الكتاب: المجموع
المؤلف: محيى الدين النووي
الجزء: ١
الوفاة: ٦٧٦
المجموعة: فقه المذهب الشافعي
تحقيق:
الطبعة:
سنة الطبع:
المطبعة:
الناشر: دار الفكر
ردمك:
ملاحظات:

المجموع
شرح المهذب
للإمام أبي زكريا محيي الدين بن شرف النووي المتوفى سنة 676 ه‍
الجزء الأول
دار الفكر
1

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله البر الجواد. الذي جلت نعمه عن الاحصاء بالاعداد. خالق اللطف والارشاد.
الهادي إلى سبيل الرشاد. الموفق بكرمه لطرق السداد. المان بالتفقه في الدين على من لطف به من
العباد. الذي كرم هذه الأمة زادها الله شرفا بالاعتناء بتدوين ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم
حفظا له على تكرر العصور والآباد. ونصب كذلك جهابذة من الحفاظ النقاد: وجعلهم دائبين في
ايضاح ذلك في جميع الأزمان والبلاد. باذلين وسعهم مستفرغين جهدهم في ذلك في جماعات وآحاد.
مستمرين على ذلك متابعين في الجهد والاجتهاد. أحمده أبلغ الحمد وأكمله وأزكاه وأشمله. وأشهد
أن لا إله الا الله وحده لا شريك له الواحد القهار. الكريم الغفار * وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. وحبيبه وخليله. المصطفى بتعميم دعوته ورسالته. المفضل على الأولين والآخرين من بريته.
المشرف على العالمين قاطبة بشمول شفاعته. المخصوص بتأييد ملته وسماحة شريعته. المكرم بتوفيق
أمته للمبالغة في ايضاح منهاجه وطريقته. والقيام بتبليغ ما أرسل به إلى أمته. صلوات الله وسلامه
عليه وعلى إخوانه من النبيين وآل كل وسائر الصالحين. وتابعيهم باحسان إلى يوم الدين
(أما بعد) فقد قال الله تعالى العظيم العزيز الحكيم (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما
أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون) وهذا نص في أن العباد خلقوا للعبادة ولعمل الآخرة
والاعراض عن الدنيا بالزهادة: فكان أولى ما اشتغل به المحققون: واستغرق الأوقات في تحصيله
العارفون. وبذل الوسع في ادراكه المشهورون. وهجر ما سواه لنيله المتيقظون بعد معرفة الله وعمل
الواجبات التشمير في تبيين ما كان مصححا للعبادات التي هي دأب أرباب العقول وأصحاب الأنفس
الزكيات * إذ ليس يكفي في العبادات صور الطاعات بل لا بد من كونها على وفق القواعد الشرعيات
وهذا في هذه الأزمان وقبلها بأعصار خاليات: قد انحصرت معرفته في الكتب الفقهيات المصنفة في
أحكام الديانات * فهي المخصوصة ببيان ذلك وإيضاح الخفيات منها والجليات * وهي التي أوضح
فيها جميع أحكام الدين والوقائع الغالبات والنادرات * وحرر فيها الواضحات والمشكلات * وقد
2

أكثر العلماء رضي الله عنهم التصنيف فيها من المختصرات والمبسوطات * وأودعوا فيها من المباحث
والتحقيقات والنفائس الجليلات * وجميع ما يحتاج إليه وما يتوقع وقوعه ولو على أندر الاحتمالات
البدائع وغايات النهايات * حتى لقد تركونا منها على الجليات الواضحات * فشكر الله الكريم لهم
سعيهم وأجزل لهم المثوبات * وأحلهم في دار كرامته أعلى المقامات * وجعل لنا نصيبا من ذلك
ومن جميع أنواع الخيرات * وأدامنا على ذلك في ازدياد حتى الممات * وغفر لنا ما جرى وما يجرى
منا من الزلات * وفعل ذلك بوالدينا ومشايخنا وسائر من نحبه ويحبنا ومن أحسن الينا وسائر
المسلمين والمسلمات * انه سميع الدعوات جزيل العطيات *
ثم إن أصحابنا المصنفين رضي الله عنهم أجمعين وعن سائر علماء المسلمين أكثروا التصانيف
كما قدمنا وتنوعوا فيها كما ذكرنا واشتهر منها لتدريس المدرسين وبحث المشتغلين المهذب والوسيط
وهما كتابان عظيمان صنفهما امامان جليلان: أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي:
وأبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي رضي الله عنهما وتقبل ذلك وسائر أعمالهما منهما وقد
وفر الله الكريم دواعي العلماء من أصحابنا رحمهم الله على الاشتغال بهذين الكتابين وما ذاك الا
لجلالتهما وعظم فائدتهما وحسن نية ذينك الامامين * وفي هذين الكتابين دروس المدرسين وبحث
المحصلين المحققين * وحفظ الطلاب المعتنين فيما مضى وفي هذه الأعصار في جميع النواحي والأمصار:
فإذا كانا كما وصفنا وجلالتهما عند العلماء كما ذكرنا. كان من هم الأمور العناية بشرحهما إذ فيهما أعظم
الفوائد وأجزل العوائد فان فيهما مواضع كثيرة أنكرها أهل المعرفة وفيها كتب معروفة مؤلفة فمنها
ما ليس عنه جواب سديد ومنها ما جوابه صحيح موجود عتيد فيحتاج إلى الوقوف على ذلك من
لم تحضره معرفته. ويفتقر إلى العلم به من لم تحط به خبرته: وكذلك فيهما من الأحاديث واللغات وأسماء
النقلة والرواة والاحترازات والمسائل المشكلات * والأصول المفتقرة إلى فروع وتتمات * مالا بد من تحقيقه
وتبيينه بأوضح العبارات * فأما الوسيط فقد جمعت في شرحه جملا مفرقات سأهذبها إن شاء الله تعالى
في كتاب مفرد واضحات متممات * وأما المهذب فاستخرت الله الكريم الرؤوف الرحيم في جمع كتاب في
شرحه سميته بالمجموع والله الكريم اسأل أن يجعل نفعي وسائر المسلمين به من الدائم غير الممنوع *
أذكر فيه إن شاء الله تعالى جملا من علومه الزاهرات * وأبين فيه أنواعا من فنونه المتعددات
فمنها تفسير الآيات الكريمات * والأحاديث النبويات * والآثار الموقوفات * والفتاوي المقطوعات *
والاشعار الاستشهاديات * والأحكام الاعتقاديات والفروعيات * والأسماء واللغات * والقيود
والاحترازات * وغير ذلك من فنونه المعروفات *
وأبين من الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها مرفوعها وموقوفها متصلها ومرسلها ومنقطعها
ومعضلها وموضوعها مشهورها وغريبها وشاذها ومنكرها ومقاربها ومعللها ومدرجها وغير ذلك من
أقسامها مما ستراها إن شاء الله تعالى في مواطنها وهذه الأقسام التي ذكرتها كلها موجودة في المهذب
وسنوضحها إن شاء الله تعالى *
3

وأبين منها أيضا لغاتها وضبط نقلتها ورواتها * وإذا كان الحديث في صحيحي البخاري ومسلم رضي الله عنهما
أو في أحدهما اقتصرت على اضافته إليهما ولا أضيفه معهما إلى غيرهما إلا نادرا لغرض في بعض المواطن
لان ما كان فيهما أو في أحدهما غنى عن التقوية بالإضافة إلى ما سواهما * وأما ما ليس في واحد منهما
فأضيفه إلى ما تيسر من كتب السنن وغيرها أو إلى بعضها: فإذا كان في سنن أبي داود والترمذي:
والنسائي التي هي تمام أصول الاسلام الخمسة أو في بعضها اقتصرت أيضا على إضافته إليها: وما خرج
عنها أضيفه إلى ما تيسر إن شاء الله تعالى مبينا صحته أو ضعفه: ومتى كان الحديث ضعيفا بينت ضعفه
ونبهت على سبب ضعفه إن لم يطل الكلام بوصفه: وإذا كان الحديث الضعيف هو الذي احتج به
المصنف أو هو الذي اعتمده أصحابنا صرحت بضعفه ثم أذكر دليلا للمذهب من الحديث إن
وجدته والا فمن القياس وغيره *
وأبين فيه ما وقع في الكتاب من ألفاظ اللغات وأسماء الأصحاب وغيرهم من العلماء والنقلة
والرواة مبسوطا في وقت ومختصرا في وقت بحسب المواطن والحاجة: وقد جمعت في هذا النوع
كتابا سميته بتهذيب الأسماء واللغات جمعت فيه ما يتعلق بمختصر المزني والمهذب والوسيط والتنبيه
والوجيز والروضة الذي اختصرته من شرح الوجيز للامام أبي القاسم الرافعي رحمه الله من الألفاظ
العربية والعجمية والأسماء والحدود والقيود والقواعد والضوابط وغير ذلك مما له ذكر في شئ من
هذه الكتب الستة ولا يستغنى طالب علم عن مثله فما وقع هنا مختصرا لضرورة أحلته على ذلك وأبين
فيه الاحترازات والضوابط الكليات *
وأما الأحكام فهو مقصود الكتاب فأبالغ في ايضاحها بأسهل العبارات * وأضم إلى ما في
الأصل من الفروع والتتمات * والزوائد المستجدات * والقواعد المحررات * والضوابط الممهدات *
ما تقر به إن شاء الله تعالى أعين أولى البصائر والعنايات * والمبرئين من أدناس الزيغ والجهالات *
ثم من هذه الزيادات ما أذكره في أثناء كلام صاحب الكتاب: ومنها ما أذكره في آخر الفصول
والأبواب وأبين ما ذكره المصنف وقد اتفق الأصحاب عليه وما وافقه عليه الجمهور وما انفرد به
أو خالفه فيه المعظم. وهذا النوع قليل جدا: وأبين فيه ما أنكر على المصنف من الأحاديث والأسماء
واللغات * والمسائل المشكلات مع جوابه إن كان من المرضيات * وكذلك أبين فيه جملا مما أنكر
على الامام أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيي المزني في مختصره وعلى الامام أبي حامد الغزالي في الوسيط
وعلى المصنف في التنبيه مع الجواب عنه إن أمكن فان الحاجة إليها كالحاجة إلى المهذب: والتزم فيه
بيان الراجح من القولين والوجهين والطريقين والأقوال والأوجه والطرق مما لم يذكره المصنف أو
ذكره ووافقوه عليه أو خالفوه *
واعلم أن كتب المذهب فيها اختلاف شديد بين الأصحاب بحيث لا يحصل للمطالع وثوق بكون
ما قاله مصنف منهم هو المذهب حتى يطالع معظم كتب المذهب المشهورة فلهذا لا أترك قولا ولا
وجها ولا نقلا ولو كان ضعيفا أو واهيا إلا ذكرته إذا وجدته إن شاء الله تعالى مع بيان رجحان
4

ما كان راجحا وتضعيف ما كان ضعيفا وتزييف ما كان زائفا والمبالغة في تغليط قائله ولو كان من الأكابر:
وإنما أقصد بذلك التحذير من الاغترار به: وأحرص على تتبع كتب الأصحاب من المتقدمين والمتأخرين
إلى زماني من المبسوطات والمختصرات: وكذلك نصوص الإمام الشافعي صاحب المذهب رضي الله عنه
فأنقلها من نفس كتبه المتيسرة عندي كالامام والمختصر والبويطي وما نقله المفتون المعتمدون
من الأصحاب: وكذلك أتتبع فتاوى الأصحاب ومتفرقات كلامهم في الأصول والطبقات وشروحهم
للحديث وغيرها وحيث انقل حكما أو قولا أو وجها أو طريقا أو لفظة لغة أو اسم رجل أو حاله أو
ضبط لفظة أو غير ذلك وهو من المشهور اقتصر على ذكره من غير تعيين قائليه لكثرتهم الا ان
أضطر إلى بيان قائليه لغرض مهم فأذكر جماعة منهم ثم أقول وغيرهم وحيث كان ما أنقله غريبا
أضيفه إلى قائله في الغالب وقد أذهل عنه في بعض المواطن: وحيث أقول الذي عليه الجمهور كذا
أو الذي عليه المعظم أو قال الجمهور أو المعظم أو الأكثرون كذا ثم أنقل عن جماعة خلاف ذلك فهو كما
أذكره إن شاء الله تعالى: ولا يهولنك كثرة من أذكره في بعض المواضع على خلاف الجمهور أو خلاف
المشهور أو الأكثرين ونحو ذلك فاني إنما أترك تسمية الأكثرين لعظم كثرتهم كراهة لزيادة التطويل
وقد أكثر الله سبحانه وتعالى وله الحمد والنعمة كتب الأصحاب وغيرهم من العلماء من مبسوط
ومختصر وغريب ومشهور: وستري من ذلك إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب ما تقر به عينك
ويزيد رغبتك في الاشتغال والمطالعة وترى كتبا وأئمة قلما طرقوا سمعك وقد اذكر الجمهور
بأسمائهم في نادر من المواضع لضرورة تدعو إليهم وقد أنبه على تلك الضرورة *
وأذكر في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى مذاهب السلف من الصحابة والتابعين فمن بعدهم
من فقهاء الأمصار رضي الله عنهم أجمعين بأدلتها من الكتاب والسنة والاجماع والقياس: وأجيب
عنها مع الانصاف إن شاء الله تعالى وابسط الكلام في الأدلة في بعضها واختصره في بعضها بحسب
كثرة الحاجة إلى تلك المسألة وقلتها وأعرض في جميع ذلك عن الأدلة الواهية وإن كانت مشهورة:
فان الوقت يضيق عن المهمات: فكيف يضيع في المنكرات والواهيات: وان ذكرت شيئا من ذلك
على ندور نبهت على ضعفه *
واعلم أن معرفة مذاهب السلف بأدلتها من أهم ما يحتاج إليه لان اختلافهم في الفروع رحمة
وبذكر مذاهبهم بأدلتها يعرف المتمكن المذاهب على وجهها والراجح من المرجوح ويتضح له ولغيره
المشكلات: وتظهر الفوائد النفيسات: ويتدرب الناظر فيها بالسؤال والجواب: ويفتح ذهنه
ويتميز عند ذوي البصائر والألباب: ويعرف الأحاديث الصحيحة من الضعيفة والدلائل الراجحة من
المرجوحة ويقوم بالجمع بين الأحاديث المتعارضات والمعمول بظاهرها من المؤولات ولا يشكل عليه
إلا أفراد من النادر: وأكثر ما أنقله من مذاهب العلماء من كتاب الاشراف والاجماع لابن
المنذر وهو الإمام أبو بكر محمد بن إبراهيم بن المنذر النيسابوري الشافعي القدوة في هذا الفن ومن
كتب أصحاب أئمة المذاهب ولا أنقل من كتب أصحابنا من ذلك الا القليل لأنه وقع في كثير
5

من ذلك ما ينكرونه: وإذا مررت باسم أحد (1) من أصحابنا أصحاب الوجوه أو غيرهم أشرت إلى
بيان اسمه وكنيته ونسبه وربما ذكرت مولده ووفاته وربما ذكرت طرفا من مناقبه: والمقصود
بذلك التنبيه على جلالته: وإذا كانت المسألة أو الحديث أو الاسم أو اللفظة أو نحو ذلك له
موضعان يليق ذكره فيهما ذكرته في أولهما فان وصلت إلى الثاني نبهت على أنه تقدم في الموضع الفلاني:
وأقدم في أول الكتاب أبوابا وفصولا تكون لصاحبه قواعد وأصولا: اذكر فيها إن شاء الله
نسب الشافعي رحمه الله واطرافا من أحواله وأحوال المصنف الشيخ أبي إسحاق رحمه الله وفضل
العلم وبيان أقسامه ومستحقي فضله وآداب العالم والمعلم والمتعلم: وأحكام المفتى والمستفتي وصفة الفتوى
وآدابها وبيان القولين والوجهين والطريقين وماذا يعمل المفتى المقلد فيها: وبيان صحيح الحديث
وحسنه وضعيفه وغير ذلك مما يتعلق به كاختصار الحديث: وزيادة الثقاة: واختلاف الرواة في
رفعه ووقفه ووصله وارساله وغير ذلك: وبيان الاجماع وأقوال الصحابة رضي الله عنهم: وبيان
الحديث المرسل وتفصيله: وبيان حكم قول الصحابة أمرنا بكذا أو نحوه: وبيان حكم الحديث
الذي نجده يخالف نص الشافعي رحمه الله وبيان جملة من ضبط الأسماء المتكررة أو غيرها كالربيع المرادي
والجيزي والقفال وغير ذلك والله أعلم * ثم إني أبالغ إن شاء الله تعالى في ايضاح جميع ما أذكره في
هذا الكتاب وإن أدى إلى التكرار ولو كان واضحا مشهورا ولا اترك الايضاح وان أدى إلى
التطويل بالتمثيل. وإنما أقصد بذلك النصيحة وتيسير الطريق إلى فهمه فهذا هو مقصود المصنف
الناصح: وقد كنت جمعت هذا الشرح مبسوطا جدا بحيث بلغ إلى آخر باب الحيض ثلاث
مجلدات ضخمات ثم رأيت الاستمرار على هذا المنهاج يؤدى إلى سآمة مطالعه: ويكون سببا لقلة
الانتفاع به لكثرته. والعجز عن تحصيل نسخة منه فتركت ذلك المنهاج فأسلك الآن طريقة متوسطة
إن شاء الله تعالى لا من المطولات المملات: ولا من المختصرات المخلات: واسلك (2) فيه أيضا
مقصودا صحيحا وهو ان ما كان من الأبواب التي لا يعم الانتفاع بها لا أبسط الكلام فيها لقلة
الانتفاع بها وذلك ككتاب اللعان وعويص الفرائض وشبه ذلك لكن لا بد من ذكر مقاصدها *
واعلم أن هذا الكتاب وان سميته شرح المهذب فهو شرح للمذهب كله بل لمذاهب العلماء
كلهم وللحديث وجعل من اللغة والتاريخ والأسماء وهو أصل عظيم في معرفة صحيح الحديث وحسنه
وضعيفه: وبيان علله والجمع بين الأحاديث المتعارضات. وتأويل الخفيات. واستنباط المهمات. واستمدادي
في كل ذلك و غيره اللطف والمعونة من الله الكريم الرؤوف الرحيم وعليه اعتمادي واليه تفويضي واستنادي:
أسأله سلوك سبيل الرشاد. والعصمة من أحوال أهل الزيغ والعناد. والدوام على جميع أنواع الخير في
ازدياد. والتوفيق في الأقوال والأفعال للصواب. والجري على آثار ذوي البصائر والألباب. وأن يفعل
ذلك بوالدينا ومشايخنا وجميع من نحبه ويحبنا وسائر المسلمين انه الواسع الوهاب. وما توفيقي إلا
بالله عليه توكلت واليه متاب. حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة الا بالله العزيز الحكيم *

(1) وفى نسخة بدل أحد: رجل
(2) وفي نسخة الأذرعي بدل أسلك أقصد وهو أوجه
6

فصل
في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقدمته لمقاصد منها تبرك الكتاب به: ومنها أن يحال عليه ما سأذكره من الأنساب إن شاء الله
تعالى. وقد ذكره المصنف مستوفى في باب قسم الفئ فهو صلى الله عليه وسلم أبو القاسم محمد بن
عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن
غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن
معد بن عدنان * إلى هنا مجمع عليه وما بعده إلى آدم مختلف فيه ولا يثبت فيه شئ: وقد ذكرت
في تهذيب الأسماء واللغات عن بعضهم ان للنبي صلى الله عليه وسلم الف اسم وذكرت فيه قطعة
تتعلق بأسمائه وأحواله صلى الله عليه وسلم والله أعلم *
باب
في نسب الشافعي رحمه الله: وطرف من أموره وأحواله
هو الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبد الله بن
عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي القرشي المطلبي الشافعي الحجازي المكي يلتقي
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف. وقد أكثر العلماء من المصنفات في مناقب الشافعي
رحمه الله وأحواله من المتقدمين كداود الظاهري وآخرين: ومن المتأخرين كالبيهقي وخلائق لا يحصون
ومن أحسنها تصنيف البيهقي وهو مجلدتان مشتملتان على نفائس من كل فن: وقد شرعت أنا في جمع
متفرقات كلام الأئمة في ذلك وجمعت من مصنفاتهم في مناقبه: ومن كتب أهل التفسير والحديث
والتاريخ والاخبار والفقهاء والزهاد وغيرهم في مصنف متوسط بين الاختصار والتطويل وأذكر فيه إن شاء الله
من النفائس ما لا يستغنى طالب علم عن معرفته لا سيما المحدث والفقيه ولا سيما منتحل مذهب الشافعي
رضي الله عنه. وأرجو من فضل الله أن يوفقني لاتمامه على أحسن الوجوه: وأما هذا الموضع الذي
نحن فيه فلا يحتمل إلا الإشارة إلى بعض تلك المقاصد. والرمز إلى أطراف من تلك الكليات والمعاقد.
فأقول مستعينا بالله متوكلا عليه مفوضا أمري إليه. الشافعي قريشي مطلبي باجماع أهل النقل من
جميع الطوائف وأمه أزدية وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة في فضائل قريش وانعقد اجماع الأمة
على تفضيلهم على جميع قبائل العرب وغيرهم: وفى الصحيحين عن رسول الله صلى عليه وسلم الأئمة
من قريش (1) وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " قال
الناس تبع لقريش في الخير والشر " وفي كتاب الترمذي أحاديث في فضائل الأزد *

(1) الذي في الصحيحين " لا يزال هذا الامر في قريش " الحديث ولعل نسبته إلى الصحيحين من حيث المغني: والذي
رواه بهذا اللفظ البخاري في تاريخه: والنسائي في سننه وأبو يعلى والإمام أحمد بن حنبل وأبو داود الطيالسي
والبزار: والله أعلم
7

فصل
في مولد الشافعي رضي الله عنه ووفاته وذكر نبذ من أموره وحالاته
وأجمعوا انه ولد سنة خمسين ومائة وهي السنة التي توفى فيها أبو حنيفة رحمه الله. وقيل إنه توفي
في اليوم الذي ولد فيه الشافعي ولم يثبت التقييد باليوم ثم المشهور الذي عليه الجمهور ان الشافعي ولد
بغزة وقيل بعسقلان وهما من الأراضي المقدسة التي بارك الله فيها فإنهما على نحو مرحلتين من بيت
المقدس ثم حمل إلى مكة وهو ابن سنتين وتوفى بمصر سنة أربع ومائتين وهو ابن أربع وخمسين سنة
قال الربيع توفى الشافعي رحمه الله ليلة الجمعة بعد المغرب وانا عنده ودفن بعد العصر يوم الجمعة آخر
يوم من رجب سنة أربع ومائتين وقبره رضي الله عنه بمصر عليه من الجلالة وله من الاحترام ما هو
لائق بمنصب ذلك الامام. قال الربيع رأيت في المنام ان آدم صلى الله عليه وسلم مات فسألت عن
ذلك فقيل هذا موت أعلم أهل الأرض لان الله تعالى علم آدم الأسماء كلها فما كان الا يسيرا فمات
الشافعي ورأي غيره ليلة مات الشافعي قائلا يقول الليلة مات النبي صلى الله عليه وسلم: نشأ يتيما في
حجر أمه في قلة من العيش وضيق حال وكان في صباه يجالس العلماء ويكتب ما يستفيده في العظام
ونحوها حتى ملا منها خبايا: وعن مصعب بن عبد الله الزبيري قال كان الشافعي رحمه الله في ابتدأ
أمره يطلب الشعر وأيام العرب والأدب ثم اخذ في الفقه بعد: قال وكان سبب اخذه في العلم أنه
كان يوما يسير على دابة له وخلفة كاتب لأبي فتمثل الشافعي ببيت شعر فقرعه كاتب أبي بسوطه
ثم قال له مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا أين أنت من الفقه فهزه ذلك فقصد مجالسة الزنجي مسلم
ابن خالد وكان مفتى مكة ثم قدم علينا فلزم مالك بن انس: وعن الشافعي رحمه الله قال
كنت انظر في الشعر فارتقيت عقبة بمنى فإذا صوت من خلفي عليك بالفقه: وعن الحميدي قال قال
الشافعي خرجت أطلب النحو والأدب فلقيني مسلم بن خالد الزنجي فقال يا فتى من أين أنت قلت
من أهل مكة قال أين منزلك قلت شعب بالخيف قال من أي قبيلة أنت قلت من عبد مناف قال بخ بخ
لقد شرفك الله في الدنيا والآخرة الا جعلت فهمك في هذا الفقه فكان أحسن بك: ثم رحل الشافعي
من مكة إلى المدينة قاصدا الاخذ عن أبي عبد الله مالك بن انس رحمه الله: وفي رحلته مصنف مشهور
مسموع فلما قدم عليه قرأ عليه الموطأ حفظا فأعجبته قراءته ولازمه وقال له مالك اتق الله واجتنب
المعاصي فإنه سيكون لك شأن: وفي رواية أخرى أنه قال له انه الله عز وجل قد القى على قلبك نورا فلا تطفئه
بالمعاصي: وكان للشافعي رحمه الله حين اتى مالكا ثلاث عشرة سنة ثم ولى باليمين: واشتهر من حسن سيرته
وحمله الناس على السنة والطرائق الجميلة أشياء كثيرة معروفة. ثم ترك ذلك وأخذ في الاشتغال بالعلوم
ورحل إلى العراق وناظر محمد بن الحسن وغيره ونشر علم الحديث ومذهب أهله ونصر السنة وشاع
ذكره وفضله وطلب منه عبد الرحمن بن مهدي إمام أهل الحديث في عصره أن يصنف كتابا في أصول
الفقه فصنف كتاب الرسالة وهو أول كتاب صنف في أصول الفقه: وكان عبد الرحمن ويحيي بن سعيد
8

القطان يعجبان به: وكان القطان وأحمد بن حنبل يدعوان للشافعي في صلاتهما وأجمع الناس على استحسان
رسالته وأقوالهم في ذلك مشهورة: وقال المزني قرأت الرسالة خمس مائة مرة ما من مرة إلا واستفدت
منها فائدة جديدة وفي رواية عنه قال إنا أنظر في الرسالة من خمسين سنة ما أعلم أنى نظرت فيها مرة إلا
واستفدت شيئا لم أكن عرفته: واشتهرت جلالة الشافعي رحمه الله في العراق وسار ذكره في الآفاق
وأذعن بفضله الموافقون والمخالفون * واعترف بذلك العلماء أجمعون وعظمت عند الخلفاء وولاة الأمور
مرتبته واستقرت عندهم جلالته وإمامته وظهر من فضله في مناظراته أهل العراق وغيرهم ما لم يظهر لغيره.
وأظهر من بيان القواعد ومهمات الأصول ما لا يعرف لسواه: وامتحن في مواطن ما لا يحصى من المسائل
فكان جوابه فيها من الصواب والسداد بالمحل الأعلى والمقام الأسمى: وعكف عليه للاستفادة منه الصغار
والكبار والأئمة والأحبار من أهل الحديث والفقه وغيرهم * ورجع كثيرون منهم عن مذاهب
كانوا عليها إلى مذهبه وتمسكوا بطريقته كأبي ثور وخلائق لا يحصون * وترك كثير منهم الاخذ عن
شيوخهم وكبار الأئمة لانقطاعهم إلى الشافعي لما رأوا عنده ما لا يجدونه عند غيره وبارك الله الكريم
له ولهم في تلك العلوم الباهرة والمحاسن المتظاهرة والخيرات المتكاثرة ولله الحمد على ذلك وعلى سائر
نعمه التي لا تحصى: وصنف في العراق كتابه القديم ويسمى كتاب الحجة ويرويه عنه أربعة من جلة
أصحابه وهم أحمد بن حنبل وأبو ثور والزعفراني والكرابيسي ثم خرج إلى مصر سنة تسع وتسعين
ومائة. قال أبو عبد الله حرملة بن يحي قدم علينا الشافعي سنة تسع وتسعين: وقال الربيع سنة مائتين
ولعله قدم في آخر سنة تسع جمعا بين الروايتين: وصنف كتبه الجديدة كلها بمصر وسار ذكره في
البلدان وقصده الناس من الشام والعراق واليمين وسائر النواحي للاخذ عنه وسماع كتبه الجديدة وأخذها
عنه وساد أهل مصر وغيرهم وابتكر كتبا لم يسبق إليها منها أصول الفقه. ومنها كتاب القسامة. وكتاب
الجزية وقتال أهل البغي وغيرها: قال الإمام أبو الحسن محمد بن عبد الله بن جعفر الرازي في كتابه
مناقب الشافعي سمعت أبا عمر وأحمد بن علي بن الحسن البصري قال سمعت محمد بن حمدان بن سفيان
الطرايفي البغدادي يقول حضرت الربيع بن سليمان يوما وقد حط على باب داره سبعمائة راحلة في سماع
كتب الشافعي رحمه الله ورضي الله عنه *
فصل
في تلخيص جملة من حال الشافعي رضي الله عنه
اعلم أنه كان من أنواع المحاسن بالمقام الأعلى والمحل الأسنى * لما جمعه الله الكريم له من الخيرات * ووفقه
له من جميل الصفات * وسهله عليه من أنواع المكرمات * فمن ذلك شرف النسب الطاهر والعنصر
الباهر واجتماعه هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم في النسب: وذلك غاية الفضل ونهاية الحسب: ومن
ذلك شرف المولد والمنشأ فإنه ولد بالأرض المقدسة ونشأ بمكة: ومن ذلك أنه جاء بعد أن مهدت الكتب
وصنفت. وقررت الأحكام ونقحت. فنظر في مذاهب المتقدمين وأخذ عن الأئمة المبرزين وناظر الحذاق
9

المتقنين فنظر مذاهبهم وسبرها وتحققها وخبرها فلخص منها طريقة جامعة للكتاب والسنة والاجماع والقياس
ولم يقتصر على بعض ذلك وتفرغ للاختيار والترجيح والتكميل والتنقيح مع كمال قوته وعلو همته وبراعته في
جميع
أنواع الفنون واضطلاعه منها أشد اصطلاح وهو المبرز في الاستنباط من الكتاب والسنة البارع في معرفة
الناسخ والمنسوخ والمجمل والمبين والخاص والعام وغيرها من تقاسيم الخطاب فلم يسبقه أحد إلى فتح هذا
الباب لأنه أول من صنف أصول الفقه بلا خلاف ولا ارتياب وهو الذي لا يساوى بل لا يدانى في معرفة
كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد بعضها إلى بعض وهو الإمام الحجة في لغة العرب
ونحوهم فقد اشتغل في العربية عشرين سنة مع بلاغته وفصاحته ومع أنه عربي اللسان والدار والعصر
وبها يعرف الكتاب والسنة: وهو الذي قلد المنن الجسيمة جميع أهل الآثار وحملة الأحاديث ونقلة الاخبار
بتوقيفه إياهم على معاني السنن وتنبيههم وقذفه بالحق على باطن مخالفي السنن وتمويههم فنعشهم بعد
أن كانوا خاملين وظهرت كلمتهم على جميع المخالفين ودمغوهم بواضحات البراهين حتى ظلت أعناقهم
لها خاضعين * قال محمد بن الحسن رحمه الله ان تكلم أصحاب الحديث يوما ما فبلسان الشافعي يعنى
لما وضع من كتبه * وقال الحسن بن محمد الزعفراني كان أصحاب الحديث رقودا فأيقظهم الشافعي
فتيقظوا * وقال أحمد بن حنبل رحمه الله ما أحد مس بيده محبرة ولا قلما الا وللشافعي في رقبته منة
فهذا قول امام أصحاب الحديث وأهله ومن لا يختلفون في ورعه وفضله *
ومن ذلك أن الشافعي رحمه الله مكنه الله من أنواع العلوم حتى عجز لديه المناظرون من الطوائف
وأصحاب الفنون واعترف بتبريزه وأذعن الموافقون والمخالفون في المحافل المشهورة الكبيرة المشتملة
على أئمة عصره في البلدان وهذه المناظرات معروفة موجودة في كتبه رضي الله عنه وفي كتب الأئمة
المتقدمين والمتأخرين وفي كتاب الأم للشافعي رحمه الله من هذه المناظرات جمل من العجائب والآيات *
والنفائس الجليلات * والقواعد المستفادات * وكم من مناظرة وقاعدة فيه يقطع كل من وقف عليها
وأنصف وصدق انه لم يسبق إليها * ومن ذلك أنه تصدر في عصر الأئمة المبرزين للافتاء والتدريس
والتصنيف وقد أمره بذلك شيخه أبو خالد مسلم بن خالد الزنجي امام أهل مكة ومفتيها وقال له أفت
يا أبا عبد الله فقد والله آن لك ان تفتى وكان للشافعي إذ ذاك خمس عشرة سنة: وأقاويل أهل عصره
في هذا كثيرة مشهورة واخذ عن الشافعي العلم في سن الحداثة مع توفر العلماء في ذلك العصر وهذا من
الدلائل الصريحة لعظم جلالته وعلو مرتبته وهذا كله من المشهور المعروف في كتب مناقبه وغيرها *
ومن ذلك شدة اجتهاده في نصرة الحديث واتباع السنة وجمعه في مذهبه بين أطراف الأدلة مع
الاتقان والتحقيق والغوص التام على المعاني والتدقيق: حتى لقب حين قدم العراق بناصر الحديث وغلب
في عرف العلماء المتقدمين والفقهاء الخراسانيين على متبعي مذهبه لقب أصحاب الحديث في القديم والحديث:
وقد روينا عن الامام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة المعروف بامام الأئمة وكان من حفظ الحديث
ومعرفة السنة بالغاية العالية انه سئل هل تعلم سنة صحيحة لم يودعها الشافعي كتبه قال لا: ومع هذا فاحتاط
الشافعي رحمه الله لكون الإحاطة ممتنعة على البشر فقال ما قد ثبت عنه رضى عنه من أوجه من وصيته
10

بالعمل بالحديث الصحيح وترك قوله المخالف للنص الثابت الصريح وقد امتثل أصحابنا رحمهم الله وصيته
وعملوا بها في مسائل كثيرة مشهورة كمسألة التثويب في الصبح ومسألة اشتراط التحلل في الحج بعذر
وغير ذلك وستراها في مواضعها إن شاء الله تعالى * ومن ذلك تمسكه بالأحاديث الصحيحة: واعراضه
عن الاخبار الواهية الضعيفة: ولا نعلم أحدا من الفقهاء اعتنى في الاحتجاج بالتمييز بين الصحيح والضعيف
كاعتنائه ولا قريبا منه فرضي الله عنه * ومن ذلك أخذه رضي الله عنه بالاحتياط في مسائل العبادات
وغيرها كما هو معروف من مذهبه. ومن ذلك شدة اجتهاده في العبادة وسلوك طرائق الورع والسخاء
والزهادة * وهذا من خلقه وسيرته مشهور معروف: ولا يتمارى فيه الا جاهل أو ظالم عسوف: فكان
رضي الله عنه بالمحل الأعلى من متانة الدين وهو من المقطوع بمعرفته عند الموافقين والمخالفين
وليس يصح في الأذهان شئ * إذا احتاج النهار إلى دليل
وأما سخاؤه وشجاعته وكمال عقله وبراعته فإنه مما اشترك الخواص والعوام في معرفته فلهذا
لا أستدل له لشهرته وكل هذا مشهور في كتب المناقب من طرق * ومن ذلك ما جاء في الحديث
المشهور " أن عالم قريش يملا طباق الأرض علما " وحمله العلماء من المتقدمين وغيرهم من غير أصحابنا
على الشافعي رحمه الله واستدلوا له بأن الأئمة من الصحابة رضي الله عنهم الذين هم اعلام الدين لم
ينقل عن كل واحد منهم الا مسائل معدودة إذ كانت فتاواهم مقصورة على الوقائع بل كانوا ينهون
عن السؤال عن ما لم يقع وكانت هممهم مصروفة إلى قتال (1) الكفار لاعلاء كلمة الاسلام والى مجاهدة
النفوس والعبادة فلم يتفرغوا للتصنيف * وأما من جاء بعدهم وصنف من الأئمة فلم يكن فيهم قريش قبل
الشافعي ولم يتصف بهذه الصفة أحد قبله ولا بعده: وقد قال الإمام أبو زكريا يحيي بن زكريا الساجي
في كتابه المشهور في الخلاف إنما بدأت بالشافعي قبل جميع الفقهاء وقدمته عليهم وإن كان فيهم أقدم
منه اتباعه للسنة فان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " قدموا قريشا وتعلموا من قريش " وقال الإمام أبو
نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الاستراباذي (2) صاحب الربيع بن سليمان المرادي في هذا الحديث
علامة بينة إذا تأمله الناظر المميز علم أن المراد به رجل من علماء هذه الأمة من قريش ظهر علمه
وانتشر في البلاد وكتب كما تكتب المصاحف ودرسه المشايخ والشبان في مجالسهم واستظهروا أقاويله
وأجروها في مجالس الحكام والأمراء والقراء وأهل الآثار وغيرهم قال وهذه صفة لا نعلم أنها أحاطت
بأحد إلا بالشافعي فهو عالم قريش الذي دون العلم وشرح الأصول والفروع ومهد القواعد: قال البيهقي
بعد رواية كلام أبي نعيم والى هذا ذهب أحمد بن حنبل في تأويل الخبر: ومن ذلك مصنفات الشافعي
في الأصول والفروع التي لم يسبق إليها كثرة وحسنا فان مصنفاته كثيرة مشهورة كالأم في نحو عشرين
مجلدا وهو مشهور وجامع المزني الكبير وجامعه الصغير ومختصريه الكبير والصغير. ومختصر البويطي
والربيع وكتاب حرملة وكتاب الحجة وهو القديم والرسالة القديمة والرسالة الجديدة والأمالي والاملاء
وغير ذلك مما هو معلوم من كتبه: وقد جمعها البيهقي في المناقب: قال القاضي الإمام أبو محمد الحسين

1) وفى نسخة بدل قتال: جهاد
(2) هو أحد أئمة المسلمين وكان مقدما في الفقه والحديث توفى سنة 320
11

ابن محمد المروزي في خطبة تعليقه قيل إن الشافعي رحمه الله صنف مائة وثلاثة عشر كتابا في التفسير
والفقه والأدب وغير ذلك * وأما حسنها فأمر يدرك بمطالعتها فلا يتمارى في حسنها موافق ولا مخالف:
وأما كتب أصحابه التي هي شروح لنصوصه ومخرجة على أصوله مفهومة من قواعده فلا يحصيها مخلوق
مع عظم فوائدها وكثرة عوائدها وكبر حجمها وحسن ترتيبها ونظمها كتعليق الشيخ أبي حامد الأسفرايني
وصاحبيه القاضي أبي الطيب وصاحب الحاوي ونهاية المطلب لإمام الحرمين وغيرها مما هو مشهور معروف
وهذا من المشهور الذي هو أظهر من أن يظهر. وأشهر من أن يشهر. وكل هذا مصرح بغزارة علمه وجزالة
كلامه وصحة نيته في علمه وقد نقل عنه مستفيضا من صحة نيته في علمه نقول كثيرة مشهورة وكفى
بالاستقراء في ذلك دليلا قاطعا وبرهانا صادعا * قال الساجي في أول كتابه في الخلافة سمعت الربيع يقول
سمعت الشافعي يقول وددت ان الخلق تعلموا هذا العلم على أن لا ينسب إلى حرف منه فهذا اسناد لا يتمارى
في صحته فكتاب الساجي متواتر عنه وسمعه من امام عن امام * وقال الشافعي رحمه الله ما ناظرت أحدا
قط على الغلبة ووددت إذا ناظرت أحدا ان يظهر الله الحق على يديه: ونظائر هذا كثيرة مشهورة عنه *
ومن ذلك مبالغته في الشفقة على المتعلمين وغيرهم ونصيحته لله تعالى وكتابه ورسوله صلى الله عليه وسلم
والمسلمين وذلك هو الدين كما صح عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وهذا الذي ذكرته وإن كان كله
معلوما مشهورا فلا بأس بالإشارة إليه ليعرفه من لم يقف عليه فان هذا المجموع ليس مخصوصا ببيان
الخفيات وحل المشكلات
فصل
(في نوادر من حكم الشافعي وأحواله أذكرها أن شاء الله تعالى رموزا للاختصار)
قال رحمه الله طلب العلم أفضل من صلاة النافلة: وقال من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن
أراد الآخرة فعليه بالعلم: وقال ما تقرب إلى الله تعالى بشئ بعد الفرائض أفضل من طلب العلم * وقال
ما أفلح في العلم إلا من طلبه بالقلة: وقال رحمه الله الناس في غفلة عن هذه السورة (والعصر ان الانسان
لفي خسر) وكان جزأ الليل ثلاثة أجزاء الثلث الأول يكتب والثاني يصلى والثالث ينام * وقال الربيع
نمت في منزل الشافعي ليالي فلم يكن ينام من الليل إلا أيسره: وقال بحر بن نصر ما رأيت ولا سمعت
كان في عصر الشافعي أتقى لله ولا أورع ولا أحسن صوتا بالقرآن منه: وقال الحميدي كان الشافعي يختم
في كل شهر ستين ختمة: وقال حرملة سمعت الشافعي يقول وددت ان كل علم أعلمه تعلمه الناس أؤجر
عليه ولا يحمدونني: وقال أحمد بن حنبل رحمه الله كأن الله تعالى قد جمع في الشافعي كل خير: وقال
الشافعي رحمه الله الظرف الوقوف مع الحق كما وقف: وقال ما كذبت قط ولا حلفت بالله تعالى صادقا
ولا كاذبا: وقال ما تركت غسل الجمعة في برد ولا سفر ولا غيره: وقال ما شبعت منذ ست عشر سنة إلا
شبعة طرحتها من ساعتي: وفي رواية من عشرين سنة: وقال من لم تعزه التقوى فلا عز له: وقال ما فزعت
من الفقر قط: وقال طلب فضول الدنيا عقوبة عاقب الله بها أهل التوحيد: وقيل للشافعي مالك تدمن
12

إمساك العصا ولست بضعيف فقال لا ذكر انى مسافر يعنى في الدنيا: وقال من شهد الضعف من نفسه
نال الاستقامة: وقال من غلبته شدة الشهوة للدنيا لزمته العبودية لأهلها ومن رضى بالقنوع زال عنه
الخضوع: وقال خير الدنيا والآخرة في خمس خصال غنى النفس وكف الأذى وكسب الحلال ولباس
التقوى والثقة بالله تعالى على كل حال: وقال للربيع عليك بالزهد: وقال أنفع الذخائر التقوى وأضرها
العدوان: وقال من أحب أن يفتح الله قلبه أو ينوره فعليه بترك الكلام فيما لا يعنيه واجتناب المعاصي
ويكون له خبيئة فيما بينه وبين الله تعالى من عمل: وفي رواية فعليه بالخلوة وقلة الأكل وترك مخالطة السفهاء
وبغض أهل العلم الذين ليس معهم انصاف ولا أدب: وقال يا ربيع لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنك إذا تكلمت
بالكلمة ملكتك ولم تملكها وقال ليونس بن عبد الأعلى لو اجتهدت كل الجهد على أن ترضى الناس كلهم
فلا سبيل فأخلص عملك ونيتك لله عز وجل: وقال لا يعرف الرياء إلا مخلص وقال لو أوصى رجل بشئ
لا عقل الناس صرف إلى الزهاد: وقال سياسة الناس أشد من سياسة الدواب: وقال العاقل من عقله عقله
عن كل مذموم: وقال لو علمت أن شرب الماء البارد ينقص من مروءتي ما شربته (1) وقال للمروءة أربعة
أركان حسن الخلق والسخاء والتواضع والنسك: وقال المروءة عفة الجوارح عما لا يعنيها: وقال أصحاب
المروءات في جهد: وقال من أحب أن يقضى الله له بالخير فليحسن الظن بالناس: وقال لا يكمل الرجال
في الدنيا إلا بأربع بالديانة والأمانة والصيانة والرزانة: وقال أقمت أربعين سنة أسأل إخواني الذين
تزوجوا عن أحوالهم في تزوجهم فما منهم أحد قال إنه رأى خيرا: وقال ليس بأخيك من احتجت
إلى مداراته: وقال من صدق في أخوة أخيه قبل علله وسد خلله وغفر زلله: وقال من علامة الصديق
أن يكون لصديق صديقه صديقا: وقال ليس سرور يعدل صحبة الاخوان ولا غم يعدل فراقهم: وقال
لا تقصر في حق أخيك اعتمادا على مودته: وقال لا تبذل وجهك إلى من يهون عليه ردك: وقال من برك
فقد أوثقك ومن جفاك فقد أطلقك: وقال من نم لك نم بك ومن إذا أرضيته قال فيك ما ليس فيك
وإذا أغضبته قال فيك ما ليس فيك: وقال الكيس العاقل هو الفطن المتغافل: وقال من وعظ أخاه سرا
فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشأنه: وقال من سام بنفسه فوق ما يساوى رده الله
إلى قيمته: وقال الفتوة حلي الأحرار: وقال من تزين بباطل هتك ستره: وقال التواضع من أخلاق الكرام
والتكبر من شيم اللئام: وقال التواضع يورث المحبة والقناعة تورث المحبة والقناعة تورث الراحة: وقال أرفع الناس قدرا من
لا يرى قدره وأكثرهم فضلا من لا يرى فضله: وقال إذا كثرت الحوائج فابدأ بأهمها: وقال من كتم سره
كانت الخيرة في يده: وقال الشفاعات زكاة المروءات: وقال ما ضحك من خطأ رجل إلا ثبت صوابه
في قبله * وهذا الباب واسع جدا لكن نبهت بهذه الأحرف على ما سواها *

(1) بهامش نسخة الأذرعي ما نصه: ولو كنت اليوم ممن يقول الشعر لرثيت المروءة كذا روى المصنف هذه الزيادة
في هذا الموضع من كتاب تهذيب الأسماء تتمة للكلام المذكور هنا.
13

فصل
قد أشرت في هذه الفصول إلى طرف من حال الشافعي رضي الله عنه وبيان رجحان نفسه وطريقته
ومذهبه ومن أراد تحقيق ذلك فليطالع كتب المناقب التي ذكرتها: ومن أهمها كتاب البيهقي رحمه الله
وقد رأيت أن اقتصر على هذه الكلمات لئلا أخرج عن حد هذا الكتاب وأرجو بما أذكره وأشيعه
من محاسن الشافعي رضي الله عنه وأدعو له في كتابتي وغيرها من أحوالي أن أكون موفيا لحقه أو
بعض حقه علي لما وصلني من كلامه وعلمه وانتفعت به وغير ذلك من وجوه إحسانه إلى رضي الله
عنه وأرضاه وأكرم نزله ومثواه: وجمع بيني وبينه مع أحبابنا في دار كرامته: ونفعني بانتسابي إليه
وانتمائي إلى صحبته *
فصل
في أحوال الشيخ أبي إسحاق مصنف الكتاب
اعلم أن أحواله رحمه الله كثيرة لا يمكن أن تستقصى لخروجها عن أن تحصى لكن أشير إلى كلمات
يسيرة من ذلك ليعلم بها ما سواها مما هنا لك وأبالغ في اختصارها لعظمها وكثرة انتشارها * هو الامام
المحقق المتقن المدقق ذو الفنون من العلوم المتكاثرات والتصانيف النافعة المستجدات * الزاهد
العابد الورع المعرض عن الدنيا المقبل بقلبه على الآخرة الباذل نفسه في نصرة دين الله تعالى
المجانب للهوى أحد العلماء الصالحين وعباد الله العارفين الجامعين بين العلم والعبادة والورع والزهادة *
المواظبين على وظائف الدين واتباع هدى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم ورضى عنهم أجمعين *
أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف بن عبد الله الشيرازي الفيروزبادي رحمه الله ورضي الله عنه
منسوب إلى فيروزباد بليدة من بلاد شيراز ولد سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة وتفقه بفارس على أبي الفرج
ابن البيضاوي وبالبصرة علي الخرزي: ثم دخل بغداد سنة خمس عشرة وأربع مائة وتفقه على شيخه
الامام الجليل الفاضل أبي الطيب طاهر بن عبد الله الطبري وجماعات من مشايخه المعروفين: وسمع الحديث
على الامام الفقيه الحافظ أبي بكر البرقاني وأبي علي بن شاذان وغيرهما من الأئمة المشهورين: ورأي
رسول الله صلى الله عليه في المنام فقال له يا شيخ فكان يفرح ويقول سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم
شيخا قال رحمه الله كنت أعيد كل درس مائة مرة وإذا كان في المسألة بيت شعر يستشهد به حفظت القصيدة
كلها من أجله: وكان عاملا بعلمه صابرا على خشونة العيش معظما للعلم مراعيا للعمل بدقائق الفقه والاحتياط:
كان يوما يمشي ومعه بعض أصحابه فعرض في الطريق كلب فزجره صاحبه فنهاه الشيخ وقال أما علمت أن
الطريق بيني وبينه مشترك: ودخل يوما مسجدا ليأكل طعاما على عادته فنسي فيه دينارا فذكره في الطريق
فرجع فوجده ففكر ساعة وقال ربما وقع هذا الدينار من غيري فتركه ولم يمسه * قال الامام الحافظ أبو سعد
السمعاني كان الشيخ أبو إسحاق امام الشافعية والمدرس ببغداد في النظامية شيخ الدهر وامام العصر
رحل إليه الناس من الأمصار وقصدوه من كل الجوانب والأقطار وكان يجرى مجرى أبي العباس بن سريج
14

قال وكان زاهدا ورعا متواضعا متخلقا ظريفا كريما سخيا جوادا طلق الوجه دائم البشر: حسن
المجالسة مليح المحاورة وكان يحكي الحكايات والاشعار المستبدعة المليحة وكان يحفظ منها
كثيرا وكان يضرب به المثل في الفصاحة: وقال السمعاني أيضا تفرد الإمام أبو إسحاق بالعلم الوافر كالبحر
الزاخر مع السيرة الجميلة والطريقة المرضية جاءته الدنيا فأباها وأطرحها وقلاها قال وكان عامة المدرسين
بالعراق والجبال تلاميذه وأصحابه صنف في الأصول والفروع والخلاف والجدل والمذهب كتبا
أضحت للدين أنجما وشهبا: وكان يكثر مباسطة أصحابه بما سنح له من الرجز وكان يكرمهم ويطعمهم:
حكي السمعاني انه كان يشتري طعاما كثيرا ويدخل بعض المساجد ويأكل مع أصحابه وما فضل قال
لهم اتركوه لمن يرغب فيه: وكان رحمه الله طارحا للتكلف قال القاضي أبو بكر محمد بن عبد الباقي
الأنصاري حملت فتوى إلى الشيخ أبي إسحاق فرأيته في الطريق فمضى إلى دكان خباز أو بقال وأخذ
قلمه ودواته وكتب جوابه ومسح القلم في ثوبه: وكان رحمه الله ذا نصيب وافر من مراقبة الله تعالى
والاخلاص له وإرادة إظهار الحق ونصح الخلق: قال أبو الوفاء ابن عقيل شاهدت شيخنا أبا إسحاق
لا يخرج شيئا إلى فقير الا أحضر النية ولا يتكلم في مسألة الا قدم الاستعانة بالله عز وجل وأخلص
القصد في نصرة الحق: ولا صنف مسألة الا بعد أن صلى ركعات فلا جرم شاع اسمه وانتشرت تصانيفه
شرقا وغربا لبركة اخلاصه * قلت وقد ذكر الشيخ أبو إسحاق في أول كتابه الملخص في الجدل جملا من
الآداب للمناظرة واخلاص النية وتقديم ذلك بين يدي شروعه فيها وكان فيما نعتقده متصفا بكل
ذلك: أنشد السمعاني وغيره للرئيس أبي الخطاب علي بن عبد الرحمن بن هارون بن الجراح *
سقيا لمن صنف التنبيه مختصرا * ألفاظه الغر واستقصى معانيه
ان الامام أبا إسحاق صنفه * لله والدين لا للكبر والنيه
رأى علوما عن الافهام شاردة * فحازها ابن علي كلها فيه
بقيت للشرع إبراهيم منتصرا * تذود عنه أعاديه وتحميه
قوله مختصرا بكسر الصاد وألفاظه منصوب به
ولأبي الخطاب أيضا:
أضحت بفضل أبي إسحاق ناطقة * صحائف شهدت بالعلم والورع
بها المعاني كسلك العقد كامنة * واللفظ كالدر سهل جد ممتنع
رأى العلوم وكانت قبل شاردة * فحازها الألمعي الندب في اللمع
لا زال علمك ممدودا سرادقه * على الشريعة منصورا على البدع
ولأبي الحسن القيرواني:
إن شئت شرع رسول الله مجتهدا * تفتى وتعلم حقا كل ما شرعا
فاقصد هديت أبا إسحاق مغتنما * وادرس تصانيفه ثم احفظ اللمعا
ونقل عنه رحمه الله قال بدأت في تصنيف المهذب سنة خمس وخمسين وأربع مائة وفرغت يوم
15

الأحد آخر رجب سنة تسع وستين وأربع مائة توفى رحمه الله ببغداد يوم الأحد: وقيل ليلة الأحد
الحادي والعشرين من جمادى الآخرة وقيل الأولى سنة ست وسبعين وأربع مائة ودفن من الغد واجتمع
في الصلاة عليه خلق عظيم: قيل وأول من صلى عليه أمير المؤمنين المقتدى بأمر الله: ورؤي في النوم
وعليه ثياب بيض فقيل له ما هذا فقال عز العلم فهذه أحرف يسيرة من بعض صفاته أشرت بها إلى ما
سواها من جميل حالاته وقد بسطتها في تهذيب الأسماء واللغات وفي كتاب طبقات الفقهاء فرحمه الله
ورضى عنه وأرضاه وجمع بيني وبينه وسائر أصحابنا في دار كرامته * وقد رأيت أن أقدم في أول الكتاب
فصولا: تكون لمحصله وغيره من طالبي جميع العلوم وغيرها من وجوه الخير ذخرا وأصولا: وأحرص مع
الايضاح على اختصارها وحذف الأدلة والشواهد في معظمها خوفا من انتشارها مستعينا بالله متوكلا
عليه مفوضا أمري إليه
فصل
(في الاخلاص والصدق واحضار النية في جميع الاعمال البارزة والخفية)
قال الله تعالى (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) وقال تعالى (فاعبد الله مخلصا) وقال تعالى
(ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله) وروينا عن أمير
المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه " قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنما الأعمال بالنيات
وإنما لكل امرئ ما نوي فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا
يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه " حديث صحيح متفق على صحته مجمع على عظم
موقعه وجلالته وهو إحدى قواعد الايمان وأول دعائمه وآكد الأركان * قال الشافعي رحمه الله يدخل
هذا الحديث في سبعين بابا من الفقه: وقال أيضا هو ثلث العلم: وكذا قاله أيضا غيره وهو أحد الأحاديث
التي عليها مدار الاسلام. وقد اختلف في عدها فقيل ثلاثة وقيل أربعة وقيل اثنان وقيل حديث: وقد
جمعتها كلها في جزء الأربعين فبلغت أربعين حديثا لا يستغنى متدين عن معرفتها لأنها كلها صحيحة
جامعة قواعد الاسلام في الأصول والفروع والزهد والآداب ومكارم الأخلاق وغير ذلك وإنما بدأت
بهذا الحديث تأسيا بأئمتنا ومتقدمي أسلافنا من العلماء رضي الله عنهم وقد ابتدأ به أمام أهل الحديث
بلا مدافعة أبو عبد الله البخاري صحيحه ونقل جماعة ان السلف كانوا يستحبون افتتاح الكتب بهذا
الحديث تنبيها للطالب على تصحيح النية وإرادته وجه الله تعالى بجميع أعماله البارزة والخفية: وروينا
عن الامام أبي سعيد عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله قال لو صنفت كتابا بدأت في أول كل باب
منه بهذا الحديث: وروينا عنه أيضا قال من راد أن يصنف كتابا فليبدأ بهذا الحديث: وقال الإمام أبو
سليمان أحمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي الشافعي الامام في علوم رحمه الله تعالى كان المتقدمون
من شيوخنا يستحبون تقديم حديث الأعمال بالنيات امام كل شئ ينشأ ويبتدأ من أمور الدين لعموم
الحاجة إليه في جميع أنواعها
16

وهذه أحرف من كلام العارفين في الاخلاص والصدق: قال أبو العباس عبد الله بن عباس
رضي الله عنهما إنما يعطى الرجل على قدر نيته: وقال أبو محمد سهل بن عبد الله التستري رحمه الله
نظر الأكياس في تفسير الاخلاص فلم يجدوا غير هذا أن تكون حركاته وسكونه في سره وعلانيته
لله تعالى وحده لا يمازجه شئ لا نفس ولا هوى ولا دنيا: وقال السري رحمه الله لا تعمل للناس
شيئا ولا تترك لهم شيئا ولا تعط لهم ولا تكشف لهم شيئا: وروينا عن حبيب بن أبي ثابت التابعي
رحمه الله انه قيل له حدثنا فقال حتى تجئ النية: وعن أبي عبد الله سفيان بن سعيد الثوري رحمه الله
قال ما عالجت شيئا أشد علي من نيتي انها تتقلب على: وروينا عن الأستاذ أبي القاسم عبد الكريم بن
هوازن القشيري رحمه الله في رسالته المشهورة قال الاخلاص إفراد الحق في الطاعة بالقصد وهو أن
يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شئ آخر من تصنع لمخلوق أو اكتساب محمدة عند الناس أو محبة
مدح من الخلق أو شئ سوى التقرب إلى الله تعالى قال ويصح ان يقال الاخلاص تصفية العقل عن ملاحظة
المخلوقين قال وسمعت أبا علي الدقاق رحمه الله يقول الاخلاص التوقي عن ملاحظة الخلق والصدق
التنقي عن مطالعة النفس (1) فالمخلص لا رياء له والصادق لا إعجاب له: وعن أبي يعقوب السوسي رحمه الله قال
متى شهدوا في اخلاصهم الاخلاص احتاج اخلاصهم إلى اخلاص: وعن ذي النون رحمه الله قال ثلاثة من
علامات الاخلاص استواء المدح والذم من العامة ونسيان رؤية الاعمال في الاعمال واقتضاء ثواب
العمل في الآخرة: وعن أبي عثمان رحمه الله قال الاخلاص نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق. وعن
حذيفة المرعشي رحمه الله قال الاخلاص أن تستوى أفعال العبد في الظاهر والباطن: وعن أبي على الفضيل
ابن عياض رحمه الله قال ترك العمل لأجل الناس رياء والعمل لأجل الناس شرك والاخلاص ان
يعافيك الله منهما: وعن رويم رحمه الله قال الاخلاص أن لا يريد على عمله عوضا من الدارين
ولا حظا من الملكين: وعن يوسف بن الحسين رحمه الله قال أعز شئ في الدنيا الاخلاص: وعن أبي
عثمان قال اخلاص العوام ما لا يكون للنفس فيه حظ واخلاص الخواص ما يجرى عليهم لا بهم
فتبدو منهم الطاعات وهم عنها بمعزل ولا يقع لهم عليها رؤية ولا بها اعتداد:
وأما الصدق فقال الله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) قال القشيري
الصدق عماد الامر وبه تمامه وفيه نظامه وأقله استواء السر والعلانية: وروينا عن سهل بن عبد الله
التستري قال لا يشم رائحة الصدق عبد داهن نفسه أو غيره: وعن ذي النون رحمه الله قال الصدق
سيف الله ما وضع على شئ الا قطعه: وعن الحارث بن أسد المحاسبي بضم الميم رحمه الله قال الصادق
هو الذي لا يبالي لو خرج كل قدر له في قلوب الخلق من أجل صلاح قلبه ولا يحب اطلاع الناس
على مثاقيل الذر من حسن عمله ولا يكره اطلاعهم على السئ من عمله لان كراهته ذلك دليل على
أنه يحب الزيادة عندهم وليس هذا من أخلاق الصديقين: وعن أبي القاسم الجنيد بن محمد رحمه الله

(1) هكذا نسخة الأذرعي: وفي الأذكار للمؤلف: التنقي عن مطاوعة النفس
17

قال الصادق يتقلب في اليوم أربعين مرة والمراءي (1) يثبت على حالة واحدة أربعين سنة: (قلت)
معناه أن الصادق يدور مع الحق حيث دار فإذا كان الفضل الشرعي في الصلاة مثلا صلى وإذا كان في مجالسة
العلماء والصالحين والضيفان والعيال وقضاء حاجة مسلم وجبر قلب مكسور ونحو ذلك فعل ذلك
الأفضل وترك عادته: وكذلك الصوم والقراءة والذكر والأكل والشرب والجد والمزح والاختلاط
والاعتزال والتنعم والابتذال ونحوها فحيث رأى الفضيلة الشرعية في شئ من هذا فعله ولا يرتبط
بعادة ولا بعبادة مخصوصة كما يفعله المرائي وقد كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال في
صلاته وصيامه وأوراده وأكله وشربه ولبسه وركوبه ومعاشرة أهله وجده ومزحه وسروره وغضبه
واغلاظه في إنكار المنكر ورفقه فيه وعقوبته مستحقي التعزيز وصفحه عنهم وغير ذلك بحسب
الامكان والأفضل في ذلك الوقت والحال: ولا شك في اختلاف أحوال الشئ في الا فضيلة فان الصوم
حرام يوم العيد واجب قبله مسنون بعده والصلاة محبوبة في معظم الأوقات وتكره في أوقات
وأحوال كمدافعة الأخبثين: وقراءة القرآن محبوبة وتكره في الركوع والسجود وغير ذلك: وكذلك
تحسين اللباس يوم الجمعة والعيد وخلافه يوم الاستسقاء وكذلك ما أشبه هذه الأمثلة. وهذه نبذة
يسيرة ترشد الموفق إلى السداد وتحمله على الاستقامة وسلوك طريق الرشاد *
باب
(في فضيلة الاشتغال بالعلم وتصنيفه وتعلمه وتعليمه والحث عليه والارشاد إلى طرقه)
قد تكاثرت الآيات والاخبار والآثار وتواترت. وتطابقت الدلائل الصريحة وتوافقت على
فضيلة العلم والحث على تحصيله والاجتهاد في اقتباسه وتعليمه. وأنا اذكر طرفا من ذلك تنبيها على
ما هنالك. قال الله تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون). وقال تعالى (وقل رب
زدني علما). وقال تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء). وقال تعالى (يرفع الله الذين آمنوا منكم
والذين أوتوا العلم درجات). والآيات كثيرة معلومة. وروينا عن معاوية رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " رواه البخاري ومسلم.
وعن أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" ان مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت
الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها
وسقوا وزرعوا وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك الماء ولا تنبت كلا فذلك مثل من
فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله
الذي أرسلت به " رواه البخاري ومسلم (2). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال النبي صلى الله
عليه وسلم " لا حسد الا في اثنين رجل أتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل أتاه الله الحكمة

(1) هكذا نسخة الأذرعي وفي نسخة أخرى المماري (2) وهذا لفظ مسلم:
18

فهو يقضى بها ويعلمها " روياه. والمراد بالحسد الغبطة وهي ان يتمنى مثله. ومعناه ينبغي أن لا يغبط
أحدا إلا في هاتين الموصلتين إلى رضاء الله تعالى. وعن سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال لعلي الله عنه " فوالله لان يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر
النعم " روياه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من دعا إلى
هدى كان له من الاجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ومن دعا إلى ضلالة
كان عليه من الأتم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم رواه مسلم. وعن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث
صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له رواه مسلم وعن أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم من خرج في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع رواه الترمذي وقال حديث
حسن: وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل العالم على
العابد كفضلي على أدناكم ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله وملائكته وأهل السماوات
والأرض حتى النملة في حجرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير رواه الترمذي وقال
حديث حسن * وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لن
يشبع مؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة رواه الترمذي وقال حديث حسن * وعن ابن
عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فقيه واحد أشد على الشيطان من الف
عابد رواه الترمذي * وعن أبي هريرة مثله وزاد لكل شئ عماد وعماد هذا الدين الفقه وما
عبد الله بأفضل من فقه في الدين * وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه وعالما ومتعلما رواه الترمذي
وقال حديث حسن * وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول من سلك طريقا يبتغي فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة وان الملائكة لتضع أجنحتها لطالب
العلم رضاء وأن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء وفضل العالم على
العابد كفضل القمر على سائر الكواكب وان العلماء ورثة الأنبياء ان الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا
درهما وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافر رواه أبو داود والترمذي وغيرهما * وفى الباب
أحاديث كثيرة وفيما أشرنا إليه كفاية *
وأما الآثار عن السلف فأكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر لكن نذكر منها أحرفا متبركين
مشيرين إلى غيرها ومنبهين * عن علي رضي الله عنه كفى بالعلم شرفا أن يدعيه من لا يحسنه
ويفرح إذا نسب إليه وكفى بالجهل ذما أن يتبرأ منه من هو فيه * وعن معاذ رضي الله عنه
تعلموا العلم فان تعلمه لله خشية وطلبه عبادة ومذاكرته تسبيح والبحث عنه جهاد وتعليمه من لا يعلمه
صدقة وبذله لأهله قربة * وقال أبو مسلم الخولاني مثل العلماء في الأرض مثل النجوم في السماء
إذا بدت للناس اهتدوا بها وإذا خفيت عليهم تحيروا * عن وهب بن منبه قال يتشعب من
19

العلم الشرف وإن كان صاحبه دنيئا: والعز وإن كان مهينا والقرب وإن كان قصيا: والغنى وإن كان
فقيرا والنبل وإن كان حقيرا والمهابة وإن كان وضيعا: والسلامة وإن كان سفيها * وعن الفضيل قال
عالم عامل بعلمه يدعى كبيرا في ملكوت السماوات * وقال غيره أليس يستغفر لطالب العلم كل شئ
أفهكذا منزلة وقيل العالم كالعين العذبة نفعها دائم * وقيل العالم كالسراج من مر به اقتبس *
وقيل العلم يحرسك وأنت تحرس المال وهو يدفع عنك وأنت تدفع عن المال * وقيل العلم حياة
القلوب من الجهل ومصباح البصائر في الظلم به تبلغ منازل الأبرار ودرجات الأخيار والتفكر فيه
ومدارسته ترجح على الصلاة وصاحبه مبجل مكرم * وقيل مثل العالم مثل الحمة تأتيها البعداء ويتركها
الأقرباء فبينا هي كذلك إذ غار ماؤها وقد انتفع بها وبقي قوم يتفكنون أي يتندمون * قال أهل
اللغة الحمة بفتح الحاء عين ماء حار يستشفي بالاغتسال فيها * وقال الشافعي رحمه الله طلب العلم أفضل من صلاة
النافلة * وقال ليس بعد الفرائض أفضل من طلب العلم * وقال من أراد الدنيا فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة
فعليه بالعلم * وقال من لا يحب العلم فلا خير فيه فلا يكن بينك وبينه معرفة ولا صداقة * وقال العلم مروءة من لا
مروءة له * وقال إن لم تكن الفقهاء العاملون أولياء الله فليس لله ولى * وقال ما أحد أورع لخالقه من
الفقهاء * وقال من تعلم القرآن عظمت قيمته ومن نظر في الفقه نبل قدره: ومن نظر في اللغة رق طبعه: ومن نظر
في الحساب جزل رأيه ومن كتب الحديث قويت حجته ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه *) وقال
البخاري رحمه الله في أول كتاب الفرائض من صحيحه قال عقبة بن عامر رضي الله عنه تعلموا
قبل الظانين قال البخاري يعنى الذين يتكلمون بالظن: ومعناه تعلموا العلم من أهله المحققين الورعين
قبل ذهابهم ومجئ قوم يتكلمون في العلم بمثل نفوسهم وظنونهم التي ليس لها مستند شرعي *
فصل
(في ترجيح الاشتغال بالعلم على الصلاة والصيام وغيرهما من العبادات القاصرة على فاعلها)
قد تقدمت الآيات الكريمات في هذا المعنى كقوله تعالى (هل يستوي الذين يعلمون والذين
لا يعلمون) وقوله تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وغير ذلك * ومن الأحاديث ما سبق
كحديث ابن مسعود لا حسد الا في اثنتين وحديث من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
وحديث إذا مات ابن آدم انقطع عمله الا من ثلاث * وحديث فضل العالم على العابد كفضلي
على أدناكم * وحديث فقيه واحد أشد على الشيطان من الف عابد * وحديث من سلك طريقا
يلتمس فيه علما * وحديث من دعا إلى هدى * وحديث لا ن يهدي الله بك رجلا واحدا
وغير ذلك مما تقدم * وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال خرج رسول الله صلى
الله عليه وسلم فإذا في المسجد مجلسان مجلس يتفقهون ومجلس يدعون الله ويسألونه فقال كلا المجلسين
إلى خير أما هؤلاء فيدعون الله تعالى وأما هؤلاء فيتعلمون ويفقهون الجاهل. هؤلاء أفضل: بالتعليم
أرسلت ثم قعد معهم. رواه أبو عبد الله بن ماجة * وروى الخطيب الحافظ أبو بكر أحمد بن علي
20

ابن ثابت البغدادي في كتابه كتاب الفقيه والمتفقه أحاديث وآثارا كثيرة بأسانيدها المطرقة
منها عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مررتم برياض الجنة
فارتعوا قالوا يا رسول الله وما رياض الجنة قال خلق الذكر فان لله سيارات من الملائكة يطلبون حلق
الذكر فإذا أتوا عليهم حفوا بهم * وعن عطاء قال مجالس الذكر هي مجال الخلال والحرام كيف تشترى
وتبيع وتصلى وتصوم تنكح وتطلق وتحج وأشباه هذا * وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة * وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال يسير الفقه خير من كثير العبادة * وعن أنس رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيه أفضل عند الله من الف عابد * وعن ابن عمر عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال أفضل العبادة الفقه * وعن أبي الدرداء ما نحن لولا كلمات الفقهاء: وعن علي
رضي الله عنه العالم أعظم أجرا من الصائم القائم الغازي في سبيل الله * وعن أبي ذر وأبي هريرة
رضي الله عنهما قالا باب من العلم نتعلمه أحب الينا من الف ركعة تطوع. وباب من العلم نعلمه عمل
به أو لم يعمل أحب الينا من مائة ركعة تطوعا * وقالا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
إذا جاء الموت طالب العلم وهو على هذه الحال مات وهو شهيد * وعن أبي هريرة رضي الله عنه
لان أعلم بابا من العلم في أمر ونهي أحب إلى من سبعين غزوة في سبيل الله * وعن أبي الدرداء
مذاكرة العلم ساعة خير من قيام ليلة * وعن الحسن البصري. قال لان أتعلم بابا من العلم فأعلمه
مسلما أحب إلى من أن تكون لي الدنيا كلها في سبيل الله تعالى * وعن يحيى بن أبي كثير. دراسة
العلم صلاة * وعن سفيان الثوري والشافعي ليس شئ بعد الفرائض أفضل من طلب العلم * وعن
أحمد بن حنبل وقيل له أي شئ أحب إليك. أجلس بالليل أنسخ أو أصلى تطوعا. قال فنسخك (1) تعلم
بها أمر دينك فهو أحب * وعن مكحول ما عبد الله بأفضل من الفقه * وعن الزهري ما عبد الله بمثل
الفقه * وعن سعيد بن المسيب قال ليست عبادة بالصوم والصلاة ولكن بالفقه في دينه يعني ليس
أعظمها وأفضلها الصوم بل الفقه * وعن إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة أقرب الناس من درجة النبوة
أهل العلم وأهل الجهاد فالعلماء دلوا الناس على ما جاءت به الرسل وأهل الجهاد جاهدوا على ما جاءت به
الرسل * وعن سفيان بن عيينة أرفع الناس عند الله تعالى منزلة من كان بين الله وعباده وهم الرسل والعلماء *
وعن سهل التستري من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء فاعرفوا لهم ذلك *
فهذه أحرف من أطراف ما جاء في ترجيح الاشتغال بالعلم على العبادة. وجاء عن جماعات من السلف
ممن لم أذكره نحو ما ذكرته * والحاصل انهم متفقون على أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال بنوافل الصوم
والصلاة والتسبيح ونحو ذلك من نوافل عبادات البدن: ومن دلائله سوى ما سبق ان نفع العلم يعم صاحبه
والمسلمين والنوافل المذكورة مختصة به ولان العلم مصحح فغيره من العبادات مفتقر إليه ولا ينعكس: ولان
العلماء ورثة الأنبياء ولا يوصف المتعبدون بذلك: ولان العابد تابع للعالم مقتد به مقلد له في عبادته

(1) هكذا في الأصل ولعل المعنى فنسخك مسألة الخ
21

وغيرها واجب عليه طاعته ولا ينعكس: ولان العلم تبقى فائدته وأثره بعد صاحبه والنوافل تنقطع
بموت صاحبها. ولان العلم صفة لله تعالى. ولان العلم فرض كفاية أعني العلم الذي كلا منا فيه
فكان أفضل من النافلة: وقد قال امام الحرمين رحمه الله في كتابه الغياثي فرض الكفاية أفضل من
فرض العين من حيث أن فاعله يسد مسد الأمة ويسقط الحرج عن الأمة وفرض العين قاصر عليه
وبالله التوفيق *
فصل
فيما أنشدوه في فضل طلب العلم هذا واسع جدا ولكن من عيونه ما جاء عن أبي الأسود الدؤلي
ظالم بن عمرو التابعي رحمه الله *
العلم زين وتشريف لصاحبه * فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
لا خير فيمن له أصل بلا أدب * حتى يكون على ما زانه حدبا
كم من كريم أخي عى وطمطمة * فدم لدى القوم معروف إذا انتسبا
في بيت مكرمة آباؤه نجب * كانوا الرؤوس فأمسى يعدهم ذنبا
وخامل مقرف الآباء ذي أدب * نال المعالي بالآداب والرتبا
أمسى عزيزا عظيم الشأن مشتهرا * في خده صعر قد ظل محتجبا
العلم كنز ذخر لا نفاد له له * نعم القرين إذا ما صاحب صحبا
قد يجمع المرء ما لا ثم يحرمه * عما قليل فيلقى الذل والحربا
وجامع العلم مغبوط به أبدا * ولا يحاذر منه الفوت والسلبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه * لا تعدلن به درا ولا ذهبا
غيره:
تعلم فليس المرء يولد عالما * وليس أخو علم كمن هو جاهل
وأن كبير القوم لا علم عنده * صغير إذا التفت عليه المحافل
ولآخر:
علم العلم من أتاك لعلم * واغتنم ما حييت منه الدعاء
وليكن عندك الغنى إذا ما * طلب العلم والفقير سواء
ولآخر:
ما الفخر الا لأهل العلم أنهموا * على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه * والجاهلون لا هل العلم أعداء
ولآخر:
صدر المجالس حيث حل لبيبها * فكن اللبيب وأنت صدر المجلس
22

ولآخر:
عاب التفقه قوم لا عقول لهم * وما عليه إذا عابوه من ضرر
ما ضر شمس الضحى والشمس طالعة * أن لا يرى ضوءها من ليس ذا بصر
فصل
في ذم من أراد بفعله غير الله تعالى
اعلم أن ما ذكرناه من الفضل في طلب إنما هو في من طلبه مريدا به وجه الله تعالى لا لغرض
من الدنيا ومن أراده لغرض دنيوي كمال أو رياسة أو منصب أو وجاهة أو شهرة أو استمالة الناس
إليه أو قهر المناظرين أو نحو ذلك فهو مذموم * قال الله تعالى (من كان يريد حرث الآخرة نزد له
في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وماله في الآخرة من نصيب *. وقال تعالى (من كان
يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا) الآية: وقال
تعالى (ان ربك لبالمرصاد) وقال تعالى (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء).
والآيات فيه كثيرة * وروينا في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمه
فعرفها قال فما عملت فيها قال قاتلت فيك حتى استشهدت قال كذبت ولكنك قاتلت ليقال جرئ
فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن فأتى به
فعرفه نعمه فعرفها قال فما عملت فيها. قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن قال كذبت
ولكنك تعلمت ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى
ألقي في النار * وروينا عن أبي هريرة أيضا قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعلم علما
مما يبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه الا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة
يعنى ريحها رواه أبو داود وغيره باسناد صحيح * وروينا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من تعلم علما ينتفع به في الآخرة يريد به عرضا من الدنيا
لم يرح رائحة الجنة: روي بفتح الياء مع فتح الراء وكسرها وروى بضم الياء مع كسر الراء وهي ثلاث
لغات مشهورة: ومعناه لم يجد ريحها * وعن أنس وحذيفة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
من طلب العلم ليماري به السفهاء ويكاثر به العلماء أو يصرف به وجوه الناس إليه فليتبوء مقعده من
النار * ورواه الترمذي من رواية كعب بن مالك وقال فيه أدخله الله النار * وعن أبي هريرة
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لا ينتفع به *
وعنه صلى الله عليه وسلم شرار الناس شرار العلماء * وروينا في مسند الدارمي عن علي بن أبي
طالب رضى الله تعالى عنه قال. يا حملة اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم ووافق علمه
عمله وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم يخالف عملهم علمهم ويخالف سريرتهم علانيتهم
23

يجلسون حلقا يباهي بعضهم بعضا حتى أن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه
أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله تعالى * وعن سفيان ما ازداد عبد علما فازداد في
الدنيا رغبة الا ازداد من الله بعدا * وعن حماد بن سلمة من طلب الحديث لغير الله مكر به
والآثار به كثيرة *
فصل
في النهي الأكيد والوعيد الشديد لمن يؤذى أو ينتقص الفقهاء والمتفقهين
والحث على اكرامهم وتعظيم حرماتهم
قال الله تعالى (ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) وقال تعالى (ومن يعظم حرمات
الله فهو خير له عند ربه) وقال تعالى (واخفض جناحك للمؤمنين) وقال تعالى (والذين يؤذون
المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإنما مبينا) وثبت في صحيح البخاري عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله عز وجل قال من آذى لي وليا
فقد آذنته بالحرب * وروي الخطيب البغدادي عن الشافعي وأبي حنيفة رضي الله عنهما قالا إن لم
تكن الفقهاء أولياء الله فليس لله ولى * وفي كلام الشافعي الفقهاء العاملون * وعن ابن عباس رضي الله عنه
ما. من آذى فقيها فقد آذى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن آذي رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقد آذي الله تعالى عز وجل * وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من صلى الصبح
فهو في ذمة الله فلا يطلبنكم الله بشئ من ذمته * وفي رواية فلا تخفروا الله في ذمته وقال الامام
الحافظ أبو القاسم بن عساكر رحمه الله: اعلم يا أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلنا ممن يخشاه ويتقيه
حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق
لسانه في العلماء بالثلب، بلاه الله قبل موته بموت القلب (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم
فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) *
باب أقسام العلم الشرعي
هي ثلاثة: الأول فرض العين وهو تعلم المكلف مالا يتأدى الواجب الذي تعين عليه فعله
الا به ككيفية الوضوء والصلاة ونحوهما وعليه حمل جماعات الحديث المروى في مسند أبي يعلى الموصلي
عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم طلب العلم فريضة على كل مسلم وهذا الحديث وإن لم
يكن ثابتا فمعناه صحيح: وحمله آخرون على فرض الكفاية: وأما أصل واجب الاسلام وما يتعلق
بالعقائد فيكفي فيه التصديق بكل ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم واعتقاده اعتقادا جازما
سليما من كل شك ولا يتعين على من حصل له هذا تعلم أدلة المتكلمين هذا هو الصحيح الذي أطبق عليه
السلف والفقهاء والمحققون من المتكلمين من أصحابنا وغيرهم فان النبي صلى الله عليه وسلم لم يطالب
24

أحدا بشئ سوى ما ذكرناه: وكذلك الخلفاء الراشدون ومن سواهم من الصحابة فمن بعدهم من
الصدر الأول بل الصواب للعوام وجماهير المتفقهين والفقهاء الكف عن الخوض في دقائق الكلام
مخافة من اختلال يتطرق إلى عقائدهم يصعب عليهم اخراجه بل الصواب لهم الاقتصار على ما ذكرناه
من الاكتفاء بالتصديق الجازم: وقد نص على هذه الجملة جماعات من حذاق أصحابنا وغيرهم: وقد
بالغ امامنا الشافعي رحمه الله تعالى في تحريم الاشتغال بعلم الكلام أشد مبالغة وأطنب في تحريمه
وتغليظ العقوبة لمتعاطيه وتقبيح فعله وتعظيم الاثم فيه فقال لان يلقي الله العبد بكل ذنب ما خلا
الشرك خير من أن يلقاه بشئ من الكلام: وألفاظه بهذا المعنى كثيرة مشهورة: وقد صنف الغزالي
رحمه الله في آخر أمره كتابه المشهور الذي سماة الجام العوام عن علم الكلام وذكر أن الناس كلهم
عوام في هذا الفن من الفقهاء وغيرهم الا الشاذ النادر الذي لا تكاد الأعصار تسمح بواحد منهم
والله أعلم * ولو تشكك والعياذ بالله في شئ من أصول العقائد مما لا بد من اعتقاده ولم يزل شكه
الا بتعليم دليل من أدلة المتكلمين وجب تعلم ذلك لا زالة الشك وتحصيل ذلك الأصل *
(فرع). اختلفوا في آيات الصفات وأخبارها هل يخاض فيها بالتأويل أم لا فقال قائلون
تتأول على ما يليق بها وهذا أشهر المذهبين للمتكلمين: وقال آخرون لا تتأول بل يمسك عن الكلام
في معناها ويوكل علمها إلى الله تعالى ويعتقد مع ذلك تنزيه الله تعالى وانتفاء صفات الحادث عنه: فيقال
مثلا نؤمن بأن الرحمن على العرش استوى ولا نعلم حقيقة معنى ذلك والمراد به مع أنا نعتقد أن
الله تعالى (ليس كمثله شئ) وانه منزه عن الحلول وسمات الحدوث وهذه طريقة السلف أو جماهيرهم
وهي أسلم إذ لا يطالب الانسان بالخوض في ذلك فإذا اعتقد التنزيه فلا حاجة إلى الخوض في ذلك
والمخاطرة فيما لا ضرورة بل لا حاجة إليه فان دعت الحاجة إلى التأويل لرد مبتدع ونحوه تأولوا
حينئذ: وعلى هذا يحمل ما جاء عن العلماء في هذا والله أعلم *
(فرع). لا يلزم الانسان تعلم كيفية الوضوء والصلاة وشبههما الا بعد وجوب ذلك الشئ
فإن كان بحيث لو صبر إلى دخول الوقت لم يتمكن من تمام تعلمها مع الفعل في الوقت فهل يلزمه
التعلم قبل الوقت تردد فيه الغزالي والصحيح ما جزم به غيره أنه يلزمه تقديم التعلم كما يلزم السعي
إلى الجمعة لمن بعد منزله قبل الوقت ثم إذا كان الواجب على الفور كان تعلم الكيفية على الفور وإن كان
على التراخي كالحج فعلى التراخي: ثم الذي يجب من ذلك كله ما يتوقف أداء الواجب عليه غالبا
دون ما يطرأ نادرا فان وقع وجب التعلم حينئذ: وفي تعلم أدلة القبلة أوجه أحدها فرض عين
والثاني كفاية وأصحهما فرض كفاية إلا أن يريد سفرا فيتعين لعموم حاجة المسافر إلى ذلك *
(فرع) أما البيع والنكاح وشبههما مما لا يجب أصله فقال امام الحرمين والغزالي وغيرهما
يتعين على من أراده تعلم كيفيته وشرطه وقيل لا يقال يتعين بل يقال يحرم الاقدام عليه الا بعد معرفة
شرطه وهذه العبارة أصح: وعبارتهما محمولة عليها: وكذا يقال في صلاة النافلة يحرم التلبس بها على
من لم يعرف كيفيتها ولا يقال يجب تعلم كيفيتها *
25

(فرع) يلزمه معرفة ما يحل وما يحرم من المأكول والمشروب والملبوس ونحوها مما لا غنى له
عنه غالبا: وكذلك أحكام عشرة النساء إن كان له زوجة وحقوق المماليك إن كان له مملوك ونحو ذلك *
(فرع) قال الشافعي والأصحاب رحمهم الله على الآباء والأمهات تعليم أولادهم الصغار ما
سيتعين عليهم بعد البلوغ فيعلمه الولي الطهارة والصلاة والصوم ونحوها ويعرفه تحريم الزنا واللواط والسرقة
وشرب المسكر والكذب والغيبة وشبهها: ويعرفه أن بالبلوغ يدخل في التكليف ويعرفه ما يبلغ به:
وقيل هذا التعليم مستحب والصحيح وجوبه وهو ظاهر نصه وكما يجب عليه النظر في ماله وهذا
أولى وإنما المستحب ما زاد على هذا من تعليم القرآن وفقه وأدب: ويعرفه ما يصلح به معاشه ودليل
وجوب تعليم الولد الصغير والمملوك قول الله عز وجل. (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا).
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومجاهد وقتادة معناه علموهم ما ينجون به من النار وهذا ظاهر:
وثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كلكم راع
ومسئول عن رعيته ثم أجرة التعليم في النوع الأول في مال الصبي فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته *
وأما الثاني فذكر الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي صاحب التهذيب فيه وجهين وحكاهما
غيره أصحهما في مال الصبي لكونه مصلحة له: والثاني في مال الولي لعدم الضرورة إليه * واعلم أن
الشافعي والأصحاب إنما جعلوا للام مدخلا في وجوب التعليم لكونه من التربية وهي واجبة
عليها (1) كالنفقة والله أعلم *
(فرع) أما علم القلب وهو معرفة أمراض القلب كالحسد والعجب وشبههما فقال الغزالي
معرفة حدودها وأسبابها وطبها وعلاجها فرض عين: وقال غيره ان رزق المكلف قلبا سليما من
هذه الأمراض المحرمة كفاه ذلك ولا يلزمه تعلم دوائها وإن لم يسلم نظر ان تمكن من تطهير قلبه من
ذلك بلا نعلم لزمه التطهير كما يلزمه ترك الزنا ونحوه من غير تعلم أدلة الترك وإن لم يتمكن من الترك الا
بتعلم العلم المذكور تعين حينئذ والله أعلم *
(القسم الثاني) فرض الكفاية وهو تحصيل ما لا بد للناس منه في إقامة دينهم من العلوم
الشرعية كحفظ القرآن والأحاديث وعلومهما والأصول والفقه والنحو واللغة والتصريف: ومعرفة
رواة الحديث والاجماع والخلاف: وأما ما ليس علما شرعيا ويحتاج إليه في قوام أمر الدنيا كالطب
والحساب ففرض كفاية أيضا نص عليه الغزالي: واختلفوا في تعلم الصنائع التي هي سبب قيام مصالح
الدنيا كالخياطة والفلاحة ونحوهما واختلفوا أيضا في أصل فعلها فقال إمام الحرمين والغزالي ليست
فرض كفاية: وقال الإمام أبو الحسن علي بن محمد بن علي الطبري المعروف بالكيا الهراسي صاحب
إمام الحرمين هي فرض كفاية وهذا أظهر: قال أصحابنا وفرض الكفاية المراد به تحصيل ذلك الشئ
من المكلفين به أو بعضهم ويعم وجوبه جميع المخاطبين به فإذا فعله من تحصل به الكفاية سقط الحرج
عن الباقين وإذا قام به جمع تحصل الكفاية ببعضهم فكلهم سواء في حكم القيام بالفرض في الثواب

(1) هكذا في نسخة: وفي نسخة أخرى: واجبة عليها إذا وجبت عليها النفقة:
26

وغيره فإذا صلى على جنازة جمع ثم جمع ثم جمع فالكل يقع فرض كفاية ولو أطبقوا كلهم على تركه أثم
كل من لا عذر له ممن علم ذلك وأمكنه القيام به أو لم يعلم وهو قريب أمكنه العلم بحيث ينسب إلى
تقصير ولا يأثم من لم يتمكن لكونه غير أهل أو لعذر: ولو اشتغل بالفقه ونحوه وظهرت نجابته
فيه ورجى فلاحه وتبريزه فوجهان أحدهما يتعين عليه الاستمرار لقلة من يحصل هذه المرتبة فينبغي
الا يضيع ما حصله وما هو بصدد تحصيله. وأصحهما لا يتعين لان الشروع لا يغير المشروع فيه
عندنا الا في الحج والعمرة: ولو خلت البلدة من مفت فقيل يحرم المقام بها والأصح لا يحرم أن أمكن
الذهاب إلى مفت وإذا قام بالفتوى انسان في مكان سقط به فرض الكفاية إلى مسافة القصر من
كل جانب *
واعلم أن للقائم بفرض الكفاية مزية على القائم بفرض العين لأنه أسقط الحرج عن الأمة وقد
قدمنا كلام أمام الحرمين في هذا في فصل ترجيح الاشتغال بالعلم على العبادة القاصرة *
(القسم الثالث) النفل وهو كالتبحر في أصول الأدلة والامعان فيما وراء القدر الذي
يحصل به فرض الكفاية: وكتعلم العامي نوافل العبادات لغرض العمل لا ما يقوم به العلماء من تمييز
الفرض من النفل فان ذلك فرض كفاية في حقهم والله أعلم *
فصل
قد ذكرنا أقسام العلم الشرعي: ومن العلوم الخارجة عنه ما هو محرم أو مكروه ومباح: فالمحرم
كتعلم السحر فإنه حرام على المذهب الصحيح وبه قطع الجمهور وفيه خلاف نذكره في الجنايات حيث
ذكره المصنف إن شاء الله تعالى: وكالفلسفة والشعبذة والتنجيم وعلوم الطبائعيين وكل ما كان سببا
لإثارة الشكوك ويتفاوت في التحريم: والمكروه كاشعار المولدين التي فيها الغزل والبطالة * والمباح
كاشعار المولدين التي ليس فيها سخف ولا شئ مما يكره ولا ما ينشط إلى الشر ولا ما يثبط عن الخير
ولا ما يحث على خير أو يستعان به عليه *
فصل
تعليم الطالبين وافتاء المستفتين فرض كفاية فإن لم يكن هناك من يصلح الا واحد تعين عليه
وإن كان جماعة يصلحون فطلب ذلك من أحدهم فامتنع فهل يأثم ذكروا وجهين في المفتى والظاهر
جريانهما في المعلم وهما كالوجهين في امتناع أحد الشهود والأصح لا يأثم: ويستحب للمعلم أن يرفق
بالطالب ويحسن إليه ما أمكنه فقد روي الترمذي بإسناده عن أبي هارون العبدي قال كنا نأتي أبا
سعيد الخدري رضي الله عنه فيقول مرحبا بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ان النبي صلى الله عليه وسلم
قال إن الناس لكم تبع وان رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين فإذا أتوكم
فاستوصوا بهم خيرا *
27

باب آداب المعلم
هذا الباب واسع جدل وقد جمعت فيه نفائس كثيرة لا يحتمل هذا الكتاب عشرها فأذكر فيه
إن شاء الله تعالى نبذا منه: فمن آدابه أدبه في نفسه وذلك في أمور: منها أن يقصد بتعليمه وجه الله
تعالى ولا يقصد توصلا إلى غرض دنيوي كتحصيل مال أو جاه أو شهرة أو سمعة أو تميز عن الأشباه أو
تكثر بالمشتغلين عليه المختلفين إليه أو نحو ذلك: ولا يشين علمه وتعليمه بشئ من الطمع في رفق تحصل
له من مشتغل عليه من خدمة أو مال أو نحوهما وان قل ولو كان على صورة الهدية التي لولا اشتغاله
عليه لما أهداها إليه. ودليل هذا كله ما سبق في باب ذم من أراد بعلمه غير الله تعالى من الآيات
والأحاديث: وقد صح عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال وددت ان الخلق تعلموا هذا العلم على
أن لا ينسب إلى حرف منه: وقال رحمه الله تعالى ما ناظرت أحدا قط على الغلبة ووددت إذا ناظرت
أحدا أن يظهر الحق على يديه: وقال ما كلمت أحدا قط الا وددت أن يوفق ويسدد ويعان ويكون عليه
رعاية من الله وحفظ * وعن أبي يوسف رحمه الله تعالى قال يا قوم أريدوا بعلمكم الله فاني لم أجلس مجلسا
قط أنوي فيه أن أتواضع الا لم أقم حتى أعلوهم ولم أجلس مجلسا قط أنوي فيه أن أعلوهم الا لم أقم حتى أفتضح *
ومنها ان يتخلق بالمحاسن التي ورد الشرع بها وحث عليها والخلال الحميدة والشيم المرضية
التي أرشد إليها من التزهد في الدنيا والتقلل منها وعدم المبالاة بفواتها والسخاء والجود ومكارم الأخلاق
وطلاقة الوجه من غير خروج إلى حد الخلاعة والحلم والصبر والتنزه عن دنئ الاكتساب
وملازمة الورع والخشوع والسكينة والوقار والتواضع والخضوع واجتناب الضحك والاكثار من
المزح وملازمة الآداب الشرعية الظاهرة والخفية كالتنظيف بإزالة الأوساخ وتنظيف الإبط وإزالة
الروائح الكريهة واجتناب الروائح المكروهة وتسريح اللحية: ومنها الحذر من الحسد والرياء
والاعجاب واحتقار الناس وإن كانوا دونه بدرجات وهذه أدواء وأمراض يبتلى بها كثيرون من
أصحاب الأنفس الخسيسات * وطريقه في نفى الحسد أن يعلم أن حكمة الله تعالى اقتضت جعل
هذا الفضل في هذا الانسان فلا يعترض ولا يكره ما اقتضته الحكمة ولم (1) يذم الله احترازا من
المعاصي * وطريقه في نفى الرياء ان يعلم أن الخلق لا ينفعونه ولا يضرونه حقيقة فلا يتشاغل
بمراعاتهم فيتعب نفسه ويضر دينه ويحبط عمله ويرتكب سخط الله تعالى ويفوت رضاه * وطريقه في
نفي الاعجاب أن يعلم أن العلم فضل من الله تعالى ومعه عارية فان لله ما أخذوا له ما أعطى وكل شئ عنده
بأجل مسمى فينبغي أن لا يعجب بشئ لم يخترعه وليس مالكا له ولا على يقين من دوامه *
وطريقه في نفي الاحتقار التأدب بما أدبنا الله تعالى (فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى)
وقال تعالى (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) فربما كان هذا الذي يراه دونه أتقى لله تعالى وأطهر
قلبا وأخلص نية وأزكى عملا ثم إنه لا يعلم ماذا يختم له به ففي الصحيح أن أحدكم يعمل

(1) هكذا في نسخة وفي أخرى ولم يذمه الله وكلتا العبارتين تحتاج إلى تأمل وتحرير
28

بعمل أهل الجنة الحديث نسأل الله العافية من كل داء * ومنها استعماله أحاديث التسبيح والتهليل
ونحوهما من الأذكار والدعوات وسائر الآداب الشرعيات: ومنها دوام مراقبته لله تعالى في علانيته
وسره محافظا على قراءة القرآن ونوافل الصلوات والصوم وغيرهما معولا على الله تعالى في كل أمره
معتمدا عليه مفوضا في كل الأحوال أمره إليه * ومنها وهو من أهمها أن لا يذل العلم ولا يذهب به إلى
مكان ينتسب إلى من يتعلمه منه وإن كان المتعلم كبير القدر بل يصون العلم عن ذلك كما صانه السلف:
وأخبارهم في هذا كثيرة مشهورة مع الخلفاء وغيرهم: فان دعت إليه ضرورة أو اقتضت مصلحة
راجحة على مفسدة ابتذاله رجونا انه لا بأس به ما دامت الحالة هذه: وعلى هذا يحمل ما جاء عن
بعض السلف في هذا * ومنها انه إذا فعل فعلا صحيحا جائزا في نفس الامر ولكن ظاهرة أنه حرام
أو مكروه أو مخل بالمروءة ونحو ذلك فينبغي له أن يخبر أصحابه ومن يراه يفعل ذلك بحقيقة ذلك
الفعل لينتفعوا ولئلا يأثموا بظنهم الباطل ولئلا ينفروا عنه ويمتنع الانتفاع بعمله: ومن هذا الحديث
الصحيح انها صفية
فصل
ومن آدابه أدبه في درسه واشتغاله: فينبغي أن لا يزال مجتهدا في الاشتغال بالعلم قراءة واقراءا
ومطالعة وتعليقا ومباحثة ومذاكرة وتصنيفا: ولا يستنكف من التعلم ممن هو دونه في سن أو نسب
أو شهرة أو دين أو في علم آخر بل يحرص على الفائدة ممن كانت عنده وإن كان دونه في جميع هذا:
ولا يستحيى من السؤال عما لم يعلم فقد روينا عن عمر وابنه رضي الله عنهما قالا من رق وجهه رق
علمه * وعن مجاهد لا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر: وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت
نعم النساء نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين * وقال سعيد بن جبير لا يزال الرجل
عالما ما تعلم فإذا ترك العلم وظن أنه قد استغنى واكتفى بما عنده فهو أجهل ما يكون: وينبغي أن لا يمنعه
ارتفاع منصبه وشهرته من استفادة ما لا يعرفه فقد كان كثيرون من السلف يستفيدون من تلامذتهم
ما ليس عندهم: وقد ثبت في الصحيح رواية جماعة من الصحابة عن التابعين وروى جماعات من التابعين
عن تابعي التابعين: وهذا عمرو بن شعيب ليس تابعيا وروى عنه أكثر من سبعين من التابعين:
وثبت في الصحيحين ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ لم يكن الذين كفروا على أبي بن كعب
رضي الله عنه وقال أمرني الله ان اقرأ عليك فاستنبط العلماء من هذا فوائد * منها بيان التواضع
وان الفاضل لا يمتنع من القراءة على المفضول: وينبغي أن تكون ملازمة الاشتغال بالعلم هي مطلوبه
ورأس ما له فلا يشتغل بغيره فان اضطر إلى غيره في وقت فعل ذلك الغير بعد تحصيل وظيفته من
العلم: وينبغي أن يعتنى بالتصنيف إذا تأهل له فبه يطلع على حقائق العلم ودقائقه ويثبت معه لأنه يضطره
إلى كثرة التفتيش والمطالعة والتحقيق والمراجعة والاطلاع على مختلف كلام الأئمة ومتفقه وواضحه من
مشكله: وصحيحه من ضعيفه: وجزله من ركيكه وما لا اعتراض عليه من غيره وبه يتصف المحقق بصفة
29

المجتهد وليحذر كل الحذر أن يشرع في تصنيف ما لم يتأهل له فان ذلك يضره في دينه وعلمه وعرضه
وليحذر أيضا من اخراج تصنيفه من يده الا بعد تهذيبه وترداد نظره فيه وتكريره: وليحرص على
ايضاح العبارة وايجازها فلا يوضح ايضاحا ينتهي إلى الركاكة ولا يوجز ايجازا يفضي إلى المحق
والاستغلاق: وينبغي أن يكون اعتناؤه من التصنيف بما لم يسبق إليه أكثر. والمراد بهذا أن لا يكون
هناك مصنف يغنى عن مصنفه في جميع أساليبه فان أغنى عن بعضها فليصنف من جنسه ما يزيد
زيادات يحتفل بها مع ضم ما فاته من الأساليب وليكن تصنيفه فيما يعم الانتفاع به ويكثر الاحتياج
إليه: وليعتن بعلم المذهب فإنه من أعظم الأنواع نفعا وبه يتسلط المتمكن على المعظم من باقي العلوم *
ومن آدابه آداب تعليمه * اعلم أن التعليم هو الأصل الذي به قوام الدين وبه يؤمن امحاق العلم
فهو من أهم أمور الدين وأعظم العبادات وآكد فروض الكفايات: قال الله تعالى (وإذ أخذ الله
ميثاق الذين أوتوا الكتاب ليبيننه للناس ولا تكتمونه) وقال تعالى (ان الذين يكتمون ما أنزلنا)
الآية: وفي الصحيح من طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ليبلغ الشاهد منكم الغائب
والأحاديث بمعناه كثيرة والاجماع منعقد عليه: ويجب على المعلم أن يقصد بتعليمه وجه الله تعالى
لما سبق والا يجعله وسيلة إلى غرض دنيوي فيستحضر المعلم في ذهنه كون التعليم آكد العبادات
ليكون ذلك حاثا له على تصحيح النية ومحرضا له على صيانته من مكدراته ومن مكروهاته مخافة فوات
هذا الفضل العظيم والخير الجسيم: قالوا وينبغي أن لا يمتنع من تعليم أحد لكونه غير صحيح النية
فإنه يرجى له حسن النية وربما عسر في كثير من المبتدئين بالاشتغال تصحيح النية لضعف نفوسهم
وقلة أنسهم بموجبات تصحيح النية فالامتناع من تعليمهم يؤدى إلى تفويت كثير من العلم مع أنه
يرجي ببركة العلم تصحيحها إذا أنس بالعلم: وقد قالوا طلبنا العلم لغير الله فأبي أن يكون إلا لله:
معناه كانت عاقبته ان صار لله: وينبغي ان يؤدب المتعلم على التدريج بالآداب السنية والشم المرضية
ورياضة نفسه بالآداب والدقائق الخفية وتعوده الصيانة في جميع أموره الكامنة والجلية *
فأول ذلك أن يحرضه بأقواله وأحواله المتكررات على الاخلاص والصدق وحسن النيات: ومراقبة
الله تعالى في جميع اللحظات: وأن يكون دائما على ذلك حتى الممات: ويعرفه ان بذلك تنفتح عليه
أبواب المعارف: وينشرح صدره وتتفجر من قبله ينابيع الحكم واللطائف: ويبارك له في حاله وعلمه
ويوفق للإصابة في قوله وفعله وحكمه: ويزهده في الدنيا ويصرفه عن التعلق بها والركون إليها
والاغترار بها: ويذكره انها فانية والآخرة آتية باقية والتأهب للباقي والاعراض عن ألقاني هو طريق
الحازمين: ودأب عباد الله الصالحين: وينبغي أن يرغبه في العلم ويذكره بفضائله وفضائل العلماء
وأنهم ورثة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم: ولا رتبة في الوجود أعلى من هذه: وينبغي أن يحنو
عليه ويعتني بمصالحه كاعتنائه بمصالح نفسه وولده ويجريه مجرى ولده في الشفقة عليه والاهتمام بمصالحه
والصبر عل جفائه وسوء أدبه: ويعذره في سوء أدب وجفوة تعرض منه في بعض الأحيان فان
الانسان معرض للنقائص: وينبغي أن يحب له ما يحب لنفسه من الخير ويكره له ما يكرهه لنفسه من
30

الشر: ففي الصحيحين لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وعن ابن عباس رضي الله عنه
ما قال أكرم الناس على جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إلى لو استطعت ألا يقع
الذباب على وجهه لفعلت * وفي رواية ان الذباب يقع عليه فيؤذيني: وينبغي أن يكون سمحا ببذل
ما حصله من العلم سهلا بالقائه إلى مبتغيه متلطفا في إفادته طالبيه مع رفق ونصيحة وارشاد إلى المهمات:
وتحريض على حفظ ما يبذله لهم من الفوائد النفيسات: ولا يدخر عنهم من أنواع العلم شيئا يحتاجون
إليه إذا كان الطالب أهلا لذلك: ولا يلق إليه شيئا لم يتأهل له لئلا يفسد عليه حاله فلو سأله المتعلم عن
ذلك لم يجبه ويعرفه ان ذلك يضره ولا ينفعه وانه لم يمنعه ذلك شحا بل شفقة ولطفا: وينبغي
أن لا يتعظم على المتعلمين بل يلين لهم ويتواضع فقد أمر بالتواضع لآحاد الناس: قال الله تعالى
(واخفض جناحك للمؤمنين) * وعن عياض بن حماد رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم ان الله أوحى إلى أن تواضعوا رواه مسلم * وعن أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد
لله الا رفعه الله رواه مسلم * فهذا في التواضع لمطلق الناس فكيف بهؤلاء الذين هم كأولاده مع
ما هم عليه من الملازمة لطلب العلم: ومع ما لهم عليه من حق الصحبة وترددهم إليه واعتمادهم عليه: وفي
الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه * وعن الفضيل بن عياض
رحمه الله ان الله عز وجل يحب العلم المتواضع ويبغض العلم الجبار ومن تواضع لله تعالى ورثه
الحكمة: وينبغي أن يكون حريصا على تعليمهم مهتما به مؤثرا له على حوائج نفسه ومصالحه ما لم تكن
ضرورة ويرحب بهم عند اقبالهم إليه لحديث أبي سعيد السابق: ويظهر لهم البشر وطلاقة الوجه ويحسن إليهم
بعلمه وما له وجاهه بحسب التيسير: ولا يخاطب الفاضل منهم باسمه بل بكنيته ونحوها: ففي الحديث
عن عائشة رضي الله عنها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنى أصحابه اكراما لهم وتسنية
لأمورهم وينبغي أن يتفقدهم ويسأل عمن غاب منهم: وينبغي أن يكون باذلا وسعه في تفهيمهم
وتقريب الفائدة إلى أذهانهم حريصا على هدايتهم ويفهم كل واحد بحسب فهمه وحفظه فلا
يعطيه ما لا يحتمله ولا يقصر به عما يحتمله بلا مشقة ويخاطب كل واحد على قدر درجته وبحسب
فهمه وهمته فيكتفى بالإشارة لمن يفهمها فهما محققا ويوضع العبارة لغيره ويكررها لمن لا يحفظها
الا بتكرار ويذكر الأحكام موضحة بالأمثلة من غير دليل لمن لا ينحفظ له الدليل فان
جهل دليل بعضها ذكره له: ويذكر الدلائل لمحتملها ويذكر هذا ما بينا على هذه المسألة
وما يشبهها وحكمه حكمها وما يقاربها: وهو مخالف لها ويذكر ما يرد عليها وجوابه
ان أمكنه: ويبين الدليل الضعيف لئلا يغتر به فيقول استدلوا بكذا وهو ضعيف لكذا: ويبين
الدليل المعتمد ليعتمد: ويبين له ما يتعلق بها من الأصول والأمثال والأشعار واللغات وينبههم على
غلط من غلط فيها من المصنفين: فيقول مثلا هذا هو الصواب ولما ما ذكره فلان فغلط أو فضعيف قاصدا
النصيحة لئلا يغتر به لا لتنقص للمصنف: ويبين له على التدريج قواعد المذهب التي لا تنخرم غالبا
31

كقولنا إذا اجتمع سبب ومباشرة قدمنا المباشرة: وإذا اجتمع أصل وظاهر ففي المسألة
غالبا قولان: وإذا اجتمع قولان قديم وجديد فالعمل غالبا بالجديد الا في مسائل معدودة سنذكرها
قريبا إن شاء الله تعالى: وان من قبض شيئا لغرضه لا يقبل قوله في الرد إلى المالك: ومن قبضه لغرض
المالك قبل قوله في الرد إلى المالك لا إلى غيره: وان الحدود تسقط بالشبهة: وان الأمين إذا فرط ضمن: وان
العدالة والكفاية شرط في الولايات: وان فرض الكفاية إذا فعله من حصل به المطلوب سقط الحرج عن الباقين
والا أثموا كلهم بالشرط الذي قدمناه: وان من ملك انشاء عقد ملك الاقرار به: وان النكاح والنسب مبنيان
على الاحتياط: وان الرخص لا تباح بالمعاصي: وان الاعتبار في الايمان بالله أو العتاق أو الطلاق أو غيرها بنية
الحالف الا إن كأن يكون المستحلف قاضيا فاستحلفها لله تعالى لدعوى اقتضته فان الاعتبار بنية القاضي
أو نائبه إن كان الحالف يوافقه في الاعتقاد فان خالفه كحنفي استحلف شافعيا في شفعة الجوار ففيمن
تعتبر بيته وجهان: وأن اليمين التي يستحلف بها القاضي لا تكون الا بالله تعالى وصفاته: وان الضمان يجب
في مال المتلف بغير حق سواء كان مكلفا أو غيره بشرط كونه من أهل الضمان في حق المتلف عليه:
فقولنا من أهل الضمان احتراز من اتلاف المسلم مال حربي ونفسه وعكسه: وقولنا في حقه احتراز من
اتلاف العبد مال سيده إلا أن يكون المتلف قاتلا خطأ أو شبه عمد فان الدية على عاقلته: وان السيد
لا يثبت له مال في ذمة عبده ابتداء: وفي ثبوته دواما وجهان: وان أصل الجمادات الطهارة إلا الخمر
وكل نبيذ مسكر: وان الحيوان على الطهارة إلا الكلب والخنزير وفرع أحدهما *
ويبين له جملا مما يحتاج إليه وينضبط له من أصول الفقه وترتيب الأدلة من الكتاب والسنة
والاجماع والقياس واستصحاب الحال عند من يقول به * ويبين له أنواع الأقيسة ودرجاتها وكيفية
استثمار الأدلة: ويبين حد الأمر والنهي والعموم والخصوص والمجمل والمبين والناسخ والمنسوخ:
وان صيغة الامر على وجوه: وانه عند تجرده يحمل على الوجوب عند جماهير الفقهاء: وان اللفظ
يحمل على عمومه وحقيقته حتى يرد دليل تخصيص ومجاز: وان أقسام الحكم الشرعي خمسة الوجوب
والندب والتحريم والكراهة والإباحة: وينقسم باعتبار آخر إلى صحيح وفاسد: فالواجب ما يذم
تاركه شرعا على بعض الوجوه احترازا من الواجب الموسع والمخير * وقيل ما يستحق العقاب تاركه
فهذان أصح ما قيل فيه: والمندوب ما رجح فعله شرعا وجاز تركه: والمحرم ما يذم فاعله شرعا:
والمكروه ما نهى عنه الشرع نهيا غير جازم: والمباح ما جاء الشرع بأنه لا فرق بين فعله وتركه في حق
المكلف: والصحيح من العقود ما ترتب أثره عليه: ومن العبادات ما أسقط القضاء: والباطل
والفاسد خلاف الصحيح * ويبين له جملا من أسماء المشهورين من الصحابة رضى الله عن جميعهم
فمن بعدهم من العلماء الأخيار وأنسابهم وكناهم وأعصارهم وطرف حكاياتهم: ونوادرهم وضبط
المشكل من أنسابهم وصفاتهم وتمييز المشتبه من ذلك: وجملا من الألفاظ اللغوية والعرفية المتكررة (1)
في الفقه ضبطا لمشكلها وخفي معانيها فيقول هي مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة مخففة أو مشددة

(1) وفي نسخة بدل المتكررة: المذكورة
32

مهموزة أو لا عربية أو عجمية أو معربة وهي التي أصلها عجمي وتكلمت بها العرب: مصروفة أو
غيرها: مشتقة أم لا: مشتركة أم لا: مترادفة أم لا: وان المهموز والمشدد يخففان أم لا: وان فيها
لغة أخرى أم لا * ويبين ما ينضبط من قواعد التصريف كقولنا ما كان على فعل بفتح الفاء وكسر
العين فمضارعه يفعل بفتح العين إلا أحرفا جاء فيهن الفتح والكسر من الصحيح والمعتل: فالصحيح
دون عشرة أحرف كنعم وبئس وحسب والمعتل كوتر ووبق وورم وورى الزند وغيرهن: وأما
ما كان من الأسماء والأفعال على فعل بكسر العين جاز فيه أيضا إسكانها مع فتح الفاء وكسرها فإن كان
الثاني أو الثالث حرف حلق جاز فيه وجه رابع فعل بكسر الفاء والعين: وإذا وقعت مسألة غريبة
لطيفة أو مما يسئل عنها في المعايات نبهه عليها وعرفه حالها في كل ذلك: ويكون تعليمه إياهم كل
ذلك تدريجا شيئا فشيئا لتجتمع لهم مع طول الزمان جمل كثيرات *
وينبغي أن يحرضهم على الاشتغال في كل وقت ويطالبهم في أوقات بإعادة محفوظاتهم ويسألهم
عما ذكره لهم من المهمات فمن وجده حافظه مراعيا له أكرمه وأثنى عليه وأشاع ذلك ما لم يخف فساد
حاله باعجاب ونحوه: ومن وجده مقصرا عنفه إلا أن يخاف تنفيره ويعيده حتى يحفظه حفظا
راسخا وينصفهم في البحث فيعترف بفائدة يقولها بعضهم وإن كان صغيرا ولا يحسد أحدا منهم لكثرة
تحصيله فالحسد حرام للأجانب وهنا أشد فإنه بمنزلة الولد وفضيلته يعود إلى معلمه منها نصيب وافر فإنه مربيه
وله في تعليمه وتخريجه في الآخرة الثواب الجزيل وفي الدنيا الدعاء المستمر والثناء الجميل * وينبغي أن
يقدم في تعليمهم إذا ازدحموا الا سبق فالأسبق ولا يقدمه في أكثر من درس الا برضا الباقين وإذا
ذكر لهم درسا تحرى تفهيمهم بأيسر الطرق ويذكره مترسلا مبينا واضحا: ويكرر ما يشكل من
معانيه وألفاظه الا إذا وثق بأن جميع الحاضرين يفهمونه بدون ذلك وإذا لم يكمل البيان الا بالتصريح
بعبارة يستحي في العادة من ذكرها فليذكرها بصريح اسمها ولا يمنعه الحياء ومراعاة الأدب من
ذلك فان ايضاحها أهم من ذلك: وإنما تستحب الكناية في مثل هذا إذا علم بها المقصود علما جليا وعلى
هذا التفصيل يحمل ما ورد في الأحاديث من التصريح في وقت والكناية في وقت: ويؤخر ما ينبغي
تأخيره ويقدم ما ينبغي تقديمه ويقف في موضع الوقف: ويصل في موضع الوصل وإذا وصل موضع
الدرس صلى ركعتين فإن كان مسجدا تأكد الحدث على الصلاة ويقعد مستقبلا القبلة على طهارة
متربعا ان شاء وان شاء محتبيا وغير ذلك: ويجلس بوقار وثيابه نظيفة بيض: ولا يعتنى بفاخر الثياب
ولا يقتصر على خلق ينسب صاحبه إلى قلة المروءة: ويحسن خلقه مع جلسائه ويوقر فاضلهم بعلم أو سن
أو شرف أو صلاح ونحو ذلك: ويتلطف بالباقين ويرفع مجلس الفضلاء ويكرمهم بالقيام لهم على سبيل
الاحترام: وقد ينكر القيام من لا تحقيق عنده: وقد جمعت جزءا فيه الترخيص فيه ودلائله والجواب
عن ما يوهم كراهته * وينبغي أن يصون يديه عن العبث: وعينيه عن تفريق النظر بلا حاجة:
ويلتفت إلى الحاضرين التفاتا قصدا بحسب الحاجة للخطاب: ويجلس في موضع يبرز فيه وجهه
لكلهم: ويقدم على الدرس تلاوة ما تيسر من القرآن ثم يبسمل ويحمد الله تعالى ويصلى ويسلم على
33

النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أله ثم يدعو للعلماء الماضيين من مشايخه ووالديه والحاضرين وسائر
المسلمين: ويقول حسبنا الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم اللهم إني أعوذ بك
من أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم وأجهل أو يجهل على: فان ذكر دروسا قدم أهمها
فيقدم التفسير ثم الحديث ثم الأصولين ثم المذهب ثم الخلاف ثم الجدل ولا يذكر الدرس وبه ما
يزعجه كمرض أو جوع أو مدافعة الحدث أو شدة فرح وغم ولا يطول مجلسه تطويلا يملهم أو يمنعهم
فهم بعض الدروس أو ضبطه لان المقصود افادتهم وضبطهم فإذا صاروا إلى هذه الحالة فاته المقصود:
وليكن مجلسه واسعا ولا يرفع صوته زيادة على الحاجة ولا يخفضه خفضا يمنع بعضهم كمال فهمه: ويصون
مجلسه من اللغط والحاضرين عن سوء الأدب في المباحثة وإذا ظهر من أحدهم شئ من مبادئ ذلك
تلطف في دفعه قبل انتشاره ويذكرهم ان اجتماعنا ينبغي أن يكون لله تعالى فلا يليق بنا المنافسة
والمشاحنة بل شأننا (1) الرفق والصفاء (2) واستفادة بعضنا من بعض واجتماع قلوبنا على ظهور الحق:
وحصول الفائدة * وإذا سأل سائل عن أعجوبة فلا يسخرون منه وإذا سئل عن شئ لا يعرفه أو
عرض في الدرس ما لا يعرفه فليقل لا أعرفه أو لا أتحققه ولا يستنكف عن ذلك: فمن علم العالم أن يقول
فيما لا يعلم لا أعلم أو الله اعلم: فقد قال ابن مسعود رضي الله عنه يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به
ومن لم يعلم فليقل الله اعلم فان من العلم أن يقول لما لا يعلم الله اعلم: قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه
وسلم (قل ما أسألكم عليه من أجر وما انا من المتكلفين) رواه البخاري * وقال عمر بن الخطاب
رضي الله عنه نهينا عن التكليف: رواه البخاري * وقالوا ينبغي للعالم أن يورث أصحابه لا أدرى:
معناه يكثر منها: وليعلم أن معتقد المحققين أن قول العالم لا أدرى لا يضع منزلته بل هو دليل على عظم
محله وتقواه وكمال معرفته لان المتمكن لا يضره عدم معرفته مسائل معدودة بل يستدل بقوله لا أدري
على تقواه وانه لا يجازف في فتواه. وإنما يمتنع من لا أدرى من قل علمه وقصرت معرفته وضعفت
تقواه لأنه يخاف لقصوره ان يسقط من أعين الحاضرين وهو جهالة منه فإنه باقدامه على الجواب
فيما لا يعلمه يبوء بالإثم العظيم ولا يرفعه ذلك عما عرف له من المقصور بل يستدل به على قصوره لا نا
إذا رأينا المحققين يقولون في كثير من الأوقات لا أدرى وهذا القاصر لا يقولها أبدا علمنا أنهم
يتورعون لعلمهم وتقواهم وانه يجازف لجهله وقلة دينه فوقع فيما فرعنه واتصف بما احترز منه لفساد
نيته وسوء طويته: وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور
فصل
وينبغي للمعلم أن يطرح على أصحابه ما يراه من مستفاد المسائل ويختبر بذلك أفهامهم ويظهر
فضل الفاضل ويثنى عليه بذلك ترغيبا له وللباقين في الاشتغال والفكر في العلم وليتدربوا بذلك
ويعتادوه ولا يعنف من غلط منهم في كل ذلك إلا أن يرى تعنيفه مصلحة له: وإذا فرغ من تعليمهم
أو القاء درس عليهم أمرهم بإعادته ليرسخ حفظهم له فان أشكل عليهم منه شئ ما عاودوا الشيخ في ايضاحه *

(1) وفي نسخة بل سبيلنا:
(2) وفي نسخة والحياء:
34

فصل
ومن أهم ما يؤمر به ألا يتأذى ممن يقرأ عليه إذا قرأ على غيره وهذه مصيبة يبتلى بها جهلة المعلمين
لغباوتهم وفساد نيتهم: وهو من الدلائل الصريحة على عدم إرادتهم بالتعليم وجه الله تعالى الكريم:
وقد قدمنا عن علي رضي الله عنه الاغلاظ في ذلك والتأكيد في التحذير منه: وهذا إذا كان المعلم
الآخر أهلا فإن كان فاسقا أو مبتدعا أو كثير الغلط ونحو ذلك فليحذر من الاغترار به وبالله التوفيق *
باب آداب المتعلم
أما آدابه في نفسه ودرسه فكآداب المعلم: وقد أوضحناها وينبغي أن يطهر قلبه من الأدناس
ليصلح لقبول العلم وحفظه واستثماره: ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ان في
الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب: وقالوا
تطييب القلب للعلم كتطيب الأرض للزراعة * وينبغي ان يقطع العلائق الشاغلة عن كمال الاجتهاد
في التحصيل ويرضى باليسير من القوت ويصبر على ضيق العيش: قال الشافعي رحمه الله تعالى
لا يطلب أحد هذا العلم بالملك وعز النفس فيفلح ولكن من طلبه بذل النفس وضيق العيش وخدمة
العلماء أفلح: وقال أيضا لا يدرك العلم إلا بالصبر على الذل: وقال أيضا لا يصلح طلب العلم إلا
لمفلس فقيل ولا الغنى المكفي فقال ولا الغنى المكفي: وقال مالك بن أنس رحمه الله لا يبلغ أحد
من هذا العلم ما يريد حتى يضربه الفقر ويؤثره على كل شئ: وقال أبو حنيفة رحمه الله يستعان على
الفقه بجمع الهم ويستعان على حذف العلائق بأخذ اليسير عند الحاجة ولا يزد: وقال إبراهيم
الآجري من طلب العلم بالفاقة ورث الفهم: وقال الخطيب البغدادي في كتابه الجامع لآداب
الراوي والسامع يستحب للطالب أن يكون عزبا ما أمكنه لئلا يقطعه الاشتغال بحقوق الزوجة
والاهتمام بالمعيشة عن اكمال طلب العلم واحتج بحديث: خيركم بعد المائتين خفيف الحاذ وهو الذي
لا أهل له ولا ولد: وعن إبراهيم بن أدهم رحمه الله من تعود أفخاذ النساء لم يفلح يعني اشتغل بهن.
وهذا في غالب الناس لا الخواص: وعن سفيان الثوري إذا تزوج الفقيه فقد ركب البحر فان ولد
له فقد كسر به: وقال سفيان لرجل تزوجت فقال لا قال ما تدري ما أنت فيه من العافية: وعن بشر
الحافي رحمه الله من لم يحتج إلى النساء فليتق الله ولا يألف أفخاذهن * (قلت) هذا كله موافق لمذهبنا فان
مذهبنا ان من لم يحتج إلى النكاح استحب له تركه وكذا ان احتاج وعجز عن مؤنته: وفي الصحيحين
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ما تركت بعدي فتنة هي أضر
على الرجال من النساء وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال إن الدنيا حلوة خضرة وان الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون فاتقوا الدنيا واتقوا النساء
فان أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء: وينبغي له أن يتواضع للعلم والمعلم فبتواضعه يناله: وقد
35

أمرنا بالتواضع مطلقا فهنا أولى: وقد قالوا العلم حرب للمتعالي كالسيل حرب للمكان العالي: وينقاد
لمعلمه ويشاوره في أموره ويأتمر بأمره كما ينقاد المريض لطبيب حاذق ناصح وهذا أولى لتفاوت
مرتبتهما: قالوا ولا يأخذ العلم إلا ممن كملت أهليته وظهرت ديانته وتحققت معرفته واشتهرت صيانته
وسيادته: فقد قال ابن سيرين ومالك وخلائق من السلف هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون
دينكم: ولا يكفي في أهليته التعليم أن يكون كثير العلم بل ينبغي مع كثيرة علمه بذلك الفن كونه له
معرفة في الجملة بغيرة من الفنون الشرعية فإنها مرتبطة ويكون له دربة ودين وخلق جميل وذهن
صحيح واطلاع تام: قالوا ولا تأخذ العلم ممن كان أخذه له من بطون الكتب من غير قراءة على شيوخ
أو شيخ حاذق فمن لم يأخذه إلا من الكتب يقع في التصحيف ويكثر منه الغلط والتحريف * وينبغي
أن ينظر معلمه بعين الاحترام ويعتقد كمال أهليته ورجحانه على أكثر طبقته فهو أقرب إلى انتفائه به
ورسوخ ما سمعه منه في ذهنه: وقد كان بعض المتقدمين إذا ذهب إلى معلمه تصدق بشئ وقال
اللهم استر عيب معلمي عنى ولا تذهب بركة علمه منى: وقال الشافعي رحمه الله كنت اصفح الورقة
بين يدي مالك رحمه الله صفحا رفيقا هيبة له لئلا يسمع وقعها * وقال الربيع والله ما اجترأت أن
أشرب الماء والشافعي ينظر إلى هيبة له: وقال حمدان بن الأصفهاني كنت عند شريك رحمه الله فأتاه
بعض أولاد المهدى فاستند إلى الحائط وسأله عن حديث فلم يلتفت إليه وأقبل علينا ثم عاد فعاد لمثل
ذلك فقال أتستخف بأولاد الخلفاء فقال شريك لا ولكن العلم أجل عند الله تعالى من أن أضعه
فبحثا على ركبتيه فقال شريك هكذا يطلب العلم: وعن علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه قال من
حق العالم عليك أن تسلم على القوم عامة وتخصه بالتحية وأن تجلس امامه ولا تشيرن عنده بيدك
ولا تعمدن بعينك غيره ولا تقولن قال فلان خلاف قوله ولا تغتابن عنده أحدا ولا تسار في مجلسه
ولا تأخذ بثوبه ولا تلح عليه إذا كسل ولا تشبع من طول صحبته فإنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط
عليك منها شئ *
ومن آداب المتعلم أن يتحرى رضى المعلم وان خالف رأى نفسه ولا يغتاب عنده ولا يفشى
له سرا: وان يرد غيبته إذا سمعها فان عجز فارق ذلك المجلس: والا يدخل عليه بغير إذن وإذا
دخل جماعة قدموا أفضلهم وأسنهم: وان يدخل كامل الهيبة فارغ القلب من الشواغل متطهرا
متنظفا بسواك وقص شارب وظفر وإزالة كريه رائحة: ويسلم على الحاضرين كلهم بصوت يسمعهم
اسماعا محققا: ويخص الشيخ بزيادة اكرام وكذلك يسلم إذا انصرف: ففي الحديث الامر بذلك
ولا التفات إلى من أنكره: وقد أوضحت هذه المسألة في كتاب الأذكار: ولا يتخطى رقاب الناس
ويجلس حيث انتهى به المجلس إلا أن يصرح له الشيخ أو الحاضرون بالتقدم والتخطي أو يعلم من
حالهم ايثار ذلك: ولا يقيم أحدا من مجلسه فان آثره غيره بمجلسه لم يأخذه إلا أن يكون في ذلك
مصلحة للحاضرين بأن يقرب من الشيخ ويذاكره مذاكرة ينتفع الحاضرون بها: ولا يجلس وسط
الحلقة الا لضرورة: ولا بين صاحبين الا برضاهما: وإذا فسح له قعد وضم نفسه: ويحرص على
36

القرب من الشيخ ليفهم كلامه فهما كاملا بلا مشقة وهذا بشرط أن لا يرتفع في المجلس على أفضل
منه: ويتأدب مع رفقته وحاضري المجلس فان تأدبه معهم تأدب مع الشيخ واحترام لمجلسه: ويقعد
قعدة المتعلمين لا قعدة المعلمين: ولا يرفع صوته رفعا بليغا من غير حاجة ولا يضحك ولا يكثر
الكلام بلا حاجة: ولا يعبث بيده ولا غيرها: ولا يلتفت بلا حاجة بل يقبل على الشيخ مصغيا إليه
ولا يسبقه إلى شرح مسألة أو جواب سؤال الا ان يعلم من حال الشيخ ايثار ذلك ليستدل به على فضيلة
المتعلم ولا يقرأ عليه شغل قلب الشيخ وملله وغمه ونعاسه واستيفازه ونحو ذلك مما يشق عليه أو يمنعه
استيفاء الشرح ولا يسئله عن شئ في غير موضعه إلا أن يعلم من حاله انه لا يكرهه ولا يلح في السؤال
إلحاحا مضجرا. ويغتنم سؤاله عند طيب نفسه وفراغه. ويتلطف في سؤاله. ويحسن خطابه ولا يستحى
من السؤال عما أشكل عليه بل يستوضحه أكمل استيضاح فمن رق وجهه رق علمه ومن رق وجهه عند
السؤال ظهر نقصه عند اجتماع الرجال. وإذا قال له الشيح أفهمت فلا يقل نعم حتى يتضح له المقصود
إيضاحا جليا لئلا يكذب ويفوته الفهم: ولا يستحي من قوله لم افهم لان استثباته (1) يحصل له مصالح عاجلة
وآجلة: فمن العاجلة حفظه المسألة وسلامته من كذب ونفاق باظهاره فهم ما لم يكن فهمه * ومنها اعتقاد
الشيخ اعتناءه ورغبته وكمال عقله وورعه وملكه لنفسه وعدم نفاقه: ومن الآجلة ثبوت الصواب في
قلبه دائما واعتياده هذه الطريقة المرضية والأخلاق الرضية. وعن الخليل بن أحمد رحمه الله منزلة الجهل
بين الحياء والأنفة: وينبغي إذا سمع الشيخ يقول مسألة أو يحكى حكاية وهو يحفظها أن يصغى لها إصغاء
من لم يحفظها إلا إذا علم من حال الشيخ ايثاره علمه بأن المتعلم حافظها:
وينبغي أن يكون حريصا على التعليم مواظبا عليه في جميع أوقاته ليلا ونهارا حضرا وسفرا
ولا يذهب من أوقاته شيئا في غير العلم إلا بقدر الضرورة لا كل ونوم قدرا لا بد منه ونحوهما
كاستراحة يسيرة لا زالة الملل وشبه ذلك من الضروريات وليس بعاقل من أمكنه درجة ورثة الأنبياء
ثم فوتها. وقد قال الشافعي رحمه الله في رسالته حق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه
والصبر على كل عارض دون طلبه واخلاص النية لله تعالى في إدراك علمه نصا واستنباطا والرغبة إلى
الله تعالى في العون عليه. وفي صحيح مسلم عن يحيي بن أبي كثير قال لا يستطاع العلم براحة الجسم ذكره
في أوائل مواقيت الصلاة. قال الخطيب البغدادي أجود أوقات الحفظ الأسحار ثم نصف النهار
ثم الغداة وحفظ الليل أنفع من حفظ النهار ووقت الجوع أنفع من وقت الشبع: قال وأجود أماكن
الحفظ الغرف وكل موضع بعد عن الملهيات قال وليس بمحمود الحفظ بحضرة النبات والخضرة
والأنهار: وقوارع الطرق لأنها تمنع غالبا خلو القلب: وينبغي أن يصبر على جفوة شيخه وسوء
خلقه ولا يصده ذلك عن ملازمته واعتقاد كماله ويتأول لأفعاله التي ظاهرها الفساد تأويلات صحيحة
فما يعجز عن ذلك الا قليل التوفيق: وإذا جفاه الشيخ ابتدأ هو بالاعتذار وأظهر أن الذنب له والعتب
عليه فذلك أنفع له دينا ودنيا وأبقى لقلب شيخه: وقد قالوا من لم يصبر على ذل التعلم بقي عمره في

(1) هكذا في نسخة: وفي نسخة بدل استثبات: استيثاق:
37

عماية الجهالة ومن صبر عليه آل أمره إلى عز الآخرة والدنيا ومنه الأثر المشهور عن ابن عباس رضي الله عنهما
ذلك طالبا فعززت مطلوبا *
ومن آدابه الحلم والأناة وأن يكون همته عالية فلا يرضى باليسير مع امكان كثير وأن لا يسوف في اشتغاله
ولا يؤخر تحصيل فائدة وان قلت إذا تمكن منها وان أمن حصولها بعد ساعة لان للتأخير آفات ولأنه في الزمن
الثاني يحصل غيرها: وعن الربيع قال لم أر الشافعي آكلا بنهار ولا نائما بليل لاهتمامه بالتصنيف: ولا يحمل
نفسه ما لا تطيق مخافة الملل وهذا يختلف باختلاف الناس: وإذا جاء مجلس الشيخ فلم يجده انتظره ولا يفوت
درسه إلا أن يخاف كراهة الشيخ لذلك بان يعلم من حاله الأقراء في وقت بعينه فلا يشق عليه بطلب
القراءة في غيره: قال الخطيب وإذا وجده نائما لا يستأذن عليه بل يصبر حتى يستيقظ أو ينصرف
والاختيار الصبر كما كان ابن عباس والسلف يفعلون: وينبغي ان يغتنم التحصيل في وقت الفراغ
والنشاط وحال الشباب وقوة البدن ونباهة الخاطي وقلة الشواغل قبل عوارض البطالة وارتفاع المنزلة:
فقد روينا عن عمر رضي الله عنه تفقهوا قبل إن تسودوا: وقال الشافعي تفقه قبل إن ترأس فإذا
رأست فلا سبيل إلى التفقه: ويعتني بتصحيح درسه الذي يتحفظه تصحيحا متقنا على الشيخ ثم يحفظه
حفظا محكما ثم بعد حفظه يكرره مرات ليرسخ رسوخا متأكدا ثم يراعيه بحيث لا يزال محفوظا جيدا
ويبتدأ درسه بالحمد لله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم والدعاء للعلماء ومشايخه ووالديه وسائر
المسلمين ويبكر بدرسه لحديث اللهم بارك لا متى في بكورها ويداوم على تكرار محفوظاته ولا
يحفظ ابتداء من الكتب استقلالا بل يصحح على الشيخ كما ذكرنا فالاستقلال بذلك من أضر
المفاسد: وإلى هذا أشار الشافعي رحمه الله بقوله من تفقه من الكتب ضيع الأحكام: وليذاكر
بمحفوظاته وليدم الفكر فيها ويعتنى بما يحصل فيها من الفوائد وليرافق بعض حاضري حلقة الشيخ
في المذاكرة: قال الخطيب. وأفضل المذاكرة مذاكرة الليل وكان جماعة من السلف يفعلون ذلك
وكان جماعة منهم يبدؤن من لعشاء فربما لم يقوموا حتى يسمعوا أذان الصبح. وينبغي ان يبدأ من
دروسه على المشايخ: وفي الحفظ والتكرار والمطالعة بالأهم فالأهم: وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن
العزيز فهو أهم العلوم وكان السلف لا يعلمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القران وإذا حفظه فليحذر
من الاشتغال عنه بالحديث والفقه وغيرهما اشتغالا يؤدى إلى نسيان شئ منه أو تعريضه للنسيان:
وبعد حفظ القرآن يحفظ من كل فن مختصرا ويبدأ بالأهم ومن أهمها الفقه والنحو ثم الحديث والأصول
ثم الباقي على ما تيسر ثم يشتغل باستشراح محفوظاته ويعتمد من الشيوخ في كل فن أكملهما في الصفات
السابقة فان أمكنه شرح دروس في كل يوم فعل والا اقتصر على الممكن من درسين أو ثلاثة وغيرها
فإذا اعتمد شيخا في فن وكان لا يتأذى بقراءة ذلك الفن على غيره فليقرأ أيضا على ثان وثالث
وأكثر ما لم يتأذوا فان تأذ المعتمد اقتصر عليه وراعى قلبه فهو أقرب إلى انتفاعه: وقد قدمنا انه ينبغي
أن لا يتأذى من هذا: وإذا بحث المختصرات انتقل إلى بحث أكبر منها مع المطالعة المتقنة والعناية
الدائمة المحكمة وتعليق ما يراه من النفائس: والغرائب وحل المشكلات مما يراه في المطالعة أو يسمعه
38

من الشيخ ولا يحتقرن فائدة يراها أو يسمعها في أي فن كانت بل يبادر إلى كتابتها ثم يواظب على مطالعة
ما كتبه وليلازم حلقة الشيخ وليعتن بكل الدروس ويعلق عليها ما أمكن فان عجز اعتنى بالأهم ولا
يؤثر بنوبته فان الايثار بالقرب مكروه فان رأى الشيخ المصلحة في ذلك في وقت فأشاربه امتثل أمره:
وينبغي أن يرشد رفقته وغيرهم من الطلبة إلى مواطن الاشتغال والفائدة ويذكر لهم ما استفاده على
جهة النصيحة والمذاكرة وبارشادهم يبارك له في علمه ويستنير قلبه وتتأكد المسائل معه مع جزيل ثواب
الله عز وجل ومن بخل بذلك كان بضده فلا يثبت معه وان ثبت لم يثمر: ولا يحسد أحدا ولا يحتقره
ولا يعجب بفهمه وقد قدمنا هذا في آداب المعلم *
فإذا فعل ما ذكرناه وتكاملت أهليته واشتهرت فضيلته اشتغل بالتصنيف وجد في الجمع والتأليف
محققا كل ما يذكره متثبتا في نقله واستنباطه متحريا ايضاح العبارات وبيان المشكلات مجتنبا العبارات
الركيكات: والأدلة الواهيات: مستوعبا معظم أحكام ذلك الفن غير مخل بشئ من أصوله منبها على
القواعد فبذلك تظهر له الحقائق وتنكشف المشكلات ويطلع على الغوامض وحل المعضلات ويعرف
مذاهب العلماء والراجح من المرجوح ويرتفع عن الجمود على محض التقليد ويلتحق بالأئمة المجتهدين
أو يقاربهم إن وفق لذلك وبالله التوفيق *
فصل
في آداب يشترك فيها العالم والمتعلم
ينبغي لكل واحد منهما أن لا يخل بوظيفته لعروض مرض خفيف ونحوه مما يمكن معه الاشتغال
ويستشفى بالعلم ولا يسئل أحدا تعنتا وتعجيزا: فالسائل تعنتا وتعجيزا لا يستحق جوابا وفي الحديث النهى
عن غلوطات (1) المسائل وان يعتنى بتحصيل الكتب شراء واستعارة ولا يشتغل بنسخها ان حصلت بالشراء
لان الاشتغال أهم الا ان يتعذر الشراء لعدم الثمن أو لعدم الكتاب مع نفاسته فيستنسخه والا فلينسخه
ولا يهتم بتحسين الخط بل بتصحيحه: ولا يرتضى مع امكان تحصيله ملكا فان استعاره لم يبطئ به لئلا
يفوت الانتفاع به على صاحبه ولئلا يكسل عن تحصيل الفائدة منه ولئلا يمتنع من اعارته غيره وقد جاء في ذم
الابطاء برد الكتب المستعارة عن السلف أشياء كثيرة نثرا ونظما: ورويناها في كتاب الخطيب الجامع
لا خلاق الراوي والسامع: منها عن الزهري إياك وغلول الكتب وهو حبسها عن أصحابها: وعن الفضيل
ليس من أفعال أهل الورع ولا من أفعال الحكماء أن يأخذ سماع رجل وكتابه فيحبسه عنه ومن فعل
ذلك فقد ظلم نفسه. قال الخطيب وبسبب حبسها امتنع غير واحد من اعارتها: ثم روى في ذلك

(1) قوله غلوطات هكذا في نسخة الأذرعي بدون همز وفي نسخة أخرى أغلوطات بالهمز وهما روايتان:
والحديث في سنن أبي داود قال المنذري وفي روايته مجهول وهو عبد الله بن سعد. أراد بالغلوطات المسائل
التي يغالط بها العلماء ليزلوا فيها فيهيج بذلك شر وفتنة: وإنما نهى عنها غير نافعة في الدين ولا تكاد تكون
لا فيما لا يقع:
39

جملا عن السلف وأنشد فيه أشياء كثيرة: والمختار استحباب الإعارة لمن لا ضرر عليه في ذلك لأنه
إعانة على العلم مع ما مطلق العارية من الفضل: وروينا عن وكيع أول بركة الحديث إعارة الكتب: وعن
سفيان الثوري من بخل بالعلم ابتلى بإحدى ثلاث أن ينساه أو يموت ولا ينتفع به أو تذهب كتبه:
وقال رجل لأبي العتاهية أعرني كتابك قال إني أكره ذلك فقال أما علمت أن المكارم موصولة
بالمكارم فأعاره: ويستحب شكر المعير لا حسانه: فهذه نبذ من آداب المعلم والمتعلم وهي وإن كانت
طويلة بالنسبة إلى هذا الكتاب فهي مختصرة بالنسبة إلى ما جاء فيها وإنما قصدت بايرادها أن يكون
الكتاب جامعا لكل ما يحتاج إليه طالب العلم وبالله التوفيق *
باب
(آداب الفتوى والمفتى والمستفتي)
اعلم أن هذا الباب مهم جدا فأحببت تقديمه لعموم الحاجة إليه وقد صنف في هذا جماعة من
أصحابنا منهم أبو القاسم الصيمري شيخ صاحب الحاوي ثم الخطيب أبو بكر الحافظ البغدادي ثم
الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وكل منهم ذكر نفايس لم يذكرها الآخران: وقد طالعت كتب الثلاثة
ولخصت منها جملة مختصرة مستوعبة لكل ما ذكروه من المهم وضممت إليها نفائس من متفرقات كلام
الأصحاب وبالله التوفيق *
اعلم أن الافتاء عظيم الخطر كبير الموقع كثير الفضل لان المفتى وارث الأنبياء صلوات الله وسلامه
عليهم وقائم بفرض الكفاية لكنه معرض للخطأ ولهذا قالوا المفتى موقع عن الله تعالى: وروينا
عن ابن المنكدر قال العالم بين الله تعالى وخلقه فينظر كيف يدخل بينهم. وروينا عن السلف وفضلاء
الخلف من التوقف عن الفتيا أشياء كثيرة: معروفة نذكر منها أحرفا تبركا: وروينا عن عبد الرحمن
ابن أبي ليلى قال أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
يسئل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول. وفي رواية ما منهم
من يحدث بحديث الا ودان أخاه كفاه إياه ولا يستفتى عن شئ الا ودان أخاه كفاه الفتيا.
وعن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم من أفتى عن كل ما يسئل فهو مجنون. وعن الشعبي والحسن
وأبي حصين بفتح الحاء التابعين قالوا إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب
رضي الله عنه لجمع لها أن أهل بدر: وعن عطاء بن السائب التابعي أدركت أقواما يسئل أحدهم عن
الشئ فيتكلم وهو يرعد: وعن ابن عباس ومحمد بن عجلان إذا أغفل العالم لا أدرى أصيبت مقاتله.
وعن سفيان بن عيينة وسحنون أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما. وعن الشافعي وقد سئل عن
مسألة فلم يجب فقيل له فقال حتى أدري ان الفضل في السكوت أو في الجواب. وعن الأثرم سمعت
أحمد بن حنبل يكثر أن يقول لا أدري وذلك فيما عرف الأقاويل فيه. وعن الهيثم بن جميل شهدت
40

مالكا سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في ثنتين وثلاثين منها لا أدري. وعن مالك أيضا انه ربما
كان يسئل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة منها وكأن يقول من أجاب في مسألة فينبغي قبل
الجواب ان يعرض نفسه على الجنة والنار وكيف خلاصه ثم يجيب: وسئل عن مسألة فقال لا أدري
فقيل هي مسألة خفيفة سهلة فغضب وقال ليس في العلم شئ خفيف. وقال الشافعي ما رأيت أحدا
جمع الله تعالى فيه من آلة الفتيا ما جمع في ابن عيينة اسكت منه عن الفتيا: وقال أبو حنيفة لولا الفرق من الله
تعالى ان يضيع العلم ما أفتيت يكون لهم المهنأ وعلى الوزر وأقوالهم في هذا كثيرة معروفة قال الصيمري
والخطيب قل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها الأقل توفيقه واضطرب في أموره وإن كان
كارها لذلك غير مؤثر له ما وجد عنه مندوحة وأحال الامر فيه على غيره كانت المعونة له من الله
أكثر والصلاح في جوابه أغلب واستدلا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لا تسأل
الامارة فإنك ان أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وان أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها (1)
فصل
قال الخطيب ينبغي للامام ان يتصفح أحوال المفتين فمن صلح للفتيا أقره ومن لا يصلح منعه
ونهاه ان يعود وتواعده بالعقوبة ان عاد وطريق الامام إلى معرفة من يصلح للفتوى (2) ان يسأل
علماء وقته ويعتمد اخبار الموثوق بهم. ثم روى بإسناده عن مالك رحمه الله قال أفتيت حتى شهد لي
سبعون أنى أهل لذلك. وفي رواية ما أفتيت حتى سألت من هو أعلم منى هل يراني موضعا لذلك
قال مالك ولا ينبغي لرجل أن يرى نفسه أهلا لشئ حتى يسأل من هو أعلم منه *
فصل
قالوا وينبغي أن يكون المفتى ظاهر الورع مشورا بالديانة الظاهرة والصيانة الباهرة وكان مالك
رحمه الله يعمل بما لا يلزمه الناس ويقول لا يكون عالما حتى يعمل في خاصة نفسه بما لا يلزمه الناس
مما لو تركه لم يأتم وكان يحكى نحوه عن شيخه ربيعة *
فصل
شرط المفتى كونه مكلفا مسلما ثقة مأمونا متنزها عن أسباب الفسق وخوارم المروءة فقيه النفس
سليم الذهن رصين الفكر صحيح التصرف والاستنباط متيقظا سواء فيه الحر والعبد والمرأة والأعمى
والأخرس إذا كتب أو فهمت إشارته: قال الشيخ أبو عمر وبن الصلاح وينبغي أن يكون كالراوي
في أنه لا يؤثر فيه قرابة وعداوة وجر نفع ودفع ضر لان المفتى في حكم مخبر عن الشرع بما لا اختصاص
له بشخص فكان كالراوي لا كالشاهد وفتواه لا يرتبط بها إلزام بخلاف حكم القاضي: قال وذكر

(1) هذا الحديث أخرجه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي مختصرا ومطولا وأبو داود
(2) وفي نسخة للفتيا
41

صاحب الحاوي ان المفتى إذا نابذ في فتواه شخصا معينا صار خصما حكما (1) معاندا فترد فتواه على
من عاداه كما ترد شهادته عليه: واتفقوا على أن الفاسق لا تصح فتواه ونقل الخطيب فيه اجماع
المسلمين: ويجب عليه إذا وقعت له واقعة أن يعمل باجتهاد نفسه: وأما المستور وهو الذي
ظاهره العدالة ولم تختبر عدالته باطنا ففيه وجهان أصحهما جواز فتواه لان العدالة الباطنة يعمر معرفتها على
غير القضاة: والثاني لا يجوز كالشهادة والخلاف كالخلاف في صحة النكاح بحضور المستورين: قال
الصيمري وتصح فتاوي أهل الأهواء والخوارج ومن لا نكفره ببدعته ولا نفسقه ونقل الخطيب
هذا ثم قال وأما الشراة والرافضة الذين يسبون السلف الصالح ففتاويهم مردودة وأقوالهم ساقطة:
والقاضي كغيره في جواز الفتيا بلا كراهة. هذا هو الصحيح المشهور من مذهبنا: قال الشيخ ورأيت
في بعض تعاليق الشيخ أبي حامد ان له الفتوى في العبادات وما لا يتعلق بالقضاء: وفي القضاء وجهان
لأصحابنا أحدهما الجواز لأنه أهل والثاني لا لأنه موضع تهمة: وقال ابن المنذر تكره الفتوى في
مسائل الأحكام الشرعية (2): وقال شريح أنا أقضي ولا أفتي *
فصل
قال أبو عمر والمفتون قسمان مستقل وغيره فالمستقل شرطه مع ما ذكرنا أن يكون قيما (3) بمعرفة
أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والاجماع والقياس وما التحق بها على التفصيل
وقد فصلت في كتب الفقه فتيسرت ولله الحمد: وأن يكون عالما بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها
وبكيفية اقتباس الأحكام منها وهذا يستفاد من أصول الفقه: عارفا من علوم القرآن والحديث والناسخ
والمنسوخ والنحو واللغة والتصريف واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن معه من الوفاء
بشروط الأدلة والاقتباس منها: ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك: عالما بالفقه ضابطا لأمهات
مسائله وتفاريعه فمن جمع هذه الأوصاف فهو المفتى المطلق المستقل الذي يتأدى به فرض الكفاية
وهو المجتهد المطلق المستقل لأنه يستقل بالأدلة بغير تقليد وتقيد بمذهب أحد: قال أبو عمرو وما شرطناه
من حفظه لمسائل الفقه لم يشترط في كثير من الكتب المشهورة لكونه ليس شرطا لمنصب الاجتهاد لان
الفقه ثمرته فيتأخر عنه وشرط الشئ لا يتأخر عنه: وشرطه الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني وصاحبه
أبو منصور البغدادي وغيرهما: واشتراطه في المفتى الذي يتأدى به فرض الكفاية هو الصحيح
وإن لم يكن كذلك في المجتهد المستقل: ثم لا يشترط أن يكون جميع الأحكام على ذهنه بل يكفيه
كونه حافظا المعظم متمكنا من ادراك الباقي على قرب: وهل يشترط أن يعرف من الحساب ما يصحح
به المسائل الحسابية الفقهية حكى أبو إسحاق وأبو منصور فيه خلافا لأصحابنا والأصح اشتراطه: ثم

(1) وفي نسخة باسقاط حكما
(2) وفي نسخة باسقاط الشرعية
(3)... قيما هكذا في نسخة الأذرعي وفي نسخة أخرى فقيها بدل قيما
42

إنما نشترط اجتماع العلوم المذكورة في مفت مطلق في جميع أبواب الشرع فأما مفت في باب خاص
كالمناسك والفرائض يكفيه معرفة ذلك الباب كذا قطع به الغزالي وصاحبه ابن برهان بفتح الباء
وغيرهما ومنهم من منعه مطلقا وأجازه ابن الصباغ في الفرائض خاصة والأصح جوازه مطلقا *
(القسم الثاني) المفتى الذي ليس بمستقل ومن دهر طويل عدم المفتى المستقل وصارت
الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة * وللمفتى المنتسب أربعة أحوال أحدها أن لا يكون
مقلدا لامامه لا في المذهب ولا في دليله لاتصافه بصفة المستقل وإنما ينسب إليه لسلوكه طريقه في
الاجتهاد وادعى الأستاذ أبو إسحاق هذه الصفة لأصحابنا فحكى عن أصحاب مالك رحمه الله واحمد وداود
وأكثر الخفية انهم صاروا إلى مذاهب أئمتهم تقليدا لهم ثم قال والصحيح الذي ذهب إليه المحققون
ما ذهب إليه أصحابنا وهو انهم صاروا إلى مذهب الشافعي لا تقليدا له بل لما وجدوا طرقه في الاجتهاد
والقياس أسد الطرق ولم يكن لهم بد من الاجتهاد سلكوا طريقه فطلبوا معرفة الأحكام بطريق
الشافعي: وذكر أبو علي السنجي بكسر السين المهملة نحو هذا فقال اتبعنا الشافعي دون غيره لأنا
وجدنا قوله أرجح الأقوال وأعدلها لا انا قلدناه (قلت) هذا الذي ذكراه موافق لما أمرهم به الشافعي
ثم المزني في أول مختصره وغيره بقوله مع إعلامية نهيه عن تقليده وتقليد غيره: قال أبو عمرو دعوى
انتفاء التقليد عنهم مطلقا لا يستقيم ولا يلائم المعلوم من حالهم أو حال أكثرهم: وحكى بعض أصحاب
الأصول منا انه لم يوجد بعد عصر الشافعي مجتهد مستقل * ثم فتوى المفتى في هذه الحالة كفتوى المستقل
في العمل بها والاعتداد بها في الاجماع والخلاف (الحالة الثانية) أن يكون مجتهدا مقيدا في مذهب
امامه مستقلا بتقرير أصوله بالدليل غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول امامه وقواعده: وشرطه كونه
عالما بالفقه وأصوله وأدلة الأحكام تفصيلا بصيرا بمسالك الأقيسة والمعاني تام الارتياض في التخريج
والاستنباط قيما بالحاق ما ليس منصوصا عليه لامامه بأصوله: ولا يعرى عن شوب تقليد له لا خلافه
ببعض أدوات المستقل بان يخل بالحديث أو العربية وكثيرا ما أخل بهما المقيد ثم يتخذ نصوص
امامه أصولا يستنبط منها كفعل المستقل بنصوص الشرع: وربما اكتفى في الحكم بدليل إمامه ولا
يبحث عن معارض كفعل المستقل في النصوص: وهذه صفة أصحابنا أصحاب الوجوه وعليها كان
أئمة أصحابنا أو أكثرهم: والعامل بفتوى هذا مقلد لامامه لا له ثم ظاهر كلام الأصحاب ان من هذا حاله
لا يتأدى به فرض الكفاية: قال أبو عمرو ويظهر تأدى الفرض به في الفتوى وإن لم يتأد في احياء العلوم
التي منها استمداد الفتوى لأنه قام مقام إمامه المستقل تفريعا على الصحيح وهو جواز تقليد الميت
ثم قد يستقل المقيد في مسألة أو باب خاص كما تقدم: وله ان يفتى فيما لا نص فيه لامامه بما يخرجه
على أصوله هذا هو الصحيح الذي عليه العمل واليه مفزع المفتين من مدد طويلة ثم إذا أفتى بتخريجه
فالمستفتي مقلد لامامه لا له هكذا قطع به إمام الحرمين في كتابه الغياثي وما أكثر فوائده. قال الشيخ
أبو عمرو وينبغي ان يخرج هذا على خلاف حكاه الشيخ أبو إسحاق الشيرازي وغيره ان ما يخرجه
أصحابنا هل يجوز نسبته إلى الشافعي والأصح انه لا ينسب إليه: ثم تارة يخرج من نص معين لامامه
43

وتارة لا يجده فيخرج على أصوله بان يجد دليلا على شرط ما يحتج به إمامه فيفتى بموجبه فان نص
امامه على شئ ونص في مسألة تشبهها على خلافه فخرج من أحدهما إلى الآخر سمى قولا
مخرجا وشرط هذا التخريج أن لا يجد بين نصيه فرقا فان وجده وجب تقريرهما على ظاهرهما:
ويختلفون كثيرا في القول بالتخريج في مثل ذلك لاختلافهم في إمكان الفرق * (قلت) وأكثر
ذلك يمكن فيه الفرق وقد ذكروه *
(الحالة الثالثة) أن لا يبلغ رتبة أصحاب الوجوه لكنه فقيه النفس حافظ مذهب إمامه عارف
بادلته قائم بتقريرها يصور ويحرر ويقرر ويمهد ويزيف ويرجح لكنه قصر عن أولئك لقصوره
عنهم في حفظ المذهب أو الارتياض في الاستنباط أو معرفة الأصول ونحوها من أدوانهم: وهذه
صفة كثير من المتأخرين إلى أواخر المائة الرابعة المصنفين الذين رتبوا المذهب وحرروه وصنفوا فيه
تصانيف فيها معظم اشتغال الناس اليوم ولم يلحقوا الذين قبلهم في التخريج وأما فتاويهم فكانوا
يتبسطون فيها تبسط أولئك أو قريبا منه ويقيسون غير المنقول عليه غير مقتصرين على القياس الجلي
ومنهم من جمعت فتاويه ولا تبلغ في التحاقها بالمذهب مبلغ فتاوى أصحاب الوجوه *
(الحالة الرابعة) ان يقوم بحفظ المذهب ونقله وفهمه في الواضحات والمشكلات ولكن
عنده ضعف في تقرير أدلته وتحرير أقيسته فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه
من نصوص امامه وتفريع المجتهدين في مذهبه وما لا يجده منقولا ان وجد في المنقول معناه بحيث
يدرك بغير كبير فكر انه لا فرق بينهما جاز الحاقه به والفتوى به: وكذا ما يعلم اندراجه تحت ضابط
ممهد في المذهب وما ليس كذلك يجب إمساكه عن الفتوى فيه ومثل هذا يقع نادرا في حق
المذكور إذ يبعد كما قال امام الحرمين ان تقع مسألة لم ينص عليها في المذهب ولا هي في معنى المنصوص
ولا مندرجة تحت ضابط: وشرطه كونه فقيه النفس ذا حظ وافر من الفقه: قال أبو عمرو وان
يكتفى في حفظ المذهب في هذه الحالة والتي قبلها بكون المعظم على ذهنه ويتمكن لدربته من الوقوف
على الباقي على قرب *
فصل
هذه أصناف المفتين وهي خمسة وكل صنف منها يشترط فيه حفظ المذهب وفقه النفس فمن
تصدى للفتيا وليس بهذه الصفة فقد باء بأمر عظيم: ولقد قطع امام الحرمين وغيره بأن الأصولي
الماهر المتصرف في الفقه لا يحل له الفتوى بمجرد ذلك: ولو وقعت له واقعة لزمه ان يسئل عنها
ويلتحق به المتصرف النظار البحاث من أئمة الخلاف وفحول المناظرين لأنه ليس أهلا لادراك حكم
الواقعة استقلالا لقصور آلته ولا من مذهب امام لعدم حفظه له على الوجه المعتبر: فان قيل من
حفظ كتابا أو أكثر في المذهب وهو قاصر يتصف بصفة أحد ممن سبق ولم يجد العامي في بلده
44

غيره هل له الرجوع إلى قوله: فالجواب إن كان في غيره بلده مفت يجد السبيل إليه وجب التوصل
إليه بحسب امكانه فان تعذر ذكر مسألة للقاصر فان وجدها بعينها في كتاب موثوق بصحته وهو
ممن يقبل خبره نقل له حكمها بنصه وكان العامي فيها مقلدا صاحب المذهب: قال أبو عمرو وهذا
وجدته في ضمن كلام بعضهم والدليل يعضده: وإن لم يجدها مسطورة بعينها لم يقسها على مسطور
عنده وان اعتقده من قياس لا فارق فإنه قد يتوهم ذلك في غير موضعه: فان قيل هل لمقلد أن
يفتى بما هو مقلد فيه قلنا قطع أبو عبد الله الحليمي وأبو محمد الجويني وأبو المحاسن الروياني وغيرهم
بتحريمه: وقال القفال المروزي يجوز: قال أبو عمر وقول من منعه معناه لا يذكره على صورة من
يقوله من عند نفسه بل يضيفه إلى امامه الذي قلده فعلى هذا من عددناه من المفتين المقلدين ليسوا
مفتين حقيقة لكن لما قاموا مقامهم وأدوا عنهم عدوا معهم: وسبيلهم أن يقولوا مثلا مذهب الشافعي كذا
أو نحو هذا ومن ترك منهم الإضافة فهو اكتفاء بالمعلوم من الحال عن التصريح به ولا بأس بذلك: وذكر
صاحب الحاوي في العامي إذا عرف حكم حادثة بناء على دليلها ثلاثة أوجه أحدها يجوز أن يفتى به
ويجوز تقليده لأنه وصل إلى علمه كوصول العالم: والثاني يجوز إن كان دليلها كتابا أو سنة ولا يجوز
إن كان غيرهما: والثالث لا يجوز مطلقا وهو الأصح والله أعلم *
فصل
في أحكام المفتين فيه مسائل
إحداها الافتاء فرض كفاية فإذا استفتى وليس في الناحية غيره تعين عليه الجواب فإن كان فيها
غيره وحضرا فالجواب في حقهما فرض كفاية وإن لم يحضر غيره فوجهان أصحهما لا يتعين لما سبق
عن ابن أبي ليلى والثاني يتعين وهما كالوجهين في مثله في الشهادة: ولو سأل عامي عما لم يقع لم يجب جوابه *
(الثانية) إذا أفتى بشئ ثم رجع عنه فان علم المستفتى برجوعه ولم يكن عمل بالأول لم يجز العمل
به وكذا ان نكح بفتواه واستمر على نكاح بفتواه ثم رجع لزمه مفارقتها كما لو تغير اجتهاد من قلده
في القبلة في أثناء صلاته وإن كان عمل قبل رجوعه فان خالف دليلا قاطعا لزم المستفتى نقض عمله ذلك وإن كان في
محل اجتهاد لم يلزمه نقضه لان الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وهذا التفصيل ذكره الصيمري والخطيب وأبو عمرو
واتفقوا عليه ولا أعلم خلافه وما ذكره الغزالي والرازي ليس فيه تصريح بخلافه: قال أبو عمرو وإذا كان
يفتى على مذهب امام فرجع لكونه بان له قطعا مخالفة نص مذهب امامه وجب نقضه وإن كان في محل
الاجتهاد لان نص مذهب امامه في حقه كنص الشارع في حق المجتهد المستقل: اما إذا لم يعلم المستفتى
برجوع المفتى فحال المستفتى في علمه كما قبل الرجوع ويلزم المفتى إعلامه قبل العمل وكذا بعده حيث
يجب النقض: إذا عمل بفتواه في إتلاف فبان خطؤه وانه خالف القاطع فعن الأستاذ أبي إسحاق انه
يضمن إن كان أهلا للفتوى ولا يضمن أن لم يكن أهلا لان المستفتي قصر كذا حكاه الشيخ
45

أبو عمرو وسكت عليه وهو مشكل وينبغي ان يخرج الضمان على قولي الغرور والمعروفين في بابي
الغصب والنكاح وغيرهما أو يقطع بعدم الضمان إذ ليس في الفتوى إلزام ولا إلجاء (1) *
(الثالثة) يحرم التساهل في الفتوى ومن عرف به حرم استفتاؤه: فمن التساهل أن لا يتثبت
ويسرع بالفتوى قبل استيفاء حقها من النظر والفكر فان تقدمت معرفته بالمسؤول عنه فلا بأس
بالمبادرة وعلى هذا يحمل ما نقل عن الماضين من مبادرة: ومن التساهل أن تحمله الأغراض الفاسدة
على تتبع الحيل المحرمة أو المكروهة والتمسك بالشبه طلبا للترخيص لمن يروم نفعه أو التغليظ على من
يريد ضره واما من صح قصده فأحتسب في طلب حيلة لا شبهة فيها لتخليص من ورطة يمين ونحوها
فذلك حسن جميل: وعليه يحمل ما جاء عن بعض السلف من نحو هذا كقول سفيان إنما العلم عندنا
الرخصة من ثقة فأما التشديد فيحسنه كل أحد: ومن الحبل التي فيها شبهة ويذم فاعلها الحيلة
السريجية في سد باب الطلاق *
(الرابعة) ينبغي أن لا يفتى في حال تغير خلقه وتشعل قلبه ويمنعه التأمل كغضب وجوع وعطش
وحزن وفرح غالب ونعاس أو ملل أو حر مزعج: أو مرض مؤلم أو مدافعة حدث وكل حال يشتغل
فيه قلبه ويخرج عن حد الاعتدال فان أفتى في بعض هذه الأحوال وهو يرى أنه لم يخرج عن
الصواب جاز وإن كان مخاطرا بها *
(الخامسة) المختار للمتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك ويجوز أن يأخذ عليه رزقا من بيت
المال إلا أن يتعين عليه وله كفاية فيحرم على الصحيح: ثم إن كان له رزق لم يجز أخذ أجرة أصلا وإن لم
يكن له زرق فليس له أخذ أجرة من أعيان من يفتيه على الأصح كالحاكم: واحتال الشيخ أبو حاتم
القزويني من أصحابنا فقال له أن يقول يلزمني أن أفتيك قولا واما كتابة الخط فلا فإذا استأجره على
كتابة الخط جاز: قال الصيمري والخطيب لو اتفق أهل البلد فجعلوا له رزقا من أموالهم على أن يتفرغ
لفتاويهم جاز: اما الهدية فقال أبو مظفر السمعاني له قبولها بخلاف الحاكم فإنه يلزم حكمه: قال
أبو عمر وينبغي أن يحرم قبولها إن كانت رشوة على أن يفتيه بما يريد كما في الحاكم وسائر ما لا يقابل
بعوض: قال الخطيب وعلى الامام أن يفرض لمن نصب نفسه لتدريس الفقه والفتوى في الأحكام
ما يغنيه عن الاحتراف ويكون ذلك من البيت المال ثم روى باسناده ان عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أعطي كل رجل ممن هذه صفته مائة دينار في السنة *
(السادسة) لا يجوز أن يفتى في الايمان والاقرار ونحوهما مما يتعلق بالألفاظ إلا أن يكون
من أهل بلد اللافظ أو متنزلا منزلتهم في الخبرة بمرادهم من ألفاظهم وعرفهم فيها *
(السابعة) لا يجوز لمن كانت فتواه نقلا لمذهب امام إذا اعتمد الكتب أن يعتمد الا على
كتاب موثوق بصحته وبأنه مذهب ذلك الامام فان وثق بأن أصل التصنيف بهذه الصفة لكن
لم تكن هذه النسخة معتمدة فليستظهر بنسخ منه متفقة وقد تحصل له الثقة من نسخة غير موثوق بها

(1) بهامش نسخة الأذرعي ما نصه: ولا في الغرور إلزام ولا الجاء فقوله أو يقطع بعدم الضمان عجب اه‍
46

في بعض المسائل إذا رأى الكلام منتظما وهو خبير فطن لا يخفى عليه لدربته موضع الاسقاط والتغيير
فإن لم يجده إلا في نسخة غير موثوق بها فقال أبو عمرو ينظر فان وجده موافقا لأصول المذهب وهو
أهل لتخريج مثله في المذهب لو لم يجده منقولا فله أن يفتى به فان أراد حكايته عن قائله فلا يقل قال
الشافعي مثلا كذا وليقل وجدت عن الشافعي كذا أو بلغني عنه ونحو هذا: وإن لم يكن أهلا لتخريج
مثله لم يجز له ذلك فان سبيله النقل المحض ولم يحصل ما يجوز له ذلك وله أن يذكره لا على سبيل الفتوى
مفصحا بحاله فيقول وجدته في نسخة من الكتاب الفلاني ونحوه (قلت) لا يجوز لمفت على مذهب
الشافعي إذا اعتمد النقل أن يكتفى بمصنف ومصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين وأكثر المتأخرين
لكثرة الاختلاف بينهم في الجزم والترجيح لان هذا المفتى المذكور إنما ينقل مذهب الشافعي ولا
يحصل له وثوق بأن ما في المصنفين المذكورين ونحوهما هو مذهب الشافعي أو الراجح منه لما فيها من
الاختلاف وهذا مما لا يتشكك فيه من له أدنى أنس بالمذهب بل قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشئ
وهو شاذ بالنسبة إلى الراجح في المذهب ومخالف لما عليه الجمهور وربما خالف نص الشافعي أو نصوصا
له وستري في هذا الشرح إن شاء الله تعالى أمثلة ذلك وأرجو ان تم هذا الكتاب أنه يستغنى به عن
كل مصنف ويعلم به مذهب الشافعي علما قطعيا إن شاء الله تعالى *
(الثامنة) إذا أفتى في حادثة ثم حدثت مثلها فان ذكر الفتوى الأولى ودليلها بالنسبة إلى أصل
الشرع إن كان مستقلا أو إلى مذهبه إن كان منتسبا أفتى بذلك بلا نظر وان ذكرها ولم يذكر دليلها
ولا طرأ ما يوجب رجوعه فقيل له أن يفتى بذلك والأصح وجوب تجديد النظر ومثله القاضي إذا
حكم بالاجتهاد ثم وقعت المسألة وكذا تجديد الطلب في التيمم والاجتهاد في القبلة وفيهما الوجهان:
قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في آخر باب استقبال القبلة وكذا العامي إذا وقعت له مسألة فسأل
عنها ثم وقعت له فليلزمه السؤال ثانيا يعنى على الأصح قال إلا أن تكون مسألة يكثر وقوعها ويشق
عليه إعادة السؤال عنها فلا يلزمه ذلك ويكفيه السؤال الأول للمشقة *
(التاسعة) ينبغي أن لا يقتصر في فتواه على قوله في المسألة خلاف أو قولان أو وجهان أو
روايتان أو يرجع إلى رأى القاضي ونحو ذلك فهذا ليس بجواب ومقصود المستفتى بيان ما يعمل به
فينبغي أن يجزم له بما هو الراجح فإن لم يعرفه توقف حتى يظهر أو يترك الافتاء كما كان جماعة من كبار
أصحابنا يمتنعون من الافتاء في حنث الناسي *
فصل
في آداب الفتوى فيه مسائل
إحداها يلزم المفتى أن يبين الجواب بيانا يزيل الاشكال ثم له الاقتصار على الجواب شفاها فإن لم
يعرف لسان المستفتى كفاه ترجمة ثقة واحد لأنه خبر وله الجواب كتابة وإن كانت الكتابة على خطر وكان
القاضي أبو حامد كثير الهرب من الفتوى في الرقاع: قال الصيمري وليس من الأدب كون السؤال
47

بخط المفتى فاما باملائه وتهذيبه فواسع وكان الشيخ أبو إسحاق الشيرازي قد يكتب السؤال على ورق
له ثم يكتب الجواب وإذا كان في الرقعة مسائل فالا حسن ترتيب الجواب على ترتيب السؤال ولو ترك
الترتيب فلا بأس: ويشبه معنى قول الله تعالى (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فاما الذين اسودت) *
وإذا كان في المسألة تفصيل لم يطلق الجواب فإنه خطأ ثم له ان يستفصل السائل ان حضر ويقيد السؤال
في رقعة أخرى ثم يجيب وهذا أولى وأسلم: وله ان يقتصر على جواب أحد الأقسام إذا علم أنه
الواقع للسائل ويقول هذا إذا كان الامر كذا وله أن يفصل الأقسام في جوابه ويذكر حكم كل قسم
لكن هذا كرهه أبو الحسن القابسي من أئمة المالكية وغيره وقالوا هذا تعليم للناس الفجور: وإذا لم
يجد المفتى من يسأله فصل الأقسام واجتهد في بيانها واستيفائها *
(الثانية) ليس له أن يكتب الجواب على ما علمه من صورة الواقعة إذا لم يكن في الرقعة تعرض
له بل يكتب جواب ما في الرقعة فان أراد جواب ما ليس فيها فليقل وإن كان الامر كذا وكذا فجوابه
كذا: واستحب العلماء أن يزيد على ما في الرقعة ما له تعلق بها مما يحتاج إليه السائل لحديث هو
الطهور ماؤه الحل ميتته
(الثالثة) إذا كان المستفتى بعيد الفهم فليرفق به ويصبر على تفهم سؤاله وتفهيم جوابه فان
ثوابه جزيل *
(الرابعة) ليتأمل الرقعة تأملا شافيا وآخرها آكد فان السؤال في آخرها وقد يتقيد الجميع بكلمة
في آخرها ويغفل عنها: قال الصيمري قال بعض العلماء ينبغي أن يكون توقفه في المسألة السهلة كالصعبة
ليعتاده وكان محمد بن الحسن يفعله: وإذا وجد مشتبهة سأل المستفتى عنها ونقطها وشكلها:
وكذا ان وجد لحنا فاحشا أو خطأ يحيل المعنى أصلحه: وان رأى بياضا في أثناء سطر أو آخره خط عليه
أو شغله لأنه ربما قصد المفتى بالايذاء فكتب في البياض بعد فتواه ما يفسدها كما بلى به القاضي
أبو حامد المروروذي *
(الخامسة) يستحب أن يقرأها على حاضريه ممن هو أهل لذلك ويشاورهم ويباحثهم برفق
وانصاف وإن كانوا دونه وتلامذته للاقتداء بالسلف ورجاء ظهور ما قد يخفى عليه إلا أن يكون
فيها ما يقبح ابداؤه أو يؤثر السائل كتمانه أو في اشاعته مفسدة *
(السادسة) ليكتب الجواب بخط واضح وسط لا دقيق خاف ولا غليظ جاف ويتوسط في
سطورها بين توسيعها وتضييقها وتكون عبارة واضحة صحيحة تفهمها العامة ولا يزدريها الخاصة:
واستحب بعضهم أن لا تختلف أقلامه وخطه خوفا من التزوير ولئلا يشتبه خطه: قال الصيمري
وقلما وجده التزوير على المفتى لان الله تعالى حرس أمر الدين: وإذا كتب الجواب أعاد نظره فيه
خوفا من اختلال وقع فيه أو اخلال ببعض المسؤول عنه *
(السابعة) إذا كان هو المبتدى فالعادة قديما وحديثا أن يكتب في الناحية اليسرى من
الورقة: قال الصيمري وغيره وأين كتب من وسط الرقعة أو حاشيتها فلا عتب عليه: ولا يكتب
48

فوق البسملة بحال: وينبغي إن يدعو إذا أراد الافتاء: وجاء عن مكحول ومالك رحمهما الله
انهما كانا لا يفتيان حتى يقولا لا حول ولا قوة إلا بالله: ويستحب الاستعاذة من الشيطان ويسمى
الله تعالى ويحمده ويصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل (رب اشرح لي صدري) الآية ونحو
ذلك: قال الصيمري وعادة كثيرين أن يبدؤا فتاويهم الجواب وبالله التوفيق وحذف آخرون ذلك:
قال ولو عمل ذلك فيما طال من المسائل واشتمل على فصول وحذف في غيره كان وجها (قلت)
المختار قول ذلك مطلقا وأحسنه الابتداء بقول الحمد لله لحديث كل أمر ذي بال لا يبدأ بالحمد لله
فهو أجذم وينبغي أن يقوله بلسانه ويكتبه: قال الصيمري ولا يدع ختم جوابه بقوله وبالله التوفيق
أو والله أعلم أو والله الموفق. قال ولا يقبح قوله الجواب عندنا أو الذي عندنا أو الذي نقول به أو نذهب
إليه أو نراه كذا لأنه من أهل ذلك: قال وإذا أغفل السائل الدعاء للمفتي أو الصلاة على رسول الله
صلى الله عليه وسلم في آخر الفتوى ألحق المفتى ذلك بخطه فان العادة جارية به (قلت) وإذا ختم
الجواب بقوله والله أعلم ونحوه مما سبق فليكتب بعده كتبه فلان أو فلان بن فلان الفلاني فينتسب
إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلدة أو صفة ثم يقول الشافعي أو الحنفي مثلا فإن كان مشهورا بالاسم أو
غيره فلا بأس بالاقتصار عليه: قال الصيمري ورأي بعضهم ان يكتب المفتى بالمداد دون الحبر
خوفا من الحك قال والمستحب الحبر لا غير (قلت) لا يختص واحد منهما هنا بالاستحباب بخلاف
كتب العلم فالمستحب فيها الحبر لأنها تراد للبقاء والحبر أبقى: قال الصيمري وينبغي إذا تعلقت
الفتوى بالسلطان أن يدعو له فيقول وعلى ولي الأمر أو السلطان أصلحه الله أو سدده الله أو قوى
الله عزمه أو أصلح الله به أو شد الله أزره ولا يقل أطال الله بقاءه فليست من ألفاظ السلف *
(قلت) نقل أبو جعفر النحاس وغيره اتفاق العلماء على كراهة قول أطال الله بقاك وقال
بعضهم هي تحية الزنادقة: وفي صحيح مسلم في حديث أم حبيبة رضي الله عنها إشارة إلى أن
الأولى ترك نحو هذا من الدعاء بطول البقاء وأشباهه (الثامنة) ليختصر جوابه ويكون بحيث
تفهمه العامة قال صاحب الحاوي يقول يجوز أو لا يجوز أو حق أو باطل وحكى شيخه الصيمري
عن شيخه القاضي أبي حامد انه كان يختصر غاية ما يمكنه واستفتى في مسألة آخرها يجوز أم لا فكتب
لا وبالله التوفيق (التاسعة) قال الصيمري والخطيب إذا سئل عمن قال أنا أصدق من محمد بن
عبد الله أو الصلاة لعب وشبه ذلك فلا يبادر بقوله هذا حلال الدم أو عليه القتل بل يقول إن
صح هذا باقراره أو بالبينة استتابه السلطان فان تاب قبلت توبته وإن لم يتب فعل به كذا وكذا
وبالغ في ذلك وأشبعه: قال وان سئل عمن تكلم بشئ يحتمل وجوها يكفر ببعضها دون بعض
قال يسئل هذا القائل فان قال أردت كذا فالجواب كذا: وان سئل عمن قتل أو قلع عينا أو غيرها
احتاط فذكر الشروط التي يجب بجميعها القصاص: وان سئل عمن فعل ما يوجب التعزير ذكر
ما يعزر به فيقول يضر به السلطان كذا وكذا ولا يزاد على كذا هذا كلام الصيمري والخطيب
وغيرهما: قال أبو عمرو ولو كتب عليه القصاص أو التعزير بشرطه فليس ذلك باطلاق بل تقييده
49

بشرطه يحمل الوالي على السؤال عن شرطه والبيان أولى (العاشرة) ينبغي إذا ضاق موضع
الجواب أن لا يكتبه في رقعة أخرى خوفا من الحيلة ولهذا قالوا يصل جوابه بآخر سطر ولا يدع
فرجة لئلا يزيد السائل شيئا يفسدها: وإذا كان موضع الجواب ورقة ملصقة كتب على الالصاق
ولو ضاق باطن الرقعة وكتب الجواب في ظهرها كتبه في أعلاها إلا أن يبتدئ من أسفلها متصلا
بالاستفتاء فيضيق الموضع فيتمه في أسفل ظهرها ليتصل جوابه: واختار بعضهم أن يكتب على
ظهرها لا على حاشيتها والمختار عند الصيمري وغيره ان حاشيتها أولى من ظهرها: قال الصيمري
وغيره والامر في ذلك قريب (الحادية عشرة) إذا ظهر للمفتي ان الجواب خلاف غرض المستفتى
وانه لا يرضى بكتابته في ورقته فليقتصر على مشافهته بالجواب وليحذر أن يميل في فتواه مع
المستفتى أو خصمه ووجوه الميل كثيرة لا تخفى: ومنها أن يكتب في جوابه ما هو له ويترك ما عليه
وليس له أن يبدأ في مسائل الدعوى والبينات بوجوه المخالص منها وإذا سأله أحدهم وقال بأي شئ
تندفع دعوى كذا وكذا أو بينة كذا وكذا لم يجبه كيلا يتوصل بذلك إلى إبطال حق وله أن يسأله عن
حاله فيما ادعى عليه فإذا شرحه له عرفه بما فيه من دافع وغير دافع: قال الصيمري وينبغي للمفتي إذا
رأى للسائل طريقا يرشده إليه أن ينبهه عليه يعنى ما لم يضر غيره ضررا بغير حق قال كمن حلف لا ينفق
على زوجته شهرا يقول يعطيها من صداقها أو قرضا أو بيعا ثم يبريها (1) وكما حكى أن رجلا قال لأبي
حنيفة رحمه الله حلفت اني أطأ امرأتي في نهار رمضان ولا أكفر ولا أعصي فقال سافر بها *
(الثانية عشرة) قال الصيمري إذا رأى المفتى المصلحة أن يفتى العامي بما فيه تغليظ وهو مما
لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز ذلك زجرا له كما روى عن ابن عباس رضي الله عنهما انه سئل عن
توبة القاتل فقال لا توبة له وسأله آخر فقال له توبة ثم قال أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته وأما
الثاني فجاء مستكينا قد قتل فلم أقنطه: قال الصيمري وكذا إن سأله رجل فقال إن قتلت عبدي هل على
قصاص فواسع أن يقول إن قتلت عبدك قتلناك فقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم من قتل عبده قتلناه
ولان القتل له معان قال ولو سئل عن سب الصحابي هل يوجب القتل فواسع أن يقول روى عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه قال من سب أصحابي فاقتلوه فيفعل كل هذا زجرا للعامة ومن قل دينه ومروءته (2) *
(الثالثة عشرة) يجب على المفتى عند اجتماع الرقاع بحضرته أن يقدم الأسبق فالأسبق (3) كما
يفعله القاضي في الخصوم وهذا فيما يجب فيه الافتاء فان تساووا أو جهل السابق قدم بالقرعة والصحيح
انه يجوز تقديم المرأة والمسافر الذي شد رحله وفي تأخيره ضرر بتخلفه عن رفقته ونحو ذلك على من
سبقهما إلا إذا كثر المسافرون والنساء بحيث يلحق غيرهم بتقديمهم ضرر كثير فيعود بالتقديم بالسبق

(1) قوله ثم يبرئها عائدا إلى القرض والبيع فقط: واما الصداق فلا يتصور ان يبرئها منه ولكن الظاهر من
فحوى كلامه ان الابراء عائد إلى الجميع لأنه قصد الخلاص من اليمين من غير ضرر على الغير وإذا أنفقت من صداقها
حصل لها الضرر: كذا في نسخة الأذرعي (2) قلت هذا إذا علم أنه لا يعمل بما يقوله اما لو علم كما لو كان
السائل أميرا أو نحوه فلا نجيبه الا بما يعتقده في المسألة اه‍ من هامش نسخة الأذرعي (3) قلت وهذا ظاهر فيما إذا
ظهر له الجواب في الجميع في الحال اما لو ظهر له جواب المتأخر دون السابق واحتاج سؤال السابق إلى فكر ونظر
في زمن طويل فالظاهر أنه يكتب جواب المتأخر ولا يحبسه ويبين للسابق سبب تقديم غيره وعليه لئلا يظن ايثاره
وميله اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
50

أو القرعة ثم لا يقدم أحدا إلا في فتيا واحدة *
(الرابعة عشرة) قال الصيمري وأبو عمرو إذا سئل عن ميراث فليست العادة أن يشترط
في الورثة عدم الرق والكفر والقتل وغيرها من مواضع الميراث بل المطلق محمول على ذلك بخلاف
ما إذا أطلق الاخوة والأخوات والأعمام وبينهم فلا بد أن يقول في الجواب من أب وأم: أو من أب: أو
من أم: وإذا سئل عن مسألة عول كالمنبرية وهي زوجة وأبوان وبنتان فلا يقل للزوجة الثمن ولا التسع
لأنه لم يطلقه أحد من السلف بل يقل لها الثمن عائلا وهي ثلاثة أسهم من سبعة وعشرين أو لها ثلاثة أسهم
من سبعة وعشرين أو يقول ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه صار ثمنها تسعا: وإذا
كان في المذكورين في رقعة الاستفتاء من لا يرث أفصح بسقوطه فقال وسقط فلان: وإن كان سقوطه في
حال دون حال قال وسقط فلان في هذه الصورة أو نحو ذلك لئلا يتوهم أنه لا يرث بحال: وإذا سئل
عن اخوة وأخوات أو بنين وبنات فلا ينبغي أن يقول للذكر مثل حظ الأنثيين فان ذلك قد يشكل
على العامي بل يقول يقتسمون التركة على كذا وكذا سهما لكل ذكر كذا وكذا سهما ولكل أنثى
كذا وكذا سهما قال الصيمري: قال الشيخ ونحن نجد في تعمد العدول عنه حزازة في النفس لكونه
لفظ القرآن العزيز وانه قل ما يخفى معناه على أحد * وينبغي أن يكون في جواب مسائل المناسخات
شديد التحرز والتحفظ وليقل فيها لفلان كذا كذا: ميراثه من ثم من أخيه قال
الصيمري وكان بعضهم يختار أن يقول لفلان كذا وكذا سهما: ميراثه عن أبيه كذا وعن أمه كذا
وعن أخيه كذا قال وكل هذا قريب: قال الصيمري وغيره وحسن أن يقول تقسم التركة بعد اخراج
ما يجب تقديمه من دين أو وصية (1) إن كانا *
(الخامسة عشرة) إذا رأي المفتى رقعة الاستفتاء وفيها خط غيره ممن هو أهل للفتوى وخطه
فيها موافق لما عنده قال الخطيب وغيره كتب تحت خطه هذا جواب صحيح وبه أقول أو كتب
جوابي مثل هذا وان شاء ذكر الحكم بعبارة الخص من عبارة الذي كتب: واما إذا رأى فيها خط
من ليس أهلا للفتوى فقال الصيمري لا يفتى معه لان في ذلك تقريرا منه لمنكر بل يضرب على ذلك
بأمر صاحب الرقعة ولو لم يستأذنه في هذا القدر جاز لكن ليس له احتباس الرقعة الا باذن صاحبها
قال وله انتهار السائل وزجره وتعريفه قبح ما أتاه وانه كان واجبا عليه البحث عن أهل للفتوى وطلب
من هو أهل لذلك: وان رأى فيها اسم من لا يعرفه سأل عنه فإن لم يعرفه فواسع ان يمتنع من الفتوى
معه خوفا مما قلناه. قال وكان بعضهم في مثل هذا يكتب على ظهرها قال والأولى في هذا الموضع
ان يشار على صاحبها بابدالها فان أبى ذلك أجابه شفاها: قال أبو عمرو وإذا خاف فتنة من الضرب على
فتيا العادم للأهلية ولم تكن خطأ عدل إلى الامتناع من الفتيا معه فان غلبت فتاويه لتغلبه على منصبها بجاه
أو تلبيس أو غير ذلك بحيث صار امتناع الأهل من الفتيا معه ضارا بالمستفتين فليفت معه فان ذلك أهون
الضررين وليتلطف مع ذلك في إظهار قصوره لمن يجهله اما إذا وجد فتيا من هو أهل وهي خطأ مطلقا

(1) ينبغي أن لا يطلق لفظ قديم الوصية لئلا يتوهم وجوب تقديمها مطلقا وان زادت على الثلث أو كانت لوارث
بل يقيد ذلك ولا يغني العامي قوله ما يجب تقديمه لأنه لا يفهم منه المقصود أه‍ من نسخة الأذرعي
51

بمخالفتها القاطع أو خطأ على مذهب من يفتى ذلك المخطئ على مذهبه قطعا فلا يجوز له الامتناع من
الافتاء تاركا للتنبيه على خطئها إذا لم يكفه ذلك غيره بل عليه الضرب عليها عند تيسره أو الا بذال
وتقطيع الرقعة باذن صاحبها أو نحو ذلك وإذا تعذر ذلك وما يقوم مقامه كتب صواب جوابه عند ذلك
الخطأ ثم إن كان المخطئ أهلا للفتوى فحسن ان تعاد إليه باذن صاحبها اما إذا وجد فيها فتيا أهل للفتوى
وهي على خلاف ما يراه هو غير أنه لا يقطع بخطئها فليقتصر على كتب جواب نفسة ولا يتعرض لفتيا
غيره بتخطئة ولا اعتراض: قال صاحب الحاوي لا يسوغ لمفت إذا استفتى ان يتعرض لجواب غيره
ترد ولا تخطئة ويجيب بما عنده من موافقة أو مخالفة (1) *
(السادسة عشرة) إذا لم يفهم المفتى السؤال أصلا ولم يحضر صاحب الواقعة فقال الصيمري
يكتب يزاد في الشرح ليجيب عنه أو لم أفهم ما فيها فأجيب قال وقال بعضهم لا يكتب شيئا أصلا
قال ورأيت بعضهم كتب في هذا يحضر السائل لنخاطبه شفاها وقال الخطيب ينبغي له إذا لم يفهم
الجواب أن يرشد المستفتى إلى مفت آخر إن كان والا فليمسك حتى يعلم الجواب: قال الصيمري
وإذا كان في رقعة الاستفتاء مسائل فهم بعضها دون بعض أو فهمها كلها ولم يرد الجواب في بعضها
أو احتاج في بعضها إلى تأمل أو مطالعة أجاب عما أراد وسكت عن الباقي وقال لنا في الباقي نظر
أو تأمل أو زيادة نظر *
(السابعة عشرة) ليس بمنكر أن يذكر المفتى في فتواه الحجة إذا كانت نصا واضحا مختصرا
قال الصيمري لا يذكر الحجة ان أفتى عاميا ويذكرها ان أفتى فقيها كمن يسأل عن النكاح بلا ولى
فحسن أن يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا نكاح إلا بولي: أو عن رجعة المطلقة بعد
الدخول فيقول له رجعتها قال الله تعالى (وبعولتهن أحق بردهن): قال ولم تجز العادة أن يذكر في فتواه
طريق الاجتهاد ووجهة القياس والاستدلال إلا أن تتعلق الفتوى بقضاء قرض فيومئ فيها إلى طريق
الاجتهاد ويلوح بالنكتة وكذا إذا أفتى غيره فيها بغلط فيفعل ذلك لينبه على ما ذهب إليه ولو كان
فيما يفتى به غموض فحسن أن يلوح بحجته: وقال صاحب الحاوي لا يذكر حجة ليفرق بين الفتيا
والتصنيف قال ولو ساغ التجاوز إلى قليل لساغ إلى كثير ولصار المفتي مدرسا والتفصيل الذي ذكرناه
أولى من اطلاق صاحب الحاوي المنع: وقد يحتاج المفتى في بعض الوقائع إلى أن يشدد ويبالغ فيقول
وهذا اجماع المسلمين أو لا أعلم في هذا خلافا أو فمن خالف هذا فقد خالف الواجب وعدل عن
الصواب أو فقد أثم وفسق أو وعلى ولى الامر أن يأخذ بهذا ولا يهمل الامر وما أشبه هذه الا لفاظ
على حسب ما تقتضيه المصلحة وتوجبه الحال *
(الثامنة عشرة) قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله ليس له إذا استفتى في شئ من المسائل الكلامية
أن يفتى بالتفصيل بل يمنع مستفتيه وسائر العامة من الخوض في ذلك أو في شئ منه وان قل ويأمرهم

(1) وفي هامش نسخة الأذرعي ما نصه: قلت لعل مراده ما إذا كان الجواب محملا أما إذا كان غلطا فالوجه التنبيه
عليه لئلا يعمل به وكذا لو كان مما يقتضي لمثله الحكم وقد كان الشيخ عز الدين بن عبد السلام يصنع هذا: اه‍
52

بأن يقتصروا فيها على الايمان جملة من غير تفصيل ويقولوا فيها وفي كل ما ورد من آيات الصفات
وأخبارها المتشابهة أن الثابت فيها في نفس الامر ما هو اللائق فيها بجلال الله تبارك وتعالى وكماله
وتقديسه المطلق فيقول ذلك معتقدنا فيها وليس علينا تفصيله وتعيينه وليس البحث عنه من شأننا
بل نكل علم تفصيله إلى الله تبارك وتعالى ونصرف عن الخوض فيه قلوبنا وألسنتنا فهذا ونحوه هو
الصواب من أئمة الفتوى في ذلك وهو سبيل سلف الأمة وأئمة المذاهب المعتبرة وأكابر العلماء
والصالحين وهو أصون وأسلم للعامة وأشباههم: ومن كان منهم اعتقد اعتقاد باطلا تفصيلا ففي هذا
صرف له عن ذلك الاعتقاد الباطل بما هو أهون وأيسر وأسلم: وإذا عزر ولى الامر من حاد منهم
عن هذه الطريقة فقد تأسى بعمر بن الخطاب رضي الله عنه في تعزير صبيع بفتح الصاد المهملة الذي
كان يسأل عن المتشابهات على ذلك: قال والمتكلمون من أصحابنا معترفون بصحة هذه الطريقة وبأنها
أسلم لمن سلمت له وكان الغزالي منهم في آخر أمره شديد المبالغة في الدعاء إليها والبرهنة عليها وذكر
شيخه إمام الحرمين في كتابه الغياثي ان الامام يحرص ما أمكنه على جمع عامة الخلق على سلوك سبيل
السلف في ذلك: واستفتى الغزالي في كلام الله تبارك وتعالى فكان من جوابه وأما الخوض في أن
كلامه تعالى حرف وصوت أوليس كذلك فهو بدعة وكل من يدعو العوام إلى الخوض في هذا فليس
من أئمة الدين وإنما هو من المضلين ومثاله من يدعو الصبيان الذين لا يحسنون السباحة إلى خوض البحر:
ومن يدعو الزمن المقعد إلى السفر في البراري من غير مركوب: وقال في رسالة له الصواب للخلق
كلهم الا الشاذ النادر الذي لا تسمح الأعصار الا بواحد منهم أو اثنين سلوك مسلك السلف في
الايمان المرسل والتصديق المجمل بكل ما أزله الله تعالى وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير
بحث وتفتيش والاشتغال بالتقوى ففيه شغل شاغل: وقال الصيمري في كتابه أدب المفتي والمستفتي ان
مما أجمع عليه أهل التقوى ان من كان موسوما بالفتوى في الفقه لم ينبغ وفي نسخة لم يجز له أن يضع
خطه بفتوى في مسألة من علم الكلام قال وكان بعضهم لا يستتم قراءة مثل هذه الرقعة قال وكره
بعضهم أن يكتب ليس هذا من علمنا أو ما جلسنا لهذا أو السؤال عن غير هذا أولى بل لا يتعرض
لشئ من ذلك. وحكى الامام الحافظ الفقيه أبو عمر بن عبد البر الامتناع من الكلام في كل ذلك
عن الفقهاء والعلماء قديما وحديثا من أهل الحديث والفتوى قال وإنما خالف ذلك أهل البدع: قال
الشيخ فإن كانت المسألة مما يؤمن في تفصيل جوابها من ضرر الخوض المذكور جاز الجواب تفصيلا وذلك
بأن يكون جوابها مختصرا مفهوما ليس لها أطراف يتجاذبها المتنازعون والسؤال عنه صدر عن مسترشد
خاص منقاد أو من عامة قليلة التنازع والمماراة والمفتي ممن ينقادون لفتواه ونحو هذا وعلى هذا ونحوه
يحمل ما جاء عن بعض السلف من بغض الفتوى في بعض المسائل الكلامية وذلك منهم قليل نادر والله أعلم *
(التاسعة عشرة) قال الصيمري والخطيب رحمهما الله وإذا سئل فقيه عن مسألة من تفسير
القرآن العزيز فإن كانت تتعلق بالأحكام أجاب عنها وكتب خطه بذلك كمن سأل عن الصلاة
الوسطى والقرء ومن بيده عقدة النكاح وإن كانت ليست من مسائل الأحكام كالسؤال عن
53

الرقيم والنقير والغسلين رده إلى أهله ووكله إلى من نصب نفسه له من أهل التفسير ولو
أجابه شفاها لم يستقبح هذا كلام الصيمري والخطيب ولو قيل إنه يحسن كتابته للفقيه العارف به
لكان حسنا وأي فرق بينه وبين مسائل الأحكام والله أعلم *
فصل
في آداب المستفتي وصفته وأحكامه: فيه مسائل: إحداها في صفة المستفتي كل من لم يبلغ درجة المفتى
فهو فيما يسئل عنه من الأحكام الشرعية مستفت مقلد من يفتيه والمختار في التقليد انه قبول قول من
يجوز عليه الاصرار على الخطأ بغير حجة على عين ما قبل قوله فيه: ويجب عليه الاستفتاء إذا نزلت
به حادثة يجب عليه علم حكمها: فإن لم يجد ببلده من يستفتيه وجب عليه الرحيل إلى من يفتيه وان
بعدت دراه وقد رحل خلائق من السلف في المسألة الواحدة الليالي والأيام *
(الثانية) يجب عليه قطعا البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للافتاء إذا لم يكن عارفا
بأهليته فلا يجوز له استفتاء من انتسب إلى العلم وانتصب للتدريس والأقراء وغير ذلك من
مناصب العلماء بمجرد انتسابه وانتصابه لذلك ويجوز استفتاء من استفاض كونه أهلا للفتوى:
وقال بعض أصحابنا المتأخرين إنما يعتمد قوله إنا أهل للفتوى لا شهرته بذلك ولا يكتفى بالاستفاضة
ولا بالتواتر لان الاستفاضة والشهرة بين العامة لا يوثق بها وقد يكون أصلها التلبيس: واما التواتر
فلا يفيد العلم إذا لم يستند إلى معلوم محسوس: والصحيح هو الأول لان اقدامه عليها اخبار منه
بأهليته فان الصورة مفروضة فيمن وثق بديانته: ويجوز استفتاء من أخبر المشهور المذكور بأهليته:
قال الشيخ أبو إسحاق المنصف رحمه الله وغيره يقبل في أهليته خبر العدل الواحد: قال أبو عمرو
وينبغي أن نشترط في المخبر أن يكون عنده من العلم والبصر ما يميز به الملتبس من غيره ولا يعتمد في
ذلك على خبر آحاد العامة لكثرة ما يتطرق إليهم من التلبيس في ذلك: وإذا اجتمع اثنان فأكثر ممن
يجوز استفتاؤهم فهل يجب عليه الاجتهاد في أعلمهم والبحث عن الأعلم والأورع الأوثق ليقلده
دون غيره فيه وجهان (1) أحدهما لا يجب بل له استفتاء من شاء منهم لان الجميع أهل وقد أسقطنا
الاجتهاد عن العامي وهذا الوجه هو الصحيح عند أصحابنا العراقيين قالوا وهو قول أكثر أصحابنا *
والثاني يجب ذلك لأنه يمكنه هذا القدر من الاجتهاد بالبحث والسؤال وشواهد الأحوال وهذا
الوجه قول أبي العباس بن سريج واختيار القفال المروزي وهو الصحيح عند القاضي حسين والأول أظهر
وهو الظاهر من حال الأولين: قال أبو عمرو رحمه الله لكن متى اطلع على الأوثق فالأظهر
انه يلزمه تقليده كما يجب تقديم أرجح الدليلين وأوثق الروايتين فعلى هذا يلزمه تقليد الأورع من

1) ينبغي أن يكون محل الخلاف في مفتين مجتهدين أو مختلفي المذهب واما إذا كانا مقلدين في مذهب
فلا يتجه خلاف اللهم إلا أن يكون في تلك المسألة اختلاف قول في مذهبهما وكل واحد منهما أهلا للترجيح أو التخريج
وإذا لم يكن خلاف فلا وجه للخلاف اه‍ من هامش نسخة الأذرعي:
54

العالمين والأعلم من الورعين فإن كان أحدهما أعلم والآخر أورع قلد الأعلم على الأصح: وفي جواز
تقليد الميت وجهان الصحيح جوازه لان المذاهب لا تموت بموت أصحابها ولهذا يعتد بها بعدهم في
الاجماع والخلاف ولان موت الشاهد قبل الحكم لا يمنع الحكم بشهادته بخلاف فسقه والثاني لا يجوز
لفوات أهليته كالفاسق وهذا ضعيف لا سيما في هذه الأعصار *
(الثالثة) هل يجوز للعامي ان يتخير ويقلد أي مذهب شاء قال الشيخ ينظر إن كان منتسبا
إلى مذهب بنيناه على وجهين حكاهما القاضي حسين في أن العامي هل له مذهب أم لا أحدهما لا
مذهب له لان المذهب لعارف الأدلة فعلى هذا له ان يستفتى من شاء من حنفي وشافعي غيرهما:
والثاني وهو الأصح عند القفال له مذهب فلا يجوز له مخالفته وقد ذكرنا في المفتى المنتسب ما يجوز
له ان يخالف أمامه فيه وإن لم يكن منتسبا بنى على وجهين حكاهما ابن برهان في أن العامي هل يلزمه
ان يتذهب بمذهب معين يأخذ برخصه وعزائمه أحدهما لا يلزمه كما لم يلزمه في العصر الأول ان
يخص بتقليده عالما بعينه: فعلى هذا هل له ان يستفتى من شاء أم يجب عليه البحث عن أشد المذاهب
وأصحها أصلا ليقلد أهله فيه وجهان مذكور ان كالوجهين السابقين في البحث عن الأعلم والأوثق
من المفتيين والثاني يلزمه وبه قطع أبو الحسن الكيا وهو جار في كل من لم يبلغ رتبة الاجتهاد من
الفقهاء وأصحاب سائر العلوم: ووجهه انه لو جاز اتباع أي مذهب شاء لأفضى إلى أن يلتقط رخص
المذاهب متبعا هواه ويتخير بين التحليل والتحريم والوجوب والجواز وذلك يؤدى إلى انحلال
ربقة التكليف بخلاف العصر الأول فإنه لم تكن المذاهب الوافية بأحكام الحوادث مهذبة وعرفت:
فعلى هذا يلزمه ان يجتهد في اختيار مذهب يقلده على التعيين ونحن نمهد له طريقا يسلكه في اجتهاده
سهلا فنقول أولا ليس له ان يتبع في ذلك مجرد التشهي والميل إلى ما وجد عليه آباءه وليس له
التذهب بمذهب أحد من أئمة الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم من الأولين وإن كانوا أعلم وأعلا
درجة ممن بعدهم لأنهم لم يتفرغوا لتدوين العلم وضبط أصوله وفروعه فليس لأحد منهم مذهب
مهذب محرر مقرر وإنما قام بذلك من جاء بعدهم من الأئمة الناحلين لمذاهب الصحابة والتابعين
القائمين بتمهيد أحكام الوقائع قبل وقوعها الناهضين بايضاح أصولها وفروعها كمالك وأبي حنيفة
وغيرهما: ولما كان الشافعي قد تأخر عن هؤلاء الأئمة في العصر ونظر في مذاهبهم نحو نظرهم في
مذاهب من قبلهم فسبرها وخبرها وانتقدها واختار أرجحها ووجد من قبله قد كفاه مؤنة التصوير
والتأصيل فتفرغ للاختيار والترجيح والتكميل والتنقيح مع كمال معرفته وبراعته في العلوم وترجحه في
ذلك على من سبقه ثم لم يوجد بعده من بلغ محله في ذلك كان مذهبه أولى المذاهب بالاتباع والتقليد
وهذا مع ما فيه من الانصاف والسلامة من القدح في أحد من الأئمة جلى واضح إذا تأمله العامي
قاده إلى اختيار مذهب الشافعي والتذهب به *
(الرابعة) إذا اختلف عليه فتوى مفتيين ففيه خمسة أوجه للأصحاب: أحدها يأخذ أغلظهما.
والثاني وأخفهما. والثالث يجتهد في الأولي فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع كما سبق ايضاحه واختاره
55

السمعاني الكبير (1) ونص الشافعي رضي الله عنه على مثله في القبلة. والرابع يسأل مفتيا آخر فيأخذ
بفتوى من وافقه. والخامس يتخير فيأخذ بقول أيهما شاء وهذا هو الأصح عند الشيخ أبي إسحاق
الشيرازي المصنف وعند الخطيب البغدادي ونقله المحاملي في أول المجموع عن أكثر أصحابنا
واختاره صاحب الشامل فيما إذا تساوى المفتيان في نفسه (2) وقال الشيخ أبو عمرو المختار أن عليه أن
يبحث عن الأرجح فيعمل به فإنه حكم التعارض فيبحث عن الأوثق من المفتيين فيعمل بفتواه وإن
لم يترجح عنده أحدهما استفتى آخر وعمل بفتوى من وافقه: فان تعذر ذلك وكان اختلافهما في
التحريم والإباحة وقبل العمل اختار التحريم فإنه أحوط وأن تساويا من كل وجه خيرناه بينهما وان
أبينا التخيير في غيره لأنه ضرورة وفي صورة نادرة: قال الشيخ ثم إنما نخاطب بما ذكرناه المفتيين: وأما العامي
الذي وقع له ذلك فحكمه أن يسأل عن ذلك ذينك المفتيين أو مفتيا آخر وقد أرشدنا المفتى إلى ما يجيبه به
وهذا الذي اختاره الشيخ ليس بقوي بل الأظهر أحد الأوجه الثلاثة وهي الثالث والرابع والخامس:
والظاهر أن الخامس أظهرها لأنه ليس من أهل الاجتهاد وإنما فرضه ان يقلد عالما أهلا لذلك وقد
فعل ذلك بأخذه بقول من شاء منهما والفرق بينه وبين ما نص عليه في القبلة أن أمارتها حسية
فادراك صوابها أقرب فيظهر التفاوت بين المجتهدين فيها والفتاوى امارتها معنوية فلا يظهر كبير
تفاوت بين المجتهدين والله أعلم *
(الخامسة) قال الخطيب البغدادي إذا لم يكن في الموضع الذي هو فيه الا مفت واحد فأفتاه
لزمه فتواه: وقال أبو المظفر السمعاني رحمه الله إذا سمع المستفتى جواب المفتي لم يلزمه العمل به الا
بالتزامه قال ويجوز ان يقال إنه يلزمه إذا أخذ في العمل به وقيل يلزمه إذا وقع في نفسه صحته قال
السمعاني وهذا أولي الأوجه: قال الشيخ أبو عمرو لم أجد هذا لغيره وقد حكى هو بعد ذلك عن
بعض الأصوليين انه إذا أفتاه بما هو مختلف فيه خيره بين ان يقبل منه أو من غيره ثم اختار هو أنه
يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين ويلزمه الاخذ بفتيا من اختاره باجتهاده: قال الشيخ والذي تقضيه
القواعد ان نفصل فنقول إذا أفتاه المفتى نظر فإن لم يوجد مفت آخر لزمه الاخذ بفتياه (3) ولا يتوقف
ذلك على التزامه لا بالأخذ في العمل به ولا بغيره ولا يتوقف أيضا على سكون نفسه إلى صحته:
وان وجد مفت آخر فان استبان ان الذي أفتاه هو الا علم الا وثق لزمه ما أفتاه به بناء على الا صح
في تعينه كما سبق وإن لم يستبن ذلك لم يلزمه ما أفتاه بمجرد افتائه إذ يجوز له استفتاء غيره وتقليده
ولا يعلم اتفاقهما في الفتوى فان وجد الاتفاق أو حكم به عليه حاكم لزمه حينئذ *

(1) إنما قال الشيخ رحمه الله الكبير لئلا يتوهم انه أبو سعيد السمعاني اه‍ من هامش نسخة الأذرعي:
(2) وفي هامش نسخة الأذرعي ما نصه: ذكر الجيلي في مقدمة كتابه الاعجاز انه قيل إنه يرجع إلى فتوى قلبه
ويعمل به اه‍ قلت وكأن قائله اخذه من ظاهر الحديث " استفتي قلبك وان أفتاك الناس وأفتوك " واطلاق القول
بأنه يعمل بفتوى قلبه لا سبيل إليه ومجوز ان يأتي وجه آخر انه يجب عليه العمل بفتوى الأول وكأنه بسؤاله له التزم تقليده اه‍
(3) فعلى هذا وما سبق في أول المسألة الاطلاق بان فتوى المفتي ليست ملزمة ليس بجيد فينبغي ان يقال الا في
صورة أو الا ما استثنى فان الفتيا هنا كحكم الحاكم اه‍ من هامش نسخة الأذرعي:
56

(السادسة) إذا استفتى فأفتى ثم حدثت تلك الواقعة له مرة أخرى فهل يلزمه تجديد السؤال؟
فيه وجهان: أحدهما يلزمه لاحتمال تغير رأى المفتى والثاني يلزمه وهو الأصح (1) لأنه قد عرف الحكم
الأول والأصل استمرار المفتى عليه: وخصص صاحب الشامل الخلاف بما إذا قلد حيا وقطع فيما إذا
كان ذلك خبرا عن ميت بأنه لا يلزمه والصحيح أنه لا يختص فان المفتى على مذهب الميت قد
يتغير جوابه على مذهبه (2) *
(السابعة) أن يستفتى بنفسه وله أن يبعث ثقة يعتمد خبره ليستفتى له وله الاعتماد على
خط المفتي إذا أخبره من يثق بقوله أنه خطه أو كان يعرف خطه ولم يتشكك في كون ذلك
الجواب بخطه *
(الثامنة) ينبغي للمستفتي أن يتأدب مع المفتى ويبجله في خطابه وجوابه ونحو ذلك ولا يومئ
بيده في وجهه ولا يقل له ما تحفظ في كذا أو ما مذهب امامك أو الشافعي في كذا ولا يقل إذا أجابه
هكذا قلت أنا أو كذا وقع لي ولا يقل أفتاني فلان أو غيرك بكذا ولا يقل إن كان جوابك موافقا لمن
كتب فاكتب وإلا فلا تكتب ولا يسأله وهو قائم أو مستوفز أو على حالة ضجر أو هم أو غير ذلك مما
يشغل القلب: وينبغي أن يبدأ بالأسن الأعلم من المفتين وبالأولى فالأولى ان أراد جمع الأجوبة
في رقعة قان أراد افراد الأجوبة في رقاع بدأ بمن شاء وتكون رقعة الاستفتاء واسعة ليتمكن المفتى
من استيفاء الجواب واضحا لا مختصرا مضرا بالمستفتي: ولا يدع الدعاء في رقعة لمن يستفتيه: قال
الصيمري فان اقتصر على فتوى واحد قال ما تقول رحمك الله أو رضى الله عنك أو وفقك الله وسددك
ورضى عن والديك: ولا يحسن أن يقول رحمنا الله وإياك وان أراد جواب جماعة قال ما تقولون رضى
الله عنكم أو ما تقول الفقهاء سددهم الله تعالى ويدفع الرقعة إلى المفتى منشورة ويأخذها منشورة
فلا يحوجه إلى نشرها ولا إلى طيها *
(التاسعة) ينبغي أن يكون كاتب الرقعة ممن يحسن السؤال ويضعه على الغرض مع إبانة
الخط واللفظ وصيانتهما عما يتعرض للتصحيف: قال الصيمري يحرص أن يكون كاتبها من أهل العلم
وكان بعض الفقهاء ممن له رياسة لا يفتى إلا في رقعة كتبها رجل بعينه من أهل العلم ببلده * وينبغي
للعامي أن لا يطالب المفتى بالدليل ولا يقل لم قلت فان أحب ان تسكن نفسه بسماع الحجة طلبها في
مجلس آخر أو في ذلك المجلس بعد قبول الفتوى مجردة: وقال السمعاني لا يمنع من طلب الدليل وأنه

(1) وفي هامش نسخة الأذرعي ما نصه: قال قبل هذا في المسألة الثامنة من أحكام المفتين قال القاضي أبو الطيب
في تعليقه في آخر باب استقبال القبلة وكذا العامي إذا وقعت له مسألة فليسأل عنها ثم وقعت له فيلزمه السؤال ثانيا
يعنى على الأصح قال إلا أن تكون مسألة يكثر وقوعها ويشق عليه إعادة السؤال عنها فلا يلزمه ذلك ويكفيه السؤال
الأول للمشقة اه‍ وهذا مخالف لما ذكره هنا في شيئين: أحدهما ما استثناه من كثرة وقوع المسألة وعدمه وكأنه
أخرجه من محل الخلاف وأقره عليه: الثاني اختلاف الترجيح ولا يقال إن الترجيح للقاضي قطع به وإنما
نبه المصنف على أنه الراجح بقوله يعني على الأصح اه‍:
(2) هذا فيه نظر لا سيما إذا كان ذلك الميت لا خلاف في مذهبه في ذلك الحكم والمفتي على مذهب الميت إذا كان مقلدا
له لا يسوغ له مخالفته فأي فائدة في ايجاب السؤال ثانيا فالذي قاله صاحب الشامل حسن اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
57

يلزمه المفتى ان يذكر له الدليل إن كان مقطوعا به ولا يلزمه إن لم يكن مقطوعا به لافتقاره إلى اجتهاد
يقصر فهم العامي عنه والصواب الأول *
(العاشرة) إذا لم يجد صاحب الواقعة مفتيا ولا أحدا ينقل له حكم واقعته لا في بلده ولا في
غيره قال الشيخ هذه مسألة فترة الشريعة الأصولية وحكمها حكم ما قبل ورود الشرع والصحيح
في كل ذلك القول بانتفاء التكليف عن العبد وانه لا يثبت في حقه حكم لا إيجاب ولا تحريم ولا
غير ذلك فلا يؤاخذ إذا صاحب الواقعة بأي شئ صنعه فيها والله أعلم *
باب
في فصول مهمة تتعلق بالمهذب ويدخل كثير منها وأكثرها في غيره أيضا
فصل
إذا قال الصحابي قولا ولم يخالفه غيره ولم ينتشر فليس هو اجماعا وهل هو حجة فيه قولان
للشافعي الصحيح الجديد انه ليس بحجة والقديم انه حجة فان قلنا هو حجة قدم على القياس ولزم
التابعي العمل به ولا يجوز مخالفته وهل يخص به العموم فيه وجهان وإذا قلنا ليس بحجة فالقياس
مقدم عليه ويسوغ للتابعي مخالفته: فأما إذا اختلفت الصحابة رضي الله عنهم على قولين فينبني على ما تقدم فان
قلنا بالجديد لم يجز تقليد واحد من الفريقين بل يطلب الدليل وان قلنا بالقديم فهما دليلان تعارضا
فيرجح أحدهما على الآخر بكثيرة العدد فان استوى العدد قدم بالأئمة فيقدم ما عليه امام منهم على ما لا
إمام عليه فإن كان على أحدهما أكثر عددا وعلى الآخر أقل الا ان مع القليل اماما فهما سواء فان استويا
في العدد والأئمة إلا أن في أحدهما أحد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وفي الآخر غيرهما
ففيه وجهان لا صحابنا أحدهما انهما سواء والثاني يقدم ما فيه أحد الشيخين وهذا كله مشهور في كتب
أصحابنا العراقيين في الأصول وأوائل كتب الفروع: والشيخ أبو إسحاق المصنف ممن ذكره في كتابه
اللمع هذا كله إذا لم ينتشر قول الصحابي فأما إذا انتشر فان خولف فحكمه ما ذكرناه وإن لم يخالف
ففيه خمسة أوجه الأربعة الأول ذكرها أصحابنا العراقيون أحدها انه حجة وإجماع قال المصنف الشيخ
أبو إسحاق وغيره من أصحابنا العراقيين هذا الوجه هو المذهب الصحيح: والوجه الثاني انه حجة
وليس باجماع قال المصنف وغيره هذا قول أبي بكر الصيرفي: والثالث إن كان فتيا فقيه فسكتوا عنه
فهو حجة وإن كان حكم إمام أو حاكم فليس بحجة: قال المصنف وغيره هذا قول أبي علي بن
أبي هريرة: والرابع ضد هذا انه إن كان القائل حاكما أو إماما كان إجماعا وإن كان فتيا لم يكن
إجماعا حكاه صاحب الحاوي في خطبة الحاوي (1) والشيخ أبو محمد الجويني في أول كتابه الفروق

(1) قال في الحاوي في كتاب الديات: مذهب الشافعي ان قول الصحابي إذا اشتهر ولم يظهر له مخالف وجب
العمل به: وإن لم ينتشر فعلى قولين هذا لفظه: كذا بهامش نسخة الأذرعي
58

وغيرهما قال صاحب الحاوي هو قول أبي إسحاق المروزي: ودليله ان الحكم لا يكون غالبا إلا بعد
مشورة ومباحثة ومناظرة وينتشر انتشارا ظاهرا والفتيا تخالف هذا: والخامس مشهور عند الخراسانيين
من أصحابنا في كتب الأصول وهو المختار عند الغزالي في المستصفى انه ليس باجماع ولا حجة
ثم ظاهر كلام جمهور أصحابنا ان القائل المنتشر من غير مخالفة لو كان تابعيا أو غيره ممن بعده
فحكمه حكم الصحابي على ما ذكرناه من الأوجه الخمسة وحكي فيه وجهان لأصحابنا منهم من قال حكمه
حكمه. ومنهم من قال لا يكون حجة وجها واحدا: قال صاحب الشامل الصحيح أنه يكون اجماعا
وهذا الذي صححه هو الصحيح فان التابعي كالصحابي في هذا من حيث إنه انتشر وبلغ الباقين ولم
يخالفوا فكانوا مجمعين واجماع التابعين كاجماع الصحابة: وأما إذا لم ينتشر قول التابعي فلا خلاف
انه ليس بحجة كذا قاله صاحب الشامل وغيره قالوا ولا يجئ فيه القول القديم الذي في الصحابي
لان الصحابة ورد فيهم الحديث *
فصل
قال العلماء: الحديث ثلاثة أقسام صحيح وحسن وضعيف: قالوا وإنما يجوز الاحتجاج من الحديث
في الأحكام بالحديث الصحيح أو الحسن: فأما الضعيف فلا يجوز الاحتجاج به في الأحكام والعقائد
وتجوز روايته (1) والعمل به في غير الأحكام كالقصص وفضائل الاعمال والترغيب والترهيب *
فالصحيح ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة وفي الشاذ خلاف:
مذهب الشافعي والمحققين انه رواية الثقة ما يخالف الثقات: ومذهب جماعات من أهل الحديث
وقيل إنه مذهب أكثرهم انه رواية الثقة ما لم يروه الثقات وهذا ضعيف: وأما العلة فمعنى خفى في
(الحديث قادح فيه ظاهره السلامة منه إنما يعرفه الحذاق المتقنون الغواصون على الدقائق: وأما الحديث
الحسن فقسمان أحدهما ما لا يخلو اسناده من مستور لم يتحقق أهليته وليس مقفلا كثير الخطأ ولا
ظهر منه سبب مفسق ويكون متن الحديث معروفا برواية مثله أو نحو من وجه آخر: والقسم الثاني
أن يكون رواية مشهورا بالصدق والأمانة الا انه يقصر في الحفظ والاتقان عن رجال الصحيح
بعض القصور: وأما الضعيف فما ليس صفة الصحيح ولا صفة الحسن *
فصل
إذا قال الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا أو من السنة كذا أو مضت السنة بكذا أو السنة
بكذا ونحو ذلك فكله مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على مذهبنا الصحيح المشهور ومذهب
الجماهير ولا فرق بين أن يقول ذلك في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بعده صرح به الغزالي
وآخرون: وقال الإمام أبو بكر الإسماعيلي من أصحابنا له حكم الموقوف على الصحابي: وأما إذا قال

(1) هذا في غير الموضوع من الأحاديث اما الموضوع فإنه يحرم روايته مع العلم به الا مبينا كذا:
بهامش نسخة الأذرعي
59

التابعي من السنة كذا ففيه وجهان حكاهما القاضي أبو الطيب الطبري الصحيح منهما والمشهور انه
موقوف على بعض الصحابة: والثاني انه مرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه مرفوع
مرسل: وإذا قال التابعي أمرنا بكذا قال الغزالي يحتمل ان يريد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر كل
الأمة فيكون حجة ويحتمل أمر بعض الصحابة لكن لا يليق بالعالم أن يطلق ذلك إلا وهو يريد من تجب
طاعته فهذا كلام الغزالي: وفيه إشارة إلى خلاف في أنه موقوف أو مرفوع مرسل: أما إذا قال الصحابي
كنا نفعل كذا أو نقول كذا أو كانوا يقولون كذا ويفعلون كذا أو لا يرون بأسا بكذا أو كان
يقال أو يفعل كذا فاختلفوا فيه هل يكون مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا: فقال
المصنف في اللمع إن كان ذلك مما لا يخفى في العادة كان كما لو رآه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره
فيكون مرفوعا: وان جاز خفاء عليه صلى الله عليه وسلم يكن مرفوعا كقول بعض الأنصار كنا
نجامع فنكسل ولا نغتسل فهذا لا يدل على عدم وجوب الغسل من الاكسال (1) لأنه يفعل سرا فيخفى:
وقال غير الشيخ إن أضاف ذلك إلى حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مرفوعا حجة كقوله كنا
نفعله في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو في زمنه أو وهو فينا أو وهو بين أظهرنا: وإن لم
يضفه فليس بمرفوع وبهذا قطع الغزالي في المستصفى وكثيرون: وقال أبو بكر الإسماعيلي وغيره لا يكون
مرفوعا اضافه أو لم يضفه *
وظاهر استعمال كثيرين من المحدثين وأصحابنا في كتب الفقه انه مرفوع مطلقا سواء أضافه أو لم يضفه
وهذا قوى فان الظاهر من قوله كنا نفعل أو كانوا يفعلون الاحتجاج به وانه فعل على وجه يحتج به ولا
يكون ذلك إلا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغه: قال الغزالي وأما قول التابعي كانوا يفعلون
فلا يدل على فعل جميع الأمة بل على البعض فلا حجة فيه الا ان يصرح بنقله عن أهل الاجماع: وفي ثبوت
الا جماع بخبر الواحد كلام (قلت) اختلفوا في ثبوت الاجماع بخبر الواحد فاختيار الغزالي انه لا يثبت
وهو قول أكثر الناس: وذهب طائفة إلى ثبوته وهو اختيار الرازي *
فصل
الحديث المرسل لا يحتج به عندنا وعند جمهور المحدثين وجماعة من الفقهاء وجماهير أصحاب الأصول
والنظر وحكاه الحاكم أبو عبد الله بن البيع عن سعيد بن المسيب ومالك وجماعة أهل الحديث والفقهاء الحجاز:
وقال أبو حنيفة ومالك في المشهور عنه واحمد وكثيرون من الفقهاء أو أكثرهم يحتج به ونقله الغزالي عن
الجماهير: وقال أبو عمر بن عبد البر وغيره ولا خلاف انه لا يجوز العمل به إذا كان مرسله غير متحرز يرسل
عن غير الثقات. ودليلنا في رد المرسل مطلقا انه إذا كانت رواية المجهول المسمى لا تقبل لجهالة حاله فرواية
المرسل أولي لان المروى عنه محذوف مجهول العين والحال: ثم إن مرادنا بالمرسل هنا ما انقطع اسناده

(1) في المصباح أكسل المجامع بالألف إذا نزع ولم ينزل ضعفا كان أو غيره اه‍
60

فسقط من رواته واحد فأكثر وخالفنا في حده أكثر المحدثين فقالوا هو رواية التابعي عن النبي
صلى الله عليه وسلم: قال الشافعي رحمه الله وأحتج بمرسل كبار التابعين إذا أسند من جهة أخرى أو أرسله
من أخذ عن غير رجال الأول ممن يقبل عنه العلم أو وافق قول بعض الصحابة أو أفتى أكثر العلماء
بمقتضاه قال ولا اقبل مرسل غير كبار التابعين ولا مرسلهم الا بالشرط الذي وصفته هذا نص الشافعي في
الرسالة وغيرها وكذا نقله عنه الأئمة المحققون من أصحابنا الفقهاء والمحدثين كالبيهقي والخطيب البغدادي
وآخرين: ولا فرق في هذا عنده بين مرسل سعيد بن المسيب وغيره هذا هو الصحيح الذي ذهب إليه
المحققون: وقد قال الشافعي في مختصر المزني في آخر باب الربا أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن
المسيب ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع اللحم بالحيوان وعن ابن عباس ان جزورا نحرت
على عهد ابن بكر الصديق رضي الله عنه فجاء رجل بعناق فقال أعطوني بهذه العناق فقال أبو بكر رضي الله عنه
لا يصلح هذا: قال الشافعي وكان القاسم بن محمد وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبو بكر بن عبد
الرحمن يحرمون بيع اللحم بالحيوان قال الشافعي وبهذا نأخذ: قال ولا نعلم أحدا من أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم خالف أبا بكر الصديق رضي الله عنه: قال الشافعي وارسال ابن المسيب عندنا حسن هذا نص
الشافعي في المختصر نقلته بحروفه لما يترتب عليه من الفوائد: فإذا عرف هذا فقد اختلف أصحابنا المتقدمون في
معنى قول الشافعي إرسال ابن المسيب عندنا حسن على وجهين حكاهما المصنف الشيخ أبو إسحاق في كتابه
اللمع وحكاهما أيضا الخطيب البغدادي في كتابيه كتاب الفقيه والمتفقه والكفاية وحكاهما جماعات آخرون:
أحدهما معناه انها الحجة عنده بخلاف غيرها من المراسيل: قالوا لأنها فتشت فوجدت مسندة: والوجه الثاني
انها ليست بحجة عنده بل هي كغيرها على ما ذكرناه: وقالوا وإنما رجح الشافعي بمرسله والترجيح بالمرسل
جائزه * قال الخطيب البغدادي في كتاب الفقيه والمتفقه والصواب الوجه الثاني: وأما الأول فليس بشئ
وكذا قال في الكفاية الوجه الثاني هو الصحيح عندنا من الوجهين لان في مراسيل سعيد ما لم يوجد مسندا
بحال من وجه يصح: قال وقد جعل الشافعي لمراسيل كبار التابعين مزية على غيرهم كما استحسن مرسل
سعيد هذا كلام الخطيب: وذكر الامام الحافظ أبو بكر البيهقي نص الشافعي كما قدمته ثم قال فالشافعي
يقبل مراسيل كبار التابعين إذا انضم إليها ما يؤكد ها فإن لم ينضم لم يقبلها سواء كان مرسل ابن المسيب أو
غيره: قال وقد ذكرنا مراسيل لا بن المسيب لم يقبلها الشافعي حين لم ينضم إليها ما يؤكدها: ومراسيل لغيره

(1) في هامش نسخة الأذرعي ما نصه: قال الماوردي في باب بيع اللحم بالحيوان: والذي يصير به المرسل حجة
أحد سبعة أشياء اما قياس أو قول صحابي: واما فعل صحابي: واما أن يكون قول الأكثرين: واما ان ينتشر
بين الناس من غير دافع له: واما ان يعمل به أهل العصر: واما أن لا توجد دلالة سواه هذا لفظه: وقال قبله اخذ
الشافعي في القديم بمراسيل ابن المسيب وجعلها على افرادها حجة لأمور: منها انه لم يرسل حديثا قط الا وجد
مسندا: ومنها انه كان قليل الرواية لا يروي اخبار الآحاد ولا يحدث الا بما سمعه من جماعة أو عضدة قول الصحابة
ورآه منتشرا عند الكافة أو وافقه فعل أهل العصر: ومنها ان رجال سعيد الذين اخذ منهم وروي عنهم هم أكابر
الصحابة وليس كغيره يأخذ عمن وجد: ومنها ان مسانيده فتشت فكانت عن أبي هريرة: فكان يرسلها لما بينهما
من الانس والوصلة فإن كان صهر أبي هريرة على ابنته فصار إرساله كاسناده عن أبي هريرة: ومذهب الشافعي في
الجديد ان مرسل سعيد وغيره ليس بحجة وإنما قال مرسل سعيد عندنا حسن لهذه الأمور التي وصفنا استئناسا بارساله
ثم اعتمادا على ما قارنه من الدليل فيصير حجة وذكر ما كتبته في صدر الحاشية: وفي كلامه فوائد فتأمله:
61

قال بها حيث انضم إليها ما يؤكدها: قال وزيادة ابن المسيب في هذا على غيره انه أصح التابعين إرسالا
فيما زعم الحفاظ: فهذا كلام البيهقي والخطيب وهما إمامان حافظان فقيهان شافعيان مضطلعان من
الحديث والفقه والأصول والخبرة التامة بنصوص الشافعي ومعاني كلامه ومحلهما من التحقيق والاتقان
والنهاية في الفرقان بالغاية القصوى والدرجة العليا: وأما قول الإمام أبي بكر القفال المروزي في
أول كتابه شرح التلخيص قال الشافعي في الرهن الصغير مرسل ابن المسيب عندنا حجة فهو محمول على
التفصيل الذي قدمناه عن البيهقي والخطيب والمحققين والله أعلم (قلت) ولا يصح تعلق من قال إن مرسل
سعيد حجة (1) بقوله إرساله حسن لان الشافعي رحمه الله لم يعتمد عليه وحده بل اعتمده لما انضم إليه قول
أبي بكر الصديق ومن حضره وانتهى إليه قوله من الصحابة رضي الله عنهم مع ما انضم إليه من قول
أئمة التابعين الأربعة الذين ذكرهم وهم أربعة من فقهاء المدينة السبعة وقد نقل صاحب الشامل وغيره
هذا الحكم عن تمام السبعة وهو مذهب مالك وغيره فهذا عاضد ثان للمرسل فلا يلزمه من هذا
الاحتجاج بمرسل ابن المسيب إذا لم يعتضد: فان قيل ذكرتم ان المرسل إذا أسند من جهة أخرى
احتج به وهذا القول فيه تساهل لأنه إذا أسند عملنا بالمسند فلا فائدة حينئذ في المرسل ولا عمل به
فالجواب ان بالمسند يتبين صحة المرسل وأنه مما يحتج به فيكون في المسألة حديثان صحيحان حتى
لو عارضهما حديث صحيح من طريق واحد وتعذر الجمع قدمناهما عليه والله أعلم: هذا كله في غير
مرسل الصحابي أما مرسل الصحابي كاخباره عن شئ فعله النبي صلى الله عليه وسلم أو نحوه مما نعلم
أنه لم يحضره لصغر سنه أو لتأخر اسلامه أو غير ذلك فالمذهب الصحيح المشهور الذي قطع به
جمهور أصحابنا وجماهير أهل العلم أنه حجة وأطبق المحدثون المشترطون للصحيح القائلون بأن المرسل
ليس بحجة على الاحتجاج به وادخاله في الصحيح: وفي صحيح البخاري ومسلم من هذا ما لا
يحصى: وقال الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني من أصحابنا لا يحتج به بل حكمه حكم مرسل غيره
إلا أن يبين أنه لا يرسل الا ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم أو صحابي: قال لا نهم قد يروون
عن غير صحابي: وحكي الخطيب البغدادي وآخرون هذا المذهب عن بعض العلماء ولم ينسبوه:
وعزاه الشيخ أبو إسحاق المصنف في التبصرة إلى الأستاذ أبي إسحاق: والصواب الأول وانه
يحتج به مطلقا لان روايتهم عن غير الصحابي نادرة وإذا رووها بينوها فإذا أطلقوا ذلك فالظاهر أنه
عن الصحابة والصحابة كلهم عدول والله أعلم: فهذه ألفاظ وجيزة في المرسل وهي وإن كانت
مختصرة بالنسبة إلى غيرها فهي مبسوطة بالنسبة إلى هذا الموضع فان بسط هذا الفن ليس هذا
موضعه ولكن حملني على هذا النوع اليسير من البسط ان معرفة المرسل مما يعظم الانتفاع بها ويكثر
الاحتياج إليها ولا سيما في مذهبنا خصوصا هذا الكتاب الذي شرعت فيه أسأل الله الكريم اتمامه على

قال ابن أبي حاتم في كتابه المراسيل حدثنا أبي قال سمعت يونس بن عبد الأعلى الصدفي قال قال لي
محمد بن إدريس الشافعي ليس المنقطع بشئ ما عدا منقطع سعيد بن المسيب: وروى البيهقي في المدخل عن
الإمام أحمد أنه قال مرسلات ابن المسيب صحاح لا نرى أصح من مرسلاته: وعن يحيى بن معين قال أصح المراسيل
مرسلات بن المسيب رحمه الله: والله أعلم اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
62

أحسن الوجوه وأكملها وأتمها وأعجلها وأنفعها في الآخرة والدنيا وأكثرها انتفاعا به وأعمها فائدة
لجميع المسلمين مع أنه قد شاع في ألسنة كثيرين من المشتغلين بمذهبا بل أكثر أهل زماننا ان الشافعي
رحمه الله لا يحتج بالمرسل مطلقا الا مرسل ابن المسيب فإنه يحتج به مطلقا و هذان غلطان فإنه لا يرده
مطلقا ولا يحتج بمرسل ابن المسيب مطلقا بل الصواب ما قدمناه والله أعلم وله الحمد والنعمة والفضل
والمنة * (فرع) قد استعمل المصنف في المهذب أحاديث كثيرة مرسلة واحتج بها مع أنه لا يجوز
الاحتجاج بالمرسل وجوابه ان بعضها اعتضد بأحد الأمور المذكورة فصار حجة وبعضها ذكره
للاستئناس ويكون اعتماده على غيره من قياس وغيره: واعلم أنه قد ذكر في المهذب أحاديث كثيرة
جعلها هو مرسلة وليست مرسلة بل هي مسندة صحيحة مشهورة في الصحيحين وكتب السنن
وسنبينها في مواضعها إن شاء الله تعالى كحديث ناقة البراء وحديث الإغارة علي بني المصطلق وحديث
إجابة الوليمة في اليوم الثالث ونظائرها والله أعلم *
فصل
قال العلماء المحققون من أهل الحديث وغيرهم إذا كان الحديث ضعيفا لا يقال فيه قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم أو فعل أو امر أو نهي أو حكم وما أشبه ذلك من صيغ الجزم: وكذا لا يقال
فيه روى أبو هريرة أو قال أو ذكر أو أخبر أو حدث أو نقل أو أفتى وما أشبهه: وكذا لا يقال
ذلك في التابعين ومن بعدهم فيما كان ضعيفا فلا يقال في شئ من ذلك بصيغة الجزم: وإنما يقال في هذا
كله روى عنه أو نقل عنه أو حكى عنه أو جاء عنه أو بلغنا عنه أو يقال أو يذكر أو يحكى أو يروي أو
يرفع أو يعزى وما أشبه ذلك من صيغ التمريض وليست من صيغ الجزم: قالوا فصيغ الجزم موضوعة
للصحيح أو الحسن وصيغ التمريض لما سواهما. وذلك أن صيغة الجزم تقتضي صحته عن المضاف
إليه فلا ينبغي ان يطلق الا فيما صح والا فيكون الانسان في معنى الكاذب عليه وهذا الأدب أخل به
المصنف وجماهير الفقهاء من أصحابنا وغيرهم بل جماهير أصحاب العلوم مطلقا ما عدا حذاق المحدثين
وذلك تساهل قبيح فإنهم يقولون كثيرا في الصحيح روى عنه وفي الضعيف قال وروي فلان وهذا
حيد عن الصواب *
فصل
صح عن الشافعي رحمه الله أنه قال إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقولوا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوا قولي: وروي عنه إذا صح الحديث خلاف قولي
فاعملوا بالحديث واتركوا قولي أو قال فهو مذهبي وروى هذا المعنى بألفاظ مختلفة:
وقد عمل بهذا أصحابنا في مسألة التثويب واشتراط التحلل من الاحرام بعذر المرض وغيرهما مما
هو معروف في كتب المذهب وقد حكى المصنف ذلك عن الأصحاب فيهما * وممن حكى عنه انه أفتى
63

بالحديث من أصحابنا أبو يعقوب البويطي وأبو القاسم الدراكي وممن نص عليه أبو الحسن الكيا
الطبري في كتابه في أصول الفقه وممن استعمله من أصحابنا المحدثين الإمام أبو بكر البيهقي وآخرون:
وكان جماعة من متقدمي أصحابنا إذا رأوا مسألة فيها حديث ومذهب الشافعي
خلافه عملوا بالحديث وأفتوا به قائلين مذهب الشافعي ما وافق الحديث ولم يتفق ذلك الا نادرا
ومنه ما نقل عن الشافعي فيه قول على وفق الحديث: * وهذا الذي قاله الشافعي
ليس معناه ان كل أحد رأى حديثا صحيحا قال هذا مذهب الشافعي وعمل بظاهره: وإنما هذا
فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه: وشرطه أن يغلب على ظنه
أن الشافعي رحمه الله لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته: وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب
الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها وهذا شرط صعب قل من ينصف
به: وإنما اشترطوا ما ذكرنا لان الشافعي رحمه الله ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها
لكن قام الدليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك: قال الشيخ أبو
عمرو رحمه الله ليس العمل بظاهر ما قاله الشافعي بالهين فليس كل فقيه يسوغ له أن يستقل بالعمل
بما يراه حجة من الحديث وفيمن سلك هذا المسلك من الشافعيين من عمل بحديث تركه الشافعي
رحمه الله عمدا مع علمه بصحته لمانع اطلع عليه وخفي على غيره كأبي الوليد موسى بن أبي الجارود
ممن صحب الشافعي قال صح حديث أفطر الحاجم والمحجوم فأقول قال الشافعي أفطر الحاجم والمحجوم
فردوا ذلك على أبي الوليد لان الشافعي تركه مع علمه بصحته لكونه منسوخا عنده وبين الشافعي
نسخه واستدل عليه وستراه في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى: وقد قدمنا عن ابن خزيمة أنه قال
لا أعلم سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الحلال والحرام لم يودعها الشافعي كتبه وجلالة ابن خزيمة
وإمامته في الحديث والفقه ومعرفته بنصوص الشافعي بالمحل المعروف: قال الشيخ أبو عمرو فمن وجد
من الشافعية حديثا يخالف مذهبه نظران كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقا: أو في ذلك الباب أو المسألة
كان له الاستقلال بالعمل به وإن لم يكن وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه
جوابا شافيا فله العمل به إن كان عمل به امام مستقل غير الشافعي ويكون هذا عذرا له في ترك مذهب
امامه هنا وهذا الذي قاله حسن متعين والله أعلم *
فصل
اختلف المحدثون وأصحاب الأصول في جواز اختصار الحديث في الرواية على مذاهب أصحها
يجوز رواية بعضه إذا كان غير مرتبط بما حذفه بحيث لا تختلف الدلالة ولا يتغير الحكم بذلك
ولم نر أحدا منهم منع من ذلك في الاحتجاج في التصانيف: وقد أكثر من ذلك المصنف في
المهذب وهكذا أطبق عليه الفقهاء من كل الطوائف وأكثر منه أبو عبد الله البخاري في صحيحه
وهو القدوة *
64

فصل
قد أكثر المصنف من الاحتجاج برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله
عليه وسلم ونص هو في كتابه اللمع وغيره من أصحابنا على أنه لا يجوز الاحتجاج به هكذا: وسببه
أنه عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص فجده الأدنى محمد تابعي والأعلى عبد
الله صحابي فان أراد بجده الأدنى وهو محمد فهو مرسل لا يحتج به وان أراد عبد الله كان متصلا
واحتج به فإذا أطلق ولم يبين احتمل الامرين فلا يحتج به وعمرو وشعيب ومحمد ثقات وثبت سماع
شعيب من محمد ومن عبد الله هذا هو الصواب الذي قاله المحققون والجماهير: وذكر أبو حاتم بن
حبان بكسر الحاء ان شعيبا لم يلق عبد الله وأبطل الدارقطني وغيره ذلك وأثبتوا سماع شعيب من
عبد الله وبينوه *
فإذا عرف هذا فقد اختلف العلماء في الاحتجاج بروايته هكذا فمنعه طائفة من المحدثين كما
منعه المصنف وغيره من أصحابنا: وذهب أكثر المحدثين إلى صحة الاحتجاج به وهو الصحيح
المختار روى الحافظ عبد الغنى بن سعيد المصري بإسناده عن البخاري أنه سئل أيحتج به فقال رأيت
أحمد بن حنبل وعلي بن المديني والحميدي وإسحاق بن راهويه يحتجون بعمرو بن شعيب عن أبيه عن
جده ما تركه أحد من المسلمين وذكر غير عبد الغنى هذه الحكاية * ثم قال قال البخاري من الناس بعد هم:
وحكى الحسن بن سفيان عن إسحاق بن راهويه قال عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده كأيوب عن
نافع عن ابن عمر وهذا التشبيه نهاية الجلالة من مثل إسحاق رحمه الله: فاختار المصنف في اللمع طريقة
أصحابنا في منع الاحتجاج به وترجح عنده في حال تصنيف المهذب جواز الاحتجاج به كما قاله المحققون
من أهل الحديث والأكثرون وهم أهل هذا الفن وعنهم يؤخذ ويكفى فيه ما ذكرناه عن امام المحدثين
البخاري ودليله ان ظاهره الجد الأشهر المعروف بالرواية وهو عبد الله *
فصل
في بيان القولين والوجهين والطريقين
فالأقوال للشافعي والأوجه لأصحابه المنتسبين إلى مذهبه يخرجونها على أصوله ويستنبطونها من
قواعده ويجتهدون في بعضها (1) وإن لم يأخذوه من أصله وقد سبق بيان اختلافهم في أن المخرج هل

(1) وقوله (يجتهدون في بعضها ولم يأخذوه من أصله) نظر في كون مثل هذا يعد وجها مذهبيا لا سيما
إذا كان مذهبا قد صرح الشافعي ببطلانه هذا نظر من حديث النظر: واما النقل فقد قال الرافعي في الشرح الكبير
ان المزني كان يوجب التخلل؟ قال وحكاه ابن كج عن بعض الأصحاب فان أراد المزني فتفرد به لا؟ من المذهب إذا
لم؟ يها على أصل الشافعي؟ بين تفرد المزني وغيره من فرق: انتهى من هامش نسخة الأذرعي:
65

ينسب إلى الشافعي والأصح أنه لا ينسب ثم قد يكون القولان قديمين وقد يكونان جديدين أو قديما
وجديدا وقد يقولهما في وقت وقد يقولهما في وقتين قد يرجح أحدهما وقد لا يرجح: وقد يكون
الوجهان لشخصين ولشخص والذي لشخص ينقسم كانقسام القولين:
وأما الطرق فهي اختلاف الأصحاب في حكاية المذهب فيقول بعضهم مثلا في المسألة قولان أو وجهان
ويقول الآخر لا يجوز قولا واحدا أو وجها واحدا أو يقول أحدهما في المسألة تفصيل ويقول الآخر فيها
خلاف مطلق: وقد يستعملون الوجهين في موضع الطريقين وعكسه: وقد استعمل المصنف في المهذب
النوعين: فمن الأول قوله في مسألة ولوغ الكلب وفي موضع القولين وجهان: ومنه قوله في باب كفارة
الظهار إذا أفطرت المرضع ففيه وجهان أحدهما على قولين والثاني ينقطع التتابع قولا واحدا: ومنه قوله في آخر
القسمة وان استحق بعد القسمة جزء مشاع بطلت فيه وفي الباقي وجهان أحدهما على قولين والثاني يبطل: ومنه
قوله في زكاة الدين المؤجل وجهان أحدهما على قولين والثاني يجب: ومنه ثلاثة مواضع متوالية في
أول باب عدد الشهود أولها قوله وإن كان المقرأ عجميا ففي الترجمة وجهان أحدهما يثبت باثنين والثاني على
قولين كالاقرار: ومن النوع الثاني قوله في قسم الصدقات وان وجد في البلد بعض الاناف فطريقان
أحدهما يغلب حكم المكان والثاني الأصناف: ومنه قوله في السلم في الجارية الحامل طريقان أحدهما لا يجوز
والثاني يجوز وإنما استعملوا هذا لان الطرق والوجوه تشترك في كونها من كلام الأصحاب وستأتي في
مواضعها زيادة في شرحها إن شاء الله تعالى *
فصل
كل مسألة فيها قولان للشافعي رحمه الله قديم وجديد فالجديد هو الصحيح وعليه العمل لان
القديم مرجوع عنه واستثنى جماعة من أصحابنا نحو عشرين مسألة أو أكثر وقالوا يفتى فيها بالقديم
وقد يختلفون في كثير منها قال أمام الحرمين في النهاية في باب المياه وفي باب الأذان قال الأئمة كل قولين
قديم وجديد فالجديد أصح الا في ثلاث مسائل التثويب في أذان الصبح القديم استحبابه: ومسألة
التباعد عن النجاسة في الماء الكثير القديم انه لا يشترط ولم يذكر الثالثة هنا: وذكر في مختصر النهاية ان
الثالثة تأتي في زكاة التجارة: وذكر في النهاية عند ذكره قراءة السورة في الركعتين الأخيرتين
ان القديم انه لا يستحب قال وعليه العمل: وذكر بعض المتأخرين من أصحابنا ان المسائل التي يفتى
بها على القديم أربع عشرة فذكر الثلاث المذكورات: ومسألة الاستنجاء بالحجر فيما جاوز المخرج والقديم
جوازه: ومسألة لمس المحارم والقديم لا ينقض: ومسألة الماء الجاري القديم لا ينجس الا بالتغير:
ومسألة تعجيل العشاء القديم انه أفضل: ومسألة وقت المغرب والقديم امتداده إلى غروب الشفق:
ومسألة المنفرد إذا نوى الاقتداء في أثناء الصلاة القديم جوازه: ومسألة أكل جلد الميتة المدبوغ القديم
تحريمه: ومسألة وطئ المحرم يملك اليمين القديم انه يوجب الحد: ومسألة تقليم أظفار الميت القديم
66

كراهته: ومسألة شرط التحلل من الاحرام بمرض ونحوه القديم جوازه: ومسألة اعتبار النصاب في
الزكاة القديم لا يعتبر: وهذه المسائل التي ذكرها هذا القائل ليست متفقا عليها بل خالف جماعات
من الأصحاب في بعضها أو أكثرها ورجحوا الجديد: ونقل جماعات في كثير منها قولا آخر في الجديد
يوافق القديم فيكون العمل على هذا الجديد لا القديم: وأما حصره المسائل التي يفتى فيها على القديم
في هذه فضعيف أيضا فان لنا مسائل أخر صحح الأصحاب أو أكثرهم أو كثير منهم فيها القديم:
منها الجهر بالتأمين للمأموم في صلاة جهرية القديم استحبابه وهو الصحيح عند الأصحاب وإن كان
القاضي حسين قد خالف الجمهور فقال في تعليقه القديم انه لا يجهر: ومنها من مات وعليه صوم القديم يصوم
عنه وليه وهو الصحيح عند المحققين للأحاديث الصحيحة فيه: ومنها استحباب الخط بين يدي المصلى
إذا لم يكن معه عصا ونحوها القديم استحبابه وهو الصحيح عند المصنف وجماعات: ومنها إذا امتنع
أحد الشريكين من عمارة الجدار أجبر على القديم (1) وهو الصحيح عند ابن الصباغ وصاحبه الشاشي
وأفتى به الشاشي: ومنها الصداق في يد الزوج مضمون ضمان اليد على القديم وهو الأصح عند الشيخ أبي حامد
وابن الصباغ والله أعلم *
ثم إن أصحابنا أفتوا بهذه المسائل من القديم مع أن الشافعي رجع عنه فلم يبق مذهبا له هذا هو
الصواب الذي قاله المحققون وجزم به المتقنون من أصحابنا وغيرهم: وقال بعض أصحابنا إذا نص
المجتهد على خلاف قوله لا يكون رجوعا عن الأول بل يكون له قولان: قال الجمهور هذا غلط لأنهما
كنصين للشارع تعارضا وتعذر الجمع بينهما يعمل بالثاني ويترك الأول: قال إمام الحرمين في باب الآنية
من النهاية معتقدي ان الأقوال القديمة ليست من مذهب الشافعي حيث كانت لأنه جزم في الجديد
بخلافها والمرجوع عنه ليس مذهبا للراجع: فإذا علمت حال القديم ووجدنا أصحابنا أفتوا بهذه المسائل
على القديم حملنا ذلك على أنه أداهم اجتهادهم إلى القديم لظهور دليله وهم مجتهدون فأفتوا به ولا يلزم من
ذلك نسبته إلى الشافعي ولم يقل أحد من المتقدمين في هذه المسائل أنها مذهب الشافعي أو أنه استثناها:
قال أبو عمرو فيكون اختيار أحدهم للقديم فيها من قبيل اختياره مذهب غير الشافعي إذا أداه اجتهاده
إليه فإنه إن كان إذا اجتهاد اتبع اجتهاده وإن كان اجتهاده مقيدا مشوبا بتقليد نقل ذلك الشوب من
التقليد عن ذلك الامام وإذا أفتى بين ذلك في فتواه فيقول مذهب الشافعي كذا ولكني أقول بمذهب
أبي حنيفة وهو كذا: قال أبو عمرو ويلتحق بذلك ما إذا اختار أحدهم القول المخرج على القول المنصوص
أو اختار من قولين رجح الشافعي أحدهما غير ما رجحه بل هذا أولى من القديم: قال ثم حكم من
لم يكن أهلا للترجيح أن لا يتبعوا شيئا من اختيار انهم المذكورة لأنه مقلد للشافعي فدون غيره: قال

(1) في هامش نسخة الأذرعي ما نصه: قال في الروضة في مسألة العمارة الصحيح الجاري على القواعد الجديد
والأصح عند الجمهور في مسألة الصداق القول الآخر ورجحه في المنهاج والروضة:
67

وإذا لم يكن اختياره لغير مذهب إمامه بنى على اجتهاد فان ترك مذهبه إلى أسهل منها فالصحيح تحريمه وان
تركه إلى أحوط فالظاهر جوازه عليه بيان ذلك في فتواه هذا كلام أبي عمرو * فالحاصل ان من ليس
أهلا للتخريج يتعين عليه العمل والافتاء بالجديد من غير استثناء ومن هو أهل للتخريج والاجتهاد في المذهب
يلزمه اتباع ما اقتضاه الدليل في العمل والفتيا مبينا في فتواه ان هذا رأيه وان مذهب الشافعي كذا وهو
ما نص عليه في الجديد هذا كله في قديم لم يعضده حديث صحيح: أما قديم عضده نص حديث صحيح
لا معارض له فهو مذهب الشافعي رحمه الله ومنسوب إليه إذا وجد الشرط الذي قدمناه فيما إذا صح
الحديث على خلاف نصه والله أعلم *
واعلم أن قولهم القديم ليس مذهبا للشافعي أو مرجوعا عنه أو لا فتوى عليه المراد به قديم نص
في الجديد على خلافه اما قديم لم يخالفه في الجديد أو لم يتعرض لتلك المسألة في الجديد فهو مذهب
الشافعي واعتقاده ويعمل به ويفتى عليه فإنه قاله ولم يرجع عنه وهذا النوع وقع منه مسائل كثيرة
ستأتي في مواضعها إن شاء الله وإنما أطلقوا ان القديم مرجوع عنه ولا عمل عليه لكون غالبه كذلك *
(فرع) ليس للمفتي ولا للعامل المنتسب إلى مذهب الشافعي رحمه الله في مسألة القولين
أو الوجهين ان يعمل بما شاء منهما بغير نظر بل عليه في القولين العمل بآخرهما ان علمه
والا فبالذي رجحه الشافعي فان قالهما في حالة ولم يرجح واحدا منهما وسنذكر إن شاء الله تعالى انه لم
يوجد هذا الا في ست عشرة أو سبع عشرة مسألة أو نقل عنه قولان ولم يعلم أقالهما في وقت أم في
وقتين وجهلنا السابق وجب البحث عن أرجحهما فيعمل به فإن كان أهلا للتخريج أو الترجيح استقل
به متعرفا ذلك من نصوص الشافعي ومأخذه وقواعده فإن لم يكن أهلا فلينقله عن أصحابنا الموصوفين
بهذه الصفة فان كتبهم موضحة لذلك فإن لم يحصل له ترجيح بطريق توقف حتى يحصل *
وأما الوجهان فيعرف الراجح منهما بما سبق إلا أنه لا اعتبار فيهما بالتقدم والتأخر إلا إذا وقعا
من شخص واحد وإذا كان أحدهما منصوصا والآخر مخرجا فالمنصوص هو الصحيح الذي عليه
العمل غالبا كما إذا رجح الشافعي أحدهما بل هذا أولى إلا إذا كان المخرج من مسألة يتعذر فيها
الفرق فقيل لا يترجح عليه المنصوص وفيه احتمال وقل أن يتعذر الفرق أما إذا وجد من ليس أهلا
للترجيح خلافا بين الأصحاب في الراجح من قولين أو وجهين فليعتمد ما صححه الأكثر والأعلم
والأورع فان تعارض الأعلم والأورع قدم الأعلم فإن لم يجد ترجيحا عن أحد اعتبر صفات الناقلين
للقولين والقائلين للوجهين فما رواه البويطي والربيع المرادي والمزني عن الشافعي مقدم عند أصحابنا
على ما رواه الربيع الجيزي وحرملة كذا نقله أبو سليمان الخطابي عن أصحابنا في أول معالم السنن إلا أنه
لم يذكر البويطي فألحقته أنا لكونه أجل من الربيع المرادي والمزني وكتابه مشهور فيحتاج إلى ذكره:
قال الشيخ أبو عمرو ويترجح أيضا ما وافق أكثر أئمة المذاهب وهذا الذي قاله فيه ظهور واحتمال
وحكي القاضي حسين فيما إذا كان للشافعي قولان أحدهما يوافق أبا حنيفة وجهين لأصحابنا: أحدهما
68

ان القول المخالف أولى وهذا قول الشيخ أبي حامد الأسفرايني فان الشافعي إنما خالفه لاطلاعه على
موجب المخالفة والثاني القول الموافق أولى وهو قول القفال وهو الأصح والمسألة المفروضة فيما إذا
لم يجد مرجحا مما سبق وأما إذا رأينا المصنفين المتأخرين مختلفين فجزم أحدهما بخلاف ما جزم به
الآخر فهما كالوجهين المتقدمين على ما ذكرناه من الرجوع إلى البحث على ما سبق ويرجح أيضا
بالكثرة كما في الوجهين ويحتاج حينئذ إلى بيان مراتب الأصحاب ومعرفة طبقاتهم وأحوالهم
وجلالتهم وقد بينت ذلك في تهذيب الأسماء واللغات بيانا حسنا وهو كتاب جليل لا يستغنى طالب
علم من العلوم كلها عن مثله: وذكرت في كتاب طبقات الفقهاء من ذكرته منهم أكمل من ذلك وأوضح
وأشبعت القول فيهم وأنا ساع في إتمامه أسأل الله الكريم توفيقي له ولسائر وجوه الخير *
واعلم أن نقل أصحابنا العراقيين لنصوص الشافعي وقواعد مذهبه ووجوه متقدمي أصحابنا
أتقن وأثبت من نقل الخراسانيين غالبا والخراسانيون أحسن تصرفا وبحثا وتفريعا وترتيبا غالبا:
ومما ينبغي أن يرجح به أحد القولين، وقد أشار الأصحاب إلى الترجيح به، أن يكون الشافعي ذكره
في بابه ومظنته وذكر الآخر في غير بابه بأن جرى بحث وكلام جر إلى ذكره فالذي ذكره في بابه
أقوى لأنه أتى به مقصودا وقرره في موضعه بعد فكر طويل بخلاف ما ذكره في غير بابه استطرادا فلا
يعتنى به اعتناؤه بالأول وقد صرح أصحابنا بمثل هذا الترجيح في مواضع لا تنحصر ستراها في هذا
الكتاب في مواطنها إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق *
69

فصل
حيث أطلق في المهذب أبا العباس فهو ابن سريج أحمد بن عمر بن سريج وإذا أراد أبا العباس
ابن القاص قيده: وحيث أطلق أبا إسحاق فهو المروزي: وحيث أطلق أبا سعيد من الفقهاء فهو
الإصطخري ولم يذكر أبا سعيد من الفقهاء غيره ولم يذكر في المهذب أبا إسحاق الأسفرايني الأستاذ المشهور
بالكلام والأصول وإن كان له وجوه كثيرة في كتب الأصحاب: وأما أبو حامد ففي المهذب اثنان من
أصحابنا أحدهما القاضي أبو حامد المروروذي: والثاني الشيخ أبو حامد الأسفرايني لكنهما يأتيان مقيدين
بالقاضي والشيخ فلا يلتبسان وليس فيه أبو حامد غيرهما لامن أصحابنا ولا من غيرهم: وفيه أبو علي
ابن خبران وابن أبي هريرة والطبري ويأتون موصوفين: ولا ذكر لأبي على السنجي في المهذب
وإنما يتكرر في الوسيط والنهاية وكتب متأخري الخراسانيين: وفيه أبو القاسم جماعة أو لهم الأنماطي
ثم الداركي ثم ابن كج والصيمري وليس فيه أبو القاسم غير هؤلاء الأربعة: وفيه أبو الطيب اثنان
فقط من أصحابنا أولهما ابن سلمة والثاني القاضي أبو الطيب شيخ المصنف ويأتيان موصوفين: وحيث
أطلق في المهذب عبد الله في الصحابة فهو ابن مسعود وحيث أطلق الربيع من أصحابنا فهو الربيع بن سليمان
المرادي صاحب الشافعي وليس في المهذب الربيع غيره لا من الفقهاء ولا من غير هم الا الربيع بن سليمان
الجيزي في مسألة دباغ الجلد هل يطهر الشعر: وفيه عبد الله بن زيد من الصحابة اثنان أحدهما الذي
رأى الأذان وهو عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأوسي والآخر عبد الله بن زيد بن عاصم المازني وقد
يلتبسان على من لا أنس له بالحديث وأسماء الرجال فيتوهمان واحدا لكونهما يأتيان على صورة
واحدة وذلك خطأ: فأما ابن عبد ربه فلا ذكر له في المهذب الا في باب الأذان: وأما ابن عاصم
فمتكرر ذكره في المهذب في مواضع من صفة الوضوء ثم في مواضع من صلاة الاستسقاء ثم في أول باب
الشك في الطلاق وقد أوضحتهما أكمل ايضاح في تهذيب الأسماء واللغات: وحيث ذكر عطاء في
المهذب فهو عطاء بن أبي رباح ذكره في الحيض ثم في أول صلاة المسافر ثم في مسألة النقاء الصفين من
كتاب السير: وفي التابعين أيضا جماعات يسمون عطاء لكن لا ذكر لاحد منهم في المهذب غير ابن
أبي رباح: وفيه من الصحابة معاوية اثنان أحدهما معاوية بن الحكم ذكره في باب ما يفسد الصلاة
لا ذكر له في المهذب في غيره: والآخر معاوية بن أبي سفيان الخليفة أحد كتاب الوحي تكرر
ويأتي مطلقا غير منسوب: وفيه من الصحابة معقل اثنان أحدهما معقل بن يسار بياء قبل السين
مذكور في أول الجنائز: والآخر معقل بن سنان بسين ثم نون في كتاب الصداق في حديث
بروع: وفيه أبو يحيى البلخي من أصحابنا ذكره في مواضع من المهذب: منها مواقيت
70

الصلاة وكتاب الحج وليس فيه أبو يحيى غيره: وفيه أبو تحيي بتاء مثناة فوق مكسورة
يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر قتال أهل البغي ولا ذكر له في غير هذا الموضع
من المهذب: وفيه القفال ذكره في موضع واحد وهو في أول النكاح في مسألة تزويج بنت ابنه بابن
ابنه وهو القفال الكبير الشاشي ولا ذكر للقفال في المهذب الا في هذا الموضع وليس للقفال المروزي
الصغير في المهذب ذكر وهذا المروزي هو المتكرر في كتب متأخري الخراسانيين كالإبانة وتعليق
القاضي حسين وكتاب المسعودي وكتب الشيخ أبي محمد الجويني وكتب الصيدلاني وكتب أبي علي
السنجي وهؤلاء تلامذته: والنهاية وكتب الغزالي والتتمة والتهذيب والعدة وأشباهها وقد أوضحت
حال القفالين في تهذيب الأسماء واللغات: وفي كتاب الطبقات وسأوضح أن شاء الله تعالى حالهما
هنا إن وصلت موضع ذكر القفال وكذلك أوضح باقي المذكورين في مواضعهم كما شرطته في الخطبة
إن شاء الله تعالى وحيث أطلقت انا في هذا الشرح ذكر القفال فمرادي به المروزي لأنه أشهر في نقل
المذهب بل مدار طريقة خراسان عليه: وأما الشاشي فذكره قليل بالنسبة إلى المروزي في المذهب
فإذا أردت الشاشي قيدته فوصفته بالشاشي وقصدت ببيان هذه الأحرف تعجيل فائدة لمطالع هذا
الكتاب فربما أدركتني الوفاة أو غيرها من القاطعات قبل وصولها ورأيتها مهمة لا يستغنى مشتغل
بالمهذب عن معرفتها وأسأل الله خاتمة الخير واللطف وبالله التوفيق *
71

فصل
المزني وأبو ثور وأبو بكر بن المنذر أئمة مجتهدون وهم منسوبون إلى الشافعي: فاما المزني وأبو
ثور فصاحبان للشافعي حقيقة وابن المنذر متأخر عنهما: وقد صرح في المهذب في مواضع كثيرة بأن
الثلاثة من أصحابنا أصحاب الوجوه وجعل أقوالهم وجوها في المذهب وتارة يشير إلى أنها ليست
وجوها ولكن الأول ظاهر ايراده إياها فان عادته في المهذب أن لا يذكر أحدا من الأئمة أصحاب
المذاهب غير أصحابنا الا في نحو قوله يستحب كذا للخروج من خلاف مجاهد أو عمر بن عبد
العزيز أو الزهري أو مالك وأبي حنيفة واحمد وشبه ذلك: ويذكر قول أبي ثور والمزني وابن المنذر
ذكر الوجوه ويستدل له ويجيب عنه: وقد قال امام الحرمين في باب ما ينقض الوضوء من النهاية
إذا انفرد المزني برأي فهو صاحب مذهب وإذا خرج للشافعي قولا فتخريجه أولى من تخريج غيره
وهو ملتحق بالمذهب لا محالة وهذا الذي قاله الامام حسن لا شك انه متعين *
فرع
ان استغرب من لا انس له بالمهذب الموضع الذي صرح صاحب المهذب فيه بأن أبا ثور وابن المنذر
من أصحابنا دللناه وقلنا ذكر في أول الغصب في مسألة من رد المغصوب ناقص القيمة دون العين ان
أبا ثور من أصحابنا وذكر نحوه في ابن المنذر في صفة الصلاة في آخر فصل ثم يسجد سجدة أخرى *
فرع
اعلم أن صاحب المهذب أكثر من ذكر أبي ثور لكنه لا ينصفه فيقول قال أبو ثور كذا وهو خطا
والتزم هذه العبارة في أقواله وربما كان قول أبي ثور أقوى دليلا من المذهب في كثير من المسائل:
وأفرط المصنف في استعمال هذه العبارة حتى في عبد الله بن مسعود الصحابي رضي الله عنه الذي محله من
الفقه وأنواع العلم معروف قل من يساويه فيه من الصحابة فضلا عن غيرهم لا سيما الفرائض فحكي
عنه في باب الجد والاخوة مذهبه في المسألة المعروفة بمربعة ابن مسعود ثم قال وهذا خطأ: ولا يستعمل
المصنف هذه العبارة غالبا في آحاد أصحابنا أصحاب الوجوه الذين لا يقاربون أبا ثور وربما كانت
أوجههم ضعيفة بل واهية وقد أجمع نقلة العلم على جلالة أبي ثور وإمامته وبراعته في الحديث والفقه وحسن
مصنفاته فيهما مع الجلالة والاتقان: وأحواله مبسوطة في تهذيب الأسماء وفي الطبقات رحمه الله *
فهذا آخر ما تيسر من المقدمات ولولا خوف املال مطالعه لذكرت فيه مجلدات * من النفايس المهمة
والفوائد المستجدات * لكنها تأتي إن شاء الله تعالى مفرقة في مواطنها من الأبواب: وأرجو الله النفع بكل
ما ذكرته وما سأذكره إن شاء الله لي ولوالدي ومشايخي وسائر أحبائي والمسلمين أجمعين انه الواسع
الوهاب وهذا حين أشرع في شرح أصل المصنف رحمه الله *
72

بسم الله الرحمن الرحيم
قال المصنف الشيخ أبو إسحاق رحمه الله (1) (الحمد لله الذي وفقنا لشكره وهدانا لذكره)
(الشرح) بدأ رحمه الله بالحمد لله للحديث المشهور عن أبي هريرة رضي الله عنه واسمه عبد
الرحمن بن صخر على الأصح من نحو ثلاثين قولا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كل
أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أقطع وفي رواية بحمد الله: وفي رواية بالحمد فهو أقطع: وفي
رواية كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم: وفي رواية كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله
الرحمن الرحيم أقطع * روينا كل هذه الألفاظ في كتاب الأربعين للحافظ عبد القادر الرهاوي
ورويناه فيه من رواية كعب بن مالك الصحابي رضي الله عنه والمشهور رواية أبي هريرة وحديثه
هذا حديث حسن رواه أبو داود سليمان بن الأشعث السجستاني وأبو عبد الله محمد بن يزيد هو
ابن ماجة القزويني في سننهما وأبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي في عمل اليوم والليلة وأبو
عوانة يعقوب بن إسحاق الأسفرايني في أول صحيحه المخرج على صحيح مسلم: وروى موصولا
ومرسلا ورواية الموصول أسنادها جيد * قوله صلى الله عليه وسلم كل أمر ذي بال معناه له
حال يهتم به ومعنى أقطع أي ناقص قليل البركة وأجذم بمعناه وهو بجيم وذال معجمة يقال جذم
يجذم كعلم يعلم * قال العلماء رحمهم الله يستحب البداء بالحمد الله لكل مصنف ودارس ومدرس
وخطيب وخاطب ومزوج ومتزوج وبين يدي سائر الأمور المهمة: قال الشافعي رحمه الله أحب أن يقدم
المرء بين يدي خطبته يعنى بكسر الخاء وكل أمر طلبه حمد الله تعالى والثناء عليه سبحانه والصلاة
على رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترضوا على المزني رحمه الله حيث لم يبدأ في مختصره بحمد الله

(1) * تنبيه * في بعض نسخ الشرح اقتصار عند ذكر عبارة المتن على بعضها والاكتفاء بقوله إلى آخر الفصل: ولتمام الفائدة التزمنا ذكر عبارة المتن بتمامها في جميع المواضع اه‍
73

وأجاب الأصحاب عنه بأجوبة (أحدها) أنه بدأ بالحمد لله وخطب خطبة: فأخل بذلك من نقل
كتابه قالوا وقد وجد في بعض النسخ الحمد لله الذي لا شريك له في ملك ولا مثل: الذي هو
كما وصف نفسه وفوق ما يصفه به خلقه ليس كمثله شئ وهو السميع البصير (الجواب الثاني)
يحتمل أن الحديث لم يبلغ المزني ولا يقدح ذلك في جلالته (الجواب الثالث) أن الذي اقتضاه
الحديث أن يحمد لا أن يكتبه والظاهر أن المزني حمد بلسانه فان الحديث مشهور فيبعد خفاؤه
عليه وتركه له مع علمه (الرابع) أن لفظة الحمد ليست متعينة لتسميته حمدا لان الحمد الثناء
وقد اثنى المزني على الله تعالى أول كتابه فقال بسم الله الرحمن الرحيم والتسمية من أبلغ الثناء:
ويؤيد هذا التأويل أنه جاء في رواية كما نقلناه: وذكروا أجوبة كثيرة غير مرضية فتركتها:
وأما معنى الحمد فقال العلماء هو الثناء على المحمود بجميل صفاته وأفعاله: والشكر الثناء عليه بانعامه
فكل شكر حمد وليس كل حمد شكرا ونقيض الحمد الذم ونقيض الشكر الكفر: وقوله الذي
وفقنا قال أصحابنا المتكلمون التوفيق خلق قدرة الطاعة والخذلان خلق قدرة المعصية والموفق
في شئ لا يعصي في ذلك الشئ إذ لا قدرة له على المعصية. قال إمام الحرمين والعصمة هي
التوفيق فان عمت كانت توفيقا عاما وإن خصت كانت توفيقا خاصا قالوا ويكون الشكر بالقول
والفعل ويقال شكرته وشكرت له ويقال في لغة غريبة شكرت به بالباء وتشكرت له كشكرته
والشكران خلاف الكفران: وقوله وهدانا لذكره المراد هنا بالهدى خلق الايمان واللطف وقد
يكون الهدى بمعنى البيان ومنه (وأما ثمود فهد يناهم) أي بينا لهم طريق الخير والشر ومثله
(انا هديناه السبيل) (وهديناه النجدين) اي بينا طريق الخير والشر: وأما الذكر فأصله
التنبيه قال الإمام أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي المفسر الأديب الشافعي أصل الذكر في اللغة
التنبيه على الشئ وإذا ذكرته فقد تنبهت عليه ومن ذكرك شيئا فقد نبهك عليه وليس من
74

لازمه أن يكون بعد نسيان قال ومعنى الذكر حضور المعنى في النفس ويكون تارة بالقلب وتارة
باللسان وتارة بهما وهو أفضل الذكر ويليه ذكر القلب والله أعلم *
قال المصنف رحمه الله (وصلواته على محمد خير خلقه وعلى آله وصحبه)
(الشرح) أصل الصلاة في اللغة الدعاء هذا قول جمهور العلماء من أهل اللغة وغيرهم: وقال
الزجاج أصلها اللزوم قال الأزهري وآخرون الصلاة من الله تعالى الرحمة ومن الملائكة الاستغفار
ومن الآدمي تضرع ودعاء: وأما تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد فقال أهل اللغة
رجل محمد ومحمود إذا كثرت خصاله المحمودة: قال أبو الحسين أحمد بن فارس في كتابه المجمل
وبذلك سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمد يعنى الهم الله تعالى أهله تسميته به لما علم من
خصاله المحمودة وأنشد أبو نصر إسماعيل بن حماد الجواهري في صحاحه وغيره
إليك أبيت اللعن كان كلالها * إلى الماجد القرم الجواد المحمد
القرم بفتح القاف السيد: وقوله خير خلقه كذا قاله الإمام الشافعي والعلماء أنه صلى الله
عليه وسلم خير الخلق كلهم من الملائكة والآدمين: فان قيل كيف قلتم بالتفضيل وفي الصحيحين
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسوله صلى الله عليه وسلم لا تفضلوا بين الأنبياء. وفي
الحديث الآخر لا تفضلوني على يونس فالجواب من أوجه (أحدها * أن النهى عن تفضيل
يؤدى إلى تنقيص بعضهم فان ذلك كفر بلا خلاف: (الثاني) أنه صلى الله عليه وسلم نهى
قبل أن يعلم أنه خير الخلق فلما علم قال أنا سيد ولد آدم (الثالث) نهى تأدبا وتواضعا
(الرابع) نهى لئلا يؤدى إلى الخصومة كما ثبت في الصحيح في سبب ذلك (الخامس) نهى
عن التفضيل في نفس النبوة لا في ذوات الأنبياء ولا تتفاوت النبوة وإنما التفاوت بالخصائص
وقد قال الله تعالى (فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات): وأما
قوله وعلى آله فهو صحيح موجود في الكلام الفصيح واستعمله العلماء من جميع الطوائف:
75

وذكر أبو محمد عبد الله بن محمد بن السيد البطليوسي في أول كتابه الاقتضاب في شرح
أدب الكتاب أن أبا جعفر النحاس وأبا بكر الزبيدي قالا لا يجوز إضافة آل إلى مضمر فلا
يقال صلى الله على محمد وآله وإنما يقال وأهله أو وآل محمد قال وهذا مذهب الكسائي وهو
أول من قاله: وليس قوله وقولهما بصحيح لأنه لا قياس يعضده ولا سماع يؤيده قال وقد ذكر
أبو علي البغدادي أنه يقال وآله في قلة وذكر المبرد في الكامل حكاية فيها إضافة آل إلى مضمر
ثم أنشد أبياتا كثيرة للعرب في إضافة آل إلى مضمر: منها قول عبد المطلب
لا هم أن المرء يحمي * رحله فامنع حلالك
وانصر علي آل الصليب * وعابديه اليوم آلك
يعني قريشا وكانت العرب تسميهم آل الله لكونهم أهل البيت وأختلف العلماء من أهل
اللغة والفقهاء في آل النبي صلى الله عليه وسلم على أقوال (أحدها) وهو نص الشافعي وجمهور
أصحابنا أنهم بنو هاشم وبنو المطلب (والثاني) عترته المنسوبون إليه (والثالث) أهل دينه
كلهم وأتباعه إلى يوم القيامة: قال الأزهري هذا القول أقربها إلى الصواب واختاره أيضا غيره:
واما صحابته صلى الله عليه وسلم ففيهم مذهبان (أحدهما) وهو الصحيح وقول المحدثين أن
الصحابي كل مسلم رآه صلى الله عليه وسلم وبهذا قطع البخاري في صحيحه وسواء جالسه
أم لا (والثاني) واختاره جماعة من أهل الأصول هو من طالت صحبته ومجالسته على طريق
التبع: وأما قول الفقهاء قال أصحاب الشافعي وأصحاب أبي حنيفة وأصحابنا فمجاز مستفيض
للموافقة بينهم وشدة ارتباط بعضهم ببعض كالصاحب حقيقة ويجمع صاحب على صحب كراكب
وركب: وصحاب كجائع وجياع: وصبحة بالضم كفاره وفرهة وصحبان كشاب وشبان
والأصحاب جمع صحب كفرخ وأفراخ: والصاحبة الأصحاب وجمع الأصحاب أصاحيب
وقولهم في النداء صاح معناه صاحبي هكذا سمع من العرب مرخما وصحبته بكسر الحاء أصحبه
بفتحها صحية بضم الصاد وصحابة بالفتح: وإنما ثنى المصنف رحمه الله بعد حمد الله تعالى بالصلاة
76

على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى (ورفعنا لك ذكرك) قال الشافعي في الرسالة
ومواضع أخبرنا ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال معناه لا أذكر إلا ذكرت معي أشهد أن
لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وروينا هذا التفسير في كتاب الأربعين للرهاوي: عن
أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم: قال المصنف رحمه الله *
(هذا كتاب مهذب أذكر فيه إن شاء الله تعالى أصول مذهب الشافعي رحمه الله بأدلتها وما
تفرع على أصوله في المسائل المشكلة بعللها) *
(الشرح) قد يقال قوله هذا إشارة إلى حاضر وليس هنا الآن شئ يشار إليه
وجوابه أن هذه العبارة استعملها الأئمة من جميع أصحاب الفنون في مصنفاتهم وإمام النحوين
سيبويه رحمه الله صدر كتابه بها وأجاب العلماء من أصحابنا والنحويين وغيرهم عنها بأجوبة مجموعها
أنه لما تأكد عزمه على تصنيفه عامله معاملة الموجود فأشار إليه وذلك لغة العرب قال الله تعالى
(هذا يوم الفصل) ونظائره: ومن المصنفين من يترك موضع الخطبة بياضا فإذا فرغ ذكرها
فأشار إلى حاضر لتكون عبارته في الخطبة موافقة لما ذكره: وقوله كتاب أصل الكتب في
اللغة الضم ومنه كتيبة الخيل لتتابعها واجتماعها فسمي كتابا لضم حروفه ومسائله بعضها إلى بعض
والكتاب اسم للمكتوب مجازا وهو من باب تسمية المفعول بالمصدر وهو كثير وهو في
اصطلاح المصنفين كالجنس المستقل الجامع لا بواب: تلك الأبواب أنواعه فكتاب الطهارة يشمل
باب المياه والآنية وباب الوضوء وغيرها: قال أهل اللغة يقال كتب يكتب كتبا وكتابة وكتابا
وجمعه كتب تضم التاء وتسكن: وقوله مهذب قال أهل اللغة التهذيب التنقية والتصفية والمهذب
المنقى من العيوب ورجل مهذب مطهر الأخلاق: وقوله أذكر فيه إن شاء الله قاله امتثالا لقول الله تعالى
(ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله) فيسن قول إن شاء الله في كل
شئ يعزم على فعله ولا يدخل الاستثناء في الماضي فلا يقال خرجت أمس إن شاء الله والله أعلم:
قال المصنف رحمه الله *
(وإلى الله الكريم أرغب أن يوفقني فيه لمرضاته وأن ينفع به في الدنيا والآخرة إنه قريب
مجيب وعلى ما يشاء قدير وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو حسبي ونعم الوكيل)
77

(الشرح) أما الكريم في أسماء الله تعالى فذكر إمام الحرمين في الارشاد ثلاثة مذاهب
في معناه فقال معناه المفضل وقيل العفو وقيل العلي قال وكل نفيس كريم: وقوله يوفقني تقدم بيانه:
وقوله أن ينفع به هذا مما يرغبك في المهذب وهو دعاء هذا العبد الصالح وقد سبق في بيان
أحواله أنه كان مجاب الدعوة: والدنيا اسم لهذه الدار وما فيها سميت به لدنوها وقربها وينسب
إليها دنياوي ودنيوي: قال الجوهري ودنيي: وقوله إنه قريب مجيب اقتداء بصالح صلى الله عليه
وسلم في قوله (إن ربي قريب مجيب) وتأدبا بقول الله تعالى (فاني قريب أجيب دعوة
الداع) قالوا ومعنى قريب أي بالعلم كما في قوله تعالى (وهو معكم): وقوله وهو حسبي أي الذي
يكفيني: والوكيل الحافظ وقيل الموكل إليه تدبير خلقه: وقيل القائم بمصالحهم قال أبو جعفر
النحاس قول الانسان وحسبي الله أحسن من قوله وحسبنا الله لما في الثاني من التعظيم قال الله
تعالى (فان تولوا فقل حسبي الله) قال وفي الاتيان بالواو في قولك وحسبي الله أو وحسبنا الله
إعلام بأنك لم تضرب عن الكلام الأول قال ولو حذفتها جاز لان المعنى معروف: واعلم أنه
يستحب لكل أحد في كل موطن قول حسبي الله: قال الله تعالى (فان تولوا فقل حسبي الله):
وقال تعالى (وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل) الآية: وروى البخاري في صحيحه عن ابن
عباس رضي الله عنهما قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم صلى الله عليه وسلم حين ألقى في النار
وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا
حسبنا الله ونعم الوكيل. وفي البخاري عن ابن عباس أيضا قال كان آخر قول إبراهيم صلى الله
عليه وسلم حين ألقى في النار حسبي الله ونعم الوكيل: واقتدى المصنف وغيره من العلماء في كتبهم
وغيرها بهذا وختموا كلامهم بحسبي الله ونعم الوكيل: قال المصنف رحمه الله
78

كتاب الطهارة
(باب ما يجوز به الطهارة من المياه وما لا يجوز)
(الشرح) أما الكتاب فسبق بيانه والباب هو الطريق إلى الشئ والموصل إليه وباب
المسجد والدار ما يدخل منه إليه وباب المياه ما يتوصل به إلى أحكامها: وقد يذكرون في الباب
أشياء لها تعلق بمقصود الباب وإن لم يكن مما ترجم له كادخاله الختان وتقليم الأظفار وقص
الشارب ونحوها في باب السواك لكونها جميعا من خصال الفطرة فيكون التقدير باب السواك
وما يتعلق به ويقاربه: وقوله يجوز الطهارة لفظة يجوز يستعملونها تارة بمعنى يحل وتارة بمعنى
يصح وتارة تصلح للامرين: وهذا الموضع مما يصلح فيه للامرين. وأما الطهارة فهي في اللغة
النظافة والنزاهة عن الأدناس ويقال طهر الشئ بفتح الهاء (1) وطهر بضمها والفتح أفصح
يطهر بالضم فيهما طهارة والاسم الطهر: والطهور بفتح الطاء اسم لما يتطهر به وبالضم اسم
للفعل هذه اللغة المشهورة التي عليها الأكثرون من أهل اللغة: واللغة الثانية بالفتح فيهما واقتصر
عليها جماعات من كبار أهل اللغة وحكي صاحب مطالع الأنوار الضم فيهما وهو غريب شاذ
ضعيف وقد أو ضحت هذا كله مضافا في تهذيب الأسماء واللغات. وأما الطهارة في اصطلاح الفقهاء
فهي رفع حدث أو إزالة نجس أو ما في معناهما وعلى صورتهما: وقولنا في معناهما أردنا به التيمم
والأغسال المسنونة كالجمعة وتجديد الوضوء والغسلة الثانية والثالثة في الحدث
والنجس (2) أو مسح الاذن والمضمضة ونحوها من نوافل الطهارة: وطهارة المستحاضة وسلس
البول فهذه كلها طهارات ولا ترفع حدثا ولا نجسا وفي المستحاضة والسلس والمتيمم وجه ضعيف
أنها ترفع: وأما المياه فجمع ماء وهو جمع كثرة وجمعه في القلة أمواه وجمع القلة عشرة فما دونها
والكثرة فوقها وأصل ماء موه وهو أصل مرفوض والهمزة في ماء بدل من الهاء إبدال لازم عند

(1) يقال طهر بكسر الهاء أيضا حكاه شيخنا أبو عبد الله بن مالك رحمه الله في مثلثه كذا بهامش نسخة الأذرعي: ويظهر ان هذا من كلام الشارح لان المعروف ان ابن مالك كان شيخه اه‍
(2) يعني فيها يطهر بغسلة واحدة ونبه عليه بقوله بعد ولا يرفع نجسا وبقوله بنوافل الطهارة اه‍ من نسخة الأذرعي
79

بعض النحويين: وقد ذكر صاحب المحكم لغة أخرى فيه أن يقال ماه على الأصل وهذا يبطل دعوى
لزوم الابدال: وإن ما قال المصنف مياه وأتي يجمع الكثرة لان أنواع الماء زائدة على العشرة فإنه
طاهر وطهور ونجس: والطهور ينقسم إلى ماء السماء وماء الأرض: وماء السماء ينقسم إلى مطر
وذوب ثلج وبرد: وماء الأرض إلى ماء أنهار وبحار وآبار ومشمس ومسخن ومتغير بالمكث
وبما لا يمكن ضوئه منه وبالتراب وغير ذلك من أنواعه: وينقسم الطاهر والنجس أقساما معروفة:
وبدأ المصنف بكتاب الطهارة ثم باب المياه وكذا فعله الشافعي والأصحاب وكثيرون من العلماء
لمناسبة حسنة ذكرها صاحب التتمة وهو أبو سعيد عبد الرحمن بن المأمون المتولي قال بدأنا
بذلك لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بني الاسلام
على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة والحج وصوم رمضان وفي رواية
وصوم رمضان والحج رواه البخاري ومسلم فبدأ صلى الله عليه وسلم بعد الايمان بالصلاة والعرب
تبدأ بالأهم فكان تقديم الصلاة أهم: وأما التوحيد فله كتب مستقلة وهو علم الكلام وقدموا
الصوم على الحج لأنه جاء في إحدى الروايتين ولأنه أعم وجوبا من الحج فإنه يجب على كثيرين
ممن لا حج عليه ويجب أيضا على الفور ويتكرر وإذا ثبت تقديم الصلاة فينبغي تقديم مقدماتها
ومنها الطهارة ثم من الطهارة أعمها والأصل فيها وهو الماء وبالله التوفيق قال المصنف رحمه الله
(يجوز رفع الحدث وإزالة النجس بالماء المطلق وهو ما نزل من السماء أو نبع من الأرض فما نزل
من السماء ماء المطر وذوب الثلج والبرد والأصل فيه قوله عز وجل (وينزل عليكم من السماء
ماء ليطهركم به) *
(الشرح) قوله عز وجل (وينزل) قرئ بالتشديد والتخفيف قراءتان في السبع:
والنجس بفتح الجيم هو عين النجاسة كالبول ونحوه: وأما الماء المطلق فالصحيح في حده أنه
العاري عن الإضافة اللازمة وإن شئت قلت هو ما كفى في تعريفه اسم ماء وهذا الحد نص عليه
الشافعي رحمه الله في البويطي: وقيل هو الباقي على وصف خلقته وغلطوا قائله لأنه يخرج عنه المتغير
بما يتعذر صونه عنه أو بمكث أو تراب ونحو ذلك: واختلفوا في المستعمل هل هو مطلق أم لا
على وجهين أصحهما وبه قطع المصنف في باب ما يفسد الماء من الاستعمال وآخرون من محققي
80

أصحابنا انه ليس بمطلق والثاني انه مطلق وبه قطع ابن القاص في التلخيص والقفال في شرحه
وقال صاحب التقريب ابن (1) القفال الشاشي الصحيح انه مطلق منع استعماله تعبدا: قال القفال
وكونه مستعملا لا يخرجه عن الاطلاق لان الاستعمال نعت كالحرارة والبرودة وإنما يخرجه
عن الاطلاق ما يضاف إليه كماء الزعفران: وسمي المطلق مطلقا لأنه إذا أطلق الماء انصرف إليه:
وأما قوله نزل من السماء أو نبع من الأرض فكذا قاله غيره واعترض عليه بان الكل من السماء
قال الله تعالى (أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض) والجواب من وجهين (أحداهما)
المراد بنبع ما نشاهده ينبع ولهذا فسره به فقال وما نبع ماء البحار إلى آخره والثاني ليس في الآية
أن كل الماء نزل من السماء لأنه نكرة في الاثبات ومعلوم أنها لا تعم ويقال نبع ينبع بفتح
الباء في المضارع وضمها وكسرها والمصدر نبوع أي خرج: وذوب الثلج ذائبه وهو مصدر يقال
ذاب ذوبا وذوبانا وأذبته وذوبته وإنما ذكر المصنف ذوب الثلج والبرد لان في استعمالهما على
حالهما تفصيلا سنذكره في فرع قريبا إن شاء الله تعالى: ووجه الدلالة من الآية لما استدل به
المصنف هنا وهو جواز الطهارة بماء السماء ظاهر وهذا الحكم مجمع عليه: واعترض بعض الغالطين
على الفقهاء باستدلالهم بها وقال ماء نكرة ولا عموم لها في الاثبات: والجواب أن هذا خيال
فاسد وإنما ذكر الله تعالى هذا امتنانا علينا فلو لم نحمله على العموم لفات المطلوب وإذا دل دليل
على إرادة العموم بالنكرة في الاثبات إفادته ووجب حملها عليه والله أعلم (فرع) قال أصحابنا
إذا استعمل الثلج والبرد قبل اذابتهما فإن كان يسيل على العضو لشدة حر وحرارة الجسم
ورخاوة الثلج صح الوضوء على الصحيح وبه قطع الجمهور لحصول جريان الماء على العضو وقيل
لا يصح لأنه لا يسمى غسلا حكاه جماعة منهم أقضى القضاة أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب
الماوردي البصري صاحب الحاوي وأبو الفرج محمد بن عبد الواحد بن محمد الدارمي صاحب
الاستذكار وهما من كبار أئمتنا العراقيين وعزاه الدارمي إلى أبي سعيد الإصطخري: وإن كان
لا يسيل لم يصح الغسل بلا خلاف ويصح مسح الممسوح وهو الرأس والخف والجبيرة هذا
مذهبنا وحكي أصحابنا عن الأوزاعي جواز الوضوء به وإن لم يسل ويجزيه في المغسول والممسوح

(1) قوله ابن القفال هذا هو الصحيح وقيل صاحب التقريب والده القفال الكبير حكاه في التهذيب اه‍ أذرعي
81

وهذا ضعيف أو باطل ان صح عنه لأنه لا يسمي غسلا ولا في معناه قال الدارمي ولو كان معه ثلج أو
برد لا يذوب ولا يجد ما يسخنه به صلي بالتيمم وفي الإعادة أوجه ثالثها يعيد الحاضر دون المسافر
بناء على التيمم لشدة البرد ووجه الإعادة ندور هذا الحال قلت أصحها (1) الثالث (فرع)
استدلوا لجواز الطهارة بماء الثلج والبرد بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسكت بين تكبيرة الاحرام والقراءة سكتة يقول فيها
أشياء منها اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد وفي رواية بماء الثلج والبرد قال
المصنف رحمه الله *
(وما نبع من الأرض ماء البحار وماء الأنهار وماء الآبار والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم
في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر بضاعة)
(الشرح) هذان الحديثان صحيحان وهما بعضان من حديثين أما الأول فروي أبو هريرة
قال سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله انا نركب البحر ونحمل معنا
القليل من الماء فان توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
هو الطهور ماؤه الحل ميتته حديث صحيح رواه مالك في الموطأ والشافعي وأبو داود
والترمذي والنسائي وغيرهم: قال البخاري في غير صحيحه هو حديث صحيح وقال الترمذي
حديث حسن صحيح وروي الحل ميتته وروى الحلال وهما بمعنى: والطهور بفتح
الطاء وميتته بفتح الميم. واسم السائل عن ماء البحر عبيد وقيل عبد: وأما قول السمعاني
في الأنساب اسمه العركي ففيه ايهام ان العركي اسم علم له وليس كذلك بل العركي وصف له
وهو ملاح السفينة * وأما الثاني فروي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال قيل يا رسول الله أتتوضأ
من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض. ولحم الكلاب والنتن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الماء
طهور لا ينجسه شئ حديث صحيح رواه الأئمة الذين نقلنا عنهم رواية الأول: قال الترمذي
حديث حسن صحيح وقوله أتتوضأ بتائين مثناتين من فوق خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم
معناه تتوضأ أنت يا رسول الله من هذه البئر وتستعمل مائها في وضوءك مع أن حالها ما ذكرناه:

(1) ينبغي أن يكون الأصح الإعادة مطلقا كما في التيمم لشدة البرد اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
82

وإنما ضبطت كونه بالتاء لئلا يصحف فيقال أنتوضأ بالنون وقد رأيت من صحفه واستبعد كون
النبي صلى الله عليه وسلم توضأ منها وهذا غلط فاحش وقد جاء التصريح بوضوء النبي صلى الله
عليه وسلم منها في هذا الحديث من طرق كثيرة ذكرها البيهقي في السنن الكبير ورواها آخرون
غيره: وفي رواية لأبي داود قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له إنه يستقى لك من
بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها لحوم الكلاب وهذا في معنى روايات البيهقي وغيره المصرحة بأنه
صلى الله عليه وسلم توضأ منها ولهذا قال المصنف وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ من بئر
بضاعة * وفي رواية الشافعي في مختصر المزني قيل يا رسول الله انك تتوضأ من بئر بضاعة وذكر
تمام الحديث: وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو
يتوضأ من بئر بضاعة فقلت أتتوضأ منها وهي يطرح فيها ما يكره من النتن فقال الماء لا ينجه
شئ فهذه الرواية تقطع كل شك ونزاع: وبضاعة بضم الباء الموحدة ويقال بكسرها لغتان
مشهورتان حكاهما ابن فارس والجوهري وآخرون والضم أشهر ولم يذكر جماعة غيره: ثم قيل
هو اسم لصاحب البئر وقيل اسم لموضعها * وقوله يلقى فيها الحيض بكسر الحاء وفتح الياء
وفي رواية المحايض ومعناه الخرق التي يمسح بها دم الحيض قاله الأزهري وغيره: قال الإمام أبو
سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي لم يكن القاء الحيض فيها تعمدا من آدمي
بل كانت البئر في حدور والسيول تكسح الأقذار من الأفنية وتلقيها فيها ولا يؤثر في الماء لكثرته
وكذا ذكر نحو هذا المعني آخرون: وقيل كانت الريح تلقى الحيض فيها حكاه صاحب الحاوي
وغيره ويجوز أن يكون السيل والريح يلقيان: قال صاحب الشامل ويجوز ان المنافقين كانوا
يلقون ذلك (فرع) الحكم الذي ذكره وهو جواز الطهارة بما نبع من الأرض مجمع عليه الا
ما سأذكره إن شاء الله تعالى في البحر وماء زمزم (فرع) ينكر على المصنف قوله في الحديث
الثاني وروى بصيغة تمريض مع أنه حديث صحيح كما سبق وقد سبق في الفصول في مقدمة
الكتاب أنه لا يقال في حديث صحيح وروى بل يقال بصيغ الجزم فيقال هنا وتوضأ النبي
83

صلى الله عليه وسلم من بئر بضاعة: وأما قوله في الحديث الأول لقوله صلى الله عليه وسلم فعبارة صحيحة
لأنها جزم في حديث صحيح: وهذان الحديثان بعضان وقد سبق في المقدمة بيان جواز اختصار
الحديث (فرع) في فوائد الحديث الأول (إحداها) أنه أصل عظيم من أصول الطهارة ذكر
صاحب الحاوي عن الحميدي شيخ البخاري وصاحب الشافعي قال قال الشافعي هذا الحديث
نصف علم الطهارة (الثانية) أن الطهور هو المطهر وسأفرد له فرعا إن شاء الله تعالى (الثالثة) جواز
الطهارة بماء البحر (الرابعة) أن الماء المتغير بما يتعذر صونه عنه طهور (الخامسة) جواز ركوب
البحر ما لم يهج وسيأتي بسط المسألة في كتاب الحج إن شاء الله تعالى حيث ذكرها المصنف
والأصحاب (السادسة) أن ميتات البحر كلها حلال إلا ما خص منها وهو الضفدع والسرطان (1)
وهذا هو الصحيح وفيه خلاف في باب الصيد والذبائح (السابعة) أن الطافي من حيوان البحر
حلال وهو ما مات حتف انفه وهذا مذهبنا (الثامنة) فيه أنه يستحب للعالم والمفتى إذا سئل عن شئ وعلم أن
بالسائل حاجة إلى أمر آخر متعلق بالمسؤول عنه لم يذكره السائل أن يذكره له ويعلمه إياه
لأنه سأل عن ماء البحر فأجيب بمائه وحكم ميتته لأنهم يحتاجون إلى الطعام كالماء: قال الخطابي
وسبب هذا أن علم طهارة الماء مستفيض عند الخاصة والعامة وعلم حل ميتة البحر تخفى فلما
رآهم جهلوا أظهر الامرين كان أخفاهما أولى: ونظيره حديث المسئ صلاته فإنه سأل النبي صلى
الله عليه وسلم أن يعلمه الصلاة فابتدأ بتعليمه الطهارة ثم الصلاة لان الصلاة تفعل ظاهرا
والوضوء في خفاء غالبا فلما جهل الأظهر كان الأخفى أولى والله أعلم: (فرع) الطهور عندنا
هو المطهر وبه قال أحمد بن حنبل وحكاه بعض أصحابنا عن مالك: وحكوا عن الحسن البصري
وسفيان وأبي بكر الأصم وابن داود وبعض أصحاب أبي حنيفة وبعض أهل اللغة أن الطهور
هو الطاهر: واحتج لهم بقوله تعالى (وسقاهم ربهم شرابا طهورا) ومعلوم أن أهل الجنة لا
يحتاجون إلى التطهير من حدث ولا نجس فعلم أن المراد بالطهور الطاهر: وقال جرير في وصف

(1) ويستثنى أيضا الحية فإنها لا تحل كالسرطان: كذا بهامش الأذرعي
84

النساء * عذاب الثنايا ريقهن طهور * والريق لا يتطهر به وإنما أراد طاهر * وأحتج أصحابنا بأن
لفظة طهور حيث جاءت في الشرع المراد بها التطهير: من ذلك قوله تعالى (وأنزلنا من السماء
ماء طهورا) (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به) فهذه مفسرة للمراد بالأولى: وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المذكور في الفصل هو الطهور ماؤه
ومعلوم أنهم سألوا عن تطهير ماء البحر لاعن طهارته ولولا أنهم يفهمون من الطهور المطهر لم
يحصل الجواب: وقوله صلى الله عليه وسلم طهور اناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا
رواه مسلم من رواية أبي هريرة أي مطهره: وقوله صلى الله عليه وسلم جعلت لي الأرض
مسجدا وطهورا رواه مسلم وغيره من رواية حذيفة والمراد مطهرة وبكونها مطهرة اختصت هذه
الأمة لا بكونها طاهرة. فان قيل يرد عليكم حديث الماء طهور قلنا لا نسلم كونه مخالفا وأجاب أصحابنا
عن قوله تعالي (شرابا طهورا) بأنه تعالي وصفه بأعلى الصفات وهي التطهير وكذا قول جرير حجة
لنا لأنه قصد تفضيلهن على سائر النساء فوصف ريقهن بأنه مطهر يتطهر به لكمالهن وطيب ريقهن
وامتيازه على غيره ولا يصح حمله على طاهر فإنه لا مزية لهن في ذلك فان كل النساء ريقهن طاهر
بل البقر والغنم وكل حيوان غير الكلب والخنزير وفرع أحدهما ريقه طاهر والله أعلم (فرع) قال
أصحابنا حديث بئر بضاعة لا يخالف حديث القلتين لان ماءها كان كثير الا يغيره وقوع هذه الأشياء
فيه: قال أبو داود السجستاني في سننه سمعت قتيبة بن سعيد يقول سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها
قال أكثر ما يكون الماء فيها إلى العانة قلت فإذا نقص قال دون العورة: قال أبو داود وقدرت
بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ست أذرع وقال لي الذي فتح لي الباب
يعني باب البستان الذي هي فيه لم يغير بناؤها عما كانت عليه: قال ورأيت فيها ماء متغير اللون.
قوله متغير اللون يعني بطول المكث وبأصل المنبع لا بشئ أجنبي وهذه صفتها في زمن أبي داود
ولا يلزم أن يكون كانت هكذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم: وأعلم أن حديث بئر بضاعة عام مخصوص
85

خص منه المتغير بنجاسة فإنه نجس للاجماع وخص منه أيضا ما دون قلتين إذا لاقته نجاسة كما
سنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى فالمراد الماء الكثير الذي لم تغيره نجاسة لا ينجسه شئ
وهذه كانت صفة بئر بضاعة والله أعلم (فرع) قوله ماء الآبار هو باسكان الباء وبعدها همزة
ومن العرب من يقول آبار بهمزة ممدودة في أوله وفتح الباء ولا همزة بعدها وهو جمع بئر جمع قلة
ويجمع أيضا في القلة أبؤر باسكان الباء وبعدها همزة مضمومة وفي الكثرة بئار بكسر الباء وبعدها
همزة والبئر مؤنثة مهموزة يجوز تخفيفها بقلب الهمزة ياء (فرع) قال المزني في المختصر قال الشافعي
فكل ماء من بحر عذب أو مالح أو بئر أو سماء أو ثلج أو برد مسخن وغير مسخن فسواء والتطهر
به جائز: واعترض عليه وقالوا مالح خطأ وصوابه ملح قال الله تعالى (وهذا ملح أجاج).
والجواب أن هذا الاعتراض جهالة من قائلة بل فيه أربع لغات ماء ملح ومالح ومليح وملاح
بضم الميم وتخفيف اللام حكاهن الخطابي وآخرون من الأئمة وقد جمعت ذلك بدلائله وأقوال
الأئمة فيه وانشاد العرب فيه في تهذيب الأسماء واللغات. فمن الأبيات قول عمر بن أبي ربيعة
ولو تفلت في البحر والبحر مالح * لا صبح ماء البحر من ريقها عذبا
وقول محمد بن حازم *
تلونت ألوانا على كثيرة * وخالط عذبا من اخائك مالح
فهذا هو الجواب الذي نختاره ونعتقده: وذكر أصحابنا جوابين أحدهما هذا والثاني ان هذه العبارة
ليست للشافعي بل للمزني وعبارة الشافعي في الأم عذب أو أحاج: وهذا الجواب ضعيف جدا
لوجهين أحدهما ان المزني ثقة وقد نقله عن الشافعي ولا يلزم من كونه ذكر في الأم عبارة أن
لا يذكر غيرها في موضع آخر ولا أن لا يسمعها المزني شفاها والثاني ان هذا الجواب يتضمن تغليط
86

المزني في النقل ونسبته إلى اللحن ولا ضرورة بنا إلى واحد منهما: ثم وجدت في رسالة البيهقي
إلى الشيخ أبي محمد الجويني ان أكثر أصحابنا ينسبون المزني في هذا إلى الغلط ويزعمون ان
هذه اللفظة لم توجد للشافعي: قال البيهقي وقد سمي الشافعي البحر ما لحا في كتابين أحدهما في
أمالي الحج في مسألة كون صيد البحر حلالا للمحرم: والثاني في المناسك الكبير وبالله التوفيق *
قال المصنف رحمه الله *
(ولا يكره من ذلك الا ما قصد إلى تشميسه فإنه يكره الوضوء به ومن أصحابنا من قال
لا يكره كما لا يكره بماء تشمس في البرك والأنهار والمذهب الأول والدليل عليه ما روى أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وقد سخنت ماء بالشمس يا حميراء لا تفعلي هذا فإنه يورث البرص)
(الشرح) هذا الحديث المذكور ضعيف باتفاق المحدثين وقد رواه البيهقي من طرق وبين ضعفها
كلها ومنهم من يجعله موضوعا: وقد روى الشافعي في الامام بإسناده عن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه أنه كان يكره الاغتسال بالماء المشمس وقال إنه يورث البرص وهذا ضعيف أيضا باتفاق
المحدثين فإنه من رواية إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وقد اتفقوا على تضعيفه وجرحوه وبينوا
أسباب الجرح الا الشافعي رحمه الله فإنه وثقه فحصل من هذا أن المشمس لا أصل لكراهته ولم يثبت عن
الأطباء فيه شئ فالصواب الجزم بأنه لا كراهة فيه وهذا هو الوجه الذي حكاه المصنف وضعفه
وكذا ضعفه غيره وليس بضعيف بل هو الصواب الموافق للدليل ولنص الشافعي فإنه قال في
الأم لا أكره المشمس إلا أن يكره من جهة الطب كذا رأيته في الأم: وكذا نقله البيهقي
بأسناده في كتابه معرفة السنن والآثار عن الشافعي: وأما قوله في مختصر المزني الا من جهة
87

الطب لكراهة عمر لذلك وقوله إنه يورث البرص فليس صريحا في مخالفة نصه في الأم بل يمكن
جمله عليه فيكون معناه لا أكرهه الا من جهة الطلب ان قال أهل الطب انه يورث البرص. فهذا
ما نعتقده في المسألة وما هو كلام الشافعي: ومذهب مالك وأبي حنيفة واحمد وداود
والجمهور أنه لا كراهة كما هو المختار وأما الأصحاب فمجموع ما ذكروا فيه سبعة أوجه أحدها
لا يكره مطلقا كما سبق: والثاني يكره في كل الأواني والبلاد بشرط القصد إلى تشميسه وهو
الأشهر عند العراقيين وزعم صاحب البيان أنه المنصوص وبه قطع المصنف في التنبيه (1) والقاضي
أبو علي الحسن بن عمر البندنيجي من كبار العراقيين في كتابه الجامع. والثالث يكره مطلقا
ولا يشترط القصد وهو المختار عند صاحب الحاوي قال ومن اعتبر القصد فقد غلط. والرابع يكره
في البلاد الحارة في الأواني المنطبعة وهي المطرقة ولا يشترط القصد ولا تغطية رأس الاناء وهذا
هو الأشهر عند الخراسانيين وغلط امام الحرمين العراقيين في اشتراط القصد وعلى هذا فالمراد بالمنطبعة
أوجه أحدها جميع ما يطرق وهو قول الشيخ أبي محمد الجويني: والثاني انها النحاس خاصة وهو قول
الصيدلاني: والثلث كل ما يطرق الا الذهب والفضة لصفائهما واختاره امام الحرمين. والخامس يكره في
المنطبعة بشرط تغطية رأس الاناء حكاه البغوي وجزم به شيخه القاضي حسين وصاحب التتمة:
والسادس ان قال طبيبان يورث البرص كره وإلا فلا حكاه صاحب البيان وغيره وضعفوه وزعموا أن
الحديث لم يفرق فيه ولم يقيد بسؤال الأطباء. وهذا التضعيف غلط بل هذا الوجه هو الصواب
إن لم يجزم بعدم الكراهة وهو موافق لنصه في الأم لكن اشترط طبيبين ضعيف بل يكفي واحد

(1) كلامه في التنبيه محمول محمول على ما تأوله ابن يونس وهو انه إنما ذكر قصد التشميس ليحترز به عن المتشمس في البرك والأنهار اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
88

فإنه من باب الاخبار: والسابع يكره في البدن دون الثوب حكاه صاحب البيان وهو ضعيف أو غلط
فإنه يوهم أن الأوجه السابقة عامة للبدن والثوب وليس كذلك بل الصواب ما قاله صاحب الحاوي
أن الكراهة تختص باستعماله في البدن في طهارة حدث أو نجس أو تبرد أو تنظف أو شرب قال وسواء
لاقى البدن في عبادة أم غيرها قال ولا كراهة في استعماله فيما لا يلاقي البدن من غسل ثوب واناء
وأرض لان الكراهة للبرص وهذا مختص بالجد قال فان استعمله في طعام وأراد أكله فإن كان
مائعا كالمرق كره وإن لم يبق مائعا كالخبز والأرز المطبوخ به لم يكره هذا كلام صاحب الحاوي
وذكر مثله صاحب البحر وهو الإمام أبو المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني * وإذا قلنا
بالكراهة فنرد ففي زوالها أوجه حكاها الروياني وغيره ثالثها ان قال طبيبان يورث البرص كره
وإلا فلا (1) وحيث أثبتنا الكراهة فهي كراهة تنزيه وهل هي شرعية يتعلق الثواب بتركها وإن لم
يعاقب على فعلها أم ارشادية لمصلحة دنيوية لا ثواب ولا عقاب في فعلها ولا تركها فيه وجهان
ذكرهما الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: قال واختار الغزالي الارشادية وصرح الغزالي به في درسه
قال وهو ظاهر نص الشافعي قال والأظهر (2) واختيار صاحبي الحاوي والمهذب وغيرهما الشرعية
(قلت) هذا الثاني هو المشهور عن الأصحاب والله أعلم (فرع) قوله روى أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال لعائشة رضي الله عنها: هذه عبارة جيدة لأنه حديث ضعيف فيقال فيه روى بصيغة التمريض
* وعائشة رضي الله عنها تكنى أم عبد الله كنيت بابن أختها أسماء عبد الله بن الزبير وهي
عائشة بنت أبي بكر عبد الله بن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة
ابن كعب بن لؤي بن غالب القرشية التيمية تلتقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرة
ابن كعب وسبق باقي نسبها في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم أول الكتاب: ومناقب عائشة
كثيرة مشهورة ذكرت منها جملة صالحة في تهذيب الأسماء توفيت سنة ثمان وقيل تسع وقيل سبع
وخمسين بالمدينة ولم يتزوج النبي صلى الله عليه وسلم بكرا غيرها وأقامت عنده تسع سنين وتوفى وهي
بنت ثمان عشرة: وقول المصنف قصد إلى تشميسه صحيح وزعم بعض الغالطين انه لا يقال قصد
إلى كذا بل قصد كذا وهذا خطأ بل يقال قصدته وقصدت إليه وقصدت له ثلاث لغات حكاهن
ابن القطاع وغيره: ومن أظرف الأشياء أن اللغات الثلاث اجتمعت متوالية في حديث واحد في

(1) صحيح في الروضة أنها تزول مطلقا وصحيح الرافعي في شرحه الصغير عكسه: كذا بهامش الأذرعي (2) صوابه تقديم لفظ الأظهر على قال: كذا بهامش الأذرعي
89

صحيح مسلم في نحو سطر عن جندب البجلي رضي الله عنه أن رجلا من المشركين كان
إذا شاء أن يقصد إلى رجل من المسلمين قصد له فقتله وان رجلا من المسلمين قصد غفلته
هذا نصه بحروفه والله أعلم * وأما قوله كما لا يكره ماء تشمس في البرك والأنهار فعدم الكراهة في البرك
والأنهار متفق عليه لعدم امكان الصيانة وتأثير الشمس * قال المصنف رحمه الله *
(فان تطهر منه صحت طهارته لان المنع لخوف الضرر وذلك لا يمنع صحة الوضوء كما
لو توضأ بماء يخاف من حره أو برده)
(الشرح) أما صحة الطهارة فمجمع عليه: وقوله لان المنع لخوف الضرر وذلك لا يمنع
صحة الوضوء معناه أن النهى ليس راجعا إلى نفس المنهي عنه بل لأمر خارج وهو الضرر وإذا
كان النهى لأمر خارج لا يقتضى الفساد على الصحيح المختار لأهل الأصول من أصحابنا
وغيرهم: فان قيل لا حاجة إلى قوله لا يمنع صحة الوضوء لان كراهة التنزيه لا تمنع الصحة قلنا (1) هذا
خطأ لان الكراهة نهى مانع من الصحة سواء كان نهي تحريم أو تنزيه إلا أن يكون لأمر خارج
فلهذا علل المصنف بأنه لأمر خارج: ومما حكم فيه بالفساد لنهي النزيه الصلاة في وقت النهي فإنها
كراهة تنزيه ولا تنعقد على أصح الوجهين كما سنوضحه في موضعه إن شاء الله تعالى: وأما قوله كما لو
توضأ بماء يخاف من حره أو برده فمعناه أنه يكره ويصح الوضوء وهذان الأمران متفق عليهما عندنا
ودليل الكراهة أنه يتعرض للضرر ولأنه لا يمكنه استيفاء الطهارة على وجهها (فرع) في قول المصنف
ولا يكره من ذلك الا ما قصد إلى تشميسه تصريح بما صرح به أصحابنا وهو أنه لا تكره الطهارة بماء
البحر ولا بماء زمزم ولا بالمتغير بطول المكث ولا بالمسخن ما لم يخف الضرر لشدة حرارته سواء
سخن بطاهر أو نجس: وهذه المسائل كلها متفق عليها عندنا وفي كلها خلاف لبعض السلف: فأما ماء

(1) قوله قلنا الخ فيه نظر والصلاة في وقت النهي حرام في أصح الوجهين كما قال في الروضة وفي هذا الكتاب في بابه اه‍ من هامش الأذرعي
90

البحر فجمهور العلماء من الصحابة فمن بعدهم على أنه لا يكره كمذهبنا: وحكى الترمذي في جامعه
وابن المنذر في الاشراف وغيرهما عن عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن القاصي
رضي الله عنه انهما كرها الوضوء به وحكاه أصحابنا أيضا عن سعيد بن المسيب: واحتج لهم
بحديث روى عن ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم تحت البحر نار وتحت النار بحر حتى عد سبعة وسبعة
رواه أبو داود في سننه: واحتج أصحابنا بحديث هو الطهور ماؤه وبحديث الماء طهور: ولأنه لم
يتغير عن أصل خلقته فأشبه غيره: وأما حديث تحت البحر نار فضعيف باتفاق المحدثين وممن
بين ضعفه أبو عمر بن عبد البر ولو ثبت لم يكن فيه دليل ولا معارضة بينه وبين حديث هو الطهور
ماؤه: وأما زمزم فمذهب الجمهور كمذهبنا أنه لا يكره الوضوء والغسل به وعن أحمد رواية
بكراهته لأنه جاء عن العباس رضي الله عنه أنه قال وهو عند زمزم لا أحله لمغتسل وهو
لشارب حل وبل: ودليلنا النصوص الصحيحة الصريحة المطلقة في المياه بلا فرق ولم يزل المسلمون
على الوضوء منه بلا انكار ولم يصح ما ذكروه عن العباس بل حكي عن أبيه عبد المطلب ولو
ثبت عن العباس لم يجز ترك النصوص به: وأجاب أصحابنا بأنه محمول على أنه قاله في وقت ضيق
الماء لكثرة الشاربين: واما المتغير بالمكث فنقل ابن المنذر الاتفاق على أنه لا كراهة فيه الا
ابن سيرين فكرهه: ودليلنا النصوص المطلقة ولأنه لا يمكن الاحتراز منه فأشبه المتغير بما
يتعذر صونه عنه: وأما المسخن فالجمهور أنه لا كراهة فيه وحكي أصحابنا عن مجاهد كراهته:
وعن أحمد كراهة المسخن بنجاسة وليس لهم دليل فيه روح: ودليلنا النصوص المطلقة ولم يثبت نهي
(فرع) ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما ان الناس نزلوا مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم على الحجر أرض ثمود فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين فأمرهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين وأمرهم ان يستقوا من البئر التي كانت
ترده الناقة: وفي رواية للبخاري ان النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من
91

آبارها ولا يستقوا منها فقالوا قد عجنا منها واستقينا فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين
ويهريقوا ذلك الماء قلت فاستعمال ماء هذه الآبار المذكورة في طهارة وغيرها مكروه أو حرام
إلا لضرورة لأن هذه سنة صحيحة لا معارض لها وقد قال الشافعي إذا صح الحديث فهو مذهبي
فيمنع استعمال آبار الحجر الا بئر الناقة ولا يحكم بنجاستها لان الحديث لم يتعرض للنجاسة والماء
طهور بالأصالة وهذه المسألة ترد على قول المصنف لا يكره من ذلك الا ما قصد إلى تشميسه وكذلك
يرد عليه شديد الحرارة والبرودة والله أعلم: قال المصنف رحمه الله
(وما سوى الماء المطلق من المائعات كالخل وماء الورد والنبيذ وما اعتصر من التمر أو الشجر لا يجوز
رفع الحدث ولا إزالة النجس به لقوله تعالى (فلم تجدوا ماء فتيمموا) فأوجب التيمم على من لم يجد
الماء فدل على أنه لا يجوز الوضوء بغيره ولقوله صلى الله عليه وسلم لا سماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما
في دم الحيض يصيب الثوب حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء فأوجب الغسل بالماء فدل على أنه
لا يجوز يغيره) *
(الشرح) أما حديث أسماء فرواه البخاري و مسلم بمعناه لكن عن أسماء أن امرأة سألت
النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال تحته ثم تقرصه بالماء: وفي رواية فلتقرصه ثم لتنضحه بماء هذا
لفظه في الصحيح ان أسماء هي السائلة ولا في كتب الحديث المعتمدة لكن رواه
الشافعي في الأم كذلك في رواية ضعيفة بعد أن رواه عن أسماء ان امرأة سألت وقد أنكر جماعة
على المصنف روايته ان أسماء هي السائلة وغلطوه فيه وليس هو بغلط بل رواه الشافعي كما ذكرنا: والمراد
متن الحديث وهو صحيح ولو اعتنى المصنف بتحقيق الحديث وأتي برواية الصحيحين لكان أكمل له
وأبرأ لدينه وعرضه: ومعنى حتيه حكيه ومعنى اقرصيه قطعيه واقلعيه بظفرك والدم مخفف الميم على
اللغة الفصيحة المشهورة وتشدد الميم في لغية والاستدلال من الآية والحديث ليس بالمفهوم بل أمر
بالتيمم والغسل بالماء فمن غسل بمائع فقد ترك المأمور به: وأما حكم المسألة وهو أن رفع
الحدث وإزالة النجس لا يصح الا بالماء المطلق فهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا وبه قال
92

جماهير السلف والخلف من الصحابة فمن بعدهم وحكى أصحابنا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى
وأبي بكر الأصم أنه يجوز رفع الحدث وإزالة النجس بكل مائع طاهر قال القاضي أبو الطيب
الا الدمع فان الأصم يوافق على منع الوضوء به وقال أبو حنيفة يجوز الوضوء بالنبيذ على شرط
سأذكره في فرع مستقل وأذكر إزالة النجاسة في فرع آخر إن شاء الله تعالى: واحتج لابن أبي
ليلى بأنه مائع طاهر فأشبه الماء واحتج الأصحاب بالآية التي ذكرها المصنف وبأن الصحابة
رضي الله عنهم كانوا يعدمون الماء في أسفارهم ومعهم الدهن وغيره من المائعات وما نقل عن
أحد منهم الوضوء بغير ماء ولا يصح القياس على الماء فان الماء جمع اللطافة وعدم التركيب من
أجزاء وليس كذلك غيره: وأما قول الغزالي في الوسيط طهارة الحدث مخصوصة بالماء بالاجماع
فمحصول على أنه لم يبلغه قول ابن أبي ليلى ان صح عنه وأما الأصل لا يعتد بخلاء: وقد أضحت
حال الأصم في تهذيب الأسماء واللغات: وقد قال ابن المنذر في الاشراف وكتاب الاجماع أجمع
أهل العلم على أنه لا يجوز الوضوء بماء الورد والشجر والعصفر وغيره مما لا يقع عليه اسم ماء
وهذا يوافق نقل الغزالي (فرع) أما النبيذ فلا يجوز الطهارة به عندنا على أي صفة كان من
عسل أو تمر أو زبيب أو غيرها مطبوخا كان أو غيره فان نش وأسكر فهو نجس يحرم شربه
وعلى شاربه الحد وإن لم ينش فطاهر لا يحرم شربه ولكن لا تجوز الطهارة به هذا تفصيل مذهبنا
وبه قال مالك واحمد وأبو يوسف و الجمهور وعن أبي حنيفة أربع روايات إحداهن يجوز الوضوء
بنبيذ التمر المطبوخ إذا كان في سفر وعدم الماء: والثانية يجوز الجمع بينه وبين التيمم وبه قال
صاحبه محمد بن الحسن: والثالثة يستحب الجمع بينهما: والرابعة أنه رجع عن جواز الوضوء به وقال يتيمم
وهو الذي استقر عليه مذهبه كذا قاله العبدري قال وروى أنه قال الوضوء بنبيذ التمر منسوخ
وحكى عن الأوزاعي الوضوء بكل نبيذ وحكي الترمذي عن سفيان الوضوء بالنبيذ: واحتج لمن
جوز برواية شريك عن أبي فزارة عن أبي زيد مولى عمرو بن حريث عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
له ليلة الجن هل في إداوتك ماء قال لا الا نبيذ تمر قال ثمرة طيبة وماء طهور وتوضأ به: رواه
أبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم: وعن ابن عباس رفعه النبيذ وضوء من لم يجد الماء:
وعن علي وابن عباس وغيرهما موقوفات واحتج أصحابنا بالآية فلم تجدوا ماء فتيمموا وقد سبق وجه
93

التمسك بالآية فمن توضأ بالنبيذ فقد ترك المأمور به ولهم أسئلة ضعيفة على الآية لا يلتفت إليها
: وبحديث أبي ذر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال الصعيد الطيب وضوء المسلم
ولو لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي
والنسائي في سننهم والحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيع في المستدرك على الصحيحين قال
الترمذي حديث حسن صحيح وقال الحاكم حديث صحيح: والاستدلال منه كالاستدلال من
الآية: ومن القياس كل شئ لا يجوز التطهر به حضرا لم يجز سفرا كماء الورد: ولأنه مائع لا يجوز
الوضوء به مع وجود الماء فلم يجز مع عدمه كماء الباقلا: ولأنه شراب فيه شدة مطربة فأشبه الخمر
ولأنه مائع لا يطلق عليه اسم ماء كالخل * وأما الجواب عن شبههم فحديث ابن مسعود ضعيف باجماع
المحدثين قال الترمذي وغيره لم يروه غير أبي زيد مولى ابن حريث وهو مجهول لا يعرف ولا يعرف عنه
غير هذا الحديث: وقد ثبت في صحيح مسلم عن علقمة قال سألت ابن مسعود هل شهد
أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن قال لا ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات
ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا استطير أو اغتيل فبتنا بشر ليلة بات يا قوم فلما
أصبحنا إذ هو جاء من قبل حراء فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها
قوم فقال أتاني داعى الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن قال فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار
نيرانهم وفي صحيح مسلم أيضا عن علقمة عن عبد الله قال لم أكن ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم ووددت اني كنت معه فثبت بهذين الحديثين مع ما ذكرناه من اتفاق الحفاظ على
تضعيف حديث النبيذ بطلان احتجاجهم * وأجاب أصحابنا مع هذا بأربعة أجوبة أحدها أنه
حديث مخالف الأصول فلا يحتج به عند أبي حنيفة: والثاني انهم شرطوا لصحة الوضوء بالنبيذ
السفر وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم في شعاب مكة كما ذكرناه: الثالث أن المراد بقوله نبيذ أي
ماء نبذت فيه تمرات ليعذب ولم يكن متغيرا وهذا تأويل سائغ لان النبي صلى الله عليه وسلم قال تمرة
طيبة وماء طهور فوصف النبي صلى الله عليه وسلم شيئين ليس النبيذ واحدا منهما: فان قيل فابن
مسعود نفى أن يكون معه ماء وأثبت النبيذ فالجواب انه إنما نفى أن يكون معه ماء معد للطهارة
94

وأثبت أن معه ماء نبذ فيه تمر معدا للشرب وحمل كلام النبي صلى الله عليه وسلم على الحقيقة وتأويل
كلام ابن مسعود أولى من عكسه: الرابع أ النبيذ الذي زعم أنه كان مع ابن مسعود لا يجوز
الطهارة به عندهم لأنه نقيع لا مطبوخ فان العرب لا تطبخه وإنما تلقى فيه حبات تمر حتى يحلو فتشربه:
وذكر الأصحاب أجوبة كثيرة غير ما ذكرنا وفيما ذكرناه كفاية: واما حديث ابن عباس والآثار
غيرهما فكلها ضعيفة واهية ولو صحت لكان عنها أجوبة كثيرة ولا حاجة إلى
تضييع الوقت بذكرها بلا فائدة: ولقد أحسن وأنصف الامام أبن جعفر أحمد بن محمد بن سلامة
الطحاوي امام الحنفية في الحديث والمنتصر لهم حيث قال في أول كتابه إنما ذهب أبو حنيفة ومحمد
إلى الوضوء بالنبيذ اعتمادا على حديث ابن مسعود ولا أصل له فلا معنى لتطويل كتابي بشئ فيه
(فرع) قد ذكرنا أن إزالة النجاسة لا تجوز عندنا وعند الجمهور الا بالماء فلا تجوز بخل
ولا بمائع آخر: وممن نقل هذا عنه مالك ومحمد بن الحسن وزفر وإسحاق بن راهويه وهو أصح
الروايتين عن أحمد: وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وداود يجوز إزالة النجاسة من الثوب والبدن
بكل مائع يسيل إذا غسل به ثم عصر كالخل وماء الورد: ولا يجوز بدهن ومرق: وعن أبي
يوسف رواية أنه لا يجوز في البدن بغير الماء * واحتج لهم بحديث عائشة رضي الله عنها قالت ما كان
لا حدانا الا ثوب واحد تحيض فيه فإذا أصابه شئ من دم قالت بريقها فمصعته بظفرها رواه البخاري
ومصعته بفتح الميم والصاد والعين المهملتين أي أذهبته: وعن محمد بن إبراهيم عن أم ولد
لإبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن أم سلمة رضي الله عنها قالت قلت يا رسول الله إني امرأة
أطيل ذيلي فأجره على المكان القذر فقال صلى الله عليه وسلم يطهره ما بعده رواه أبو داود
والترمذي وابن ماجة: وموضع الدلالة انها طهارة بغير الماء فدل على عدم اشتراطه: وبحديث أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا جاء أحدكم إلى المسجد فلينظر فان
رأى في نعليه قذرا أو أذى فليمسحه وليصل فيهما حديث حسن رواه أبو داود باسناد صحيح:
وبحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فان التراب
له طهور رواه أبو داود: والدلالة من هذين كبى مما قبلهما: وذكروا أحاديث لا دلالة فيها
كحديث إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه وبأي شئ غسله سمى غاسلا: قالوا ولأنه مائع
95

طاهر فأشبه الماء: ولأنها عين تجب إزالتها للعبادة فجاز بغير الماء كالطيب عن ثوب المحرم وهذا
يعتمدونه: ولان الحكم يتعلق بعين النجاسة فزال بزوالها: ولان المراد إزالة العين والخل أبلغ
ولان الخمر إذا انقلبت خلا طهرت وطهر الدن وما طهر الا بالخل: ولأنها نجاسة فلا يتعين لها الماء كنجاسة
النجو: ولان الهرة لو أكلت فأرة ثم ولغت في إناء لم تنجسه فدل على أن ريقها طهر فمها * واحتج
أصحابنا بقول الله تعالى (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به)
فذكره سبحانه وتعالى امتنانا فلو حصل بغيره لم يحصل الامتنان: وبحديث أسماء المذكور
وتقدم بيان وجه الدلالة: ولأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم إزالة النجاسة بغير الماء ونقل ازالتها
بالماء ولم يثبت صريح في ازالتها بغيره فوجب اختصاصه إذ لو جاز بغيره لبينه مرة فأكثر ليعلم جوازه كما
فعل في غيره: ولأنها طهارة شرعية فلم تجز بالخل كالوضوء: ولان حكم النجاسة أغلظ من حكم الحدث
بدليل انه يتيمم عن الحدث دونها ولو وجد من الماء ما يكفيه لأحدهما غسلها والمستعمل في النجاسة نجس
عند أبي حنيفة وكذا عندنا ان انفصل ولم يطهر المحل على الأظهر والمستعمل في الحدث طاهر عندنا وكذا
على الأصح عن أبي حنيفة فإذا لم يجز الوضوء بغير الماء فالنجاسة التي هي أغلظ أولى * وأما الجواب عن
أدلتهم فحديث عائشة أجاب عنه الشيخ أبو حامد وغيره بان مثل هذا الدم اليسير لا تجب أزالته بل تصح
الصلاة معه ويكون عفو أو لم ترد عائشة غسله وتطهيره بالريق ولهذا لم تقل كنا نغسله بالريق وإنما أرادت
إذهاب صورته لقبح منظره فيبقى المحل نجسا كما كان ولكنه معفو عنه لقلته: وهذا الجواب على مذهب
من يقول قول الصحابي كنا نفعل كذا يكون مرفوعا وأن لم يضفه إلى زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم أما من اشترط
الإضافة فلا يكون عنده مرفوعا بل يكون موقوفا ويجئ فيه التفصيل في قول الصحابي هل
انتشر أم لا وهل هو حجة في الحالين أم لا * وفي كل هذا خلاف قدمناه واضحا في الفصول
السابقة في مقدمة هذا الشرح: وأما حديث أم سلمة فالجواب عنه من وجهين أحدهما أنه ضعيف
لان أم ولد إبراهيم مجهولة والثاني أن المراد بالقذر نجاسة يابسة ومعنى يطهره ما بعده أنه إذا
انجر على ما بعده من الأرض ذهب ما علق به من اليابس هكذا أجاب أصحابنا وغيرهم: قال
الشيخ أبو حامد في تعليقه ويدل على التأويل الاجماع أنها لو جرت ثوبها على نجاسة رطبة
فاصابته لم يطهر بالجر على مكان طاهر وكذا نقل الاجماع في هذا أبو سليمان الخطابي: ونقل
الخطابي هذا التأويل عن آباء عبد الله مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله: وأما حديث أبي سعيد فلنا في
96

المسألة قولان القديم ان مسح أسفل الخف الذي لصقت به نجاسة كلف في جواز الصلاة فيه مع
أنه نجس عفى عنه والجديد أنه ليس بكاف فعلى هذا الجواب أن الأذى المذكور محمول على
مستقذر طاهر كمخاط وغيره مما هو طاهر أو مشكوك فيه: وأما حديث أبي هريرة فرواه أبو داود
من طرق كلها ضعيفة ولو صح لأجيب عنه بنحو ما سبق: وأما حديث إذا ولغ الكلب فالغسل
فيه وفي غيره من الأحاديث المطلقة محمول على الغسل بالماء لأنه المعروف المعهود السابق إلى الفهم
عند الاطلاق: قال أصحابنا ولا يعرف الغسل في اللغة بغير الماء: وأما قياسهم على الماء فباطل
لأنه يرفع الحدث بخلاف المائع ولأنه ينتقض بالدهن والمرق: وقياسهم على الطيب مردود من
وجهين أحدهما أن إزالة الطيب وغسله ليس واجبا بل الواجب اذهاب رائحته واهلاكها بدليل
انه لو طلى عليه حين أو غسله بدهن كفاه: والثاني أن النجاسة بطهارة الحدث أشبه من إزالة
الطيب فالحاق طهارة بطهارة أولى: وأما قولهم الحكم يتعلق بعين النجاسة فزال بزوالها فليس
بلازم وينتقض بلحم الميتة إذا وقع في ماء قليل فينجسه وإذا زال لا يزول التنجيس: وقولهم
الخل أبلغ غير مسلم لان في الماء لطافة ورقة ليست في الخل وغيره ولو صح ما قالوه لكان إزالة
النجاسة بالخل أفضل وأجمعنا بخلافه: وأما قولهم الدن يطهر بالخل فغير صحيح بل يطهر تبعا للخل
للضرورة ولو كان الخل هو الذي طهره لنجس الخل لان المائع إذا أزيلت به النجاسة تنجس
عندهم: ولأنه لو كان مطهرا لوجب أن تتقدم طهارته في نفسه ولو كان كذلك لم يطهر الخل
لحصوله في محل نجس: وأما نجاسة النجو فإذا استنجي بالأحجار عفى عما بقي للضرورة وهي
رخصة ورد الشرع بها ولا خلاف أن المحل يبقى نجسا ولهذا لو انغمس في ماء قليل نجسه فلم
تحصل إزالة نجاسة بغير الماء: وأما مسألة الهرة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا مذكورة بعد هذا
فان قلنا بطهارة ما ولغت فيه فليس هو لطهارة فمها بريقها بل لأنه لا يمكن الاحتراز منها فعفى
عنها كأثر الاستنجاء: وينبغي للناظر في هذا الكتاب أن لا يسأم من طول بعض المسائل فإنها
لا تطول إن شاء الله تعالى إلا بفوائد وتمهيد قواعد ويحصل في ضمن ذكر مذاهب العلماء ودلائلها
وأجوبتها فوائد مهمة نفيسة وتتضح المشكلات وتظهر المذاهب المرجوحة من الراجحة ويتدرب
الناظر فيها بالسؤال والجواب ويتنقح ذهنه ويتميز عند أولى البصائر والألباب ويتعرف الأحاديث
97

الصحيحة من الضعيفة والدلائل الراجحة من المرجوحة ويقوى للجمع بين الأحاديث التي تظن
متعارضات ولا يخفى عليه بعد ذلك إلا أفراد نادرات وبالله التوفيق (فرع) قال الشافعي في أول
مختضر المزني وما عدا الماء من ماء ورد أو شجر أو عرق لا تجوز الطهارة به: واختلف أصحابنا
في ضبط قوله عرق فقيل هو بفتح العين والراء وهو عرق الحيوان: وقيل بفتح العين واسكان
الراء وهو المعتصر من كرش البعير وقد نص على هذا في الأم: وقيل بكسر العين واسكان
الراء وهو عرق الشجر أي المعتصر منه والأول أصح والثالث ضعيف لأنه عطفه على الشجر
والثاني فيه بعد لأنه نجس لا يخفى امتناع الطهارة به فلا يحتاج إلى بيان (فرع) إذا أغلى مائعا
فارتفع من غليانه بخار تولد منه رشح فليس بطهور بلا خلاف كالعرق: ولو أغلى ماء مطلقا
فتولد منه الرشح قال صاحب البحر قال بعض أصحابنا بخراسان لفظ الشافعي يقتضى أنه لا تجوز
الطهارة به لأنه عرق قال الروياني وهذا غير صحيح عندي لان رشح الماء ماء حقيقة وينقص
منه بقدره فهو ماء مطلق فيتطهر به (1) (قلت) الا صح جواز الطهارة به والله أعلم
قال المصنف رحمه الله (فان كمل الماء المطلق بمائع بأن احتاج في طهارته إلى خمسة أرطال
ومعه أربعة أرطال فكمله بمائع لم يتغير به كماء ورد انقطعت رائحته ففيه وجهان: قال أبو علي الطبري
لا يجوز الوضوء به لأنه كمل الوضوء بالماء والمائع فأشبه إذا غسل بعض أعضائه بالماء وبعضها
بالمائع: ومن أصحابنا من قال يجوز لان المائع استهلك في الماء فصار كما لو طرح ذلك في ماء
يكفيه) ثم قال المصنف في أول الباب الثاني (إذا اختلط بالماء شئ طاهر ولم يتغير به لقلته لم يمنع
الطهارة به لأن الماء باق على إطلاقه وإن لم يتغير به لموافقته الماء في الطعم واللون والرائحة كماء ورد
انقطعت رائحته ففيه وجهان أحدهما إن كانت الغلبة للماء جازت الطهارة به لبقاء اسم الماء المطلق
وإن كانت الغلبة للمخالط لم تجز لزوال اطلاق اسم الماء والثاني إن كان ذلك قدرا لو كان مخالفا للماء
في صفاته لم يغيره لم يمنع وإن كان قدرا لو كان مخالفا له غيره منع لأن الماء لما لم يغير بنفسه اعتبر
بما يغيره كما تقول في الجنابة التي ليس لها أرش مقدر لما لم يمكن اعتبارها بنفسها اعتبرت بالجناية
على العبيد)

(1) حكي الرافعي في شرحه الصغير في مسألة الرشح عن عامة الأصحاب انهم منعوا الطهور به وقالوا يسمى رشحا أو بخارا ولا يسمى ماء مطلقا والمختار ما ذكره اه‍ بهامش الأذرعي
98

(الشرح) اعلم أن المسألة الأولى معدودة في مشكلات المهذب وهي أول مسألة ذكروها
في مشكلاته ووجه الاشكال أن بينها وبين المسألة التي بعدها في أول الباب الثاني اشتباها كما
تراه: وأجابوا بأن المسألة الأولى مفرعة على الثانية فكان ينبغي للمصنف أن يذكر الثانية أو لا:
وحاصل حكم المذهب أن المائع المخالط للماء ان قل جازت الطهارة منه وإلا فلا: وبماذا تعرف
القلة والكثرة ينظر: فان خالفه في بعض الصفات فالعبرة بالتغير فان غيره فكثير والا فقليل وهذه هي
المسألة الأولي من الباب الثاني وهذا متفق (1) عليه: وان وافقه في صفاته ففيها تعتبر به القلقة والكثرة
الوجهان المذكوران في الكتاب في المسألة الثانية أصحهما بتقديره مخالفا في صفاته كما سنوضحه إن شاء الله
تعالى هكذا صححه جمهور الخراسانيين وهو المختار: وممن صححه البغوي والرافعي وقطع به القاضي
حسين بن محمد وأبو القاسم عبد الرحمن بن محمد بن أحمد بن فوران الفوراني بضم الفاء صاحب
الإبانة وامام الحرمين والغزالي وآخرون والثاني يعتبر الوزن فإن كان الماء أكثر وزنا جازت الطهارة
منه وإن كان المائع أكثر أو تساويا فلا: وصححه صاحب البيان وبعض العراقيين وقطع به الماوردي وأبو
الحسن أحمد بن محمد بن أحمد بن القاسم المحاملي في كتابيه المجموع والتجريد وأبو علي البندنيجي والمذهب
الأول ولو خالط الماء المطلق ماء مستعمل فطريقان أصحهما أنه كالمائع ففيه الوجهان وبهذا قطع الجمهور
منهم القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله وصححه الرافعي وآخرون: والثاني يعتبر الوزن قطعا وبه قطع
الشيخ أبو حامد وأبو نصر عبد السيد بن محمد بن عبد الواحد صاحب الشامل المعروف بابن الصباغ: ثم
حيث حكمنا بقلة المائع إما لكونه لم يغير الماء مع مخالفته وإما لقلة وزنه على وجه وإما لعدم
تغيره بتقدير المخالفة على الأصح فالوضوء منه جائز: وهل يجوز استعماله كله أم يجب ترك قدر المائع
فيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف في آخر الباب الأول قول أبي على الطبري وقول غيره
والصحيح منهما عند الجمهور جواز استعمال الجميع لما ذكره المصنف وهو قول جمهور أصحابنا
المتقدمين وقد اتفق الجمهور على تغليط أبي على ونقل امام الحرمين عن العراقيين تغليطه وكذا
هو في كتبهم: ونقل الرافعي أن الأصحاب أطبقوا على تغليطه وقد شذ عن الأصحاب القاضي
أبو الطيب والشيخ أبو محمد الجويني فصححا قول أبي على: ونقل الماوردي أن طائفة وافقت

(1) قوله متفق عليه فيه نظر فان التغير اليسير لا يضر على الأصح خلافا للعراقيين والقفال الا ان يحمل على اتفاق العراقيين اه‍ من هامش الأذرعي
99

أبا علي وأن الجمهور خالفوه: ثم ضابط قول أبي علي أن الماء إن كان قدرا يكفي للطهارة صحت
طهارته سواء استعمل الجميع أو بقي قدر المائع: وإن كان لا يكفيها الا بالمائع وجب أن يبقى
قدر المائع: فعلى مذهبه لو احتاج الجنب إلى عشرة أرطال ومعه تسعة من الماء فطرح فيه رطل
مائع وقلنا الاعتبار بالوزن فان اغتسل بالجميع لم يصح ولو توضأ عن حدث بجميعه جاز: قال
أصحابنا هذا الذي قاله ظاهر الفساد وتحكم لا أصل له وأي فرق بين طرحه في كاف وغيره وبهذا
رد المصنف عليه بقوله كما لو طرح ذلك في ماء يكفيه: واعلم أن عبارة المصنف في حكاية قول أبي
على الطبري ناقصة وموهمة خلاف المراد فان ظاهرها أنه يقول لا يجوز الوضوء منه مطلقا وليس
المراد كذلك بل مذهبه انه يجوز أن يستعمل منه قدر الماء بلا شك وتمام تفصيله على ما ذكرناه
ضابطه هكذا صرح به الأصحاب في حكايتهم عنه: ولو نقله المصنف كما نقله الأصحاب على ما ذكرناه
كان أولي وأصوب وبالله التوفيق: ثم المراد بقولهم لا يكفيه أي لواجب الطهارة وهو مرة مرة صرح
به الفوراني والبغوي وآخرون: قال امام الحرمين لو كان الماء يكفي الوجه واليدين ويقصر عن
الرجلين وخلطه بالمائع المذكور صح غسل الوجه واليدين وفي الرجلين خلاف أبي علي والجمهور:
فلو كان كافيا وضوءه فقط صح الوضوء به فان فضل شئ ففي استعماله في طهارة أخري الخلاف وحكي
الرافعي وجها انه يجب تبقية قدر المائع وإن كان الماء كافيا وهذا غريب: وإذا قلنا بالمذهب وهو
جواز استعمال الجميع فكان الماء لا يكفي ومعه مائع يكمله لزمه التكميل ذكره الرافعي وهو فرع
حسن: وصورته أن لا يزيد ثمن المائع على ثمن الماء فان زاد لم يجب كما لا يجب شراء الماء بأكثر
من ثمن المثل وقال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق تفريعا على قول أبي علي لو كان معه ماء
كاف لوضوءين الا عضوا فكمله بمائع صحت صلاته بالوضوءين وفرق بينه وبين ما إذا نقص عن
100

أعضائه مرة فكمله بأنه يتيقن استعمال مائع في طهارة معينة وهنا تيقنه في احدى الطهارتين لا بعينها
والله أعلم (فرع) إذا قلنا بالأصح في المائع المخالط أن الاعتبار بتقديره بغيره فالمعتبر أوسط
الصفات وأوسط المخالفات لا أعلاها ولا أدناها وهذا متفق عليه إلا الروياني فإنه قال يعتبر بما
هو أشبه بالمخالط: وأما إذا وقع في قلتين فصاعدا مائع نجس يوافق الماء في صفاته كبول انقطعت
رائحته فيعتبر بتقديره مخالفا بلا خلاف ولا يجئ فيه الوجه القائل باعتبار الوزن: ويعتبر أغلظ
الصفات وأشد المخالفات هنا بلا خلاف لغلظ أمر النجاسة هكذا صرح به الأصحاب واتفقوا
عليه
(فرع) أبو علي الطبري المذكور اسمه الحسن بن القاسم الطبري نسبة إلى طبرستان وكذا
القاضي أبو الطيب منسوب إلى طبرستان: وتفقه أبو علي الطبري على ابن أبي هريرة وصنف كتبا
كثيرة منها الافصاح وهو كتاب نفيس وصنف في أصول الفقه والجدل: قال المصنف في طبقاته
وصنف المحرر في النظر وهو أول مصنف في الخلاف المجرد: ودرس ببغداد توفى سنة خمسين
وثلاثمائة رحمه الله وبالله التوفيق * قال المصنف رحمه الله
باب
(ما يفسد الماء من الطاهرات وما لا يفسده)
(إذا اختلط بالماء شئ طاهر إلى قوله اعتبر بالجناية على العبيد) (1)
(الشرح) هاتان المسألتان تقدمتا في آخر الباب الأول بشرحهما المستوفى قال أهل اللغة الفساد
ضد الاستقامة وفسد الشئ بفتح السين وضمها يفسد فسادا وفسودا * قال المصنف رحمه الله
(وان تغير أحد أوصافه من طعم أولون أو رائحة نظرت فإن كان مما لا يمكن حفظ الماء منه
كالطحلب وما يجرى عليه الماء من الملح والنورة وغيرهما جاز الوضوء به لأنه لا يمكن صون الماء
منه فعفى عنه كما عفى عن النجاسة اليسيرة والعمل القليل في الصلاة وإن كان مما يمكن حفظه منه نظرت
فإن كان ملحا انعقد من الماء لم يمنع الطهارة به لأنه كان ماء في الأصل فهو كالثلج إذا ذاب فيه وان

(1) سبقت عبارة المتن هذه فلا حاجة إلى اعادتها
101

كان ترابا طرح فيه لم يؤثر لأنه يوافق الماء في التطهير فهو كما لو طرح فيه ماء آخر فتغير به وإن كان شيئا
سوى ذلك كالزعفران والتمر والدقيق والملح الجبلي والطحلب إذا أخذ ودق وطرح فيه وغير ذلك
مما يستغنى الماء عنه لم يجز الوضوء به لأنه زال عنه اطلاق اسم الماء بمخالطة ما ليس بمطهر والماء مستغني
عنه فلم يجز الوضوء به كماء اللحم والباقلاء) *
(الشرح) أما قوله أولا إذا تغير بما لا يمكن حفظه منه جاز الوضوء به فمجمع عليه (1) ووجهه
ما ذكره من تعذر الاحتراز: ولو قال جازت الطهارة لكان أعم وأحسن ولكن قد علم أنه لا فرق بين
الوضوء وغيره من أنواع الطهارة في هذا وان ما لا يمنع الوضوء من هذا لا يمنع غيره منها: وأما قوله
إن كان ملحا انعقد من الماء لم يمنع الطهارة ثم ذكر بعده في الملح الجبلي أنه يسلب الطهور به فهذا أحد
أوجه ثلاثة لا صحابنا الخراسانيين وهو أصحها عند جمهورهم وبه قطع جمهور العراقيين: والثاني
يسلبان: والثالث لا يسلبان وممن ذكر الخلاف في المائي من العراقيين الماوردي والدارمي:
وممن ذكره في الجبلي الفوراني والغزالي والروياني ونقل الفوراني ان اختيار القفال لا يسلبان: وإنما
ذكرت هذا لأني رأيت بعض الكبار ينكر الخلاف في الجبلي وينسب الغزالي إلى التفرد به وكأنه
اغتر بقول امام الحرمين الجبلي يقطع بان يسلب ومن ظن فيه خلافا فهو غالط: وأما قوله وإن كان
ترابا طرح فيه قصدا (2) لم يؤثر فهذا هو المذهب الصحيح وبه قطع جماهير العراقيين وصححه
الخراسانيون وذكروا وجها آخر انه يسلب وحكاه الماوردي من العراقيين قولا: وأما قوله في
التراب لأنه يوافق الماء في التطهير فكذا قاله الجمهور وأنكره عليهم امام الحرمين وقال هذا من
ركيك الكلام وان ذكره طوائف فان التراب غير مطهر وإنما علقت به إباحة بسبب ضرورة
وهذا الانكار باطل بل الصواب تسميته طهورا: قال الله تعالى (ولكن يريد ليطهركم) وفي
صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وجعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا وفي رواية

(1) قوله فجمع عليه فيه نظر فان فيه وجها ضعيفا حكاه الامام في النهاية والرافعي في شرحه الصغير اه‍ من هامش الأذرعي
2) لم يقل في المهذب قصدا اه‍ من هامش الأذرعي
102

" وتربتها طهورا " وقد سبق بيان هذا الحديث: ومذهبنا ان الطهور هو المطهر فثبت أن التراب
مطهر وإن لم يرفع الحدث واطلاق اسم التطهير والطهور على التراب في السنة وكلام الشافعي
والأصحاب أكثر من أن يحصر (1): وأما قوله والطحلب إذا أخذ ودق وطرح فيه فإنما قال
ودق لأنه إذا لم يدق فهو مجاور لا مخالط: وهذا الذي ذكره من أنه إذا دق يسلب هو المذهب وبه
قطع الجمهور وحكي الماوردي والروياني عن الشيخ أبي حامد انه لا يسلب قالا وهو غلط: وقال
صاحب البيان أبو الخير يحيى بن سالم وغيره في الطحلب المدقوق وورق الأشجار المدقوق وجهان
حكاهما أبو علي في الافصاح والشيخ أبو حامد: وقال البغوي الزرنيخ والنورة والحجر المسحوق
والطحلب والعشب المدقوق إذا طرح في الماء هل يسلب فيه وجهان الصحيح نعم لامكان
الاحتراز عنه: والثاني لا لأنه معفو عن أصله نص عليه الشافعي في رواية حرملة وهذا النص
غريب والمشهور من النص ما سبق: وأما قوله زال عنه اطلاق اسم الماء فاحتراز مما إذا لم يتغير به
لقلته: وقوله بمخالطة احتراز من المجاورة: وقوله ما ليس بمطهر احتراز من التراب: وقوله
والماء مستغن عنه احتراز مما يجرى عليه كالنورة ونحوها: وقوله كماء اللحم والباقلاء يعنى مرقهما: وإنما
قاس عليهما لان أبا حنيفة رحمه الله تعالى يخالفنا في المسألة ويوافق عليهما: وأما قوله تغير أحد
أوصاف الماء من طعم أو رائحة أو لون وجعله أحد الأوصاف سالبا فهو المذهب الصحيح المشهور
الذي قطع به الجمهور في الطرق ونص عليه الشافعي رحمه الله في البويطي والأم كذلك رأيته فيهما:
وحكي المتولي والروياني عن الشافعي أنه قال لا يسلب إلا تغير الأوصاف الثلاثة وهو نص غريب
وحكي الرافعي أن صاحب جمع الجوامع حكى قولين أحدهما وهو المشهور واختيار ابن سريج أن
أحد الأوصاف يسلب: والثاني وهو رواية الربيع أن اللون وحده يسلب والطعم مع الرائحة يسلب
فان انفرد أحدهما فلا وهذا أيضا غريب ضعيف: وأما صفة التغير فإن كان تغيرا كثيرا سلب
قطعا: وإن كان يسيرا بان وقع فيه قليل زعفران فاصفر قليلا أو صابون أو دقيق فابيض قليلا بحيث
لا يضاف إليه فوجهان الصحيح منهما انه طهور لبقاء الاسم هكذا صححه الخراسانيون وهو المختار:

(1) قال الشافعي في المختصر ردا على أبي حنيفة رحمه الله في اشتراط النية في التيمم دون الوضوء طهارتان فكيف يفترقان فسم التيمم طهارة اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
103

والثاني ليس بطهور نقله إمام الحرمين وغيره عن العراقيين والقفال: ووجهه القياس على النجاسة
فلا فرق فيها بين التغير الكثير واليسير: ويجاب عن هذا للمذهب المختار بان باب النجاسة
أغلظ * وأما ألفاظ الفصل فالطحلب بضم الطاء وضم اللام وفتحها لغتان مشهورتان: والنورة
بضم النون حجارة رخوة فيها خطوط بيض يجرى عليها الماء فتنحل: وفي الباقلاء لغتان إحداهما
تشديد اللام مع القصر ويكتب بالياء والثانية تخفيف اللام مع المد ويكتب بالألف والله أعلم
(فرع) هذا الذي
ذكرناه من منع الطهارة بالمتغير بمخالطة ما ليس بمطهر والماء يستغنى عنه هو مذهبنا ومذهب مالك
وداود وكذا احمد في أصح الروايتين: وقال أبو حنيفة يجوز بالمتغير بالزعفران وكل طاهر سواء
قل التغير أو كثر بشرط كونه يجرى لا ثخينا الا مرقة اللحم ومرقة الباقلاء ولهذا رد المصنف عليهم
بقوله كماء اللحم والباقلاء وهذه عادة المصنف يشير إلى إلزام المخالف بما يوافق عليه فتفطن لذلك
وحكي القاضي حسين في تعليقه قولا للشافعي كمذهب أبي حنيفة وهذا غريب جدا وضعيف:
واحتج لأبي حنيفة بالقياس على الطلحب وشبهه واحتج أصحابنا بالقياس الذي ذكره المصنف
واعتمدوه فان قالوا إنما لم تجز الطهارة بماء الباقلاء لأنه صار أدما: فالجواب من وجهين أحدهما
لا تأثير لكونه أدما لأن الماء لو طبخ فيه حنظل وغيره لم يجز التطهر به بالاتفاق وأن لم يصر أدما
فدل انه لا أثر للأدمية وإنما الاعتبار بزوال اطلاق اسم الماء والثاني أن هذا المعنى موجود في ماء
الزعفران فإنه صار صبغا وطيبا ويحرم على المحرم مسه ويلزمه به الفدية: وأما قياسهم على الطحلب فضعيف
لان الطحلب تدعو الحاجة إليه ولا يمكن الاحتراز عنه بخلاف ما نحن فيه والله أعلم (فرع) قال
أصحابنا صاحب الحاوي وغيره سواء في مخالطة الطاهر للماء كان الماء قلتين أو أكثر والحكم في
كل ذلك واحد على ما سبق
(فرع) قال امام الحرمين ان اعترض متكلف من أهل الكلام
على الفقهاء في فرقهم بين المجاورة والمخالطة فزعم أن الزعفران ملاقاته أيضا مجاورة فان تداخل
الاجرام محال قلنا له مدارك الأحكام التكليفية لا تؤخذ من هذه المآخذ بل تؤخذ مما يتناوله أفهام
الناس لا سيما فيما بني الامر فيه على معنى ولا شك ان أرباب اللسان لغة وشرعا قسموا التغير
إلى مجاورة ومخالطة وإن كان ما يسمى مخالطة عند الاطلاق مجاورة في الحقيقة فالنظر إلى تصرف
104

اللسان (فرع) حلف لا يشرب ماء فشرب ماء متغيرا بزعفران ونحوه لم يحنث وان وكل من يشترى
له ماء فاشتراه لم يقع الشراء للموكل لان الاسم لا يقع عليه عند الاطلاق ذكره صاحب البيان:
قال المصنف رحمه الله *
(وإن وقع فيه ما لا يختلط به فغير رائحته كالدهن الطيب والعود ففيه قولان قال في البويطي لا يجوز
الوضوء به كالمتغير بزعفران وروى المزني انه يجوز لان تغيره عن مجاوره فهو كما لو تغير بجيفة بقربه:
وإن وقع فيه قليل كافور فتغيرت به رائحته فوجهان أحدهما لا يجوز الوضوء به كما لو تغير بالزعفران
والثاني يجوز لأنه لا يختلط به وإنما يتغير من جهة المجاورة
(الشرح) هذان القولان مشهوران الصحيح منهما باتفاق الأصحاب رواية المزني انه يجوز
الطهارة به وقطع به جمهور كبار العراقيين منهم الشيخ أبو حامد وصاحباه الماوردي والمحاملي في كتبه
المجموع والتجريد والمقنع وأبو علي البندنيجي في كتابه الجامع والشيخ أبو الفتح نصر بن إبراهيم بن
نصر المقدسي الزاهد في كتابيه التهذيب والانتخاب الدمشقي وغيرهم وجماعة من الخراسانيين من
أصحاب القفال منهم الشيخ أبو محمد في الفروق والقاضي حسين والفوراني وغيرهم والأصح
من الوجهين في المسألة الثانية الجواز أيضا: واعلم أن المسألة الأولي مسألة القولين لا فرق فيها
بين أن يكون التغير بطعم أو لون أو رائحة هذا هو الصوب وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه
الله عندي ان التغير بالمجاورة لا يكون الا بالرائحة لان تغير اللون والطعم لا يتصور الا بانفصال
أجزاء واختلاطها والرائحة تحصل بدون ذلك ولهذا تتغير رائحته بما على طرف الماء لا طمعه ولونه
وهذا الذي قاله الشيخ أبو عمرو ضعيف مردود لا نعرفه لاحد من الأصحاب الا ما سأذكره عن الماوردي
إن شاء الله تعالى بل هو مخالف لمفهوم كلام الأصحاب واطلاقهم المقتضي عدم الفرق بين الأوصاف الثلاثة
بل هو مخالف لما صرح به جماعة منهم شيخ الأصحاب الشيخ أبو حامد وصاحبه المحاملي: وقال أبو حامد
في تعليقه في باب الماء الذي ينجس والذي لا ينجس وان وقع فيه ما لا يختلط كالعود الصلب والعنبر أو الدهن
الطيب فإنه لا يختلط ولكن لو غير بعض أوصافه فهو مطهر: وقال المحاملي في التجريد قال الشافعي وان
وقع فيه قليل لا يختلط به كعود وعنبر ودهن فلا بأس قال ولا فرق بين ان يغير أوصاف الماء أو لا يغيره فهذا
105

لفظهما: وقولهما أحد أوصافه صريح فيما ذكرته فالصواب أن لا فرق بين الأوصاف: وقوله كما لو تغير بجيفة
بقربه يعنى جيفة ملقاة خارج الماء قريبة منه وفي هذه الصورة لا تضر الجيفة قطعا بل الماء طهور بلا
خلاف: وأما قوله وان وقع فيه قليل كافور فتغيرت به رائحته فوجهان فقد اضطرب المتأخرون
في تصويرها وممن نقحها أبو عمرو بن الصلاح فقال من فسر الكافور هنا بالصلب فقد
أخطأ لأنه لا يبقي لقوله قليل فائدة ولا معنى ولأنه حينئذ تكون هي المسألة الأولي بعينها:
والصواب أن صورته أن يكون رخوا لكنه قليل بحيث لا يظهر في أقطار الماء لقلته بل يستهلك
في موضع وقوعه: فإذا تغيرت رائحة الجميع علم أنه تغير بالمجاورة فيجئ فيه وجهان مخرجان من
المسألة السابقة مسألة القولين * فان قيل فالمغير لم يجاور الجميع فكيف يقال تغير الجميع بالمجاورة
قلنا لا تعتبر في المغير بمجاوره مجاورته لجميع أجزاء الماء فان ذلك هو الخالط بل يكفي مجاورة بعضه كما
في الدهن والعود وهذا هو الفرق بين المخالط والمجاور هذا كلام أبي عمرو: وكذا ذكر صاحب
البيان في كتابيه البيان ومشكلات المهذب أن المراد ما يختلط اجزاؤه باليسير من أجزاء الماء ثم يتغير
به رائحة جميع الماء وقد صرح بهذا الفوراني فقال في الإبانة اليسير من الكافور الذي يختلط بالماء
ويذوب فيه بحيث لا يصل جميع اجزاء الماء إذا وقع في الماء وتروح به فيه وجهان هذا ما يتعلق بتحقيق
صورة الكتاب: وقال الماوردي للكافور ثلاثة أحوال: حال يعلم انحلاله في الماء فيسلب لأنه مخالط:
وحال يعلم أنه لم ينحل فلا يسلب لأنه مجاور: وحال يشك فان تغير بطعم أو لون يسلب وان تغير برائحة
فوجهان هذا كلام الماوردي: وقوله في الحال الأول ينبغي ان يحمل على كافور كثير ليوافق ما سبق
والله أعلم
(فرع) هذا أول موضع ذكر فيه البويطي والمزني وهما أجل أصحاب الشافعي رحمهم
الله فأما البويطي بضم الباء فمنسوب إلى بويط قرية من صعيد مصر الأدنى: وهو أبو يعقوب يوسف
ابن يحيى أكبر أصحاب الشافعي المصريين وخليفته في حلقته بعد وفاته: أوصي
الشافعي أن يجلس في حلقته البويطي وقال ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف بن يحيى وليس
أحد من أصحابي أعلم منه: ودام في حلقة الشافعي إلى أن جرت فتنة القول بخلق القرآن فحملوه
إلى بغداد مقيدا ليقول بخلقه فأبي وصبر محتسبا لله تعالى وحسبوه ودام في الحبس إلى أن توفى
106

فيه وجرى له في السجن أشياء عجيبة وكان البويطي رضي الله عنه طويل الصلاة ويختم القرآن
كل يوم: قال الربيع ما رأيت البويطي بعد ما فطنت له الا رأيت شفتيه يتحركان بذكر أو قراءة
قال وكان له من الشافعي منزلة وكان الرجل ربما سأل الشافعي مسألة فيقول سل أبا يعقوب فإذا
أجابه أخبره فيقول هو كما قال: قال الربيع وما رأيت أحدا أنزع بحجة من كتاب الله تعالى من
البويطي وربما جاء إلى الشافعي رسول صاحب الشرطة فيوجه الشافعي البويطي: ويقول هذا
لساني: وقال أبو الوليد بن أبي الجارود كان البويطي جاري وما انتبهت ساعة من الليل الا
سمعته يقرأ ويصلى: وكان الشافعي قال لجماعة من أصحابه أنت يا فلان يجرى لك كذا وأنت
كذا وقال للبويطي ستموت في حديدك فكان كما تفرس جرى لكل واحد ما ذكره ودعى البويطي
إلى القول بخلق القرآن فأبي فقيد وحمل إلى بغداد: قال الربيع رأيت البويطي وفى رجليه أربع حلق قيود
فيها أربعون رطلا وفي عنقه غل مشدود إلى يده: وتوفى في السجن في رجب سنة احدى وثلاثين
ومائتين رحمه الله * وأما المزني فهو ناصر مذهب الشافعي وهو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى بن
إسماعيل بن عمرو بن إسحاق بن مسلم بن نهدلة بن عبد الله المصري. قال المصنف في الطبقات
كان المزني زاهدا عالما مجتهدا مناظرا محجاجا غواصا على المعاني الدقيقة صنف كتبا كثيرة منها
الجامع الكبير والجامع الصغير والمختصر والمنثور والمسائل المعتبرة والترغيب في العلم وكتاب
الوثائق. قال الشافعي المزني ناصر مذهبي. قال البيهقي ولما جرى للبويطي ما جرى كان القائم
بالتدريس والتفقيه على مذهب الشافعي المزني: وأنشد لمنصور الفقيه
لم تر عيناي وتسمع أذني * أحسن نظما من كتاب المزني
وأنشد أيضا في فضائل المختصر وذكر من فضائله شيئا كثيرا: قال البيهقي ولا نعلم كتابا
صنف في الاسلام أعظم نفعا وأعم بركة وأكثر ثمرة من مختصره قال وكيف لا يكون كذلك واعتقاده
في دين الله تعالى ثم اجتهاده في الله تعالى ثم في جمع هذا الكتاب ثم اعتقاد الشافعي في تصنيف
الكتب على الجملة التي ذكرناها رحمنا الله وإياهما وجمعنا في جنته بفضله ورحمته: وحكى القاضي حسين
عن الشيخ الصالح الامام أبي زيد المروزي رحمه الله قال من تتبع المختصر حق تتبعه لا يخفى عليه شئ
من مسائل الفقه فإنه ما من مسألة من الأصول والفروع الا وقد ذكرها تصريحا أو إشارة: وروى البيهقي
107

عن أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة إمام الأئمة قال سمعت المزني يقول كنت في تأليف
هذا الكتاب عشرين سنة وألفته ثمان مرات وغيرته وكنت كلما أردت تأليفه أصوم قبله ثلاثة
أيام وأصلي كذا وكذا ركعة: وقال الشافعي لو ناظر المزني الشيطان لقطعه وهذا قاله الشافعي
والمزني في سن الحداثة ثم عاش بعد موت الشافعي ستين سنة يقصد من الآفاق وتشد إليه
الرحال حتى صار كما قال أحمد بن صالح لو حلف رجل انه لم ير كالمزني لكان صادقا: وذكروا
من مناقبه في أنواع طرق الخير جملا نفيسة لا يحتمل هذا الموضع عشر معشارها وهي
مقتضي حاله وحال من صحب الشافعي توفى المزني بمصر ودفن يوم الخميس آخر شهر ربيع الأول
سنة أربع وستين ومائتين: قال البيهقي يقال كان عمره سبعا وثمانين سنة فهذه نبذة من أحوال
البويطي والمزني ذكرتها تنبيها للمتفقه ليعلم محلهما وقد استقصيت أحوالهما بأبسط من هذا في تهذيب
الأسماء وفي الطبقات وبالله التوفيق * وقوله قال في البويطي معناه قال الشافعي في الكتاب الذي
رواه البويطي عن الشافعي فسمي الكتاب باسم مصنفه مجازا كما يقال قرأت البخاري ومسلما والترمذي
والنسائي وسيبويه ونظائرها والله أعلم
(فرع) في مسائل تتعلق بالباب إحداها قال الشافعي رحمه
الله في الأم إذا وقع في الماء قطران فتغير به ريحه جاز الوضوء به ثم قال بعده بأسطر إذا تغير بالقطران
لم يجز الوضوء به كذا رأيته في الأم وكذا نقله القاضي أبو الطيب والمحاملي في المجموع وعكسه
الشيخ أبو حامد والمحاملي في التجريد وغيرهما فقدموا النص المؤخر ولعل النسخ مختلفة في التقديم
والتأخير قال الشيخ أبو حامد والأصحاب ليست على قولين بل على حالين فقوله يجوز أراد إن لم يختلط
بل تغير بمجاوره: وقوله لا يجوز يعنى إذا اختلط وقيل القطران ضربان مختلط وغيره قال الماوردي
وقال بعض أصحابنا هما قولان وهذا غلط (الثانية) قال الماوردي الماء الذي ينعقد منه ملح إن
بدأ في الجمود وخرج عن حد الجاري لم تجز الطهارة به وإن كان جار يا فهو ضربان ضرب يصير ملحا
لجوهر التربة كالسباخ التي إذا حصل فيها مطر أو غيره صار ملحا جازت الطهارة به: وضرب يصير ملحا
لجوهر الماء كأعين الملج التي ينبع ماؤها مائعا ثم يصير ملحا جامدا فظاهر مذهب الشافعي وما عليه
جمهور أصحابه جواز الطهارة لان اسم الماء يتناوله في الحال وان تغير في وقت آخر كما يجمد الماء فيصير
جمدا: وقال أبو سهل الصعلوكي لا يجوز لأنه جنس آخر كالنفط وكذا نقل القاضي حسين وصاحباه
108

المتولي والبغوي وجهين في الماء الذي ينعقد منه ملح وعبارة البغوي ماء الملاحة والصواب الجواز
مطلقا ما دام جاريا والله أعلم (الثالثة) قال الماوردي لو وقع في الماء تمر أو قمح أو شعير أو غيرها من
الحبوب وتغير به نظر إن كان بحاله صحيحا لم ينحل في الماء جازت الطهارة بذلك الماء لأنه تغير مجاورة
وان انحل لم يجز للمخالطة: وان طبخ ذلك الحب بالنار فان انحل فيه لم يجز وإن لم ينحل ولم
يتغير به جازت وإن لم ينحل وتغير به فوجهان: قال ولو تغير بالشمع جازت الطهارة كالدهن
يعنى على الصحيح من القولين: ولو تغير بشحم أذيب فيه فوجهان: قال ولو تغير بالمعنى فوجهان لأنه
لا يكاد يماع ولم يرجح واحدا من الوجهين والأصح أنه لا يجوز (الرابعة) الماء المتغير بورق
الشجر قطع الشيخ أبو حامد والماوردي بأنه طهور وكذا نقله الروياني عن نص الشافعي وذكر
الخراسانيون فيه ثلاثة أوجه أحدها طهور والثاني لا والثالث يعفي عن الخريفي فلا يسلب بخلاف
الربيعي لان في الربيعي رطوبة تخالط الماء ولان تساقطه نادر والخريفي يخالفه في هذين
والأصح العفو مطلقا صححه الفوراني والروياني والشاشي في كتابه المعتمد وصاحب البيان
وغيرهم ثم الجمهور أطلقوا المسألة وحررها الغزالي ثم الرافعي فقال إن لم تتفتت الأوراق فهو تغير
مجاورة ففيه القولان في العود: الصحيح أنه لا يؤثر وإن تعفنت واختلطت ففيها الأوجه الأصح
العفو قال الرافعي وغيره وهذا إذا تناثرت بنفسها فان طرحت قصدا فقيل على الأوجه وقيل
يسلب المتفتت قطعا وهذا أصح: قال الروياني ولو تغير بالثمار سلب قطعا والله أعلم *
* قال المصنف رحمه الله *
109

باب
(ما يفسد الماء من النجاسة وما لا يفسده)
(إذا وقعت في الماء نجاسة لا يخلو إما أن يكون راكدا أو جاريا أو بعضه راكدا وبعضه
جاريا فإن كان راكد نظرت في النجاسة فإن كانت نجاسة يدركها الطرف من خمر أو بول أو ميتة
لها نفس سائلة نظرت فان تغير أحد أوصاف الماء من طعم أو لون أو رائحة بالنجاسة فهو نجس
لقوله صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شئ إلا ما غير طعمه أو ريحه فنص على الطعم والريح
وقسنا اللون عليهما لأنه في معناهما) *
(الشرح) هذا الحكم الذي ذكره وهو نجاسة الماء المتغير بنجاسة مجمع عليه قال ابن
المنذر أجمعوا أن الماء القليل أو الكثير إذا وقعت فيه نجاسة فغيرت طعما أو لونا أو ريحا
فهو نجس ونقل الاجماع كذلك جماعات من أصحابنا وغيرهم وسواء كان الماء جاريا أو
راكدا قليلا أو كثيرا تغير تغيرا فاحشا أو يسيرا طعمه أو لونه أو ريحه فكله نجس بالاجماع
وقد سبق في المتغير بطاهر أنه لا يعتبر التغير اليسير على الأصح وانه يضر تغير الأوصاف
الثلاثة على قول ضعيف وتقدم الفرق: ويستثنى مما ذكرناه ما إذا تغير الماء بميتة لا نفس لها سائلة
كثرت فيه فإنه لا ينجس على وجه ضعيف مع قولنا بنجاسة هذا الحيوان لكن لما كان هذا
الوجه ضعيفا لم يلتفت الأصحاب إليه فلم يستثنوه: وأما الحديث الذي ذكره المصنف
فضعيف لا يصح الاحتجاج به وقد رواه ابن ماجة: والبيهقي من رواية أبي أمامة وذكرا فيه
طعمه أو ريحه أو لونه واتفقوا على ضعفه ونقل الإمام الشافعي رحمه الله تضعيفه عن أهل العلم بالحديث وبين
البيهقي ضعفه وهذا الضعف في آخره وهو الاستثناء: وأما قوله الماء طهور لا ينجسه شئ تصحيح من
رواية أبي سعيد الخدري وسبق بيانه في أول الباب الأول وإذا علم ضعف الحديث تعين
110

الاحتجاج بالاجماع كما قاله البيهقي وغيره من الأئمة وقد أشار إليه الشافعي أيضا فقال الحديث
لا يثبت أهل الحديث مثله ولكنه قول العامة لا أعلم بينهم فيه خلافا: وأما قول المصنف فنص
على الطعم والريح وقسنا اللون عليهما فكأنه قاله لأنه لم يقف على الرواية التي فيها اللون وهي
موجودة في سنن ابن ماجة والبيهقي كما قدمناه: فان قيل لعله رآها فتركها لضعفها قلنا هذا لا يصح
لأنه لو راعى الضعف واجتنبه لترك جملة الحديث لضعفه المتفق عليه والله أعلم (فرع) لو وقعت
جيفة في ماء كثير فتروح بها بالمجاورة ولم ينحل منها شئ فوجهان الصحيح الذي صرح به كثيرون
واقتضاه كلام الباقين أنه نجس ونقله امام الحرمين عن دلالة كلام الأئمة وصححه لأنه يعد
متغيرا بالنجاسة ومستقذرا: وقال الشيخ أبو محمد طاهر لأنه مجاور فأشبه الجيفة خارج الماء *
قال المصنف رحمه الله *
(وإن تغير بعضه دون بعض نجس الجميع لأنه ماء واحد فلا يجوز أن ينجس بعضه دون بعض)
(الشرح) هذه معدودة من مشكلات المهذب وليست كذلك وحاصله أن الماء إذا تغير بعضه
بالنجاسة ففيه وجهان أحدهما وبه قطع المصنف وصاحب الشامل وذكر الرافعي أن ظاهر المذهب
أنه ينجس الجميع سواء كان الذي لم يتغير قلتين أو أكثر والثاني وهو الصحيح الجاري على
القواعد أن المتغير كنجاسة جامدة فإن كان الباقي قلتين فطاهر والا فنجس وهذا الذي صححناه
هو الذي قطع به القفال في شرح التلخيص وصاحب التتمة وصححه غيرهما أيضا وذكر صاحب
البيان فيه وفي مشكلات المهذب أن بعض الأصحاب حمل كلام المهذب على هذا التفصيل (1) وقال
مراده إذا كان الباقي دون قلتين وفرع صاحب الشامل على الوجه الأول فقال لو كان ماء

(1) هذا من تعليل صاحب المهذب كذا بهامش بنسخة الأذرعي
111

راكد متغير بنجاسة فمرت به قلتان غير متغيرتين فقياس المذهب نجاستهما إذا اتصلتا به فإذا
انفصلتا عنه زال حكم النجاسة لأنه قلتان مستقلتان بلا تغير والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وإن لم يتغير نظرت فإن كان دون قلتين فهو نجس وإن كان قلتين فصاعدا فهو طاهر
لقوله صلى الله عليه وسلم إذا كان الماء قلتين فإنه لا يحمل الخبث ولان القليل يمكن حفظه
من النجاسة في الظروف والكثير لا يمكن فجعل القلتان حدا فاصلا) *
(الشرح) هذا الحديث حديث حسن ثابت من رواية عبد الله بن عمر بن الخطاب
رضي الله عنهما رواه أبو عبد الله الشافعي وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة في سننهم وأبو
عبد الله الحاكم في المستدرك على الصحيحين قال الحاكم هو حديث صحيح على شرط البخاري
ومسلم وجاء في رواية لأبي داود وغيره إذا كان الماء قلتين لم ينجس قال البيهقي وغيره اسناد
هذا الرواية اسناد صحيح: والخبث بفتح الخاء والباء: ومعناه هنا لم ينجس كما جاء في الرواية
الأخرى: وقوله قلتين فصاعدا معناه فأكثر وهو منصوب على الحال * وأما حكم المسألة
وهي إذا وقع في الماء الراكد نجاسة ولم تغيره فحكى ابن المنذر وغيره فيها سبعة مذاهب للعلماء
أحدها إن كان قلتين فأكثر لم ينجس وإن كان دون قلتين نجس وهذا مذهبنا ومذهب ابن
عمر وسعيد بن جبير ومجاهد وأحمد وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه (الثاني) أنه إن بلغ أربعين قلة لم
ينجسه شئ حكوه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ومحمد بن المنكدر: (الثالث): إن كان
112

كرا (1) لم ينجسه شئ روي عن مسروق وابن سيرين (والرابع) إذا بلغ ذنوبين لم ينجس روى عن
ابن عباس في رواية وقال عكرمة ذنوبا أو ذنوبين (الخامس) إن كان أربعين دلوا لم ينجس
روى عن أبي هريرة (السادس) إذا كان بحيث لو حرك جانبه تحرك الجانب الآخر نجس
وإلا فلا وهو مذهب أبي حنيفة (والسابع) لا ينجس كثير الماء ولا قليله الا بالتغير حكوه
عن ابن عباس وابن المسيب والحسن البصري وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء وعبد الرحمن
ابن أبي ليلي وجابر بن زيد ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي: قال أصحابنا وهو مذهب
مالك والأوزاعي وسفيان الثوري وداود ونقلوه عن أبي هريرة والنخعي قال ابن المنذر وبهذا المذهب
أقول واختاره الغزالي في الاحياء واختاره الروياني في كتابيه البحر والحلية قال في البحر هو اختياري
واختيار جماعة رأيتهم بخراسان والعراق وهذا المذهب أصحها بعد مذهبنا * واحتج لأبي حنيفة بأشياء
ليس في شئ منها دلالة لكني أذكرها لبيان جوابها ان أوردت على ضعيف المرتبة: منها قوله صلى الله عليه وسلم
لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه حديث صحيح متفق على صحته رواه البخاري ومسلم قالوا
وروي أن زنجيا مات في زمزم فأمر ابن عباس بنزحها ومعلوم ان ماء زمزم يزيد على قلتين ولأنه مائع ينجس
بورود النجاسة عليه إذا قل فكذا إذا كثر كسائر المائعات ولأنه تيقن حصول نجاسة فيه فهو كالقليل:
واحتج أصحابنا على أبي حنيفة بحديث ابن عمر المذكور في الكتاب إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا
وفي رواية لم ينجس وهما صحيحان كما سبق: وبحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في وضوء النبي
صلى الله عليه وسلم من بئر بضاعة وكانت يلقى فيها لحوم الكلاب وخرق الحيض كما سبق بيانه في أول
كتاب الطهارة وسبق أنه حديث صحيح وهذه البئر كانت صغيرة كما سبق بيانها وهم لا يجيزون الوضوء
من مثلها: قال أصحاب أبي حنيفة إنما توضأ منها لأنها كانت جارية قال الواقدي كان يسقى منها
الزرع والبساتين وكذا قاله الطحاوي ونقله عن الواقدي قال أصحابنا هذا غلط ولم تكن بئر بضاعة
جارية بل كانت واقفة لان العلماء ضبطوا بئر بضاعة وعرفوها في كتب مكة والمدينة وان الماء لم يكن

(1) قال في النهاية الكرستون قفيزا والقفيز ثمانية مكاكيك والمكوك صاع ونصف فعلى هذا فهو اثنا عشر وسقا كل وسق ستون صاعا وهو بضم الكاف وتشديد الراء المهملة جمعه اكرار كقفل وأقفال اه‍
113

يجرى وقد قدمنا بيان هذا في أول الكتاب عند ذكر حديث بئر بضاعة وذكرنا ما رواه أبو داود
عن قتيبة وما وصفه هو: قال أصحابنا وما نقلوه عن الواقدي مردود لان الواقدي رحمه الله ضعيف عند
أهل الحديث وغيرهم لا يحتج برواياته المتصلة فكيف بما يرسله أو يقوله عن نفسه قالوا ولو صح انه كان
يسقى منها الزرع لكان معناه أنه يسقي منها بالدلو والناضح عملا بما نقله الاثبات في صفتها: قال
أصحابنا وعمدتنا حديث القلتين فان قالوا هو مضطرب لان الوليد بن كثير رواه تارة عن محمد بن عباد
ابن جعفر وتارة عن محمد بن جعفر بن الزبير وروى تارة عن عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب عن أبيه
وتارة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه وهذا اضطراب ثان: فالجواب ان هذا ليس اضطرابا بل
رواه محمد بن عباد ومحمد بن جعفر وهما ثقتان معروفان: ورواه أيضا عبد الله وعبيد الله ابنا عبد الله بن عمر
عن أبيهما وهما أيضا ثقتان وليس هذا من الاضطراب: وبهذا الجواب أجاب أصحابنا وجماعات من
حفاظ الحديث وقد جمع البيهقي طرقه وبين رواية المحمدين وعبد الله وعبيد الله وذكر طرق ذلك كله
وبينها أحسن بيان ثم قال فالحديث محفوظ عن عبد الله وعبيد الله: قال وكذا كان شيخنا أبو عبد الله
الحافظ الحاكم يقول الحديث محفوظ عنهما وكلاهما رواه عن أبيه قال وإلى هذا ذهب كثير من أهل
الرواية: وكان إسحاق بن راهويه يقول غلط أبو أسامة في عبد الله بن عبد الله إنما هو عبيد الله بن عبد الله
بالتصغير وأطنب البيهقي في تصحيح الحديث بدلائله فحصل انه غير مضطرب: قال الخطابي ويكفى
شاهدا على صحته ان نجوم أهل الحديث صححوه وقالوا به واعتمدوه في تحديث الماء وهم القدوة وعليهم
المعول في هذا الباب: فممن ذهب إليه الشافعي واحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ومحمد بن إسحاق بن خزيمة
وغيرهم (قلت) وقد سلم أبو جعفر الطحاوي إمام أصحاب أبي حنيفة في الحديث والذاب عنهم صحة هذا
الحديث لكنه دفعه واعتذر عنه بما ليس بدافع ولا عذر فقال هو حديث لكن تركناه لأنه
روى قلتين أو ثلاثا ولا نا لا نعلم قدر القلتين فأجاب أصحابنا بان الرواية الصحيحة المعروفة المشهورة
114

قلتين وراية الشك شاذة غريبة فهي متروكة فوجودها كعدمها: وأما قولهم لا نعلم قدر القلتين فالمراد
قلال هجر كما رواه ابن جريج وقلال هجر كانت معروفة عندهم مشهورة يدل عليه حديث أبي ذر في
الصحيحين ان النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم عن ليلة الاسراء فقال رفعت لي السدرة المنتهى فإذا ورقها مثل آذان
الفيلة وإذا نبقها مثل قلال هجر فعلم بهذا أن القلال معلومة عندهم مشهورة وكيف يظن أنه صلى الله عليه وسلم
يجدد لهم أو يمثل بما لا يعلمونه ولا يهتدون إليه: فان قالوا روى أربعين قلة وروى أربعين غربا
وهذا يخالف حديث القلتين: فالجواب أن هذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنما نقل أربعين قلة
عن عبد الله بن عمرو بن العاصر وأربعين غربا أي هريرة كما سبق: وحديث النبي صلى الله عليه وسلم
مقدم على غيره فهذا ما نعتمده في الجواب: وأجاب أصحابنا أيضا بأنه ليس مخالفا بل يحمل على أن
تلك الأربعين صغار تبلغ قلتين بقلال هجر فقط: فان قالوا يحمل على الجاري: فالجواب أن
الحديث عام يتناول الجاري والراكد فلا يصح تخصيصه بلا دليل ولان توقيته بقلتين يمنع حمله
على الجاري عندهم: فان قالوا لا يصح التمسك به لأنه متروك بالاجماع في المتغير بنجاسة: فالجواب
انه عام خص في بعضه فبقي الباقي على عمومه كما هو المختار في الأصول: فان قالوا قد روى ابن علية
هذا الحديث موقوفا على ابن عمر: فالجواب أنه صح موصولا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
من طرق الثقات فلا يضر تفرد واحد لم يحفظ توقفه: وقد روى البيهقي وغيره بالاسناد الصحيح عن
يحيى بن معين إمام هذا الشأن أنه سئل عن هذا الحديث فقال جيد الاسناد قيل له فان ابن علية
لم يرفعه قال يحيي وإن لم يحفظه ابن علية فالحديث جيد الاسناد فان قالوا إنما لم يحمل خبثا لضعفه عنه
وهذا يدل على نجاسته: فالجواب ما قال أصحابنا وأهل الحديث وغيرهم أن هذا جهل بمعاني الكلام
وبطرق الحديث أما جهل قائلة بطرق الحديث ففي رواية صحيحة لا بي داود إذا بلغ الماء قلتين
لم ينجس وقد سبق بيانها فإذا ثبتت هذه الرواية تعين حمل الأخرى عليها وأن معنى لم يحمل
خبثا لم ينجس: وقد قال العلماء أحسن تفسير غريب الحديث أن يفسر بما جاء في رواية أخرى لذلك
الحديث * وأما جهله بمعاني الكلام فبيانه من وجهين أحدهما انه صلى الله عليه وسلم جعل القلتين
115

حدا فلو كان كما زعم هذا القائل لكان التقييد بذلك باطلا فان ما دون القلتين يساوى
القلتين في هذا:
والثاني أن الحمل ضربان حمل جسم وحمل معنى فإذا قيل في حمل الجسم
فلان لا يحمل الخشبة مثلا فمعناه لا يطيق ذلك لثقله وإذا قيل في حمل المعنى فلان لا يحمل الضيم
فمعناه لا يقبله ولا يلتزمه ولا يصبر عليه قال الله تعالى (مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها) معناه
لم يقبلوا أحكامها ولم يلتزموها: والماء من هذا الضرب لا يتشكك في هذا من له أدني فهم ومعرفة
والله أعلم * واحتج أصحابنا من جهة الاعتبار والاستدلال بأشياء أحدها وهو العمدة على ما قاله
الشيخ أبو حامد أن الأصول مبنية على أن النجاسة إذا صعبت ازالتها وشق الاحتراز منها عفى عنها
كدم البراغيث وموضع النجو وسلس البول والاستحاضة وإذا لم يشق الاحتراز لم يعف كغير الدم
من النجاسات: ومعلوم ان قليل الماء لا يشق حفظه فكثيره يشق فعفى عما شق دون غيره وضبط
الشرع حد القلة بقلتين فتعين اعتماده ولا يجوز لمن بلغه الحديث العدول عنه: قال أصحابنا
ولهذا ينجس المائع وان كثر بملاقاة النجاسة لأنه لا مشقة في حفظه والعادة جارية به وذكروا
دلائل كثيرة وفيما ذكرناه كفاية: والجواب عما احتجوا به من حديث لا يبولن أحدكم في
الماء الدائم ثم يغتسل فيه من وجهين أحدهما أنه عام مخصوص بحديث القلتين: والثاني وهو
الا ظهر أنه نهى تنزيه فيكره كراهة شديدة ولا يحرم: وسبب الكراهة الاستقذار لا النجاسة
ولأنه يؤدى إلى كثرة البول وتغير الماء به: وأما قولهم إن زنجيا مات في زمزم فنزحها ابن عباس
فجوابه من ثلاثة أوجه أجاب بها الشافعي ثم الأصحاب أحسنها أن هذا الذي زعموه باطل
لا أصل له: قال الشافعي لقيت جماعة من شيوخ مكة فسألتهم عن هذا فقالوا ما سمعنا هذا:
وروى البيهقي وغيره عن سفيان بن عيينة إمام أهل مكة قال أنا بمكة منذ سبعين سنة لم أر أحدا
لا صغيرا ولا كبيرا يعرف حديث الزنجي الذي يقولونه وما سمعت أحدا يقول نزحت زمزم:
فهذا سفيان كبير أهل مكة قد لقى خلائق من أصحاب ابن عباس وسمعهم فكيف يتوهم بعد هذا
صحة هذه القضية التي من شأنها إذا وقعت أن تشيع في الناس لا سيما أهل مكة لا سيما أصحاب ابن
116

عباس وحاضروها وكيف يصل هذا إلى أهل الكوفة ويجهله أهل مكة: وقد روى البيهقي هذا
عن ابن عباس من أوجه كلها ضعيفة لا يلتفت إليها: الثاني لو صح لحمل على أن دمه غلب على الماء
فغيره: الثالث فعله استحبابا وتنظفا فان النفس تعافه والمشهور عن ابن عباس أن الماء لا يتنجس
الا بالتغير كما نقله ابن المنذر وغيره وقد سبق بيانه: وأما قياسهم على المائع فجوابه من أوجه
أحدها أنه قياس يخالف السنة فلا يلتفت إليه: (الثاني) أنه لا يشق حفظ المائع وان كثر بل
العادة حفظه وقد سبق بيان هذا: (الثالث) أن للماء قوة في دفع النجس بالاجماع وهو إذا
كان بحيث لا يتحرك طرفه الآخر بخلاف المائع: (الرابع) للماء قوة رفع الحدث فكذا له
دفع النجس بخلاف المائع: وأما قياسهم على الماء القليل فجوابه ظاهر مما ذكرناه: قال أصحابنا
اعتبروا حدا واعتبرنا حدا وحدنا ما حده رسول الله صلى الله عليه الذي أوجب الله تعالى طاعته
وحرم مخالفته: وحدهم مخالف حده صلى الله عليه وسلم مع أنه حد بما لا أصل له وهو أيضا حد لا
ضبط فيه فإنه يختلف بضيق موضع الماء وسعته وقد يضيق موضع الماء الكثير لعمقه
ويتسع موضع القليل لعدم عمقه فهذا ما يتعلق بالخلاف بيننا وبين أبي حنيفة رحمه الله * وأما
مالك وموافقوه فاحتج لهم بقوله صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شئ وهو حديث صحيح كما
سبق وبالقياس على القلتين وعلى ما إذا ورد الماء على النجاسة: واحتج أصحابنا عليهم بحديث
القلتين وقد وافقنا مالك رحمه الله على القول بدليل الخطاب وبحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها فإنه لا يدرى أين باتت
يده رواه البخاري ومسلم فنهاه صلى الله عليه وسلم عن غمس يده وعلله بخشية النجاسة ويعلم
بالضرورة أن النجاسة التي قد تكون على يده وتخفى عليه لا تغير الماء فلولا تنجيسه بحلول نجاسة
لم تغيره لم ينهه: وبحديث أبي هريرة أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا ولغ الكلب في
إناء أحدكم فليغسله سبعا رواه البخاري ومسلم: وفي رواية لمسلم " فليرقه ثم ليغسله سبع مرات "
فالامر بالإراقة والغسل دليل النجاسة: وبحديث أبي قتادة رضي الله عنه أنه كان يتوضأ فجاءت هرة
117

فأصغى لها الاناء فشربت فتعجب منه فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إنها ليست بنجس
انها من الطوافين عليكم أو الطوافات حديث صحيح رواه مالك في الموطأ وأبو داود والترمذي
وغيرهم قال الترمذي حديث حسن صحيح: وفيه دلالة ظاهرة أن النجاسة إذا وردت على الماء
نجسته: واحتجوا بغير ذلك من الأحاديث ومن حيث الاستدلال ما سبق مع أبي حنيفة في أن
النجاسة التي يشق الاحتراز منها يعفى عنها وما لا فلا وهذا يقتضى الفرق بين القليل والكثير
وضبط الشرع بقلتين: قال امام الحرمين ولأنه لا يشك منصف أن السلف لو رأوا رطل ماء
أصابه قطرات بول أو خمر لم يجيزوا الوضوء به: وأما الجواب عن الحديث الذي احتجوا به فهو أنه
محمول على قلتين فأكثر فإنه عام وخبرنا خاص فوجب تقديمه جمعا بين الحديثين: والجواب
عن قياسهم على ما إذا ورد الماء على النجاسة من وجهين أحدهما من حيث النص وهو أنه صلى الله عليه وسلم
فرق بينهما وذلك في حديثين أحدهما حديث إذا استيقظ أحدكم فمنع صلى الله عليه وسلم
من ايراد اليد على الماء وأمر بايراده عليها ففرق بينهما: والثاني أنه صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة
ما ولغ فيه الكلب لورود النجاسة وأمر بايراد الماء على الاناء: فان قالوا الكلب طاهر عندنا
قلنا سنوضح الدلائل على نجاسته في بابه إن شاء الله تعالى: والجواب الثاني من حيث المعنى وهو انا
إذا نجسنا دون القلتين بورود النجاسة لم يشق لامكان الاحتراز منها ولو نجسنا دون القلتين
بوروده على نجاسة لشق وأدى إلى أن لا يطهر شئ حتى يغمس في قلتين وفي ذلك أشد الحرج
فسقط والله أعلم *
واعلم أنه حصل في هذه المسألة جملة من الأحاديث ذكرناها وبجميعها يقول الشافعي رحمه
الله على حسب ما سبق ولم يرد منها شيئا وهذه عادته رحمه الله في تمسكه بالسنة وجمعه بين
أطرافها ورده بعضها إلى بعض على أحسن الوجوه وستري إن شاء الله تعالى في هذا الكتاب
في نظائر هذه من مسائل الخلاف وغيرها من ذلك ما تقربه عينك وتزداد اعتقادا في الشافعي
ومذهبه فليس الخبر الجملي كالعيان التفصيلي وبالله التوفيق
(فرع) نقل أصحابنا عن داود بن علي
118

الظاهري الأصبهاني رحمه الله مذهبا عجيبا فقالوا إنفرد داود بأن قال لو بال رجل في ماء راكد لم يجز
أن يتوضأ هو منه لقوله صلى الله عليه وسلم لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه وهو حديث
صحيح سبق بيانه قال ويجوز لغيره لأنه ليس بنجس عنده ولو بال في إناء ثم صبه في ماء أو بال
في شط نهر ثم جرى البول إلى النهر قال يجوز أن يتوضأ هو منه لأنه ما بال فيه بل في غيره قال ولو
تغوط في ماء جار جاز ان يتوضأ منه لأنه تغوط ولم يبل. وهذا مذهب عجيب وفي غاية الفساد فهو
أشنع ما نقل عنه ان صح عنه رحمه الله. وفساده مغن عن الاحتجاج عليه ولهذا أعرض جماعة
من أصحابنا المعتنين بذكر الخلاف عن الرد عليه بعد حكايتهم مذهبه وقالوا فساده مغن عن افساده
وقد خرق الاجماع في قوله في الغائط إذ لم يفرق أحد بينه وبين البول ثم فرقه بين البول
في نفس الماء والبول في إناء ثم يصب في الماء من أعجب الأشياء: ومن أخصر ما يرد به عليه
أن النبي صلى الله عليه وسلم نبه بالبول على ما في معناه من التغوط وبول غيره كما ثبت انه
صلى الله عليه وسلم قال في الفأرة تموت في السمن إن كان جامدا فألقوها وما حولها. وأجمعوا
أن السنور كالفأرة في ذلك وغير السمن من الدهن كالسمن وفي الصحيح إذا ولغ الكلب
في إناء أحدكم فلغسله فلو أمر غيره فغسله إن قال داود لا يطهر لكونه ما غسله هو خرق
الا جماع وأن قال يطهر فقد نظر إلى المعنى وناقض قوله والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(والقلتان خمسمائة رطل بالبغدادي لأنه روى في الخبر بقلال هجر قال ابن جريج رأيت قلال هجر
فرأيت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشيئا فجعل الشافعي رحمه الله الشئ نصفا احتياطا وقرب
الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل فصار الجميع خمسمائة رطل وهل ذلك تحديد أو تقريب فيه
وجهان أحدهما انه تقريب فان نقص منه رطل أو رطلان لم يؤثر لان الشئ يستعمل فيما دون النصف
في العادة والثاني تحديد فلو نقص ما نقص نجس لأنه لما وجب أن يجعل الشئ نصفا احتياطا صار
ذلك فرضا) *
119

(الشرح) ذكر أصحابنا الخراسانيون في القلتين ثلاثة أوجه الصحيح وبه قطع العراقيون
وجماعات غيرهم انهما خمسمائة رطل بغدادية والثاني ستمائة رطل حكاه امام الحرمين وغيره عن أبي
عبد الله الزبيري صاحب الكافي قال الامام وهو اختيار القفال قال صاحب الإبانة وهو الأصح
وعليه الفتوى وكذا قال الغزالي هو الأقصد وهذا الذي اختاراه ليس بشئ بل شاذ مردود
واستدل له الغزالي بأبطل منه وأكثر فسادا فزعم أن القلة مأخوذة من استقلال البعير وذكر كلاما
طويلا لا حاصل له ولا أصل: والوجه الثالث انهما ألف رطل وهو محكي عن الشيخ الصالح أبي زيد محمد
بن أحمد بن عبد الله بن محمد المروزي وهو شيخ القفال المروزي * قال صاحب الحاوي اعلم أن
الشافعي رحمه الله لم ير قلال هجر ولا أهل عصره لنفادها فاحتاج إلى بيانها بما هو معروف عندهم
ومشاهد لهم فقدرها بقرب الحجاز لأنها متماثلة مشهورة: وروى عن ابن جريج أنه قال رأيت
قلال هجر والقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا فقال الشافعي الاحتياط أن تكون القلتان خمس
قرب وهذا ليس تقليدا لابن جريج بل قبول اخباره قال ولم يتعرض الشافعي لتقدير القرب
بالأرطال لأنه استغنى بمعرفة أهل عصره في بلده القرب المشهورة بينهم كما اكتفى النبي صلى الله عليه
وسلم بالقلال المشهورة بينهم عن تقديرها قال ثم إن أصحابنا بعد الشافعي بعدوا عن الحجاز وغابت
عنهم تلك القرب وجهل العوام مقدارها فاضطروا إلى تقديرها بالأرطال فاختبروا قرب الحجاز
ثم اتفق رأيهم على تقدير كل قربة بمائة رطل بغدادية قال وكان أول من قدر ذلك من أصحابنا
إبراهيم بن جابر وأبو عبيد بن حربوبة ثم تابعهما سائر أصحابنا فصارت القلتان خمسمائة رطل عند جميع
أصحابنا هذا كلام صاحب الحاوي. وهذا الذي ذكره من أن التقدير بالأرطال ليس هو للشافعي
بل لأصحابه هو المشهور الذي صرح به الجمهور. وقال الشيخ أبو حامد في تعليقه الذي قاله الشافعي
في جميع كتبه خمس قرب بقرب الحجاز قال ورأيت أبا إسحاق يحكي عن الشافعي أنه قال خمس
قرب وذلك خمسمائة رطل وكذا نقل البندنيجي عن الشافعي انها خمسمائة رطل. وقال المحاملي
120

حكي أبو إسحاق أن الشافعي قال في بعض كتبه انه شاهد القرب وأن القربة تسع مائة رطل
وقال امام الحرمين ظاهر كلام الشافعي أن القربة تسع مائة رطل هذا حد القلة في الشرع: وأما
في اللغة فقال الأزهري هي شبه جب يسع جرارا سميت قلة لان الرجل القوى يقلها أي يحملها:
وكل شئ حملته فقد أقللته: قال والقلال مختلفة بالقرى العربية: وقلال هجر من أكبرها: وقول
المصنف روى في الخبر بقلال هجر يعني الخبر المذكور إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم يحمل
خبثا هكذا رواه بهذه الزيادة الشافعي في الأم ومختصر المزني وكذا رواه البيهقي في السنن
الكبير: وهجر هذه بفتح الهاء والجيم وهي قرية بقرب المدينة وليست هجر البحرين: وقد
أوضحت حال هجر هذه وتلك في تهذيب الأسماء واللغات: وقال جماعة من أصحابنا كان ابتداء عمل
هذه القلال بهجر فنسبت إليها ثم عملت في المدينة فبقيت النسبة على ما كانت كما يقال ثياب مروزية
وإن كانت تعمل ببغداد: قال الخطابي قلال هجر مشهورة الصنعة معلومة المقدار لا تختلف كما
لا تختلف المكاييل والصيعان المنسوبة إلى البلدان: قال وقلال هجر أكبرها وأشهرها لان الحد
لا يقع بالمجهول: وقال الشيخ أبو حامد في تعليقه قال أبو إسحاق إبراهيم بن جابر صاحب الخلاف
سألت قوما من ثقات هجر فذكروا أن القلال بها لا تختلف: وقالوا قايسنا قلتين فوجدناهما خمسمائة
رطل: وأما قوله فرأيت القلة تسع قربتين أو قربتين وشيئا فهو شك من ابن جريج في قدر كل قلة
هذا هو الصواب: وأما قول الشيخ أبي عمرو بن الصلاح رحمه الله يحتمل قوله أو قربتين وشيئا التقسيم
ويحتمل الشك فليس كذلك لأنه يقتضي كون القلة مجهولة القدر لاختلافها وحينئذ لا يحصل تقدير
فالصواب انه للشك: وقد صرح به أصحابنا وغيرهم ممن صرح به صاحب الحاوي وامام الحرمين
والغزالي وخلائق وهو موافق لما سبق عن الخطابي وعن نقل الشيخ أبي حامد عن ابن جابر أن هذه
القلال متساوية وكذا اتفق عليه أصحابنا وجعلوا هذا جوابا عن اعتراض أصحاب أبي حنيفة:
121

وقولهم القلال تختلف فقالوا بل هي متفقة كما سبق: وبالضرورة نقطع بان النبي صلى الله عليه وسلم
لا يضبط بمبهم مجهول لا يحصل به ضبط بل شك ونزاع والله أعلم *
وأما الرطل فيقال بكسر الراء
وفتحها لغتان الكسر أفصح: قال الأزهري ويكون الرطل كيلا ووزنا: واختلفوا في رطل بغداد:
فقيل مائة وثلاثون درهما بدراهم الاسلام: وقيل مائة وثمانية وعشرون: وقيل مائة وثمانية وعشرون
درهما وأربعة أسباع درهم: وهي تسعون مثقالا وسيأتي بسط هذا إن شاء الله تعالى في زكاة
النبات عند ذكر الأوسق: ومختصره ما ذكرناه: وفي بغداد أربع لغات: إحداها بدالين مهملتين
والثانية باهمال الأولى واعجام الثانية: والثالثة بغدان بالنون والرابعة مغدان أولها ميم: ذكرهن
أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح وابن الأنباري وآخرون: وحكوهما عن أبي عبيدة وأبي زيد
الأنصاري اللغوي وهو من تلامذة الشافعي: قال ابن الأنباري وتذكر تؤنث فيقال هذا بغداد
وهذه بغداد: قالوا كلهم ومعناها بالعربية عطية الصنم: وقيل بستان الضم: قال الخطيب
البغدادي وأبو سعد السمعاني الفقهاء يكرهون تسميتها بغداد من أجل هذا: وسماها أبو جعفر
المنصور مدينة السلام لان دجلة كان يقال لها وادي السلام: ويقال لها الزوراء أيضا: وقد ذكرتها في
تهذيب الأسماء أبسط من هذا: ودعت الحاجة إلى هذه الا حرف هنا لتكررها في الكتاب وسائر
كتب العلم والله أعلم: وأما قوله هل ذلك تحديد أو تقريب فيه وجهان مشهوران واختلفوا
في أصحهما: فقال امام الحرمين قال الأصحاب الأصح التحديد: وصححه أيضا القاضي أبو الطيب
والروياني وابن كج وهو قول أبي إسحاق المروزي وصحح أكثر الأصحاب انه تقريب: ومنهم
الغزالي والرافعي: وهو قول ابن سريج: قال المتولي هو قول عامة الأصحاب غير أبي إسحاق
ودليل الوجهين في الكتاب: والصحيح المختار التقريب: فان قلنا تحديد. فقال أصحابنا لو نقص
122

ما نقص نجس الماء بملاقات النجاسة: وإن قلنا تقريب لم يضر النقص القليل واختلفت عباراتهم فيه
ويجمعها أوجه أحدها لا يضر نقص رطلين ويضر ما زاد. وهذا ظاهر عبارة المصنف والمحاملي
في التجريد وآخرين ونقله الغزالي في الوسيط عن أكثر الأصحاب. والثاني لا يضر نقص ثلاثة
أرطال. ويضر ما زاد حكاه الغزالي وغيره. وقطع به البغوي والثالث لا يضر نقص ثلاثة وما قاربها:
قاله المحاملي في المجموع وتبعه عليه صاحب البيان وآخرون: والرابع لا يضر نقص مائة رطل
وهو القدر الذي شك فيه ابن جريج. وهذا قول صاحب التقريب بعيد حكاه عنه امام الحرمين والمتولي
وقطع به المتولي قال الامام وهذا الذي قاله صاحب التقريب بعيد جدا وليس بيانا للتقريب وكأنه
رد القلتين إلى أربعمائة رطل وطرح المشكوك فيه. قال الامام ولست أعد كلامه هذا من المذهب
وإنما هو خطأ ظاهر. والخامس اختاره امام الحرمين والغزالي وجزم به الرافعي انه لا يضر نقص قدر
لا يظهر بنقصه تفاوت في التغير بمقدار مغير معين من زعفران أو نحوه فان قيل التقدير بالأرطال
رجوع إلى التحديد كما أشار إليه الغزالي فالجواب أن هذا وإن كان تحديدا فهو غير التحديد الذي
قاله القائل بالتحديد ونفاه القائل بالتقريب. لان ذلك التحديد المختلف فيه هو التحديد بخمسمائة
رطل وهذا غيره والله أعلم:
وأما قول المصنف في تعليله لان الشئ يستعمل فيما دون النصف في العادة فمعناه
ما قاله الأصحاب ان العرب تقول فيما إذا زاد على الواحد دون النصف واحد وشئ فإن كان
الزائد نصفا قالوا واحد ونصف فان زاد على النصف قالوا اثنان الا شيئا فيستعملون الشئ
في الموضعين في دون النصف: وأما قوله لما وجب ان يجعل الشئ نصفا احتياطا
وجب استيفاؤه كما أنه لما وجب غسل شئ من الرأس احتياطا لغسل الوجه صار فرضا فكذا قاله
أصحابنا وذكروا مثله وجوب إمساك لحظة من الليل على الصائم لتيقن استيفاء النهار: والفرق عند
123

القائل بالتقريب أن استيفاء الوجه محقق وجوبه ولا يتحقق الا بجزء من الرأس وما لا يتم
الواجب الا به واجب وهنا لم يتيقن ان الشئ نصف ليتعين استيفاؤه: وجعلناه
نصفا احتياطا. والاحتياط لا يجب
(فرع) ابن جريج المذكور بجيمين الأولي مضمومة وهو
منسوب إلى جده واسمه عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج القرشي الأموي مولاهم المكي أبو
الوليد. ويقال أبو خالد من كبار تابع التابعين ومن جلة العلماء المتقدمين وفضلاء الفقهاء والمحدثين
وهو أحد الفقهاء الشافعية في سلسلة الفقه وسلسلتي متصلة به بحمد الله وقد أوضحتها في أول
تهذيب الأسماء. فان الشافعي رحمه الله تفقه على أبي خالد مسلم بن خالد بن مسلم الزنجي امام
أهل مكة ومفتيهم. وتفقه الزنجي على ابن جريج وابن جريج على أبي محمد عطاء أبي رباح
وعطاء على ابن عباس وابن عباس على النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى جماعات من الصحابة عن
النبي صلى الله عليه وسلم: وقد أوضحت هذا كله في التهذيب. قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه
أول من صنف الكتب ابن جريج وابن أبي عروبة: وقال عطاء بن أبي رباح ابن جريج سيد
أهل الحجاز. توفى سنة خمسين ومائة في قول الجمهور. وقيل إحدى وخمسين. وقيل تسع وأربعين
وقيل ستين. وقد جاوز مائة سنة رحمه الله وقد بسطت حاله وفضله في التهذيب (فرع) قال القاضي حسين
في تعليقه قدر القلتين في أرض مستوية ذراع وربع في ذراع وربع طولا وعرضا في عمق ذراع
وربع. وهذا حسن تمس الحاجة إلى معرفته (فرع) لو وقع في الماء نجاسة وشك هل هو قلتان أم لا
فقد قطع أبو القاسم عبد الواحد بن الحسين الصيمري وصاحبه الماوردي وصاحب البيان بأنه
يحكم بنجاسته. قالوا لان الأصل فيه القلة: وقال امام الحرمين والغزالي فيه احتمالان أظهرهما عندهما
هذا: والثاني انه طاهر: قلت وهذا الثاني هو الصواب: ولا يصح غيره لان أصل الماء على الطهارة
124

وشككنا في المنجس ولا يلزم من حصول النجاسة التنجيس: وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث
الصحيح الماء طهور لا ينجسه شئ فلا يخرج من هذا العموم إلا ما تحققناه. قال الماوردي والروياني
وغيرهما لو رأى كلبا وضع رأسه في ماء هو قلتان فقط وشك هل شرب منه فنقص عن قلتين أم لا فهو
طاهر بلا خلاف عملا بالأصل. والله أعلم *
(فرع) أما غير الماء من المائعات وغيرها من الرطبات فينجس بملاقاة النجاسة وان بلغت قلالا
وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا ولا أعلم فيه خلافا لاحد من العلماء وسبق الفرق بينه وبين الماء في
الاستدلال على أبي حنيفة رحمه الله وحاصله أنه لا يشق حفظ المائع من النجاسة وإن كثر بخلاف كثير
الماء (فرع) قد سبق وجهان في أن تقدير القلتين بخمسمائة رطل هل هو تحديد أو تقريب: ولهما
نظائر منها سن الحيض تسع سنين والمسافة بين الصفين ثلاثمائة ذراع: ومسافة القصر ثمانية وأربعون
ميلا: ونصاب المعشرات الف وستمائة رطل بغدادية: ففي كل هذه المسائل وجهان أصحهما
تقريب: والثاني تحديد: وستأتي مبسوطة في مواضعها إن شاء الله تعالى: واعلم أن المقدرات
ثلاثة اضرب ضرب تقديره للتحديد بلا خلاف: وضرب للتقريب بلا خلاف. وضرب فيه
خلاف. فالمختلف فيه هذه الصور السابقة وأما المتفق على أنه تقريب فسن الرقيق المسلم فيه بأن
أسلم في عبد سنه عشر سنين فيستحق ابن عشر تقريبا: وكذا لو وكله في سن ابن عشر سنين
لأنه يتعذر تحصيل ابن عشر بالأوصاف المشروطة. حتى لو شرط الا يزيد على عشر ولا ينقص
لا يصح العقد ذكره البغوي وغيره: وأما المتفق على أنه تحديد فكثير جدا فمنه تقدير مدة مسح الخف
بيوم وليلة حضرا وثلاثة سفرا وأحجار الاستنجاء بثلاث: وغسل ولوغ الكلب بسبع وانعقاد
الجمعة بأربعين. ونصب زكاة النعم والنقد والعروض والمعشرات. وتقدير الأسنان المأخوذة في

(1) فيه خلاف لبعض الحنفية ولبعض السلف ولم يتحرر لي وقد أشار المصنف إلى اختلاف الحنفية في مواضع أخرى من هذا المتاب كذا بهامش الأذرعي
125

الزكاة كبنت مخاض بسنة ونظائرها وسن الأضحية. والأوسق الخمسة في العرايا إذا جوزناها
في خمسة. والآجال في حول الزكاة والجزية دية الخطأ تغريب الزاني وانتظار المولى والعنين
ومدة الرضاع ومقادير الحدود كحد الزنا والقذف في الحر والعبد ونصاب السرقة بربع دينار
وغير ذلك فكل هذا تحديد: وسببه ان هذه المقدرات منصوصة ولتقديرها حكمة. فلا يسوغ
مخالفتها: وأما المختلف فيه فسببه أن تقديره بالاجتهاد إذ لم يجئ نص صحيح في ذلك وما قارب
المقدر فهو في المعنى مثله. والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وإن كانت النجاسة مما لا يدركها الطرف ففيه ثلاثة طرق من أصحابنا من قال لا حكم لها لأنها
لا يمكن الاحتراز منها فهي كغبار السرجين ومنهم من قال حكمها حكم سائر النجاسات لأنها
نجاسة متيقنة فهي كالنجاسة التي يدركها الطرف ومنهم من قال فيه قولان أحدهما لا حكم لها والثاني
لها حكم وجههما ما ذكرنا) *
(الشرح) قوله لا يدركها الطرف معناه لا تشاهد بالعين لقلتها بحيث لو كانت مخالفة للون
ثوب ونحوه ووقعت عليه لم تر لقلتها وذلك كذبابة تقع على نجاسة ثم تقع في الماء قال المتولي وغيره
وكالبول يترشش إليه ونحو ذلك: وقوله السرجين هي لفظة عجمية ويقال سرقين أيضا بالقاف
وتكسر السين فيهما وتفتح فهي أربع لغات موضحات في تهذيب الأسماء * أما حكم المسألة
فعادة أصحابنا يضمون إلى هذه المسألة مسألة الثوب إذا أصابه نجاسة لا يدركها الطرف.
والمصنف ذكر هذه الثانية في باب طهارة البدن. وانا إذ كرهما جميعا هنا على عادة
الأصحاب ووفاء بشرط هذا الكتاب في تقديم المسائل في أول مواطنها: قال أصحابنا في الماء
والثوب سبع طرق: أحدها يعفى فيهما: والثاني ينجسان قال الماوردي هذه طريقة ابن سريج
والثالث فيهما قولان: قال الماوردي وهذه طريقة أبي إسحاق المروزي: والرابع ينجس الماء
لا الثوب لان الثوب أخف حكما في النجاسة ولهذا يعفى عن دم البراغيث وقليل سائر الدماء
والقيح في الثوب دون الماء: والخامس عكسه لان للماء قوة دفع النجاسة عن غيره فعن نفسه

(1) وفرقوا على الرابع بفرقتين أخريين أحدهما ان النجاسة تجف بطيران الذبابة فلا ينجس الثوب إلا أن يكون رطبا والثاني يمكن تغطية الاناء بخلاف الثوب
126

أولى بخلاف الثوب: والسادس ينجس الثوب وفي الماء قولان: والسابع ينجس الماء وفي
الثوب قولان: قال الماوردي وهذه طريقة ابن أبي هريرة واختلف المصنفون في الأصح من
هذه الطرق: فقال الماوردي الأصح وهو طريقة المتقدمين لا ينجس الماء وينجس الثوب كما
هو ظاهر نص الشافعي ووافقه على تصحيحه البندنيجي: وعكسه القاضي أبو الطيب فقال الصحيح
ينجس الماء لا الثوب إلا أن يكون رطبا: وكذا قال الامام الصحيح ينجس الماء وفى الثوب
وجهان وهي طريقة الصيدلاني: وقطع البغوي بنجاسة الماء وهي طريقة القفال وأصحابه.
والصحيح المختار من هذا كله لا ينجس الماء ولا الثوب وبهذا قطع المحاملي في المقنع ونقله
في كتابيه عن أبي الطيب بن سلمة وصححه الغزالي وصاحب العدة وغيرهما لتعذر الاحتراز
وحصول الحرج وقد قال الله تعالى (وما جعل عليكم في الدين من حرج) والله أعلم: وأما بيان
الطرق والأقوال والأوجه فقد سبق في أواخر مقدمة الكتاب وبالله التوفيق قال المصنف رحمه الله *
(وإن كانت النجاسة ميتة لا نفس لها سائلة كالذباب والزنبور ما أشبههما ففيه قولان. أحدهما
أنها كغيرها من الميتات لأنه حيوان لا يؤكل بعد موته لا لحرمته فهو كالحيوان الذي له نفس
سائلة. والثاني أنه لا يفسد الماء لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا وقع الذباب
في إناء أحدكم فامقلوه فان في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء وقد يكون الطعام حارا فيموت
بالمقل فيه فلو كان يفسده لما امر بمقله ليكون شفاء لنا إذا أكلناه فان كثر من ذلك ما غير
الماء ففيه وجهان. أحدهما أنه ينجس لأنه ماء تغير بالنجاسة. والثاني لا ينجس لان ما لا
ينجس الماء إذا وقع فيه وهو دون القلتين لم ينجسه وان تغير به كالسمك والجراد)
(الشرح) هذا الحديث صحيح رواه البخاري بمعناه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وفيه
فليغمسه كله ثم لينزعه ورواه أبو داود في سننه وزاد وأنه يتقى بجناحه الذي فيه الداء فليغمسه
كله ورواه البيهقي من رواية أبي سعيد الخدري أيضا: ومعنى امقلوه اغمسوه كما في رواية البخاري
127

قال الخطابي فيه من الفقه أن أجسام الحيوان طاهرة الا ما دلت عليه السنة من الكلب وما الحق
به: قال وقد تكلم على هذا الحديث بعض من لا خلاق له: وقال كيف يجتمع الداء والشفاء في
جناحي الذبابة وكيف تعلم ذلك حتى تقدم جناح الداء: قال الخطابي وهذا سؤال جاهل أو متجاهل:
وأن الذي يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيه الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة: وهي
أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت. ثم يرى الله عز وجل قد ألف بينها وجعلها سببا لبقاء الحيوان
وصلاحه لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والدواء في جزئين من حيوان واحد. وان الهم النحل
اتخاذ ثقب عجيب الصنعة وتعسل فيه. والهم النملة كسب قوتها وادخاره لأوان حاجتها إليه هو الذي
خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحا وتؤخر آخر لما أراد من الابتلاء الذي هو مدرجة
التعبد والامتحان الذي هو مضمار التكليف. وفي كل شئ حكمة وعلم. (وما يذكر الا أولو الألباب)
والله أعلم *
وقوله ما لا نفس لها سائلة يعنى ما ليس لها دم يسيل والنفس الدم: ويجوز في اعراب سائلة
ثلاثة أوجه الفتح بلا تنوين والنصب والرفع مع التنوين فيهما والزنبور بضم الزاي. قوله لأنه
حيوان لا يؤكل بعد موته فيه احتراز من السمك والجراد. وقوله لا لحرمته احتراز من الآدمي
فإنه لا ينجس الماء بميتته على الصحيح وهو تفريع على القول بطهارة ميتته وسنوضحه إن شاء الله
تعالى. قال أصحابنا والميتة التي لا نفس لها سائلة هي كالذباب والزنبور والنحل والنمل
والخنفساء والبق والبعوض والصراصر و العقارب وبنات وردان والقمل والبراغيث وأشباهها:
وممن صرح بالقمل و البراغيث الإمام الشافعي في الأم والشيخ أبو حامد وآخرون. وأما
الحية فحكي الماوردي فيها وجهين أحدهما وهو قول أبي القاسم الداركي وصاحبه الشيخ أبي حامد
128

الأسفرايني لها نفس سائلة: والثاني وهو قول أبي الفياض البصري وصاحبه أبي القاسم الصيمري
ليس لها نفس سائلة والأول أصح: وأما الوزغ فقطع الجمهور بأنه لا نفس له سائلة: ممن صرح بذلك
الشيخ أبو حامد في تعليقه والبندنيجي و القاضي حسين وصاحب الشامل وغيرهم ونقل الماوردي فيه
وجهين كالحية وقطع الشيخ نصر المقدسي بان له نفسا سائلة قال وقد ذكره أبو عبيد في كتاب الطهور
وانه قتل فوجد في رأسه دم: وكذا رأيت أنا في كتاب الطهور لأبي عبيد ان الوزغ والحية لهما نفس
سائلة ودم في رؤسهما: إذا ثبت ما ذكرناه فإذا مات ما لا نفس لها سائلة في دون القلتين من الماء فهل ينجس
فيه قولان مشهوران في كتب المذهب ونص عليهما الشافعي في الأم والمختصر وهذه أول مسألة ذكر في
الأم فيها قولين (1): قال إمام الحرمين وذكر صاحب التقريب قولا ثالثا مخرجا وهو أن ما يعم لا ينجسه
كالذباب والبعوض ونحوهما وما لا يعم كالخنافس والعقارب والجعلان ينجسه نظرا إلى تعذر الاحتراز
وعدمه وهذا القول غريب والمشهور اطلاق قولين والصحيح منهما انه لا ينجس الماء هكذا صححه
الجمهور وقطع به أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي في كتابه الكفاية وصاحبه أبو الفتح نصر المقدسي
في كتابه الكافي وغيرهما وشذ المحاملي في المقنع والروياني في البحر (2) ورجحا النجاسة وهذا ليس بشئ
والصواب الطهارة وهو قول جمهور العلماء بل نسب جماعة الشافعي إلى خرق الاجماع في قوله الآخر
بالنجاسة قال ابن المنذر في الاشراف قال عوام أهل العلم لا يفسد الماء بموت الذباب والخنفساء ونحوهما قال
ولا أعلم فيه خلافا إلا أحد قولي الشافعي وكذا قال ابن المنذر أيضا في كتاب الاجماع اجمعوا أن الماء لا ينجس
بذلك إلا أحد قولي الشافعي وقد نقل الخطابي وغيره عن يحيى بن أبي كثير أنه قال ينجس الماء بموت
العقرب فيه ونقله بعض أصحابنا عن محمد بن المنكدر وهذان إمامان من التابعين (3) لم يخرق الشافعي الاجماع:
فإذا قلنا بالصحيح انه لا ينجس الماء فلو كثر هذا الحيوان فغير الماء فهل ينجسه فيه الوجهان اللذان ذكرهما
المصنف قال الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي في المجموع وصاحب العدة وغيرهم هذان الوجهان حكاهما

(1) قال في الأم بعد حكاية القولين وأحب إلى أن يؤكل فوقع في ماء فلم يمت حتى اخرج منه لم ينجسه وان مات فيه نجسه هذا لفظه بحروفه وهو ظاهر في ترجيح القول بالتنجس
(2) هذا وهم على صاحب البحر والذي قاله في البحر ان ظاهر المذهب التنجيس وانه الجديد وان القديم انه لا ينجس وهو اختيار المزني وكافة
العلماء قال وهو الأصح عندي هذا لفظه وصححه في الحلية وكأن المصنف نظر إلى قوله والماء ينجسه قاله في الجديد وهو ظاهر المذهب لم ينظر في صدر كلامه من هامش الأذرعي
(3) ونقله القاضي ابن كج في كتابه التجريد عن ابن سيرين وغيره ونقله أبو القاسم الصيرمي في شرحه لكفايته عن ابن المبارك اه‍ من نسخة الأذرعي
129

أبو حفص عمر بن أبي العباس بن سريج (1) عن أبيه والأصح منهما انه ينجسه وصححه الشاشي والرافعي
وآخرون وقطع به الدارمي في الاستذكار وابن كج في التجريد لأنه ما تغير بالنجاسة: والوجهان جاريان
سواء كان الماء المتغير به قليلا أو كثيرا: وممن صرح بجريانهما فيما دون القلتين القاضي أبو الطيب في تعليقه
وأشار إلى جريانهما أيضا الشيخ أبو حامد ويجريان في الطعام المتغير بهذا الحيوان ذكره الشيخ أبو حامد
قال صاحب البيان فان قلنا لا ينجس الماء المتغير به كان طاهرا غير طهور: قال وكذا ما تغير بسمك
أو جراد يكون طاهرا غير مطهر وحكاه أيضا عن الصيدلاني: وقال امام الحرمين يكون على هذا
الوجه كالمتغير بورق الشجر يعني فيكون فيه الخلاف السابق في الورق والصواب (2) ما ذكره الصيدلاني
وصاحب البيان لأنه ليس بأقل من المتغير بزعفران ونحوه والله أعلم:
(فرع) هذان القولان السابقان إنما هما في نجاسة الماء بموت هذا الحيوان وأما الحيوان
نفسه ففيه طريقان أحدهما أن في نجاسته القولين ان قلنا نجس نجس الماء وإلا فلا وهذا قول
القفال والثاني القطع بنجاسة الحيوان وبهذا قطع العراقيون وغيرهم وهو الصحيح لأنه من جملة
الميتات * ومذهب مالك وأبي حنيفة أنه لا ينجس بالموت. دليلنا أنه ميتة وإنما لا ينجس الماء
لتعذر الاحتراز منه (فرع) القولان بنجاسة الماء بموته يجريان في جميع المائعات والأطعمة

(1) قال ابن سريج في كتابه الودائع فاما ماله نفس سائلة مثل الذباب والبق وما أشبه ذلك إذا مات في الماء لم يفسد ولم ينجس وكذلك الشعر المنتوف واما ما
يعيش في الماء من الضفادع والسرطان والدود والسمك وما أشبه ذلك إذا مات في الماء لم يفسده الا ان يتغير الماء بموته فيه أو بالقائه فيه فيفسد افساد نجاسته ولكن لا افساد إضافة اه‍ من نسخة الأذرعي
(2) هذا التصويب فيه نظر بل الصواب ما قاله الامام لأنه رحمه الله إنما قاله تفريعا على أن هذا الحيوان لا ينجس بالموت وإذا كان كذلك فاعتباره
بورق الشجر أصوب بجامع عموم البلوى ومشقة الاحتراز بخلاف الزعفران وانه مجاور لا مخالط اه‍ من هامش الأذرعي
130

صرح به أصحابنا واتفقوا عليه والصحيح في الجميع الطهارة للحديث وعموم البلوى وعسر الاحتراز:
(فرع) هذا الخلاف السابق إنما هو في نجاسة الماء وسائر المائعات وغيرها بموت حيوان أجنبي
عنه: أما الدود المتولد في الأطعمة والماء كدود التين والتفاح والباقلاء والجبن والخل وغيرها فلا
ينجس ما مات فيه بلا خلاف هكذا صرح به الأصحاب في كل الطرق قال الرافعي وغيره
وينجس هذا الحيوان على المذهب ولا ينجس على قول (1) عند القفال: وأما ما شذ به الدار مى
في الاستذكار فقال قال بعض الأصحاب في نجاسة المائع بهذا الحيوان خلاف فغلط لا يعد من
المذهب وإنما نبهت عليه لئلا يغتر به فالصواب ما اتفق عليه الأصحاب وهو الجزم بطهارته
قال امام الحرمين فان انعصر هذا الحيوان فيما يجري من تصرف وعصر أو اختلط من غير
قصد فلا مبالاة به وان جمع جامع منه شيئا وتعمد أكله منفردا فوجهان أصحهما تحريمه لأنه
ميتة والثاني يحل لان دود الخل والجبن كجزء منه طبعا وطعما: قال الامام فان حرمناه عاد الخلاف
في نجاسته يعني خلاف القفال والجمهور: وذكر غير الامام في جواز أكل هذا الحيوان مع
ما مات فيه وجهين قال الغزالي في الوجيز لا يحرم أكله مع الطعام على الأصح وجمع الرافعي
هذا الخلاف فقال في جواز أكله ثلاثة أوجه أصحها يجوز أكله مع ما تولد منه لا منفردا
والثاني يجوز مطلقا والثالث يحرم مطلقا: وأما الذباب وسائر ما لا نفس لها سائلة وليس متولدا
مما مات فيه فلا يحل أكله بالاتفاق وان قلنا إنه طاهر عند القفال لأنه ميتة ومستقذر: قال
أصحابنا فان أخرج هذا الحيوان مما مات فيه وألقى في مائع غيره أورد إليه فهل ينجسه فيه القولان
في الحيوان الا جنبي وهذا متفق عليه في الطريقتين *
(فرع) ما يعيش في البحر مما له نفس سائلة إن كان مأكولا فميتته طاهرة ولا شك أنه
لا ينجس الماء وما لا يؤكل كالضفدع وكذا غيره إذا قلنا لا يؤكل فإذا مات في ماء قليل
أو مائع قليل أو كثير نجسه صرح به أصحابنا في طرقهم وقالوا لا خلاف فيه الا صاحب الحاوي
فإنه قال في نجاسته به قولان: ولعله أراد أن في نجاسته به خلافا مبنيا على حل أكله وان أراد
مع تحريم أكله فشاذ مردود: وذكر الروياني في الضفدع وجهين أحدهما لا نفس لها سائلة
فيكون في نجاسة الماء بها قولان والثاني لها نفس سائلة فتنجسه قطعا وهذا الثاني هو المشهور

ينبغي حذف قول لان هذا الحيوان لا ينجس ما مات فيه لا خلاف فيكون طاهرا عند القفال
بلا خلاف
131

في كتب الأصحاب وجعلوا المسألة خلافية فحكوا هم وابن المنذر عن مالك وأبي حنيفة ومحمد
ابن الحسن وأبي عبيد ان الضفدع لا ينجس ما مات فيه وكذلك السرطان ومذهبنا أنه
ينجسه والله أعلم:
(فرع) الآدمي الذي لا نجاسة عليه مسلما كان أو كافرا إذا مات في ماء دون قلتين أو في
مائع قليل أو كثير فهل ينجس ما مات فيه قولان بناء على نجاسته بالموت والصحيح أنه لا ينجس
فلا ينجسه (فرع) إذا قلنا بالقول الضعيف وهو ان ما ليس له نفس سائلة ينجس ما مات فيه:
فالجواب عن الحديث ما أجاب به الشافعي والأصحاب أنه لا يلزم من المقل الموت: فان قيل
لا يؤمن الموت لا سيما إن كان الطعام حارا قلنا لا يمتنع أن يقصد مصلحة الشئ وان احتمل
تلفه: كما يقصد بالفصد وشرب الدواء المصلحة وقد يفضي إلى التلف: فان قيل لم ينه النبي
صلى الله عليه وسلم عن أكله على تقدير موته: قلنا قدر تقرر نجاسة الميتة وما ماتت فيه فلا حاجة
إلى ذكره في كل حديث: وبالله التوفيق * قال المصنف رحمه الله *
(إذا أراد تطهير الماء النجس نظر فإن كانت نجاسته بالتغير وهو أكثر من قلتين طهر:
بأن يزول التغير بنفسه أو بأن يضاف إليه ماء آخر: أو بأن يؤخذ بعضه لأن النجاسة
بالتغير وقد زال) *
(الشرح) إذا زال تغير الماء النجس وهو أكثر من قلتين نظر ان زال بإضافة ماء
آخر إليه طهر بلا خلاف سواء كان الماء المضاف طاهرا أو نجسا قليلا أو كثيرا وسواء صب
الماء عليه أو نبع عليه وان زال بنفسه أي بأن لم يحدث فيه شيئا بل زال تغيره بطلوع الشمس أو الريح
أو مرور الزمان طهر أيضا على المذهب وبه قطع الجمهور: وحكى المتولي عن أبي سعيد الإصطخري
أنه لا يطهر لأنه شئ نجس فلا يطهر بنفسه: وهذا ليس بشئ لان سبب النجاسة التغير:
فإذا زال طهر لقوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس وان زال بأخذ بعضه
طهر بلا خلاف بشرط أن يكون الباقي بعد الاخذ قلتين: فان بقي دونهما لم يطهر بلا خلاف:
132

ويتصور زوال تفسيره بأخذ بعضه بأن يكون كثيرا لا يدخله الريح: فإذا نقص دخلته وقصرته
وكذلك الشمس فيطيب: ثم إذا زال التغير وحكمنا بطهارته ثم تغير فهو باق على طهارته ولا أثر
لتغيره لأنه ماء طاهر تغير بغير نجاسة لاقته فكان طاهرا كالذي لم ينجس قط ذكره صاحب
الحاوي وهو ظاهر لاخفاء به: والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان طرح فيه تراب أو جص فزال التغير ففيه قولان: قال في الأم لا يطهر
كما لا يطهر إذا طرح فيه كافور أو مسك فزالت رائحة النجاسة وقال في حرملة يطهر
وهو الأصح لان التغير قد زال فصار بنفسه أو بماء آخر ويفارق الكافور والمسك لان
هناك يجوز أن تكون الرائحة باقية وإنما لم تطهر لغلبة رائحة الكافور والمسك) *
(الشرح) هذان القولان مشهوران وذكر المصنف ان أحدهما في الأم والآخر في حرملة وكذا
قاله المحاملي في المجموع * وقال القاضي أبي الطيب القولان نقلهما حرملة ونقلهما المزني في الجامع
الكبير وقال الشيخ أبو حامد والماوردي هذان القولان نقلهما المزني في جامعه الكبير عن الشافعي
وقال صاحب الشامل نص عليهما في رواية حرملة وقال المحاملي في التجريد قال الشافعي في عامة كتبه يطهر
وقال في حرملة لا يطهر كذا قال في التجريد عن حرملة لا يطهر وهو خلاف ما نقل هو في المجموع وصاحب
المهذب والجمهور عن حرملة انه يطهر ولكن ذكرنا عن القاضي أبي الطيب وصاحب الشامل انهما
نقلا عن حرملة نقل القولين فصحح نقله في التجريد عن حرملة ونقل الأصحاب * ثم اختلف المصنفون
في الأصح من القولين فصحح المصنف هنا وفي التنبيه وشيخه القاضي أبو الطيب وأبو العباس الجرجاني
والشاشي وغيرهم الطهارة وهو اختيار المزني والقاضي أبي حامد المروروذي وصحح الأكثرون
انه لا يطهر: وهو الأصح المختار ممن صححه المحاملي في كتابيه المجموع والتجريد والفوراني والبغوي
وصاحب العدة والرافعي وغيرهما وقطع به المحاملي في المقنع والشيخ نصر في الكافي وآخرون
واحتج له المتولي بأنه وقع الشك في زوال التغير وإذا وقع الشك في سبب الإباحة لم تثبت الإباحة كما
لو رأى شاة مذبوحة في موضع فيه مسلمون ومجوس وشك هل ذبحها المجوسي أو المسلم لا تبلح * واعلم أن
133

صورة المسألة أن يكون كدرا ولا تغير فيه أما إذا صفا فلا يبقى خلاف بل إن كان التغير موجودا
فنجس قطعا وإلا فطاهر قطعا كذا صرح به المتولي وغيره ولا فرق بين أن يكون التغير بالطعم أو اللون
أو الرائحة ففي الجميع القولان هذا هو الصوب: وقال الشيخ أبو عمر وبن الصلاح رحمه الله عندي أن
القولين إذا تغير بالرائحة فأما إذا تغير بالطعم أو اللون فلا يطهر قطعا لأنه يستتر بالتراب قال وهذا
تحقيق لو عرض على الأئمة لقبلوه: وهذا الذي قاله رحمه الله خلاف ظاهر كلام الأصحاب وخلاف مقتضى
اطلاق من أطلق منهم وخلاف تصريح الباقين فقد صرح جماعة من كبارهم بأنه لا فرق قال المحاملي
في التجريد إن تغير لونه فورد عليه ماله لون كالخل فأزال تغيره أو تغير ريحه فورد عليه ما له ريح
كالكافور فأزاله لم يطهر بلا خلاف قال وإن طرح عليه ما لا ريح له ولا لون كالتراب وغيره فأزاله
فقولان: وقال هو في المجموع إذا تغير طعم الماء أو لونه أو ريحه نجس ويطهر بأربعة أشياء متفق عليها
وخامس مختلف فيه فذكر زواله بنفسه وبما يضاف إليه أو ينبع فيه أو يؤخذ منه ثم قال والمختلف فيه
أن يزول بالتراب فقولان ثم قال وجملته انه متى تغير طعم الماء فورد عليه ماله طعم: أو ريحه
فورد عليه ماله ريح: أو لونه فورد عليه ماله لون لم يطهر بلا خلاف: وان ورد عليه
ما لا طعم له ولا لون ولا ريح فأزال تغيره فهل يطهر فيه قولان هذا كلام المحاملي: وقال صاحب
التتمة إن تغير لونه فطرح فيه زعفران أو ريحه فطرح فيه مسك لم يطهر: وان طرح تراب فهل يطهر
قبل أن يصفو فيه قولان: أحدهما لا يطهر لان زوال لون النجاسة لم يتحقق لاحتمال أن لون
التراب غلبه: وقال الفوراني إذا وقعت نجاسة في ماء فغيرت طعمه أو لونه أو ريحه فان زال
التغير بزعفران لم يطهر: وان زال بتراب فقولان الأصح لا يطهر لأنه يستر لون النجاسة: وقال
الرافعي أحد القولين يطهر لان التراب لا يغلب على شئ من الأوصاف الثلاثة: والأصح
لا يطهر لأنه وإن لم يغلب على هذه الأوصاف الا انه يكدر الماء والكدورة سبب الستر: قال وذكر
بعضهم أن هذا الخلاف في مسألة التراب مفروض في التغير بالرائحة: فأما اللون فلا يؤثر فيه
التراب: قال الرافعي والأصول المعتمدة ساكتة عن هذا التفصيل: فهذا الذي ذكره هؤلاء
134

مصرح بأنه لا فرق بين الأوصاف والله أعلم * واما قوله وان طرح فيه تراب أو جص ففيه قولان
فكذا قاله الأكثرون: فطردوا القولين في الجص والنورة التي لم تحرق ونحو ذلك مما ليس بغالب
لصفة تغير الماء: وقيل القولان في التراب فقط: واما غيره فلا يؤثر قطعا (1) نقله الروياني وصاحب
البيان وغيرهما: والصحيح الأول قال الروياني وقد نقل المزني وحرملة النورة صريحا: ونقلا
فيها القولين: ويقال جص بكسر الجيم وفتحها لغتان مشهورتان والكسر أجود: وهي أعجمية
معربة: وقول المصنف قال في الأم وقال في حرملة يعنى قال الشافعي في كتابه الأم وهو الكتاب
المعروف رواه عنه الربيع بن سليمان المرادي *
وقوله قال في حرملة يعنى الشافعي في الكتاب الذي
يرويه حرملة عنه: فسمى الكتاب باسم رواية وناقله وهو حرملة مجازا واتساعا كما سبق بيانه
عند ذكر البويطي * وهو حرملة بن يحيي بن عبد الله بن حرملة بن عمران بن قراد التجيبي بضم
التاء المثناة فوق ويقال بفتحها والضم أشهر المصري أبو حفص: وقيل أبو عبد الله وهو شيخ مسلم
ابن الحجاج صاحب الصحيح أكثر من الرواية عنه في صحيحه وكفى بذلك له شرفا وفضلا ولد
سنة ست وستين ومائة وتوفى في شوال سنة ثلاث وأربعين ومائتين وقيل سنة أربع وأربعين رحمه الله:
فان قيل إذا زال التغير بالتراب ينبغي أن يجزم بنجاسة الماء لكونه متغيرا بتراب متنجس قلنا
هذا خيال فاسد لان نجاسة التراب نجاسة مجاورة للماء النجس فإذا زالت نجاسة الماء طهر التراب
والماء جميعا لان عينه طاهرة * قال المصنف رحمه الله *
(وإن كان قلتين طهر بجميع ما ذكرناه الا بأخذ بعضه فإنه لا يطهر لأنه ينقص عن قلتين وفيه نجاسة)
(الشرح) هذا الذي قاله متفق عليه: ويقال طهر بفتح الهاء وضمها والفتح أفصح: وسبق
بيانه في أول الكتاب والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وإن كانت نجاسته بالقلقة بأن يكون دون القلتين طهر بان ينضاف إليه ماء حتى يبلغ قلتين
ويطهر بالمكاثرة وإن لم يبلغ قلتين كالأرض النجسة إذا طرح عليها ماء حتى غمر النجاسة: ومن

(1) يعني فلا يطهر قطعا وقول الروياني في البحر وقال أبو حامد القولاني في التراب فأما بغيره فلا يطهر قولا واحدا كذا بهامش الأذرعي
135

أصحابنا من قال لا يطهر لأنه دون القلتين وفيه نجاسة: والأول أصح: لأن الماء إنما ينجس
بالنجاسة إذا وردت عليه: وههنا ورد الماء على النجاسة فلم ينجس: إذ لو نجس لم يطهر الثوب
إذا صب عليه الماء) *
(الشرح) أما المسألة الأولى وهي إذا كاثره فبلغ قلتين فيصير طاهرا مطهرا بلا خلاف سواء
كان الذي أورده عليه طاهرا أو نجسا قليلا أو كثيرا لقوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا فلو
فرقه بعد ذلك لم يؤثر التفريق بل هو باق على طهوريته: وكذا لو كان معه قلتان متفرقتان نجستان
فجمعهما ولا تغير فيهما صارتا طاهرتين: فان فرقتا بعد ذلك فهما على طهوريتهما: كما لو وقعت نجاسة
مائعة في قلتين ولم تغيرهما ثم فرقتا فإنهما على الطهورية بلا خلاف: هذا مذهبنا: وقال أصحاب احمد إذا
جمع القلتين النجستين لم تطهرا لان النجستين لا يتولد منهما طاهر: كالمتولد من كلب وخنزير * ودليلنا
حديث القلتين: ويخالف ما ذكروه فان للماء قوة وغاية إذا وصلها لا تؤثر فيه نجاسة بخلاف ما ذكروه
والله أعلم * وأما المسألة الثانية وهي إذا كوثر بالماء ولم يبلغ قلتين فهل يطهر فيه الوجهان اللذان ذكرهما
المصنف وذكر دليلهما: وهما مشهوران: لكن الأصح عند المصنف وسائر العراقيين انه يطهر: وبه
قطع منهم شيخهم أبو حامد: وهو قول ابن سريج: والصحيح عند الخراسانيين لا يطهر: وبه قطع
منهم القاضي حسين: وقال أمام الحرمين ان صح عن ابن سريج قوله الطهارة فهو من هفواته: إذ
لا معنى لغسل الماء من غير أن يبلغ قلتين: قال فلا يتمارى في فساده وكذا صحح البغوي والرافعي
عدم الطهارة وهو الأرجح. فان قلنا بالأول فهو طاهر غير مطهر كما ذكره المصنف في الفصل بعده.
وسنوضحه إن شاء الله تعالى: قال المتولي وآخرون هذان الوجهان مبنيان على الوجهين في اشتراط
عصر الثواب النجس إذا غسل: قالوا ووجه البناء ان الماء الوارد على النجاسة مزيل لها فلا فرق بين
أن يرد على ثوب أو ماء نجس: والوجهان في العصر مبنيان على أن الغسالة بعد الفراغ من الغسل طاهرة
أم لا: وفيه الخلاف المشهور: قال أصحابنا ولو كان الماء نجسا بالتغير فكاثره فزال التغير ولم يبلغ قلتين
136

فهو على الوجهين: ثم صورة المسألة التي نحن فيها أن يكون الماء الطاهر وأرادا على الماء النجس: وأن
يكون مطهرا وأن يكون أكثر من النجس: فإن كان مثله لم يطهر بلا خلاف صرح به الشيخ أبو علي
السنجي وامام الحرمين والبغوي وآخرون: وهو مفهوم من قول المصنف (ويطهر بالمكاثرة) ونبه
عليه أيضا بقوله في الفصل الذي بعده: (لان الغلبة للماء الذي غمره) وذكر المحاملي في التجريد
ثم الشيخ نصر المقدسي: وبه أجاب الروياني في البحر انه يشترط كون الوارد سبعة أضعاف النجس
وهذا شاذ وغلط نبهت عليه لئلا يغتر به: ويظن غفلتنا عنه: وكأنه أخذه من وجه لنا شاذ انه يشترط
كون الماء الذي يغسل به النجاسة سبعة أمثالها: وسنذكره إن شاء الله تعالى في باب إزالة النجاسة
ونوضح ضعفه وبطلانه: قال الشيخ أبو حامد في التعليق فان قيل حيث حكمتم بطهارة هذا الماء
ينبغي أن تقولوا إذا ولغ الكلب في إناء فصب عليه ماء كاثره به أن يطهر الماء والاناء:
يعنى وإن لم يبلغ قلتين: قلنا من أصحابنا (1) من قال يطهر ومنهم من قال لا يطهر حتى يبلغ قلتين
وفرق بينهما (فرع) قد ذكرنا أنه إذا كوثر الماء فبلغ قلتين طهر بلا خلاف وذكرنا انه سواء كوثر
بماء طاهر أو نجس كثيرا وقليل ولو كوثر الماء النجس ببول أو ماء ورد أو عرق أو غير ذلك مما
ليس بماء فبلغ به قلتين ولا تغير فيه فالجميع نجس بلا خلاف: وطريقه في طهارته بعد هذا ان يصب
عليه ماء آخر حتى يبلغ به قلتين طاهرا كان المضاف أو نجسا: ولو كوثر النجس بماء مستعمل فوجهان
حكاهما القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي وغيرهم أحدهما يكون الجميع نجسا لان المستعمل
كالمائع فصار كالعرق وأصحهما يصير الجميع مطهرا لقوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء قلتين
لم يحمل خبثا وهذا كله ماء وقد بلغ قلتين وبني القاضي والمتولي الوجهين على أن المستعمل
إذا بلغ قلتين هل يعود طهورا ان قلنا نعم فهذا طهور وإلا فنجس: ولو كوثر ماء متغير بزعفران
ونحوه فزال تغيره الذي كان بالزعفران فهو طهور فان وقع فيه بعد ذلك نجاسة لم تنجسه: قال
الروياني وصاحب البيان ولو كان معه من الماء الطاهر قلتان الا كوزا فصب عليه كوز ماء متغير

(1) في طهارة الاناء ببلوغ الماء قلتين في هذه المسألة أوجه حكاها الشيخ أبو علي السنجي والقاضي أبو الطيب في شرح الفروع أصحها لا يطهر وعلى هذا فهل يقطع بطهارة الماء أم يخرج على قولي التباعد فيه طريقان أصحهما الثاني كما لو كان الاناء نجس العين اه‍ من هامش الأذرعي
137

بزعفران ونحوه ثم وقعت فيه نجاسة لم ينجس فهذا تحقيق مذهبنا وما يتعلق به في هذه المسألة:
وأما ما يخترعه بعض الحنفية ويقول إن مذهب الشافعي انه لو كان قلتين الا كوزا فكمله ببول
طهر فبهتان لا يعرفه أحد من أصحابنا: قال الشيخ أبو حامد شيخ الأصحاب إذا كمله ببول أو نجاسة
أخرى فالجميع نجس بلا خلاف بين الشافعيين: وقال وأصحاب أبي حنيفة يحكون عنا ما ليس
مذهبا لنا والله أعلم *
(فرع) وأما قول المصنف لأن الماء إنما ينجس بالنجاسة إذا وردت عليه وهنا ورد
عليها فلم ينجس ففيه بيان قاعدة لنا معروفة وهي الفرق بين الوارد والمورود وهذه القاعدة أخذها
أصحابنا من قوله صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ أحدكم من منامه فلا يغمس يده في الاناء حتى
يغسلها فإنه لا يدرى أبن باتت يده رواه البخاري ومسلم وقد سبق بيانه وبيان القاعدة
وسنعيده حيث ذكره المصنف في أول صفة الوضوء إن شاء الله تعالى: ولنا وجه أن الثوب النجس
إذا أورد على الماء بنية غسله لم ينجس الماء بل يطهر الثوب وهذا القائل لا يفرق بين الوارد
والمورود وسنوضحه مع القاعدة في باب إزالة النجاسة إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق *
قال المصنف رحمه الله *
(وإذا أراد الطهارة بالماء الذي وقعت فيه نجاسة وحكم بطهارته نظرت فإن كان دون
قلتين وحكم بطهارته بالمكاثرة لم يجز الوضوء به لأنه وإن كان طاهرا فهو غير مطهر لان
الغلبة للماء الذي غمره وهو ماء أزيل به النجاسة فلم يصلح للطهارة وإن كان أكثر من
قلتين نظرت فإن كانت النجاسة جامدة فالمذهب أنه تجوز الطهارة منه لأنه لا حكم للنجاسة
القائمة فكان وجودها كعدمها وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن القاص لا يجوز حتى يكون بينه
وبين النجاسة قلتان فإن كان بينه وبين النجاسة أقل من قلتين لم يجز لأنه لا حاجة إلى استعمال
ما فيه نجاسة قائمة وإن كان الماء قلتين وفيه نجاسة قائمة ففيه وجهان: قال أبو إسحاق لا
138

تجوز الطهارة به لأنه ماء واحد فإذا كان ما يبقى بعد ما غرف نجسا وجب أن يكون الذي
عرفه نجسا والمذهب أنه يجوز لان ما يغرف منه ينفصل منه قبل أن يحكم بنجاسته فبقي على
الطهارة: وإن كانت النجاسة ذائبة جازت الطهارة به: ومن أصحابنا من قال لا يتطهر بالجميع بل
يبقى منه قدر النجاسة كما قال الشافعي رحمه الله فيمن حلف لا يأكل تمرة فاختلطت بتمر كثير
انه يأكل الجميع الا تمرة وهذا لا يصح لأن النجاسة لا تتميز بل تختلط بالجميع فلو وجب ترك
بعضه لوجب ترك جميعه بخلاف التمر) *
(الشرح) أما المسألة الأولى وهي إذا حكمنا بطهارة الماء النجس بالمكاثرة من غير أن يبلغ
قلتين فقد قطع المصنف بأنه ليس بطهور وهكذا قطع به الجمهور وهو تفريع على المذهب أن
المستعمل في إزالة النجاسة لا تجوز الطهارة به فأما إذا قلنا بقول الأنماطي ان المستعمل في النجس
يستعمل في الحدث فيجوز الوضوء به هنا فإنها هي المسألة بعينها وقد نبه على هذا صاحب الحاوي
وآخرون وصرحوا به: وأما المسألة الثانية وهي إذا كان الماء أكثر من قلتين وفيه نجاسة
جامدة فقد ذكر وجهين الصحيح منهما أنه لا يجب التباعد بل تجوز الطهارة منه من حيث شاء:
والثاني يجب التباعد عن النجاسة بقدر قلتين وهذا الخلاف مشهور في الطريقتين لكن العراقيون
والبغوي حكوه وجهين كما حكاه المصنف: وحكاه جمهور الخراسانيين قولين الجديد يجب التباعد
والقديم لا يجب واتفقوا على أن الصحيح أنه لا يجب التباعد: قال القاضي أبو الطيب والماوردي
والمحاملي وهو قول ابن سريج وأبي سعيد الإصطخري وعامة أصحابنا قال الخراسانيون وهذه
من المسائل التي يفتى فيها على القديم: وقد قدمت في مقدمة الكتاب بيانها وحكمها وما يتعلق
بها: وقد حكي الشيخ أبو علي السنجي بكسر السين المهملة واسكان النون وبالجيم أن الشافعي نص
في كتابه اختلاف وهو من كتبه الجديدة على موافقة القديم وحينئذ لا يسلم كون الافتاء
هنا بالقديم: قال أصحابنا فإذا شرطنا التباعد لا بد من رعاية التناسب في الابعاد فلو كانت
139

النجاسة على وجه البحر فتباعد شبرا ليحسب عمق البحر وحينئذ يزيد على قلتين لم يكفه ذلك
بل يشترط أن يتباعد قدرا لو حسب مثله في العمق وسائر الجوانب لبلغ قلتين لان المقصود
أن يكون ماء القلتين حائلا بينه وبين النجاسة والعمق الزائد لا يصلح لذلك: وإن كان الماء
منبسطا في عمق شبر فليتباعد زيادة على ذلك بنسبته على ما ذكرنا هكذا قاله امام الحرمين
والأكثرون: وحكي المتولي فيه وجهين أحدهما هذا: والثاني يعتبر ذلك من جميع جهات
النجاسة سوى الجهة التي يغترف منها وغيرها والصحيح الأول لأنه لا تعلق للمستقى بباقي
الجهات وإذا أوجبنا التباعد هل يكون الماء المجتنب نجسا أم طاهرا منع من استعماله: فيه وجهان
أصحهما طاهر منع استعماله لقوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس وبهذا قطع
كثيرون واقتضاه كلام آخرين ممن صرح به القاضي أبو الطيب في تعليقه والمحاملي في كتابيه
المجموع والتجريد وأصحاب الحاوي والشامل والبيان وغيرهم من العراقيين وجماعة من الخراسانيين
ونقل الاتفاق عليه الشيخان أبو حامد الأسفرايني وأبو محمد الجويني: والوجه الثاني وبه قطع
القاضي حسين وامام الحرمين والبغوي بأنه نجس حتى قال هؤلاء الثلاثة لو كان الماء قلتين
فقط كان نجسا على هذا القول وهذا القول وهذا ضعيف أو غلط منابذ لقوله صلى الله عليه وسلم إذا بلغ
الماء قلتين لم ينجس وأما إذا قلنا لا يشترط التباعد فله أن يتطهر من أي موضع شاء منه هكذا
صرح به الأصحاب واتفقوا عليه: قال الماوردي لو أن يستعمل منه أقربه إلى النجاسة والصقه
بها: وخالفهم الغزالي فقال في الوسيط يجب التباعد عن حريم النجاسة وهو ما تغير شكله
بسبب النجاسة: وهذا الذي قاله شاذ متروك مخالف لما اتفق عليه الأصحاب: وقد صرح هو
في البسيط بموافقة الأصحاب فقطع بأن الراكد لا حريم له يجتنب: وكذا صرح به شيخه
امام الحرمين في مواضع من النهاية في هذا الباب: وقال له أن يستعمل من قرب النجاسة: قال
140

ووجه ذلك أن تراد الماء يوجب تساوى أجزائه في النجاسة فالقريب والبعيد سواء والله أعلم:
وأما المسألة الثالثة وهي إذا كان الماء قلتين فقط وفيه نجاسة جامدة ففي جواز استعماله الوجهان
اللذان ذكرهما المصنف واتفق المصنفون على أن الأصح الجواز كما ذكره المصنف ودليله ما ذكره:
والثاني لا يجوز حكاه المصنف والأصحاب عن أبي إسحاق: وحكاه البندنيجي عنه وعن
ابن سريج: ثم إن استعمال هذا الماء يحتاج إلى فقه وهو أنه ان أراد استعمال ما يغرفه بدلو مثلا
فينبغي أن يغمس الدلو في الماء غمسة واحدة ولا يغترف فيه النجاسة ثم يرفعه فيكون باطن الدلو
وما فيه من الماء طاهرا ويكون ظاهر الدلو والباقي بعد المغروف نجسا: أما نجاسة الباقي فلان
فيه نجاسة وقد نقص عن قلتين: وأما نجاسة ظاهر الدلو فلملاصقة الماء النجس وهو الباقي
بعد المغروف وإنما حكمنا بطهارة ما في الدلو لأنه انفصل عن الباقي قبل أن ينقص عن قلتين وإنما نقص
بعد انفصال المأخوذ فلو خالف وأدخل الماء في الدلو شيئا فشيئا فالجميع نجس بلا خلاف لأنه
حين دخل أول شئ في الدلو نقص الباقي عن قلتين فصار نجسا فإذا نزلت الدفعة الثانية في الدلو
وهي نجسة تنجس ما في الدلو فصار الجميع نجسا: فطريقه بعد هذا إلى طهارته أن يصبه في الباقي
أو يغمسه غمسة واحدة حتى يغمره الماء ويمكث لحظة وهو واسع الرأس فيطهر الجميع فإذا فصل
الدلو كان باطنه وما فيه طاهرا ويكون الباقي وظاهر الدلو نجسا لما سبق: أما إذا أراد استعمال
ما يبقى بعد الغرف فينظر ان أخذها وخدها في الدلو فالباقي قلتان فهو طاهر بلا خلاف
وأبو اسحق يوافق على هذا لأنه قلتان وليس فيه نجاسة: وان أخذ النجاسة مع شئ من الماء
فان أخذه دفعة واحدة فباطن الدلو وما فيه نجس وظاهره وما بقي طاهر: أما نجاسة باطن الدلو
وما فيه فلكونه ماء يسيرا فيه نجاسة: وأما طهارة الباقي فلانفصال النجاسة عنه
قبل نقصه عن قلتين فبقي على طهارته: قال أصحابنا فان قطر من الدلو إلى الماء الباقي قطرة
نظر إن كانت من ظاهر الدلو فالباقي على طهارته لان ظاهر الدلو طاهر: وإن كانت من باطنه
141

صار الباقي نجسا: وان شك فالباقي على طهارته ذكره الماوردي وغيره وهو واضح: فان تنجس
الباقي وأراد تطهيره فطريقه أن يصبه فيه أو يرد الدلو ويغمسه فيه على ما سبق: قال أصحابنا
ويستحب له ان يخرج النجاسة أو لا ثم يغمس الدلو ليكون طهورا بلا خلاف ويخرج من خلاف
أبي إسحاق ومن مراعاة هذه الدقائق: وكذلك يستحب له في مسألة التباعد أيضا: ولو اختطف
النجاسة أولا ثم نزل عليها من الماء شئ فباطن الدلو وما فيه من الماء نجس وظاهره طاهر وكذا
الباقي من الماء وهذه الصورة في النقص عن قلتين محمولة على نقص يؤثر سواء قلنا القلتان خمسمائة
تحديدا أو تقريبا: وفي الدلو لغتان التأنيث والتذكير والتأنيث أفصح. وإنما ذكرت هذا هنا لئلا
ينكر استعمالنا لها مذكرة من لا معرفة له والله أعلم: وأما المسألة الرابعة وهي إنما وقع في قلتين
أو أكثر نجاسة ذائبة ففيها الوجهان اللذان ذكرهما المصنف الصحيح منهما باتفاق الأصحاب جواز
استعمال جميعه: والثاني يجب تبقية قدر النجاسة ولم يسم الجمهور قائل هذا الوجه وسماه الدارمي
فقال حكاه ابن القطان عن ابن ميمون قال أصحابنا هذا الوجه غلط وأبطلوه بما أبطله به المصنف
قالوا لأنا نقطع بان الباقي ليس عين النجاسة فلا فائدة في تركه بل إن وجب ترك شئ وجب
ترك الجميع: فلما اتفقوا على أنه لا يجب ترك الجميع وجب أن يقال يستعمل الجميع لأن النجاسة
استهلكت: وصورة المسألة أن تكون النجاسة الذائبة قليلة لم تغير الماء مع مخالفتها له في صفاته أو
كانت موافقة له في صفاته وكانت بحيث لو قدرت مخالفة له لم تغيره وقد تقدم بيان هذا في آخر
الباب الأول والله أعلم *
(فرع) ان قيل ما الفائدة في حكاية المصنف مذهب أبي إسحاق فيما إذا كان الماء قلتين
فقط ونحن قد عرفنا مذهبه من المسألة الأولى فإنه اشترط التباعد عن النجاسة بقلتين فيعلم بهذا
انه إذا كان قلتين لا يجوز استعماله بفقد الشرط وهو التباعد: فالجواب ان أبا إسحاق يقول هنا
لا يجوز استعماله وان جوزناه هناك لمعنى هنا وهو ما علل به
(فرع) ذكر المصنف أبا إسحاق
وابن القاص فاما أبو إسحاق فهو المروزي واسمه إبراهيم بن أحمد وهو صاحب أبي العباس بن سريج
انتهت إليه رياسة بغداد في العلم وشرح المختصر وصنف في الأصول والفروع وعنه وعن أصحابه
142

انتشر فقه الشافعي في الأقطار وهو جدنا في التفقه فإنه أحد أركان سلسله تفقه الشافعية توفى بمصر
سنة أربعين وثلاثمائة: وأما أبو العباس بن القاص بتشديد الصاد المهملة فاسمه أحمد بن أبي أحمد
امام جليل وهو صاحب ابن سريج أيضا وعنه أخذ الفقه أهل طبرستان صنف كتبا كثيرة
كالتلخيص والمفتاح وأدب القاضي والمواقيت والقبلة وغيرها توفى بطرسوس سنة خمس وثلاثين
وثلاثمائة رحمه الله * قال المصنف رحمه الله *
(وإن كان الماء جاريا وفيه نجاسة جارية كالميتة والجرية المتغيرة فالماء الذي قبلها طاهر لأنه
لم يصل إلى النجاسة فهو كالماء الذي يصب على النجاسة من إبريق والذي بعدها طاهر أيضا لأنه
لم يصل إليه النجاسة وأما ما يحيط بها من فوقها وتحتها ويمينها وشمالها فإن كان قلتين ولم يتغير فهو
طاهر وإن كان دونهما فنجس كالراكد: وقال ابن القاص فيه قول آخر قاله في القديم انه
لا ينجس الماء الجاري الا بالتغير لأنه ماء ورد على النجاسة فلم ينجس من غير تغير كالماء المزال
به النجاسة: وإن كانت النجاسة واقفة والماء يجرى عليها فان ما قبلها وبعدها طاهر: وما يجرى
عليها إن كان قلتين فهو طاهر: وإن كان دونه نجس: وكذا كل ما يجري عليها بعدها فهو نجس:
ولا يطهر شئ من ذلك حتى يركد في موضع ويبلغ قلتين: وقال أبو إسحاق وأبو العباس بن القاص
والقاضي أبو حامد ما لم يصل إلى الجيفة فهو طاهر: وما بعدها يجوز أن يتوضأ منه إذا كان بينه
وبين الجيفة قلتان والأول أصح: لان لكل جرية حكم نفسها فلا يعتبر فيه القلتان)
(الشرح) هذا الفصل كله ذكره أصحابنا كما ذكره المصنف ورجحوا ما رجحه الا ان امام
الحرمين والغزالي والبغوي اختاروا فيما إذا كانت النجاسة مائعة مستهلكة لا ينجس الماء وإن كان
كل جرية دون قلتين: وهذا غير القول القديم الذي حكاه ابن القاص فان ذاك لا فرق فيه بين
النجاسة الجامدة والمائعة: واحتج الامام والغزالي لهذا بان الأولين لم يزالوا يتوضؤن من الأنهار
الصغيرة أسفل من المستنجين وهذا الذي اختاره قوى: وأجاب الامام عن حديث القلتين بان
143

مجموع الماء الذي في هذا النهر يزيد على قلتين والمشهور في المذهب والذي عليه الجمهور انه لا فرق
بين الجاري والراكد: وكذا نقله الرافعي عن الجمهور: وأما ما ذكره من وضوء الأولين فلم
يثبت أنهم كانوا يتوضؤن تحت المستنجين ولا انهم كانوا يستنجون في نفس الماء: وقوله الجرية
هي بكسر الجيم وهي الدفعة التي بين حافتي النهر في العرض هكذا فسرها أصحابنا: وأما قوله فإن كان
الذي يحيط بها قلتين فهو طاهر فكذا صرح به الأصحاب وله أن يتطهر من أي موضع أراد
ولو من نفس النجاسة ولا يجتنب شيئا هذا هو المذهب: وقيل يجئ الخلاف في التباعد حكاه
امام الحرمين عن بعض الأصحاب: وحكاه الغزالي والبغوي وغيرهم: قال الامام وقال الأكثرون
لا يجئ ذلك الخلاف لان جريان الماء يمنع انتشار النجاسة: ثم اختار الامام والغزالي في البسيط
والوسيط انه يجب اجتناب حريم النجاسة في الجاري وهو ما ينسب إليها: وقد سبق أن الغزالي
في الوسيط أوجب اجتناب حريم الراكد أيضا: ففرق في البسيط بين الحريمين فأوجب اجتنابه
في الجاري دون الراكد وكذا فرق شيخه قال لان الراكد لا حركة له حتى ينفصل البعض عن
البعض في الحكم: والمذهب المشهور الذي قطع به الجمهور انه لا يجب اجتناب الحريم لا في الجاري
ولا في الراكد: وكذا نقله الرافعي عن الجمهور وجعله المذهب والله أعلم: وإذا كانت الجرية
التي فيها النجاسة دون قلتين وقلنا إنها نجسة فقال البغوي محل النجاسة من الماء والنهر نجس:
والجرية التي تعقبها تغسل المحل فهي في حكم غسالة النجاسة حتى لو كانت نجاسة كلب فلا بد من
سبع جريات عليها: وقوله في النجاسة الواقفة إن كان ما يجرى عليها قلتين فطاهر يعنى إن كانت الجرية
قلتين وكذا كل جرية هي قلتان لا تغير فيها فهي طاهرة: وقوله إن كان دونه فنجس يعنى على
الصحيح الجديد: وأما على القديم أن الجاري لا ينجس الا بالتغير فهو طاهر: وقوله ولا يطهر
شئ من ذلك حتى يركد في موضع فيبلغ قلتين وقال أبو إسحاق وابن القاص إلى قوله والأول
أصح هذا الذي صححه هو الذي صححه أصحابنا المصنفون وهو قال أكثر المتقدمين وعلى هذا
144

لا يزال نجسا وان امتد فراسخ وبلغ مجموعه الف قلة: وقد يقال ماء بلغ الف قلة لا تغير فيه وهو
محكوم بنجاسته وهذا صورته ويقال ماء بلغ الف قلة ولا تغير فيه وهو محكوم بطهارته لا يصح الوضوء
ببعضه (1) وذلك يتصور في مسألة البئر التي تمعط شعر الفأرة كما سنوضحها في مسائل الفرع
إن شاء الله تعالى والله أعلم: (فرع) لو كانت جرية نجسة لمرورها على نجاسة واقفة أو لوقوع نجاسة مائعة فيها
أو غير ذلك فاتصلت بماء راكد تبلغ به قلتين الا انها لم تختلط به لكون أحدهما صافيا والآخر كدرا
حكم بطهارة الجميع بلا خلاف بمجرد الاتصال كذا قاله أصحابنا لحديث القلتين: قالوا ولأن الاعتبار
باجتماع الماء الكثير في مكان واحد وقد وجد ذلك: وكذا لو كان قلتان صافية وكدرة إحداهما
نجسة غير متغيرة بالنجاسة فجمعهما وبقي الكدر متميزا غير ممتزج حكم بطهارة الجميع بلا خلاف
(فرع) ذكر المصنف هنا القاضي أبا حامد وهو المروزي بالذال المعجمة وبالتشديد
واسمه أحمد بن عامر بن بشر وهو صاحب أبي إسحاق المروزي قال المصنف في طبقاته كان
اماما لا يشق غباره نزل البصرة ودرس بها وعنه أخذ نقاؤها وصنف الجامع في المذهب
وشرع مختصر المزني وصنف في أصول الفقه توفى سنة اثنين وستين وثلاثمائة رحمه الله * (فرع)
ذكر المصنف ان الماء الذي يصب على نجاسة من إبريق لا ينجس: ومراده الذي يتصل طرفه
بالنجاسة بحيث يكون الماء متصلا من الإبريق إلى النجاسة: وإنما لا ينجس لأن النجاسة
لا تنعطف: وهذا الذي قاله متفق عليه: قال امام الحرمين في كتاب الصيد والذبائح في مسألة
عض الكلب الماء المتصعد من فوارة إذا وقعت نجاسة على أعلاه لا ينجس ما تحته ونحو هذا
ما ذكره القاضي حسين في الفتاوى قال لو كان كوز يبز الماء من أسفله فوضع أسفله على نجاسة
لا ينجس الماء لان خروج الماء يمنع النجاسة والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وإن كان بعضه جاريا وبعضه راكدا بأن يكون في النهر موضع منخفض يركد فيه الماء
والماء يجرى بجنبه والراكد زائل عن سمت الجرى فوقع في الراكد نجاسة وهو دون قلتين

(1) قولا لا يصح الوضوء ببعضه الخ فيه نظر اه‍ من هامش الأذرعي
145

فإن كان مع الجرية التي يحاذيها يبلغ قلتين فهو طاهر وإن لم يبلغ قلتين فهو نجس وتنجس كل
جرية بجنبها إلى أن يجتمع في موضع قلتان فيطهر) *
(الشرح) هذا الذي ذكره المصنف قد ذكره هكذا أيضا كثيرون: وقال الشيخ
أبو حامد إن كان الراكد النجس دون قلتين نظران دخل الجاري على الراكد وخرج منه من
الجانب الآخر فان بلغا قلتين فطاهران والا فنجسان: وإن لم يدخل على الراكد بل جرى
على سننه: فإن كان الجاري دون قلتين فهو نجس لأنه يلاصق ماء نجسا: وإن كان
قلتين لم ينجس ولكن قال الشافعي لا يطهر به الراكد لأنه يفارقه وما فارق الشئ فليس معه:
وهذا الذي ذكره أبو حامد ضعيف: وسلك امام الحرمين طريقا جامعا مبسوطا في هذه المسألة:
ثم اختصره الغزالي في البسيط: فقال إذا جرى الماء في حوض طرفاه راكدان فللطرفين حكم
الراكد: وللمتحرك حكم الجاري. فلو وقعت نجاسة في الجاري لم ينجس الراكد إذا لم نوجب
التباعد. وإن كان الراكد قليلا. لأنا نجوز رفع الماء من طرفي النجاسة في هذه الصورة.
فلو وقع في الراكد وهو دون قلتين نجاسة فهو نجس. والجاري يلاقي في جريانه ماء نجسا
وقد يقتضي الحال تنجيسه على ما سبق فلو كان الماء يستدير في بعض أطراف الحوض ثم يستد
في المنفذ قال الامام أرى له حكم الراكد لان الاستدارة في معنى التدافع والتراد يزيد على
الركود. ولو كان في وسط النهر حفرة لها عمق. فقد نقل صاحب التقريب أن الماء في الحفرة
له حكم الراكد وان جرى فوقها. يعني نقله عن نص الشافعي. قال الغزالي والوجه أن يقال
إن كان الجاري يقلب ماء الحفرة ويبدله فله حكم الجاري أيضا: وإن كان يلبث فيها قليلا ثم
يزايلها فله في وقت اللبث حكم الراكد: وكذا إن كان لا يلبث ولكن تتثاقل حركته فله في وقت
التثاقل حكم الماء الذي بين يديه ارتفاع وسنذكره إن شاء الله تعالى في فرع *
(فرع) قال امام الحرمين والغزالي في البسيط إذا جرى الماء منحدرا في صبب أو مستو
من الأرض فهو الجاري حقا: فلو كان قدامه ارتفاع فالماء يتراد لا محالة ويجرى مع ذلك جريا
146

متباطئا فظاهر المذهب أن له حكم الراكد: ومن أصحابنا من قال هو جار: قال الامام والغزالي
وهذا ضعيف نعده من المذهب *
(فرع) في مسائل تتعلق بالباب: إحداها سبق أن المائعات غير الماء تنجس بملاقاة
النجاسة وان بلغت قلالا وسبق بيان الفرق بينه وبين الماء: وحكي صاحب العدة عن أبي حنيفة
ان المائع كالماء إذا بلغ الحد الذي يعتبرونه: الثانية انغمست فأرة في مائع أو ماء قليل وخرجت
حية فمنفذها نجس وقد لاقاه فهل ينجسه وجهان حكاهما الامام وآخرون: أصحهما لا: لان
الأولين لم يحترزوا عن مثل هذا. والثاني نعم طردا للقياس. ولو انغمس فيه مستجمر بالأحجار
نجسه بلا خلاف. ولو حمل المصلي مستجمرا بطلت صلاته في أصح الوجهين لعدم الحاجة إليه
(الثالثة) قال امام الحرمين ولو وقف ماء كثير على مستو من الأرض وانبسط في عمق شبر
أو فتر مثلا فليس للماء في هذا المقر تراد وتدافع ولا يتقوى البعض بالبعض كما يتقوى إذا
كان له عمق مناسب لطوله وعرضه: فإذا وقعت نجاسة على طرف هذا الماء وقلنا لا يجب التباعد
فهل يجب هنا وجهان حكاهما المحاملي في القولين والوجهين أحدهما لا. طردا للقياس.
والثاني يجب لان أجزاء هذا الماء وان تواصلت فهي ضعيفة. فإذا قرب من محلها كان
كالمغترف من ماء قليل. قال الامام وهذا الذي ذكره يقتضى سياقه أن يقال لو نقص عن
القلتين قدرا يسيرا وهو منبسط كما سبق فوقعت في طرفه نجاسة لا ينجس الطرف الأقصى
على الفور. لأن النجاسة لا تنبث بسرعة مع انبساط الماء وضعف تراده. قال الامام وهذا
لم يصر إليه أحد من الأئمة. الرابعة قال صاحب العدة لو كانت ساقية تجرى من نهر إلى آخر
فانقطع (1) طرفاها ووقعت فيها نجاسة. قال صاحب التلخيص نجس الذي فيها لأنه دون
قلتين. وإن كان متصلا بقلتين قال أصحابنا هذا إذا كان أسفل الساقية وأعلاها مستويا
والماء راكد فيها نجس كله إذا تقاصر عن قلتين فأما إن كان أعلا الساقية أرفع من أسفلها
والماء يجرى فيها فوقعت نجاسة في أسفلها فلا ينجس الذي في أعلاها: وصار بمنزلة ماء يصب
من إناء على نجاسة فما لم يصل النجاسة منه طاهر: وإن كان في الطريق: الخامسة قال صاحب

(1) قوله فانقطع طرفها لعله يريد فانقطع الجريان من الطرفين وان أحدهما متصلا بالنهر الاخر
ولكنه غير جار ويجوز أن يكون كلامه على ظاهره وانقطع الطرفان عن النهرين ولكن كانت
ملاصقة لماء آخر تمر به حال جريانها فحينئذ تكون متصلة بماء كثير وبضمه إلى مائها
يصير الكل كثير اه‍ من هامش الأذرعي
147

العدة لو توضأ من بئر ثم أخرج منها دجاجة ميتة منتفخة لم يلزمه أن يعيد من صلاته الا التي
تيقن أنه صلاها بماء نجس: قال وقال أبو حنيفة يلزمه إعادة صلوات ثلاثة أيام ولياليها:
السادسة قال أصحابنا لو غمس كوز ممتلئ ماء نجسا في ماء كثير طاهر فإن كان واسع الرأس
فأصح الوجهين أنه يعود مطهرا لاتصاله بقلتين. والثاني لا لأنه كالمنفصل. وإن كان ضيق
الرأس فأصح الوجهين لا يطهر: وإذا قلنا في الصورتين يطهر فهل يطهر على الفور أم لا بد من
مكث زمان يزول فيه التغير لو كان متغيرا: فيه وجهان أصحهما الثاني ويكون الزمان في الضيق
أكثر منه في الواسع: فإن كان ماء الكوز متغيرا فلا بد من زوال تغيره: ولو كان الكوز
غير ممتلئ فما دام يدخل فيه الماء لا يطهر لعدم الاتصال إلا أن يدخل فيه أكثر مما كان فيه
فيكون فيه الوجهان السابقان في المكاثرة قال القاضي حسين والمتولي ولو كان ماء الكوز طاهرا
فغمسه في نجس ينقص عن قلتين بقدر ماء الكوز فهل يحكم بطهارة النجس. فيه الوجهان
قلت والطهارة هنا أولى والله أعلم *
(السابعة) ماء البئر كغيره في قبول النجاسة وزوالها: فإن كان قليلا وتنجس بوقوع نجاسة
فينبغي الا ينزح لينبع طهور بعده لأنه إذا نزح بقي قعر البئر نجسا وقد يتنجس جدران البئر
بالنزح أيضا بل ينبغي أن يترك ليزداد فيبلغ حد الكثرة فإن كان نبعها قليلا لا يتوقع كثرته صب
فيها ماء ليبلغ الكثرة ويزول التغير إن كان تغير: وإن كان الماء كثيرا طاهرا وتفتت فيه نجاسة
كفارة تمعط شعرها بحيث يغلب على الظن أنه لا يخلو دلو عن شعرة فإن لم يتغير فهو طهور كما
كان لكن يتعذر استعماله: فالطريق إلى ذلك أن يستقى الماء كله ليذهب الشعر معه: فإن كانت
العين فوارة وتعذر نزح الجميع فلينزح ما يغلب على الظن أن الشعر خرج كله: وفسر امام الحرمين
هذا بان تتابع الدلاء بحيث لا تسكن حركة ماء البئر بالدلو الأولى حتى تلحقها الثانية: ثم هكذا
في كل دلو حتى ينزح مثل الماء الذي كان في البئر مرة: قال والاستظهار عندي أن ينزح مثله
مرارا وإذا أخذ من هذه البئر بعد الاستقاء المذكور شيئا فهو طاهر لأنه غير مستيقن النجاسة
148

ولا مظنونها: ولا يضر احتمال بقاء الشعر فان تحقق بعد ذلك شعرا حكم به فلو أخذ قبل النزح
دلوا فنظر فلم ير فيها شعرا فهو طهور قطعا: فلو لم ينظر وغلب على ظنه انه لا ينفك عن شعر
ففي طهارته القولان في تقابل الأصل والظاهر: هكذا ذكره امام الحرمين وهو كلام حسن هذا
كله تفريع على المذهب وهو أن الشعر نجس فان قلنا طاهر فالماء على طهارته صرح به الرافعي
وغيره: ونقل عن الغزالي انه أجري في تدريسه للوسيط هذا الحكم مع القول بطهارة الشعر:
قال لان الشعر يتمغط ملتصقا به شئ من جلد الفأرة ولحمها ذلك نجس: وهذا النقل ان صح
عنه متروك لأنه توهم منجس والأصل عدمه والله أعلم: هذا تفصيل مذهبنا وحكي ابن المنذر وغيره
خلافا منتشرا للعلماء في البئر إذا وقعت فيها نجاسة لم تغيرها: فقال مالك وموافقوه في أن الماء لا ينجس
الا بالتغير هو طاهر يجوز استعماله: وقال وعن علي بن أبي طالب وابن الزبير ينزحها حتى تغلبهم
وعن الحسن والثوري ينزحها كلها: وقال الشعبي والأوزاعي وأبو حنيفة وغيرهم ينزح منها دلاء
مخصوصة (1) واختلفوا في عددها واختلافها باختلاف النجاسة ولا أصل لشئ من ذلك فالصواب
ما قدمناه من مذهبنا ومذهب مالك والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
باب
(ما يفسده الماء من الاستعمال وما لا يفسده)
(الماء المستعمل ضربان مستعمل في طهارة الحدث: ومستعمل في طهارة النجس: فأما المستعمل
في طهارة الحدث فينظر فيه فان استعمل في رفع الحدث فهو طاهر لأنه ماء طاهر لاقى محلا طاهرا
فكان طاهرا: كما لو غسل به ثوب طاهر: وهل تجوز به الطهارة أم لا فيه طريقان: من أصحابنا
من قال فيه قولان المنصوص انه لا يجوز لأنه زال عنده اطلاق اسم الماء فصار كما لو تغير بالزعفران
وروى عنه أنه قال يجوز الوضوء به لأنه استعمال لم يغير صفة الماء فلم يمنع الوضوء

(1) قد حكي قبل عن الثوري ان الماء لا ينجس الا بالتغير كمذهب مالك اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
149

به كما لو غسل به ثوب طاهر ومن أصحابنا من لم يثبت هذه الرواية) *
(الشرح) يعنى بطهارة الحدث الوضوء والغسل واجبا كان أو مندوبا كالأغسال المسنونة
وتجديد الوضوء والغسلة الثانية ثم قسم طهارة الحدث إلى ما رفع حدثا وغيره: وأما قوله المنصوص
انه لا يجوز فخص هذا بأنه منصوص مع أن هذا الثاني عند هذا القائل منصوص أيضا ثابت عن
الشافعي فجوابه أنه أراد بالمنصوص المسطور في كتب الشافعي: وقد استعمل المصنف مثل هذه العبارة
في مواضع: منها في باب الآنية في نجاسة الشعور: وأما قوله وروى عنه فيعني روى عن الشافعي
وهذا الراوي هو عيسى بن أبان الامام المشهور: قال الشيخ أبو حامد نص الشافعي في جميع
كتبه القديمة والجديدة أن المستعمل ليس بطهور: وقال أبو ثور سألت أبا عبد الله عن الوضوء
به فتوقف فيه: وحكي عيسى بن أبان أن الشافعي أجاز الوضوء به وتكلم عليه: قال أبو حامد
فقال بعض أصحابنا مذهب الشافعي أنه غير طهور: وقول أبي ثور لا ندري من أراد بأبي عبد الله
هل هو الشافعي أو مالك أو أحمد ولو أراد الشافعي فتوقفه ليس حكما بأنه طهور: وعيسي بن أبان
مخالف لنا: ولا نأخذ مذهبنا عن المخالفين: وقال بعض الأصحاب عيسى ثقة لا يتهم فيما نحكيه:
ففي المسألة قولان. وقال صاحب الحاوي نصه في كتبه القديمة والجديدة وما نقله جميع أصحابه
سماعا ورواية انه غير طهور: وحكي عيسى بن أبان في الخلاف عن الشافعي انه طهور: وقال أبو ثور
سألت الشافعي عنه فتوقف: فقال أبو إسحاق وأبو حامد المروروذي فيه قولان. وقال ابن سريج
وأبو علي بن أبي هريرة ليس بطهور قطعا. وهذا أصح لان عيسى وإن كان ثقة فيحكي ما حكاه
أهل الخلاف. ولم يلق الشافعي فيحكيه سماعا ولا هو منصوص فيأخذه من كتبه ولعله تأول كلامه
في نصرة طهارته ردا على أبي يوسف فجمله على جواز الطهارة به. وقال المحاملي قول من رد
رواية عيسى ليس بشئ لأنه ثقة وإن كان مخالفا قلت هذا هو الصواب. وان في المسألة قولين
وبهذا الطريق قطع المصنف في التنبيه والفوراني والمتولي وآخرون واتفقوا على أن المذهب الصحيح
150

انه ليس بطهور. وعليه التفريع. وأما قول المصنف زال عنه اطلاق اسم الماء ففيه تصريح بان
المستعمل ليس بمطلق وقد سبق الخلاف فيه في أوائل الباب الأول.
(فرع) قد ذكرنا أن المستعمل
طاهر عندنا بلا خلاف وليس بمطهر على المذهب وفي المسألتين خلاف للعماء. فاما كونه طاهرا
فقد قال به مالك واحمد وجمهور السلف والخلف: وقال أبو يوسف نجس وعن أبي حنيفة ثلاث
روايات. إحداها رواية محمد بن الحسن طاهر كمذهبنا. قال صاحب الشامل وغيره وهو المشهور
عنه. والثانية نجس نجاسة مخففة. والثالثة نجس نجاسة مغلظة. واحتج لهما بقوله صلى الله عليه وسلم
لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه ولا يغتسل فيه من الجنابة قالوا فجمع بين البول والاغتسال
والبول ينجسه وكذا الاغتسال. قالوا ولأنه أدى به فرض طهارة فكان نجسا كالمزال به النجاسة.
واحتج أصحابنا بحديث جابر رضي الله عنه قال مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي
الله عنه يعوداني فوجداني قد أغمي على فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه على فأفقت
رواه البخاري ومسلم هكذا احتج به أصحابنا والبيهقي منهم: وقد يعترض على الاستدلال به والجواب
ظاهر واحتجوا أيضا بقوله صلى الله عليه وسلم الماء طهور لا ينجسه شئ وهو حديث صحيح
سبق بيانه في أول الكتاب ومواضع بعده وهو على عمومه الا ما خص لدليل: واحتج الشافعي ثم
الأصحاب بان النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم كانوا يتوضؤن ويتقاطر على ثيابهم ولا يغسلونها:
واحتجوا بما ذكره المصنف ماء طاهر لاقي محلا طاهرا فكان طاهرا كما لو غسل به ثوب طاهر.
151

ولأن الماء طاهر والأعضاء طاهرة فمن أين النجاسة. قالت الحنفية لا يمتنع مثل هذا فان الشافعي
قال لو وطئ عبد أمة يعتقدها حرة فولدت فالولد حر فالحرية من أين جاءت: فأجاب الشيخ أبو حامد
بأن حكم الولد يتغير بالاعتقاد ولهذا لو وطئ أمة يعتقدها أمة كان الولد رقيقا ولو اعتقدها حرة
كان حرا. فيتغير بالاعتقاد وليس الماء كذلك. والجواب عن حديث لا يبولن أحدكم
في الماء الدائم ولا يغتسل فيه من الجنابة من أوجه. أحدها أن هذا الحديث رواه هكذا
أبو داود في سننه من رواية محمد بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
ورواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا يبولن
أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه وفي رواية لمسلم لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب
فقيل لأبي هريرة كيف يفعل قال يتناوله تناولا فهاتان الروايتان خلاف رواية أبي داود قال
البيهقي رواية الحفاظ من أصحاب أبي هريرة كما رواه البخاري ومسلم وأشار البيهقي إلى تقديم
هذه الرواية وجعله جوابا لاستدلالهم به لكن لا يرتضى هذا الجواب ولا الترجيح لان الترجيح
إنما يستعمل إذا تعذر الجمع بين الروايتين وليس هو متعذرا هنا بل الجواب المرضي ما اعتمده
أصحابنا لأنه لا يلزم اشتراك القرينين في الحكم قال الله تعالى (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه)
فالاكل غير واجب والايتاء واجب وأجاب الشيخ أبو حامد بأن المراد اشتراكهما في منع
الوضوء به بعد ذلك: ونحن نقول به بشرط كون الماء دون قلتين: وجواب آخر وهو ان النهي عن
البول والاغتسال فيه ليس لأنه ينجس بمجرد ذلك بل لأنه يقذره ويؤدى إلى تغيره: ولهذا
نص الشافعي والأصحاب على كراهة الاغتسال في الماء الراكد وإن كان كثيرا: وسنوضحه في باب
الغسل إن شاء الله تعالى: وعلى الجملة تعلقهم بهذا الحديث وحكمهم بنجاسة الماء به عجب
152

وأما قياسهم على المزال به نجاسة فجوابه من أوجه: أحدها لا نسلم نجاسته إذا لم يتغير وانفصل
وقد طهر المحل: الثاني أنا حكمنا بنجاسته لملاقاته محلا نجسا بخلاف المستعمل في الحدث: الثالث
انه انتقلت إليه النجاسة: والله أعلم: وأما المسألة الثانية وهي كونه ليس بمطهر فقال به أيضا أبو حنيفة
واحمد وهو رواية عن مالك ولم يذكر ابن المنذر عنه غيرها وذهب طوائف إلى أنه مطهر وهو
قول الزهري ومالك والأوزاعي في أشهر الروايتين عنهما وأبي ثور وداود قال ابن المنذر وروى
عن علي (1) وابن عمر وأبي امامه وعطاء والحسن ومكحول والنخعي انهم قالوا فيمن نسي مسح
رأسه فوجد في لحيته بللا يكفيه مسحه بذلك البلل: قال ابن المنذر وهذا يدل على أنهم يرون المستعمل
مطهرا قال وبه أقول * واحتج لهؤلاء بقول الله تعالى (وأنزلنا من السماء ماء طهورا) والفعول
لما يتكرر منه الفعل: وبما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ فمسح رأسه بفضل ماء في
يده وفي حديث آخر أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ببلل لحيته: وعن ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم اغتسل فنظر لمعة من بدنه لم يصبها الماء فأخذ شعرا من بدنه عليه ماء فأمره
على ذلك الموضع: قالوا ولأنه ماء لاقى طاهرا فبقي مطهرا كما لو غسل به ثوب: ولأنه مستعمل
فجاز الطهارة به كالمستعمل في تجديد الوضوء: ولان ما أدى به الفرض مرة لا يمتنع أن يؤدى به
ثانيا كما يجوز للجماعة أن يتيمموا من موضع واحد وكما يخرج الطعام في الكفارة ثم يشتريه ويخرجه
فيها ثانيا وكما يصلى في الثوب الواحد مرارا: قالوا ولأنه لو لم تجز الطهارة بالمستعمل لامتنعت
الطهارة لأنه بمجرد حصوله على العضو يصير مستعملا فإذا سال على باقي العضو ينبغي أن لا يرفع
الحدث وهذا متروك بالاجماع فدل أن المستعمل مطهر: واحتج أصحابنا بحديث الحكم بن عمر و
رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة رواه
أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم قال الترمذي حديث حسن وقال البخاري ليس هو بصحيح:
قالوا ووجه الاستدلال أن المراد بفضل طهورها ما سقط عن أعضائها لأنا اتفقنا نحن والمنازعون
على أن الباقي في الاناء مطهر فتعين حمله على الساقط وفي صحة هذا الحديث والاستدلال به هنا نظر

(1) هذا يحتمل أن يكون من الثانية والثالثة وهو الغالب والأصح انه طهور فلا دلالة فيه اه‍ أذرعي
153

وسيأتي بيانه أوضح من هذا في باب الغسل إن شاء الله تعالى حيث ذكره المصنف واحتجوا
بحديث أبي هريرة السابق مع أبي حنيفة لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب قالوا والمراد
نهيه لئلا يصير مستعملا وفي هذا الاستدلال نظر لان المختار والصواب أن المراد بهذا الحديث
النهى عن الاغتسال في الدائم وإن كان كثيرا لئلا يقذره وقد يؤدى تكرار ذلك إلى تغيره *
واحتجوا بالقياس على المستعمل في إزالة النجاسة ولكن الفرق ظاهر وأقرب شئ يحتج به ما احتجوا
به قال امام الحرمين وهو عمدة المذهب ان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم احتاجوا
في مواطن من أسفارهم الكثيرة إلى الماء ولم يجمعوا المستعمل لاستعماله مرة أخرى: فان قيل تركوا
الجمع لأنه لا يتجمع منه شئ فالجواب أن هذا لا يسلم وان سلم في الوضوء لم يسلم في الغسل: فان قيل
لا يلزم من عدم جمعه منع الطهارة به ولهذا لم يجمعوه للشرب والطبخ والعجن والتبرد ونحوها مع
جوازها به بالاتفاق: فالجواب ان ترك جمعه للشرب ونحوه للاستقذار فان النفوس تعافه في العادة
وإن كان طاهرا كما استقذر النبي صلى الله عليه وسلم الضب وتركه فقيل أحرام هو قال لا ولكني أعافه
وأما الطهارة به ثانية فليس فيها استقذار فتركه يدل على امتناعه * ومما احتجوا به أن السلف اختلفوا
فيمن وجد من الماء بعض ما يكفيه لطهارته هل يستعمله ثم يتيمم للباقي أم يتيمم ويتركه
ولم يقل أحد يستعمله ثم يجمعه ثم يستعمله في بقية الأعضاء ولو كان مطهرا لقالوه: فان قيل
لأنه لا ينجمع منه شئ: فالجواب لا نسلم ذلك بل الحال في ذلك مختلف كما قدمته قريبا: وأما
الجواب عن احتجاجهم بالآية فمن وجهين أحدهما لا نسلم ان فعولا يقتضي التكرر مطلقا بل منه
ما هو كذلك ومنه غيره وهذا مشهور لأهل العربية: والثاني المراد بطهور المطهر والصالح
للتطهير والمعد لذلك: وأما قولهم توضأ النبي صلى الله عليه وسلم فمسح رأسه بفضل ماء كان
في يده فهذا الحديث رواه هكذا أبو داود في سننه واسناده عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن
الربيع بنت معوذ رضي الله عنها: وروى مسلم وأبو داود وغيرهما عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه
أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فذكر صفة الوضوء إلى أن قال ومسح برأسه بماء
154

غير فضل يديه وغسل رجليه وهذا هو الموافق لروايات الأحاديث الصحيحة في أنه صلى الله
عليه وسلم أخذ لرأسه ماء جديدا: فإذا ثبت هذا فالجواب عن الحديث من أوجه: أحدها أنه
ضعيف فان راويه عبد الله بن محمد ضعيف عند الأكثرين وإذا كان ضعيفا لم يحتج بروايته
لو لم يخالفه غيره: ولان هذا الحديث مضطرب عن عبد الله بن محمد قال البيهقي قد روى شريك
عن عبد الله في هذا الحديث فأخذ ماء جديدا فمسح رأسه مقدمه ومؤخره: (الجواب الثاني)
لو صح لحمل على أنه أخذ ماء جديدا صب بعضه ومسح رأسه ببقيته ليكون موافقا لسائر
الروايات وعلى هذا تأوله البيهقي على تقدير صحته: (الثالث) يحتمل أن الفاضل في يده من الغسلة
الثالثة لليد ونحن نقول به على الصحيح وكذا في سائر نفل الطهارة: وأما قولهم مسح رأسه ببلل
لحيته فجوابه من وجهين أحدهما أنه ضعيف والثاني حمله على بلل الغسلة الثانية والثالثة وهو مطهر
على الصحيح: وأما قولهم اغتسل وترك لمعة ثم عصر عليها شعرا فجوابه من أوجه: أحدها أنه
ضعيف وقد بين الدارقطني ثم البيهقي ضعفه قال البيهقي وإنما هو من كلام النخعي: الثاني لو صح
لحمل على بلل باق من الغسلة الثالثة (الثالث) ان حكم الاستعمال إنما يثبت بعد الانفصال عن
العضو وهذا لم ينفصل وبدن الجنب كعضو واحد ولهذا لا ترتيب فيه: وأما قياسهم على ما غسل
به ثوب وعلى تجديد الوضوء فجوابه أنه لم يؤد به فرض: وأما قياسهم على تيمم الجماعة فجوابه
أن المستعمل ما علق بالعضو أو سقط عنه على الأصح وأما الباقي بالأرض فغير مستعمل قطعا
فليس هو كالماء: وأما طعام الكفارة فإنما جاز أداء الفرض به مرة أخري لتجدد عود الملك
فيه فنظيره تجدد الكثرة في الماء ببلوغه قلتين ونحن نقول به على الصحيح: وأما الثوب فلم يتغير
من صفته شئ فلا يسمي مستعملا بخلاف الماء وتغير الصفات مؤثر فيما أدى به الفرض. كالعبد
155

يعتقه عن كفارة: وأما قولهم لو لم تجز الطهارة به لامتنعت الخ فجوابه انا لا نحكم بالاستعمال ما دام
مترددا على العضو بلا خلاف فلا يؤدي إلى مفسدة ولا حرج والله أعلم: وله الحمد والنعمة:
* قال المصنف رحمه الله *
(وان قلنا لا يجوز الوضوء به فهل تجوز إزالة النجاسة به أم لا فيه وجهان قال أبو القاسم
الأنماطي وأبو علي بن خيران رحمة الله عليهما يجوز لان للماء حكمين رفع الحدث وإزالة النجس
فإذا رفع الحدث بقي إزالة النجس والمذهب أنه لا يجوز لأنه ماء لا يرفع الحدث فلم يزل
النجس كالماء النجس) *
(الشرح) هذان الوجهان مشهوران واتفقوا على تصحيح عدم الجواز كما ذكره المصنف
وقطع به جماعة من المصنفين وهو المنصوص وبه قال جمهور أصحابنا أصحاب الوجوه: وأما قول
الأنماطي للماء حكمان فلا يسلم أن له حكمين على جهة الجمع بل على البدل: ومعناه أنه يصلح لهذا
ولهذا فأيهما فعل لم يصلح بعده للآخر قال الأصحاب وهذا كما أنه يصلح لرفع الحدث الأصغر
وللجنابة فلو استعمله في أحدهما لم يصلح للآخر بالاتفاق من الأنماطي وغيره والله أعلم *
(فرع)
الأنماطي بفتح الهمزة هو أبو القاسم عثمان بن سعيد بن بشار بالباء الموحدة وكان اماما عظيما جليل
المرتبة أخذ الفقه عن المزني والربيع قال المصنف وكان هو السبب في نشر مذهب الشافعي ببغداد
وكتب كتبه وعليه تفقه ابن سريج وهو أحد أجدادنا في سلسلة التفقه توفى ببغداد سنة ثمانين
ومائتين رحمه الله * وأما ابن خيران فهو أبو علي الحسن بن الإمام (1) الجليل الزاهد الورع طلبوه للقضاء
فامتنع فحبسوه مدة وصبر على امتناعه ثم أطلقوه وعتب على ابن سريج لكونه تولى القضاء وقال
هذا الامر لم يكن في أصحابنا وإنما كان بلية في أصحاب أبي حنيفة رحمه الله توفى أبو علي سنة
عشرين وثلاثمائة وربما اشتبه أبو علي بن خيران هذا بابي الحسن بن خيران البغدادي صاحب
الكتاب المسمي باللطيف وهو كتاب حسن رأيته في مجلدتين لطيفتين وهو متأخر عن أبي على
ابن خيران والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(فان جمع المستعمل حتى صار قلتين فوجهان أحدهما يزول حكم الاستعمال كما يزول حكم
النجاسة ولأنه لو توضأ فيه أو اغتسل وهو قلتان لم يثبت له حكم الاستعمال فإذا بلغ قلتين وجب أن
يزول عنه حكم الاستعمال * والثاني لا يزول لان المنع منه لكونه مستعملا وهذا لا يزول بالكثرة) *

(1) بياض بأصل المصنف رضي الله عنه هكذا في هامش نسخة الأذرعي والذي في طبقات ابن السبكي ان اسمه الحسين بن صالح ابن خيران اه‍ مصححه
156

(الشرح) الكثرة بفتح الكاف وكسرها حكاهما الجوهري وغيره والفتح أشهر وأفصح وبه
جاء القرآن وهذان الوجهان مشهوران وتعليلهما مذكور واتفقوا على أن الأصح زوال حكم الاستعمال
وقطع به جماعات من أصحاب المختصرات منهم المحاملي في المقنع والجرجاني في كتابيه التحرير
والبلغة: قال الروياني وهو المنصوص في الأم والجامع الكبير وهو قول أبي إسحاق والوجه الآخر وهو
قول ابن سريج كذا حكاه عنه الشيخ أبو حامد والماوردي وغيرهما وخالفهم البندنيجي وصاحب
الإبانة فحكيا عن ابن سريج انه يزول حكم الاستعمال والشيخان أعرف من صاحب الإبانة واتقن
ويجوز أن يكون لابن سريج فيه وجهان ويؤيده أن ابن القاص قال في التلخيص سمعت أبا العباس
ابن سريج يقول إذا بلغ الماء قلتين لم يضره الاستعمال وهذا ظاهر أنه أراد إذا جمع المستعمل
فبلغ قلتين ثم رأيت لابن سريج في كتابه المسمى كتاب الأقسام في ذلك وجهين وكيف كان فالقول
بأنه غير طهور ضعيف: قال أبو حامد والمحاملي هو غلط واحتج الأصحاب للصحيح بالعلتين المذكورتين
في الكتاب وهما متفق عليهما قالوا وهو أولى بالجواز من الماء النجس لأن النجاسة أغلظ والفرق
على الوجه الآخر بينه وبين الماء النجس ما فرق به الفوراني وصاحبه المتولي وغيرهما قالوا النجاسة
صارت مستهلكة فسقط أثرها عند ظهور قوة الماء بالكثرة وصفة الاستعمال ثابتة لجميعه فنظيره من
الماء النجس ما لو كانت النجاسة ملاقية لكل جزء من الماء بأن كان متغيرا ففي هذه الحالة لا يزول حكم النجاسة ببلوغه قلتين مع بقاء التغير والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان استعمل في نقل الطهارة كتجديد الوضوء والدفعة الثانية والثالثة فوجهان أحدهما لا تجوز
الطهارة لأنه مستعمل في طهارة فهو كالمستعمل في رفع حدث: والثاني يجوز لأنه لم يرفع به حدث
ولا نجس فهو كما لو غسل به ثوب طاهر)
(الشرح) الوجهان مشهوران واتفق الجماهير في جميع الطرق على أن الصحيح انه ليس بمستعمل
وهو ظاهر نص الشافعي وقطع به المحاملي في المقنع والجرجاني في كتابيه: قال الشيخ أبو حامد وغيره
الوجه الآخر غلط وشذ امام الحرمين عن الأصحاب فقال الأصح انه مستعمل قال المحاملي في
المجموع هذان الوجهان خرجهما ابن سريج قال ومذهب أبي حنيفة أنه مستعمل قال أصحابنا
157

ويجرى الوجهان في جميع أنواع نفل الطهارة كتجديد الوضوء والغسلة الثانية والثالثة وغسل
الجمعة وسائر الأغسال المسنونة وماء المضمضة والاستنشاق واتفقوا على أن المستعمل في الغسلة
الرابعة ليس بمستعمل لأنها ليست بنفل: وأما الجنب إذا اغتسل بماء قليل فالمرة الأولى مستعملة
وفي الثانية والثالثة الوجهان لأنهما نفل وقال الماوردي ليست الثانية والثالثة مستعملتين قطعا لان
تكرار الثلاثة مأثور في الوضوء وإزالة النجاسة دون الغسل وهذا الذي قاله ضعيف وشاذ بل
الصواب الذي عليه الجمهور استحباب الثلاث في الغسل وسنوضحه إن شاء الله تعالى في بابه ونبين
خلائق ممن صرح به: وأما تجديد الغسل فالصحيح انه لا يستحب وفى وجه يستحب فعلى هذا الوجه
في كونه مستعملا الوجهان وعلى الصحيح ليس بمستعمل قطعا ذكره امام الحرمين: وأما الماء الذي
استعمله الصبي فالمذهب انه مستعمل وبه قطع البغوي لأنه رفع حدثا وحكي القاضي حسين وجها آخر
انه غير مستعمل لأنه لم يؤدبه فرضا ولهذا الفصل فروع سأذكرها في آخر الباب إن شاء الله تعالى
والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وأما المستعمل في النجس فينظر فيه فان انفصل عن المحل متغيرا فهو نجس لقوله صلى الله عليه وسلم
الماء طهور لا ينجسه شئ الا ما غير طعمه أو ريحه وإن كان غير متغير فثلاثة أوجه أحدها انه
طاهر وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق لأنه ماء لا يمكن حفظه من النجاسة فلم ينجس من غير تغير
كالماء الكثير إذا وقع فيه نجاسة: والثاني انه نجس وهو قول الأنماطي لأنه ماء قليل لا قي
نجاسة فأشبه إذا وقعت فيه نجاسة: والثالث انه ان انفصل والمحل طاهر فهو طاهر وان انفصل
والمحل نجس فهو نجس وهو قول ابن القاص لان المنفصل من جملة الباقي في المحل فكان حكمه في
النجاسة والطهارة حكمه: فان قلنا إنه طاهر فهل يجوز الوضوء به فيه وجهان قال ابن خير ان يجوز
وقال سائر أصحابنا لا يجوز وقد مضي توجيههما) *
(الشرح) اما الحديث المذكور فسبق في أول باب ما يفسد الماء من النجاسات انه ضعيف
ولكن يحتج على نجاسة الماء المتغير بنجاسة بالاجماع كما سبق هناك:
وأما أبو العباس فهو ابن
سريج الامام المشهور وهذا أول موضع جاء ذكره فيه في المهذب وقد ذكرت في فصول مقدمة
الكتاب انه متى أطلق في المهذب أبا العباس فهو ابن سريج وهو أحمد بن عمر بن سريج الامام
البارع قال المصنف في الطبقات كان القاضي أبو العباس بن سريج من عظماء الشافعيين وأئمة
158

المسلمين وكان يقال له الباز الأشهب وولي القضاء بشيراز وكان يفضل على جميع أصحاب الشافعي
قال وفهرست كتبه يعنى مصنفاته تشتمل على أربعمائة مصنف وقام بنصرة مذهب الشافعي تفقه.
على أبي القاسم الأنماطي وأخذ عنه فقهاء الاسلام وعنه انتشر فقه الشافعي في أكثر الآفاق توفى ببغداد سنة
ست وثلاثمائة رحمه الله (قلت) وهو أحد أجدادنا في سلسلة التفقه: أما حكم الفصل فغسالة النجاسة
ان انفصلت متغيرة الطعم أو اللون أو الريح بالنجاسة فهي نجسة بالاجماع والمحل المغسول باق على
نجاسته وإن لم يتغير فإن كانت قلتين فطاهرة بلا خلاف ومطهرة على المذهب: وقيل في كونها مطهرة وجهان
وسنذكرهما إن شاء الله تعالى وإن كانت دون القلتين فثلاثة أوجه وحكاها الخراسانيون أقوالا
أصحها الثالث وهو أنه ان انفصل وقد طهر المحل فطاهرة والا فنجسة قال الخراسانيون وهذا هو
الجديد وصححه الجمهور في الطريقتين: وقطع به المحاملي في المقنع والجرجاني في البلغة وشذ
الشاشي فصحح في كتابيه المعتمد والمستظهري أنها طاهرة مطلقا وهو طاهر كلام المصنف في التنبيه
والمختار ما صححه الجمهور قالوا والقول بالطهارة مطلقا هو القديم وبالنجاسة مطلقا خرجه الأنماطي
من رفع الحدث: ووجه التخريج أنه انتقل إليه المنع كما في المستعمل في رفع الحدث قالوا فالجديد
يقول حكم الغسالة حكم المحل بعد الغسل والقديم حكمها حكمها قبل الغسل والمخرج لها حكم المحل
قبل الغسل ويتخرج على هذا الخلاف غسالة ولوغ الكلب: فإذا وقع من الأولى شئ على ثوب
أو غيره فعلى القديم لا يجب غسله وعلى الجديد يغسل ستا وعلى المخرج سبعا: ولو وقع من السابعة
لم يغسل على الجديد والقديم ويغسل على المخرج مرة ومتى وجب الغسل عنها فان سبق التعفير
بالتراب لم يجب والا وجب وفي وجه ضعيف لكل غسلة سبع حكم المحل فيغسل منها مرة هذا
كله إذا لم يزد وزن الغسالة فإن كانت النجاسة ببول مثلا فغسل فزاد وزن الغسالة ولم يتغير
فطريقان المذهب القطع بأنها نجسة والثاني فيها الأقوال أو الأوجه: هذا كله في الغسل الواجب
فإذا اغسل المحل النجس غسلة واحدة فزالت النجاسة وحكمنا بطهارة المحل فهذه الغسالة طاهرة
على الأصح كما ذكرنا وهل هي مطهرة في إزالة النجاسة مرة أخرى فيه الطريقان السابقان في أن
المستعمل في الحدث هل يستعمل مرة أخرى في الحدث أصحهما لا والثاني على قولين فإذا قلنا
هي مطهرة في إزالة النجس ففي الحدث أولى: وان قلنا ليست مطهرة في النجس وهو المذهب
فهل هي مطهرة في الحدث فيه الوجهان المذكور ان في الكتاب: الصحيح ليست مطهرة: وأما
159

الغسلة الثانية والثالثة في إزالة النجاسة فطاهرتان بلا خلاف وهل هما مطهرتان في إزالة النجاسة
فيه الوجهان المذكوران في المستعمل في نفل الطهارة أصحهما مطهرتان: فان قلنا مطهرتان في
النجاسة ففي الحدث أولى والا فالوجهان: وأما الغسلة الرابعة فمطهرة بلا خلاف لأنها ليست
مشروعة: وإذا بلغ المستعمل في النجاسة الطاهر قلتين فالمذهب أنه مطهر قولا واحدا لحديث
القلتين وبهذا قطع الجرجاني في التحرير والبلغة وغيره وحكي البغوي فيه الوجهين في المستعمل في
الحدث و الله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بالباب إحداها قد تقرر أن المستعمل في طهارة الحدث في المرة
الأولى يحكم بأنه مستعمل بلا خلاف (1) * واختلف الأصحاب في علة كونها مستعملة على
وجهين أحدهما كونها أدى بها عبادة فعلى هذا المستعمل في نفل الطهارة ليس بطهور: وأصحهما
أن العلة كونها أدى بها فرض الطهارة والمراد بفرض الطهارة ما لا تجوز الصلاة ونحوها ووطئ
المغتسلة عن حيض الا به لا ما يأثم بتركه فيدخل فيه غسل الكتابية عن الحيض ووضوء الصبي

(1) أي على الجديد الصحيح وفيه القول القديم اه‍ أذرعي
160

والوضوء للنافلة ولا تدخل الغسلة الرابعة على الوجهين فليست عبادة: وقولنا أدى بها فرض
الطهارة هذه هي العبارة الصحيح (1) المشهورة التي قالها الأكثرون منهم امام الحرمين
والغزالي في البسيط: وخالفهم الغزالي في الوسيط فقال العلة انتقال المنع وهذه العبارة غريبة قل
أن توجد لغيره وفيها تجوز إذ ليس هنا انتقال محقق ولكنها صحيحة في الجملة والله أعلم *
(الثانية) الحنفي إذا توضأ بماء هل يصير مستعملا: حكي صاحب البيان فيه ثلاثة أوجه
بناء على جواز اقتداء الشافعي به: أحدها أنه كالشافعي ان نوى صار مستعملا وإلا فلا فإنه
لا يصح وضوؤه حينئذ: والثاني لا يصير وان نوى لأنه لا يعتقد وجوب النية: والثالث
يصير وإن لم ينو لأنه محكوم بصحة صلاته ولهذا لا يقتل بالاتفاق وهذا الثالث أصح (الثالثة)
لو غسل المتوضئ رأسه بدل مسحه فوجهان مشهوران حكاهما أبو علي الطبري في الافصاح
والماوردي في الحاوي والدارمي في الاستذكار وآخرون قالوا حكاهما أبو علي بن أبي هريرة
أحدهما لا يصير مستعملا لأنه المستحق في الرأس المسح: والثاني يصير لان الزيادة في الاستعمال
على قدر الحاجة لا يمنع مصيره مستعملا كما لو توضأ بصاع من يكفيه نصف صاع فان الكل
مستعمل وهذا الثاني هو الأصح: وممن صححه الشاشي في كتابيه المعتمد والمستظهري (الرابعة)

(1) ينبغي حذفه لأنه ذكر بعد أن الأخرى صحيحة ولعل الذي دعا الغزالي إليها وضوء الصبي ونحوه والله أعلم اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
161

لو غمس المستيقظ من النوم يده في الاناء قبل غسلها فقد ارتكب مكروها ولا يصير الماء مستعملا
هذا هو المذهب وهو المشهور وبه قطع القاضي حسين وغيره: وحكي صاحب البيان فيه طريقتين
أحدهما هذا والثاني في مصيره مستعملا وجهان كالمستعمل في نفل الطهارة وهذا قول أبي على
الطبري: (الخامسة) قال القاضي حسين وامام الحرمين لو تقاطر من أعضاء المتطهر قطرات
في الاناء فإن كان قدرا لو كان مخالفا للماء لغيره لم تجز الطهارة به وهذه المسألة تقدمت في آخر
الباب الأول مبسوطة (السادسة) إذا جرى الماء من عضو المتطهر إلى عضوه الآخر فإن كان
محدثا صار بانفصاله عن الأول مستعملا فلا يرفع الحدث عن الثاني وسواء في ذلك اليدان
وغيرهما هذا هو الصحيح الذي قطع به صاحب الحاوي وغيره: وحكي صاحب البيان في باب
التيمم وجها أنه إذا انتقل من يد إلى يد لا يصير مستعملا لان اليدين كعضو واحد ولهذا لا ترتيب
فيهما والصواب الأول لأنهما عضوان متميزان: وإنما عفونا عن ذلك في العضو الواحد للضرورة
وإن كان المتطهر جنبا فقال صاحب الحاوي والبحر فيه وجهان أحدهما يصير مستعملا فلا يرفع
الجنابة عن العضو الذي انتقل إليه كالمحدث قالا وأصحهما لا يصير مستعملا حتى ينفصل
عن كل البدن لأنه كله كعضو: وقال الفوراني والمتوالي وصاحب العدة إذا صب الجنب على رأسه
الماء فسقط من الرأس إلى البطن وخرق الهواء صار مستعملا لانفصاله وحكى امام الحرمين هذا
162

الكلام عن بعض المصنفين ويعني به صاحب الإبانة الفوراني: قال الامام وفي هذا فضل نظر
فان الماء إذا كان يتردد على الأعضاء وهي متفاوتة الخلقة وقع في جريانه بعض التقاذف من
عضو إلى عضو لا محالة ولا يمكن الاحتراز من هذا كيف ولم يرد الشرع بالاعتناء بهذا أصلا فما
كان من هذا الجنس فهو عفو قطعا: وأما التقاذف الذي لا يقع الا نادرا فإن كان قصد (1)
فهو مستعمل: وان اتفق ذلك بلا قصد لم يمتنع أن يعفى عنه فان الغالب على الظن أنه كان يقع
أمثال هذا من الأولين وما وقع عنه بحث من سائل ولا تنبيه من مرشد: (السابعة) إذا غمس
المتوضئ يده في إناء فيه دون القلتين فإن كان قبل غسل الوجه لم يصر الماء مستعملا سواء نوى
رفع الحدث أم لا: وإن كان بعد غسل الوجه فهذا وقت غسل اليد ففيه تفصيل ذكره امام
الحرمين وجماعات من الخراسانيين قالوا إن قصد غسل اليد صار مستعملا وارتفع الحدث عن
الجزء الأول من اليد وهو الذي قارنته النية وهل يرتفع عن باقي اليد فيه خلاف سنذكره إن شاء الله
تعالى بين الخضري والجماعة: المذهب انه يرتفع: وان قصد بوضع يده في الاناء أخذ
الماء لم يصر مستعملا وان وضع اليد ولم يخطر له واحدة من الثنتين فالمشهور الذي اقطع به الامام
والجمهور انه يصير مستعملا لان من نوى وعزبت نيته ثم غسل بقية الأعضاء بلا قصد ارتفع
حدثه: وقال الغزالي المشهور انه مستعمل ويتجه (2) أن يقال هيئة الاغتراف صارفة للملاقاة
إلى هذه الجهة بحكم العادة فلا يصير مستعملا وهذا الاحتمال الذي ذكره الغزالي قطع به البغوي

(1) لا مخل للقد هنا أعني في التقاذف اه‍ أذرعي
(2) إنما يتم اتجاها بما ذكر في درسه من أنه أولانا وللوضوء والاغتراف وتمسك أيضا بحال الأولين اه‍ أذرعي
163

فجزم في آخر باب الغسل بأنه لا يصير مستعملا: والجنب بعد النية كالمحدث يعد غسل وجه إذ
لا ترتيب في حقه فهذا وقت غسل يده: وقال صاحب التتمة إذا أدخل الجنب يده ناويا غسل
الجنابة ليقلب الماء على رأسه ولم يقصد أن يكون أخذه لرأسه دون يده قال المحققون ترتفع
الجنابة عن يده إذا أخرجها ويصير مستعملا: فان قلب الماء الذي في يده على رأسه لم يرتفع
حدثه: قال ومن أصحابنا من قال لا يصير مستعملا لأنه لا يقصد من حيث العادة غسل اليد وإنما
يجعلها آلة فتصير كقصد الاغتراف فعلى هذا يجب غسل اليد بعد هذا قال والمحدث بعد غسل
الوجه كالجنب والله أعلم: (الثامنة) قد سبق أن الماء ما دام مترددا على العضو لا يصير مستعملا
بالنسبة إلى ذلك العضو فإذا نزل جنب في ماء واغتسل فيه نظر: إن كان قلتين ارتفعت جنابته
ولا يصير مستعملا بلا خلاف صرح به أصحابنا في جميع الطرق وصرحوا بأنه لا خلاف فيه وقد
ذكره المصنف في قوله: ولأنه لو توضأ فيه أو اغتسل وهو قلتان لم يثبت له حكم الاستعمال وكذا
لو اغتسل في قلتين جماعات مجتمعين أو متفرقين ارتفعت جنابتهم ولم يصر مستعملا وقد نقل
الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق نص الشافعي رحمه الله على أن الجماعات إذا اغتسلوا في
القلتين لا يصير مستعملا وكذا صرح به البغوي في باب الغسل وخلائق لا يحصون ولا نعلم فيه
خلافا وإنما نبهت على هذا لان في كتاب الانتصار أبي سعد بن أبي عصرون انه لو اغتسل
جماعة في ماء لو فرق على قدر كفايتهم استوعبوه أو ظهر تغيره لو خالفه صار مستعملا في أصح
الوجهين وهذا الذي ذكره شاذ منكر مردود لا يعرف ولا يعرج (1) عليه وإنما نبهت عليه لئلا يغتر به
ونحو هذا ما ذكره صاحب البيان قال ذكر صاحب الشامل انه لو انغمس في قلتين أو أدخل يده فيه بنية
غسل الجنابة ففيه وجهان أصحهما ترتفع جنابته ولا يصير مستعملا والثاني ترتفع ويصير مستعملا

(1) أقول هذه مبالغة منه رحمه الله وابن عصرون لم ينفرد بهذا وإنما اخذه من كلام شيخه أبي على الفارقي ذكره في فوائد المهذب وهو امام ثبت وقد جزم أبو علي الفارقي بما جعله أبو سعد أصح الوجهين والتضعيف يحصل بدون هذا اه‍ أذرعي
164

وهذا النقل غلط من صاحب البيان ولم يذكر صاحب الشامل (1) هذا الذي زعمه بل ذكر
مسألة المستعمل إذا جمع فبلغ قلتين هل يعود طهورا فيه الوجهان لكن في عبارته بعض الخفاء
فأوقع صاحب البيان في ذلك الوهم الباطل وليس في عبارته لبس واشكال كبير بحيث يلتبس
هذا الالتباس: فحصل انه ليس في المسألة خلاف ما دام الماء قلتين: أما إذا نزل في دون قلتين
فينظر: ان نزل بلا نية فلما صار تحت الماء نوى الغسل ارتفعت جنابته في الحال ولا يصير الماء
مستعملا بالنسبة إليه حتى ينفصل منه هكذا قاله الأصحاب واتفقوا عليه وفيه نظر: لان
الجنابة ارتفعت وإنما قالوا لا يصير الماء مستعملا ما دام الماء على العضو للحاجة إلى رفع
الحدث عن باقيه ولا حاجة هنا فان الجنابة ارتفعت بلا خلاف: وهذا الاشكال ذكره
الرافعي وغيره وهو ظاهر (2): وأما بالنسبة إلى غير هذا المغتسل فيصير في الحال مستعملا
على الصحيح الذي قطع به الجمهور وممن قطع به الشيخ أبو محمد الجويني في الفروق والمتولي
والروياني وغيرهم وفيه وجه أنه لا يصير حتى ينفصل كما في حق المغتسل ذكره البغوي
وهو غريب ضعيف: قال امام الحرمين ولو كان المنغمس فيه متوضئا فهو كالجنب وأما إذا نزل
الجنب ناويا فقد صار الماء بنفس الملاقاة مستعملا بالنسبة إلى غيره على الصحيح وفيه وجه
البغوي وارتفعت الجنابة عن القدر الملاقي للماء من بدنه أول نزوله وكذا لو نزل إلى وسطه
مثلا بلا نية ثم نوى ارتفعت جنابة ذلك القدر من بدنه بلا خلاف وهل ترتفع جنابة الباقي من
بدنه في الصورتين إذا تم الانغماس: فيه وجهان أحدهما لا: وقد صار مستعملا قاله أبو عبد الله
الخضري (بكسر الخاء واسكان الضاد المعجمتين) من كبار أصحابنا الخراسانيين ومتقدميهم:
والثاني وهو المنصوص وهو الصحيح باتفاق الأصحاب يرتفع لأنه إنما يصير مستعملا إذا انفصل
ولأنه لو ردد الماء عليه لم يصر مستعملا حتى ينفصل وهاتان القاعدتان وافق عليهما الخضري
قال امام الحرمين قول الخضري غلط وقد ذكر صاحب الإبانة والعدة أن الخضري رجع عنه:
وصورة المسألة إذا تم غسل الباقي بالانغماس كما ذكرناه أولا: أما لو اغترف الماء بإناء أو يده

(1) عبارة الشامل (فصل) فان جمع الماء المستعمل فبلغ قلتين
كان طاهرا مطهرا نص عليه في الأم: فقال ولو اغتسل الجنب في قلتين فالماء
طهور: ومن أصحابنا من قال لا يجوز التوضؤ به لان الاستعمال حاصل في جميعه
فالاستعمال مانع من طريق الحكم فلا تؤثر فيه الكثرة اه‍ لفظه وكأن صاحب البيان
توهم ان قوله ومن أصحابنا من قال الخ أورده في مقابلة النص وليس كذلك وإنما
أورده في مقابلة قوله في أول الفصل فان جمع المستعمل الخ لكن في قول ابن الصباغ
ان مسألة الجمع مسألة النص نظر وكأن أراد انها في معناها لا أنها هي بعينها
والله أعلم اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
(2) قد أجيب عن هذا الاشكال بان صورة الاستعمال أعطيت حكم الاستعمال كالغسلة
الثانية والتسليمة الثانية أعطيتا حكم الأولى في الطهورية والطهارة اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
165

وصبه على رأسه أو غيره فلا ترتفع جنابة ذلك القدر الذي اغترف له بلا خلاف صرح به المتولي
والروياني وغيرهما وهو واضح لأنه انفصل: ولو نزل جنبان في دون قلتين نظر: ان نزلا بلا نية
ثم لما صارا تحت الماء نويا معا ان تصور ذلك ارتفعت جنابتهما وصار مستعلا فان نوى أحدهما
قبل الآخر ارتفعت جنابة السابق بالنية وصار الماء مستعملا بالنسبة إلى الآخر وغيره وفيه وجه
البغوي: وان نزلا مع النية دفعة واحدة ارتفعت جنابة أول جزء من كل منهما وصار مستعملا
في الحال: فلا ترتفع عن باقيهما لأنه كالمنفصل عن بدن كل واحد منهما بالنسبة إلى غيره وفيه
وجه البغوي: فان قيل كيف حكمتم في هذه الصورة بكونه مستعملا كله مع أن الذي لا في البدن
شئ يسير وقد يفرض في بعض الصور انه لو قدر مخالفا لون باقي الماء لما غيره: فالجواب
ما أجاب به امام الحرمين انه إذا نزل فيه فقد اتصل به جميع الماء ولم يختص الاستعمال بملاقي البشرة
لا اسما ولا اطلاقا والله أعلم: (التاسعة) إذا كان تحت المسلم كتابية فانقطع حيضها لزمها الغسل
وإذا اغتسلت بنية غسل الحيض صح غسلها وحل للزوج الوطئ وهل يلزمها إعادة هذا الغسل
إذا أسلمت وجهان سنوضحهما إن شاء الله تعالى في باب نية الوضوء أصحهما يجب فان قلنا
لا يجب فقد أدت به عبادة وارتفع حدثها فيصير مستعملا: وان قلنا يجب ففي صيرورته مستعملا
وجهان أصحهما يصير: وهما مبنيان على الوجهين السابقين في أن المقتضى لكون الماء مستعملا
هل هو تأدي العبادة به أم أداء الفرض وانتقال المنع فمن قال بالأول لم يجعل هذا مستعملا:
ومن قال بالثاني جعله: هكذا ذكر المسألة امام الحرمين وتابعه الغزالي ثم الرافعي وآخرون:
وأما الفوراني وتابعاه صاحبا التتمة والعدة فقالوا هل يصير مستعملا وجهان ان قلنا لا تجب الإعادة
166

صار. وإلا فلا: والمختار ما ذكره الامام: (1) (العاشرة) إذا كان على بعض أعضاء المتوضئ
أو المغتسل نجاسة حكمية فغسله مرة بنية رفع الحدث أو رفع الحدث والنجس معا طهر عن النجاسة
بلا خلاف وهل يطهر عن الحدث وجهان الأصح يطهر وستأتي المسألة مبسوطة في آخر باب
نية الوضوء إن شاء الله تعالى والله أعلم: (الحادية عشرة) يجوز الوضوء في النهر والقناة الجارية ولا كراهة
في ذلك عندنا وعند الجمهور: وحكي الخطابي عن بعض الناس انه كره الوضوء في مشارع المياه
الجارية وكان يستحب أن يؤخذ له الماء في ركوة ونحوها ويزعم أنه من السنة لأنه لم يبلغه أن النبي
صلى الله عليه وسلم توضأ في نهر أو شرع في ماء جار: ودليلنا انه ماء طهور ولم يثبت فيه نهى
فلم يكره: وأما قوله يتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم في نهر فسببه انه لم يكن بحضرته نهر ولو
كان لم تثبت كراهته حتى يثبت النهى والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
باب
(الشك في نجاسة الماء والتحري فيه)
(إذا تيقن طهارة الماء وشك في نجاسته توضأ به لان الأصل بقاؤه على الطهارة وان
تيقن نجاسته وشك في طهارته لم يتوضأ به لان الأصل بقاؤه على النجاسة وإن لم يتيقن طهارته
ولا نجاسته توضأ به لان الأصل طهارته)
(الشرح) هذه الصور الثلاث متفق عليها كما قاله المصنف: فان قيل كيف جعل الماء

(1) في اشتراط النية لإزالة النجاسة وجه ضعيف فيرد
على قوله بلا خلاف إذا اقتصر على رفع حدث ووجه ثالث فارق بين البدن والثوب حكاه ابن الصلاح في فوائده اه‍
167

ثلاثة أقسام ثالثها أن لا يتيقن طهارة ولا نجاسة ومعلوم أن الماء أصله الطهارة فالصورة الثالثة
كالأولى وداخله فيها: فالجواب ان مراده تقسيم الماء بالنسبة إلى حال هذا المتوضئ لا بالنسبة
إلى أصل الماء ولهذا المتوضئ ثلاثة أحوال: أحدها أن يكون قد عهد هذا الماء طاهرا وتيقن
ذلك بأن اغترفه من ماء كثير لا تغير فيه ثم شك في نجاسته: الثاني أن يكون عهده نجسا وشك
في طهارته بأن كان دون قلتين ولاقته نجاسة ثم صب عليه ماء لا يزيد عليه وشك هل بلغ
قلتين فيطهر أم لا فيبقى نجسا فالأصل بقاؤه نجسا فيحكم بنجاسته: الثالث ألا يكون له به عهد
وشك فيه فالأصل طهارته ولهذا قال المصنف في الصورة الأولى توضأ به لان الأصل بقاؤه
على الطهارة: وفي الثالثة توضأ به لان الأصل طهارته ولم يقل الأصل بقاؤه على الطهارة
لأنه لم يعهده طاهرا لكون أصل الماء الطهارة: والأصل في هذا الباب أعني باب العمل
على الأصل وعدم تأثير الشك في المياه والاحداث والثياب والطلاق والاعتاق وغير
ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شكا إليه الرجل يخيل إليه أنه يجد الشئ في الصلاة
فقال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا رواه البخاري ومسلم وسيأتي إن شاء الله
تعالى في آخر هذا الباب فرع حسن في مسائل تتعلق بهذه القاعدة:
وقوله الشك في نجاسة الماء
والتحري اعلم أن مراد الفقهاء بالشك في الماء والحدث والنجاسة والصلاة والصوم والطلاق
والعتق وغيرها هو التردد بين وجود الشئ وعدمه سواء كان الطرفان في التردد سواء أو أحدهما
راجحا فهذا معناه في استعمال الفقهاء في كتب الفقه وأما أصحاب الأصول ففرقوا بينهما فقالوا
168

التردد بين الطرفين إن كان على السواء فهو الشك والا فالراجح ظن والمرجوح وهم: وأما
التحري في الأواني والقبلة وأوقات الصلاة والصوم وغيرها فهو طلب الصواب والتفتيش عن
المقصود والتحري والاجتهاد والتأخي بمعنى قال الأزهري تحريت الشئ وتأخيته إذا قصدته
والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(فان وجده متغيرا ولم يعلم بأي شئ تغير توضأ به لأنه يجوز أن يكون تغير بطول المكث
وان رأى حيوانا يبول في ماء ثم وجده متغيرا وجوز أن يكون تغيره بالبول لم يتوضأ به لأن الظاهر
أن تغيره من البول) *
(الشرح): المكث اللبث وهو بضم الميم وفتحها والضم أفصح: قال الله تعالى (لتقرأه
على الناس على مكث) فأما المسألة الأولى وهي إذا رآه متغير أو لم يعلم بأي شئ تغير فهو طاهر بلا خلاف
لما سبق من القاعدة * وأما الثانية فصورتها أن يرى حيوانا يبول في ماء هو قلتان فأكثر ولا تعظم
كثرته عظما لا يغيره ذلك البول ويكون البول كثيرا بحيث يحتمل ذلك الماء التغير بذلك البول
وهذا معنى قوله وجوز أن يكون تغيره بالبول وإنما حكم بالنجاسة هنا عملا بالظاهر مع أن الأصل
الطهارة ولم يجئ فيه الخلاف في المقبرة المشكوك في نبشها وشبهها لأن الظاهر هنا استند إلى سبب
معين وهو البول فترجح بذلك على الأصل وعمل بالظاهر قولا واحدا كما إذا أخبره عدل بولوغ
كلب فإنه يرجح الظاهر وهو قول العدل ويحكم بالنجاسة قولا واحدا ويترك الأصل لكون الظاهر
مستندا إلى سبب معين وإنما محل الخلاف في أصل وظاهر مستنده عام غير معين كغلبة الشئ نحو
المقبرة ونظائرها وسنوضح هذا الأصل في مسائل الفرع في آخر الباب إن شاء الله تعالى * ثم إن
ظاهر كلام المصنف انه لا فرق بين أن يكون رأى الماء قبل البول غير متغير أو لم يكن رآه هكذا أطلق
169

المسألة أكثر أصحابنا وكذا أطلقها الشافعي في الأم وقال صاحب التهذيب نص الشافعي أن الماء ينجس
فقال صاحب التلخيص هو على اطلاقه ومنهم من قال صورته أن يكون رآه قبل البول غير متغير ثم
رآه عقبه متغيرا فإن لم يكن رآه قبل البول أو رآه وطال عهده فهو على طهارته هذا كلام صاحب
التهذيب * وقال القفال في شرح التلخيص قال أصحابنا صورة المسألة أنه رأى الحيوان يبول في الغدير
فلما انتهى إلى شط الغدير فوجده متغيرا فأما إذا انتهي إليه فوجده غير متغير فتغير بعد ذلك فلا يحكم
بنجاسته بل يستعمله * وذكر الدارمي أنه لو رأى نجاسة حلت في ماء فلم تغيره فمضي عنه ثم
رجع فوجده متغيرا لم يتطهر به وهذا الذي ذكره فيه نظر والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان رأى هرة أكلت نجاسة ثم وردت على ماء قليل فشربت منه ففيه ثلاثة أوجه أحدها
تنجسه لأنا تيقنا نجاسة فمها: والثاني ان غابت ثم رجعت لم ينجس لأنه يجوز أن تكون وردت
على ماء فطهرها فلا تنجس ما تيقنا طهارته بالشك: والثالث لا ينجس بحال (1) لأنه لا يمكن
الاحتراز منها فعفى عنه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم انها من الطوافين عليكم أو الطوافات) *
(الشرح) هذه الأوجه مشهورة ودلائلها كما ذكره المصنف وأصحها عند الجمهور
الوجه الثاني وهو انها ان غابت وأمكن ورودها على ماء كثير بحيث إذا ولغت فيه طهر فمها
ثم رجعت فولغت لم ينجس ما ولغت فيه وان ولغت قبل أن تغيب أو بعد أن غابت ولم يمكن
ورودها على الماء الموصوف نجسته: ودليل هذا الصحيح انها إذا غابت ثم ولغت فقد تيقنا طهارة
الماء وشككنا في نجاسة فمها فلا ينجس الماء المتيقن بالشك وإذا لم تغب وولغت فهي نجاسة
متيقنة. وليس في الحديث أن الهرة كانت نجسة الفم وما يستدل به القائل بالطهارة مطلقا من
عسر الاحتراز عنها لا يسلم فان العسر إنما هو في الاحتراز من مطلق الولوغ لا من ولوغ بعد
تيقن النجاسة (2) وحكي عن المصنف انه صحح انها لا تنجسه (3) بحال وهذا هو الأحسن

(1) قال الفاروقي وهو الصحيح فقيل قد تيقنت النجاسة قال بلى ولكن الشرع أسقط اعتبارها كالقول في النجاسة التي لا يدركها الطرف وغبار السرجين ودم البراغيث اه‍ وهذا هو الحق والتفصيل ضعيف مخالف للضرورة فما نقطع بان الهرة لا يطهر فمها بالولوغ
(2) هذا لا يسلم لأنه يقال أيضا تيقنا نجاسة فمها قطعا وشككنا في طهارته والأصل عدمها
(3) قوله وقال ابن كج ان غابت واحتمل ولوغا في ماء آخر لم ينجسه وإن لم تغب فوجهان أحدهما تنجسه لتحقق النجاسة والثاني هو طاهر لان الريق يطهره ومثل ذلك قد عفا عنه
170

عند الغزالي في الوجيز ودليله الحديث وعموم الحاجة وعسر الاحتراز وقد قال الله تعالى وما
جعل عليكم في الدين من حرج وفي تنجيس هذا حرج وقد علم أن بيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم ليس بحضرته ماء كثير يطهر فمها ولم يعلل صلى الله عليه وسلم بوردها الماء بل بعسر
لاحتراز: وخالف صاحب الحاوي الأصحاب فقال إن ولغت قبل أن تغيب نجسته وان
غابت فوجهان الأصح تنجسه ذكره في مسألة اشتراط الماء في إزالة النجاسة والمشهور تصحيحه
ما قدمناه من الفرق بين غيبتها وعدمها وكذا نقل الرافعي عن معظم الأصحاب تصحيحه: ثم
صورة المسألة إذا تيقنا نجاسة فمها بأكل نجاسة أو ولوغها في ماء نجس أو نجاسة فمها بدم أو غيره
ولا فرق في هذا كله بين ولوغها في ماء ناقص عن قلتين أو مائع آخر والله أعلم *
(فرع) وأما الحديث المذكور فصحيح رواه الأئمة الاعلام مالك في الموطأ والشافعي
في مواضع وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم وهذا الحديث عمدة مذهبنا في طهارة سؤر
السباع وسائر الحيوان غير الكلب والخنزير: وفرع أحدهما فأنا أنقله بلفظه وكانت تحت أبي
قتادة قالت دخل أبو قتادة فسكبت له وضوءا فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الاناء حتى
شربت قالت كبشة فرآني أنظر إليه فقال أتعجبين يا ابنت أخي قلت نعم فقال إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات هذا لفظ
رواية ملك ورواية الترمذي مثلها بحروفها الا ان رواية مالك أو الطوافات بأو ورواية الترمذي
إنما هي من الطوافين والطوافات بالواو وبحذف عليكم وفي رواية الدارمي وأبي داود عن
كبشة بنت كعب بن مالك وكانت تحت ابن أبي قتادة ثم في رواية أبي داود والطوافات وفي رواية
الدارمي أو الطوافات بأو وفي رواية ابن ماجة عن كبشة بنت كعب وكانت تحت بعض ولد
أبي قتادة وفيها والطوافات بالواو: و رواه الربيع عن الشافعي عن مالك بالاسناد وقال في كبشة
171

وكانت تحت ابن أبي قتادة أو أبي قتادة قال البيهقي الشك من الربيع وقال فيه أو الطوافات بأو
وقال البيهقي ورواه الربيع في موضع آخر عن الشافعي وقال وكانت تحت ابن أبي قتادة ولم يشك
ورواه الشافعي بإسناده عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أو
مثل معناه وروى أبو داود وابن ماجة هذا الحديث أيضا من رواية عائشة وفيه زيادة قالت
عائشة وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بفضلها قال الترمذي حديث أبي قتادة
حسن صحيح قال وهو أحسن شئ في الباب قال البيهقي اسناده صحيح وعليه الاعتماد: وأما
لفظة أو الطوافات فرويت بأو وبالواو كما ذكرناها قال صاحب مطالع الأنوار يحتمل أو أن
تكون للشك ويحتمل أن تكون للتقسيم ويكون ذكر الصنفين من الذكور والإناث وهذا
الذي قاله محتمل، وهو الأظهر لأنه للنوعين كما جاء في روايات الواو قال أهل اللغة الطوافون
الخدم والمماليك وقيل هم الذين يخدمون برفق وعناية ومعنى الحديث أن الطوافين من الخدم
والصغار الذين سقط في حقهم دون غيرهم للضرورة وكثرة مداخلتهم بخلاف الأحرار البالغين
فكذا يعفى عن الهرة للحاجة وقد أشار إلى نحو هذا المعني أبو بكر بن العربي في كتابه الأحوذي
في شرح الترمذي وذكر أبو سليمان الخطابي أن هذا الحديث يتأول على وجهين: أحدهما انه
شبهها بخدم البيت ومن يطوف على أهله للخدمة: والثاني شبهها بمن يطوف للحاجة والمسألة ومعناه
الاجر في مواساتها كالاجر في مواساة من يطوف للحاجة والمسألة وهذا التأويل الثاني قد يأباه
سياق قوله صلى الله عليه وسلم انها ليست بنجس والله أعلم *
(فرع) سؤر الحيوان مهموز وهو ما بقي في الاناء بعد شربه أو اكله ومراد الفقهاء بقولهم
سؤر الحيوان طاهر أو نجس لعابه ورطوبة فمه ومذهبنا أن سؤر الهرة طاهر غير مكروه
وكذا سؤر جميع الحيوانات من الخيل والبغال والحمير والسباع والفار والحيات
وسام أبرص وسائر الحيوان المأكول وغير المأكول فسؤر الجميع وعرقه طاهر
172

غير مكروه الا الكلب والخنزير وفرع أحدهما: وحكي صاحب الحاوي مثل مذهبنا عن
عمر بن الخطاب وعلي وأبي هريرة والحسن البصري وعطاء والقاسم بن محمد: وكره أبو حنيفة
وابن أبي ليلى سؤر الهر وكذا كرهه ابن عمر: وقال ابن المسيب وابن سيرين يغسل الإناء
من ولوغه مرة: وعن طاووس قال يغسل سبعا وقال جمهور العلماء لا يكره كقولنا: وقال أبو حنيفة
الحيوان أربعة أقسام: أحدها مأكول كالبقر والغنم فسؤره طاهر: والثاني سباع الدواب
كالأسد والذئب فهي نجسة: والثالث سباع الطير كالبازي والصقر فهي طاهرة السؤر
الا انه يكره استعماله وكذا الهر: الرابع البغل والحمار مشكوك في سؤرهما لا يقطع بطهارته ولا
بنجاسته ولا يجوز الوضوء به واختلف قوله في سؤر الفرس والبرزون: واحتج من منع الطهارة
بسؤر السباع بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون
بالفلاة وما ينوبه من السباع والدواب فقال إذا كان الماء قلتين لم ينجس قالوا فهذا يدل
على أن لو رود السباع تأثيرا في تنجيس الماء ولأنه حيوان لبنه نجس فكذا سؤره كالكلب
واحتج أصحابنا بحديث أبي قتادة في الهرة ليست بنجس وهو صحيح كما سبق بيانه قال البيهقي
وغيره من أصحابنا هذا الحديث هو عمدة المذهب واحتجوا برواية الشافعي عن إبراهيم بن محمد
وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين عن أبيه عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له
أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال نعم وبما أفضلت السباع وهذا الحديث ضعيف لان الإبراهيمين
ضعيفان جدا عند أهل الحديث لا يحتج بهما وإنما ذكرت هذا الحديث وإن كان ضعيفا لكونه
مشهورا في كتب الأصحاب وربما اعتمده بعضهم فنبهت عليه ولم يذكره الشافعي والمحققون من أصحابنا
معتمدين عليه بل تقوية واعتضادا واعتمدوا حديث أبي قتادة وقد قال البيهقي في حديث الإبراهيمين
إذا ضمت أسانيده بعضها إلى بعض أخذت قوة: ومما احتج أصحابنا به ما رواه مالك في الموطأ
عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج في ركب فيه عمرو
173

ابن العاصي حتى وردوا حوضا فقال عمرو بن العاصي يا صاحب الحوض هل ترد حوضك
السباع فقال عمر بن الخطاب يا صاحب الحوض لا تخبره فإنما نرد على السباع وترد علينا * وموضع
الدلالة أن عمر قال نرد على السباع وترد علينا ولم يخالفه عمرو ولا غيره من الصحابة رضي الله
عنهم وهذا الأثر اسناده صحيح إلى يحيى بن عبد الرحمن لكنه مرسل منقطع فان يحيى وإن كان
ثقة فلم يدرك عمر بل ولد في خلافة عثمان هذا هو الصواب قال يحيي بن معين يحيي بن
عبد الرحمن بن حاطب عن عمر باطل وكذا قاله غير ابن معين إلا أن هذا المرسل له شواهد
تقويه والمرسل عند الشافعي إذا اعتضد احتج به كما سبق بيانه في مقدمة الكتاب وهو حجة
عند أبي حنيفة مطلقا فيحتج به عليهم * واحتج أصحابنا من القياس بأنه حيوان يجوز بيعه فكان
سؤره طاهرا كالشاة * فان قال المخالف لا حجة لكم في هذه الأحاديث لأنها محمولة على ماء كثير *
فالجواب أن الحديث عام فلا يخص الا بدليل * فان قالوا هذا الخبر ورد قبل تحريم لحوم السباع *
فالجواب من أوجه أجاب بها الشيخ أبو حامد وغيره * أحدها هذا غلط فلم تكن السباع
في وقت حلالا وقائل هذا يدعي نسخا والأصل عدمه: (الثاني) هذا فاسد إذ لا يسئلون
عن سؤره وهو ماء كول اللحم فإنه لا فرق حينئذ بين السباع وغيرها: (الثالث) لو صح هذا
وكان لحمها حلالا ثم حرم بقي السؤر على ما كان من الطهارة حتى يرد دليل تنجيسه
وأما الجواب عما احتجوا به من الخبر فمن أوجه أحدها أنه تمسك بدليل الخطاب وهم لا يقولون
به: الثاني ان السؤال كان عن الماء الذي ترده الدواب والسباع فتشرب منه وتبول فيه غالبا:
الثالث ان الكلاب كانت من جملة ما يرد فالتنجيس بسببها: ويدل على دخول الكلاب في ذلك
أوجه: أحدهما أنه جاء في رواية الدواب والسباع والكلاب الثاني انها من جملة السباع
الثالث أنها داخلة في الدواب: وأما قياسهم على الكلب فهو قياس في مقابلة النص فلا يقبل
ولان الكلب ورد الشرع بتغليظ نجاسته وغسلها سبعا للتنفير منه وان الملائكة عليهم السلام
لا تدخل بيتا فيه كلب وليس غيره في معناه فلا يصح قياسه عليه: هذا ما يتعلق بسؤر السباع
174

جملة: وأما الهرة فاستدل أصحاب أبي حنيفة رحمة الله لكراهة سؤرها بحديث أبي هريرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال يغسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا ومن ولوغ الهرة
مرة ولأنها لا تجتنب النجاسة فكره سؤرها: واحتج أصحابنا بحديث أبي قتادة وحديث
عائشة وغير ذلك مما قدمناه واضحا: ولأنه حيوان يجوز اقتناؤه لغير حاجة فكان سؤره
طاهرا غير مكروه كالشاة: وأما الجواب عن حديث أبي هريرة فهو ان قوله من ولوغ الهرة مرة
ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم بل هو مدرج في الحديث من كلام أبي هريرة موقوفا
عليه كذا قاله الحفاظ وقد بين البيهقي وغيره ذلك ونقلوا دلائله وكلام الحفاظ فيه قال البيهقي
وروى عن أبي صالح عن أبي هريرة يغسل الإناء من الهرة كما يغسل من الكلب وليس
بمحفوظ * وعن عطاء عن أبي هريرة وهو خطأ من ليث بن أبي سليم إنما رواه ابن جريج وغيره
عن عطاء من قوله قال وروى عن ابن عمر كراهة الوضوء بفضل الهرة قال الشافعي رحمه الله
الهرة ليست بنجس فنتوضأ بفضلها ونكتفي بالخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا يكون
في أحد قال خلاف قول النبي صلى الله عليه وسلم حجة: قال أصحابنا ولو صح حديث
أبي هريرة لم يكن فيه دليل لأنه متروك الظاهر بالاتفاق فان ظاهره يقتضي وجوب غسل الإناء
من ولوغ الهرة ولا يجب ذلك بالاجماع: قال البيهقي وزعم الطحاوي أن حديث أبي هريرة
صحيح ولم يعلم أن الثقة من أصحابه ميزه من الحديث وجعله من قول أبي هريرة: وأما قولهم
لا تجتنب النجاسة فمنتقض باليهودي وشارب الخمر فإنه لا يكره سؤرهما والله أعلم * قال المصنف
رحمه الله *
(وان ورد على ماء فأخبره رجل بنجاسته لم يقبل حتى يبين بأي شئ نجس لجواز أن
يكون رأى سبعا ولغ فيه فاعتقد أنه نجس بذلك فان بين النجاسة قبل منه كما يقبل ممن يخبره
بالقبلة ويقبل في ذلك قول الرجل والمرأة والحر والعبد لان أخبارهم مقبولة ويقبل قول
الأعمى لان له طريقا إلى العلم بالحس والخبر ولا يقبل فيه قول صبي وفاسق وكافر لان
175

أخبارهم لا تقبل) *
(الشرح) إذا أخبره ثقة بنجاسة ماء أو ثوب أو طعام وغيره فان بين سبب النجاسة
وكان ذلك السبب يقتضى النجاسة حكم بنجاسة بلا خلاف لان خبره مقبول وهذا من باب
الخبر لا من باب الشهادة: ويقبل في هذا المرأة والعبد والأعمى بلا خلاف لان خبرهم مقبول
ولا يقبل فاسق وكافر بلا خلاف ولا مجنون وصبي لا يميز وفي الصبي المميز وجهان الصحيح
لا يقبل وبه قطع الجمهور كما قطع به المصنف ونقله البندنيجي والروياني عن نص الشافعي لأنه
لا يوثق بقوله والثاني يقبل لأنه غير متهم حكاه جماعات من الخراسانيين وصاحب البيان وقطع
به المحاملي في المجموع والقاضي أبو الطيب وقال البغوي هو الأصح وطردوا الوجهين في روايته
حديث النبي صلى الله عليه وسلم وغيره والصحيح المنع مطلقا أما ما تحمله في الصبا وهو مميز ثم بلغ
ورواه وأخبر به فيقبل على المشهور الذي قطع به الجمهور وفيه خلاف ضعيف سنوضحه في موضعه
حيث كره المصنف من كتاب الشهادات إن شاء الله تعالى. هذا إذا بين سبب النجاسة فإن لم
يبين لم يقبل هكذا نص عليه الشافعي والأصحاب قال الشيخ أبو حامد نص عليه الشافعي رواه
عنه المزني في الجامع الكبير ثم إن الجمهور أطلقوا المسألة كما أطلقها المصنف ممن أطلقها الشيخ
أبو حامد والماوردي وابن الصباغ والمتولي وغيرهم. وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه
والمحاملي وغيرهما قال الشافعي فإن كان يعلم من حال المخبر أنه يعلم أن سؤر السباع طاهر
وان الماء إذا بلغ قلتين لا ينجس قبل قوله عند الاطلاق هكذا نقل هؤلاء نص الشافعي
وكذا قطع بهذا التفصيل الذي نص عليه جماعات من أصحابنا المصنفين منهم الشيخ أبو محمد
الجويني في الفروق والبغوي والروياني وغيرهم ونقله صاحب العدة عن أصحابنا العراقيين ونقل
صاحب البيان عن الشيخ أبي حامد أنه نقله عن نص الشافعي ولم أر لا حد من أصحابنا تصريحا
بمخالفته فهو إذا متفق عليه ومن أطلق المسألة فكلامه محمول على ما ذكره الإمام الشافعي
صاحب المذهب ثم كبار أصحابنا (فرع) لو أخبره بنجاسته عدلان فهما كالعدل على التفصيل المتقدم
ذكره الماوردي وهو ظاهر (فرع) قال أصحابنا إذا أخبره مقبول الخبر بالنجاسة وجب قبوله ولا
176

يجوز الاجتهاد بلا خلاف كما لا يجتهد المفتى إذا وجد النص وكما لا يجتهد إذا أخبره ثقة عن علم
بالقبلة ووقت الصلاة وغير ذلك وقول المصنف فان بين النجاسة قبل منه: أي لزمه قبوله (فرع)
قال أصحابنا يقبل قول الكافر والفاسق في الاذن في دخول الدار وحمل الهدية كما يقبل قول الصبي فيهما ولا
أعلم في هذا خلافا ذكر أكثر أصحابنا هذه المسألة في باب استقبال القبلة وممن ذكرها هناك
صاحب الحاوي والقاضي أبو الطيب في تعليقه وقال سمعت أبا الحسن الماسرجسي يقول يقبل
قول الكافر في ذلك قلت ودليل هذا الأحاديث الصحيحة ان النبي صلى الله عليه وسلم قبل هدايا الكفار
(فرع) قول المصنف يقبل في ذلك قول الأعمى لان له طريقا إلى العلم بالحس والخبر: الحس
بالحاء يعنى يدركه بإحدى الحواس الخمس وأما الخبر فهو السماع من ثقة واحد أو جماعة
واعلم أن أصحابنا وغير هم من الفقهاء يطلقون لفظ العلم واليقين والمعرفة ويريدون به الاعتقاد
القوي سواء كان علما حقيقيا أو ظنا وهذا نحو ما قدمناه في استعمالهم لفظ الشك والله أعلم قال
المصنف رحمه الله *
(وإن كان معه إناءان فأخبره رجل أن الكلب ولغ في أحدهما قبل قوله ولم يجتهد لان
الخبر مقدم على الاجتهاد كما نقوله في القبلة وان أخبره رجل انه ولغ في هذا دون ذاك وقال آخر بل ولغ في ذاك
دون هذا حكم بنجاستهما لأنه يمكن صدقهما بأن يكون ولغ فيهما في وقتين وان قال أحدهما
ولغ في هذا دون ذاك في وقت معين وقال الآخر بل ولغ في ذاك دون هذا في ذلك الوقت بعينه
فهما كالبينتين إذا تعارضتا فان قلنا إنهما تسقطان سقط خبرهما وجازت الطهارة بهما لأنه لم يثبت
نجاسة واحد منهما وان قلنا لا تسقطان اراقهما أو صب أحدهما في الآخر ثم تيمم)
(الشرح) أما المسألة الأولى وهي إذا أخبره ثقة بولوغ الكلب في أحد الا نائين بعينه
فصورتها أن يكون له إناءان يعلم أن الكلب ولغ في أحدهما ولا يعلم عينه كذا صورها الإمام الشافعي
في حرملة وكذا نقله عنه المحاملي في كتابيه وكذا صورها الشيخ أبو حامد وآخرون
وهو واضح فيجب قبول خبره ويحكم بنجاسة ذلك المعين وطهارة الآخر وهذا لا خلاف فيه
177

وحينئذ لا يجوز الاجتهاد: وأما المسألة الثانية وهي إذا أخبره ثقة بولوغه في ذا وثقة بولوغه في
ذاك فيحكم بنجاستهما بلا خلاف أيضا نص عليه الشافعي في الأم وحرملة واتفق عليه الأصحاب
لما ذكره المصنف من احتمال الولوغ وقتين ومتي أمكن صدق المخبرين الثقتين وجب العمل
بخبرهما: وأما المسألة الثالثة وهي إذا أخبره ثقة بولوغه في ذا دون ذاك حين بدا حاجب الشمس يوم الخميس
مثلا فقال الآخر بل ولغ في ذاك دون ذا في ذلك الوقت فقد اختلف الأصحاب فيها فقطع الصيدلاني
والبغوي بأنه يجتهد فيهما ويستعمل ما غلب على ظنه طهارته ولا يجوز أخذ أحدهما بغير اجتهاد
لان المخبرين اتفقا على نجاسة أحدهما فلا يجوز إلغاء قولهما وقطع أصحابنا العراقيون وجمهور
الخراسانيين بأن المسألة تبني على القولين المشهورين في البينتين إذا تعارضتا أصحهما تسقطان والثاني
يستعملان وفي الاستعمال ثلاثة أقوال أحدها بالقرعة والثاني بالقسمة والثالث يوقف حتى يصطلح المتنازعان
قالوا إن قلنا يسقطان سقط خبر الثقبتين وبقي الماء على أصل الطهارة فيتوضأ بأيهما شاء وله أن يتوضأ بهما جميعا
قالوا لان تكاذبهما وهن خبرهما ولا يمكن العمل بقولهما للتعارض فسقط: قالوا وان قلنا تستعملان
لم يجئ قول القسمة بلا خلاف وامتناعه واضح وأما القرعة فقطع الجمهور بأنها لا تجئ أيضا
كما قطع به المصنف وحكي صاحب المذهب بضم الميم واسكان الذال وجها انه يقرع ويتوضأ بما
اقتضت القرعة طهارته وحكي هذا الوجه صاحب البيان وأشار إليه المحاملي في المجموع فقال ويمكن
الاقراع وهو شاذ ضعيف وأما الوقت فقد جزم المصنف بأنه لا يجئ فإنه جزم بأنه على قول
الاستعمال يريقهما ووافقه على هذا صاحبه الشاشي صاحب المستظهري وهو شاذ والصحيح الذي
عليه الجمهور مجيئ الوقف وممن صرح به الشيخ أبو حامد وصاحباه القاضي أبو الطيب في تعليقه
والمحاملي في كتابيه المجموع والتجريد والبندنيجي وصاحب الشامل وآخرون من العراقيين وصاحبا
التتمة: والبحر وآخرون من الخراسانيين قال القاضي أبو الطيب وصاحب الشامل والتتمة وغيرهم
فعلى هذا يتيمم ويصلى ويعيد الصلاة لأنه تيمم ومعه ماء محكوم بطهارته ووجه جريان الوقف
أن ليس هنا ما يمنعه بخلاف القسمة والقرعة ووجه قول المصنف لا يجيئ الوقف القياس على من
اشتبه عليه إناءان واجتهد وتحير فيهما فإنه يريقهما ويصلي بالتيمم بلا إعادة لأنه معذور في الإراقة
ولم يقولوا بالوقف فكذا هنا ما ذكره الأصحاب واختار الشيخ أبو عمرو بن الصلاح انه يجتهد
178

على جميع أقوال الاستعمال لان قول المخبرين على هذا القول مقبول وقد اتفقا على نجاسة
أحد الإناءين دون الآخر فيجب العمل بذلك ويميز بالاجتهاد لأنه طريق للتمييز في هذا الباب
بخلاف البينتين وسلك امام الحرمين طريقة أخرى انفرد بها فقال إذا تعارض خبراهما وكان
أحد المخبرين أوثق وأصدق عنده اعتمده كما إذا تعارض خبران وأحد الروايتين أوثق قال
فان استويا فلا تعلق بخبرهما هذا كلام الامام ومقتضاه أنه إذا كان المخبر في أحد الطرفين
أكثر رجح وعمل به وقد ذكر مثله صاحب البحر وهو الصحيح بل الصواب ولحالف في ذلك
صاحب البيان فقال لا فرق بين أن يستوي المخبرون وبين أن يكون أحد الطرفين أكثر فالحكم
واحد وهذا الذي قاله ليس بشئ وليس هذا من باب الشهادات التي لها نصاب لا تأثير للزيادة
عليه فلا يقع فيها ترجيح بزيادة العدد بل هو من باب الاخبار التي يترجح فيها بالعدد ودليله أنه
يقبل في النجاسة قول الثقة الواحد والعبد والمرأة بلا خلاف بخلاف الشهادة فهذا ما ذكره الأصحاب:
وحاصله أوجه أرجحها عند الأكثرين أنه يحكم بطهارة الإنائين فيتوضأ بهما: والثاني يحكم بنجاسة
أحدهما ويجب الاجتهاد وبه قطع الصيدلاني والبغوي والثالث يقرع وهو ضعيف أو غلط والرابع
يوقف حتى يبين ويصلي بالتيمم ويعيد وهذه الأوجه إذا استوى المخبران في الثقة فان رجح أحدهما
أو زاد العدد عمل به على المذهب كما سبق والله أعلم *
(فرع) قوله إن قلنا تستعملان هو بالتاء المثناة فوق وكذا كل مؤنثتين غائبتين فبالمثناة
فوق سواء ماله فرج حقيقي وغيره قال الله تعالى (إذا همت طائفتان منكم أن تفشلا) (ووجد من
دونهم امرأتين تزودان) (ان الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا) (فيهما عينان تجريان)
وإنما نبهت بهذا لكثرة ما يلحن في ذلك والله أعلم (فرع) قال ثقة ولغ الكلب في هذا
179

الاناء في وقت بعينه وقال آخر كان هذا الكلب في ذلك الوقت في مكان آخر فوجهان محكيان
في المستظهري وغيره أصحهما أنه طاهر للتعارض كما سبق: والثاني نجس لان الكلاب تشتبه وقال
صاحب المستظهري وهذا الوجه ليس بشئ (فرع) أدخل كلب رأسه في إناء وأخرجه ولم يعلم
هل ولغ فيه: قال صاحب الحاوي وغيره إن كان فمه يابسا فالماء طاهر بلا خلاف: وإن كان رطبا
فوجهان: أحدهما يحكم بنجاسة الماء لان الرطوبة دليل ظاهر في ولوغه فصار كالحيوان إذا بال في
ماء ثم وجده متغيرا حكم بنجاسته بناء على هذا السبب المعين وأصحهما أن الماء باق على طهارته
لأن الطهارة يقين والنجاسة مشكوك فيها ويحتمل كون الرطوبة من لعابه وليس كمسألة
بول الحيوان لان هناك تيقنا حصول النجاسة وهو سبب ظاهر في تغير الماء بخلاف هذا
والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان اشتبه عليه ما ءان طاهر ونجس تحرى فيهما فما غلب على ظنه طهارته منهما توضأ
به لأنه سبب من أسباب الصلاة يمكن التوصل إليه بالاستدلال فجاز الاجتهاد فيه عند
الاشتباه كالقبلة) *
(الشرح) إذا اشتبه ما أن طاهر ونجس ففيه ثلاثة أوجه الصحيح المنصوص الذي قطع
به الجمهور وتظاهرت عليه نصوص الشافعي رحمه الله انه لا تجوز الطهارة بواحد منهما الا إذا
اجتهد وغلب على ظنه طهارته بعلامة تظهر فان ظنه بغير علامة تظهر لم تجز الطهارة به: والثاني
تجوز الطهارة به إذا ظن طهارته وإن لم تظهر علامة بل وقع في نفسه طهارته فإن لم يظن لم تجز
حكاه الخراسانيون وصاحب البيان: والثالث يجوز استعمال أحدهما بلا اجتهاد ولا ظن لان
الأصل طهارته حكاه الخراسانيون أيضا قال امام الحرمين وغيره الوجهان الأخيران ضعيفان
180

والتفريع بعد هذا على المذهب وهو وجوب الاجتهاد واشتراط ظهور علامة وسواء عندنا
كان عدد الطاهر أكثر أو أقل حتى لو اشتبه إناء طاهر بمائة اناء نجسة تحرى فيها وكذلك
الأطعمة والثياب هذا مذهبنا ومثله قال بعض أصحاب مالك. كذا قال بمثله أبو حنيفة في القبلة
والطعمة والثياب وأما الماء فقال لا يتحرى الا بشرط أن يكون عدد الطاهر أكثر من عدد
النجس وقال أحمد وأبو ثور والمزني لا يجوز التحري في المياه بل يتيمم وهذا هو الصحيح عند
أصحاب مالك ثم اختلف هؤلاء فقال أحمد لا يتيمم حتى يريق الماء في احدى الروايتين وقال المزني
وأبو ثور يتيمم ويصلى ولا إعادة وإن لم يرقه وقال عبد الملك بن الماجشون بكسر الجيم وضم
الشين المعجمة من أصحاب مالك يتوضأ بكل واحد ويصلى بعد الوضوئين ولا يعيد الصلاة وقال
محمد بن مسلمة من أصحاب مالك يتوضأ بأحدهما ثم يصلى ثم يتوضأ بالآخر ثم يعيد الصلاة ونقل
القاضي أبو الطيب عن أكثر العلماء جواز الاجتهاد في الثياب قال الماجشون ومحمد بن مسلمة
يصلى في كل ثوب مرة وأجمعت الأمة على الاجتهاد في القبلة: احتج لأحمد والمزني بأنه إذا
اجتهد قد يقع في النجس ولأنه اشتبه طاهر بنجس فلم يجز الاجتهاد كما لو اشتبه ماء وبول وأما
الماجشون وابن مسلمة فقالا هو قادر على اسقاط الفرض بيقين باستعمالهما فلزمه: واحتج أصحابنا
على الطائفتين بالقياس على القبلة وبالقياس على الاجتهاد في الأحكام وفي تقويم المتلفات وإن كان
قد يقع في الخطأ وأما الجواب عن الماء والبول من أوجه أحدها أن الاجتهاد يرد الماء إلى
أصله بخلاف البول والثاني أن الاشتباه في المياه يكثر فدعت الحاجة إلى الاجتهاد فيهما
بخلاف الماء والبول والثالث أن الحاق المياه بالقبلة أولى وأما قول الماجشون فضعيف بل باطل
لان أمره بالصلاة بنجاسة متيقنة وبالوضوء بماء نجس وأما أبو حنيفة فاحتج له في اشتراط
زيادة عدد الطاهر بحديث الحسن بن علي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال دع
181

ما يريبك إلى ما لا يريبك حديث حسن رواه الترمذي والنسائي قال الترمذي حديث حسن
صحيح قالوا فكثرة النجس تريب فوجب تركه والعدول إلى ما لا ريب فيه وهر التيمم قالوا ولان
الأصول مقررة على أن كثرة الحلال والحرام يوجب تغليب حكمه في المنع كأخت أو زوجة
اختلطت بأجنبية ولأنه استوى الطاهر والنجس فأشبه الماء والبول واحتج أصحابنا بقول الله تعالى
(فلم تجدوا ماء فتيمموا) وهذا واجد فلم يجز التيمم وقياسا على الثياب والأطعمة والقبلة فإنه
يجوز الاجتهاد فيها باتفاقنا مع زيادة عدد الخطأ فان قالوا إنما جاز الاجتهاد في الثياب لأنها أخف
حكما بدليل أنه يعفى عن النجاسة اليسيرة فيها فالجواب من وجهين أحدهما لا نسلم أن الماء يخالف
الثياب في هذا بل يعفى عن النجاسة فيه إذا بلغ قلتين وكذا في دون القلتين إذا كانت نجاسة لا يدركها
الطرف أو ميتة لا نفس لها سائلة على الا صح فيهما الثاني أن هذا الفرق لما لم يوجب فرقا بينهما إذا زاد عدد
الطاهر لم يوجبه إذا استويا فان قالوا إنما جاز الاجتهاد في الثياب لان الضرورة تبيحها إذا لم يجد
غيرها بخلاف الماء فالجواب من وجهين أحدهما لا نسلم أن الثوب النجس تباح الصلاة فيه لعدم غيره بل
يصلى عاريا ولا إعادة: الثاني لا يجوز اعتبار الاشتباه بحال الضرورة بل بحال الاختيار وهما فيه سواء
وأما الجواب عن الحديث فهو أن الريبة زالت بغلبة الظن بطهارته وبقيت الريبة في صحة التيمم
مع وجود هذا الماء وأما قياسهم على الأجنبية المشتبهة بأخته فجوابه من وجهين أحدهما أنه قياس
فاسد لان الأخت مع أجنبية أو أجنبيات لا يجرى فيهن التحري بحال بل إن اختلطت الأخت
182

بمحصورات لم يجز نكاح واحدة منهن وان اختلطت بغير محصورات نكح من أراد منهن بلا تحر
وإذا لم يجز فيهن التحري بحال وقد اتفقنا على جريانه في الماء إذا كان الطاهر أكثر لم يصح الحاق
أحدهما بالآخر الثاني أن لاشتباه في النساء نادر بخلاف الماء فدعت الحاجة إلى التحري فيه دونهن
وأما قياسهم على أخلاط زوجته بأجنبيات فجوابه من أربعة أوجه أحدها ندرة ذلك بخلاف الماء
الثاني أن التحري يرد الشئ إلى أصله فالماء يرجع إلى أصله وهو الطهارة فأثر فيه الاجتهاد وأما
الوطئ فالأصل تحريمه الثالث ان في مسألة الزوجة لو زاد عدد المباح لم يتحر بخلاف الماء الرابع
إذا تردد فرع بين أصلين الحق بأشبههما به وشبه المياه بالثياب والقبلة أكثر فالحق بها دون الزوجة
وأما قياسهم على الماء والبول فجوابه من أوجه أحدها التحري يرد الماء إلى أصله وهو الطهارة
بخلاف البول الثاني الاشتباه في المياه يكثر وتعم به البلوي بخلاف الماء والبول الثالث لا نسلم ان
امتناع التحري في الماء والبول لعدم زيادة الطاهر بل لان البول ليس مما يجتهد فيه بحال ولهذا
لو زاد عدده لم يجز التحري والله أعلم
(فرع) قول المصنف توضأ به لأنه سبب من أسباب الصلاة يمكن التوصل إليه بالاستدلال
فجاز الاجتهاد فيه عند الاشتباه كالقبلة الضمير (1) في لأنه يعود إلى الوضوء أو التطهير الذي دل عليه
قوله توضأ به وقوله سبب أراد به الشرط فان الوضوء شرط للصلاة لا سبب لها فان الشرط ما يعدم
الحكم لعدمه والسبب ما توصل به إلى الحكم فتساهل المصنف باطلاق السبب على الشرط واحترز
به عن الشك في عدد الركعات والركوع والسجود وغير ذلك من أجزاء الصلاة وقوله من أسباب
الصلاة أي شروطها وقد صرح بما ذكرناه في باب طهارة البدن فيما إذا اشتبه ثوبان فقال تحرى
فيهما لأنه شرط من شروط الصلاة وفيه احتراز من الزكاة فإنها شرط ولكن ليست شرطا في الصلاة
بل في حل الحيوان ولا يدخلها الاجتهاد فيما إذا اشتبهت ميتة بمذكاة وقوله يمكن التوصل إليه بالاستدلال

(1) الضمير عائد إلى المشتبه قطعا بدليل قوله فجاز الاجتهاد فيه
وهو لا يجتهد في الوضوء وإنما يجتهد في الماء اه‍ أذرعي
183

احتراز مما إذا شك هل توضأ أم لا أو هل غسل عضوه أم لا ومن القبلة في حق الأعمى وقاس
المصنف على القبلة لأنها مجمع على الاجتهاد فيها وقوله فجاز الاجتهاد فيه عند الاشتباه كالقبلة
كلام صحيح ومراده الرد على من منع الاجتهاد كما سبق وإذا ثبت جوازه فقد يجب إذا لم يقدر على
غيره وضاق وقت الصلاة وقد لا يجب بان لا يكون كذلك وقد يعترض على المصنف فيقال كان
ينبغي أن يقول فوجب الاجتهاد وهذا اعتراض باطل لما ذكرناه *
(فرع) أما كيفية الاجتهاد فقال صاحب البيان قال أصحابنا العراقيون هو أن ينظر إلى
الاناء ويميز الطاهر منهما بتغير لون أو ريح أو اضطراب فيه أو رشاش حوله أو يري أثر كلب
إلى أحدهما أقرب ونحو ذلك فإذا فعل ذلك غلب على ظنه نجاسة أحدهما لوجود بعض هذه العلامات
وطهارة الآخر لعدمها قال فأما ذوق الماء فلا يجوز لاحتمال نجاسته قال واما الخراسانيون فقالوا هل يحتاج
إلى نوع دليل فيه وجهان أحدهما نعم كالمجتهد في الأحكام والثاني لا قال وهذا ليس بشئ وهذا
الذي حكاه عن العراقيين هو كذلك في كتبهم وكذا نقله أيضا البغوي عن العراقيين وقد قدمنا
ثلاثة أوجه في أنه تشترط العلامة أم يكفيه الظن بلا علامة أم يجوز الهجوم بلا علامة ولا ظن
ولا اجتهاد والصحيح اشتراط العلامة كما إذا اشتبهت القبلة فإنه لا بد من علامة بلا خلاف وكذا القاضي
والمفتي يشترط ظهور دليل له بلا خلاف قال امام الحرمين ولان الأمور الشرعية لا تبنى على الإلهامات
والخواطر ومن اكتفى بالظن قال يجوز استعماله اعتمادا على الأصل والظاهر وفرق القاضي حسين
وصاحبه البغوي وغيرهما بينه وبين القبلة بان جهة القبلة مشاهدة ولها علامات ظاهرة تعلم بها إذا أتقن
النظر علما يقينا والأواني لا طريق إلى اليقين فيها فكفي الظن والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(فان انقلب أحدهما قبل الاجتهاد ففيه وجهان أحدهما انه يتحرى في الثاني لأنه ثبت الاجتهاد
فيه فلم يسقط بالانقلاب والثاني وهو الأصح لا يجتهد لان الاجتهاد يكون بين أمرين فان
184

قلنا لا يجتهد فما الذي يضع فيه وجهان: قال أبو علي الطبري يتوضأ به لان الأصل فيه الطهارة فلا يزال
اليقين بالشك: وقال القاضي أبو حامد يتيمم ولا يتوضأ لان حكم الأصل زال بالاشتباه بدليل انه
منع من استعماله من غير تحر فوجب التيمم) *
(الشرح) حاصل ما ذكره ثلاثة أوجه * أصحها عند أكثر الأصحاب لا يتحرى في الباقي
بل يتيمم ويصلى ولا يعيد لأنه ممنوع من استعماله غير قادر على الاجتهاد فسقط فرضه بالتيمم:
والثاني يتوضأ به بلا اجتهاد: والثالث يجتهد فان ظهر له نجاسته تركه وبتيمم: وان ظن طهارته
توضأ به ولا إعادة على التقديرين ودليل الأوجه مذكور في الكتاب: وممن صحح الأول المصنف
ولو قلبه صاحبه فهو كما لو أنقلب ففيه الأوجه: صرح به الشيخ أبو حامد والمحاملي والغزالي وغيرهم:
وأما قول المصنف لا يزال حكم اليقين بالشك فهي عبارة مشهورة للفقهاء قد أكثر المصنف وغيره
منها وأنكرها بعض أهل الأصول على الفقهاء وقال الشك إذا طرأ لم يبق هناك يقين لان اليقين
الاعتقاد الجازم والشاك متردد: وهذا الانكار فاسد لان مرادهم أن حكم اليقين لا يزال بالشك
لا ان اليقين نفسه يبقى مع الشك فان ذلك محال لا يقوله أحد: ودليل هذه القاعدة وهي كون
حكم اليقين لا يزال بالشك الحديث الذي ذكرناه في أول الباب والله أعلم * وأبو علي الطبري
والقاضي أبو حامد تقدم بيانهما * قال المصنف رحمه الله *
(وان اجتهد فيهما فلم يغلب على ظنه شئ أراقهما أوصب أحدهما في الآخر وتيمم: فان تيمم
وصلى قبل الإراقة: أو الصب أعاد الصلاة لأنه تيمم ومعه ماء طاهر بيقين)
(الشرح) إذا اجتهد فلم يظهر له شئ فليرقهما أو يخلطهما ثم يتيمم ويصلى ولا إعادة عليه
بلا خلاف: بخلاف ما لو أراق ماء تيقن طهارته في الوقت لغير عذر وتيمم فإنه يعيد الصلاة على وجه
185

لأنه مقصر وهنا معذور: ولو أراق الماءين في مسألتنا قبل الاجتهاد فهو كإراقة الماء الذي تيقن طهارته
سفها: فإن كان قبل الوقت فلا إعادة: وإن كان في الوقت فلا إعادة في أصح الوجهين لكنه يعصى
قطعا قال أصحابنا ولو اجتهد فظن طهارة اناء فأراقه أو أراقهما فهو كالإراقة سفها على ما ذكرنا: فاما
إذا تيمم وصلى قبل الإراقة فتيممه باطل وتلزمه إعادة الصلاة لأنه تيمم ومعه ماء طاهر بيقين هكذا
قطع به الجمهور وهو الصحيح وفي البيان وجه آخر انه لا إعادة لأنه ممنوع من هذين الماءين فكانا كالعدم
كما لو حال بينه وبينه سبع وهذا وإن كان له وجه فالمختار الأول لان معه ماء طاهرا وقد ينسب
إلى تقصير في الاجتهاد وله طريق إلى اعدامه بخلاف السبع وذكر صاحب الحاوي في الإراقة (1)
المذكورة فيما إذا لم يغلب على ظنه شئ وجهين: أحدهما انها واجبة ليصح تيممه بلا إعادة: والثاني
قال وهو قول جمهور أصحابنا لا تجب الإراقة لكن تستحب لأنه ليس معه ماء يقدر على استعماله
فجاز له التيمم ويلزمه الإعادة لان معه ماء طاهرا فلو كانا لو خلطا بلغا قلتين وجب خلطهما بلا خلاف
والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان غلب على ظنه طهارة أحدهما توضأ به والمستحب ان يريق الاخر حتى لا يتغير اجتهاده
بعد ذلك)
(الشرح) هذا الذي ذكره متفق عليه: وقوله توضأ به أي لزمه الوضوء به ولا يجوز العدول عنه
إلى التيمم: وقوله والمستحب ان يريق الآخر يعني يستحب اراقته قبل استعمال الطاهر صرح به
صاحب الحاوي وغيره وهو ظاهر نص الشافعي في المختصر فإنه قال تأخى وأراق النجس على
الأغلب عنده وتوضأ بالطاهر: وعلل أصحابنا استحباب الإراقة بشيئين أحدهما الذي ذكره المصنف
والثاني لئلا يغلط فيستعمل النجس أو يشتبه عليه ثانيا: قال الشافعي في الأم والأصحاب فان خاف

1) هذا الثاني ضعيف والأول أفقه لان العجز لو كان عذرا لأسقط الإعادة ولأنه
متمكن من براءة ذمته اه‍ من نسخة الأذرعي
186

العطش أمسك النجس ليشربه إذا اضطر والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(فان تيقن أن الذي توضأ به كان نجسا غسل ما أصابه به منه وأعاد الصلاة لأنه تعين له يقين
الخطأ فهو كالحاكم إذا أخطأ النص)
(الشرح) هذا الذي ذكره من وجوب غسل ما أصابه منه وإعادة الصلاة هو المذهب
الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور: وذكر الغزالي في باب القبلة فيما إذا بان الخطأ في الأواني
قولين كالقبلة ثم إذا غسله عن النجاسة فهل يكفيه غسلة واحدة عن إزالة النجاسة والوضوء معا
فيه وجهان سبق بيانهما في آخر باب ما يفسد الماء من الاستعمال وسنذكرهما مبسوطين في أواخر نية
الوضوء إن شاء الله تعالى: والأصح يكفيه قال القاضي أبو الطيب ووافقنا أبو حنيفة في هذه المسألة
وهي إعادة الصلاة إذا تيقن استعمال النجس وهي أصل يقيس أصحابنا عليه مسائل: منها إذا أخطأ
في القبلة ومنها إذا أخطأ الماء في رحله وتيمم والله أعلم *
(فرع) قول المصنف تيقن أن الذي توضأ به كان نجسا كذا عبارة أصحابنا: وأعلم أنهم يطلقون
العلم واليقين ويريدون بهما الظن الظاهر لا حقيقة العلم واليقين فان اليقين هو الاعتقاد الجازم
وليس ذلك بشرط في هذه المسألة ونظائرها وقد منا في هذا الباب بيان هذا حتى لو أخبره
ثقة بنجاسة الماء الذي توضأ به فحكمه حكم اليقين في وجوب غسل ما أصابه وإعادة الصلاة وإنما
يحصل بقول الثقة ظن لا علم ويقين ولكنه نص يجب العمل به ولا يجوز العمل بالاجتهاد مع وجوده
وينقض الحكم المجتهد فيه إذا بان خلاف النص وإن كان خبر واحد الذي ذكرته من وجوب
الإعادة بسبب خبر الثقة بنجاسة الماء متفق (1) عليه وممن صرح به القاضي حسين في تعليقه والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *

(1) قوله متفق عليه يعني على المذهب وفيه القول الذي حكاه الغزالي اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
187

(وإن لم يتيقن ولكن تغير اجتهاده فظن أن الذي توضأ به كان نجسا قال أبو العباس يتوضأ
بالثاني كما لو صلى إلى جهة بالاجتهاد ثم تغير اجتهاده: والمنصوص في حرملة انه لا يتوضأ بالثاني لأنا
لو قلنا إنه يتوضأ به ولم يغسل ما أصابه الماء الأول من ثيابه وبدنه أمرناه أن يصلى وعلى بدنه
نجاسة بيقين وهذا لا يجوز وإن قلنا إنه يغسل ما أصابه من الماء الأول نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد
وهذا لا يجوز ويخالف القبلة فان هناك لا يؤدى إلى الامر بالصلاة إلى غير القبلة ولا إلى نقض
الاجتهاد بالاجتهاد وذا قلنا بقول أبي العباس توضأ بالثاني وصلى ولا إعادة عليه وان قلنا بالمنصوص
فإنه يتيمم ويصلى وهل يعيد الصلاة. فيه ثلاثة أوجه أحدها انه لا يعيد لان ما معه الماء ممنوع
من استعماله بالشرع فصار وجوده كعدمه كما لو تيمم ومعه ماء يحتاج إليه للعطش: والثاني يعيد لأنه
تيمم ومعه ماء محكوم بطهارته: والثالث وهو قول أبي الطيب ابن سلمة إن كان قد بقي من الأول بقية
أعاد لان معه ماء طاهرا بيقين: وإن لم يكن بقي من الأول شئ لم يعد. لأنه ليس معه ماء طاهر
بيقين) *
(الشرح) هذه المسألة لها مقدمة لم يذكرها المصنف وقد ذكرها أصحابنا فقالوا إذا غلب
على ظنه طهارة أحدهما فقد سبق انه يستحب إراقة الآخر فلو خالف فلم يرقه حتى دخل وقت
الصلاة الثانية فهل يلزمه إعادة الاجتهاد للصلاة الثانية: ينظر. فإن كان على الطهارة الأولى لم يلزمه
بلا خلاف بل يصلى بها: وان كن قد أحدث نظر. ان بقي من الذي ظن طهارته شئ لزمه إعادة
الاجتهاد: صرح به القاضي أبو الطيب في تعليقه والمحاملي في كتابيه وصاحب الشامل وغيرهم من
العراقيين والقاضي حسين وصاحباه التتمة والتهذيب وغير هم من الخراسانيين وقاسوه على
إعادة الاجتهاد في القبلة للصلاة وعلى القاضي والمفتى إذا اجتهد في قضية وحكم بشئ ثم حضرت
مرة أخرى يلزمه أن يعيد الاجتهاد: وفي هذه المسائل المقيس عليها وجه مشهور انه لا يجب
إعادة الاجتهاد بل له أن يصلى ويحكم بمقتضى الاجتهاد الأول ما لم يتغير اجتهاده: وينبغي أن
188

أن يجئ ذاك الوجه هنا وهو أولى: وإن لم يبق من الذي ظن طهارته شئ ففي وجوب إعادة
الاجتهاد في الآخر طريقان أحدهما أنه على الوجهين فيما إذا انقلب أحد الإنائين قبل الاجتهاد
هل يجتهد في الباقي وقد سبق: وبهذا الطريق قطع المتولي: والثاني وهو المذهب لا يعيد الاجتهاد
وجها واحدا وبهذا قطع الماوردي والبغوي والرافعي وغيرهم إذا عرفت هذه المقدمة فدخل
وقت صلاة أخرى فأعاد الاجتهاد: فان ظن طهارة الأول فلا اشكال فيتوضأ ببقيته إن كان منه
بقية ويصلي. وان ظن طهارة الثاني فقد نقل المزني عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال لا يتوضأ
بالثاني ولكن يصلى بالتيمم ويعيد كل صلاة صلاها بالتيمم وكذا نقل حرملة عن الشافعي أنه لا يتوضأ
بالثاني فقال جمهور الأصحاب الذي نقله المزني وحرملة هو المذهب: وقال أبو العباس بن سريج
هذا الذي نقله المزني لا يعرف للشافعي وقد غلط المزني على الشافعي والذي يجئ على
قياس الشافعي أنه يتوضأ بالثاني كالقبلة. واتفق جمهور أصحابنا المصنفين في الطريقتين على أن
الصواب والمذهب ما نقله المزني وحرملة: وان ما قاله أبو العباس ضعيف وضعفوه بما ضعفه به
المصنف وهو ظاهر: قال الشيخ أبو حامد في تعليقه أبي أصحابنا أجمعون ما قاله أبو العباس قال
وقالوا هذا من زلات أبي العباس قال قال أبو الطيب بن سلمة ما غلط المزني لان الشافعي نص
على هذا في حرملة قال أبو حامد لا يحتاج إلى حرملة فان الشافعي نص عليها في الأم (1) في باب الماء
يشك فيه: وقال صاحب الحاوي مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابه انه لا يجوز استعمال
بقية الأول ولا يجوز استعمال الثاني وخالفهم أبو العباس: وكذا قال المحاملي خالف سائر أصحابنا
أبا العباس في هذا: وقالوا المذهب انه لا يتوضأ بالثاني فهذا كلام أعلام الأصحاب: وقد جزم
جماعة من المصنفين بالمنصوص منهم القاضي حسين والبغوي وآخرون ولم يعرجوا على قول
أبي العباس لشدة ضعفه وشذ الغزالي عن الأصحاب أجمعين فرجح قول أبي العباس وليس بشئ
فلا يغتر به: قال أصحابنا فان قلنا بقول أبي العباس توضأ بالثاني ولا بد من ايراد الماء على جميع
المواضع التي ورد عليها الماء الأول لئلا يكون مستعملا للنجاسة بيقين: وممن صرح بهذا الفوراني

(1) لفظه في الأم ولو توضأ بماء ثم ظنه انه نجس لم يكن عليه ان يعيد وضوءا حتى يستبين أنه نجس هذا لفظه رضي الله عنه اه‍ أذرعي
189

وامام الحرمين وصاحب الشامل والغزالي والرافعي وآخرون: قال صاحب الشامل ينبغي أن يغسل
ما أصابه الماء الأول في غير مواضع الوضوء لان مواضع الوضوء يطهرها الماء عن الحدث
والنجس جميعا قال ولا يكون ذلك نقضا للاجتهاد بالاجتهاد لأنا لا نحكم ببطلان طهارته الأولى
ولا صلاته بها. وإنما أمرناه بغسل ما غلب على ظنه نجاسته كما أمرناه باجتناب بقية الماء الأول
وحكمنا بنجاسة: ولا يقال هو نقض الاجتهاد بالاجتهاد وهذا الذي قاله صاحب الشامل رحمه الله
من أنه في أعضاء الوضوء يكفيه امرار الماء مرة واحدة عن الحدث والنجس هو ظاهر كلام الغزالي
أيضا وقال الرافعي لا بد من غسلها مرتين مرة عن الحدث ومرة عن النجس وهذا الذي ذكره
الرافعي خلاف قول الأصحاب في حكاية مذهب ابن سريج كما ذكرناه عن صاحب الشامل والغزالي
وقد قدمنا أن العضو الذي تيقنا نجاسته يكفي غسله مرة واحدة عن الحدث والنجس على الأصح
من الوجهين فهنا أولى إذا لم تتيقن نجاسته: وعلى الجملة قول ابن سريج هنا ضعيف جدا والله أعلم:
ولا يجب قضاء الصلاة الأولى ولا الثانية على قول ابن سريج وأما إذا قلنا بالمنصوص فإنه
لا يجوز له استعمال الماء الثاني ولا بقية الأول. بل يتيمم ويصلي وفي وجوب إعادة هذه الصلاة
التي صلاها بالتيمم الأوجه الثلاثة التي ذكرها المصنف أصحها الثالث وهو انه إن كان بقي من
190

الأول بقية لزمه الإعادة وإلا فلا: والمراد بهذه بقية يجب استعمالها بأن تكون كافية لطهارته
أو غير كافية وقلنا يجب استعمالها وهو أصح القولين كما سيأتي في كتاب التيمم إن شاء الله تعالى:
فإن كانت البقية غير كافية لطهارته وقلنا لا يجب استعمالها فهي كالمعدومة صرح به امام الحرمين
وآخرون وهو واضح: وأجاب الأصحاب عن قول القائل الآخر انه ممنوع من استعمالها هذا الماء
فقالوا هو قادر على اسقاط الإعادة بأن يريقهما فهو مقصر بترك الإراقة: وهذا الخلاف إنما هو في
وجوب إعادة الصلاة الثانية التي صلاها بالتيمم: فأما الأولى فلا تجب اعادتها بلا خلاف. وسواء
قلنا بالمنصوص أو بقول ابن سريج. اتفق أصحابنا على هذا إلا الدارمي فإنه شذ عنهم فقال في
وجوب إعادة الصلاتين ثلاثة أوجه: أحدها تجب اعادتهما جميعا. والثاني تجب إعادة الأولى فقط:
والثالث تجب إعادة الثانية فقط. وهذا الذي شذ به الدارمي وانفرد به عن الأصحاب ضعيف
أو باطل: وأظنه اشتبه عليه وكيف كان فهو خطأ لا يلتفت إليه. وإنما أذكر مثله (1) لأبين فساده
لئلا يغتر به والله أعلم *
(فرع) لو أراد من جرى له تغير الاجتهاد أن لا يلزمه إعادة الصلاة بلا خلاف تفريعا
على المنصوص أراق الماء الثاني والبقية وتيمم وصلى ولا إعادة قطعا لأنه معذور في الإراقة

(1) هذه مبالغة كثيرة وقد نقل القاضي ابن كج رحمه الله في كتابه التجريد وجوب
إعادة الصلاة الأولى عن نص الشافعي رحمه الله وهو يرتفع عن التغليظ اه‍ من هامش الأذرعي
191

لا كمن أراقه سفها: قال امام الحرمين ولو صب أحدهما في الآخر فكالإراقة فيتيمم ويصلى بلا إعادة
قال ولو صب الثاني وأبقى بقية الأول تيمم وصلى ولا إعادة لأنه ليس معه ماء متيقن الطهارة
ولا مظنونها: ولو صب البقية وترك الثاني ففي الإعادة الوجهان المذكور ان في الكتاب: والفرق
بين هذه المسألة وبين ما إذا حال بينه وبين الماء سبع ونحوه فإنه لا إعادة قطعا وهنا خلاف انه
في مسألة السبع متيقن المانع ولا طريق له. وهنا مقصر بترك الإراقة والله أعلم *
(فرع) أبو الطيب بن سلمة هذا أول موضع ذكر فيه في المهذب واسمه محمد بن المفضل بن سلمة
ابن عاصم البغدادي من كبار أصحابنا تفقه على ابن سريج صنف كتبا كثيرة توفى في المحرم
سنة ثمان وثلاثمائة رحمه الله * قال المصنف رحمه الله *
(وان اشتبه عليه ماءان ومعه ماء ثالث يتيقن طهارته ففيه وجهان: أحدهما لا يتحرى لأنه
يقدر على اسقاط الفرض بيقين فلا يؤدي بالاجتهاد كالمكي في القبلة: والثاني انه يتحرى لأنه
يجوز اسقاط الفرض بالطاهر في الظاهر مع القدرة على الطاهر بيقين ألا تري انه يجوز أن يترك
ما نزل من السماء ويتيقن طهارته ويتوضأ بما يجوز نجاسته) *
(الشرح) هذان الوجهان مشهوران قال صاحب الحاوي وحكاهما أبو إسحاق المروزي
في شرحه أصحهما عند جمهور أصحابنا في الطريقتين جواز التحري وهو قول ابن سريج
وجمهور أصحابنا المتقدمين أصحاب الوجوه والوجه الآخر اختيار أبي إسحاق المروزي ورجحه
صاحب المستظهري قال وهو اختيار صاحب الشامل ولم يرجح في الشامل واحدا من الوجهين
192

فلعله سمعه منه أو رآه في مصنف آخر له والصحيح ما صححه الجمهور وهو جواز التحري
واتفقوا على أنه إذا جوزنا التحري استحب تركه واستعمال الطاهر بيقين احتياطا وأجاب
الأصحاب عن تمسك من منع الاجتهاد بالقياس على القبلة بأجوبة أحسنها أن القبلة في جهة واحدة
فإذا قدر عليها كان طلبه لها في غيرها عبثا بخلاف الماء الطهور فإنه في جهات كثيرة: الثاني أن
اليقين في القبلة حاصل في محل الاجتهاد بخلاف الماء: الثالث أن المنع من الاجتهاد في القبلة
في المسألة المفروضة لا يؤدى إلى مشقة بخلاف الماء والثياب: الرابع ذكره الشيخ أبو محمد في
الفروق عن بعض الأصحاب أن الماء ما متمول وفي الاعراض عنه تفويت ما ليته مع امكانها فلا تفوت
منفعة مال لوجود مال آخر بخلاف القبلة واستدل الأصحاب في ترجيح المذهب مع ما سبق بأن
الصحابة رضي الله عنهم كان يسمع أحدهم الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من صحابي آخر
فيعمل به ولا يفيده الا الظن ولا يلزمه أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيسمعه منه فيحصل له
العلم قطعا واستدل من منع الاجتهاد من نص الشافعي بقوله في المختصر ولو كان في السفر معه
إناءان يستيقن أن أحدهما طاهر والاخر نجس قالوا فجعل السفر شرطا للاجتهاد لكونه ليس
معه ماء آخر وأجاب الجمهور بان السفر شرط لوجوب الاجتهاد لا لجوازه والله أعلم *
وأما قول المصنف لأنه يقدر على اسقاط الفرض بيقين فلا يؤدى بالاجتهاد كالمكي في القبلة
فمراده بالمكي من كان بمكة وليس بينه وبين الكعبة حائل لا أصلى ولا طارئ فأما من هو
بمكة وبينه وبين الكعبة حائل أصلى كالجبل فإنه يجتهد بلا خلاف وكذا من بينه وبينها حائل
طارئ كالبناء على الصحيح كذا صرح به المصنف في باب استقبال القبلة والأصحاب: وقوله
الا ترى أنه يجوز أن يترك ماء نزل من السماء إلى آخره معناه أنه إذا كان بحضرته ماء السماء
الذي شاهد نزوله من السماء ولم يقع على نجاسة فهو يقطع بطهارته ومع هذا يجوز أن يتركه
193

ويتوضأ من إناء فيه ماء قليل قد غاب عنه واحتمل ولوغ كلب فيه أو نجاسة أخرى وكذا
لو كان بحضرة نهر وشبهه من المياه الكثيرة جاز الوضوء من الاناء الممكن نجاسته وهذا لا خلاف
فيه والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا يتخرج على هذين الوجهين مسائل والعبارة الجامعة لها أنه هل يجوز
الاجتهاد مع القدرة على اليقين: وانها لو اشتبه ماءان مستعمل ومطلق وهي المسألة التي ذكرها
المصنف بعد هذا فان قلنا يلزم الاخذ باليقين توضأ بهما والا اجتهد: الثانية اشتبه ثوبان
ومعه ثالث طاهر يقين أو معه ماء يمكنه غسل أحدهما به فان أوجبنا اليقين لم يجتهد بل
يصلى في الثالث أو يغسل وإن لم نوجب اليقين اجتهد: الثالثة معه مزادتان في كل واحدة قلة
وإحداهما نجسة واشتبهت فان أوجبنا اليقين وجب خلطهما وإلا اجتهد: الرابعة اشتبه لبن طاهر
ولبن متنجس ومعه لبن ثالث من ذلك الجنس يتيقن طهارته قال الشيخ أبو حامد والمحاملي في
المجموع وأبو علي البندنيجي في جواز التحري هذان الوجهان قال المتولي لعل الشيخ أبا حامد
أراد (1) إذا كان مضطرا يريد شرب اللبن حتى يجب عليه طلب الطاهر كما عليه في مسألة الماء طلب
الطاهر للطهارة قال فأما في غير حال الاضطرار فلا يمنع من الاجتهاد بلا خلاف لأنه ليس عليه
فرض حتى يمنعه على أحد الوجهين من الاجتهاد للقدرة على اليقين وإنما الغرض الآن المالية هذا
كلام المتولي وذكر صاحب الشامل نحوه وأنكر على الشيخ أبي حامد فالصحيح جواز الاجتهاد (2)
فيهما مطلقا من غير خلاف والله أعلم قال المصنف رحمه الله *
(وان اشتبه ماء مطلق وماء مستعمل ففيه وجهان أحدهما لا يتحرى لأنه يقدر على اسقاط
الفرض بيقين بأن يتوضأ بكل واحد منهما والثاني أنه يتحرى لأنه يجوز اسقاط الفرض بالطاهر
مع القدرة على اليقين) *
(الشرح) هذان الوجهان مبينان على الوجهين السابقين في المسألة قبلها كما بيناه والصحيح

(1) الذي رأيته في التتمة حكاية الوجهين عن رواية الشيخ أبي حامد ثم قال وصورة المسألة إذا
كان مضطرا ويريد الشرب حتى يكون عليه طلب الطاهر مثل ما عليه في
مسألتنا استعمال الماء لأجل الصلاة فأما في غير حالة الاضطرار لا يمنع التحري لأنه
ليس عليه فرض حتى يمنعه من الاجتهاد عند القدرة على اليقين وإنما الغرض المالية هذا
لفظ بحروفه وفيما ذكره المتولي نظر ويلزم انه إذا كان لا يحتاج إلى الطهارة بالماء المشتبه ان يجور
التحري بلا خلاف وذلك بأن يكون عنده نهر أو عين أو نحو ذلك فيكون الغرض منه المالية أو صرفه
في غير الطهارة وهذا لا يوافق عليه فيما أظن اه‍ في نسخة الأذرعي
(2) هذا التفصيل ينبغي جريانه في مسألة الثوبين أيضا وقوله من غير
خلاف نظر اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
194

منهما جواز التحري ويتوضأ بما ظن أنه المطلق: والثاني لا يجوز التحري بل يلزمه اليقين بأن
يتوضأ بكل واحد مرة وعلى هذا لو أراد الاستنجاء أو غسل نجاسة أخرى غسل بأحدهما ثم بالآخر
وإذا توضأ بهما فهو غير جازم في نيته بطهوريته ولكن يعذر في ذلك للضرورة كمن نسي صلاة
من خمس والله أعلم * قال المصنف رحمه الله) *
(وإن اشتبه عليه ماء مطلق وماء ورد لم يتحر بل يتوضأ بكل واحد منهما وإن اشتبه عليه
ماء وبول انقطعت رائحته لم يتحر بل يريقهما ويتيمم لان ماء الورد والبول لا أصل لهما في التطهير
فيرد إليه بالاجتهاد) *
(الشرح) هذا الذي ذكره في المسألتين هو المذهب الصحيح الذي قطع به العراقيون
في كتبهم المشهورة وصححه الخراسانيون وحكوا وجها أنه يجوز التحري في المسألتين وحكاه
المصنف في كتابه في الخلاف قال البغوي وسائر الخراسانيين وعلى هذا الوجه لا بد من ظهور
علامة ولا يجئ فيه الوجه السابق في الماءين أنه يكفي الظن بلا علامة قال الخراسانيون ومثل
هذه المسألة مسائل منها إذا اشتبه لبن بقر ولبن أتان وقلنا بالمذهب أنه نجس أو اشتبه خل
وخمر أو شاة ذكاها مسلم وشاة ذكاها مجوسي أو لحم ميتة ولحم مذكاة فالمذهب في الجميع منع
الاجتهاد وبه قطع العراقيون وللخراسانيين وجه ضعيف أنه يجتهد ولو اشتبه شاتان مذكاتان
أحداهما مسمومة جاز الاجتهاد فيهما بلا خلاف كالماءين والطعامين لأنهما مباحتان طرأ على أحداهما
مانع ذكره القاضي حسين وهو واضح والله أعلم. وقوله فيرد إليه بالاجتهاد هو بنصب الدال
* قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وإن اشتبه عليه طعام طاهر وطعام نجس تحرى فيهما لان أصلهما على الإباحة فهما كالماءين) *
(الشرح) هذا الذي ذكره من التحري في الأطعمة متفق عليه وسواء كانا جنسا كلبنين
أو دبسين أو خلين أو زيتين أو عسلين أو سمنين أو عصيرين أو طحينين ونحو ذلك أو جنسين
كخل ولبن أو دبس وزيت أو طبيخ وخبز ونحو ذلك وكذا طعام وثوب أو تراب وكذا
تراب وتراب أو تراب وثوب ونحو ذلك وكل هذا جوز التحري فيه بلا خلاف إلا أن الشيخ
195

أبا حامد والدارمي حكيا وجها عن الزبيري أنه قال لا يجوز الاجتهاد في جنسين قال
أبو حامد وهذا ليس بشئ ولو اشتبه طعامان ومعه ثالث يتيقن طهارته فالمذهب جواز الاجتهاد
وفيه خلاف سبق قريبا والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان اشتبه الماء الطاهر بالماء النجس على أعمى ففيه قولان قال في حرملة لا يتحرى كما
لا يتحرى في القبلة وقال في الأم يتحرى كما يتحرى في وقت الصلاة فان قلنا يتحرى فلم يكن له
دلالة على الأغلب فوجهان: أحدهما لا يقلد لان من له الاجتهاد لا يقلد كالبصير والثاني يقلد وهو ظاهر نصه
في الأم لان اماراته تتعلق بالبصر وغيره فإذا لم يغلب على ظنه دل على أن اماراته تتعلق بالبصر
فقلد فيه كالقبلة)
(الشرح) اتفقوا على أن الأعمى يجتهد في أوقات الصلاة ولا يجتهد في القبلة وفي الأواني قولان
الصحيح منهما عند الأصحاب جواز الاجتهاد وقطع به جماعات منهم الفوراني والماوردي والمحاملي
في المقنع والغزالي في الوجيز وغيرهم وقال الشيخ أبو حامد في التعليق قال أصحابنا البصير والأعمى
في الأواني سواء ولم يذكر فيه خلافا وشذ عن الأصحاب أبو العباس الجرجاني فقطع في كتابيه
التحرير والبلغة بأنه لا يتحرى وهذا شاذ متروك نبهت عليه لئلا يغتر به فان قلنا يجتهد فاجتهد فلم
يظهر له شئ فوجهان ذكر المصنف دليلهما أصحهما له التقليد وهو ظاهر (1) نصه في الأم والثاني لا
فان قلنا لا يقلد أو قلنا يقلد فلم يجد من يقلده أو وجد بصيرا وقلده فتحير البصير أيضا قال ابن الصباغ
قال الشافعي لا يتيمم ولكن يخمن أكثر ما يقدر عليه ويتوضأ ويصلى ولم يذكر الإعادة قال
القاضي أبو الطيب عندي تجب الإعادة لأنه لم تثبت طهارة الماء عنده بامارة وقال الشيخ أبو حامد
يتيمم ويصلى ويعيد لأنه لم يعلم طهارة الماء ولا ظنها قال ابن الصباغ قول القاضي موافق للنص
وقول الشيخ أبي حامد أقيس: قال فان قيل فالأصل الطهارة فالجواب أن يقين النجاسة في أحدهما منع
العمل بالأصل بدليل وجوب التحري هذا كلام ابن الصباغ وقول الشيخ أبي حامد هو الصحيح

(1) قال في الأم ولو كان أعمى لا يعرف ما يدله على الأغلب وكان معه بصير يصدقه وسعه ان يستعمل الأغلب عند البصير فقوله: ظاهر نصه فيه شئ بل هو صريح نصه اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
196

الجاري على قاعدة المذهب وعلى الأصول والنص يتأول على من ظن طهارته بعلامة أو على
غير ذلك والله أعلم وقول المصنف لم يكن له دلالة هو بفتح الدال وكسرها لغتان مشهورتان ويقال
دلولة بضم الدال حكاها الجوهري وهي العلامة * قال المصنف رحمه الله *
(وان اشتبه ذلك على رجلين فأدى اجتهاد أحدهما إلى طهارة أحدهما واجتهاد الآخر إلى
طهارة الاخر توضأ كل واحد منهما بما أداه إليه اجتهاده ولم يأتم أحدهما بالآخر لأنه يعتقد أن
صلاة إمامه باطلة)
(الشرح) هذا الذي ذكره متفق عليه كما ذكره إلا أن أصحابنا حكوا عن أبي ثور رحمه الله انه
يجوز أن يأتم أحدهما بالآخر ولا شك في ضعف مذهبه فان صلاة المأموم حينئذ باطلة قطعا إما لعدم
طهارته وإما لعدم طهارة امامه مع علمه بالحال ومثل هذه المسألة إذا اختلف اجتهاد رجلين في القبلة
أو خرج من أحدهما حدث وتناكراه ففي كل هذه الصور تصح صلاة كل واحد اعتبارا باعتقاده
ولا يصح اقتداؤه بالآخر والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان كثرت الأواني وكثر المجتهدون فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة اناء وتوضأ
به وتقدم أحدهم وصلى بالباقين الصبح وتقدم آخر وصلى بهم الظهر وتقدم آخر وصلى بهم العصر فكل من
صلى خلف امام يجوز أن يكن طاهرا فصلاته خلفه صحيحة وكل من صلى خلف إمام يعتقد أنه
نجس فصلاته خلفه باطلة)
(الشرح) هذه المسألة كثيرة الفروع مختلف في أصلها وقد ذكرها المصنف مختصرة جدا
فنذكر صورة الكتاب مع التنبيه على قاعدة المذهب ثم فروعها إن شاء الله تعالى: فصورة الكتاب أن
يكون هناك ثلاثة من الأواني طاهر ان ونجس واشتبهت فاجتهد فيها ثلاثة رجال فأدى اجتهاد كل واحد إلى
طهارة اناء فاستعمله ثم صلى أحدهم بصاحبيه الصبح ثم آخر بصاحبيه الظهر ثم الاخر بصاحبيه العصر وكلهم
197

صلوا الصلوات بتلك الطهارة ففي المسألة ثلاثة أوجه حكاها الخراسانيون أصحها وهو قول ابن الحداد
وبه قطع المصنف وسائر العراقيين والمتولي من الخراسانيين انه يصح لكل واحد الصلاة التي أم
فيها والاقتداء الأول ويبطل الاقتداء الثاني والوجه الثاني * يصح لكل واحد التي أم فيها فقط
ولا يصح له اقتداء أصلا وهذا قول أبي العباس بن القاص صاحب التلخيص لان المقتدى يعتقد
ان أحد امامية محدث فهو شاك في أهلية كل واحد منهما للإمامة فأشبه الخنثى وهذا القياس على
الخنثى ضعيف: والفرق ان صاحب الاناء الذي هو الامام يظن أهليته للإمامة باجتهاده بخلاف الخنثى فإنه
لا يظن أهلية نفسه لامامة الرجال فنظير صاحب الاناء أن يكون الخنثى قد ظن كونه رجلا بعلامة
كالبول وغيره أو بميله إلى النساء وحينئذ يصح اقتداء الرجل به قطعا: والوجه الثالث وهو قول
أبي إسحاق المروزي يصح لكل واحد التي أم فيها ويصح الاقتداء الأول ان اقتصر عليه فلو
اقتدى بعد ذلك بالآخر بطلت احدى صلاتيه خلفهما لا بعينها فيلزمه اعادتهما كمن نسي صلاة
من صلاتين فاتفق ابن القاص والمروزي على وجوب إعادة الصلاتين إذا اقتدى اقتداءين واختلفا
إذا اقتصر على اقتداء فأوجب الإعادة ابن القاص لا المروزي واتفق ابن الحداد والمروزي على
صحة الاقتداء الأول إذا اقتصر عليه واختلفا إذا اقتدى ثانيا فقال ابن الحداد يتعين الثاني للبطلان:
وقال المروزي يجب اعادتهما جميعا وعلى الأوجه كلها يصح لكل واحد الصلاة التي أم فيها
بلا خلاف وشذ صاحب البيان فحكي وجها أن صلاة امام العصر في المثال المذكور باطلة في حقه
لأنه لما صلى خلف امامي الصبح والظهر صار كأنه اعترف بأنهما الطاهران فيعين هو للنجاسة: وهذا
خيال عجيب وعجب ممن قال هذا وكيف يقال هذا فإنه لو اعتقد نفسه نجسا كانت صلاته كلها
سواء وهذا الوجه خطأ صريح وإنما اذكر مثله للتنبيه على بطلانه لئلا يغتر به ثم لا تفريع عليه
وما أذكره بعد هذا تفريع على المذهب قال أصحابنا ولو اشتبهت أو ان والطاهر واحد والباقي
نجسات فصلاة كل امام صحيحة فيما أم فيه باطلة في الاقتداء كله خلافا لأبي ثور كما سبق ولو كان
الطاهر اثنين والنجس اثنين وصلى كل واحد صلاة فصلاة الأئمة صحيحة بلا خلاف وأما الاقتداء
ففيه الأوجه فعلى قول ابن الحداد وهو الأصح صلاة الصبح صحيحة للجميع وصلاة الظهر صحيحة
لامامها وامام الصبح باطلة في حق الباقين وصلاتا العصر والمغرب صحيحتان لإماميهما باطلة للمأمومين
198

وعلى قول ابن القاص لا يصح الا ما أم فيها وعلى قول المروزي يصح الاقتداء الأول ان اقتصر
عليه فان اقتدى ثانيا بطل جميع ما اقتدى فيه ولو كان الطاهر ثلاثة وواحد نجس وصلوا كما ذكرنا
فالصبح والظهر صحيحتان في حق الجميع والعصر صحيحة في حق غير امام المغرب والمغرب باطلة في
حق غير امامها هذا قول ابن الحداد وعلى قول ابن القاص لا يصح الاقتداء مطلقا والمروزي
يصحح اقتداءين ان اقتصر عليهما والا بطل جميع اقتداءه ولو كانت الآنية خمسة فإن كان الطاهر
واحدا والباقي نجسا لم يصح الا ما أم فيها بلا خلاف وإن كان الطاهر اثنين صحت الصبح للجميع
والظهر لامامها وامام الصبح وتبطل للباقين والعصر والمغرب والعشاء باطلات الا في حق أئمتها
ولو كان الطاهر ثلاثة صحت الصبح والظهر للجميع والعصر لامامها وامامي الصبح والظهر فقط وبطلت
المغرب والعشاء الا لاماميهما ولو كان الطاهر أربعة صحت الصلوات كلها الا المغرب في حق امام
العشاء والا العشاء في حق غير امامها هذا الذي ذكرناه في الخمسة مذهب ابن الحداد ولا يخفى تفريع
الآخرين: ولو كثرت الأواني والمجتهدون لم يخف حكمهم وتخريج مسائلهم على ما ذكرنا وضابطه
على قول ابن الحداد يصح لكل واحد ما أم فيه ومن اقتدى به الأول فالأول بعدد بقية الطاهر
قال أصحابنا ولو جلس رجلان فسمع منهما صوت حدث فتنا كراه فهو كمسألة الإنائين فتصح صلاة كل
واحد في الظاهر ولا يصح اقتداؤه بصاحبه ولو كانوا ثلاثة فسمع بينهم صوت تناكروه فهو كمسألة
الأواني الثلاثة وفيها المذاهب فعند ابن القاص لا يصح اقتداء وعند ابن الحداد يصح الاقتداء
للأول والمروزي يصحح الاقتداء الأول ان اقتصر عليه والا فيعيدهما ولو كانوا أربعة أو خمسة
فعلى ما سبق في الآنية حرفا حرفا هذا هو المذهب الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور وذكر الشيخ
أبو محمد الجويني والمتولي وجها انه لا يصح الاقتداء هنا وان صح في الآنية لتيسر الاجتهاد في
199

الآنية دون الأشخاص في الحدث قال امام الحرمين وقد يفرض زيادة في الآنية وهي أن الخمسة
لو اجتهدوا في الآنية الخمسة والنجس واحد فأدى اجتهاد أحدهم إلى طهارة اناء فتوضأ به واجتهد
في بقيتها فعين النجس باجتهاده فمن استعمل هذا النجس لا يقتدى به هذا الانسان ويصح اقتداؤه
بالباقين بلا خلاف كيف كان يعنى ولا إعادة قال ولا يتأتي هذا في مسألة الحدث إذا ليس هناك
اجتهاد ولا تمسك بدلالة يعول عليها قال فان تكلف متكلف وفرض فيه علامات ظنية استوى
البابان فيما ذكرناه الآن والله أعلم *
(فرع) ذكر الشيخ أبو حامد وصاحباه القاضي أبو الطيب والمحاملي والبندنيجي وغيرهم هنا
مسألة ذات فروع تشبه هذه التي نحن فيها وذكرها كثيرون في آخر صفة الوضوء وقد رأيت
تقديمها تأسيا بهؤلاء الأئمة ومسارعة إلى الخيرات قبل حلول المنية وغيرها من الآفات وكان
عادة القاضي حسين إذا ذكر مسألة ذكر معها كل ماله تعلق بها وما يشبهها ونعمت الخصلة * قال
أصحابنا رحمهم الله إذا توضأ للظهر عن حدث وصلاها ثم توضأ للعصر عن حدث وصلاها ثم
تيقن أنه نسي مسح الرأس أو فرضا من فروض الطهارة من إحدى الطهارتين ولم يعرف عينها
لزمه إعادة الصلاتين لان إحداهما باطلة وقد جهلها فهو كمن نسي صلاة من صلاتين: وهذا
لا خلاف فيه بين أصحابنا: وأما الطهارة فهي مبنية على تفريق الوضوء فان قلنا بالقول الصحيح
الجديد ان تفريق الوضوء جائز مسح رأسه ثم غسل رجليه وتمت طهارته وان قلنا
بالقديم أن تفريق الوضوء يبطله استأنف الطهارة ولو توضأ للظهر عن حدث فصلاها
ثم حضرت العصر فجدد الوضوء ولم يحدث وصلى العصر ثم تيقن ترك مسح الرأس في
احدى طهارتيه وجهلها فهذه المسألة تبنى على أصلين أحدهما تفريق الوضوء والآخر ان التجديد
200

هل يرفع الحدث وفيهما خلاف فنذكر الطهارة ثم الصلاة فاما الطهارة: فان قلنا التجديد يرفع الحدث
فهو الآن متطهر طهارة صحيحة: إما الأولى وإما الثانية وإما بعضها من الأولى وبعضها من الثانية
لأنه ان تركه من الثانية فالأولى صحيحة وإلا فالثانية ان قلنا لا يجوز التفريق وان جوزناه حصل الوجه واليدان من الأولى والرأس والرجلان من الثانية وان قلنا بالمذهب الصحيح
ان التجديد لا يرفع الحدث بنى على التفريق فان قلنا لا يجوز استأنف الطهارة وان قلنا يجوز بنى
على أنه إذا فرق هل يحتاج إلى نية أخرى لباقي الأعضاء وفيه وجهان أصحهما لا يحتاج بل تكفيه
النية السابقة فان قلنا يحتاج إلى نية جديدة انبنى على أن تفريق النية على الأعضاء هل يجوز أم لا
وفيه وجهان أصحهما يجوز فان قلنا يجوز بنى على طهارته فيمسح رأسه ثم يغسل رجليه وان قلنا تكفيه النية السابقة انبنى على أن من ترك لمعة من عضوه في الغسلة الأولى فانغمست في الثانية
هل يرتفع حدثه وفيه وجهان أصحهما نعم فان قلنا لا يرتفع فهو كما إذا قلنا لا تكفيه النية السابقة
وان قلنا يرتفع في مسألة اللمعة ففي التجديد وجهان أحدهما هو كاللمعة والثاني الجزم بأنه لا يرتفع
وهذه الأوجه والمسائل المبني عليها ستأتي في باب صفه الوضوء وباب نيته إن شاء الله تعالى
واضحة مبسوطه: والحاصل للفتوى من هذا الخلاف انه يبنى على طهارته فيمسح رأسه ثم يغسل
رجليه بناء على الراجح في جميع هذه الأصول هذا حكم الطهارة: وأما الصلاة فيجب إعادة الظهر
بلا خلاف بين أصحابنا لا نا شككنا في فعلها بطهارة والأصل بقاؤها عليه وأما العصر
فمبنية على الطهارة فان قلنا طهارته الآن صحيحة فعصره صحيح وان قلنا يجب استئنافها أو البناء
عليها بمسح الرأس وغسل الرجلين وجب إعادة العصر هكذا قاله الأصحاب واتفقوا عليه: وقد يقال
كيف جزموا بوجوب إعادة الظهر وقد حصل الشك فيها بعد الفراغ منها ومن شك في ترك
سجدة من الصلاة بعد الفراغ لا شئ عليه بل صلاته صحيحه على المذهب الصحيح وبه قطع المصنف
وسائر العراقيين كما هو معروف في باب سجود السهو: والجواب أن هذه المسألة ليست كتلك والفرق
201

من وجهين أحدهما أن الطهارة شرط للصلاة وشككنا هل أتي به أم لا وعلى تقدير أن لا يكون
أتي به لم يدخل في الصلاة فشككنا هل دخل فيها أم لا والأصل عدم الدخول ولم يعارض هذا
الأصل شئ آخر وأما مسألة ترك السجدة فقد تيقن فيها الدخول في الصلاة وشك بعد الفراغ في
أنه جرى مبطل أم لا والأصل عدم مبطل والظاهر مضيها على الصحة: الفرق الثاني أن الشك في
ترك السجدة ونحوها تعم به البلوى فعفى عنه بخلاف الطهارة هذا تحرير المسألة وقد ذكرها جماعة
ناقصة وأحسنهم لها ذكرا القاضي أبو الطيب في تعليقه ولو توضأ للصبح عن حدث فصلاها ثم جدد
للظهر ثم توضأ للعصر عن حدث جدد للمغرب ثم توضأ للعشاء عن حدث ثم علم أنه ترك مسحا
في احدى الطهارات وجب إعادة كل صلاة صلاها بطهارة عن حدث بلا خلاف وفي التي صلاها
بعد تجديد الخلاف والتفصيل السابق: ولو توضأ عن حدث وصلى الصبح ثم نسي أنه توضأ وصلى
فتوضأ ثانيا وصلى ثم علم أنه ترك مسحا في احدى الطهارتين وسجدة من احدى الصلاتين ولم يعلم
محلهما فطهارته الآن صحيحة بلا خلاف ويلزمه إعادة الصلاة لاحتمال أنه ترك المسح في الطهارة
الأولى والسجدة من الصلاة الثانية ذكره صاحب العدة وهو واضح والله أعلم *
(فرع) ومما ذكره امام الحرمين وغيره متصلا بهذه وهو مما يشبهها اقتدى شافعي بحنفي وعكسه
وفيه خلاف وتعم به البلوى والأكثرون ذكروه في باب صفة الأئمة وأنا أرى تقديمه موافقة
للامام ومسارعة إلى الخير لكني أذكرها مختصرة فان وصلت باب صفة الأئمة بسطتها إن شاء الله
تعالى: قال امام الحرمين كان شيخي يذكر ههنا اقتداء الشافعي بالحنفي قال ونحن نذكره فإذا
توضأ حنفي واقتدى به شافعي والحنفي لا يعتقد وجوب نية الوضوء والشافعي يعتقدها فثلاثة أوجه
أحدها وهو قول الأستاذ أبي إسحاق الأسفرايني لا يصح اقتداؤه نوى أو لم ينو لأنه وان نوى
فلا يراها واجبة فهي كالمعدومة فلا تصح طهارته والثاني وهو قول القفال يصح وإن لم ينو لان
كل واحد مؤاخذ بموجب اعتقاده والاختلاف في الفروع رحمة: والثالث وهو قول الشيخ أبي حامد
202

الأسفرايني ان نوى صح وإلا فلا: فهذه الأوجه مشهورة والمختار وجه رابع سنذكره مع غيره من
فروع المسألة إن شاء الله تعالى في باب صفة الأئمة وهو انه يصح الاقتداء بالحنفي ونحوه
إلا أن يتحقق اخلاله بما نشترطه ونوجبه وهذه الأوجه جارية في صلاة الشافعي خلف حنفي وغيره
على وجه لا يراه الشافعي ويراه ذلك المصلى بأن أبدل الفاتحة أو لم يطمئن أو مس فرجا أو امرأة
فعند الأستاذ أبي إسحاق وأبي حامد صلاة الشافعي خلفه باطلة اعتبارا باعتقاد المأموم وعند القفال
صحيحة اعتبارا باعتقاد الإمام قال البغوي ولو صلي الحنفي على خلاف مذهبه مما يصححه الشافعي
بأن افتصد ولم يتوضأ أو توضأ بماء قدر قلتين وقعت فيه نجاسة لم تغيره فاقتدى به شافعي فعند
القفال لا يصح اعتبارا باعتقاد الامام وعند أبي حامد يصح اعتبارا باعتقاد المأموم قال الامام ولو
وجد شافعي وحنفي نبيذ تمر ولم يجدا ماء فتوضأ به الحنفي وتيمم الشافعي واقتدى أحدهما بالآخر
فصلاة المأموم باطلة لان كل واحد يرى بطلان صلاة صاحبه فأشبه الرجلين إذا سمع منهما صوت
حدث تناكراه ومن هذا القبيل الماء الذي يتوضأ به حنفي هل هو مستعمل وقد قدمناه في بابه
والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بالباب لم يذكرها المصنف إحداها قال القاضي حسين في تعليقه لو كان
له غنم فاختلطت بغنم غيره أو اختلطت رحله برحال غيره أو حمامه بحمام غيره فله التحري وكذا
قال البغوي لو اختلطت شاته أو حمامه بشاة غيره وحمامة فله أخذ واحدة بالاجتهاد فان نازعه من
في يده فالقول قول صاحب اليد وذكر المتولي والروياني في شاته وثوبه المختلطين وجهين في جواز
الاجتهاد به: الثانية قال أصحابنا إذا اختلطت زوجته بنساء واشتبهت لم يجزله وطئ واحدة منهن
بالاجتهاد بلا خلاف سواء كن محصورات أو غير محصورات لان الأصل التحريم والابضاع يحتاط
لها والاجتهاد خلاف الاحتياط: ولو اشتبهت أخته من الرضاع أو النسب أو غيرها من محارمه
203

بنسوة فان كن غير محصورات كنسوة بلد كبير فله أن ينكح واحدة منهن بلا خلاف ولا يفتقر
إلى اجتهاد كما لو غصبت شاة وذبحت في بلد لا يحرم اللحم بسببها لانغمارها في غيرها وان كن
محصورات كقرية صغيرة فوجهان الصحيح لا يجوز نكاح واحدة منهن ولو اجتهد: والثاني
يجوز سواء اجتهد أم لا وهذان الوجهان حكاهما الامام وغيره في كتاب النكاح: الثالثة ان
اختلطت ميتة بمذكيات بلد أو اناء بول بأواني بلد فله أكل بعض المذكيات والوضوء ببعض
الأواني وهذا لا خلاف فيه والي أي حد ينتهي فيه وجهان حكاهما صاحب البحر أحدهما إلى
أن يبقي واحد كما لو حلف لا يأكل تمرة فاختلطت بتمر كثير فإنه يأكل الجميع الا تمرة ولا يحنث:
والثاني يجوز إلى أن يبقي قدر لو كان الاختلاط به ابتداء منع الجواز ولم يرجح واحدا من الوجهين
والمختار الأول وقد جزم صاحب التتمة بمثله فيما لو خفى عليه موضع النجاسة من أرض ونحوها
وسنوضح المسألة في باب طهارة البدن إن شاء الله تعالى: الرابعة حكي صاحب البحر عن القاضي
حسين أنه قال لو كان له دنان في أحدهما دبس وفي الآخر خل واغترف منهما في إناء واحد
ثم رأى في الاناء فأرة ميتة لا يعلم من أيهما هي تحرى في الدنين فإذا أدى اجتهاده إلى طهارة أحدهما
ونجاسة الآخر فإن كان اغترف بمغرفتين فالذي أدي اجتهاده إلى طهارته طاهر والآخر نجس
وإن كان بمغرفة واحدة فان ظهر بالاجتهاد أن الفأرة كانت في الثاني فالأول باق على طهارته وان
ظهر أنها كانت في الأول فهما نجسان: الخامسة إذا اشتبه الماءان فتوضأ بأحدهما من غير اجتهاد
وقلنا بالمذهب أنه لا يجوز من غير اجتهاد فبان أن الذي توضأ به طاهر فقد حكى الشاشي في
كتابيه المستظهري ثم المعتمد أنه لا يصح وضوءه في اختيار الشيخ أبي إسحاق المصنف لأنه
متلاعب فهو كالمصلي إلى جهة بغير اجتهاد فإنه لا تصح صلاته بالاتفاق وان وافق القبلة وكذا
من صلى شاكا في دخول الوقت بلا اجتهاد فوافقه لا تصح صلاته قال واختيار ابن الصباغ أنه
204

يصح وضوءه لان المقصود إصابة الطاهر وقد حصل قال الشاشي وهذا يلزم عليه القبلة ويمكنه أن
يعتذر بأنه شرع في الصلاة شاكا في شرطها فوزانه لو صلى هنا قبل بيان طهارة الذي توضأ به
فإنه لا تصح صلاته بالاتفاق قال ويجاب عن هذا بان الطهارة في نفسها عبادة وقد شرع فيها
شاكا في شرطها فكان متلاعبا (قلت) وقد قطع الغزالي في فتاويه بصحة وضؤه والمختار بطلان
وضؤه والله أعلم *
فصل
(تقدم في أول الباب الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شكي إليه
الرجل يخيل إليه الشئ في الصلاة فقال صلى الله عليه وسلم لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد
ريحا قال أصحابنا نبه صلى الله عليه وسلم على أن الأصل واليقين لا يترك حكمه بالشك وهذه
قاعدة مطردة لا يخرج منها الا مسائل يسيرة لأدلة خاصة على تخصيصها وبعضها إذا حقق كان
داخلا فيها وسأذكرها الآن إن شاء الله تعالى فعلى هذه القاعدة لو كان معه ماء أو مائع آخر
من لبن أو عسل أو دهن أو طبيخ أو ثوب أو عصير أو غيرها مما أصله الطهارة وتردد في نجاسة
فلا يضر تردده وهو باق على طهارته وسواء كان تردده بين الطهارة والنجاسة مستويا
أو ترجح احتمال النجاسة الا على قول ضعيف حكاه الخراسانيون أنه إذا غلب على ظنه النجاسة
حكم بها (1) والصحيح ما سبق
وكذا لو شك في طلاق أو عتق أو حدث أو طهارة أو حيض زوجته
وأمته فله البناء على الأصل ولا يلزمه شئ هذا كله ما لم يستند الظن إلى سبب معين فان استند
كمسألة بول الحيوان في ماء كثير إذا تغير ومسألة المقبرة المشكوك في نبشها وثياب المتدينين
باستعمال النجاسة وغير ذلك فلها أحكام معروفة ففي بعضها يعمل بالظاهر بلا خلاف كمسألة
بول الحيوان (2) وشهادة شاهدين فإنها تفيد الظن وتقدم على أصل براءة الذمة بلا خلاف وفي بعضها

(1) قال في الأم ولو كان ماء فظن أن النجاسة خالطته فنجس ولم يستيقن فالماء على
الطهارة وله ان يتوضأ به ويشربه حتى يستيقن مخالطة النجاسة هذا لفظه
(2) قد تقدم في مسألة بول الحيوان خلاف وتفصيل من بعض الأصحاب اه‍ من هامش نسخة الأذرعي
205

قولان كمسألة المقبرة ونحوها وقد ذكر المصنف في آخر باب الآنية في آنية الكفار المتدينين
باستعمال النجاسة وجهين أنها محكوم بنجاستها عملا بالظاهر والثاني بطهارتها عملا
بالأصل وهذا الثاني هو الأصح عند الأصحاب قال جماعة من الأصحاب هذا الخلاف مبني على
الخلاف في المقبرة المشكوك في نبشها قالوا ومأخذ الخلاف أنه تعارض أصل وظاهر فأيهما يرجح
فيه هذا الخلاف وبالغ جماعات من الخراسانيين في التخريج على هذا فأجروا قولين في الحكم
بنجاسة ثياب مدمني الخمر والقصابين وشبههم ممن يخالط النجاسة ولا يتصون منها مسلما كان أو كافرا
وطردوها في طين الشوارع الذي يغلب على الظن نجاسته وأبعد بعضهم فطردها في ثياب الصبيان
وزاد بعضهم فقال هل تثبت النجاسة بغلبة الظن فيه قولان والراجح المختار في هذا كله طريقة
العراقيين وهي القطع بطهارة كل هذا وشبهه وقد نص الشافعي على طهارة ثياب الصبيان في مواضع
وذكر جماعة من متأخري أصحابنا الخراسانيين أن كل مسألة تعارض فيها أصل وظاهر أو أصلان
ففيها قولان وممن ذكر هذه القاعدة القاضي حسين وصاحباه صاحب التتمة والقاضي أبو سعد
الهروي في كتابه الاشراف على غوامض الحكومات وهذا الاطلاق الذي ذكروه ليس على ظاهره
ولم يريدوا حقيقة الاطلاق فان لنا مسائل يعمل فيها بالظن بلا خلاف كشهادة عدلين فإنها تفيد الظن
ويعمل بها بالاجماع ولا ينظر إلى أصلى براءة الذمة وكمسألة بول الحيوان وأشباهها ومسائل يعمل
فيها بالأصل بلا خلاف كمن ظن أنه طلق أو أحدث أو أعتق أو صلى أربعا لا ثلاثا فإنه يعمل
فيها كلها بالأصل وهو البقاء على الطهارة وعدم الطلاق والعتق والركعة الرابعة واشتباهها بل
الصواب في الضابط ما حرره الشيخ أبو عمرو بن الصلاح فقال إذا تعارض أصلان أو أصل وظاهر
وجب النظر في الترجيح كما في تعارض الدليلين فان تردد في الراجح فهي مسائل القولين وان
ترجح دليل الظاهر حكم به كاخبار عدل بالنجاسة وكبول الظبية وان ترجح دليل الأصل حكم
به بلا خلاف هذا كلام أبي عمرو. قال امام الحرمين ما يتردد في طهارته ونجاسة مما أصله الطهارة
ثلاثة أقسام أحدها ما يغلب على الظن طهارته فالوجه الاخذ بطهارته ولو أراد الانسان طلب يقين
206

الطهارة فلا حرج بشرط لا ينتهى إلى الوسواس الذي ينكد عيشه ويكدر عليه وظائف
العبادات فان المنتهي إلى ذلك خارج عن مسالك السلف الصالحين قال والوسوسة مصدرها الجهل
بمسالك الشريعة أو نقصان في غريزة العقل * القسم الثاني ما استوى في طهارته ونجاسته التقدير ان
فيجوز الاخذ بطهارته ولو تركه الانسان كان محتاطا: الثالث ما يغلب على الظن نجاسته ففيه
قولان للشافعي أحدهما طهارته والثاني نجاسته (قلت) هذا الذي أطلقه من القولين ليس على اطلاقه
بل هو على ما سبق تفصيله والله أعلم *
(فرع) اعلم أن للشيخ أبي محمد الجويني رحمه الله كتاب التبصرة في الوسوسة وهو كتاب نافع كثير
النفائس وسأنقل منه مقاصده إن شاء الله تعالى في مواضعها من هذا الكتاب: واشتد انكار
الشيخ أبي محمد في كتابه هذا على من لا يلبس ثوبا جديدا حتى يغسله لما يقع ممن يعاني قصر الثياب
وتجفيفها وطيها من التساهل والقائها وهي رطبة على الأرض النجسة ومباشرتها لها يغلب على القلب
نجاسته ولا يغسل بعد ذلك قال وهذه طريقة الحرورية الخوارج ابتلوا بالغلو في غير موضعه وبالتساهل
في موضع الاحتياط قال ومن سلك ذلك فكأنه يعترض على أفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم
والصحابة والتابعين وسائر المسلمين فإنهم كانوا يلبسون الثياب الجديدة قبل غسلها وحال الثياب
في ذلك في أعصارهم كحالها في عصرنا بلا شك ثم قال أرأيت لو أمرت بغسلها أكنت تأمن في
غسلها ان يصيبها مثل هذه النجاسة المتوهمة فان قلت إنا اغسلها بنفسي فهل سمعت في ذلك خبرا
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أحد من الصحابة انهم وجهوا على الانسان على سبيل
الايجاب أو الندب والاحتياط غسل ثوبه بنفسه احترازا من أوهام النجاسة *
(فرع) قال أبو محمد في التبصرة نبغ قوم يغسلون أفواههم إذا أكلوا خبزا ويقولون الحنطة تداس
بالبقر وهي تبول وتروث في المداسة أياما طويلة ولا يكاد يخلو طحين ذلك عن نجاسته قال
وهذا مذهب أهل الغلو والخروج عن عادة السلف فانا نعلم أن الناس في الأعصار
207

السالفة ما زالوا يدرسون بالبقر كما يفعل أهل هذا العصر وما نقل عن النبي صلى الله عليه
وسلم والصحابة والتابعين وسائر ذوي التقوى والورع انهم رأوا غسل الفم من ذلك
هذا كلام الشيخ أبي محمد: قال الشيخ أبو عمرو والفقه في ذلك أن ما في أيدي الناس من القمح
المتنجس بذلك قليل جدا بالنسبة إلى القمح السالم من النجاسة فقد اشتبه اذن واختلط قمح قليل
نجس بقمح طاهر لا ينحصر ولا منع من ذلك بل يجوز التناول من أي موضع أراد كما لو اشتبهت
أخته بنساء لا ينحصرن فله نكاح من شاء منهن وهذا أولى بالجواز وفي كلام الأستاذ أبي
منصور البغدادي في شرحه للمفتاح إشارة إلى أنه وان تعين ما سقط الروث عليه في حال الدراس
فمعفو عنه لتعذر الاحتراز عنه *
(فرع) قال الشيخ أبو محمد في التبصرة لو أصاب ثوبه أو غيره شئ من لعاب الخيل والبغال
والحمير وعرقها جازت صلاته قال لأنها وإن كانت لا تزال تتمرغ في الأمكنة النجسة وتحك بأفواهها
قوائمها التي لا تخلو من النجاسة فانا لا نتيقن نجاسة عرقها ولعابها لأنها تخوض الماء الكثير وتكرع
فيه كثيرا فغلبنا أصل الطهارة في لعابها وعرقها قال ولم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأصحابه وسائر المسلمين بعدهم يركبون الخيل والبغال والحمير في الجهاد والحج وسائر الاسفار ولا
يكاد ينفك الراكب في مثل ذلك عن أن يصيبه شئ من عرقها أو لعابها وكانوا يصلون في
ثيابهم التي ركبوا فيها ولم يعدوا ثوبين ثوبا للركوب وثوبا للصلاة والله أعلم (فرع) سئل
الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح في فتاويه عن جوخ حكى ان الكفار الذين يعملونها يجعلون فيها
شحم خنزير واشتهر ذلك عنهم من غير تحقيق فقال إذا لم يتحقق فيما بيده نجاسة لم يحكم بالنجاسة
وسئل عن بقل في أرض نجسة أخذه البقالون وغسلوه غسلا لا يعتمد عليه في التطهير هل يحكم
بنجاسة ما يصيبه في حال رطوبته فقال إذا لم يتحقق نجاسة ما أصابه من البقل بان احتمل انه مما
ارتفع عن منبته النجس لم يحكم بنجاسة ما أصابه من ذلك لتظاهر أصلين على طهارته وسئل عن
208

الأوراق التي تعمل وتبسط وهي رطبة على الحيطان المعمولة برماد نجس وينسخ فيها ويصيب
الثوب من ذلك المداد الذي يكتب به فيها مع عموم البلوى فقال لا يحكم بنجاسته وسئل عن
قليل قمح بقي في سفل هرى وقد عمت البلوى ببعر الفأر في أمثال ذلك فقال ما معناه انه لا يحكم
بنجاسة ذلك الا ان يعلم نجاسة في هذا الجب المعين والله أعلم
(فرع) قال امام الحرمين وغيره في طين الشوارع الذي يغلب على الظن نجاسته قولان:
أحدهما يحكم بنجاسته: والثاني بطهارته بناء على تعارض الأصل والظاهر قال الامام كان شيخي
يقول وإذا تيقنا نجاسة طين الشوارع فلا خلاف في العفو عن القليل الذي يلحق ثياب الطارقين
فان الناس لابد لهم من الانتشار في حوائجهم فلو كلفناهم الغسل لعظمت المشقة ولهذا عفونا عن
دم البراغيث والبثرات: قال الامام وكان شيخي يقول القليل المعفو عنه ما لا ينسب صاحبه
إلى كبوة أو عثرة أو قلة تحفظ عن الطين (فرع) ماء الميزاب الذي يظن نجاسته ولا يتيقن
طهارته ولا نجاسته: قال المتولي والروياني فيه القولان في طين الشوارع وهذا الذي ذكره فيه
نظر والمختار الجزم بطهارته لأنه إن كان هناك نجاسة انغسلت *
(فرع) قد سبق أن الشافعي رحمه الله نص على طهارة ثياب الصبيان في مواضع ويدل
له أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى وهو حامل امامة رضي الله عنها وهي طفلة رواه البخاري
ومسلم وكذا يجوز مؤاكلة الصبيان في إناء واحد من طبيخ وسائر المائعات وأكل فضل مائع أكل
منه صبي وصبية ما لك يتيقن نجاسة يده فان يده محمولة على الطهارة حتى يتحقق نجاستها: وقد ثبت في الصحيحين
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكل مع الصبي طبيخا ولم تزل الصحابة والتابعون ومن بعدهم على ذلك من غير انكار
209

وكذا ريق الصبي وإن كان يكثر منه وضع النجاسة في فمه فهو محمول على الطهارة حتى تتيقن
نجاسته (فرع) هذا الذي ذكرناه كله فيما علم أن أصله الطهارة وشك في عروض نجاسته أما
ما جهل أصله فقد ذكر المتولي فيه مسائل يقبل منه بعضها وينكر بعض فقال لو كان معه إناء
لبن ولم يدر أنه لبن حيوان مأكول أو غيره أو رأى حيوانا مذبوحا ولم يدر أذبحه مسلم أم
مجوسي أو رأى قطعة لحم وشك هل هي من مأكول أو غيره أو وجد نباتا ولم يدر هل هو
سم قاتل أم لا فلا يباح له التناول في كل هذه الصور لأنه يشك في الإباحة والأصل عدمها هذا
كلام المتولي: فاما مسألة المذكاة وقطعة اللحم فعلى ما ذكر لأنها إنما تباح بذكاة أهل الذكاة
وشككنا في ذلك والأصل عدمه: واما مسألة النبات واللبن وشبههما فيتعين اجراؤها على الخلاف
المشهور لأصحابنا في أصول الفقه وكتب المذهب ان أصل الأشياء قبل ورود الشرع على الإباحة
أم التحريم أم لا حكم قبل ورود الشرع وفيه ثلاثة أوجه مشهورة الصحيح منها عند المحققين
لا حكم قبل ورود الشرع ولا يحكم على الانسان في شئ يفعله بتحريم ولا حرج ولا نسميه مباحا
لان الحكم بالتحريم والإباحة من أحكام الشرع فكيف يدعى ذلك قبل الشرع ومذهبنا ومذهب
سائر أهل السنة ان الأحكام لا تثبت الا بالشرع وان العقل لا يثبت شيئا فان قلنا بالتحريم فهو كما قال
المتولي لان الأصل التحريم وان قلنا بالصحيح فهو حلال حتى يتحقق (1) سبب التحريم ويشبه هذا
ما ذكره المصنف وأصحابنا في باب الأطعمة فيما إذا وجدنا حيوانا لا يعرف أهو مأكول أم لا ولا
تستطيبه العرب ولا تستخبثه ولا نظير له في المستطاب والمستخبث فهل يحل اكله: فيه وجهان
مشهوران لأصحابنا بناهما الأصحاب على هذه القاعدة التي ذكرناها واما مسألة قطعة اللحم فقد
أطلق المتولي الحكم بتحريمها وقال شيخه القاضي حسين في تعليقه فيها تفصيلا حسنا فقال لو وجد

(1) هذا وقع لنا في الكتاب في النسخ المقابلة بخط المصنف رحمه الله وفيه خلل ظني
أن صورته أو معناه هكذا لم نحكم عليه بتحريم ولا إباحة وان قلنا بالإباحة اه‍ أذرعي
210

قطعة لحم ملقاة وجهل حالها فإن كانت ملقاة على الأرض غير ملفوفة بخرقة ونحوها فالظاهر
أنها ميتة وقعت من طائر ونحوه فتكون حراما وإن كانت في مكتل أو خرقة ونحوهما فالظاهر
أنها مذكاة فتكون حلالا الا إذا كان في البلد مجوس واختلطوا بالمسلمين فلا تباح والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا في أول هذا الفصل المتعلق بالشك في الأشياء أن حكم اليقين لا يزال بالشك
الا في مسائل يسيرة خرجت لا دلة خاصة على تخصيصها وبعضها إذا حقق كان داخلا فيها وقد
اندرج من تلك المسائل جملة فيما سبق في هذا الفصل كمسألة الظبية ونحوها فقد ذكر أبو العباس
ابن القاص في كتابه التلخيص أن كل من شك في شئ هل فعله أم لا فهو غير فاعل في الحكم
ولا يزال حكم اليقين بالشك الا في احدى عشرة مسألة إحداها إذا شك ما سح الخف هل انقضت
المدة أم لا: الثانية شك هل مسح في الحضر أم في السفر يحكم في المسألتين بانقضاء المدة: الثالثة
إذا أحرم المسافر بنية القصر خلف من لا يدرى أمسافر هو أم مقيم لم يجز القصر: الرابعة بال حيوان
في ماء كثير فوجده متغيرا ولم يدر أتغير بالبول أم بغيره فهو نجس: الخامسة المستحاضة المتحيرة
يلزمها الغسل عند كل صلاة تشك في انقطاع الدم قبلها: السادسة من أصابته نجاسة في بدنه أو
ثوبه وجهل موضعها يلزمه غسله كله: السابعة شك مسافر أوصل بلده أم لا لا يجوز له الترخص
الثامنة شك مسافر هل نوى الإقامة أم لا لا يجوز له الترخص: التاسعة المستحاضة وسلس البول
إذا توضأ ثم شك هل انقطع حدثه أم لا فصلى بطهارته لم تصح صلاته: العاشرة تيمم ثم رأى شيئا
لا يدرى أسراب هو أم ماء بطل تيممه وان بان سرابا: الحادية عشرة رمى صيدا فجرحه ثم
غاب فوجده ميتا وشك هل اصابته رمية أخرى من حجر غيره لم يحل أكله وكذا لو أرسل
عليه كلبا * هذه مسائل صاحب التلخيص قال القفال في شرحه للتلخيص قد خالفه أصحابنا في هذه
211

المسائل كلها فالمسألة الأولى والثانية في مسح الخف قال أصحابنا بنا لم يترك فيهما اليقين بالشك بل
لان الأصل غسل الرجل وشرط المسح بقاء المدة وشككنا فيه فعملنا بالأصل الغسل هذا
قول القفال وفيه نظر والظاهر قول أبي العباس: قال القفال وأما المسألة الثالثة فحكمها
صحيح لكنه ليس ترك يقين بشك لان القصر رخصة بشرط فإذا لم يتحقق رجع إلى
الأصل وهو الاتمام: قال وأما الرابعة فحكمها صحيح لكن ليس هو ترك يقين بشك
لأن الظاهر تغيره بالبول وهذا فيه نظر والظاهر قول أبي العباس أنه ترك الأصل بظاهر
وقد سبقت المسألة مستوفاة: قال وأما الخامسة فحكمها صحيح لكن ليس ترك أصل بشك
بل لان الأصل وجوب الصلاة عليها فإذا شكت في انقطاع الدم فصلت بلا غسل لم تستيقن
البراءة من الصلاة وفي هذا الذي قاله القفال نظر والظاهر قول أبي العباس: قال وأما السادسة
فليس ترك يقين بشك لان الأصل انه ممنوع من الصلاة الا بطهارة عن هذه النجاسة فما لم يغسل
الجميع هو شاك في زوال منعه من الصلاة * قال وأما السابعة ففيها وجهان: أحدهما له القصر
لأنه شاك في زوال سبب الرخصة والأصل عدمه: والثاني لا يجوز كما قال أبو العباس ولكن ليس
ذلك ترك يقين بشك وهذا الذي قاله القفال فيه نظر: والظاهر قول أبي العباس * قال وأما
الثامنة فحكمها صحيح ولكن ليس ترك يقين بشك بل الأصل الاتمام فلا يقصر حتى يتيقن سبب
الرخصة وفي هذا نظر: والظاهر قول أبي العباس: وأما التاسعة فحكمها صحيح لكن ليس ترك يقين
بشك لان المستحاضة لا تحل لها الصلاة مع الحدث الا للضرورة فإذا شكت في انقطاع الدم فقد شكت
في السبب المجوز للصلاة مع الحدث فرجعت إلى أصل وجوب الصلاة بطهارة كاملة والظاهر قول
أبي العباس: واما العاشرة فحكمها صحيح لكن ليس ترك يقين بشك وإنما بطل التيمم برؤية
السراب لأنه توجه الطلب وإذا توجه الطلب بطل التيمم والظاهر قول أبي العباس: قال وأما
212

الحادية عشرة ففي حل الصيد قولان فان قلنا لا يحل فليس ترك يقين بشك لان الأصل
التحريم وقد شككنا في الإباحة قال القفال فثبت ان هذه المسائل كلها مستمرة على مذهب الشافعي
ان اليقين لا يزال بالشك هذا كلام القفال والصواب في أكثرها مع أبي العباس كما ذكرنا وهو
ظاهر لمن تأمله * وقال إمام الحرمين في باب ما ينقض الوضوء استثني صاحب التخليص مسائل مما
يترك فيها اليقين بالشك قال ونحن نذكر المستفاد منها ونحذف ما لا يشكل قال فمما استثناه أن
الناس لو شكوا في انقضاء الوقت يوم الجمعة (1) يصلوا جمعة ولم يستصحبوا اليقين وذكر الامام
أيضا مسألتي الخف ومسألتي شك المسافر في وصول بلده ونية الإقامة ولم يزد الامام على ذلك
وكذا اقتصر الغزالي على هذه المسائل ونقل خلافا في مسألتي المسافر دون المسح والجمعة * قال
الامام لعل الفرق ان مدة المسح ووقت الجمعة ليس مما يتعلق باختياره فإذا وقع فيه شك لاح تعين
الرد إلى الأصل * وأما وصول دار الإقامة والعزم على الإقامة فمتعلق بفعل الشاك ومنه تتلقى
معرفته فإذا جهله من نفسه فكأنه لم يقع ذلك المعني أصلا * قال الامام على أن الوجه ما ذكره
صاحب التلخيص هذا آخر كلام الامام: ومما لم يستثنه هؤلاء الجماعة إذا توضأ ثم شك هل مسح
رأسه مثلا أم لا وفيه وجهان الأصح صحة وضوءه ولا يقال الأصل عدم المسح ومثله لو سلم من
صلاته ثم شك هل صلى ثلاثا أم أربعا ففيه ثلاثة أقوال عند الخراسانيين * أصحها وبه قطع
العراقيون لا شئ عليه ومضت صلاته على الصحة فان تكلف متكلف وقال المسألتان داخلتان
في القاعدة فإنه شك هل ترك أم لا والأصل عدمه فليس تكلفه بشئ لان الترك عدم باق
على ما كان وإنما المشكوك فيه الفعل والأصل عدمه ولم يعمل بالأصل * وأما إذا سلم
من صلاته فرأى عليه نجاسة واحتمل حصولها في الصلاة وحدوثها بعدها فلا يلزمه إعادة الصلاة
بل مضت على الصحة وقد ذكر المصنف المسألة في باب طهارة البدن فيحتمل أن يقال الأصل

(1) مسألة لم يستثنها في التلخيص ولعله استثناها في غيره
213

عدم النجاسة فلا يحتاج إلى استثنائها لدخولها في القاعدة ويحتمل أن يقال تحققت النجاسة
وشك في انعقاد الصلاة والأصل عدمه وبقاؤها في الذمة فيحتاج إلى استثنائها والله أعلم بالصواب
وله الحمد والنعمة وبه التوفيق والعصمة * قال المصنف رحمه الله تعالى *
باب
(الآنية)
(كل حيوان نجس بالموت طهر جلده بالدباغ وهو ما عدا الكلب والخنزير لقوله صلى الله عليه
وسلم أيما أهاب دبغ فقد طهر ولان الدباغ يحفظ الصحة على الجلد ويصلحه للانتفاع
به كالحياة ثم الحياة تدفع النجاسة عن الجلد فكذلك الدباغ: وأما الكلب والخنزير وما تولد
منهما أو من أحدهما فلا يطهر جلدهما بالدباغ لان الدباغ كالحياة ثم الحياة لا تدفع النجاسة عن
الكلب والخنزير فكذلك الدباغ) *
(الشرح) الآنية جمع إناء وجمع الآنية الأواني فالإناء مفرد وجمعه آنية والأواني
جمع الجمع فلا يستعمل في أقل من تسعة الا مجازا وأما استعمال الغزالي رحمه الله وجماعة من الخراسانيين
الآنية في المفرد فليس بصحيح في اللغة قال الجوهري جمع الاناء آنية وجمع الآنية الأواني
كسقاء وأسقية واساق * وأما الحديث المذكور فصحيح رواه مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي
والنسائي وغيرهم من رواية ابن عباس رضي الله عنهما أما مسلم فذكره في آخر كتاب الطهارة
وأما أبو داود والترمذي ففي كتاب اللباس والنسائي في الذبائح وهذا المذكور لفظ رواية الترمذي
وقليلين: قال الترمذي حديث حسن صحيح وأما رواية مسلم وأبي داود وآخرين ففيها إذا دبغ
الاهاب فقد طهر وقد جمعت طرقه واختلاف ألفاظه في كتابه جامع السنة: ويقال طهر بفتح
الهاء وضمها والفتح أفصح وأشهر وقد سبق بيانه في أول كتاب الطهارة: وأما الاهاب بكسر
214

الهمزة فجمعه أهب بضم الهمزة والهاء وأهب بفتحها لغتان واختلف أهل اللغة فيه فقال امام
اللغة والعربية أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد رحمه الله الاهاب هو الجلد قبل أن يدبغ وكذا
ذكره أبو داود السجستاني في سننه وحكاه عن النضر بن شميل ولم يذكر غيره وكذا قاله الجوهري
وآخرون من أهل اللغة: وذكر الأزهري في شرح ألفاظ المختصر والخطابي وغيرهما أنه الجلد
ولم يقيدوه بما لم يدبغ: الخنزير معروف واختلف أهل العربية في نونه هل هي زائدة أم أصلية
وقد أوضحته في تهذيب الأسماء واللغات: وأما قول المصنف فكل حيوان نجس بالموت فمعناه
حكمنا بعد موته بأنه نجس فيدخل فيه الكلب والخنزير فلهذا استثناه المصنف فقال ما عدا الكلب
والخنزير وقد ادعى بعضهم أن هذا الاستثناء ليس بصحيح وأنه لا حاجة إليه وزعم أن بقوله
نجس بالموت يخرج الكلب والخنزير لأنه لم ينجس بالموت بل كان نجسا قبله واستمرت نجاسته
هذا الانكار باطل وإنما حصل الانكار لحمله كلام المصنف على غير مراده الذي ذكرته فالصواب
ما قدمته والله أعلم *
أما حكم المسألة فكل الجلود النجسة بعد الموت تطهر بالدباغ الا الكلب والخنزير
والمتولد من أحدهما وهذا متفق عليه عندنا. وسنذكر مذاهب العلماء فيه إن شاء الله تعالى في
فرع: وحكي المتولي والروياني وجها أن جلد الميتة ليس بنجس حكاه المتولي عن حكاية ابن القطان
قال وإنما أمر بالدبغ بسبب الزهومة التي في الجلد فإنها نجسة فيؤمر بالدبغ لازالتها كما يغسل الثوب
من النجاسة وهذا الوجه في نهاية الضعف وغاية الشذوذ وفساده أظهر من أن يذكر وكيف يصح
هذا مع قوله صلى الله عليه وسلم إذا دبغ الاهاب فقد طهر فان قيل ليس في الحديث أن الجلد
نجس العين فتحمل الطهارة فيه على الطهارة من نجاسة المجاورة بالزهومة كما يقال طهر ثوبه إذا
غسل من النجاسة: فالجواب ان هذا تأويل بعيد ليس له دليل يعضده ولا حجة تسنده فهو
مردود على قائله وتخصيصه الجلد بالطهارة دون باقي الأعضاء والاجزاء دليل على تناقض قوله
215

وقد قال امام الحرمين اتفق علماؤنا على أن جلد الميتة قبل الدباغ نجس وكذا صرح بنقل
الاتفاق عليه آخرون والله أعلم * وأما الكلب والخنزير وفرع أحدهما فلا يطهر جلده بالدباغ
بلا خلاف لما ذكره المصنف * وقوله فلا يطهر جلدها بالدباغ وفي بعض النسخ المعتمدة جلدهما
بالتثنية وكلاهما صحيح فالتثنية تعود إلى النوعين وقوله جلدها يعود إلى الأنواع الأربعة الكلب
والخنزير واللذان بعدهما * وأما قوله كل حيوان نجس بالموت فاحتراز مما لا ينجس بالموت بل
يبقى طاهرا وذلك خمسة أنواع ذكرها صاحب الحاوي السمك والجراد والجنين بعد ذكاة أمه
والصيد إذا قتله الكلب أو السهم بشرطه والخامس الادمي على أصح القولين فهذه ميتات طاهر لحمها
وجلدها فأما الجراد فلا جلد له والسمك منه ما لا جلد له ومنه ما له جلد كعظيم حيتان البحر والجنين
والصيد لهما جلد فيتصرف فيه بلا دباغ جميع أنواع التصرف من بيع واستعمال في يابس
ورطب وغير ذلك: وأما الآدمي فإذا قلنا بالصحيح أنه لا ينجس بالموت فجلده طاهر لكن
لا يجوز استعمال جلده ولا شئ من أجزائه بعد الموت لحرمته وكرامته اتفق أصحابنا على تحريمه
وصرحوا بذلك في كتبهم منهم امام الحرمين وخلائق قال الدارمي في الاستذكار لا يختلف
القول أن دباغ جلود بني آدم واستعمالها حرام ونقل الامام الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد
ابن حزم في كتابه كتاب الاجماع اجماع المسلمين على تحريم سلخ جلد الآدمي واستعماله: وان
قلنا بالقول الضعيف ان الآدمي ينجس بالموت فجلده نجس وهل يطهر بالدبغ فيه وجهان حكاهما
امام الحرمين وابن الصباغ والغزالي وغيرهم الصحيح منهما انه يطهر وهو اختيار المصنف والجمهور
لأنهم قالوا كل جلد نجس بالموت طهر بالدباغ ودليله عموم الحديث أيما أهاب دبغ فقد طهر
والوجه الثاني لا يطهر بالدبغ لان دباغه حرام لما فيه من الامتهان: قال امام الحرمين وهذا فاسد
لان الدباغ لا يحرم لعينه وإنما المحرم حصول الامتهان على أي وجه حصل وأغرب الدارمي
وابن الصباغ وذكرا وجها انه لا يتأتي دباغه والله أعلم *
216

(فرع في مذاهب العلماء في جلود الميتة) هي سبعة مذاهب أحدها لا يطهر بالدباغ شئ
من جلود الميتة لما روى عن عمر بن الخطاب وابنه وعائشة رضي الله عنهم وهو أشهر الروايتين
عن أحمد ورواية عن مالك والمذهب الثاني يطهر بالدباغ جلد مأكول اللحم دون غيره وهو
مذهب الأوزاعي وابن المبارك وأبي داود واسحق ابن راهويه والثالث يطهر به كل جلود الميتة
الا الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما وهو مذهبنا وحكوه عن علي بن أبي طالب وابن مسعود
رضي الله عنهما: والرابع يطهر به الجميع الا جلد الخنزير وهو مذهب أبي حنيفة والخامس يطهر
الجميع والكلب والخنزير إلا أنه يطهر ظاهره دون باطنه فيستعمل في اليابس دون الرطب ويصلي
عليه لا فيه وهو مذهب مالك فيما حكاه أصحابنا عنه: والسادس يطهر بالدباغ جميع جلود الميتة
والكلب والخنزير ظاهرا وباطنا قاله داود وأهل الظاهر وحكاه الماوردي عن أبي يوسف: والسابع
ينتفع بجلود الميتة بلا دباغ ويجوز استعمالها في الرطب واليابس حكوه عن الزهري: واحتج لأحمد
وموافقيه بأشياء منها قول الله تعالى (حرمت عليكم الميتة) وهو عام في الجلد وغيره وبحديث
عبد الله بن عكيم قال أتانا كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر أن لا تنتفعوا
من الميتة باهاب ولا عصب وهذا الحديث هو عمدتهم قالوا ولأنه جزء من الميتة فلم يطهر بشئ
كاللحم ولان المعنى الذي نجس به هو الموت وهو ملازم له لا يزول بالدبغ فلا يتغير الحكم:
واحتج أصحابنا بالحديثين السابقين إذا دبغ الاهاب فقد طهر وأيما أهاب دبغ فقد طهر وهما صحيحان
كما سبق بيانه وبحديث ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميمونة
(هلا أخذوا اهابها فدبغوه فانتفعوا به قالوا يا رسول الله انها ميتة قال إنما حرم أكلها)
رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من طرق أما مسلم فرواه في آخر كتاب الطهارة وأما البخاري
فرواه في مواضع من صحيحه منها كتاب الزكاة في الصدقة على موالي أزواج رسول الله صلى الله
عليه وسلم وفي كتاب الصيد والذبائح وغيره وإنما ذكرت هذا لان بعض الأئمة والحفاظ
217

جعله من افراد مسلم كأنه خفى عليه مواضعه من البخاري واحتجوا أيضا بحديث ابن عباس عن
سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت ماتت لنا شاة فدبغنا مسكها ثم ما زلنا ننبذ فيه حتى
صار شنا رواه البخاري هكذا ورواه أبو يعلي الموصلي في مسنده باسناد صحيح عن ابن عباس قال
ماتت شاة لسودة فقالت يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
فهلا أخذتم مسكها فقالت نأخذ مسك شاة قد ماتت وذكر تمام الحديث كرواية البخاري *
وبحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا
دبغت) حديث حسن رواه مالك في الموطأ وأبو داود والنسائي وآخرون بأسانيد حسنة وأبو داود وابن
ماجة في اللباس والنسائي في الذبائح وبحديث ابن عباس قال أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ من سقاء فقيل
له انه ميتة فقال دباغه يذهب بخبثه أو نجسه أو رجسه رواه الحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين
وقال حديث صحيح ورواه البيهقي وقال هذا اسناد صحيح * وبحديث جون بفتح الجيم ابن
قتادة عن سلمة بن المحبق بالحاء المهملة وبفتح الباء الموحدة المشددة وكسرها رضي الله عنه أن
نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك دعا بماء من عند امرأة قالت ما عندي الا في قربة لي ميتة
قال أليس قد دبغتها قالت بلى قال فان دباغها ذكاتها رواه أبو داود والنسائي باسناد صحيح
إلا أن جونا اختلفوا فيه قال أحمد بن حنبل هو مجهول وقال علي بن المديني هو معروف
وفي المسألة أحاديث كثيرة وفيما ذكرنا كفاية ولأنه جلد طاهر طرأت عليه نجاسة فجاز أن يطهر
كجلد المذكاة إذا تنجس: وأما الجواب عن احتجاجهم بالآية فهو انها عامة خصتها السنة:
وأما حديث عبد الله بن عكيم فرواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم قال الترمذي هو
حديث حسن قال وسمعت أحمد بن الحسن يقول كان أحمد بن حنبل يذهب إلى حديث ابن
عكيم هذا لقوله قبل وفاته بشهرين وكأن يقول هذا آخر الامر قال ثم ترك أحمد بن حنبل هذا
الحديث لما اضطربوا في اسناده حيث روى بعضهم عن ابن عكيم عن أشياخ من جهينة: هذا
218

كلام الترمذي وقد روى هذا الحديث قبل موته بشهر وروى بشهرين وروى بأربعين يوما قال
البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار وآخرون من الأئمة الحفاظ هذا الحديث مرسل وابن
عكيم ليس بصاحبي وقال الخطابي مذهب عامة العلماء جواز الدباغ ووهنوا هذا الحديث لان
ابن عكيم لم يلق النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو حكاية عن كتاب أتاهم وعللوه أيضا بأنه مضطرب
وعن مشيخة مجهولين لم تثبت صحبتهم إذا عرف هذا: فالجواب عنه من خمسة أوجه أحدها ما قدمناه
عن الحفاظ انه حديث مرسل والثاني انه مضطرب كما سبق وكما نقله الترمذي عن أحمد ولا يقدح
في هذين الجوابين قبول الترمذي انه حديث حسن لأنه قاله عن اجتهاده وقد بين هو وغيره
وجه ضعفه كما سبق: الثالث انه كتاب وأخبارنا سماع وأصح اسنادا وأكثر رواة وسالمة من
الاضطراب فهي أقوى وأولى: الرابع انه عام في النهى وأخبارنا مخصصة للنهي بما قبل الدباغ
مصرحة بجواز الانتفاع بعد الدباغ والخاص مقدم: والخامس أن الاهاب الجلد قبل دباغه ولا
يسمى اهابا بعده كما قدمناه عن الخليل بن أحمد والنضر بن شميل وأبي داود السجستاني
والجوهري وغيرهم فلا تعارض بين الحديثين بل النهى لما قبل الدباغ تصريحا: فان قالوا خبرنا
متأخر فقدم: فالجواب من أوجه أحدها لا نسلم تأخره على أخبارنا لأنها مطلقة فيجوز أن يكون
بعضها قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بدون شهرين وشهر: الثاني انه روى قبل موته بشهر وروى
شهرين وروى أربعين يوما كما سبق وكثير من الروايات ليس فيها تاريخ وكذا هو في روايتي
أبي داود والترمذي وغيرهما فحصل فيه نوع اضطراب فليبق فيه تاريخ يعتمد: الثالث لو سلم
تأخره لم يكن فيه دليل لأنه عام وأخبارنا خاصة والخاص مقدم على العام سواء تقدم أو تأخر
كما هو معروف عن الجماهير من أهل أصول الفقه: وأما الجواب عن قياسهم على اللحم فمن
وجهين أحدهما انه قياس في مقابلة نصوص فلا يلتفت إليه والثاني ان الدباغ في اللحم لا يتأنى
وليس فيه مصلحة له بل يمحقه بخلاف الجلد فإنه ينظفه ويطيبه ويصلبه: وبهذين الجوابين يجاب
219

عن قولهم العلة في التنجيس الموت وهو قائم والله أعلم *
وأما الأوزاعي ومن وافقه فاحتج لهم بما روى أبو المليح عامر بن اثامة عن أبيه رضي الله عنه
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم
بأسانيد صحيحة ورواه الحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح وفي رواية الترمذي وغيره نهى
عن جلود السباع أن تفترش قالوا فلو كانت تطهر بالدباغ لم ينه عن افتراشها مطلقا: وبحديث سلمة
ابن المحبق الذي قدمناه (دباغ الأدم ذكاته) قالوا وذكاة مالا يؤكل لا تطهره قالوا ولأنه حيوان
لا يؤكل فلم يطهر جلده بالدبغ كالكلب: واحتج أصحابنا بقوله صلى الله عليه وسلم أيما إهاب دبغ
فقد طهر وبحديث إذا دبغ الاهاب فقد طهر وهما صحيحان كما سبق وهما عامان لكل جلد
وبحديث عائشة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت وهو حديث
حسن كما سبق: وبحديث ابن عباس الذي ذكرناه عن المستدرك وغير ذلك من الأحاديث العامة
فهي على عمومها الا ما أجمعنا على تخصيصه وهو الكلب والخنزير فان قالوا جلد ما لا يؤكل
لا يسمى اهابا كما حكاه عنهم الخطابي فالجواب أن هذا خلاف لغة العرب: قال الإمام أبو منصور
الأزهري جعلت العرب جلد الانسان اهابا وأنشد فيه قول عنترة * فشككت بالرمح الأصم اهابه *
أراد رجلا لقيه في الحرب فانتظم جلده بسنان رمحه وأنشد الخطابي وغيره فيه أبياتا كثيرة منها قول ذي الرمة
* لا يدخران من الايغام باقية * * حتى تكاد تفرى عنهما الاهب *
وعن عائشة في وصفها أبيها رضي الله عنهما قالت وحقن الدماء في اهبها تريد دماء الناس وهذا مشهور لا حاجة
إلى الا طالة فيه ولأنه جلد حيوان طاهر فأشبه المأكول: وأما الجواب عن حديثهم الأول فمن وجهين
أحسنهما وأصحهما ولم يذكر البيهقي وآخرون غيره ان النهي عن افتراش جلود السباع إنما كان لكونها
لا يزال عنها الشعر في العادة لأنها إنما تقصد للشعر كجلود الفهد والنمر فإذا دبغت بقي الشعر
نجسا فإنه لا يطهر بالدبغ على المذهب الصحيح فلهذا نهى عنها: الثاني ان النهى محمول على ما قبل
الدبغ كذا أجاب بعض أصحابنا وهو ضعيف إذ لا معنى لتخصيص السباع حينئذ بل كل الجلود
220

في ذلك سواء وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأنها خصت بالذكر لأنها كانت تستعمل قبل
الدبغ غالبا أو كثيرا * والجواب عن حديث سلمة أن المراد أن دباغ الأديم مطهر (1) له
ومبيح لاستعماله كالذكاة: وأما قياسهم على الكلب فجوابه انه نجس في حياته فلا يزيد الدباغ
على الحياة والله أعلم * وأما أبو حنيفة في قوله يطهر بالدبغ جلد الكلب وداود في قوله والخنزير فاحتج
لهما بعموم الأحاديث السابقة وبالقياس على الحمار وغيره: واحتج أصحابنا بأحاديث لا دلالة فيها
فتركتها لأني التزمت في خطبة الكتاب الاعراض عن الدلائل الواهية (2) واحتجوا بأن الحياة
أقوى من الدباغ بدليل أنها سبب لطهارة الجملة والدباغ إنما يطهر الجلد فإذا كانت الحياة لا تطهر
الكلب والخنزير فالدباغ أولى ولأن النجاسة إنما تزول بالمعالجة إذا كانت طارئة كثوب تنجس
اما إذا كانت لازمة للعين فلا كالعذرة والروث فكذا الكلب وأما احتجاجهم بالأحاديث
فأجاب الأصحاب بأنها عامة مخصوصة بغير الكلب والخنزير لما ذكرناه وجواب آخر لأبي حنيفة
انا اتفقنا نحن وأنتم على اخراج الخنزير من العموم والكلب في معناه: وأما قياسهم على الحمار فالفرق
أنه طاهر في الحياة فرده الدباغ إلى أصله والله أعلم *
وأما مالك ومن وافقه فاحتجوا في طهارة ظاهره دون باطنه بأن الدباغ إنما يؤثر في الظاهر
واحتج أصحابنا بعموم الأحاديث الصحيحة السابقة كحديث إذا دبغ الاهاب فقد طهر
وغيره فهي عامة في طهارة الظاهر والباطن وبحديث سودة المتقدم قالت (ماتت لنا شاة
فدبغنا مسكها وهو جلدها فما زلنا ننبذ فيه حتى صار شنا) حديث صحيح كما سبق وهو صريح
في المسألة فإنه استعمل في مائع وهم لا يجيزونه وإن كانوا يجيزون شرب الماء منه لأن الماء لا ينجس
عندهم الا بالتغير: قال أصحابنا ولان ما طهر ظاهره طهر باطنه كالذكاة وأما الجواب عن قولهم
إنما يؤثر الدباغ في الظاهر فمن وجهين أحدهما لا نسلم: بل يؤثر في الباطن أيضا بانتزاع الفضلات
وتنشف رطوباته المعفنة كتأثيره في الظاهر: والثاني أن ما ذكروه مخالف للنصوص الصحيحة
الصريحة فلا يلتفت إليه والله أعلم *

(1) هذا الجواب فيه نظر لان ذكاة ما لا يؤكل لم تحصل طهارة جلده
وإنما الذكاة سبب لبقاء طهارته كلحمه اه‍ من هامش الأذرعي
(2) كذا يقع في كلام كثير من أصحابنا في حكاية مذهب أبي حنيفة والذي قاله الامام
في الأساليب أن المأثور عن أبي حنيفة ان الكلب طاهر العين حتى قالوا
لا ينجس الماء بكروعه فيه وسبيل ظاهر بدنه كسبيل الطهارات هذا لفظه اه‍ من هامش الأذرعي
221

وأما الزهري فاحتج برواية جاءت في حديث ابن عباس هلا أخذتم اهابها فانتفعتم به ولم
يذكر الدباغ واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة السابقة واما هذه الرواية فمطلقة محمولة على
الروايات الصحيحات المشهورات والله أعلم * وذكر امام الحرمين في النهاية مذاهب السلف بنحو
ما سبق ثم قال ولا يستند على هذا السبر غير مذهب الشافعي فان من قال يؤثر الدباغ في المأكول
خاصة تعلقوا بخصوص السبب في شاة ميمونة وليس ذلك بصحيح فان اللفظ عام مستقل بالإفادة
وأبو حنيفة لم يطرد مذهبه في الخنزير عملا بالعموم ولا يظهر فرق بين الكلب والخنزير * واما الشافعي
فإنه نظر إلى ما أمر به الشرع من استعمال الأشياء الجائزة كالقرظ وغاص على فهم المعني وهو ان سبب
نجاسة الجلود بالموت انها بانقطاع الحياة عنبا تتعرض للبلى والعفن والنتن فإذا دبغت لم تتعرض
للتغير وقد بطل حمل اللفظ على خصوص السبب وامتنع التعميم لما ذكرنا في جلد الخنزير وأرشد
الدباغ إلى معنى يضاهى به المدبوغ الحيوان في حال الحياة فان الحياة دافعة للعفن والموت جالب له
والدباغ يرده إلى مضاهاة الحياة في السلامة من التغير فانتظم بذلك اعتبار المدبوغ بالحي فقال كل
ما كان في الحياة طاهرا عاد جلده بالدبغ طاهرا وما كان نجسا لا يطهر ثم ثبت عنده نجاسة
الكلب من نجاسة لعابه والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ويجوز الدباغ بكل ما ينشف فضول الجلد ويطيبه ويمنع من ورود الفساد
عليه كالشث والقرظ وغير ذلك مما يعمل عمله لان النبي صلى الله عليه وسلم قال (أليس في الماء
والقرظ ما يطهره فنص على القرظ لأنه يصلح الجلد ويطيبه فوجب ان يجوز بكل
ما عمل عمله) *
(الشرح) هذا الحديث حديث حسن رواه الامامان الحافظان أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني
وأبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي في سننهما من رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال مر
النبي صلى الله عليه وسلم بشاة ميتة فقال هلا انتفعتم باهابها قالوا يا رسول الله انها ميتة قال إنما
222

حرام كلها أوليس في الماء والقرظ ما يطهرها ورواه أبو داود والنسائي في سننهما بمعناه عن
ميمونة رضي الله عنها قالت مر على النبي صلى الله عليه وسلم رجال يجرون. شاة لهم مثل الحمار فقال
صلى الله عليه وسلم لو أخذتم اهابها قالوا إنها ميتة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يطهرها الماء
والقرظ هكذا جاءت روايات الحديث يطهرها بالتأنيث ووقع في المهذب يطهره وهو تحريف
وإن كان معناه صحيحا والقرظ بالظاء لا بالضاد وهذا وإن كان واضحا فلا يضر التنبيه عليه فإنه
يوجد في كثير من كتب الفقه مصحفا والقرظ ورق شجر السلم بفتح السين واللام ومنه أديم مقروظ
أي مدبوغ بالقرظ قالوا والقرظ ينبت بنواحي تهامة وأما الشث فضبطها في المهذب بالثاء
المثلثة ووقعت هذه اللفظة في كلام الشافعي فقال الأزهري هو الشبب بالباء الموحدة
وهو من الجواهر التي جعلها الله تعالى في الأرض يدبغ به يشبه الزاج قال والسماع فيه الشب
يعنى بالموحدة وقد صحفه بعضهم فقال الشث يعنى بالمثلثة قال والشث بالمثلثة شجر من الطعم
لا أدري أيدبغ به أم لا هذا كلام الأزهري وتابعه عليه صاحب الشامل والبحر وذكره الإمام أبو
الفرج الدارمي بالمثلثة وفي صحاح الجوهري الشث بالمثلثة نبت طيب الرائحة مر الطعم يدبغ به وفي
تعليق الشيخ أبي حامد قال أصحابنا الشث يعنى بالمثلثة * قال وقاله الشافعي بالموحدة قال وقد قيل
الأمران وأيهما كان فالدباغ به جائز وصرح القاضي أبو الطيب في تعليقه وآخرون بأنه يجوز بالشب
والشث جميعا وهذا لا خلاف فيه * واعلم أنه ليس للشب ولا الشث ذكر في حديث الدباغ وإنما
هو من كلام الإمام الشافعي رحمه الله فإنه قال رحمه الله والدباغ بما كانت العرب تدبغ به وهو
الشث والقرظ هذا هو الصواب * وقد قال صاحب الحاوي وغيره جاء في الحديث النص على
الشث والقرظ كذا نقله الشيخ أبو حامد عن الأصحاب فإنه قال في تعليقه الذي وردت به السنة
ثم ذكر حديث ميمونة الذي قدمته وقال هذا هو الذي اعرفه مرويا قال وأصحابنا يروون
يطهره الشث والقرظ وهذا ليس بشئ *
223

واعلم أن الدباغ لا يختص بالشب والقرظ بل يجوز بكل ما عمل عملهما كقشور الرمان
والعفص وغير ذلك مما في معناه قال القاضي أبو الطيب في تعليقه يجوز الدباغ بكل شئ قام
مقام القرظ من العفص وقشور الرمان وغيرهما إذا نظف الفضول واستخرجها من باطن الجلد
وحفظه من أن يسرع إليه الفساد قال والمرجع في ذلك إلى أهل الصنعة هذا هو المذهب وهو
الذي نص عليه الشافعي كما قدمته وبه قطع المصنف والجماهير في جميع الطرق وذكر بعض العراقيين
فيه قولين أحدهما هذا والثاني لا يجوز بغير الشب والقرظ كما يختص ولوغ الكلب بالتراب على
أحد القولين: وقد حكي الرافعي أيضا وجها في اختصاصه بالشث والقرظ وحكاه الماوردي عن
أهل الظاهر وهو غلط لان النبي صلى الله عليه وسلم أطلق الدباغ وكانت العرب تدبغ بأنواع مختلفة
فوجب جوازه بكل ما حصل به مقصود الدباغ: والفرق بينه وبين ولوغ الكلب أن الدباغ إحالة
فحصل بما تحصل به الإحالة والولوغ إزالة نجاسة دخلها التعبد فاختصت بالتراب كالتيمم ولا تفريع
على هذا الوجه وإنما التفريع على المذهب وهو جواز الدباغ بكل ما حصل به مقصوده قال أصحابنا في
الطريقتين ولا يحصل بتشميس الجلد ونص عليه الشافعي وفي وجه شاذ يجوز حكاه الرافعي وهو مذهب
أبي حنيفة: وأما التراب فالمذهب الصحيح انه لا يحصل الدباغ به ونص عليه الشافعي وقطع به الجمهور
ممن قطع به الشيخ أبو حامد والمحاملي في كتابيه وأبو الفتح سليم بن أيوب الرازي في كتابه رؤس
المسائل والقاضي حسين والفوراني وابن الصباغ وامام الحرمين والبغوي والمتولي وخلائق آخرون من
العراقيين والخراسانيين وفيه وجه شاذ أنه يحصل حكاه أبو العباس الجرجاني في التحرير ورجحه:
وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه قال أبو علي الطبري في الافصاح نص الشافعي على أن الدباغ لا
يحصل بالتراب والرماد قال القاضي ولم أر للشافعي في هذا نصا والمرجع في ذلك إلى أهل
الصنعة فإن كان للتراب والرماد هذا الفعل حصل الدباغ بهما وأما الملح فنقل أبو علي الطبري في
الافصاح أن الشافعي رحمه الله نص أنه لا يحصل به الدباغ وبه قطع صاحب الشامل وقطع
امام الحرمين بالحصول *
224

(فرع) لو دبغه بعين نجسة كذرق الحمام وغيره أو بمتنجس كقرظ أصابته نجاسة أو دبغه
بماء نجس فهل يحصل به الدباغ فيه وجهان مشهوران في الطريقتين أصحهما عند الأصحاب الحصول
وبه قطع ابن الصباغ والبغوي لان الغرض تطيب الجلد وإزالة الفضول وهذا حاصل بالنجس
كالطاهر والثاني لا يحصل لان النجس لا يصلح للتطهير فان قلنا بالأصح وجب غسله بعد حصول
الدباغ بلا خلاف ويكون نجسا بالمجاورة بخلاف ما لو دبغه بطاهر فإنه لا يجب غسله على أحد
الوجهين كما سيأتي إن شاء الله تعالى *
(فرع) لا يفتقر الدباغ إلى فعل فاعل لان ما طريقه إزالة النجاسة لا يفتقر إلى فعل
كالسيل إذا مر على نجاسة فأزالها فإنه يطهر محلها بلا خلاف (1) فلو أطارت الريح جلد ميتة
فألقته في مدبغة فاندبغ صار طاهرا ذكره الماوردي وغيره وهو واضح *
(فرع) لو أخذ جلد ميتة لغيره فدبغه طهر ولمن يكون: فيه أوجه أحدها للدابغ كمن أحيا مواتا
بعد أن تحجره غيره فإنه للمحيى: والثاني لصاحب الميتة لتقدم حقه: والثالث إن كان رفع يده عنه
ثم أخذه الدابغ فهو للدابغ وإن كان غصبه فللمغصوب منه وهذا الثالث هو الأصح وستأتي
هذه الأوجه مبسوطة إن شاء الله تعالى في أواخر كتاب الغصب حيث ذكرها المصنف وإنما
أشرت إليها لما قدمته في الخطبة انه متى أمكن تقديم مسألة لنوع ارتباط قدمتها والله أعلم *
قال المصنف رحمه الله *
(وهل يفتقر إلى غسله بالماء بعد الدباغ فيه وجهان أحدهما لا يفتقر: لان طهارته تتعلق
بالاستحالة وقد حصل ذلك فطهر كالخمر إذا استحالت خلا وقال أبو إسحاق لا يطهر حتى يغسل
بالماء لان ما يدبغ به تنجس بملاقاة الجلد فإذا زالت نجاسة الجلد بقيت نجاسة ما يدبغ به فوجب
ان يغسل حتى يطهر) *
(الشرح) هذان الوجهان مشهوران وذكر صاحب المستظهري أن الأول منهما قول

(1) قوله بلا خلاف فيه نظر فان لنا وجها واهيا في
اشتراط النية اه‍ من هامش الأذرعي
225

أبي العباس بن القاص ورأيت أنا كلامه في التلخيص وفيه إشارة إلى ما ذكره واختلف المصنفون
في أصحهما فالأكثرون على أن الأصح وجوب الغسل ممن صححه الفوراني وامام الحرمين والغزالي
في البسيط والوجيز وابن الصباغ والمتولي والروياني والرافعي وآخرون وقطع به الشيخ أبو الفتح
نصر بن إبراهيم المقدسي في كتابيه التهذيب والانتخاب الدمشقي: وقال البغوي الأصح لا يفتقر
وهو مذهب أبي حنيفة والأكثرين وتوجيه الوجهين مذكور في الكتاب ويدل لعدم الغسل
قوله صلى الله عليه وسلم (إذا دبغ الاهاب فقد طهر) ويجاب عنه بأن المراد طهرت عينه التي كانت
نجسة وليس فيه أنه لا يغسل هذا في وجوب غسله بعد الدباغ وأما استعمال الماء في أثناء الدباغ
ففي وجوبه وجهان مشهوران عند الخراسانيين وذكرهما الماوردي من العراقيين أصحهما لا يفتقر
إليه: قال امام الحرمين هذا قول المحققين قالوا ومأخذ الوجهين ان المغلب في الدباغ الإزالة أم الإحالة
وفيه وجهان فان غلبنا الا زالة افتقر إليه وإلا فلا: ويستدل للأصح بالقياس على الخمر إذا استحالت
فإنها تطهر بمجرد الاستحالة وللوجه الآخر بقوله صلى الله عليه وسلم يطهرها الماء والقرظ ولأنه
يلين الجلد ويصل به الشث والقرظ ونحوهما إلى جميع أجزائه: وإذ أوجبنا غسله بعد الدباغ فهو طاهر
العين بلا خلاف والدباغ حاصل قطعا لكنه نجس بالمجاورة على هذا الوجه فهو كالثوب النجس
فيجوز بيعه إذا جوزنا ببيع جلد الميتة المدبوغ صرح به امام الحرمين وغيره: وأما إذا أوجبنا استعمال
الماء في أثناء الدباغ فلم يستعمله فالجلد نجس العين بلا خلاف صرح به امام الحرمين وآخرون:
وهل يطهر بعد ذلك بنقعه في ماء كثير أم يشترط رده إلى المدبغة واستعمال الشث حكي الرافعي
فيه وجهين وحكي امام الحرمين عن شيخه والده أبي محمد أنه قال لا بد من ابتداء دبغه ثانيا قال
الامام ولا يبعد عندي أنه يكتفى بنقعه في الماء الطهور ووجهه الامام أحسن توجيه وأنا أظن
الرافعي أراد بالوجهين قول الإمام ووالده: ثم إذا أوجبنا استعمال الماء بعد الدباغ اشترط كونه
طهورا نقيا من أدوية الدباغ وغيرها بلا خلاف لأنه إزالة نجاسة وأما إذا اشترطناه في أثناء
226

الدباغ فلا بأس بكونه متغيرا بأدوية الدباغ والله أعلم *
(فرع) الاجزاء التي يتشربها الجلد من الأدوية المدبوغ بها طاهرة بلا خلاف وأما الاجزاء
المتناثرة من الأدوية فان تناثرت في أثناء الدباغ فهي نجسة بلا خلاف صرح به البغوي: وان تناثرت
بعده فهل نحكم بطهارتها تبعا للجلد أم بنجاستها فيه وجهان مشهوران قالوا وهما الوجهان في افتقار
الجلد إلى غسله بعد الدباغ ان قلنا يفتقر فهي نجسة والا فهي طاهرة تبعا له كذا قاله القاضي حسين
والمتولي والروياني وغيرهم والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وإذا طهر الجلد بالدباغ جاز الانتفاع به لقوله صلى الله عليه وسلم هلا أخذتم اهابها فدبغتموه
فانتفعتم به)
(الشرح) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من رواية ابن عباس رضي الله عنهما وقد
سبق بيانه في هذا الباب وقوله جاز الانتفاع به يعنى في اليابسات والمائعات وجازت الصلاة عليه
وفيه وطهر ظاهره وباطنه هذا هو المذهب الصحيح الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي وقطع به
العراقيون تصريحا والبغوي وغيره من الخراسانيين قال الشيخ أبو حامد شيخ الأصحاب في تعليقه
لا يختلف المذهب انه بعد الدباغ طاهر ظاهرا وباطنا وان الانتفاع به جائز في المائعات وحكي أبو
علي بن أبي هريرة في طهارته قولين وحكاهما جماعات من الخراسانيين أصحهما وهو الجديد يطهر
ظاهرا وباطنا كما ذكرنا: والثاني وهو القديم لا يطهر باطنا فيستعمل في يابس لا رطب ويصلى عليه لا فيه
وهذا النقل عن القديم غريب والمحققون ينكرونه ويقولون ليس للشافعي قول بعدم طهارة باطنه
لا قديم ولا غيره وإنما هذا مذهب مالك كما قدمناه عنه قال الدارمي في الاستذكار قال ابن
أبي هريرة قوله في القديم في هذه المسألة كمذهب مالك قال الدارمي ولم ير هذا في القديم ومما يدل
على أن هذا القول الذي حكاه الخراسانيون ليس بصحيح عن القديم أن امام الحرمين
قال كان شيخي يحكي عن القفال أنه قال لا يتوجه القول القديم في منع بيع المدبوغ لا بتقدير قول
227

للشافعي كمذهب مالك أنه يطهر ظاهره لا باطنه وهذا دليل على أنه ليس للشافعي تصريح بذلك
بل استنبطوه من منع البيع وليس ذلك بلازم بل لمنع البيع دليل آخر قد ذكره المصنف
وغيره والله أعلم *
(فرع) اعلم أن القول القديم ليس بلازم أن يكون كمذهب مالك بل هو قول مجتهد
قد يوافق مالكا وقد يخالفه قال القفال في شرح التلخيص أكثر القديم قد يوافق مالكا وإنما ذكرت
هذا الفرع لأني رأيت من يغلط في هذا بما لا أوثر نشره والله أعلم
(فرع) استعمال جلد الميتة قبل الدباغ جائز في اليابس دون الرطب صرح به الماوردي وغيره
ونقله الروياني عن الأصحاب فقال قال أصحابنا يجوز استعماله قبل الدباغ في اليابسات وأما
قول الشيخ أبي حامد والشيخ نصر المقدسي وصاحب البيان لا يجوز استعماله قبل الدباغ
فمرادهم استعماله في الرطبات أو في اللبس لا في اليابس وسيأتي كلام الأصحاب إن شاء الله تعالى في
عظم الفيل انه يكره استعماله في اليابس ولا يحرم: وممن صرح في عظم الفيل بكراهة استعماله في اليابس
وتحريمه في الرطب الشيخ نصر فدل أن مراده هنا استعماله في الرطب: وأما قول العبدري لا يجوز
استعماله قبل الدباغ في اليابسات عندنا وعند أكثر العلماء فغلط منه: وصوابه أن يقول في الرطبات
(فرع) قال الماوردي يجوز هبته (1) قبل الدباغ ولا يجوز رهنه وقال أبو حنيفة يجوز بيعه
ورهنه كالثوب النجس دليلنا أنه عين نجسة فلا يجوز بيعه ورهنه كالعذرة بخلاف الثوب النجس
فان عينه طاهر وكذا قال الروياني يجوز هبته على سبيل نقل اليد وكذا الوصية به لا التمليك
والله أعلم قال المصنف رحمه الله *
(وهل يجوز بيعه فيه قولان قال في القديم لا يجوز لأنه حرم التصرف في بالموت ثم رخص
في الانتفاع به فبقي ما سوى الانتفاع على التحريم وقال في الجديد يجوز لأنه منع من بيعه لنجاسته
وقد زالت النجاسة فوجب أن يجوز البيع كالخمر إذا تخللت)

(1) هذا فيه نظر وهو وجه ضعيف والأصح المنع والمسألة في الروضة مذكورة
في باب الهنة اه‍ من هامش الأذرعي
228

(الشرح) هذان القولان في صحة بيع جلد الميتة بعد الدباغ مشهوران والصحيح منهما عند
الأصحاب هو الجديد وهو صحته وبه قال أبو حنيفة وجمهور العلماء: وقول المصنف لأنه حرم
التصرف فيه ثم رخص في الانتفاع بعينه لأنه المفهوم من اطلاق الانتفاع وأما الانتفاع
بثمنه فليس انتفاعا به ولا يلزم من كونه طاهرا منتفعا به ان يجوز بيعه فان أم الولد والوقف
والطعام في دار الحرب بهذه الصفة ولا يجوز بيعها هذا هو الصواب في توجيه القديم: وأما ما يوجهه
به كثير من الخراسانيين من قولهم إن منع بيعه إنما هو لكونه لا يطهر باطنه فضعيف كما قدمناه:
وأجاب الأصحاب عما احتج به للقديم من القياس على أم الولد والوقف وطعام دار الحرب
بأن منع بيع أم الولد لاستحقاقها الحرية والوقف لا يملكه على الأصح وان ملكه فيتعلق به حق
البطن الثاني: وطعام دار الحرب لا يملكه وإنما أبيح له أكل قدر الحاجة والمنع في مسألتنا للنجاسة
وقد زالت فجاز البيع: فإذا جوزنا بيعه جاز رهنه وإجارته وإن لم نجوز بيعه ففي جواز اجارته
وجهان كالكلب المعلم ذكره الماوردي والروياني وقال الروياني وقيل يجوز اجارته قطعا وإنما
القولان في بيعه (1) ورهنه أما بيعه قبل الدباغ فباطل عندنا وعند جماهير العلماء وحكي العبدري عن
أبي حنيفة جوازه * قال المصنف رحمه الله
(وهل يجوز أكله ينظر فإن كان من حيوان يؤكل ففيه قولان قال في القديم لا يؤكل لقوله
صلى الله عليه وسلم إنما حرم من الميتة أكلها وقال في الجديد. يؤكل لأنه جلد طاهر من حيوان
مأكول فأشبه جلد المذكي: وإن كان من حيوان لا يؤكل لم يحل أكله لان الدباغ ليس بأقوى
من الذكاة والذكاة لا تبيح ما لا يؤكل لحمه فلان لا يبيحه الدباغ أولى وحكى شيخنا أبو حاتم
القزويني عن القاضي أبي القاسم بن كج أنه حكي وجها آخر أنه يحل لان الدباغ عمل في تطهيره
كما عمل في تطهير ما يؤكل فعمل في اباحته بخلاف الذكاة)
(الشرح) الحديث المذكور ثابت في الصحيحين وهو تمام حديث بن عباس المذكور في

(1) قد حكاه الماوردي عنه وتقدم هو والجواب عن حجته اه‍ من هامش الأذرعي
229

أول الفصل فإنه صلى الله عليه وسلم قال هلا أخذتم اهابها فدبغتموه فانتفعتم به قالوا إنها ميته قال
إنما حرم أكلها وفي رواية النسائي إنما حرم الله أكلها وهذان القولان في حل أكله مشهوران
أصحهما عند الجمهور القديم وهو التحريم للحديث: وهذه المسألة مما يفتى فيه على القديم: وقد تقدم
بيان المسائل التي يفتى فيها على القديم في مقدمة الكتاب: وصححت طائفة الجديد وهو حل الأكل:
منهم القفال في شرح التلخيص والفوراني والروياني والجرجاني في كتابه البلغة وقطع به في التحرير
ويجاب لهؤلاء عن الحديث بأن المراد تحريم أكل اللحم فإنه المعهود: هذا حكم جلد المأكول: فأما
جلد ما لا يؤكل فالمذهب الجزم بتحريمه وبه قطع جماعات منهم القاضي أبو الطيب والمحاملي والدارمي
والبغوي وغيرهم والوجه الاخر ضعيف وحكي الفوراني عن شيخه القفال أنه قال لا فرق بين المأكول وغيره
ففي الجميع القولان وهذا ضعيف وقول المصنف: فلان لا يبيحه الدباغ أولى: هذه اللام في قوله فلان
مفتوحة وهي لام الابتداء كقولك لزيد قائم أو اللام الموطئة للقسم وهي كثيرة التكرار في هذا
الكتاب وغيره من كتب الفقه وغيرها: وإنما ضبطتها لان كثيرا من المبتدئين يكسرونها وذلك
خطأ وأما الشيخ أبو حاتم فاسمه محمود بن الحسن كان حافظا للمذهب له مصنفات في الأصول
والمذهب والخلاف والجدل وهو القزويني بكسر الواو منسوب إلى قزوين بكسر الواو المدينة
المعروفة بخراسان وأما ابن كج فبفتح الكاف وبعدها جيم مشددة اسمه يوسف بن أحمد بن كج
له مصنفات كثيرة نفيسة فيها نقول غريبة ومسائل غريبة مهمة لا تكاد توجد لغيره: تفقه على أبي
الحسين بن القطان وحضر مجلس الداركي قتله اللصوص ليلة السابع والعشرين من رمضان سنة
خمسة وأربعمائة بالدينور قال المصنف في الطبقات جمع بن كج رئاسة العلم والدنيا ورحل إليه
الناس من الآفاق رغبة في علمه وجوده والله أعلم قال المصنف رحمه الله *
(كل حيوان نجس بالموت نجس شعره وصوفه على المنصوص وروى عن الشافعي رحمه
الله انه رجع عن تنجيس شعر الآدمي واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق: فمنهم من لم يثبت
230

هذه الرواية وقال ينجس الشعر بالموت قولا واحدا لأنه جزء متصل بالحيوان. اتصال خلقة
فينجس بالموت كالأعضاء ومنهم من جعل الرجوع عن تنجيس شعر الآدمي رجوعا عن تنجيس
جميع الشعور فجعل في الشعور قولين أحدهما ينجس لما ذكرناه والثاني لا ينجس لأنه لا يحس
ولا يتألم فلا تلحقه نجاسة الموت ومنهم من جعل هذه الرواية رجوعا عن تنجيس شعر الآدمي
خاصة فجعل في الشعر قولين أحدهما ينجس الجميع لما ذكرناه والثاني ينجس الجميع الا شعر الآدمي
فإنه لا ينجس لأنه مخصوص بالكرامة ولهذا يحل لبنه مع تحريم أكله: وأما شعر رسول الله
صلى الله عليه وسلم فانا إذا قلنا اشعر غيره طاهر فشعره صلى الله عليه وسلم أولى بالطهارة وإذا
قلنا إن شعر غيره نجس ففي شعره عليه السلام وجهان أحداهما أنه نجس لان ما كان نجسا من غيره
كان نجسا منه كالدم وقال أبو جعفر الترمذي هو طاهر لان النبي صلى الله عليه وسلم ناول
أبا طلحة رضي الله عنه شعره فقسمه بين الناس: وكل موضع قلنا إنه نجس عفى عن الشعرة والشعرتين في
الماء والثوب لأنه لا يمكن الاحتراز منه فعفى عنه كما عفى دم البراغيث)
(الشرح) أما قوله لان النبي صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحه شعرة فقسمه بين الناس فحديث
صحيح رواه البخاري ومسلم
أما أحكام المسألة فحاصلها ان المذهب نجاسة شعر الميتة غير الآدمي وطهارة شعر الآدمي
هذا مختصر المسألة وأما بسطها فقد ذكر المصنف ثلاث طرق وهي مشهورة في المذهب قال القاضي
أبو الطيب وآخرون الشعر والصوف والوبر والعظم والقرن والظلف نحلها الحياة وتنجس بالموت
هذا هو المذهب وهو الذي رواه البويطي والمزني والربيع المرادي وحرملة وروى إبراهيم البليدي
عن المزني عن الشافعي انه رجع عن تنجيس شعر الآدمي وقال صاحب الجاوي الشعر والوبر
والصوف ينجس بالموت هذا هو المروى عن الشافعي في كتبه والذي نقله عنه جمهور أصحابه البويطي
والمزني والربيع المرادي وحرملة وأصحاب القديم قال وحكي ابن سريج عن أبي القاسم الأنماطي
عن المزني عن الشافعي انه رجع عن تنجيس الشعر وحكي إبراهيم البليدي عن المزني عن الشافعي
231

انه رجع عن تنجيس شعر الآدمي و حكي الربيع الجيزي عن الشافعي ان الشعر تابع للجلد يطهر
بطهارته وينجس بنجاسته واختلف أصحابنا في هذه الحكايات الثلاث التي شذت عن الجمهور فجعلها
بعضهم قولا ثانيا للشافعي ان الشعر طاهر وامتنع الجمهور من اثبات قول ثان لمخالفتها نصوصه
ويحتمل انه حكى مذهب غيره: وأما شعر الآدمي ففيه قولان أشهرهما عنه انه نجس: والثاني وهو
منصوص في الجديد انه طاهر هذا كلام صاحب الحاوي واتفق الأصحاب على أن المذهب ان
شعر غير الآدمي وصوفه ووبره وريشه ينجس بالموت: وأما الآدمي فاختلفوا في الراجح فيه فالذي
صححه أكثر العراقيين نجاسته والذي صححه جميع الخراسانيين أو جماهيرهم طهارته وهذا هو
الصحيح فقد صح عن الشافعي رجوعه عن تنجيس شعر الآدمي فهو مذهبه وما سواه ليس بمذهب
له: ثم الدليل يقتضيه وهو مذهب جمهور العلماء كما سنذكره إن شاء الله تعالى في فرع في مذاهب
العلماء: ثم إن هذا الخلاف في شعر ميتة الآدمي مفرع على نجاسة ميتة الآدمي أما إذا قلنا بطهارة
ميتته فشعره طاهر بلا خلاف كذا صرح به البغوي والمتولي وغيرهما من الخراسانيين وابن الصباغ
والشاشي والشيخ نصر المقدسي وصاحب البيان وغيرهم من العراقيين وإذا انفصل شعر آدمي في حياته
فطاهر على أصح الوجهين تكرمة للآدمي ولعموم البلوى وعسر الاحتراز وأما إذا انفصل جزء
من جسده كيده وظفره فقطع العراقيون أو جمهورهم بنجاسته قالوا وإنما الخلاف في ميتة بجملته لحرمة
الجملة وقال الخراسانيون فيه وجهان أصحهما الطهارة وهذا هو الصحيح: قال امام الحرمين من
قال العضو المبان في الحياة نجس فقد غلط والوجه اعتبار الجزء بالجملة بعد الموت وأما شعر
رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قلنا بطهارة غيره فهو: أولى والا فوجهان قال أبو جعفر
هو طاهر وقال غيره هو نجس: وهذا الوجه غلط أو كالغلط وسأذكر في شعره صلى الله عليه وسلم و فضلات
بدنه فرعا مخصوصا بها إن شاء الله تعالى
وأما قول المصنف وكل موضع قلنا أنه نجس عفى عن الشعرة والشعرتين فظاهره تعميم العفو
في شعر الآدمي و غيره وقد اتفق أصحابنا على العفو ولكن اختلفوا في تخصيصه بالآدمي فأطلقت
232

طائفة الكلام اطلاقا يقتضي التعميم كما أطلقه المصنف منهم القاضي حسين والمحاملي في المجموع
وصرح القاضي بجريان العفو في شعر غير الآدمي ونقل بعضهم هذا عن تعليق الشيخ أبي حامد
ولم أره أنا فيه هكذا ولكن نسخ تعليق الشيخ أبي حامد والقاضي حسين يقع فيها اختلاف
وخصت طائفة ذلك بشعر الآدمي منهم الفوراني وابن الصباغ والجرجاني في التحرير والروياني
والبغوي وصاحب البيان ولكل واحد من الوجهين وجه ولكن الصحيح التعميم: وعبارة
المصنف كالصريحة فيه فإنه فصل الكلام في الشعر ثم قال وكل موضع قلنا أنه نجس عفي ولان
الجميع سواء في عموم الابتلاء وعسر الاحتراز: وأما قول المصنف كالشعرة والشعرتين فليس تحديدا
لما يعفى عنه بل كالمثال لليسير الذي يعفى عنه وعبارة أصحابنا يعفى عن اليسير منه كذا صرح
به الجمهور: وذكر ابن الصباغ أن بعض أصحابنا فسره بالشعرة والشعرتين: وقال امام الحرمين
إذا حكمنا بنجاسة شعر الآدمي فما ينتف من اللحية والرأس على العرف الغالب معفو عنه مع
نجاسته كدم البراغيث: قال ثم القول في ضبط القليل كالقول في دم البراغيث قال ولعل القليل
ما يغلب انتتافه مع اعتدال الحال والله أعلم *
(فرع) المذهب الصحيح القطع بطهارة شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق ودليله
الحديث وعظم مرتبته صلى الله عليه وسلم ومن قال بالنجاسة قالوا إنما قسم الشعر للتبرك قالوا
والتبرك يكون بالنجس كما يكون بالطاهر كذا قاله الماوردي وآخرون قالوا لان القدر الذي
أخذه كل واحد كان يسيرا معفوا عنه والصواب القطع بالطهارة كما قاله أبو جعفر وحكاه الروياني
عن جماعة آخرين وصححه القاضي حسين وآخرون: وأما بوله صلى الله عليه وسلم ودمه ففيهما وجهان
مشهوران عند الخراسانيين وذكر القاضي حسين وقليل منهم في العذرة وجهين ونقلهما في العذرة
صاحب البيان عن الخراسانيين وقد أنكر بعضهم على الغزالي طرده الوجهين في العذرة
وزعم أن العذرة نجسة بالاتفاق وان الخلاف مخصوص بالبول والدم وهذا الانكار غلط بل الخلاف
في العذرة نقله غير الغزالي كما حكيناه عن القاضي حسين وصاحب البيان وآخرين وأشار إليه
امام الحرمين وآخرون فقالوا في فضلات بدنه صلى الله عليه وسلم كبوله ودمه وغيرهما وجهان:
وقال القفال في شرح التلخيص في الخصائص قال بعض أصحابنا جميع ما يخرج منه صلى الله عليه وسلم
233

طاهر قال وليس بصحيح فهذا نقل القفال وهو شيخ طريقة الخراسانيين وعليه مدارها واستدل من قال
بنجاسة هذه الفضلات بأنه صلى الله عليه وسلم كان يتنزه منها واستدل من قال بطهارتها بالحديثين
المعروفين أن أبا طيبة الحاجم حجمه صلى الله عليه وسلم وشرب دمه ولم ينكر عليه وان امرأة شربت
بوله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليها وحديث أبي طيبة ضعيف وحديث شرب المرأة البول صحيح
رواه الدارقطني وقال هو حديث صحيح وهو كاف في الاحتجاج لكل الفضلات قياسا: وموضع
الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها ولم يأمرها بغسل فمها ولا نهاها عن العود إلى مثله وأجاب
القائل بالطهارة عن تنزهه صلى الله عليه وسلم عنها ان ذلك على الاستحباب والنظافة والصحيح
عند الجمهور نجاسة الدم والفضلات وبه قطع العراقيون وخالفهم القاضي حسين فقال الأصح
طهارة الجميع والله أعلم *
(فرع) قدمنا في شعر ميتة غير الآدمي خلافا: المذهب الصحيح أنه نجس وهذا
الخلاف فيما سوى الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما أما شعور هذه فقطع العراقيون
وجماعات من الخراسانيين بنجاستها ولم يذكروا فيها الخلاف: وقال جماعة من الخراسانيين
إذا قلنا بطهارة غيرها ففيها وجهان أحدهما الطهارة وأصحهما النجاسة: قال امام الحرمين قطع
الصيد لأني بنجاستها على هذا القول وقال القاضي أبو حامد المروروذي هي على هذا
القول طاهرة قال الامام واختاره شيخي يعنى والده أبا محمد الجويني قال الرافعي والوجهان
جاريان في حالتي الحياة والموت
(فرع) قول المصنف لأنه جزء متصل بالحيوان اتصال خلقة فنجس بالموت كالأعضاء احترز
بقوله متصل عن الحمل والبيض المتصلب في جوف ميتته وبقوله بالحيوان عن أغصان الشجر كذا
قاله الشيخ أبو حامد وغيره وبقوله اتصال خلقة الاذن الملصقة وقوله فمنهم من لم يثبت هذه
الرواية وقال ينجس الشعر بالموت قولا واحدا ليس معناه القدح في الناقل بتكذيب ونحوه وإنما
234

معناه تأويل الرواية على حكاية مذهب الغير كما قدمناه عن نقل صاحب الحاوي وقوله ينجس بضم
الجيم وفتحها وقوله لا يحس بضم الياء وكسر الحاء هذه اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن قال الله
تعالى (هل تحس منهم من أحد وفيه لغة قليلة يحس بفتح الياء وضم الحاء وقوله بألم بالهمز ويجوز تركه
(فرع) قول المصنف لان ما كان نجسا من غيره كان نجسا منه كالدم قد وافقه على هذه
العبارة صاحب الشامل وهذا القياس يقتضي القطع بنجاسة الدم وليس مقطوعا به بل فيه الخلاف
الذي قدمناه: وقد قال صاحب الحاوي ان أبا جعفر الترمذي القائل بطهارة شعره صلى الله عليه
وسلم قيل له قد حجمه أبو طيبة وشرب دمه أفتقول بطهارة دمه فركب الباب وقال أقول به: قيل
له قد شربت امرأة بوله صلى الله عليه وسلم أفتقول بطهارته فقال لا: لان البول استحال من الطعام
والشراب وليس كذلك الدم والشعر لأنه من أصل الخلقة هذا كلام صاحبا الحاوي وفيه التصريح بان
أبا جعفر يقول بطهارة الشعر والدم فإذا كان كذلك لم يرد عليه القياس على الدم لأنه طاهر عنده
وحينئذ ينكر على المصنف هذا القياس ويجاب عنه بأن المصنف اختار في أصول الفقه ان القياس
على المختلف فيه جائز: فان منع الخصم الأصل أثبته القايس بدليله الخاص ثم ألحق به الفرع وقد
أكثر المصنف في المهذب من القياس على المختلف فيه وكله خارج على هذه القاعدة والله أعلم
(فرع) ذكر المصنف في هذا الفصل أبا طلحة الصحابي وأبا جعفر الترمذي أما أبو طلحة فاسمه زيد
ابن سهل بن الأسود النصارى شهد العقبة وبدرا واحدا وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم وهو أحد النقباء ليلة العقبة رضي الله عنهم وكان من الصحابة الذين سردوا الصوم بعد وفاة رسول
الله صلى الله عليه وسلم وسنذكرهم إن شاء الله تعالى في كتاب الصيام قال أبو زرعة الدمشقي الحافظ
عاش أبو طلحة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة يسرد الصوم وخالفه غيره فقال توفى
سنة أربع وثلاثين من الهجرة وقيل سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه وأما أبو جعفر فاسمه محمد بن
أحمد بن نصر أحد الأئمة الذين تنشرح بذكرهم الصدور وترتاح لذكر مآثرهم القلوب كان رضي الله عنه
حنفيا ثم صار شافعيا لرؤيا رآها مشهورة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام
فقلت يا رسول الله آخذ برأي أبي حنيفة فأعرض عني فقلت برأي مالك فقال خذ ما وافق سنتي
فقلت برأي الشافعي فقال أو ذاك رأى الشافعي ذلك رد على من خالف سنتي حكي هذه الرؤيا المصنف
في الطبقات وآخرون وهو منسوب إلى ترمذ البلدة المعروفة التي نسب إليها الامام الحافظ أبو عيسى الترمذي
235

وفي ضبطها ثلاثة أوجه ذكرها الحافظ أبو سعد السمعاني في كتابه الأنساب أحدها ترمذ بكسر التاء
والميم: والثاني بضمهما قال وهو قول أهل المعرفة: والثالث بفتح التاء وكسر الميم وهو المتداول بين أهل
ترمذ وهي مدينة قديمة على طرف نهر بلخ الذي يقال له جيحون وهذه الأوجه الثلاثة تقال في كل من يقال
له الترمذي: قال المصنف في الطبقات سكن أبو جعفر الترمذي بغداد ولم يكن للشافعيين في وقته بالعراق
أرأس ولا أورع ولا أكثر نقلا منه وكان قوته في كل شهر أربعة دراهم ولد في ذي الحجة سنة مائتين وتوفى
في المحرم سنة خمس وتسعين ومائتين رحمه الله وموضع بسط أحواله الطبقات والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في شعر الميتة وعظمها وعصبها: فمذهبنا ان الشعر والصوف والوبر
والريش والعصب والعظم والقرن والسن والظلف نجسة: وفي الشعر خلاف ضعيف سبق: وفي العظم
خلاف أضعف منه قد ذكره المصنف بعد هذا وأما العصب فنجس بلا خلاف هذا في غير الآدمي
وممن قال بالنجاسة عطاء وذهب عمر بن عبد العزيز والحسن البصري ومالك واحمد واسحق والمزني
وابن المنذر إلى أن الشعور والصوف والوبر والريش طاهرة والعظم والقرن والسن والظلف والظفر
نجسة كذا حكى مذاهبهم القاضي أبو الطيب وحكي العبدري عن الحسن وعطاء والأوزاعي والليث
ابن سعدان هذه الأشياء تنجس بالموت لكن تطهر بالغسل وعن مالك وأبي حنيفة واحمد انه لا ينجس
الشعر والصوف والوبر والريش قال أبو حنيفة وداود وكذا لا ينجس العظام والقرون وباقيها قال
أبو حنيفة الا شعر الخنزير وعظمه ورخص للخرازين في استعمال شعر الخنزير لحاجتهم إليه وعنه في
العصب روايتان واحتج لمن قال بطهارة الشعر بقول الله تعالى (ومن أصوافها وأوبارها واشعارها
أثاثا ومتاعا إلى حين) وهذا عام في كل حال وبقوله صلى الله عليه وسلم في الميتة إنما حرم اكلها
وهو في الصحيحين وقد قدمناه: وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بأس بجلد الميتة
إذا دبغ ولا بشعرها إذا غسل وذكروا أقيسة ومناسبات ليست بقوية: واحتج أصحابنا بقول
الله تعالى (حرمت عليكم الميتة) وهو عام للشعر وغيره فان قالوا الشعر ليس ميتة قال أصحابنا
قلنا بل هو ميتة فان الميتة اسم لما فارقته الروح بجميع أجزائه: قال صاحب الحاوي ولهذا
لو حلف لا يمسس ميتة فمس شعرها حنث فان قالوا هذه الآية عاملة في الميتة: والآية
التي احتججنا بها خاصة في بعضها وهو الشعر والصوف والوبر: والخاص مقدم على
العام: فالجواب أن كل واحدة من الآيتين فيها عموم وخصوص فان تلك الآية أيضا
عامة في الحيوان الحي والميت وهذه خاصة بتحريم الميتة فكل آية عامة من وجه خاصة
236

من وجه فتساويتا من حيث العموم والخصوص: وكان التمسك بآيتنا أولى لأنها وردت لبيان
المحرم وان الميتة محرمة علينا ووردت الأخرى للامتنان بما أحل لنا واحتجوا بحديث هلا أخذتم
اهابها فدبغتموه فانتفعتم به والغالب أن الشاة لا تخلوا من شعر وصوف ولم يذكر لهم طهارته
والانتفاع به في الحال: ولو كان طاهرا لبينه وفي الاستدلال بهذا نظر: واعتماد الأصحاب على القياس
الذي ذكره المصنف وذكروا أقيسة كثيرة تركتها لضعفها وأجاب الأصحاب عن احتجاجهم
بقوله تعالى (ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها) أنها محمولة على شعر المأكول إذا ذكي أو أخذ
في حياته كما هو المعهود وأجاب الماوردي بجواب آخران من للتبعيض والمراد بالبعض الطاهر
وهو ما ذكرناه: وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم إنما حرم أكلها (1) وأما الجواب عن
حديث أم سلمة فمن وجهين أجودهما أنه ضعيف باتفاق الحفاظ قالوا لأنه تفرد به يوسف بن السفر
بفتح السين المهملة واسكان الفاء قالوا وهو متروك الحديث هذه عبارة جميع أهل هذا الشأن فيه
وهي أبلغ العبارات عندهم في الجرح قال الدارقطني هو متروك يكذب على الأوزاعي وقال
البيهقي هو يضع الحديث: الجواب الثاني ان هذا الحديث لا يمكن أن يتمسك به من يقول بطهارة
الشعر بلا غسل والله أعلم: واحتج من قال يطهر الشعر بالغسل بحديث أم سلمة وقد بينا اتفاق
الحفاظ على ضعفه وبيانهم سبب الضعف والجرح: واحتج أصحابنا بأنها عين نجسة فلم تطهر
بالغسل كالعذرة واللحم: واحتج من قال بطهارة الميتة بحديث عن أنس رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم امتشط بمشط من عاج وبما رواه أبو داود في سننه بإسناده عن حميد الشامي

(1) هكذا بياض في الأصل اه‍
237

عن سليمان المنبهي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج قال صاحب هذا المذهب
والعاج عظم الفيل واحتج أصحابنا بقول الله تعالى (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيى
العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) فأثبت لها أحياء فدل على موتها والميتة نجسة
فان قالوا المراد أصحاب العظام فحذف المضاف اختصارا قلنا هذا خلاف الأصل والظاهر فلا يلتفت
إليه: واحتج الشافعي رحمه الله بما روى عمر وبن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كره أن
يدهن في عظم فيل لأنه ميتة والسلف يطلقون الكراهة ويريدون بها التحريم ولأنه جزء متصل
بالحيوان اتصال خلقة فأشبه الأعضاء: والجواب عن حديث أنس من وجهين أحدهما أنه ضعيف
ضعفه الأئمة والثاني أن العاج هو الذبل بفتح الذال المعجمة واسكان الباء الموحدة وهو عظم ظهر
السلحفاة البحرية كذا قاله الأصمعي وابن قتيبة وغيرهما من أهل اللغة: وقال أبو علي
البغدادي العرب تسمي كل عظم عاجا: والجواب عن حديث ثوبان بالوجهين السابقين فان حميدا
الشامي وسليمان المنبهي مجهولان والمنبهي بضم الميم وبعدها نون مفتوحة ثم باء موحدة مكسوة
مشددة والله أعلم وبالله التوفيق * قال المصنف رحمه الله *
(فان دبغ جلد الميتة وعليه شعر قال في الأم لا يطهر لان الدباغ لا يؤثر في تطهيره وروى
الربيع بن سليمان الجيزي عنه أنه يطهر لأنه شعر نابت على جلد طاهر فكان كالجلد في الطهارة
كشعر الحيوان في حال الحياة) *
(الشرح) هذان القولان مشهوران أصحهما عند الجمهور نصه في الأم انه لا يطهر وقد

(1) قوله والثاني هذا الجواب ضعيف اه‍
238

تقدم عن صاحب الحاوي أنه قال هو المشهور عن الشافعي والذي نقله عنه جمهور أصحابه وممن
صححه من المصنفين أبو القاسم الصيمري والشيخ أبو محمد الجويني والبغوي والشاشي
والرافعي وقطع به الجرجاني في التحرير وصحح الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني والروياني طهارته قال
الروياني لان الصحابة في زمن عمر رضي الله عنهم قسموا الفري المغنومة من الفرس وهي ذبائح
مجوس ومما يدل لعدم الطهارة حديث أبي المليح بفتح الميم عامر بن أسامة عن أبيه أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة
ورواه الحاكم في المستدرك وقال حديث صحيح: وعن المقدام بن معد يكرب أنه قال لمعاوية
رضي الله عنهما أنشدك بالله هل تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لبس جلود
السباع والركوب عليها: قال نعم رواه أبو داود والنسائي باسناد حسن وعن معاوية أنه قال
لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عن
ركوب جلود النمور قالوا نعم رواه أبو داود فهذه الأحاديث ونحوها احتج بها جماعة من
أصحابنا على أن الشعر لا يطهر بالدباغ لان النهي متناول لما بعد الدباغ وحينئذ لا يجوز أن يكون
النهى عائدا إلى نفس الجلد فإنه طاهر بالدباغ بالدلائل السابقة وإنما هو عائد إلى الشعر: وأما
ما احتج به الروياني من الفري المغنومة فليس فيه انهم استعملوها فيما لا يجوز استعمال النجس
فيه من صلاة وغيرها *
(فرع) إذا قلنا بالأصح أن الشعر لا يطهر بالدباغ قال القاضي حسين والجرجاني وغيرهما
يعفى عن القليل الذي يبقى على الجلد ويحكم بطهارته تبعا *
239

(فرع) مما ينبغي أن يتفطن له وتدعوا الحاجة إلى معرفته جلود الثعالب ونحوها إذا ماتت
أو أفسدت ذكاتها بادخال السكين في آذانها ونحو ذلك وجلد ما لا يؤكل لحمه فهذه لا تصح
الصلاة فيها على الأصح لعدم طهارة الشعر بالدباغ قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله وأما القندس
فبحثنا عنه فلم يثبت أنه مأكول فينبغي أن تجتنب الصلاة فيه ولأصحابنا وجهان في تحريم
ما أشكل من الحيوان فلم يدر أنه مأكول أم لا وسنذكر في فرع قريب عن صاحب الحاوي
نحو هذا في الشعر إن شاء الله *
(فرع) قال صاحب الحاوي لو باع جلد الميتة بعد الدباغ قبل إماطة الشعر عنه وفرعنا على أن
الجلد يصح بيعه وان الشعر لا يطهر بالدباغ فله ثلاثة أحوال إحداها أن يقول بعتك الجلد دون
الشعر فالبيع صحيح: الثانية أن يقول بعتك الجلد مع شعرة فبيع الشعر باطل وفي الجلد قولا تفريق
الصفقة أصحهما الصحة: الثالثة أن يبيعه مطلقا فهل هو كالحالة الثانية أم الأولى: فيه وجهان
(فرع) ذكر المصنف الربيع بن سليمان الجيزي ولا ذكر له في المهذب الا في هذا الموضع
وله ذكر في غير المهذب في مسألة قراءة القرآن بالألحان فإنه نقلها عن الشافعي وقد ذكرتها في
الروضة وفي تهذيب الأسماء وأما الربيع المتكرر في المهذب وكتب الأصحاب فهو الربيع بن سليمان
المرادي وهو راوي الأم وغيرها من كتب الشافعي عنه وقد أوضحت حال الربيعين في تهذيب
الأسماء واللغات وهذا الجيزي بكسر الجيم وبالزاي منسوب إلى جيزة مصر وهو الربيع بن
سليمان المصري الأزدي مولاهم توفى في ذي الحجة سنة ست وخمسين ومائتين روى عنه أبو داود
والنسائي في سننهما وأبو جعفر الطحاوي وآخرون من الأئمة وكان عمدة عند المحدثين والله أعلم
قال المصنف رحمه الله *
(وان جز الشعر من الحيوان نظرت فإن كان من حيوان يؤكل لم ينجس لان الجز في
الشعر كالذبح في الحيوان ولو ذبح الحيوان لم ينجس فكذلك إذا جز شعره وإن كان من
240

حيوان لا يؤكل فحكمه حكم الحيوان ولو ذبح الحيوان كان ميتة فكذلك إذا جز شعره وجب
أن يكون ميتة) (الشرح) في هذه القطعة مسائل إحداها إذا جز شعر أو صوف أو وبر من
مأكول اللحم فهو طاهر بنص القرآن واجماع الأمة: قال امام الحرمين وغيره وكان القياس
نجاسته كسائر أجزاء الحيوان المنفصلة في الحياة ولكن أجمعت الأمة على طهارتها لمسيس الحاجة
إليها في ملابس الخلق ومفارشهم وليس في شعور المذكيات كفاية لذلك: قالوا ونظيره اللبن محكوم
بطهارته مع أنه مستحيل في الباطن كالدم ولله أعلم: الثانية لا فرق بين أن يجزه مسلم أو مجوسي
أو وثني وهذا لا خلاف فيه: الثالثة إذا انفصل شعر أو صوف أو وبر أو ريش عن حيوان مأكول
في حياته بنفسه أو بنتف ففيه أوجه: الصحيح منها وبه قطع امام الحرمين والبغوي والجمهور انه
طاهر: والثاني انه نجس سواء انفصل بنفسه أو نتف حكاه الرافعي وغيره ولا يطهر الا المجزوز
لان ما أبين من حي فهو ميت: والثالث ان سقط بنفسه فطاهر وان نتف فنجس لأنه عدل به عن
الطريق المشروع ولما فيه من إيذاء الحيوان فهو كخنقه حكاه القاضي حسين والمتولي والروياني
والشاشي وغيرهم والمختار ما قطع به الجمهور وهو الطهارة مطلقا لأنه في معنى الجز وهو شبيه بمن
ذبح بسكين كال فإنه يفيد الحل وإن كان مكروها وأما قول المصنف رحمه الله وان جز الشعر لم ينجس
لان الجز كالذبح فربما أوهم ان الساقط بنفسه نجس وهذا الوهم خطأ وإنما مراده بالجز التمثيل
لما انفصل في الحياة *
(فرع) قال البغوي لو قطع جناح طائر مأكول في حياته فما عليه من الشعر والريش نجس
تبعا لميتته: الرابعة إذا جز الشعر والصوف والوبر والريش من حيوان لا يؤكل أو سقط بنفسه
أو نتف فاتفق أصحابنا على أن له حكم شعر الميتة لان ما أبين من حي فهو ميت وحينئذ يكون فيه
241

الخلاف السابق في شعر الميتة والمذهب نجاسته من غير الآدمي وطهارته من الآدمي:
(فرع مهم) قد اشتهر في السنة الفقهاء وكتبهم ان ما أبين من حي فهو ميت وهذه قاعدة مهمة
ودليلها حديث أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يجبون اسنمة
الإبل ويقطعون أليات الغنم فقال ما يقطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة رواه أبو داود والترمذي
وغيرهما وهذا لفظ الترمذي وقال هو حديث حسن قال والعمل عليه عند أهل العلم *
(فرع) إذا قلنا بالمذهب ان الشعر ينجس بالموت فرأى شعرا لم يدر انه طاهر أو نجس قال
الماوردي ان علم أنه من حيوان يؤكل فهو طاهر عملا بالأصل وان علم أنه من غير مأكول فهو نجس
لأنه لا طريق إلى طهارته وان شك فوجهان بناء على اختلاف الأصحاب في أن أصل الأشياء على الإباحة
أو التحريم وذكر مثل هذا التفصيل صاحب البحر ثم قال احتمالا لنفسه في نجاسة المأكول لأنه
لا يدرى اخذ في حياته أم بعد موته وهذا الاحتمال خطأ لأنا تيقنا طهارته (1) ولم يعارضها أصل
ولا ظاهر وأما قوله فيما إذا شك فوجهان فالمختار منهما لطهارة لأننا تيقنا طهارته في الحياة ولم يعارضها أصل
ولا ظاهر فإنه لا يمكن دعوى كون الظاهر نجاسته وأما احتمال كونه شعر كلب أو خنزير فضعيف لأنه
في غاية الندور وأما قول صاحب المستظهري بعد حكاية الوجهين عن حكاية صاحب الحاوي هذا ليس بشئ
بل لا يجوز الانتفاع به وجها واحدا فمردود بما ذكرناه من القل والدليل والله أعلم: قال المصنف رحمه الله
(وأما العظم والسن والقرن والظلف والظفر ففيه طريقان من أصحابنا من قال هو كالشعر
والصوف لأنه لا يحس ولا يألم ومنهم من قال ينجس قولا واحدا)
(الشرح) هذان الطريقان مشهوران: المذهب منهما عند الأصحاب القطع بالنجاسة وقد
تقدم دليل المسألة ومذاهب العلماء فيها في مسألة الشعر والقائل بأنه على الخلاف هو أبو إسحاق
المروزي قال أصحابنا وقوله لأنه لا يحس ولا يألم غير مسلم فان السن تضرس والعظم يحس قال
أصحابنا حكم الظفر حكم العظم والظلف والقرن هذا في غير الآدمي: وأما أجزاء الآدمي فتقدم
بيانها في مسألة الشعر وأما خف البعير الميت فنجس بلا خلاف (فرع) العاج المتخذ من عظم الفيل

(1) أقول هذا فيه نظر ولا نسلم انا تيقنا طهارته إذ يجوز أن يكون
من حيوان نجس في الحياة وعلى تقدير أن يكون من حيوان طاهر فقد يقال الأصل عدم
اباتته منه في حال الحياة نقوله لم يعارضهما أصل ولا ظاهر ممنوع وما ما قاله
واختاره في مسألة الماوردي ضعيف جدا فهذا المذهب والصواب ما قاله صاحب
المستظهري فيه وقوله واما احتمال شعر كلب أو خنزير فضعيف فعجب منه وليس
القسمة منحصرة في ذلك فان كل حيوان لا يؤكل فشعره نجس بالإماتة الا الآدمي وذا
كان كذلك اتجه القول بالتنجيس اخذ بجانب الحيطة فيما تردد فيه وله نظائر في
المذهب والبناء على قاعدة الأشياء قبل ورود الشرع ضعيف لأنا نعلم قطعا ان الشرع
ورد في هذا الحكم ولكنا الآن جهلناه اه‍ من هامش الأذرعي
242

نجس عندنا كنجاسة غيره من العظام لا يجوز استعماله في شئ رطب فان استعمل فيه نجسه: قال أصحابنا
ويكره استعماله في الأشياء اليابسة لمباشرة النجاسة ولا يحرم لأنه لا يتنجس به ولو اتخذ مشطا من عظم
الفيل فاستعمله في رأسه أو لحيته فإن كانت رطوبة من أحد الجانبين تنجس شعره وإلا فلا: ولكنه يكره
ولا يحرم (1) هذا هو المشهور للأصحاب ورأيت في نسخة من تعليق الشيخ أبي حامد أنه قال ينبغي أن
يحرم وهذا غريب ضعيف قلت وينبغي أن يكون الحكم هكذا في استعمال ما يصنع ببعض بلاد حواران
من أحشاء الغنم على هيئة الأقداح والقصاع ونحوها لا يجوز استعماله في رطب ويجوز في يابس مع الكراهة
قال الروياني ولو جعل الدهن في عظم الفيل للاستصباح أو غيره من الاستعمال في غير البدن فالصحيح
جوازه وهذا هو الخلاف في جواز الاستصباح بزيت نجس لأنه ينجس بوضعه في العظم هدا تفصيل
مذهبنا في عظم الفيل: وإنما أفردته عن العظام كما أفرده الشافعي: ثم الأصحاب قالوا وإنما أفرده لكثرة استعمال
الناس له ولاختلاف العلماء فيه فان أبا حنيفة قال بطهارته بناء عل أصله في كل العظام وقال مالك في رواية
ان ذكي فطاهر والا فنجس بناء على رواية له ان الفيل مأكول: وقال إبراهيم النخعي انه نجس لكن
يطهر بخرطه وقد قدمنا دليل نجاسة جميع العظام وهذا منها ومذهب النخعي ضعيف بين الضعف والله أعلم
(فرع) قال صاحب الشامل وغيره من أصحابنا في هذا الموضع سئل فقيه العرب عن الوضوء من
الاناء المعوج فقال إن أصاب الماء تعويجه لم يجز والا فيجوز والاناء المعوج هو المضبب بقطعة من
من عظم الفيل وهذا صحيح والصورة فيما دون القلتين وفقيه العرب ليس شخصا بعينه وإنما العلماء يذكرون
مسائل فيها الغاز وملح ينسبونها إلى فتيا فقيه العرب وصنف الإمام أبو الحسين بن فارس كتابا سماه فتيا
فقيه العرب ذكر فيه هذه المسألة وأشد ألغازا منها (فرع) يجوز ايقاد عظام الميتة غير الآدمي تحت القدور
وفي التنانير وغيرها صرح به صاحب الحاوي والجرجاني في كتابيه التحرير والبلغة والروياني وغيرهم
قال المصنف رحمه الله
(وأما اللبن في ضرع الشاة الميتة فهو نجس لأنه ملاق للنجاسة فهو كاللبن في إناء نجس وأما
البيض في جوف الدجاجة الميتة فإن لم يتصلب قشره فهو كاللبن وان تصلب قشره لم ينجس كما لو

(1) شرح في مذهبنا وجه حكاه المصنف وغيره ان الفيل يحل اكله فعلا هذا عظمه طاهر إذا زكى كغيره من المأكولات والله أعلم اه‍ من هامش الأذرعي
243

وقعت بيضة في شئ نجس) *
(الشرح) أما مسألة اللبن فهو نجس عندنا بلا خلاف هذا حكم لبن الشاة وغيرها من الحيوان الذي
ينجس بالموت: فأما إذا ماتت امرأة وفي ثديها لبن فان قلنا ينجس الآدمي بالموت فاللبن نجس كما في
الشاة وان قلنا بالمذهب ان الآدمي لا ينجس بالموت فهذا اللبن طاهر لأنه في إناء طاهر وقد
ذكر الروياني المسألة في آخر باب بيع الغرر والله أعلم: وأما البيضة ففيها ثلاثة أوجه حكاها
الماوردي والروياني والشاشي وآخرون أصحها وبه قطع المصنف والجمهور ان تصلبت فطاهرة
والا فنجسة: والثاني طاهرة مطلقا: والثالث نجسة مطلقا: وحكاه المتولي عن نص الشافعي وهذا نقل
غريب شاذ ضعيف قال صاحب الحاوي والبحر ولو وضعت هذه البيضة تحت طائر فصارت
فرخا كان الفرخ طاهرا على الأوجه كلها كسائر الحيوان ولا خلاف أن ظاهر هذه البيضة نجس
وأما البيضة الخارجة في حياة الدجاجة فهل يحكم بنجاسة ظاهرها فيه وجهان حكاهما الماوردي
والروياني والبغوي وغيرهم بناء على الوجهين في نجاسة رطوبة فرج المرأة وكذا الوجهان في الولد
الخارج في حال الحياة ذكرهما الماوردي والروياني: وأما إذا انفصل الولد حيا بعد موتها فعينه
طاهرة بلا خلاف ويجب غسل ظاهره بلا خلاف (1) وإذا استحالت البيضة المنفصلة دما فهل
هي نجسة أم طاهرة وجهان: ولو اختلطت صفرتها ببياضها فهي طاهرة بلا خلاف: وسنعيد المسألة
في باب إزالة النجاسة مبسوطة إن شاء الله تعالى: والدجاجة والدجاج بفتح الدال وكسرها لغتان والفتح أفصح
والله أعلم (فرع) قد ذكرنا أن اللبن في ضرع الميتة نجس هذا مذهبنا وهو قول مالك وأحمد
وقال أبو حنيفة هو طاهر واحتج له بأنه يلاقي نجاسة باطنية فكان طاهرا كاللبن من شاة حية
فإنه يخرج من بين فرث ودم قالوا ولان نجاسة الباطن لا حكم لها بدليل أن المني طاهر عندكم
ويخرج من مخرج البول واحتج أصحابنا بأنه ملاق لنجاسة فهو كلبن في إناء نجس: وأجابوا عن
قولهم أن اللبن يلاقي الفرث والدم بأنا لا نسلم الملاقاة لان الفرث في الكرش والدم في العروق
واللبن بينه وبينهما حجاب رقيق وأما قولهم نجاسة الباطن لا حكم لها فغير مسلم بل لها حكم إذا

(1) قوله ويجب غسل ظاهره بلا خلاف فيه نظر وينبغي أن يكون على الوجهين في حال الحياة فليت شعري ما الفرق ولعله أراد ولا يجب غسل ظاهره بلا خلاف وسقط في الكتابة في لفظه لا ولله اعلم اه‍ أذرعي
244

انفصل ما لاصقها ولهذا لو ابتلع جوزة وتقايأها صارت نجسة الظاهر وأما المنى فقال ابن الصباغ ان
سلمنا أن مخرجه مخرج البول فالفرق أنه عفى عنه لعموم البلوى به وتعذر الاحتراز عنه بخلاف
اللبن في الشاة الميتة: وأما مسألة البيض في دجاجة ميتة فقد ذكرنا فيها ثلاثة أوجه لأصحابنا وحكي
تنجيسها عن علي بن أبي طالب وابن مسعود ومالك رضي الله عنهم وطهارتها عن أبي حنيفة
والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(إذ ذبح حيوان يؤكل لم ينجس بالذبح شئ من أجزائه ويجوز الانتفاع بجلده
وشعره وعظمه ما لم يكن عليها نجاسة لأنه جزء طاهر من حيوان طاهر مأكول فجاز الانتفاع به
بعد الذكاة كاللحم *
(الشرح) هذا الذي ذكره متفق عليه وقوله من حيوان مأكول احتراز من أجزاء
غير المأكول فإنه لا يجوز الانتفاع بها بمجرد الذكاة * قال المصنف رحمه الله *
(وان ذبح حيوان لا يؤكل نجس بذبحه كما ينجس بموته لأنه ذبح لا يبيح أكل اللحم
فنجس به كما ينجس بالموت كذبح المجوسي) *
(الشرح) مذهبنا أنه لا يطهر بذبح ما لا يؤكل شعره ولا جلده ولا شئ من أجزائه وبه قال
مالك وأحمد وداود وقال أبو حنيفة يطهر جلده واختلف أصحابه في طهارة لحمه واتفقوا أنه لا يحل
أكله وحكي القاضي أبو الطيب وابن الصباغ عن مالك طهارة الجلد بالذكاة قال ابن الصباغ
الا جلد الخنزير فان مالكا وأبا حنيفة وافقا على نجاستهما واحتج لأبي حنيفة بما روى عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال دباغ الأديم ذكاته فشبه الدباغ بالذكاة والدباغ يطهره فكذا
الذكاة ولأنه جلد يطهر بالدباغ فطهر بالذكاة كالمأكول ولان ما طهر جلد المأكول طهر غيره
كالدباغ: واحتج أصحابنا بأشياء أحسنها ما ذكره المصنف وفيه كفاية فان قالوا هذا منتقض بذبح
الشاة المسمومة فإنه لا يبح أكلها ويفيد طهارتها: فالجواب أن أكلها كان مباحا وإنما امتنع
لعارض وهو السم حتى لو قدر على رفع السم بطريق أبيح الأكل: ودليل آخر وهو أن المقصود
245

الأصلي بالذبح أكل اللحم فإذا لم يبحه هذا الذبح فلان لا يبيح طهارة الجلد أولا: وأما الجواب
عما احتجوا به من حديث دباغ الأديم ذكاته فمن أوجه على تقدير صحته أحدها أنه عام في
المأكول وغيره فنخصه بالمأكول بدليل ما ذكرنا: والثاني أن المراد أن الدباغ يطهره:
الثالث ذكره القاضي أبو الطيب أن الأديم إنما يطلق على جلد الغنم خاصة وذلك يطهر بالذكاة
بالاجماع فلا حجة فيه للمختلف فيه والجواب عن قياسهم على الدباغ من وجهين أحدهما أن الدباغ
موضوع لإزالة نجاسة حصلت بالموت وليس كذلك الذكاة: فإنها تمنع عندهم حصول نجاسة:
والثاني ان الدباغ إحالة ولهذا لا يشترط فيه فعل بل لو وقع في المدبغة اندبغ بخلاف الذكاة فإنها
مبيحة فيشترط فيها فعل فاعل بصفة في حيوان بصفة والله أعلم *
(فرع) مذهبنا أنه لا يجوز ذبح الحيوان الذي لا يؤكل لاخذ جلده ولا ليصطاد على لحمه
النسور والعقبان ونحو ذلك وسواء في هذا الحمار الزمن والبغل المكسر وغيرهما وممن نص على
المسألة القاضي حسين ذكرها في تعليقه في باب بيع الكلاب قبيل كتاب السلم قال وقال أبو حنيفة
يجوز ذبحه لجلده وحكي غيره عن مالك روايتين أصحهما عنه جوازه والثانية تحريمه وهما مبنيتان
على تحريم لحمه عنده (فرع) اتخذ حوضا من جلد نجس ووضع فيه قلتين أو أكثر من الماء فالماء
طاهر والاناء نجس: وفي كيفية استعماله كلام سبق في موضعه: وإن كان دون قلتين فنجس ونظيره
لو ولغ كلب في إناء فيه ماء فإن كان قلتين فهو ماء طاهر في إناء نجس والا فهما نجسان قال
القاضي أبو الطيب في تعليقه ولا نظير لهاتين المسألتين والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ويكره استعمال أواني الذهب والفضة لما روى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما فإنها لهم في الدنيا ولكم
في الآخرة وهل يكره كراهة تنزيه أو تحريم: قولان قال في القديم كراهة تنزيه لأنه إنما نهى
عنه للسرف والخيلاء والتشبه بالأعاجم وهذا لا يوجب التحريم وقال في الجديد يكره كراهة
تحريم وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه
246

نار جهنم فتواعد عليه بالنار فدل على أنه محرم وان توضأ منه صح الوضوء لان المنع لا يختص
بالطهارة فأشبه الصلاة في الدار المغصوبة ولان الوضوء هو جريان الماء على الأعضاء وليس في
ذلك معصية وإنما المعصية في استعمال الظرف دون ما فيه فان أكل أو شرب منه لم يكن المأكول
والمشروب حراما لان المنع لأجل الظرف دون ما فيه: وأما اتخاذها ففيه وجهان أحدهما يجوز لان
الشرع ورد بتحريم الاستعمال دون الاتخاذ والثاني لا: وهو الأصح لان ما لا يجوز استعماله لا يجوز
اتخاذه كالطنبور والبربط وأما أواني البلور والفيروزج وما أشبههما من الأجناس المثمنة ففيه
قولان روى حرملة أنه لا يجوز لأنه أعظم في السرف من الذهب والفضة فهو بالتحريم
أولى وروى المزني أنه يجوز وهو الأصح لان السرف فيه غير ظاهر لأنه لا يعرفه
الا الخواص من الناس) *
(الشرح) قد جمع هذا الفصل جملا من الحديث في اللغة والأحكام ويحصل بيانها بمسائل
إحداها حديث حذيفة في الصحيفين لكن لفظه فيهما لا تشربوا في آنية الذهب والفضة الخ
فذكر فيه الذهب والفضة ووقع في أكثر نسخ المهذب الفضة فقط: وفي بعضها الذهب والفضة
وأما الصحاف فجمع صحفة كقصعة وقصاع والصحفة دون القصعة قال الكسائي القصعة ما تسع
ما يشبع عشرة والصحفة ما يشبع خمسة: وأما راويه فهو أبو عبد الله حذيفة ابن اليمان واليمان لقب
واسمه حسيل بضم الحاء وفتح السين المهملتين وآخره لام ويقال حسل بكسر الحاء واسكان السين
واليمان صحابي شهد هو وابنه حذيفة أحدا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المسلمون يومئذ
اليمان رضي الله عنه خطأ وكان حذيفة من فضلاء الصحابة والخصيصين برسول الله صلى الله عليه
وسلم توفى بالمدائن سنة ستة وثلاثين بعد وفاة عثمان بأربعين ليلة وأما قوله الذي يشرب في آنية
الفضة إنما يجرجر فهو حديث صحيح رواه البخاري ومسلم من رواية أم سلمة رضي الله عنها ولفظه
فيهما الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم وفي رواية لمسلم أن الذي
يأكل ويشرب في آنية الفضة والذهب وفي رواية له من شرب في إناء من ذهب أو فضة
247

فإنما يجرجر في بطنه نارا من جهنم قوله صلى الله عليه وسلم يجرجر بكسر الجيم الثانية بلا خلاف
ونارا بالنصب على المشهور الذي جزم به المحققون وروى بالرفع على أن النار فاعلة والصحيح الأول وهو
الذي اختارها الزجاج والخطابي والأكثرون ولم يذكر الأزهري وآخرون غيره ويؤيده رواية مسلم نارا
من جهنم ورويناه في مسند أبي عوانه وفي الجعديات من رواية عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله
عليه وسلم الذي يشرب في الفضة إنما يجرجر في جوفه نارا كذا هو في الأصول نارا بالألف من غير
ذكر جهنم: وأما معناه فعلى رواية النصب الفاعل هو الشارب مضمر في يجرجر أي يلقيها في بطنه بجرع
متتابع يسمع له صوت لتردده في حلقه وعلى رواية الرفع تكون النار فاعلة: معناه ان النار تصوت في
جوفه وسمي المشروب نارا لأنه يؤول إليها كما قال الله تعالى (ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما
إنما يأكلون في بطونهم نارا وأما جهنم عافانا الله منها ومن كل بلاء وسائر المسلمين فقال الواحدي
قال يونس وأكثر النحويين هي عجمية لا تنصرف للتعريف والعجمة وقال آخرون هي عربية
لا تنصرف للتأنيث والتعريف وسميت بذلك لبعد قعرها يقال بئر جهنام إذا كانت عميقة القعر وقال
بعض اللغويين مشتقة من الجهومة وهي الغلظ سميت به لغلظ أمرها في العذاب: المسألة الثانية في لغات
الفصل سبق منها ما يتعلق بالحديثين: وأما السرف فقال أهل اللغة هو مجاوزة الحد قال الأزهري هو
مجاوزة القدر المحدود لمثله: وأما الخيلاء فبضم الحاء والمد من الاختيال قال الواحدي الاختيال مأخوذ
من التخيل وهو التشبه بالشئ فالمختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه تكبرا * وقوله والتشبه بالأعاجم
يعني بهم الفرس من المجوس وغيرهم وكان هذا غالبا في الأكاسرة: وأما الطنبور فبضم الطاء والباء
والبربط بفتح البائين الموحدتين وهو العود والأوتار وهو فارسي ومعناه بالفارسية صدر البط وعنقه
لان صورته تشبه ذلك قال الإمام أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي في كتابه
المعرب هو معرب وتكلمت به العرب قديما وهو من ملاهي العجم قال الجواليقي والطنبور معرب
وقد استعمل في لفظ العرب قال والطنبار لغة فيه وأما الفيروزج فبفتح الفاء وضم الراء وفتح الزاي
والبلور بكسر الباء وفتح اللام هذا هو المشهور ويقال بفتح الباء وضم اللام وممن حكي عنه هذا
الثاني أبو القاسم الحريري وهاتان اللفظتان أيضا عجميتان والله أعلم: المسألة الثالثة: في أحكام
الفصل فاستعمال الاناء من ذهب أو فضة حرام على المذهب الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور
248

وحكى المصنف وآخرون من العراقيين والقاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي قولا قديما انه
يكره كراهة تنزيه ولا يحرم: وأنكر أكثر الخراسانيين هذا القول وتأوله بعضهم على أنه أراد
أن المشروب في نفسه ليس حراما وذكر صاحب التقريب أن سياق كلام الشافعي في القديم يدل
على أنه أراد أن عين الذهب والفضة الذي اتخذ منه الاناء ليست محرمة ولهذا لم يحرم الحلي على
المرأة ومن أثبت القديم فهو معترف بضعفه في النقل والدليل: ويكفى في ضعفه منابذته للأحاديث
الصحيحة كحديث أم سلمة و أشباهه وقولهم في تعليله إنما نهى عنه للسرف والخيلاء وهذا
لا يوجب التحريم ليس بصحيح بل هو موجب للتحريم وكم من دليل على تحريم الخيلاء قال
القاضي أبو الطيب هذا الذي ذكروه للقديم موجب للتحريم كما أوجب تحريم الحرير والمعنى فيهما
واحد: واعلم أن هذا القديم لا تفريع عليه وما ذكره الأصحاب ونذكره تفريع على الجديد
وحكي أصحابنا عن داود أنه قال إنما يحرم الشرب دون الأكل والطهارة وغيرهما وهذا الذي
قاله غلط فاحش ففي حديث حذيفة وأم سلمة من رواية مسلم التصريح بالنهي عن الأكل والشرب
كما سبق وهذان نصان في تحريم الأكل واجماع من قبل داود حجة عليه قال أصحابنا
249

أجمعت الأمة على تحريم الأكل والشرب وغيرهما من الاستعمال في إناء ذهب أو فضة الا ما حكي
عن داود والا قول الشافعي في القديم ولأنه إذا حرم الشرب فالاكل أولى لأنه أطول مدة
وأبلغ في السرف وأما قوله صلى الله عليه وسلم الذي يشرب في آنية الفضة ولم يذكر الأكل
فجوابه من أوجه أحدها أنه مذكور في رواية مسلم كما سبق: والثاني ان الأكل مذكور في رواية
حذيفة وليس في هذا الحديث معارضة له: الثالث ان النهي عن الشرب تنبيه على الاستعمال (1)
في كل شئ لأنه في معناه كما قال الله تعالى (لا تأكلوا الربا) وجميع أنواع الاستيلاء في معنى الأكل
بالاجماع وإنما نبه به لكونه الغالب والله أعلم. الرابعة قال أصحابنا وغيرهم من العلماء يستوي
في تحريم استعمال اناء الذهب والفضة الرجال والنساء وهذا لا خلاف فيه لعموم الحديث وشمول
المعني الذي حرم بسببه وإنما فرق بين الرجال والنساء في التحلي لما يقصد فيهن من غرض الزينة
للأزواج والتجمل لهم. الخامسة قال أصحابنا يستوي في التحريم جميع أنواع الاستعمال من الأكل والشرب
والوضوء والغسل والبول في الاناء والأكل بملعقة الفضة والتجمر بمجمرة فضة إذا
احتوى عليها قالوا ولا بأس إذا لم يحتو عليها وجاءته الرائحة من بعيد (2) وينبغي أن يكون بعدها
بحيث لا ينسب إليه أنه متطيب بها وتحرم المكحلة: وظرف الغالية وان صغر على الصحيح الذي
قطع به الجمهور: وحكي امام الحرمين عن والده أبي محمد ترددا في جواز ذلك إذا كان من فضة

(1) ويحرم على الولي اطعام الطفل وتمكينه من استعماله اه‍ من هامش الأذرعي
(2) يعني لا بأس بأن تأتيه الرائحة منها من بعد أما لو وضع فيها النار
والبخور ثم تباعد منها حرم عليه ذلك الموضع بلا شك اه‍ أذرعي
250

قال الامام والوجه القطع بتحريمه وأطلق الغزالي خلافا في استعمال الاناء الصغير كالمكحلة ولم يخصه
بالفضة وكلامه محمول على ما ذكره شيخه وهو التخصيص بالفضة: ويحرم تزيين الحوانيت والبيوت
والمجالس بأواني الذهب والفضة على المذهب الصحيح المشهور: وحكي امام الحرمين أن شيخه حكي
فيه وجهين قال الامام والوجه القطع بالتحريم للسرف: واتفقوا على تحريم استعمال ماء الورد من
قارورة الفضة قال القاضي حسين في تعليقه والحيلة في استعماله منها أن يصبه في يده اليسرى ثم
يصبه من اليسرى في اليمنى ويستعمله فلا يحرم: وكذا قال البغوي في فتاويه لو توضأ من إناء
فضة فصب الماء على يده ثم صبه منها على محل الطهارة جاز قال وكذا لو صب الماء في يده ثم
شربه منها جاز فلو صب الماء على العضو الذي يريد غسله فهو حرام لأنه استعمال (1) وذكر صاحب
الحاوي نحو هذا فقال من أراد التوقي عن المعصية في الأكل من إناء الذهب والفضة فليخرج
الطعام إلى محل آخر ثم يأكل من ذلك المحل فلا يعصي قال وفعل مثل هذا الحسن البصري
وحكي القاضي حسين مثله عن شيخه القفال المروزي ودليله ظاهر لان فعله هذا ترك للمعصية
فلا يكون حراما كمن توسط أرضا مغصوبة فإنه يؤمر بالخروج بنية التوبة ويكون في خروجه مطيعا
لا عاصيا والله أعلم * السادسة لو توضأ أو اغتسل من إناء الذهب صح وضوءه وغسله بلا خلاف
نص عليه الشافعي رحمه الله في الأم واتفق الأصحاب عليه ودليله ما ذكره المصنف وقوله كالصلاة
في الدار المغصوبة هكذا عادة أصحابنا يقيسون ما كان من هذا القبيل على الصلاة في الدار
المغصوبة وسبب ذلك انهم نقلوا الاجماع على صحة الصلاة في الدار المغصوبة قبل مخالفة احمد
رحمه الله ومثل هذا لو توضأ أو تيمم بماء أو تراب مغصوب أو ذبح بسكين مغصوب أو أقام الامام
الحد بسوط مغصوب صح الوضوء والتيمم والذبح والحد ويأثم والله أعلم * وأما قول المصنف
ولان الوضوء هو جريان الماء على الأعضاء ففيه تصريح منه بما اتفق عليه الأصحاب من أنه
لا يصح الوضوء حتى يجرى الماء على العضو وانه لا يكفي امساسه والبلل وستأتي المسألة مبسوطة

(1) وتركه الماء في الاناء حتى يكمل طهارته عضوا عضوا استعمال له
لأنه جعله ظرفا لمائه وطريق الخلاص ان يصبه دفعة واحدة في إناء
مباح ثم يتوضأ حينئذ والله أعلم اه‍ أذرعي
251

في باب صفة الوضوء إن شاء الله تعالى: وبهذا الذي ذكرناه من صحة الوضوء من إناء الذهب
والفضة قال مالك وأبو حنيفة وجماهير العلماء وقال داود (1) لا يصح: السابعة إذا أكل أو شرب
من إناء الفضة أو الذهب عصى بالفعل ولا يكون المأكول والمشروب حراما نص عليه الشافعي
في الأم واتفق الأصحاب عليه ودليله ما ذكره المصنف والله أعلم: الثامنة هل يجوز اتخاذ الاناء
من ذهب أو فضة وادخاره من غير استعمال فيه خلاف حكاه المصنف هنا وفي التنبيه والماوردي
والقاضي أبو الطيب والأكثرون وجهين وحكاه الشيخ أبو حامد والمحاملي في كتابيه المجموع
والتجريد والبندنيجي وصاحب العدة والشيخ نصر المقدسي قولين (2) وذكر صاحبا الشامل والبحر
وصاحب البيان أن أصحابنا اختلفوا في حكايته فبعضهم حكاه قولين وبعضهم وجهين واتفقوا
على أن الصحيح تحريم الاتخاذ وقطع به بعضهم وهو مذهب مالك وجمهور العلماء لان ما لا يجوز
استعماله لا يجوز اتخاذه كالطنبور ولان اتخاذه يؤدى إلى استعماله فحرم كامساك الخمر قالوا ولان المنع
من الاستعمال لما فيه من السرف والخيلاء وذلك موجود في الاتخاذ وبهذا يحصل الجواب عن
قول القائل الآخر أن الشرع ورد بتحريم الاستعمال دون الاتخاذ فيقال عقلنا العلة في تحريم
الاستعمال وهي السرف والخيلاء وهي موجودة في الاتخاذ والله أعلم: قال أصحابنا ولو صنع
الاناء صانع أو كسره كاسر فان قلنا يجوز اتخاذه وجب للصانع الأجرة وعلى الكاسر الأرش
وإلا فلا. التاسعة هل يجوز استعمال الأواني من الجواهر النفيسة كالياقوت والفيروزج
والعقيق والزمرذ وهو بالذال المعجمة: وفتح الراء وضمها والزبرجد وهو بالدال المهملة
والبلور وأشباهها فيه قولان أصحهما باتفاق الأصحاب الجواز وهو نصه في الأم ومختصر
المزني وبه قال مالك ودليل القولين مذكور في الكتاب: وإذا قلنا بالأصح أنه لا يحرم
فهو مكروه ولو اتخذ اناء من هذه الجواهر النفيسة ولم يستعمله قال المحاملي ان قلنا يجوز استعماله
فالاتخاذ أولى: والا فكاتخاذ اناء ذهب أو فضة في جميع الأحكام قال أصحابنا وما كانت نفاسته

(1) هذا النقل عن داود مخالف لما قدمه عنه انه إنما يحرم الشرب فقط اه‍ أذرعي
(2) قال ابن الرفعة هو الصحيح ثم نقلهما عن النص في موضعين في كلام الشافعي ذكره في المطلب انتهى أذرعي
252

بسبب الصنعة (1) لا لجوهره كالزجاج المخروط وغيره لا يحرم بلا خلاف هكذا صرحوا في جميع
الطرق بأنه لا خلاف فيه وأشار صاحب البيان إلى وجه في تحريمه وهو غلط والصواب من حيث
المذهب والدليل الجزم بإباحته: ونقل صاحب الشامل الاجماع على ذلك * قال أصحابنا وكذا لو اتخذ
لخاتمه فصا من جوهرة مثمنه فهو مباح بلا خلاف * قال أصحابنا وكذا لا يكره لبس الكتان
النفيس والصوف ونحوه قال صاحب الحاوي والبحر الاناء المتخذ من طيب رفيع كالكافور المرتفع
والمصاعد والمعجون من مسك وعنبر يخرج فيه وجهان أحدهما يحرم استعماله لحصول السرف
والثاني لا لعدم معرفة أكثر الناس له قالا وأما غير المرتفع كالصندل والمسك فاستعماله جائز قطعا
(فرع) قد ذكر المصنف أن البلور كالياقوت وأن في جواز استعماله القولين وقد علق في ذهن
كثير من المبتدئين وشبههم أن المصنف خالف الأصحاب في هذا وانهم قطعوا بجواز استعمال اناء
البلور لأنه كالزجاج وهذا الذي علق بأذهانهم وهم فاسد بل صرح الجمهور بجريان القولين
في البلور وممن صرح بذلك شيخ الأصحاب الشيخ أبو حامد في تعليقه وأبو علي البندنيجي
في المجموع والتجريد والقاضي أبو الطيب وصاحب الشامل وأبو العباس الجرجاني في
كتابيه التحرير والبلغة والشيخ نصر المقدسي وصاحب البيان وآخرون من العراقيين والقاضي
حسين وصاحب الإبانة والغزالي في الوجيز وصاحب التتمة والتهذيب والروياني في كتابيه البحر
والحلية وصاحب العدة وآخرون من الخراسانيين وإنما خالفهم صاحب الحاوي فقطع بجوازه وقال
امام الحرمين الحق شيخي البلور بالزجاج وألحقه الصيدلاني والعراقيون بالجواهر النفيسة فيكون على
القولين فحصل أن الجمهور من أصحابنا في الطريقتين على طرد القولين في البلور ولم يخالف فيه
الا صاحب الحاوي والشيخ أبو محمد والله أعلم (فرع) إذا باع اناء ذهب أو فضة قال القاضي
أبو الطيب البيع صحيح لان المقصود عين يصح (2) بيعها هكذا أطلق القاضي هنا ونقل أبو علي
البندنيجي في جامعه هنا اتفاق الأصحاب عليه وينبغي أن يبنى على الاتخاذ فان جوزناه صح
البيع وان حرمناه كان حكمه حكم ما إذا باع جارية مغنية تساوى ألفا بلا غناء وألفين بسبب الغناء

(1) صرح صاحب البيان في زوائده بحكاية لوجهين فيما نفاسته في الصنعة عن صاحب الفروع وقال الصحيح الجواز والله أعلم اه‍ أذرعي
(1) قلت قد أشار إليه في الأم حيث قال ولو كانت نجسا لم يحل بيعها ولا شرائها ذكره في حل أكلها ما فيها اه‍ أذرعي
253

وذكرها امام الحرمين في أواخر كتاب الصداق في فروع تتعلق به: قال قال الشيخ أبو علي أن
باعها بألف صح وان باعها بألفين فثلاثة أوجه أحدها لا يصح البيع قاله أبو بكر المحمودي لئلا
يصير الغناء مقابلا بمال: والثاني ان قصد المشترى بالمغالاة في ثمنها غنائها لم يصح البيع وإن لم
يقصده صح قاله الشيخ أبو زيد: والثالث يصح بكل حال ولا يختلف الحكم بالمقصود
والأغراض قاله أبو بكر الاودني قال الامام وهذا هو القياس السديد والله أعلم (فرع) إذا خلل
رجل أو امرأة أسنانه أو شعره بخلال فضة أو اكتحلا بميل فضة فهو حرام كما سبق في المكحلة * قال
المصنف رحمه الله *
(واما المضبب بالذهب فإنه يحرم قليله وكثيره لقوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والحرير ان
هذين حرام على ذكور أمتي حل لإناثها فان اضطر إليه جاز لما روى أن عرفجة بن أسعد أصيب
انفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من ورق فأنتن عليه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم ان يتخذ أنفا من ذهب)
(الشرح) اما الحديث الأول فحديث صحيح رواه الترمذي من رواية أبي موسى
الأشعري رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حرم لباس الحرير والذهب على
ذكور أمتي وأحل لإناثهم قال الترمذي حديث حسن صحيح ورواه أبو داود والنسائي وغيرهما
من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه باسناد حسن وليس في رواية أبي داود
والنسائي حل لإناثها ووقع في رواية لغيرهما ورواه البيهقي وغيره من رواية عقبة بن عامر بلفظه
في المهذب والله أعلم: وأما حديث عرفجة فحديث حسن أيضا رواه أبو داود والترمذي والنسائي
وغيرهم باسناد جيد قال الترمذي وغيره هو حديث حسن وينكر على المصنف قوله روى بصيغة
تمريض في حديث حسن وقد تقدم وقد ذكرنا التنبيه على هذا في مقدمة الكتاب وبعدها وراوي
حديث عرفجة هذا هو عرفجة رضي الله عنه وأما قوله صلى عليه وسلم ان هذين حرام أي
254

حرام استعمالهما في التحلي ونحوه والحل بكسر الحاء هو الحلال ويوم الكلاب هو بضم الكاف
وتخفيف اللام وهو يوم معروف من أيام الجاهلية كانت لهم فيه وقعة مشهورة والكلاب اسم لماء
من مياه العرب كانت عنده الوقعة فسمي ذلك اليوم يوم الكلاب وقيل كان عنده وقعتان
مشهورتان يقال فيهما الكلاب الأول والكلاب الثاني وقوله من ورق هو بكسر الراء وهو
الفضة وهذا لا خلاف فيه ممن صرح به ابن قتيبة ثم الخطابي وخلائق لا يحصون
كلهم مصرحون بأنه ورق بكسر الراء ويوضحه انه في رواية النسائي اتخذ أنفا من فضة وكذا
رواه الشافعي في الأم في باب ما يوصل بالرجل والمرأة من أبواب الطهارة وكذا رواه المصنف
في المهذب في باب ما يكره لبسه واعلم أن كل ما كان على فعل مفتوح الأول مكسور الثاني جاز
اسكان ثانيه مع فتح أوله وكسره فيصير فيه ثلاثة أوجه كورق وورق وكتف وكتف وكتف
وورك وورك وورك وأشباهه فإن كان الحرف الثاني أو الثالث حرف حلق جاز فيه أربعة أوجه
الثلاثة المذكورة والرابع بكسر أوله وثانيه كفخذ وفخذ وفخذ وحروف الحلق العين والغين
والخاء والخاء والهاء والهمزة وهذا إنما أذكره وإن كان ظاهرا لكثرة تكرره في هذا الكتاب
وغيره فقد يتكلم به انسان على بعض الأوجه الجائزة فيغلطه فيه من لا يعرف هذه القاعدة وقد
رأيت ذلك وبالله التوفيق: وأما عرفجة الراوي فهو بفتح العين المهملة واسعد بفتح الهمزة والعين
وهو عرفجة بن أسعد بن كرب بن صفوان التميمي العطاردي رضي الله عنه: أما أحكام المسألة
فاعلم أن المضبب هو ما أصابه شق ونحوه فيوضع عليه صفيحة تضمه وتحفظه وتوسع الفقهاء في اطلاق
الضبة على ما كان للزينة بلا شق ونحوه ثم المضبب بالذهب فيه طريقان الصحيح منهما القطع بتحريمه سواء
255

كثرت الضبطة أو قلت لحاجة أو لزينة وبهذا قطع المصنف وصاحب الحاوي والجرجاني في
كتابيه والشيخ نصر في كتابه الكافي والعبد ري في الكفاية وغيرهم من العراقيين ونقله
البغوي عن العراقيين والطريق الثاني وقاله الخراسانيون أنه كالمضبب بالفضة على الخلاف
والتفصيل المذكور فيه ونقله الرافعي عن معظم الأصحاب لأنه لما استويا في الاناء فكذا في الضبة
والمختار الطريق الأول للحديث فإنه يقتضي تحريم الذهب مطلقا وأما ضبة الفضة فإنما أبيحت
لحديث قبيعة السيف وضبة القدح وغير ذلك ولان باب الفضة أوسع فإنه يباح منه الخاتم وغيره
والله أعلم. وأما قول المصنف ان اضطر إلى الذهب جاز استعماله فمتفق عليه قال أصحابنا فيباح
له الانف والسن من الذهب ومن الفضة وكذا شد السن العليلة بذهب وفضة جائز ويباح
أيضا الأنملة منهما وفي جواز الإصبع واليد منهما وجهان حكاهما المتولي أحدهما يجوز كالأنملة
وبه قطع القاضي حسين في تعليقه وأشهرهما لا يجوز وبه قطع الفوراني والروياني وصاحبا
العدة والبيان لان الإصبع واليد منهما لا تعمل عمل الأصلية بخلاف الأنملة والله أعلم *
قال المصنف رحمه الله *
(وأما المضبب بالفضة فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال إن كان قليلا للحاجة لم يكره
لما روى أنس رضي الله عنه أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشفة سلسلة
من فضة وإن كان للزينة كره لأنه غير محتاج إليه ولا يحرم لما روى أنس قال كان نعل سيف
رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة وقبيعة سيفه فضة وما بين ذلك حلق الفضة وإن كان
كثيرا للحاجة كره لكثرته ولم يحرم للحاجة وإن كان كثيرا للزينة حرم لقول ابن عمر لا يتوضأ
ولا يشرب من قدح فيه حلقة من فضة أو ضبة من فضة وعن عائشة رضي الله عنها أنها نهت
أن تضبب الأقداح بالفضة ومن أصحابنا من قال يحرم في موضع الشرب لأنه يقع الاستعمال به
ولا يحرم فيما سواه لأنه لا يقع به الاستعمال ومنهم من قال يكره ولا يحرم لحديث أنس في سيف
رسول الله صلى الله عليه وسلم) *
(الشرح) قد جمعت هذه القطعة جملا من الأحاديث واللغات والأحكام يحصل بيانها
256

بمسألتين أحداهما حديث القدح صحيح رواه البخاري إلا أنه وقع في المهذب فاتخذ مكان الشفة
وهو تصحيف والصواب ما في صحيح البخاري وغيره فاتخذ مكان الشعب بفتح الشين المعجمة
واسكان العين وبعدها باء موحدة والمراد بالشعب الشق والصدع: وقوله انكسر معناه انشق
كما جاء في رواية انصدع والمراد أنه شد الشق بخيط فضة فصارت صورته صورة سلسلة وفي رواية
للبخاري فسلسله بفضة قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله وقوله فاتخذ يوهم أن النبي صلى الله
عليه وسلم هو المتخذ وليس كذلك بل أنس هو المتخذ ففي رواية قال أنس فجعلت مكان الشعب
سلسلة وهذا الذي قاله أبو عمرو قد أشار إليه البيهقي وغيره وفي رواية للبخاري عن عاصم الأحوال
قال رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند أنس بن مالك فكان قد انصدع فسلسله بفضة وقد
أوضحت ذلك مع طرق الحديث في جامع السنة والله أعلم: وأما الحديث الآخر فحسن روى
أبو داود والترمذي منه كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة قال الترمذي
هو حديث حسن: وروى محمد بن سعد كاتب الواقدي في الطبقات القدر المذكور في المهذب
كله بالطريق الذي رواه منه أبو داود والترمذي فجميع الحديث على شرط أبي داود والترمذي
فهو حديث حسن
والقبيعة بفتح القاف وكسر الباء الموحدة وهي التي تكون على رأس قائم السيف
وطرف مقبضه والحلق بفتح الحاء وكسرها لغتان مشهورتان واللام فيهما مفتوحة جمع حلقة باسكان
اللام وحكى الجوهري فتحها أيضا في لغة رديئة والمشهور اسكانها وفعل السيف ما يكون في أسفل
غمده من حديد أو فضة ونحوهما: وأما الأثر عن ابن عمر رضي الله عنها فصحيح رواه البيهقي
وغيره باسناد صحيح لكن لفظه كان ابن عمر لا يشرب في قدح فيه حلقة فضة ولا ضبة فضة:
وأما الأثر عن عائشة رضي الله عنها فحسن رواه الطبراني والبيهقي بمعناه والله أعلم
وأما أنس
فهو أبو حمزة أنس بن مالك بن النضر الأنصاري النجاري بالنون والجيم المدني ثم البصري خدم
النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين وتوفى بالبصرة ودفن بها سنة ثلاث وتسعين وهو ابن مائة
257

وثلاث سنين وكان أكثر الصحابة أولادا لدعاء رسول الله صلى الله عليه له بكثرة المال والولد والبركة
وهو من أكثر الصحابة رواية
وأما ابن عمر فهو أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب بن
نفيل القرشي العدوي أسلم مع أبيه بمكة قديما شهد الخندق وهو ابن خمس عشر سنة وما بعده من
المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى بمكة سنة ثلاث وسبعين وهو ابن ثلاث وثمانين
وقيل أربع ومناقب بن عمر وأنس مشهورة ذكرت جملا منها في تهذيب الأسماء وبالله
التوفيق: المسألة الثانية في الأحكام قال الشافعي (1) رحمه الله في المختصر وأكره المضبب بالفضة لئلا
يكون شاربا على فضة وللأصحاب في المسألة أربعة أوجه حكي المصنف ثلاثة بدلائلها أحدها إن كان
قليلا للحاجة لم يكره وإن كان للزينة كره وإن كان كثيرا للزينة حرم وإن كان للحاجة كره: والوجه
الثاني إن كان في موضع الاستعمال كموضع فم الشارب حرم وإلا فلا: والثالث يكره ولا يحرم بحال:
والرابع حكاه الشيخ أبو محمد الجويني يحرم بكل حال لما ذكرناه عن ابن عمرو عائشة رضي الله
عنهم وأصح هذه الأوجه الأول وهو الأشهر عند العراقيين (2) وقطع به كثيرون منهم أو أكثرهم
وصححه الباقون منهم ممن قطع به الشيخ أبو حامد والمحاملي والماوردي والشيخ نصر المقدسي
ونقله القاضي أبو الطيب عن الداركي ومتأخري الأصحاب قال وحملوا نص الشافعي عليه والوجه
الثاني هو قول أبي إسحاق المروزي حكاه عنه القاضي أبو الطيب والقائل لا يحرم بحال هو أبو علي الطبري
وغيره كذا قاله القاضي أبو الطيب وعلى هذا الوجه الأول وهو الصحيح المختار ذكرنا أن القليل للزينة
يكره وحكي الخراسانيون وجها على هذا انه يحرم وحكي الماوردي وجها انه لا يكره
(فرع) في بيان الحاجة
والقلة في قولهم إن كان قليلا للحاجة أما الحاجة فقال الأصحاب المراد بها غرض يتعلق بالتضبيب سوى الزينة
كاصلاح موضع الكسر ونحوه ولا يتجاوز به موضع الكسر الا بقدر ما يستمسك به قال أصحابنا ولا
يشترط العجز عن التضبيب بنحاس وحديد وغيرهما هكذا صرح به ابن الصباغ والمتولي والغزالي والروياني
وصاحب البيان وغيرهم (3) وذكر امام الحرمين احتمالين لنفسه أحدهما هذا والثاني (4) معناها ان
يعدم ما يصبب به غير الذهب والفضة: وأما ضبط القليل والكثير ففيه ثلاثة أوجه أحدها وهو

(1) لفظ الشافعي في المختصر وأكره المضبب بالفضة لئلا يكون شاربا على فضة وظاهره
التحريم لأنه عطفه على كراهته أواني الذهب والفضة فان حمل على التنزيه فيكون الكراهة
مطلقا ظاهر النص قال ابن الصباغ ولم ذكر مسألة التضبيب في الأم وهذا
التفصيل حيد عن النص وحمل النص عليه تعسف اه‍ أذرعي
(2) قال الصيمري في شرحه لكفايته فاما المضبب بالفضة والذهب فإن كان تضبيب زينة فاستعمال حرام
وإن كان يسيرا كحلقة أو زردة أو اصلاح شق فيه فلا بأس كان لعمر بن الخطاب رضي الله عنه
قصعة فيها حلقة فضة اه‍ لفظ وهو من العراقيين وقد جمع بين ضبة الذهب والفضة اه‍ أذرعي
(3) قال ابن الرفعة ضني انهم تبعوا أبو الصباغ فان يتبعونه كثيرا بل صاحب التتمة؟ في الذهب وينسبها إلى العراقيين وقد استقريت ذلك اه‍ أذرعي
(4) هذا الثاني ذكره الغزالي مع الأول في البسيط وهو ضعيف لان
العجز يبيح إناء الذهب وهو ضعيف لان العجز يبيح إناء الذهب اه‍ أذرعي
258

المشهور (1) في طريقتي العراق وخراسان ان الكثير هو الذي يستوعب جزء من اجزاء الاناء بكماله
كأعلاه أو أسفله أو شفته أو عروته أو شبه ذلك والقليل ما دونه وبهذا قطع الفوراني والمتولي
والبغوي وصاحبا العدة والبيان وغيرهم واستدل له الإمام أبو الحسن الكيا الهراسي صاحب امام
الحرمين في كتابه زوايا المسائل بأنه إذا استوعبت الفطة جزءا كاملا خرج عن أن يكون تابعا
للإناء وخرج الاناء عن أن يكون اناء نحاس أو حديد مثلا بل يقال إناء مركب من نحاس وفضة
لكون جزء من أجزائه المقصودة بكماله فضة بخلاف ما ذا لم يستوعب جزئا بكماله فإنه يقع مغمورا
تابعا ولا يعد الاناء بسببه مركبا من فضة نحاس وهذا استدلال حسن: والوجه الثاني ان الرجوع
في القلة والكثرة إلى العرف قاله الروياني وحكاه الرافعي وأشار إلى اختياره واستحسانه ودليله ان ما أطلق
ولم يحد رجع في ضبطه إلى العرف كالقبض في البيع والحرز في السرقة واحياء الموات نظائرها:
والثالث وهو اختيار امام الحرمين والغزالي ومن تابعهما ان الكثير ما يلمع للناظر على بعد والقليل ما لا يلمع
ومرادهم ما لا يخرج عن الاعتدال والعادة في رقته وغلظه وأنكر امام الحرمين الوجه الأول وضعفه ثم اختار
هذا الثالث وهذا الذي اختاره فيه ضعف والمختار الرجوع إلى العرف والوجه المشهور حسن متجه أيضا ومتى
شككنا في الكثرة فالأصل الإباحة والله أعلم
(فرع) إذا ضبب الاناء تضبيبا جائزا فله استعماله
مع وجود غيره من الآنية التي لا فضة فيها وهذا لا خلاف فيه صرح به امام الحرمين وغيره
(فروع تتعلق بالفصلين السابقين في الأواني) أحدها قال أصحابنا لو شرب بكفيه وفي أصبعه
خاتم فضة لم يكره وكذا لو صب الدراهم في إناء وشرب منه أو كان في فمه دنانير أو دراهم فشرب
لم يكره ولو أثبت الدراهم في الاناء بمسامير للزينة قال المتولي والروياني وصاحب العدة هو كالضبة
للزينة وقطع القاضي حسين بجوازه: الثاني لو اتخذ اناء من ذهب أو فضة وطلاه بنحاس داخله
وخارجه فوجهان مشهوران في تعليق القاضي حسين والتتمة والتهذيب والعدة والبيان وغيرها
أصحهما لا يحرم (2) فالواو هما مبنيان على أن الذهب والفضة حرام لعينهما أم للخيلاء ان قلنا لعينهما حرم

(1) قوله المشهور في طريقتي العراق وخراسان فيه نظر فان الغزالي حكاه
في البسيط عن بعض المصنفين وظن أنه تبع الامام في هذه العبارة وعن بيان الفوراني قال فيه نطر قال والوجه
أن يقال اما يلوح للناظر على بعد هو الكثير هذا لفظه اه‍ أذرعي
(2) هذا الصحيح ممنوع بل الصحيح التحريم لأنه اناء ذهب أو فضة حقيقة فهو داخل
في النصوص الدال على تحريم أواني الذهب والفضة لعينها وترجيح التحريم
هو ما اقتضاه كلام الرافعي وغيره والبناء الذي ذكره هنا يقتضيه أيضا اه‍ أذرعي
259

وإلا فلا وقال امام الحرمين ان غشى ظاهره ففيه الوجهان وان غشي ظاهره وداخله فالذي أراه
القطع بجواز استعماله لأنه اناء نحاس ادرج فيه ذهب مستتر وبهذا الذي قاله الامام جزم الغزالي
في البسيط وقال لا خلاف فيه ولو اتخذ اناء من نحاس وموهه بذهب أو فضة قال امام الحرمين
والغزالي في البسيط والرافعي وغيرهم إن كان يتجمع منه شئ بالنار حرم استعماله والا فوجهان
بناء على المعنيين والأصح لا يحرم قاله في الوسيط والوجيز وأطلق القاضي حسين والبغوي والمتولي
وصاحبا العدة والبيان الوجهين ولم يفرقوا بين المستهلك وما يتجمع منه شئ والصواب حمل
كلامهم على المستهلك كما صرح به امام الحرمين وتابعوه وقد جزم الماوردي والجرجاني بأنه إذا
غشى جميعه بالفضة حرم استعماله والله أعلم: الثالث لو كان له قدح عليه سلسلة فضة قطع القاضي
حسين وصاحباه المتولي والبغوي وصاحب العدة بجوازه وزاد المتولي والبغوي فقالا لو اتخذ لا نائه
حلقة أو سلسلة فضة أو رأسا جاز لأنه منفصل عن الاناء لا يستعمله (1) هذا كلام هؤلاء الأئمة
وينبغي أن يجعل كالتضبيب ويجئ فيه التفصيل والخلاف: الرابع إذا قلنا بطريقة الخراسانيين
ان المضبب بذهب كالمضبب بفضة فهل يسوى بينهما في التفصيل في الصغر والكبر على ما سبق
قال الرافعي لم يتعرض الأكثرون لذلك وعن الشيخ أبي محمد انه ينبغي أن لا يسوى لان الخيلاء
في قليل الذهب كالخيلاء في كثير الفضة وأقرب ضابط له ان تعتبر قيمة ضبة الذهب إذا قومت
بفضة قال الرافعي وقياس الباب أن لا فرق وهذا الذي قاله الرافعي هو الصحيح لان مأخذ المسألة

(1) قوله لا يستعمله قال الرافعي بل هو مستعمل بحسبه تبعا للإناء ولو سلم فينبغي ان
يخرج على الخلاف في الاتخاذ قال ويجوز أن يوجه التجويز بالمضبب أو يجعل كالمكحلة ونحوها اه‍ أذرعي
260

ان بعض الاناء كالإناء أم لا والله أعلم *
الخامس لو اضطر إلى استعمال اناء ولم يجد الا ذهبا أو فضة جاز استعماله حال الضرورة
صرح به امام الحرمين والغزالي وجماعات والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في المضبب بالفضة قد ذكرنا تفصيل مذهبنا فيه ونقل القاضي عياض
ان جمهور العلماء من السلف والخلف على كراهة الضبة والحلقة من الفضة قال وجوزهما أبو حنيفة
وأصحابه وأحمد واسحق إذا لم يكن فمه على الفضة في الشرب هذا كلام القاضي والمعروف عن
أحمد كراهة المضبب * قال المصنف رحمه الله *
(ويكره استعمال أواني المشركين وثيابهم لما روى أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال قلت
يا رسول الله إنا بأرض أهل الكتاب ونأكل في آنيتهم فقال لا تأكلوا في آنيتهم الا إن لم
تجدوا عنها بدا فاغسلوها بالماء ثم كلوا فيها ولأنهم لا يجتنبون النجاسة فكره لذلك فان توضأ من
أوانيهم نظرت فإن كانوا ممن لا يتدينون باستعمال النجاسة صح الوضوء لان النبي صلى الله عليه وسلم
توضأ من مزادة مشركة وتوضأ عمر رضي الله عنه من جرة نصراني ولان الأصل في أوانيهم
الطهارة وإن كانوا ممن يتدينون باستعمال النجاسة ففيه وجهان أحدهما انه يصح الوضوء لان
الأصل في أوانيهم الطهارة والثاني لا يصح لأنهم يتدينون باستعمال النجاسة كما يتدين المسلمون
بالماء الطاهر فالظاهر من أوانيهم وثيابهم النجاسة)
(الشرح) حديث أبي ثعلبة رواه البخاري ومسلم ولفظه فيهما قلت يا رسول الله انا بأرض
قوم أهل الكتاب أفنأكل في آنيتهم فقال إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا
261

فيها وفي رواية للبخاري فلا تأكلوا في آنيتهم إلا أن لا تجدوا بدا فإن لم تجدوا بدا فاغسلوها وكلوا
وفي رواية أبي داود انا نجاور أهل الكتاب وهم يطبخون في قدورهم الخنزير ويشربون في آنيتهم الخمر
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ان وجدتم غيرها فكلوا فيها واشربوا وإن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء
وكلوا واشربوا هذا لفظ الحديث في كتب الحديث ووقع في المهذب لا تأكل خطابا للواحد وله وجه
ولكن المعروف لا تأكلوا قال أهل اللغة يقال لا بد من كذا أي لا فراق منه ولا انفكاك عنه أي هو
لازم
وأبو ثعلبة الراوي وهو الخشني بخاء مضمومة ثم شين مفتوحة معجمتين ثم نون منسوب إلى خشين
بطن من قضاعة واسمه جرهم بضم الجيم والهاء قاله أحمد بن حنبل ويحيي بن معين وآخرون وقيل جرثوم (1)
بضم الجيم والمثلثة وقيل غير ذلك واسم أبيه ناشم بالنون والشين المعجمة وقيل غير ذلك وكان أبو ثعلبة
ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ثم نزل الشام وتوفى أيام معاوية وقيل أيام عبد الملك
سنة خمس وسبعين
وأما قوله توضأ النبي صلى الله عليه وسلم من مزادة مشركة فهو بعض من حديث طويل رواه البخاري
ومسلم في صحيحيهما من رواية عمران ابن حصين رضي الله عنهما انهم كانوا مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم في سفر فعطشوا فأرسل من يطلب الماء فجاؤوا بامرأة مشركة على بعير بين مزادتين من ماء فدعا
النبي صلى الله عليه وسلم باناء فافرغ فيه منهما ثم قال فيه ما شاء الله ثم أعاده في المزادتين ونودي في الناس
اسقوا واستقوا فشربوا حتى رووا ولم يدعوا اناء ولا سقاء إلا ماؤه وأعطي رجلا أصابته جنابة اناء من
ذلك الماء وقال أفرغه عليك ثم أمسك عن المزادتين وكأنهما أشد امتلاء مما كانتا ثم أسلمت المرأة بعد
ذلك هي وقومها هذا معنى الحديث مختصرا وفيه المعجزة الظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس

(1) اختار المصنف رحمه الله في كتاب الأربعين جرثوم اه‍ أذرعي
262

فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ منه صريحا لكن الظاهر صلى الله عليه وسلم توضأ منه لأن الماء
كان كثيرا وإن لم يكن توضأ فقد أعطى الجنب ما يغتسل به وبهذا يحصل المقصود وهو طهارة اناء المشرك
والمزادة هي التي تسميها الناس الرواية وإنما الراوية في الأصل البعير الذي يسقي عليه وأما قوله توضأ
عمر من جر نصراني فصحيح رواه الشافعي والبيهقي باسناد صحيح وذكره البخاري في صحيحه
بمعناه تعليقا فقال وتوضأ عمر بالحميم من بيت نصرانية والحميم الماء الحار لكن وقع في المهذب
نصراني بالتذكير قال الحافظ أبو بكر محمد بن موسى الحازمي رواه خلاد بن أسلم عن سفيان
ابن عيينة باسناده كذلك قال والمحفوظ ما رواه الشافعي عن ابن عيينة باسناده نصرانية بالتأنيث
وقوله من جر كذا هو في المهذب وغيره جر ورواه الشافعي في الأم جرة (1) نصرانية بالهاء
في آخرهما وهو الصحيح واختلف الأئمة في معنى الذي في المهذب فالمشهور الذي قاله الأكثرون
انه جمع جرة وهي الاناء المعروف من الخزف وقولنا جمع جرة هو على اصطلاح أهل اللغة وأما
أهل التصريف والنحو فيقولون فيه وفي أشباهه هو اسم جنس ولا يسمونه جمعا وذكر ابن فارس
في كتابه حلية العلماء ان الجر هنا سلاخة عرقوب البعير يجعل وعاء للماء وذكر هو في المجمل نحوه
والله أعلم أما حكم المسألة فيكره استعمال أواني الكفار وثيابهم سواء فيه أهل الكتاب وغيرهم
والمتدين باستعمال النجاسة وغيره ودليله ما ذكره المصنف من الحديث والمعنى قال الشافعي
رحمه الله وأنا لسراويلاتهم وما يلي أسافلهم أشد كراهة قال أصحابنا وأوانيهم المستعملة في الماء
أخف كراهة فأتيقن طهارة أوانيهم أو ثيابهم قال أصحابنا فلا كراهة حينئذ في استعمالها
كثياب المسلم ممن صرح بهذا المحاملي في المجموع والبندنيجي والجرجاني في البلغة والبغوي
وصاحبا العدة والبيان وغيرهم ولا نعلم فيه خلافا ومراد المصنف لقوله يكره استعمالها إذا لم يتيقن طهارتها

(1) كذا في الحديث في الأم جرة لكن كلام الشافعي نفسه جر بلا هاء فإنه قال في
الأم أيضا وإذا كان الماء خمس قرب لم يحمل نجسا في جر كان أو غيره كذا رأيته في
أربع نسخ بالأم والله أعلم اه‍ أذرعي
263

وتعليله يدل عليه فان قيل فحديث أبي ثعلبة يقتضى كراهة استعمالها وجد عنها بدا
وان تيقن طهارتها فالجواب أن المراد النهي عن الأكل في أوانيهم التي كانوا يطبخون فيها لحم الخنزير
ويشربون فيها الخمر كما سبق بيانه في رواية أبي داود وإنما نهى عن الأكل للاستقذار كما يكره الأكل
في المحجمة المغسولة وإذا تطهر من إناء كافر ولم يعلم طهارته ولا نجاسته فإن كان من قوم لا يتدينون
باستعمال النجاسة صحت طهارته بلا خلاف وإن كان من قوم يتدينون باستعمال النجاسة فوجهان
الصحيح منهما باتفاق الأصحاب في الطريقتين انه تصح طهارته وهو نصه في الأم وحرملة والقديم
وبه قال ابن أبي هريرة والوجه الثاني لا تصح طهارته وهو قول أبي إسحاق وصححه المتولي وهو
مخرج من (1) القولين في الصلاة في المقبرة المنبوشة (2) كذا قاله الشيخ أبو حامد وقال القاضي أبو الطيب
هو مخرج من مسألة بول الظبية وهذا أجود (3) قال أصحابنا المتدينون باستعمال النجاسة وهم الذين
يعتقدون ذلك دينا وفضيلة وهم طائفة من المجوس يرون استعمال أبوال البقر واخثائها قربة
وطاعة قال الماوردي وممن يرى ذلك البراهمة وأما الذين لا يتدينون فكاليهود والنصارى قال
امام الحرمين ولو ظهر من الرجل اختلاطه بالنجاسات وعدم تصونه منها مسلما كان أو كافرا
ففي نجاسة ثيابه وأوانيه الخلاف والله أعلم *
(فرع) هذا الذي ذكرناه من الحكم بطهارة أواني الكفار وثيابهم هو مذهبنا ومذهب
الجمهور من السلف وحكي أصحابنا عن أحمد وإسحاق نجاسة ذلك لقوله تعالى (إنما المشركون
نجس) ولحديث أبي ثعلبة وقوله صلى الله عليه وسلم فاغسلوها واحتج أصحابنا بقوله تعالى (وطعام
الذين أوتوا الكتاب حل لكم) ومعلوم أن طعامهم يطبخونه في قدورهم ويباشرونه بأيديهم
وبحديث عمران وفعل عمر المذكورين في الكتاب وبأن الأصل الطهارة وبأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم كان يأذن للكفار في دخول المسجد ولو كانوا أنجاسا لم يأذن *
وأجاب الأصحاب عن الآية بجوابين أحدهما معناها ان المشركين نجس أديانهم واعتقادهم
وليس المراد أبدانهم وأوانيهم بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم أدخلهم المسجد واستعمل

(1) ليت شعري أي فرق بين المسألة أوانيهم وثيابهم إذا أجروا في الشاك القولين
في تعارض الأصل والظاهر وهنا جعلوا الوجه الثاني مخرجا أما من مسألة الظبية
أو من مسألة الصلاة في المقبرة المنبوشة وقد حكي الغزالي في الوسيط مسألة
الأواني مع مسألة الثياب ونحوها وانها مخرجه على القولين وقوله وأخباثها عليه في
التحقيق وهذا هو القول الواضح والله أعلم اه‍ أذرعي
(2) قال في التحقيق على الوسيط قوله المقابر المنبوشة مما غلطوه
فيه فان المنبوشة نجسة بلا خلاف وإنما
الخلاف في المشكوك في نبشها فكيف يقول هنا ما قال وقوله كذا قاله الشيخ أبو حامد تقرير له اه‍ أذرعي
(3) قوله وهذا أجود فيه نظر فإنه بالمسألة الأولى أشبه اه‍ أذرعي
264

آنيتهم وأكل طعامهم وأجابوا عن حديث أبي ثعلبة بأن السؤال كان عن الآنية التي يطبخون
فيها لحم الخنزير ويشربون فيها الخمر كما جاء في رواية أبي داود التي قدمناها وجواب آخر أنه محمول
على الاستحباب ذكره الشيخ أبو حامد ويدل عليه أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن استعمالها
مع وجود غيرها وهذا محمول على الاستحباب بلا شك والله أعلم *
(فرع) قول المصنف يكره استعمال أواني المشركين يعني بالمشركين الكفار سواء أهل
الكتاب وغيرهم واسم المشركين يطلق على الجميع: ومن ذلك قول الله تعالى (ان الله لا يغفر
أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم من مات
لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ونظائر ذلك في الكتاب والسنة واستعمال سلف الأمة مشهورة
ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى (وقالت اليهود عزير بن الله وقالت النصارى المسيح بن الله)
وقال في آخر الآية الثانية (سبحانه عما يشركون) والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ويستحب تغطية الاناء وايكاء السقاء) *
(الشرح) هذا الحديث صحيح رواه البخاري ومسلم في صحيحهما من رواية جابر بن عبد الله
رضي الله عنهما وروى في غير الصحيح من رواية أبي هريرة ولفظ رواية جابر غطوا الاناء وأوكوا
السقاء وفي رواية خمر اناءك واذكر اسم الله ولو تعرض عليه شيئا وتعرض بضم الراء روى
بكسرها والضم أصح وأشهر ومعناه تضع عليه عودا أو نحوه عرضا: وقوله تغطية الوضوء هو
بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به وقوله وايكاء السقاء الايكاء والسقاء ممدودان والايكاء
هو شد رأس السقاء وهو قربة اللبن أو الماء ونحوهما بالوكاء وهو الخيط الذي يشد به وهو
ممدود أيضا وهذا الحكم الذي ذكره وهو استحباب تغطية الاناء متفق عليه وسواء فيه اناء
الماء واللبن وغيرهما ودليله الحديث الصحيح الذي ذكرناه وفائدته ثلاثة أشياء أحدها ما ثبت
في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فان الشيطان لا يحل سقاء ولا يكشف اناء
الثاني جاء في رواية لمسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فان في السنة ليلة ينزل فيها وباء
لا يمر باناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء الا نزل فيه من ذلك الوباء قال الليث
265

ابن سعد أحد رواته في مسلم فالأعاجم يتقون ذلك في كانون الأول: الوباء بالمد والقصر لغتان
وإذا قصر همز وكانون عجمي لا ينصرف: الثالث صيانته من النجاسة وشبهها والله أعلم *
(فرع) أبو هريرة رضي الله عنه راوي الحديث هو أول من كنى بهذه الكنية قيل كان
له هرة يلعب بها في صغره فكني بها واختلف في اسمه واسم أبيه على نحو ثلاثين قولا أشهرها
وأصحها انه عبد الرحمن بن صخر وبه قطع جماعات من أهل هذا الفن وهو سابق المحدثين وأول حفاظه
المتصدين لحفظه تصدى لحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى برع فيه وفاق سائر
الصحابة رضي الله عنهم فيه روى له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة آلاف حديث وثلاثمائة
وأربعة وسبعون حديثا وليس لاحد من الصحابة ما يقارب هذا قال الشافعي رحمه الله أبو هريرة احفظ من
روى الحديث في دهره وقال البخاري رحمه الله روى عن أبي هريرة نحو ثمانمائة رجل أو أكثر
من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وكان أبو هريرة أشهر أهل الصفة في زمن صحبته
وكان عريف أهل الصفة توفى بالمدينة ودفن في البقيع سنة تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين
سنة رضي الله عنه وقد بسطت حاله في تهذيب الأسماء وبالله التوفيق (فرع) مما يتعلق بما سبق
ما ثبت في صحيح مسلم وغيره ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا كان جنح الليل وأمسيتم
فكفوا صبيانكم فان الشيطان ينتشر حينئذ فإذا ذهب ساعة من الليل فخلوهم وأغلقوا الباب
واذكروا اسم الله فان الشيطان لا يفتح بابا مغلقا وأوكؤا أقربكم واذكروا اسم الله وخمروا آنيتكم
واذكروا اسم الله ولو أن تعرضوا عليها شيئا واطفئوا مصابيحكم وفي رواية لمسلم أيضا لا ترسلوا
فواشيكم وصبيانكم إذا غابت الشمس حتى تذهب فحمة العشاء وفي الصحيحين عن ابن عمرو أبي
موسى رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون
فهذه سنن ينبغي المحافظة عليها وجنح الليل بضم الجيم وكسرها ظلامه والفواشي بالفاء جمع فاشية
وهي كل ما ينتشر من المال كالبهائم وغيرها وفحمة العشاء ظلمتها وقد أو ضحت شرح هذه الأحاديث
وما يتعلق بها ومعانيها في شرح صحيح مسلم رحمه الله
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضى عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت لكم ولا
266

عشاء وإذا دخل ولم يذكر الله تعالى قال الشيطان أدركتم المبيت وإذا لم يذكر الله تعالى عند طعامه
قال أدركتم المبيت والعشاء واعلم أنه يستحب التسمية عند دخوله بيته وبيت غيره والسلام إذا
دخله وإن لم يكن فيه أحد ويدعو عند خروجه قال أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم من قال يعنى إذا خرج من بيته باسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة الا بالله يقال
له كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وفي الباب
أحاديث كثيرة من هذا أوضحتها في أول كتاب الأذكار وفيها أشياء كثيرة تتعلق بهذا الفصل
والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
باب
(السواك)
(السواك سنة لما روت عائشة رضي الله عنها ان النبي صلى الله عليه قال السواك مطهرة
للفم مرضاة للرب ويستحب في ثلاثة أحوال أحدها عند القيام للصلاة لما روت عائشة رضى عنها ان النبي
صلى الله عليه وسلم قال صلاة بسواك خير من سبعين صلاة بغير سواك والثاني عند اصفرار
الأسنان لما روى العباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال استاكوا لا تدخلوا على قلحا والثالث
عند تغير الفم وذلك قد يكون من النوم وقد يكون بالازم وهو ترك الأكل وقد يكون بأكل
شئ يتغير به الفم لما روت عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من
النوم يشوص فاه بالسواك وإنما استاك لان النائم ينطبق فمه ويتغير وهذا المعني موجود في كل
ما يتغير به الفم فوجب أن يستحب له السواك) *
(الشرح) في هذه القطعة جمل من الأحاديث والأسماء واللغات والأحكام يحصل بيانها
إن شاء الله تعالى بمسائل إحداها حديث عائشة السواك مطهرة للفم ومرضاة للرب حديث صحيح
رواه أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة امام الأئمة في صحيحه والنسائي والبيهقي في سننهما وآخرون
بأسانيد صحيحة وذكره البخاري في صحيحه في كتاب الصيام تعليقا فقال وقالت عائشة رضى
267

الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم السواك مطهرة للفم مرضاة للرب وهذا التعليق صحيح لأنه
بصيغة جزم وقد ذكرت في علوم الحديث ان تعليقات البخاري إذا كانت بصيغة الجزم فهي صحيحة
والمطهرة بفتح الميم وكسرها لغتان ذكرهما ابن السكيت وآخرون وهي كل اناء يتطهر به شبه السواك بها لأنه
ينظف الفم والطهارة النظافة وقوله صلى الله عليه وسلم مرضاة للرب قال العلماء الرب بالألف واللام لا يطلق
الا على الله تعالى بخلاف رب فإنه يضاف إلى المخلوق فيقال رب المال ورب الدار ورب الماشية كما قال النبي
صلى الله عليه ولم في الحديث في ضالة الإبل دعها حتى يأتيها ربها وقد أنكر بعضهم إضافة
رب إلى الحيوان وهذا الحديث يرد قوله وقد أوضحت كل هذا بدلائله في آخر كتاب الأذكار:
ومما جاء في فضل السواك مطلقا حديث أنس رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أكثرت عليكم في السواك رواه البخاري في باب الجمعة والله أعلم * وأما حديث عائشة
صلاة بسواك خير من سبعين بغير سواك فضعيف رواه البيهقي من طرق وضعفها
كلها وكذا ضعفه غيره وذكره الحاكم في المستدرك وقال هو صحيح على شرط مسلم وأنكروا
ذلك على الحاكم وهو معروف عندهم بالتساهل في التصحيح وسبب ضعفه أن مداره على محمد
ابن إسحاق وهو مدلس ولم يذكر سماعه والمدلس إذا لم يذكر سماعه لا يحتج به بلا خلاف كما هو
مقرر لأهل هذا الفن وقوله أنه على شرط مسلم ليس كذلك فان محمد ابن إسحاق لم يرو له مسلم
شيئا محتجا به وإنما روى له متابعة وقد علم من عادة مسلم وغيره من أهل الحديث انهم يذكرون
في المتابعات من لا يحتج به للتقوية لا للاحتجاج ويكون اعتمادهم على الاسناد الأول وذلك مشهور
عندهم والبيهقي أتقن في هذا الفن من شيخه الحاكم وقد ضعفه والله أعلم *
ويغني عن هذا الحديث حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا أن
أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة رواه البخاري ومسلم وفي رواية للبخاري
مع كل صلاة وقد غلط بعض الأئمة الكبار فزعم أن البخاري لم يروه وجعله من أفراد مسلم
وقد رواه البخاري في كتاب الجمعة وأما حديث العباس فهو ضعيف رواه أبو بكر بن أبي خيثمة في
تاريخه ثم البيهقي عن العباس ورواه البيهقي أيضا عن ابن عباس واسنادهما ليس بقوي قال
268

البيهقي هو حديث مختلف في اسناده وضعفه أيضا غيره ويغني عنه في الدلالة حديث السواك
مطهرة للفم والله أعلم: وأما حديث عائشة إذا قام من النوم يشوص فاه بالسواك فهو في الصحيحين
بهذا اللفظ من رواية حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما لا من رواية عائشة وقيل إن ذكر عائشة
وهم من المصنف وعدوه من غلطه والله أعلم
(المسألة الثانية)
في لغاته قال أهل اللغة السواك بكسر السين ويطلق السواك على الفعل وهو الاستياك وعلى
الآلة التي يستاك بها ويقال في الآلة أيضا مسواك بكسر الميم يقال ساك فاه يسوكه سوكا فان
قلت استاك لم تذكر الفم والسواك مذكر نقله الأزهري عن العرب قال وغلط الليث بن المظفر
في قوله إنه مؤنث وذكر صاحب المحكم أنه يؤنث ويذكر لغتان قالوا وجمعه سوك بضم السين
والواو ككتاب وكتب ويخفف باسكان الواو قال صاحب المحكم قال أبو حنيفة يعنى الدينوري
269

الامام في اللغة ربما همز فقيل سواك قال والسواك مشتق من ساك الشئ إذا دلكه وأشار غيره
إلى أنه مشتق من التساوك يعني التمايل يقال جاءت الإبل تتساوك أي تتمايل في مشيتها والصحيح
أنه من ساك إذا دلك هذا مختصر كلام أهل اللغة فيه وهو في اصطلاح الفقهاء استعمال عود
أو نحوه في الأسنان لا ذهاب التغير ونحوه والله أعلم * وقوله مطهرة للفم مرضاة للرب سبق شرحهما
وميم الفم مخففة على المشهور وفي لغية يجوز تشديدها وقد بسطت ذلك في تهذيب الأسماء
واللغات وقوله يستحب في ثلاثة أحوال كذا هو في المهذب ثلاثة وهو صحيح وفي الحال لغتان
التذكير والتأنيث فيقال ثلاثة أحوال ثلاث أحوال وحال حسن وحالة حسنة وقوله صلاة بسواك
خير من سبعين صلاة بغير سواك معناه ثوابها أكثر من ثواب سبعين وقوله لا تدخلوا على قلحا
بضم القاف واسكان اللام وبالحاء المهملة جمع أقلح وهو الذي على أسنانه قلح بفتح القاف واللام
وهو صفرة ووسخ يركبان الأسنان قال صحاب المحكم ويقال فيه أيضا القلاح بضم القاف وتخفيف
واللام ويقال قلح الرجل بفتح القاف وكسر اللام وأقلح *
وقوله وقد يكون بالأزم وهو ترك الأكل الأزم بفتح الهمزة واسكان الزاي وأصله في
اللغة الامساك وذكره الشافعي وتأوله أصحابنا تأويلين أحدهما الجوع الثاني السكوت وكلاهما
صحيح وقول المصنف ترك الأكل كان ينبغي أن يقول ترك الأكل والشرب وقوله يشوص
270

فاه بضم الشين المعجمة وبالصاد المهملة والشوص ذلك الأسنان عرضا بالسواك كذا قاله
الخطابي وغيره وقيل الغسل وقيل التنقية وقيل غير ذلك والصحيح الأول والله أعلم
* المسألة
الثالثة * العباس هو العباس بن عبد المطلب أبو الفضل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمام
نسبه في نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بسنتين
أو ثلاث توفى بالمدينة سنة اثنين وثلاثين وقيل أربع وثلاثين وكان أشد الناس سمعا: المسألة
الرابعة: في الأحكام فالسواك سنة ليس بواجب هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا ما حكي
الشيخ أبو حامد وأكثر أصحابنا عن داود أنه أوجبه وحكى صاحب الحاوي أن داود أوجبه
ولم يبطل الصلاة بتركه قال وقال إسحاق بن راهويه هو واجب فان تركه عمدا بطلت صلاته وهذا
النقل عن إسحاق غير معوف ولا يصح عنه وقال القاضي أبو الطيب والعبد ري غلط الشيخ
أبو حامد في حكايته وجوبه عن داود بل مذهب داود أنه سنة لان أصحابنا نصوا أنه سنة وأنكروا
وجوبه ولا يلزم من هذا الرد على أبي حامد: واحتج لداود بظاهر الامر واحتج أصحابنا بما احتج به
الشافعي في الأم والمختصر بحديث أبي هريرة الذي ذكرناه لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك
عند كل صلاة قال الشافعي رحمه الله لو كان واجبا لأمرهم به شق أو لم يشق قال العلماء في هذا
الحديث أن الامر للوجوب واستدل أصحابنا بأحاديث أخر وأقيسة ولا حاجة إلى الإطالة في الاستدلال
271

إذا لم نتيقن خلافا والأحاديث الواردة بالأمر محمولة على الندب جمعا بين الأحاديث والله أعلم
واعلم أن
السواك سنة في جميع الأحوال إلا للصائم بعد الزوال ويتأكد استحبابه في أحوال هكذا
قاله أصحابنا وعبارة المصنف توهم اختصاص الاستحباب بالأحوال الثلاثة المذكورة وليس
الحكم كذلك بل هو مستحب في كل الأحوال لغير الصائم لقوله صلى الله عليه وسلم السواك
مطهرة للفم مرضاة للرب وأما الأحوال التي يتأكد الاستحباب فيها فخمسة أحدها عند القيام (1)
إلى الصلاة سواء صلاة الفرض والنفل وسواء صلى بطهارة ماء أو تيمم أو بغير طهارة كمن لم يجد
ماء ولا ترابا وصلي على حسب حاله صرح به الشيخ أبو حامد المتولي وغيرهما الثاني عند
اصفرار الأسنان ودليله حديث السواك مطهرة وأما احتجاج المصنف له بحديث العباس فلا يصح
لأنه ضعيف كما سبق الثالث عند الوضوء اتفق عليه أصحابنا ممن صرح به صاحبا الحاوي
والشامل وامام الحرمين والغزالي والروياني وصاحب البيان وآخرون ولا يخالف هذا اختلاف

(1) قلت غد في البحر الخمسة أحوال القيام من النوم والوضوء للصلاة والقيام للصلاة
وعند قراءة القرآن وعند تغير الفم ولم يذكر صفرة الأسنان فصار للتأكد
حينئذ إذا جمعنا القيام من النوم إلى صفرة الأسنان يتأكد في ستة أخوال والله أعلم
ثم قال وهو مستحب في الأوقات وهو في ثلاثة أحوال أشد استحبابا للصلاة وللقيام من النوم
والثالثة عند تغير الفم: وقال الشيخ أبو حامد في كتابه الرونق يستحب في خمسة
عند النوم واليقظة والصلاة إلا بعد الزوال للصائم وعند الأزم وعند تغير
الفم فزاد عند النوم فصارت سبعا اه‍ الأذرعي
272

الأصحاب في أن السواك هل هو من سنن الوضوء أم لا: فان ذلك الخلاف إنما هو في أنه يعد من
سنن الوضوء أم سنة مستقلة عند الوضوء لا منه: وكذا اختلفوا في التسمية وغسل الكفين ولا
خلاف انهما سنة: وإنما الخلاف في كونهما من سنن الوضوء: ودليل استحبابه عند الوضوء حديث
أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم
بالسواك مع كل وضوء وفي رواية لفرضت عليهم السواك مع الوضوء وهو حديث صحيح
رواه ابن خزيمة والحاكم في صحيحهما وصححاه وأسانيده جيدة وذكره البخاري في صحيحه في
كتاب الصيام تعليقا بصيغة جزم وفيه حديث آخر في الصحيح ذكرته في جامع السنة تركته هنا
لطوله: الرابع عند قراءة القرآن ذكره الماوردي والروياني وصاحب البيان والرافعي وغيرهم:
الخامس عند تغير الفم وتغيره قد يكون بالنوم وقد يكون بأكل ما له رائحة كريهة وقد يكون بترك
الأكل والشرب وبطول السكوت قال صاحب الحاوي ويكون أيضا بكثرة الكلام والله أعلم *
هذه الأحوال الخمسة التي ذكرها أصحابنا وفي صحيح مسلم عن عائشة ان النبي صلى الله عليه وسلم
كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك والله أعلم *
273

(فرع) إذا أراد أن يصلى صلاة ذات تسليمات كالتراويح والضحى وأربع ركعات (1) سنة
الظهر أو العصر والتهجد ونحو ذلك استحب إن يستاك لكل ركعتين لقوله صلى الله عليه وسلم
لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة أو مع كل صلاة وهو حديث صحيح كما سبق
(فرع) قال المزني في المختصر قال الشافعي رحمه الله أحب السواك للصلوات عند كل حال
تتغير فيها الفم كذا وقع في المختصر عند بغير واو قال القاضي حسين أخل المزني بالواو وكذا قاله
غير القاضي وهو كما قالوه فقد قاله الشافعي رحمه الله في الأم بالواو واتفق نص الشافعي رحمه
الله والأصحاب على أن السواك سنة عند الصلاة وإن لم يتغير الفم
(فرع) في أول كتاب النكاح من الترمذي عن أبي أيوب رضي الله عنه قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم أربع من سنن المرسلين الحياء والتعطر والسواك والنكاح قال الترمذي حديث حسن
هذا كلامه وفي اسناده الحجاج بن أرطاة وأبو الشمال والحجاج ضعيف عند الجمهور: وأبو الشمال
مجهول فلعله اعتضد بطريق آخر فصار حسنا وقوله الحياء هو بالياء لا بالنون وإنما ضبطته لأني
رأيت من صحفه في عصرنا وقد سبق بتصحيفه وقد ذكر الامام الحافظ أبو موسى الأصبهاني

(1) مسألة إذا صلى تهجدا أو ضحى استحب أن يستاك لكل ركعتين اه‍ أذرعي
274

هذا الحديث في كتابه الاستغناء في استعمال الحناء وأوضحه وقال هو مختلف في اسناده ومتنه يروى
عن عائشة وابن عباس وأنس وجد مليح كلهم عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال واتفقوا على لفظ
الحياء قال وكذا أورده الطبراني والدارقطني وأبو الشيخ وابن منده وأبو نعيم وغيرهم من
الحفاظ والأئمة قال وكذا هو في مسند الإمام أحمد وغيره من الكتب ومرادي بذكر هذا
الفرع بيان ان السواك كان في الشرائع السابقة والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ولا يكره الا في حالة واحدة وهو للصائم بعد الزوال لما روى أبو هريرة ان النبي صلى الله
عليه وسلم قال لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك والسواك يقطع ذلك فوجب
أن يكره ولأنه أثر عبادة مشهود له بالطيب فكره ازالته كدم الشهداء)
(الشرح) حديث أبي هريرة هذا رواه البخاري ومسلم وهو بعض حديث والخلوف
بضم الخاء واللام وهو تغير رائحة الفم ولا يجوز فتح الخاء يقال خلف فم الصائم بفتح الخاء واللام يخلف
بضم اللام وأخلف يخلف إذا تغير: أما حكم المسألة فلا يكره السواك في حال من الأحوال لاحد الا للصائم
بعد الزوال فإنه يكره نص عليه الشافعي في الأم وفى كتاب الصيام من مختصر المزني وغيرهما وأطبق عليه
275

أصحابنا وحكي أبو عيسى (1) في جامعه في كتاب الصيام عن الشافعي رحمه الله انه لم ير بالسواك للصائم
بأسا أول النهار وآخره وهذا النقل غريب وإن كان قويا من حيث الدليل وبه قال المزني وأكثر
العلماء وهو المختار: والمشهور الكراهة وسواء فيه صوم الفرض والنفل وتبقى الكراهة حتى تغرب
الشمس وقال الشيخ أبو حامد حتى يفطر قال أصحابنا وإنما فرقنا بين ما قبل الزوال وبعده لان بعد
الزوال يظهر كون الخلوف من خلو المعدة بسبب الصوم لامن الطعام الشاغل للمعدة بخلاف ما قبل
الزوال والله أعلم
(فرع) قول المصنف ولأنه أثر عبادة مشهود له بالطيب فكره ازالته كدم الشهداء قال أبو
عبد الله محمد بن علي ابن أبي على القلعي رحمه الله قوله مشهود له بالطيب احتراز من بلل الوضوء على
أحد الوجهين ومن أثر التيمم وشعر المحرم وقال غيره احتراز مما يصيب ثوب العالم من الحبر فإنه وإن كان
اثر عبادة لكنه مشهود له بالفضل لا بالطيب ودم الشهداء مشهود له بالطيب في قوله صلى الله عليه
وسلم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تفجر دما اللون لون الدم والريح ريح المسك وأما

(1) هو الترمذي اه‍ أذرعي
(2) نقل الرافعي في شرحه الصغير عن بعض الأصحاب تخصيص الكراهة بصوم الفرض اه‍ أذرعي
276

الشهداء فجمع شهيد واختلف في سبب تسميته شهيدا فقال الأزهري لان الله تعالى ورسوله صلى الله
عليه وسلم شهدا له بالجنة وقال النضر بن شميل الشهيد الحي فسموا بذلك لأنهم أحياء عند ربهم وقيل
لان ملائكة الرحمة يشهدونه فيقبضون روحه وقيل لأنه ممن بشهد يوم القيامة على الأمم: حكى هذه
الأقوال الأزهري وقيل لأنه شهد له بالايمان وخاتمة الخير بظاهر حاله وقيل لان له شاهدا بقتله وهو دمه
لأنه يبعث وجرحه يتفجر دما وقيل لان روحه تشهد دار السلام وروح غيره لا تشهدها الا
يوم القيامة:
(فرع) يتعلق بقوله صلى الله عليه وسلم لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وكان
وقع نزاع بين الشيخ أبي عمرو بن الصلاح والشيخ أبي محمد بن عبد السلام رضي الله عنهما في أن هذا الطيب
في الدنيا والآخرة أم في الآخرة خاصة: فقال أبو محمد في الآخرة خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم
في رواية لمسلم والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يوم القيامة
وقال أبو عمر وهو عام في الدنيا والآخرة واستدل بأشياء كثيرة منها ما جاء في المسند الصحيح لأبي حاتم
ابن حبان بكسر الحاء البستي وهو من أصحابنا المحدثين الفقهاء قال باب في كون ذلك يوم القيامة وباب في
كونه في الدنيا وروى في هذا الباب باسناده الثابت أنه صلى الله عليه وسلم قال لخلوف فم الصائم
حين يخلف أطيب عند الله من ريح المسك وروي الإمام الحسن بن سفيان في مسنده عن جابر
رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال أعطيت أمتي في شهر رمضان خمسا قال واما الثانية
277

فإنهم يمسون وخلوف أفواههم أطيب عند الله من ريح المسك وروى هذا الحديث الامام الحافظ
أبو بكر السمعاني في آماليه وقال هو حديث حسن فكل واحد من الحديثين مصرح بأنه في وقت
وجود الخلوف في الدنيا يتحقق وصفه بكونه أطيب عند الله من ريح المسك قال وقد قال العلماء
شرقا وغربا معنى ما ذكرته في تفسيره قال الخطابي طيبه عند الله رضاه به وثناؤه عليه: وقال ابن
عبد البر معناه أزكي عند الله تعالى وأقرب إليه وأرفع عنده من ريح المسك: وقال البغوي في شرح
السنة معناه الثناء على الصائم والرضا بفعله: وكذا قاله الامام القدوري امام الحنفية في كتابه في
في الخلاف معناه أفضل عند الله من الرائحة الطيبة ومثله قال البوني من قدماء المالكية وكذا قال
الإمام أبو عهمان الصابوني وأبو بكر السمعاني وأبو حفص بن الصفار الشافعيون في أماليهم
وأبو بكر بن العربي المالكي وغيرهم فهؤلاء أئمة المسلمين شرقا وغربا لم يذكروا سوى ما ذكرته ولم يذكر
أحد منهم وجها بتخصيصه بالآخرة مع أن كتبهم جامعة للوجوه المشهورة والغربية ومع أن الرواية
التي فيها ذكر يوم القيامة مشهورة في الصحيح بل جزموا بأنه عبارة عن الرضا والقبول ونحوهما
مما هو ثابت في الدنيا والآخرة وأما ذكر يوم القيامة في تلك الرواية فلانه يوم الجزاء وفيه يظهر رجحان
الخلوف في الميزان على المسك المستعمل لدفع الرائحة الكريهة طلبا لرضا الله تعالى حيث يؤمر
باجتنابها واجتلاب الرائحة الطيبة كما في المساجد والصلوات وغيرها من العبادات فخص يوم
القيامة بالذكر في رواية لذلك كما خص في قوله تعالى ان ربهم بهم يومئذ لخبير وأطلق في باقي
278

الروايات نظرا إلى أن أصل أفضليته ثابت في الدارين كما سبق تقريره هذا مختصر ما ذكره الشيخ أبو عمرو رحمه
الله
* (فرع) * في مذاهب العلماء في السواك للصائم قد ذكرنا أن مذهبنا المشهور أنه يكره له بعد
الزوال وحكاه ابن المنذر عن عطاء ومجاهد واحمد واسحق وأبي ثور وحكاه ابن الصباغ أيضا
عن ابن عمر (1) والأوزاعي ومحمد بن الحسن قال ابن المنذر (2) ورخص فيه في جميع النهار النخعي
وابن سيرين وعروة بن الزبير ومالك وأصحاب الرأي قال وروى ذلك عن عمر وابن عباس
وعائشة رضي الله عنهم واحتج القائلون بأنه لا يكره في جميع النهار بالأحاديث الصحيحة في فضله
ولم ينه عنه واحتجوا بما رواه أبو إسحاق إبراهيم بن بيطار الخوارزمي قال قلت لعاصم الأحول أيستاك الصائم
أول النهار وآخره قال نعم قلت عمن قال عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (3) قالوا ولأنه
طهارة للفم فلم يكره في جميع النهار كالمضمضة:
واحتج أصحابنا بحديث أبي هريرة في الخلوف وهو صحيح كما سبق وبحديث عن خباب
ابن الأرت رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا
بالعشي فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه بالعشي الا كانتا نورا بين عينيه يوم القيامة رواه البيهقي
ولكنه ضعفه وبين ضعفه واحتجوا بما ذكره المصنف انه أثر عبادة مشهود له بالطيب فكره
إزالته كدم الشهيد وأجابوا عن أحاديث فضل السواك بأنها عامة مخصوصة والمراد بها غير الصائم
آخر النهار (4) وعن حديث الخوارزمي بأنه ضعيف فان الخوارزمي ضعيف باتفاقهم وعن المضمضة
بأنها لا تزيل الخلوف بخلاف السواك والله أعلم *

(1) الثابت عن عمر خلاف هذا قال البخاري في كتاب؟؟ في باب اغتسال الصائم وقال ابن عمر يستاك أول النهار وآخره نعم حكاه الموفق الحنبلي في المغني عن عمر ثم حكي عن عمر رواية أخرى إنه لا يكره اه‍ أذرعي
(2) قال الرافعي في شرحه الصغير ولا يكره الا بعد الزوال للصائم خلافا لأبي حنيفة ومالك حيث قال إن كان السواك رطبا كره وإلا فلا ولا حمد حيث قال يكره في الفرض دون النقل ليكون أبعد من الرياء وبه قال بعض الأصحاب هذا لفظه وفيه فوائد اه‍ أذرعي
(3) وبما رواه عامر بن ربيعة قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يسوك وهو صائم أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه عن عائشة ترفعه قال
من خير خصال الصائم رواه بن ماجة وقال البخاري في باب الاغتسال للصائم ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم انه استاك وهو صائم اه‍ أذرعي
(4) المختار أنه لا يكره بعد الزوال كما اختاره شيخنا رحمه الله في أول المسألة وعمدتهم في الكراهة حديث الخوف ولا حجة لان الخلوف من خلو المعدة والسواك لا يزيله إنما يزيل وسخ الأسنان اه‍ أذرعي
279

(فرع) ان قيل ما ذكرتموه من الحديث والمعنى يقتضي فضيلة الخلوف فلم قلتم انه أفضل
من تحصيل فضيلة السواك: فالجواب انه قد ثبت أن دم الشهيد يزال بل يترك للمحافظة عليه
غسل الميت والصلاة عليه وهما واجبان فإذا ترك من أجله واجبان دل على رجحانه عليهما لكونه
مشهودا له بالطيب فالمحافظة على الخلوف الذي يشاركه في الشهادة له بالطيب أولى بالمحافظة فإنه إنما
يترك من أجله سنة السواك والله أعلم * (1)
(فرع) مذهبنا انه لا يكره للصائم السواك الرطب قبل الزوال إذا لم ينفصل منه شئ
يدخل جوفه وبه قال جماعات من العلماء وكرهه بعض السلف وستأتي المسألة مبسوطة حيث ذكرها
الشافعي والأصحاب رحمهم الله في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى * قال المصنف رحمه الله *
(والمستحب أن يستاك عرضا لقوله صلى الله عليه وسلم استاكوا عرضا وادهنوا غبا واكتحلوا وترا)
(الشرح) هذا الحديث ضعيف غير معروف قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله
بحثت عنه فلم أجد له أصلا ولا ذكرا في شئ من كتب الحديث واعتنى جماعة بتخريج أحاديث
المهذب فلم يذكروه أصلا وعقد البيهقي بابا في الاستياك عرضا ولم يذكر فيه حديثا يحتج به وهذا
الحكم الذي ذكره وهو استحباب الاستياك عرضا يستدل له انه يخشى في الاستياك طولا أدماء
اللثة وإفساد عمود الأسنان وأما الحديث الذي اعتمده المصنف فلا اعتماد عليه ولا يحتج به (2)
وهذا الذي ذكرناه من استحباب الاستياك (3) عرضا هو المذهب الصحيح الذي قطع به

(1) هذا الجواب فيه نظر ظاهر ولم يترك غسل الشهيد والصلاة عليه لأجل الدم وإنما تركا لكونه شهيدا ألا ترى أنه لو استشهد ولم يجرح لم يغسل ولم يصل عليه ولم يعلل أحد فيما اعلم أن ترك الغسل والصلاة لأجل الدم اه‍ أذرعي
(2) ينبغي ان يحتج في المسألة بحديث يشوص فاه بالسواك وهو في الصحيحين فان الصحيح في معناه أنه الاستياك عرضا كما سبق أول الباب اه‍ أذرعي
(3) جزم الشيخ أبو حامد في الرونق بان يستاك عرضا وطولا ونسبته إليه صحيحة واللباب مختصره اه‍ أذرعي
280

الأصحاب في الطريقتين الا إمام الحرمين والغزالي فإنهما قالا يستاك عرضا وطولا فان اقتصر فعرضا وهذا الذي
قالاه شاذ مردود مخالفا للنقل والدليل: وقد صرح جماعة من الأصحاب بالنهي عن الاستياك طولا
منهم الماوردي والقاضي حسين وصاحب العدة وغيرهم: وصرح صاحب الحاوي بكراهة الاستياك
طولا فلو خالف واستاك طولا حصل السواك وان خالف المختار: وصرح به أصحابنا وأوضح
صاحب الحاوي كيفية السواك فقال يستحب أن يستاك عرضا في ظاهر الأسنان وباطنها ويمر
السواك على أطراف أسنانه وكراسي أضراسه ويمره على سقف حلقه امرارا خفيفا: قال فأما جلاء
الأسنان بالحديد وبردها بالمبرد فمكروه لأنه يضعف الأسنان ويفضي إلى انكسارها ولأنه يخشنها
فتتراكم الصفرة عليها والله أعلم *
(فرع) ذكر في هذا الحديث الادهان غبا وهو بكسر الغين وهو أن يدهن ثم يترك حتى
يجف الدهن ثم يدهن ثانيا: وأما الاكتحال وترا فاختلف فيه فقيل يكون في عين وترا وفي عين
شفعا ليكون المجموع وترا والصحيح الذي عليه المحققون انه في كل عين وتر وعلى هذا فالسنة أن
يكون في كل عين ثلاثة أطراف لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال كان للنبي صلى الله عليه وسلم
مكحلة يكتحل منها كل ليلة في كل عين ثلاثة رواه الترمذي وقال حديث حسن والوتر بفتح
الواو وكسرها لغتان فصيحتان قرئ بهما في السبع والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(والمستحب أن لا يستاك بعود رطب لا يقلع ولا بيابس يجرح اللثة بل يستاك بعود بين
عودين وبأي شئ استاك مما يقلع القلح ويزيل التغير كالخرقة الخشنة وغيرها أجزأه لأنه
يحصل به المقصود وان أمر أصبعه على أسنانه لم يجزئه لأنه لا يسمى سواكا)
(الشرح) اللثة بكسر اللام وتخفيف الثاء المثلثة وهي ما حول الأسنان من اللحم كذا قاله الجوهري وقال
غيره هي اللحم الذي ينبت فيه الأسنان فأما اللحم الذي يتخلل الأسنان فهو عمر بفتح العين واسكان
الميم وجمعه عمور بضم العين وجمعها لثات ولثى: أما حكم المسألة فقوله لا يستاك بيابس ولا رطب
281

بل بمتوسط كذا قاله أصحابنا قالوا فإن كان يابسا نداه بماء: وقوله وبأي شئ اشتاك مما
يزيل التغير والقلح أجزأه كذا قاله أصحابنا واتفقوا عليه قال القاضي أبو الطيب وصاحبه صاحب الشامل
وآخرون فيجوز الاستياك بالسعد والأشنان وشبههما (1): وأما الإصبع فإن كانت لينة لم يحصل بها السواك
بلا خلاف وإن كانت خشنة ففيها أوجه: الصحيح المشهور لا يحصل لأنها لا تسمى سواكا ولا هي في
معناه بخلاف الأشنان ونحوه فإنه وإن لم يسم سواكا فهو في معناه وبهذا الوجه قطع المصنف والجمهور
والثاني يحصل لحصول المقصود وبهذا قطع القاضي حسين والمحاملي في اللباب والبغوي واختاره الروياني
في كتابه البحر: والثالث إن لم يقدر على عود ونحوه حصل وإلا فلا حكاه الرافعي: ومن قال بالحصول
فدليله ما ذكرناه من حصول المقصود وأما الحديث المروى عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم يجزى
من السواك الأصابع فحديث ضعيف ضعفه البيهقي وغره والمختار الحصول لما ذكرناه ثم الخلاف إنما
هو في أصبعه أما إصبع غيره الخشنة فتجزي قطعا لأنها ليست جزءا منه فهي كالأشنان وفي الإصبع
عشر لغات كسر الهمزة وفتحها وضمها مع الحركات الثلاث في الباء والعاشرة اصبوع بضم الهمزة والباء
وأفصحهن كسر الهمزة مع فتح الباء والله أعلم:
(فرع) قال أصحابنا يستحب أن يكون السواك بعود وأن يكون بعود أراك قال الشيخ نصر (2)
المقدسي الأراك أولى من غيره ثم بعده النخل أولى من غيره قال المتولي يستحب أن يكون عودا له
رائحة طيبة كالأراك واستدلوا للأراك بحديث أبي خيرة الصباحي رضي الله عنه قال كنت في الوفد
يعني وفد عبد القيس الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر لنا باراك فقال استاكوا
بهذا وأبو خيرة بفتح الخاء المعجمة اسكان المثناة تحت والصباحي بضم الصاد المهملة وبعدها باء
موحدة مخففة وبالحاء المهملة هكذا ضبطه ابن ما كولا وغيره قال ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم
من هذه القبيلة سواه والله أعلم (فرع) في مسائل تتعلق بالسواك قال أصحابنا يستحب أن يبدأ في
الاستياك بجانب فمه الأيمن للحديث الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن

(1) قال في الذخائر وقال بعض أصحابنا وجها انه لا يجزي التسوك بالفاشوك القلاع لأنه لا يسمى سواكا انتهى وهذا ان صح جاز طرده في كل ما لا يسمى سواكا اه‍ أذرعي (2) هذا المقول عن الشيخ نصر قال المحاملي في التعليق الكبير كذا رأيته فيه اه‍ أذرعي
282

في تطهره وترجله وشأنه كله وقياسا على الوضوء قال القاضي حسين وينوى به الاتيان بالسنة (1) ولا بأس
بالاستياك بسواك غيره باذنه للحديث الصحيح فيه قالوا ويستحب أن يعود الصبي السواك ليألفه كسائر
العبادات قال الصيمري ويستحب إذا أراد أن يستاك ثانيا ان يغسل مسواكه وهذا يحتج له بحديث
عائشة رضي الله عنها قالت كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يستاك فيعطيني السواك لا غسله فأبدأ به
فاستاك ثم أغسله فادفعه إليه حديث حسن رواه أبو داود باسناد جيد وهذا محمول على ما إذا حصل عليه
شئ من وسخ أو رائحة ونحوهما قال الصيمري ويكره أن يدخل مسواكه في ماء وضوئه وهذا فيه نظر
(2) وينبغي ألا يكره: قال الروياني قال بعض أصحابنا يستحب أن يقول عند ابتداء السواك اللهم
بيض به أسناني وشد به لثاتي وثبت به لهاتي وبارك لي فيه يا ارحم الراحمين وهذا الذي قاله وإن لم يكن
له أصل فلا بأس به فإنه دعاء حسن * قال المصنف رحمه الله *
(ويستحب أن يقلم الأظافر ويقص الشارب ويغسل البراجم وينتف الإبط ويحلق العانة لما
روى عمار بن ياسر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال الفطرة عشرة المضمضة
والاستنشاق والسواك وقص الشارب وتقليم الأظافر وغسل البراجم ونتف الإبط والانتضاح
بالماء والختان والاستحداد) * (الشرح) في هذه القطعة جمل وبيانها بمسائل إحداها حديث عمار رواه
أحمد بن حنبل وأبو داود وابن ماجة باسناد ضعيف منقطع من رواية علي بن زيد بن جدعان
عن سلمة بن محمد بن عمار عن عمار قال الحفاظ لم يسمع سلمة عمارا ولكن يحصل الاحتجاج
بالمتن لأنه رواه مسلم في صحيحه من رواية عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر
من الفطرة قص الشارب واعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم
ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء قال مصعب بن شيبة أحد رواته ونسيت العاشرة

(1) وقال في الذخائر يستحب ان ينوي به تطهير فمه لقراءة القرآن اه‍ الأذرعي
(2) هذا الذي قاله الصيمري قريب إذا كان عليه وسخ أو نحوه والا فالمختار أنه لا يكره إذ لا نهي فيه اه‍ أذرعي
283

إلا أن تكون المضمضة وقال وكيع وهو أحد رواته انتقاص الماء الاستنجاء وهو بالقاف
والصاد المهملة
المسألة الثانية: في لغاته فالظفر فيه لغات ضم الظاء والفاء واسكان الفاء وبكسر الظاء مع
اسكان الفاء وكسرها واظفور والفصيح الأول وبه جاء القرآن والبراجم بفتح الباء الموحدة جمع برجمة
بضمها وهي العقد المتشنجة الجلد في ظهور الأصابع وهي مفاصلها التي في وسطها بين الرواجب
والأشاجع فالرواجب هي المفاصل التي تلي رؤوس الأصابع والأشاجع بالشين المعجمة هي المفاصل
التي تلي ظهر الكف وقال أبو عبيد الرواجب والبراجم جميعا هي مفاصل الأصابع كلها وكذا قاله
صاحب المحكم وآخرون وهذا مراد الحديث إن شاء الله فإنها كلها تجمع الوسخ وأما الإبط فباسكان
الباء وفيه لغتان التذكير والتأنيث حكاهما أبو القاسم الزجاجي وآخرون قال ابن السكيت الإبط
مذكر وقد يؤنث فيقال إبط حسن وحسنة وابيض وبيضاء: وأما الفطرة فبكسر الفاء وأصلها الخلقة
قال الله تعالى (فطرة الله التي فطر الناس عليها) واختلفوا في تفسيرها في هذا الحديث: فقال
المصنف في تعليقه في الخلاف: والماوردي في الحاوي: وغيرهما من أصحابنا هي الدين: وقال الإمام أبو
سليمان الخطابي فسرها أكثر العلماء في هذا الحديث بالسنة: قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح هذا
فيه أشكال لبعد معني السنة من معنى الفطرة في اللغة قال فلعل وجهه ان أصله سنة الفطرة أو أدب الفطرة فحذف
المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه: قلت تفسير الفطرة هنا بالسنة هو الصواب: ففي صحيح البخاري
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من السنة قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار
وأصح ما فسر به غريب الحديث تفسيره بما جاء في رواية أخرى لا سيما في صحيح البخاري: وأما قوله
صلى الله عليه وسلم الفطرة عشرة فمعناه معظمها عشرة كالحج عرفة فإنها غير منحصرة في العشرة:
284

ويدل عليه رواية مسلم عشر من الفطرة وأما ذكر الختان. في جملتها وهو واجب وباقيها سنة فغير ممتنع
فقد يقرن المختلفان كقول الله تعالى (كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه) والأكل مباح والايتاء
واجب وقوله تعالى (فكاتبوهم ان علمتم فيهم خيرا وآتوهم) والايتاء واجب والكتابة سنة
ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة مشهورة: وأما الانتضاح فاختلف فيه فقيل هو نضح الفرج
بقليل من الماء بعد الوضوء لدفع الوسواس: والصحيح الذي قاله الخطابي والمحققون انه الاستنجاء
بالماء: بدليل رواية مسلم وانتقاص الماء: وهو بالقاف والصاد المهملة: قال الخطابي هو مأخوذ
من النضح وهو الماء القليل: وأما الاستحداد فهو استعمال الحديدة: وصار كناية عن حلق
العانة وأما راوي الحديث فهو أبو اليقظان (1) عمار بن ياسر واسم أم عمار سمية بضم السين المهملة
وهو وأبوه ياسر وأمه سمية صحابيون رضي الله عنهم: وكانوا ممن تقدم اسلامهم في أول الأمر
وكانوا يعذبهم الكفار على الاسلام فيمر بهم النبي صلى الله عليه وسلم فيقول صبرا آل ياسر فان
موعدكم الجنة وسمية أول شهيدة في الاسلام توفى عمار سنة سبع وثلاثين وهو ابن ثلاث وقيل
أربع وتسعين سنة رضي الله عنه: والله أعلم
المسألة الثالثة في الأحكام أما تقليم الأظفار فمجمع على أنه سنة: وسواء فيه الرجل والمرأة

(1) في علوم الحديث لا يعرف مسلم بن مسلمين شهد بدر الا عمار ابن ياسر اه‍ أذرعي
285

واليدان والرجلان: ويستحب ان يبدأ باليد اليمنى ثم اليسرى ثم الرجل اليمنى ثم اليسرى
قال الغزالي في الاحياء يبدأ بمسبحة اليمنى ثم الوسطى ثم البصر ثم خنصر اليسرى
إلى ابهامها ثم ابهام اليمنى وذكر فيه حديثا وكلاما في حكمته: وهذا الذي قاله مما أنكره عليه
الإمام أبو عبد الله المأرزى المالكي الامام في علم الأصول والكلام والفقه: وذكر في إنكاره
عليه كلاما لا أوثر ذكره: والمقصود ان الذي ذكره الغزالي لا بأس به: الا في تأخير ابهام اليمنى
فلا يقبل قوله فيه: بل يقدم اليمنى بكمالها ثم يشرع في اليسرى: وأما الحديث الذي ذكره
فباطل لا أصل له وأما الرجلان فيبدأ بخنصر اليمنى ثم يمر على الترتيب حتى يختم بخنصر اليسرى
كما في تخليل الأصابع في الوضوء: وأما التوقيت في تقليم الأظفار فهو معتبر بطولها: فمتى طالت قلمها
ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال: وكذا الضابط في قص الشارب ونتف الإبط وحلق
العانة: وقد ثبت عن أنس رضي الله عنه قال وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط
وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة رواه مسلم وهذا لفظه وفي رواية أبي داود والبيهقي
وقت لنا رسول صلى الله عليه وسلم فذكر ما سبق وقال أربعين يوما لكن اسنادها ضعيف والاعتماد
على رواية مسلم فان قوله وقت لنا كقول الصحابي أمرنا بكذا ونهينا عن كذا وهو مرفوع
كقوله قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المذهب الصحيح الذي عليه الجمهور من أهل
286

الحديث والفقه الأصول: ثم معنى هذا الحديث اتهم لا يؤخرون فعل هذه الأشياء عن وقتها
فان أخروها فلا يؤخرونها أكثر من أربعين يوما وليس معناه الاذن في التأخير أربعين مطلقا:
وقد نص الشافعي والأصحاب رحمهم الله على أنه يستحب تقليم الأظفار والاخذ من هذه الشعور
يوم الجمعة: والله أعلم
ولو كان تحت الأظفار وسخ فإن لم يمنع وصول الماء إلى ما تحته لقلته صح الوضوء وان منع
فقطع المتولي بأنه لا يجزيه ولا يرتفع حدثه: كما لو كان الوسخ في موضع آخر من البدن وقطع
الغزالي في الاحياء بالاجزاء وصحة الوضوء والغسل وانه يعفى عنه للحاجة: قال لان النبي صلى
الله عليه وسلم كان يأمرهم بتقليم الأظفار وينكر ما تحتها من وسخ ولم يأمرهم بإعادة الصلاة والله أعلم
واما قص الشارب فمتفق على أنه سنة ودليله الحديثان السابقان وحديث زيد بن أرقم رضي الله عنه قال
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يأخذ من شاربه فليس منا رواه الترمذي في كتاب الاستئذان
من جامعه وقال حديث حسن صحيح: ثم ضابط قص الشارب أن يقص حتى يبدو طرف الشفة
ولا يحفه من أصله هذا مذهبنا وقال أحمد رحمه الله ان حفه فلا بأس وان قصه فلا بأس: واحتج
بالأحاديث الصحيحة كحديث ابن عمر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم قال
احفوا الشارب واعفوا اللحى رواه البخاري ومسلم وفي رواية جزوا الشوارب وفي رواية
انهكوا الشوارب وهذه الروايات محمولة عندنا على الحف من طرف الشفة لامن أصل الشعر: ومما
يستدل به في أن السنة قص بعض الشارب كما ذكرنا ما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال كان
النبي صلى الله عليه وسلم يقص أو يأخذ من شاربه قال وكان إبراهيم خليل الرحمن يفعله رواه
الترمذي وقال حديث حسن وروى البيهقي في سننه عن شرحبيل بن مسلم الخولاني قال رأيت
287

خمسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصون شواربهم أبو أمامة الباهلي وعبد الله بن
بسر وعتبة بن عبد السلمي والحجاج بن عامر الثمالي والمقدام بن معدي كرب كانوا يقصون
شواربهم مع طرف الشفة: وروى البيهقي عن مالك بن أنس الامام رحمه الله انه ذكر احفاء
بعض الناس شواربهم فقال مالك ينبغي أن يضرب من صنع ذلك فليس حديت النبي صلى الله
عليه وسلم كذلك ولكن يبدي حرف الشقة والفم قال مالك حلق الشارب بدعة ظهرت في الناس
قال الغزالي ولا بأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب: فعل ذلك عمر رضي الله عنه وغيره: قلت
ولا بأس أيضا بتقصيره روى ذلك البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما ويستحب في قص الشارب
أن يبدأ بالجانب الأيمن لما سبق ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شئ والتوقيت
في قص الشارب كما سبق في تقليم الأظفار: وهو مخير بين أن يقص شاربه بنفسه أو يقصه له
غيره لان المقصود يحصل من غير هتك مروءة: والله أعلم واما غسل البراجم فمتفق على استحبابه
وهو سنة مستقلة غير مختصة بالوضوء: وقد أوضحها الغزالي في الاحياء والحق بها إزالة ما يجتمع
من الوسخ في معاطف الاذن وقعر الصماخ فيزيله بالمسح. وربما أضرت كثرته بالسمع: قال
وكذا ما يجتمع في داخل الانف من الرطوبات الملتصقة بجوانبه: وكذا الوسخ الذي يجتمع على
غير ذلك من البدن بعرق وغبار ونحوهما: والله أعلم
وأما نتف الإبط فمتفق أيضا على أنه سنة والتوقيت فيه كما سبق في الأظفار فإنه يختلف باختلاف
الأشخاص والأحوال ثم السنة نتفه كما صرح به الحديث: فلو حلقه جاز: وحكي عن يونس
ابن عبد الأعلى قال دخلت على الشافعي رحمه الله وعنده المزين يحلق إبطيه. فقال الشافعي قد
علمت أن السنة النتف ولكن لا أقوي على الوجع ولو أزاله بالنورة فلا بأس: قال الغزالي (1) المستحب

(1) قال ابن جعران رحمه الله الغزالي سقط من أصل الشيخ وألحقته بغلبة
ضني فلينظر من الاحياء أو من غيره اه‍ أذرعي
288

نتفه وذلك سهل لمن تعوده فان حلقه جاز لان المقصود النظافة وان لا يجتمع الوسخ في خلل ذلك
وربما حصل بسببه رائحة: ويستحب أن يبدأ بالإبط الأيمن كما سبق والله أعلم: وأما حلق العانة
فمتفق على أنه سنة أيضا وهل يجب على الزوجة إذا أمرها زوجها: فيه قولان مشهوران أصحهما
الوجوب: وهذا إذا لم يفحش بحيث ينفر التواق فان فحش بحيث نفره وجب قطعا: وستأتي
المسألة مبسوطة في كتاب النكاح حيث ذكرها المصنف إن شاء الله تعالى: والسنة في العانة الحلق
كما هو مصرح به في الحديث فلو نتفها أو قصها أو أزالها بالنورة جاز: وكان تاركا للأفضل وهو
الحلق ويحلق عانته بنفسه ويحرم أن يوليها غيره الا زوجته أو جاريته التي تستبيح النظر إلى عورته
ومسها فيجوز مع الكراهة: والتوقيت في حلق العانة على ما سبق من اعتبار طولها: وانه ان اخره
فلا يجاوز أربعين يوما: وقد فعل من السلف جماعة بالنورة: وكرهها آخرون منهم: وجمع البيهقي
الآثار عنهم في السنن الكبير وأفرد لها بابا: وأما حقيقة العانة التي يستحب حلقها فالمشهور انها
الشعر النابت حوالي ذكر الرجل وقبل المرأة وفوقهما: ورأيت في كتاب الودائع المنسوب إلى
أبي العباس ابن سريج وما أظنه يصح عنه قال العانة الشعر المستدير حول حلقة الدبر: وهذا الذي
قاله غريب ولكن لا منع من حلق شعر الدبر وأما استحبابه فلم أر فيه شيئا لمن يعتمد غير هذا فان
قصد به التنظف وسهولة الاستنجاء فهو حسن محبوب والله أعلم: (فرع) يستحب دفن ما أخذ من
289

هذه الشعور والأظفار ومواراته في الأرض نقل ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما واتفق عليه
أصحابنا وسنبسطه في كتاب الجنائز حيث ذكره الأصحاب إن شاء الله تعالى *
(فرع) سبق في الحديث أن اعفاء اللحية من الفطرة فالاعفاء بالمد: قال الخطابي وغيره
هو توفيرها وتركها بلا قص: كره لنا قصها كفعل الأعاجم: قال وكان من زي كسرى
قص اللحى وتوفير الشوارب: قال الغزالي في الاحياء اختلف السلف فيما طال من اللحية فقيل
لا بأس أن يقبض عليها ويقص ما تحت القبضة: فعله ابن عمر ثم جماعة من التابعين: واستحسنه
الشعبي وابن سيرين. وكرهه الحسن وقتادة: وقالوا يتركها عافية لقوله صلى الله عليه وسلم
وأعفو اللحي قال الغزالي والامر في هذا قريب إذا لم ينته إلى تقصيصها لان الطول المفرط قد
يشوه الخلقة هذا كلام الغزالي والصحيح كراهة الاخذ منها مطلقا بل يتركها على حالها كيف كانت
للحديث الصحيح واعفوا اللحي واما الحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله عليه
وسلم كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها فرواه الترمذي باسناد ضعيف لا يحتج به أما
المرأة إذا نبتت لها لحية فيستحب حلقها صرح به القاضي حسين وغيره وكذا الشارب والعنفقة لها هذا مذهبنا
وقال محمد بن جرير لا يجوز لها حلق شئ من ذلك: ولا تغيير شئ من خلقتها بزيادة ولا نقص: وأما
الاخذ من الحاجبين إذا طالا فلم أر فيه شيئا لأصحابنا وينبغي أن يكره لأنه تغيير لخلق الله لم
يثبت فيه شئ فكره: وذكر بعض أصحاب احمد انه لا بأس به: قال وكان احمد يفعله
290

وحكي أيضا عن الحسن البصري: قال الغزالي تكره الزيادة في اللحية والنقص منها وهو أن يزيد
في شعر العذارين من شعر الصدغين إذا حلق رأسه أو ينزل بعض العذارين: قال
وكذلك نتف جانبي العنفقة وغير ذلك فلا يغير شيئا: وقال أحمد بن حنبل لا بأس بحلق ما تحت
حلقه من لحيته ولا يقص ما زاد منها على قبضة اليد: وروى نحوه عن ابن عمرو أبي هريرة وطاوس
وما ذكرناه أولا هو: الصحيح والله أعلم *
(فرع) ذكر أبو طالب المكي في قوت القلوب ثم الغزالي في الاحياء في اللحية عشر خصال
مكروهة: إحداها خضابها بالسواد الا لغرض الجهاد ارعابا للعدو باظهار الشباب والقوة فلا
بأس إذا كان بهذه النية: لا لهوى وشهوة: هذا كلام الغزالي وسأفرد فرعا للخضاب بالسواد
قريبا إن شاء الله تعالى: الثانية تبييضها بالكبريت أو غيره استعجالا للشيخوخة واظهارا للعلو
في السن لطلب الرياسة والتعظيم والمهابة والتكريم ولقبول حديثه وايهاما للقاء المشايخ ونحوه:
الثالثة خضابها بحمرة أو صفرة تشبها بالصالحين ومتبعي السنة لا بنية اتباع السنة: الرابعة نتفها
في أول طلوعها وتخفيفها بالموسى ايثارا للمرودة واستصحابا للصبي وحسن الوجه وهذه الخصلة
من أقبحها: الخامسة نتف الشيب وسيأتي بسطه إن شاء الله تعالى: السادسة تصفيفها وتعبيتها طاقة فوق
طاقة للتزين والتصنع ليستحسنه النساء وغيرهن. السابعة الزيادة فيها والنقص منها: كما سبق:
291

الثامنة تركها شعثة منتفشة إظهارا للزهادة وقلة المبالاة بنفسه: التاسعة تسريحها تصنعا: العاشرة
النظر إليها اعجابا وخيلاء غرة بالشباب وفخرا بالمشيب وتطاولا على الشباب: وهاتان الخصلتان
في التحقيق لا تعود الكراهة فيهما إلى معنى في اللحية بخلاف الخصال السابقة والله أعلم: ومما يكره
في اللحية عقدها ففي سنن أبي داود وغيره عن رويفع رضي الله عنه باسناد جيد قال قال لي رسول
الله صلى الله عليه وسلم يا رويفع لعل الحياة ستطول بك فأخبر الناس أنه من عقد لحيته أو تقلد وترا
أو استنجى برجيع دابة أو عظم فان محمدا منه برئ قال الخطابي في عقدها تفسيران أحدها
أنهم كانوا يعقدون لحاهم في الحرب وذلك من زي العجم: والثاني معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد
وذلك من فعل أهل التأنيث والتوضيع *
(فرع) يكره نتف الشيب لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال لا تنتفوا الشيب فإنه نور المسلم يوم القيامة حديث حسن رواه أبو داود والترمذي
والنسائي وغيرهم بأسانيد حسنة قال الترمذي حديث حسن هكذا: قال أصحابنا يكره صرح به
الغزالي كما سبق والبغوي وآخرون: ولو قيل يحرم للنهي الصريح الصحيح لم يبعد: ولا فرق
292

بين نتفه من اللحية والرأس
(فرع) قال أصحابنا يستحب ترجيل الشعر ودهنه غبا وقد سبق تفسير الغب وتسريح
اللحية: لحديث أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من كان له شعر فليكرمه رواه
أبو داود باسناد حسن وعن عبد الله بن مغفل بالغين المعجمة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
نهي عن الترجل الا غبا حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي بأسانيد صحيحة
قال الترمذي حديث حسن صحيح: وعن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن بعض أصحاب النبي
صلى الله عليه وسلم قال نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمتشط أحدنا كل يوم رواه
النسائي باسناد صحيح: وجهالة اسم الصحابي لا يضر لأنهم كلهم عدول: (فرع) يسن خضاب
293

الشيب بصفرة أو حمرة اتفق عليه أصحابنا: وممن صرح به الصيمري والبغوي وآخرون للأحاديث
الصحيحة المشهورة في ذلك: منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم رواه البخاري ومسلم.
(فرع) اتفقوا على ذم خضاب الرأس أو اللحية بالسواد، ثم قال الغزالي في الاحياء والبغوي
في التهذيب وآخرون من الأصحاب هو مكروه: وظاهر عباراتهم انه كراهة تنزيه: والصحيح
بل الصواب انه حرام: وممن صرح بتحريمه صاحب الحاوي في باب الصلاة بالنجاسة: قال إلا أن
يكون في الجهاد: وقال في آخر كتابه الأحكام السلطانية يمنع المحتسب الناس من خضاب الشيب
بالسواد الا المجاهد: ودليل تحريمه حديث جابر رضي الله عنه قال أتي بأبي قحافة والد أبي بكر الصديق
رضي الله عنهما يوم فتح مكة ورأسه ولحيته كالثغامة بياضا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم غيروا
هذا واجتنبوا السواد رواه مسلم في صحيحه والثغامة بفتح الثاء المثلثة وتخفيف الغين المعجمة نبات
له ثمر أبيض وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون قوم يخضبون
في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة رواه أبو داود والنسائي وغيرهما ولا
فرق في المنع من الخضاب بالسواد بين الرجل والمرأة: هذا مذهبنا: وحكي عن إسحاق بن راهويه انه
رخص فيه للمرأة تتزين به لزوجها والله أعلم *
(فرع) أما خضاب اليدين والرجلين بالحناء فمستحب للمتزوجة من النساء: للأحاديث المشهورة
فيه وهو حرام على الرجال الا لحاجة التداوي ونحوه: ومن الدلائل على تحريمه قوله صلى الله عليه وسلم
294

في الحديث الصحيح لعن الله المتشبهين بالنساء من الرجال ويدل عليه الحديث الصحيح عن
أنس ان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل رواه البخاري ومسلم وما ذاك الا للونه
لا لريحه فان ريح الطيب للرجال محبوب والحناء في هذا كالزعفران وفي كتاب الأدب من سنن أبي
داود عن أبي هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم أتي بمخنث قد خضب يديه ورجليه بالحناء فقال
ما بال هذا فقيل يا رسول الله يتشبه بالنساء فأمر به فنفى إلى النقيع فقالوا يا رسول الله ألا نقتله فقال إني
نهيت عن قتل المصلين لكن اسناده فيه مجهول والنقيع بالنون: وسعيد هذا الحديث في أول كتاب
الصلاة حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى: وقد أوضح الامام الحافظ أبو موسى الأصبهاني هذه
المسألة وبسطها بالأدلة المتظاهرة في كتابه الاستغناء في معرفة استعمال الحناء وهو كتاب نفيس: وسنعيد
هذه المسألة مبسوطة مع نظائرها في أول باب طهارة البدن: إن شاء الله تعالى عند ذكر من جبر عظمه
بعظم نجس فهناك ذكرها الشافعي في المختصر والأصحاب: والله أعلم *
(فرع) ومن هذا القبيل ما روى يعلي بن مرة الصحابي رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله
عليه وسلم رأي رجلا عليه خلوق فقال اذهب فاغسله ثم اغسله ثم لا تعد رواه الترمذي والنسائي
قال الترمذي حديث حسن وفي النهي عن الخلوق للرجال أحاديث كثيرة وهو مباح للنساء:
(فرع) يستحب فرق شعر الرأس لحديث ابن عباس رضي الله عنه كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم
وكان المشركون يفرقون رؤسهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل
الكتاب فيما لم يؤمر به فسدل رسول الله صلى الله عليه وسلم ناصيته ثم فرق بعده رواه
البخاري ومسلم *
(فرع) يكره القزع وهو حلق بعض الرأس لحديث بن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين
قال نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القزع وقد ذكره المصنف في باب العقيقة وسيأتي
هناك مبسوطا إن شاء الله تعالى *
(فرع) أما حلق جميع الرأس فقال الغزالي لا بأس به لمن أراد التنظيف ولا بأس بتركه لمن
أراد دهنه وترجيله: هذا كلام الغزالي: وكلام غيره من أصحابنا في معناه: وقال أحمد بن
295

حنبل رحمه الله لا بأس بقصه بالمقراض وعنه في كراهة حلقه روايتان: والمختاران لا كراهة فيه
ولكن السنة تركه فلم يصح ان النبي صلى الله عليه وسلم حلقه الا في الحج والعمرة ولم يصح
تصريح بالنهي عنه: ومن الدليل على جواز الحلق وانه لا كراهة فيه حديث ابن عمر رضي الله
عنهما قال رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيا قد حلق بعض شعره وترك بعضه فنهاهم
عن ذلك وقال احلقوه كله أو اتركوه كله رواه أبو داود باسناد صحيح على شرط
البخاري ومسلم: وعن عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر
ثلاثا ثم أتاهم فقال لا تبكوا على أخي بعد اليوم ثم قال ادعوا لي بنى أخي نجئ بنا كأنا أفرخ
فقال ادعو إلى الحلاق فأمره فحلق رؤوسنا حديث صحيح رواه أبو داود باسناد صحيح على
شرط البخاري ومسلم
(فرع) يحرم وصل الشعر بشعر على الرجل والمرأة وكذلك الوشم للأحاديث الصحيحة
في لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والواشرة إلى آخرهن وسنوضح المسألة ان شاء
296

الله تعالى في باب طهارة البدن عند وصل العظم حيث ذكرها الأصحاب ونذكر هناك جملا من الفروع
المتعلقة بها إن شاء الله تعالى *
(فرع) له تعلق بما تقدم يكره لمن عرض عليه طيب أو ريحان رده لحديث أبي هريرة قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من عرض عليه طيب فلا يرده رواه مسلم وعن
أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرد الطيب رواه البخاري * قال المصنف رحمه الله
(ويجب الختان لقوله تعالي) (أن اتبع ملة إبراهيم) وروى أن إبراهيم صلى الله عليه
وسلم ختن نفسه بالقدوم ولأنه لو لم يكن واجبا لما كشفت له العورة لان كشف
العورة محرم فلما كشفت له العورة دل على وجوبه)
(الشرح) روي أبو هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اختتن
إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم رواه البخاري ومسلم وينكر على
المصنف قوله روى بصيغة الترميض الموضوعة للتضعيف مع أنه في الصحيحين قد سبق له نظيره
ونبهنا عليه هناك وقد سبق ايضاح هذه القاعدة في مقدمة الكتاب: وفي القدوم روايتان
التخفيف والتشديد والأكثرون رووه بالتشديد: وعلى هذا هو اسم مكان بالشام ورواه جماعة
297

بالتخفيف: وقيل إنه قول أكثر أهل اللغة: واختلفوا على هذا فقيل المراد به أيضا موضع
بالشام وانه يجوز فيه التشديد والتخفيف: وقال الأكثرون المراد به آلة النجار وهي مخففة
لا غير وجمعها قدم: قال أبو حاتم السجستاني ويجمع أيضا على قدائم ولا يقال قد أديم قال وهي
مؤنثة واتفقوا على فتح القاف في الآلة والمكان والله أعلم: فان قيل لا دلالة في الآية على وجوب
الختان لأنا أمرنا بالتدين بدينه فما فعله معتقدا وجوبه فعلناه معتقدين وجوبه وما فعله ندبا فعلناه
ندبا ولم يعلم أنه كان يعتقده واجبا: فالجواب ان الآية صريحة في اتباعه فيما فعله وهذا يقتضي ايجاب
كل فعل فعله الا ما قام دليل على أنه سنة في حقنا كالسواك ونحوه: وقد نقل الخطابي ان خصال
298

الفطرة كانت واجبة على إبراهيم صلى الله عليه وسلم: وأما الاستدلال بكشف العورة فقد ذكره
آخرون مع المصنف وقاله قبلهم أبو العباس بن سريج رحمه الله وأورد عليه كشفها للمداواة التي
لا تجب (1) والجواب ان كشفها لا يجوز لكل مداواة وإنما يجوز في موضع يقول أهل العرف ان
المصلحة في المداواة راجحة على المصلحة في المحافظة على المروءة وصيانة العورة كما سنوضحه ان شاء

(1) هذا الجواب فيه نظر والايراد متجه ولا يندفع الا بوجوب المداواة ولا تجب اه‍ أذرعي
299

الله تعالى في أول كتاب النكاح حيث ذكره المصنف والأصحاب: فلو كان الختان سنة لما كشفت العورة
المحرم كشفها له: واعتمد المصنف في كتابه في الخلاف والغزالي في الوسيط وجماعة قياسا فقالوا الختان قطع
عضو سليم: فلو لم يجب لم يجز كقطع الإصبع فان قطعها إذا كانت سليمة لا يجوز الا إذا وجب بالقصاص
والله أعلم: (فرع) الختان واجب على الرجال والنساء عندنا وبه قال كثيرون من السلف كذا حكاه
الخطابي وممن أوجبه أحمد وقال مالك وأبو حنيفة سنة في حق الجميع (1) وحكاه الرافعي وجها لنا: وحكي وجها
ثالثا انه يجب على الرجل وسنة في المرأة: وهذان الوجهان شاذان: والمذهب الصحيح المشهور الذي نص

(1) قال في شرح مسلم وهو قول أكثر العلماء اه‍ أذرعي
300

عليه الشافعي رحمه الله وقطع به الجمهور انه واجب على الرجال والنساء: ودليلنا ما سبق فان احتج القائلون
بأنه سنة بحديث الفطرة عشر ومنها الختان فجوابه قد سبق عند ذكرنا تفسير الفطرة والله أعلم (فرع)
قال أصحابنا الواجب في ختان الرجل قطع الجلدة التي تغطي الحشفة بحيث تنكشف الحشفة كلها فان
قطع بعضها وجب قطع الباقي ثانيا صرح به امام الحرمين وغيره: وحكي الرافعي عن ابن كج أنه قال
عندي انه يكفي قطع شئ من القلفة وإن قل بشرط أن يستوعب القطع تدوير رأسها: وهذا
الذي قاله ابن كج شاذ ضعيف: والصحيح المشهور الذي قطع به الأصحاب في الطريق ما قدمناه
301

انه يجب قطع جميع ما يغطى الحشفة والواجب في المرأة قطع ما ينطلق عليه الاسم من الجلدة التي
كعرف الديك فوق مخرج البول صرح بذلك أصحابنا واتفقوا عليه قالوا ويستحب أن يقتصر
في المرأة على شئ يسير ولا يبالغ في القطع: واستدلوا فيه بحديث عن أم عطية رضي الله عنها ان
امرأة كانت تختن بالمدينة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم لا تنهكي فان ذلك أحظى للمرأة
وأحب إلى البعل رواه أبو داود ولكن قال ليس هو بالقوى وتنهكي بفتح التاء والهاء أي
لا تبالغي في القطع والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا وقت وجوب الختان بعد البلوغ لكن يستحب للولي أن يختن الصغر
302

في صغره لأنه أرفق به: قال صاحب الحاوي وصاحب المستظهري والبيان وغيرهم يستحب ان
يختن في اليوم السابع لخبر ورد فيه إلا أن يكون ضعيفا لا يحتمله فيؤخره حتى يحتمله: قال صاحب
الحاوي والمستظهري وهل يحسب يوم الولادة من السبعة فيه وجهان قال أبو علي بن أبي هريرة
يحسب: وقال الأكثرون لا يحسب: فيختن في السابع بعد يوم الولادة ذكره صاحب المستظهري
في باب التعزير قال صاحب الحاوي فان ختنه قبل اليوم السابع كره: قال وسواء في هذا الغلام والجارية
قال فان أخر عن السابع استحب ختانه في الأربعين: فان أخر استحب في السنة السابعة واعلم
أن هذا الذي ذكرناه من أنه يجوز ختانه في الصغر ولا يجب لكن يستحب هو المذهب الصحيح
المشهور الذي قطع به الجمهور: وفي المسألة وجه أن يجب على الولي ختانه في الصغر لأنه من مصالحه
فوجب حكاه صاحب البيان عن حكاية القاضي أبي الفتوح عن الصيد لأني وأبي سليمان (1) قال
وقال سائر أصحابنا لا يجب: ووجه ثالث انه يحرم ختانه قبل عشر سنين لان ألمه فوق ألم الضرب
ولا يضرب على الصلاة الا بعد عشر سنين حكاه جماعة منهم القاضي حسين في تعليقه وأشار
إليه البغوي في أول كتاب الصلاة وليس بشئ وهو كالمخالف للاجماع والله أعلم *

(1) هو المروزي صاحب المزني قاله الرافعي اه‍ أذرعي
303

(فرع) لو كان لرجل ذكران قال صاحب البيان أن عرف الأصلي منهما ختن وحده: قال
صاحب الا بانة يعرف الأصل بالبول وقال غيره بالعمل فإن كانا عاملين أو يبول منهما وكانا على
منبت الذكر على السواء وجب ختانهما (1) وأما الخنثى المشكل فقال في البيان قال القاضي
أبو الفتوح يجب ختانه في فرجيه جميعا لان أحدهما واجب ولا يتوصل إليه الا بختانهما كما أن من
تزوج بكرا لما لما يتمكن من وصوله إلى الوطئ المستحق الا بقطع بكارتها كان له ذلك بلا ضمان
قال فإن كان الخنثى صغيرا ختنه الرجال والنساء إذا قلنا بالوجه الضعيف أن الصغير يجب ختانه
وان قلنا بالمذهب انه لا يجب ختان الصغير لم يختن الخنثى الصغير حتى يبلغ فيجب وحينئذ إن كان
هو يحسن الختان ختن نفسه والا اشترى له جارية تختنه فإن لم توجد جارية تحسن ذلك ختنه
الرجال والنساء للضرورة كالتطيب هذا كلام صاحب البيان وقطع البغوي بان لا يختن الخنثى
المشكل لان الجرح على الاشكال لا يجوز ذكره قبل كتاب الصداق بأسطر في فصلين ذكر فيهما
أحكام الخنثى وهذا الذي ذكره البغوي هو الأظهر المختار والله أعلم * (2)
(فرع) قد ذكرنا أنه لا يجب الختان حتى يبلغ فإذا بلغ وجب على الفور قال صاحب
الحاوي وامام الحرمين وغيرهما فإن كان الرجل ضعيف الخلقة بحيث لو ختن خيف عليه لم يجز
أن يختن بل يتنظر حتى يصير يغلب على الظن سلامته قال صاحب الحاوي لأنه لا تعبد فيما
يفضي إلى التلف:
(فرع) لو مات غير مختون فثلاثة أوجه: الصحيح الذي قطع به الجمهور لا يختن لان ختانه

(1) ألم يتميز الأصلي من الزائد اه‍ أذرعي
(2) قال صاحب البيان في زوائده إذا بلغ الخنثى وجب ختانه على مذهبنا بلا خلاف وقال ابن الرفعة أنه المشهور اه‍ أذرعي
304

كان تكليفا وقد زال بالموت: والثاني يختن الكبير والصغير: والثالث يختن الكبير دون الصغير
حكاهما في البيان وهما شاذان ضعيفان: وهذه المسألة موضعها كتاب الجنائز وهناك ذكرها
الأصحاب وسنوضحها هناك إن شاء الله تعالى
(فرع) قال القاضي حسين والبغوي يجب على السيد أن يختن عبده أو يخلى بينه وبين
305

كسبه ليختن به نفسه: قال القاضي فإن كان العبد زمنا فاجرة ختانه في بيت المال: وهذا الذي قاله فيه نظر وينبغي أن يجب على السيد كالنفقة *
(فرع) أجرة ختان الطفل في ماله فإن لم يكن له فعلى من عليه نفقته (1) والله أعلم *
(فرع) قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه التبصرة في الوسوسة لو ولد مختونا بلا قلفة

(1) عبارته في الروضة في باب ضمان الولادة مؤنة الختان في مال المختون والأوجه تجب
على الوالد؟ ختن صغيرا: من هامش الأذرعي
306

فلا ختان لا إيجابا ولا استحبابا: فإن كان من القلفة التي تغطي الحشفة شئ موجود وجب
قطعه كما لو ختن ختانا غير كامل فإنه يجب تكميله ثانيا حتى يبين جميع القلفة التي جرت
العادة بإزالتها في الختان *
(فرع) في مذاهب العلماء في وقت الختان: قد ذكرنا أن أصحابنا استحبوه يوم السابع من
307

ولادته: قال ابن المنذر في كتاب الختان من كتابه الاشراف وهو عقب الا ضحية وهي عقب
كتاب الحج: روى عن أبي جعفر عن فاطمة انها كانت تختن ولدها يوم السابع قال وكره
الحسن البصري ومالك الختان يوم سابعه لمخالفة اليهود قال مالك عامة ما رأيت الختان ببلدنا
إذا ثغر الصبي: وقال أحمد بن حنبل لم أسمع في ذلك شيئا: وقال الليث بن سعد يختن ما بين
308

السبع إلى العشر قال وروى عن مكحول أو غيره ان إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم ختن
ابنه اسحق لسبعة أيام: وإسماعيل لسبع عشرة سنة: قال ابن المنذر بعد حكايته هذا كله ليس
في باب الختان نهي يثبت ولا لوقته حد يرجع إليه ولا سنة تتبع والأشياء على الإباحة
ولا يجوز حظر شئ منها الا بحجة. ولا نعلم مع من منع أن يختن الصبي لسبعة أيام حجة. هذا آخر
كلام ابن المنذر * قال المصنف رحمه الله *
باب
(نية الوضوء)
(الطهارة ضربان: طهارة عن حدث. وطهارة عن نجس: فطهارة النجس لا تفتقر إلى النية
لأنها من باب التروك. فلا تفتقر إلى نية. كترك الزنا والخمر واللواط والغصب والسرقة)
(الشرح) قال أهل اللغة النية القصد وعزم القلب وهي بتشديد الياء وهذه هي اللغة
المشهورة ويقال بتخفيفها. قال الأزهري هي مأخوذة من قولك نويت بلدة كذا أي عزمت
بقلبي قصده قال ويقال للموضع الذي يقصده نية بتشديد الياء ونية بتخفيفها وكذلك الطية
309

والطية العزم والموضع قاله ابن الأعرابي وانتويت موضع كذا أي قصدته للنجعة. ويقال للبلد
المنوي نوى أيضا. ويقال نواك الله أي حفظك كأن المعني قصد الله بحفظه إياك. فالنية عزم
القلب على عمل فرض أو غيره هذا كلام الأزهري: وكذا ذكر غيره تشديد الياء وتخفيفها
من النية: وأما الوضوء فهو من الوضاءة بالمد وهي النظافة والنضارة وفيه ثلاث لغات أشهرها
أنه بضم الواو اسم للفعل وبفتحها اسم للماء الذي يتوضأ به: قال ابن الأنباري وغيره وهذه
اللغة هي قول الأكثرين من أهل اللغة والثانية بفتح الواو فيهما وهي قول الخليل والأصمعي وابن السكيت
وغيرهم قال الأزهري والضم لا يعرف والثالثة بالضم فيهما وهي غريبة ضعيفة حكاها
صاحب مطالع الأنوار: وهذه اللغات هي التي في الطهور والطهور وقد سبقت في أول كتاب
الطهارة والله أعلم * وأما قول المصنف الطهارة ضربان: طهارة عن حدث وطهارة عن نجس: فمعناه أن
الطهارة منحصرة في هذين الضربين فيرد عليه تجديد الوضوء والأغسال المسنونة فإنها طهارة: وليس فيها
رفع حدث ولا إزالة نجس: ويجاب عنه بأن المراد بطهارة الحدث الطهارة بسبب الحدث أو على صورتها:
وينقسم إلى رافعة للحدث وغير رافعة كتجديد الوضوء والأغسال المسنونة والتيمم وقد
سبق مثل هذه العبارة في أول باب ما يفسد الماء من الاستعمال. وذكر المصنف هناك ما يدل
على ما ذكرته والله أعلم: وقوله كترك الزنا هو بالقصر والمدلغتان القصر أشهر وأفصح وبه
جاء القرآن (ولا تقربوا الزنا) وقوله لأنها من باب التروك معناه أن المأمور به في إزالة النجاسة
ترك ما طرأ عليه مما لم يكن: وليس المطلوب تحصيل شئ بخلاف الوضوء وشبهه فان المأمور به
ايجاد فعل لم يكن: فصارت إزالة النجاسة كترك الزنا واللواط ورد المغصوب فإنها لا تفتقر
إلى نية: فان قيل فالطهارة عن الحدث ترك أيضا فإنها ترك للحدث: فالجواب لا نسلم أنها ترك
بل ايجاد للطهارة بدليل أن تجديد الوضوء والتيمم طهارة ولا ترفع حدثا وإنما توجد الطهارة:
فان قيل الصوم ترك ويفتقر إلى النية فالجواب أن الصوم كف مقصود لقمع الشهوة ومخالفة الهوى
310

فالتحق بالأفعال والله أعلم * أما الحكم الذي ذكره وهو ان إزالة النجاسة لا تفتقر إلى نية فهو
المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور ونقل صاحب الحاوي والبغوي في شرح السنة
اجماع المسلمين عليه: وحكي الخراسانيون وصاحب الشامل وجها أنه يفتقر إلى النية: حكاه القاضي
حسين وصاحبا الشامل والتتمة عن ابن سريج وأبي سهل الصعلوكي وقيل لا يصح عن ابن سريج
قال امام الحرمين غلط من نسبه إلى ابن سريج وبين الامام سبب الغلط بما سنذكره في باب إزالة
النجاسة إن شاء الله تعالى والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وأما الطهارة عن الحدث من الوضوء والغسل والتيمم فلا يصح شئ منها الا بالنية لقوله صلى الله
عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات: ولكل امرئ ما نوى ولأنها عبادة محضة طريقها الأفعال
فلم تصح من غير نية كالصلاة) *
(الشرح) هذا الحديث متفق على صحته رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من رواية
أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو حديث عظيم أحد الأحاديث التي عليها مدار
الاسلام بل هو أعظمها. وهي أربعون حديثا. قد جمعتها في جزء: قال الشافعي رحمه الله يدخل
في هذا الحديث ثلث العلم: وقال أيضا يدخل في سبعين بابا من الفقه. وقال غيره نحو هذه
العبارة: وكان السلف يستحبون أن يبدأ كل تصنيف بهذا الحديث لكونه منبها على تصحيح
النية. قال العلماء والمراد بالحديث لا يكون العمل شرعيا يتعلق به ثواب عقاب الا بالنية ولفظة
إنما للحصر تثبت المذكور وتنفى ما سواه: قال الخطابي وأفاد قوله صلى الله عليه وسلم وإنما لكل امرئ
ما نوى فائدة لم تحصل بقوله إنما الأعمال بالنيات وهي أن تعيين العبادة المنوية شرط لصحتها
والله أعلم *
311

وأما قول المصنف ولأنها عبادة محضة. فالمحضة الخالصة التي ليس فيها شوب بشئ
آخر: واختلف العلماء في حد العبادة فقال الأكثرون العبادة الطاعة لله تعالي والطاعة موافقة
الامر وكذا نقل هذا عن المصنف. وذكر المصنف في كتابه في الحدود الكلامية الفقهية خلافا
في العبادة فقال العبادة والتعبد والنسك بمعنى وهو الخضوع والتذلل فحد العبادة ما تعبدنا به
على وجه القربة والطاعة. قال وقيل العبادة طاعة الله تعالى. وقيل ما كان قربة لله تعالي وامتثالا
لا مره. قال وهذان الحدان فاسدان. لأنه قد يكون الشئ طاعة وليس بعبادة ولا قربة وهو
النظر والاستدلال إلى معرفة الله تعالى في ابتداء الامر. وقال امام الحرمين في كتابه الأساليب
في مسائل الخلاف هنا العبادة التذلل والخضوع بالتقرب إلى المعبود بفعل ما أمر. وقال المتولي
في كتابه في الكلام العبادة فعل يكلفه الله تعالى عباده مخالفا لما يميل إليه الطبع على سبيل
الابتلاء وقال الماوردي في الحاوي العبادة ما ورد التعبد به قربة لله تعالى وقيل أقوال أخر
وفيما ذكرناه كفاية *
وأما قول المصنف ولأنها عبادة محضة فاحترز بالعبادة عن الأكل والنوم ونحوهما. وبالمحضة
عن العدة وقوله طريقها الأفعال قال صاحب البيان والقلعي وغيرهما هو احتراز من الأذان والخطبة
وقيل احتراز من إزالة النجاسة. فان طريقها التروك: وأما حكم المسألة فهو أن النية شرط في صحة الوضوء
والغسل والتيمم بلا خلاف عندنا *
(فرع) قد ذكرنا أن النية شرط في صحة الوضوء والغسل والتيمم وهذا مذهبنا وبه قال
الزهري وربيعة شيخ مالك ومالك والليث بن سعد وأحمد بن حنبل واسحق وأبو ثور وأبو عبيد
وداود قال صاحب الحاوي وهو قول جمهور أهل الحجاز: قال الشيخ أبو حامد وغيره ويروى
312

عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وذهبت طائفة إلى أنه يصح الوضوء والغسل والتيمم بلا نية
حكاه ابن المنذر عن الأوزاعي والحسن بن صالح: وحكاه أصحابنا عنهما وعن زفر: وقال
أبو حنيفة وسفيان الثوري يصح الوضوء والغسل بلا نية ولا يصح التيمم الا بالنية وهي رواية
عن الأوزاعي: واحتج لهؤلاء بقول الله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الآية
وبقوله صلى الله عليه وسلم لام سلمة رضي الله عنها إنما يكفيك أن تحثى على رأسك ثلاث حثيات
من ماء ثم تفيضي عليك الماء فإذا أنت قد طهرت وبأحاديث كثيرة في الامر بالغسل من غير
ذكر للنية ولو وجبت لذكرت ولأنها طهارة بمائع فلم تجب لها نية كإزالة النجاسة: ولأنه
شرط للصلاة لا على طريق البدل فلم يجب له نية كستر العورة: واحترزوا عن التيمم لأنه بدل
ولان الذمية التي انقطع حيضها يحل لزوجها المسلم وطؤها بالاجماع إذا اغتسلت ولو وجبت النية لم
تحل لأنها لم تصح منها * واحتج أصحابنا بقول الله تعالى (وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين)
والاخلاص عمل القلب وهو النية والامر به يقتضى الوجوب: قال الشيخ أبو حامد واحتج أصحابنا
بقول الله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) لان معناه فاغسلوا وجوهكم للصلاة وهذا
معنى النية: ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم إنما الأعمال بالنيات لان لفظة إنما للحصر وليس
المراد صورة العمل فإنها توجد بلا نية: وإنما المراد ان حكم العمل لا يثبت الا بالنية ودليل آخر وهو
قوله صلى الله عليه وسلم وإنما لكل امرئ ما نوى) وهذا لم ينو الوضوء فلا يكون له: ومن القياس
أقيسة أحدها قياس الشافعي رحمه الله وهو انها طهارة من حدث تستباح بها الصلاة فلم تصح بلا نية
كالتيمم: وقولنا من حدث احتراز من إزالة النجاسة وقولنا تستباح بها الصلاة احتراز من غسل
الذمية من الحيض: فان قالوا التيمم لا يسمى طهارة: فالجواب انه ثبت في الصحيح قوله صلى الله عليه
313

وسلم جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وفي رواية في صحيح مسلم وتربتها طهورا وثبت انه
صلى الله عليه وسلم قال الصعيد الطيب وضوء المسلم وما كان وضوءا كان طهورا وحصلت به
الطهارة: فان قيل التيمم فرع للوضوء ولا يجوز أن: يؤخذ حكم الأصل من الفرع. فالجواب انه ليس
فرعا له لان الفرع ما كان مأخوذا من الشئ والتيمم ليس مأخوذا من الوضوء بل بدل عنه:
فلا يمتنع أخذ حكم المبدل من حكم بدله: ولأنه إذا افتقر التيمم إلى النية مع أنه خفيف إذ هو في بعض أعضاء
الوضوء فالوضوء أولى: فان قيل التيمم يكون تارة بسبب الحدث وتارة بسبب الجنابة فوجبت فيه
النية ليتميز: فالجواب من وجهين أحدهما ان التمييز غير معتبر ولا مؤثر بدليل انه لو كان جنبا فغلط
وظن أنه محدث فتيمم عن الحدث أو كان محدثا فظن أنه جنب فتيمم للجنابة صح بالاجماع (1)
الثاني ان الوضوء أيضا يكون تارة عن البول وتارة عن النوم فان قالوا وان اختلفت أسبابه فالواجب شئ
واحد: قلنا وكذا التيمم وان اختلفت أسبابه فالواجب مسح الوجه واليدين: فان قيل التيمم بدل
وشأن البدل أن يكون أضعف من المبدل فافتقر إلى نية ككنايات الطلاق. فالجواب ان ما ذكروه
منتقض؟؟ الخف. فإنه بدل ولا يفتقر عندهم إلى النية وإنما افتقرت كناية الطلاق إلى النية
لأنها تحتمل الطلاق وغيره احتمالا واحدا. والصريح ظاهر في الطلاق
وأما الوضوء والتيمم فمستويان بل التيمم أظهر في إرادة القربة لأنه لا يكون عادة بخلاف
صورة الوضوء فإذا افتقر التيمم المختص بالعبادة إلى النية فالوضوء المشترك بينها وبين العادة أولى
فان قيل التيمم نص فيه على القصد وهو النية بخلاف الوضوء. فالجواب ان المراد قصد الصعيد.
وذلك غير النية (قياس آخر) عبادة ذات أركان فوجبت فيها النية كالصلاة: فان قالوا الوضوء

(1) عجب فقد نقل في كتاب التيمم هنا هذه المسألة عن مذهبنا وقال عن أحمد ومالك لا يصح واستدل
للمذهب وبسط القول فيها ذكرها في فرع في مسائل تتعلق بالنية في المسألة الرابعة اه‍ من هامش الأذرعي
وبهامشه أيضا ما نصه هذا الاجماع اخذه من كلام الامام في أوائل باب نية الوضوء
فإنه قال نقل المزني عن العلماء اجماعهم عليه لكن في غلط المتوضئ من حدث إلى حدث
ولم يشعر ان الامام حكى في الباب الذي يليه ثلاثة أوجه أحدهما ان الغلط لا يضر أصلا:
والثاني ان الأدنى يرتفع بالأعلى إذا فرض الغلط كذا والأعلى لا يرتفع بالأدنى هذا
لفظ وأراد بالأدنى والأعلى الحدث الأكبر والأصغر قال ابن الرفعة في المطلب وهذا قد يتخيل منه
اجراء الخلاف فيما إذا غلط في الحدث الأصغر من حدث إلى حدث كما يقتضيه ايراد بعض
الشارحين وعندي أن الخلاف إنما هو في الغلط من الجنابة إلى الحدث الأصغر أو
بالعكس والفرق لائح وبه صرح سراج الدين بن دقيق العيد فقال
إذا نوى رفع حدث النوم والذي به غيره فإن كان عمدا لم يصح على أصح الوجهين وإن كان
غلطا صح على أصح الوجه والثالث يصح ان غلط من الأدنى للأعلى لا العكس والأوجه الثلاثة حكي منها
الفوراني الأول والأخير فيما إذا تيمم لحدث الجنابة وكان عليه الحدث
الأصغر أو بالعكس ونسب الثالث إلى قول الربيع والبويطي قال ابن الرفعة نعم يمكن تخريج
الخلاف فيما إذا غلط من حدث النوم إلى البول مثلا من أن النظر إلى عين المنوي أولى
المقصود منه وسأذكره ثم قال وقد رأيت كلام القاضي حسين مصرحا
بذلك إذ قال في كتاب التيمم فرع لو كان حدثه البول فتوضأ
بنية رفع الحدث عن النوم أو الغائط أو أخطأ من الجنابة إلى الحيض والنفاس إن كان جاهلا
به تصح طهارته وكذا إن كان عالما به على الصحيح من الذهب وفيه وجه آخر
انه لا يصح سواء أخطأ من النوع إلى النوع أو من النوع إلى الجنس لان نية ذلك
غير مغنية وقال مالك لا يجوز سواء أخطأ من الجنس إلى الجنس أو من النوع إلى النوع
وبه قال البويطي والربيع والمراد وعلى الجملة فالامام لما حكي عن الصيد لان الخلاف في
تعيين بعض الاحداث وتبقية ما عداه قال وهذا. يوجب لا محالة
اختلافا في أن الغالط من حدث إلى حدث هل يصح وضؤه اه‍ كلام الامام
وابن الرفعة بحروفه وقد ثبت في المسألة المحكي فيها الاجماع
ثلاثة أوجه أصحها انه لا يصح اه‍
314

ليس عبادة: قلنا لا نسمع هذا. لان العبادة الطاعة أو ما ورد التعبد به قربة إلى الله تعالى وهذا موجود
في الوضوء: وفي صحيح مسلم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الطهور شطر الايمان فكيف يكون
شطر الايمان ولا يكون عبادة. والأحاديث في فضل الوضوء وسقوط الخطايا به كثيرة مشهورة في
الصحيح قد جمعتها في جامع السنة. وكل هذا مصرح بأن الوضوء عبادة: فان قالوا المراد بالوضوء الذي
يترتب عليه هذا الفضل الوضوء الذي فيه نية. ولا يلزم من ذلك أن ما لا نية فيه ليس بوضوء. فالجواب
ان الوضوء في هذه الأحاديث هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم لا يقبل الله صلاة بغير طهور وذكر
الأصحاب أقيسة كثيرة حذفتها كراهة للإطالة * وأما الجواب عن احتجاجهم بالآية والأحاديث فمن
أوجه. أحدها جواب عن جميعها وهو انها مطلقة مصرحة ببيان ما يجب غسله غير متعرضة للنية. وقد
ثبت وجوب النية بالآية والحديث والأقيسة المذكورات. والثاني جواب عن الآية ان
دلالتها لمذهبنا إن لم تكن راحجة فمعارضة لدلالتهم. الثالث عن حديث أم سلمة ان السؤال عن
نقض الضفائر فقط هل هو واجب أم لا. وليس فيه تعرض للنية. وقد عرف وجوب النية من
من قواعد الكتاب والسنة كما ذكرنا. وأما الجواب عن قياسهم على إزالة النجاسة انها من
من باب التروك فلم تفتقر إلى نية: كترك الزنا وتقدم في أول الباب تقريره والاعتراض عليه
وجوابه: وأما الجواب عن قياسهم على ستر العورة فهو ان ستر العورة وإن كان شرطا الا انه
ليس عبادة محضة بل المراد منه الصيانة عن العيون ولهذا يجب ستر عورة من ليس مكلفا ولا
من أهل الصلاة والعبادة كمجنون وصى لا يميز فإنه يجب على وليه ستر عورته: وأما الجواب عن
طهارة الذمية فهو انها لا تصح طهارتها في حق الله تعالى: وليس لها أن تصلى بتلك الطهارة إذا
أسلمت هذا نص الشافعي رحمه الله وهو المذهب الصحيح: وإنما يصح في حق الزوج للوطئ
315

للضرورة إذ لو لم نقل به لتعذر الوطئ ونكاح الكتابية: والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(يجب أن ينوى بقلبه لأن النية هي القصد: تقول العرب نواك الله بحفظه أي قصدك
الله بحفظه: فان تلفظ بلسانه وقصد بقلبه فهو آكد)
(الشرح) النية الواجبة في الوضوء هي النية بالقلب ولا يجب اللفظ باللسان معها: ولا يجزئ
وحده وان جمعها فهو آكد وأفضل هكذا قاله الأصحاب واتفقوا عليه ولنا قول حكاه الخراسانيون
أن نية الزكاة تجزئ باللفظ من غير قصد بالقلب وهو ضعيف ووجه مشهور ذكره المصنف وغيره
أن نية الصلاة تجب بالقلب واللفظ معا وهو غلط وقد أشار الماوردي إلى جريانه في الوضوء
وهو أشذ وأضعف والفرق بين الوضوء والزكاة على هذا القول الضعيف الذي ذكرناه أن الزكاة
وإن كانت عبادة فهي شبيهة بأداء الديون بخلاف الوضوء والفرق بين الصلاة والوضوء في وجوب
اللفظ في الصلاة على الوجه الضعيف دون الوضوء أن نية الوضوء أخف حكما ولهذا اختلف
العلماء في وجوبها وأجمعوا على وجوب نية الصلاة واختلف أصحابنا في جواز تفريق نية الوضوء
على الأعضاء والأصح جوازه واتفقوا على منع ذلك في الصلاة: وأما قول المصنف لأن النية هي
القصد فصحيح كما سبق بيانه وقوله تقول العرب نواك الله بحفظه أي قصدك بحفظه هكذا عبارة شيخه
القاضي أبي الطيب وابن الصباغ وكذا قاله قبلهم الأزهري كما قدمته عنه: وعبارة الأزهري
وإن لم تكن بلفظ عبارة المصنف فهي بمعناها وأنكر الشيخ أبو عمر وبن الصلاح على المصنف
هذه العبارة والنقل عن العرب قال لان القصد مخصوص بالحادث لا يضاف إلى الله تعالى وفي
ثبوت ذلك عن العرب نظر لان الذي في صحاح الجوهري يقول نواك الله أي صحبك في سفرك
وحفظك: ثم ذكر كلام الأزهري ثم قال وكأن الذي في المهذب تحريف من ناقل. هذا
316

كلام أبي عمرو وهذا الذي أنكره غير منكر بل صحيح وأبو عمرو ممن صححه واعتمده فإنه في القطعة
التي شرحها من أول صحيح مسلم في قول مسلم رحمه الله وظننت حين سألتني ذلك تجشم ذلك
أن لو عزم لي عليه قال أبو عمر ويقدم على هذا أن الامر في إضافة الأفعال إلى الله تعالى واسع
لا يتوقف فيه على توقيف كما يتوقف عليه في أسماء الله تعالى وصفاته ولذلك توسع الناس في ذلك
في خطبهم وغيرها قال فإذا ثبت هذا فمراد مسلم لو أراد الله لي ذلك على وجه الاستعارة لان
الإرادة والقصد والعزم والنية متقاربة فيقام بعضها مقام بعض مجازا وقد ورد عن العرب أنها قالت
نواك الله بحفظه فقال فيه بعض الأئمة معناه قصدك الله بحفظه هذا كلام أبي عمرو وهو راد
لكلامه هنا ومعلوم أن من أطلق قصدك الله بحفظه لم يرد القصد الذي هو من صفة الحادث بل
أراد الإرادة وقد استعمل المصنف قصد في حق الله تعالى فقال في فضل ترتيب الوضوء الدليل
عليه قوله تعالى (فاغسلوا وجوهكم وأيديكم) الآية: فأدخل المسح بين الغسل فدل على أنه
قصد ايجاب الترتيب ومراده بالقصد الإرادة: والله أعلم * ويقال عرب بضم العين واسكان
الراء وعرب بفتحهما لغتان الثانية أشهر والعرب مؤنثة والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا رحمهم الله لو قال بلسانه نويت التبرد ونوى بقلبه رفع الحدث أو بالعكس
فالاعتبار بما في القلب بلا خلاف ومثله قاله الشافعي والمصنف والأصحاب في الحج لو نوى بقلبه حجا
وجرى على لسانه عمرة أو عكسه انعقد ما في قلبه دون لسانه والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(والأفضل أن ينوي من أول الوضوء إلى أن يفرغ منه ليكون مستديما للنية: فان نوى
عند غسل الوجه: ثم عزبت نيته أجزأه لأنه أول فرض: فإذا نوى عنده اشتملت النية على
جميع الفروض: وان عزبت نيته عند المضمضة قبل أن يغسل شيئا من وجهه ففيه وجهان: أحدهما
317

يجزيه لأنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض: فإذا عزبت النية عنده أجزأه كغسل الوجه:
والثاني لا يجزيه وهو الأصح لأنه عزبت نيته قبل الفرض: فأشبه إذا عزبت عند غسل الكف:
وما قاله الأول يبطل بغسل الكف: فإنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه فرض: إذا عزبت
النية عنده لم يجزه)
(الشرح) في هذه القطعة مسائل إحداها الأفضل ان ينوى من أول الوضوء ويستديم
احضار النية حتى يفرغ من الوضوء وهذا الاستحباب متفق عليه وأول الوضوء التسمية (1)
قال القاضي أبو الطيب والمتولي يستحب استصحاب نية الوضوء كما يستحب في الصلاة أن يستديم
نيتها من افتتاحها إلى التسليم منها وهذا الذي قالاه تصريح بالتسوية بين الصلاة والوضوء في
استحباب استصحاب النية فيهما إلى الفراغ منهما وإنما ذكرت هذا لأني رأيت كثيرا توهم أن
ذلك لا يستحب في الصلاة لكون الجمهور لم يتعرضوا له وهذا وهم فاسد وذكر الشيخ أبو محمد
الجويني في كتابه الوجيز الذي صنفه في العبادات ان الأكمل أن ينوى مرتين مرة عند ابتداء
وضوءه ومرة عند غسل وجهه ونقل الروياني هذا عن القفال واستحسنه والله أعلم * (المسألة الثانية)

(1) هذا فيه نظر ظاهر بل أول الوضوء السواك
وهو قبل التسمية كما أشار الغزالي في الوسيط إليه وغيره
وصرح به في الاحياء وكذا الماوردي في الإقناع اه‍ من هامش أذرعي
318

إذا نوى عند ابتدأ غسل الوجه ولم ينوى قبله ولا بعده صح وضوءه بلا خلاف ولو غسل نصف
وجهه بلا نية ثم نوى مع غسل باقيه لم يصح ما غسله منه بلا نية بلا خلاف لخلو بعض الفرض عن النية فيعيد
غسل ذلك النصف قبل شروعه في غسل اليدين: وقول المصنف نوى عند غسل الوجه يعني عند
أوله وإذا صح الوضوء بنية عند غسل الوجه قهل يثاب على السنن السابقة للوجه التي لم تصادف نية
وهي التسمية والسواك وغسل الكفين والمضمضة والاستنشاق فيه طريقان أحدهما وبه قطع
الجمهور لا يثاب عليها ولا تحسب من طهارته لأنه عمل بلا نية فلم يصح كغير: ممن قطع بهذا القاضي
حسين وامام الحرمين والغزالي في البسيط والمتولي والبغوي في كتابيه التهذيب وشرح السنة
وصاحب العدة وآخرون: والطريق الثاني ذكره صاحب الحادي انه على وجهين أحدهما هذا
والثاني يثاب ويعتد به من طهارته لأنه من جملة طهارته منوبة وذكر امام الحرمين هذا احتمالا
لنفسه وخرجه ممن نوى صوم التطوع ضحوة فإنه يحسب ثواب صومه من أول النهار على أصح
الوجهين قال والمحفوظ في الوضوء أن النية لا تنعطف: وفرقوا بينه وبين الصوم بفرقين أحدهما
319

ان الصوم خصلة واحدة فإذا صح بعضها صح كلها والوضوء أركان متغايرة فالانعطاف فيها أبعد
والثاني انه لارتباط لصحة الوضوء بالمضمضة فإنه يصح بدونها بخلاف إمساك بقية النهار والله أعلم
(المسألة الثالثة) إذا نوى عند غسل الكف أو المضمضة أو الاستنشاق وعزبت نيته قبل غسل شئ
من الوجه ففيه ثلاثة أوجه مشهورة للخراسانيين وذكرها من العراقيين الماوردي وغيره أحدها
يجزيه ويصح وضوءه قاله أبو حفص بن الوكيل والثاني لا يجزيه قاله أبو العباس بن سريج والثالث
ان عزبت عند الكف لا يجزيه وان عزبت عند المضمضة أو الاستنشاق يجزيه ودليلها ما ذكره
المصنف واتفق الجمهور على أن الأصح انه لا يصح وضوءه وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات
وشذ عنهم الفوراني فصحح الصحة ولو نوى عند التسمية أو الاستنجاء ثم عزبت نيته قبل غسل
الكف قطع الجمهور بأنه لا يجز به وحكي الفوراني وصاحبا العدة والبيان فيه وجها انه يجزيه وليس
بشئ وهذا الذي ذكرناه من الخلاف في المضمضة والاستنشاق هو فيما إذا لم ينغسل معهما شئ
من الوجه بان تمضمض من أنبوبة إبريق ونحوه اما إذا انغسل معهما شئ من الوجه كبعض الشفة
ونحوها كما هو الغالب ففيه طريقان قطع جمهور العراقيين بأنه يصح وضوءه ممن صرح به الشيخ
أبو حامد وأصحابه الثلاثة (1) القاضي أبو الطيب في تعليقة والماوردي والمحاملي في كتابيه
المجموع والتجريد والبندنيجي وابن الصباغ وغيرهم وحكي صاحبا التتمة والعدة وغيرهما وجهين
أحدهما هذا والثاني انه كما لو لم يغسل شيئا من الوجه فيكون فيه الخلاف السابق وقال صاحب

(1) صوابه الأربعة لان البندنيجي من أجل الأصحاب
320

البيان ان غسل ذلك الجزء بنية الوجه أجزأه قطعا والا ففيه الوجهان كما قال صاحبا التتمة والعدة
وانفرد البغوي فقال الصحيح انه يجزيه وان انغسل شئ من الوجه لأنه لم يغسله عن الوجه بدليل
انه لا يجزيه عن الوجه بل يجب غسله ثانيا وهذا قوى ولكن خالفه صاحب التتمة فقال يجزيه غسل
ذلك المغسول من الوجه ولا تجب اعادته إذا صححنا النية وان قال وهذا
على طريقة من يقول يتأدى الفرض بنية النفل وهذه القاعدة فيها خلاف وتفصيل سنذكره
إن شاء الله تعالى في باب سجود السهو حيث ذكرها المصنف والأصحاب وأشار الغزالي في البسيط
إلى نحو هذا الذي في التتمة والله أعلم * (فرع) * قول المصنف لأنه فعل راتب في الوضوء لم يتقدمه
فرض احترز بقوله فعل عن التسمية وبقوله راتب في الوضوء من الاستنجاء وبقوله لم يتقدمه
فرض من غسل الذراعين: وقوله نوى عند غسل الوجه يقال عند وعند وعند بكسر العين وفتحها وضمها
ثلاث لغات حكاهن ابن السكيت وغيره أشهرهن الكسر وبها جاء القرآن وقوله عزبت أي ذهبت
وهو بفتح الزاي والمضارع يعزب بضم الزاي وكسرها لغتان مشهورتان والمصدر عزوب والله أعلم
: (فرع) وقت نية الغسل عند إفاضة الماء على أول جزء من البدن ولا يضر عزوبها بعده ويستحب
استصحابها إلى الفراغ كالوضوء فان غسل بعض البدن بلا نية ثم نوى أجزأه ما غسل بعد
النية ويجب إعادة ما غسله قبلها والله أعلم * وقال المنصف رحمه الله *
(وصفة النية ان ينوى رفع الحدث أو الطهارة من الحدث وأيهما نوى أجزأه لأنه نوى المقصود
وهو رفع الحدث)
(الشرح) المتوضئون ثلاثة أقسام ما سح خف ومن به حدث دائم كالمستحاضة وغيرهما
ويسمي صاحب طهارة الرفاهية فأما صاحب طهارة الرفاهية فتجزيه نية رفع الحدث بلا خلاف
واما ما سح الخف فالمذهب الصحيح (1) الذي قطع به الأصحاب انه تجزيه نية رفع الحدث كغيره:
وحكي الرافعي وجها انه لا تجزيه بل يلزمه نية استباحة الصلاة وهذا الوجه مع شدة ضعفه ينبغي
أن يكون مفرعا على الوجه الضعيف ان مسح الخف لا يرفع الحدث عن الرجل وسنوضح ذلك في
بابه إن شاء الله تعالى: واما المستحاضة وسلس البول والمذي وغيرهم ممن به حدث دائم ففيهم ثلاثة

(1) في كون ماسح الخف ليس صاحب طهارة رفاهية نظر اه‍ من هامش الأذرعي
321

أوجه الصحيح وبه قطع الجمهور لا تجزيهم نية رفع الحدث وحدها وتجزيهم نية استباحة (1) الصلاة
لأنه لا يرتفع حدثهم مع جريانه وعلى هذا قال المتولي وغيره يستحب لهم الجمع بين نية الاستباحة ورفع
الحدث: والوجه الثاني يجزيهم الاقتصار على نية رفع الحدث أو الاستباحة حكاه الماوردي والرافعي
لان نية رفع الحدث تتضمن الاستباحة والثالث يلزمهم الجمع بين النيتين وهو محكي عن ابن أبي بكر
الفارسي وأبي عبد الله الخضري وأبي بكر القفال (2) المروزي ليكون نية رفع الحدث عن الماضي ونية
الاستباحة عن المقارن والتجدد وضعف الأصحاب هذا الوجه أشد تضعيف وهو حقيق بذلك قال
امام الحرمين هذا الوجه غلط لا شك فيه فان نية الاستباحة كافية وكيف يرتفع الحدث مع جريانه
وإذا لم يرتفع فكيف تجب نيته ونقل المتولي الاتفاق على أنه لا يجب الجمع بينهما قال المتولي وغيره
ولأنه إذا أجزأت نية الاستباحة صاحب طهارة الرفاهية فالمستحاضة أولى *
(فرع) (1) ذكر الماوردي في صاحب طهارة الرفاهية انه لو كان محدثا الحدث الأصغر
كفاه نية رفع الحدث وإن كان جنبا أو حائضا كفاه أيضا نية رفع الحدث مطلقا لأنها تنصرف إلى
حدثه فلو نوى الحدث الأكبر كان تأكيدا وهو أفضل وهكذا قطع امام الحرمين في باب غسل
الجنابة وجماعات بان الجنب تجزيه نية رفع الحدث مطلقا وحكي الغزالي وغيره فيه وجها انه لا يجزيه:
ولو كان عليه حدثان أصغر وأكبر فاغتسل بنية رفع الحدث مطلقا فان قلنا بالمذهب ان الأصغر
يدخل في الأكبر أجزأه وارتفع الحدثان (3) وإلا فلا يجزيه عن واحد منهما لأنه لا مزية
لأحدهما:
(فرع) لو نوى المحدث غسل أعضائه الأربعة عن الجنابة غالطا ظانا انه جنب صح وضوءه
ان قلنا بالمذهب ان غسل الرأس يجزى عن مسحه والا فيحصل له غسل الوجه واليدين دون الرأس
والرجلين بسبب الترتيب ولو غلط (4) الجنب فظن أنه محدث فاغتسل بنية الحدث فقد ذكر المصنف
في آخر باب الغسل انه يجزيه في أعضاء الوضوء وقال به جماعات من الأصحاب وقال الخراسانيون
فيه وجهان بناء على أن الحدث هل يحل جميع البدن كالجنابة أم الأعضاء الأربعة خاصة وفيه
وجهان سنذكرهما إن شاء الله تعالى فان قلنا نعم صح غسله لأنه نوى طهارة عامة مثل التي عليه

(1) قال ابن الرفعة في المطلب قال الماوردي وليس على صاحب الضرورة تعيين الصلاة
التي يستباح فعلها يعنى بخلاف المتيمم على رأي وقال في التتمة يصح طهرها
بنية استباحة فريضة الصلاة وان طهرت لاستباحة النفل فعل ما ذكرنا في المتيمم
انتهى لفظه قال كاتبه الفقير احمد الأذرعي وفى كلام المتوكل إيماء إلى أن استباحة الصلاة هنا
تكني للفريضة الا عند التعرض لها ويحمل اطلاق الاستباحة على النافلة كالمتيمم إذا قلنا إنه
لا يستبيح بذلك الفرض
(2) المحكي في البحر عن القفال استحباب الجمع لا وجوبه اه‍ من هامش الأذرعي
(3) هذا فيه نظر ظاهر اه‍ أذرعي
(4) ظني ان في فتاوي البغوي ما يخالف هذا اه‍ أذرعي
322

وان قلنا يختص حصل له الأعضاء الأربعة فقط ان قلنا يجزيه غسل الرأس عن مسحه والا حصلت
الأعضاء الثلاثة هذا إذا كان غالطا فلو تعمد ونوى رفع الحدث الأصغر لم يصح غسله على المذهب
الصحيح المشهور وحكي الرافعي فيه وجها والله أعلم
(فرع) قولهم نوى رفع الحدث معناه رفع حكم الحدث * قال المصنف رحمه الله *
(وان نوى الطهارة المطلقة لم يجزئه لأن الطهارة قد تكون عن حدث وقد تكون عن نجس
فلم تصح بنية مطلقة)
(الشرح) هذا الذي جزم به المصنف هو المشهور الذي قطع به الجمهور وقد نص الشافعي
رحمه الله في البويطي على أنه يجزيه فقال أصحابنا هذا النص محمول على أنه أراد الطهارة عن الحدث
فأما النية المطلقة فلا تكفيه وهذا التأويل مشهور في كتب الأصحاب ونقله عن الأصحاب كلهم
القاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب العدة وغيرهما قال القاضي واخل البويطي بقوله عن الحدث
وفي المسألة وجه أنه يجزيه نية الطهارة مطلقا كما هو ظاهر نصه وبه قطع صاحب الحاوي وهذا
الوجه قوى لان نية الطهارة في أعضاء الوضوء على ترتيب المخصوص لا تكون عن نجس وهذا
الخلاف شبيه بالخلاف في وجوب نية الفرضية في صلاة الفرض والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان نوى الطهارة للصلاة أو لأمر لا يستباح الا بطهارة كمس المصحف ونحوه أجزأه
لأنه لا يستباح مع الحدث فإذا نوى الطهارة لذلك تضمنت نيته رفع الحدث)
(الشرح) هذا الذي ذكره نص عليه الشافعي رحمه الله واتفق عليه الأصحاب ثم إذا
نوى الطهارة لشئ لا يستباح الا بالطهارة ارتفع حدثه واستباح الذي نواه وغيره (1) وحكي
الرافعي وجها انه إذا نوى استباحة الصلاة ليصح وضوءه لان الصلاة ونحوها قد تستباح مع
الحدث كالتيمم وهذا شاذ بل غلط وخيال عجيب والصواب الذي قطع به الأصحاب في كل
الطرق صحة وضؤه وفي المصحف ثلاث لغات ضم الميم وكسرها وفتحها أفصحهن الضم ثم
الكسر وقد أوضحتهن في تهذيب الأسماء والله أعلم *
(فرع) إذا نوت المغتسلة عن الحيض استباحة وطئ الزوج فثلاثة أوجه الأصح يصح غسلها
وتستبيح الوطئ والصلاة وغيرهما لأنها نوت ما لا يستباح الا بطهارة: والثاني لا يصح ولا تستبيح

(1) وحكي الرافعي وجها إلى آخره كلام صحيح ولكن كان من حقه ان يذكر انه
إذا نوى استباحة الصلاة انه يجزيه على المذهب الصحيح الذي قطع به الجمهور ثم يقول وحكى
الرافعي وجها إلى آخره وكأنه توهم ان كلامه يضمن ذلك اه‍ من هامش الأذرعي
323

الوطئ ولا تسبيح غيره لأنها نوت ما ينقض الطهارة: والثالث تستبيح به الوطئ ولا تستبيح غيره كاغتسال
الذمية تحت مسلم لانقطاع الحيض قال امام الحرمين الأصح صحة غسلها لأنها نوت حل الوطئ
لا نفس الوطئ وحل الوطئ لا يوجب غسلا * قال المصنف رحمه الله *
(وان نوى الطهارة لقراءة القرآن أو الجلوس في المسجد وغير ذلك مما يستحب له الطهارة
ففيه وجهان أحدهما انه لا يجزيه لأنه يستباح من غير طهارة فأشبه ما إذا توضأ للبس الثوب: والثاني
يجزيه لأنه يستحب له أن لا يفعل ذلك وهو محدث فإذا نوى الطهارة بذلك تضمنت نيته رفع الحدث)
(الشرح) هذان الوجهان مشهوران ودليلهما ما ذكره وأصحهما عند الأكثرين أنه
لا يصح: ممن صححه الشيخ أبو حامد والماوردي والمحاملي والقاضي أبو الطيب في كتابه
شرح الفروع والبغوي والروياني في كتابه الكافي والرافعي وغيرهم وبه قطع البغوي في شرح
السنة وجماعة من أصحاب المختصرات قال الشيخ أبو حامد وهو قول عامة أصحابنا وصحح
جماعة الصحة: منهم ابن الحداد والفوراني والشيخ أبو محمد في الفروق وولده امام الحرمين في كتابه
مختصر النهاية (1) واتفق الأصحاب على أنه لو توضأ لما لا يستحب له الطهارة لا يرتفع
حدثه قال أصحابنا قراءة القرآن والجلوس في المسجد والأذان والتدريس وزيارة قبر
النبي صلى الله عليه وسلم والسعي بين الصفا والمروة والوقوف بعرفات وقراءة حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم ودراسة العلم الشرعي ففي كل هذه الصور الوجهان ذكره الماوردي وغيره:
قال الماوردي وغيره ومما لا يستحب له الوضوء دخول السوق والسلام على الأمير ولبس الثوب
والصيام وعقد البيع والنكاح والخروج إلى السفر ولقاء القادم قال القاضي حسين وكذا زيارة
الوالدين قال البغوي وكذا عيادة المريض وزيارة الصديق والنوم والأكل وهذا الذي قاله في
النوم غير مقبول بل يستحب الوضوء للنوم ممن صرح به من أصحابنا المحاملي في اللباب ودليله
الأحاديث الصحيحة منها حديث البراء بن عازب رضي الله عنهما قال قال لي رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن وقل اللهم
أسلمت نفسي إليك إلى آخر الحديث رواه البخاري ومسلم: ولو نوى تجديد الوضوء أو نوى

(1) وابن الصباغ في باب صفة الصلاة اه‍ أذرعي
324

الجنب غسلا مسنونا ففي ارتفاع حدثه طريقان أحدهما أنه على الوجهين فيما يستحب له الطهارة
وبهذا قطع الماوردي: والثاني وهو المذهب القطع بأنه لا يرتفع حدثه وجنابته لأن هذه الطهارة ليس
استحبابها بسبب الحدث فلا يتضمن رفعه بخلاف الطهارة لقراءة القرآن وشبهها: ولو نوي الجنب
الغسل لقراءة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أو المرور في المسجد ففي ارتفاع جنابته
الوجهان اللذان في المحدث قال المحاملي في المجموع وكذا لو نوى المحدث الوضوء للعبور في المسجد
ففيه الوجهان * قال المصنف رحمه الله *
(وان نوى بطهارته رفع الحدث والتبرد والتنظيف صح وضوءه على المنصوص في البويطي
لأنه نوى رفع الحدث وضم إليه ما لا ينافيه ومن أصحابنا من قال لا يصح وضوءه لأنه أشرك
في النية بين القربة وغيرها)
(الشرح) هذا الذي نقله عن النص هو المذهب الصحيح صححه الأصحاب وقطع به
جماعات منهم صاحب التلخيص والقفال والشيخ أبو حامد والماوردي والفوراني والمحاملي وامام
الحرمين وابن الصباغ والبغوي وغيرهم والوجه الآخر محكي عن ابن سريج وضعفوا تعليله
بالتشريك وقالوا ليس هذا تشريكا وإنما صححنا وضوءه لان التبرد حاصل سواء قصده أم لا
فلم يجعل قصده تشريكا وتركا للاخلاص بل هو قصد للعبادة على حسب وقوعها لان من
ضرورتها حصول التبرد: ولو اغتسل بنية رفع الجنابة والتبرد ففيه الخلاف الذي في الوضوء
والصحيح الصحة ذكره الرافعي وغيره والله أعلم *
(فرع) قال صاحب الشامل لو أحرم بالصلاة بنية الصلاة والاشتغال بها عن غريم يطالبه
صحت صلاته لان اشتغاله عن الغريم لا يفتقر إلى قصد ولهذه المسألة نظائر في الطواف بنية
الطواف والاشتغال عن الغريم وغيرها وسنوضحها هناك إن شاء الله تعالى *
(فرع) قال أصحابنا لو أحرم بصلاة ينوى بها الفرض وتحية المسجد صحت صلاته وحصل
له الفرض والتحية جميعا لان التحية يحصل بها الفرض فلا يضر ذكرها تصريحا بمقتضى الحال
325

واتفق أصحابنا على التصريح بحصول الفرض والتحية: وصرحوا بأنه لا خلاف في حصولهما جميعا
ولم أر في ذلك خلافا بعد البحث الشديد سنين: وقال الرافعي وأبو عمرو بن الصلاح لا بد من
جريان خلاف فيه كمسألة التبرد وهذا الذي قالاه لم ينقلاه عن أحد والمنقول ما ذكرناه والفرق
ظاهر فان الذي اعتمده الأصحاب في تعليل البطلان في مسألة التبرد هو التشريك بين القربة
وغيرها وهذا مفقود في مسألة التحية فان الفرض والتحية قربتان إحداهما تحصل بلا قصد فلا يضر
فيها القصد كما لو رفع الامام صوته بالتكبير ليسمع المأمومين فان صلاته صحيحة بالاجماع وإن كان
قد قصد أمرين لكنهما قربتان وهذا واضح لا يحتاج إلى زيادة بيان: ولو نوى بغسله غسل الجنابة
والجمعة حصلا جميعا هذا هو الصحيح وبه قطع المصنف في باب هيئة الجمعة والجمهور وحكي
الخراسانيون وجها انه لا يحصل واحد منهما: قال امام الحرمين هذا الوجه حكاه أبو علي وهو
بعيد قال ولم أره لغيره وحكاه المتولي عن اختيار أبي سهل الصعلوكي وعلى هذا يفرق بينه وبين
التحية بأنها لا تحصل ضمنا وهذا بخلافها على الأصح وقال الرافعي إذا نوي الجمعة والجنابة (1)
يبني على أنه لو اقتصر على الجنابة هل تحصل الجمعة فيه قولان مشهوران ان قلنا لا يحصل لم يصح
الغسل كما لو نوى بصلاته الفرض والسنة وان قلنا يحصل وهو الأصح فوجهان كمسألة التبرد:
والأصح الحصول * قال المصنف رحمه الله *
(وان أحدث احداثا ونوي رفع حدث منها ففيه ثلاثة أوجه أحدها يصح وضوءه لان الاحداث
تتداخل فإذا ارتفع واحد ارتفع الجميع: والثاني لا يصح لأنه لم ينو رفع جميع الاحداث: والثالث
ان نوي رفع الحدث الأول صح وان نوى ما بعده لم يصح لان الذي أوجب الطهارة هو الأول
دون ما بعده والأول أصح)
(الشرح) هذه المسألة فيها خمسة أوجه ذكر المصنف منها ثلاثة بأدلتها أصحها عند جمهور
الأصحاب يصح وضوءه سواء نوى الأول أو غيره وسواء نوى رفع حدث ونفى رفع غيره أو لم
يتعرض لنفى غيره: والثاني لا يصح مطلقا: والثالث ان نوى رفع الأول صح وضوءه وإلا فلا:
والرابع ان نوى رفع الا خير صح وضوءه وإلا فلا لان ما قبل الا خير اندرج فيه حكاه صاحب الشامل

(1) مقتضى هذا البناء ترجيح عدم الحصول إذا نواهما لان الأصح عند الأكثرين في المسألة المنبي عليها عدم حصول الجمعة كما صححه الشيخ رحمه الله وبه جزم الرافعي في المحرر خلاف ما صححه هنا اه‍ هامش الأذرعي
326

وجماعة من الخراسانيين والخامس ان اقتصر على نية رفع أحد الاحداث صح وضوءه وان نفى رفع غيره
فلا: حكاه الماوردي والبغوي والغزالي وآخرون ولو كان على امرأة غسل جنابة وحيض فنوت
أحدهما صح غسلها وحصلا جميعا بلا خلاف والفرق ان هذه النية في الاحداث غير مشروعة
ولا معتادة بخلاف نية الجنابة والحيض فيكون من نوى أحد الاحداث مخالفا مقصرا فجاء فيه
الخلاف بخلاف الحائض والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان نوى أن يصلى به صلاة وأن لا يصلي غيرها ففيه ثلاثة أوجه أحدها لا يصح لأنه لم ينو
كما أمر: والثاني يصح إن نيته للصلاة تضمنت رفع الحدث ونيته أن لا يصلى غيرها لغو: والثالث
انه يصح لما نوى اعتبارا بنيته)
(الشرح) هذه الأوجه مشهورة ودليلها كما ذكر وأصحها عند الأصحاب صحة الوضوء
ويستبيح جميع الصلوات وغيرها مما يتوقف على طهارة ممن صححه القاضي أبو الطيب والمحاملي
في المجموع والفوراني والشاشي والبغوي والروياني وصاحب البيان والرافعي وغيرهم والقائل بأنه
يصح لما نوى فقط هو ابن سريج وبالمنع مطلقا هو أبو علي الطبري وضعف الأصحاب قول ابن سريج
قال الأصحاب ولو نوت المستحاضة ومن في معناها ممن به حدث دائم بوضوئها صلاة فرض
وان لا تصلى به فرضا آخر صح وضوءها بلا خلاف لأنه مقتضى طهارتها: ولو نوت بوضوئها نافلة
وان لا تصلى غيرها أو نوت فريضة وان لا تصلى غيرها من نفل وغيره ففي صحة وضوئها الأوجه الثلاثة
والله أعلم * قال صاحب البيان قال صاحب الفروع لو نوى أن يصلى بوضوئه صلاة وأن لا يصليها
كان متناقضا ولا يرتفع حدثه * قال المصنف رحمه الله *
(ولو نوى نية صحيحة ثم غير النية في بعض الأعضاء بان نوي بغسل الرجل التبرد أو التنظيف
ولم يحضر نية الوضوء لم يصح ما غسله بنية التبرد والتنظيف وان حضرته نية الوضوء وأضاف إليها
نية التبرد فعلى ما ذكرت من الخلاف)
(الشرح) إذا نوى نية صحيحة ثم نوى بغسل الرجل مثلا التبرد فله حالان كما ذكر المصنف
أحدهما أن لا تحضره نية الوضوء في حال غسل الرجل بل ينوى التبرد غافلا عما سواه ففيه وجهان
327

الصحيح منهما وبه قطع العراقيون لا يصح غسل الرجلين: والثاني حكاه الخراسانيون وضعفوه انه
يصح لبقاء حكم النية الأولى فإذا قلنا بالصحيح فقال الجمهور إن لم يطل الفصل ونوى رفع الحدث
ثم غسل ما غسله بنية التبرد: وان طال فهل يبنى أم يستأنف الوضوء فيه القولان في جواز
تفريق الوضوء الصحيح جوازه فيبنى هذه طريقة الجمهور وقال القاضي حسين والبغوي والرافعي
إذا لم يطل الفصل هل يكفيه البناء أم يجب الاستئناف فيه وجهان بناء على الوجهين في جواز
تفريق النية على أعضاء الوضوء وسنذكرهما في مسائل الفرع إن شاء الله تعالى: ان قلنا يجوز تفريقها
وهو الأصح جاز البناء وإلا فلا: وصرح صاحب الحاوي بجواز البناء مع قولنا لا يجوز تفريق
النية الحال الثاني أن يحضره نية الوضوء مع نية التبرد فهو كما لو نوى من أول الطهارة الوضوء
والتبرد وفيه الوجهان المنصوص في البويطي صحة الوضوء. والثاني لا يصح ما غسله بنية التبرد:
فيكون حكمه ما ذكرناه في الحال الأول والله أعلم *
(فرع) لهذه المسألة لو غسل المتوضئ أعضاءه الا رجليه فقط في نهر فانغسلتا فإن كان
ذاكرا للنية صح وضوءه والا فالمذهب انه لا يجزيه غسل الرجلين: وفيه وجه انه يجزيه: هكذا
ذكر المسألة البغوي والمتولي وقال القاضي حسين (1) الأصح صحة وضوئه إذا لم تكن له نية والمختار
ما قاله المتولي والبغوي: والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بالباب إحداها إذا نوى المحدث الوضوء فقط ففي ارتفاع حدثه
وجهان حكاهما الماوردي والروياني أصحهما ارتفاعه: والثاني لا: لان الوضوء قد يكون تجديدا
فلا يرفع حدثا قال الروياني فلو نوى الجنب الغسل لم يجزئه لأنه قد يكون عادة وقد يكون مندوبا
قال امام الحرمين الذي قطع به أئمة المذهب انه إذا نوى بوضوءه أداء الوضوء أو فرض الوضوء
صح وارتفع حدثه وقطع أيضا المتولي بأنه إذا نوى فرض الوضوء أو الجنب أو الحائض فرض
الغسل أجزأهم: فان قيل كيف يصح الوضوء بنية الفرضية قبل دخول وقت الصلاة: فالجواب أن
الوضوء يجب بمجرد الحدث إلا أنه لا يتضيق وقته قبل إرادة الصلاة وهذا على أحد الأوجه في
موجب الوضوء: والثاني أنه القيام إلى الصلاة والثالث: كلاهما وجواب آخر أجاب به الرافعي

(1) قلت لفظ القاضي في آخر في باب سنة الوضوء لو غسل وجهه
ويديه ومسح رأسه ثم زلق فوقع في الماء فانغسلت رجلاه فالمذهب انه لا يجب عليه غسلهما
وفيه وجه انه يجب غسلهما ثانيا لأنه لم يقصد غسلهما: قال ابن الرفعة اي بالماء الذي
سقط فيه والا فنية الوضوء شاملة لهما قال القاضي فجعل كأنه لم يوجد منه الغسل قال ابن الرفعة
وهذا الوجه يظهر اطراده في المغتسل لو شرع يصب الماء عليه بنية الغسل فزلق فوقع في
الماء وفيما إذا وضأه غيره بعد ما نوى من غير اذنه ولا قدر على دفعه ولم يرتض
ذلك دون ما إذا كان بخلاف ذلك لان الفعل ينسب إليه على حال لأجل الرضي به أما حقيقة أو دلالة
بالاذن أو عدم الامتناع مع القدر وعلى هذه الحالة يحمل هذا القائل فيما نظنه نص الشافعي ثم ذكر
ابن الرفعة ما ذكره الشيخ عنه عن البغوي والمتولي والقاضي بحروفه ثم قال
قلت وأنت قد عرفت صورة كلام القاضي وليست بصريحة
فيما قال يعني النووي بل يجوز أن يكون حكايته الخلاف في حال ذكره النية وهو ما يقتضيه سياق كلامه وتعليل الوجه الصائر إلى عدم الاجزاء فاذن هو والمذكوران متوافقون لكنهما لم يحكيا الوجه المخالف للمذهب في كلامه لضعفه فيما نظنه عندهما والله أعلم بالصواب اه‍ أذرعي
328

وهو أن المراد بالفرضية هنا فعل طهارة الحدث المشروطة في صحة الصلاة وشرط الشئ يسمى
فرضا من حيث إنه لا يصح الا به ولو كان المراد حقيقة الفرضية لما صح وضوء الصبي بهذه النية
وهو صحيح بها: (المسألة الثانية) إذا فرق النية على أعضاء الوضوء فنوى عند غسل الوجه رفع
الحدث عن الوجه وعند غسل اليدين رفع الحدث عنهما وكذا عند الرأس والرجلين ففي صحة
وضوءه وجهان مشهوران في كتب الخراسانيين وذكرهما من العراقيين الماوردي وابن الصباغ
وغيرهما أصحهما عند الأصحاب الصحة وبه قطع الشيخ أبو حامد ونقله الرافعي عن معظم الأصحاب
لأنه يجوز تفريق أفعال الوضوء على الصحيح فكذا النية بخلاف الصلاة وغيرها مما لا يجوز فيه
تفريق النية وخالف الغزالي الأصحاب فقال الأصح أنه لا يصح: ثم جمهور الأصحاب أطلقوا
المسألة في تفريق النية وقال الرافعي المشهور أن الخلاف في مطلق التفريق قال وحكي عن بعض
الأصحاب أن الخلاف فيما إذا نوى رفع الحدث عن العضو المغسول دون غيره قال الرافعي ثم من
الأصحاب من بني تفريق نية الوضوء على تفريق أفعاله فقال إن جوزنا تفريق الأفعال فكذا
النية وإلا فلا ومنهم من رتبه عليه فقال إن منعنا تفريق الأفعال فالنية أولى والا فوجهان والفرق
329

أن الوضوء وان فرق أفعاله عبادة واحدة يرتبط ببعض ولهذا لو أراد مس المصحف بوجهه
المغسول قبل غسل باقي الأعضاء لا يجوز فلتشملها نية واحدة بخلاف الأفعال فإنها لا تأتي الا متفرقة
والله أعلم * (الثالثة) أهلية النية شرط لصحة الطهارة فلا يصح وضوء مجنون وصبي لا يميز وأما الصبي
المميز فيصح وضوءه وغسله كما سنوضحه إن شاء الله تعالى في المسألة السادسة: وأما الكافر الأعلى
إذا تطهر ثم أسلم ففيه أربعة أوجه الصحيح المنصوص لا يصح منه وضوء ولا غسل لأنه ليس
من أهل النية: والثاني يصح غسله دون تيممه ووضوءه حكاه المصنف في باب الغسل وحكاه آخرون
وقال امام الحرمين هذا الوجه هو قول أبي بكر الفارسي قال وهو غلط صريح متروك عليه قال
وليس من الرأي أن تحسب غلطات الرجال من متن المذهب: والوجه الثالث يصح منه الغسل
والوضوء دون التيمم حكاه صاحب الحاوي وغيره: والرابع يصح من كل كافر كل طهارة من غسل
ووضوء وتيمم حكاه امام الحرمين وغيره وهو ضعيف جدا: وأما المرتد فقال الرافعي قطع الأصحاب
بأنه لا يصح منه غسل ولا غيره ولو أنقطع حيض مرتدة فاغتسلت ثم أسلمت لم يحل الوطئ الا
بغسل جديد بلا خلاف كذا قالوه وهذا الذي ادعاه الرافعي من الاتفاق ليس متفقا عليه بل
ذكر جماعة الخلاف في المرتد فقال صاحب الحاوي في هذا الباب في صحة غسل المرتد وجهان
وقال امام الحرمين في باب الغسل حكي المحاملي في كتاب القولين والوجهين وجها انه يصح من
كل كافر كل طهارة غسلا كان أو وضوءا أو تيمما قال وهذا في نهاية الضعف فقوله كل كافر يدخل
فيه المرتد هذا تفصيل مذهبنا * وقال أبو حنيفة إذا توضأ الكافر صح وضوءه فيصلى به إذا أسلم
ووافقنا مالك واحمد وداود والجمهور على أنه لا يصح وضوءه والله أعلم * وأما الكتابية تحت
المسلم فإذا انقطع حيضها أو نفاسها لم يحل له الوطئ حتى تغتسل فإذا اغتسلت حل الوطئ للضرورة
وهذا لا خلاف فيه فإذا أسلمت هل يلزمها إعادة ذلك الغسل فيه وجهان أصحهما عند الجمهور
وجوبها: ممن صححه الفوراني والمتولي وصاحب العدة والروياني والرافعي وغيهم وصحح امام
الحرمين عدم الوجوب قال لان الشافعي رحمه الله نص ان الكافر إذا لزمه كفارة فأداها ثم أسلم
لا يلزمه الإعادة قال ولعل الفرق بينهما ان الكفارة يتعلق مصرفها بالآدمي فتشبه الديون بخلاف
الغسل قال المتولي ولا يحل للزوج الوطئ الا إذا اغتسلت بنية استباحة الاستمتاع كما لو ظاهر كافر
330

وأراد الاعتاق لا يجزيه الا بنية العتق عن الكفارة فإذا لم ينو لم يحل له الاستمتاع وحكي الروياني
وجهين أحدهما هذا والثاني يحل الوطئ بغسلها بلا نية للضرورة قال وهذا أقيس وإذا اغتسلت
ثم أسلمت هل لزوجها الوطئ بهذا الغسل قال المتولي هو على الوجهين في وجوب إعادة الغسل
ان أوجبناها لم يحل الوطئ حتى تغتسل والا فيحل وذكر الروياني طريقين أحدهما هذا والثاني
القطع بعدم الحل قال وهو الأصح لزوال الضرورة ولو امتنعت زوجته المسلمة من غسل الحيض
فأوصل الماء إلى بدنها قهرا حل له وطؤها قطع به امام الحرمين وغيره قال امام الحرمين وهل
يلزمها إعادة هذا الغسل لحق الله تعالى فيه الوجهان في الذمية قال ويحتمل القطع بالوجوب لأنها
تركت النية وهي من أهلها وجزم الغزالي بوجوب الإعادة ولم يصرح الامام باشتراط نية الزوج
بغسله إياها الاستباحة والظاهر أنه على الوجهين الآتيين في غسله المجنونة: وأما المجنونة إذا انقطع
حيضها فلا يحل لزوجها وطؤها حتى يغسلها فإذا غسلها حل الوطئ لتعذر النية في حقها وإذا غسلها
الزوج هل يشترط لحل الوطئ أن ينوى بغسله استباحة الوطئ فيه وجهان (1) حكاهما الروياني
وقطع المتولي باشتراط النية وقطع الماوردي بعدم الاشتراط قال بخلاف غسل الميت فإنه يشترط
فيه نية الغسل على أحد الوجهين لان غسله تعبد وغسل المجنونة لحق الزوج فإذا أفاقت لزمها إعادة
الغسل على المذهب الصحيح المشهور وذكر المتولي فيه وجهين كالذمية إذا أسلمت قال وكذا
الوجهان في حل وطئها للزوج بعد الإفاقة والله أعلم * (المسألة الرابعة) إذا تيقن الطهارة ثم شك
في الحدث لم يلزمه الوضوء لكن يستحب له فلو توضأ احتياطا ثم بان انه كان محدثا فهل يجزيه
ذلك الوضوء فيه وجهان مشهوران عند الخراسانيين أصحهما لا يجزيه لأنه توضأ مترددا في النية إذ
ليس هو جاز ما بالحدث والتردد في النية مانع من الصحة في غير الضرورة وقولنا في غير الضرورة
احتراز ممن نسي صلاة من الخمس فإنه يصلى الخمس وهو متردد في النية ولكن يعفى عن
تردده فإنه مضطر إلى ذلك: والوجه الثاني يجزيه لأنها طهارة مأمور بها صادفت الحدث فرفعته
والمختار الأول وبه قطع البغوي في باب ما ينقض الوضوء كما لو شك هل عليه فائتة صلاة الظهر
أم لا فقضاها على الشك ثم بان انها كانت عليه فإنه لا يجزيه قطعا صرح به المتولي بخلاف ما لو كان
محدثا فشك هل توضأ أم لا فتوضأ شاكا ثم بان انه كان محدثا فإنه يصح وضوءه بلا خلاف لان

(1) نقل؟؟ الاتفاق على أن النية لا تشترط فقال ولم ينص أحد من أئمتنا على وجوبها
بل لم يتعرضوا بنفي ولا اثبات ويكفي في استحلالها ايصال الماء إلى بدنها قال فإذا أفاقت
فهل تعيده فيه خلاف كالذمية إذا أسلمت ويبعد عندي هنا وجوب الإعادة بخلاف
الذمية اه‍ أذرعي
331

الأصل بقاء الحدث والطهارة واقعة بسبب الحدث وقد صادفته قال البغوي في هذه الصورة فلو
توضأ ونوى إن كان محدثا فهو عن فرض طهارته والا فهو تجديد صح وضوءه عن الفرض حتى لو
زال شكه وتيقن الحدث لا يجب إعادة الوضوء وبنى بعض الأصحاب هذين الوجهين على الوجهين
في الوضوء لما يستحب له الطهارة: فان قيل قولكم الأصح انه لا يجزيه وتجب الإعادة بمنع وقوع
الوضوء مستحبا ويلزم منه انه لا يستحب إذ لا فائدة فيه بل يحدث ثم يتوضأ وجوبا ولا سبيل إلى
القول بذلك: فالجواب ما أجاب به الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله قال لا نقول بأنه لا يرتفع حدثه
على تقدير تحقق الحدث وإنما نقول لا يرتفع على تقدير انكشاف الحال ويكون وضوءه هذا
رافعا للحدث إن كان موجودا في نفس الامر ولم يظهر لنا للضرورة فإذا انكشف الحال زالت
الضرورة فوجبت الإعادة بنية جازمة قال وهذا كما لو نسي صلاة من خمس (1) فإنه يصلى الخمس
ويجزيه بنية لا يجزى مثلها حال الانكشاف (قلت) ولو نسي صلاة من الخمس فصلى الخمس ثم علم المنسية
فلم أر فيه كلاما لأصحابنا ويحتمل أن يكون على الوجهين في هذه المسألة ويحتمل أن يقطع بأنه لا تجب
الإعادة لأنا أوجبناها عليه وفعلها بنية الواجب ولا نوجبها ثانيا بخلاف مسألة الوضوء فإنه تبرع
به فلا يسقط به الفرض وهذا الاحتمال أظهر والله أعلم *
(المسألة الخامسة) إذا توضأ ثلاثا كما هو السنة فترك لمعة عن وجهه في الغسلة الأولى ناسيا
فانغسلت في الثانية أو الثالثة وهو يقصد بها التنفل فهل يسقط الفرض في تلك اللمعة بهذا
أم يجب إعادة غسلها فيه وجهان وكذا الجنب إذا ترك لمعة من بدنه في الغسلة الأولى ناسيا فانغسلت
في الثانية ففيه الوجهان وكذا لو أغفل لمعة في وضوءه فانغسلت في تجديد الوضوء حيث يشرع
التجديد ففي ارتفاع حدث اللمعة الوجهان وهما مشهوران قال القاضي أبو الطيب في كتابه شرح
الفروع الصحيح انه لا يرتفع حدث اللمعة في المسألتين وقال جمهور الخراسانيين الأصح ارتفاع
الحدث بالغسلة الثانية والثالثة والأصح عدم الارتفاع في مسألة التجديد لان الغسلات الثلاث
طهارة واحدة ومقتضي نيته الأولى ان تحصل الغسلة الثانية بعد كمال الأولى فما لم تتم الأولى لا يقع
عن الثانية وتوهمه الغسل عن الثانية لا يمنع الوقوع عن الأولى كما لو ترك سجدة من الركعة الأولى
وسجد في الثانية فإنه يتم بها الأولى وإن كان يتوهم خلاف ذلك وأما التجديد فطهارة مستقلة مفردة

(1) قال ابن الرفعة في المطلب وفي هذا المثال نظر لأنا نقول المذهب فيمن
نسي صلاة من الخمس ان يقضي الخمس اعتمادا على أن الأصل في كل صلاة منها انه لم يأتي
بها وهي ثابتة في ذمته وعلى هذا لو أنكشف الحال لم يعدها فيما نظن لان نيته لها اعتمدت
أولا بخلاف ما نحن فيه ولا جرم جزم الامام في كتاب الصيام بأنه لا يصح وضوءه بناء على استصحاب
الحال في الطهارة ولكنه قال قياس مذهب المزني في نظير المسألة من الصوم الصحة هنا وهو ما أورده ابن
الصباغ في تجديد الطهارة إذ قال إنه يرفع الحدث ان صادفه والا كان تجديدا اه‍ أذرعي
332

بنية لم توجه إلى رفع الحدث أصلا هذا كله إذا غسل اللمعة معتقدا بها التنفل بالثانية أو الثالثة في
الوضوء أو الغسل فاما لو نسي اللمعة وضوءه أو غسله ثم نسي انه توضأ أو اغتسل فأعاد الوضوء بنية
رفع الحدث والغسل بنية رفع الجنابة فانغسلت تلك اللمعة ثم تذكر الحال فإنه يسقط عنه الفرض ويرتفع حدثه
وجنابته بلا خلاف (1) لان الفرض باق في اللمعة وقد نوى الفرض في الطهارة الثانية وممن صرح بهذا مع ظهوره
جماعات منهم ابن الحداد في فروعه والقاضي أبو الطيب في شرح الفروع والفوراني والبغوي والمتولي
والروياني وآخرون ونقل الفوراني الاتفاق عليه والله أعلم * (المسألة السادسة) نية الصبي المميز صحيحة
وطهارته كاملة فلو تطهر ثم بلغ على تلك الطهارة جاز ان يصلى بها وكذا لو أولج ذكره في فرج
أو لاط به انسان واغتسل الصبي ثم بلغ لا يلزمه إعادة الغسل بل وقع غسله صحيحا مجزيا والصبية
إذا جومعت كالصبي فلو لم يغتسلا حتى بلغا لزمهما الغسل بلا خلاف وحكي المتولي عن المزني
انه ذكر في المنثور أن طهارة الصبي ناقصة فيلزمه الإعادة إذا بلغ وهذا غريب ضعيف جدا والصحيح
المشهور ما قدمته وصرح صاحب الحاوي بأنه يجزيه طهارته في الصبا ويصلى بها بعد البلوغ بلا خلاف
في مذهب الشافعي وأما إذا تيمم ثم بلغ فقطع الماوردي بأنه يصلي به النفل ولا يصلى به الفرض
وقال صاحب العدة والبغوي لا يبطل تيممه على أصح الوجهين فيلي به الفرض والنفل لأنه لو صلى
بذلك التيمم صلاة الوقت ثم بلغ والوقت باق أجزأته ذكر البغوي في باب الغسل وقال الروياني
في باب التيمم قال أصحابنا العراقيون لا يصلى به الفرض وقال القفال فيه وجهان والله أعلم *

(1) قال في البحر وهذا عندي إذا كان ذاكرا للنية وقت غسل تلك اللمعة اه‍ أذرعي
333

(السابعة) هل يشترط الإضافة إلى الله تعالى في نية الوضوء وسائر العبادات فيه وجهان حكاهما
امام الحرمين والغزالي ومن تابعهما أصحهما لا يشترط لان عبادة المسلم لا تكون الا لله تعالى
ومقتضى كلام الجمهور القطع بأنها لا تشترط والله أعلم: (الثامنة) هل تجب النية على غاسل الميت
وتشترط في صحة غسله فيه وجهان مشهوران ذكرهما المصنف وأكثر الأصحاب في كتاب
الجنائز وذكرهما جماعة هنا واختلف في الأصح منهما وسنوضحه في الجنائز إن شاء الله تعالى: (التاسعة)
إذا كان على عضو من أعضاء المتوضي أو المغتسل نجاسة حكمية فغسله مرة واحدة بنية رفع
الحدث وإزالة النجاسة أو بنية رفع الحدث وحده حكم بطهارته عن النجاسة بلا خلاف وهل
يطهر عن الحدث والجنابة فيه وجهان حكاهما الماوردي والشاشي والروياني وغيرهم أصحهما يطهر
وبه قطع القاضي أبو الطيب والشيخ نصر المقدسي في كتابه الانتخاب وابن الصباغ لان مقتضي
الطهارتين واحد فكفاها غسلة واحدة كما لو كان عليها غسل جنابة وغسل حيض: والثاني لا يطهر
وبه قطع القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي وصححه الشاشي في كتابه المعتمد والرافعي
والمختار الأول: ذكر القاضي أبو الطيب والقاضي حسين والبغوي والشيخ نصر هذه المسألة في
هذا الباب وذكرها صاحب الشامل في باب الاجتهاد في الأواني والمتولي في المياه والماوردي
والشاشي والروياني في باب الغسل ولو كان على يده عجين أو طين ونحوهما فغسلهما بنية رفع
الحدث لا يجزيه وإذا جرى الماء إلى موضع آخر لا يحسب عن الطهارة لأنه مستعمل ذكره القاضي
حسين والله أعلم *
(العاشرة) إذا نوي رفع حدث البول ولم يكن حدثه البول بل النوم مثلا فإن كان غالطا
بان ظن حدثه البول صح وضوءه بلا خلاف (1) وقد أشار المزني رحمه الله إلى نقل الاجماع
على هذا فإنه قال في باب التيمم من مختصره ولا نعلم أحدا منع صحة وضوء هذا الغالط وذكر

1) تقدم في أول الباب على الحاشية حكاية خلاف في هذه الصورة وممن حكاه الامام في باب سنن
الوضوء والقاضي حسين في باب التيمم والفوراني والشاشي والله أعلم اه‍ أذرعي
334

امام الحرمين هنا في باب النية أن المزني نقل الاجماع على ذلك قال الامام وفيه عندي أدنى نظر:
وإن كان متعمدا عالما بان حدثه النوم فنوى البول أو غيره فوجهان أحدهما يصح ويلغى تعيينه الحدث
وأصحهما لا يصح لأنه متلاعب نوى ما ليس عليه وترك ما هو عليه مع علمه بخلاف الغالط فإنه يعتقد
أن نيته رافعة لحدثه مبيحة للصلاة وكأنه نوي استباحة الصلاة *
(فرع) في وقوع الغلط في النية أذكر فيه إن شاء الله تعالى جملة مختصرة وهي مقررة
بأدلتها في مواضعها والمقصود جمعها في موضع وهذا أليق المواضع بها قال أصحابنا إذا غلط في نية
الوضوء فنوى رفع حدث النوم وكان حدثه غيره صح بالاتفاق وان تعمد لم يصح على الأصح كما
أوضحناه وكذا حكم الجنب ينوى رفع جنابة الجماع وجنابته باحتلام وعكسه والمرأة تنوى الجنابة
وحدثها الحيض وعكسه فحكمه ما سبق: ولو نوى التيمم استباحة الصلاة بسبب الحدث الأصغر وكان
جنبا أو الجنابة فكان محدثا صح بالاتفاق إذا كان غالطا وسلم امام الحرمين ان احتماله السابق
لا يجئ هنا قال أصحابنا ولو غلط في الصلاة والصوم فنوي غير الذي عليه لم يجزه الا إذا نوى
قضاء اليوم الأول من رمضان مثلا وكان عليه الثاني ففي أجزائه وجهان مشهوران وقد ذكرهما
المصنف في آخر كتاب الصيام لكنه ذكرهما احتمالين وهما وجهان للأصحاب: ولو نوى ليلة الثلاثاء
صوم الغد وهو يعتقده يوم الاثنين أو نوى رمضان السنة التي هو فيها وهو يعتقدها سنة أربع فكانت
سنة ثلاث صح صومه بلا خلاف لتعيينه الوقت بخلاف ما لو نوى صوم الاثنين ليلة الثلاثاء ولم ينو
الغد أو نوى رمضان سنة ثلاث في سنة أربع فإنه لا يصح لعدم التعيين: ولو نوى في الصلاة قضاء
ظهر يوم الاثنين وكان عليه ظهر الثلاثاء لم يجزه صرح به البغوي: ولو كان يؤدى الظهر في وقتها
معتقدا انه يوم الاثنين فكان الثلاثاء صح ظهره صرح به البغوي: ولو غلط في الأذان وظن
أنه يؤذن للظهر وكانت العصر فلا أعلم فيه نقلا وينبغي أن يصح لان المقصود
335

الاعلام ممن هو من أهله وقد حصل به: ولو غلط في عدد الركعات فنوي الظهر ثلاث ركعات أو خمسا
قال أصحابنا لا يصح ظهره ولو صلى في الغيم بنية الأداء ظانا أن الوقت باق أو الأسير صام بالاجتهاد
ونوى رمضان فبان بعد خروج الوقت أجزأهما نص عليه الشافعي والأصحاب ولو عين الامام من
يصلى خلفه فنوى الصلاة بزيد فكان الذي خلفه عمرا صحت صلاتهما: ولو نوى المأموم الصلاة
خلف زيد فكان عمرا أو نوى الصلاة على الميت زيد فكان عمرا أو على امرأة فكان رجلا أو
عكسه لم تصح صلاته ولو قال خلف هذا زيد أو على هذا الميت زيد فكان عمرا ففي صحة الصلاة
وجهان ومثله في البيع لو قال بعتك هذا الفرس فكان بغلا أو عكسه ففي صحته وجهان الأصح
في مسألة الصلاة الصحة تغليبا للإشارة وفي مسألة البيع البطلان تغليبا للعبارة لاختلاف غرض
المالية ومثله في النكاح لو قال زوجتك هذه العربية فكانت عجمية أو عكسه أو هذه
العجوز فكانت شابة أو عكسه أو البيضاء فكانت سوداء أو عكسه وكذا المخالفة
في جميع وجوه النسب والصفات بالعلو والنزول ففي صحة النكاح قولان مشهوران الأصح
الصحة: ولو اخرج دراهم بنية زكاة ما له الغائب فكان تالفا لا يجزيه عن الحاضر ولو أطلق نية
الزكاة أجزأه عن الحاضر ومثله في الكفارة: ولو نوى كفارة الظهار فكان عليه كفارة قتل لم يجزئه ولو
نوى الكفارة مطلقا أجزأه فهذه أمثلة يستضاء بها لنظائرها وستأتي مبسوطة مع غيرها في مظانها
إن شاء الله تعالى والله أعلم (المسألة الحادية عشر) إذا نوى قطع الطهارة بعد الفراغ منها فالمذهب
الصحيح المشهور أنها لا تبطل كما لو نوى قطع الصلاة بعد السلام منها فإنها لا تبطل بالاجماع وممن
جزم بهذا ابن الصباغ والجرجاني في التحرير والروياني وغيرهم وفيه وجه حكاه في البيان عن
الصيدلاني أن طهارته تبطل لان حكمها باق بدليل انه يصلى بها وان نوى قطع الطهارة في أثنائها
فوجهان مشهوران حكاهما صاحبا الشامل والبحر وآخرون أحدهما تبطل كما لو قطع الصلاة في
336

أثنائها وأصحهما لا يبطل ما مضى وبه قطع الفوراني والجرجاني كما لو عزبت نيته ونوى التبرد في
أثناء طهارته فان النية تنقطع ولا يبطل ما مضي بخلاف الصلاة فإنها متى انقطعت نيتها بطلت كلها
فعلى هذا إذا أراد تمام الطهارة وجب تجديد النية بلا خلاف صرح به الفوراني والروياني وصاحب
البيان وآخرون فإن لم يتطاول الفصل بنى ويجئ فيه الوجه السابق في تفريق النية وان طال فعلى
قولي تفريق الوضوء:
أما إذا قطع نية الحج ونوى الخروج منه في أثنائه فلا ينقطع ولا يخرج بلا خلاف: ولو نوى
في أثناء الصلاة الخروج منها بطلت قطعا ولو نوى في أثناء الصوم والاعتكاف الخروج منهما ففي
بطلانهما وجهان وسنوضح كل ذلك في مواضعه ان شاء تعالى والله أعلم *
(فرع) في مسائل غريبة ذكرها الروياني في البحر قال لو نوى أن يصلي بوضوءه صلاة
لا يدركها به بان نوى بوضوءه في رجب صلاة العيد قال قال والدي قياس المذهب صحة وضوءه ويصلى
به كل الصلوات لأنه نوى ما لا يباح الا بوضوء قال قال جدي ولو أجنبت بنت تسع سنين فنوت بغسلها رفع
حدث الحيض صح على أصح الوجهين وهذا الذي حكاه محمول على ما إذا غلطت فان نوت متعمدة فالصحيح
أنه لا يصح لو كانت ممن حاضت فهذه أولى وذكر الروياني في أخر باب التحري في الأواني قال لو أمر غيره
بصب الماء عليه في وضوءه وغسله فصب البعض ونوى المتطهر ثم صب الباقي في حال كره المتطهر فيها الصب
لبرودة الماء أو غيره إلا أنه لم يأمره ولم ينهه فينبغي أن تصح الطهارة: ولو نوى الطهارة وغسل البعض
ثم صب عليه غيره بغير اذنه وهو غافل لا يعلم به ونية الطهارة عازبة عنه لم يصح لأن النية تناولت
فعله لا فعل غيره: (قلت) في هذا نظر قال ولو أمر بصب الماء عليه في كل وضوئه ثم نسي الامر به فصبه
عليه بعد ما غسل بعض أعضائه بنفسه صح ولا يضره النسيان ولو نام قاعدا في أثناء وضوءه

(1) وقال في البحر هنا لو نوى رفع حدث يوجد بعد وضوئه لم يصح وقال جدي الامام
رحمه الله بجوز وهو ظاهر النص لأنه قال لو توضأ من ريح ثم علم أن حدثه بول صح وضوءه
قال صاحب البحر وهذا لا يصح عندي لان في هذا النص نوى رفع الحدث في الحال
بخلاف ذلك اه‍ أذرعي
337

ثم انتبه في مدة يسيرة ففي وجوب تجديد النية وجهان كما لو فرق تفريقا كثيرا ولو نوى بوضوءه
قراءة القرآن إن كانت كافية فإن لم تكن كافية فالصلاة وقلنا لا تكفى نية القراءة فيحتمل أن يصح
كما لو نوى زكاة ما له الغائب إن كان باقيا والا فعن الحاضر فيجزيه إذا كان باقيا: ولو نوى بوضوءه
الصلاة في مكان نجس ينبغي أن لا يصح (1) ولو نوى نية صحيحة وغسل بعض أعضائه ثم بطل
الوضوء في أثنائه بحدث أو غيره هل له ثواب المفعول منه: يحتمل أن يكون له ثوابه كالصلاة
إذا بطلت في أثنائها ويحتمل أن يقال إن بطل بغير اختياره فله ثوابه وإلا فلا ومن أصحابنا من
قال لا ثواب له بحال لأنه يراد لغيره بخلاف الصلاة والله أعلم بالصواب: وله الحمد والنعمة
وبه التوفيق والعصمة: والحمد لله رب العالمين * قال المصنف رحمه الله *
باب
(صفة الوضوء)
(المستحب أن لا يستعين في وضوءه بغيره لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنا
لا نستعين على الوضوء بأحد فان استعان بغيره جاز لما ري أن أسامة والمغيرة والربيع بنت
معوذ ابن عفراء رضي الله عنهم صبوا على النبي صلى الله عليه وسلم الماء فتوضأ وان أمر غيره حتى
وضأه ونوى هو أجزأه لان فعله غير مستحق في الطهارة ألا ترى أنه لو وقف تحت ميزاب فجرى
الماء عليه ونوى الطهارة أجزاه)
(الشرح) هذه القطعة تتضمن مسائل إحداها في بيان الأحاديث أما حديث أسلمة رضي
الله عنه فرواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عنه أنه صب على النبي صلى الله عليه وسلم في وضوءه

(1) ويحتمل ان يصح؟؟ التعرض للمكان النجس اه‍ أذرعي
338

في حجة الوداع بعد دفعة من عرفة بينها وبين المزدلفة: وأما حديث المغيرة فصب عليه صلى الله
عليه وسلم في وضوءه ذات ليلة في غزاة تبوك رواه البخاري ومسلم: وأما حديث الربيع بنت معوذ فرواه
ابن ماجة باسناد عنها قالت أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بميضأة فقال اسكبي فسكبت فغسل
وجهه وذراعه وأخذ ماء جديدا فمسح به رأسه وغسل رجليه ثلاثا ثلاثا (1) * في اسناده عبد الله بن محمد
ابن عقيل واختلفوا في الاحتجاج به واحتج به الأكثرون حسن الترمذي أحاديث من روايته
فحديثه هذا حسن: وعن حذيفة ابن أبي حذيفة عن صفوان بن عسال رضي الله عنه
قال صببت على النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر في الوضوء رواه البخاري في
تاريخه في ترجمة حذيفة وأشار إلى تضعيفه ولم يذكر حذيفة سماعا: وأما حديث انا لا نستعين
على الوضوء بأحد فباطل لا أصل له ويعني عنه الأحاديث الصحيحة المشهورة أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يتوضأ بغير استعانة والله أعلم
(المسألة الثانية) في الأسماء أما أسامة فهو أبو محمد ويقال أبو زيد ويقال أبو حارثة ويقال أبو يزيد
أسامة بن زيد بن حارثة بن شراحيل مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن مولاه وحبه
وابن حبه أمه أم أيمن واسمها بركة حاضنة رسول الله صلى الله عليه وسلم توفى بالمدينة وقيل

(1) في هذا الحدث ان المضمضة والاستنشاق لا يجبان في الوضوء لان ظاهره البداءة بغسل
الوجه وهو مذهبنا اه‍ أذرعي
339

بوادي القرى سنة أربع خمسين وقيل سنة أربعين وتوفى النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن عشرين
سنة وقيل تسع عشرة وقيل ثمان عشرة: وأما المغيرة فهو أبو عيسى ويقال أبو عبد الله ويقال
أبو محمد المغيرة بن شعبة أسلم عام الخندق توفى واليا على الكوفة في الطاعون سنة خمسين وقيل سنة
احدى وخمسين وهو المغيرة بضم الميم وكسرها حكاهما ابن السكيت وغيره الضم أشهر *
وأما الربيع فبضم الراء وفتح الباء الموحدة وكسر الياء ومعوذ بضم الميم وفتح العين وكسر
الواو المشددة وعفراء بفتح العين المهملة وإسكان الفاء وبالمد وهي الربيع بنت معوذ بن الحارث
الأنصارية من المبايعات تحت الشجرة بيعة الرضوان (الثالثة) قوله تحت مئزاب هو بميم مكسورة ثم
همزة وجمعه مآزيب ويجوز أن يقال ميزاب بياء ساكنة بدل الهمزة كما عرف في نظائره وأنكر
ابن السكيت ترك الهمز ولعله أراد الانكار على من يقول أصله الياء فأما انكار النطق بالياء
فغلط لا شك فيه وهذه قاعدة معروفة لا هل التصريف قال ابن السكيت ولا تقل مزراب (1)
يعني بزاي ثم راء وأما مرزاب بتقديم الراء فهي لغة ذكرها ابن فارس وغيره قال الجوهري
وليست بالفصيحة *
(الرابعة): في الأحكام فان استعان بغيره في احضار الماء لوضوءه فلا بأس به ولا يقال إنه
خلاف الأولى لأنه ثبت ذلك في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة وان

(1) تقديم الزاي لغة حكاها ابن مالك رحمه الله اه‍ أذرعي
340

استعان بغيره فغسل له أعضاء صح وضؤه لكنه يكره الا لعذر وان استعان به في صب الماء
عليه فإن كان لعذر فلا بأس والا فوجهان حكاهما المتولي وغيره أحدهما يكره والثاني لا يكره
لكنه خلاف الأولى وهذا أصح وبه قطع البغوي وغيره وهو مقتضى كلام المصنف والأكثرين
قال أصحابنا وإذا استعان استحب أن يقف الصاب على يسار المتوضئ ونص على استحبابه الشافعي
لأنه أمكن وأعون وأحسن في الأدب قالوا وإذا توضأ من إناء ولم يصب عليه فإن كان يغترف
منه استحب أن يجعله عن يمينه وإن كان يصب منه كالإبريق جعله عن يساره وأخذ الماء منه
في يمينه واستثنى أبو الفرج السرخسي في لا مالي صورة فقال إذا فرغا من غسل وجهه ويمينه حول
الاناء إلى يمينه وصب على يساره حتى يفرغ من وضؤه قال لان السنة في غسل اليد أن يصب
الماء على كفه فيغسلها ثم يغسل ساعده وذراعه ثم مرفقه ولم يذكر الجمهور هذا التحويل وما بعده
(فرع) قد ذكرنا أنه إذا وضأه غيره صح وسواء كان الموضئ ممن يصح وضؤه أم لا
كمجنون وحائض وكافر وغيرهم لان الاعتماد على نية المتوضئ لا على فعل الموضئ كمسألة الميزاب
ولا تعلم في هذه المسألة خلافا لاحد من العلماء الا ما حكاه صاحب الشامل عن داود الظاهري أنه
قال لا يصح وضؤه إذا وضأه غيره ورد عليه بان الاجماع منعقد على أن من وقع في ماء أو وقف
تحت ميزاب ونوى صح وضوءه وغسله *

(1) وهو ما أورده الماوردي عن النص ورأيت في الرونق للشيخ أبي حامد والمحاملي
ذكره في الباب انه يقف عن يمينه وهو غريب اه‍ الأذرعي
341

(فرع) قال الغزالي في البسيط لو ألقى انسان في ماء مكرها فقال الشيخ أبو علي أطلق
الأصحاب صحة وضوءه إذا نوى رفع الحدث قال ولكن لابد فيه من تفصيل فإذا نوي رفع الحدث
وهو يريد المقام فيه ولو لحظة صح لأنه فعل يتصور قصده وإن كان قد كره المقام وتحقق الاضطرار
من كل وجه لم يصح وضوءه إذا لا تتحقق النية قال ويمكن أن يقال الفعل الواحد قد يكون
مرادا من وجه مكروها من وجه فارتبطت النية به والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ويستحب أن يسمى الله تعالى على الوضوء لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال من توضأ وذكر اسم الله تعالى عليه كان طهورا لجميع بدنه فان نسي
التسمية في أولها وذكرها في أثنائها أتي بها حتى لا يخلو الوضوء من اسم الله عز وجل وان تركها
عمدا أجزأه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ ولم
يذكر اسم الله عليه كان طهورا لما مر عليه الماء
342

(الشرح) هذا الحديث الذي ذكره عن أبي هريرة رضي الله عنه هو حديث واحد فرقه
فرقتين ولهذا قال في الثاني ومن توضأ بواو العطف وهو حديث ضعيف عند أئمة الحديث وقد
بين البيهقي وجوه ضعفه وصح عن أحمد بن حنبل فيما نقله الترمذي وغيره أنه قال لا أعلم في
التسمية حديثا ثابتا والحديث المذكور في الكتاب رواه الدارقطني والبيهقي وغيرهما وروي أبو داود
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله
عليه وكذا رواه الترمذي من رواية سعيد بن زيد ورواه ابن ماجة من رواية سعيد بن زيد
وأبي سعيد الخدري قال الترمذي وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة وأبي سعيد وسهل بن سعد
343

وأنس وأسانيد هذه الأحاديث كلها ضعيفة وذكر البيهقي هذه الأحاديث ثم قال أصح ما في التسمية
حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده في الاناء الذي فيه الماء ثم قال توضؤا باسم
الله قال فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه والقوم يتوضؤن حتى توضؤا من عند آخرهم وكانوا
نحو سبعين رجلا واسناده جيد واحتج به البيهقي في كتابه معرفة السنن الآثار وضعف الأحاديث
الباقية وأما قول الحاكم أبي عبد الله في المستدرك على الصحيحين في حديث أبي هريرة أنه حديث
صحيح الاسناد فليس بصحيح لأنه انقلب عليه اسناده واشتبه كذا قاله الحفاظ ويمكن أن يحتج
في المسألة بحديث كل امر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله أو بذكر الله وقد سبق ايضاحه
وبيان طرقه في أول الكتاب والله أعلم * ومعنى كان طهورا لجميع بدنه أو لما مر عليه الماء أي
مطهرا من الذنوب الصغائر: وأما حكم المسألة فالتسمية مستحبة في الوضوء وجميع العبادات وغيرها
من الأفعال حتى عند الجماع كذا صرح به القاضي أبو الطيب وصاحبه ابن الصباغ والشيخ نصر
وآخرون قال الشيخ نصر وكذا عند الخروج من بيته وعقد البخاري في ذلك بابا في صحيحه
فقال باب التسمية على كل حال وعند الوقاع واحتج بحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لو أن أحدكم إذا أتي أهله قال باسم الله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فقضي بينهما
ولد لم يضره الشيطان رواه البخاري ومسلم واعلم أن أكمل التسمية أن يقول بسم الله الرحمن الرحيم فان قال
باسم الله فقط حصل فضيلة التسمية بلا خلاف صرح به الماوردي في كتابيه الحاوي والاقناع وامام الحرمين
وابن الصباغ والشيخ نصر في كتابه الانتخاب والغزالي في الوجيز والمتولي والروياني والرافعي
وغيرهم والله أعلم وأما قول المصنف فان نسي التسمية في أولها وذكر في أثنائها أتي بها فهكذا نص
عليه الشافعي في الأم وبوب لها بابا قال فيه فان سهى عنها سمي متى ذكر ان ذكر قبل أن
يكمل الوضوء ونقله أبو حامد والماوردي وأبو علي البندنيجي وغيرهم عن نصه في القديم أيضا
وقول المصنف وذكر في أثنائها إشارة إلى ما صرح به الأصحاب أنه لو لم يسم حتى فرغ من الطهارة
344

لم يسم لفوات محلها: ممن صرح به القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي والروياني وغيرهم
ونص عليه الشافعي كما سبق: وأما قوله فان نسي التسمية أتي بها فهو موافق لنص الشافعي كما سبق
وكذا عبارة كثير بن وهو يوهم أنه لو ترك التسمية عمدا لم يأت بها في الأثناء وليس الحكم
كذلك بل من تركها عمدا استحب أن يأتي بها في أثنائها كالناسي كذا صرح به المحاملي في
المجموع والجرجاني في التحرير وغيرهما ويستحب إذا سمي في أثناء الطهارة أن يقول باسم الله على
أوله وآخره كما يستحب ذلك في الطعام للحديث الصحيح فيه والله أعلم *
وأما قوله وذكر في أثنائها فالضمير فيه يعود إلى الطهارة والأثناء تضاعيف الشئ
وخلاله واحدها ثني بكسر الثاء واسكان النون ذكره الجوهري وغيره
(فرع) المذهب الصحيح الذي قطع به المصنف والأكثرون أن التسمية سنة من سنن
الوضوء وذكر الخراسانيون في التسمية وغسل الكفين والسواك وجهين أحدهما أنها كلها من
سنن الوضوء والثاني انها سنن مستقلة عند الوضوء لا من سننه لأنها ليست مختصة به قال امام
الحرمين هذا وهم عندي فان هذه السنن من الوضوء ولا يمتنع أن يشرع الشئ في مواضع وليس شرط
كون الشئ من الشئ أن يكون من خصائصه فان السجود ركن في الصلاة ومشروع في غيرها
لتلاوة وشكر ومن قال غير هذا فهو غالط وقال الشيخ أبو حامد التسمية وغسل الكفين هيئة
345

وليس بسنة إنما السنة ما كان من وظائف الوضوء الراتبة معها قال الماوردي هذه مخالفة في
العبارة والمعني واحد *
(فرع) قال الشيخ نصر المقدسي في آخر صفة الوضوء من كتابيه التهذيب والانتخاب
يستحب أن يقول في أول وضوءه بعد التسمية أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد
أن محمدا عبده ورسوله وهذا الذي ذكره غريب لا نعلمه لغيره ولا أصل له وإن كان لا بأس به:
(فرع) قد ذكرنا أن التسمية سنة وليست بواجبة فلو تركها عمدا صح وضوءه هذا مذهبنا
وبه قال مالك وأبو حنيفة وجمهور العلماء وهو أظهر الروايتين عن أحمد وعنه رواية انها واجبة: وحكي
الترمذي وأصحابنا عن إسحاق (1) بن راهويه انها واجبة ان تركها عمدا بطلت طهارته وان تركها
سهوا أو معتقدا انها غير واجبة لم تبطل طهارته وقال المحاملي وغيره وقال أهل الظاهر هي واجبة
بكل حال وغن أبي حنيفة رواية انها ليست بمستحبة وعن مالك رواية انها بدعة ورواية انها
مباحة لا فضيلة في فعلها ولا تركها * واحتج من أوجبها بحديث لا وضوء لمن لم يسم الله ولأنها عبادة
يبطلها الحدث فوجب في أولها نطق كالصلاة * واحتج أصحابنا عليهم بقوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة
فاغسلوا وجوهكم) وقوله صلى الله عليه وسلم توضأ كما امرك الله وأشباه ذلك من

(1) قال في البحر قال إسحاق واحمد في رواية التسمية واجبة فان تركها عمدا بطل وضوءه
وان نسيها أو اعتقد انها غير واجبة لا يبطل وضوءه اه‍ من هامش الأذرعي
346

من النصوص الواردة في بيان الوضوء وليس فيها ايجاب التسمية واحتجوا أيضا بالحديث المذكور
في الكتاب وهو ضعيف كما سبق: ولأنها عبادة لا يجب في آخرها ذكر فلا يجب في أولها كالطواف
وفيه احتراز من الصلاة وكذا سجود التلاوة إذا قلنا بالأصح انه يشترط السلام فيه: والجواب
عن الحديث من أوجه أحسنها انه ضعيف كما سبق: والثاني المراد لا وضوء كامل: والثالث جواب
ربيعة شيخ مالك والدارمي والقاضي حسين وجماعة آخرين حكاه عنهم الخطابي المراد بالذكر
النية * والجواب عن قياسهم من وجهين أحدهما انه منتقض بالطواف والثاني نقلبه عليهم فنقول
عبادة يبطلها الحدث فلم تجب التسمية في أولها كالصلاة والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ثم يغسل كفيه ثلاثا لان عثمان وعليا رضى الله تعالى عنهما وصفا وضوء رسول الله صلى الله عليه
وسلم فغسلا اليد ثلاثا)
(الشرح) حديث عثمان رواه البخاري ومسلم وحديث على صحيح أيضا رواه أبو داود
والنسائي وغيرهما باسناد صحيح ورواه البخاري ومسلم من رواية عبد الله بن زيد أيضا ورواه
أبو داود وغيره من رواية آخرين من الصحابة: واتفق الأصحاب على أن غسل الكفين سنة في
أول الوضوء وهو سنة من سنن الوضوء وفيه وجه للخراسانيين أنه سنة مستقلة لا من سنن الوضوء
وقد سبق بيانه:
(فرع) ذكر هنا عثمان وعليا فاما عثمان فهو أبو عمرو ويقال أبو عبد الله ويقال أبو ليلى عثمان
ابن عفان ابن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أسلم قديما وهاجر الهجرتين ويقال له ذا النورين
لأنه تزوج بابنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج رقية فماتت عنده ثم أم كلثوم فماتت أيضا عنده
رضي الله عنهما قتل يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين وهو ابن تسعين
347

سنة وقيل ثمان وثمانين وقيل ثنتين وثمانين وصلى عليه جبير بن مطعم ولي الخلافة ثنتي عشرة سنة *
وأما على فهو أبو الحسن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب واسم أبي طالب عبد مناف وأم على
فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف وهي أول هاشمية ولدت هاشميا أسلمت وهاجرت إلى
المدينة وتوفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم
ونزل في قبرها * قتل علي رضي الله عنه ليلة الجمعة لثلاث عشرة خلت من رمضان سنة أربعين وهو
ابن ثلاث وستين سنة وقيل أربع وقيل خمس ولى الخلافة خمس سنين الا يسيرا رضي الله عنهما
ومناقبهما كثيرة مشهورة * قال المصنف رحمه الله *
(ثم ينظر فإن لم يقم من النوم فهو بالخيار ان شاء غمس يده ثم غسل وان شاء أفرغ الماء على يده ثم
غمس فان قام من النوم فالمستحب أن لا يغمس يده حتى يغسلها لقوله صلى الله عليه وسلم إذ استيقظ
أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدرى أين باتت يده (1) فان خالف
وغمس لم يفسد الماء لان الأصل الطهارة فلا يزال اليقين بالشك)
(الشرح) الحديث المذكور صحيح رواه البخاري ومسلم بلفظه الا قوله ثلاثا فإنه في مسلم دون
البخاري وقوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يدرى أين باتت يده سببه ما قاله الشافعي رحمه الله
وغيره أن أهل الحجاز كانوا يقتصرون على الاستنجاء بالأحجار وبلادهم حارة فإذا نام أحدهم
عرق فلا يأمن النائم ان تطوف يده على المحل النجس أو على بثرة أو قملة (2) ونحو ذلك فتنجس *
أما حكم المسألة فقال أصحابنا إذا كان يتوضأ من قدح وشبهه مما يغمس اليد فيه ليس فيه قلتان
نظر فان شك في نجاسة يده كره أن يغمسها فيه حتى يغسلها ثلاثا للحديث وسواء كان الشك في
نجاستها للقيام من النوم أو لغيره هكذا عبارة أصحابنا وصرحوا بان الحكم متعلق بالشك قالوا
وإنما ذكر النوم في الحديث مثالا ونبه صلى الله عليه وسلم على المقصود بذكر العلة في قوله صلى
الله عليه وسلم فإنه لا يدرى أين باتت يده وأما تقييد المصنف المسألة بما إذا قام من النوم (3) فخلاف

(1) وقال أبو علي الفارقي في كتابه فوائد المهذب ومن أصحابنا من فرق بين نوم الليل
ونوم النهار وليس بشئ اه‍ أذرعي
(2) قوله وقملة فيه تصريح بان من قتل قملة تنجست يده أو وقعت على بثرة وليس الامر
كذلك بل لو عصر البثرة عمدا عفى عنه على الصحيح كذا قاله هو اه‍ أذرعي
(3) يحمل على أنه ذكره موافقة للحديث ومثالا لا قيد اه‍ أذرعي
348

ما قاله الأصحاب وان تيقن طهارة يده فوجهان الصحيح منهما انه بالخيار ان شاء غسل ثم غمس وان
شاء غمس ثم غسل لان كراهة الغمس عند الشك إنما كانت للخوف من النجاسة وقد تحققنا
عدم النجاسة وبهذا الوجه قطع المصنف والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والبندنيجي والمحاملي
في كتبه الثلاثة وابن الصباغ والمتولي والبغوي والجرجاني وصاحبا العدة والبيان وغيرهم * والثاني
استحباب تقديم الغسل لان أسباب النجاسة قد تخفى في حق معظم الناس فيتوهم الطهارة في موضع
النجاسة وربما نسي النجاسة فضبط الباب لئلا يتساهل الشاك وهذا الوجه هو المختار عند الماوردي
وامام الحرمين وغلطا من قال خلافه (1) والله أعلم *
(فرع) أنكر على المصنف في هذا الفصل شيئان أحدهما تخصيص استحباب الغسل قبل
الغمس بما إذا قام من نوم والصواب ضبطه بالشك في نجاسة اليد كما أوضحناه: والثاني قوله استحب
أن لا يغمس حتى يغسل لا يلزم منه كراهة الغمس أو لا والصواب أنه يكره الغمس قبل الغسل للنهي
الصريح في هذا الحديث الصحيح وكذا صرح بالكراهة المصنف في التنبيه وآخرون ونص عليه
الشافعي رحمه الله في البويطي فقال فان غمس يده قبل الغسل أو بعد الغسل مرة أو مرتين فقد أساء
هذا نصه وهذه أول مسألة في البويطي وفي هذا النص تصريح بالكراهة حتى يغسل ثلاثا وان
الغسلتين لا تنفى الكراهة لكن تخففها والحديث دليل لهذا والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا كراهة غمس اليد قبل الغسل متى شك في نجاسة اليد سواء قام من نوم
الليل أو النهار أو شك في نجاستها بسبب آخر وهي كراهة تنزيه هذا مذهبنا وبه قال جمهور العلماء
وعن أحمد روايتان إحداهما لا فرق بين نوم الليل ونوم النهار والثانية ان قام من نوم الليل كره
كراهة تحريم وان قام من نوم النهار فكراهة تنزيه وبهذا قال داود * واحتجوا بقوله صلى الله عليه
وسلم فإنه لا يدرى أين باتت يده والمبيت يكون في الليل والنهي للتحريم وأجاب أصحابنا
بان الليل ذكر لأنه الغالب ونبه صلى الله عليه وسلم على العلة بقوله لا يدرى أين باتت يده
وأمر بذلك احتياطا فلا يكون واجبا ولا تركه محرما كغيره مما في معناه والله أعلم *

(1) نقل في البحر الأول ثم قال وقال في الحاوي هذا ذكره الشيخ أبو حامد
والصحيح من الذهب وبه قال جماعة من أصحابنا
ان القائم من النوم وغيره سواء في هذا فلا يغمسان الا بعد غسلهما لأنهما لما استويا في سنة
الغسل وان ورد النص في القائم من النوم استويا في تقديم الغسل على الغمس وهذا لان حكم
السنة يثبت مع زوال السبب كما ثبت الزول مع زوال سببه قال الروياني وهذا
غريب قلت وقضيته انه يكره غمسها مع يقين طهارتها كما أفهمه كلام التنبيه
فان الروياني إنما ذكره بعد أن استوعب أقسام المسألة والله أعلم اه‍ من هامش أذرعي
349

(فرع) إذا غمس يده وهو شاك في نجاستها قبل غسلها كان مرتكبا كرهة التنزيه ولا ينجس
الماء بل هو باق على طهارته ويجوز أن يتطهر به هذا مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا ما حكاه
أصحابنا عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال ينجس إن كان قام من نوم الليل وحكى هذا عن
إسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير وداود وهو ضعيف جدا لان الأصل طهارة الماء واليد فلا
ينجس بالشك وقواعد الشرع متظاهرة على هذا ولا يمكن أن يقال الظاهر من اليد النجاسة وأما
الحديث فمحمول على الاستحباب (1) والله أعلم
(فرع) إذا شك في نجاسة اليد كره غمسها في المائعات كلها حتى يغسلها فان غمس قبل الغسل
لم تنجس ولم يحرم أكله *
(فرع) قال أصحابنا إذا كان الماء في إناء كبير أو صخرة بحيث لا يمكن صبه على اليد وليس
معه اناء صغير يغترف به فطريقه أن يأخذ الماء بفمه ثم يغسل به كفيه أو يأخذه بطرف ثوبه
النظيف أو يستعين بغيره *
(فرع) اعلم أن كل ما ذكرناه إنما هو في كراهة تقديم الغمس على الغسل وأما أصل غسل
الكفين فسنة بلا خلاف اتفق أصحابنا على التصريح بذلك وتظاهرت عليه نصوص الشافعي
ودلائله من الأحاديث الصحيحة مشهورة وممن نقل اتفاق طرق الأصحاب عليه امام الحرمين في
النهاية ثم في مختصرة للنهاية وإنما ذكرت هذا الكلام لان عبارة الغزالي في الوسيط توهم اثبات
خلاف فيه وذلك غير مراد فيتأول كلامه والله أعلم *
(فرع) في فوائد الحديث المذكور في الكتاب إحداها أن الماء القليل إذا وردت عليه
نجاسة نجسته وإن لم تغيره (الثانية) الفرق بين كون الماء واردا أو مورودا وقد سبق بيان هذا في
المياه (الثالثة) أن الغسل سبعا مختص بنجاسة الكلب والخنزير وفرعهما ذكره الخطابي وفي الاستدلال
بهذا نظر (الرابعة استحباب غسل النجاسة ثلاثا سواء كانت متحققة أو متوهمة (الخامسة) أن

(1) قال في البحر وقال داود هو واجب تعبدا فإن لم يفعل وادخل يده في الاناء صار
الماء مهجورا ولا ينجس الا الماء لا ينجس عنده ما لم يتغير وحكي أصحاب داود عنه أنه قال إن
قام من نوم الليل لا يجوز له غمسها في الاناء حتى يغسلها ولا أقول غسل اليد واجب لأنه
لو صب الماء في يده وتوضأ ولم يغسل يده في الاناء مجاز فان غسل يده في الماء لا يفسد
الماء وقال احمد في رواية ان قام من نوم الليل وجب عليه غسل يديه ثلاثا فان غمسها
قبل ذلك أراق الماء والله أعلم اه‍ من هامش
350

النجاسة المتوهمة يستحب فيها الغسل ولا يكفي الرش وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور: وقال بعض
أصحاب مالك ويكفي الرش وسنوضح المسألة بدليلها في باب إزالة النجاسة إن شاء الله تعالى
(السادسة) استحباب الاحتياط في العبادات وغيرها بحيث لا ينتهى إلى الوسوسة وقد أوضحنا
الفرق بينهما في آخر باب الشك في نجاسة الماء (السابعة) استحباب استعمال لفظ الكنايات فيما
يتحاشى من التصريح به لقوله صلى الله عليه وسلم لا يدرى أين باتت يده ولم يقل فلعل يده
وقعت على دبره أو ذكره ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والسنة كقوله تعالى (الرفث إلى نسائكم)
وقوله تعالى (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) وقوله (وان طلقتموهن من قبل أن تمسوهن) وهذا
كله إذا عليم أن السامع يفهم المقصود فهما جليا وإلا فلا بد من التصريح نفيا للبس والوقوع في
خلاف المطلوب وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرحا به والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ثم يتمضمض ويستنشق والمضمضة أن يجعل الماء في فيه ويديره فيه ثم يمجه والاستنشاق أن يجعل
الماء في أنفه ويمده بنفسه إلى خياشيمه ثم يستنثر لما روى عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ثم يستنشق ويستنثر الا جرت خطايا فيه وخياشيمه
مع الماء والمستحب أن يبالغ فيهما لقوله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة أسبغ الوضوء وخلل
بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ولا يستقصى في المبالغة فيصير سعوطا فإن كان
صائما لم يبالغ للخبر وهل يجمع بينهما أو يفصل قال في الامام يجمع لان علي بن أبي طالب
رضي الله عنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمضمض مع الاستنشاق بماء واحد
وقال في البويطي يفصل بينهما لما روى طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده قال رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يفصل بين المضمضة والاستنشاق ولان الفصل أبلغ في النظافة فكان أولى
351

واختلف أصحابنا في كيفية الجمع والفصل فقال بعضهم على قوله في الأم يغرف غرفة واحدة
يتمضمض منها ثلاثا ويستنشق منها ثلاثا ويبدأ بالمضمضة وعلى رواية البويطي يغرف غرفة يتمضمض
منها ثلاثا ثم يغرف غرفة يستنشق منه ثلاثا وقال بعضهم على قوله في الأم يغرف غرفة يتمضمض
منها ويستنشق ثم يغرف غرفة يتمضمض منها ويستنشق ثم يغرف ثالثة يتمضمض منها ويستنشق
فيجمع في كل غرفة بين المضمضة والاستنشاق وعلى رواية البويطي يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة
وثلاث غرفات للاستنشاق والأول أشبه بكلام الشافعي رحمه الله لأنه قال يغرف غرفة لفيه وأنفه
والثاني أصح لأنه أمكن فان ترك المضمضة والاستنشاق جاز لقوله صلى الله علي عليه وسلم للأعرابي
توضأ كما أمرك الله وليس فيما أمر الله تعالى المضمضة والاستنشاق ولأنه عضو باطن دونه حائل
معتاد فلا يجب غسله كالعين) *
(الشرح) هذا الفصل فيه جمل وبيانها بمسائل إحداها في الأحاديث أما حديث عمرو ابن
عبسة فصحيح رواه مسلم في صحيحه في أواخر كتاب الصلاة قبيل صلاة الخوف ولفظه في مسلم
ما منكم رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق فينتثر الا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه وأما
حديث لقيط بن صبرة فصحيح رواه أبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة من
رواية لقيط وهذا المذكور في المهذب لفظ رواية الترمذي ذكره في كتاب الصيام وقال حديث
حسن صحيح وهو بعض حديث طويل وآخر الحديث في المهذب عند قوله إلا أن يكون صائما
وأما قوله ولا يستقصي في المبالغة إلى اخره فليس من الحديث بل هو من كلام المصنف وهو بالواو
لا بالفاء وقوله يستقصي بالياء المثناة تحت في أوله لا بالتاء المثناة فوق وإنما ضبطته لان القلعي وغيره غلطوا
فيه فجعلوه بالفاء و جعلوه من الحديث هذا خطأ فاحش: وأما حديث علي رضي الله عنه
فصحيح رواه أبو داود وغيره باسناد صحيح وأما حديث طلحة بن مصرف فرواه أبو داود في
352

سننه باسناد ليس بقوي فلا يحتج به: وأما قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي توضأ كما أمرك الله
فحديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما قال الترمذي حديث حسن وهو بعض حديث
طويل وأصله في الصحيحين وفيه فوائد كثيرة جمعت منها في شرح صحيح البخاري نحو أربعين
فائدة والله أعلم *
(المسألة الثانية) في الأسماء: أما عمر وبن عبسة فبعين مهملة ثم باء موحدة ثم سين مهملة مفتوحات
وليس فيه نون وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم: وأما قول بن البزري في ألفاظ المهذب
انه يقال عنبسة بالنون فغلط صريح وتحريف قبيح وكنيته عمرو أبو نجيح السلمي قدم على النبي
صلى الله عليه وسلم مكة ثم المدينة وكان رابع أربعة في الاسلام وهو أخو أبي ذر لامه سكن حمص
حتى توفى بها: واما لقيط ابن صبرة فهو بفتح اللام وصبرة بفتح الصاد وكسر الباء وهو لقيط ابن عامر
ابن صبرة العقيلي أبو رزين وقيل لقيط بن عامر غير لقيط بن صبرة قال ابن عبد البر وغيره وهذا
غلط بل هما واحد وقد أوضحت حاله في تهذيب الأسماء: وأما طلحة بن مصرف فهو بضم الميم وفتح
الصاد المهملة وكسر الراء المشددة هذا هو الصواب المشهور في كتب الحديث والنسب والأسماء
وقال القلعي في ألفاظ المهذب يروى بفتح الراء أيضا وهذا غريب ولا أظنه يصح: وأما جد طلحة
فاسمه كعب بن عمر وهذا هو المشهور الأصح وقال امام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة
وغيره اسمه عمرو بن كعب وقيل إنه لا صحبا لجد طلحة ذكر هذا الخلاف في صحبته جماعة من المتقدمين
والمتأخرين وكان طلحة من أفاضل التابعين وأئمتهم وكان اقرأ أهل الكوفة أو من أقرأهم
رحمه الله *
(المسألة الثالثة) في اللغات والألفاظ: الخياشيم جمع خيشوم وهو أقصى الانف وقيل الخياشيم
عظام رقاق في أصل الانف بينه وبين الدماغ وقيل غيرهم ذلك: وأما الاستنثار بالثاء المثلثة فهو
طرح الماء والأذى من الانف بعد الاستنشاق هذا هو المشهور الذي عليه الجمهور من أهل الحديث
واللغة والفقه وقال ابن قتيبة هو الاستنشاق وكذا حكاه الأزهري في تهذيب اللغة عن ابن
الأعرابي والفراء والأول هو الصواب الذي تقتضيه الأحاديث وقد أوضحتها في تهذيب الأسماء
353

واللغات وجمعت أقوال العلماء فيها ومن أحسنها رواية في الصحيحين عن عبد الله بن زيد في
صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تمضمض واستنشق استنثر وأما قوله صلى الله
عليه وسلم يقرب وضوءه فهو بضم الياء وفتح القاف وكسر الراء المشددة أي يدنيه والوضوء
هنا بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به وقوله صلى الله عليه وسلم الا جرت كذا ضبطناه في المهذب جرت
بالجيم والراء المخففة وكذا وجد بخط ابن الزعفراني تلميذ المصنف وفي صحيح مسلم خرت بالخاء المعجمة
وتشديد الراء ومعناه سقطت وذهبت قال صاحب مطالع الأنوار هو في مسلم بالخاء لجميع الرواة الا ابن
أبي جعفر فرواه بالجيم والمراد بالخطايا الصغائر كما جاء في الحديث الصحيح ما لم يغش الكبائر
وقوله في المهذب وينثر هو بكسر الثاء المثلثة قال أهل اللغة يقال نثر وانتثر واستنثر وهو مشتق
من النثرة وهي طرف الأنف وقيل الانف كله وقوله صلى الله عليه وسلم أسبغ الوضوء أي
أكمله وقوله فيصير سعوطا هو بفتح السين وضمها فبالفتح اسم لما يستعط به وبالضم اسم للفعل
والغرفة بفتح العين وضمها لغتان بمعنى يستعملان في الفعل وفي المغروف وقيل بالضم للمغروف
وبالفتح للفعل وقيل بالضم للمغروف إذا كان ملء الكف وبالفتح للمغروف مطلقا وقيل غير ذلك
ويحسن الضم في قوله يأخذ غرفة وقوله غرفات يجوز فيه لغات فتح الغين والراء وضمهما وضم الغين مع
اسكان الراء وفتحها وقوله قال للأعرابي هو بفتح الهمزة وهو الذي يسكن البادية وقوله لأنه عضو باطن فيه
احتراز من الظاهر وقوله دونه حائل احتراز من الثقب في محل الطهارة وقوله معتاد احتراز من لحية المرأة والله أعلم
354

(المسألة الرابعة) في الأحكام فالمضمضة والاستنشاق سنتان قال أصحابنا كمال المضمضة ان يجعل الماء في فيه
ويديره فيه ثم يمجه وأقلها يجعل الماء في فيه ولا يشترط المج وهل تشترط الإدارة فيه وجهان أصحهما لا تشترط
هذا مختصر ما قاله الأصحاب واما تفصيله فقال الماوردي المضمضة ادخال الماء مقدم الفم والمبالغة
فيها إدارته في جميع الفم قال والاستنشاق ادخال الماء مقدم الانف والمبالغة فيه ايصاله خيشومه
قال والمبالغة سنة زائدة عليهما وقال المحاملي في المجموع المشروع فيهما ايصال الماء إلى الفم
والأنف قال والمبالغة فيهما سنة قال الشافعي المبالغة في المضمضة ان يأخذ الماء بشفتيه فيديره
في فمه ثم يمجه وفي الاستنشاق ان يأخذ الماء بأنفه ويجذبه بنفسه ثم ينثر ولا يزيد على ذلك
وقال صاحب العدة تمام المضمضة ان يأخذ الماء في الفم ويحركه ثم يمجه وتمام الاستنشاق
ان يأخذ الماء بنفسه ويبلغ خياشيمه ولا يجاوز ذلك فيصير سعوطا وقال المتولي المضمضة ادخال
الماء في الفم والاستنشاق ادخاله الانف قال والمبالغة فيهما سنة في المبالغة في المضمضة أن
يدخل الماء الفم ويديره على جميع جوانب فمه ويوصله طرف حلقه ويمره على أسنانه ولثاته
ثم يمجه يفعل ذلك ثلاثا وفي الاستنشاق يجعل الماء في أنفه ويأخذه بالنفس حتى يصل الخياشيم
355

ثم يدخل أصابعه فيزيل ما في أنفه من أذى ثم يستنثر كما يفعل الممتخط يفعل ذلك ثلاثا وقال القاضي
أبو الطيب في تعليقه في استدلاله على أن المضمضة سنة فان قيل المضمضة والاستنشاق أن يجعل
الماء في فيه ويمجه وأن يجذبه بنفسه في أنفه ويرده: قلنا ليس كما ذكرتم: بل المضمضة ايصال الماء
إلى باطن الفم والاستنشاق ايصاله إلى باطن الانف على أي حال كان والذي ذكرتموه إنما هو
المبالغة في المضمضة والاستنشاق فلو ملا فمه ماء ثم مجه أو بلعه ولم يدره في فمه كان مضمضة
هذا كلام القاضي وفيما ذكرناه قبله من كلام الأصحاب التصريح بأن أقل المضمضة جعل
الماء في الفم والإدارة ليست بشرط لأصل المضمضة بل هي مبالغة وخالف المحاملي في التجريد الجماعة
فقال قال الشافعي المضمضة أن يأخذ الماء في فمه ويديره ثم يمجه فإن لم يدره فليس بمضمضة (1) وكذا
نقله صاحب البيان عن الشيخ أبي حامد وهو صريح في اشتراط الإدارة والمشهور الذي عليه
الجمهور انها ليست شرطا كما سبق *
(فرع) المبالغة في المضمضة والاستنشاق سنة بلا خلاف وأما قول الشيخ أبي حامد وصاحبه
القاضي أبي الطيب في تعليقهما المبالغة في الاستنشاق سنة فليس معناه أنها ليست سنة في المضمضة
لأنهما ذكرا في صفة المضمضة استحباب المبالغة فيها قال أصحابنا المبالغة في المضمضة أن يبلغ الماء أقصى
الحلق ويديره فيه وفي الاستنشاق أن يوصله الخياشيم قال في التتمة ثم يدخل أصبعه فيه فينزل ما في الانف
من أذى فإن كان صائما كره أن يبالغ فيهما وقال الماوردي يبالغ الصائم في المضمضة ولا يبالغ في

(1) قوله فليس بمضمضة يمكن تأويله بحمله على نفي الكمال اه‍ أذرعي
356

الاستنشاق لقوله صلى الله عليه وسلم وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما ولأنه يمكنه رد
الماء في المضمضة باطباق حلقه ولا يمكنه في الاستنشاق هذا كلام الماوردي (1) ويعضده ظاهر نص
الشافعي في الأم فإنه قال وإن كان صائما رفق بالاستنشاق لئلا يدخل الماء رأسه هذا نصه ولكن
الصحيح الذي عليه الجمهور كراهة المبالغة فيهما للصائم لأنه لا يؤمن سبق الماء قال أصحابنا وإذا
بالغ غير الصائم فلا يستقصي في المبالغة فيصير سعوطا ويخرج عن كونه استنشاقا *
(فرع) قال الشافعي في المختصر يستحب أن يأخذ الماء للمضمضة (2) بيده اليمنى واتفق الأصحاب
على استحباب ذلك ودليله حديث عثمان في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم انه أخذ
الماء للمضمضة بيمينه رواه البخاري ومسلم
(فرع) السنة أن ينتثر وهو ان يخرج بعد الاستنشاق ما في أنفه من ماء وأذى للحديث الصحيح الذي ذكرناه

(1) كذا قاله شيخه أبو القاسم الصيمري في شرحه اه‍ أذرعي
(2) قوله للمضمضة ولم يذكر الاستنشاق يوهم ان ذلك في المضمضة فقط وظني انه
ليس مراده لتصريح الحديث بالأمرين اه‍ أذرعي
357

وفيه أحاديث كثيرة جمعتها في جامع السنة قال أصحابنا ويستنثر بيده اليسرى للحديث الصحيح
كانت يده صلى الله عليه وسلم اليسرى لخلائه وما كان من اذى وسنوضحه في باب الاستطابة
إن شاء الله تعالى: وروى البيهقي باسناده الصحيح عن علي رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال بعد غسل الكف فادخل يده اليمنى في الاناء فملأ فمه فتمضمض واستنشق
ونثر بيده اليسرى يفعل ذلك ثلاثا والله أعلم *
(فرع) في كيفية للمضمضة والاستنشاق * اتفق نص الشافعي والأصحاب على أن سنتهما
تحصل بالجمع والفصل وعلى أي وجه أوصل الماء إلى العضوين واختلف نصه واختيار الأصحاب
في الأفضل من الكيفيتين فنص في الأم ومختصر المزني ان الجمع أفضل ونص في البويطي ان الفصل
358

أفضل ونقله الترمذي عن الشافعي قال المصنف والأصحاب القول بالجمع أكثر في كلام الشافعي
وهو أيضا أكثر في الأحاديث بل هو الموجود في الأحاديث الصحيحة: منها حديث علي رضي الله عنه
الذي ذكره المصنف وقد قدمنا بيانه وانه صحيح ومنها حديث عبد الله بن زيد انه وصف
وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتمضمض واستنشق من كف واحدة فعل ذلك ثلاثا
رواه البخاري ومسلم: وفي رواية للبخاري فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات وفي رواية لمسلم
فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات وفي رواية تمضمض واستنشق ثلاث مرات من غرفة واحدة
رواه البخاري: ومنها حديث ابن عباس في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ غرفة من
ماء تمضمض بها واستنشق رواه البخاري وعن ابن عباس أيضا ان النبي صلى الله عليه وسلم توضأ
359

مرة مرة وجمع بين المضمضة والاستنشاق رواه الدارمي في مسنده باسناد صحيح فهذه أحاديث صحاح
في الجمع: وأما الفصل فلم يثبت فيه حديث أصلا وإنما جاء فيه حديث طلحة بن مصرف وهو
ضعيف كما سبق هذا بيان الأحاديث ونصوص الشافعي: وأما الأصحاب فجمهورهم حكوا في المسألة
قولين كما حكاه المصنف أحدهما الجمع أفضل والثاني الفصل أفضل وحكي امام الحرمين ومن تابعه
طريقا آخر وهو القطع بتفضيل الفصل وبه قطع المحاملي في المقنع وتأولوا حديث عبد الله بن زيد
ونصوص الشافعي على أن المراد بها بيان الجواز وهذا فاسد كما سأذكره إن شاء الله تعالى: وأما الجمهور
الذين حكوا قولين فاختلفوا في أصحهما فصحح المصنف والمحاملي في المجموع والروياني والرافعي
وكثيرون الفصل وصحح البغوي والشيخ نصر المقدسي وغيرهما الجمع هذا كلام الأصحاب والصحيح
بل الصواب تفضيل الجمع للأحاديث الصحيحة المتظاهرة فيه كما سبق وليس لها معارض وأما حديث
الفصل فالجواب عنه من أوجه أحدها أنه ضعيف كما سبق فلا يحتج به لو لم يعارضه شئ فكيف
إذا عارضه أحاديث كثيرة صحاح الثاني أن المراد بالفصل انه تمضمض ثم مج ثم استنشق ولم يخلطهما
قاله الشيخ أبو حامد والشيخ نصر والثالث انه محمول على بيان الجواز وهذا جواب صحيح
لان هذا كان مرة واحدة لان لفظه في سنن أبي داود قال دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم
وهو يتوضأ فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق وهذا لا يقتضي أكثر من مرة فحمله على
360

بيان الجواز تأويل حسن وأما ما تأوله الآخرون من حمل أحاديث الجمع ونصوص الشافعي على
بيان الجواز ففاسد لان روايات الجمع كثيرة من جهات عديدة وعن جماعة من الصحابة ورواية
الفصل واحدة وهي ضعيفة وهذا لا يناسب بيان الجواز في الجمع فان بيان الجواز يكون في مرة
ونحوها ويداوم على الأفضل والامر هنا بالعكس فحصل أن الصحيح تفضيل الجميع والله أعلم *
وفى كيفية الجمع وجهان أصحهما بثلاث غرفات يأخذ غرفة تمضمض منها ثم يستنشق منها
ثم يأخذ غرفة ثانية يفعل بها كذلك ثم ثالثة ودليله حديث عبد الله بن زيد وهذا الوجه
هو قول القاضي أبي حامد واختيار أبي يعقوب الأبيوردي والقاضي أبي الطيب واتفق المصنفون على
تصحيحه ممن صححه القاضي أبو الطيب والمتولي والبغوي والروياني والرافعي وغيرهم وقطع به الشيخ نصر
وغيره (1) والوجه الثاني يجمع بغرفة واحدة فعلى هذا في كيفيته وجهان أحدهما يخلط المضمضة بالاستنشاق

(1) قال في البحر وقيل الجمع أن يأتي بهما في حالة واحدة ولا يقدم المضمضة على
الاستنشاق وهذا ضعيف اه‍ من هامش الأذرعي
361

فيمضمض ثم يستنشق ثم يمضمض ثم يستنشق ثم يمضمض ثم يستنشق وبهذا قطع البندنيجي من العراقيين
تفريعا على قولنا بغرفة: والثاني لا يخلط بل يتمضمض ثلاثا متوالية ثم يستنشق ثلاثا متوالية وهذان الوجهان
نقلهما امام الحرمين فقال قال العراقيون يخلط لان اتحاد الغرفة يدل على أنهما في حكم عضو واحد وقطع
أصحاب القفال بترك الخلط قال الامام وهذا هو الصحيح وكذا صححه الغزالي وآخرون وتصحيحه
هو الظاهر قال القاضي حسين لان الأصل في الطهارة لا ينتقل إلى عضو حتى يفرغ
ما قبله * وأما كيفية الفصل ففيها وجهان (1) أحدهما بست غرفات يتمضمض بثلاث ثم يستنشق
بثلاث والثاني بغرفتين يتمضمض بأحدهما ثلاثا ثم يستنشق بالثانية ثلاثا وهذا الثاني أصح صححه
جماعة منهم الرافعي وقطع به البندنيجي والبغوي: على هذا القول فحصل في المسألة خمسة أوجه
الصحيح تفضيل الجمع بثلاث غرفات والثاني بغرفة بلا خلط والثالث بغرفة مع الخلط والرابع
الفصل بغرفتين والخامس بست غرفات وهو أضعفها والله أعلم * (فرع) اتفق أصحابنا
على أن المضمضة مقدمة على الاستنشاق سواء جمع أو فصل بغرفة أو بغرفات وفي هذا التقديم
وجهان حكاهما الماوردي والشيخ أبو محمد الجويني وولده امام الحرمين وآخرون أصحهما أنه شرط
فلا يحسب الاستنشاق الا بعد المضمضة لأنهما عضوان مختلفان فاشترط فيهما الترتيب كالوجه واليد
والثاني أنه مستحب ويحصل الاستنشاق وان قدمه لتقديم اليسار على اليمين والله أعلم *
(المسألة الخامسة) في مذاهب العلماء في المضمضة والاستنشاق وهي أربعة أحدها أنهما سنتان
في الوضوء والغسل هذا مذهبنا وحكاه ابن المنذر عن الحسن البصري والزهري والحكم وقتادة
وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري ومالك والأوزاعي والليث ورواية عن عطاء وأحمد * والمذهب

(1) قال في البحر بعد حكاية هذين الوجهين وقيل يقدم الاستنشاق على هذا
القول وليس بشئ اه‍ أذرعي
362

الثاني انهما واجبتان في الوضوء والغسل وشرطان لصحتهما وهو مذهب ابن أبي ليلى وحماد
وإسحاق والمشهور عن أحمد ورواية عن عطاء: والثالث واجبتان في الغسل دون الوضوء
وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري والرابع الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل دون
المضمضة وهو مذهب أبي ثور وأبي عبيد وداود ورواية عن أحمد قال ابن المنذر وبه أقول * واحتج
لمن أوجبهما فيهما بأشياء منها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعلهما وفعله صلى الله عليه وسلم بيان
للطهارة المأمور بها وعن عائشة مرفوعا المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لابد منه وعن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمضوا واستنشقوا ولأنه عضو من الوجه ويجب
غسله من النجس فوجب من الحدث كالخد * واحتج لمن أوجبهما في الغسل بحديث عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم تحت كل شعرة جنابة فاغسلوا الشعر وانقوا البشرة قالوا وفي
الانف شعر وفي الفم بشرة وعن أبي هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل المضمضة
والاستنشاق ثلاثا للجنب فريضة وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من
ترك موضع شعرة من الجنابة لم يغسلها فعل بها كذا وكذا من النار قال على فمن ثم عاديت رأسي
وكان يجز شعره حديث حسن رواه أبو داود وغيره باسناد حسن قالوا ولأنهما عضوان يجب
غسلهما عن النجاسة فكذا من الجنابة كما في الأعضاء ولان الفم والأنف في حكم ظاهر البدن من
363

أوجه لأنه لا يشق ايصال الماء إليهما ولا يفطر بوضع الطعام فيهما ولا تصح الصلاة مع نجاسة عليهما
قالوا ولان اللسان يلحقه حكم الجنابة ولهذا يحرم به القراءة * واحتج لمن أوجب الاستنشاق دون
المضمضة بحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر
رواه البخاري ومسلم وبقوله صلى الله عليه وسلم للقيط وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما
وهو حديث صحيح كما سبق وبحديث سلمة بن قيس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
إذا توضأ فانتثر وإذا استجمرت فأوتر رواه الترمذي وقال حسن صحيح *
واحتج أصحابنا بقول الله تعالى (فاغسلوا وجوهكم وقوله تعالى (وان كنتم جنبا فاطهروا)
والوجه عند العرب ما حصلت به المواجهة وقال صلى الله عليه وسلم لأبي ذر وقد سأله عن الجنابة
تصيبه ولا يجد الماء الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر حجج فإذا وجد الماء
فليمسه بشرته حديث صحيح رواه أبو داود وآخرون بأسانيد صحيحة قال الترمذي هو حديث
حسن صحيح وسنوضحه حيث ذكره المصنف في التيمم إن شاء الله تعالى: قال أهل اللغة البشرة
ظاهر الجلد وأما باطنه فادمه بفتح الهمزة والدال: واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي توضأ
كما أمرك الله وهو صحيح سبق بيانه وموضع الدلالة أن الذي أمر الله تعالى به غسل الوجه
وهو ما حصلت به المواجهة دون باطن الفم والأنف وهذا الحديث من أحسن الأدلة ولهذا اقتصر
المصنف عليه لان هذا الأعرابي صلى ثلاث مرات فلم يحسنها فعلم النبي صلى الله عليه وسلم حينئذ أنه
لا يعرف الصلاة التي تفعل بحضرة الناس وتشاهد أعمالها فعلمه واجباتها وواجبات الوضوء
فقال صلى الله عليه وسلم توضأ كما أمرك الله ولم يذكر له سنن الصلاة والوضوء
لئلا يكثر عليه فلا يضبطها فلو كانت المضمضة والاستنشاق واجبتين لعلمه إياهما فإنه
364

مما يخفى لا سيما في حق هذا الرجل خفيت عليه الصلاة التي تشاهد فكيف الوضوء الذي
يخفى * واحتجوا من الأقيسة والمعاني بأشياء كثيرة جدا منها ما ذكره المصنف عضو باطن دونه
حائل معتاد فلم يجب غسله كداخل العين: والجواب عن احتجاجهم بفعل النبي صلى الله عليه
وسلم أنه محمول على الاستحباب بدليل ما ذكرناه ولان فيه غسل الكفين والتكرار وغيرهما مما
ليس بواجب بالاجماع: والجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها من وجهين أحدهما أنه ضعيف
وضعفه من وجهين أحدهما لضعف الرواة والثاني أنه مرسل ذكر ذلك الدارقطني وغيره والوجه الثاني
لو صح حمل على كمال الوضوء والجواب عن حديث أبي هريرة من هذين الوجهين لأنه من
رواية عمرو بن الحصين عن ابن علاثة بضم العين المهملة وبلام مخففة ثم ثاء مثلثة قال
الدارقطني وغيره هما ضعيفان متروكان وهذه العبارة أشد عبارات الجرح توهينا باتفاق أهل
العلم بذلك: قال الخطيب البغدادي كان عمرو بن الحصين كذابا وأما قولهم عضو من الوجه فلا نسلمه
365

وأما حديث تحت كل شعرة جنابة إلى آخره فضعيف رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وضعفوه
كلهم لأنه من رواية الحارث بن وجيه وهو ضعيف منكر الحديث وجواب ثان وهو حمله على
الاستحباب جمعا بين الأدلة وجواب ثالث للخطابي أن البشرة عند أهل اللغة ظاهر الجلد كما سبق
بيانه وداخل الفم والأنف ليس بشرة وأما الشعر فالمراد به ما على البشرة وأما حديث المضمضة
والاستنشاق ثلاثا فريضة فضعيف ولو صح حمل على الاستحباب فان الثلاث لا تجب بالاجماع وأما
حديث علي رضي الله عنه فمحمول على الشعر الظاهر جمعا بين الأدلة ويدل عليه أيضا قوله عاديت
رأسي
وأما قولهم عضوان يجب غسلهما عن النجاسة فكذا من الجنابة فمنتقض بداخل العين وأما
قولهم داخل الفم والأنف في حكم ظاهر البدن بدليل عدم الفطر ووجوب غسل نجاستهما
فجوابه انه لا يلزم من كونهما في حكم الظاهر في هذين الامرين أن يجب غسلهما فان داخل العين
كذلك بالاتفاق فإنه لا يفطر بوضع طعام فيها ولا يجب غسلها في الطهارة ويحكم بنجاستها بوقوع
نجاسة فيهما فان قالوا لا تنجس العين عند أبي حنيفة فإنه لا يوجب غسلها قال الشيخ أبو حامد قلنا
هذا غلط فان العين عنده تنجس وإنما لا يجب غسلها عنده لكون النجاسة الواقعة فيها لا تبلغا قدر
درهم ولهذا لو بلغت النجاسة في العين وحواليها الدرهم وجب غسلها عنده وأما قولهم يتعلق باللسان
جنابة بدليل تحريم القراءة فجوابه انه لا يلزم من تعلق حكم الحدث به أنه يجب غسله كما يحرم على
المحدث مس المصحف بظهره ولسانه ولا يجب غسلهما: وأما قوله صلى الله عليه وسلم فليجعل في أنفه
ماء ثم لينثر فمحمول على الاستحباب فان التنثر لا يجب بالاجماع وقوله صلى الله عليه وسلم
366

وبالع في الاستنشاق محمول أيضا على الندب فان المبالغة لا تجب بالاتفاق * والله أعلم * قال
المصنف رحمه الله *
(ولا تغسل العين ومن أصحابنا من قال يستحب غسلها لان ابن عمر رضي الله عنهما كان
367

يغسل عينه حتى عمى والأول أصح لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا
ولا فعلا فدل على أنه ليس بمسنون ولان غسلها يؤدى إلى الضرر)
(الشرح) هذا الأثر عن ابن عمر رضي الله عنهما صحيح رواه مالك في الموطأ عن نافع أن
ابن عمر (كان إذا اغتسل من الجنابة يتوضأ فيغسل وجهه وينضح في عينيه) هذا لفظه وكذا رواه
البيهقي وغيره وليس في رواياتهم حتى عمي وفيها وينضح في عينيه بالتثنية وفي المهذب عينه بالافراد
وقول المصنف حتى عمى يحتمل أن يكون عماه بسبب غسل العين كما هو السابق إلى الفهم وكما
يدل عليه كلام أصحابنا ويحتمل كونه بسبب آخر ويكون معناه ما زال يغسلهما حتى
حصل سبب عمى به فترك بعد ذلك غسلهما ففي تهذيب اللغة للأزهري قال ابن الأعرابي
368

القدع انسلاق العينين من كثرة البكاء وكان عبد الله ابن عمر قدعا (قلت) القدع بفتح القاف
والدال وبالعين المهملتين وقوله كان قدعا بكسر الدال فظاهر هذا انه عمى بالبكاء ويحتمل أنه
بالأمرين والله أعلم * أما حكم المسألة فلا يجب غسل داخل العين بالاتفاق وفي استحبابه الوجهان
اللذان ذكرهما المصنف أصحهما عند الجمهور لا يستحب وممن صححه المصنف والماوردي والقاضي
أبو الطيب والمتولي والشاشي والرافعي (1) وآخرون ونقله الماوردي عن أصحابنا المتقدمين غير
الشيخ أبي حامد: وصححت طائفة الاستحباب وقطع به الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي
في المجموع والتجريد والبغوي وصاحب العدة ونقله البغوي عن نصه في الأم وليس نصه في الأم

(1) قوله والرافعي وقع سهوا فان المسألة لم يذكر فيها الرافعي وهي مذكورة
في زيادات الروضة اه‍ من هامش الأذرعي
369

ظاهرا فيما نقله (1) فإنه قال في الأم إنما أكدت المضمضة والاستنشاق دون غسل العينين للسنة ولان الفم
والأنف يتغيران وان الماء يقطع من تغيرهما وليس كذلك العين وذكر القاضي أبو الطيب أن بعض
الأصحاب قال يستحب ذلك لان الشافعي نص عليه قال القاضي ولم أر فيه نصا وإنما قال الشافعي
أكدت المضمضة والاستنشاق على غسل داخل العينين والله أعلم *
(فرع) هذا الذي ذكرناه إنما هو في غسل داخل العين أما مآقي العينين فيغسلان
بلا خلاف فإن كان عليهما قذى يمنع وصول الماء إلى المحل الواجب من الوجه وجب مسحه
وغسل ما تحته والا فمسحهما مستحب هكذا فصله الماوردي وأطلق الجمهور أن غسلهما مستحب
ونقله الروياني عن الأصحاب فقال قال أصحابنا يستحب مسح مآقيه بسبابتيه وهذا الاطلاق محمول
على تفصيل الماوردي: وعن أبي أمامة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (كان يمسح
المآقين في وضوءه) ورواه أبو داود باسناد جيد ولم يضعفه وقد قال إنه إذا لم يضعف الحديث
يكون حسنا أو صحيحا لكن في اسناده شهر بن حوشب وقد جرحه جماعة لكن وثقه الأكثرون
وبينوا ان الجرح كان مستندا إلى ما ليس بجارح والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *

(1) هذا النص ظاهره الاستحباب كما نقله البغوي الا ان يريد تأكدت أصل الاستحباب
قلت قال في البحر قال الشافعي في الأم استحب ادخال الماء في العينين ولا أبلغ به
تأكيد المضمضة والاستنشاق ومن أصحابنا من قال لا يستحب وهو اختيار أكثر أصحابنا وقال في الحاوي
لا يجب ولا يسن وهل يستحب قال أبو حامد يستحب للنص في الأم وقال غيره لا يستحب وهذا أصح
لان ما لا يسن لا يستحب اه‍ من الأذرعي
370

(ثم يغسل وجهه وذلك فرض لقوله تعالى (فاغسلوا وجوهكم) والوجه ما بين منابت شعر
الرأس إلى الذقن ومنتهى اللحيين طولا ومن الاذن إلى الاذن عرضا والاعتبار بالمنابت المعتادة
لا بمن تصلع الشعر عن ناصيته ولا بمن نزل إلى جبهته وفي موضع التحذيف وجهان قال أبو العباس
هو من الوجه لأنهم أنزلوه من الوجه وقال أبو إسحاق هو من الرأس لان الله تعالى خلقه من الرأس
فلا يصير وجها بفعل الناس) *
(الشرح) غسل الوجه واجب في الوضوء بالكتاب والسنن المتظاهرة والاجماع وهذا
الذي ذكره المصنف في حد الوجه هو الصواب الذي عليه الأصحاب ونص عليه الشافعي رحمه
الله في الأم وذكر المزني في المختصر في حده كلاما طويلا مختلا أنكره عليه الأصحاب ونقل امام
الحرمين عن الأصحاب في حده عبارة حسنة فقال قال الأصحاب حده طولا ما بين منحدر تدوير
الرأس أو من مبتدأ تسطيح الجبهة إلى منتهى ما يقبل من الذقن ومن الاذن إلى الاذن عرضا (1)
هذا كلام الإمام قال أصحابنا ولا يدخل وتدا الاذن في الوجه ولا خلاف فيه قال البغوي

(1) قال ابن الرفعة في المطلب عرض الوجه من الاذن إلى الاذن عبارة كثير
من المصنفين اتباعا للغلط الشافعي في الأم وعبارة أبو الطيب والبندنيجي وابن الصباغ
من وتد الاذن إلى وتد الاذن وعبارة القاضي حسين من شحمة الأذن إلى شحمة الأذن قال ابن الرفعة
وهذا عندي أهم العبارات لان شحمة الأذن تنحط عن وتد الاذن وانحطاطها سبب لاتساع عرض
الوجه ولا تدخل الشحمة ولا الوتد باتفاق أصحابنا اه‍ من هامش الأذرعي
371

إلا أنه يمكن غسل جميع الوجه الا بغسلهما والبياض الذي بين الاذن والعذار من الوجه عندنا
وهو داخل في الحد: وأما إذا تصلع الشعر عن ناصيته اي زال عن مقدم رأسه فلا يجب غسل ذلك
الموضع بلا خلاف لأنه من الرأس: ولو نزل الشعر عن المنابت المعتادة إلى الجبهة نظر ان عمها وحب
غسلها كلها بلا خلاف وان ستر بعضها فطريقان الصحيح منهما وبه قطع العراقيون وجوب غسل
ذلك المستور ونقل القاضي حسين أن الشافعي نص عليه في الجامع الكبير: والثاني وبه قال الخراسانيون
فيه وجهان أصحهما هذا: والثاني لا يجب لأنه في صورة الرأس: وأما موضع التحذيف فسمي بذلك
لان الاشراف والنساء يعتادون إزالة الشعر عنه ليتسع الوجه قال الشيخ أبو حامد هو الشعر
الذي بين النزعة والعذر وهو المتصل بالصدغ وقال الشاشي في المستظهري هو ما بين ابتداء العذار
والنزعة داخلا في الجبين من جانبي الوجه يؤخذ عنه الشعر يفعله الاشراف وقال الغزالي في الوسيط
هو القدر الذي إذا وضع طرف الخيط على رأس الاذن والطرف الثاني على زاوية الجبين وقع
في جانب الوجه وقال أبو الفرج عبد الرحمن السرخسي في أماليه هو موضع الشعر الخفيف
الذي ينزل منبته إلى الجبين بين بياضين أحدهما بياض النزعة والثاني بياض الصدغ وقيل
في حده أقوال أخر * وأما حكمه ففيه الوجهان اللذان ذكرهما المصنف بدليلهما وكلاهما منقول عن
نص الشافعي: قال امام الحرمين في النهاية قال الشافعي موضع التحذيف من الوجه وأشار الشيخ
أبو حامد إلى نحو هذا وقال الروياني في البحر قال القاضي أبو الطيب قال أبو إسحاق المروزي
نص الشافعي في الاملاء انه من الرأس فهذان نصان واتفق الأصحاب في الطريقين على حكاية
الخلاف وجهين مع أنهما قولان كما ترى فكأنهما لم يثبتا عند واحد منهم وإن كان قد ثبت
372

أحدهما عند بعضهم واختلفوا في أصح الوجهين فصحح الماوردي والبندنيجي والغزالي في الوسيط
والوجيز أنه من الوجه وبه قطع امام الحرمين ونقله الماوردي عن أبي علي بن أبي هريرة وصحح
الجمهور كونه من الرأس منهم القاضي أبو الطيب وابن الصباغ والمتولي والشاشي وصاحب البيان وآخرون
ونقله الروياني والرافعي عن الجمهور وهو الموافق لنص الشافعي في حد الرأس والله أعلم *
(فرع) قول المصنف إلى الذقن ومنتهى اللحيين جمع بينهما تأكيدا والا فأحدهما يغنى عن
الآخر والذقن بفتح الذال المعجمة والقاف وجمعه أذقان وهو مجمع اللحيين واللحيان بفتح اللام
وأحدهما لحي هذه اللغة المشهورة وحكي صاحب مطالع الأنوار وغيره كسر اللام وهو غريب
ضعيف وهما الفكان وعليهما منابت الأسنان السفلى والاذن بضم الذال ويجوز اسكانها تخفيفا
وكذا كل ما كان على فعل بضم أوله وثانيه يجوز اسكان ثانيه كعنق وكتب ورسل وفي
الشعر لغتان مشهورتان بفتح العين واسكانها والفتح أفصح وقوله لأنهم أنزلوه من الوجه معناه
نزلوه منزلة جزء من الوجه والذين نزلوه هم الاشراف والنساء كما سبق والله أعلم *
(فرع) ذكرنا أن البياض الذي بين الاذن والعذار من الوجه هذا مذهبنا وحكاه أصحابنا
عن أبي حنيفة ومحمد واحمد وداود: وعن مالك انه ليس من الوجه وعن أبي يوسف يجب على
الأمرد غسله دون الملتحي وحكي الماوردي هذا التفصيل عن مالك * ودليلنا انه تحصل به المواجهة
كالخد واحتج الماوردي و غيره فيه بحديث علي رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال في غسل الوجه ضرب بالماء على وجهه ثم ألقم ابهاميه ما اقبل من أذنيه رواه
أبو داود والبيهقي وليس بقوي لأنه من رواية محمد بن إسحاق صاحب المغازي وهو مدلس ولم
يذكر سماعه فلا يحتج به كما عرف فلهذا لم اعتمده وإنما اعتمدت المعنى وذكرت الحديث
تقوية ولا بين حاله والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
373

(فإن كان ملتحيا نظرت فإن كانت لحيته خفيفة لا تستر البشرة وجب غسل الشعر والبشرة
للآية وإن كانت كثيفة تستر البشرة وجب إفاضة الماء على الشعر لان المواجهة تقع به ولا يجب
غسل ما تحته لما روى ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغرف غرفة
وغسل بها وجهه وبغرفة واحدة لا يصل الماء إلى ما تحت الشعر مع كثافة اللحية ولأنه باطن دونه
حائل معتاد فهو كداخل الفم والأنف والمستحب أن يخلل لحيته لما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان يخلل لحيته فإن كان بعضها خفيفا وبعضها كثيفا غسل ما تحت الخفيف وأفاض الماء
على الكثيف) *
(الشرح) في هذه القطعة مسائل إحداها حديث ابن عباس رواه البخاري في صحيحه وقوله وبغرفة
واحدة لا يصل الماء مع كثافة اللحية معناه ان لحيته الكريمة كانت كثيفة وهذا صحيح معروف وأما
قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته فصحيح رواه الترمذي من رواية عثمان بن عفان رضي
الله عنه وقال حسن صحيح وفي تخليل اللحية أحاديث كثيرة وينكر على المصنف قوله روى بصيغة
تمريض مع أنه حديث صحيح (الثانية) اللحية بكسر اللام وجمعها لحى بضم اللام وكسرها وهو أفصح
وهي الشعر النابت على الذقن قاله المتولي والغزالي في البسيط وغيرهما وهو ظاهر معروف لكن يحتاج
إلى بيانه بسبب الكلام في العارضين كما سنوضحه إن شاء الله تعالى وقد سبق ان البشرة ظاهر
الجلد والكثة والكثيفة بمعنى وقوله لأنه باطن احتراز من اليد والرجل وقوله دونه حائل احتراز
من الثقب في موضع الطهارة فإنه يجب غسل داخله وقوله معتاد احتراز من اللحية الكثة لامرأة
(الثالثة) اللحية الكثيفة يجب غسل ظاهرها بلا خلاف ولا يجب غسل باطنها ولا البشرة تحته هذا
هو المذهب الصحيح المشهور الذي نص عليه الشافعي رحمه الله وقطع به جمهور الأصحاب في الطرق
كلها وهو مذهب مالك وأبي حنيفة واحمد وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم: وحكى
الرافعي قولا ووجها انه يجب غسل البشرة وهو مذهب المزني وأبي ثور قال الشيخ أبو حامد غلط
بعض الأصحاب فظن المزني ذكر هذا عن مذهب الشافعي رحمه الله قال وليس كذلك وإنما حكى
مذهب نفسه وانفرد هو وأبو ثور في هذه المسألة ولم يتقدمهما فيها أحد من السلف (قلت) قد نقله
374

الخطابي عن إسحاق بن راهويه أيضا وهو أكبر منهما * واحتج لهم بحديث أنس المذكور في الفرع
الثالث بعد هذه المسألة وقوله فخلل لحيته وقال هكذا أمرني ربي وبالقياس على غسل الجنابة وعلى
الشارب والحاجب * واحتج الأصحاب بما ذكره المصنف من حديث ابن عباس والقياس وأجابوا عن
غسل الجنابة بأنها أغلظ ولهذا وجب غسل كل البدن ولم يجز مسح الخف بخلاف الوضوء ولان الوضوء
يتكرر فيشق غسل البشرة فيه مع الكثافة بخلاف الجنابة وأما الشارب والحاجب فكثافته نادرة ولا
يشق ايصال الماء إليه بخلاف اللحية وإن كانت اللحية خفيفة وجب غسل ظاهرها وباطنها والبشرة
تحتها بلا خلاف عندنا وإن كان بعضها خفيفا وبعضها كثيفا فلكل بعض منهما حكمه لو كان متمحضا
فللكثيف حكم اللحية الكثيفة وللخفيف حكم اللحية الخفيفة هذا هو المذهب الصحيح وبه قطع
الأصحاب في الطرق وقال الماوردي إن كان الكثيف متفرقا بين الخفيف لا يمتاز ولا ينفرد عنه وجب
ايصال الماء إلى جميع الشعر والبشرة وحكى الرافعي وجها ان للجميع حكم الخفيف مطلقا وحكي الإمام أبو
سهل الصعلوكي نصا عن الشافعي رحمه الله ان من كان جانبا لحيته خفيفين وبينهما كثيف وجب
غسل البشرة كلها كالحاجب وهذا نص غريب جدا وقد ذكرته في طبقات الفقهاء في ترجمة عمر
القصاب (1) والله أعلم *
(فرع) في ضبط اللحية الكثيفة والخفيفة أوجه أحدها ما عده الناس خفيفا فخفيف وما
عدوه كثيفا فهو كثيف ذكره القاضي حسين في تعليقه وهو غريب والثاني ما وصل الماء إلى ما تحته
بلا مشقة فهو خفيف وما لا فكثيف حكاه الخراسانيون والثالث وهو الصحيح وبه قطع العراقيون
والبغوي وآخرون وصححه الباقون وهو ظاهر نص الشافعي ان ما ستر البشرة عن الناظر في مجلس
التخاطب فهو كثيف وما لا فخفيف *

(1) لم أر لعمر القصاب في طبقاته ذكرا اه‍ من الأذرعي
375

(فرع) قد ذكرنا أن مذهبنا أنه يجب غسل اللحية الخفيفة والبشرة تحتها وبه قال مالك
وأحمد وداود * قال أصحابنا وقال أبو حنيفة رحمه الله لا يجب غسل ما تحتها كداخل الفم وكما
سوينا بين الخفيف والكثيف في الجنابة وأوجبنا غسل ما تحتهما فكذا نسوي بينهما في الوضوء
فلا نوجبه * واحتج أصحابنا بقول الله تعالى (فاغسلوا وجوهكم) وهذه البشرة من الوجه ويقع
بها المواجهة ولأنه موضع ظاهر من الوجه فأشبه الخد ويخالف الكثيف فإنه يشق ايصال الماء
إليه بخلاف هذا، والجواب عن داخل الفم أنه يحول دونه حائل أصلى فأسقط فرض الوضوء
واللحية طارئة والطارئ إذا لم يستر الجميع لم يسقط الفرض كالخف المخرق: والجواب عن غسل
الجنابة أن المعتبر في الموضعين المشقة وعدمها فلما كانت الجنابة قليلة أوجبنا ما تحت الشعور كلها
بعدم المشقة فكذا ما تحت الخفيف في الوضوء بخلاف الكثيف والله أعلم *
(فرع) قد ذكرنا أن التخليل سنة ولم يذكر الجمهور كيفيته وقال السرخسي يخللها بأصابعه
من أسفلها قال ولو أخذ للتخليل ماء آخر كان أحسن ويستدل لما ذكره من الكيفية بحديث
أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء فأدخله
تحت حنكه فخلل بها لحيته وقال هكذا أمرني ربي رواه أبو داود ولم يضعفه واسناده حسن أو
صحيح والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ولا يجب غسل ما تحت الشعر الكثيف في الوضوء الا في خمسة مواضع الحاجب والشارب
والعنفقة والعذار واللحية الكثة للمرأة لان الشعر في هذه المواضع يخف في العادة وان كثف لم يكن
الا نادرا فلم يكن له حكم) *
(الشرح) قال أصحابنا ثمانية من شعور الوجه يجب غسلها وغسل البشرة تحتها سواء
خفت أو كثفت وهي الحاجب والشارب والعنفقة والعذار ولحية المرأة ولحية الخنثى وأهداب
العين وشعر الخد: فأما الخمسة الأولى فقد ذكرها المصنف والأصحاب وأما الأهداب فنص عليها
الشافعي والأصحاب منهم الشيخ أبو حامد والماوردي والمحاملي وسليم الرازي والقاضي حسين
والفوراني وامام الحرمين وابن الصباغ والغزالي والبغوي والمتولي وخلائق لا يحصون: وأما شعر
376

الحد فصرح به البغوي وغيره: وأما لحية الخنثى فصرح بها الدارمي والمتولي والبغوي والرافعي
وآخرون وعلله المتولي بأنه نادر وبأن الأصل في أحكام الخنثى العمل باليقين ويعلل بثالث وهو
أن غسل البشرة كان واجبا قبل نبات اللحية وشككنا هل سقط والأصل بقاؤه: وهذا تفريع
على المذهب أن لحية الخنثى لا تكون علامة لذكورته * واعلم أنه ينكر على المصنف كونه لم يستثن
الا الخمسة وأهمل الثلاثة الا خيرة: ويجاب عنه بأنه رآها ظاهرة تفهم مما ذكره لان الكثافة في
الأهداب والخد أندر منها في الخمسة ولحية الخنثى تعلم من كونه له حكم المرأة فيما فيه احتياط *
واعلم أن الشعور الثمانية يجب غسلها وغسل ما تحتها مع الكثافة بلا خلاف الا وجها حكاه الرافعي
فيها كلها أنها كاللحية والا وجها مشهورا عند الخراسانيين في العنفقة وحدها أنها كاللحية ووجها أنها
ان اتصلت باللحية فهي كاللحية وان انفصلت وجب غسل بشرتها مع الكثافة حكاه القاضي
حسين والفوراني والمتولي وصاحبا العدة والبيان فحصل في العنفقة ثلاثة أوجه الصحيح، وجوب
غسل بشرتها مع الكثافة *
(فرع) في تفسير هذه الشعور: أما الحاجب فمعروف سمى حاجبا لمنعه العين من الأذى
والحجب المنع والشارب هو الشعر النابت على الشفة العليا: ثم الجمهور قالوا الشارب بالافراد وقال
القاضي أبو الطيب قال الشافعي في الأم يجب ايصال الماء إلى أصول الشعر في مواضع الحاجبين
والشاربين والعذارين والعنفقة قال القاضي قيل أراد الشافعي بالشاربين الشعر الذي على ظاهر
الشفتين وقيل أراد الشعر الذي على الشفة العليا جعل ما يلي الشق الأيمن شاربا وما يلي الأيسر
شاربا قال القاضي هذا هو الصحيح وهذا الذي ذكره القاضي عن الأم ذكره الشافعي في موضع
من الباب وقال في مواضع من الباب شارب بالافراد وممن ذكر الشاربين بالتثنية ابن القاص في
التلخيص والغزالي في كتبه: وأما العنفقة فهي الشعر النابت على الشفة السفلى كذا قاله القاضي
حسين وصاحبا التتمة والبيان: وأما العذار فالنابت على العظم الناتئ بقرب الاذن قاله الشيخ أبو حامد
والأصحاب وذكر الأصحاب في وجوب غسل بشرة هذه الشعور علتين إحداهما أن كثافتها
377

نادرة كما ذكره المصنف: والثانية أن المغسول يحيط بجوانبها فجعل لها حكم الجوانب وقد أشار الشافعي
في الأم إلى العلتين والأولى أصحهما وقطع بها جماعة كما قطع بها المصنف *
(فرع) أما شعر العارضين فهو ما تحت العذار كذا ضبطه المحاملي وامام الحرمين وابن الصباغ
والرافعي وغيرهم وفيه وجهان الصحيح الذي قطع به الجمهور أن له حكم اللحية فيفرق بين الخفيف
والكثيف كما: سبق ممن قطع به أبو علي البندنيجي والفوراني وامام الحرمين وابن الصباغ
والمتولي والبغوي وصاحبا العدة والبيان والرافعي وآخرون ونص عليه الشافعي في الأم وصححه
القاضي حسين وهو مفهوم من قول المصنف لا يجب غسل ما تحت الشعر الكثيف الا في خمسة
مواضع وليس هذا منها وشذ السرخسي فقال في الأمالي ظاهر المذهب أن العارض كالعذار
فيجب غسل ما تحته مع الكثافة وهذا شاذ متروك لمخالفته النقل والدليل: فان الكثافة فيه ليست
بنادرة فأشبه اللحية *
(فرع) الشعر الكثيف على اليد والرجل يجب غسله وغسل البشرة تحته بلا خلاف
لندوره وكذا يجب غسل ما تحت الشعر الكثيف في غسل الجنابة بلا خلاف لعدم المشقة فيه
لقلة وقوعه ولهذا احترز عنه المصنف بقوله لا يجب غسل ما تحت الشعر الكثيف في الوضوء *
(فرع) قول المصنف وان كثف لم يكن الا نادرا فلم يكن له حكم: هذه العبارة مشهورة
في استعمال العلماء ومعناها عندهم لم يكن للنادر حكم يخالف الغالب بل حكمه حكمه فمعناه هنا
أن الكثافة لا تأثير لها فهي كالمعدومة *
(فرع) قال القاضي حسين لو نبتت للمرأة لحية استحب لها نتفها وحلقها لأنها مثلة في حقها
بخلاف الرجل وهذا قد قدمته في آخر باب السواك والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
378

(وان استرسلت اللحية خرجت عن حد الوجه ففيها قولان أحدهما لا تجب إفاضة الماء
عليها لأنه شعر لا يلاقي محل الفرض يكن محلا للفرض كالذؤابة: والثاني يجب لما روى أن
النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا غطي لحيته فقال اكشف لحيتك فإنها من الوجه ولأنه
شعر ظاهر نابت على بشرة الوجه فأشبه شعر الخد) *
(الشرح) هذا الحديث المذكور وجد في أكثر النسخ ولم يوجد في بعضها وكذا لم يقع
في نسخة قيل إنها مقروءة على المصنف وهو منقول عن رواية ابن عمر قال الحافظ أبو بكر
الحازمي هذا الحديث ضعيف قال ولم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا شئ وقول
المصنف لأنه شعر ظاهر احتراز من باطن اللحية الكثة: وقوله على بشرة الوجه احتراز من
الناصية وقوله استرسلت اللحية أي امتدت وانبسطت والذؤابة بضم الذال وبعدها همزة * اما
حكم المسألة فقال أصحابنا إذا خرجت اللحية عن حد الوجه طولا أو عرضا أو خرج شعر العذار
أو العارض أو السبال فهل يجب إفاضة الماء على الخارج فيه قولان مشهوران وهذه المسألة أول
مسألة نقل المزني في المختصر فيها قولين الصحيح منهما عند الأصحاب الوجوب وقطع به جماعات
من أصحاب المختصرات و الثاني لا يجب لكن يستحب والقولان جاريان في الخارج عن حد
الوجه طولا أو عرضا كما ذكرناه صرح به أبو علي البندنيجي في كتابه الجامع وآخرون: ثم إن
عبارة جمهور الأصحاب كعبارة المصنف يقولون هل يجب إفاضة الماء على الخارج فيه قولان: وعبارة
صاحب الشامل وقليلين هل يجب غسل ظاهر الخارج فيه قولان قال الرافعي لفظ الإفاضة في
اصطلاح المتقدمين إذا استعمل في الشعر كان لامرار الماء على الظاهر ولفظ الغسل للامرار
على الظاهر مع الادخال في الباطن ولهذا اعترضوا على الزبيري حين قال في هذه المسألة يجب
الغسل في قول والإفاضة في قول وقالوا الغسل غير واجب قولا واحدا وإنما القولان في الإفاضة
ومقصود الأئمة بلفظ الإفاضة ان داخل المسترسل لا يجب غسله قولا واحدا *
379

كالشعر النابت تحت الذقن هذا كلام الرافعي وكذا قال المحاملي في كتابيه لا خلاف ان غسل
الشعر الخارج لا يجب وهل يجب إفاضة الماء على ظاهره فيه القولان وقال جماعة منهم امام الحرمين كلاما
مختصره ان النازل عن حد الوجه (1) إن كان كثيفا فالقولان في وجوب إفاضة الماء على ظاهره ولا يجب
غسل باطنه بلا خلاف وإن كان خفيفا فالقولان في وجوب غسله ظاهر أو باطنا وهذا هو الصواب وكلام
الباقين محمول عليه ومرادهم المسترسل الكثيف كما هو الغالب وأما قول الغزالي في البسيط ان
الخارج عن الوجه هل يجب إفاضة الماء على ظاهره خفيفا كان أو كثيفا فمخالف للأصحاب كلهم فلا نعلم أحدا
صرح بأنه يكتفى في الخفيف بالإفاضة على ظاهره على قول الوجوب: وأما عكسه وهو وجوب غسل
باطن الكثيف فقد أوجبه الزبيري وغيره وهو ضعيف بل غلطه الأصحاب فيه *
(فرع) وقد ذكرنا القولين في وجوب إفاضة الماء على ظاهر شعور الوجه الخارجة عن حده
والصحيح منهما عند الأصحاب الوجوب كما سبق وهو محكي عن مالك واحمد وعدم الوجوب محكى
عن أبي حنيفة وداود واختاره المزني ودليل القولين ما ذكره المصنف: وأجاب الأصحاب للقول
الصحيح بما احتج به الآخر من القياس على الذؤابة بجوابين: أحدهما ان الرأس اسم لما ترأس وعلا
وليست الذؤابة كذلك والوجه ما حصلت به المواجهة وهي حاصلة بالمسترسل: والثاني انا سلكنا
الاحتياط في الموضعين والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بغسل الوجه أحدها قال صاحب الحاوي صفة غسل الوجه المستحبة
أن يأخذ الماء بيديه جميعا لأنه أمكن وأسبغ ويبدأ بأعلى وجهه ثم يحدره لان رسول الله صلى
الله عليه وسلم هكذا كان يفعل ولان أعلى الوجه أشرف لكونه موضع السجود ولأنه أمكن
فيجري الماء بطبعه ثم يمر يديه بالماء على وجهه حتى يستوعب جميع ما يؤمر بايصال الماء إليه فان أوصل الماء
على صفة أخرى أجزأه: هذا كلام الماوردي وهذا الذي ذكره من أخذ الماء باليدين هو الصحيح
الذي نص عليه في مختصر المزني وقطع به الجمهور: و قيل يأخذه بيد وفيه وجه ثالث لزاهر السرخسي
من متقدمي أصحابنا انه يغرف بكفه اليمنى ويضع ظهرها على بطن كفه اليسرى ويصبه من أعلى

(1) النازل عن حد الوجه تارة يكون كثيفا من منبته إلى منتهاه ولا شك في جريان
القولين فيما نزل منه عن حد الوجه وتارة يكون خفيفا في منبته وخروجه عن حد الوجه وكلام الامام ظاهر
في وجوب غسل جميعه على قول وتارة يكون كثيفا في منبته وما على حد الوجه منه ويكون المسترسل
الخارج عن حد الوجه خفيفا وهذا القسم لم أره في كلامه أحد والذي يتعين القطع به الحاق المسترسل
منه بالقسم الأول حتى يكون في إفاضة الماء على ظاهره القولان وكلام يوهم انه من قسم
الخفيف كله وفيه نظر فان الامام في النهاية قال كل شعر يجب غسل منبته يجب استيعاب
جميع الشعر بالماء إذا كان في حد الوجه وهذا الوجه يرجع فيه إلى وجوه المرد فان وجب غسل المنبت
وما هو في حد الوجه فلو طال الشعر وخرج في جهته عن حد الوجه فهل يجب ايثال الماء إليه
إلى منتهاه فعلى قولين للشافعي أحدهما يجب لئلا يتبعض حكم الشعر والثاني لا يجب فان
المغسول هو الوجه والشعر الكائن في حده اه‍ وقوله لئلا يتبعض حكم الشعر مرشد لما ذكرته فتأمله
والله أعلم اه‍ من هامش أذرعي
380

جبهته وقد ثبت معنى هذه الأوجه الثلاثة في الحديث الصحيح ففي البخاري ومسلم عن عبد الله
ابن زيد في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ثم أدخل يده فغسل وجهه ثلاثا
هكذا رواه البخاري في مواضع من صحيحه ومسلم يده بالافراد وفي رواية للبخاري ثم أدخل
يديه فاغترف بهما فغسل وجه ثلاثا وكذا هو بالتثنية في سنن أبي داود وغيره من رواية علي رضي الله عنه
لكن في اسنادها ضعف وفي البخاري عن ابن عباس قال ثم أخذ غرفة فجعل بها
هكذا أضافها إلى يديه الأخرى فغسل بها وجهه ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يتوضأ فهذه الأحاديث دالة على أن جميع ذلك سنة لكن الاخذ بالتكفين أفضل على المختار
لما سبق والله أعلم *
(المسألة الثانية) قال أصحابنا صاحب التتمة وآخرون يجب على المتوضئ غسل جزء من رأسه
ورقبته وما تحت ذقنه مع الوجه لأنه لا يمكن استيعاب الوجه الا بذلك كما يجب إمساك جزء من الليل
في الصيام ليستوعب النهار وقد ذكر المصنف هذه المسألة عند ذكر القلتين * (الثالثة) لو خرجت
381

في وجهه سلعة وخرجت عن حد الوجه وجب غسلها كلها على المذهب وبه قطع صاحبا البحر
والبيان لندوره ولأنها كلها تعد من الوجه وذكر الجرجاني في التحرير طريقين أصحهما هذا: والثاني
أن الخارج عن حد الوجه فيه قولان كاللحية المسترسلة (الرابعة) لو قطع انفه أو شفته هل يلزمه غسل
ما ظهر بالقطع في الوضوء والغسل فيه وجهان أصحهما نعم كما لو كشط جلدة وجهه أو يده: والثاني لا لأنه كان يمكن غسله قبل القطع ولم يكن واجبا فبقي على ما كان (الخامسة) قال الشافعي والأصحاب
يستحب غسل النزعتين مع الوجه لان بعض العلماء جعلهما من الوجه فيستحب الخروج
من الخلاف *
(السادسة) يجب غسل ما ظهر من حمرة الشفتين ذكره الدارمي * (السابعة) لو كان له وجهان
على رأسين وجب غسل الوجهين ذكره الدارمي قال ويجزئه مسح أحد الرأسين قال ويحتمل
ان يجب مسح بعض كل رأس (الثامنة) ينبغي ان يغسل الصدغين وهل هما من الرأس أو الوجه
فيه ثلاثة أوجه سنوضحها في فصل مسح الرأس حيث ذكره المصنف إن شاء الله تعالى * (التاسعة)
لا يجب امرار اليد على الوجه ولا غيره من الأعضاء لا في الوضوء ولا في الغسل لكن يستحب:
هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال مالك والمزني يجب وسنوضح المسألة بدلائلها إن شاء الله تعالى
في باب الغسل حيث ذكرها المصنف والأصحاب والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ثم غسل يديه وهو فرض لقوله تعالى (وأيديكم إلى المرافق) ويستحب ان يبدأ
باليمنى ثم باليسرى لما روى أبو هريرة رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال وإذا
توضأتم فابدؤا بميامنكم فان بدا باليسرى جاز لقوله تعالى (وأيديكم) ولو وجب الترتيب فيهما
لما جمع بينهما) *
(الشرح) اما حديث أبي هريرة هذا حديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما
في كتاب اللباس من سننهما باسناد جيد ولفظه في أكثر كتب الحديث إذا لبستم وإذا
توضأتم فابدؤا بأيامنكم كما هو في المهذب وكلاهما صحيح الأيامن: جمع أيمن
والميمامن جمع ميمنة وقول المصنف يبدأ باليمنى ثم باليسرى هو من باب التأكيد ولا حاجة
382

إلى قوله ثم باليسرى ولأنه قد علم بقوله يغسل يديه ويبدأ باليمنى ان اليسرى بعدها وقد
استعمل المصنف وغيره نظير هذه العبارة في مواضع كثيرة ويقال فيها كلها ما ذكرناه هنا *
اما حكم المسألة فغسل اليدين فرض بالكتاب والسنة والاجماع وتقديم اليمنى سنة (1) بالاجماع
وليس بواجب بالاجماع قال ابن المنذر اجمعوا على أنه لا إعادة على من يبدأ بيساره وكذا نقل
الاجماع فيه آخرون وحكي أصحابنا عن الشيعة ان تقديم اليمنى واجب لكن الشيعة لا يعتد بهم
في الاجماع * واحتج لهم بحديث أبي هريرة المذكور ولا صحابنا بما احتج به المصنف وهو قوله
تعالى (وأيديكم) ولو وجب الترتيب لبينه فقال فاغسلوا وجوهكم وأيامنكم وشمائلكم كما رتب
في الأعضاء الأربعة وروى البيهقي وغيره عن علي رضي الله عنه انه سئل عن تقديم اليمين
فدعا باناء فتوضأ وبدأ بالشمال وفي رواية ما أبالي لو بدأت بالشمال وعن ابن مسعود رضي الله عنه
انه رخص في تقديم الشمال: واما حديث أبي هريرة فمحمول على الاستحباب بدليل ما ذكرناه
مع اجماع من يعتد به *

(1) قوله سنة بالاجماع فيه نظر فقد حكي الرافعي في الشرح عن أحمد رواية
بوجوبه وان المرتضى من الشيعة حكاه عن الشافعي في القديم والله أعلم اه‍ أذرعي
383

(فرع) تقديم اليسار وإن كان مجزئا فهو مكروه كراهة تنزيه نص عليه الشافعي رحمه الله
الله تعالى في الأم ومنه نقلت والله أعلم *
(فرع) قال أصحابنا وغيرهم من العلماء يستحب تقديم اليمين في كل ما هو من باب التكريم
كالوضوء والغسل ولبس الثوب والنعل والخف والسراويل ودخول المسجد والسواك والاكتحال
وتقليم الأظفار وقص الشارب ونتف الإبط وحلق الرأس والسلام من الصلاة والخروج من
الخلاء والأكل والشرب والمصافحة واستلام الحجر الأسود والاخذ والعطاء وغير ذلك مما هو
في معناه ويستحب تقديم اليسار في ضد ذلك كالامتخاط والاستنجاء ودخول الخلاء والخروج
من المسجد وخلع الخف والسراويل والثوب والنعل وفعل المستقذرات وأشبه ذلك ودليل
هذه القاعدة أحاديث كثيرة في الصحيح: منها حديث عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله رواه البخاري ومسلم
وعن عائشة أيضا قالت كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه: وكانت
اليسرى لخلائه وما كان من أذى حديث صحيح رواه أبو داود وغيره باسناد صحيح وعن حفصة
رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه وثيابه ويجعل
يساره لما سوى ذلك رواه أبو داود وغيره باسناد جيد وعن أم عطية رضي الله عنها أن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لهن في غسل ابنته رضي الله عنها ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها
384

رواه البخاري ومسلم وفي الباب حديث أبي هريرة المذكور في الكتاب إذا لبستم وإذا
توضأتم فابدؤا بأيامنكم وثبت الابتداء في الوضوء باليمين من رواية عثمان وأبي هريرة وابن
عباس وغيرهم رضي الله عنهم * وعن أبي هريرة رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمنى وإذا نزع بالشمال لتكون اليمنى أو لهما تنعل وآخرهما تنزع
رواه البخاري ومسلم وعن انس رضي الله عنه أنه قال من السنة إذا دخلت المسجد ان تبدأ
برجلك اليمنى وإذا خرجت ان تبدأ برجلك اليسرى رواه الحاكم في المستدرك في أوائل
باب صفة الصلاة وقال هو حديث صحح على شرط مسلم *
(فرع) إنما يستحب تقديم اليمين في الوضوء في اليدين والرجلين واما الكفان والخدان
والأذنان فالسنة تطهيرهما معا فإن كان اقطع قدم اليمنى والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ويجب ادخال المرفقين في الغسل لما روى جابر رضي الله عنه قال كان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا توضأ امر الماء على مرفقيه) *
(الشرح) هذا الحديث رواه البيهقي واسناده ضعيف ولفظه أدار الماء على مرفقيه وهذا
الذي ذكره المصنف من وجوب غسل المرفقين هو مذهبنا ومذهب العلماء كافة الا ما حكاه
أصحابنا عن زفر وأبي بكر بن داود انهما قالا لا يجب غسل المرفقين والكعبين * واحتج
أصحابنا بقول الله تعالى (وأيديكم إلى المرافق) فذكر ابن قتيبة والأزهري وآخرون من
385

أهل اللغة والفقهاء في كيفية الاستدلال بالآية كلاما مختصره ان جماعة من أهل اللغة منهم أبو
العباس ثعلب وآخرون قالوا إلى بمعنى مع وقال أبو العباس المبرد وأبو اسحق الزجاج وآخرون
إلى للغاية وهذا هو الأصح الا شهر فإن كانت بمعنى مع فدخول المرفق ظاهر وإنما لم يدخل العضد
للاجماع وإن كانت للغاية فالجد يدخل إذا كان التحديد شاملا للحد والمحدود كقولك قطعت
أصابعه من الخنصر إلى المسبحة أو بعتك هذه الأشجار من هذه إلى هذه فان الإصبعين
والشجرتين داخلان في القطع والبيع بلا شك لشمول اللفظ ويكون المراد بالتحديد في مثل هذا
اخراج ما وراء الحد مع بقاء الحد داخلا فكذا هنا اسم اليد شامل من أطراف الأصابع إلى
الإبط: ففائدة التحديد بالمرافق اخراج ما فوق المرفق مع بقاء المرفق * ومما يستدل به حديث
أبي هريرة رضي الله عنه انه توضأ فغسل يديه حتى أشرع في العضدين وغسل رجليه حتى
أشرع في الساقين ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ رواه مسلم فثبت غسله
386

صلى الله عليه وسلم المرفقين وفعله بيان للوضوء المأمور به ولم ينقل تركه ذلك والله أعلم * والمرفق
بكسر الميم وفتح الفاء عكسه لغتان مشهورتان الأولى أفصحهما وهو مجتمع العظمين المتداخلين
وهما طرفا عظم العضد وطرف عظم الذراع وهو الموضع الذي يتكئ عليه المتكئ إذا ألقم راحته رأسه واتكأ
على ذراعه هذا معنى ما ذكره الأزهري في ضبط المرفق والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان طالت أظافيره وخرجت عن رؤوس الأصابع ففيه طريقان قال أبو علي بن خيران
يجب غسلها قولا واحدا لان ذلك نادر: ومن أصحابنا من قال فيه قولان كاللحية المسترسلة)
(الشرح) هذان الطريقان مشهوران الصحيح منهما القطع بالوجوب حكاه القاضي أبو الطيب
عن أبي علي بن أبي هريرة رضي الله عنه أيضا وصححه الجرجاني والروياني والشاشي وآخرون
وقطع به البغوي وغيره وفرقوا بينه وبين اللحية بأن هذا نادر ولأنه لا مشقة في غسله ولأنه مقصر
بترك تقليم الأظفار. واللحية تخالفه في كل هذا فلو كان على طرف ظفره الخارج شمع ونحوه فإن لم نوجب
غسله صح وضوءه وإلا فلا: والأظافير والأظفار جمع ظفر وتقدم بيانه في باب السواك واللحية
المسترسلة بكسر السين الثانية وابن خيران تقدم بيان اسمه وحاله في باب الماء المستعمل والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وإن كان له أصبع زائدة أو كف زائدة لزمه غسلها لأنه في محل الفرض فإن كانت له يدان متساويتان
على منكب أو مرفق لزمه غسلهما لوقوع اسم اليد عليهما وإن كانت إحداهما تامة والأخرى
ناقصة فالتامة هي الأصلية وينظر في الناقصة فان خلقت على محل الفرض لزمه غسلها كالإصبع
الزائدة وان خلفت على العضد ولم تحاذ محل الفرض لم يلزمه غسلها وان حاذت بعض محل الفرض
لزمه غسل ما حاذى منها محل الفرض)
387

(الشرح) في الإصبع عشر لغات تقدمت في باب السواك: والكف مؤنثة في اللغة المشهورة
وحكى تذكيرها سميت كفا لأنه يكف بها عن سائر البدن وقيل لان بها يضم ويجمع
والمنكب مجتمع ما بين العضد والكتف وجمعه مناكب والعضد بفتح العين وضم الضاد ويقال
باسكان الضاد مع فتح العين وضمها ثلاث لغات الأولى أفصح وأشهر * اما حكم المسألة فإذا
كان له إصبع أو كف زائدة وجب غسلها بلا خلاف لما ذكره: وإن كان له يدان متساويتان في
البطش والخلقة وجب غسلهما أيضا بلا خلاف لوقوع اسم اليد: وإن كانت إحداهما تامة والأخرى
ناقصة فالتامة هي الأصلية فيجب غسلها: واما الناقصة فان خلقت في محل الفرض وجب غسلها
أيضا بلا خلاف كالإصبع الزائدة قال الرافعي وغيره وسواء جاوز طولهما الأصلية أم لا: قال ومن
الامارات المميزة للزائدة تكون فاحشة القصر والأخرى معتدلة ومنها فقد البطش وضعفه
ونقص الأصابع: وان خلقت الناقصة على العضد ولم يحاذ شئ منها محل الفرض لم يجب غسلها
بلا خلاف وان حاذته وجب غسل المحاذي على المذهب الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع
به الأكثرون منهم الشيخ أبو حامد والمحاملي وامام الحرمين والغزالي والبغوي وصاحب العدة
وآخرون ونقل امام الحرمين عن العراقيين وغيرهم انهم نقلوا ذلك عن نص الشافعي ثم قال
المسألة محتملة جدا ولكني لم أر فيها الا نقلهم النص: هذا كلام الامام ونقل جماعات في وجوب
غسل المحاذي وجهين (1) منهم الماوردي وابن الصباغ والمتولي والشاشي والروياني وصاحب البيان
وغيرهم قال الرافعي قال كثيرون من المعتبرين لا يجب: لأنها ليست أصلا ولا نابتة في محل الفرض
فتجعل تبعا وجملوا النص على ما إذا لصق شئ منها بمحل الفرض قال امام الحرمين
ولو نبتت سلعة في العضد وتدلت إلى الساعد لم يجب غسل شئ منها بلا خلاف إذا تدلت ولم
تلتصق والله أعلم *

(1) ويمنع الوجوب أجاب الشيخ أبو محمد في التبصرة قال في البحر وهو الأقرب عندي قلت هو القياس الظاهر اه‍ أذرعي
388

(فرع) قد ذكرنا أن من له يدان متساويتان يلزمه غسلهما ولو سرق هذا الشخص قطعت
إحداهما فقط هذا هو الصحيح الذي قطع به الجمهور ممن قطع به القاضي أبو الطيب والروياني
والشيخ نصر المقدسي في كتاب الانتخاب ذكروه في هذا الموضع وقطع به أيضا البغوي في كتاب
السرقة ونقله القاضي أبو الطيب والشيخ نصر عن نص الشافعي قال البغوي تقطع إحداهما ثم
إذا سرق ثانيا قطعت الأخرى وأما قول الغزالي في كتاب السرقة قال الأصحاب نقطعهما جميعا
فغير موافق عليه بل أنكروه عليه وردوه والصواب الاكتفاء بإحداهما وفرق القاضي أبو الطيب
والأصحاب بينه وبين الوضوء بأن الوضوء عبادة مبنية على الاحتياط وأما الحد فمبني على الدرء
والاسقاط والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان تقلع جلد من الذراع وتدلى منها لزمه غسله لأنه في محل الفرض وان تقلع من الذراع
وبلغ التقلع إلى العضد ثم تدلى لم يلزمه غسله لأنه صار من العضد وان تقلع من العضد وتدلى
منه لم يلزمه غسله لأنه تدلى من غير محل الفرض وان تقلع من العضد وبلغ التقلع إلى الذراع ثم
تدلى لزمه غسله لأنه صار من الذراع وان تقلع من أحدهما والتحم بالآخر لزمه غسل ما حاذى منه
محل الفرض لأنه بمنزلة الجلد الذي على الذراع إلى العضد فإن كان متجافيا عن ذراعه لزمه غسل ما تحته) *
389

(الشرح) هذه المسائل التي ذكرها واضحة وحاصلها أن الاعتبار في الجلد المتقلع بالمحل
الذي انتهى التقلع إليه وتدلى منه فيعتبر المنتهى ولا ينظر إلى المواضع الذي تقلع منه وهكذا ذكر
هذه الصور أصحابنا العراقيون والبغوي وأشار المحاملي في كتابيه إلى أن الشافعي نص عليه في
حرملة صرح البندنيجي بأن الشافعي نص عليه في حرملة كما ذكره المصنف بحروفه ونقله امام الحرمين
عن العراقيين ثم قال وهذا غلط بل الصواب انه يعتبر بأصله فيجب غسل جلدة الساعد المتدلية
من العضد ولا يجب غسل جلدة العضد المتدلية من الساعد إذا لم تلتصق به وبهذا قطع الماوردي
وصححه المتولي والمختار الأول: ثم حيث أو جبنا غسل المتقلعة وجب غسل ظاهرها وباطنها
وغسل ما تقلعت عنه وظهر من محل الفرض وقوله فان بلغ التقلع إلى العضد ثم تدلى منه لم يلزم
غسله يعني سواء حاذى محل الفرض أم لا بخلاف ما سبق في اليد المتدلية من العضد المحاذية
لمحل الفرض فإنه يجب غسل المحاذي منها على الصحيح لان اسم اليد يقع عليها بخلاف الجلدة
كذا فرق الشيخ أبو حامد وآخرون وقوله فإن كان متجافيا لزمه غسل ما تحته كذا قاله الأصحاب
390

واتفقوا عليه وفرقوا بينه وبين اللحية الكثيفة فإنه لا يجب غسل ما تحتها بان هذا نادر فلا يسقط
ما تحته كلحية المرأة قال البغوي ولو التصقت جلدة العضد بالساعد واستتر ما تحتها من الساعد
فغسلها ثم زالت الجلدة لزمه غسل ما ظهر من تحتها لان الاقتصار على ظاهرها كان للضرورة وقد
زالت بخلاف ما لو غسل لحيته ثم حلفت لا يلزمه غسل ما كان تحتها لان غسل باطنها كان
ممكنا وإنما كان عليه غسل الظاهر وقد فعله والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وإن كان أقطع اليد ولم يبق من محل الفرض شئ فلا فرض عليه والمستحب أن يمس
ما بقي من اليد ماء حتى لا يخلو العضو من الطهارة) *
(الشرح) قوله يمس هو بضم الياء وكسر الميم وقوله لا فرض عليه هذا متفق عليه وكذا اتفقوا على
استحباب امساسه الماء وروى محمد بن جرير في كتابه اختلاف الفقهاء نحوه عن ابن عباس ثم هذا الاستحباب
ثابت من أي موضع قطعت فوق محل الفرض حتى لو قطعت من المنكب استحب أن يمس موضع
القطع ماء بلا خلاف نص عليه الشافعي رحمه الله في الأم وذكره الشيخ أبو حامد والبندنيجي
وآخرون: واختلف أصحابنا في تعليل أصل هذا الامساس فقال جماعة حتى لا يخلوا العضو من طهارة
كما ذكره المصنف وقال الغزالي والبغوي وآخرون يستحب ذلك إطالة للغرة أي التحجيل وقال
القاضي أبو الطيب نص الشافعي على استحبابه فقال أبو إسحاق المروزي لئلا يخلو العضو من طهارة
وقال الأكثرون استحبه لأنه موضع الحلية والتجليل * وأما قول المصنف يمس ما بقي ماء
فكذا عبارة الأكثرين والمراد بالامساس غسل باقي اليد هكذا صرح به الغزالي في الوجيز
والروياني في البحر والرافعي وغيرهم فان قيل إنما كان غسل ما فوق المرفق مستحبا تبعا للذراع
وقد زال المتبوع فينبغي ألا يشرع التابع كمن فاته صلوات في زمن الجنون والحيض فإنه لا يقضي
391

النوافل الراتبة التابعة للفرائض كما لا يقضي الفرائض: فالجواب ما أجاب به الشيخ أبو محمد الجويني
وغيره ان سقوط القضاء عن المجنون رخصة مع امكانه فإذ سقط الأصل مع امكانه فالتابع أولى
وأما سقوط غسل الذراع هنا فلتعذره والتعذر مختص بالذراع فبقي العضد على ما كان من
الاستحباب وصار كالمحرم الذي لا شعر على رأسه يستحب امرار الموسى على رأسه والله أعلم *
وقول المصنف وإن كان أقطع اليد ولم يبق من محل الفرض شئ فلا فرض عليه فيه احتراز
مما إذا بقي من محل الفرض شئ فإنه يجب غسله بلا خلاف (1) لحديث أبي هريرة رضي الله عنه
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وإذا أمرتكم بشئ فأتوا منه ما استطعتم رواه البخاري ومسلم
قال المصنف رحمه الله *
(وإن لم يقدر الأقطع على الوضوء ووجد من يوضئه بأجرة المثل لزمه كما يلزمه شراء الماء بثمن
المثل (2) فإن لم يجد صلى وأعاد كما لو لم يجد ماء ولا ترابا)
(الشرح) إذا لم يقدر على الوضوء لزمه تحصيل من يوضئه اما متبرعا واما بأجرة المثل إذا
وجدها وهذا لا خلاف فيه فإن لم يجد الأجرة أو وجدها ولم يجد من يستأجره أو وجده فلم يقنع
بأجرة المثل صلي على حسب حاله وأعاد كما يصلى ويعيد من لم يجد ماء ولا ترابا فالصلاة لحرمة
الوقت والإعادة لاختلال الصلاة بسبب نادر هذا إذا لم يقدر الأقطع على التيمم فان قدر لزمه
أن يتيمم ويصلى ويعيد لأنه عذر نادر هذا الذي ذكرناه من وجوب التيمم هو الصواب الذي

(1) قيل إن الإمام قال في باب زكاة الفطر ان اليد لو قطعت من الذراع لا يجب
غسل الباقي وهذا غريب جدا قال فان صح نقله فهو غلط اه‍ من هامش الأذرعي
(2) لا شك في جريان الوجه الذي يقول إذا وجد الماء يباع بأزيد من ثمن المثل بيسير
لزمه شراؤه هنا ذا لا فرق فيما ظهر لي والله أعلم اه‍ أذرعي
392

نص عليه الشافعي وقطع به الأصحاب وشذ صاحب البيان فقال في باب التيمم لا يلزمه التيمم بل
يصلى بحاله وان أمكنه التيمم وهذا شاذ منكر * وسنعيد المسألة إن شاء الله تعالى في باب التيمم
واضحة مبسوطة واتفق الأصحاب على أنه لو وجد من يوضئه متبرعا لزمه القبول إذ لا منة: والشراء
يمد ويقصر لغتان فإذا مد كتب بالألف وإذا قصر كتب بالياء والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان توضأ ثم قطعت يده لم يلزمه غسل ما ظهر بالقطع من الحدث وكذا لو مسح شعر رأسه
ثم حلقه لم يلزمه مسح ما ظهر لان ذلك ليس ببدل عما تحته فلم يلزمه بظهوره طهارة كما لو غسل يده
ثم كشط جلده فان أحدث بعد ذلك لزمه غسل ما ظهر بالقطع لأنه صار ظاهرا وان حصل في
يده ثقب لزمه غسل باطنه لأنه صار ظاهرا) *
(الشرح التف أصحابنا على أن من توضأ ثم قطعت يده من محل الفرض أو رجله أو حلق رأسه
أو كشطت جلدة من وجهه أو يده لم يلزمه غسل ما ظهر ولا مسحه ما دام على تلك الطهارة وهذا
لا خلاف فيه عندنا ونقله ابن الصباغ عن نص الشافعي رحمه الله في البويطي وكذا رأيته أنا
في البويطي وهو قول جمهور السلف * وحكي عن مجاهد والحكم وحماد وعبد العزيز من أصحاب
مالك ومحمد بن جرير الطبري انهم أو جبوا طهارة ذلك العضو ووقع في النهاية والوسيط في هذه
المسألة غلط فقالا لا يلزمه غسل ذلك خلافا لابن خيران قال في النهاية نقله العراقيون عن ابن
خيران فيقتضي هذا أن يكون وجها في المذهب فان أبا علي ابن خيران من كبار أصحابنا أصحاب الوجوه
ومتقدميهم في العصر والمرتبة ولكن هذا غلط وتصحيف وقد اتفق المتأخرون على أن هذا غلط
وتصحيف وان صوابه خلافا لا بن جرير بالجيم وهو امام مستقل لا يعد قوله وجها في مذهبنا وقد
نقله أصحابنا العراقيون والخراسانيون أجمعون والغزالي أيضا في البسيط عن ابن جرير والله أعلم *
وقوله لم يلزمه غسل ما ظهر بالقطع من الحدث احتراز من النجس فإنه يجب غسل المقطع من النجاسة
إن كانت فان خاف من غسله فهي مسألة من على قرحه دم يخاف من غسله فيصلي بحاله ويلزمه
الإعادة في الجديد إن كان دما كثيرا بحيث لا يعفى عنه: وقوله لان ذلك ليس ببدل عما تحته فيه
إشارة إلى الفرق بينه وبين الخف: وقوله فان أحدث بعد ذلك لزمه غسل ما ظهر كذا قاله أصحابنا
واتفقوا عليه وقد ذكر في فصل غسل الوجه في مسائل الفرع وجهين فيما لو تطهر ثم قطع أنفه
393

أو شفته هل يلزمه غسل ما ظهر وقوله وان حصل في يده ثقب لزمه غسل باطنه هذا متفق عليه
ويقال ثقب وثقب بفتح الثاء و ضمها لغتان ذكر هما الفارابي في ديوان الأدب أشهرهما الفتح
والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بغسل اليد إحداها قال أبو القاسم الصيمري وصاحبه الماوردي
في الحاوي يستحب أن يبدأ في غسل يديه من أطراف أصابعه فيجرى الماء على يده ويدير كفه
الأخرى عليها مجريا للماء بها إلى مرفقه ولا يكتفى بجريان الماء بطبعه فان صب عليه غيره بدأ بالصب
من مرفقه إلى أطراف الأصابع ويقف الصاب عن يساره (الثانية) قال أصحابنا إذا كان في أصبعه
خاتم فلم يصل الماء إلى ما تحته وجب ايصال الماء إلى ما تحته بتحريكه أو خلعه وان تحقق وصوله
استحب تحريكه وروى البيهقي فيه حديثا ان النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ حرك خاتمه
لكنه ضعيف قال البيهقي والاعتماد على الأثر فيه عن علي وغيره ثم روى عن علي وابن عمر رضي
الله عنهم انهما كانا إذا توضئا حركا الخاتم (الثالثة) يستحب دلك اليدين وقد سبق بيانه في غسل
الوجه ويستحب تخليل أصابعهما وسنوضحه في مسألة تخليل الرجلين إن شاء الله تعالى ولو كان
على يده شعر كثيف لزمه غسله مع البشرة تحته لندوره وقد سبق بيانه في فصل الوجه
(الرابعة) إذا قطعت يده فله ثلاثة أحوال ذكره الشافعي رحمه الله في الأم والأصحاب أحدها تقطع
من تحت المرفق فيجب غسل باقي محل الفرض بلا خلاف * (الثاني) يقطع فوق المرفق
فلا فرض عليه ويستحب غسل الباقي كما سبق (الثالث) يقطع من نفس المرفق بأن يسل
الذراع ويبقى العظمان: فنقل الربيع في الأم أنه يجب غسل ما بقي من المرفق وهو العظمان ونقل المزني
في المختصر أنه لا يجب وحكي عن القديم أنه لا يجب واختلف الأصحاب فيه على طريقين * أحدهما
يجب غسله قولا واحدا وبهذا قطع الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وباقي العراقيين أو أكثرهم
394

قالوا وغلط المزني في النقل وكان صوابه أن يقول قطع من فوق المرفق فأسقط لفظة فوق: والطريق
الثاني فيه قولان وهذا مشهور عند الخراسانيين وقطع به المتولي والغزالي في الوجيز أصح القولين
وجوبه: واختلفوا في أصل القولين فقيل هما مبنيان على أن غسل العظمين المحيطين بإبرة الذراع
كان قبل القطع تبعا للإبرة أم مقصودا وفيه قولان فان قلنا تبعا لم يجب والا وجب وقيل مبنيان
على أن حقيقة المرفق ما ذا: ففي قول هو إبرة الذراع الداخلة بين ذينك العظمين وفي قول
هو الإبرة مع العظمين فعلى الأول لا يجب وعلى الثاني يجب والله أعلم * قال المصنف
رحمه الله تعالى *
(ثم يمسح برأسه وهو فرض لقوله تعالى (وامسحوا برؤوسكم) والرأس ما اشتمل عليه
منابت الشعر المعتاد والنزعتان منه لأنه في سمت الناصية والصدغ من الرأس لأنه من منابت
شعره) *
(الشرح) يقال مسح برأسه ومسح رأسه والنزعتان بفتح النون والزاي هذه اللغة الفصيحة
المشهورة وحكيت لغية باسكان الزاي وقد بسطت الكلام فيهما في تهذيب الأسماء واللغات
والنزعتان هما الموضعان المحيطان بالناصية في جانبي الجبينين اللذان ينحسر شعر الرأس عنهما في
بعض الناس وأما الناصية فهي الشعر الذي بين النزعتين ذكره القاضي أبو الطيب في تعليقه والشيخ
نصر في الانتخاب وحكاه عن أهل اللغة قال ابن فارس هي قصاص الشعر وجمعها
نواص ويقال للناصية ناصاه بلغة طي كما يقولون للجارية جاراه ونحوه * أما حكم المسألة
فمسح الرأس واجب بالكتاب والسنة والاجماع وقوله والرأس ما اشتملت عليه منابت
395

الشعر المعتاد هكذا قاله أصحابنا وقوله والنزعتان منه هذا مذهبنا نص عليه الشافعي واتفق عليه
الأصحاب وبه قال جمهور العلماء وحكي الماوردي وغيره عن قوم من العلماء انهم قالوا النزعتان
من الوجه لذهاب الشعر عنهما واتصالهما بالوجه * ودليلنا انهما داخلتان في حد الرأس فكانتا منه
وليس ذهاب الشعر مخرجا لهما عن حكم الرأس كما لو ذهب شعر ناصيته قال الماوردي والعرب مجمعة
على أن النزعة من الرأس وذلك ظاهر في شعرهم نص الشافعي في الأم على استحباب غسل
النزعتين مع الوجه ونقل النص عنه الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما قالوا وإنما استحب ذلك
للخروج من خلاف من أوجب غسلهما مع الوجه والله أعلم * واما الصدغ فهو بالصاد ويقال
بالسين لغتان الصاد أشهر وهو المحاذي لرأس الاذن نازلا إلى أول العذار هكذا ضبطه صاحب
البحر وآخرون وقال الشيخ أبو حامد هو المحاذي رأس الاذن وموضع التحذيف قال وربما تركه
بعض الناس عند الحلق قال وينبغي الا يترك واختلف أصحابنا فيه فقطع المصنف والأكثرون
بأن الصدغ من الرأس ممن قطع بذلك الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي وسليم الرازي في الكفاية
والقاضي حسين وابن الصباغ والشيخ نصر والبغوي وآخرون وحكي الماوردي فيه ثلاثة أوجه
أحدها من الرأس والثاني من الوجه والثالث وهو قول أبي الفياض وجمهور البصريين ان ما استعلى
على الاذنين منه فهو من الرأس وما انحدر عنهما فمن الوجه قال الروياني هذا الثالث هو الصحيح
وقال صاحب المستظهري هذا الثالث ظاهر الفساد * وأنكر الشيخ أبو عمرو على الجمهور كونهم
قطعوا بأنه من الرأس وقال الذي رأيته منصوصا صريحا للشافعي في مختصر الربيع ومختصر
البويطي ان الصدغ من الوجه ثم ذكر كلام الماوردي والروياني ثم قال والمذهب ما نقلته عن
النص وكان من خالفه لم يطلع عليه الا السرخسي صاحب الأمالي فاطلع عليه وتأوله وقال أراد
بالصدغ العذار وهذا متروك عليه هذا كلام إلى عمرو وقد قال أبو العباس بن سريج في كتابه
الأقسام وابن القاص في التلخيص والقفال في شرح التلخيص الصدغان من الوجه لكن ظاهر
كلامهم انهم أرادوا بالصدغ العذار فان ابن القاص وإذا لم يصل الماء بشرة وجهه أجزأه
396

إن كان شعره كثيرا الا في أربعة مواضع الحاجبين والشاربين والعنفقة ومواضع الصدغين هذا لفظ
أبن القاص ولفظ القفال مثله وزاد القفال بيانا فقال في أحد تعليلي ذلك لان الوجه
أحاط بالصدغين من وجهين لان البياض الذي وراء الصدغ إلى الاذن من الوجه وهذا تصريح
بان مرادهم بالصدغ العذار فبهذا علل الأصحاب غسل العذار في أحد التعليلين كما سبق واما نص
الشافعي في البويطي فمحتمل انه أراد بالصدغ العذار كما قال السرخسي وكذا تأوله البندنيجي
فأن الشافعي قال وإذا غسل الأمرد وجهه غسله كله ولحيته وصدغيه إلى أصول أذنيه وإذا غسل
الملتحي وجهه غسل ما اقبل من شعر اللحية إلى وجهه وأمر الماء على الصدغ وما خلف الصدغ
إلى الاذن فان ترك من هذا شيئا أعاد هذا نصه بحروفه ومن مختصر الربيع والبويطي نقلته ونقل
الروياني في البحر نصه في البويطي بحروفه ثم قال قال أصحابنا أراد بالصدغ هنا العذار (قلت) وهذا
تأويل صحيح وهو ظاهر ولعل سبب هذا الخلاف الاختلاف في تحقيق ضبط الصدغ وتحديده
والله أعلم * وروى أبو داود باسناد حسن عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت
(رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فمسح رأسه ما أقبل منه وأدبر وصدغيه
وأذنيه مرة واحدة) * قال المصنف رحمه الله *
397

(والواجب منه أن يمسح ما يقع عليه اسم المسح وان قل وقال أبو العباس بن القاص أقله
ثلاث شعرات كما نقول في الحق في الاحرام والمذهب أنه لا يتقدر لان الله تعالى أمر بالمسح
وذلك يقع على القليل والكثير) *
(الشرح) المشهور في مذهبنا الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي وقطع به جمهور الأصحاب
في الطرق أن مسح الرأس لا يتقدر وجوبه بشئ بل يكفي فيه ما يمكن * قال أصحابنا حتى
لو مسح بعض شعرة واحدة أجزأه هكذا صرح به الأصحاب ونقله امام الحرمين عن الأئمة ويتصور المسح
على بعض شعرة بأن يكون رأسه مطليا بحناء ونحوه بحيث لم يبق من الشعر ظاهرا الا شعرة فأمر يده عليها
على رأسه المطلي وقال ابن القاص وأبو الحسن بن خير ان في كتابه اللطيف وهو غير أبي علي بن
خير ان أقله مسح ثلاث شعرات وحكاه الماوردي عن أصحابنا البصريين قال وعندي أن أقله أن يمسح
بأقل شئ من أصبعه على أقل شئ من رأسه من رأسه لأنه أقل ما يقتصر عليه في العرف وقال البغوي
ينبغي أن لا يجزى أقل من قدر الناصية لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يمسح أقل منها * وحكى
هذا عن المزني وقول المصنف كما نقول في الحلق في الاحرام يعنى الحلق الذي هو نسك فإنه لا يحصل
الا بثلاث شعرات وكذا الحلق الذي هو حرام على المحرم لا تكمل الفدية فيه الا بثلاث شعرات
فقاس جماعة على الحلق الأول وآخرون على الثاني وآخرون عليهما وكله صحيح والأول أجود
والله أعلم
398

(فرع) في مذاهب العلماء في أقل ما يجزى من مسح الر أس وقد ذكرنا أن المشهور من مذهبنا
أنه ما يقع عليه الاسم وان قل وحكاه ابن الصباغ عن ابن عمر رضي الله عنهما وحكاه أصحابنا عن
الحسن البصري وسفيان الثوري وداود * وعن أبي حنيفة ثلاث روايات أشهرها ربع الرأس والثانية
قدر ثلاث أصابع بثلاث أصابع و الثالثة قدر الناصية * وعن أبي يوسف نصف الرأس وعن مالك واحمد
والمزني جميع الرأس على المشهور عنهم وقال محمد بن مسلمة من أصحاب مالك ان ترك نحو ثلث الرأس
جاز وهي رواية عن أحمد * واحتج لمن أوجب الجميع بقوله تعالي (و امسحوا برؤوسكم) قالوا والباء
للالصاق كقوله تعالي (وليطوفوا بالبيت العتيق) ولأنه ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم مسح
الجميع وقياسا على التيمم في قوله تعالى (فامسحوا بوجوهكم) ويجب فيه الاستيعاب * واحتج أصحابنا
بان المسح يقع على القليل والكثير وثبت في الصحيح ان النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته
فهذا يمنع وجوب الاستيعاب ويمنع التقدير بالربع والثلث والنصف فان الناصية دون الربع فتعين
ان الواجب ما يقع عليه الاسم * والذي اعتمده امام الحرمين في كتابه الأساليب في الخلاف ان
المسح إذا أطلق في المفهوم منه المسح من غير اشتراط للاستيعاب وانظم إليه أن النبي صلى الله عليه
وسلم مسح الناصية وحدها ولم يخص أحد الناصية ومنع جواز قدرها من موضع آخر فدل على
جواز مطلق المسح
399

واما قولهم الباء للالصاق فقال أصحابنا لا نسلم انها هنا للالصاق بل هي للتبعيض ونقلوا
ذلك عن بعض أهل العربية وقال جماعة منهم إذا دخلت الباء على فعل يتعدى بنفسه كانت للتبعيض
كقوله (وامسحوا برؤوسكم) وإن لم يتعد فللالصاق كقوله تعالى (وليطوفا بالبيت) قال أصحابنا
وعلى هذا يحصل الجمع بين الآية والأحاديث فيكون النبي صلى الله عليه وسلم مسح كل الرأس في
معظم الأوقات بيانا لفضيلته واقتصر على البعض في وقت بيانا للجواز: وأما قياسهم على التيمم
فجوابه من وجهين أحدهما ان السنة بينت ان المطلوب بالمسح في التيمم الاستيعاب وفي الرأس
البعض * الثاني فرق الشافعي في مختصر المزني بينهما فقال مسح الرأس أصل فاعتبر فيه حكم لفظه
والتيمم بدل عن غسل الوجه فاعتبر فيه حكم مبدله فان قيل هذا الفرق فاسد بالمسح على الخف
فالجواب ان هذا التعليل يقتضى استيعاب الخف بالمسح لكن ترك ذلك لوجهين أحدهما
الاجماع على أنه لا يجب الثاني انه يفسد الخف مع أنه مبني على التخفيف ولهذا يجوز مع القدرة
على غسل الرجل بخلاف التيمم والله أعلم * واما قول ابن القاص ومن وافقه انه يشترط مسح
ثلاث شعرات كالحلق في الاحرام فأجاب الأصحاب بأن المطلوب في الحلق الشعر وتقدير الآية
محلقين شعر رؤوسكم والشعر إما جمع كما يقوله أهل اللغة وإما اسم جنس كما يقوله أهل النحو
400

والتصريف وهو الصحيح وأقل الجمع ثلاث بخلاف المسح فإنه غير منوط بالشعر واسم المسح
يقع على القليل وهذا الفرق مشهور وممن ذكره بمعناه امام الحرمين والمتولي واتفق الأصحاب على
تضعيف قول ابن القاص قال امام الحرمين هو غلط لان الاستيعاب قد سقط وبطل التقدير
فتعين الاكتفاء بما يقع عليه الاسم قال الرافعي وهل يختص قول ابن القاص بما إذا مسح الشعر
أم يجرى في مسح البشرة ويشترط مسح قدر ثلاث شعرات: في كلام النقلة ما يشعر بالاحتمالين
والأول أظهر والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(والمستحب أن يمسح جميع الرأس فيأخذ الماء بكفيه ثم يرسله ثم يلصق طرف سبابته بطرف
سبابته الأخرى ثم يضعهما على مقدم رأسه ويضع ابهاميه على صدغيه ثم يذهب بهما إلى قفاه
ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه لما روى أن عبد الله بن زيد رضي الله عنه وصف وضوء رسول
الله صلى الله عليه وسلم (فمسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى
قفاه) ولان منابت شعر الرأس مختلفة ففي ذهابه يستقبل الشعر الذي على مقدم رأسه فيقع المسح
على باطن الشعر دون ظاهره ولا يستقبل الشعر من مؤخر رأسه فيقع المسح على ظاهر الشعر فإذا
رد يديه حصل المسح على ما لم يمسح عليه في ذهابه) *
(الشرح) حديث عبد الله بن زيد هذا رواه البخاري ومسلم بلفظه وفي الصحيحين زيادة
بعد قوله ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم رد هما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه وقد أخل المصنف
بهذه الزيادة ولا بد منها لان بها يتم الاستدلال لمجموع ما ذكره: وعبد الله بن زيد هذا هو راوي
حديث صلاة الاستسقاء وهو مذكور في المهذب هناك وفي أول باب الشك في الطلاق وهو
401

عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني المدني وأمه أم عمارة الأنصارية شهد هو وأمه أحدا
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل بالحرة سنة ثلاث وستين وهو ابن سبعين سنة وهو غير
عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري الأوسي صاحب الأذان وهما مشتركان في أن كل واحد
منهما عبد الله بن زيد الأنصاري لكن يفترقان في الجد والقبيلة وقد أوضحتهما في تهذيب الأسماء *
اما حكم المسألة فاتفق الأصحاب على أنه يستحب مسح جميع الرأس لهذا الحديث وغيره
وللخروج من خلاف العلماء وهذه الكيفية التي ذكرها المصنف متفق على استحبابها للحديث
والمعنى الذي ذكره قال أصحابنا والذهاب من مقدم الرأس إلى مؤخره والرجوع إلى مقدمه
كلاهما يحسب مرة واحدة بخلاف السعي بين الصفا والمروة فإنه يحسب الذهاب من الصفا إلى
المرور مرة والرجوع من المروة إلى الصفا مرة ثانية على المذهب الصحيح خلافا لا بي بكر الصيرفي
وغيره والفرق ما أشار إليه المصنف وهو أن تمام المسحة الواحدة لا يحصل على جميع الشعر
الا بالذهاب والرجوع فإنه في رجوعه يمسح ما لم يمسحه في ذهابه بخلاف السعي فان قطع المسافة
بتمامها يحصل في ذهابه * قال أصحابنا وإنما يستحب الرد لمن له شعر مسترسل أما من لا شعر له
أو حلق شعره وطلع منه يسير فلا يستح له الرد لأنه لا فائدة فيه وممن صرح بهذا القفال
والصيدلاني وامام الحرمين والغزالي والمتولي وامام الحرمين والروياني وصاحب العدة وغيرهم وكذا لا يستحب
الرد لمن له شعر كثير مضفور قاله القفال وامام الحرمين والروياني وصاحب العدة قال القفال
والبغوي وغيرهما لو رد في الصورة التي لا يستحب فيها الرد لم يحسب رده مرة ثانية لان
البلل صار مستعملا لحصول مسح جميع الرأس * قال امام الحرمين ولو مسح طرف رأسه ثم طرفا
402

آخر لم يكن ذلك من التكرار وإنما هو محاولة للاستيعاب والاستيعاب سنة منفصلة عن التكرار
ورد اليد من القفا إلى الناصية من الاستيعاب والله أعلم *
(فرع) قال الشافعي في مختصر المزني رحمهما الله أحب أن يتحرى جميع رأسه وصدغيه
هذا لفظه قال صاحب الحاوي وغيره من جعل الصدغين من الرأس قال قال الشافعي ذلك لاستيعاب
الرأس ومن جعلهما من الوجه قال قال الشافعي ذلك ليصير بالابتداء منهما محتاطا في استيفاء
أجزاء الرأس فإنه إذا لم يفعل هكذا ترك جزءا من أول الرأس لا يمر المسح عليه والله أعلم *
(فرع) إذا مسح جميع الرأس فوجهان مشهوران لا صحابنا في كتب الفقه وأصول الفقه
أصحهما أن الفرض منه ما يقع عليه الاسم والباقي سنة: والوجه الثاني أن الجميع يقع فرضا فعلى هذا
يكون حكمه حكم خصال كفارة اليمين فأي خصلة فعلها حكم بأنها الواجب ثم قال جماعة من أصحابنا
الوجهان فيمن مسح دفعة واحدة أما من مسح متعاقبا كما هو الغالب فما سوي الأول سنة قطعا
والأكثرون أطلقوا الوجهين ولم يفرقوا ولهذه المسألة نظائر: منها إذا طول القيام في الصلاة أو
الركوع أو السجود زيادة على قدر الواجب فهل الواجب الجميع أم القدر الذي لو اقتصر عليه
أجزأه فيه الوجهان: ومثله لو أخرج بعيرا عن خمس من الإبل فهل الواجب منه الخمس أو الجميع فيه
الوجهان وقد ذكر المصنف هذه المسألة في الزكاة: ومثله لو نذر أن يهدى شاة أو يضحى بها فأهدى
بدنة أو ضحى بها أجزأه وهل الواجب جميعها أو سبعها والباقي تطوع فيه الوجهان وقد ذكرها
المصنف في باب النذر والأصح أن الواجب القدر المجزئ وتظهر فائدة الوجهين في مسألة مسح
الرأس وإطالة الركوع والسجود في تكثير الثواب فان ثواب الواجب أكثر من ثواب النفل
وتظهر فائدتهما في الزكاة في الرجوع إذا عجل الزكاة ثم جرى ما يقتضي الرجوع فإنه يرجع
في الواجب لا في النفل وفائدتهما في النذر أنه يجوز الأكل من الهدى والأضحية المتطوع بهما
403

لا الواجب على الصحيح فهذا مختصر هذه المسائل وسنوضحها في أبوابها إن شاء الله تعالى قال
صاحب التتمة في باب صفة الصلاة في فصل القراءة أصل هذا الخلاف في هذه المسائل القولان
في الوقص في الزكاة هل هو عفو أم يتعلق به الفرض والله أعلم *
(فرع) قول المصنف طرف سبابته هي الإصبع التي تلي الابهام لأنه يشار بها عند السب
ومقدم هو بفتح القاف والدال المشددة فهذه أفصح اللغات التي فيه وهن ست وهي جاريات في المؤخر
والابهام بكسر الهمزة هي الإصبع العظمى وهي معروفة وهي مؤنثة قال ابن خروف في شرح الجمل وتذكيرها لغة قليلة وجمعها أباهم على وزن أكابر وقال الجوهري أباهيم بالياء و القفا مقصور
والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(فإن كان عليه شعر فمسح الشعر أجزأه وان مسح البشرة أجزأه لان الجميع يسمى رأسا)
(الشرح) هذا الذي قطع بن من التخير بين مسح الشعر والبشرة هو الصحيح المشهور وبه قطع
الجمهور منهم القاضي حسين والفوراني وامام الحرمين والغزالي في البسيط والمتولي والبغوي والشاشي
في المعتمد وآخرون قال صاحب البيان هو قول أكثر أصحابنا وقال آخرون منهم الشيخ أبو حامد
والبندنيجي والمحاملي والجرجاني وصاحب العدة إن كان على بعض رأسه شعر ولا شعر على
بعضه تخير بين مسح الشعر والبشرة وإن كان على رأسه شعرتين مسحه ولا تجزئ البشرة لان الفرض
انتقل إلى الشعر فلم يجز المسح على البشرة تحته كما لو غسل بشرة اللحية الكثيفة وترك شعرها فإنه
لا يجزئه كذا قطع به الأصحاب في الطرق وحكي السرخسي وجها انه يجزئه في اللحية وليس بشئ وفرق
المتولي وغيره بين مسح بشرة الرأس واللحية فان الواجب غسل الوجه وهو ما يحصل به المواجهة وهي
تحصل بالشعر دون البشرة وأما الرأس فهو ما ترأس وعلا والبشرة عالية ولان أهل اللسان والعرف
يعدون ماسح بشرة الرأس ما سحا على الرأس فحصل في المسألتين أوجه أحدها تجزئه البشرة في الموضعين
404

والثاني لا والثالث وهو مذهب تجزئه في الرأس دون اللحية والله أعلم
* قال المصنف رحمه الله *
(وإن كان له ذؤابة قد نزلت عن الرأس فمسح النازل منها عن الرأس لم يجزئه لأنه لا يقع عليه اسم
الرأس وإن كان له شعر مسترسل عن منبته لم ينزل عن محل الفرض فمسح أطرافه أجزأه لان اسم الرأس
يتناوله ومن أصحابنا من قال لا يجزئه لأنه مسح على شعر في غير منبته فهو كطرف الذؤابة
وليس بشئ) *
(الشرح) الذؤابة بضم الذال وبعدها همزة وهي الشعر المضفور إلى جهة القفا وجمعها ذوائب
وإذا مسح على شعر نازل عن محل الفرض لم يجزئه نص عليه الشافعي رحمه الله في الأم واتفق عليه الأصحاب
وقد ذكر المصنف دليله ولو عقص أطراف شعره المسترسل الخارج عن محل الفرض وشده في وسط
رأسه ومسحه لم يجزئه نص عليه في الأم واتفقوا عليه: فان قيل ما الفرق بينه وبين التقصير في الحج فإنه يجوز
من الشعر النازل عن محل الفرض: فالجواب ما أجاب به الشيخ أبو حامد في آخر مسألة اللحية المسترسلة
وقاله غيره من أصحابنا ان الفرض في المسح متعلق بالرأس والرأس ما ترأس وعلا وما نزل عن محل
الفرض لا يسمي رأسا والفرض في الحلق والتقصير متعلق بالشعر بدليل انه لو لم يكن على رأسه شعر
سقط عنه الفرض بخلاف المسح وإذا كان الفرض متعلقا بالشعر فهو وان طال يسمي شعر الرأس
405

أما إذا مسح على شعر مسترسل خرج عن منبته ولم يخرج عن محل الفرض فوجهان الصحيح
منهما باتفاق الأصحاب أنه يجزئه والثاني لا يجزئه وهو ظاهر نصه في الأم فإنه قال لو مسح بشئ
من الشعر على منابت الرأس قد أزيل عن منبته لم يجزئه لأنه شعر على غير منبته فهو كالعمامة
هذا نصه وتأوله الشيخ أبو حامد والمحاملي على ما إذا كان الشعر مسترسلا خارجا عن محل الفرض
فعقصه في وسط رأسه وهذا تأويل ظاهر * واعلم أن مسألة الوجهين في شعر خرج عن منبته
ولكن بحيث لو مد لم يخرج عن محل الفرض فإن كان متجعدا بحيث لو مد موضع المسح لخرج
عن محل الفرض فقال الجمهور لا يجوز المسح عليه وجها واحدا: ممن قطع بذلك أبو محمد الجويني
في الفروق وولده امام الحرمين والغزالي والمتولي وجماعات وحكي القاضي حسين فيه وجها وهو
شاذ ضعيف فإنه كمسألة المعقوص في وسط الرأس والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وإن كان على رأسه عمامة ولم يرد نزعها مسح بناصيته والمستحب أن يتم المسح بالعمامة
لما روى المغيرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته فان
اقتصر على مسح العمامة لم يجزئه لأنها ليست برأس ولأنه عضو لا يلحق المشقة في ايصال الماء
إليه فلا يجوز المسح على حائل منفصل عنه كالوجه واليد) *
(الشرح) حديث المغيرة رواه مسلم في صحيحه وتقدم بيان حال المغيرة في أول هذا
الباب وقول المصنف لأنه عضو لا يلحق المشقة في ايصال الماء إليه فيه احتراز من الجبيرة على
كسر (1) وقوله حائل منفصل احتراز من مسح شعر الرأس والعضو بضم العين وكسرها لغتان *

(1) واحتراز من المسح على الخف أيضا اه‍ من هامش الأذرعي
406

فأما حكم المسألة فقال أصحابنا إذا كان عليه عمامة ولم يرد نزعها لعذر ولغير عذر مسح الناصية
كلها ويستحب أن يتم المسح على العمامة سواء لبسها على طهارة أو حدث ولو كان على رأسه
قلنسوة ولم يرد نزعها فهي كالعمامة فيمسح بناصيته ويستحب أن يتم المسح عليها صرح به أبو العباس
الجرجاني في التحرير وهكذا حكم ما على رأس المرأة وأما إذا اقتصر على مسح العمامة ولم يمسح
شيئا من رأسه فلا يجزيه بلا خلاف عندنا وهو مذهب أكثر العلماء كذا حكاه الخطابي والماوردي عن
أكثر العلماء وحكاه ابن المنذر عن عروة بن الزبير والشعبي والنخعي والقاسم ومالك وأصحاب
الرأي وحكاه غير عن علي بن أبي طالب وابن عمر وجابر رضي الله عنهم * وقالت طائفة يجوز
الاقتصار على العمامة قاله سفيان الثوري والأوزاعي واحمد وأبو ثور واسحق ومحمد بن جرير
وداود قال ابن المنذر ممن مسح على العمامة أبو بكر الصديق وبه قال عمر وأنس بن مالك
وأبو أمامة وروى عن سعد ابن أبي وقاص وأبي الدرداء وعمر بن عبد العزيز ومكحول
والحسن وقتادة والأوزاعي واحمد واسحق وأبي ثور ثم شرط بعض هؤلاء لبسها على طهارة
وشرط بعضهم كونها محنكة أي بعضها تحت الحنك ولم يشترط بعضهم شيئا من ذلك * واحتج
لمن جوز ذلك بحديث بلال رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
407

مسح على الخفين والخمار رواه مسلم * وعن عمرو بن أمية قال رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يمسح على عمامته وخفيه رواه البخاري وعن ثوبان قال بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
سرية فأصابهم البرد فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم ان يمسحوا على العصائب
والتساخين رواه أبو داود باسناد صحيح والعصائب العمائم والتساخين بفتح التاء المثناة فوق وبالسين
المهملة والخاء المعجمة وهي الخفاف وعن بلال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج فيقضي حاجته
فآتيه بالماء فيتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه رواه أبو داود باسناد جيد والموق بضم الميم خف قصير
قالوا ولأنه عضو سقط فرضه في التيمم فجاز المسح على حائل دونه كالرجل في الخف * واحتج أصحابنا
بقول الله تعالى (وامسحوا برؤوسكم) والعمامة ليست برأس ولأنه عضو طهارته المسح فلم يجز المسح
على حائل دونه كالوجه واليد في التيمم فإنه مجمع عليه ولأنه عضو لا تلحق المشقة إليه في ايصال الماء إليه
غالبا فلم يجز المسح على حائل منفصل عنه كاليد في القفاز والوجه في البرقع والنقاب *
وأما الجواب عن احتجاجهم بالأحاديث فهو ما أجاب به الخطابي والبيهقي وغيرهما من المحدثين
وسائر أصحابنا في كتب الفقه انه وقع فيها اختصار والمراد مسح الناصية والعمامة ليكمل سنة الاستيعاب
يدل على صحة هذا التأويل انه صرح به في حديث المغيرة كما سبق بيانه وكذا جاء في
408

حديث بلال أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين وبناصيته وعلى العمامة قال البيهقي
اسناد هذه الرواية حسن وعن أنس قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وعليه
عمامة قطرية فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة رواه أبو داود: والقطرية
بكسر القاف نوع من البرود قال الخطابي فيها حمرة: فان قيل كيف يصح هذا التأويل وكيف
يظن بالراوي حذف مثل هذا: فالجواب أنه ثبت بالقرآن وجوب مسح الرأس وجاءت الأحاديث
الصحيحة بمسح الناصية مع العمامة وفي بعضها مسح العمامة ولم تذكر الناصية فكان محتملا لموافقة
الأحاديث الباقية ومحتملا لمخالفتها فكان حملها على الاتفاق وموافقة القرآن أولى قال أصحابنا
وإنما حذف بعض الرواة ذكر الناصية لان مسحها كان معلوما لان مسح الرأس مقرر معلوم
لهم وكان المهم بيان مسح العمامة: قال الخطابي والأصل ان الله تعالى فرض مسح الرأس والحديث
محتمل للتأويل فلا يترك اليقين بالمحتمل قال هو وسائر الأصحاب وقياس العمامة على الخف بعيد
لأنه يشق نزعه بخلافها والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بمسح الرأس * إحداها المرأة كالرجل في صفة مسح الرأس على
ما سبق نص عليه الشافعي رحمه الله في البويطي وذكره الأصحاب ونقله البخاري في صحيحه
عن سعيد بن المسيب قال الشافعي في البويطي وتدخل يدها تحت خمارها حتى يقع المسح على الشعر فلو
409

وضعت يدها المبتلة على خمارها قال أصحابنا إن لم يصل البلل إلى الشعر لم يجزئها وان وصل فهي كالرجل
إذا وضع يده المبتلة على رأسه ان أمرها عليه أجزأه والا فوجهان الصحيح الاجزاء * (الثانية) لو كان
له رأسان كفاه مسح أحدهما وفيه احتمال للدارمي وقد سبقت المسألة في فصل غسل الوجه * (الثالثة)
قال أصحابنا لا تتعين اليد لمسح الرأس فله المسح بأصابعه وبإصبع واحدة أو خشبة أو خرقة أو غيرهما
أو يمسحه له غيره قال الشيخ أبو حامد وغيره أو يقف تحت المطر فيقع عليه وينوى المسح فيجزئه
كل ذلك بلا خلاف (1) ولو قطر الماء على رأسه ولم يسل أو وضع عليه يده المبتلة ولم يمرها عليه
أو غسل رأسه بدل مسحه أجزأه على الصحيح وبه قطع الأكثرون لأنه في معنى المسح وفيه وجه
انه لا يجزيه لأنه لا يسمي مسحا حكاه المتولي والبغوي والروياني والشاشي وغيرهم ونقل امام الحرمين
الاتفاق على اجزاء الغسل قال لأنه فوق المسح فاجزاء المسح مبنى على اجزاء الغسل من
طريق الأولى فإذا قلنا بالمذهب وهو اجزاء الغسل فقد نقل امام الحرمين والغزالي
في البسيط اتفاق الأصحاب على أنه لا يستحب وهل يكره فيه وجهان: قال امام الحرمين
في النهاية قال الأكثرون وهو مكروه لأنه سرف كالغسلة الرابعة وبهذا قطع المحاملي
في اللباب والجرجاني في التحرير: والوجه الثاني لا يكره وهو قول القفال ولم يذكر امام الحرمين في
الأساليب غيره وصححه الغزالي في الوجيز والرافعي * واما غسل الخف بدل مسحه فمكروه بلا خلاف
لأنه تعييب له بلا فائدة وممن نقل الاتفاق على كراهته امام الحرمين والله أعلم * قال
المصنف رحمه الله *
(ثم يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما لما روى المقدام بن معد يكرب ان النبي صلى الله عليه وسلم
مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما وادخل إصبعيه في جحري أذنيه ويكون ذلك بماء جديد
غير الذي مسح به الرأس لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأمسك مسبحتيه
لأذنيه ولأنه عضو يتميز عن الرأس في الاسم والخلقة فلا يتبعه في الطهارة كسائر الأعضاء وقال
في الأم والبويطي ويأخذ لصماخيه ماء جديدا غير الماء الذي مسح به ظاهر الاذن وباطنه لان الصماخ
في الاذن كالفم والأنف في الوجه فكما أفرد الفم والأنف عن الوجه بالماء فكذلك الصماخ في الاذن
فان ترك مسح الاذن حاز لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي توضأ كما امرك الله

(1) في كون وقطع المطر يجزي عن المسح بلا خلاف بل ينبغي أن يكون على الوجهين في
غسل الرأس ووضع اليد من غير مد ل أولى اه‍ أذرعي
410

وليس فيما امر الله تعالى مسح الاذنين) *
(الشرح) اما حديث المقدام فحسن رواه أبو داود والنسائي والبيهقي وغيرهم بمعناه بأسانيد
حسنة وروى أبو داود والترمذي وغيرهما عن ابن عباس رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم مسح
برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما قال الترمذي حديث حسن صحيح وروى أبو داود وغيره مثله
من رواية عثمان وفيه أحاديث كثيرة جمعتها في جامع السنة * واما راوي الحديث فهو المقدام
بكسر الميم وآخره ميم أخرى وكرب بفتح الكاف وكسر الراء ويجوز صرفه وترك صرفه وجهان
مشهوران لأهل العربية وفيه وجه ثالث ان الباء مضمومة بكل حال: وأما ياء معدى فساكنة
بكل حال والمقدام من مشهوري الصحابة رضي الله عنهم وهو كندي شامي حمصي يكنى أبا كريمة وقيل
أبا صالح وقيل أبا يحيى وقيل أبا بشر والأول أشهر توفى سنة سبعة وثمانين ابن احدى وتسعين سنة *
واما الحديث الثاني وهو قوله روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأمسك
مسبحتيه بأذنيه فهو موجود في نسخ المهذب المشهورة وليس موجودا في بعض النسخ المعتمدة
وهو حديث ضعيف أو باطل لا يعرف * قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح وهنا نكتة خفيت
على أهل العناية بالمذهب وهي ان مصنفه رجع عن الاستدلال بهذا الحديث واسقله من المهذب
فلم يفد ذلك بعد انتشار الكتاب قال وجدت بخط بعض تلامذته في هذه المسألة من تعليقه
411

في الخلاف في الحاشية عند استدلاله بهذا الحديث قال الشيخ ليس له أصل في السنن فيجب
ان تضربوا عليه وفي المهذب فاني صنفته من عشر سنين وما عرفته قال أبو عمرو بن الصلاح
وبلغني ان هذا الحديث مضروب عليه في أصل المصنف الذي هو بخطه ويغنى عن هذا
حديث عبد الله بن زيد انه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ فأخذ لأذنيه ماء
خلاف الماء الذي أخذ لرأسه حديث حسن رواه البيهقي وقال اسناده صحيح * وأما حديث
الأعرابي فصحيح تقدم بيانه في فصل المضمضة والله أعلم * وقوله جحري أذنيه هو بضم الجيم
واسكان الحاء وهو الثقب المعروف وفي رواية أبي داود وغيره صماخي أذنيه بدل جحري
وهو تفسير له والاذن بضم الذال ويجوز اسكانها كما سبق في غسل الوجه مشتقة من الاذن
بفتح الهمزة والذال وهو الاستماع والصماخ بكسر الصاد ويقال السماخ بالسين لغتان الصاد أفصح
وأشهر وادعى ابن السكيت وابن قتيبة انه لا يجوز بالسين * وقول المصنف وقال في الأم كذا
412

وقع في المهذب وقال بواو العطف وهو صحيح * وقوله ولأنه عضو تميز عن الرأس في الاسم
والخلقة احترز بالاسم عن الناصية وبالخلقة عن النزعتين والله أعلم * اما أحكام المسألة فمسح
الاذنين سنة للأحاديث السابقة والسنة ان يمسح ظاهرهما وباطنهما فظاهرهما ما يلي الرأس وباطنهما
ما يلي الوجه كذا قاله الصيمري وآخرون وهو واضح: وأما كيفية المسح فقال امام الحرمين
والغزالي وجماعات يأخذ الماء بيديه ويدخل مسبحتيه في صماخي أذنيه ويديرهما على المعاطف ويمر الإبهامين
على ظهور الاذنين قال الشيخ أبو محمد الجويني وغيره ويلصق بعد ذلك كفيه المبلولتين بأذنيه
طلبا للاستيعاب وقال الفوراني والمتولي وغيرهما يمسح بالابهام ظاهر الاذن وبالمسحة باطنها
ويمر رأس الإصبع في معاطف الاذن ويدخل الخنصر في صماخيه قال الفوراني ويضع الابهام
على ظاهر الاذن ويمرها إلى جهة العلو * قال أصحابنا ويمسح الاذنين معا ولا يقدم اليمنى فإن كان
اقطع اليد قدمها وحكي الروياني وجها انه يستحب تقديم اليمنى وهو شاذ وغلط * واعلم أن
مسح الاذنين بعد مسح الرأس فلو قدمه عليه فظاهر كلام الأصحاب أنه لا يحصل له مسح الاذنين
لأنه فعله قبل وقته وذكر الروياني في حصوله وجهين والصحيح المنع ويشترط لمسح الاذنين
ماء غير الماء الذي مسح به الرأس بلا خلاف بين أصحابنا وبه قال جمهور العلماء قال أصحابنا
ولا يشترط أن يكون أخذه للماء لهما أخذا جديدا بل لو أخذ الماء للرأس بأصابعه فمسح
ببعضها وأمسك بعضها ثم مسح الاذنين بما أمسكه صح لأنه مسحهما بغير ماء الرأس
قال الشافعي في الأم والبويطي والأصحاب ويأخذ للصماخين ماء غير ماء ظاهر الاذن وباطنه (1) وقد
ذكر المصنف دليله ويكون المأخوذ للصماخ ثلاثا كسائر الأعضاء صرح به الماوردي في كتابه
وهو واضح وحكي الماوردي في الحاوي وجها أنه يكفي مسح الصماخ ببقية ماء الاذن لكونه
منها وحكاه الرافعي قولا والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في الاذنين: مذهبنا انهما ليستا من الوجه ولا من الرأس بل عضوان
مستقلان يسن مسحهما على الانفراد ولا يجب وبه قال جماعة من السلف حكوه عن ابن عمر
والحسن وعطاء وأبي ثور وقال الزهري هما من الوجه فيغسلان معه وقال الأكثرون هما من الرأس
* قال ابن المنذر رويناه عن ابن عباس وابن عمر وأبي موسى وبه قال عطاء وابن المسيب

(1) الذي يظهر لي رجحان هذا القول أو الوجه لان البلل الباقي من ماء الاذن طهور على
الصحيح لأنه مستعمل في نقل الطهارة وعلى هذا السياق لو مسح الاذن والصماخ بماء واحد كفى نعم
ما ذكر أفضل وأكمل والله أعلم اه‍ أذرعي
413

والحسن وعمر بن عبد العزيز والنخعي وابن سيرين وسعيد بن جبير وقتادة ومالك والثوري وأبو
حنيفة وأصحابه واحمد قال الترمذي وهو قول أكثر العلماء من الصحابة فمن بعدهم وبه قال
الثوري وابن المبارك وأحمد واسحق واختلف هؤلاء هل يأخذ لهما ماء جديدا أم يمسحهما بماء
الرأس * وقال الشعبي والحسن بن صالح ما اقبل منهما فهو من الوجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم
كأن يقول في سجوده سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره فأضاف السمع إلى
الوجه كما أضاف إليه البصر * واحتج من قال هما من الرأس بقول الله تعالى (واخذ برأس أخيه
يجره إليه) وقيل المراد به الاذن * واحتجوا بحديث شهرين حوشب عن أبي أمامة ان رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال الأذنان من الرأس رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم
وروى من رواية ابن عباس وابن عمرو انس وعبد الله بن زيد وأبي هريرة وعائشة: وعن ابن عباس
ان النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وقال بالوسطيين من أصابعه في باطن أذنيه والإبهامين
من وراء أذنيه * واحتج للشعبي ومن وافقه بما روى عن علي رضي الله عنه انه مسح رأسه
ومؤخر أذنيه ولان الوجه ما حصلت به المواجهة وهي حاصلة بما اقبل * واحتج أصحابنا بأشياء أحسنها
حديث عبد الله بن زيد ان رسول الله صلى الله عليه وسلم اخذ لأذنيه ماء خلاف الذي اخذ لرأسه
وهو حديث صحيح كما سبق بيانه قريبا فهذا صريح في أنهما ليستا من الرأس إذ لو كانتا منه
لما اخذ لهما ماء جديدا كسائر اجزاء الرأس وهو صريح في اخذ ماء جديد فيحتج به أيضا على من
قال يمسحهما بماء الرأس وفيه رد على من قال هما من الوجه فقد جمع هذا الحديث الصحيح الدلالة للمذهب
والرد على جميع المخالفين * واحتجوا على من قال هما من الوجه بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان
414

يمسحهما ولم ينقل غسلهما مع كثرة رواة صفة الوضوء واختلاف صفاته ولان الاجماع منعقد على أن
المتيمم لا يلزمه مسحهما قال القاضي أبو الطيب ولان الأصمعي والمفضل بن سلمة قالا الأذنان
ليستا من الرأس وهما امامان من أجل أئمة اللغة والمرجع في اللغة إلى نقل أهلها * واحتجوا على
من قال هما من الرأس بأن الاجماع منعقد على أنه لا يجزئ مسحهما عن مسح الرأس بخلاف اجزائه
وبأنه لو قصر المحرم من شعرهما لم يجزئه عن تقصير الرأس بالاجماع ولأنه عضو يخالف الرأس
خلقة وسمتا فلم يكن منه كالخد وقولنا وسمتا احتراز من النزعة قال القاضي أبو الطيب والماوردي
ولان الاجماع منعقد على أن البياض الدائر حول الاذن ليس من الرأس مع قربه فالاذن
أولى ولأنه لا يتعلق بالاذن شئ من أحكام الرأس سوى المسح فمن ادعى ان حكمها في المسح
حكم الرأس فعليه البيان * وأما الجواب عن احتجاج الزهري فمن وجهين أحدهما المراد بالوجه
الجملة والذات كقوله تعالى (كل شئ هالك الا وجهه) الدليل على هذا أن السجود حاصل
بأعضاء أخر: الثاني ان الشئ يضاف إلى ما يقاربه وإن لم يكن منه * والجواب عما احتج به
القائلون بأنهما من الرأس من الآية انه تأويل للآية على خلاف ظاهرها فلا يقبل والمفسرون
مختلفون في ذلك فقيل المراد الرأس وقيل الاذن وقيل الذؤابة فكيف يحتج بها والحالة هذه *
والجواب عن الأحاديث انها كلها ضعيفة متفق على ضعفها مشهور في كتب الحديث تضعيفها
الا حديث ابن عباس فاسناده جيد ولكن ليس فيه دليل لما ادعوه لأنه ليس فيه أنه مسحهما
بماء الرأس المستعمل في الرأس قال البيهقي قال أصحابنا كأنه كان يعزل من كل يد إصبعين
فإذا فرغ من مسح الرأس مسح بهما أذنيه * واما الجواب عن احتجاج الشعبي بفعل على فمن أوجه
أحدها انها رواية ضعيفة لا تعرف: والثاني ليس فيها دليل على الفرق بين مقدم الاذن ومؤخرها *
والثالث ان ذلك محمول على أنه استوعب الرأس فانمسح مؤخر الاذن معه ضمنا لا مقصودا
لان الاستيعاب لا يتأتي غالبا الا بذلك * الرابع لو صح ذلك عن علي وتعذر تأويله كان ما
415

قدمناه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وما هو المشهور عن علي أولى والله أعلم *
(فرع) أجمعت الأمة على أن الاذنين تطهران واختلفوا في كيفية تطهيرهما على
المذاهب السابقة *
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في كتابه اختلاف الفقهاء اجمعوا ان من ترك
مسحهما فطهارته صحيحة وكذا نقل الاجماع غيره وحكي ابن المنذر وأصحابنا عن إسحاق بن
راهويه أنه قال من ترك مسحهما عمدا لم تصح طهارته وهو محجوج باجماع من قبله وبالحديث
الذي ذكره المصنف والله أعلم * وحكي القاضي أبو الطيب وغيره عن الشيعة انهم قالوا لا
يستحب مسح الاذنين لأنه لا ذكر لهما في القرآن ولكن الشيعة لا يعتد بهم في الاجماع وان تبرعنا
بالرد عليهم فدليله الأحاديث الصحيحة والله أعلم *
(فرع) حكي صاحب الحاوي والمستظهري عن أبي العباس ابن سريج رحمه الله انه
كان يغسل أذنيه ثلاثا مع الوجه كما قال الزهري ويمسحهما مع الرأس كما قال الآخرون ويمسحهما على
الانفراد ثلاثا كما قال الشافعي قال صاحب الحاوي ولم يكن ابن سريج يفعل ذلك واجبا بل احتياطا ليخرج
416

من الخلاف * وقال الشيخ أبو عمر وبن الصلاح لم يخرج ابن سريج بهذا من الخلاف بل زاد فيه
في الجمع بين الجميع لم يقل به أحد وهذا الاعتراض مردود لان ابن سريج لا يوجب ذلك
بل يفعله استحبابا واحتياطا كما سبق وذلك غير ممنوع بالاجماع بل محبوب وكم من موضع مثل
هذا اتفقوا على استحبابه للخروج من الخلاف وإن كان لا يحصل ذلك الا بفعل أشياء لا يقول
بايجابها كلها أحد وقد قدمنا قريبا ان الشافعي والأصحاب رحمهما الله قالوا يستحب غسل
النزعتين مع الوجه وهما مما يمسح عند الشافعي إذ هما من الرأس واستيعابه بالمسح مأمور به
بالاجماع وإنما استحبوا غسلهما للخروج من خلاف من قال هما من الوجه ولم يقل أحد
بوجوب غسلهما ومسحهما ومع هذا استحبه الشافعي والأصحاب ونظائر ذلك كثيرة مشهورة
فالصواب استحسان فعل ابن سريج رحمه الله والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ثم يغسل رجليه وهو فرض لما روى جابر رضي الله عنه قال أمرنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا توضأ ان نغسل أرجلنا)
(الشرح) هذا الحديث رواه الدارقطني باسناد ضعيف ويغنى عنه ما سنذكره من
الأحاديث وغيرها إن شاء الله تعالى وراوي هذا الحديث هو جابر بن عبد الله الأنصاري
السلمي بفتح السين واللام المدني أبو عبد الله وقيل أبو عبد الرحمن وقيل أبو محمد شهد مع النبي
صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة توفى بالمدنية سنة ثلاث وسبعين وقيل ثمان وسبعين وقيل ثمان
وستين والصحيح الأول وتوفى وله أربع وتسعون سنة رضي الله عنه * أما حكم المسألة فقد اجمع المسلمون
على وجوب غسل الرجلين ولم يخالف في ذلك من يعتد به كذا ذكره الشيخ أبو حامد وغيره *
وقالت الشيعة الواجب مسحهما وحكى أصحابنا عن محمد بن جرير انه مخير بين غسلهما ومسحهما
وحكاه الخطابي عن الجبائي المعتزلي وأوجب بعض أهل الظاهر الغسل والمسح جميعا * واحتج
417

القائلون بالمسح بقوله تعالى (وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) بالجر على احدى القراءتين في السبع
فعطف الممسوح على الممسوح وجعل الأعضاء أربعة قسمين مغسولين ثم ممسوحين * وعن انس انه
بلغه ان الحجاج خطب فقال امر الله تعالى بغسل الوجه واليدين وغسل الرجلين فقال إنس صدق
الله وكذب الحجاج (فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم) قرأها جرا وعن ابن عباس إنما هما غسلتان
ومسحتان وعنه امر الله بالمسح ويأبى الناس الا الغسل * وعن رفاعة في حديث المسيئ صلاته
قال له النبي صلى الله عليه وسلم انها لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء كما أمره الله تعالى فيغسل
وجهه ويديه ويمسح رأسه ورجليه وعن علي رضي الله عنه انه توضأ فأخذ حفنة من ماء فرش
على رجله اليمنى وفيها نعله ثم فتلها بها ثم صنع باليسرى كذلك ولأنه عضو يسقط في التيمم فكان
فرضه المسح كالرأس * واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة المستفيضة في صفة وضوءه صلى الله عليه وسلم انه
غسل رجليه منها حديث عثمان وحديث على وحديث ابن عباس وأبي هريرة وعبد الله بن زيد والربيع بنت
معوز وعمرو بن عبسة وغيرها من الأحاديث المشهورة في الصحيحين وغيرهما وقد جمعتها كلها في
جامع السنة ومنها ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جماعة توضأوا
وبقيت أعقابهم تلوح لم يمسها الماء فقال ويل للأعقاب من النار رواه البخاري ومسلم من رواية
عبد الله بن عمرو بن العاص ورويا نحوه من رواية أبي هريرة وفي هذا تصريح بأن استيعاب
الرجلين بالغسل واجب وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر
على قدميه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال ارجع فأحسن وضوءك رواه مسلم وعن عمرو
ابن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله كيف
الطهور فدعى بماء في إناء فغسل كفيه ثلاثا وذكر الحديث إلى أن قال ثم غسل رجليه ثلاثا
418

ثلاثا ثم قال هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم هذا حديث صحيح رواه أبو داود
وغيره بأسانيد صحيحة كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى حيث ذكره المصنف قريبا وهذا من
أحسن الأدلة في المسألة وعن عمرو بن عبسة في حديثه الطويل المشهور أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال ما منكم من أحد يقرب وضوءه فيمضمض الا خرت خطايا وجهه وفيه وخياشيمه
مع الماء إلى أن قال ثم يمسح رأسه الا خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ثم يغسل
قدميه إلى الكعبين الا خرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء رواه مسلم بهذا اللفظ وفي روايته قال
عمرو بن عبسة سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من سبع مرار وقال البيهقي روينا
في الحديث الصحيح عن عمرو بن عبسة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الوضوء ثم يغسل
قدميه إلى الكعبين كما أمره الله تعالى قال البيهقي وفي هذا دلالة ان الله تعالى أمر بغسلهما
وعن أبي هريرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل
وجهه خرج من وجهه كل خطيئة وذكر الحديث إلى أن قال فإذا غسل رجليه خرجت كل
خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقيا من الذنوب رواه مسلم وعن
لقيط بن صبرة ان النبي صلى الله عليه وسلم قال وخلل بين الأصابع وهو حديث صحيح
سبق بيانه في فصل المضمضة وسنعيده في تخليل الأصابع قريبا إن شاء الله تعالى وفيه دلالة
للغسل: والأحاديث في المسألة كثيرة جدا وفيما ذكرناه كفاية * قال أصحابنا ولأنهما عضوان
محدودان فكان واجبهما الغسل كاليدين * وأما الجواب عن احتجاجهم بقوله تعالى (وأرجلكم)
فقد قرئت بالنصب والجر فالنصب صريح في الغسل ويكون معطوفه على الوجه واليدين وأما الجر
فأجاب أصحابنا وغيرهم عنه بأجوبة أشهرها ان الجر على مجاورة الرؤوس مع أن الأرجل منصوبة
وهذا مشهور في لغة العرب وفيه اشعار كثيرة مشهورة وفيه من منثور كلامهم كثير: من ذلك
قولهم هذا جحر ضب خرب بجر خرب على جوار ضب وهو مرفوع صفة لجحر ومنه في
القرآن (اني أخاف عليكم عذاب يوم اليم) فجر أليما على جوار يوم وهو منصوب
419

صفة لعذاب * فان قيل إنما يصح الاتباع إذا لم يكن هناك واو فإن كانت لم يصح والآية فيها واو
قلنا هذا غلط فان الاتباع مع الواو ومشهور في اشعارهم من ذلك ما أنشدوه:
لم يبق الا أسير غير منفلت * وموثق في عقال الأسر مكبول
فخفض موثقا لمجاورته منفلت وهو مرفوع معطوف على أسير فان قالوا الاتباع إنما يكون فيما لا لبس فيه وهذا
فيه لبس قلنا لا لبس هنا لأنه حدد بالكعبين والمسح لا يكون إلى الكعبين بالاتفاق: والجواب الثاني ان
قراءتي الجر والنصب يتعادلان والسنة بينت ورجحت الغسل فتعين: الثالث ذكره جماعات من أصحابنا منهم
الشيخ أبو حامد والدارمي والماوردي والقاضي أبو الطيب وآخرون ونقله أبو حامد في باب المسح على الخف
عن الأصحاب ان الجر محمول على مسح الخف والنصب على الغسل إذا لم يكن خف * الرابع انه لو ثبت
ان المراد بالآية المسح لحمل المسح على الغسل جمعا بين الأدلة والقراءتين لان المسح يطلق
على الغسل كذا نقله جماعات من أئمة اللغة: منهم أبو زيد الأنصاري وابن قتيبة وآخرون وقال
أبو علي الفارسي العرب تسمي خفيف الغسل مسحا وروى البيهقي بإسناده عن الأعمش قال كانوا
يقرؤونها وكانوا يغسلون * واما الجواب عن احتجاجهم بكلام انس فمن أوجه أشهرها عند أصحابنا
ان أنسا أنكر على الحجاج كون الآية تدل على تعيين الغسل وكان يعتقد ان الغسل إنما علم وجوبه
من بيان السنة فهو موافق للحجاج كون الآية تدل على تعيين الغسل وكان يعتقد ان الغسل إنما علم وجوبه
من بيان السنة فهو موافق للحجاج في الغسل مخالف له في الدليل * والثاني ذكره البيهقي وغيره
أنه لم ينكر الغسل إنما أنكر القراءة فكأنه لم يكن (1) قراءة النصب وهذا غير ممتنع ويؤيد
هذا التأويل أن أنسا نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما دل على الغسل وكان أنس يغسل رجليه *
الثالث لو تعذر تأويل كلام أنس كان ما قدمناه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله وفعل
الصحابة وقولهم مقدما عليه: وأما قول ابن عباس فجوابه من وجهين أحسنهما أنه ليس بصحيح
ولا معروف عنه وإن كان قد رواه ابن جرير باسناده في كتابه اختلاف العلماء إلا أن إسناده ضعيف

(1) بهامش نسخة الأذرعي ما نصه كذا في الأصل ولعله (بلغه) اه‍
420

بل الصحيح الثابت عنه أنه كان يقرأ (وأرجلكم بالنصب ويقول عطف على المغسول: هكذا رواه
عنه الأئمة الحفاظ الاعلام منهم أبو عبيد القاسم بن سلام وجماعات القراء والبيهقي وغيره
بأسانيدهم: وثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس أنه توضأ فغسل رجليه وقال هكذا رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ: والجواب الثاني نحو الجواب السابق في كلام أنس * وأما
حديث رفاعة فهو على لفظ الآية فيقال فيه ما قيل في الآية * وأما حديث على فجوابه من أوجه
أحسنها أنه ضعيف ضعفه البخاري وغيره من الحفاظ فلا يحتج به لو لم يخالفه غيره فكيف وهو
مخالف للسنن المتظاهرة والدلائل الظاهرة: الثاني لو ثبت لكان الغسل مقدما عليه لأنه ثابت
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم * الثالث جواب البيهقي والأصحاب أنه محمول على أنه غسل
الرجلين في النعلين فقد ثبت عن علي من أوجه كثيرة غسل الرجلين فوجب حمل الرواية المحتملة
على الروايات الصحيحة الصريحة * وأما قياسهم على الرأس فمنتقض برجل الجنب فإنه يسقط
فرضها في التيمم ولا يجزئ مسحا بالاتفاق والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ويجب
ادخال الكعبين في الغسل لقوله تعالى وأرجلكم إلى الكعبين) قال أهل
التقسير مع الكعبين والكعبان هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم والدليل عليه
ما روى النعمان بن بشير رضي الله عنهما ان النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا بوجهه
وقال أقيموا صفوفكم فلقد رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه فدل على
أن الكعب ما قلناه) *
(الشرح) حديث النعمان حديث حسن رواه أبو داود والبيهقي وغيرهما بأسانيد جيدة
وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة جزم فقال في أبواب تسوية الصفوف وقال النعمان
421

ابن بشير رأيت الرجل منا يلصق كعبه بكعب صاحبه وقد قدمنا أن تعليقات البخاري إذا
كانت بصيغة جزم كانت صحيحة وقوله وروى النعمان أن النبي صلى الله عليه وسلم اقبل علينا
هو من باب تلوين الخطاب وفيه حذف تقديره قال إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل علينا
ولو اتي المصنف بلفظة قال كما هي في روايات الحديث لكان أحسن. وقوله صلى الله عليه وسلم
أقيموا صفوفكم معناه أتموها واعتدلوا واستووا فيها. وقوله يلصق كعبه بكعب صاحبه
ومنكبه بمنكبه إخبار عن شدة مبالغتهم في إقامة الصفوف وتسويتها. والمنكب بفتح الميم وكسر
الكاف سبق بيانه في فصل غسل اليدين وقول المصنف العظمان الناتئان هو بالنون في أوله وبعد
الألف تاء مثناة فوق ثم همزة ومعناه الناشز ان المرتفعان. وقوله مفصل الساق هو بفتح الميم
وكسر الصاد والساق مؤنثة غير مهموزة وفيها لغة قليلة بالهمز وقد قرئ بها في السبع في قوله
تعالى فكشفت عن ساقيها وغيره * وأما النعمان بن بشير راوي الحديث فكنيته أبو عبد الله
وهو أنصاري خزرجي وهو أول مولود ولد للأنصار بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة
وهو وأبوه بشير صحابيان وأم النعمان عمرة بنت رواحة أخت عبد الله بن رواحة صحابية وولد
النعمان سنة اثنتين من الهجرة وقتل بقرية من قرى حمص سنة أربع وستين وقيل سنة ستين
رضي الله عنه * أما أحكام الفصل ففيه مسألتان (إحداهما) انه يجب ادخال الكعبين في
الغسل وهذا لا خلاف فيه عندنا وبه قال الجمهور وخالف فيه زفر وابن داود وقد سبق بيان ذلك
ودليله في غسل اليدين وقول المصنف قال أهل التفسير أي كثيرون منهم فإنهم مختلفون كما سبق
(المسألة الثانية) ان الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم هذا مذهبنا وبه قال
المفسرون وأهل الحديث وأهل اللغة والفقهاء وقالت الشيعة هما الناتئان في ظهر القدمين فعندهم
أن في كل رجل كعبا واحدا وحكاه الخطابي في كتابه الزيادات في شرح ألفاظ مختصر المزني
عن أبي هريرة وأهل الكوفة وحكاه أصحابنا عن محمد بن الحسن قال المحاملي ولا يصح عنه وحكاه
422

الرافعي وجها لنا وليس بشئ وليس لهؤلاء المخالفين حجة تذكر ودليلنا عليهم الكتاب والسنة
واللغة والاشتقاق اما الكتاب فقوله تعالى (وأرجلكم إلى الكعبين) قال أصحابنا هذا يقتضى أن يكون في
كل رجل كعبان ولا يجئ هذا الا على ما قلناه ولو كان كما قال إلى الكعاب كما قال إلى المرافق وأما السنة
فعن عثمان رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثم اليسرى كذلك
رواه مسلم. وحديث النعمان المذكور في الكتاب وهو صحيح كما سبق وموضع الدلالة قوله يلصق
كعبه بكعب صاحبه وهذا لا يكون الا في الكعب الذي قلناه ونظائر هذا في الأحاديث كثيرة:
وأما الاشتقاق فهو ان الكعب مشتق من التكعب وهو النتو مع الاستدارة ومنه سميت الكعبة
ومنه كعب ثدي المرأة وهذه صفة الكعب الذي قلناه لا الذي قالوه قال الخطابي وقالت العرب
كعب أدرم وهو المندمج الممتلئ ولا يوصف ظهر القدم بالدرم: وأما نقل اللغة فقال الماوردي
المحكي عن قريش ونزار كلها مضر وربيعة لا يختلف لسان جميعهم ان الكعب اسم للناتئ بين
الساق والقدم قال وهو أولى بأن يعتبر لسانهم في الأحكام من أهل اليمن لان القرآن نزل بلغة
قريش وقال صاحب كتاب العين الكعب ما أشرف فوق الرسغ ونقله أبو عبيد عن الأصمعي وهو
قول أبي زيد النحوي الأنصاري والمفضل بن سلمة وابن الأعرابي وهؤلاء أعلام أهل اللغة: قال
الواحدي ولا يعرج على قول من قال الكعب في ظهر القدم لأنه خارج عن اللغة والاخبار
واجماع الناس فهذه أقوال أئمة اللغة المصرحة بما قلنا قال الروياني فان قيل للبهائم في كل رجل
كعب فينبغي أن يقال كذا في الآدمي قلنا خلقة الآدمي تخالف البهائم لان كعب البهيمة فوق
ساقها وكعب الآدمي في أسفله فلا يلزم اتفاقهما والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
423

(ويستحب أن يبدأ باليمنى قبل اليسرى لما ذكرناه في اليد فإن كانت أصابعه منفرجة
فالمستحب أن يخلل بينها لقوله صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة وخلل بين الأصابع وإن كان
ت ملتفة لا يصل الماء إليها الا بالتخليل وجب التخليل لقوله صلى الله عليه وسلم خللوا بين
أصابعكم لا يخلل الله بينها بالنار) *
(الشرح) حديث لقيط سبق بيانه في المضمضة والحديث الآخر رواه الدارقطني
من رواية عائشة رضي الله عنها باسناد ضعيف وفي التخليل أحاديث منها حديث عثمان بن عفان
رضي الله عنه أنه توضأ فخلل بين أصابع قدميه ثلاثا وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
فعل كما فعلت رواه الدارقطني والبيهقي باسناد جيد وعن ابن عباس قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء واجعل الماء بين أصابع يديك ورجليك رواه
أحمد بن حنبل والترمذي وقال حديث حسن غريب هذا كلام الترمذي. وهذا الحديث من
رواية صالح مولي التؤمة وقد ضعفه مالك فلعله اعتضد فصار حسنا كما قاله الترمذي. وعن
المستوردين شداد قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فخلل أصابع رجليه بخنصره
رواه أحمد بن حنبل وأبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي وهو حديث ضعيف فإنه من رواية
عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف عند أهل الحديث) وأما الأحكام فهنا مسألتان (إحداهما) يستحب
في غسل الرجلين تقديم اليمنى بل يكره تقديم اليسرى وقد سبق بيان هذا ود ليله في فصل اليدين: وقول
المصنف يبدأ باليمنى قبل اليسرى هو من باب التأكيد ولا حاجة إلى قوله قبل اليسرى وقد سبق هذا
في فصل غسل اليدين * (المسألة الثانية) في التخليل قال أصحابنا إن كانت أصابع رجليه منفرجة
استحب التخليل ولا يجب وحديث لقيط محمول على الاستحباب أو على ما إذا لم يصل الماء إلى
424

ما بينها الا بالتخليل وإن كانت ملتفة وجب ايصال الماء إلى ما بينها ولا يتعين في ايصاله التخليل
بل باي طريق أوصله حصل الواجب ويستحب مع ايصاله التخليل فالتخليل مستحب مطلقا
وايصال الماء واجب * وقول المصنف وشيخه القاضي أبي الطيب والقاضي حسين والماوردي
والبغوي والمتولي وغيرهم إن كانت ملتفة وجب التخليل أرادوا به ايصال الماء لأنهم فرضوا
المسألة فيما إذا لم يصل الماء الا بالتخليل * وأما كيفية التخليل فقال الخراسانيون يخلل بخنصر
يده اليسرى ويكون من أسفل القدم مبتدئا بخنصر رجله اليمنى ويختم بخنصر اليسرى ممن
ذكره هكذا القاضي حسين والغزالي والبغوي والمتولي وصاحب العدة وغيرهم وقال القاضي
أبو الطيب في تعليه يستحب ان يخلل بخنصر يده اليمنى من تحت الرجل وقال إمام الحرمين
لست أرى لتعيين اليد اليمنى أو اليسرى في ذلك أصلا الا النهي عن الاستنجاء باليمين وليس
تخليل الأصابع مشابها له فلا حجر على المتوضئ في استعمال اليمين أو اليسار فان الامر كذلك
في غسل الرجلين وخلل الأصابع جزء منها ولم يثبت عندي في تعيين احدى اليدين شئ وذكر
الغزالي في البسيط ان مستند الأصحاب في تعيين اليسرى الاستنجاء ثم ذكر قول إمام الحرمين
وذكر الرافعي هذا المشهور عن الخراسانيين من استحباب خنصر اليسرى ونقله عن معظم
الأئمة ثم حكي عن أبي ظاهر الزيادي أنه قال يخلل ما بين كل إصبعين من أصابع رجليه بإصبع من
أصابع يده ليكون بماء جديد ويترك الإبهامين فلا يخلل بهنا لما فيه من العسر فحصل من
مجموع هذا ان التخليل من أسفل الرجل ويبدأ من خنصر اليمين وفي الإصبع التي يخلل بها
أوجه الأشهر أنها خنصر اليسرى والثاني خنصر اليمنى قال القاضي أبو الطيب * الثالث قول أبي
طاهر * الرابع قول الإمام أنه لا يتعين في استحباب ذلك يد وهو الراجح المختار هذا حكم تخليل
أصابع الرجلين * وأما أصابع اليدين فلم يتعرض له الجمهور وجاء فيه حديث ابن عباس الذي
قد مناه ونقل الترمذي استحباب تخليلهما عن إسحاق بن راهويه قال الرافعي سكت الجمهور عنه
وقال ابن كج يستحب لحديث لقيط فان الأصابع تشملها وحديث ابن عباس قال وعلى هذا يكون
تخليلهما بالتشبيك بينهما والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بغسل الرجلين إحداها اختلفوا في كيفيته المستحبة في غسلهما قال الشافعي
425

رحمه الله في الأم ينصب قدميه ثم يصب عليهما الماء بيمينه أو يصب عليه غيره هذا نصه
وكذا قال البغوي وغيره قال البغوي ويدلكهما بيساره ويجتهد في دلك العقب لا سيما في الشتاء
فان الماء يتجافى عنها وكذا أطلق المحاملي في اللباب وآخرون استحباب الابتداء بأصابع رجله
وقال الصيمري وصاحبه الماوردي إن كان يصب على نفسه بدأ بأصابع رجله كما نص عليه وإن كان
غيره يصب عليه بدأ من كعبيه إلى أصابعه والمختار ما نص عليه وتابعه عليه الأكثرون من
استحباب الابتداء بالأصابع مطلقا * (الثانية) إذا كان لرجله إصبع أو قدم زائدة أو انكشطت
جلدتها فحكمه ما سبق في اليد * (الثالثة) إذا قطع بعض القدم وجب غسل الباقي فان قطع
فوق الكعب فلا فرض عليه ويستحب غسل الباقي كما سبق في اليد * (الرابعة) قال الدارمي
إذا لم يكن له كعبان قدر بقدرهما * (الخامسة) قال الشافعي رضي الله عنه في الأم والأصحاب
إن كانت أصابعه ملتحمة بعضها في بعض لا يلزمه شقها بل لا يجوز (1) لكن يغسل ما ظهر قال
أصحابنا فإن كان على رجله شقوق وجب إيصال الماء باطن تلك الشقوق وقد ذكر المصنف مثله في فصل
غسل اليدين فان شك في وصول الماء إلى باطنها أو باطن الأصابع لزمه الغسل ثانيا حتى يتحقق الوصول هذا
إذا كان بعد في أثناء الوضوء: فاما إذا شك بعد الفراغ ففيه خلاف نذكره أن شاء الله تعالى في آخر الباب
في المسائل الزائدة * قال أصحابنا فلو أذاب في شقوق رجليه شحما أو شمعا أو عجينا أو خضبهما
بحناء وبقي جرمه لزمه إزالة عينه لأنه يمنع وصول الماء إلى البشرة فلو بقي لون الحناء دون
عينه لم يضره ويصح وضوءه ولو كان على أعضائه أثر دهن مائع فتوضأ وأمس بالماء البشرة وجرى

(1) وقع في تمييز التعجير لقاضي حماه انه يجوز وكأنه توهمه في قول الرافعي ملتحمة لم يجب
الفتق ولا يستحب اه‍ أذرعي
426

عليها ولم يثبت صح وضؤه لان ثبوت الماء ليس بشرط صرح به المتولي وصاحبا العدة والبحر وغيرهم
(فرع) لو تنفطت رجله ولم تنشق كفاه غسل ظاهرها فلو أنشقت بعد وضؤه لم يلزمه
غسل ما ظهر بالانشقاق كما سبق فيمن حلق شعره بعد الطهارة فان تطهر بعد ذلك لزمه غسل
ما ظهر فإن كان قد عاد الالتحام لم يلزمه شقه والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(والمستحب ان يغسل فوق المرفقين وفوق الكعبين لقوله صلى الله عليه وسلم " تأتي أمتي يوم القيامة غرا
محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع ان يطيل غرته فليفعل) (الشرح) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة وفي رواية لمسلم عن
نعيم قال رأيت أبا هريرة يتوضأ فغسل وجهه فاسبغ الوضوء ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في
العضد ثم غسل اليسرى حتى أشرع في العضد ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع
في الساق ثم اليسرى حتى أشرع في الساق ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى اله عليه وسلم يتوضأ
وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكن فليطل غرته
وتحجيله هذا لفظ رواية مسلم وعن أبي حازم قال كنت خلف أبي هريرة رضي الله عنه وهو
يتوضأ للصلاة فكان يمر يده حتى تبلغ إبطيه فقلت يا أبا هريرة ما هذا الوضوء فقال سمعت
خليلي صلى الله عليه وسلم يقول تبلغ الحليلة من المؤمن حيث يبلغ الوضوء رواه مسلم بلفظه
هنا ورواه البخاري بمعناه في أواخر الكتاب في كتاب اللباس في اتلاف الصور وفيه التصريح ببلوغ أبي
هريرة رضي الله عنه بالماء إبطيه. وعن نعيم أنه رأى أبا هريرة رضي الله عنه يتوضأ فغسل وجهه
ويديه حتى كاد يبلغ المنكبين ثم غسل رجليه حتى رفع إلى الساقين ثم قال سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول إن أمتي يأتون يوم القيامة غرا محجلين من أثر الوضوء فمن استطاع منكم ان
يطيل غرته فليفعل رواه مسلم والغرة بياض في وجه الفرس والتحجيل في يديه ورجليه ومعنى
427

الحديث يأتون بيض الوجوه والأيدي والأرجل * أما حكم المسألة فاتفق أصحابنا على استحباب
غسل ما فوق المرفقين والكعبين ثم جماعة منهم أطلقوا استحباب ذلك ولم يحدوا غاية الاستحباب بحد
كما أطلقه المصنف رحمه الله * وقال جماعة يستحب إلى نصف الساق والعضد وقال القاضي حسين
وآخرون يبلغ به الإبط والركبة * وقال البغوي نصف العضد فما فوقه ونصف الساق فما فوقه
والله أعلم *
(فرع) اختلفت عبارات الأصحاب في المراد بتطويل الغرة فظاهر كلام المصنف رحمه الله انها في اليدين
والرجلين وكذا قاله امام الحرمين رحمه الله في كتابه الأساليب في الخلاف في مسألة تكرار مسح
الرأس ثم في مسألة مسح الاذنين وصاحب العدة وغيرهما وقال الغزالي رحمه الله إذا قطعت يده
فوق المرفق استحب امساس الماء ما بقي من عضده فان تطويل الغرة مستحب وهذا مما أنكر
على الغزالي لتصريحه بأن الغرة تكون في اليد ولا خلاف عند أهل اللغة وغيرهم في أن الغرة
مختصة بالوجه وقال القاضي حسين في تعليقه إسباغ الوضوء سنة إطالة للغرة وهو أن يستوعب
جميع الوجه بالغسلة حتى يغسل جزءا من رأسه ويغسل اليدين إلى المنكبين والرجلين إلى الركبتين
وقال المتولي تطويل الغرة سنة وهو أن يغسل بعض مقدم رأسه مع الوجه وتطويل التحجيل سنة
وهو أن يغسل بعض العضد مع المرفق وبعض الساق مع القدم * وقال الرافعي رحمه الله اختلف
الأصحاب في ذلك ففرق بعضهم بين الغرة والتحجيل فقالوا تطويل الغرة غسل مقدمات الرأس
مع الوجه وكذا صفحة العنق وتطويل التحجيل غسل بعض العضد والساق وغايته استيعاب
العضد والساق قال وفسر كثيرون تطويل الغرة بغسل شئ من العضد والساق وأعرضوا عما
حوالي الوجه قال والأول أولى وأوفق لظاهر الحديث * وقال الرافعي في موضع آخر عند
استحباب غسل باقي العضد بعد القطع ان قيل كيف قال الغزالي يغسل الباقي لتطويل الغرة
والغرة إنما هي في الوجه والذي في اليد التحجيل: قلنا تطويل الغرة والتحجيل نوع واحد من
428

السنن فيجوز أن يكون قوله لتطويل الغرة إشارة إلى النوع على أن أكثرهم لا يفرقون بينهما
ويطلقون تطويل الغرة في اليد قال ورأيت بعضهم احتج عليه بقوله صلى الله عليه وسلم فمن
استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل وإنما يمكن الإطالة في اليد لان الوجه يجب استيعابه
قال الرافعي وهذا الاحتجاج ليس بشئ لان الإطالة في الوجه أن يغسل إلى اللبة وصفحة
العنق وهو مستحب نص عليه الأئمة هذا كلام الرافعي * قلت الصحيح ان الغرة غير التحجيل
لقوله صلى الله عليه وسلم فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله فهذا صريح في المغايرة
بينهما ورواية الاقتصار على الغرة لا تخالف هذا لان في هذا زيادة وزيادة الثقة مقبولة ولأنه قد
يطلق أحد القرينين ويكون الآخر مرادا كقوله تعالى (سرابيل تقيكم الحر) أي والبرد *
وإذا ثبت تغايرهما فأحسن ما فيه ما قدمناه عن المتولي والرافعي ومرادهما غسل جزء يسير من
الرأس وما يلاصق الوجه من صفحة العنق وهذا غير الجزء الواجب الذي لا يتم غسل الوجه الا به
(فرع) هذا الذي ذكرناه من استحباب غسل ما فوق المرفقين والكعبين هو مذهبنا
لا خلاف فيه بين أصحابنا وهو مذهب أبي هريرة كما سبق وقال أبو الحسن بن بطال المالكي في
شرح صحيح البخاري هذا الذي قاله أبو هريرة لم يتابع عليه والمسلمون مجمعون على أن الوضوء
لا يتعدى به ما حد الله ورسوله ولم يجاوز رسول الله صلى الله عليه وسلم قط مواضع الوضوء فيما
بلغنا وهذا الذي قاله ابن بطال (1) من الانكار على أبي هريرة خطأ لان أبا هريرة لم يفعله من تلقاء
نفسه بل أخبر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كما قدمناه عنه ولان تفسير الراوي
إذا لم يخالف الظاهر يجب قبوله على المذهب الصحيح لا هل الأصول * وأما نقله الاجماع فلا يقبل
مع خلاف أبي هريرة وأصحابنا وأما كون أكثر العلماء لم يذكروه ولم يقولوا به فلا يمنع كونه
سنة بعد صحة الأحاديث فيه: وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر فمن زاد على
هذا فقد أساء فالمراد زاد في العدد فغسل أكثر من ثلاث مرات كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى
والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
والمستحب أن يتوضأ ثلاثا ثلاثا لما روى أبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه

(1) هذا يرده رواية مسلم السابقة فإنها صريحة في المجاوزة في اليدين والرجلين وقد
وافق القاضي عياض ابن بطال على هذه المقالة على هذه المقالة
الباطلة وهو عجيب منها اه‍ أذرعي
429

وسلم توضأ مرة مرة ثم قال هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة الا به ثم توضأ مرتين مرتين وقال
من توضأ مرتين آتاه الله أجره مرتين ثم توضأ ثلاثا ثلاثا وقال هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي
ووضوء خليلي إبراهيم صلى الله عليه وسلم) *
(الشرح) حديث أبي هذا ضعيف رواه ابن ماجة في سننه هكذا من رواية أبي باسناد
ضعيف (1) ورواه ابن ماجة أيضا والبيهقي وغيرهما من رواية ابن عمر وإسناده أيضا ضعيف قال
الامام الحافظ أبو بكر الحازمي قد روى هذا الحديث من أوجه عن غير واحد من الصحابة وكلها
ضعيفة قال وحديث ابن عمر في الباب نحو حديث أبي قال وليس في حديثهما ووضوء خليلي
إبراهيم * قلت قوله ليس في حديثهما ووضوء خليلي إبراهيم ليس بصحيح بل ذلك موجود في
حديث ابن عمر رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده كذلك رأيته فيه وذكر القاضي حسين في
تعليقه في حديث أبي هذا خلافا لا صحابنا منهم من قال فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه
الوضوءات في مجالس لأنه لو كان في مجلس لصار غسل كل عضو ست مرات وذلك مكروه
ومنهم من قال كان في مجلس واحد للتعليم ويجوز مثل ذلك للتعليم ورجح صاحب البحر كونه
في مجالس * قلت الظاهر أن هذا الخلاف لم ينقلوه عن رواية بل قالوه بالاجتهاد وظاهر رواية
ابن ماجة وغيره انه كان في مجلس واحد وهذا كالمتعين لان التعليم لا يكاد يحصل الا في مجلس
وكيف كان فالحديث ضعيف لا يحتج به كما قدمناه وإذا ثبت ضعفه تعين الاحتجاج بغيره وفي
ذلك أحاديث كثيرة صحيحة منها حديث عثمان رضي الله عنه انه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه
وسلم فتوضأ ثلاثا ثلاثا رواه مسلم وفى رواية البيهقي وغيره ان عثمان رضي الله عنه

(1) رواه البيهقي أيضا من رواية انس وضعفه قال ولم يقع له اسناد قوي وفيه
إبراهيم خليل الرحمن هكذا من رواية ابن عمر رضي الله عنهم اه‍ من هامش الأذرعي
430

توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيتم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فعل هذا قالوا نعم ومنها حديث علي رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم
توضأ ثلاثا ثلاثا رواه أحمد بن حنبل رضي الله عنه والترمذي والنسائي قال الترمذي هذا
أحسن شئ في هذا الباب وأصح وعن شقيق بن سلمة قال (رأيت عثمان وعليا رضي الله عنهما
يتوضآن ثلاثا ثلاثا ويقولان هكذا كان وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه ابن ماجة
باسناد صحيح ومنها حديث عمرو بن شعيب الذي ذكره المصنف بعد هذا وهو صحيح والله
أعلم * أما حكم المسألة فالطهارة ثلاثا ثلاثا مستحبة في جميع أعضاء الوضوء باجماع العلماء الا
الرأس ففيه خلاف للسلف سنفرده بفرع إن شاء الله تعالى (1) ومذهبنا المشهور ان مسح الرأس
يكون ثلاثا كغيره وحكي بعض أصحابنا عن بعض العلماء أنه لا يستحب الثلاث وعن
بعضهم أنه أوجب الثلاث وكلاهما غلط ولا يصح هذا عن أحد فان صح فهو مردود بالأحاديث
الصحيحة والله أعلم *
(فرع) أبي بن كعب الراوي هنا هو أبو المنذر ويقال أبو الطفيل أبي بن كعب بن قيس
ابن عبيد بن زيد بن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي النجاري بالنون
شهد العقبة الثانية وبدرا وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليه (لم يكن الذين

(1) في الأذان أيضا خلاف ضعيف في مذهبنا اه‍ أذرعي
431

كفروا) وقال امرني الله أن أقر أ عليك وفي حديث الترمذي أقرؤكم أبي وهو أحد كتاب
النبي صلى الله عليه وسلم توفى في خلافة عمر وقيل عثمان وقد أوضحت ذلك في مناقبه في
تهذيب الأسماء *
(فرع) في تكرار مسح الرأس مذهبنا المشهور الذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في
كتبه وقطع به جماهير الأصحاب أنه يستحب مسح الرأس ثلاثا كما يستحب تطهير باقي الأعضاء
ثلاثا وحكي أبو عيسى الترمذي في كتابه عن الشافعي وأكثر العلماء رحمهم الله أن مسح الرأس
مرة (1) ولا أعلم أحدا من أصحابنا حكي هذا عن الشافعي رضي الله عنه لكن حكي أبو عبد الله الحناطي بالحاء
المهملة ثم صاحب البيان والرافعي وغيرهما وجها لبعض أصحابنا أن السنة في مسح الرأس مرة وحكاه
الحناطي والرافعي في مسح الاذنين أيضا ومال البغوي إلى اختياره في مسح الرأس وحكي بعض
تلامذته أنه كان يعمل به وأشار أيضا إلى ترجيحه البيهقي كما سأذكره عنه قريبا إن شاء الله تعالى
ومذهب الشافعي وأصحابه رضي الله عنهم استحباب الثلاث وهو مذهب داود ورواية عن أحمد
وحكاه ابن المنذر عن أنس بن مالك وسعيد بن جبير وعطاء وزاذان وميسرة رضي الله عنهم *
وحكي ابن المنذر وأصحابنا عن ابن سيرين أنه قال يمسح رأسه مرتين وقال أكثر العلماء إنما
يسن مسحه واحدة هكذا حكاه عن أكثر العلماء الترمذي وآخرون قال ابن المنذر وممن قال
به عبد الله بن عمر وطلحة بن مصرف والحكم وحماد والنخعي ومجاهد وسالم بن عبد الله والحسن
البصري وأصحاب الرأي وأحمد وأبو ثور رضي الله عنهم وحكاه غير ابن المنذر عن غيرهم
أيضا وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما وسفيان الثوري وإسحاق بن راهويه واختاره
ابن المنذرة * فأما ابن سيرين فاحتج له بحديث الربيع بنت معوذ ان النبي صلى الله عليه وسلم

(1) قال في البيان واختاره أبو نصر البندنيجي صاحب المعتمد اه‍ أذرعي
432

مسح برأسه مرتين وعن عبد الله بن زيد مثله * وأما القائلون بمسحة واحدة فاحتجوا بالأحاديث
المشهورة في الصحيحين وغيرهما روايات جماعات من الصحابة في صفة وضوء رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه مسح رأسه مرة واحدة مع غسله بقية الأعضاء ثلاثا ثلاثا منها رواية
عثمان وابن عباس وعبد الله بن زيد رضي الله عنهم وروى ذلك أيضا من رواية عبد الله بن أبي
أو في وسلمة بن الأكوع والربيع بنت معوذ وغيرهم وقد قال أبو داود في سننه وغيره من الأئمة
الصحيح في أحاديث عثمان وغيره مسح الرأس مرة وقد سلم لهم البيهقي هذا واعترف به ولم
يجب عنه مع أنه المعروف بالانتصار لمذهب الشافعي رضي الله عنه قالوا ولأنه مسح واجب فلم
يسن تكراره كمسح التيمم والخف ولان تكراره يؤدى إلى أن يصير المسح غسلا ولان الناس
أجمعوا قبل الشافعي رضي الله عنه على عدم التكرار فقوله خارق للاجماع * واحتج الشافعي
والأصحاب رحمهم الله بأحاديث وأقيسة أحدها وهو الذي اعتمده الشافعي حديث عثمان رضي الله عنه
ان النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا رواه مسلم ووجه الدلالة منه أن

(1) قال البيهقي في الخلافيات بعد أن روى الحديث في مسح الرأس ثلاثا اسناد حسن
وسيأتي ما يؤيده اه‍ أذرعي
433

قوله توضأ يشمل المسح والغسل وقد منع البيهقي وغيره الدلالة من هذا لأنها رواية مطلقة وجاءت
الروايات الثابتة في الصحيح المفسرة مصرحة بأن غسل الأعضاء ثلاثا ثلاثا ومسح الرأس مرة
فصرحوا بالثلاث في غير الرأس وقالوا في الرأس ومسح برأسه ولم يذكروا عددا
ثم قالوا بعده ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا وجاء في روايات في الصحيح ثم غسل يديه ثلاثا ثم مسح
برأسه مرة ثم غسل رجليه ثلاثا ثلاثا فلم يبق فيه دلالة * الحديث الثاني عن عثمان رضي الله عنه
أنه توضأ فمسح رأسه ثلاثا وقال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا رواه
أبو داود باسناد حسن وقد ذكر أيضا الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله انه حديث حسن
وربما ارتفع من الحسن إلى الصحة بشواهده وكثرة طرقه فان البيهقي وغيره رووه من طرق
كثيرة غير طريق أبي داود * الحديث الثالث عن علي رضي الله عنه أنه توضأ فمسح رأسه
ثلاثا ثم قال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل رواه البيهقي من طرق وقال أكثر
الرواة رووه عن علي رضي الله عنه دون ذكر التكرار قال وأحسن ما روى عن علي رضي الله عنه
فيه ما رواه عنه ابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما فذكره باسناده عنه وذكر مسح الرأس ثلاثا
وقال هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ واسناده حسن * وروى عن أبي رافع
وابن أبي أوفى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح رأسه ثلاثا واعتمد الشيخ أبو حامد
الأسفرايني حديث أبي بن كعب السابق وقد سبق أنه ضعيف لا يحتج به * وأما الأقيسة فقالوا
أحد أعضاء الطهارة فسن تكراره كغيره قالوا ولأنه ايراد أصل على أصل فسن تكراره كالوجه
وفيه احتراز من التيمم ومسح الخف قال الشيخ أبو حامد عادة أصحابنا الخراسانيين في هذا
انهم يقولون أصل في الطهارة المبعضة يحترزون عن غسل الجنابة فإنه لا يتبعض قال وإنما فعلوا
434

هذا لأنهم لا يعرفون المذهب في غسل الجنابة والمذهب انه يسن تكرار الغسل فيه * واما الجواب
عما احتج به ابن سيرين من حديث الربيع فمن أوجه أحدها انه ضعيف رواه البيهقي وغيره من
رواية عبد الله بن محمد بن عقيل وهو ضعيف عند أكثر أهل الحديث * (والثاني) لو صح لكان
حديث الثلاث مقدما عليه لما فيه من الزيادة * (الثالث) انه محمول على بيان الجواز وأحاديث
الثلاث للاستحباب جمعا بين الأحاديث: واما حديث عبد الله بن زيد فرواه النسائي باسناد
صحيح والجواب عنه من الوجهين الآخرين وقد أشار البيهقي إلى منع الاحتجاج به من حيث إن
سفيان بن عينية انفرد عن رفقته فرواه مرتين والباقون رووه مرة فعلى هذا يجاب
عنه بالأوجه الثلاثة * واما دليل القائلين بمسحة واحدة فأجاب أصحابنا عنها بأجوبة كثيرة
من أحسنها انه نقل عن رواتها المسح ثلاثا وواحدة كما سبق فوجب الجمع بينها فيقال
الواحدة لبيان الجواز والثنتان لبيان الجواز وزيادة الفضيلة على الواحدة والثلاث للكمال
والفضيلة * ويؤيد هذا انه روى الوضوء على أوجه كثيرة فروى على هذه الأوجه المذكورة
وروى غسل بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وروى على غير ذلك وهذا يدل على التوسعة
وانه لا حرج كيف توضأ على أحد هذه الأوجه ولم يقل أحد من العلماء يستحب غسل بعض
الأعضاء ثلاثا وبعضها مرتين مع أن حديثه هكذا في الصحيحين فعلم بذلك ان القصد بما سوى
الثلاث بيان الجواز فإنه لو واظب صلى الله عليه وسلم على الثلاث لظن أنه واجب فبين في أوقات
الجواز بدون ذلك وكرر بيانه في أوقات وعلى أوجه ليستقر معرفته ولاختلاف الحاضرين الذين
لم يحضروا الوقت الآخر فان قيل فإذا كان الثلاث أفضل فكيف تركه في أوقات: فالجواب ما
قدمناه أنه قصد صلى الله عليه وسلم البيان وهو واجب عليه صلى الله عليه وسلم فثوابه فيه أكثر
وكان البيان بالفعل آكد وأقوى في النفوس وأوضح من القول * وأما قول أبي داود وغيره
فجوابه من وجهين أحدهما أنه قال الأحاديث الصحاح وهذا حديث حسن غير داخل في قوله
435

والثاني أن عموم اطلاقه مخصوص بما ذكرناه من الأحاديث الحسان وغيرها * وأما الجواب
عن قياسهم على التيمم ومسح الخف فهو انهما رخصة فناسب تخفيفهما (1) والرأس أصل فالحاقة
بباقي أعضاء الوضوء أولى * وأما قولهم تكراره يؤدى إلى غسله فلا نسلمه لان الغسل جريان
الماء على العضو وهذا لا يحصل بتكرار المسح ثلاثا وقد اجمع العلماء على أن الجنب لو مسح بدنه
بالماء وكرر ذلك لا ترتفع جنابته بل يشترط جرى الماء على الأعضاء * وأما قولهم خرق الشافعي
رضي الله عنه الاجماع فليس بصحيح فقد سبق به انس بن مالك وعطاء وغيرهما كما قدمناه عن
حكاية بن المنذر وابن المنذر هو المرجوع إليه في نقل المذاهب باتفاق الفرق والله أعلم * قال
المصنف رحمه الله *
فان اقتصر على مرة وأسبغ أجزأه لقوله صلى الله عليه وسلم هذا وضوء لا يقبل الله
الصلاة الا به

(1) يجاب عن مسح الخف أيضا بأن التكرار فيه يؤدي إلى تعيبه وقد نهى
عن إضاعة المال اه‍ أذرعي
436

(الشرح) اجمع العلماء على أن الواجب مرة واحدة وممن نقل الاجماع فيه ابن جرير
في كتابه اختلاف العلماء وآخرون وحكي الشيخ أبو حامد وغيره أن بعض الناس أوجب الثلاث
وحكاه صاحب الإبانة عن ابن أبي ليلى وهذا مذهب باطل لا يصح عن أحد من العلماء ولو
صح لكان مردودا باجماع من قبله وبالأحاديث الصحيحة: منها حديث ابن عباس رضي الله عنهما
توضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة رواه البخاري وحديث عبد الله بن زيد أن النبي
صلى الله عليه وسلم غسل بعض أعضائه ثلاثا وبعضها مرتين رواه البخاري ومسلم وفي رواية
للبخاري عن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين والأحاديث في هذا
كثيرة مشهورة وهو مجمع عليه ولم يثبت عن أحد خلافه * وأما احتجاج المصنف بحديث هذا
وضوء لا يقبل الله الصلاة الا به فباطل لأنه حديث ضعيف سبق بيانه والاعتماد على ما ذكرته
من الأحاديث الصحيحة والاجماع وقوله وأسبغ أي عمم الأعضاء واستوعبها ومنه درع سابغة وثوب
سابغ والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
437

فان خالف بين الأعضاء فغسل بعضها مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثا جاز لما روى عبد الله بن
زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل وجهه ثلاثا ويديه مرتين
(الشرح) هذا الحكم مجمع عليه وحديث عبد الله بن زيد هذا رواه البخاري ومسلم من
طرق هكذا وفيه زيادة حسنة وهي انه مسح رأسه مرة واحدة والزيادة لائقة هنا ليكون
الحديث جامعا لطهارة بعض الأعضاء مرة وبعضها مرتين وبعضها ثلاثا كما ذكره المصنف وعبد
الله بن زيد تقدم بيانه في مسح الرأس والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
فان زاد على الثلاث كره لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ان النبي صلى الله
عليه وسلم توضأ ثلاثا ثلاثا ثم قال هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم
(الشرح) اما حديث عمرو بن شعيب هذا فصحيح رواه أحمد بن حنبل وأبو داود
والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحه وليس في روايته أحد من هؤلاء قوله أو نقص الا الرواية أبي
داود فإنه ثابت فيها وليس في رواياتهم تصريح بمسح الرأس ثلاثا وقد قدمت في الفصول
السابقة في مقدمة الكتاب أن جمهور المحدثين صححوا الاحتجاج برواية عمرو بن شعيب عن أبيه
عن جده وأن المصنف قطع في كتابه اللمع بأنه لا يحتج به لاحتمال الارسال وبينت سبب الاختلاف
فيه هناك واضحا وان الصحيح جواز الاحتجاج به واختلف أصحابنا في معنى أساء وظلم فقيل
أساء في النقص وظلم في الزيادة فان الظلم مجاوزة الحد ووضع الشئ في غير موضعه وقيل عكسه
لان الظلم يستعمل بمعنى النقص كقوله تعالى (آتت أكلها ولم تظلم منه شيئا) وقيل أساء وظلم
في النقص وأساء وظلم أيضا في الزيادة واختاره الشيخ أبو عمرو بن الصلاح لأنه ظاهر الكلام
ويدل عليه رواية الأكثرين فمن زاد فقد أساء وظلم ولم يذكروا النقص * أما حكم المسألة فقال
أصحابنا إذا زاد على الثلاث كره كراهة تنزيه ولا يحرم هكذا صرح به الأصحاب قال أمام
الحرمين الغسلة الرابعة وإن كانت مكروهة فليست معصية قال ومعنى أساء ترك الأولى وتعدى
حد السنة: وظلم أي وضع الشئ في غير موضعه * وقال الشيخ أبو حامد في التعليق قال الشافعي
438

رضي الله عنه في الأم أحب يتجاوز الثلاث فان جاوزها لم يضره قال أبو حامد وأراد بقوله
لم يضره أي لا يأتم قال وأصحابنا يقولون تحرم الزيادة قال وليس ظاهر المذهب هذا والمراد
بالإساءة في الحديث غير التحريم لأنه يستعمل أساء فيهما لا اثم فيه وذكر الروياني في البحر وجها
في تحريم الزيادة قال وليس بشئ وقال الماوردي الزيادة على الثلاث لا تسن وهل تكره فيه
وجهان قال أبو حامد الأسفرايني لا تكره وقال سائر أصحابنا تكره وهو الأصح هذا كلام الماوردي
وأما نص الشافعي رضي الله عنه في الأم فقال لا أحب الزيادة على ثلاث فان زاد لم أكرهه إن شاء الله
. هذا لفظ الشافعي ومعنى لم أكرهه أي لم أحرمه فحصل ثلاثة أوجه أحدها تحرم الزيادة
(والثاني) لا تحرم ولا تكره لكنها خلاف الأولى (والثالث) وهو الصحيح بل الصواب تكره
كراهة تنزيه فهذا هو الموافق للأحاديث وبه قطع جماهير الأصحاب وقد أشار الإمام أبو عبد الله
البخاري في صحيحه إلى نقل الاجماع على ذلك فإنه قال في أول الكتاب في كتاب الوضوء بين
النبي صلى الله عليه وسلم ان فرض الوضوء مرة وتوضأ مرتين وثلاثا ولم يزد قال وكره أهل العلم
الاسراف فيه وان يجاوز فعل النبي صلى الله عليه وسلم *
(فرع) المشهور في كتب الفقه وشروح الحديث وغيرها لا صحابنا وغيرهم ان قوله صلى
الله عليه وسلم فمن زاد أو نقص معناه زاد على الثلاث أو نقص منها ولم يذكر أصحابنا وغيرهم مع
كثرة كتبهم وحكاياتهم الوجوه الغريبة والمذاهب المشهورة والمهجورة الراجحة والمرجوحة
غير هذا المعنى وقال البيهقي في كتابه السنن الكبير يحتمل ان المراد بالنقص نقص العضو يعنى لم يستوعبه
439

وهذا تأويل غريب ضعيف مردود ومقتضاه أن تكون الزيادة في العضو وهي غسل ما فوق المرفق
والكعب إساءة وظلما ولا سبيل إلى ذلك بل هو مستحب كما سبق والبيهقي ممن نص على استحبابه
وعقد فيه بابين أحدهما باب استحباب امرار الماء على العضد: والثاني باب الاشراع في الساق
وذكر فيهما حديث أبي هريرة السابق والله أعلم * فان قيل كيف يكون النقص عن الثلاث
إساءة وظلما ومكروها وقد ثبت ان النبي صلى الله عليه وسلم فعله كما سبق في الأحاديث الصحيحة
قلنا ذلك الاقتصار كان لبيان الجواز فكان في ذلك الحال أفضل لان البيان واجب والله أعلم
(فرع) إذا زاد على الثلاث فقد ارتكب المكروه ولا يبطل وضوءه هذا مذهبنا ومذهب
العلماء كافة وحكى الدارمي في الاستذكار عن قوم انه يبطل كما لو زاد في الصلاة وهذا خطأ ظاهر *
(فرع) إذا شك فلم يدر أغسل مرتين أم ثلاثا فمقتضى كلام الجمهور أنه يبنى على حكم اليقين وأنهما غسلتان فيأتي بثالثة * وحكي امام الحرمين وجهين أحدهما قول والده الشيخ أبي
محمد الجويني رحمه الله أن يقتصر على ما جرى ولا يأتي بأخرى لأنه متردد بين الرابعة وهي
بدعة والثالثة وهي سنة وترك سنة أولى من اقتحام بدعة بخلاف المصلى يشك في عدد
الركعات فإنه يأخذ بالأقل ليتيقن أداء الفرض والشك هنا ليس في فرض * والوجه الثاني يغسل
440

أخرى كالصلاة: والبدعة إنما هي تعمد غسلة رابعة بلا سبب مع أن الرابعة وإن كانت مكروهة
فليست معصية هذا كلام امام الحرمين والصحيح أنه يأتي بأخرى والله أعلم *
(فرع) قال الشيخ أبو محمد الجويني في الفروق لو توضأ فغسل الأعضاء مرة مرة ثم عاد
فغسلها مرة مرة ثم عاد كذلك ثالثة لم يجز (1) قال ولو فعل مثل ذلك في المضمضة والاستنشاق
جاز قال والفرق أن الوجه واليد متباعدان ينفصل حكم أحدهما عن الآخر فينبغي أن يفرغ
من أحدهما ثم ينتقل إلى الآخر: وأما الفم والأنف فكعضو فجاز تطهيرهما معا كاليدين
والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ويجب أن يرتب الوضوء فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه وحكي أبو العباس
ابن القاص قولا آخر انه ان نسي الترتيب جاز والمشهور هو الأول والدليل عليه قوله تعالى
(فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق) الآية فأدخل المسح بين الغسل وقطع حكم النظير عن النظير فدل
على أنه قصد ايجاب الترتيب ولأنه عبادة يشتمل على أفعال متغايرة يرتبط بعضها ببعض فوجب
فيها الترتيب كالصلاة والحج) *
(الشرح) هذا الذي نقله ابن القاص قول قديم كذا ذكره في كتابه التلخيص قال امام
الحرمين هذا القول إن صح فهو مرجوع عنه فلا يعد من المذهب قال أصحابنا ان ترك الترتيب
عمدا لم يصح وضوءه بلا خلاف (2) وان نسيه فطريقان المشهور القطع ببطلان وضوءه (والثاني)
على قولين الجديد بطلانه والقديم صحته وسنوضح دليلهما في فرع في مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى:

(1) معنى قوله لم يجز أي لم يحصل له سنة التثليث لا أنه يحرم لا يصح وضوءه اه‍ أذرعي
(2) قال ابن الأستاذ في شرح الوسيط ورأيت في كتاب الترتيب للشيخ أبي الحسن محمد بن خفيف الطرسوسي
حكاية قول قديم أن الترتيب لم يجب وقال في البيان وهو اختيار الشيخ أبي نصر في المعتمد
اه‍ أذرعي
441

وقوله ولأنه عبادة تشتمل على أفعال فيه احتراز من الخطبة فإنها أقوال ولا يشترط ترتيب
أركانها عند أصحابنا العراقيين: وقوله متغايرة يعني فرضا ونفلا وفيه احتراز من الطواف وقيل قوله
أفعل متغايرة كلاهما احتراز من الغسل والأول أصح وهو الذي ذكره الشيخ أبو حامد الأسفرايني
وغيره وقوله يرتبط بعضها ببعض معناه إذا غسل وجهه ويديه لا يستبيح شيئا مما حرم على المحدث
حتى يتم وضؤه وفيه احتراز من الزكاة فان كل جزء من المخرج عبادة تحتاج إلى نية عند الدفع
ولا تقف صحة بعضها على بعض وأورد المصنف في تعليقه على هذه العلة ما إذا كان في بعض
بدن الجنب جبيرة فان طهارته تشتمل على أفعال متغايرة مسحا وغسلا ولا يجب فيها الترتيب
وأجاب عنه بأن الغسل هو الأصل وهو غير مشتمل على أفعال متغايرة وقوله فدل على أنه قصد
ايجاب الترتيب معنى قصد أراد فأطلق القصد على الإرادة وقد سبق ايضاح هذا وبسط الكلام
فيه في باب نية الوضوء والله أعلم *
(فرع) قد ذكر المصنف رحمه الله قولين في أن نسيان ترتيب الوضوء هل يكون عذرا
ويصح الوضوء أم لا والأصح أنه ليس بعذر ومثله لو نسي الماء في رحله وصلى بالتيمم وكذا
لو صلى أو صام أو توضأ بالاجتهاد فصادف قبل الوقت أو الاناء النجس أو تيقن الخطأ في القبلة
أو صلى بنجاسة ناسيا أو جاهلا أو نسي القراءة في الصلاة أو رأوا سوادا فظنوه عدوا فصلوا
صلاة شدة الخوف فبان شجرا أو دفع الزكاة إلى من ظنه فقيرا فبان غنيا أو مرض وقال أهل
الخبرة إنه معضوب فأحج عن نفسه فبرئ أو غلطوا في الوقوف بعرفة فوقفوا في اليوم الثامن
أو باعه حيوانا على أنه بغل فبان حمارا أو عكسه ففي كل هذه المسائل خلاف والأصح أنه
442

لا يعذر في شئ منها والخلاف في بعضها أقوى منه في بعضها والخلاف في كلها قولان الا مسألة
الوقوف والبيع فهو وجهان ومثله مسائل من هذا النوع مختلف فيها لكن الأصح فيها انه يصح ويعذر:
منها لو نوى الصلاة خلف زيد هذا فكان عمرا أو على هذا الميت زيد فكان عمرا أو صلى على هذا الرجل
فكان امرأة وعكسه أو باع مال مورثه وهو يظنه حيا فكان ميتا أو شرط في الزوج أو الزوجة نسبا
أو وصفا فبان خلافه سواء كان أعلى من المشروط أم لا. وأشباه هذا كثيرة وسنوضحها في مواضعها
إن شاء الله تعالى ومقصودي بهذا الفرع وشبهه جمع النظائر والتنبيه على الضوابط وبالله التوفيق
(فرع) في مذاهب العلماء في تريب الوضوء قد ذكرنا أن مذهبنا أنه واجب وحكاه أصحابنا
عن عثمان بن عفان وابن عباس ورواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وبه قال قتادة
وأبو ثور وأبو عبيد وإسحاق بن راهويه وهو المشهور عن أحمد * وقالت طائفة لا يجب حكاه
البغوي عن أكثر العلماء وحكاه ابن المنذر عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما وبه قال سعيد
ابن المسيب والحسن وعطاء و مكحول والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأبو حنيفة ومالك
وأصحابهما والمزني وداود واختاره ابن المنذر قال صاحب البيان واختاره أبو نصر البندنجي
443

من أصحابنا * واحتج لهم بآية الوضوء والواو لا تقتضي ترتيبا فكيفما غسل المتوضئ أعضاءه
كان ممتثلا للامر قالوا وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ
فغسل وجهه ثم يديه ثم رجليه ثم مسح رأسه ولأنها طهارة فلم يجب فيها ترتيب كالجنابة وكتقديم
اليمين على الشمال والمرفق على الكعب ولأنه لو اغتسل المحدث دفعة واحدة ارتفع حدثه فدل
على أن الترتيب لا يجب * واحتج أصحابنا بالآية قالوا وفيها دلالتان إحداهما التي ذكرها المصنف
وهي أن الله تعالى ذكر ممسوحا بين مغسولات وعادة العرب إذا ذكرت أشياء متجانسة وغير
متجانسة جمعت المتجانسة على نسق ثم عطفت غيرها لا يخالفون ذلك الا لفائدة فلو لم يكن
الترتيب واجبا لما قطع النظير عن نظيره فان قيل فائدته استحباب الترتيب فالجواب من وجهين
أحدهما أن الامر للوجوب على المختار وهو مذهب جمهور الفقهاء: والثاني ان الآية بيان للوضوء الواجب
لا للمسنون فليس فيها شئ من سنن الوضوء * الدلالة الثانية أن مذهب العرب إذا ذكرت أشياء
444

وعطفت بعضها على بعض تبتدئ الأقرب فالأقرب لا يخالف ذلك الا لمقصود فلما بدأ سبحانه بالوجه
ثم اليدين ثم الرأس ثم الرجلين دل على الامر بالترتيب والا لقال فاغسلوا وجوهكم وامسحوا
برؤوسكم واغسلوا أيديكم وأرجلكم وذكر أصحابنا من الآية دليلين آخرين ضعيفين لا فائدة في
ذكرهما الا للتنبيه على ضعفهما لئلا يعول عليهما: أحدهما ان الواو للترتيب ونقلوه عن الفراء وثعلب
وزعم الماوردي انه قول أكثر أصحابنا واستشهدوا عليه بأشياء وكلها ضعيفة الدلالة وكذلك
القول بان الواو للترتيب ضعيف قال امام الحرمين في كتابه الأساليب صار علماؤنا إلى أن الواو
للترتيب وتكلفوا نقل ذلك عن بعض أئمة العربية واستشهدوا بأمثلة فاسدة قال والذي نقطع به
أنها لا تقتضي ترتيبا ومن ادعاه فهو مكابر فلو اقتضت لما صح قولهم تقاتل زيد وعمرو كما لا يصح
تقاتل زيد ثم عمرو وهذا الذي قاله الامام هو الصواب المعروف لا هل العربية وغيرهم * الدليل
الثاني نقله أصحابنا عن أبي علي بن أبي هريرة ونقله امام الحرمين عن علماء أصحابنا ان الله تعالى
قال (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) فعقب القيام بغسل الوجه بالفاء والفاء للترتيب
بلا خلاف ومتى وجب تقديم الوجه تعين الترتيب إذ لا قائل بالترتيب في البعض وهذا استدلال
باطل وكان قائله حصل له ذهول واشتباه فاخترعه وتوبع عليه تقليدا ووجه بطلانه ان الفاء وان
اقتضت التريب لكن المعطوف على ما دخلت عليه بالواو مع ما دخلت عليه كشئ واحد كما
هو مقتضى الواو فمعنى الآية إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا الأعضاء فأفادت الفاء ترتيب غسل
الأعضاء على القيام إلى الصلاة لا ترتيب بعضها على بعض وهذا مما يعلم بالبديهة ولا شك
في أن السيد لو قال لعبده إذا دخلت السوق فاشتر خبزا وتمرا لم يلزمه تقديم الخبز
بل كيف اشتراهما كان ممتثلا بشرط كون الشراء بعد دخول السوق كما أنه
هنا يغسل الأعضاء بعد القيام إلى الصلاة * واحتج الأصحاب من السنة بالأحاديث الصحية
المستفيضة عن جماعات من الصحابة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وكلهم وصفوه
مرتبا مع كثرتهم وكثرة المواطن التي رأوه فيها وكثرة اختلافهم في صفاته في مرة ومرتين وثلاث
445

وغير ذلك ولم يثبت فيه مع اختلاف أنواعه صفة غير مرتبة وفعله صلى الله عليه وسلم بيان للوضوء
المأمور به ولو جاز ترك الترتيب لتركه في بعض الأحوال لبيان الجواز كما ترك التكرار في أوقات *
واحتجوا بحديث فيه ذكر الترتيب صريحا بحرف ثم لكنه ضعيف غير معروف (1) * واحتجوا من
القياس بما ذكره المصنف رحمه الله عبادة تشتمل على أفعال متغايرة الخ ولأنه عبادة تشتمل على
أفعال يبطلها الحدث فوجب ترتيبها كالصلاة وفيه احتراز من الغسل فان قالوا الوضوء ليس عبادة
فقد سبق تقرير كونه عبادة في أول باب نية الوضوء: واما الجواب عن احتجاجهم بالآية فهو انها
دليل لنا كما سبق وعن حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه ضعيف لا يعرف وعن قياسهم على
غسل الجنابة ان جميع بدن الجنب شئ واحد فلم يجب ترتيبه كالوجه بخلاف أعضاء الوضوء
فإنها متغايرة متفاصلة والدليل على أن بدن الجنب شئ واحد انه لو جرى الماء من موضع منه إلى
غيره أجزأه كالعضو الواحد في الوضوء بخلاف الوضوء فإنه لو أنتقل من الوجه إلى اليد لم يجزه:
وأما الجواب عن تقديم اليمين فمن وجهين أحدهما ان الله تعالى رتب الأعضاء الأربعة وأطلق
الأيدي والأرجل ولو وجب ترتيبهما لقال وأيمانكم: والثاني ان اليدين كعضو لانطلاق اسم اليد
عليهما فلم يجب فيهما ترتيب كالخدين بخلاف الأعضاء الأربعة: وأما الجواب عن قولهم المحدث إذا انغمس
ارتفع حدثه فهو ان من أصحابنا من قال يرتفع ومن أصحابنا من منع كما سنوضح المسألة قريبا

(1) احتج البيهقي للترتيب بالحديث الصحيح أبدوا بما بدأ الله به وإذا وجب
البداءة بالوجه تعين الترتيب كما سبق وهذا توجيه حسن فان الخبر وان خرج على سبب خاص فان
الصحيح ان الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب اه‍ أذرعي
446

إن شاء الله تعالى فان منعنا فذاك: والا فالترتيب يحصل في لحظات لطيفة ولان الغسل يرفع الحدث
الأكبر فالأصغر أولى: وذكر امام الحرمين في الأساليب الأدلة من الطرفين ثم قال الوضوء يغلب
فيه التعبد والاتباع لأنا إذا أوجبنا الترتيب في الصلاة للاتباع مع أنا نعلم أن المقصود منها
الخشوع والابتهال إلى الله تعالى ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من أصحابه
تنكيس الوضوء ولا التخيير فيه ولا التنبيه على جوازه ولم يؤثر عن فعل علماء المسلمين وعامتهم
الا الترتيب كما لم ينقل في أركان الصلاة الا التريب وطريقهما الاتباع واستثنى منه تقديم اليمين
بالاجماع والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(فان غسل أربعة أنفس أعضاءه الأربعة دفعة واحدة لم يجزيه الا غسل الوجه لأنه
لم يرتب) *
(الشرح) هذا الذي جزم به هو المذهب الصحيح وبه قطع الجمهور وفيه وجه أنه
يصح وضوءه حكاه القاضي حسين والمتولي والشاشي كما لو استأجر المعضوب رجلين ليحجا عنه
حجة الاسلام وحجة نذر في سنة واحدة فحجا فيها فإنه يحصل له الحجتان على الصحيح
المنصوص: وفيه وجه مخرج من الوضوء والفرق على المذهب أن الواجب في الوضوء الترتيب
ولم يحصل وفي الحج ألا يقدم على حجة الاسلام غيرها ولم يقدم * قال المصنف رحمه الله *
(وإن اغتسل وهو محدث من غير ترتيب ونوى الغسل ففيه وجهان أحدهما انه يجزيه لأنه إذا جاز
ذلك عن الحدث الا على فلان يجوز عن الحدث الأدنى أولي * والثاني لا يجزيه وهو الأصح
لأنه يسقط ترتيبا واجبا بفعل ما ليس بواجب) *
(الشرح) إذا غسل المحدث جميع بدنه بنية الغسل كما ذكره المصنف وغيه أو بنية
الطهارة كما ذكره القاضي أبو الطيب وصاحبه ابن الصباغ أو بنية رفع الحدث كما ذكره امام
الحرمين وآخرون فله ثلاثة أحوال أحدها أن يغسل بدنه منكسا لا على ترتيب الوضوء فهل
447

يجزيه فيه الوجهان المذكوران في الكتاب بدليلهما أصحهما باتفاق الأصحاب لا يجزيه (الحال الثاني)
أن ينغمس في الماء ويمكث زمانا يتأتي فيه الترتيب في الأعضاء الأربعة فيجزيه على المذهب
الصحيح وبه قطع الجمهور وفيه وجه حكاه الرافعي (الثالث) أن ينغمس ولا يمكث فوجهان
مشهوران أصحهما عند المحققين والأكثرين الصحة ويقدر الترتيب في لحظات لطيفة والخلاف
في الصور الثلاث فيما سوى الوجه: وأما الوجه فيجزيه في جميعها بلا خلاف إذا قارنته النية وقال
الرافعي هذا الخلاف إذا نوى رفع الحدث فان نوى رفع الجنابة فان قلنا لا يجزيه لو نوى رفع
الحدث فهنا أولى والا فوجهان الأصح يجزيه لأن النية لا تتعلق بخصوص الترتيب ثم قال القاضي
حسين والمتولي والبغوي وآخرون هذا الخلاف في صحة طهارته مبنى على أن الحدث يحل
جميع البدن وإنما يرتفع بغسل الأعضاء الأربعة تخفيفا أم يختص حلوله بالأعضاء الأربعة وفيه
وجهان ان قلنا يحل الجميع صحت طهارته لأنه اتي بالأصل وإلا فلا: وسأوضح هذين الوجهين
إن شاء الله تعالى في آخر الباب في المسائل الزائدة وقال صاحب المستظهري هذا البناء
فاسد والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بالترتيب إحداها إذا توضأ منكسا فبدأ برجليه ثم رأسه ثم يديه
ثم وجهه لم يحصل له الا الوجه ان قارنته النية فان توضأ منكسا ثانيا وثالثا ورابعا ثم وضؤه ولو
توضأ ونسي أحد أعضائه ولم يعرفه استأنف الوضوء لاحتمال أنه الوجه ولو ترك موضعا من وجهه
غسل ذلك الموضع وأعاد ما بعد الوجه فإن لم يعرف موضعه استأنف الجميع (الثانية) قال الماوردي
والشاشي وغيرهما في الترتيب في الأعضاء المسنونة وهي غسل الكفين ثم المضمضة ثم الاستنشاق
وجهان أحدهما انه مسنون كتقديم اليمين فلو قدم المضمضة على الكفين أو الاستنشاق على
448

المضمضة حص كل ذلك. وأصحهما أنه شرط فلا يحصل له ما قدمه كما يشترط الترتيب في أركان
صلاة النفل وفي تجديد الوضوء مع أنه سنة: فالحاصل أن أعضاء الوضوء ثلاثة أقسام قسم يجب
ترتيبه وهو الأعضاء الأربعة الواجبة وقسم لا يجب وهو اليمين على الشمال وقسم فيه وجهان وهو
المسنون والأصح فيه الاشتراط (الثالثة) قال القاضي أبو الطيب في تعليقه في أثناء مسألة الترتيب
قول الله تعالى (فآمنوا بالله ورسوله) قال لو آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يؤمن بالله
تعالى لم يصح ايمانه (الرابعة) ذكر الأصحاب مسألة التلخيص وفروع ابن الحداد وبسطوها وصورتها
جنب غسل بدنه كله الا رجليه ثم أحدث قالوا يتعلق حكم الحدث بوجهه ويديه ورأسه دون
449

رجليه فيلزمه تطهير الأعضاء الثلاثة مرتبا فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح رأسه وهو بالخيار في
الرجلين ان شاء غسلهما قبل الأعضاء الثلاثة وان شاء بعدها وان شاء بينها لأنه لما أحدث لم يتعلق
حكم الحدث بالرجلين لبقاء الجنابة فيهما وإنما اثر في الأعضاء الثلاثة لطهارتها قال صاحب التخليص
والقاضي أبو الطيب وأبو العباس الجرجاني في كتابه المعاياة وآخرون لا نظير لهذه المسألة: قال
الأصحاب ولو غسل الجنب جميع بدنه الا أعضاء الوضوء فقط ثم أحدث لم يجب ترتيب الأعضاء
بل يغسلها كيف شاء لما ذكرناه ولو غسل أعضاء الوضوء فقط ثم أحدث وجب ترتيبها هذا
الذي ذكرناه هو المذهب الصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور: منهم القاضي أبو الطيب وابن الصباغ
والبغوي وجماعات ونقله امام الحرمين عن الأصحاب وقال هو المذهب وفيه وجه ذكره
الشيخ أبو محمد في الفروق وله امام الحرمين والمتولي انه يجب الترتيب في الصورة الأولى وغيرها
ووجه ثالث انه يسقط الترتيب في جميع الأعضاء في الصورة الأولى أيضا حكاه صاحب البيان
في باب صفة الغسل والمذهب الأولى: هذا كله تفريع على المذهب أنه إذا اجتمع حدث وجنابة
اندرج الحدث في الجنابة: فاما إذا قلنا لا يندرج وأنه يجب غسل أعضاء الوضوء مرتين عن الحدثين
فإنه يجب هنا في الصورة الأولي غسل الرجلين مرتين مرة عن الحدث فيكون بعد الأعضاء
الثلاثة ومرة عن الجنابة يفعلها متى شاء: وان قلنا بالوجه الثالث أنه لا يندرج الترتيب ويندرج ما
سواه وأنه يجب غسل أعضاء الوضوء مرة واحدة لكن مرتبة وجب هنا غسل الرجلين مرة واحدة
بعد الأعضاء الثلاثة هكذا ذكره القاضي حسين والبغوي وهو ظاهر ولكن هذان الوجهان
ضعيفان والتفريع على المذهب وهو الاندراج قال امام الحرمين فان قيل الأصغر يندرج تحت
450

الأكبر إذا كانا باقيين بكمالهما فاما إذا بقي من الجنابة غسل الرجلين ثم طرأ الحدث فالوضوء الآن أكمل
مما بقي من الغسل: قلنا من هذا خرج الشيخ أبو محمد الوجه الذي قاله أنه يجب الترتيب فيؤخر
غسل الرجلين ولكن الذي ذكره الأصحاب هو المذهب المعتد به وحكم الجنابة على الجملة أغلب
وهو بان يستتبع أولى قال فلو نسي حكم الجنابة في رجليه ونوى رفع الحدث قال الشيخ أبو علي
ترتفع الجنابة عن رجليه على المذهب لان أعيان الاحداث لا أثر لها فلا يضر الغلط فيها وحكي
وجها أن الجنابة لا ترتفع فيهما لأنها أغلط من الحدث قال الامام هذا ضعيف مزيف ولو غسل كل
البدن الا يديه ثم أحدث فلا ترتيب في يديه على المذهب كما سبق فله غسلهما متي شاء ويجب
الترتيب في الوجه والرأس والرجلين وكذا الحكم في ترك الوجه أو الرأس أو ترك عضوين
أو ثلاثة والله أعلم * قال أصحابنا هذه المسألة تلقي في المعاياة على أوجه فيقال وضوء لم يجب
فيه غسل القدمين مع وجودهما مكشوفتين بلا علة فيهما وهذه صورته كما سبق على المذهب ويقال
محدث اقتضى حدثه طهارة بعض أعضاء الوضوء دون بعض مع سلامتها قال صاحب التلخيص
ويقال وضوء سقط فيه الترتيب فإنه يبدأ برجليه لكن نقل صاحب العدة عن الأصحاب أنهم
غلطوه وقالوا ليس هذا وضوء بلا ترتيب بل لم يجب فيه غسل الرجلين وانكار الأصحاب
انكار صحيح والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ويوالي بين أعضائه فان فرق تفريقا يسير ألم يضر لأنه لا يمكن الاحتراز منه وإن كان
تفريقا كثيرا وهو بقدر ما يجف الماء على العضو في زمان معتدل ففيه قولان قال في القديم
لا يجزيه لأنها عبادة يبطلها الحدث فأبطلها التفريق كالصلاة وقال في الحديث يجزيه لأنها عبادة
لا يبطلها التفريق القليل فلا يبطلها التفريق الكثير كتفرقة الزكاة فإذا قلنا إنه يجوز فهل يلزمه
استئناف النية فيه وجهان أحدهما يلزمه لأنها انقطعت بطول الزمان والثاني لا يستأنف لأنه لم
451

يقطع حكم النية فلم يلزمه الاستئناف) *
(الشرح) قوله عبادة يبطلها الحدث فيه احتراز من الحج والزكاة وقوله عبادة لا يبطلها
التفريق القليل احتراز من الصلاة فإنه يبطلها التفريق اليسير كما يبطلها الكثير قال القاضي أبو
الطيب في تعليقه تفريق الصلاة هو الخروج منها وقال امام الحرمين ذكر الأئمة ان الموالاة شرط
في الصلاة ولا يبين ذلك الا في تطويل الاعتدال والجلوس بين السجدتين قصدا فتفريق الصلاة
هو تطويل ركن قصير قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح التفريق المبطل للصلاة هو ان يسلم ناسيا
وعليه ركعة مثلا ويذكر بعد طول الفصل فتبطل صلاته بلا خلاف ولا سبب لبطلانها الا التفريق
بين اجزاء الصلاة لأنه بعد السلام غير مصل وإنما لم يبطل إذا لم يطل الفصل لأنه وإن لم يكن
من الصلاة فهو في محل العفو كما عفي عن الفعل القليل وإن لم يكن من الصلاة: ويقال زمان
وزمن لغتان مشهورتان وقول المصنف رحمه الله لا يبطلها التفريق القليل إلى آخره ينتقض
بالأذان فإنه يبطله التفريق الفاحش دون القليل: أما حكم المسألة فالتفريق اليسير بين أعضاء
الوضوء لا يضر باجماع المسلمين نقل الاجماع فيه الشيخ أبو حامد والمحاملي وغيرهما. وأما
التفريق الكثير ففيه قولان مشهوران الصحيح منهما باتفاق الأصحاب انه لا يضر وهو
نصه في الجديد ودليلهما ما ذكره المصنف رحمه الله قال العراقيون القولان جاريان
سواء فرق بعذر أم بغيره وقال جمهور الخراسانيين القولان في تفريق بلا عذر: أما التفريق
بعذر فلا يضر قولا واحدا وهذه الطريقة هي الصحيحة عند الفوراني وامام الحرمين
والسرخسي والغزالي في البسيط وقطع به القاضي حسين والبغوي والمتولي وآخرون قال
الرافعي هي قول أكثر الأصحاب وحكي عن نص الشافعي ما يدل عليه قال المسعودي ولان
الشافعي جوز في القديم تفريق الصلاة بالعذر إذا سبقه الحدث فيتوضأ ويبني فالطهارة أولى ثم
من الاعذار ان يفرغ ماؤه فيذهب لتحصيل غيره أو خاف من شئ فهرب ونحو ذلك وهل
452

النسيان عذر فيه وجهان مشهوران قال الرافعي أصحهما نعم قال امام الحرمين والغزالي في البسيط
ولا خلاف انه لو نسي فطول الأركان القصيرة في الصلاة لم تبطل صلاته قال والفرق انه مصل
في جميع حالاته وتارك الوضوء ليس مشتغلا بعبادة. وفي ضبط التفريق الكثير والقليل أربعة
أوجه الصحيح الذي قطع به المصنف والجمهور انه إذا مضى بين العضوين زمن يجف فيه العضو
المغسول مع اعتدال الزمان وحال الشخص فهو تفريق كثيرو الا فقليل ولا اعتبار بتأخر الجفاف بسبب
شدة البرد ولا بتسارعه لشدة الحر ولا بحال المبرود والمحموم ويعتبر التفريق من آخر الفعل
المأتي به من أفعال الوضوء حتى لو غسل وجهه ويديه ثم اشتغل لحظة ثم مسح رأسه بعد جفاف
الوجه وقبل جفاف اليد فتفريق قليل وإذا غسل ثلاثا ثلاثا فالاعتبار من الغسلة الأخيرة هكذا
صرح بمعنى هذه الجملة الشيخ أبو حامد والبندنيجي والمحاملي والروياني والرافعي وآخرون وأهمل
المصنف اعتبار اعتدال حال الشخص ولا بد منه كما صرح به الأصحاب ومتى كان في غير حال
الاعتدال قدر بحال الاعتدال وكذا في التيمم يقدر لو كان ماء * (والوجه الثاني) * التفريق الكثير
هو الطويل المتفاحش حكاه صاحب البيان وحكاه الشيخ أبو حامد عن حكاية شيخه أبي القاسم
الداركي عن نص الشافعي في الاملاء قال أبو حامد ولم أره في الاملاء ولا حكاه غيره من
أصحابنا * (والوجه الثالث) * يؤخذ التفريق الكثير والقليل من العادة * (والرابع) * أن الكثير
قدر يمكن فيه تمام الطهارة حكاهما الرافعي هذا حكم تفريق الوضوء: وأما الغسل والتيمم ففيهما
ثلاثة طرق أحدها انهما كالوضوء على ما سبق من الخلاف والتفصيل وبهذا قطع جمهور الأصحاب
في الطرق كلها * (والثاني) * لا يضر تفريقهما قطعا * (والثالث) * الغسل كالوضوء وأما التيمم فيبطل
قطعا وحكاه الماوردي عن جمهور الأصحاب وقال صاحب المستظهري هذا ليس بشئ بل الصواب
أنهما كالوضوء والله أعلم: وإذا جوزنا التفريق الكثير فإن كانت النية الأولى مستصحبة فبنى على
وضوءه وهو ذاكر لها أجزأه: وإن كانت قد عزبت فهل يجب تجديد النية فيه الوجهان اللذان
453

ذكرها المصنف بدليلهما وهما مشهوران اختلف في أصحهما فصحح الفوراني والبغوي الوجوب
وقطع به الشيخ أبو حامد وصحح الأكثرون عدم الوجوب منهم أبو علي البندنيجي وابن الصباغ
والغزالي والروياني والشيخ نصر المقدسي والشاشي وصاحب العدة والرافعي وآخرون قال القاضي
حسين إذا قلنا يجب تجديد النية فجددها وبني ففي صحة وضؤه وجهان بناء على تفريق النية على
الأعضاء وفيه وجهان سبقا في آخر باب نية الوضوء ولم يذكر الجمهور هذا البناء: أما إذا
فرق تفريقا يسيرا وبني فلا يجب تجديد النية بلا خلاف قال الشيخ أبو محمد في الفروق إذا فرق
تفريقا كثيرا لعذر جاز البناء بلا نية قطعا وفرق بينه وبين عدم العذر على أحد الوجهين بأن
المتفرق بالعذر له حكم المجموع والتفريق بلا عذر كالتوهين للنية والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في تفريق الوضوء. قد ذكرنا أن التفريق اليسير لا يضر بالاجماع
وأما الكثير فالصحيح في مذهبنا أنه لا يضر وبه قال عمر بن الخطاب وابنه وسعيد بن
المسيب وعطاء وطاوس والحسن البصري والنخعي وسفيان الثوري وأحمد في رواية وداود
وابن المنذر وقالت طائفة يضر التفريق وتجب الموالاة حكاه ابن المنذر عن قتادة وربيعة
454

والأوزاعي والليث وأحمد قال واختلف فيه عن مالك رضي الله عنه وحكي الشيخ أبو حامد
عن مالك والليث إن فرق بعذر جاز وإلا فلا * واحتج من أوجب الموالاة بما رواه أبو داود
والبيهقي عن خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلا يصلى
وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره ان يعيد الوضوء والصلاة وعن عمر
ابن الخطاب رضي الله عنه أن رجلا توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم
فقال ارجع فأحسن وضؤك فرجع ثم صلى رواه مسلم وعن عمر أيضا موقوفا عليه أنه قال لمن
فعل ذلك أعد وضؤك وفي رواية اغسل ما تركت * واحتج لمن لم يوجب الموالاة بأن الله تعالى
أمر بغسل الأعضاء ولم يوجب موالاة وبالأثر الصحيح الذي رواه مالك عن نافع أن ابن عمر
توضأ في السوق فغسل وجهه ويديه ومسح برأسه ثم دعي إلى جنازة فدخل المسجد ثم مسح على
خفيه بعد ما جف وضؤه وصلي قال البيهقي هذا صحيح عن ابن عمر مشهور بهذا اللفظ وهذا
دليل حسن فان ابن عمر فعله بحضرة حاضري الجنازة ولم ينكر عليه * والجواب عن حديث خالد أنه
ضعيف الاسناد وحديث عمر لا دلالة له فيه والأثر عن عمر روايتان (1) إحداهما للاستحباب والأخرى
للجواز والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(والمستحب لمن فرغ من الوضوء أن يقول أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأن

(1) هذا الجواب عن الأثر صحيح ويدل عليه ان مذهب عمر رضي الله عنه عدم وجوب الموالاة
كما سبق اه‍ أذرعي
455

محمدا عبده ورسوله لما روى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ فأحسن وضؤه ثم
قال أشهد أن
لا إله الا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله صادقا من قلبه فتح الله له ثمانية أبواب من الجنة يدخلها
من أي باب شاء ويستحب أيضا أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله الا أنت أستغفرك وأتوب
إليك لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ وقال
سبحانك اللهم وبحمدك اشهد أن لا إله الا أنت أستغفرك وأتوب إليك كتب في رق ثم طبع
بطابع فلم يفتح إلى يوم القيامة) *
(الشرح) حديث عمر رضي الله عنه رواه مسلم وأصحاب السنن لكن في المهذب
تغييرات فيه فلفظه في مسلم ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو يسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله
وأن محمدا عبده ورسوله الا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء وفي رواية
لمسلم أيضا قال من توضأ فقال اشهد أن لا اله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله وفي رواية أبي داود ثم يقول حين يفرغ من وضوئه وفي رواية الترمذي بعد قوله
ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ورواية الترمذي كاللفظ الذي ذكره
المصنف الا قوله صادقا من قلبه فإنه ليس موجودا في هذه الكتب ولكنه شرط لا شك
فيه قال الحافظ أبو بكر الحازمي هذه اللفظة غير محفوظة من طريق الثقات ورويت الزيادة التي
456

زادها الترمذي من رواية جماعة من الصحابة غير عمر وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ
فأحسن الوضوء ثم قال ثلاث مرات أشهد أن لا إله الا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا
عبده ورسول فتحت له ثمانية أبواب الجنة من أيها شاء دخل رواه أحمد بن حنبل وابن ماجة
باسناده ضعيف: واما حديث أبي سعيد الذي ذكره المصنف فرواه النسائي في كتابه عمل اليوم
والليلة باسناد غريب ضعيف ورواه مرفوعا وموقوفا على أبي سعيد وكلاهما ضعيف الاسناد: وفي
سنن الدارقطني عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم من توضأ ثم قال أشهد أن لا إله الا الله
وأن محمدا عبده ورسوله قبل أن يتكلم غفر له ما بين الوضوء ين واسناده ضعيف وأما أبو سعيد
الخدري فبضم الخاء المعجمة واسكان الدال المهملة منسوب إلى بنى خدرة بطن من الأنصار رضي الله عنه
م واسم أبي سعيد سعد بن مالك بن سنان وكان أبوه مالك صحابيا استشهد يوم أحد توفى
أبو سعيد بالمدينة سنة أربع وستين وقيل أربع وسبعين وهو ابن أربع وسبعين: وقوله كتب في
رق هو بفتح الراء والطابع بفتح الباء وكسرها لغتان فصيحتان وهو الخاتم ومعنى طبع ختم وقوله
فلم يفتح إلى يوم القيامة معناه لا يتطرق إليه إبطال واحباط * أما حكم المسألة فاتفق أصحابنا وغيرهم
على استحباب هذا الذكر عقيب الوضوء ولا يؤخره عن الفراغ لرواية أبي داود التي ذكرناها
وغيرها قال أبو العباس الجرجاني في كتابه التحرير والبلغة والروياني في الحلية وصاحب البيان
وغيرهم يستحب أن يقول هذا الذكر مستقبل القبلة قال الشيخ نصر المقدسي ويقول معه صلى الله
على محمد وعلى آل محمد والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
457

(ويستحب لمن توضأ أن لا ينفض يده لقوله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ ثم فلا
تنفضوا أيديكم)
(الشرح) هذا الحديث ضعيف لا يعرف وثبت في الصحيحين ضده عن ميمونة رضي الله عنه
ا قالت ناولت النبي صلى الله عليه وسلم بعد اغتساله ثوبا فلم يأخذه وانطلق وهو ينفض
يديه هذا لفظ رواية البخاري وفي رواية مسلم أتيته بالمنديل فلم يمسك وجعل يقول بالماء هكذا يعني
ينفضه وفي رواية للبخاري فجعل ينفض الماء بيده واختلف أصحابنا في النفض على أوجه أحدها
أن المستحب ترك النفض ولا يقال النفض مكروه (1) قاله أبو علي الطبري في الافصاح والمصنف هنا
وفي التنبيه والغزالي والجرجاني وآخرون (والثاني) انه مكروه وبه قطع القاضي أبو الطيب والماوردي
والرافعي وغيرهم (والثالث) مباح يستوي فعله وتركه وهذا هو الصحيح وقد أشار إليه صاحب
الشامل وغيره لحديث ميمونة ولم يذكر جماعات من أصحابنا نفض اليد وأظنهم رأوه مباحا
فتركوه فمن لم يذكره الشيخ أبو حامد والمحاملي وإمام الحرمين والبغوي والشيخ نصر وغيرهم
ودليل الإباحة حديث ميمونة ولم يثبت في النهى شئ والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ويستحب أن لا ينشف أعضاءه من بلل الوضوء لما روت ميمونة رضي الله عنها قالت أدنيت
لرسول الله صلى الله عليه وسلم غلامي الجنابة فأتيته بالمنديل فرده ولأنه أثر عبادة فكان تركه أولى
فان تنشف جاز لما روى قيس بن سعد رضي الله عنهما قال أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) قال ابن كج في التجريد قال الشافعي استحب له إذا توضأ أن لا ينفض يديه اه‍ وإذا
كان هذا هو المنصوص والمذهب ولا يلزم من ترك ذكره أن يكون الراجح خلافه فقد قطع
به أيضا خلائق من الأصحاب منهم المصنف في المنهاج والله أعلم بالصواب اه‍ من هامش الأذرعي
458

فوضعا له غسلا فاغتسل ثم أتيناه بملحفة ورسية فالتحف بها فكأني انظر إلى اثر الورس
على عكنه)
(الشرح (اما حديث ميمونة رضي الله عنها فمتفق على صحته رواه البخاري ومسلم بمعناه
وقد تقدم قريبا وحديث قيس رواه أبو داود في كتاب الأدب من سننه والنسائي في كتابه عمل
اليوم والليلة وابن ماجة في كتاب الطهارة وكتاب اللباس والبيهقي في الغسل وغيرهم واسناده
مختلف فهو ضعيف وروى في التنشيف أحاديث ضعيفة منها حديث معاذ رضي الله عنه رأيت النبي
صلى الله عليه وسلم إذا توضأ مسح وجهه بطرف ثوبه رواه الترمذي وقال غريب واسناده ضعيف
وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف بها بعد الوضوء
رواه الترمذي وقال ليس اسناده بالقائم وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه ان رسول الله صلى
الله عليه وسلم توضأ فقلب جبة صوف كانت عليه فمسح بها وجهه رواه ابن ماجة باسناد ضعيف
قال الترمذي ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شئ وقول ميمونة أدنيت أي
قربت وقولها غسلا هو بضم الغين أي ما يغتسل به ولفظة الغسل مثلثة فهي بكسر الغين اسم
لما يغسل به الرأس من سدر وخطمى ونحوها وبفتحها مصدر وهو اسم للفعل بمعنى الاغتسال
وبضمها مشترك بين الفعل والماء فحصل في الفعل لغتان الفتح والضم وقد زعم جماعة ممن صنف في
ألفاظ الفقه أن الفعل لا يقال الا بالفتح وغلطوا الفقهاء في قولهم باب غسل الجنابة والجمعة ونحوه
بالضم وهذا الانكار غلط بل هما لغتان كما ذكرنا والملحفة والمنديل بكسر ميمهما فالملحفة مشتقة
من الالتحاف وهو الاشتمال والمنديل من الندل وهو بفتح النون واسكان الدال وهو الوسخ
459

لأنه يندل به وقال ابن فارس لعله من الندل وهو النقل وقوله ورسية هكذا هو في المهذب بواو
مفتوحة ثم راء ساكنة ثم سين مكسورة ثم ياء مشددة وكذا وجد بخط المصنف وكذا هو في رواية
البيهقي والمشهور في كتب اللغة ملحفة وريسة بكسر الراء وبعدها ياء ساكنة ثم سين مفتوحة
ثم هاء ومعناه مصبوغة بالورس وهو ثمر اصفر لشجر يكون باليمن يصبغ به وهو معروف: وقوله على
عكنه هو بضم العين وفتح الكاف جمع عكنه قال الأزهري قال الليث وغيره العكن الاطواء في
بطن المرأة من السمن وتعكن الشئ إذا ركم بعضه على بعض وقد رأيت لبعض مصنفي ألفاظ
المهذب انكارا على المصنف قال قوله فكأني انظر إلى أثر الورس على عكنه زيادة ليست
في الحديث وهذا الانكار غلط منه بل هذه اللفظة موجودة في الحديث مصرح بها في الرواية
النسائي والبيهقي * وأما ميمونة رواية الحديث فهي أم المؤمنين ميمونة الحارث الهلالية كان
اسمها برة فسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم ميمونة والميمون المبارك من اليمن وهو البركة
وهي خالة ابن عباس رضي الله عنهما توفيت سنة احدى وخمسين وقيل غير ذلك وقد
460

بسطت أحوالها في تهذيب الأسماء * واما قيس فهو أبو عبد الله وقيل أبو عبد الملك وقيل أبو
الفضل قيس بن سعد بن عبادة بن دليم بضم الدال المهملة وفتح اللام الأنصاري وكان قيس وآباؤه
الثلاثة يضرب بهم المثل في الكرم وقيس وسعد صحابيان توفى قيس بالمدينة سنة ستين رضي
الله عنه * اما حكم التنشيف ففيه طرق متباعدة للأصحاب يجمعها خمسة أوجه الصحيح منها أنه لا
يكره لكن المستحب تركه وبهذا قطع جمهور العراقيين والقاضي حسين في تعليقه
والبغوي وآخرون وحكاه امام الحرمين عن الأئمة ورجحه الرافعي وغيره من المتأخرين
المطلعين (والثاني) يكره التنشيف حكاه المتولي وغيره (الثالث) انه مباح يستوي
فعله وتركه قاله
461

أبو علي الطبري في الافصاح والقاضي أبو الطيب في تعليقه (والرابع) يستحب التنشيف لما فيه من
السلامة من غبار نجس وغيره حكاه الفوراني والغزالي والروياني والرافعي (والخامس) إن كان في
الصيف كره التنشيف وإن كان في الشتاء فلا لعذر البرد حكاه الرافعي قال المحاملي وغيره وليس
للشافعي نص في المسألة قال أصحابنا وسواء التنشيف في الوضوء والغسل هذا كله إذا لم تكن
حاجة إلى التنشيف لخوف برد أو التصاق بنجاسة ونحو ذلك فإن كان فلا كراهة قطعا ولا يقال إنه
خلاف المستحب قال الماوردي فإن كان معه من يحمل الثوب الذي يتنشف به وقف عن يمين
المتطهر والله أعلم *
(فرع) في مذاهب السلف في التنشيف قد ذكرنا أن الصحيح في مذهبنا أنه يستحب تركه
ولا يقال التنشيف مكروه وحكي ابن المنذر إباحة التنشيف عن عثمان بن عفان والحسن بن علي
وأنس بن مالك وبشير بن أبي مسعود والحسن البصري وابن سيرين وعلقمة والأسود ومسروق
والضحاك ومالك والثوري وأصحاب الرأي وأحمد وإسحاق وحكي كراهته عن جابر بن عبد الله
وعبد الرحمن بن أبي ليلى وسعيد بن المسيب والنخعي ومجاهد وأبي العالية وعن ابن عباس
كراهته في الوضوء دون الغسل قال ابن المنذر كل ذلك مباح ونقل المحاملي الاجماع على أنه
لا يحرم وإنما الخلاف في الكراهة والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(والفرض مما ذكرناه ستة أشياء النية وغسل الوجه وغسل اليدين ومسح بعض الرأس
وغسل الرجلين والترتيب وأضاف إليه في القديم الموالاة فجعله سبعة وسننه اثنتا عشرة التسمية
وغسل الكفين والمضمضة والاستنشاق وتخليل اللحية الكثة ومسح جميع الرأس ومسح الاذنين
وادخال الماء في صماخيه وتخليل أصابع الرجل وتطويل الغرة والابتداء بالميامن والتكرار وزاد
462

أبو العباس بن القاص مسح العنق مسح الاذنين فجعله ثلاث عشرة وزاد غيره ان يدعو
على وضؤه فيقول عند الغسل الوجه اللهم بيض وجهي يوم تسود الوجوه وعلى غسل اليد اللهم
أعطني كتابي بيميني ولا تعطني بشمالي وعلى مسح الرأس اللهم حرم شعري وبشري على النار
وعلى مسح الاذن اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وعلى غسل الرجلين
اللهم ثبت قدمي على الصراط فجعله أربع عشرة) *
(الشرح) أما واجبات الوضوء فهي على ما ذكره ويجب مع غسل الوجه غسل جزء مما
يجاوره ليتحقق غسل الوجه بكماله كما سبق بيانه في فصل غسل الوجه وهو داخل في قول المصنف
والأصحاب غسل الوجه لان مرادهم الغسل المجزى ولا يجزئ الا بذلك قال الماوردي وجعل بعض
أصحابنا الماء الطهور فرضا آخر وهذا الوجه غلط والصواب ان الماء ليس من فروض الوضوء إنما
هو شرط لصحته كما ذكره المحاملي وغيره كما نذكره قريبا إن شاء الله تعالى: واما قوله في السنن
منها التسمية وغسل الكفين فهذا هو المذهب (1) وقد قدمنا في أول الباب وجها أنها سنتان مستقلتان
لا من سنن الوضوء وقوله وتطويل الغرة أراد به غسل من فوق المرفقين والكعبين وفيه الكلام
السابق وقوله الابتداء بالميامن يعنى في اليدين والرجلين دون الاذنين والكفين فإنها تطهر دفعة
واحدة كما سبق وقوله والتكرار يعنى في الممسوح والمغسول كما سبق وقولة وزاد أبو العباس ابن
القاص مسح العنق هذا قد ذكره ابن القاضي في كتابه المفتاح واختلفت عبارات الأصحاب فيه
أشد اختلاف وقد رأيت أن أذكره بألفاظهم مختصرا ثم ألخصه وأبين الصواب منه لكثرة
الحاجة إليه قال القاضي أبو الطيب مسح العنق لم يذكره الشافعي رضي الله عنه ولا قالة أحد من
أصحابنا ولا وردت به سنة ثابتة وقال الماوردي في كتابه الإقناع ليس هو سنة وقال القاضي
حسين هو سنة وقيل وجهان فان قلنا سنة مسحه بالماء الذي مسح به الاذنين ولا يمسح بماء
جديد وقال المتولي هو مستحب لا سنة يمسح ببقية ماء الرأس أو الاذن ولا يفرد بماء وقال

(1) قال ابن الأستاذ في شرح الوسيط التسمية سنة وقال أبو حامد هيئة وفرق أبو حامد
بينهما بان الهيئة ما تهيأ بها لفعل العبادة والسنة ما كانت في أفعالها الراتبة وهكذا نقول
في غسل الكفين قال قال صاحب الحاوي وهذه ممانعة في العبارة مع تسليم المعني
وقال إسحاق وداود بوجوبها فان تركها عمدا بطلت طهارته أو سهوا فباطلة عند داود صحيحة
عند إسحاق اه‍ أذرعي
463

البغوي يستحب مسحه تبعا للرأس أو الاذن وقال الفواني يستحب بماء جديد وقال الغزالي هو
سنة وقال إمام الحرمين كان شيخي يحكي فيه وجهين أحدهما انه سنة والثاني أدب قال الامام ولست
أرى لهذا التردد حاصلا وقال الرافعي هل يمسحه بماء جديد أم بباقي بلل الرأس والاذن بناه
بعضهم على أنه سنة أم أدب وفيه وجهان ان قلنا سنة فبجديد والا فبالباقي والسنة والأدب يشتركان
في الندبية لكن السنة تتأكد قال واختار الروياني مسحه بماء جديد وميل الأكثرين إلى مسحه
بالباقي هذا مختصر ما قالوه وحاصله أربعة أوجه أحدها يسن مسحه بماء جديد * (والثاني) يستحب
ولا يقال مسنون (والثالث) يستحب ببقية ماء الرأس والاذن (والرابع) لا يسن ولا يستحب وهذا
الرابع هو الصواب ولهذا لم يذكره الشافعي رضي الله عنه ولا أصحابنا المتقدمون كما قدمناه عن القاضي
أبي الطيب ولم يذكره أيضا أكثر المصنفين وإنما ذكره هؤلاء المذكورون متابعة لابن القاص
ولم يثبت فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وثبت في صحيح مسلم وغيره عنه صلى الله عليه وسلم
أنه قال شر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم
من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد وفي رواية لمسلم من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد وأما الحديث
المروى عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح رأسه حتى
يبلغ القذال وما يليه من مقدم العنق فهو حديث ضعيف بالاتفاق رواه أحمد بن حنبل والبيهقي
464

من رواية ليث بن أبي سليم وهو ضعيف (1) وأما قول الغزالي ان مسح (2) الرقبة سنة لقوله صلى الله عليه
وسلم مسح الرقبة أمان من الغل فغلط لان هذا موضوع ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم وعجب قوله لقوله
بصيغة الجزم والله أعلم: وأما الدعاء المذكور فلا أصل له وذكره كثيرون من الأصحاب ولم يذكره
المتقدمون وزاد فيه الماوردي فقال يقول عند المضمضة اللهم اسقني من حوض نبيك كأسا لا أظمأ بعده
أبدا وعند الاستنشاق اللهم لا تحرمني رائحة نعيمك وجناتك قال ويقول عند الرأس اللهم أظلني
تحت عرشك يوم لا ظل الا ظلك وقوله ثبت قدمي على الصراط هو بتشديد الياء على التثنية
والصراط بالصاد والسين وباشمام الزاي ثلاث لغات وقراءات والله أعلم *
(فرع) قد ذكر المصنف أن سنن الوضوء اثنتا عشرة وكذا ذكرها بعضهم زاد بعضهم
زيادات واختلفوا في تلك الزيادات وأنا ألخص جميع ذلك وأضبطه ضبطا واضحا مختصرا إن شاء الله
تعالى وأحذف أدلة ما أذكره من الزيادة ليقرب ضبطها ويسهل حفظها فأقول: سنن
الوضوء ومستحباته منها استقبل القبلة وأن يجلس في مكان لا يرجع رشاش الماء إليه وأن يجعل
الاناء عن يساره فإن كان واسعا يغترف منه فعن يمينه وأن ينوى من أول الطهارة وأن يستصحب
النية إلى آخرها وأن يجمع بين نية القلب ولفظ اللسان وأن لا يستعين في وضوئه لغير عذر وأن لا يتكلم
فيه لغير حاجة والتسمية وغسل الكفين والمضمضة والاستنشاق والمبالغة فيهما لغير الصائم
والجمع بينهما بثلاث غرف على الأصح والسواك على الأصح والاستنثار بعد الاستنشاق وأن يبدأ
في الوجه بأعلاه وفي اليد والرجل بالأصابع ويختم بالمرفق والكعب ويبدأ في الرأس بمقدمه
وان لا يلطم وجهه بالماء وأن يتعهد الماقين بالسبابتين وأن يدلك الأعضاء ويحرك الخاتم ويتعهد
ما يحتاج فيه إلى الاحتياط كالعقب وأن يخلل اللحية والعارض الكثيفين وإطالة الغرة وإطالة التحجيل
ومسح كل الرأس ومسح الاذنين ومسح الصماخين وغسل النزعتين مع الوجه وكذا موضع
التحذيف والصدغ إذا قلنا هما من الرأس للخروج من الخلاف وتخليل الأصابع والابتداء باليد

(1) قلت إن لم يكن ضعف هذا الحديث الا كونه من رواية ليث بن أبي سليم فهو ضعيف
محتمل فان ليثا رحمه الله روى له مسلم مقرونا بغيره وحديثه في السنن الأربعة أعني الترمذي
والنائي وأبا داود وابن ماجة وروى عنه البخاري في التاريخ وفيه ضعف يسير من جهة حفظه قاله
الذهبي في الكاشف وكان ذا صيام وصلاة وعلم كثير واحتج بعضهم قال أبو داود ليس به بأس
وقال ابن عدي له أحاديث صالحة روى عنه شعبة والثوري وغيرهما
من ثقات الناس ومع الضعف الذي فيه يكتب حديثه وقال الدارقطني صاحب سند استشهد به البخاري
في الصحيح فإن لم يكن للحديث علة الا كونه من رواية ليث فهو حسن ويقوي القول باستحباب
مسح الرقبة اه‍ أذرعي
(2) قال ابن الأستاذ في شرح الوسيط في هذا الموضع: قال الروياني ورأيت
في تصنيف الشيخ أبي الحسن أحمد بن فارس
بإسناده عن فليح ابن
سليمان عن نافع عن أبي عمر رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم قال من توضأ ومسح
يديه على عنقه وقي الغلل يوم القيامة وهذا صحيح: هذا لفظه
بحروفه اه‍ أذرعي
465

والرجل اليمنى وتكرار الغسل والمسح ثلاثا ثلاثا وأن لا يسرف في صب الماء وأن لا يزيد على
ثلاث وأن لا ينقص منها وأن لا ينقص ماء الوضوء عن مد والموالاة على القول الصحيح الجديد
وأن يقول عقب الفراغ أشهد أن لا اله الله وحده لا شريك له إلى آخر الذكر السابق
وان لا ينشف أعضاءه وكذا لا ينفض يده على ما فيه من الخلاف السابق وقد نقل القاضي عياض
في شرح صحيح مسلم أن العلماء كرهوا الكلام في الوضوء والغسل وهذا الذي نقله من الكراهة
محمول على ترك الأولى والا فلم يثبت فيه نهى فلا يسمي مكروها الا بمعنى ترك الأولى *
(فرع) قال المحاملي في اللباب الوضوء يشتمل على فرض وسنة ونفل وأدب وكراهة وشرط
فالفرض ستة وفى القديم سبعة كما سبق والسنة خمسة عشر وذكر نحو بعض ما سبق والنفل التطهر
مرتين مرتين والأدب عشرة (1) استقبال القبلة والعلو على مكان لا يترشش إليه الماء وأن يجعل
الاناء عن يساره والواسع عن يمينه ويغرف بها وأن لا يستعين إلا عن ضرورة وأن يبدأ بأعلى الوجه
وبالكفين ومقدم الرأس وأصابع الرجلين وأن لا ينفض يديه ولا ينشف أعضاءه: والكراهة ثلاثة
الاسراف في الماء ولو كان بشط البحر والزيادة على ثلاث وغسل الرأس بدل مسحه: والشرط
واحد وهو الماء المطلق هذا كلامه ومعظمه حسن: وقوله غسل الرأس مكروه هو أحد الوجهين
وقد سبق ان الأصح عدم الكراهة والله أعلم *
(فرع) في مسائل زائدة تتعلق بالباب (إحداها) في موجب الوضوء ثلاثة أوجه حكاها المتولي والشاشي
في المعتمد وغيرهما (أحدها) وجود الحدث فلولاه لم يجب (والثاني) القيام إلى الصلاة فإنه لا يتعين
الوضوء قبله (والثالث) وهو الصحيح عند المتولي وغيره يجب بالحدث والقيام إلى الصلاة جميعا والأوجه
جارية في موجب غسل الجنابة هل هو إنزال المني والجماع أم القيام إلى الصلاة أم كلاهما فإذا قلنا
يجب بوجود الحدث فهو وجوب موسع إلى القيام إلى الصلاة ولا يأثم بالتأخير عن الحدث بالاجماع
قال الشيخ أبو محمد الجويني في كتابه الفروق في باب التيمم اجمع العلماء انه إذا أجنب أو أحدث
لا يجب عليه الغسل ولا الوضوء حتى يدخل وقت الصلاة بالفعل أو الزمان ومعنى الفعل أن يريد
قضاء فائتة وهذا الذي قاله ليس مخالفا لما سبق لان مراده لا يكلف بالفعل والله أعلم (المسألة
الثانية) أجمع العلماء على جواز الوضوء قبل دخول وقت الصلاة نقل الاجماع فيه ابن المنذر في

(1) الذي رأيته في نسختين باللباب وأما الأدب فاثني عشر شيئا فأهمل المصنف شيئين
أحدهما ان يغترف بيمينه وان إذا استعان بأحد لحاجة جعله عن يمينه وكذا هو في
أصل اللباب وهو الرونق للشيخ أبي حامد والذي نقله الماوردي عن نص الشافعي ان
ان المعين يكون عن يساره وبه أجاب الجرجاني في التحرير اه‍ أذرعي
466

كتابه الاجماع وآخرون وهذا في غير المستحاضة ومن في معناها فإنه لا يصح وضؤها الا بعد دخول
الوقت والله أعلم (الثالثة) اجمعوا ان الجنابة تحل جميع البدن: وأما الحدث الأصغر ففيه وجهان
لا صحابنا مشهوران للخراسانيين وحكاهما الشاشي في جماعة من العراقيين أحدهما يحل جميع البدن
كالجنابة وليس بعض البدن أولى من بعض ولان المحدث ممنوع من مس المصحف بظهره وسائر
بدنه ولولا الحدث فيه لم يمنع فعلى هذا إنما اكتفى بغسل الأعضاء الأربعة تخفيفا لتكرره بخلاف الجنابة:
والثاني لا يحل جميع البدن بل يختص بالأعضاء الأربعة لان وجوب الغسل مختص بها وإنما لم يجز
مس المصحف بغيرها لان شرط الماس أن يكون متطهرا ولا يكون شئ من بدنه محدثا ولا
بكفيه طهارة محل المس وحده ولهذا لو غسل وجهه ويديه لم يجز مسه بيايه مع قولنا بالمذهب
الصحيح ان الحدث يرتفع عن العضو بمجرد غسله ولا يتوقف على فراغ الوضوء وفيه خلاف
سنذكره إن شاء الله تعالى: واختلفوا في الأصح من هذين الوجهين فقال الشاشي الأصح انه يعم
البدن وقال البغوي وغيره الأصح اختصاصه بالأعضاء الأربعة وهذا الذي صححه البغوي هو الأرجح
والله أعلم (الرابعة) المرأة كالرجل في الوضوء الا في اللحية الكثة كما سبق (الخامس) يشترط في غسل
الأعضاء جريان الماء عليها فان أمسه الماء ولم يجر لم تصح طهارته اتفق عليه الأصحاب ونص عليه الشافعي رحمه
الله في الأم في باب قدر الماء الذي يتوضأ به وقد أشار إليه المصنف في باب الآنية في قوله إذا توضأ
من إناء الفضة لان الوضوء هو جريان الماء على الأعضاء ودليله أنه لا يسمي غسلا ما لم يجر ولو
غمس عضوه في الماء كفاه لأنه يسمي غسلا (السادسة) ماء الوضوء والغسل غير مقدر لكن
يستحب أن لا ينقص في الوضوء عن مد ولا في الغسل عن صاع والاسراف مكروه بالاتفاق
وسيأتي هذا كله مبسوطا حيث ذكره المصنف في باب الغسل إن شاء الله تعالى (السابعة) إذا
كان على بعض أعضائه شمع أو عجين أو حناء واشتباه ذلك فمنع وصول الماء إلى شئ من العضو
لم تصح طهارته سواء كثر ذلك أم قل ولو بقي على اليد وغيرها أثر الحناء ولونه دون عينه أو أثر
467

دهن مائع بحيث يمس الماء بشرة العضو ويجرى عليها لكن لا يثبت صحت طهارته وقد تقدم
هذا في فصل غسل الرجل: ولو كان تحت أظفاره وسخ يمنع وصول الماء إلى البشرة لم يصح وضوءه
على الأصح وقد سبق بيانه في باب السواك (الثامنة) يستحب امرار اليد على أعضاء الطهارة
في الوضوء والغسل ولا يجب وقد تقدم بيانه في فصل غسل الوجه (التاسعة) إذا شرع المتوضئ
في غسل الأعضاء ارتفع الحدث عن كل عضو بمجرد غسله ولا يتوقف ارتفاعه عن ذلك العضو
على غسل بقية الأعضاء هذا هو المذهب الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور وقد صرح به المصنف
في آخر باب ما يوجب الغسل وقال امام الحرمين يتوقف فإذا غسل وجهه ويديه ومسح رأسه
لم يرتفع الحدث عن شئ منها حتى يغسل رجليه * واحتج بأنه لا يجوز مس المصحف بيده فلولا
بقاء الحدث عليها لجاز * وحجة الجمهور أن غسل الأعضاء موجب لا زالة الحدث فلا فرق بين
كلها أو بعضها: والجواب عن مسألة مس المصحف أن شرط الماس أن يكون كامل الطهارة ولا يكون
عليه حدث ولهذا اتفقوا على أنه لا يجوز للمحدث مسه بصدره وان قلنا الحدث يختص بأعضاء
الوضوء كما سبق ايضاحه في المسألة الثالثة (العاشرة) إذا شرع في الوضوء فشك في أثنائه في
غسل بعض الأعضاء بنى على اليقين وهو أنه لم يغسله وهذا لا خلاف فيه لان الأصل عدم غسله
ولو شك بعد الفراغ من الطهارة في غسل بعض الأعضاء فهل هو كالشك في أثنائها فيلزمه غسله
وما بعده أم لا يلزمه شئ كما لو شك في ترك ركن من الصلاة بعد السلام فيه وجهان حكاهما
جماعة منهم المتولي في آخر باب الاحداث وصاحب العدة والروياني هنا وآخرون ورجح صاحب
العدة والروياني وجوب غسله وهو احتمال لصاحب الشامل قالوا لأن الطهارة تراد لغيرها فلم تتصل
بالمقصود بخلاف الصلاة قال صاحب الشامل وقطع الشيخ أبو حامد بأنه لا شئ عليه كالصلاة
فقيل له هذا يؤدى إلى الدخول في الصلاة بطهارة مشكوك فيها فقال هذا غير ممتنع كما لو شك
هل أحدث أم لا وهذا الذي قاله أبو حامد هو الأظهر المختار * واحتج الروياني لما رجحه بالقياس
على المسافر إذا صلى الظهر وفرغ منها ثم شك في فرض منها وأراد أن يجمع إليها العصر لم بجز
لان شرط صحة العصر في وقت الظهر أن يتقدم العلم بصحة الظهر قال ومثله لو خطب للجمعة
468

ثم شك في ترك فرض من الخطبة لم تجز صلاة الجمعة حتى يتيقن اتمام الخطبة وهذا الذي قاله في
المثالين فيه نظر وسنعود إليه إن شاء الله تعالى في موضعه والله أعلم: (الحادية عشرة) إذا توضأ
وصلى الظهر ثم توضأ وصلى العصر ثم تيقن ترك مسح الرأس في احدى الطهارتين ولا يعرف عينها
ففيه تفصيل وكلام طويل وفروع كثيرة سبق بيانها في آخر باب الشك في نجاسة الماء (الثانية عشرة)
يستحب لمن توضأ أن يصلي ركعتين في أي وقت كان وفي أوقات النهى عن النوافل التي
لا سبب لها لأن هذه لها سبب وهو الوضوء وذكر كثيرون من أصحابنا هذه المسألة في باب الأوقات
التي تكره فيها النافلة وذكرها في هذا الباب صاحب البحر وغيره ودليل المسألة أحاديث كثيرة
في الصحيح منها حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبلال
رضي الله عنه حدثني بأرجأ عمل عملته في الاسلام فاني سمعت دق نعليك بين يدي في الجنة
فقال ما عملت عملا أرجأ عندي من أني لم أتطهر طهورا في ساعة من ليل أو نهار الا صليت بذلك
الطهور ما كتب لي أن أصلى رواه البخاري في صحيحه واحتج به على فضل الصلاة بعد الوضوء
وكذا احتج به أصحابنا وهو ظاهر في ذلك * وعن عثمان رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم توضأ ثم قال من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما غفر له
ما تقدم من ذنبه رواه مسلم في صحيحه (الثالثة عشرة) اتفق أصحابنا على استحباب تجديد الوضوء
وهو أن يكون على وضوء ثم يتوضأ من غير أن يحدث ومتى يستحب: فيه خمسة أوجه أصحها إن صلى
بالوضوء الأول فرضا أو نفلا استحب وإلا فلا وبه قطع البغوي (والثاني) ان صلى فرضا استحب
وإلا فلا وبه قطع الفوراني (والثالث) يستحب إن كان فعل بالوضوء الأول ما يقصد له الوضوء وإلا فلا
ذكره الشاشي في كتابيه المعتمد والمستظهري في باب الماء واختاره (والرابع) إن صلى بالأول
469

أو سجدة لتلاوة أو شكر أو قرأ القرآن في مصحف استحب وإلا فلا وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني
في أول كتابه الفروق: والخامس يستحب التجديد ولو لم يفعل بالوضوء الأول شيئا أصلا حكاه
امام الحرمين قال وهذا إنما يصح إذا تخلل بين الوضوء والتجديد زمن يقع بمثله تفريق فاما إذا
وصله بالوضوء فهو في حكم غسلة رابعة وهذا الوجه غريب جدا وقد قطع القاضي أبو الطيب في
كتابه شرح الفروع والبغوي والمتولي والروياني وآخرون بأنه يكره التجديد إذا لم يؤد بالأول
كتابه شرح الفروع والبغوي والمتولي والروياني وآخرون بأنه يكره التجديد قالا ولو سجد
لتلاوة أو شكر لم يستحب التجديد ولا يكره والله أعلم: أما الغسل فلا يستحب تجديده على المذهب
الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور وفيه وجه أنه يستحب حكاه امام الحرمين وغيره: أما التيمم
فالمشهور أنه لا يستحب تجديده وفى وجه ضعيف يستحب وصورته في الجريح والمريض ونحوهما
ممن يصح تيممه مع وجود الماء ويتصور في غيرهما إذا لم نوجب الطلب ثانيا إذا بقي في مكانه
الذي صلى فيه وستأتي المسألة مبسوطة في التيمم إن شاء الله تعالى فان قلنا بتجديد التيمم فيتصور
للنافلة بعد الفريضة وكذا للفريضة بعد النافلة إذا قدم النافلة * واحتج الأصحاب لأصل استحباب
التجديد بما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من توضأ
على طهر كتب الله له عشر حسنات رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة والبيهقي وغيرهم ولكنه
ضعيف متفق على ضعفه وممن ضعفه الترمذي والبيهقي * واحتج البيهقي بحديث أنس قال كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة وكان أحدنا يكفيه الوضوء ما لم يحدث رواه البخاري
لكن لا دلالة فيه للتجديد لاحتمال أنه كان يتوضأ عن حدث وهذا الاحتمال مقاوم لاحتمال التجديد
فلا ترجح التجديد الا بمرجح آخر (الرابعة عشرة) إذا توضأ الصحيح وهو غير المستحاضة ومن
في معناها ممن به حدث دائم فله أن يصلى بالوضوء الواحد ما شاء من الفرائض والنوافل ما لم يحدث
هذا مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والثوري وأحمد وجماهير العلماء وحكى أبو جعفر الطحاوي
وأبو الحسن بن بطال ى شرح صحيح البخاري عن طائفة من العلماء أنه يجب الوضوء لكل صلاة
وإن كان متطهرا وحكي الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد ابن حزم الظاهري في كتابه كتاب

(1) قول أنس وكان أحدنا يكفيه فيه إشارة إلى التجديد وهنا يرجح احتمال
التجديد فهو أرجح اه‍ أذرعي
470

الاجماع هذا المذهب عن عمر بن عبيد قال وروينا عن إبراهيم يعنى النخعي أنه لا يصلى بوضوء
واحد أكثر من خمس صلوات وحكي الطحاوي عن قوم أنه يجوز جمع صلوات بوضوء للمسافر
دون الحاضر * واحتج من أوجبه لكل صلاة وان طاهرا بقوله تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا
وجوهكم) الآية ودليلنا حديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات
بوضوء واحد يوم فتح مكة ومسح على خفية وقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه لقد صنعت
اليوم شيئا لم تكن تصنعه فقال عمدا صنعته يا عمر رواه مسلم وعن سويد بن النعمان رضى الله ان رسول
الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر ثم أكل سويقا ثم صلى المغرب ولم يتوضأ رواه البخاري في
مواضع من صحيحه وعن عمرو بن عامر عن أنس قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ
عند كل صلاة قلت كيف كنتم تصنعون قال يجزى أحدنا الوضوء ما لم يحدث رواه البخاري
وعن جابر بن عبد الله قال ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى امرأة من الأنصار ومعه
أصحابه فقدمت له شاة مصلية فأكل وأكلنا ثم حانت الظهر فتوضأ وصلى ثم رجع إلى فضل
طعامه فأكل ثم حانت العصر فصلي ولم يتوضأ رواه الطحاوي باسناد صحيح على شرط مسلم
وفي الصحيحين أحاديث كثيرة من هذا كحديث الجمع بين الصلاتين بعرفة وبمزدلفة وفي
سائر الاسفار والجمع بين الصلوات الفائتات يوم الخندق وغير ذلك وأما الآية الكريمة فمعناها
إذا قمتم إلى الصلاة محدثين وإنما لم يذكر محدثين لأنه الغالب وبين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك
بفعله في مواطن كثيرة وبتقريره أصحابه على ذلك والله أعلم: اما المستحاضة وسلس البول والمذي
وغيرهما ممن به حدث دائم فإذا توضأ أحدهم استباح فريضة واحدة وما شاء من النوافل
ولا يباح له غير فريضة كما سيأتي ايضاحه في كتاب الحيض إن شاء الله تعالى حيث ذكره المصنف
471

وهل يرتفع حدثه بالوضوء فيه طريقان المذهب لا يرتفع وبه قطع الجمهور وقال القفال فيه قولان
قال امام الحرمين والشاشي وغيرهما هذا الذي قاله القفال غلط وكيف يرتفع الحدث مع جريانه
دائما ذكروا المسألة في باب مسح الخف وسننبه عليها هناك إن شاء الله تعالى والله أعلم (الخامسة
عشرة) إذا أحدث احداثا متفقة أو مختلفة كفاه وضوء واحد بالاجماع وكذا لو أجنب مرات
بجماع امرأة واحدة ونسوة أو احتلام أو بالمجموع كفاه غسل بالاجماع سواء كان الجماع مباحا
أو زنا وممن نقل الاجماع فيه أبو محمد بن جزم والله أعلم (السادسة عشرة) يستحب المحافظة على
الدوام على الطهارة وعلى المبيت على طهارة وفيهما أحاديث مشهورة وقد ذكر المحاملي
في اللباب أنواع الوضوء المسنون فجعلها عشرة وزاد فيها غيره فبلغ مجموعها خمسة وعشرين
نوعا منها تجديد الوضوء والوضوء في الغسل والوضوء عند النوم والوضوء للجنب
472

عند الأكل (1) أو الشرب (2) والوضوء من حمل الميت وعند الغضب وعند الغيبة (3) وعند قراءة القرآن
وعند قراءة حديث النبي صلى الله عليه وسلم وروايته ودراسة العلم وعند الأذان وإقامة الصلاة وللخطبة في غير الجمعة وكذا
للجمعة إذا لم نوجب فيها الطهارة ولزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وللوقوف بعرفات وللسعي بين الصفا والمروة
والوضوء من الفصد والحاجة والقئ وأكل لجم الجزور للخروج من خلاف العلماء في وجوبه
* وكذا يندب الوضوء لكل نوم أو لمس أو مس اختلف في النقض به وقلنا لا ينقض وكذا
في مس الرجل والمرأة الخنثى ومسه أحد فرجيه ونحو ذلك. ورأيت في فتاوى ابن الصباغ أنه
يستحب لمن قص شاربه الوضوء ولعله أراد الخروج من خلاف من أوجب طهارة ما ظهر
بالقطع فيعيد الوضوء للترتيب والموالاة والله أعلم * (السابعة عشرة) قال البغوي قال القاضي
حسين لو نذر أن يتوضأ انعقد نذره وعليه تجديد الوضوء بعد أن يصلى بالأول صلاة فان توضأ وهو محدث
لم يجزئه عن نذره لأنه واجب شرعا. وان جدد الوضوء قبل أن يصلى بالأول لم يخرج عن نذره: قال
ومن أصحابنا من قال لا يلزم الوضوء بالنذر لأنه غير مقصود في نفسه قال ولو نذر التيمم
لا ينعقد قطعا لأنه لا يجدد هذا كلام البغوي وقد جزم المتولي في باب النذر بانعقاد نذر الوضوء
وحكي وجها في انعقاد نذر نذر التيمم وهو بمني على الخلاف الذي قدمته في تجديد التيمم
فالمذهب انعقاد نذر الوضوء وعدم انعقاد نذر التيمم قال المتولي ولو نذر الوضوء
لكل صلاة لزمه وإذا توضأ لها عن حدث لم يلزمه الوضوء لها ثانيا بل يكفيه الوضوء الواحد
لواجبي الشرع والنذر والله أعلم * (الثامنة عشرة) قال الشافعي رحمه الله في آخر هذا الباب بعد

(1) قال الحليمي في المنهاج وإذا أراد الجنب أن يعود فقد جاء الحديث أنه يتوضأ ومعناه
فليتنظف بغسل فرجه لأنه روى في حديث آخر مفسرا إذا اتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود
فليغسل فرجه وفي رواية أخرى فلا يعود حتى يغسل فرجه اه‍ وقال القرطبي في شرح مسلم وقوله
صلى الله عليه وسلم إذا اتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعاود فليتوضأ منها وضوءان ذهب بعض
أهل الظاهر إلى أنه الوضوء العرفي وأنه واجب واستحبه احمد وغيره وذهب الفقهاء وأكثر
أهل العلم إلى أنه غسل الفرج ثم استدل له بحديث فيه وليغسل فرجه مكان فليتوضأ وأيده
بمعنى ظاهر اه‍ من هامش الأذرعي
(2) قال القرطبي مساق حديث عائشة يقتضي أن يكون وضوء الجنب للأكل هو وضوء الصلاة لأنها جمعت من الأكل
والنوم في الوضوء ويحكي ذلك عن ابن عمر والجمهور على خلافه وان وضوءه عند الأكل غسل
يديه وقد روى النسائي هذا عن عائشة مفسرا قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن ينام
وهو جنب توضأ وان أراد أن يأكل أو يشرب قالت غسل يديه ثم يأكل أو يشرب قلت ويؤيد هذا ما رواه
أبو داود وغيره مرفوعا الوضوء قبل الطعام وبعده بركعة والمراد به
غسل اليدين والله أعلم اه‍ أذرعي
(3) ومنها الوضوء من الغيبة ومن الكذب وانشاد الشعر ومن استغراق الضحك قاله الحليمي في مناهجه اه‍ أذرعي
473

أن ذكر فرائض الوضوء وسننه وذلك أكمل الوضوء إن شاء الله تعالى فاعترض عليه في هذا
الاستثناء فأجاب الشيخ أبو حامد في تعليقه والبندنيجي وغيرهما من أصحابنا بان الشافعي لم يذكر
استحباب غسل العينين في هذا الكتاب وصح ان ابن عمر كان يفعله فاستثنى لا خلاله بذلك خوفا
أن يكون ذلك من تمام الوضوء وهذا الجواب الذي ذكروه وإن كان فيه بعض الحسن فالأجود غيره
وهو أنه خشي أن يكون فيه سنة صحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم بزيادة فيه على ما ذكره
أو بابطال ما أثبته ولم تبلغه فاحتاط بالاستثناء ولأنه أثبت أشياء لم يثبتها بعض العلماء وحذف أشياء
أثبتها بعضهم فالاستثناء حسن لهذا مع أنه مستحب في كل المواطن والله أعلم * وقال الشافعي في
المختصر وليست الأذنان من الرأس فتغسلان قال أبو سليمان الخطابي وغيره قال بعض الناس
أو أكثرهم هذا لحن لأنه جواب النفي بالفاء فصوابه فتغسلا بحذف النون قال الخطابي
وقوله فتغسلان بالنون صحيح عند عامة النحويين على اضمار المبتدأ قال الله تعالى ولا يؤذن
لهم فيعتذرون أي فهم يعتذرون * وقال الشافعي في المختصر ولو غسل وجهه مرة وذراعيه مرة
مرة ومسح بعض رأسه ما لم يخرج عن منابت شعر رأسه أجزأه واحتج بأن النبي صلى الله عليه
وسلم مسح بناصيته وعلى عمامته قال الشافعي والنزعتان من الرأس وغسل رجليه مرة مرة عم بكل
مرة أجزأه واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة هذا لفظه فاعترض عليه لا دخل حديث
مسح الناصية وذكر النزعتين بين أعضاء الوضوء والجواب عنه أن هذا كلام اعتراض بين الجمل
المعطوف بعضها على بعض دعت الحاجة إلى ذكره وهو انه أراد الاحتجاج للاقتصار على بعض الرأس
عند ذكره الاقتصار فكان الاحتجاج له مهما فعجله وذكر النزعتين ليبين انهما من الرأس الذي
تكلم فيه وحكم بأن بعضه يكفي فكأنه يقول إن اقتصر على بعض الرأس ولو بعض النزعة منه
474

جاز فلما كان ما ذكره مهما اعترض به بين الجمل وقد جاء مثل هذا في القرآن العزيز في مواضع
منها قوله فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض
وعشيا اعترض قوله تعالى وله الحمد في السماوات والأرض ومثله قوله تعالي وإنه لقسم لو
تعلمون عظيم اعترض لو تعلمون ومثله قوله تعالى قالت رب اني وضعتها أنثى والله أعلم بما
وضعت وليس الذكر كالأنثى واني سميتها مريم اعترض قوله تعالى والله أعلم بما وضعت على قراءة
من قرأ وضعت بفتح العين واسكان التاء ونظائره كثيرة ومما جاء منه في شعر العرب قول امرئ القيس
الأهل اتاها والحوادث جمة * بان امرئ القيس بن تملك بيقرا
فاعترض قوله والحوادث جمة * وقول الآخر
ألم يأتيك والانباء تنمى * بما لاقت لبون بني زياد
فاعترض والانباء تنمي * وقول الآخر
إليك أبيت اللعن كان كلالها * إلى الماجد القرم الجواد المحمد
فاعترض أبيت اللعن: وفي هذه الأبيات شواهد لمسائل كثيرة من النحو واللغة * والله أعلم *
(التاسعة عشرة) أنكر على صاحب الوسيط مسائل وألفاظ قد ذكرناها في مواضعها من هذا الباب
ونبهنا على صوابها: منها قوله في غسل الكفين فان تيقن طهارة اليد ففي (1) بقاء
الاستحباب وجهان: ومنها قوله إذا حلق شعره لا يلزمه طهارة موضعه خلافا لا بن خيران وصوابه
ابن جرير ومنها قوله تطويل الغرة وقوله لقوله صلى الله عليه وسلم مسح الرقبة أمان من الغل وغير ذلك
مما نبهنا عليه في موضعه والله أعلم وله الحمد والنعمة وبه التوفيق والعصمة * قال المصنف رحمه الله *

(1) هذا الأول ليس بمنكر ومعناه ففي بقاء استحباب تقديم الغسل على الغمس
كما سبق خلاف ما توهم صاحب الذخائر من أن المراد أصل غسل اليد فإنه لا خلاف فيها
اه‍ أذرعي
475

(باب المسح على الخفين
يجوز المسح على الخفين في الوضوء لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله
عليه وسلم مسح على الخفين فقلت يا رسول الله نسيت فقال بل أنت نسيت بهذا أمرني ربي
ولان الحاجة تدعوا إلى لبسه وتلحق المشقة في نزعه فجاز المسح عليه كالجبائر)
(الشرح) في هذه القطعة مسائل (إحداها) حديث المغيرة صحيح رواه أبو داود في سننه
بهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم في صحيحهما ان النبي صلى الله عليه وسلم مسح عن الخفين وهذا
هو المقصود قال العلماء وقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بل أنت نسيت ليس معناه الاخبار
بنسيانه وإنما هو للمقابلة كما يقول الرجل فعلت كذا ولم يكن فعله فيقول بل أنت فعلته مبالغة
في براءته منه كأنه يقول لم افعل ذلك كما انك لم تفعله وقيل في معناه غير هذا والمغيرة بضم الميم
وكسرها سبق بيانه في أول باب صفة الوضوء (الثانية) قوله يجوز المسح على الخف في الوضوء فيه
احتراز من الجنابة والحيض والنفاس وسائر الأغسال الواجبة والمسنونة ومن إزالة النجاسة
وسنوضحها كلها إن شاء الله وقوله لان الحاجة تدعو إلى لبسه فجاز المسح عليه كالجبيرة
هكذا قاسه أصحابنا وأرادوا إلزام طائفة خالفت في مسح الخف ووافقت في الجبيرة فالجبيرة
مجمع عليها (الثالثة) مذهبنا ومذهب العلماء كافة جواز المسح على الخفين في الحضر والسفر
وقالت الشيعة والخوارج لا يجوز وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي بكر بن
داود وحكى المحاملي في المجموع وغيره من أصحابنا عن مالك ستة روايات: إحداها لا يجوز
المسح: الثانية يجوز لكنه يكره: الثالثة يجوز ابدا وهي الأشهر عنه والأرجح عند أصحابه: الرابعة
يجوز مؤقتا: الخامسة يجوز للمسافر دون الحاضر: السادس عكسه وكل هذا الخلاف باطل مردود
وقد نقل ابن المنذر في كتاب الاجماع اجماع العلماء على جواز المسح على الخف ويدل عليه
476

الأحاديث الصحيحة المستفيضة في حديث مسح النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر وأمره بذلك
وترخيصه فيه واتفاق الصحابة فمن بعدهم عليه قال الحافظ أبو بكر البيهقي روينا جواز المسح
على الخفين عن عمر وعلى وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وحذيفة
ابن اليمان وأبي أيوب الأنصاري وأبي موسى الأشعري وعمار بن ياسر وجابر بن عبد الله وعمر و
ابن العاص وأنس بن مالك وسهل بن سعد وأبي مسعود الأنصاري والمغيرة بن شعبة والبراء بن عازب
وأبي سعيد الخدري وجابر بن سمرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن الحارث بن جزء وأبي زيد
الأنصاري رضي الله عنه (قلت) ورواه خلائق من الصحابة غير هؤلاء الذين ذكرهم البيهقي
وأحاديثهم معروفة في كتب السنن وغيرها قال الترمذي وفي الباب عن عمر وسلمان وبريدة
وعمرو بن أمية ويعلي بن مرة وعبادة بن الصامت وأسامة بن شريك وأسامة بن زيد وصفوان
ابن عسال وأبي هريرة وعوف بن مالك وابن عمر وأبي بكرة وبلال وخزيمة بن ثابت قال أبو بكر
ابن المنذر روينا عن الحسن البصري قال حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين قال وروينا عن ابن المبارك قال ليس
في المسح على الخفين اختلاف هو جائز وقال جماعات من السلف نحو هذا وثبت في الصحيحين
من رواية المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين في غزوة تبوك وهي من آخر أيامه
صلى الله عليه وسلم وقد اتفق العلماء على أن آية الوضوء المذكورة في المائدة نزلت قبل غزوة
تبوك بمدد وثبت في الصحيحين عن جرير البجلي رضي الله عنه قال رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يمسح على الخفين زاد أبو داود في روايته قالوا لجرير إنما كان هذا قبل نزول المائدة فقال جرير
وما أسلمت الا بعد نزول المائدة وكان اسلام جرير متأخرا جدا (1) وروينا في سنن البيهقي
عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله قال ما سمعت في المسح على الخفين حديثا أحسن من حديث جرير وأما

(1) كان اسلامه في العاشرة من الهجرة رضي الله عنه اه‍ أذرعي
477

الامر بالغسل في الآية فمحمول على غير لا بس الخف ببيان السنة وليس للمخالفين شبهة فيها
روح: وأما ما روي عن علي وابن عباس وعائشة من كراهة المسح فليس بثابت (1) بل ثبت في صحيح
مسلم وغيره عن علي رضي الله عنه انه روى المسح على الخف عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو
ثبت عن ابن عباس وعائشة ذلك لحمل على أن ذلك قبل بلوغهما جواز المسح عن النبي صلى الله عليه
وسلم فلما بلغا رجعا وقد روى البيهقي معنى هذا عن ابن عباس وعلى الجملة المسألة غنية عن
الاطناب في بسط أدلتها بكثرتها والله أعلم: وأما جواز المسح في الحضر ففيه أحاديث
كثيرة في الصحيح منها حديث حذيفة قال كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما
فتوضأ فمسح على خفيه رواه مسلم وفي رواية البيهقي سباطة قوم بالمدينة وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله وعليه وسلم
جعل مسح الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوما وليلة للمقيم رواه مسلم: ومنها حديث خزيمة
ابن ثابت وعوف بن مالك وهما صحيحان سيأتي بيانهما قريبا في مسألة التوقيت إن شاء الله تعالى
والله أعلم *
(المسألة الرابعة) قال أصحابنا مسح الخفين وإن كان جائزا فغسل الرجل أفضل منه بشرط
أن لا يترك المسح رغبة عن السنة ولا شكا في جوازه وقد صرح جمهور الأصحاب بهذا في باب صلاة
المسافر في مسألة تفضيل القصر على الاتمام وفي غيرها وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله يجوز
المسح ولم يقل يسن أو يستحب ودليل تفضيل غسل الرجل انه الذي واظب عليه النبي صلى الله
عليه وسلم في معظم الأوقات ولان غسل الرجل هو الأصل فكان أفضل كالوضوء مع التيمم في موضع جواز
التيمم وهو إذا وجد في السفر ماء يباع بأكثر من ثمن المثل فله التيمم فلو اشتراه وتوضأ كان أفضل صرح به
البغوي وغيره هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة ومالك وروى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وابنه
رضي الله عنهما تفضيل غسل الرجل أيضا ورواه البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري أيضا * وقال الشعبي

(1) وفي الحديث عن عائشة أنها سئلت عن المسح على الخفين فقالت سل عليا
اه‍ من هامش الأذرعي
478

والحكم وحماد المسح أفضل وهو أصح الروايتين عن أحمد والرواية الأخرى عنه أنهما
سواء وهو اختيار ابن المنذر * واحتج لمن فضل المسح بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة
المذكور في الكتاب بهذا أمرني وبحديث صفوان الذي ذكره المصنف بعد هذا أمرنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن لا ننزع خفافنا الحديث والامر إذا لم يكن للوجوب كان ندبا ودليلنا ما سبق
والمراد بالأمر في الحديثين أمر إباحة وترخيص بدليل ما ذكرناه ويؤيده ان في رواية من حديث صفوان
أرخص لنا أن لا ننزع خفافنا رواه النسائي وفي حديث المغيرة تأويل آخر أي أمرني ببيانه
والله أعلم * (الخامسة) أجمع العلماء على أنه لا يجوز المسح على القفازين في اليدين والبرقع في الوجه
وأما العمامة فمذهبنا أنه لا يجوز المسح عليها وحدها وفيها خلاف للعلماء سبق بيانه بدلائله في فصل
مسح الرأس والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ولا يجوز ذلك في غسل الجنابة لما روى صفوان بن عسل المرادي رضي الله عنه قال كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفرا أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن
الا من جنابة لكن من غائط أو بول أو نوم ثم نحدث بعد ذلك وضوءا ولان غسل الجنابة يندر
فلا تدعوا الحاجة فيه إلى المسح على الخف فلم يجز) *
(الشرح) أما حديث صفوان فصحيح رواه الشافعي رحمه الله في مسنده وفي الأم
والترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم بأسانيد صحيحة قال الترمذي هو حديث حسن صحيح
الا انه ليس في رواية هؤلاء قوله ثم نحدث بعد ذلك وضوء أو هي زيادة باطلة لا تعرف وقوله الا
من جنابة هكذا هو أيضا في كتب الحديث المشهورة الا وهي الا التي للاستثناء وقال الروياني
صاحب البحر في باب ما ينقض الوضوء روى أيضا لا من جنابة بحرف لا التي للنفي وكلاهما صحيح
المعني لكن المشهور الا: وقوله لكن من غائط وبول أو نوم كذا وقع في المهذب بحرف أو والمشهور
في كتب الحديث والفقه لكن من غائط وبول ونوم بالواو وفي رواية للنسائي أرخص لنا أن لا ننزع
خفافنا بدل قوله يأمرنا وقوله لكن من غائط إلى آخره قال أهل العربية لفظة لكن للاستدراك تعطف في
النفي مفردا على مفرد وتثبت للثاني ما نفته عن الأول تقول ما قام زيد لكن عمرو فان دخلت على مثبت
احتيج بعدها إلى جملة تقول قام زيد لكن عمرو لم يقم فقوله لا ننزعها الا من جنابة لكن
من غائط وبول ونوم معناه أرخص لنا في المسح مع هذه الثلاثة ولم نؤمر بنزعها الا في حال
479

الجنابة وفيه محذوف تقديره لكن لا ننزع من غائط وبول ونوم لان تقدير الأول أمرنا
بنزعها من الجنابة وفائدة هذا الاستدراك بيان الأحوال التي يجوز فيها المسح ونبه بالغائط والبول
والنوم على ما في معناها من باقي أنواع الحدث الأصغر وهي زوال العقل بجنون وغيره ولمس
النساء ومس فرج الآدمي ونبه بالجنابة على ما في معناها من الحدث الأكبر فيدخل فيه الحيض
والنفاس وقد يؤخذ من ذكر الأحوال الثلاثة انه لا يجوز المسح على الخف عن النجاسة والله أعلم *
وعسال والد صفوان هو بعين ثم سين مشددة مهملتين وصفوان هذا من كبار الصحابة رضي الله عنه
م غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم اثني عشرة غزوة سكن الكوفة: وقوله مسافرين أو سفرا شك
من الراوي هل قال مسافرين أو قال سفرا وهما بمعنى واحد ولكن لما شك الراوي أيهما قال
احتاط فتردد ولم يجزم بأحدهما وهكذا صوابه سفر براء منونة ويكتب بعدها الف ولا يجوز
غير هذا بلا خلاف وربما غلط فيه فقيل سفري بالياء وهذا خطأ فاحش وتصحيف قبيح
قال الخطابي وغيره قوله سفرا جمع سافر كما يقال ركب وراكب وصاحب وصحب وقيل إنه لم
ينطق بواحدة الذي هو سافر بل قدروه وقيل نطق به والله أعلم * وفي هذا الحديث فوائد إحداها
جواز مسح الخف الثانية انه مؤقت الثالثة ان وقته للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وجاء في رواية
البيهقي وغيره في هذا الحديث وللمقيم يوم وليلة الرابعة أنه لا يجوز المسح في غسل الجنابة وما في
معناه من الأغسال الواجبة والمسنونة الخامسة جوازه في جميع أنواع الحدث الأصغر السادسة ان
480

الغائط والبول والنوم ينقض الوضوء وهو محمول على نوم غير ممكن مقعده (السابعة) انه يؤمر بالنزع
للجنابة في أثناء المدة حتى لو غسل الرجل في الخف ثم أحدث وأراد المسح لم يجز
وفيه غير ذلك من الفوائد وهو حديث طويل وقد يقتصرون على رواية هذا القدر الذي ذكره
المصنف منه والله أعلم * أما حكم مسألة الكتاب فهو انه لا يجزئ المسح على الخف في غسل الجنابة
نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب وغيرهم ولا أعلم فيه خلافا لاحد من العلماء وكذا لا يجزئ
مسح الخف في غسل الحيض والنفاس والولادة ولا في الأغسال المسنونة كغسل الجمعة والعيد
وأغسال الحج وغيرها نص عليه الشافعي واتفق عليه الأصحاب قال أصحابنا ولو دميت رجله
في الخف فوجب غسلها لا يجزيه المسح على الخف بدلا عن غسلها وهذا لا خلاف فيه وكل هذا
مستنبط من حديث صفوان كما سبق قال أصحابنا وإذا لزمه غسل جنابة أو حيض ونفاس فصب
الماء في الخف فانغسلت الرجلان ارتفعت الجنابة عنهما وصحت صلاته ولكن لو أحدث لم يجز له المسح
حتى ينزع الخف فيلبسه طاهرا وكذا بعد انقضاء المدة لو غسل الرجل في الخف صح وضوءه (1)
ولكن لا يجوز المسح بعده حتى ينزعه وكل هذا لا خلاف فيه ولو دميت رجله في الخف فغسلها
فيه جاز المسح بعده ولا يشترط نزعه ذكره البغوي والرافعي وغيرهما وأطلق الشافعي في الأم
والقاضي أبو الطيب والدارمي والمتولي والروياني وغيرهم وجوب النزع إذا أصاب الرجل نجاسة
ولعل مرادهم إذا لم يمكن الغسل في الخف والفرق بين الجنابة والنجاسة أن الشرع أمر بنزع
الخف للجنابة في حديث صفوان ولم يأمر به للنجاسة والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وهل هو مؤقت أم لا فيه قولان قال في القديم غير مؤقت لما روى أبي ابن عمارة رضي الله عنه قال
قلت يا رسول الله امسح على الخف قال نعم قلت يوما قال ويومين قلت وثلاثة قال نعم وما شئت وروى
وما بدا لك وروى حتى بلغ سبعا قال نعم وما بدا لك ولأنه مسح بالماء فلم يتوقت كالمسح على
الجبائر ورجع عنه قبل أن يخرج إلى مصر وقال يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام وليا لهن

(1) المراد به أنه توضأ وغسل رجليه في الخف لا أنهما غسلا فقط اه‍ من هامش الأذرعي
(2) قال القاضي ابن كج وقال في القديم يمسح المسافر بلا تأقيت وبه قال مالك مقتضاه الا يكون
الحاضر كذلك وكلام المصنف والشارح وغيرهما يقتضي أن لا فرق اه‍ من هامش الأذرعي
481

لما روى علي رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم جعل للمسافر أن يمسح ثلاثة أيام ولياليهن
وللمقيم يوما وليلة ولان الحاجة لا تدعو إلى أكثر من ذلك فلم تجز الزيادة عليه)
(الشرح) اما حديث على فصحيح رواه مسلم واما حديث أبي ابن عمارة فرواه أبو داود
والدارقطني والبيهقي وغيرهم من أهل السنن واتفقوا على أنه ضعيف مضطرب لا يحتج به وعمارة
بكسر العين وضمها وجهان مشهوران: ممن ذكرهما من أئمة هذا الفن أبو عمر بن عبد البر في
كتابه الاستيعاب والبيهقي في السنن ومن المتأخرين الحافظ عبد الغني المقدسي وآخرون واتفقوا
على أن الكسر أفصح وأشهر ولم يذكر ابن ما كولا وآخرون غير الكسر ورواه البيهقي عن
أبي عبيد القاسم بن سلام وخالفهم ابن عبد البر فقال الضم هو قول الأكثرين قالوا وليس في
الأسماء عمارة بكسر العين غيره وقد بسطت بيانه في تهذيب الأسماء وقوله وما بدا لك هو بألف
ساكنة قال أهل اللغة يقال بدا له في هذا الامر بدأ بالمد أي حدث له رأى لم يكن ويقال
رجل له بدوات والبداء محال على الله تعالى بخلاف النسخ: وأما قوله لأنه مسح بالماء فلم يتوقت
فاحتراز من التيمم وقوله كالمسح على الجبائر معناه انه لا يتوقت قولا واحدا وبهذا قطع العراقيون
وفيه خلاف ضعيف ذكره الخراسانيون سنوضحه في باب التيمم إن شاء الله تعالى * اما حكم المسألة فاتفق
أصحابنا على أن المذهب الصحيح توقيت المسح وان القديم في ترك التوقيت ضعيف واه جدا
ولم يذكره كثيرون من الأصحاب فعلى القديم لا يتوقف المسح بالأيام (1) لكن لو أجنب وجب النزع
كذا نقله ابن القاص في التلخيص عن القديم ونقله أيضا القفال في شرحه وصاحبا الشامل والبحر
ولا تفريع على هذا القديم وإنما تتفرع المسائل في هذا الباب وغيره على أن المسح مؤقت فعلى هذا
للمسافر ثلاثة أيام بلياليها وللمقيم يوم وليلة بلا خلاف قال أصحابنا وله أن يصلى في مدة المسح
ما شاء من الصلوات فرائض الوقت والقضاء والنذر والتطوع بلا خلاف قال أصحابنا فأكثر
ما يمكن المقيم أن يصلى بالمسح من فرائض الوقت سبع صلوات إذا جمع بين الصلاتين في المطر
فإن لم يجمع فست والمسافر ان جمع سبع عشرة والا فست عشرة وصورته أن يحدث في نصف
اليوم الأول في أول الوقت ويصلى ثم في اليوم الثاني والرابع مسح وصلى في أول الوقت هذا
مذهبنا * وحكي ابن المنذر عن الشعبي وأبي ثور واسحق وسليمان بن داود انه لا يصلي بالمسح الا

(1) قال في البحر وحكى الزعفراني ان الشافعي كأن يقول بعدم التوقيت ثم رجع عن
ذلك قبل إن يخرج إلى مصر فقيل في المسألة قولان وقيل بالتوقيت قولا واحدا وقال
المحاملي في التعليق قال أبو علي الحسين ابن الصباح الزعفراني رجع الشافعي إلى التوقيت عندنا
ببغداد قبل إن يخرج منها وحكي الساجي عن الزعفراني قال قدم علينا الشافعي ببغداد وهو
لا يقول بالتوقيت ثم رجع إلى التوقيت قبل خروجه إلى مصر اه‍ أذرعي
482

خمس صلوات إن كان مقيما وإن كان مسافرا فخمس عشرة وحكاه أصحابنا عن داود وهو مذهب
باطل والأحاديث الصحيحة في التوقيت بالزمان ترده * والله أعلم *
(فرع) المراد بالمسافر الذي يمسح ثلاثة أيام ولياليهن المسافر سفرا طويلا وهو السفر الذي
تقصر فيه الصلاة وهو ثمانية وأربعون ميلا بالهاشمي وقدره بالمراحل مرحلتان قاصدتان كما
سيأتي بيانه واضحا في باب صلاة المسافر إن شاء الله تعالى وهذا الذي ذكرناه من أن المسح ثلاثة أيام
لا يكون الا في سفر تقصر فيه الصلاة متفق عليه فمن الأصحاب من بينه هنا ومنهم من بينه في
باب التيمم ومنهم من بينه في باب استقبال القبلة عند ذكرهم التنفل على الراحلة في السفر وجمهورهم
بينوه في باب صلاة المسافر وخالفهم المصنف فلم يبينه في موضع من هذه المذكورات
وبينه في ثلاث مواضع غيرها من المذهب أحدها مسألة نقل الزكاة في باب قسم الصدقات والثاني
في سفر أحد الأبوين بالولد في باب الحضانة والثالث في مسألة تغريب الزاني فبين في هذه المواضع
الثلاثة أن مسح الخف ثلاثة أيام إنما يجوز في سفر طويل قال أصحابنا الرخص المتعلقة بالسفر
ثمان: ثلاثة تختص بالطويل وهي القصر والفطر في رمضان ومسح الخف ثلاثة أيام وثنتان تجوز ان
في الطويل والقصير وهما ترك الجمعة وأكل الميتة وثلاث في اختصاصها بالطويل قولان وهي
الجمع بين الصلاتين واسقاط الفرض بالتيمم وجواز التنفل على الراحلة والأصح اختصاص الجمع
بالسفر الطويل دون الآخرين وسيأتي ايضاح كل ذلك في مواضعه إن شاء الله تعالى ويأتي قريبا
بيان صحة قول الأصحاب أكل الميتة من رخص السفر قال الشيخ أبو حامد في تعليقه في باب
استقبال القبلة السفر القصير الذي يبيح التنفل على الراحلة والتيمم وغيرهما هو مثل ان يخرج إلى
ضيعة له مسيرة ميل أو نحوه هذا لفظه وكذا قاله غيره *
(فرع) في مذاهب السلف في توقيت مسح الخف قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا والذي
عليه العمل والتفريع انه مؤقت للمسافر ثلاثة أيام بلياليها وللمقيم يوم وليلة وبهذا قال أبو حنيفة
واحمد وأصحابهما وجمهور العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم قال أبو عيسى الترمذي
التوقيت ثلاثا للمسافر ويوما وليلة للمقيم هو قول عامة العلماء من الصحابة والتابعين
ومن بعدهم وقال الخطابي التوقيت قول عامة الفقهاء قال ابن المنذر وممن قال بالتوقيت عمر وعلى
483

وابن مسعود وابن عباس وأبو زيد الأنصاري وشريح وعطاء والثوري وأصحاب الرأي واحمد واسحق
وحكاه أصحابنا أيضا عن الحسن بن صالح والأوزاعي وأبي ثور * وقالت طائفة لا توقيت ويمسح
ما شاء حكاه أصحابنا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي (1) وربيعة والليث وأكثر أصحاب مالك
وهو المشهور عن مالك (2) وفي رواية عنه أنه مؤقت وفي رواية مؤقت للحاضر دون المسافر قال ابن المنذر
وقال سعيد بن جبير يمسح من غدوه إلى الليل * واحتج من قال لا توقيت بما ذكره المصنف من حديث أبي ابن
عمارة والقياس على الجبيرة وبحديث إبراهيم النخعي عن أبي عبد الله الجدلي عن خزيمة بن ثابت
قال جعل لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ولو استزدناه لزادنا يعنى المسح على الخفين للمسافر
وبحديث أنس بن مالك ان النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا توضأ أحدكم وليس خفيه فليصل
فيهما وليمسح عليهما ثم لا يخلعهما ان شاء الا من جنابة وبحديث عقبة بن عامر قال خرجت من
الشام إلى المدينة يوم الجمعة فدخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال متي أولجت خفيك
في رجليك قلت يوم الجمعة قال فهل نزعتهما قلت لا قال أصبت السنة وفي رواية قال لبستهما يوم
الجمعة. واليوم يوم الجمعة ثمان قال أصبت السنة رواه البيهقي وغيره وعن ابن عمر انه كان لا يوقت
في الخفين وقتا * واحتج أصابنا والجمهور بأحاديث كثيرة صحيحة في التوقيت منها حديث على
المذكور في الكتاب رواه مسلم وبحديث صفوان بن عسال السابق وهو صحيح كما بيناه وبحديث أبي بكرة
ان النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسح على الخفين فقال للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوم وليلة وهو حديث
حسن قال البيهقي قال الترمذي قال البخاري هو حديث حسن وبحديث خزيمة بن ثابت قال قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين للمسافر ثلاث وللمقيم يوم حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما
قال الترمذي حديث حسن صحيح وبحديث عوف بن مالك الأشجعي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أمر في غزوة تبوك بالمسح على الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر وللمقيم يوم وليلة قال
البيهقي قال الترمذي قال البخاري هذا الحديث حسن والأحاديث في التوقيت كثيرة: وأما الجواب
عن احتجاج الأولين بحديث أبي بن عمارة فهو انه ضعيف بالاتفاق كما سبق بيانه ولو صح
لكان محمولا على جواز المسح ابدا بشرط مراعاة التوقيت لأنه إنما سأل عن جواز المسح
لا عن توقيته:

(1) نقل المحاملي في تعليقه الكبير عن الشعبي أنه قال لا يزيد المقيم على يوم
بلا ليلة انتهى وهذا يدل على أنه يقول في التوقيت اه‍
(2) قال في البحر وروى عن ابن أبي ذئب عن مالك انه أبطل المسح على الخفين في آخر
أيامه وروى الشافعي عن أنه قال يكره ذلك وعنه رواية ثالثة انه يمسح في الحضر دون السفر
وعنه رواية رابعة عكس الثالثة وهو الصحيح عنه وعنه رواية خامسة انه يمسح ابدا من غير تأقيت
وعنه رواية سادسة مثل قولنا وكذا نقل عنه المحاملي في تعليقه ست روايات إلا أنه قال في
الأول قال ابن أبي فديك أبطل مالك في آخر عمره المسح على الخفين
قال والرابع هو المشهور عنه يمسح المسافر دون المقيم قال مالك
أقام النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بالمدينة ست وثلاثين سنة فما
نقل عن أحد منهم انه مسح على الخفين قال والسادسة يمسح المسافر من غير تأقيت ما أحب أهو مقتضى ما في الكتاب وما
نقله الروياني أنه لا تأقيت حاضر والمسافر
والمحاملي خص ذلك بالمسافر فيحمل الأول عليه
والا فهو رواية سابعة وفيه بعد ثم رأيت المحاملي يقول فيما بعد عن مالك رواية انه يمسح ما شاء مقيما
كان أو مسافر فصح أن المنقول عنه سبع روايا ت اه‍
484

فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو إلى عشر سنين فان معناه
ان له التيمم مرة بعد أخرى وان بلغت مدة عدم الماء عشر سنين وليس معناه ان مسحة واحدة تكفيه
عشر سنين فكذا هنا: والجواب عن حديث خزيمة أنه ضعيف بالاتفاق وضعفه من وجهين
أحدهما أنه مضطرب والثاني أنه منقطع قال شعبة لم يسمع إبراهيم من أبي عبد الله الجدلي قال البخاري
ولا يعرف للجدلي سماع من خزيمة قال البيهقي قال الترمذي سألت البخاري عن هذا الحديث
فقال لا يصح ولو صح لم تكن فيه دلالة ظن أن لو استزاده لزاده والأحكام لا تثبت بهذا:
وأما حديث أنس فضعيف رواه البيهقي وأشار إلى تضعيفه: وأما الرواية عن عمر فرواها البيهقي
ثم قال قد روينا عن عمر التوقيت فاما أن يكون رجع إليه حين بلغه التوقيت عن النبي صلى
الله عليه وسلم واما أن يكون قوله الموافق للسنة الصحيحة المشهورة أولى والمروى عن ابن عمر
يجاب عنه بهذين الجوابين والله أعلم * قال الصنف رحمه الله *
(وإن كان السفر معصية لم يجز أن يمسح أكثر من يوم وليلة لان ما زاد يستفيده بالسفر
وهو معصية فلا يجوز أن يستفاد بها رخصة) *
(الشرح) إذا كان سفره معصية كقطع الطريق وإباق العبد ونحوهما لم يجز أن يمسح ثلاثة أيام
بلا خلاف لما ذكره المصنف وهل يجوز يوما وليلة أم لا يستبيح شيئا أصلا فيه وجهان حكاهما
الشيخ أبو حامد في باب صلاة المسافر والماوردي والشيخ نصر المقدسي والشاشي هنا وحكاهما
البندنيجي والغزالي وآخرون في باب صلاة المسافر أصحهما يجوز وبه قطع جمهور المصنفين كما أشار إليه
المصنف لان ذلك جائز بلا سفر والثاني لا يجوز تغليظا عليه كما لا يجوز له أكل الميتة بلا خلاف
فان أراد الأكل والمسح فليتب وحكي الماوردي هذين الوجهين في العاصي بسفره وفى الحاضر
المقيم على معصية قال وبالجواز قال ابن سريج وبالمنع قال أبو سعيد الإصطخري وهذا الوجه في
المقيم غريب والمشهور القطع بالجواز ونقل البندنيجي والرافعي الوجهين أيضا في العاصي بالإقامة
كعبد أمره سيده بالسفر فأقام ويقال رخصة ورخصة باسكان الخاء وضمها وجهان مشهوران في كتب
اللغة والله أعلم *
(فرع) قال ابن القاص وسائر أصحابنا لا يستبيح من سفره معصية شيئا من
485

رخص السفر من القصر والفطر والمسح ثلاثا والجمع والتنفل على الراحلة وترك الجمعة وأكل الميتة
الا التيمم إذا عدم الماء ففيه ثلاثة أوجه الصحيح أنه يلزمه التيمم وتجب إعادة الصلاة فوجوب
التيمم لحرمة الوقت والإعادة لتقصيره بترك التوبة والثاني يجوز التيمم ولا تجب الإعادة والثالث
يحرم التيمم ويأثم بترك الصلاة اثم تارك لها مع أمان الطهارة لأنه قادر على استباحة التيمم بالنوبة
من معصيته قال ابن القاص والقفال وغيرهما ولو وجد العاصي بسفره ماء فاحتاج إليه
للعطش لم يجز له التيمم بلا خلاف قالوا وكذا من به قروح يخاف من استعمال الماء الهلاك وهو عاص
بسفره لا يجوز له التيمم لأنه قادر على التوبة وواجد للماء قال القفال في شرح التخليص: فان قيل
كيف حرمتهم أكل الميتة على العاصي بسفره مع أنه يباح للحاضر في حال الضرورة وكذا لو كان به
قروح في الحضر جاز التيمم: فالجواب أن أكل الميتة وإن كان مباحا في الحضر عند الضرورة
لكن سفره سبب لهذه الضرورة وهو معصية فحرمت عليه الميتة في الضرورة كما لو سافر لقطع
الطريق فجرح لم يجز له التيمم لذلك الجرح مع أن الجريح الحاضر يجوز له التيمم فان قيل تحريم
الميتة واستعمال الجريح الماء يؤدى إلى الهلاك فجوابه ما سبق أنه قادر على استباحته بالتوبة هذا
كلام القفال وقال الشيخ أبو حامد في باب استقبال القبلة من تعليقه قال بعض أصحابنا جواز أكل
الميتة لا يختص بالسفر لان للمقيم أكلها عند الضرورة قال أبو حامد وهذا غلط لان الميتة
التي تحل في السفر بسبب السفر غير التي تحل في الحضر ولهذا لا تحل الميتة لعاص بسفره وتحل
للمقيم على معصيته عند الضرورة هذا كلام أبي حامد وفي المسألة تفريع وكلام سنوضحه في
باب صلاة المسافر إن شاء الله تعالى * قال المصنف رحمه الله *
(ويعتبر ابتداء المدة من حين يحدث بعد لبس الخف لأنها عبادة مؤقتة فكان ابتدأ
وقتها من حين جواز فعلها كالصلاة) *
(الشرح) مذهبنا أن ابتداء المدة من أول حدث اللبس فلو أحدث ولم يمسح حتى مضى
من بعد الحدث يوم وليلة أو ثلاثة إن كان مسافرا انقضت المدة ولم يجز المسح بعد ذلك حتى
يستأنف لبسا على طهارة وما لم يحدث لا تحسب المدة فلو بقي بعد اللبس يوما على طهارة اللبس
486

ثم أحدث استباح بعد الحدث يوما وليلة إن كان حاضرا وثلاثة أيام ولياليها إن كان مسافرا
هذا مذهبنا ومذهب أبي حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري وجمهور العلماء وهو أصح الروايتين
عن أحمد وداود وقال الأوزاعي وأبو ثور ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث وهو رواية
عن أحمد وداود وهو المختار الراجح دليلا واختاره ابن المنذر وحكي نحوه عن عمر بن الخطاب
رضي الله عنه وحكى الماوردي والشاشي عن الحسن البصري ان ابتداءها من اللبس * واحتج
القائلون من حين المسح بقوله صلى الله عليه وسلم يمسح المسافر ثلاثة أيام وهي أحاديث صحاح
كما سبق وهذا تصريح بأنه يمسح ثلاثة ولا يكون ذلك الا إذا كانت المدة من المسح ولان الشافعي
رضي الله عنه قال إذا أحدث في الحضر ومسح في السفر أتم مسح مسافر فعلق الحكم بالمسح *
واحتج أصحابنا برواية رواه الحافظ القاسم بن زكريا المطرزي في حديث صفوان من الحدث
إلى الحدث وهي زيادة غريبة ليست ثابتة وبالقياس الذي ذكره المصنف وأجابوا عن الأحاديث
بان معناها انه يجوز المسح ثلاثة أيام ونحن نقول به إذا مسح عقب الحدث فان اخر فهو مفوت
على نفسه: وأما قولهم إذا أحدث في الحضر ومسح في السفر أتم مسح مسافر فجوابه ان الاعتبار
في المدة بجواز الفعل ومن الحدث جاز الفعل والاعتبار في العبادة بالتلبس بها وقد وجد ذلك
في مسألة المسافر في السفر والدليل على هذا أن من دخل وقت الصلاة وهو حاضر ثم سافر
في الوقت فله القصر ومن دخل في الصلاة في الحضر ثم سارت به السفينة يتم فدخول وقت
المسح كدخول وقت الصلاة وابتداء السمح كابتداء الصلاة واحتج بعض أصحابنا بأنه إنما
يحتاج إلى الترخص بالمسح من حين يحدث وهذا فاسد فإنه يحتاج بمجرد اللبس لتجديد الوضوء
والله أعلم * واعلم أنه إذا لبسه ثم أراد تجديد الوضوء قبل أن يحدث جاز له المسح فلا تحسب عليه
المدة حتى يحدث والله أعلم: وأما قول المصنف عبادة مؤقتة فقيل احتراز عن الوضوء والغسل وقيل
ليس باحتراز بل تقريب للفرع من الأصل وقيل إنه ينتقض بالزكاة فإنه يجوز تعجيلها وليس
بمنتقض بها لأنه قال من حين جواز فعلها لا من حين وجوبه * قال المصنف رحمه الله
487

(وان لبس الخف في الحضر وأحدث ومسح ثم سافر أتم مسح مقيم لأنه بدأ بالعبادة في
الحضر فلزمه حكم الحضر كما لو أحرم بالصلاة في الحضر ثم سافر وان أحدث في الحضر ثم سافر
ومسح في السفر قبل خروج وقت الصلاة أتم مسح مسافر من حين أحدث في الحضر لأنه بدأ
بالعبادة في السفر فثبت له رخصة السفر وان سافر بعد خروج وقت الصلاة ثم مسح ففيه وجهان
قال أبو إسحاق يتم مسح مقيم لان خروج وقت الصلاة عنه في الحضر بمنزلة دخوله في الصلاة في
وجوب الاتمام فكذا في المسح وقال أبو علي بن أبي هريرة يتم مسح مسافر لأنه تلبس بالمسح وهو
مسافر فهو كما لو سافر قبل خروج الوقت ويخالف الصلاة لأنها تفوت وتقضي فإذا فاتت في
الحضر ثبتت في الذمة صلاة الحضر فلزمه قضاؤها والمسح لا يفوت ولا يثبت في الذمة فصار كالصلاة
قبل فوات الوقت)
(الشرح) في هذه القطعة أربع مسائل إحداها لبس الخف في الحضر وسافر قبل الحدث
فيمسح مسح مسافر بالاجماع
(الثانية) لبس وأحدث في الحضر ثم سافر قبل خروج وقت الصلاة
فيمسح مسح مسافر أيضا عندنا وعند جميع العلماء الا ما حكاه أصحابنا عن المزني انه مسح مقيم
قال القاضي أبو الطيب كذا حكاه الداركي عن المزني وهو غلط بل مذهب المزني كمذهبنا مسح
مسافر فان قيل قد تلبس بالمدة في الحضر قلنا الحضر إنما يؤثر في العبادة وهي المسح لا في المدة
(الثالثة)
أحدث في الحضر ثم سافر بعد خروج الوقت فهل يمسح مسح مسافر أم مقيم فيه الوجهان اللذان ذكرهما
المصنف بدليلهما الصحيح مسح مسافر صححه جميع المصنفين وقاله مع ابن أبي هريرة جمهور المتقدمين
(الرابعة) أحدث ومسح في الحضر ثم سافر قبل تمام يوم وليلة فمذهبنا انه يتم يوما وليلة من حين
أحدث وبه قال مالك واسحق واحمد وداود في رواية عنهما وقال أبو حنيفة والثوري يتم مسح
مسافر وهي رواية عن أحمد وداود * واحتج الأصحاب بما ذكره المصنف وهو انها عبادة اجتمع
فيها الحضر والسفر فتغلب حكم الحضر كما لو أحرم بالصلاة في سفينة في البلد فسارت وفارقت البلد
وهو في الصلاة فإنه يتمها صلاة حضر باجماع المسلمين وهذا القياس (1) اعتمده أصحابنا وفيه سؤال
ظاهر فيقال كيف صورة مسألة الصلاة فإنه إن أحرم بنية القصر لم تنعقد صلاته وهذا متفق عليه
عندنا صرح به أصحابنا الا امام الحرمين فإنه ذكر فيه في باب صلاة المسافر احتمالين والمذهب البطلان
وان أحرم بالظهر مطلقا أو بنية الاتمام فالاتمام واجب لكن ليس سببه اجتماع الحضر والسفر بل

(1) ينبغي ان يقاس على عكس المقيس عليه وهو ما لو أحرم بها في السفر ثم أقام
في أثنائها فإنه يلزمه الاتمام بالاجماع كما ذكر بعد ولا سبب لوجوبه الا الجمع بين الحضر والسفر فإنه
نوى القصر عند الاحرام بالصلاة ولا يرد السؤال على هذه المسألة اه‍ أذرعي
488

سببه فقد شرط القصر وهو نية القصر عند الاحرام بالصلاة وهذا سؤال حسن: والجواب
أن صورته أن يحرم بالصلاة مطلقا وتحصل به الدلالة من وجهين أحدهما أن الحكم وهو اتمام الصلاة
معلل بعلتين إحداهما اجتماع الحضر والسفر: والثانية فقد نية القصر والوجه الثاني أن مراد
الأصحاب إلزام أبي حنيفة رضي الله عنه فإنه وافقنا على وجوب الاتمام في هذه المسألة ومذهبه أن القصر
عزيمة لا يحتاج إلى نية فليس لوجوب الاتمام عنده سبب الا اجتماع الحضر والسفر فأوجب الاتمام تغليبا
للحضر فينبغي أن يكون المسح مسح مقيم تغليبا للحضر * والله أعلم *
(فرع) إذا مسح أحد خفيه في الحضر ثم سافر ومسح الآخر في السفر فهل يمسح مسح مقيم
أم مسافر فيه وجهان أحدهما مسح مسافر وبه قطع القاضي حسين والبغوي والرافعي قال القاضي
وضابط ذلك أنه متى سافر قبل كمال الطهارة مسح مسح مسافر لأنه لم يتم المسح في الحضر فكأنه
لم يأت بشئ منه والوجه الثاني مسح مقيم وبه قطع المتولي وصححه الشاشي وهو الصحيح
أو الصواب لأنه تلبس بالعبادة في الحضر واجتمع فيها الحضر والسفر فغلب حكم الحضر وهذه
العلة التي اعتمدها الأصحاب في أصل المسألة كما سبق والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان مسح في السفر ثم أقام أتم مسح مقيم وقال المزني إن مسح يوما وليلة يمسح ثلث
يومين وليلتين وهو ثلثا يوم وليلة لأنه لو مسح ثم أقام في الحال مسح ثلث ما بقي وهو يوم وليلة
فإذا بقي له يومان وليلتان وجب أن يمسح ثلثهما ووجه المذهب أنه عبادة تتغير بالسفر والحضر
فإذا اجتمع فيها السفر والحضر غلب حكم الحضر ولم يسقط عليهما كالصلاة)
(الشرح) مذهب الشافعي رحمه الله الذي لا خلاف فيه بين أصحابه أنه إذا مسح في السفر
ثم أقام أتم مسح مقيم فإن كان قد مضى بعد الحدث دون يوم وليلة تممهما وإن كان مضى يوم وليلة
وأكثر في السفر انقضت المدة بمجرد قدومه وحكم انقضاء المدة معروف قال أصحابنا فإن كان
مسح في السفر أكثر من يوم وليلة ثم قدم فصلواته في السفر كلها صحيحة بلا خلاف وإنما يحكم
بانقضاء المدة بالقدوم قالوا ولو قدم في أثناء الصلاة في سفينة بعد مضى يوم وليلة في السفر
بطلت صلاته بمجرد القدوم بلا خلاف لان انقضاء المدة في أثناء الصلاة يبطلها فإنه يوجب غسل
القدمين أو كمال الوضوء قال الشافعي رضي الله عنه في الأم والأصحاب ولو نوى المسافر الإقامة
وهو في أثناء الصلاة بعد مضى يوم وليلة بطلت صلاته وإن كان قبل مضيها لم تبطل ودليل أصل المسألة
489

هو ما ذكره المصنف وهو اجتماع الحضر والسفر هذا عمدة الأصحاب في المسألة * وأما مذهب المزني فذكره
المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب وجماعة ولم يذكره الأكثرون قال صاحب الشامل ذكره
المزني في مسائله المعتبرة على الشافعي: قال القاضي أبو الطيب والمحامل قال أبو العباس ابن سريج
في التوسط بين الشافعي والمزني إن كان المزني يذهب إلى أن القياس هذا ولكن ترك
للاجماع أو غيره فليس بيننا وبينه كبير خلاف وإن كان يذهب إلى أنه يحكم بهذا فهو خلاف
الاجماع وهذا الذي قاله ابن سريج تصريح بانعقاد الاجماع على خلاف قول المزني فيكون
دليلا آخر عليه ثم ضابط مذهب المزني انه يمسح ثلث ما بقي من المدة والله أعلم: ويقال بقي بكسر
القاف وبقي بفتحها فالفتح لغة طي والكسر هو الأفصح الأشهر وهو لغة سائر العرب وبه جاء
القرآن قال الله تعالى (وذروا ما بقي من الربا): وقوله المصنف يغلب حكم الحضر ولا يقسط
عليهما كالصلاة يعنى لمن صلى في سفينة في السفر فدخلت دار الإقامة وقد صلى ركعة فإنه يلزمه
الاتمام بالاجماع ولا يوزع فيقال يتمها ثلاث ركعات ونقض ابن الصباغ على المزني أيضا بمن مسح
نصف يوم في الحضر ثم سافر فإنه يبنى على الأقل ولا يقسط: وقوله ولو مسح ثم أقام أيام فرق
فيه من أن يصير مقيما بوصوله دار اقامته أو يقيم في أثناء سفره في بلد بنية إقامة أربعة أيام غير
يومي الدخول والخروج فاما ان نوى في أثناء سفره إقامة دون أربعة أيام فإنه يتم مدة مسافر لان
رخص السفر باقية والله أعلم قال المصنف رحمه الله *
(وان شك هل مسح في الحضر أو السفر بنى الامر على أنه مسح في الحضر لان الأصل
غسل الرجل والمسح رخصة بشرط فإذا لم يتيقن شرط الرخصة رجع إلى أصل الفرض وهو
الغسل وان شك هل أحدث في وقت الظهر أو في وقت العصر بنى الامر على أنه أحدث في
وقت الظهر لان الأصل غسل الرجل فلا يجوز المسح الا فيما تيقنه) *
(الشرح) هاتان المسألتان نص عليهما الشافعي رضي الله عنه في الأم هكذا واتفق الأصحاب
عليهما ونقل الاتفاق عليهما امام الحرمين وحكى الماوردي والروياني عن المزني أنه قال تكون
المدة من العصر لان الأصل بقاء مدة المسح واحتج الأصحاب بما احتج به المصنف وهو ان الأصل
غسل الرجل ثم ضابط المذهب انه متى شك ابتداء المدة أو انقضائها بنى على ما يوجب
490

غسل الرجلين لأنه أصل متيقن فلا يترك بالشك قال الشافعي رضي الله عنه في الأم والأصحاب
فإنه حصل له هذا الشك ثم تذكر انه مسح في السفر أو انه لم تنقض المدة فله ان يصلى بذلك
اللبس ويستبيح المسح إلى تمام المدة التي تذكرها قالوا فإن كان صلى في حال الشك لزمه إعادة
ما صلى في حال الشك لأنه صلى وهو يعتقد انه يلزمه الطهارة فلزمه الإعادة كمال تيقن الحدث
وشك في الطهارة وصلي على شكه ثم تيقن انه كان متطهرا فإنه يلزمه الإعادة بلا خلاف لأنه
صلى شاكا من غير أصل يبني عليه وكما لو صلى شاكا في دخول الوقت بغير اجتهاد فوافقه يلزمه
الإعادة وهذا الذي ذكرناه من وجوب إعادة ما صلى في حال شكه في بقاء مدة
المسح متفق عليه قال أصحابنا ولا يجوز له أن يمسح في مدة الشك بل ينزع الخف ويستأنف المدة
فلو مسح الشك ثم تذكر أن المدة لم تنقض لم يصح ذلك المسح بل يلزمه اعادته وفي وجوب
استئناف الوضوء قولا تفريق الوضوء هكذا قطع به القفال في شرحه التلخيص وصاحبه القاضي
حسين في تعليقه وصاحبه البغوي وآخرون وحكاه الشاشي في المعتمد والمستظهري عن شيخه
الشيخ أبي إسحاق مصنف الكتاب وخالفهم صاحب الشامل فقال مسحه في حال شكه صحيح
لأن الطهارة تصح مع الشك في سببها كما لو شك في الحدث فتوضأ ينوى رفع الحدث ثم تيقن انه
كان محدثا فإنه تجزيه طهارته وهذا الذي قاله صاحب الشامل ضعيف أو فاسد لان العبادة وهي
المسح وجدت في الشك فلم تصح كمسألة الصلاة السابقة وغيرها مما سبق وكما لو شك في القبلة
فصل بلا اجتهاد فوافق القبلة فإنه يلزمه الإعادة بلا خلاف: وأما مسألة الحدث التي احتج بها
فان أراد أنه تيقن الطهارة وشك في الحدث فالأصح انه إذا بان الحال و تيقن انه كان محدثا
لا يصح وضوءه بل يلزمه اعادته كما سبق بيانه في باب نية الوضوء وان أراد انه تيقن الحدث وشك
في الطهارة فتوضأ مع شكه فإنه يجزيه فليست نظير مسألة المسح لأنه يجب عليه الوضوء وقد
فعل ما وجب عليه بخلاف مسألة المسح وأبطل الشاشي قول صاحب الشامل بنحو ما ذكرته قال
واستشهاده غير صحيح وهو في غير موضعه لأنه إذا شك في الحدث فهو مأمور بالطهارة إما
استحسانا إن كان تيقن الطهارة وشك في الحدث وإما ايجابا إن كان عكسه فإذا كان مأمورا
491

بالطهارة ثم بان الحدث فقد تيقن وجود ما تطهر بسببه بخلاف مسح الخف فإنه ممنوع منه في
حال شكه والله أعلم *
(فرع) فيما يفعل من العبادات في حال الشك من غير أصل يرد إليه ولا يكون مأمورا به
فلا يجزيه وان وافق الصواب * فمن ذلك إذا شك في دخول وقت الصلاة فصلى بلا اجتهاد
فوافق الوقت لا يجزيه وكذا لو شك الأسير ونحوه في دخول شهر رمضان فصام بلا اجتهاد
فوافق رمضان أو شك انسان في القبلة فصلى بلا اجتهاد فوافق القبلة أو شك المتيمم في دخول
وقت الصلاة فتيمم لها بلا اجتهاد أو طلب الماء شاكا في دخول الوقت بلا اجتهاد فوافقه أو تيقن
الحدث وشك في الطهارة فصلي شاكا فبان انه كان متطهرا أو شك ليلة الثلاثين من شعبان
هل هو من رمضان فصام بلا دليل شرعي فوافق رمضان ففي كل هذه المسائل لا يجزيه ما فعله
بلا خلاف ومثله لو وجبت عليه كفارة مرتبة فنوي الصوم من الليل قبل أن يطلب الرقبة ثم
طلبها فلم يجدها لا يجزيه صومه إلا أن يجدد النية في الليل بعد العدم وستأتي هذه المسائل مع
نظائرها في مواطنها إن شاء الله تعالى مبسوطة: ولو اشتبه ما آن طاهر ونجس فتوضأ بأحدهما بلا اجتهاد
وقلنا بالمذهب أنه يجب الاجتهاد فبان أنه الطاهر لم يجزه على الأصح وقد سبق بيانه في باب
الشك في نجاسة الماء فهذه أمثله يستدل بها على نظائرها و سنوضحها مع نظائرها في مواطنها إن شاء الله تعالى
وأما غير العبادات فمنه ما لا يصح في حال الشك كما في العبادات ومنه ما يصح ومنه مختلف فيه
فمن الأول ما إذا أخبر رجل بمولود له فقال إن كان بنتا فقد زوجتكها أو قال إن كانت بنتي طلقها
زوجها أو مات وانقضت عدتها فقد زوجتكها أو كان تحته أربعة نسوة فقال له رجل إن كانت
إحداهن ماتت فقد زوجتك بنتي فبان الامر كما قدر لم يصح النكاح على المذهب وبه قطع الجمهور
وقيل فيه وجهان ومن الثاني ما إذا رأى امرأة وشك هل هي زوجته أم أجنبية فقال أنت طالق
أو أنت حرة نفذ الطلاق و العتق بلا خلاف ومن الثالث إذا باع مال مورثه ظانا حياته فبان ميتا
أو باع مالا يظنه لا جنبي فبان ان وكيله كان اشتراه له أو بان ان مالكه وكله في بيعه ولم يعلم
ففي صحته وجهان وقيل قولان أصحهما الصحة ولكل واحد من هذه الأقسام نظائر سنذكرها
واضحة بفروعها في مواضعها إن شاء الله تعالى والله أعلم *
(فرع) ذكر صاحب التلخيص والقفال وآخرون من الأصحاب في هذا الموضع مسائل تتعلق
492

بمسألة الشك في المسح وهي أن الأصل يترك بالشك في مسائل معدودة وقد قدمت انا المسائل
التي ذكروها مع الكلام عليها وضممت إليها نظائرها في آخر باب الشك في نجاسة الماء وبالله
التوفيق * قال المصنف رحمه الله * (وان لبس خفيه وأحدث ومسح وصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم شك هل كان
مسحه قبل الظهر أو بعده بني الامر في الصلاة انه صلاها قبل المسح فتلزمه الإعادة لان الأصل
بقاؤها في ذمته وبنى الامر في المدة انها من الزوال ليرجع إلى الأصل وهو غسل الرجل
(الشرح) هذه المسألة معدودة في مشكلات المهذب مشهورة بالاشكال واشكالها من
وجهين أحدهما أنه قال مسح وصلى الظهر فجعله مصليا للظهر وانه شك هل صلاها بوضوء أم لا
أوجب اعادتها وقد علم من طريقة سائر العراقيين والصحيح عند الخراسانيين ان الشك
بعد فراغ الصلاة لا يوجب الإعادة وقد صرح به المصنف في باب سجود السهو: الاشكال الثاني
أنه قال ثم شك هل كان مسحه قبل الظهر أو بعدها فجعل الشك في نفس المسح ووقته وربط به
حكم المدة وقد تقرر ان مدة المسح تعتبر من الحدث لا من المسح: فأجاب صاحب البيان في كتابه
مشكلات المهذب عن الاشكال الأول فقال ليست هذه المسألة على ظاهرها وانه تيقن انه صلى
الظهر وشك في الطهارة لها فان من شك هل صلى بطهارة أم لا لم يلزمه الإعادة كما لو شك هل صلي
ثلاثا أم أربعا قال بل صورتها انه تيقن أنه صلى العصر والمغرب والعشاء بطهارة وشك هل كان حدثه
قبل الظهر وتوضأ لها وصلاها أم كان حدثه بعدها ولم يصلها فيلزمه أن يصلى الظهر وان يبنى المدة
على أنها من الزوال هذا كلام صاحب البيان وقال أبو الحسن الزبيدي بفتح الزاي صورة المسألة
أنه ليس خفيه في الحضر وأحدث في الحضر قبل استواء الشمس مثلا وصلي الظهر في وقتها في
الحضر ثم سافر بعد فراغه منها ودخل وقت العصر وهو في السفر فصلى العصر والمغرب والعشاء
ثم شك هل كان مسحه بعد الظهر في وقت العصر فله مدة المسافرين وعليه قضاء الظهر إن كان
مسحه قبل الظهر فله مدة مقيم وليس عليه قضاء الظهر فنقول له يلزمك الاخذ بالأشد وهو انك
صليتها بغير مسح فيجب قضاؤها لان الأصل بقاؤها في ذمتك والأصل أيضا عدم المسح
فالأصلان متفقان على وجوب قضائها وأما المدة فيبني على أنها قبل الظهر ليرجع إلى الأصل
وهو غسل الرجل فوقت الحدث عنده قبل الاستواء معلوم متيقن والظهر صلاها في الحضر بيقين
493

هذا كلام الزبيدي وقال الشيخ عمرو بن الصلاح الجواب عن الاشكال الأول ان ذلك مخرج على
قول حكاه الخراسانيون ان حصول مثل هذا الشك بعد الصلاة يوجب اعادتها والجواب عن
الثاني ان صورة المسألة أن يقترن الحدث والمسح فكأنه قال لبس ثم أحدث ومسح جميعا ثم قال
بعد ذلك ثم شك هل كان مسحه قبل الظهر أو بعدها ومعناه هل كان حدثه ومسحه المقترنين
فاجتزى بذكر أحدهما اقتصارا هذا كلام أبي عمرو فاما ما قاله صاحب البيان فخلاف كلام المصنف
وأما ما قاله الزبيدي فمحتمل أن يكون مراد المصنف: وأما ما قاله أبو عمرو فالجواب الثاني حسن (1)
وأما الأول فضعيف أو باطل لوجهين أحدهما كيف يصح حمل كلام المصنف على قول غريب ضعيف
في طريقة الخراسانيين وهو وسائر العراقيين مصرحون بخلافه وكذا كثيرون أو الأكثرون
من الخراسانيين والثاني ان هذا الحكم الذي التزمه ان الشك في الشك في الطهارة بعد فراغ الصلاة لا
يوجب اعادتها كالشك في ركعة بمقبول بل من شك في الطهارة بعد الفراغ من الصلاة يلزمه إعادة بها
الصلاة بخلاف الشك في أركانها كركعة وسجدة فإنه لا يلزمه شئ على المذهب والذي ذكره
الأصحاب أنه لا يلزمه إنما هو في الشك في أركانها هكذا صرحوا به والفرق بين الأركان والطهارة:
من وجهين أحدهما ان الشك في الأركان يكثر فعفى عمه نفيا للحرج بخلاف الشك في الطهارة:
والثاني أن الشك في السجدة وشبهها حصل بعد تيقن انعقاد الصلاة والأصل استمرارها على الصحة
بخلاف الشك في الطهارة فإنه شك هل دخل في الصلاة أم لا والأصل عدم الدخول فقد صرح الشيخ
أبو حامد والقاضي أبو الطيب في تعليقهما والمحاملي وآخرون في باب المياه وآخرون في آخر صفة
الوضوء والقاضي أبو الطيب في شرح فروع ابن الحداد وسائر الأصحاب بمعنى ما قلته فقالوا
إذا توضأ المحدث ثم جدد الوضوء ثم صلى صلاة واحدة ثم تيقن أنه نسي مسح رأسه من أحد الوضوء ين
لزمه إعادة الصلاة لجواز أن يكون ترك المسح من الطهارة الأولى ولم يقولوا أنه شك بعد الصلاة
ولهذا نظائر لا تحصى والله أعلم *
واعلم أن الشيخ أبا حامد الأسفرايني قال في تعليقه في آخر باب الإجارة على الحج والوصية به وهو
في آخر كتاب الحج قال الشافعي رضي الله عنه في الا ملاء ولو اعتمر أو حج فلما فرغ من الطواف
شك هل طاف متطهر أم لا أجبت أن يعيد الطواف ولا يلزمه ذلك ذلك قال أبو حامد وهذا صحيح
وإنما قلنا لا يعيد الطواف لأنه لما فرغ منه حكمنا بصحته في الظاهر ولا يؤثر فيه الشك الطارئ

(1) قوله حسن فيه نظر فان الظهر صحيح على التقديرين فكيف
يجب قضاؤها واما صاحب البيان فكأنه أراد حمل كلام المصنف على المسألة التي
نص عليها الشافعي والأصحاب المذكورة بعد لكنه تأويل بعيد واما الزبيدي فجوابه
مبني على أن الشك في الطهارة بعد الفراغ من الصلاة يؤثر وفيه ما نص عليه في
الاملاء وما قاله الشيخ أبو حامد وغيره رحمهم الله اه‍ من هامش الأذرعي
494

بعد الحكم بصحته في الظاهر بخلاف من شك في أثناء العبادة هل هو متطهر أم لا فإنها لا تجزيه
لأنه لم يحكم له بأدائها في الظاهر قال وهكذا الحكم في الصلاة إذا فرغ منها ثم شك هل صلى
بطهارة أم لا أو هل قرأ فيها أم لا أو هل ترك منها سجدة أم لا لما ذكرناه من أنه قد حكم له بصحتها
بعد خروجه منها في الظاهر فلا يؤثر فيها الشك بعدها قال أبو حامد وهذه المسألة
حسنة هذا كلام أبي حامد ونقله وهكذا نقل المسألة في الباب المذكور
من كتاب الحج عن الاملاء القاضي أبو الطيب في كتابيه التعليق والمجرد والمحاملي
في كتابيه المجموع والتجريد وغيرهم ولم يذكروا فيها خلافا فحصل في المسألة خلاف في أن الشك
في الطهارة بعد الفراغ من الصلاة هل يوجب اعادتها أم لا: واعلم أن المسألة التي ذكرها المصنف
نص عليها الشافعي رضي الله عنه في الأم والأصحاب على غير ما ذكره المصنف فقالوا إذا شك هل
أدى بالمسح ثلاث صلوات أم أربعا أخذ في وقت المسح بالأكثر وفي أداء الصلاة بالأقل احتياطا
للامرين مثاله لبس خفيه وتيقن أنه أحدث ومسح وصلى العصر والمغرب والعشاء وشك هل
تقدم حدثه ومسحه في أول وقت الظهر وصلي به الظهر أم تأخر حدثه ومسحه إلى أول وقت العصر
ولم يصل الظهر فيأخذ في الصلاة باحتمال التأخر وأنه لم يصلها فيجب قضاؤها لان الأصل بقاؤها
عليه ويأخذ في المدة باحتمال التقدم فيجعلها من الزوال لان الأصل غسل الرجل فيعمل بالأصل
والاحتياط في الطرفين والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ويجوز المسح على كل خف صحيح يمكن متابعة المشي عليه سواء كان من الجلود أو اللبود
أو الخرق أو غيرها فاما الخف المخرق ففيه قولان قال في القديم إن كان الخرق لا يمنع متابعي المشي
عليه جاز المسح عليه لأنه خف يمكن متابعة المشي عليه فأشبه الصحيح وقال في الجديد إن ظهر من الرجل
شئ لم يجز المسح عليه لان ما انكشف حكمه الغسل وما استتر حكمه المسح والجمع بينهما لا يجوز فغلب
حكم الغسل كما لو انكشفت احدى الرجلين واستترت الأخرى)
495

(الشرح) اتفق أصحابنا على أنه لا يشترط في الخف جنس الجلود بل يجوز المسح على
الجلود واللبود والخرق المطبقة والخشب وغيرها بشرط أن يكون صحيحا يمكن متابعة المشي عليه
لان سبب الإباحة الحاجة وهي موجودة في كل ذلك وهو نظير الاستنجاء بالأحجار واتفق الأصحاب
ونصوص الشافعي رضي الله عنه على أنه يشترط في الخف كونه قويا يمكن متابعة المشي عليه قالوا
ومعنى ذلك أن يمكن المشي عليه في مواضع النزول وعند الحط والترحال وفي الحوائج التي يتردد
فيها في المنزل وفي المقيم نحو ذلك كما جرت عادة لابسي الخفاف ولا يشترط إمكان متابعة المشي
فراسخ هكذا صرح به أصحابنا: وأما المخرق ففيه أربع صور إحداها أن يكون الخرق فوق
الكعب فلا يضر ويجوز المسح عليه بلا خلاف نص عليه الشافعي رضى الله عليه في الأم والمختصر
وغيرهما واتفق عليه الأصحاب (الثانية) يكون الخرق في محل الفرض وهو فاحش لا يمكن متابعة
المشي عليه فلا يجوز المسح بلا خلاف (الثالثة) يكون في محل الفرض ولكنه يسير جدا بحيث لا
يظهر منه شئ من محل الفرض قال أصحابنا وذلك كمواضع الخرز فيجوز المسح بلا خلاف
قال القاضي حسين وغيره ما يبقي من مواضع الخرز لا يضر وان نفذ منه الماء (الرابعة) يكون في
محل الفرض يظهر منه شئ من الرجل ويمكن متابعة المشي عليه ففيه القولان المذكوران في الكتاب
وهما مشهور ان أصحهما أنه لا يجوز وهو نصه في الجديد وسواء حدث الخرق بعد اللبس
أو كان قبله وسواء كان في مقدم الخف أو مؤخره أو وسطه وأما قول الشافعي رضي الله عنه
في المختصر وان تخرق من مقدم الخف شئ فليس مراده التقييد بالمقدم بل ذكره لكونه الغالب
كذا أجاب الماوردي عنه وقال الشيخ أبو حامد والقاضي حسين والروياني أراد موضع القدم
ولم يرد المقدم الذي هو ضد المؤخر وأما قول المصنف كما لو انكشفت احدى الرجلين واستترت
الأخرى فقياس صحيح وفيه تنبيه على مسألة مهمة من أصول الباب وهي انه لو لبس خفا في رجل
دون الأخرى ومسح عليه وغسل الاخر لم يجز بلا خلاف وسنوضحها مقصودة بتفريعها في
المسائل الزائدة في آخر الباب إن شاء الله تعالى والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في الخف المخرق خرقا في محل الفرض يمكن متابعة المشي عليه قد
ذكرنا أن الصحيح الجديد في مذهبنا انه لا يجوز المسح عليه وبه قال معمر بن راشد وأحمد بن
496

حنبل وحكي ابن المنذر عن سفيان الثوري واسحق ويزيد بن هارون وأبي ثور جواز المسح على
جميع الخفاف: وعن الأوزاعي ان ظهرت طائفة من رجله مسح على خفيه وعلى ما ظهر من رجله:
وعن مالك رضي الله عنه إن كان الخرق يسيرا مسح وإن كان كثيرا لم يجز المسح. وعن أبي حنيفة
وأصحابه إن كان الخرق قدر ثلاثة أصابع لم يجز المسح وإن كان دونه جاز: وعن الحسن البصري
ان ظهر الأكثر من أصابعه لم يجز قال ابن المنذر وبقول الثوري أقول لظاهر إباحة رسول
الله صلى الله عليه وسلم المسح على الخفين قولا عاما يدخل فيه جميع الخفاف * واحتج
القائلون بالجواز على اختلاف مذاهبهم بما احتج بن ابن المنذر وبأنه جوز المسح رخصة
وتدعو الحاجة إلى المخرق وبأنه لا تخلوا الخفاف عن الخرق غالبا وقد يتعذر خرزه لا سيما في السفر
فعفى عنه للحاجة وبأنه خف يحرم على المحرم لبسه وتجب به الفدية فجاز المسح عليه كالصحيح *
واحتج أصحابنا بأشياء كثيرة أحسنها ما ذكره المصنف وأجابوا عن استدلا لهم باطلاق إباحة
المسح أنه محمول على المعهود وهو الخف الصحيح وعن الثاني أن المخرق لا يلبس غالبا فلا تدعو
إليه الحاجة وعن قولهم يحرم على المحرم لبسه وتجب به الفدية بأن ايجاب الفدية منوط بالترفه وهو
حاصل بالمخرق والمسح منوط بالستر ولا يحصل بالمخرق ولهذا لو لبس الخف في احدى الرجلين
لا يجوز المسح ولو لبسه محرم وجبت الفدية والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(فان تخرقت الظهارة فإن كانت البطانة صفيقة جاز المسح عليه وإن كانت تشف لم يجز
لأنه كالمكشوف) *
(الشرح) الظهارة والبطانة بكسر أولهما وقوله تشف بفتح التاء وكسر الشين المعجمة
وتشديد الفاء ومعناه رقيقة والصفيقة القوية المتينة قال الشافعي رضي الله عنه إذا تخرقت الظهارة
وبقيت البطانة جاز المسح عليها هذا نصه قال جمهور الأصحاب مراده إذا كانت البطانة صفيقة
يمكن متابعة المشي عليها فإن كانت رقيقة لا يمكن متابعة المشي عليها لم يجز هكذا قطع به المصنف
497

والأصحاب في الطرق وحكي الروياني والرافعي رحمهما الله وجها غريبا ضعيفا انه يجوز وإن كان
ت البطانة رقيقة كما لو كان الخف طافا واحدا فتشقق ظاهره ولم ينفذ يجوز المسح بخلاف
اللفافة لأنها مفردة قال الروياني قال الشافعي وكل شئ ألصق بالخف فهو منه قال الرافعي وعلى
ما ذكرناه في تخرق الظهارة دون البطانة يقاس ما إذا تخرق من الظهارة موضع ومن البطانة
موضع لا يحاذيه وقطع الغزالي في هذه الصورة بالجواز قال القاضي أبو الطيب ولو تخرق الخف
وتحته جورب يستر محل الفرض لم يجز المسح بخلاف البطانة لان الجورب منفصل عن
الخف والبطانة متصلة به ولهذا يتبع البطانة الخف في البيع ولا يتبعه الجورب والله أعلم *
قال المصنف رحمه الله *
(وان لبس خفا له شرج في موضع القدم فإن كان مشدودا بحيث لا يظهر شئ من الرجل
واللفافة إذا مشى فيه جاز المسح عليه) *
(الشرح) الشرج بفتح والراء وبالجيم وهي العرى قال أصحابنا إذا لبس خفا له
شرج وهو المشقوق في مقدمه نظر إن كان الشق فوق محل الفرض لم يضر لان ذلك الموضع لو لم
يكن مستورا جاز المسح وإن كان الشق في محل الفرض فإن كان لا يرى منه شئ من الرجل
إذا مشي جاز المسح عليه وإن كانت ترى فإن لم يشده لم يجز المسح وان شده جاز المسح عليه
بشرط أن لا يبقى شئ من الرجل أو اللفافة يبين في حال المشئ هكذا ذكر
هذا التفصيل الشافعي رضي الله عنه في الأم وأصحابنا العراقيون ونقلوه عن نصه وقطعوا
به وكذا قطع به جمهور الخراسانيين وحكي امام الحرمين عن والده أبي محمد أنه حكي وجها انه
لا يجوز المسح على الخف المشرج المشدود مطلقا كما لو لف على رجله قطعة جلد وشدها قال
والصحيح القطع بالجواز لان الستر حاصل قال أصحابنا فإذا لبسه وشده ثم فتح الشرج بطل
المسح في الحال وإن لم يظهر شئ من الرجل لأنه إذا مشى فيه ظهرت الرجل فبمجرد الفتح
498

خرج عن كونه يمكن متابعة المشي عليه مع الستر وهذا متفق عليه عند أصحابنا والله أعلم *
قال المصنف رحمه الله *
(وان لبس جوربا جاز المسح عليه بشرطين أحدهما أن يكون صفيقا لا يشف والثاني أن
يكون منعلا فان اختل أحد الشرطين لم يجز المسح عليه) *
(الشرح) هذه المسألة مشهورة وفيها كلام مضطرب للأصحاب ونص الشافعي رضي الله عنه
عليها في الأم كما قاله المصنف وهو أنه يجوز المسح على الجورب بشرط أن يكون صفيقا
منعلا وهكذا قطع به جماعة منهم الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ والمتولي وغيرهم ونقل
المزني أنه لا يمسح على الجوربين إلا أن يكونا مجلدى القدمين وقال القاضي أبو الطيب لا يجوز
المسح على الجورب إلا أن يكون ساترا لمحل الفرض ويمكن متابعة المشي عليه قال وما نقله المزني
من قوله إلا أن يكونا مجلدى القدمين ليس بشرط وإنما ذكره الشافعي رضي الله عنه لان الغالب
أن الجورب لا يمكن متابعة المشي عليه الا إذا كان مجلد القدمين هذا كلام القاضي أبي الطيب
وذكر جماعات من المحققين مثله ونقل صاحبا الحاوي والبحر وغيرهما وجها أنه لا يجوز المسح
وإن كان صفيقا يمكن متابعة المشي عليه حتى يكون مجلد القدمين والصحيح بل الصواب ما ذكره
القاضي أبو الطيب والقفال وجماعات من المحققين انه إن أمكن متابعة المشي عليه جاز كيف كان
وإلا فلا وهكذا نقله الفوراني في الإبانة عن الأصحاب أجمعين فقال قال أصحابنا إن أمكن متابعة
المشي على الجوربين جاز المسح عليهما وإلا فلا والجورب بفتح الجيم والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في الجورب قد ذكرنا أن الصحيح من مذهبنا ان الجورب إن كان
صفيقا يمكن متابعة المشي عليه جاز المسح عليه وإلا فلا وحكي ابن المنذر إباحة المسح على
الجورب عن تسعة من الصحابة على وابن مسعود وابن عمر وأنس وعمار بن ياسر وبلال
والبراء وأبي أمامة وسهل بن سعد وعن سعيد بن المسيب وعطاء والحسن وسعيد بن جبير
499

والنخعي والأعمش والثوري والحسن بن صالح وابن المبارك وزفر واحمد واسحق وأبي ثور وأبي
يوسف ومحمد * قال وكره ذلك مجاهد وعمر وابن دينار والحسن بن مسلم ومالك والأوزاعي * وحكي
أصحابنا عن عمر وعلى رضي الله عنهما جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقا وحكوه عن أبي
يوسف ومحمد واسحق وداود وعن أبي حنيفة المنع مطلقا وعنه أنه رجع إلى الإباحة * واحتج من
منعه مطلقا: بأنه لا يسمي خفا فلم يجز المسح عليه كالنعل * واحتج أصحابنا بأنه ملبوس يمكن متابعة
المشي عليه ساترا لمحل الفرض فأشبه الخف ولا بأس بكونه من جلد أو غيره بخلاف النعل فإنه
لا يستر محل الفرض * واحتج من اباحه وإن كان رقيقا بحديث المغيرة رضي الله عنه ان النبي صلى
الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه وعن أبي موسى مثله مرفوعا * واحتج أصحابنا بأنه لا يمكن
متابعة المشي عليه فلم يجز كالخرقة: والجواب عن حديث المغيرة من أوجه أحدها أنه ضعيف ضعفه
الحفاظ وقد ضعفه البيهقي ونقل تضعيفه عن سفيان الثوري وعبد الرحمن بن مهدي وأحمد ابن
حنبل وعلي بن المديني ويحيى بن معين ومسلم بن الحجاج وهؤلاء هم أعلام أئمة الحديث وإن كان
الترمذي قال حديث حسن فهؤلاء مقدمون عليه بل كل واحد من هؤلاء لو أنفرد قدم على
الترمذي باتفاق أهل المعرفة: الثاني لو صح لحمل على الذي يمكن متابعة المشي عليه جمعا بين الأدلة
وليس في اللفظ عموم يتعلق به: الثالث حكاه البيهقي رحمه الله عن الأستاذ أبي الوليد النيسابوري
انه حمله على أنه مسح على جوربين منعلين لا أنه جورب منفرد ونعل منفردة فكأنه قال مسح على
جور بيه المنعلين وروى البيهقي عن أنس بن مالك رضي الله عنه ما يدل على ذلك: والجواب عن
حديث أبي موسى من الأوجه الثلاثة فان في بعض رواته ضعفا وفيه أيضا إرسال قال أبو داود في
سننه هذا الحديث ليس بالمتصل ولا بالقوى والله أعلم * قال المصنف رحمه الله تعالى *
(وان لبس خفا لا يمكن متابعة المشي عليه لرقته أو لثقله لم يجز المسح عليه لان الذي تدعو
الحاجة إليه ما يمكن متابعة المشي عليه وما سواه لا تدعو الحاجة إليه فلم تتعلق به الرخصة)
500

(الشرح) أما ما لا يمكن متابعة المشي عليه لرقته فلا يجوز المسح عليه بلا خلاف (1) لما ذكره وأما ما لا يمكن
متابعة المشي عليه لثقله كخف الحديد الثقيل فالصحيح المشهور الذي قطع به الجمهور في الطرق انه لا يجوز
المسح عليه لما ذكره المصنف وممن قطع به الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ والبغوي وخلائق ونقله
الروياني في البحر عن الأصحاب قال الرافعي وهو مقتضى قول الأصحاب تصريحا وتلويحا وقطع امام
الحرمين والغزالي بالجواز وان عسر المشي فيه لان ذلك لضعف اللابس لا الملبوس ولا نظر إلى أحوال
اللابسين والاعتماد على ما قاله الجمهور واتفق الأصحاب على أن خف الحديد الذي يمكن متابعة المشي عليه
يجوز المسح عليه ويمكن ان يحمل كلام امام الحرمين والغزالي على ما يمكن متابعة المشي عليه معا
عسر ومشقة وكلام الغزالي صالح لهذا التأويل وفي كلام الامام بعد منه ولكنه يحتمل فعلى
هذا لا يبقى خلاف والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بما سبق (إحداها) قال أصحابنا لا يشترط اتفاق جنس الخفين بل لو كان
أحدهما جلدا والآخر لبدا وشبه ذلك جاز ولذا لو كان أحدهما من جلد والآخر من خشب وأكثر
ما يقع هذا فيمن قطع بعض احدى رجليه (الثانية) لو اتخذ خفا واسعا لا يثبت في الرجل إذا مشى فيه
أو ضيقا جدا بحيث لا يمكن المشي فيه فوجهان حكاهما جماعات منهم القاضي حسين أصحهما لا يجوز
المسح عليهما وبه قطع البغوي وصححه الرافعي وغيره ونقله في الضيق الشاشي عن جمهور الأصحاب
لأنه لا حاجة إليه والثاني يجوز لأنه صالح في نفسه بدليل انه يصلح لغيره فاما الضيق الذي يتسع
بالمشي فيجوز المسح عليه بلا خلاف صرح به البغوي وغيره (الثالثة) لو لبس خفا واسع الرأس يرى

(1) قوله بلا خلاف يعني في غير مسألة تخرق الظهارة دون البطانة فإنه سبق فيها وجه
ضعيف انه لا يجوز المسح وإن كانت رقيقة لظاهر النص اه‍ أذرعي
501

منه القدم ولكن محل الفرض مستور من أسفل ومن الجوانب فوجهان الصحيح جواز المسح وبه
قطع الجمهور منهم القاضي حسين وإمام الحرمين والغزالي في البسيط والمتولي والبغوي وآخرون
لأنه ساتر محل الفرض والثاني لا يجوز وبه قطع البندنيجي وصاحب الحاوي والعدة والشيخ نصر
المقدسي في تهذيبه كما لو انكشفت عورته من جيبه والمذهب الأول قال أصحابنا ولو صلى في قميص
واسع الجيب ترى عورته من جيبه لم تصح صلاته ولو كان ضيق الجيب ولكن وقف على طرف
سطح بحيث ترى عورته من تحت ذيله صحت صلاته قالوا فيجب في الخف الستر من أسفل ومن
الجوانب دون الأعلى وفي العورة من فوق ومن الجوانب دون الأسفل قال القاضي حسين
وآخرون والفرق بينهما أن القميص يلبس من أعلى ويتخذ ليستر أعلى البدن والخف يلبس من
أسفل ويتخذ ليستر أسفل الرجل فأخذ به قالوا فالمسألتان مختلفان صورة متفقتان معني وشذ الشاشي
فقال في المعتمد لا تصح صلاة من صلي على طرف سطح ترى من تحته عورته لأنه لا يعد سترا ووافق على مسألة
الخف وفرق بان المعتبر ستر محل الفرض والله أعلم (الرابعة) إذا لبس خف زجاج يمكن متابعة المشي عليه
جاز المسح عليه وإن كان ترى تحته البشرة بخلاف ما لو ستر عورته بزجاج فإنه لا يصح إذا وصف لون البشرة
لان المقصود سترها عن الأعين ولم يحصل والمعتبر في الخف عسر القدرة على غسل الرجل بسبب
الساتر وذلك موجود هكذا قطع به أصحابنا في الطريقين وممن صرح به القفال والصيد لأني و القاضي حسين
وإمام الحرمين والغزالي في البسيط والمتولي والبغوي وصاحب البيان وآخرون وأما قول الروياني في البحر
قال القفال يجوز المسح على خف زجاج وقال سائر أصحابنا لا يجوز فغير مقبول منه بل قطع الجمهور
بل الجميع بالجواز ولا نعلم أحدا صرح بمنعه وقد نقل القاضي حسين جوازه عن الأصحاب مطلقا (1)
(الخامسة) إذا ليس خفا من خشب فإن كان يمكن متابعة المشي عليه بغير عصا جاز المسح عليه وإن لم
يمكنه الا بعصا فإن كان ذلك لعلة في رجله كقروح ونحوها جاز المسح لأنه يجوز المسح للزمن
والمقعد وإن كان امتناع المشي لحدة في رأس الخف لم يجز المسح عليه هكذا ذكر هذا التفصيل
القاضي حسين وصاحباه المتولي والبغوي (السادسة) لو لف على رجله قطعة أدم واستوثق شده بالرباط

(1) ومن البعيد أو المحال امكان متابعة المشي الكثير على خف الزجاج الا ان يمشي به
على بساط أو ارض دمثة لا حصى ولا حجر بها اه‍ أذرعي
502

وكان قويا يمكن متابعة المشي عليه لم يجز المسح عليه لأنه لا يسمي خفا ولا هو في معناه ولأنه لا يثبت
عند التردد غالبا هكذا ذكره الشيخ أبو محمد وولده امام الحرمين ومن تابعهما (السابعة)
قال أصحابنا يجوز المسح على خفين قطعا من فوق الكعبين ولا يشترط ارتفاعهما عليه بلا خلاف
عندنا ونقل أبو الفتح سليم الرازي في كتابه رؤس المسائل أن بعض الناس قال لا يجوز حتى
يكونا فوق الكعبين بثلاث أصابع وهذا تحكم لا أصل له *
(الثامنة) هل يشترط كون الخف صفيقا يمنع نفوذ الماء فيه وجهان حكاهما امام الحرمين وغيره
أحدهما يشترط فإن كان منسوجا بحيث لو صب عليه الماء نفذ لم يجز المسح وبهذا قطع الماوردي
والفوراني والمتولي قال الرافعي وهو ظاهر المذهب لان الذي يقع عليه المسح ينبغي أن يكون
حائلا بين الماء والقدم والثاني لا يشترط بل يجوز المسح وان نفذ الماء واختاره امام الحرمين والغزالي
لوجود الستر قال الامام ولان علماءنا نصوا على أنه لو انتقبت ظهارة الخف من موضع وبطانته من
موضع آخر لا يحاذيه وكان بحيث لا يظهر من القدمين شئ ولكن لو صب الماء في ثقب الظهارة يجرى إلى
ثقب البطانة ووصل إلى القدم جاز المسح فإذا لا أثر لنفوذ الماء مع أن الماء في المسح لا ينفذ والغسل
ليس مأمورا به هذا كلام الامام والمذهب الأول والله أعلم * قال المصنف رحمه الله
(وفي الجرموقين وهو الخف الذي يلبس فوق الخف وهما صحيحان قولان قال في القديم والاملاء
يجوز المسح عليه لأنه خف صحيح يمكن متابعة المشي عليه فأشبه المنفرد وقال في الجديد لا يجوز
لان الحاجة لا تدعو إلى لبسه في الغالب وإنما تدعو الحاجة إليه في النادر فلا يتعلق به رخصة عامة
كالجبيرة فان قلنا بقوله الجديد فادخل يده في ساق الجرمون ومسح على الخف ففيه وجهان قال الشيخ
أبو حامد الأسفرايني رحمه الله لا يجوز وقال شيخنا القاضي أبو الطيب رحمه الله يجوز لأنه مسح
على ما يجوز المسح عليه فأشبه إذا نزع الجرموق ثم مسح عليه وإذا قلنا يجوز المسح على الجرموق
فلم يمسح عليه وادخل يده إلى الخف ومسح عليه ففيه وجهان أحدهما لا يجوز لأنه يجوز المسح على الظاهر
فإذا أدخل يده ومسح على الباطن لم يجز كما لو كان في رجله خف منفرد فادخل يده إلى باطنه ومسح
الجلد الذي يلي الرجل والثاني يجوز لان كل واحد منهما محل للمسح فجاز المسح على ما شاء منهما
(الشرح) الجرموق بضم الجيم والميم وهو عجمي معرب وقوله وهو الخف ولم يقل وهما
503

أراد الجرموق الفرد وليس الجرموق في الأصل مطلق الخف فوق الخف بل هو شئ يشبه الخف
فيه اتساع يلبس فوق الخف في البلاد الباردة والفقهاء يطلقون انه الخف فوق الخف ولان الحكم
يتعلق بخف فوق خف سواء كان فيه اتساع أو لم يكن: وقوله فلا يتعلق به رخصة عامة كالجبيرة
فيه إشارة إلى أنه يتعلق به رخصة خاصة حتى يجوز المسح عليه قولا واحدا في بعض البلاد الباردة
لشدة البرد كما يتعلق بالجبيرة رخصة خاصة في حق الكسير وقد نقل الشيخ أبو عمرو عن والده
الجزم بذلك قال فلا أدرى أخذه من إشعار كلام المصنف به أم رآه منقولا لغيره من الأصحاب
قال ولم أجد لما ذكره أصلا في كتب الأصحاب بل وجدت ما يشعر بخلافه والحافه على هذا القول
بالقفازين أولى من الحاقه بالجبيرة التي هي من باب الضرورات فإذا لم يجز المسح على القفازين
في شدة البرد في المواضع الباردة فكذا الجرموق الذي لا يعسر ادخال اليد تحته ومسح الخف
قال وإنما قال المصنف رحمه الله رخصة عامة ليتم القياس على الجبيرة فإنه لو قال فلا يتعلق به
رخصة كالجبيرة لم يستقم فان الجبيرة يتعلق بها رخصة وهي الخاصة في حق الكسير فإذا ثبت
له انتفاء الرخصة العامة ثبت محل النزاع هذا كلام الشيخ أبي عمرو وحاصله انه اختار أن قوله
رخصة عامة ليس للاحتراز من تعلق رخصة خاصة به بل هو لتقريب الشبه من الجبيرة المقيس
عليها وان القولين في جواز المسح على الجرموق يجريان في شدة البرد وغيرها وهذا هو الذي
يقتضيه كلام الأصحاب والأصح من القولين عند الأصحاب أنه لا يجوز المسح على الجرموق
ووافقهم عليه القاضي أبو الطيب في تعليقه وخالفهم في كتابه شرح فروح ابن الحداد فصحح
الجواز وهو اختيار المزني وشرط مسألة القولين أن يكون الخفاف والجرموقان صحيحين يجوز
المسح على كل واحد لو أنفرد كما قاله المصنف فاما لأن كان الأعلى صحيحا والأسفل مخرقا فيجوز المسح
504

على الأعلى قولا واحدا لان الأسفل في حكم اللفافة هكذا قطع به الأصحاب الطرق وصرحوا
بأنه لا خلاف فيه وشذ الدارمي فحكي فيه طريقين المنصوص منهما هذا: والثاني أنه على القولين
وليس بشئ وإن كان الأعلى مخرقا والأسفل صحيحا لم يجز المسح على الأعلى ويجوز على الأسفل
قولا واحدا ويكون الأعلى في معني خرقة لفها فوق الخف فلو مسح على الأعلى في هذه الصورة
فوصل البلل إلى الأسفل فان قصد مسح الأسفل أجزأه وان قصد مسح الأعلى لم يجزئه وان قصدهما
أجزأه على المذهب وفيه وجه حكاه الرافعي وإن لم يقصد واحدا منهما بل قصد أصل المسح
فوجهان قال الرافعي أصحهما الجواز لأنه قصد اسقاط فرض الرجل بالمسح وقد وصل الماء إليه
والله أعلم
وإذا جوزنا المسح على الجرموقين فلبس فوقهما ثانيا وثالثا جاز المسح على الأعلى
صرح به أبو العباس بن القاص في التلخيص والدارمي والبغوي والروياني وغيرهم قال البغوي
فإن كانت كلها مخرقة الا الأعلى جاز المسح عليه بلا خلاف وكان ما تحته كاللفافة وإذا قلنا
لا يجوز المسح على الجرموق فأدخل يده تحته ومسح الأسفل ففي جوازه الوجهان اللذان ذكرهما
المصنف وهما مشهوران الصحيح منهما الجواز كما لو أدخل يده تحت العمامة ومسح الرأس وكما لو
أدخل الماء في الخف وغسل الرجل: ممن صححه صاحبا الحاوي والتتمة والروياني وقطع به امام
الحرمين والغزالي والبغوي قال صاحب الحاوي وهو قول جمهور أصحابنا وقطع المحاملي بالوجه الآخر
ثم ظاهر كلام المصنف والأصحاب أن الوجه القائل لا يجوز المسح هو قول الشيخ أبي حامد تخريج له
وليس الامر كذلك بل قد نقله أبو حامد في تعليقه عن الأصحاب فقال قال أصحابنا لا يجزيه المسح على الأسفل
وتمسك الشيخ أبو حامد بظاهر نص الشافعي رضي الله عنه في الأم فإنه قال لو لبس الجرموقين طرحهما ومسح
على الخفين قال فظاهره انه لو أدخل يده ومسح على الخف لا يجوز قال والفرق بينه وبين ما إذا أدخل يده تحت
العمامة فمسح الرأس ان مسح الرأس أصل فقوى أمره وهذا بدل فضعف فلم يجز المسح عليه مع
505

استتاره قال القاضي أبو الطيب في تعليقه هذا الذي قاله أبو حامد ليس بصحيح لان الشافعي رضي الله عنه
قال ذلك لكون الغالب ان الماسح لا يتمكن من مسح الأسفل الا بطرح الأعلى كما قال إذا
انقضت مدة المسح نزع الخفين وإنما قال ذلك لان الغالب انه لا يتمكن من غسل الرجلين الا
ينزع الخفين والا فقد اتفقنا على أنه لو غسل رجليه في الخف جاز وإن لم ينزعهما قال الروياني
هذا الذي قاله أبو الطيب هو الصحيح الذي لا يحل أن يقال غيره قال والفرق الذي ذكره أبو حامد
لا معنى له فحصل ان الصحيح جواز المسح على الأسفل وإذا قلنا بجواز المسح على الجرموقين فادخل
يده ومسح الأسفل فقد ذكر المصنف في جوازه وجهين وهما مشهوران أصحهما الجواز صححه ابن
الصباغ والروياني وآخرون لان كل واحد محل للمسح فأشبه شعر الرأس وبشرته
(فرع) في مسائل تتعلق بمسح الجرموقين إحداها إذا قلنا يجوز المسح على الجرموقين فينبغي أن يلبس
الخفين والجرموقين جميعا على طهارة غسل الرجلين فان لبس الخفين على طهارة ثم لبس الجرموقين على
حدث لم يجز المسح عليهما على المذهب وبه قطع العراقيون وصححه الخراسانيون لأنه لبس ما يمسح عليه على
حدث وفيه وجه ضعيف للخراسانيين انه يجوز كما لو لبس الخف على طهارة ثم أحدث ثم رقع فيه رقعة وان لبس
الخف على طهارة ثم أحدث ومسح عليه ثم لبس الجرموق على طهارة المسح ففي جواز المسح عليه وجهان
مشهوران وقد ذكرهما المصنف بعد هذا أحدهما يجوز المسح لأنه لبسهما على طهارة والثاني لا لأنها
طهارة ناقصة هكذا علله الأكثرون قال المحاملي وغيره الوجهان مبنيان على الخلاف في المسح على
الخف هل يرفع الحدث عن الرجل قال الروياني الأصح منع المسح وهو قول الداركي وقال غيره
الأصح الجواز وهو قول الشيخ بي حامد ومقتضى كلام الرافعي وغيره ترجيحه وهو الأظهر
المختار لأنه لبس على طهارة وقولهم إنها طهارة ناقصة غير مقبول قال الرافعي قال الشيخ
أبو علي إذا جوزنا المسح هنا فابتداء المدة من حين أحدث بعد لبس الخف لامن حين
أحدث بعد لبس الجرموق قال وفي جواز المسح على الأسفل الخلاف فيما إذا لبسهما على
طهارة قال ولو لبس الأسفل على حدث ثم غسل الرجل فيه ثم لبس الجرموق على هذه الطهارة
لم يجز المسح على الأسفل وفي جوازه على الأعلى وجهان أصحهما المنع (المسألة الثانية) إذا
جوزنا المسح على الجرموق فقد ذكر أبو العباس ابن سريج فيه ثلاثة معان أصحها أن الجرموق

(1) هذا الوجه مبني على المعنى الثالث الآتي في المسألة الثانية وهو انهما
كخف واحد لكنه ضعيف اه‍ أذرعي
506

بدل عن الخف والخف بدل عن الرجل والثاني أن الأسفل كلفافة والأعلى هو الخف والثالث انهما
كخف واحد فالأعلى ظهارة والأسفل بطانة: وفرع الأصحاب على هذه المعاني مسائل كثيرة منها لو لبسهما معا
فأراد الاقتصار على مسح الأسفل جاز على المعنى الأول دون الآخرين وقد سبقت المسألة: ومنها لو تخرق
الأعلى من الرجلين جميعا أو خلعه منهما بعد مسحه وبقي الأسفل بحاله فان قلنا بالمعنى الأول لم يجب
نزع الأسفل بل يجب مسحه وهل يكفيه مسحه أم يجب استئناف الوضوء فيه القولان في نازع
الخفين وان قلنا بالمعنى الثالث فلا شئ عليه وان قلنا بالثاني وجب نزع الأسفل أيضا وغسل القدمين وفي
وجوب استئناف الوضوء القولان فحصل من الخلاف في المسألة خمسة أقوال إحداها لا يجب شئ وأصحها
يجب مسح الأسفل فقط والثالث يجب مسحه مع استئناف الوضوء والرابع يجب نزع الخفين
وغسل الرجلين والخامس يجب ذلك مع استئناف الوضوء وقد ذكر المصنف المسألة في آخر الباب:
ومنها لو تخرق الا على من إحدى الرجلين أو نزعه فان قلنا بالمعني الثالث فلا شئ عليه وان قلنا
بالثاني وجب نزع الأسفل أيضا من هذه الرجل ووجب نزعهما من الرجل الأخرى وغسل
القدمين وفي استئناف الوضوء القولان: وان قلنا بالمعنى الأولى فهل يلزمه نزع الأعلى من الرجل
الأخرى فيه وجهان أصحهما نعم كمن نزع أحدي الخفين فإذا نزعه عاد القولان في أنه يكفيه
مسح الأسفل أم يجب استئناف الوضوء والثاني لا يلزمه نزع الثاني وفي واجبه القولان أحدهما مسح
الأسفل الذي نزع أعلاه والثاني استئناف الوضوء ومسح هذا الأسفل والأعلى من الرجل الأخرى:
ومنها لو تخرق الأسفل منهما لم يضر على المعاني كلها فلو تخرق من إحداهما فان قلنا بالمعنى الثاني
أو الثالث فلا شئ عليه وان قلنا بالأول وجب نزع واحد من الرجل الأخرى لئلا يجمع بين البدل والمبدل
ذكره البغوي وغيره ثم إذا نزع ففي واجبه القولان أحدهما مسح الخف الذي نزع جرموقه والثاني استئناف
الوضوء والمسح عليه وعلى الأعلى الذي تخرق الأسفل تحته ومنها لو تخرق الأسفل والأعلى من الرجلين
أو من إحداهما وجب نزع الجميع على المعاني كلها لكن إذا قلنا بالمعنى الثالث وكان الخرقان في موضعين غير
متحاذيين لم يضره كما سبق بيانه في مسألة اشتراط كون الخف ما نعا نفوذ الماء: ومنها لو تخرق
الا على من رجل والأسفل من أخري فان قلنا بالثالث فلا شئ عليه وان قلنا بالأول نزع الأعلى
المتخرق وأعاد مسح ما تحته وهل يكفيه ذلك أم يجب استئناف الوضوء ما سحا عليه وعلى الأعلى
507

من الرجل الأخرى فيه القولان هذا كله تفريع على جواز مسح الجرموقين أما إذا منعناه فتخرق
الأسفلان فإن كان عند التخرق على طهارة لبسه الأسفل مسح الأعلى لأنه صار أصلا لخروج الأسفل
عن صلاحيته للمسح وإن كان محدثا لم يجز مسح الأعلى كاللبس على حدث وإن كان على طهارة
مسح فوجهان كما سبق في تفريع القديم ولو لبس جرموقا في رجل واقتصر على الخف في الرجل
الأخرى فعلى الجديد لا يجوز مسح الجرموق وعلى القديم يبنى على المعاني الثلاثة ان قلنا بالأول
لم يجز كما لا يجوز المسح في خف وغسل الرجل الأخرى وان قلنا بالثالث جاز وكذا ان قلنا بالثاني على
أصح الوجهين والله أعلم *
(المسألة الثالثة) إذا احتاج إلى وضع جبيرة على رجليه فوضعها ثم لبس فوقها الخف ففي جواز
المسح عليه وجهان أحدهما يجوز وبه قطع الشيخ أبو محمد الجويني في الفروق لأنه خف صحيح
والجبيرة كلفافة وحكي هذا عن أبي حنيفة رضي الله عنه وأصحهما لا يجوز لأنه ملبوس فوق ممسوح
فأشبه العمامة وممن صحح المنع صاحبا العدة والبيان ونقل الروياني عن العراقيين انه كالجرموق
فوق الخف (الرابعة) قال البغوي ولو لبس خفا ذا طاقتين غير ملتصقين فمسح على الطاق الأعلى
فهو كمسح الجرموق وان مسح الأسفل فكمسح الخف تحت الجرموق قال وعندي انه يجوز
المسح على الأعلى ولا يجوز على الأسفل لان الجميع خف واحد فمسح الأسفل كمسح باطن الخف
(الخامسة) في مذاهب العلماء في الجرموقين قد سبق ان مذهبنا الجديد الا ظهر منع المسح
على الجرموقين وهو رواية عن مالك رضي الله عنه وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة والحسن بن
صالح واحمد وداود والمزني وجمهور العلماء يجوز قال الشيخ أبو حامد هو قول العلماء كافة وقال
المزني في مختصره لا أعلم بين العلماء في جوازه خلافا * واحتج المجوزون من الحديث بحديث بلال
رضي الله عنه ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح على عمامته وموقيه: وأجاب أصحابنا عنه بان
الموق هو الخف لا الجرموق وهذا هو الصحيح المعروف في كتب أهل الحديث وغريبه وهذا
508

متعين لا وجه: أحدها أنه اسمه عند أهل اللسان والثاني انه لم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم كان له
جرموقان مع أنهم نقلوا جميع آلاته صلى الله عليه وسلم والثالث أن الحجار لا يحتاج فيه إلى الجرموقين
فيبعد لبسه والله أعلم
(فرع) ذكر المصنف في هذه المسألة الشيخ أبا حامد الأسفرايني والقاضي أبا الطيب الطبري
وهما أجل مصنفي العراقيين وقد بسطت أحوالهما بعض البسط في تهذيب الأسماء وفي كتاب
الطبقات وأنبه هنا على رموز من ذلك فاما أبو حامد فهو أحمد بن محمد بن أحمد شيخ الأصحاب
وعليه وعلى تعليقه معول جمهور الأصحاب انتهت إليه رياسة بغداد وامامتها وكان أوحد أهل
عصره قال الخطيب أبو بكر البغدادي الحافظ كان يحضر درسه سبعمائة متفقه قال غيره أفتى وهو ابن سبع
عشرة سنة وقد تأول بعضهم حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ان الله يبعث لهذه
الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها فكان في المائة الأولى عمر بن عبد العزيز والثانية الشافعي
والثالثة ابن سريج والرابعة الشيخ أبو حامد هذا رحمه الله توفى في شوال سنة ست وأربعمائة رحمه
الله تعالى * وأما القاضي أبو الطيب فهو طاهر بن عبد الله بن طاهر بن عمر الطبري من طبرستان
الامام الجامع للفنون المعمر بدأ بالاشتغال بالعلم وله أربع عشرة سنة فلم يخل بدرسه يوما واحدا
إلى أن مات وهو ابن مائة سنة وسنتين ولد سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة وتوفى عصر السبب ودفن
يوم الأحد العشرين من شهر ربيع الأول سنة خمسين وأربعمائة وله مصنفات كثيرة نفيسة في
فنون العلم ومن أحسنها تعليقه في المذهب ولم أر لا صحابنا أحسن منه في أسلوبه وله المجرد في
المذهب وهو كثير الفوائد وشرح فروع ابن الحداد وما أكثر فوائده وله في الأصل والخلاف
وفى ذم الغنى وفي أنواع كتب كثيرة وكان يروى الحديث الكثير بالروايات العالية ويقول الشعر
الحسن رحمه الله * قال المصنف رحمه الله *
(وان لبس خفا مغصوبا ففيه وجهان قال ابن القاص لا يجوز المسح عليه لان لبسه معصية
فلم يتعلق به رخصة وقال سائر أصحابنا يجوز لان المعصية لا تختص باللبس فلم تمنع صحة العبادة
كالصلاة في الدار المغصوبة) *
509

(الشرح) هذا الخلاف مشهور في المذهب وعبارة الأصحاب كعبارة المصنف يقولون
قال ابن القاص لا يجوز (1) وقال سائر أصحابنا يجوز والصحيح عند جماهير الأصحاب صحة المسح
وبه قطع البندنيجي وغيره كالصلاة في دار مغصوبة والذبح بسكين مغصوب والوضوء والتيمم
بماء وتراب مغصوبين فان ذلك كله صحيح وان عصى بالفعل وقد سبق في باب الآنية بيان
هذا مع غيره وأشار ابن الصباغ والغزالي وغيرهما إلى ترجيح منع الصحة لان المسح إنما جاز
لمشقة النزع وهذا عاص بترك النزع واستدامة اللبس فينبغي أن لا يعذر ولأنه يعصى باللبس
أكثر من الامساك ولان تجويزه يؤدى إلى اتلافه بالمسح بخلاف الصلاة في الدار المغصوبة
فان الصلاة فيها والجلوس سواء قال الروياني هذا غلط لأنه إذا توضأ بالماء فقد أتلفه ولم يمنع
ذلك الصحة (قلت) للآخرين ان يفرقوا بان المسح رخصة فلا تستفاد بالمعصية بخلاف الوضوء
فيقاس على التيمم بتراب مغصوب حيث لا يجب كالتيمم لنافلة فإنه رخصة والله أعلم * وأما قول
المصنف قال ابن القاص لا يجوز وقال سائر أصحابنا يجوز فمعناه قال ابن القاص لا يصح ولا يستبيح
به شيئا وقال سائر أصحابنا يصح ويستبيح به الصلاة وغيرها فأراد بالجواز الصحة والا فالفعل
حرام بلا شك والله أعلم *
(فرع) لو لبس خف ذهب أو فضة فهو حرام بلا خلاف وهل يصح المسح عليه فيه الوجهان
اللذان في المغصوب كذا صرح به الماوردي والمتولي والروياني وآخرون ونقله الروياني عن الأصحاب
وقطع البغوي بالمنع ويمكن الفرق بان تحريم الذهب والفضة لمعنى في نفس الخف فصار كالذي لا
يمكن متابعة المشي عليه بخلاف المغصوب ولو لبس الرجل خفا من حرير صفيق يمكن متابعة المشي
عليه فينبغي أن يكون كالذهب والله أعلم *
(فرع) قال الشافعي رضي الله عنه في الأم والأصحاب رحمهم الله لا يصح المسح على خف
من جلد كلب (2) أو خنزير أو جلد ميتة لم يدبغ وهذا لا خلاف فيه وكذا لا يصح المسح على خف
أصابته نجاسة الا بعد غسله لأنه لا يمكن الصلاة فيه وفائدة المسح وإن لم تنحصر في الصلاة فالمقصود
الأصلي هو الصلاة وما عداها من مس المصحف وغيره كتبع لها ولان الخف بدل عن الرجل ولو

(1) صحح ابن الصباغ المنع أيضا اه‍ أذرعي
(2) قال الرافعي في شرحه الصغير هنا ما لفظه ولو اتخذ خفا من جلد الكلب أو
الميتة فهو نجس العين ولا يحل لبسه في أصح القولين ونص في الأم انه لا يجوز المسح عليه وهذا غريب
أعني حكاية الخلاف في جواز ليس جلد الكلب الا ان يؤول كلامه وفي تأويله بعد اه‍ أذرعي
510

كانت نجسة لم تطهر عن الحدث مع بقاء النجاسة عليها فكيف يمسح على البدن وهو نجس العين
قال الشيخ أبو الفتح نصر المقدسي وكذا لا يجوز المسح على خف خرز بشعر الخنزير ولا الصلاة
فيه وان غسله سبعا إحداهن بالتراب لأن الماء والتراب لا يصل إلى مواضع الخرز المتنجسة
وهذا الذي ذكره أبو الفتح هو المشهور قالوا فإذا غسله سبعا إحداهن بالتراب طهر ظاهره دون
باطنه وقال القفال في شرح التلخيص سألت الشيخ أبا زيد عن الصلاة في الخف المخروز بالهلت
يعنى شعر الخنزير فقال الامر إذا ضاق اتسع قال القفال ومراده ان بالناس إلى الخرز به حاجة
فتجوز الصلاة فيه للضرورة والله أعلم: وقد قال الرافعي في آخر كتاب الأطعمة إذا تنجس الخف
بخرزه بشعر الخنزير فغسل سبعا إحداهن بالتراب طهر ظاهره دون باطنه وهو موضع الخرز قال
وقيل كان الشيخ أبو زيد يصلى في الخف النوافل دون الفرائض فراجعه القفال فيه فقال الامر
إذا ضاق اتسع أشار إلى كثرة النوافل هذا كلام الرافعي: وقوله أشار إلى كثرة النوافل لا يوافق
عليه بل الظاهر أنه أشار إلى أن هذا القدر مما تعم به البلوى ويتعذر أو يشق الاحتراز منه فعفى
عنه مطلقا وإنما كان لا يصلى فيه الفريضة احتياطا لها والا فمقتضي قوله العفو فيهما ولا فرق بين
الفرض والنفل في اجتناب النجاسة ومما يدل على صحة ما تأولته ما قدمته عن نقل القفال في
شرحه التلخيص والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(ولا يجوز المسح إلا أن يلبس الخف على طهارة كاملة فان غسل احدى الرجلين فأدخلها
الخف ثم غسل الأخرى فأدخلها الخف لم يجز المسح حتى يخلع ما لبسه قبل كمال الطهارة ثم يعيده
إلى رجله والدليل عليه ما روى أبو بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن
وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما)
(الشرح) أما حديث أبي بكرة فحديث حسن تقدم بيانه في مسألة التوقيت واسم أبي بكرة
نفيع بضم النون وفتح الفاء وهو نفيع بن الحارث كنى بابي بكرة لأنه تدلى ببكرة من حصن الطائف
إلى النبي صلى الله عليه وسلم توفى بالبصرة سنة احدى وخمسين وقيل اثنتين وخمسين رضي الله عنه
وقوله ولا يجوز المسح إلا أن يلبس الخف على طهارة كاملة احترز بكاملة عما إذا غسل إحدى الرجلين
ولبس خفها ثم غسل الأخرى ولبسها فإنه قد يسمى لبسا على طهارة مجازا فأراد نفى هذا المجاوز والتوهم
511

ولو حذف كاملة لصح كلامه لان حقيقة الطهارة لا تكون الا بالفراغ ويقال لبس الخف والثوب
وغير هما بكسر الباء يلبسه بفتحها * أما حكم المسألة فلا يصح المسح عندنا الا ان يلبسه على طهارة
كاملة فلو غمس أعضاء وضوئه الا رجليه ثم لبس الخف أو لبسه قبل غسل شئ ثم أكمل الوضوء
وغسل رجليه في الخف صحت طهارته لكن لا يجوز المسح إذا أحدث فطريقه أن يخلع الخفين
ثم يلبسهما ولو غسل احدى رجليه ثم لبس خفها ثم غسل الأخرى ولبس خفها اشترط نزع
الأول ثم لبسه على الطهارة قال أصحابنا ولا يشترط نزع الثاني وحكي الروياني وغيره وجها عن
ابن سريج انه يشترط لان كل واحد من الخفين مرتبط بالآخر ولهذا لو نزع أحدهما وجب نزع
الآخر وهذا الوجه شاذ ليس بشئ لان المطلوب لبسهما على طهارة كاملة وقد وجد والترتيب
في اللبس ليس بشرط بالاجماع
(فرع) في مذاهب العلماء في اشتراط الطهارة الكاملة في لبس الخف قد ذكرنا أن مذهبنا
انه شرط وبه قال مالك واحمد في أصح الروايتين واسحق وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري ويحيي
بن آدم والمزني وداود رضي الله عنهم يجوز لبسهما على حدث ثم يكمل الطهارة فإذا أحدث بعد ذلك
جاز المسح واختاره ابن المنذر فيما إذا غسل احدى رجليه ثم لبس خفها قبل غسل الأخرى * واحتج
هؤلاء بأنه أحدث بعد لبس وطهارة كاملة ولان استدامة اللبس كالابتداء ولهذا لو حلف لا يلبس
وهو لا بس فاستدام حنث فإذا لبس على حدث ثم تطهر فاستدامته اللبس على طهارة كالابتداء قالوا
ولان عندكم لو نزع ثم لبس استباح المسح ولا فائدة في النزع ثم اللبس * واحتج أصحابنا بحديث
أبي بكرة رضي الله عنه الذي ذكره المصنف رحمه الله: وعن المغيرة رضي الله عنه قال صببت على
رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه ثم أهويت لا نزع خفيه فقال دعهما فاني أدخلتهما طاهرتين
فمسح عليهما رواه البخاري ومسلم: وعن صفوان بن عسال رضي الله عنه قال أمرنا رسول الله صلى
عليه وسلم أن نمسح على الخفين إذا نحن أدخلنا هما على طهر رواه البيهقي باسناد جيد: وعن ابن عمر
رضي الله عنهما سألت عمر رضي الله عنه أيتوضأ أحدنا ورجلاه في الخفين قال نعم إذا أدخلهما
وهما طاهرتان رواه البيهقي باسناد صحيح فان قالوا دلالة هذه الأحاديث بالمفهوم ولا نقول به قلنا
هو عندنا حجة وذلك مقرر في موضعه وجواب آخر وهو أن المسح رخصة واتفقوا على اشتراط
512

الطهارة له واختلفوا في وقتها وجاءت هذه الأحاديث مبينة لجواز المسح لمن لبس على طهارة
كاملة فلا يجوز غيره الا بدليل صريح فان قالوا إذا لبس خفا بعد غسل رجليه ثم الآخر كذلك
فقد لبس على طهارة قلنا ليس كذلك فان حقيقة الطهارة لا تكون الا بغسل الرجلين فلبس الخف
الأول كان سابقا على كمال الطهارة وسلك امام الحرمين في الأساليب طرقة حسنة فقال تقدم
الطهارة الكاملة على المسح شرط بالاتفاق والطهارة تراد لغيرها: فان تخيل متخيل ان الطهارة شرط
للمسح كان محالا لان المسح يتقدمه الحدث وهو ناقض للطهارة فاستحال تقديرها شرطا فيه مع
تخلل الحدث فوضح أن الطهارة شرط في اللبس وكل ما شرطت الطهارة فيه شرط تقديمها بكمالها
على ابتدائه ثم اشتراط الطهارة في اللبس غير معقول المعنى لان اللبس في نفسه ليس قربة وإذا
أحدث بعد اللبس بطلت طهارته ولا تنقطع الطهارة في جواز المسح وهذا خارج عن مأخذ المعنى
والمسح رخصة مستثناة فتثبت حيث يتحققه وإذا تردد فيه تعين الرجوع إلى الأصل وهو غسل
الرجل وليس مع المخالفين نص: وقد ثبتت الرخصة في محل الاجماع: واما الجواب عن دليلهم
الأول فهو ان السنة دلت على اشتراط اللبس على طهارة ولم يحصل ذلك وعن الثاني أن الاستدامة
إنما تكون كالابتداء إذا كان الابتداء صحيحا وليس كذلك هنا: وعن الثالث ان الشرع ورد
باشتراط اللبس على طهارة والنزع ثم اللبس محصلان لذلك فلم يكن عبثا بل طاعة ولهذا نظائر
كثيرة منها أن المحرم لو اصطاد صيدا وبقي في يده حتى حل من احرامه يلزمه إرساله ثم له اصطياده
بمجرد إرساله ولا يقال لا فائدة في إرساله ثم أخذه والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(فان لبس خفين على طهارة ثم أحدث ثم لبس الجرموقين لم يجز المسح عليه قولا واحدا لأنه لبس
على حدث وان مسح على الخفين ثم لبس الجرموقين ثم أحدث وقلنا إنه يجوز المسح على الجرموق
ففيه وجهان أحدهما لا يجوز المسح عليه لان المسح على الخف لم يزل الحدث عن الرجل فكأنه لبس
على حدث والثاني يجوز لان مسح الخف قام مقام غسل الرجلين)
513

(الشرح) هاتان المسألتان تقدم شرحهما واضحا في فرع مسائل الجرموق والأصح من
الوجهين المذكورين الجواز كما سبق وقوله في الصورة الأولى لم يجز المسح قولا واحدا يعني سواء
قلنا يجوز المسح على الجرموق أم لا وهذا الذي قاله من الاتفاق على طريقة العراقيين وفيه وجه
سبق بيانه وقوله لان المسح لم يزل الحدث عن الرجل هذا اختياره وفي المسألة وجهان مشهوران
سنذكرهما واضحين إن شاء الله تعالى * والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان تطهر ولبس خفيه فأحدث قبل إن تبلغ الرجل إلى قدم الخف لم يجز المسح نص
عليه في الأم لان الرجل حصلت في مقرها وهو محدث فصار كما لو بدأ باللبس وهو محدث
(الشرح) هذا الذي ذكره هو المذهب وبه قطع الجمهور وفيه وجه انه يجوز المسح حكاه
الرافعي وغيره وهو مخرج من نص الشافعي أن من أخرج رجله من قدم الخف إلى الساق ثم ردها
لا يبطل مسحه ويجعل حكمه حكم لابس لم ينزع وسيأتي الفرق بينهما في آخر الباب حيث فرق
المصنف إن شاء الله تعالى: قال البغوي ولو أدخل رجله في ساق الخف قبل الغسل ثم غسلها في الساق ثم
أدخلها موضع القدم جاز المسح وهذا واضح فان إدخالها الساق ليس بلبس ويجئ فيه وجه الرافعي
وغيره والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وإذا توضأت المستحاضة ولبست الخفين ثم أحدثت حدثا غير حدث الاستحاضة ومسحت
على الخف جاز لها أن تصلي بالمسح فريضة واحدة وما شاءت من النوافل وان تيمم المحدث ولبس
الخف ثم وجد الماء لم يجز له المسح على الخف لان التيمم طهارة ضرورة فإذا زالت الضرورة
بطلت من أصلها فيصير كما لو لبس الخف على حدث: وقال أبو العباس بن سريج يصلى بالمسح فريضة
واحدة وما شاء من النوافل كالمستحاضة)
(الشرح) هذه المسألة مشهورة في كتب الأصحاب وفي صورتها في المهذب بعض الخفاء
فصورتها عند الأصحاب أن تتوضأ المستحاضة بعد دخول وقت فريضة وتلبس الخفين على تلك
514

الطهارة ثم تحدث بغير حدث الاستحاضة كبول ونوم ولمس قبل أن تصلى تلك الفريضة فإذا
توضأت جاز لها المسح في حق هذه الفريضة وتصلى بالمسح هذه الفريضة وما شاءت من النوافل
فان أحدثت مرة أخري فلها المسح لاستباحة النوافل ولا يجوز لفريضة أخرى ولو توضأت ولبست
الخف وصلت فريضة الوقت ثم أحدثت لم يجز ان تمسح في حق فريضة أصلا لا فائتة ولا مؤداة
ولكن لها أن تمسح لما شاءت من النوافل * واحتج الأصحاب لكونها لا تمسح لغير فريضة ونوافل
بان طهارتها في الحكم مقصورة على استباحة فريضة ونوافل وهي محدثة بالنسبة إلى ما زاد على ذلك فكأنها
لبست على حدث بل لبست على حدث حقيقة فان طهارتها لا ترفع الحدث على المذهب هذا الذي ذكرناه هو
المذهب الصحيح المشهور وبه قطع الجمهور في الطرق ونقله أبو بكر الفارسي عن نص الشافعي رضي
الله عنه: وفي المسألة وجهان آخران أحدهما لا يجوز لها المسح أصلا لا لفريضة ولا نافلة حكاه صاحب
التلخيص والدارمي وجماعة من الخراسانيين وصححه البغوي وبه قطع الجرجاني في التحرير لأنها
محدثة وإنما جوزت لها الصلاة مع الحدث الدائم للضرورة ولا ضرورة إلى مسح الخف بل هي
رخصة بشرط لبسه على طهارة كاملة ولم توجد: والوجه الآخر انها تستبيح المسح ثلاثة أيام ولياليهن
في السفر ويوما وليلة في الحضر ولكنها تجدد الطهارة ماسحة لكل فريضة حكاه الرافعي وغيره
عن تعليق الشيخ أبي حامد واحتمال لإمام الحرمين واعترف بان المنقول عن الأصحاب خلافه ونقل
المتولي وغيره اتفاق الأصحاب على أنها لا تزيد على فريضة ومذهب زفر واحمد رضي الله عنهما انها
تمسح ثلاثة أيام سفرا ويوما وليلة حضرا ودليل المذهب ما قدمناه وأما قول الغزالي في الوسيط
لا تزيد على فريضة بالاجماع فليس كما قال وهو محمول على أنه لم يبلغه مذهب زفر واحمد وقول الشيخ
أبي حامد وقال القفال في جواز مسحها لفريضة قولان بناء على أن طهارتها هل ترفع الحدث وفيه
قولان قال امام الحرمين تخريجه على رفع الحدث غير صحيح فكيف يرتفع حدثها مع جريانه دائما وكذا
قال الشاشي في المعتمد والمستظهري هذا البناء فاسد ولا يجوز أن يقال يرتفع حدثها مع دوامه واتصاله
515

فان ذلك محال وسنوضح الخلاف في ارتفاع حدثها بالطهارة في آخر باب الحيض في مسائل طهارتها
إن شاء الله تعالى والله أعلم * هذا كله إذا أحدثت غير حدث الاستحاضة أما حدث الاستحاضة
فلا يضر ولا تحتاج بسببه إلى استئناف طهارة الا إذا أخرت الدخول في الصلاة بعد الطهارة وحدثها
يجرى وقلنا بالمذهب أنه ينقض طهارتها ويجب استئنافها فحينئذ يكون حدث الاستحاضة كغيره
على ما سبق هذا كله إذا لم ينقطع دمها أما إذا انقطع دمها قبل أن تمسح وشفت فلا يجوز لها المسح
بل يجب الخلع واستئناف الطهارة هكذا قطع به الجمهور وصرحوا بأنه لا خلاف فيه وحكي البغوي
وجها شاذا ان انقطاع دمها كحدث طارئ فلها المسح وهذا خلاف المذهب والدليل لان طهارتها
لضرورة وقد زالت الطهارة والضرورة فصارت لابسة على حدث بلا ضرورة والله أعلم *
وحكم سلس البول والمذي ومن به حدث دائم وجرح سائل حكم المستحاضة على ما سبق وكذا
الوضوء المضموم إليه التيمم لجرح أو كسر له حكم المستحاضة وإذا شفى الجريح لزمه النزع كالمستحاضة
صرح به الصيدلاني وامام الحرمين وغيرهما: وأما التيمم الذي محض التيمم ولبس الخف على طهارة
التيمم فإن كان تيممه لا باعواز الماء بل بسبب آخر فحكمه حكم المستحاضة لأنه لا يتأثر بوجود الماء
لكنه ضعيف في نفسه فصار كالمستحاضة هكذا صرح به جماعة منهم الرافعي وإن كان التيمم لفقد
الماء وهي مسألة الكتاب فقال الجمهور لا يجوز المسح بل إذا وجد الماء وجب الوضوء وغسل الرجلين
ونقله المتولي عن نص الشافعي رضي الله عنه وقال ابن سريج هو كالمستحاضة فتستبيح فريضة
ونوافل كما سبق والمذهب الفرق لان طهارته لا تستمر عند رؤية الماء فنظيره من المستحاضة أن ينقطع
دمها والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(والمستحب أن يمسح أعلى الخف وأسفله فيغمس يديه في الماء ثم يضع كفه اليسرى تحت
عقب الخف وكفه اليمنى على أطراف أصابعه ثم يمر اليمنى إلى ساقه واليسرى إلى أطراف أصابعه
لما روى المغيرة ابن شعبة رضي الله عنه قال وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك
فمسح أعلي الخف وأسفله وهل يمسح على عقب الخف فيه طريقان من أصحابنا من قال يمسح عليه
516

قولا واحد لأنه خارج من الخف يلاقي محل الفرض فهو كغيره ومنهم من قال فيه قولان أحدهما
يمسح عليه وهو الأصح لما ذكرناه والثاني لا يمسح لأنه صقيل وبه قوام الخف فإذا تكرر المسح عليه بلى وخلق
وأضربه وان اقتصر على مسح القليل من أعلاه أجزأه لان الخبر ورد بالمسح وهذا يقع عليه اسم
المسح وان اقتصر على ذلك من أسلفه ففيه وجهان قال أبو إسحاق يجزيه لأنه خارج من الخف
يحاذي محل الفرض فهو كأعلاه وقال أبو العباس لا يجزئه وهو المنصوص في البويطي وهو ظاهر
ما نقله المزني)
(الشرح) في هذا الفصل مسائل إحداها حديث المغيرة رواه أبو داود والترمذي
وابن ماجة وغيرهم وضعفه أهل الحديث ممن نص على ضعفه البخاري وأبو زرعة الرازي والترمذي
وآخرون وضعفه أيضا الشافعي رضي الله عنه في كتابه القديم وإنما اعتمد الشافعي رضي الله عنه
في هذا على الأثر عن ابن عمر رواه البيهقي وغيره وروى الترمذي (1) بإسناده عن عبد الرحمن
ابن أبي الزناد عن أبيه عن عروة بن الزبير عن المغيرة رضي الله عنه قال رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين على ظاهرهما قال الترمذي هذا حديث حسن
فان قيل كيف حكم الترمذي بأنه حديث حسن وقد جرح جماعة من الأئمة ابن أبي الزناد
فجوابه من وجهين أحدهما أنه لم يثبت عنده سبب الجرح فلم يعتد به كما احتج البخاري ومسلم
وغيرهما بجماعة سبق جرحهم حين لم يثبت جرحهم مبين السبب: والثاني أنه اعتضد بطريق
أو طرق أخرى فقوى وصار حسنا كما هو معروف عند أهل العلم بهذا الفن والله أعلم: (الثانية)
المغيرة بضم الميم وكسرها لغتان تقدمتا مع بيان حاله في أول صفة الوضوء وعقب الرجل بفتح
العين وكسر القاف هذا هو الأصل ويجوز اسكان القاف مع فتح العين وكسرها وقد سبق التنبيه
على هذه القاعدة والساق مؤنثة غير مهموزة وفيها لغة قليلة بالهمز سبق بيانها في غسل الرجلين
وتبوك بفتح التاء بلدة معروفة وهي غير مصروفة ويقال غزوة وغزاة لغتان مشهور تأن وكانت غزوة

1) قال البيهقي في حديث المغيرة ان صح اسناده فهو على الاختيار قال وهو عن ابن عمر
من فعله صحيح اه‍ أذرعي
517

تبوك سنة تسع من الهجرة وهي من غزوات النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه وقوله لأنه خارج
من الخف فيه احتراز من باطنه الذي يلاقي بشرة الرجل وقوله يلاقي محل الفرض احتراز
من ساق الخف وقوله لأنه صقيل يعني أملس رقيقا وقوله وبه قوام الخف هو بكسر القاف
وفتحها لغتان مشهورتان الكسر أفصح أي بقاؤه وقوله وخلق هو بفتح الخاء وبضم اللام وفتحها
وكسرها ثلاث لغات وأخلق أيضا لغة رابعة وقوله وأضربه يقال ضره وأضربه يضره ويضر به
فإذا حذفت الباء كان ثلاثيا وإذا ثبتت كان رباعيا والله أعلم: (الثالثة) في أحكام الفصل اتفق
أصحابنا على أنه يستحب مسح أعلى الخف وأسفله ونص عليه الشافعي رضي الله عنه قالوا وكيفيته
كما ذكر المصنف رحمه الله لكونه أمكن وأسهل ولان اليد اليسرى لمباشرة الأقذار والأذى
واليمنى لغير ذلك فكانت اليسرى أليق بأسفله واليمنى بأعلاه واما العقب فنص في البويطي على
استحباب مسحه كذا رأيته فيه وكذا نقله الأصحاب عنه ونقل الشيخ أبو حامد استحبابه عن
نصه في الجامع الكبير ونقله القاضي أبو حامد والماوردي وغير هما عن نصه في مختصر الطهارة
الصغير: ونقله المحاملي عن ظاهر نصه في القديم وظاهر نصه في مختصر المزني انه لا يمسح فإنه قال
يضع كفه اليسرى تحت عقب الخف وكفه اليمنى على أطراف أصابعه ثم يمر اليمنى إلى ساقه واليسرى
إلى أطراف الأصابع وللأصحاب طريقان كما ذكر المصنف أحدهما في استحبابه قولان ومنهم من
يقول وجهان: ودليلهما ما ذكره المصنف والثاني وهو المذهب وبه جزم كثيرون القطع باستحبابه
كما نص عليه في هذه الكتب المذكورة وتأول نصه في مختصر المزني على أن المراد وضع أصابعه تحت
عقبه وراحته على عقبه ونقل الماوردي عدم استحبابه عن ابن سريج والله أعلم *
واما الواجب
من المسح فان اقتصر على مسح جزء من أعلاه أجزأه بلا خلاف وان اقتصر على مسح أسفله أو
بعض أسفله فنص الشافعي رضي الله عنه في البويطي ومختصر المزني أنه لا يجزئه ويجب إعادة ما صلى به
ونقله الشيخ أبو محمد الجويني في الفروق عن نصه في الجامع الكبير وفي رواية موسى ابن أبي الجارود
518

ونقله الروياني وصاحب العدة عن نصه في الاملاء وللأصحاب ثلاث طرق حكاها صاحب الحاوي
وإمام الحرمين وغيرهما أحدها لا يجزئ مسح أسفله بلا خلاف وهذه طريقة أبي العباس ابن سريج
وجمهور الأصحاب وهي المذهب قال المحاملي وابن الصباغ قال ابن سريج لا يجزى ذلك باجماع العلماء
والطريق الثاني يجزئ قولا واحد وهو قول أبي إسحاق المروزي وزعم أنه مذهب الشافعي رضي
الله عنه قال وغلط المزني في نقله ذلك في المختصر عن الشافعي ولا يعرف هذا للشافعي وإنما استنبطه
المزني وغلط في استنباطه وتأول المتولي وغيره نصه في مختصر المزني على أنه أراد بالباطن داخل
الخف وهو ما يمس بشرة الرجل: والطريق الثالث في اجزائه قولان حكاه الماوردي عن أبي على
ابن أبي هريرة وحكاه الروياني عن القفال ورجحه الرافعي واتفق القائلون بهذا الطريق على أن الصحيح
من القولين انه لا يجزئ والصواب الطريق الأول وهو القطع بعدم الاجزاء فهذا هو المعتمد نقلا ودليلا:
اما النقل فهو الذي نص عليه الشافعي رضي الله عنه في الكتب التي ذكرناها ولم يثبت عنه خلافا واما دعوى
أبي إسحاق ان المزني غلط فغلطه أصحابنا فيها قالوا والمزني لم يستنبط ما نقله بل نقله عن الشافعي سماعا
وحفظا قال الشيخ أبو محمد قال المزني في الجامع الكبير حفظي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال إن مسح
الباطن وترك الظاهر لا يجوز ثم إن المزني لم ينفرد بذلك بل وافقه البويطي وابن أبي الجارود
ونصه في الاملاء كما قدمناه وأما الدليل فلانه ثبت الاقتصار على الأعلى عن البنى صلى الله عليه
وسلم ولم يثبت الاقتصار على الأسفل والمعتمد في الرخص الاتباع فلا يجوز غير ما ثبت التوقيف
فيه وعن علي رضي الله عنه لو كان الدين بالرأي كان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد
رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه رواه أبو داود والبيهقي من طرق قال
الشيخ أبوا محمد الجويني وصاحب الحاوي وغيرهما معنى كلام علي رضي الله عنه لكان مسح
الأسفل أولى لكونه يلاقي النجاسات والأقذار لكن الرأي متروك بالنص قال أصحابنا ولأنه موضع
لا يرى غالبا فلم يجز الاقتصار عليه كالباطن الذي يلي بشرة الرجل قالوا وأما مسحه مع الأعلى
استحبابا فعلى طريق التبع للا على لاتصاله به بخلاف الباطن قال أصحابنا ولان القول بجوازه خارق
519

للاجماع فكان باطلا ونقل الشيخ أبو حامد والمحاملي وابن الصباغ والروياني وغيرهم عن ابن سريج
أنه قال أجمع المسلمون أنه لا يجزى الاقتصار على الأسفل وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه قال
أصحابنا خالف أبو إسحاق اجماع الفقهاء قبله في هذه المسألة فلم يعتد بقوله والله أعلم *
(فرع) لو مسح فوق كعبه من الخف أو مسح باطنه الذي يلي بشرة الرجل لم يجزئه بالاتفاق
ولو اقتصر على مسح حرف الخف قال البغوي هو كأسفله ولو اقتصر على مسح عقبه ففيه طرق
إحداها أنه كأسفله نقله البغوي والثاني ان قلنا يجزئ الأسفل فالعقب أولى والا فوجهان لان
العقب أقرب إلى الأعلى ذكره القاضي حسين: والثالث ان قلنا لا يجزئ الأسفل فالعقب أولى
والا فوجهان وهو ضعيف: والرابع قاله الماوردي والروياني ان قلنا مسح العقب سنة أجزأه والا
فوجهان أحدهما لا يجزئ كالسباق والثاني يجرئ لأنه في محل الفرض: والخامس قال الشاشي ان
قلنا مسحه ليس بسنة لم يجزئ والا فوجهان كأسفله: والسادس الجزم بأجزائه حكاه الروياني قال
الرافعي الأظهر عند الأكثرين أنه لا يجزئ وهذا هو المذهب المعتمد *
(فرع) قال أصحابنا يجزئ المسح باليد وبإصبع وبخشبة أو خرقة أو غيرها ولا يستحب
تكرار المسح بخلاف الرأس لان المسح هنا بدل فأشبه التيمم هذا هو المذهب الصحيح المشهور
وبه قطع الجمهور بل نقل امام الحرمين والغزالي وغيرهما ان التكرار مكروه وحكي الرافعي عن
ابن كج وجها أنه يسن التكرار واختاره ابن المنذر وحكي ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس
وعطاء رضي الله عنهم الاقتصار على مسحه واحدة وهذا هو المعتمد ولم يثبت في التكرار
شئ فلا يصار إليه *
(فرع) لو غسل الخف بدل مسحه فالصحيح عند الأصحاب جوازه وفيه وجه كما
سبق في الرأس فعلى الصحيح هو مكروه وتقدم في كراهة غسل الرأس وجهان وسبق بيان الفرق
قال القاضي حسين لو غسل الخف بدل مسحه أو وضع يده المبتلة عليه ولم يمرها عليه أو قطر
الماء عليه ولم يسل أجزأه عند الأصحاب وعند القفال لا يجزئه كما ذكرناه في الرأس هذا مذهبنا
وحكى ابن المنذر فيما إذا غسل الخف أو أصابه المطر ونوى انه يجرئه (1) عن الحسن بن صالح وأصحاب

(1) قال في البيان فان أصاب الخف بلل المطر أو نضح عليه الماء قال الشيخ أبو نصر ليس للشافعي فيه
نص والذي يجرى على مذهبه انه لا يجزيه على المسح قال أبو نصر لان ما فرضه المسح لا يجري منه
الغسل كمسح الرأس قال صاحب البيان وعندي انها على وجهيني كغسل الرأس اه‍ أذرعي
520

الرأي وسفيان الثوري واسحق وعن مالك واحمد رضي الله عنهما لا يجزئه واختاره ابن المنذر
(فرع) قال إمام الحرمين والغزالي قصد استيعاب الخف ليس بسنة بل السنة مسح
أعلاه وأسفله لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مسح الأعلى والأسفل وأطلق
جمهور الأصحاب استحباب استيعاب الخف المسح (1) ممن أطلق هذه العبارة القاضي حسين والفوراني
والمتولي والجرجاني في كتابه البلغة وصاحب العدة وغيرهم *
(فرع) لو كان أسفل الخف نجسا بنجاسة يعفى عنها لا يمسح على (2) أسفله بل يقتصر على مسح
أعلاه وعقبه وما لا نجاسة عليه صرح به امام الحرمين والغزالي في البسيط والوجيز والمتولي
والروياني وآخرون قال الروياني لأنه لو مسحه زاد التلويث ولزمه حينئذ غسل اليد وأسفل
الخف والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء في استحباب مسح أسفل الخف وفي الواجب من أعلاه قد ذكرنا أن
مذهبنا استحباب مسح أسفله وان الواجب أقل جزء من أعلاه فاما استحباب الأسفل فحكاه
ابن المنذر عن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز ومكحول والزهري
ومالك وابن المبارك واسحق * وحكي ابن المنذر عن الحسن وعروة بن الزبير وعطاء والشعبي والنخعي
والأوزاعي والثوري وأصحاب الرأي واحمد رضي الله عنهم انه لا يستحب مسح الأسفل واختاره
ابن المنذر * واحتجوا بحديث علي رضي الله عنه لو كان الدين بالرأي وقد سبق بيانه وبحديث المغيرة
ان النبي صلى الله عليه وسلم مسح ظاهر الخف رواه الترمذي وقال حديث حسن وقد سبق بيانه
والاعتراض عليه وجوابه في أول هذه المسألة: ولأنه ليس محلا للفرض فلا يسن كالساق ولأنه
قد يكون على أسفله نجاسة * واحتج أصحابنا بحديث المغيرة الذي ذكره المصنف رحمه الله وبأثر
ابن عمر رضي الله عنهما الذي قدمناه لكن حديث المغيرة ضعيف كما سبق ولأنه بارز من الخف
يحاذي محل الفرض فسن مسحه كأعلاه ولأنه مسح على حائل منفصل فتعلق بكل ما يحاذي
محل الفرض كالجبيرة ولأنه ممسوح فسن استيعابه كالرأس ولأنه طهارة فاستوي أسفل القدم
وأعلاه كالوضوء: وأما حديث علي رضي الله عنه فأجابوا عنه بأن معناه لو كان الدين بالرأي لكان
ينبغي لمن أراد الاقتصار على أقل ما يجزى أن يقتصر على أسفله ولكني رأيت رسول الله

(1) قال في الروضة وليس استيعاب جميعه سنة على أصح الوجهين اه‍ من هامش الأذرعي
(2) الذي ذكره الامام والغزالي وغيرهما استثناء النجاسة من غير تقييد
وحمل الرافعي ذلك على أنه تفريع على القول القديم إذا أصاب أسفل الخف نجاسة ودلكها
بالأرض وكذا صور المسألة صاحب البحر وتخصيصه الأسفل بالذكر
يدل على ذلك وعلى مساق كلام المصنف لو كان على أسفل الخف نجاسة معفو عنها لا يستوعب مسح
الأعلى أيضا اه‍ أذرعي
521

صلى الله عليه وسلم اقتصر على أعلاه ولم يقتصر على أسفله فليس فيه نفى استحباب الاستيعاب
وهذا كما صح أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته ولم يلزم منه نفى استحباب استيعاب
الرأس وإنما المقصود منه بيان أن الاستيعاب ليس بواجب وهكذا الجواب عن حديث المغيرة:
وأما قياسهم على الساق فجوابه من وجهين أحدهما أنه ليس بمحاذ للفرض فلم يسن مسحه كالذؤابة
النازلة عن الرأس بخلاف أسفله فإنه محاذ محل الفرض فهو كشعر الرأس الذي لم ينزل عن
محل الفرض: الثاني أن هذا منتفض بمسح العمامة (1) مع الناصية وبمسح الاذن: وأما قولهم قد يكون
على أسفله نجاسة فجوابه أنه إذا كانت نجاسة لم يمسح أسفله عندنا كما سبق والله أعلم: وأما الاقتصار
على أقل جزء من أعلاه فوافقنا عليه الثوري وأبو ثور وداود: وقال بو حنيفة رضي الله عنه
يجب مسح قدر ثلاث أصابع: وقال أحمد رضي الله عنه يجب مسح أكثر ظاهره وعن مالك مسح
جميعه الا مواضع الغضون * واحتجوا بما روى عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم
مسح على خفيه خطوطا بالأصابع وعن الحسن البصري قال من السنة أن يمسح على الخفين خطوطا
بالأصابع قال أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهم وأقل الأصابع ثلاث ولأنه مسح في الطهارة لم
يكف فيه مطلق الاسم كما لو بل شعرة ووضعها على الخف ولان من مسح بإصبع لا يسمى ماسحا
ولان المسح ورد مطلقا فوجب الرجوع إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم ولأنه مسح في طهارة
فلم يكف مطلق الاسم كمسح وجه المتيمم * واحتج أصحابنا بان لامس ورد مطلقا ولم يصح عن
النبي صلى الله عليه وسلم في تقدير واجبه شئ فتين الاكتفاء بما ينطلق عليه الاسم فان قالوا لم ينقل
الاقتصار على مطلق الاسم قلنا لا يفتقر ذلك إلى نقل لأنه مستفاد من اطلاق إباحة المسح فإنه يتناول
القليل والكثير ولا يعدل عنه الا بدليل فان قالوا لا يسمى ذلك مسحا قلنا هذا خلاف اللغة فلا خلاف
في صحة اطلاق الاسم عندهم *
وأما الجواب عن دلائلهم فكلها تحكم لا أصل لشئ منها: وأما حديث علي رضي الله
عنه فجوابه من أوجه أحسنها أنه ضعيف فلا يحتج به والثاني لو صح حمل على الندب جمعا بين
الأدلة: الثالث أنه قال مسح بأصابعه ولا يقولون بظاهره فان تأولوه فليس تأويلهم أولى من تأويلنا
وأما قول الحسن فجوابه من وجهين أحدهما أنه ليس بحجة فان قول التابعي من السنة كذا لا يكون
مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل هو موقوف هذا هو الصحيح المشهور *

(1) مسح العمامة لا يرد على احمد فإنه يجوز الاقتصار عليها اه‍
أذرعي
522

قال القاضي أبو الطيب وقال بعض أصحابنا هو مرفوع مرسل وقد سبق بيان هذا في مقدمة
الكتاب والثاني لو كان حجة لحمل على الندب وأما قولهم لو مسح بشعرة فجوابه ان سمى ذلك
مسحا قلنا بجوازه وإلا فلا يرد علينا وقولهم لا يسمى المسح بالإصبع مسحا لا نسلمه وقولهم يجب الرجوع
إلى فعل النبي صلى الله عليه وسلم جوابه انه لم يثبت التقدير الذي قالوه وقياسهم على التيمم جوابه انه لا يصح
الحاق ذا بذاك لأنا اجمعنا على الاستيعاب هناك دون هنا فتعين ما ينطلق عليه الاسم والله أعلم
قال المصنف رحمه الله *
(إذا مسح على الخف ثم خلعه أو انقضت مدة المسح وهو على طهارة المسح قال في الجديد
يغسل قدميه وقال في القديم يستأنف الوضوء واختلف أصحابنا في القولين فقال أبو إسحاق هي مبنية
على القولين في تفريق الوضوء فان قلنا يجوز التفريق كفاه غسل القدمين وان قلنا لا يجوز لزمه
استئناف الوضوء وقال سائر أصحابنا القولان أصل في نفسه أحدهما يكفيه غسل القدمين لان
المسح قائم مقام غسل القدمين فإذا بطل المسح عاد إلى ما قام المسح مقامه كالمتيمم إذا رأى الماء
والثاني يلزمه استئناف الوضوء لان ما أبطل بعض الوضوء أبطل جميعه كالحدث)
(الشرح) قوله قال أبو إسحاق هي مبنية هكذا هو في النسخ أي المسألة وللشافعي رضي الله عنه
في هذه المسألة نصوص مختلفة: قال المزني في مختصره قال الشافعي رضي الله عنه وان نزع
خفيه بعد مسحهما غسل قدميه قال وفي القديم وكتاب ابن أبي ليلى يتوضأ هذا نقل المزني وقال في
البويطي من مسح خفيه ثم نزعهما فأحب إلى أن يبتدئ الوضوء فإن لم يفعل وغسل رجليه فقط وهو
على طهارة المسح أجزأه ذلك وسواء غسلهما بقرب نزعه أو بعده ما لم ينتقض وضوءه هذا نصه
في البويطي وقال في الأم في باب ما ينقض المسح إذا أخرج أحدي قدميه أو هما من الخف بعد
مسحه فقد انتقض المسح وعليه أن يتوضأ وقال في الأم أيضا في باب وقت المسح على الخفين
لو مسح في السفر يوما وليلة ثم نوى الإقامة أو قدم بلده نزع خفيه واستأنف الوضوء لا يجزيه غير
ذلك قال ولو كان المسافر قد استكمل يوما وليلة ثم دخل في صلاة فنوى الإقامة قبل اكمال الصلاة فسدت
صلاته وكان عليه أن يستقبل وضوءا ثم يصلى تلك الصلاة *
ثم قال بعده بأسطر وإذا شك المقيم هل استكمل يوما وليلة أم لا نزع خفيه واستأنف الوضوء
وقال في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى رضي الله عنهما من كتب الأم أيضا إذا صلي وقد مسح
523

خفيه ثم نزعهما أحببت أن لا يصلى حتى يستأنف الوضوء فإن لم يزد على غسل رجليه جاز فهذه نصوص
الشافعي ومن هذه الكتب نقلتها ونقل الأصحاب والمزني عن القديم أنه يجب الاستئناف ونقل
ابن الصباغ والروياني وغيرهما أن الشافعي نص في حرملة أنه يكفيه غسل القدمين وخالفهم البندنيجي
وصاحب العدة فنقلا وجوب الاستئناف عن القديم والأم والاملاء وحرملة ونقلا جواز الاقتصار على
القدمين عن البويطي وكتاب ابن أبي ليلى هذه نصوص الشافعي واتفق الأصحاب على
أن في المسألة قولين أحدهما وجوب الاستئناف والثاني يكفي غسل القدمين ثم اختلفوا في أصلهما
على ست طرق أحدها أن أصلهما تفريق الوضوء ان جوزناه كفى غسل القدمين والا وجب
الاستئناف وهذا الطريق قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة وحكاه
الشيخ أبو حامد والبندنيجي عن أبي العباس وأبي إسحاق وحكاه الماوردي عن أبي علي بن أبي هريرة
وجمهور البغداديين: والطريق الثاني القولان أصل بنفسه غير مبنى على شئ وهذا الطريق نقله
المصنف وغيره عن الجمهور: والثالث هما مبنيان على قولين للشافعي في أن طهارة بعض الأعضاء
إذا انتقضت هل ينتقض الباقي ان قلنا ينتقض وجب استئناف الوضوء والا كفى القدمان حكاه
القاضي أبو الطيب في تعليقه والماوردي قال الماوردي هو قول أصحابنا البصريين: والرابع هما
مبنيان على أن المسح على الخف هل يرفع الحدث عن الرجل ان قلنا نعم وجب الاستئناف لان
الحدث عاد إلى الرجل فيعود إلى الجميع وان قلنا لا يرفع كفى القدمان وهذا الطريق مشهور في
طريقتي العراقيين والخراسانيين: والخامس انهما مرتبان ومبنيان على تفريق الوضوء على غير ما سبق
فان جوزنا التفريق كفى القدمان والا فقولان: والسادس عكسه ان منعنا التفريق وجب الاستئناف
والا فقولان حكي هذين الطريقين الدارمي في الاستذكار واختلف المصنفون في أرجح هذه الطرق
فقال الشيخ أبو حامد الصحيح الطريق الأول وهو البناء على تفريق الوضوء: وقال الخراسانيين
هذا الطريق غلط صريح ممن صرح بذلك شيخهم القفال وأصحابه الثلاثة الشيخ أبو محمد والقاضي
حسين والفوراني والمتولي والبغوي وآخرون قال امام الحرمين هذا الطريق غلط عند المحققين
واحتجوا في تغليطه بأشياء: أحدها ان التفريق لا يضر في الجديد بلا خلاف وقد نص على القولين
في الجديد كما سبق: والثاني أن التفريق بعذر لا يضر وانقضاء المدة عذر *
الثالث أن القولين جاريان مع قرب الزمان حتى لو توضأ ومسح الخف ثم خلعه قبل جفاف
524

الأعضاء جرى القولان ولا خلاف أن مثل هذا التفريق لا يضر وهذا الثالث هو الذي اعتمده
امام الحرمين والمتولي والبغوي: وفرق الشيخ أبو محمد الجويني بين التفريق هنا وهناك بان ما سح
الخف إذا نزعه بطلت طهارة القدمين والطهارة إذا بطل بعضها بطلت كلها فلهذا جري القولان
مع قرب الزمان: وأما من فرق الوضوء تفريقا يسيرا فلم يبطل شئ مما فعل فلهذا جاز له البناء
بلا خلاف وأجاب الشيخ أبو حامد عن الاعتراض الأول بان الشافعي إنما نص في كتاب ابن أبي ليلى
من الجديد على استحباب الاستئناف لا على وجوبه وهذا الجواب فاسد لان الاستئناف منصوص
عليه في غير كتاب ابن أبي ليلى من الكتب الجديدة كالأم وغيره مما سبق: وأما الاعتراض
الثاني وهو أن التفريق بعذر لا يضر فلا يسلمه العراقيون كما سبق في بابه: وأما الثالث وهو
جريان القولين وان نزع على الفور فلا يسلمه صاحب هذه الطريقة وقال القفال وسائر الخراسانيين
والمحاملي من العراقيين أصح الطرق البناء على رفع الحدث والأصح أن المسح يرفع الحدث عن الرجل (1)
وضعف البندنيجي وابن الصباغ وصاحبه الشاشي وغيرهم البناء على رفع الحدث وقالوا الأصح
انهما أصل بنفسه واختار الدارمي الطريق السادس فهذه طرق الأصحاب واختلافهم في أرجحها
والأصح انهما أصل في نفسه (2) وا ما أصح القولين فاختلفوا فيه فصحح جماعة وجوب الاستئناف منهم
الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في تعليقه والمحاملي في كتابه وسليم الرازي في كتابه رؤس
المسائل وصاحب العدة والشيخ نصر في كتابيه الانتخاب والتهذيب وقطع به جماعات من
أصحاب المختصرات كالمقنع للمحاملي والكفاية لسليم الرازي والكافي للشيخ نصر وصحح جماعة
الاكتفاء بالقدمين منهم القاضي حسين والمصنف في التنبيه والروياني والبغوي والجرجاني في كتابيه
التحرير والبلغة والشاشي في كتابيه والرافعي في كتابيه وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات
منهم الماوردي في كتابه الإقناع والغزالي في الخلاصة وهذا هو الأصح المختار فعلى هذا يستحب استئناف
الوضوء كما نص عليه في كتاب ابن أبي ليلى وغيره ليخرج من الخلاف * ثم إذا قلنا يكفيه غسل القدمين
فغسلهما عقب النزع أجزأه فان أخر غسلهما حتى طال الزمان ففيه قولا تفريق الوضوء صرح به المتولي
وصاحب العدة والروياني وغيرهم وهو واضح ويجئ حينئذ الخلاف في التفريق بعذر هل يؤثر
أم لا والله أعلم *
هذا كله إذا خلع الخفين وهو على طهارة المسح فإن كان على طهارة الغسل بأن كان

(1) جزم المحاملي في الباب بان المسح لا يرفع الحدث وكذا الشيخ أبو حامد اه‍ أذرعي
(2) قد صحح الشيخ أبو حامد الطريق الأول وهذا يقتضي تصحيح الاكتفاء بالقدمين وصحيح البيهقي في السنن الصغير وجوب الاستئناف واختار الشيخ في آخر الفصل مذهب الحسن وغيره انه لا شئ عليه لا غسل
القدمين ولا غيره واختاره ابن المنذر وهو قوى لان طهارته صحيحة فلا تبطل الا بالحدث كالوضوء اه‍ أذرعي
525

غسل رجليه في الخف فطهارته كاملة ولا يلزمه شئ بلا خلاف بل يصلى بطهارته ما أراد وله أن
يستأنف لبس الخفين بهذه الطهارة والله أعلم: وأما قول المصنف قال في الجديد يغسل قدميه وقال
في القديم يستأنف فظاهره أنه ليس في الجديد الاستئناف وليس كذلك بل في الجديد قولان كما
سبق وقوله واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو إسحاق هي مبنية على تفريق الوضوء وقال سائر
أصحابنا القولان أصل في نفسه هذا مما ينكر على المصنف لان قوله سائر أصحابنا معناه باقيهم غير
أبي إسحاق فهو تصريح بان أبا إسحاق انفرد واتفق الباقون على خلافه وليس الامر كذلك
بل قد قال بمثل قول أبي إسحاق ابن سريج وأبو علي بن أبي هريرة والبغداديون كما سبق بيانه
ولا يعذر المصنف في مثل هذا لأنه مشهور موجود في تعليق الشيخ أبي حامد والماوردي وهو
كثير النقل منها والله أعلم *
(فرع) إذا ظهرت الرجل انقضت المدة وهو في صلاة بطلت صلاته بلا خلاف نص عليه الشافعي
كما سبق في نصه في الأم واتفق عليه الأصحاب قالوا ولا يجئ فيه القول القديم في سبق الحدث
أنه يتوضأ ويبني لان هذا مقصر بمضايقة المدة وترك تعهد الخف بخلاف من سبقه
الحدث ودليل بطلان صلاته ان طهارته بطلت في رجليه ووجب غسلها بلا خلاف وفي
الباقي القولان *
(فرع) إذا لم يبق من مدة المسح قدر يسع صلاة ركعتين فافتتح صلاة ركعتين فهل يصح الافتتاح ثم
تبطل الصلاة عند انقضاء المدة أم لا تصح أصلا ففيه وجهان حكاهما الروياني في البحر قال وفائدتهما لو اقتدي
به غيره ثم فارقه عند انقضاء المدة هل يصح اقتداؤه فيه الوجهان (1) (قلت) وفائدة أخرى وهو
انه لو أحرم بركعتين نافلة ثم أراد أن يقتصر على ركعة ويسلم ان قلنا انعقدت جاز وإلا فلا والأصح
الانعقاد لأنه على طهارة في الحال فكيف يمتنع انعقاد صلاته والله أعلم *
(فرع) في مذاهب العلماء فيمن خلع خفيه أو انقضت مدته وهو على طهارة المسح قد
ذكرنا أن في مذهبنا قولين أصحهما يكفيه غسل القدمين والثاني يجب استئناف الوضوء وللعلماء
أربعة مذاهب أحدها يكفيه غسل القدمين وبه قال عطاء وعلقمة والأسود وحكى عن النخعي
وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري وأبي ثور والمزني ورواية عن أحمد رضي الله عنهم *
والثاني يلزمه استئناف الوضوء وبه قال مكحول والنخعي والزهري وابن أبي ليلى والأوزاعي

(1) الخلاف في صحة الاقتداء هو في العالم بحاله اما الجاهل فيصح اقتداؤه كما لو
اقتدى بمحدث وقد قيده بالعالم في الروضة ولعله تركه هنا لان قوله ثم فارقه يشعر بان كلامه في
العالم اه‍ أذرعي
526

والحسن بن صالح واسحق وهو أصح الروايتين عن أحمد رضي الله عنه: الثالث ان غسل رجليه
عقب النزع كفاه وان أخر حتى طال الفصل استأنف الوضوء وبه قال مالك والليث: الرابع
لا شئ عليه لا غسل القدمين ولا غيره بل طهارته صحيحة يصلى بها ما لم يحدث كما لو لم يخلع:
وهذا المذهب حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وقتادة وسليمان بن حرب واختاره ابن المنذر
وهو المختار الأقوى وحكاه أصحابنا عن داود إلا أنه قال يلزمه نزعهما ولا يجوز أن يصلى فيهما
وهذه المذاهب تعرف أدلتها مما ذكره المصنف رحمه الله وجرى في خلال الشرح الا مذهب
الحسن فاحتج له بأن طهارته صحيحة فلا تبطل بلا حدث كالوضوء وأما نزع الخف فلا يؤثر في
الطهارة بعد صحتها كما لو مسح رأسه ثم حلقه وقال أصحابنا الأصل غسل الرجل والمسح بدل
فإذا زال وجب الرجوع إلى الأصل والله أعلم *
(فرع) إذا نزع أحد خفيه فهو كنزعهما وهذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء منهم مالك
والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي وابن المبارك وأحمد رضي الله عنهم وحكي ابن المنذر عن الزهري
وأبي ثور أنهما قالا يغسل التي نزع خفها ويمسح على خف الأخرى: دليلنا أنهما كعضو واحد
ولهذا لا يجب الترتيب فيهما فصار ظهور أحدهما كظهورهما والله أعلم * قال المصنف رحمه الله *
(وان مسح على خفيه ثم أخرج الرجلين من قدم الخف إلى الساق لم يبطل المسح على المنصوص
لأنه لم تظهر الرجل من الخف وقال القاضي أبو حامد في جامعه يبطل وهو اختيار شيخنا القاضي
أبي الطيب لان استباحة المسح تتعلق باستقرار القدم في الخف ولهذا لو بدأ باللبس فأحدث قبل
أن تبلغ الرجل قدم الخف ثم أقرها لم يجز) *
(الشرح) نص الشافعي رحمه الله في الأم على أن من بدأ باللبس فأحدث قبل بلوغ الرجل
قدم الخف لم يصح لبسه ولا يستبيح المسح ونص أن لا بس الخفين لو نزع الرجلين أو أحداهما
من قدم الخف ولم يخرجها من الساق ثم ردها لم يبطل مسحه ونص على هذه الثانية أيضا في
القديم هكذا * فأما المسألة الأولى فالمذهب ما نص عليه وبه قطع الأصحاب في كل الطرق
الا وجها شاذا قدمناه حيث ذكر المصنف المسألة في فصل اللبس على طهارة: وأما الثانية ففيها
اختلاف كثير مشهور الأصح أيضا ما نص عليه في الأم والقديم انه لا يبطل مسحه وبه قطع المحاملي
527

في كتابيه وأبو محمد في الفروق (1) والغزالي في البسيط ورجحه البغوي وآخرون وحكاه الماوردي
وسليم عن شيخهما أبي حامد وقال القاضي أبو الطيب في تعليقه وسليم الرازي في رؤس المسائل
والدارمي في الاستذكار والشاشي وغيرهم في المسألة قولان الجديد يبطل مسحه والقديم لا يبطل
قال أبو الطيب وغلط بعضهم فقال لا يبطل قولا واحدا قال والصحيح انه يبطل وحكاه الماوردي
عن البصريين من أصحابنا وصححه صاحب العدة وغيره وسلك امام الحرمين طريقة لم يذكرها
الجمهور فقال كان شيخي ينقل عن نص الشافعي ان لابس الخف لو نزع رجلا من مقرها وأنهاها
من مقرها إلى الساق فهو نازع وان بقي منها شئ في مقر القدم وهو محل فرض الغسل فليس نازعا
فإذا رد القدم فاللبس مستدام ولا يضر ما جرى: قال الامام ولم أر في الطرق ما يخالف هذا وهذا
الذي قاله غريب: وفرق الأصحاب بين هذه المسألة والتي قبلها بفرقين أحدهما فرق جمع وهو انا
عملنا بالأصل في المسألتين واستدمنا ما كانت الرجل عليه قالوا ونظيره من حلف لا يدخل دارا
ولا يخرج منها لا يحنث الا بانفصال جميعه دخولا أو خروجا الثاني أن الاستدامة أقوى من الابتداء
كما تقول الاحرام والعدة يمنعان ابتداء النكاح دون دوامه قال أصحابنا ولو زلزل الرجل في الخف
ولم يخرجها عن القدم لم يبطل مسحه بلا خلاف ولو خرج من أعلا الخف شئ من محل الفرض
بطل المسح بلا خلاف قال صاحب البيان ولو كان الخف طويلا خارجا عن العادة فاخرج رجله إلى
موضع لو كان الخف معتادا لبان شئ من محل الفرض بطل مسحه يعني بلا خلاف وحكي القاضي
أبو الطيب وأصحابنا إبطال المسح في المسألة الثانية عن مالك وأبي حنيفة والثوري واحمد واسحق
رضي الله عنهم وعن الأوزاعي لا يبطل وذكر المصنف دليل الجميع وتقدم ذكر القاضي أبي
حامد في باب ما يفسد الماء من النجاسة وذكر القاضي أبي الطيب في هذا الباب والله أعلم *
قال المصنف رحمه الله *
(وإن مسح الجرموق فوق الخف وقلنا يجوز المسح عليه ثم نزع الجرموق في أثناء المدة ففيه
ثلاث طرق أحدها ان الجرموق كالخف المنفرد فإذا نزعه كان على قولين أحدهما يستأنف الوضوء
فيغسل وجهه ويديه ويمسح رأسه ويمسح على الخفين والثاني لا يستأنف الوضوء فعلى هذا يكفيه
المسح على الخفين والطريق الثاني ان نزع الجرموق لا يؤثر لان الجرموق مع الخف تحته بمنزلة الظهارة
مع البطانة ولو تقلعت الطهارة بعد المسح لم يؤثر في طهارته: الطريق الثالث ان الجرموق فوق الخف

(1) لكن الشيخ أبو محمد في الفروق إنما صور المسألة فيما إذا أخرج بعض قدمه إلى الساق ومقتضاه انه إذا أخرج جميعه إلى الساق بطل مسحه كما نقل عن الامام وذكره المصنف هنا عنه اه‍ من هامش الأذرعي
528

كالخف فوق اللفافة فعلى هذا إذا نزع الجرموق نزع الخف كما ينزع اللفافة وهل يستأنف الوضوء
أم يقتصر على غسل القدمين فيه قولان)
(الشرح) هذه الطريقة مشهورة في المذهب لكن بعض الأصحاب يسميها طرقا وبعضهم
يسميها أوجها وهذه طريقة الجمهور وهذه الأوجه ذكرها ابن سريج واتفق الخراسانيون على نقلها
عنه ونقلها عنه من العراقيين المحاملي في المجموع وابن الصباغ وآخرون وقد تقدم بيانها مع شرح ما
يتعلق بها موضحا في مسائل مسح الجرموقين وأورد القاضي أبو الطيب على الطريق الأول فقال هذا
باطل بل يجب استئناف الوضوء بلا خلاف لأن جواز المسح على الجرموق إنما هو على القديم
وفي القديم لا يجوز تفريق الوضوء فأجاب عنه صاحب الشامل بأنه لا يمتنع ان يرجع عن وجوب
استئناف الطهارة بنزع الخفين ولا يرجع عن مسح الجرموق فيصح ان يخرج فيه القولان قلت
هذا الجواب ضعيف ولكن يجاب بجوابين حسنين أجودهما ان جواز مسح الجرموق ليس
مختصا بالقديم بل هو منصوص عليه في الاملاء كما ذكره المصنف وجميع الأصحاب والاملاء من
الكتب الجديدة التي يجوز فيها تفريق الوضوء والثاني (1) ان ذلك متصور على القديم أيضا فيما
إذا نزع الجرموق عقب المسح والله أعلم *
(فرع) في مسائل تتعلق بالباب: إحداها قال أصحابنا يجوز مسح الخف لمن لا يحتاج إلى
شئ كزمن وامرأة تلازم بيتها وملازم للركوب وغيره: (الثانية) قال أصحابنا سليم الرجلين لو
لبس خفا في إحداها لا يصح مسح وقد صرح المصنف بهذا في مسألة الخف المخرق فلو لم يكن
له الا رجل واحدة جاز المسح على خفها بلا خلاف ولو بقيت من محل الفرض في الرجل الأخرى
بقية لم يصح المسح حتى يسترها بما يجوز المسح عليه ثم يمسح عليهما جميع فلو كانت احدى
رجليه عليلة بحيث لا يجب غسلها فلبس الخف في الصحيحة قطع الدارمي بصحة المسح وقطع
صاحب البيان بمنعه وهو الأصح لأنه يجب التيمم عن الرجل العليلة فهي كالصحيحة (الثالثة)
مسح الخف هل يرفع الحدث عن الرجل فيه خلاف مشهور حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه
والمحاملي والروياني وآخرون قولين وحكاه جماعة من الخراسانيين وجهين وقال امام الحرمين
وآخرون هما قولان مستنبطان من معاني كلام الشافعي رضي الله عنه ويؤيد كونهما قولين انهم

(1) هذا الثاني صحيح إن لم يسلم جريان القولين في نازع الخفين عقب المسح
كما سبق وإلا فلا يصح إذ يجب الاستئناف على القديم كما سبق على أنه لا يتصور جريان القولين في نازع الجرموقين أو الخفين على القديم وان تصور الاقتصاد على القدمين بل إن نزع عقب المسح اقتصر على القدمين وان طالت المدة وجب الاستئناف وهذا مذهب مالك والليث كما سبق اه‍ أذرعي
529

بنوا مسألة من نزع الخفين هل يستأنف أم يكفيه غسل القدمين على أن المسح يرفع الحدث أم لا
ولولا أنهما قولان لم يصح البناء إذا كيف يبنى قولان على وجهين: ثم اتفق الجمهور على أن الأصح
انه يرفع الحدث وخالفهم الجرجاني فقال في التحرير والأصح انه لا يرفع وحجة من قال
بهذا انه طهارة تبطل بظهور الأصل فلم ترفع الحدث كالمتيمم ولأنه مسح قائم مقام الغسل فلم يرفع
كالتيمم وفيه احتراز من مسح الرأس فإنه ليس ببدل وحجة الأصح في أنه يرفع الحدث انه مسح بالماء فرفع
كمسح الرأس ولأنه يجوز أن يصلى به فرائض ولو كان لا يرفع لما جمع به فرائض كالتيمم وطهارة
المستحاضة والله أعلم (الرابعة) إذا لبس الخف وهو يدافع الحدث لم يكره وبه قال إبراهيم
النخعي ونقل عنه انه كان إذا أراد أن يبول وهو على طهارة لبس خفيه ثم بال: وقال احمد
ابن حنبل رضي الله عنه يكره كما تكره الصلاة في هذه الحال ودليل عدم الكراهة أن إباحة المسح على
الخف مطلقة ولم يثبت نهى ويخالف الصلاة فان مدافعة الحدث فيها يذهب الخشوع الذي هو
مقصود الصلاة وليس كذلك لبس الخف قال امام الحرمين لو كان على طهارة وأرهقه حدث
ووجد من الماء ما يكفيه لوجهه ويديه ورأسه دون رجليه ووجد خفا يمكنه لبسه ومسحه فهل
يلزمه ذلك فيه احتمالان أظهرهما لا يلزمه وقد عبر الغزالي في الوسيط عن هذين الاحتمالين بالتردد فقد
يتوهم منه وجهان وستأتي المسألة في باب التيمم مبسوطة حيث ذكراها إن شاء الله تعالى: (الخامسة)
أنكر على الغزالي رحمه الله قوله مسح الخف يبيح الصلاة إلى احدى غايتين مضى يوم وليلة حضرا
وثلاثة سفرا وترك غايتين أخريين وهما إذا وجب عليه غسل جنابة وحيض ونحوهما أو دميت رجله
ولم يمكن غسلها في الخف وقد سبق ذلك مبينا وأنكر عليه وعلى المزني أشياء سبق مفرقة في مواضعها
من الباب والله أعلم وله الحمد والمنة *
530