكثر من سنة واحدة كما لا تجوز
الإجارة أكثر من سنة (والثاني) تجوز سنين كثيرة يعلم بقاء النخل إليها كما تجوز
الإجارة سنين كثيرة
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(فصل) ولا تجوز إلا على جزء معلوم، فإن ساقاه على جزء مقدر كالنصف
والثلث جاز، لحديث ابن عمر، فإن عقد على جزء غير مقدر كالجزء والسهم
والنصيب لم يصح، لان ذلك يقع على القليل والكثير، فيعظم الغرر. وإن
ساقاه على صاع معلوم لم يصح، لأنه ربما لم يحصل ذلك فيستضر العامل، وربما
لا يحصل إلا ذلك فيستضر رب النخل، وإن ساقاه على أن له ثمر نخلات بعينها
لم يصح لأنه قد لا تحمل تلك النخلات فيستضر العامل، أو لا يحمل إلا هي
فيستضر رب النخل، وإن ساقاه عشر سنين وشرط له ثمرة سنة غير السنة العاشرة
408

لم يصح، لأنه شرط عليه بعد حقه عملا لا يستحق عليه عوضا. وإن شرط له
ثمرة السنة العاشرة ففيه وجهان (أحدهما) أنه يصح كما يصح أن يعمل في جميع
السنة، وإن كانت الثمرة في بعضها (والثاني) لا يصح لأنه يعمل فيها مدة تثمر
فيها ولا يستحق شيئا من ثمرها.
(فصل) ولا يصح إلا على عمل معلوم فإن قال إن سقيته بالسيح فلك
الثلث وان سقيته بالناضح فلك النصف لم يصح لأنه عقد على مجهول.
(فصل) وتنعقد بلفظ المساقاة لأنه موضوع له وتنعقد بما يؤدى معناه،
لان القصد منه المعنى، فصح بما دل عليه، فان قال استأجرتك لتعمل فيه على
نصف ثمرته لم تصح لأنه عقد الإجارة بعوض مجهول القدر فلم تصح
(فصل) ولا يثبت فيه خيار الشرط لأنه إذا فسخ لم يمكن رد المعقود عليه
وفى خيار المجلس وجهان (أحدهما) يثبت فيه لأنه عقد لازم يقصد به المال
فيثبت فيه خيار المجلس كالبيع (والثاني) لا يثبت لأنه عقد لا يعتبر فيه قبض
العوض في المجلس، فلو ثبت فيه خيار المجلس لثبت فيه خيار الشرط كالبيع.
(فصل) وإذا تم العقد لم يجز لواحد منهما فسخه لان النماء متأخر عن
العمل، فلو قلنا إنه يملك الفسخ لم يأمن أن يفسخ بعد العمل ولا تحصل له الثمرة
(فصل) وعلى العامل أن يعمل ما فيه مستزاد في الثمرة من التلقيح
وصرف الجريد واصلاح الأجاجين وتنقية السواقي والسقي وقلع الحشيش المضر
بالنخل، وعلى رب النخل عمل ما فيه حفظ الأصل من سد الحيطان ونصب
الدولاب وشراء الثيران، لان ذلك يراد لحفظ الأصل ولهذا من يريد انشاء
بستان فعل هذا كله
واختلف أصحابنا في الجذاذ واللقاط، فمنهم من قال لا يلزم العامل ذلك،
لان ذلك يحتاج إليه بعد تكامل النماء، ومنهم من قال يلزمه لأنه لا تستغنى
عنه الثمرة.
(فصل) وان شرط العامل في القراض والمساقاة أن يعمل معه رب المال
لم يصح لان موضوع العقد أن يكون المال من رب المال والعمل من العامل، فإذا
لم يجز شرط المال على العامل لم يجز شرط العمل على رب المال، وان شرط أن
409

يعمل معه غلمان رب المال فقد نص في المساقاة أنه يجوز. واختلف أصحابنا فيها
على ثلاثة أوجه، فمنهم من قال لا يجوز فيهما لان عمل الغلمان كعمل رب المال،
فإذا لم يجز شرط عمله لم يجز شرط عمل غلمانه، وحمل قوله في المساقاة على أنه
أراد ما يلزم رب المال من سد الحيطان وغيره
(والثاني) يجوز فيهما، لان غلمانه ماله، فجاز أن يجعل تابعا لماله كالثور
والدولاب والحمار لحمل المتاع، بخلاف رب المال فإنه مالك، فلا يجوز أن يجعل
تابعا لماله (والثالث) أنه يجوز في المساقاة ولا يجوز في القراض، لان في المساقاة
ما يلزم رب المال من سد الحيطان وغيره، فجاز أن يشترط فيها عمل غلمانه،
وليس في القراض ما يلزم رب المال، فلم يجز شرط غلمانه. فإذا قلنا إنه يجوز
لم يصح حتى تعرف الغلمان بالرؤية أو الوصف، ويجب أن يكون الغلمان تحت
أمر العامل، وأما نفقتهم فإنه إن شرط على العامل جاز، لان بعملهم ينحفظ
الأصل وتزكو الثمرة، وإن لم يشرط ففيه ثلاثة أوجه:
(أحدها) أنها على العامل، لان العمل مستحق عليه فكانت النفقة عليه.
(والثاني) أنها على رب المال، لان شرط عملهم عليه فكانت النفقة عليه:
(والثالث) أنها من الثمرة لان عملهم على الثمرة فكانت النفقة منها.
(فصل) وإذا ظهرت الثمرة ففيه طريقان من أصحابنا من قال هي على القولين
في العامل في القراض (أحدهما) تملك بالظهور (والثاني) بالتسليم. ومنهم من
قال في المساقاة تملك بالظهور قولا واحدا، لان الثمرة لم تجعل وقاية لرأس المال
فملك بالظهور. والربح جعل وقاية لرأس المال فلم يملك بالظهور في أحد القولين
(فصل) والعامل أمين فيما يدعى من هلاك وفيما يدعى عليه من خيانة،
لأنه ائتمنه رب المال فكان القول قوله، فان ثبتت خيانته ضم إليه من يشرف
عليه ولا تزال يده، لان العمل مستحق عليه ويمكن استيفاؤه منه فوجب أن
يستوفى وإن لم ينحفظ استؤجر عليه من ماله من يعمل عنه لأنه لا يمكن استيفاء
العمل بفعله فاستوفى بغيره
(فصل) وان هرب رفع الامر إلى الحاكم ليستأجر من ماله من يعمل عنه
فإن لم يكن مال افترض عليه، فإن لم يجد من يقرضه فلرب النخل أن يفسخ،
410

لأنه تعذر استيفاء المعقود عليه فثبت له الفسخ، كما لو اشترى عبدا فأبق من يد
البائع فان فسخ نظرت فإن لم تظهر الثمرة فهي لرب النخل لأن العقد زال قبل
ظهورها وللعامل أجرة ما عمل، وان ظهرت الثمرة فهي بينهما فان عمل فيه رب
النخل أو استأجر من عمل فيه بغير اذن الحاكم لم يرجع لأنه متبرع وان لم يقدر
على اذن الحاكم فإن لم يشهد لم يرجع لأنه متبرع، وان أشهد ففيه وجهان. أحدهما
يرجع لأنه موضع ضرورة، والثاني لا يرجع لأنه يصير حاكما لنفسه على غيره
وهذا لا يجوز لا لضرورة ولا لغيرها
(فصل) وان مات العامل قبل الفراغ فان تمم الوارث العمل استحق نصيبه
من الثمرة وان لم يعمل، فإن كان له تركة استؤجر منها من يعمل لأنه حق عليه
يمكن استيفاؤه من التركة فوجب أن يستوفى كما لو كان عليه دين وله تركة، وان
لم تكن له تركة لم يلزم الوارث العمل لان ما لزم الموروث لا يطالب به الوارث
كالدين ولا يقترض عليه لأنه لا ذمة له ولرب النخل أن يفسخ لأنه تعذر استيفاء
المعقود عليه فان فسخ كان الحكم فيه على ما ذكرناه في العامل إذا هرب.
(فصل) وان ساقى رجلا على نخل على النصف فعمل فيه العامل وتقاسما
الثمرة ثم استحق النخل رجع العامل على من ساقاه بالأجرة لأنه عمل بعوض ولم
يسلم له العوض فرجع ببدل عمله، فإن كانت الثمرة باقية أخذها المالك فان تلفت
رجع بالبدل، فان أراد تضمين الغاصب ضمنه الجميع لأنه حال بينه وبين الجميع،
وان أراد أن يضمن العامل ففيه وجهان، أحدهما يضمنه الجميع لأنه ثبتت يده على
الجميع فضمنه كالعامل في القراض في المال المغصوب، والثاني لا يضمن الا النصف
لأنه لم يحصل في يده الا ما أخذه بالقسمة وهو النصف، فأما النصف الآخر فإنه
لم يكن في يده، لأنه لو كان في يده لزمه حفظه كما يلزم العامل في القراض
(فصل) إذا اختلف العامل ورب النخل في العوض المشروط، فقال
العامل شرطت لي النصف وقال رب النخل شرطت لك الثلث تحالفا لأنهما
متعاقدان اختلفا في العوض المشروط ولا بينة فتحالفا كالمتبايعين إذا اختلفا في
قدر الثمن وبالله التوفيق.
411

(الشرح) حديث ابن عمر هو حديث معاملة الرسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر
وقد مضى تخريجه وبيان طرقه وما قيل من رجوع ابن عمر عنه، أما قوله:
السيح فهو الماء الجاري ويسميه الفلاحون في ديارنا المصرية (السقي بالراحة)
وهو ما لا يحتاج إلى شد للماء بالسواقي أو الشواديف وإنما يرتفع الماء في جداوله
على أعلى من مستوى سطح الأرض فيفتح الزارع فتحة من المسقاة فينساب الماء
سيحانا إلى الأرض المراد سقيها فيغمرها في لحظات قصيرة، أما التلقيح فهو
التأبير، أما صرف الجريد وهو تنحيته وتخفيفه وبتر أسافله لتهذيب النخل
والخلوص إلى العذوق بغير أن تؤذى سلاها والأجاجين جمع إجانة وهو الطسوت
والمواجير والمراكن الكبير التي تغسل فيها الثياب.
أما الأحكام: فقد قال الشافعي: ولا تجوز المساقاة إلا على أجر معلوم.
قلت: لأنه عقد معاوضة فلم يصح مع جهالة العوض كالبيع والإجارة، فلو ساقاه
على ما يكفيه أو ما يرضيه بطلت المساقاة للجهل بقدر نصيبه منها، إذ قد لا يرضيه
إلا جميعها، ولا يكفيه إلا أكثرها، فإن قيل: فإذا صحت المساقاة مع الجهالة بقدر
الثمرة فهل صحت مع الجهالة بقدر نصيبه من الثمرة؟ قيل: لان العلم بقدر
ما يحدث من الثمرة غير ممكن فلم يعتبر العلم بقدر نصيبه منها.
(فرع) قال الشافعي: وان ساقاه على أن له ثمر نخلات بعينها من الحائط لم
يجز، قال الماوردي: هذا صحيح، لان عقد المساقاة يوجب اشتراك العامل ورب
النخل في الثمر فإذا عقداها على أن للعامل ثمر نخلات بعينها منها وأفضى إلى أن
يستبد أحدهما بجميع الثمرة دون صاحبه لأنه قد يجوز أن لا تحمل تلك
النخلات فينصرف العامل بغير شئ، ويجوز أن لا تحمل الا تلك النخلات
فينصرف رب المال بغير شئ فلذلك بطل اه‍.
(فرع) وتحديد نصيب العامل من الثمرة بقدر معلوم أحد شروط عقد المساقاة
على أن يكون شائعا في الثمرة غير معين من نصف أو ربع أو ثلث أو عشر قل ذلك
الجزء أو كثر، فإن جهل نصيبه بأن جعل له ما يرضيه أو ما يكفيه أو ما يحكم له
412

الحاكم لم يجز للجهل به، وهكذا لو جعل له منها مائة صاع مقدرة لم يجز للجهل به
من جملة الثمرة، وأنه ربما كان جميعها أو سهما يسيرا منها، فلو قال: قد ساقيتك
على هذه النخل سنة ولم يذكر قدر نصيبه من ثمرها فقد حكى عن أبي العباس بن
سريج جوازها وجعل الثمرة بينهما نصفين بالسوية حملا لهما على عرف الناس في
المساقاة وتسويته بينهما في الثمرة، وقد خطأ الماوردي هذا لان ترك ذكر
العوض في العقد لا يقتضى حمله على معهود الناس عرفا، كالبيع والإجارة، مع
أن العرف مختلف.
فإذا قال: عاملتك على هذه النخل سنة ولم يذكر قدر نصيبه منها لم يجز عند أبي
العباس لأنه ليس للمعاملة عنده عرف، فلو قال: ساقيتك على مثل ما ساقى
زيد عمرا فإن علما قدر ذلك جاز، وان جهلاه أو أحدهما لم يجز ويجوز أن يكون
النصيب مختلفا فيكون في السنة الأولى النصف والثانية الثلث والثالثة الربع ومنع
مالك من اختلاف نصيب العامل في كل عام حتى يتساوى نصيبه في جميع الأعوام
وهذا خطأ لان ما جاز أن يكون العوض في أحواله متفقا جاز أن يكون مختلفا
كالبيع والإجارة، فإذا علم نصيب العامل ورب المال فمذهب الشافعي أن العامل
شريك في الثمرة بقدر حصته.
وقد خرج قول آخر أنه أجير كالمضاربة، ويختص رب المال بتحمل الزكاة
دون العامل والأصح أنه شريك تجب الزكاة عليه إن بلغت حصة كل واحد نصابا
ففي وجوب الزكاة قولان من اختلاف قولين في الخلطة في غير المواشي هل يكون
كالخلطة في المواشي، وقد مضى في الزكاة للامام النووي إفاضة وإفادة فيه.
(فرع) الشرط الرابع من شروطها عقدها بلفظ ساقيتك لينتفي الاحتمال عنها
فان عقداه بلفظ الإجارة بأن قال: استأجرتك للعمل فيها كان العقد باطلا لان
الإجارة فيها لا تصح، فإذا عقدا بلفظ الإجارة، انصرف إلى الإجارة فبطل،
وان لم يعقداه بواحدة من اللفظين وقال. قد عاملتك عليها بالعمل فيها على الشطر
من ثمرها ففيه وجهان.
413

أحدهما: أن العقد صحيح لان هكذا يكون عقد المساقاة.
والثاني: أن العقد باطل، لان هذا من أحكام العقد فلم ينعقد به العقد،
وهذان الوجهان من اختلاف أصحابنا في البيع على ما فصله واستقصاه مجيدا السبكي
في التكملة الأولى إذا عقد بلفظ التمليك.
(فرع) فإذا اشتمل العقد على شروطه المعتبرة فيه صح ولم يجز فيه خيار
الثلاث، واختلف أصحابنا هل يثبت فيه خيار المجلس أم لا؟ على وجهين كالإجارة
ويجوز أن يستوثق فيه بالشهادة ولا يجوز أن يستوثق فيه بالرهن والضمان،
لأنه عقد غير مضمون، ثم يؤخذ العامل بالعمل المشروط عليه، فإن لم يعمل في
النخل حتى أثمرت كان له نصيبه من الثمرة ان قيل: إنه شريك، ولا شئ له فيها
ان قيل: إنه أجير، ولرب العمل أن يأخذ العامل جبرا بالعمل للزوم العقد،
فان أراد العامل أن يساقى غيره عليها مدة مساقاته جاز بمثل نصيبه فما دون
كالإجارة، ولا يجوز بأكثر من نصيبه لأنه لا يملك الزيادة، والفرق بين المساقاة
حيث كان للعامل أن يساقى عليها وبين المضاربة حيث لم يجز للعامل أن يضارب بها أن
تصرف العامل في المضاربة تصرف في حق رب المال لأن العقد ليس بلازم فلم
يملك الافتيات عليه في تصرفه، وتصرف العامل في المساقاة تصرف في حق نفسه
للزوم العقد فملك الاستنابة في تصرفه.
(فرع) قال الشافعي: وكل ما كان مستزادا في الثمرة من اصلاح للمار
وطريق الماء وتصريف الجريد، وابار النخل وقطع الحشيش الذي يضر بالنخل
أو ينشف عنه الماء حتى يضر بثمرتها جاز شرطه على المساقاة، وأما سد الحظار
فليس فيه مستزاد لاصلاح في الثمرة ولا يصلح شرطه على المساقى، فان قال:
فإن كان أصلح للنخل أن يسد الحظار - بحاء مفتوحة كسحاب ومكسورة ككتاب
بعد ظاء معجمة: الحائط - فكذلك أصلح لها أن يبنى عليها حظار لم يكن، وهو
لا يجيزه في المساقاة، وليس هذا الاصلاح من الاستزادة في شئ من النخل إنما
هو دفع الداخل، قلت: والعمل المشروط في المساقاة على أربعة أنواع:
1 - ما يعود نفعه على الثمرة دون النخل.
2 - ما يعود نفعه على النخل دون الثمرة.
414

3 - ما يعود نفعه على النخل والثمرة 4 - مالا يعود نفعه على الثمرة
ولا النخل.
فالأول مثل الإبار وتصريف الجريد وتلقيح الثمرة ولقاطها رطبا أو جدادها
تمرا. فهذا النوع يجوز اشتراطه على العامل وينقسم إلى (ا) ما يجب عليه فعله
من غير شرط وهو كل مالا تصلح الثمرة إلا به كالتلقيح والإبار (ب) مالا يجب
عليه فعله إلا بالشرط، وهو كل ما فيه مستزاد للثمرة، وقد تصلح بعدمه
كتصريف الجريد وتدلية الثمرة (ج) ما هو مختلف فيه، وهو كل ما تكاملت
الثمرة قبله كاللقاط والجداد ففيه وجهان.
(أحدهما) أنه لا يجب على العامل إلا بشرط لتكامل الثمرة بعدمه.
(الثاني) أنه واجب على العامل بغير شرط، لان الثمرة لا تستغنى عنه،
وإن تكاملت قبله.
وأما النوع الثاني وهو ما يعود على النخل دون الثمرة، فمثل سد الحظار
وحفر الآبار وشق السواقي ورفع مياه الأنهار، فكل هذا مما يعود نفعه على النخل
دون الثمرة، فلا يجوز اشتراط شئ من ذلك على العامل. وكذا ما شاكله من
عمل الدواليب وإصلاح الزرانيق، فإن شرط رب المال على العامل شيئا مما ذكرنا
كان الشرط باطلا، والمساقاة فاسدة. وقال بعض أصحابنا: يبطل الشرط وتصح
المساقاة حملا على الشروط الزائدة في الرهن تبطل ولا تبطل معها الرهن في أحد
القولين، وقد خطأ جمهور فقهائنا هذا لان عقود المعاوضات إذا تضمنت شروطا
فاسدة بطلت كالشروط الفاسدة في البيع والإجارة
والنوع الثالث وهو ما يعود نفعه على النخل والثمرة، فكالسقي والإبارة
وقطع الحشيش المضر بالنخل إلى ما جرى هذا المجرى مما فيه اصلاح النخل
ومستزاد في الثمرة مما لا تصلح الثمرة الا به كالسقي فيما لا يشرب بعروقه كنخل
البصرة فهو وغيره من شروط هذا الفعل سواء، وفيه لأصحابنا ثلاثة أوجه:
(أحدها) أنه واجب على العامل بنفس العقد واشتراطه عليه تأكيدا لما فيه من
صلاح النخل وزيادة الثمرة
(والوجه الثاني) أنه واجب على رب النخل، واشتراطه عليه مبطل للعقد
415

لأنه بصلاح النخل أخص منه بصلاح الثمرة (والثالث) أنه يجوز اشتراطه
على العامل لما فيه من زيادة الثمرة، ويجوز اشتراطه على رب النخل لما فيه من
صلاح النخل فلم يتناف الشرطان فيه، فإن شرط على العامل لزمه، وإن شرط
على رب النخل لزمه، وان أغفل لم يلزم واحدا منهما، أما العامل فلانه لا يلزمه
إلا ما كان من موجبات العقد أو من شروطه، وأما رب النخل فلانه لا يجبر
على تثمير ماله.
وأما النوع الرابع، وهو مالا يعود نفعه على النخل ولا على الثمرة، فهو
كالاشتراط على العامل أن يبنى له قصرا أو يخدمه شهرا أو يسقى له زرعا تنافى
العقد وتمنع من صحته، لأنه لا تعلق لها به ولا تختص بشئ من مصلحته
(فرع) قال الشافعي: ساقى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر، والمساقون
عمالها لا عامل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها غيرهم، فإذا كان يجوز للساقي أن
يساقي نخلا على أن يعمل فيه عمال الحائط، لان رب الحائط رضى ذلك جاز أن
يشترط رقيقا ليسوا في الحائط يعملون فيه، لان عمل من فيه وعمل من ليس
فيه سواء، وإن لم تجز إلا بأن يكون على الداخل في المساقاة العمل كله لم يجز أن
يعمل في الحائط أحد من رقيقه، وجواز الامرين من أشبه الأمور عندنا والله أعلم
قال ونفقة الرقيق على ما تشارطا عليه، وليس نفقة الرقيق بأكثر من أجرتهم،
فإذا جاز أن يعملوا للمساقي بغير أجرة جاز أن يعملوا له بغير نفقة. اه‍
وبقية الفروع التي فصلها المصنف على وجهها، والله تعالى الموفق للصواب
قال المصنف رحمه الله تعالى:
(باب المزارعة)
لا تجوز المزارعة على بياض لا شجر فيه لما روى سليم بن بشار أن رافع بن
خديج قال: كنا نخابر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر أن بعض عمومته أتاه
فقال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان لنا نافعا وطاعة الله
ورسوله أنفع لنا وأنفع. قلنا وما ذاك؟ قال رسول الله صلى الله عليه: من كانت
له أرض فليزرعها ولا يكرها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى. فأما إذا كانت
416

الأرض بين النخل لا يمكن سقى الأرض إلا بسقيها نظرت فإن كان النخيل كثيرا
والبياض قليلا جاز أن تساقيه على النخل وتزارعه على الأرض لما روى ابن عمر
رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمر
وزرع فان عقد المزارعة على الأرض ثم عقد المساقاة على النخل لم تصح المزارعة
لأنها إنما أجيزت تبعا للمساقاة للحاجة ولا حاجة قبل المساقاة، وإن عقدت بعد
المساقاة ففيه وجهان (أحدهما) لا تصح لأنه أفرد المزارعة بالعقد فأشبه إذا
قدمت (والثاني) تصح لأنهما يحصلان لمن له المساقاة، وان عقدها مع المساقاة
وسوى بينهما في العوض جاز لان النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج
منها من ثمر وزرع، فإن فاضل بينهما في العوض ففيه وجهان، أحدهما: يجوز
وهو الصحيح لأنهما عقدان فجاز أن يفاضل بينهما في العوض، والثاني لا يجوز
لأنهما إذا تفاضلا تميزا فلم يكن أحدهما تابعا للآخر، فإن كان النخل قليلا
والبياض كثيرا ففيه وجهان (أحدهما) يجوز لأنه لا يمكن سقى النخل الا بسقي
الأرض فأشبه الكثير (والثاني) لا يجوز لان البياض أكثر فلا يجوز أن
يكون الأكثر تابعا للأقل.
(الشرح) حديث رافع بن خديج رآه البخاري ومسلم بلفظ " كنا أكثر
الأنصار حقلا فكنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه، فربما أخرجت
هذه ولم تخرج هذه فنهانا عن ذلك. فأما الورق فلم ينهنا " وفى لفظ للبخاري
" كنا أكثر أهل الأرض مزدرعا، كنا نكري الأرض بالناحية منها لسيد الأرض
قال فربما يصاب ذلك وتسلم الأرض، وربما تصاب الأرض ويسلم ذلك فنهينا.
فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ " وفى لفظ عند مسلم وأبى داود والنسائي
" إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما على الماذيانات (1)

(1) الماذيانات: حكى القاضي عياض عن بعض الرواة فتح الذال في غير
صحيح مسلم، وهي ما ينبت على حافة النهر ومسايل الماء، وليست عربية لكنها
سوادية، وهي في الأصل مسايل المياه فتسمية النابت عليها باسمها، كما وقع في
بعض الروايات يؤاجرون على الماذيانات مجاز مرسل والعلاقة المجاورة والمحلية
والأربعاء جمع ربع وهو النهر الصغير كنبي وأنبياء.
417

وأقبال الجداول وأشياء من الزرع فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا
ويهلك هذا ولم يكن للناس كرى إلا هذا فلذلك زجر عنه فأما شئ معلوم مضمون
فلا بأس به.
وفى رواية عند أحمد والبخاري والنسائي عن رافع قال " حدثني عماي أنهما
كانا يكريان الأرض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ينبت على
الأربعاء وبشئ يستثنيه صاحب الأرض قال: فنهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن ذلك ".
وفى رواية عند أحمد " إن الناس كانوا يكرون المزارع في زمان النبي صلى الله عليه
وسلم بالماذيانات وما يسقى الربيع وشئ من التين فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كرى
المزارع بهذا ونهى عنها ".
وقد حكى في الفتح الحافظ بن حجر عن الجمهور أن النهى محمول على الوجه
المفضى إلى الغرر والجهالة، لا عن إكرائها مطلقا حتى بالذهب والفضة قال: ثم
اختلف الجمهور في جواز إكرائها بجزء مما يخرج منها فمن قال بالجواز حمل أحاديث
النهى على التنزيه قال: ومن لم يجز إجارتها بجزء مما يخرج قال: النبي عن كرائها
محمول على ما إذا اشترط صاحب الأرض ناحية منها أو شرط ما ينبت على النهر
لصاحب الأرض لما في كل ذلك من الغرر والجهالة.
وفى رواية رافع عند البخاري أنه قال: ليس بها بأس بالدينار والدرهم، قال
ابن حجر: يحتمل أن يكون رافع قال ذلك باجتهاده، ويحتمل أن يكون علم ذلك
بطريق التنصيص على جوازه أو علم أن النهى عن كرى الأرض ليس على إطلاقه
بل بما إذا كان بشئ مجهول ونحو ذلك فاستنبط من ذلك جواز الكرى بالذهب
والفضة ويرجح كونه مرفوعا بما أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عنه قال
" نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة وقال: إنما يزرع ثلاثة
رجل له أرض ورجل منح أرضا، ورجل اكترى أرضا بذهب أو فضة " لكن
بين النسائي من وجه آخر أن المرفوع منه النهى عن المحاقلة والمزابنة، وأن بقيته
مدرج من كلام سعيد بن المسيب.
418

وقد أخرج أبو داود والنسائي ما هو أظهر في الدلالة على الرفع من هذا،
وهو حديث سعد بن أبي وقاص " إن أصحاب المزارع في زمن النبي صلى الله عليه
وسلم كانوا يكرون مزارعهم بما يكون على السواقي وما صعد بالماء مما حول النبت
فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختصموا في بعض ذلك فنهاهم أن يكروا
بذلك وقال: اكروا بالذهب والفضة " رواه أحمد وأبو داود والنسائي وهذا
الحديث يدل على تحريم المزارعة على ما يفضى إلى الغرر والجهالة ويوجب المشاجرة
وعليه تحمل الأحاديث الواردة في النهى عن المخابرة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر
لما ثبت من أنه صلى الله عليه وسلم استمر عليها إلى موته واستمر على مثل ذلك
جماعة من الصحابة، ويؤيد هذا تصريح رافع في هذا الحديث بجواز المزارعة على
شئ معلوم مضمون، ولا يشكل على جواز المزارعة بجزء معلوم حديث أسيد
ابن حضير قال " كان أحدنا إذا استغنى عن أرضه أو افتقر إليه أعطاها بالنصف
والثلث والربع، ويشترط ثلاث جداول، والقصارة وما يسقى الربيع وكان يعمل
فيها عملا شديدا، ويصيب منها منفعة فأتانا رافع بن خديج فقال نهى النبي صلى الله عليه وسلم
عن أمر كان لكم نافعا، وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم خير لكم، نهاكم
عن الحقل " رواه أحمد وابن ماجة.
والقصارة بقية الحب في السنبل بعدما يداس. نعم لا يشكل هذا الحديث
لان مجموع ما في الحديث غير المخابرة التي أجازها صلى الله عليه وسلم وفعلها في
خيبر، نعم حديث رافع عند أبي داود والنسائي وابن ماجة " من كانت له أرض
فليزرعها أو ليزرعها ولا يكارها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى ".
وكذلك حديثه أيضا عند أبي داود باسناد فيه بكر بن عامر البجلي الكوفي وهو
فيه مقال قال: إنه زرع أرضا فمر به النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسقيها فسأله: لمن الزرع؟
ولمن الأرض؟ فقال زرعي ببذري وعملي ولى الشطر ولبني فلان الشطر فقال
أربيتما، فرد الأرض على أهلها وخذ نفقتك.
ومثله حديث زيد بن ثابت عند أبي داود قال " نهى رسول الله عن المخابرة
قلت: وما المخابرة؟ قال: أن يأخذ الأرض بنصف أو ثلث أو ربع " فيها دليل
419

على المنع من المخابرة بجزء معلوم، ومثل هذه الأحاديث، حديث أسيد على
فرض أنه نهى عن المزارعة بجزء معلوم وعدم تقييده بما فيه من كلام أسيد
ولكنه لا سبيل إلى جعلها ناسخة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في خيبر وهو مستمر على
ذلك إلى موته وتقريره لجماعة من الصحابة عليه ولا سبيل إلى جعل هذه الأحاديث
المشتملة على النهى منسوخة بفعله صلى الله عليه وسلم وتقريره لصدور النهى عنه
في أثناء مدة معاملته، ورجوع جماعة من الصحابة إلى رواية من روى النهى،
والجمع ما أمكن هو الواجب.
قال الشوكاني: النهى يحمل على معناه المجازي وهو الكراهة. قال الشافعي
أخبرنا سفيان بن عيينة قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: سمعت ابن عمر يقول
كنا نخابر ولا نرى بذلك بأسا حتى أخبرنا رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهى عنها فتركناها لقول رافع.
قال الشافعي: والمخابرة استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها فدلت سنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم في نهيه عن المخابرة على أن لا يجوز المزارعة على الثلث ولا على
الربع ولا جزء من أجزاء، وذلك أن المزارع يقبض الأرض بيضاء لا أصل فيها
ولا زرع ثم يستحدث فيها زرعا، والزرع ليس بأصل والذي هو في معنى المزارعة
الإجارة، ولا يجوز أن يستأجر الرجل الرجل على أن يعمل له شيئا الا بأجر
معلوم يعلمانه قبل أن يعمله المستأجر لما وصفت من السنة.
ثم قال الشافعي بعد أن جوز كراء الأرض بالذهب والفضة: وإذا كان النخل
منفردا فعامل عليه رجل وشرط أن يزرع ما بين ظهراني النخل على المعاملة،
وكان ما بين ظهراني النخل ومنافعها من الجريد والكرانيف، وإن كان الزرع
منفردا عن النخل له طريق يؤتى منها أو ماء يشرب متى شربه لا يكون ريا للنخل
ولا شرب للنخل ريا له لم تحل المعاملة عليه، وجازت اجارته، وذلك أنه في حكم
المزارعة لا حكم المعاملة على الأصل، وسواء قل البياض في ذلك أو كثر اه‍
ومن هنا نرى الإمام الشافعي يجيز المزارعة في بياض النخل تبعا للمساقاة،
وقد قال في المساقاة: وإذا كان البياض بين أضعاف النخل جاز فيه المساقاة كما تجوز
420

في الأصل، وإن كان منفردا عن النخل له طريق غيره لم تجز فيه المساقاة ولم تصح
إلا أن يكترى كراء، وسواء قليل ذلك وكثيره ولا حد فيه إلا ما وصفت اه‍.
وقال الماوردي: وإذا كانت المخابرة هي استكراء الأرض لزراعتها ببعض
ما يخرج منها فهي على ضربين، ضرب أجمع الفقهاء على فساده، وضرب اختلفوا
فيه، فأما الضرب الذي أجمعوا على فساده فهو أن تكون حصة كل واحد منهما
من زرع الأرض مفردة عن حصة صاحبه مثل أن يقول: قد زارعتك على هذه
الأرض على ما نبت من الماذيانات كان لي، وما نبت على السواقي والجداول كان
لك أو على أن ما سقى بالسماء فهو لي وما سقى بالرشا فهو لك، فهذه مزارعة باطلة
اتفق الفقهاء على فساده لرواية سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص ثم ساق
الحديث، وأما الضرب الثاني الذي اختلف الفقهاء فيه فهو أن يزارعه على ارضه
ليكون العمل على الأجير والأرض لربها والبذر منهما أو من أحدهما بحسب
شرطهما على أن ما أخرج الله تعالى من زرع كان بينهما على سهم معلوم من نصف
أو ثلث أو ربع ليأخذ الزارع سهمه بعمله، ويأخذ رب الأرض سهمه بأرضه
فهذه هي المخابرة، والمزارعة التي اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة مذاهب:
أحدها وهو مذهب الشافعي أنها باطلة سواء شرط البذر على الزارع أو على
رب الأرض، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله ورافع
ابن خديج رضي الله عنهم ومن التابعين سعيد بن جبير وعكرمة ومن الفقهاء الشافعي
ومالك وأبو حنيفة.
والمذهب الثاني أنها جائزة سواء شرط البذر على الزارع أو على رب الأرض
وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وسعد
ابن أبي وقاص ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم ومن التابعين سعيد بن المسيب ومحمد
ابن سيرين وعبد الرحمن بن أبي ليلى، ومن الفقهاء سفيان الثوري وأبو يوسف
ومحمد، والمذهب الثالث: أنه إن شرط البذر على صاحب الأرض لم يجز، وإن
شرطه على الزارع جاز وهو مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، واستدل
من أجاز ذلك برواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
421

عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج من ثمر وزرع، وروى سفيان بن عيينة عن
عمرو بن دينار قال: قلت لطاوس يا أبا عبد الرحمن لو تركت المخابرة فإنهم
يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها فقال: يا عمرو أخبرني أعلمهم
ابن عباس أنه لم ينه عنها، ولكن قال: لان يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ
عليها خرجا معلوما.
والدليل على فسادها ما رواه الشافعي عن ابن عمر، وروى يعلي بن حكيم
عن سليمان بن يسار أن رافع بن خديج قال: كنا نخابر إلى أن قال صلى الله عليه
وسلم: من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه ولا يكاريها بثلث ولا ربع
ولا طعام مسمى. وروى أبو خيثم عن أبي الزبير عن جابر قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول: من لم يدع المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله،
ولان الأصول التي تصح إجارتها ولا تصح المعاملة عليها ببعض كسبها، وكذا
الأرض لما جازت إجارتها لم تجز المخابرة عليها فهذه دلائل الفريقين في صحة
المخابرة وفسادها، ولما اقترن بدلائل الصحة عمل أهل الأمصار مع الضرورة
الماسة إليها، وكان ما عارضها محتملا أن يكون جاريا على ما فسره زيد بن ثابت،
وقال عبد الله بن عباس كان صحة المخابرة أولى من فسادها مع شهادة الأصول لها
في المساقاة والمضاربة، ومن خلال هذا الحوار المفتوح بين المؤيدين والمعارضين
تبرز حقيقة ماثلة وهي أن الأصل هو التغلب على أسباب الغبن والغرر، ثم إن
ما منيت به البشرية من بلشفية ملحدة قتلت الحوافز، وكفت الإرادة، وجعلت
من الانسان آلة صماء لا تعقل ليجعلنا أحوج ما نكون إلى فهم روح الشريعة
السمحة.
تم الجزء الرابع عشر ويليه الجزء الخامس عشر
وأوله كتاب الإجارة
422