الكتاب: المجموع
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ٧
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر
ردمك:
ملاحظات:

المجموع
شرح المهذب
للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة 676 ه‍
الجزء السابع
دار الفكر
1

بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف رحمة الله تعالى *
كتاب الحج
الحج يقال - بفتح الحاء وكسرها - لغتان قرئ بهما في السبع أكثر السبعة بالفتح وكذا الحجة فيها
لغتان وأكثر المسموع الكسر والقياس أصله القصد وقال الأزهري هو من قولك حججته إذا
أتيته مرة بعد أخرى والأول هو المشهور وقال الليث أصل الحج في اللغة زيارة شئ تعظمه وقال
كثيرون هو إطالة الاختلاف إلى الشئ واختاره ابن جرير قال أهل اللغة يقول حج يحج - بضم
الحاء - فهو حاج والجمع حجاج وحجيج وحج - بضم الحاء - حكاه الجوهري كنازل ونزل قال العلماء
ثم اختص الحج في الاستعمال بقصد الكعبة للنسك (وأما) العمرة ففيها قولان لأهل اللغة حكاهما
الأزهري وآخرون (أشهرهما) ولم يذكر ابن فارس والجوهري وغيرهما غيره أصلها الزيارة (والثاني)
أصلها القصد قاله الزجاج وغيره قال الأزهري وقيل إنما اختص الاعتمار بقصد الكعبة لأنه قصد
إلى موضع عامر والله أعلم *
2

(فرع) في طرف من فضائل الحج قال الله تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا) وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال
أفضل قال ايمان بالله ورسوله قيل ثم ماذا قال حج مبرور) رواه البخاري ومسلم وعنه قال (سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه) رواه
البخاري ومسلم وعنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما
والحج المبرور ليس له جزاء الا الجنة) رواه البخاري ومسلم * المبرور الذي لا معصية فيه وعن عائشة
رضي الله عنها قالت (قلت يا رسول الله نرى الجهاد أفضل العمل أفلا نجاهد قال لكن أفضل من
الجهاد حج مبرور) رواه البخاري وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما من يوم أكثر من
أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة) رواه مسلم وعن ابن عباس عنهما أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال (عمرة في رمضان تعدل حجة - أو حجة معي -) رواه البخاري ومسلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(الحج ركن من أركان الاسلام وفرض من فروضه لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما
قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله
وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)
وفي العمرة قولان (قال) في الجديد هي فرض
3

لما روت عائشة قالت (قلت يا رسول الله هل على النساء جهاد قال جهاد لا قتال فيه الحج والعمرة)
(وقال) في القديم ليست بفرض لما روى جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أهي
واجبة قال لا وأن تعتمر خير لك) والصحيح الأول لان هذا الحديث رفعه ابن لهيعة وهو ضعيف
فيما ينفرد به) *
(الشرح) حديث ابن عمرو رواه البخاري ومسلم وجاء في الصحيحين (والحج وصوم رمضان) وجاء
(وصوم رمضان والحج) وكلاهما صحيح والواو لا تقتضي ترتيبا وسمعه ابن عمرو مرتين فرواه بهما وإنما استدل
المصنف به ولم يستدل بقول الله تعالى (ولله على الناس حج البيت) لان مراده الاستدلال على كونه ركنا ولا
تحصل الدلالة لهذا من الآية وإنما تحصل من الحديث (وأما) حديث عائشة فرواه ابن ماجة والبيهقي
وغيرهما بأسانيد صحيحة وإسناد ابن ماجة على شرط البخاري ومسلم واستدل البيهقي لوجوب
العمرة بحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة السائل (الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن الايمان والاسلام وهو جبريل عليه السلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم الاسلام أن تشهد
أن لا اله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحج البيت وتعتمر وتغتسل
من الجنابة وتتم الوضوء وتصوم رمضان قال فان قلت هذا فانا مسلم قال نعم قال صدقت وذكر
الحديث) هكذا رواه البيهقي وقال رواه مسلم في الصحيح ولم يسبق متنه هذا كلام البيهقي وليس
هذا اللفظ على هذا الوجه في صحيح مسلم ولا للعمرة والغسل من الجنابة والوضوء فيه في هذا الحديث
ذكر لكن الاسناد به للبيهقي موجود من صحيح مسلم وروى الدارقطني هذا اللفظ الذي رواه
البيهقي بحروفه ثم قال هذا إسناد صحيح ثابت * واحتج البيهقي أيضا بما رواه باسناده عن أبي زرين
4

العقيلي الصحابي رضي الله عنه أنه قال (يا رسول الله إني شيخ كبير لا أستطيع الحج والعمرة ولا
الظعن قال حج عن أبيك واعتمر) قال البيهقي قال مسلم بن الحجاج سمعت أحمد بن حنبل يقول
لا أعلم في إيجاب حديث العمرة أجود من حديث أبي زرين هذا ولا أصح منه هذا كلام البيهقي وحديث
أبي زرين هذا صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم بأسانيد صحيحة قال
الترمذي هو حديث حسن صحيح (وأما) حديث جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة
أواجبة هي قال لا وأن تعتمر خير لك) فرواه الترمذي في جماعة من رواية الحجاج هو ابن أرطأة
عن محمد بن المنكدر وجابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة الواجبة هي قال لا وأن
تعتمر فهو أفضل) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح قال الترمذي قال الشافعي العمرة سنة
لا نعلم أحدا رخص في تركها وليس فيها شئ ثابت بأنها واجبة قال الشافعي وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف لا تقوم بمثله الحجة وقد بلغنا عن ابن عباس أنه كان يوجبها هذا
آخر كلام الترمذي وقد روى البيهقي باسناده هذا الحديث عن الحجاج هو ابن أرطأة عن محمد
ابن المنكدر عن جابر (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة أواجبة قال لا وأن تعتمر خير
لك) قال البيهقي كذا رواه الحجاج بن أرطاة مرفوعا والمحفوظ إنما هو عن جابر موقوف عليه غير
مرفوع قال وروي عن جابر مرفوعا بخلاف ذلك قال وكلاهما ضعيف ثم رواه البيهقي أيضا من
غير جهة الحجاج قال وهذا وهم إنما يعرف هذا المتن بالحجاج بن أرطاة عن محمد بن المنكدر عن
5

جابر وروي عن ابن عباس وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (العمرة تطوع) واسنادهما
ضعيف هذا كلام البيهقي (واما) قول الترمذي إن هذا حديث حسن صحيح فغير مقبول ولا
يغتر بكلام الترمذي في هذا فقد اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف كما سبق في كلام البيهقي
ودليل ضعفه أن مداره على الحجاج بن أرطأة لا يعرف الا من جهته والترمذي إنما رواه من جهته
والحجاج ضعيف ومدلس باتفاق الحفاظ وقد قال في حديثه عن محمد ابن المنكدر والمدلس إذا قال في روايته
عن لا يحتج بها بلا خلاف كما هو مقرر معروف في كتب أهل الحديث وأهل الأصول ولان
جمهور العلماء على تضعيف الحجاج بسبب آخر غير التدليس فإذا كان فيه سببان يمنع كل واحد
منهما الاحتجاج به وهما الضعف والتدليس فكيف يكون حديثه صحيحا وقد سبق في كلام الترمذي
عن الشافعي أنه قال ليس في المرة شئ ثابت انها واجبة فالحاصل ان الحديث صحيح ضعيف
والله أعلم (واما) قول المصنف لان هذا الحديث رفعه ابن لهيعة وهو ضعيف فيما ينفرد به فهذا مما
أنكر على المصنف وغلط فيه لان الذي رفعه إنما هو الحجاج بن أرطأة كما سبق لا ابن لهيعة وقد
ذكره أصحابنا في كتب الفقه على الصواب فقالوا إنما رفعه الحجاج بن أرطأة وذكر البيهقي
في معرفة السنن والآثار حديث الحجاج بن أرطأة وضعفه ثم قال وروى ابن لهيعة عن عطاء عن جابر مرفوعا
خلافه قال (الحج والعمرة فريضتان واجبتان) قال البيهقي وهذا ضعيف أيضا لا يصح وينكر على المصنف في
هذا ثلاثة أشياء (أحدها) قوله ابن لهيعة وصوابه الحجاج ابن أرطأة كما ذكرنا (والثاني) قوله رفعه وصوابه
أن يقول إنما رفعه (والثالث) قوله وهو ضعيف فيما ينفرد به وصوابه حذف قوله فيما ينفرد به ويقتصر على قوله
6

ضعيف لان ابن لهيعة ضعيف فيما انفرد به وفيما شارك فيه والله أعلم * واسم ابن لهيعة عبد الله ابن
لهيعة ابن عقبة الحضرمي ويقال العاهي المصري أبو عبد الرحمن قاضي مصر (وقوله) وإن تعتمر هو - بفتح
الهمزة - قال أصحابنا ولو صح حديث الحجاج ابن أرطاة لم يلزم منه عدم وجوب العمرة على الناس
كلهم لاحتمال أن المراد ليست واجبة في حق السائل لعدم استطاعته والله أعلم * (وأما) قول المصنف
الحج ركن وفرض مجمع بينهما فقد سبق الكلام عليه في أول كتابي الزكاة والصوم (وأما) استدلاله
على وجوب الحج بالحديث ولم يستدل بقول الله تعالى (ولله على الناس حج البيت) فقد سبق
الجواب عنه في أول كتاب الصيام * (وأما) أحكام المسألة فالحج فرض عين على كل مستطع باجماع المسلمين
وتظاهرت على ذلك دلالة الكتاب والسنة واجماع الأمة (وأما) العمرة فهل هي فرض من فروض
الاسلام فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (الصحيح) باتفاق الأصحاب أنها فرض
وهو المنصوص في الجديد (والقديم) أنها سنة مستحبة ليست بفرض قال القاضي أبو الطيب في تعليقه
ونص عليه الشافعي في كتاب أحكام القرآن يعني من الحديث قال أصحابنا (فان قلنا) هي فرض فهي
في شرط صحتها وصحة مباشرتها ووجوبها وإحرامها عن عمرة الاسلام كالحج كما سنوضحه إن شاء الله
تعالى قال أصحابنا والاستطاعة الواحدة كافية لوجوبها جميعا والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في وجوب العمرة * قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أنها فرض
وبه قال عمر وابن عباس وابن عمر وجابر وطاوس وعطاء وابن المسيب وسعيد ابن جبير والحسن
البصري وابن سيرين والشعبي ومسروق وأبو بردة ابن أبي موسى الحضرمي وعبد الله ابن شداد
والثوري وأحمد وإسحاق وابن عبيد وداود * وقال مالك وأبو حنيفة وأبو ثور هي سنة ليست واجبة
وحكاه ابن المنذر وغيره عن النخعي ودليل الجميع سبق بيانه والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(ولا يجب في العمر أكثر من حجة وعمرة بالشرع لما روى ابن عباس رضي الله عنهما
أن الأقرع ابن حابس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (الحج كل عام قال لا بل حجة)
وروى سراقة بن مالك قال (قلت يا رسول الله أعمرتنا هذه لعامنا أم للأبد قال للأبد دخلت العمرة
في الحج إلى يوم القيامة)) *
7

(الشرح حديث ابن عباس رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم بأسانيد حسنة ورواه
مسلم في صحيحه من رواية أبي هريرة قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا أيها الناس
قد فرض عليكم الحج فحجوا فقال رجل اكل عام يا رسول الله فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ثم قال ذروني ما تركتكم هلك من قبلكم
بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شئ
فدعوه) رواه مسلم (واما) حديث سراقة فرواه الدارقطني باسناد صحيح عن أبي الزبير عن جابر عن
سراقة قال (قلت يا رسول الله عمرتنا هذه لعامنا هذا أم للأبد فقال لا بل للأبد دخلت العمرة في الحج إلى
يوم القيامة) قال الدارقطني رواته كلهم ثقات وقد رواه النسائي وابن ماجة من رواية عطاء وطاوس
عن سراقة وهذه رواية منقطعة فإنهما ولدا سنة ست وعشرين أو بعدها وتوفى سراقة سنة أربع
وعشرين وقد روى البخاري ومسلم سؤال سراقة من رواية جابر لكن بغير هذا اللفظ والله أعلم *
(وأما) قوله صلى الله عليه وسلم (دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة) فقد ذكر أصحابنا وغيرهم فيه
تفسيرين (أحدهما) معناه دخلت أفعال العمرة في أفعال الحج إذا جمع بينهما بالقران (والثاني) معناه
لا بأس بالعمرة في أشهر الحج وهذا هو الأصح وهو تفسير الشافعي وأكثر العلماء ونقله الترمذي
عن الشافعي واحمد وإسحاق قال والترمذي وغيره وسببه ان الجاهلية كانوا لا يرون العمرة
في أشهر الحج ويعتقدون ان ذلك من أعظم الفجور فأذن الشرع في ذلك وبين جوازه وقطع الجاهلية
عما كانوا عليه ولهذا اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم عمره الأربع في أشهر الحج ثلاثا منها في ذي القعدة
8

والرابعة مع حجته حجة الوداع في ذي الحجة ويؤيد هذا ما ثبت عن ابن عباس قال (والله ما أعمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة الا ليقطع امر أهل الشرك فان هذا الحي من قريش ومن دان
دينهم كانوا يقولون إذا عفا الوبر برأ الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر فكانوا يحرمون
العمرة حتى ينسلخ ذو الحجة والمحرم) هذا حديث صحيح رواه أبو داود باسناد صحيح بلفظه ورواه
البخاري في صحيحه مختصرا فذكر بعضه (وقول) المصنف لا يجب في العمر أكثر من حجة وعمرة
بالشرع احترز بقوله بالشرع عن النذر وعمن أراد أن يدخل مكة لحاجة لا تتكرر (إذا قلنا) يلزمه
الاحرام والحجة - بكسر الحاء - أفصح من فتحها كما سبق في أول الباب والعمرة - بضم العين والميم
وبضم العين وإسكان الميم وبفتح العين وإسكان الميم - والله أعلم * (أما) أحكام المسألة فلا يجب على
المكلف المستطيع في جميع عمره إلا حجة واحدة وعمرة واحدة بالشرع ونقل أصحابنا إجماع
المسلمين على هذا وحكي صاحب البيان وغيره عن بعض الناس أنه يجب كالسنة قال القاضي
أبو الطيب في تعليقه وقال بعض الناس يجب الحج في كل سنتين مرة قالوا وهذا خلاف الاجماع
يقابله محجوج باجماع من كان قبله والله أعلم *
(فرع) ومن حج ثم ارتد ثم أسلم لم يلزمه الحج بل يجزئه حجته السابقة عندنا * وقال أبو حنيفة
وآخرون يلزمه الحج ومبنى الخلاف على أن الردة متى تحبط العمل فعندهم تحبطه في الحال سواء
أسلم بعدها أم لا فيصير كمن لم يحج وعندنا لا تحبطه الا إذا اتصلت بالموت لقوله تعالى (ومن يرتدد
منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم) وقد سبقت المسألة مستوفاة بأدلتها وفروعها
في أول كتاب الصلاة والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
9

(ومن حج واعتمر حجة الاسلام وعمرته ثم أراد دخول مكة لحاجة نظرت فإن كان لقتال
أو دخلها خائفا من ظالم يطلبه ولا يمكنه أن يظهر لأداء النسك جاز أن يدخل بغير احرام لان النبي
صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح بغير احرام لأنه كان لا يأمن أن يقاتل ويمنع النسك وإن كان
دخوله لتجارة أو زيارة ففيه قولان (أشهرهما) أنه لا يجوز أن يدخل الا لحج أو عمرة لما روى
ابن عباس أنه قال (لا يدخل أحدكم مكة الا محرما ورخص للحطابين) (والثاني) أنه يجوز لحديث الأقرع بن
حابس وسراقة بن مالك وإن كان دخوله لحاجة تتكرر كالحاطبين والصيادين جاز بغير نسك لحديث
ابن عباس ولان في ايجاب الاحرام على هؤلاء مشقة فان دخل لتجارة وقلنا إنه يجب عليه الاحرام
فدخل بغير احرام لم يلزمه القضاء لأنا لو ألزمناه القضاء لزمه لدخوله للقضاء قضاء فلا يتناهى قال
أبو العباس بن القاص ان دخل بغير احرام ثم صار حطابا أو صيادا لزمه القضاء لأنه لا يلزمه
للقضاء قضاء) *
(الشرح) حديث دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح بغير احرام صحيح
فقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر (ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح وعليه
عمامة سوداء بغير احرام (هذا لفظ إحدى روايات مسلم وثبت في الصحيحين عن أنس (ان النبي صلى الله عليه وسلم
10

دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر) (وأما) حكم المسألة فقال أصحابنا إذا حج واعتمر حجة الاسلام
وعمرته ثم أراد دخول مكة لحاجة لا تتكرر كزيارة أو تجارة أو رسالة أو كان مكيا مسافرا فأراد دخولها
عائدا من سفره ونحو ذلك فهل يلزمه الاحرام بحج أو عمرة فيه طريقان (أحدهما) أنه مستحب قولا
واحدا حكاه القاضي أبو الطيب في المجرد في آخر باب مواقيت الحج عن أبي موسى المروزي وقطع
به سليم الرازي في كتابه الكافية وحكاه أيضا الرافعي وآخرون (وأصحهما) وأشهرهما فيه قولان
(أحدهما) يستحب ولا يجب (والثاني) يجب ودليل القولين في الكتاب واختلفوا في أصحهما فصحح ابن القاص
والمسعودي والبغوي وآخرون الوجوب وصحح الشيخ أبو حامد وأصحابه والشيخ أبو محمد الجويني والغزالي
والأكثرون الاستحباب وصححه أيضا الرافعي في المحرر قال البندنيجي وهو نص الشافعي في عامة
كتبه قال المتولي وعلى هذا يكره الدخول بغير احرام هذا حكم من يتكرر دخوله (أما) من يتكرر دخوله
كالحطاب والحشاش والصياد والسقاء ونحوهم (فان قلنا) فيمن لا يتكرر لا يلزمه لا يلزم الاحرام فهذا
أولى والا فطريقان (المذهب) انه لا يلزمه وبه قطع كثيرون أو الأكثرون (والثاني) فيه وجهان وبعضهم
يحكيهما قولين (أحدهما) يلزمه (والثاني) لا يلزمه وممن حكي الخلاف فيه القاضي أبو الطيب في المجرد
والمتولي حكياه وجهين وحكاه ابن القاص في التلخيص والقفال والمحاملي والبندنيجي والدارمي
والبغوي وآخرون قولين (فان قلنا) يلزمه فقد أطلقه كثيرون وممن حكي هذا الخلاف وقيده المحاملي
والبندنيجي وآخرون بأنه في كل سند مرة قال المحاملي في المجموع قال الشافعي في عامة كتبه يدخلها
11

الخطاب ونحوه بغير احرام قال وقال في بعض كتبه يحرم في كل سنة مرة لئلا يستهين بالحرم
وقال القاضي أبو الطيب قال أبو علي في الافصاح (ان قلنا) غير الحطاب ونحوه لا يلزمه الاحرام فالحطاب
أولى وإلا فقولان وظاهر المذهب انه لا يلزمه قال وقال أبو إسحاق قال الشافعي في الاملاء يحرمون كل
سنة مرة قال القاضي وهذا غير مشهور والله أعلم (وأما) البريد الذي يتكرر دخوله إلى مكة للرسائل
فقطع الدارمي بأنه كالحطاب ونحوه وقال القاضي أبو الطيب وصاحب الشامل والبيان من أصحابنا من جعله
كالحطاب لتكرر دخوله ومنهم من قال إن قلنا لا يجب على الحطاب ففي البريد وجهان فالحاصل ان
المذهب انه لا يجب الاحرام لدخول مكة على من دخل لتجارة ونحوها مما لا يتكرر ولا على من يدخل
لمتكرر كالحطاب ولا على البريد ونحوه قال أصحابنا فان قلنا يجب فللوجوب شروط (أحدها) ان
يجئ الداخل من خارج الحرم فاما أهل الحرم فلا إحرام عليهم بلا خلاف لدخوله كما لا يشرع
تحية المسجد لمن أنتقل من موضع منه إلى موضع منه (والثاني) ألا يدخلها لقتال ولا خائفا فان دخلها
لقتال بغاة أو قطاع طريق أو غيرهما من القتال الواجب أو المباح أو خائفا من ظالم أو غريم يمسه وهو
معسر لا يمكنه الظهور لأداء النسك الا بمشقة ومخاطرة لم يلزمه الاحرام بلا خلاف (الثالث)
12

أن يكون حرا فإن كان عبدا فلا احرام عليه ان لم يأذن سيده فيه بلا خلاف وكذا إن اذن على المذهب
لأنه ليس واجبا عليه بأصل الشرع فلا يصير واجبا باذن سيده كصلاة الجمعة وكحجة
الاسلام وفيه وجه ضعيف انه يجب عليه إذا أذن سيده لان المنع لحقه فزال باذنه والمذهب
الأول وهو المنصوص وبه قطع جماهير الأصحاب والله أعلم قال أصحابنا وإذا قلنا بوجوب الاحرام
واجتمعت شروطه فدخل إحرام فطريقان (أصحهما) وهو المذهب وبه قطع الجمهور لا قضاء
لان القضاء متعذر لان الدخول الثاني إحرام يقتضى إحراما آخر فيتسلسل ولان الاحرام مشروع
لحرمة الحرم لئلا ينتهكه بالدخول بغير إحرام فإذا دخل بغير إحرام فات لحصول الانتهاك كما قال
أصحابنا وهذا كما إذا دخل المسجد فجلس ولم يصل التحية فإنها تفوت بالجلوس ولا يشرع قضاؤها (الطريق
الثاني) فيه وجهان وقيل قولان (أصحهما) لا قضاء (والثاني) يجب القضاء وحكاه المصنف
13

والأصحاب ابن القاص فعلى هذا يلزمه أن يخرج ثم يعود محرما قال الرافعي علل أصحابنا عدم القضاء بعلتين
(أحدهما) ان القضاء لا يمكن لان الدخول الثاني يحتاج إلى قضاء آخر فصار كمن نذر صوم الدهر فأفطر
وفرع ابن القاص في هذه العلة انه لو لم يكن ممن يتكرر دخوله كالحاطبين ثم صار منهم لزمه القضاء
وربما نقلوا عنه أنه يوجب عليه أن يجعل نفسه منهم قال (والعلة الثانية) وهي الصحيحة وبها قال العراقيون
والقفال أنه تحية للبقعة فلا يقضى كتحية المسجد هذا كلام الرافعي قال أصحابنا وإذا قلنا يلزمه
الاحرام فتركه وترك القضاء عصى ولا دم عليه لان الدم يجبر الخلل الحاصل في النسك
بالاحرام داخل الميقات من غير رجوع إليه ونحو ذلك وهذا لم يدخل في نسك قالوا
وإذا أوجبنا الاحرام لزمه أن يحرم من الميقات فلو أحرم بعد مجاوزته فعليه دم لما ذكرناه وممن
صرح بالصورتين القاضي أبو القاسم بن كج والماوردي والدارمي وآخرون والله تعالى أعلم *
(فرع) إذا أراد دخول الحرم ولم يرد دخول مكة فحكمه حكم دخول مكة ففيه التفصيل
والخلاف السابق وهذا الخلاف صرح به جميع الأصحاب ممن صرح به القاضي الماوردي والدارمي
والقاضي أبو الطب في المجرد في باب المواقيت والمحاملي في المقنع وغيره والجرجاني في كتابيه البلغة
والتحرير والشاشي في المستظهري والروياني في الحلية وخلائق لا يحصون صرحوا به وأشار إليه المتولي
14

والباقون (واما) قول الرافعي هل ينزل دخول الحرم منزلة دخول مكة فيما ذكرناه قال بعض الشارحين
نعم قال الرافعي لا يبعد تخريجه على خلاف في نظائره كأنه أرادا بنظائره إباحة الصلوات في أوقات
النهى فإنها تباح بمكة وكذا في سائر الحرم على الصحيح فهذا الذي قاله الرافعي عجب من وجهين
(أحدهما) كونه نقل المسألة عن بعض الشروح وهي مشهورة صريحة في هذه الكتب المشهورة
التي ذكرها وغيرها (والثاني) كونه قال يحتمل تخريجه على خلاف مع أنه لا خلاف فيه فالصواب
ما سبق ان الحرم كمكة بلا خلاف والله أعلم *
(فرع) ذكر المصنف وجميع الأصحاب هنا أنه يجوز دخول مكة للقتال بغير احرام قالوا
وصورة ذلك أن يلتجئ إليها طائفة من الكفار أهل الحرب والعياذ بالله أو طائفة من البغاة أو قطاع
الطريق ونحوهم وقطع الأصحاب هنا بجواز قتالهم وهو الصواب المشهور وذكر القفال في كتاب
النكاح من شرح التلخيص في كتاب خصائص رسول الله صلى الله عليه وسلم والماوردي في الأحكام السلطانية
خلافا في قتالهم في مكة وسائر الحرم ووجه التحريم قوله صلى الله عليه وسلم (ان الله حرم
مكة فلم تحل لاحد قبلي ولا تحل لاحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار)
(فرع) قال المصنف والأصحاب هنا ان النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح
وهو لا يأمن أن يقاتل (قد يقال) إن هذا مخالف لمذهب الشافعي فان مذهب الشافعي وجميع
الأصحاب أن النبي صلى الله عليه وسلم (دخل مكة يوم الفتح صلحا وفتحها صلحا وقال أبو حنيفة وآخرون
فتحها عنوة وقد ذكر المصنف المسألة في كتاب السير وهناك ذكرها الرافعي والأصحاب
(والجواب) ان هذا لا يخالف ذلك لأنه صلى الله عليه وسلم صالح أبا سفيان وكان لا يأمن غدر أهل
مكة فدخل صلحا وهو متأهب للقتال ان غدروا والله أعلم *
15

فرع في مذاهب العلماء فيمن أراد دخول الحرم لحاجة لا تكرر كالتجارة والزيارة وعيادة
المريض ونحوها * قد ذكرنا أن الأصح عندنا أنه يستحب له الاحرام ولا يجب سواء قربت داره من
الحرم أم بعدت وبه قال ابن عمر * وقال مالك وأحمد يلزمه * وقال أبو حنيفة يلزمه إن كانت داره في
الميقات أو أقرب إلى مكة جاز دخوله بلا إحرام وإلا فلا * واحتجوا للوجوب بقول ابن عباس
المذكور في الكتاب * واحتج كثيرون بقوله صلى الله عليه وسلم (ان الله حرم مكة فلم تحل لاحد قبلي
ولا تحل لاحد بعدي وإنما أحلت لي ساعة من نهار) ودليلنا الصح حديث (الحج كل عام قال لا بل
حجة) وهو حديث صحيح كما سبق بيانه قريبا ولأنه تحية لبقعة فلم تجب كتحية المسجد (وأما) قول
ابن عباس فيعارضه مذهب ابن عمر انه كان لا يراه واجبا (وأما) حديث (لا تحل لاحد بعدي) فالمراد
به القتال كما سبق وليس في جميع طرق هذا الحديث ما يقتضى الاحرام وإنما هو صريح في القتال وقد سبق
تأويله والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا إنه إذا قلنا يجب الاحرام لدخول الحرم فدخل بغير إحرام عصى والمذهب
أنه لا يلزمه القضاء * وقال أبو حنيفة يلزمه وقال ابن القاص من أصحابنا إذا صار حطابا ونحوه لزمه
القضاء وبالأول قال جمهور أصحابنا ومأخذ الخلاف بين الجمهور وابن القاص بقول إنما يمتنع القضاء
للخوف من التسلسل فإذا صار حطابا زال التسلسل فان الحطاب لا يلزمه الاحرام للدخول وقال الجمهور
العلة الصحيحة في عدم وجوب القضاء ان الاحرام وجب لحرمة الدخول والبقعة فإذا لم يأت به فات
ولا يشرع قضاؤه كتحية المسجد إذا جلس فيه ولم يصلها فإنه لا يشرع له قضاؤها كما سبق تقريره
في باب صلاة التطوع واتفق أصحابنا هنا على أنه لا يشرع قضاؤها والصواب فيها ما قدمناه هنا
16

قال القفال في شرح التلخيص وكما لو سلم على إنسان ولم يرد عليه حتى مضت أيام ثم لقيه فأراد أن يرد
عليه فإنه لا يجزئ لأنه مؤقت فات وقته قال القاضي أبو الطيب في المجرد كما لو فر في الزحف من
اثنين غير متحرف لقتال ولا متحيز إلى فئة فإنه لا يمكنه قضاؤه لأنه متى لقى اثنين ممن يجب
قتالهما وجب قتالهما باللقاء لا قضاء قال أصحابنا فعلى هذا التعليل وصار حطابا ونحوه لم يلزمه القضاء
لعدم إمكان تدارك فوات انتهاك الحرمة (فان قيل) إنما لم تقض تحية المسجد لكونها سنة أما الاحرام
فواجب فينبغي فضاؤه قال الأصحاب (فالجواب) أن التحية لم بترك قضاؤها لكونها سنة فان السنة
الراتبة إذا فاتت يستحب قضاؤها على الصحيح وإنما لم تقض لتعلقها بحرمة مكان صيانة له من
الانتهاك وقد حصل فلو صلاها لم يرتفع ما حصل من الانتهاك وكذا الاحرام لدخول الحرم واعترض
على تعليل ابن القاص فقيل ينبغي أن يجب القضاء ويدخل فيه إحرام الدخول الثاني كما إذا دخل
محرما بحجة الاسلام فإنه يدخل فيه إحرام الدخول وكما إذا دخل المسجد فصلى فريضة فيدخل
فيه تحية المسجد (والجواب) ما أجاب به البغوي أن الاحرام الواحد لا يجوز أن يقع عن واجبين من
جنس واحد كمن أهل بحجتين لا ينعقد احرامه بهما بل ينعقد بإحداهما وقال القفال في شرح التلخيص
قال أصحابنا هذا التعليل الذي ذكره ابن القاص غلط وليس العلة في اسقاط القضاء التسلسل بل فوات
17

الوقت وقال الشيخ أبو محمد الجويني اعترض بعض شيوخنا على تعليل ابن القاص فقال إن
كان القضاء واجبا فينبغي أن يجب سواء صار حطابا أو لا والا فيبطل ان يجب بمصيره حطابا
والله أعلم *
(فرع) قال ابن القاص في التخليص كل عبادة واجبة إذا تركها لزمه القضاء أو الكفارة الا واحدة
وهي الاحرام لدخول مكة وهذا الذي قاله ينتقض بأشياء (منها) إمساك يوم الشك إذا ثبت انه من رمضان
فإنه يجب إمساكه على المذهب الصحيح فلو ترك الامساك لم يلزمه لترك الامساك كفارة ولا قضاء
الامساك والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ولا يجب الحج والعمرة إلا على مسلم عاقل بالغ حر مستطيع (فأما) الكافر فإن كان أصليا لم يصح
منه لان ذلك من فروع الايمان فلا يصح من الكافر ولا يخاطب به في حال الكفر فإنه لا يصح منه
فان أسلم لم يخاطب بما فاته في حال الكفر لقوله صلى الله عليه وسلم (الاسلام يجب ما قبله) ولأنه لم يلتزم وجوبه فلم
يلزمه كضمان حقوق الآدميين وإن كان مرتدا لم يصح منه لما ذكرناه ويجب عليه لأنه التزم وجوبه
فلم يسقط عنه بالردة كحقوق الآدميين) *
(الشرح) هذا الحديث صحيح رواه مسلم في صحيحه من رواية عمرو بن العاص ان النبي صلى الله
عليه وسلم قال (الاسلام يهدم ما كان قبله) هذا لفظ رواية مسلم ذكره في أوائل الكتب في كتاب
الايمان وفي رواية غيره يجب ما قبله - بضم الجيم وبعدها باء موحدة - من الجب وهو القطع ورويناه
في كتاب الزبير بن بكار يحت - بضم الحاء المهملة وبعدها تاء مثناة فوق (من الحت وهو الإزالة
والألفاظ الثلاثة متفقة المعنى وقد ينكر على المصنف كونه استدل بالحديث وهو خبر آحاد يفيد
الظن لا القطع وترك الاستدلال بقول الله عز وجل (قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف)
فينكر استدلاله بظني مع وجود القطعي (وجوابه) أن الآية الكريمة تقتضي غفران الذنوب لاسقاط
حقوق وعبادات سبق وجوبها (وأما) الحديث فصحيح صريح في قطع النظر عما قبل الاسلام فكان
الاستدلال بالحديث هنا هو الوجه لانطباقه على ما استدل به والله أعلم (وأما) قول المصنف فإن كان
18

أصليا فيعنى به الاحتراز عن المرتد ويدخل في الأصلي الذي والحربي سواء الكتابي والوثني وغيرهما
(وقوله) من فروع الايمان فلا يصح من الكافر فينتقض بالكفارة والعدة وأشباههما فكان ينبغي أن
يقول ركن من فروع الايمان (وقوله) ولا يخاطب به في حال الكفر معناه لا نطالبه بفعل الصلاة في
حال الكفر (وأما) الخطاب الحقيقي فهو مخاطب بالفروع على المذهب الصحيح وقد سبق في أول
كتاب الصيام مثل هذه العبارة وبسطنا هناك الكلام فيها (وأما) قوله فان أسلم لم يخاطب بما فاته في
حال الكفر فمعناه انه إذا كان في حال كفره واجدا للزاد والرحلة وغيرهما من شروط الاستطاعة
ثم أسلم فلا اعتبار بتلك الاستطاعة ولا يستقر الحج في ذمته بها بل يعتبر حاله بعد الاسلام فان
استطاع لزمه الحج وإلا فلا ويكون إسلامه كبلوغ الصبي المسلم فيعتبر حاله بعده (وقوله) لأنه لم يلتزم
وجوبه فلم يلزمه كضمان حقوق الآدميين قد يقال هذا الدليل ناقص وإنما يصح هذا في الكافر
والحربي (وأما) الذمي فان عليه ضمان حقوق فكأنه لم يذكر دليلا لعدم الوجوب على الذمي إذا أسلم
(وجوابه) أن مراده أن الحربي والذمي لم يلتزما الحج فلم يلزمهما إذا أسلما كمالا يلزم حقوق الآدميين من لم
يلتزمها وهو الحربي وقد سبق مثل هذا في أول كتاب الزكاة وبسطت هناك بيانه (وأما) قوله في المرتد
يجب عليه لأنه التزم وجوبه فقد يقال ينتقض بما إذا أتلف المرتد على مسلم شيئا في حال قتال الامام
للطائفة المرتدة العاصية فإنه لا يضمن على الأصح ومراد المصنف بقوله يجب على المرتد انه إذا استطاع
في حال الردة استقر الوجوب في ذمته فإذا أسلم وهو معسر دام الوجوب في ذمته والله أعلم (أما)
أحكام المسألة فقال الشافعي والأصحاب إنما يجب الحج على مسلم بالغ عاقل حر مستطيع فان اختل
أحد الشروط لم يجب بلا خلاف فالكافر الأصلي لا يطالب بفعله في الدنيا بلا خلاف سواء الحربي
والذمي والكتابي والوثني والمرأة والرجل وهذا لا خلاف فيه فإذا استطاع في حال كفره ثم
أسلم وهو معسر لم يلزمه الحج إلا أن يستطيع بعد ذلك لان الاستطاعة في الكفر لا أثر لها وهذا
لا خلاف فيه (وأما) المرتد فيجب عليه فإذا استطاع في ردته ثم أسلم وهو معسر فالحج مستقر في
ذمته بتلك الاستطاعة (وأما) الاثم بترك الحج فيأثم المرتد بلا خلاف لأنه مكلف به في حال ردته
(وأما) الكافر الأصلي فهل يأثم قال أصحابنا فيه خلاف مبني على أنه مخاطب بالفروع أم لا (فان قلنا)
بالصحيح انه مخاطب اثم والا فلا والله أعلم *
19

(فرع) قال أصحابنا الناس في الحج خمسة أقسام (قسم) لا يصح منه بحال وهو الكافر (والقسم
الثاني) من يصح له لا بالمباشرة وهو الصبي الذي لا يميز والمجنون المسلمان فيحرم عنهما الولي وفي
الجنون خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى (والثالث) من يصح منه بالمباشرة وهو المسلم المميز وإن كان
صبيا وعبدا (والرابع) من يصح منه بالمباشرة ويجزئه عن حجة الاسلام وهو المسلم المميز البالغ
الحر (الخامس) من يجب عليه وهو المسلم البالغ العاقل الحر المستطيع قالوا فشرط الصحة المطلقة
الاسلام فقط ولا يشترط التكليف بل يصح احرام الولي عن الصبي والمجنون وشرط صحة المباشرة
بالنفس الاسلام والتمييز وشرط وقوعه عن حجة الاسلام البلوغ والعقل والاسلام والحرية فلو
تكلف غير المستطيع الحج وقع عن فرض الاسلام ولو نوى غيره وقع عنه وشرط وجوبه
هذه الأربعة مع الاستطاعة والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(وأما المجنون فلا يصح منه لأنه ليس من أهل العبادات فلم يصح حجه ولا يجب عليه
لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم
حتى يستيقظ))
(الشرح) هذا الحديث صحيح رواه علي وعائشة رضي الله عنهما وسبق بيانه في أول كتاب
الصيام وأجمعت الأمة على أنه لا يجب الحج على المجنون (وأما) صحته ففيها وجهان (جزم المصنف
وآخرون بأنه لا يصح منه (وجزم) البغوي والمتولي والرافعي وآخرون بصحته منه كالصبي الذي لا يميز
في العبادات قالوا وأما المغمى عليه فلا يجوز ان يحرم عنه غيره لأنه ليس بزائل العقل ويرجى برؤه
عن قريب فهو كالمريض قال المتولي فلو سافر الولي بالمجنون إلى مكة فلما بلغ أفاق فأحرم صح حجه
وأجزأه عن حجة الاسلام قال الا ان ما أنفق عليه قبل افاقته فقدر نفقة البلد يكون في مال المجنون
والزيادة في مال الولي لأنه ليس له المسافرة به هذا كلام المتولي وفى كلام غيره خلاف كما سنذكره
قريبا إن شاء الله تعالى (أما) من يجن ويفيق فقال أصحابنا إن كانت مدة افاقته يتمكن فيها من الحج
ووجدت الشروط الباقية لزمه الحج والا فلا *
20

(فرع) قال الشافعي والأصحاب يشترط لصحة مباشرته بنفسه للحج افاقته عند الاحرام
والوقوف والطواف والسعي دون ما سواها *
* قال المصنف رحمه الله *
(وأما الصبي فلا يجب عليه الحج للخبر ويصح منه لما روى عن ابن عباس (أن امرأة رفعت
صبيا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من محفتها فقالت يا رسول الله ألهذا حج قال نعم ولك أجر) فإن كان
مميزا فأحرم بإذن الولي صح احرامه وان أحرم بغير اذنه ففيه وجهان قال أبو إسحاق يصح
كما يصح احرامه بالصلاة وقال أكثر أصحابنا لا يصح لأنه يفتقر في أدائه إلى المال فلم يصح بغير
اذن الولي بخلاف الصلاة وإن كان غير مميز جاز لامه أن تحرم عنه لحديث ابن عباس ويجوز لأبيه
قياسا على الأم ولا يجوز للأخ والعم أن يحرم عنه لأنه لا ولاية لهما على الصغير فان عقد له الاحرام
فعل بنفسه ما يقدر عليه ويفعل عنه وليه ما لا يقدر عليه لما روى جابر قال (حججنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم ومعنا النساء والصبيان فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم) وعن ابن عمر قال (كنا نحج
بصبياننا فمن استطاع منهم رمى ومن لم يستطع رمي عنه) وفى نفقة الحج وما يلزمه من الكفارة قولان
(أحدهما يجب في مال الولي لأنه هو الذي أدخله فيه (والثاني) يجب في مال الصبي لأنه وجب لمصلحته فكان
في ماله كأجرة المعلم) *
21

(الشرح) حديث ابن عباس رواه مسلم (وأما) حديث جابر فرواه الترمذي وابن ماجة باسناد
فيه أشعث بن سوار وقد ضعفه الأكثرون ووثقه بعضهم وقال الترمذي هو غريب لا نعرفه الا من
هذا الوجه والمحفة - بكسر الميم وفتح الحاء - وهي مركب من مراكب النساء كالهودج الا
انها لا تقتب بخلاف الهودج فإنه مركب من مراكب النساء يكون مقتبا وغير مقتب
وكان سؤال المرأة المذكورين في حديث ابن عباس في حجة الوداع سنة عشر من الهجرة قبل وفات
رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ثلاثة أشهر (أما) أحكام الفصل فقال الشافعي والأصحاب لا يجب الحج
على الصبي ويصح منه سواء في الصورتين الصغير كابن يوم والمراهق ثم إن كان مميزا أحرم بنفسه
بإذن وليه ويصح بلا خلاف فان استقل وأحرم بنفسه بغير إذن وليه فوجهان مشهوران ذكر
المصنف دليلهما (أحدهما) يصح وبه قال أبو إسحاق المروزي (وأصحهما) لا يصح وبه قال أكثر
أصحابنا المتقدمين كما ذكره المصنف وكذا نقله أيضا ابن الصباغ والبغوي وآخرون وصححه المصنفون
22

قال أصحابنا (فان قلنا) يصح فلوليه تحليله إذا رآه مصلحة ولو أحرم عنه وليه (فان قلنا) يصح استقلال
الصبي لم يصح احرام الولي والا فوجهان مشهوران حكاهما المتولي وآخرون أصحهما) عند الرافعي
يصح وقطع البغوي بأنه لا يصح احرام الولي عنه أبا كان أو جدا وقطع به أيضا صاحب الشامل
وحكي القاضي أبو الطيب في تعليقه وجها عن أبي الحسين بن القطان أنه قال لا ينعقد احرام الصبي المميز
بنفسه لأنه ليس له قصد صحيح قال القاضي هذا غلط فان له قصدا صحيحا ولهذا تصح صلاته
وصومه وكذا الحج قال القاضي (فان قيل) قد قلتم لا يتولي الصبي اخراج فطرته بنفسه وجوزتم هنا
احرامه بنفسه فما الفرق (قلنا) الحج لا تدخله النيابة مع القدرة والفطرة تدخلها النيابة مع القدرة فافترقا
ولان الفطرة يتولاها الولي والاحرام يفتقر إلى اذن الولي فهما سواء هذا كله في الصبي المميز (اما)
الصبي الذي لا يميز فقال أصحابنا يحرم عنه وليه قال أصحابنا سواء كان الولي محرما عن نفسه أو
عن غيره أو حلالا وسواء كان حج عن نفسه أم لا وهل يشترط حضور الصبي ومواجهته بالاحرام
فيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب في تعليقه والدارمي وآخرون قال الرافعي
(أصحهما) لا يشترط قال القاضي والدارمي لو كان الولي ببغداد والصبي بالكوفة فأراد
الولي ان يعقد الاحرام للصبي وهو في موضعه ففي جوازه وجهان (أحدهما) لا يجوز لأنه لو وقع الاحرام
فلا يصح في غيبته ولأنه لو جاز الاحرام عنه في غيبته لجاز الوقوف بعرفات عنه في غيبته عنها ولأنه
إذا أحرم عنه وهو غائب لا يعلم الاحرام فربما أتلف صيدا أو فعل غير ذلك من محظورات الاحرام
التي لو علم الاحرام لاجتنبها (والثاني) يجوز لان المقصود نية الولي وذلك يصح ويوجد مع غيبة
الصبي ولكن يكره لما ذكرناه من خوف فعل المخطورات والله أعلم *
23

(فرع) وأما الولي الذي يحرم عن الصبي أو يأذن له فقد اضطربت طرق أصحابنا فيه فأنقل
جملة من متفرقات كلامهم ثم اختصرها إن شاء الله تعالى وقد اتفق أصحابنا على أن الأب يحرم
عنه ويأذن له واتفقوا على أن الجد كالأب في ذلك عند عدم الأب والمراد بالجد أبو الأب فأما مع
وجود الأب فطريقان (أصحهما) لا يصح احرام الجد ولا اذنه لأنه لا ولاية له مع وجود الأب وبهذا
قطع الدارمي والبغوي والمتولي وغيرهم (والثاني) فيه وجهان (أصحهما) هذا (والثاني) يصح كما يصير
مسلما تبعا لجده مع بقاء الأب على الكفر على خلاف مشهور المذهب الأول والله أعلم * قال
المتولي والفرق أن الجد عقد الاسلام لنفسه لا للطفل وصار الطفل تبعا له في الاسلام بحكم البعضية
والبعضية موجودة (وأما) الاحرام فلا يحرم الجد عن نفسه وإنما يعقد للطفل فيقتضي ولاية ولا ولاية
له في حياة الأب قال الدارمي وغيره والجد وإن علا كالأب عند عدم الأب وعدم جد أقرب منه
(وأما) غير الأب والجد فقال جمهور أصحابنا إن كان له ولاية بأن يكون وصيا أو قيما من جهة
الحاكم صح إحرامه عن الصبي واذنه في الاحرام للمميز وان لم يكن ولاية لم يصح على المذهب
24

سواء في هذا الأم والأخ والعم وسائر العصبات وغيرهم وفيه وجه مشهور أن الأخ والعم وسائر
العصبات يجوز لهم ذلك وان لم يكن لهم ولاية ولان لهم حقا في الحضانة والتربية وفي الأم طريقان
قال الجمهور وهو المذهب ان لم يكن لها ولاية على مال الصبي فإن كان له أب أو جد فاحرامها عنه
كاحرام الأخ فلا يصح على الصحيح وإن كان لها ولاية بأن كانت وصية أو قيمة من جهة القاضي
أو قلنا بقول الإصطخري أنها تلي المال بعد الجد صح احرامها واذنها فيه (والطريق الثاني) القطع
بالصحة مطلقا وهو اختيار المصنف والطائفة لظاهر الحديث وهي طريقة ضعيفة وليس في الحديث
تصريح بأن الأم أحرمت عنه ولنا وجه أن الوصي والقيم لا يصح احرامه عنه ولا اذنه هذه جملة
القول في تحقيق الولي قال صاحب البيان أما الولي الذي يحرم عن الصبي ويأذن للمميز فقال الشيخ
أبو حامة وعامة أصحابنا يجوز ذلك للأب والجد لأنهما يليان ماله بغير تولية وأما غيرهما من العصبات
كالأخ وابن الأخ والعم وابن العم فان لهم حقا في الحضانة وتعليم الصبي وتأديبه وليس لهم التصرف
في ماله إلا بوصية أو تولية الحاكم فإن كان لهم التصرف في ماله صح احرامهم عن غير المميز واذنهم للمميز وإلا
فوجهان (أحدهما) يجوز كما يجوز لهم تعليمه وتأديبه والانفاق في ذلك من ماله (وأصحهم) ليس لهم ذلك
لأنهم لا يملكون التصرف في ماله فهم كالأجانب بخلاف النفقة في التأديب والتعليم لأنها قليلة
فسومح بها (واما) الأم فان قلنا بقول الإصطخري انها تلي المال بعد الجد فلها الاحرام والأذى وإن
25

قلنا بمذهب الشافعي وهي انها لا تلي المال بنفسها فهي كالاخوة وسائر العصبات قال صاحب البيان
هذه طريقة أبي حامد عامة أصحابنا قل وقال صاحب المهذب الأم تحرم عنه للحديث ويجوز
للأب قياسا على الأم قال ابن الصباغ ليس في الحديث انها أحرمت عنه ويحتمل انه أحرم عنه
وليه وإنما جعل لها الاجر لحملها له ومعونتها له في المناسك والانفاق عليه هذا كلام صاحب البيان
وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه قال أبو إسحاق المروزي والقاضي أبو حامد في جامعه يجوز للأب
والجد أبي الأب الاحرام عنه وكذلك الأم وأم الأم لان ولادتهما له حقيقة قال أبو الطيب وقال
الشيخ أبو حامد يجوز لأبيه وجده أبي أبيه ولوصيهما وفي الأخ وابنه والعم وابنه وجهان والام ان
قلنا بقول الإصطخري فكالأب وإلا فكالعم والأخ هذا كلام أبي الطيب وقال المحاملي وابن الصباغ
وجمهور العراقيين وصاحب العدة ما حكاه صاحب البيان عن الشيخ أبي حامد وعامة أصحابنا ورجح
الدارمي صحة احرام الأم وان لم يكن لها ولاية المال وقال المتولي للأب والجد عند عدم الأب الاحرام
والاذن للمميز ولا يجوز ذلك للام عند عامة أصحابنا وجوزه الإصطخري وأم الاخوة والأعمام فإن لم
يكن لهم التصرف في ماله بوصية أو اذن حاكم فليس لهم لاحرام على الصحيح وفى وجه يجوز لان لهم
الحصانة والقيام بالمصالح وتأديبه إذا ظهر منه ما يقتضي التأديب وتعليم الطهارة والصلاة قال فأما الوصي
26

والقيم فجوز لهما الاحرام عنه أصحابنا العراقيون كالتصرف في ماله وقال أصحابنا الخراسانيون لا يجوز
لهما ذلك لأنه لا ولاية لهما على نفسه والاحرام عقد على نفسه تلزمه أحكامه فهو كالنكاح هذا كلام
المتولي وقال البغوي يجوز للأب والجد الاحرام عنه وفى الوصي والقيم وجهان (أحدهما) يصح (والثاني)
لا يصح وسبق تعليلهما في كلام المتولي وقال الرافعي الولي الذي يحرم عنه أو يأذن له هو الأب وكذا
الجد وان علا عند عدم الأب ولا يجوز مع وجوده على الصحيح وفيه وجه انه يجوز وفى الوصي والقيم
طريقان قطع العراقيون بالجواز وقال آخرون فيه وجهان (أرجحهما) عند امام الحرمين المنع وفي الأخ
والعم وجهان (أصحهما) المنع وفي الأم طريقان (أحدهما) القطع بالجواز (وأصحهما) وبه قال الأكثرون
انه مبنى على ولايتها المال فعلى قول الإصطخري تلي المال قبل الاحرام وعلى قول الجمهور لا تلي المال
فلا تلي الاحرام هذا كلام الرافعي قال الروياني لو اذن الأب لمن يحرم عن الصبي ففي صحته وجهان ولم
يبين أصحهما (والأصح) صحته وبه قطع الدارمي وغيره كما يصح ان يوكل الأب في سائر التصرفات
المتعلقة بالابن واتفقوا على أنه لو أحرم به الولي ثم أعطاه لمن يحصره الحج ذلك هذا كلام الأصحاب
في الولي الذي يحرم عن صبي لا يميز ويأذن للمميز وحاصله جواز ذلك للأب وكذا الجد عند عدم
27

الأب لا عند وجوده على المذهب وان المذهب جوازه للوصي والقيم ومنعه في الأم والاخوة والأعمام
وسائر العصبات إذا لم يكن لهم وصية ولا إذن من الحاكم في ولاية المال وإن شئت قلت فيه أوجه
(أحدها) لا يجوز الا للأب ولجد عند عدمه (والثاني) يجوز للأب وللجد عند عدم الأب ومع وجوده
(والثالث) يجوز لهما وللأم (والرابع) لهؤلاء وللاخوة وسائر العصبات (والخامس) وهو الأصح للأب
والجد عند عدمه وللوصي والقيم دون غيرهم والله أعلم *
(فرع) قال الشيخ أبو حامد والأصحاب صفة احرام الولي عن الصبي ان ينوى جعله محرما فيصير
الصبي محرما بمجرد ذلك قال القاضي أبو الطيب هو ان ينويه له ويقول عقدت الاحرام فيصير
الصبي محرما بمجرد ذلك كما إذا عقد له النكاح فيصير متزوجا بمجرد ذلك قال الدارمي ينوى أنه أحرم
به أو عقده له أو جعله محرما قال صاحب العدة كيفية احرام الولي عنه أن يخطر بباله انه قد عقد له
الاحرام وجعله محرما فينويه في نفسه *
(فرع) الصواب في حقيقة الصبي المميز أنه الذي يفهم الخطاب ويحسن رد الجواب ومقاصد
الكلام ونحو ذلك ولا يضبط بسن مخصوص بل يختلف باختلاف الافهام والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا متى صار الصبي محرما باحرامه أو إحرام وليه عنه فعل بنفسه ما قدر
عليه وفعل عنه وليه ما لا يقدر عليه الصبي قال القاضي أبو الطيب في تعليقه يغسله الولي عند إرادة
الاحرام ويجرده عن المحيط ويلبسه الإزار والرداء والنعلين ان تأتي منه المشئ ويطيبه وينظفه
28

ويفعل ما يفعل الرجل ثم يحرم أو يحرم عنه على ما سبق من التفصيل قال أصحابنا ويجب على الولي
أن يجنبه ما يجتنبه الرجل فان قدر الصبي على الطواف بنفسه علمه فطاف وإلا طاف به كما سنوضحه
في مسائل الطواف في باب صفة الحج إن شاء الله تعالى والسعي كالطواف فإن كان غير مميز صلى الولي عنه
ركعتي الطواف بلا خلاف صرح به الشيخ أبو حامد في تعليقه والدارمي والأصحاب ونقله أبو حامد عن
نص الشافعي في الاملاء وإن كان مميزا أمره بهما فصلاها الصبي بنفسه هذا هو المذهب وبه قطع الشيخ أبو
حامد والدارمي والبندنيجي ويشترط إحضار الصبي عرفات بلا خلاف سواء المميز وغيره ولا يكفي حضور
عنه وكذا يحضر مزدلفة والمشعر الحرام ومنى وسائر المواقف لان كل ذلك يمكن فعله من الصبي قال أصحابنا
ويجمع الولي في إحضاره عرفات بين الليل والنهار فان ترك الجمع بين الليل والنهار أو ترك مبيت الولي
المزدلفة أو مبيت ليالي منى وقلنا بوجوب الدم في كل ذلك وجب الدم في مال الولي بلا خلاف
صرح به الدارمي وغيره لان التفريط من الولي بخلاف ما سنذكره إن شاء الله تعالى في فدية ما يرتكبه
الصبي من المخطورات على أحد القولين قال أصحابنا (وأما) الطفل فان قدر على الرمي أمره به الولي
والا رمى عنه من ليس عليه فرض الرمي قال أصحابنا ويستحب أن يضع الحصاة في يد الطفل ثم
يأخذ بيده ويرمي بالحصاة والا فيأخذها من يده ثم يرميها الولي ولو لم يضعها في يده بل رماها الولي
ابتداء جاز (أما) إذا كان على الولي رمى عن نفسه فان رمى ونوى به نفسه أو أطلق وقع عن
نفسه وان نواه عن الصبي فوجهان حكاهما البغوي (أحدهما) يقع عن الصبي لأنه نواه (والثاني)
وبه قطع البندنيجي والمتولي يقع عن الولي لا عن الصبي لان مبنى الحج على أن لا يتبرع به مع قيام
الفرض ولو تبرع وقع فرضا لا تبرعا قال المتولي والفرق بينه وبين الطواف إذا حمل الولي الصبي
وطاف به على أحد القولين أن صورة الطواف وهي الدوران وجدت من الصبي بخلاف الرمي
فنظيره في الطواف أن يطوف الولي غير حامل للصبي وينوى عن الصبي فإنه لا يقع عن الصبي بلا
خلاف وقد قال الروياني وغيره لو أركبه الولي دابة وهو غير مميز فطافت به لم يصح الا أن يكون الولي
سائقا أو قائدا وإنما ضبطوه بغير المميز لان المميز لو ركب دابة وطاف عليها صح بلا خلاف لان
الفعل منسوب إليه فأشبه البالغ والله أعلم *
29

(فرع) قال أصحابنا نفقة الصبي سفره في الحج يحسب منها قدر نفقته في الحضر من مال
الصبي وفى الزائد بسبب السفر خلاف حكاه المصنف والقاضي أبو الطيب في بعض كتبه وصاحبا
الشامل والتهذيب والشاشي وآخرون قولين وحكاهما الشيخ أبو حامد والمحاملي والبندنيجي والقاضي
أبو الطيب في تعليقه والمتولي وآخرون وجهين وذكر المصنف دليلهما قال أبو حامد والمحاملي والمتولي
وغيرهم النصوص في الاملاء مخرج واتفق الأصحاب على أن الصحيح وجوبه في مال الولي (والثاني)
يجب في مال الصبي فعلى هذا لو أحرم بغير إذنه وصححناه حلله فإن لم يفعل أنفق عليه من مال
الولي هكذا ذكر المسألة جميع الأصحاب ولم يذكر المصنف ان القولين مخصوصان بالزائد على نفقة
الحضر ولا خلاف في ذلك وقد نقل الاتفاق عليه الشيخ أبو حامد وغيره وكأن المصنف أهمله لظهوره
والفرق بينه وبين عامل القراض فإنه إذا سافر بإذن المالك وقلنا تجب نفقته في مال القراض فإنه يجب
كل النفقة على قول لان عامل القراض معطل في سفره عن بعض مكاسبه التي كانت في الحضر فجرت
له بخلاف الصبي فان مصلحة السفر مختصة به (واما) قول المصنف في تعليل القول الثاني أنها تجب في
مال الصبي لأنها وجبت لمصلحته فكانت في ماله كأجرة التعليم فهذا اختيار منه للأصح أن أجرة
التعليم تجب في مال الصبي مطلقا وقد سبق في مقدمة هذا الشرح في أول كتاب الصلاة وجه
30

أن أجرة تعلمه ما ليس متعينا بعد البلوغ كما زاد على الفاتحة والفقه وغير ذلك في مال الولي فحصل
أن الأصح وجوب نفقة الحج في مال الولي ووجوب أجرة تعلم ما ليس بواجب في مال الصبي والفرق
أن مصلحة التعلم كالضرورية وإذا لم يجعلها الولي في صغر الصبي احتاج الصبي إلى استدراكها
بعد بلوغه بخلاف الحج قال الشيخ أبو حامد ولان مؤنة التعليم يسيرة غالبا لا تجحف بمال الصبي
بخلاف الحج والله أعلم *
(فرع) قال المتولي ليس للولي أن يسلم النفقة إلى الصبي ولكن إن كان معه أنفق عليه
وإن لم يكن معه سلم المال إلى أمه لتنفق عليه فلو سلمه إلى الصبي فإن كان المال من مال الولي فلا
شئ على أحد وإن كان من مال الصبي ضمنه الولي لتفريطه والله أعلم *
(فرع) قد سبق أنه يجب على الولي منع الصبي من مخطورات الاحرام فلو تطيب أو لبس ناسيا
فلا فدية قطعا وان تعمد قال أصحابنا ينبني ذلك على القولين المشهورين في كتاب الجنايات أن عمد
الصبي عمد أم خطأ الأصح أنه عمد (فان قلنا) خطأ فلا فدية والا وجبت قال امام الحرمين وبهذا
قطع المحققون لان عمده في العبادات كعمد البالغ ولهذا لو تعمد في صلاته كلاما أو في صومه أكلا
بطلا وحكى الدارمي قولا غريبا انه إن كان الصبي ممن يلتذ بالطيب واللباس وجبت وإلا فلا ولو
حلق أو قلم ظفرا أو قتل صيدا عمدا وقلنا عمد هذه الأفعال وسهوها سواء وهو المذهب وجبت الفدية والا فهي
31

كالطيب واللباس ومنى وجبت الفدية فهل هي في مال الصبي أم في مال الولي فيه قولان مشهوران
حكاهما القاضي أبو الطيب والمحاملي وابن الصباغ والبغوي والمتولي وخلائق قولين وحكاهما الشيخ
أبو حامد والبندنيجي وآخرون وجهين ودليلهما ما سبق في النفقة واتفقوا على أن الأصح أنها في
مال الولي وهو مذهب مالك قال أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبندنيجي وآخرون هذا القول
هو النصوص في الاملاء قال أبو الطيب والقول الثاني أنها في مال الصبي هو نصه في القديم وحكاه
أبو حامد وجها مخرجا واما المحاملي في المجموع فقال نص في الاملاء أنها في مال الصبي وفى الأم
أنها في مال الصبي والله أعلم * وهذان القولان إنما هما فيما إذا أحرم بإذن الولي فان أحرم بغير
إذنه وصححناه فالفدية في مال الصبي بلا خلاف كما لو أتلف شيئا لآدمي صرح به المتولي وغيره
وحكي الدارمي والرافعي وجها في أصل المسألة أنه إن كان الولي أبا أو جدا فالفدية في مال الصبي
وإن كان غيرهما ففي ماله قال الدارمي هذا الوجه قاله ابن القطان في كل فدية تجب بفعل الصبي
وهذا غريب ضعيف والله أعلم * ومتى قلنا الفدية على الولي فهي كالفدية الواجبة على البالغ بفعل
نفسه فان اقتضت صوما أو غيره فعله وأجزأه (وإذا قلنا) انها في مال الصبي فإن كانت مرتبة
32

فحكمها حكم كفارة القتل وإن كانت فدية تخيير بين الصوم وغيره واختار أن يفدى الصبي بالصوم
فهل يصح منه في حال الصبا فيه وجهان مشهوران حكاهما القاضي أبو الطيب في تعليقه والمتولي وآخرون
بناء على الخلاف الذي سنذكره فيها إن شاء الله تعالى في قضاء الحج الفاسد في حال الصبا (أصحهما)
يجزئه قال أبو الطيب والدارمي وهو قول القاضي أبو حامد المروروزي لان صوم الصبي صحيح (والثاني)
لا لأنه يقع واجبا والصبي ليس ممن يقع عنه واجب قال الدارمي هذا الوجه قول ابن المرزبان
ولو أراد الولي في فدية التخيير ان يفدى عنه بالمال لم يجز لأنه غير متعين فلا يجوز صرف المال
فيه هكذا قطع به جماعة وأشار المتولي إلى خلاف فيه فقال لا يجوز على المذهب *
(فرع لو طيب الولي الصبي وألبسه أو حلق رأسه أو قلمه فإن لم يكن لحاجة الصبي
فالفدية في مال الولي بلا خلاف وكذا لو طيبه أجنبي فالفدية في مال الأجنبي بلا خلاف صرح
بها البغوي وآخرون وهل يكون الصبي طريقا في ذلك فيه وجهان حكاهما البغوي وآخرون
(فان قلنا) لا لم يتوجه في مال الصبي مطالبة والا طولب ورجع على الأجنبي
33

أو الولي عند يساره أو إمكان الاخذ منه والأصح انه لا يكون طريقا وان فعل الولي ذلك
لحاجة الصبي ومصلحته فطريقان (أحدهما) القطع بأنها في مال الولي لأنه الفاعل (وأصحهما) وبه قطع
البغوي وآخرون انه كمباشرة الصبي ذلك فيكون فيمن يجب عليه الفدية القولان السابقان (أصحهما)
الولي (والثاني) الصبي والله أعلم * ولو ألجأه الولي إلى التطيب فالفدية في مال الولي بلا خلاف
صرح به الدارمي وغيره قال الدارمي وغيره ولو فوته الولي الحج فالفدية في مال الولي
بلا خلاف *
(فرع) قال المتولي إذا تمتع الصبي أو قرن فحكم دم التمتع ودم القران حكم الفدية بارتكاب المحظورات
ففيها الخلاف السابق لوجود المعنى الموجود هناك *
(فرع) لو جامع الصبي في احرامه ناسيا أو عامدا وقلنا عمده خطأ ففي فساد حجه القولان
المشهوران في البالغ إذا جامع ناسيا (أصحهما) لا يفسد حجه (والثاني) يفسد وان جامع عامدا وقلنا
عمده عمد فسد بلا خلاف وإذا فسد فهل يجب عليه قضاؤه فيه قولان مشهوران وحكاهما القاضي
34

أبو الطيب في تعليقه وجهين والمشهوران قولان (أصحهما) يجب اتفقوا على تصحيحه ممن صححه المحاملي
والبغوي والمتولي والرافعي وآخرون لأنه إحرام صحيح فوجب القضاء إذا أفسده كحج التطوع في
حق البالغ (والثاني) لا يجب لأنه ليس أهلا لأداء فرض الحج فان قلنا يجب القضاء فهل يصح منه في حال
الصبا فيه خلاف مشهور حكاه المصنف في باب محظورات الاحرام والبغوي وطائفة قولين وحكاه
الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبندنيجي والمحاملي والجمهور وجهين (أصحهما) باتفاق
الأصحاب انه يجزئه ممن صرح بتصحيحه الشيخ أبو حامد والمحاملي وصاحب الشامل
والرافعي وآخرون قال الشيخ أبو حامد والبندنيجي وهو المنصوص لأنه لما صلحت حالة الصبا
للوجوب على الصبي في هذا صلحت لاجزائه (والثاني) لا يجزئه لان الصبا ليس محل أداء الواجبات
فعلى هذا قال أصحابنا إذا بلغ ينظر في الحجة التي أفسدها إن كانت بحيث لو سلمت من الافساد
35

لأجزأته عن حجة الاسلام بأن بلغ قبل فوات الوقوف وقع القضاء عن حجة الاسلام وإن كانت
بحيث لا تجزى لو سلمت من الفساد بان بلغ بعد الوقوف لم يقع القضاء عن حجة الاسلام بل عليه
أن يبدأ بحجة الاسلام ثم يقضي فان نوى القضاء أولا وقع عن حجة الاسلام بلا خلاف كما سيأتي
ايضاحه بدليله إن شاء الله تعالى * هكذا ذكر هذا التفصيل الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب
والمحاملي وسائر الأصحاب ولا خلاف فيه قال أبو حامد والمحاملي في المجموع وهذا أصل لكل
حجة فاسدة إذا قضيت هل تقع عن حجة الاسلام فيها هذا التفصيل قال أصحابنا وإذا جوزنا القضاء
في مال الصبي فشرع فيه وبلغ قبل الوقوف انصرف إلى حجة الاسلام وعليه القضاء قال أصحابنا
وحيث فسد حج الصبي وقلنا يجب القضاء وجبت الكفارة وهي بدنة وإن توجب القضاء ففي
36

البدنة وجهان (أصحهما) الوجوب وبه قطع الشيخ أبو حامد الأسفرايني والقاضي أبو الطيب في تعليقهما
والمحاملي وصاحب الشامل وآخرون ونقل المحاملي وصاحب الشامل الاتفاق عليه وإذا وجبت البدنة
فهل تجب في مالي الولي وإذا أوجبنا القضاء فنفقة القضاء هل تجب في مال الولي أم الصبي فيه
الخلاف كالبدنة صرح به الدارمي وغيره وقد ذكر المصنف هذا الفرع في باب محظورات الاحرام
وذكره الأصحاب هنا فرأيت ذكره هنا أولى لوجهين (موافقة) الجمهور (والمبادرة) إلى الخيرات
والله تعالى أعلم *
(فرع) قال المتولي لو صام الصبي في شهر رمضان وجامع فيه جماعا يفسد صومه وقلنا إن
وطأه في الحج عامدا يوجب الفدية ففي وجوب كفارة الوطئ في الصوم وجهان (أحدهما) تلزمه
كما تلزمه البدنة بافساد الصوم (والثاني) لا تلزمه *
(فرع) قال القاضي أبو الطيب في تعليقه والدارمي إذا نوى الولي أن يعقد الاحرام للصبي فمر به
على الميقات ولم يعقده ثم عقده بعده فوجهان (أحدهما) تجب الفدية في مال الولي خاصة لأنه لو مر بالميقات
مريدا للنسك ولم يحرم لزمته الفدية فكذلك هنا ولأنه لو عقد الاحرام للصبي ثم فوت الحج وجبت
الفدية في مال الولي (والثاني) لا تجب الفدية لا على الولي ولا في مال الصبي (أما) الولي فلانه غير محرم
ولم يرد الاحرام (وأما) الصبي فلانه لم يقصد الاحرام *
37

(فرع) قال الرافعي حكم المجنون حكم الصبي الذي لا يميز في جميع ما سبق قال ولو خرج
الولي بالمجنون بعد استقرار فرض الحج عليه وأنفق على المجنون من ماله نظر إن لم يفق حتى فات
الوقوف غرم الولي زيادة نفقة السفر وان أفاق وأحرم وحج فلا غرم لأنه قضي ما عليه ويشترط إفاقته
عند الاحرام والوقوف والطواف والسعي ولم يتعرض الأصحاب لحالة الحلق قال وقياس كونه نسكا
اشتراط الإفاقة فيه كسائر الأركان هذا كلام الرافعي وقال هو قبل هذا الجنون كصبي لا يميز يحرم
عنه وليه قال وفيه وجه ضعيف انه لا يجوز الاحرام عنه لأنه ليس من أهل العبادات وقد سبق بيان
هذا الخلاف في صحة إحرام الولي عنه وقد ذكر إمام الحرمين والمتولي والبغوي نحو هذا الذي ذكره
وقولهم يشترط إفاقته عند الاحرام وسائر الأركان معناه يشترط ذلك في وقوعه عن حجة الاسلام
(وأما) وقوعه تطوعا فلا يشترط فيه شئ من ذلك كما قالوا في صبي لا يميز ولهذا قالوا هو كصبي
لا يميز وسيأتي إيضاحه مبسوطا في فصل الوقوف بعرفات إن شاء الله تعالى *
(فرع) اتفق أصحابنا العراقيون والخراسانيون وغيرهم بأن المغمى عليه ومن غشي لا يصح
إحرام وليه عنه ولا رفيقه عنه لأنه غير زائل العقل ويرجي برؤه عن قرب فهو كالمريض قال أصحابنا
لو خرج في طريق الحج فأغمي عليه عند الميقات قبل أن يحرم لم يصح احرام وليه ولا رفيقه عنه سواء
كان اذن غلط فيه قبل الاغماء أم لا وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد واحمد وداود * وقال أبو حنيفة يصح
احرام رفيقه عنه استحسانا ويصير المغمى عليه محرما لأنه علم من قصده ذلك ولأنه يشق عليه تفويت
الاحرام قال القاضي أبو الطيب واحتج لأبي حنيفة أيضا بأن الاحرام أحد أركان الحج فدخلته النيابة
للعجز كالطواف قالوا وقياسا على الطفل قال القاضي ودليلنا انه بلغ فلم يصح عقد الاحرام له من غيره
كالنائم (فان قيل) المغمى عليه إذا نبه لا ينتبه بخلاف النائم (قلنا) هذا الفرق يبطل باحرام غير
رفيقه قال القاضي وقياسهم على الطواف لا نسلمه لان الطواف لا تدخله النيابة حتى لو كان مريضا
لم يجز لغيره الطواف عنه بل يطاف به محمولا (وأما) قياسهم على الطفل فالفرق ان الاغماء
يرجى زواله عن قرب بخلاف الصبا ولهذا يصح ان يعقد الولي النكاح للصبي دون المغمى عليه
والله أعلم *
38

(فرع) اتفق أصحابنا على أن المريض لا يجوز لغيره ان يحرم له فيصير محرما سواء
كان مريضا مأيوسا منه أو غيره قال القاضي أبو الطيب في تعليقه والفرق بينه وبين الطفل
ان نائب المريض يحتاج ان يفعل عنه كل الافعال فإنها متعذرة منه بخلاف الطفل فإنه يتأتى منه
معظم الافعال *
(فرع) في مذاهب العلماء في حج الصبي * قد ذكرنا ان مذهبنا انه يصح حجه ولا يجب عليه (فأما) عدم وجوبه
على الصبي فمجمع عليه قال ابن المنذر في الاشراف أجمع أهل العلم على سقوط فرض الحج عن الصبي
وعن المجنون والمعتوه قال وأجمعوا على أن المجنون إذا حج ثم أفاق أو الصبي ثم بلغ انه لا يجزئهما عن
حجة الاسلام قال وأجمعوا على أن جنايات الصبيان لازمة لهم (وأما) صحة حج الصبي فهو مذهبنا
ومذهب مالك وأحمد وداود وجماهير العلماء من السلف والخلف وأشار ابن المنذر إلى الاجماع فيه
وقال أبو حنيفة في المشهور عنه لا يصح حجه وصححه بعض أصحابه * واحتج له بحديث (رفع القلم عن
ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ) إلى آخره وهو صحيح سبق بيانه قريبا وقياسا على النذر فإنه لا يصح
منه ولأنه لا يجب عليه ولا يصح منه لأنه لو صح منه لوجب عليه قضاؤه إذا أفسده ولأنه عبادة
بدنية فلا يصح عقدها من الولي للصبي كالصلاة * واحتج أصحابنا بحديث ابن عباس (ان امرأة رفعت
39

صبيا في حجة الوداع فقالت يا رسول الله ألهذا أحج قال نعم ولك أجر) رواه مسلم وعن السائب
ابن زيد رضي الله عنه قال (حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأنا ابن سبع
سنين)) رواه البخاري وبحديث جابر (حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا النساء والصبيان
فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم) رواه ابن ماجة وسبق بيانه في أول الفصل وقياسا على الطهارة والصلاة
فان أبا حنيفة صححهما منه وكذا صحح حجه عنده بلا خلاف ونقله خطأ منه وصحح إمامة الصبي في
النافلة (وأما) الجواب عن حديث (رفع القلم) فمن وجهين (أحدهما) المراد رفع الاثم لا إبطال أفعاله (الثاني)
ان معناه لا يكتب عليه شئ وليس فيه منع الكتابة له وحصول ثوابه (والجواب) عن قياسهم على
النذر من وجهين ذكرهما القاضي أبو الطيب والأصحاب (أحدهما) انه ينكسر بالوضوء والصلاة فإنه
لا يصح منه نذرهما ويصحان منه وقد سبق ان الكسر هو ان توجد معني العلة ولا حكم والنقض ان توجد
العلة ولا حكم وقد أوضحت هذا في باب صدقة المواشي حيث ذكره المصنف (والثاني) ان النذر التزام
بالقول وقول الصبي ساقط بخلاف الحج فإنه فعل ونية فهو كالوضوء (وأما) قولهم لا يجب عليه ولا يصح
منه فجوابه من وجهين (أحدهما) انه منتقض بالوضوء (والثاني) ان عدم الوجوب للتخفيف وليس في
صحته تغليظ (وأما) قولهم لوجب قضاؤه إذا أفسده فنحن نقول به وهو الصحيح عندنا كما سبق بيانه
40

(والجواب) عن قولهم عبادة بدنية إلى آخره ان الفرق ظاهر فان الحج تدخله النيابة بخلاف الصلاة
والله أعلم * قال إمام الحرمين في كتابه الأساليب المعول عليه عندنا في المسألة الأخبار الصحيحة التي
لا تقبل التأويل وذكر بعض ما سبق من الأحاديث ثم ذكر دلائل من حيث القياس والمعني ثم
قال وهذا تكلف بعد الأخبار الصحيحة قال ولا يستقيم لهم فرق أصلا بين الصلاة والحج (فان
قالوا) في الحج مؤنة (قلنا) تلك المؤن في مال الولي على الصحيح فلا ضرر على الصبي (فان قالوا) فيه مشقة
(قلنا مشقة المواظبة على الصلاة والطهارة وشروطهما أكثر والله أعلم وقال ابن عبد البر في التمهيد صحح
حج الصبي مالك والشافعي وسائر فقهاء الحجاز والثوري وسائر فقهاء الكوفة والأوزاعي والليث
وسائر من سلك سبيلهما من أهل الشام ومصر قال وكل ما ذكرناه يستحب الحج بالصبيان ويأمر به
41

قال وعلى هذا جمهور العلماء من كل قرن قال وقالت طائفة لا يحج بالصبي وهذا قول لا يعرج
عليه لان النبي صلى الله عليه وسلم (حج بأغيلمة بني عبد المطلب) وحج السلف بصبيانهم قال وحديث
المرأة التي رفعت الصبي وقالت (ألهذا حج قال نعم ولك أجر) قال فسقط كل ما خالف هذا والله أعلم
وقال القاضي عياض أجمعوا على أن الصبي إذا حج ثم بلغ لا يجزئه عن حجة الاسلام إلا فرقة شذت
لا يلتفت إليها قال وأجمعوا على أنه يحج به الا طائفة من أهل البدع منعوا ذلك وهو مخالف لفعل
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه واجماع الأمة والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا وغيرهم يكتب للصبي ثواب ما يعمله من الطاعات كالطهارة والصلاة
والصوم والزكاة والاعتكاف والحج والقراءة والوصية والتدبير إذا صححناهما وغير ذلك من
من الطاعات ولا يكتب عليه معصية بالاجماع ودليل هذه القاعدة الأحاديث الصحيحة المشهورة
كحديث (ألهذا أحج قال نعم ولك أجر) وحديث السائب ابن يزيد وحديث جابر وغيرها مما سبق
هنا وحديث صلاة ابن عباس مع النبي صلى الله عليه وسلم وحديث تصويم الصبيان يوم عاشوراء
وهو في الصحيحين وحديث (مروا أولادكم بالصلاة لسبع) وهو صحيح وسبق بيانه وحديث امامة
عمرو بن سلمة وهو ابن سبع سنين وهو في البخاري وأشباه ذلك *
42

* قول المصنف رحمه الله تعالى *
(وأما العبد فلا يجب عليه ويصح منه لأنه من أهل العبادة فصح منه الحج كالحر فان أحرم باذن
السيد وفعل ما يوجب الكفارة فان ملكه السيد مالا وقلنا إنه يملكه لزمه الهدى (وإن قلنا) لا يملك
ولم يملكه السيد فعليه الصوم وللسيد أن يمنعه من الصوم لأنه لم يأذن في سببه وان أذن له في التمتع
أو القران وقلنا لا يملك المال صام وليس للمولى منعه من الصوم لأنه وجب باذنه (وإن قلنا) يملك ففي
الهدى قولان (أحدهما) يجب في مال السيد لأنه وجب باذنه (والثاني) لا يجب عليه لان اذنه رضاء
بوجوبه على عبده لا في ماله ولان موجب التمتع في حق العبد هو الصوم لأنه لا يقدر على الهدى
فلا يجب عليه الهدى) *
(الشرح) أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج لان منافعه مستحقة لسيده فليس هو مستطيعا
ويصح منه الحج باذن سيده وبغير إذنه بلا خلاف عندنا قال القاضي أبو الطيب وبه قال الفقهاء كافة
وقال داود لا يصح بغير اذنه * دليلنا ما ذكره المصنف قال أصحابنا فان أحرم باذنه لم يكن للسيد
تحليله سواء بقي نسكه صحيحا أو أفسده ولو باعه والحالة هذه لم يكن للمشترى تحليله وله الخيار ان
جهل احرامه قال أصحابنا ويصح بيعه بلا خلاف ويخالف بيع العين المستأجرة على قول لان يد المستأجر
تمنع المشترى من التصرف بخلاف العبد ولو أحرم بغير اذنه فالأولى أن يأذن له في اتمام نسكه فان
43

حلله جاز على المذهب وبه قطع المصنف في باب الفوات والاحصار وجمهور الأصحاب وحكى ابن
كج وجها انه ليس له تحليله لأنه يلزم بالشروع تخريجا من أحد القولين في المزوجة إذا أحرمت
بحج تطوع وهذا شاذ منكر لان اذن السيد تبرع فجاز الرجوع فيه كالعارية فلو باعه والحالة هذه
فلمشتري تحليله ولا خيار له ذكره البندنيجي والجرجاني في المعاياة وآخرون ولو اذن له
في الاحرام فله الرجوع في الاذن قبل الاحرام فان رجع ولم يعلم العبد فأحرم فهل له تحليله
فيه وجهان مشهوران في طريقتي العراق وخراسان قال أصحابنا هما مبنيان على القولين فيما إذا
عزل الموكل الوكيل وتصرف بعد العزل وقبل العلم (أصحهما) له تحليله كما أن الأصح هناك بطلان
تصرفه وان علم العبد رجوع السيد قبل الاحرام ثم أحرم فله تحليله وجها واحدا
44

لأنه أحرم بغير اذن ويجئ فيه الوجه السابق عن حكاية ابن كج وإن رجع السيد بعد إحرام
العبد لم يصح رجوعه ولم يكن له تحليله عندنا * وقال أبو حنيفة له ذلك كالعارية يرجع فيها متى شاء
ودليلنا انه عقد عقدة باذن سيده فلم يكن لسيده ابطاله كالنكاح ولان من صح إحرامه باذن غيره
لم يكن للغير ابطاله كالزوج (والجواب) عن العارية أن الرجوع فيها لا يبطل ما مضى بخلاف الاحرام
والله أعلم * قال أصحابنا ولو أذن له في العمرة فأحرم بالحج فله تحليله ولو كان بالعكس لم يكن له
تحليله هكذا ذكره البغوي قال لأن العمرة دون الحج وقال الدارمي إن أذن له في حج فأحرم
بعمرة أو في عمرة فأحرم بحج فله تحليله وقيل لا يحلله وذكر الرافعي كلام البغوي ثم قال فيما إذا أذن
في حج فأحرم بعمرة ظني أنه لا يسلم عن خلاف هذا كلام الرافعي فحصل في الصورتين ثلاثة أوجه
45

(أصحها) وبه قطع البغوي له أن يحلله فيما إذا أذن في عمرة فأحرم يحج دون عكسه (والثاني) له
تحليله فيهما وهو اختيار الدارمي (والثالث) ليس له فيهما وهذا غلط في صورة الاذن في عمرة لأنه
زيادة على المأذون فيه ولو أذن له في التمتع فله منعه من الحج بعد تحلله من العمرة وقبل احرامه بالحج
كما لو رجع في الاذن قبل الاحرام بالعمرة ويجئ فيه الوجه السابق عن ابن كج وليس له تحليله
من العمرة ولا من الحج بعد الشروع فيهما ولو أذن في الحج أو التمتع فقرن ليس له تحليله بالاتفاق
صرح به البغوي وآخرون لان الاذن في التمتع إذن في الحج هذا هو المعروف وفى كلام الدارمي
إشارة إلى خلاف فيه فإنه قال لو أذن له في القران فأفرد أو تمتع يحتمل وجهين وكذا ان أذن في الافراد
فقرن أو تمتع وكذا لو أذن في التمتع أو الافراد فقرن هذا آخر كلام الدارمي قال الدارمي فلو أذن في الاحرام
46

مطلقا فأحرم وأراد صرفه إلى نسك وأراد السيد غيره فوجهان (أحدهما) القول قول العبد (والثاني) هو
كاختلاف الزوجين إذا قالت راجعتني بعد انقضاء عدتي وقال قبلها (فان قلنا) قولان فمثله (وان قلنا)
القول قول الزوج في الرجعة وقولها في انقضاء العدة فمثله (وان قلنا) يراعي السابق بالدعوى فمثله
قال البغوي وغيره ولو أذن له في الاحرام في ذي القعدة فأحرم في شوال فله في تحليله قبل دخول
47

ذي العقدة ولا يجوز بعد دخوله قال الدارمي ولو أذن له في الاحرام من كان فأحرم من غيره فله
تحليله ومراد الدارمي إذا أحرم من أبعد منه قال الدارمي ولو قال العبد لسيده أذنت لي في الاحرام
48

وقال السيد لم آذن فالقول قول السيد قال ولو نذر العبد حجا ففي صحته وجهان فان صححنا فعله
بعد عتقه وبعد حجة الاسلام وان اذن له السيد في فعله رقيقا ففعله ففي صحته الوجهان المشهوران
في قضاء الصبي والعبد الحجة الفاسدة في حال الصبا والرق والأصح عند الأصحاب صحة نذره
والله أعلم * قال أصحابنا وأم الولد والمدبر والأمة المزوجة والمعلق عتقه بصفة ومن بعضه رقيق
49

كالعبد القن في كل ما ذكرناه وما سنذكره إن شاء الله تعالى في احرام العبد وما يتعلق به ولو أحرم
المكاتب بغير اذن مولاه ففي جواز تحليله لسيده طريقان (أحدهما) فيه قولان كمنعه من سفر التجارة
(والثاني) له تحليله قطعا لان للسيد منفعة في سفره للتجارة بخلاف الحج وهذا الثاني أصح وممن صححه
البندنيجي وقد ذكر المصنف المسألة في آخر باب الفوات والاحصار والله أعلم *
50

(فرع) إذا أفسد العبد الحجة بالجماع فهل يلزمه القضاء فيه طريقان (أحدهما) فيه وجهان كالصبي
حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه والبندنيجي والمصنف في باب محظورات الاحرام وطائفة قليلة
(الصحيح) لزومه (والثاني) لا يلزمه وهذا الطريق غريب (والطريق الثاني) وهو الصحيح وبه قطع
جماهير الأصحاب في كل الطرق أنه يلزمه القضاء بلا خلاف لأنه مكلف بخلاف الصبي على قول وهل
يجزئه القضاء في حال رقه فيه قولان كما سبق في الصبي (أصحهما) يجزئه فان قلنا (1) لم يلزم السيد أن

(1) كذا بالأصل فجرر
51

يأذن له في القضاء إن كان احرامه الأول بغير اذنه وكذا إن كان باذنه على أصح الوجهين لأنه لم
يأذن في الافساد هكذا ذكره البندنيجي والبغوي وآخرون وهو الصحيح وقال المصنف في باب
محظورات الاحرام وآخرون ان قلنا القضاء على التراخي لم يلزم السيد الاذن والا فوجهان قال
المصنف وسائر الأصحاب فإذا قلنا يجزئه القضاء في حال الرق فشرع فيه فعتق قبل الوقوف بعرفات
52

أوحال الوقوف أجزأه عن حجة الاسلام وان قضي بعد العتق فهو كالصبي إذ قضي بعد البلوغ فإن كان
عتقه قبل الوقوف أو حال الوقوف أجزأه القضاء عن حجة الاسلام لأنه لولا فساد الأداء لأجزأه
عن حجة الاسلام وإن كان عتقه بعد الوقوف لم يجزئه القضاء عن حجة الاسلام فعليه حجة الاسلام
ثم حجة القضاء وقد سبق بيان هذا واضحا قريبا في جماع الصبي في الاحرام وذكرنا هناك القاعدة
المتناولة لهذه المسألة ونظائرها والله أعلم *
53

(فرع) كل دم لزم العبد المحرم يفعل محظور كاللباس والصيد أو بالفوات لم يلزم السيد بحال
سواء أحرم باذنه أم بغيره لأنه لم يأذن في ارتكاب المحظور ثم إن المذهب الصحيح الجديد أن العبد
لا يملك المال بتمليك السيد على القديم يملك به فان ملكه وقلنا يملك لزمه اخراجه وعلى الجديد
فرضه الصوم وللسيد منعه في حال الرق إن كان أحرم بغير اذنه وكذا باذنه على أصح الوجهين
لأنه لم يأذن في التزامه ولو قرن أو تمتع بغير اذن سيده فحكم دم القران والتمتع حكم دماء المحظورات
وان قرن أو تمتع باذنه فهل يجب الدم على السيد أم لا قال في الجديد لا يجب وهو الأصح وفى القديم
قولان (أحدهما) هذا (والثاني) يجب بخلاف ما لو اذن له في النكاح فان السيد يكون ضامنا للمهر
على القول القديم قولا واحدا لأنه لا بدل للمهر وللدم بدل وهو الصوم والعبد من أهله وعلى هذا
لو أحرم باذن السيد فأحصر وتحلل (فان قيل) لا بدل لدم الاحصار صار السيد ضامنا على القديم قولا
واحدا (وان قلنا) له بدل ففي صيرورته ضامنا له في القديم قولان وإذا لم نوجب الدم على السيد فواجب
العبد الصوم وليس لسيده منعه على أصح الوجهين وبه قطع البندنيجي لاذنه في سببه ولو ملكه
سيده هديا وقلنا بملكه أراقه والا لم تجز اراقته ولو أراقه السيد عنه فعلى هذين القولين ولو اراق عنه
بعد موته أو أطعم عنه جاز قولا واحدا لأنه حصل الإياس من تكفيره والتمليك بعد الموت ليس
بشرط ولهذا لو تصدق عن ميت جاز وهذا الذي ذكرناه من جواز الهدى والاطعام عنه بعد موته
بلا خلاف فيه صرح به الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والمحاملي والبندنيجي والبغوي والمتولي
وسائر الأصحاب وصرحوا بأنه لا خلاف فيه قال أصحابنا ولو عتق العبد قبل صومه ووجد هديا
فعليه الهدى ان اعتبرنا في الكفارة حال الأداء أو الأغلظ وان اعتبرنا حال الوجوب فله الصوم
وهل له الهدى فيه قولان حكاهما البغوي وآخرون (أصحهما) له ذلك كالحر المعسر يجد الهدى (والثاني)
لا لأنه لم يكن من أهله حال الوجوب بخلاف الحر المعسر والله أعلم *
54

(فرع) إذا نذر العبد الحج فهل يصح منه في حال رقه قال الروياني فيه وجهان كما في قضاء
الحجة التي أفسدها *
(فرع) قال أصحابنا حيث جوزنا للسيد تحليله أردنا انه يأمره بالتحلل لأنه يستقل بما
يحصل به التحلل لان غايته ان يستخدمه ويمنعه المضي ويأمره بفعل المحظورات أو يفعلها به ولا
يرتفع الاحرام بشئ من هذا بلا خلاف وحيث جاز للسيد تحليله جاز للعبد التحلل وطريق التحلل
ان ينظر (فان) ملكه السيد هديا وقلنا يملكه ذبح ونوى التحلل وحلق ونوى به أيضا التحلل
وان لم يملكه فطريقان (أحدهما) انه كالحر فيتوقف تحلله على وجود الهدى ان قلنا لا بدل لدم
الاحصار أو على الصوم ان قلنا له بدل هذا كله على أحد القولين وعلى أظهرهما لا يتوقف بل
يكفيه نية التحلل والحلق ان قلنا هو نسك (والطريق الثاني) لقطع بهذا القول الثاني وهذا الطريق
هو الأصح عند الأصحاب لعظم المشقة في انتظار العتق وان منافعه لسيده وقد يستعمله في مخطورات
الاحرام وقد ذكر المصنف تحليل العبد وما يتعلق به في باب الفوات والاحصار والله أعلم *
55

(فرع) حيث جاز تحليله فاعتقه السيد قبل التحلل لم يجز له التحليل بل يلزمه اتمام الحج لان
التحلل إنما جاز لحق السيد وقد زال فان فاته الوقوف فله حكم الفوات في حق الحر الأصلي هكذا
صرح به الدارمي وغيره وهو ظاهر * قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان حج الصبي ثم بلغ أو حج العبد ثم أعتق لم يجزئه ذلك عن حجة الاسلام لما روى ابن عباس
قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى وأيما عبد
حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى) فان بلغ الصبي أو عتق العبد في الاحرام نظرت فإن كان قبل الوقوف
بعرفة أو في حال الوقوف بعرفة أجزأه عن حجة الاسلام لأنه اتي بأفعال النسك في حال الكمال
فأجزأه وإن كان ذلك بعد فوات الوقوف لم يجزئه لأنه لم يدرك وقت العبادة وإن كان بعد الوقوف
وقبل فوات وقته ولم يرجع إلى الموقف فقد قال أبو العباس يجزئه لان ادراك العبادة في حال
56

الكمال كفعلها في حال الكمال والدليل عليه أنه لو أحرم ثم كمل جعل كأنه بدأ بالاحرام في حال الكمال وإذا
صلي في أول الوقت ثم بلغ في آخر الوقت جعل كأنه صلى في حال البلوغ (والمذهب) أنه لا يجزئه لأنه لم يدرك
الوقوف في حال الكمال فأشبه إذا أكمل في يوم النحر ويخالف الاحرام لان هناك أدرك الكمال والاحرام قائم
فوزانه من مسألتنا أن يدرك الكمال وهو واقف بعرفة فيجزئه وههنا أدرك الكمال وقد انقضي الوقوف
فلم يجزئه كما لو أدرك الكمال بعد التحلل عن الاحرام ويخالف الصلاة فان الصلاة تجزئه بادراك الكمال
بعد الفرغ منها ولو فرغ من الحج ثم أدرك الكمال لم يجزئه) *
(الشرح) حديث ابن عباس رواه البيهقي في الباب الأول من كتاب الحج باسناد جيد ورواه
أيضا مرفوعا ولا يقدح ذلك فيه ورواية المرفوع قوية ولا يضر تفرد محمد بن المنهال بها فإنه ثقة
مقبول ضابط روى عنه البخاري ومسلم في صحيحهما (وقوله) كمل هو بفتح الميم وضمها وكسرها -
ثلاث لغات وفى الكسر ضعف (اما) حكم المسألة فإذا أحرم الصبي بالحج ثم بلغ أو العبد ثم عتق فلهما
أربعة أحوال (أحدها) أن يكون البلوغ والعتق بعد فراغ الحج فلا يجزئهما عن حجة الاسلام بل يكون
تطوعا فان استطاعا بعد ذلك لزمهما حجة الاسلام وهذا لا خلاف فيه عندنا وبه قال العلماء كافة ونقل
ابن المنذر فيه اجماع من يعتد به للحديث المذكور لان حجه وقع تطوعا فلا يجزئه عن الواجب
بعده (الثاني) أن يكون البلوغ والعتق قبل الفراغ من الحج لكنه بعد خروج وقت الوقوف بعرفات
فلا يجزئهما عن حجة الاسلام بلا خلاف لأنه لم يدرك وقت العبادة فأشبه من أدرك الامام بعد
57

فوات الركوع فإنه لا تحسب له تلك الركعة (الثالث) أن يكون قبل الوقوف بعرفات أو في حال
الوقوف فيجزئهما عن حجة الاسلام بلا خلاف عندنا * وقال أبو حنيفة ومالك لا يجزئهما والخلاف
يتصور مع أبي حنيفة في العبد دون الصبي فإنه قال لا يصح احرامه * دليلنا انه وقف بعرفات كاملا
فأجزأه عن حجة الاسلام كما لو كمل حالة الاحرام (الرابع) أن يكون بعد الوقوف بعرفات وقبل خروج
وقت الوقوف بان وقف يوم عرفات ثم فارقها ثم بلغ أو عتق قبل طلوع الفجر ليلة النحر فان رجع
إلى عرفات فحصل فيها ووقت الوقوف باق أجزأه عن حجة الاسلام بلا خلاف كما لو بلغ وهو
واقف وإن لم يعد فوجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما (الصحيح) باتفاق الأصحاب لا يجزئه
وهو المنصوص وقال ابن سريج يجزئه وسبق في أول كتاب الصلاة الفرق بين الحج والصلاة
واضحا قال أصحابنا وإذا أجزأه عن حجة الاسلام فان بلغ أو عتق في حال الوقوف أو بعده وعاد إلى عرفات
في وقته أو قبل الوقوف فإن كان لم يسع عقب طواف القدوم فلا بد من السعي لأنه ركن وإن كان
58

سعي في حال الصبا والرق ففي وجوب اعادته وجهان (أحدهما) لا يجب كما لا يجب إعادة الاحرام
وبهذا قطع الشيخ أبو حامد قال أبو الطيب وهو قول ابن سريج (أصحهما) يجب وبه قطع أبو علي
الطبري في الافصاح والدارمي وآخرون ورجحه القاضي أبو الطيب والرافعي وآخرون لأنه
وقع في حال النقص فوجبت اعادته بخلاف الاحرام فإنه مستدام (واما) السعي فانقضي بكماله في حال
النقص فإذا وقع حجة تطوعا لم يجزئه عن حجة الاسلام ولا دم عليه بلا خلاف وان وقع عن حجة الاسلام
ففي وجوب الدم طريقان (أصحهما) على قولين (أصحهما) لا دم إذ لا إساءة ولا تقصير (والثاني) يجب
لفوات الاحرام الكامل من الميقات فان كماله ان يحرم بالغا حرا من الميقات ولم يوجد ذلك
(والطريق الثاني) لا يجب قولا واحد وبه قال أبو الطيب بن سلمة وأبو سعيد الإصطخري وقد ذكر
المصنف المسألة في باب مواقيت الحج وجزم بالطريق الأول وهو المشهور قال أصحابنا وهذا
الخلاف إذا لم يعد بعد البلوغ والعتق إلى الميقات فان عاد إليه محرما فلا دم على المذهب كما لو ترك
الميقات ثم عاد إليه وفيه وجه انه لا يسقط الدم بالعود هنا * قال أصحابنا والطواف في العمرة كالوقوف
في الحج فإذا بلغ أو عتق أجزأته عن عمرة الاسلام وكذا لو بلغ أو عتق فيه وإن كان بعده فلا
59

وحيث أجزأهما عن حجة الاسلام وعمرته فهل نقول وقع إحرامهما أولا تطوعا ثم انقلب فرضا
عقب البلوغ والعتق أم وقع إحرامهما موقوفا فان أدركا به حجة الاسلام تبينا وقوعه فرضا والا
فنفلا فيه وجهان حكاهما البغوي والمتولي وآخرون (أصحهما) وقع تطوعا وانقلب فرضا وبهذا قطع
البندنيجي والمحاملي في المجموع قال المحاملي وفائدة الوجهين أنا ان قلنا وقع نفلا وسعى عقب طواف
القدوم ثم بلغ وجبت إعادة السعي والا فلا *
(فرع) قد ذكرنا أن الأصحاب قالوا إذا أفسد الصبي والعبد حجهما وقلنا يلزمهما القضاء ولا
يصح في الصبا والرق أو قلنا يصح ولم يفعلاه حتى كملا بالبلوغ والعتق فإن كانت تلك الحجة لو سلمت
من الافساد لأجزأت عن حجة الاسلام فان بلغ أو عتق قبل فوات الوقوف وقع القضاء عن حجة
الاسلام بلا خلاف وإن كانت لا تجزى عن حجة الاسلام لو سلمت من الافساد بان بلغ أو عتق بعد فوات
الوقوف لم يقع القضاء عن حجة الاسلام بل عليه ان يبدأ عن حجة الاسلام ثم يقضي فان نوى
القضاء أولا وقع عن حجة الاسلام قال أصحابنا وهذا أصل لكل حجة فاسدة إذا قضيت هل يقع
عن حجة الاسلام فيه هذا التفصيل وقد سبق بيان هذه القاعدة واضحا في جماع الصبي قال
الدارمي: ولو فات الصبي والعبد الحج وبلغ وعتق فإن كان البلوغ والعتق قبل الفوات فعليه حجة
واحدة تجزئه عن فرض الاسلام والقضاء وإن كان بعد الفوات فعليه حجتان حجة الفوت وحجة
الاسلام ويبدأ بالاسلام قال وإن أفسد الحر البالغ حجه قبل الوقوف ثم فاته الوقوف أجزأته حجة
واحدة عن حجة الاسلام والفوات والقضاء وعليه بدنتان إحداهما للافساد والأخرى
للفوات والله أعلم *
(فرع) في حكم احرام الكافر ومروره بالميقات واسلامه في احرامه وهذا الفرع ذكره المزني
في مختصره والأصحاب أجمعون مع مسائل حج الصبي والعبد وترجموا للجميع بابا واحدا وقد ذكر
60

المصنف مسألة منه في باب مواقيت الحج فرأيت ذكره هنا أولى لموافقة الجمهور ومبادرة إلى الخيرات
قال أصحابنا إذا اتي كافر الميقات يريد النسك فأحرم منه لم ينعقد احرامه بلا خلاف كما سبق بيانه
فان أسلم قبل فوات الوقوف ولزمه الحج لتمكنه منه فله ان يحج من سنته وله الأخير لان الحج على
التراخي والأفضل حجه من سنته فان حج من سنته وعاد إلى الميقات فأحرم منه أو عاد منه محرما
بعد اسلامه فلا دم بالاتفاق وان لم يعد بل أحرم وحج من موضعه لزمه الدم كالمسلم إذا جاوزه بقصد
النسك هكذا نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب الا المزني فإنه قال لا دم لأنه مريد وليس هو
من أهل النسك فأشبه غير مريد النسك والمذهب الأول هذا كله إذا أسلم وأمكنه الحج من سنته
فإن لم يمكن بأن أسلم بعد الفجر من ليلته لم يجب عليه الحج في هذه السنة فان استطاع بعد ذلك
لزمه والا فلا ولا خلاف انه لا اثر لاحرامه في الكفر في شئ من الأحكام فلو قتل صيدا أو وطئ
أو تطيب أو لبس أو حلق شعره أو فعل غير ذلك من محرمات الاحرام فلا شئ عليه ولا ينعقد نكاحه
وكل هذا لا خلاف فيه ولو مر كافر بالميقات مريدا للنسك وأقام بمكة ليحج قابلا منها واسلم قال
الدارمي فإن كان حين مر بالميقات أراد حج تلك السنة ثم حج بعدها فلا دم بالاتفاق لان الدم
إنما يجب على تارك الميقات إذا حج من سنته وهذا لم يحج من سنته وإن كان نوى حال مروره
حج السنة الثانية التي حج فيها ففي وجوب الدم وجهان قال ولو كان حين مروره لا يريد احراما
بشئ ثم أسلم وأحرم في السنة الثانية ففعله من مكة في السنة الثانية ففي وجوب الدم الوجهان كالكافر
(فرع) في مذاهب العلماء في حج العبد والصبي سوى ما سبق * قد ذكرنا ان الصبي والعبد إذا
أحرما وبلغ وعتق قبل فوات الوقوف أجزأهما عن حجة الاسلام وبه قال أبو إسحاق بن راهويه
وقال بن الحسن البصري واحمد في العبد * وقال أبو حنيفة ومالك وأبو ثور لا يجزئهما واختاره ابن
المنذر (أما) إذا لم يبلغ ويعتق إلا بعد الوقوف فلا يجزئه سواء كان بعد ذهاب وقت الوقوف أو في
61

الوقت ولم يعد إلى عرفات كما سبق هذا هو المشهور من مذهبنا وقال ابن سريج يجزئهما إن كان
وقت الوقوف باقيا وان لم يرجعا والصحيح الأول قال العبدري وبهذا قال جمهور العلماء ولم يذكر
في المسألة خلافا لغير ابن سريج قال ابن المنذر أجمع أهل العلم إلا من شذ منهم ممن لا يعتد بخلافه
خلافا أن الصبي إذا حج ثم بلغ والعبد إذا حج ثم عتق أن عليهما بعد ذلك حجة الاسلام إن استطاعا
واحرام العبد بغير اذن سيده صحيح عندنا كما سبق قال العبدري وبه قال جميع الفقهاء واختلف
فيه أصحاب داود والمشهور عنه بطلانه ولو مر الكافر بالميقات مريدا نسكا وجاوزه ثم أسلم ثم أحرم
ولم يعد إلى الميقات لزمه دم كما سبق وبه قال أحمد وقال مالك والمزني وداود لا يلزمه *
(فرع) قال أصحابنا المحجور عليه لسفه (1) يسد في وجوب الحج لكن لا يجوز للولي دفع
المال إليه بل يصبحه الولي وينفق عليه بالمعروف أو ينصب قيما ينفق عليه من مال السفيه قال البغوي
وإذا شرع السفيه في حج الفرض أو حج نذره قبل الحجر بغير اذن الولي لم يكن للولي تحليله بل
يلزمه الانفاق عليه من مال السفيه إلى فراغه ولو شرع في حج تطوع ثم حجر عليه فكذلك
ولو شرع فيه بعد الحجر فللولي تحليله إن كان يحتاج إلى مؤنة تزيد على نفقته المعهودة ولم يكن
له كسب فإن لم تزد أو كان له كسب يفي مع قدر النفقة المعهودة بمؤنة سفره وجب اتمامه ولم
يكن له تحليله *
(فرع) يصح حج الأغلف وهو الذي لم يختن * هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة (وأما) حديث أبي
بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحج الأغلف حتى يختن) فضعيف قال ابن المنذر
في كتاب الختان من الاشراف هذا الحديث لا يثبت واسناده مجهول *
(فرع) إذا حج بمال حرام أو راكبا دابة مغصوبة أثم وصح حجه وأجزأه عندنا وبه
قال أبو حنيفة ومالك والعبد رى وبه قال أكثر الفقهاء * وقال احمد لا يجزئه * ودليلنا أن الحج
62

أفعال مخصوصة والتحريم لمعنى خارج عنها
* قال المصنف رحمه الله *
(فأما غير المستطيع فلا يجب عليه لقوله عز وجل (ولله على الناس حج البيت من استطاع
إليه سبيلا) فدل على أنه لا يجب على غير المستطيع والمستطيع اثنان مستطيع بنفسه ومستطيع بغيره
والمستطيع بنفسه ينظر فيه فإن كان من مكة علي مسافة تقصر فيها الصلاة فهو إن يكون صحيحا
واجدا للزاد والماء بثمن المثل في المواضع التي جرت العادة أن يكون فيها في ذهابه ورجوعه وواجدا
لراحلة تصلح لمثله بثمن المثل أو بأجرة المثل وأن يكون الطريق آمنا من غير خفارة وأن يكون
عليه من الوقت ما يتمكن فيه من السير والأداء (فأما) إذا كان مريضا تلحقه مشقة غير معتادة فلا
يلزمه لما روى أبو امامة رضي الله عنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يمنعه من الحج حاجة
أو مرض حابس أو سلطان جائر فليمت ان شاء يهوديا أو نصرانيا)) *
(الشرح) حديث أبي أمامة رواه الدارمي في مسنده والبيهقي في سننه باسناد ضعيف قال
البيهقي وهذا وإن كان إسناده غير قوى فله شاهد من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكر
باسناده عنه نحوه والخفارة - بضم الخاء وكسرها وفتحها ثلاث لغات - حكاهن صاحب الحكم وهي
المال المأخوذ في الطريق للحفظ وفى الطريق لغتان تذكيره وتأنيثه واختار المصنف هنا تذكيره
بقوله آمنا ولم يقل آمنة (أما) الأحكام فالاستطاعة شرط لوجوب الحج باجماع المسلمين واختلفوا في
حقيقتها وشروطها ومذهبنا أن الاستطاعة نوعان كما ذكره المصنف (استطاعة) بمباشرته بنفسه (واستطاعة)
بغيره فالأول شروطه الخمسة التي ذكرها المصنف (أحدها) أن يكون بدنه صحيحا قال أصحابنا ويشترط
فيه قوة يستمسك بها على الراحلة والمراد ان يثبت على الراحلة بغير مشقة شديدة فان وجد مشقة
شديدة لمرض أو غيره فليس مستطيعا والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(فإن لم يجد الزاد لم يلزمه لما روى ابن عمر قال (قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله
63

ما يوجب الحج فقال الزاد والراحلة) فإن لم يجد الماء لم يلزمه لان الحاجة إلى الماء أشد من الحاجة
إلى الزاد فإذا لم يجب على من لم يجد الزاد فلان لا يجب على من لم يجد الماء أولى وان وجد الماء
والزاد بأكثر من ثمن المثل لم يلزمه لأنه لو لزم ذلك لم يا من أن لا يباع منه ذلك الا بما يذهب به جميع
ماله وفى ايجاب ذلك إضرار فلم يلزمه) *
(الشرح) حديث ابن عمر رواه الترمذي من رواية ابن عمر كما ذكره المصنف وقال إنه
حديث حسن وفى إسناده إبراهيم بن بريد الجوزي قال الترمذي وقد تكلم فيه بعض أهل من قد
قل حفظه والله أعلم (قلت) وقد اتفقت الحفاظ على تضعيف إبراهيم الحوزي قال البيهقي قال الشافعي
قد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث تدل على أنه لا يجب المشي على أحد في الحج وإن اطاقه
غير أن فيها منقطع ومنها ما يمتنع أهل الحديث من تثبيته ثم ذكر حديث ابن عمر هذا من رواية الحوزي
قال البيهقي هذا هو الذي عنى الشافعي بقوله يمتنع أهل الحديث من تثبيته قال وإنما امتنعوا من تثبيته
لأنه يعرف بالحوزي وقد ضعفه أهل الحديث قال وقد روى من طريق غير الحوزي ولكنه أضعف
من الحوزي قال وروى عن قتادة عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أراه الا موهما فالصواب عن قتادة
عن الحسن البصري عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرسلا قال البيهقي وروى في المسألة أحاديث اخر لا يصح
شئ منها (وأشهرها) حديث إبراهيم الحوزي وينضم إليه مرسل الحسن وقد روى الدارقطني هذا الحديث
من رواية جماعة من الصحابة وهي الأحاديث التي قال البيهقي لا يصح شئ منها وروى الحاكم حديث
انس وقال هو صحيح ولكن الحاكم متساهل كما سبق بيانه مرات والله أعلم (اما) حكم المسألة فقال
الشافعي والأصحاب رحمهم الله ويشترط لوجوب الحج وجود الزاد والماء في المواضع التي جرت العادة
بوجودها فيها ويشترط وجودها بثمن المثل فان زاد لم يجب الحج لان وجود الشئ بأكثر من ثمن
مثله كعدمه ويشترط وجود أوعية الزاد والماء وما يحتاج إليه في سفره قال أصحابنا فإن كانت سنة
64

جدب وخلت بعض المنازل التي جرت العادة بحمل الزاد منها من أهلها أو انقطعت المياه في بعضها
لم يجب الحج قال أصحابنا وثمن المثل المعين في الماء والزاد هو القدر اللائق به في ذلك الزمان
والمكان فان وجدهما بثمن المثل لزمه تحصيلهما والحج سواء كانت الأسعار غالية أم رخيصة إذا وفى
ماله بذلك قال أصحابنا ويجب حمل الماء والزاد بقدر ما جرت العادة به في طريق مكة كحمل الزاد
من الكوفة إلى (1) وحمل الماء مرحلتين وثلاثا ونحو ذلك بحسب العادة والمواضع ويشترط وجود
آلات الحمل (وأما) علف الدواب فيشترط وجوده في كل مرحلة لان المؤنة تعظم في حمله لكثرته
هكذا ذكره البغوي والمتولي والرافعي وغيرهم وينبغي أن يعتبر فيه العادة كالماء والله أعلم ولو
ظن كون الطريق فيه مانع كعدم الماء أو العلف أو أن فيه عدوا أو نحو ذلك فترك الحج فبان
أن لا مانع فقد استقر عليه وجوب الحج صرح به الدارمي وغيره ولو لم يعلم وجود المانع ولا عدمه قال
الدارمي إن كان هناك أصل عمل عليه وإلا فيجب الحج وهذا في العدو ظاهر (وأما) في وجود الماء
والعلف فمشكل لان الأصل عدمهما *
(فرع) لو لم يجد ما يصرفه في الزاد والماء ولكنه كسوب يكتسب ما يكفيه ووجد نفقة
فهل يلزمه الحج تعويلا على الكسب حكى إمام الحرمين عن أصحابنا العراقيين انه إن كان السفر
طويلا أو قصيرا ولا يكتسب في كل يوم الا كفاية يومه لم يلزمه لأنه ينقطع عن الكسب في أيام
* (هامش) (1) بياض بالأصل فحرر
65

الحج وإن كان السفر قصيرا ويكتسب في يوم كفاية أيام لزمه الحج قال) الامام وفيه احتمال فان
القدرة على الكسب يوم العيد لا تجعل كملك الصاع في وجوب الفطرة هذا ما ذكره الامام وحكاه
الرافعي وسكت عليه
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وإن لم يجد راحلة لم يلزمه لحديث ابن عمر وان وجد راحلة لا تصلح لمثله بأن يكون ممن لا يمكنه
الثبوت على القتب والزاملة لم يلزمه حتى يجد عمارية أو هودجا وان بذل له رجل راحلة) من غير
عوض لم يلزمه قبولها لان عليه في قبول ذلك منة وفي تحمل المنة مشقة فلا يلزمه وإن وجد بأكثر من
ثمن المثل أو بأكثر من أجرة المثل لم يلزمه لما ذكرناه في الزاد) *
(الشرح) قال أهل اللغة الزاملة بعير يستظهر به المسافر يحمل عليه طعامه ومتاعه (وأما) العمارية
- فبفتح العين - والصواب تخفيف ميمها وسبق بيانها واضحا في باب استقبال القبلة وسبق بيان
الهودج قريبا عند ذكر المحفة في حج الصبي (أما) حكم المسألة فإذا كان بينه وبين مكة مسافة تقصر
فيها الصلاة لم يلزمه الحج إلا إذا وجد راحلة تصلح لمثله بثمن المثل أو أجرة المثل فإن لم يجدها أو
وجدها بأكثر من ثمن المثل أو بأكثر من أجرة المثل أو عجز عن ثمنها أو اجرتها لم يلزمه الحج سواء
قدر على المشي وكان عادته أم لا لكن يستحب للناذر الحج قال أصحابنا فإن كان يستمسك على
الراحلة من غير محمل ولا يلحقه مشقة شديدة لم يشترط في حقه القدرة على المحمل بل يشترط قدرته
66

على راحلة وإن كانت مقتبة وإن كانت زاملة فإن لم يمكنه ذلك إلا بمشقة شديدة فإن كان شيخا
هرما أو شابا ضعيفا أو عادته الترفه ونحو ذلك اشترط وجود المحمل وراحلة تصلح للمحمل قال
صاحب الشامل وآخرون ولو وجد مشقة شديدة في ركوب المحمل اشترط في حقه الكنيسة ونحوها
بحيث تندفع عنه المشقة الشديدة قال المحاملي وآخرون ويشترط في المرأة وجود المحمل لأنه استر لها
ولم يفرقوا بين مستمسك على المقتب وغيره قال الغزالي وغيره العادة جارية بركوب اثنين في محمل
فإذا وجد مؤنة محمل أو شق محمل ووجد شريكا يركب معه في الشق الآخر لزمه الحج وان لم يجد
الشريك لم يلزمه سواء وجد مؤنة المحمل أو الشق قال الرافعي ولا يبعد تخريجه على الزام أجرة
البذرقة قال وفى كلام إمام الحرمين إشارة إليه والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان وجد الزاد والراحلة لذهابه ولم يجد لرجوعه نظرت فإن كان له أهل في بلده لم يلزمه وان لم يكن
له أهل ففيه وجهان (أحدهما) يلزمه لان البلاد كلها في حقه واحدة (والثاني) لا يلزمه لأنه يستوحش
بالانقطاع عن الوطن والمقام في الغربة فلم يلزمه) *
(الشرح) اتفق أصحابنا على أنه إذا كان له في بلده أهل أو عشيرة اشترطت قدرته على الزاد
والراحلة وسائر مؤن الحج في ذهابه ورجوعه فان ملكه لذهابه دون رجوعه لم يلزمه بلا خلاف
67

الا ما انفرد به الحناطي والرافعي فحكيا وجها شاذا أنه لا يشترط نفقة الرجوع وهذا غلط فإن لم يكن
له أهل ولا عشيرة هل يشترط ذلك للرجوع فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف وهما مشهوران
واتفق الأصحاب على أن أصحهما الاشتراط فلا يلزمه إذا لم يقدر على ذلك ودليلهما في الكتاب
والوجهان جاريان في اشتراط الراحلة بلا خلاف وهو صريح في كلام المصنف وهل يخص الوجهان
بما إذا لم يكن له ببلده مسكنا فيه احتمالات للامام (أصحها) عنده التخصيص قال أصحابنا وليس
المعارف والأصدقاء كالعشيرة لان الاستبدال بهم متيسر فيجرى فيه الوجهان فيمن ليس له عشيرة
ولا أهل *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان وجد ما يشترى به الزاد والراحلة وهو محتاج إليه لدين عليه لم يلزمه حالا كان الدين
أو مؤجلا لان الدين الحال على الفور والحج على التراخي فقدم عليه والمؤجل يحل عليه فإذا صرف ما معه
في الحج لم يجد ما يقضى به الدين) *
(الشرح) هذا الذي ذكره نص عليه الشافعي في الاملاء وأطبق عليه الأصحاب من الطريقين
وفيه وجه شاذ ضعيف انه إذا كان الدين مؤجلا أجلا لا ينقضي الا بعد رجوعه من الحج لزمه حكاه
الماوردي والمتولي وغيرهما وبه قطع الدارمي والصواب الأول وقطع به الجماهير ونقل كثيرون
68

أنه لا خلاف فيه قال أصحابنا ولو رضى صاحب الدين بتأخيره إلى ما بعد الحج لم يلزمه الحج بلا
خلاف قال أصحابنا ولو كان له دين فان أمكن تحصيله في الحال بأن كان حالا على ملئ مقر أو عليه
بينة فهو كالحال في يده ويجب الحج وان لم يمكن تحصيله بأن كان مؤجلا أو حالا على معسر أو جاحد
ولا بينة عليه لم يجب عليه الحج بلا خلاف لأنه إذا لم يجب عليه بسبب دين عليه فعدم وجوب
الاستدانة أولى والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وإن كان محتاجا إليه لنفقة من تلزمه نفقته لم يلزمه الحج لان النقة على الفور والحج على
التراخي وان احتاج إليه لمسكن لا بد له من مثله أو خادم يحتاج إلى خدمته لم يلزمه) *
(الشرح) أما إذا احتاج إليه لنفقة من تلزمه نفقته مدة ذهابه ورجوعه فلا يلزمه الحج لما
ذكره المصنف قال أصحابنا وكسوة من تلزمه كسوته وسكناه كنفقته وكذلك سائر المؤن (أما)
إذا احتاج إلى مسكن أو خادم يحتاج إلى خدمته لمنصبه أو زمانته ونحوهما وليس معه ما يفضل عن
ذلك فهل يلزمه الحج فيه وجهان (أصحهما) وبه قطع المصنف وكثيرون أو الأكثرون لا يلزمه
وصححه الجمهور وممن قطع به مع المصنف القاضي أبو الطيب في تعليقه وفى المجرد والدارمي والمحاملي
والفوراني والبغوي وآخرون ونقله المحاملي في المجموع عن أصحابنا ونقل تصحيحه الرافعي عن
69

الأكثرين وقاسوه على الكفارة فإنه لا يلزمه بيع المسكن والخادم فيهما وعلى ثيابه وما في معناها
من ضرورات حاجاته (والوجه الثاني) يلزمه الحج وبيع المسكن والخادم في ذلك وبهذا قطع الشيخ
أبو حامد فيما نقله صاحب الشامل وقطع به أيضا البندنيجي وصححه القاضي الحسين والمتولي وعلى
هذا يستأجر مسكنا وخادما وفرق القاضي حسين بينه وبين الكفارة بان لها بدلا ينتقل إليه
بخلاف الحج والمذهب أنه لا يلزمه الحج كما سبق قال المحاملي ولم ينص الشافعي على هذه المسألة
إلا أنه ذكر قريبا منها فإذا اشترطنا لوجوب الحج زيادة على المسكن والخادم فلم يوجدا عنده وعنده
مال يصرفه فيهما ولا يفضل شئ لم يلزمه الحج هذا كله إذا كانت الدار مستغرقة لحاجته وكانت
سكنى مثله والعبد لائق بخدمة مثله فان أمكن ببعض الدار ووفى ثمنه بمؤنة الحج ويكفيه لسكناه
باقيها أو كانا لا يليقان بمثله ولو أبدلهما أو في الزائد بمؤنة الحج فإنه يلزمه الحج هكذا صرح به الأصحاب
هنا وكذا نقل الرافعي أن الأصحاب أطلقوه هنا قال لكن في بيع الدار والعبد النفيسين
المألوفين في الكفارة وجهان قال ولا بد من جريانهما هنا وهذا لم ينقله عن غيره وليس جريانهما بلازم
والفرق ظاهر فان الكفارة لها بدلا ولهذا اتفقوا على ترك المسكن والخادم في الكفارة واختلفوا
فيهما هنا والله أعلم *
(فرع) لو كان فقيها وله كتب فهل يلزمه بيعها للحج قال القاضي أبو الطيب في تعليقه إن لم يكن
70

له من كل كتاب الا نسخة واحدة لم يلزمه لأنه يحتاج إلى كل ذلك وإن كان له نسختان لزمه بيع
إحداهما فإنه لا حاجة به إليها هذا كلام القاضي أبي الطيب وقال في مجرده لا يلزمه بيع كتبه الا إذا
كان له نسختان من كتاب فيجب بيع إحداهما وقال القاضي حسين في تعليقه يلزم الفقيه بيع كتبه
في الزاد والراحلة وصرف ذلك في الحج وكذا المسكن والخادم وهذا الذي قاله القاضي حسين
ضعيف وهو تفريع منه على طريقته الضعيفة في وجوب بيع المسكن والخادم للحج وقد سبق أن
المذهب لا يلزمه ذلك فالصواب ما قاله القاضي أبو الطيب فهو الجاري على عادة المذهب وعلى ما قاله
الأصحاب هنا في المسكن والخادم وعلى ما قالوه في باب الكفارة وباب التفليس وقد سبق بيان
المسكن والخادم في أول باب قسم الصدقات في فصل سهم الفقير والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(وان احتاج إلى النكاح وهو يخاف العنت قدم النكاح لان الحاجة إلى ذلك على الفور والحج
ليس على الفور) *
(الشرح) قال الرافعي لو ملك فاضلا عن الأمور المذكورة ما يمكنه به الحج واحتاج إلى النكاح
لخوف العنت فصرف المال إلى النكاح أهم من صرفه إلى الحج هذه عبارة الجمهور وعللوه بأن حاجة
النكاح ناجزة والحج على التراخي والسابق إلى الفهم من هذه العبارة انه لا يجب الحج والحالة
هذه ويصرف ما معه في النكاح وقد صرح إمام الحرمين بهذا ولكن كثير من العراقيين وغيرهم
71

قالوا يجب الحج على من أراد التزويج لكن له أن يؤخره لوجوبه على التراخي ثم إن لم يخف العنت
فتقديم الحج أفضل وإلا فالنكاح هذا كلام الرافعي وقد صرح خلائق من الصحاب بأنه يلزمه
الحج ويستقر في ذمته ولكن له صرف هذا المال إلى النكاح وهو أفضل ويبقى الحج في ذمته ممن
صرح بهذا الشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي أبو الطيب في كتابيه التعليق والمجرد والمحاملي
في كتابه المجموع والتجريد والقاضي حسين والدارمي وصاحب الشامل وصاحب التتمة وصاحب
العدة وصاحب البيان وآخرون فهذا هو المذهب الصحيح ولا تقبل دعوى الرافعي فيما قاله عن
الجمهور وفهمه عنهم (وأما) نقله عن إمام الحرمين فصحيح وقد صرح الجرجاني في المعاياة به فقال
لا يصير مستطيعا وهذا لفظ امام الحرمين قال قال العراقيون لو فضل شئ وخاف العنت لو لم يتزوج
وكان بحيث يباح له نكاح الأمة لم يلزمه أن يحج بل له صرف المال إلى النكاح لان في تأخيره ضرر به
والحج على التراخي قال فإذا لا استطاعة ولا وجوب قال وهذا الذي ذكره العراقيون قاطعين به
قياس طرقنا وان لم نجده منصوصا فيها هذا لفظ الامام بحروفه وفيه التصريح بأنه إنما صرح بأنه
لا تحصل الاستطاعة اعتمادا على ما ذكره العراقيون وليس فيما ذكره العراقيون انه لا يجب الحج
بل قالوا تجب الحج وله تأخيره وصرف المال إلى النكاح ويكون الحج ثابتا في الذمة كما قدمناه عنهم
وفى حكاية الامام عنهم إشارة إلى هذا فالصواب استقرار الحج كما سبق وعلله صاحب الشامل
وغيره بأن النكاح من الملاذ فلا يمنع وجوب الحج والله أعلم *
72

* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان احتاج إليه في بضاعة يتجر فيها ليحصل ما يحتاج إليه للنفقة ففيه وجهان قال أبو العباس
ابن سريج لا يلزمه الحج لأنه يحتاج إليه فهو كالمسكن والخادم (ومن) أصحابنا من قال يلزمه لأنه
واجد للزاد والراحلة) *
(الشرح) قال أصحابنا إذا كانت له بضاعة يكسب بها كفايته وكفاية عياله أو كان له عرض تجارة
يحصل من غلته كل سنة كفاية وكفاية عياله وليس معه ما يحج به غير ذلك وإذا حج به كفاه وكفى عياله ذاهبا
وراجعا ولا يفضل شئ فهل يلزمه الحج فيه هذان الوجهان اللذان ذكرهما المصنف وهما مشهوران (أحدهما)
لا يلزمه وهو قول ابن سريج وصححه القاضي أبو الطيب والروياني والشاشي قال لان الشافعي
قال في المفلس يترك له ما يتجر به لئلا ينقطع ويحتاج إلى الناس فإذا جاز ان يقطع له من حق
الغرماء بضاعة فجوازه في الحج أولى (والثاني) وهو الصحيح يلزمه الحج لأنه واجد للزاد والراحلة
وهما الركن المهم في وجوب الحج قال الشيخ أبو حامد ولو لم نقل بالوجوب للزم ان نقول من لا يمكنه
ان يتجر بأقل من ألف دينار لا يلزمه الحج إذا ملكها وهذا لا يقوله أحد قال أصحابنا والفرق بين هذا
وبين المسكن والخادم انه محتاج إليهما في الحال وما نحن فيه نجده ذخيرة قال المحاملي والأصحاب
وأما ما ذكره الشافعي في باب التفليس فمراده انه يترك له ذلك برضى الغرماء فأما بغير رضاهم
فلا يترك وهذا الذي صححناه من وجوب الحج هو الصحيح عند جماهير الأصحاب فمن صححه
73

الشيخ أبو حامد والبندنيجي والماوردي والمحاملي والقاضي حسين في تعليقه والمتولي وصاحب البيان
والرافعي وآخرون قال صاحب الحاوي هذا مذهب الشافعي وجمهور أصحابه سوى ابن سريج
قال الشيخ أبو حامد هذا هو المذهب ولا أعرف ما حكي عن ابن سريج عنه ولا أجده في شئ من
كتبه قال أبو حامة وقول ابن سريج خلاف للاجماع وقال المحاملي قول عامة أصحابنا انه يلزمه الحج
وما قاله ابن سريج غلط وكذا قال القاضي حسين والمتولي وصاحب البيان وآخرون من أصحابنا
أن عامة أصحابنا قالوا بالوجوب خلافا لابن سريج ونقل إمام الحرمين عن العراقيين انهم غلطوا
ابن سريج في هذا وزيفوا قوله وهو كما قالوه هذا لفظ الامام وبالوجوب قال أبو حنيفة وبعدمه
قال أحمد وأنكر بعضهم على الشيخ أبي حامد دعواه الاجماع على الوجوب مع مخالفة أحمد وجوابه
انه أراد إجماع من قبله وكأنه يقول إن احمد وابن سريج محجوجان بالاجماع قبلهما والله أعلم *
74

* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان لم يجد الزاد والراحلة وهو قادر على المشي وله صنعة يكتسب بها كافيته لنفقته استحب
له ان يحج لأنه يقدر على إسقاط الفرض بمشقة لا يكره تحملها فاستحب له اسقاط الفرض كالمسافر
إذ قدر على الصوم في السفر وان لم يكن له صنعة ويحتاج إلى تكفف الناس كره له أن يحج بمسألة
لان المسألة مكروهة ولان في المسألة تحمل مشقة شديدة فكره) *
(الشرح) قوله لا يكره تحملها احتراز عن المسألة (وقوله) يتكفف معناه يسأل الناس شيئا في كفه
وهذا الحكم الذي ذكره في المسألتين متفق عليه عندنا قال أصحابنا ولو أمكنه ان يكرى نفسه
75

في طريقه استحب له الحج بذلك ولا يجب ذلك ودليلهما ما بين في القادر على الصنعة فان اكرى
نفسه فحضر موضع الحج لزمه الحج لأنه متمكن الآن بلا مشقة وقد قدمنا انه لا يجب عليه استقراض
مال يحج به بلا خلاف *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب يستحب لقاصد الحج أن يكون متخليا عن التجارة ونحوها
في طريقه فان خرج بنية الحج والتجارة فحج واتجر صح حجه وسقط عنه فرض الحج لكن ثوابه
دون ثواب المتخلي عن التجارة وكل هذا لا خلاف فيه ودليل هذا مع ما سبق ثابت عن ابن
عباس قال (كانت عكاظ ومكة وذو المحار اسواما في الجاهلية فمالوا ان يتجروا في المواسم فنزلت
ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج) رواه البخاري وعن ابن عباس
76

أيضا (ان الناس في أول الحج كانوا يتبايعون بمني وعرفات وذي المحار ومواسم الحج فخافوا البيع
وهم حرم فأنزل الله تعالى ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج) رواه
أبو داود باسناد على شرط البخاري ومسلم وعن أبي أمامة التيمي قال (كنت رجلا اكرى في هذا
الوجه وان ناسا يقولون ليس لك حج فقال ابن عمر أليس يحرم ويلبي ويطوف بالبيت ويفضى من
عرفات ويرمي الحجار قلت بلى قال فان لك حجا جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله
عما سألتني عنه فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبه حتى نزلت هذه الآية (ليس عليكم
جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم) فأرسل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقرأ عليه هذه الآية
وقال لك حج) رواه أبو داود باسناد صحيح وعن عطاء عن ابن عباس أن رجلا سأله فقال (أو أجر
نفسي من هؤلاء القوم فانسك معهم المناسك إلى آخرها فقال ابن عباس نعم أولئك لهم نصيب
مما كسبوا والله سريع الحساب) رواه الشافعي والبيهقي باسناد حسن *
77

(فرع) في مذاهب العلماء فيمن عادته سؤال الناس أو المشي * مذهبنا أنه لا يلزمه الحج وبه
قال أبو حنيفة وأحمد ونقله ابن المنذر عن الحسن البصري ومجاهد وسعيد بن جبير واحمد واسحق
وبه قال بعض أصحاب مالك قال البغوي هو قول العماء وقال مالك يلزمه الحج في الصورتين وبه
قال داود وقال عكرمة الاستطاعة صحة البدن قال ابن المنذر لا يثبت في الباب حديث مسند قال
وحديث (ما لسبيل قال الزاد والراحلة) ضعيف وهو كما قال وقد سبق بيانه *
78

* قال المصنف رحمه الله *
(وإن كان الطريق غير آمن لم يلزمه لحديث أبي أمامة ولان في ايجاب الحج مع الخوف
تغريرا بالنفس والمال وإن كان الطريق آمنا الا انه محتاج إلى خفارة لم يلزمه لان ما يؤخذ من الخفارة
بمنزلة ما زاد على ثمن المثل وأجرة المثل في الزاد والراحلة فلا يلزمه ولأنه رشوة على واجب
فلم يلزمه) *
79

(الشرح) حديث أبي أمامة سبق في الفصل الذي قبل هذا انه حديث ضعيف وسبق في
الفصل المذكوران الخفارة - بضم الخاء وكسرها وفتحها - والرشوة بكسر الراء وضمها - لغتان
مشهورتان (أما) الأحكام فقال أصحابنا يشترط لوجوب الحج أمن الطريق في ثلاثة أشياء النفس
والمال والبضع (فأما) البضع فمتعلق بحج المرأة والخنثى وسنذكرهما بعد هذا بقليل حيث ذكرهما
المصنف إن شاء الله تعالى قال امام الحرمين وليس للأمن المشترط أمنا قطعيا قال ولا يشترط الامن
80

الغالب في الحضر بل الامن في كل مكان بحسب ما يليق به (فأما) النفس فمن خاف عليها من سبع
أو عدو كافر أو مسلم أو غير ذلك لم يلزمه الحج ان لم يجد طريقا آخر آمنا فان وجده لزمه سواء كان
مثل طريقه أو أبعد إذا وجد ما يقطعه به وفيه وجه شاذ ضعيف انه لا يلزمه سلوك الابعد حكاه المتولي
والرافعي والصحيح الأول وبه قطع الجمهور (واما) البحر فسنذكر الخوف منه عقيب هذا إن شاء الله
تعالى (واما) المال فلو خاف على ماله في الطريق من عدو أو رصدي أو غيره لم
81

يلزمه الحج سواء طلب الرصدي شيئا قليلا أو كثيرا إذا تعين ذلك الطريق ولم يجد غيره سواء كان
العدو الذي يخافه مسلمين أو كفارا لكن قال أصحابنا إن كان العدو كافرا وأطاق الحاج مقاومتهم
استحب لهم الخروج إلى الحج ويقاتلونهم لينالوا الحج والجهاد جميعا وإن كانوا مسلمين لم يستحب
الخروج ولا القتال قال أصحابنا ويكره بذل المال للرصديين لأنهم يحرصون على التعرض للناس
بسبب ذلك هكذا صرح به القاضي حسين والمتولي والبغوي ونقله الرافعي وغيرهم ولو وجدوا
من يخفرهم بأجرة وغلب على الظن أمنهم ففي وجوب استئجاره ووجوب الحج وجهان حكاهما
إمام الحرمين (أصحهما) عنده وجوبه لأنه من جملة أهب الطريق فهو كالراحلة (والثاني) لا يجب
لان سبب الحاجة إلى ذلك خوف الطريق وخروجها عن الاعتدال وقد ثبت أن أمن الطريق
شرط هكذا ذكر الوجهين امام الحرمين وتابعه الغزالي والرافعي والذي ذكره المصنف وجماهير
الأصحاب من العراقيين والخراسانيين أنه إذا احتاج إلى خفارة لم يجب الحج فيحمل على أنهم
أرادوا بالخفارة ما يأخذه الرصديون في المراصد وهذا لا يجب الحج معه بلا خلاف ولا يكونون
متعرضين لمثله قال إمام الحرمين ويحتمل أنهم أرادوا الصورتين فيكون خلاف ما قاله ولكن
الاحتمال الأول أصح واظهر في الدليل فيكون الأصح على الجملة وجوب الحج إذا وجدوا من يصحبهم
الطريق بخفارة ودليله ما ذكره الامام وقد صححه امامان من محققي متأخري أصحابنا أبو القاسم
الرافعي وأبو عمر وبن الصلاح مع اطلاعهما على عبارة الصحاب التي ذكرناها والله أعلم * ولو امتنع
محرم المرأة من الخروج معها الا بأجرة قال امام الحرمين هو مقيس على اجرة الخفير واللزوم في المحرم
أظهر لان الداعي إلى الأجرة معنى في المرأة فهو كمؤنة المحمل في حق المحتاج إليه والله أعلم *
(فرع) قال البغوي وغيره يشترط لوجوب الحج وجود رفقة يخرج معهم في الوقت الذي جرت
عادة أهل بلده بالخروج فيه فان خرجوا قبله لم يلزمه الخروج معهم وان أخروا الخروج بحيث
لا يبلغوا مكة الا بان يقطعوا في كل أكثر من يوم مرحلة لم يلزمه أيضا قال البغوي لو لم يجد المال حال خروج
القافلة ثم وجده بعد خروجهم بيوم لم يلزمه أن يتبعهم هذا كله إذا خاف في الطريق فإن كانت
آمنة بحيث لا يخاف الواحد فيها لزمه ولا يشترط الرفقة *
82

* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان لم يكن له طريق الا في البحر فقد قال في الأم لا يجب عليه وقال في الاملاء إن كان
أكثر معاشه في البحر لزمه فمن أصحابنا من قال فيه قولان (أحدهما) يجب لأنه طريق مسلوك
فأشبه البر (والثاني) لا يجب لان فيه تغريرا بالنفس والمال فلا يجب كالطريق المخوف ومنهم من قال
إن كان الغالب منه السلامة لزمه وإن كان الغالب منه الهلاك لم يلزمه كطريق البر ومنهم من قال
إن كان له عادة بركوبه لزمه وان لم يكن له عادة بركوبه لم يلزمه لان من له عادة لا يشق عليه ومن
لا عادة له يشق عليه) *
(الشرح) اختلفت نصوص الشافعي في ركوب البحر فقال في الأم والاملاء ما ذكره
المصنف وقال في المختصر ولا يتبين لي أن أوجب عليه ركوب البحر قال أصحابنا إن كان في
البر طريق يمكن سلوكه قريب أو بعيد لزمه الحج بلا خلاف وان لم يكن ففيه طرق (أصحها) وبه
قال أبو إسحاق المروزي وأبو سعيد الإصطخري وغيرهما فيما حكاه صاحب الشامل والتتمة وغيرهما
أنه ان كن الغالب منه الهلاك اما لخصوص ذلك البحر واما لهيجان الأمواج لم يجب الحج وان
غلبت السلامة وجب وان استويا فوجهان (أصحهما) أنه لا يجب (والطريق الثاني) يجب قولا واحدا (الثالث)
لا يجب (والرابع) في وجوبه قولان (والخامس) إن كان عادته ركوبه وجب والا فلا (والسادس) حكاه
امام الحرمين أنه يفرق بين من له جرأة وبين المستشعر وهو ضعيف القلب فلا يلزم المستشعر وفى
غيره قولان (والسابع) حكاه الامام وغيره يلزم الجرئ وفى المستشعر قولان (والثامن) يلزم الجرئ
ولا يلزم المستشعر قال أصحابنا وإذا قلنا لا يجب ركوب البحر ففي استحبابه وجهان (أحدهما)
لا يستحب مطلقا لما فيه من الخطر (وأصحهما) وبه قطع كثيرون يستحب ان غلبت السلامة فان غلب
الهلاك حرم نقل امام الحرمين اتفاق الأصحاب على تحريمه والحالة هذه فان استويا ففي التحريم
وجهان (أصحهما) التحريم وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني (والثاني) لا يحرم لكن يكره قال امام
83

الحرمين لا خلاف في ثبوت الكراهية وإنما الخلاف في التحريم قال أصحابنا وإذا لم نوجب ركوب البحر
فتوسطه بحارة أو غيرها فهل يلزمه التمادي في ركوبه إلى الحج أم له الانصراف إلى وطنه ينظر
إن كان ما بين يديه إلى مكة أكثر مما قطعه من البحر فله الرجوع إلى وطنه قطعا وإن كان أقل
لزمه التمادي قطعا وان استويا فوجهان وقيل قولان (أصحهما) يلزمه التمادي لاستواء الجهدين في
حقه (والثاني) لا قالوا وهذان الوجهان فيما إذا كان له في الرجوع من مكة إلى وطنه طريق في البر فإن لم
يكن فله الرجوع إلى وطنه قطعا لئلا يتحمل زيادة الخطر بركوب البحر في الرجوع من الحج قال
أصحابنا وهذان الوجهان كالوجهين فيمن أحصر وهو محرم وأحاط به العدو من كل جهة فهل له
التحلل أم لا وسنوضحهما في موضعهما إن شاء الله تعالى هذا كله في الرجل (أما) المرأة فإن لم نوجب
ركوب البحر على الرجل فهي أولى والا ففيها خلاف (والأصح) الوجوب (والثاني) المنع لضعفها
عن احتمال الأهوال ولكونها عورة معرضة للانكشاف وغيره لضيق المكان قال أصحابنا فإن لم
نوجبه عليها لم يستحب على المذهب وقيل في استحبابه لها حينئذ الوجهان السابقان في الرجل وحكى
البندنيجي قولين هذا كله حكم البحر (أما) الأنهار العظيمة كدجلة وسيحون وجيحون وغيرها
فيجب ركوبها قولا واحدا عند الجمهور لان المقام فيها لا يطول ولا يعظم الخطر فيها وبهذا قطع
المتولي والبغوي وحكى الرافعي فيه وجها شاذا ضعيفا أنه كالبحر والله أعلم *
(فرع) إذا حكمنا بتحريم ركوب البحر للحج عند غلبة الهلاك كما سبق فيحرم ركوبه للتجارة
ونحوها من الاسفار المباحة وكذا المندوبة أولى وهل يحرم ركوبه في الذهاب إلى العدو فيه وجهان
حكاهما أمام الحرمين هنا (أحدهما) يحرم لان الخطر المحتمل في الجهاد هو الحاصل بسبب القتل
وليس هذا منه (والثاني) لا يحرم لان مقصود العدو يناسبه فإذا كان المقصود وهو الجهاد مبنيا على
العدو لم ينفذ احتمال العدو في السبب والله أعلم *
84

(فرع) إذا كان البحر مفرقا أو كان قد اغتلم وماج حرم ركوبه لكل سفر لقول الله تعالى
(ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) ولقوله تعالى (ولا تقتلوا أنفسكم) هكذا صرح به إمام الحرمين والأصحاب
(فرع) مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد أنه يجب الحج في البحر ان غلبت فيه السلامة والا
فلا وهذا هو الصحيح عندنا كما سبق ومما جاء في هذه المسألة من الأحاديث حديث ابن عمر وبن العاص
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يركبن أحد بحرا إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا وإن تحت البحر نارا
وتحت النار بحرا) رواه أبو داود والبيهقي وآخرون قال البيهقي وغيره قال البخاري هذا الحديث ليس
بصحيح رواه البيهقي من طرق عن ابن عمرو وموقوفا والله أعلم *
قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وإن كان أعمي لم يجب عليه الا أن يكون معه قائد لان الأعمى من غير قائد كالزمن ومع
القائد كالبصير) *
(الشرح) قال أصحابنا ان وجد للأعمى زاد وراحلة ومن يقوده ويهديه عند النزول ويركبه
وينزله وقدر على الثبوت على الراحلة بلا مشقة شديدة لزمه الحج وكذلك مقطوع اليدين والرجلين
ولا يجوز لهما الاستئجار للحج عنهما والحالة هذه وان لم يكن كذلك لم يلزمها الحج بأنفسهما ويكونان
معضوبين هذا هو الصحيح في مذهبنا وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد * وقال أبو حنيفة في أصح القولين
عنه يجوز له الاستئجار للحج عنه في الحالين ولا يلزمه الحج بنفسه قال صاحب البيان قال الصيمري
وبه قال بعض أصحابنا وحكى هذا الوجه أيضا الدارمي عن ابن القطان عن ابن أبي هريرة عن أبي على
ابن خيران والمشهور من مذهبنا ما سبق واستدل أصحابنا بأنه في الصورة الأولي قادر على الثبوت على
الراحلة فأشبه البصير وقاسه الماوردي على جاهل الطريق وأفعال الحج وعلى الصم فإنهما يلزمهما الحج
بالاتفاق وكذلك يلزمهما الجمعة إذا وجدا القائد والفرق بينه وبين الجهاد أن الجهاد يحتاج إلى القتال
والأعمى ليس من أهل القتال بخلاف الحج قال الرافعي والقائد في حق الأعمى كالمحرم في حق المرأة يعني
فيكون في وجوب استئجاره وجهان (أصحهما) الوجوب وهو مقتضى كلام الجمهور والله أعلم *
85

قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وإن كانت امرأة لم يلزمها إلا أن تأمن على نفسها بزوج أو محرم أو نساء ثقات قال في الاملاء
أو امرأة واحدة وروى الكرابيسي عنه إذا كان الطريق آمنا جاز من غير نساء وهو الصحيح لما
روى عدى بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (حتى لتوشك الظعينة ان تخرج منها بغير جوار
حتى تطوف بالكعبة قال عدى فلقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة حتى تطوف بالكعبة بغير جوار)
ولأنها تصير مستطيعة بما ذكرناه ولا تصير مستعطية بغيره) *
(الشرح) حديث عدى هذا صحيح رواه البخاري في صحيحه بمعناه في باب علامات النبوة
وهذا لفظه عن عدي بن حاتم قال (بينا أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة
ثم أتى إليه آخر فشكا قطع السبيل فقال يا عدى هل رأيت الحيرة قلت لم أرها وقد أنبئت عنها قال
فان طالت بك الحياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدا الا الله تعالى
قال عدى فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف الا الله) هذا اللفظ رواية
البخاري مختصرا وهو بعض من حديث طويل (وأما) قوله من غير جوار - فبكسر الجيم - ومعناه بغير أمان
وذمة والحيرة - بكسر الحاء المهملة - وهي مدينة عند الكوفة والظعينة المرأة ويوشك - بكسر الشين - أي يدع
وفى هذا الحديث معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم (أما) حكم المسألة فقال الشافعي والأصحاب رحمهم
الله تعالى لا يلزم المرأة الحج إلا إذا امنت على نفسها بزوج أو محرم نسب أو غير نسب أو نسوة ثقات
فأي هذه الثلاثة وجد لزمها الحج بلا خلاف وان لم يكن شئ من الثلاثة لم يلزمها الحج على المذهب سواء
وجدت امرأة واحدة أم لا وقول ثالث أنه يجب ان تخرج للحج وحدها إذا كان الطريق مسلوكا كما يلزمها إذا
أسلمت في دار الحرب الخروج إلى دار الاسلام وحدها بلا خلاف وهذا القول اختيار المصنف وطائفة
والمذهب عند الجمهور ما سبق وهو المشهور من نصوص الشافعي (والجواب) عن حديث عدى بن حاتم انه
إخبار عما سيقع وذلك محمول على الجواز لان الحج يجب بذلك والجواب عن الخروج من دار الحرب
86

إلى دار الاسلام ان الخوف في دار الحرب أكثر من الخوف في الطريق وإذا خرجت مع نسوة ثقات فهل
يشترط لوجوب الحج أن يكون مع واحدة منهن محرم لها أو زوج فيه وجهان (أصحهما) لا يشترط لان
الأطماع تنقطع بجماعتهن (والثاني) يشترط فان فقد لم يجب الحج قال القفال لأنه قد ينوبهن أمر يحتاج
إلى الرجل وقطع العراقيون وكثير من الخراسانيين بأنه لا يشترط ونقله المتولي عن عامة أصحابه سوى
القفال قال امام الحرمين ولم يشترط أحد من أصحابنا أن يكون مع كل واحدة منهن محرم أو زوج قال
ويقصد بما قاله القفال حكم الخلوة فإنه كما يحرم على الرجل أن يخلو بامرأة واحدة كذلك يحرم عليه أن
يخلو بنسوة ولو خلا رجل بنسوة وهو محرم إحداهن جاز وكذلك إذا خلت امرأة برجال وأحدهم محرم لها
جاز ولو خلا عشرون رجلا بعشرين امرأة واحداهن محرم لأحدهم جاز قال وقد نص الشافعي على أنه
لا يجوز للرجل أن يصلى بنساء مفردات الا أن تكون إحداهن محرما له هذا كلام امام الحرمين هنا وحكى
صاحب العدة عن القفال في الخلوة مثل ما ذكره إمام الحرمين بحروفه وحكى فيه نص الشافعي في تحريم خلوة
بنسوة منفردا بهن وهذا الذي ذكره الامام وصاحب العدة والمشهور جواز خلوة رجل بنسوة لا محرم له
فيهن لعدم المفسدة غالبا لأن النساء يستحين من بعضهن بعضا في ذلك وقد سبقت هذه المسألة في
باب صفة الأئمة *
(فرع) هل يجوز للمرأة ان تسافر لحج التطوع أو لسفر زيارة وتجارة ونحوهما مع نسوة
ثقات أو امرأة ثقة فيه وجهان وحكاهما الشيخ أبو حامد والماوردي والمحاملي وآخرون من الأصحاب
في باب الاحصار وحكاهما القاضي حسين والبغوي والرافعي وغيرهم (أحدهما) يجوز كالحج (والثاني)
وهو الصحيح باتفاقهم وهو المنصوص في الأم وكذا نقلوه عن النص لا يجوز لأنه سفر لبس بواجب هكذا
علله البغوي ويستدل للتحريم أيضا بحديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا تسافر امرأة
ثلاثا الا ومعها محرم) رواه البخاري ومسلم وفى رواية لمسلم (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر
أن تسافر مسيرة ثلاث ليال الا ومعها ذو محرم) وعن ابن عباس قال (قال النبي صلى الله عليه وسلم
87

لا تسافر امرأة الا مع محرم فقال رجل يا رسول الله إني أريد ان اخرج في جيش كذا وكذا وامرأتي تريد
الحج قال اخرج معها) رواه البخاري ومسلم وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تسافر
امرأة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم) رواه البخاري ومسلم وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر يوما وليلة ليس معها ذو حرمة) رواه
البخاري ومسلم وفي رواية لمسلم (مسيرة يوم) وفي رواية له مسيرة ليلة) وسأعيد هذه المسألة بأبسط
من هذا مع ذكر مذاهب العلماء فيها في آخر باب الفوات والاحصار إن شاء الله تعالى *
(فرع) يجب الحج على الخنثى المشكل البالغ ويشترط في حقه من المحرم ما شرط في المرأة فإن كان
معه نسوة من محارمه كأخواته جاز وان كن أجنبيات فلا لأنه يحرم عليه الخلوة بهن ذكره القاضي
أبو الفتح وصاحب البيان وغيرهما *
(فرع) اتفق أصحابنا على أن المرأة إذا أسلمت في دار الحرب لزمها الخروج إلى دار الاسلام وحدها
من غير اشتراط نسوة ولا امرأة واحدة قال أصحابنا وسواء كان طريقا مسلوكا أو غير مسلوك لان خوفها
على نفسها ودينها بالمقام فيهم أكثر من خوف الطريق وإن خافت في الطريق سبعا لم يجب سلوكه هكذا
ذكر هذه المسألة بتفصيلها هنا القاضي حسين والمتولي وغيرهما وذكرها الأصحاب في كتاب السير *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(فإن لم يبق من الوقت ما يتمكن فيه من السير لأداء الحج لم يلزمه لأنه إذا ضاق الوقت لم يقدر
على الحج فلم يلزمه فرضه) *
(الشرح) قال أصحابنا امكان السير بحيث يدرك الحج شرط لوجوبه فإذا وجد الزاد والراحلة
وغيرهما من الشروط المعتبرة وتكاملت وبقي بعد تكاملها زمن يمكن فيه الحج وجب فان
اخره عن تلك السنة جاز لأنه على التراخي لكنه يستقر في ذمته فإن لم يبق بعد استكمال الشرائط
88

زمن يمكن فيه الحج لم يجب عليه ولا يستقر عليه هكذا قاله الأصحاب قالوا والمراد ان يبقى زمن
يمكن فيه الحج إذا سار السير المعهود فإذا احتاج إلى أن يقطع في يوم أو بعض الأيام كثر من مرحلة لم
يجب الحج ولم يذكر الغزالي هذا الشرط وهو إمكان السير وأنكر عليه الرافعي ذلك وقال هذا الامكان
شرطه الأئمة لوجوب الحج وأهمله الغزالي فأنكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح على الرافعي اعتراضه هذا
على الغزالي وجعله امكان السير ركنا لوجوب الحج وإنما هو شرط استقرار الحج ليجب قضاؤه
من تركته لو مات قبل الحج وليس شرطا لأصل وجوب الحج بل متى وجدت الاستطاعة من
مسلم مكلف حر لزمه الحج في الحال كالصلاة تجب بأول الوقت قبل مضي زمن يسعها ثم استقرارها
في الذمة يتوقف على مضي زمن التمكن من فعلها هذا اعتراضه والصواب ما قاله الرافعي وقد نص
عليه المصنف والأصحاب كما نقل (وأما) انكار الشيخ ففاسد لان الله تعالى قال (ولله على الناس
حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وهذا غير مستطيع فلا حج عليه وكيف يكون مستطيعا وهو عاجز
حسا (وأما) الصلاة فإنها تجب بأول الوقت لامكان تتميمها والله أعلم * هذا مذهبنا وحكى أصحابنا
عن أحمد أن امكان السير وأمن الطريق ليسا بشرط في وجوب الحج * دليلنا أنه لا يكون مستطيعا
بدونهما والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وإن كان من مكة على مسافة لا تقصر فيها الصلاة ولم يجد راحلة نظرت فإن كان قادرا على المشي
وجب عليه لأنه يمكنه الحج من غير مشقة شديدة وإن كان زمنا لا يقدر على المشي ويقدر على الحبو
لم يلزمه لان المشقة في الحبو في المسافة القريبة أكثر من المشقة في المسافة البعيدة في السير وإن كان من
أهل مكة وقدر على المشي إلى مواضع النسك من غير خوف وجب عليه لأنه يصير مستطيعا بذلك) *
(الشرح) قال أصحابنا من كان في مكة أو كانت داره من مكة على مسافة لا تقصر فيها
الصلاة فإن كان قويا على المشي لزمه الحج ولا يشترط وجود الراحلة لأنه ليس في المشي في هذه
الحالة مشقة كثيرة وإن كان ضعيفا لا يقوى على المشي أو يناله به ضرر ظاهر اشترطت الراحلة لوجوب
89

الحج عليه وكذا المحمل ان لم يمكنه الركوب ولا يلزمه الزحف والحبو هكذا قطع به المصنف
والجماهير وحكى الدارمي وجها أنه يلزمه الحبو حكاه عن حكاية ابن القطان وهو شاذ أو غلط
وحكي الرافعي أن القريب من مكة كالبعيد فلا يلزمه الحج الا بوجود الراحلة وهو ضعيف أو غلط
واتفق جمهور أصحابنا على اشتراط وجود الزاد لوجوب الحج على هذا القريب فإن لم يمكنه فلا حج
عليه لان الزاد لا يستغنى عنه بخلاف الراحلة وحكي القاضي حسين في تعليقه وجها أنه لا يشترط لوجوب
الحج على هذا القريب وجود الزاد والصواب المشهور اشتراطه لكن قال الماوردي والقاضي حسين
وصاحب البيان وآخرون في اعتبار زاده كلاما حسنا قالوا إن عدم الزاد وكان له صنعة يكتسب
بها كفايته وكفاية عياله ويفضل له مؤنة حجه لزمه الحج وان لم يكن له صنعة أو كانت بحيث لا
يفضل منها شئ عن كفايته وكفاية عياله وإذا اشتغل بالحج أضر بعياله لم يجب عليه الحج قال
الماوردي ومقامه على عياله في هذه الحالة أفضل والله أعلم * واعلم أن المصنف جعل القريب الذي
لا يشترط لوجوب الحج عليه الراحلة إذا أطاق المشي هو من كان دون مسافة القصر من مكة ولم
يقل من الحرم وهكذا صرح باعتباره من مكة شيخه القاضي أبو الطيب في المجرد والدارمي والقاضي
حسين وصاحب الشامل والبغوي والمتولي وصاحبا العدة والبيان والرافعي وآخرون وضبطه آخرون
بالحرم فقالوا القريب من بينه وبين الحرم مسافة لا تقصر فيها الصلاة ممن صرح بهذا الماوردي
والمحاملي والجرجاني وغيرهم وهذا الخلاف نحو الخلاف في حاضر المسجد وهو من كان دون مسافة
القصر وهل يعتبر من مكة أم من الحرم وسنوضحهما في موضعهما إن شاء الله لكن الأشهر هنا
اعتبار مكة وهناك اعتبار الحرم وبهذا قطع المصنف والجمهور والله أعلم
90

* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ومن قدر على الحج راكبا وماشيا فالأفضل أن يحج راكبا (لان النبي صلى الله عليه وسلم
حج راكبا) ولان الركوب أعون على المناسك) *
(الشرح) المنصوص للشافعي رحمه الله تعالى في الاملاء غيره أن الركوب في الحج أفضل من المشي
ونص أنه إذا نذر الحج ماشيا لزمه وأنه إذ أوصي بحجة ماشيا لزم أن يستأجر عنه من يحج ماشيا
وللأصحاب طريقان (أصحهما) وبه قطع المصنف ومعظم العراقيين أن الركوب أفضل (لان النبي
صلى الله عليه وسلم حج راكبا) ولأنه أعون على المناسك والدعاء وسائر عباداته في طريقه وأنشط له
(والثاني) وهو مشهور في كتب الخراسانيين فيه قولان (أصحهما) هذا (والثاني) المشي لقوله
صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها (على قدر نصبك) وحكى الرافعي وغيره في باب النذر
قولا ثالثا أنهما سواء وقال ابن سريج هما قبل الاحرام فإذا أحرم فالمشي أفضل وقال الغزالي من سهل عليه
المشي فهو أفضل في حقه ومن ضعف وساء خلقه بالمشي فالركوب أفضل والصحيح ان الركوب
أفضل مطلقا وأجاب القائلون بهذا عن نصه في الوصية بالحج ماشيا أن الوصية يتبع فيها ما سماه
الموصى وإن كان غيره أفضل ولهذا لو أوصي أن يتصدق عنه بدرهم لا يجوز التصدق عنه بدينار والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في الحج ماشيا وراكبا أيهما أفضل * قد ذكرنا ان الصحيح في مذهبنا
ان الراكب أفضل قال العبدري وبه قال أكثر الفقهاء * وقال داود ماشيا أفضل * واحتج بحديث
عائشة أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال لعائشة (ولكنها على قدر نفقتك - أو نصبك -) رواه
البخاري ومسلم وفى رواية صحيحة (على قدر عنائك ونصبك) وروى البيهقي باسناده عن ابن
عباس قال (ما آسى على شئ ما آسى اني لم أحج ماشيا) وعن عبيدة وعمير قال ابن عباس (ما ندمت
على شئ فاتني في شبابي الا أني لم أحج ماشيا ولقد حج الحسن بن علي خمسا وعشرين حجة ماشيا
وان النجائب لتقاد معه ولقد قاسم الله تعالى ماله ثلاث مرات حتى كان يعطى الخف ويمسك النعل)
91

ابن عمير يقول ذلك رواية عن الحسن ابن علي قال البيهقي وقد روى فيه حديث مرفوع من رواية
ابن عباس وفيه ضعف عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (من حج من مكة ماشيا
حتى رجع إليها كتب له بكل خطوة سبعمائة حسنة من حسنات الحرم وحسنات الحرم الحسنة بمائة
ألف حسنة) وهو ضعيف وبإسناده عن مجاهد ان إبراهيم وإسماعيل حجا ماشيين ومن حيث المعني
أن الاجر على قدر النصب قال المتولي ولهذا كان الصوم في السفر أفضل من الفطر لمن أطاق الصوم
وصيام الصيف أفضل * واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
حج راكبا) (فان قيل) حج راكبا لبيان الجواز (1) وكان يواظب في معظم الأوقات على الصفة الكاملة
فأما ما لم يفعله إلا مرة واحدة فلا يفعله إلا على أكمل وجوهه ومنه الحج فإنه لم يحج صلى الله
عليه وسلم بعد الهجرة الا حجة واحدة باجماع المسلمين وهي حجة الوداع سميت بذلك لأنه ودع
الناس فيها لا سيما وقد قال صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عني مناسككم) ولأنه أعون له على
المناسك كما سبق والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا الحج على المقتب والزاملة أفضل من المحمل لمن أطاق ذلك ودليل
ذلك حديث ثمامة بن عبد الله بن انس قال (حج انس على رحل ولم يكن صحيحا وحدث ان
رسول الله صلى الله عليه وسلم حج على رحل وكانت زاملة) رواه البخاري والله أعلم *

(1) كذا بالأصل وسقط منه مبدأ الجواب
92

* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(والمستطيع بغيره اثنان (أحدهما) من لا يقدر على الحج بنفسه لزمانة أو كبر وله مال يدفعه إلى
من يحج عنه فيجب عليه فرض الحج لأنه يقدر على أداء الحج بغيره كما يقدر على أدائه بنفسه
فيلزمه فرض الحج (والثاني) من لا يقدر على الحج بنفسه وليس له مال ولكن له ولد يطيعه إذا امره بالحج
فينظر فيه فإن كان الولد مستطيعا بالزاد والراحلة وجب على الأب الحج ويلزمه ان يأمر الولد بأدائه عنه لأنه
قادر على أداء الحج بولده كما يقدر على أدائه بنفسه وان لم يكن للولد مال ففيه وجهان (أحدهما)
يلزمه لأنه قادر على تحصيل الحج بطاعته (والثاني) لا يلزمه لأن الصحيح لا يلزمه فرض الحج من
غير زاد ولا راحلة فالمعضوب أولى ان لا يلزمه وإن كان الذي يطيعه غير الولد ففيه وجهان (أحدهما)
لا يلزمه الحج بطاعته لان في الولد إنما وجب عليه لأنه بضعة منه فنفسه كنفسه وماله كماله في النفقة
وغيرها وهذا المعنى لا يوجد في غيره فلم يجب الحج بطاعته (والثاني) يلزمه وهو ظاهر النص لأنه
واجد لمن يطيعه فأشبه الولد وإن كان له من يجب الحج عليه بطاعته فلم يأذن له ففيه وجهان (أحدهما)
ان الحاكم ينوب عنه في الاذن كما ينوب عنه إذا امتنع من اخراج الزكاة (والثاني) لا ينوب عنه كما إذا كان له مال
ولم يجهز من يحج عنه لم ينب الحاكم عنه في تجهيز من يحج عنه وإن بذل له الطاعة ثم رجع الباذل
ففيه وجهان (أحدهما) أنه لا يجوز لأنه لما لم يجز للمبذول له أن يرد لم يجز للباذل أن يرجع (والثاني)
أنه يجوز وهو الصحيح لأنه متبرع بالبذل فلا يلزمه الوفاء بما بذل (وأما) إذا بذل له مالا يدفعه إلى من
يحج عنه ففيه وجهان (أحدهما) أنه يلزمه قبوله كما يلزمه قبول الطاعة (والثاني) لا يلزمه وهو الصحيح
لأنه إيجاب كسب لايجاب الحج فلم يلزمه كالكسب بالتجارة) *
(الشرح) قوله لأنه بضعة منه هو بفتح الباء لا غير وهي قطعة اللحم وأما البضع والبضعة في العدد
ففيه لغتان مشهورتان كسر الباء وفتحها - والكسر أفصح وبه جاء القرآن وأما المعضوب فهو بالعين
المهملة والضاد المعجمة وأصل المعضب القطع كأنه قطع عن كمال الحركة والتصرف ويقال له أيضا
93

المعصوب - بالصاد المهملة - قال الرافعي كأنه قطع عصبه أو ضرب عصبه (أما) الأحكام فأولها بيان
حقيقة المعضوب قال أصحابنا من كان به علة يرجى زوالها فليس هو بمعضوب ولا يجوز الاستنابة
عنه في حياته بلا خلاف كما سنذكره واضحا بعد هذا حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى وإن كان
عاجزا عن الحج بنفسه عجزا لا يرجى زواله لكبر أو زمانة أو مرض لا يرجى زواله أو كان
كبيرا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة إلا بمشقة شديدة أو كان شابا نضؤ الخلق
لا يثبت على الراحلة الا بمشقة شديدة أو نحو ذلك فهذا معضوب فينظر فيه فإن لم يكن
له مال ولا من يطيعه لم يجب عليه الحج وإن كان له مال ولم يجد من يستأجره أو وجده وطلب
أكثر من أجرة المثل لم يجب الحج ولا يصير مستطيعا والحالة هذه فلو دام حاله هكذا حتى مات
فلا حج عليه وإن وجد مالا ووجد من يستأجره بأجرة المثل لزمه الحج فان استأجره وحج الأجير
عنه وإلا فقد استقر الحج في ذمته لوجود الاستطاعة بالمال وهكذا إذا كان للمعضوب ولد لا يطيعه
في الحج عنه أو يطيعه ولم يحج الولد عن نفسه لا يجب الحج على المعضوب وإن كان الولد يطيعه وقد
حج عن نفسه وجب الحج على المعضوب ولزمه أن يأذن للولد في أن يحج عنه قال أصحابنا وإنما
يلزم المعضوب الاستنابة ويجب عليه الاحجاج عن نفسه في صورتين (أحداهما) أن يجد ما لا يستأجر
به من يحج وشرطه أن يكون بأجرة المثل وأن يكون المال فاضلا عن الحاجات المشترطة فيمن يحج
بنفسه إلا أنه يشترط هناك أن يكون المصروف إلى الزاد والراحلة فاضلا عن نفقة عياله ذهابا ورجوعا
94

وهنا لا يشترط إلا كونه فاضلا عن نفقتهم وكسوتهم يوم الاستئجار خاصة وفيه وجه ضعيف ذكره
إمام الحرمين والبغوي وغيرهما أنه يشترط أن يكون فاضلا عن ذلك مدة ذهاب الأجير كما لو حج
بنفسه والمذهب أنه لا يشترط ذلك كما في الفطرة والكفارة بخلاف من يحج بنفسه فإنه إذا لم يفارق
ولده أمكنه تحصيل نفقتهم ثم إن وفى ما يجده بأجرة راكب فقد استقر الحج عليه وإن لم يف إلا
بأجرة ماش ففي وجوب الاستئجار وجهان (أحدهما) لا يجب كما لا يجب على عاجز عن الراحلة (وأصحهما)
يجب إذ لا مشقة عليه في مشى الأجير بخلاف من يحج بنفسه وقد سبق أنه لو طلب الأجير أكثر من
أجرة المثل لا يجب الحج لان وجود الأجير بأكثر من أجرة المثل كعدمه كما في نظائر المسألة ولو رضي
الأجير بأقل من أجرة المثل ووجد المعضوب ذلك لزمه الحج لأنه مستطيع وليس في ذلك كثير
منه وإذا تمكن من الاستئجار بشرطه فلم يستأجر فهل يستأجر عنه الحاكم لامتناعه أم لا فيه وجهان
مشهوران (أصحهما) لا لان الحج على التراخي فيصير كما لو امتنع القادر من تعجيل الحج (والثاني)
يستأجر عنه كما يؤدى زكاة الممتنع هكذا علله المصنف والجمهور وقال المتولي إذا لزمه الحج فلم يحج
حتى صار معضوبا فهل يلزمه الحج على الفور أم يبقي على التراخي فيه وجهان ان قلنا
على الفور فامتنع استأجر الحاكم عنه وإلا فلا (الصورة الثانية) لوجوب الحج على
المعضوب أن لا يجد المال لكن يجد من يحصل له الحج وله أحوال (أحدها)
أن يبذل له أجنبي مالا ليستأجر به ففي وجوب قبوله الوجهان اللذان ذكرهما المصنف في آخر الفصل
(أصحهما) عند المصنف والأصحاب لا يلزمه وادعى المتولي الاتفاق عليه (والثاني) يلزمه ويستقر به
الحج على هذا في ذمته ودليلهما في الكتاب (الثاني) أن يبذل واحد من بنيه أو بناته أو أولادهم
وان سفلوا الإطاعة في الحج عنه فيلزمه الحج بذلك وعليه الاذن للمطيع هذا هو المذهب ونص عليه
الشافعي في جميع كتبه واتفق عليه الأصحاب في جميع الطرق إلا السرخسي فحكي في الأمالي وجها
عن حكاية أبي طاهر الزيادي من أصحابنا أنه لا يلزم المطاع الحج بذلك وهذا غلط والصواب
اللزوم وسنوضح دليله في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى قال أصحابنا وإنما يصير الحج
واجبا على المطاع بأربعة شروط (أحدها) أن يكون المطيع ممن يصح منه فرض حجة الاسلام بان
يكون مسلما بالغا عاقلا حرا (والثاني) أن يكون المطيع قد حج عن نفسه وليس عليه حجة واجبة
95

عن اسلام أو قضاء أو نذر (والثالث) أن يكون موثوقا بوفائه بطاعته (والرابع) أن لا يكون معضوبا
هكذا ذكر هذه الشروط الأصحاب في الطريقين اتفقوا عليها الا الدارمي فقال إذا كان على
المطيع حج ففي وجوب الحج على المطاع وجهان (الصحيح) لا يلزمه كما قال الأصحاب (والثاني) يلزمه
ويلزم الحج بلا خلاف للشك في حصول الاستطاعة ولو توسم فيه أمر الطاعة وظنها فهل يلزمه
أن يأمره بالحج فيه وجهان حكاهما المتولي والبغوي والشاشي (الصحيح) المنصوص يلزمه لحصول
الاستطاعة وبهذا قطع القاضي أبو الطيب وآخرون (والثاني) لا يلزمه ما لم يصرح بالطاعة لان الظن
قد يخطئ فلا يتحقق القدرة بذلك قال المتولي وهذا اختيار القاضي حسين ولو بذل المطيع الطاعة
وجب على الوالد المطاع أن يأذن له في ذلك فإن لم يأذن ألزمه الحاكم بذلك فان أصر على الامتناع فهل
ينوب الحاكم عنه فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (الصحيح) لا لان الحج على
التراخي قال الدارمي قال ابن القطان هذا قول ابن أبي هريرة (والثاني) قول أبي إسحاق المروزي
وإذا اجتمعت شروط وجوب الحج بالطاعة فمات المطيع قبل أن يأذن له أو رجع عن الطاعة
وصححنا رجوعه فان مضي بعد وجود الشرط زمن امكان الحج استقر وجوب الحج
في ذمة الميت والا فلا ولو كان له من يطيعه ولم يعلم بطاعته فهو كما لو كان له مال موروث ولم يعلم به
هكذا أطلقه الشيخ أبو حامد وآخرون ولم يذكروا حكمه قال ابن الصباغ والمتولي وصاحب العدة
هو كمن فقد الماء في رحله وصلى بالتيمم والمذهب وجوب إعادة الصلاة ومعنى هذا أنه يجئ
هنا خلاف كذاك الخلاف فيكون الصحيح أنه يجب الحج ولا يعذر بالجهل لأنه مقصر (والثاني)
بعذر ولا يجب عليه الحج وقال الشاشي في المعتمد هو شبيه بالمال الضال في الزكاة والمذهب وجوبها
فيه قال الرافعي ولك أن تقول لا يجب الحج بمال مجهول لأنه متعلق بالاستطاعة ولا استطاعة مع عدم
العلم بالمال والطاعة قال المتولي ولو ورث المعضوب مالا ولم يعلمه حتى مات ففي وجوب قضاء الحج
من تركته هذا الخلاف قال وكذا لو كان له من يطيعه ولم يعلم به حتى مات ولو بذل الولد الطاعة
ثم أراد الرجوع فإن كان بعد احرامه لم يجز بلا خلاف وإن كان قبله فوجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما
(أصحهما) له ذلك لأنه تبرع بشئ لم يتصل به الشروع فإن كان رجوعه قبل حج أهل بلده تبينا
96

أنه لا حج على المطاع هكذا أطلق المصنف والأصحاب الوجهين وقال الدارمي الوجهان إذا بذل
الطاعة وقبلها الوالد فأما إذا بذلها ولم يقبل الوالد ولا الحاكم إذا قلنا يقوم مقامه عند الامتناع
فللباذل الرجوع (الحال الثالث) أن يبذل الأجير الطاعة فيجب قبولها على أصح الوجهين وهو
ظاهر نص الشافعي كما ذكره المصنف وجها واحدا وهذا الذي قاله ظاهر وكلام الأصحاب محمول
على الرجوع (والثاني) لا يجب والأخ كالأجنبي مطيعا لان استخدامه يثقل على الانسان كاستخدام
الأجنبي بخلاف الولد (وأما) ابن الأخ والعم وابن العم فكالأخ (وأما) الجد والأب فالمذهب
أنهما كالأخ وبهذا قطع الجمهور وهو المنصوص في الأم والاملاء وقيل هما كالولد لاستوائهما في
النفقة والعتق بالملك ومنع الشهادة ونحوها حكاه المتولي وغيره والمذهب الأول بعد القبول والله
أعلم * قال الدارمي ولو رجع فاختلفا فقال الأب رجعت بعد قبول وقال الابن بل قبله فأيهما يصدق
يحتمل وجهين (واعلم) أن ما صححناه من الوجهين في أصل المسألة وهو جواز الرجوع قبل الاحرام
هو الصحيح عند المصنف وجماهير الأصحاب في الطريقين وشذ الماوردي فصحح منع الرجوع
وفرق بينه وبين بذل الماء للتيمم ثم رجع قبل قبضه بأن للماء بدلا وهو التيمم والله أعلم (الحال
الرابع) أن يبذل له الولد المال فهل يجب قبوله والحج فيه وجهان مشهوران ذكر المصنف
دليلهما (أصحهما) لا يجب لأنه مما يمن به بخلاف خدمته بنفسه والوجهان مرتبان على بذل الأجنبي
المال فان أوجبنا القبول من الأجنبي فالولد أولى والا فوجهان (الأصح) لا يجب ولو بذل المال
للمعضوب أبوه فهل هو كبذل الأجنبي أم كبذل الولد فيه احتمالان ذكرهما إمام الحرمين (أصحهما)
كالولد لعدم المنة بينهما غالبا وهذا الذي ذكرناه في بذل الطاعة كله مفروض فيما إذا كان الباذل
يحج راكبا فلو بذل الابن ليحج ماشيا ففي لزوم القبول وجهان (أصحهما) لا يلزم قال الشيخ أبو
محمد الجويني وغيره هما مرتبان على الوجهين في وجوب استئجار الماشي وهنا أولى منع الوجوب
لأنه يشق عليه مشي ولده وفى معناه الوالد إذا أطاع وأوجبنا قبوله ولا يجئ الترتيب إذا كان
97

المطيع أجنبيا فالحاصل أن الأصح أنه لا يجب القبول إذا كان المطيع ماشيا أبا أو ولدا ويجب إذا كان
أجنبيا وإذا أوجبنا القبول والمطيع ماش فذلك إذا كان له زاد فإن لم يكن وعول على الكسب في
طريقه ففي وجوب القبول وجهان حكاهما امام الحرمين وغيره لان الكسب قد ينقطع فإن لم يكن
مكتسبا وعول على السؤال قال الامام فالخلاف قائم على الترتيب وأولى بأن لا يجب قال فان احتاج
إلى ركوب مفازة ليس بها كسب ولا سؤال ينفع لم يجب القبول بلا خلاف لأنه لا يحرم التغرير بالنفس
على الابن المطيع فإذا حرم ذلك عليه استحال وجوب استنابته والحالة هذه وذكر المصنف والجمهور
في اشتراط الزاد والراحلة للمطيع وجهين من غير ترتيب وعلل المتولي الوجوب بأن المطاع صار
قادرا فلزمه الحج كمن كان معه مال ولا يكفيه لحج فرض ووجد من يحج بذلك المال يلزمه
الاستئجار لتمكنه *
(فرع) قال أصحابنا إذا أفسد المطيع الباذل حجه انقلب إليه كما سيأتي في الأجير إن شاء الله
تعالى *
(فرع) قال الدارمي إذا بذل الولد الطاعة لأبويه فقبلا لزمه ويبدأ بأيهما شاء قال وإذا قبل
الوالد البذل لم يجز له الرجوع *
(فرع) قال أصحابنا وإذا كان على المعضوب حجة نذر أو قضاء فهي كحجة الاسلام
فيما سبق *
(فرع) قال أصحابنا لا يجزئ الحج عن المعضوب بغير اذنه بخلاف قضاء الدين عن غيره لان
الحج يفتقر إلى النية وهو أهل للاذن بخلاف الميت وفيه وجه ضعيف أنه يجوز بغير اذنه حكاه
المتولي عن القاضي أبي حامد المروروزي وحكاه أيضا الرافعي وهو شاذ ضعيف واتفق أصحابنا على
جواز الحج عن الميت ويجب عند استقراره عليه سواء أوصى به أم لا ويستوى فيه الوارث والأجنبي
كالدين قال المتولي ويخالف ما لو كان على الميت عتق رقبة فأعتقها أجنبي فإنه لا يصح على أحد
98

الطريقين لان العتق يقتضى الولاء والولاء يقتضى الملك واثبات الملك بعد موته مستحيل (وأما)
صحة الحج فلا تقتضي ثبوت ملك له قال أصحابنا تجوز الاستنابة عن الميت إذا كان عليه حجة وله
تركة وسيأتي تفصيله في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى (وأما) المعضوب فتلزمه الاستنابة سواء
طرأ العضب بعد الوجوب أو بلغ معضوبا واجدا للمال ولوجوب الاستنابة صورتان سبق بينهما
والله أعلم *
(فرع) قال المتولي المعضوب إذا كان من مكة أو بينه وبينها دون مسافة القصر لا يجوز أن
يستنيب في الحج لأنه لا تكثر المشقة عليه في أداء الحج ولهذا لو كان قادرا لا يشترط في وجوب
الحج عليه الراحلة *
(فرع) قال أصحابنا إذا طلب الوالد المعضوب العاجز عن الاستئجار من الولد أن يحج عنه
استحب للولد إجابته ولا تلزمه إجابته ولا الحج بلا خلاف قال المتولي وغيره والفرق بينه وبين
الاعفاف وهو التزويج فإنه يلزم الولد عند حاجة الأب على المذهب وأنه ليس على المذهب وأنه ليس على الوالد
في امتناع
الولد من الحج ضرر لأنه حق الشرع فإذا عجز عنه لم يأثم ولا يجب عليه بخلاف الاعفاف فإنه
حق الأب واضطراره عليه فهو شبيه بالنفقة والله أعلم *
(فرع) قال المتولي لو استأجر المطيع إنسانا ليحج عن المطاع المعضوب فإن كان المطيع ولدا
فالمذهب أنه يلزم المطاع الحج وإن كان أجنبيا وقلنا يجب الحج بطاعة الأجنبي فوجهان (أحدهما)
يلزمه لأنه وجد من يطيعه فصار كما لو بذل الطاعة بنفسه (والثاني) لا لان هذا في الحقيقة بذل
مال ولا يجب الحج ببذل الأجنبي المال وهذا إذا قلنا بالمذهب أن بذل الأجنبي المال لا يجب
قبوله وقد جزم الشيخ أبو حامد والمحاملي وصاحب الشامل وغيرهم باللزوم فيما إذا كان المطيع ولدا *
(فرع) إذا كان للمعضوب مال ولم يستأجر من يحج عنه فهل يستأجر الحاكم من يحج عنه
لامتناعه فيه طريقان (أحدهما) أن فيه وجهين كالوجهين السابقين فيما إذا امتنع المطاع من الاذن
99

للمطيع الباذل للطاعة وبهذا الطريق قطع الفوراني والبغوي وغيرهما من الخراسانيين (والثاني)
لا يستأجر عنه وجها واحدا قال صاحب البيان وبه قطع العراقيون من أصحابنا والفرق بينه وبين
الاذن للمطيع أن للمعضوب غرضا في تأخير الاستئجار بأن ينتفع بماله *
(فرع) قال أصحابنا يشترط أن ينوى الباذل للحج عن المعضوب *
(فرع) إذا بذل الولد الطاعة وقبلها الأب ثم مات الباذل قبل الحج قال الدارمي إن كان
قدر على الحج فلم يحج قضى من ماله وإن كان لم يقدر فلا شئ عليه قال وعلى قول من قال للباذل
الرجوع يقوم ورثته مقامه في اختيار الرجوع وهذا الذي قاله من وجوب قضائه من تركة الباذل
فيه نظر وهو محتمل *
(فرع) قال الدارمي وغيره يلزم الباذل أن يحج من الميقات فان جاوزه لزمه دم وكذا كل
عمل يتعلق به فدية *
(فرع) قال أصحابنا وشروط الباذل الذي يصح بذله ويجب به الحج أربعة (أحدها) أن
يكون ممن يصح منه أداء حجة الاسلام بنفسه بأن يكون بالغا عاقلا حرا مسلما (والثاني) كونه
لا حج عليه (والثالث) أن يكون موثوقا ببذله له (والرابع) أن لا يكون معضوبا وقد سبق بيان
هذه الشروط وقد أخذ المصنف بايضاحها فأردت التنبيه عليها مفردة لتحفظ قال السرخسي وذكر
القفال مع هذه الشروط شرطا آخر وهو بقاء المطيع على الطاعة مدة إمكان الحج فلو رجع قبل
الامكان فلا وجوب كما إذا استجمع أسباب الاستطاعة في حق نفسه ففات بعضها قبل امكان
الحج فإنه يسقط الوجوب ولا نقول إنه لم يجب والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في وجوب الحج على المعضوب إذا وجد مالا وأجيرا بأجرة المثل
قد ذكرنا ان مذهبنا وجوبه وبه قال جمهور العلماء منهم علي بن أبي طالب والحسن البصري والثوري
وأبو حنيفة واحمد وإسحاق وابن المنذر وداود وقال مالك لا يجب عليه ذلك ولا يجب إلا
100

ان يقدر على الحج بنفسه * واحتج بقوله تعالى (وان ليس للانسان الا ما سعي) وبقوله تعالى
(ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) وهذا لا يستطيع وبأنها عبادة لا تصح فيها
النيابة مع القدرة فكذا مع العجر كالصلاة * واحتج أصحابنا بحديث ابن عباس (ان امرأة من
خثعم قالت يا رسول الله ان فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على
الراحلة أفأحج عنه قال نعم وذلك في حجة الوداع) رواه البخاري ومسلم وعن أبي رزين الفضلي
انه اتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال (ان أبي شيخا كبيرا لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظعن
قال حج عن أبيك واعتمر) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وقال الترمذي حديث حسن
صحيح وعن علي رضي الله تعالى عنه (ان جارية شابة من خثعم استفتت النبي صلى الله عليه وسلم
فقالت إن أبي شيخا كبيرا قد أقر وقد أدركته فريضة الله تعالى في الحج فهل يجزئ عنه أن أؤدي
عنه قال نعم فأدى عن أبيك) رواه أحمد والترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن عبد الله
ابن الزبير رضي الله عنهما قال (جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أبي أدركه الاسلام
وهو شيخ كبير لا يستطيع ركوب الرحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه قال أنت أكبر ولده
قال نعم قال أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان ذلك يجزئ عنه قال نعم قال
فاحجج عنه) رواه أحمد والنسائي (1) والجواب عن قوله تعالى (وأن ليس للانسان إلا ما سعى)
أنه وجد من المعضوب السعي وهو بذل المال والاستئجار وعن قوله تعالى (من استطاع) أن هذا
مستطيع بماله وعن القياس على الصلاة أنها لا يدخلها المال والله أعلم *
(فرع) في مذاهبهم في المعضوب إذا لم يجد مالا يحج به غيره فوجد من يطيعه * قد ذكرنا أن
مذهبنا وجوب الحج عليه * وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد لا يجب عليه * ودليلنا ودليلهم يعرف مما
ذكره المصنف مع ما ذكرته في الفرع قبله *
(فرع) في مذاهبهم فيما إذا أحج المعضوب عنه ثم شفى وقدر على الحج بنفسه * قد ذكرنا أن الصحيح

(1) بياض بالأصل فحرر
101

من مذهبنا أنه لا يجزئه وعليه أن يحج بنفسه ونقله القاضي عياض عن جمهور العلماء * وقال أحمد
وإسحاق يجزئه
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(والمستحب لمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره أن يقدمه لقوله تعالى (فاستبقوا الخيرات)
ولأنه إذا أخره عرضه للفوات بحوادث الزمان ويجوز أن يؤخره من سنة إلى سنة لان
فريضة الحج نزلت سنة ست وأخر النبي صلى الله عليه وسلم الحج إلى سنة عشر من غير عذر فلو
لم يجز التأخير لما أخره) (الشرح) قوله من غير عذر قد ينكر فيقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفتح مكة ولم يتمكن من الحج
إلا في سنة ثمان وظاهر كلام المصنف أنه لم يتمكن من حين نزلت فريضة الحج وهذا اعتراض
فاسد لان مراد المصنف أن النبي صلى الله عليه وسلم تمكن سنة ثمان وسنة تسع وتمكن كثيرون
من أصحابه ولم يحج ويحجوا إلا سنة عشر ولم يقل المصنف أنه تمكن من سنة ست (أما) حكم الفصل
ففيه مسألتان (إحداهما) المستحب لمن وجب عليه الحج بنفسه أو بغيره تعجليه لما ذكره المصنف
ولحديث مهران بن صفوان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من أراد الحج فليعجل رواه أبو داود باسناده عن مهران ومهران هذا مجهول قال ابن أبي حاتم
سئل أبو ذرعة عنه فقال لا أعرفه إلا من هذا الحديث (الثانية) إذا وجدت شروط وجوب الحج
وجب على التراخي على ما نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب إلا المزني فقال هو على الفور
فعلى المذهب يجوز تأخيره بعد سنة الامكان ما لم يخش العضب فان خشيه فوجهان مشهوران في
كتب الخراسانيين حكاهما إمام الحرمين والبغوي والمتولي وصحاب العدة وآخرون قال الرافعي (أصحهما)
لا يجوز لان الواجب الموسع لا يجوز تأخيره إلا بشرط أن يغلب على الظن السلامة إلى وقت
فعله وهذا مفقود في مسألتنا (والثاني) يجوز لان أصل الحج على التراخي فلا يتغير بأمر محتمل
قال المتولي ويجرى هذان الوجهان فيمن خاف أن يهلك ماله هل له تأخير الحج أم لا والله أعلم *
102

(فرع) في مذاهب العلماء في كون الحج على الفور أو التراخي * قد ذكرنا أن مذهبنا أنه على
التراخي وبه قال الأوزاعي والثوري ومحمد بن الحسن ونقله الماوردي عن ابن عباس وأنس
وجابر وعطاء وطاوس رضى الله تعالى عنهم * وقال مالك وأبو يوسف هو على الفور وهو قول
المزني كما سبق وهو قول جمهور أصحاب أبي حنيفة ولا نص لأبي حنيفة في ذلك * واحتج لهم بقوله
تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) وهذا أمر والامر يقتضى الفور وبحديث ابن عباس السابق في هذا الفصل
(من أراد الحج فليعجل) وبالحديث الآخر السابق (من لم يمنعه من الحج حاجة أو مرض حابس
أو سلطان جائر فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا) ولأنها عبادة تجب الكفارة بافسادها
فوجبت على الفور كالصوم ولأنها عبادة تتعلق بقطع مسافة بعيدة كالجهاد قالوا ولأنه إذا لزمه الحج
وأخره إما أن تقولوا يموت عاصيا وإما غير عاص (فان قلتم) ليس بعاص خرج الحج عن كونه واجبا
وإن (قلتم) عاص فأما أن تقولوا عصى بالموت أو بالتأخير ولا يجوز أن يعصي بالموت إذ لا صنع له
فيه فثبت انه بالتأخير فدل على وجوبه على الفور * واحتج الشافعي والأصحاب بان فريضة الحج
نزلت بعد الهجرة وفتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة في رمضان سنة ثمان وانصرف عنها
في شوال من سنته واستخلف عتاب بن أسيد فأقام الناس الحج سنة ثمان بأمر رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيما بالمدينة هو وأزواجه وعامة أصحابه ثم غزا غزوة
تبوك في سنة تسع وانصرف عنها قبل الحج فبعث أبا بكر رضي الله تعالى عنه فأقام الناس الحج سنة
تسع ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأزواجه وعامة أصحابه قادرين على الحج غير مشتغلين
بقتال ولا غيره ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم بأزواجه وأصحابه كلهم سنة عشر فدل على جواز
تأخيره هذا دليل الشافعي وجمهور الأصحاب قال البيهقي وهذا الذي ذكره الشافعي مأخوذ من
الاخبار قال (فاما) نزول فرض الحج بعد الهجرة فكما قال واستدل أصحابنا له بحديث كعب بن عجرة قال
(وقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ورأسي يتهافت قملا فقال يؤذيك هوامك قلت نعم يا رسول
103

الله قال أبو داود فقال قد أذاك هو أم رأسك قال نعم قال فاحلق رأسك قال ففي نزلت هذه الآية فمن كان منكم
مريضا أو به اذى من رأسه ففدية إلى آخره) رواه البخاري ومسلم قال أصحابنا فثبت بهذا الحديث ان
قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله فان أحصرتم فما استيسر من الهدى ولا تحلقوا رؤوسكم حتى
يبلغ الهدى محله فمن منكم مريضا أو به أذي من رأسه) إلى آخرها نزلت سنة ست من الهجرة
وهذه الآية دالة على وجوب الحج ونزل بعدها قوله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة)
وقد أجمع المسلمون على أن الحديبية كانت سنة ست من الهجرة في ذي القعدة وثبت
بالأحاديث الصحيحة واتفاق العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا حنينا بعد فتح مكة وقسم
غنائمها واعتمر من سنته في ذي القعدة وكان احرامه بالعمرة من الجعرانة ولم يكن بقي
بينه وبين الحج إلا أياما يسيرة فلو كان على الفور لم يرجع من مكة حتى يحج مع أنه هو
وأصحابه كانوا حينئذ موسرين فقد غنموا الغنائم الكثيرة ولا عذر لهم ولا قتال ولا شغل
آخر وإنما أخره صلى الله عليه وسلم عن سنة ثمان بيانا لجواز التأخير وليتكامل
الاسلام والمسلمون فيحج بهم حجة الوداع ويحضرها الخلق فيبلغوا عنه المناسك ولهذا قال في حجة
الوداع ليبلغ (الشاهد منكم الغائب ولتأخذوا عني مناسككم) ونزل فيها قوله تعالى (اليوم أكملت لكم
دينكم) قال أبو زرعة الرازي فيما روينا عنه حضر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع مائة الف وأربعة
عشر ألفا كلهم رآه وسمع منه فهذا قول الإمام أبي زرعة الذي لم يحفظ أحد من حديث رسول الله
104

صلى الله عليه وسلم كحفظه ولا ما يقاربه (فان قيل) إنما أخره إلى سنة عشر لتعذر الاستطاعة لعدم الزاد والراحلة
أو الخوف على المدينة والاشتغال بالجهاد (فجوابه) ما سبق قريبا * واحتج أصحابنا أيضا بحديث أنس
رضي الله عنه قال (نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شئ فكان يعجبنا أن يجئ الرجل من
أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال يا محمد أتانا رسولك فزعم
لنا أنك تزعم أن الله أرسلك قال صدق قال فمن خلق السماء قال الله قال فمن خلق الأرض قال
الله قال فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل قال الله قال فبالذي خلق السماء وخلق
الأرض ونصب هذه الجبال الله أرسلك قال نعم قال وزعم رسولك ان علينا خمس صلوات في
يومنا وليلتنا قال صدق قال فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا زكاة
في أموالنا قال صدق قال فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك أن علينا صوم
شهر رمضان في سنتنا قال صدق قال فبالذي أرسلك الله أمرك بهذا قال نعم قال وزعم رسولك
أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلا صدق رواه مسلم في صحيحه في أول
105

كتاب الايمان بهذه الحروف وروى البخاري أصله وفى رواية البخاري أن هذا الرجل أبا ضمام بن
ثعلبة وقدوم ضمام بن ثعلبة على النبي صلى الله عليه وسلم كان سنة خمس من الهجرة قاله محمد بن حبيب وآخرون
وغيره سنة سبع وقال أبو عبيد سنة تسع وقد صرح في هذا الحديث بوجوب الحج * واحتج أصحابنا
أيضا بالأحاديث الصحيحة المستفيضة (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم امر في حجة الوداع من لم يكن معه
هدى ان يفتتح الاحرام بالحج ويجعله عمرة وهذا صريح في جواز تأخير الحج مع التمكن * واحتج
أصحابنا أيضا بأنه إذا اخره من سنة إلى سنة أو أكثر وفعله يسمى مؤديا للحج لا قاضيا باجماع
المسلمين هكذا نقل الاجماع فيه القاضي أبو الطيب وغيره ونقل الاتفاق عليه أيضا القاضي حسين
وآخرون ولو حرم التأخير لكان قضاء لا أداء (فان قالوا) هذا ينتقض بالوضوء فإنه إذا اخره حتى
خرج وقت الصلاة ثم فعله كان أداء مع أنه يأثم بذلك (قلنا) قد منع القاضي أبو الطيب كونه أداء
في هذه الحالة وقال بل هو قضاء لبقاء الصلاة لأنه مقصود لها لا لنفسه وجواب آخر وهو أن الوضوء
ليس له وقت محدود فلا يوصف بالقضاء بخلاف الحج وقد تقرر في الاصطلاح ان القضاء فعل
العبادة خارج وقتها المحدود * واحتج أصحابنا أيضا بأنه إذا تمكن من الحج وأخره ثم فعله لا ترد
شهادته فيما بين تأخيره وفعله بالاتفاق ولو حرم لردت لارتكابه المسئ قال إمام الحرمين في الأساليب
أسلوب الكلام في المسألة ان تقول العبادة الواجبة ثلاثة أقسام (أحدها) ما يجب لدفع حاجة
المساكين العاجزة وهو الزكاة فيجب على الفور لأنه المعني من مقصود الشرع بها (والثاني) ما
106

تعلق بغير مصلحة المكلف وتعلق بأوقات شريفة كالصلاة وصوم رمضان فيتعين فعلها في الأوقات
المشروعة لها لان المقصود فعلها في تلك الأوقات (والثالث) عبادة تستغرق العمر وتبسط عليه
حقيقة وحكما وهو الايمان فيجب التدارك إليه ليثبت وجوب استغراق العمر به (والرابع) عبادة
لا تتعلق بوقت ولا حاجة ولم تشرع مستغرقة للعمر وكانت مرة واحدة في العمر وهي الحج فحمل
امر الشرع بها للامتثال المطلق والمطلوب تحصيل الحج في الجملة ولهذا إذا فاتت الصلاة كان
قضاؤها على التراخي لعدم الوقت المختص وكذا القياس في صوم رمضان إذا فات لا يختص قضاؤه
بزمان ولكن تثبت اثار اقتضت غايته بمدة السنة هذا كله إذا قلنا إنه يقتضي الفور
ولنا طريق آخر وهو ان
المختار ان الامر مجردا عن القرائن لا يقتضي الفور وإنما المقصود منه الامتثال المجرد ومن زعم أنه
يقتضى الفور نقلنا الكلام معه إلى أصول الفقه ويمكن ان يقال الحج عبادة لا تنال الا بشق الأنفس
ولا يتأتى الاقدام عليها بعينها بل يقتضى التشاغل بأسبابها والنظر في الرفاق والطرق وهذا مع بعد المسافة
يقتضى مهلة فسيحة لا يمكن ضبطها بوقت وهذا هو الحكمة في إضافة الحج إلى العمر ويمكن ان
يجعل هذا قرينة في اقتضاء الامر بالحج للتراخي فنقول الامر بالحج إما أن يكون مطلقا والامر المطلق
لا يقتضى الفور واما أن يكون معه ما يقتضي التراخي كما ذكرناه هذا كلام امام الحرمين رحمه الله
(اما) الجواب عن احتجاج الحنفية بالآية الكريمة وان الامر يقتضى الفور فمن وجهين (أحدهما)
ان أكثر أصحابنا قالوا إن الامر المطلق المجرد عن القرائن لا يقتضى الفور بل هو على التراخي
وقد سبق تقريره في كلام امام الحرمين وهذا الذي ذكرته من أن أكثر أصحابنا عليه هو المعروف
في كتبهم في الأصول ونقله القاضي أبو الطيب في تعليقه في هذه المسألة عن أكثر أصحابنا (والثاني)
انه يقتضى الفور وهنا قرينة ودليل يصرفه إلى التراخي وهو ما قدمناه من فعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثر أصحابه مع ما ذكره امام الحرمين من القرينة المذكورة في آخر كلامه (واما)
الحديث (من أراد الحج فليعجل) (فجوابه) من أوجه (أحدها) أنه ضعيف (والثاني) أنه حجة
لنا لأنه فوض فعله إلى إرادته واختياره ولو كان على الفور لم يفوض تعجيله إلى اختياره (والثالث)
أنه أمر ندب جمعا بين الأدلة (وأما) الجواب عن حديث (فليمت إن شاء يهوديا) فمن أوجه
107

(أحدها) أنه ضعيف كما سبق (والثاني) أن الذم لمن أخره إلى الموت ونحن نوافق على تحريم تأخيره
إلى الموت والذي نقول بجوازه هو التأخير بحيث يفعل قبل الموت (الثالث) أنه محمول على من
تركه معتقدا عدم وجوبه مع الاستطاعة فهذا كافر ويؤيد هذا التأويل أنه قال (فليمت إن شاء
يهوديا أو نصرانيا) وظاهره أنه يموت كافرا ولا يكون ذلك إلا إذا اعتقد عدم وجوبه مع الاستطاعة
وإلا فقد أجمعت الأمة على أن من تمكن من الحج فلم يحج ومات لا يحكم بكفره بل هو عاص
فوجب تأويل الحديث لو صح والله أعلم (والجواب) عن قياسهم على الصوم أن وقته مضيق فكان
فعله مضيقا بخلاف الحج (والجواب) عن قياسهم على الجهاد من وجهين (أحدهما) جواب القاضي
أبي الطيب وغيره لا نسلم وجوبه على الفور بل هو موكول إلى رأى الامام بحسب المصلحة في الفور
والتراخي (والثاني) أن في تأخير الجهاد ضررا على المسلمين بخلاف الحج (والجواب عن قولهم إذا
أخره ومات هل يموت عاصيا أن الصحيح عندنا موته عصايا قال أصحابنا وإنما عصى لتفريطه
بالتأخير إلى الموت وإنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة كما إذا ضرب ولده أو زوجته أو المعلم
108

الصبي أو عزر السلطان انسانا فمات فإنه يجب الضمان لأنه مشروط بسلامة العاقبة والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ومن وجب عليه الحج فلم يحج حتى مات نظرت فان مات قبل أن يتمكن من الأداء سقط
فرضه ولم يجب القضاء وقال أبو يحيى البلخي يجب القضاء وأخرج إليه أبو إسحاق نص الشافعي
رحمه الله فرجع عنه والدليل على أنه يسقط أنه هلك ما تعلق به الفرض قبل التمكن من الأداء
فسقط الفرض كما لو هلك النصاب قبل أن يتمكن من اخراج الزكاة وان مات بعد التمكن من الأداء
لم يسقط الفرض ويجب قضاؤه من تركته لما روى بريدة قال (أتت النبي صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت
يا رسول الله ان أمي ماتت ولم تحج قال حجى عن أمك) ولأنه حق تدخله النيابة لزمه في حال الحياة
فلم يسقط بالموت كدين الآدمي ويجب قضاؤه عنه من الميقات لان الحج يجب من الميقات ويجب
من رأس المال لأنه دين واجب فكان من رأس المال كدين الآدمي وان اجتمع الحج ودين
الآدمي والتركة لا تتسع لهما ففيه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها في آخر الزكاة) *
(الشرح) حديث بريدة رواه مسلم وفى الفصل مسائل (إحداها) إذا وجب عليه الحج فلم يحج
حتى مات فان مات قبل تمكنه من الأداء بان مات قبل حج الناس من سنة الوجوب تبينا عدم
الوجوب لتبين علامة عدم الامكان هكذا نص عليه الشافعي وقطع به الأصحاب وكان أبو يحيى
البلخي من أصحابنا يقول يجب قضاؤه من تركته ثم رجع عن ذلك حين أخرج إليه أبو إسحاق
المروزي نص الشافعي كما ذكره المصنف ودليله في الكتاب وان مات بعد التمكن من أداء الحج
بان مات بعد حج الناس استقر الوجوب عليه ووجب الاحجاج عنه من تركته قال البغوي وغيره
ورجوع الناس ليس معتبرا إنما المعتبر امكان فراغ أفعال الحج حتى لو مات بعد انتصاب ليلة النحر ومضي
امكان السير إلى مني والرمي بها والى مكة والطواف بها استقرار الفرض عليه وان مات أو جن قبل ذلك
لم يستقر عليه وان هلك ماله بعد رجوع الناس أو بعد مضي إمكان الرجوع استقر عليه
الحج وإن هلك ماله بعد حجهم وقبل الرجوع أو امكانه فوجهان (أصحهما) أنه لا يستقر
109

لأنه يشترط بقاؤه في الذهاب والرجوع وقد تبينا أن ماله لا يبقي إلى الرجوع هذا حيث
نشترط أن يملك نفقة الرجوع فإن لم نشترطها استقر بلا خلاف ولو أحصروا وأمكنه الخروج معهم
فتحللوا لم يستقر عليه الحج لأنا تبينا عجزه وعدم امكان الحج هذه السنة فلو سلكوا طريقا آخر
وحجوا استقر عليه الحج وكذا لو حجوا في السنة التي بعدها إذا عاش وبقى ماله (الثانية) قال أصحابنا
حيث وجب عليه الحج وأمكنه الأداء فمات يعد استقراره يجب قضاؤه من تركته كما سبق ويكون
قضاؤه من الميقات ويكون من رأس المال لما ذكره المصنف هذا إذا لم يوص به فان أوصي بان
يحج عنه من الثلث أو أطلق الوصية به من غير تقييد بالثلث ولا برأس المال فهل يحج عنه
من الثلث أم من رأس المال فيه خلاف مشهور في كتاب الوصية فإن كان هناك دين آدمي وضاقت
التركة عنهما ففيه الأقوال الثلاثة السابقة في كتاب الزكاة (أصحها) يقدم الحج (والثاني) دين
الآدمي (والثالث) يقسم بينهما وقد ذكر امام الحرمين والبغوي والمتولي وآخرون من الأصحاب
قولا غريبا للشافعي أنه لا يحج عن الميت الحجة الواجبة الا إذا أوصى حج عنه من الثلث وهذا
قولا غريب ضعيف جدا وسنوضح المسألة في كتاب الوصية إن شاء الله تعالى وهذا كله إذا كان
للميت تركة فلو استقر عليه الحج ومات ولم يحج ولا تركة له بقي الحج في ذمته ولا يلزم الوارث
الحج عنه لكن يستحب له فان حج عنه الوارث بنفسه أو استأجر من يحج عنه سقط الفرض عن
الميت سواء كان أوصي به أم لا لأنه خرج عن أن يكون من أهل الاذن فلم يشترط اذنه بخلاف
المعضوب فإنه يشترط اذنه كما سبق لامكان أدائه ولو حج عن الميت أجنبي والحالة هذه جاز وان
لم يأذن له الوارث كما يقضى دينه بغير اذن الوارث ويبرأ الميت به (الثالثة) إذا وجب عليه الحج
وتمكن من أدائه واستقر وجوبه فمات بعد ذلك ولم يحج فقد سبق أنه يجب قضاؤه وهل نقول
مات عاصيا فيه أوجه مشهورة في كتب الخراسانيين (أصحها) وبه قطع جماهير العراقيين ونقل
القاضي أبو الطيب وآخرون الاتفاق عليه أنه يموت عاصيا واتفق الذين ذكروا في المسألة خلافا
110

على أن هذا هو الأصح قالوا وإنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة (والثاني) لا يعصى لأنا
حكمنا بجواز التأخير (والثالث) يعصى الشيخ دون الشاب لان الشيخ يعد مقصرا لقصر حياته
في العادة قال أصحابنا والخلاف جار فيما لو كان صحيح البدن فلم يحج حتى صار زمنا (والأصح)
العصيان أيضا لأنه فوت الحج بنفسه كما لو مات فإذا زمن وقلنا بالعصيان فهل يجب عليه الاستنابة
على الفور بخروجه بالتقصير عن استحقاق الترفيه ولأنه قد صار في معنى الميت أم له تأخير الاستنابة
كما لو بلغ معضوبا فان له تأخير الاستنابة قطعا فيه وجهان (أصحهما) يلزمه على الفور وعلى هذا
لو امتنع وأخر الاستنابة هل يجبره القاضي عليها ويستأجر عنه فيه وجهان (أحدهما) نعم كزكاة
الممتنع (وأصحهما) لا وقد سبق الوجهان ونظائرهما قريبا فيما إذا بذل للمعضوب ولده الطاعة
فلم يقبل هل يقبل الحاكم عنه (الأصح) لا يقبل قال أصحابنا وإذا قلنا يموت عاصيا فمن أي وقت
يحكم بعصيانه فيه أوجه (أصحها) من السنة الأخيرة من سني الامكان لان التأخير إليها جائز قال
القاضي أبو الطيب وغيره هذا قول أبي إسحاق المروزي (والثاني) من السنة الأولي لاستقرار
الفرض فيها (والثالث) يموت عاصيا ولا يضاف العصيان إلى سنة بعينها قال أصحابنا وتظهر فائدة
الخلاف في أحكام الدنيا صور (منها) انه لو شهد بشهادة ولم يحكم بها حتى مات لم يحكم لبيان فسقه ولو قضى
بشهادته بين السنة الأولى والأخيرة من سني الامكان فان قلنا عصيانه من الأخيرة لم ينقض ذلك الحكم
لان فسقه لم يقارن الحكم بل طرأ بعده فلا يؤثر وان قلنا عصيانه من الأولى ففي نقضه القولان
فيما إذا بان ان فسق الشهود كان مقارنا للحكم والله أعلم * هذا حكم الحج ولو اخر الصلاة عن أول
الوقت الموسع فمات في أثنائه فقد سبق انه هل يموت عاصيا فيه وجهان (الأصح) لا يموت عاصيا
(والأصح) في الحج العصيان قال أصحابنا والفرق ان آخر وقت الصلاة معلوم وقريب فلا يعد
مفرط في التأخير إليه مع غلبة الظن بالسلامة بخلاف الحج وقد سبق في كتاب مواقيت الصلاة
ان تأخير لواجب الموسع إنما بجوز لمن غلب على ظنه السلامة إلى أن يفعل فاما من لم يغلب على
ظنه ذلك فلا يحل التأخير بلا خلاف والله أعلم *
111

(فرع) في مذاهب العلماء في الحج عن الميت * قد ذكرنا ان مذهبنا ان من تمكن من الحج
فمات يجب الاحجاج من تركته سواء أوصى به أم لا وبه قال ابن عباس وأبو هريرة * وقال أبو
حنيفة ومالك لا يحج عنه الا إذا أوصى به ويكون تطوعا * دليلنا حديث بريدة المذكور في الكتاب *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وتجوز النيابة في حج الفرض في موضعين (أحدهما) في حق الميت إذا مات وعليه حج
والدليل عليه حديث بريدة (والثاني) في حق من لا يقدر على الثبوت على الراحلة الا بمشقة غير
معتادة كالزمن والشيخ الكبير والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنهما (ان امرأة من
خثعم أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت
أبي شيخا كبيرا لا يستطيع أن يستمسك على الراحلة أفأحج عنه قال نعم قالت أينفعه ذلك
قال نعم كما لو كان على أبيك دين فقضيته نفعه) ولأنه أيس من الج بنفسه فناب عنه غيره كالميت وفى
حج التطوع قولان (أحدهما) لا يجوز لأنه غير مضطر إلى الاستنابة فيه فلم تجز الاستنابة فيه كالصحيح (والثاني)
انه يجوز وهو الصحيح لان كل عبادة جازت النيابة في فرضها جازت النيابة في نفلها كالصدقة فان
استأجر من يتطوع عنه وقلنا لا يجوز فان الحج للحاج وهل يستحق الأجرة فيه قولان (أحدهما)
أنه لا يستحق لان الحج قد انعقد له فلا يستحق الأجرة كالصرورة (والثاني) يستحق لأنه لم
يحصل له بهذا الحج منفعة لأنه لم يسقط به عنه فرض ولا حصل له به ثواب بخلاف الصرورة فان
هناك قد سقط عنه الفرض (فاما) الصحيح الذي يقدر على الثبوت على الراحلة فلا تجوز النيابة عنه
في الحج لان الفرض عليه في بدنه فلا ينتقل الفرض إلى غيره الا في الموضع الذي وردت فيه
الرخصة وهو إذا أيس وبقى فيما سواه على الأصل فلا تجوز النيابة عنه فيه (وأما) المريض فينظر
فيه فإن كان غير مأيوس منه لم يجز أن يحج عنه غيره لأنه لم ييأس من فعله بنفسه فلا تجوز النيابة عنه
فيه كالصحيح فان خالف وأحج عن نفسه ثم مات فهل يجزئه عن حجة الاسلام فيه قولان (أحدهما)
112

يجزئه لأنه لما مات تبينا أنه كان مأيوسا منه (والثاني) لا يجزئه لأنه أحج وهو غير مأيوس منه في
الحال فلم يجزه كما لو برأ منه وإن كان مريضا مأيوسا منه جازت النيابة عنه في الحج لأنه مأيوس منه
فأشبه الزمن والشيخ الكبير فان أحج عن نفسه ثم برأ من المرض ففيه طريقان (أحدهما) انه كالمسألة
التي قبلها وفيها قولان (والثاني) أنه يلزمه الإعادة قولا واحدا لأنا تبينا الخطأ في الإياس ويخالف
ما إذا كان غير مأيوس منه فمات لأنا لم نتبين الخطأ لأنه يجوز انه لم يكن مأيوسا منه ثم زاد المرض فصار
مأيوسا منه ولا يجوز أن يكون مأيوسا منه ثم يصير غير مأيوس منه) *
(الشرح) حديث بريدة وحديث ابن عباس صحيحان سبق بيانهما قريبا وحديث ابن
عباس سبق في فرع مذاهب العلماء في حج المعضوب أن البخاري ومسلما روياه وليس فيه الزيادة
التي في آخره وهناك سبق بيان لفظه في الصحيحين وقد استدل المصنف بهذا الحديث على الحج
عن الحي المعضوب وكذلك احتج به جميع الأصحاب هنا وغيرهم من العلماء وترجم له ابن ماجة
والبيهقي وخلائق من المحدثين (باب الحج عن الحي المعضوب أو العاجز) ونحو هذه العبارة واحتج
به المصنف في آخر باب الأوصياء على جواز الحج عن الميت وكذا احتج به الغزالي ومن تابعهما
وقد ينكر ذلك ويمكن الجواب عنهم بأنه إذا ثبت جوازه عن الحي المعضوب بهذا الحديث
كان جوازه عن الميت أولى فيكون الاستدلال به للميت من باب التنبيه بالأدنى على الاعلي والله أعلم
(وقوله) كل عبادة جازت النيابة في فرضها جازت النيابة في نفلها كالصدقة ينتقض بالصوم
عن الميت فإنه تجوز النيابة فيه في الفرض على القول القديم وهو المختار كما سبق ولا تجوز في النفل
بلا خلاف (وقوله) كالصرورة هو بفتح الصاد المهملة وهو الذي لم يحج حجة الاسلام وقد ثبت
في سنن أبي داود عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا صرورة
في الاسلام) قال العلماء لا يبقى أحد في الاسلام بلا حج ولا يحل لمستطيع تركه (وأما) قوله ولا حصل
113

له ثواب هكذا قاله المتولي وصاحب البيان وآخرون والمختار حصول الثواب له بوقوع الحج له (وقوله)
لم ييأس هو بفتح الهمزة وكسرها لغتان مشهورتان (وقوله) برأ بفتح الراء وفيه لغتان أخريان سيأتي
(1) متعلقة باللفظ في باب التيمم (قوله) الإياس بكسر الهمزة ويقال بفتحها والأحسن اليأس
(اما) الأحكام ففيها مسائل (إحداها) قال الشافعي والأصحاب تجوز النيابة في حج الفرض المستقر
في الذمة في موضعين (أحدهما) المعضوب (والثاني) الميت وسبق بيان المعضوب ودليلهما في الكتاب
(فاما) حج التطوع فلا تجوز الاستنابة فيه عن حي ليس بمعضوب ولا خلاف عن جمهور الأصحاب
في (2) جوازه ولا عن ميت لم يوص به بلا خلاف نقل الاتفاق عليه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب
وآخرون وهل يجوز عن ميت أوصى به أو حي معضوب استأجر من يحج عنه فيه قولان مشهوران منصوصان
للشافعي في الأم ذكر المصنف دليلهما واختلف أصحابنا في أصحهما فقال الجمهور (أصحهما) الجواز وهو
مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد وممن نص على تصحيحه الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب
في المجرد والمصنف هنا والبغوي والرافعي وآخرون وصحح المحاملي في المجموع المنع والجرجاني
في التحرير والشاشي قال ابن الصباغ وآخرون ما ذكره القائل بالمنع من أنه إنما جاز الاستنابة
في الفرض للضرورة ولا يجوز في النفل فيلتبس بالتيمم فإنه جوز في الفرض للحاجة ويجوز أيضا في
النفل وقد سبق في التيمم والمستحاضة وجه شاذ أنهما لا يفعلان النفل أبدا تخريجا من هذا القول والله
أعلم (واما) الحجة الواجبة بقضاء أو نذر فيجوز النيابة فيها عن الميت والمعضوب بلا خلاف عندنا
كحجة الاسلام لكن لا يجوز عن المعضوب إلا باذنه ويجوز عن الميت باذنه وبغير اذنه ويجوز من
الوارث والأجنبي سواء أذن له الوارث أم لا بلا خلاف وقد سبق بيان هذا ولو لم يكن للميت حج
ولا لزمه حج لعدم الاستطاعة ففي جواز الاحجاج عنه طريقان حكاهما إمام الحرمين وغيره (أحدهما)
القطع بالجواز لوقوعه واجبا (والثاني) انه على القولين كالتطوع لأنه لا ضرورة إليه قال أصحابنا
فإذا قلنا تجوز النيابة في حج التطوع عن الميت والمعضوب جاز حجتان وثلاث وأكثر
ممن صرح به صاحب البيان قال أصحابنا وإذا جوزناه جاز أن يكون الأجير عبدا وصبيا لأنهما
من أهل التبرع بخلاف حجة الاسلام فإنه لا يجوز استئجارهما فيها وهل يجوز استئجارهما في حجة
النذر قال الرافعي إن قلنا يسلك بالنذر مسلك جائز التبرع جاز وإلا فلا قال أصحابنا وإذا صححنا
النيابة في حج التطوع استحق الأجير الأجرة المسماة بلا خلاف وهل يستحق أجرة المثل فيه قولان

(1) كذا في الأصل ولعل الصواب سبق بيانهما في باب التيمم
(2) كذا في الأصل ولعل الصواب في عدم جوازه
114

مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (1) (أصحهما) لا يجزئه (والثاني) يجزئه هكذا أطلق المصنف
والأصحاب الصورة والظاهر أن مرادهم إذا مات بذلك المرض فلو مات فيه بسبب عارض بان قتل
أو لسعته حية ونحوها أو وقع عليه سقف ونحو ذلك لم يجزئه قولا واحدا لأنا لم نتبين كون المرض
غير مرجوا لزوال (أما) إذا كان المرض والعلة غير مرجو الزوال فله الاستنابة فان حج النائب
واتصل بالموت أجزأه عن حجة الاسلام وإن شفي فطريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما
(أحدهما) القطع بعدم الاجزاء وهو نصه في الأم (وأصحهما) فيه القولان كالصورة التي قبلها (أصحهما)
لا يجزئه (فان قلنا) في الصورتين يجزئه استحق الأجير الأجرة المسماة (وإن قلنا) لا يجزئه فعمن يقع
الحج فيه وجهان (أصحهما) عند الجمهور يقع عن الأجير تطوعا لان المستأجر لا يجوز أن يحصل له
تطوع وعليه فرض (وأصحهما) عند الغزالي يقع عن تطوع المستأجر ويكون ذا غررا في وقوع
النفل قبل الفرض كالرق والصبا والمذهب الأول وبه قطع كثيرون (فان قلنا) يقع عن الأجير فهل
يستحق أجرة فيه قولان مشهوران في الطريقين قال البغوي والرافعي (أصحهما) لا يستحق لان
المستأجر لم ينتفع بها (والثاني) يستحق لأنه عمل له في اعتقاده قال أصحابنا وهذان القولان مبنيان
على أن الأجير إذا أحرم عن المستأجر ثم صرف الاحرام إلى نفسه لا ينصرف بل يبقى للمستأجر
وهل يستحق الأجرة فيه قولان مشهوران (أصحهما) باتفاق الأصحاب يستحق لان حجه وقع عن
المستأجر فرضا كأنه لم يصرفه (والثاني) لا يستحق شيئا لأنه لم يعمل له في اعتقاده والفرق في الصورتين
في الأصح حيث قلنا الأصح في هذه الثانية المبنى عليها أنه يستحق الأجرة والأصح في الأولي المبنية
لا يستحق أن في الثانية وقع الحج قرضا عن المستأجر كما استأجره وفى الأولى لم يقع عنه وقاس أصحابنا
وجوب الأجرة على الأصح في صورة صرف الاحرام إلى نفس الأجير على ما إذا استأجره انسان
ليبني له حائطا فبناه الأجير معتقدا أن الحائط لنفسه فبان للمستأجر فإنه يستحق عليه الأجرة قولا
واحدا والفرق على القول الضعيف أن الأجير في صرف الاحرام جائر مخالف وإن كان لا ينصرف
بخلاف الثاني فان قلنا في أصل مسألتنا يستحق الأجرة فهل هي المسمى أن أجرة المثل فيه وجهان
حكاهما البغوي وغيره (أحدهما) المسماة لأن العقد لم يبطل (والثاني) أجرة المثل لأن العقد يتعين
عما عقد عليه وهذا أصح (وان قلنا) عن المستأجر استحق الأجير الأجرة قولا واحدا وهل هي أجرة
المثل أم المسمي (الصحيح) إنها المسمى وهو ظاهر كلام البغوي والأكثرين وقال الشيخ أبو محمد

(1) هكذا الأصل وفيه سقط يعلم بمراجعة عبارة المتن
115

لا يبعد تخريجه الوجهين *
(فرع) قد ذكرنا أنه إذا كان مريضا غير مأيوس منه لا يجوز أن يستنيب ولو استناب ومات
لا يجزئه على أصح القولين قال الماوردي هذا إذا مات بعد حج الأجير فان مات قبل حج الأجير
أجزأه ووقع عن حجة الاسلام ويجرى القولان فيما لو تفاحش ذلك المرض فصار مأيوسا منه
صرح به صاحب الشامل والمتولي وصاحب البيان وآخرون *
(فرع) يعرف كون المريض مأيوسا منه بقول مسلمين عدلين من أهل الخبرة ذكره (1) وينبغي
ان يجئ فيه الخلاف السابق في باب التيمم أنه هل يشترط العدد في كون المرض بهذه الصفة
ويمكن أن يفرق بسهولة امر التيمم *
(فرع) الجنون غير مأيوس من زواله قال صاحب الشامل والأصحاب فإذا وجب عليه الحج
ثم جن لا يستناب عنه فإذا مات حج عنه وان استناب وحج عنه في حال حياته ثم افاق لزمه الحج
قولا واحدا كما سبق في المريض إذا شفى وان استمر جنونه حتى مات قال صاحب الشامل فينبغي
أن يكون على القولين في المريض إذا اتصل مرضه بالموت *
(فرع) قد ذكرنا ان مذهبنا ان المريض غير المأيوس منه لا يصح استنابته في الحج وكذا
المجنون لا يجوز استنابته في حج الفرض عندنا وبه قال احمد وداود وحكى أصحابنا عن أبي حنيفة
جوازه في المسألتين قال ويكون موقوفا فان صح وجب فعله وان مات أجزأه * واحتج بالقياس
على المعضوب قلنا المعضوب آيس من الحج بنفسه بخلاف هذا *
(فرع) قد ذكرنا أن الصحيح لا يصح استنابته في حج فرض ولا نفل * هذا مذهبنا وبه قال مالك
وابن المنذر وداود * وجوز أبو حنيفة وأبو ثور استنابته في التطوع وهو رواية عن مالك * دليلنا القياس
على الفرض قال ابن المنذر وقد أجمعوا على أنه لا يصوم أحد عن حي ولا يصلي ولا يعتكف تطوعا *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا المشهور انه إن مات وعليه حج الاسلام أو قضاء أو نذر وجب
قضاؤها من تركته أوصى بها أم لم يوص قال ابن المنذر وبه قال عطاء وابن سيرين وروى عن أبي
هريرة وابن عباس وهو قول أبي حنيفة وأبي ثور وابن المنذر وقال النخعي وابن أبي ذئيب
لا يحج أحد عن أحد وقال مالك إذا لم يوص به يتطوع عنه بغير الحج ويهدى عنه أو يتصدق
أو يعتق عنه *

(1) بياض بالأصل
116

قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ولا يحج عن الغير من لم يحج عن نفسه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال (سمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم رجلا يقول لبيك عن شبرمة فقال أحججت عن نفسك قال لا قال فحج عن نفسك ثم حج عن
شبرمة) ولا يجوز أن يعتمر عن غيره من لم يعتمر عن نفسه قياسا على الحج قال الشافعي رحمه الله
وأكره أن يسمي من لم يحج صرورة لما روى ابن عباس قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا صرورة في
الاسلام) ولا يجوز أن يتنفل بالحج والعمرة وعليه فرضهما ولا يحج ويعتمر عن النذر وعليه فرض
حجة الاسلام لان النفل والنذر أضعف من حجة الاسلام فلا يجوز تقديمهما عليها كحج غيره على
حجه فان أحرم عن غيره وعليه فرضه انعقد إحرامه لنفسه لما روى في حديث ابن عباس رضي
الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له أحججت عن نفسك قال لا قال فاجعل هذه عن
نفسك ثم حج عن شبرمة) فان أحرم بالنفل وعليه فرضه انعقد إحرامه عن الفرض وان أحرم
عن النذر وعليه فرض الاسلام انعقد احرامه عن فرض الاسلام قياسا على من أحرم عن غيره
وعليه فرضه فان أمر المعضوب من يحج عنه عن النذر وعليه حجة الاسلام فأحرم عنه انصرف إلى
حجة الاسلام لأنه نائب عنه ولو أحرم هو عن النذر انصرف إلى حجة الاسلام فكذلك النائب
عنه وإن كان عليه حجة الاسلام وحجة نذر فاستئجر رجلين يحجان عنه في سنة واحدة فقد نص في
الأم أنه يجوز وكان أولى لأنه لم يقدم النذر عن حجة الاسلام ومن أصحابنا من قال لا يجوز لأنه
لا يحج بنفسه حجتين في سنة وليس بشئ) *
(الشرح) حديث ابن عباس (لا صرورة في الاسلام) رواه أبو داود باسناد صحيح بعضه على
شرط مسلم وباقيه على شرط البخاري والصرورة - بالصاد المهملة - قد بيناه قريبا وأنه اسم لمن لم يحج
سمي بذلك لأنه صر بنفسه عن إخراجها في الحج ويقال أيضا لمن لم يتزوج صرورة لأنه صر بنفسه
عن اخراجها في النكاح (وأما) حديث ابن عباس في قصة شبرمة فرواه أبو داود والدارقطني
والبيهقي وغيرهم بأسانيد صحيحة ولفظ أبي داود عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع
رجلا يقول لبيك عن شبرمة قال من شبرمة قال أخ لي أو قريب قال أحججت عن نفسك قال لا
قال حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة) هذا لفظ أبي داود واسناده على شرط مسلم ورواه البيهقي
باسناد صحيح عن ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يقول لبيك عن
117

شبرمة فقال من شبرمة فذكر أخا له أو قرابة فقال أحججت قط قال لا قال فاجعل هذه عنك ثم حج
عن شبرمة) قال البيهقي هذا إسناده صحيح قال وليس في هذا الباب أصح منه ثم رواه من طرق كذلك
مرفوعا قال وروى موقوفا عن ابن عباس قال ومن رواه مرفوعا حافظ ثقة فلا يفسره خلاف من
خالفه قال البيهقي وأما حديث الحسن بن عمارة عن عبد الملك عن طاوس عن ابن عباس أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم (سمع رجلا يقول لبيك عن شبرمة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم من
شبرمة فقال أخ لي فقال هل حججت قال لا قال حج عن نفسك ثم أحجج عن شبرمة) قال
البيهقي قال الدارقطني هذا هو الصواب عن ابن عباس والذي قبله وهم قال إن الحسن بن عمارة
كان يرويه ثم رجع عنه فحدث به على الصواب موافقا لرواية غيره عن ابن عباس قال وهو متروك
الحديث على كل حال والله أعلم * (وأما) شبرمة - فبشين معجمة مضمومة ثم باء موحدة ساكنه ثم راء
مضمومة (أما أحكام الفصل) ففيه مسائل (إحداها) قال الشافعي والأصحاب لا يجوز لمن عليه
حجة الاسلام أو حجة قضاء أو نذر أن يحج عن غيره ولا لمن عليه عمرة الاسلام إذا أوجبناها
أو عمرة قضاء أو نذر ان يعتمر عن غيره بلا خلاف عندنا فان أحرم عن غيره وقع عن نفسه
لا عن الغير هذا مذهبنا وبه قال ابن عباس والأوزاعي وأحمد اسحق وعن أحمد رواية انه لا ينعقد
عن نفسه ولا غيره ومن أصحابه من قال ينعقد الاحرام عن الغير ثم ينقلب عن نفسه وقال الحسن
البصري وجعفر بن محمد وأيوب السجستاني وعطاء والنخعي وأبو حنيفة (1) نظر إن ظنه قد حج فبان
لم يحج لم يستحق أجرة لتغريره وان علم أنه لم يحج وقال يجوز في اعتقادي ان يحج عن غيره من لم يحج
فحج الأجير الأخير وقع عن نفسه وفى استحقاقه أجرة المثل قولان أو وجهان سبق نظائرهما (واما) إذا
استأجر للحج من حج ولم يعتمر أو للعمرة من اعتمر ولم يحج فقرن الأجير وأحرم بالنسكين عن
المستأجر أو أحرم بما استؤجر له عن المستأجر وبالأخير عن نفسه فقولان حكاهما البغوي وآخرون
(الجديد) الأصح يقعان عن لأجير لان نسكي القران لا يفترقان لاتحاد الاحرام ولا يمكن صرف
ما لم يأمر به المستأجر إليه (والثاني) أن ما استؤجر له يقع عن المستأجر والآخر عن الأجير وقطع
كثيرون بالجديد وصورة المسألة أن يكون المستأجر عنه حيا فإن كان ميتا وقع النسكان جميعا عن
الميت بلا خلاف نص عليه الشافعي والأصحاب قالوا لان الميت يجوز أن يحج عنه الأجنبي ويعتمر
من غير وصية ولا إذن وارث بلا خلاف كما يقضي دينه (أما) إذا استأجر رجلان شخصا

(1) كذا في الأصل ولعله سقط لفظ (ينعقد وهل يستحق الأجرة)
118

(أحدهما) ليحج عنه (والآخر) ليعتمر عنه فقرن عنهما فعلى الجديد يقعان عن الأجير وعلى الثاني
يقع عن كل واحد ما استأجر له *
(فرع) لو أحرم الأجير عن المستأجر ثم نذر حجة نظر ان نذره بعد الوقوف لم ينصرف حجه
إليه بل يقع عن المستأجر وان نذره قبله فوجهان حكاهما (1) والرافعي وآخرون (أصحهما) انصرافه
إلى الأجير (والثاني) لا ينصرف ولو أحرم رجل يحج تطوع ثم ندر حجا بعد الوقوف لم ينصرف
إلى النذر وقبله على الوجهين (2) (المسألة الرابعة) نقل المصنف والأصحاب ان الشافعي رحمه الله قال
أكره أن يسمى من لم يحج صرورة قال القاضي وغيره سبب الكراهة انه من ألفاظ الجاهلية كما كره
أن يقال للعشاء عتمة وللمغرب عشاء وللطواف شوط قالوا وكانت العرب تسمى من لم يحج صرورة
لصره النفقة وامساكها وتسمى من لم يتزوج صرورة لأنه صر الماء في ظهره هذا كلام القاضي
(وقوله) يكره تسمية الطواف شوطا هكذا نص عليه الشافعي وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عمر
وابن عباس تسمية الطواف شوطا وهذا يقتضي أن لا كراهة فيه الا ان يقال إنما استعملاه لبيان
الجواز وهذا جواب ضعيف وسنعيد المسألة في مسائل الطواف إن شاء الله تعالى (واما) كراهية
تسمية من لم يحج صرورة واستدلالهم بهذا الحديث ففيه نظر لأنه ليس في الحديث تعرض للنهي
عن ذلك وإنما معناه لا ينبغي أن يكون في الاسلام أحد يستطيع الحج ولا يحج والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء فيمن عليه حجة الاسلام وحجة نذر * قد ذكرنا أن مذهبنا وجوب
تقديم حجة الاسلام وبه قال ابن عمرو عطاء وأحمد واسحق وأبو عبيد وقال ابن عباس وعكرمة
والأوزاعي يجزئه حجة واحدة عنهما وقال مالك إذا أراد بذلك وفاء نذره فهي عن النذر وعليه
حجة الاسلام من قابل والله أعلم *
(فصل في الاستئجار للحج) هذا الفصل ذكر المصنف بعضه في كتاب الإجارة وبعضا منه
في كتاب الوصية وحذف بعضا منه وقد ذكره المزني في المختصر هنا وترجم له بابا مستقلا في
أواخر كتاب الحج وتابعه الأصحاب على ذكره هنا إلا المصنف فأردت موافقة المزني والأصحاب

(1) بياض بالأصل
(2) كذا في الأصل وسقط منه المسألة الثانية والثالثة فليحرر
119

فأذكر إن شاء الله تعالى مقاصد ما ذكروه مختصرة قال الشافعي والأصحاب يجوز الاستئجار
على الحج وعلى العمرة لدخول النيابة فيهما كالزكاة ويجوز بالبذل كما يجوز بالإجارة وهذا لا خلاف
فيه صرح به القاضي أبو الطيب في المجرد والصحاب قالوا وذلك بأن يقول حج عنى وأعطيك
نفقتك أو كذا وكذا وإنما يجوز الاستئجار حيث تجوز النيابة وإنما تجوز في صورتين في حق
الميت وفى المعضوب كما سبق بيانه وأجرة الحج حلال من أطيب المكاسب *
(فرع) الاستئجار في جميع الأعمال ضربان (أحدهما) استئجار عين الشخص (والثاني) الزام
ذمته العمل مثال الأول من الحج أن يقول المعضوب استأجرتك أن تحج عن ميتي ولو قال أحجج
بنفسك كان تأكيدا (ومثال الثاني) ألزمت ذمتك تحصيل الحج لي أو له ويفترق النوعان في أمور
ستراها إن شاء الله تعالى ثم لصحة الاستئجار شروط وآثار وأحكام موضعها كتاب الإجارة
والذي نذكر هنا ما يتعلق بخصوص الحج قال أصحابنا وكل واحد من ضربي الإجارة قد يعين
فيه زمن العمل وقد لا يعين وإذا عين فقد تعين السنة الأولى وقد تعين غيرها فأما في إجارة العين
فان عينا السنة الأولى جاز بشرط أن يكون الخروج والحج فيما بقي منها مقدورا للأجير فلو كان
مريضا لا يمكنه الخروج أو كان الطريق غير آمن أو كانت المسافة بعيدة بحيث لا تنقطع في بقية
السنة لم يصح العقد للعجز عن المنفعة فان عينا غير السنة الأولى لم يصح العقد كاستئجار الدار
للشهر المستقبل قال أصحابنا إلا أن تكون المسافة بعيدة بحيث لا يمكن قطعها في سنة فلا يضر
التأخير ولكن يشترط السنة الأولى من سنى الامكان فيعتبر فيها ما سبق (وأما) الإجارة الواردة
على الذمة فلا يشترط فيها السنة الأولى بل يجوز تعين السنة الأولى وتعين غيرها فان عين الأولى
أو غيرها تعينت وإن أطلق حمل على الأولى ولا يقدح في هذه الإجارة مرض الأجير ولا خوف
الطريق لامكان الاستنابة في هذه الإجارة ولا يقدح فيها أيضا ضيق الوقت ان عين غير السنة
الأولي قال أصحابنا وليس للأجير في إجارة العين أن يستنيب بحال وأما في إجارة الذمة فقد
أطلق الجمهور أن له الاستنابة وقال الصيدلاني والبغوي وآخرون ان قال ألزمت ذمتك تحصيل
حجة لي جاز أن يستنيب وان قال أحجج بنفسك لم يجز أن يستنيب بل يلزمه أن يحج بنفسه لان
الغرض يختلف باختلاف أعيان الاجراء وحكى امام الحرمين هذا الفصل عن الصيدلاني وخطأه
120

فيه وقال الإجارة في الصورة الثانية باطلة لان الدينية مع الربط بالغنيمة يتناقضان كمن أسلم في ثمرة
انسان معين قال الرافعي وهذا اشكال قوى *
(فرع) ذكر الشيخ أبو حامد في تعليقه والمحاملي وآخرون من الأصحاب في هذا الموضع أن
البيع ينقسم إلى ضربين كالإجارة (أحدهما) بيع عين وهو أن يبيع عينا بعينه فيقول بعتك هذا
فان أطلق العقد اقتضى الصحة وتسليم العين في الحال فان تأخر التسليم يوما أو شهرا أو أكثر لم
يبطل العقد سواء كان بعذر أو بلا عذر وان شرط في العقد تأخير السلم ولو ساعة بطل العقد
لأنه غرر لا يفتقر العقد إليه وربما تلف المعقود عليه والصواب الثاني وهو بيع صفة وهو السلم فان
أطلق العقد اقتضي الحلول وإن شرط أجلا صح بخلاف الضرب الأول لان ما في الذمة لا يتصور
تلفه فلا غرر *
(فرع) قال أصحابنا أعمال الحج معروفة فان علمها المتعاقدان عند العقد صحت الإجارة وان
جهلها أحدهما لم تصح بلا خلاف وممن صرح به امام الحرمين والبغوي والمتولي وهل يشترط تعيين
الميقات الذي يحرم منه الأجير نص الشافعي في الأم ومختصر المزني أنه يشترط ونص في الاملاء
أنه لا يشترط وللأصحاب أربع طرق (أصحها) وبه قال أبو إسحاق المروزي والأكثرون ووافق
المصنفون على تصحيحه فيه قولان (أصحهما) لا يشترط ويحمل على ميقات تلك البلدة في العادة
الغالبة لان الإجارة تقع على حج شرعي والحج الشرعي له ميقات معقود شرعا وغيرها فانصرف
الاطلاق إليه ولأنه لا فرق بين ما يقرره المتعاقدان وما تقرر في الشرع أو العرف كما لو باع بثمن
مطلق فإنه يحمل على ما تقرر في العرف وهو النقد الغالب ويكون كما قرراه وممن نص على تصحيح هذا
القول الشيخ أبو حامد في تعليقه والمحاملي والبندنيجي والرافعي وآخرون (والقول الثاني) يشترط
لان الاحرام قد يكون من الميقات وفوقه ودونه والغرض يختلف بذلك فوجب بيانه (والطريق
الثاني) إن كان للبلد طريقان مختلفا الميقات أو طريق يفضي إلى ميقاتين كقرن وذات عرق لأهل العراق
وكالجحفة وذي الحليفة لأهل الشام فإنهم تارة يمرون بهذا وتارة يمرون بهذا اشترط بيانه والا فلا وهذا
الطريق مشهور في طريقي العراق وخراسان (والثالث) إن كان الاستئجار عن حي اشترط وإن كان عن
ميت فلا لان الحي قد يتعلق له به غرض بخلاف الميت فان المقصود في حقه تحصيل الحج وهذا
الطريق حكاه المصنف في كتاب الإجارة والشيخ أبو حامد والمحاملي وسائر العراقيين وضعفه الشيخ
121

أبو حامد وآخرون وقالوا هذا والذي قبله ليس بشئ ونقله امام الحرمين (والرابع) يشترط قولا
واحدا حكاه الدارمي قال أصحابنا فان شرطا تعيينه فأهملاه فسدت الإجارة لكن يقع الحج عن
المستأجر له لوجود الاذن ويلزمه أجرة المثل وهذا لا خلاف فيه قاله المتولي وغيره ولو عينا ميقاتا
أقرب إلى مكة من ميقات بلد المستأجر فهو شرط فاسد وتفسد الإجارة لكن يصح الحج عن
المستأجر وعليه أجرة المثل كما سبق ولو عينا ميقاتا أبعد عن مكة من ميقاته صحت الإجارة ويتعين
ذلك الميقات كما لو نذره وأما تعيين زمان الاحرام فليس بشرط بلا خلاف لان للاحرام وقتا
مضبوطا لا يجوز التقدم عليه فلو شرط الاحرام من أول يوم من شوال جاز ولزمه الوفاء به ذكره
المتولي وغيره قال القاضي حسين والمتولي وعلى هذا لو أحرم في أول شوال وأفسده لزمه في القضاء
أن يحرم في أول شوال كما في ميقات المكان قال أصحابنا وإن كانت الإجارة للحج والعمرة
اشترط بلا خلاف بيان أنهما أفراد أو تمتع أو قران لاختلاف الغرض به وقد ذكر المصنف هذا
في كتاب الإجارة
(فرع) نقل المزني أن الشافعي نص في المنثور أنه إذا قال المعضوب من حج عنى فله مائة درهم
فحج عنه انسان استحق المائة قال المزني ينبغي أن يستحق أجرة المثل لان هذا إجارة فلا يصح
من غير تعيين الاجر هذا كلام الشافعي والمزني وقد ذكر المصنف المسألة في أول باب الجعالة
وللأصحاب في المسألة ثلاثة أوجه (الصحيح) وقوع الحج عن المستأجر ويستحق الأجير الأجرة
المسماة وبهذا قطع المصنف والجمهور كما نص عليه الشافعي قالوا لأنه جعالة وليس بإجارة والجعالة
تجوز على عمل مجهول فالمعلوم أولى (والثاني) وهو اختيار المزني أنه يقع عن المستأجر ويستحق
الأجير أجرة المثل لا المسمي حكى إمام الحرمين أن معظم الأصحاب مالوا إلى هذا وليس كما قال
وهذا القائل يقول لا تجوز الجعالة على عمل معلوم لأنه يمكن الاستئجار عليه (والثالث) أنه يفسد
الاذن ويقع الحج عن الأجير لان الاذن غير متوجه إلى انسان بعينه فهو كما لو قال وكلت من أراد
بيع داري في بيعها فالوكالة باطلة ولا يصح تصرف البائع اعتمادا على هذا التوكيل وهذا الوجه حكاه
الرافعي وذكر امام الحرمين أن شيخ والده أبا محمد أشار إليه فقال لا يمتنع أن يحكم بفساد الاذن
وهذا الوجه ضعيف جدا بل باطل مخالف للنص والمذهب والدليل فإذا قلنا بالمذهب والمنصوص
فقال من حج عنى فله مائة درهم فسمعه رجلان وأحرما عنه قال القاضي حسين والأصحاب إن سبق
122

إحرام أحدهما وقع عن المستأجر القائل ويستحق السابق المائة واحرام الثاني يقع عن نفسه ولا
يستحق شيئا وإن أحرما معا أو شك في السبق والمعية لم يقع شئ منه عن المستأجر بل يقع احرام
كل واحد منهما عن نفسه لأنه ليس أحدهما أولى من الآخر فصار كمن عقد نكاح أختين بعقد
واحد ولو قال من حج عني فله مائة دينار فأحرم عنه رجلان أحدهما بعد الآخر وقع الاحرام السابق
بالاحرام عن المستأجر القائل وله عليه المائة ولو أحرما معا وقع حج كل واحد منهما عن نفسه
ولا شئ لهما على القائل لما ذكرناه في الصورة السابقة ولأنه ليس فيها أول ولو كان العوض مجهولا
بأن قال من حج عنى فله عبد أو ثوب أو دراهم وقع الحج عن القائل بأجرة المثل والله أعلم *
(فرع) إذا استأجر من يحج عنه بأجرة فاسدة أو فسدت الإجارة بشرط فاسد وحج الأجير
وقع الحج عن المستأجر بأجرة المثل بلا خلاف صرح به أصحابنا ونقل امام الحرمين اتفاق الأصحاب
عليه لصحة الاذن قال الامام وغيره وهو كما لو وكله في البيع بشرط عوض فاسد للوكيل فالاذن
صحيح والعوض فاسد فإذا باع الوكيل صح واستحق أجرة المثل *
(فرع) قال الرافعي مقتضي كلام امام الحرمين والغزالي تجويز تقديم إجارة العين على وقت
خروج الناس للحج وأن للأجير انتظار خروجهم ويخرج مع أول رفقة قال الرافعي والذي ذكره
جمهور الأصحاب على اختلاف طبقاتهم ينازع فيه ويقتضي اشتراط وقوع العقد في وقت خروج
الناس من ذلك البلد حتى قال البغوي لا تصح إجارة العين إلا في وقت خروج القافلة من ذلك
123

البلد بحيث يشتغل عقب العقد بالخروج أو بأسبابه مثل شراء الزاد ونحوه فإن كان قبله لم يصح
قال وبنوا على ذلك أنه لو كان الاستئجار بمكة لم يجز الا في أشهر الحج لتمكنه من الاشتغال بالعمل
عقب العقد قال وعلى ما قاله الامام والغزالي لو جرى العقد في وقت تراكم الثلوج والانداء فوجهان
(أحدهما) يجوز وبه قطع الغزالي في الوجيز وصححه في الوسيط لان توقع زوالها مضبوط (والثاني)
لا لتعذر الاشتغال بالعمل في الحال بخلاف انتظار خروج الرفقة فان خروجها في الحال غير متعذر
هذا كله في إجارة العين (أما) إجارة الذمة فيجوز تقديمها على الخروج بلا شك هذا آخر كلام
الرافعي وقد أنكر عليه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح هذا النقل عن جمهور الأصحاب قال وما ذكره
عن البغوي يمكن التوفيق بينه وبين كلام الامام أو هو شذوذ من البغوي لا ينبغي ان يضاف إلى
جمهور الأصحاب فان الذي رأيناه في الشامل والغمة والبحر وغيرها مقتضاه أنه يصح العقد في وقت
يمكن فيه الخروج والسير على العادة والاشتغال بأسباب الخروج قال صاحب البحر أما عقدها
في أشهر الحج فيجوز في كل موضع لامكان الاحرام في الحال هذا كلام أبي عمرو وقد قال القاضي
حسين في تعليقه إنما يجوز عقد إجارة العين في وقت الخروج إلى الحج واتصال القوافل لان عليه
الاشتغال بعمل الحج عقيب العقد والاشتغال بشراء الزاد والتأهب للسفر منزلة منزل السفر وليس
عليه الخروج قبل الرفقة ولو استأجره أخاه من قبل زمان خروج القافلة لم تنعقد الإجارة لان الإجارة
في زمان مستقبل باطلة هذا كلام القاضي حسين وقال المصنف في أول باب الإجارة فان استأجر
من يحج لم يجز الا في الوقت الذي يتمكن فيه من التوجه فإن كان في موضع قريب لم يجز قبل أشهر
الحج لأنه يتأخر استيفاء المعقود عليه عن حال العقد وإن كان في موضع بعيد لا يدرك الحج الا ان يسير
قبل اشهره لم يستأجر الا في الوقت الذي يتوجه بعده لأنه وقت الشروع في الاستيفاء وقال المحاملي
في المجموع في هذا الباب من كتاب الحج لا يجوز ان يستأجره في إجارة العين إلا في الوقت الذي
يتمكن في أفعال الحج أو ما يحتاج إليه في سيره إلى الحج عقب العقد قال فإن كان ذلك بمكة أو غيرها
124

من البلاد التي يمكن ابتداء الحج فيها في أشهر الحج ويدركه لم يجز ان يستأجره قبل أشهر الحج لأنه لا حاجة
به إلى ذلك فيكون في معنى شرط تأخير السلم في إجارة العين وان استأجره في أشهر الحج صح لأنه يمكنه
ان يحرم بالحج ويأخذ في أفعاله عقب عقد الإجارة فلا يتأخر المعقود عليه عن حال العقد وإن
كان ببلد لا يمكنه ان يحج الا بان يخرج منه قبل أشهر الحج جاز ان يستأجره في الوقت الذي يحتاج
فيه إلى السير إلى الحج والخروج له من البلد ولا تجوز قبل ذلك ومثله في تعليق الشيخ أبي حامد
وذكره البندنيجي وكثيرون وقال القاضي أبو الطيب في المجرد لا تجوز إجارة العين إلا في وقت
يمكن العمل فيه أو يحتاج فيه إلى السبب فإن كان بمكة أو في بلاد قريبة بحيث لا يحتاج إلى تقديم السير على
أشهر الحج كبلاد العراق لم يجز عقدها إلا في أشهر الحج وإن كان يحتاج إلى تقديم السير قبل
أشهره كبلاد خراسان جاز تقديم العقد على أشهر الحج بحسب الحاجة فاما عقده في أشهر الحج فيجوز
في كل مكان لامكان الاشتغال به وقال الدارمي إذا استأجر عنه فان وصل العقد بالرحيل صح
العقد وان لم يصله فإن كان في غير أشهر الحج لم يجز وقال ابن المرزبان يجوز وقيل إن كان ببلد
125

قريب كبغداد لم يجز وإن كان بعيدا جاز *
(فرع) إذا لم يشرع في الحج في السنة الأولى لعذر أو لغير عذر فإن كانت الإجارة على
العين انفسخت بلا خلاف المعقود عليه وإن كانت في الذمة ينظر ان لم يعينا سنة فقد سبق
أنه كتعيين السنة الأولى وذكر البغوي أنه يجوز التأخير عن السنة الأولي والحالة هذه لكن يثبت
للمستأجر الخيار وان عينا السنة الأولى أو غيرها وأخر عنها فطريقان مشهوران (أصحهما) على قولين
كما لو انقطع المسلم فيه في محله (أظهرهما) لا ينفسخ العقد (والثاني) ينفسخ قولا واحدا وهو مقتضى
كلام المصنف في باب الإجارة وبه قطع غيره فإذا قلنا لا ينفسخ فإن كان المستأجر هو المعضوب
عن نفسه فله الخيار إن شاء فسخ وان شاء أخر ليحج الأجير في السنة الأخرى وإن كان الاستئجار
عن ميت فقال المصنف وسائر أصحاب العراقيين وجماعة من غيرهم لا خيار للمستأجر قالوا لأنه لا يجوز
التصرف في الأجرة إذا فسخ العقد ولا بد من استئجار غيره في السنة الثانية فلا وجه للفسخ
126

وحكى إمام الحرمين هذا عن العراقيين ثم قال وفيما ذكروه نظر قال ولا يمنع أن يثبت الخيار للورثة
نظرا للميت وسيعيدون بالفسخ استرداد الأجرة وصرفها إلى احرام آخر أحرى بتحصيل المقصود
هذا كلام الامام وتابعه الغزالي على ذلك فحكى قول العراقيين وجزم به ثم قال وفيه احتمال وذكر
احتمال إمام الحرمين وقال البغوي وآخرون يجب على المولى مراعاة المصلحة فإن كانت في ترك
الفسخ تركه وإن كانت في الفسخ لخوف إفلاس الأجير أو هربه لزمه أن يفسخ فإن لم يفسخ ضمن
قال الرافعي هذا هو الأصح قال فيجوز أن يحمل المنقول عن العراقيين على أحد أمرين وأثبتهما الأئمة
(أحدهما) صور بعضهم المنع بما إذا كان الميت قد أوصى بان يحج عنه فلان مثلا ووجهه بان الوصية
127

مستحقة الصرف إليه (والثاني) قال أبو إسحاق في الشرح للمستأجر عن الميت أن يرفع الامر إلى
القاضي ليفسخ العقد إن كانت المصلحة تقتضيه وأن لا يستقل به فإذا نزل ما ذكروه على المعنى
الأول ارتفع الخلاف وإن نزل على الثاني هان امره هذا كلام الرافعي (أما) إذا استأجر انسان
من مال نفسه من يحج عن الميت فهو كاستئجار المعضوب لنفسه في ثبوت الخيار بالاتفاق (وأما)
إذا استأجر المعضوب لنفسه من يحج عنه فمات المعضوب واخر الأجير الحج عن السنة المعينة فقال الرافعي
لم أر المسألة مسطورة قال وظاهر كلام الغزالي انه ليس للوارث فسخ الإجارة قال الرافعي والقياس
ثبوت الخيار للوارث كالرد بالعيب ونحوه هذا كلام الرافعي والصحيح المختار أنه ليس له الفسخ إذ
لا ميراث في هذه الأجرة بخلاف الرد بالعيب قال أصحابنا ولو قدم الأجير على السنة المعينة جاز
بلا خلاف وقد زاد خيرا وفرقوا بينه وبين من عجل المسلم فيه قبل المحل فان في وجوب قبوله
خلاف وتفصيل بأنه قد يكون له غرض في تأخير قبض المسلم فيه ليحفظ في الذمة ونحو ذلك بخلاف الحج
(فرع) إذا انتهى الأجير إلى الميقات المتعين للاحرام إما بشرطه واما بالشرع إذا لم يشترط
تعيينها يحرم عن المستأجر بل أحرم عن نفسه بعمرة فلما فرغ منها أحرم عن المستأجر بالحج فله
128

حالان (أحدهما) أن لا يعود إلى الميقات فيصح الحج عن المستأجر للاذن ويحط شئ من الأجرة المسماة
لا خلاله بالاحرام من الميقات الملتزم وفى قدر المحطوط خلاف متعلق بأصل وهو أنه إذا
سار الأجير من بلد الإجارة وحج فالأجرة تقع عن مقابلة أصل الحج وحدها أم موزعة على السير
والأعمال فيه قولان مشهوران سنوضحهما قريبا إن شاء الله تعالى فيما إذا مات الأجير (أصحهما) توزع
على الأعمال والسير جميعا (والثاني) على الأعمال وقال ابن سريج إن قال استأجرتك لتحج عني
يقسط على الأعمال فقط وإن قال لتحج عنى من بلد كذا يقسط عليهما وحمل القولين على هذين
الحالين فان خصصناها بالأعمال وزعت الأجرة المسماة على حجة من الميقات وحجة من مكة لان
المقابل بالأجرة على هذا هو الحج من الميقات فإذا كانت أجرة الحجة المسماة من مكة ديناران
والمسماة من الميقات خمسة دنانير فالتفاوت ثلاثة أخماس فيحط ثلاثة أخماس المسمي وإن وزعنا
الأجرة على السير والأعمال وهو المذهب فقولان (أحدهما) لا تحسب له المسافة هنا لأنه صرفها إلى
غرض نفسه لاحرامه بالعمرة من الميقات فعلى هذا توزع على حجة تنشأ من بلد الإجارة ويقع
الاحرام بها من الميقات وعلى حجة تنشأ من مكة فيحط من المسمى بنسبته فإذا كانت أجرة المنشأة
من البلد مائة والمنشأة من مكة عشرة حط تسعة أعشار المسمى (والقول الثاني) وهو الأصح يحسب
قطع المسافة إلى الميقات لجواز أنه قصد الحج منه إلا أنه عرض له العمرة فعلى هذا توزع المسماة
على حجة منشأة من بلد الإجارة إحرامها من الميقات وعلى حجة منشأة من البلد إحرامها من مكة
فإذا كانت أجرة الأولى مائة والثانية تسعين حط عشر المسمى فحصل في الجملة ثلاثة أقوال (المذهب)
منها هذا الأخير قال أصحابنا ثم إن الأجير في مسألتنا يلزمه دم لاحرامه بالحج بعد مجاوزة الميقات
وسنذكر إن شاء الله تعالى خلافا في غير صورة الاعتمار ان إساءة المجاوزة هل تنجبر باخراج الدم
حتى لا يحط شئ من الأجرة أم لا وذلك الخلاف يجئ هنا ذكره أبو الفضل ابن عبدان وآخرون
فإذا الخلاف في قدر المحطوط *
(فرع) للقول باثبات أصل الحط قال الرافعي ويجوز أن يفرق بين الصورتين ويقطع بعدم
الانجبار هنا لأنه ارتفق بالمجاوزة هنا حيث أحرم بالعمرة لنفسه (الحال الثاني) أن يعود إلى الميقات
بعد الفراغ من العمرة فيحرم بالحج منه فهل يحط شئ من الأجرة يبنى على الخلاف السابق (إن
129

قلنا) الأجرة موزعة الأعمال والسير لم يحسب السير لانصرافه إلى عمرة ووزعت الأجرة على
حجة منشأة من بلد الإجارة إحرامها من الميقات وعلى حجة منشأة من الميقات بغير قطع مسافة
ويحط بالنسبة من المسمي (وإن قلنا) الأجرة في مقابلة الأعمال أو وزعناها عليه وعلى السير وحسبت
المسافة فلا حط وتجب الأجرة كلها وهذا هو المذهب ولم يذكر البندنيجي وكثيرون غيره *
(فرع) قال الشافعي الواجب على الأجير أن يحرم من الميقات الواجب بالشرع أو الشرط
فان أحرم منه فقد فعل واجبا وإن أحرم قبله فقد زاد خيرا هذه عبارة الشيخ أبي حامد وسائر
الأصحاب فان جاوز الأجير الميقات المعتبر بالشرط أو الشرع غير محرم ثم أحرم بالحج للمستأجر
فينظر إن عاد إليه وأحرم منه فلا دم ولا يحط من الأجرة شئ وان أحرم من جوف مكة أو بين
الميقات ومكة ولم يعد لزمه دم للإساءة بالمجاوزة وهل ينجبر به الخلل حتى لا يحط شئ من الأجرة
فيه طريقان مشهوران حكاهما المصنف في كتاب الإجارة والأصحاب (أصحهما) عند المصنف
والأصحاب فيه قولان (أحدهما) ينجبر ويصير كأنه لا مخالفة فيجب جميع الأجرة وهذا ظاهر
نصه في الاملاء والقديم لأنه قال يجب الدم ولم يذكر الحط (وأصحهما) وهو نصه في الأم
والمختصر يحط (والطريق الثاني) القطع بالحط وتأولوا ما قاله في الاملاء والقديم بأنه سكت عن
وجوب الحط ولا يلزم من سكوته عنه عدم وجوبه مع أنه نص على وجوب الحط في المختصر
والام (فان قلنا) بالانجبار فهل نعتبر قيمة الدم ونقابلها بالتفاوت فيه وجهان حكاهما القاضي
حسين وإمام الحرمين والغزالي والمتولي والبغوي وآخرون (أصحهما) لا لان التعويل في هذا
القول على جبر الخلل وقد حكم الشرع بأن الدم يجبره من غير نظر إلى اعتبار القيمة (والثاني)
نعم فلا ينجبر ما زاد على قيمة الدم فعلى هذا تعتبر قيمة الدم فإن كان التفاوت مثلها أو أقل حصل
الانجبار ولا حط وإن كان أكثر وجب الزائد هذا إذا قلنا بالانجبار وإن قلنا بالمذهب وهو الحط
ففي قدره وجهان بناء على الأصل السابق وهو أن الأجرة في مقابلة ماذا (إن قلنا) مقابلة الأعمال
فقط وزعنا المسمى على حجة من الميقات وحجة من حيث أحرم (وإن قلنا) في مقابلة الأعمال
والسير وهو المذهب وزعنا المسمى على حجة من بلدة إحرامها من الميقات على حجة من
بلدة إحرامها من حيث أحرم وعلى هذا يقل المحطوط ثم حكي الشيخ أبو محمد وإمام الحرمين
130

ومن تابعهما وجهين في أن النظر إلى الفراسخ وحدها أم يعتبر مع ذلك السهولة والحزونة
(أصحهما) الثاني (أما) إذا عدل الأجير عن طريق الميقات المعتبر إلى طريق آخر ميقاته
مثل المعتبر أو أقرب إلى مكة فطريقان (أصحهما) وهو المنصوص وبه قطع البندنيجي والجمهور
أنه لا شئ عليه وحكى القاضي حسين والبغوي وغيرهما فيه وجهين (أصحهما) هذا لأنه قائم
مقام الميقات المعتبر (والثاني) أنه كمن ترك الميقات وأحرم بعده لأنه بالشرط تعين المكان
(أما) إذا عينا موضعا آخر فإن كان أقرب إلى مكة من الشرعي فالشرط فاسد يفسد الإجارة
كما سبق إذ لا يجوز لمريد النسك مجاوزة الميقات غير محرم وإن كان أبعد بأن عينا الكوفة فيلزم
الأجير الاحرام منها وفاء بالشرط فلو جاوزها وأحرم بعد مجاوزتها فهل يلزمه الدم فيه وجهان
(الأصح) المنصوص نعم لأنه جاوز الميقات الواجب بالشرط فأشبه مجاوزة الميقات الشرعي
(والثاني) لا لان الدم يجب في مجاوزة الشرعي فان قلنا لا يلزمه الدم وجب حط قسط من الأجرة
قطعا وان ألزمناه الدم ففي حصول الانجبار به الطريقان السابقان (المذهب) لا ينجبر وكذا لو
لزمه الدم لترك مأمور به كالرمي والمبيت ففيه الطريقان قال الشيخ أبو حامد والأصحاب فان ترك
نسكا لا دم فيه كالمبيت وطواف الوداع إذا قلنا لا دم فيهما لزمه رد شئ من الأجرة بقسطه بلا
خلاف ولا ينجبر لأنه ليس هنا دم ينجبر به على القول الضعيف فان لزمه بفعل محظور كاللبس
والقلم لم يحط شئ من الأجرة بلا خلاف لأنه لم ينقص شيئا من العمل اتفق أصحابنا على التصريح
بهذا ونقل الغزالي وغيره الاتفاق عليه ويجب الدم في مال الأجير بلا خلاف ولو شرط الاحرام
في أول شوال فأخره لزمه الدم وفى الانجبار الخلاف وكذا لو شرط أن يحج ماشيا فحج راكبا
لأنه ترك مقصودا هكذا حكى المسألتين عن القاضي حسين الرافعي ثم قال ويشبه أن يكونا مفرعين
على أن الميقات المشروط الشرعي والا فلا يلزمه الدم كما في مسألة تعيين الكوفة هذا كلام الرافعي
وقطع البغوي بأنه إذا استأجره ليحج ماشيا فحج راكبا (فان قلنا) الحج راكبا أفضل فقد زاد خيرا
131

(وإن قلنا) الحج ماشيا أفضل فقد أساء بترك المشي وعليه دم وفي وجوب رد التفاوت بين أجرة
الراكب والماشي وجهان بناء على ما سبق وهذا الذي قاله المتولي هو الأصح *
(فرع) قال أصحابنا إذا استأجره للقران بين الحج والعمرة فتارة يمتثل وتارة يعدل إلى
جهة أخرى فان امتثل فقد وجب دم القران وعلى من يجب فيه وجهان وقيل قولان (أصحهما)
على المستأجر وبه قطع الشيخ أبو حامد والبندنيجي كما لو حج بنفسه لأنه الذي شرط القران
(والثاني) على الأجير لأنه المترفه فعلى الأول لو شرطاه على الأجير فسدت الإجارة نص عليه
الشافعي واتفق عليه الأصحاب لأنه جمع بين بيع مجهول وإجارة لان الدم مجهول الصفة فإن كان
المستأجر معسرا فالصوم الذي هو بدل الهدى على الأجير لان بعض الصوم وهو الأيام الثلاثة
ينبغي أن يكون في الحج لقوله تعالى (فصيام ثلاثة أيام في الحج) والذي في الحج منهما هو الأجير
كذا ذكره البغوي وقال المتولي هو كالعاجز عن الهدى والصوم جميعا وعلى الوجهين يستحق الأجرة
بكمالها (فاما) إذا عدل فينظر إن عدل إلى الافراد فحج ثم اعتمر فإن كانت الإجارة على
العين لزمه أن يرد من الأجرة حصة العمرة نص عليه الشافعي في المناسك الكبير واتفق عليه
الأصحاب قالوا لأنه لا يجوز تأخير العمل في هذه الإجارة عن الوقت المعين وإن كانت في الذمة
نظر فان عاد إلى الميقات للعمرة فلا شئ عليه لأنه زاد خيرا ولا على المستأجر أيضا لأنه لم يقرن
وان لم يعد فعلى الأجير دم لمجاوزته الميقات للعمرة وهل يحط شئ من الأجرة أم تنجبر الإساءة
بالدم فيه الخلاف السابق وإن عدل إلى التمتع فقد أشار المتولي إلى أنه إن كانت الإجارة عين لم
يقع الحج عن المستأجر لوقوعه في غير الوقت المعين وهذا هو قياس ما سبق قريبا من نص الشافعي
وإن كانت على الذمة نظر إن عاد إلى الميقات للحج فلا دم عليه ولا على المستأجر وإن لم يعد
فوجهان (أحدهما) لا يجعل مخالفا لتقارب الجهتين فيكون حكمه كما لو امتثل وفى كون الدم على
الأجير أو المستأجر الوجهان (وأصحهما) يجعل مخالفا فيجب الدم على الأجير لا ساءته وفى حط
132

شئ من الأجرة الخلاف السابق في الأجير إذا أحرم بعد مجاوزة الميقات (قيل) يحط قولا واحدا
والأصح قولان (أصحهما) يحط (والثاني) لا قال الرافعي وذكر أصحاب الشيخ أبي حامد أنه
يلزم الأجير دم لترك الميقات وعلى المستأجر دم آخر لان القران الذي أمر به يتضمنه قال واستبعده
ابن الصباغ وغيره *
(فرع) إذا استأجره للتمتع فامتثل فهو كما لو استأجره للقران فامثتل وإن أفرد نظر إن قدم
العمرة وعاد لاحرام الحج إلى الميقات فقد زاد خيرا وان أخر العمرة نظرت فإن كانت إجارة
عين انفسخت في العمرة لفوات وقتها المعين فيرد حصتها من المسمى وإن كانت الإجارة في الذمة
وعاد إلى الميقات للعمرة لم يلزمه شئ وان لم يعد فعليه دم لترك الاحرام بالعمرة من الميقات وفى حط
شئ من الأجرة الخلاف السابق وان قرن فقد زاد خيرا نص عليه الشافعي لأنه أحرم بالنسكين
من الميقات وكان مأمورا بأن يحرم بالحج من مكة ثم إن عدد الافعال للنسكين فلا شئ عليه
والا فهل يحط شئ من الأجرة لاقتصاره على الافعال فيه وجهان وكذا الوجهان في أن الدم على
المستأجر أم الأجير *
(فرع) لو استأجر للافراد فامتثل فذاك فلو قرن نظر إن كانت الإجارة على العين فالعمرة
واقعة في غير وقتها فهو كما لو استأجره للحج وحده فقرن وقد سبق بيانه في فرع بعد المسألة الثالثة
من المسائل التي قبل فصل الاستئجار وذكرنا فيه قولين بتفريعهما (الجديد) الأصح وقوع النسكين
عن الأجير (وأما) إن كانت الإجارة في الذمة فيقعان عن المستأجر وعلى الأجير الدم وهل يحط
شئ من الأجرة للخلل أم ينجبر بالدم فيه الخلاف وان تمتع فإن كانت الإجارة على العين
وقد أمره بتأخير العمرة فقد وقعت في غير وقتها فيرد ما يخصها من الأجرة وان أمره بتقديمها أو
كانت الإجارة على الذمة وقعا عن المستأجر ولزم الأجير دم ان لم يعد إلى الميقات لاحرام الحج
وفى حط شئ من الأجرة الخلاف * هذا كله إذا كان المحجوج عنه حيا فإن كان ميتا فقرن
الأجير أو تمتع وقع النسكان عن الميت بكل حال صرح به الشيخ أبو حامد والأصحاب قالوا لان
الميت لا يفتقر إلى اذنه في وقوع الحج والعمرة عنه لان الشافعي نص على أنه لو بادر أجنبي فحج
عن الميت صح ووقع عن فرض الميت من غير وصية ولا اذن وارث ولو قال الحي للأجير حج
133

عني وإن تمتعت أو قرنت فقد أحسنت فقرن أو تمتع وقع النسكان (1) بلا خلاف صرح به البندنيجي
وغيره ولو استؤجر للحج فاعتمر أو للعمرة فحج فإن كانت الإجارة لميت وقع عن الميت لما ذكرنا
وإن كانت عن حي وقعت عن الأجير ولا أجرة له في الحالين *
(فرع) إذا جامع الأجير وهو محرم قبل التحلل الأول فسد حجه وانقلب الحج إليه فيلزمه
الفدية في ماله والمضي في فاسده والقضاء هذا هو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور وتظاهرت عليه
نصوص الشافعي وفيه قول آخر أنه لا ينقلب ولا يفسد ولا يجب القضاء بل يبقى صحيحا واقعا
عن المستأجر لان العبادة للمستأجر فلا تفسد بفعل غيره وبهذا القول قال المزني أيضا والمذهب
الأول * قال إمام الحرمين إنما قلنا تنقلب الحجة الفاسدة إلى الأجير ولا تضاف بعد الفساد إلى
المستأجر لان الحجة المطلوبة لا تحصل بالحجة الفاسدة بخلاف من ارتكب محظورا غير مفسد وهو
أجير لان مثل هذه الحجة يعتد به شرعا فوقع الاعتداد به في حق المستأجر والحج لله تعالى وان
اختلفت الإضافات والحجة الفاسدة لا تبرئ الذمة (فإذا قلنا) بالمذهب فإن كانت إجارة عين
انفسخت ويكون القضاء الذي يأتي به واقعا عن الأجير ويرد الأجرة بلا خلاف وإن كانت في
الذمة لم تنفسخ لأنها لا تختص بزمان فإذا قضى في السنة الثانية فعمن يقع القضاء فيه وجهان
مشهوران وقال جماعة هما قولان (أحدهما) عن المستأجر لأنه قضاء الأول ولو سلم الأول من
الافساد لكان عن المستأجر فكذا قضاؤه (وأصحهما) عن الأجير وبه قطع البندنيجي وآخرون
لان الأداء الفاسد وقع عنه فعلى هذا يلزمه سوى القضاء حجة أخرى فيقضي عن نفسه ثم يحج
عن المستأجر في سنة أخرى أو يستنيب من يحج عنه في تلك السنة أو غيرها وإذا لم تنفسخ
الإجارة فللمستأجر خيار الفسخ لتأخر المقصود * هذا إن كان معضوبا فإن كانت الإجارة عن ميت
ففيه الوجهان السابقان فيما إذا لم يحج الأجير في السنة المعينة في إجارة الذمة قال الخراسانيون
يثبت الخيار ومنعه العراقيون وقد سبق توجيههما *
(فرع) إذا أحرم الأجير عن المستأجر ثم صرف الاحرام إلى نفسه ظنا منه أنه ينصرف
وأتم الحج على هذا الظن فلا ينصرف الحج إلى الأجير بل يبقى للمستأجر بلا خلاف نص عليه (2)
واتفق عليه الأصحاب وعللوه بان الاحرام من العقود اللازمة فإذا انعقد على وجه لا يجوز صرفه
إلى غيره وفى استحقاق الأجير الأجرة قولان مشهوران في الطريقين (أحدهما) لا يستحق شيئا

(1) كذا بالأصل
(2) بياض بالأصل فحرر
134

لاعراضه عنها ولأنه عمل لنفسه فيما يعتقد (وأصحهما) عند الأصحاب في الطريقين يستحق لحصول
غرض المستأجر وكما لو استأجره ليبني له حائطا فبناه الأجير ظانا أن الحائط له فإنه يستحق الأجرة
بلا خلاف وقد سبق هذا وسبق الفرق بينه وبين الأجير في الحج على القول الأول لان الأجير
في البناء لم يجر ولا خالف وفي الحج جار وخالف فان قلنا يستحق الأجير في الحج فهل يستحق
المسمى أم أجرة المثل فيه وجهان حكاهما المتولي وغيره (أصحهما) وبه قطع الجمهور يستحق المسمى لأن العقد
لم يفسد فبقي المسمى (والثاني) أجرة المثل لأنه عين العقد بنيته وهذا ضعيف نقلا ودليلا قال إمام
الحرمين وهذان القولان في استحقاق الأجرة بناهما الأئمة على ما إذا دفع ثوبا إلى صباغ ليصبغه
بأجرة فجحد الثوب وأصر على أخذه لنفسه ثم صبغه لنفسه ثم ندم ورده على مالكه هل يستحق الأجرة
على مالك الثوب فيه قولان والله أعلم *
(فرع) إذا مات الحاج عن نفسه في أثنائه هل تجوز النيابة على حجه فيه قولان مشهوران
(الأصح) الجديد لا يجوز كالصلاة والصوم (والقديم) يجوز لدخول النيابة فيه فعلى الجديد يبطل المأتي
به إلا في الثواب ويجب الاحجاج عنه من تركته إن كان قد استقر الحج في ذمته وإن كان تطوعا
أو لم يستطع الا هذه السنة لم يجب وعلى القديم قد يموت وقد بقي وقت الاحرام وقد يموت بعد خروج
وقته فان بقي أحرم النائب بالحج ويقف بعرفة ان لم يكن الميت وقف ولا يقف إن كان وقف ويأتي
بباقي الأعمال فلا بأس بوقوع احرام النائب داخل الميقات لأنه يبني على احرام أنشئ منه وان لم
يبق وقت الاحرام فبم يحرم به النائب وجهان (أحدهما) وبه قال أبو إسحاق يحرم بعمرة ثم يطوف
ويسعى فيجزءانه عن طواف الحج وسعيه ولا يبيت ولا يرمى لأنهما ليسا من العمرة ولكن يجبران
بالدم (وأصحهما) وبه قطع الأكثرون تفريعا على القديم أنه يحرم بالحج ويأتي ببقية الأعمال وإنما يمنع إنشاء
الاحرام بعد أشهر الحج إذا ابتدأه وهذا ليس مبتدأ بل مبنى على إحرام قد وقع في أشهر الحج وعلى
هذا إذا مات بين التحللين أحرم احراما لا يحرم اللبس والقلم وإنما يحرم النساء كما لو بقي الميت هذا كله
إذا مات قبل التحللين فان مات بعدهما لم تجز النيابة بلا خلاف لأنه يمكن جبر الباقي بالدم * قال الرافعي
وأوهم بعضهم اجراء الخلاف وهذا غلط *
(فرع) إذا مات الأجير في أثناء الحج فله أحوال (أحدها) يموت بعد الشروع في الأركان وقبل
فراغها فهل يستحق شيئا من الأجرة فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف في كتاب الإجارة
135

(أحدهما) لا يستحق شيئا لأنه لم يحصل المقصود فهو كما لو قال من رد عبدي فله دينار فرده إلى باب
الدار ثم هرب أو مات فإنه لا يستحق شيئا (وأصحهما) عند المصنف والأصحاب يستحق بقدر عمله
لأنه عمل بعض ما استؤجر عليه فوجب له قسطه كمن استؤجر لبناء عشرة أذرع فبني بعضها ثم مات
فإنه يستحق بقسطه بخلاف الجعالة فإنها ليست عقدا لازما إنما هي التزام بشرط فإذا لم يوجد الشرط
بكماله لا يلزمه شئ كتعليق الطلاق والعتق قال الشيخ أبو حامد والأصحاب القول الأول
هو نصه في القديم والثاني الأصح هو نصه في الأم والاملاء قال أصحابنا وسواء مات بعد
الوقوف بعرفات أو قبله ففيه القولان هذا هو المذهب (وقيل) يستحق بعده قطعا حكاه الرافعي
وهو شاذ ضعيف فإذا قلنا يستحق فهل يسقط على الأعمال فقط أم عليها وعلى قطع المسافة جميعا
فيه قولان مشهوران وقد ذكرهما المصنف في باب الإجارة وسبق بيانهما قريبا (فأصحهما) عند
المصنف وطائفة على الأعمال فقط (وأصحهما) عند الأكثرين على الأعمال والمسافة جميعا ممن
صححه الرافعي وآخرون وفى المسألة طريق آخر قدمناه عن ابن سريج أنه إن قال استأجرتك
لتحج عنى قسط على العمل فقط وإن قال لتحج من بلد كذا قسط عليهما وحمل القولين على
هذين الحالين والله أعلم * ثم هل يجوز البناء على فعل الأجير ينظر إن كانت إجارة عين
انفسخت ولا بناء لورثة الأجير كما لو لم يكن له أن يستنيب وهل للمستأجر أن يستأجر من يبني
فيه القولان السابقان في الفرع قبله في جوزا البناء وإن كانت الإجارة على الذمة (فان قلنا) لا يجوز
البناء فلورثة الأجير أن يستأجروا من يستأنف الحج عن المستأجر فان أمكنهم في تلك السنة لبقاء
الوقت فذاك وإن تأخر إلى السنة القابلة ثبت الخيار في فسخ الإجارة كما سبق (وإن جوزنا) البناء
فلورثة الأجير أن يبنوا ثم القول فيما يحرم به النائب وفى حكم إحرامه بين التحللين على ما سبق
في الفرع قبله (الحال الثاني) أن يموت بعد الشروع في السفر وقبل الاحرام وفيه وجهان مشهوران
حكاهما المصنف في باب الإجارة (الصحيح) المنصوص للشافعي رحمه الله تعالى في القديم والجديد
وبه قطع الجمهور لا يستحق شيئا من الأجرة بناء على أن الأجرة لا تقابل قطع المسافة بسبب إلى
الحج وليس بحج فلم يستحق في مقابلته أجرة كما لو استأجر رجلا ليخبز له فاحضر الآلة وأوقد
النار ومات قبل أن يخبز فإنه لا يستحق شيئا هذا تعليل المصنف وعلل غيره بأنه لم يحصل شيئا
136

من المقصود (والثاني) وهو قول أبي سعيد الإصطخري وأبي بكر الصرفي يستحق من الأجرة
بقدر ما قطع من المسافة وافيا بهذا نسبه العرامطة وحكى الرافعي وجها ثالثا عن أبي الفضل بن
عبدان أنه إن قال استأجرتك لتحج من بلد كذا استحق بقسطه وهذا نحو ما سبق عن ابن
سريج في الحال الأول (الحال الثالث) أن يموت بعد فراغ الأركان وقبل فراغ باقي الأعمال
فينظر إن فات وقتها أو لم يفت ولكن لم نجوز البناء وجب جبر الباقي بالدم من مال الأجير وهل
يرد شيئا من الأجرة فيه الخلاف السابق فيمن أحرم بعد مجاوزة الميقات ولم يعد إليه وجبره بالدم
وهو طريقان (المذهب) وجوب الرد وإن جوزنا البناء وكان وقتها باقيا فإن كانت الإجارة
على العين انفسخت في الأعمال الباقية ووجب رد قسطها من الأجرة ويستأجر المستأجر من يرمى
ويبيت ولا دم في تركة الأجير وإن كانت في الذمة استأجر وارث الأجير من يرمي ويبيت ولا
حاجة إلى الاحرام لأنهما عملان يفعلان بعد التحللين ولا يلزم الدم ولا رد شئ من الأجرة
ذكره المتولي وغيره *
(فرع) إذا أحصر الأجير قبل إمكان الأركان تحلل قال الشافعي في الأم والأصحاب
ولا قضاء عليه ولا على المستأجر كأنه أحصر وتحلل فإن كان حجة تطوع أو كانت حجه اسلام
وقد استقرت قبل هذه السنة بقي الاستقرار وإن كان استطاعها هذه السنة سقطت الاستطاعة فإذا
تحلل الأجير فعمن يقع ما أتى به فيه وجهان (أصحهما) عن المستأجر كما لو مات إذ لا تقصير
(والثاني) عن الأجير كما لو أفسده فعلى هذا دم الاحصار على الأجير وعلى الأول هو على المستأجر
في استحقاقه شيئا من الأجرة الخلاف المذكور في الموت وإن لم يتحلل ودام على الاحرام حتى
فاته الحج انقلب الاحرام إليه كما في الافساد لأنه مقصر حيث لم يتحلل بأعمال عمرة وعليه دم
الفوات ولو حصل الفوات بنوم أو تأخر عن القافلة أو غيرهما من غير احصار انقلب المأتي به إلى
الأجير أيضا كما في الافساد ولا شئ للأجير على المذهب وقيل فيه الخلاف المذكور في الموت
وقال الشيخ أبو حامد هل له من الأجرة بقدر ما عمله إلى حين انقلب الاحرام إليه فيه
قولان منصوصان *
(فرع) لو استأجر المعضوب من يحج عنه فأحرم الأجير عن نفسه تطوعا فوجهان حكاهما
إمام الحرمين (أحدهما) وهو قول الشيخ أبو محمد ينصرف إلى المستأجر قال أبو محمد وكذا كل
137

من في ذمته حجة مرسلة بإجارة فإذا نوى التطوع بالحج انصرف إلى ما في ذمته كما لو نوى التطوع
وعليه حجة الاسلام أو النذر أو القضاء فإنه ينصرف إلى ما عليه دون التطوع بلا خلاف (والوجه
الثاني) وهو الصحيح وهو قول سائر الأصحاب يقع تطوعا للأجير قال إمام الحرمين وما قاله
شيخي أبو محمد انفرد به ولا يساعده عليه أحد من الأصحاب لأنا إنما نقدم واجب الحج على
نفله لأمر يرجع إلى نفس الحج مع بقاء الأمة على تقديم الأولى فالأولى في مراتب الحج (وأما)
الاستحقاق على الأجير فليس من خاصة الحج ولو الزم الأجير ذمته بالإجارة ما لا يلزم مثله لكان
حكم الوجوب فيه حكم الوجوب في الحج قال والذي يوضح ذلك أن الحجة قد تكون تطوعا من
المستأجر إذا جوزنا الاستئجار في حج التطوع وهو الصح فلا خلاف في أن ذلك اللزوم ليس
من مقتضيات الحج والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا لو استأجر رجلان رجلا يحج عنهما فأحرم عنهما معا انعقد إحرامه
لنفسه تطوعا ولا ينعقد لواحد منهما لان الاحرام لا ينعقد عن اثنين وليس أحدهما أولى من
الآخر ولو أحرم عن أحدهما وعن نفسه معا انعقد إحرامه عن نفسه لان الاحرام عن اثنين
لا يجوز وهو أولى من غيره فانعقد هكذا نص عليه الشافعي في الأم وتابعه الشيخ أبو حامد والقاضي
أبو الطيب والأصحاب *
(فرع) إذا استأجره اثنان ليحج عنهما أو أمراه بلا إجارة فأحرم عن أحدهما لا بعينه انعقد
إحرامه عن أحدهما وكان له صرفه إلى أيهما شاء قبل التلبس بشئ من أفعال الحج * هذا مذهبنا
ونقله العبدري عن مذهبنا وبه قال أبو حنيفة ومحمد بن الحسن وقال أبو يوسف يقع عن نفسه * دليلنا
أن مالكا يعتقد ابتداء ذلك الاحرام به مطلقا ثم يصرفه إلى ما يشاء كما لو أحرم مطلقا عن نفسه
ثم صرفه إلى حج أو عمرة * واحتج أبو يوسف بأنه أحرم باحرام معين فإذا أحرم مطلقا لم يأت
بالمأمور فيه (قلنا) نقيض ما أسند للنيابة هذا إذا استأجراه ليحج بنفسه فان عقدا معا فالعقد باطل
في حقهما وإن عقد أحدهما بعد الآخر فالأول صحيح والثاني باطل وإن عقدا العقدين في الذمة
صحا فان تبرع بالحج عن أحدهما يثبت للآخر الخيار في فسخ العقد لتأخير حقه *
(فرع) قال صاحب الحاوي في باب الإجارة على الحج من كتاب الحج لو استأجره لزيارة
قبر النبي صلى الله عليه وسلم لم يصح قال وأما الجعالة على زيارة القبر فإن كانت على مجرد الوقوف
138

عند القبر ومشاهدته لم تصح لأنه لا تدخله النيابة وإن كانت على الادعاء عند زيارة قبره صلى الله عليه
وسلم صحت لان الدعاء تدخله النيابة ولا تضر الجبالة بنفس الدعاء *
(فرع) في مذاهب العلماء في الاستئجار للحج * قد ذكرنا أن مذهبنا صحة الإجارة للحج
بشرطه السابق وبه قال مالك * وقال أبو حنيفة وأحمد لا يصح عقد الإجارة عليه بل يعطي رزقا عليه
قال أبو حنيفة يعطيه نفقة الطريق فان فضل منها شئ رده ويكون الحج للفاعل وللمستأجر ثواب
نفقته لأنه عبادة بدنية فلا يجوز الاستئجار عليها كالصلاة والصوم ولان الحج يقع طاعة فلا يجوز
أخذ العوض عليه * دليلنا أنه عمل تدخله النيابة فجاز أخذ العوض عليه كتفرقة الصدقة وغيرها من الأعمال
(فان قيل) لا نسلم دخول النيابة بل يقع الحج عن الفاعل (قلنا) هذا منابذ للأحاديث الصحيحة
السابقة في إذن النبي صلي الله وسلم في الحج عن العاجز وقوله صلى الله عليه وسلم (فدين الله أحق
بالقضاء) (وحج عن أبيك) وغير ذلك (فان قيل) ينتقض بشاهد الفرع فإنه ثابت عن شاهد
الأصل ولا يجوز له أخذ الأجرة على شهادته (قلنا) شاهد الفرع ليس ثابتا عن شاهد الأصل وإنما
هو شاهد على شهادته ولو كان ثابتا عنه لجاز أن يشهد بأصل الحق لا على شهادته ودليل آخر وهو
أن الحج يجوز أخذ الرزق عليه بالاجماع فجاز أخذ الأجرة عليه كبناء المساجد والقناطر (فان قيل)
ينتقض بالجهاد (قلنا) الفرق أنه إذا حضر الصف تعين الجهاد فلا يجوز أن يجاهد عن غيره وعليه
فرضه (وأما) الرزق في الجهاد فإنه يأخذه لقطع المسافة (وأما) الجواب عن قياسهم على الصوم
والصلاة فهو أنه لا تدخلها النيابة بخلاف الحج (وعن) قولهم الحج يقع طاعة فينتقض بأخذ الرزق
والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا أنه إذا استأجره ليفرد الحج والعمرة فقرن عنه وقع الحج والعمرة عن
المحجوج عنه وقد زاده خيرا وبه قال أبو يوسف ومحمد * وقال أبو حنيفة إذا أمره أن يحج عن ميت
أو يعتمر فقرن فهو ضامن للمال الذي أخذه لأنه لم يأت بالمأمور به على وجهه * دليلنا أنه أمره
يحج وعمرة فاتى بهما وزاده خيرا بتقديم العمرة *
(فرع) قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في هذا الموضع قال الشافعي لا باس أن يكترى المسلم
جملا من ذمي للحج عليها لكن الذمي لا يدخل الحرم فيوجه مع جمله مسلما يقودها ويحفظها قال
الشافعي وإذا كان المسلم عند نصراني خلفه في الحل ولا يجوز ادخاله معه الحرم *
(فرع) قال أصحابنا إذا قال الموصى أحجوا عني فلانا فمات فلان وجب احجاج غيره كما
139

لو قال أعتقوا عنى رقبة فاشتروا رقبة ليعتقوها فمات قبل الاعتاق وجب شراء أخرى
قال القاضي أبو الطيب ودليل المسألتين أن المقصود فيهما تحصيل العبادة فإذا مات من غير
ايقاعها أقيم غيره مقامه
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ولا يجوز الاحرام بالحج الا في أشهر الحج والدليل عليه قوله عز وجل (الحج أشهر
معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) والمراد به وقت إحرام
الحج لان الحج لا يحتاج إلى أشهر فدل على أنه أراد به وقت الاحرام ولان الاحرام نسك من
مناسك الحج فكان موقتا كالوقوف والطواف وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر ليال من
ذي الحجة وهو إلى أن يطلع الفجر من يوم النحر لما روى عن ابن مسعود وجابر وابن الزبير رضي الله عنهم
انهم قالوا (أشهر الحج معلومات شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة) فان أحرم
بالحج في غير أشهره انعقد احرامه بالعمرة لأنها عبادة مؤقتة فإذا عقدها في غير وقتها انعقد
غيرها من جنسها كصلاة الظهر إذا أحرم بها قبل الزوال فإنه ينعقد احرامه بالنفل ولا
يصح في سنة واحدة أكثر من حجة لان الوقت يستغرق أفعال الحجة الواحدة فلا يمكن أداء
الحجة الأخرى) *
(الشرح) (قوله) لان الوقت يستغرق أفعال الحجة الأجود أن يقال لان الحجة تستغرق
الوقت ثم في الفصل مسائل (إحداها) فيما يتعلق بألفاظه فقوله تعالى (فمن فرض فيهن الحج)
قال المفسرون وغيرهم من العلماء معناه من أوجب على نفسه وألزمها الحج ومعني الفرض في اللغة
الالزام والايجاب (وأما) الرفث فقال ابن عباس والجمهور المراد به الجماع وقال كثيرون المراد به
هنا التعرض للنساء بالجماع وذكره بحضرتهن فاما ذكره من غير حضور النساء فلا باس به وهذا
مروى عن ابن عباس وآخرين (وأما) الفسوق فقال ابن عباس وابن عمر والجمهور هو المعاصي
كلها (وأما) الجدال فقال المفسرون وغيرهم المراد النهى عن جدال صاحبه ومماراته حتى يغضبه
وسميت المخاصمة مجادلة لان كل واحد من الخصمين يروم أن يقتل صاحبه عن رأيه ويصرفه عنه
وقال مجاهد وأبو عبيدة وغيرهما معناه هنا ولا شك في الحج أنه في ذي الحجة والمراد إبطال ما
كانت الجاهلية عليه من تأخيره وفعلهم النساء وهو النسئ والتأخير والأول هو قول الجمهور وقد
ذكر المصنف تفسير ابن عباس الآية في آخر باب الاحرام قال المفسرون وأهل المعاني وغيرهم
ظاهر الآية نفى ومعناها نهي أي لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا واختلف القراء السبعة في قراءة *
140

هذه الآية فقرأ ابن كثير وأبو عمر (فلا رفث ولا فسوق) بالرفع والتنوين وقرأ باقي السبعة بالنصب
فيهما بلا تنوين واتفقوا على نصب اللام من جدال (وأما) قوله تعالى (الحج أشهر) والمراد شهران
وبعض الثالث فجار على المعروف في لغة العرب في إطلاقهم لفظ الجمع على اثنين وبعض الثالث
ومنه قوله تعالى (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ويكفيها طهران وبعض الطهر الأول (وأما) قول
المصنف وقت احرام الحج فهكذا قاله أصحابنا في كتب الفقه واتفقوا عليه ووافقهم بعض العلماء
(وأما) النحويون وأصحاب المعاني ومحققوا المفسرين فذكروا في الآية قولين (أحدهما) تقديرها أشهر
الحج أشهر معلومات فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه (والثاني) تقديرها الحج حج أشهر
معلومات أي لا حج الا في هذه الأشهر فلا يجوز في غيرها خلاف ما كانت الجاهلية تفعله من
حجهم في غيرها فعلى هذا يكون حذف المصدر المضاف للأشهر قال الواحدي ويمكن حمل الآية على
غير إضمار وهو ان الأشهر جعلت نفس الحج لكون الحج فيها كقولهم ليل نائم لما كان النوم فيه
جعل نائما (وأما) قول المصنف ولان الاحرام نسك من مناسك الحج وكان مؤقتا كالوقوف والطواف
فمقصوده به الزام تعبير الثوري ومالك وأبي حنيفة وغيرهم ممن يقول إنه يجوز الاحرام بالحج في
جميع السنة ولا يأتي بشئ من أفعاله قبل أشهره ووافقونا على أن الوقوف والطواف لا يكونان في
كل السنة بل هما مؤقتان فقاس المصنف الاحرام عليهما (وأما) قوله اشهره شوال وذو القعدة
أو القعدة بفتح القاف على المشهور حكى كسرها وذو الحجة بكسر الحاء على المشهور وحكى
فتحها (وأما) الآثار المذكورة عن ابن مسعود وغيره فسنذكرها في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله
تعالى (وأما) قول المصنف لأنها عبادة مؤقتة فقال القلمي احترز بمؤقتة عن الوضوء والغسل وهو
ما إذا توضأ للطهر مثلا قبل الزوال فإنه يصح وضوؤه للظهر وغيرها وتنعقد طهارته التي عينها بعينها
قال ويحتمل أنه أراد إذا كان متطهرا فتوضأ أو اغتسل بنية الحدث أو الجنابة الذين يوجدا في
المستقبل فإنه لا يصح له وما نواه ولا ينعقد وضوؤه تجديدا ولا غسله مسنونا قال ويحتمل أن يحترز من
التيمم وهو إذا تيمم للظهر قبل الزوال فإنه لا يصح تيممه ولا يجوز أن يصلي به فريضة ولا نافلة
141

فاما الفريضة فلانه تيمم لها قبل وقتها (وأما) النافلة فلانه إنما يستبيحها بالتيمم تبعا للفريضة فإذا
لم يستبيح المتبوع لم يستبيح التابع (وأما) قوله كصلاة الظهر إذا أحرم بها قبل الزوال فإنه ينعقد
إحرامه بالنفل فهكذا قاس الشافعي والأصحاب وكذا نقله المزني في المختصر وهذا الذي قاله من
انعقاد الظهر نفلا إذا أحرم بها قبل الزوال هو المذهب وبه قطع المصنف وجمهور العراقيين
وفيه قول آخر أنها لا تنعقد وسبق بيان المسألة في أول صفة الصلاة وصورة المسألة إذا ظن دخول
الوقت فبان خلافه (فاما) إذا أحرم بها قبل الزوال عالما بان الوقت لم يدخل فلا تنعقد صلاته على
المذهب وفيه خلاف ضعيف جدا سبق هناك (واعلم) أن قياس المصنف والشافعي والأصحاب على
من صلى الظهر قبل الزوال أرادوا به ما إذا كان جاهلا عدم دخول الوقت وحينئذ يقال ليست
صورة الحج مثلها الا أن يفرض فيمن أحرم بالحج في غير أشهره ظانا جواز ذلك عالما بأنه لا ينعقد
الحج في غير أشهره وظاهر كلامهم أنه لا فرق بين العالم والجاهل فينبني الاشكال والله أعلم
(المسألة الثانية) لا ينعقد الاحرام بالحج إلا في أشهر الحج بلا خلاف عندنا وأشهره شوال وذو القعدة
وعشر ليال من ذي الحجة آخرها طلوع الفجر ليلة النحر (فاما) كون أولها أول شوال فمجمع عليه
(وأما امتدادها إلى طلوع الفجر فهو الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي في المختصر وقطع
به جمهور الأصحاب في الطريقين وحكي الخراسانيون وجها أنه لا يصح الاحرام ليلة العشر بل آخر
الشهر آخر يوم عرفة وحكى القاضي أبو الطيب في تعليقه والمحاملي والسرخسي وصاحب البيان
وآخرون قول الشافعي أن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله حكاه المحاملي وأبو الطيب
وصاحب البيان عن نصه في الاملاء ونقله السرخسي عن نصه في القديم ودليل الجميع في الكتاب
مع ما سنذكره إن شاء الله تعالى والله أعلم (الثالثة) إذا أحرم بالحج في غير أشهر الحج لم ينعقد
حجا بلا خلاف وفى انعقاده عمرة ثلاث طرق (الصحيح) أنه ينعقد عمرة مجزئة عن عمرة الاسلام
وهو نص الشافعي في القديم (والثاني) أنه يتحلل بأفعال عمرة ولا يحسب عمرة كمن فاته الحج قال
المتولي وأخرجه الستة إنه تعذر عليه الحج لعدم الوقت في المسألتين (والثالث) أنه ينعقد احرامه بهما
فان صرفه إلى عمرة كان عمرة صحيحة والا تحلل بعمل عمرة ولا يحسب عمرة قال أصحابنا ولا
خلاف في انعقاد احرامه وانه يتحلل بأعمال عمرة وإنما الخلاف في أنها عمرة مجزئة عن عمرة
الاسلام (أما) إذا أحرم بنسك مطلقا قبل أشهر الحج فينعقد احرامه عمرة على المذهب وبه قطع
142

الأصحاب في كل الطرق الا الرافعي فحكي فيه طريقا آخر أنه على وجهين (أصحهما) هذا (والثاني)
هو محكي عن أبي عبد الله الحصري ينعقد بهما فإذا دخلت أشهر الحج صرفه إلى ما شاء من حج
أو عمرة أو قران والصواب الأول لان الوقت لا يقبل الا العمرة فتعين احرامه لها والله أعلم (الرابعة)
قال المصنف والأصحاب لا يصح في سنة واحدة أكثر من حجة لان الوقت يستغرق أفعال الحجة
الواحدة لأنه ما دام في أفعال الحج لا يصلح احرامه لحجة أخرى ولا يفرغ من أفعال الحج الا في
أيام التشريق ولا يصح الاحرام بالحج فيها ولو صح الاحرام فيها على القول السابق عن الاملاء
والقديم لم يمكن حجة أخرى لتعذر الوقوف * قال أصحابنا ولو أحرم بحجتين أو عمرتين انعقدت
إحداهما ولا تنعقد الأخرى ولا تثبت في ذمته عندنا لأنه لا يمكنه المضي فيهما فلم يصح الدخول
فيهما قياسا على صوم النذر وصوم رمضان وقد ذكر المصنف هذه المسألة في أوائل باب الاحرام قال
أصحابنا ولو أحرم بحجة ثم ادخل عليها حجة أخري أو بعمرة ثم ادخل عليها عمرة أخرى فالثانية
لغو والله أعلم (وان قيل) قلتم لو أحرم بحجتين انعقدت إحداهما ولو أحرم بصلاتين لم تنعقد
واحدة منهما فما الفرق (فالجواب) أن تعيين النية شرط في الصلاة بخلاف الحج ولان الاحرام
يحافظ عليه ما أمكن ولا يلغى ولهذا لو أحرم بالحج في غير أشهره انعقد عمرة والله أعلم *
(فرع) قال صاحب البيان لو أحرم قبل أشهر الحج ثم شك هل أحرم بحج أم بعمرة فهي
عمرة قطعا وان أحرم بالحج ثم شك هل كان احرامه في أشهر الحج أم قبلها قال الصيمري كان حجا
لأنه على يقين من هذا الزمان وعلى شك من تقدمه *
(فرع) قال الشافعي في مختصر المزني أشهر الحج شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة
وهو يوم عرفة فمن لم يدرك إلى الفجر من يوم النحر فقد فاته الحج هذا نصه بحروفه واعترض عليه
أبو بكر الطاهري فقال قوله إن أراد به الليالي فهو خطأ لا الليالي عشر وان أراد الأيام فهو خطأ
في اللغة فان الأيام مذكرة فالصواب تسعة وأجاب الأصحاب عن هذا بان المراد الأيام والليالي
وغلب لفظ التأنيث على عادة العرب فان العرب تغلب لفظ التأنيث في اسم العدد يقولون ضمنا
عشرا ويريدون الليالي والأيام ويقولون ضمنا خمسا ويريدون الأيام ومن هذا قول الله تعالى
(يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا) والمراد الليالي والأيام ومنه قوله تعالى (يتخافتون بينهم
ان لبثتن الا عشرا) ومنه قوله صلى الله عليه وسلم (من صام واتبعه ستا من شوال) وقد سبق بيان
143

هذا كله واضحا في باب صوم التطوع في هذا الحديث قال الزمخشري يقولون صمنا عشرا ولو قلت
صمت عشرة لم تكن متكلما بكلام العرب قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والأصحاب
إنما أفرد الشافعي ليلة النحر بالذكر وذكرها بعد التسع لان الاحرام يستحب تقديمه عليها قالوا ويحتمل
أنه أفردها لأنها تنفرد عن اليوم الذي بعدها ويحتمل انه أفردها لتعلق الفوات بها *
(فرع) في مذاهب العملاء في وقت الاحرام بالحج * لا ينعقد الاحرام بالحج الا في أشهره
عندنا فان أحرم في غيرها انعقد عمرة وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد وأبو ثور ونقله الماوردي عن
عمر وابن مسعود وجابر وابن عباس وأحمد * وقال الأوزاعي يتحلل بعمرة * وقال ابن عباس لا يحرم
بالحج إلا في أشهره * وقال داود لا ينعقد * وقال النخعي والثوري ومالك وأبو حنيفة وأحمد يجوز قبل
أشهر الحج لكن يكره قالوا فاما الأعمال فلا تجوز قبل أشهر الحج بلا خلاف * واحتج لها بقوله
تعالى (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) فأخبر سبحانه وتعالي ان الأهلة كلها
مواقيت للناس والحج ولأنها عبادة لا تدخلها النيابة وتجب الكفارة في افسادها فلم تختص بوقت
كالعمرة ولان الاحرام بالحج يصح في زمان لا يمكن ايقاع الافعال فيه وهو شوال فعلم أنه لا يختص
بزمان قالوا ولان التوقيت ضربان توقيت مكان وزمان وقد ثبت انه لو تقدم احرامه على ميقات
المكان صح فكذا الزمان قالوا وأجمعنا على أنه لو أحرم بالحج قبل اشهره انعقد لكن اختلفنا
هل ينعقد حجا أم عمرة فلو لم ينعقد حجا لما انعقد * واحتج أصحابنا بقوله تعالى (الحج أشهر
معلومات) قالوا وتقديره وقت الاحرام بالحج أشهر معلومات لأنه لا يجوز حمل الآية على أن
المراد أفعال الحج لان الافعال لا تكون في أشهر وإنما تكون في أيام معدودة (فان) قالوا قد قال
الزجاج ان جمهور أهل المعاني والنحويين معنى الآية أشهر الحج أشهر معلومات (قلنا) قال القاضي
أبو الطيب وغيره لو كان المراد هذا لم يكن فيه فائدة وفى التقدير الذي ذكرناه فائدة فالحمل عليه أولى
(فان قيل) تقدير وقت الاحرام لا يدل على أن تقديمه لا يصح كالسعي فإنه مؤقت ويجوز تقديمه على
وقته قال أصحابنا لا نسلم جواز تقديم السعي لأنه يشترط تأخير السعي على الاحرام بالحج في أشهر
الحج ويكره عندهم في غيرها (قلنا) هذا خلاف الظاهر وهو منتقض بيوم العيد فإنه عند الحنفية
من أشهر الحج ولا يستحب الاحرام فيه (فان) قالوا نحن لا نجيز الحج في غير اشهره وإنما نجيز
الاحرام به وذلك ليس عندنا من الحج قال أصحابنا (فالجواب) ان الاحرام وان لم يكن عندهم من
144

الحج الا أن المحرم يدخل به في الحج فإذا أحرم به قبل اشهره دخل في الحج قبل اشهره * واحتج
أصحابنا أيضا برواية أبي الزبير قال (سئل جابر أهل بالحج في غير أشهر الحج قال لا) رواه البيهقي باسناد
صحيح وعن ابن عباس قال لا يحرم بالحج إلا في أشهره فان من سنة الحج ان يحرم بالحج في أشهر
الحج رواه البيهقي باسناد صحيح ولأنها عبادة مؤقتة فكان الاحرام بها مؤقتا كالصلاة ولأنه
آخر (1) أركان الحج فلا يصح تقديمه على أشهر الحج كالوقوف بعرفة (وأما) الجواب عما احتجوا به من
قوله تعالى (يسألونك عن الأهلة) فهو أن الأشهر هنا مجملة فوجب حملها على المبين وهو قوله تعالى
(الحج أشهر معلومات) والجواب عن قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) مع قول عمر وعلى
من وجهين (أحدهما) أنه محمول على دويرة أهله بحيث يمكنه الاحرام منها في أشهر الحج (والثاني)
إن سلمنا أنه مخالف لما ذكرنا فهو مخالف لما صح عن ابن عباس وجابر وإذا اختلفت الصحابة لم
يعمل بقول بعضهم (وأما) القياس على العمرة (فجوابه) أن أفعالها غير مؤقتة فكذا إحرامها بخلاف
الحج (وأما) قولهم إن الاحرام بالحج يصح في زمان لا يمكن ايقاع الافعال فيه وهو شوال فعلم
أنه لا يختص بزمان (فجوابه) من وجهين (أحدهما) أن ما ذكروه ليس بلازم (والثاني) ينتقض بصلاة
الظهر فان الاحرام بها يجوز عقيب الزوال ولا يجوز حينئذ الركوع والسجود وهي مؤقتة (وأما)
قولهم التوقيت ضربان إلى آخره فهو أن مقتضي التوقيت أن يتقدم عليه خالفنا ذلك في المكان
وليس كذلك الزمان (وأما) قولهم ولأنا أجمعنا على صحة احرامه (فجوابه) إنما صح احرامه
عندنا بالعمرة ولا يلزم من ذلك صحة احرامه بالحج ونظيره إذا أحرم بالظهر قبل الزوال غلطا
يصح نفلا لا ظهرا *
(فرع) في مذاهب العلماء في أشهر الحج * قد ذكرنا أن مذهبنا أنها شوال وذو القعدة
وعشر ليال من ذي الحجة وحكاه ابن المنذر عن ابن مسعود وابن الزبير والشعبي وعطاء ومجاهد
وقتادة والنخعي والثوري وأبي ثور وبه قال أبو يوسف وداود وقال مالك هي شوال وذو القعدة
وذو الحجة بكماله قال ابن المنذر وروي عن ابن عمرو ابن عباس روايتان كالمذهبين وقال أبو
حنيفة وأحمد وأصحاب داود شوال وذو القعدة وعشر إيام من ذي الحجة وخالف أصحاب داود

(1) كذا في الأصل ولعله من أركان
145

في هذا والخلاف بيننا وبين أبي حنيفة وموافقيه في يوم النحر فهو عنده من أشهر الحج وليس هو
عندنا منها وقد نقل المحاملي في المجموع إجماع العلماء على أن أول وقت أشهر الحج شوال وإنما
اختلفوا في آخرها قال صاحب الشامل وآخرون من أصحابنا وهذا الخلاف الذي بيننا وبين
أبي حنيفة يجوز الاحرام بالحج في جميع السنة كما حكيناه عنهما في الفرع السابق ولا يجوز عندهما
ايقاع الفعل الا في أوقاتها من أشهر الحج فلا فرق بين أن يوافقونا في أشهر الحج أو يخالفونا وقال
المتولي لا فائدة في هذا الخلاف إلا في شئ واحد وهو أن عند مالك يكره الاعتمار في أشهر الحج
فالعمرة عنده مكروهة في جميع ذي الحجة وهذا الذي استثناه المتولي لا حاجة إليه لأن العمرة لا تكره
عندنا في شئ من السنة فلا فرق بين أن يوافقنا مالك في أشهر الحج أو يخالفنا وهكذا قول العبدري
ان فائدة الخلاف عند مالك إذا أخر طواف الإفاضة عن ذي الحجة لزم دم وهذا أيضا لا حاجة إليه
لان الدم لا يجب عندنا بتأخير الطواف ولو أخره سنين * واحتج لأبي حنيفة وابن مسعود وابن
عباس وابن عمر وابن الزبير رضي الله عنهم قالوا أشهر الحج شهران وعشر ليال قالوا وإذا أطلقت
الليالي تبعتها الأيام فيكون يوم النحر منها ولان يوم النحر يفعل فيه معظم المناسك فكان من أشهر الحج
كيوم عرفة * واحتج مالك بان الأشهر جمع وأقله ثلاثة * واحتج أصحابنا برواية نافع عن ابن عمر
أنه قال (أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة) وعن ابن مسعود وابن عباس
وابن الزبير مثله رواها كلها البيهقي وصحح الرواية عن ابن عباس ورواية ابن عمر صحيحة *
وأجاب أصحابنا عن قول الحنيفة إذا أطلقت الليالي تبعتها الأيام بأن ذلك عند إرادة المتكلم ولا
نسلم وجود الإرادة هنا بل الظاهر عدمها فنحن قائلون بما قالته الصحابة (والجواب) عن قولهم
إن يوم النحر يفعل فيه معظم المناسك فينتقض بأيام التشريق (والجواب) عن قول مالك إن
العرب تعبر عن اثنين وبعض الثالث بلفظ الجمع قال الله تعالى (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء)
وأجمعنا نحن ومالك على أن القراء هي الأطهار وانه إذا طلقها في بقية طهر حسبت تلك البقية قرءا
فاتفقنا على حمل الأقراء على قرئين وبعض واتفقت العرب وأهل اللغة على استعمال مثله في التواريخ
وغيرها يقولون كتبت لثلاث وهو في بعض الليلة الثالثة والله أعلم *
(فرع) في مذاهبهم فيمن أهل بحجتين * قد ذكرنا أن مذهبنا أنه ينعقد إحداهما (1) ويلزمه

(1) كذا في الأصل وفيه سقط ولعله وعند أبي حنيفة الخ فحرر
146

فعل الأخرى والذي حكاه ابن المنذر عنه أنه يصير ناقضا لأحداهما حتى يتوجه إلى مكة قال
أبو يوسف أما أنا فأراه ناقضا لأحداهما حين يحرم بهما قبل أن يسير إلى مكة دليلنا ما سبق *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وأما العمرة فإنها تجوز في أشهر الحج وغيرها لما روت عائشة رضي اله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم
(اعتمر عمرتين في ذي القعدة وفى شوال) وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عمرة
في رمضان تعدل حجة) ولا يكره فعل عمرتين وأكثر في سنة لما ذكرناه من حديث عائشة
رضي الله عنها) *
(الشرح) حديث ابن عباس رواه البخاري ومسلم وروت أم معقل الصحابية رضي الله
عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (عمرة في رمضان تعدل حجة) رواه أبو داود والترمذي والنسائي
وغيرهم
قال الترمذي حديث حسن قال وفى الباب بغير عمرة في رمضان عن ابن عباس وجابر وأنس بن
مالك وأبي هريرة ووهب بن حبيس قال ويقال هرم ابن حينس رضي الله عنهم قال الترمذي قال
إسحاق يعني ابن راهويه معني هذا الحديث مثل قراءة قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن (وأما)
حديث عائشة (أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر عمرتين في ذي القعدة وفى شوال) فصحيح رواه أبو داود
في سننه باسناده الصحيح وقد ثبت فعل العمرة في أشهر الحج في الأحاديث الصحيحة من طرق
كثيرة (منها) حديث أنس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلهن في ذي القعدة التي
مع حجته) رواه البخاري ومسلم وعن ابن عمر قال (اعتمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم
أربع عمر إحداهن في رجب فبلغ ذلك عائشة فقالت يرحم الله أبا عبد الرحمن ما اعتمر عمرة قط
إلا وهو شاهد وما اعتمر قط في رجب) رواه البخاري ومسلم وعن البراء (أن النبي صلى
الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة) رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وفى الباب عن
ابن عباس وغيره أحاديث كثيرة (أما) الأحكام فقال الشافعي والأصحاب جميع السنة وقت
للعمرة فيجوز الاحرام بها في كل وقت من السنة ولا يكره في وقت من الأوقات وسواء أشهر الحج
وغيرها في جوزها فيها من غير كراهة ولا يكره عمرتان وثلاث وأكثر في السنة الواحدة ولا في
147

اليوم الواحد بل يستحب الاكثار منها بلا خلاف عندنا قال أصحابنا ويستحب الاعتمار في أشهر
الحج وفى رمضان للأحاديث السابقة قال المتولي وغيره والعمرة في رمضان أفضل منها في باقي
السنة للحديث السابق قال أصحابنا وقد يمتنع الاحرام بالعمرة في بعض السنة لعارض لا بسبب
الوقت وذلك كالمحرم بالحج لا يجوز له الاحرام بالعمرة بعد الشروع في التحلل من الحج بلا خلاف
وكذا لا يصح احرامه بها قبل الشروع في التحلل على المذهب كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى في إحرام
القارن قال أصحابنا ولو تحلل من الحج التحللين وأقام بمنى للرمي والمبيت فأحرم بالعمرة لم ينعقد احرامه
بلا خلاف نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب لأنه عاجز عن التشاغل بها لوجوب ملازمة اتمام الحج
بالرمي والمبيت قال أصحابنا ولا يلزمه بذلك شئ (فأما) إذا نفر النفر الأول وهو بعد الرمي في
اليوم الثاني من أيام التشريق فأحرم بعمرة فيما بقي من أيام التشريق ليلا أو نهارا فعمرته صحيحة
بلا خلاف قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق وآخرون من أصحابنا والفرق بين هاتين
الصورتين أن المقيم بمعنى يوم النفر وإن كان خاليا من علائق الاحرام بالتحللين إلا أنه مقيم على نسك
مشتغل باتمامه وهو الرمي والمبيت وهما من تمام الحج فلا تنعقد عمرته ما لم يكمل حجه بخلاف من نفر
فإنه فرغ من الحج وصار كغير الحاج قال أبو محمد ولا يتصور حين يحرم بالعمرة في وقت ولا تنعقد
عمرته لا في هذه المسألة وقد يرد على هذا ما إذا أحرم بالعمرة في حال جماعه المرأة فإنه حلال
ولا ينعقد احرامه على أصح الأوجه كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى في جماع المحرم * ويمكن أن يجاب
عنه بأن عدم انعقاد العمرة هنا العدم أهلية المحرم لا لعارض فهو كالكافر وغيره ممن لا يصح
احرامه لعدم أهليته ولا شك ان الكافر ونحوه لا يرد على قول الشيخ أبي محمد والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في وقت العمرة قد ذكرنا ان مذهبنا جوازها في جميع السنة
ولا تكره في شئ منها وبهذا قال مالك واحمد وداود ونقله الماوردي عن جمهور الفقهاء وقال
أبو حنيفة تكره العمرة (1) واحتج أصحابنا بأن الأصل عدم الكراهة حتى يثبت النهى الشرعي ولم
يثبت هذا الخبر ولأنه يجوز القران في يوم عرفة بلا كراهة فلا يكره افراد العمرة فيه كما في جميع السنة
ولان كل وقت لا يكره فيه استدامة العمرة لا يكره فيه انشاؤها كباقي السنة (وأما) قول عائشة
(فأجاب) أصحابنا عنه بأجوبة أجودها انه باطل لا يعرف عنها ولم يذكره عنها أحد ممن يعتمد
* (هامش) (1) كذا في الأصل وفيه سقط يعلم نصه مما بعده ما نص قول عائشة فليحرر (*)
148

ولو صح لكان قول صحابي لم يشتهر فلا حجة فيه على الصحيح ولو صح واشتهر لكان محمولا
على من كان متلبسا بالحج (واما) قولهم إنها أيام الحج فكرهت فيها العمرة فدعوى باطلة
لا شبهة لها *
(فرع) في مذاهبهم في تكرار العمرة في السنة * مذهبنا أنه لا يكره ذلك بل يستحب وبه قال
أبو حنيفة وأحمد وجمهور العلماء من السلف والخلف وممن حكاه عن الجمهور الماوردي والسرخسي
والعبد رى وحكاه ابن المنذر عن علي بن أبي طالب وابن عمر وابن عباس وأنس وعائشة وعطاء
وغيرهم رضي الله عنهم وقال الحسن البصري وابن سيرين ومالك تكره العمرة في السنة أكثر من
مرة لأنها عبادة تشتمل على الطواف والسعي فلا تفعل في السنة إلا مرة كالحج * واحتج الشافعي
والأصحاب وابن المنذر وخلائق بما ثبت في الحديث الصحيح (أن عائشة رضي الله عنها أحرمت
بعمرة عام حجة الوداع فحاضت فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم ان تحرم بحج ففعلت وصارت قارنة
ووقفت المواقف فلما طهرت طافت وسعت فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم قد حللت من حجك
وعمرتك فطلبت من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أن يعمرها عمرة أخرى فاذن لها فاعتمرت من
التنعيم عمرة أخرى) رواه البخاري ومسلم مطولا ونقلته مختصرا قال الشافعي وكانت عمرتها في
ذي الحجة ثم أعمرها العمرة الأخرى في ذي الحجة فكان لها عمرتان في ذي الحجة وعن عائشة
أيضا (انها اعتمرت في سنة مرتين أي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم) وفي رواية ثلاث عمر
وعن ابن عمر أنه اعتمر أعواما في عهد ابن الزبير مرتين في كل عام ذكر هذه الآثار كلها الشافعي ثم
البيهقي بأسانيدهما (وأما الحديث الذي ذكره المصنف فليس فيه دلالة ظاهرة لأنها لم تقل اعتمر
في ذي القعدة وشوال من سنة واحدة * واحتج أصحابنا أيضا في المسألة بحديث أبي هريرة ان النبي
صلى الله عليه وسلم قال (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما) رواه البخاري ومسلم وسبق ذكره
في أول كتاب الحج ولكن ليست دلالته ظاهرة وإن كان البيهقي وغيره قد احتجوا به وصدر به
البيهقي الباب فقال بعض أصحابنا وجه دلالته أنه صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين كون العمرتين في
سنة أو سنتين وهذا تعليق ضعيف * واحتج أيضا بالقياس على الصلاة فقالوا عبادة غير مؤقتة فلم
149

يكره تكرارها في السنة كالصلاة قال الشافعي في المختصر من قال لا يعتمر في السنة إلا مرة مخالف
لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني حديث عائشة السابق (فان قيل) قد ثبت في حديث عائشة ان
النبي صلى الله عليه وسلم قال لها (ارفضي عمرتك وامتشطي وأهلي بالحج) ففعلت ثم اعتمرت وهذا
ظاهره انه لم يحصل لها الا عمرة واحدة (فالجواب) انها لم ترفضها يعنى الخروج منها والاعراض
عنها لأن العمرة والحج لا يخرج منهما بنية الخروج بلا خلاف وإنما رفضها رفض أعمالها مستقلة
لأنها أحرمت بعدها بالحج فصارت قارنة فقال النبي صلى الله عليه وسلم (ارفضيها) أي اتركي
أعمالها المستقلة لاندراجها في أفعال الحج (واما) امتشاطها فلا دلالة فيه * قال القاضي أبو الطيب
وغيره لان المحرم يجوز له عندنا الامتشاط (وأما) الجواب عن احتجاج مالك بالقياس على
الحج فهو أن الحج مؤقت لا يتصور تكراره في السنة والعمرة غير مؤقتة فتصور تكرارها كالصلاة
والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(ويجوز افراد الحج عن العمرة والتمتع بالعمرة إلى الحج والقران بينهما لما روت عائشة قالت
(خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بالحج ومنا من أهل بالعمرة ومنا من أهل بالحج والعمرة) والافراد
والتمتع أفضل من القران وقال المزني القران أفضل والدليل على ما قلناه أن المفرد والمتمتع يأتي بكل
واحد من النسكين بكمال أفعاله والقارن يقتصر على عمل الحج وحده فكان الافراد والتمتع أفضل
وفى التمتع والافراد قولان (أحدهما) أن التمتع أفضل لما روى ابن عمر رضي الله عنهما قال (تمتع
رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج) (والثاني) أن الافراد أفضل لما
روى جابر قال (أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بحج ليس معه عمرة) ولان التمتع يتعلق
به وجوب دم فكان الافراد أفضل منه كالقران (وأما) حديث ابن عمر رضي الله عنهما فإنه
يحتمل انه أراد أمر بالتمتع كما روى أنه رجم ماعزا وأراد انه أمر برجمه والدليل عليه ان ابن عمر هو
الراوي وقد روى (ان النبي صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج)) *
(الشرح) حديث عائشة وحديث ابن عمر وحديث جابر رواها كلها البخاري ومسلم بلفظها
الا حديث جابر فلفظهما فيه (أهل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم هو وأصحابه بالحج) (وأما)
150

قوله ليس معه عمرة فليست في روايتهما ورواها البيهقي باسناد ضعيف (أما) الأحكام فقد اتفقت
نصوص الشافعي والأصحاب على جواز الاحرام على خمسة أنواع الافراد والتمتع والقران والاطلاق
وهو أن يحرم بنسك مطلقا ثم يصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة أو كليهما والتعليق وهو أن
يحرم باحرام كاحرام (1) فهذه الأنواع الخمسة جائزة بلا خلاف وذكر المصنف هنا الثلاثة الأولي
(وأما) النوعان الآخر فذكرهما في باب الاحرام وسنوضحهما هناك إن شاء الله تعالى (وأما)
الأفضل من هذه الأنواع الثلاثة الأولى ففيه طرق وأقول منتشرة (الصحيح) منها الافراد ثم التمتع
ثم القران هذا هو المنصوص للشافعي رحمه الله تعالى في عامة كتبه والمشهور من مذهبه (والقول
الثاني) ان أفضلها التمتع ثم الافراد وهذا القول في الكتاب وهذا الثاني نصه في كتاب اختلاف
الحديث حكاه عنه القاضي أبو الطيب والأصحاب (والثالث) أفضلها الافراد ثم القران ثم التمتع
حكاه صاحب الفروع والسرخسي وصاحب البيان وآخرون قالوا نص عليه في أحكام القران وممن
اختاره من أصحابنا المزني وابن المنذر وأبو إسحاق المروزي والقاضي حسين في تعليقه * قال أصحابنا
وشرط تقديم الافراد ان يحج ثم يعتمر في سنة فان أخر العمرة عن سنة فكل واحد من التمتع
والقران أفضل منه بلا خلاف لان تأخير العمرة عن سنة الحج مكروه * هكذا قاله جماهير الأصحاب
ممن صرح به الماوردي والقاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب الشامل والبيان والرافعي وآخرون
وقال القاضي حسين والمتولي الافراد أفضل من التمتع والقران سواء اعتمر في سنته أم في سنة
أخرى وهذا شاذ ضعيف والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في الافراد والتمتع والقران * قد ذكرنا ان مذهبنا جواز الثلاثة
وبه قال العلماء وكافة الصحابة والتابعين ومن بعدهم الا ما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب
وعثمان بن عفان رضي الله عنهما انهما كانا ينهيان عن التمتع وقد ذكر الشيخ أبو حامد في تعليقه
وآخرون من أصحابنا ومن غيرهم من العلماء في النهى عمر وعثمان تأويلين (أحدهما) انهما نهيا عنه
تنزيها وحملا للناس على ما هو الأفضل عندهما وهو الافراد لا انهما يعتقدان بطلان التمتع (1)
هذا مع علمهما بقول الله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى) (والثاني)
انهما كانا ينهيان عن التمتع الذي فعلته الصحابة في حجة الوداع وهو فسخ الحج إلى العمرة لان

(1) لعله كاحرام زيد مثلا
(2) بياض بالأصل
151

ذلك كان خاصا لهم كما سنذكره واضحا إن شاء الله تعالى وهذا التأويل ضعيف وإن كان مشهورا
وسياق الأحاديث الصحيحة يقتضي خلافه * ومن العلماء من أصحابنا وغيرهم من يقتضي كلامه
أن مذهب عمر بطلان التمتع وهو ضعيف ولا ينبغي أن يحمل كلامه عليه بل المختار في مذهبه ما
قدمته والله أعلم *
(فرع) في مذاهبهم في الأفضل من هذه الأنواع الثلاثة * قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا
أن الافراد أفضل وبه قال عمر بن الخطاب وعثمان وعلي وابن مسعود وابن عمر وجابر وعائشة
ومالك والأوزاعي وأبو ثور وداود وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه والمزني
وابن المنذر وأبو اسحق المروزي القران أفضل وقال أحمد التمتع أفضل * وحكي أبو يوسف أن التمتع
والقران أفضل من الافراد * وحكي القاضي عياض عن بعض العلماء أن الأنواع الثلاثة سواء في
الفضيلة لا أفضلية لبعضها على بعض ودليل الجميع يفهم مما ذكره المصنف ومما سأذكره إن شاء
الله تعالى بعد هذا والله أعلم
(فرع) قال المزني في المختصر قال الشافعي في اختلاف الحديث ليس شئ من الاختلاف أيسر
من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحا من جهة أنه مباح لان الكتاب ثم السنة ثم ما لا علم فيه خلافا
يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج وافراد الحج والقران واسع كله قال الشافعي وثبت أنه صلى الله عليه وسلم
(خرج ينتظر القضاء فنزل عليه القضاء وهو فيما بين الصفا والمروة فأمر أصحابه أن من كان منهم أهل
بالحج ولم يكن معه هدى أن يجعلها عمرة وقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها
عمرة) قال الشافعي (فان) قال قائل فمن أين أثبت حديث عائشة وجابر وابن عمر يعنى روايتهم
للافراد دون حديث من قال قرن (قيل) لتقدم صحبة جابر للنبي صلى الله عليه وسلم وحسن سياقه لابتداء
الحديث وآخره لرواية عائشة وفضل حفظها عنه وقرب ابن عمر منه هذا نصه في مختصر المزني قال
الماوردي يعنى قول الشافعي ليس شئ من الخلاف أيسر من هذا لأنه مباح ليس فيه تغيير حكم لان الافراد
والتمتع كلها جائزة قال وقول الشافعي وإن كان الغلط فيه قبيحا يحتمل أمرين (أحدهما) انه أراد الانكار على
الرواة حيث لم يتفقوا على نقلها وهي حجة واحدة (والثاني) أنه أراد الانكار على من لا معرفة له بالأحاديث
152

وترتيب مختلفها والجمع بينها وأنها غير متضادة بل يجمع بينها * هذا كلام الماوردي وقال القاضي
حسين وإنما استيسر الخلاف فيه لان الأنواع الثلاثة منصوص عليها في القرآن وكلها منقولة عنه
صلى الله عليه وسلم صحيحة عنه وكلها جائزة بالاجماع (أما) الافراد فبين في قوله تعالى (ولله على
الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) (وأما) التمتع ففي قوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج
فما استيسر من الهدي) (وأما) القران ففي قوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) هذا كلام القاضي
حسين وفى الاستدلال بهذه الأخيرة للقران نظر وقد استدل بها أصحاب أبي حنيفة لمذهبهم في
ترجيح القران وأنكر ذلك أصحابنا وقالوا لا دلالة في الآية للقران لأنه ليس في الآية أكثر من
جمع الحج والعمرة في الذكر ولا يلزم من ذلك جمعهما في الفعل نظيره قوله تعالى (وأقيموا الصلاة
وآتوا الزكاة) وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه في شرح كلام الشافعي هذا وقوله وإن كان الغلط
فيه قبيحا يعنى اختلافهم فيها قبيح قال ثم عذرهم في ذلك فإنه قد كان ثبت عندهم أن الافراد والتمتع
والقران كلها جائزة لم يهتموا بما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم بحيث يعلمونه علما قطعيا ويتفقون
عليه بل اقتصر كل واحد على ما غلب على ظنه كما رواه وتسمعه منه مع أمور فوق ظنه في روايته
والله أعلم *
(فرع) أذكر فيه إن شاء الله تعالى جملة من الأحاديث الصحيحة في الافراد والتمتع
والقران (فأما) جوازها كلها ففيه حديث عائشة رضي الله عنها قالت (خرجنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج وأهل
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج) رواه البخاري ومسلم وفى رواية لمسلم (منا من أهل
بالحج مفردا ومنا من قرن ومنا من تمتع) (وأما) ترجيح الافراد فثبت في الصحيح من رواية جابر
وابن عمر وابن عباس وعائشة (فأما) حديث عائشة فقد سبق الآن في قولها (وأهل رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالحج) رواه البخاري ومسلم وفى رواية لمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد الحج) وفي رواية
له أيضا عنها (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفردا) وفى رواية البخاري ومسلم قالت (خرجنا
مع رسول الله تعالى عليه وسلم لا يذكر لنا الحج فلما جئنا سرف طمثت وذكرت تمام
الحديث إلى قولها ثم رجعوا مهلين بالحج يعنى إلى منى) (وأما) حديث ابن عمر فعن بكر بن
عبد الله المزني عن انس قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا قال بكر فحدثت
153

بذلك ابن عمر فقال لبى بالحج وحده فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر فقال إنس ما تعدوننا الا صبيانا
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك عمرة وحجا) رواه البخاري ومسلم وعن زيد بن أسلم (أن رجلا
اتي ابن عمر فقال (بم أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالحج ثم اتاه من العام المقبل فسأله فقال ألم تأتني
عام أول قال بلى ولكن أنسا يزعم أنه قرن قال ابن عمر إن أنسا كان يدخل على النساء وهن منكشفات
الرؤوس وإني كنت تحت ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أسمعه يلبى بالحج) رواه البيهقي باسناد
صحيح وفى رواية لمسلم أيضا عن ابن عمر قال (أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج منفردا) (وأما)
حديث جابر فعن عطاء عن جابر بن عبد الله قال (أهل النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه
بالحج) رواه البخاري ومسلم وفى رواية لمسلم أيضا عن جابر قال (أهللنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بالحج
خالصا وحده فقدمنا صبح رابعة من ذي الحجة فأمرنا أن نحل (وفى صحيح مسلم أيضا عن جابر
في حديث طويل قال) خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لمناسك الحج وذكر الحديث إلى أن قال حتى
إذا كان آخر طواف على المروة قال النبي صلى الله عليه وسلم لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدى
ولجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدى فليتحلل وليجعلها عمرة) (قوله) آخر طواف على المروة
يعنى السعي (وأما) حديث ابن عباس ففيه قال (أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج فقدم
لأربع مضين من ذي الحجة وصلى الصبح وقال لما صلى الصبح من شاء أن يجعلها عمرة فليجعلها
عمرة) رواه مسلم وفى رواية لمسلم أيضا عن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلي الظهر بذي الحليفة
ثم دعى بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها نعلين ثم ركب راحلته فلما
استوت به على البيداء أهل بالحج) وروى البيهقي باسناده عن علي رضى الله تعالى عنه أنه قال لابنه
(يا بني أفرد الحج فإنه أفضل (وبإسناده عن ابن مسعود أنه بافراد الحج * (وأما) ترجيح التمتع فعن
ابن عمر قال (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه
الهدى من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدى ومنهم من لم يهد فلما
قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا يحل من شئ حتى يقضي حجته ومن لم
يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر وليحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم
يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله وطاف رسول الله صلى الله عليه
154

وسلم حين قدم مكة فاستلم الركن أول شئ ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة أطواف
ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فاتى الصفا فطاف بالصفا والمروة
سبعة أطواف ثم لم يحلل من شئ حرم منه حتى قضا حجه ونحر هديه يوم النحر وأفاض فطاف
بالبيت ثم حل من كل شئ حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من اهدى وساق الهدى من
الناس) رواه البخاري ومسلم * وعن الزهري عن عروة عن عائشة قالت (تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه قال الزهري مثل الذي اخبرني سالم عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم)
رواه البخاري ومسلم قال البيهقي قد روينا عن ابن عمر وعائشة فيما سبق في افراد رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما يخالف هذا قال وكونه قال في هذه الرواية لم يتحلل من إحرامه حتى فرغ من حجه دليل ظاهر
على أنه لم يكن متمتعا * وعن غنيم بن قيس بضم الغين المعجمة قال (سألت سعد بن أبي وقاص
عن المتعة فقال فعلناها وهذا يومئذ كافر بالعرش يعنى بيوت مكة (رواه مسلم (وقوله) العرش هو بضم
العين والراء وهي بيوت مكة (وقوله) وهذا كافر يعني معاوية وفى رواية غير مسلم (فعلناها مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا يومئذ كافر بالعرش يعنى معاوية) وعن محمد بن عبد الله بن الحارث انه (سمع
سعد بن أبي وقاص والضحاك بن قيس عام حج معاوية بن أبي سفيان وهما يذكران التمتع والعمرة
إلى الحج فقال الضحاك لا يصنع مثل هذا إلا من جهل أمر الله تعالى فقال سعد بئس ما قلت يا بن
أخي قال الضحاك فان عمر بن الخطاب نهى عن ذلك فقال سعد قد صنعها رسول الله صلى الله عليه
وسلم وصنعناها معه) رواه الترمذي وقال حديث صحيح وفى بعض النسخ حسن صحيح ورواه النسائي
وآخرون أيضا وعن أبي موسى الأشعري قال (بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى قومي باليمن فجئت وهو
منيخ بالبطحاء فقال بم أهللت قلت أهللت كاهلال النبي صلى الله عليه وسلم قال هل معك من هدى قلت لا
فأمرني فطفت بالبيت والصفا والمروة ثم أمرني فأحللت فاتيت امرأة من قومي فمشطتني أو غسلت رأسي)
رواه البخاري ومسلم وعن سالم بن عبد الله (أنه سمع رجلا من أهل الشام سأل ابن عمر عن التمتع بالعمرة
إلى الحج فقال ابن عمر هي حلال قال الشامي ان أباك قد نهي عنها قال ابن عمر أرأيت إن كان أبي نهي
عنها وصنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه
الترمذي باسناد صحيح وقال حديث حسن وهو من رواية ليث بن أبي سليم وهو ضعيف ولهذا
لم يقع في بعض نسخ الترمذي قوله حديث حسن وعن عمران بن الحصين قال (تمتع النبي صلي
155

الله عليه وسلم تمتعنا معه) رواه مسلم بهذا اللفظ ورواه البخاري بمعناه قال (متعنا على عهد رسول
الله صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن قال رجل برايه ما شاء) وعن أبي حمزة بالجيم قال (تمتعت
فنهاني ناس عن ذلك فسألت ابن عباس فأمرني بها فرأيت في المنام كأن رجلا يقول لي حج مبرور وعمرة
متقبلة فأخبرت ابن عباس فقال سنة النبي صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري ومسلم (وأما) القران
فجاءت فيه أحاديث (منها) حديث سعيد بن المسيب قال (اختلف على وعثمان وهما بعسفان فكان
عثمان ينهى عن المتعة أو العمرة فقال على ما تريد الا أن تنهى عن أمر فعله رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال عثمان دعنا منك فقال إني لا أستطيع أن أدعك فلما رأى على ذلك أهل بهما
جميعا) رواه البخاري ومسلم (ومنها) حديث أنس فعن بكر بن عبد الله المزني عن أنس قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعا قال بكر فحدثت بذلك ابن عمر
فقال لبي بالحج وحده فلقيت أنسا فحدثته بقول ابن عمر فقال إنس ما تعدوننا الا صبيانا سمعت
النبي صلى الله عليه وسلم يقول لبيك عمرة وحجا) وروى البيهقي باسناده عن سليمان بن حارث وهو
شيخ البخاري قال (سمع هذه الرواية أبو قلابة من أنس وأبو قلابة فقيه) قال وقد روى حمية ويحيى
بن أبي إسحاق عن انس قال (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يلبى بعمرة وحج قال سليمان ولم يحفظا إنما الصحيح ما قال
أبو قلابة (ان النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج وقد جمع بعض أصحابه بين الحج والعمرة) فاما سمع أنس فعن أولئك
الذين جمعوا بين الحج والعمرة قال البيهقي فالاشتباه وقع لانس لا لمن دونه قال ويحتمل أن يكون سمع النبي
صلى الله عليه وسلم يعلم رجلا كيف صورة القران لا أنه قرن عن نفسه وعن انس قال (سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم أهل بهما لبيك عمرة وحجا) رواه مسلم وعن عمران بن الحصين قال (إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع بين حجة وعمرة ثم لم ينه عنه حتى مات ولم ينزل فيه قرآن يحرمه)
رواه مسلم وعن عمر رضى الله تعالى عنه قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بوادي
العقيق أتاني الليلة آت من ربى فقال صل في هذا الوادي المبارك وقال عمرة في حجة) رواه البخاري
هكذا في بعض الروايات وقال عمرة في حجة وفى بعضها وقل عمرة في حجة قال البيهقي ويكون ذلك
اذنا في ادخال العمرة على الحج لأنه أمره في نفسه وعن العتبي بن معبد قال (كنت رجلا نصرانيا
فأسلمت فأهلكت بالحج والعمرة فلما أتيت العذيب لقيني سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان وأنا أهل بهما
جميعا فقال أحدهما للآخر ما هذا بأفقه من بعيره قال فكأنما ألقى على جبل حتى أتيت عمر بن الخطاب
فقلت له يا أمير المؤمنين إني كنت رجلا أعرابيا نصرانيا وإني أسلمت وأنا حريص على الجهاد وإني
وجدت الحج والعمرة مكتوبين على فأتيت رجلا من قومي فقال لي اجمعهما واذبح ما استيسر من الهدى
وإني أهللت بهما جميعا فقال عمر هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم) واه أبو داود والنسائي
156

باسناد صحيح قال الدارقطني في كتاب العلل هو حديث صحيح قال البيهقي ومقتضى هذا جواز القران
لا تفضيله وقد أمر عمر بالافراد (قلت) وهذا أود ما قلته منه في تأويل نهى عمر رضي الله تعالى عنه
عن التمتع وأنه إنما نهي عنه لتفضيله أمر الافراد لا لبطلان التمتع وعن أبي قتادة قال (إنما جمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم بين الحج والعمرة لأنه علم أنه ليس بجامع بعدها) رواه الدارقطني وعن حفصة قالت (قلت
للنبي صلى الله عليه وسلم ما شأن الناس حلوا ولم تحل من عمرتك قال إني قلدت هديي ولبدت رأسي
فلا أحل حتى أحل من الحج) رواه البخاري قال البيهقي قال الشافعي قولها من عمرتك أي من
احرامك قال إني قلدت هديي ولبدت رأسي فلا أحل حتى أنحر أي حتى يحل الحاج لان القضاء
نزل عليه أنه من كان معه هدى جعل احرامه حجا (واعلم) أن البيهقي ذكر بابا في جواز الافراد والتمتع
والقران ثم بابا في تفضيل الافراد ثم باب من زعم أن القران أفضل وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
متمتعا وذكر في كل نحو ما ذكرته من الأحاديث ثم قال باب كراهة من كره التمتع والقران وبيان أن
جميع ذلك جائز وان كنا اخترنا الافراد فذكر في هذا الباب باسناده عن سعيد بن المسيب أن رجلا
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر ابن الخطاب رضي الله عنه فشهد عنده انه سمع رسول
الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قضى فيه ينهي عن العمرة قبل الحج) رواه أبو داود
في سننه وقد اختلفوا في سماع سعيد بن المسيب من عمر لكنه لم يرو هنا عن عمر بل عن صحابي
غير مسمي والصحابة كلهم عدول. وعن معاوية (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي ان يقرن بين الحج والعمرة
رواه البيهقي باسناد حسن وروى البيهقي حديث عمران بن الحصين قال) تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونزل فيه القرآن فليقل رجل برأيه ما شاء) رواه البخاري ومسلم وحديث أبي موسى السابق في القران
وأن أبا موسى قال قلت أفتى الناس بالذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من التمتع في حياة رسول الله صلى الله عليه
وسلم وزمن أبي بكر وصدر خلافه عمر) رواه البخاري ومسلم وفيه ان عمر كان ينهى عنها وفى رواية
أن أبا موسي سأل عمر عن نهيه فقال عمر قد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعله وأصحابه ولكن كرهت
أن يظلوا معرسين بهن في الأراك ثم يروحون في الحج تقطر رؤوسهم) رواه مسلم إلا قوله
وأصحابه) ولكن كرهت ان يظلوا معرسين بهن تحت الأراك ثم يروحون) (والاعراس) كناية عن
وطئ السنام وروى البيهقي عن الزهري عن عروة عن عائشة (انها أخبرته في تمتع النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة
إلى الحج وتمتع الناس معه بمثل الذي أخرني سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال الزهري فقلت لسالم فلم ينه عن التمتع وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه
وسلم وفعله الناس معه قال سالم أخبرني ابن عمر أن الأتم للعمرة ان تفردوها من أشهر الحج (الحج

(1) كذا بالأصل ولعله هذا يؤيد أو نحوه فليراجع
157

أشهر معلومات) شوال وذو القعدة وذو الحجة فأخلصوا فيهن الحج واعتمروا فيما سواهن من الشهور قال
وإن أعمر بذلك لزمه اتمام العمرة لقول الله تعالى (وأتموا الحج والعمرة) وذلك أن العمرة إنما يتمتع بها
إلى الحج والتمتع لا يتم إلا بالهدى أو الصيام إذا لم يجد هديا والعمرة في غير أشهر الحج تتم لا هدى
ولا صيام فأراد عمر بترك التمتع اتمام العمرة كما امر الله تعالى باتمامها وأراد أيضا أن تكرر زيارة الكعبة
في كل سنة مرتين فكره التمتع لئلا يقتصروا على زيارة مرة فتردد الأئمة في التمتع حتى ظن الناس ان الأئمة
يرون ذلك حراما قال ولعمري لم ير الأئمة ذلك حراما ولكنهم اتبعوا ما امر به عمر رضي الله عنه
إحسانا للخير وباسناده الصحيح عن سالم قال (سئل ابن عمر عن متعة الحج فأمر بها فقيل إنك تخالف
أباك فقال إن أبي لم يقل الذي يقولون إنما قال أفردوا الحج من العمرة أي إن العمرة لا تتم في
أشهر الحج فجعلتموها أنتم حراما وعاقبتم الناس عليها وقد أحلها الله عز وجل وعمل بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال فإذا أكثروا عليه قال فكتاب الله أحق ان يتبع أم عمر) وعن سالم قال (كان ابن عمر
يفنى بالذي انزل الله تعالى من الرخصة في التمتع وبين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول ناس لابن عمر كيف أباك
وقد نهي عن ذلك فيقول لهم ابن عمر الا تتقون الله أرأيتم إن كان عمر نهي عن ذلك يبغي فيه الخير
ويلتمس فيه تمام العمرة فلم كرهتموها وقد أحلها الله تعالى وعمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تتبعوا أم عمر إن عمر لم يقل ذلك لأن العمرة في أشهر الحج حرام ولكنه
قال إن اتمام العمرة أن تفردوها من أشهر الحج) ثم روى البيهقي باسناده الصحيح عن عبيد بن عمير
قال (قال علي بن أبي طالب لعمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنهيت عن المتعة قال لا ولكني أردت كثرة
زيارة البيت فقال على من أفرد الحج فحسن ومن تمتع فقد أخذ بكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم)
وعن أبي نصرة قال (قلت لجابر بن عبد الله إن ابن الزبير ينهى عن المتعة وان ابن عباس يأمر
بها فقال جابر على يدي دار الحديث تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما قام عمر قال إن
الله كان يحل لرسوله صلى الله تعالى عليه وسلم ما شاء بما شاء وان القرآن قد نزل منازله فأتموا
الحج والعمرة لله كما أمركم الله وابتوا نكاح هذه النساء فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى أجل الا رجمته
بالحجارة) رواه مسلم وفى رواية (فإنه أتم بحجكم وأتم بعمرتكم) قال البيهقي وفى هذه الزيادة
دلالة على أن عمر نهي عن المتعة على الوجه الذي سبق بيانه في الحديث قبله * وعن عبد الله
ابن شقيق (كان عثمان ينهي عن المتعة وكان على يأمر بها فقال عثمان لعلي كلمة ثم قال على لقد علمت
158

انا قد تمتعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أجل ولكنا كنا خائفين) رواه مسلم وأراد بكنا خائفين عمرة
القضاء وكانت سنة سبع من الهجرة قبل الفتح وعن أبي ذر قال (كانت المتعة في الحج لأصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم خاصة) رواه مسلم * قال البيهقي إنما أراد فسخهم الحج إلى العمرة وهو ان بعض الصحابة
أهل بالحج ولم يكن معه هدى فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ان يجعلوه عمرة لينقض بذلك
عادتهم في تحريم العمرة في أشهر الحج وهذا لا يجوز اليوم وقد جاء في رواية ابن عباس وغيره
ما دل على ذلك * وعن محمد بن إسحاق عن عبد الرحمن بن الأسود عن سليمان ابن الأسود ان أبا
ذر رضي الله عنه كأن يقول وفي حج ثم فسخها بعمرة ولم يكبر ذلك الا الركب الذين كانوا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه أبو داود ولكنه ضعيف لان محمد بن إسحاق صاحب المغازي
هذا مدلس وقد قال (عن) وقد اتفق العلماء على أن المدلس إذا قال (عن) لا يحتج بروايته * وعن ابن
مسعود قال (الحج أشهر معلومات ليس فيها عمرة) * قال البيهقي وكراهة من كره ذلك أظنها على
الوجه الذي ذكرناه عن ابن عمر عن عمر وقد روى عن الأسود عن ابن مسعود قال (أحب أن
يكون لكل واحد منهما (1) قال البيهقي فثبت بالسنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جواز التمتع
والقران والافراد وثبت بمضي النبي صلى الله عليه وسلم في حج مفرد ثم باختلاف الصدر الأول في كراهة
التمتع والقران دون الافراد كون افراد الحج عن العمرة أفضل والله أعلم *
(فرع) في طريق الجمع بين هذه الأحاديث الصحيحة على الوجه الذي تقتضيه طرقها * قد سبق في
هذه الأحاديث الصحيحة أن من الصحابة من روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حجة الوداع
مفردا (ومنهم) من روى أنه كان قارنا (ومنهم) من روى أنه كان متمتعا وكله في الصحيح وهي
قصة واحدة فيجب تأويل جميعها ببعضها والجمع بينها وصنف ابن حزم الظاهري كتابا فيها حاصله
أنه اختار القران وتأول باقي الأحاديث وتأويل بعضها ليس بظاهر فيما قاله (والصواب) الذي نعتقده
انه صلى الله عليه وسلم أحرم أولا بالحج مفردا ثم ادخل عليه العمرة فصار قارنا وادخال العمرة على
الحج جائز على أحد القولين عندنا وعلى الأصح لا يجوز لنا وحاز للنبي صلى الله عليه وسلم تلك السنة
للحاجة وأمر به في قوله (لبيك عمرة في حجة) كما سبق * فإذا عرفت ما قلناه سهل الجمع بين الأحاديث
(فمن) روى أنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا وهم الأكثرون كما سبق أراد أنه أعمر أول الاحرام (ومن)

(1) كذا بالأصل فحرر
159

روى أنه كان قارنا أراد أنه اعتمر آخره وما بعد احراه (ومن) روى أنه كان متمتعا أراد التمتع اللغوي وهو
الانتفاع والالتذاذ وقد انتفع بان كفاه عن النسكين فعل واحد ولم يحتج إلى إفراد كل واحد بعمل
ويؤيد هذا الذي ذكرته أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتمر تلك السنة عمرة مفردة لا قبل الحج ولا بعده
وقد قدمنا ان القران أفضل من أفراد الحج من غير عمرة بلا خلاف ولو جعلت حجته صلى الله عليه وسلم
مفردة لزم منه أن لا يكون اعتمر تلك السنة ولم يقل أحد ان الحج وحده أفضل من القران وعلى هذا الجمع
الذي ذكرته ينتظم الأحاديث كلها في حجته صلى الله عليه وسلم في نفسه (وأما) الصحابة فكانوا ثلاثة أقسام (قسم)
أحرموا بحج وعمرة أو بحج ومعهم هدي فبقوا عليه حتى تحللوا منه يوم النحر (وقسم) بعمرة فبقوا في عمرتهم
حتى تحللوا قبل يوم عرفة ثم أحرموا بالحج من مكة (وقسم) بحج وليس معه هدي فيها ولا أمرهم صلى الله عليه وسلم
أن يقلبوا حجهم عمرة وهو معنى فسخ الحج إلى العمرة وعلى هذا تنتظم الروايات في احرام الصحابة
(فمن) روى أنهم كانوا قارنين أو متمتعين أو مفردين أراد بعضهم وهم الطائفة الذين علم ذلك منهم وظن
أن الباقين مثلهم فهذا الذي ذكرته من الجمع والتأويل هو المعتمد وحاصله ترجيح الافراد لان النبي صلى الله عليه وسلم
اختاره أولا وإنما ادخل عليه العمرة لتلك المصلحة السابقة وهي بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج
وكانت العرب تعتقد أن ذلك من أفجر الفجور فأراد بيانه في تلك السنة التي جمعت من الخلق ما لم يجتمع
قبلها مثلها ليظهر فيهم ذلك ويشتهر جوازه وصحته عند جمعهم وإن كان صلى الله عليه وسلم قد اعتمر قبل ذلك مرات
في أشهر الحج إلا أنها لم تشتهر اشتهار هذه (1) في حجة الوداع ولا قريبا منها وكل هذا لا يخرج
الافراد عن كونه الأفضل وتأول جماعة من أصحابنا الأحاديث التي جاءت انه صلى الله عليه وسلم كان متمتعا أو
قارنا انه امر بذلك كما قالوا رجم ما عزا أي امر برجمه وهذا ضعيف برده صريح الروايات الصحيحة
السابقة بل الصواب ما قدمته قريبا والله أعلم *
(فرع) قال الإمام أبو سليمان الخطابي طعن جماعة من الجهال وكفرة من الملحدين في الأحاديث
والرواة حيث اختلفوا في حجة النبي صلى الله عليه وسلم هل كان مفردا أو متمتعا أو قارنا وهي

(1) بياض بالأصل ولعلها العمرة
160

حجة واحدة مختلفة الافعال ولو يسروا للتوفيق واغتنوا يحسن المعرفة لم ينكروا ذلك ولم يدفعوه قال وقد
أنعم الشافعي رحمه الله تعالى ببيان هذا في كتاب اختلاف الحديث وجود الكلام فيه وفى اقتصاص
كل ما قاله تطويل ولكن الوجيز المختصر من جوامع ما قال إن معلوما في لغة العرب جواز إضافة
الفعل إلى الآمر به لجواز إضافته إلى الفاعل كقولك بنى فلان دارا إذا أمر ببنائها وضرب
الأمير فلانا إذا أمر بضربه ورجم النبي صلى الله عليه وسلم ماعزا وقطع سارق رداء صفوان وإنما أمر بذلك *
ومثله كثير في الكلام وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم القارن والمفرد والمتمتع وكل منهم يأخذ
عنه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه فجاز أن تضاف كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على معني أنه أمر بها
وأذن فيها قال ويحتمل أن بعضهم سمعه يقول لبيك بحجة فحكى أنه أفرد وخفي عليه قوله وعمرة فلم
يحك إلا ما سمع وسمع أنس وغيره الزيادة وهي لبيك بحجة وعمرة ولا ينكر قبول الزيادة وإنما يحصل
التناقض لو كان الزائد نافيا لقول صاحبه فأما إذا كان مثبتا له وزائدا عليه فليس فيه تناقض قال
ويحتمل أن يكون الراوي سمعه يقول ذلك لغيره على وجه التعليم فيقول له لبيك بحجة وعمرة على
سبيل التلقين * فهذه الروايات المختلفة في الظاهر ليس فيها تكاذب والجمع بينها سهل كما ذكرنا وقد
روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة إحراما موقوفا وخرج ينتظر القضاء فنزل عليه الوحي وهو
على الصفا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يكن معه هدى أن يجعله عمرة وأمر من كان معه هدى ان
يحج هذا كلام الخطابي وقال القاضي عياض قد أكثر الناس الكلام على هذه الأحاديث من علماء
وغيرهم فمن مجيد منصف ومن مقصر متكلف ومن دخيل مكره ومن مقتصر مختصر وأوسعهم نفسا
في ذلك أبو جعفر الطبري الحنفي وإن كان تكلف في ذلك في زيادة على الف ورقة وتكلم معه في
ذلك أيضا أبو جعفر الطبري ثم أبو عبد الله بن أبي صفرة بن المهلب والقاضي أبو عبد الله بن المرابط والقاضي
أبو الحسين بن القصار البغدادي والحافظ أبو عمرو بن عبد البر وغيرهم قال القاضي عياض وأولي ما يقال
في هذا على ما لخصناه من كلامهم واخترناه من اختيار انهم مما هو أجمع للروايات وأشبه بمساق الأحاديث أن
161

النبي صلى الله عليه وسلم أباح للناس من فعل هذه الأنواع الثلاثة ليدل على جواز جمعها إذ لو أمر بواحد لكان غيره
يظن أنه لا يجزئ فأضيف الجميع إليه وأخبر كل واحد بما أمره به وأباحه له ونسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم اما
لامره به وإما لتأويله عليه (وأما) إحرامه صلى الله عليه وسلم بنفسه فأخذنا الأفضل فأحرم مفردا بالحج وبه تظاهرت
الروايات الصحيحة وأما الروايات بأنه كان متمتعا فمعناها أمر به وأما الروايات بأنه كان قارنا فأخبار عن
حالته الثانية لا عن ابتداء إحرامه بل إخبار عن حاله حين أمر أصحابه بالتحلل من حجهم وقلبه إلى
عمرة لمخالفة الجاهلية إلا من كان معه هدى فكان هو صلى الله عليه وسلم ومن معه في الهدى في آخر إحرامهم قارنين
بمعني انهم أردفوا الحج بالعمرة وفعل ذلك مواساة لأصحابه وتأنيسا لهم في فعلها في أشهر الحج
لكونها كانت منكرة عندهم في أشهر الحج ولم يمكنه التحلل معهم لسبب الهدى واعتذر إليهم
بذلك في ترك مواساتهم فصار صلى الله عليه وسلم قارنا في آخر أمره وقد اتفق جمهور العملاء على جواز ادخال
الحج على العمرة وشذ بعض الناس فمنعه وقال لا يدخل إحرام على إحرام كما لا يدخل صلاة على
صلاة واختلفوا في إدخال العمرة على الحج فجوزه أصحاب الرأي وهو قول الشافعي لهذه الأحاديث
ومنعه آخرون وجعلوا هذا خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم لضرورة الاعتمار حينئذ في أشهر الحج قال وكذلك
يتأول قول من كان متمتعا أي تمتع بفعله العمرة في أشهر الحج وفعلها مع الحج لان لفظ المتعة
يلق على معان فانتظمت الأحاديث واتفقت * قال ولا يبعد رد ما ورد عن الصحابة من فعل مثل
ذلك إلى مثل هذا مع الروايات الصحيحة انهم أحرموا بالحج مفردا فيكون الافراد اخبارا عن
فعلهم أولا والقران إخبارا عن أحرام الذين معهم هدى بالعمرة ثانيا والتمتع لفسخهم الحج إلى
العمرة ثم إهلالهم بالحج بعد التحلل منها كما فعله كل من لم يكن معه هدى قال القاضي وقد قال بعض
علمائنا انه أحرم إحراما مطلقا منتظرا ما يؤمر به من افراد أو تمتع أو قران ثم أمر بالحج ثم أمر
بالعمرة في وادي العقيق بقوله (هل في هذا الوادي وقل عمرة في حجة) قال القاضي والذي سبق
أبين وأحسن في التأويل * هذا كلام القاضي عياض ثم قال القاضي في موضع آخر بعده لا يصح قول
من قال أحرم النبي صلى الله عليه وسلم احراما مطلقا منهما لان رواية جابر وغيره من الصحابة في
الأحاديث الصحيحة ترده وهي مصرحة بخلافه *
162

(فرع) قد ذكرنا ما جاء من الأحاديث في الافراد والتمتع والقران والاطلاق واختلاف
العلماء في الأفضل منها وفى كيفية الجمع بينها وفى الجواب عن اعتراض الملحدين عليها وذكرنا أن جميع
الأنواع جائزة وأوضحنا الجواب عما نقل من كراهة عمر وغيره رضي الله عنهم من التمتع أو القران
وذكرنا أن الأصح تفضيل الافراد ورجحه الشافعي والأصحاب وغيرها بأشياء منها أنه الأكثر في
الروايات الصحيحة في حجة النبي صلى الله عليه وسلم (ومنها) أن رواته أخص بالنبي صلى الله
عليه وسلم في هذه الحجة فان منهم جابرا وهو أحسنهم سياقا لحجة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه ذكرها
من أول خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى فراغه وذلك مشهور في صحيح مسلم وغيره
وهذا يدل على ضبطه لها واعتنائه بها (ومنهم) ابن عمر وقد قال كنت تحت ناقة النبي صلى الله عليه
وسلم يمسني لعابها أسمعه يلبى بالحج وقد سبق بيان هذا عنه ومنهم عائشة وقربها من النبي صلى الله
عليه وسلم معروف واطلاعها على باطن أمره وفعله في خلوته وعلانيته مع فقهها وعظم فطنتها (ومنهم)
ابن عباس وهو بالمحل المعروف من الفقه والفهم الثاقب مع كثرة بحثه وحفظه أحوال النبي صلى الله عليه
وسلم التي لم يخفها وأخذه إياها من كبار الصحابة (ومنها) أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم
بعد النبي صلى الله عليه وسلم أفردوا الحج وواظبوا عليه كذلك فعل أبو بكر وعمر وعثمان
واختلف فعل على رضي الله عنهم أجمعين وقد حج عمر بالناس عشر حجج مدة خلافته كلها مفردا
لو ولم يكن هذا هو الأفضل عندهم وعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم حج مفردا لم يواظبوا على
الافراد مع أنهم الأئمة الاعلام وقادة الاسلام ويقتدى بهم في عصرهم وبعدهم وكيف يظن بهم
المواظبة على خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم أو أنهم خفى عليهم جميعهم فعله صلى الله عليه
وسلم (وأما) الخلاف عن علي وغيره فإنما فعلوه لبيان الجواز وقد قدمنا عنهم ما يوضح هذا (ومنها)
ان الافراد لا يجب فيه دم بالاجماع وذلك لكماله ويجب الدم في التمتع والقران وذلك الدم
دم جبران لسقوط الميقات وبعض الأعمال ولان مالا خلل فيه ولا يحتاج إلى جبر أفضل
(ومنها) أن الأمة أجمعت على جواز الافراد من غير كراهة وكره عمر وعثمان وغيرهما ممن ذكرناه قبل
هذا التمتع وبعضهم التمتع والقران وإن كانوا يجوزونه على ما سبق تأويله فكان ما أجمعوا على أنه
163

لا كراهة فيه أفضل * واحتج القائلون بترجيح القران بالأحاديث السابقة فيه وبقوله تعالى (وأتموا
الحج والعمرة لله) ومشهور عن عمر وعلي انهما قالا اتمامهما ان تحرم بهما من دويرة أهلك وبحديث العتبى بن معبد
السابق وقول عمر له هديت سنة نبيك صلى الله عليه وسلم وبحديث وادي العقيق (وقل لبيك عمرة في حجة)
قالوا ولان المفرد لا دم عليه وعلى القارن دم وليس هو دم جبران لأنه لم يفعل حراما بل دم عبادة
والعبادة المتعلقة بالبدن والمال أفضل من المختصة بالبدن قال المزني ولان القارن مسارع إلى العبادة
فهو أفضل من تأخيرها قالوا ولان في القران تحصيل العمرة في زمن الحج وهو إشراف (وأجاب)
أصحابنا عن الأحاديث الواردة في القران بجوابين (أحدهما) أن أحاديث الافراد أكثر وأرجح
وذلك من وجوه كما سبق (والثاني) أن أحاديث القران مؤولة كما سبق ولا بد من التأويل للجمع بين
الأحاديث وقد سبق ايضاح الجمع والتأويل (والجواب) عن الآية الكريمة أنه ليس فيها الا الامر
باتمامها ولا يلزم من ذلك قرنهما في الفعل كما قوله تعالى (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) (وأما)
ما روى عن عمر وعلي فمعناه الاحرام بكل واحد منهما من دويرة أهله يدل على أنه صح عن عمر
كراهته للتمتع وأمره بالافراد (والجواب) عن حديث العتبي بن معبد أن عمر أخبره بان القران
سنة أي جائز قد أذن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل إنه أفضل من الافراد بل المعروف
عن عمر ترجيح الافراد كما سبق (والجواب) عن حديث وادي العقيق من وجهين سبق أحدهما
عند ذكره (والثاني) انه اخبار عن القران في أثناء الحول لا في أول الاحرام وقد سبق ايضاح هذا
(والجواب) عن قولهم إن القارن عليه دم وهو دم نسك قال أصحابنا بل هو عندنا دم جبران على
الصحيح بدليل أن الصيام يقوم مقامه عند العجز ولو كان دم نسك لم يقم مقامه كالأضحية (وأما)
قولهم إن القارن لم يفعل حراما فليس شرط وجوب دم الجبران أن يكون في ارتكاب حرام بل
قد يكون في مأذون كمن حلق رأسه للأذى أو لبس للمرض أو لحر أو برد أو اكل صيدا لمجاعته أو احتاج
إلى التداوي بطيب فإنه يجب الدم ولم يفعل حراما (والجواب) عما قال المزني ان من العبادات ما تأخيرها
أفضل لمعني كمن عدم الماء في السفر وعلم وجوده في أواخر الوقت فتأخير الصلاة أفضل وكتأخير
صلاة عيد الفطر وتأخير صلاة الأضحى إلى امتداد النهار وأشباه ذلك والله أعلم * قال الماوردي ولان
الافراد فعل كل عبادة وحدها وافرادها بوقت فكان أفضل من جمعها كالجمع بين الصلاتين (وأما)
164

قولهم لان في القران تحصل العمرة في زمن الحج وهو أشرف فقال أصحابنا ليس هو أشرف
بالنسبة إلى العمرة بل رخصة في فعلها فيه وإنما شرفه بالنسبة إلى لحج والله أعلم * واحتج القائلون
بترجيح التمتع بالأحاديث السابقة وبقوله صلى الله عليه وسلم (لو استقبلت من أمري ما استدبرت
لم أسق الهدى ولجعلتها عمرة) فتأسف على فوات العمرة والتمتع فدل على رجحانه * ودليلنا عليهم
ما سبق من الأحاديث ومن الدلائل على ترجيح الافراد (وأما) تأسفه صلى الله عليه وسلم فسببه
أن من لم يكن معهم هدي أمروا بجعلها عمرة فحصل لهم حزن حيث لم يكن معهم هدي ويوافقون
النبي صلى الله عليه وسلم في البقاء على الاحرام فتأسف صلى الله عليه وسلم حينئذ على فوات موافقتهم
تطييبا لنفوسهم ورغبة فيما يكون في موافقتهم لا أن التمتع دائما أفضل * قال القاضي حسين ولان
ظاهر هذا الحديث غير مراد بالاجماع لان ظاهره أن سوق الهدى يمنع انعقاد العمرة وقد انعقد الاجماع
على خلافه والله أعلم *
165

(فرع) ذكر القاضي حسين في هذا الباب من تعليقه والقاضي أبو الطيب في آخر باب صوم المتمتع
من تعليقه وغيرهما من أصحابنا أن الشافعي نقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بالحج مطلقا وكان ينظر
القضاء وهو نزول جبريل ببيان ما يصرف احرامه المطلق إليه فنزل جبريل عليه السلام وأمره بصرفه
إلى الحج المفرد * وذكر البيهقي في السنن الكبير في هذا بابا قال باب ما يدل على أن النبي صلى الله عليه
وسلم أحرم احراما مطلقا ينتظر القضاء ثم أمر بافراد الحج ومضى فيه واستدل له البيهقي
عن طاووس قال (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لا يسمى حجا ولا عمرة ينتظر
القضاء فنزل عليه القضاء وهو بين الصفا والمروة فامر أصحابه من كان منهم أهل بالحج ولم يكن معه
هدى أن يجعلها عمرة وقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدى) * وذكر في الباب
أيضا حديث جابر الطويل بكماله قال فيه فأهل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتوحيد لبيك اللهم لبيك
لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد لله والنعمة لك والملك لا شريك لك وأهل الناس بهذا الذي
يهلون به فم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم شيئا منه ولزم رسول الله صلى الله عليه وسلم
تلبيته قال جابر السنانوي الا الحج لسنا نعرف العمرة حتى إذا اتينا البيت معه استلم الركن وذكر
الطواف والسعي * قال فلما كان آخر طوافه على المروة قال لو أنى استقبلت من أمري ما استدبرت
لم إسق الهدى وجعلتها عمرة فمن كان منكم ليس معه هدى فليحل وليجعلها عمرة) رواه مسلم
بهذه الحروف (قلت) ظاهر الأحاديث الصحيحة كلها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم احراما
مطلقا بل معينا وقد قال الشيخ أبو حامد في تعليقه وصاحب البيان وآخرون من أصحابنا المشهور في
الأحاديث خلاف ما قاله الشافعي في هذا وان النبي صلى الله عليه وسلم أحرم هو وأصحابه بالحج
فلما دخل مكة فسخه إلى العمرة لمن لم يكن معه هدى والله أعلم *
(فرع) إذا أحرم بالحج لا يجوز له فسخه وقلبه عمرة وإذا أحرم بالعمرة لا يجوز له فسخها حجا
لا لعذر ولا لغيره وسواء ساق الهدى أم لا هذا مذهبنا قال ابن الصباغ والعبد رى وآخرون وبه
166

قال عامة الفقهاء * وقال أحمد يجوز فسخ الحج إلى العمرة لمن لم يسق الهدى * وقال القاضي عياض في
شرح صحيح مسلم جمهور الفقهاء على أن فسخ الحج إلى العمرة كان خاصا للصحابة قال وقال بعض
أهل الظاهر هو جائز الآن * واحتج لأحمد بحديث جابر المذكور في الفرع الذي قبل هذا وأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (وليجعلها عمرة) وهو صحيح كما سبق وعن ابن عباس قال كانوا يرون
العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور في الأرض ويجعلون المحرم صفرا ويقولون إذا برأ الدبر وعفى
الأثر وانسلخ صفر حلت العمرة لمن اعتمر * فقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صبيحة
رابعة مهلين بالحج فأمرهم ان يجعلوها عمرة فتعاظم ذلك عندهم فقالوا يا رسول الله أي الحل قال (حل
كله) رواه البخاري ومسلم وفى رواية مسلم الحل كله وفى رواية عنه قال (قدم النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه لصبح رابعة يلبون بالحج فأمرهم أن يجعلوها عمرة الا من كان مع هدى) رواه البخاري ومسلم وهذا
لفظ البخاري وعن جابر قال (أهل النبي صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدى غير
النبي صلى الله عليه وسلم وطلحة وكان على قدم من اليمن ومعه هدى فقال أهللت بما أهل به النبي صلى الله عليه وسلم فامر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه
أن يجعلوها عمرة ويطوفوا ويقصروا ويحلوا إلا من كان معه الهدى فقالوا ننطلق إلى مني وذكر
أحدنا يقطر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال (لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما أهديت
ولولا أن معي الهدى لأحللت وان سراقة بن مالك لقى النبي صلى الله عليه وسلم بالعقبة وهو
يرميها فقال ألكم هذه خاصة يا رسول الله قال بل للأبد) رواه البخاري ومسلم وعن عائشة قالت
(خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نذكر إلا الحج حتى جئنا سرف فطمث فدخل على رسول الله
صلى الله عليه وسلم فلما قدمت مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه اجعلوها عمرة فأحل
الناس إلا من كان معه الهدى قالت فكان الهدى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
وذوي اليسارة ثم أهلوا حين راحوا إلى منا) رواه البخاري ومسلم ولفظه لمسلم وعن أبي سعيد
167

قال خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرخ بالحج صراخا فلما قدمنا مكة أمرنا أن نجعلها
أعمرة الا من ساق الهدى فلما كان يوم التروية ورحنا إلى منا أهللنا بالحج) رواه مسلم قوله رحنا أي
ردنا الرواح وعن ابن عباس انه سئل عن متعة الحج فقال (أهل المهاجرون والأنصار وأزواج
النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوا
اهلا لكم بالحج عمرة الا من قلد الهدى) رواه البخاري فقال وقال أبو كامل قال أبو معشر قال
عثمان بن عتاب عن عكرمة عن ابن عباس قال أبو مسعود الدمشقي في الأطراف هذا حديث غريب
ولم أره عند أحد إلا عند مسلم بن الحجاج قال ولم يذكر مسلم في صحيحه من أخذ عكرمة وعندي
أن البخاري أخذه عن مسلم قلت يحتمل ما قاله أبو مسعود ويحتمل أن البخاري أخذه من أبي كامل
بلا واسطة * قال العلماء والبخاري يستعمل هذه العبارة فيما أخذه عرضا ومناولة لا سماعا والعرض
والمناولة صحيحان يجب العمل بهما كما هو مقرر في علوم الحديث * واحتج أصحابنا بأن هذا الفسخ
كان خاصا بالصحابة وإنما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالفسخ ليحرم كما بالعمرة في أشهر الحج
ويخالفوا ما كانت الجاهلية عليه من تحريم العمرة في أشهر الحج وقولهم إنها أفجر الفجور * واحتج
أصحابنا وموافقوهم للتخصيص بحديث الحرث بن بلال بن الحرث عن أبيه قال (قلت يا رسول الله
أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم بل لكم خاصة)
رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وغيرهم وإسناده صحيح إلا الحرث بن بلال ولم أر في الحرث
جرحا ولا تعديلا وقد رواه أبو داود ولم يضعفه وقد ذكرنا مرات أن ما لم يضعفه أبو داود فهو حديث
حسن عنده إلا أن يوجد فيه ما يقتضي ضعفه وقال الإمام أحمد بن حنبل هذا الحديث لا يثبت
عندي ولا أقول به قال وقد روى الفسخ فأحد عشر صحابيا أين يقع الحرث بن بلال منهم قلت
لا معارضة بينكم وبينه حتى يقدموا عليه لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة ولم يذكروا حكم غيرهم وقد
وافقهم الحرث بن بلال في إثبات الفسخ للصحابة لكنه زاد زيادة لا تخالفهم وهي اختصاص
168

الفسخ بهم * واحتج أصحابنا بحديث أبي ذر رضي الله عنه قال (كانت المتعة في الحج لأصحاب
محمد صلى الله عليه وسلم خاصة) رواه مسلم موقوفا على أبي ذر قال البيهقي وغيره من الأئمة أراد بالمتعة
فسخ الحج إلى العمرة لأنه كان لمصلحة وهي بيان جواز الاعتمار في أشهر الحج وقد زالت فلا يجوز
ذلك اليوم لاحد * واحتج أبو داود في سننه والبيهقي وغيرهما في ذلك برواية محمد بن إسحاق عن
عبد الرحمن بن الأسود عن سليمان بن الأسود أن أبا ذر كأن يقول في من حج ثم فسخها بعمرة لم يكن
ذلك إلا للركب الذين كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإسناده هذا لا يحتج به لان محمد بن إسحاق
مدلس وقد قال عن واتفقوا على أن المدلس إذا قال عن لا يحتج به (وأجاب) أصحابنا عن قوله صلى
الله عليه وسلم لسراقة (بل للأبد) ان المراد جواز العمرة في أشهر الحج لا فسخ الحج إلى العمرة أو أن
المراد دخول أفعالها في أفعال الحج وهو القران وحمله من يقول إن العمرة ليست واجبة على أن العمرة
اندرجت في الحج فلا تجب وإنما تجب على المكلف حجة الاسلام دون العمرة *
(فرع) مذهبنا أن المكي لا يكره له التمتع والقران وإن تمتع لم يلزمه دم وبه قال مالك وأحمد وداود
وقال أبو حنيفة يكره له التمتع والقران وإن تمتع أو قرن فعليه دم * واحتج له بقوله تعالى (فمن تمتع
بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى فمن لم يجد فصيام ثلاثة إيام في الحج وسبعة إذا رجعتم
تلك عشرة كاملة ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام) فأباح التمتع لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام خاصه ولان المتمتع شرع له أن لا يلم بأهله والمكي ملم بأهله فلم يكن له
ذلك قالوا ولان الغريب إذا تمتع لزمه دم وقلتم إذا تمتع مكي فلا دم وهذا يدل على
أن نكسه ناقص عن نسك الغريب فكره له فعله * واحتج أصحابنا بأن ما كان من النسك
قربة وطاعة في حق غير المكي كان قربة وطاعة في حق المكي كالافراد (والجواب) عن الآية أن معناها
فمن تمتع فعليه الهدى إذا لم يكن من حاضري المسجد فإن كان فلا دم فهذا ظاهر الآية
فلا يعدل عنه (فان قيل) فقوله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله) ولم يقيل على من لم يكن أهله (قلنا)
169

اللام بمعنى على كما في قوله تعالى إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها) أي فعليها وقوله
تعالى (أولئك لهم اللعنة) أي عليهم قال القاضي أبو الطيب وجواب آخر وهو أن قوله تعالى (فمن
تمتع) شرط وقوله تعالى (فما استيسر من الهدى) جزاء الشرط وقوله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد) بمنزلة الاستثناء وهو عائد إلى الجزاء دون الشرط كما لو قال من دخل الدار
فله درهم الا بني تميم أو قال ذلك لمن يكن من نبي تميم فان الاستثناء يعود إلى الجزاء دون الشرط
الذي هو دخول الدار كذا ههنا (وأما) قولهم المتمتع شرع له أن لا يلم بأهله فقال أصحابنا لا نسلم
ذلك ولا تأثير للالمام بأهله في التمتع ولهذا لو تمتع غريب عن أهله فألم بأهله يصح تمتعه وكذا لو تمتع
من غير المام بأهله فتمتعه عندهم مكروه (وأما) قوله إن نسكه ناقص لوجوب الدم على الغريب فقال
أصحابنا إنما لزم الغريب الدم لأنه ترفه بالتمتع فيلزمه الدم والمكي أحرم بحجة وعمرة من ميقاته
الأصلي فلم يلزمه دم لعدم الترفه والله أعلم *
(فرع) أجمع العلماء على جواز العمرة قبل الحج سواء حج في سنته أم لا وكذا الحج قبل العمرة
واحتجوا له بحديث ابن عمر (أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر قبل أن يحج) رواه البخاري
وبالأحاديث الصحيحة المشهورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر قبل حجته وكان
أصحابه في حجة الوداع أقساما منهم من اعتمر قبل الحج ومنهم من حج قبل العمرة) كما سبق *
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(والافراد أن يحج ثم يعتمر والتمتع أن يعتمر في أشهر الحج ثم يحج من عامه والقران أن يحرم
بهما جميعا فان أحرم بالعمرة ثم ادخل عليها الحج قبل الطواف جاز ويصير قارنا لما روى (ان عائشة
رضي الله عنها أحرمت بالعمرة فحاضت فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي فقال لها
رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلي بالحج واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت ولا تصلى)
وان ادخل عليها الحج بعد الطواف لم يجز واختلف أصحابنا في علته (فمنهم) من قال لا يجوز لأنه قد
أخذ في التحلل (ومنهم) من قال لا يجوز لأنه قد أتى بمقصود العمرة وإن أحرم بالحج وأدخل عليه
العمرة ففيه قولان (أحدهما) يجوز لأنه أحد النسكين فجاز إدخاله على الآخر كالحج (والثاني)
170

لا يجوز لان أفعال العمرة استحقت باحرام الحج فلا يعد إحرام العمرة شيئا (فان قلنا) إنه يجوز
فهل يجوز بعد الوقوف يبني على العلتين في إدخال الحج على العمرة بعد الطواف (فان قلنا) لا يجوز
إدخال الحج على العمرة بعد الطواف لأنه أخذ في التحلل جاز ههنا بعد الوقوف لأنه لم يأخذ في التحلل
(وان قلنا) لا يجوز لأنه أتى بالمقصود لم يجز ههنا لأنه قد أتى بمعظم المقصود وهو الوقوف وإن أحرم
بالعمرة وأفسدها ثم أدخل عليها الحج ففيه وجهان (أحدهما) ينعقد الحج ويكون فاسدا لأنه إدخال
حج على عمرة فأشبه إذا كان صحيحا (والثاني) لا ينعقد لأنه لا يجوز أن يصح لأنه إدخال حج
على احرام فاسد ولا يجوز أن يفسد لان احرامه لم يصادفه الوطئ فلا يجوز افساده) *
(الشرح) حديث عائشة رواه البخاري ومسلم الا قوله (ولا تصلى) فإنها لفظة غريبة ليست
معروفة (أما) حكم المسألة فقال أصحابنا لكل واحدة من الأنواع الثلاثة صور مختلف في بعضها
(أما) الافراد فصورته الأصلية ان يحرم بالحج وحده ويفرغ منه ثم يحرم بالعمرة وسيأتي باقي صوره
في شروط التمتع الموجب للدم إن شاء الله تعالى (وأما) التمتع فصورته الأصلية ان يحرم بالعمرة من
ميقات بلده ويدخل مكة ويفرغ من أفعال العمرة ثم ينشئ الحج من مكة ويسمي متمتعا لاستمتاعه
بمحظورات الاحرام بينهما فإنه يحل له جميع المحظورات إذا تحلل من العمرة سواء كان ساق الهدى
أم لا ويجب عليه دم ولوجوبه شروط تأتي إن شاء الله تعالى (وأما) القران فصورته الأصلية أن يحرم
بالحج والعمرة معا فتدرج أعمال العمرة في أعمال الحج ويتحد الميقات والفعل فيكفي لهما طواف واحد
وسعي واحد وحلق واحد واحرام واحد فلو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج أي أحرم به نظر
ان ادخله في غير أشهر الحج لغا ادخاله ولم يتغير احرامه بالعمرة وان أدخله في أشهره نظر إن كان
أحرم بالعمرة قبل أشهر الحج ففي صحة ادخاله وجهان (أحدهما) وهو اختيار الشيخ أبي على السنجي
بكسر السين المهملة وبالجيم وحكاه عن عامة الأصحاب انه لا يصح الادخال لأنه يؤدى إلى صحة
الاحرام بالحج قبل أشهره (وأصحهما) يصح وهو اختيار القفال وبه قطع صاحبا الشامل والبيان وآخرون
لأنه أحرم بكل واحد منهما في وقته ولأنه إنما يصير محرما بالحج في حال ادخاله وهو وقت صالح
171

للحج ولو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم ادخله عليها في أشهره فإن لم يكن شرع في شئ من
طوافها صح وصار قارنا بلا خلاف وإن كان قد شرع فيه وخطى منه خطوة لم يصح احرامه بالحج
بلا خلاف وان وقف عند الحجر الأسود للشروع في الطواف ولم يمسه ثم أحرم بالحج صح وصار
قارنا لأنه لم يتلبس بشئ من الطواف وان استلم الحجر ولم يمش ثم أحرم قبل شروعه في المشي
فإن كان استلامه ليس بنية الاستلام للطواف صح احرامه بالحج بلا خلاف * كذا صرح به الماوردي
وإن كان استلامه بنية ان يطوف ففي صحة احرامه بالحج بعده وجهان حكاهما الصيمري وصاحبه
الماوردي وصاحب البيان وآخرون (أحدهما) يصح لأنه مقدمة للطواف (والثاني) لا يصح لأنه أحد
ابعاض الطواف وينبغي أن يكون الأول أصح ولو شك هل أحرم بالحج قبل الشروع في الطواف
أو بعده قال الماوردي قال أصحابنا صح إحرامه لان الأصل جواز ادخال الحج على العمرة حتى
يتيقن المنع فصار كمن أحرم وتزوج ولم يدر هل كان احرامه قبل تزوجه أم بعده قال الشافعي أجزأه
وصح تزوجه هذا كلام الماوردي * قال أصحابنا وإذا شرع المحرم بالعمرة في الطواف ثم أحرم بالحج
فقد قلت إنه لا يصح بلا خلاف وفي علة بطلانه أربعة أوجه مشهورة حكي المصنف منها اثنين (أحد)
الأربعة انه اشتغل بعمل من أعمال العمرة (والثاني) لأنه شرع في فرض من فروضها (والثالث) لأنه
أتي بمعظم أفعالها (والرابع) لأنه شرع في سبب التحلل وهذا الرابع هو الأصح وهو نص الشافعي
نقله أبو بكر الفارسي في عيون المسائل وصحح البندنيجي الثالث وتظهر فائدة هذا الخلاف
فيما لو أحرم بحج ثم أدخل عليه العمرة وجوزناه كما سنذكره الآن إن شاء الله تعالى * هذا كله إذا كانت
العمرة التي أدخل عليها الحج صحيحة فإن كانت فاسدة بأن أفسدها بجماع ثم أدخل عليها حجا ففي
صحة إدخاله ومصيره محرما بالحج وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) عند الأكثرين
يصير محرما وبه قال ابن سريج والشيخ أبو زيد (والثاني) لا يصير وصححه صاحب البيان وان قلنا
يصير فهل يكون حجه صحيحا مجزئا فيه وجهان (أحدهما) نعم لان المفسد متقدم (وأصحهما) لا لأنه
172

تابع لعمرة فاسدة فعلى هذا هل ينعقد فاسدا من أصله أم صحيحا ثم يفسد فيه وجهان (أحدهما) ينعقد
صحيحا ثم يفسد كما لو أحرم فجامع فإنه ينعقد صحيحا ثم يفسد على أحد الأوجه كما سنذكره في موضعه
إن شاء الله تعالى (وأصحهما) ينعقد فاسدا إذ لو انعقد صحيحا لم يفسد إذ لم يوجد بعد انعقاده
مفسد (فان قلنا) ينعقد فاسدا أو صحيحا ثم يفيد لزمه المضي في النسكين ولزمه قضاؤهما (وان
قلنا) ينعقد صحيحا ولا يفسد قضى العمرة دون الحج وعلى الأوجه الثلاثة يلزمه دم القران ولا يجب
عليه بالافساد الا بدنة واحدة * كذا قاله الشيخ أبو علي السنجي وحكى امام الحرمين
وجهين آخرين إذا حكمنا بانعقاد حجه فاسدا (أحدهما) يلزمه بدنة أخرى لفساد الحج (والثاني)
يلزمه بدنة للعمرة وشاة للحج كما لو جامع ثم جامع وهذان الوجهان ضعيفان والصحيح
ما ذكره أبو علي والله أعلم * هذا كله في الاحرام للحج بعد الاحرام بالعمرة (أما) إذا أحرم بالحج
ثم ادخل عليه العمرة فقولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (القديم) صحته ويصير قارنا (والجديد)
لا يصح وهو الأصح (فان قلنا) بالقديم فإلى متى يجوز الادخال فيه أربعة أوجه مفرعة على الأوجه
الأربعة السابقة فيمن أحرم بالعمرة ثم بالحج (أحدها) يجوز ما لم يشرع في طواف القدوم
أو غيره من أعمال الحج قال البغوي هذا أصحها (والثاني) يجوز بعد طواف القدوم ما لم يشرع في
السعي أو غيره من فروض الحج * قاله الخضري (والثالث) يجوز وان فعل فرضا ما لم يقف بعرفات
فعلى هذا لو كان قد سعى لزمه إعادة السعي ليقع عن النسكين جميعا كذا قاله الشيخ أبو علي السنجي
وغيره (والرابع) يجوز وان وقف ما لم يشتغل بشئ من أسباب التحلل من الرمي وغيره وعلى هذا
لو كان قد سعى فقياس ما ذكره أبو علي وجوب اعادته وحكي امام الحرمين فيه وجهين وقال المذهب
أنه لا يجب والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(ويجب على المتمتع دم لقوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى) ولا يجب
عليه الا بخمسة شروط (أحدها) أن يعتمر في أشهر الحج فان اعتمر في غير أشهر الحج لم يلزمه
173

دم لأنه لم يجمع بين النسكين في أشهر الحج فلم يلزمه دم كالمفرد فان أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج
وأتى بأفعالها في أشهر الحج ففيه قولان (قال) في القديم والاملاء يجب عليه دم لان استدامة الاحرام بمنزلة
الابتداء ولو ابتداء الاحرام بالعمرة في أشهر الحج لزمه الدم فكذلك إذا استدامه (وقال) في الأم
لا يجب عليه الدم لان الاحرام نسك لا تتم العمرة الا به وقد أتى به في غير أشهر الحج فلم يلزمه دم
التمتع كالطواف (والثاني) أن يحج من سنته فاما إذا حج في سنة أخرى لم يلزمه دم لما روى سعيد
ابن المسيب قال (كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتمرون في أشهر الحج فإذا لم يحجوا من
عامهم ذلك لم يهدوا ولان الدم إنما يجب لترك الاحرام بالحج من الميقات وهذا لم يترك الاحرام بالحج من
الميقات فإنه ان أقام بمكة صارت مكة ميقاته وان رجع إلى بلده وعاد فقد أحرم من الميقات (والثالث) ان
لا يعود لاحرام الحج إلى الميقات فاما إذا رجع لاحرام الحج إلى الميقات وأحرم فلا يلزمه دم لان الدم وجب
بترك الميقات وهذا لم يترك الميقات فان أحرم بالحج من جوف مكة ثم رجع إلى الميقات قبل إن يقف ففيه
وجهان (أحدهما) لا دم عليه لأنه حصل محرما من الميقات قبل التلبس بنسك فأشبه من جاوز الميقات غير
محرم ثم أحرم وعاد إلى الميقات (والثاني) يلزمه لأنه وجب عليه الدم بالاحرام من مكة فلا يسقط بالعود إلى
الميقات كما لو ترك الميقات وأحرم دونه ثم عاد بعد التلبس بنسك (والرابع) أن يكون غير حاضري المسجد
الحرام (فاما) إذا كان من حاضري المسجد الحرام فلا دم عليه لقول الله تعالى (ذلك لمن لم يكن أهله
حاضري المسجد الحرام) وحاضر والمسجد الحرام أهل الحرم ومن بينه وبينه مسافة لا تقصر فيها الصلاة
لان الحاضر في اللغة هو القريب ولا يكون قريبا الا في مسافة لا تقصر فيها الصلاة وفي الخامس وجهان
وهو نية التمتع (أحدهما) انه لا يحتاج إليها لان الدم يتعلق بترك الاحرام بالحج من الميقات وذلك يوجد
من غير نية (والثاني) أنه يحتاج إلى نية التمتع لأنه جمع بين العبادتين في وقت إحداهما فافتقر إلى نية الجمع
كالجمع بين الصلاتين (فإذا قلنا) بهذا ففي وقت النية وجهان (أحدهما) انه يحتاج إلى أن ينوى عند الاحرام
بالعمرة (والثاني) يجوز أن ينوى ما لم يفرغ من العمرة بناء على القولين في وقت نية الجمع بين الصلاتين
فان في ذلك قولين (أحدهما) ينوى في ابتداء الأولى منهما (والثاني) ينوى ما لم يفرغ من الأولي) *
(الشرح) هذا الأثر المذكور عن سعيد بن المسيب حسن رواه البيهقي باسناد حسن قال
174

أصحابنا يجب على المتمتع الدم لقوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى)
قال أصحابنا
ولوجوب هذا الدم شروط (أحدها) أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام وهم من مسكنه
دون مسافة القصر من الحرم وقيل من بينه وبين نفس مكة دون مسافة القصر حكاه المتولي
والبغوي وآخرون من الخراسانيين وحكي ابن المنذر عن الشافعي قولا قديما انه من أهله دون
الميقات وهذا غريب والصحيح الأول وبه قطع الجمهور فإن كان على مسافة القصر فليس بحاضر
بالاتفاق فإن كان له مسكنان أحدهما في حد القرب والآخر بعيد فإن كان مقامه بأحدهما
فالحكم له فان استوى مقامه بهما وكان أهله وماله في أحدهما دائما أو أكثر فالحكم له فان استويا
في ذلك وكان عزمه الرجوع إلى أحدهما فالحكم له فإن لم يكن له عزم فالحكم للذي خرج منه
هكذا ذكر أصحابنا هذا التفصيل واتفقوا عليه ونص الشافعي عليه في الاملاء قال المحاملي
إلا المسألة الأخيرة فلم ينص عليها ولكن ذكرها أصحابنا واتفقوا عليها قال الشافعي رحمه الله
ويستحب ان يريق دما بكل حال ولو استوطن غريب مكة فهو حاضر بلا خلاف وإن استوطن
مكي العراق أو غيره فليس بحاضر بالاتفاق ولو قصد الغريب مكة فدخلها متمتعا ناويا الإقامة بها
بعد فراغه من النسكين أو من العمرة أو نوى الإقامة بها بعد ما اعتمر فليس بحاضر فلا يسقط
عنه الدم ولو خرج المكي إلى بعض الآفاق لحاجة ثم رجع وأحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم حج
من عامه لم يلزمه دم عندنا بلا خلاف وقال طاووس يلزمه والله أعلم قال الرافعي ذكر الغزالي
من عامه لم يلزمه دم عندنا بلا خلاف وقال طاووس يلزمه والله أعلم قال الرافعي ذكر الغزالي
مسألة وهي من مواضع التوقف قال ولم أجدها لغيره بعد البحث قال الرافعي إذا جاوز الميقات
غير مريد نسكا فاعتمر عقب دخوله مكة ثم حج لم يكن متمتعا إذا صار من الحاضرين إذ ليس
يشترط فيه قصد الإقامة قال الرافعي وهذه المسألة تتعلق بالخلاف السابق في أن قصد مكة هل يوجب
الاحرام بحج أو عمرة أم لا ثم قال ما ذكره من اعتبار اشتراط الإقامة ينازعه فيه كلام الأصحاب
ونقلهم عن نصه في الاملاء والقديم فإنه ظاهر في اعتبار الإقامة بل في اعتبار الاستيطان وفى الوسيط
حكاية وجهين في صورة تداني هذه وهو أنه لو جاوز الغريب الميقات وهو لا يريد نسكا ولا دخول
الحرم ثم بدا له بقرب مكة أن يعتمر فاعتمر منه وحج بعدها على صورة التمتع هل يلزمه الدم (أحد)
175

الوجهين لا يلزمه لأنه حين بدا له كان في مسافة الحاضر (وأصحهما) لا يلزمه لوجود صورة التمتع
وهو غير معدود من الحاضرين هذا كلام الرافعي والمختار في الصورة الأولى التي ذكرها الغزالي
انه متمتع ليس بحاضر بل يلزمه الدم والله أعلم * قال أصحابنا ولا يجب على حاضري المسجد
الحرام دم القران كما لا يجب عليه دم التمتع هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وحكى الحناطي والرافعي
وجها انه يلزمه قال الرافعي ويشبه أن يكون هذا الخلاف على وجهين حكاهما صاحب العدة أن دم
القران دم جبر أن دم نسك والمذهب المعروف أنه دم جبر (قلت) الذي قطع به جماهير الأصحاب
أن دم التمتع ودم القران دم جبر وإنما القائل بأنهما دم نسك أبو حنيفة وقد سبق بيانه بدليله في
مسألة تفضيل الافراد على التمتع والقران *
(فرع) هل يجب على المكي إذا قرن إنشاء الاحرام من أدنى الحل كما لو أفرد العمرة أم يجوز
أن يحرم من جوف مكة ادراجا للعمرة تحت الحج في الميقات كما أدرجت أفعالها في أفعاله فيه وجهان
حكاهما (1) وآخرون (أصحهما) الثاني وبه قطع الأكثرون قالوا ويجري الوجهان في آفاقي إذا
كان بمكة وأراد القران (الشرط الثاني) أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج فلو أحرم بها وفرغ منها
قبل أشهر الحج ثم حج في سنته لم يلزمه دم بلا خلاف عندنا وبه قال جمهور العلماء وقال طاووس يلزمه
دليلنا ما ذكره المصنف ولو أحرم بها قبل أشهر الحج وأتي بجميع أفعالها في أشهره فقولان مشهوران
ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) نصه في الأم لا دم (والثاني) نصه في القديم والاملاء يجب الدم وقال
ابن سريج ليست على قولين بل على حالين ان أقام بالميقات محرما بالعمرة حتى دخلت أشهر الحج
أو عاد إليه في أشهره محرما بها وجب الدم وان جاوزه قبل الأشهر ولم يعد إليه فلا دم ولو وجد
الاحرام بالعمرة وبعض أعمالها قبل أشهره (فان قلنا) لا دم إذا لم تتقدم الاحرام فهي أولى وإلا
فوجهان مشهوران في كتب الخراسانيين (أصحهما) عندهم لا يجب وبه قطع العراقيون قال
الخراسانيون وإذا لم نوجب دم التمتع في هذه الصور ففي وجوب دم الإساءة وجهان (أحدهما) يجب
لأنه أحرم بالحج من مكة (وأصحهما) لا لان المسئ من ينتهي إلى الميقات قاصدا للنسك ويجاوزه

(1) بياض بالأصل فحرر
176

غير محرم وهذا جاوزه محرما (الشرط الثالث) أن تقع العمرة والحج في سنة واحدة فلوا اعتمر ثم
حج في السنة القابلة فلا دم سواء أقام بمكة إلى أن حج أم رجع وعاد وهل يشترط كون العمرة
والحج جميعا في شهر واحد فيه وجهان مشهوران في الطريقتين (أصحهما) باتفاق المصنفين وقطع به
كثيرون منهم وهو قول عامة أصحابنا المتقدمين لا يشترط (والثاني) يشترط انفرد به أبو علي بن
خيران (الشرط الرابع) أن لا يعود إلى الميقات بان أحرم بالحج من نفس مكة واستمر فلو عاد
إلى الميقات الذي أحرم بالعمرة منه والى مسافة مثله وأحرم بالحج فلا دم بالاتفاق ولو أحرم به
من مكة ثم ذهب إلى الميقات محرما ففي سقوطه الخلاف الذي سنذكره إن شاء الله تعالى في من
جاوز الميقات غير محرم ثم عاد إليه محرما ولو عاد إلى ميقات أقرب إلى مكة من ميقات عمرته
وأحرم منه بأن كان ميقات عمرته الجحفة فعاد إلى ذات عرق فهل هو كالعود إلى ميقات عمرته
فيه وجهان (أحدهما) لا وعليه دم لأنه دونه (وأصحهما) نعم لأنه أحرم من موضع ليس ساكنوه
من حاضري المسجد الحرام قال الرافعي وهذا اختيار القفال والمعتبرين وقطع الفوراني بأنه لو سافر
بعد عمرته من مكة سفرا تقصر فيه الصلاة ثم حج من سنته لا دم عليه *
(فرع) لو دخل القارن مكة قبل يوم عرفة ثم عاد إلى الميقات فالمذهب أنه لا دم عليه في
الاملاء وقطع به كثيرون أو الأكثرون وصححه الحناطي وآخرون وقال إمام الحرمين (ان قلنا)
المتمتع إذا أحرم بالحج ثم عاد إليه لا يسقط عنه الدم فهنا أولى وإلا فوجهان والفرق أن اسم القران
لا يزول بالعود بخلاف التمتع ولو أحرم العمرة من الميقات ودخل مكة ثم رجع إلى الميقات قبل
طوافه فأحرم بالحج فهو قارن قال الدارمي في آخر باب الفوات (ان قلنا) إذا أحرم بهما جميعا ثم
رجع سقط الدم فهنا أولى والا فوجهان (الشرط الخامس) مختلف فيه وهو أنه هل يشترط وقوع
النسكين عن شخص واحد فيه وجهان مشهوران قال الخضري يشترط وقال الجمهور لا يشترط وهو
المذهب قال أصحابنا ويتصور فوات هذا الشرط في صور (إحداها) ان يستأجره شخص لحج
وآخر لعمرة (الثانية) أن يكون أجيرا في عمرة فيفرغ منه ثم يحل لنفسه (الثالثة) أن يكون أجيرا
لحج فيعتمر لنفسه ثم يحج للمستأجر (فان قلنا) بقول الجمهور قال أصحابنا وجب نصف دم التمتع
على من يقع له الحج ونصفه على من تقع له العمرة قال الرافعي وليس هذا الاطلاق على ظاهره
بل هو محمول على تفصيل ذكره البغوي (أما) في الصورة الأولى فقال إن اذن المستأجر ان في التمتع
177

فالدم عليهما نصفان والا فعلى الأجير وعلى قياسه انه ان اذن أحدهما فقط فالنصف على الآذن والنصف
على الأجير (وأما) في الصورتين الأخرتين فقال إن أذن له المستأجر في التمتع فالدم عليهما نصفان
والا فالجميع على الأجير قال الرافعي واعلم بعد هذا أمورا (أحدها) أن ايجاب الدم على
المستأجرين أو أحدهما مفرع على الأصح وهو أن دم التمتع والقران على المستأجر والا فهو على
الأجير بكل حال (الثاني) إذا لم يأذن المستأجران أو أحدهما في الصورة الأولى والمستأجر في الثالثة
وكان ميقات البلد معينا في الإجارة أو نزلنا الاطلاق عليه لزمه مع دم التمتع دم الإساءة لمجاوزة
ميقات نسكه (الثالث) إذا أوجبنا الدم على المستأجرين وكانا معسرين لزم كل واحد منهما صوم
خمسة أيام لكن صوم التمتع بعضه في الحج وبعضه بعد الرجوع وهما لم يباشرا حجا وقد سبق
في فروع الإجارة في من استؤجر ليقرن فقرن أو ليتمتع فتمتع وكان المستأجر معسرا وقلنا الدم (1)
خلافا بين البغوي والمتولي فعلى قياس البغوي الصوم على الأجير وعلى قياس المتولي هو كما لو عجز
المتمتع عن الهدى والصوم جميعا قال الرافعي ويجوز أن يكون الحكم كما سيأتي في المتمتع إذا لم
يصم في الحج كيف يقضي فإذا أوجبنا فتفريق الخمسة بنسبة الثلاثة والسبعة ببعض القسمين
فيكملان ويصوم كل واحد منهما ستة أيام وقس على هذا ما إذا أوجبنا الدم في الصورتين الأخرتين
على الأجير والمستأجر (وأما) إذا قلنا بقول الخضري فإذا اعتمر عن المستأجر ثم حج عن نفسه
ففي كونه مسيئا الخلاف السابق في من اعتمر قبل أشهر الحج ثم حج من مكة لكن الأصح هنا
أنه مسئ لامكان الاحرام بالحج حين حضر الميقات قال الامام فإن لم يلزم الدم ففوات هذا الشرط
لا يؤثر إلا في فوات فضيلة التمتع في قولنا أنه أفضل من الافراد وإن ألزمناه الدم فله أثران (أحدهما)
هذا (والثاني) أن المتمتع لا يلزمه العود إلى الميقات وإذا عاد وأحرم منه سقط عنه الدم بلا خلاف
والمسئ يلزمه العود وإذا عاد ففي سقوط الدم عنه خلاف وأيضا فالدمان يختلف بدلهما والله أعلم *
(الشرط السادس) مختلف فيه أيضا وهو نية التمتع وفى اشتراطها وجهان مشهوران ذكرهما المصنف
بدليلهما (أصحهما) لا يشترط كما لا يشترط فيه القران فان شرطناها ففي وقتها ثلاثة أوجه حكاها الدارمي
وآخرون (أحدها) حالة الاحرام بالعمرة (والثاني) وهو الأصح ما لم يفرغ من العمرة وهذان الوجهان
في الكتاب (والثالث) ما لم يشرع في الحج وقد سبق مثل هذه الأوجه في الجمع بين الصلاتين (الشرط)
السابع) أن يحرم بالعمرة من الميقات فلو جاوزه مريدا للنسك ثم أحرم بها فقد نص الشافعي أنه ليس

(1) بياض بالأصل فحرر
178

عليه دم التمتع بل يلزمه دم الإساءة فقال جماعة من الأصحاب بظاهر النص وقال الأكثرون هذا
إذا كان الباقي بينه وبين مكة دون مسافة القصر فان بقيت مسافة القصر فعليه الدمان معا ومما يؤيد
هذا أن صاحبي البيان والشامل ذكرا عن الشيخ أبي حامد أنه حكي عن نص الشافعي في القديم انه إذا
مر بالميقات فلم يحرم حتى بقي بينه وبين مكة دون مسافة القصر ثم أحرم بالعمرة فعليه دم الإساءة
بترك الميقات وليس عليه دم التمتع لأنه صار من حاضري المسجد الحرام *
(فرع) قال أصحابنا هذه الشروط السبعة معتبرة لوجوب الدم وفاقا وخلافا وهل يعتبر
في تسميته متمتعا فيه وجهان مشهوران حكاهما صاحب العدة والبيان وآخرون (أحدهما) يعتبر
فلو فاته شرط كان مفردا (والثاني) لا يعتبر بل يسمى متمتعا متى أحرم بالعمرة في أشهر الحج
وحج من عامه واختلفوا في الأرجح منهما فقال صاحب العدة والبيان قال الشيخ أبو حامد لا يعتبر
وقال القفال يعتبر وذكر انه نص الشافعي وبه قطع الدارمي وقال الرافعي الأشبه أنه لا يعتبر
قال ولهذا قال الأصحاب يصح التمتع والقران من المكي خلافا لأبي حنيفة (قلت) الأصح لا يعتبر
لما ذكره الرافعي *
(فرع) إذا اعتمر المتمتع ولم يرد العود إلى الميقات لزمه أن يحرم بالحج من نفس مكة وهي
في حقه كهي في حق المكي وأما الموضع الذي هو أفضل للاحرام وإحرامه من خارج مكة أو خارج
الحرم من غير عود إلى الميقات ولا إلى مسافته فحكمه كله كما سنذكره في باب مواقيت الحج
في المكي إذا فعل ذلك إن شاء الله تعالى وإذا اقتضى الحال وجوب دم الإساءة وجب أيضا مع دم
التمتع حتى لو خرج بعد تحلله من العمرة إلى الحل وأحرم من طرفه بالحج فان عاد إلى مكة محرما
قبل وقوفه بعرفات لزمه دم التمتع دون دم الإساءة وان ذهب إلى عرفات ولم يعد إلى مكة قبل
الوقوف فالصحيح الذي عليه الأصحاب انه يلزمه دمان دم التمتع ودم الإساءة وحكى ابن الصباغ
هذا عن الأصحاب ثم قال وفيه نظر وينبغي أن يلزمه دم واحد للتمتع لان دم التمتع وجب لترك
179

الاحرام بالحج من ميقات بلده ولا فرق بين أن يترك منه مسافة قليلة أو كثيرة وإن أحرم من
موضع من الحرم خارج مكة ولم يعد إلى مكة فهل هو كمن أحرم من مكة أم كمن أحرم من الحل
قال صاحب الشامل والبيان فيه وجهان وقيل قولان (أحدهما) كمكة لأنهما سواء في الاحرام وتحريم
الصيد وغيره (والثاني) كالحل لان مكة صارت ميقاته فهو كمن لزم الاحرام من قريته التي بين مكة
والميقات فجاوزها وأحرم وهذا الثاني أصح *
(فرع) قال صاحب البيان قال الشافعي في القديم إذا حج رجل لنفسه من ميقات في أشهر
الحج فلما ما تحلل منه أحرم بالعمرة عن نفسه من أدنى الحل أو تمتع أو قرن لنفسه من الميقات ثم اعتمر
عن نفسه من أدني الحل لم يلزمه عن العمرة المتأخرة دم وكذا لو أفرد عن غيره فحج ثم اعتمر عنه
من أدنى الحل أو تمتع أو قرن عن زيد ثم أحرم عنه بالعمرة من أدني الحل لم يجب عليه الا دم القران
والتمتع قال فأما إذا اعتمر عن نفسه من الميقات ثم حج عن غيره من مكة أو حج عن غيره من مكة أو حج عن
نفسه من الميقات ثم اعتمر
عن غيره من أدنى الحل فعليه الدم خلافا أبي حنيفة * دليلنا ان الاحرامين إذا كانا عن شخصين
وجب فعلهما من الميقات فإذا ترك الميقات في أحدهما لزم الدم كمن مر بالميقات مريدا للنسك
وان أحرم بعد مجاوزته قال صاحب البيان وعلى قياس هذا إذا أحرم الأجير بالعمرة من الميقات
عن المستأجر تحلل منها ثم أقام يعتمر عن نفسه من أدنى الحل ثم أحرم بالحج من مكة عن المستأجر
لزمه الدم للعمرة التي أحرم بها عن نفسه من أدني الحل ولا يلزم الدم لما بعدها من العمر لان
الواجب عليه أن يحرم عن نفسه من الميقات بنسك واحد * هذا آخر كلام صاحب البيان *
(فرع) إذا فرغ المتمتع من أفعال العمرة صار حلالا وحل له الطيب واللباس والنساء وكل
محرمات الاحرام سواء كان ساق الهدى أم لا هذا مذهبنا لا خلاف فيه عندنا وبه قال مالك *
وقال أبو حنيفة واحمد ان لم يكن معه هدى تحلل كما قلنا فإن كان معه هدى لم يجز أن يتحلل بل
يقيم على احرامه حتى يحرم بالحج ويتحلل منهما جميعا لحديث حفصة رضي الله عنها انها قالت
لرسول الله (ما شأن الناس حلوا لعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك قال إني لبدت رأسي وقلدت
180

هديي فلا أحل حتى أنحر) رواه البخاري ومسلم * واحتج أصحابنا بأنه متمتع أكمل أفعال عمرته فتحلل
كمن لم يكن معه هدى (واما) حديث حفصة فلا حجة لهم فيه لان النبي صلى الله عليه وسلم كان مفردا
أو قارنا كما سبق ايضاحه ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت
الهدى ولجعلتها عمرة) وقد سبق بيانه (فان قيل) فقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة قالت (خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحجة حتى قدمنا مكة فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يتحلل حتى ينحر
هديه ومن أهل بحجة فليتم حجه) فالجواب ان هذه الرواية مختصرة من روايتين ذكرهما مسلم قبل
هذه الرواية وبعدها قالت (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع فأهللنا بعمرة ثم قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم من كان معه هدى فليهلل بالحج مع العمرة ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعا) فهذه الرواية
مفسرة للأولى ويتعين هذا التأويل لان القصة واحدة فصحت الروايات *
(فرع) إذا تحلل المتمتع من العمرة استحب له أن لا يحرم بالحج الا يوم التروية وهو
الثامن من ذي الحجة هذا إن كان واجد الهدى وإن كان عادمه استحب له تقديم الاحرام بالحج
قبل اليوم السادس لان فرضه الصوم ولا يجوز الا بعد الاحرام بالحج وواجبه ثلاثة أيام في الحج
وسبعة إذا رجع ويستحب أن لا يصوم يوم عرفة فيتعين ثلاثة أيام قبله وهي السادس والسابع
والثامن هذا مذهبنا وثبت ذلك في الصحيحين عن ابن عمر من فعله وبه قال بعض المالكية وآخرون
منهم عطاء بن أبي رباح وسعيد بن جبير واحمد واسحق وابن المنذر وآخرون وقال مالك وآخرون
الأفضل أن يحرم من أول ذي الحجة سواء كان واجدا للهدى أم لا وحكاه ابن المنذر عن عمر
ابن الخطاب وأبي ثور ونقله القاضي عن أكثر الصحابة والعملاء والخلاف في الاستحباب فكلاهما
جائز بالاجماع * دليلنا ما ثبت عن جابر رضي الله عنه أنه قال (حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ساق
الهدى معه يعني حجة الوداع وقد أهلوا بالحج مفردا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحلوا
من احرامكم فطوفوا بالبيت وبين الصفا والمروة وقصروا وأقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية
181

فأهلوا بالحج واجعلوا التي قدمتم بها متعة) وفى رواية قال (تحللا فوقعنا النساء وتطيبنا ولبثنا ثيابنا
وليس بيننا وبين عرفة الا أربع ليال ثم أهللنا يوم التروية يعنى بالحج) وفى رواية (فلما كان يوم التروية أهللنا
بالحج) وفى رواية (حتى إذا كان يوم التروية وجعلنا مكة بظهر أهللنا بالحج وفى رواية (أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم لما
أهللنا أن نحرم إذا توجهنا إلى منى) هذه الروايات كلها في صحيح مسلم وبعضها في البخاري أيضا وثبت
في الصحيحين عن ابن عمر (انه كان إذا كان بمكة يحرم بالحج يوم التروية فقال له عبيد بن جريح
في ذلك فقال إني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث به راحلته) قال العلماء أجابه
ابن عمر بضرب من القياس حيث لم يتمكن من الاستدلال بنفس فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم
على المسألة بعينها فاستدل بما في معناه ووجه قياسه أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أحرم عند الشروع
في أفعال الحج والذهاب إليه فأخر ابن عمر الاحرام إلى حال شروعه في الحج وتوجهه إليه وهو يوم
التروية لأنهم حينئذ يخرجون من مكة إلى منى والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في مسائل سبقت (منها) إذا أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج وفعل
أفعالها في أشهره فقد ذكرنا أن الأصح عندنا انه ليس عليه دم التمتع وبه قال جابر بن عبد الله
وقتادة وأحمد وإسحق وداود والجمهور وقال الحسن والحكم وابن شبرمة يلزمه ومنها إذا عاد المتمتع
لاحرام الحج إلى الميقات سقط عنه دم التمتع عندنا وقال أبو حنيفة لا يسقط (ومنها) حاضر المسجد
الحرام عندنا من كان في المسجد الحرام أو بينه وبينه مسافة لا تقصر فيها الصلاة وقال ابن عباس وطاووس
ومجاهد والثوري هو من كان بالحرم خاصة وقال مالك هم أهل مكة وذي طوى وقال مكحول هم
من كان أهله دون الميقات وحكاه ابن المنذر عن نص الشافعي في القديم وقال محمد بن الحسن هو
من كان من أهل الميقات أو دونه (ومنها) قال ابن المنذر أجمع العلماء على أن لمن أهل بعمرة في أشهر
الحج أن يدخل عليها الحج ما لم يفتتح الطواف بالبيت قال واختلفوا في إدخاله عليها بعد افتتاح
الطواف فجوزه مالك ومنعه عطاء والشافعي وأبو ثور قال واختلفوا في إدخال العمرة على الحج فقال
أصحابنا يجوز ويصير قارنا وعليه دم القران وهو قول قديم للشافعي ومنعه الشافعي في مصر ونقل
182

منعه عن أكثر من لقيه قال ابن المنذر وبقول مالك أقول (ومنها) قال ابن المنذر أجمع العلماء على أن
من دخل مكة بعمرة في أشهر الحج مريدا للمقام بها ثم حج من مكة انه متمتع يعني وعليه الدم (ومنها)
إذا خرج المكي إلى بعض الآفاق لحاجة ثم عاد وأحرم بالعمرة منه أو من ميقاته وحج من عامه
فلا دم عليه عندنا وقال طاووس يجب
* قال المصنف رحمه الله *
(ويجب دم التمتع بالاحرام بالحج لقوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدى)
ولان شرائط الدم إنما توجد بوجود الاحرام بالحج فوجب أن يتعلق الوجوب به وفى وقت
جوازه قولان (أحدهما) لا يجوز قبل أن يحرم بالحج لان الذبح قربة تتعلق بالبدن فلا يجوز قبل
وجوبها كالصوم والصلاة (والثاني) يجوز بعد الفراغ من العمرة لأنه حق مال يجب بسببين فجاز تقديمه
على أحدهما كالزكاة بعد ملك النصاب) *
(الشرح) قوله يتعلق بالبدن احتراز من الزكاة (وقوله) حق مال احتراز من الصلاة والصوم
(وقوله) يجب بسببين احتراز من حق مال يجب بسبب واحد ككفارة الجماع في نهار رمضان وغيرها
مما قدمنا بيانه في آخر باب تعجيل الزكاة (أما) حكم المسألة فقد سبق أن دم التمتع واجب باجماع
المسلمين ووقت وجوبه عندنا الاحرام بالحج بلا خلاف (وأما) وقت جوازه فقال أصحابنا لا يجوز
قبل الشروع في العمرة بلا خلاف لأنه لم يوجد له سبب ويجوز بعد الاحرام بالحج بلا خلاف
ولا يتوقت بوقت كسائر دماء الجبران لكن الأفضل ذبحه يوم النحر وهل تجوز اراقته بعد التحلل
من العمرة وقبل الاحرام بالحج فيه قولان مشهوران وحكاهما جماعة وجهين والمشهور قولان
وذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) الجواز فعلى هذا هل يجوز قبل التحلل من العمرة فيه طريقان
(أحدهما) لا يجوز قطعا وهو مقتضى كلام المصنف وكثيرين ونقله صاحب البيان عن أصحابنا
العراقيين ونقل الماوردي اتفاق الأصحاب عليه (والثاني) فيه وجهان (أصحهما) لا يجوز (والثاني) يجوز
183

لوجود بعض السبب حكاه أصحابنا الخراسانيون وصاحب البيان فالحاصل في وقت جوازه ثلاثة
أوجه أحدها بعد الاحرام بالعمرة (وأصحها) بعد فراغها (والثالث) بعد الاحرام بالحج *
(فرع) في مذاهب العلماء في وقت وجوب دم التمتع * ذكرنا أن مذهبنا وجوبه بالاحرام
بالحج وبه قال أبو حنيفة وداود وقال عطاء لا يجب حتى يقف بعرفات * وقال مالك لا يجب حتى
يرمى جمرة العقبة (وأما) جوازه فذكرنا انه يجوز عندنا بعد الاحرام بالحج بلا خلاف وفيما قبله خلاف
وقال مالك وأبو حنيفة لا يجوز قبل يوم النحر واستدل أصحابنا بقوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة إلى
الحج فما استيسر من الهدى) ومعناه فعليه ما استيسر وبمجرد الاحرام يسمى متمتعا فوجب الدم
حينئذ ولان ما جعل غاية تعلق الحكم بأوله كقوله تعالى (وأتموا الصيام إلى الليل) ولان شروط
التمتع وجدت فوجب الدم والله أعلم * قال العلماء قوله تعالى (فمن تمتع بالعمرة) أي بسبب العمرة
لأنه إنما يتمتع بمحظورات الاحرام بين الحج والعمرة بسبب العمرة قالوا والتمتع هنا التلذذ والانتفاع
يقال تمتع به أي أصاب منه وتلذذ به والمتاع كل شئ ينتفع به والله أعلم * واحتج به مالك وأبو حنيفة
في أن دم التمتع لا يجوز قبل يوم النحر بالقياس على الأضحية * واحتج أصحابنا عليهما بالآية الكريمة
ولأنهما وافقا على جواز صوم التمتع قبل يوم النحر أعني صوم الأيام الثلاثة فالهدى أولى ولأنه دم
جبران فجاز بعد وجوبه وقبل يوم النحر كدم فدية الطيب واللباس وغيرهما يخالف الأضحية
لأنه منصوص على وقتها والله أعلم
* (فرع) قال أصحابنا دم التمتع شاة صفتها صفة الأضحية قال أصحابنا ويقوم مقامها سبع بدنة
أو سبع بقرة * قال المصنف رحمه الله *
184

(فإن لم يكن واجدا للهدى في موضعه انتقل إلى الصوم وهو صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة
إذا رجع لقوله تعالى (فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) فأما
صوم ثلاثة أيام فلا يجوز قبل الاحرام بالحج لأنه صوم واجب فلا يجوز قبل وجوبه كصوم رمضان
ويجوز بعد الاحرام بالحج إلى يوم النحر والمستحب أن يفرغ منه قبل يوم عرفة فإنه يكره للحاج صوم
يوم عرفة وهل يجوز صيامها في أيام التشريق فيه قولان وقد ذكرناهما في كتاب الصيام (وأما) صوم
السبعة ففيه قولان قال في حرمه لا يجوز حتى يرجع إلى أهله لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (من كان معه هدى فليهد ومن لم يكن يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع
إلى أهله) وقال في الاملاء يصوم إذا أخذ في السير خارجا من مكة لقوله تعالى (وسبعة إذا رجعتم)
وابتداء الرجوع إذا ابتدأ بالسير من مكة فإذا قلنا بهذا ففي الأفضل قولان (أحدهما) الأفضل أن
يصوم بعد الابتداء بالسير لان تقديم العبادة في أول وقتها أفضل (والثاني) الأفضل أن يؤخر إلى أن
يرجع إلى الوطن ليخرج من الخلاف فإن لم يصم الثلاثة حتى رجع إلى أهله لزمه صوم عشرة أيام وهل
يشترط التفريق بينهما وجهان (أحدهما) ليس بشرط لان التفريق وجب بحكم الوقت وقد فات
فسقط كالتفريق بين الصلوات (والثاني) أنه يشترط وهو المذهب لان ترتيب أحدهما على الآخر
لا يتعلق بوقت فلم يسقط بالفوات كترتيب أفعال الصلاة (فان قلنا) بالوجه الأول صام عشرة أيام
كيف شاء (وان قلنا) بالمذهب فرق بينهما بمقدار ما وجب التفريق بينهما في الأداء) *
(الشرح) أما حديث جابر فرواه البيهقي من رواية جابر باسناد جيد ورواه البخاري ومسلم
من رواية ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ هذا (وأما) حكم الفصل فقال أصحابنا إذا وجد
المتمتع الهدى في موضعه لم يجز له العدول إلى الصوم لقوله تعالى (فمن لم يجد) وهذا مجمع عليه فان قدم
185

الهدى في موضعه لزمه صوم عشرة أيام سواء كان له مال غائب في بلده أو غيره أم لم يكن بخلاف
الكفارة فإنه يشترط في الانتقال إلى الصوم فيها العدم مطلقا والفرق ان بدل الدم موقت بكونه
في الحج ولا توقيت في الكفارة ولان الهدى يختص ذبحه بالحرم بخلاف الكفارة قال أصحابنا
فان وجد الهدى وثمنه لكنه لا يباع ألا بأكثر من ثمن المثل فهو كالمعدوم فله الانتقال إلى الصوم
ولو وجد الثمن وعدم الهدى في الحال وعلم أنه يجده قبل فراغ الصوم هل يجوز الانتقال إلى الصوم
فيه قولان حكاهما البغوي (أصحهما) الجواز وهو مقتضى كلام الجمهور وسبق مثل هذا الخلاف
في التيمم * قال البغوي ولو كان يرجو الهدى ولا يتيقنه جاز الصوام * وهل يستحب انتظار الهدى
فيه قولان كالتيمم قال فإن لم يجد هديا لم يجز تأخير الصوم لأنه مضيق كمن عدم الماء يصلي بالتيمم
ولا يجوز التأخير بخلاف جزاء الصيد فإنه يجوز تأخيره إذا غاب ماله لأنه يقبل التأخير ككفارة القتل
والجماع والله أعلم * ثم الصوم الواجب يقسم ثلاثة وسبعة فالثلاثة يصومها في الحج ولا يجوز تقديمها
على الاحرام بالحج ولا يجوز صوم شئ منها يوم النحر وفى أيام التشريق قولان سبقا في كتاب
الصيام * ويستحب صوم جميع الثلاثة قبل يوم عرفة لأنه يستحب للحاج فطر يوم عرفة (وأما) قول
المصنف يكره صومه فخلاف عبارة الجمهور كما سبق في بابه وإنما يمكنه هذا إذا تقدم احرامه بالحج على
اليوم السادس من ذي الحجة * قال أصحابنا يستحب للتمتع الذي هو من أهل الصوم أن يحرم
بالحج قبل السادس * وحكي الحناطي وجها انه إذا لم يتوقع هديا وجب تقديم الاحرام بالحج على
السابع ليمكنه صوم الثلاثة قبل يوم النحر (والمذهب) انه مستحب لا واجب (وأما) واجد الهدى
فيستحب أن يحرم بالحج يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة وقد سبق بيانه قريبا ولا يجوز
تأخير الثلاثة ولا شئ منها عن يوم عرفة نص عليه الشافعي في المختصر وتابعه الأصحاب ودليله قوله
تعالى (ثلاثة في الحج) * قال أصحابنا وإذ فات صوم الثلاثة في الحج لزمه قضاؤها ولا دم عليه وخرج
ابن سريج وأبو اسحق المروزي قولا انه يسقط الصوم ويستقر الهدى في ذمته حكاه الشيخ أبو حامد
والماوردي وآخرون عن أبي إسحاق وحكاه المحاملي وابن الصباغ وآخرون عن ابن سريج وحكاه
186

صاحب البيان وآخرون عنهما والمذهب الأول * قال أصحابنا ويحصل فواتها بفوات يوم عرفة ان قلنا
لا يجوز صوم أيام التشريق وان جوزناه حصل الفوات بخروج أيام التشريق ولا خلاف انها تفوت
بخروج أيام التشريق حتى لو تأخر طواف الزيارة عن إيام التشريق كان يعد في الحج وكان صوم
الثلاثة بعد التشريق قضاء وان بقي الطواف لان تأخيره بعيد في العادة فلا يحمل على قول الله تعالى
(ثلاثة في الحج) هكذا ذكره إمام الحرمين وآخرون وحكى البغوي فيه وجها آخر * قال أصحابنا (فان
قلنا) أيام التشريق يجوز له صومها فصامها كان صومها أداء والله أعلم (وأما) السبعة فوقتها إذا رجع
وفى المراد بالرجوع قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) عند الأصحاب الرجوع إلى
أهله ووطنه نص عليه الشافعي في المختصر وحرملة (والثاني) انه الفراغ من الحج وهو نصه في الاملاء
(فإذا قلنا) بالوطن فالمراد به كلما يقصد استيطانه بعد فراغه من الحج سواء كان بلده الأول أم غيره *
قال أصحابنا فلو أراد أن يتوطن مكة بعد فراغه من الحج صام بها وإن لم يتوطنها لم يصح صومه بها
وهل يجوز في الطريق وهو متوجه إلى وطنه فيه طريقان (أصحهما) القطع بأنه لا يجوز وبه قطع العراقيون
(والثاني) فيه وجهان (أصحهما) لا يجوز لأنه قبل وقته (والثاني) يجوز لأنه يسمى راجعا حكاه
الخراسانيون (وإن قلنا) المراد بالرجوع الفراغ فأخره حتى رجع إلى وطنه جاز وهل هو أفضل أم التقديم
فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) التأخير أفضل ولا يجوز صوم شئ من السبع
في أيام التشريق وان جوزنا صيامها لغيره فهذا لا خلاف فيه لأنه لا يسمي راجعا ولأنه يعد في الحج
وان تحلل * وحكى الخراسانيون قولا ان المراد بالرجوع إلى مكة من منى وجعل إمام الحرمين
والغزالي هذا قولا غير قول الفراغ من الحج قال الرافعي ومقتضي كلام كثير من الأصحاب انهما
شئ واحد قال وهو الأشبه قال وعلى تقدير كونه قولا آخر يتفرع عليه أنه لو رجع من منى إلى مكة
صح صومه وان تأخر طواف الوداع وهذا الذي قاله الرافعي عجب فان الرجوع إلى مكة غير الفراغ
187

فقد يفرغ ويتأخر عن مكة يوما أو أياما بعد التشريق وذكر الماوردي خلافا في معنى نصه في الاملاء
قال قال أصحابنا البصريون مذهبه في الاملاء أنه يصومها بعد شروعه من مكة إلى وطنه ولا يجوز
صومها في مكة قبل خروجه قال وقال أصحابنا البغداديون مذهبه في الاملاء انه يصومها إذا رجع إلى
مكة من منى بعد فراغ مناسكه سواء أقام بمكة أو خرج منها وهذا الخلاف الذي حكاه الماوردي حكاه
أيضا صاحب الشامل وآخرون فحصل في المراد بالرجوع أربعة أقوال (أصحها) إذا رجع إلى أهله
(والثاني) إذا توجه من مكة راجعا إلى أهله (والثالث) إذا رجع من مني إلى مكة (والرابع) إذا
فرغ من أفعال الحج وان لم يرجع إلى مكة والله أعلم * (وأما) من بقي عليه طواف الإفاضة فلا يجوز
صيامه سواء قلنا الرجوع إلى أهله أم الفراغ سواء كان بمكة أو في غيرها وحكى الدارمي فيه وجها
ضعيفا انه يجوز إذا قلنا الرجوع الفراغ * قال أصحابنا وإذا لم يصم بالثلاثة في الحج ورجع لزمه صوم
العشرة فالثلاثة قضاء والسبع أداء وفى الثلاثة القول المخرج السابق انه لا يصومها بل يستقر الهدى
في ذمته فعلى المذهب هل يجب التفريق بين الثلاثة والسبعة فيه قولان وقيل وجهان وهما مشهوران ذكرهما
المصنف بدليلهما (أصحهما) عند المصنف والجمهور يجب قال صاحب الشامل وبهذا الوجه قال أكثر
أصحابنا ممن صرح بتصحيحه المصنف والماوردي (وأصحهما) عند امام الحرمين لا يجب فعلى الأول
هل يجب التفريق بقدر ما يكون تفريق الأداء فيه قولان (أحدهما) لا بل يكفي التفريق بيوم نص
عليه الشافعي في الاملاء وبه قال أبو سعيد الإصطخري (وأصحهما) يجب وفى قدره أربعة أقوال تتولد
من أصلين سبقا وهما صوم المتمتع أيام التشريق وان الرجوع مماذا (فان قلنا) بالأصح أن المتمتع ليس
له صوم أيام التشريق وان الرجوع رجوعه إلى الوطن فالتفريق بأربعة أيام ومدة امكان السير إلى
أهله على العادة الغالبة وبهذا جزم المصنف وغيره (وان قلنا) ليس له صومها والرجوع الفراغ فالتفريق
بأربعة أيام فقط (وان قلنا) له صومها والرجوع هو الرجوع إلى الوطن فالتفريق بمدة امكان السير فقط
(وان قلنا) له صومها والرجوع الفراغ فوجهان (أصحهما) لا يجب التفريق لأنه ليس في الأداء تفريق
وبه قطع صاحبا الشامل والبيان (والثاني) يجب التفريق بيوم لان التفريع كله على وجوب التفريق *
فان أردت اختصار الأقوال التي تجئ في من لم يصم الثلاثة في الحج كانت ستة (أحدها) لا صوم
188

بل ينتقل إلى الهدى (والثاني) عليه صوم عشرة أيام متفرقة أو متتابعة (والثالث) عشرة ويفرق بيوم
فصاعدا (والرابع) يفرق بأربعة فقط (والخامس) يفرق بمدة امكان السير (والسادس) بأربعة ومدة
امكان السير وهذا أصحها فلو صام عشرة متوالية وقلنا بالمذهب وهو وجوب قضاء الثلاثة أجزأه
ان لم نشترط التفريق فان شرطناه واكتفينا بالتفريق بيوم لم يعتد باليوم الرابع ويستحب ما بعده
فيصوم يوما آخر هذا هو الصحيح المشهور وفى وجه لا يعتد بشئ سوى الثلاثة حكاه الفوراني
وآخرون وفى وجه الإصطخري لا يعتد بالثلاثة أيضا إذا نوى السابع وهما شاذان ضعيفان وممن حكى
هذا الأخير الدارمي والماوردي والرافعي وآخرون * قال الماوردي هذا الذي قاله الإصطخري
غلط فاحش لان تفريق الصوم ومتابعته يتعلق بالفعل لا بالنية ولان فساد بعض الأيام لا يلزم منه
فساد غيره فلا يجوز إفساد الثلاثة لفساد السبعة * قال أصحابنا وإن شرطنا التفريق بأكثر من يوم
لم يعتد بذلك القدر * هكذا ذكر الأصحاب هذا التفصيل وقال صاحب البيان بعد أن نقل هذا عن
الأصحاب ينبغي أن يقال في القول الأخير يفرق بقدر مدة السير وثلاثة أيام لا أربعة وفي القول الخامس
بقدر مدة السير إلا يوما واستدل له بما لا دلالة فيه * قال صاحب الشامل والأصحاب قال الشافعي
في الاملاء أقل ما يفرق بينهما بيوم قالوا واختلف أصحابنا في معناه فقال أبو إسحاق هذا تفريع على
جواز صيام أيام التشريق عن كل صوم له سبب لأنه كان يمكنه أن يفرغ من الثلاثة يوم عرفة ويفطر
يوم النحر ثم يصوم التشريق عن سبعة * قال صاحب الشامل وهذا الوجه خطأ فاحش من قائله لان
صوم السبعة لا يجوز في أيام التشريق بالاجماع لأنه إنما يجوز بعد فراغ الحج أو بعد الرجوع إلى أهله
ومن أصحابنا من قال هذا قول للشافعي مستقل ليس مبنى على شئ لان الله تعالى أمر بالتفريق بينهما
والتفريق يحصل بيوم والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا كل واحد من صوم الثلاثة والسبعة لا يجب التتابع فيه لكن يستحب هكذا
صرح به صاحب الشامل والجمهور وقال الدارمي في وجوب التتابع في كل واحد منهما وجهان وحكى
الماوردي والرافعي وغيرهما في وجوب التتابع قولا مخرجا من كفارة اليمين وهو شاذ ضعيف
والمذهب ما سبق *
189

(فرع) ينوى بهذا الصوم صوم التمتع وإن كان قارنا نوى صوم القران وإذا صام الثلاثة
في الحج والسبعة بعد الرجوع إلى يلزمه نية التفرقة * هذا هو المذهب وحكى الدارمي فيه طريقين (أحدهما)
هذا (والثاني) في وجوبه وجهان حكاه عن حكاية ابن القطان والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(فان دخل في الصوم ثم وجد الهدى فالأفضل أن يهدى ولا يلزمه وقال المزني يلزمه كالمتيمم
إذا رأى الماء وان وجد الهدى بعد الاحرام بالحج وقبل الدخول في الصوم فهو مبني على الأقوال
الثلاثة في الكفارات (أحدها) أن الاعتبار بحال الوجوب ففرضه الصوم (والثاني) الاعتبار بحال الأداء
ففرضه الهدى (والثالث) الاعتبار بأغلظ الحالين ففرضه الهدى) *
(الشرح) قال الشافعي والأصحاب إذا شرع في صوم التمتع الثلاثة أو السبعة ثم وجد الهدى
لم يلزمه لكن يستحب أن يهدى وبمذهبنا قال مالك وأحمد وداود وقال المزني يلزمه * وقال أبو حنيفة
يلزمه ان وجده في الثلاثة ولا يلزمه في السبعة والخلاف شبيه بالخلاف بين الشافعي وبينهما في رؤية المسافر
الماء في أثناء صلاته بالتيمم وسبق بيانه بدلائله وإن أحرم بالحج ولا هدى ثم وجده قبل شروعه
في الصوم قال المصنف والأصحاب ينبني على أن الاعتبار في الكفارة بماذا وفيها الأقوال التي
ذكرها المصنف (وأصحها) الاعتبار بوقت الأداء فيلزمه الهدى وهو نص الشافعي في هذه المسألة *
* قال المصنف رحمه الله *
(ويجب على القارن دم لأنه روى ذلك عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم
ولأنه إذا وجب على التمتع لأنه جمع بين النسكين في وقت أحدهما فلان يجب على القارن
وقد جمع بينهما في الاحرام أولى وإن لم يجد الهدي فعليه صوم التمتع ثلاثة في الحج وسبعة إذا
رجع على ما بيناه) *
(الشرح) قال الشافعي والأصحاب يلزم القارن دم بلا خلاف لما ذكره المصنف فإن لم يجد
الهدى فعليه صوم التمتع كما سبق تفصيله وتفريعه وهذا الدم شاة كدم التمتع كما سبق * هكذا ذكره
190

الشافعي والأصحاب في جميع الطرق إلا الحناطي والرافعي فحكيا قولا قديما انه بدنة وهو مذهب
الشافعي وقال طاووس وحكاه العبدري عن الحسن بن علي بن سريج وهو مذهب داود وابنه
أبي بكر محمد داود لا دم عليه وبالشاة قال مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء قال العبدري هو
قول العلماء كافة سوى من ذكرنا وقال الشافعي في المختصر القارن أخف حالا من المتمتع قال أصحابنا
يحتمل انه أراد بهذا الرد على الشعبي لان القارن أحرم بالنسكين من الميقات بخلاف المتمتع فإذا
كفى المتمتع الدم فالقارن أولى ويحتمل انه رد على طاووس لان القارن أقل فعلا من المتمتع
فإذا لزم المتمتع الدم فالقارن أولى وهذان التأويلان مشهوران ذكرهما القاضي أبو الطيب في كتابيه
والماوردي والمحاملي وابن الصباغ وسائر شراح المختصر قال الماوردي والتأويل الأول هو نصه
في القديم والثاني هو نصه في الجديد *
(فرع) قال الشافعي في المختصر فان مات المتمتع قبل أن يصوم تصدق عما أمكنه صومه
عن كل يوم بمد من حنطة هذا نصه وقال في الأم إذا أحرم المتمتع بالحج لزمه الهدى فإن لم يجد
فعليه الصيام فان مات من ساعته ففيه قولان (أحدهما) يهدى عنه (والثاني) لا هدى ولا إطعام *
هذا نصه في الأم قال أصحابنا في شرح هذه المسألة إذا مات المتمتع بعد فراغه من الحج وهو واجد
للهدى ولم يكن أخرجه وجب اخراجه من تركته بلا خلاف كسائر الديون المستقرة وان مات
في أثناء الحج فقولان مشهوران (أصحهما) لا يسقط الدم لأنه وجب بالاحرام بالحج فلا يسقط فيجب
إخراجه من تركته كما لو مات وعليه دم الوطئ في الاحرام أو دم اللباس وغيره (والثاني) يسقط
لأنه إنما يجب بالتمتع لتحصل الحج ولم يحصل الحج بتمامه هكذا أطلق الجمهور صورة القولين فيما
إذا مات قبل فراغ الحج وهو موسر وذكرهما الماوردي في من مات قبل فراغ أركان الحج إشارة
إلى أنه لو مات بعد فراغ الأركان وقد بقي الرمي والمبيت لزم الدم قولا واحدا وهذا هو الصواب
191

وكلام الأصحاب محمول عليه لان الحج قد حصل هذا كله في من مات وهو واجد الهدى فان مات
معسرا فقد مات وفرضه الصوم * قال أصحابنا فان مات قبل تمكنه منه فقولان (أصحهما) يسقط
لعدم التمكن كصوم رمضان (والثاني) يهدى عنه قال أصحابنا وهذا القول يتصور فيهما إذا لم يجد
الهدى في موضعه وله في بلده مال أو وجده بأكثر من ثمن مثله فاما إذا لم يكن له مال أصلا ولم يتمكن
من الصوم فيسقط عنه قطعا وان تمكن من الصوم فلم يصم حتى مات فهل هو كصوم رمضان فيه
طريقان (أصحهما) نعم فيصوم عنه وليه على القول القديم وفى الجديد يطعم عنه من تركته لكل
يوم مد فإن كان تمكن من الأيام العشرة وجب عشرة أمداد وإلا فبالقسط وهل يتعين صرفه إلى
فقراء الحرم ومساكينه فيه قولان حكاهما الماوردي وآخرون (أحدهما) يتعينون فان فرقت على غيرهم
لم يجز لأنه مال وجب الاحرام فتعين لأهل الحرم كالدم (وأصحهما) لا يتعينون بل يستحب صرفه
إليهم فان صرف إلى غيرهم جاز لان هذا الاطعام بدل عن الصوم الذي لا يختص بالحرم فكذا
بدله (والطريق الثاني) لا يكون كصوم رمضان فعلى هذا فيه قولان (أصحهما) الرجوع إلى الدم لأنه
أقرب إلى هذا الصوم من الامداد فيجب في ثلاثة أيام إلى العشرة شاة وفى يوم ثلث شاة وفى يومين ثلثاها
وأشار أبو إسحاق المروزي إلى أن اليوم واليومين كاتلاف المحرم شعرة أو شعرتين وفى الشعرة ثلاثة
أقوال مشهورة عن الأصحاب (أحدها) مد (والثاني) درهم (والثالث) ثلث شاة وغلط أصحابنا أبا إسحاق في هذا ونقل
تغليطه عن الأصحاب صاحب الشامل وغيرهم (والقول الثاني) لا يجب شئ أصلا وأما المتمكن
المذكور فصوم الثلاثة يتمكن منه بان يحرم بالحج في زمن يسع صومها قبل الفراغ ولا يكون عارض
من مرض وغيره وذكر إمام الحرمين انه لا يجب شئ في تركته ما لم ينته إلى الوطن لان دوام
السفر كدوام المرض ولا يزيد تأكيد الثلاثة على صوم رمضان وهذا الذي قاله ضعيف لان
192

صوم الثلاثة يجب إيقاعه في الحج بالنص وإن كان مسافرا فليس السفر عذرا فيه بخلاف رمضان
(وأما) السبعة (فان قلنا) الرجوع إلى الوطن فلا يمكن قبله (وان قلنا) الفراغ من الحج فلا يمكن قبله ثم داوم
السفر عذر هكذا قاله الامام وقال القاضي حسين إذا استحببنا التأخير إلى وصوله الوطن تفريعا
على قول الفراغ فهل يهدى عنه إذا مات فيه وجهان *
(فرع) في مذاهب العلماء في متمتع لم يجد الهدى فانتقل إلى الصوم * قد ذكرنا أن مذهبنا
انه لا يجوز ان يصوم إلا بعد احرامه بالحج وبه قال مالك وروى عن ابن عمر وعائشة واسحق
وابن المنذر وأبو حنيفة يجوز في حال العمرة * وعن أحمد روايتان كالمذهبين * دليلنا ما ذكره المصنف *
(فرع) لو فاته صوم الأيام الثلاثة في الحج لزمه قضاؤها ولا دم عليه * هذا مذهبنا المشهور
وبه قال مالك * وقال أبو حنيفة عليه دمان أحدهما للتمتع والثاني لتأخير الصوم * وعن أحمد ثلاث
روايات (أصحها) كأبي حنيفة (والثانية) دم واحد (والثالثة) يفرق بين المعذور وغيره * دليلنا انه
صوم واجب مؤقت فإذا فات وجب قضاؤه كرمضان لا غير (وأما) صوم السبعة فقد ذكرنا ان الصحيح
عندنا انه يصومها إذا رجع إلى أهله * وبه قال ابن عمر وعطاء ومجاهد وقتادة وابن المنذر (الثاني)
يصومها إذا تحلل من حجه وهو قول مالك وأبي حنيفة واحمد والله أعلم * قال ابن المنذر وأجمعوا
على أن من وجد الهدى لا يحرم عليه الصوم والله أعلم *
باب المواقيت
* قال المصنف رحمه الله *
(ميقات أهل المدينة ذو الحليفة وميقات أهل الشام الجحفة وميقات أهل نجد قرن وميقات
أهل اليمن يلملم لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يهل
أهل المدينة من ذي الحليفة وأهل الشام من الجحفة وأهل نجد من قرن) قال ابن عمر رضي الله عنهم
ا وبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (يهل أهل اليمن من يلملم وأهل الشام من الجحفة)
(وأما) أهل العراق فميقاتهم ذات عرق وهل هو منصوص عليه أو مجتهد فيه قال الشافعي رحمه الله
في الأم هو غير منصوص عليه ووجهه ما روى عن ابن عمر قال (لما فتح المصران أتوا عمر رضى
193

الله عنه فقالوا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حد لأهل نجد قرنا وانا إذا أردنا أن نأتي قرنا شق
علينا قال فانظروا حذوها من طريقكم قال فحد لهم ذات عرق) ومن أصحابنا من قال هو منصوص
عليه ومذهبه ما ثبتت به السنة والدليل عليه ما روى جابر بن عبد الله قال (خطبنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال (يهل أهل المشرق من ذات عرق) وروت عائشة رضي الله عنها (أن النبي
صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق (قال الشافعي رحمه الله ولو أهل أهل المشرق من
العقيق كان أحب إلى لأنه روى عن ابن عباس قال (في وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق العقيق)
ولأنه أبعد من ذات عرق فكان أفضل) *
(الشرح) حديث ابن عمر الأول رواه البخاري ومسلم من طرق هكذا وروياه من رواية
ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل
نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم وقال هن لهن ولكل من أتى عليهن من غيرهن ممن أراد الحج
والعمرة ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة من مكة) هذا لفظ رواية البخاري
ومسلم وفي رواية لهما (فمن كان دونهن فمهله من أهله) وكذلك حتى أهل مكة يهلون منها (وأما)
حديث ابن عمر الثاني (لما فتح المصران) الخ فرواه البخاري في صحيحه (وأما) حديث جابر في
ذات عرق فضعيف رواه مسلم في صحيحه لكنه قال في روايته عن أبي الزبير (أنه سمع جابرا يسأل
عن المهل فقال سمعت أحسبه رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال (ومهل أهل العراق من ذات
عرق) فهذا إسناد صحيح لكنه لم يجزم برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلا يثبت رفعه بمجرد
هذا ورواه ابن ماجة من راوية إبراهيم بن بريد الجوزي بضم الجيم المعجمة باسناده عن جابر
مرفوعا بغير شك لكن الجوزي ضعيف لا يحتج بروايته ورواه الإمام أحمد في مسنده عن جابر عن
النبي صلى الله عليه وسلم بلا شك أيضا لكنه من رواية الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف * وعن
عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم (وقت لأهل العراق ذات عرق) رواه أبو داود والنسائي والدارقطني
وغيرهم باسناد صحيح لكن نقل ابن عدي أن أحمد بن حنبل أنكر على أفلح بن حميد روايته
هذه وانفراده به أنه ثقة وعن ابن عباس قال (وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق
194

العقيق (رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وليس كما قال فإنه من رواية يزيد بن زياد
وهو ضعيف باتفاق المحدثين * وعن الحارث بن عمرو السهمي الصحابي رضي الله عنه (أن النبي
صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق) رواه أبو داود عن عطاء عن النبي صلى الله عليه
وسلم (أنه وقت لأهل المشرق ذات عرق) رواه الشافعي والبيهقي باسناد حسن عن عطاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم مرسلا وعطاء من كبار التابعين وقد قدمنا في مقدمة هذا الشرح أن مذهب الشافعي
الاحتجاج بمرسل كبار التابعين إذا اعتضد بأحد أربعة أمور (منها) أن يقول به بعض الصحابة أو
أكثر العلماء وهذا وقد اتفق على العمل به الصحابة ومن بعدهم قال البيهقي هذا هو الصحيح من رواية
عطاء أنه رواه مرسلا قال قد رواه الحجاج بن أرطاة عن عطاء وغيره متصلا والحجاج ظاهر الضعف
فهذا ما يتعلق بأحاديث الباب (وأما) ألقاب الفصل وألفاظه (فقوله) ذو الحليفة هو بضم الحاء المهملة
وبالفاء وهو موضع معروف بقرب المدينة بينه وبينها نحو ستة أميال وقيل غير ذلك وبينه وبين
مكة نحو عشر مراحل فهو أبعد المواقيت من مكة (وأما) الجحفة فبجيم مضمومة ثم حاء مهملة
ساكنة ويقال لها مهيعة بفتح الميم والياء مع سكون الهاء بينهما وهي قرية كبيرة بين مكة والمدينة
على نحو ثلاث مراحل من مكة سميت جحفة لان السيل جحفها في الزمن الماضي (وأما) يلملم بفتح
الياء المثناة تحت واللامين وقيل له ألملم بفتح الهمزة وحكي صرفه وترك صرفه وهو على مرحلتين
من مكة (وأما) قرن فبفتح القاف واسكان الراء بلا خلاف بين أهل الحديث واللغة والتواريخ
وغيرهم وهو جبل بينه وبين مكة مرحلتان ويقال له قرن المبارك (وأما) قول الجوهري إنه بفتح الراء
وأن أويسا القرني منسوب إليه فغلط باتفاق العلماء فقد اتفقوا على أنه غلط فيه في شيئين فتح رائه
ونسبة أويس إليه وإنما هو منسوب رضي الله عنه إلى قرن قبيلة من مراد بلا خلاف بين أهل المعرفة
وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (أويس بن عامر من مراد ثم من قرن)
(وقوله) صلى الله عليه وسلم (يهل) معناه يحرم برفع الصوت (وأما) ذات عرق فبكسر العين
المهملة (وهي قرية على مرحلتين من مكة وقد خربت (وأما) العقيق فقال الإمام أبو منصور الأزهري في
تهذيب اللغة يقال لكل مسيل ماء شقه السيل فانهره ووسعه عقيق قال وفي بلاد العرب أربعة أعقة
195

وهي أودية عادية (منها) عقيق بدفق ماؤه في غور تهامة وهو الذي ذكره الشافعي فقال لو أهلوا
من العقيق كان أحب إلى (وقوله) لما فتح المصران يعنى البصرة والكوفة ومعني فتحا نشئا
أو أنشئا فإنهما أنشئا في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فهما مدينتان إسلاميتان وقد أوضحتهما
في تهذيب اللغات (أما) الأحكام فقد قال ابن المنذر وغيره أجمع العلماء على هذه المواقيت * قال
أصحابنا ميقات الحج والعمرة زماني ومكاني (أما) الزماني فسبق بيانه واضحا في الباب الذي قبل
هذا (وأما) المكاني فالناس فيه ضربان (أحدهما) المقيم بمكة مكيا كان أو غيره وفى ميقات الحج
في حقه وجهان وغيره قولان (أصحهما) نفس مكة وهو ما كان داخل منها (والثاني) مكة وسائر
الحرم وقال البندنيجي دليل الأصح حديث ابن عباس السابق لان مكة والحرم في الحرمة
سواء على الصحيح فعلى الأول لو فارق بنيان مكة وأحرم في الحرم فهو مسئ يلزمه الدم إن لم يعد
كمجاوزة سائر المواقيت وعلى الثاني حيث أحرم في الحرم لا إساءة (اما) إذا أحرم خارج الحرم فمسئ
بلا خلاف فيأثم ويلزمه الدم إلا أن يعود قبل الوقوف بعرفات إلى مكة على الأصح أو إلى الحرم على الثاني
قال أصحابنا ويجوز الاحرام من كل موضع من مكة بلا خلاف لعموم حديث ابن عباس وفى الأفضل
قولان وقيل وجهان (أحدهما) أن يتهيأ للاحرام ويحرم من المسجد قريبا من الكعبة اما تحت الميزاب
وإما في غيره (وأصحهما) أن الأفضل أن يحرم من باب داره ويأتي المسجد محرما وبه قطع البغوي وغيره
لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ) (وأما) الميقات الزماني للمكي فهو كغيره لكن
يستحب له الاحرام بالحج يوم التروية وهو الثامن من ذي الحجة وقد سبق بيانه واضحا في الباب
قبل (الضرب والثاني) غير المكي وهو صنفان (أحدهما) من مسكنه بين الميقات ومكة فميقاته القرية
التي يسكنها أو الحلة التي ينزلها البدوي فان أحرم بعد مجاوزتها إلى مكة فمسئ بلا خلاف ودليله
حديث ابن عباس (الصنف الثاني) من مسكنه فوق الميقات الشرعي ويسمى هذا الأفاقي بضم
الهمزة وفتحها فيجب عليه الاحرام من الميقات بلده والمواقيت الشرعية خمسة (أحدها) ذو الحليفة
وهو ميقات من توجه من المدينة (والثاني) الجحفة ميقات المتوجهين من الشام ومصر والمغرب
هكذا قاله الأصحاب وأهمل المصنف ذكر مصر والمغرب مع أنه ذكر مصر في التنبيه (الثالث)
196

يلملم ميقات المتوجهين من اليمن (الرابع) قرن ميقات المتوجهين من نجد اليمن ونجد الحجاز هكذا
قاله الشافعي في المختصر والأصحاب ولم ينبه المصنف على إيضاحه (الخامس) ذات عرق ميقات
المتوجهين من العراق وخراسان قال أصحابنا والمراد بقولنا ميقات اليمن يلملم أي ميقات تهامة اليمن
لا كل اليمن فان اليمن تشمل نجدا وتهامة قال أصحابنا وغيرهم والأربعة الأولى من هذه الخمسة نص
عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا خلاف وهذا مجمع عليه للأحاديث وفى ذات عرق وجهان ذكرهما المصنف
وسائر الأصحاب (أحدهما) وهو نص الشافعي في الأم كما ذكره المصنف وغيره انه مجتهد فيه اجتهد
فيه عمر رضي الله عنه لحديث ابن عمر السابق (لما فتح المصران) (والثاني) وهو الصحيح عند جمهور
أصحابنا انه منصوص عليه من النبي صلى الله عليه وسلم وممن صرح بتصحيحه الشيخ أبو حامد
في تعليقه والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد وصاحب الحاوي واختاره القاضي أبو الطيب
في تعليقه وصاحب الشامل وغيرهما قال الرافعي واليه ميل الأكثرين ورجح جماعة كونه مجتهدا
فيه منهم القاضي حسين وإمام الحرمين وغيرهما وقطع به الغزالي في الوسيط قال إمام الحرمين الصحيح
ان عمر وقته قياسا على قرن ويلملم قال والذي عليه التعويل انه باجتهاد عمر وذكر القاضي أبو الطيب
في تعليقه أن قول الشافعي قد اختلف في ذات عرق فقال في موضع هو منصوص عليه وفي موضع
ليس منصوصا عليه وممن قال إنه مجتهد فيه من السلف طاووس وابن سيرين وأبو الشعثاء جابر بن زيد
وحكاه البيهقي وغيره عنهم وممن قال من السلف انه منصوص عليه عطاء بن أبي رباح وغيره
وحكاه ابن الصباغ عن أحمد وأصحاب أبي حنيفة (واحتج) من قال إنه مجتهد فيه بحديث ابن عمر (لما
فتح المصران (واحتج) القائلون بأنه منصوص عليه بالأحاديث السابقة فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم)
قالوا وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة فمجموعها يقوى بعضه بعضا ويصير الحديث حسنا ويحتج
به ويحمل تحديد عمر رضي الله عنه باجتهاده على أنه لم يبلغه تحديد النبي صلى الله عليه وسلم فحدده
باجتهاد فوافق النص وكذا قال الشافعي في أحد نصيه السابقين انه مجتهد فيه لعدم ثبوت
الحديث عنده وقد اجتمعت طرقه عند غيره فقوى وصار حسنا والله أعلم * قال الشافعي في
المختصر والمصنف وسائر الأصحاب لو أحرم أهل المشرق من العقيق كان أفضل وهو واد وراء
197

ذات عرق مما بلي المشرق وقال أصحابنا والاعتماد في ذلك على ما في العقيق من الاحتياط قيل وفيه
سلامة من التباس وقع في ذات عرق لان ذات عرق قربة خرجت وحول بناؤها إلى جهة مكة
فالاحتياط الاحرام قبل موضع بنائها الآن قالوا ويجب على من أتى من جهة العراق أن يتحرى
ويطلب أثار القرية العتيقة ويحرم حين ينتهى إليها قال الشافعي ومن علاماتها المقابر القديمة فإذا
انتهى إليها أحرم واستأنس المصنف والأصحاب في ذلك مع ما ذكرناه من الاحتياط بحديث توقيت
العقيق السابق والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا أعيان هذه المواقيت لا تشترط بل الواجب عينها أو حذوها قالوا
ويستحب أن يحرم من أول الميقات وهو الطرف الابعد من مكة حتى لا يمر بشئ مما يسمى ميقاتا
غير محرم قال أصحابنا ولو أحرم من الطرف الأقرب إلى مكة جاز بلا خلاف لحصول الاسم *
(فرع) قال أصحابنا الاعتبار في هذه المواقيت الخمسة بتلك المواضع لا باسم القرية والبناء
فلو خرب بعضها ونقلت عمارته إلى موضع آخر قريب منه وسمي باسم الأول لم يتغير الحكم بل
الاعتبار بموضع الأول
* قال المصنف رحمه الله *
(وهذه المواقيت لأهلها ولكل من مر بها من غير أهلها لما روى ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه
وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرنا ولأهل اليمن
يلملم وقال هذه المواقيت لأهلها ولكل من أتى عليها من غير أهلها ممن أراد الحج والعمرة ومن
كان داره دون ذلك فمن حيث ينشئ ثم كذلك أهل مكة يهلون من مكة)) *
(الشرح) حديث ابن عباس هذا رواه البخاري ومسلم وسبق بيانه ولفظه في أول الباب
وهذا الحكم الذي ذكره المصنف متفق عليه فإذا مر شامي من طريق العراق أو المدينة أو عراقي
من طريق اليمن فميقاته ميقات الإقليم الذي مر به وهكذا عادة حجيج الشام في هذه الأزمان انهم
يمرون بالمدينة فيكون ميقاتهم ذا الحليفة ولا يجوز لهم تأخير الاحرام إلى الجحفة *
* قال المصنف رحمه الله *
(ومن سلك طريقا لا ميقات فيه من بر أو بحر فميقاته إذا حاذى أقرب المواقيت إليه لان عمر
رضي الله عنه لما اجتهد في ميقات أهل العراق اعتبر ما ذكرناه) *
(الشرح) هذا الذي ذكره المصنف نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب قال أصحابنا
198

ويجتهد فيحرم من الموضع الذي يغلب على ظنه انه حذو أقرب المواقيت إليه قالوا ويستحب أن
يستظهر حتى يتيقن انه قد حاذى الميقات أو فوقه وأشار القاضي أبو الطيب في تعليقه إلى وجوب
هذا الاستظهار والمذهب استحبابه والله أعلم * (وأما) إذا أتى من ناحية ولم يمر بميقات ولا حاذاه
فقال أصحابنا لزمه أن يحرم على مرحلتين من مكة اعتبارا بفعل عمر رضي الله عنه في توقيته
ذات عرق *
(فرع) قال أصحابنا ان سلك طريقا لا ميقات فيه لكن حاذى ميقاتين طريقه بينهما فان
تساويا في المسافة إلى مكة فميقاته ما يحاذيهما وإن تفاوتا فيها وتساويا في المسافة إلى طريقه
فوجهان (أحدهما) يتخير إن شاء أحرم من المحاذي لأبعد الميقاتين وإن شاء لأقربهما (وأصحهما)
يتعين محاذاة أبعدهما وقد يتصور في هذا القسم محاذاة ميقاتين دفعة واحدة وذلك بانحراف أحد
الطريقين والتوائه أو لوعورة وغيرها فيحرم من المحاذاة وهل هو منسوب إلى أبعد الطريقين
أو أقربهما فيه وجهان حكاهما امام الحرمين وغيره قال وفائدتهما انه لو جاوز موضع المحاذاة بغير
احرام وانتهى إلى موضع يفضي إليه طريقا الميقاتين وأراد العود لرفع الإساءة ولم يعرف موضع
المحاذاة هل يرجع إلى هذا الميقات أم إلى ذاك ولو تفاوتا الميقاتان في المسافة إلى مكة وإلى طريقه
فهل الاعتبار بالقرب إليه أم إلى مكة فيه وجهان (أصحهما) إليه والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(ومن كان داره فوق الميقات فله أن يحرم من الميقات وله أن يحرم من فوق الميقات لما روى
عن عمر وعلي رضي الله عنهما انهما قالا (اتمامهما ان تحرم بهما من دويرة أهلك) وفى الأفضل قولان
(أحدهما) أن الأفضل ان يحرم من الميقات لان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة
ولم يحرم من المدينة ولأنه إذا أحرم من بلده لم يأمن أن يرتكب محظورات الاحرام وإذا أحرم من
الميقات أمن ذلك فكان الاحرام من الميقات أفضل (والثاني) أن الأفضل ان يحرم من داره لما روت
أم سلمة رضي الله عنها ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى
إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة))
199

(الشرح) حديث احرام النبي صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة صحيح مشهور مستفيض
رواه البخاري ومسلم في صحيحهما من رواية جماعة من الصحابة (وأما) حديث أم سلمة فرواه أبو داود
وابن ماجة والبيهقي وآخرون وإسناده ليس بالقوى (وأما) الأثر عن عمر وعلى رضي الله عنهما فرواه
الشافعي وغيره باسناد (1) (وأعلم) أنه وقع في المهذب في حديث أم سلمة (وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
ووجبت له الجنة) بالواو وكذا وقع في أكثر كتب الفقه والصواب (أو وجبت) بأو وهو شك من
عبد الله بن عبد الرحمن ابن يحنس أحد رواته هكذا هو باوفى كتب الحديث وصرحوا بان ابن
يحنس هو الذي شك فيه ويحنس بمثناة من تحت مضمومة ثم حاء مهملة مفتوحة ثم نون مكسورة ومفتوحة
ثم سين مهملة (أما) أحكام الفصل فاجمع من يعتد به من السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم
على أنه يجوز الاحرام من الميقات ومما فوقه وحكى العبدري وغيره عن داود أنه قال لا يجوز الاحرام
مما فوق الميقات وأنه لو أحرم مما قبله لم يصح إحرامه ويلزمه ان يرجع ويحرم من الميقات وهذا
الذي قاله مردود عليه باجماع من قبله (واما) الأفضل ففيه قولان للشافعي مشهوران ذكرهما
المصنف بدليلهما (أحدهما) الاحرام من الميقات أفضل (والثاني) مما فوقه أفضل وهذان القولان
مشهوران في طريقتي العراق وخراسان وفي المسألة طريق آخر وهو ان الاحرام أفضل من دويرة
أهله قولا واحدا وهي قول القفال وهي مشهورة في كتب الخراسانيين وهي ضعيفة غريبة والصحيح
المشهور أن المسألة على القولين ثم إن هذين القولين منصوصان في الجديد نقلهما الأصحاب عن الجديد
(أحدهما) الأفضل ان يحرم من دويرة أهله نص عليه في الاملاء (والثاني) الأفضل الاحرام من الميقات
نص عليه البويطي والجامع الكبير للمزني (واما) الغزالي فقال في الوسيط لو أحرم قبل الميقات
فهو أفضل قطع به في القديم وقال في الجديد هو مكروه وهو متأول ومعناه ان يتوقى المخيط والطيب

(1) كذا بالأصل فحرر
200

من غير إحرام وكذا نقل الفوراني في الإبانة انه كره في الجديد الاحرام قبل الميقات وكأن الغزالي
تابع الفوراني في هذا النقل وهو نقل ضعيف غريب لا يعرف لغيرهما ونسبه صاحب البحر إلى بعض
أصحابنا بخراسان والظاهر أنه أراد الفوراني ثم قال صاحب البحر هذا النقل غلط ظاهر
وهذا الذي قاله صاحب البحر من التغليط هو الصواب فان الذي كرهه الشافعي في الجديد انه
هو التجرد عن المحيط لا الاحرام قبل الميقات بل نص في الجديد على الانكار على من كره
الاحرام قبل الميقات واختلف أصحابنا في الأصح من هذين القولين فصححت طائفة الاحرام من
دويرة أهله ممن صرح بتصحيحه القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد والروياني في البحر والغزالي
والرافعي في كتابيه وصحح الأكثرون والمحققون تفضيل الاحرام من الميقات ممن صححه المصنف
في التنبيه وآخرون وقطع به كثيرون من أصحاب المختصرات منهم أبو الفتح سليم الرازي في الكفاية
والماوردي في الاقناع والمحاملي في المقنع وأبو الفتح نصر المقدسي في الكافي وغيرهم وهو
الصحيح المختار وقال الرافعي في المسألة ثلاث طرق (أصحها) على قولين (والثاني) القطع باستحبابه
من دويرة أهله (والثالث) ان أمن على نفسه من ارتكاب محظورات الاحرام فدويرة أهله أفضل
والا فالميقات (والأصح) على الجملة أن الاحرام من الميقات أفضل للأحاديث الصحيحة المشهورة
(أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم في حجته من الميقات) وهذا مجمع عليه وأجمعوا على أنه صلى الله عليه وسلم
لم يحج بعد وجوب الحج ولا بعد الهجرة غيرها (وأحرم صلى الله عليه وسلم عام الحديبية بالعمرة من ميقات المدينة
ذي الحليفة) رواه البخاري في صحيحه في كتاب المغازي وكذلك أحرم معه صلى الله عليه وسلم بالحجة
المذكورة والعمرة المذكورة أصحابه من الميقات وهكذا فعل بعده صلى الله عليه وسلم أصحابه والتابعون وجماهير
العلماء وأهل الفضل فترك النبي صلى الله عليه سلم الاحرام من مسجده الذي صلاة فيه أفضل من الف
صلاة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام وأحرم من الميقات فلا يبقى بعد هذا شك في أن
الاحرام من الميقات أفضل (فان قيل) إنما أحرم النبي صلى الله عليه وسلم من الميقات ليبين جوازه
201

(فالجواب) من أوجه (أحدها) أنه صلى الله عليه وسلم قد بين الجواز بقوله صلى الله عليه وسلم (مهل
أهل المدينة من ذي الحليفة) (الثاني) أن بيان الجواز إنما يكون فيما يتكرر فعله ففعله صلى الله
عليه وسلم مرة أو مرات يسيرة على أقل ما يجزئ بيانا للجواز ويداوم في عموم الأحوال على أكمل
الهيئات كما توضأ مرة مرة في بعض الأحوال وداوم على الثلاث ونظائر هذا كثيرة ولم ينقل انه صلى الله عليه
وسلم أحرم من المدينة وإنما أحرم بالحج وعمرة الحديبية من ذي الحليفة (الثالث) أن بيان
الجواز إنما يكون في شئ اشتهر أكمل أحواله بحيث يخاف ان يظن وجوبه ولم يوجد ذلك هنا *
وهذا كله إنما يحتاج إليه على تقدير دليل صريح صحيح في مقابلته ولم يوجد ذلك فان حديث أم
سلمة قد سبق أن اسناده ليس بقوي فيجاب عنه بأربعة أجوبة (أحدها) أن إسناده ليس بقوي
(الثاني) أن فيه بيان فضيلة الاحرام من فوق الميقات وليس فيه انه أفضل من الميقات ولا خلاف
ان الاحرام من فوق الميقات فيه فضيلة وإنما الخلاف أيهما أفضل (فان قيل) هذا الجواب يبطل
فائدة تخصيص المسجد الأقصى (فالجواب) ان فيه فائدة وهي تبين قدر الفضيلة فيه (الجواب الثالث)
أن هذا معارض لفعله صلى الله عليه وسلم المتكرر في حجته وعمرته فكان فعله المتكرر أفضل
(الرابع) أن هذه الفضيلة جاءت في المسجد الأقصى لان له مزايا عديدة معروفة ولا يوجد ذلك في
غيره فلا يلحق به والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في هذه المسألة * قد ذكرنا ان الأصح ان يحرم من الميقات وبه
قال عطاء والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحق وروى عن عمر بن الخطاب حكاه ابن المنذر عنهم
كلهم ورجح آخرون دويرة أهله وهو المشهور عن عمر وعلى وبه قال أبو حنيفة وحكاه ابن المنذر
عن علقمة والأسود وعبد الرحمن وأبي إسحاق يعني السبيعي ودليل الجميع سبق بيانه قال ابن
المنذر وثبت ان ابن عمر أهل من إيليا وهو بيت المقدس *
202

(فرع) ان قيل ما الفرق بين ميقات الزمان والمكان حيث جاز تقديم الاحرام على ميقات
المكان دون الزمان فالجواب ما أجاب به الجرجاني في المعاياة ان ميقات المكان يختلف باختلاف
البلاد بخلاف ميقات الزمان والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(ومن كان داره دون الميقات فيمقاته موضعه ومن جاوز الميقات قاصدا إلى موضع قبل مكة
ثم أراد النسك أحرم من موضعه كما إذا دخل مكة لحاجة ثم أراد الاحرام كان ميقاته من مكة) *
(الشرح) من كان مسكنه بين مكة والميقات فيمقاته موضعه بلا خلاف لحديث ابن عباس
السابق في أول الباب وقد سبقت هذه المسألة * قال أصحابنا فإذا كان في قرية بين مكة والميقات
فالأفضل أن يحرم من الطرف الابعد منها إلى مكة فان أحرم من الطرف الأدنى إلى مكة جاز
ولا دم عليه بلا خلاف كما سبق في المواقيت الخمسة فان خرج من قرية وفارق العمران إلى جهة مكة
ثم أحرم كان آثما وعليه الدم للإساءة فان عاد إليها سقط الدم وإن كان من أهل خيام استحب ان
يحرم من أبعد أطراف الخيام إلى مكة ويجوز من الطرف الأدنى إلى مكة ولا يجوز ان يفارقها إلى
جهة مكة غير محرم * وإن كان في واد استحب ان يقطع طرفيه محرما فان أحرم من الطرف الأقرب
إلى مكة جاز فإن كان في برية ساكنا منفردا بين مكة والميقات أحرم من منزله لا يفارقه غير محرم
هكذا ذكر هذا التفصيل كله أصحابنا في الطريقين قال القاضي أبو الطيب في تعليقه لو كان
مسكنه بين مكة والميقات فتركه وقصد الميقات فأحرم منه جاز ولا دم عليه كالمكي إذا لم يحرم
من مكة بل خرج إلى ميقات فأحرم منه جاز ولا دم عليه (المسألة الثانية) إذا مر الآفاقي بالميقات
غير مريد نسكا فإن لم يكن قاصدا نحو الحرم ثم عن له قصد النسك بعد مجاوزة الميقات فميقاته حيث
عن له هذا القصد وإن كان قاصد الحرم لحاجة فعن له النسك بعد المجاوزة (فان قلنا) من أراد
الحرم لحاجة يلزمه الاحرام فهذا يأثم بمجاوزته غير محرم وهو كمن قصد النسك وجاوزه غير محرم *
وسنذكره إن شاء الله تعالى (وان قلنا) بالأصح انه لا يلزمه فهو كمن جاوزه غير قاصد دخول الحرم *
(فرع) في مذاهب العلماء في هذه المسألة * قد ذكرنا ان مذهبنا ان من مسكنه بين مكة والميقات
فيمقاته موضعه وبه قال طاووس ومالك وأبو حنيفة واحمد وأبو ثور والجمهور * وقال مجاهد يحرم
203

من مكة * ودليلنا حديث ابن عباس السابق (اما) إذا جاوز الميقات غير مريد نسكا ثم أراده فقد
ذكرنا ان مذهبنا انه يحرم من موضعه وبه قال ابن عمر وعطاء ومالك والثوري وأبو يوسف
ومحمد وأبو ثور وابن المنذر * وقال احمد واسحق يلزمه العود إلى الميقات *
(فرع) حكى الشافعي وابن المنذر عن ابن عمر انه أحرم من الفرع بضم الفاء واسكان الراء
وهو بلاد بين مكة والمدينة بين ذي الحليفة وبين مكة فتكون دون ميقات المدني وابن عمر مدني
وهذا ثابت عن ابن عمر رواه مالك في الموطأ باسناده الصحيح وتأوله الشافعي وأصحابنا تأويلين
(أحدهما) أن يكون خرج من المدينة إلى الفرع لحاجة ولم يقصد مكة ثم أراد النسك فان ميقاته
مكانه (والثاني) انه كان بمكة فرجع قاصدا إلى المدينة فلما بلغ الفرع بدا له ان يرجع إلى مكة
فميقاته مكانه
* قال المصنف رحمه الله *
(ومن كان من أهل مكة وأراد الحج فميقاته من مكة وان أراد العمرة فميقاته من أدنى
الحل والأفضل ان يحرم من الجعرانة لان النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر منها فان أخطأها فمن التنعيم
لان النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم) *
(الشرح) اما احرام النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة فصحيح متفق عليه رواه البخاري ومسلم
في صحيحيهما من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه ورواه الإمام الشافعي وأبو داود والترمذي
والنسائي وغيرهم أيضا من رواية محرش الكعبي الخزاعي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الترمذي
هذا حديث حسن قال ولا يعرف له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذا الحديث وهو محرش بضم الميم
وفتح الحاء وكسر الراء المشددة وبعدها شين معجمة هذا أشهر الأقوال في ضبطه ولا يذكر ابن
مأكولا وجماعة الا هذا (والثاني) محرش بكسر الميم اسكان المهملة (والثالث) بكسر الميم واسكان
الخاء المعجمة ممن حكي هذه الأقوال الثلاثة فيه أبو عمر عبد الله بن يوسف بن عبد البر والله أعلم *
(وأما) حديث ان النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة من التنعيم فرواه البخاري ومسلم من رواية عائشة
وأما الجعرانة فبكسر الجيم واسكان العين وتخفيف الراء وكذا الحديبية بتخفيف الياء هذا قول
الشافعي فيهما وبه قال أهل اللغة والأدب وبعض المحدثين وقال ابن وهب صاحب مالك هما
204

بالتشديد وهو قول أكثر المحدثين والصحيح تخفيفهما والتنعيم أقرب أطراف الحل إلى مكة
والتنعيم بفتح التاء وهو بين مكة والمدينة على ثلاثة أميال من مكة وقيل أربعة قيل سمى بذلك لان
عن يمينه جبلا يقال له نعيم وعن شماله جبل يقال له ناعم والوادي نعمان (أما) الأحكام ففيه مسألتان
(إحداهما) ميقات المكي بالحج نفس مكة وفيه وجه ضعيف انه مكة وسائر الحرم وقد سبقت
المسألة في أول الباب واضحة بفروعها والمراد بالمكي من كان بمكة عند إرادة الاحرام بالحج سواء
كان مستوطنها أو عابر سبيل (المسألة الثانية) إذا كان بمكة مستوطنا أو عبار سبيل وأراد العمرة
فيمقاته أدني الحل نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب قال أصحابنا يكفيه الحصول في الحل ولو
بخطوة واحدة من أي الجهات كان جهات الحل هذا هو الميقات الواجب (وأما) المستحب فقال
الشافعي في المختصر أحب أن يعتمر من الجعرانة لان النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر منها فان أخطأه منها فمن
التنعيم لان النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة منها وهي أقرب الحل إلى البيت فان أخطأه ذلك فمن الحديبية
لان النبي صلى الله عليه وسلم صلي بها من الجعرانة وبعدها في الفضيلة التنعيم ثم الحديبية كما نص عليه واتفق
الأصحاب على التصريح بهذا في كل الطرق ولا خلاف في شئ منه الا ان الشيخ أبا حامد قال الذي
يقتضيه المذهب ان الاعتمار من الحديبية بعد الجعرانة أفضل من التنعيم فقدم الحديبية على التنعيم
(وأما) قول المصنف في التنبيه الأفضل ان يحرم بها من التنعيم فغلط ومنكر لا يعد من المذهب الا
أن يتأول على إذا أراد أفضل أدني الحل التنعيم فإنه قال أولا خرج إلى أدنى الحل والأفضل ان
يحرم من التنعيم فالاعتذار عنه بهذا وما أشبهه أحسن من تخطئته وليست المسألة خفية أو غريبة
ليعذر في الغلط فيها واستدل الشافعي للاحرام من الحديبية بعد التنعيم بأن النبي صلى الله عليه
وسلم صلي بها وأراد المدخل لعمرته منها وهذا صحيح معروف في الصحيحين وغيرهما وكذلك استدل
محققوا الأصحاب وهذا الاستدلال هو الصواب (وأما) قول الغزالي في البسيط وقول غيره انه صلى الله عليه
وسلم هم بالاحرام بالعمرة من الحديبية فغلط صريح بل ثبت في صحيح البخاري في
كتاب المغازي ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم بالعمرة عام الحديبية من ذي الحليفة والله أعلم *
205

(فان قيل) قال الشافعي والأصحاب ان الاحرام بالعمرة من الجعرانة أفضل من التنعيم فكيف أعمر
النبي صلى الله عليه وسلم عائشة من التنعيم (فالجواب) انه صلى الله عليه وسلم إنما أعمرها منه لضيق
الوقت عن الخروج إلى أبعد منه وقد كان خروجها إلى التنعيم عند رحيل الحاج وانصرافهم
وواعدها النبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع في الطريق هكذا ثبت في الصحيحين ويحتمل أيضا
بيان الجواز من أدني الحل والله أعلم *
(فرع) يستحب لمن أراد الاحرام بالحج من مكة أن يحرم يوم التروية وهو الثامن من
ذي الحجة ولا يقدم الاحرام قبله إلا أن يكون متمتعا لم يجد الهدى فيحرم قبل اليوم السادس من
ذي الحجة حتى يمكنه صوم ثلاثة أيام في الحج وقد سبقت المسألة مبسوطة في أواخر الباب السابق في أحكام
التمتع في فرع مستقل وذكرنا فيه مذاهب العلماء ودليل المسألة
* قال المصنف رحمه الله *
(ومن بلغ الميقات مريدا للنسك لم يجز أن يجاوزه حتى يحرم لما ذكرناه من حديث ابن عباس
رضي الله عنهما فان جاوزه وأحرم دونه نظرت فإن كان له عذر بأن يخشي ان يفوته الحج أو الطريق مخوف
لم يعد وعليه دم وان لم يخش شيئا لزمه ان يعود لأنه نسك واجب مقدور عليه فلزمه الاتيان به فإنه لم يرجع
لزمه الدم وان رجع نظرت فإن كان قبل إن يتلبس بنسك سقط عنه الدم لأنه قطع المسافة بالاحرام
وزاد عليه فلم يلزمه دم وان عاد بعد ما وقف أو بعد ما طاف لم يسقط عنه الدم لأنه عاد بعد فوات
الوقت فلم يسقط عنه الدم كما لو دفع من الموقف قبل الغروب ثم عاد في غير وقته) *
(الشرح) قال الشافعي والأصحاب إذا انتهى الآفاقي إلى الميقات وهو يريد الحج أو العمرة
أو القران حرم عليه مجاوزته غير محرم بالاجماع فان جاوزه فهو مسئ سواء كان من أهل تلك الناحية أم من
غيرها كالشامي يمر بميقات المدينة * قال أصحابنا ومتي جاوز موضعا يجب الاحرام منه غير محرم اثم
وعليه العود إليه والاحرام منه ان لم يكن له عذر فإن كان عذر كخوف الطريق أو انقطاع عن رفقته
أو ضيق الوقت أو مرض شاق أو أحرم من موضعه ومضى وعليه دم إذا لم يعد فقد أثم بالمجاوزة ولا
يأثم يترك الرجوع فان عاد فله حالان (أحدهما) يعود قبل الاحرام فيحرم منه فالمذهب الذي قطع
206

به المصنف والجماهير لا دم عليه سواء كان دخل مكة أم لا وقال إمام الحرمين والغزالي ان عاد قبل
أن يبعد عن الميقات بمسافة القصر سقط الدم وان عاد بعد دخول مكة وجب ولم يسقط بالعود وان عاد بعد
مسافة القصر وقبل دخول مكة فوجهان (أصحهما) يسقط وهذا التفصيل شاذ منكر (الحال الثاني) أن يحرم
بعد مجاوزة الميقات ثم يعود إلى الميقات محرما فطريقان (أحدهما) في سقوط الدم وجهان وقيل قولان حكاهما
الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب الشامل وآخرون * قال القاضي أبو الطيب هما قولان
وكان الشيخ أبو حامد يقول وجهان * قال والصحيح قولان وسواء عند هؤلاء رجع من مسافة قريبة أو
بعيدة لكنهم شرطوا رجوعه قبل تلبسه بنسك (والطريق الثاني) وهو الصحيح وبه قطع المصنف والجمهور
انه يفصل فان عاد قبل التلبس بنسك سقط الدم وان عاد بعده لم يسقط سواء كان النسك ركنا
كالوقوف والسعي أو سنة كطواف الوقوف وفيه وجه ضعيف انه لا أثر للتلبس بالسنة فيسقط بالعود
بعد حكاه البغوي والمتولي وآخرون كما لو كان محرما بالعمرة مما دون الميقات وعاد إليه بعد طوافها
فإنه لا يسقط الدم بالعود بلا خلاف والمذهب الأول ويخالف المعتمر فإنه عاد بعد فعله معظم أفعال
النسك والحاج لم يأت بشئ من أعمال النسك الواجبة فسقط عنه الدم * واعلم أن جمهور الأصحاب
لم يتعرضوا لزوال الإساءة بالعود وقد قال صاحب البيان وهل يكون مسيئا بالمجاوزة إذا عاد إلى
الميقات حيث سقط الدم فيه وجهان حكاهما في الفروع * الظاهر أنه لا يكون مسيئا لأنه حصل فيه
محرما (والثاني) يصير مسيئا لان الإساءة حصلت بنفس المجاوزة فلا يسقط * قال أصحابنا ولا فرق
في لزوم الدم في كل هذا بين المجاوز للميقات عامدا عالما أو جاهلا أو ناسيا لكن يفترقون في
في الاثم فلا اثم على الناسي والجاهل قال القاضي أبو الطيب والمتولي وغيرهما ويخالف ما لو تطيب
ناسيا لا دم عليه لان الطيب من المحظورات والنسيان عذر عندنا في المحرمات كالأكل والصوم والكلام
في الصلاة (وأما) الاحرام من الميقات فمأمور به والجهل والنسيان في المأمور به لا يجعل عذرا والله أعلم *
(وأما) إذا مر بالميقات وأحرم بأحد النسكين ثم بعد مجاوزته ادخل النسك الآخر عليه بان
ادخل الحج على العمرة أو عكسه وجوزناه ففي وجوبه عليه وجهان حكاهما المتولي والبغوي وآخرون
207

(أحدهما) يلزمه لأنه جاوز الميقات مريدا للنسك وأحرم بعده (والثاني) لا يلزمه لأنه جاوز الميقات
محرما فصار كما لو أحرم بالميقات احراما مبهما فلما جاوز صرفه إلى الحج والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في هذه المسألة * قد ذكرنا أن مذهبنا أنه إذا جاوز الميقات مريدا
للنسك فأحرم دونه أتم فان عاد قبل التلبس بالنسك سقط عنه الدم سواء عاد ملبيا أم غير ملب * هذا
مذهبنا وبه قال الثوري وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور * وقال مالك وابن المبارك وزفر وأحمد لا يسقط عنه
الدم بالعود * وقال أبو حنيفة ان عاد ملبيا سقط الدم وإلا فلا * وحكى ابن المنذر عن الحسن
والنخعي انه لا دم على المجاوز مطلقا قال وهو أحد قولي عطاء * وقال ابن الزبير يقضى حجته ثم يعود
إلى الميقات فيحرم بعمرة وحكي ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أنه لا حج له والله أعلم *
(فرع) قال صاحب البيان سمعت الشريفي العثماني من أصحابنا يقول إذا جاوز المدني
ذا الحليفة غير محرم وهو مريد للنسك فبلغ مكة غير محرم ثم خرج منها إلى ميقات بلد آخر
كذات عرق أو يلملم وأحرم منه فلا دم عليه بسبب مجاوزة ذي الحليفة لأنه لا حكم لإرادته النسك
لما بلغ مكة غير محرم فصار كمن دخل مكة غير محرم وقلنا يجب الاحرام لدخولها لا دم عليه هذا نقل
صاحب البيان وهو محتمل وفيه نظر * قال المصنف رحمه الله *
(وان نذر الاحرام من موضع فوق الميقات لزمه الاحرام منه فان جاوزه وأحرم دونه كان كمن
جاوز الميقات وأحرم دونه في وجوب العود والدم لأنه وجب الاحرام منه كما وجب من الميقات
فكان حكمه حكم الميقات وان مر كافر بالميقات مريدا للحج فاسلم دونه وأحرم ولم يعد إلى الميقات
لزمه الدم وقال المزني لا يلزمه لأنه مر بالميقات وليس هو من أهل النسك فأشبه إذا مر به غير مريد
للنسك ثم أسلم دونه وأحرم وهذا لا يصح لأنه ترك الاحرام من الميقات وهو مريد للنسك فلزمه
الدم كالمسلم وان مر بالميقات صبي وهو محرم أو عبد وهو محرم فبلغ الصبي أو عتق العبد ففيه قولان
(أحدهما) أنه يجب عليه دم لأنه ترك الاحرام بحجة الاسلام من الميقات (والثاني) لا يلزمه لأنه جاوز
الميقات وهو محرم فلم يلزمه دم كالحر البالغ) *
208

(الشرح) (أما) مسألة النذر فهي كما قالها المصنف (وأما) مسألة الكافر ومسألة الصبي
والعبد فقد سبقتا واضحتين بفروعهما في أوائل كتاب الحج عند احرام الصبي وبالله التوفيق *
* قال المصنف رحمه الله *
(فإن كان من أهل مكة فخرج لاحرام الحج إلى أدنى الحل وأحرم فان رجع إلى مكة قبل
أن يقف بعرفة لم يلزمه دم وإن لم يرجع حتى وقف وجب عليه دم لأنه ترك الاحرام من الميقات
فأشبه غير المكي إذا أحرم من دون الميقات وإن خرج من مكة لي خارج البلد وأحرم في موضع
من أحرم ففيه وجهان (أحدهما) لا يلزمه الدم لان مكة والحرم في الحرمة سواء (والثاني) يلزمه
وهو الصحيح لان الميقات هو البلد وقد تركه فلزمه الدم وإن أراد العمرة فأحرم من جوف مكة
نظرت فان خرج إلى أدنى الحل قبل أن يطوف لم يلزمه دم لأنه دخل الحرم فأشبه إذا أحرم أولا
من الحل وان طاف وسعى ولم يخرج إلى الحل ففيه قولان (أحدهما) لا يعتد بالطواف والسعي عن
العمرة لأنه لم يقصد الحرم باحرام فلم يعتد بالطواف والسعي (والثاني) انه يعتد به وعليه دم لتركه
الميقات كغير المكي إذا جاوز ميقات بلده غير محرم ثم أحرم ودخل مكة وطاف وسعى) *
(الشرح) أما احرام المكي بالحج فقد سبق حكمه في أول الباب مستوفى وأما احرامه بالعمرة
فقد قدمنا أن ميقاته الواجب فيها أدنى الحل ولو بخطوة والمستحب احرامه من الجعرانة فان فاته
فالتنعيم ثم الحديبية فان خالف فأحرم بالعمرة في الحرم انعقد احرامه بلا خلاف ثم له حالان
(أحدهما) أن لا يخرج إلى الحل بل يطوف ويسعي ويحلق فهل يجزئه ذلك وتصح عمرته فيه قولان
مشهوران نص عليهما في الأم وذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) يجزئه ويلزمه دم لتركه الاحرام من
الميقات الواجب (والثاني) لا يجزئه بل يشترط أن يجمع في عمرته بين الحل والحرم كما يجمع الحاج في حجه
بين الحل والحرم فإنه يشترط وقوفه بعرفات وهي من الحل والطواف والسعي وهما في الحرم فعلى القول
الأول لو وطئ بعد الحلق لا شئ عليه لأنه بعد التحلل وعلى الثاني يكون الوطئ واقعا قبل
التحلل لكنه يعتقد أنه متحلل فيكون كجماع الناسي وفى كونه مفسدا القولان المشهوران فان جعلناه
مفسدا لزمه المضي في فاسده بأن يخرج إلى الحل ويعود فيطوف ويسعي ويحلق ويلزمه القضاء
209

وكفارة الجماع ودم الحلق لوقوعه قبل التحلل (وان قلنا) بالأصح ان جماع الناسي لا يفسد فعمرته
على حالها فلزمه أن يخرج إلى الحل ويرجع فيطوف ويحلق وقد تمت عمرته وليس عليه دم الجماع
وأما دم الحلق ففيه القولان المشهوران في حلق الناسي (أصحهما) يجب (الحال الثاني) أن يخرج إلى
الحل ثم يدخل مكة فيطوف ويسعي ويحلق فيعتد بذلك وتتم عمرته بلا خلاف وفى سقوط دم
الإساءة عنه طريقان المذهب وبه قطع الجمهور سقوطه (والثاني) على طريقين (أصحهما) القطع بسقوطه
(والثاني) انه على الخلاف السابق في من جاوز الميقات غير محرم (فإذا قلنا) بالمذهب فالواجب خروجه
إلى الحل قبل الأعمال أما في ابتداء الاحرام واما بعده (وان قلنا) لا يسقط فالواجب هو الخروج
قبل الاحرام والله أعلم *
(فرع) قال الشيخ أبو حامد في آخر كتاب الحج من تعليقه قال الشافعي أحب لمن أحرم
في بلده أن يخرج متوجها في طريق حجه عقب إحرامه ولا يقيم بعد إحرامه قال الشافعي وكذا
لو كان إحرامه من جوف مكة قال أبو حامد هذا الذي قاله الشافعي صحيح فيستحب لمن أحرم
من بلده أو من مكة أن يخرج عقب إحرامه وينبغي أن يكون إحرام المكي عند إرادته التوجه إلى
منى وقد سبق قريبا بيان هذا والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
باب الاحرام وما يحرم فيه
(إذا أراد أن يحرم فالمستحب أن يغتسل لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه (ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم اغتسل لاحرامه) وإن كانت امرأة حائضا أو نفساء اغتسلت للاحرام لما روى
القاسم بن محمد (أن أسماء بنت عميس ولدت محمد ابن أبي بكر بالبيداء فذكر ذلك أبو بكر رضي الله عنه
لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مروها فلتغتسل ثم لتهل) ولأنه
210

غسل يراد به النسك فاستوى فيه الحائض والطاهر ومن لم يجد الماء تيمم لأنه غسل مشروع فانتقل
فيه إلى التيمم عند عدم الماء كغسل الجنابة قال في الأم ويغتسل لسبعة مواطن للاحرام ودخول
مكة والوقوف بعرفة والوقوف بالمزدلفة ولرمي الجمرات الثلاث لأن هذه المواضع تجتمع لها الناس
فاستحب لها الاغتسال ولا يغتسل لرمي جمرة العقبة لان وقته من نصف الليل إلى آخر النهار
فلا يجتمع له الناس في وقت واحد وأضاف إليها في القديم الغسل لطواف الزيارة وطواف الوداع
لان الناس يجتمعون لهما ولم يستحبه في الجديد لان وقتهما متسع فلا يتفق اجتماع الناس فيهما) *
(الشرح) حديث زيد بن ثابت رواه الدارمي والترمذي وغيرهما قال الترمذي حديث
حسن وفى معناه حديث القاسم في قصة أسماء وهو صحيح كما سنوضحه إن شاء الله تعالى
(وأما) حديث القاسم فصحيح رواه مالك في الموطأ هكذا مرسلا كما رواه المصنف عن
القاسم أن أسماء ولدت فذكره بكماله وهذا اللفظ يقتضي إرسال الحديث فان القاسم تابعي وهو القاسم
ابن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ورواه ابن ماجة كذلك في رواية له ورواه مسلم في
صحيحه عن القاسم عن عائشة أن أسماء ولدت فذكره بلفظه هكذا متصلا بذكر عائشة وكذلك رواه
أبو داود في سننه والدارمي وابن ماجة في روايته الأخرى وغيرهم فالحديث متصل صحيح وكفى به
صحة رواية مسلم له في صحيحه ووصله ثابت في صحيح مسلم من رواية عبيد الله بن عمر العميري عن
عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة وناهيك بهذا صحة وثبت هذا الحديث في صحيح مسلم
أيضا من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وأسماء هذه هي امرأة أبي بكر الصديق رضي الله
عنهما وأبوها عميس بضم العين المهملة وفتح الميم وسبق بيانه في أول كتاب الطهارة والبيداء بفتح
الباء وبالمد والمراد به هنا مكن بذي الحليفة وقد جاء في كثير من الروايات في صحيح مسلم وغيره
ولدت أسماء بذي الحليفة فذكره إلى آخره وقوله صلى الله عليه وسلم (مروها) أن تغتسل ثم لتهل يجوز
في لام لتهل الكسر والاسكان والفتح وهو غريب ووقع في كثير من نسخ المهذب (مرها) وفى بعضها
(مروها) بزيادة واو وذكر الامام محمود بن خيلياشي بن عبد الله الخيلياشي انه رآه هكذا بخط المصنف
211

(وأما) قول المصنف باب الاحرام وما يحرم فيه فكذا قاله في التنبيه وهو بفتح الياء وضم الراء من
يحرم وليس هو بضم الياء وكسر الراء لأنه صدر الباب بمقدمات الاحرام من الاغتسال والتنظف والتطيب
والصلاة ثم ذكر الاحرام نفسه وهو النية فكل هذا داخل في ترجمة الاحرام ثم ذكر بعد هذا كله ما يحرم
بسبب الاحرام ولو كان بضم الياء على إرادة ما يلبسه المحرم لكانت الترجمة قاصرة لأنه يكون مدخلا في
الباب ما لم يترجم له وهو محرمات الاحرام وهي معظم الباب فتعين ما قلناه والحمد الله وهو أعلم * (وقوله) لأنه
غسل يراد للنسك احتراز من غسل الجنابة والحيض والجمعة وأراد بالنسك ما يختص بالحج أو العمرة (وقوله)
غسل مشروع ذكر القلعي أنه احتراز من الغسل للدخول على السلطان ولبس الثوب ونحوهما وهذا محتمل
ويحتمل أنه أراد تقريب الفرع من الأصل دون الاحتراز (أما) الأحكام ففيها مسائل (إحداها)
اتفق العلماء على أنه يستحب الغسل عند إرادة الاحرام بحج أو عمرة أو بهما سواء كان احرامه
من الميقات الشرعي أو غيره ولا يجب هذا الغسل وإنما هو سنة متأكدة يكره تركها نص عليه
الشافعي في الأم واتفق عليه الأصحاب كما سأذكره قريبا إن شاء الله تعالى قال ابن المنذر في الاشراف
أجمع عوام أهل العلم على أن الاحرام بغير غسل جائز قال وأجمعوا على أن الغسل للاحرام ليس
بواجب الا ما روى عن الحسن البصري أنه قال إذا نسي الغسل يغتسل إذا ذكره قال أصحابنا
والدليل على عدم وجوبه انه غسل لأمر مستقبل فلم يكن واجبا كغسل الجمعة والعيد والله أعلم *
قال الشافعي رضي الله عنه في الأم استحب الغسل عند الاحرام للرجل والصبي والمرأة الحائض
والنفساء وكل من أراد الاحرام قال أكره ترك الغسل له وما تركت الغسل للاحرام ولقد كنت
أغتسل له مريضا له في السفر وانى أخاف ضرر الماء وما صحبت أحدا أقتدي به رأيته تركه وما رأيت أحدا
منهم عدا به أن رآه اختيارا قال وإذا أتت الحائض والنفساء الميقات وعليهما من الزمان ما يمكن فيه
طهرهما وادركهما الحج بلا علة أحببت استئخارهما ليطهرا فيحرما طاهرتين وإن أهلتا غير طاهرتين
أجزأ عنهما ولا فدية قال وكل ما عملته الحائض عمله الرجل الجنب والمحدث والاختيار له ان لا يعمله
كله إلا طاهرا قال وكل عمل الحج تعمله الحائض وغير الطاهر من الرجال الا الطواف بالبيت وركعتيه
هذا آخر نصه في الأم بحروفه واتفق أصحابنا في جميع الطرق على جميع هذا الا قولا شاذا ضعيفا حكاه
212

الرافعي أن الحائض والنفساء لا يسن لهما الغسل (والصواب) استحبابه لهما للحديث السابق قال أصحابنا
ويغتسلان بنية غسل الاحرام كما ينوى غيرهما ولإمام الحرمين في نيتهما احتمال (الثانية) إذا عجز
المحرم عن الغسل تيمم هكذا نص عليه الشافعي في الأم وقطع به الأصحاب في جميع الطرق الا
ان الرافعي قال يتيمم العاجز * قال وقد ذكرنا في غسل الجمعة احتمالا لإمام الحرمين انه لا يتيمم
قال وذاك الاحتمال جار هنا والمذهب ما سبق وهذا الذي ذكرته من أنه يتيمم إذا عجز عن
الغسل أحسن وأعم من عبارة المصنف ومن وافقه في قولهم إن لم يجد الماء يتيمم لان العجز يعم
عدم الماء والخوف من استعماله وغير ذلك والحكم في الجميع واحد (وأما) إذا وجد من الماء مالا
يكفه للغسل فقد قال المحاملي في كتبه الثلاثة المجموع والتجريد والمقنع والبغوي والرافعي
يتوضأ به وهذا الذي قالوه إن أرادوا به أنه يتوضأ مع التيمم فحسن وإن أرادوا أنه يقتصر على
الوضوء فليس بمعقول ولا يوافقون عليه لان التيمم يقوم مقام الغسل عند العجز عن الماء ولا يقوم
الوضوء مقام الغسل ولا يرد هذا على الجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أو يجامع
فإنه يستحب له الوضوء ولا يستحب له التيمم لان الجنب الذي فيه الكلام واجد لما يكفيه
لغسله ولا يفيده التيمم شيئا ولا يصح للقدرة على الماء ويفيده الوضوء رفع الحدث عن أعضائه
فاستحب له وفى مسألة المحرم هو عادم لما يكفيه لغسله فنظيره من الجنب أن يكون عاد ما لما يكفيه
من الماء فإنه يتيمم مع الوضوء أو يتيم من غير وضوء على القولين المعروفين في باب التيمم (الثالثة)
قال المصنف قال الشافعي رحمه الله في الأم يغتسل المحرم لسبعة مواطن للاحرام ودخول مكة
والوقوف بعرفة والوقوف بمزدلفة ولرمي الجمرات الثلاث لأن هذه المواضع يجتمع لها الناس
ويستحب لها الاغتسال وهذا النص الذي نقله عن الأم كذا هو في الأم وكذا نقله أصحابنا عن الأم
ونقله بعضهم عن نصوصه قديما وجديدا وليس هذا التعليل في الأم أعني قوله لأن هذه المواطن
يجتمع لها الناس بل هو من عند المصنف والأصحاب وإنما استدل الشافعي رحمه الله في الأم في ذلك
بآثار ذكرها قال في الأم عقب ذكره هذه المواضع واستحب الغسل بين هذه المواضع عند تغير
البدن بالعرق وغيره تنظيفا للبدن قال فلذلك أحبه للحائض قال وليس واحد من هذا واجبا والله
أعلم * (وقوله) وللوقوف بمزدلفة يعني الوقوف على المشعر الحرام وهو قزح وذلك الوقف يكون
بعد صلاة الصبح يوم النحر كما سيأتي بيانه في بابه إن شاء الله تعالى وهكذا قال جماهير الأصحاب
213

في هذا الغسل أنه للوقوف بالمزدلفة ونقله عن الأم وكذا رأيته في الأم صريحا وخالفهم المحاملي
في كتبه الثلاثة المجموع والتجريد والمقنع وأبو الفتح سليم الرازي في الكفاية والشيخ نصر
المقدسي في الكافي فقالوا الغسل للمبيت بالمزدلفة ولم يذكروا الغسل للوقوف بالمزدلفة بل جعلوا
الغسل السابع هو الغسل للمبيت بها والصواب الأول لان المبيت بها ليس فيه اجتماع فلا يحتاج
إلى غسل بخلاف الوقوف فالصواب أن الغسل السابع للوقوف بالمزدلفة وانه لا يشرع للمبيت
بها وقولهم لرمي الجمرات الثلاث يعنون الجمرات في أيام التشريق يغتسل في كل يوم من الأيام
الثلاثة غسلا واحدا لرمي الجمرات ولا يغتسل لكل جمرة في انفرادها هذا الذي ذكرناه من الأغسال
المستحبة في الحج سبعة فقط هو نصه في الجديد وأضاف إليها في القديم استحبابه لطواف الزيارة
وطواف الوداع هكذا نقله الأصحاب عن القديم ولم يذكر المصنف والشيخ أبو حامد وجمهور
الأصحاب في الطريقتين عن القديم انه أضاف إلى هذين الغسلين وزاد القاضي أبو الطيب في تعليقه
والرافعي عن القديم غسلا ثالثا وهو الغسل للحلق واتفقت نصوصه وطرق الأصحاب على أنه
لا يستحب الغسل لرمي جمرة العقبة يوم النحر وقد ذكر المصنف دليله والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(ثم يتجرد عن المخيط في ازار ورداء أبيضين ونعلين لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال (ليحرم أحدكم في ازار ورداء ونعلين) والمستحب أن يكون ذلك بياضا لما روى
ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (قال البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خيار
ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم) والمستحب أن يتطيب في بدنه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت
(كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحرامه قبل أن يحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت) ولا يطيب
ثوبه لأنه ربما نزعه للغسل فيطرحه على بدنه فتجب به الفدية والمستحب أن يصلي ركعتين لما روى
ابن عباس وجابر رضي الله عنهم) أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بذي الحليفة ركعتين ثم أحرم) وفى الأفضل قولان
(قال) في القديم الأفضل أن يحرم عقب الركعتين لما روى ابن عباس (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل في دبر
الصلاة) (وقال) في الأم الأفضل أن يحرم إذا انبعثت به راحلته إن كان راكبا وإذا ابتدأ السيران
كان راجلا لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (إذا رحتم إلى منى
214

متوجهين فأهلوا بالحج) ولأنه إذا لبى مع السير وافق قوله فعله وإذا لبي في مصلاه لم يوافق قوله فعله
فكان ما قلناه أولى) *
(الشرح) حديث ابن عمر (ليحرم أحدكم في ازار ورداء ونعلين) حديث غريب ويغني عنه
ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال (انطلق النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة بعد ما ترجل وادهن
ولبس ازاره ورداءه هو وأصحابه ولم ينه عن شئ من الأزر والأردية يلبس إلا المزعفرة التي
تردع على الجلد حتى أصبح بذي الحليفة ركب راحلته حتى استوى على البيداء أهل هو وأصحابه)
ثم ذكر تمام الحديث رواه البخاري في صحيحه (وقوله) تردع الجلد أي تلطخه إذا لبست وهو
بفتح التاء المثناة فوق وإسكان الراء ثم دال مفتوحة ثم عين مهملتين قال أهل اللغة الردع بالعين
المهملة أثر من الطيب كالزعفران والرذع بالمعجمة الطين وقال أبو بكر ابن المنذر ثبت أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال (وليحرم أحدكم في ازار ورداء ونعلين) قال وكان سفيان الثوري ومالك والشافعي وأحمد
واسحق وأبو ثور وأصحاب الرأي ومن تبعهم يقولون يلبس الذي يريد الاحرام إزارا ورداء
هذا كلام ابن المنذر وثبت في الصحيحين من حديث ابن عميرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في
من لم يجد النعلين (فليلبس خفين وليقطعهما أسفل من الكعبين) وثبت فيهما عن ابن عباس) أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من لم يجد الإزار فليلبس السروال ومن لم يجد النعلين فليلبس
الخفين) ومثله في صحيح مسلم من رواية جابر والله أعلم (وأما) حديث ابن عباس ان النبي صلى الله
عليه وسلم قال (البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خيار ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم) فحديث صحيح
رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بأسانيد صحيحة قال الترمذي هو حديث حسن صحيح رواه
أبو داود في كتاب اللباس والترمذي وابن ماجة في الجنائز وسبق ذكره وبيانه في المهذب في
باب هيئة الجمعة وغيره (وأما) حديث عائشة (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحرامه قبل إن يحرم
ولحله قبل إن يطوف بالبيت) فرواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طرق كثيرة وهو حديث
مستفيض مشهور جدا وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة أيضا من طرق قالت
(كأنما انظر إلى وبيص الطيب في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم) وفى بعض
215

الروايات مفارق (وفى بعضها) (وبيص المسك) والمفارق جمع مفرق بكسر الراء هو وسط الرأس
حيث ينفرق الشعر يمينا وشمالا والوبيص بالصاد المهملة وهو البريق واللمعان (وأما) قوله إن ابن
عباس وجابرا رويا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين بذي الحليفة فحديث جابر صحيح رواه
مسلم في صحيحه في جملة حديث جابر الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث
عظيم الفوائد فيه مناسك ومعظمها ذكر فيه كل ما فعله صلى الله عليه وسلم من حين خروجه إلى فراغه
رواه مسلم وأبو داود وغيرهما بطوله ولم يروه البخاري بطوله (وأما) حديث ابن عباس في صلاة
الركعتين فرواه أبو داود وغيره وإسناده ليس بقوي وفى حديث جابر كفاية عنه وثبت في
صحيح البخاري عن ابن عمر (انه كان يأتي مسجد ذي الحليفة فيصلى ركعتين ثم يركب فإذا استوت به
راحلته قائمة أحرم ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم) (وأما) حديث ابن عباس
(ان النبي صلى الله عليه وسلم أهل في دبر الصلاة) فرواه أبو داود والترمذي والنسائي والبيهقي وغيرهم
قال البيهقي هو ضعيف الاسناد لان في اسناده حصيف الجرري قال وهو غير قوى وكذا قاله غيره
وقال الترمذي هو حديث حسن (وأما) قول البيهقي ان حصيف غير قوى فقد خالفه فيه
كثيرون من الحفاظ والأئمة المتقدمين في البيان فوثقه يحيى بن معين امام الجرح والتعديل ووثقه
أيضا محمد بن سعد وقال النسائي فيه هو صالح وقول الترمذي انه حسن لعله اعتضد عنده فصار
بصفة الحسن التي سبق بيانها في مقدمة هذا الشرح (وأما) حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (إذا رحتم إلى منى متوجهين فأهلوا بالحج) فصحيح رواه مسلم في صحيحه بمعناه وثبت
في صحيح البخاري عن جابر (أن اهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة حين استوت
به راحلته) وثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال (لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل حتى تنبعث
به راحلته) وفى الصحيحين عن ابن عمر أيضا (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أدخل رجله
في الغرز واستوت به ناقته أهل من مسجد ذي الحليفة) الغرز بفتح الغين المعجمة وإسكان الراء
وبعدها زاي ركاب وكان كور البعير إذا كان من جلد أو خشب فإن كان من حديد فهو ركاب وقيل
يسمى غرزا من أي شئ كان * وثبت في الصحيحين عن ابن عمر أيضا (أن رسول الله صلى الله عليه
216

وسلم أهل حين استوت به راحلته قائمة) وثبت في صحيح البخاري عن أنس (أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم بات بذي الحليفة فلما أصبح واستوت راحلته أهل) وعن ابن عباس (أن النبي صلى الله عليه
وسلم
صلي الظهر بذي الحليفة ثم ركب راحلته فلما استوت به على البيداء أهل بالحج) رواه مسلم فهذه
أحاديث صحيحة قاطعة بترجح الاحرام عند ابتداء السير والله أعلم * ومن قال بترجح الاحرام
عقب الصلاة احتج بحديث ابن عباس السابق وقد أشار ابن عباس في رواية له رواها البيهقي
باسناده عن محمد بن إسحاق عن حصيف عن سعد بن جبير قال (قلت لابن عباس عجبت لاختلاف
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب فقال
إني لأعلم الناس بذلك انها إنما كانت حجة واحدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن هناك اختلفوا (خرج
رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجا فلما صلي في مسجده بذي الحليفة ركعتيه أوجبه في مجلسه أهل بالحج حين
فرغ من ركعتيه فسمع ذلك منه أقوام فحفظته عنه ثم ركب فلما استقلت به ناقته أهل وأدرك
ذلك منه أقوام وذلك أن الناس كانوا يأتون ارسالا فسمعوه حين استقلت به ناقته يهل فقالوا إنما
أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين استقلت به ناقته ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما علا على شرف البيداء
أهل وأدرك ذلك منه أقوام فقالوا أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين علا على شرف البيداء وأيم الله لقد
أوجب في مصلاه وأهل حين استقلت به ناقته وأهل حين علا شرف البيداء) قال البيهقي حصيف
غير قوى وقد سبق قريبا ذكر الاختلاف فيه والله أعلم (أما) أحكام الفصل ففيه مسائل (إحداها)
السنة أن يحرم في إزار ورداء ونعلين هذا مجمع على استحبابه كما سبق في كلام ابن المنذر وفى أي
شئ أحرم جاز إلا الخف ونحوه والمحيط كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى قال أصحابنا ويستحب
كون الإزار والرداء أبيضين لما ذكره المصنف قال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي وصاحب
البيان وآخرون من الطريقتين الثواب الجديد في هذا أفظل من المغسول قالوا فإن لم يكن جديد فمغسول
(وأما) قول المصنف جديدين ونظيفين فقد يوهم انهما سواء في الفضيلة ولكن يحمل كلامه على موافقة
الأصحاب وتقدير كلامه جديدين وإلا نظيفين * قال أصحابنا ويكره له الثوب المصبوغ وقد ذكره المصنف في
217

آخر هذا الباب وهناك ينبسط الكلام فيه بادلته إن شاء الله تعالى (الثانية) يستحب أن يتطيب في بدنه عند
إرادة الاحرام سواء الطيب الذي يبقى له جرم بعد الاحرام والذي لا يبقى وسواء الرجل والمرأة هذا
هو المذهب وبه قطع جماهير الأصحاب في جميع الطرق * وحكى الرافعي وجها أو التطيب مباح
لا مستحب * وحكى القاضي أبو الطيب وآخرون قولا أنه لا يستحب للنساء التطيب بحال * وحكي
القاضي أبو الطيب وآخرون وجها أنه يحرم عليهن التطيب بما يبقي عينه * وحكى صاحب البيان
وغيره وجها في تحريم ما يبقي عينه على الرجل والمرأة وليس بشئ والصواب استحبابه مطلقا *
قال القاضي أبو الطيب هذا هو المنصوص للشافعي في كتبه قال وبه قطع عامة الأصحاب * وسنبسط
أدلته في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى * قال أصحابنا وسواء في استحبابه المرأة الشابة
والعجوز وقالوا والفرق بينه وبين الجمعة فإنه يكره للنساء الخروج إليها متطيبات لان مكان
الجمعة يضيق وكذلك وقتها فلا يمكنها اجتناب الرجال بخلاف النسك * قال أصحابنا فإذا تطيب
فله استدامته بعد الاحرام بخلاف المرأة إذا تطيبت ثم لزمتها عدة يلزمها إزالة الطيب في أحد الوجهين
لأن العدة حق آدمي فالمضايقة فيه أكثر * ولو أخذ طيبا من موضعه بعد الاحرام ورده إليه أو إلى
موضع آخر لزمته الفدية على المذهب وبه قطع الأكثرون وقيل فيه قولان * ولو أنتقل الطيب من
موضع إلى موضع بالعرق فوجهان (أصحهما) لا شئ عليه لأنه تولد من مباح (والثاني) عليه الفدية
إن تركه لخروجه عن محل الاذن لأنه حصل بغير اختياره فصار كالناسي ولان حصوله هناك تولد من
فعله فهذا الوجه ضعيف عن الأصحاب * ولو مسه بيده عمدا فعليه الفدية ويكون مستعملا للطيب
ابتداء (الثالثة) اتفق أصحابنا على أنه لا يستحب تطيب ثوب المحرم عند إرادة الاحرام وفى
جواز تطيبه طريقان (أصحهما) وبه قطع المصنف والعراقيون جوازه فإذا طيبه ولبسه ثم أحرم
واستدام لبسه جاز ولا فدية فان نزعه ثم لبسه لزمه الفدية لأنه لبس ثوبا مطيبا بعد إحرامه (والطريق
الثاني) طريقة الخراسانيين فيه ثلاثة أوجه (أصحها) الجواز كما سبق قياسا على البدن (والثاني)
التحريم لأنه يبقى على الثوب ولا يستهلك ويلبسه أيضا بعد نزعه فيكون مستأنفا للطيب في الاحرام
(والثالث) يجوز بما لا يبقى له جرم ولا يجوز بغيره قالوا فان قلنا يجوز فنزعه ثم لبسه ففي وجوب
الفدية وجهان (أصحهما) عند البغوي وغيره الوجوب كما لو أخذ الطيب من بدنه ثم رده إليه (والثاني)
218

لا فدية لان العادة في الثوب النزع واللبس فصار معفوا عنه * وحكي المتولي في طيب الثياب قولين
(أحدهما) يستحب كما يستحب في البدن (والثاني) أنه محرم وهذا الذي ذكره من الاستحباب
غريب جدا هذا كله في تطيب ثياب الاحرام (أما) إذا طيب البدن فتعطر ثوبه فلا خلاف أنه
ليس بحرام وأنه لا فدية عليه والله أعلم *
(فرع) قال الشافعي في الأم والمختصر أحب للمرأة أن تخضب للاحرام واتفق الأصحاب
على استحباب الخضاب لها قال أصحابنا وسواء كان لها زوج أم لا لان هذا مستحب بسبب
الاحرام فلا فرق بينهما (فاما) إذا كانت تريد الاحرام فإن كان لها زوج استحب لها الخضاب
في كل وقت لأنه زينة وجمال وهي مندوبة إلى الزينة والتجمل لزوجها كل وقت وإن كانت غير
ذات زوج ولم ترد الاحرام كره لها الخضاب من غير عذر لأنه يخاف به الفتنة عليها وعلى غيرها
بها وهذا كله متفق عليه عند أصحابنا وسواء في استحباب الخضاب عند الاحرام العجوز والشابة
كما سبق في التطيب * قال أصحابنا وحيث اختضبت تخضب يديها إلى الكوعين ولا تزيد عليه
لان ذلك القدر هو الذي يظهر منها * قال أصحابنا وتخضب الكفين تعميما ولا تطوف الأصابع
ولا تنقش ولا تسود وقد سبق بيان هذا في باب طهارة البدن * واتفق أصحابنا على أن الرجل
منهى عن الخضاب قالوا وكذلك الخنثى المشكل والله أعلم * قال أصحابنا ويستحب للمرأة عند
الاحرام أن تمسح وجهها أيضا بشئ من الحناء قال والحكمة في ذلك وفى خضاب كفها
أن يستر لون البشرة لأنها تؤمر بكشف الوجه وقد ينكشف الكفان أيضا * قال
أصحابنا ولان الحناء من زينة النساء فاستحب عند الاحرام كالطيب وترجيل الشعر وقد
ثبت في الصحيحين عن عائشة قالت (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم دعى عمرتك وانقضى
رأسك وامتشطي وأهلي بالحج) وروى أبو داود في سننه باسناده عن عائشة قالت (كنا نخرج
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك المطيب عند الاحرام فإذا عرقت إحدانا
سالت على وجهها فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينهانا) هذا حديث حسن رواه أبو داود باسناد حسن *
قال أصحابنا ويكره للمرأة الخضاب بعد الاحرام لأنه من الزينة وهي مكروهة للمحرم لأنه أشعث
أغبر * قال أصحابنا فإذا اختضبت في الاحرام فلا فدية لان الحناء ليس بطيب عندنا فان اختضبت
219

ولفت على يديها الخرق قال الشافعي في الأم رأيت أن تفتدي وقال في الاملاء لا يبين لي أن عليها
الفدية * قال القاضي أبو الطيب وصاحب الشامل والأصحاب هذا الاختلاف من قول الشافعي مع
تحريمه القفاز من هذين الكتابين يدل على أن قوله مختلف في سبب تحريم القفازين فالموضع
الذي أوجب فيه الفدية في الخرقة الملفوفة يدل على أن تحريم القفازين إنما كان لان إحرام المرأة
يتعلق بوجهها وكفيها وإنما جوز لها ستر كفيها بكميها للحاجة إلى ذلك ولأنه لا يمكن الاحتراز
من ذلك * ودليل ذلك أن الكفين ليسا عورة فوجب كشفهما منها كالوجه قالوا والموضع الذي
لم يوجب فيه الفدية في الخرق يدل على أنه إنما حرم القفازين لأنهما معمولان على قدر الكفين كما
يحرم على الرجل الخفان * ودليل هذا أنه لما تعلق احرامها بعضو تعلق تحريم المحيط بغيره كالرجل
ولا يرد على هذا سائر بدنها لأنه عورة هذا نقل القاضي أبي الطيب وصاحب الشامل والأكثرين
ولم يحك الشيخ أبو حامد نصه في الاملاء وإنما حكي نصه في الأم قال إن لم يشد الخرقة فلا فدية
والا فقولان كالقفازين وقطع آخرون بان لف الخرق على يديها مع الحناء أو دونه لا فدية فيه * والحاصل
ثلاث طرق (المذهب) أن لف الخرق مع الحناء وغيره على يدي المرأة لا فدية فيه (والثاني) في وجوبها
قولان (والثالث) ان لم تشدها لا فدية والا فقولان وسنعيد المسألة في فصل تحريم اللباس من هذا
الباب إن شاء الله تعالى (الرابعة) قال أصحابنا يستحب أن يتأهب للاحرام مع ما سبق بحلق
العانة ونتف الإبط وقص الشارب وقلم الأظفار وغسل الرأس بدر أو خطمي ونحوهما وعجب
كون المصنف أهمل هذا في المذهب مع أنه ذكره في التنبيه ومع أنه مشهور في كتب المذهب
ويستحب أن يلبد رأسه بصمغ أو خطمي أو عسل ونحوها والتلبيد أن يجعل في رأسه شيئا من صمغ ونحوه
ليتلبد شعره فلا يتولد فيه القمل ولا يتشعث في مدة الاحرام * ودليل استحبابه الأحاديث الصحيحة
المشهورة في ذلك (منها) حديث ابن عمر قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يهلل ملبدا)
رواه البخاري ومسلم وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم الذي خر من بعيره ميتا
(اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تمسوه بطيب ولا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبدا)
220

رواه البخاري ومسلم هكذا (ملبدا) فأما البخاري فرواه هكذا في رواية له في كتاب الجنائز ورواه
مسلم في كتاب الحج هكذا من طرق ورويناه من أكثر الطرق (ملبيا) ولا مخالفة وكلاهما صحيح وعن
حفصة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أزواجه أن يحللن عام حجة الوداع قالت فقلت ما يمنعك أن تحل
فقال إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر هديي) رواه البخاري ومسلم (الخامسة) يستحب
أن يصلي ركعتين عند إرادة الاحرام وهذه الصلاة مجمع على استحبابها قال القاضي حسين والبغوي
والمتولي والرافعي وآخرون لو كان في وقت فريضة فصلاها كفى عن ركعتي الاحرام كتحية
المسجد وتندرج في الفريضة وفيما قالوه نظر لأنها سنة مقصودة فينبغي أن لا تندرج كسنة الصبح
وغيرها قال أصحابنا فإن كان في الميقات مسجدا استحب أن يصليها فيه ويستحب أن يقرأ فيهما بعد
الفاتحة في الأولى (قل يا أيها الكافرون) وفى الثانية (قل هو الله أحد (فإن كان إحرامه في وقت من
الأوقات التي نهى عن الصلاة فيها فالأولى انتظار زوال وقت الكراهة ثم يصليها فإن لم يمكنه
الانتظار فوجهان (المشهور) الذي قطع به الجمهور تكره الصلاة ولا يكون الاحرام سببا لأنه متأخر
وقد لا يقع فكرهت الصلاة كصلاة الاستخارة والاستسقاء (والثاني) لا يكره حكاه البغوي وغيره
وقطع به البندنيجي لان سببها إرادة الاحرام وقد وجدت وقد سبق بيان المسألة في باب الساعات
التي نهى عن الاحرام فيها والله أعلم (السادسة) هل الأفضل أن يحرم عقب صلاة الاحرام وهو
جالس أم إذا انبعثت به راحلته متوجهة إلى مقصده حين ابتداء السير فيه قولان وهما مشهوران
ذكرهما المصنف بدليلهما (القديم) عقب الصلاة (والأصح) نصه في الأم أن الأفضل حين تنبعث به
دابته إلى جهة مكة إن كان راكبا أو حين يتوجه إلى الطريق إن كان ماشيا قال أصحابنا
وعلى القولين يستحب استقبال الكعبة عند الاحرام لحديث ابن عمر في صحيح البخاري وغيره
المصرح بذلك والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في الطيب عند إرادة الاحرام * قد ذكرنا أن مذهبنا استحبابه وبه
قال جمهور العلماء من السلف والخلف والمحدثين والفقهاء منهم سعد بن أبي وقاص وابن عباس
221

وابن الزبير ومعاوية وعائشة وأم حبيبة وأبو حنيفة والثوري وأبو يوسف وأحمد واسحق وأبو ثور
وابن المنذر وداود وغيرهم * وقال عطاء والزهري ومالك ومحمد بن الحسن يكره قال القاضي عياض
حكى أيضا عن جماعة من الصحابة والتابعين واحتج لهم بحديث يعلي بن أمية قال (كنا عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأتاه رجل وهو بالجعرانة وعليه جبة وعليه أثر الحلوق فقال يا رسول الله كيف
تأمرني أن أصنع في عمرتي فقال النبي صلى الله عليه وسلم اخلع عنك هذه الجبة واغسل عنك أثر
الخلوق واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك) رواه البخاري ومسلم قالوا ولأنه في معنى المتطيب
بعد احرامه يمنع منه * واحتج أصحابنا بحديثي عائشة رضي الله عنها السابقين وهما صحيحان رواهما
البخاري ومسلم كما سبق ولان الطيب معنى يراد للاستدامة فلم يمنع الاحرام من استدامته كالنكاح
(والجواب) عن حديث يعلى مأوجه (أحدها) أن هذا الحلوق كان في الجبة لا في البدن والرجل
منهي عن التزعفر في كل الأحوال قال أصحابنا ويستوى في النهى عن المزعفر الرجل الحلال
والمحرم وقد سبق بيانه واضحا في باب ما يكره لبسه (الجواب الثاني) أن خبرهم متقدم وخبرنا
متأخر فكان العمل على المتأخر وإنما قلنا ذلك لان خبرهم بالجعرانة كان عقب فتح مكة سنة ثمان
من الهجرة وخبرنا كان عام حجة الوداع بلا شك وحجة الوداع كانت سنة عشر من الهجرة
وإنما قلنا إنه كان عام حجة الوداع لأنه صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد الهجرة غيرها بالاجماع (فان
قيل) فلعل عائشة أرادت بقولها (أطيبه لاحرامه) أي إحرامه للعمرة (قلنا) هذا غلط وغباوة ظاهرة
وجهالة بينة لأنها قالت (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحرامه حين يحرم ولحله قبل أن يطوف
بالبيت) ولا خلاف أن الطيب يحرم على المعتمر قبل الطواف وبعده حتى تفرغ عمرته وإنما يباح
الطيب قبل طواف الزيارة في الحج فتعين ما قلناه (الجواب الثالث) انه يحتمل انه استعمل الطيب
بعد إحرامه فأمر بإزالته وفى هذا الجواب جمع بين الأحاديث فيتعين المصير إليه (وأما) قولهم هو
في معنى المتطيب بعد إحرامه فيبطل بعد إحرامه فيبطل عليهم بالنكاح والله أعلم * واعلم أن القاضي
عياضا وغيره ممن يقول بكراهة الطيب تأولوا حديث عائشة على أنه تطيب ثم اغتسل بعده فذهب
222

الطيب قبل الاحرام قالوا ويزيد هذا قولها في الرواية الأخرى (طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم
عند إحرامه ثم طاف على نسائه ثم أصبح محرما) هكذا ثبت في رواية لمسلم فظاهره انه إنما تطيب
لمباشرة نسائه ثم زال بالغسل بعده لا سيما وقد نقل انه كان يتطهر من كل واحدة قبل الأخرى
ولا يبقى مع ذلك طيب ويكون قولها) ثم أصبح ينضخ طيبا) كما ثبت في رواية لمسلم أي أصبح ينضخ
طيبا قبل غسله وقد ثبت في رواية لمسلم أن ذلك الطيب كان ذريرة وهي مما يذهبه الغسل قالوا
وقولها (كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم) المراد أثره لا جرمه هذا
اعتراضهم والصواب ما قاله الجمهور من استحباب الطيب للاحرام لقولها (طيبته لاحرامه) وهذا
ظاهر في أن التطيب للاحرام لا للنساء ويعضده قولها) كأني انظر إلى وبيص الطيب) وتأويلهم
المذكر غير مقبول لمخالفته الظاهر بغير دليل يحملنا عليه والله أعلم *
(فرع) في مذاهبهم في الوقت المستحب للاحرام * قد ذكرنا ان الأصح عندنا انه يستحب
احرامه عند ابتداء السير وانبعاث الراحلة وبه قال مالك والجمهور من السلف والخلف * وقال
أبو حنيفة وأحمد وداود إذا فرغ من الصلاة وقد سبقت الأحاديث الدالة للمذهبين واضحة والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(وينوى الاحرام ولا يصح الاحرام إلا بالنية لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) ولأنه
عبادة محضة فلم يصح من غير نية كالصوم والصلاة ويلبي لنقل الخلف عن السلف فان اقتصر على النية
ولم يلب أجزأه وقال أبو عبد الله الزبيري لا ينعقد إلا بالنية والتلبية كما لا تنعقد الصلاة الا بالنية
والتكبير والمذهب الأول لأنها عبادة لا يجب النطق في آخرها فلم يجب في أولها كالصوم) *
(الشرح) حديث (إنما الأعمال بالنيات) رواه البخاري ومسلم من رواية عمر ابن الخطاب
رضي الله عنه وسبق بيانه واضحا في أول باب نية الوضوء (وقوله) عبادة محضة احتراز من الاذان والعدة
ونحوهما والسلف الصدر الأول والخلف من بعدهم وسبق بيانه في باب صفة الصلاة وأبو عبد الله
الزبيري من أصحابنا المتقدمين سبق بيان حاله في باب الحيض (وقوله) لا يجب النطق في آخرها احتراز
223

من الصلاة (أما) الأحكام فقال أصحابنا ينبغي لمريد الاحرام أن ينويه بقلبه ويتلفظ بذلك بلسانه
ويلبى فيقول بقلبه ولسانه نويت الحج وأحرمت به لله تعالى لبيك اللهم لبيك إلى آخر التلبية فهذا
أكمل ما ينبغي له فالاحرام هو النية بالقلب وهي قصد الدخول في الحج أو العمرة أو كليهما هكذا صرح
به البندنيجي والأصحاب (وأما) اللفظ بذلك فمستحب لتوكيد ما في القلب كما سبق في نية الصلاة
ونية الوضوء فان اقتصر على اللفظ دون القلب لم يصح احرامه وان اقتصر على القلب دون لفظ
اللسان صح احرامه كما سبق هناك (أما) إذا لبي ولم ينو فنص الشافعي في رواية الربيع أنه يلزمه
ما لبي به وقال الشافعي في مختصر المزني وان لم يرد حجا ولا عمرة فليس بشئ وللأصحاب طريقان
(المذهب) القطع بأنه لا ينعقد احرامه وتأولوا رواية الربيع على من أحرم مطلقا ثم تلفظ بنسك معين
ولم ينوه فيجعل لفظه تعيينا للاحرام المطلق وبهذا الطريق قطع الجمهور (والطريق الثاني) حكاه
امام الحرمين ومتابعوه أن المسألة على قولين (أصحهما) لا ينعقد احرامه (والثاني) ينعقد ويلزمه
ما سمى لأنه التزمه بالتسمية قالوا وعلى هذا لو أطلق التلبية انعقد الاحرام مطلقا يصرفه إلى ما شاء من
حج أو عمرة أو قران وهذا القول ضعيف جدا بل غلط قال امام الحرمين لا أعرف له وجها قال
فان تكلف له متكلف وقال من ضرورة تجريد القصد إلى التلبية مع انتفاء سائر المقاصد سوى
الاحرام ان يجزى في الضمير قصد الاحرام (قلنا) هذا ليس بشئ لأنه إذا فرض هذا فهو احرام
بنية ولا خلاف في انعقاد الاحرام بالنية (قلت) والتأويل المذكور أولا ضعيف جدا لأنا سنذكر
قريبا إن شاء الله تعالى ان الاحرام المطلق لا يصح صرفه الا بنية (واعلم) أن نصه في مختصر المزني
محتاج إلى قيد آخر ومعناه لم يرد حجا ولا عمرة ولا أصل الاحرام والله أعلم * هذا كله إذا لبى ولم
ينو فلو نوى ولم يلب ففيه أربعة أوجه أو أقوال (الصحيح) المشهور من نصوص الشافعي وبه قطع
جمهور أصحابنا المتقدمين والمتأخرين ينعقد احرامه (والثاني) لا ينعقد وهو قول أبي عبد الله
الزبير وأبي علي بن خيران وأبي علي بن أبي هريرة وأبي العباس بن القاص وحكاه امام الحرمين
وغيره قولا قديما (والثالث) حكاه الشيخ أبو محمد الجويني وغيره قولا للشافعي انه لا ينعقد الا بالتلبية
224

أو سوق الهدى وتقليده والتوجه معه (والرابع) حكاه الحناطي وغيره قولا للشافعي ان التلبية
واجبة وليست بشرط للانعقاد فان نوى ولم يلب انعقد وأثم ولزمه دم والمذهب الأول فعلى المذهب
قال الشافعي والأصحاب الاعتبار بالنية فلو لبي بحج ونوى عمرة فهو معتمر وان لبي بعمرة ونوى
حجا فهو حاج وان لبي بأحدهما ونوى القران فقارن ولو لبي بهما ونوى أحدهما انعقد ما نوى فقط
وقد سبق هذا مع نظائره في نية الوضوء *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور أن الاحرام ينعقد بالنية دون التلبية ولا ينعقد بالتلبية
بلا نية * وقال داود وجماعة من أهل الظاهر ينعقد بمجرد التلبية قال داود ولا تكفى النية بل لا بد
من التلبية ورفع الصوت بها * وقال أبو حنيفة لا ينعقد الاحرام الا بالنية مع التلبية أو مع سوق
الهدى * واحتج لهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لبي وقال صلى الله عليه وسلم (لتأخذوا عني مناسككم) * واحتج داود لوجوب
رفع الصوت بالتلبية بحديث جلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أتاني
جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالاهلال أو قال بالتلبية) رواه
أحمد بن حنبل وأبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجة وغيرهم بأسانيد صحيحة قال الترمذي
هو حديث حسن صحيح وهذا لفظ أبي داود ولفظ النسائي (جاءني جبريل فقال لي يا محمد مر
أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية) واستدل أصحابنا بما ذكره المصنف وحملوا أحاديث التلبية
على الاستحباب والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وله أن يعين ما يحرم به من الحج أو العمرة لان النبي صلى الله عليه وسلم أهل بالحج فان أهل بنسك
ونوي غيره انعقد ما نواه لأن النية بالقلب وله أن يحرم إحراما مبهما لما روى أبو موسى الأشعري
رضي الله عنه قال (قدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فقال كيف أهللت قال قلت لبيك باهلال كاهلال النبي
صلى الله عليه وسلم فقال أحسنت) وفى الأفضل قولان (قال) في الأم التعيين أفضل لأنه إذا عين عرف
225

ما دخل فيه (والثاني) أن الابهام أفضل لأنه أحوط فإنه ربما عرض مرض أو إحصار فيصرفه إلى ما هو
أسهل عليه * وإن عين انعقد ما عينه والأفضل ان لا يذكر ما أحرم به في تلبيته على المنصوص لما
روى نافع قال (سئل ابن عمر أيسمي أحدنا حجا أو عمرة فقال أتنبئون الله بما في قلوبكم إنما هي نية
أحدكم) ومن أصحابنا من قال الأفضل أن ينطق به لما روي انس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
(لبيك بحجة وعمرة) ولأنه إذا نطق به كان أبعد من السهو فان ابهم الاحرام جاز ان يصرفه إلى
ما شاء من حج أو عمرة لأنه يصلح لهما فصرفه إلى ما شاء منهما) *
(الشرح) حديث أبي موسي رواه البخاري ومسلم والأثر المذكور عن ابن عمر صحيح
رواه البيهقي باسناد صحيح (واما) حديث انس وحديث إحرام النبي صلى الله عليه وسلم
بحج فصحيحان سبق بيانهما في مسألة الافراد والتمتع والقران وذكر الجمع بينهما (وقد) ينكر على
المصنف احتجاجه بحديث أبي موسى لجواز اطلاق الاحرام فإنه ليس فيه إطلاق وإبهام وإنما فيه
تعليق إحرامه باحرام غيره وهي المسألة التي ذكرها المصنف بعد هذه (ويجاب) عنه بأنه يحصل به
الدلالة لأنه إذا دل بجواز التعليق مع ما فيه من الغرر ومخالفة القواعد فالاطلاق أولى والله أعلم *
(أما) الأحكام ففيه مسائل (إحداها) للاحرام حالان (أحدهما) أن ينعقد معينا بان ينوى الحج
أو العمرة أو كليهما فينعقد ما ينوى لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما الأعمال بالنيات) فلوا أحرم بحجتين أو عمرتين
انعقدت إحداهما فقط ولم تلزمه الأخرى وقد سبقت المسألة وذكرنا مذهب أبي حنيفة فيها في
الباب الأول (الثاني) أن ينعقد مطلقا ويسمي المطلق مبهما كما نوى ثم ينظر فان أحرم في أشهر الحج
فله صرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة أو قران ويكون الصرف بالنية لا باللفظ ولا يجزئه العمل
قبل النية فلو طاف أو سعى لم يعتد به قبل النية وان أحرم قبل الشهر فان صرفه إلى العمرة جاز
وإن صرفه إلى الحج بعد دخول الأشهر فوجهان (الصحيح) لا يجوز بل انعقد احرامه عمرة
(والثاني) يجوز صرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة أو قران وعلى هذا يكون احرامه قد وقع مطلقا
226

(أما) إذا صرفه إلى الحج قبل الأشهر فهو كمن أحرم بالحج قبل الأشهر وقد سبق بيانه (المسألة
الثانية) هل الأفضل اطلاق الاحرام أو تعيينه فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما)
نصه في الأم أن التعيين أفضل (والثاني) نصه في الاملاء أن الاطلاق أفضل * فعلى الأول هل يستحب التلفظ
في تلبيته بما عينه بأن يقول لبيك اللهم بحج أو لبيك اللهم بعمرة أو بحج وعمرة فيه وجهان مشهوران ذكرهما
المصنف بدليلهما (أصحهما) لا يستحب بل يقتصر على النية والتلبية وهذا هو المنصوص كما ذكره
المصنف وصححه الأصحاب هكذا أطلق الجمهور المسألة وقال الشيخ أبو محمد الجويني هذا الخلاف
فيما سوى التلبية الأولى فأما الأولى التي عند ابتداء الاحرام فيستحب أن يسمى فيها ما أحرم به
من حج أو عمرة وجها واحدا قال ولا يجهر بهذه التلبية بل يسمعها نفسه بخلاف ما بعدها فإنه يجهر
(المسألة الثالثة) إذا نوى بقلبه حجا ولبى بعمرة أو عكسه انعقد ما في قلبه دون لسانه وقد سبقت
المسألة قريبا بفروعها واضحة
* قال المصنف رحمه الله *
(فان قال اهلالا كاهلال فلان انعقد إحرامه بما عقد به فلان إحرامه فان مات الرجل الذي
علق اهلاله باهلاله أو جن ولم يعلم ما أهل به يلزمه أن يقرن ليسقط ما لزمه بيقين فان بان أن فلانا
لم يحرم انعقد إحراما مطلقا فيصرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة لأنه عقد الاحرام وإنما علق
عين النسك على إحرام فلان فإذا سقط إحرام فلان بقي إحرامه مطلقا فيصرفه إلى ما شاء من
حج أو عمرة) *
(الشرح) قال أصحابنا إذا أحرم عمرو بما أحرم به زيد جاز بلا خلاف لحديث أبي موسى
الأشعري السابق ثم لزيد أحوال أربعة (أحدها) أن يكون محرما ويمكن معرفة ما أحرم به فينعقد
لعمرو مثل إحرامه إن كان حجا فحج وإن كان عمرة فعمرة وإن كان قرانا فقران وإن كان زيد
أحرم بعمرة بنية التمتع كان عمرو محرما بعمرة ولا يلزمه التمتع وإن كان إحرام زيد مطلقا انعقد
إحرام عمرو مطلقا ويتخير كما يتخير زيد ولا يلزمه الصرف إلى ما يصرف إليه زيد * هذا هو المذهب
227

وبه قطع الجمهور وحكي (1) والرافعي وجها أنه تلزمه موافقته في الصرف والصواب الأول (1)
قال البغوي الا إذا أراد احراما كاحرام زيد بعد تعيينه فيلزمه (أما) إذا كان احرام زيد فاسدا
فوجهان (أحدهما) لا ينعقد احرام عمرو لان الفاسد لاغ (وأصحهما) انعقاده قال القاضي أبو الطيب
وهذان الوجهان كالوجهين فيمن نذر صلاة فاسدة هل ينعقد نذره بصلاة صحيحة أم لا ينعقد
والصحيح لا ينعقد نذره (أما) إذا كان زيد أحرم مطلقا ثم عينه قبل احرام عمرو فوجهان
(أصحهما) ينعقد احرام عمرو مطلقا (والثاني) معينا وبه قال ابن القفال ويجرى الوجهان فيما لو أحرم
زيد بعمرة ثم أدخل عليها الحج فعلى الأول يكون عمرو معتمرا وعلى الثاني قارنا (والوجهان) فيما
إذا لم يخطر التشبيه باحرام زيد في الحال ولا في أوله فان خطر التشبيه باحرام زيد في الحال فالاعتبار
بما خطر بلا خلاف * ولو اخبره زيد بما أحرم به ووقع في نفسه خلافه فهل يعمل بخبره أم بما وقع
في نفسه فيه وجهان حكاهما الدارمي (أقيسهما) بخبره * ولو قال له أحرمت بالعمرة فعمل بقوله فبان
انه كان محرما بالحج فقد بان ان احرام عمرو كان منعقدا بحج فان فات الوقت تحلل وأراق دما
وهل الدم في ماله أم في مال زيد فيه وجهان (الأصح) في ماله * ممن حكى الوجهين الدارمي والرافعي
(والحال الثاني) ان لا يكون زيد محرما أصلا فينظر إن كان عمرو جاهلا به انعقد احرامه مطلقا لأنه
جزم بالاحرام وإن كان عمرو عالما بأنه غير محرم بان علم موته فطريقان (المذهب) والمنصوص الذي
قطع به الجمهور انعقاد احرام عمرو مطلقا (والثاني) على وجهين (أصحهما) هذا (والثاني) لا ينعقد
أصلا حكاه الدارمي عن ابن القفال وحكاه آخرون كما لو قال إن كان زيد محرما فقد أحرمت فلم
يكن محرما (والصواب) الأول * ويخالف قوله إن كان زيد محرما فإنه تعليق لأصل الاحرام فلهذا
يقول إن كان زيد محرما فهذا المعلق والا فلا (واما) ههنا فاصل الاحرام مجزوم به * قال الرافعي
228

واحتجوا للمذهب بصورتين نص عليهما في الأم (إحداهما) لو استأجره رجلان ليحج عنهما فأحرم
عنهما لم ينعقد عن واحد منهما وانعقد عن الأجير لان الجمع بينهما متعذر فلغت الإضافة وسواء كانت
الإجارة في الذمة أم على العين لأنه وإن كان إحدى إجارتي العين فاسدة الا ان الاحرام عن غيره
لا يتوقف على صحة الإجارة (الصورة الثانية) لو استأجر رجل ليحج عنه فأحرم عن نفسه وعن
المستأجر لغت الإضافتان وبقي الاحرام للأجير فلما لغت الإضافة في الصورتين وبقى أصل الاحرام
جاز ان يلغوها التشبيه ويبقى أصل الاحرام (الحال الثالث) أن يكون زيد محرما وتتعذر مراجعته
لجنون أو موت أو غيبة ولهذه المسألة مقدمة وهي ان أحرم بأحد النسكين ثم نسيه (قال) في القديم
أحب ان يقرن وان تحرى رجوت ان يجزئه (وقال) في الجديد هو قارن وللأصحاب فيه طريقان
(أحدهما) القطع بجوز التحري وتأويل الجديد على ما إذا شك هل أحرم بأحد النسكين أم قرن
(وأصحهما) وبه قطع الجمهور ان المسألة على (قولين) القديم جواز التحري ويعمل بظنه والجديد
لا يجوز التحري بل يتعين أن يصير نفسه قارنا كما سنوضحه إن شاء الله تعالى * فإذا تعذر معرفة
احرام زيد فطريقان (أحدهما) يكون عمرو كمن نسي ما أحرم به وفيه الطريقان وبهذا الطريق قطع
الدارمي (والطريق الثاني) وهو المذهب وبه قطع الجمهور من العراقيين وغيرهم لا يتحرى بحال بل
يلزمه القران وحكوه عن نصه في القديم وليس في الجديد ما يخالفه والفرق أن الشك في مسألة
النسيان وقع عن فعله فلا سبيل إلى التحري بخلاف احرام زيد *
(فرع) هذا الذي ذكرناه من الأحوال الثلاثة لزيد هو فيما إذا أحرم عمرو في الحال باحرام
كاحرام زيد أما إذا علق احرامه فقال إذا أحرم زيد فأنا محرم فلا يصح احرامه كما لو قال إذا جاء
رأس الشهر فأنا محرم هكذا نقله البغوي وآخرون وذكره ابن القطان والدارمي والشاشي في المعتمد
في صحة الاحرام المعلق بطلوع الشمس ونحوه وجهين قال ابن القطان والدارمي (أصحهما) لا ينعقد
229

قال الرافعي وقياس تجويز تعليق أصل الاحرام باحرام الغير تجويز هذا لان التعليق موجود في
الحالين الا أن هذا تعليق بمستقبل وذاك تعليق بحاضر وما يقبل التعليق من العقود يقبلهما جميعا
والله أعلم * قال الروياني في البحر لو قال أحرمت كاحرام زيد وعمرو فإن كانا محرمين بنسك متفق
كان كأحدهما وإن كان أحدهما بعمرة والآخر بحج كان هذا المعلق قارنا وكذا إن كان أحدهما قارنا
قال فلو قال كاحرام زيد الكافر وكان الكافر قد أتى بصورة احرام فهل ينعقد له ما أحرم به
الكافر أم ينعقد مطلقا فيه وجهان وهذا الذي حكاه ضعيف أو غلط بل الصواب انعقاده مطلقا *
قال الروياني قال أصحابنا لو قال أحرمت يوما أو يومين انعقد مطلقا كالطلاق * ولو قال أحرمت
بنصف نسك انعقد بنسك كالطلاق وفيما نقله نظر وينبغي أن لا ينعقد لأنه من باب العبادات
والنية الجارية الكاملة شرط فيها بخلاف الطلاق فإنه مبني على الغلبة والسراية ويقبل الاخطار ويدخله
التعليق والله أعلم *
(فرع) إذا أحرم عمرو كاحرام زيد فأحصر زيد وتحلل لم يجز لعمرو أن يتحلل بمجرد ذلك
بل إن وجد عمرو في احصار أو غيره مما يبيح له التحلل والا فلا ولو ارتكب زيد محظورا
في احرامه فلا شئ على عمرو بذلك *
(فرع) إذا أحرم بحج أو عمرة وقال في نيته إن شاء الله قال الدارمي قال القاضي أبو حامد
ينعقد احرامه هذا نقل الدارمي والصواب أن الحكم فيه كما سبق في كتاب الصوم فيمن نوى
الصوم وقال إن شاء الله وقد ذكر القاضي أبو الطيب في تعليقه المسألة هنا فقال لو قال أنا محرم إن شاء الله
قال القاضي أبو حامد ينعقد إحرامه في الحال ولا يؤثر فيه الاستثناء قال فقيل له أليس لو قال
230

لعبده أنت حر إن شاء الله صح استثناؤه فيه فقال الفرق أن الاستثناء يؤثر في النطق ولا يؤثر
في النيات والعتق ينعقد بالنطق ولذلك أثر الاستثناء فيه والاحرام ينعقد بالنية فلم يؤثر الاستثناء فيه
فقيل له أليس لو قال لزوجته أنت خلية إن شاء الله ونوى الطلاق أثر الاستثناء فيه فقال الفرق ان
الكناية مع النية في الطلاق كالصريح فلهذا صح الاستثناء فيه والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(وان أحرم بحجتين أو عمرتين لم ينعقد الاحرام بهما لأنه لا يمكن المضي فيهما وتنعقد إحداهما
لأنه يمكنه المضي في إحداهما قال في الأم ولو استأجره رجلان ليحج عنهما فأحرم عنهما انعقد
احرامه عن نفسه لأنه لا يمكن الجمع بينهما ولا تقديم أحدهما على الآخر فتعارضا وسقطا وبقى احرام
مطلق فانعقد له ولو استأجره رجل ليحج عنه فأحرم عنه وعن نفسه انعقد الاحرام عن نفسه لأنه
تعارض التعيينان فسقطا وبقي احرام مطلق فانعقد له) *
(الشرح) هذه المسائل صحيحة ذكرها الشافعي والأصحاب كما ذكرها المصنف وقد سبق
بيان مسألة الاحرام بحجتين أو عمرتين في الباب الأول في مسألة لا يجوز الاحرام بالحج الا في
أشهره وذكرنا بعدها تعليل مذاهب العلماء فيهما (وأما) مسألتا الأجير فسبقتا قريبا في الحال الثاني
من الأحوال الثلاث التي في تعليق الاحرام باحرام زيد وسبقتا أيضا في فصل الاستئجار للحج
والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وان أحرم بنسك معين ثم نسيه قبل أن يأتي بنسك ففيه قولان (قال) في الأم يلزمه أن يقرن
لأنه شك لحقه بعد الدخول في العبادة فيبنى فيه على اليقين كما لو شك في عدد ركعات الصلاة (وقال)
231

في القديم يتحرى لأنه يمكن أن يدرك بالتحري فيتحرى فيه كالقبلة (فإذا قلنا) يقرن لزمه أن ينوى
القران فإذا قرن أجزأه ذلك عن الحج وهل يجزئه عن العمرة (ان قلنا) يجوز ادخال العمرة على الحج
أجزأه عن العمرة أيضا (وان قلنا) لا يجوز ففيه وجهان (أحدهما) لا يجزئه لأنه يجوز أن يكون
أحرم بالحج وأدخل عليه العمرة فلم يصح وإذا شك لم يسقط الفرض (والثاني) انه يجزئه لأن العمرة
إنما لا يجوز ادخالها على الحج من غير حاجة وههنا به حاجة إلى ادخال العمرة على الحج
والمذهب الأول (فان قلنا) انه يجزئه عن العمرة لزمه الدم لأنه قارن (وان قلنا) لا يجزئه عن العمرة
فهل يلزمه دم فيه وجهان (أحدهما) لا دم عليه وهو المذهب لأنا لم نحكم له بالقران فلا يلزمه دم (والثاني)
يلزمه دم لجواز أن يكون قارنا فوجب عليه الدم احتياطا وان نسي بعد الوقوف وقبل طواف القدوم
فان نوى القران وعاد قبل طواف القدوم أجزأه الحج لأنه إن كان حاجا أو قارنا فقد انعقد
احرامه بالحج وإن كان معتمرا فقد أدخل الحج على العمرة قبل طواف العمرة فصح حجه ولا يجزئه
عن العمرة لان ادخال العمرة على الحج لا يصح في أحد القولين ويصح في الآخر ما لم يقف بعرفة
فإذا وقف بعرفة لم يصح فلم يجزئه وان نسي بعد طواف القدوم وقبل الوقوف (فان قلنا) ان ادخال العمرة
على الحج لا يجوز لم يصح له الحج ولا العمرة لأنه يحتمل انه كان معتمرا فلا يصح ادخال الحج على
العمرة بعد الطواف فلم يسقط فرض الحج مع الشك ولا تصح العمرة لأنه يحتمل أن لا يكون
أحرم بها أو أحرم بها بعد الحج فلا يصح وان قلنا إنه يجوز ادخال العمرة على الحج لم يصح له
232

الحج لجواز أن يكون أحرم بالعمرة وطاف لها فلا يجوز أن يدخل الحج عليها وتصح له العمرة لأنه أدخلها
على الحج قبل الوقوف فان أراد أن يجزئه الحج طاف وسعى لعمرته ويحلق ثم يحرم بالحج ويجزئه لأنه
إن كان معتمرا فقد حل من العمرة وأحرم بالحج وإن كان حاجا أو قارنا فلا يضره تجديد الاحرام
بالحج ويجب عليه دم واحد لأنه إن كان معتمرا فقد حلق في وقته وصار متمتعا فعليه دم التمتع دون
دم الحلق وإن كان حاجا فقد حلق في غير وقته فعليه دم الحلق دون دم التمتع وإن كان قارنا فعليه
دم الحلق ودم القران فلا يجب عليه دمان بالشك ومن أصحابنا من قال يجب عليه دمان احتياطا
وليس بشئ) *
(الشرح) إذا أحرم بنسك ثم نسيه وشك هل هو حج أم عمرة أم حج وعمرة فقد قال الشافعي
في القديم أحب أن يقرن وإن تحرى رجوت أن يجزئه وقال في كتبه الجديدة هو قارن وفى المسألة
طريقان حكاهما الرافعي (أحدهما) القطع بجواز التحري وتأويل الجديد على إذا ما شك هل أحرم
بأحد النسكين أم قرن (والطريق الثاني) وهو الصحيح المشهور وهو الذي اقتصر عليه المصنف
والجمهور المسألة على قولين (أحدهما) قوله القديم يجوز التحري ويعمل بظنه (وأصحهما) وهو نصه
في كتبه الجديدة لا يجوز التحري بل يقرن وهذا نص الشافعي في الأم والاملاء قال المحاملي وهو
نصه في كتبه الجديدة والاملاء والمختصر قال أصحابنا فإذا قلنا بالقديم تحرى فان غلب على ظنه
أحدهما بامارة عمل بمقتضى ذلك سواء كان الذي ظنه حجا أو عمرة قالوا ولا يحتاج إلى نية بل يعمل
على ما أدى إليه اجتهاده قال أصحابنا وعلى هذا القديم يستحب أن لا يتحرى بل ينوى القران
هكذا صرح به أصحابنا في الطريقتين ونص عليه الشافعي في القديم فإنه قال في القديم
233

إذا أحرم بنسك ثم نسيه فأحب أن يقرن القران على ما فعله قال فان تحرى رجوت أن يجزئه
إن شاء الله تعالى هذا نصه وكذا نقله المحاملي في كتابيه والبغوي وآخرون عن القديم قال الشافعي
والأصحاب فإذا قلنا بالقديم فتحرى فادى اجتهاده إلى شئ عمل بمقتضاه وأجزأه ذلك النسك
هذا هو الصواب تفريعا على القديم وحكى جماعة منهم الرافعي وجها أنه لا يجزئه النسك بل فائدة
التحري التخلص من الاحرام وهذا اسناد ضعيف جدا أما إذا قلنا بالجديد فللشك حالان
(أحدهما) أن يعرض قبل عمل شئ من أفعال الحج فلفظ الشافعي انه قارن قال الأصحاب معناه انه
ينوى القران ويصير نفسه قارنا ولا بد من نية هذا هو الصواب وبه قطع المصنف والجماهير وفيه
قول انه يصير قارنا بلا نية وهو ظاهر نص الشافعي الذي ذكرناه وكذا نقله المزني عن الشافعي
في المختصر فقال إذا لبي بأحدهما ثم نسيه فهو قارن وكذا لفظ المصنف في التنبيه فإنه قال يصير
قارنا وتأول الجمهور نقل المزني على أنه يصير نفسه قارنا بان ينوى القران وكذا يتأول كلام
المصنف في التنبيه قال أصحابنا ثم إذا نوى القران وأتى بالأعمال تحلل من احرامه وبرئت ذمته
من الحج بيقين وأجزأه عن حجة الاسلام لأنه إن كان محرما بالحج لم يضره تجديد نية العمرة بعده
سواء قلنا يصح ادخالها عليه أم لا وإن كان محرما بالعمرة فادخال الحج عليها قبل الشروع في أعمالها
جائز فثبت له الحج بلا خلاف (واما) العمرة فان جوزنا ادخالها على الحج أجزأته أيضا عن عمرة
الاسلام والا فوجهان (أصحهما) يجزئه والثاني لا تجزئه قال أبو إسحاق المروزي وقد ذكر المصنف دليلهما
234

وزيف الأصحاب قول أبي إسحاق المروزي هذا وبالغوا في ابطاله ولم يذكره المتولي والبغوي
وآخرون (فان قلنا) يجزئه العمل لزمه دم القران فإن لم يجزئه لزمه صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا
رجع (وان قلنا) لا يجزئه الدم فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (الصحيح) لا يلزمه (والثاني)
يلزمه ووجهه مع شدة ضعفه أن نية القران وجدت وهي موجبة للدم إلا أنا لم نعتد بالعمرة احتياطا للعبادة
والاحتياط في الدم وجوبه وهذا الاستدلال أحسن من استدلال المصنف (واعلم) أن قول الأصحاب يجعل
نفسه قارنا وقول المصنف يلزمه أن ينوى القران ليس المراد بجميعه تختم وجوب الاقران فإنه لا يجب
بلا خلاف وإنما الواجب نية الحج قال امام الحرمين لم يذكر الشافعي رحمه الله القران على معني
انه لا بد منه بل ذكره ليستفيد به الشاك التحلل مع براءة الذمة من النسكين قال فلو اقتصر بعد
النسيان على الاحرام بالحج وأتى بأفعاله حصل التحلل قطعا وتبرأ ذمته من الحج ولا تبرأ من
العمرة لاحتمال أنه أحرم ابتداء بالحج وكذا قال المتولي لو لم ينو القران ولكن قال صرفت احرامي إلى
الحج حسب له الحج لأنه إن كان محرما بالحج فقد جدد احراما به فلا يضره وإن كان محرما بالعمرة
فقد أدخل الحج عليها قبل الطواف قال ويستحب له أن يريق دما لاحتمال أن احرامه كان بعمرة
فيكون قارنا قال ولو قال صرفت احرامي إلى عمرة لم ينصرف إليها وإذا أتى بأعمالها لا تحسب
له العمرة ولا يتحلل لاحتمال انه محرم بحج أو قران أما إذا اقتصر على الاحرام بالعمرة وأتى بأعمال
القران فيحصل لله التحلل بلا شك وتبرأ ذمته من العمرة ان قلنا بجواز ادخالها على الحج والا فلا
تبرأ منها ولا يبرأ من الحج على كل قول لاحتمال انه أحرم أولا بعمرة والله أعلم * ولو لم يجدد
احراما بعد النسيان بل اقتصر على عمل الحج حصل التحلل ولا تبرأ ذمته من الحج ولا من العمرة
لشكه فيما اتى به ولو اقتصر على عمل عمرة لم يحصل التحلل لاحتمال انه أحرم بالحج ولم يتم أعماله
والله أعلم (الحال الثاني) ان يعرض الشك بعد فعل شئ من أعمال النسك وهو ثلاثة اضرب
(الضرب الأول) ان يعرض بعد الوقوف بعرفة وقبل الطواف فيجزئه الحج انه إن كان محرما به
فذاك وإن كان محرما بالعمرة فقد ادخله عليها قبل الطواف وذلك جائز ولا تجزئه العمرة إذا
235

قلنا بالمذهب انه لا يجوز ادخالها على الحج بعد الوقوف وقبل الشروع في أسباب التحلل فاما ان
قلنا بجواز ادخال العمرة على الحج بعد الوقوف وقبل الشروع في أسباب التحلل فيحصل له العمرة
صرح به أصحابنا وكان ينبغي للمصنف ان يذكره لان تقسيمه يقتضيه وقد ذكر هو فيما سبق الخلاف
في جواز ادخال العمرة بعد الوقوف فإذا قلنا بجوازه وحصلت العمرة وجب دم القران والا ففي
وجوب الدم الوجهان السابقان في الكتاب وقد شرحناهما قريبا في الحال الأول (أصحهما) لا دم
(والثاني) يجب والله أعلم * واعلم أن هذا الضرب مفروض فيما إذا كان وقت الوقوف باقيا عند
مصيره قارنا ثم وقف مرة ثانية والا فيحتمل انه إن كان محرما بالعمرة فلا يجزئه ذلك الوقوف عن الحج
وهذا الذي ذكرته من تصوير المسألة فيما إذا كان وقت الوقوف باقيا لا بد منه وقد نبه عليه صاحب
البيان في كتابيه البيان ومشكلات المهذب ونبه عليه أيضا الرافعي وآخرون وينكر على المصنف
والمحاملي في المجموع والبغوي وغيرهم اطلاقهم المسألة من غير تنبيه على ما ذكرناه وكأنهم استغنوا
عن ذكره بوضوحه ومعرفته من سياق المسألة والله أعلم (الضرب الثاني) أن يعرض الشك بعد
الطواف وقبل الوقوف فإذا نوى القران وأتى بأعمال القارن لم يجزئه الحج لاحتمال انه كان محرما
بالعمرة فيمتنع ادخال الحج عليها بعد الطواف (وأما) العمرة فان قلنا بجواز ادخالها على الحج بعد
الطواف أجزأته والا فلا وهو المذهب ثم ذكر أبو بكر بن الحداد حيلة لتحصيل الحج في هذه
الصورة فقال ينبغي له أن يتمم أعمال العمرة بان يصلى ركعتي الطواف ثم يسعى ثم يحلق أو يقصر
ثم يحرم بالحج ويأتي بأفعاله فإذا هذا صح حجه وأجزأه عن حجة الاسلام لأنه إن كان محرما
بالحج لم يضره الاحرام به ثانيا وإن كان محرما بعمرة فقد تحلل منها وأحرم بعدها بالحج وصار
متمتعا فأجزأه الحج ولا تصح عمرته لاحتمال انه كان محرما بالحج ولم يدخل العمرة عليه إذ لم ينو
236

القران هذا كلام ابن الحداد واتفق الأصحاب على أنه إذا فعل ما ذكره ابن الحداد فالحكم كما
قال ابن الحداد قالوا وكذا إن كان فقيها وفعل ما ذكره ابن الحداد باجتهاده فالحكم ما سبق
وأما إذا استفتانا فهل نفتيه بذلك فيه وجهان مشهوران (قال) الشيخ أبو زيد المروزي لا نفتيه بجواز
الحلق لاحتمال انه محرم بالحج أو قارن فلا يجوز له الحلق قبل وقته هذا كلام أبي زيد وبه قال
صاحب التقريب والقفال والمروزي ونقله الرافعي عن الأكثرين ونقله صاحب التهذيب عن أصحابنا
مطلقا قالوا وهذا كما لو ابتلعت دجاجة انسان جوهرة لغيره لا يفتي صاحب الجوهرة بذبحها وأخذ
الجوهرة ولكن لو ذبحها لم يلزمه إلا التفاوت بين قيمتها مذبوحة وحية قالوا وكذا لو تقابلت
دابتان لشخصين على شاهق وتعذر مرورهما لا يفني أحدهما باهلاك دابة الآخر لكن لو فعل
خلص دابته لزمه قيمة دابة صاحبه (والوجه الثاني) نفتيه بها قاله ابن الحداد ويجوز له الحلق لأنه
يستباح في الحال الذي يكون حراما محققا للحاجة فاستباحه هنا ولا يتحقق أنه محرم أو لا فإنه
محتاج إليه أيضا ليحسب له فعله وإلا فتلغوا وممن قال بهذا الوجه ابن الحداد والقاضي أبو الطيب
الطبري وصاحب الشامل وآخرون ورجحه الغزالي وغيره وهو الأصح المختار والله أعلم (واعلم) أن
المصنف المصنف رحمه الله قال طاف وسعى وحلق فذكر إعادة الطواف وهو خلاف ما قال الأصحاب
وخلاف الدليل فإنهم لم يذكروا الطواف بل قالوا يسعى ويحلق فقط فهذا هو الصواب ولا حاجة
إلى إعادة الطواف فإنه قد أتى به أولا وقد ذكر صاحب البيان في كتابيه البيان ومشكلات
المهذب ما ذكره المصنف ثم قال وهذا الطواف لا معنى له فإنه قد طاف والله أعلم * قال أصحابنا
وسواء أفتيناه بما قاله ابن الحداد وموافقوه أم لم نفته به ففعله لزمه دم لأنه إن كان محرما بحج
فقد حلق في غير وقته وإن كان بعمرة فقد تمتع فيريق دما عن الواجب عليه ولا يعين الجهة
كما يكفر فإن كان معسرا لا يجد دما ولا طعاما صام عشرة أيام كصوم المتمتع فإن كان الواجب
دم التمتع فذاك وإن كان دم الحق أجزأه ثلاثة أيام ويقع الباقي تطوعا ولا يعين الجهة في صوم
237

الثلاثة ويجوز تعيين التمتع في صوم السبعة ولو اقتصر على صوم ثلاثة هل تبرأ ذمته قال الرافعي
مقتضى كلام الشيخ أبي علي أنه لا تبرأ وقال امام الحرمين يحتمل ان تبرأ وعبر الغزالي في الوسيط
عن هذين بوجهين ويجزئه الصوم مع وجود الاطعام لأنه لا مدخل للطعام في التمتع وفدية الحلق
على التخيير ولو أطعم هل تبرأ ذمته فيه كلاما الشيخ أبي علي والامام وهذا كله إذا استجمع
الرجل شروط وجوب دم التمتع فإن لم يستجمعهما كالمكي لم يجب الدم لان دم التمتع مقصود
والأصل عدم وجوب دم الحلق وإذا جوز أن يكون احرامه أولا بالقران فهل يلزمه دم آخر مع
الدم الذي وصفناه فيه الوجهان السابقان (الصحيح) لا يلزمه (الضرب الثالث) أن يعرض الشك
بعد الطواف والوقوف فان أتي ببقية أعمال الحج لم يحصل له حج ولا عمرة (أما) الحج فلجواز
أنه كان محرما بعمرة فلا ينفعه الوقوف (وأما) العمرة فلجواز انه كان محرما بحج ولم يصح دخول
العمرة عليه فان نوى القران وأتي بأعمال القارن فاجزاء العمرة مبنى على أنه هل يصح ادخالها على
الحج بعد الوقوف قال الرافعي وقياس المذكور في الضرب السابق انه لو أتم أعمال العمرة وأحرم
بالحج وأتى بأعماله مع الوقوف أجزأه الحج وعليه دم كما سبق ولو أتم أعمال الحج ثم أحرم بعمرة
وأتي بأعمالها أجزأته العمرة والله أعلم *
(فرع) لو تمتع بالعمرة إلى الحج فطاف للحج طواف الإفاضة ثم بان أنه كان محدثا في
طواف العمرة لم يصح طوافه ذلك ولا سعيه بعده وبان ان حلقه في غير وقته ويصير باحرامه بالحج
مدخلا للحج إلى العمرة قبل الطواف فيصير قارنا ويجزئه طوافه وسعيه في الحج عن الحج والعمرة
وعليه دمان دم للقران ودم للحلق وان بان انه كان محدثا في طواف الحج توضأ وأعاد الطواف
والسعي وليس عليه الا دم التمتع إذا اجتمعت شروطه ولو شك في أي الطوافين كإن حدثه
لزمه إعادة الطواف والسعي فإذا أعادهما صح حجه وعمرته وعليه دم لأنه قارن أو متمتع وينوي
بإراقته الواجب عليه ولا يعين الجهة وكذا لو لم يجد الدم فصام والاحتياط ان يريق دما آخر لاحتمال
انه حالق قبل الوقت فلو لم يحلق في العمرة وقلنا الحلق استباحة محظور فلا حاجة إليه وكذا
لا يلزمه عند تبين الحدث في طواف العمرة الا دم واحد ولو كانت المسألة بحالها لكن جامع بعد
238

العمرة ثم أحرم بالحج فهذه المسألة تفرع على أصلين (أحدهما) جماع الناسي هل يفسد النسك
ويوجب الفدية كالعمد فيه قولان (الأصل الثاني) إذا أفسد العمرة بجماع ثم ادخل الحج عليها هل
يدخل ويصير محرما بالحج فيه وجهان سبق بيانهما في فصل القران (أصحهما) عند الأكثرين يصير
محرما بالحج وبه قال ابن سريج والشيخ أبو زيد فعلى هذا هل يكون الحج صحيحا مجزئا فيه
وجهان (أحدهما) نعم (وأصحهما) لا وعلى هذا هل ينعقد صحيحا أم يفسد أم ينعقد فاسدا فيه وجهان
(أصحهما) ينعقد فاسدا إذ لو انعقد صحيحا لم يفسد إذ لم يوجد بعد انعقاده مفسد وقد سبقت
المسألة في القران مبسوطة (فان قلنا) ينعقد فاسدا أو صحيحا ثم يفسد مضى في النسكين
وقضاهما (وإن قلنا) ينعقد صحيحا مجزئا ولا يفسد قضى العمرة دون الحج وعلى الأوجه الثلاثة
يلزمه دم القران ولا يجب للافساد الا بدنة واحدة كذا قاله الشيخ أبو علي وحكي إمام الحرمين
وجهين آخرين إذا حكما بانعقاد حجه فاسدا (أحدهما) يلزمه بدنة أخرى لفساد الحج (والثاني)
يلزمه البدنة للعمرة وشاة للحج كما لو جامع ثم جامع ثانيا * إذا عرفت هذين الأصلين فان قال كان الحدث
في طواف العمرة فالطواف والسعي فاسدان والجماع واقع قبل التحلل لكن لا يعلم كونه قبل التحلل
فهل يكون كالناسي فيه طريقان (أحدهما) نعم وبه قطع الشيخ أبو علي (والثاني) لا فإنه لم تفسد
العمرة وبه صار قارنا وعليه دم للقران ودم للحلق قبل وقته إن كان حلق كما سبق وان أفسدنا العمرة
فعليه للافساد بدنة وللحلق شاة وإذا أحرم بالحج فقد أدخله على عمرة فاسدة فإن لم ندخله فهو في
عمرته كما كان فيتحلل منها ويقضيها وان أدخلناه وقلنا بفساد الحج فعليه بدنة للافساد ودم
للحلق قبل وقته ودم للقران ويمضى في فاسدهما ثم يقضيهما وان قال كان الحدث في طواف الحج
فعليه إعادة الطواف والسعي وقد صح نسكاه وليس عليه الا دم التمتع فان قال لا أدرى في
الطوافين كان أخذ في كل حكم باليقين ولا يتحلل ما لم يعد الطواف والسعي لاحتمال أن حدثه كان
239

في طواف الحج ولا يخرج عن عهدة الحج والعمرة إن كانا واجبين عليه لاحتمال كونه محدثا في
طواف العمرة وتأثير الجماع في افساد النسكين ولا تبرأ ذمته بالشك وإن كان متطوعا فلا قضاء
عليه لاحتمال أن لافساد وعليه دم إما للتمتع إن كان الحدث في طواف الحج وإما للحلق إن كان في
طواف العمرة ولا يلزمه البدنة لاحتمال انه لم يفسد العمرة لكن الاحتياط ذبح بدنة وشاة إذا جوزنا ادخال
الحج على العمرة الفاسدة لاحتمال أنه صار قارنا بذلك والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(ويستحب أن يكثر من التلبية ويلبى عند اجتماع الرفاق وفى كل صعود وهبوط وفى ادبار
الصلوات وإقبال الليل والنهار لما روى جابر رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبى إذا رأى
ركبا أو صعد أكمه أو هبط واديا وفى ادبار المكتوبة وآخر الليل) ولان في هذه المواضع ترتفع الأصوات
ويكثر الضجيج وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم) أفضل الحج العج والثج) ويستحب في مسجد مكة ومنى وعرفات
وفيما عداها من المساجد قولان (قال) في القديم لا يلبي (وقال) في الجديد يلبي لأنه مسجد بني للصلاة
فاستحب فيه التلبية كالمساجد الثلاثة وفي حال الطواف قولان (قال) في القديم يلبى ويخفض صوته
(وقال) في الجديد لا يلبى لان للطواف ذكرا يختص به فكان الاشتغال به أولى ويستحب أن يرفع
صوته بالتلبية لما روى زيد بن خالد الجهني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (جاءني جبريل عليه
240

السلام فقال يا محمد مر أصحابك أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحاج) وإن كانت امرأة
لم ترفع الصوت بالتلبية لأنه يخاف عليها الافتتان والتلبية أو يقول لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك
لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لما روى ابن عمر رضي الله عنهما ان تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم
(لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) قال الشافعي
رحمه الله فان زاد على هذا فلا بأس لما روى أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يزيد فيها (لبيك وسعديك
والخير كله بيديك والرغبة إليك والعمل) وإذا رأي شيئا يعجبه قال لبيك ان العيش عيش
الآخرة لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ذات يوم والناس يصرفون عنه كأنه أعجبه ما هم فيه فقال
(لبيك إن العيش عيش الآخرة) والمستحب إذا فرغ من التلبية أن يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم
لأنه موضع شرع فيه ذكر الله سبحانه وتعالى فشرع فيه ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم
كالاذان ثم يسأل الله تعالى رضوانه والجنة ويستعيذ برحمته من النار لما روى خزيمة بن ثابت رضي الله عنه
قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله تعالى
رضوانه والجنة واستعاذ برحمته من النار ثم يدعو بما أحب))
(الشرح) حديث ابن عمر في تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم رواه البخاري ومسلم
وكذلك الزيادة التي زادها ابن عمر من كلامه وهذا لفظ الجميع عن نافع عن عبد الله بن عمران
تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم) لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك
والملك لا شريك لك) قال وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها (لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء
إليك والعمل) رواه البخاري ومسلم بهذا اللفظ (وأما) حديث زيد بن خالد الجهني فرواه ابن ماجة
وأبو حاتم البسني والبيهقي وغيرهم وذكره الترمذي في جامعه فقال روى بعضهم هذا الحديث عن
جلاد بن السائب عن زيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم * قال الترمذي ولا يصح هذا قال
والصحيح عن جلاد بن السائب عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي
241

ان يرفعوا أصواتهم بالاهلال والتلبية) قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وكذا رواه مالك
والشافعي وأبو داود والنسائي وغيرهم عن جلاد بن السائب عن أبيه وسبق بيانه قريبا في مذاهب
العلماء في انعقاد الاحرام بالنية دون التلبية والله أعلم (وأما) حديث (أفضل الحج العج والثج فرواه
الترمذي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم من رواية أبي بكر الصديق رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو
من رواية محمد بن إسماعيل بن أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن عبد الرحمن بن يربوع عن أبي بكر
الصديق رضي الله عنه مرفوعا قال الترمذي في جامعه محمد بن المنكدر لم يسمع من عبد الرحمن
ابن يربوع ورواه البيهقي بهذا الاسناد الذي قدمته ثم رواه من طريق آخر عن ضرار بن صرد عن
أبي فديك عن الضحاك بن عثمان عن ابن المنكدر عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن أبيه
عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعا قال البيهقي وكذلك رواه محمد بن عمرو السواق عن
أبي فديك قال البيهقي قال الترمذي سألت البخاري عن هذا الحديث فقال هو عندي مرسل محمد
ابن المنكدر لم يسمع من عبد الرحمن بن يربوع (قلت) فمن ذكر فيه سعيدا قال هو خطأ ليس
فيه سعيد (قلت) ضرار بن صرد وغيره روى عن ابن أبي فديك هذا الحديث وقالوا عن سعيد
ابن عبد الرحمن عن أبيه قال ليس بشئ قال البيهقي وكذا قال أحمد بن حنبل فيما بلغنا عنه هذا
آخر كلام البيهقي والله أعلم * (وأما) الحديث الذي روى عن أبي حريز بالحاء المهملة والزاي في
آخره واسمه سهل مولى المغيرة بن أبي الغيث عن هشام ابن عروة عن أبيه عن عائشة قالت (خرجنا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بلغنا الروحاء حتى سمعت عامة الناس قد بحت أصواتهم من التلبية) فرواه
242

البيهقي وضعفه قال أبو حريز هذا ضعيف * قال ورواه عمر بن صهبان وهو أيضا ضعيف عن أبي الزياد
عن أنس بن مالك (وأما) (حديث لبيك أن العيش الآخرة فرواه الشافعي والبيهقي باسناد
صحيح عن ابن جريج عن حميد الأعرج عن مجاهد قال (كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر من
التلبية) لبيك اللهم لبيك فذكر التلبية قال حتى إذا كان ذات يوم والناس يصرفون عنه كأنه أعجبه
ما هم فيه فزاد فيها لبيك إن العيش عيش الآخرة) قال ابن جريج وحسبت أن ذلك يوم عرفة * هكذا
روياه مرسلا (وأما) حديث خزيمة بن ثابت فرواه الشافعي والدارقطني والبيهقي بأسانيدهم عن
صالح بن محمد بن زايده عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله تعالى مغفرته ورضوانه واستعاذ برحمته من النار) قال صالح سمعت
القاسم بن محمد يقول وكان يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وصالح
ابن عمر هذا ضعيف صرح بضعفه الجمهور وقال أحمد لا أرى به بأسا والله أعلم * (وأما) ألفاظ
الفصل فالرفاق بكسر الراء جمع رفقة بضم الراء وكسرها لغتان مشهورتان قال الأزهري
الرفاق جمع رفقة بضم الراء وكسرها وهي الجماعة يترافقون فينزلون معا ويرحلون معا ويرتفق
بعضهم ببعض تقول رافقته وترافقنا وهو رفيقي ومرافقي وجمع رفيق رفقاء (وأما) قوله في كل
صعود وهبوط فالصعود والهبوط بفتح أولهما اسم للمكان الذي يصعد فيه ويهبط منه وبضمهما
ويصح أن يقرأ هنا بالوجهين (وأما) الأكمة فبفتح الهمزة والكاف وهي دون الرابية (وأما) لعج
فرفع الصوت والثج إراقة الدماء (وقوله) في كلام ابن عمرو (الرغبة إليك) كذا وقع في المهذب (والرغبة)
والذي في الصحيحين وغيرهما (والرغباء) وفيها لغتان الرغباء بفتح الراء والمد والرغبى بضم
243

بضم الراء والقصر ومعناها الرغبة (وقوله) العيش عيش الآخرة معناه أن الحياة الهنية المطلوبة الدائمة
هي حياة الدار الآخرة (وأما) لفظ التلبية فقال القاضي عياض التلبية مثناة للتكثير والمبالغة ومعناه
إجابة بعد إجابة ولزوما لطاعتك فثني للتوكيد لا تثنية حقيقة بل هو بمنزلة قوله تعالى (بل يداه مبسوطتان)
أي نعمتاه على تأويل اليد بالنعمة هنا ونعم الله تعالى لا تحصى * وقال يونس بن حبيب البصري لبيك
اسم مفرد لا مثنى قال وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير كلدى وعلى ومذهب سيبويه انه مثنى
بدليل قلبها ياء مع المظهر وأكثر الناس على ما قاله سيبويه * قال ابن الأنباري ثنوا لبيك كما ثنوا
حنانيك أي تحننا بعد تحنن وأصل لبيك لبيك فاستثقلوا الجمع بين ثلاث يأت فأبدلوا من الثلاثة
ياء كما قالوا من الظن تظنيت والأصل تظننت * واختلفوا في معنى لبيك واشتقاقها (فقيل) معناها اتجاهي
وقصدي إليك مأخوذ من قولهم داري تلب دارك أي تواجهها (وقيل) معناها محبتي لك مأخوذ من
قولهم امرأة لبة إذا كانت محبة ولدها عاطفة عليه (وقيل) معناها اخلاصي لك مأخوذ من قولهم
حب لباب إذا كان خالصا محصنا ومن ذلك لب الطعام ولبابه (وقيل) معناها أنا مقيم على طاعتك
واجابتك مأخوذ من قولهم لب الرجل بالمكان والب إذا أقام فيه ولزمه قال ابن الأنباري وبهذا
قال الخليل وأحمد قال القاضي قيل هذه الإجابة لقوله تعالى لإبراهيم صلى الله عليه وسلم (وأذن في الناس بالحج)
قال إبراهيم الحربي في معنى لبيك أي قربا منك وطاعة والألباب القرب وقال أبو نصر معناه انا
ملب بين يديك أي خاضع هذا آخر كلام القاضي (قوله) لبيك ان الحمد والنعمة لك يروى بكسر
الهمزة من أن وفتحها وجهان مشهوران لأهل الحديث وأهل للغته * قال الجمهور والكسر أجود
قال الخطابي الفتح رواية العامة (قال) ثعلب الاختيار الكسر وهو أجود في المعنى من الفتح لان من
كسر جعل معناه إن الحمد والنعمة لك على كل حال ومن فتح قال لبيك لهذا السبب (وقوله) والنعمة
لك المشهور فيه نصب النعمة قال القاضي عياض ويجوز رفعها على الابتداء ويكون الخبر محذوفا
قال ابن الأنباري وان شئت جعلت خبر إن محذوفا تقديره إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك
(وقوله) وسعديك قال القاضي اعرابها وتثنيتها كما سبق في لبيك ومعناها مساعدة لطاعتك بعد
مساعدة (وقوله) والخير بيديك (أي) الخير كله بيد الله تعالى ومن فضله (وقوله) الرغباء إليك
244

والعمل معناه الطلب والمسألة إلى من بيده الخير وهو المقصود بالعمل المستحق للعبادة وهو الله تعالى
والله أعلم * (أما) الأحكام فاتفق العلماء على استحباب التلبية ويستحب الاكثار منها في
دوام الاحرام ويستحب قائما وقاعدا وراكبا وماشيا وجنبا وحائضا ويتأكد استحبابها في كل
صعود وهبوط وحدوث أمر من ركوب أو نزول أو اجتماع رفقة أو فراغ من صلاة وعند إقبال الليل
والنهار ووقت السحر وغير ذلك من تغاير الأحوال نص على هذا كله الشافعي واتفق عليه
الأصحاب واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على استحبابها في المسجد ومسجد الخيف بمنى ومسجد
إبراهيم صلى الله عليه وسلم بعرفات لأنها مواضع نسك وفى سائر المساجد قولان (الأصح) الجديد
يستحب التلبية (والقديم) لا يلبى لئلا يهوش على المصلين والمتعبدين ثم قال الجمهور والقولان في
أصل التلبية فان استحببناها استحببنا رفع الصوت بها والا فلا وجعلهما إمام الحرمين في استحباب
رفع الصوت ثم قال لم يستحب رفعه في سائر المساجد ففي الرفع في المساجد الثلاثة وجهان (والمذهب)
الأول وهل يستحب التلبية في طواف القدوم والسعي بعده فيه قولان وهما مشهوران ذكرهما المصنف
بدليلهما (الأصح) الجديد لا يلبى والقديم يلبى ولا يجهر ولا يلبى في طواف الإفاضة والوداع بلا
خلاف لخروج وقت التلبية ويستحب للرجل رفع صوته بالتلبية بحيث لا يضر بنفسه ولا تجهر بها
المرأة بل تقتصر على سماع نفسها قال الروياني فان رفعت صوتها لم يحرم لأنه ليس بعورة على الصحيح *
هذا كلام الروياني وكذا قال غيره لا يحرم لئن يكره صرح به الدارمي والقاضي أبو الطيب
والبندنيجي ويخفض الخنثى صوته كالمرأة ذكره صاحب البيان وهو ظاهر ويستحب أن يكون صوت
الرجل في صلاته على رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب التلبية دون صوته بها * قال الشافعي والمصنف
والأصحاب ويستحب أن لا يزاد على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم بل يكررها وهي
(لبيك للهم لبيك لا شريك لك لبيك ان الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك) * قال أصحابنا فان
زاد لم يكره لما سبق عن ابن عمر قال صاحب البيان قال الشيخ أبو حامد ذكر أهل العراق عن
الشافعي أنه كره الزيادة على ذلك قال أبو حامد وغلطوا بل لا تكره الزيادة ولا تستحب والله أعلم *
ويستحب إذا رأى شيئا يعجبه أن يقول لبيك ان العيش عيش الآخرة * ويستحب إذا فرغ
245

من التلبية أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يسأل الله تعالى رضوانه والجنة ويستعيذ
به من النار ثم يدعو بما أحب * ويستحب أن لا يتكلم في أثناء تلبيته بأمر أو نهي أو غيرهما لكن
لو سلم عليه رد نص عليه الشافعي في الاملاء وتابعه الأصحاب ويكره التسليم عليه في حال تلبيته * ومن
لا يحسن التلبية بالعربية يلبى بلسانه كتكبيرة الاحرام وغيرها وان أحسن العربية أتى بها نص عليه
الشافعي * قال المتولي إذا لم يحسن التلبية أمر بالتعليم وفى مدة التعليم يلبى بلسان قومه وهل يجوز بلغة
أخرى مع القدرة على التلبية حكمه حكم التسبيحات في الصلاة لأنه ذكر مسنون قال القاضي أبو الطيب
في تعليقه تكره التلبية في مواضع النجاسات *
(فرع) قال صاحب الحاوي قال الشافعي في الأم وإذا لبي فأستحب أن يلبى ثلاثا * قال
واختلف أصحابنا في تأويله على ثلاثة أوجه (أحدها) أن يكرر قوله لبيك ثلاث مرات (والثاني)
يكرر قوله لبيك اللهم لبيك ثلاث مرات (والثالث) يكرر جميع التلبية ثلاث مرات * هذا
كلامه وهذا الثالث هو الصحيح أو الصواب والأولان فاسدان لان فيهما تغييرا للفظ التلبية المشروعة *
(فرع) قد ذكرنا أن التلبية مستحبة بالاتفاق وليست واجبة * هذا هو الصواب المشهور
من نصوص الشافعي والأصحاب * وقال صاحب الحاوي حكي عن أبي علي بن خيران وأبي علي بن أبي
هريرة من أصحابنا أن التلبية في أثناء الحج والعمرة واجبة قال وزعما أنهما وجدا للشافعي نصا يدل
عليه * قال وليس يعرف للشافعي في كتبه نص يدل عليه هذا كلام الحاوي * وقال الدارمي قال
الطبري يعنى أبا على الطبري للشافعي ما يدل على أنها واجبة * قال وبه قال ابن خيران والمذهب
ما قدمناه *
(فرع) مذهبنا استحباب التلبية في كل مكان وفى الأمصار والبراري * قال العبدري
اظهار التلبية في الأمصار ومساجدها لا يكره وليس لها موضع تختص به قال وبه قال أكثر
الفقهاء قال وقال أحمد هو مسنون في الصحارى * قال ولا يعجبني أن يلبى في المصر والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وإذا أحرم الرجل حرم عليه حلق الرأس لقوله تعالى (ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدى
246

محله) ويحرم حلق شعر سائر البدن لأنه حلق يتنظف به ويترفه به فلم يجز كحلق الرأس وتجب به الفدية
لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) ولما
روى كعب ابن عجرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لعلك اذاك هوام
رأسك قلت نعم يا رسول الله قال احلق رأسك وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين أو انسك
شاة) ويجوز له أن يحلق شعر الحلال لان نفعه يعود إلى الحلال فلم يمنع منه كما لو أراد ان يعممه أو
يطيبه ويحرم عليه ان يقلم أظفاره لأنه جزء ينمى وفى قطعه ترفيه وتنظيف فمنع الاحرام منه كحلق
الشعر وتجب به الفدية قياسا على الحلق) *
(الشرح) حديث كعب بن عجرة رواه البخاري ومسلم وهو أم الرأس بتشديد الميم
القمل (وقوله) حلق يتنظف به احتراز من الشعر النابت في عينه وقال القلعي هو احتراز من قلعه
شعر الحلال (وقوله) جزء ينمي قال القلعي هو احتراز من قطع الإصبع المتآكلة وجلدة الختان قال
وقوله في قطعه ترفيه وتنظيف احتراز من قطع الشجر أو الحشيش في غير الحرم هذا كلامه والأظهر انه
احترز به عن قطع اليد الصحيحة فإنه قطع جزء ينمي ولا شئ فيه لأنه ليس فيه ترفيه ولا تنظيف
قال وجمعه بين الترفية والتنظيف للتأكيد لا للاحتراز بل لو اقتصر على أحدهما كفاه (وقوله) جزء
ينمي هو بفتح أوله ويقال ينمو لغتان الأولى أفصح وأشهر (أما) الأحكام فاجمع المسلمون على تحريم
حلق شعر الرأس نقل الاجماع فيه ابن المنذر وغيره وسواء في تحريمه الرجل والمرأة وكذلك يجب
على ولي الصبي المحرم ان يمنعه من إزالة شعره ويحرم عليه تمكين الصبي وغيره من إزالته * قال أصحابنا
ولا يختص التحريم بالحلق ولا بالرأس بل تحرم إزالة الشعر قبل وجوب التحلل وتجب به الفدية سواء
شعر الرأس واللحية والشارب والإبط والعانة وسائر البدن وسواء الإزالة بالحلق والتقصير والإبانة
بالنتف أو الاحراق وغيرهما ولا خلاف في هذا كله عندنا * قال أصحابنا وإزالة الظفر كإزالة الشعر
247

سواء قلمه أو كسره أو قطعه وكل ذلك حرام موجب للفدية سواء كل الظفر وبعضه * قال أصحابنا
ولو قطع يده أو بعض أصابعه وعليها شعر وظفر فلا فدية بلا خلاف لأنهما تابعان غير مقصودين
وشبه أصحابنا هذا بما لو كانت له امرأة صغيرة فأرضعتها أمه انفسخ النكاح ولزم الأم مهرها ولو
قتلتها لم يلزمها المهر لاندراج البضع في القتل * قال الشافعي وأصحابنا ولو كشط المحرم جلدة الرأس
فلا فدية والشعر تابع ولو افتدى كان أفضل * قال الشافعي ولو مشط لحيته فنتف شعرات لزمه الفدية
فلو شك هل كان منقلعا أم انتتف بالمشط فوجهان وقيل قولان (أصحهما) لا فدية للاحتمال مع أصل
البراءة (والثاني) تجب الفدية لظاهر * هذا كله في الحلق والقلم بلا عذر فان حلق لعذر أو ناسيا أو جاهلا
أو مكرها فسيأتي بيانه حيث ذكره المصنف في أواخر الباب إن شاء الله تعالى ولو حلق المحرم رأس
الحلال جاز ولا فدية لما ذكره المصنف والله أعلم *
(فرع) في مسائل من مذاهب العلماء متعلقة بالحلق والقلم * قد ذكرنا أن مذهبنا يحرم حلق
جميع شعور البدن والرأس وبه قال الأكثرون وقال أهل الظاهر لا فدية في شعر غير الرأس وعن
مالك روايتان كالمذهبين * دليلنا ما ذكره المصنف (ومنها) لو حلق المحرم رأس الحلال جاز ولا فدية
هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وداود (وقال) أبو حنيفة لا يجوز فان فعل قال فعلى الحالق صدقة *
دليلنا ما ذكره المصنف (ومنها) يحرم على المحرم قلم أظفاره ويجرى مجرى حلق الرأس * هذا مذهبنا
وبه قال أحمد * وقال أبو حنيفة ان قلم أظفار يد أو رجل بكمالها لزمه فدية كاملة وان قلم من كل يد
أو رجل أربعة أظفار أو دونه لزمه صدقة وقال مالك حكم الأظفار حكم الشعر يتعلق الدم بما يميط
الأذى وقال داود يجوز للمحرم قلم أظفاره كلها ولا فدية عليه * هكذا نقل العبدري عنه وقد نقل
ابن المنذر وغيره إجماع المسلمين على تحريم قلم الظفر في الاحرام فلعلهم لم يعتدوا بداود وفى الاعتداد
به في الاجماع خلاف سبق مرات (وأما) حك المحرم رأسه فلا أعلم خلافا في إباحته بل هو جائز
وقد حكي ابن المنذر جوازه عن ابن عمر وجابر وسعيد بن جبير والثوري وأصحاب (1)
وأحمد وإسحق وبه قال ابن المنذر ولم يذكر فيه خلافا لكن قالوا برفق لئلا ينتف شعر والله أعلم *

(1) بياض في الأصل فحرر
248

* قال المصنف رحمه الله *
(ويحرم عليه أن يستر رأسه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في
المحرم الذي خر من بعيره (لا تخمروا رأسه فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا) وتجب به الفدية لأنه فعل
محرم في الاحرام فتعلقت به الفدية كالحلق ويجوز أن يحمل على رأسه مكتلا لأنه لا يقصد به الستر فلم يمنع
منه كما لا يمنع المحدث من حمل المصحف في عيبة المتاع حين لم يقصد حمل المصحف ويجوز أن يترك يده
على رأسه لأنه يحتاج إلى وضع اليد على الرأس في المسح فعفى عنه ويحرم عليه لبس القميص لما روي ابن
عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المحرم (لا يلبس القميص ولا السراويل ولا
البرنس ولا العمامة ولا الخف إلا أن لا يجد نعلين فيقطعهما أسفل من الكعبين) ولا يلبس من الثياب
ما مسه ورس أو زعفران وتجب به الفدية لأنه فعل محظور في الاحرام فتعلقت به الفدية كالحلق ولا فرق
بين أن يكون ما يلبسه من الخرق أو الجلود أو اللبود أو الورق ولا فرق بين أن يكون مخيطا بالإبرة
أو ملصقا بعضه إلى بعض لأنه في معنى المخيط والعباءة والدارعة كالقميص فيما ذكرناه لأنه في معني
القميص ويحرم عليه لبس السراويل لحديث ابن عمر رضي الله عنهما وتجب به الفدية لما ذكرناه من
المعني والتبان والران كالسراويل فيما ذكرناه لأنه في معني السراويل وان شق الإزار وجعل له ذيلين
وشدهما على ساقيه لم يجز لأنهما كالسراويل وما على الساقين كالبابكين ويجوز أن يعقد عليه ازاره
لان فيه مصلحة له وهو أن يثبت عليه ولا يعقد الرداء عليه لأنه لا حاجة به إليه وله أن يغرز طرفيه
في إزاره وان جعل لإزاره حجزة وأدخل فيها التكة واتزر به جاز وان اتزر وشد فوقه تكة جاز
قال في الاملاء وان زره أو خاطه أو شوكه لم يجز لأنه يصير كالمحيط وإن يجد إزارا جاز أن يلبس
السراويل ولا فدية عليه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال (من لم يجد إزارا فليلبس السراويل ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين) فإن لم يجد رداء لم يلبس
القميص لأنه يمكنه أن يرتدى به ولا يمكنه أن يتزر بالسراويل ثم وجد
الإزار لزمه خلعه ويحرم عليه لبس الخفين للخبر وتجب به الفدية لما ذكرناه من القياس على الحلق
فإن لم يجد نعلين لبس الخفين بعد أن يقطعهما من أسفل الكعبين للخبر فان لبس الخف مقطوعا من
249

أسفل الكعب مع وجود النعل لم يجز على المنصوص وتجب عليه الفدية ومن أصحابنا من قال يجوز
ولا فدية عليه لأنه قد صار كالنعل بدليل انه يجوز المسح عليه وهذا خلاف المنصوص وخلاف
السنة وما ذكره من المسح لا يصح لأنه وان لم يجز المسح إلا أنه يترفه به في دفع الحر والبرد والأذى
ولأنه يبطل بالخف المخرق فإنه لا يجوز المسح عليه ثم يمنع من لبسه ويحرم عليه لبس القفازين وتحب
به الفدية لأنه ملبوس على قدر العضو فأشبه الخف ولا يحرم عليه ستر الوجه لقوله صلى الله عليه وسلم
في الذي خر من بعيره (ولا تخمروا رأسه) فخص الرأس بالنهي ويحرم على المرأة ستر الوجه لما روى
ابن عمر رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في إحرامهن عن القفازين والنقاب وما مسه الورس
والزعفران من الثياب) وليلبسن بعد ذلك ما اختير من ألوان الثياب من معصفر أو خز أو حلي
أو سراويل أو قميص أو خف وتجب به الفدية قياسا على الحلق ويجوز أن تستر من وجهها ما لا يمكن
ستر الرأس الا بستره لأنه لا يمكن ستر الرأس إلا بستره فعفى عن ستره فان أرادت ستر وجهها عن
الناس سدلت على وجهها شيئا لا يباشر الوجه لما روت عائشة رضي الله عنها قالت (كان الركبان يمرون
بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا
جاوزونا كشفنا) ولان الوجه من المرأة كالرأس من الرجل ثم يجوز للرجل ستر الرأس من الشمس
بما لا يقع عليه فكذلك المرأة في الوجه ولا يحرم عليها لبس القميص والسراويل والخف لحديث ابن عمر
رضي الله عنهما ولان جميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين فجاز لها ستره لما ذكرناه وهل يجوز لها
لبس القفازين فيه قولان (أحدهما) انه يجوز لأنه عضو يجوز لها ستره بغير المحيط فجاز لها ستره
بالمحيط كالرجل (والثاني) لا يجوز للخبر ولأنه عضو ليس بعورة منها فتعلق به حرمة الاحرام
في اللبس كالوجه) *
(الشرح) حديث ابن عباس رواه البخاري ومسلم (وأما) حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (لا يلبس المحرم القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا العمامة ولا الخف إلا أن لا يجد نعلين
فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران)
250

فرواه البخاري ومسلم هكذا وزاد البيهقي وغيره فيه (ولا يلبس القباء) قال البيهقي هذه الزيادة صحيحة
محفوظة (وأما) حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (من لم يجد إزارا فليلبس السراويل
ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين) فرواه البخاري ومسلم ورواه مسلم أيضا من رواية جابر بن عبد الله
رضي الله عنهما (وأما) حديث ابن عمر (ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى النساء في احرامهن عن القفازين والنقاب
وما مسه الورس والزعفران من الثياب وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من معصفر
أو خز أو حرير أو حلي أو سراويل أو قميص أو خف) فرواه أبو داود باسناد حسن وهو من
رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي الا أنه قال حدثني نافع عن ابن عمر وأكثر ما أنكر على ابن إسحاق
التدليس وإذا قال المدلس حدثني احتج به على المذهب الصحيح المشهور (واما) حديث
عائشة قالت (كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم محرمات فإذا حاذونا
سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه) * فرواه أبو داود وابن
ماجة وغيرهما واسناده ضعيف (واما) لغات الفصل وألفاظه فتخمير الرأس تغطيته (وقوله) لأنه
فعل محرم في الاحرام فتعلقت به الفدية احترزنا بالاحرام عن الغيبة في الصيام ونحوها وكان
ينبغي أن يقول محرم الاحرام ليحترز عن شرب الخمر ونحوه فإنه محرم في الاحرام ولا فدية فيه
(وأما) المكتل فبكسر الميم وفتح المثناة فوق وهو الزنبيل ويقال فيه أيضا الزنبيل بفتح الزاي
والقفة العرق والفرق بفتح الراء وإسكانها والسفيفة وقد سبق بيان هذا كله في كتاب الصيام في
كفارة الجماع (وقوله) لا يمنع المحدث من حمل المصحف في عيبة المتاع هي بفتح العين المهملة وهي
وعاء يجعل فيه الثياب وجمعها عيب بكسر العين وفتح الياء كبدرة وبدر وعياب وعيبات ذكرهن
الجوهري (واما) البرنس فبضم الباء والنون قال الأزهري وصاحب المحكم وغيرهما البرنس كل ثوب
رأسه منه ملتزق به دراعة كانت اوجبة أو ممطرا والممطر بكسر الميم الأولى وفتح الطاء ما يلبس
في المطر يتوفى به (واما) الورس فسبق بيانه في باب زكاة الثمار (وقوله) محيطا بالإبر بكسر الهمزة
251

وفتح الباء جمع إبرة (واما) لقباء فممدود وجمعه أقبية (ويقال) تقبيت القباء * قال الجواليقي قيل هو
فارسي معرب وقيل عربي مشتق من القبو وهو الضم والجمع (واما) الدراعة فمثل القميص لكنها
ضيقة الكمين وهي لفظة غريبة (واما) التبان فبضم المثناة فوق بعدها باء موحدة مشددة وهو سراويل
قصيرة وسبق بيانه في باب الكفن (وأما) الران فكالخف لكن لا قدم له وهو أطول من الخف
(وقوله) وإن جعل لإزاره حزة وأدخل فيها التكة واتزر به جاز التكة بكسر التاء معروفة
(وقوله) حزة كذا وقع في المهذب وهو صحيح يقال حزة السراويل وحجزة السراويل بحذف
الجيم وإثباتها لغتان مشهورتان ذكرهما صاحب المجمل والصحاح وآخرون وهي التي يجعل فيها
التكة (وقوله) إن زره أو خاطه أو شوكه لم يجز لأنه يصير كالمحيط فشوكه بتشديد الواو
معناه خله بشوك أو بمسلة ونحوها (واما) القفازان فبقاف مضمومة ثم فاء مشددة وبالزاي
وهو شئ يعمل لليدين يحشي بقطن ويكون له أزرار تزر على الكفين والساعدين من البرد وغيره
والله أعلم (أما) الأحكام فالحرام على الرجل من اللباس في الاحرام ضربان (ضرب) متعلق بالرأس
(وضرب) بباقي البدن (وأما) الضرب الأول فلا يجوز للرجل ستر رأسه لا بمحيط كالقلنسوة ولا بغيره
كالعمامة والإزار والخرقة وكل ما يعد ساترا فان ستر لزمه الفدية ولو توسد وسادة أو وضع يده
على رأسه أو انغمس في ماء أو استظل بمحمل وهودج جاز ولا فدية سواء مس المحمل رأسه أم لا
وقال المتولي إذا مس المحمل رأسه وجبت الفدية وهذا ضعيف جدا أو باطل * قال الرافعي لم أره هنا
لغيره والصواب انه جائز ولا فدية فيه لأنه لا يعد ساترا ولو وضع على رأسه زنبيلا أو حملا فطريقان
(أصحهما) وبه قطع المصنف وكثيرون أو الأكثرون يجوز ولا فدية لأنه لا يقصد به الستر كما لا يمنع
المحدث من حمل المصحف في متاع (والثاني) حكاه الخراسانيون فيه قولان (أصحهما) هذا (والثاني)
252

يحرم وتجب به الفدية وممن ذكر الطريقين جميعا البغوي وممن قطع بتحريمه أبو الفتح سليم الرازي
في الكفاية والمذهب الجواز * وقال صاحب الشامل حكى الشافعي في الأم عن عطاء انه لا بأس بحمل
المكتل على رأسه ولم ينكر ذلك الشافعي ولا اعترض عليه قال وحكى ابن المنذر في الاشراف عن
الشافعي أنه قال عليه الفدية * قال صاحب الشامل قال أصحابنا هذا لا نعرفه في شئ من كتب الشافعي *
وحكى أبو حامد في تعليقه ان الشافعي نص في بعض كتبه على وجوب الفدية فيه وحكى البندنيجي
وجوب الفدية عن نصه في الاملاء والله أعلم * (اما) إذا طلى رأسه بطين أو حناء أو مرهم أو نحوها
فإن كان رقيقا لا يستر فلا فدية وإن كان تخينا ساترا فوجهان (الأصح) وجوب الفدية وبه قطع البندنيجي
لأنه ستر ولهذا لو ستر عورته بذلك صحت صلاته (والثاني) لا لأنه لا يعد ساترا والله أعلم * قال
أصحابنا ولا يشترط لوجوب الفدية ستر جميع الرأس كما لا يشترط في وجوب فدية الحلق الاستيعاب بل
تجب الفدية بستر قدر يقصد ستره لغرض كشد عصابة وإلصاق لصوق لشجة ونحوها هكذا ضبطه
امام الحرمين والغزالي واتفق الأصحاب على أنه لو شد خيطا على رأسه لم يضره ولا فدية * قال الرافعي
وهذا ينقض ما ضبط به الامام والغزالي فان ستر المقدار الذي يحويه الخيط قد يقصد لمنع الشعر
من الانتشار وغيره فالوجه الضبط بتسميته ساتر كل الرأس أو بعضه * هذا كلام الرافعي والصواب
ما قاله الامام والغزالي ولا ينتقض ما قالاه بما قاله الرافعي لأنهما قالا قدر يقصد ستره والخيط
253

ليس بساتر * وفرق أصحابنا بين الخيط حيث جاز شد الرأس به والعصابة العريضة حيث لم يجز بأنه
لا يعد ساترا بخلاف العصابة قال أصحابنا وسواء في التحريم ما يعتاد الستر به وما لا يعتاد كيقلنسوة
مقورة وتجب الفدية بتغطيته البياض الذي وراء الآذان ذكره الروياني وغيره وهو ظاهر ولو غطى
رأسه بكف غيره فلا فدية كما لو غطاه بكف نفسه * هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وذكر صاحبا
الحاوي والبحر فيه وجهين (لصحيح) هذا (والثاني) وجوب الفدية لجواز السجود على كف غيره
بخلاف كفه والله علم * (الضرب الثاني) في غير الرأس قال أصحابنا يجوز للرجل المحرم ستر
ما عدا الرأس من بدنه في الجملة وسنوضح تفصيله إن شاء الله تعالى * قال أصحابنا وإنما يحرم عليه
لبس المحيط وما هو في معناه مما هو على قدر عضو من البدن فيحرم كل محيط بالبدن أو بعضو منه
سواء كان محيطا بخياطة أو غيرها كما سنوضحه إن شاء الله تعالى * قال أصحابنا فيحرم عليه لبس
القميص والسراويل والتبان والدارعة والخف والران ونحوها فان لبس شيئا من ذلك مختارا عامدا
اثم ولزمه المبادرة إلى إزالته ولزمته الفدية سواء قصر الزمان أم طال ولا خلاف في هذا * قال ابن المنذر
أجمع العلماء على منع المحرم من لبس القميص والعمامة والقلنسوة والسراويل والبرنس والخف ولو لبس
القباء لزمه الفدية سواء أخرج يديه من كميه أم لا وسواء في ذلك جميع الأقبية وفيه وجه ضعيف
في الحاوي وغيره انه إن كان من أقبية خراسان ضيق الأكمام قصير الذيل وجبت الفدية وإن لم يدخل
يده في كمه وإن كان من أقبية العراق واسع الكم طويل الذيل لم تجب حتى يدخل يديه كميه وهذا
الوجه غريب ضعيف * وقال الدارمي إذا طرح القباء على كتفيه وأدخلهما لزمته الفدية وقال ابن القطان
فيه قولان وهذا أيضا غريب ضعيف والمذهب وجوب الفدية مطلقا * ولو ألقى على بدنه قباء أو فرجية
وهو مضطجع قال إمام الحرمين ان صار على بدنه بحيث لو قام عد لابسه لزمته الفدية وإن كل بحيث
لو قام أو قعد لم يستمسك عليه إلا بمزيد أمر فلا فدية * قال أصحابنا واللبس الحرام الموجب
254

للفدية محمول على ما يعتاد في كل ملبوس فلو التحف بقميص أو قباء أو ارتدى بهما أو اتزر بسراويل
فلا فدية لأنه لبس ليس لبسا له في العادة فهو كمن لفق إزارا من خرق وطبقها وخاطها فلا فدية عليه
بلا خلاف وكذا لو التحف بقميص أو بعباءة أو ازار ونحوها ولفها عليه طاقا أو طاقين أو أكثر
فلا فدية وسواء فعل ذلك في النوم أو اليقظة قال أصحابنا وله أن يتقلد المصحف وحمائل السيف
وأن يشد الهميان والمنطقة في وسطه ويلبس الخاتم ولا خلاف في جواز هذا كله وهذا الذي ذكرناه
في المطقة والهميان مذهبنا وبه قال العلماء كافة إلا ابن عمر في أصح الروايتين عنه فكرههما وبه قال
نافع مولاه * قال أصحابنا ولا يتوقف التحريم والفدية على المخيط بل سواء المخيط وما في معناه وضابطه
انه يحرم كل ملبوس معمول على قدر البدن أو قدر عضو منه بحيث يحيط به بخياطة أو غيرها فيدخل
فيه درع الزرد والجوشن والجورب واللبد والملزق بعضه ببعض سواء المتخذ من جلد أو قطن أو كتان
أو غير ذلك ولا خلاف في هذا كله *
(فرع) اتفقت نصوص الشافعي والمصنف والأصحاب على أنه يجوز أن يعقد الإزار ويشد
عليه خيطان وأن يجعل له مثل الحجزة ويدخل فيها التكة ونحو ذلك لان ذلك من مصلحة الإزار
فإنه لا يستمسك إلا بنحو ذلك * هكذا صرح به المصنف والأصحاب في جميع طرقهم وكذا نص
عليه الشافعي في الأم ونقل القاضي أبو الطيب في تعليقه ان الشافعي نص على أنه لا يجوز له أن يجعل
للازار حجزة ويدخل فيها التكة لأنه يصير كالسراويل وهذا نقل غريب ضعيف ونقل ابن المنذر
في الاشراف عن الشافعي أنه قال لا يعقد على ازاره وهذا نقل غريب ضعيف مخالف للمعروف
من نصوص الشافعي وطرق الأصحاب * قال الشافعي في الأم ويعقد المحرم عليه أزراره لأنه من صلاح
الإزار قال والإزار ما كان معقودا. هذا نصه بحروفه. ويمكن أن يتأول ما نقله ابن المنذر على أن المراد
بالعقد العقد بالخياطة فهذا احرام كما ذكره المصنف في الكتاب والأصحاب * قال أصحابنا وله غرز
ردائه في طرف إزاره وهذا لا خلاف فيه لأنه يحتاج إليه للاستمساك (وأما) عقد الرداء فحرام
255

وكذلك خله بخلال أو بمسلة ونحوها وكذلك ربط طرفه إلى طرفه الآخر بخيط ونحوه وكله حرام
موجب للفدية * هذا هو المذهب وقد نص الشافعي في الأم على تحريم عقد الرداء وتابعه عليه المصنف
وجماهير الأصحاب وفرق المصنف والأصحاب بين الرداء والإزار حيث جاز عقد الإزار دون
الرداء بأن الإزار يحتاج فيه إلى العقد دون الرداء فعلى هذا إذا عقده أو رده أو خله بخلال أو مسلة
أو جعل له شرجا وعرى وربط الشرج بالعرى لزمته الفدية * هكذا صرح به الشيخ أبو حامد
والجمهور وهو مقتضى النص السابق في تحريم عقد الرداء وقالت طائفة من أصحابنا لا يحرم عقد
الرداء كما لا يحرم عقد الإزار وبهذا قطع إمام الحرمين والغزالي في البسيط والمتولي وغيرهم الا أن
المتولي قال يكره عقده فان عقده فلا فدية ودليل هذا انه لا يعد مخيطا ودليل المذهب انه في معنى
المخيط من حيث إنه مستمسك بنفسه وقد أنكر أبو عمرو بن الصلاح على امام الحرمين تجويزه عقد
الرداء قال ولعله لم يبلغه نص الشافعي والأصحاب في المنع من ذلك وحكي صاحب البيان عن الشيخ
256

أبي نصر صاحب المعتمد من العراقيين أنه قال لا فدية في عقد الرداء والمشهور في المذهب تحريم عقده
ووجوب الفدية فيه والله أعلم *
(فرع) إذا شق الإزار نصفين وجعل له ديلين ولف على كل ساق نصفا وشده فوجهان
(الصحيح) المنصوص في الأم نصا صريحا ووجوب الفدية وبهذا قطع المصنف والجمهور ونقلوه أيضا
عن نصه في الأم وتابعوه عليه وأطبق العراقيون على التصريح به وقطع به البغوي وآخرون من
الخراسانيين قالوا فان فعل ذلك اثم ولزمته الفدية وهكذا نقله الغزالي في البسيط عن العراقيين قال
وفيه احتمال انه لا فدية قاله إمام الحرمين قاله الرافعي الذي نقله الأصحاب وجوب الفدية لأنه
كالسراويل قال وقال إمام الحرمين لا فدية بمجرد اللف وعقده وإنما يجب إن كانت خياطة أو شرج
وعرى وقطع المتولي بأنه يكره ولا يحرم ولا فدية فيه لان الإحاطة على سبيل اللف ليست محرمة
كما لو أتحف بإزار وقميص وعباءة * ووجه المذهب انه شابه السراويل في الصورة والله أعلم * قال
المصنف قال الشافعي في الاملاء وان زر الإزار أو شوكه أو خاطه لم يجز وهذا الذي قاله متفق عليه *
قال أصحابنا فان خالف لزمته الفدية لما سبق من الدليل *
(فرع) يحرم على الرجل لبس القفازين بلا خلاف وفى المرأة خلاف سنوضحه إن شاء الله تعالى
ولو اتخذ الرجل لساعده أو لعضو آخر شيئا مخيطا أو للحيته خريطة يعلقها بها إذا خضبها فالمذهب
تحريمه ووجوب الفدية وبهذا قطع ابن المرزبان والأكثرون لأنه في معنى القفاز وتردد الشيخ أبو محمد
257

الجويني في تحريمه لان المقصود تحريم الملابس المعتادة وهذا ليس معتادا *
(فرع) قد ذكرنا أن لبس الخف حرام على الرجل المحرم وهذا مجمع عليه سواء كان الخف
صحيحا أو مخرقا لعموم الحديث الصحيح السابق (وأما) لبس المداس والحمحم والخف المقطوع
أسفل من الكعبين فهل يجوز مع وجود النعلين فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب
(الصحيح) باتفاقهم تحريمه ونقله المصنف والأصحاب عن نص الشافعي وقطع به كثيرون أو الأكثرون
وهو مقتضي قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح السابق (فمن لم يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما
حتى يكونا أسفل من الكعبين) والله أعلم *
(فرع) قال صاحب البيان قال الصيمري إذا أدخل رجليه إلى ساقى خفيه أو أدخل إحدى
رجليه إلى قرار الخف دون الأخرى فلا فدية لأنه ليس لابس خفين هذا كلامه (فأما) المسألة الثانية
وهي إدخال إحدى الرجلين إلى قرار الخف فغلط صريح بل الصواب وجوب الفدية بلا خلاف
هذا هو المفهوم من كلام الأصحاب وصرح به جماعة منهم المتولي لو لبس الخف في إحدى رجليه
لزمته الفدية لوجود مخالفة أمر الشارع وحصول الستر * هذا كلام المتولي وكلام غيره بمعناه قال
أصحابنا لأنه لا فرق في الحرام الموجب للفدية بين ما يستوعب العضو أو بعضه كما لو ستر بعض رأسه أو
لبس القميص إلى سرته ونحو ذلك فإنه تجب الفدية بلا خلاف (وأما) المسألة الأولى فينبغي أن يجئ
فيها الخلاف السابق في باب مسح الخفين فيما إذا أدخل رجله إلى ساق الخف ثم أحدث قبل استقرارها
في القدم هل يجوز المسح أم لا (الأصح لا يجوز فلا يكون لبسا فلا فدية (والثاني) يجوز المسح فيكون
لبسا فتجب الفدية والله أعلم *
258

(فرع) قال أصحابنا لو كان على المحرم جراحة فشد عليها خرقة فإن كانت في غير الرأس
فلا فدية وإن كانت في الرأس لزمه الفدية لأنه يمنع في الرأس المخيط وغيره لكن لا
إثم عليه للعذر *
(فرع) قال الدارمي وغيره لو لف وسطه بعمامة أو أدخل يده في كم قميص منفصل عنه
فلا فدية له *
(فرع) قال أصحابنا سواء في كل ما ذكرناه اللبس في زمن طويل وقصير وسواء الرجل والصبي
لكن الصبي لا يأثم وتجب الفدية وهل تجب في ماله أم مال الولي فيه الخلاف السابق في الباب الأول *
(فرع) هذا الذي ذكرناه كله إذا لم يكن للرجل عذر في اللبس فإن كان عذر ففيه مسائل (إحداها)
إذا احتاج إلى ستر رأسه أو لبس المخيط لعذر كحر أو برد أو مداواة أو احتاجت المرأة إلى ستر الوجه
جاز الستر ووجبت الفديد لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) الآية (الثانية)
إذا لم يجد رداء لم يجز له لبس القميص بل يرتدى به ولو لم يجد ازار أو وجد سراويل نظران لم يتأت منه
ازار لصغره أو لعدم آلة الخياطة أو لخوف التخلف عن القافلة ونحو ذلك فله لبسه ولا فدية لحديث
ابن عباس السابق في أول الفصل * وان تأتى منه ازار وأمكنه ذلك بلا ضرر فهل يجوز لبس السراويل
على حاله فيه طريقان (المذهب) جوازه وبه قطع المصنف وسائر العراقيين والمتولي وآخرون من الخراسانيين
والثاني حكاه البغوي وآخرون من الخراسانيين فيه وجهان (أصحهما) هذا (والثاني) لا يجوز بل يتعين جعله
إزارا فان لبسه سراويل لزمه الفدية وبهذا الوجه قطع الفوراني ووجهه أنه غير مضطر إلى السراويل
259

والصواب الأول لعموم الحديث ولان في تكليف قطعه مشقة وتضييع مال * هذا كله إذا لم
يمكنه أن يتزر بالسراويل على هيئته فان أمكنه لم يجز لبسه على صفته فان لبسه لزمته الفدية * صرح
به المتولي وغيره وهو ظاهر وقياسا على ما لو فقد الرداء ووجد القميص فإنه لا يجوز لبسه بل يرتدى
به كما سبق * وحيث جوزنا لبس السراويل لعدم الإزار فلبسه فلا فدية * وان طال زمانه فلو وجد
الإزار لزمه نزعه في الحال فان أخر أثم ولزمته الفدية إن كان عالما صرح به الأصحاب واتفقوا
عليه * وإذا وجد السراويل ووجد إزار يباع ولا ثمن معه أو كان يباع بأكثر من ثمن المثل جاز
لبس السراويل * قال الدارمي وغيره ولو وهب له الإزار لم يلزمه قبوله بل له لبس السراويل
لمشقة المنة في قبوله وكذا لو وهب له ثمنه فإن كان الواهب ولده ففي وجوب قبوله وجهان حكاهما
الدارمي والقاضي أبو الطيب وغيرهما وهما كالوجهين في وجوب الحج ببذل الولد المال للمعضوب
وسبق في بذل ثمن الماء في التيمم مثله * قال الدارمي والقاضي أبو الطيب وآخرون لو أعير ازار
لم يجز لبس السراويل هكذا قطع به الدارمي وقد سبق في وجوب قبوله عارية الثوب لمن يصلي
فيه وجهان (الصحيح) وجوبه وهنا أولى بجريان الخلاف كطول زمان لبسه هنا في العادة ولو كان
مع سراويل قيمته قيمة ازار فقد أطلق الدارمي أنه يلزمه أن يستبدل به ازار إذا أمكنه * والصواب
260

التفصيل ذكره القاضي أبو الطيب في تعليقه * قال إن أمكنه ذلك من غير مضى زمان تظهر فيه
عورته لزمه والا فلا والله أعلم * (الثالثة) إذا لم يجد نعلين جاز لبس المداس وهو المكعب ولبس
خفين مقطوعين من أسفل الكعبين ولا فدية لحديث ابن عباس * ولو لبس الخفين المقطوعين لفقد
النعلين ثم وجد النعلين وجب نزعه في الحال فان اخر وجبت الفدية * هذا هو المذهب والمنصوص
وبه قطع الجمهور كما قلنا في لبس السراويل بعد وجود الإزار (والثاني) يجوز وبه قال أبو حنيفة وهو
الوجه السابق في جواز لبس المداس والخفين المقطوعين مع وجود النعلين لأنهما في معنى النعلين
ولهذا لا يجوز المسح عليهما وهذا ضعيف لان ظاهر الحديث تخصيص الإباحة لمن لم يجد نعلين وما
ذكروه من المسح ينتقض بالخف المخرق فإنه لا يجوز المسح عليه مع تحريم لبسه ووجوب الفدية
فيه * قال أصحابنا وإذا جاز لبس الخفين المقطوعين لم يضر استتار ظهر القدمين بباقيه * قال أصحابنا
والمراد بعقد الإزار والخف أن لا يقدر على تحصيله لعقده أو لعدم بذل مالكه أو عجز عن ثمنه
وأجرته ولو بيع بغبن أو نسيئة أو وهب له لم يلزمه قبوله والله أعلم *
(فرع) هذا الذي سبق كله في أحكام الرجل (أما) المرأة فالوجه في حقها كرأس الرجل
فيحرم ستره بكل ساتر كما سبق في رأس الرجل ويجوز لها ستر رأسها وسائر بدنها بالمخيط وغيره
261

كالقميص والخف والسراويل وتستر من الوجه القدر اليسير الذي بلى الرأس لان ستر الرأس
واجب لكونه عورة ولا يمكن استيعاب ستره إلا بذلك * قال أصحابنا والمحافظة على ستر الرأس
بكماله لكونه عورة أولى من المحافظة على كشف ذلك الجزء من الوجه * قال أصحابنا ولها
أن تسدل على وجهها ثوبا متجافيا عنه بخشبة ونحوها سواء فعلته لحاجة كحر أو برد أو خوف
262

فتنة ونحوها أم لغير حاجة * فان وقعت الخشبة فأصابت الثوب بغير اختيارها ورفعته في الحال
فلا فدية وإن كان عمدا أو استدامته لزمتها الفدية وهل يحرم عليها لبس القفازين فيه قولان
مشهوران (أصحهما) عند الجمهور تحريمه وهو نصه في الأم والاملاء ويجب به الفدية (والثاني) لا يحرم
ولا فدية ولو اختضبت ولفت على يدها خرقة فوق الخضاب أو لفتها بلا خضاب فالمذهب لا فدية
وقيل قولان كالقفازين * وقال الشيخ أبو حامد إن لم تشد الخرقة فلا فدية وإلا فالقولان وقد
سبقت هذه المسألة واضحة في أوائل هذا الباب عند استحباب الحناء للمرأة عند الاحرام *
263

(فرع) هذا الذي ذكرناه في إحرام المرأة ولبسها هو المشهور من نصوص الشافعي
والأصحاب ولم يفرقوا بين الحرة والأمة * وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه هذا المذكور
هو حكم الحرة (فاما) الأمة ففي عورتها وجهان (أحدهما) أنها كالرجل فعورتها ما بين سرتها
وركبتها (والثاني) جميع بدنها عورة إلا رأسها ويديها وساقيها * قال فعلى هذا الثاني فيها وجهان * قال
القاضي أبو حامد هي كالحرة في الاحرام فيثبت لها حكم الحرة في كل ما ذكرناه قال ومن أصحابنا
من قال وفى ساقيها ورأسها وجهان كالقفازين للحرة * قال وإن قلنا هي كالرجل فوجهان (أحدهما)
أنها كالرجل في حكم الاحرام (والثاني) كالمرأة * قال وإن كان نصفها حرا ونصفها رقيقا فهل
هي كالأمة أو كالحرة فيه وجهان * هذا آخر كلام القاضي أبي الطيب وهو شاذ والمذهب ما سبق *
(فرع) (أما) الخنثى المشكل فقال أصحابنا ان ستر وجهه فلا فدية فيه لاحتمال أنه رجل
وإن ستر رأسه فلا فدية لاحتمال أنه امرأة وان سترهما وجبت لتيقن ستر ما ليس له ستره * قال القاضي
أبو الفتوح فان قال اكشف رأسي ووجهي قلنا فيه ترك للواجب قال ولو قيل يؤمر بكشف الوجه كان
صحيحا لأنه إن كان رجلا فكشف وجهه لا يؤثر ولا يمنع منه وإن كان امرأة فهو الواجب قال صاحب
البيان وعلى قياس قول أبي الفتوح إذا لبس الخنثى قميصا والخف أو سراويل أو خفا فلا فدية لجواز
كونه امرأة ويستحب ان لا يستتر بالقميص والخف والسراويل لجواز كونه رجلا ويمكنه ستر
ذلك بغير المخيط * هكذا ذكر حكم الخنثى جمهور الأصحاب وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه
264

لا خلاف انا نأمره بالستر ولبس المخيط كما نأمره في صلاته أن يستتر كالمرأة قال وهل تلزمه الفدية
فيه وجهان (أصحهما) لا لان الأصل براءته (والثاني) يلزمه احتياطا كما يلزمه الستر في صلاته احتياطا
للعبادة والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء فيمن لم يجد نعلين * قد ذكرنا أن مذهبنا انه يجوز له لبس خفين
بشرط قطعهما أسفل من الكعبين ولا يجوز من غير قطعهما وبه قال مالك وأبو حنيفة وداود والجمهور
وهو مروى عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمر وعروة والنخعي * وقال أحمد يجوز لبسهما من غير
قطع وروى ذلك عن عطاء وسعيد بن سالم القداح * واحتج احمد بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بعرفات يقول السراويل لمن لم يجد الإزار والخفاف لمن لم يجد
النعلين يعني المحرم) رواه البخاري ومسلم وعن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) من لم يجد نعلين
فليلبس خفين ومن لم يجد إزارا فليلبس سراويل (رواه مسلم * واحتج أصحابنا بحديث ابن عمر
ان رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم ما يلبس المحرم من الثياب فذكر الحديث السابق في أول الفصل إلى
265

قوله صلى الله عليه وسلم (الا أحد لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين) رواه البخاري
ومسلم وأجاب الشافعي والأصحاب عن حديثي ابن عباس وجابر بأن حديث ابن عمر
فيه زيادة فالأخذ به أولى ولأنه مفسر وخبر ابن عباس مجمل فوجب ترجيح حديث ابن عمر
قال الشافعي وابن عمر وابن عباس حافظان عدلان لا مخالفة بينهما لكن زاد أحدهما زيادة فوجب
قبولها والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا أنه إذا لم يجد إزارا جاز له لبس السراويل ولا فدية وبه قال أحمد وداود
وجمهور العلماء * وقال مالك وأبو حنيفة لا يجوز له لبسه وان عدم الإزار فان لبسه لزمه الفدية * وقال
الرازي من الخفية يجوز لبسه وعليه الفدية * ودليلنا حديث ابن عمر وابن عباس المذكورين في
الفرع والقياس على من عدم النعلين فإنه ليس له لبس الخفين المقطوعين ولا فدية عليه بالاتفاق
والفرق بينه وبين ما قاسوا عليه من تحريم لبس القميص إذا لم يجد الرداء لا يجب عليه لبسه فلا
ضرورة إليه بخلاف الإزار فإنه يجب لبسه لستر العورة فإذا لم يجد عدل إلى السراويل ولان
السراويل لا يمكنه أن يتزر به ويمكنه أن يرتدي بالقميص (وإذا قلنا) لو أمكنه أن يتزر بالسراويل
لم يجز لبسه كما سبق ايضاحه *
(فرع) قد ذكرنا أنه لا يجوز للمحرم لبس القباء سواء أخرج يديه من كميه أم لا فان لبسه
لزمه الفدية وبه قال مالك وحكاه ابن المنذر بمعناه عن الأوزاعي * وقال إبراهيم النخعي وأبو
حنيفة وأبو ثور والخرقي من أصحاب أحمد يجوز لبسه إذا لم يدخل يديه في كميه * دليلنا على تحريمه
حديث ابن عمر (أن رجلا أتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله ما يلبس المحرم من الثياب قال لا يلبس
القميص ولا العمامة ولا البرنس ولا السراويل ولا القباء ولا ثوبا يمسه ورس أو زعفران) رواه
266

البيهقي باسناد صحيح على شرط الصحيح قال البيهقي وهذه الزيادة وهي ذكر القباء صحيحة محفوظة
وعن ابن عمر أيضا قال (نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لبس القميص والأقبية
والسراويلات والخفين الا أن لا يجد نعلين) رواه البيهقي باسناد صحيح ولأنه مخيط فكان محرما
موجبا للفدية كالجبة (وأما) تشبيههم إياه بمن التحف بقميص فلا يصح لان ذلك لا يسمي لبسا في
القميص ويسمى لبسا في القباء ولأنه غير معتاد في القميص ومعتاد في القباء والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يجوز للمحرم ان يستظل في المحمل بما شاء زاكيا ونازلا
وبه قال أبو حنيفة * وقال مالك واحمد لا يجوز فان فعل فعليه الفدية وعن أحمد رواية أخرى انه
لا فدية وأجمعوا على أنه لو قعد تحت خيمة أو سقف جاز ووافقونا على أنه إذا كان الزمان يسيرا
في المحمل فلا فدية وكذا لو استظل بيده ووافقونا انه لا فدية * وقد يحتج بحديث عبد الله بن عباس
ابن أبي ربيعة قال (صحبت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فما رأيته مضطربا فسطاطا حتى رجع)
رواه الشافعي والبيهقي باسناد حسن وعن ابن عمر (انه أبصر رجلا على بعيره وهو محرم قد استظل
بينه وبين الشمس فقال اضح لمن أحرمت له) رواه البيهقي باسناد صحيح * وعن جابر عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال (ما من محرم يضحى للشمس حتى تغرب الا غربت بذنوبه حتى يعود كما
ولدته أمه) وراه البيهقي وضعفه * دليلنا حديث أم الحصين رضي الله عنها قالت (حججنا مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر
267

رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة) رواه مسلم في صحيحه ولأنه لا يسمى لبسا (وأما)
حديث جابر المذكور فقد ذكرنا انه ضعيف مع أنه ليس فيه نهي وكذا فعل عمر وقول ابن عمر
ليس فيه نهى ولو كان فحديث أم الحصين مقدم عليه والله أعلم *
(فرع) مذهبنا انه يجوز للرجل المحرم ستر وجهه ولا فدية عليه وبه قال جمهور العلماء * وقال
أبو حنيفة ومالك لا يجوز كرأسه * واحتج لهما بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
في المحرم الذي خر من بعيره (ولا تخمروا وجهه ولا رأسه) رواه مسلم وعن ابن عمر أنه كأن يقول
(ما فوق الذقن من الرأس فلا يخمره المحرم رواه مالك والبيهقي وهو صحيح عنه * واحتج أصحابنا
برواية الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه (أن عثمان بن عفان وزيد
ابن ثابت ومروان بن الحكم كانوا يخمرون وجوههم وهم حرم) وهذا اسناد صحيح وكذلك
رواه البيهقي ولكن القاسم لم يدرك عثمان وأدرك مروان * واختلفوا في امكان إدراكه زيدا *
وروى مالك والبيهقي بالاسناد الصحيح عن عبد الله بن أبي بكر عن عبد الله بن عامر بن
ربيعة قال (رأيت عثمان بالعرج وهو محرم في يوم صائف قد غطى وجهه بقطيفة ارجوان) (والجواب)
عن حديث ابن عباس انه إنما نهى عن تغطية وجهه لصيانة رأسه لا لقصد كشف وجهه فإنهم
لو غطوا وجهه لم يؤمن أن يغطوا رأسه ولا بد من تأويله لان مالكا وأبا حنيفة يقولان لا يمتنع
من ستر رأس الميت ووجهه والشافعي وموافقوه يقولون يباح ستر الوجه دون الرأس فتعين تأويل
الحديث (واما) قول ابن عمر فمعارض بفعل عثمان وموافقيه والله أعلم *
268

(فرع) قد ذكرنا ان الأصح عندنا تحريم لبس القفازين على المرأة وبه قال عمر وعلى وعائشة
رضي الله عنهم * وقال الثوري وأبو حنيفة يجوز وحكى ذلك عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه *
(فرع) قد ذكرنا ان مذهبنا انه يجوز ان يتقلد السيف وبه قال الأكثرون ونقل القاضي
أبو الطيب عن الحسن البصري كراهته وعن مالك انه لا يجوز
* قال المصنف رحمه الله *
(ويحرم عليه استعمال الطيب في ثيابه وبدنه لحديث ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال) ولا يلبس من الثياب ما مسه ورس أو زعفران) وتجب به الفدية قياسا على الحلق ولا يلبس
ثوبا مبخرا بالطيب ولا ثوبا مصبوغا بالطيب وتجب به الفدية قياسا على ما مسه الورس والزعفران
وإن علق بخفه طيب وجبت به الفدية لأنه ملبوس فهو كالثوب ويحرم عليه استعمال الطيب
في بدنة ولا يجوز أن يأكله ولا أن يكتحل به ولا أن يستعط به ولا يحتقن فان استعمله في
شئ من ذلك لزمته الفدية لأنه إذا وجب ذلك فيما يستعمله في الثياب فلان يجب فيما يستعمله
في بدنه أولى وإن كان الطيب في طعام نظرت فان ظهر في طعمه أو رائحته لم يجز أكله وتجب
به الفدية وان ظهر ذلك في لونه وصبغ به اللسان من غير طعم ولا رائحة فقد قال في المختصر الأوسط
269

من الحج لا يجوز وقال في الأم والاملاء يجوز قال أبو إسحاق يجوز قولا واحدا وتأول قوله في
الأوسط على ما إذا كانت له رائحة ومنهم من قال فيه قولان (أحدهما) لا يجوز لان اللون أحدي صفات
الطيب فمنع من استعماله كالطعم والرائحة (والثاني) يجوز وهو الصحيح لان الطيب بالطعم والرائحة) *
(الشرح) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم (وقوله) قياسا على الحلق إنما قاس عليه
لأنه منصوص عليه في القرآن وفي حديث كعب بن عجرة السابق (وقوله) وان علق بخفه طيب
قال الفارقي وفرض هذا في النعل أولى لان النعل يجوز له لبسه والخف يحرم لبسه قال ويمكن تصويره
بأن يكون قد لبسه ولزمته الفدية وعلق به الطيب فيلزمه فدية هذا كلامه وهو متصور في النعل وفى
الخف كما ذكره وفيما لو لبس خفا مقطوعا للعجز عن النعلين وفيما لو لبس الخفين جاهلا تحريمهما
وعلق به طيب وهو يعلم تحريمه (أما) الأحكام فقال الشافعي والأصحاب يحرم على الرجل والمرأة
استعمال الطيب وهذا مجمع عليه لحديث ابن عمر * قال أصحابنا واستعمال الطيب هو أن يلصق
الطيب ببدنه أو ملبوسه على الوجه المعتاد في ذلك الطيب فلو طيب جزءا من بدنه بغالية أو مسك
270

مسحوق أو ماء ورد لزمته الفدية سواء الالصاق بظاهر البدن لو باطنه بان اكله أو احتقن به أو
استعط أو اكتحل أو لطخ به رأسه أو وجهه أو غير ذلك من بدنه اثم ولزمته الفدية ولا خلاف
في شئ من ذلك الا الحقنة والسعوط ففيهما وجه انه لا فدية فيهما * حكاه الرافعي وهو ضعيف
(والمهشور) وجوب الفدية وبه قطع المصنف والجمهور ولو لبس ثوبا مبخرا بالطيب أو ثوبا مصبوغا
بالطيب أو علق بنعله طيب لزمته الفدية لما ذكره المصنف ولو عبقت رائحة الطيب دون عينه
بان جلس في دكان عطار أو عند الكعبة وهي تبخر أو في بيت يبخر ساكنوه فلا فدية بلا خلاف
ثم إن لم يقصد الموضع لاشتمام الرائحة لم يكره وإن قصد لاشتمامها ففي كراهته قولان للشافعي (أصحهما)
يكره وبه قطع القاضي أبو الطيب وآخرون وهو نصه في الاملاء (والثاني) لا يكره وقطع القاضي
حسين بالكراهة وقال إنما القولان في وجوب الفدية (والمذهب) الأول وبه قطع الأكثرون وقطع
البندنيجي انه لا يكره القرب من الكعبة لشم الطيب * قال وإنما القولان في غيرها وليس كما قال
بل المذهب طرد الخلاف في الجميع ولو احتوى على مجمرة فتبخر بالعود بدنه أو ثيابه لزمته الفدية
271

بلا خلاف لأنه يعد استعمالا ولو مس طيبا يابسا كالمسك والكافور والدريرة فان علق بيده لونه
وريحه وجبت الفدية بلا خلاف لان استعماله هكذا يكون وإن لم يعلق بيده شئ من عينه لكن
عبقت به الرائحة ففي وجوب الفدية قولان (الأصح) عند الأكثرين وهو نصه في الأوسط لا تجب
لأنها عن مجاوزة فأشبه من قعد عند الكعبة وهي تبخر (والثاني) تجب وصححه القاضي أبو الطيب
وهو نصه في الأم والاملاء والقديم لأنها عن مباشرة وإن كان الطيب رطبا فان علم أنه رطب
وقصد مسه فعلق بيده لزمته الفدية وإن ظن أنه يابس فمسه فعلق بيده فقولان (أحدهما) تجب
الفدية لأنه مسه قاصدا فصار كمن علم أنه رطب (والثاني) لا لأنه علق به بغير اختياره فصار كمن
رش عليه ما ورد بغير اختياره وذكر الدارمي أن هذا القول الثاني نصه في الجديد والأول هو
القديم وذلك ذكره صاحب التقريب قال الرافعي رجح إمام الحرمين وغيره الوجوب ورجحت
طائفة عدم الوجوب (قلت) هذا أصح لأنه نصه في الجديد ولأنه غير قاصد وقد ذكر المصنف
المسألة في أواخر الباب في استعمال الطيب ناسيا والله أعلم * ولو شد مسكا أو كافورا أو عنبرا
في طرف ثوبه أو جبته أو لبسته المرأة حشوا بشئ منها وجبت الفدية قطعا لأنه استعماله ولو شد
العود فلا فدية لأنه لا يعد تطيبا بخلاف شد المسك ولو شم الورد فقد تطيب ولو شم ماء الورد فلا
بل استعماله أن يصبه على بدنه أو ثوبه ولو حمل مسكا أو طيبا غيره في كيس أو خرقة مشدودا
أو قارورة مصممة الرأس أو حمل الورد في وعاء فلا فدية نص عليه في الأم وقطع به الجمهور وفيه
وجه شاذ انه إن كان يشم قصدا لزمته الفدية ولو حمل مسكا في قارورة غير مشقوقة فلا فدية
أصح الوجهين وبه قطع القاضي أبو الطيب ونقله عن الأصحاب ولو كانت القارورة مشقوقة أو مفتوحة
الرأس قال الأصحاب وجبت الفدية قال الرافعي وفيه نظر لأنه لا يعد طيبا ولو جاش على فراش
مطيب أو أرض مطيبة أو نام عليها مفضيا إليها ببدنه أو ملبوسه لزمته الفدية ولو فرض فوقه ثوبا
272

ثم جلس عليه أو نام لم تجب الفدية نص عليه الشافعي في الأم واتفق عليه الأصحاب لكن إن كان
الثوب رقيقا كره وإلا فلا * ولو داس بنعله طيبا لزمته الفدية *
(فرع) لو خفيت رائحة الطيب أو الثوب المطيب لمرور الزمان أو لغبار وغيره فإن كانت
بحيث لو أصابه الماء فاحت رائحته حرم استعماله وان بقي اللون لم يحرم على أصح الوجهين * ولو انغمر
بشئ من الطيب في غيره كماء ورد انمحق في ماء كثير لم تجب الفدية باستعماله على أصح الوجهين فلوا انغمرت
الرائحة وبقى اللون أو الطعم ففيه الخلاف الذي سنذكره إن شاء الله تعالى في الطعام المطيب (أما)
إذا أكل طعاما فيه زعفران أو طيب آخر أو استعمل مخلوطا بالطيب لا لجهة الاكل فينظر إن استهلك
الطيب فلم يبق له ريح ولا طعم ولا لون فلا فدية بلا خلاف وإن ظهرت هذه الأوصاف وجبت
الفدية بلا خلاف وإن بقيت الرائحة فقط وجبت الفدية لأنه يعد طيبا وإن بقي اللون وحده فطريقان
مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب ودليلهما في الكتاب (أصحهما) على قولين (أصحهما) لا فدية
وهو نصه في الأم والاملاء والقديم (والثاني) يجب وهو نصه في الأوسط (والطريق الثاني) لا فدية
قطعا * وإن بقي الطعم فقط فثلاث طرق ذكرها صاحب الشامل والبيان وغيرهما (أصحها) وجوب
الفدية قطعا وبه قطع المصنف والجمهور ونقل القاضي أبو الطيب في تعليقه اتفاق الأصحاب عليه
كالرائحة (والثاني) فيه طريقان (والثالث) لا فدية وهذا ضعيف أو غلط * وحكى البندنيجي طريقا
رابعا لا فدية قطعا ولو أكل الحليحتين المربى في الورد نظر في استهلاك الورد فيه وعدمه قال
الرافعي ويجئ فيه هذا التفصيل وأطلق الدارمي انه إن كان فيه ورد ظاهر وجبت الفدية قال
الماوردي والروياني لو أكل العود لا فدية عليه لأنه لا يعد تطيبا إلا بالتبخر به بخلاف المسك
والله أعلم *
(فرع) لو كان المحرم أخشم لا يجد رائحة فاستعمل الطيب لزمته الفدية بلا خلاف
لأنه وجد استعمال الطيب مع العلم بتحريمه فوجبت الفدية وان لم ينتفع به كما لو نتف شعر لحيته
أو غيرها من شعوره التي لا ينفعه نتفها وممن صرح بالمسألة المتولي وصاحبا العدة والبيان *
273

(فرع) قال القاضي أبو الطيب في تعليقه قال الشافعي في الأم وإن لبس إزارا مطيبا لزمه
فدية واحدة للطيب ولا شئ عليه في اللبس لان لبس الإزار مباح قال وإن جعل على رأسه الغالية
لزمه فديتان أحداهما للطيب والثانية لتغطيته رأسه وهما جنسان فلا يتداخلان * هذا نقل القاضي وكذا
نقله غيره قال الدارمي لو لبس إزارا غير مطيب ولبس فوقه إزارا آخر مطيبا قال ابن القطان فيه
وجهان يعنى هل تجب فيه فدية أم فديتان الأصح فدية لان جنس الإزار مباح ولو طبق إزرا
كثيرة بعضها فوق بعض جاز * قال المصنف رحمه الله *
(والطيب ما يتطيب به ويتخذ منه الطيب كالمسك والكافور والعنبر والصندل والورد والياسمين
والورس والزعفران وفى الريحان الفارسي والمرزنجوش واللينوفر والنرجس قولان (أحدهما) يجوز
شمها لما روى عثمان رضي الله عنه (أنه سئل عن المحرم يدخل البستان فقال نعم ويشم الريحان) ولأن هذه
الأشياء لها رائحة إذا كانت رطبة فإذا جفت لم يكن لها رائحة (والثاني) لا يجوز لأنه يراد
للرائحة فهو كالورد والزعفران (وأما) البنفسج فقد قال الشافعي ليس هو بطيب فمن أصحابنا من
قال هو طيب قولا واحدا لأنه تشم رائحته ويتخذ منه الدهن فهو كالورد وتأول قول الشافعي على
المربب بالسكر ومنهم من قال هو بطيب قولا واحدا لأنه يراد وفيه قولا واحدا لأنه يراد للتداوي ولا يتخذ من يابسه
طيب ومنهم من قال هو كالنرجس والريحان وفيه قولان لأنه يشم رطبه ولا يتخذ من يابسه طيب
(وأما) الأترج فليس بطيب لقوله صلى الله عليه وسلم (وليلبسن ما أحببن من المعصفر لأنه يراد للون فهو
كاللون والحناء ليس بطيب لما روى (ان أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم كن يختضبن بالحناء
وهن محرمات) ولأنه يراد للون فهو كالعصفر * ولا يجوز أن يستعمل الادهان المطيبة كدهن الورد
والزنبق ودهن البان المنشوش وتجب بها الفدية لأنه يراد للرائحة (وأما) غير المطيب كالزيت
والشيرج والبان غير المنشوش فإنه يجوز استعمالها في غير الرأس واللحية لأنه ليس فيه طيب ولا
تزيين ولا يحرم استعمالها في شعر الرأس واللحية لأنه يرجل الشعر ويزينه وتجب به الفدية فان استعمله
274

في رأسه وهو أصلع جاز لأنه ليس فيه تزيين وإن استعمله في رأسه وهو محلوق لم يجز لأنه يحسن
الشعر إذا نبت * ويجوز أن يجلس عند العطار وفى موضع يبخر لان في المنع من ذلك مشقة
ولان ذلك ليس بتطيب مقصود والمستحب أن يتوقى ذلك الا أن يكون في موضع قربة كالجلوس
عند الكعبة وهي تجمر فلا يكره ذلك لان الجلوس عندها قربة فلا يستحب تركها لأمر مباح * وله أن
يحمل الطيب في خرقة أو قارورة والمسك في نافجة ولا فدية عليه لان دونه حائلا * وإن مس طيبا فعبقت
به رائحته ففيه قولان (أحدهما) لا فدية عليه لأنه رائحة عن مجاورة فلم يكن لها حكم كالماء إذا تغيرت
رائحته بجيفة بقربه (والثاني) يجب لان المقصود من الطيب هو الرائحة وقد حصل ذلك * وإن كان
عليه طيب فأراد غسله فالمستحب أن يولى غيره غسله حتى لا يباشره بيده فان غسله بنفسه جاز لان
غسله ترك له فلا يتعلق به تحريم كما لو دخل دار غيره بغير اذنه فأراد ان يخرج * وإن حصل عليه طيب
ولا يقدر على ازالته بغير الماء وهو محدث ومعه من الماء ما لا يكفي الطيب والوضوء غسل به الطيب
لان الوضوء له بدل وغسل الطيب لا بدل له وإن كان عليه نجاسة استعمل الماء في إزالة النجاسة لأن النجاسة
تمنع صحة الصلاة والطيب لا يمنع صحة الحج *
275

(الشرح) أما حديث (وليلبس ما أحببن) فسبق بيانه قريبا في فصل تحريم اللباس (وأما) الأثر
المذكور عن عثمان فغريب وصح عن ابن عباس معناه فذكره البخاري في صحيحه عن ابن عباس
معناه تعليقا بغير اسناد أنه قال (يشم المحرم الريحان ويتداوى بأكل الزيت والسمن) وروى البيهقي
باسناده الصحيح المتصل عن ابن عباس أيضا أنه كان لا يرى بأسا للمحرم بشم الريحان * وروى
البيهقي عكسه عن ابن عمر وجابر فروى باسنادين صحيحين (أحدهما) عن ابن عمر انه كان يكره
شم الريحان للمحرم (والثاني) عن أبي الزبير انه سمع جابرا يسأل عن الريحان أيشمه المحرم والطيب
والدهن فقال لا (وأما) قوله إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم (كن يختضبن بالحناء وهن
محرمات) فغريب وقد حكاه ابن المنذر في الاشراف بغير اسناد وإنما روى البيهقي في هذه المسألة
حديث عائشة انها سئلت عن الحناء والخضاب فقالت (كان خليلي صلى الله عليه وسلم لا يحب ريحه)
قال البيهقي فيه كالدلالة على أن الحناء ليس بطيب فقد (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الطيب
ولا يحب ريح الحناء) (أما) ألفاظ الفصل فالياسمين والياسمون إن شئت أعربته بالياء والواو وإن شئت
جعلت الاعراب في النون لغتان (وأما) الورس فسبق بيانه في باب زكاة الثمار (وأما) الريحان الفارسي
فهو الضمران (واما) المرزنجوش فميم مفتوحة ثم راء ساكنة ثم زاي مفتوحة ثم نون ساكنة ثم جيم
مضمومة ثم واو ثم شين معجمة وهو معروف وهو نوع من الطيب يشبه الغسلة بكسر العين
والعوام يصحنونه (واما) اللينوفر فهكذا هو في المهذب بلامين وذكر أبو حفص بن مكي الصقلي
الامام في كتابه (تثقيف اللسان) انه إنما يقال نيلوفر بفتح النون واللام ونينوفر بنلونين مفتوحتين
ولا يقال نينوفر بكسر النون وجعله من لحن العوام قوله ولأن هذه الأشياء لها رائحة إذا كانت
رطبة فإذا جفت لم يكن لها رائحة يعني فلا يكون طبيا لان الطيب هو ما قصد به الطيب رطبا ويابسا
وهذه الأشياء ليست كذلك فان رائحتها تختص بحال الرطوبة (قوله) ويشم الريحان هو بفتح
الياء والشين (قوله) الأترج هو بضم الهمزة والراء وإسكان التاء بينهما وتشديد الجيم ويقال
ترنج حكاه الجوهري وآخرون والأول أفصح وأشهر (وأما) الحناء فممدود وهو اسم جنس والواحدة
حناءة كقثاء وقثاءة (قوله) كدهن الورد والزنبق هو بفتح الزاي ثم نون ساكنة ثم باء موحدة
276

مفتوحة ثم قاف وهو دهن الياسمين الأبيض وقال الجوهري في صحاحه هو دهن الياسمين فلم
يخصه بالأبيض وهو لفظ عربي (قوله) دهن البان المنشوش هو بالنون والشين المعجمة المكررة
ومعناه المغلي بالنار وهو يغلى بالمسك (قوله) الكعبة وهي تجمر بالجيم المفتوحة وتشديد الميم
أي تبخر (قوله) المسك في نافجة هي بالنون والفاء والجيم وهي وعاؤه الأصلي الذي تلقيه الظبية
(قوله) عبقت رائحته هو بكسر الباء أي فاحت والله أعلم * (أما) الأحكام فقال أصحابنا رحمهم الله
يشترط في الطيب الذي يحكم بتحريمه أن يكون معظم الغرض منه الطيب واتخاذ الطيب منه أو يظهر
فيه هذا الغرض هذا ضابطه ثم فصلوه فقالوا: الأصل في الطيب المسك والعنبر والكافور والعود
والصندل والدريرة ونحو ذلك وهذا كله لا خلاف فيه والكافور صمغ شجر معروف (وأما) النبات الذي
له رائحة فأنواع (منها) ما يطلب للتطييب واتخاذ الطيب منه كالورد والياسمين والخيري والزعفران
والورس ونحوها فكل هذا طيب * وحكي الرافعي وجه شاذ في الورد والياسمين والخيري انها
ليست طيبا والمذهب الأول * قال أصحابنا نص النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح السابق
على الزعفران والورس ونبهنا بهما على ما في معناهما وما فوقهما كالمسك (ومنها) ما يطلب للاكل أو
للتداوي غالبا كالقرنفل والدارسيني والفلفل والمصطكي والسنبل وسائر الفواكه كل هذا وشبهه
ليس بطيب فيجوز أكله وشمه وصبغ الثوب به ولا فدية فيه سواء قليله وكثيره ولا خلاف في شئ
من هذا إلا القرنفل فان صاحب البيان حكي فيه وجهين (أحدهما) وهو قول الصيدلاني انه ليس
بطيب (والثاني) قول الصيمري انه طيب * قال وهو الأصح وليس كما قال بل الصحيح المشهور الذي
قطع به الجمهور انه ليس بطيب والله أعلم * (ومنها) ما ينبت بنفسه ولا يراد للطيب كنور أشجار الفواكه
كالتفاح والمشمش والكمثرى والسفرجل وكالشبح والعيصوم وشقائق النعمان والإذخر والخزامي
277

وسائر أزهار البراري فكل هذا ليس بطيب فيجوز اكله وشمه وصبغ الثوب به ولا فدية فيه
بلا خلاف (ومنها) ما يتطيب به ولا يتخذ منه الطيب كالنرجس والمرزنجوش والريحان الفارسي والآس
وسائر الرياحين ففيها طريقان حكاهما البندنيجي (أصحهما) عنده انها طيب قولا واحدا (والطريق الثاني)
وهو الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور فيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (الصحيح) الجديد انها
طيب موجبة للفدية (والقديم) ليست بطيب ولا فدية * وممن ذكر كل الرياحين في هذا النوع وحكي فيها القولين
المحاملي والبندنيجي وصاحب البيان (وأما) اللنيلوفر ففيه طريقان (المشهور) انه كالنرجس فيكون فيه
القولان (الجديد) تحريمه (والقديم) إباحته * وبهذا الطريق قطع المصنف والأكثرون (والثاني) انه طيب
قولا واحدا حكاه الرافعي وقطع به البندنيجي وقطع المصنف في التلبية بأنه ليس بطيب وهو شاذ
ضعيف (وأما) البنفسج ففيه ثلاث طرق مشهورة ذكرها المصنف (أصحهما) انه طيب (والثاني) انه ليس
بطيب وبه قطع المصنف في التنبيه (والثالث) فيه قولان فإذا قلنا بالمذهب انه طيب فقد ذكر الماوردي
وغيره لنص الشافعي الذي حكاه المصنف تأويلين (أحدهما) انه محمول على المربي بالسكر الذي
ذهبت رائحته وهذا هو التأويل الذي ذكره المصنف وهو المشهور (والثاني) انه محمول على
البنفسج البري * وحكى الرافعي وجها انه يعتبر عادة كل بلد فيما يتخذ طيبا قال وهو غلط نبهنا عليه
والصواب ما سبق *
(فرع) الحناء والعصفر ليسا بطيب بلا خلاف عندنا ولا فدية فيهما كيف استعملهما * وقال
صاحب الإبانة قال الشافعي لو اختضبت المرأة بالحناء ولفت على يدها خرقة فعليها (1) قال فمنهم من قال
فيه قولان ومنهم من قال ليس بطيب قولا واحدا وإنما القولان في لف الخرقة كالقولين في القفازين *
هذا كلامه وكذا قال شارح الإبانة هو وصاحب العدة الحناء هل هو طيب أم لا (قيل) فيه قولان
(وقيل) ليس بطيب قطعا وهذا الخلاف الذي حكياه غلط والمشهور المعروف في المذهب انه ليس
بطيب قولا واحدا وإنما القولان في الخرق الملفوفة وقد سبق بيانه واضحا والله أعلم *

(1) كذا بالأصل فليحرر
278

(فرع) في أنواع من النبات غريبة ذكرها بعض الأصحاب (منها) الكاذي بالذال المعجمة نقل
القاضي أبو الطيب في تعليقه عن الشافعي انه طيب قولا واحدا كالمسك قال الشافعي وهو نبات
يشبه السوسن وممن قطع بأنه طيب الماوردي وصاحب البيان (ومنها) للفاح ذكر المحاملي والقاضي
أبو الطيب والبندنيجي والبغوي والمتولي وصاحب العدة انه على القولين كالنرجس * قال القاضي
أبو الطيب وكذلك القولان في النمام بفتح النون وتشديد الميم وهو نبت معروف طيب الرائحة
قال ويجريان في السوسن والبرم وقال الدارمي النمام يحتمل انه على القولين كالنرجس ويحتمل انه
ليس بطيب قطعا كالبقول * قال الدارمي الأترج والنارنج ليسا بطيب قال وأما قشورهما فقال
أبو إسحاق المروزي ليست بطيب وقال أبو علي بن أبي هريرة فيه قولان كالريحان * هذا كلامه وهو
غريب والصواب القطع بأنها ليست طيبا *
(فرع) حب المحلب قال الدارمي ليس هو بطيب ولم يذكر فيه خلافا وفيما قاله احتمال *
(فرع) الادهان ضربان (أحدهما) دهن ليس بطيب ولا فيه طيب كالزيت والشيرج والسمن والزبد
ودهن الجوز واللوز ونحوها فهذا لا يحرم استعماله في جميع البدن إلا في الرأس واللحية فيحرم استعماله فيها بلا
خلاف لما ذكره المصنف فلو كان أصلع لا تنبت رأسه شعر فدهن رأسه أو أمرد فدهن ذقته فلا فدية بلا خلاف
وإن كان محلوق الرأس فوجهان مشهوران في طريقة خراسان (أصحهما) وبه قطع المصنف وجماهير العراقيين
وجوب الفدية لما ذكره المصنف (والثاني) لا فدية لأنه لا يزول به شعث وهذا اختيار المزني والفوراني *
واتفق أصحابنا على جواز استعمال هذا الدهن في جميع بدنه غير الرأس واللحية سواء شعره وبشره وعلى
جواز أكله * ولو كان على رأسه شجة فجعل هذا الدهن في داخلها من غير أن يمس شعرا فلا فدية بلا
خلاف صرح به الدارمي والبندنيجي والماوردي وصاحب الشامل وآخرون * قال الماوردي ولو طلى
شعر رأسه ولحيته بلبن جاز ولا فدية وان استخرج منه السمن لأنه ليس بدهن ولا يحصل به ترجيل
الشعر * قال وأما الشحم والشمع إذا أذيبا فهما كالدهن يحرم على المحرم ترجيل شعره بهما والله أعلم *
(الضرب الثاني) دهن هو طيب (فمنه) دهن الورد والمذهب وجوب الفدية وبه قطع المصنف والجمهور
279

(وقيل) فيه وجهان حكاه الرافعي وأشار إليه امام الحرمين (ومنه) دهن البنفسج فإن لم نوجب الفدية في نفس
البنفسج فدهنه أولى والا فكدهن الورد * قال الرافعي ثم اتفق الأصحاب على أن ما طرح فيه الورد
والبنفسج فهو دهنهما ولو طرحا على السمسم فأخذ رائحته ثم استخرج منه الدهن قال الجمهور لا فدية فيه
وخالفهم الشيخ أبو محمد الجويني فأوجبها (ومنه) البان ودهنه قال الرافعي أطلق الجمهور أن كل واحد منهما
طيب ونقل امام الحرمين عن نص الشافعي أنهما ليسا بطيب وتابعه الغزالي قال الرافعي ويشبه أن لا يكون
خلافا محققا بل هما محمولان على تفصيل حكاه صاحب المهذب والتهذيب وهو أن دهن البان المنشوش
وهو المغلى في الطيب وغير المنشوش ليس بطيب هذا كلام الرافعي وهو كما قال * وقد قال بالتفصيل
الذي ذكره صاحب المهذب والتهذيب جماعات غيرهما منهم القاضي أبو الطيب والمحاملي وصاحب
البيان وآخرون ونقله المحاملي عن نص الشافعي (ومنه) دهن الزنبق والخيري والكاذي وهذا كله
طيب بلا خلاف لما ذكره المصنف والله أعلم * (وأما) دهن الأترج ففيه وجهان حكاهما الماوردي والروياني
(أحدهما) أنه طيب وبه قطع الدارمي لان قشره يربي به الدهن كالورد (والثاني) ليس بطيب لان الأترج
ليس بطيب وإنما هو مأكول مباح للمحرم *
(فرع) اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يجوز أن يجلس المحرم عند عطار وهو في موضع
يبخر والأولى اجتنابه لما ذكره المصنف وقد سبق بيان هذا في الفصل الذي قبل هذا وسبق فيه أيضا حكم
حمل الطيب في قارورة وخرقة وحمل نافجة المسك وسبق فيه أيضا بيان القولين فيمن مس طيبا فعلقت
به رائحته وأن الأصح أنه لا فدية والله أعلم *
(فرع) متى لصق الطيب ببدنه أو ثوبه على وجه لا يوجب الفدية بأن كان ناسيا أو ألقته ريح عليه لزمه
المبادرة بإزالته بان ينحيه أو يغسله أو يعالجه بما يقطع ريحه * قال الدارمي وغيره لوحته حتى ذهب أثره
280

كفاه * قال المصنف والأصحاب الأولي يأمر غيره بإزالته ولا يباشره بنفسه فان باشره بنفسه جاز
بلا خلاف لما ذكره المصنف فان أخر ازالته مع الامكان لزمته الفدية فإن كان زمنا لا يقدر على ازالته فلا
فدية كمن أكره على التطيب ذكره البغوي * ولو لصق به طيب يوجب الفدية لزمه أيضا المبادرة إلى
ازالته فان أخره عصى ولا تتكرر به الفدية * قال المصنف والأصحاب ولو كان معه ما يكفيه لوضوئه أو
إزالة الطيب ولا يكفيه لهما وهو محدث ولم يمكنه إزالة الطيب بغير الماء غسل الطيب لأنه لا بدل له
ويتيمم * هكذا أطلق المصنف وكثيرون المسألة وقال المحققون هذا إذا لم يمكن أن يتوضأ به ويجمعه
ثم يغسل به الطيب فان أمكن ذلك وجب فعله جمعا بين العبادتين وقد سبقت المسألة واضحة في باب
التيمم في مسألة من وجد بعض ما يكفيه * ولو كان عليه نجاسة وطيب ولم يمكنه الا غسل أحدهما غسل
النجاسة لما ذكره المصنف والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا ولا يكره للمحرم شرى الطيب كما لا يكره شرى المخيط والجارية *
(فرع) يحرم عليه أن يكتحل بما فيه طيب فان احتاج إليه جاز وعليه الفدية وله الاكتحال
بما لا طيب فيه فقد ذكر المصنف في أواخر هذا الباب انه يكره لأنه زينة * واتفق أصحابنا على أنه
لا يحرم (وأما) الكراهة فنقل المزني عن الشافعي انه لا بأس به ونص في الاملاء على كراهته
فقيل قولان (والأصح) انه على حالين فإن لم يكن فيه زينة كالتوتيا الأبيض لم يكره وإن كان فيه
زينة كالإثمد كره إلا لحاجة كرمد *
(فرع) قد ذكرنا أن الطيب حرام على المحرم وهذا مجمع عليه * ومذهبنا انه لا فرق بين أن
يتبخر أو يجعله في بدنه أو ثوبه وسواء كان الثوب مما ينفض الطيب أن لم يكن قال العبدري وبه
قال أكثر العلماء وقال أبو حنيفة يجوز للمحرم أن يتبخر بالعود والند ولا يجوز أن يجعل شيئا من
الطيب في بدنه ويجوز أن يجعله على ظاهر ثوبه فان جعله في باطنه وكان الثوب لا ينفض فلا شئ
عليه وإن كان ينفض لزمه الفدية * دليلنا حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا يلبس ثوبا مسه
ورس أو زعفران) رواه البخاري ومسلم وهو عام يتناول ما ينفض وغيره *
281

(فرع) الحناء ليس بطيب عندنا كما سبق ولا فدية وبه قال مالك وأحمد وداود * وقال أبو حنيفة
طيب يوجب الفدية *
(فرع) إذا لبس ثوبا معصفرا فلا فدية والعصفر ليس بطيب * هذا مذهبنا وبه قال أحمد
وداود وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وجابر وعبد الله بن جعفر وعقيل بن أبي طالب وعائشة
وأسماء وعطاء قال وكرهه عمر بن الخطاب وممن تبعه الثوري ومالك ومحمد بن الحسن وأبو ثور
وقال أبو حنيفة ان نفض على البدن وجبت الفدية وإلا وجبت صدقة * دليلنا الحديث الذي
ذكره المصنف *
(فرع) إذا حصل الطيب في مطبوخ أو مشروب فإن لم يبق له طعم ولا لون ولا رائحة فلا
فدية في أكله وإن بقيت رائحته وجبت الفدية بأكله عندنا كما سبق وقال أبو حنيفة لا فدية * ودليلنا
ان مقصود الطيب وهو الترفه باق *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا أن الزيت والشيرج والسمن والزبد ونحوها من الادهان غير
المطيبة لا يحرم على المحرم استعمالها في بدنه ويحرم عليه في شعر رأسه ولحيته * وقال الحسن بن صالح
يجوز استعمال ذلك في بدنه وشعر رأسه ولحيته وقال مالك لا يجوز أن يدهن بها أعضاءه الظاهرة
كالوجه واليدين والرجلين ويجوز دهن الباطنة وهي ما يوارى باللباس * وقال أبو حنيفة كقولنا في السمن
والزبد وخالفنا في الزيت والشيرج فقال يحرم استعماله في الرأس والبدن * وقال أحمد ان ادهن بزيت
أو شيرج فلا فدية في أصح الروايتين سواء يديه ورأسه * وقال داود يجوز دهن رأسه ولحيته وبدنه
بدهن غيره مطيب * واحتج أصحابنا بحديث فرقد السنجي الزاهد رحمه الله عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (ادهن بزيت غير مقتت وهو محرم) رواه الترمذي
والبيهقي وهو ضعيف وفرقد غير قوى عند المحدثين: قال الترمذي هو ضعيف غريب لا يعرف إلا
282

من حديث فرقد وقد تكلم فيه يحيى بن سعيد (وقوله) غير مقتت أي غير مطيب وإذا لم يثبت
الحديث تعين المصير إلى حديث آخر وهو ان الذي جاء الشرع به استعمال الطيب وهذا ليس منه
فلا يثبت تحريمه * هذا دليل على من حرمه في جميع البدن (أما) من إباحة في الرأس واللحية فالدليل
عليه ما ذكره المصنف *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا أن في تحريم الرياحين قولان (الأصح) تحريمه ووجوب الفدية وبه
قال ابن عمر وجابر والثوري ومالك وأبو ثور وأبو حنيفة إلا أن مالكا وأبا حنيفة يقولان يحرم
ولا فدية * قال ابن المنذر واختلف في الفدية عن عطاء وأحمد وممن جوزه وقال هو حلال لا فدية فيه
عثمان وابن عباس والحسن البصري ومجاهد واسحق قال العبدري وهو قول أكثر الفقهاء *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا جواز جلوس المحرم عند العطار ولا فدية فيه وبه قال ابن المنذر
قال وأوجب عطاء فيه الفدية وكره ذلك مالك *
(فرع) قال ابن المنذر اجمع العلماء على أن للمحرم أن يأكل الزيت والشحم والشيرج والسمن
قال وأجمع عوام أهل العلم على أنه له دهن بدنه بالزيت والشحم والشيرج والسمن قيل وأجمعوا
على أنه ممنوع من حيث استعمال الطيب في جميع بدنه والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(ويحرم عليه أن يتزوج وأن يزوج غيره بالوكالة وبالولاية الخاصة فان تزوج أو زوج فالنكاح
باطل لما روي عثمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب ولأنه
عبادة تحرم الطيب فحرمت النكاح كالعدة وهل يجوز للامام أو الحاكم أن يزوج بولاية الحكم فيه
وجهان (أحدهما) لا يجوز كما لا يجوز أن يزوج بالولاية الخاصة (والثاني) يجوز لان الولاية العامة آكد
والدليل عليه أنه يملك بالولاية العامة ان يزوج المسلمة والكافرة ولا يملك بالولاية الخاصة * ويجوز أن
يشهد في النكاح وقال أبو سعيد الإصطخري لا يجوز لأنه ركن في العقد فلم يجز أن يكون محرما كالولي
(والمذهب) انه يجوز لأن العقد بالايجاب والقبول والشاهد لا صنع له في ذلك * وتكره له الخطبة
لان النكاح لا يجوز فكرهت الخطبة له ويجوز له أن يراجع الزوجة في الاحرام لان الرجعة كاستدامة
283

النكاح بدليل انها تصح من غير ولي ولا شهود وتصح من العبد الرجعة بغير اذن الولي فلم يمنع
الاحرام منه كالبقاء على العقد *
(الشرح) حديث عثمان رواه مسلم واللفظ الأول لا ينكح بفتح أوله أي لا يتزوج
(والثاني) بضم أوله أي لا يزوج غيره وقوله صلى الله عليه وسلم (ولا يخطب) معناه لا يخطب المرأة
وهو طلب زواجها * هذا هو الصواب الذي قاله العلماء كافة (وأما) قول أبي على الفارقي في كتابه
(فوائد المهذب) المراد به الخطبة التي بين يدي العقد وهي (الحمد لله الخ) فغلط صريح وخطأ فاحش
ولا أدرى ما حمله على هذا الذي تعسفه وتجسر عليه لولا خوفي من اغترار بعض المتفقهين به لما
استخرت حكايته والله أعلم * (أما) حكم الفصل فيحرم على المحرم أن يتزوج ويحرم عليه أن يزوج
موليته بالولاية الخاصة وهي العصوبة والولاء ويحرم على المحرم أن يتزوج فإن كان الزوج أو الزوجة
أو الولي أو وكيل الزوج أو وكيل الولي محرما فالنكاح باطل بلا خلاف لأنه منهي عنه لهذا الحديث الصحيح
والنهى يقتضي الفساد وهل يجوز للامام والقاضي أن يزوج بالولاية العامة فيه وجهان مشهوران
ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) لا يجوز وذكر الماوردي وجها ثالثا انه يجوز للامام دون القاضي
وحكاه أيضا القاضي أبو الطيب والدارمي وآخرون * وهل يجوز كون المحرم شاهدا في العقد
وينعقد بحضوره فيه وجهان ذكرهما المصنف بدليلهما (الصحيح) باتفاق المصنفين يجوز وينعقد به
وهذا هو المنصوص في الأم وقول عامة أصحابنا المتقدمين (والثاني) لا يجوز ولا ينعقد قاله أبو سعيد
الإصطخري برواية جاءت (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يشهد) وبالقياس على الولي * وأجاب الأصحاب
عن الرواية بأنها ليست ثابتة وعن القياس بالفرق من وجهين (أحدهما) أن الولي متعين كالزوج بخلاف
الشاهد (والثاني) أن الولي له فعل في العقد بخلاف الشاهد والله أعلم * قال الشافعي والأصحاب ويجوز له
خطبة المرأة لكن يكره للحديث (فان قيل) كيف قلتم يحرم التزوج والتزويج وتكره الخطبة وقد
قرن بين الجميع في الحديث (قلنا) لا يمتنع مثل ذلك كقوله تعالى (كلوا من ثمره إذا أثمر وأتوا حقه
يوم حصاده) والاكل مباح والايتاء واجب * قال الماوردي وغيره ويكره أيضا للحلال خطبة محرمة
ليتزوجها بعد إحلالها ولا تحرم بخلاف خطبة المعتدة وفرق الماوردي والقاضي أبو الطيب وغيرهما
284

ان المحرمة متمكنة من تعجيل تحللها في وقته والمعتدة لا يمكنها تعجيل فربما غلبتها الشهوة فأخبرت
بانقضاء عدتها قبل وقتها والله أعلم * قال البندنيجي وغيره ويكره للمحرم أن يخطب لغيره أيضا
قال هو وغيره ويجوز ان تزف إليه امرأة عقد عليها قبل الاحرام وتزف المحرمة * قال الشافعي والأصحاب
ويجوز أن يراجع المحرم المحرمة والمحلة سواء أطلقها في الاحرام أو قبله لما ذكره المصنف * هذا هو
الصواب وهو نص الشافعي في كتبه وبه قطع المصنف والعراقيون * وذكر الخراسانيون وجهين
(أصحهما) هذا (والثاني) انه لا تصح الرجعة بناء على اشتراط الشهادة على أحد القولين والصواب
الأول والله أعلم * قال أصحابنا وفى تأثير الاحرام وجهان (أحدهما) سلب الولاية ونقلها إلى الابعد
كما لو جن (وأصحهما) مجرد الامتناع دون زوال الولاية لبقاء الرشد والنظر فعلى هذا يزوجها السلطان
والقاضي كما لو غاب الولي * قال أصحابنا ويستوى في هذا كله الاحرام بالحج أو العمرة
والاحرام الصحيح والفاسد * نص عليه الشافعي في الأم واتفق عليه العراقيون وجماعات من غيرهم
وذكر جماعة من الخراسانيين أن الفاسد لا يمنع *
(فرع) من فاته الحج هل يصح نكاحه قبل التحلل بعمل غيره فيه وجهان الحناطي
(أصحهما) المنع لأنه محرم *
(فرع) إذا وكل حلال حلالا في التزويج ثم أحرم أحدهما أو المرأة ففي انعزال الوكيل
وجهان (أصحهما) لا ينعزل فيزوج بعد التحلل بالوكالة السابقة وهذا هو المنصوص في الأم * وفرق
الماوردي والقاضي أبو الطيب والأصحاب بينه وبين الصبي إذا وكل في تزويجه ثم بلغ فزوجه
الوكيل لا يصح لان المحرم له عبارة واذن صحيح بخلاف الصبي * وليس للوكيل الحلال أن يزوج
قبل تحلل الموكل * هذا هو الصواب المعروف في المذهب ونقل الغزالي في الوجيز فيه وجها انه يجوز
وهو غلط * قال الرافعي وهذا الوجه لم أره لغيره ولا له في الوسيط (أما) إذا وكله في حال احرام
الوكيل أو الموكل أو المرأة نظر ان وكله ليعقد في الاحرام لم يصح بلا خلاف لأنه إنما أذن له فيما
لا يصح منه وان قال أتزوج بعد التحلل أو أطلق صح لان الاحرام يمنع انعقاد النكاح دون الاذن *
قال الرافعي ومن الحق الاحرام بالجنون لم يصححه * ولو قال إذا حصل التحلل فقد وكلتك فهذا
285

تعليق الوكالة وفيها خلاف مشهور ان صححناه صح والا فلا * قال أصحابنا واذن المرأة في حال
احرامها على هذا التفصيل المذكور في الوكيل * ولو وكل حلال محرما ليوكل حلالا بالتزويج في صحته
وجهان الأصح الصحة وبه قطع الفوراني وغيره لأنه سفير محض ليس إليه من العقد شئ * قال
أصحابنا ويصح تزويج وكيل المصلى بخلاف وكيل المحرم لان عبارة المحرم غير صحيحة وعبارة
المصلى صحيحة ولهذا لو زوجها في صلاته ناسيا صح النكاح والصلاة والله أعلم *
(فرع) قال القاضي أبو الطيب في تعليقه لو أحرم رجل ثم أذن لعبده في التزويج قال أبو الحسن
ابن المرزبان قال ابن القطان الاذن باطل ولا يصح نكاح العبد لأنه لا يصح نكاحه الا باذن
سيده وسيده لا يصح تزوجه ولا تزويجه في حال احرامه فلم يصح اذنه (قيل) لابن القطان فلو أذنت
محرمة لعبدها في النكاح فقال لا يجوز وهي كالرجل قال ابن المرزبان وعندي في المسألتين نظر * هذا
آخر نقل القاضي أبي الطيب * وحكي الدارمي كلام ابن القطان ثم قال ويحتمل عندي الجواز
في المسألتين *
(فرع) إذا أسلم الكافر على أكثر من أربع نسوة وأسلمن وأحرم فله أن يختار في إحرامه
أربعا منهن لأنه ليس نكاحا * هذا هو المنصوص للشافعي وهو المذهب وبه قال جمهور الأصحاب وقيل
فيه قولان وقد ذكر المصنف المسألة في باب نكاح المشرك وأوضح الخلاف فيها *
(فرع) قال القاضي أبو الطيب في تعليقه قال ابن القطان قال منصور بن إسماعيل الفقيه من
أصحابنا في كتابه (المستعمل) إذا وكل المحرم رجلا ليزوجه إذا حل من إحرامه صح ذلك وصح
تزوجه بعد إحلاله ولو وكل رجلا ليزوجه إذا طلق إحدى زوجاته الأربع أو إذا طلق فلان زوجته
أن يزوجها له لم يصح قال والفرق بينه وبين وكيل المحرم ان وكيل المحرم ليس بينه وبين العقد مانع
سوى الاحرام ومدته معلومة وغايته معروفة وفى المسألتين الأخيرتين بينه وبين العقد مدة ليس لها
غاية معروفة قال ابن القطان ولا فرق بين المسائل الثلاث عندي فيصح التوكيل في الجميع أو لا يصح
في الجميع * هذا ما نقله القاضي أبو الطيب (فأما) مسألة الاحرام فقد سبق أن الصحيح فيها الصحة وبها
286

قطع الجمهور وأما المسألتان الأخيرتان ففيهما وجهان سنوضحهما في كتاب الوكالة إن شاء الله تعالى
(أصحهما) بطلان الوكالة والاذن ولا يصح التزويج *
(فرع) إذا تزوج بنفسه أو تزوج له وكيله وأحرم ثم اختلف الزوجان هل كان النكاح في
حال الاحرام أم قبله فإن كانت بينة عمل بها فإن لم تكن فادعى الزوج انه وقع العقد قبل الاحرام
وادعت وقوعه في الاحرام فالقول قول الرجل بيمينه لأن الظاهر معه وهو ظاهر قوى فوجب
تقديمه وان ادعت وقوعه قبل الاحرام وادعى الرجل وقوعه في الاحرام فالقول قولها بيمينها في
وجب المهر وسائر مؤن النكاح ويحكم بانفساخ النكاح لاقرار الزوج بتحريمها فإن كان قبل
الدخول وجب نصف المهر وإلا فجميعه وهذا كله مشهور في كتب الأصحاب صرح به الدارمي
والبندنيجي والقاضي أبو الطيب والماوردي والمحاملي وصاحب الشامل وخلائق * قال صاحب الشامل
والبيان وآخرون فلو لم يدع الزوجان شيئا وشكا هل وقع العقد في الاحرام أم قبله قال الشافعي
رحمه الله النكاح صحيح في الظاهر فلهما البقاء عليه لأن الظاهر صحته قال والورع أن يفارقها بطلقة
لاحتمال وقوعه في الاحرام وإنما قال الشافعي يطلقها طلقة لتحل لغيره بيقين وحكي الدارمي وهذا عن
نص الشافعي كما ذكره الأصحاب ثم قال وخرج أصحابنا قولا ان النكاح باطل علي بناء مسألة من
قد ملفوفا وفيها قولان في كتاب الجنايات قال الدارمي ولو قال الرجل وقع العقد في الاحرام فقالت
لا أدرى حكم ببطلانه لا قراره ولا مهر لها لأنها لا تدعيه والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في نكاح المحرم * قد ذكرنا ان مذهبنا انه لا يصح تزوج المحرم
ولا تزويجه وبه قال جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم وهو مذهب عمر بن الخطاب
وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وابن عمر وابن عباس وسعيد بن المسيب وسليمان بن بشار والزهري
287

ومالك واحمد واسحق وداود وغيرهم * وقال الحكم والثوري وأبو حنيفة يجوز ان يتزوج ويزوج
واحتجوا بحديث ابن عباس ان النبي صلى الله عليه وسلم (تزوج ميمونة وهو محرم) رواه البخاري ومسلم وبالقياس
على استدامة النكاح على الخلع والرجعة والشهادة على النكاح وشراء الجارية وتزويج السلطان في
احرامه * واحتج أصحابنا بحديث عثمان رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (لا ينكح المحرم ولا
ينكح) رواه مسلم (فان) قيل المراد بالنكاح الوطئ (فالجواب) من أوجه ذكرها القاضي والأصحاب
(أحدها) ان اللفظ إذا اجتمع فيه عرف اللغة وعرف الشرع قدم عرف الشرع لأنه طارئ وعرف
الشرع ان النكاح العقد لقوله تعالى (فانكحوهن باذن أهلهن ولا تعضلوهن ان ينكحن) (وانكحوا
ما طاب لكم من النساء) وفى الحديث الصحيح (ولا تنكح المرأة على عمتها) وفى الصحيح (انكحي أسامة)
والمراد بالنكاح في هذه المواضع وشبهها العقد دون الوطئ (وأما) قوله تعالى (فلا تحل له من بعد حتى
تنكح زوجا غيره) وقوله تعالى (الزاني لا ينكح الا زانية) فإنما حملنا على الوطئ بدليل قوله صلى الله عليه
وسلم (حتى
تذوقي عسيلته) (الجواب الثاني) انه يصح حمل قوله صلى الله عليه وسلم (ولا ينكح) على الوطئ فان قالوا المراد
لا يطأ ولا يمكن غيره من الوطئ (قلنا) اجمعنا على أن المحرم يجوز له ان يمكن غيره من الوطئ وهو
إذا زوج بنته حلالا ثم أحرم فإنه يلزمه ان يمكن الزوج من الوطئ بتسليمها إليه (الجواب الثالث)
ان في هذا الحديث (لا ينكح ولا ينكح ولا يخطب) والخطبة تراد للعقد وكذلك النكاح قالوا يحمل
(ولا يخطب) على أنه لا يخطب الوطئ بالطلب والاستدعاء (والجواب) ان الخطبة المقرونة بالعقد
لا يفهم منها الا الخطبة المشهورة وهي طلب التزويج (الجواب الرابع) انه ثبت عن قتيبة بن وهب أن
عمر بن عبيد الله أراد ان يزوج طلحة بن عمر ابنت شيبة بن جبير فأرسل إلى أبان بن عثمان
ليحضر ذلك وهما محرمان فأنكر ذلك عليه أبان وقال سمعت عثمان بن عفان يقول قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم (لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب) رواه مسلم في صحيحه وهذا السبب والاستدلال منهم
288

وسكوتهم عليه يدل على سقوط هذا التأويل * وعن أبي عطفان بن طريف المرني (ان أباه طريفا تزوج
امرأة وهو محرم فرد عمر بن الخطاب نكاحه) رواه مالك في الموطأ وروى البيهقي باسناده عن سعيد
ابن المسيب (أن رجلا تزوج وهو محرم فاجمع أهل المدينة على أن يفرق بينهما) ولأنه نكاح لا يعبه
استباحه الوطئ ولا القبلة فلم يصح كنكاح المعتدة ولأنه عقد يمنع الاحرام من مقصوده فمنع أصله
كشراء الصيد (وأما) الجواب عن حديث ابن عباس في نكاح ميمونة فمن أوجه (أحدها) ان الروايات
اختلفت في نكاح ميمونة فروى يزيد بن الأصم عن ميمونة وهو ابن أختها (ان النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها
وهو حلال) رواه مسلم وعن أبي رافع (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة حلالا وبني بها
حلالا وكنت الرسول بينهما) رواه الترمذي وقال حديث حسن * قال أصحابنا وإذا تعارضت
الروايات تعين الترجيح فرجحنا رواية الأكثرين انه تزوجها حلالا (الوجه الثاني) ان الروايات
تعارضت فتعين الجمع وطريق الجمع تأويل حديث ابن عباس ان قوله (محرما) أي في الحرم فتزوجها
في الحرم وهو حلال أو تزوجها في الشهر الحرام وهذا شائع في اللغة والعرف ويتعين التأويل للجمع
بين الروايات (الثالث) الترجيح من وجه آخر وهو ان رواية تزوجها حلالا من جهة ميمونة
وهي صاحبة القصة وأبي رافع وكان السفير بينهما فهما أعرف فاعتماد روايتهما أولى (الرابع) انه لو ثبت
انه تزوجها صلى الله عليه وسلم محرما لم يكن لهم فيه دليل لان الأصح عند أصحابنا أن للنبي صلى الله
عليه وسلم أن يتزوج في حال الاحرام وهو قول أبي الطيب بن سلمة وغيره من أصحابنا والمسألة
مشهورة في الخصائص من أول كتاب النكاح (وأما) الجواب عن أقيستهم كلها فهو انها كلها ليست
نكاحا وإنما ورد الشرع بالنهي عن النكاح * وعن قياسهم على الامام ان الأصح عندنا ألا يصح
تزويجه لعموم الحديث وقد سبق بيان هذا (وإن قلنا) بالضعيف انه يجوز فالفرق بقوة ولايته
والله أعلم *
289

(فرع) إذا تزوج المحرم فنكاحه باطل عندنا وعند الجمهور ويفرق بينهما تفرقة الأبدان
بغير طلاق * وقال مالك وأحمد يجب تطليقها لتحل لغيره بيقين لشبهة الخلاف في صحة النكاح * دليلنا
أن العقد الفاسد غير منعقد فلا يحتاج في ازالته إلى فسخ كالبيع الفاسد وغيره وفى هذا جواب
عن دليلهم *
(فرع) قد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا صحة رجعة المحرم وبه قال مالك والعلماء الا أحمد في
أشهر الروايتين عنه * دليلنا انها ليست بنكاح وإنما نهى الشرع عن النكاح والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
(ويحرم عليه الوطئ في الفرج لقوله تعالى (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق
ولا جدال في الحج) قال ابن عباس الرفث الجماع وتجب به الكفارة لما روى عن علي بن أبي
طالب وابن عباس وابن عمر وعبد الله بن عمر وابن العاص رضي الله عنهم انهم أوجبوا فيه الكفارة
ولأنه إذا وجبت الكفارة في الحلق فلان تجب في الجماع أولى) *
(الشرح) هذه الآية الكريمة سبق تفسيرها في مسألة الاحرام بالحج في أشهر الحج وأجمعت
الأمة على تحريم الجماع في الاحرام سواء كان الاحرام صحيحا أم فاسدا وتجب به الكفارة والقضاء
إذا كان قبل التحللين وسيأتي في الباب الآتي إن شاء الله تعالى ايضاح ذلك بفروعه حيث ذكره
290

المصنف وسواء الوطئ في القبل والدبر من الرجل والمرأة والصبي وسواء وطئ الزوجة والزنا
(وأما) اتيان البهيمة فالمذهب انه كوطئ المرأة ولا يفسد به الحج تفريعا على وجوب التعزير فيه
(وأما) الخنثى المشكل فيحرم عليه الايلاج والايلاج فيه فان أولج غيره في دبره فهو كغيره يفسد
حجه ويجب المضي في فاسده والقضاء والكفارة. وان أولج غيره في قبله أو أولج هو في غيره
لم يفسد ولا كفارة لاحتمال انه عضو زائد. فان أولج في دبر رجل وأولج ذلك الرجل في قبله
فسد حجهما ولزمهما القضاء والكفارة ودليله ظاهر. ولو لف الرجل على ذكره خرقة وأولجه
ففي فساد الحج به ثلاثة أوجه كما في وجوب الغسل وقد سبق بيانها في باب الغسل (الأصح) فساد
الحج ووجوب الغسل
* قال المصنف رحمه الله *
(ويحرم عليه المباشرة فيما دون الفرج لأنه إذا حرم عليه النكاح فلان تحرم المباشرة وهي ادعي
إلى الوطئ أولى وتجب به الكفارة لما روى عن علي رضي الله عنه أنه قال (من قبل امرأة وهو محرم
فليهرق دما) ولأنه فعل محرم في الاحرام فوجبت به الكفارة كالجماع) *
(الشرح) اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يحرم على المحرم المباشرة بشهوة كالمفاخذة
والقبلة واللمس باليد بشهوة قبل التحللين وفيما بين التحللين خلاف سنذكره حيث ذكره المصنف
فيما يحل بالتحلل الأول إن شاء الله تعالى * ومتي ثبت التحريم فباشر عمدا بشهوة لزمته الفدية وهي
شاة أو بدلها من الاطعام أو الصيام ولا يلزمه البدنة بلا خلاف سواء أنزل أم لا * وإنما تجب البدنة
291

في الجماع ولا يفسد نسكه بالمباشرة بشهوة بلا خلاف سواء انزل أم لا * هذا كله إذا باشر عالما بالاحرام
فإن كان ناسيا فلا فدية بلا خلاف لأنه استمتاع محض فلا تجب فيه الفدية مع النسيان كالطيب
واللباس بخلاف جماع الناسي على قول ضعيف لأنه في معنى الاستهلاك. ولو باشر دون الفرج ثم
جامع هل تندرج الشاة أم يجبان معا فيه وجهان (وأما) للمس بغير شهوة فليس بحرام بلا خلاف وينكر
على المصنف كونه لم ينبه عليه كما نبه عليه الأصحاب وكما نبه عليه هو في التنبيه (وأما) قول الغزالي في
الوسيط
والوجيز تحرم كل مباشرة تنقض الوضوء فغلطوه فيه واتفقوا على أنه سهو وليس وجها وسبب التغليط
أنه قال مباشرة تنقض الوضوء فتدخل فيه المباشرة بغير شهوة وليست محرمة بلا خلاف والله أعلم *
(وأما) الاستمناء باليد فحرام بلا خلاف لأنه حرام في غير الاحرام ففي الاحرام أولى. فان استمنى المحرم
فأنزل فهل تلزمه الفدية فيه وجهان (الصحيح) المشهور لزومها وبه قطع الماوردي وقطع به المصنف
في الباب الذي بعدها وقطع به أيضا المصنف في التنبيه وآخرون لأنه مباشرة محرمة فأشبه مباشرة
المرأة (والثاني) لا فدية حكاه امام الحرمين عن حكاية العراقيين وحكاه أيضا الفوراني والقاضي
حسين والمتولي والبغوي وآخرون لأنه استمتاع ينفرد به فأشبه الانزال بالنظر فإنه لا فدية فيه. قال
البغوي ويجري الوجهان في تقبيل الغلام بالشهوة (الأصح) وجوب الفدية (والثاني) لا: قلت
292

والصواب في الغلام القطع بالوجوب لأنها لغيره وهي حرام فأشبهت مباشرة المرأة بخلاف
الاستمناء فإنه ليس فيه مباشرة لغيره والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(ويحرم عليه الصيد المأكول من الوحش والطير فلا يجوز له أخذه لقوله تعالى (وحرم عليكم
صيد البر ما دمتم حرما) فان أخذه لم يملكه بالأخذ لان ما منع من أخذه لحق الغير لم يملكه بالأخذ من غير اذنه
كما لو غصب مال غيره فإن كان الصيد لآدمي وجب رده إلى مالكه وإن كان من المباح وجب ارساله
في موضع يمتنع على من يأخذه لان ما حرم أخذه لحق الغير إذا أخذه وجب رده إلى مالكه كالمغصوب
وان هلك عنده وجب عليه الجزاء لأنه مال حرام أخذه لحق الغير فضمنه بالبدل كمال الآدمي. فان
خلص صيدا من فم سبع فداواه فمات في يده لم يضمنه لأنه قصد الاصلاح * قال الشافعي رحمه الله ولو
قيل يضمن لأنه تلف في يده كان محتملا ويحرم عليه قتله فان قتله عمدا وجب عليه الجزاء لقوله تعالى
(لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) وان قتله خطأ وجب
عليه الجزاء لان ما ضمن عمده بالمال ضمن خطأه كمال الآدمي ولأنه كفارة تجب بالقتل فاستوى
293

فيه الخطأ والعمد ككفارة القتل. وإن كان الصيد مملوكا لآدمي وجب عليه الجزاء والقيمة
وقال المزني لا يجب الجزاء في الصيد المملوك لأنه يؤدي إلى إيجاب بدلين عن متلف واحد
والدليل على أنه يجب أنه كفارة تجب بالقتل فوجبت بقتل المملوك ككفارة القتل ويحرم عليه جرحه
لان ما منع من اتلافه لحق الغير منع من إتلاف أجزائه كالآدمي * فان أتلف جزءا منه ضمنه بالجزاء
لان ما ضمن جميعه بالبدل ضمنت أجزاؤه كالآدمي * ويحرم عليه تنفير الصيد لقوله صلى الله عليه وسلم في مكة
(لا ينفر صيدها) وإذا حرم ذلك في صيد الحرم وجب أن يحرم في الاحرام فان نفره فوقع في
بئر فهلك أو نهشته حية أو أكله سبع وجب عليه الضمان لما روى عن عمر رضي الله عنه أنه (دخل دار
الندوة فعلق رداءه فوقع عليه طائر فخاف أن ينجسه فطيره فنهشته حية فقال طير طردته حتى نهشته الحية
فسأل من كان معه أن يحكموا عليه فحكموا عليه بشاة) ولأنه هلك بسبب من جهته فأشبه إذا حفر
له بثمر أو نصب له أحبولة فهلك بها * ويحرم عليه أن يعين على قتله بدلالة أو إعارة آلة لان
ما حرم قتله حرمت الإعانة على قتله كالآدمي وإن أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة فقتل لم يجب عليه الجزاء
لان لا ما يلزمه حفظه لا يضمنه بالدلالة على إتلافه كمال الغير) *
(الشرح) (أما) قوله صلى الله عليه وسلم (في مكة ولا ينفر صيدها) فرواه البخاري ومسلم من رواية ابن عباس
(وأما) الأثر المذكور عن عمر رضي الله عنه فرواه الشافعي والبيهقي. وفى إسناده رجل مستور والرجلان
اللذان حكما على عمر هما عثمان ونافع بن عبد الحارث الصحابي (قوله) ما منع من أخذه لحق الغير لم
يملكه بالأخذ من غير إذ قال القلعي قوله لحق الغير احتراز ممن رأى صيدا في لجة البحر أو في مهلكة
أخرى بحيث يغلب على ظنه أنه لو كان عالج أخذه لهلك دونه فإنه ممنوع من أخذه فلو خاطر بنفسه
وأخذه ملكه قال ومع هذا فهذه العلة منتقضة بمن سبق إلى معدن ظاهر أو إلى شئ من المباحات فإنه
أحق به فلا يجوز لغيره مزاحمته فيه قبل قضاء وطره فان زاحمه فيه غيره وأخذه ملكه بالأخذ مع كونه
ممنوعا من أخذه لحق الغير (قوله) لان ما حرم أخذه لحق الغير إذا أخذه وجب رده كالمغصوب قال
القلعي قوله لحق الغير يحترز ممن غصب خمرا من مسلم على قصد شربها فإنه يجب عليه أخذها لحق الله
294

تعالى لا لحق الآدمي ثم لا يجب ردها على المغصوب منه بل تجب إراقتها (قوله) لأنه مال حرام اخذه
لحق الغير فضمنه بالبدل كمال الآدمي احتراز ممن خاطر بنفسه في أخذ صيد من مهلكة يغلب على ظنه
الهلاك إذا عالج أخذه بأن كان في مسبعة أو لجة ونحو ذلك فإنه يحرم أخذه لحق نفسه لا لحق غيره فإذا
أخذه ملكه ولا يضمنه ومع هذا فهذه العلة منتقضة بالحربي إذا أتلف مال مسلم وبالعبد إذا أخذ مال
سيده فأتلفه فإنه ما حرم أخذه لحق الغير ولا يضمنه بالبدل فكان ينبغي أن يقول والاخذ من أهل الضمان
في حقه ليحترز من الحربي والعبد كما قال المصنف مثل هذا في أول باب الغصب (قوله) لان ما ضمن عمده
بالمال ضمن خطأه احترز بالمال من ضمان القصاص ومع هذا فهذه العلة منتقضة بمن قتل من تترس به المشركون
من النساء والصبيان فإنه يضمنه بالكفارة ان قتله عمدا ولا يضمن أن قتله خطأ (قوله) لأنه كفارة
تجب بالقتل فاستوى فيه الخطأ والعمد احترز بقوله بالقتل من الطيب واللباس فان الكفارة تجب
في العمد ومع هذا فهو منتقض بمن تترس به المشركون كما ذكرناه في الاحتراز الذي قبله (قوله) لان
ما ضمن جميعه بالبدل ضمنت أجزاؤه احترز بالبدل عن الكفارة فإنها تجب بقتل النفس دون قطع
الطرف ومع هذا فهذا منتقض بالعارية فإنه يضمن جميعها بالبدل ولا يضمن أجزاءها الناقصة بالاستعمال
فكان ينبغي أن يقول وما ضمن جميعه بالبدل ولم يؤذى في إتلاف أجزائه ضمنت أجزاؤه (قوله)
وإذا حرم ذلك في صيد الحرم وجب أن يحرم في الاحرام يعني لاشتراكهما في تحريم الاصطياد والاحرام
أولى لان حرمته آكد ولهذا يحرم فيه الطيب واللباس والنكاح وغيرها بخلاف الحرم (قوله) دخل
دار الندوة هي فتح النون وإسكان الدال المهملة وفتح الواو وهي دار معروفة بمكة كانت منزل
قصي بن كلاب جد جد أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف
ابن قصي بن كلاب ثم صارت قريش تجتمع فيها لمشاورة ونحوها إذا عرض لهم أمر مهم * قال الأزرقي
في تاريخ مكة سميت بذلك لاجتماع الندى فيها يتشاورون ويبرمون أمرهم والندى بفتح النون وكسر
الدال وتشديد الياء الجماعة ينتدون أي يتحدثون قال الأزرقي والخازمي وغيرهما وقد صارت دار
295

الندوة في المسجد الحرام وهي في جانبه الشمالي قال الماوردي في الأحكام السلطانية أول دار بنيت بمكة
دار الندوة والله أعلم (قوله) نصب أحبولة هي بضم الهمزة والباء وهي المصيدة بكسر الميم والمشهور
في اللغة فيها حبالة بكسر الحاء (قوله) بدلالة هي بكسر الدال وفتحها ويقال دلولة بضمها ثلاث لغات
سبق بيانهن (قوله) لان ما لا يلزمه حفظه لا يضمنه بالدلالة على اتلافه احتراز من الوديعة
عنده فإنه لو دل عليها ضمنها والله أعلم (أما) الأحكام فأجمعت الأمة على تحريم الصيد في
الاحرام وان اختلفوا في فروع منه ودلائله نص الكتاب والسنة وإجماع الأمة قال
أصحابنا يحرم عليه كل صيد برى مأكول أو في أصله مأكول وحشيا كان أو في أصله وحشي هذا
ضابطه فاما ما ليس بصيد كالبقر والغنم والإبل والخيل وغيرها من الحيوان الانسي فليس بحرام
بالاجماع لأنه ليس بصيد وإنما حرم الشرع الصيد * قال القاضي أبو الطيب والأصحاب قال الشافعي
يحرم على المحرم الدجاجة الحبشية لأنها وحشية تمنع بالطيران وإن كانت ربما الفت البيوت قال القاضي
وهي شبيهة بالدجاج قال وتسمى بالعراق دجاجة سندية فان أتلفها لزمه الجزاء والله أعلم * (وأما) ما
ليس بمأكول ولا هو متولد من مأكول وغير مأكول فليس بحرام بلا خلاف عندنا وقد ذكره
المصنف في الفصل الذي بعد هذا وهناك نوضحه بدلائله وفروعه إن شاء الله تعالى (وأما) صيد
البحر فحلال للحلال والمحرم بالنص والاجماع قال الله تعالى (أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا
لكم وللسيارة وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) قال أصحابنا والمراد بصيد البحر الذي هو حلال
للمحرم مالا يعيش الا في البحر سواء البحر الصغير والكبير (أما) ما يعيش في البر والبحر فحرام كالبري
تغليبا لجهة التحريم كما قلنا في المتولد من مأكول وغيره (وأما) الطيور المائية التي تغوص في الماء وتخرج
منه فبرية محرمة على المحرم (وأما) الجراد فبري على المشهور وفيه قول واه سنوضحه حيث ذكره المصنف
296

إن شاء الله تعالى انه يجرى غير مضمون * قال الماوردي وغيره قال الشافعي وكلما كان أكثر عيشه
في الماء فكان في بحر أو نهر أو بئر أو واد أو ماء مستنقع أو غيره فسواء وهو مباح صيده للمحرم
في الحل والحرم قال فاما طائره فإنما يأوى إلى أرض فهو صيد بر حرام على المحرم * هذا نصه
وتابعوه عليه (وأما) المتولد من مأكول وغير مأكول أو من وحشي وانسي كمتولد بين طبي وشاة
أو بين يعفور ودجاجة فيحرمان على المحرم ويجب فيهما الجزاء كما سنوضحه إن شاء الله تعالى بعدها
حيث ذكره المصنف في الفصل الآتي (وأما) الصيد المحرم الذي سبق ضبطه فيحرم جميع أنواعه صغيره
وكبيره وحشه وطيره وسواء المستأنس منه وغيره والمملوك وغيره * وقال المزني لا جزاء في المملوك
وذكر المصنف الدليل * قال الشافعي والأصحاب يضمن المحرم الصيد المملوك بالجزاء والقيمة فيجب
الجزاء لله تعالى يصرف إلى مساكين الحرم والقيمة لمالكه * قال أصحابنا فان أتلفه بغير ذبح فعليه
للآدمي كمال القيمة وعليه لله تعالى الجزاء وان ذبحه (فان قلنا) ذبيحة المحرم ميتة لا تحل لاحد فعليه
أيضا القيمة بكمالها (وان قلنا) تحل ذبيحته لزمه مع الجزاء لمالكه ما بين قيمته مذبوحا وحيا إذا رده
إليه مذبوحا وإذا أتلفه أو ذبحه وقلنا هو ميتة فجلده لمالكه لا للمحرم صرح به الماوردي وغيره *
قال أصحابنا ولو توحش حيوان أنسي كشاة وبعير ودجاجة ونحوها لم يحرم ولا جزاء فيه بلا
خلاف لأنه ليس بصيد * قال أصحابنا ويحزم قتل الصيد وأخذه وجرحه واتلاف شئ من اجزائه
وتنفيره والسبب في ذلك كله أو في شئ منه فان أخذه لم يملكه لما ذكره المصنف فإن كان مملوكا
لآدمي لزمه رده إلى صاحبه وإن كان مباحا وجب ارساله في موضع يمتنع على من يقصده فان
أتلفه أو تلف عنده ضمنه بالجزاء وإن كان مملوكا كالآدمي ضمنه بالجزاء أو القيمة كما سبق
ودليل هذا كله في الكتاب * ولو خلص المحرم صيدا من فم سبع أو هرة أو نحوهما وأخذه
ليداويه ثم يرسله أو رآه مجروحا فأخذه ليداويه ثم يرسله فمات في يده ففي ضمانه القولان اللذان
ذكرهما المصنف وهما مشهوران واتفقوا على أن الأصح انه لا يضمن لأنه قصد الصلاح * وذكر
الشيخ أبو محمد الجويني في كتاب السلسلة في المسألة طريقين (أحدهما) على القولين (والثاني)
لا يضمن قولا واحدا قال أبو محمد وفرع أصحابنا على هذا انه لو انتزع انسان العين المغصوبة
من غاصبها ليردها إلى مالكها فتلفت في يده بلا تفريط هل يضمن فيه الطريقان كالصيد *
297

(فرع) لو حصل تلف الصيد بسبب شئ في يد المحرم بأن كان راكب دابة أو سائقها
أو قائدها فتلف صيد بعضها أو رفسها أو بالت في الطريق فزلق به صيد فهلك به ضمنه لأنها
منسوبة إليه فضمن ما أتلفته أو تلف بسببها كما لو أتلفت آدميا ومالا (أما) إذا انفلتت دابة المحرم فأتلفت
صيدا فلا شئ عليه نص الشافعي رحمه الله على هذا الفرع كله واتفق الأصحاب عليه * قال الدارمي
ولو كان مع الدابة ثلاثة سائق وقائد وراكب فأتلفت صيدا فوجهان (أحدهما) يجب الجزاء على الثلاثة
(والثاني) على الراكب وحده.
(فرع) قال أصحابنا جهات ضمان الصيد في حق المحرم ثلاث المباشرة واليد والتسبب
(فأما) المباشرة فمعروفة (وأما) اليد فيحرم على المحرم وضع يده على الصيد ولا يملكه بذلك ويضمنه
ان تلف وقد سبق هذا قريبا واضحا ومن هذا ما إذا حصل التلف بسبب دارة في يده كما سبق بيانه
قريبا (وأما) إذا سبقت اليد على الاحرام أو كانت يدا قهرية كالإرث أو يد معاقدة كشراء أو وصية
أو هبة ونحوها فقد ذكره المصنف بعد هذا وسنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى (وأما) التسبب ففيه
مسائل (إحداهما) لو نصب الحلال شبكة أو فخا أو حبالة ونحو ذلك في الحرم أو نصبها المحرم حيث
كان فتعقل بها صيد وهلك لزمه ضمانها سواء نصبها في ملكه أو موات أو غيرهما (فأما) إذا نصبها
وهو حلال ثم أحرم فوقع بها صيد فلا يضمنه بلا خلاف * نص عليه وصرح به القفال والبندنيجي
والأصحاب (الثانية) قال الشافعي والأصحاب يكره للمحرم استصحاب البازي وكل صائد من
كلب وغيره فان حمله فأرسله على صيد فلم يقتله ولم يؤذه فلا جزاء عليه لكن يأثم كما لو رماه بسهم
فأخطأه فإنه يأثم بالرمي لقصده الحرام ولا ضمان لعدم الاتلاف * ولو أنفلت بنفسه فقتله فلا ضمان
نص عليه الشافعي في المناسك الكبير واتفق الأصحاب عليه سواء فيه الكلب والبازي وغيرهما *
قال الماوردي وسواء فرط في حفظه أم لا لان للكلب اختيار (وأما) إذا أرسل المحرم
الكلب على الصيد أو حل رباطه وهناك صيد ولم يرسله فأتلفه ضمنه لأنه متسبب ولو كان هناك
صيد وانحل رباط الكلب لتقصير المحرم فالمذهب انه يضمنه وفيه خلاف ضعيف حكاه
الرافعي فلو لم يكن هناك صيد فأرسل الكلب أوحل رباطه فظهر صيد ضمنه أيضا على الأصح لأنه
منسوب إليه قال الماوردي (فان قيل) قلتم هنا أنه لو أرسل الكلب على الصيد ضمنه ولو أرسله على
298

آدمي فقتله لا ضمان فالفرق أن الكلب معلم للاصطياد فإذا صار بارساله كان كصيده بنفسه فضمنه
وليس هو معلما قتل الآدمي فإذا أغراه على آدمي فقتله لم يكن القتل منسوبا إلى المغرى بل إلى
اختيار الكلب فلم يضمنه قال ومثاله في الصيد أن يرسل كلبا غير معلم على صيد فيقتله فلا ضمان
لان غير المعلم لا ينسب فعله إلى المرسل بل إلى اختياره ولهذا لا يؤكل ما اصطاده بعد الارسال كما
لا يؤكل ما صاده المسترسل بنفسه هذا كلام الماوردي وهذا الذي قاله في غير المعلم فيه نظر وينبغي
أن يضمن بارساله لأنه سبب والله أعلم * (الثالثة) إذا نفر المحرم صيدا فعثر وهلك بالعثار أو أخذه
في مغارة سبع أو انصدم بشجرة أو جبل أو غير ذلك لزمه الضمان سواء قصد تنفيره أم لا قال أصحابنا
ولا يزال المنفر في عهدة ضمان التنفير حتى يعود الطير إلى عادته في السكون فان عاد ثم هلك بعد ذلك
فلا ضمان بلا خلاف ولو هلك في حال هربه ونفاره قبل سكونه بآفة سماوية فوجهان حكاهما إمام
الحرمين وآخرون قالوا (أصحهما) لا ضمان لأنه لم يتلف في يده ولا بسببه (والثاني) يضمنه لاستدامة
أثر النفار (الرابعة) لو صاح المحرم على صيد فمات بسبب صياحه أو صاح حلال على صيد في الحرم فمات
به (فوجهان) حكاهما البغوي (أحدهما) يضمنه كما لو صاح على بالغ عاقل متيقظ فمات لا ضمان ولم
يرجح واحدا من الوجهين والظاهر الضمان لأنه بسببه (الخامسة) إذا حفر المحرم بئرا في محل عدوان
أو حفرها حلال في الحرم في محل عدوان فهلك فيها صيد لزمها الضمان بلا خلاف فان حفرها في ملكه
أو موات فأربعة أوجه (أصحها) يضمن في الحرم دون الاحرام (والثاني) يضمن (والثالث) لا يضمن
فيهما (والرابع) ان حفرها للصيد ضمن والا فلا * وجزم الماوردي بأنه ان قصد الاصطياد لا يضمن
والا فوجهان (السادسة) اتفق أصحابنا أنه لو رمى صيدا فنفذ فيه السهم وأصاب صيدا آخر فقتلهما
لزمه جزاؤهما لان أحدهما عمد والآخر خطأ أو بسببه وكل ذلك مضمن وقد نص الشافعي على هذا
واتفقوا على أنه لو أصاب صيدا فوقع الصيد على صيد آخر أو على فراخه وبيضه ضمن ذلك كله لأنه
بسببه (السابعة) لو رمي حلال إلى صيد ثم أحرم ثم أصابه ففي وجوب ضمانه وجهان حكاهما المتولي
والروياني وغيرهما (الأصح) يضمن ورجح أبو علي البندنيجي عدم الضمان وصحح القاضي حسين
في تعليقه والرافعي الضمان قال المتولي هما كالوجهين فيمن رمى إلى حربي أو مرتد فأسلم ثم أصابه
فقتله قال لكن الأصح هناك لا ضمان لان الرمي إلى الحربي يحتاج إليه للقتال فلو أوجبنا الضمان لامتنع
299

من رميه خوفا من اسلامه (وأما) المحرم فيمكنه تأخر الاحرام إلى ما بعد الإصابة * ولو رمى سهما إلى صيد
وقد بقي عليه من أسباب التحلل الحلق فقصر شعره بعد الرمي ثم أصابه السهم بعد فراغ التقصير وهو
حلال فوجهان حكاهما المتولي والروياني وآخرون (أحدهما) لا ضمان لان الإصابة في حال
لا يضمن فيها فأشبه من رمى إلى مسلم فارتد أو ذمي فنقض العهد ثم أصابه لا ضمان (والثاني) يجب
لان الرمي جناية وجدت في الاحرام ويخالف المرتد والذمي فإنهما مقصران بما أحدثا من اهدارهما
(الثامنة) إذا دل الحلال محرما على صيد فقتله وجب الجزاء على المحرم ولا ضمان على الحلال سواء
كان الصيد في يده أم لا لكنه يأثم ولو دل المحرم حلالا على صيد فقتله فإن كان الصيد في يد المحرم
لزمه الجزاء لأنه ترك حفظه وهو واجب عليه فصار كالمودع إذا دل السارق على الوديعة فإنه يضمنها *
وان لم يكن في يده فلا جزاء على واحد منهما لكن يأثم المحرم بدلالته وإنما لم يضمن لما ذكره المصنف
وهو أنه لم يلتزم حفظه * ولو دل المحرم فقتله أو دل الحلال حلالا أو محرما على صيد في الحرم
فقتله فلا جزاء على الدال ويجب على القاتل * ولو أعان المحرم حلالا أو محرما في قتل صيد بإعارة آلته أو
أمره باتلافه أو نحو ذلك فأتلفه فلا ضمان على المعين لما ذكرناه لكن يأثم سواء كان في الحل أو الحرم *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب العامد والمخطئ وهو الناسي والجاهل في ضمان الصيد سواء
فيضمنه كل واحد منهم بالجزاء ولكن يأثم العامد دون الناسي والجاهل * هذا هو المذهب وبه تظاهرات
نصوص الشافعي وطرق الأصحاب وقيل في وجوب الجزاء على الناسي قولان حكاه المصنف بعد
هذا الفصل وحكاه الأصحاب وسنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى * ولو أحرم به ثم جن أو أغمي عليه
فقتل صيدا ففي وجوب الجزاء قولان نص عليهما (أقيسهما) الوجوب لأنه من باب الغرامات
والمجنون كغيره في ذلك (والأصح) أنه لا يجب لان المنع من الصيد تعبد يتعلق بالمكلفين وقد ذكر
المصنف المسألة بعد هذا الفصل بقليل * ولو أكره المحرم على قتل صيد أو أكره حلال على قتل صيد
في الحرم فوجهان حكاهما البغوي وغيره (أحدهما) يجب الجزاء على الآمر (والثاني)
يجب على المأمور ثم يرجع على الآمر كما لو حلق الحلال شعر المحرم مكرها وهذا الثاني أصح وقال
الدارمي هو كما لو أكره على قتل آدمي * قال المصنف رحمه الله
300

(ويحرم عليه أكل ما صيد له لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الصيد حلال لكم
ما لم تصيدوه أو يصاد لكم) ويحرم عليه أكل ما أعان على قتله بدلالة أو إعارة لما روي عبد الله بن أبي
قتادة قال (كان أبو قتادة في قوم محرمين وهو حلال فأبصر حمار وحش فاختلس من بعضهم سوطا
فضربه به حتى صرعه ثم ذبحه وأكله هو وأصحابه فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال هل أشار إليه أحد منكم
قالوا لا قال فلم ير بأكله بأسا) فان اكل ما صيد له أو أعان على قتله فهل يجب عليه الجزاء أم لا فيه قولان
(أحدهما يجب لأنه فعل محرم يحكم الاحرام فوجبت فيه الكفارة كقتل الصيد (والثاني) لا يجب
لأنه ليس بنام ولا يؤول إلى النماء فلا يضمن بالجزاء كالشجر اليابس والبيض المذر)
(الشرح) اما حديث جابر فرواه أبو داود والترمذي والنسائي من رواية عمرو بن أبي عمرو المدني مولي
المطلب بن عبد الله بن حنطب عن مولاه المطلب عن جابر واسناده إلى عمرو بن أبي عمرو
صحيح (وأما) عمرو بن أبي عمرو فقال النسائي ليس هو بقوي وإن كان قد روى عنه مالك وكذا
قال يحيى بن معين هو ضعيف ليس بقوي وليس بحجة وقد أشار الترمذي إلى تضعيف الحديث من
وجه آخر فقال لا يعرف للمطلب سماعا من جابر فاما تضعيف عمرو بن أبي عمرو فغير ثابت لان
البخاري ومسلم رويا له في صحيحيهما واحتجا به وهما القدوة في هذا الباب وقد احتج به مالك
وروي عنه وهو القدوة وقد عرف من عادته أنه لا يروى في كتابه الا عن ثقة * وقال أحمد بن حنبل
فيه ليس به بأس وقال أبو زرعة هو ثقة وقال أبو حاتم لا باس به وقال ابن عدي لا باس به لان مالكا
روى عنه ولا يروى مالك الا عن صدوق ثقة (قلت) وقد عرف ان الجرح لا يثبت الا مفسرا
ولم يفسره ابن معين والنسائي يثبت تضعيفه (وأما) ادراك المطلب لجابر فقال ابن أبي حاتم وروى
عن جابر قال ويشبه أن يكون أدركه * هذا كلام ابن أبي حاتم فحصل شك في ادراكه ومذهب مسلم
ابن الحجاج الذي ادعي في مقدمة صحيحه الاجماع فيه انه لا يشترط في اتصال الحديث اللقاء بل يكفي
امكانه والامكان حاصل قطعا ومذهب على ابن المديني والبخاري والأكثرين اشتراط ثبوت اللقاء
فعلى مذهب مسلم الحديث متصل وعلى مذهب الأكثرين يكون مرسلا لبعض كبار التابعين وقد
سبق ان مرسل التابعي الكبير يحتج به عندنا إذا اعتضد بقول الصحابة أو قول أكثر العلماء أو
غير ذلك مما سبق وقد اعتضد هذا الحديث فقال به من الصحابة رضي الله عنهم من سنذكره في
فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى والله أعلم * (وأما) حديث عبد الله بن أبي قتادة الذي ذكره المصنف
301

فرواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه وينكر على المصنف كونه جعله
مرسلا فقال عن عبد الله بن أبي قتادة قال كان أبو قتادة فلم يذكر انه سمعه من أبيه مع أن الحديث في
الصحيحين عن عبد الله أبي قتادة عن أبيه متصل فغيره المصنف (وقوله) في حديث جابر (ما لم تصيدوه
أو يصاد لكم) هكذا الرواية فيه يصاد بالألف وهو جائز على لغة ومنه قوله (تعالى انه من يتقى ويصبر)
على قراءة من قرأ بالياء ومنه قول الشاعر * ألم يأتيك والانباء تنمي * وقد غير المصنف
ألفاظا في حديث أبي قتادة فلفظه في البخاري ومسلم (عن عبد الله بن أبي قتادة ان أباه
حدثه قال انطلقنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فأحرم أصحابه ولم أحرم فبصر أصحابنا بحمار وحش
فجعل بعضهم يضحك إلى بعض فنظرت فرأيته فحملت عليه الفرس فطعنته فأثبته فاستعنتهم فلم يعينوني
فأكلنا منه ثم لحقت برسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله إنا صدنا حمار وحش وان عندنا فاضله فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه كلوا وهم محرمون) وفى رواية فرأيت أصحابي يتراؤون شيئا فنظرت فإذا حمار
وحش فوقع السوط فقالوا لا نعينك عليه بشئ انا محرمون فتناولته فأخذته ثم اتيت الحمار من وراء أكمة
فعقرته فاتيت به أصحابي فقال بعضهم كلوا وقال بعضهم لا تأكلوا فاتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو امامنا
فسألته فقال (كلوه حلال) وفى رواية (هو حلال فكلوه) وفى رواية في الصحيحين فقال النبي صلى الله عليه وسلم
(هل منكم أحد امره ان يحمل عليه أو أشار إليه) وفى رواية انه سأل أصحابه ان يناولوه سوطه فأبوا
فسألهم رمحه فأبوا فاخذه ثم شد على الحمار فقتله فاكل منه بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأبى بعضهم
فأدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذلك فقل إنما هي طعمة أطعمكموها الله عز وجل وفى رواية
البخاري قال (كنت جالسا مع رجال من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في طريق مكة والقوم محرمون وأنا غير
محرم فأبصروا حمارا وحشيا وأنا مشغول أخصف نعلي فلم يؤذنوني به أحبوا لو أني أبصرته
فالتفت فأبصرته فقمت إلى الفرس فأسرجته ثم ركبت ونسيت السوط والرمح فقلت لهم ناولوني
السوط والرمح فقالوا لا والله لا نعينك عليه بشئ فغضبت فنزلت فأخذتهما ثم ركبت فشددت على
302

الحمار فعقرته ثم جئت به وقد مات فوقعوا عليه يأكلونه ثم إنهم شكوا في أكلهم إياه وهم حرم فرحنا
وخباب العضد معي فأدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه عن ذلك فقال هل معكم من شئ
فناولته العضد فأكلها حتى تعرقها وهو محرم) وفى رواية لمسلم فقال (هل معكم منه فناولته العضد
فاكلها ثم تعرقها وهو محرم) وفي رواية لمسلم فقال (هل معكم منه شئ فقالوا معنا رجله فاخذها رسول الله
صلى الله عليه وسلم فاكلها) هذه ألفاظ الحديث في الصحيح * وإنما أخذ صلى الله عليه وسلم ما أخذه
وأكله تطبيبا لقلوبهم في إباحته ومبالغة في إزالة الشبهة عنهم والشك فيه لحصول الاختلاف فيه
بينهم قبل ذلك والله أعلم * (أما) قول المصنف لأنه فعل محرم يحكم الاحرام فوجبت فيه الكفارة
فقال القلعي احترز بفعل عن عقد النكاح (وبقوله) محرم من الافعال المباحة في الاحرام (وبقوله) في
الاحرام عن ذبح شاة غيره (وقوله) ليس بنام احتراز من قتل الصيد وقطع شجر الحرم (وقوله) ولا
يؤول إلى النماء احتراز من كسر بيض الصيد (وقوله) البيض المذر هو بالذال المعجمة أي الفاسد والله
أعلم * (أما) حكم المسألة فقال الشافعي والأصحاب يحرم على المحرم أكل صيد صاده هو أو أعان على
اصطياده أو أعان على قتله بدلالة أو إعارة آلة سواء دل عليه دلالة ظاهرة أو خفية وسواء أعاره
ما يستغنى عنه القاتل أم لا وهذا لا خلاف فيه قال الشافعي والأصحاب ويحرم عليه لحم ما صاده الحلال
المحرم سواء علم به المحرم وأمره بذلك أم لا وهذا لا خلاف فيه أيضا (واما) إذا صاد الحلال شيئا ولم
يقصد اصطياده للمحرم ولا كان من المحرم فيه إعانة ولا دلالة فيحل للمحرم اكله بلا خلاف ولا جزاء
عليه في ذلك بلا خلاف * فان اكل المحرم مما صاده الحلال له أو بإعانته أو دلالته ففي وجوب الجزاء
عليه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (الأصح) الجديد لا جزاء (والقديم) وجوب
الجزاء وهو القيمة بقدر ما اكل * هكذا قال الأكثرون تفريعا على القديم وقال الماوردي في
في كيفية الضمان على القديم ثلاثة أوجه (أحدها) يضمن مثله لحما من لحوم النعم يتصدق به على مساكين
الحرم (والثاني) يضمن مثله من النعم فيضمن بقدر ما أكل من مثله من النعم فان أكل عشر لحمه لزمه
عشر مثله (والثالث) يضمن قيمة ما أكل دراهم فان شاء بها تصدق دراهم وان شاء اشترى بها
طعاما وتصدق به هذا نقل الماوردي * وعلى مقتضى الثالث انه ان شاء صام عن كل مد يوما
303

(أما) إذا أكل المحرم ما ذبحه بنفسه فقد ذكر المصنف بعد هذا وسائر الأصحاب أنه لا يلزمه بأكله بعد
الذبح شئ آخر بلا خلاف عندنا كما لا يلزمه في صيد الحرم بعد الذبح شئ آخر وإنما يلزمه في
الموضعين جزاء قتله فقط هذا مذهبنا * وقال أبو حنيفة يلزمه في صيد الاحرام جزاء آخر ووافقنا في
صيد الحرم فلهذا قاس الأصحاب عليه وقاسوه أيضا على من ذبح شاة لآدمي ثم أكلها فإنه تلزمه قيمة
واحدة والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(فان ذبح المحرم صيدا حرم عليه أكله لأنه إذا حرم عليه ما صيد له أو دل عليه فلان يحرم
ما ذبحه أولى وهل يحرم على غيره فيه قولان (قال) في الجديد يحرم لان ما حرم على الذابح أكله
حرم على غيره كذبيحة المجوسي (وقال) في القديم لا يحرم لان ما حل بذكاته غير الصيد حل بذكاته الصيد
كالحلال فان أكل ما ذبحه لم يضمن بالاكل لان ما ضمنه بالقتل لم يضمنه بالاكل كشاة الغير)
(الشرح) إذا ذبح المحرم صيدا حرم عليه بلا خلاف وفى تحريمه على غيره القولان اللذان
ذكرهما المصنف (الجديد) تحريمه وهو الأصح عند الجمهور * وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه صحح
كثيرون من أصحابنا هذا القديم * وقال القاضي أيضا في كتابه المجرد وقال أصحابنا القديم هنا هذا
كلامه والصحيح عند الجمهور هو الجديد ودليل الجميع في الكتاب (وان قلنا) بالجديد فاكله غير
المحرم لم يلزمه الجزاء بلا خلاف لأنه لم يتلف صيدا فهو كمن أكل ميتة أخرى * صرح به الماوردي وغيره
فعلى الجديد ذبيحة المحرم ميتة وعلى القديم ليست ميتة * هذا في حق غيره ولا خلاف في تحريمها عليه في الاحرام
فلو تحلل واللحم باق هل يجوز له (ان قلنا) يحرم على غيره فعليه أولى والا فطريقان حكاهما إمام الحرمين
وغيره (أحدهما) القطع بتحريمه لأنا لو أبحناه له بعد التحلل جعل ذلك ذريعة لأي ادخاره قال امام الحرمين
وبهذا الطريق قطع المراوزة (والطريق الثاني) فيه وجهان (أصحهما) تحريمه لما ذكرناه (والثاني)
إباحته لان المنع للاحرام وقد زال وبهذا الطريق قطع المتولي والبغوي وآخرون ونقله امام الحرمين
عن العراقيين الا أنه قال زيفوا وجه الإباحة والله أعلم * هذا حكم ذبيحة المحرم (فاما) إذا ذبح
الحلال صيدا حرميا ففيه طريقان مشهوران وقد ذكرهما المصنف في أواخر الباب الذي بعد هذا
(أصحهما) أنه كذبيحة المحرم فيحرم عليه بلا خلاف وفى تحريمه على غيره القولان (الأصح) تحريمه
(والثاني) اباحته (والطريق الثاني) وصححه البندنيجي يحرم على غيره قولا واحدا كما يحرم عليه
والفرق بينه وبين ذبيحة المحرم من وجهين (أحدهما) أن صيد الحرم محرم على جميع الناس (والثاني)
304

أنه محرم في جميع الأزمان بخلاف صيد الاحرام والله أعلم * وإذا أكل ما ذبحه بنفسه في الحرم
أو الاحرام لا يلزمه بالاكل جزاء إنما يلزمه جزاء واحد بسبب الذبح وقد سبقت المسألة قريبا
واضحة والله أعلم * (أما) إذا كسر المحرم بيض صيد أو قلاه فيحرم عليه بلا خلاف وفى تحريمه
على غيره طريقان (أشهرهما) وهي التي اختارها المصنف في الفصل الذي بعد هذا وكثيرون وبها
قطع الشيخ أبو حامد ونقلها صاحب البحر عن لأصحاب مطلقا انه على القولين كاللحم (الجديد)
تحريمه (والقديم) اباحته (والطريق الثانية) القطع بإباحته واختارها القاضي أبو الطيب وصححها الماوردي
والمتولي والروياني في البحر وغيرهم وقطع بها القاضي حسين في تعليقه والبغوي وآخرون * قال
الماوردي وجهل بعض المتأخرين فحكى في تحريمه قولين * قال وهذا جهل قبيح والصواب إباحته
لأنه لا يحتاج إلى ذكاة * وفرق هؤلاء بين اللحم والبيض بان الحيوان لا يستباح الا بذكاة والمحرم
ليس من أهلها بخلاف البيض فإنه يباح بكل حال ويباح من غير قلي ولو كسره مجوسي أو قلاه
حل بخلاف الحيوان * قال المتولي فعلى هذا ينزل البيض منزلة ذبيحة حلال فمن حل له اكل صيد
ذبحه له حلال حل له هذا البيض * قال المتولي ولو حلب لبن صيد أو قتل جرادة فهو ككسره
البيض لان الجرادة تحل بالموت ولهذا لو قتلها مجوسي حلت وقطع الماوردي وغيره بان الجراد إذا
قتله محرم حل للحلال * قال المتولي ولو اخذ انسان بيض صيد الحرم فكسره أو قلاه فطريقان
(أحدهما) انه كلحم صيد الحرم (وأصحهما) انا ان قلنا صيد الحرم ليس بميتة فالبيض حلال وان
قلنا ميتة ففي البيض وجهان (أحدهما) لا يحل لأنا جعلنا صيد المحرم كحيوان لا يحل لكونه محرما
على العموم وبيض ما لا يؤكل لا يحل (والثاني) يحل لان اخذ البيض وقليه ليس سبب الإباحة
بخلاف ذبح الصيد * قال وحكم لبن صيد الحرم وحكم جراده حكم البيض فيما ذكرنا * وقطع
الماوردي بان بيض صيد الحرم حرام على كاسره وعلى جميع الناس قولا واحدا لان حرمة الحرم
لم تزل عنه بكسره
* قال المصنف رحمه الله *
(ويحرم عليه ان يشترى الصيد أو يتهبه لما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما (ان الصعب
ابن جثامة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حمار وحش فرده عليه فلما رأى ما في وجهه قال
305

انا لم نرده عليه الا انا حرم) ولأنه سبب يتملك به الصيد فلم يملك به مع الاحرام كالاصطياد * وان مات
من يرثه وله صيد ففيه وجهان (أحدهما) لا يرثه لأنه سبب للملك فلا يملك به الصيد كالبيع والهبة
(والثاني) أنه يرثه لأنه يدخل في ملكه بغير قصده ويملك به الصبي والمجنون فجاز ان يملك به المحرم
الصيد * وإن كان في ملكه صيد فأحرم ففيه قولان (أحدهما) لا يزول ملكه عنه لأنه ملك فلا
يزول بالاحرام كملك البضع (والثاني) يزول ملكه عنه لأنه معنى لا يراد للبقاء يحرم ابتداؤه
فحرمت استدامته كلبس المخيط (فان قلنا) لا يزول ملكه جاز له بيعه وهبته ولا يجوز له قتله
فان قتله وجب عليه الجزاء لان الجزاء كفارة تجب لله تعالى فجاز ان تجب على مالكه
ككفارة القتل (وان قلنا) يزول ملكه وجب عليه ارساله فإن لم يرسله حتى مات
ضمنه بالجزاء وان لم يرسله حتى تحلل ففيه وجهان (أحدهما) يعود إلى ملكه ويسقط
عنه فرض الارسال لان علية زوال الملك هو الاحرام وقد زال فعاد الملك كالعصير إذا صار خمرا
ثم صار خلا (والثاني) أنه لا يعود إلى ملكه ويلزمه ارساله لان يده متعدية فوجب أن يزيلها *
(الشرح) حديث ابن عباس رواه البخاري ومسلم من طرق (منها) ما ذكره المنصف
بلفظه وفى رواية لمسلم (أن الصعب بن جثامة أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمار وحش)
وفى رواية له (من لحم حمار وحش) وفى رواية (رجل حمار وحش) وفى رواية (عجز حمار وحش يقطر دما)
وفى رواية (شق حمار وحش) وفى رواية (عضو من لحم صيد) هذه الروايات كلها في صحيح مسلم وترجم
البخاري باب إذا أهدى للمحرم حمارا وحشيا حيا لم يقبل ثم رواه باسناد وقال في روايته حمارا
وحشيا فأشار البخاري إلى أن هذا الحمار كان حيا * وحكي هذا أيضا عن مالك وغيره وهو الظاهر من
استدلال المصنف وغيره من أصحابنا * وهذا تأويل باطل مردود بهذه الروايات الصحيحة الصريحة
التي ذكرها مسلم * (فالصواب) أنه إنما أهدى بعض لحم صيد لأكله ويكون قوله حمارا وحشيا
وحمار وحش مجازا أي بعض حمار ويكون رد النبي صلى الله عليه وسلم له عليه لأنه علم منه أو من
حاله انه اصطاده للنبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يقصد الاصطياد له لقبله منه فان لحم الصيد الذي
صاده الحلال إنما يحرم على المحرم إذا صيد له أو أعان عليه كما سبق بيانه قريبا (فان قيل) فإنما
306

علل النبي صلى الله عليه وسلم رده عليه بأنهم حرم (قلنا) لا تمنع هذه العبارة كونه صيد له لأنه إنما
يحرم الصيد على الانسان إذا صيد له بشرط كونه محرما فبين الشرط الذي يحرم به وسأبسط الكلام
في ايضاح هذا الحديث وبيان طرقه وما يوافقه وكلام العلماء عليه في فرع مذاهب العلماء في
المسألة الثالثة منه إن شاء الله تعالى والله أعلم * (وأما) قوله الصعب بن جثامة فالصعب بفتح
الصاد واسكان العين وجثامة بجيم مفتوحة ثم ثاء مثلثة مشددة (وقوله) صلى الله عليه وسلم (لم يرده
عليك) هو برفع الدال على الصواب المعروف لأهل العربية وغلب على السنة المحدثين والفقهاء فتحها
وهو ضعيف وقد أوضحته في التهذيب وشرح مسلم (وقوله) لأنه سبب يتملك به الصيد إنما قال
يتملك ولم يقل يملك ليحترز عن الإرث فإنه يملك ليحترز عن الإرث فإنه يملك به على أحد الوجهين لأنه سبب يملك به الصيد ولا
يقال في الرث يتملك إنما يقال يملك لأنه ملك قهري (قوله) لأنه معنى لا يراد للبقاء يحرم ابتداؤه
فحرمت استدامته كلبس المخيط احترز بقوله لا يراد للبقاء من النكاح وبقوله يحرم ابتداؤه من لبس
ما سوي المخيط وهذه العلة منتقضة بالطيب فإنه لا يحرم استدامته والله أعلم * (أما) الأحكام ففيها
مسائل (إحداها) يحرم على المحرم شراء الصيد وقبول هبته وهديته والوصية له به فان اشتراه
أو قبل الهبة أو الهدية أو الوصية فهل يملكه فيه طريقان (أحدهما) وبه قطع المصنف وسائر العراقيين
لا يملكه لما ذكره المصنف (والثاني) طريقة للقفال ومعظم الخراسانيين أنه يبنى على أنه إذا كان
في ملكه صيد فأحرم (فان قلنا) يزول ملكه عنه لم يملك الصيد بالشراء والهبة والهدية والوصية
والا فقولان كشراء الكافر عبدا مسلما (أصحهما) لا يملك * قال أصحابنا (فان قلنا) بالمذهب أنه
لا يملك فليس له القبض فان قبض قال الشافعي رحمه الله لزمه إرساله * واختلف أصحابنا في مراده
بقوله لزمه ارساله على وجهين مشهورين فمن قال إنه يملكه تعلق بهذه اللفظة من كلام
الشافعي وقال لولا أنه ملكه ما أمره بارساله ومن قال لا يملكه اختلفوا في المراد فقال الشيخ
أبو حامد والمحاملي وطائفة المراد بارساله رده إلى صاحبه وليس المراد ارساله في البرية قالوا لأنه لم
يملكه فلا يجوز له تضييعه ولم يزل ملك البائع والواهب عنه فلا يجوز تفويته عليه * وقال صاحب
الشامل وآخرون يلزمه ارساله في البرية ويحمل كلام الشافعي على ظاهره فيجب ارساله بحيث يتوحش
307

ويصير ممتنعا في البرية ويدفع إلى مالكه القيمة * قالوا ويجوز تفويت حق المالك من عين وإن كان
باقيا على ملكه لأنه هو المتسبب في حصوله في يد المحرم حتى وجب ارساله فانتقل حقه إلى
البدل جمعا بين الحقين * قال المتولي ويصير المحرم كمن اضطر إلى أكل طعام غيره فيأكله ويغرم
بدله ويكون الاضطرار عذرا في اتلاف مال الغير بغير اذنه فكذا هنا * هذا مختصر كلام الأصحاب
في تفسير قول الشافعي (لزمه ارساله) والله أعلم * قال أصحابنا فان هلك في يد المحرم قبل ارساله
ورده إلى مالكه لزمه الجزاء لحق الله تعالى يدفع إلى المساكين ويلزمه لمالكه قيمته إن كان
قبضه بالشراء لان المقبوض بالشراء الفاسد مضمون وفى وقت اعتبار القيمة الخلاف المعروف
فيمن تلف عنده المقبوض بشراء فاسد وإن كان قبضة بالهبة ونحوها لزمه الجزاء لحق الله تعالى وهل
يلزمه القيمة لمالكه الواهب فيه وجهان مشهوران في كل ما قبض بهبة فاسدة هل يكون مضمونا
أم لا (أصحهما) لا يكون مضمونا لان حكم العقود الفاسدة حكم الصحيحة في الضمان فما ضمن صحيحه
ضمن فاسده وما لا يضمن صحيحه لا يضمن فاسده * وهذه قاعدة مشهورة سنوضحها في كتاب
الرهن والشركة والهبة إن شاء الله تعالى * وممن ذكر الوجهين فيها هنا الماوردي وغيره وقطع
القاضي أبو الطيب والمحاملي وأبو علي البندنيجي في كتابه الجامع والقاضي حسين وابن الصباغ
وصاحب البيان وآخرون هنا بالأصح وهو أنه لا ضمان وأشار جماعة من الخراسانيين إلى القطع
بالضمان * وقد اغتر الرافعي بهذا فوافق إشارتهم فقطع هنا بالضمان مع أنه ذكر الخلاف في
كتاب الهبة وان الأصح أنه لا ضمان فكأنه لم يتذكره في هذا الموطن * فالحاصل أن الصحيح
أنه لا ضمان * هذا كله إذا تلف في يد المحرم (أما) إذا أتلفه فقد صرح القاضي أبو الطيب في
تعليقه وصاحب الشامل وغيرهما بأنه كما لو تلف في جميع ما ذكرناه (أما) إذا رده إلى مالكه فتسقط
عنه القيمة التي هي حق الآدمي سواء كان قبضه بالشراء أو الهبة ونحوها ولكن لا يسقط عنه
الجزاء لحق الله تعالى الا بارساله * وان تلف في يد مالكه بعد ذلك لزم المحرم الجزاء وان
أرسله مالكه سقط عن المحرم الجزاء * هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وقطع البندنيجي بأنه إذا
رد ما قبضه بالبيع إلى بائعه زال عنه الضمان ولو قبضه بالهبة فرده إلى واهبه لم يزل عنه الضمان وفرق
بان المتهب كأن يمكنه ارساله ولا يكون ضامنا لواهبه بخلاف المشترى وهذا الحكم والفرق ضعيفان
308

قال الغزالي فان صححنا الشراء فباعه المحرم حرم البيع ولكن ينعقد ويجب على المشترى ارساله
فإذا أرسله فهل يكون من ضمان البائع فيه الخلاف فيمن باع عبدا مرتدا فقتل في يد المشترى *
هذا كلام الغزالي وكأنه أراد ما ذكره شيخه إمام الحرمين فان إمام الحرمين قال قال الأئمة إذا
باع المحرم صيدا أمرناه باطلاقه ووجب على المشترى ارساله * قال فان استبعد الفقيه ذلك فهو
كتصحيحنا من المشترى شراءه مع أمرنا إياه بارساله ثم إذا أرسله المشترى بعد قبضه اتصل هذا
بالتفريع فيمن اشترى مرتدا فقتل في يده بالردة فمن ضمان من هو وفيه خلاف * قال ولعل
الوجه القطع هنا بارساله من ضمان البائع وجها واحدا لأنا قد تقول المرتد قد يقتل لردة حاله والخطرات
تتجدد والسبب الذي علق به وجوب الارسال دائم لا تجدد فيه * (قال) ثم قال الأصحاب لو تلف
الصيد في يد المشترى أو في يد من اشترى منه وهكذا كل شئ كيف تناسخت الأيدي فالضمان
على المحرم لأنه المتسبب إلى إثبات هذه الأيدي وللسبب في المضمونات حكم المباشرة * هذا
آخر كلام امام الحرمين ومراده بالضمان المذكور في آخر كلامه ضمان الجزاء والله أعلم * (المسألة
الثانية) إذا مات للمحرم قريب يملك صيد فهل يرثه فيه طريقان (أحدهما) وبه قطع المصنف
وسائر العراقيين فيه وجهان (أصحهما) يرثه (والثاني) لا ودليلهما في الكتاب (والطريق الثاني) وبه
قطع القفال والشيخ أبو محمد الجويني وأبو بكر الصيدلاني وآخرون من أئمة أصحابنا الخراسانيين
يرثه وجها واحدا لأنه ملك قهري * قال القاضي أبو الطيب في تعليقه وإنما يتصور القول بتوريثه
على قولنا إن الاحرام لا يزيل الملك عن الصيد (فاما) إذا قلنا بالقول الآخر انه يزيله فلا يدخل
في ملكه بالإرث * هذا كلام القاضي وذكر امام الحرمين عكسه فقال قال العراقيون إذا قلنا
الاحرام يقطع دوام الملك ففي الإرث وجهان (أحدهما) لا يفيد الملك لأنه مشبه باستمرار الملك
على الدوام فإذا كان الاحرام ينافي دوام الملك فكذلك ينافي الملك المتجدد المشبه بالدوام
(والثاني) يحصل الملك بالإرث ويزيله فانا نضطر إلى الجري على قياس التوريث فلنجر ذلك الحكم
ثم نحكم بالزوال * هذا كلام إمام الحرمين وهو مخالف لما ذكره القاضي أبو الطيب ولم يتعرض
309

جمهور الأصحاب لما قاله وهذا القتل الذي أضافه الامام إلى العراقيين غريب في كتبهم (وأما) المتولي
(فقال) ان قلنا يزول ملكه في الصيد لم يرثه وإلا فيرثه * قال الرافعي فان قلنا يرث قال إمام
الحرمين والغزالي يزول ملكه عقب ثبوته بناء على أن الملك يزول عن الصيد بالاحرام قال
وفى التهذيب وغيره خلافه لأنهم قالوا إذا ورثه لزمه ارساله فان باعه صح بيعه ولا يسقط عنه
ضمان الجزاء حتى لو مات في يد المشترى وجب الجزاء على البائع وإنما يسقط عنه إذا أرسله
المشترى * هذا كلام الرافعي وهذا الذي أضافه إلى التهذيب وغيره هو الصحيح المشهور الذي قطع
به المحاملي وآخرون * قال المحاملي في المجموع إذا قلنا إنه يملكه بالإرث كان ملكا له يملك التصرف
فيه كيف شاء الا القتل والاتلاف والله أعلم (وأما) إذا قلنا لا يرث ففي حكمه وجهان (أحدهما) وبه
قطع المتولي يكون ملك الصيد لباقي الورثة ويكون احرامه بالنسبة إلى الصيد مانعا من موانع الإرث
(والوجه الثاني) وهو الصحيح بل الصواب المشهور الذي قطع به الجمهور أنه يكون باقيا على ملك المشتري
الميت حتى يتحلل المحرم من احرامه فان تحلل دخل في ملكه * وممن صرح بهذا الشيخ
أبو حامد في تعليقه والدارمي وأبو علي البندنيجي في كتابه الجامع والمحاملي في كتابيه المجموع
التجريد والقاضي أبو الطيب في المجرد وصاحب الحاوي والقاضي حسين في تعليقه وأبو القاسم
الكرخي شيخ المصنف وصاحب العدة والبيان وغيرهم * قال الدارمي فان مات الوارث قبل تحلله
قام وارثه مقامه والله أعلم (المسألة الثالثة) إذا كان في ملكه صيد فأحرم ففي زوال ملكه عنه
قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما نص الشافعي عليهما في الأم ومنهم من يقول إنما نص
في الاملاء على أنه لا يزول * ممن حكي هذا الشيخ أبو حامد والماوردي (والأصح) من القولين انه
يزول * ممن صححه القاضي أبو الطيب في تعليقه وفى المجرد والعبد رى والرافعي وغيرهم وخالفهم
الجرجاني فقال في كتابه التحرير الأصح لا يزول ملكه والمشهور تصحيح زوال ملكه * قال
الرافعي هل يلزمه ارساله فيه قولان (الأظهر) يلزمه ارساله (وقيل) لا يلزمه ارساله قولا واحدا بل
يستحب * قال أصحابنا فإن لم نوجب الارسال فهو باق على ملكه له بيعه وهبته لكن لا يجوز له قتله فان
قتله لزمه الجزاء كما لو قتل عبده يلزمه الكفارة * ولو أرسله غيره أو قتله لزمه قيمته للمالك ولا شئ
310

على المالك * وان أوجبنا ارساله فهل يزول ملكه عنه فيه قولان (أصحهما) يزول فعلى هذا لو أرسله
غيره أو قتله فلا شئ عليه ولو أرسله فاخذه غيره ملكه لأنه صار مباحا كما كان قبل اصطياده
أو لا * ولو لم يرسله حتى تحلل فهل يلزمه ارساله فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما
(أصحهما) يلزمه وهو المنصوص اتفقوا على تصحيحه (والثاني) لا يلزمه وهو قول أبي إسحاق المروزي
وحكي امام الحرمين على هذا القول وجهين في أنه يزول ملكه بنفس الاحرام أم الاحرام يوجب
عليه الارسال فإذا أرسل زال حينئذ (والأول) منهما أصح وهو مقتضى كلام جمهور الأصحاب
وصرح به جماعة منهم (وان قلنا) لا يزول ملكه فليس لغيره آخذه فلو اخذه لم يملكه وقتله ضمنه *
وعلى القولين لو مات في يده بعد امكان الارسال لزمه الجزاء لأنهما مفرعان على وجوب الارسال
وهو مقصر بالامساك ولو مات الصيد قبل امكان الارسال وجب الجزاء على أصح الوجهين
ولا يجب في الثاني وبه قطع الشيخ أبو حامد في تعليقه والبندنيجي وصاحب البيان وممن صحح
الأول أمام الحرمين والرافعي * وإذا لم يرسله حتى حل من احرامه وقلنا بالصحيح المنصوص انه
يلزمه الارسال بعد التحلل فقتله فوجهان حكاهما الشيخ أبو حامد والأصحاب (أحدهما) لا ضمان لأنه
قتله وهو حلال (وأصحهما) وجوب الجزاء لأنه ضمنه باليد في الاحرام فلا يزول الضمان الا
بالارسال واتفق الأصحاب على أنه لا يجب تقديم الارسال على الاحرام وممن نقل الاتفاق عليه امام
الحرمين والله أعلم *
(فرع) قال الأصحاب متى أمر بارسال الصيد فأرسله زال عنه الضمان وصار الصيد مباحا
فمن أخذه من الناس بعد ذلك وهو حلال ملكه وكذا لو أخذه المحرم بعد تحلله ملكه كغيره من
الناس وكغيره من الصيود *
(فرع) لو اشترى صيدا فوجده معيبا وقد أحرم البائع فان قلنا للمحرم ان يملك الصيد
بالإرث رده عليه والا فوجهان مشهوران ذكرهما ابن الصباغ والمتولي وصاحب البيان وآخرون
(أحدهما) لا يرد لان المحرم لا يدخل الصيد في ملكه (والثاني) يرد لان منع الرد اضرار بالمشترى * قال
311

المتولي (فان قلنا) لا يرد فحكمه حكم من اشترى شيئا فرهنه ثم علم به عيبا وهو مرهون * وقال صاحب
البيان إذا قلنا لأرد فماذا يصنع فيه وجهان (قال) القاضي أبو الطيب يرد عليه البائع الثمن ويوقف
الصيد حتى يتحلل فيرده عليه لان المتعذر هو رد الصيد دون رد الثمن (وقال) ابن الصباغ يكون
المشترى بالخيار بين ان يوقف حتى يتحلل البائع ويرد عليه وبين ان يرجع بالأرش لتعذر الرد في
الحال لأنه لو ملك المشتري لزال ملكه عن الصيد إلى البائع ولوجب رده عليه لئلا يجتمع العوضان
للمشترى (قلت) هذا الذي حكاه عن القاضي أبي الطيب إنما هو احتمال ذكره في تعليقه ولم يجزم به
والصحيح ما ذكره ابن الصباغ والله أعلم *
(فرع) لو اشتري الحلال صيد اثم أفلس بالثمن والبائع محرم فهل له الرجوع في الصيد فيه
طريقان (أصحهما) وبه قطع الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبندنيجي والماوردي والمحاملي
وابن الصباغ وسائر العراقيين والقاضي حسين وغيره من الخراسانيين ليس له ذلك وبهذا قطع
المصنف في كتاب التفليس ونقله المحاملي هنا في المجموع عن أصحابنا مطلقا ونقل القاضي أبو الطيب
في تعليقه وصاحب العدة اتفاق الأصحاب عليه (والطريق الثاني) فيه وجهان حكاه المتولي
وآخرون كالرد بالعيب ووجه الجواز رفع الضرر عن البائع والمذهب الأول لان هنا يملك
الصيدا بالاختيار فلم يجزى مع الاحرام كالمشتري بخلاف الإرث فإنه مجزئ وبخلاف الرد بالعيب على
وجه فإنه بغير اختياره فإذا قلنا لا يرجع قال الماوردي وغيره له الرجوع بعد التحلل
من احرامه *
(فرع) لو استعار المحرم صيدا صار مضمونا عليه بالجزاء لله تعالى والقيمة للمعير وليس له
التعرض له فان تلف في يده لزمه الجزاء القيمة فان أرسله عصى ولزمه القيمة لمالك وسقط عنه
الجزاء وان رده إلى المالك برئ من حق المالك ولا يسقط عنه الجزاء ما لم يرسله المالك * هكذا
ذكر هذا الفرع أصحابنا في الطريقتين واتفقوا على تحريم إعادة الصيد للمحرم وقد ذكر المصنف
تحريم الإعادة في أول كتاب العارية (وأما) إذا أودع الصيد عند المحرم فوجهان (أصحهما) وبه
قطع القاضي حسين والبغوي والرافعي هنا أنه يكون مضمونا عليه بالجزاء كما لو استعاره لأنه
312

ممنوع من وضع اليد عليه فصار كما لو استودع مالا مغصوبا * فعلى هذا ان تلف في يده لزمه الجزاء
ولا تلزمه القيمة للمالك الا ان يفرط لان الوديعة لا تضمن إلا بالتفريط وقال القاضي حسين في
تعليقه يضمنه وهذا ضعيف وان أرسله عصي ولزمه القيمة للمالك وان رده إليه لم يسقط عنه الجزاء
ما لم يرسله المالك (والثاني) لا جزاء عليه وان تلف في يده وبه قطع الشيخ أبو حامد وحكاه عنه
صاحب البيان في أول كتاب العارية لأنه لم يمسكه لنفسه * وهذه العلة تنتقض بالمغصوب إذا أودع
عنده والله أعلم * قال الماوردي هنا فاما إذا استعار الحلال صيدا من محرم فتلف في يد المستعير
(فان قلنا) يزول ملك المحرم عن الصيد بالاحرام وجب الجزاء على المحرم المعير لأنه كان مضمونا
عليه باليد ولا شئ على المستعير لا جزاء ولا قيمة (أما) الجزاء فلانه حلال (واما) القيمة فلان
المعير لا يملكه (وإن قلنا) لا يزول ملك المحرم فلا جزاء على المحرم لأنه على هذا القول لا يضمنه
الا بالجناية وتجب القيمة على المستعير للمسالك لأنها عارية مملوكة فوجب ضمانها بالتلف
والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا حيث صار الصيد مضمونا على المحرم بالجزاء فان تلف في يده لزمه الجزاء
فان قتله حلال في يده فالجزاء على المحرم وان قتله محرم آخر فوجهان حكاهما الشيخ أبو حامد
والماوردي والبغوي وآخرون (أحدهما) الجزاء عليهما نصفين كما لو اشتركا في قتل صيد (وأصحهما)
يجب على القاتل ويكون الذي كان في يده طريقا في الضمان *
(فرع) قال إمام الحرمين لو كان بين رجلين صيد مملوك لهما فأحرم أحدهما وقلنا يلزم المحرم
إرسال الصيد الذي كان في ملكه قبل الاحرام فالارسال هنا غير ممكن فأقصي ما يمكن أن يرفع
يد نفسه عنه قال ولم يوجب الأصحاب عليه السعي في تحصيل الملك في نصيب شريكه ليطلقه
ولكن ترددوا في أنه لو تلف هل يلزمه ضمان حصته من جهة انه لم يتأت منه اطلاقه على ما ينبغي
والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
313

(وإن كان الصيد غير مأكول نظرت فإن كان متولدا بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل كالسمع
المتولد بين الذئب والضبع والحمار المتولد بين حمار الوحش وحمار الأهل فحكمه حكم ما يؤكل
في تحريم صيده ووجوب الجزاء لأنه اجتمع فيه جهة التحليل والتحريم فغلب التحريم كما غلبت جهة
التحريم في أكله وإن كان حيوانا لا يؤكل ولا هو متولد مما يؤكل فالحلال والحرام فيه واحد لقوله
تعالى (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) فحرم من الصيد ما يحرم بالاحرام وهذا لا يكون الا فيما
يؤكل وهل يكره قتله أو لا يكره ينظر فيه فإن كان مما يضر ولا ينفع كالذئب والأسد والحية والعقرب
والفأرة والحدأة والغراب والكلب العقور والبق والرغوث والقمل والقرقش والزنبور فالمستحب أن
يقتله لأنه يدفع ضرورة عن نفسه وعن غيره وإن كان مما ينتفع به ويستضر به كالفهد والبازي فلا يستحب
قتله لما فيه من المنفعة ولا يكره لما فيه من المضرة وإن كان مما لا يضر وينفع كالخنافس والجعلان
وبنات وردان فإنه يكره قتله ولا يحرم *
(الشرح) السمع بكسر السين والضبع اسم للأنثى (وأما) الذكر فيقال له ضبعان بكسر
الضاد واسكان الباء والفأرة مهموزة ويجوز تخفيفها بترك الهمزة والحدأة بكسر الحاء وبعد
الدال همزة وجمعها حدأ كعنبة وعنب والبرغوث بضم الباء والقرقش بقافين مكسورتين قال
الجوهري هو البعوض الصغار قال ويقال الجرجس بجيمين مكسورتين وقيل إنه نوع من البق
(وأما) البازي ففيه ثلاث لغات تخفيف الياء وتشديدها والثالثة باز بغير ياء أفصحهن البازي
بالياء المخففة ولغة التشديد غريبة وممن حكاها ابن مكي وأنكرها الأكثرون وقد أوضحت ذلك
مع ما يتعلق به من جمع الكلمة وتصريفها في تهذيب اللغات (أما) الأحكام فمن هذا قبلها بحديث عائشة
رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (خمس من الدواب كلهن فاسق يقتلن في الحرم الغراب
والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور) رواه البخاري ومسلم وفى رواية لهما (فيقتلن في الحل
والحرم) وعن ابن عمر ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن
جناح الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور) رواه البخاري ومسلم وفى رواية لمسلم
314

(في الحرم والاحرام) وفى رواية لمسلم (خمس من قتلهن وهو محرم فلا جناح عليه) وفى رواية عن
زيد بن جبير قال (سأل رجل ابن عمر ما يقتل الرجل من الدواب وهو محرم قال حدثني إحدى نسوة
النبي صلى الله عليه وسلم انه كان يأمر بقتل الكلب العقور والفأرة والعقرب والحدأة والغراب والحية) قال
وفى الصلاة أيضا والله أعلم * وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم قال (الحية
والعقرب والفويسقة ويرمي الغراب ولا يقتله والكلب العقور والحدأة والسبع العادي) رواه أبو داود
والترمذي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم ومن رواية يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف جدا وقد قال الترمذي
انه حديث حسن فان صح حمل قوله ويرمى الغراب ولا يقتله على أنه يتأكد ندب قتله كتأكده
في الحية والفأرة والكلب العقور والله أعلم * وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
(الوزغ فويسق ولم أسمعه أمر بقتله) رواه البخاري ومسلم وعن أم شريك رضي الله عنها أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم (أمر بقتل الأوزاغ) رواه البخاري ومسلم وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه
قال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الوزغ وسماه فويسقا) رواه مسلم وعن طارق بن شهاب (أن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه أمر المحرم بقتل الزنبور) رواه الشافعي والبيهقي باسناد صحيح * وعن ربيعة بن عبد الرحمن
ابن الجبيري انه رأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يفرد بعيرا له في طير بالسقيا وهو محرم) رواه
مالك في الموطأ والشافعي والبيهقي باسناد صحيح والله أعلم * قال أصحابنا ما ليس مأكولا من الدواب
315

والطيور ضربان (أحدهما) ما ليس في أصله مأكولا (والثاني) ما أحد أصليه مأكولا فالأول لا يحرم
التعرض له بالاحرام فيجوز للمحرم قتله ولا جزاء عليه وكذلك يجوز قتله للحلال والمحرم في الحرم
ولا جزاء عليه للأحاديث السابقة قال أصحابنا وهذا للضرب ثلاثة أقسام (أحدها) ما يستحب
قتله للمحرم وغيره وهي المؤذيات كالحية والفأرة والعقرب والخنزير والكلب العقور والغراب
والحدأة والذئب والأسد والنمر والدب والنسر والعقاب والبرغوث والبق والزنبور والقراد
واللكة والقرقش وأشباهها (القسم الثاني) ما فيه نفع ومضرة كالفهد والعقاب والبازي والصقر
ونحوها فلا يستحب قتلها ولا يكره لما ذكره المصنف قال القاضي نفع هذا الضرب انه يعلم للاصطياد
وضرره انه يعدو على الناس والبهائم (الثالث) ما لا يظهر فيه نفع ولا ضر كالخنافس والدود والجعلان
والسرطان والبغاثة والرخمة والعضا واللحكاء والذباب وأشباهها فيكره قتلها ولا يحرم هكذا قطع
به المصنف والجمهور * وحكى امام الحرمين وجها شاذا انه يحرم قتل الطيور دون الحشرات ودليل
الكراهة انه عبث بلا حاجة وقد ثبت في صحيح مسلم عن شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال (ان الله كتب الاحسان على كل شئ فإذا قتلتم فأحسنوا) إلى آخره وليس من الاحسان
قتلها عبثا وروى البيهقي عن قطبة بن مالك الصحابي رضي الله عنه قال (كان يكره أن يقتل الرجل
ما لا يضره) قال أصحابنا ولا يجوز قتل النحل والنمل والخطاف والضفدع وفى وجوب الجزاء بقتل
الهدهد والصرد خلاف مبني على الخلاف في جواز أكلهما ان جاز وجب والا فلا * واستدل البيهقي
وغيره في المسألة بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم (نهى عن قتل أربع من الدواب
النملة والنحلة والهدهد والصرد) رواه أبو داود باسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم
وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء صلوات
الله وسلامه عليهم فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحي الله تعالى إليه في أن قرصتك نملة
أهلكت أمة من الأمم تسبح) رواه البخاري ومسلم والله أعلم (وأما) الكلب الذي ليس
بعقور فإن كان فيه منفعة مباحة فقتله حرام بلا خلاف وان لم يكن فيه منفعة مباحة فالأصح أنه
يحرم قتله وقيل يكره والامر بقتل الكلاب منسوخ وقد سبقت المسألة مستوفاة في باب إزالة النجاسة
316

وسنعيدها واضحة إن شاء الله تعالى حيث ذكر المصنف مادتها في باب ما يجوز بيعه وما لا يجوز (أما)
القمل فقتله مستحب في غير الاحرام بلا شك لأنه في معني المنصوص عليه في الأحاديث السابقة (وأما)
في حال الاحرام فان ظهر على ثياب المحرم أو بدنه فلا يكره له تنحيته ولا يحرم عليه قتله فان قتله فلا شئ
فيه لأنه ليس مأكولا * قال الشافعي والأصحاب ويكره أن يفلي رأسه ولحيته فان فعل وأخرج منها قملة
وقتلها قال الشافعي تصدق ولو بلقمة قال جمهور الأصحاب هذا التصدق مستحب * وحكى القاضي
حسين في تعليقه وإمام الحرمين وآخرون وجها شاذا ضعيفا انه واجب لما فيه من إزالة الأذى عن
الرأس * قال القاضي حسين ولو جعل الزيت في رأسه فمات القمل والصئبان ففي وجوب الجزاء هذان
الوجهان * هذا إذا جعله في شعر رأسه أو لحيته بعد الاحرام قال الشافعي والأصحاب قالوا جميعا فان
جعله قبل الاحرام فلا فدية قطعا لا واجبة ولا مستحبة قال الشافعي وللصئبان حكم القمل وهو بيض
القمل لكن فديته أقل من فدية القمل لكونه أصغر منه قال أصحابنا وحقيقة الفدية ليست للقمل
بل للترفه بإزالة الذي عن الرأس فأشبه حلق شعر الرأس (الضرب الثاني) ما في أصله مأكول كالمتولد
بين ذئب وضبع أو حمار وحش وانس فيحرم التعرض له ويجب الجزاء لما ذكره المصنف ويلحق
بهذا الضرب ما تولد من صيد وحيوان أهلي كمتولد بين ضبع وشاة ودجاجة ويعفور ونحو ذلك
فيحرم على المحرم التعرض له ويضمنه بالجزاء لما ذكرناه في المتولد بين مأكول وغيره وهذا كله
لا خلاف فيه والله أعلم *
(فرع) قال الشافعي فان أتلف حيوانا وشك هل هو مأكول أم لا أو شك هل خالطه
وحشي مأكول أم لا لم يجب الجزاء لان الأصل براءته ولكن يستحب احتياطا واتفق الأصحاب
على هذا وكذلك البيض كالحيوان عند الشك والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وما حرم على المحرم من الصيد حرم عليه بيضه وإذا كسره وجب عليه الجزاء وقال المزني رحمه الله
لا جزاء عليه لأنه لا روح فيه * والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال في بيض النعامة (يصيبه المحرم ثمنه) ولأنه خارج من الصيد يخلق منه مثله فضمن بالجزاء كالفرخ
317

فان كسر بيضا لم يحل له أكله وهل يحل لغيره فيه قولان كالصيد * وقال شيخنا القاضي أبو الطيب
رحمه الله في تحريمه على غيره نظر لأنه لا روح فيه فلا يحتاج إلى ذكاة * وان كسر بيضا مذرا لم يضمنه
من غير النعامة لأنه لا قيمة له ويضمنه من النعامة لان لقشر بيض النعامة قيمة *
(الشرح) أما حديث أبي هريرة فرواه ابن ماجة والدارقطني والبيهقي من رواية أبي المهزم
يزيد بن سفيان عن أبي هريرة وأبو المهزم هذا ضعيف باتفاق المحدثين وبالغوا في تضعيفه حتى قال
شعبة لو أعطوه فلسا لحدثهم سبعين حديثا * وذكر البيهقي في الباب أحاديث كثيرة وآثارا (وقوله)
لأنه خارج من الصيد احتراز من بيض الدجاج (وقوله) يخلق منه مثله احتراز من البيض المذر (أما)
الأحكام فقال الشافعي والأصحاب كل صيد حرم على المحرم حرم عليه بيضه وإذا كسره لزمه قيمته * هذا
مذهبنا وبه قال العلماء كافة إلا المزني وداود فقالا هو حلال ولا جزاء فيه واتفق أصحابنا على أن
البيض المذر لا يحرم ولا جزاء في إتلافه الا أن يكون بيض نعامة فعليه قيمته لان قشرهما ينتفع به متقوم
* هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والأصحاب في جميع الطرق الا إمام الحرمين فإنه قل لو كسر بيضة
للنعامة مذرة فلا شئ عليه قال وان قدرت قيمته فهي للقشر وليس هو مضمونا كما لا يضمن الريش
318

المنفصل من الطائر * هذا كلامه وهو شاذ ضعيف أو غلط والله أعلم * قال أصحابنا ولو نفر صيدا
عن بيضته التي حضنها ففسدت لزمه قيمتها لأنها تلفت بسببه ولو أخذ بيض دجاجة فاحضنه صيدا فلم
يقعد الصيد على بيض نفسه ففسد أو قعد على بيضه وبيض الدجاجة فسد بيضه وجب عليه ضمانه لأن الظاهر أن
فساده بسبب ضم بيض الدجاجة إليه وامتناعه من القعود عليه بسببه * ولو أخذ بيض صيد
واحضنه دجاجة فهو في ضمانه حتى يخرج الفرخ ويسعى ويستقل فان خرج ومات قبل الامتناع لزمه مثله من
النعم والا فقيمته وان تلف البيض تحت الدجاجة لزمه قيمته * ولو كسر بيضة صيد فيها فرخ له روح فطار
وسلم فلا شئ عليه وان مات فعليه مثله من النعم * ولو نزى ديك على يعفورة أو يعفور على دجاجة فباضت
فالبيض حرام على المحرم كما سبق في المتولد من الدجاجة واليعفور إذا صار فرخا فان أتلفه لزمه قيمته * قال
أصحابنا وبيض الجراد حرام مضمون بالجزاء لأنه صيد (وأما) بيض السمك فمباح للمحرم كالسمك
ولا جزاء فيهما * قال الماوردي ولو رأى المحرم على فراشه بيض السمك فازاله عنه ففسد فقد علق
الشافعي القول فيه قال فخرجه أصحابنا على قولين (أحدهما) عليه ضمانه لأنه فسد بفعله (والثاني)
لا ضمان عليه والله أعلم *
(فرع) إذا كسر المحرم بيض صيد أو قلاه حرم عليه أكله بلا خلاف وفى تحريمه على الحلال
طريقان (أحدهما) فيه قولان كلحم الصيد (والطريق الثاني) لا يحرم على الحلال قولا واحدا
وهذا الطريق أصح وقد سبق بيان الطريقين والقائلين بهما وبيان الترجيح وما يتفرع عليهما وبيض
صيد الحرم ولبنه وبيض الجراد وأوضحناه قريبا في مسألة لحم صيد ذبحه المحرم والله أعلم *
(فرع) إذا حلب المحرم لبن صيد ضمنه * هذا هو المذهب وبه قطع أبو العلاء البندنيجي في كتابه الجامع
وصاحب الشامل وصاحب البيان والجمهور * وقال الروياني لا يضمنه * وقال أبو حنيفة ان نقص الصيد
319

بذلك ضمنه والا فلا ودليل المذهب القياس على البيض والريش هكذا استدلال
صاحب الشامل وغيره *
(فرع) يجب في شعر الصيد القيمة بلا خلاف صرح به القاضي حسين والأصحاب قال القاضي
والفرق بينه وبين أوراق أشجار الحرم فإنه لا يضمن أن جزاء الشعر يضر الحيوان وبقاءه
ينفعه بخلاف الورق *
(فرع) إذا رمى الحصاة السابعة ثم رمى صيدا قبل وقوع الحصاة في الجمرة قال الدارمي قال ابن المرزبان
يلزمه الجزاء لأنه رماه قبل التحلل فإنه لا يحصل التحلل الا بوقوع الحصاة في الجمرة قال الدارمي وعندي انه
لا فائدة في هذه المسألة لان موضع الرمي متوسط في الحرم لا يمكن أحدا ان يرمي منه إلى صيد في الحل
فسواه
رمى الصيد قبل رمي الحصاة أو بعده يلزمه الجزاء لأنه رمى صيدا في الحرم * هذا كلام الدارمي وهذا عجب
منه والصواب قول ابن المرزبان والصورة مقصورة فيما إذا رمى إلى صيد مملوك
فإنه يلزمه الجزاء ويلزمه القيمة للمالك ولو كان رب لهذا الصيد بعد وقوع المصاد في الجمرة لم يلزمه
الجزاء لأنه صيد مملوك والحلال إذا قتل في الحرم صيدا مملوكا لم يلزمه الجزاء بلا خلاف عندنا
وستأتي المسألة مبسوطة إن شاء الله تعالى في أواخر باب محظورات الاحرام *
(فرع) في مذاهب العلماء في مسائل تتعلق بالصيد في حق المحرم (إحداها) إذا قتل
المحرم الصيد عمدا أو خطأ أو ناسيا لاحرامه لزمه الجزاء عندنا وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد
والجمهور * قال العبدري هو قول الفقهاء كافة * وقال مجاهد إن قتله خطأ أو ناسيا لاحرامه لزمه
الجزاء وان قتله عمدا ذاكرا لاحرامه فلا جزاء * قال ابن المنذر أجمع العلماء على أن المحرم إذا
320

قتل الصيد عمدا ذاكرا لاحرامه فعليه الجزاء الا مجاهدا فقال إن تعمده ذاكرا فلا جزاء وان
نسي وأخطأ فعليه الجزاء * قال ابن المنذر ولا نعلم أحدا وافق مجاهدا على هذا القول وهو خلاف
الآية الكريمة قال واختلفوا فيمن قتله خطأ فقال ابن عباس وطاوس وسعيد بن جبير وأبو ثور
لا شئ عليه * قال ابن المنذر وبه أقول * قال وقال الحسن وعطاء والنخعي ومالك والثوري
والشافعي وأحمد واسحق وأصحاب الرأي عليه الجزاء * واحتج مجاهد بقوله تعالى (ومن قتله منكم
متعمدا) قال والمراد متعمدا لقتله ناسيا لاحرامه بدليل قوله تعالى في آخر الآية (ومن عاد فينتقم
الله منه) فعل الانتقام بالعود فدل على أنه لا يأثم بالأول ولو كان عامدا ذاكرا لاحرامه لاثم *
واحتج عليه أصحابنا بقوله تعالى (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم) فأوجب
الجزاء على العامد ولم يفرق بين عامد القتل ذاكرا للاحرام وعامد القتل ناسي الاحرام فكانت
321

الآية متناولة عموم الأحوال * ولان الكفارة تتغلظ بحسب الاثم فإذا وجبت في الخطأ فالعمد
أولى (والجواب) عن الآية أن المفسرين قالوا معني قوله تعالى (ومن عاد) أي عاد إلى قتل
الصيد بعد نزول الآية لان ما قبل نزولها معفو عنه * قال أصحابنا ولأنا نحمل الآية على
الامرين ونوجب الجزاء في العمد والخطأ * واحتج القائلون بان العامد يضمن دون المخطئ والناسي
بقوله تعالى * ومن قتله منكم متعمدا فجزاء * فعلقه بالعمد وبحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
(ان الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) وهو حديث سبق بيانه مرات ولأنه
محظور في الاحرام فوجب في العمد دون النسيان والخطأ كالطيب واللباس * واحتج أصحابنا
بقوله تعالى (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء) فاحتمل أن يكون المراد متعمدا لقتله ناسيا لاحرامه
واحتمل أن يكون متعمدا لقتله ذاكرا لاحرامه فوجب حمله على الامرين لان ظاهر العموم يتناولهما *
وبما روى مالك في الموطأ عن محمد بن سيرين (أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه
فقال إني أجريت أنا وصاحبي فرسين لنا نستبق إلى ثغرة فأصبنا ظبيا ونحن محرمان فقال عمر
لرجل إلى جنبه تعالى حتى أحكم أنا وأنت فحكم عليه بعنز) وذكر باقي الحديث والرجل الذي دعاه
عمر هو عبد الرحمن بن عوف وهذا الامر وإن كان مرسلا فقد قال به بعض الصحابة وأكثر
الفقهاء كما سبق * واحتج أصحابنا أيضا بالقياس على قتل الآدمي فان الكفارة تجب في قتله عمدا
وخطأ (والجواب) عن الآية أن أصحابنا قالوا ذكر الله تعالى فيها التعمد تنبيها على وجوب
الكفارة بقتل الآدمي عمدا ولما ذكر سبحانه وتعالى الكفارة في قتل الآدمي خطا فقال تعالى
* ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة * نبه بذلك على وجوبها بقتل الصيد الخطأ ففي كل واحدة من
322

الآيتين تنبيه على حكم ما لم يذكر في الأخرى (وأما) الجواب عن الحديث فهو حمله هنا على رفع
الاثم لان هذا من باب الغرامات ويستوى فيها العامد والناسي وإنما يفترقان فيها في الاثم * (والجواب)
عن قياسهم على الطيب واللباس أنه استمتاع فافترق عمده وسهوه وقتل الصيد اتلاف فاستوي
عمده وسهوه في الغرامة كاتلاف مال الآدمي والله أعلم * (المسألة الثانية) إذا قتل المحرم صيدا ولزمه
جزاؤه ثم قتل صيدا آخر لزمه للثاني جزاء آخر * هذا مذهبنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وإسحق
وابن المنذر وجمهور العلماء * قال العبدري هو قول الفقهاء كافة الا من سنذكره * وقال ابن
المنذر قال ابن عباس وشريح والحسن وسعيد بن جبير ومجاهد والنخعي وقتادة يجب الجزاء
بالصيد الأول دون ما بعده وحكاه أصحابنا عن داود * قال الماوردي قال داود لو قتل مائة صيد إنما
يلزمه الجزاء بالأول فقط * وعن أحمد روايتان كالمذهبين * واحتج هؤلاء بقوله تعالى (ومن قتله
منكم متعمدا فجزاء) فعلق وجوب الجزاء على لفظ من قالوا وما علق على لفظ من لا يقتضي
تكرارا كما لو قال من دخل الدار فله درهم أو من دخلت الدار فهي طالق فإذا تكرر دخوله لم
يستحق إلا درهما بالدخول الأول وإذا تكرر دخولها لا يقع الا طلقة بالدخول الأول * قالوا ولان
الله تعالى قال (ومن عاد فينتقم الله منه) ولم يرتب على العود غير الانتقام * واحتج أصحابنا بقوله
تعالى (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء) قال الماوردي وفى هذه الآية
لنا دلالتان (إحداهما) أن لفظ الصيد إشارة إلى الجنس لان الألف واللام يدخلان للجنس أو العهد
وليس في الصيد معهود فتعين الجنس وأن الجنس يتناول الجملة والافراد فقوله تعالى (ومن قتله
منكم) يعود إلى جملة الجنس وآحاده (والدلالة الثانية) أن الله تعالى قال (ومن قتله منكم متعمدا)
فجزاء مثل ما قتل من النعم) وحقيقة المماثلة أن يفدى الواحد بواحد والاثنين باثنين والمائة بمائة ولا
يكون الواحد من النعم مثلا لجماعة صبود ولأنها نفس تضمن بالكفارة فتكررت بتكرر القتل
كقتل الآدميين ولأنها غرامة متلف فتكررت بتكرر الاتلاف كاتلاف أموال الآدمي * قال
القاضي أبو الطيب ولأنا أجمعنا على أنه لو قتل صيدين دفعة واحدة لزمه جزءان فإذا تكرر بقتلهما
323

معا وجب تكرره بقتلهما مرتبا كالعبدين وسائر الأموال (والجواب) عن استدلالهم بان لفظ
من لا يقتضى تكرارا قال أصحابنا إنما يصح هذا إذا كان الفعل الثاني واقعا في محل الأول
(فاما) إذا وقع الثاني في غير محل الأول فان تكراره يوجب تكرار الحكم كقوله من دخل
داري فله درهم فإذا دخل دارا له ثم دارا له استحق درهمين فكذلك الصيد لما كان الثاني غير
الأول وجب أن يتعلق به ما تعلق بالأول (والجواب) عن استدلالهم بقوله تعالى (ومن عاد) أن
المراد ومن عاد في الاسلام فقتل صيدا لان قوله تعالى (عفا الله عما سلف) أي قبل نزول
الآية والله أعلم * (المسألة الثالثة) ما صاده المحرم أو صاده له حلال بأمره أو بغير أمره أو كان
من المحرم فيه إشارة أو دلالة أو إعانة بإعارة آلة أو غيرها فلحمه حرام على هذا المحرم فان صاده
حلال لنفسه ولم يقصد المحرم ثم أهدى منه للمحرم أو باعه أو وهبه فهو حلال للمحرم أيضا * هذا
مذهبنا وبه قال مالك وأحمد وداود * وقال أبو حنيفة لا يحرم عليه ما صيد له بغير إعانة منه * وحكى
ابن المنذر في المسألة ثلاثة مذاهب وقال كان عمر بن الخطاب وأبو هريرة ومجاهد وسعيد بن جبير
يقولون للمحرم أكل ما صاده الحلال قال وروى ذلك عن الزبير بن العوام وبه قال أصحاب
الرأي * قال وقال عطاء ومالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور يأكله إلا ما صيد من اجله * قال
324

وروى بمعناه عن عثمان بن عفان * قال ثم اختلف مالك والشافعي فيمن أكل ما صيد له فقال مالك
عليه الجزاء * وقال الشافعي لا جزاء عليه قال وفيه مذهب ثالث أنه يحرم مطلقا فكان على ابن أبي
طالب وابن عمر لا يريان للمحرم أكل الصيد وكره ذلك طاوس وجابر بن زيد والثوري * قال
وروينا عن ابن عباس وعطاء قولا رابعا قالا ما ذبح وأنت محرم فهو حرام عليك * واحتج من
حرمه مطلقا بقوله تعالى (وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما) قالوا أو المراد بالصيد المصيد وبحديث
الصعب ابن جثامة السابق (أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا فرده عليه وقال إنا لم
نرده عليك إلا أنا حرم) رواه البخاري ومسلم وسبق بيانه وبيان طرقه وأنه ثبت في صحيح
مسلم من طرق أنه أهدي لحم حمار * واحتج أصحابنا عليهم بحديث أبي قتادة السابق أنه لما صاد
الحمار الوحشي وسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال صلى الله عليه وسلم للمحرمين (كلوه واكل
النبي صلى الله عليه وسلم منه وهو محرم) كما سبق بيانه رواه البخاري ومسلم وبحديث جابر أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال (صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم) رواه أبو داود والترمذي
والنسائي وسبق بيانه * وفى رواية في حديث أبي قتادة أنه قال حين اصطاد الحمار الوحشي (فذكرت
325

شأنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت أنى لم أكن أحرمت وإنما اصطدته لك فامر النبي
صلى الله عليه وسلم أصحابه فأكلوا ولم يأكل حتى أخبرته انى اصطدته له) رواه الدارقطني
والبيهقي باسناد صحيح * قال الدارقطني قال أبو بكر النيسابوري (قوله) إنما اصطدته لك (وقوله)
لم يأكل منه لا أعلم أحدا ذكره في هذا الحديث غير معمر قال البيهقي هذه الزيادة غريبة والذي في
الصحيحين ان النبي صلى الله عليه وسلم اكل منه قال وإن كان الاسناد ان صحيحين * هذا كلام
البيهقي (قلت) ويحتمل انه جرى لأبي قتادة في تلك السفرة قضيتان للجمع بين الروايتين والله أعلم *
قال أصحابنا يجب الجمع بين هذه الأحاديث فحديث جابر هذا صريح في الفرق وهو ظاهر في
في الدلالة للشافعي وموافقيه ورد لما قاله أهل المذهبين الآخرين ويحمل حديث أبي قتادة على أنه
لم يقصدهم باصطياده وحديث الصعب على أنه قصدهم باصطياده ويحمل قوله تعالى * (وحرم عليكم
صيد البر ما دمتم حرما) على الاصطياد وعلى لحم ما صيد للمحرم للأحاديث المبينة للمرأة من الآية
(فان قيل) فقد علل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصعب حين رده بأنه محرم ولم يقل لأنك صدته لنا
(فالجواب) انه ليس في هذه العبارة ما يمنع انه صاده له صلى الله عليه وسلم لأنه إنما يحرم الصيد على الأسنان إذا
صيد له بشرط انه محرم فبين الشرط الذي يحرم به * ودليلنا على أبي حنيفة وموافقيه حديث أبي قتادة
وقول النبي صلى الله عليه وسلم (هل منكم أحد أمره أن يحمل عليه أو أشار إليه) رواه البخاري ومسلم وسبق
بيانه في الفصل السابق في أكل المحرم لحم ما صيد له وحديث الصعب بن جثامة (وأما) حديث
عبد الرحمن بن عثمان التيمي قال (كنا مع طلحة بن عبد الله ونحن حرم فأهدى له طير وطلحة
راقد فمنا من أكل ومنا من تورع فلما استيقظ طلحة وافق من أكله وقال أكلناه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
326

رواه مسلم وعن عمير بن سلمة الضمري (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يريد مكة وهو محرم فمر بالعرج
فإذا هو بحمار عفير فلم يلبث أن جاء رجل من بهز فقال برسول الله هذه رميتي فشأنكم بها فامر
رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فقسمه بين الرفاق) رواه مالك وأحمد والنسائي والبيهقي وإسناده صحيح
وما رواه البيهقي باسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال (إنما نهيب أن يصاد وان ابن عمر
سئل عن لحم الصيد يهديه الحلال للمحرم فقال كان عمر بأكله) وفى موطأ مالك باسناده الصحيح
عن أبي هريرة (انه مر به قوم محرمون فاستفتوه في لحم صيد وجده ناس محلون أيأكلونه فأفتاهم بأكله
قال ثم قدمت على عمر بن الخطاب فسألته عن ذلك فقال بم أفتيهم قلت أفتيهم بأكله قال عمر
لو أفتيتهم بغير ذلك لأوجعتك) وباسناده الصحيح في الموطأ أن الزبير بن العوام (كان يتزود لحم
الظباء في الاحرام) فهذا كله محمول على ما لم يصد للمحرم ولا بد من هذا التأويل للجمع بين الأدلة
السابقة وهذا والله أعلم * وقد روى مالك والشافعي والبيهقي بأسانيدهم الصحيحة عن عبد الله
ابن عامر بن ربيعة قال (رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه بالعرج في يوم صائف وهو محرم وقد
غطي وجهه بقطيفة ارجوان ثم أتى بلحم صيد فقال لأصحابه كلوا قالوا ألا تأكل أنت قال إني
لست كهيأتكم إنما صيد من أجلى والله أعلم *
(فرع) في بيان أمر مهم وهو حديث الصعب بن جثامة قد ثبت في الصحيحين أنه أهدى
لرسول الله صلى الله عليه وسلم حمارا وحشيا وهو محرم فرده عليه وقال (انا لم نرده عليك الا أنا حرم) *
وذكرنا قبل هذا حيث ذكره المصنف بيان ألفاظ روايات كثيرة جاءت في صحيح مسلم أنه أهدى
لحم حمار أو شق حمار وذكرنا هنا أنه يتأول قوله حمارا أي بعض لحم حمار أو شق حمار أو عجز
حمار يقطر دما ونحو ذلك من الألفاظ المصرحة بأنه أهدى لحم حمار وذكرنا هناك أن البخاري
والمصنف وسائر أصحابنا احتجوا به في فدية الصيد الحي وجعلوه حمارا حيا * وكذا ترجم له البيهقي
فقال باب لا يقبل المحرم ما يهدى له من الصيد حيا ثم ذكره في الباب عن مالك عن الزهري عن
عبد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة (أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه
وسلم حمارا وحشيا) * وكذا رواه شعيب عن الزهري حمار وحش وكذلك رواه الليث وصالح
ابن كيسان ومعمر بن راشد وابن أبي ديب ومحمد بن إسحاق ومحمد بن عمر بن علقمة وغيرهم عن
327

الزهري حمارا وحشيا. قال البيهقي وخالفهم سفيان: بن عيينة عن الزهري باسناده فقال لحم حمار
وحش وكذلك رواه عبد الرحيم بن منبت عن سفيان قال رواه الحميدي عن سفيان على الصحة كما رواه
سائل الناس عن الزهري ثم ذكره باسناده وقال حمار وحش ثم روى البيهقي باسناده عن الحميدي
قال كان سفيان يقول في لحم حمار وحش وربما قال سفيان يقطر دما وربما لم يقل. قال وكان
سفيان فيما خلا وربما قال حمار وحش ثم صار إلى لحم حتى مات. رواه البيهقي من رواية أبي معاوية
عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال (أهدى الصعب بن
جثامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش فرده عليه وقال لولا انا محرمون لقبلناه منك) رواه
مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة وأبي كريب كلاهما عن أبي معاوية باسناده قال البيهقي هكذا
رواه الأعمش عن حبيب وخالفه شعبة فرواه عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال
(أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم شق حمار وحش وهو محرم فرده) رواه مسلم عن عبيد الله بن
معاذ عن أبيه عن شعبة قال وخالفه أبو داود الطيالسي فرواه عن شعبة عن حبيب كما رواه الأعمش
عن حبيب عن سعيد عن ابن عباس أن الصعب بن جثامة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم حمار وحش وهو محرم فرده) ثم رواه البيهقي عن أبي داود الطيالسي أيضا عن شعبة بن الحكم عن
سعيد عن ابن عباس (أن الصعب بن جثامة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم عجز
حمار فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطر دما) رواه مسلم قال البيهقي ولعل هذا هو الصحيح حديث شعبة عن
الحكم عجز حمار وحديثه عن حبيب حمار وحش كما رواه أبو داود فقد رواه العباس بن الفضل عن
أبي الوليد وسليمان بن حرب قالا حدثنا شعبة عن الحكم وحبيب ابن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن
ابن عباس (ان الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال أحدهما عجز حمار وقال الآخر
حمار وحش فرده) ثم رواه البيهقي عن العباس بن الفضل باسناده كذلك قال البيهقي وإذا كانت الرواية
هكذا وافقت رواية شعبة عن حبيب رواية الأعمش عن حبيب ووافقت رواية شعبة عن الحكم
رواية منصور عن الحكم فيكون الحكم منفردا بذلك اللحم أو ما في معناه * ثم روى البيهقي باسناده عن
المعتبر بن سليمان عن منصور بن المعتمر عن الحكم عن سعية عن ابن عباس قال (أهدى الصعب بن
328

جثامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل حمار وحش فرده) رواه مسلم عن يحيى عن المعتمر رواه
البيهقي عن الشافعي قال فإن كان الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم الحمار حيا فليس لمحرم ذبح
حمار وحش حي وإن كان أهدي له لحما فقد يحتمل أنه علم أنه صيد له فرده عليه وايضاحه في حديث جابر
ابن عبد الله يعنى (صيد البر حلال ما لم تصيدوه أو يصاد لكم) قال الشافعي وحديث مالك أن الصعب
أهدى النبي صلى الله عليه وسلم حمارا أثبت من حديث من حدث أنه أهدى حم حمار * قال البيهقي
وقد روي في حديث الصعب أنه أكل منه ثم رواه البيهقي باسناده عن عمرو بن أمية الضمري (أن الصعب
ابن جثامة أهدي للنبي صلى الله عليه وسلم عجز حمار وهو بالجحفة فاكل منه وأكل القوم) قال البيهقي
هذا إسناد صحيح قال فإن كان محفوظا فكأنه رد الحمار وقبل اللحم * ثم روى البيهقي عن طاووس قال (قدم
زيد بن أرقم فقال له عبد الله ابن عباس تتذكر كيف أخبرتني عن لحم صيد أهدى إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهو حرام فقال أهدى له عضو من لحم صيد فرده فقال إنا لا نأكله إنا حرم) رواه
مسلم في صحيحه (ثم روى البيهقي أن عبد الله بن الحرب صنع لعثمان بن عفان طعاما وصنع فيه من الحجل
واليعافير ولحوم الوحش فبعث إلى علي بن أبي طالب فجاء فقالوا له كل فقال أطعموه قوما حلالا فانا حرم)
ثم قال على أنشد الله من كان ههنا من أسجع أتعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدى إليه رجل
حمار وحش وهو محرم فأبي أن يأكله قالوا نعم قال البيهقي وتأويل هذين الحديثين ما ذكره الشافعي
في تأويل حديث من روى في قصة الصعب بن جثامة لحم حمار * قال البيهقي وأما على وابن عباس فقالا
329

يحرم على المحرم أكله مطلقا وخالفهما عمر وعثمان وطلحة والزبير وغيرهم ومنعهم حديث أبي قتادة
وجابر ثم روى باسناده عن عبد الله بن شماس قال (سألت عائشة عن لحم الصيد يهديه الحلال للمحرم
فقالت اختلف فيه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكرهه بعضهم ولم ير بعضهم به بأسا ولا باس
به) والله أعلم * (المسألة الرابعة) إذا ذبح المحرم صيد في الحل لم يحل له أكله بالاجماع وفى تحريمه على غيره عندنا
قولان سبقا (الأصح) التحريم وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد ويكون ميتة * وحكى ابن المنذر هذا عن
الحسن البصري والقاسم وسالم بن عبد الله ومالك والأوزاعي وأحمد واسحق وأصحاب الرأي قال
وقال الحكم وسفيان والثوري وأبو ثور لا باس بأكله وقال الحسن البصري في رواية عنه وعمرو بن
دينار وأيوب السختياني يأكله الحلال * قال ابن المنذر وهو مذكى كذبيحة السارق وسبق دليل
المذهبين في الكتاب (المسألة الخامسة) إذا ذبح المحرم صيدا وأكل منه لزمه الجزاء بالذبح ولا يلزمه
بالاكل شئ فيه * هذا مذهبنا وبه قال أحمد وأبو يوسف ومحمد وابن المنذر وقال عطاء عليه جزاءان
وقال أبو حنيفة عليه الجزاء بالذبح وعليه قيمة ما أكل ووافقنا في صيد الحرم أنه إذا قتله المحرم وأكله
لا يلزمه الا جزاء واحد * دليلنا القياس على صيد الحرم ولأنه اكل ميتة فأشبه سائر الميتات (السادسة) إذا
دل المحرم حلالا على صيد في الحرم فقتله أثم الدال ولا جزاء على واحد منهما ولو دل محرم محرما فقتله
فالجزاء على القاتل دون الدال * هذا مذهبنا وبه قال مالك وأبو ثور وداود. وقال الشعبي والحرب العكلي
وأبو حنيفة إذا دل محرم محرما فقتله فعلى كل منهما جزاء قال ابن المنذر وقال سعيد بن جبير على كل
واحد من القاتل والآمر والدال والمشترى جزاء قال وروى عن علي وابن عباس قالا (إذا دل المحرم
حلالا فقتله لزم المحرم الجزاء) وبه قال عطاء وبكر بن عبد الله وأحمد واسحق وأصحاب الرأي قال
وعندي لا شئ عليه * دليلنا ان الله تعالى قال (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء) فأوجب الجزاء على القاتل
فلا يجب على غيره ولا يلحق به غيره لأنه ليس في معناه (السابعة) إذا قتل صيدا مملوكا فعليه الجزاء
لله تعالى وقيمته للمالك. هذا مذهبنا قال العبدري وبه قال أبو حنيفة واحمد وأكثر أصحاب داود
وقال وهو مذهب مالك ليس له قول غيره قال وحكى عنه خلاف هذا وهو غلط وقال المزني عليه القيمة
330

لمالكه ولا جزاء وبه قال بعض أصحاب داود لأنه مملوك فأشبه الانعام. دليلنا عموم قول الله تعالى (ومن
قتله منكم متعمدا فجزاء) ولأنه تعلق به حقان حق لله تعالى وحق للآدمي فوجب بدله كما لو أكره امرأة على الزنا
لزمه الحد والمهر وكما لو وطئ زوجة أبيه بشبهة لزمه مهران مهر لها ومهر لأبيه لأنه أفسد نكاحه وفوت
عليه البضع ويخالف الانعام لأنها ليست صيدا وإنما ورد الشرع بالجزاء في الصيد والله أعلم (الثامنة) إذا
قتل القارن صيدا لزمه جزاء واحد كما لو تطيب أو لبس تلزمه فدية واحدة هذا مذهبنا وبه قال مالك
وأبو ثور وابن المنذر واحمد في أصح الروايتين عنه. وقال أبو حنيفة عليه جزءان لأنه ادخل النقص
على الحج والعمرة بقتل الصيد فوجب جزاءان كما لو قتل المفرد في حجه وفى عمرته. دليلنا المقتول واحد
فوجب جزاء واحد كما لو قتل المحرم صيدا في الحرم فإنه وافقنا انه يجب عليه جزاء واحد مع أنه اجتمع
في حرمتان (واما) ما قاس عليه فالمقتول هناك اثنان (التاسعة) يجب الجزاء على المحرم باتلاف
الجراد عندنا وبه قال عمر وعثمان وابن عباس وعطاء قال العبدري وهو قول أهل العلم كافة الا أبا سعيد
الإصطخري فقال لا جزاء فيه وحكاه ابن المنذر عن كعب الأحبار وعروة بن الزبير قالوا هو من صيد
البحر فلا جزاء فيه واحتج لهم بحديث أبي المهزم عن أبي هريرة قال (أصبنا سربا من جراد فكان رجل
يضرب بسوطه وهو محرم فقيل له ان هذا لا يصلح فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال إنما هو
من صيد البحر) رواه أبو داود والترمذي وغيرهما واتفقوا على تضعيفه لضعف أبي
331

المهزم وهو بضم الميم وكسر الزاي وفتح الهاء بينهما واسمه يزيد بن سفيان متفق على
ضعفه وسبق بيانه قريبا عند ذكر البيض. وفى رواية لأبي داود عن ميمون بن حابان
عن أبي رافع عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (الجراد من صيد البحر) قال أبو داود
وأبو المهزم ضعيف والروايتان جميعا وهم. قال البيهقي وغيره ميمون بن حابان غير معروف. واحتج
الشافعي والأصحاب والبيهقي بما رواه الشافعي باسناده الصحيح أو الحسن والبيهقي عن عبد الله
ابن أبي عمار أنه قال (أقبلت مع معاذ بن جبل وكعب الأحبار في أناس محرمين من بيت المقدس
بعمرة حتى إذا كنا ببعض الطريق وكعب على نار يصطلى فمرت به رجل من جراد فأخذ جرادتين
قتلهما ونسي إحرامه ثم ذكر إحرامه فألقاهما فلما قدمنا المدينة دخل القوم على عمرو دخلت معهم
فقص كعب قصة الجرادتين على عمر رضي الله عنه قال ما جعلت على نفسك يا كعب قال درهمين
قال بخ درهمان خير من مائة جرادة اجعل ما جعلت في نفسك) وباسناد الشافعي والبيهقي الصحيح
عن القاسم بن محمد قال (كنت جالسا عند ابن عباس فسأله رجل عن جرادة قتلها وهو محرم فقال
ابن عباس فيها قبضة من طعام ولتأخذن بقبضة من جرادات ولكن ولو) قال الشافعي (قوله) ولتأخذن
بقبضة جرادات أي إنما فيها القيمة وقوله ولو يقول يحتاط فتخرج أكثر مما عليك بعد أن أعلمتك
انه أكثر مما عليك. وباسنادهما الصحيح عن عطاء قال (سئل ابن عباس عن صيد الجراد في الحرم
فقال لا ونهي عنه) قال فاما قلت له وأما رجل من القوم فان قومك يأخذونه وهم محتبون في المسجد
فقال لا يعلمون وفى رواية منحنون قال الشافعي هذا أصواب كذا رواه الحفاظ منحنون بنونين
بينهما الحاء المهملة (والجواب) عن حديث أبي هريرة في الجراد انه من صيد البحر انه حديث ضعيف
كما سبق ودعوى انه بحري لا تقبل بغير دليل وقد دلت الأحاديث الصحيحة والاجماع انه مأكول
فوجب جزاؤه كغيره والله أعلم. (العاشرة) كل طائر وصيد حرم على المحرم يحرم عليه بيضه فان
أتلفه ضمنه بقيمته. هذا مذهبنا وبه قال أحمد وآخرون ممن سنذكره إن شاء الله تعالى. وقال المزني
وبعض أصحاب داود لا جزاء في البيض وقال مالك يضمنه بعشر ثمن أصله قال ابن المنذر
اختلفوا في بيض الحمام فقال على وعطاء في كل بيضتين درهم وقال الزهري والشافعي وأصحاب
الرأي وأبو ثور فيه قيمته وقال مالك يجب فيه عشر ما يجب في أمه قال واختلفوا في بيض النعام
332

فقال عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن عباس والشعبي والنخعي والزهري والشافعي وأبو ثور
وأصحاب الرأي يجب فيه القيمة. وقال أبو عبيدة وأبو موسى الأشعري يجب فيه صيام يوم أو اطعام
مسكين وقال الحسن فيه جنين من الإبل وقال مالك فيه عشر ثمن البدنة كما في جنين الحرة غرة
عبد أو أمة قيمته عشر دية الأم. قال وروينا عن عطاء فيه خمسة أقوال (أحدها) كقول الحسن
(والثاني) فيها كبش (والثالث) درهم (1) دليلنا انه جزء من الصيد لا مثل له من النعم فوجبت قيمته
كسائر المتلفات التي لا مثل لها. وذكر البيهقي فيه بابا فيه أحاديث وآثار وليس فيها ثابت عن النبي
صلى الله عليه وسلم (الحادية عشرة) إذا أحرم وفى ملكه صيد فقد ذكرنا أن الأصح عندنا انه يلزمه ارساله
ويزول ملكه عنه. وقال العبدري وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد لا يزول ملكه ولكن يجب إزالة
يده الظاهرة عنه فلا يكون ممسكا له في يده ويجوز أن يتركه في بيته وقفصه وقال ابن الزبير قال
مجاهد وعبد الله بن الحرث ومالك وأحمد وأصحاب الرأي ليس عليه إرسال ما كان في منزله؟ قال
وقال مالك والأوزاعي وأحمد وأصحاب الرأي إن كان في يده صيد لزمه إرساله وقال أبو ثور
ليس عليه إرسال ما في يده قال ابن المنذر وهذا صحيح (الثانية عشرة) قال ابن المنذر أجمع أهل
العلم على أن صيد البحر مباح للمحرم اصطياده وأكله وبيعه وشراؤه قال واختلفوا في قوله تعالى
(وطعامه متاعا لكم وللسيارة) فقال ابن عباس وابن عمر هو ما لفظه البحر وقال ابن المسيب صيده
ما اصطدت وطعامه ما تزودت مملوحا (قلت) وأما طير الماء فقال الأوزاعي والشافعي وأبو ثور
وأصحاب الرأي وعوام أهل العلم هو من صيد البر فإذا قتله المحرم لزمه الجزاء والله أعلم. (الثالثة
عشرة) قال العبدري الحيوان ضربان أهلي ووحشي فالأهلي يجوز للمحرم قتله إجماعا والوحشي يحرم عليه
إتلافه إن كان مأكولا أو متولدا من مأكول وغيره وإن كان مما لا يؤكل وليس متولدا من مأكول وغيره هذا
مذهبنا وبه قال أحمد وداود وقال أبو حنيفة عليه الجزاء الا في الذئب وقال ابن المنذر ثبت أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال (خمس لا جناح على من قتلهن في الاحرام الغراب والفأرة والعقرب والكلب العقور
والحدأة)) قال فأخذ بظاهر هذا الحديث الثوري والشافعي وأحمد وإسحق غير أن أحمد لم يذكر الفأرة قال
وكان مالك يقول الكلب العقور ما عقر الناس وعدا عليهم كالأسد والنمر والفهد والذئب. قال فأما
ما لا يعد ومن السباع ففيه الفدية قال وقال أصحاب الرأي إن ابتدأه السبع فلا شئ عليه وإن

(1) كذا بالأصل وانظر أين الرابع والخامس
333

ابتدأ المحرم السبع فعليه قيمته إلا أن يكون قيمته أكثر من الدم فعليه دم إلا الكلب والذئب
فلا شئ عليه وإن ابتدأهما. قال وأجمعوا على أنه لا شئ عليه في قتل الحية قال وأباح أكثرهم
قتل الغراب في الاحرام منهم أبو عمر ومالك والشافعي وأحمد وإسحق وأبو ثور وأصحاب الرأي
وقال بعض أصحاب الحديث إنما يباح الغراب ألا يقع دون سائر الغربان (وأما) الفأرة فأباح
الجمهور قتلها ولا جزاء فيها ولا خلاف فيها بين العلماء إلا ما حكاه ابن المنذر عن النخعي انه منع
المحرم من قتلها قال وهذا لا معنى فيه لأنه خلاف السنة وقول العلماء. قال ابن المنذر وأجمعوا على
أن السبع إذا بدر المحرم فقتله فلا شئ عليه قال واختلفوا فيمن بدأ السبع فقال مجاهد والنخعي
والشعبي والثوري وأحمد وإسحق لا يقتله وقال عطاء وعمر بن دينار والشافعي وأبو ثور
لا بأس بقتلة في الاحرام عدا عليه أم لم يعد قال ابن المنذر وبه أقول. قال ابن المنذر قال الشافعي
وأبو ثور وأصحاب الرأي لا شئ على المحرم في قتل البعوض والبراغيث والبق وكذا قال عطاء
في البعوض والذباب وقال مالك في الذباب والدر والقمل إذا قتلهن أرى ان يتصدق بشئ من الطعام
وكان الشافعي يكره قتل النملة ولا يرى على المحرم في قتلها شيئا قال فأما الزنبور فقد ثبت عن عمر
ابن الخطاب انه كان يأمر بقتله وقال عطاء وأحمد لا جزاء فيه وقال مالك يطعم شيئا قال ابن المنذر واما القملة
إذا قتلها المحرم فقال ابن عمر يتصدق بحفنة من طعام. وفى رواية عنه أنه قال (أهون مقتول أي
لا شئ فيها). وقال عطاء قبضة من طعام ومثله عن قتادة. وقال مالك حفنة من طعام. وقال أحمد
يطعم شيئا. وقال اسحق تمرة فما فوقها. وقال أصحاب الرأي ما تصدق به فهو خير منها. وقال
الثوري يقتلها ويكفر إذا كره وقال طاوس وعطاء وسعيد بن جبير وأبو ثور يقولون لا شئ فيها
وقال الشافعي إن قتلها من رأسه افتدى بلقمة وإن كانت ظاهرة في جسده فقتلها فلا فدية. قال
ابن المنذر لا شئ فيها وليس لمن أوجب فيها شيئا حجة *
(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب قتل القراد في الاحرام وغيره. قال العبدري
يجوز عندنا للمحرم أن يقرد بعيره وبه قال عمر وابن عباس وأكثر الفقهاء. وقال مالك لا يقرده
قال ابن المنذر وممن أباح تقريد بعيره عمر وابن عباس وجابر بن زيد وعطاء والشافعي وأحمد
وإسحق وأصحاب الرأي وكرهه ابن عمر ومالك وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال في المحرم
334

يقتل قرادا يتصدق بتمرة أو تمرتين. قال ابن المنذر وبالأول أقول. ودليلنا جميع هذه المسائل
الأحاديث السابقة قريبا حيث ذكرها المصنف قبل ما لا يؤكل والله أعلم.
* قال المصنف رحمه الله *
وان احتاج المحرم إلى اللبس لحر أو برد أو احتاج إلى الطيب لمرض أو إلى حلق الرأس
للأذى أو إلى شد رأسه بعصابة لجراحة عليه أو إلى ذبح الصيد للجماعة لم يحرم عليه. وتجب
عليه الكفارة لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة
أو نسك) ولحديث كعب بن عجرة. فثبت الحلق بالنص وقسنا عليه ما سواه لأنه في معناه وإن
نبت في عينه شعرة فقلعها أو نزل شعر الرأس على عينه فقطع ما غطى العين أو انكسر شئ من ظفره
فقطع ما انكسر منه أو صال عليه صيد فقتله دفعا عن نفسه جاز ولا كفارة عليه لان الذي تعلق به
المنع ألجأه إلى إتلافه. ويخالف إذا أذاه القمل في رأسه فحلق الشعر لان الأذى لم يكن من جهة الشعر
الذي تعلق به المنع إنما كان من غيره. وان افترش الجراد في طريقه فقتله ففيه قولان (أحدهما).
يجب عليه الجزاء لأنه قتله المنفعة نفسه فأشبه إذا قتله للمجاعة (والثاني) لا يجب لان الجراد ألجأه
إلى قتله فأشبه إذا صال على الصيد فقتله للدفع. وان باض صيد على فراشه فنقله ولم يحضنه الصيد
فقد حكي الشافعي رحمه الله عن عطاء رحمه الله انه لا يلزمه ضمانه لأنه مضطر إلى ذلك قال ويحتمل ان يضمن
لأنه أتلفه باختياره فحصل فيه قولان كالجراد. وان كشط من يده جلدا وعليه شعر أو قطع
كفه وفيه أظفار لم تلزمه فدية لأنه تابع لمحله فسقط حكمه تبعا لمحله كالأطراف مع النفس في
قتل الآدمي)
(الشرح) قوله تعالى (فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية) فيه محذوف دل عليه
سياق الكلام وتقديره فحلقه فعليه فدية والمجاعة بفتح الميم شدة الجوع وحديث كعب بن
عجرة ورواه البخاري ومسلم وسبق بيانه (قوله) افترش الجواد هو برفع الجراد وهو فاعل افترش
قال أهل اللغة افترش الشئ إذا انبسط قالوا ومنه قولهم اكمة مفترشة أي دكا وإنما ذكرت
انه مرفوع وأوضحته لأني رأيت بعض الكبار يغلطه فيه (قوله) ولم يحضنه هو بفتح
الياء وضم الضاد قال أهل اللغة يقال حضن الطائر بيضه يحضنه إذا ضمه إلى نفسه
تحت جناحه (قوله) أو قطع كفه وفيه أظفار هكذا في النسخ وفيه وكان ينبغي أن يقول وفيها
335

لان الكف مؤنثة (ويجاب) عنه بأنه حمل الكلام على المعنى فعاد الضمير إلى معني الكف وهو العضو
(أما الأحكام ففيها مسائل (إحداها) إذا احتاج المحرم إلى اللبس لحر أو برد أو قتال صائل من
آدمي وغيره أو إلى الطيب لمرض أو إلى حلق الشعر من رأسه أو غيره لأذى في رأسه من قمل
أو وسخ أو حاجة أخرى فيه أو في غيره من البدن أو إلى شد عصابة على رأسه لجراحة أو وجع
ونحوه أو إلى ذبح صيد للمجاعة أو إلى قطع ظفر للأذى أو ما في معني هذا كله جاز له فعله وعليه
الفدية لما ذكره المنصف وهذا لا خلاف فيه عندنا (الثانية) إذا نبت في عينه شعرة أو شعرات داخل
الجفن وتأذى بها جاز قلعها بلا خلاف * هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والجمهور وحكاه امام
الحرمين في النهاية عن الأئمة ثم قال وحكي الشيخ أبو علي في شرح التلخيص فيه طريقين (أصحهما)
هذا (والثاني) تخريج وجوب الفدية على وجهين بناء على القولين في الجراد إذا افترش في الطريق
قال الامام وهذا وإن كان قريبا في المعنى فهو بعيد في النقل * وذكر الجرجاني في كتابيه التحرير
والمعاياه في المسألة قولين (أصحهما) لا ضمان (والثاني) يضمن والمذهب لا ضمان قطعا * ولو طال شعر
حاجبه أو رأسه فغطى عينه فله قطع المغطي بلا خلاف ولا فدية على المذهب وفيه الطريقان اللذان
ذكرهما الامام وسلك القاضي حسين في تعليقه طريقة عجيبة فقطع بأنه إذا نبت الشعر في عينه لزمه
الفدية بقلعه * قال ولو انعطف هدبه إلى عينه فاذاه فنتفه أو قطعه فلا فدية وفرق بان هذا كالصائل
بخلاف شعر العين لأنه في موضعه والمذهب أنه لا فدية في الجميع كما سبق * ولو انكسر بعض ظفر
فتأذى به فقطع المنكسر وحده جاز ولا فدية على المذهب وحكى الامام عن الشيخ أبي علي أنه
حكي فيه الطريقين كشعر العين (أما) إذا قطع المكسور وشيئا من الصحيح فعليه ضمانه بما يضمن
به الظفر بكماله نص عليه الشافعي والأصحاب وكذا كل من أخذ بعض ظفر أو بعض شعر فهو
كالظفر الكامل والشعرة الكاملة وفيه وجه ضعيف انه ان اخذ جميع أعلى الظفر ولكنه دون المعتاد
وجب ما يجب في جميع الظفر كما لو قطع بعض الشعرة الواحدة وان أخذ من جانب دون جانب
وجب بقسطه والمذهب الأول وستأتي المسألة مبسوطة حيث ذكرها المصنف في أول الباب الآتي
إن شاء الله تعالى (الثالثة) لو صال عليه صيد وهو محرم أو في الحرم ولم يمكن دفعه الا بقتله فقتله
للدفع فلا جزاء عليه بلا خلاف عندنا * ولو ركب انسان صيدا وصال على المحرم أو الحلال في الحرم
336

ولم يمكنه دفعه الا بقتله فقتله للدفع فطريقان (المذهب) وجوب الجزاء وبه قطع المتولي والبغوي
وصاحب العدة والأكثرون لان الأذى ليس من الصيد (والطريق الثاني) حكاه القفال وامام الحرمين
والرافعي وغيرهم فيه وجهان (أحدهما) يجب الضمان على الراكب ولا يطالب به المحرم (والثاني) يطالب
المحرم ويرجع به على الراكب وجعل إمام الحرمين الخلاف قولين قال وكذا نقل القفال القولين أيضا فيمن
ركب دابة مغصوبة وقصد انسانا فقتل المقصود الدابة في ضرورة الدفع (أحدهما) الغرامة على
الراكب ولا مطالبة على الدافع (والثاني) يطالب كل واحد منهما والقرار على الراكب لأنه غاصب
(الرابعة) إذا انبسط الجراد في طريقه وعم المسالك فلم يجد عنه معدلا ولم يمكنه المشي الا عليه فقتله
في مروره ففيه طريقان (أصحهما) وهو المشهور وبه قطع المصنف والجمهور في وجوب ضمانه قولان
وحكاهما جماعة وجهين ذكر المنصف دليلهما (والثاني) القطع بان لا ضمان حكاه الرافعي (والأصح)
من القولين عند الأكثرين لا ضمان وممن صححه الجرجاني في التحرير والفارقي في الفوائد والرافعي
وغيرهم وقطع به المحاملي في المقنع وصحح الشيخ أبو حامد ايجاب الضمان والمذهب الأول * قال
البندنيجي وغيره وسواء في جريان هذا الخلاف جراد الحرم والاحرام والله أعلم (الخامسة) إذا
باض صيد على فراشه فنقله عنه فلم يحضنه الصيد حتى فسد أو تقلب عليه في نومه فقتله ولم يعلم به ففي
وجوب الجزاء فيه القولان كالجراد المفترش هكذا قاله المصنف والأصحاب قال البندنيجي وغيره
337

ولو وضع الصيد الفرخ على فراش المحرم فنقله فتلف أو تقلب عليه جاهلا فتلف ففيه القولان
(السادسة) إذا قطع المحرم يده وعليها شعر أو كشط جلدة منها عليها شعر أو قطع يده وعليها أظفار
لم يلزمه فدية بلا خلاف لما ذكره المصنف وممن نقل اتفاق الأصحاب على المسألة امام الحرمين قال هو
وغيره وكذا لو كشط جلدة الرأس التي عليها شعر فلا فدية بالاتفاق ونقل أبو علي البندنيجي هذا
عن نص الشافعي وجزم به قال الشافعي ولو افتدى كان أحب إلى *
(فرع) ذكرنا أن مذهبنا أن المحرم إذا قتل صيدا صال عليه فلا ضمان عليه وقال أبو حنيفة
يلزمه الضمان
* قال المصنف رحمه الله *
(وان لبس أو تطيب أو دهن رأسه أو لحيته جاهلا بالتحريم أو ناسيا للاحرام لم يلزمه الفدية لما
روى أبو يعلي بن أمية رضي الله عنه قال (أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل بالجعرانة وعليه جبة وهو
مصفر رأسه ولحيته فقال يا رسول الله أحرمت بعمرة وأنا كما ترى فقال اغسل عنك الصفرة وانزع
عنك الجبة وما كنت صانعا في حجك فاصنع في عمرتك) ولم يأمره بالفدية فدل على أن الجاهل لا فدية
عليه وإذا ثبت هذا في الجاهل ثبت في الناسي لان الناسي يفعل وهو يجهل تحريمه عليه فان ذكر ما فعله
ناسيا أو علم ما فعله جاهلا نزع اللباس وأزال الطيب حديث يعلي بن أمية فإن لم يقدر على إزالة الطيب
لم تلزمه الفدية لأنه مضطر إلى تركه فلم تلزمه فديد كما لو أكره على التطيب وان قدر على إزالته واستدام
لزمته الفدية لأنه تطيب من غير عذر فأشبه إذا ابتدأ به وهو عالم بالتحريم * وان مس طيبا وهو يظن
أنه يابس فكان رطبا ففيه قولان (أحدهما) تلزمه الفدية لأنه قصد مس الطيب (والثاني) لا تلزمه
338

لأنه جهل تحريمه فأشبه إذا جهل تحريم الطيب في الاحرام *
وان حلق الشعر أو قلم الظفر ناسيا أو جاهلا
بالتحريم فالمنصوص أنه تجب عليه الفدية لأنه إتلاف فاستوى في ضمانه العمد والسهو كاتلاف مال الآدمي
وفيه قول آخر مخرج أنه لا تجب لأنه ترفه وزينة فاختلف في فديته السهو والعمد كالطيب * وان قتل صيدا ناسيا
أو جاهلا بالتحريم وجب عليه الجزاء لان ضمانه ضمان المال فاستوي فيه السهو والعمد والعلم والجهل
كضمان مال الآدميين وان أحرم ثم جن وقتل صيدا ففيه قولان (أحدهما) يجب عليه الجزاء
لما ذكرناه (والثاني) لا يجب لان المنع من قتل الصيد تعبد والمجنون ليس من أهل التعبد فلا يلزمه
ضمان * ومن أصحابنا من نقل هذين القولين إلى الناسي وليس بشئ وان جامع ناسيا أو جاهلا بالتحريم
ففيه قولان (قال) في الجديد لا يفسد حجه ولا يلزمه شئ لأنه عبادة تجب بافسادها الكفارة فاختلف
في الوطئ فيها العمد والسهو كالصوم (وقال) في القديم يفسد حجه وتلزمه الكفارة لأنه معني يتعلق
به قضاء الحج فاستوى فيه العمد والسهو كالفوات)
(حديث يعلى صحيح رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما وسبق بيان الجعرانة في باب المواقيت
(قوله) وفيه قول مخرج أي مخرج من الطيب (قوله) لأنه ترفه وزينة احتراز من اتلاف مال الآدمي ومن
إتلاف الصيد (قوله) لأنه عبادة يجب بافسادها الكفارة احتراز من الصلاة والطهارة. (قوله) يتعلق
به قضاء الحج احتراز من الطيب واللباس. (قوله) لان ضمانه ضمان المال يعنى انه يضمن بالمثل أو القيمة
339

وقيه احتراز من قتل الآدمي (أما) الأحكام ففيها مسائل (إحداها) إذا تطيب أو لبس أو دهن رأسه
أو لحيته جاهلا بتحريم ذلك أو ناسيا الاحرام فلا فدية عليه نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب
الا المزني فأوجبها * دليل المذهب ما ذكره المصنف فان ذكر ما فعله ناسيا أو علم ما فعله جاهلا لزمه المبادرة
بإزالة الطيب واللباس وله نزع الثوب من قبل رأسه ولا يكلف شقه * هذا مذهبنا ومذهب الجمهور
وخالف فيه بعض السلف قال أصحابنا فان شرع في الإزالة وطال زمانها من غير تفريط فلا فدية عليه
لأنه معذور وان أخر الإزالة مع إمكانها لزمه الفدية سواء طال الزمان أم لا لأنه متطيب في ذلك الزمان
بلا عذر وان تعذرت عليه إزالة الطيب أو اللباس بأن كان أقطع أو بيده علة أو غير ذلك أو عجز
عما يزيل به الطيب فلا فدية ما دام العجز لما ذكره المصنف ومتى تمكن ولو بأجرة المثل لزمه المبادرة
بالإزالة * قال أصحابنا ولو علم تحريم الطيب وجهل وجوب الفدية وجبت الفدية لأنه مقصر وهو كمن
زني أو شرب أو سرق عالما تحريم ذلك جاهلا وجوب الحد فيجب الحد بالاتفاق وكذا لو علم تحريم
القتل وجهل وجوب القصاص وجب القصاص ولو علم تحريم الطيب وجهل كون الممسوس طيبا فلا فدية
على المذهب وقيل في وجوبها وجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره (والصحيح) الأول وبه قطع الجمهور *
قال المتولي ولو علم تحريم الطيب ولكنه اعتقد في بعض أنواع الطيب انه ليس بحرام فالصحيح
وجوب الفدية لتقصيره (أما) إذا مس طيبا يظنه يابسا فكان رطبا ففي وجوب الفدية قولان مشهوران
ذكرهما المصنف بدليلهما (الجديد) لا فدية (والقديم) وجوبها وسبق بيانهما واختلاف الأصحاب
في الأصح منهما في فصل تحريم استعمال الطيب (أما) إذا أكره على التطيب فلا فدية بالاتفاق صرح به
المصنف في قياسه المذكور واتفق الأصحاب عليه (المسألة الثانية) إذا حلق الشعر أو قلم الظفر ناسيا
لاحرامه أو جاهلا تحريمه فوجهان (الصحيح) المنصوص وجوب الفدية (والثاني) مخرج أنه
340

لا فدية وذكر المصنف دليلهما وهو مخرج من الطيب واللباس * وقال كثيرون مخرج من المغمى
عليه إذا حلق فان الشافعي نص في المغمى عليه إذا حلق أو قلم في حال الاحرام على قولين وكذلك
إذا قتل المغمى عليه الصيد نص فيه على قولين * قال أصحابنا والمغمى عليه والمجنون والصبي
الذي لا يميز إذا أزالوا في احرامهم شعرا أو ظفرا هل تجب الفدية فيه قولان (الأصح) لا فدية
بخلاف العاقل الناسي والجاهل فان المذهب وجوب الفدية فإنه ينسب إلى تقصير بخلاف المجنون
والمغمى عليه (الثالثة) إذا قتل الصيد ناسيا لاحرامه أو جاهلا تحريمه ففيه طريقان مشهوران
ذكرهما المصنف بدليلهما (أحدهما) القطع بوجوب الفدية وهو الأصح عند المصنف وآخرين
(والثاني) على الخلاف في الحلق والقلم وعلى الجملة المذهب وجوب الفدية (وأما) المجنون
والمغمى عليه والصبي الذي لا يميز فقد ذكرنا حكم قتلهم الصيد في المسألة التي قبل هذه وذكرناه
أيضا قبل هذا في أوائل فصل تحريم الصيد (الرابعة) إذا جامع المحرم قبل التحلل من العمرة أو
قبل التحلل الأول من الحج ناسيا لاحرامه أو جاهلا تحريمه ففيه قولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما
(الأصح) الجديد لا يفسد نسكه ولا كفارة (والقديم) فساده ووجوب الكفارة * ولو رمى جمرة
العقبة في الليل وهو يعتقد أنه بعد نصف الليل وحلق ثم جامع ثم بان انه رمى قبل نصف الليل
وان التحلل لم يحصل فطريقان حكاهما الدارمي (أصحهما) كالناسي فيكون فيه القولان (والثاني)
يفسد حجه قولا واحدا لتقصيره * ولو أكرهت المحرمة على الوطئ ففيه وجهان بناء على القولين في
الناسي ولو أكره الرجل ففيه طريقان بناء على الخلاف في تصور اكراهه على الوطئ في الزنا وغيره
(أحدهما) ان إكراهه لا يتصور فيكون مختارا فيفسد نسكه وتلزمه الكفارة (والثاني) أنه متصور
341

فيكون فيه وجهان بناء على الناسي كما قلنا في المرأة (والأصح) لا يفسد لان الأصح تصورا كراهة *
ولو أحرم عاقلا ثم جن أو أغمي عليه فجامع في جنونه أو اغمائه ففيه القولان كالناسي والله أعلم *
(فرع) قال إمام الحرمين والبغوي وآخرون في ضابط هذه المسائل إذا فعل المحرم محظورا
من محظورات الاحرام ناسيا أو جاهلا فإن كان اتلافا كقتل الصيد والحلق والقلم فالمذهب
وجوب الفدية وفيه خلاف ضعيف سبق بيانه وإن كان استمتاعا محضا كالطيب واللباس ودهن
الرأس واللحية والقبلة واللمس وسائر المباشرات بالشهوة ما عدا الجماع فلا فدية وإن كان جماعا
فلا فدية في الأصح والله أعلم *
342

(فرع) قد ذكرنا ان مذهبنا أنه إذا لبس أو تطيب ناسيا لاحرامه أو جاهلا تحريمه فلا
فدية وبه قال عطاء والثوري واسحق وداود * وقال مالك وأبو حنيفة والمزني وأحمد في أصح الروايتين
عنه عليه الفدية وقاسوه على قتل الصيد ودليلنا ما ذكره المصنف والفرق ان قتل الصيد اتلاف (وأما)
إذا وطئ ناسيا أو جاهلا فقد ذكرنا ان الأصح عندنا انه لا يفسد نسكه ولا كفارة. وقال مالك
وأبو حنيفة يفسد ويلزمه القضاء والكفارة ووافقنا داود في الناسي والمكره وقد ذكر المصنف
دليل المذهبين * قال المصنف رحمه الله *
343

(وان حلق رجل رأسه فإن كان باذنه وجبت عليه الفدية لأنه أزال شعره بسبب لا عذر له فيه
فأشبه إذا حلقه بنفسه وان حلقه وهو نائم أو مكره وجبت الفدية وعلى من تجب فيه قولان (أحدهما)
تجب على الحالق لأنه أمانة عنده فإذا أتلفه غيره وجب الضمان على من أتلفه كالوديعة إذا أتلفها
غاصب (والثاني) تجب على المحلوق لأنه هو الذي ترفه بالحلق فكانت الفدية عليه (فان قلنا) تجب
الفدية على الحالق فللمحلوق مطالبته باخراجها لأنها تجب بسببه فان مات الحالق أو أعسر بالفدية
لم تجب على المحلوق الفدية (وإن قلنا) تجب على المحلوق أخذها من الحالق وأخرجها وان افتدى المحلوق
344

نظرت فان افتدى بالمال رجع بأقل الأمرين من الشاة أو ثلاثة آصع وان أداها بالصوم لم يرجع
عليه لأنه لا يمكن الرجوع به ومن أصحابنا من قال يرجع بثلاثة امداد لان صوم كل يوم مقدر بمد *
وان حلق رأسه وهو ساكت ففيه طريقان (أحدهما) انه كالنائم والمكره لان السكوت لا يجرى
مجرى الاذن والدليل عليه انه لو أتلف رجل ماله فسكت لم يكن سكوته اذنا في اتلافه (والثاني)
انه بمنزلة ما لو اذن فيه لأنه يلزمه حفظه والمنع من حلقه فإذا لم يفعل جعل سكوته كالاذن فيه كالمودع
إذا سكت عن اتلاف الوديعة) *
(الشرح) قوله أقل الأمرين من الشاة أو ثلاثة آصع هكذا استعمل المصنف والأصحاب هذه
العبارة والأجود حذف الألف فيقال أقل الأمرين من الشاة وثلاثة آصع وهذا ظاهر لمن تأمل وقد
أوضحته في تهذيب اللغات وفى ألفاظ التنبيه (وقوله) يجرى مجرى هو بفتح الميم (وقوله) سكت عن
اتلاف الوديعة يقال سكت عنه وعليه (اما) الأحكام فقال أصحابنا للحالق والمحلوق أربعة أحوال
(أحدها) أن يكونا حلالين فلا شئ عليهما (الثاني) أن يكون الحالق محرما والمحلوق حلالا فلا منع
منه ولا شئ عليهما (الثالث) أن يكونا محرمين (الرابع) أن يكون المحلوق محرما دون الحالق وفى
هذين الحالين يأثم الحالق ثم إن كان الحلق بإذن المحلوق اثم أيضا ووجبت الفدية على المحلوق ولا شئ
على الحالق بلا خلاف عندنا وقال أبو حنيفة إن كان الحالق محرما فعليه صدقة * دليلنا انه آلة المحلوق
فوجبت إضافة الحلق إلى المحلوق دونه أما إذا حلق الحلال أو المحرم شعر محرم بغير اذنه فإنه كان
نائما أو مكرها أو مجنونا أو مغمى عليه فطريقان حكاهما الشيخ أبو حامد والماوردي والمحاملي
والقاضي أبو الطيب والشاشي وآخرون (أحدهما) طريقة أبي العباس بن سريج (والثاني) أبي إسحاق
المروزي ان المسألة قولين (أحدهما) ان الفدية عليه الحالق نص عليه الشافعي في القديم والاملاء
345

(والثاني) يجب على المحلوق ثم يرجع بها على الحالق نص عليه في البويطي في مختصر الحج الأوسط
وقال ابن الصباغ وغيره في المختصر الكبير (والطريق الثاني) طريقة أبي علي بن أبي هريرة ان المسألة على
قول واحد وهو ان الفدية تجب على الحالق ابتداء قولا واحدا فما دام موسرا حاضرا فلا شئ على المحلوق
قولا واحدا وإنما القولان إذا غاب الحالق أو أعسر فهل يلزمه المحلوق اخراج الفدية ثم يرجع بها
بعد ذلك على الحالق إذا حضر وأيسر فيه القولان واختلف الأصحاب في الراجح من هذين الطريقين
فقال الماوردي في الحاوي الصحيح طريقة أبي علي بن أبي هريرة قال وبها قال أكثر أصحابنا * هذا كلام
الماوردي وخالفه الجمهور فصححوا طريقة ابن سريج وأبي إسحاق. ممن صححها القاضي أبو الطيب
في تعليقه والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد وصاحب البيان وآخرون ونقلها صاحب البيان
عن عامة أصحابنا * قال الشيخ أبو حامد وأبو علي البندنيجي والمحاملي والقاضي أبو الطيب وابن
الصباغ والقاضي حسين والبغوي والشاشي وسائر الأصحاب هذا الخلاف مبنى على أن الشعر على
رأس المحرم هل هو عنده بمنزلة الوديعة أم بمنزلة العارية وفيه قولان للشافعي (فان) قلنا عارية وجبت
الفدية على المحلوق ثم يرجع بها على الحالق كما لو تلفت العارية في يده (وان قلنا) وديعة وجبت على
الحالق ولا شئ على المحلوق كما لو تلفت الوديعة عنده بلا تفريط * ونقل القاضي أبو الطيب في تعليقه
عن الأصحاب انهم قالوا فيه قولان قال وقيل وجهان (أحدهما) انه عارية (والثاني) وديعة
وممن نقل الخلاف في أن الخلاف قولان أو وجهان صاحب الشامل والشاشي قال القاضي أبو
الطيب وابن الصباغ والشاملي وغيرهم (الأصح) انه كالوديعة قال القاضي لان القصد بالعارية انتفاع
المستعير بها والمحرم لا ينتفع بكون الشعر على رأسه وإنما منفعته في ازالته لأنه لو تمعط بالمرض لم
يضمنه بلا خلاف فدل على أنه كالوديعة ولو كان كالعارية لضمنه كالعارية التالفة بآفة سماوية قال
القاضي (فان قيل) إنما لم يضمن إذا تمعط بالمرض لان صاحب العارية هو الذي أتلفها وهو الله
346

تعالى (فالجواب) انه يلزم مثل ذلك إذا حلقه بنفسه لان الله تعالى هو الفاعل الحقيقي في الحلق ولا
محدث للأفعال سواه قال ويمكن ان يفرق بان الحلق اكتسبه العبد فضمنه والتمعط بالمرض ليس
بكسب فلم يضمنه * هذا كلام القاضي أبي الطيب ونقل ابن الصباغ في الشامل ان القاضي أبا الطيب
قال ذكر الخلاف في ذلك خطأ والصواب انه وديعة وهذا يخالف قول القاضي في تعليقه فإنه ذكر
الخلاف ولم يقل انه خطأ والله أعلم * واتفق الأصحاب في أن الأصح من القولين ان الفدية تجب
على الحالق ولا يطالب المحلوق أبدا وممن صرح بتصحيحه أبو إسحاق المروزي في شرحه والقاضي
أبو الطيب في كتابيه التعليق والمجرد والمحاملي في المجموع وصاحب الحاوي والجرجاني في
التحرير والبغوي والشاشي وصاحب البيان والفارقي والرافعي وآخرون لان الملحوق معذور ولا
تقصير من جهته بخلاف الناسي (وأما) قول القائل الآخر انه ترقة بالحلق فقالوا هذا ينتقض بمن
عنده شراب وديعة فجاء انسان فأوجره في حلق المودع بغير اختياره فان الضمان يجب على المؤجر
دون المودع وإن كان قد حصل في جوفه لأنه لا صنع له فيه والله أعلم * قال أصحابنا (فان قلنا)
الفدية على الحالق فامتنع من أدائها مع قدرته فللمحلوق مطالبته باخراجها * هكذا قطع به المصنف
وجماهير الأصحاب ونقل امام الحرمين اتفاق الأصحاب عليه قال وهو مشكل في المعني وإنما التعويل
على النقل وحكى ابن الصباغ هذا عن الأصحاب ثم استشكله وانكره على الأصحاب كما استشكله
امام الحرمين ونقل المتولي عن الأصحاب كلهم انهم قالوا للمحلوق مطالبة الحالق باخراج الفدية
وله مطالبة الامام بالاستيفاء ثم قال والصحيح انه ليس له مطالبته لان الحلق ليس له وليس عليه في
ترك الاخراج ضرر لان الحالق هو المأمور بالاخراج بخلاف السرقة لان في القطع غرضا وهو
الزجر لصيانة ملكه * هذا كلام المتولي وذكر الرافعي في المسألة وجهين (الصحيح) وهو قول الأكثرين
له مطالبته (والثاني) لا واحتج الأصحاب للمشهور بما احتج به المصنف قال الفارقي ولان حج
347

المحلوق يتم باخراج الفدية فكان له المطالبة باخراجها والله أعلم * قال المصنف والأصحاب وإذا
قلنا يجب على الحالق فمات أو أعسر فلا شئ على المحلوق ولو أخرج المحلوق الفدية إن كان باذن
الحالق جاز بلا خلاف كما لو أدى زكاته وكفارته باذنه وإن كان بغير اذنه فوجهان حكاهما الرافعي
(الأصح) لا يجزئ كما لو أخرجها أجنبي بغير اذنه فإنه لا يجزئ وجها واحدا وبهذا الوجه قطع الدارمي
وأبو علي البندنيجي والمتولي وغيرهم والفرق بين هذا وبين قضاء الدين عن الانسان فإنه يجوز
بغير اذنه بلا خلاف لان الفدية شبيهة بالكفارة ولأنها قربة وجبت بسبب العبادة والله أعلم *
(أما) إذا قلنا تجب الفدية على المحلوق فقال المصنف وجمهور الأصحاب إن كان الحالق حاضرا وهو
موسر فللمحلوق ان يأخذها من الحالق ويخرجها لأنه لا معني لالزام المحلوق باخراجها ثم الرجوع
على الحالق مع امكان الاخذ من الحالق هكذا قطع به المصنف وسائر العراقيين وجماعة من غيرهم *
وقال المتولي والبغوي والرافعي هل له ان يأخذ من الحالق قبل الاخراج فيه وجهان (أصحهما)
عندهم ليس له ذلك والله أعلم * وقال أصحابنا فان أراد اخراجها والحالة هذه كان عليه ان يفدى
بالهدى أو الاطعام دون الصيام هكذا قاله الشيخ أبو حامد والأصحاب لأنه متحمل لهذه الفدية
عن غيره والصوم لا يصح فيه التحمل * وان غاب الحالق أو أعسر لزم المحلوق ان يفدى ليخلص
نفسه من الفرض قال الأصحاب وله هنا ان يفدى بالهدى والاطعام والصيام وأطلق البغوي وغيره
ان له ان يفدى بالاطعام والهدى والصيام ولم يفرقوا بين وجود الحالق وعدمه وقطع الماوردي
بأنه لا يجوز الصيام مطلقا لأنه متحمل * وإذا فدى المحلوق على هذا القول نظرت فان فدى بالطعام
أو الهدى رجع بأقلهما قيمة لأنه متبرع بالزيادة لأنه مخير بينهما فعدوله إلى أكثرهما تبرع فلا يرجع
به ويرجع بالأقل هكذا قطع به المصنف والجماهير وذكر الماوردي في المسألة وجهين (أحدهما)
348

هذا (والثاني) انه إذا فدى بأكثرهما لا يرجع على الحالق بشئ لأنه غارم عن غيره فلزمه ان يسقط
الغرم بأقل ما يقدر عليه فإذا عدل إلى الأكثر كان متطوعا بذلك غير مأذون له فيه والمذهب
الأول وان فدى بالصيام ففيه أربعة أوجه (أصحها) عند المصنف والأصحاب وبه قطع جماعة
لا يرجع بشئ لما ذكره المصنف (والثاني) يرجع لكل يوم بمد لما ذكره المصنف (والثالث) يرجع
لكل يوم بصاع ذكره المتولي لان الشرع عادل بين صوم ثلاثة أيام وثلاثة آصع (والرابع) حكاه
الدارمي والقاضي أبو الطيب في تعليقه عن ابن القطان وحكاه الرافعي يرجع بما يرجع به لو فدى
بالهدى أو الاطعام * ولو أراد الحالق على هذا القول إن يفدى قال أصحابنا إن كان بالصوم لم
يجز وإن كان بالهدى أو الاطعام فإن كان باذن المحلوق جاز والا فوجهان حكاهما المتولي والبغوي
وغيرهما (أصحهما) لا يجوز وبه قطع القاضي حسين والرافعي قال القاضي حسين والفرق
بين هذا وبين من أكره انسانا على اتلاف مال وقلنا إن المكره المأمور يضمن ثم يرجع به على
الآمر فأداه الآمر بغير اذن المأمور يبرأ المأمور لان الفدية فيها معني القربة فلا بد من قصدها ممن
لاقاه الوجوب والله أعلم *
(فرع) إذا حلق انسان رأس المحرم وهو مستيقظ عاقل غير مكره لكنه ساكت فطريقان
مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) انه كما لو حلق باذنه فتكون الفدية على المحلوق قولا
واحدا ولا مطالبة على الحالق بشئ لان الشعر عنده وديعة أو عادية وعلى التقديرين إذا أتلفت
العارية أو الوديعة وهو ساكت متمكن من المنع يكون ضامنا في الطريق الثاني كما أنه لو حلق نائما
أو مكرها فيكون على الخلاف *
(فرع) لو امر حلال حلالا بحلق رأس محرم نائم الفدية على الامر ان لم يعرف الحالق الحال
فان عرفه فوجهان (الأصح) انها عليه قال الدارمي ولو أكره انسان محرما على حلق رأس نفسه
ففيه القولان كما لو حلقه مكرها * ولو أكره رجلا على حلق المحرم فالفدية على الآمر *
349

(فرع) إذا سقط شعر المحرم بمرض أو غيره من الآفات من غير صنع آدمي فلا فدية بلا خلاف
ولو طارت إليه نار فأحرقته فقد قال المتولي والروياني في البحر إن لم يمكنه إطفاؤها فلا فدية بلا خلاف
كما لو سقط بالمرض وان أمكنه فهو كمن حلق رأسه وهو ساكت ففيه الطريقان السابقان * وأطلق
الدارمي والماوردي وآخرون من العراقيين انه لو أحرق بالنار لا فدية وقال القاضي حسين في تعليقه
قال العراقيون لا فدية واختار القاضي انه ان قلنا إن الشعر كالعارية ضمنه وان قلنا وديعة فلا والصواب
ما قدمناه عن المتولي والروياني ويتعين حمل كلام العراقيين على من لم يمكنه الاطفاء وكلامهم
يقتضيه فإنهم جعلوه حجة لسقوط الفدية عن المحلوق النائم والمكره وبه يحصل الاحتجاج *
(فرع) قد ذكرنا ان الحلال إذا حلق رأس المحرم مكرها وجبت الفدية على الحالق في الأصح
وفى الثاني تجب على المحلوق ويرجع بها على الحالق * قال امام الحرمين لم تختلف الأئمة في إيجاب الفدية
قال وأقرب مسلك فيه ان الشعر في حق الحلال كصيد الحرم وشجره *
(فرع) في مذاهب العلماء لو حلق محرم رأس حلال جاز ولا فدية وبه قال مالك وأحمد
وداود * وقال أبو حنيفة لا يجوز فان فعل فعلى الحالق صدقة كما لو حلق رأس محرم. دليلنا انه حلق
شعرا لا حرمة له بخلاف شعر المحرم ولو حلق حلال شعر محرم نائم أو مكره فقد ذكرنا ان الأصح
عندنا وجوب الفدية على الحالق وبه قال مالك وأحمد وأبو ثور وابن المنذر وقال أبو حنيفة تجب
على المحلوق ولا يرجع بها على الحالق وقال عطاء من اخذ من شارب المحرم فعليهما الفدية *
* قال المصنف رحمه الله *
(ويكره للمحرم أن يحك شعره بأظفاره حتى لا ينتثر شعره فان انتثر منه شعرة لزمته الفدية
ويكره ان يفلى رأسه ولحيته فان فلى وقتل قملة استحب له ان يفديها قال الشافعي رحمه الله وأي شئ
فداها به فهو خير منها فان ظهر القمل على بدنه أو ثيابه لم يكره ان ينحيه لأنه ألجأه * ويكره ان يكتحل
350

بما لا طيب فيه لأنه زينة والحاج أشعث اغبر فان احتاج إليه لم يكره لأنه إذا لم يكره ما يحرم من
الحلق والطيب للحاجة فلان لا يكره ما لا يحرم أولى * ويجوز أن يدخل الحمام ويغتسل بالماء لما روى
أبو أيوب رضي الله عنه قال (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم) ويجوز أن يغسل شعره بالماء والسدر
لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (في المحرم الذي خر من بعيره اغسلوه بماء
وسدر) ويجوز أن يحتجم ما لم يقطع شعرا لما روى ابن عباس رضي الله عنهما (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم
وهو محرم) ويجوز أن يفتصد كما يجوز أن يحتجم ويجوز أن يستظل سائرا ونازلا لما روى جابر
رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (امر بقية من شعران تضرب له بنمرة) وإذا ثبت جواز ذلك
بالحر نازلا وجب ان يجوز سائرا قياسا عليه ويكره ان يلبس الثياب المصبغة لما روى أن عمر
رضي الله عنه رأى على طلحة ثوبين مصبوغين وهو حرام فقال أيها الرهط أنتم أئمة يقتدي بكم
ولو أن جاهلا رأى عليك ثوبيك لقال قد كان طلحة يلبس الثياب المصبغة وهو محرم فلا يلبس
أحدكم من هذه الثياب المصبغة في الاحرام شيئا * ويكره ان يحمل بازا أو كلبا معلما لأنه ينفر به
الصيد وربما انفلت فقتل صيدا وينبغي ان ينزه إحرامه من الخصومة والشتم والكلام القبيح لقوله
تعالى (فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) قال ابن عباس الفسوق
المنابزة بالألقاب وتقول لأخيك يا ظالم يا فاسق والجدال أن تمارى صاحبك حتى تغضبه وروى
أبو هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كهيئته يوم ولدته أمه وبالله التوفيق) *
(الشرح) حديث أبي أيوب رواه البخاري ومسلم ولفظ روايتهما قال أبو أيوب (رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل وهو محرم) وحديث ابن عباس في المحرم الذي خر من بعيره وحديثه في
الحجامة رواهما البخاري ومسلم (وأما) حديث جابر في القبة فرواه مسلم وأبو داود في جملة
حديث جابر الطويل الذي استوعب فيه صفة حجة النبي صلى الله عليه وسلم ولفظه كما ذكره المصنف وعن أم الحصين
الصحابية رضي الله عنهما قالت (حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع فرأيت أسامة وبلالا وأحدهما
آخذ بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمره العقبة) رواه مسلم في
صحيحه (وأما) حديث عمر وقوله لطلحة في الثوب المصبوغ فصحيح رواه مالك في الموطأ باسناد
351

على شرط البخاري ومسلم (وأما) حديث أبي هريرة فرواه البخاري ومسلم (وأما) تفسير قوله تعالى
(فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج) فسبق بيانه في الباب الأول من
كتاب الحج في وقت الاحرام بالحج (قوله) يكره ان يفلي رأسه هو بفتح الياء وإسكان الفاء
وتخفيف اللام (أما) الأحكام ففي الفصل مسائل (إحداها) يكره حك الشعر في الاحرام بالأظفار لئلا
ينتف شعرا ولا يكره ببطون الأنامل وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله يكره ان يحك شعره بأظفاره
فأشار إلى أنه لا يكره بأنامله ويكره مشط رأسه ولحيته لأنه أقرب إلى نتف الشعر فان حك أو مشط فنتف
بذلك شعرة أو شعرات لزمه فدية فان سقط شعر وشك هل نتفه بفعله أم كان ينتسل بنفسه فوجهان
وقيل قولان وممن حكاهما قولين الشيخ أبو محمد الجويني وامام الحرمين عن حكايته (أصحهما)
وبه قطع جماعة منهم البندنيجي وصاحب البيان لا فدية لأنه محتمل الامرين والأصل برائته فلا تلزمه
الفدية بالشك (والثاني) تلزمه إحالة على السبب الظاهر قال الامام وهو نظير من ضرب بطن امرأة
فأجهضت جنينا يجب الضمان وإن كان يحتمل الاجهاض بسبب آخر هذا كله في حك الشعر (وأما) حك
الجسد فلا كراهة فيه بلا خلاف وفى الموطأ عن عائشة (أنها سئلت أيحك المحرم جسده قالت نعم
فليحكه وليشدد) * قال أصحابنا ولا يكره للمحرم دلك البدن وإزالة الوسخ عنه وقال مالك لا يفعله
فان فعله فعليه صدقة. دليلنا أنه لم يثبت في ذلك نهي شرعي فلا يمنع فهذا هو المعتمد في الدلالة و (أما)
ما يحتج به أصحابنا من رواية الشافعي والبيهقي باسنادهما عن ابن عباس (أنه دخل حماما وهو بالجحفة
وهو محرم وقال ما يعبأ الله بأوساخنا شيئا) فهذا ضعيف لأنه من رواية ابن أبي يحيى وهو ضعيف
عند المحدثين (المسألة الثانية) يكره أن يفلى رأسه ولحيته فان فلى وقتل قمله تصدق ولو بلقمة نص
عليه الشافعي وفى نص آخر قال أي شئ فداها به فهو خير منها كما حكاه عنه المصنف وهو بمعني
352

الأول وهذا التصدق مستحب وليس بواجب * هكذا قطع به المصنف وجماهير الأصحاب لأنها
ليست مأكولة فأشبهت قتل الحشرات والسباع التي لا تؤكل وفيه وجه أن التصدق واجب لأنه
يتضمن إزالة الأذى عن الرأس وقد سبق بيانه في فصل قتل مالا يؤكل من السباع والحشرات
حكاه القاضي حسين وإمام الحرمين وآخرون * قال المصنف والأصحاب ولو ظهر القمل في بدنه
وثيابه فله إزالته ولا فدية بلا خلاف لا واجبة ولا مستحبة بخلاف قمل الرأس لأنه يتضمن إزالة
الأذى من الرأس وقد ورد فيه النص والله أعلم * وسبق هناك أن الصئبان لها حكم القمل والله أعلم *
(الثالثة) يحرم الاكتحال بكحل فيه طيب كما سبق في فصل الطيب فان احتاج إليه لدواء جاز
وعليه الفدية (واما) الاكتحال بما لا طيب فيه فقد سبق في آخر فصل تحريم الطيب انه لا يحرم وللشافعي
في كراهته نصان فقيل قولان وقيل على حالين وهو الأصح فإن كان فيه زينة كالإثمد ونحوه كره
الا لحاجة كرمد ونحوه وان لم يكن فيه زينة كالتوتيا لم يكره وبهذا التفصيل قطع الشيخ أبو حامد
والماوردي والقاضي أبو الطيب والجمهور وعليه يحمل كلام المصنف قال أبو علي البندنيجي إن كان
مما لا يحسن العين كالتوتيا فلا كراهة وإن كان يحسنها كالإثمد فقد نقل المزني انه لا باس به ونص
في الاملاء انه يكره وهو ظاهر نصه في الأم قال فان صح نقل المزني فالمسألة على قولين والا فالمعروف
في كتبه انه مكروه فالمذهب التفصيل قال أبو الطيب وآخرون ويكره للمحرمة الاكتحال بالإثمد
353

أشد من كراهته للرجال لان ما يحصل من الزينة أكثر من الرجل فان اكتحل به رجل أو
امرأة فلا فدية بلا خلاف وقد ثبت في صحيح مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال في المحرم (يعنى يشتكي عينيه قال يضمدهما بالصبر) وروى البيهقي عن شميسة قالت
(اشتكت عيني وأنا محرمة فسألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن الكحل فقالت اكتحلي
بأي كحل شئت غير الإثمد أو قالت غير كل كحل أسود أما أنه ليس بحرام ولكنه زينة نحن
نكرهه وقالت إن شئت كحلتك بصبر فأبيت) *
(فرع) اتفق العلماء على جواز تضميد العين وغيرها للمحرم بالصبر ونحوه مما ليس بطيب
ولا فدية في ذلك وأجمعوا على أنه إذا احتاج إلى ما فيه طيب جاز فعله وعليه الفدية وأجمعوا على أن
له ان يكتحل بمالا طيب فيه إذا احتاج إليه ولا فدية وأما الاكتحال للزينة فمكروه عندنا على
الصحيح كما سبق وبه قال جماعة من العلماء * قال ابن المنذر ثبت أن ابن عمر قال يكتحل المحرم بكل
كحل لا طيب فيه قال ورخص في الحكل له الثوري وأحمد واسحق وأصحاب الرأي غير أن اسحق
354

وأحمد قالا لا يعجبنا ذلك للزينة وكرهه مجاهد وكره الإثمد للمحرم الثوري وأحمد واسحق قال
ابن المنذر لا يكره (المسألة الرابعة) قال الشافعي والأصحاب للمحرم أن يغتسل في الحمام وغيره
وينغمس في الماء لما ذكره المصنف وله إزالة الوسخ عن نفسه ولا كراهة في ذلك على المذهب وبه قطع
الجمهور قال الرافعي وقيل يكره على القديم وله غسل رأسه بالسدر والخطمي لكن يستحب أن
لا يفعل خوفا من انتتاف الشعر ولأنه ترفه ونوع زينة ولم يذكر الجمهور كراهته بل اقتصروا على أنه
خلاف الأولي * وصرح البندنيجي بكراهته قال الرافعي وذكر الحناطي كراهته عن القديم * قال
أصحابنا وإذا غسله فينبغي ان يرفق لئلا ينتتف شعره * هذا تفصيل مذهبنا قال الماوردي أما اغتسال
المحرم بالماء والانغماس فيه فجائز لا يعرف بين العلماء خلاف فيه لحديث أبي أيوب السابق (فأما)
دخول الحمام وإزالة الوسخ عن نفسه فجائز أيضا عندنا وبه قال الجمهور * وقال مالك تجب الفدية
بإزالة الوسخ * وقال أبو حنيفة ان غسل رأسه بخطمي لزمته الفدية * دليلنا حديث ابن عباس في المحرم
الذي خر عن بعيره قال ابن المنذر وكره جابر بن عبد الله ومالك غسل المحرم رأسه بالخطمي قال مالك
وعليه الفدية وبه قال أبو حنيفة وقال أبو يعقوب ومحمد عليه صدقة قال ابن المنذر هو مباح لحديث ابن
عباس (الخامسة) قال الشافعي والأصحاب للمحرم ان يحتجم ويفتصد ويقطع العرق ما لم يقطع شعرا
ولا فدية عليه * هذا مذهبنا لا خلاف فيه عندنا وبه قال جمهور العلماء منهم مسروق وعطاء وعبيد
ابن عمير والثوري وأحمد واسحق وابن المنذر وقال ابن عمر ومالك ليس له الحجامة إلا من ضرورة
355

وقال الحسن البصري ان فعله (1) دليلنا حديث ابن عباس الذي ذكره المصنف * قال أصحابنا فان احتاج
إلى الحجامة ونحوها ولم يمكن الا بقطع شعر قطعه ولزمه الفدية (السادسة) قال الشافعي والأصحاب له ان
يستظل سائرا ونازلا للحديث الذي ذكره المصنف ولحديث أم الحصين الذي ذكرناه معه * هذا مذهبنا
لا خلاف فيه عندنا ونقله ابن المنذر عن ربيعة والثوري وابن عيينة قال وروى ذلك عن عثمان بن
عفان وعطاء والأسود بن يزيد قال وكره ذلك مالك وأحمد * وقال عبد الرحمن بن مهدي لا استظل
قال وروينا عن ابن عمر قال (أضح لمن أحرمت له) قال ابن المنذر ولا بأس به عندي لأني لا أعلم
خبرا ثابتا يمنع منه وما كان للحلال فعله كان للمحرم فعله الا ما نهي عنه المحرم * قال وكل ما نهي
عنه المحرم يستوي فيه الراكب ومن على الأرض كالطيب واللباس السابقين في حديث ضرب القبه
بنمرة وحديث أم الحصين * هذا كلام ابن المنذر ونقل أصحابنا عن مالك واحمد انهما قالا

(1) كذا بالأصل فحرر
356

يجوز الاستظلال للنازل ولا يجوز للسائر فان استظل لزمه الفدية وعن أحمد رواية انه لا فدية *
قال العبدري ووافقنا انه لو كان زمن استظلاله يسيرا فلا فدية وكذا لو استظل بيده ونحوها
دليلنا الحديثان السابقان (واما) ما رواه البيهقي وغيره بالاسناد الصحيح عن نافع قال (أبصر ابن عمر
رجلا على بعيره وهو محرم قد استظل بينه وبين الشمس فقال له أضح لمن أحرمت له) فمحمول
على الاستحباب (وقوله) أضح أي أبرز إلى الشمس (وأما) حديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ما من
محرم يضحى للشمس حي تغرب الا غربت بذنوبه حتى يعود كما ولدته أمه) فرواه البيهقي وقال هو
اسناد ضعيف ولو صح لم يكن فيه دليل للمنع من الاستظلال ولا كراهة فيه ولا فيه فرق بين سائر
ونازل * قال أبو علي البندنيجي وغيره من أصحابنا الاستظلال وإن كان جائزا فالبروز للشمس
أفضل منه للرجل ما لم يخف ضررا والستر للمرأة أفضل (السابعة) * قال المصنف والأصحاب يكره
للمحرم لبس الثياب المصبغة كراهة تنزيه فان لبسها بلا فدية سواء في هذا المصبوغ بالنيل والمغرة
وغيرهما مما ليس بطيب * (الثامنة) يكره للمحرم ان يستصحب معه بازيا أو كلبا معلما أو غيرهما
من جوارح السباع والطير لما ذكره المصنف وهذا متفق عليه نص عليه الشافعي وتابعه الأصحاب
وسبقت المسألة بفروعها في فصل الصيد (التاسعة) قال المصنف والأصحاب ينبغي ان ينزه احرامه
من الشتم والكلام القبيح والخصومة والمراء والجدال ومخاطبة النساء بما يتعلق بالجماع والقبلة
ونحوها من أنواع الاستمتاع وكذا ذكره بحضرة المرأة ويستحب أن يكون كلامه وكلام الحلال
بذكر الله تعالى وما في معناه من الكلام المندوب كتعليم وتعلم وغير ذلك لحديثي أبي سريج
357

عن الخزاعي وأبي هريرة رضي الله عنهما * قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر
فليقل خيرا أو ليصمت) ولا بأس عليهما بالكلام المباح من شعر وغيره لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ان من الشعر لحكمة) رواه البخاري وعن هشام بن عروة
عن أبيه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (الشعر كلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيحه) رواه الشافعي
والبيهقي هكذا مرسلا عن عروة وروى البيهقي (ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه غنى وهو محرم)
والله أعلم * (العاشرة) قال أصحابنا لا بأس بنظر المحرم في المرآة ولا كراهة في ذلك سواء كان
رجلا أو امرأة هذا هو الصحيح المشهور في المذهب وبه قطع القاضي أبو الطيب والماوردي وآخرون
وقال أبو علي البندنيجي في كتابه الجامع لا بأس بنظر المحرم والمحرمة إلى وجهه في المرآة قال وقال
الشافعي في سنن حرمله يكره لهما ذلك هذا كلام البندنيجي * وقال صاحب العدة قال الشافعي
في الامام لا باس به وقال في سنن حرمله يكره ذلك لأنه زينة * قال صاحب البيان قال صاحب
المعتمد لا يكره قال ونقل صاحب الفروع عن الشافعي انه نص في الاملاء انه يكره فحصل للشافعي
في المسألة قولان (الأصح) لا يكره وبه قطع الأكثرون ونقل ابن المنذر عدم الكراهة عن ابن عباس
وأبي هريرة وطاووس والشافعي واحمد واسحق قال وبه أقول * وكره ذلك عطاء الخراساني وقال
مالك لا يفعل ذلك الا عن ضرورة * قال وعن عطاء في المسألة قولان (أحدهما) يكره (والثاني) لا باس
به * واحتج البيهقي بحديث نافع (ان ابن عمر نظر في المرآة) رواه الشافعي والبيهقي باسناد صحيح على
شرط البخاري ومسلم وعن ابن عباس انه كره ان ينظر المحرم في المرآة الا من وجع قال البيهقي
وعطاء الخراساني ضعيف لقوله والرواية الأولي أصح (الحادية عشر) أشار المصنف في كلامه في
هذا الفصل وغيره إلى أنه يستحب كون الحاج أشعث وكذا صرح به الأصحاب ودليله قوله
تعالى (ثم ليقضوا تفثهم) وعن أبي هريرة قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى
358

يباهي باهل عرفات أهل السماء فيقول لهم أنظروا إلى عبادي جاؤني لي شعثا غبرا) رواه البيهقي
باسناد صحيح *
(فرع) قال الشافعي في هذا الباب من المختصر المرأة كالرجل في ذلك الا ما أمرت به من
الستر فاستر لها ان تخفض صوتها بالتلبية ولها ان تلبس القميص والقباء إلى آخر كلامه وشرح
الأصحاب هذا الكلام فأحسنهم شرحا صاحب الحاوي قال (فاما) أركان الحج والعمرة فلا يختلف
الرجل والمرأة في شئ منها وإنما يختلفان في هيئات الاحرام فهي تخالفه في خمسة أشياء (أحدها)
انها مأمورة بلبس المخيط كالقميص والقباء والسراويل والخفين وما هو استر لها لان عليها ستر
جميع بدنها غير وجهها وكفيها والرجل منهي عن المخيط وتلزمه به الفدية (الثاني) انها مأمورة بخفض
صوتها بالتلبية والرجل مأمور برفعه لان صوتها يفتن (الثالث) ان احرامها في وجهها فلا تغطيه فان
سترته لزمها الفدية وللرجل ستره ولا فدية عليه (الرابع) ليس للرجل لبس القفازين بلا خلاف
359

وفى المرأة قولان مشهوران (الخامس) يستحب لها ان تختضب لاحرامها بحناء والرجل منهى عن
ذلك (قلت) وتخالفه في شئ سادس من هيئات الاحرام هو أن كراهة الاكتحال في حقها أشد
من الرجل وقد سبق بيانه قريبا وفى سابع وهو انه يستحب لها مس وجهها عند إرادة الاحرام
بشئ من الحناء لتستر بشرته عن الأعين وقد سبق بيان هذا واضحا في أوائل هذا الباب * قال
الأصحاب وفى أشياء من هيئات الطواف (أحدها والثاني) الرمل والاضطباع يشرعان للرجل
360

دونها قال الماوردي هي منهية عنهما بل تمشي على هينتها وتستر جميع بدنها غير الوجهين والكفين
(الثالث) يستحب لها أن تطوف ليلا لأنه أستر لها والرجل يطوف ليلا ونهارا قال الماوردي وغيره
ويستحب لها أن لا تدنوا من الكعبة في الطواف إن كان هناك رجال وإنما تطوف في حاشية الناس
والرجل بخلافها قال السرخسي وهكذا يستحب لها في الطريق أن لا تخالط الناس وتسير على حاشيتهم
361

تحرزا عنهم * قال أصحابنا وتخالفه في أشياء من هيئات السعي (أحدها) انها تمشى جميع المسافة بين
الصفا والمروة ولا تسعى في شئ منها بخلاف الرجل (والثاني) ذكره الماوردي انها تمنع من السعي
راكبة والرجل لا يمنع منه (والثالث) ذكره الماوردي أيضا انها تمتنع من صعود الصفا والمروة
والرجل يؤمر به قال الماوردي وتخالفه في ثلاثة أشياء من هيئات الوقوف بعرفات (أحدها)
362

يستحب لها أن تقف نازلة لا راكبة لأنه أصون لها وأستر والرجل يستحب أن يكون راكبا على
الأصح (والثاني) يستحب لها أن تكون جالسة والرجل قائما (والثالث) انه يستحب لها أن تكون في حاشية
الموقف وأطراف عرفات والرجل يستحب كونه عند الصخرات السود بوسط عرفات * قال
الماوردي وتخالفه في ثلاثة أشياء من هيئات باقي المناسك (أحدها) يستحب للرجل رفع يده في رمى
363

الجمار ولا يستحب المرأة (والثاني) يستحب له أن يذبح نسكه ولا يستحب ذلك للمرأة (والثالث)
الحلق في حق الرجل أفضل من التقصير وتقصيرها هي أفضل من حلقها بل حلقها مكروه قال
وما سوى المذكور فالمرأة والرجل فيه سواء والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
باب ما يجب في محظورات الاحرام من كفارة وغيرها
(إذا حلق المحرم رأسه فكفارته ان يذبح شاة أو يطعم ستة مساكين ثلاثة آصع لكل
مسكين نصف صاع أو يصوم ثلاثة أيام وهو مخير بين الثلاثة لقوله تعالى (فمن كان منكم مريضا
أو به اذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) ولحديث كعب بن عجرة * وان حلق
ثلاث شعرات كانت كفارته ما ذكرناه في حلق الرأس لأنه يقع عليه اسم الجمع المطلق فصار كمن
364

حلق جميع رأسه وان حلق شعر رأسه وشعر بدنه لزمه ما ذكرناه وقال أبو القاسم الأنماطي يلزمه
فديتان لان شعر الرأس مخالف لشعر البدن ألا ترى انه يتعلق النسك بحلق الرأس ولا يتعلق
بشعر البدن والمذهب الأول لأنهما وإن اختلفا في النسك إلا أن لجميع جنس واحد فأجزأه لهما
365

فدية واحدة كما لو غطي رأسه ولبس القميص والسراويل * وان حلق شعرة أو شعرتين ففيه ثلاثة
أقوال (أحدها) يجب لكل شعرة ثلث دم لأنه إذا وجب في ثلاث شعرات دم وجب في كل شعرة
ثلثه (والثاني) يجب لكل شعرة درهم لان إخراج ثلث دم يشق فعدل إلى قيمته وكانت قيمة الشاة
ثلاثة دراهم فوجب ثلاثة (والثالث) مد لان الله تعالى عدل في جزاء الصيد من الحيوان إلى الطعام
366

فيجب أن يكون هنا مثله وأقل ما يجب من الطعام مد فوجب ذلك * وان قلم أظفاره أو ثلاثة أظفار
وجب عليه ما يجب في الحلق وان قلم ظفرا أو ظفرين وجب فيهما ما يجب في الشعرة والشعرتين
لأنه في معناهما *
(الشرح) قال أصحابنا دم الحلق والقلم دم تخيير وتقدير ومعنى التخيير أنه يجوز العدول
إلى غيره مع القدرة عليه ومعني التقدير أن الشرع جعل البدل المعدول إليه مقدرا بقدر لا يزيد
عليه ولا ينقص منه فإذا حلق رأسه أو قلم أظفاره لزمه الفدية وهي ذبح شاة أو إطعام ثلاثة آصع
367

لستة مساكين كل مسكين نصف صاع أو صوم ثلاثة أيام وهو مخير بين الثلاثة للآية وحديث كعب بن
عجرة * وإذا تصدق بالآصع وجب أن يعطي كل مسكين نصف صاع * هذا هو الصحيح وبه قطع
368

المصنف والأصحاب وحكى الرافعي وجها عن حكاية صاحب العدة أنه لا يقدر نصيب كل
مسكين بل تجوز المفاضلة وهذا شاذ ضعيف والمذهب ما سبق * ولو حلق ثلاث شعرات فهو كحلق
كل رأسه فيتخير بين الأمور الثلاثة وهذا لا خلاف فيه عندنا وهكذا الحكم لو قلم ثلاثة أظفار
سواء كانت من أظفار اليد أو الرجل أو منهما * هذا إذ أزالها دفعة واحدة في مكان فان فرق زمانا
369

أو مكانا فسيأتي حكمه قريبا إن شاء الله تعالى فيما إذا حلق أو قلم أو تطيب مرة بعد أخرى (أما) إذا
حلق شعرة واحدة أو شعرتين ففيه أربعة أقوال ذكر المصنف الثلاثة لأول منها بدلائلها (أصحها) وهو
370

نصه في أكثر كتبه يجب في شعرة مد وفى شعرتين مدان (والثاني) يجب في شعرة درهم وفى
شعرتين درهمان (والثالث) في شعرة ثلث دم وفى شعرتين ثلثاه (والرابع) في الشعرة الواحدة
دم كامل حكاه امام الحرمين عن حكاية صاحب التقريب قال الامام وهذا القول وإن كان ينقدح
توجيهه فلست أعده من المذهب وهذا الذي ذكره من أن الأصح ان في شعرة مدا وفى شعرتين
مدين هو الصحيح عند الجمهور ممن صرح بتصحيحه صاحب الحاوي والقاضي أبو الطيب في تعليقه
والقاضي حسين في تعليقه والعبد رى والبغوي وصاحب لانتصار والرافعي وآخرون وهو نص
الشافعي في مختصر المزني وفى الأم والاملاء قال صاحب الحاوي هذا القول هو الصحيح
الذي نص عليه في المختصر وفى أكثر كتبه قال وعليه يعول أصحابنا والقول الذي يقول يجب
في الشعرة ثلث دم وفى الشعرتين ثلثان هو رواية أبي بكر الحميدي وشيخ البخاري وصاحب
الشافعي عن الشافعي وشذ الجرجاني في التحرير فصححه والمشهور تصحيح المد كما سبق * واتفق
أصحابنا على أن الظفر كالشعرة والظفرين كالشعرتين ففيه الأقوال الأربعة (الأصح) في الظفر مد
وفى الظفرين مدان (اما) إذا حلق شعر رأسه وبدنه فوجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (الصحيح)
وبه قال جمهور أصحابنا المتقدمين تجب فدية واحدة (والثاني) وهو قول الأنماطي فديتان
قال أصحابنا وهو غلط *
371

(فرع) قال أصحابنا تجب الفدية بإزالة ثلاث شعرات متواليات سواء شعر
الرأس والبدن وسواء النتف والاحراق والحلق والتقصير والإزالة بالنورة وغيرها
فتقصير الشعر في وجوب الفدية كحلقة من أصله * هذا هو المذهب وبه قطع الأصحاب في
الطريقين الا الماوردي فقال لو قطع نصف الشعرة من رأسه أو جسده فوجهان (أحدهما) يلزمه ما يلزمه
في الشعرة الواحدة إذا قلعها من أصلها وفيه الأقوال الأربعة (الأصح) مد لان التقصير كالحلق من
أصله في حصول التحلل فكذا في الفدية (والوجه الثاني) قال وهو الأصح يجب بقسط ما أخذ من
الشعرة فيكون نصف مد على أصح الأقوال الأربعة وحاصله نصف ما في الشعرة والصحيح ما قدمناه
عن الأصحاب والله أعلم * ولو قلم من ظفره دون المعتاد ولكن استوعب جميع أعلاه فهو كقطع
بعض شعرة فيجب فيه ما يجب في الشعرة بكمالها على المذهب وفيه وجه الماوردي * ولو أخذ من
بعض جوانب الظفر ولم يستوعب جوانبه (فان قلنا) في الظفر الواحد دم أو درهم وجب هنا بقسطه
وان قلنا مد وجب هنا أيضا مد ولم يبعض * هكذا ذكره المتولي وغيره ونقله المتولي عن
الأصحاب مطلقا قال قالوا وإنما أوجبنا المد في بعضه لأنه لا يتبعض والفدية في الحج مبنية
على التغليب *
(فرع) هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرها المصنف في الشعرة والشعرتين والظفر والظفرين
تجرى أيضا في ترك حصاة من الجمرات وفى ترك مبيت ليلة من ليالي منى وقد ذكرها المصنف في
مواضعها قال إمام الحرمين القول بدرهم في الشعرة لا أرى له وجها الا تحسين الاعتقاد في عطاء
372

فإنه قاله ولا يقوله الا عن ثبت * هذا كلام الامام * وقد ذكر القاضي حسين ان من أصحابنا من قال إن
هذا القول ليس مذهبا للشافعي إنما هو مذهب عطاء قال القاضي والأصح انه قول للشافعي (وأما)
احتجاج المصنف وغيره لهذا القول بان الشاة كانت تساوى ثلاثة دراهم فإنما هو مجرد دعوى
لا أصل لها فان أرادوا انها كانت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم تساوى ثلاثة دراهم فهو مردود لان النبي
صلى الله عليه وسلم عادل بينها وبين عشرة دراهم في الزكاة فجعل الجبران شاتين أو عشرين درهما وان أراد
انها كانت تساوى ثلاثة دراهم في زمن آخر لم يكن فيه حجة ولا يلزم اعتماد هذا في جميع الأزمان *
وأنكر صاحب التتمة على الأصحاب قولهم إن الشاة كانت تساوى ثلاثة دراهم في زمن رسول الله
صلى الله عليه وسلم وقال هذا باطل لأوجه (أحدها) ان الموضع الذي يصار فيه إلى التقويم في فدية الحج لا تخرج
الدراهم بل يصرف الطعام وهو جزاء الصيد فكان ينبغي ان يصرف في الطعام (والثاني) ان
الاعتبار في القيمة بالوقت لا بما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في جزاء الصيد فإنه يقوم مالا مثل
له من النعم بقيمة الوقت فكان ينبغي ان يجب ثلث قيمة شاة (الثالث) ان الشرع خير بين الشاة
والطعام والطعام يحتمل التبعيض كما ذكرنا * قال صاحب التتمة وأما توجيه القول بان في الشعرة مدا
بان الشرع عدل الحيوان بالطعام في جزاء الصيد وغيره وأقل ما يجب في الشرع للفقير في الكفارات
مد والشعرة الواحدة هي النهاية في القلة فأوجبنا في مقابلتها أقل ما يوجب فدية في الشرع فهذا
التوجيه فيه ضعف لأنه إذا لم يكن بد من الرجوع إلى الطعام فقد قابل الشرع الشاة في فدية الحلق
بثلاثة آصع والآصع مما يحتمل التقسيط فكان ينبغي ان يجب في مقابلة الشعرة صاع قال ومن
قال يجب في الشعرة ثلث درهم فهو أقرب إلى القياس * قال وعلى مقتضي هذا ينبغي ان يتخير
بين ثلث شاة وبين ان يتصدق بصاع وبين ان يصوم يوما كما يتخير في ثلاث شعرات بين شاة
وصوم ثلاثة أيام واطعام ثلاثة آصع قال لكن هذا القول فيه اشكال من جهة المذهب لأنه يضمن
فيما لو جرح ظبية فنقص عشر قيمتها ان عليه عشر ثمن شاة وما أوجبه عشر شاة قال فالقياس
373

يلزمه صاع أو صوم يوم * هذا كلام صاحب التتمة وقال إمام الحرمين في توجيه ايجاب مد في الشعرة
هذا القول مشهور معتضد باثار السلف وهو مرجوع إليه في مواضع من الشريعة فان اليوم الواحد
من صوم رمضان يقابل بمد كما سبق في بابه والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء * قد ذكرنا ان مذهبنا انه إذا حلق ثلاث شعرات فصاعدا لزمته
الفدية بكمالها * وقال أبو حنيفة ان حلق ربع رأسه لزمه الدم وان حلق دونه فلا شئ وفى رواية
فعليه صدقة والصدقة عنده صاع من أي طعام شاء الا البر فيكفيه منه نصف صاع * وقال أبو يوسف
إن حلق النصف وجب عليه الدم وقال مالك إن حلق من رأسه ما أماط به عنه الأذى وجب الدم
من غير اعتبار ثلاث شعرات * وعن أحمد روايتان (أحداهما) كقولنا (والثانية) يجب بأربع شعرات *
واحتج مالك بان ثلاث شعرات لا يحصل بها إماطة الأذى * واحتج أبو حنيفة بان الربع يقوم مقام
الجميع كما يقول رأيت زيدا وإنما رأى بعضه * واحتج أصحابنا بقوله تعالى (ولا تحلقوا رؤوسكم)
أي شعر رؤوسكم والشعر اسم جنس أقل ما يقع على ثلاث (والجواب) عن دليل مالك ان إماطة
الأذى ليست شرطا لوجوب الفدية (والجواب) عن قول أبي حنيفة انها دعوى ليست مقبولة (أما) إذا
حلق شعرة أو شعرتين فعليه الضمان هذا مذهبنا قال العبدري وبه قال أكثر الفقهاء وقال مجاهد
لا شئ في شعرة وشعرتين وبه قال داود وهو إحدى الروايتين عن عطاء وقال أحمد في الشعرة
والشعرتين يجب قبضة من طعام وذكرنا قوله في ثلاث شعرات وقال داود للمحرم أن يأتي في إحرامه
كل ما يجوز للحلال فعله الا ما نص على تحريمه فله الاغتسال ودهن لحيته وجسده إذا لم يكن الدهن
مطيبا وله قلم أظفاره وحلق عانته ونتف إبطه الا أن يعزم على الضحية فلا يأخذ من أظفاره ولا من
شعره في العشر حتى يضحي قال وللمرأة الاختضاب وللرجل المحرم شم الريحان وأكل ما فيه زعفران
فان فعل ما نهي عنه من لباس وطيب لم تجب الفدية عليه عند فعله لعدم الدليل على ايجاب ذلك
374

هكذا حكاه عنه العبدري (أما) إذا حلق المحرم شعر بدنه فقد ذكرنا أن مذهبنا وجوب الفدية
كحلق شعر الرأس وعن مالك روايتان (إحداهما) عليه الفدية (والثانية) لا فدية وبه قال داود
ولا تجب الفدية الا بشعر رأسه * دليلنا انه محرم ترفه بأخذه شعرة من غير الجاء فلزمه الفداء كشعر
رأسه وفيه احتراز من شعر نبت في العين *
375

(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا ان فدية الحلق على التخير بين شاة وصوم ثلاثة أيام واطعام
ثلاثة آصع لست مساكين كل مسكين نصف صاع وسواء حلقه لأذى أو غيره * وقال أبو حنيفة ان
حلقه لعذر فهو مخير كما قلنا وان حلقه لغير عذر تعينت الفدية بالدم * دليلنا ان كل كفارة لا يثبت
فيها التخيير إذا كان سببها مباحا ثبت وإن كان حراما ككفارة اليمين والقتل وجزاء الصيد * واحتجوا
بقوله تعالى (أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) فأثبت التخيير عند العذر من
الذي فدل على أنه لا تخيير مع عدمه (وأجاب) أصحابنا بأن هذا تمسك بدليل الخطاب وهم لا يقولون
به ونحن نقول به الا ان السببية مقدمة عليه (اما) الأظفار فلها حكم الشعر في كل ما ذكرنا فيحرم على
المحرم ازالتها وتجب الفدية بها وثلاثة أظفار كثلاث شعرات وظفر كشعرة وبه قال أحمد * وقال
أبو حنيفة ان قلم أظفار يد أو رجل بكمالها لزمه الفدية الكاملة وان قلم من كل يد أو رجل أربعة
أظفار فما دونها لزمته صدقة * وقال محمد بن الحسن ان قلم خمسة أظفار لزمه الدم سواء من يد أو يدين *
وقال مالك حكم الأظفار حكم الشعر يتعلق الدم بما يميط الأذى * وقال داود يجوز للمحرم إزالة
الأظفار كلها ولا فدية عليه وقد سبق بيان مذهبه قريبا * دليلنا انه كالشعر في الترفه فكان له حكمه
والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وان تطيب أو لبس المخيط في شئ من بدنه أو غطى رأسه أو شيئا منه أو دهن رأسه أو لحيته وجب
عليه ما يجب في حلق الشعر لأنه ترفه وزينة فو كالحلق وان تطيب ولبس وجبت لكل واحد منهما
كفارة لأنهما جنسان مختلفان وان لبس ومس طيبا وجب كفارة واحدة لان الطيب تابع للثوب
فدخل في ضمانه وان لبس ثم لبس أو تطيب ثم تطيب في أوقات متفرقة ففيه قولان (أحدهما)
تتداخل لأنها جنس واحد فأشبه إذا كانت في وقت واحد (والثاني) لا تتداخل لأنها في أوقات
مختلفة فكان لكل وقت من ذلك حكم نفسه * وان حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أوقات فهي على
376

القولين ان قلنا تتداخل لزمه دم وان قلنا لا تتداخل وجب لكل شعرة مد * وان حلق تسع
شعرات في ثلاثة أوقات فعلى القولين ان قلنا لا تتداخل لزمه ثلاثة دماء وان قلنا تتداخل
لزمه دم واحد *
(الشرح) فيه مسائل (إحداها) إذا تطيب في بدنه أو ثوبه أو لبس المخيط في بدنه أو غطى
رأسه أو شيئا منه أو دهن رأسه أو لحيته أو باشر فيما دون الفرج بشهوة لزمه الفدية بلا خلاف عندنا
سواء طيب عضوا كاملا أو بعضه وسواء استدام اللبس يوما أو ساعة أو لحظة وسواء ستر الرأس
ساعة أو لحظة فتجب الفدية في كل ذلك بلا خلاف عندنا وفى هذه الفدية ثلاث طرق (أصحها)
وبه قطع المصنف والأكثرون أنها كفدية الحلق فيتخير بين شاة وصوم ثلاثة أيام وإطعام ثلاثة
آصع كما سبق (والثاني) ذكره أبو علي الطبري في الايضاح وآخرون من العراقيين فيه قولان
(أحدهما) أنه كالمتمتع فيلزمه الهدى فإن لم يجده لزمه صوم عشرة أيام كما سبق (والثاني) يلزمه
377

الهدى فإن لم يجده قومه دراهم والدراهم طعاما ثم يصوم عن كل مد يوما (والطريق الثالث) فيه أربع
أوجه (أصحها) أنه كالحلق لاشتراكهما في الترفه (والثاني) أنا مخير بين شاة وبين تقويمها ويخرج
قيمتها طعاما أو يصوم عن كل مد يوما (والثالث) تجب شاة فان عجز عنها لزمه الطعام بقيمتها
(والرابع) كالمتمتع كما سبق (المسألة الثانية) إذا تطيب ولبس في مجلس قبل أن يكفر عن الأول
منهما أو فعلهما معا ففيه ثلاثة أوجه مشهورة في كتب العراقيين وغيرهم (أصحها) باتفاق الأصحاب
تجب فدينان لما ذكره المصنف قال القاضي أبو الطيب هذا قول أكثر أصحابنا قال الماوردي هو
مذهب الشافعي ومنصوصه (والثاني تجب فدية واحدة وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لأنهما
استمتاع فتداخلا كما لو لبس قميصا وعمامة (والثالث) وهو قول أبي سعيد الإصطخري ان اتحد سببهما
بأن أصابته شجة واحتاج في مداواتها إلى طيب وسترها لزمه فدية واحدة وان لم يتحد السبب
ففديتان والمذهب الأول * قال أصحابنا وما قال أبو علي وأبو سعيد غلط ومنتقض بالحلق والقلم
(الثالثة) إذا لبس ثوبا مطيبا أو طلي رأسه بطيب ثخين بحيث يغطى بعضه بعضا فطريقاه (المذهب) وجوب
فدية واحدة وبه قطع المصنف والجمهور ونص عليه الشافعي (والثاني) نقله صاحب البيان (ان قلنا)
بقول ابن أبي هريرة السابق في المسألة الثانية ان الطيب واللباس جنس لزمه فدية (وان قلنا) بالمذهب
أنهما جنسان فوجهان (أصحهما) فدية لأنه تابع (والثاني) فديتان (الرابعة) إذا لبس ثم لبس أو
تطيب ثم تطيب أو قبل امرأة ثم قبلها فإن كان في مجلس واحد ولم يكفر عن الأول بأن لبس قميصا
ثم سراويل ثم عمامة أو كرر واحدا منها في المجلس مرات أو تطيب بمسك ثم زعفران ثم كافور أو كرر
378

إحداهما في المجلس مرات أو قبل امرأة ثم أخرى ثم أخرى أو كرر قبلة امرأة واحدة وفعل هذا كله
في مجلس قبل إن يكفر لزمه كفارة واحدة سواء طال زمنه في معالجة لبس القميص والسراويل
ولف العمامة واستعمال الطيب ومحاولة المرأة في القبلة ونحو ذلك أو قصر فيكفر كفارة واحدة مطلقا
بشرط أن يكون الفعل متواليا لأنه كالفعل الواحد (أما) إذا كفر عن الأول قبل فعل الثاني فيلزمه
للثاني كفارة أخرى بلا خلاف لان الأول استقر حكمه بالتكفير كما لو زنا فحد ثم زنا فإنه يحد ثانيا
وان فعل ذلك في مجالس أو في مجلسين وتخلل زمان طويل من غير توالى الافعال نظرت فان فعل الثاني
بعد التكفير عن الأول لزمه للثاني كفارة أخرى بلا خلاف لان الأول استقر حكمه بالتكفير
وان فعل الثاني قبل التكفير عن الأول فإن كان السبب واحدا بأن لبس في المرتين أو المرات
للبرد أو للحر أو تطيب لمرض واحد مرات فقولان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (الأصح)
الجديد لا تتداخل فيجب لكل مرة فدية (والقديم) تتداخل ويكفى فدية عن الجميع ولو كان مائة
مرة وان تكرر الفعل بسببين أو أسباب مختلفة بأن لبس بكرة للبرد وعشية للحر ونحو ذلك
فطريقان حكاهما الشيخ أبو حامد والأصحاب (أحدهما) تجب فديتان قطعا ويجعل اختلاف
السبب كاختلاف الجنس (والثاني) وهو المذهب وبه قطع كثيرون فيه قولان كما لو اتحد
379

السبب لان الشافعي رحمه الله لم يعتبر اختلاف السبب وإنما اعتبر اختلاف الجنس * قال أصحابنا
الخراسانيون ومن تابعهم حيث قلنا يكفيه للجميع فدية واحدة فارتكب محظورا وخرج الفدية
ونوى باخراجها التفكير. عما فعله وما سيفعله من جنسه ففيه خلاف مبنى على جواز تقديم التكفير
على الحنث المحظور ان منعناه فلا أثر لهذه البتة فيقع التكفير عن الأول فقط ويجب التفكير ثانيا
عن الثاني وان جوزناه فوجهان (أحدهما) ان الفدية كالكفارة في جواز التقديم فلا يلزمه للثاني
شئ (والثاني) لا يجزئه عن الثاني مطلقا لأنه لم يوجد سبب الثاني ولا شئ منه بخلاف كفارة اليمين
وهي أحد السببين (الخامسة) إذا حلق شعر رأسه كله فإن كان في وقت واحد لزمه فدية واحدة وان
طال الزمان في فعله كما قلنا في اللبس وكما لو حلف لا يأكل في اليوم الا مرة واحدة فوضع الطعام
وجعل يأكل لقمة لقمة من بكرة إلى العصر فإنه لا يحنث وإن كان ذلك في أمكنة أو في مكان واحد
في أوقات متفرقة فطريقان (أصحهما) وبه قطع الشيخ أبو حامد وآخرون تتعدد الفدية فيفرد كل
مرة بحكم فإن كانت كل مرة ثلاث شعرات فصاعدا وجب لكل مرة فدية وهي شاة أو صوم ثلاثة
أيام أو اطعام ثلاثة آصع ستة مساكين وإن كانت شعرة أو شعرتين ففيها الأقوال السابقة (الأصح)
في كل شعرة مد (والثاني) درهم (والثالث) ثلث دم (والرابع) دم كامل (والطريق الثاني) وبه قطع
المصنف وشيخه أبو الطيب ومن وافقهما انه على القولين السابقين في المسألة الرابعة فيمن كرر لبسا
أو تطيبا (ان قلنا) بالقول القديم وهو التداخل لزمه دم ويصير كأنه فعل الجميع في مجلس متواليا
(وان قلنا) لا تداخل لزمه ثلاثة دماء (أما) إذا حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أمكنة أو ثلاثة أزمنة
متفرقة ففيه الطريقان (أصحهما) طريق أبي حامد وموافقيه انه يفرد كل شعرة بحكمها وفيها الأقوال
380

السابقة (أصحها) في كل شعرة مد فيجب ثلاثة امداد (والثاني) درهم فيجب ثلاثة دراهم (والثالث)
ثلث دم فيجل دم كامل وعلى القول الرابع الذي حكاه صاحب التقريب انه يجب في الشعرة دم
كامل يجب هنا ثلاثة دماء (والطريق الثاني) طريق المصنف وشيخه (ان قلنا) بالتداخل وجب دم
والا ففيه الأقوال الأربعة واقتصر المصنف منها على الأصح وهو وجوب ثلاثة امداد ولا بد من
جريان باقي الأحوال وقد صرح به الأصحاب والله أعلم * (أما) إذا أخذ ثلاث شعرات في وقت
واحد من ثلاثة مواضع من بدنه فطريقان (الصحيح) الذي قطع به الأصحاب في معظم الطرق انه
كما لو اخذها من موضع واحد فيلزمه دم وهو مخير بين شاة وصوم ثلاثة أيام وثلاثة آصع (والطريق
الثاني) فيه وجهان (أحدهما) هذا (والثاني) انه كما لو أزالها في ثلاثة أوقات فيكون على الخلاف السابق
وهذا الطريق حكاه الفوراني في الإبانة ونقله عنه امام الحرمين وصاحب العدة وصاحب البيان
واتفقوا على تضعيف الوجه الثاني والله أعلم * قال أصحابنا وأخذ الأظفار في مجالس كأخذ الشعرات
في مجلس فيجئ فيه ما سبق والله أعلم *
381

(فرع) فيما إذا فعل المحرم محظورين فأكثر هل تتداخل الفدية وقد ذكرنا الآن معظمه
فنعيده مع ما بقي مختصرا ليتضبط إن شاء الله تعالى قال أصحابنا المحظورات تنقسم إلى استهلاك
كالحلق والقلم والصيد والى استمتاع وترفه كالطيب واللباس ومقدمات الجماع فإذا فعل محظورين
فله ثلاثة أحوال (أحدها) أن يكون أحدهما استهلاكا والآخر استمتاعا فينظر إن لم يستند إلى سبب
واحد كالحق ولبس القميص تعددت الفدية كالحدود المختلفة وإن استند إلى سبب كمن أصاب
رأسه شجة واحتاج إلى حلق جوانبها وسترها بضماد وفيه طيب ففي تعدد الفدية وجهان سبقا (الصحيح)
التعدد (الحال الثاني) أن يكون استهلاكا وهذه ثلاثة اضرب (أحدها) أن يكون مما يقابل بمثله
وهو الصيود فتعدد الفدية بلا خلاف عندنا سواء فدا عن الأول أم لا وسواء اتحد الزمان والمكان
أم اختلف كضمان المتلفات (الضرب الثاني) أن يكون أحدهما مما يقابل بمثله دون الآخر كالصيد
والحلق فتعدد بلا خلاف (الضرب الثالث) أن لا يقابل واحد منهما فينظر ان اختلف نوعهما
كحلق وقلم أو طيب ولباس أو حلق تعددت الفدية سواء فرق أو والي في مكان أو مكانين بفعلين
أم بفعل واحد إلا إذا لبس ثوبا مطيبا فقد سبق فيه وجهان (الصحيح) المنصوص فدية واحدة
(والثاني) فديتان وان اتحد النوع بان حلق فقط فقد سبق تفصيله قريبا (الحال الثالث) أن يكون
استمتاعا فان اتحد النوع بأن تطيب بأنواع من الطيب أو لبس أنواعا من الثياب كعمامة وقميص
وسراويل وخف أو نوعا واحدا مرات فان فعل ذلك متواليا من غير تخلل تكفير كفاه فدية
واحدة وإن تخلله تكفير وجبت الفدية للثاني أيضا وان فعل ذلك في مكانين أو في مكان وتخلل
زمان فان تخلل التكفير وجب للثاني فدية وإلا فقولان (الأصح) الجديد تتعدد الفدية (والقديم)
تتداخل وان اختلف النوع بأن لبس وتطيب فثلاثة أوجه سبق بيانها قريبا (الأصح) التعدد (والثاني)
لا (والثالث) ان اختلف السبب تعدد وان اتحد فلا * هذا كله في غير الجماع فان تكرر الجماع ففيه
382

خلاف سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى * واتفق أصحابنا على أن الكفارة لتعدد جهة التحريم
إذا اتحد الفعل كما سبق بيانه في محرم قتل صيدا حرميا وأكله فهذه ثلاثة أسباب للتحريم وهي
الحرم والاحرام والاكل وإنما يلزمه جزاء واحد ولو باشر امرأته مباشرة توجب شاة لو انفردت
ثم جامعها فثلاثة أوجه (أصحها) تكفيه البدنة عنهما كما لو كانت أجنبية فإنه يكفيه الحد ولا يعزر
للمباشرة (والثاني) تجب بدنة وشاة ولا يدخل أحدهما في الآخر لاختلافهما واختلاف واجبهما
(والثالث) ان قصد بالمباشرة الشروع في الجماع فبدنة والا فشاة وبدنة (والرابع) ان طال الفصل
فشاة وبدنة وإلا فبدنة والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء قد ذكرنا ان مذهبنا ان المحرم إذا لبس مخيطا أو تطيب لزمته
الفدية سواء لبس يوما أو لحظة وسواء طيب عضوا كاملا أو بعضه وبه قال احمد ووافقنا أيضا
383

مالك الا أنه يشترط الانتفاع باللبس قال حتى لو خلعه في الحال ولم ينتفع بلبسه فلا فدية * وقال أبو حنيفة
ان لبس يوما كاملا أو ليلة كاملة لزمه فدية كاملة وان لبس دون ذلك لزمه صدقة قال وان غطى
ربع رأسه لزمه فدية كاملة وان لبس دون ذلك لزمه صدقة قال وان طيب عضوا كاملا لزمه الفدية
وان طيب بعضه لزمه صدقة والصدقة عنده اطعام مسكين صاعا من أي طعام الا البر فيكفيه منه
نصف صاع وإن كان زبيبا فعنه روايتان (إحداهما) صاع (والثانية) نصف صاع * وعن أبي يوسف
روايتان (إحداهما) كقول أبي حنيفة (والثانية) ان الاعتبار بلبس أكثر اليوم وأكثر الليلة وعن
محمد بن الحسن نحوه والله أعلم * قال أبو حنيفة وأبو يوسف ولو حلق رأسه في مجلس لزمه فدية
وان حلقه في مجالس لزمه لكل مرة فدية سواء فدى عن الأول أم لا والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وإن وطئ في العمرة أو في الحج قبل التحلل الأول فقد فسد نسكه ويجب عليه أن يمضى في فاسده ثم
يقضى لما روى عن عمر وعلى وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص وأبي هريرة
رضي الله عنهم انهم أوجبوا ذلك وهل يجب القضاء على الفور أم لا فيه وجهان (أحدهما) انه
على الفور وهو ظاهر النص لما روى عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص
وأبي هريرة انهم قالوا يقضى من قابل (والثاني) انه على التراخي لان الأداء على التراخي فكذلك
القضاء وهذا لا يصح لان القضاء بدل عما أفسده والأداء وجب على الفور فوجب أن يكون القضاء
مثله ويجب الاحرام في القضاء من حيث أحرم في الأداء لأنه قد تعين ذلك بالدخول فيه فإذا أفسده
وجب قضاؤه كحج التطوع فان سلك طريقا آخر لزمه أن يحرم من مقدار مسافة الاحرام في الأداء
وإن كان قارنا فقضاه بالافراد جاز لان الافراد أفضل من القران ولا يسقط عنه دم القران لان ذلك دم
وجب عليه فلا يسقط عنه بالافساد كذم الطيب وفى نفقة المرأة في القضاء وجهان (أحدهما) في مالها
كنفقة الأداء (والثاني) تجب على الزوج لأنها غرامة تتعلق بالوطئ فكانت على الزوج كالكفارة
وفى ثمن الماء الذي تغتسل به وجهان (أحدهما) يجب على الزوج لما ذكرناه (والثاني) يجب عليها لان
الغسل يجب للصلاة فكان ثمن مائه عليها وهل يجب عليهما أن يفترقا في موضع الوطئ فيه وجهان
384

(أحدهما) يجب لما روى عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم انهم قالوا يفترقان ولان اجتماعهما
في ذلك المكان يدعو إلى الوطئ فمنع منه (والثاني) لا يجب وهو ظاهر النص كما لا يجب في سائر
الطريق ويجب عليه بدنة لما روى عن علي رضي الله عنه أنه قال على كل واحد منهما بدنة فإن لم يجد
فعليه بقرة لان البقرة كالبدنة لأنها تجزئ في الأضحية عن سبعة فإن لم يجد لزمه سبع من الغنم فإن لم
يجد قوم البدنة دراهم والدراهم طعاما وتصدق به فإن لم يجد الطعام صام عن كل مد يوما وقال
أبو إسحاق فيه قول آخر انه يتخير بين هذه الأشياء الثلاثة قياسا على فدية الأذى *
(الشرح) الوجه ان أقدم الآثار الواردة في الفصل عن يزيد ابن نعيم الأسلمي التابعي أن
رجلا من جذام جامع امرأته وهما محرمان فسأل الرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم (فقال لهما
اقضيا نسككما واهديا هديا ثم ارجعا حتى إذا جئتما المكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما فتفرقا ولا يرى
385

واحد منكما صاحبه وعليكما حجة أخرى فتقبلان حتى إذا كنتما بالمكان الذي أصبتما فيه ما أصبتما
فأحرم ا وأتما نسككما واهديا) رواه البيهقي وقال هذا منقطع * وفى الموطأ قال مالك (انه بلغني أن عمر
ابن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبا هريرة رضي الله عنهم سئلوا عن رجل أصاب أهله وهو محرم
بالحج فقالوا (ينفدان لوجههما حتى يقضيا حجهما ثم عليهما الحج من قابل والهدى وقال على فإذا
أهلا بالحج من قابل تفرقا حتى يقضيا حجهما) وهذا أيضا منقطع وعن عطاء ان عمر بن الخطاب
قال في محرم أصاب امرأته يعنى وهي محرمة (فقال يقضيان حجهما وعليهما الحج من قابل) رواه البيهقي
وهو أيضا منقطع فان عطاء لم يدرك عمر وإنما ولد عطاء في آخر خلافه عثمان وعن ابن عباس (انه
سئل عن رجل وقع على أهله وهي بمني قبل أن يفيض فأمره ان ينحر بدنة) رواه مالك في الموطأ
باسناد صحيح وعن ابن عباس أيضا في رجل وقع على امرأته وهو محرم قال (اقضيا نسككما
وارجعا إلى بلد كما فإذا كان عام قابل فأخرجا حاجين فإذا أحرمتما فتفرقا ولا تلتقيا حتى تقضيا
نسككما واهديا هديا) رواه البيهقي باسناد صحيح وفى رواية (ثم أهلا من حيث أهللتما أول مرة) وعن
386

عمرو بن شعيب عن أبيه أن رجلا أتى عبد الله بن عمر وأنا معه يسأله عن محرم وقع بامرأته فأشار إلى
عبد الله بن عمر فقال اذهب إلى ذلك فسله قال شعيب فلم يعزم الرجل فذهبت معه فسأل ابن عمر فقال
بطل حجك فقال الرجل فما أصنع قال اخرج مع الناس واصنع ما يصنعون فإذا أدركت قابل فحج
واهد فرجع إلى عبد الله بن عمرو وأنا معه فأخبره فقال اذهب إلى ابن عباس فسله قال شعيب
فذهبت معه إلى ابن عباس فسأله فقال له كما قال ابن عمر فرجع إلى عبد الله بن عمرو
وأنا معه فأخبره بما قال ابن عباس ثم قال ما تقول أنت فقال قولي مثل ما قالا) رواه البيهقي باسناد
صحيح ثم قال البيهقي هذا إسناد صحيح قال وفيه دليل على صحة سماع شعيب بن محمد بن عبد الله
ابن عمرو بن العاص من جده عبد الله بن عمرو وعن عكرمة (ان رجلا قال لابن عباس أصبت أهلي
فقال ابن عباس أما حجكما هذا فقد بطل فحجا عاما قابلا ثم أهلا من حيث أهللتما وحيث
وقعت عليها ففارقها فلا تراك ولا تراها حتى ترميا الجمرة واهد ناقة ولتهد ناقة) رواه البيهقي وعن
ابن عباس (إذا جامع فعلى كل واحد منهما بدنة) رواه ابن خزيمة والبيهقي باسناد صحيح وعنه
(يجزئ عنهما جزور) رواه ابن خزيمة والبيهقي باسناد صحيح وعنه قال (إن كانت اعانتك فعلى كل
واحد منهما بدنة حسناء جملاء وإن كانت لم تعنك فعليك ناقة حسناء جملاء) رواه ابن خزيمة
والبيهقي باسناد صحيح (وأما) ألفاظ الفصل فقوله غرامة تتعلق بالوطئ احتراز من نفقتها في حجة
الأداء والمراد بقوله إن نفقة الأداء في مال المرأة الزائد على نفقة الحضر هذا إذا سافرت معه كما
سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى (أما) الأحكام فقال الشافعي والأصحاب رحمهم الله إذا وطئ
المحرم بالحج في الفرج عامدا عالما بتحريمه وبالاحرام قبل التحلل الأول فسد حجه سواء كان قبل
387

الوقوف بعرفات أو بعده وتفسد العمرة أيضا بالجماع قبل التحلل منها وليس لها الا تحلل واحد بخلاف
الحج فان له تحللين كما هو مقرر في باب صفة الحج (فان قلنا) الحلق نسك فهو مما يقف التحلل عليه
وإلا فلا * قال الشافعي والأصحاب ويلزم من أفسد حجا أو عمرة أن يمضى في فاسدهما وهو أن يتم
ما كان يعمله لولا الافساد * ونقل أصحابنا اتفاق العلماء على هذا وانه لم يخالف فيه الا داود الظاهري
فإنه قال يخرج منه بالافساد * واستدل أصحابنا بقوله تعالى (وأتموا الحج والعمرة لله) ولم يفرق بين
صحيح وفاسد وبالآثار السابقة قال أصحابنا وهذا الذي ذكرناه من وجوب المضي في فاسد الحج
والعمرة وانه لا يخرج منهما بالافساد مختص بهما دون سائر العبادات (وأما) باقي العبادات فيخرج
منها بالافساد ولا يبقي لها حرمة بعده إلا الصوم فإنه يخرج منه بالفساد لكنه يبقى له حرمة فيجب
إمساك بقية النهار لحرمة الزمان * وقد سبق بيان القاعدة في أوائل كتاب الصوم في مسألة صوم
الشك إذا ثبت في أثناء النهار كونه من رمضان
388

(فرع) يجب على مفسد الحج بدنة بلا خلاف وفى مفسد العمرة طريقان (أصحهما) وبه قطع
المصنف والجمهور يجب عليه بدنة كمفسد الحج (والثاني) فيه وجهان (أصحهما) بدنة (والثاني) شاة ممن
حكاه الرافعي *
(فرع) يجب مفسد الحج أو العمرة القضاء بلا خلاف سواء كان الحج أو العمرة فرضا
أو نفلا لان النفل منهما يصير فرضا بالشروع فيه بخلاف باقي العبادات ويقع القضاء عن المفسد
فإن كان فرضا وقع عنه وإن كان نفلا فعنه ولو أحرم بالقضاء فأفسده بالجماع لزمه الكفارة ولزمه
قضاء واحد حتى لو أحرم بالقضاء مائة مرة ففسد كل مرة منهن يلزمه قضاء واحد ويقع عن الأول
قال أصحابنا ويتصور القضاء في عام الافساد بأن يحصر بعد الافساد ويتعذر عليه المضي في الفاسد
فيتحلل ثم يزول الحصر والوقت باق فيحرم بالقضاء ويفعله ويجزئه في سنته قالوا ولا يتصور
القضاء في سنة الافساد إلا في هذه الصورة (وأما) وقت وجوب القضاء ففيه وجهان مشهوران
ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) عند المصنف والأصحاب يجب على الفور وهو ظاهر النص
(والثاني) على التراخي (فان قلنا) على الفور وجب في السنة المستقبلة ولا يجوز تأخيره عنها فان اخره
عنها بلا عذر اثم ولم يسقط عنه القضاء بل تجب المبادرة في السنة التي تليها وهكذا ابدا * قال أصحابنا
فان احصر بعد الافساد وتحلل قبل فوات الوقوف وأمكنه الاحرام بالقضاء وإدراك الحج في
سنته لزمه ذلك إذا قلنا إن القضاء على الفور لأنه أقرب من السنة المستقبلة * قال أصحابنا يجب عليه
في القضاء أن يحرم من أبعد الموضعين وهما الميقات الشرعي والموضع الذي أحرم منه في الأداء *
هذه عبارة الأصحاب وشرحوها فقالوا إن كان أحرم في الأداء من الميقات الشرعي أحرم منه
في القضاء وإن كان أحرم قبل الميقات من دويرة أهله أو غيرها لزمه ان يحرم في هذا القضاء من ذلك
389

الموضع فان جاوزه غير محرم لزمه الدم كما يلزمه بمجاوزة الميقات الشرعي وإن كان أحرم في الأداء
بعد مجاوزة الميقات الشرعي نظر ان جاوزه مسيئا لزمه في القضاء الاحرام من الميقات الشرعي
وليس له أن يسئ ثانيا وهذا مما يدخل في قول الأصحاب يحرم في القضاء من أبعد الموضعين
وان جاوزه غير مسئ بأن لم يرد النسك ثم بدا له بعد مجاوزته فأحرم ثم أفسده فوجهان (أصحهما)
وبه قطع البغوي وغيره يلزمه ان يحرم في القضاء من الميقات الشرعي (والثاني) له ان يحرم من
ذلك الموضع ليسلك بالقضاء مسلك الأداء ولهذا لو اعتمر من الميقات ثم أحرم بالحج من مكة
وأفسده كفاه في القضاء ان يحرم بالحج من نفس مكة بلا خلاف وكذا لو أفرد الحج ثم أحرم
بالعمرة من أدنى الحل ثم أفسدها كفاه ان يحرم في قضائها من أدنى الحل بلا خلاف * قال الرافعي
وغيره والوجهان فيمن لم يرجع في الأداء إلى الميقات اما من كان رجع ثم عاد فيلزمه في القضاء
الاحرام من الميقات وجها واحدا والله أعلم * واتفق أصحابنا على أنه لا يلزمه في القضاء الطريق الذي
سلكه في الأداء بل سلوك طريق آخر ولكن بشرط أن يحرم من قدر مسافة لاحرام في الأداء * واتفق
أصحابنا على أنه لا يجب ان يحرم في القضاء في الزمن الذي أحرم منه في الأداء بل له التأخير عنه بخلاف
المكان الذي أحرم منه في الأداء وممن صرح بالمسألة القاضي حسين والبغوي والرافعي وفرقوا بأن
اعتناء الشرع بالميقات المكاني أكمل ولهذا يتعين مكان الاحرام بالنذر ولا يتعين زمانه بالنذر حتى
لو نذر الاحرام في شوال له تأخيره هكذا ذكر هذا الاستشهاد القاضي حسين والرافعي وغيرهما
قال القاضي وهو استشهاد مشكل لان طول الاحرام عبادة وما كان عبادة لزمه بالنذر قال
وأصل هذه المسألة انه لو نذر الصوم في أيام طوال له ان يصوم في قصار ولو نذر ان يصوم
أطول أيام السنة لزمه لأنه متعين وكذا قال الرافعي وأظن هذا الاستشهاد لا يخلوا من نزاع
والله أعلم *
390

(فرع) قال المتولي لو أرادت المرأة القضاء على الفور هل للزوج منعها أم لا (ان قلنا) القضاء على
التراخي فله منعها والا فلا * وقال البغوي هل يلزمه أن يأذن لها في القضاء فيه وجهان (أحدهما)
لا يلزمه في الابتداء (والثاني) يلزمه لأنه هو الذي ألزمها القضاء *
(فرع) ذكر القفال وآخرون من الخراسانيين هما أن الوجهين اللذين ذكرناهما في كون
القضاء يجب على الفور أم على التراخي جاريان في كل كفارة وجبت بعدوان (وأما) الكفارة بلا عدوان
فعلى التراخي وذكروا قضاء الصوم والصلاة وقد سبق بيان هذا كله في موضعين من هذا الشرح
في آخر باب مواقيت الصلاة وفى آخر كتاب الصوم *
(فرع) اتفق أصحابنا على من أفسد حجا مفردا أو عمرة مفردة فله أن يقضيه مع النسك الآخر قارنا وله
أن يقضيه متمتعا واتفقوا على أن للقارن والمتمتع أن يقضيا على سبيل الافراد ولا يسقط دم القران بالقضاء على
سبيل الافراد قال الشافعي والأصحاب إذا أفسد القارن لزمه البدنة للافساد ويلزمه شاة للقران وإذا قضاه
قارنا لزمه شاة أخرى للقران الثاني وان قضاه مفردا لزمه أيضا شاة أخرى لان الذي وجب عليه ان
يقضى قارنا فلما أفرد كان متبرعا بالافراد فلا يسقط عنه الدم * هكذا نقله القاضي أبو الطيب في تعليقه
عن الشافعي واتفق الأصحاب في الطريقتين على أن القارن إذا أفسده وقضاه مفردا يلزمه مع
البدنة شاتان شاة في السنة الأولي للقران الفاسد وشاة في السنة الثانية لان واجبه القران وفيه
شاة فإذا عدل إلى الافراد لم تسقط عنه الشاة وكل الأصحاب مصرحون بهذا (منهم) الشيخ أبو حامد
في تعليقه والقاضي أبو الطيب في كتابيه التعليق والمجرد والمحاملي في كتابيه والماوردي في الحاوي
وابن الصباغ والمتولي وأصحاب البيان وآخرون ولا خلاف فيه قال الشيخ أبو حامد في تعليقه
والماوردي والمحاملي والقاضي أبو الطيب في المجرد قال الشافعي وإذا قضي القارن نسكيه مفردا لم
يكن له ذلك قالوا ومراده لم يكن له اسقاط الدم عنه بالافراد بل عليه دم القران للقضاء وان قضاه
391

مفردا ولم يرد ان فرض الحج والعمرة الواجبين بالقران الفاسد لا يسقطان عنه بافرادهما وإنما
أراد أن الدم لا يسقط هكذا ذكر التأويل هؤلاء ونقله الماوردي والقاضي أبو الطيب في المجرد عن
أصحابنا كلهم ولا خلاف فيه وإنما بسطت هذا الكلام بعض البسط لان عبارة المصنف غير موضحة
لمقصود المسألة بل موهمة خلاف الصواب والوهم حاصل من تعليله في قوله لا يسقط دم القران لأنه
واجب عليه فلا يسقط بالافساد كدم الطيب وهذا التعليل يوم أنه يلزمه دم بسبب افساد القران
وأنه لا يلزمه في القضاء مفردا دم آخر وليس الحكم كذلك بل يلزمه في القضاء مفردا دم آخر
بلا خلاف كما حكيناه عن الأصحاب ودليله ما ذكرناه ويجاب عن كلام المصنف أنه ذكر أن الدم
الواجب بالقران في سنة الافساد لا يسقط ولم يقل انه لا يجب في القضاء مفردا دم آخر بل سكت
عن اثباته ونفيه فيكون ساكتا عن مسألة وليس ذلك غلطا إنما هو فوات فضيلة وفائدة (واعلم) أن
صاحب الإبانة حكى وجها أنه لا يلزم القارن شاة في سنة الافساد لان نسكه لم يصح قرانا فلم يلزمه
الدم وتابعه على حكايته عنه صاحب البيان وغيره وهذا الوجه غلط إنما أذكره للتنبيه على بطلانه
لئلا يغتر به فإنه خطأ من حيث المذهب ومن حيث الدليل (أما) المذهب فالأصحاب مطبقون على
خلافه (وأما) الدليل فلانه يجب عليه المضي في فاسده ويبقى له حكم الصحيح ومن أحكام الصحيح
وجوب الدم والله أعلم * قال أصحابنا وإذا جامع القارن فإن كان قبل التحلل الأول فسد حجه
وعمرته بلا خلاف ولزمته بدنة واحدة بسبب الافساد لاتحاد الاحرام ويلزمه مع ذلك شاة للقران
392

وفيه الوجه الضعيف المحكى عن صاحب الإبانة * وان جامع بعد التحلل الأول وقبل الثاني لم يفسد
حجه بلا خلاف ولا تفسد عمرته أيضا على المذهب وبه قطع الجمهور وفيه وجه حكاه البغوي وغيره
عن أبي بكر الأودني من متقدمي أصحابنا أنه تفسد عمرته لأنه لم يأت بشئ من أعمالها قال البغوي
وغيره ممن حكى هذا الوجه هذا غلط لأن العمرة في القران تتبع الحج فإذا لم يفسد الحج لم تفسد
العمرة قالوا ولهذا يحل للقارن معظم محظورات الاحرام بعد التحلل الأول وان لم يأت بأعمال
393

العمرة ولأنه لو فاته الوقوف بعرفات فاته الحج وكذا العمرة على الصحيح كما سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى
وإن كان وقت العمرة موسعا ولأنه لو قدم القارن مكة وطاف وسعى ثم جامع بطل حجه وعمرته
وإن كان قد فرغ من أعمال العمرة والله أعلم *
(فرع) أصحابنا إذا فات القارن الحج لفوات الوقوف فهل يحكم بفوات عمرته فيه قولان
(أصحهما) نعم تبعا للحج كما تفسد بفساده (والثاني) لا لأنها لا تفوت وانه يتحلل بعملها
فان قلنا بفواتها فعليه دم واحد للفوات ولا يسقط دم القران فإذا قضاهما فالحكم كما ذكرناه في قضائهما
عند الافساد فان قرن في القضاء أو تمتع فعليه دم ثالث وان أفرد فكذلك على المذهب وفيه الخلاف
السابق عن الإبانة ومتابعيه *
(فرع) إذا كانت المرأة الموطوءة محرمة أيضا نظر ان جامعها نائمة أو مكرهة فهل يفسد
حجها وعمرتها فيه طريقان (أصحهما) على القولين في وطئ الناسي هل يفسد الحج (أصحهما)
لا يفسد وبهذا الطريق قطع ابن المرزبان والقاضي أبو الطيب في كتابه المجرد (والثاني) وهو
قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يفسد وجها واحدا وعلى هذا فالفرق ان المكرهة لا فعل لها بخلاف
394

الناسي وممن حكى الطريقين الدارمي وإن كانت طائعة عالمة فسد نسكها كالرجل
ولزمها المضي في فاسده والقضاء (وأما) البدنة فهل تجب عليها أم لا فيه طريقان مشهوران
(أحدهما) حكاه الخراسانيون وجماعة من العراقيين يجب عليها بدنة في مالها قولا واحد
كما يجب على الرجل بدنة (والطريق الثاني) ان فيه الأقوال الثلاثة السابقة في جماع الصائم الصائمة
(أحدها) تجب على كل واحد منهما بدنة (والثاني) تجب عليه بدنة عنه وعنها (والثالث)
تجب عليه بدنة عن نفسه فقط ولا شئ عليها وهذا الطريق أشهر وبه قطع أكثر العراقيين
ومن قال بالأول فرق بأن الصائمة تفطر بكل واصل إلى باطنها ولا يفطر الرجل الا بالجماع ولو ادخل
الرجل إصبعه في فرجها لم يبطل صومه وبطل صومها وأما الحج فلا يبطل حجها الا بالجماع فلو
أدخلت إصبعها أو نحوها لم يبطل حجها فهي في الحج كالرجل لا فرق بينهما في الجماع بخلاف الصوم
395

فان بطلان صومها لا يتعين لكونه جماعا بل لدخول الداخل فلا تلزمها الكفارة وانفرد الدارمي
بطريقة أخرى سبق له مثلها في الوطئ في نهار رمضان فقال في الكفارة أربعة أقوال ككفارة
الصيام (أحدها) يلزمه بدنة عنه فقط (والثاني) بدنة عنه وعنها (والثالث) يلزمه بدنتان
بدنة عنه وبدنة عنها (والرابع) يلزمه بدنة ويلزمها في مالها بدنة أخرى وذكر الماوردي في
الحاوي الأقوال الأربع *
(فرع) اما نفقة الزوجة في قضاء الحج فإن كانت معه في القضاء لزمه قدر نفقة الحضر بلا خلاف
وفى الزائد وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أصحهما) يلزم الزوج (والثاني) يجب
في مالها ومأخذ الخلاف ان الشافعي رحمه الله قال يحج بامرأته واختلفوا في مراده فقيل أراد وجوب
ذلك عليه وهذا هو ظاهر كلامه وهو الأصح عند الأصحاب وقيل إنه يأذن لها في الحج ومنهم
من قال أراد انه يستحب له ذلك قال القاضي حسين والزاد والراحلة من النفقة الزائدة
396

ففيها الوجهان قال القاضي حسين والبغوي ولو زمنت الزوجة وصارت معضوبة هل يلزم
الزوج أن يستأجر من ماله من يحج عنها قضاء فيه الوجهان في النفقة الزائدة والله أعلم * (وأما)
قول المصنف أحد الوجهين تجب النفقة في مالها كنفقة الأداء فمراده إذا سافرت وحدها للحج بغير
397

إذن الزوج أو باذنه فاتها إذا سافرت بغير إذنه فلا نفقة لها بلا خلاف وإذا سافرت باذنه ففي
وجوب نفقتها عليه قولان مشهوران ذكرهما المصنف والأصحاب في كتاب النفقات (الأصح)
لا تجب عليه فقاس المصنف على الأصح (وأما) إذا سافرت في الأداء معه فيجب نفقتها عليه بلا خلاف
ولأنها في قبضته وقد ذكره المصنف والأصحاب في كتاب النفقات ولم يوضح المصنف المسألة هنا
وحكمها ما ذكرناه والله أعلم * قال المصنف وفى ثمن الماء الذي تغتسل به وجهان هذان الوجهان مشهوران
وقد سبق بيانهما في آخر باب صفة الغسل وذكرنا هناك حكم ماء غسلها من الوطئ والنفاس
والحيض والاحتلام وماء وضوئها من لمسه أو غيره وماء طهارة المملوك وأوضحناه كله ولله الحمد * قال الماوردي
فإن كانت الموطوءة أجنبية وطئها بشبهة أو زنا فمؤنتها في مالها بلا خلاف وإن كانت أمة للواطئ
فعليه مؤنتها في القضاء بلا خلاف والله أعلم *
398

(فرع) إذا خرج الرجل وزوجته المفسدين ليقضيا الحج أو العمرة واصطحبا في طريقهما
استحب لهما أن يفترقا من حين الاحرام فإذا وصلا إلى الموضع الذي جامعها فيه فهل يجب فيه
المفارقة فيه خلاف حكاه المصنف والجمهور وجهين واتفقوا على أن الأصح انه مستحب ليس بواجب
(والثاني) انه واجب وقال القاضي أبو حامد في جامعه والدارمي والقاضيان أبو الطيب وحسين في
تعليقهما والمتولي والبغوي وغيرهم هذا الخلاف قولان (الجديد) انه مستحب (والقديم) واجب (فان قلنا)
يجب فتركاه أثما وصحح حجهما ولا دم عليهما وإذا تفرقا لم يجتمعا إلا بعد التحلل سواء قلنا التفرق
واجب أو مستحب صرح به القاضي أبو الطيب في تعليقه والدارمي وغيرهما قال الماوردي ويعتزلها
في المسير والمنزل والله أعلم *
399

(فرع) قال أصحابنا المفسد لحجه وعمرته إذا مضى في فاسده وارتكب محظورا بعد الافساد
أثم ولزمه الكفارة فإذ تطيب أو لبس أو قتل صيدا أو فعل غير ذلك من المحظورات لزمه الفدية
ولا يستثنى من هذا الا الجماع مرة ثانية ففيه الخلاف الذي سنذكره قريبا إن شاء الله تعالى ولا خلاف
فيما ذكرناه إلا ما انفرد به المتولي فإنه حكى قولا شاذا ضعيفا انه لا يلزمه شئ بارتكاب المحظورات
كما لو وطئ في نهار رمضان ثم وطئ ثانيا لا شئ عليه مع وجوب الامساك وهذا القول باطل
والله أعلم *
(فرع) هذا الذي ذكرناه كله في جماع العامد العالم بتحريمه المختار له العاقل (فأما)
الناسي والجاهل والمكره والمجنون والمغمى عليه فقد سبق بيان حكمهم في الباب الذي قبل هذا
والله أعلم *
(فرع) إذا أحرم مجامعا ففيه ثلاثة أوجه حكاها البغوي والمتولي وغيرهما (أصحهما) لا ينعقد
إحرامه كما لا تنعقد الصلاة مع الحدث (والثاني) ينعقد صحيحا فان نزع في الحال
فذاك وإلا فسد نسكه وعليه المضي في فاسده والقضاء والبدنة * واحتجوا له بالقياس على الصوم
فيما إذا طلع الفجر وهو مجامع إن نزع في الحال صح صومه وإلا فسد (والثالث) ينعقد فاسدا
وعليه القضاء والمضي في فاسده سواء نزع أو مكث (وأما) الكفارة فان نزع في الحال لم يجب شئ ء
وان مكث وجبت وفى الواجب القولان في نظائره (أحدهما) بدنة (والثاني) شاة * واستدل البغوي
لهذا الوجه الثالث بأن الحج لا يبطل ويخرج منه بمنافيه وهو الجماع فلا يمتنع انعقاده معه بخلاف
الصلاة والله أعلم *
(فرع) إذا ارتد في أثناء حجته أو عمرته فوجهان مشهوران وقد ذكرهما المصنف في آخر
باب الفوات والاحصار (أصحهما) يفسد كالصوم والصلاة صححه الأصحاب ونقله إمام الحرمين
عن الأكثرين وهذا هو الأصح عند الشيخ أبي حامد (والثاني) لا يفسد كما لا يفسد بالجنون فعلى
هذا لا يعتد بالمفعول في حال الردة لكن إذا أسلم بنى على ما فعله قبل الردة إن كان وقف
بعرفات إن كان وقت الوقوف باقيا فإن لم يكن وقف وأسلم بعد فوات وقته لزمه أن يتحلل بعمل
عمرة وعليه القضاء كسائر أنواع الفوات وسواء طال زمن الردة أم قصر فالوجهان جاريان (إن قلنا)
400

بالفساد فوجهان حكاهما إمام الحرمين وغيره (أصحهما) وبه قطع المنصف والأكثرون يبطل النسك
من أصله فلا يمضي فيه لا في الردة ولا بعد الاسلام (والثاني) انه كالافساد بالجماع فيمضي في فاسده
إن أسلم لكن لا كفارة عليه وحكى الدارمي في آخر باب الاصحار وجها عن حكاية ابن القطان
انه يبطل حجه وعليه بدنة وهذا شاذ ضعيف والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا انه يجب على من أفسد حجه أو عمرته بالجماع دم واختلف الأصحاب فيه
هل هو دم تخيير أم لا ففيه طرق (أصحها) عند المصنف وسائر الأصحاب وهو المنصوص في
المختصر وغيره قال القاضي أبو الطيب في تعليقه هو نص الشافعي في عامة كتبه انه دم ترتيب وتعديل
فيجب بدنة فان عجز عنها فبقرة وإن عجز فسبع شياه فان عجز قوم البدنة دراهم بسعر مكة
حال الوجوب ثم الدراهم بطعام وتصدق به فان عجز عنه صام عن كل مد يوما (والطريق الثاني)
طريق أبي العباس بن سريج ان في المسألة قولين حكاه عنه القاضي حسين وغيره (أصحهما) كالطريق
الأول (والثاني) انه مخير بين هذه الأشياء الخمسة وهي البدنة والبقرة والشاة والاطعام والصيام
فأيها شاء فعله وأجزأه مع القدرة على الثاني (والطريق الثالث) حكاه المصنف والأصحاب عن أبي
إسحاق المروزي أن في المسألة قولين (أصحهما) الطريق الأول (والثاني) انه مخير بين الثلاثة الأولى
وهي البدنة والبقرة والشاة فلا يجزئ الاطعام والصيام مع القدرة على واحد من الثلاثة فان عجز
عن الثلاثة قوم أيها شاء وتصدق بقيمته طعاما فان عجز عنه صام عن كل مد يوما (والطريق الرابع)
انه يجب بدنة فان عجز فبقرة فان عجز فسبع شياه فان عجز قوم البدنة وصام فان عجز عن الصيام
أطعم فيقدم الصيام على الاطعام ككفارة الظهار ونحوها * وقيل لا مدخل للاطعام والصيام
401

هنا بل إذا عجز عن الغنم ثبت الهدى في ذمته الا أن يجد تخريجا من أحد القولين
في دم الاحصار والله أعلم * وحيث قلنا بالصيام فان كسر مد صام عن بعض المد يوما
كاملا بلا خلاف كما في نظائره من اليمين وغيرها * وممن صرح به الماوردي وحيث قلنا بالاطعام
قال صاحب البحر أقل ما يجزى أن يدفع الواجب إلى ثلاثة من مساكين الحرم ان أمكنه ثلاثة
فان دفع إلى اثنين مع القدرة على ثالث ضمن وفى قدر الضمان وجهان (أحدهما) الثلث (وأصحهما)
ما يقع عليه الاسم وهما كالخلاف فيمن دفع نصيب صنف من أهل الزكاة إلى اثنين فان فرق
على مساكين فهل يتعين لكل مسكين مد أم لا فيه وجهان حكاهما الماوردي والروياني وغيرهما
(أصحهما) لا يتعين بل يجوز أن يعطى المسكين أقل من مد وأكثر من مد كما لو ذبح الدم وفرق
اللحم فإنه لا يتقدر بشئ ويجزى أن يدفع إلى المسكين القليل والكثير (والثاني) يتقدر بمد
كالكفارة فان أعطاه أكثر لم تحسب الزيادة وان أعطاه أقل من مد لم يحسب شئ منه الا
ان يعطيه تمام المد والله أعلم * وحيث قلنا بالبدنة أو البقرة أو الشاة فالمراد ما يجزى في الأضحية
بلا خلاف وسيأتي ايضاحه في آخر هذا الباب إن شاء الله تعالى والله أعلم *
402

(فرع) لو وطئ المحرم زوجات له فهو كوطئ الواحدة فيفسد حجه وحجهن وعليه وعليهن
المضي في فاسده والقضاء قال الدارمي وحكم نفقتهن وغيرها كما مضى *
* قال المصنف رحمه الله *
(وإن كان المحرم صبيا فوطئ عامدا بنيت على القولين * فان قلنا إن عمده خطأ
فهو كالناسي وقد بيناه وان قلنا عمده عمد فسد نسكه ووجبت الكفارة وعلى من
تجب فيه قولان (أحدهما) في ماله (والثاني) على الولي وقد بيناه في أول الحج وهل يجب عليه
القضاء فيه قولان (أحدهما) لا يجب لأنها عبادة تتعلق بالبدن فلا تجب على الصبي كالصوم
والصلاة (والثاني) يجب لان من فسد الحج بوطئه وجب عليه القضاء كالبالغ فان قلنا يجب فهل
يصح منه في حال الصغر فيه قولان (أحدهما) لا يصح لأنه حج واجب فلا يصح من الصبي
403

كحجة الاسلام (والثاني) يصح لأنه يصح منه أداؤه فصح منه قضاؤه كالبالغ وإن وطئ العبد
في إحرامه عامدا فسد حجه ويجب عليه القضاء ومن أصحابنا من قال لا يلزمه لأنه ليس من أهل
فرض الحج وهذا خطأ لأنه يلزمه الحج بالنذر فلا يلزمه القضاء بالافساد كالحر وهل يصح منه القضاء
في حال الرق على القولين على ما ذكرناه في الصبي * فان قلنا إنه يصح منه القضاء فهل للسيد منعه
منه يبنى على الوجهين في أن القضاء على الفور أم لا فان قلنا إن القضاء على التراخي فله منعه لان
حق السيد على الفور فقدم على الحج وإن قلنا إنه على الفور ففيه وجهان (أحدهما) انه لا يملك منعه
لأنه موجب ما أذن فيه وهو الحج فصار كما لو أذن فيه (والثاني) انه يملك منعه لان المأذون فيه حجة
صحيحة فان أعتق بعد التحلل من الفاسد وقبل القضاء لم يجز أن يقضي حتى يحج حجة الاسلام
ثم يقضى وان أعتق قبل التحلل من الفاسد نظرت فإن كان بعد الوقوف مضي في فاسده ثم يحج
حجة الاسلام في السنة الثانية ثم يحج عن القضاء في السنة الثالثة وان أعتق قبل الوقوف مضي في
فاسده ثم يقضى ويجزئه ذلك عن القضاء وعن حجة الاسلام لأنه لو لم يفسد لكان أداؤه يجزئه
عن حجة الاسلام فإذا فسد وجب أن يجزئه قضاؤه عن حجة الاسلام) *
404

(الشرح) هذا الفصل تقدم بيان جميعه مع فروع كثيرة متعلقة به في أوائل الباب الأول
من كتاب الحج وأوضحناه هناك وقول المصنف بنيت يعني المسألة (وقوله) في الصبي إذا أفسد
حجه بالجماع هل يجب القضاء فيه قولان (أحدهما) لا يجب لأنه عبادة تتعلق بالبدن فلا يجب على
الصبي كالصوم احترز به عن الزكاة والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وان وطئ وهو قارن وجب مع البدنة دم القران لأنه دم وجب بغير الوطئ فلا يسقط بالوطئ
كدم الطيب وان وطئ ثم وطئ ولم يكفر عن الأول ففيه قولان قال في القديم يجب عليه بدنة واحدة
كما لو زنى ثم زنى كفاه لهما حد واحد وقال في الجديد يجب عليه للثاني كفارة أخرى وفى الكفارة
الثانية قولان (أحدهما) شاة لأنها مباشرة لا توجب الفساد فوجبت فيها شاة كالقبلة بشهوة (والثاني)
يلزمه بدنة لأنه وطئ في احرام منعقد فأشبه الوطئ في احرام صحيح وان وطئ بعد التحلل الأول لم
405

يفسد حجه لأنه قد زال الاحرام فلا يلحقه فساد وعليه كفارة وفى كفارته قولان (أحدهما)
أنها بدنة لأنه وطئ في حال يحرم فيه الوطئ فأشبه ما قبل التحلل (والثاني) أنها شاة لأنها مباشرة
لا توجب الفساد فكانت كفارتها شاة كالمباشرة فيما دون الفرج وان جامع في قضاء الحج لزمته
بدنة ولا يلزمه الا قضاء حجة واحدة لان المقضى واحد فلا يلزمه أكثر منه) *
(الشرح) فيه ثلاث مسائل (إحداها) إذا فسد حجه بالجماع ثم جامع ثانيا ففيه خلاف
406

ذكر المصنف بعضه وباقيه مشهور وحاصله خمسة أقوال (أصحها) تجب بالأول بدنة وبالثاني
شاة (والثاني) يجب لكل واحد بدنة (والثالث) يكفي بدنة عنهما جميعا (والرابع) ان كفر
عن الأول قبل الجماع الثاني وجبت الكفارة للثاني وهي شاة في الأصح وبدنة في الآخر وان لم
يكن كفر عن الأول كفته بدنة عنهما (والخامس) إن طال الزمان بين الجماعين أو اختلف المجلس
ووجبت كفارة أخرى للثاني وفيها القولان والا فكفارة واحدة * ولو وطئ مرة ثالثة ورابعة
وأكثر ففيه هذه الأقوال (الأظهر) يجب للأول بدنة ولكل مرة بعده شاة (والثاني) يجب لكل
مرة بدنة وباقي الأقوال ظاهرة ودليل الجميع يفهم مما ذكره المصنف * قال إمام الحرمين هذا
الخلاف إذا كان قد قضى في كل جماع وطره قال فأما لو كان ينزع ويعود والافعال متواصلة وحصل
قضاء الوطر آخرا فالجميع جماع واحد بلا خلاف (المسألة الثانية) إذا وطئ بعد التحلل الأول وقبل
التحلل الثاني فهذا الوطئ حرام بلا خلاف كما سيأتي بيانه في صفة الحج إن شاء الله تعالى وهل يفسد
حجه فيه ثلاث طرق (أصحها) وبه قطع المصنف والجمهور من العراقيين وغيرهم لا يفسد لما ذكره
المصنف (والثاني) في فساده وجهان (أصحهما) يفسد (والثاني) لا يفسد حكاه إمام الحرمين وآخرون
(والثالث) حكاه الدارمي والرافعي وغيرهما فيه قولان (الجديد) لا يفسد (والقديم) أنه يفسد ما بقي
من حجه دون ما يمضي فلا يمضي في فاسده بل يخرج إلى أدنى الحل ويجدد منه إحراما ويأتي بعمل
407

عمرة وهو مذهب مالك لان الباقي من حجه طواف وسعي وحلق وذلك هو عمل العمرة وهذا
ضعيف لان العبادة الواحدة المرتبطة لا يوصف بعضها بالبطلان دون بعض * فإذا قلنا بالمذهب
أنه لا يفسد فقولان (أصحهما) عند الجمهور يلزمه شاة وبه قطع المحاملي في المقنع (والثاني) يلزمه بدنة
وصححه البغوي وأشار المحاملي في المجموع والتجريد إلى ترجيحه وحكي الرافعي وجها أنه لا شئ
عليه وهو شاذ ضعيف * واعلم أن جمهور الأصحاب أطلقوا القولين في المسألة كما ذكره المصنف وحكاهما
الجرجاني في البحر وجهين وقال المحاملي في المجموع والتجريد المنصوص يلزمه بدنة وفيه قول مخرج
أنه شاة والمشهورة قولان مطلقا كما سبق *
(فرع) قال المتولي إذا وقف الحاج بعرفات ولم يرم ولا طاف ولا حلق وفات وقت الرمي ثم
جامع فان قلنا الحلق نسك فسد حجه لأنه لم يحصل التحلل الأول فعليه البدنة والمضي في
فاسده والقضاء وإن قلنا الحلق ليس نسكا فوجهان قال ابن سريج يفسد حجه وقال غيره
لا يفسد وأصل الوجهين أن رمي جمرة العقبة إذا فات وجب فيه الدم وهل يتوقف التحلل على
ذبح الدم فيه وجهان (أصحهما) يتوقف فان قلنا يتوقف فسد حجه لأنه لم يحصل التحلل الأول
والا فلا * هذا كلام المتولي وذكر القاضي حسين نحوه (المسألة الثالثة) إذا جامع في قضاء
الحج قبل التحلل الأول فسد القضاء ولزمه المضي في أفاسده والبدنة بلا خلاف
ويلزمه قضاء واحد عن الاحرام الأول ولو تكرر القضاء والافساد مائة مرة لم يجب إلا قضاء واحد
وتجب البدنة في كل مرة أفسدها *
408

(فرع) لو رمى جمرة العقبة في الليل معتقدا انه بعد نصف الليل وحلق ثم جامع ثم بان انه
رمى قبل نصف الليل فطريقان حكاهما الدارمي (أصحهما) كما لو وطئ ناسيا فيكون فيه القولان
(والثاني) يفسد قطعا لتقصيره وقد سبقت المسألة في الباب الماضي *
* قال المصنف رحمه الله *
(والوطئ في الدبر واللواط وإتيان البهيمة كالوطئ في القبل في جميع ما ذكرناه لان الجميع
وطئ والله أعلم *
(الشرح) هذا الذي قاله هو المذهب وبه قطع الجمهور من العراقيين والخراسانيين وقيل
لا يفسد الحج بشئ من ذلك وحكي القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد وغيره من أصحابنا قولا انه
لا يجب في جميع ذلك الا شاة وظاهر عبارتهم انه لا يفسد به الحج ولا العمرة على هذا القول قال
القاضي أبو الطيب في تعليقه وآخرون يفسد الحج والعمرة بالوطئ في دبر الرجل أو المرأة وتجب
البدنة وهو كالوطئ في قبلها قالوا (وأما) البهيمة فان قلنا وطؤها يوجب الحد فكذلك وان قلنا
يوجب التعزير فوجهان والصحيح ما قدمنا عن الجمهور والله أعلم *
(فرع) لو لف على ذكره خرقة وأولجه في امرأة فهل يفسد حجه فيه ثلاثة أوجه حكاها
الصيمري والماوردي والروياني وصاحب البيان وغيرهم (أصحها) يفسد كما لو لم يلف خرقة لأنه
يسمى جماعا (والثاني) لا لأنه إنما أولج في خرقة (والثالث) اختاره أبو الفياض البصري
والصيمري إن كانت الخرقة رقيقة لا تمنع الحرارة واللذة فسد حجه وإلا فلا وقد سبقت هذه
الأوجه في باب ما يوجب الغسل وسبق انها جارية في كل الأحكام والصحيح انه جماع في كل
الأحكام والله أعلم *
409

(فرع) قد سبق في باب ما يوجب الغسل أن أحكام الوطئ تتعلق بتغييب جميع الحشفة
ولا يتعلق شئ من أحكام الوطئ ببعض الحشفة وانه إذا كان مقطوعها فان بقي من الذكر دون
قدر الحشفة فلا حكم لايلاجه وإن كان قدرها تعلقت الأحكام بتغييبه كله وإن كان أكثر فوجهان
(الأصح) يتعلق بقدرها (والثاني) لا تتعلق إلا بكل الباقي وسبق هناك أن استدخال المرأة ذكر بهيمة
له حكم وطئ الرجل لها وفى استدخال الذكر المقطوع وجهان (الأصح) انه كالوطئ *
* قال المصنف رحمه الله *
(وان قبلها بشهوة أو باشرها فيما دون الفرج بشهوة لم يفسد حجه لأنها مباشرة لا يجب الحد
بجنسها فلم تفسد الحج كالمباشرة بغير شهوة وتجب عليه فدية الأذى لأنه استمتاع لا يفسد الحج
410

فكانت كفارته فدية الأذى كالطيب والاستمناء كالمباشرة فيما دون الفرج في الكفارة لأنه بمنزلتها
في التحريم والتعزير فكان بمنزلتها في الكفارة) *
(الشرح) قد سبق في الاحرام انه يحرم على المحرم المباشرة بشهوة كالقبلة والمفاخذة واللمس
باليد بشهوة ونحو ذلك هذا إذا كان قبل التحللين فإن كان بينهما ففي تحريم المباشرة فيما دون
الفرج بشهوة خلاف مشهور في باب صفة الحج ومتى ثبت التحريم فباشر عمدا عالما بالتحريم
مختارا لم يفسد حجه سواء أنزل أم لا وهذا لا خلاف فيه عندنا ولا تلزمه البدنة بلا خلاف وتلزمه
الفدية الصغرى وهي فدية الحلق وقد سبق بيانها في أول الباب (وأما) اللمس والقبلة ونحوهما بغير
شهوة فليس بحرام ولا فدية فيه بلا خلاف (وأما) قول إمام الحرمين والغزالي كل مباشرة نقضت
الوضوء فهي حرام على المحرم فغلط وسبق قلم يتأول على أن المراد كل ملامسة تنقص الوضوء فهي
محرمة بشرط كونها بشهوة ومرادهما بهذه العبارة استيعاب صور اللمس اتفاقا واختلافا والله أعلم *
قال الصيمري والماوردي وصاحب البيان لو قدم المحرم من سفر أو قدمت امرأته من سفر
فقبلها أو أراد أحدهما سفرا فودعها وقبلها فان قصد تحية القادم والمسافر وإكرامه ولم يقصد شهوة
فلا فدية وإن قصد الشهوة عصى ولزمته الفدية وإن لم يقصد شيئا فوجهان (أحدهما) لا فدية لان
ظاهر الحال يقتضى التحية (والثاني) تجب لأنها موضوعة للشهوة فلا تنصرف عنها إلا بنية هكذا
قالوه وهذا الوجه ضعيف والصواب أن لا فدية لأنها لا تجب إلا بالشهوة ولم يقصد هنا شهوة
ولا يشترط قصد غير الشهوة والله أعلم *
(فرع) إذا قبل المحرم امرأته بشهوة ولزمته الفدية ثم جامعها فلزمته البدنة فهل تسقط عنه
الشاة وتندرج في البدنة أم تجبان معا فيه وجهان حكاهما الماوردي وآخرون قال الماوردي هما
411

مبنيان على الوجهين في المحدث إذا أجنب هل يندرج الحدث في الجنابة ويكفيه الغسل أم لا ان
ان أدرجناه هناك أدرجناه هنا وإلا فلا وقد سبقت هذه المسألة قريبا في فصل من لبس ثم لبس
أو تطيب ثم تطيب وذكرنا فيه أربعة أوجه (أصحها) تكفيه بدنة (والثاني) تجب بدنة وشاة (والثالث)
إن قصد بالمباشرة الشروع في الجماع فبدنة وإلا فبدنة وشاة (والرابع) ان قصد الزمان بينهما فبدنة
وإلا فبدنة وشاة والله أعلم * ولو وطئ وطئا يوجب البدنة ثم باشر دون الفرج بشهوة قال الدارمي
إن كان كفر عن الجماع قبل المباشرة لزمه للمباشرة شاة والا ففي اندراجها في البدنة
وجهان والله أعلم
412

(فرع) إذا استمنى بيده ونحوها فأنزل عصى بلا خلاف وفى لزوم الفدية وجهان حكاهما القاضي
حسين والفوراني وإمام الحرمين والبغوي والمتولي وصاحب البيان وآخرون (أصحهما) عندهم وجوبها
وبه قطع المصنف هنا وفى التنبيه والماوردي وغيرهما لما ذكره المصنف (والثاني) لا فدية لأنه انزال
من غير مباشرة غيره فأشبه من نظر فأنزل فإنه لا فدية (فان قلنا) بالفدية فهي فدية الحلق كما قلنا
في مباشرة المرأة بغير الجماع ولا يفسد حجه بالاستمناء بلا خلاف (واما) إذا نظر إلى امرأة
بشهوة وكرر النظر حتى أنزل فلا يفسد حجه ولا فدية بلا خلاف عندنا * وقال عطاء والحسن
البصري ومالك يفسد حجه وعليه القضاء * وعن ابن عباس في الفدية روايتان (إحداهما) تجب
بدنة (والثانية) شاة وبه قال سعيد بن جبير واحمد واسحق * ودليلنا انه انزال من غير مباشرة
فأشبه إذا فكر فأنزل من غير نظر *
(فرع) لو باشر غلاما حسنا بغير الوطئ بشهوة فهو كمباشرة المرأة لأنها مباشرة محرمة فأشبهتها
فوجبت الفدية وفيه وجه ضعيف حكاه البغوي انه لا فدية وقد سبق بيانه في باب الاحرام وأوضحنا
هناك ضعف هذا الوجه *
(فرع) قال الماوردي لو أولج المحرم ذكره في قبل خنثى مشكل لم يفسد حجه سواء أنزل
أم لا لأنه يحتمل انه رجل فيكون قد أولج في عضو زائد من رجل فلا يفسد بالشك لكن ان
أنزل لزمه الغسل وشاة كمباشرة المرأة بدون الجماع وان لم ينزل فلا غسل ولا شاة ولا شئ سوى
التعزير والاثم *
413

(فرع) في مذاهب العلماء في مسائل من مباشرة المحرم المرأة ونحوها (إحداها) إذا وطئها
في القبل عامدا عالما بتحريمه قبل الوقوف بعرفات فسد حجه باجماع العلماء وفيما يجب عليه خلاف
لهم فمذهبنا ان واجبه بدنة كما سبق * وبه قال مالك واحمد وهو مذهب جماعات من الصحابة
رضي الله عنهم ذكرنا بعضهم في أول هذا الفصل وقال أبو حنيفة عليه شاة لا بدنة وقال داود هو
مخير بين بدنة وبقرة وشاة (والثانية) إذا وطئها بعد الوقوف بعرفات قبل التحللين فسد حجه وعليه
المضي في فاسده وبدنة والقضاء * هذا مذهبنا وبه قال مالك واحمد وقال أبو حنيفة لا يفسد ولكن عليه بدنة
وعن مالك رواية انه لا يفسد * دليلنا انه وطئ في احرام كامل فأشبه الوطئ قبل الوقوف * احتجوا بالحديث
(الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد ثم حجه) قال أصحابنا هذا متروك الظاهر بالاجماع فيجب تأويله
وهو محمول على أن معناه فقد أمن الفوات (الثالثة) إذا وطئ بعد التحلل الأول وقبل الثاني لم يفسد حجه
عندنا ولكن عليه الفدية ووافقنا أبو حنيفة في أنه لا يفسد * وقال مالك إذا وطئ بعد جمرة العقبة
وقبل الطواف لزمه أعمال عمرة ولا يجزئه حجه لان الباقي عليه أعمال عمرة وهي الطواف والسعي
والحلق وقالا فيلزمه الخروج إلى الحل ويحرم بعمرة ويلزمه الفدية وعن أحمد روايتان في الفدية هل هي
شاة أم بدنة (الرابعة) إذا وطئ في الحج وطئا مفسدا لم يزل بذلك عقد الاحرام بل عليه المضي في
فاسده والقضاء وبه قال مالك وأبو حنيفة واحمد والجمهور وقال الماوردي والعبد رى هو قول عامة
الفقهاء * وقال داود يزول الاحرام بالافساد ويخرج منه بمجرد الافساد وحكاه الماوردي عن
ربيعة أيضا قال وعن عطاء نحوه قال واستدلوا بحديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد) رواه مسلم قالوا والفاسد ليس مما عليه أمره وقياسا
على الصلاة والصوم * واستدل أصحابنا باجماع الصحابة وقد قدمنا ذلك عن جماعة منهم في أول هذا
414

الفصل ولأنه سبب يجب به قضاء الحج فوجب أن لا يخرج به من الحج كالفوات * والجواب عن
الحديث ان الذي ليس عليه أمر صاحب الشرع إنما هو الوطئ وهو مردود وأما الحج فعليه أمر
صاحب الشرع (وأما) قياسهم على الصوم والصلاة فجوابه انه يخرج منهما بالقول فكذا بالافساد
بخلاف الحج ولان محظورات الصلاة والصوم تنافيهما بخلاف الحج (الرابعة) إذا وطئ امرأته وهما
محرمان فسد حجهما وقضيا فرق بينهما في الموضع الذي جامعها فيه فلا يجتمعان بعد التحلل وهل
التفريق واجب أم يستحب فيه قولان أو وجهان عندنا (أصحهما) مستحب * وقال مالك وأحمد
واجب وزاد مالك فقال يفترقان من حيث يحرمان ولا ينتظر موضع الجماع * وقال عطاء وأبو حنيفة
لا يفرق بينهما ولا يفترقان وممن قال بالتفريق عمر بن الخطاب وعثمان وابن عباس وسعيد بن المسيب
والنووي وإسحق وابن المنذر * واحتج أبو حنيفة بالقياس على الوطئ في نهار رمضان فإنهما إذا قضيا
لا يفترقان * واحتج أصحابنا بأن ما قلناه قول الصحابة ولأنه لا يؤمن إذا اجتمعا أن يتذكرا ماجرا
فيتوقا إليه فيفعلاه والجواب عن قياسه على الصوم ان زمنه قصير فإذا تاق أمكنه الجماع بالليل بخلاف
الحج (الخامسة) إذا أحرم بالحج أو العمرة من موضع قبل الميقات ثم أفسده لزمه في القضاء الاحرام
من ذلك الموضع وبه قال ابن عباس وسعيد بن المسيب وأحمد وإسحق وابن المنذر * وحكى ابن المنذر
عن النخعي أنه يحرم من المكان الذي جامع فيه وقال مالك وأبو حنيفة إن كان حاجا كفاه الاحرام
415

من الميقات وإن كان معتمرا فمن أدنى الحل واحتجا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة (ارفضي عمرتك
ثم أمرها أن تحرم من التنعيم بالعمرة) رواه البخاري ومسلم واحتج أصحابنا بأنها مسافة وجب
قطعها في أداء الحج فوجب في القضاء كالميقات وأما حديث عائشة فإنها صارت قارنة فأدخلت
الحج على العمرة ومعنى ارفضي عمرتك أي دعى إتمام العمل فيها واقتصري على أعمال الحج فإنها
تكفيك عن حجك وعمرتك ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لها في صحيح مسلم وغيره (طوافك وسعيك يجزئك
لحجك وعمرتك) فهذا تصريح بأنها لم تبطلها من أصلها بل أعرضت عن أعمالها منفردة لدخولها
في أعمال الحج وقد بسطت هذا التأويل بأدلته الصحيحة الصريحة في شرح صحيح مسلم رحمه الله
والله أعلم (السادسة) قد ذكرنا أن مذهبنا انه يلزم من أفسد حجه بدنة وبه قال ابن عباس وعطاء
وطاوس ومجاهد ومالك والثوري وأبو ثور وإسحق إلا أن الثوري وإسحق قالا إن لم يجد بدنة
كفاه شاة عندنا وعند آخرين ان لم يجد بدنة فبقرة فان فقدها فسبع من الغنم فان فقدها أخرج
بقيمة البدنة طعاما فان فقد صام عن كل مد يوما * وعن أحمد رواية انه مخير بين هذه الخمسة وسبق
بيان مذهب أبي حنيفة في المسألة الأولي والثانية * دليلنا آثار الصحابة (السابعة) إذا وطئ القارن فسد
حجه وعمرته ولزمه المضي في فاسدهما وتلزمه بدنة للوطئ وشاة بسبب القران فإذا قضى لزمه أيضا
شاة أخرى سواء قضى قارنا أم مفرد لأنه توجه عليه القضاء قارنا فإذا قضى مفردا لا يسقط عنه
دم القران قال العبدري وبهذا كله قال مالك وأحمد * وقال أبو حنيفة إن وطئ قبل طواف العمرة
416

فسد حجه وعمرته ولزمه المضي في فاسدهما والقضاء وعليه شاتان شاة لافساد الحج وشاة لافساد
العمرة ويسقط عنه دم القران فان وطئ بعد طواف العمرة فسد حجه وعليه قضاؤه وذبح شاة
417

ولا تفسد عمرته فيلزمه بدنة بسببها ويسقط عنه دم القران قال ابن المنذر وممن قال يلزمه هدى
واحد عطاء وابن جريج ومالك والشافعي وإسحق وأبو ثور وقال الحكم يلزمه هديان (الثامنة) إذا
أفسد المحرم والمحرمة حجهما بالوطئ فقد ذكرنا الخلاف في مذهبنا انه هل يلزمها بدنة أم بدنتان
قال ابن المنذر وأوجب ابن عباس وابن المسيب والضحاك والحكم وحماد والثوري وأبو ثور على
كل واحد منهما هديا وقال النخعي ومالك على كل واحد منهما بدنة وقال أصحاب الرأي إن كان
418

قبل عرفة فعلى كل واحد منهما شاة وعن أحمد روايتان (إحداهما) يجزئهما هدى (والثانية) على كل
واحد منهما هدى وقال عطاء واسحق لزمهما هدى واحد (التاسعة) إذا جامع مرارا فقد ذكرنا
419

ان الأصح عندنا انه يجب في المرة الأولى بدنة وفى كل مرة بعدها شاة قال ابن المنذر وقال عطاء
ومالك واسحق عليه كفارة واحدة وقال أبو ثور لكل وطئ بدنة وقال أبو حنيفة إن كان في مجلس
واحد فدم والا فدمان وقال محمد ان لم يكن كفر عن الأول كفاه لهما كفارة والا فعليه للثاني كفارة
أخرى * دليلنا ان الثاني مباشرة محرمة مستقلة لم تفسد نسكا فوجبت فيها شاة كالمباشرة بغير الوطئ
420

(العاشرة) لو وطئ امرأة في دبرها أو لاط برجل أو اتي بهيمة فقد ذكرنا أن الصحيح عندنا انه يفسد
حجه وعمرته بكل واحد من هذا وقال أبو حنيفة البهيمة لا تفسد ولا فدية وفى الدبر روايتان وقال
داود لا تفسد البهيمة واللواط (الحادية عشرة) لو وطئها فيما دون الفرج لم يفسد حجه عندنا وعليه
شاة في أصح القولين وبدنة في الآخر سواء أنزل أم لا وكذا قال جمهور العلماء لا يفسد ممن قاله
الثوري وأبو حنيفة وأبو ثور قال سعد بن جبير والثوري وأحمد وأبو ثور وعليه بدنة وقال أبو حنيفة
دم وقال ابن المنذر عندي عليه شاة وقال عطاء والقسم بن محمد والحسن ومالك واسحق ان انزل
فسد حجه ولزمه قضاؤه وعن أحمد في فساده روايتان وأما إذا قبلها بشهوة فهو عندنا كالوطئ فيما
دون الفرج فلا يفسد الحج وتجب شاة في الأصح وبه قال ابن المسيب وعطاء وابن سيرين
والزهري وقتادة ومالك والثوري وأحمد واسحق وأبو حنيفة وأبو ثور وقال ابن المنذر روينا
ذلك عن ابن عباس وروينا عنه انه يفسد حجه وعن عطاء رواية انه يستغفر الله تعالى ولا شئ
421

عليه وعن سعيد بن جبير أربع روايات (إحداها) كقول بن المسيب (الثانية) عليه بقرة
(والثالثة) يفسد حجه (والرابعة) لا شئ عليه بل يستغفر الله تعالى (الثانية عشرة) لو ردد النظر إلى
زوجته حتى أمنى لم يفسد حجه ولا فدية عليه وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور وقال الحسن البصري
ومالك يفسد حجه وعليه الهدى وقال عطاء عليه الحج من قابل وعن ابن عباس روايتان (أحداهما)
عليه بدنة (والثانية) دم وقال سعيد بن جبير وأحمد واسحق عليه دم (الثالثة عشر) إذا وطئ المعتمر
بعد الطواف وقبل السعي فسدت عمرته وعليه المضي في فاسدها والقضاء والبدنة وبه قال أحمد وأبو ثور
لكنهما قالا عليه القضاء والهدي وقال عطاء عليه شاة ولم يذكر القضاء وقال الثوري وإسحق يريق
دما وقد تمت عمرته وقال ابن عباس العمرة والطواف واحتج إسحاق بهذا وقال أبو حنيفة ان جامع
بعد أن طاف بالبيت أربعة أشواط لم تفسد عمرته وعليه دم وإن كان طاف ثلاثة أشواط فسدت
وعليه اتمامها والقضاء ودم قال ابن المنذر وأجمعوا على أنه لو وطئ قبل الطواف فسدت عمرته
أما إذا جامع بعد الطواف والسعي وقبل الحلق فقد ذكرنا ان مذهبنا فساد العمرة ان قلنا الحق
نسك وهو الأصح قال ابن المنذر ولا احفظ هذا عن غير الشافعي وقال ابن عباس والثوري
وأبو حنيفة عليه دم وقال مالك عليه الهدي وعن عطاء انه يستغفر الله تعالى ولا شئ عليه قال
ابن المنذر قول ابن عباس أعلى * قال المصنف رحمه الله *
422

(وإن قتل صيدا نظرت أن كان له مثل من النعم وجب عليه مثله من النعم والنعم هي الإبل
والبقر والغنم والدليل عليه قوله عز وجل (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم)
فيجب في النعامة بدنة وفى الحمار الوحش وبقرة الوحش بقرة وفى الضبع كبش وفى الغزال عنز وفى
الأرنب عاق وفى اليربوع جفرة لما روى عن عثمان وعلى وابن عباس وزيد ابن ثابت وابن الزبير
ومعاوية رضي الله عنهم انهم قضوا في النعامة ببدنة * وعن عمر رضي الله عنهم انه جعل في حمار
الوحش بقرة وحكم في الضبع بكبش وفى الأرنب بعناق وفى اليربوع بجفرة * وعن عثمان رضي الله عنه
انه حكم في أم حبين بحلان وهو الحمل فما حكم فيه الصحابة لا يحتاج فيه إلى اجتهاد وما لم تحكم
فيه الصحابة يرجع في معرفة المماثلة بينه وبين النعم إلى عدلين من أهل المعرفة لقوله تعالى (يحكم
به ذوا عدل منكم هديا) * وروى قبيصة بن جابر الأسدي قال أصبت ظبيا وأنا محرم فاتيت عمر
رضي الله عنه ومعي صاحب لي فذكرت ذلك له فاقبل على رجل إلى جانبه فشاوره فقال لي اذبح شاة
فلما انصرفنا قلت لصاحبي ان أمير المؤمنين لم يدر ما يقول فسمعني عمر فاقبل على ضربا بالدرة وقال
أتقتل الصيدا وأنت محرم وتغمص الفتيا أي تحتقرها وتطعن فيها قال الله عز وجل في كتابه (يحكم به
ذوا عدل منكم) ها أنا ذا عمر وهذا ابن عوف * والمستحب أن يكونا فقيهين وهل يجوز أن يكون
القاتل أحدهما فيه وجهان (أحدهما) لا يجوز كما لا يجوز أن يكون المتلف للمال أحد المقومين (والثاني)
انه يجوز وهو الصحيح لأنه يجب عليه لحق الله تعالى فجاز أن يجعل من يجب عليه أمينا فيه كرب
المال في الزكاة ويجوز أن يفدى الصغير بالصغير والكبير بالكبير فان فدى الذكر بالأنثى جاز
لأنها أفضل وان فدي الأعور من اليمين بالأعور من اليسار جاز لان المقصود فيهما واحد *
423

وإن جرح صيدا له مثل فنقص عشر قيمته فالمنصوص انه يجب على عشر ثمن المثل وقال بعض
أصحابنا يجب عليه عشر المثل وتأول النص عليه إذا لم يجد عشر المثل لان ما ضمن كمله بالمثل ضمن
بعضه بالمثل كالطعام والدليل على المنصوص أن إيجاب بعض المثل يشق فوجب العدول إلى القيمة
كما عدل في خمس من الإبل إلى الشاة حين شق إيجاب جزء من البعير وإن ضرب صيدا حاملا
فأسقطت ولدا حيا ثم ماتا ضمن الأم بمثلها وضمن الولد بمثله وان ضربها فأسقطت جنينا ميتا والام
حية ضمن ما بين قيمتها حاملا وحائلا ولا يضمن الجنين * وإن كان الصيد لا مثل له من النعم وجب
عليه قيمته في الموضع الذي أتلفه فيه لما روى أن مروان سأل ابن عباس رضي الله عنه عن الصيد
يصيده الحرم ولا مثل له من النعم * قال ابن عباس ثمنه يهدى إلى مكة ولأنه تعذر إيجاب المثل
فيه فضمن بالقيمة كمال الآدمي فإذا أراد أن يؤدى فهو بالخيار بين أن يشترى بثمنه طعاما ويفرقه
وبين أن يقوم ثمنه طعاما ويصوم عن كل مد يوما وإن كان الصيد طائرا نظرت فإن كان حماما وهو
الذي يعب ويهدر كالذي يقتنيه الناس في البيوت كالدبسي والقمرى والفاختة فإنه يجب فيه شاة
لأنه روى ذلك عن عمر وعثمان ونافع بن عبد الحرث وابن عباس رضي الله عنهم ولان الحمام يشبه
الغنم لأنه يعب ويهدر كالغنم فضمن به وإن كان أصغر من الحمام كالعصفور والبلبل والجراد ضمنه
بالقيمة لأنه لا مثل له فضمن بالقيمة وإن كان أكبر من الحمام كالقطا واليعقوب والبط والإوز ففيه
قولان (أحدهما) يجب فيه شاة لأنها إذا وجبت في الحمام فلان تجب في هذا وهو أكبر أولى
(والثاني) انه يجب فيها قيمتها لأنه لا مثل لها من النعم فضمن بالقيمة وان كسر بيض صيد ضمنه
بالقيمة وإن نتف ريش طائر ثم نبت ففيه وجهان (أحدهما) لا يضمن (والثاني) يضمن بناء على
القولين فيمن قلع شيئا ثم نبت * وان قتل صيدا بعد صيد وجب لكل واحد منهما جزاء لأنه
ضمان متلف فيتكرر بتكرر الاتلاف وإن اشترك جماعة من المحرمين في قتل صيد وجب عليهم جزاء
واحد لأنه بدل متلف يتجزأ فإذا اشترك الجماعة في اتلافه قسم البدل بينهم كقيم المتلفات وإذا
اشترك حلال وحرام في قتل صيد وجب على المحرم نصف الجزاء ولم يجب على الحلال شئ كما لو
اشترك رجل وسبع في قتل آدمي وإن أمسك محرم صيدا فقتله حلال ضمنه المحرم بالجزاء ثم يرجع
424

به على القاتل لان القاتل أدخله في الضمان فرجع عليه كما لو غصب مالا من رجل فأتلفه آخر في يده *
وان جنى على صيد فأزال امتناعه نظرت فان قتله غيره ففيه طريقان * قال أبو العباس عليه ضمان
ما نقص وعلى القاتل جزاؤه مجروحا إن كان محرما ولا شئ عليه إن كان حلالا وقال غيره فيه
قولان (أحدهما) على ضمان ما نقص لأنه جرح ولم يقتل فلا يلزمه جزاء كامل كما لو بقي ممتنعا
ولأنا لو أوجبنا عليه جزاء كاملا وعلى القاتل إن كان محرما جزاء كاملا سوينا بين القاتل والجارح
ولأنه يؤدى إلى أن نوجب على الجارح أكثر مما يجب على القاتل لأنه يجب على الجارح جزاؤه
صحيحا وعلى القاتل جزاؤه مجروحا وهذا خلاف الأصول (والقول الثاني) انه يجب عليه جزاه كاملا
لأنه جعله غير ممتنع فأشبه الهالك فاما إذا كسره ثم أخذه وأطعمه وسقاه حتى برئ نظرت فان
عاد ممتنعا ففيه وجهان كما قلنا فيمن نتف ريش طائر فعاد ونبت فإن لم يعد ممتنعا فهو على القولين
(أحدهما يلزمه ضمان ما نقص (والثاني) يلزمه جزاء كامل * والمفرد والقارن في كفارات الاحرام
واحد لان القارن كالمفرد في الافعال فكان كالمفرد في الكفارات *
(الشرح) هذه الآثار مشهورة فالوجه أن أذكر الآثار الواردة في المسألة (منها) الأثر المذكور
عن قبيصة بن جابر الأسدي * رواه البيهقي باسناد صحيح * وعن أبي حريز بالحاء وآخره زاي
قال (أصبت ظبيا وأنا محرم فاتيت عمر فسألته فقال ايت رجلين من إخوانك فليحكما عليك فاتيت
عبد الرحمن بن عوف وسعيدا فحكما تيسا اعفر) رواه البيهقي * وعن طارق قال (خرجنا حجاجا فأوطأ
رجل يقال له أربد ضبا ففزر ظهره فقدمنا على عمر فسأله أربد فقال عمر احكم يا أربد فقال أنت
خير منى يا أمير المؤمنين واعلم فقال عمر إنما أمرتك أن تحكم فيه ولم آمرك أن تزكيني فقال أربد
أرى فيه جديا قد جمع الماء والشجر فقال عمر بذلك فيه) رواه الشافعي والبيهقي باسناد الصحيح * وعن
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال إن قتل نعامة فعليه بدنة من الإبل رواه البيهقي وهو منقطع
لان علي بن أبي طلحة لم يدرك ابن عباس سقط بينهما مجاهد أو غيره * وعن ابن عباس (وفى بقرة
الوحش بقرة وفى الإبل بقرة) رواه الشافعي والبيهقي باسناد صحيح * وعن عطاء الخراساني (أن عمر
425

وعثمان وعليا وزيد بن ثابت وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم قالوا في النعامة يقتلها المحرم بدنة
من الإبل) رواه الشافعي والبيهقي * قال الشافعي هذا غير ثابت عند أهل العلم بالحديث وهو قول
الأكثرين ممن لقيت فبقولهم في النعامة بدنة وبالقياس قلنا بالنعامة لا بهذا قال البيهقي وجه ضعفه انه
مرسل فان عطاء الخراساني ولد سنة خمسين ولم يدرك عمر ولا عثمان ولا عليا ولا زيدا وكان في
زمن معاوية صبيا ولم يثبت له سماع من ابن عباس وإن كان يحتمل انه سمع منه فان ابن عباس توفى
سنة ثمان وخمسين ثم إن عطاء الخراساني منع انقطاع حديثه ممن تكلم فيه أهل العلم بالحديث *
وعن عبد الرحمن بن عبد الله ابن أبي عمار عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن
الضبع فقال (هي صيد وجعل فيها كبشا إذا صادها المحرم) رواه البيهقي قال وهو حديث جيد
يقوم به الحج ثم قال البيهقي قال الترمذي سألت البخاري عنه فقال هو حديث صحيح * وعن عكرمة
قال (أنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم الضبع صيدا وقضى فيها كبشا) رواه الشافعي والبيهقي * قال الشافعي هذا
حديث لا يثبت مثله لو انفرد * قال البيهقي وإنما قال ذلك لأنه مرسل. قال وروى موصولا ثم
رواه باسناده عن عمر بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد سبق بيان
اختلاف المحدثين في الاحتجاج بعمر وبن أبي عمر هذا والله أعلم * وروى الشافعي عن مالك عن أبي
الزبير عن جابر أن عمر ابن الخطاب رضي الله عنه قضي في الضبع بكبش وفى الغزال بعنز وفى
الأرنب بعناق وفى اليربوع بجفرة هذا إسناد مبلج صحيح * قال البيهقي وروى مرفوعا عن جابر عن
النبي صلى الله عليه وسلم قال والصحيح انه موقوف على عمر (وعن ابن عباس قال في الضبع كبش) رواه الشافعي
والبيهقي باسناد صحيح أو حسن. قال البيهقي وروى عن علي رضي الله عنهم أجمعين وعن عمر
انه قضى في الضبع بكبش وفى الظبي بشاة وفى الأرنب بعناق وفى اليربوع بجفرة وروى الشافعي
426

والبيهقي باسنادهما الصحيح عن سريج قال لو كان معي حكم حكمت في التعلب بجدى * قال
البيهقي. وروى عن عطاء ان في التعلب سطاة. وعن عثمان رضي الله عنه انه قضى في أم حبين
بحلان من الغنم رواه الشافعي والبيهقي باسناد ضعيف فيه مطرف بن مازن. قال يحيى بن معين
هو كذاب والله أعلم * (أما) ألفاظ الغصل فالعناق بفتح العين وهي من أولاد المعز خاصة
وهي التي (1) (وأما) الجفرة فهي التي بلغت أربع أشهر وفصلت عن أمها (وأما) أم حبين فمعروفة
وهي بضم الحاء المهملة وفتح الباء الموحدة المخففة (وأما) الحلان فبضم الحاء المهملة وتشديد
اللام (وأما) الحمل فبفتح الحاء والميم وهو الخروف * وقال الأزهري هو الجدي ويقال له
حلام بالميم أيضا (قوله) وتمغص الفتيا هو بفتح التاء وكسر الميم وبالصاد المهملة أي
تحتقرها وتستصغرها ويقال فتيا وفتوي (الأولي) بضم الفاء (والثانية) بفتحها (قوله) يجب
عليه لحق الله تعالى احتراز من التقويم (أما) الأحكام فقال الشافعي والأصحاب الصيد ضربان مثلي
وهو ماله مثل من النعم وهي الإبل والبقر والغنم وغير مثلي وهو ما لا يشبه شيئا من النعم فالمثلي
جزءان على التخيير والتعديل فيخير القاتل بين أن يذبح مثله في الحرم ويتصدق به على مساكين
الحرم اما بان يفرق لحمه عليهم واما بان يسلم بجملته إليهم مذبوحا وعليهم إياه ولا يجوز أن يدفعه إليهم
حيا وبين أن يقوم المثل دراهم ثم لا يجوز تفرقة الدراهم بل إن شاء اشترى بها طعاما وتصدق به
على مساكين الحرم وان شاء صام عن كل مد يوما ويجوز الصيام في الحرم وفى جميع البلاد وان
انكسر مد وجب صيام يوم وأما غير المثلى فيجب فيه قيمته ولا يجوز أن يتصدق بها دراهم بل يقوم
بها طعاما ثم يتخير إن شاء أخرج الطعام وإن شاء صام عن كل مد يوما فان انكسر مد صام
يوما فحصل من هذا انه في المثلى مخير بين ثلاثة أشياء الحيوان والطعام والصيام وفى غيره بين الطعام
والصيام هذا هو المذهب وهو المتطوع به في كتب الشافعي والأصحاب * وروى أبو ثور عن الشافعي
427

قولا قديما انها على الترتيب هكذا حكاه أبو علي الطبري في الافصاح ومن بعده من المصنفين
قال القاضي أبو الطيب أصحابنا كلهم لا يعرفون هذا عن الشافعي وهي رواية عن الشافعي شاذة
وكذا نقل البندنيجي عن الأصحاب انكار هذه الرواية وانه نص في القديم على التخيير لا غير
قال أصحابنا وإذا لم يكن مثليا فالمعتبر قيمته في محل الاتلاف ووقته وإن كان مثليا فقيمته في مكان
يوم الانتقال إلى الاطعام لان محل ذبحه مكة فإذا عدل عن ذبحه وجبت قيمته بمحل الذبح هذا هو
المذهب في الصورتين وقيل فيهما قولان (أحدهما) الاعتبار بقيمة يوم الاتلاف (والثاني) بقيمة يوم
العدول إلى الاطعام وقيل القولان فيما لا مثل له وأما ماله مثل فالمعتبر قيمة المثل حال العدول إلى
الاطعام قولا واحدا فهذه ثلاثة طرق (المذهب) منها الأول صححه الشيخ أبو حامد والأصحاب ومأخذ
الخلاف ان الشافعي نص في أكثر كتبه انه يقوم يوم إخراج الطعام وقال في موضع يجب
تقويمه يوم قتل الصيد فقال الأكثرون ليست على قولين بل على حالين فقوله يعتبر يوم الانتقال
إلى الاطعام أراد إذا كان الصيد مثليا وقوله يعتبر حين القتل أراد إذا كان غير مثلي ومنهم من قال
بل هما قولان فيهما ومنهم من قال بالطريق الثالث قال الشيخ أبو حامد والأصحاب الطريق الأول
أصح وحيث اعتبرناه بمحل الاتلاف فلإمام الحرمين احتمالان في أنه يعتبر في العدول إلى الطعام سعر
الطعام في ذلك مكان أم سعره بمكة (والثاني) منهما أصح *
(فرع) في بيان المثلى قال أصحابنا ليس المثلى معتبرا على التحقيق والتحديد بل المعتبر التقريب
وليس معتبرا في القيمة بل في الصورة والخلقة والكلام في الدواب ثم الطيور (اما) الدواب فما ورد
فيه نص أو حكم فيه صحابيان أو عدلان من التابعين أو ممن بعدهم من النعم انه مثل الصيد المقتول
اتبع ذلك ولا حاجة إلى تحكيم جديد وقد حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الضبع بكبش وحكمت
الصحابة رضي الله عنهم في النعامة ببدنة وفى حمار الوحش وبقرته ببقرة وفى الغزال بعنز وفى الأرنب
بعناق وفى اليربوع بجفرة وعن عثمان رضي الله عنه انه حكم في أم حبين بحلان وعن عطاء ومجاهد
428

انهما حكما في الوبر بشاة قال الشافعي رحمه الله إن كانت العرب تأكله ففيه جفرة لأنه ليس أكبر
بدنا منها وعن عمر وغيره في الضب جدي وعن ابن عباس في الإبل بقرة وهذا صحيح عنه سبق
بيانه قريبا وعن عطاء في الثعلب شاة وكذا قال الشافعي في الثعلب شاة وأما الوعل فقال صاحب
البيان حكي ابن الصباغ ان فيه بقرة وبهذا جزم البندنيجي وغيره وقال الصيمري فيه تيس قال
الشافعي في الأم في الأروى عضب والعضب دون الجذع من البقر اما العناق فهي الأنثى من المعز من
حين تولد إلى حين ترعي ما لم تستكمل سنة وجمعها اعنق وعنوق وأما الجفرة فقال أهل اللغة هي
ما بلغت أربعة أشهر من أولاد المعز من حين تولد وفصلت عن أمها والذكر جفر سمى بذلك لأنه
جفر جنباه أي عظما هذا معناهما في اللغة قال الرافعي لكن يجب أن يكون المراد هنا بالجفرة ما دون
العناق لان الأرنب خير من اليربوع (وأما) أم حبين فدابة على صورة الحرباء عظيمة النظر وفى حل
429

أكلها خلاف سنوضحه في كتاب الأطعمة إن شاء الله تعالى (الأصح) انها حلال وفيها الجزاء
(والثاني) حرام فلا جزاء قال الرافعي ويقع في بعض كتب الأصحاب في الظبي كبش وفى الغزال
عنز وممن صرح به البندنيجي وكذا قاله أبو القاسم الكرخي وزعم أن الظبي ذكر الغزلان والأنثى
غزال قال امام الحرمين هذا وهم بل الصحيح أن في الظبي عنز وهو شديد الشبه بها فإنه أجرد
الشعر متقلص الذنب وأما الغزال فولد الظبي فيجب فيه ما يجب في الصغار (قلت) هذا الذي قاله الامام
هو الصواب قال أهل اللغة الغزال ولد الظبية إلى حين يقوى ويطلع قرناه ثم هي ظبية والذكر ظبي
هذا بيان ما فيه حكم (أما) ما ليس فيه حكم عن السلف فيرجع فيه إلى قول عدلين فطنين قال الشافعي
والأصحاب ويستحب كونهما فقيهين لأنهما أعرف بالشبه المعتبر شرعا وهل يجوز أن يكون قاتل
الصيد أحد الحكمين أو يكون قاتلاه * هما الحكمين قال أصحابنا ينظر إن كان القتل عدوانا فلا لأنه
يفسق وإن كان خطأ أو مضطرا إليه جاز على الأصح المنصوص وفيه وجه انه لا يجوز وقد ذكر
430

المصنف دليلهما * ولو حكم عدلان ان له مثلا وعدلان ان لا مثل فهو مثلي لان معهما زيادة علم بمعرفة
دقيق الشبه ولو حكم عدلان بمثل وعدلان بمثل آخر فوجهان حكاهما الماوردي والروياني (أحدهما)
يتخير في الاخذ بأيهما شاء (والثاني) يأخذ بأغلظهما بناء على الخلاف في اختلاف المفتيين والأصح
التخيير في الموضعين والله أعلم * (وأما) الطيور فحمام وغيره فالحمامة فيها شاة وغيرها إن كان أصغر
منها جثة كالزرزور والصعوة والبلبل والقبرة والوطواط ففيه القيمة وإن كان أكبر من الحمام أو مثله
فقولان (أصحهما) وهو الجديد واحد قولي القديم الواجب القيمة إذ لا مثل له (والثاني) شاة لأنها
إذا وجبت في الحمامة فالذي أكبر منها أولى ومن هذا النوع الكركي والبطة والاوزة والحبارى ونحوها
والمراد بالحمام كل ما عب في الماء وهو ان يشر به جرعا وغير الحمام يشرب قطرة قطرة كذا نص
الشافعي عليه في عيون المسائل قال الشافعي ولا حاجة في وصف الحمام إلى ذكر الهدير مع العب
فإنهما متلازمان ولهذا اقتصر الشافعي على العب قال أصحابنا ويدخل في اسم الحمام اليمام اللواتي
يألفن البيوت والقمرى والفاختة والدبسى والقطاء والعرب تسمى كل مطوق حماما * قال الشيخ
أبو حامد في التعليق قال الشافعي إنما أوجبنا في الحمامة شاة اتباعا يعين اجماع الصحابة على ذلك
والا فالقياس ايجاب القيمة فيها ومن أصحابنا من قال إنما أوجبت الشاة فيها لأنها تشبهها من وجه
فإنها تعب كالغنم قال أبو حامد وليس بشئ بل المنصوص ما ذكرناه * وهذا الذي ذكرناه من
وجوب شاة في الحمامة لا خلاف فيه عندنا قال أصحابنا سواء فيه حمام الحل وحمام الحرم وقال مالك
ان قتلها المحرم وهي في الحل فعليه القيمة وان أصيبت في الحرم ففيها شاة وقال أبو حنيفة فيها شاة مطلقا
والله أعلم *
(فرع) قال الشافعي والمصنف والأصحاب يفدى الكبير من الصيد بكبير من مثله من النعم
والصغير بصغير والسمين بسمين والمهزول بمهزول والصحيح بصحيح والمريض بمريض والمعيب بمعيب
إذا اتحد جنس العيب كأعور بأعور فان اختلف كالعور والجرب فلا وإن كان عور أحدهما في اليمين
431

والآخر في اليسار ففي إجزائه طريقان (أصحهما) وبه قطع المصنف وسائر العراقيين يجوز لان المقصود
لا يختلف (والثاني) حكاه الخراسانيون فيه وجهان (أصحهما) هذا (والثاني) لا يجوز كما لو اختلف
نوع العيب كالجرب والعور وسواء كان عور اليمني في الصيد أو في المثل فالحكم واحد بلا خلاف
وربما أوهم تخصيص المصنف خلاف هذا ولكن لا خلاف فيه وإنما ذكره كالمثال ولو قال فدى الأعور
من عين بالأعور من أخري لكان أحسن قال أصحابنا ولو قابل المريض بالصحيح أو المعيب بالسليم
فهو أفضل ولو فدى الذكر بالأنثى ففيه طرق (أصحها) على قولين (أصحهما) الاجزاء (والثاني) المنع
(والطريق الثاني) القطع بالاجزاء وبه قطع المصنف والشيخ أبو حامد (والثالث) ان أراد الذبح لم يجز
وإن أراد التقويم جاز لان قيمة الأنثى أكثر ولهم الذكر أطيب (والرابع) إن لم تلد الأنثى جاز
وإلا فلا لأنها تضعف بالولادة (والخامس) حكاه صاحب البيان وغيره ان قتل ذكرا صغيرا أجزأه
أنثى صغيرة وان قتل كبيرا لم تجزئه كبيرة فان جوزنا الأنثى فهل هي أفضل منه فيه وجهان (أصحهما)
لا للخروج من الخلاف (والثاني) نعم وهو ظاهر نص الشافعي وظاهر كلام المصنف * وان فدى الأنثى
بالذكر فوجهان وقيل قولان قال أبو علي البندنيجي (المذهب) انه يجزى قال الرافعي وإذا تأملت
ما ذكرناه من كلام الأصحاب وجدتهم طاردين الخلاف مع نقص اللحم وقال امام الحرمين الخلاف
فيما إذا لم ينقص اللحم في القيمة وفى الطيب فإن كان واحد من هذين النقصين لم يجز بلا خلاف هذا
كلامه والله أعلم *
(فرع) لو قتل نعامة فأراد أن يعدل عن البدنة إلى بقرة أو سبع من الغنم لم يجز على الصيح
المشهور وبه قطع الأكثرون تصريحا وتعريضا وفيه وجه حكاه الروياني في البحر انه يجوز لأنها كهي
في الاجزاء في الأضحية وغيرها *
(فرع) قال الشافعي رحمه الله في المختصر وان جرح ظبيا فنقص عشر قيمته فعليه عشر قيمة
شاة وقال المزني تخريجا يلزمه عشر شاة قال جمهور الأصحاب الحكم ما قاله المزني وإنما ذكر الشافعي
القيمة لأنه قد لا يجد شريكا في ذبح شاة فأرشده إلى ما هو أسهل لان جزاء الصيد على التخيير
فعلى هذا هو مخير ان شاء اخرج عشر المثل وان شاء صرف قيمته في طعام وتصدق به وان شاء
432

صام عن كل مد يوما ومن الأصحاب من اخذ بظاهر النص وقال الواجب عشر القيمة وجعل في
المسألة قولين المنصوص وتخريج المزني فعلى هذا إذا قلنا بالمنصوص ففيه أوجه (أصحها) تتعين
الصدقة بالدراهم (والثاني) لا تجزئه الدراهم بل يتصدق بالطعام أو يصوم (والثالث) يتخير بين عشر
المثل وبين اخراج الدراهم (والرابع) ان وجد شريكا في الدم أخرجه ولم تجزئه الدراهم وإلا أجزأته
(والخامس) وبه قطع الشيخ أبو حامد مخير بين أربعة أشياء اخرج الدراهم وان شاء اشترى
بها جزءا من مثل ذلك الصيد من النعم وان شاء اخرج بها طعاما وان شاء صام عن كل مد يوما
هذا كله في الصيد المثلى فأما غيره فالواجب ما نقص من قيمته قطعا ثم يتخير بين الصيام والطعام
والله أعلم *
(فرع) لو قتل صيدا حاملا قابلناه بمثله حاملا ولا نذبح الحامل بل يقوم المثل حاملا ويتصدق
بقيمته طعاما أو يصوم هذا هو الصحيح المشهور وفيه وجه ضعيف غريب حكاه الرافعي انه يجوز
ذبح حائل نفيسة بقيمة حامل وسط ويجعل التفاوت كالتفاوت بين الذكر والأنثى ولو ضرب بطن
صيد حامل فألقت جنينا ميتا نظر ان ماتت الأم أيضا فهو كقتل الحامل وإن عاشت الأم ضمن
ما نقصت لا يضمن الجنين هكذا قطع به المصنف والأصحاب بخلاف الجنين الأمة فإنه يضمن بعشر
قيمة الأم لان الحمل يزيد في قيمة البهائم وينقص الآدميات فلا يمكن اعتبار التفاوت في الآدميات
وان ألقت جنينا حيا ثم ماتا ضمن كل واحد منهما بانفراده فيضمن كل واحد بمثله إن كان مثليا *
وان مات الولد المنفصل حيا من آثار الجناية وعاشت الأم ضمن الولد بانفراده بكمال جزائه وضمن
نقص الأم وهو ما بين قيمتها حاملا وحائلا *
433

(فرع) لو جرح صيدا فاندمل جرحه وصار الصيد زمنا ففيه وجهان مشهوران وحكاهما المصنف
قولين وكذا حكاهما أبو علي البندنيجي في الجامع (أصحهما) يلزمه جزاء كامل كما لو أزمن عبدا لزمه
كل قيمته (والثاني) يلزمه أرش النقص وبه قال ابن سريج كما لو جني على شاة فازمنها وصحح صاحب
البيان هذا الثاني وهو تصحيح شاذ بل غلط والصواب انه يلزمه جزاء كامل وممن نص على تصحيحه
أبو علي البندنيجي في كتاب الجامع وإمام الحرمين والمصنف في التنبيه والغزالي والرافعي وآخرون
وقطع به جماعات من كبار الأصحاب ممن قطع به الشيخ أبو حامد في تعليقه والمحاملي في المجموع والماوردي
في الحاوي والقاضي حسين في تعليقه ونقله الشيخ أبو حامد عن الأصحاب مطلقا ونقله امام الحرمين
عن معظم الأئمة قال والوجه الثاني القائل بأرش ما نقص مزيف متروك والله أعلم * (فان قلنا)
يلزمه أرش النقص فهل يجب قسط من المثلى إن كان مثليا أو من قيمة المثل فيه الخلاف السابق قريبا
فيما إذا جرحه فنقص عشر قيمته ولو أزمنه فجاء محرم آخر فقتله بعد الاندمال أو قبله فعلى القاتل
جزاؤه زمنا بلا خلاف ويبقى على الأول الجزاء الذي كان كما كان وهو كمال الجزاء أو أرش النقص
هذا هو المذهب وفيه وجه آخر انه ان أوجبنا هناك جزاء كاملا عاد بجناية الثاني إلى أرش النقص
لأنه يبعد إيجاب جزاءين لمتلف واحد وهذا الوجه هو الأصح عند الشيخ أبي حامد في تعليقه (أما)
إذا أزمنه محرم ثم عاد هو فقتله فان قتله قبل الاندمال لزمه جزاء واحد كما لو قطع يدي رجل ثم
قتله فعليه دية فقط * ولنا هناك وجه انه يلزمه أرش الطرف مع دية النفس * قال إمام الحرمين وغيره
فيجئ ذلك الوجه هنا وإن قتله بعد الاندمال أفردت كل جناية بحكمها ففي القتل جزاءه زمنا وفى
الأزمان الوجهان (الأصح) جزاء كامل إذا أوجبنا في الأزمان جزاء كاملا وإن كان للصيد امتناعان
كالنعامة تمتنع بالعدو وبالجناح فأبطل أحد امتناعيه فوجهان حكاهما امام الحرمين عن العراقيين وحكاهما
غيره (أحدهما) يتعدد الجزاء لتعدد الامتناع (وأصحهما) لا لاتحاد الممتنع وعلى هذا فما الواجب
قال امام الحرمين الغالب على الظن أنه يجب ما نقص لان امتناع النعامة في الحقيقة واحد الا انه يتعلق
بالرجل والجناح فالزائل بعض الامتناع *
434

(فرع) لو جرح صيدا فغاب ثم وجده ميتا فان علم أنه مات بجراحته أو وقع بسببه في ماء أو
من جبل ونحو ذلك لزمه جزاء كامل وان علم أنه مات بسبب آخر بان قتله آخر نظر ان لم يكن الأول
صيده غير ممتنع فعليه أرش ما نقص وإن كان صيده غير ممتنع ففيما على الأول الخلاف السابق
في أواخر الفرع قبله * وان شك فلم يعلم بما ذا مات فقولان حكاهما القاضي حسين والبغوي والمتولي
وغيرهم (أحدهما) يلزمه جزاء كامل لان الغالب انه مات من جرحه (وأصحهما) لا يجب الا ضمان
الجرح وبه قطع الماوردي لاحتمال موته بسبب آخر والأصل براءته * قال القاضي والمتولي هذا
الخلاف مبني على القولين في الحلال إذا جرح صيدا وغاب عنه فوجده ميتا هل يحل أكله أم لا
(الأصح) لا يحل (فان قلنا) بحل كله فقد جعلناه قاتلا فيلزمه جزاء كامل والا فعليه أرش الجرح
فقط (أما) إذا جرحه وغاب ولم يتبين حاله فلم يعلم أمات أم لا قال أصحابنا لا يلزمه جزاء كامل لان
الأصل براءته ولان الأصل حياة الصيد وإنما يلزمه أرش الجراحة قالوا والاحتياط اخراج جزاء
كامل لاحتمال موته بسببه * هكذا قطع الأصحاب بالمسألة في الطريقتين كما ذكرته ونقله القاضي
أبو الطيب في تعليقه عن الأصحاب * وحكى الشيخ أبو حامد في تعليقه عن أبي إسحاق المروزي
انه يلزمه جزاء كامل إذا كان قد صيره غير ممتنع لان الأصل بقاؤه كذلك حتى يعلم سلامته * قال
أبو حامد وهذه من غلطات أبي إسحاق على مذهب الشافعي لان الشافعي نص في الاملاء على أنه
يلزمه ما نقص * قال في الاملاء لأنه قد يعرض سبب الهلاك ولا يهلك وهذا صحيح لان الأصل
الحياة ما لم يعلم التلف *
(فرع) إذا جرحه ثم أخذه فداواه وأطعمه وسقاه حتى برأ وعاد ممتنعا كما كان ففي سقوط الضمان
عنه وجهان حكاهما المصنف والأصحاب (الأصح) لا يسقط الضمان (والثاني) يسقط بناء على القولين
فيمن قلع سن كبير فنبتت هل يسقط عنه ديتها (فان قلنا) لا يسقط فعليه ما كان واجبا وهو كمال
الجزاء في الأصح وأرش ما نقص في الوجه الآخر وفى وجه ثالث جزم به البندنيجي انه يجب
ما بين قيمته صحيحا ومندملا والمذهب الأول وإذا قلنا أرش ما نقص فهل يجب بقسطه من المثل
435

أو من القيمة فيه الطرق السابقة فيمن جرح ظبيا فنقص عشر قيمته * هذا كله إذا لم يبق بعد برئه
فيه نقص فان صار ممتنعا ولكن بقي فيه شين ونقص وجب ضمانه بلا خلاف (وأما) إذا داواه
حتى برأ وبقى زمنا ففيه الوجهان السابقان فيمن أزمنه (أصحهما) يلزمه كمال الجزاء (والثاني) أرش
نقصه * ولو نتف ريش طير فهو كجرح الصيد في كل ما سبق فان نبت وبقى نقص ضمنه وإلا
فوجهان كما سبق فان وجب اعتبر نقصه حال الجرح كذا ذكره أصحابنا مع باقي فروع جرح الصيد
والله أعلم *
(فرع) يجب في بيض الصيد قيمته * وقال المزني لا يجب وسبقت المسألة في الباب الماضي
وسبق هناك الخلاف في قيمة لبن الصيد وان الأصح وجوبها وسبق أن الجراد مضمون بقيمته على
المشهور وسبق قول شاذ انه لا يحرم الجراد ولا ضمان فيه وليس بشئ * قال الشافعي ويجب في الدبا
قيمته والدبا صغار الجراد وقيمته أقل من قيمة الجراد * قال أصحابنا وما نقل عن الصحابة من تقدير
الجزاء في الجراد فهو محمول على أن ذلك قيمته في ذلك الوقت * قال أصحابنا فإذا وجبت القيمة
في البيض والجراد واللبن فهو مخير بين اخراج الطعام وبين ان يصوم عن كل مد يوما فان انكسر
مد وجب صيام يوم كما سبق في الصيد الذي لا مثل له *
(فرع) إذا قتل المحرم صيدا بعد صيد وجب لكل صيد جزاء وان بلغ ماءة صيد وأكثر سواء
أخرج جزاء الأول أم لا وهذا لا خلاف فيه وفيه خلاف بيننا وبين أبي حنيفة وغيره وقد سبق بيانه
ودليله في الباب السابق * ومما استدل به أصحابنا انه بدل متلف فتكرر بتكرر الاتلاف كمال الآدمي
بخلاف ما إذا كرر المحرم لبسا أو طيبا لأنه ليس باتلاف * وان اشترك جماعة من المحرمين في قتل
صيد لزمهم جزاء واحد واستدل المصنف بأنه بدل متلف يتجزأ فإذا اشترك جماعة في اتلافه قسم البدل
بينهم كقسم المتلفات وكالدية وفى قوله يتجزأ احتراز من القصاص في النفس والطرف * ولو اشترك
محرم وحلال في قتل صيد لزم المحرم نصف الجزاء ولا شئ على الحلال وكذا لو اشترك محرم ومحلون
436

أو محل ومحرمون وجب على المحرم من الجزاء بقسطه على عدد الرؤس كبدل المتلفات * هذا هو
المذهب وبه قطع الجمهور ونص عليه الشافعي في الأم وقطع المتولي بأنه يجب على المحرم جزاء كامل
وهذا شاذ ضعيف * ولو أمسك محرم صيدا فقتله حلال ضمنه المحرم بالجزاء لأنه تسبب إلى اتلافه
وهل يرجع به على الحلال القاتل فيه وجهان (أحدهما) يرجع وبه قطع المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب
والبغوي لان القاتل أدخل المحرم في الضمان فرجع عليه كما لو غصب مالا فاتلفه انسان في يده فان
الغاصب يرجع على المتلف (وأصحهما) لا يرجع وبه قطع الشيخ أبو حامد في تعليقه وأبو علي البندنيجي
في كتابه الجامع وصححه صاحب الشامل وغيره لأنه أتلف صيدا يجوز له اتلافه فإنه غير ممنوع
منه لا لحق الله تعالى ولا لحق الآدمي فان الممسك لا يملكه وإذا جاز له اتلافه لم يجب عليه ضمانه
بخلاف مسألة الغصب فان المتلف للمغصوب متعد فضمن والله أعلم * ولو أمسك محرم صيدا فقتله
محرم آخر فثلاثة أوجه (أصحها) يجب الجزاء كله على القاتل لأنه وجد من الممسك سبب ومن القاتل
مباشرة فوجب تقديم المباشرة كما في قتل الآدمي وغيره (والثاني) يجب الجزاء بينهما نصفين
لأنهما من أهل ضمانه وهذا ينتقض بضمان الآدمي وبهذا الوجه قطع المصنف في التنبيه (والثالث)
قاله القاضي أبو الطيب وصححه أبو المكارم يجب الضمان على كل واحد منهما فان أخرجه الممسك
رجع به على القاتل وان أخرجه القاتل لم يرجع به على الممسك كما لو غصب شيئا فاتلفه آخر في يده
وقال صاحب الشامل هذا الوجه أقيس عندي لان ما ذكره الأول ينتقض بمن غصب شيئا وأتلفه
غيره في يده وما ذكره الثاني فاسد لأن الضمان لا ينقسم على المباشرة والسبب الذي لا يلجئ في
شئ من الأصول والله أعلم *
(فرع) قال الماوردي وغيره لو جرح الحلال صيدا في الحل ثم دخل الصيد الحرم فجرحه
فيه فمات منهما لزمه نصف الجزاء لأنه مات من جرحين وجرح أحدهما مضمون دون الآخر *
(فرع) القارن والمفرد والمتمتع في جزاء الصيد وفى جميع كفارات الاحرام سواء فإذا قتل
القارن صيدا لزمه كفارة واحدة وان ارتكب محظورا آخر لزمه فدية واحدة بلا خلاف
عندنا * وقال أبو حنيفة يلزمه جزاءان وقد سبقت المسألة بدلائلها في الباب السابق والله أعلم.
437

(فرع) الصوم الواجب هنا يجوز متفرقا ومتتابعا نص عليه الشافعي ونقله عنه ابن المنذر ولا نعلم
فيه خلافا لقوله تعالى (أو عدل ذلك صياما) *
(فرع) في مذاهب العلماء في مسائل من جزاء الصيد (إحداها) إذا قتل المحرم صيدا أو قتله
الحلال في الحرم فإن كان له مثل من النعم وجب فيه الجزاء بالاجماع ومذهبنا انه مخير بين ذبح
المثل والاطعام بقيمته والصيام عن كل مد يوما * وبه قال مالك وأحمد في أصح الروايتين عنه وداود
الا أن مالكا قال يقوم الصيد ولا يقوم المثل وقال أبو حنيفة لا يلزمه المثل من النعم وإنما يلزمه
قيمة الصيد وله صرف تلك القيمة في المثل من النعم * وقال ابن المنذر قال ابن عباس ان وجد
المثل ذبحه وتصدق به فان فقده قومه دراهم والدراهم طعاما وصام ولا يطعم * قال وإنما أريد بالطعام
الصيام ووافقه الحسن البصري والنخعي وأبو عياض وزفر * وقال الثوري يلزمه المثل فان فقده
فالاطعام فان فقده صام * دليلنا قوله تعالى (ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل) إلى آخر
الآية * واحتج المخالفون بان المتلف يجب مثله من جنسه أو قيمته وليست النعم واحدا منهما فلم
يضمن به كالصيد الذي لا مثل له من النعم وكما لو أتلف الحلال صيدا مملوكا وكضمان المحرم للصيد
المملوك لمالكه * قال أصحابنا هذا قياس منابذ لنص القرآن فلا يلتفت إليه ثم ما ذكروه منتقض
للآدمي الحر فإنه يضمن بالإبل ويضمن في حق الله تعالى بما لا يضمن به في حق الآدمي فإنه
يضمن للآدمي بقصاص أو إبل ويضمن لله تعالى بالكفارة وهي عتق والا فصيام وبهذا يحصل
الجواب عن قياسهم * قال أصحابنا والفرق بينه وبين صيد لا مثل له أنه لا يكن فيه المثل فتعذر
فوجب اعتبار القيمة بخلاف المثل (الثانية) إذا عدل عن مثل الصيد إلى الصيام فمذهبنا أنه يصوم
عن كل مد يوما وبه قال عطاء ومالك وحكى ابن المنذر عن ابن عباس والحسن البصري والثوري
وأبي حنيفة وأحمد وإسحق وأبي ثور أنه يصوم عن كل مدين يوما * قال ابن المنذر وبه أقول *
(قال) وقال سعيد بن جبير الصوم في جزاء الصيد ثلاثة إيام إلى عشرة وعن أبي عياض أن أكثر
الصوم أحد وعشرون يوما * قال ومال أبو ثور إلى أن الجزاء في هذا ككفارة الحلق * دليلنا أن
438

الله تعالى قال (أو عدل ذلك صياما) وقد قابل سبحانه وتعالي صيام كل يوم باطعام مسكين في كفارة
الظهار وقد ثبت بالأدلة المعروفة أن إطعام كل مسكين هناك مد فكذا هنا يكون كل يوم مقابل
مد * واحتجوا بحديث كعب بن عجرة فان النبي صلى الله عليه وسلم جعله مخيرا بين صوم ثلاثة أيام
وإطعام ستة مساكين كل مسكين نصف صاع فدل على أن اليوم مقابل بأكثر من مد (والجواب)
أن حديث كعب إنما ورد في فدية الحلق ولا يلزم طرده في كل فدية ولو طرد لكان ينبغي أن
يقابل كل صاع بصوم يوم وهذا لا يقول به المخالفون ولا نحن ولا أحد والله أعلم * (الثالثة) قال
أصحابنا مذهبنا ان ما حكمت الصحابة رضي الله عنهم فيه بمثل فهو مثله ولا يدخله بعدهم اجتهاد
ولا حكم وبه قال عطاء واحمد وإسحق وداود (واما) أبو حنيفة فجرى على أصله السابق ان
الواجب القيمة وقال مالك يجب الحكم في كل صيد وإن حكمت فيه الصحابة * دليلنا ان الله تعالى
قال يحكم (به ذوا عدل منكم) وقد حكما فلا يجب تكرار الحكم (الرابعة) الواجب في الصغير من الصيد
المثلي صغير مثله من النعم وبه قال ابن عمر وعطاء والثوري وأحمد وأبو ثور وقال مالك يجب
فيه كبير لقوله تعالى (هديا بالغ الكعبة) والصغير لا يكون هديا وإنما يجزئ من الهدى ما يجزئ
في الأضحية وبالقياس على قتل الآدمي فإنه يقتل الكبير بالصغير * دليلنا قوله تعالى (فجزاء مثل
ما قتل من النعم) ومثل الصغير صغير ودليل آخر وهو ما قدمناه عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم حكموا
في الأرنب بعناق وفى اليربوع بجفرة وفى أم حبين بحلال فدل على أن الصغير يجزئ وأن الواجب
يختلف باختلاف الصغير والكبير وقياسا على سائر المضمونات فإنها تختلف مقادير الواجب فيها
(والجواب) عن الآية التي احتج بها أنها مطلقة وهنا مقيدة بالمثل وعن قياسهم على قتل الآدمي
أن تلك الكفارة لا تختلف باختلاف أنواع الآدميين من حر وعبد ومسلم وذمي لم تختلف في
قدرها بخلاف ما نحن فيه والله أعلم * (واما) الصيد المعيب فمذهبنا انه يفديه بمعيب وعن
مالك يفديه بصحيح ودليلنا ما سبق في الضمير (الخامسة) إذا اشترك جماعة في قتل
صيد وهم محرمون لزمهم جزاء واحد عندنا وبه قال عمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر
وعطاء والزهري وحماد وأحمد اسحق وأبو ثور وداود وقال الحسن والشعبي والنخعي والثوري
ومالك وأبو حنيفة يجب على كل واحد جزاء كامل ككفارة قتل الآدمي * دليلنا أن المقتول واحد
439

فوجب ضمانه موزعا كقتل العبد وإتلاف سائر الأموال (السادسة) إذا قتل القارن صيدا
لزمه جزاء واحد وإذا تطيب أو لبس لزمه فدية واحدة * هذا مذهبنا وبه قال مالك وأحمد في أظهر
الروايتين عنه وابن المنذر وداود وقال أبو حنيفة يلزمه جزاءان وكفارتان وسبقت المسألة مع دليلنا
عليهم (السابعة) في النعامة بدنة عندنا وعند العلماء كافة منهم عمر وعثمان وعلى وزيد بن ثابت
وابن عباس ومعاوية وعطاء ومجاهد ومالك وآخرون إلا النخعي فحكى ابن المنذر عنه أن في النعامة
وشبهها ثمنها دليلنا الآية (الثامنة) مذهبنا أن الثعلب صيد يؤكل ويحرم على المحرم قتله فان قتله
لزمه الجزاء وبه قال طاوس والحسن وقتادة ومالك وهو إحدى الروايتين عن عطاء وقال عمرو بن
دينار والزهري وابن المنذر لا يحل أكله ولا يحرم على المحرم ولا فدية فيه وهو عندهم من السباع
وقال أحمد أمره مشتبه (التاسعة) مذهبنا أن في الضب جديا نص عليه الشافعي والأصحاب وحكاه
ابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعن جابر وعطاء أن فيه شاة وعن مجاهد حفنة من طعام
وعن مالك قبضة من طعام فان شاء أطعم وان شاء صام وعن قتادة صاع من طعام وعن أبي حنيفة قيمته
(العاشرة) مذهبنا أن في الحمامة شاة سواء قتلها محرم أو قتلها حلال في الحرم وبه قال عثمان بن عفان
وابن عباس وابن عمر ونافع بن عبد الحارث وعطاء بن أبي رباح وعروة بن الزبير وقتادة وأحمد
وإسحق وأبو ثور وقال مالك في حمامة الحرم شاة وحمامة الحل القيمة وعن ابن عباس في حمامة الحل
ثمنها وعن النخعي والزهري وأبي حنيفة ثمنها وعن قتادة درهم * دليلنا ما روى الشافعي
والبيهقي بالاسناد الصحيح عن عثمان ونافع بن الحارث وابن عباس انهم أوجبوا في الحمامة شاة
(الحادية عشرة) العصفور فيه قيمته عندنا وبه قال أبو ثور وقال الأوزاعي مد طعام وعن عطاء
نصف درهم وفى رواية عنه ثمنها عدلان (الثانية عشرة) ما دون الحمام من العصافير ونحوها من
الطيور تجب فيه قيمته عندنا وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد الجمهور وهو الصحيح في مذهب داود
وقال بعض أصحاب داود لا شئ فيه لقوله تعالى (فجزاء مثل ما قتل من النعم) فدل على أنه لا شئ فيما
لا مثل له * واحتج أصحابنا بان عمر وابن عباس وغيرهما أوجبوا الجزاء في الجرادة فالعصفور أولى *
440

وروى البيهقي باسناده عن ابن عباس قال في كل طير دون الحمام قيمته (الثالثة عشر) كل صيد
يحرم قتله تجب القيمة في إتلاف بيضه سواء بيض الدواب والطيور ثم هو مخير بين الطعام والصيام
وبه قال جماعة وقال مالك يضمنه بعشر بدنة وقال المزني وبعض أصحاب داود لا جزاء في البيض
وسبقت (المسألة الرابعة عشرة) إذا قتل الصيد على وجه لا يفسق به فالأصح عندنا أنه يجوز أن يكون
القاتل أحد الحكمين كما سبق وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما سبق عنه في قصة أربد وبه قال
إسحاق بن راهويه وابن المنذر وقال النخعي ومالك لا يجوز * دليلنا فعل عمر مع عموم قول الله تعالى
(يحكم به ذوا عدل) ولم يفرق بين القاتل وغيره
* قال المصنف رحمه الله *
ويحرم صيد الحرم على الحلال والمحرم لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ان
الله تعالى حرم مكة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها فقال العباس إلا الإذخر لصاغتنا
فقال الا الإذخر) وحكمه في الجزاء حكم صيد الاحرام لأنه مثله في التحريم فكان مثله في الجزاء فان
قتل محرم صيدا في الحرم لزمه جزاء واحد لان المقتول واحد فكان لجزاء واحدا كما لو
قتله في الحل * وان اصطاد الحلال صيدا من الحل وأدخله إلى الحرم جاز له التصرف فيه بالامساك
والذبح وغير ذلك مما كان يملكه به قبل أن يدخل إلى الحرم لأنه من صيد الحل فلم يمنع من التصرف
فيه * وان ذبح الحلال صيدا من صيود الحرم لم يحل له أكله وهل يحرم على غيره فيه طريقان (من) أصحابنا من
قال هو على قولين كالمحرم إذا ذبح صيدا (ومنهم) من قال يحرم ههنا قولا واحدا لان الصيد في الحرم محرم على
كل واحد فهو كالحيوان الذي لا يؤكل * وان رمى من الحل إلى صيد في الحرم فأصابه لزمه الضمان
لان الصيد في موضع أمنه وان رمى من الحرم إلى صيد في الحل فأصابه ضمنه لان
كونه في الحرم يوجب تحريم الصيد عليه * وان رمى من الحل إلى صيد في الحل ومر السهم في موضع
من الحرم فأصابه ففيه وجهان (أحدهما) يضمنه لان السهم مر من الحرم إلى الصيد (والثاني) لا
يضمنه لان الصيد في الحل والرامي في الحل وإن كان في الحرم شجرة وأغصانها في الحل فوقعت
حمامة على غصن في الحل فرماه من الحل فأصابه لم يضمنه لان الحمام غير تابع للشجرة فهو كطير في هواء
441

الحل وان رمى إلى صيد في الحل فعدل السهم وأصاب صيدا في الحرم فقتله لزمه الجزاء لان العمد
والخطأ في ضمان الصيد سواء وان أرسل كلبا في الحل على صيد في الحل فدخل الصيد الحرم فتبعه الكلب
فقتله لم يلزمه الجزاء لان للكلب اختيارا ودخل الحرم باختياره بخلاف السهم * قال في الاملاء إذا أمسك
الحلال صيدا في الحل وله فرخ في الحرم فمات الصيد في يده ومات الفرخ ضمن الفرخ لأنه مات في الحرم
بسبب من جهته ولا يضمن الأم لأنه صيد في الحل مات في يد الحلال) *
(الشرح) حديث ابن عباس رواه البخاري ومسلم من طرق والخلا بفتح الخاء المعجمة مقصور هو رطب
الكلاء قال أهل اللغة الحشيش هو اليابس من الكلاء والخلا هو الرطب منه ومعنى يعضد يقطع والإذخر
بكسر الهمزة والخاء المعجمة نبت طيب الرائحة معروف (اما) الأحكام فصيد حرم مكة حرام
على الحلال والحرام بالاجماع ودليله الحديث المذكور ونبه صلى الله عليه وسلم بالتقتير على الاتلاف
وغيره قال أصحابنا فيحرم في صيد الحرم كل ما يحرم في صيد الاحرام من اصطياده وتملكه وإتلافه واتلاف
أجزائه وجرحه وتنفيره والتسبب إلى ذلك ويحرم بيضه واتلاف ريشه وغير ذلك مما سبق ولا يختلفان في
شئ من ذلك * وحكم لبنه حكم لبن صيد الاحرام كما سبق فان قتل حلال أو محرم صيدا في الحرم أو أتلف
جزءا منه أو تلف بسبب منه ضمنه وضابطه ما ذكره المصنف والأصحاب انه كصيد الاحرام في التحريم
والجزاء وقدر الجزاء وصفته * ولو قتل محرم صيدا في الحرم لزمه جزاء واحد بلا خلاف عندنا لما ذكره
المصنف * ولو أدخل حلال إلى الحرم صيدا مملوكا له كان له امساكه وذبحه والتصرف فيه كيف شاء
كالنعم وغيرها لما ذكره المصنف * وان ذبح حلال صيدا حرميا حرم عليه أكله بلا خلاف وفى
تحريمه على غيره طريقان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما وقد سبق بيانهما بفروعهما في الباب
السابق والمذهب تحريمه فيكون ميتة نجسا كذبيحة المجوسي وكالحيوان الذي لا يؤكل * ولو رمى من
الحل صيدا في الحرم أو من الحرم صيدا في الحل وأرسل كلبا في الصورتين على الصيد فقتله لزمه
الجزاء لما ذكره المصنف * ولو رمى حلال في الحرم صيدا فأحرم قبل أن يصيبه ثم أصابه أو رمى محرم
إليه فتحلل قبل إن يصيبه ثم أصابه لزمه الضمان على الأصح وسبق مثله في صيد الحرم في الباب
442

السابق * ولو رمى من الحل إلى صيد بعضه في الحل وبعضه في الحرم ففيه خمسة أوجه الثلاثة الأولى منها
حكاهما صاحب الحاوي والجرجاني في المعاياة وغيرهما (أحدها) لا جزاء فيه لأنه لم بتمحض حرميا
(والثاني) إن كان أكثره في الحرم وجب الجزاء وإن كان أكثره في الحل فلا اعتبارا بالغالب
(والثالث) إن كان خارجا من الحرم إلى الحل ضمنه وإن كان عكسه فلا اعتبار بما كان عليه (والرابع)
وبه قطع القاضي حسين والبغوي والرافعي إن كان رأسه في الحرم وقوائمه كلها في الحل فلا جزاء
عليه وإن كان بعض قوائمه في الحرم وجب الجزاء وإن كانت قائمة واحدة تغليبا للحرمة (والخامس)
يجب فيه الجزاء بكل حال حتى لو كان رأسه في الحرم وقوائمه كلها في الحل وهو نائم أو مستيقظ
وجب الجزاء وبهذا قطع أبو علي البندنيجي وصاحب البيان تغليبا لحرمة الحرم والله أعلم * (أما) إذا
رمى من الحل صيدا في الحل فمر السهم في ذهابه في طرف من الحرم ثم أصاب الصيد في الحل ففي
وجوب ضمانه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما (أحدهما) لا يضمن كما لو أرسل كلبا في
الحل على صيد في الحل فتخير في مروره في طرف الحرم فإنه لا يضمن على المذهب وبه قطع الجمهور
وفيه وجه أو قول حكاه صاحب الحاوي انه يضمن وهو شاذ ضعيف (وأصحهما) يضمن لأنه
تلف بفعل الكلب فان للكلب اختيارا بخلاف السهم ولهذا قال المصنف والأصحاب كلهم
لو رمى صيدا في الحل فعدل الصيد فدخل الحرم فأصابه السهم وجب الضمان وبمثله لو أرسل كلبا فأصابه
لم يجب ثم في مسألة إرسال الكلب وتخطيه طرف الحرم إنما لا يجب الضمان إذا كان للصيد مقر آخر
فاما إذا تعين دخوله الحرم عند الهرب فيجب الضمان قطعا سواء كان المرسل عالما بالحال أو جاهلا
ولكن يأثم العالم دون الجاهل قال صاحب الحاوي فيما إذا أرسل الكلب من الحل على صيد في
الحل فعدل الصيد إلى الحرم فتبعه الكلب فقتله قال الشافعي لا جزاء عليه لأنه إنما أرسله على
صيد في الحل قال صاحب الحاوي قال أصحابنا أراد الشافعي إذا كان مرسله قد زجره عن اتباع
الصيد في الحرم فلم ينزجر فإن لم ينزجر فعليه الاجزاء لان الكلب المعلم إذا أرسل إلى صيد تبعه أين
توجه * هذا كلامه وهذا الذي شرطه من الزجر غريب لم يذكره الأصحاب *
443

(فرع) لو كانت شجرة ثابتة في الحرم وأغصانها في الحل فوقع على الغصن طائر فقتله إنسان في
الحل فلا ضمان ولو قطع الغصن ضمن الغصن لان الغصن جزء من الشجرة تابع لها والشجرة مضمونة
فكذا غصنها وأما الطائر فليس جزءا من الشجرة ولا هو في الحرم وإنما هو في الحل فلا يجب
ضمانه وعكسه لو كانت الشجرة ثابتة؟ في الحل وغصنها في الحرم فوقع عليه طائر فقتله لزمه ضمانه لأنه
في هواء الحرم ولو قطع الغصن لم يضمنه لأنه تابع لشجرة في الحل وهذا الفرع لا خلاف فيه وعبارة
المصنف تشير إلى التنبيه على الصورتين * قال الدارمي ولو وقف الحلال على الغصن ورمي إلى صيد
في الحل فقتله فهو كما لو قتل الصيد الذي على الغصن فإن كان الغصن في هواء الحرم ضمن وإلا فلا
والله أعلم *
(فرع) لو قتل انسان صيدا مملوكا في الحرم فإن كان القاتل محرما فقد سبق في الباب الماضي
ان عليه الاجزاء للمساكين وعليه القيمة لمالكه وإن كان حلالا فعليه القيمة لمالكه ولا جزاء عليه
لأنه ليس له حكم صيد الحرم ولهذا لو قتله صاحبه لم يلزمه الجزاء بخلاف صيد الاحرام وممن
صرح بالمسألة الماوردي *
(فرع) لو أخذ حمامة في الحل أو أتلفها فهلك فرخها في الحرم ضمنه ولا يضمنها لما ذكره المصنف *
نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب * ولو أخذ الحمامة من الحرم وقتلها فهلك فرخها في الحل
ضمن الحمامة والفرخ جميعا لأنه أتلفه بسبب جرى منه في الحرم كما رمى من الحرم إلى صيد في الحل
قال أبو علي البندنيجي لو أخذ الصيد ففسد بيضه في الحرم ضمنه كما يضمن الفرخ * قال أصحابنا
ولو نفر صيدا حرميا عامدا أو غير عامد تعرض لضمانه فان مات بسبب التنفير بصدمة أو أخذ
سبع ونحوه لزمه الجزاء وكذا لو دخل الحل فقتله حلال لزم المنفر الجزاء ولا شئ على الحلال
القاتل فان أخذه محرم في أحل وجب الجزاء على الآخذ تقديما للمباشرة على السبب * هكذا ذكره
الأصحاب وقال الماوردي إذا قتله الحلال فلا جزاء عليه كما ذكرنا * قال وأما المنفر له من
الحرم فقال أصحابنا إن كان حين نفره ألجأه إلى الحل ومنعه من الحرم فعليه الجزاء لان الصيد ملجأ
والتنفير سبب وان لم يكن الجاءه إلى الخروج إلى الحل ولا منعه العود إلى الحرم فلا جزاء عليه
لأنه غير ملجأ والمباشرة أقوى من السبب * هذا كلام الماوردي والمذهب ما قدمناه وهو انه يجب
444

على المنفر من الحرم ضمانه إذا قتله حلال في الحل ما لم يسكن نفاره ولا يزال في ضمانه حتى يسكن نفاره ويسكن
في موضع من الحل أو الحرم فإذا سكن في مكان منهما زال عنه الضمان وقبل السكون هو في ضمانه * هكذا صرح
به القاضي حسين وامام الحرمين والبغوي والمتولي والرافعي وآخرون ونقله إمام الحرمين عن الأصحاب فقال
لو نفر صيدا حرميا فقد تعرض للضمان فان استمر النفار حتى خرج من الحرم فسكن في أحل وجب
الضمان بلا خلاف قال ثم قال الأئمة يدوم التعرض للضمان حتى يزول نفاره قال الصيدلاني حتى
يعود إلى الحرم قال الامام وهذا أراه ذلة فليس عليه أن يسعى في رده إلى الحرم ولا يتعرض لخروجه
للضمان والله أعلم *
(فرع) إذا خرج الصيد الحرمي إلى الحل حل للحلال اصطياده في الحل ولا شئ عليه في
إتلافه لأنه صار صيد حل كما أن صيد الحل إذا دخل الحرم حرم اصطياده لأنه صار صيد
حرم وحكى البغوي عن مالك انه لا يجوز أخذ صيد الحرم في الحل كما لو قلع شجرة من الحرم وغرسها
في الحل لا يحل قطعها قال والفرق على مذهبنا أن الصيد يتحول بنفسه فيكون له حكم المكان المتحول
إليه بخلاف الشجرة والله أعلم *
(فرع) قال البغوي إذا دخل شئ من الجوارح إلى الحرم ففلت فأتلف صيدا فلا ضمان
على صاحبه لأنه لا فعل له وقد سبق نظير هذا في الحرم *
(فرع) إذا حفر بئرا في الحرم فهلك فيها صيد فقد سبق في الباب الماضي انه ان حفرها في
محل عدوان لزمه ضمانه وان حفرها في ملكه أو موات فالأصح الضمان أيضا وسبقت المسألة
مبسوطة هناك * ولو نصب شبكة في الحرم فهلك بها صيد ضمن قال البغوي ولو أخرج يده من
الحرم فنصبها في الحل فتلف بها صيد لم يضمن ولو أدخل يده من الحل فنصبها في الحرم ضمن
والله أعلم *
(فرع) لو كان الحلال جالسا في الحرم فرأى صيدا في الحل فعدا إليه فقتله في الحل
فلا ضمان بلا خلاف قال القاضي أبو الطيب وغيره والفرق بينه وبين من رمى سهما من الحرم إلى
صيد في الحل فإنه يضمن أن ابتدأ الاصطياد من حين الرمي لان السهم ليس له اختيار وليس ابتداء
الاصطياد من حين العدو بل من حين ضربه ولهذا شرع له التسمية عند ابتداء ارسال السهم
445

ولا يشرع عند ابتداء العدو إلى ضربه بل عند ابتداء ضربه وإذا ثبت هذا علم أن مرسل السهم
اصطاد في الحرم بخلاف العادي قال أبو علي البندنيجي في كتابه الجامع وهكذا لو عدا من الحل
إلى صيد في الحل فسلك الحرم ثم خرج إليه فقتله فلا شئ عليه بلا خلاف *
* قال المصنف رحمه الله *
(وان دخل كافرا إلى الحرم فقتل فيه صيدا فقد قال بعض أصحابنا يجب عليه الضمان لأنه ضمان
يتعلق بالاتلاف فاستوى فيه المسلم والكافر كضمان الأموال ويحتمل عندي انه لا ضمان عليه لأنه
غير ملتزم بحرمة الحرم فلا يضمن صيده) *
(الشرح) المشهور في المذهب وجوب الجزاء عليه وينكر على المصنف قوله قال بعض أصحابنا
فأوهم انفراد بعض الأصحاب به مع أنه مشهور قطع به الأصحاب في الطريقتين وهذا الاحتمال الذي
قاله المصنف غريب انفرد به وجعله صاحب البيان وجها فحكاه عن المصنف ورجحه الفارقي تلميذ
المصنف وليس كما قال بل المذهب وجوب الضمان وبه قطع الأصحاب في الطريقتين ممن صرح به
446

الشيخ أبو حامد في تعليقه والقاضي أبو الطيب في كتابيه التعليق والمجرد وأبو علي البندنيجي في
كتابه الجامع والدارمي والمحاملي في كتابيه قال البندنيجي وسائر الأصحاب ولا يفارق الكفر
المسلم في ضمان صيد الحرم وشجره وسائر نباته الا في شئ واحد وهو انه لا يجوز له الجزاء بالصيام
بل يتخير بين المثل والطعام
* قال المصنف رحمه الله *
(ويحرم قلع شجر الحرم ومن أصحابنا من قال ما أنبته الآدميون يجوز قلعه والمذهب الأول
لحديث ابن عباس رضي الله عنهما ولان ما حرم لحرمة الحرم استوى فيه المباح والمملوك كالصيد ويجب فيه
الجزاء فإن كانت شجرة كبيرة ضمنها ببقرة وإن كانت صغيرة ضمنها بشاة لما روى ابن عباس رضي الله عنهما
أنه قال (في الدوحة بقرة وفى الشجرة الجزلة شاة) فان قطع غصنا منها ضمن ما نقص فان نبت مكانه فهل يسقط
عنه الضمان على القولين بناء على القولين في السن إذا قلع ثم نبت * ويجوز أخذ الورق ولا يضمنه لأنه
لا يضر بها وان قلع شجرة من الحرم لزمه ردها إلى موضعها كما إذا أخذ صيدا منه لزمه تخليته فان
أعادها إلى موضعها فنبت لم يلزمه شئ وان لم تنبت وجب عليه ضمانها * ويحرم قطع حشيش الحرم
لقوله صلى الله عليه وسلم (ولا يختلي خلاها) ويضمنه لأنه ممنوع من قطعه لحرمة الحرم فضمنه
كالشجر وان قطع الحشيش فنبت مكانه لم يلزمه الضمان قولا واحدا لان ذلك يستخلف في العادة
فهو كسن الصبي إذا قلعه فنبت مكانه مثله بخلاف الأغصان ويجوز قطع الإذخر لحديث ابن عباس رضي الله
عنهما ولان الحاجة تدعو إليه ويجوز رعى الحشيش لان الحاجة تدعو إلى ذلك فجاز كقطع الإذخر ويجوز
قطع العوسج والشوك لأنه مؤذ فلم يمنع من إتلافه كالسبع والذئب) *
(الشرح) قوله ولا ما حرم لحرمة الحرم احتراز من الصيد في الحل في حق الحلال فإنه لا يستوي
فيه المباح والمملوك بل يحل له اصطياد المباح دون المملوك قال القلعي وقياسه على الصيد في هذه
العلة غير مسلم لان الصيد المملوك يجوز ذبحه وتثبت اليد عليه في الحرم دون المباح وإنما يستوي
المباح والمملوك في التحريم على لمحرم خاصة والدوحة بدال مفتوحة وحاء مهملتين بينهما واو ساكنة
وهي العظيمة (وقوله) ممنوع قطعه لحرمة الحرم احتراز من قطع شجر و ج والنقيع وغيرهما وقال القلعي
احتراز من قطع يد نفسه وهذا صحيح لكن الأول أحسن (قوله) يستخلف لو قال يخلف كان أجود
(أما) الأحكام فقال الشافعي والأصحاب يحرم قطع نبات الحرم كما يحرم اصطياد صيده وهذا مجمع عليه
لحديث ابن عباس وهو في الصحيحين كما سبق وهل يتعلق بنباته الضمان فيه طريقان (أحدهما) وبه
قطع المصنف والعراقيون وجماعة وغيرهم يتعلق كالصيد (والثاني) حكاه الخراسانيون فيه قولان
447

(أصحهما) هذا (والثاني) لا ضمان فيه لان الصيد نص فيه على الجزاء بخلاف النبات وهذا القول حكوه عن
القديم والمذهب وجوب الضمان * ثم النبات ضربان شجر وغيره (أما) الشجر فيحرم التعرض بالقلع
والقطع لكل شجر رطب حرمي غير مؤذ فاحترزنا بالرطب عن اليابس فلا يحرم قطعه ولا
ضمان فيه بلا خلاف كما لو قد صيدا ميتا نصفين * هكذا قاسه البغوي والأصحاب واحترزنا بغير مؤذ
عن العوسج وكل شجرة ذات شوك فلا يحرم ولا يتعلق بقطعه ضمان كالحيوان المؤذى * هذا هو
المذهب وبه قطع المصنف والجمهور وفى وجه حكاه القاضي حسين والمتولي واختاره المتولي انه مضمون
لاطلاق الحديث ويخالف الحيوان فإنه يقصد للأذى وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال (ولا يعضد شوكها) وهذا مما يقوى هذا الوجه وللقائلين بالمذهب أن يجيبوا عنه بأنه مخصوص
بالقياس على الفواسق الخمس ونحوها من المؤذى والله أعلم * واحترزنا بالحرمى عن أشجار الحل
فلا يجوز أن يقلع شجرة من الحرم وينقلها إلى الحل محافظة على حرمتها ولو نقل فعليه ردها
بخلاف ما لو نقل من بقعة من الحرم إلى بقعة أخرى منه لا يؤمر بالرد وسواء نقل أشجار الحرم أو
أغصانها إلى الحل أو الحرم ينظر ان يبست لزمه الجزاء وان نبتت في الموضع المنقول إليه فلا جزاء
عليه فلو قلعها قالع لزم القالع الجزاء ابقاء لحرمة الحرم ولو قلع شجرة أو غصنا من الحل وغرسها
في الحرم فنبتت لم يثبت لها حكم الحرم فلو قلعها هو أو غيره فلا شي ه عليه بلا خلاف * اتفق
448

أصحابنا على هذا في الطريقين * ونقل إمام الحرمين عن الأصحاب انهم نقلوا الاتفاق عليه بخلاف
الصيد إذا دخل الحرم وهو على الإباحة فإنه يحرم التعرض له ويجب الجزاء لان الصيد ليس بأصل
ثابت فاعتبر مكانه والشجر أصل ثابت فله حكم منبته حتى لو كان أصل الشجرة في الحرم وأغصانها
في الحل حرم قطع أغصانها ووجب فيه الضمان ولو كان أصلها في الحل وأغصانها في الحرم فلا شئ في قطع
أغصانها قال أبو علي البندنيجي والمتولي والروياني ولو كان بعض أصل الشجرة في الحل وبعضه في الحرم
فلجميعها حكم الحرم *
(فرع) إذا أخذ غصنا من شجرة حرمية ولم يخلف فعليه ضمان النقصان وسبيله ضمان جرح
الصيد وان أخلف في تلك السنة لكون الغصن لطيفا كسواك وغيره فلا ضمان * وإذا أوجبنا
الضمان لعدم اخلافه فنبت الغصن وكان المقطوع مثل النابت ففي سقوط الضمان القولان اللذان حكاهما
المصنف (أصحهما) لا يسقط *
(فرع) اتفق أصحابنا على جواز أخذ أوراق الأشجار لكن يؤخذ بسهولة ولا يجوز خبطها
بحيث يؤذى قشورها * قال أصحابنا قال الشافعي في القديم يجوز أخذ الورق من شجر الحرم
وقطع الأغصان الصغار للسواك * وقال في الاملاء لا يجوز ذلك قال أصحابنا ليست على قولين
بل على حالين فالموضع الذي قال يجوز أراد إذا لقط الورق بيده وكسر الأغصان الصغار بيده
بحيث لا تتأذى نفس الشجرة والموضع الذي قال لا يجوز أراد إذا خبط الشجرة حتى تساقط الورق
وتكسرت الأغصان لان ذلك يضر الشجرة هكذا ذكر هذا التأويل للحصر والجمع بينهما الشيخ
أبو حامد في تعليقه وأبو علي البندنيجي والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد وآخرون ونقله صاحب
البيان عن الأصحاب والله أعلم * واتفق أصحابنا على جواز أخذ ثمار شجر الحرم وإن كانت أشجارا
مباحة كالأراك ويقال لثمرة الأراك الكباث بكاف مفتوحة ثم باء موحدة مخففة ثم الف ثم ثاء مثلثة
واتفقوا على أخذ عود السواك ونحوه وسبق في الباب الماضي الفرق بين أخذ الأوراق وأخذ شعر
الصيد فإنه مضمون لان أخذه يضر الحيوان في الحر والبرد *
449

(فرع) هل يعم التحريم والضمان ما ينبت من الأشجار بنفسه وما يستنبت أم يختص بما نبت
بنفسه فيه طريقان حكاهما الشيخ أبو حامد وأبو علي البندنيجي وآخرون (أصحهما) وأشهرهما
على قولين وبهذا قطع المصنف والجمهور (وأصح) القولين عند المصنف وسائر العراقيين والجمهور من
غيرهم التعميم (والثاني) التخصيص وبه قطع امام الحرمين والغزالي (والطريق الثاني) القطع بالتعميم
وهو الذي اختاره الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في تعليقهما وآخرون قال أبو حامد وشجر
الحرم حرام سواء نبت بنفسه أو أنبته آدمي * قال وحكي بعض أصحابنا عن الشافعي أنه قال
إنما يحرم ما نبت بنفسه دون ما أنبته آدمي * قال أبو حامد وإنما أخذ هذا من قول
الشافعي في الاملاء ولو قطع شجرة من شجر الحرم فعليه الجزاء إذا كان لا مالك له فمفهومه انه إذا
كان له مالك فلا جزاء * قال أبو حامد وهذا ليس بشئ لأنه إنما خص الشجر الذي لا مالك له
فتبين ان الواجب فيه الجزاء فقط ولم يذكر ماله مالك لان فيه الجزاء أو القيمة هذا كلام أبي حامد
وقطع الماسرجسي والدارمي والماوردي بان ما زرعه الآدمي من التمر كالعنب والنخل والتفاح والتين
ونحوها فلا ضمان فيه ولا يحرم قطعه وأنكر القاضي أبو الطيب في المجرد هذا عليهم وقال هذا خلاف
نص الشافعي وخلاف قول أكثر أصحابنا فان التحريم والضمان عام في الجميع وهكذا نقل أبو علي
البندنيجي عن نص الشافعي في عامة كتبه انه يجب الضمان في شجر السفرجل والتفاح وسائر
ما أنبته الأرض من الثمار فالحاصل أن المذهب التعميم فإذا قلنا بالضعيف وهو التخصيص زيد في
الضابط الذي قدمناه قيد آخر وهو كون الشجر مما ينبت بنفسه وعلى هذا القول يحرم الادراك والطرفا
وغيرهما من أشجار البوادي دون التين والعنب والتفاح والصنوبر وسائر ما ينبته الآدمي سواء
كان مثمرا كما ذكرنا أو غيره كالحلان وادرج امام الحرمين في هذا القسم العوسج * وأنكر الأصحاب
ذلك عليه لأنه ذو شوك وقد سبق اتفاق على أن ماله شوك لا يحرم ولا ضمان فيه * وعلى هذا القول
الضعيف وهو التخصيص لو نبت ما يستنبت أو عكسه فوجهان (الصحيح) الذي قطع به الجمهور ان
الاعتبار بالجنس فيجب الضمان في الثاني دون الأول (والثاني) وهو قول أبي العباس بن العاص في
التلخيص ان الاعتبار بالقصد فينعكس الحكم (وان قلنا) بالمذهب وهو التعميم فجميع الشجر حرام
سواء ما نبت بنفسه وما أنبته آدمي والمثمر وغيره الا العوسج وسائر شجر الشوك وكذا ما قطع
450

من الحل وغرس في الحرم فإنه لا يحرم كما سبق والله أعلم * قال صاحب البيان صورة مسألة الخلاف
فيما أنبته الآدمي ان يأخذ غصنا من شجرة حرمية فيغرسه في موضع من الحرم أما إذا اخذ شجرة
أو غصنا من الحل فغرسه في الحرم ثم قلعها هو أو غيره فلا شي عليه بلا خلاف كما سبق *
(فرع) لو انتشرت أغصان شجرة حرمية ومنعت الناس الطريق أو آذتهم جاز قطع المؤذى
منها * هذا هو المذهب وبه قطع الجمهور وممن قطع به أبو الحسن بن المرزبان والقاضي أبو الطيب
في كتابه المجرد والروياني وآخرون وحكاه الدارمي عن ابن مرزبان ثم قال ويحتمل عندي الضمان *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب حيث وجب ضمان الشجر فإن كانت شجرة كبيرة ضمنها ببقرة
وإن شاء ببدنة وما دونها بشاة * قال إمام الحرمين وغيره والمضمونة بشاة ما كانت قريبة من
سبع الكبيرة فان صغرت جدا فالواجب القيمة * قال أصحابنا ثم البقرة والشاة والقيمة على التعديل
والتخيير كالصيد فان شاء أخرج البقرة أو الشاة فذبحها وفرق لحمها وان شاء قومها دراهم وأخرج
بقيمتها طعاما وان شاء صام عن كل مد يوما إلا أن يكون المتلف كافرا فإنه لا يدخل ذلك صيامه كما
سبق والله أعلم * قال الشيخ أبو حامد الدوحة هي الشجرة الكبيرة ذات الأغصان والجزلة التي
لا أغصان لها وأطلق أكثر الأصحاب أن الجزلة هي الصغيرة (الضرب الثاني) من نبات الحرم
غير الشجر وهو نوعان (أحدهما) ما زرعه الآدمي كالحنطة والشعير والذرة والقطفرة والبقول
والخضراوات فيجوز لمالكه قطعه ولا جزاء عليه وان قطعه غيره فعليه قيمته لمالكه ولا شئ عليه
للمساكين وهذا لا خلاف فيه صرح به الماوردي وابن الصباغ وصاحب البيان وآخرون (النوع الثاني)
ما لم ينبته الآدمي وهو أربعة أصناف (الأول) الإذخر وهو مباح فيجوز قلعه وقطعه بلا خلاف لحديث
ابن عباس ولعموم الحاجة إليه (والثاني) الشوك فيجوز قطعه وقلعه كما سبق في العوسج وشجر الشوك
وممن صرح به هنا الماوردي (الثالث) ما كان دواء كالسنا ونحوه وفيه طريقان (أحدهما) القطع بجوازه
لأنه مما يحتاج إليه فالحق بالإذخر وقد أباح النبي صلى الله عليه وسلم الإذخر للحاجة هذا في معناه * وممن
جزم بهذا الطريق الماوردي (والطريق الثاني) فيه وجهان (أصحهما) الجواز (والثاني) المنع * وممن
حكى هذا الطريق الشيخ أبو علي السنجي في شرح التلخيص وإمام الحرمين والبغوي وآخرون لكن
451

خص هؤلاء الخلاف بما إذا احتاج إلى ذلك للدواء ولم يخصه الماوردي بل عممه وجعله مباحا مطلقا
كالإذخر (الرابع) الكلأ فيحرم قطعه وقلعه إن كان رطبا فان قلعه لزمته القيمة وهو مخير بين اخراجها
طعاما والصيام كما سبق في الشجر والصيد * هذا إذا لم يخلف المقلوع فان أخلف فلا ضمان على الصحيح
وبه قطع المصنف والجمهور لان الغالب هنا الا خلاف فهو كسن الصبي فإنها إذا قلعت فنبتت فلا ضمان
قولا واحدا * هكذا ذكر الأصحاب في الطريقتين الحكم والدليل * وشذ عنهم القاضي أبو الطيب
فقال في تعليه إذا قطع الحشيش ثم نبت ضمنه قولا واحدا ولا يكون على القولين في الغصن إذا عاد قال
والفرق ان الحشيش بخلف في العادة فلو أسقطنا الضمان عن قاطعه بعوده أدى ذلك إلى الاغراء بقطعه
بخلاف الغصن فإنه قد يعود وقد لا يعود * هذا كلام القاضي في تعليقه وجزم هو في كتابه المجرد
بسقوط الضمان إذا نبت الحشيش كما قاله الأصحاب وهو المذهب * هذا إذا عاد كما كان فان عاد ناقصا
ضمن ما نقص بلا خلاف والله أعلم * هذا كله في غير اليابس (أما) اليابس فقال البغوي إن كان قطعه
فلا شئ عليه كما سبق في الشجر اليابس وان قلعه لزمه الضمان لأنه لو لم يقلعه لنبت ثانيا هذا لفظ
البغوي وتابعه عليه الرافعي * وقال الماوردي إذا جف الحشيش ومات جاز قلعه وأخذه وهذا لا يخالف
قول البغوي فيكون قول البغوي ان القلع يوجب الضمان فيما إذا كان اليابس لم يمت بل هو مما ينبت
لولا القلع ولم يفسد أصله وقول الماوردي إنما هو فيما مات ولا يرجى نباته لو بقي والله أعلم * واتفق
452

أصحابنا على جواز تسريح البهائم في كلا الحرم لترعى واستدلوا بحديث ابن عباس قال (أقبلت راكبا
على اتان فوجدت النبي صلى الله عليه وسلم يصلى بالناس بمني إلى غير جدار فدخلت في الصف وأرسلت الأتان يرتع)
رواه البخاري ومسلم ومنى من الحرم * ولو اخذ الكلأ لعلف البهائم ففي جوازه وجهان حكاهما الشيخ
أبو علي السنجي في شرح التلخيص وامام الحرمين والبغوي والرافعي وآخرون (أحدهما) التحريم ووجوب
الضمان لعموم قوله صلى الله عليه وسلم (لا يختلى خلاها) (والثاني) الجواز ولا ضمان قال الرافعي وهو الأصح كما لو
أرسل دابته ترعى ولان تحريم الاحتشاش إنما كان لتوفير الكلأ للبهائم والصيود * وقال الامام
وهذا القائل بقول إنما يحرم الاختلاء والاحتشاش للبيع وغيره من الأغراض سوى العلف
والله أعلم *
(فرع) قال أهل اللغة العشب والخلا مقصور اسم للرطب والحشيش اسم لليابس * وقد ذكر
ابن مكي وغيره في لحن العوام اطلاقهم الحشيش على الرطب قالوا والصواب اختصاص الحشيش
باليابس قالوا والكلأ مهموز يقع على الرطب واليابس * هذا كلام أهل اللغة وأما المصنف والأصحاب
453

فأطلقوا الحشيش على الرطب وهذا يصح على المجاز فسمي الرطب حشيشا باسم ما يؤول إليه لكونه
أقرب إلى افهام أهل العرف والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(ولا يجوز إخراج تراب الحرم وأحجاره لما روى عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما انهما
كانا يكرهان أن يخرج من تراب الحرم إلى الحل أو يدخل من تراب الحل إلى الحرم * وروى عبد الاعلى
ابن عبد الله بن عامر قال (قدمت مع أمي أو مع جدتي مكة فأتينا صفية بنت شيبة فأرسلت إلى الصفا
فقطعت حجرا من جنابه فخرجنا به فنزلنا أول منزل فذكر من علتهم جميعا فقالت أمي أو جدتي
ما أرانا أتينا إلا أنا أخرجنا هذه القطعة من الحرم قال وكنت أنا أمثلهم فقالت لي انطلق بهذه
القطعة إلى صفية فردها وقل لها ان الله عز وجل وضع في حرمه شيئا لا ينبغي أن يخرج منه قال
454

عبد الاعلى فما هو إلا أن نحينا ذلك فكأنما أنشطنا من عقال) ويجوز إخراج ماء زمزم لما روى
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (استهدى رواية من ماء زمزم فبعث إليه براوية من ماء ولأن الماء يستخلف
بخلاف التراب والأحجار) *
(الشرح) أمما حديث ماء زمزم فروى البيهقي باسناده عن ابن عباس رضي الله عنه قال
(استهدى النبي صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو من ماء زمزم) وبإسناده عن جابر رضي الله عنه
قال (أرسلني النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة قبل أن يفتح مكة إلى سهل بن عمرو ان اهد لنا
من ماء زمزم ولا تترك فبعث إليه بمزادتين) وعن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها (كانت
تحمل ماء زمزم وتخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله) رواه الترمذي قال حديث حسن الاسناد
ورواه البيهقي هكذا ثم قال وفى رواية (حمله رسول الله صلى الله عليه وسلم في الادوى والقرب وكان يصب على
المرضى ويسقهم) (وأما) تراب الحرم وأحجاره فروى الشافعي والبيهقي عن ابن عباس وابن عمر
انهما كرها أن يخرج من تراب الحرم وحجارته إلى الحل شئ (وأما) حديث عبد الاعلى الذي
ذكره المصنف فرواه الشافعي والبيهقي بلفظ يخالف رواية المصنف فلفظهما عن عبد الاعلى قال
(قدمت مع أمي أو قال جدتي فأتتها صفية بنت شيبه فأكرمتها وفعلت بها قالت صفية ما أدرى
ما أكافئها به فأرسلت إليها بقطعة من الركن فخرجنا بها فنزلنا أول منزل فذكرنا من مرضهم وعلتهم
455

جميعا قال فقالت أمي أو جدتي ما أرانا أتينا إلا أنا أخرجنا هذه القطعة من الحرم فقالت لي وكنت
أمثلهم انطلق بهذه القطعة إلى صفية فردها وقل لها إن الله تعالى قد وضع في حرمه شيئا فلا ينبغي
أن يخرج منه قال عبد الاعلى فقالوا لي فما هو الا أن تجبنا بدخولك الحرم فكأنما انشطنا من عقل)
هذا لفظ رواية الشافعي والبيهقي وغيرهما وذكر أبو الوليد الأزرقي في كتاب مكة في فضل الحجر
الأسود انها أعطتهم قطعة من الحجر الأسود كانت عندها أصبتها حين اقتلع الحجر في زمن ابن الزبير
حين حاصره الحجاج وهذا معني رواية الشافعي قطعة من الركن أي الركن الأسود والمراد الحجر
الأسود والله أعلم * وعبد الاعلي هذا تابعي قريشي (وأما) صفية هذه فهي صحابية قريشية عبدرية
456

وهي صفية بنت شيبة الصحابي حاجب الكعبة وهو شيبة بن عثمان بن طلحة بن أبي طلحة واسم
طلحة هذا عبد الله بن عثمان بن عبد الدار بن قصي قالت صفية (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يستلم الركن
بمحجن) رواه أبو داود ولها في الصحيحين خمسة أحاديث عن عائشة (اما) الأحكام ففيه مسائل
(إحداها) اتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على جواز نقل ماء زمزم إلى جميع البلاد واستحباب
اخذه للتبرك ودليله ما ذكره المصنف مع ما ذكرته (الثانية) اتفقوا على أن الأولى ان لا يدخل تراب
457

الحل وأحجاره الحرم لئلا يحدث لها حرمة لم تكن ولا يقال إنه مكروه لأنه لم يرد فيه نهي صحيح
صريح وأما قول صاحب البيان قال الشيخ أبو إسحاق لا يجوز إدخال شئ من تراب الحل وأحجاره
إلى الحرم فغلط منه ولم يذكر الشيخ أبو إسحاق هذا الذي ادعاه (الثالثة) قال المصنف لا يجوز
إخراج تراب الحرم وإحجاره إلى الحل هذه عبارة المصنف وكذا قال المحاملي في كتابيه المجموع
والتجريد لا يجوز إخراجهما وتابعهما صاحب البيان في هذه العبارة وقال صاحب الحاوي يمنع من
إخراجهما وقال الدارمي لا يخرجهما وقال كثيرون أو الأكثرون من أصحابنا يكره إخراجهما
فأطلقوا لفظ الكراهية * ممن قال يكره الشيخ أبو حامد في تعليقه وأبو علي البندنيجي والقاضي حسين
والبغوي والمتولي وصاحب العدة والرافعي وآخرون وقال القاضي أبو الطيب في كتابه المجرد قال
458

الشافعي في الجامع الكبير ولا أجيز في أن يخرج من حجارة الحرم وترابه شيئا إلى الحل لان له
حرمة قال وقال في القديم ثم أكره اخراجهما قال الشافعي ورخص بعض الناس في ذلك واحتج
بشراء البرام من مكة قال الشافعي هذا غلط فان البرام ليست من حجارة الحرم بل تحمل من مسيرة
يومين أو ثلاثة من الحرم * هذا نقل القاضي وهكذا نقل الأصحاب عن الشافعي نحو هذا فحصل
خلاف للأصحاب في أن إخراجهما مكروه أو حرام قال المحاملي وغيره فان أخرجه فلا ضمان قال
الماوردي وغيره وإذا أخرجه فعليه رده إلى الحرم قال الشيخ أبو حامد في موضع آخر وهو آخر
الحج من تعليقه ذكر الشافعي هذه المسألة في الأمالي القديمة وعللها بأن الحرم بقعة تخالف سائر
البقاع ولها شرف على غيرها بدليل اختصاص النسكين بها ووجوب الجزاء في صيدها فلا تفوت هذه
الحرمة لترابها والله أعلم *
(فرع) في حكم ستره الكعبة قال صاحب التلخيص لا يجوز بيع أستار الكعبة وكذا قال
أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا لا يجوز قطع أستار الكعبة ولا قطع شئ من ذلك قال ولا يجوز
459

نقله ولا بيعه وشراؤه خلاف ما يفعله العامة يشترونه من بني شيبة وربما وضعوه في أوراق المصاحف
قال ومن حمل منه شيئا لزمه رده * وحكى الرافعي قول ابن عبدان وسكت عليه ولم يذكر غيره
فكأنه ارتضاه ووافقه عليه وكذا قال أبو عبد الله الحليمي من أئمة أصحابنا لا ينبغي ان يؤخذ
منها شئ وحكى الشيخ أبو عمرو بن الصلاح قول الحليمي وابن عبدان ثم قال الامر فيها إلى الامام
يصرفها في بعض مصارف بيت المال بيعا وعطاء واحتج بما رواه الأزرقي صاحب كتاب مكة
ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينزع كسوة البيت كل سنة فيقسمها على الحاج وهذا الذي اختاره
460

الشيخ أبو عمرو حسن متعين ليلا يؤدى إلى تلفها بطول الزمان * وقد روى الأزرقي عن عمر رضي الله
عنه ما سبق وروى الأزرقي أيضا عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما انهما قالا تباع كسوتها
ويجعل ثمنها في سبيل الله والمساكين وابن السبيل قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة ولا بأس أن يلبس
كسوتها من صارت إليه من حائض وجنب وغيرهما والله أعلم *
461

(فرع) لا يجوز أخذ شئ من طيب الكعبة لا للتبرك ولا لغيره ومن أخذ شيئا منه لزمه رده
إليها فان أراد التبرك أتي بطيب من عنده فمسحها به ثم أخذه والله أعلم *
(فرع) مهم في بيان حدود حرم مكة الذي يحرم فيه الصيد والنبات ويمنع أخذ ترابه وأحجاره
وبيان ما يتعلق به من الأحكام وما يخالف فيه غيره من الأرض وفيه مسائل (إحداها) في حدود
الحرم وقد ذكرها المصنف في أواخر كتاب الجزية مختصرة والله أعلم ان الحرم هو مكة وما أحاط
بها من جوانبها جعل الله تعالى لها حكمها في الحرمة تشريفا لها ومعرفة حدود الحرم من أهم ما يعتنى
462

به لكثرة ما يتعلق به من الأحكام وقد اجتهدت في ايضاحه وتتبع كلام الأئمة في اتقانه على أكمل
وجوهه بحمد الله تعالى فحد الحرم من جهة المدينة دون التنعيم عند بيوت نفار على ثلاثة أميال من مكة
ومن طريق اليمن طرف أضاة لبن في ثنية لبن علي سبعة أميال من مكة ومن طريق الطائف على عرفات
من بطن نمرة على سبعة أميال ومن طريق العراق على ثنية جبل بالمقطع على سبعة أميال ومن طريق
الجعرانة في شعب آل عبد الله بن خالد على تسعة أميال ومن طريق جدة منقطع الاعشاش على عشرة
463

أميال من مكة * هكذا ذكر هذه الحدود أبو الوليد الأزرقي في كتاب مكة وأبو الوليد هذا أحد
أصحاب الشافعي الآخذين عنه الذين رووا عنه الحديث والفقه * وكذا ذكر هذه الحدود الماوردي
صاحب الحاوي في كتابه الأحكام السلطانية * وكذا ذكرها المصنف وأصحابنا في كتب المذهب
إلا أن عبارة بعضهم أوضح من بعض لكن الأزرقي قال في حده من طريق الطائف أحد عشرة
ميلا والذي قاله الجمهور سبعة فقط بتقديم السين على الباء وفى هذه الحدود ألفاظ غريبة ينبغي ضبطها
فقولهم ببوت نفار هو بكسر النون وبالفاء وقولهم أضاة لبن بفتح الهمزة وبالضاد المعجمة
على وزن القناة وهي مستنقع الماء (وأما) لبن فبلام مكسورة ثم باء موحدة ساكنة كذا ضبطها
الامام الحافظ أبو بكر الحازمي المتأخر في كتابه المؤتلف والمختلف في أسماء الأماكن (وقولهم) الاعشاش
هو بفتح الهمزة وبشينين معجمتين جمع عش (وقولهم) في جدة من جهة الجعرانة تسعة أميال
هو بتقديم التاء على السين (وأما) الحدود الثلاثة الباقية فإنها سبعة سبعة بتقديم السين (واعلم) أن
الحرم عليه علامات منصوبة في جميع جوانبه * ذكر الأزرقي وغيره بأسانيدهم أن إبراهيم الخليل
عليه السلام علمها ونصب العلامات فيها وكان جبريل عليه السلام يريه مواضعها ثم أمر نبينا صلى الله عليه وسلم
بتحديدها ثم عمر ثم عثمان ثم معاوية رضي الله عنهم وهي إلى الآن بينة ولله الحمد * قال الأزرقي في آخر
كتاب مكة انصاب الحرم التي على رأس الثنية ما كان من وجوهها في هذا الشق فهو حرم وما كان
في ظهرها فهو حل قال وبعض الاعشاش في الحل وبعضه في الحرم (المسألة الثانية) حكي الماوردي
464

خلافا للعملاء في أن مكة مع حرمتها هل صارت حرما آمنا بقول إبراهيم عليه السلام أم كانت قبله
كذلك فمنهم من قال لم تزل حرما ومنهم من قال كانت مكة حلالا قبل دعوة إبراهيم عليه السلام
كسائر البلاد وإنما صارت حرما بدعوته كما صارت المدينة حرما بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن كانت
حلالا * واحتج هؤلاء بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في جملة
حديث طويل (اللهم ان إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما وإني حرمت المدينة حراما مأزميها ان
لا يراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف) رواه مسلم في آخر كتاب
الحج من صحيحه * وفى رواية لمسلم عن أبي سعيد أيضا انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إني حرمت ما بين
لابتي المدينة كما حرم إبراهيم مكة) * وعن جابر رضي الله عنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم ان إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لا بيتها لا يعضد عضاهها ولا يصاد صيدها)
رواه مسلم * وعن أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (اللهم ان إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة وما بين
لا بيتها) رواه البخاري ومسلم هذا لفظ البخاري ولفظ مسلم وفى رواية للبخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم
لما أشرف على المدينة قال (اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم به إبراهيم مكة) * وعن رافع بن
خديج قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها يريد المدينة)
465

رواه مسلم وعن عبد الله بن زيد بن عاصم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ان إبراهيم حرم
مكة ودعا لأهلها واني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة وانى دعوت في صاعها ومدها بمثل ما دعي
به إبراهيم لأهل مكة) رواه البخاري ومسلم * واحتج القائلون بأن تحريمها لم يزل من حين خلق
الله السماوات والأرض بحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة (هذا بلد حرمه الله تعالى
يوم خلق السماوات والأرض وهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة) رواه البخاري ومسلم * وعن أبي سريج
الخزاعي رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ان مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس) رواه
البخاري ومسلم ومن قال بهذا أجاب عن الأحاديث السابقة بأن إبراهيم عليه السلام أظهر تحريمها
بعد إن كان خفيا مهجورا لا يعلم لا انه ابتدأه ومن قال بالمذهب الأول أجاب عن حديث ابن عباس
بأن المراد ان الله تعالى كتب في اللوح المحفوظ أو غيره ان مكة سيحرمها إبراهيم أو أظهر ذلك
للملائكة (والأصح) من القولين انها ما زالت محرمة من حين خلق الله تعالى السماوات والأرض
والله أعلم * (المسألة الثالثة) مذهبنا أنه يجوز بيع دور مكة واجاراتها وسائر المعاملات عليها وكذا
سائر الحرم كما يجوز في غيرها وستأتي المسألة مبسوطة بدلائلها وفروعها حيث ذكرها الأصحاب في
آخر باب ما يجوز بيعه إن شاء الله تعالى (الرابعة) مذهبنا أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة
صلحا لا عنوة لكن دخلها صلى الله عليه وسلم متأهبا للقتال خوفا من غدر أهلها وستأتي المسألة بدلائلها وفروعها
حيث ذكرها المصنف في كتاب السير والغنائم إن شاء الله تعالى (الخامسة) مذهبنا جواز إقامة
الحدود والقصاص في الحرم سواء كان قتلا أو قطعا سواء كانت الجناية في الحرم أو خارجه ثم لجأ
إليه وستأتي المسألة بادلتها وفروعها حيث ذكرها المصنف في آخر باب استيفاء القصاص ان شاء
466

الله تعالى (السادسة) في الأحكام التي يخالف الحرم فيها غيره من البلاد وهي كثيرة نذكر منها
أطراف (أحدها) أنه ينبغي أن لا يدخله أحد الا باحرام وهل ذلك واجب أم مستحب فيه خلاف
سبق (الأصح) مستحب (الثاني) يحرم صيده على جميع الناس حتى أهل الحرم والمحلين (الثالث)
يحرم شجره وخلاه (الرابع) منع إخراج ترابه وأحجاره وهل هو منع كراهة أو تحريم فيه الخلاف
السابق (الخامس) أنه يمنع كل كافر من دخوله مقيما كان أو مارا هذا مذهبنا ومذهب الجمهور
وجوزه أبو حنيفة ما لم يستوطنه وستأتي المسألة بادلتها وفروعها حيث ذكرها المصنف في كتاب
467

الجزية إن شاء الله تعالى (السادس) لا تحل لقطته لمتملك ولا تحل الا لمنشد هذا هو المذهب وفيه وجه
ضعيف (السابع) تغليظ الدية بالقتل فيه (الثامن) تحريم دفن المشرك فيه ونبشه منه (التاسع) تخصيص
ذبح دماء الجزاءات في الحج والهدايا (العاشر) لا دم على المتمتع والقارن إذا كان من أهله (الحادي
عشر) لا يكره صلاة النفل التي لا سبب لها في وقت من الأوقات في الحرم سواء في مكة وسائر
الحرم وفيما عدا مكة وجه شاذ سبق بيانه في بابه (الثاني عشر) إذا نذر قصده لزمه الذهاب إليه
بحج وعمرة بخلاف غيره من المساجد فإنه لا يجب الذهاب إليه إذا نذره الا مسجد رسول الله
468

صلى الله عليه وسلم والمسجد الأقصى على أحد القولين فيهما (الثالث عشر) إذا نذر النحر وحده
بمكة لزمه النحر بها وتفرقة اللحم على مساكين الحرم ولو نذر ذلك في بلد اخر لم ينعقد نذره في
أصح الوجهين (الرابع عشر) يحرم استقبال الكعبة واستدبارها بالبول والغائط في الصحراء
(الخامس عشر) تضعيف الاجر في الصلوات بالمسجد الحرام وكذا سائر الطاعات (السادس
عشر) يستحب لأهل مكة أن يصلوا العيد في المسجد الحرام (وأما) غيرهم فهل الأفضل صلاتهم
في مسجدهم أم في الصحراء فيه خلاف سبق في باب صلاة العيد (السابع عشر) لا يجوز
أحرام المقيم في الحرم بالحج خارجه (المسألة السابعة) مكة عندنا أفضل الأرض وبه قال علماء
469

مكة والكوفة وابن وهب وابن حبيب المالكيان وجمهور العلماء * قال العبدري هو قول أكثر
الفقهاء وهو مذهب أحمد في أصح الروايتين عنه * وقال مالك وجماعة المدينة أفضل وأجمعوا على
أن مكة والمدينة أفضل الأرض وإنما اختلفوا في أيهما أفضل * دليلنا حديث عبد الله بن عدي بن
الحمراء رضي الله عنه انه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بمكة يقول (لمكة
والله أنك لخير أرض الله وأحب ارض إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت (رواه
الترمذي والنسائي وغيرهما ذكره الترمذي في جامعه في كتاب المناقب وقال هذا حديث حسن
صحيح وسنزيد المسألة بسطا وإيضاحا إن شاء الله تعالى حيث ذكرهما المصنف في كتاب النذر فيمن
470

نذر الهدى إلى أفضل البلاد * وعن ابن الزبير قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة في مسجدي هذا
أفضل من الف صلاة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام وصلاة في المسجد الحرام أفضل
من مائة صلاة في مسجدي) حديث حسن رواه أحمد في مسنده والبيهقي باسناد حسن * ونقل القاضي
عياض في آخر كتاب الحج من شرح صحيح مسلم اجماع المسلمين على أن موضع قبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم أفضل الأرض وأن الخلاف فيما سواه (الثامنة) يكره حمل السلاح بمكة لغير
حاجة لحديث جابر ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا يحل ان يحمل السلاح بمكة) رواه مسلم
471

(التاسعة) قال أصحابنا من فروض الكفاية أن تحج الكعبة في كل سنة فلا يعطل وليس لعدد المحصلين
لهذا الغرض قدر متعين بل الغرض وجود حجها كل سنة من بعض المكلفين وستأتي المسألة مبسوطة
في أول كتاب السير حيث ذكر الشافعي والمزني والأصحاب فروض الكفاية إن شاء الله تعالى
(العاشرة) عن أبي ذر رضي الله عنه قال (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع
472

في الأرض قال المسجد الحرام قلت ثم أي قال المسجد الأقصى قلت كم بينهما قال أربعون
عاما) رواه البخاري ومسلم (الحادية عشر) قال الماوردي في الأحكام السلطانية في خصائص الحرم
لا يحارب أهله فان بغوا على أهل العدل فقد قال بعض الفقهاء يحرم قتالهم بل يضيق عليهم حتى
يرجعوا عن البغي ويدخلوا في أحكام أهل العدل قال وقال جمهور الفقهاء يقاتلون على بغيهم إذا
لم يمكن ردهم عن البغي إلا بالقتال لان قتال البغاة من حقوق الله تعالى التي لا تجوز إضاعتها فحفظها
في الحرم أولى من إضاعتها * هذا كلام الماوردي وهذا الذي نقله عن أكثر الفقهاء هو الصواب
وقد نص عليه الشافعي في كتاب اختلاف الحديث من كتب الأم ونص عليه الشافعي في آخر
كتابه المسمي بسير الواقدي من كتب الأم * وقال القفال المروزي في كتابه شرح التخليص
473

في أول كتاب النكاح في ذكر الخصائص لا يجوز القتال بمكة قال حتى لو تحصن جماعة من
الكفار فيها لم يجز لنا قتالهم فيها وهذا الذي قاله القفال غلط نبهت عليه لئلا يغتر به (فان
قيل) فقد ثبت عن أبي سريج الخزاعي رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم
474

في اليوم الذي بعد يوم فتح مكة يقول (إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ولا يحل لامرئ
يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دما ولا يعضد بها شجرة فان أحد ترخص لقتال رسول الله
صلى الله عليه وسلم فيها فقولوا له ان الله قد اذن لرسوله ولم يأذن لكم وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت
اليوم كحرمتها بالأمس وليبلغ الشاهد الغائب) رواه البخاري ومسلم وفى الصحيحين أحاديث كثيرة
بمعناه في تحريم القتال بمكة وأنها لم يحل القتال بها إلا ساعة للنبي صلى الله عليه وسلم (فالجواب) أن معنى الحديث
تحريم نصب القتال عليهم وقتالهم بما يعم كالمنجنيق وغيره إذا أمكن إصلاح الحال بدون ذلك
بخلاف ما إذا تحصن كفار في بلد آخر فإنه يجوز قتالهم على كل وجه وبكل شئ وقد نص الشافعي
رضي الله عنه على هذا التأويل في آخر كتابه المعروف بسير الواقدي من كتب الأم والله أعلم
(الثانية عشرة) سدانة الكعبة وحجابتها هي ولايتها وخدمتها وفتحها واغلاقها ونحو ذلك وهذا حق
مستحق لبنى طلحة الحجيين من بنى عبد الدار بن قصي اتفق العلماء على هذا وممن نقله عن العلماء
القاضي عياض في أواخر كتاب الحج من شرح صحيح مسلم وذكرته أنا هناك في شرح صحيح مسلم
وأوضحته بدليله قال العلماء فهي ولاية لهم عليها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبقى دائمة أبدا لهم ولذرياتهم
لا نحل لاحد منازعتهم فيها ما داموا موجودين صالحين لذلك وقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال (كل مائرة كانت في الجاهلية فهي تحت قدمي إلا سقاية الحاج وسدانة البيت) *
475

(فرع) ذكر العلماء أن الكعبة الكريمة بنيت خمس مرات (إحداها) بنتها الملائكة قبل
آدم وحجها آدم فمن بعده من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم (الثانية) بناها إبراهيم عليه السلام
قال الله تعالى (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت) وقال تعالى (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت) الآية
(الثالثة) بنتها قريش في الجاهلية وحضر النبي صلى الله عليه وسلم هذا البناء قبل النبوة ثبت ذلك في الصحيحين
وكان له صلى الله عليه وسلم حينئذ خمس وعشرون سنة وقيل خمس وثلاثون (الرابعة) بناها ابن الزبير ثبت
ذلك في الصحيحين (الخامسة) بناها الحجاج بن يوسف في خلافة عبد الملك بن مروان ثبت ذلك
في الصحيح واستقر بناها الذي بناه الحجاج إلى الآن وقيل إنها بنيت مرتين أخرتين قبل بناء قريش
وقد أوضحته في كتاب المناسك الكبير قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في باب دخول مكة في آخر مسألة
افتتاح الطواف بالاستلام قال الشافعي أحب أن تترك الكعبة على حالها فلا تهدم لان هدمها يذهب
حرمتها ويصير كالتلاعب بها فلا يريدون بتغييرها الا هدمها فلذلك استحببنا تركها على
ما هي عليه
* قال المصنف رحمه الله *
(ويحرم صيد المدينة وقطع شجرها لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (ان
إبراهيم حرم مكة وانى حرمت المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ولا
476

يختلى خلاها ولا تحل لقطتها الا لمنشد) فان قتل فيها صيدا ففيه قولان قال في القديم يسلب القاتل
لما روى أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أخذ سلب رجل قتل صيدا في المدينة وقال سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يقول (من وجدتموه يقتل صيدا في حرم المدينة فاسلبوه) وقال في الجديد لا يسلب لأنه
موضع يجوز دخوله من غير احرام فلا يضمن صيده كوج فان قلنا يسلب دفع سلبه إلى مساكين المدينة كما يدفع
جزاء صيد مكة إلى مساكين مكة وقال شيخنا أبو الطيب رحمه الله يكون سلبه لمن أخذه لان سعد بن أبي وقاص
أخذ سلب القاتل وقال طعمة أطعمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم * ويحرم صيد و ج وهو واد
بالطائف لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل صيد و ج فان قتل فيه صيدا قتل لم يضمنه بالجزاء لان
الجزاء وجب بالشرع والشرع لم يرد الا في الاحرام والحرم ووج لا يبلغ الحرم من الحرمة فلم يلحق
به في الجزاء) *
(الشرح) حديث أبي هريرة ليس بمعروف عن أبي هريرة ولكن في الصحيح أحاديث
عن غير أبي هريرة يحصل بها مقصود المصنف في الدلالة هنا (منها) عن عبد الله بن زيد بن عاصم أن
477

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ان إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها واني حرمت المدينة كما حرم
إبراهيم مكة) الحديث رواه البخاري ومسلم وعن أبي هريرة قال (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم
ما بين لابتي المدينة) رواه البخاري ومسلم وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال (اللهم ان إبراهيم حرم مكة فجعلها حراما وانى حرمت المدينة حراما ما بين مازميها
أن لا يهراق فيها دم ولا يحمل فيها سلاح لقتال ولا تخبط فيها شجرة الا لعلف) رواه مسلم وعن سعد
ابن أبي وقاص رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إني أحرم ما بين لابتي المدينة أن
تقطع عضاهها أو يقتل صيدها) رواه مسلم وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم (إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابيتها لا يقطع عضاهها ولا يصاد صيدها)
رواه مسلم وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (المدينة حرام من كذا إلى
كذا لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين)
رواه البخاري وعن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المدينة (لا يختلى خلاها
ولا ينفر صيدها ولا يلتقط لقطتها إلا لمن أشاد بها ولا يصلح لرجل ان يحمل فيها السلاح
لقتال ولا يصلح أن يقطع منها شجر إلا أن يعلف رجل بعيره) رواه أبو داود باسناد صحيح وفى المسألة
478

أحاديث كثيرة بمعنى ما سبق والله أعلم وأما حديث سعد بن أبي وقاص المذكور في الكتاب فرواه مسلم في
صحيحه عن عامر بن سعد بن أبي وقاص أن سعدا وجد عبدا يقطع شجرا ويخبطه فسلبه فلما رجع سعد جاء أهل
العبد فكلموه أن يرد عليهم غلامهم أو ما أخذ من غلامهم فقال معاذ الله ان أرد شيئا فعله
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي أن يرد عليهم) رواه مسلم وعن سليمان بن أبن عبد الله قال رأيت سعد
ابن أبي وقاص أخذ رجلا يصيد في حرم المدينة الذي حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلبه ثيابه فجاء مواليه
فكلموه فيه فقال (ان رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم هذا الحرم وقال من أخذ أخذ فيه فليسلبه فلا أرد عليكم
طعمة أطعمنيها رسول الله صلى لله عليه وسلم ولكن إن شئتم دفعت إليكم عنه (رواه أبو داود باسناد كلهم
ثقات حفاظ إلا سليمان بن أبي داود عبد الله هذا فقال أبو حاتم ليس هو بالمشهور ولكن يعتبر
بحديثه ولم يضعفه أبو داود وهذا الذي رواه بمعني ما رواه مسلم فيقتضى مجموع هذا ان هذه الرواية
صحيحة أو حسنة وفي رواية للبيهقي أن سعدا كان يخرج من المدينة فيجد الحاطب معه شجر رطب
قد عضده من بعض شجر المدينة فيأخذ سلبه فيكلم فيه فيقول لا أدع غنيمة غنمنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم
واني لمن أكنز الناس مالا والله أعلم (وأما) حديث صيدوج فرواه البيهقي باسناده عن الزبير بن العوام
479

رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (إلا أن صيدوج وعضاهه يعنى شجره حرام محرم) وذلك
قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا لكن إسناده ضعيف قال البخاري في تاريخه لا يصح ووج بواو
مفتوحه ثم جيم مشددة (وأما) قول المصنف انه واد بالطائف فكذا قاله غيره من أصحابنا الفقهاء
(وأما) أهل اللغة فيقولون هو بلد الطائف وقال الحازمي في كتابه المؤتلف والمختلف في الأماكن و ج
اسم لحصون الطائف وقيل لواحد منها وربما اشتبه و ج هذا بوح بالحاء مهملة قال الحازمي هي ناحية
بنعمان والله أعلم (أما) الأحكام ففيها مسائل (إحداها) يحرم التعرض لصيد حرم المدينة وشجرة
هذا هو المذهب وعليه نص الشافعي وأطبق عليه جماهير أصحابنا وحكى المتولي والرافعي قولا
شاذا انه مكروه ليس بحرام قال المتولي وأخذ هذا القول من قول الشافعي ولا يحرم قتل صيد
الا صيد الحرم وأكره قتل صيد المدينة وهذا النقل شاذ ضعيف بل باطل منابذ للأحاديث الصحيحة
السابقة (وأما) نص الشافعي فقال القاضي أبو الطيب هذه الكراهة التي ذكرها الشافعي كراهة تحريم
باتفاق أصحابنا ثم استدل ببعض ما قدمناه من الأحاديث الصحيحة السابقة فالصواب الجزم بالتحريم
وعلى هذا فإذا ارتكب هذا الحرام هل يضمن فيه قولان مشهوران (الجديد) لا يضمن (والقديم) يضمن
ودليلهما في الكتاب وأجابوا للجديد عن حديث سعد في سلب الصائد بجوابين ضعيفين (أحدهما)
جواب الشيخ أبي حامد في تعليقه انه محمول على التغليظ (والثاني) جواب القاضي أبي الطيب في تعليقه
480

وجماعة بأنه يحمل على أنه كان هذا حين كانت العقوبة بالأموال ثم نسخ وهذان الجوابان ضعيفان
بل باطلان والمختار ترجيح القديم ووجوب الجزاء فيه وهو سلب القاتل لان الأحاديث فيه صحيحة
بلا معارض والله أعلم * قال أصحابنا وإذا قلنا يضمن فوجهان حكاهما الفوراني والبغوي وصاحب
البيان والرافعي (أحدهما) يضمن كضمان حرم مكة على ما سبق (والثاني) وهو الصحيح وبه قطع الجمهور
في الطريقتين انه سلب الصائد وقاطع الشجر أو الكلاء وعلى هذا في المراد بالسلب طريقان
(أصحهما) وبه قطع الجمهور انه كسلب القتيل من الكفار ممن قطع به الشيخ أبو حامد في تعليقه
وأبو علي البندنيجي في جامعه والدارمي والماوردي والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد والقاضي
أبو الطيب في كتابيه التعليق والمجرد والقاضي حسين والجرجاني وابن الصباغ والمصنف والشاشي
والبغوي وخلائق لا ينحصرون ودليله الحديث (والطريق الثاني) حكاه الرافعي فيه وجهان (أصحهما)
هذا (والثاني) ان سلبه ثيابه فقط وبه قطع امام الحرمين والغزالي وقد أشار المتولي إلى هذا وفى
مصرف سلبه ثلاثة أوجه (أصحها) انه للسالب كالقتيل ودليله فان سعدا أخذ السلب
لنفسه وممن صحح هذا الوجه الدارمي والمحاملي في المجموع والقاضي أبو الطيب في كتابه المجرد
وغيرهم وقطع به المحاملي في التجريد واختاره القاضي أبو الطيب كما حكاه المصنف (والثاني) انه لفقراء المدينة
وهذا الوجه حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه عن الأصحاب وأشار هو والمصنف إلى ترجيحه ولم يوافقا على
481

هذا الترجيح وليس هو ترجيحا راجحا (والثالث) انه لبيت المال حكاه إمام الحرمين والغزالي
وغيرهما وينكر على المصنف عبارته المذكورة فإنه أوهم أن المشهور في المذهب تفريعا على القديم ان
السلب المساكين وان القاضي أبا الطيب انفرد باختيار كونه للسالب وليس الحكم كذلك بل
الخلاف مشهور جدا للمتقدمين والمتأخرين فممن حكي الأوجه الثلاثة إمام الحرمين وآخرون وممن
حكي الوجهين الأولين وهما كونه للسالب أو للفقراء الشيخ أبو حامد في تعليقه والدارمي وأبو علي
البندنيجي والماوردي والمحاملي في المجموع والقاضي حسين وخلائق نحوهم وكل هؤلاء أقدم من
المصنف وحكاهما من معاصري المصنف ونحوهم ابن الصباغ والجرجاني والمتولي والبغوي وآخرون
لكن الجرجاني حكاهما في كتابه التحرير قولين والله أعلم * فإذا قلنا بالمذهب ان السلب كسلب
القتيل قال أصحابنا فهو مثله في كل شئ فكل شئ اختلفوا فيه هناك كالنفقة
والمنطقة ففيه هنا ذاك الخلاف * هكذا صرح به الشيخ أبو حامد وأبو علي البندينجي والماوردي
وآخرون فإذا قلنا بالمذهب ان السلب كسلب القتيل وانه للسالب فقال الشيخ أبو حامد
482

يأخذ جميع ما معه من ثياب وفرش ونحو ذلك ويعطيه إزارا يستر به عورته فإذا قدر على ما يستر
به عورته أخذ منه الإزار وقال الدارمي لو كان عليه سراويل يأخذه السالب ويستر المسلوب نفسه
فأشار إلى أنه لا يخلى له ساترا وقطع الماوردي بأنه يترك له ما يستر عورته وحكى الروياني وجهين
في أنه هل يترك له ساتر العورة واختار أنه يترك قال وهو قول الماوردي وهذا هو الأصح والله
أعلم * ولو كان على الصائد والمحتطب ثياب مغصوبة لم يسلب بلا خلاف * صرح به الدارمي
والقاضي أبو الطيب في المجرد وهو ظاهر كما لو كان مع الحربي المقتول مال أخذه من مسلم فإنه لا يستحقه
السالب والله أعلم * قال الرافعي واعلم أن ظاهر الحديث وكلام الأصحاب أنه يسلب إذا اصطاد
ولا يشترط الاتلاف وقال إمام الحرمين لا أدرى أيسلب إذا أرسل الصيد أم لا يسلب حتى يتلفه
قال وكلاهما محتمل قال وليس عندنا فيه ثبت من توقيف ولا قياس قاله الامام ولا فرق في هذا
المذكور بين صيد وصيد ولا شجرة وشجرة وكان السلب في معنى العاقبة للمتعاطي والله أعلم *
(المسألة الثانية) قال الشافعي في الاملاء أكره صيد و ج وللأصحاب فيه طريقان (أصحهما) عندهم
القطع بتحريمه وبهذا قطع الشيخ أبو حامد والماوردي والقاضي أبو الطيب والمحاملي والمصنف والبغوي
والمتولي والجمهور من أصحابنا في الطريقتين * قالوا ومراد الشافعي بالكراهة كراهة تحريم (الطريق
483

(الثاني) حكاه الشيخ أبو علي السنجي وإمام الحرمين والغزالي ومن تابعهم فيه وجهان (أصحهما) يحرم
(والثاني) يكره ويجرى الخلاف في شجره وخلاه صرح به الأصحاب ونقل أبو علي البندنيجي عن
نصه في الاملاء ان الشجر كالصيد (فإذا قلنا) بالمذهب وهو تحريمه فاصطاد فيه أو احتطب أو
احتش فطريقان (أصحهما) وبه قطع صاحب التلخيص وجماهير الأصحاب في الطريقتين أنه يأثم ولا
ضمان ونقل القاضي أبو الطيب في تعليقه اتفاق الأصحاب على هذا لان الأصل أن لا ضمان الا فيما
ورد فيه الشرع ولم يرد في هذا شئ (والطريق الثاني) حكاه إمام الحرمين والبغوي وغيرهما فيه
خلاف (الصحيح) لا ضمان (والثاني) أنه كصيد المدينة وشجرها وخلاها والله أعلم * (الثالثة) النقيع
بالنون على المشهور وقيل بالباء وهو الحمى الذي حماه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل الصدقة
ونحوها ليس هو بحرم ولا يحرم صيده باتفاق الأصحاب (وأما) خلاه فحرام باتفاقهم صرح به
أبو علي السنجي وإمام الحرمين والغزالي والبغوي والمتولي وآخرون (وأما) شجره ففيه طريقان
قطع المتولي والبغوي بتحريمه وقال أبو علي والامام والغزالي في تحريمه وجهان لتردد الصيد والخلافان
أخذ منه شجرا أو كلا ففي وجوب ضمانه وجهان حكاهما أبو علي والامام والبغوي وغيرهم (أحدهما)
484

لا كصيده (وأصحهما) وجوب الضمان كحرم مكة * صححه إمام الحرمين والرافعي فعلى هذا
تجب القيمة بلا خلاف ولا يسلب القاتل * قال البغوي والرافعي تصرف القيمة في مصرف نعم
الزكاة والجزية * هذا كلامهما وينبغي أن يكون مصرفه بيت المال والله أعلم * واستدلوا لهذه المسألة
بحديث جابر رضي الله عنه قال (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخبط ولا يعضد حمى رسول
الله صلى الله عليه وسلم ولكن يهش هشا رفيقا) رواه أبو داود باسناد غير قوى لكنه لم يضعفه
وروى البيهقي باسناده أن عمر بن الخطاب (قال لرجل انى أستعملك على الحمي فمن رأيت يعضد
شجرا أو يخبط فخذ فأسه وحبله قال الرجل آخذ رداءه قال لا) والله أعلم *
485

(فرع) في بيان الأحاديث الواردة في بيان حرم المدينة (منها) عن علي رضي الله عنه قال (قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة حرام ما بين عير إلى تور) رواه البخاري ومسلم هكذا وفى
رواية للبخاري ما بين عائر إلى كذا * قال أبو عبيد وغيره من العلماء عير ويقال له عائر جبل
معروف بالمدينة قالوا وأما تور فلا يعرف أهل المدينة بها جبلا يقال له تور وإنما تور جبل بمكة قالوا
فنرى ان أصل الحديث ما بين عير إلى أحد ولكنه غيره غلط الرواة فيه واستمرت الرواية *
وقال أبو بكر الحازمي في كتابه المؤتلف في الأماكن الرواية الصحيحة ما بين عير إلى أحد قال وقيل
إلى تور قال وليس له معنى * هذا كلامهم في هذا الحديث ولا يبعد أن الجبل كان يسمى تورا ثم
هجر ذلك الاسم * وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما بين لابيتها حرام)
486

رواه البخاري ومسلم وفى رواية لمسلم (حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابيتي المدينة)
واللابتان الحرتان تثنية لابة وهي الأرض الملبسة حجارة سوداء والمدينة بين لابتين في شرقها
وغربها * وعن أبي سعيد الخدري انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إني حرمت ما بين
لابتي المدينة كما حرم إبراهيم مكة) رواه مسلم * وعن أبي سعيد أيضا ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال (اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حرما وإني حرمت المدينة حراما ما بين مازميها أن
لا يهراق فيها دم ولا يحمل سلاح لقتال ولا يخبط فيها شجر إلا لعلف) رواه مسلم * وعن جابر
ان النبي صلى الله عليه وسلم قال (ان إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لا بتيها لا يقطع
عضاهها ولا يصاد صيدها) رواه مسلم * وعن أنس قال أشرف النبي صلى الله عليه وسلم
على المدينة فقال (اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة) رواه البخاري ومسلم
487

ذكره البخاري في كتاب الدعوات في باب التعوذ من غلبات الرجال وفيها أحاديث أخر
سبقت * وعن عدي بن زيد الخزاعي الصحابي قال حمي رسول الله صلى الله عليه وسلم
488

(كل ناحية من المدينة بريدا بريدا لا تخبط شجرة ولا تعضد إلا ما يساق به الجمل) رواه
أبو داود باسناد غير قوى فالحاصل ان حرم المدينة ما بين جبليها طولا وما بين لابتيها عرضا
والله أعلم *
489

(فرع) في مذاهب العلماء في مسائل تتعلق بصيد الحرم ونباته (إحداها) أجمعت الأمة على
تحريم صيد الحرم على الحلال فان قتله فعليه الجزاء هذا مذهبنا وبه قال العلماء كافة وقال داود
لا جزاء عليه لقوله تعالى (لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) فقيده بالمجرمين * دليلنا ما سبق عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه حين تلف بسببه الطائر في دار الندوة وما سبق عن ابن عباس في الجراد وغير
ذلك من الآثار وقياسا على صيد الاحرام وداود وان لم يقل بالقياس فيستدل على اثبات
490

القياس (الثانية) حكم جزاء الحرم كجزاء الاحرام فيتخير بين المثل والاطعام والصيام *
هذا مذهبنا وبه قال الأكثرون منهم مالك وأحمد وقال أبو حنيفة لا مدخل للصيام فيه قال لأنه يضمنه
ضمان الأموال بدليل أنه يضمنه لمعني في غيره وهو الحرم فأشبه مال الآدمي * دليلنا القياس على
صيد الاحرام * ولو سلك به مسلك مال الآدمي لم يدخله المثل والاطعام وليعتبر نقد البلد ولان هذا
المعنى موجود في صيد الاحرام وينتقض ما قالوه أيضا بكفارة القتل (الثالثة) إذا صاد الحلال في
الحل وادخله الحرم فله التصرف فيه بالبيع والذبح والاكل وغيرها ولا جزاء عليه وبه قال مالك
491

وداود * وقال أبو حنيفة وأحمد لا يجوز ذبحه بل يجب ارساله قالا فان أدخله مذبوحا جاز أكله وقاسوا
على المحرم * واستدل أصحابنا بحديث أنس أنه كان له أخ صغير يقال له أبو عمير وكان له نغر يلقب به
فمات النغر فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول (يا أبا عمير ما فعل النغير) رواه البخاري ومسلم
492

وموضع الدلالة أن النغر من جملة الصيد وكان مع أبي عمير في حرم المدينة ولم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم
وأيضا فان الذي عنى الشرع منه صيد الحرم وهذا ليس بصيد حرم وقياسا على من أدخل شجرة من
493

الحل أو حشيشا والله أعلم (الرابعة) شجر الحرم عندنا حرام مضمون سوى ما أنبته الآدمي وما
نبت بنفسه على المذهب وبه قال أحمد وقال بعض أصحابنا لا يحرم ما أنبته الآدمي كما سبق * وقال
أبو حنيفة ان أنبته آدمي أو كان من جنس ما ينبته لم يحرم وإن كان مما لا ينبته آدمي ونبت بنفسه حرم
494

وقال مالك وأبو ثور وداود هو حرام لكن لا ضمان فيه * احتج لهم بالقياس على الزرع * احتج أصحابنا
بعموم النهى وفرقوا بان الزرع تدعوا إليه الحاجة (لخامسة) يجوز رعى حشيش الحرم وخلاه
عندنا وقال أبو حنيفة وأحمد لا يجوز ودليلنا حديث ابن عباس السابق حيث أرسل الأتان يرتع
495

في مني ومنى من الحرم (السادسة) إذا أتلف شجرة في الحرم ضمن الكبيرة ببقرة والصغيرة
بشاة وبه قال أحمد وقال أبو حنيفة يضمنها بالقيمة * دليلنا أثر ابن الزبير وابن عباس (السابعة)
496

إذا ارسل كلبا من الحل على صيد في الحرم أو من الحرم على صيد في الحل لزمه الجزاء * وقال أبو ثور
لا يلزمه (الثامنة) صيد حرم المدينة حرام عندنا وبه قال مالك واحمد والعلماء كافة الا أبا حنيفة
فقال ليس بحرام * دليلنا الأحاديث السابقة وإذا أتلف صيد المدينة فلا ضمان على الأشهر في مذهبنا
وقال في القديم يسلب القاتل وبه قال احمد وهو المختار كما سبق وبه قال سعد بن أبي وقاص وجماعة
من الصحابة وقال جمهور العلماء لا ضمان فيه لا سلب ولا غيره (التاسعة) صيد و ج حرام عندنا *
قال العبدري وقال العلماء كافة لا يحرم * قال المصنف رحمه الله *
497

(إذا وجب على المحرم دم لأجل الاحرام كدم التمتع والقران ودم الطيب وجزاء الصيد
عليه صرفه لمساكين الحرم لقوله تعالى (هديا بالغ الكعبة) فان ذبحه في الحل وأدخله الحرم نظرت
فان تغير وانتن لم يجزئه لان المستحق لحم كامل غير متغير فلا يجزئه المنتن المتغير وإن لم يتغير ففيه
وجهان (أحدهما) لا يجزئه لان الذبح أحد مقصودي الهدى فاختص بالحرم كالتفرقة (والثاني) يجزئه
لان المقصود هو اللحم وقد أوصل ذلك إليهم وان وجب عليه طعام لزمه صرفه إلى مساكين الحرم
قياسا على الهدى وان وجب عليه صوم جاز أن يصوم في كل مكان لأنه لا منفعة لأهل الحرم في
الصيام وان وجب عليه هدى واحصر عن الحرم جاز له أن يذبح ويفرق حيث احصر لما روى
ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم (خرج معتمرا فحالت كفار قريش بينه وبين البيت فنحر هديه وحلق
رأسه بالحديبية وبين الحديبية وبين الحرم ثلاثة أميال) ولأنه إذا جاز أن يتحلل في غير موضع التحلل لأجل
الاحصار جاز أن ينحر الهدى في غير موضع النحر) *
498

(الشرح) حديث ابن عمر رواه البخاري ومسلم وسبق ان الحديبية تقال - بالتخفيف والتشديد
والتخفيف أجود والمنتن - بضم الميم وكسرها - والهدى باسكان الدال مع تخفيف الياء وبكسرها
مع تشديد اليا لغتان أفصح (أما) الأحكام فقال الأصحاب الدماء الواجبة في الحج لها زمان
ومكان (أما) الزمان فالدماء الواجبة في الاحرام لفعل محظور أو ترك مأمور لا تختص بزمان بل
تجوز في يوم النحر وغيره وإنما تختص بيوم النحر والتشريق الضحايا * ثم ما سوى دم الفوات يراق
في النسك الذي هو فيه (وأما) دم الفوات فيجوز تأخيره إلى سنة القضاء وهل يجوز اراقته في سنة
الفوات فيه وجهان وقيل قولان (أصحهما) لا بل يجب تأخيره إلى سنة القضاء وقد ذكرهما المصنف
بدليلهما في باب الفوات (فان قلنا) يجوز فوقت الوجوب سنة الفوات (وإن قلنا) بالأصح ففي وقت
الوجوب وجهان (أصحهما) وقته إذا أحرم بالقضاء كما يجب دم التمتع بالاحرام بالحج ولهذا لو ذبح
قبل تحلله من الفائت لم يجز على أصح الوجهين كما لو ذبح المتمتع قبل فراغ العمرة * هذا إذا كفر بالذبح
فإذا كفر بالصوم (فان قلنا) وقت الوجوب أن يحرم بالقضاء لم يقدم صوم الثلاثة على القضاء ويصوم
السبعة إذا رجع (وإن قلنا) يجب بالفوات ففي جواز صوم ثلاثة في حجة الفوات وجهان ووجه
المنع انه احرام ناقص والله أعلم * (وأما) المكان فالدماء الواجبة على المحرم ضربان واجب على المحصر
بالاحصار أو بفعل محظور وسيأتي بيانه قريبا في فصل الدماء إن شاء الله تعالى (والضرب الثاني)
واجب على غير المحصر فيختص بالحرم ويجب تفريقه على مساكين الحرم سواء الغرباء الطارئون
والمستوطنون لكن الصرف إلى المستوطنين أفضل وله أن يخص به أحد الصنفين نص عليه الشافعي واتفقوا
499

عليه وفي اختصاص ذبحه بالحرم خلاف حكاه المصنف وآخرون وجهين وحكاه آخرون قولين
(أصحهما) يختص فلو ذبحه في طرف الحل ونقله في الحال طريا إلى الحرم لم يجزئه (والثاني) لا يختص
فيجوز ذبحه خارج الحرم بشرط ان ينقله ويفرقه في الحرم قبل تغيير اللحم وسواء في هذا كله دم
التمتع والقران وسائر ما يجب بسبب في الحل أو الحرم أو بسبب مباح كالحلق للأذى أو بسبب
محرم وهذا هو الصحيح وفي القديم قول ان ما أنشي سببه في الحل يجوز ذبحه وتفرقته في الحل قياسا
على دم الاحصار * وممن حكى هذا القول (1) وفي وجه ضعيف ان ما وجب بسبب مباح لا يختص ذبحه
وتفرقته بالحرم وفيه وجه انه لو حلق قبل وصوله الحرم وذبح وفرق حيث جاز وكل هذا
شاذ ضعيف والمذهب ما سبق * قال الشافعي والأصحاب ويجوز الذبح في جميع بقاع الحرم قريبها
وبعيدها لكن الأفضل في حق الحاج الذبح بمنى وفي حق المعتمر المروة لأنهما محل تحللهما * وكذا
حكم ما يسوقانه من الهدى *
(فرع) قال القاصي حسين في الفتاوي لو لم يجد في الحرم مسكينا لم يجز نقل الدم إلى موضع
آخر سواء جوزنا نقل الزكاة أم لا لأنه وجب لمساكين الحرم كمن نذر الصدقة على مساكين بلد فلم يجد
فيه مساكين يصبر حتى يجدهم ولا يجوز نقله بخلاف الزكاة على أحد القولين لأنه ليس فيها نص
صريح بتخصيص البلد بها بخلاف الهدى *
(فرع) إذا كان الواجب الاطعام بدلا عن الذبح وجب صرفه على مساكين الحرم سواء المستوطنون
والطارئون كما قلنا في لحم المذبوح (أما) إذا كان الواجب الصوم فيجوز أن يصوم حيث شاء من
أقطار الأرض لما ذكره المصنف *

(1) بياض بالأصل فحرر
500

(فرع) قال الماوردي والروياني أقل ما يجزى أن يدفع الواجب من اللحم إلى ثلاثة من مساكين
الحرم ان قدر فان دفع إلى اثنين مع قدرته على ثالث ضمن وفي قدر الضمان وجهان (أحدهما) الثلث (وأصحهما)
أقل ما يقع عليه الاسم كالقولين في الزكاة (وأما) إذا فرق الطعام فوجهان (أحدهما) يتقدر لكل مسكين
مد كالكفارة فلا يزاد ولا ينقص فان زاد لم يحسب وان نقص لم يجزئه حتى يتمه مدا (وأصحهما)
لا يتقدر بل تجوز الزيادة على مد والنقص عنه *
(فرع) لو ذبح الهدى في الحرم فسرق منه قبل التفرقة لم يجزئه عما في ذمته ويلزمه إعادة الذبح
وله شراء اللحم والتصدق به بدل الذبح لان الذبح قد وجد وفي وجه ضعيف يكفيه التصدق بالقيمة
حكاه الرافعي *
(فرع) قال الروياني وغيره تلزمه النية عند التفرقة كسائر العبادات *
(فرع) قال أصحابنا الدماء الواجبة في المناسك سواء تعلقت بترك واجب أو ارتكاب منهى
حيث أطلقناها أردنا بها شاة فإن كان الواجب غيرها كالبدنة في الجماع نصصنا عليها ولا يجزئ
فيها جميعا الا ما يجزئ في الأضحية الا في جزاء الصيد فيجب المثل في الصغير صغير وفي الكبير
كبير وفي المعيب والمكسور مثله كما سبق * قال أصحابنا وكل من لزمه شاة جاز له ذبح بقرة أو
بدنة مكانها لأنها أكمل كما يجزئ في الأضحية إلا في جزاء الصيد فلا يجزئ حيوان عن المثل *
قال أصحابنا وإذا ذبح بدنة أو بقرة مكان الشاة فهل الجميع فرض حتى لا يجوز أكل شئ منها أم
الفرض سبعها فقط حتى يجوز أكل الباقي فيه وجهان (الأصح) سبعها صححه الروياني وغيره وسبقت
501

نظائر المسألة في باب صفة الوضوء ومواضع أخرى * ولو ذبح بدنة ونوى التصدق بسبعها عن الشاة
الواجبة عليه وأكل الباقي جاز وله نحر البدنة عن سبع شياه لزمته * ولو اشترك جماعة في ذبح بدنة أو
بقرة وأراد بعضهم الهدى وبعضهم الأضحية وبعضهم اللحم جاز ولا يجوز اشتراك اثنين في شاتين
لان الانفراد ممكن *
502

(فرع) في كيفية وجوب الدماء وابدالها وقد سبقت مقاصده مفرقة فأحببت جمعها ملخصا كما
فعله الأصحاب وقد لخصها الرافعي متقنة فاقتصر على نقله قال في ذلك نظران (أحدهما) النظر
في أن أي دم يجب مرتبا وأي دم يجب على التخيير وهاتان الصفتان متقابلتان فمعنى الترتيب انه
يجب الدم ولا يجوز العدول إلى غيره إلا إذا عجز عنه ومعنى التخيير انه يجوز العدول إلى غيره
503

مع القدرة عليه (النظر الثاني) في أنه أي دم يجب على سبيل التقدير وأي دم يجب على سبيل التعديل
وهاتان الصفتان متقابلتان فمعنى التقدير ان الشرع قدر البدل المعدول إليه ترتيبا أو تخييرا أي مقدرا
لا يزيد ولا ينقص ومعنى التعديل انه امر فيه بالتقويم والعدول إلى غيره بحسب القيمة وكل دم
بحسب الصفات المذكورة لا يخلو من أحد أربعة أوجه (أحدها) التقدير والترتيب (والثاني) الترتيب
504

والتعديل (والثالث) التخيير والتقدير (والرابع) التخيير والتعديل وتفصيلها بثمانية أنواع (أحدها)
دم التمتع وهو دم ترتيب وتقدير كما ورد به نص القرآن العزيز وقد سبق بيانه ودم القران في
معناه وفي دم الفوات طريقان (أصحهما) وبه قطع الجمهور انه كدم التمتع في الترتيب والتقدير وسائر الأحكام
والثاني على قولين (أحدهما) هذا (والثاني انه كدم الجماع في الأحكام إلا أن هذا شاة
505

والجماع بدنة لاشتراك الصورتين في وجوب القضاء (والثاني) جزاء الصيد وهو دم ترتيب وتعديل
ويختلف بكون الصيد مثليا أو غيره وسبق إيضاحه وجزاء شجر الحرم وحشيشه كجزاء الصيد
وقد سبق حكاية قول عن رواية أبي ثور ان دم الصيد على الترتيب وهو شاذ (الثالث) دم الحلق
والقلم وهو دم تخيير وتقدير فإذا حلق جميع شعره أو ثلاث شعرات تخير بين دم وثلاثة أصع لستة
506

مساكين وصوم ثلاثة أيام وسبق بيانه
(الرابع) الدم الواجب في ترك المأمورات كالاحرام من الميقات والرمي
والمبيت بعرفة ليلة النحر وبمنى ليالي التشريق والدفع من عرفة قبل الغروب وطواف الوداع وفي هذا
الدم أربعة أوجه (أصحها) وبه قطع العراقيون وكثيرون من غيرهم أنه كدم التمتع في الترتيب والتقدير فان
507

عجز عن الدم صام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع (والثاني) أنه دم ترتيب وتعديل لان التعديل هو
القياس وإنما يصار إلى الترتيب بتوقيف فعلى هذا يلزمه شاة فان عجز قومها دراهم واشترى بها
508

طعاما وتصدق به فان عجز صام عن كل مد يوما * وإذا ترك حصاة ففيه أقوال مشهورة (أصحها)
يجب مد (والثاني) درهم (والثالث) ثلث شاة فان عجز فالطعام ثم الصوم على ما يقتضيه التعديل بالقيمة
509

(والثالث) أنه دم ترتيب فان عجز لزمه صوم الحلق (والرابع) أنه دم تخيير وتعديل كجزاء
الصيد وهذان الوجهان شاذان ضعيفان
(الخامس) دم الاستمتاع كالتطيب والادهان واللبس
ومقدمات الجماع وفيه أربعة أوجه (أصحها) أنه دم تخيير وتقدير كالحلق لاشتراكهما في الترفه
510

(والثاني) دم تخيير وتعديل كالصيد (والثالث) دم ترتيب وتعديل (والرابع) دم ترتيب وتقدير
كالتمتع (السادس) دم الجماع وفيه طرق للأصحاب واختلاف منتشر المذهب منه أنه ترتيب وتعديل
511

فيجب بدنة فان عجز عنها فبقرة فان عجز فسبع شياه فان عجز قوم البدنة بدراهم والدراهم بطعام
ثم تصدق به فان عجز صام عن كل مد يوما (وقيل) إذا عجز عن الغنم قوم البدنة وصام فان عجز
512

أطعم فيقدم الصيام على الاطعام ككفارة الظهار ونحوها وقيل لا مدخل للاطعام والصيام هنا
بل إذا عجز عن الغنم ثبت الفداء في ذمته إلى أن يجد تخريجا من أحد القولين في دم الاحصار ولنا
513

قول وقيل وجه أنه يتخير بين البدنة والبقرة والغنم فان عجز عنها فالاطعام ثم الصوم وقيل يتخير
بين البدنة والبقرة والشياه والاطعام والصيام (السابع) دم الجماع الثاني أو الجماع بين التحللين
وقد سبق خلاف في أن واجبها بدنة أم شاة (فان قلنا) بدنة فهي في الكيفية كالجماع الأول قبل
514

التحللين كما سبق * (وان قلنا) شاة فكمقدمات الجماع (الثامن) دم الاحصار فمن تحلل بالاحصار
فعليه شاة ولا عدول عنها ان وجدها فان عدمها فهل له بدل فيه قولان مشهوران (أحدهما) نعم
515

كسائر الدماء (والثاني) لا إذ لم يذكر في القرآن بدله بخلاف غيره (فان قلنا) بالبدل ففيه أقوال
516

(أحدها) بدله الاطعام بالتعديل فان عجز صام عن كل مد يوما (وقيل) يتخير على هذا بين صوم
517

الحلق واطعامه (والقول الثاني) بدله الاطعام فقط وفيه وجهان (أحدهما) ثلاثة آصع كالحلق (والثاني)
518

يطعم ما يقتضيه التعديل (والقول الثالث) بدله الصوم فقط وفيه ثلاثة أقوال (أحدها) عشرة
519

أيام (والثاني) ثلاثة (والثالث) بالتعديل عن كل مد يوما ولا مدخل للطعام على هذا القول غير أنه
520

يعتبر به قدر الصيام (والمذهب) على الجملة الترتيب والتعديل * هذا آخر كلام الرافعي
521

والله أعلم *
522